العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير ط العلمية
الرافعي، عبد الكريم
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [قال الشيخ الأجل الكبير، الإمام العالم العامل الورع الأوحد، حبر الأمة، ملك الأئمة، إمام الدين، علاَّمة الإسلام أبو القاسم عبد الكريم الرافعي، القزويني، قدس الله تعالى روحه] (¬1). أحمد اللهَ الحقَّ ذا الجلال والإكرام، وأصلي على رسوله محمد خير الأنام، وأسلم عليه وعلى آله وأصحابه أفضل الصلاة والسلام - وأقول: إن المبتدئين لحفظ (¬2) المَذْهَبِ من أبناء الزمان، قد تولَّعوا بكتاب الوجيز للإمامة العلامة حُجَّة الإسلام، أبي حامد الغزاليِّ، قدَّس الله تعالى روحه العزيزة وهو كتاب غزيرُ الفوائدِ، جَمُّ العوائد، وله القدح المُعَلَّى، والحظ الأوفى، من استيفاء أقسام الحسن والكمال، واستحقاق صرف الهَمَّة إليه (¬3) والاعتناء بالإكباب عليه، والإقبال والاختصاص (¬4) بصعوبة اللفظ، ودقَّةِ المعنى؟ لما فيه من حسن النَّظْمِ، وصغر الحجم، وإنه من هذا الوجه مُحَوَجٌ إلى أحد أمرين: إما مراجعة غيره من الكتب. وإما (¬5) شرح يُذَلِّلُ صِعَابَهُ. ومعلوم أن المراجعة لا تتأتى لكل أحد، وفي كل وقت، وأنها لا تقوم مقام الشرح المغني لإيضاح الكتاب (¬6)، فدعاني ذلك إلى عمل شرح يوضح فقه مسائله، فيوجهها (¬7)، ويكشف عما انغلق من الألفاظ، ودَقَّ من المعاني، ليغتنمه الشَّارعون في ذلك الكتاب، المخصوصون بالطَّبْع السليم، وبعينهم على بغيتهم، ويتنبه الذين [رأوا] (¬8) غيره أولى منه، لما ذهب عليهم (¬9) من فقه الكتاب ودقائقه؛ واستصعابه ¬
عليهم؟ فينكشف لهم أنهم حرموا أشياء كثيرة (¬1)، ولقبته بـ"العَزِيْزِ (¬2) في شَرْح الوَجِيْزِ"، وهو عزيز على [المتخلفين] (¬3) بمعنى، وعند المبرزين المنصفين بمعنى، وربما تلتبس (¬4) على المبتدئين والمتبلدين أمور من الكتاب، فيطمعون في اشتمال هذا الشرح على ما يشفيهم، ولا يظفرون به فليعلموا [أن] (¬5) السبب فيه أن تلك المواضع لا تستحق شرحاً يودع بطون الأوراق، والقصور في أفهامهم فدواؤهم الرجوع إلى من يوقفهم (¬6) على ما يطلبون، والله وليُّ التيسير وهذا حين افتتح القول [فيه] (¬7) مستعيناً بالله تعالى، [ومتوخياً] (¬8) للاختصار ما استطعت، واللهُ حَسْبِي ونعم الوكيلُ. بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الغزالي: أَحْمَدُ اللهَ عَلَى نِعَمه السَّابِغَة، وَمنَنِه السَّائغَة، وَأَتَوَكَّلُ عَلَيهِ بِمَعْرِفَةٍ يُسْتَحْقَرُ في ضِيَائِهَا نُورُ الشَّمْسِ الْبَازِغَةِ، وَبَصِيرَة تَنْخَنَسُ دُونَ بَهَائِهَا وَسَاوِسُ الشَّيَاطِينِ النَّازِغَةِ، وَهِدَايَة يَنْمَحَقُ في رُوَائِهَا أَبَاطِيلُ الخَيَالاَتِ الزَّائِغَةِ، وَطُمَأنِينَةٍ تَضمَحِلُّ في أَرْجَائِهَا تَخَاييلُ المَقَالاَتِ الفَارِغَةِ، وأُصلِّي عَلَى المُصْطَفَى مُحَمَّدٍ المَبعُوثِ بالاَيَاتِ الدَّامِغَةِ، المُؤَيَّدِ بالحُجَجِ البَالِغَةِ، وعَلَى آلِهِ الطَّيبِينَ، وَأَصْحَابِهِ الطَّاهِرِينَ إرْغَاماً لِأُنوفِ المُبْتَدَعَةِ النَّابِغَةِ. أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي مُتْحِفُكَ أَيها السَّائِلُ المُتَلَطِّفُ، وَالحَريصُ المُتَشَوِّفُ بِهَذَا الوَجِيزِ الَّذِي اشْتَدّتْ إِلَيْه ضَرُورَتُكَ وَافْتِقَارُكَ، وَطَالَ فِي نَيْلِهِ اَنتِظَارُكَ، بَعْد أَنْ مَخَضْتُ لَكَ فِيهِ جُمْلَةَ الفِقْهِ فَاسْتَخْرَجْتُ زُبْدَتَهُ، وَتَصَفَّحْتُ تَفَاصِيلَ الشَّرْعِ فَاَنْتَقَيْتُ صَفْوَتَهُ وَعُمْدَتَهُ، وَأَوْجَزْتُ لَكَ المَذْهَبَ البَسِيطَ الطَّوِيلَ، وَخَفَّفْتُ عَنْ حِفْظِكَ ذَلِكَ العِبْءِ الثَّقِيلَ، وَأَدْمَجْتُ جَمِيعَ مَسَائِلِهِ بِأُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا بِاَلْفَاظٍ مُحَرَّرَةٍ لَطِيفَةٍ، في أَوْراقٍ مَعْدُودَةٍ خَفِيفَةٍ، وَعَبَّيْتُ فِيهَا الفُرُوعَ الشَّوَارِدَ، تَحْتَ مَعَاقِدِ القَوَاعِدِ، وَنَبَّهْتُ فِيهَا بِالرُّمُوزِ، عَلَى الكُنُوزِ، وَاكْتَفَيتُ عَنْ نَقْلِ المَذَاهِبِ وَالوُجُوهِ البَعِيدَةِ بِنَقْلِ الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الإِمَامِ الشَّافِعِيَّ المُطَّلِبيِّ رَحمَهُ اللهُ، ثُمَّ عَرَّفْتُكَ مَذْهَبَ مَالِكِ وَأَبِي حَنُيفَةَ والمُزَنِيِّ وَالوُجُوهَ البَعِيدَةَ لِلأَصْحَابِ بِالعَلاَمَاتِ، ¬
وَالرُّقُومَ المَرْسُومَةَ بالحُمْرَةِ (¬1) فَوْقَ الكَلِمَاتِ، فَالمِيمُ عَلاَمَةُ مَالِكٍ، وَالحَاءُ عَلاَمَةُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالزَّايُ عَلاَمَةُ المُزَنِيِّ فَاستُدِلَّ بِإثْبَاتِ هَذِهِ العَلاَمَاتِ فَوْقَ الكَلِمَاتِ عَلَى مُخَالَفَتَهمْ فِي تِلكَ المَسَائِلِ، وَبالوَاو بِالحُمْرةِ فَوْقَ الكَلِمَةِ عَلَى وَجْهٍ أَوْ قَوْلٍ بَعِيدٍ مُخَرَّجٍ لِلأَصْحَابِ، وَبِالنَّقْطُ بَيْنَ الكَلِمَتَينِ، عَلَى الفَصْلِ بَينَ المَسْأَلَتَينِ، كُلُّ ذَلِكَ حَذَراً مِنَ الإِطْنَابِ، وَتَنْحِيَةً لِلقِشرِ عَنِ اللُّبَابِ، فَتَحَرَّرَ الكِتَابُ مَعَ صِغَر حَجمِهِ، وَجَزَالَةِ نَظْمِهِ، وَبَدِيعِ تَرْتِيبِهِ، وَحُسْنِ تَرْصِيعِهِ وَتَهذِيبِهِ، حَاوِيًا لِقَوَاعِدِ المَذهَبِ مَعَ فُرُوع غَرِيبَةِ، خَلاَ عَنْ مُعْظَمِهَا المَجمُوعَاتُ البَسِيطَةُ، فَإِنْ أَنْتَ تَشَمَّرْتَ لِمُطَالَعَتِهَا، وَأَدْمَنْتَ مُرَاجَعَتَهَا، وَتَفِطَّنْتَ لِرُمُوزِهَا وَدَقَائِقَهَا، المَرْعِيةِ في تَرْتِيبِ مَسَائِلِهَا، اجْتَزَأتُ بِهَا عَنْ مُجَلَّدَاتِ ثَقِيلَةٍ، فَهِيَ عَلَى التَّحْقِيقِ إِذَا تأمَلْتَهَا قَصِيرَةٌ عَنْ طَوِيلَةٍ، فَكَم مِن كَلِم كَثِيرَةٍ فَضلَتْها كَلِمُ قَلِيلَةٌ، فَخَيْرُ الكَلاَمِ مَا قَلَّ وَدَلَّ وَمَا أَمَلَّ، فَنَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يَدْفَعَ عَنَّا كَيدَ الشَّيْطانِ إِذَا أسْتَهْوَيَ وَاسْتَزَلَّ، وَأَنْ لاَ يَجعَلَنَا مِمَّنْ زَاغَ عَنِ الحَقِّ وَضَلَّ، وأَنْ يَعفُوَ عَمَّا طَغَى بِهِ القَلَمُ أَوْ زَلَّ، فَهُوَ أَحَقُّ مَنْ أَسْدَى إِلَى عِبَادِهِ سُؤْلَهُمْ وَأَزَلَّ. قال الرافعي: أما ديباجةُ الكتاب فلا يتعلق بشرحها غرضٌ، ولكن من شرطك أن تطالعها وتعرف منها غاية (¬2) حجة الإسلام رحمه الله تعالى، بالرموز التي قصد أن يُسَمِّ بها الكلمات (¬3) إشعارًا بالأقوال والوجوه ومذاهب سائر الأئمة، وتتبين أنه ليس للشارح إهمالها على غزارة فائدتها، فإنها لا تعطى إلا معرفة خلاف في المسألة، فإما كفايته (¬4) وإطلاقه وتفصيله (¬5) فلا، ولذلك نجد أكثر النسخ عاطلة عنها في معظم المسائل ونحن لا نلتزم الوفاء بها، فإن اختلاف العلماء فن عظيم لا يمكن جعله علاوة كتاب، ولكن نتعرض منها لما هو أهم في عرض الكتاب ويستدعيه لفظه وبالله التوفيق. ¬
كتاب الطهارة
قال (¬1) رحمه الله: كِتَابُ الطَّهَارَةِ (¬2) وَفِيهِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ البَابُ الأَوَّلُ فِي المِيَاهِ الطَّاهِرَةِ قال الغزالي: وَالمُطَهِّرُ لِلْحَدَثِ وَالْخَبَثِ (ح) هُوَ المَاءُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ المَائِعَاتِ. قال الرافعي: أراد بالطهارة بعض أنواع الطهارة، وهو الطهارة بالماء، وإلا فمن شرطه إدراجِ التيمم في أبواب هذا الكتاب؛ لأنه إحدى الطَّهَارات، ألا ترى إلى قول الشافعي -رضي الله عنه- طَهَارَتَانِ فكيف يفترقان فلما أفرده بكتاب دلَّ أنه أراد الطهارة بالماء. ثم الأحكام المتعلقة بالطَّهَارَةِ تنقسم إلى ما يَجْرِي مُجّرَى المقدمات، كالقول في المياه وإلى ما يجري مجرى المقاصد كالقول في نفس الوضوء والغُسْلِ، فجعل من الأبواب الثمانية أربعة في المُقَدّمَاتِ، ثم أربعة (¬3) في المَقَاصِدِ، ولهذا قال عند تمام الأربعة الأولى هذا تمام قسم المُقَدّمَات، ثم الماء إما أن يكون مَعْلُومَ الحُكْمِ، أو لا يكون، فإن كان فهو إما طَاهِرٌ، أو نَجِسٌ، فإن (¬4) لم يكن فهو الذي يُشْكَلُ ويشتبه حاله ثم هو على التقدير إما أن يكون في إناء يُحْفَظُ فيه ويستعمل منه، أو لا يكون، فجعل البابِ الأول في المياه الطاهرة، والطاهر ينتظم فيه الطهور، وغيره. والثاني: في المِيَاهِ النَّجِسَةِ. والثالث: فيما اشْتَبَهَ حُكْمُهُ. ¬
والرابع: فيما يعتبر من الأحكام باعتبار الظروف، والأواني. وقوله: "والمُطَهِّرُ لِلْحَدَثِ وَالخَبَثِ"، هو الماء من بين سائر المائعات. وفيه كلامان: أحدهما: أن الخَبَثَ مَرْقُومٌ فيه النسخ بِرَقَمِ أبي حنيفة (¬1) -رحمه الله تعالى-، دون الحدث بناء على أن المشهور أن الطّهُورِيَّةَ مخصوصة بالماء في الحدث إجماعاً (¬2)، ولكنه في الخبث مختلف فيه بيننا [وبين أبي حنيفة] (¬3). ولك أن تقول دعوة الإجماع في الحدث على إطلاقه لا يَستقيم، لأن نَبِيذَ التَّمْرِ عنده طَهِورٌ في السفر عند إعواز (¬4) الماء، وإذا كان كذلك فلو جعل الرقم على قوله هو الماء ليشملها جميعاً لم يضر. الثاني: لم قال من بين سائر المَائِعَاتِ، ولم يقتصر على قوله، والمُطَهِّرُ للحدث والخبث، هو: الماء. والجواب أنه لو اقتصر عليه لأشكل بِالتُّرَابِ فإنه مطهر، وليس بماء. واعلم أنه لو أراد تخصيص الطهورية في الحدث والخبث جميعًا بالماء لما لزم هذا الإِشْكَالُ، لكنه لم يرد التَّخْصِيصَ في الفصلين جميعًا، وإنما أراد التخصيص في كل واحد منهما، فوجب الاحْتِرَازُ. فإن قلت: ولم اختصت الطهورية بالماء. قلنا: أما في الحدث، فلقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬5) لولا اخْتِصَاصُ الوضوء بالماء لما نقل إلى التراب إلا بعد فقد ما يشارك الماء في الطهورية من المَائِعَاتِ ¬
ليأتي بأكمل الطهارات، وأما في الخبث فلما نستوفي من الخلاف. قال الغزالي: ثُمَّ المِيَاهُ الطَّاهِرَةُ عَلَى ثَلاثَةِ أقْسَامٍ: الْقِسْمُ الأَوَّلُ: المَاءُ المُطْلَقُ البَاقِي عَلَى أَوْصَافِ خِلْقَتِهِ فَهُوَ طَهُورٌ ومِنْهُ مَاءُ البَحْرِ وَمَاءُ البِئْرِ وَكُلَّ مَاءٍ نَبَعَ مِنَ الأَرْضِ أوْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. قال الرافعي: قوله: "ثم المياه" يعني المياه الداخلة في هذا الباب - وهي الطاهرة وإنما انقسمت إلى ثلاثة أقسام، لأنها إما أن تبقى على أصل الخِلْقَةِ أو لا تبقى، وإن لم تَبْقَ فإما أن يخرج بما تغير من الصفات عن أن يسمى ماء مُطْلَقًا أو لا يكون كذلك. الأول الباقي على أوصاف خِلُقتِهِ، فهو طَهُورٌ لوقوع [مطلق اسم] (¬1) الماء عليه، واندراجه تحت النصوص الآمرة باستعمال الماء، والمُجَوّزَةِ له. وقد ورد في ماء البحر قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الْبَحْرَ هُوَ الطَّهُورُ ماؤه" (¬2). وفي ماء البئر: "إنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ بِئْر بضاعَة" (¬3). فإن قلت: لم اعتبر الإطلاقُ مع البقاء (¬4) على أصل الخِلْقَةِ حيث قال: "الماء المُطْلَقُ الباقي على أوصاف خِلْقَتِهِ فهو طهور"، ثم إذا اعتبر فكيف عُدَّ منه ماء البحر، ¬
وماء البئر، وهذا مُقَيَّدٌ (¬1) لا مُطْلَقٌ (¬2). فالجواب أن وصف الماء بالإطلاق قد تَكَرَّرَ في كلامِ الأئمة، ثم منهم من يفسر المطلق بالباقي على أوصاف الخِلْقَةِ، ومنهم من يُفسِّرُهُ بِاْلعَارِي عن القُيُود [والأوصاف] (¬3). ونقول: الماء ينقسم إلى مُطْلَقِ، وإلى مضاف، ثم من المضاف ما هو طهور [كماء الكُوز] (¬4) والبحر، ومنه ما ليس بطهور كماء الزَّعْفَرَانِ وماء الشَّجَرِ: فيجوز أن يقال: أراد بالمطلق الباقي على أوصاف الخلقة، وبه يشعر ظاهر كلامه في الوَسِيطِ (¬5)، وعلى هذا يكون تعقيب المطلق بالباقي على أوصاف الخلقة تفسيرًا، وبياناً لِلْمَعْنَى. ويجوز أن يقال: أراد بالمطلق العَارِيَ عَنِ القُيُودِ والإضافات، أي: كل ما يسمى ماء من غير قيد فهو طَهُورٌ، وهذا لا ينافيه وقوع اسم الماء عليه مضافاً، بل تصح الإشارة إلى الماء المُعَيَّنِ بأنه ماء وبأنه مَاءُ عَيْنٍ، أو نهر وبهذا يظهر فساد تقسيم من قسم الماء إلى مطلق، ومضاف؛ لأن المطلق يجوز أن يكون مضافاً، وبالعكس أيضاً، فيدخل أحد القسمين في الآخر وإذا عرفت ذلك فإن أراد المعنى الأول فهما شيء واحد، فلا معنى لقول القائل: لم اعتبر الإطلاق مع البقاء على أصل الخلقة، وإن أراد المعنى الثاني فقد ذكرنا أنه لا مُنَافَاةَ بين كونه مطلقاً بهذا المعنى، ومضافاً، ثم ليس ذلك على سبيل اشتراط الإطلاق، لأن كل باق على أصل [خلقته يقع] (¬6) عليه اسم الماء عرياً عن الإضافات فهو إذاً ملازم للبقاء على أصل الخِلقة، وإنما هو إِشَارَةٌ إلى أن المعنى المقتضي للطّهُورِيَّةِ إطلاقه والدخول في النصوص على ما سبق، ويتبين مما ذكرناه أنه لو حذف لفظ المطلق لم يضر. قال الغزالي: وَلاَ يُسْتَثْنَى عَنْهُ إِلَّا المَاءُ المُسْتَعْمَلُ فِي الحَدَثِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ (ح) غَيْرُ طَهُورٍ (م) عَلَى القَوْلِ الجدِيدِ (¬7) لِتَأَدِّي العِبَادَةِ بِهِ وَانتِقَالِ المَنْعِ إِلَيهِ، فَالمُسْتَعْمَلُ فِي الكَرَّة ¬
الرَّابِعَةِ طَهُورٌ لِعَدَمِ المَعْنَيَينِ، وأمَّا المُسْتَعْمَلُ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ أَوْ فِي تَجْدِيدِ الوُضُوءِ أَوْ فِي غسلِ الذِّمِّيَّةِ إِذَا اغْتَسَلَتْ مِنَ الحَيْضِ لِيَحِلَّ لِلزَّوْجِ غَشَيَانُهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ لِوُجُودِ أَحَدِ المَعْنَيَينِ دُونَ الثَّاني. قال الرافعي: استثناء المستعمل من الباقي على أوصاف الخِلْقَةِ يبين أنه ليس المراد من الأوصاف كل ما يصح وصف الماء به، حتى الإضافات، والاعتبارات وإلا فإنه قبل الاستعمال مَوْصُوفٌ بأنه غير مستعمل، وبعده بأنه مستعمل، فلا يكون باقياً على الأوصاف كلها، حتى يستثنى منه، وإنما المراد الصفات المعنوية، ثم الاعتبار منها باللَّوْنِ، وَالطَّعْمِ، وَالرَّائِحَةِ، وهي المنظور إليها في التغير بالنَّجَاسَةِ كما سيأتي، والصفات المعنوية باقية بحالها في المستعمل ثم هو غير طهور على المذهب فوجب استثناؤه. وفقه الفصل. أن الماء المستعمل في الحديث طاهر، وفي رواية عن أبي حنيفة -رحمه الله- هو نجس، وبه قال أبو يوسف (¬1) -رحمه الله-. لنا وجهان، أحدهما: قال -صلى الله عليه وسلم-: "خَلَقَ الله الْمَاءَ طَّهُوراً، لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أوْ رِيْحَهُ" (¬2) ولا تغير هاهنا. والثاني: أن الصحابة فمن بعدهم كانوا يتوضؤن في ثِيَابِهِمْ، ولا يَحْتَرِزُونَ عما يَتَقَاطَرُ عليهم وعلى ثيابهم، وهل هو طهور أم لا؟ قال في الجَدِيدِ: لا، لأنهم ما كانوا يجمعون المياه المستعملة للاستعمال، ثانيًا، ولو جاز الاستعمال لجمعوها كي لا يحتاجوا إلى التَّيَمُّمِ، وحكى عن القديم، أنه طهور، وبه قال مالك (¬3) -رحمه الله-؛ لأن الطَّهُورَ ما يتكرر منه الطهارة، كَالقَتُولِ، وَالشَّتُومِ من يتكرر منه الفعل، ولأنه ماء بَاقٍ على إطلاقه، فأشبه غيره. ومنهم من لم يثبت هذا القول، وجزم بالجديد، وسواء ثبت أم لا فَالفَتْوَى على الجديد. ثم ذكر الأصحاب في أنه لم سقطت طهورية المستعمل معنيين: ¬
أحدهما: تأدى عبادة الطهارة به. والثانى: تأدى فرض الطهارة به. فمن قال بالأول: أسقط طهورية المستعمل في الكَرَّةِ الثانية والثالثة، وتجديد الوضوء، والمَضْمَضَةِ، وَالاسْتِنْشَاقِ، وَغُسْل الجمعة، والعيدين، وسائر مسنونات الطهارة، [والطهارة المسنونة] (¬1) وقال بقاء الطهورية فيما اغتسلت به الذمية عَنِ الحَيْضِ لتحل لزوجها المسلم إذ لا تصح منها العبادة. ومن قال: بالآخر عكس الحكم. واتفقوا على أنهما لَيْسَتَا عِلَّتَيْنِ مستقلتين، وإلا لما صار بعضهم إلى ثبوت الطهورية في هذه الصور، وعلى أنهما ليستا جزأي علة واحدة، وإلا لما صار بعضهم إلى النفي، وإنما اختلفوا في أن المعنى هذا أو ذاك، وكل واحد منهما ملائم [الآخر] (¬2)، أما تَأَدَّي العبادة [به] (¬3) فلأن الآلة المستعملة في المقصود الحِسِّيِّ يورثها ضَعْفًا وَكَلاَلاً، فكذلك [الآلة] (¬4) المستعملة في المَقصُودِ الشَّرْعِيِّ. وأما تَأَدِّي الفرض به فلأن المراد منه رفع الحدث به، أو رفع منعه من الصلاة حيث لا يرتفع هو كما في وضوء صاحب الضَّرُورَةِ، وذلك يقتضي تأثر الماء ألا ترى أن غُسَالَةَ النَّجَاسَةِ لما أثرت في المَحِلِّ لم يبق المَحِلُّ كما كان قبل الغُسْلِ تأثرت هي بالاستعمال، حتى لم تبق كما كانت قبل الغسل، يُحْكَى هذا التقرير عَن ابْنِ سُرَيجٍ (¬5)، ويجوز أن لا يقدر لكل واحد من فريقي الأصحاب التعليل بالمعنى الذي أبداه استقلالاً؛ بل يقول هؤلاء: ما ذكرناه من المعنى واقع في موضوع الاتفاق ملائم للحكم، فلا يحذف عن دَرَجَةِ الاعتبار، ويزعمون أن المعنى الثاني لغو، والآخرون يدعون مثل ذلك في المعنى الثاني، فَيَنْتَظِمُ الخلاف على هذا التقدير أيضاً. ¬
واعلم أن ظَاهِرِ المذهب اعْتِبَارُ أدَاءِ الفرض دون المعنى الثاني حتى لا تَسْقُطُ طَهورِيَّةُ المستعمل في المرة الثانية وأخواتها، وتسقط في مسألة الذمية، والوجهان في الذِّمِيِّةِ مخصوصان بقولنا: إن الذمية إذا أسلمت يجب عليها إعادة ذلك الغُسْلِ، وهو الصحيح. أما إذا قلنا: لا تجب الإعادة عليها فهو مستعمل على المعنيين، لأنه قد ارتفع به المنع من الوَطءِ وأفاد جَوَازَ العِبَادَةِ به لو ارتفع مانع الكفر. وقوله: في الأصل "لتأدي العبادة به وانتقال المنع" كذلك يوجد في بعض النسخ؟ بل في أكثرها؛ وفي بعض النُّسَخِ المُحْدَثَةِ "أو انتقال المنع إليه"، وشغف به جماعة من مُحَصِّلِي هذا الكتاب لما ذكرنا أن العِلَّةَ غير مركبة من المعنيين، وإنما اختلفوا في أن العلة ماذا، ولا شك أن ما شرحناه من كلام الأصحاب واختلافهم يقتضي ذلك، ولكن الواو وأو قد يستعمل أحدهما في موضع الآخر، فالواقف على حظ المعنى قد ينزل الواو على أو، ولا يغير صورة الكتاب، ونظيره يكثر في المذهب، ثم الحدث ليس شيئًا محققًا يفرض انتقاله من البَدَنِ إلى الماء، لكن [المعنى أن باستعمال الماء] (¬1) يرتفع منع كان بالبدن، وهو أنه كان ممنوعًا من الصلاة وغيرها، ويحدث منع في الماء لم يكن، وهو أنه لا يستعمل مرة أخرى فَعَبَّرَ عن ارتفاع منع وحدوث منع بالانتقال تَوَسُّعاً. وينبغي أن تعلم أن انتقال المنع الذي ذكره هو الذي عبر عنه غيره من الأصحاب بأداء الفرض، لأن رفع الحدث فرض، ولا نعني بالفرض في مثل هذا ما يلحق الإِثْم بتركه بل ما لا بد منه، وكذلك نحكم باستعمال ما توضأ به الصبي إلا على وجه لا يعبأ به، وباستعمال ما توضأ به البَالِغُ لصلاة النفل: وعبارة أداء الفرض أوضح وأولى. قال الغزالي: فُرُوعٌ ثَلاثة: الأوَّلُ- المَاءُ المُسْتَعْمَلُ فِي الحَدَثِ لاَ يسْتَعْمَلُ فِي الخَبَثِ عَلَى أَحْسَنِ الوَجْهَينِ. الثَّانِي- إِذَا جُمِعَ المَاءُ المُسْتَعْمَلُ حَتَّى بَلَغَ قُلَّتَينِ (¬2) عَادَ طَهُوراً عَلَى أَقْيَسِ الوَجْهَينِ كَالمَاءِ النَّجِسِ. الثَّالِثُ- إِذَا انْغَمَسَ الجُنُبُ فِي مَاء قَلِيل نَاوِيًا وَخَرَجَ ارْتَفَعَتْ (و) جَنَابَتُهُ وَصارَ المَاءُ مُسْتَعْمَلاً بَعْدَ الخُرُوجِ وَالاِنْفِصَالِ. قال الرافعي: اعلم أنه يتفرع على القول الجديد مسائل: إحداها: المستعمل في الحدث هل يستعمل في الخبث؟ فيه وجهان: ¬
قال الأَنْمَاطِيُّ (¬1)، وابن خيران (¬2): نعم، لأن للماء قُوَّتَيْنِ، ولم يستوف إلا إحداهما. وقال الأكثرون وهو الأصح: لا، كما أن المستعمل في الحدث الأصغر لا يستعمل في الأكبر، وبالعكس. ولا يقال: الماء له قوتان ولم يستوف إلا إحداهما, ويجري الوجهان في المستعمل في الخبث هل يستعمل في الحدث إذا فرعنا على أن المستعمل في الخبث طاهر غير طهور وهو المذهب على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى- ولك أن تقول: إذا كان المستعمل في الخبث بحيث لا نحكم بنجاسته كان باقياً على أوصاف خِلْقَتِهِ وهو غير طهور على الظاهر، فيكون مستثنى مع المستعمل في الحدث عن الماء الباقي على أوصاف الخلقة فكيف ساغ للإمام -رضي الله عنه- أن يقول: "ولا يستثنى عنه إلا الماء المستعمل في الحدث". المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذا جمع الماء المستعمل حتى بلغ قُلَّتَيْنِ، هل يعود طهورًا وجهان أحدهما يعود لأنه لو لم (¬3) يعد إلى الطهورية لقَبِلَ النجاسة، وقد، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لمْ يَحْمِلْ خَبُثاً" (¬4)، ولأن الماء النجس المتفرق إذا جمع ولا تغير يعود ¬
طهوراً؛ فالمستعمل أَوْلَى؛ لأن النجاسة أقوى من الاستعمال، ولأنه صار إلى حالة لو كان عليها في الابتداء لم يتاثر بالاستعمال، فإذا عاد إلى تلك الحالة يسقط حكم الاستعمال. والثاني: لا يعود طَهُورًا (¬1)؛ لأن قوته صارت مستوفاة بالاستعمال فالتحق بِمَاءِ الوَرْدِ وسائر المائعات. الثالثة: إذا انغمس الجُنُبُ في ماء قليل ونوى، نُظِر إن نوى بعد تمام انغماسه فيه واتصال الماء بجميع البَدَنِ، فلا خلاف في أنه يرتفع حَدَثُهُ ويصير الماء مستعملاً، أما ارتفاع الحدث فلوصول الماء الطهور إلى محل الحدث مع النِيَّةِ (¬2)، وأما الاستعمال فلأداء العبادة المفروضة به: وهل يحكم باستعماله في حق غيره قبل انفصاله عنه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، وإنما يثبت حكم الاستعمال بعد الانفصال، ألا ترى أن الماء ما دام متردِّداً على أعضاء المتطهر لا يحكم باستعماله. والثاني: وهو الأصح: نعم، وإنما لا يحكم بالاستعمال ما دام الماء مُتَرَدِّداً جَارِياً للحاجة إلى انغسال الباقي ولا ضرورة في حق غيره والماء منفصل عنه. فعلى هذا ليس لغيره أن يرفع به الحدث، وعلى الأول يجوز، ولو خاض جُنُبَانِ فيه وَنَويَا معاً بعد تمام الانغماس ارتفع حَدَثُهُمَا على الوَجْهَيْنِ، وإن نوى الجنب قبل تمام الانغماس، إما في أول المُلاَقَاةِ أو بعد غَمْسِ بعض البدن ففيه وجهان: قال أبو عبد الله الخضريُّ: لا ترتفع الجَنَابَةُ إلا عن أول الجزء المُلاَقِي مع النية، ¬
لأن الماء يصير مستعملاً بملاقاته فلا ترتفع الجنابة عن الباقي (¬1) بخلاف ما إذا كان الماء واردًا على البدن، حيث لا يحكم باستعماله بأول الملاقاة لاختصاصه بِقُوَّةِ الوُرُودِ، والأصح: أنه ترتفع الجَنَابَةُ، ولا يصير الماء مستعملاً بأول الملاقاة، لأنا إنما لم نحكم بالاستعمال عند ورود الماء على البدن للحاجة إلى رفع الحدث، وعسر إفراد كل موضع بماء جديد، وهذا المعنى موجود سواء كان الماء وارداً، أو كان هو وارداً على الماء (¬2) وإذا عرفت ذلك نشأ لك البحث والنظر في أمور من ألفاظ الكتاب في الفَرْعِ الثالث. أحدها: أن مراده ما إذا نوى بعد تمام الانغماس، أو فيما إذا نوى قبله أو كلتا الحالتين؟ أما اللفظ فهو (¬3) شامل لهما والتنزيل عليهما صحيح لما ذكرنا بأنه لا خلاف في ارتفاع الحدث (¬4) في الحالة الأولى، وأن الصحيح في الحالة الثانية أيضاً الارتفاع لكنه ما أراد الحالة الأولى وحدها؟ لأن قوله: "ارتفعت جَنَابَتُهُ" مُعْلَمٌ بالواو، ولا خلاف في ارتفاع الجنابة في تلك الحالة. بَقِيَ احتمالان إرادة الحالة الثانية وحدها وعلامة الواو إشارة إلى وجه الخضري (¬5) ¬
واحتمال إرادتهما جميعاً ويصح الإعلام بالواو أيضاً؛ لأن الصائر إلى النفي في إحدى الصورتين يخالف المثبت في الصورتين، والاحتمال الثاني أقرب إلى إطلاق اللفظ، والأول قضية إيراده في الوَسِيطِ. الثاني: أنه لم قيد صورة الفرع بالخروج فقال: "إذا انْغَمَسَ الجُنُبُ في ماء قليل وخرج" اعلم أن ارتفاع الجنابة لا يحتاج إلى هذا القيد، بل سواء خرج أو لم يخرج ترتفع الجنابة. وأما صَيْرورَةُ الماء مستعملاً في كلام الأصحاب ما يقتضي توقف الحكم بالاستعمال على خروجه منه، وهو مشكل؛ لأن المقتضى للاستعمال أنه رفع الحدث فإذا ارتفع الحدث وجب أن يصير هو مستعملاً، سواء انْفَصَلَ عن البدن أم لا، هذا بالإضافة إليه، وأما بالإضافة إلى غيره ففيه ما حكينا من الوجهين. وإذا عرفت ذلك فقد رتب على الانغماس والخروج شيئين: ارتفاع الجنابة، وَصَيْرُورَةُ الماء مستعملاً والأول مُسْتَغْنٍ عن شرط الخروج. والثاني: بتقدير أن يكون محتاجاً إليه، ففي قوله: "بعد الخروج والانفصال" ما يفيد التعرض لهذا الشرط فإذًا قوله "وخرج" ضائع. الثالث: لم جمع بين لفظي الخروج والانفصال، ظني أن هذا مما يجري به القَلَمُ لا عن قصد، أو مما يقصد به البَسْطُ في العبارة أيضاً، وعلى التقديرين فلا يطلب لكل لفظة فائدة تخصها وإن زعم (¬1) زعم أنه إذا لم يبق في الماء إلا عضو واحد من المنغمس يُسَمَّى خَارِجاً من الماء ولا يسمى منفصلاً، وحكم الاستعمال إنما يثبت بعد الانفصال. قلت له: هَبْ أنه كذلك لكن هذا وجه الحاجة إلى تعقيب الخروج بالانفصال، فما الجواب عن قول القائل: لم جمع بينهما وَهَلاَّ اقتصر على الانفصال. قال الغزالي: الْقِسْمُ الثَّاني: مَا تَغَيَّر عَنْ وَصْفِ خِلْقَتِهِ تَغَيُّراً يَسِيراً لاَ يُزَايِلُهُ اسْمُ المَاءِ المُطْلَقِ فَهُوَ طَهُورٌ كالمُتَغَيِّر (و) بِيَسِير الزَّعْفَرَان، وَكَذَا المُتَغَيِّرُ بِمَا يُجَاوِرُهُ (و) كالعُودِ وَالكَافِورِ الصُّلْبِ، وَكَذَا المُتَغَيِّرُ بِمَا لاَ يُمْكِنُ صَوْنُ المَاءِ عَنْهُ كَالمُتَغَيِّرِ بِالطِّينِ وَالطُّحْلُب (¬2) وَكالمُتَغَيِّرِ بِطُولِ المُكْثِ وَالتُّرَابِ وَالزِّرْنيخِ (¬3) وَالنُّورَةِ (¬4) فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ لاَ ¬
يُسْلَبُ اسْمَ المَاءِ المُطْلَقِ (¬1) وَكَذا المُسَخَّنُ وَالمُشَمَّسُ، وَفِي المُشَمَّسِ كَرَاهِيَةٌ مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ إِذَا شُمِّسَ في البِلاَدِ المُفْرِطَةِ الحَرَارَةِ في الأوَاني المُنْطَبِعَةِ. قال الرافعي: ذكرنا أن المتغير عن أوصاف الخلقة قسمان: أحدهما: المتغير الذي لا يُسْلَبُ اسم الماء المطلق عنه. والثاني: ما يسلب. أما القسم الأول فقد أدرج فيه أنواعًا منها: أن يكون التغير يسيرًا، وإن كان المُغَيِّرُ خَلِيطاً مستغنىً عنه كـ"الزَّعْفَرانِ" وَ"الدَّقِيقِ"، ونحوهما، فظاهر المذهب أنه لا يقدح في الطهورية، لأنه لا يبطل اسم الماء المطلق. وفيه وجه: أنه يقدح كالمتغير بالنجاسة يسلب الطهارة، سواء كان يسيراً أو فاحشاً. ومنها: أن يتغير بشيء يجاور الماء ولا يخالطه كالعود ونحوه. وهل يؤثر في سَلْبِ الطّهُورِيَّةِ، فيه قولان؟ أصحهما: وهو الذي ذكره في الكتاب أنه لا يؤثر؛ لأن هذا النوع من التغير تروح لا يسلب إطلاق اسم الماء كتغير الماء بِجِيْفَةٍ مُلْقَاةٍ عَلَى شَطِّ نَهْرِ. والثاني: نعم لأنه تغير بما يلاقي الماء فأشبه التغير بما يخالط: وفي مَعْنَى العُودِ الدُّهْنُ، وَالشَّمْعُ، وما لا يختلط بالماء. وَالكَافُورُ نوعان: أحدهما: يذوب [في الماء] (¬2) ويختلط به. والثاني: لا يَنْمَاعُ فيه، فالأول: كَالدَّقِيْقِ وَالزَّعْفَرانِ. والثاني: كالعود فلذلك قيد الكافور بالصلابة. ومنها: أن يتغير بما لا يمكن صون الماء عنه، كالمتغير بالطِّيْنِ، وَالطُّحْلُبِ والكِبْرِيتِ، وَالنورَةِ، في مقرّ الماء ومهره، فهذا التغير لا يسلب الطهورية لوجهين: أحدهما: أن أهل اللسان والعرف لا يمتنعون من إيقاع اسم الماء المطلق عليه. والثاني: عسر الاحتراز عنه، ومن هذا القبيل المتغير بالتراب الذي يثور وَيَنْبَثُّ في الماء ويختلط به والمتغير بِالزَّرْنيخِ. ¬
ومنها: المتغير بطول المكث، وهو على طهوريته، لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- "تَوَضَّأ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَة، وَكَانَ مَاؤُهَا كَنُقَاعَةِ الحِنَّاءِ" (¬1)، وذلك التغير لا يمكن أن يكون بالنَّجَاسَةِ وإلا لما توضأ به، فبعد ذلك لا يخلو إما أن يكون بنفسه أو بشيء طاهر آخر، إن كان بنفسه صح المدعي وإن كان بغيره فكذلك، لأن تغيره بنفسه أهون من تغيره بغيره، فإذا لم يقدح الثاني فأولى أن لا يقدح الأول. ومنها: المسخن، فهو على طهوريته لبقاء إطلاق الاسم؛ ولأنهم تطهروا بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالماء المُسَخَّنِ ولم ينكر عليهم (¬2). ومنها: المشمش، وهو على طهوريته كالمسخن، وهل في استعماله كراهية أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، وبه قال مالك وأبو حنيفة، وأحمد (¬3) -رحمهم الله-، كماء ¬_______ (¬1) قال ابن الملقن في خلاصة البدر 1/ 7 غريب، وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص 1/ 13 وهذا الوصف لهذه البئر لم أجد له أصلاً. (¬2) هذا الخبر قال المحب الطبري: لم أره في غير الرافعي انتهى، وقد وقع ذلك لبعض الصحابة فيما رواه الطبراني في "الكبير" والحسن بن سفيان في "مسنده"، وأبو نُعَيْم في المعرفة، والبيهقي من طريق الأسلع بن شريك. قال: كنت أرحل ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأصابتني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرحلة فكرهت أن أرحل ناقته وأنا جنب، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض فأمرت رجلاً من الأنصار برحلها، ووضعت أحجاراً فأسخنت بها ماء فاغتسلت، ثم لحقت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له، فأنزل الله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} -إلى- {غَفُورًا} والهيثم بن زريق الراوي له عن أبيه عن الأسلع هو وأبوه مجهولان، والعلاء بن الفضل المنقري راويه عن الهيثم فيه ضعف، وقد قيل: إنه تفرد به، وقد روى عن جماعة من الصحابة فعل ذلك، فمن ذلك عن عمر رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفة عن الدراوردي عن زيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر كانت له قمقمة يسخن فيها الماء، ورواه عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر كان يغتسل بالحميم، وعلقه البخاري، ورواه الدارقطني وصححه، وعن ابن عمر، روى عبد الرزاق أيضًا عن معمر، عن أيوب عن نافع أن ابن عمر كان يتوضأ بالماء الحميم، وعن ابن عباس، رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه، عن محمد بن بشر عن محمد بن عمرو ثنا أبو سلمة قال: قال ابن عباس: إنا نتوضأ بالحميم، وقد أغلى على النار، وروى عبد الرزاق بسند صحيح عنه، قال: لا بأس أن يغتسل بالحميم، ويتوضأ منه، وروى ابن أبي شيبة وأبو عبيد عن سلمة ابن الأكوع، أنه كان يسخن الماء يتوضأ به، وإسناده صحيح. انظر التلخيص 1/ 21، 22. (¬3) أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني أبو عبد الله المروزي، أحد أئمة الإسلام، والهداة الأعلام، وأحد الأربعة الذين تدور عليهم الفتاوى والأحكام في بيان الحلال والحرام، وقد أفرد ترجمته بالتصنيف عبد الرحمن بن أبي حاتم، والبيهقي، وابن الجوزي. توفي عليه =
الحِيَاضِ وَالسَّوَاقِي إذا تأثرت بالشَّمِسِ؛ وكما أن التسخين لا يؤثر في الكراهية. والثاني: وهو الأصح: نعم، لما روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- "نَهَاهَا عَنُ اَلتَّشمِيسِ وَقَالَ: إِنَّه يُورِثُ البَرَصَ" (¬1). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنِ اغتَسَلَ بِمَاءٍ مُشَمَّسٍ فَأَصَابَهُ وَضَحٌ فَلاَ يَلُومَنَّ إلاَّ نَفْسَهُ" (¬2). وَكَرِهَ عمرُ -رَضِيَ الله عَنْهُ- المُشَمَّسَ وَقَالَ: "إِنَّه يُورِثُ الْبَرَصَ" (¬3). ¬
فإن قلنا: بالكراهية، ففي محلها اختلاف منشؤه إشارة النقل بعد النهي إلى سببه وهو خوف الوضح (¬1). فقال قائلون من أصحابنا: إنما يكره إذا خيف منه هذا المحذور، وإنما يخاف عند اجتماع شرطين: أحدهما: أن يجري التشميس في الأواني المنطبعة، كَالحَدِيدِ، وَالرُّصَاصِ، وَالنَّحَاسِ، لأن الشمس إذا أثّرت فيهما استخرجت منها زُهُومَةٌ تعلو الماء ومنها يتولد المَحْذُورُ. والثاني: أن يتفق في البلاد المفرطة الحرارة دون الباردة، والمعتدلة، فإن تأثير الشمس فيها ضعيف (¬2). ولا فرق عند القائلين بهذه الطريقة بين أن يقع ذلك قصداً أو اتفاقاً؛ فإن المحذور لا يختلف، وأيّدوا طريقتهم بالمشمس في الحِيَاضِ، وَالبِرَكِ، فإنه غير مكروه بالاتفاق، وإنما كان ذلك؛ لأنه لا يخلف منه مكروه. وقال آخرون: لا تتوقف الكراهية على خوف المحذور لإطلاق النهي، والتعرض للمحذور إشارة إلى حكمته، فلا [يشترط حصولها في كل صورة، وهؤلاء طردوا الكراهية في الأواني المُنْطَبِعَةِ] (¬3) وغيرها، كَالخَزَفِيَّةِ، وفي البلاد الحَارَّةِ وغيرها، واعتذروا عَن مَاءِ الحِيَاضِ، وَالبِرَكِ بتعذر الاحتراز. والطريقة الأولى أقرب إلى كلام الشافعي -رضي الله عنه- فإنه قال: "ولا أكره المشمس إلا من جهة الطب" [أي: إنما كرهه شرعاً حيث يقتضي الطب] (¬4) محذوراً فيه، واستثنى بعضهم من المنطبعات الذهب والفضة، لصفاء جوهرها، ويعد انفصال محذور عنهما. وإذا عرفت ذلك نعد إلى ألفاظ الكتاب. واعلم أن قوله: "ما تغير عن وصف خلقته تغيراً يسيراً لا يزايله اسم الماء المطلق" [ليس] (¬5) المراد من اليسير سوى أنه بحيث لا يزايله اسم الماء المطلق وتعقيبه به مذكور تفسيرًا لليسير وإن لم يكن كذلك، وجزينا على ظاهر اللفظ لزم اشتراط كون التغير يسيرًا لبقاء الطهُورِيَّةِ في جميع المسائل المعدودة وليس كذلك، بل التغير بطول ¬
المُكْثِ، وما لا يمكن صون الماء عنه، وبالمجاور لا يفترق حكمه بين اليسير والفاحش وقوله: "وكذا المتغير بطول المُكْثِ، والتراث، والزَّرْنيخِ"، عطفه على المتغير بالطين والطُّحْلُبِ، وأحسن منه على المتغير بما يجاوره والمتغير بما لا يمكن صون الماء عنه ليكون تعذر الصون نوعًا يدخل تحته المتغير بطول المكث، وما لا يخلو الماء عنه في المقر والممر، فمنه الطين، والطحلب، ومنه التراب الذي يثور وينتثر فيه. وأما الماء الذي يطرح فيه قصداً فقد ذكره من بعد. والاختلافات التي ذكرناها في المشمس تقتضي أن يكون لفظ الكراهية في قوله: "وفي المُشَمَّسِ كراهية" معلَّماً بالواو والحاء والميم والألف وهو علامة أحمد -رضي الله عنه- وأن يكون قوله "من جهة الطب" معلَّماً بالواو إشارة إلى خلاف من اتبع ظاهر النهي، ولم تقف الكراهية على موضع خوف الوضع، ولا بأس أن يعلم قوله في الأواني المنطبعة بذلك أيضاً إشارة إلى استثناء من استثنى التِّبْرَيْنِ (¬1). قال الغزالي: القِسْمُ الثَّالِثُ: مَا تَفَاحَشَ تَغَيُّرُهُ بِمُخَالَطَةِ مَا يَسْتَغنِي المَاءُ عَنْهُ حَتَّى زَايَلَهُ اسْمُ المَاءِ المُطْلَقِ فَلَيْسَ بِطَهُورٍ (ح) وَإِنْ لَم يَستَجِدَّ اسْمًا آخَرَ كالمُتَغَيِّرِ بِالصَّابُونِ وَالزَّعفَرَانِ الكَثِيرِ (ح) وَأجْنَاسِهِمَا. قال الرافعي: إذا بلغ تغير الماء حَدًّا يَنْسَلِبُ به اسم الماء المطلق عنه خرج عن كونه طهوراً، ولا فرق بين أن يقع اسم الماء عليه مضافاً إلى الخليط المُغَيِّرِ كَمَاءِ الزَّغفَرانِ، والدقيق، أو لا يقع ويحدث له اسم آخر كَالصَّبغِ وَالمَرَقِ وَالحِبْرِ خلافاً لأبي حنيفة -رضي الله عنه- في الحالة الأولى. لنا وجهان: أحدهما: القياس على مَاءِ البَاقِلاَّءِ ونحوه. والثاني: أن النصوص الواردة في طهورية الماء متعرضة لاسم الماء عرياً عن القيود والإضافات والكلام فيما انسلب عنه اسم الماء عرياً عن القيود، والإضافات فلا يلحق بمورد النص لظهور الفرق في خاصية الرقة وغيرها. فإن قيل: النصوص متناولهّ للماء، وماء الزعفران ماء. قلنا: لا نسلمه، بل الماء المضاف على ضربين: منه ما يصح إطلاق اسم الماء عليه كماء البحر، وماء الكُوزِ. ومنه ما لا يصح كَمَاءِ الوَرْدِ وماء الباقلاء فلم قلتم بان ماء الزعفران من قبيل الأول لا من قبيل الثاني؟ بل هو من الثاني فإن التغير الفاحش يصحح قول القائل: هذا ليس بماء وإنما هو ماء الزعفران؛ ولهذا لو حلف أن لا يشرب ماء فشرب ماء الزعفران ¬
لا يحنث وكان اسم الماء عرياً عن القيود والإضافات غير موضوع للحقيقة المشتركة بين الماء وماء الزعفران، بل كما لا يتفاحش تغير صفاته الأصلية والله أعلم. وهل يعتبر تَغَيُّرُ اللَّوْنِ، وَالطَّعْمِ، وَالرَّائِحَةِ، جميعاً أم يكفي تغير واحد منها؟ ذكر الموفق بن طاهر (¬1) في "شرح مختصر الجُوينِيِّ" (¬2) أن صاحب "جمع الجوامع" حكى فيه قولين اختار ابن سريج الثاني منهما وهو المشهور المتوجه. وحكى قولاً آخر عن رواية الربيع (¬3) أن التغير في اللون وحده وفي الطعم والرائحة معاً يمنع الطّهُورِيَّة وفي أحدهما لا يمنع. وينبغي أن يتنبه من ألفاظ الكتاب للاحتراز عن التغيرات التي لا تقدح: فقوله: "ما تفاحش تغيره" يخرج عنه التغير اليسير، وان كان بخليط مستغنى عنه. وقوله: "بمخالطة ما يستغني عنه" يخرج عنه التغير بالمجاور وبما لا يمكن صون الماء عنه. قال الغزالي: فُرُوعٌ ثَلاَثَةٌ: الأَوَّلُ- المُتَغَيِّرِ بِالتُّرَابِ المَطْرُوحِ فِيهِ قَصْداً فِيهِ وَجْهَانِ: أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ طَهُورٌ وَيَقْرُبُ مِنْهُ المِلْحُ إِذ طُرِحَ (و) فِي المَاءِ لأَنَّه أَجْزَاءٌ سَبِخَةٌ مِنَ الأَرْضِ بِهَا يَصِيرُ مَاءُ البَحْرِ مَالِحاً فَيُضَاهِي التُّرابَ. الثَّانِي- إِذَا تَفَتَّتَتِ الأَوْرَاقِ فِي المِيَاهِ وَخَالَطَتْهَا فَفِيهَا ثَلاَثَةُ أَوْجْهٍ يُفْرَّقُ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ الخَرِيفِيِّ وَالرَّبِيعِيِّ لِتَعَذُّرِ الاحْتِرَازِ عَنِ الخَرِيفِيِّ. الثَّالِثُ- إذَ صُبَّ مَائِعٌ عَلَى مَاءٍ قَلِيلٍ وَلَمْ يُغْيّرْهُ فَإنْ كَانَ بِحَيث لَوْ خَالَفَهُ في اللَّوْنِ لِتَفَاحُشِ تَغَيُّرِهِ زَالَتِ الطُّهُورِيَّةُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ فَهُوَ طَهُورٌ، وَيجوزُ اسْتِعْمَال الكُلِّ عَلَى الأَظْهَرِ، وقِيلَ: اِذَا بَقِيَ قَدْرُ ذَلِكَ المَائِعِ لَم يَجُزِ استِعْمَالُهُ. ¬
قال الرافعي: في المتغير بالتراب المطروح فيه قصداً وجهان: وقيل قولان: أحدهما: أنه ليس بطهور؛ لأنه تغير بمخالطة مستغنى عنه فأشبه التغير بِالزَّعْفَرانِ. والثاني: وهو الأظهر: أنه على طهوريته، لأن التغير الحاصل بالتراب ليس إلا الكُدُورَة وهي لا تسلب اسم الماء؛ ولأن التراب يوافق الماء في الطَّهُورِيَّةِ؛ ولأن الشرع أمر بالتعفير في وُلُوغِ الكَلْبِ، ولو سلب طرح التراب في الماء الطهورية لما أمر به. وأما المتغير بالمِلْحِ المطروح فيه، فينظر فيه إن كان الملح مائياً، فوجهان: أظهرهما: أنه طهور؛ لأنه منعقد من عين الماء كَالجَمدِ، وَالثَّلْجِ. والثاني: لا، وليس الملح عين الماء، بل المياه نزلت عذبة من السماء، ثم تختلط بها الأجزاء السَّبَخَات (¬1) فتنعقد ملحاً، ولهذا لا يذوب في الشمس ولو كان منعقدًا من الماء لذاب كالجمد، وإن كان جبلياً ترتب على المائي أن سلبنا الطهورية ثمة، فههنا أولى؛ وإلا فوجهان: أظهرهما: السلب أيضاً، لأنه خليط مستغنى عنه غير منعقد من الماء، ومن لم يسلب زعم أنه في الأصل كان ماء أيضًا، ولهذا يذوب في الماء، وإذا أطلقت الكلام في الملح فقل في التغير به ثلاثة أوجه: ثالثها: الفرق بين الجَبَلِيِّ وَالمَائِيِّ تَشْبِيهاً للمائِيِّ بِالجَمْدِ، واستبعد الإمام الغزاليُّ ذلك. وقال: لو كان كالجَمْدِ لذاب في الشمس، ولكن تعليله التشبيه بالتراب المطروح فيه قصداً؛ لأن ماء البحر ملح وملوحته من أجزاء سبخة في الأرض تنتشر فيه فالملح إذا من أجزاء الأرض فإن حصل التغير به من غير قصد كماء البحر فهو طهور كالمتغير بالتراب من غير قصد، وإن كان بقصد فهو على الخلاف كالمتغير بالتراب المَطْرُوح فيه قصداً، وهذا معنى قوله في الكتاب: "ويقرب منه الملح" إلى قوله: "فيضاهي التراب". ولك أن تقول: الملح إما أن يكون فيه ما ينعقد من مَحْضِ الماء أو لا يكون إن كان فتشبيهه بالجمد قويّ، ولهذا لو تغير الماء العَذْبُ بذلك الماء المِلْحُ لم يؤثر فكذلك التغير بالمنعقد منه. والقول بأنه لو كان كالجَمْدِ لذاب في الشمس: ممنوع على هذا التقدير؛ بل من المُنْعَقد الماء ما يذوب، ومنه مالا يذوب وإن لم يكن فيه ماء ينعقد من محض الماء بل كان كل ملح من أجزاء الأرض فإنما يتضح تشبيه الخلاف فيه بالخلاف في التراب أن لو جرى ذلك الخلاف في جميع أجزاء الأرض وليس كذلك، بل نص الأصحاب على أنه ¬
لا يجري في الجَص (¬1) وَالنُّورَةِ وغيرهما، واستبعدوا خلاف من خالف فيه. وإذا كان كذلك فما الفرق بين الجص، والملح وكل واحد منهما ليس بتراب. وقوله: "وبها يَصِيرُ ماء البحر مالحاً" ربما تجد في بعض النُّسَخَ ملحًا، ولا شك في أنه أفْصَحُ في اللغة قال الله تعالى: {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} (¬2) وورد المالح في لفظ الشافعي -رضي الله عنه- واعترض عليه معترضون، وزعموا أنه لا يصح في اللغة، واْجاب الأصحاب عنه وصححوه (¬3)، هذا أحد الفروع. الثاني: الأوراق إذا تناثرت في الماء وتروح الماء بها من غير أن يعرض (¬4) لها عفونة واختلاط، فهذا ماء متغير بشيء مجاور فيبقى على طهوريته على أظهر القولين كما سبق، وإن تَعَفَّنَت واختلطت به ففيه ثلاثة أوجه: أظهرهما: أنه لا يسلب الطهورية كالمتغير بالطين، والطُّحْلُبِ وسائر ما يعسر الاحتراز عنه. والثاني: يسلب كسائر المتغيرات التي تلحق بالماء من خارج. والثالث: وبه قال أبو زيد المَزوزِيُّ (¬5) لا يسلب التغير بالخَرِيفِيِّ لغلبة التَّنَاثِرُ في الخريف بخلاف الربيعي، ولأن الأوراق الخريفية قد امتصت الأشجار رطوبتها وقرب ¬
طَبْعُهَا مِنْ طَبْع الخَشَبِ بخلاف الربيعية فإن فيها رُطْوبَةً وَلُزُوجَةً تقتضي الامتزاج، وهذه الوجه فيما إذَا تناثرت في الماء بنفسها وهو مسألة الكتاب. فلو طرحت فيه قصداً فطريقان: أحدهما: القطع بسلب الطهورية للاستغناء عنه. والثاني: طرد الوجوه الثلاثة، والفارق على الوجه الثالث ههنا إنما هو المعنى الثاني لا غير. الثالث: إذا اختلط بالماء مائع يوافق الماء في الصفات كَمَاءِ وَرْدٍ مُنْقَطِعِ الرَّائِحَةِ وماء الشجر والماء المستعمل ففيه وجهان: أحدهما: أنه إن كان الخليط أقل من الماء فهو طَهُورٌ وإن كان أكثر أو مثله فلا؛ لأنه تعذر اعتبار الأوصاف فيعدل إلى اعتبار الأجزاء ويجعل الحكم للغالب فإذا استويا أخذنا بالاحتياط. والثاني: وهو المذكور في الكتاب وهو الأظهر: أنه إن كان الخليط قدراً لو خالف الماء في طَعْم، أو لَوْنِ، أو رَائِحَةٍ لتغير الماء فهو مَسْلُوبُ الطُّهُورِيَّةِ، وإن كان لا يؤثر مع المخالفة فلا، لأن التغير سالب لِلطّهُورِيَّةِ، وهذا الخليط بسبب الموافقة في الأوصاف لا يغير، فيعتبر تغيره لاستفادة ما طلبناه كما يفعل في معرفة الحكومات. ثم إذا اقتضى الحال بقاء الطهورية إمَّا لِقَّلةِ الخَلِيطِ على الوجه الأول أو لتقاعده عن التغير على الثاني مع تقدير المخالفة، فهل يستعمل (جميعه أم يبقى قدر الخليط؟ وفيه ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه يستعمل (¬1) الجميع لاستهلاك الخليط فيه وانطلاق اسم الماء عليه. والثاني: أنه يبقى قدر الخليط وإلا كان مستعملاً لغير الماء يقيناً وصار كما لَوْ حَلَفَ أن لا يأكل تَمْرَةً وخلطها بتمر كثير لا يَحْنَثُ ما بقيت تمرة وإن استوعب الكل حنث، وأطبقوا على ضعف هذا الوجه. والثالث: إن كان الماء وحده يكفي لواجب الطهارة فله استعمال الجميع وإلا فلا. فإن قلنا: يجوز استعمال الجميع ومعه من الماء ما لا يكفيه وحده ولو كمله بما يستهلك فيه لكفاه لزمه ذلك. ¬
الباب الثاني في المياه النجسة، وفيه فصول أربعة
واعلم أن الخلاف في أن الجميع هل يستعمل جارٍ فيما إذا استهلكت النَّجَاسَةُ المائعة في الماء الكثير، (وفيما إذا استهلك الخليط الطَّاهِرُ في الماء لقلته مع مخالفة الأوصاف لأوصاف الماء، ولو لم يتغير الماء الكثير) لموافقة النَّجَاسَةِ له في الأوصاف فالاعتبار بتقدير المخالفة لا بالأجزاء بلا خلاف، كذلك ذكروه لتغليظ أمر النجاسة واعتبروا في النَّجَاسَةِ بالمخالف الذي هو أشد صفة احتياطاً. وفي الطاهرات بالوسط المعتدل، فلا يعتبر في الطَّعْمِ حِدَّةُ الخَلِّ؛ ولا في الرائحة ذكَاءُ المِسْكِ وقضية هذا الوجه (أن ينظر إلى صفات الَماء عُذُوبَةً، وَمُلُوحَةَ، وَرِقَّةً وَصَفَاءً) (¬1) فإن لها أثراً ظاهراً في حصول التغير وعدمه (¬2). ثم عد إلى ألفاظ الكتاب واعلم أن قوله: "إن كان بحيث لو خالفه في اللون" ليس لاعتبار اللون بعينه، وإنما ذكره مثالاً، وسائر الأوصاف في معناه، وفيه ما قدمناه عن رواية الربيع -رحمه الله- وقوله:"لتفاحش تغيره" إشارة إلى أنه لو كان التغير يسيراً لم يؤثر كما سبق. قوله: "زالت الطهورية" ينبغي أن يعلم بالواو، وكذا قوله: فهو طهور، لأن الحكم لا يتعلق بتقدير التغير وعدمه عند من يعتبر الأجزاء. وقوله: في أول هذا الفرع. إذا صُبَّ مائع على ماء قليل ينبغي إن يعرف أن الصَّبَّ لاَ أَثَرَ لَهُ؛ بل انصباب المائع عليه واختلاطه به كالصَّبِّ، وإنما يفرق بين الوُقُوعِ فيه والطَّرْح قَصْداً فيما يتعذر الاحتراز عنه، وكذلك التعرض للقليل ليس للتقييد؛ بل القليل والكثير في هذا الحكم سواء، ولو حُذِفَ لفظ القليل لَمْ يَضُرّ. قال: الْبَابُ الثَّانِي فِي المْيَاهِ النَّجِسَةِ، وَفِيهِ فُصُولٌ أَرْبَعَةٌ قال الغزالي: الفَصْلُ الأَوَّلِ فِي النَّجَاسَاتِ وَالجَمَادَاتُ كُلُّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ إِلاَ الخَمْرَ وَكُلَّ نَبِيذٍ (ح) مُسْكِرٍ، وَالحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ إِلاَّ الكَلْبَ وَالخِتزِيرَ وَفُروعَهمَا. ¬
قال الرافعي: لما كان أصل الماء الطهارة ونجاسته عارضة، تطرأ بملاقاة شيء نجس، حسن القول في أن النجس ماذا أولاً، فعقد الفصل الأول في النجاسات، وأداها في تقسيم اقتدى في معظمه بِإمَامِ الحَرَمَيْنِ -رحمه الله- وهو أن الأعيان تنقسم إلى جَمَادٍ، وَحَيَوانٍ، والأصل في الجميع الطَّهَارَةُ؛ لأنها مخلوقة لمنافع العباد، وإنما يحصل الانتفاع أو يكمل بالطهارة، ولا يستثنى عن هذا الأصل من الجمادات إلا الخمر، وما يسكر من الأنبذة، أما الخمر فلوجهين: أحدهما: أنها مُحَرَّمَةُ التَّنَاوَلِ، لا لاحترام وضرر ظاهر، والناس مَشْغُوفُونَ بِهَا، فينبغي أن يكون محكوماً بنجاستها تأكيداً للزجر، ألا ترى أن الشرع حكم بنجاسة الكِلاَبِ، لما نهى عن مخالطتها مبالغة في المنع. الثاني: أن الله -تعالى- سماها رِجْساً وَالرِّجْسُ وَالنَّجَسُ عبارتان عن معنى واحد، وأما الأَنِبذَةُ المُسْكِرَةُ فلأنها ملحقة بها في التحريم، فكذلك في النجاسة، وينبغي أن يكون النبيذ مُعْلَمًا بعلامة أبي حنيفة -رحمة الله عليه- فإنه يقول بالطهارة، حيث يقول بِالحِلِّ: وبالواو أيضاً، لأن يحيى اليمني (¬1) حكى في البيان وجهاً ضعيفاً: أن النَّبِيذَ طاهر لاختلاف الناس فيه بخلاف الخمر؛ بل ينبغي أن يكون لفظ الخمر معلماً بالواو أيضاً، لأمور ثلاثة: أحدهما: أن الشيخ أبا علي حكى خلافاً في نَجَاسَةِ المُثَلَّثِ المُسْكِرِ الذي يبيحه أبو حنيفة مع الحكم بالتَّحرِيمِ قَطْعاً. والثاني: أنه حكى وجهاً في طهارة الخمر المحترمة. والثالث: أنهم ذكروا وجهاً في أن يواطن حَبّضاتِ العُنْقُودِ مع استحالتها خمرًا لا يحكم بنجاستها، تشبيهًا بما في باطن الحيوان، وكل ذلك ينافي إطلاق القول بالنجاسة. واعلم أنه لا يريد بالجماد في هذا التقسيم مطلق ما لا حياة فيه؛ بل وما لم يكن حيواناً من قبل، ولا جزءًا من الحيوان، ولا خارجًا منه، وإلا لدخل في الجَمَادَاتِ ¬
المَيْتَاتُ، وأجزاء الحيوانات، وما ينفصل من باطن الحيوان، وحينئذ لا ينتظم قصر الاستثناء على الخَمْرِ وَالنَّبِيذِ، وأما الحيوانات فهي طاهرة، ويستثنى منها ثلاثة: أحدهما: الكلب لقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المشهور: "إِنَّهَا لَيسَت بِنَجِسَةٍ" (¬1) يعني: الهرَّةَ ووجه الاستدلال منه مشهور، ولأن سؤره نجس بدليل ورود الأمر بالإراقة في خبر الولوغ، ونجاسة السُّؤرِ تدل على نَجَاسَةِ الفَم، وإذا كان فمه نجسًا كانت سائر أعضائه نجسة، لأن فمة أطيب من غيره، ويقال: إنه أطيب الحيوان نَكْهَةَ لكثرة ما يلهث. والثاني: الخِنزِيرُ وهو أسوأ حالاً من الكلب، فهو أولى بان يكون نجسًا. والثالث: المتولد من أحدهما نجس لتولده من أصل نجس. وعن مالك: أن الكَلْبَ، وَالخِنْزِيرَ طاهران ويغسل من وُلُوغِهِمَا تَعَبُّداً. ولك أن تعلم قوله: "والحيوانات على الطهارة" بالواو، لأن أبا العباس الجرجاني (¬2) وآخرين نقلوا وجهاً أن الدُّودَ المتولد من نفس المَيْتَةِ نجس العَيْنِ كولد الكلب، فعلى ذلك الوجه لا ينحصر الاستثناء فيما ذكره، لكن هذا الوجه ساقط، ولو صح ذلك لَلَزَمَ أن يحكم بنجاسة الحَيَوانِ من حكم بنجاسة، العَلَقَةِ، وَالمُضْغَةِ، وَمَنيِّ غَيرِ المَأْكُولِ. ¬
قال الغزالي: وَالمَيْتَات كُلُّهَا عَلَى النَّجَاسَةِ اِلاَّ السَّمَكَ وَالجَرَادَ، وَكَذَا الآدَمِيُّ عَلَى الصَّحِيح، وَكَذَا دُودُ الطَّعَامِ فَهُوَ طَاهِرٌ عَلَى الأَصَحِّ، وَلاَ يَحْرُمُ أكَلُهُ مَعَ الطَّعَامِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَمَا لَيسَ لَه نَفسٌ سَائِلَةٌ لاَ يَنْجُسُ المَاءُ إذَا مَاتَ فِيهِ عَلَى الجَدِيدِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا نَجُسَتْ (ح م) بِالمَوْتِ، وَهَذَا عَفْوٌ لِتَعَذُّرِ الاحْتِرَازِ عَنْهُ، وَقِيلَ: إِنَّهَا لاَ تَنْجُسُ بِالمَوتِ إِذ لَيْسَ فِيهَا دَمٌ مُعْفّنٌ فَأَشْبَهَتِ النَّبَاتَ. قال الرافعي: الأصل في الميتات النجاسة، قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (¬1) وتحريم ما ليس بمحترم، ولا فيه ضرر كَالسُّمِّ يدل على نجاسته. ويستثنى منها أنواع: أحدها: السمك والجراد قال -صلى الله عليه وسلم-: "أُحِلت لَنَا مَيتَتَانِ" (¬2). الخبر ولو كانا نجسين لكان مُحَرَّمين. الثاني: الآدمي، وفي نجاسته بالموت قولان: أحدهما: ينجس بالموت؛ لأنه حَيَوانٌ طاهر في الحياة غير مأكول بعد الموت فيكون نجساً كغيره. والثاني: وهو الأصح: لا ينجس لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (¬3) وقضية التكريم أن لا يحكم بنجاسته؛ ولأنه لو نجس بالموت لكان نجس العين كسائر الميتات، ولو كان كذلك لما أمر بغسله كَسَائِرِ الأَعْيَانِ النَّجِسَةِ، روى هذا الاستدلال عن ابنِ سُرَيج قال أبو إسحاق (¬4) عليه) لو كان طاهراً لما أمر بغسله كسائر الأعيان الطاهرة. ¬
أجابوا عنه بان غسل نجس العين غير معهود، أما غسل الطاهر مَعْهُودٌ فِي حَقِّ الجُنُبِ، والمحدث، على أن الغرض منه تكريمه وإزالة الأَوْسَاخِ عنه. وقال أبو حنيفة: يُنَجَّسُ بِالمَوْتِ ويطهر بالغسل، وهو خلاف القولين جميعاً. الثالث: الحيواناتُ التي ليست لها نفس سائلة هل تنجس الماء إذا ماتت فيه؟ اختلف فيه قول الشافعي -رضي الله عنه- على قولين: أحدهما: نعم، لأنها ميتة فتكون نجسة كسائر الميتات وإذا كانت نجسة نجس الماء بها كسائر النجاسات. الثاني: وهو الأصح: لا، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذَا سَقَطَ الذُّبَابُ في إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَامْقُلُوهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً وَفِي الآخَرِ دَاءً، وإنَّهُ يُقَدِّمُ الدَّاءَ" (¬1) وقد يفضي المقل (¬2) إلى الموت سيما إذا كان الطعام حاراً، فلو نجس الماءُ لما أمر به. وعن سلمان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كُلُّ طَعَامِ وَشَرَاب وَقَعَتْ ¬
فِيهِ دَابَّةٌ لَيسَ لَهَا دَمٌ فَمَاتَتْ [فِيهِ] فَهُوَ حَلاَلُ أَكْلُه وَشُرْبُهُ وَالوُضُوءُ مِنْهُ" (¬1) ولأن الاحتراز عنها مما يعسر، وهذا الخلاف في غير ما نشؤه في الماء، وأما ما نشؤه فيه وليس له نفس سائلة فلا ينجس الماء بلا خلاف، فلو طرح فيه من خارج عاد الخلاف. فإن قلنا: إنها تنجس الماء فلا شك في نجاستها. وإن قلنا: لا تنجس، فَهَلْ هِيَ نَجِسَةُ في نفسها؟ قال الأكثرون: نعم، كسائر الميتات، وهو ظاهر المذهب. وقال القَفَّالُ: لا؛ لأن هذه الحيوانات لا تَسْتحِيلُ بالموت؛ لأن الاستِحَالَةَ إنما تأتي من قبل انحصار الدَّم وَاحتِبَاسِهِ بالموت في العروق واستحالته وتغيره، وهذه الحيوانات لاَ دَمَ لها، وما فيَها من الرُّطُوبَةِ كَرُطُوبَةِ النبات. وإذا عرفت ما ذكرناه عرفت أنه لم يرتب الخلاف في النجاسة على الجديد، فقال: قيل: إنها نجست بالموت وعرفت أن هذه الحيوانات على ظاهر المذهب غير مستثناة عن الميتات، وإنما الاستثناء على قول القَفَّالِ (¬2)، وأما جعله (¬3) القول بعدم نجاسة الماء قوله الجديد: فإنما أخذه من إمام الحرمين وروى القاضي أبو المحاسن الروياني خلاف ذلك فسمى هذا القول القديم، والأكثرون أرسلوا ذكر القولين من غير تعيين جديد وقديم. وأما ما ذكره في دود الطعام فإيراده يشعر بمغايرة حكمه لحكم ما ليس له نفس سائلة إشعارًا بينًا، وليس كذلك؛ بل من قال: بنجاسة ما ليس له نفس سائلة، صرح بأنه لا فرق بين ما يتولد من الطعام، كَدُودِ الخَلِّ وَالتُفَّاح وغيرهما، وبين ما لا يتولد منه كالذُّبَابِ، وَالخُنْفُسَاءِ وقالوا: ينجس الكل بالموت لكن لا ينجس الطعام الذي يموت فيه، كما ذكرنا في نجاسة ما نشؤه في الماء. ¬
ومن قال: لا ينجس ما ليس له نفس سائلة بالموت، فلا شك أن يقول به في دود الطعام بطريق الأولى، فإذًا قوله: "وكذا دود الطعام طاهر على الصحيح" اختيار لطريقة القَفَّالِ، والمعنى على الصحيح من القولين ذهابًا إلى أن القول بعدم نجاسة الماء بموت ما ليس له نفس سائلة فيه مَبنِيٌّ على أنه ليس بنجس. وأما قوله: "ولا يحرم أكله مع الطعام على الصحيح" (¬1) فاعلم أن التقييد بكونه مع الطعام غير محتاج إليه، لثبوت أصل الخلاف: ويجوز أن يكون محتاجاً إليه: لكن القول بالحل أصح؛ أما الأول؛ فلأنه ذكر في النِّهاية (¬2): أنه لو جمع جامع من دُودِ الطَّعَامِ شيئاً واعتمد أكله فهل يَحِلُّ؛ فيه وجهان: أحدهما: نعم، لأنه كَالجُزْءِ مِنَ الطَّعَام طَعْماً وَطَبْعاً؛ وأصحهما: التحريم فنقل الوجهين في أكله منفرداً، وقد أطلق في الوَسِيطِ الوجهين في الحل من غير تخصيص بالأكل مع الطعام أو منفرداً. وأما الثاني: فلأن إفراده بالأكل مُسْتَغْنًى عنه، وهو مُستَقذَرٌ مندرج تحت عموم تحريم الميتة، أما التمييز بينه وبين الطعام عند الأكل فعسير جاز أنه يعفى عنه، وبهذا المعنى قلنا: لا ينجس الطعام بلا خلاف، وإن حكمنا بنجاسته، وربما يخطر بالبال أن الخلاف في حل الأكل مبني على الخلاف في الطهارة والنجاسة، إن قلنا: بالنجاسة يحرم وإلا فيحل، وليس الأمر فيه على هذا الإطلاق، بل الخلاف منتظم مع حكمنا بالطهارة فوجه التحريم الاسْتِقْذارُ، وشمول اسمَ الميتة، وصار كما لا نفس له سائلة مما لا يكون نشؤه في الطعام، فإنه يحرم، وإن حكم بطهارته، ووجه الحل أنه كالجزء من الطعام طَبْعاً وَطَعْماً، وأما إذا حكمنا بالنجاسة فوجه التحريم بَيِّنٌ، ووجه الحل إذا كان يؤكل مع الطعام عسر الاحتراز والتمييز، وعن الانفراد لا ينقدح شيء -والله أعلم- واعرف بعد هذا شيئين: أحدهما: قوله: والميتات على النجاسة، لا يعني الميتة بجميع أجزائها بل ما سوى الشعر وما في معناه، وفيها من الخلاف والتفصيل ما ذكره في باب الأواني. والثاني: ظاهر كلامه، حصر المستثنى من الميتات في الأنواع المذكورة، وليس كذلك بل الجنين الذي يوجد ميتاً عند ذَبْح الأم حلال طاهر أيضاً، وكذا الصَّيْد إذا مات بالضغط على أحد القولين. قال الغزالي: أَمَّا الأَجْزَاءُ المُنْفَصِلَةُ عَنْ ظَاهِرِ الحَيَوَانِ فَكُلُّ مَا أبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ ¬
مَيِّتٌ إِلاَّ الشُّعُورَ المُنْتَفِعَ بِهَا فِي المَفَارِشِ وِالمَلاَبِسِ فَأَنَّهَا طَاهِرَةٌ بَعْدَ الجَزِّ لِلحَاجَةِ. قال الرافعي: عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ" (¬1). فالأصل فيما بان من الحي النجاسة، ويستثنى منه شعر المأكول المَجْزُوز في حياته، فهو طاهر للحاجة إليه في الملابس ولو قدر قصر الانتفاع على ما يكون على المُذَكَّى، لضاع معظم الشعور. وفي معنى الشعور الرِّيشُ، وَلصُّوفُ وَالوَبَرُ، وقد قيل: في قوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (¬2): إن المراد إلى حين فَنَائِهَا هذا فيما يبان بطريق الجَزِّ، وفي النَتْفِ وَالتَّاثُرِ وجهان: والأصح: إلحاقها بالجز. وعلى هذا فقوله في الكتاب: "فإنها طاهرة بعد الجز" ليس مذكورًا ليكون قيدًا في الطهارة، وعلى الوجه الآخر يمكن جعله قيدًا. واعلم أن ظاهر قوله فكل ما أبين من حي فهو ميت، إلا الشعور المنتفع بها، لا يمكن العمل به لا في طرف المستثنى، (ولا في طرف المستثنى منه؛ أما المستثنى فلأنه يتناول جملة الشعور المَجزُوزَةِ، والطهارة مخصوصة بشعر المأكول، وأيضًا) (¬3) فلأنه يتناول الشعر المبان على العضو المبان من الحيوان، وأنه نجس في أصح الوجهين. ¬
أما المستثنى منه فلأنه يدخل فيه العضو المبان من الآدمي، ومن السَّمَكِ وَالجَرَادِ، وَمَشِيمَةِ الآدمي، وهذه الأشياء طاهرة على المذهب الصحيح، وكذلك يدخل فيها شعر الآدمي، لأنه غير منتفع به حتى يدخل في المستثنى، وإذا لم يتناوله الاستثناء بقي داخلاً في المستثنى منه ومع ذلك فهو طاهر فظهر تعذر العمل بالظاهر ووقوع الحاجة بالتأويل، ومما ينبغي أن يتنبه له معرفة أن تفصيل الشعور المبانة وتقسيمها إلى طاهر ونجس مبني على ظاهر المذهب في نجاسة الشعور بالموت، فإن قلنا: لا ينجس بالموت فلا ينجس بالإبَانَةِ أيضاً بحال. قال الغزالي: وَأَمّا الأجزَاءُ المُنْفَصِلَةِ عَنْ بَاطِنِ الحَيَوانِ فَكُلُّ مُتَرَشِّح لَيْسَ لَهُ مَقَرٌّ يَسْتَحِيلُ فِيهِ كَالدَّمْعِ وَاللُّعَابِ وَالعَرَقِ فَهُوَ طَاهِرٌ مِنْ كُل حَيَوَانٍ طَاهِر، وَمَا اسْتَحَالَ فِي البَاطِنِ فَأصْلُة عَلَى النَّجَاسَةِ كَالدَّمِ وَالبَولِ وَالعَذِرَةِ إِلاَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَكَذَا فِي خُرءِ الجَرَادِ وَالسَّمَكِ وَمَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ وَجْهَانِ لِشَبَهِهَا بِالنَّبَاتِ. قال الرافعي: المنفصل عن باطن الحيوان قسمان: أحدهما: ما ليس له اجتماع واستحالة في الباطن، وإنما يرشح رشحاً. والثاني: ما يستحيل ويجتمع في الباطن ثم يخرج، والأول كاللُّعَاب، وَالدَّمْعِ، وَالعَرَقِ فحكمه حكم الحيوان المترشح منه، إن كان نجساً فهم نجس وإنَ كان طاهر فهو طاهر. سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَنتَوضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتِ الْحُمُرُ فَقَالَ: نَعَم وَبِمَا أَفضَلَتِ السِّبَاعُ كُلُّهَا" (¬1) حكم بطهارة السُّؤْر وذلك يدل على طهارة اللُّعَاب، "وركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرساً مَعْرُوريًا لأبي طلحة وركضه ولم يحترز عن العرق" (¬2). والقسم الثاني: كالدَّمِ، وَالبَوْلِ، وَالعُذْرَةِ وهذه الأشياءِ: نجسة من الآدمي، ومن ¬
سائر الحيوانات المأكول منها وغير المأكول، أما في غير المأكول فبالإجماع. أما في المأكول فبالقياس (¬1) عليه، لأنها متغيرة مستحيلة، وذهب مالك وأحمد -رحمهما الله- إلى طهارة بول ما يؤكل لحمه وروثه وبه قال أبو سعيد الإصْطَخرِيُّ (¬2) من أصحابنا واختاره القاضي الروياني وتمسكوا بأحاديث مشهورة في الباب مع تأويلاتها ومعارضاتها. وهل نحكم بنجاسة هذه الفضلات من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه وجهان: قال أبو جعفر التِّزمِذِيِّ (¬3) لا، لأَنَّ أَبَا طَيبَةَ الحَاجِمَ شَرِبَ دَمَهُ فلَم يُنكِرْ عَلَيهِ (¬4). ¬________ (¬1) القياس في اللغة: التسوية والتقدير. وفي الشرع: حمل معلوم على معلوم، أي: إلحاقه به في حكمه لمساواة بينهما في علة الحكم، أو هو: حمل مجهول الحكم على معلومه لمساواة بينهما في علة الحكم. وانظر تعريفات القياس في: القاموس 2/ 244، أصول الشاشي 325، المعتمد 2/ 697، 1031، العدة 1/ 174، البرهان 2/ 745، أصول السرخسي 2/ 143، المستصفى 2/ 5، المحصول 2/ 2/ 18، الإحكام للآمدي 3/ 261، المنتهى لابن الحاجب 122، الابهاج 3/ 5، شرح التنقيح 383، تيسير التحرير 3/ 263، فواتح الرحموت 2/ 246، نبراس العقول 9، 13. (¬2) الحسن بن أحمد بن يزيد بن عيسى أبو سعيد الإصطخري شيخ الافعية ببغداد ومحتسبها، ومن أكابر أصحاب الوجره في المذهب، وكان ورعاً زاهداً أخذ عن أبي القاسم الأنماطي كما تقدم، قال أبو إسحاق المروزي: لما دخلت بغداد لم يكن لها من يستحق أن يدرس عليه إلا ابن سريج، وأبو سعيد الإصطخري. توفي في ربغ الآخر وقيل في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وقد جاوز الثمانين مولده سنة أربع وأربعين قبل ابن سريج. انظر ابن قاضي شهبة 1/ 109، انظر تاريخ بغداد 7/ 268، والشيرازي 91، وابن السبكي 3/ 193، وفيات الأعيان 1/ 375، والمنتظم 6/ 302. (¬3) محمد بن أحمد بن نصر أبو جعفر الترمذي الإمام الزاهد الورع سكن بغداد وكان شيخ الشافعية بالعراق قبل ابن سريج، وتفقه على الربيع وغيره من أصحاب الشافعي، وكان حنفياً ثم صار شافعياً لمنام رأه، قال الدارقطني ثقة مأمون ناسك. وقال الشيخ أبو إسحاق: لم يكن للشافعية بالعراق أرأس منه، ولا أورع ولا أكثر تقللاً. وله في المقالات كتاب سماه (اختلاف أهل الصلاة). مولده في ذي الحجة سنة مائتين، وتوفي في المحرم سنة خمس وتسعين ومائتين. انظر قاضي شهبة 1/ 82 - 83. وانظر ط. العبادي 56، ط. والشيرازي 86، وابن السبكي 1/ 288، المنتظم 6/ 8، والشذرات 2/ 220. (¬4) قال الحافظ ابن حجر: وفي رواية أنه قال له بعد ما شرب الدم لا تعد الدم حرام كله، أما الرواية الأولى. فلم أر فيها ذكرًا لأبي طيبة، بل الظاهر أن صاحبها غيره، لأن أبا طيبة مولى بني بياصة من الأنصار، والذي وقع لي فيه أن صدر من مولى لبعض قريش، ولا يصح أيضاً فروى ابن حبان في الضعفاء من حديث نافع أبي هرمز عن عطاء عن ابن عباس قال: حجم النبي -صلى الله عليه وسلم- غلام لبعض قريش فلما فرغ من حجامته أخذ الدم فذهب به من وراء الحائط فنظر يميناً وشمالاً فلما لم ير أحداً تحسى دمه حتى فرغ، ثم أقبل فنظر النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجهه فقال: (ويحك ما صنعت بالدم؟) قلت: غيبته من وراء الحائط قال: أين غيبته؟ قلت: يا رسول الله =
وَرَوِيَ "أَنَّ أُمَّ أَيْمَنَ شَرِبَتْ بَوْلَهُ فَقَالَ: إِذاً لاَ تَلِجُ النَّارَ بَطْنُكِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيهَا" (¬1). وَيُرْوَى شُرْبُ دَمِهِ عَنْ عَلِيٍّ (¬2)، وَابْنِ الزُّبَيْرِ (¬3) أَيْضًا -رَضِيَ الله عَنْهُمَا- وقال ¬
معظم الأصحاب حكمها كحِكمها من غيره قياساً، وحملوا الأخبار على التداوي. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لأيِي طَيبَةَ: لاَ تَعُدْ، الدَّمُ كُلُّهُ حَرَامٌ" (¬1). وفي خَرءِ السَّمَكِ وَالجَرَادِ وبولهما وجهان: أظهرهما: النجاسة قياساً على غيرها لوجود الاستحالة والتغير، وبه قال أبو حنيفة، وكذا في زرق الطيور الدَّجَاجَة. والثاني: الطهارة لجَوَازِ ابْتِلاعَ السُّمُوكِ حَيَّةً، وميته وإطباق الناس على أكل المملحة منها على ما في بطونها، وكذلك في خرء ما ليس له نفس سائلة وجهان: أظهرهما: النجاسة. والثاني: لا؛ لأن الرُّطُوبَةَ المنفصلة منه كالرطوبة المنفصلة من النبات لمشابهة صورته بعد الموت صورته في الحياة، ولهذا لم يحكم بنجاسته بالموت على رأي، ولهذا بني بعضهم الخلاف في طهارة روثه على الخلاف في نجاسته بالموت. ونعود بعد هذا إلى ألفاظ الكتاب. أما قوله: "كل مُتَرَشِّحٌ ليس له مَقَرٌّ يستحيل فيه" فالمراد منه القسم الأول. وقوله: "ما استحال في الباطن" فالمراد منه القسم الثاني، والتعرض للترشح في الأول إنما وقع، لأن الغالب فيه الخروج على هيئة الترشح، لا أنه من خواصه، أو أن الطهارة منوطة به ألا ترى أن الدَّمَ وَالصَّدِيدَ قد يترشحان من القُرُوحِ والنّفَاطَاتِ، وهما نجسان. وقوله: ليس له مقر يستحيل فيه لا يلزم من ظاهره ألا يكون مستحيلاً أصلاً لجواز أن يكون مستحيلاً لا في مقر فإن الدمع وسائر ما يقع في هذا القسم لا يستحيل أصلاً فالتعرض لنفي المقر ضرب من التأكيد والبيان، وإن كان يستحيل لا في المقر فالحكم منوط بنفي الاستحالة في المقر لا بمطلق نفي الاستحالة، وحينئذ يكون قوله "وما استحال في الباطن" منصرفاً إليه. ¬
والمعنى وما استحال في مقر في الباطن، وقوله: "كالدَّم وَالبَوْلِ وَالعَذْرَةِ" ينبغي أن يعلم البول والعذرة بالميم والألف والواو إشارة إلى ما حكينا من مذهب مالك وأحمد والإصطخري، بل لا بأس بإعلام الدم أيضاً بالواو؛ لأن في المتحلب مِن الكَبدِ وَالطّحَالِ وجهاً أنه طاهر، وكذلك فِي دَمِ المسْكِ، والله أعلم. قال الغزالي: وَالألْبَانُ طَاهِرَةٌ مِنَ الآدَمِيِّينَ (ح) وَمِنْ كُلِّ حَيَوَانِ مَأْكُولِ، وَإِلا نَفْحَةُ مَعَ اسْتِحَالَتِهَا فِي البَاطِنِ قِيلَ بِطَهَارَتهَا لِحَاجَةِ الجُبْنِ إلَيْها. قال الرافعي: اللبن من جملة المستحيلات في الباطن إلا أن الله تعالى منَّ علينا بألبان الحيوانات المأكولة، فقال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} (¬1) الآية، وجعل ذلك رِفْقًا عظيمًا بالعباد. وأما غير المأكولَ، فإن كان نجسًا فلا تخفى نجاسته منه، وإن كان طاهرًا فهو إِمَّا آدمي، أو غيره أما الآدمي فلبنه طاهر إذ لا يليق بكرامته أن يكون نَشؤُهُ على الشيء النَّجِسِ، ولأنه لم ينقل أن النسوة أمرن في عصره بغسل الثياب والأبدان مما يصيبهن من اللبن، وحكى وجه أنه نجس كسائر ما لا يؤكل، وإنما يربى الصبي به للضرورة، وأما غير الآدمي فالمذهب نَجَاسَةُ لبنه على قياس المستحيلات، وإنما خالفنا في المأكول تبعًا للحم وفي الآدمي. لكرامته: وعن أبي سعيد الأصْطَخِريُّ أنه طاهر كالسُّؤْر والعَرَق. وإذا عرفت ذلك فالمعتبر عنده في طهارة اللبن الحيوان، لا كونه مأكولًا فلا بأس لو أعلمت المأكول في قوله: "ومن كل حيوان مأكول" بالواو. لأنه مذكور قيدًا في الطهارة، وكذلك قوله: "من الآدمي" للوجه الذي رويناه. ومما يستثنى من المستحيلات إلا نَفْحَهُ في أصح الوجهين. ولم يذكر كثيرون سوى أنها طاهرة لإطباق الناس على أكل الجبن من غير إنكار. والثاني: أنها نجسة على قياس الاستحالة فإن الإِنْفَحَةَ لبن مستحيل في جوف السَّخْلَةِ، وإنما يجري الوجهان بشرطين أحدهما أن يؤخذ مِنَ السَّخلَةِ المَذْبُوحَةِ، فإن ماتت فهي نجسة بلا خلاف، والثاني: إلا تطعم إلا اللبن وإلا فهي نجسة بلا خلاف. قال الغزالي: وَأَمَّا المَنيُّ فَطَاهِرٌ مِنَ الآدَمِيِّ (م)، وَفِي سَائِرِ الحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ ثَلاثَةُ أَوْجُهِ يُخَصَّّصُ الطَّهَارَةَ في الثَّالِث بِالمَأْكِولِ اللَّحْمُ مِنْهَا، لأَنَّهُ يِشِبهُ بَيْضَ الطَّيْر، وَفِي بَذْرِ ¬
القَزِّ وَبَيْضِ مَا لاَ يُؤْكَلُ لَحْمَهُ وَجْهَانِ، أَمَّا دُودُ القَزِّ فَطَاهِرٌ، وَالمِسْكُ طَاهِرٌ، وَفَأَرَتُهُ كَذَلِكَ عَلى الأَظهَرِ. قال الرافعي: المنيُّ قسمان: مني الآدمي، ومني غيره، فأما مني الآدمي فهو طاهر لما روي عَن عَائِشَةَ -رَضِيَ الله عَنْهَا- أنَّها قَالَتْ: "كُنْتُ أَفْرُكُ المَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ يُصَلِّي فيْهِ". وفي رِوَايْةٍ "وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ" (¬1) والاستدلال بها أقوى، ولأنه مبدأ خلق الآدمي، فأشبه التراب. فإن قيل: هذا مَنْقُوض بِالعَلَقَةِ وَالمُضْغةِ. قلنا: أصح الوجهين فيهما الطهارة أيضاً. وحكى بعضهم عن صاحب التلخيص (¬2) قولين في مني المرأة. وحكى آخرون عنه أن مني المرأة نجس، وفي مني الرجل قولان، وهذا أقوى النقلين عنه، ويوجه القول بنجاسة المني وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك بما روى أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يُغْسَلُ الثَّوبُ مِنَ الْبَوْلِ وَالْمَذي وَالمَنِيِّ" (¬3). ¬
وبما روى أنه -عليه السلام- قال لعائشة -رضي الله عنها-: "اغْسِلِيهِ رَطْبًا وَافْرُكِيهِ يَابِسًا" (¬1) واذا نصرنا ظاهر المذهب حملناهما على الاسْتِحِبَابِ، جَمعًا بَينَ الأَخْبَارِ. والمذهب الأول وهو طهارة المني من الرجل والمرأة نعم قال الأئمة: إن قلنا: رُطُوبَةُ فَرْج المرأة نجسة نُجِّس المني بملاقاتها، ومجاورتها، وليس ذلك لنجاسة المني في أصله؛ بَل هُوَ كما لو بال الرجل ولم يَغسِل ذَكَرَهُ، فإن منيه ينجس بملاقاة المحل النجس. وأما مني غير الآدمي فينظر إن كان ذلك الغير نجساً فهو نجس، وإن كان طاهرًا فَفِيه ثَلاَثةُ أوجه: أظهرها: أنه نجس؛ لأنه مستحيل في الباطن كالدم وإنما حُكِمَ بطهارته من الآدمي تكريمًا له. والثاني: أنه طاهر؛ لأنه أصل حيوان طاهر، فأشبه مني الآدمى. والثالث: أنه طاهر من المأكول نجس من غيره كاللبن (¬2). وبيض الطائر المأكول طاهر كلبن الأنعام، وفي بيض ما لا يؤكل لحمه وجهان كما في منيه والأظهر: النجاسة. ويجري الوجهان في بَزْرِ القَزِّ فإنه أصل الدُّودِ كالبَيْضِ فإنه أصل الطير. وفيه؛ معنى آخر وهو: أن الدود من جملة ما ليس له نفس سائلة وقد ذكرنا في رَوْثِ ما ليس له نفس سائلة وجهين فإن كان البَزْرُ رَوْثاً عاد فيه ذلك الخلاف، ¬
وإن لم يكن روثاً بل كان بيضاً له، فإذا كان روثه على الخلاف فَبَيْضُهُ أولى أن يكون كذلك. وأما دود القَزِّ فلا خلاف في طهارته، كسائر الحيوانات. وليس المسك من جملة النجاسات. وإن قيل: إنه دم "لأَنَّهُ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَعْمِلُهُ وَكَانَ أحَبَّ الطِّيبِ إِلَيْهِ" (¬1). وفي فَأرَتِهِ وجهان: أحدهما: النجاسة؛ لأنها جزء انفصل من حي. وأظهرهما: الطهارة؛ لأنه منفصل بالطبع كَالجَنِيْنِ؛ لأن المسك فيها طاهر، ولو كانت نجسة لكان المظروف نجسًا، وموضع الوجهين ما إذا انفصلت في حياة الظَّبْيَةِ، أما لو انفصلت منها بعد موتها فهي نجسة، كالجنين، واللَّبَنِ [وَحُكِيَ] (¬2) وَجهٌ آخر: أنها طاهرة كالبيض المتصلب (¬3). وألفاظ الكتاب في هذه المسائل بَيِّنَةٌ، نعم قوله: "في مني غير الآدمي" يخصص الطهارة في الثالث بمأكول اللحم منه؛ لأنه يشبه بيض الطير يقتضي ظاهره أن تكون الطهارة في البَيْضِ مَخْصُوصَةٌ ببيض المأكول وفاقاً، وليس كذلك؛ بل في بيض غير المأكول وجهان، كما في مني غير المأكول، فالمراد تشبيه مني المأكول ببيض المأكول لإِثْبَاتِ الطهارة فيه، من جهة أن كل واحد منهما أصل الحيوان المأكول لا لتخصيص الَطهارة، به، ولا خلاف في طهارة بيض المأكول وصاحب الوجه الثالث يقول: ينبغي أن يكون المني كذلك، وأما من غير المكول فيبقى على قِيَاسِ المُسْتَحِيلاَتِ. ¬
الفصل الثاني في الماء الراكد
قال الغزالي: الفَصْلُ الثَّاني في المَاءِ الرَّاكِد وَالقَلِيلُ مِنْهُ يَنْجُسُ بِمُلاَقاةِ النَّجَاسَةِ وَإِنْ لَم يَتَغَيَّرْ، وَالكَثِيرُ لاَ يَنْجُسُ إلاَّ إِذَا تَغَيَّرَ وَلَوْ تَغَيّرًا يَسِيرًا فَإِنْ زَالَ التَّغيُّرُ بِطُولِ المُكْثِ عَادَ طَهُورًا، وَإنْ زَالَ بِطَرْحِ المِسْكِ وَالزَّعْفَرانِ فَلاَ، وَإِنْ زَالَ بِطَرْحِ التُّرَابِ فَقَوْلاَنِ لِلتَّرَدُدِ فِي أنَّهُ مُزِيلٌ أوْ سَاتِرٌ. قال الرافعي: والماء قسمان: راكد وجار وبينهما بعض الاختلافات في كيفية قبول النجاسة وزوالها فلا بد من التمييز بينهما. أما الراكد فينقسم إلى قليل وكثير. وسيأتي معناهما. أما القليل فينجس بملاقاة النجاسة تغيّر بها أم لا، روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا بَلَغَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِل خَبَثاً" (¬1) وُيرْوَى "نَجِساً". والمعنى أنه يدفعه ولا يقْبلُه فدل أن ما دون القُلَّتَيْنِ يقبله، وقد استوى حكم القليل والكثير عند التغير فيرجع الفرق إلى النجاسة من غير التغير، ويدل عليه أنه يستحب غسل اليدين للمستيقظ من النوم قبل إدخالهما الأواني، وفي الخبر تعليل ذلك باحتمال النجاسة، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-:" فَإنَّهُ لاَ يَدْرِي أَينَ بَاتَتْ يَدُهُ" (¬2). ولولا أن نفي النجاسة يؤثر في الماء القليل، لما كان لهذا الاستحباب معنى وقال مالك: لا ينجس القليل إلا بالتغير كالكثير، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "خُلِقَ المَاءُ طَهُورًا لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غُيّرَ طَعْمَهُ أَوْ رِيْحَه" (¬3) واختاره القاضي الرُّوَيانيُّ في الحِلْيَةِ، والشافعي -رضي الله عنه- حمل هذا الخبر على الكثير؛ لأنه ورد في بِئْرِ بُضَاعَةَ وكان ماؤها كثيرًا. ¬
وأما الكثير فينجس إذا تغير بالنجاسة لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "خُلِقَ المَاءُ طَهُوراً" الخبر نص على الطَّعْم، والريح، وقاس الشافعي -رضي الله عنه- اللون عليهما (¬1)، وإن لم يتغير نُظِر إن كانَ ذلك لِقِلَّةِ النجاسة واستهلاكها فيه لم ينجس الماء لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لَمْ يَحْمِل خَبَثاً" (¬2) وهل يستعمل جميع ذلك الماء أم يبقى قدر النجاسة؟ فيه الوجهان المذكوران من قبل، وإن كان عدم التغير لموافقتها الماء في الأوصاف فيقدر بما يخالف على ما سبق، ثم لو طال مُكْثُ الماء وزال تغيره بنفسه، عاد طهوراً؛ لأن الأصل في الماء الطهورية، وإنما حكمنا بنجاسة الكثير منه لمكان التغير، فإذا زال سبب النجاسة عمل المقتضى للطهارة عمله، وحكى في التَّتِمَّةِ (¬3) وجها عن الإصْطَخرِيِّ أنه إذا زال التغير بنفسه لا يطهر وكما لم ينجس إلا بوارد عليه لا يطهر إلا بوارد عليه، ولو طرح فيه المسك (فلم توجد رائحة النجاسة، أو الزعفران) (¬4)، فلم يوجد لونها، أو الخَلّ فلم يوجد طعمها، فلا يعود طهوراً، لأنا لا ندري أنَّ أوصاف النجاسة زالت أم غلب عليها المطروح فيه فسترها؛ بل الظاهر الاستتار ألا ترى أن ذكاء رائحة المسك يغلب الروائح الكريهة بحيث لا يحس بها ثم إذا فَتَرَت رائحةُ المِسْكِ حصل الإحساس بها، وإن طرح فيه التراب فلم يكف التغير فهل يعود طهوراً؟ فيه قولان: أحدهما -ويروى عن المزني- نعم؛ لأن التراب لا يغلب عليه شيء من الأوصاف الثلاثة حتى يفرض ستره إياها، فإذا لم يصادف تغييرًا أشعر ذلك بالزوال، وأصحهما: أنه لا يعود طهوراً؛ لأنه وإن لم تغلب عليه هذه الأوصاف إلا أنه يكدر الماء، والكُدُورَةُ من أسباب السّتْرِ، فلا يدري معها أن التغير زائل، أو مَغْلُوبٌ. ووجه بعضهم القول الأول بأن التراب يوافق الماء في الطُّهُورِيةِ فيتعاونان في دَفعِ النَّجَاسَةِ، ولهذا يجمع بينهما في إزالة النجاسة المُغَلَّظَةِ. ¬
وهذا التوجيه يليق بمن يزعم اختصاص القولين بالتراب، لكن الطريقة الصحيحة طرد القولين في الجَصِّ، وَالنُّورَةِ التي لم تُطْبَخْ، وغير ذلك مما لا يكون الوصف المتغير من الماء غالبًا عليه. هذا فقه الفصل. ثم نتكلم فيما يتعلق بألفاظ الكتاب من الفوائد: أما قوله: "والقليل منه ينجس بملاقاة النجاسة وإن لم يتغير" يدخل فيه النجاسة المُجَاوِرَةُ، وَالمُخَالِطَةُ، ولا يدخل فيه: ما إذا تَرَوَّحَ الماء بِجيفَةٍ مُلْقَاةٍ على شَطِّ النهر، لأنه لا ملاقاة. واعلم أنه ليس المراد تأثر الماء القليل بملاقاة كل نجاسة فإن من النجاسات ما لا يؤثر فيه كميتة ما لا نفس له سائلة على الجديد كما سبق، والنجاسة التي لا يدركها الطرف، وكما إذا وَلَغَتِ الهِرَّةُ بعد نجاسة فمها في ماء قليل، وفيها خلاف سيأتي، وإنما الغرض بيان كيفية التأثر، وأن التغير غير معتبر فيه، وأما أن النجاسة المؤثرة أية نجاسة، فذلك شيء آخر. وأما قوله: "والكثير لا ينجس إلا إذا تغير تغيراً يسيراً"، هكذا في أكثر النُّسَخ، ورأيت في بعضها طرح قوله: "تَغَيُّراً يَسِيراً"؛ لأنه يوهم التقييد باليسير ومتى كان [التغير] (¬1) اليسير قَادِحاً فالفاحش أولى أن يكون قادحاً، فيستحيل التقيد باليسير، فإن طرح فذاك. وقوله "إلا إذا تغير"، يشمل اليسير والفاحش، وإن لم يطرح فالمراد إلا إذا تغير وإن كان تغيُّراً يسيراً، لا كالتغير بالطاهرات فإنه إنما يَسْلُبُ الطهورية إذا تَفَاحَشَ، ثم ننبه لأمور: أحدها: قوله: "والكثير لا ينجس إلا إذا تغير" لا يمكن العمل بظاهره؛ لأنه يقتضي أن لا ينجس إذا لم يتغير أصلاً؛ وليس كذلك لما ذكرنا أنه لو لم يتغير للموافقة في الأوصاف تعذر كونه مخالفاً، فان كان بحيث تغير لو كان مخالفاً فالماء نجس وإن لم يتغير، فإذاً اللفظ محتاج إلى التَّأوِيلِ. الثاني: قوله: "إلا إذا تَغَيَّر" يعم التغير بالنجاسة المخالطة والمجاورة، والنوعان يسلبان الطهارة على ظاهر المذهب، وفي وجه: التغير بالنجاسة المجاورة لا يسلب الطهارة كما أن التغير بالطاهر المجاور لا يسلب الطهورية، فلو علم قوله: "إلا إذا تغير" بالواو إشارة إلى هذا الوجه لم يكن ممتنعاً. الثالث: قضية اللفظ أنه لا ينجس إلا إذا تغير كله، أما إذا تغير بعضه فلا؛ لأن قوله: "إذا تغير" صفة الكثير، وذلك يتناول الكل، ألا ترى أنه إذا تغير البعض يصح أن ¬
يقال: ما تغير هذا المال وإنما تغير بعضه أو طرف منه، ولكن ظاهر المذهب نجاسة الكل، وإن كان المتغير البعض وهو المذكور في المُهَذَّب (¬1) وغيره، وخرج وجه أنه لا ينجس إلا القدر المتغير، وهذا يوافق ظاهر اللفظ. وأمَا قوله: وإن زال بطرح التراب فقولان للتردد في أنه مُزِيلٌ أو سَاتِرٌ، ففيه استدراك لفظي، وهو أن قوله: "وإن زال" فرض المسألة في الزوال ومع الفرض في الزوال كيف ينتظم التردد في أن الحاصل زوال أم لا، وأشد من هذا قوله في الوَسِيطِ: وإن زال بِطَرحِ المسكِ وَالزَّعْفَرانِ فلا؛ لأنه استتار لا زوال؛ فطريق الجواب التأويل، إما بحمل الزوال الأول على فقد التغير وحمل الثاني على الحقيقة، وإما بإضمار، بأن يقال: المعنى وإن اعتقد الزوال أو ما أشبه ذلك. وذكر بعضهم: أن هذا الخلاف في مسألة التراب مفروض في تغير الرائحة، أما لو تغير اللَّوْنُ لم يؤثر طرح التراب فيه بحال، والأصول المعتمدة ساكنة عن هذا التفصيل (¬2). قال الغزالي: وَالكَثِيرُ قُلَّتَانِ (ح) لِقَولِهِ عَلَيهِ السَّلاَمُ: إذَا بَلَغَ المَاءُ قُلَّتَينِ لَم يَحْمِل (¬3) خَبثاً، وَالْأَشبَهُ أنَّهُ ثُلاَثُمائَةِ مَن تَقرِيباً لاَ تَحدِيداً. قال الرافعي: وروينا الخبر الوارد في اعتبار القلتين وفي بعض الروايات "إِذَا بَلَغَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ بِقِلاَلِ هَجَرَ" ثم روى الشافعي -رضي الله عنه- عن ابن جريج أنه قال: رأيت قلال هجر فَالقُلَّة منها تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ، أو قِرْبَتَينِ وشيئاً، واحتاط الشافعي -رضي الله عنه- فحسب الشيء نصفاً؛ لأنه لو كان فوق النصف لقال: تَسَعُ ثلاث قِرَب إلا شيئاً ¬
وهذا عادة أهل اللسان: فإذاً جملة القُلَّتَيْنِ خَمْسُ قِرَب واختلفوا في تقدير ذلك بالوزن على ثلاثة أوجه: أحدها: ذهب أبو عبد الله الزبيري -رحمة الله عليه- إلى القلتين ثلاثمائة مَنٍّ (¬1) , لأن القلة ما يقله البعير، ولا يُقِل الواحد من بعران العرب .. غالباً أكثر من وسق، الوَسْقُ سِتُّونَ (¬2) صاعاً، وذلك مائة وستون مَنّاً، فالقلتان ثلاثمائة وعشرون يحط منها عشرون للظروف والحبال، يبقى ثلاثمائة وهذا اختيار القَفَّال، والأشبه عند صاحب الكتاب (¬3). والثاني: أن القلتين أَلْفُ رَطلٍ؛ لأن القربة قد تسع مائتي رطل، فالاحتياط الأخذ بالأكثر، ويحكى هذا عن أبي زيد. والثالث: هو المذهب أن القلتين خمسمائة رطل مائتان وخمسون مَنّاً بالبغدادي؛ لأِن القِرْبَةَ الوَاحِدَةَ لا تزيد على مائة رطل في الغالب ويحكى هذا عن نص الشافعي -رضي الله عنه- ثم ذلك معتبر بالتقريب أم بالتحديد؟ فيه وجهان: أصحهما: وهو الذي ذكره في الكتاب: أنه معتبر بالتقريب؛ لأن ابن جريج رد القُلَّة إلى القرب تقريباً، والشافعي -رضي الله عنه- حمل الشيء على النصف احتياطاً وتقريباً، وَالقِلاَلُ في الأصل تكون متفاوتة أيضاً كما نعهده اليَوْمَ في الحبَابِ وَالكِيزَانِ. والثاني: أنه معتبر بالتحديد كَنِصَابِ المشرفة (¬4) ونحو ذلك. فإن قلنا: بهذا، لم نسامح بنقصان شيء. وإن قلنا بالأول فنسامح بالقدر الذي لا يتبين بنقصانه تفاوت في التغير بالقدر المعين من الأشياء المغيرة، وعند أبي حنيفة وأصحابه لا اعتبار بالقِلاَلِ، وإنما الكثير هو الذي إذا حرك جانب منه لم يتحرك الثاني. هذه رواية ولهمَ رِوَايَاتٌ سِوَاهَا (¬5). قال الغزالي: فُرُوعٌ خَمْسَةٌ: الأَوَّلُ- مَا لاَ يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ مِنَ النَّجَاسَةِ اضْطَرَبَ فِيهِ نَصُّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ، وَالأَقْرَبُ أَنَّ مَا انْتهَت قُلَّتُهُ إِلَى حدٍّ لاَ يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ مَعَ ¬
مُخَالَفَةِ لَوْنِهِ للون مَا يَتَّصلُ بِهِ فَلا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ للتَّحفُّطِ عَنْهُ، وَمَا يُدْرَكُ عِنْدَ اختِلاَفِ اللَّوْنِ يَنْبَغِي أَنْ لاَ يُعْفَى عَنْهُ لاَ فِي الثَّوْب وَلاَ فِي المَاءِ. قال الرافعي: النجاسة التي لا يدركها الطَّرْفُ كَنُقْطَةِ الخَمْرِ وَالبَوْلِ التي لا تبُصر وَالذُّبَابَةِ تقع على النجاسة ثم تطير عنها، هل تؤثر كالنَّجَاسَةِ المُدْرَكَةِ أم يعفى عنها؟ لفظة في المختصر يشعر بأنها لا تؤثر، ونقل عن الأُمِّ أنَّه لا فرق بينها وبين النجاسة المدركة؛ وعن الإملاء التسوية بينهما في الثوب. واختلف الأصحاب فيه على سبعة طرق: أحدها: أن في تَأثِيرِهَا في الماء والثوب قَوْلَيْنِ. والثاني: أنها تؤثر فيهما بلا خلاف. والثالث: لا تؤثر فيهما بلا خلاف. والرابع: تؤثر في الماء وفي الثوب قولان. والخامس: تؤثر في الثوب وفي الماء قولان. والسادس: تؤثر في الماء دون الثوب بلا خلاف (¬1). السابع: تؤثر في الثوب دون الماء بلا خلاف. فهذا هو اضطراب النص ومقالات الأصحاب، وأما التوجيه فمن ألحق هذه بما يدركه الطرف، قال: الظواهر المقتضية لاحتساب النجاسة عامة تتناول التي يدركها الطرف والتي لا يدركها، ومن سامح بهذه النجاسة، علل بتعذر الاحْتِرَازِ فإن الذُّبَابَ يقع على النجاسات، ثم يطير ويقع في الماء، وعلى الثياب فأشبه دَمَ الَبَراغِيتِ، وسائر ما يتعذر الاحتراز عنه. ومن قال: تُؤَثِّرِ في الماء دون الثوب، فرق من وجهين: أحدهما: أن صون الماء بتغطية رأس الإناء ممكن بخلاف الثياب. والثاني: أن الذبابة إذا ارتفعت عن النجاسة، جَفَّ ما نجس منها بالهواء، فلا يؤثر في الثوب ويؤثر في الماء، فلو كان الثوب رَطْباً، كان كالماء، ومن قال: يؤثر في الثوب دون الماء، قال: الماء أقوى على دفع النجاسات، بدليل الماء الكثير. وأما ما ذكره حجة الإسلام -رحمه الله- من أنه إن انتهت القُلَّةُ إلى حد لا يدرك مع مخالفة لونه للون ما يتصل به، فهو معفو عنه في الماء وغيره وإلا فلا. فَهَذَا تَفْصِيلٌ لاَ نَرَاهُ لغيره، ¬
ووجهه في غير الوجيز (¬1): بأن قال: إذا بلغت القُلَّةُ الحَدُّ المذكور، كانت هذه النجاسة، كما تحملها الرياح من النجاسات مثل الذَّرِّ وتبثها على المياه والثياب، ومعلوم أن ذلك مما لا يبالي به فكذلك هاهنا ولك أن تقول: غير هذا التفصيل أجود منه؛ لأن الكلام فيما لا يدركه الطرف، لقلته لا للموافقة في اللون، وما لا يدرك لقلته لا يدرك اختلف اللون أو اتفق. فأحد القسمين، وهو أن يكون بحيث يدرك عند اختلاف اللون، خارج عن صورة المسألة وإنما صورتها القسم الثاني، ثم القول فيه بالعفو اختيار القول المنقول في عدم تأثير هذه النجاسة في الماء والثوب جميعاً. وظاهر المَذْهَب عند المعظم خلافة، ثم في عبارة الكتاب بسط وتطويل، ولا يخفى إيراد الغَرَض فيَ أقصر منها لمن يبتغي الإيجاز. قال الغزالي: الثَّانِي- قُلَّتَانِ نَجِسَتَانِ غَيْرُ مُتَغَيِّرَتَيْنِ إذَا جُمعَتَا لاَ تَغَيُّرِ عَادَتَا طَاهِرَتَينِ فَإذَا فُرِّقَتَا بَقِيَتَا عَلَى الطَّهارَةِ وَلَمْ يَضُرَّ التَّفْرِيقُ إلاَّ إذَا كَانتِ النَّجَاسَةُ جَامِدَةً فَبَقِيَتْ (¬2) في إحْدَى القُلَّتَيْنِ. قال الرافعي: الماء القليل النجس إذا كُوثِرَ حتى بلغ قلتين، هل يعود طهورًا؟ نُظِر إن كوثر بغير الماء فلا؛ بل لو كمل الماء الناقص عن القلتين بِمَاءِ وَرْدٍ وصار مستهلكًا فيه، ثم وقعت فيه نجاسة تنجس وإن لم يتغير، وإنما لا تقبل النجاسة قلتان من محض الماء على ما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذَا بَلَغَ المَاءُ قُلَّتَيْن لَم يَحْمِل خَبَثًا" (¬3)، وإن كُوثِرَ بالماء نُظِر إن كان مستعملاً ففي عَوْدِ الطهورية وجهان: أحدهما: لا يعود لاِنْسِلاَبِ قوة المستعمل، والتحاقه بسائر المائعات. وأظهرهما: تعود، لأن الأصل فيه الطهورية، والضعف الذي عرض له ليس بأكثر من أن تعرض له النجاسة. ولو كُوثِرَ الماء النجس بماء نجس ولا تغير، عادت الطهورية، ومأخذ هذا الخلاف كمأخذ الخلاف في أن المستعمل هل يعود بالكثرة طهورًا؟ وإن لم يكن مستعملاً عادت الطُّهُورِيَّةُ، فإن الأصل في الماء الطهورية، والنجاسة عرضت لعلة القلة، فإذا كثر عمل الأصل عمله، ثم التفريق بعد عود الطهورية لا يضر كما لو كان الماء قُلَّتَيْنِ عند وقوع النجاسة فيه، ولم يتغير ثم فرق ولا فرق بين أن يقع التَّكْمِيلُ بماء طاهر، أو نجس في عود الطهورية. ¬
وصورة مسألة الكتاب ما إذا كان كل واحد من المُكَمِّلِ وَالمُكَمَّلِ نجساً، ثم لا يخفى أن عود الطهورية إنما يكون بشرط عدم التغير في المجموع، وهل يشترط أن لا يكون فيه نجاسة جامدة؟ فيه خلاف التباعد، ولو كوثر الماء القليل بما يغلب عليه ويغمره، ولكن لم يبلغ قُلَّتَيْنِ فهل تزول نجاسته؟ فيه وجهان: أظهرهما: [أنه] (¬1) لا تزول (¬2): وإن قلنا: بالزوال، فهو طاهر غير طهور، وذلك بشروط أحدها: أن يكون التكميل بماء طاهر لا ينجس. والثاني: أن يورد الطاهر على النجس. الثالث: أن يكون المُكمَّل أكثر من المكمِّل مما لا يكون فيه نجاسة، وكل ذلك فيما إذا بلغ قُلَّتَيْنِ بخلافه. ويشترط أيضاً أن لا يكون فيه نَجَاسَةٌ جَامِدَةٌ لا محالة. وقوله: في الكتاب "جمعتا" عادتا طاهرتين، في لفظ الجمع إشارة إلى ما ذكره الأصحاب أن المعتبر في المُكَاثَرةِ الضَّمُّ وَالجَمْعُ دون الخَلْطِ، حتى لو كان أحد البعضين صافياً والآخر كدراً، وانضما تزول النجاسة من غير توقف على الاختلاط المانع من التميز، وقوله: "عادتا" معلم بالألف لما روى عن أحمد، وعن أصحابه، أنه لا تعود الطهارة. وليس المراد من قوله "عادتا طاهرتين"، مجرد الطهارة، بل مع الطهورية. قال الغزالي: الثَّالِثُ- نَجَاسَةٌ جَامِدَةٌ وَقَعَتْ فِي مَاءٍ رَاكِدٍ كَثِيرٍ يَجُوزُ الاغْتِرافُ مِنْ جَوَانِبِها عَلَى القَوْلِ القَدِيمِ وَهُوَ الأَقْيَسُ، وَيجِبُ التَّبَاعُدُ عَنْهَا بِقَدْر القُلَّتَينِ فِي القَوْلِ الجدِبدِ. قال الرافعي: إذا وقع في الماء الكثير الراكد نجاسة جامدة كَالمَيْتَةِ، فهل يجوز الاغْتِرَافُ مما حوالى النجاسة، أم يجب التباعد عنها بقدر القلتين؟ فيه قولان: القديم: وهو ظاهر المذهب على خلاف الغالب، أنه يجوز الاغتراف من أي موضع شاء، ولا حاجة إلى التباعد؛ لأنه طاهر كله، فيستعمله المستعمل كيف شاء. والدليل على أنه طاهر كله، قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا بَلَغَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ" (¬3) الخبر والجديد: أنه ¬
يبعد عن النجاسة بقدر قلتين، ثم يغترف؛ لأن ما دون القلتين مما يجاور النجاسة، لو كان وحده لكان مجتنباً، فكذلك إذا كان معه غيره، وأثره الكثرة دفع النجاسة عما وراء ذلك القدر، وقال مَنْ نصر المذهب: ذلك القدر المجتنب لو كان وحده محكوم له بالنجاسة في حالة الانفراد، فإما أن يكون محكوماً له بالنجاسة هاهنا أيضاً أو لا يكون، وإن لم يكن فقد تَغَيَّرَ حُكْمُهُ عما كان عليه وحده، وإن كان فلينجس ما يجاوره بمجاورته، كما ينجس هو بمجاورة النجاسة، وهكذا حتى تنتشر النَّجَاسَةُ إلى الكُلِّ. لا يقال: هذا مائع، وذلك جامد، وحكم النجاسة الجامدة أخف، ألا ترى أن النجاسة المائعة لو وقعت في ماء كثير، وانغمرت فيه، جاز استعمال الكل، لأنَّا نقول: إذا كان حكم النجاسة المائعة ما ذكرتم، فنأخذ حكم الطهارة هاهنا أيضاً؛ لاتصاله بالماء الكثير، وحصوله فيه، لماذا كان طاهرًا واجب أن يجوز الاغتراف والاستعمال. واعلم أن من أصحابنا العِرَاقِيِّينَ مَنْ حَكَى خلاف التباعد وجهين، ونَقْلُ القولين أثبت؛ فإن فرعنا على وجوب التباعد، فلا يكفي أن يبعد في البحر بقدر شبر على حد العمق في حساب القلتين، بل يتباعد بقدر القُلَّتَيْنِ في أبعاد متماثلة طولاً وعرضاً وعمقاً، فإن كان الماء في موضع لا يتأتى فيه ذلك، كما لو وقف في موضع مُنْبَسِطاً من غير عمق يتباعد فِي الطُّولِ وَالعَرْضِ قدر ما يبلغ قلتين في ذلك العمق. وقال الإمام محمد بن يحيى (¬1) -رضي الله عنه- لا يغني التباعد بقدر قلتين في هذه الصورة؛ بل يبعد إلى حيث يعلم أن النَّجَاسَةَ لا تنتشر إليه كما يعتبره أبو حنيفة - رحمة الله عليه- في بعض الروايات في الماء الكثير، ولو كان الماء قُلَّتَينِ بلا زيادة فعلى الجديد: لا يجوز الاغتراف منه، وعلى القديم: يجوز ذلك في أصح الوجهين، كما في الحالة الأولى والثانية؛ لا, لأن المَأْخُوذَ بَعْضُ البَاقِي، والباقي نجس بالانفصال فكذلك المأخوذ، وينبغي أن يبحث عن القولين في مسألة التباعد، أهما في جواز الاستعمال وعدمه بعد الاتِّفاق على الطهارة، أم في الطهارة والنجاسة؟ ¬
وذلك يترتب عليه فإن كان الثاني، فلم يتكلم الأكثرون في الاغْتِرَافِ والاستعمال نفياً وإثباتاً؟ واشتهرت المسألة بالتباعد وَهَلاَّ تَكَلَّمُوا فِي الطَّهَارَةِ والنجاسة على المعهود في نظائره، ثم يتفرع عليه جواز الاستعمال وعدمه، وإن كان الأول فِيِمَ يوجه المنع من الاسْتِعْمَالِ مَعَ الحُكْم بالطهارة؟ ولم يتكلم بعضهم في النجاسة ونفيها، وفرض فيها الخلاف؟ وهل هما طريقتان؟ وهذا موضع نظر وتأمل، ويدل على الاحتمال الأول أخبار القُلَّتَيْنِ، فإنها تنفي نجاسة الماء الكثير، وأيضاً فقد صرح بعض المُعَلِّقِينَ عن الشيخ أبي محمد، بأنه لا خلاف في الطهارة، وإنما الخلاف في جواز الاستعمال (¬1). وأما لفظ الكتاب فاعلم أن قضية كلامه في وُجُوب اجتِنَابِ الحَرِيمِ في الفصل الثالث يقتضي أن يكون مراده من قوله هاهنا يجوز الاغتراف من جوارها على القول القديم ما وراء الحريم، وإلا أن المَذهَبَ أنَّ حُكمَ الحريم حكم غيره [كما سيأتي] (¬2). قال الغزالي: الرَّابعُ- كُوزٌ فِيهِ مَاءٌ نَجِسٌ غَيرُ مُتَغَيِّر طَرِيقَ (¬3) تَطْهِيرِهِ أَنْ يُغْمَسَ في مَاءٍ كثِيرٍ فَإِذَا اسْتَوَى عَلَيْهِ المَاءُ صَارَ طَهُوراً لِلاتِّصَالِ بِهِ. قال الرافعي: إذا غُمِسَ كُوزٌ فيه ماء نجس في ماء طاهر هل يعود طهوراً؟ إن كان الكُوزُ ضَيِّق الرَّأسِ فوجهان: أحدهما: نعم، لحصول الكثرة والاتصال، وأصحهما: لا؛ لأنه لا يحصل به اتصال يفيد تأثير أحدهما في الآخر؛ لأنَّ مَاءَ الكُوزِ كالمودع بطرفيه فيه، وليس معدوداً جزءاً منه، وإن كان واسع الرأس، فعلى هذين الوجهين لكن الأظهر هاهنا الطهارة، لتأثر كل واحد منهما بالآخر عند سَعَةِ رَأْسِ الإِنَاءِ، وحيث يحكم بعود الطهارة فتعود على الفور أم بعد أن تمكث زماناً؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا تعود على الفَورِ؛ بل لا بد من مضي زمان يزول فيه التغير، لو كان متغيرًا، ولاَ شَكَّ أن ذلك الزمان يكون في ضيق الرأس أطول منه في واسعه (¬4). وإذا عرفت ذلك فعد إلى ألفاظ الكتاب، وأعلم قوله: "صار طهورا" بالواو، ¬
للوجه الثاني كعود الطهارة والطَّهُورِيْةَ. وقوله: "فإذا استوى عليه الماء" أيضاً إشارة إلى الوجه الصائر إلى اشتراط المُكثِ، ثم تنبه لأمور: أحدهما: قوله: "غير متغير" ليس مذكوراً لِلتَّقْيِيدِ، فإنه لو كان متغيراً فزال التغير بِالاتِّصَالِ، عادت الطهورية أيضاً، وكأنه تعرض لهذا الوصف؛ لأنه حُكِمَ بَعَوْدِ الطُّهُورِيَّةِ بمجرد استواء الماء عليه، وبتقدير التغير لا تعود الطهورية بمجرد استواء الماء؛ بل لا بد من زوال التغير. الثاني: قوله: "فإذا استوى عليه الماء" ينبه على أنه لو لم يَكُنِ الكُوزُ مَلْآنَ وغمسه فيه فما دام يدخل فيه فلا اتصال، وهو على نجاسته. الثالث: حكم بالطهورية من غير التعرض للخلاف، فإن كان يختار ذلك سواء ضاق رَأسُ الكُوزِ، أم اتسع فهو معمول بظاهره، وان قال بالمنع عند ضيق الرأس كما حكينا أنه ظاهر المذهب، فَفِي الكَلاَمِ إضمَارٌ تقديره كُوزٌ وَاسِعُ الرَّأسِ فِيهِ مَاءً نَجِسٌ والاحتمال الثاني، هو قضية كلامه في سائر كتبه. قال الغزالي: الخَامِسُ- فَأرَةٌ وَقَعَتْ فِي بِئْرِ فَتَمَعَّطَ شَعْرُهَا فَالطَّرِيقُ أَنْ يُسْتَقَى المَاءُ المَوْجُودُ فِي البِئْرِ فَمَا يَحْصُلُ بَعْدَ ذَلِكَ إِن رُئِيَ فِيه شَعْرٌ فَنَجِسٌ وَإِلاَّ فَطَهُورٌ إِذَا الاَّصْلُ طَهَارَتُهُ وَوُقُوعُ الشَّعْرِ فِيهِ مَشكُوكٌ فِيهِ وَإِخرَاجُ جَمِيعِهِ هُوَ الغَالِبُ بِاسْتِقَاءِ المَاءِ. قال الرافعي: مَاءُ البِئْرِ في البئر كغيره في قبول النجاسة وزوالها، لكن ضرورة النزح للاستقاءِ منها قد يخصه لضرب من العسر، فإن كان قليلاً وقد تنجس بوقوع نَجَاسَةٍ فيه فليس من الرأي أن ينزح لينبع بعده الماء الطهور، لأنه وإن نزح فقعر البئر يبقى نجسًا، وقد يُفْضِي النَّزْحُ إلَى تَنْجِيسِ جُدْرَانِ البئر أيضاً؛ بل ينبغي أن يترك ليزداد فيبلغ حَدَّ الكثرةِ، فإن كانت قليلة الماء لايتوقع كثرته، صُبَّ فيها ماء من خارج حتى يكثر ويزول التغير أيضاً لو كان متغيراً، فإن كان ماؤها كثيراً وقد تنجس بالتغير فتكاثر إلى زوال التغير، أو يترك بحاله حتى يزول التغير بِطُولِ المُكْثِ، أو بازدياد الماء فلو تفتت الشيء النجس فيه كَالفَأرَةِ تمعط شعرها، فقد يبقى على طهوريته لكثرته وعدم التغير، لكن يتعذر استعماله بسبب أنه لا ينزح منه دلو إلا وفيه شيء من أجزاء النجاسة، فينبغي أن يستقى الماء كله لتخرج الشعور في صحبته، فإن [كانت] (¬1) العَيْنُ فوّارة وتعذر اسْتِقَاءُ الكُلِّ، فينزح بقدر ما يغلب على الظن، إن الشعر قد خرج معه كله، فما يبقى بعد ذلك في البئر وما يحدث فيه فهو طهور، لأنه ماء غير مستيقن النجاسة، ولا مظنون ¬
الفصل الثالث في الماء الجاري
النجاسة، ولا أثر للشك والتردد في بقاء الشعر فيه، ووقوعه فيما حدث لحصول الظن بإخراج الجميع، ثم إن تحقق شَيْءٌ بعد ذلك على خلاف الغالب اتبعه. وقيل: لم ينزح إلى الحد المذكور، فإذا غلب على ظنه أنه لا يَخلُو كل دلو عن شيء من النجاسة، ولكنه لم يره، ولا تيقنه فجواز الاستعمال على القولين في الأصل والغالب إذا تعارضا كما سيأتي نظائر ذلك. واعلم أن فَرْضَ المَسْأَلَةِ في تَمَعُّط الشعور مبنى على نجاسة شعور الحيوانات بالموت، فإن لم ينجسها، فليقع الفرض في سائر الأجزاء. الفْصَلْ الثَّالِثُ فِي الْمَاءِ الْجَارِي قال الغزالي: فَإِنْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ مَائِعَةٌ لَمْ تُغَيِّرْهُ فَطَاهِرٌ إِذِ الأَوَّلُونَ لَمْ يَحْتَرِزُوا مِنَ الأَنْهَارِ الصَّغِيرَةِ. قال الرافعي: نشرح مسائل الماء الجاري. على ما ذكرها، ورواها في الأصل ثم [نورد] (¬1) فيها [إن شاء الله تعالى] ما ينبغي. فنقول: الماء الجاري ينقسم إلى: ماء الأنهار المعتدلة، وإلى ماء الأنهار العظيمة. القسم الأول: ماء الأنهار المعتدلة، والنجاسة الواقعة فيه، إما أن تكون مَائِعَةَ، أو جَامِدَةٌ، فإن كانت مائعة فينظر هل تغير الماء أم لا؟ فإن غيرته فالقدر المتغير نجس، وحكم غيره معه كحكمه مع النَّجَاسَةِ الجامدة، وإن لم تغيره، فينظر إن كان عدم التغير للموافقة في الأوصاف، فالحكم على ما ذكرنا في الراكد، وإن كان لقلة النجاسة وانمِحَاقِهَا فيه لم ينجس الماء، وإن كان قليلاً؛ لأن الأولين كانوا يَسْتَنْجُونَ على شُطُوطِ الأنهار الصغيرة، ولا يرون ذلك تنجيساً لِمِيَاهها، وهذه الحالة هي المرادة في الكتاب. قال الغزالي: وَإِنْ كانَتْ جَامِدَةً تَجْرِي بِجَرْيِ المَاءِ فَمَا فَوْقَ النَّجَاسَةِ وَمَا تَحْتَهَا طَاهِرٌ لِتفَاصُلِ جَرَيَاتِ المَاءِ، وَمَا عَلَى جَانِبَيْهَا فِيهِ طَرِيقَانِ، قيلَ بِطَهَارَتهِ، وَقِيل بِتَخْرِيجِهِ عَلَى قَوْلِ التَّبَاعُدِ، وإِنْ كانَتِ النَّجَاسَةُ وَاقِعَةٌ فَالحُكْمُ مَا سَبَقَ إِلاَّ أَنَّ مَا يَجْرِي مِنَ المَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَيَنْفَصِلُ عَنْهَا فَهُوَ نَجِسٌ فِيمَا دُونَ القُلَّتَينِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى القُلَّتَينِ أَعْنِي مَا بَيْنَ المُغتَرَفِ وَالنَّجَاسَةِ فَوَجْهَانِ: أَظْهَرَهُمَا: المَنْعُ إِلاَّ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي حَوْضِ مُتَرَادّاً فإِنَّ الجَارِي لاَ تَرَادَّ لَهُ فَهِيَ مُتَفَاصِلَةُ الأَجْزَاءِ. ¬
قال الرافعي: أما إذا كانت النجاسة جامدة كَالمَيتَةِ، فإن غيرت شيئاً من الماء فهو نجس، وإن لم تغير فينظر أتجري مع الماء، أم هي واقفة، والماء يجري عليها؟ فإن كانت تجري مع الماء فما فوقها الذي لم يصل إلى النجاسة وما تحتها الذي لَمْ يَصِلْ إليه النجاسة طاهران لتفاصل أجزاء الماء الجاري، فإن كل جَرْيَةٍ منه طالبة لما أمامها هاربة عما خلفها بخلاف الرَّاكِدِ، فإن أجزاءه مُتَرَادَّةٌ مُتَعَاضِدَةٌ. وأما ما على يمينها، وشمالها، وفي سمتها إلى العمق، أو وجه الماء. فيه طريقان: أحدهما: القطع بالطهارة، لما ذكرنا من تفاصل الأجزاء. والثاني: التخريج على قولي التباعد كالراكد، والتَّفَاصُلُ إنما يكون في طول النهر لانحدار الماء فيه لا في العَرْضِ، ومنهم من أجرى خلاف التَّبَاعُدِ فيما تحت النَّجَاسَةِ دون ما فوقها؛ لأن ما تحتها مستمد من موضعها. وفي كلام العراقيين ما يقتضي طرده في جميع الجوانب. فينبغي أن يعلم قوله: "فيما فوق النجاسة، وما تحتها طاهر" بالواو، إشارة إلى الخلاف المذكور، وإن كانت النجاسة واقفة، والماء يجري عليها، فالحكم كما لو كانت جارية مع الماء، ونزيد هاهنا أن ما يجري من الماء على النجاسة، وهو قليل ينجس بملاقاتها، ولا يجوز الاغْتِرَافُ منها إذا كان بين النجاسة، وموقع الاغْتِرَافِ دُونَ القُلَّتَينِ، فإن بلغ قلتين في الطول فوجهان: أحدهما: وبه قال صَاحِبُ "التَّلْخِيص"، وأبُو إسْحَاقَ -رحمهما الله، أنه طاهر يجوز الاغتراف منه لحيلولة قدر القلتين، ودفعه النَّجَاسَة، وأصحهما، وبه قال ابن سريج: أنه نجس، وإن امتد الجَدْوَلُ فَرَاسِخَ لما سبق أن أجزاء الماء الجاري مُتَفَاصِلَةٌ، فلا يتقوى البعض منها بالبعض، ولا تندفع النجاسة إلا بأن تجتمع في حَوْضٍ، أو حفرة متراداً، وقد يسأل فيقال: ماء هو ألف قلة، وهو نجس من غير أن يتغير بالنجاسة هذا صورته. قال الغزالي: هَذَا فِي الأَنْهَارِ المُعْتَدَلَةِ، فَأَمَّا النَّهْرُ العَظِيمُ الَّذِي يُمْكِنُ التَّبَاعُدُ فِيهِ عَنْ جَوَانِبِ النَّجَاسَةِ بِقَدْرِ القُلَّتَينِ فَلاَ يُجْتَنَبُ فِيهِ إِلاَّ حَرِيمُ النَّجَاسَةِ وَهُوَ الَّذِي تَغَيَّرَ شَكْلُهُ بِسَبَبِ النَّجَاسَةِ، وَهَذَا الحَرِيمُ مُجتَنَبٌ أيْضاً في المَاءِ - الرَّاكِدِ. قال الرافعي: بَيَّنَا انقسام الماء الجاري إلى ماء الأنهار المعتدلة، وإلى ماء الأنهار العظيمة وذكرنا حكم القسم الأول، أما النَّهْرُ العَظِيمُ فلا يجتنب فيه إلا حريم النجاسة، ولا يعود فيه الخلاف الذي ذكرناه في التَّبَاعُدِ عما حَوَالَى النجاسة، وحَكَى في البَسِيْطِ وجهاً آخر: أنه يجري الخلات فيه أيضاً، ولا بد من بيان العظيم، والحريم، وقد أشار إلى تفسيرهما في الكتاب. أما العظيم، فقد قال: هو الذي يمكن التباعد فيه عن جوانب
النجاسة كلها بقدر القلتين. والمعتدل ما لا يمكن فيه ذلك، ويدخل فيه الجَدَاوِلُ الصَّغِيرَةُ التي يجري فيها الماء اليسير، والأنهار التي يبلغ ما بين حافتيها قدر قلتين، ولكن لا يمكن التباعد فيها بقدر قلتين من كل جانب، وذكر إمام الحرمين -رضي الله عنه- أن النهر المعتدل هو الذي يفرض تغيره بالنَّجَاسَاتِ المُعْتَادَةِ، والعظيم ما لا يمكن تَغَيُّرُهُ بها (¬1). قال: والبعرة في النهر المعتدل كالجيفة في الوادي العظيم، وأما الحريم فقد فسّرَه بما يتغير شكله بسبب النجاسة، يعني ما ينسب إلى النجاسة بتحريكه إياها، وانعطافه عليها، أو التفافه بها، ولهذا اعتبر التغير في الشَّكلِ دون الرَّائِحَةِ، وسائر الصفات، وفي وجوب اجتناب الحريم، وجهان حكاهما في البسيط. أحدهما: أنه لا يجتنب كغيره. والثاني: وهو الذي ذكره هاهنا أنه يجتنب وإن لم يوجب التباعد [لأنه] في العِيَافَةِ وَالاسْتِقْذَارِ، كالمتغير بالنجاسة. [ثم قال: "وهذا الحريم مجتنب في الماء الراكد" أيضاً] (¬2) وذكر في "البسيط" أنه لا يجتنب في الماء الراكد، وفرق بينه وبين الجاري على أحد الوجهين، بأن الراكد لاَ حَرَكَةَ له حتى ينفصل البعض عن البعض في الحكم، فكما يَجُوزُ الاغْتِرَافُ مما بعد من النجاسة يجوز الاغتراف من جوارها، وهذه الاختلافات تقتضي إعلام المُسْتَثْنى والمُستَثْنَى منه، في قوله: "فلا يجتنب فيه إلا حريم النجاسة", لأن منهم من أوجب اجتناب غير الحريم، ومنهم من لم يوجب اجتناب [غير] الحريم أيضاً، وكذلك إعلام قوله: "وهذا الحريم يجتنب أيضاً في الماء الراكد" فهذا شرح ما ذكره، ونعود إلى المَوْعُودِ، ونذكر أموراً من شرط محصل هذا الكتاب أن يعرفها. أحدهما: حكمه بِطَهُورِيَّةِ القليل من الجاري إذا وقعت فيه نجاسة مائعة، ولم تغيره، كأنه اختيار القول القديم الذي حكاه صاحب التلخيص، وغيره في أن الماء الجاري لا ينجس إلا بالتغير، وذلك القول قد اختاره طَائِفَةٌ من الأصحاب، ووجهوه بشيء آخر سوى ما ذكره في الكتاب، وهو أن الماء الجاري وارد على النجاسة، فلا ¬
الفصل الرابع في إزالة النجاسة
ينجس إلا بالتغير، كالماء الذي تزال به النجاسة، لكن المذهب الذي عليه الجمهور، الفرق بين القليل والكثير، كما في الرَّاكِد، ونجاسة القليل بمجرد الملاقاة، وتدل عليه الأخبار الفارقة بين القليل والكثير، فإنها تَعُمُّ الرَّاكِدَ والجاري. والثاني: لم يتعرض في تفصيل النجاسة الجَامِدَةِ للفرق بين القليل من الماء والكثير، ولا بد منه لأنه لا يمكن أن تكون مَسَائِلُه كلها مفروضة في الكثير وحده، ولا في الكثير والقليل جميعاً، وإلاَّ كان الوجهان في نجاسة الماء الجاري على المَيْتَةِ جاريين في الكثير الذي تبلغ كل جَرْيَةٍ منه قلتين فصاعداً، وهذا محال، ولا يمكن أن تكون كلها مفروضة في القليل وحده، وإلا كان خلاف التباعد جارياً فيما على يمين النجاسة ويسارها مع قلة الماء وهو بعيد؛ بَلِ الوَجْهُ الحُكْمُ بِالنَّجَاسَةِ عند القلة وكذلك ذكره صاحب "التهذيب" (¬1) وغيره. الثالث: قضية كلام الأكثرين تصريحاً، وتلويحاً، أنه لا فرق بين الحَرِيمِ وغيره لا فِي الرَّاكِدِ ولا في الجَارِي على خلاف ما ذكره. لأنه إما أن يكون طاهراً في نفسه، أو نجساً، إن كان طاهراً، فلا معنى لوجوب الاجتناب، وإن كان نجساً، فيلزم نجاسة ما يجاوره بملاقاته حتى يتعدى إلى جميع [الراكد وإلى جميع] (¬2) ما في عرض النهر في الماء الجاري. الْفَصْلُ الرَّابعُ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ قال الغزالي: فَإِنْ كَانَتْ حُكمِيَّةَ فَيَكْفِي إِجْرَاءُ المَاءِ عَلَى مَوْرِدِهَا، وَإنْ كَانَتْ عَيْنِيَّةً فَلاَ بُدَّ مِنْ إِزَالَةِ عَيْنَها، فَإِنْ بَقِيَ طَعْمٌ لَمْ يَطهُرْ لأنَّ إِزَالَتَة سَهْلٌ، وَإاِنْ بَقِيَ لَوْنٌ بَعْدَ الحَتِّ وَالقَرْضِ فَمَعْفُوٌ عَنْهُ، وَالرَّائِحَةُ كَاللَّوْنِ عَلَى الأَصَّحِّ. ¬
قال الرافعي: الشيء النجس يَنْقَسِمُ إلَى نَجِسِ العَيْنِ وغيره، أما نجس العين فلا يطهر بحال إلا الخمر تطهر بالتَحَلُّلِ، وجلد الميتة يطهر بالدِّبَاغِ، والعَلَقَةُ والمُضْغَةُ، والدم الذي هو حَشْوُ البيض إذا نجسناها فاستحالت حَيَوَاناً. وأما غيره فالنجاسة تنقسم إلى حُكْمِيَّةٍ وإِلى عَيْنِيَّةٍ: أما الحكمية فهي: التي لا تحس مع تَيَقُّنِ وجودها، كالبول إذا جَفَّ على المحل ولم توجد له رائحة، ولا أثر فيكفي إجراء الماء على موردها إذ ليس ثم ما يزال ولا يجب في الإجراء عدد خلافاً لأبي حنيفة حيث شرط في إزالة النجاسة الحكمية الغسل ثلاثاً في رواية. وفي رواية الشرط أن يغلب على ظن الغَاسِلِ طهارته، ولأحمد حيث قال في إحدى الرِّوَايَتَيْنِ: يشترط الغسل سَبْعاً في جميع النجاسات كما في نجاسة الكلب. لنا قوله -صلى الله عليه وسلم- لأسماء -رضي الله عنها-: "حتيه، ثم اقرصيه، ثم اغسليه بالماء" (¬1) أمرها بالغسل من غير اعتبار عدد. وأما العَينِيَّةُ فلا يكفي فيها إجزاء الماء؛ بل لا بد من محاولة إزالة أوصافها الثلاثة: الطعم، واللون، والرائحة، أو ما وجد منها، فإن بقي طعم لم يطهر سواء بقي مع غيره من الصفات، أو وحده، لأن الطعم سَهْلُ الإِزَالَةِ، ويظهر تصويره فيما إذا دَمِيَتْ لَثَتُهُ، أو تنجس (¬2) فوه بنجاسة أخرى، فغسله فهو غير طاهر ما دام يجد طعمه في ¬
فيه، وإن لم يبق الطعم نظر، إن بقي اللون وَحْدَهُ وكان سهل الإزالة فلا يطهر [حتى يزول] (¬1) وإن كان عسر الإزالة كَدَم الحَيْضِ يُصِيبُ الثوب، وربما لا يزول بعد المُبَالَغَةِ وَالاسْتِعَانَةِ بِالحَتِّ، وَالقَرْصِ فيطهَر، لما روي "أَنَّ نِسْوَةَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- سَأَلْنَهُ عَنْ دَمِ الحَيْضِ، يُصِيبُ الثَّوْبَ، وَذَكَرْنَ أَنَّ لَوْنَ الدَّم يَبْقَى، فَقَالَ الْطَخْنَهُ بِزَعْفَرَانِ" (¬2)، المعنى: أن اللون الباقي لا أثر له، فإن كرهتن رؤيتهَ فَالطَخنَهُ بزعفران. وعن خولة بنت يسار قالت: "سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن دم الحيض فقال: "اغسِلِيهِ" فقلت: أَغْسِلُهُ فَيَبْقَى أَثَرهُ [فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: [الْمَاءُ] يَكفِيكِ وَلاَ يَضُرُّكِ أَثْرُهُ (¬3)] " وإن بقيت الرائحة وحدها، وهي عَسِرَةُ الإزالة كرائحة الخمر، فهل يطهر المحل؟ فيه قولان: وقيل: وجهان: والأول أصح، أحدهما: لا، لأن بقاء الرائحة يدل على بقاء العين، فصار كَالطَّعْمِ، وهذا هو القياس في اللون، لكن منعنا عنه الأخبار. والثاني: وهو الأصح أنه يطهر؛ لأنَّا إنما احتملنا بقاء اللون لمكان المشقة في إزالته، وهذا المعنى موجود في الرائحة، وروى في اللون أيضاً وجه، أنه لا يطهر المحل ما دام باقياً، ذكره في "التتمة" ونسبه إمام الحرمين إلى صاحب التَّلْخيص، فلو أعلمت قوله "فمعفو"، إشارة إلى هذا الوجه لما كان به بأس. لمان بقي اللَّوْنُ وَالرَّائِحَةُ معاً، فلا يطهر المحل لقوة دلالتهما على بقاء العين، وفيه وجه ضعيف، ويتبين لك بما حكيناه أن قوله: "فإن بقي طعم لم يطهر" هذا لا يجري على إطلاقه، لأنه لا فرق بين أن يبقى وحده، أو مع غيره، من الصفات الثلاثة. وقوله في الرائحة، واللون، غير محمول على إطلاقه؛ بل المراد ما إذا كان كل واحد منهما وحدة. ثم لك في قوله: "وإن بقي لون بعد الحَتِّ، والقَرْصِ فمعفو" مبحثان: إحداهما: الاسْتِعَانَةُ بِالحَتِّ وَالقَرْصِ، وهل هي شرط أم لا؟ ظاهر كلامه يقتضي الاشتراط وبه يشعر نقل بعضهم، لكن الذي نص عليه المعظم خلافه، واحتجوا عليه بحديث خولة واقتصروا على الاسْتِحبَابِ. ¬
الثانية: لم قال: فَمَعْفُوٌّ، ولم يقل: فطاهر أهو نجس، لكن يعفى عنه، أم كيف الحال؟ أطلق الأكثرون القول بالطهارة، ويجوز أن يقال: إنه نجس لكن يعفى عنه كما في أثر محل الاستنجاء ودم البراغيث وليس في الأخبار تصريح بالطهارة وإنما تقتضي العفو والمسامحة، وقد تعرض في "التتمة" لمثل هذا في الرائحة، فقال: إن قلنا: لا يطهر فهو معفو عنه، كدم البراغث. قال الغزالي: ثُمَّ يُسْتَحَبُّ الاسْتِظهَارُ بِغَسْلَةٍ ثَانِيَةٍ وَثَالِثَةٍ وَفِي وُجُوبِ العَصْرِ وَجْهَانِ فَإنْ وَجَبَ العَصْرُ فَفِي الاكْتِفَاءِ بِالجَفَافِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: قوله: "ثم يستحب الاستظهار" يجوز أن يقرأ بالطاء والظاء - فالاستطهار طلب الطهارة، والاستظهار طلب الاحتياط، وهذا كما قال الشافعي -رضي الله عنه- في المبتدأة المميزة إذا استحيضت "لا يجوز لها أن تستظهر بثلاثة أيام"، قُرِئَ بها جميعاً، والغرض أن التَّثْلِيثَ مستحب في إزالة النجاسة، كما في رفع الحدث، واحتجوا عليه بأن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَمَرَ المُسْتَيْقِظَ مِنْ نَوْمِهِ بِأَنْ لاَ يَغْمِسَ يَدَهُ فِي الإنَاءِ حَتَّى يَغسِلَهَا ثَلاثًا" (¬1) لتوهم النجاسة، فعند تحققها أولى، وإنما يَتَأَدَّى الاستحباب إذا وقعت المرة الثانية، والثالثة، بعد زوال النجاسة. أما الغَسَلاَت المحتاج إليها لإزالة النجاسة فلا بد منها واستحباب الاستظهار يشمل النجاسة الحُكْمِيَّةَ، والعَيْنِيَّةَ، وقد حكينا عن مذهب أحمد أن العدد واجب في إزالة النَّجَاسَاتِ مطلقاً، فينبغي أن يكون قوله: "ثم يستحب" معلماً بالألف، وأما [مسألة] (¬2) العصر، فقد اختلفوا في حصول الطَّهَارَةِ قبله على وجهين، وبنوهما على أن الغسالة طاهرة، أم نجسة؟ إن قلنا: إنها طاهرة فلا حاجة إلى العصر، وهو الأصح، وإلا فَالغُسَالَة باقية فلا تطهر، وعلى هذا هل يكتفي [قبل العصر] (¬3) بالجفاف؟ فيه وجهان: أصحهما نعم: لأن زوال الغُسَالَةِ بِالجَفَافِ أبلغ منه بالعَصْرِ. والثاني: لا، لأنا بالعصر نَتَوَهَّمُ انتقال أجزاء النجاسة [في صحبة الماء، وعند الجَفَافِ لا يزول إلا بَلَلُ الماء، وتبقى أجزاء النجاسة]، وقد يستدرك على العبارة التي ذكرها في تفريع الوجهين في الجفاف على وجوب العصر، لأن التَّفْرِيعَ على الشيء لا ينبغي أن يرفع الأصل. ومن قال: تطهر بالجفاف، لا ينتظر منه القول بوجوب العصر، واشتراطه؛ بل الشرط عنده زَوَال البلل، إما بالعصر، أو بالجفاف فالعبارة السليمة أن يقال: إذا غسل المَحِلُّ، ولم يعصر، هل يطهر مع بقاء البلل؟ فيه وجهان: إن قلنا: لا يطهر، فهل يطهر إذا جفّ؟ فيه وجهان. ¬
قال الغزالي: فُرُوعٌ سَبْعَةٌ: الأوَّلُ- إِذَا أُوْردَ الثَّوْبُ النَّجِسُ عَلَى مَاءٍ قَلِيلٍ نَجسَ المَاءُ وَلَمْ يَطْهُرِ الثَّوْبُ عَلَى الأَظهَرِ. قال الرافعي: ما سبق من طهارة المَحِلِّ بالغسل، إما مع العصر، أو دونه فيما إذا كان الماء وارداً على المحل، إما لورود المحل النجس كالثوب يغمس في إجانة فيها ماء، ويغسل فيه، فهل يطهر؟ فيه وجهان: قال ابْنُ سُرَيُج: يطهر كما لو كان الماء وارداً عليه. وقال الأكثرون: وهو الأصح لا يطهر، لأن الملاقاة بين الماء القليل، والنجاسة يَقتضي نجاسة الماء خالفناه فيما إذا كان الماء وارداً، فإن الوارد عامل، والقوة للعامل، ويدل على الفرق أنه -صلى الله عليه وسلم- منع المُسْتَيْقِظَ من النوم من غَمْس اليَدِ فِي الإنَاءِ قبل الغسل ثلاثاً، ولولا الفرق بين الوارد، والمورود لما انتظم المنع من الغمس والأمر بالغسل، والوجه الأول فيما إذا قص بالغمس إزالة النجاسة، فاما لو ألقته الريح فيه، والماء قليل نجس الماء بلا خلاف، قال الأئمة رحمهم الله: ومن هذا نشأ ظن من نقل عن ابن سريج أن يشترط النِّيَّةَ في إزالة النجاسة. قال الغزالي: الثَّانِي- إِذَا أَصَابَ الأَرْضَ بَوْلٌ فَأُفِيضَ عَلَيْهِ المَاءُ حَتَّى صَار مَغْلُوباً وَنَضَبَ المَاءُ طَهُرَ (ح). وَكَذَا إِذَا لَمْ يَنْصُبْ إِذَا حَكَمْنَا بِطَهَارَةِ الغُسَالَةِ وَأَنَّ العَصْرَ لاَ يَجِبُ. قال الرافعي: إذا أصابَ الأرْضَ بَوْلٌ، فصب عليها من الماء ما يغمره، وتستهلك فيه النجاسة، طهرت بعد نُضُوب الماء وقبله وجهان: إن قلنا: إن الغُسَالَةَ طاهرة والعصر لا يجب فنعم. وإن قلناَ: إنها نجسة، والعصر واجب فلا، وعلى هذا فلا يتوقف الحكم بالطَّهَارَةِ على الجَفَافِ؛ بل يكفي أن يفاض الماء كالثوب المعصور لا يشترط فيه الجفاف، والنُّضُوبُ كَالعَصْرِ. وقال أبو حنيفة: لا تطهر الأرض حتى تحفر إلى الموضع الذي وصلت إليه النَّدَاوَةُ وينقل التراب. لنا ما روى:" أَنَّ أَعْرَابِيّاً بَالَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ"، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوباً مِنْ مَاءٍ" (¬1)، ولم يأمر بنقل التراب. وقوله: "حتى صار مَغْلُوباً" إشارة إلى أن المعتبر أن يكون الماء المَصْبُوبُ على ¬
الموضع غالباً على النجاسة، غامراً لها، ولا بأس لو أعلمته أو أعلمت قوله "طهر" بالواو، ولوجهين رويا على خلاف ظاهر المذهب: أحدهما: يجب أن يكون الماء سبعة أضعاف البول. الثاني: يجب أن يُصَبَّ على بول الواحد ذَنُوبٌ، وعلى بول الاثنين ذَنُوبَانِ، وعلى هذا أبداً، ثم الخَمْر، وسائرِ النَّجَاسَاتِ المَائِعَةِ، كَالبَوْلِ تطهر الأرض عنها بالمُكَاثَرَةِ، ولا تقدير على ظاهر المذهب. وقوله: "إذا حكمنا بطهارة الغُسَالَةِ، وأن العصر لا يجب"، لا ضرورة إلى الجمع بينهما؛ بل لو اقتصر على نفي وجوب العصر لحصل الغرض، فإن الخلاف في العصر مبني على الخلاف في الغُسَالَةِ. قال الغزالي: الثَّالِثُ- اللَّبَّنُ المَعْجُونُ بِمَاء نَجِسٍ يَطهُرُ إِذَا صُبَّ عَلَيهِ المَاءُ الطَّهُورُ فَإِنْ طُبِخَ طَهُرَ ظَاهِرُهُ بِإِفَاضَةِ المَاءِ دُونَ بَاطِنِهِ. قال الرافعي: اللَّبَنُ النجس ضربان: أحدهما: أن يختلط بالتراب نجاسة جامدة من روث، أو عظام ميتة (¬1)، أو غيرهما، فيضرب منه لبن، فهو نجس، ولا سبيل إلى تطهيره بحال لما فيه من عين النجاسة. فَلَوْ طُبِخَ فالمذهب الجديد: أنه على نجاسته، وَالنَّارُ لا تطهر شيئاً؛ بل الطَّهُورِيةُ مخصوصة بالماء، وفي القديم قول أن الأرض النجسة تطهر إذا زال أثر النجاسة بالشمس، والرّيْحِ، ومرور الزمان (¬2)، فخرج أبو زيد، والخضري، وآخرون، ¬
منه قولاً في تأثير النار، وقالوا: تأثير النار أشد وأقوى من تأثير الشمس. فعلى هذا يطهر ظاهره بالطبخ، لأن النار تحرق ما عليه من النجاسة، وإن قلنا: بالجديد الصحيح، فلو غسل هل يطهر ظاهره؟ المنصوص في الأم أنه لا يطهر لانْتِشَارِ أجزاء النجاسة والْتِصَاقِهَا بِالمَحِلِّ، وزوال الجميع غير معلوم. وقال أبو الحسن بن المرزبان (¬1)، والففال: يطهر؛ لأن عين النجاسة قد زالت، فإذا ورد عليه الماء طهر محله النجس، والظاهر الأول. الضرب الثاني: أن لا يختلط به نَجَاسَةٌ جَامِدَةٌ، ولكن يعجن بماء نجس، أو بول، وهو الذي ذكره في الكتاب، فهذا اللبن يمكن تطهيره كسائر الأعيان التي أصابتها نجاسة مائعة، وطريق تطهير ظاهره إفاضة الماء عليه على سبيل غسل سائر الأعيان، وطريق تطهير باطنه أن ينقع في الماء حتى يصل الماء إلى [سائر] (¬2) أجزائه كالعجين بمائع نجس، إنما يطهر بوصول الماء إلى جميع أجزائه، [هذا] (¬3) أحكم، (¬4) ما لم يطبخ فإن طبخ فعلى التخريج الذي سبق يطهر ظاهره، وكذلك باطنه في أظهر القَوْلَيْن، لتأثره بالنار، وعلى الجديد: هو على نجاسته، وإذا غسل طهر ظاهره دون باطنه، لأنه استحجر بالطبخ، فلا يتغلغل الماء فيه، وإنما يطهر الكل إذا دق، حتى صار كالتراب، ثم أفيض الماء عليه، ولو كان رَخْواً لا يمتنع، نفوذ الماء فيه بعد الطَّبْخ، فهو كما قبل الطبخ (¬5)، وأما ما يتعلق بلفظ الكتاب، فقوله: "يطهر إذا صب عليه المَاء الطهور" ليس ¬
المراد منه طَهَارَةُ الظَّاهِر وحده، بدليل قوله بعده: "فإن طبخ طهر ظاهره دون باطنه"، فإنه بين إرادة طهارة الكل [بإفاضة الماء] (¬1) في الأول، وحينئذ فمجرد الصَّبِّ لا يكفي؛ بل في الكلام إضمار. المعنى: إذا صب فيه الماء الطهور حتى ينتقع فيه، ويصل الماء إلى جميع أجزائه. وفي بعض النسخ: إذا نضب، وهو: عبارة الوسيط، وتقييد الماء بالطَّهُورِيَّةِ في هذا الموضع كالمستغنى عنه لوضوح اشتراط الطهورية في الماء الذي تزال به النَّجَاسَاتِ مطلقاً، وعدم اختصاصه بهذا الموضع، وقوله: "فإن طبخ طهر ظاهره بإفاضة الماء" جاز أن يعلم قوله بإفاضة الماء بالواو، إشارة إلى التَّخْرِيج المذكور، فإن من صار إليه قال بأنه يطهر بالطَّبْخِ، لا بإفاضة الماء عليه؛ وكذلك قولَه: "دون باطنه" لما ذكرنا أن أحد القولين على قاعدة القول المُخَرَّج طهارة الباطن أيضاً. قال الغزالي: الرَّابعُ- بَوْل الصَّبِيِّ قَبْلَ أنْ يَطْعَمَ يَكْفِي فِيهِ رَشٌّ المَاءِ (ح م) وَلاَ يَجِبُ الغَسْلُ بِخلاَفِ الصَّبِيَةِ للْحَدِيثِ. قال الرافعي:- الواجب في إزالة النجاسات الغسل إلا في بول الصبي الذي لم يَطْعَمْ، ولم يشرب سوى اللبن، فيكفي فيه الرَّشُّ، ولا يجب الغُسْلُ (¬2) خلافاً لأبي حنيفة، ومالك [وأحمد] لنا: ما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّمَا يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الصَّبِيَّةِ وُيرَشُّ عَلَى بَوْلِ الغُلاَمِ" (¬3). وعن "أُمِّ قَيْسٍ أَنَّهَا أَتَتْ رَسَولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِصَبِيٍّ لَهَا لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، فَأَجْلَسَتهُ فِي ¬
حِجْرِه فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغسِلْهُ (¬1). واعلم أنه لا بد من أن يصيب ¬
الماء جميع موضع البول، ثم لا يراده ثلاث درجات: إحداها: النَضْحُ المُجَرَّدُ. الثانية: النَّضْحُ مع الغَلَبَةِ والمُكَاثَرَةِ. الثالثة: أن ينضم إلى ذلك الجَرَيانُ، والسَّيَلاَنُ، ولا حاجة في الرش إلى الدرجة الثالثة، وهل يحتاج إلى الثانية؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم، [والرش، وَالغُسلُ يفترقان في أمر السَّيَلاَن، والتَّقَاطُر، وهل يلحق بول الصبية ببول الصبي؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم] (¬1)، كما يستوي بول الرجل والمرأة في الحكم. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب أنه لا يلحق به، للخبر، ويفرق بينهما من جهة المعنى، بأن بول الصبي، كالماء، وبول الصبية أصفرُ ثَخِينٌ، وأيضاً بأن طبعها أحَرُّ فبولها ألصَقُ بِالمَحِلِّ. قال الغزالي: الخَامِسُ- وُلُوغُ الكَلْبِ يُغسَلُ سبعاً إِحْدَاهُن بالتَّرَاب وَعَرَقُهُ وَسَائِرُ أجزَائِهِ كَاللُّعَابِ وَفِي إِلْحَاقِ (م) الخِنْزِيرِ بِهِ قَوْلاَنِ: وَالأَظْهَرُ أنَّهُ لاَ يَقومُ الصَّابُونُ والأَشْنَانُ (ز) مَقَامَ التُّرَابِ وَلاَ الغَسْلَةُ الثَّامِنَةُ وَلَوْ كَانَ التُّرَابُ نَجِساً أَوْ مُزجَ بالخَلِّ فَوَجهَانِ وَلو ذُرَّ التُّرَابُ عَلَى المَحَلِّ لَمْ يَكْفِ بَلْ لاَ بُدَّ مِنْ مَائِع يُعَفَّرُ بِهِ فَيُوصِلُهُ إِلَيهِ. قال الرافعي: وُلُوغُ الكَلْب ما ولغ فيه، والولوغ: المصدر، وقاعدة الفرع: أنه يغسل من ولوغ الكلب سَبْعاً، إحَداهن بالتراب خلافاً لأبي حنيفة، حيث قال: حكمه حكم سائر النجاسات ولأحمد حيث قال في رواية: يغسل ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ. لنا ما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُم فَلْيُرِقْهُ، وَليَغسِلُهُ سَبعاً أُولاَهُنَّ، أَوْ إحْدَاهُن بِالتُّرَابِ" (¬2). ثم فيه مسائل: إحداها: عَرَقهُ، وسائر أجزائه، وَفَضَلاته كاللُّعَاب، إذا تنجس الشيء بها، وجب العدد وَالتَّعْفِيرُ؛ لأن فمه أنظف من غيره كما سبق، فإذا ورد التَّغْلِيظُ فيه، ففي غيره أولى، وفي وجه أن غير اللعاب كسائر النجاسات، قياساً، وعند مالك -رحمه الله- لا يغسل من غير الولوغ؛ لأن الكلب طاهر عنده، والغُسْلُ من الوُلُوغ تعبد. الثانية: في إلحاق الخنزير بالكلب في هذا التَّغْلِيظِ قولان: الجديد: أنه يلحق به؛ ¬
لأنه حيوان نجس العين، والسؤر كالكلب، فهو أولى بالتغليظ؛ لأنه لا يجوز اقتناؤه بحال، والقديم: أنه لا يلحق به؛ لأن القياس يقتضي الاقتصار على المرة الواحدةِ، وإنما ورد التغليظ في الكلاب فطماً لهم عن عادة مخالطتها، ومنهم من قطع بإلحاق الخِنْزِيرِ بِالكَلْب، ولم يثبت القول القديم ذلك أن تعلم قوله "قولان" بالواو، وتشير إلى هذه الطريقة الثانية. الثالثة: هل يقوم الصابون والأَشْنَانُ مقام التراب؟ فيه ثلاثة أقوال: أظهرها: لا لظاهر الخبر؛ ولأنها طهارة متعلقة [بالتراب] (¬1)، فلا يقوم غيره مقامه كالتيمم. والثاني: نعم كَالدِّبَاغ يقوم فيه غَيْرُ الشّب وَالقَرَظِ (¬2) مقامهما، وكالاسْتنْجَاءِ يقوم فيه غير الحِجَارَةِ مقامها. الثالث: إن وجد التراب لم يعدل إلى غيره، وإن لم يجده جاز إقامة غيره مقامه للضرورة، ومنهم من قال: يجوز إقامة غير التراب مقامه فيما يفسد باستعمال التراب فيه، كالثياب، ولا يجوز فيما لا يفسد كالأواني. الرابعة: لو اقتصَر على الماءِ، وزاد في عدد الغَسَلاَتِ على السَّبْعِ، هل يطهر؟ فيه وجهان: أصحهما: لا. لظاهر الخبر؛؟ ولأنه غلظ أمر هذه النجاسة بالجمع فيه بين جنسين، فلا يجوز الاقتصار على أحدهما، كَزِنَا البِكْرِ لَمَّا غِلُظَ أمره بالجمع بين الجلد وَالتَّغْرِيب، لا يقتصر على أحدهما. والثاني: نعم؛ لأن المقصود التطهير، والماء أبلغ في التطهير من التراب، ثم منهم من رتب هذا الخلاف على أن الصابون والأشنان ونحوهما، هل تقوم مقام التراب أم لا؟ إن قلنا: لا، فكذلك الغَسْلَةُ الثَّامِنَةُ، وإن قلنا: نعم، فهاهنا وجهان؛ لأن ثَمّ استعان بشيء آخر سوى الماء، ومنهم من بَنَاهُ على الخلاف فيما إذا غمس الإناء الذي ولغ فيه الكلب في ماء كثير، هل يطهر أم لا يعتد بذلك إلا غسلة واحدة؟ ويجب غسله ستاً إحداهن بالتراب، فإن قلنا بالأول طهر بالغسلة الثامنة، وإن قلنا بالثاني فلا، وحكى القاضي الروياني في المسألة وجهاً ثالثاً: أن الغَسْلَةَ الثامنة تقوم مقام التراب عند عدمه، ولا تقوم مقامه عند وجوده، وزهو نظير القول الثالث في المسألة السابقة. ¬
الخامسة: لو كان التراب نجساً ففيه وجهان: أحدهما: يُجزِئُ كالدَّبْغِ بالشيء النجس فإن المقصود الاسْتِعَانَةُ على القلع بشيء آخر، وأصحهما: لا، كما لو تيمم بالتراب النجس وهذه المسألة تناظر مسألة أخرى وهي: أن الأرض الترابية لو تنجست بإصابة الكلب إياها، هل يحتاج في تطهيرها إلى التراب؟ أم يكفي مَحْض الماء، إن قلنا: يجوز التطهير بالتراب النجس، فلا حاجة إلى تراب آخر، وإن قلنا: لا يجوز، فلا بد من استعمال ترابٍ آخر، والأظهر في هذه المسألة أنه لا حاجة إلى استعمال التراب؛ لأنه لا معنى للتعفير في التراب. السادسة: لا يكفي ذَرُّ التراب على المحل وإن غسله سبعاً؛ بل لا بد من مائع يمزجه به، ليصل التراب بوساطته إلى جميع أجزاء المحل، ثم ذلك المائع إن كان ماءً حصل الغرض، وإن كان غيره كَالخَلِّ وَمَاءِ الوَرْدِ وغسله ستاً بالماء، فوجهان: أحدهما: يكفي؛ لأن المقصود من تلك الغَسْلَةِ التراب، وأصحهما: لا، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فَلْيَغسِلْهُ سَبْعاً إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ". المعنى: فليغسله بالماء سبعاً، وإلا لجاز الغسل [سبعاً] (¬1) بغير الماء وبَنى طبقةٌ من الأئمة، ومنهم صاحب الكتاب الخلاف في المسائل [الأربعة] (¬2) الأخيرة على النظر في أن التعفير لماذا روعي؟ فمنهم من قال: هو تَعَبُّدٌ يتبع فيه ظاهر النقل وقيل: سببه الاستظهار بغير الماء، وقيل: سببه الجمع بين نوعي الطهور فعلى الأول: لا يغني استعمال غير التراب [وعلى الثاني يجوز استعمال غير التراب] (¬3) والتراب النجس، والممزوج بسائر المائعات، لكن لا تجزى الغسلة الثامنة. وعلى الثالث يمنع الكل إلا المزج بسائر المائعات، وقد يتوقف المتأمل في بعض هذه التفاريع. وقوله: في الأصل "بل لا بد من مائع يغيره لِوصله إليه" يجوز أن يقرأ بالياء من التغيير، أي: يغير التراب ذلك المائع، فيوصل المائع التراب إليه، ويمكن أن يجعل الفعل للمائع على معنى أنه يغير التراب عن هيئته فيتهيأ للنفوذ، والوصول إلى جميع الأجزاء، وفي بعض النسخ "يغير به" وكل جائز (¬4). ¬
قال الغزالي: السَّادِسُ- سُؤرُ الهِرَّةِ طَاهِرٌ فَإِنْ أكَلَتْ فَأَرَةً ثِم وَلَغَتْ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ فَفِيهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ يُفَرَّقُ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ أَنْ تَلِغَ فِي الحالِ أَوْ بَعْدَ غَيْبَةٍ مُحْتَمَلَةٍ للُولُوغِ فِي المَاءِ الكَثِيرِ وَالأحْسَنُ (¬1) تَعْمِيمُ العَفْوِ لِلحَاجَةِ. قال الرافعي: سُؤْرُ الهِرَّةِ طاهر؛ لأنها طاهرة العين، وما هو طاهر العين، فهو طاهر السؤر، ولذلك لما تعجبوا من إصغاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإناء للهرة قال: "أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ، إِنَّهَا مِنَ الطوْافِينَ عَلَيْكُمْ" (¬2). ¬
جعل طهارة العين علة طهارة السؤر، فلو أكلت فأرة، أو تنجس فمها بسببٍ آخر، ثم ولغت في ماء قليل، ونحن نتيقن نجاسة فمها بعد، فهل ينجس؟ فيها وجهان: أحدهما: لا، لكثرة اختلاطها وعسر الاحتراز، "وَلأنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصْغِيَ للهِرَّةِ لها الإنَاءَ" ولا شك أنه تعتري النجاسة لفيها، ولم يكن بقرب جحر رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ماء كثير ترده الهرة. وأصحهما: نعم، كسائر النجاسات، والاحتراز وإن عسر، فإنما يعسر عن مطلق الولوغ فأما عن الوُلُوغِ بعد تيقن نجاسة الفم فممنوع. ¬
فصل في غسالة النجاسة
وتغطية رأس الإناء هينة، وإصغاء النبي -صلى الله عليه وسلم- يحتمل أنه كان عند العلم بالطهارة، أو عدم العلم بالنجاسة، وإن لم يتيقن عند الولوغ أن فمها نجس، بعدُ، فإن غابت، واحتمل ولوغها في ماء كثير، أو ماء جارٍ (¬1) فهل ينجس؟ وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه ماء معلوم الطهارة، فلا يحكم بنجاسته بالشك. والثاني: نعم استصحاباً لنجاسة الفم، إذ لم تتيقن طهارته، والأول: أظهر، وصاحب الكتاب قد جمع بين الحالتين، وجعل المسألة على ثلاثة أوجه، وهو حسن لكن اختار تعميم العفو هو خلاف ما صححه معظم الأصحاب والله أعلم. فَصْلٌ فِي غسالَةِ النَّجَاسَةِ قال الغزالي: السَّابعُ- غُسَالَة النَّجَاسَةِ إِنْ تَغَيَّرَتْ فَنَجِسَة وَإِنْ لَمْ تَتَغَيَّرُ فَحْكْمُهَا حُكْمُ المَحَلِّ بَعْدَ الغَسْل إِنْ طَهَّرَ فَطَاهِرٌ (ح) وَفِي القَدِيم: هِيَ طَاهِرَةٌ بِكُلِّ حَالٍ مَا لَمْ تَتَغَيَّرْ وَقِيلَ حُكْمُهُ حُكْمُ المَحَلِّ قَبْلَ الغَسْلِ وَتَظْهَرُ فَائِدَتُة في رَشَاشِ الغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ وُلُوغِ الكَلْبِ. قال الرافعي: الماء المستعمل في إزالة النجاسة وهو الغُسَالَةُ، إما أن يتغير بعض أوصافهِ بالنجاسة فهو نجس، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِلاَّ مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ"، أو لا يتغير ففيه ثلاثة أقوال: الجديد: أن حكمه حكم المحل بعد الغسل إن كان نجساً بعد فهو نجس، وإلا فطاهر غير طهور؛ لأن البلل الباقي في المحل بعضه، والماء الواحد القليل لا يتبعض في الطهارة، والنجاسة، وإنما حكمنا بسقوط الطهورية لما سبق في المستعمل في الحدث. والثاني: وهو مخرج على الجديد، أنه نجس؛ لأنه ماء قليل أصابته نجاسة، والعبارة عن هذا القول أن حكم الغُسَالَةِ حكم المحل قبل استعمالها فيه، كما في المستعمل في الحدث، ومنه خرج. والثالث: وهو القول القديم: أنه طاهر طهور بكل حال، لما سبق في توجيه [القول] (¬2) القديم في المستعمل في الحدث، والعبارة عنه أن حكم الغُسَالَةِ حكمها قبل الوُرُودِ على المَحِلِّ، ومنهم من يعبر عن هذا الخلاف بالوجوه؛ لأنها غير منصوصة ويخرج على هذا الخلاف: غسالات الماء المستعمل في إزالة نجاسة الكلب فلو تطاير ¬
الباب الثالث في الاجتهاد
منها شَيْءٌ في المرة الأولى إلى ثوب أو غيره غسل ذلك الموضع على الأول ست مرات؛ لأنه حكم المحل المغسول بعد تلك الغسلة وعلى الثاني يغسل سَبْعاً؛ لأنه حكم المحل قبل تلك الغسلة، وعلى الثالث لا حاجة إلى غسله أصلاً، وعلى هذا لو تطاير من السابعة غسل على القول الثاني مرة ولا يغسل منها أصلاً، فقس المرة الثانية وما بعدها حتى تنتهي إلى المرة السابعة، فيغسل منهما على القول الثاني مرة، ولا يغسل منها أصلاً على الأول والثالث ومتى وجب الغسل عنها نظر هل سبق التعفير المرة المضاف منها أم لا؟ فإن لم يسبق لزم رعايته، وفي وجه: لكل غسلهَ سبع حكم المحل؛ لأنها تزيل سبع النجاسة فيغسل منها مرة، وهذا الوجه يتضمن التسوية بين الغسلة المشتملة على التعفير، وبين سائر الغسلات، وهو إسقاط لأثر التعفير، ولا يخفى عليك بعد هذا أن قوله: "حكمه حكم المحل قبل الغسل"، أي: قبل ذلك لا قبل مطلق الغسل وإن ذكر الغسلة الثانية جرى على سبيل المثال والكناية في قوله: "وتظهر فائدته" تجوز أن يعود القول الثالث، وتجوز أن يعود إلى الخلاف، واستخراج العبارات الثلاث، والأول أحسن وأولى، فهذا شرح ما في الكتاب على النظم، وينبغي أن يتنبه فيه لمسائل: إحداها: أن ما ذكره من الخلاف مخصوصٌ بالماء القليل إذا غسل به النجاسة، وإن أطلق اللفظ وإلافلا خلاف في أن الكثير لا ينجس إلا بالتغير. الثانية: أطلق الخلاف فيما إذا لم يتغير، ولو لم يتغير ولكن ازداد وزنه عند الانفصال على ما كان فهو نجس بمثابة ما لو تغير على أصح الوجهين. الثالثة: الخلاف المذكور في المستعمل [إزالة النجاسة (¬1) الواجبة]، أما المستعمل في مندوبها ففيه وجهان: أظهرهما: أنه طاهر طهور بلا خلاف. والثاني: أنه كالمستعمل في واجبها فيعود فيه القول الأول، والثالث دون الثاني. الاجتهاد في الماء المشتبه البَّابُ الثَّالِثُ في الاجْتِهَادِ قال الغزالي: مَهْمَا اشْتَبَهَ إِنَاءٌ تَيَقَّنَ نَجَاسَتَهُ بِمُشَاهَدَةٍ أَوْ سَمَاعٍ عَنْ عَدْلٍ بإنَاءٍ طَاهِرٍ لَمْ يَجُزْ (و) أَخْذِ أَحَدِ الاِنَاءَينِ إِلاَّ باجتِهَادٍ (ز) وَطَلَبِ عَلاَمَةٍ تَغْلِبُ ظَنَّ الطَّهَارَةِ. ¬
قال الرافعي: إذا اشتبه عليه إناء طاهر بإناء نجس، واحتاج إلى الطَّهَارَةِ فماذا يفعل؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يستعمل ما شاء من غير اجتهاد ونظر؛ لأن الذي يقصده بالاستعمال غير معلوم النجاسة، والأصل فيه الطهارة. والثاني: إنما يأخذ أحدهما إذا ظن طهارته، ولكن لا يشترط استناده إلى اجتهاد، وَأَمَارَةٍ؛ بل له أن يأخذ بما سبق وهمه إليه، وكفى ذلك مرجحاً لأصل الطهارة. والثالثة: وهو المذهب ولم يذكر في الكتاب سواه أنه لا يجوز أخذ أحدهما إلا بالاجتهاد، وطلب علامة تغلب ظن طهارة المأخوذ، ونجاسة المتروك، لأن أصل الطهارة عارضة يقين النجاسة، وعرفنا أن ذلك الأصل، صار متروكاً إما في هذا، أو في ذاك، فيجب النظر في التعيين. وقال المزني: يتيمم ولا يجتهد، وإن كان الاشتباه في ثوبين صلى فيهما صلاتين، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: يجتهد في الثياب، ولا يجتهد في الأواني إلا إذا كان عدد الطاهر أكثر. لنا قياس الأواني على الثياب، وقد أعلموا لفظ الكتاب بالعلامات المشعرة بهذه الاختلافات. فقوله: "لم يَجُزْ" معلم بالواو، ولفظ "الإنائين" معلم بالحاء. وقوله: "إلا باجتهاد" بالألف والزاي، ولو كان سبب الاشْتِبَاهِ إخبار عَدْلٍ إياه عن نجاسة أحدهما على الإبهام، وجب الاجتهاد كما لو عرفه بنفسه، وكذلك لو أخبره عن نجاسة أحدهما بعينه، ثم اشتبه عليه، وسبيله سبيل الرواية، وكل من تقبل روايته من ذَكَرٍ وأُنْثَى وعبد وحر يقبل قوله في ذلك، بشرط العدالة، وهل يقبل قول الصبي المميز؟ فيه وجهان (¬1) ويشترط أن يعلم من حال المخبر أنه لا يخبر إلا عن حقيقة؛ لأن المذاهب مختلفة في أسباب النجاسات، فقد يظن ما ليس بنجس منجساً، ولعلك تقول لفظ الكتاب يقتضي أن يكون إخبار العدل مفيداً لليقين؛ لأنه قال: "تيقن نجاسته، بمشاهدة، أو سماع من عدل" وقول الواحد لا يفيد اليقين، فاعلم أن الفقهاء كثيراً ما يعبرون بلفظ المعرفة واليقين عن الاعتقاد القوي علماً كان أو ظناً مؤكدًا، أو يجري ذلك في لسان أهل العرف أيضاً، وهذا على ذلك المذهب، ولك أن تستفيد من قوله: "لم يَجُز أخذ أحد الإنائين إلا بالاجتهاد". فائدة وهي: النظر فيما لو خرج أحد الإنائين عن أن يستعمل إما بالانْصِبَابِ أو بِتَقَاطُرِ شيء من الآخر فيه، هل يحتاج إلى الاجتهاد في الثاني؟ الذي يقتضيه لفظ الكتاب أنه يحتاج إليه، وهو الظاهر، وفيه وجهان آخران: ¬
أحدهما: يتوضأ به من غير تحر. والثاني: لا يتوضأ به أصلاً، بل يتيمم. وقوله: إلا بالاجتهاد وطلب علامة تغلب ظن الطهارة ليس به إلا الإيضاح، ولو اقتصر على قوله لم يجز أخذ أحد الإنائين إلا بالاجتهاد. أو قال: إلاَّ بطلب علامة لحصل به الغرض. قال الغزالي: فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ نَجَاسَةُ أَحَدِ الإِنَاءَيْنِ بِكَوْنِهِ مِنْ مِيَاهِ مُدْمِنِي الخَمْرِ وَالكُفَّارِ المُتَدَيّنينَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ فَهُوَ كَاسْتِيقَانِ النَّجَاسَةِ عَلَى أَحَدِ القَوْلَينِ وَعَلَيْهِ تَمْتَنِعُ الصَّلاةُ فِي المَقَابِرِ المَنْبُوشَةِ وَمَعَ طِينِ الشَّوَارعِ وَكُلِّ مَا الغَالِبُ نَجَاسَتُة. قال الرافعي: الشيء الذي لم يتيقن نجاسته، ولكن الغالب في مثله النجاسة يستصحب طهارته، أم يؤخذ بنجاسته، قولان: أحدهما: يستصحب طهارته تمسكاً بالأصل المتيقن إلى أن يزول بيقين بعده كما في الإحداث. والثاني: يؤخذ [بنجاسته] (¬1) عملاً بالظنِّ المستفاد من الغلبة بخلاف الإحداث، فإن عروضها كثر فخفف الأمر فيها بطرح الظن كالشك، ويشهد هذان القولان لقولي تعارض الأصل والظاهز (¬2)، وللمسألة نظائر كثيرة منها ثياب مدمني الخمر وَأَوَانِيهِمْ، وثياب القَصَّابِينَ (¬3)، والصبيان الذين لا احتراز لهم عن النجاسات وطين الشوارع، حيث لا تتيقن نجاسته، والمقابر المَنْبُوشَة، حيث لا تتيقن النجاسة، ومنها أواني الكفار الذين يتدينون باستعمال النجاسات كالمجوس، يغتسلون بِبَوْلِ البَقَرِ، ويتقربون بذلك، ولا يلحق بهم الكفار الذين لا يتدينون باستعمالها، كاليهود والنصارى، نعم المنهمكون منهم في الخمر والتلوث بالخنزير. يجري في ثيابهم وأوانيهم القولان لا محالة كمدمني الخمر من المسلمين، وربما أطلقوا نقل القولين فيما إذا غلب على الظن النجاسة ولم يستيقن، ولكن له ما شرط، وهو أن تكون غلبه الظن مستندة إلى أن الغالب في مثله النجاسة، أما لو كان سبب الظن غير ذلك لم يلزم طرد القولين، حتى لو رأى ظَبْيَةً تبول في ماء كثير، وكان بعيداً عن الماء، فانتهى إليه ووجده متغيراً، وشك في أن تغيره بالبول، أم بغيره فهو نجس، نص عليه الشافعي -رضي الله عنه- وأصحابه -رضوان الله ¬
عليهم أجمعين- ثم الظاهر من القولين استصحاب الأصل فإنه أصدق وأضبط من الغالب الذي يختلف باختلاف الزمان، والأحوال، والنقل يعضد ذلك، مثل ما روى "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- حَمَلَ أَمَامَةَ بِنْتَ أَبِي العَاصي فِي صَلاَتِهِ" (¬1)، وكانت هي بحيث لا تحترز عن النجاسات. إذا تقرر هذا الأصل. فنقول: إنْ ألحقنا عليه الظن باليقين، فلو اشتبه عليه إناء طاهر بإناء الغالب في مثله النَّجَاسَةِ كان كما لو اشتبه بإناء مُسْتَيقَنِ النجاسة، فيحتاج إلى الاجتهاد كما سبق. وإن لم نلحقها باليقين فلا حاجة إلى الاجتهاد، ويستعمل أيهما شاء وكليهما أيضاً. وقوله: "وعليه يخرج امتناع الصلاة في المقابر المَنْبُوشَةِ"، وفي بعض النسخ "وعليه تمتنع الصلاة" أي: على قول إلحاق الغلبة باليقين تمتنع الصلاة في المقابر المنبوشة وكذلك حكم التيمم بترابها، وامتناع الصلاة مع طِيْنِ الشوارع (¬2) ونحوه ويجوز أن يرجع الكناية (¬3) في قوله: "وعليه يخرج" إلى الخلاف. قال الغزالي: ثُمَّ لِلاجْتِهَادِ شَرَائِطُ: الأَوَّلُ- أنْ يَكُونَ لِلْعَلاَمَاتِ مَجَالٌ فِي المُجْتَهَدِ فِيهِ فَيَجُوزُ (ز) الاجتِهَادُ في الثِّيَابِ وَالأوَانِي وَلاَ يَجْوزُ فِي تَمْييزِ المُحَرَّمِ وَالمَيِّتَةِ عَن المُذَكَّاةِ وَالأَجْنَبِيَّةِ. قال الرافعي: الشرائط (¬4) جمع شريطة، وحقها أن يقال: الأولى والثانية، فقوله: ¬
"الأوَّل" والثاني محمول على المعنى. التقدير الشرط الأول والثاني، إذا عرفت ذلك فمن شرائط الاجتهاد: أن يكون للعلامات مجال في المجتهد فيه، فيجوز في الثياب والأواني إذا اشتبه بعضها ببعض؛ لأنها مجال العلامات على ما سيأتي، أما إذا كان الاشتباه فيما لا يتوقع ظهور الحال فيه بالعلامات لفقدها، فلا يجوز الاجتهاد كما لو اختلط محرم له بنسب أو رضاع بأجنبية، أو أجنبيات محصورات، فلا يجوز له نكاح واحدة بالاجتهاد إذ لا علامة تمتاز [بها المحرم عن الأجنبية. ولو اشتبه عليه مَيْتَةُ وَمُذَكَّاةَ، أو لَبَنُ بِقَرٍ بِلَبَنِ أَتَانٍ (¬1) فوجهان: أصحهما: لا يجتهد أيضاً إذ لا علامة] (¬2). والثاني: يجتهد إذ الميتة تطفو على الماء. واعلم أنه لو منع مانع فقد الأمارات في المحرم والأجنبية وادعى إمكان الامتياز بالأمور الخلقية والأخلاق وغيرها لم يبعد، وكذلك في الصورة الثانية؛ ثم إنما ينتظم التعليل لفقد الأمارات إذا اعتبرنا في الاجتهاد النظر في الأمارات أما إذا قلنا: يأخذ بما سبق وهمه إليه فليست العلَّةُ هذا، وإنما العلَّة فيه أن سبق الوَهْم إنما يؤخذ به اعتماداً على أن الأصل في الماء الطهارة، وهاهنا الأصل في الأَبْضَاعِ الحرمة، وليست اللحوم على الإباحة أيضاً ألا تَرَى أنه لو ذبح المُشْرِفُ على الموت وشك في أن حركته عند الذبح كانت حركة المذبوح، أو حياة مستقرة يغلب التحريم، ولك أن تقول في توجيه المنع على قاعدة اعتبار العلامات: [إن فقدت العلامات هاهنا، فقد تعذر الاجتهاد، وإن وجدت فالعلامات] (¬3) إنما تعتمد عند تأييدها بالأصل لما سيأتي، ولم توجد هاهنا. قال الغزالي: الثَّانِى- أَنْ يَتَأَيَّد الاجتِهَادُ باسْتِصْحَابِ الحَالِ فَلاَ يَجُوزُ الاجتِهَادُ عِنْدَ اشتِبَاهِ البَوْلِ أَوْ مَاءِ الوَرْدِ (ح) بِالمَاءِ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَينِ. ¬
قال الرافعي: إذا اشتبه عليه مَاءٌ وَبَولٌ، أو ماء ومَاءُ وَرْدٍ، فهل يجتهد؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم اعتماداً على الأمارات كما في الماء النجس. وأصحهما: لا؛ لأن الاجتهاد وهم أو رجم ظن لا يعتمد إلا إذا اعتضد بأصل الطهارة والطهورية، فعلى هذا يعرض هاهنا في الصورة الأولى ويتيمم، وفي الثانية: يتوضأ بهذا مرة، وبهذا مرة. وإن قلنا: بالأول فلا شك أن هاهنا لا يكتفي بسبق الوهم لفقد الأصل، فلا بد من الأمارات، وبنى بعضهم الخلاف في الصورتين جميعاً على الخلاف في أَنَّا هل نكتفي في الاجتهاد بسبق الوهم أم يعتبر النظر في الأمارات؟ إن قلنا بالأول فلا يجتهد، وإن قلنا بالثاني فيجتهد. قال الغزالي: الثَّالِثُ- أَنْ يَعْجَزَ عَنِ الوُصُولِ اِلَى اليَقِينِ، فَانْ كَانَ عَلَى شَطِّ نَهْرِ امْتَنعَ الاجتِهَادُ فِي الأَوَانِي وَالثِّيَابِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَينِ. قال الرافعي: هل يجتهد مع إمكان الطهارة فيه وجهان: أحدهما: لا, لأن الاجتهاد إنما يصار إليه عند العجز عن درك اليقين، ألا ترى أن في الحوادث لا يجوز الاجتهاد مع وجود النص؟ وأظهرهما: نعم؛ لأن تركه التطهير بالماء المقطوع بطهارته، والعدول إلى المشكوك في طهارته جائز، وهذا أصل يتخرج عليه مسائل. منها: ما إذا كان على شَطِّ نَهْرٍ أمكنه التطهر به، والإعراض عن المائين المشتبهين جميعاً، وأمكن غسل الثياب المشتبهة به، وهذه الصورة هي المذكورة في الكتاب. ومنها: أن يكون عنده قُلَّتَا ماء، إحداهما نجسة من غير تغير ولو جمعهما لبلغ المجموع قلتين. ومنها: أن يشتبه عليه ماء طهور وماء مستعمل. ومنها: أن يشتبه عليه ماء، وَمَاءُ وَرْدٍ، فيجري الوجهان في جميع هذه الصورة إلا أن الظاهر في الصورة الأخيرة منع الاجتهاد، لا من جهة هذا الأصل؛ بل للمعنى الذي سبق. قال الغزالي: الرَّابعُ- أَنْ تَلُوحُ عَلاَمَةُ النَّجَاسَةِ كَحَرَكَةِ المَاءِ أَوْ نُقْصَانِهِ أَوْ انصِبَابِهِ أَو ابْتِلاَلِ طَرَفِ الإِنَاءِ إِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ بِولُوغِ الكَلْبِ وَيَشتَرِكُ فِي ذِرْكِهِ الأَعْمَى (و) وَالبَصِيرُ فَإنْ لَمْ تَلُحْ عَلاَمَةُ صَبِّ المَاءِ وَتَيَمَّمَ فَإِنْ تَيَمَّمَ الصَّبِّ وَجَبَ القَضَاءُ لأَنَّ مَعَهَ مَاءً طَاهِراً بِيَقِينٍ. قال الرافعي: إن قلنا يأخذه ويستعمله من غير اجتهاد، أو قلنا ما سبق وهمه إلى طهارته أخذ به فلا يحتاج إلى العلامات، وَإنِ اعتبرنا الأمارات والعلامات، وهو
الصحيح، وعليه بني صاحب الكتاب الكلام، فلا بد من أن تلوح علامة النجاسة ليمتاز عنده النجس عن الطاهر. مثال ذلك: أن يَعرف أن سبب النجاسة وُلُوغُ الكلب، ثم يرى نُقْصَانَ ماء أحد الانائين، أو حركته أو ابتلال طرف الإناء، أو قرب أثر الكلب من أحدهما، فهذه الأمور مُشْعِرَةٌ بكونه نجساً، وقد تدل حركة الماء وابتلال طرف الأناء على النجاسة في غير وُلُوغِ الكلب أيضاً، فإن لم تَلُحْ له علامة، وتحَيَّرَ تَيَمَّمَ لعجزه عن الوضوء، ثم إن كان تيممه بعد صَبِّ الماء في الإنائين فلا قضاء عليه، ويعذر في صبه لدفع القضاء بخلاف ما إذا صب ما [عنده] (¬1) من الماء الطاهر عَبَثاً وتيمم يقضي على أحد الوجهين، وفي معنى الصَّبُ ما لو جمع بينهما لتنجَسَّا، وإن تيمم قبل ذلك قضى؛ لأن معه ماءً طاهراً بيقين. وهل يجتهد الأعمى في الأواني؟ فيه قوله: أحدهما: لا، كما لا يجتهد في القبلة؛ بل يقلد فيهما. وأصحهما: نعم، وهو الذي ذكره في الكتاب؛ لأنه يعرف باللمس اعوجاج الإناء، واضطراب الغطاء، وسائر العلامات، فصار كالاجتهاد في الوقت. فعلى الأول من شرائط الاجتهاد كونه بصيراً. وعلى الثاني لا فرق. ثم إن عَجَزَ الأَعْمَى ولم يغلب على ظنه شيء، فوجهان: أظهرهما: أن له أن يقلد (¬2) بخلاف البصير إذا تَحَيَّرَ فيه هذا آخر الشروط، وإذا تأملتها عرفت أن اشتراط الكل مختلف فيه. أما الثاني والثالث فظاهر، وأما الأول والرابع فهما مَبنِيَّانِ على اعتبار العلامات، ولعلك تقول: الاجتهاد هو البحث، والنظر (¬3)، وثمرته ظهور العلامات وثمرة الشيء تتأخر عنه، والشرط يتقدم، فكيف جعل ظهور العلامات شرطاً، فالجواب: أن قوله: "ثم للاجتهاد شرائط"، أي: للعمل بالاجتهاد، أو لكونه مفيداً، وما أَشْبَهَ ذَلِكَ. قال الغزالي: فَرْعٌ: لَوْ أَدَّى اجتِهَادُهُ إِلَى إنَاءِ وَصَلَّى بِهِ الصُّبحَ ثُمَّ أَدَّى عِنْدَ الظَّهْرِ اجتهَادُة إلَى الثَّانِي تَيَمَّمَ وَلا يَسْتَعمِلْ لأَنَّ الاجتِهَادَ لاَ يُنْقَضُ بِالاجتِهَادِ، وَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ ¬
أَنَّهُ يَستَعْمِلُ وَنُورِدُهُ عَلَى جَمِيعِ مَوَارِدِ الأَوَّلِ لأَنَّ هَذِهِ قَضِيَّةٌ أُخْرَى. وَعلَى النَّصِّ هَلْ يَقْضِي الصَّلاةَ الثَّانِيَةَ لأَنَّ مَعَهُ مَاءً طَاهِراً بِحُكمِ الاجْتِهَادِ فِيهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: إذا غلب على ظَنِّهِ طهارة أحد الإنائين، فالمستحب أن يُرِيقَ الثاني لئلا يتغير اجتهاده [فيشكل [الأمر عليه] (¬1)، فلو لم يفعل وقد صلى الصبح مثلاً بما ظَنَّ طهارته، ثم تغير] (¬2) اجتهاده عند الظهر إلى طهارة الثاني فلا يخلو إما ألا يبقى من الأول، شيء، أو بقي، فهما حالتان: إحداهما: ألا يبقى من الأول شيء، وهذه الحالة هي التي تكلم فيها في الكتاب. فنقول: أولاً لا يجب عليه إعادة الاجتهاد هاهنا إذا حضرته الصلاة الثانية لكن لو أعاد وتغير اجتهاده فظن طهارة الثاني ففيه قولان: أحدهما: وهو المنصوص أنه لا يستعمله، بل يتيمم، لو استعمله فإما أن يغسل ما أصابه الماء الأول من بدنه، وثيابه فيلزم نقض الاجتهاد بالاجتهاد، أو لا يغسل ذلك فيكون مصلياً مع يقين النجاسة، والثاني خرجه ابن سريج من تغير الاجتهاد في القبلة أنه يتوضأ بالثاني، ولا يتيمم؛ لأن هذه قضية مستأنفة، فلا يؤثر فيها الاجتهاد الماضي، لكن لا بد من إيراد الماء على جميع المواضع التي أصابهما الماء الأول، وغسلها لإزالة النجاسة، ثم يتوضأ بعد ذلك لأن من على بدنه نجاسة وأراد أن يتوضأ، أو يغتسل لم تَكْفِه الغسلة الواحدة عنهما جميعاً، ثم على النص هل تقتضي الصلاة الثانية المؤداة بالتيمم؟ فيه وجهان: أصحهما: لا، إذ ليس معه ماء طاهر بيقين والثاني: نعم؛ لأن معه ماء طاهر بحكم الاجتهاد، وأما الصلاة الأولى فلا حاجة إلى قضائها لا على النص ولا على التخريج. الحالة الثانية: أن يبقى من الأول شيء، فإن كانت البقية كافية لطهارته، فالحكم على ما ذكرناه في الحالة الأولى إلا في شيئين: أحدهما: أنه يجب إعادة الاجتهاد للصلاة الثانية؛ لأن معه ماء مستيقن الطهارة. والثاني: أن الصلاة الثانية المؤداة بالتيمم يجب قضاؤها؛ لأن معه ماء طاهراً بيقين، إما هذا أو ذاك. هذا هو النص، وفيه وجه: أنه لا يجب؛ لأن ما معه من الماء ممنوعٌ من استعماله شرعاً، فأشبه الذي حال بينه وبينه سبع. وإن لم تكن البقية كافية زاد ¬
النظر في أن ما لا يكفيه من الماء هل يجب استعماله أم لا؟ إن قلنا: فكما لو لم يبق شيء من الأول، وإلا فكما لو بقي، ولو صَبَّ الماء الثاني في الحالة الأولى أو صبهما جميعاً في الحالة الثانية، ثم تيمم سقط القضاء بلا خلاف (¬1). ¬
الباب الرابع في الأواني
البابُ الرَّابعُ فِي الأَوانِي قال الغزالي: وَهِيَ ثَلاَثة أَقْسَامِ: الْقِسْمُ الأَوَّلُ- المُتَّخَذُ مِنَ الجُلُودِ، وَاسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الجِلْدُ طَاهراً وَطَهَارَتُهُ بِالذَّكَاةِ فِيمَا يُؤكَلُ (ح) لَحْمُهُ أَوْ بِالدِّبَاغِ فِي الجَمِيعِ إِلاَّ الكَلْبَ (ح) والخِنزِيرَ. قال الرافعي: جعل الأَوَانِيَ على ثلاثة أقسام؛ لأنها إما أنْ تُتَخَذَ من الجُلُودِ، أو العظام، أو من غيرهما، وعلى الأحوال فالأعيان المتخذ منها إما أن تكون نجسة، فلا يجوز استعمالها في الشرب، والطهارة، وسائر وجوه الاستعمال، أو طاهرة فيجوز، ويستثنى الذهب والفضة على ما سيأتي، وهذه الجملة ظاهرة. نعم الحاجة تمس إلى بيان الطاهر، والنجس من الجلود والعظام، وتمييز أحدهما عن الآخر، وإلى حكم المتخذ من الذهب والفضة فحصر كلام الأقسام الثلاثة في هذه الأمور، وإنما يكون الجلد المتخذ منه الإناء طاهراً في حالتين: إحداهما: أن يكون جلد المأكول المُذَكَّى فهو على طهارته كاللحم، وسائر الأجزاء، وقد يؤكل الجلد الرُّؤُوس، والمَسْمُوطِ ولا يلحق غير المأكول بالمأكول في ذلك؛ بل جلد غير المأكول نجس وان ذكّي كلحمه (¬1) خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله-. الثانية: أن يكون مَدْبُوغا، فَالدِّبَاغُ يفيد طهارة الجلد من المأكول وغيره خلافاً لأحمد. لنا ما رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيهِ السَّلاَمُ مَرَّ بِشَاةٍ مَيَّتَةٍ لِمَيمُونَةَ، فقال: "هَلاَّ اتَّخَذتُمْ إهَابَهَا فَدَبَغتمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ فَقِيلَ: إنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ: أَيُّمَا إِهَابٍ دُبغَ فَقَدْ طَهُر" (¬2). ¬
ويستثنى جلد الحيوان النجس في الحياة، وهو: الكَلْبُ والخنزير، وفروعهما خلافاً لأبي حنيفة في الكلب. لنا أن جلدهما لم ينجس بالموت، لما بينا أنهما نجسان في الحياة، والدِّبَاغ إنما يطهر جلداً نجس بالموت، لأن غاية الدّباغ نَزْعُ الفَضَلاَتِ، ودفع الاستحالات، ومعلوم أن الحياة [أبلغ في ذلك] (¬1) من الدباغ، فإذا لم تفد الحياة الطهارة حتى كان نجساً قبل الموت، فاولى أن لا يفيدها الدباغ. ونعود إلى ما يتعلق بلفظ الكتاب. أما قوله: "المتخذ من الجلد فاستعماله جائز بشرط أن يكون الجلد طاهراً"، فاعلم أن هذا كما هو شرط في المُتَّخَذِ من الجلد فهو شرط في المُتَّخَذِ من سائر الأعيان، وإن لم يذكره في سائر الأقسام. وقوله: "وطهارته بالذّكَاة" ليس على معنى أن الذّكَاة تطهر، فإن التطهير يستدعي سبق النجاسة، وهو طاهر في الحياة وبعد الزكاة (¬2) وإنما المواد أن الجلد الذي يتخذ منه الأناء لا يكون طاهراً، إلا إذا وجد فيه أحد المعنيين، إما الذّكَاة في المأكول أو الدّباغ. وقوله: "فيما يؤكل لحمه" ينبغي أن يكون معلماً بالحاء؛ لأن عنده لا حاجة إلى هذا القيد، وموضع باقي العلامات ظاهر بعد ما نقلنا من الخلاف. وقوله: "إلا الكلب والخنزير" يوجب حصر الاستثناء فيهما، وهو ظاهر المذهب بعد إلحاق فروعهما بهما. ولنا قول أن الآدمي ينجس بالموت على ما تقدم ذكره، فعلى ذلك القول، هل يطهر جلده بالدباغ؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم، لعموم الخبر؛ ولأنه طاهر في الحياة، فأشبه جلده سائر الجلود. والثاني: وهو مذهب أبي حنيفة، أنه لا يطهر لما فيه من الامتهان، فعلى هذا يلحق جلود الآدمي بالمستثنى، ولك أن تعلم قوله "بالدباغ" مع الألف المشيرة إلى ¬
مذهب أحمد بالواو، لا لمصير بعض الأصحاب إلى المنع من الدّباغ، فليس منهم من يقول به، لكن لأن صاحب "التتمة" حكى وجهاً عن رواية ابن القطان (¬1): أن جلد الميتة لا ينجس، وإنما أمر بالدَّبغ لإزالة الزُّهُومَةِ، فإذا كان طاهراً قبل الدّباغ لم تكن طهارته بالدّبَاغِ. قال الغزالي: وَكَيْفِيَّةُ الدَّبَاغِ نَزْعُ الفَضَلاَتِ بِالأَشيَاءِ الحَرّيفَةِ وَلاَ يكفِي التَّتْرِيبُ (ح) وَالتَّشْمِيسُ (ح) وَلاَ يَجِبُ اسْتِعْمَالُ المَاءِ فِي أَثْنَاءِ الدِّبَاغِ عَلَى أَقْيَسِ الوَجْهَيْنِ، وَيجِبُ إِفَاضَةِ المَاءِ المُطْلَقِ عَلَى الجِلْدِ المَدْبُوغِ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ. قال الرافعي: ولك في قوله: "وكيفية الدباغ نزع الفضلات"، مباحثتان: إحداهما: أن تقول: ما الذي أراد بكيفية الدباغ أراد به حقيقته أم غير ذلك؟ وكيف يجوز إرادة الحقيقة، وقد اشتهر في كلام الفقهاء أن مقصود الدباغ نَزْعُ الفضلات وَعدَّ ذلك كلاماً صحيحاً منتظماً، ومقصود الشيء غَيْرُ حقيقته، وإن أراد غير ذلك فما هو؟ والجواب: يجوز أن يكون المعنى والكيفية المعتبرة في الدباغ نزع الفضلات، ويجوز أن يريد بكيفية حقيقته، لكن الدباغ، يطلق بمعنيين يطلق لمعنى الفعل المخصوص في الجلد على الهيئة التي يبتغى بها إصلاح الجلد، ويطلق بمعنى الفعل المصلح، ولهذا يقال: يحصل الدّباغ بكذا، ولا يحصل بكذا، مع وجود الدَّلْكِ والاستعمال على الهيئة التي يبتغي بها الصلاح، فبالمعنى الأول ينتظم أن يقال: مقصود الدباغ نزع الفضلات، والمعنى الثاني: ينتظم أن يقال: حقيقة الدباغ نزع الفضلات. الثانية: أن يقول كيف اعتبر مجرد النزع؟ والأصحاب يقولون يعتبر عند الشافعي -رضي الله عنه- في الدِّباغ ثلاثة أشياء نَزْعُ الفُصُول، وَتَطْبِيبُ الجِلْدِ، وَصَيرُورَتُهُ بحيث لو نقع في الماء لم يعد الفساد والنتن. والجواب أنه لا فرق في المعنى، فإنه إذا نزعت الفضلات طاب الجلد وصار إلى ¬
الحالة المذكورة. وإذا اعتبرنا أحد الأمور المتلازمة فقد اعتبرناها جميعاً، وقوله: "بالأشياء الحريفة" يجوز أن يكون معلماً بالواو لشيئين: أحدهما: أن هذا اللفظ يعم الشب والقَرَظ الواردين في خبر الدباغ وغيرهما، كالعَفَصِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ، وحكى بعضهم وجهاً: أن يختص الدِّباغ بالشب والقَرَظ كما يختص تطهير ولوغ الكلب بالتراب على الأظهر، والمذهب أنه لا فرق بينهما وبين غيرهما مما يصلح للدباغ، والشث بالثاء كذلك ذكره الأزهري (¬1)، وفي الصحاح (¬2) أن الشب بالباء شيء يشبه الزَّاجَ، والشَّثُّ بالثاء نَبْتٌ يدبغ به. الثاني: أنه يعم الطاهر والنجس من آلات الدباغ سواء كان نجس العين كذرق الطائر وغيره، وفيه وجهان: أحدهما: لا يجوز الدّباغ بالنجس؛ لأن النجس لا يصلح للتطهير. وأظهرهما: وهو ظاهر ما ذكره الجواز؛ لأن الغرض إخراج الجلد عن التعرض للعفونة والاستحالة، وهذا يحصل بالطاهر والنجس جميعاً، وهذا في طهارة العين. ويجب غسله بعد ذلك لا محالة بخلاف المدبوغ بالشيء الطاهر، ففي وجوب غسله [قولان] (¬3) يأتي [ذكرهما] (¬4). وإذا عرفت ذلك فاعلم أن النزع إنما اعتبر ليصير الجلد نظيفاً مصوناً عن الاستحالات والتغيرات فيطهر، كما كان في حال الحياة، ويترتب عليه أن التجميد بالإلقاء في التراب والشمس لا يكفي؛ لأن الفضلات لا تزول؛ ألا ترى أنه إذا نقع في الماء عاد الفساد. وعن أبي حنيفة: أنه يكفي ذلك، وبه قال: بعض الأصحاب لحصول الجفاف، وطيب الرائحة، ثم في الفصل مسألتان: إحداهما: هل يجب استعمال الماء في أثناء الدباغ مع الأدوية؟ فيه وجهان: إحداهما: نعم؛ لأن معنى الإزالة في الدباغ [أبلغ] (¬5) والماء متعين لإزالة النجاسات، وأيضاً فقد روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَلَيَسَ فِي الشَّب وَالْقَرَظِ وَالْمَاءِ مَا يُطَهِّرُه" (¬6). ¬
وأظهرهما: لا، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّمَا إِهَابٍ دُبغَ فَقَد طَهُرَ" (¬1) والغالب في الدباع الإحالة دون الإزالة، ومعناه أن الجلد بنزع الفضلات يستحيل إلى الطهارة، كالخمر يَستَحِيْلُ خَلاًّ. الثانية: إذا دبغ الجلد بشيء طاهر فهل يجب. غسله بعد الدباغ؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم، لإزالة أجزاء الأدوية فإنها نجست بملاقاة الجلد، وبقيت ملتصقة به. والثاني: لا، لظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فَقَدْ طَهُرَ" فإن قلنا: يجب فالجلد بعد الدباغ طاهر العين كالثوب النجس بخلاف ما إذا أوجبنا استعمال الماء في أثناء الدباغ، ولم يستعمل، فإنه يكون نجس العين، وهل يطهر بمجرد نقعه في الماء أم لا بد من استعمال الأدوية ثانياً؟ فيه وجهان. وإذا أوجبنا الغسل بعد الدباغ لم يَجُزْ أن يكون الماء متغيراً بالأدوية وإذا أوجبنا الاستعمال في أثناء الدباغ لم يضر كونه متغيراً بها؛ بل لا بد منه فلهذا وصف الماء في المسألة الثانية بكونه مُطْلَقاً، ولم يتعرض لذلك في الأولى. قال الغزالي: ثُمَّ الجِلْدُ المَدْبُوغُ طَاهِرٌ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ (وم) يَجُوزُ بَيْعُهُ (وم) وَيَحِلُّ أكْلُهُ عَلَى أَقْيَسِ القَوْلَيْنِ. قال الرافعي: هل يطهر بالدباغ، باطن الجلد كظاهره أم لا يطهر إلا ظاهره؟ فيه قولان: الجديد: أنه يطهر الباطن، والظاهر حتى يصلى فيه وعليه ويباع ويستعمل في الأشياء الرطبة، واليابسة لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيُّمَا إِهَابٍ دُبغَ فَقَدْ طَهُرَ" ولقوله: "هَلاَّ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُم بِهِ". أطلق ولم يفصل بين الانتفاع في الرطب، واليابس؛ ولأن الدباغ يؤثر في الظاهر والباطن جميعاً. والقديم: وهو مذهب مالك أنه: لا يطهر باطنه حتى يصلى عليه، ولا يصلى فيه ولا يباع ولا يستعمل في الأشياء الرطبة (¬2) لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بِإِهَابٍ، وَلاَ عَصَبٍ" (¬3). ظاهره المنع مطلقاً خالفنا في ظاهر الجلد جمعاً بينه وبين الأخبار المجوزة للدباغ، وأما الأكل منه، فإن كان جِلْدَ مَأَكُولٍ فقولان: ¬
الجديد: الجواز لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "دِبَاغُ الأَدِيمِ ذَكَاتُهُ" (¬1). ¬
والقديم: المنع؛ لقوله -عليه السلام-: "إنَّمَا حُرِّمَ مِنَ المَيْتَةِ أكَلَها" (¬1)، وإن كان من غير مأكول، فطريقان: أحدهما: طرد القولين. وأظهرهما: القطع بالمنع كما في الذَّكَاة (¬2)، وقد أطلق في الكتاب ذكر القولين في الأكل فيجوز أن يريد من المأكول، ويجوز أن يريد المأكول وغيره، على طريقة طرد القولين فيهما، وبها قال القَفَّالُ، ثم الخلاف في الأكل يجوز أن يجعل من فروع ¬
القسم الثاني: المتخذ من العظام
الخلاف في طهارة الباطن، وهو قضية إيراده في الأصل، ويجوز أن يجعل خلافاً مستقلاً ويوجه بما سبق، وكذلك جعله بعضهم وجهاً لا قولاً وكذلك، حكاه في الوسيط. قال الغزالي: القِسْمُ الثَّانِي: المُتَّخَذُ مِنَ العِظَامِ، وَالعَظْمُ يَنُجُسُ (ح) بِالمَوْتِ عَلَى ظَاهِرِ المَذْهَبِ وَقِيلَ قَوْلاَنِ كَمَا فِي الشَّعْرِ، وَلاَ يَنْجُسُ (و) شَعْرُ الآدَمِيَّ بِالمَوْتِ وَالإِبَانَةِ وَلاَ شَعْرُ الحَيَوَانِ المَأكُولِ بِالجَزِّ قَوْلاً وَاحِداً فَإِنْ حُكِمَ بِأَنَّ شَعْراً مَا لاَ يَنْجُسُ بِالمَوْتِ فَالأَصَحُّ أَنَّ شَعْرَ الكَلْبِ وَالخِنْزِيرِ نَجِسٌ لِنَجَاسَةِ المَنبَتِ. قال الرافعي: الشُّعُورُ هل تنجس بالموت والإبانة؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأنه لا تحلها الحياة، بدليل أنها لا تحس ولا تألم، وإنما يتأثر بالموت ما تحله الحياة. وأظهرهما: نعم؛ لأنه إن حلها الحياة كانت كسائر الأجزاء، وإلا فهي حادثة من الجملة، فتكون تابعة لها في الطهارة والنجاسة، كما تجعل تابعة لها في حكم الجنابة وغيره، ويجري القولان في الصُّوفِ، وَالوَبَرِ، وَالرِّيْشِ، وأما العظام ففيها طريقان: أظهرهما: القطع بالنجاسة، لأنها تحس وتألم. والثاني: طرد القولين كما فيها, لأن الظّفْرَ يقلم ولا يألم، والظّلْف (¬1) تبرد بالمبرد، ولا يحس به الحيوان. فإن قلنا: الشعر والعظم ينجسان بالموت والإبانة وجعلنا حكمهما حكم سائر الأجزاء. فيستثنى عنهما موضعان: أحدهما: شعر المأكول إذا أبين في حياته كما سبق. والثاني: شعر الآدمي وفيه قولان أو وجهان مَبْنيَّانِ على نجاسته بالموت إن قلنا: لا ينجس وهو الأصح، فلا ينجس شعره بالموت والإبانة. وإن قلنا: ينجس شعره أيضاً بالموت والإبانة، وعلى هذا القول إذا سقطت منه شعرة أو شعرتان وصلى فيها، فلا باس للقلة وتعذر الاحتراز، فإن كثرت لم يحتمل (¬2) ¬
كدم البراغيث، وإن قلنا: ينجس شعره بالموت والإبانة فهل يستثنى شعر الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ فيه وجهان: وجه الاستثناء: "أَنَّهُ لَمَّا حَلَقَ شَعْرَهُ نَاوَلَهُ أَبَا طَلْحَةَ -رَضِيَ الله عَنْهُ- لِيُفَرِّقَهَ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنِ اسْتِصْحَابِهِ" (¬1). وإذا كان الصحيح في شعر غيره الطهارة، فما ظنك بشعره -صلى الله عليه وسلم-. وجلد الميتة إذا دبغ وعليه شعر فهل يطهر على هذا القول؟ فيه قولان: أظهرهما: لا؛ لأن الشعر لا تتأثر بالدباغ؛ بل هي قبله وبعده على هيئة واحدة، بخلاف الجلد. والثاني: أنها تطهر تبعاً لطهارة الجلد، كما نجست بالموت تبعاً، وإذا فرعنا على أن الشعور لا تنجس بالموت، فهي مُلْحَقَةٌ بِالجَمَادَاتِ، وجميعها طاهر إلا شَعرَ الكَلْبِ وَالخِنْزِيرِ، ففيه وجهان: أصحهما: أنه نجس، ويستثنى هو من الجمادات، كما استثنى صاحبه من الحيوانات. والثاني: أنه طاهر كشعر غيره والوجهان يشملان حالتي الموت والحياة جميعاً، فهذا فقه هذه المسائل. وحظ الباب منه أن العَظْمَ إذا كان طاهراً، فاستعمال الإناء المتخذ منه جائز وإلا فلا. وإنما يكون طاهراً إذا كان من المُذَكَّى المأكول، أو فرعنا على القول الضعيف أن العظام لا تنجس أصلاً (¬2). واعلم أن القطع في قوله: "ولا ينجس شعر الآدمي بالموت والإبانة ولا شعر المأكول لحمه بالجَزِّ قولاً واحداً"، لا يرجع إلى المسألتين، وإنما يرجع إلى المسألة الأخيرة، وفي شعر الآدمي هل ينجس بالموت والإبانة ما سبق من الخلاف؟ وشعر المأكول قد سبق في الكتاب في فصل النجاسات، وإنما أعاده هاهنا ليتبين أنه ليس موضع القولين. ¬
القسم الثالث- المتخذ من الذهب والفضة
وقوله: "فإن حكمنا بأن الشعر لا ينجس بالموت" هكذا الصواب، وربما نجد في بعض النسخ، "فإن حكمنا بأن شعر الآدمي لا ينجس بالموت". وقوله:"فالأصح أن شعر الكلب والخنزير نجس" ليس المعنى أنه نجس بالموت؛ لأنه نجس في الحياة، والموت جميعاً على الأصح. وظاهر فيهما على الثاني، وعلى التقديرين، فلا يكون نجساً بالموت، وإنما المعنى التعرّض لنفس النجاسة. وقوله: "لنجاسة المَنْبَتِ" قد يعترض عليه بأن هذا التعليل يقتضي نَجَاسَةَ الزرع النابت على السِّرْقِينِ (¬1)، وقد نصوا على أنه ليس بنجس العين، لكنه نجس بمُلاَقَاةِ النجاسة، فإذا غسل طهر واذا تَسَنَّبَلَ فالحبات الخارجة منه طاهرة، ويجوز، أو يجاب عنه بأنه أراد بالمَنبَتِ ما منه النبات، والذي ينبت منه الشعر نجس، أما الزرع فإنه ينبت من الحبات المُنْبَثَّةِ في السِّرِقينِ، لا من نفس السِّرْقِينِ. قال الغزالي: القِسْمُ الثَّالِثُ- المُتَّخَذُ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ الاستِعْمَالِ عَلَى الرِّجَالِ وَالنَّسَاءِ، وَلاَ يَجُوزُ تَزْيِينُ الحَوَانِيتِ بِهَا عَلَى الأَصَحِّ وَلاَ يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ (و) وَلاَ قِيمَةَ عَلَى كَاسِرِهِ (و) وَلاَ يَتَعَدَّى التَّحرِيمُ إِلَى الفَيْروزَجِ وَاليَاقُوتِ عَلَى الأَصَحِّ لأن نَفَاسَتَهُمَا لاَ يُدرِكُهَا إلاَّ الخَوَاصّ. قال الرافعي: عن حذيفة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ [وَلاَ تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا" (¬2). يكره استعمال الأواني المتخذة من الذهب والفضة] (¬3) وهل ذلك على سبيل التحريم أو هو على سبيل التنزيه؟ فيه قولان: قال: في القديم أنه على التنزيه؛ لأن جهة المنع ما فيه من السَّرَفِ وَالخُيَلاَءِ وانكسار قلوب المساكين، ومثل هذا لا يقتضي التحريم. وقال في الجديد: إنه على التحريم - وهو الصحيح، وبه قطع بعضهم، لما روى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنيَةِ الفِضَّةِ، إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي جَوْفِهِ نَارَ جَهَنَّمُ" (¬4). ¬
رتب الوعيد بالنار عليه ويساوي في المنع الرجال والنساء لشمول معنى الخُيَلاَءِ وإن جاز للنساء التَّحَلّي بالذهب والفضة تزينا كما أن افتراش الحرير يحرم عليهن، كما يحرم على الرجال، ولا يحرم اللبس عليهن، ثم الخبر وإن ورد في الأكل والشرب منهما، فسائر وجوه الاستعمال في معناهما، كالتوضي والأكل بملعقة الفضة، والتَّطَيُّبُ بِمَاءِ الوَرْدِ مِنْ قَارُورَةِ الفِضَّةِ، وَالتَّجَمّرُ بِمِجْمَرَةِ الفِضَّةِ، إذا احتوى عليها، ولا حرج في إتيان الرائحة من بعد، وهل يجوز اتخاذ الأواني الذهبية والفضية؟ إن قلنا: لا يحرم استعمالها على القديم فيجوز، وإن قلنا: يحرم فوجهان: أحدهما: يجوز لجمع المال وإحرازه كيلا يتفرق. والثاني: وهو الأصح والمذكور في الكتاب أنه لا يجوز، لأن ما حرم استعماله حرم اتخاذه كآلات الملاهي فإن قيل آلات الملاهي تتشوف النفس إلى استعمالها، بخلاف الأواني. قيل: لا نسلم أن الأواني لا تتشوف النفس إلى استعمالها، بل الواجد لها يَلْتَذُّ باستعمالها واحتجوا لهذا الوجه أيضاً: بأنه لا خلاف في وجوب الزكاة فيها ولو كان اتخاذها مُبَاحاً, لكان وجوب الزكاة فيها على القولين في الحُلْى المباح، وعلى الوجهين يبنى جواز الاستئجار على اتخاذها، وغرامة الصنعة على من كسرها، إن قلنا: يجوز اتخاذها جاز الاستئجار ووجب الغرم وإلا فلا وفي جواز تزيين البيوت، والحوانيت، والمجالس بها وجهان؛ لأنه ليس باستعمال، لكن السَّرَفَ وَالخُيَلاَءَ يكاد يكون أبلغ، ثم في كلام بعضهم بناء الخلاف في الاتخاذ على هذا الخلاف ان حرمناه فلا منفعة فيها بحال، فلا يجوز اتخاذها، وإلا فيجوز، ويجوز أن يعكس هذا البناء، فيقال: إن حرمنا الاتخاذ حرم التزيين؛ لأن ما حرم اتخاذه يجب إتلافه، والتزيين يتضمن الإِمْسَاكَ، وإن أبحنا الاتخاذ فلا منع إلا من الاستعمال. وقال إمام الحرمين -رحمة الله عليه- الوجه عندي تحريم التزيين بها للسرف، مع الخلاف في حرمة الصنعة. وأما الأواني المتخذة من سائر الجواهر النفيسة كَالفَيْرُوزج وَاليَاقُوتِ والزَّبَرجَدِ وغيرها، فهل هي في معنى المتخذ من الذهب والفضة؟ فيه قولان، بناهما الأئمة على أن تحريم إناء الذهب والفضة لعينهما، أو لمعنى فيهما؟ قالوا: وفيه قولان: الجديد: أن لعينهما؛ اختصاصهما بتقويم الأشياء بهما، ووجوب حق المعدن فيهما وجعلهما رأس مال القراض ونحو ذلك. والثاني: أنه لمعنى فيهما، وهو السرف والخيلاء، فعلى الأول لا يحرم ما اتخذ من غيرهما من الجواهر النفيسة وعلى الثاني يحرم، واعتبر العراقيون والإمام معنى السرف والخيلاء لا محالة، وقالوا: حسم باب المعنى مع ظهوره بعيد، لكن وجه
الجواز أن التزين بالتبرين يظهر لكافة الناس، والجواهر النفيسة يختص بمعرفتها بعضهم، فيكون السرف والخيلاء في التبرين أكثر، وهذا قضية قول صاحب الكتاب؛ لأن نفاستها لا يدركها إلا الخواص، وكيف ما كان؟ فالأصح أنها ليست في معنى الذهب والفضة ولا خلاف في أن تكون نفاسته بسبب الصّنْعَةِ لا يحرم استعماله، ولا يكره كَلِبْسِ الكِتَّانِ النَّفِيسِ. قال الغزالي: وَالمُمَوَّهُ لاَ يحْرُمُ عَلَى أَظَهْرَ المَذْهَبَينِ، وَالمُضَبَّبُ في مَحَلٍّ يَلْقَى فَمِ الشَّارِبِ مَحْظُورٌ عَلَى الأَظْهَرِ وَإِنْ لَمْ يَلْقَ فَإنْ كَانَ صَغِيراً لاَ يَلُوحُ مِنَ البُعْدِ أَوْ عَلَى قَدْرِ حَاجَةِ الكَسْرِ فَجَائزٌ (و) فَإِنْ انْتَفَى المَعْنَيَانِ فَحَرامٌ (ح) وَاِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا فَوَجْهَانِ، وَفِي المُكْحَلَةِ الصَّغِيرَةِ تَرَدُّدٌ. قال الرافعي: لو اتخذ إناء من حديد، أو غيره، ومَوَّهَهُ بالذهب، أو الفضة، نُظِرَ إن كان يحصل منها شيء بالعرض على النار، منع من استعماله، وليس هذا موضع الخلاف؛ وإن لم يحصل شَيءٌ فهل يمنع من الاستعمال؟ فيه وجهان مبنيان على مثل ما ذكرنا في الجواهر النفيسة. قال قائلون: إن قلنا: إن التحريم لعين الذهب والفضة فلا منع، وإن قلنا: إنه لمعنى الخُيَلاَء منع منه، وقال آخرون: معنى الخُيَلاَء معْتَبَرٌ، لكن من جوز قال: المُمَوَّه لا يكاد يخفى، ولا يلتبس بالتِّبْرِ، ولو اتُّخِذَ إناء من ذهب أو فضة وَمَوَّهَهُ بنِحاس أو غيره، جرى الخلاف، إن قلنا: التحريم لعين الذهب والفضة يحرم، وإن قلنا: لمعنى الخُيَلاَء فلا. ولو غشى ظاهره وباطنه جميعاً بالنحاس. قال الإمام: الذي أراه القطع بجواز استعماله والذي يجيء على قول: من يقول التحريم لعين الذهب والفضة، أن يقول بالتحريم هاهنا أيضاً. وقوله: في الأصل "على أظهر المذهبين" -بمعنى- الوجهين اللَّذَيْنِ ذكرناهما (¬1) وأما المُضَبَّبُ، فينظر إن كانت الضَّبَّةُ على شَفَةِ الإناء، بحيث تلقى فم الشارب، فوجهان: أحدهما: التحريم، وبه قال مالك قدس الله روحه سواء كانت صغيرة أو كبيرة على قدر الحاجة، أو فوقها لكونها في موضع الاستعمال. والثاني: أنها كما لو كانت في موضع آخر، وصاحب الكتاب في آخرين جعلوا الوجه الأول أظهر، ولعل الذي دعاهم إليه أنه أشبه بكلام الشافعي -رضي الله عنه- في المختصر، لكن معظم العراقيين على أنه لا فرق بين أن تكون الضَّبَّة على موضع الشرب ¬
أو غيره، وهو أوفق للمعنى، لأن التحريم إن كان لعين الذهب والفضة، فلا فرق، وإن كان لمعنى الخُيَلاَءِ فكذلك، وقد تكون الزينة في غير موضع الشرب أكثر، وليس لقائل أن يقول: إذا كان شارباً على فضة كان متناولاً بالنص،, لأن لفظ الخبر المنع من الشرب في آنية الفضة، لا على الفضة، والمضبب ليس بآنية الفضة. ثم من نصر الوجه الأول فمن شرطه أن يقول: لو كان الاستعمال في غير الشرب، وكانت الضَّبَّةُ على الموضع الذي يمسه المستعمل، ولا يلاقيه يحرم أيضاً، ولا ينساغ غير ذلك، وإن كانت الضَّبّة على غير موضع الشرب، نظر إن كانت صغيرة وكانت على قدر الحاجة فلا تحريم، ولا كراهة روي: "أَنَّ حَلْقَةَ قَصْعَةِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- كَانَتْ مِنْ فِضَةٍ" (¬1). وكذلك قبيعة (¬2) سيفه (¬3) وإن كانت كبيرة وفوق الحاجة حرم الاستعمال لظهور الزينة، ووجود عين الذّهب والفضة وإن كانت صغيرة، لكنها فوق قدر الحاجة، أو كبيرة، لكنها بقدر الحاجة فوجهان: أحدهما: التحريم لظهور معنى الخُيَلاءَ. أما في الصورة الأولى؛ فلأنه للزينة دون الحاجة. وأما في الثانية (فَلِكِبَرِ الضِّبَّةِ) (¬4) وافتتان الناظرين بها، كأصل الإناء، وأصحهما: وهو الذي ذكره الشيخ أبو حامد، والعِرَاقِيُّونَ أنه يكره، ولا يحرم أما في الصورة الأولى، فَلِصْغرها وقدرة معظم الناس على مثلها. وأما في الثانية، فلظهور قصد الحاجة دون الزينة، وبنى بعضهم الوجهين على الأصل الذي سبق إن قلنا: التحريم لعين الذهب والفضة حرم، وإن قلنا: لمعنى الخُيَلاَء فلا. وفي أصل المسألة وجهان آخران: أحدهما: أن المضبَّب يكره استعماله ولا يحرم بحال، وبه قال أبو حنيفة. والثاني: أنه يحرم مطلقاً، حكاه الشيخ أبو بحمد (¬5) تخريجاً على اعتبار العين، ¬
وإذا عرفت ذلك، فليكن قوله: "على قدر حاجة الكسر فجائز" معلماً بالواو للوجه الثاني. وقوله: "وإن انتفى المعنيان فحرام" بالحاء، والواو، للوجه الأول، ثم هنا مباحثات. إحداها: هل هذا الخلاف والتفصيل في المُضَبَّب بالفضة خاصة أو يعم المضبب بالفضة والذهب جميعاً؟ ذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي -رحمة الله عليه- أنه يحرم التضبيب بالذهب مطلقاً، وهذا الخلات والتفصيل في المضبب بالفضة ووجهه قوله -صلى الله عليه وسلم- في الذهب والحرير: "هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي" (¬1). وَأيضاً: فقد روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ شَرِبَ في آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ أَوْ فِي إِنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي جَوْفِهِ نَارَ جَهِنَّمَ" (¬2). قضية هذا الخبر تحريم المضبّب بهما مطلقاً، خالفنا في الفضة؛ لما ورد من خبر القبيعة، والحلقة، فبقي في الذهب على ظاهره، والذي نصّ عليه الجمهور التسوية بين ضَبَّة الذهب وضبة الفضة كأصل الإناء. الثانية: ما حد الصغير والكبير؟ قال بعضهم: الكبير ما يستوعب جزءاً من الإناء كأسفله، أو جانباً من جوانبه أو تكون عروته، أو شَفَتُهُ أو غيرهما من الأجزاء كله من ذهب أو فضة. والصغير ما دون ذلك واستبعد إمام الحرمين هذا. وقال: لعل الوجه أن يقال: ما يلمح على البعد للناظر فهو كبير، وما لا فهو صغير فيكون مأخذ ذلك مدانياً للقليل والكثير من طين الشوارع، وهذا ما أشار إليه في الأصل، حيث قال: "فإن كان صغيراً لا يلوح من البعد" -أراد تفسير الصغير بما لا يلوح من البعد- ولو بحِث باحث عن حد البعد فلا يجد مرجعاً فيه إلا العرف والعادة، وإذا كان كذلك، فلو رجعنا في الفرق بين الصغير والكبير إلى العرف والعادة وطرحنا الواسطة لما كان به بأس، وقد فعل بعض الأصحاب ذلك، وقال: المرجع في الفرق بين الصغير والكبير إلى العرف والعادة (¬3). الثالثة: هل يُسَوَّى بين الذهب والفضة في الصغير والكبير؟ لم يتعرض الأكثرون ¬
لذلك، وعن الشيخ أبي محمد: أنه لا ينبغي أن يسوى بينهما، فإن الخُيَلاَء في قليل الذهب كالخيلاء في كثير الفضة، وأقرب معتبر فيه، أن ينظر إلى قيمة ضبة الذهب إذا قومت بالفضة، وهذا الكلام يقرب مأخذه مما حكيناه عن الشيخ أبي إسحاق، وقياس الباب أن لا فرق (¬1). الرابعة: ما معنى الحاجة التي أطلقناها في المسألة (¬2)، والجواب يعني- بها الأغراض المتعلقة بالتضبيب سوى التَّزيُّن، كإصلاح موضع الكسر، وكالشد، والتوثيق، فإذا كان على قدر ما يستدعيه الكسر، فهد بقدر الحاجة. وقوله: في الأصل "على قدر حاجة الكسر" إشارة إلى هذا، ولا يعتبر العجز عن التضبيب بغير الذهب والفضة، فإن الاضطرار يبيح استعمال أصل الإناء من الذهب والفضة. الخامسة: قدر الضبة المجوّزة، لو اتخذ منه إناء صغير، كالمِكْحَلة وَطَرْفِ الغَالِية، هل يجوز؟ حكى فيه وجهان للشيخ أبي محمد: أحدهما: نعم؛ كما لو ضبب به غيره. وأظهرهما: لا، لأنه الآن يقع علين اسم الآنية، فيندرج تحته النهي، وخصوا هذا التردد بالفضة، وقياس ما سبق التسوية بين الذهب والفضة. وذكر في "التهذيب" أنه لو اتخذ للإناء حَلَقَةٌ من فضة، أو سِلسِلَةٌ، أو رأساً يجوز؛ لأنه منفصل عن الإناء لا يستعمله، ولك أن تقول: لا نسلم أنه لا يستعمله؛ بل هو مستعمل بحسبه تبعًا للإناء (¬3) هب أنه لا يستعمله؛ لكن في اتخاذ الأواني من غير استعمال خلاف سبق، فليكن هذا على ذلك الخلاف أيضاً، ويجوز أن يوجه التجويز بالمضبب، أو تجعل هذه الأشياء كالظروف الصغيرة، كما سبق والله أعلم. ¬
الباب الأول في صفة الوضوء
قال الغزالي: هَذَا قِسْمُ المُقَدِّمَاتِ أَمَّا المَقَاصِدُ فَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ: الْبَابُ الأَوَّلُ في صِفَةِ الوُضُوءِ وَفَرَائِضُهُ سِتَّةَ: الأَوَّلُ: النِّيَّةُ فَهِيَ شَرْطٌ فِي كُلِّ طَهَارَةٍ عَنْ حَدَثٍ (ح و) وَلاَ تَجِبُ (و) في إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَلاَ يَصِحُّ (و) وُضوءُ الكَافِرِ وَغُسْلُهُ إِذ لاَ عِبرَةَ بِنَيَّتِهِ إِلاَّ الذِّمِّيَّةَ تَحْتَ المُسْلِمِ تَغْتَسِلُ عَنِ الحَيْضِ لَحَقِّ الزَّوْجِ فَلا يَلْزمُهَا الإعَادَة بَعْدَ الإِسْلاَمِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَالرِّدَّةُ بَعْدَ الوُضُوءِ لاَ تُبْطِلُهُ (و) وَبَعْدَ التَّيَمُّمِ تُبْطِلُهُ فِي أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لِضَعْفِ التَّيَمُّمِ. قال الرافعي: ذكرنا في أول الكتاب أَنَّ أحكام الطهارة على قسمين مقدمات ومقاصد. وجعل قسم المقاصد على أربعة أبواب: أحدهما: في صفة الوضوء، وله فرائض وسنن، أما الفرائض فهي. ست: الفرض الأول منها النية، فهي واجبة في طهارات الأحداث، خلافاً لأبي حنيفة، إلا في التيمم. لنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" (¬1). واعتبار ما عدا التيمم بالتيمم وأما إزالة النجاسة، فلا يعتبر فيها النية، لأنها من قبيل المتروك، والمقصود، هُجْرَانُ النجاسة، والمتروك لا تعتبر فيها النية، كترك الشرب، والزنا وغيرهما. وطهارات الأحداث عبادات، فأشبهت سائر العبادات، ويحكى عن ابن سريج اشتراط النية فيها، وبه قال أبو سهل الصعلوكي (¬2)، فيما حكاه صاحب "التتمة"، وإذا عرفت ذلك فاعلم أنه بني على اعتبار النية في الطهارات امتناع صحتها من الكافر، فلو اغتسل الكافر في كفره، أو توضأ، ثم أسلم - لم يعتد بما فعله في الكفر؛ لأنه ليس أهلاً للنية، فيلزم الإعادة بعد الإسلام، ولأن الطهارة عبادة، ¬
والكافر ليس أهلاً للعبادات، ولهذا لا يصح منه الصلاة والصوم. ولعل هذا أولى من التعليل، بأنه لا يصح منه النية؛ لأن النية المعتبرة في الوضوء نية رفع الحدث، وهي متصورة من الكافر. وقال أبو بكر الفارسي (¬1): لا يجب إعادة الغسل ويجب إعادة الوضوء؛ لأن الغسل يصح من الكافر في بعض الأحيان، بدليل غسل الذِّمّيةِ عن الحيض لزوجها المسلم، والوضوء لا يصح منه بحال. وحكى وجه آخر: أنه لا يجب إعادة الغسل ولا الوضوء وبه قال أبو حنيفة. وأما مسألة الذمية، فإنها إذا طهرت من الحَيْضِ وَالنَّفَاسِ فلا يحل لزوجها المسلم غِشْيَانُهَا حتى تغتسل، كالمسلمة المجنونة تطهر من الحيض، ثم لو أسلمت الذمية بعد ذلك الغسل، أو أفاقت المجنونة، فهل يلزمها الإعادة؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال أبو بكر الفارسي لا يلزم، لأنه غسل صح في حق حل الوطء، فيصح في حكم الصلاة وغيره. وأصحهما: أنه يلزم الاعادة، لأنه ليس للكافر والمجنون أهلية العبادة، وإنما صح في حل الوطء لضرورة حق الزوج. ولهذا تُجْبَرُ الزوجة على الغُسْلِ من الحيض -مسلمة كانت أو ذمية- لحقه هذا حكم الكافر الأصلي. أما المرتد فلا تصح منه الطهارة بحال ولم يجروا فيه الخلاف المذكور في الكافر الأصلي؛ لأن من قال: ثم لا حاجة إلى الإعادة أخذ ذلك من غسل الذمية يحل الوَطْءِ، أو من التخفيف والعفو عند الإسلام، ولا يفرض واحد منهما في المرتد. ولو توضأ المسلم ثم ارتد، هل يبطل وضوءه؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم لأن ابتداء الوضوء لا يصح مع الردة، فإذا طرأت في دوامه أبطله، كالصلاة لا يصح ابتداؤها مع الردة، وتبطل إذا طرأت في دوامها. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب أنه لا يبطل، حتى لا تجب الإعادة، إذا عاد إلى الإسلام؛ لأنه بعد الفراغ من الوضوء، مستديم حكمه لا فعله، وإذا كان كذلك لم يتأثر ما سبق بالردة. ألا ترى أنه إذا ارتد لم يبطل ما معنى من صومه وصلاته، حتى لا تجب إعادته بعد الإسلام! وهل يجرى هذا الخلاف في الغسل؟ ¬
المشهور: إنه لا يجري، لأن الغسل بجامع الكفر، بدليل مسألة الذمية، والوضوء بخلافة، ومنهم من أجرى الخلاف فيه أيضاً، والتوجيه ما ذكرنا في الوضوء. وأما التيمم ففي بطلانه بعروض الردة وجهان أيضاً: لكن الأصح فيه البطلان؛ لأن التيمم لاستباحة الصلاة، وإذا ارتد خرج عن أهلية الاستباحة، فلا يفيد تيممه الإباحة بعد ذلك؛ كما إذا تيمم قبل الوقت، لا يستبيح به الصلاة بعد دخول الوقت ومنهم من يرتب فيقول: إن بطل الوضوء بالردة فالتيمم أولى، وإن لم يبطل، ففي التيمم وجهان، والفرق ضعف [التيمم] (¬1) وتقاعده عن إفادة الإباحة بعد تَعَذُّرِ الاسْتِبَاحة. قال الغزالي: ثُمَّ وَقْتُ النِّيَّةِ حَالَةُ غَسْلِ الوَجهِ وَلاَ يَضُرُّ الغُرُوبُ بَعْدَهُ، وَلَو اقْتَرَنَتْ بِأوَّلِ سُنَنِ الوُضُوءِ وَعَزُبَتْ قَبْلِ غَسْلِ الوَجْهِ فَوَجْهَان. قال الرافعي: لا يجوز أن تتأخر النية عن أول غسل الوجه؛ لأنها لو تأخرت لخلا أول الفرض عن النية، وصار كالصلاة، يشترط فيها المقارنة بأولها بخلاف الصوم، يحتمل فيه المتقدم تارة والتأخر أخرى، لعسر مراقبة طلوع الفجر وتطبيق النية عليه، ثم إذا لم تتأخر، فإما أن يحدث مقارنة لأول غسل الوجه أو يتقدم عليه، فإن حدثت مقارنة لأول غسل الوجه صح الوضوء ولا يجب الاستصحاب إلى آخر الوضوء، لما فيه من العسر، ولكن لا يحصل له ثواب ما قبله من السنن، إذ ليس للمؤمن من عمله إلا ما نوى (¬2) وإن تقدمت عليه، نظر إن استصحبها إلى أن ابتدأ بغسل الوجه صح الوضوء. وحصل ثواب السنن المَنْوِيَّة قبله، وإن قارنت ما قبله من السنن، وعزبت قبل غسل الوجه، ففي الوضوء وجهان: أحدهما: الصحة؛ لأن تلك السنن من جملة الوضوء فإذا اقترنت النية بها، فقد اقترنت بأول العبادة. وإن لم تكن فرضاً وأصحهما: المنع، لأن المقصود من العبادة واجباتها والمندوبات توابع وتزينات، فلا يكفي اقتران النية بها، ولأنها أمور سابقة على فرض الوضوء، فلا يكفي اقتران النية بها، كالاستنجاء ثم لا خلاف في أن المضمضة، والاستنشاق من سنن الوضوء، واختلفوا فيما قبل ذلك، كغسل اليدين، والسواك، والتَّسْمِيَّة، فلم يعدها كثيرون من سننه. وإن كانت مندوبة في ابتدائه، وعدها آخرون من سننه، وهو الوجه، ولهذا تقع معتداً بها مثاباً عليها إذا نوى مطلق الوضوء، ولو لم تكن معدودة من أفعاله لما اعتد بها بنية الوضوء. وفي لفظ الكتاب أشياء، ينبغي أن يتنبه لمثلها. ¬
الأول: إن قوله: "وقت النية حالة غسل الوجه" مؤول، لأن إطلاق غسل الوجه يتناول جميعه والجميع ليس بوقت النية، لا بمعنى أنه يجب اقتران النية بالكل، كقولنا: وقت الصوم النهار؛ لأنه يجوز أن يغسل الوجه على التدريج، ولا تقترن النِّيَّة بما سوى الجزء الأول، ولا بمعنى أنه تجزى النية في أي بعض من أبعاضه اتفقت، كقولنا: وقت الصلاة كذا؛ لأن اقترانها بما سوى الجزء الأول لا يغني فإذاً المراد أول غسل الوجه. والثاني: أن قوله: لا يضر العُزُوبُ بعده ليس على إطلاقه. لأن الذي لا يضر ليس مطلق العزوب؛ بل العزوب بشرط أن لا تحدث نية أخرى، حتى لو عزبت نيته المعتبرة، وحدثت له نية تبرد، أو تنظف، لم يصح وضوءه في أصح الوجهين؛ لأن النية الأولى غير باقية حقيقة، والثانية حاصلة حقيقة، فتكون أقوى. والثالث: قوله: "ولو اقترنت بأول سُنَنِ الوضوء"، ليس من شرط هذه الصورة أن يكون الاقتران بالسنة الأولى؛ بل سواء اقترنت النية بالأولى أو بغيرها وعزبت قبل الشروع في غسل الوجه - حصل الوجهان وبالله التوفيق. قال الغزالي: وَكَيْفيَّتُهَا أَنْ يَنْوي رَفْعَ الحَدَثِ أَو استِبَاحَةَ الصَّلاةِ أَوْ مَا لاَ يُبَاحُ إِلاَّ بالطَّهَارَةِ أَوْ أَدَاءَ فَرْضِ الوُضُوءِ، فَإِنْ نَوَى رَفعَ بَعَضْ الحَدَثِ دُونَ البَعْضِ فَسَدَتْ نِيَّتُهُ عَلَى أَحَدِ الوَجهَينِ، وَإِنْ نَوَى استِبَاحَةَ صَلاَةٍ لاَ بِعَيْنِهَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَقِيلَ تَفْسَدُ فِي الكُلِّ، وَقِيلَ يُبَاحُ لَهُ مَا نَوى، وَلَوْ نَوَى مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الوُضُوءُ كَقِرَاءَةِ القُرْآنِ لِلْمُحْدِثِ فَوَجْهَانِ، وَلَوْ شَكَّ فِي الحَدَثِ بَعْدَ تَيَقُّنِ الطَّهَارَةِ فَتَوَضَّأَ احْتِيَاطاً ثُمَّ تَبيَّنَ الحَدَثَ فَفِي وُجُوبِ الإِعَادَةِ وَجهَانِ لِلتَّرَدْدِ فِي النِّيَّةِ، وَإِنْ نَوِى بِوْضُوئِهِ رَفْعَ الحَدَثِ وَالتَّبَرُّدَ لَمْ يَضُرَّ عَلَى الأَظْهَرِ وَكَذَا إِنْ نَوَى غُسْلَ الجَنَابَةِ مَعَ غُسْلِ الجُمُعَةِ حَصَلاَ مَعاً. قال الرافعي: الوضوء نوعان، وضوء رفاهية، ووضوء ضرورة، أما وضوء الرَّفاهِية فعلى صاحبه أن ينوي أحد أمور ثلاثة: أولها: رفع الحدث، أو الطهارة عنه، فإن أطلق كفاه؛ لأن المقصود من الوضوء رفع مانع الصلاة ونحوها، فإذا نواه فقد تعرض لما هو المطلوب بالفعل. وحكى وجه: أنه إن كان يمسح على الخف لم يجزه نية رفع الحدث؛ بل ينوي استباحة الصلاة، كالمتيمم، ولو نوى رفع بعض الأحداث دون بعض، بأن كان قد نام وبال ومسّ، فنوى رفع حدث منها، ففيه وجوه أصحها: أنه يصح وضوءه؛ لأنه نوى رفع البعض، فوجب أن يرتفع، والحدث لا يتجزأ، فإذا ارتفع البعض ارتفع الكل. والثاني: لا يصح؛ لأن مَا لَمْ يَنْوِ رفعه يبقى، والأحداث لا تتجزَّأُ، فإذا بقي البعض بقي الكل، ويكاد هذان الكلامان يتقاومان، لكن من نصر الأول قال: نفس النوم
والبول لا يرفع، وإنما يرفع حكمهما، وهو شيء واحد تعددت أسبابه، والتعرض لها ليس بشرط، فإذا تعرض له مضافاً إلى سبب واحد - لغت الإضافة إلى السبب، وارتفع. والثالث: إن لم ينف رفع ما عداه صح وضوءه، وإن نفاه فلا، لأن نيته حينئذ تتضمن رفع الحدث وإبقاءه فصار، كما لو قال: أرفع الحدث لا أرفع الحدث. والرابع: إن نوى رفع الحدث الأول صح وضوءه، وإن نوى غيره فلا؛ لأن الأول هو الذي أثر في المنع ونقض الطهارة. والخامس: إن نوى رفع الحدث الأخير صح، وإن نوى غيره فلا، لأن الأخير أقرب، وذكر بعضهم: أن الخلاف فيما إذا نواه، ونفى غيره، فإن لم يَنْفِ صح بلا خلاف، وهذا إذا كان الحدث الذي خصه بالرفع واقعاً له، فإن لم يكن، كما إذا نوى رفع حدث النوم ولم ينم، وإنما بال، نظر إن كان غَالِطاً صح وضوءه؛ لأن التعرض لها ليس بشرط، فلا يضر الغلط فيها، وإن كان عامداً لم يصح في أصح الوجهين، لأنه متلاعب بطهارته. الثاني: استباحة الصلاة أو غيرها، مما لا يباح إلا بالطهارة، كالطواف، وسجدة التِّلاوة، والشكر، ومس المصحف، فإذا نواها وأطلق أجزأه، لأن رفع الحدث إنما يطلب لهذه الأشياء، فإذا نواها فقد نوى غاية المَقْصَدِ، وروى وجه: أنه لا يصح الوضوء بنية الاستباحة، لأن الصلاة ونحوها قد تُسْتَبَاحُ مع بقاء الحدث بدليل المُتيمِّم وإن نوى اسْتِبَاحَةَ صلاة معينة، فإن لم يتعرض لما عداها بالنفي والإثبات صح أيضاً وإن نفى غيرها فثلاثة أوجه: أصحها: الصحة؛ لأن المَنْوِيَّةَ ينبغي أن تباح، ولا تباح إلا إذا ارتفع الحدث، والحدث لا يتبعض. والثاني: المنع، لأن نيته تضمنت رفع الحدث، وإبقاءه كما سبق. والثالث: يباح له المنوي دون غيره، لظاهر قوله- صلّى الله عليه وآله وسلّم: "وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى". وإن نوى ما يستحب له الوضوء كقراءة القرآن لِلْمُحْدِثِ، وسماع الحديث وروايته، والقعود في المسجد وغيرها، فوجهان: أظهرهما: لا يصح وضوءه؛ لأن هذه الأفعال مباحة مع الحدث، فلا يتضمن قصدهما قصد رفع الحدث. والثاني: يصح؛ لأنه قصد أن يكون ذلك [الفعل على أكمل أحواله، ولن يكون كذلك إلا إذا ارتفع الحدث:
والوجهان جاريان فيما إذا كان] (¬1) الوضوء مستحباً في ذلك الفعل لمكان الحدث، كما ذكرنا من الأمثلة، وفيما إذا كان الاستحباب لا باعتبار الحَدَثِ كتجديد الوضوء، فإن المقصد منه زيادة النَّظَافَةِ، لكن المنع في القسم الثاني أظهر منه في الأول، ولذلك قطع بعضهم بنفي الصحة فيه. ولو شك في الحدث بعد يقين الطهارة، فتوضأ احتياطاً، ثم تَبَيَّنَ أنه كان محدثاً، فهل يعتد بهذا الوضوء؟ فيه هذان الوجهان؛ لأن الوضوء والحالة هذه محبوب للاحتياط لا للحدث؛ وفي المسألة معنى آخر، وهو أنه الوضوء متردد في الحدث، فيكون متردداً في نِيَّةِ رفع الحدث، وإذا كان كذلك وجب أن لا يعتد بوضوئه لاخْتِلال النية، وهذا بخلاف ما إذا شك في الطهارة بعد يَقِينِ الحدث، حيث يُؤْمَرُ بالوضوء، ويحكم بصحته مع التردُّد، لأن الأصل بقاء الحدث، والتردد الذي يعتضد أحد طرفيه بالأصل لا يضر لحصول الرُّجحَان والظهور. وهذا المعنى على العكس هاهنا، أما إذا كان الفعل، بحيث لا يتوقف على الوضوء، ولا يستحب الوضوء له كدخول السوق، فتوضأ له لم يصح. الثالث: أداء فرض الوضوء، فيصح الوضوء بهذه النية؛ كما إذا نوى المصلِّي أداء فرض الصلاة، وهذا لأن النية معتبرة في الوضوء لجهة كونه قُرْبَة، فأشبه سائر القربات، ولهذا ذكروا وجهين في اشتراط الإضافة إلى الله تعالى كما في الصوم، والصلاة وسائر العبادات. والأولى: أن لا يجعل اعتبار النية في الوضوء على سبيل القربات بل يعتبرها للتمييز ولو كان الاعتبار على وجه القربة لما جاز الاقتصار على أداء الوضوء وحذف الفرضية، لأن الصحيح أنه يشترط التعرض للفرضية في الصلاة وسائر العبادات، وقد نَصُّوا على أنه لو نوى أداء الوضوء كفاه، بل يلزم أن يجب التعرض للفرضية ولو نوى رفع الحدث أو الاسْتِبَاحَة والله أعلم. فإن قيل: إذا لم يدخل وقت الصلاة، فليس عليه وضوء ولا صلاة، فكيف ينوي فرض الوضوء؟ فالجواب أن الشيخ أبا على ذكر أن الموجب للطهارة هو الحدث، وقد وجد، إلا أن وقتها لا يتضيَّقُ عليه، ما لم يدخل وقت الصلاة، فلذلك صح الوضوء بنية الفرضية قبل دخول الوقت، لكن هذا الجواب مبني على أن الموجب للطهارة هو الحدث، وقد صار بعض الأصحاب: إلى أن الموجب هو دخول الوقت أو أحدهما بشرط الآخر، ويجوز أن يقال: لا تعنى بالفرضية (¬2) أنه يلزمه الإتيان به، وإلا لامتنع أن يتوضأ الصبي المميز بهذه النية، ولكن المراد أنه ينوي إقامة طهارة الحدث المشروطة في الصلاة، ¬
وشروط الشيء تسمى فروضه، وربما نذكر في معنى فرضية الصلاة التي ينويها المصلي ما يقارب هذا، ونبين ما فيه من الإشكال في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى. ثم إذا نوى بوضوئه أحد الأمور الثلاثة، وقصد معه شيئاً آخر يحصل ذلك الشيء من غير قصد ونية، كما لو نوى بوضوئه رفع الحدث والتبرُّد أو استباحة الصلاة والتبرد، ففي صحة الوضوء وجهان: أحدهما: ويحكى عن ابن سريح: أنه لا يصح؛ لأن الاشتراك في النية بين القربة وغيرها مما لا يخل بالإخلاص، وأصحهما: أنه يصح، لأن التبرُّدَ حاصل وإن لم يَنْوِ فنيته لاغية؛ وصار كما لو كبر الإمام وقصد مع التحريم إعْلاَمَ القوم لا يضر، ولو اغتسل بنية رفع الجنابة والتبَرُّد فعلى هذين الوجهين. ولو كانَ يغتسل ضَحْوَةَ الجمعة، فنوى رفع الجنابة وغسل الجمعة، فهذا يُبْنَى على أنه لو اقتصر على نية رفع الجنابة، هل يتأدى به سُنَّةُ غسل الجمعة أم لا؟ فيه قولان: إن قلنا: لا، فقضيته أنه لا يصح الغسل أصلاً؛ كما لو نوى بصلاته الفرض والنفل جميعاً. لمان قلنا: يتأدّى به وهو الأصح فوجهان، كالوجهين في ضَمِّ نية التبرد إلى رفع الحدث، أصحهما: أنه لا يضر، كما لو صلى الفرض عند دخول المسجد، ونوى التحِيَّةَ أيضاً لا يضرُّ، لأن التحية تحصل، وإن يَنْوِها ولا فرق في جَرَيَان الوجهين -في مسألة التبرُّد- بين أن يضم قصد التبرد إلى النية المعتبرة في الابتداء، وبين أن يحدثها في الأثناء وهو ذاكر للنية المعتبرة، أما إذا كان غافلاً عنها لم يصح ما أتى به بعد ذلك في أصح الوجهين، وقد قدمنا هذا. هذا شرح مسائل الفصل على الاختصار، ونعود إلى ما يتعلق بخصوص الكتاب. قوله: "وكيفيته أن ينوي رفع الحدث"، يجوز أن يعلم رفع الحدث بالواو، إشَارَةً إِلَى الوَجْهِ الذي ذكرنا، في حق الماسح على الخُفِّ، فإن ذلك القائل لا يصحح الوضوء بنية رفع الحدث على الإطلاق؛ بل في حق غَيْرِ المَاسِحِ. وقوله: "أو استباحة الصَّلاَة" ينبغي أن يعلم أيضاً بالواو، للوجه الذي رويناه. وقوله: "أو أداء فرض الوضوء" ليس ذكر الفرضية على سبيل الاعتبار والاشتراط كما سبق، وقد أوضح ذلك في "الوسيط". فقال: ينوي أداء الوضوء أو فريضة الوضوء. وقوله: "ولو نوى رفع بعض الحدث دون البعض"، يشمل ما إذا لم يتعرض للباقي أصلاً، وما إذا نفى رفع الباقي والخلاف جارٍ في الحالتين على أظهر الطريقين كما سبق -فهو مجرى على إطلاقه، لكن قوله: "وإن نوى استباحة صلاة بعينها"- المراد منه: ما إذا عَيِّنَهَا؛ ونفى غيرها، لأنه لا خلاف فيما إذا لم يتعرض لما سواها. وقوله: في مسألة الشك "للتردُّدِ في النيّة" إشارة إلى المعنى الثاني، لوجه عدم الإجزاء، لكن المناسب لا يراد المسألة
مقرونة بما إذا نوى بوضوئه الأفعال المستحبة المعنى الأول. وقوله: "كذا لو نوى غسل الجنابة والجمعة حصلا"، يجوز أن يريد به العطف على الأظهر في مسألة التبرد، بناء على أنه يحصل غسل الجمعة وإن اقتصر على رفع الجنابة، وعلى هذا فاللفظ يشعر بالخلاف في المسألة ولا حاجة إلى إعلامه بالواو، ويجوز أن يحمل على الابتداء، وعلى هذا يحتاج إلى العلامة بالواو، وعلى التقديرين وهو مُعْلَّمٌ بالميم، لأن صاحب "البيان" حَكَى عن مالك أنه لا يجزئه الغسل الواحد عنهما. قال الغزالي: وَالمُسْتَحَاضَةُ لاَ يَكْفِيهَا نِيَّة رَفْعِ الحَدَثِ بَلْ تَنْوي اسْتِبَاحَةَ الصَّلاَةِ وَرَفْعَ الحَدَثِ وَلَو اقْتَصَرَتْ عَلَى نِيَّةِ الاسْتِبَاحَةِ جَازَ عَلَى الأَصَحِّ. قال الرافعي: تكلمنا في كَيْفِيَّةِ النية في وضوء الرَّفَاهِية، أما النوع الثاني في وضوء الضرورة وهو وضوء من به حَدَثَّ دائم، كَالمُسْتَحَاضَةِ، وَسَلَسِ البول ونحوهما. فنقول: لو اقتصرت المُسْتَحَاضَةُ على نية رفع الحدث، فهل يصح وضوءها؟ فيه وجهان: أصحهما: وهو المذكور في الكتاب، أنه لا يصح؛ لأن حدثها لا يرتفع بالوضوء، وكيف يرتفع؟ ومنه ما يقارن وضوءها ويتأخر عنه. والثاني: يصح؛ لأن رفع الحدث يتضمن استباحة الصلاة، فقصد رفع الحدث يؤثر بمتضمنه وإن لم يؤثر بخصوصه، ولو اقتصرت على نية الاستباحة فوجهان: أصحهما: أنه يصح وضوءها، كما يصح التيمُّم بهذه النية. والثاني: لا يصح يُحْكَى ذلك عن أبي بكر الفارسيِّ، والخضريِّ؛ لأن لها أحداثاً سابقة وأخرى لاحقة، فتنوي الرفع لما تقدم، والاستباحة لما تأخر، وإن جمعت بينهما، فهو الغاية، لم لو نوت استباحة فريضة واحدة لا غير جاز بلا خلاف، بخلاف ما إذا فعل ذلك صاحب طهارة الرفاهية، لأن طهارتها لا تفيد إلا فريضة واحدة. ولو نوت استباحة نافلة بعينها، عاد ذلك الخلاف، ثم النَّظر في كون المُسْتَبَاح فرضاً أو نفلاً أو مطلق الصلاة، وفيما يباح لها إذا نوت النفل، كما سيأتي في التيمُّم. قال الغزالي: وَلَوْ أَغْفَلَ لُمْعَةً فِي الأولَى فَانْغَسَلَتْ فِي الكَرَّةِ الثَّانِيَةِ عَلَى قَصْدِ التَّنَفُّلِ فَفِي ارْتفَاعِ الحَدَثِ وَجْهَانِ، وَلَوْ فَرَّقَ النِّيَّةَ عَلَى أَعْضَاءِ الوُضُوءِ لَمْ يَجُزْ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ. قال الرافعي: في الفصل مسألتان: إحداهما: لو كان يتوضأ ثلاثاً كما هو السُّنَّة وترك لُمْعَة في المرة الأولى غافلاً،
وانغسلت في الغسلة الثانية أو الثالثة، وهو يقصد التنفل بهما، فهل يعتد بغسل تلك اللُّمْعَة أم يحتاج إلى إعادته؟ فيه وجهان مخرجان على أصلين سبق ذكرهما. أحدهما: أنه إذا لم تبق نيته الأولى، وحدثت نِيَّةٌ أخرى؛ كما إذا عزبت نية رفع الحدث، وقصد التبرد أو التنطف، فقد حكينا فيه وجهين، وهاهنا كذلك لأنه لم يبق له في المرة الثانية والثالثة نية رفع الحدث ضرورة اعتقاده ارتفاع الحدث بالمرة الأولى. والثاني: أن تلك اللّمْعَة ما صارت مغسولة بنية رفع الحدث، وما في معناه؛ بل على قصد التنفل، فيكون كما لو نوى بوضوئه ما يستحب له الطهارة (¬1) ولو أغفل لمعة في وضوئه، وانغسلت في تجديد الوضوء بعد ذلك، فعلى هذين الوجهين، لكن الأصح الاعتداد بالمُنْغَسِلِ في المرة الثانية والثالثة، وعدم الاعتداد بالمنغسل في التجديد، والفرق أن الغسلات في المرات الثلاث طهارة واحدة، وقضية نية الأولى أن تحصل الغسلة الثانية بعد الأولى، مما لم ينغسل عن الأولى لا يقع عن الثانية، وتوهمه الغسل عن الثانية لا يمنع الوقوع عن الأولى، كما لو ترك سجدة من الأولى ناسياً وسجد في الثانية تتم بها الأولى، وإن كان تَوَهَّمَ خلاف ذلك، وأما التجديد فهو طهارة مستقلة منفردة بنية لم تتوجه إلى رفع الحدث أصلاً. المسألة الثانية: إذا فرَّق النية على أعضاء الوضوء، فنوى عند غسل الوجه رفع الحدث عنه، وعند غسل اليدين رفع الحدث عنهما، وهكذا، ففي صحة وضوئه وجهان: أظهرهما: عند صاحب الكتاب المنع؛ لأن الوضوء عِبَادَةٌ واحدة، فلا يجوز تفريق النية على أبعاضها كالصوم، والصلاة. والثاني: وهو الأصح عند المعظم، أنه يصح؛ لأنه يجوز تفريق أفعاله على الصحيح ولا يشترط فيه الموالاة وإن كان عبادة واحدة، فكذلك يجوز تفريق النية على أفعاله بخلاف الصلاة وغيرها لا يجوز التفريق في أبعاضها، ثم من الأصحاب من يبني تفريق النية على تفريق الأفعال إن جوزتا تفريق الأفعال جوزنا تفريق النية وإلا فلا، ومنهم من رَتَّبَ، فيقول: إن لم يَجُزِ التفريق في الأفعال ففي النية أولى، وإن جوزنا ذلك ففي هذا وجهان. والفرق أنه وإن فرق أفعاله، فهو عبادة واحدة يرتبط بعضها ببعض، ألا ترى أنه لو أراد مَسَّ المصحف بوجهه المغسول قبل غسل باقي الأعضاء لا يجوز، وإذا كان كذلك ¬
فليشملها نية واحدة، بخلاف الأفعال فإنها لا تَتَأَتَّى إلا متفرقة، ثم الخلاف في مطلق تفريق النية أم فيما إذا نوى رفع الحدث عن العضو المغسول، ونفى غسل سائر الأعضاء دون ما إذا اقتصر على رفع الحدث عنه، والمشهور الأول، وحكى عن بعض الأصحاب الثاني، وإذا قلنا في المسألة الأولى: إنه لا يُعْتَدُّ بغسل اللّمْعَة في الكَرَّةِ الثانية والثالثة، فهل يبطل ما مضى من طهارته، أم يجوز البناء؟ فيه وجها تفريق النية: إن قلنا: لا يجوز التفريق يمتنع البناء؛ لأنه محتاج عند البناء إلى تجديد النية للباقي، وإن قلنا: يجوز البناء ويبقى النظر في طول الفصل وعدمه، فإن اعتبرنا الموالاة لم يُحْتَمَلْ طول الفصل. قال الغزالي: الفَرْضُ الثَّانِي: اسْتِيعَابُ غَسْلِ الوَجهِ مِنْ مُبْتَدَا تسْطِيحِ الجَبْهَةِ إلَى مُنْتَهَى الذّقنِ وَمِنَ الأُذُنِ إِلَى الأُذُنِ وَاجِبٌ، وَلاَ تَدْخُلُ النَّزَعَتَانِ وَلاَ مَوْضِعُ الصَّلَعِ فِي التحْدِيدِ، وَمَوْضِعُ التَّحْذِيفِ (3) مِنَ الوَجهِ عَلَى الأظْهَرِ، وَالغَمَمُ إِن اسْتَوْعَبَ جَمِيعَ الجَبْهَةِ وَجَبَ إِيصَالُ المَاءِ إِلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَوْعِبْ فَوَجْهَان. قال الرافعي: غسل الوجه أول الأركان الظاهرة في الوضوء، قال الله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬1)، وَحَدُّ الوجه على ما اختاره صاحب الكتاب من مُبْتَدَا تَسْطِيحِ الجبهة إلى منتهى الذَّقْنِ في الطول، ومن الأُذُن إلى الأُذُن في العرض، ومعنى ذلك: أن ميل الرأس إلى التَّدْوِيرِ، ومن أول الجَبْهَةِ يأخذ الموضع في التَّسْطِيح، وتقع به المُحَاذَاةُ والمواجهة، فَحَدُّ الوجه في الطول من حيث يبتدئ التسطيح، وما فوق ذلك من الرأس. وإذا عرفت ذلك فمما يخرج عن الحد النَّزَعَتَانِ، وهما البَيَاضَانِ المُكْتَنِفَانِ للنَّاصِيَةِ أعلى الجَبِيْنَينِ، لأنهما في سَمْتِ الناصية، وهما جميعاً في حدِّ التَّدْوِيرِ، ومما يخرج عنه موضع الصَّلَعِ، لأنه فوق ابتداء التسطيح، ولا عبرة بانحسار الشعر عنه، نظراً إلى الأعَمِّ الأغلب، ومما يخرج عنه موضعا الصُّدْغَيْن، وهما في جانبي الأذن يتصلان بِالعِذَارَيْنِ من فوق؛ لأنهما خارجان عما بين الأذنين (¬2) لكونهما فوق الأذنين، وحكى في الصُّدْغَيْنِ وجه: أنهما من الوجه، ومما يدخل في الحَدِّ موضع الغَمَم (¬3)؛ لأنه في تسطيح الجَبهَةِ، ولا عِبْرَةَ بنبات الشعر على خلاف الغالب، كما لا عبرةَ بانحساره عن موضع الصَّلَعِ على خلاف الغالب، هذا إذا استوعب الغَمَمُ جميع الجَبْهَةِ، وإلا فوجهان: أصحهما: أن الأمر لا يختلف، وهو من الوجه لما ذكرنا. ¬
والثاني: أنه من الرأس؛ لأنه على هيئته، والباقي المكشوف هو من الجبهة، بخلاف ما إذا أخذ الغمم جميع الجبهة، فإن العادة لم تَجْرِ بأن لا يكون للإنسان جبهة أصلاً، وربما وجه أحد هذين الوجهين، أنه مقبل في صَفْحَةِ الوجه. والثاني بأنه في تدوير الرأس، ومعناه أن الأَغَمَّ ينتأُ من أوائل جبهته شيء، ولا ينقطع شكل تدوير رأسه حيث ينقطع من غيره، فذلك الموضع متصل بتدوير الرأس، لكنه مقبل في صفحة الوجه. وأما موضع التَّحْذِيفِ؛ وهو الذي ينبت عليه الشعر الخفيف بين ابتداء العِذَارِ والنَّزَعَةِ، وربما يقال: بين الصُّدْغِ والنَزَعَة؛ والمعنى لا يختلف لأن الصدغ والعذار متلاصقان، وهل هو من الوجه، أو الرأس؟ فيه وجهان. قال ابن سريج وغيره: هو من الوجه لمحاذاته بَيَاضُ الوجه، ولذلك تعتاد النساء والأشراف إزالة الشعر عنه ولهذا سمى موضع التًحْذِيفِ. وقال أبو إسحاق وغيره: هو من الرأس لنبات الشعر عليه متصلاًّ بسائر شعر الرأس، والأول: هو الأظهر عند المصنف، والذي عليه الأكثرون. الثاني وهو الذي يوافق نص الشافعي -رضي الله عنه- في حَدِّ الوجه، وحاول إمام الحرمين تقدير موضع التحذيف، فقال: إذا وضع طرف خيط على رأس الأذن، والطرف الثاني على زاوية الجبين فما يقع منه في جانب الوجه فهو من الوجه، ولك أن تقول بتوجيه من يجعله من الوجه لا يقتضي التقدير بهذا المقدار، فإن من يحذف قد يحذف أكثر من ذلك، أو أقل، ولا يراعى هذا الضبط فلا بد للتقدير من دليل. وأما لفظ الكتاب فقوله: "استيعاب غسل الوجه". كان الأحسن أن يقول: استيعاب الوجه بالغسل. وقوله: "من مبتدأ تَسْطِيحِ الجبهة" إلى آخره، تحديد للوجه، وكلمتا "من" و"إلى" إذا دخلتا في مثل هذا الكلام قَدْ يُرَادُ بهما دخول ما وردتا عليه في الحَدِّ، وقد يُرَادُ خروجه. نظير الأول: حضر القوم من فلان إلى فلان. ونظير الثاني: من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة كذا ذراعاً، وهما في قوله: "من مبتدأ تَسْطِيحِ الجبهة إلى منتهى الذَّقْنِ مستعملتان بالمعنى الأول، إذ لا يراد بمتبدأ التسطيح إلا أوله، وبمنتهى الذقن إلا آخره، ومعلوم أنهما داخلان في الوجه، وفي قوله: من الأذن إلى الأذن مستعملتان بالمعنى الثاني، لأن الأذنين خارجتان من الوجه. واعلم قوله: "من الأذن إلى الأذن" بالميم؛ لأن مالكاً يعتبر من العِذَارِ إلى العِذَارِ، ويخرج البَيَاضَ الذي بين العذار والأذن عن حد الوجه، فإن قيل: يدخل في
هذا الحد ما ليس من الوجه ويخرج منه ما هو من الوجه أما الأول فلأنه يدخل فيه داخل الفم، والأنف فإنه بين تسطيح الجبهة ومنتهى الذقن، وليس من الوجه، وأما الثاني؛ فلأنه تخرج عنه اللِّحيَةُ المُسْتَرسَلَةُ وهي من الوجه، لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلاً غطى لحيته، وهو في الصلاة فقال: "اكْشِفْ لِحْيَتَكَ، فَإِنَّهَا مِنَ الوَجهِ" (¬1). قلنا: أما الأول فَلِلْكَلاَم تأويل. المعنى ظاهر ما بين تَسْطِيحِ الجبهة ومنتهى الذَّقْنِ؛ ولهذا لو بطن جزء بالالتحام وظهر جزء خرج الظاهر عن أن يكون من الوجه وصار الباطن من الوجه نقيم الشَّعْرَ مقام البَشْرَةِ من صاحب اللحية الكَثَّةِ، وأما الثاني فتسمية اللِّحْيَة وجهاً على سبيل التبعية والمجاز؛ لأمرين: أحدهما: أنه لولا ذلك لكانت وجوه المُرْدِ وَالنِّسْوَانِ ناقصة، ولصح أن يقال: لمن حلقت لحيته: قطع بعض وجهه، معلوم أنه ليس كذلك. والثاني: أنَّه يصح قول القائل اللِّحْية من الشعور النابتة على الوجه وفي المسترسلة: أنها نازلة عن حَدِّ الوجه، وذلك يدل على ما ذكرنا. قال الغزالي: وَيجِبُ إِيصَالُ المَاءِ إِلَى مَنَابِتِ الشُّعْورِ الخَفِيفَةِ غَالِبًا كَالحَاجِبَيْنِ وَالأهْدَابِ وَالشَّارِبَيْنِ وَالعِذَارَينِ، فَأَمَّا شَعْرُ الذَّقَنِ فَإِنْ كَثُفَ بِحَيْثُ لاَ تَتَراءَى البَشَرَةُ لِلنَّاظِرِ لَمْ يَجِب إِيصَالُ المَاءِ إِلَى مَنَابِتِهَا إلاَّ المَرأَةَ فَإِنْ لِحْيَتَهَا نَادِرَةٌ، وَفِي العَنْفَقَةِ وَجْهَانِ لأَنَّ كَثَافَتَهَا قَد تُعَدُّ نَادِراً، وَيَجِبُ إِفَاضَةُ المَاءِ عَلَى ظَاهِرِ اللِّحْيَةِ الخَارِجَةِ عَنْ حَدِّ الوَجْهِ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ. قال الرافعي: لما تكلم في حدِّ الوجه عاد إلى الشعور النابتة عليه، وهي: قسمان حاصلة في حَدِّ الوجه، وخارجة عنه. والقسم الأول على ضربين: أحدهما: ما يندر فيه الكثافة كَالحَاجِبَيْنِ وَالأهْدَابِ، وَالشَّارِبَيْنِ وَالعِذَارَيْنِ. والعِذَارُ: هو القدر المُحَاذِي لِلأُذُنِ يتصل من الأعلى بالصدغ ومن الأسفل بِالعَارِضِ، فهذه الشُّعُورُ يَجِبُ غَسْلُهَا ظاهراً وباطناً، كَالسَّلْعَةِ (¬2) النابتة على محل الفرض، ويجب غَسْلُ البَشَرَةِ تحتها؛ لأنها من الوجه ولا عِبْرَةَ بَحَيْلُولَةِ الشعر لأمرين: أظهرهما: أن الغالب في هذه الشعور الخفة، فيسهل إيصال الماء إلى مَنَابِتِهَا فإن ¬
فرضت فيها الكَثَافَةُ على سبيل النُّدْرَةِ، فالنادر ملحق بالغالب. والثاني: أن بَيَاض الوجه محيط بها إما من جميع الجوانب (¬1) كالحاجبين والأَهْدَاب، أو من جانبين كالعذارين والشاربين، فيجعل موضعها تبعاً لما يُحِيطُ به، ويعطى حَكمه، وفي كلام بعض الأئمة حكاية وجه أنها: إذا كثفت لا يجب غسل مَنَابِتِهَا كاللِّحْيَة، فلك أن تعلم قوله: "ويجب إيصال الماء إلى منابت الشعور الخفيفة غالباً" [بالواو] (¬2) إشارة إلى هذا الوجه، واقتصاره على ذكر المنابت ليس لأن الشعور لا تغسل؛ بل إذا وجب غسل المنابت وجب غسل الشعور بطريق الأولى، ففي ذكر المَنَابِتِ تنبيه عليها. والضرب الثاني: ما لا يندر فيه الكثافة وهو شعر الذقن والعَارِضَيْنِ، والعَارِضُ ما ينحطُّ عن القدر المحاذي للأذن، فينظر فيه إن كان خفيفاً وجب غسله مع البشرة تحته كالشعور الخفيفة غالباً، وإن كان كثيفاً وجب غسل ظاهره، ولم يجب غسل البشرة تحته. لما روى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "تَوَضَّأَ فَغَرَفَ غَرْفَةً غَسَلَ بِهَا وَجهَهُ، وَكَانَ -صلى الله عليه وسلم- كَثَّ اللِّحْيَةِ" (¬3) ولا يبلغ ماء الغرفة الواحدة أصول الشعر مع الكثافة، والمعنى فيه: عسر إيصال الماء إلى المَنَابتِ مع الكثافة غير النادرة، وحكى فيه قول قديم: أنه يجب غسل البشرة تحته؛ لأنها الوجه وهذا شعر نابت عليه ومنهم من يحكيه وجهاً وهو قول المزني -رحمه الله-. وليكن قوله: "لم يجب إيصال الماء إلى منابتها"، معلماً بالزاي والواو لهذا الخلاف والمذهب الأول. ويستثنى عن اللِّحْيَة الكثيفة ما إذا خرجت للمرأة لحية كثيفة، فيجب إيصال الماء إلى منابتها؛ لأن أصل اللحية لها نادر فكيف بصفة الكثافة، وكذلك لحية الخُنْثَى المشكل إذا لم يكن نبات اللحية مزيلاً للإشكال، وفيه خلاف يأتي ذكره فإذا اللحية في حقها من الضرب الأول، وعَنْفَقةُ الرجل من الضرب الأول، أو من الضرب الثاني؟ فيه وجهان مبنيان على المعنيين المذكورين في الحَاجِبَيْن ونحوهما، إن عللنا بالمعنى الأول وهو ندرة الكثافة في تلك الشعور، فَالعَنْفَقَةُ مُلحَقَةٌ بها. وإن عللنا بإحاطة البَيَاضِ فلا، بل هي كاللحية، والمعنى الأول أظهر، لأنهم حكوا عن نص الشافعي -رضي الله عنه- التعليل بأن هذه الشعور لا تستر ما تحتها غالباً، ويدل عليه لحية المرأة والله أعلم. ثم هاهنا سؤالان: أحدهما: ما الفرق بين الخَفِيْفِ وَالكَثِيْفِ؟ والجواب عبارة أكثر الأصحاب أن ¬
الخفيف ما تترآى: البشرة من خلاله في مجلس التَّخَاطُب، والكثيف ما يستر ويمنع الرؤية، وهذا ما شعر به لفظ الشافعي -رضي الله عنه- وهو الذي حكاه المصنف، وقال بعض الأصحاب الخفيف ما يصل الماء إلى منبته من غير مبالغة واستقصاء والكثيف ما يفتقر إليه، ورأيت الشيخ أبا محمد، والمسعودي (¬1) وطبقة المحققين يقربون كل واحدة من العبارتين من الأخرى (¬2)، ويقولون: إنهما يرجعان إلى معنى واحد لكن بينهما تفاوت مع التقارب الذي ذكروه، لأن لهيئة النبات وكيفية الشعر في السُّبُوطَةِ وَالجُعُودَةِ تأثيراً في السَتْرِ وفي وصول الماء إلى المَنْبَتِ، وقد يؤثر شعره في أحد الأمرين دون الآخر، وإذا ظهر الاختلاف ذلك أن ترجح العبارة الثانية وتقول: الشارب معدود من الشعور الخفيفة، وليس كونه مانعًا من رؤية البشرة تحته بأمر نادر. الثاني: لو كان بعضه خفيفاً وبعضه كثيفاَ ما حكمه؟ الجواب فيه وجهان: أصحهما: أن للخفيف حكم الخفيف وللكثيف حكم الكثيف توفيراً لمقتضى كل واحد منهما عليه. والثاني: للكل حكم الخفيف وهو الذي ذكره في التهذيب، وعلله بأن كثافة البعض مع خفة البعض نادر فصار كشعر الذِّرَاعِ إذا كثف، ولك أن تمنع ما ذكره وتدعي أن الكثافة في البعض والخفة في البعض أغلب من كثافة الكل، وهذه المسألة يحتاج الناظر في الكتاب إلى معرفتها، لأنه قال: "أما شعر الذَّقْنِ فإن كثف" إلى آخره فظاهره يتناول ما إذا كثفت اللحية كلها ولم يبين حكم ما إذا لم تكثف كلها، ويفرض ذلك على وجهين: أحدهما: أن تخف كلها ولا يخفى حكمه. والثاني: أن يخف البعض ويكثف البعض، وهو هذه المسألة. هذا كله في الشعور الحاصلة في حد الوجه. القسم الثاني: الخارجة عن حد الوجه ففيما خرج عن حد الوجه من اللحية طولاً وعرضاً قولان: أحدهما: لا يجب غسله، وبه قال أبو حنيفة والمُزَنِيُّ، لأن الشعر النازل عن حد الرأس لا يثبت له حكم الرأس حتى لا يجوز المَسْحُ عليه، فكذلك الشعر النازل عن حد الوجه لا يثبت له حكم الوجه. ¬
وأصحهما: يجب، لأنه من الوجه بحكم التَّبَعِيَّةِ لما سبق من الخَبَرِ؛ ولأن الوجه ما تقع به المُخَاطَبَةُ والمواجهة، ولأن متدلٍّ من محل الفرض فأشبه الجِلْدَةَ المتدلية، وهذا الخلاف يجري أيضاً في الخارج عن حد الوجه من الشعور الخفيفة كالعِذَارِ والسِّبَالِ إذا طال ولا فرق، وذكر بعضهم في السِّبَالِ: أنه يجب غسله قولاً واحداً والظاهر الأول فإن قلت: قد عرفت المسألة فلماذا اشتهرت بالإفاضة؟ فالناقلون يقولون: تجب الإفَاضَةُ في قول ولا تجب في قول، وكذلك ذكر المصنف ولم يتكلموا في الغسل، فاعلم أن لفظ الإفاضة في اصْطِلاحِ الأئمة المتقدمين إذا استعمل في الشعر لإمرار الماء على الظاهر، ولفظ الغسل للإمرار على الظاهر مع الإِدْخَالِ في الباطن، ولذلك اعترضوا على أبي عبد الله الزبيري (¬1) -رضي الله عنه- لما قال في هذه المسألة: يجب الغسل في قولِ، والإفاضة في قولٍ، وقالوا: الغسل غير واجب قولاً واحداً وإنما الخلاف في الإفاضة، وإذا تبين ذلك فقصدهم بهذه اللَّفظة بيان أن داخل المسترسل لا يجب غسله قولاً واحداً كالشعور النَّابِتَةِ تحت الذَّقْنِ، لكن المصنف تعرض لظاهر اللحية في لفظه، والإفاضة على هذا الاصطلاح مغنية عن التقييد بالظاهر، ثم مع هذا كله فقد حُكِيَ وَجْهٌ: إنه يجب غسل الوجه الباطن من الطَّبَقَةِ العُلْيَا من المسترسل، إذا أوجبنا غسل الوجه البَادِي منه وهو بعيد عند علماء المذهب (¬2). قال الغزالي: الفَرْضُ الثَّالِثُ: غَسْلُ اليَدَيْنِ مَعَ المِرْفَقَينِ فَلَوْ قُطِعَ يَدُهُ مِنَ السَّاعِدِ غُسِلَ البَاقي، وَإِنْ قُطِعَ مِنَ العَضُدِ اسْتُحِبَّ غَسْلُ البَاقي لِتَطْوِيلِ الغُرَّةِ، وَاِنْ كَانَ مِنَ المَفْصِلِ يَجِبُ غَسْلُ رَأْسِ العَظْمِ البَاقِي عَلَى أَصَحِّ القَوْلَيْنِ لأَنَّهُ مِنَ المِرْفَقِ، وَلَوْ نَبَتَتْ يَدٌ زَائِدَةٌ مِنْ سَاعِدِهِ وَجَبَ غَسْلُهَا، وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزِ الزَّائِدُ عَنِ الأَصْلِيِّ وَجَبَ غَسْلُهُمَا، وَإِنْ خَرَجَتْ مِنَ العَضُدِ لاَ تُغْسَلُ إلاَّ إذَا حَاذَتْ مَحَلَّ الفَرْضِ فَيُغْسَلُ القَدْرُ المحَاذِي هَذَا نَصُّهُ. ¬
قال الرافعي: قال الله تعالى: {وَأَيْدِيَكَمْ إلَى الْمَرَافِقِ} (¬1) وكلمة إلى قد تستعمل بمعنى مع كقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (¬2)، وقوله عز اسمه: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} (¬3)، وهو المراد هاهنا، لما روى "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم-: كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَمَرَّ الْمَاءَ عَلَى مِرْفَقَيهِ" (¬4). وروى: "أنَّهُ أمرَّ الْمَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ ثمَّ قَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لاَ يَقْبَلُ اللهُ الصَّلاةَ إلاَّ بِهِ". ثم اليد إن كانت واحدة من كل جانب على ما هو الغالب، وكانت كاملة فذاك، وإن قطع بعضها فله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون القطع مما تحت المِرْفَقِ كَالكُوع وَالذِّرَاع فغسل الباقي واجب فالمَيسُور لا يسقط بالمَعسُور. والثانية: لا يكون مما فوق المِرْفق، فلا فرض لسقوط محله ولكن الباقي من العَضُدِ يستحب غسله لتطويل الغِرَّةِ؛ كما لو كان سليم اليد يستحب له غسل ذلك الموضع لهذا المعنى. فإن قيل: غسل ذلك الموضع مستحب تبعاً، فإذا سقط المتبوع فهلا سقط التابع كمن فاتته صلوات في أيام الجُنُونِ لما سقط قضاء الأصل سقط قضاء الرَّوَاتِبِ التي هي اتباع. قلنا: سقوط القضاء ثم مسامحة ورخصة، وإلا فهو ممكن والتبع أَولى بالمسامحة، وسقوط الأصل هاهنا ليس على سبيل الترخُّص؛ بل هو متعذر في نفسه فحسن الإتيان بالتبع محافظة على العبادة بقدر الإمكان، كالمحرم إذا لم يكن على رأسه شعر يستحب له إمرار المُوسى على الرأس وقت الحَلْقِ. فإن قيل: تطويل الغُرَّةِ إنما يفرض في الوجه، والذي في اليد تطويل التَّحْجِيلِ فكيف قال: يغسل الباقي لتطويل الغُرَّةِ، قلنا: تطويل الغرة والتحجيل نوع واحد من السنن، فيجوز أن يكون قوله: "التطويل الغرة" إشارة إلى النوع على أن أكثرهم لا يفرق بينهما، ويطلق تطويل الغرة في اليد، ورأيت بعضهم احتج عليه بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ" (¬5) قال: وإنما يمكن الإطَالَةُ في اليد, لأن استيعاب الوجه بالغسل واجب وليس هذا الاحتجاج بشيء, لأن لِلْمُعْتَرِض أن يقول: الإطالة في الوجه أن يغسل إلى الليث وَصَفْحة العُنُق، وهو مستحب نص عليه الأئمة. والثالثة: أن يكون القطع من مِفْصَل المرفق، فهل يجب غسل رأس العظم الباقي؟ فيه طريقان: أحدهما: القطع بالوجوب؛ لأنه من محل الرفض وقد بقي فأشبه الساعد إذا كان القطع من الكُوعِ. ¬
والثاني: وهو الذي ذكره في الكتاب فيه قولان: القديم: ومنقول المزني أنه لا يجب، والأصح: وهو منقول الربيع. أنه يجب، واختلفوا في مأخذ القولين، منهم من قال: مأخذهما أن المرفق في اليَدِ السَّلِيمَةِ يغسل تبعاً أم مقصوداً. فمن قائل تبعاً وضرورة لاستيعاب غسل اليدين إلى المرافق كما يغسل شيء من الرأس تبعاً، وضرورة لاستيعاب الوجه بالغسل. ومن قائل يغسل مقصوداً كسائر أجزاء محل الفرض وكأطراف الوجه، بالإضافة إلى وسط ومنهم من قال: بل مأخذهما الخلاف في حقيقة المرفق. فمن قائل المرفق عبارة عن: طرف عظم السَّاعِدِ ولم يَبْقَ، ومن قائل المرفق: مجموع العظمين وقد بقي أحدهما فيغسل، وهذا ما أشار إليه بقوله لأنه من المرفق هذا كله في اليد الواحدة. أما إذا خلقت لشخصٍ واحدٍ من جانب واحد يَدَانِ، فلا يَخْلُو إما أن تتميز الزائدة منهما عن الأصلية أو تشتبه (¬1) الحال، فإن تميزت الزائدة عن الأصلية نظر إن خرجت الزائدة [من محل الفرض كالسَّاعِدِ والمرفق، وجب غسلها، مع الأصلية كالأُصْبُعِ الزائدة] (¬2)، والسَّلعة النابتة، ولا فرق بين أن يجاوز طولها الأصلية أو لا يجاوز، وإن خرجت مما فوق محل الفرض فإن لم تبلغ إلى مُحَاذَاةِ محل الفرض لم يجب غسل شيء منها، وإن بلغت إلى محاذاة محل الفرض فالمنقول عن نصه في "الأم": أنه يجب غسل القدر المُحَاذِي دون ما فوقه، لوقوع اسم اليد عليها، وحصول ذلك القدر في محل الفرض، بخلاف الجِلْدَة المنكشطة من العَضُدِ لا يغسل منها لا المحاذي ولا غيره؛ لأن اسم اليد لا يقع عليها، وفيه وجه صار إليه كثير من المعتبرين وقرروه: إنه لا يجب غسل المحاذي ولا غيره؛ لأن هذه الزائدة ليست على محل الفرض، فتجعل تبعاً ولا هي أصلية حتى تكون مقصودة بالخطاب، وحملوا نصه في الأم على ما إذا التصق شيء منها بمحل الفرض، أما إذا لم تتميز الزائدة عن الأصلية، وجب غسلهما جميعاً سواء خرجتا من المنكب، أو من المِرْفق، أو الكُوع، لكن إذا خرجتا من المنكب يغسلان ضرروة أداء الواجب منهما، وإذا خرجتا من المرفق والكوع غسلتا حتماً، ومن الأمَارَاتِ المميزة للزائدة عن الأصلية أن تكون إحداها قصيرة فاحشة القصر، والأخرى في حد الاعتدال فالزائدة القصيرة، ومنها: نقصان الأصابع. ومنها: فقد البطَشْ وضعفه (¬3). ¬
قال الغزالي: الفَرْضُ الرَّابعُ: مَسْحُ الرَّأَسِ وَأَقَلُّهُ مَا يُسَمَّى (ح) مَسْحاً (م ز) وَلَوْ عَلَى شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ (و) بِشَرْطِ أَنْ لا يَخْرُجَ مَحَلُّ المَسْحِ عَنْ حَدِّ الرأس، وَلاَ يُسْتَحَبُّ الغَسْلُ، وَلاَ يُكرَهُ عَلَى الأَظْهَرِ وَفِي الإِبْلاَلِ دُونَ المُدِّ وَجْهَانِ. قال الرافعي: قال الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤوسِكُم} (¬1)، وليس من الواجب استيعاب الرأس بالمسح، بل الواجب ما ينطلق عليه الاسم، لأن من أمرَّ يده على هَامَةِ اليتيم صَحَّ أن يقال: مسح رأسه، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- "مَسَحَ فِي وُضُوئِهِ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى عِمَامَتِهِ" (¬2)، ولم يستوعب. وقال مالك: يجب الاستيعاب، وهو اختيار المُزَنِيُّ وإحدى الروايتين عن أحمد والثانية: إنه يجب مسح أكثر الرأس. وقال أبو حنيفة: يتقدر بالربع، ثم إن كان يمسح على بَشْرَةِ الرأس فذاك، ولا يضر كونها تحت الشعر. وقال الروياني: في التجربة لا يجوز لانتقال الفرض إلى الشعر، وإن كان يمسح على الشَّعْرِ، فكذلك يجوز، وإن اقتصر على مسح شعرة واحدة أو بعضها، ولا تقدير. وعن ابن القاص: إنه لا أقل من ثلاث شعرات كما يعتبر إزالتها في التحلُّلِ عن النسك، وفي إيجاب الدَّم على المحرِم، وهل يختص هذا الوجه بما إذا كان يمسح على الشعر أم يجري في مسح البشرة؟ ويشترط المسح على موضع ثلاث شعرات، في كلام النقلة ما يشعر بالاحتمالين جميعاً، والأول أظهر، ثم شرط الشعر الممسوح أن لا يخرج عن حَدِّ الرأس، فلو كان مسترسلاً خارجاً عن حده وكان جعداً كائناً في حَدِّ الرأس لكنه بحيث لو مدّ لخرج عن حده لم يَجُزِ المسح عليه؛ لأن الماسح عليه غير ماسح على الرأس، واعلم أن كل شعر مد في جهة النبات يكون خارجاً عن حد الرأس، وإن كان في غاية القِصَرِ، وكان المراد المد في جهة الرقبة والمَنْكِبَيْنِ وهي جهة النزول، ثم بعد حصول هذا الشرط هل يشترط أن لا يجاوز منبته؟ فيه وجهان: أحدهما: يشترط ذلك فلا يجوز المَسْحُ على ما جاور منبته وإن كان في حَدِّ الرأس فإنه كالغِطَاءِ لما تحته كالعِمَامة. ¬
وأصحهما: أنه لا يشترط لوقوع اسم الرأس عليه. ولو غسل الرأس بدلاً عن المسح، ففي إجزائه وجهان: أحدهما: لا يجزئه؛ لأنه مأمور بالمسح، والغسل ليس بمسح. وأصحهما: أنه يجزئه؛ لأن الغسل مسح وزيادة وهو أبلغ من المسح؛ فكان مجزئاً بطريق الأولى، وهذا قضية ما ذكره في الكتاب، لأنه نفى الاستحباب والكراهية عنه، وهو مشعر بالإجزاء، وهل يكره الغسل بدلاً عن المسح وإن أجزأ؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه سرف كغسل الخف بدلاً عن مسحه، وكالغسلة الرابعة. وأظهرهما: لا يكره؛ لأن الأصل هو الغسل إذ به تحصل النظافة والمسح تخفيف من الشرع نازل منزلة الرخص، فإذا عدل إلى الأصل لم يكن مكروهاً؛ لكن لا يستحب ذلك لما أشار إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- في باب الرخص بقوله: "إن اللهَ قَدْ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ فَاقبَلُوا صَدَقَتَهُ" (¬1). وقوله: "لا يستحب الغسل ولا يكره على الأظهر" ربما أوهم عَوْد الخلاف إليهما، وليس كذلك وإنما الخلاف في الكراهية وحدها، ولو بل رأسه ولم يعد اليد أو غيرها ما يمسح به على الموضع، فهل يجزئه ذلك؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم؛ لأن المقصود وصول الماء فلا ينظر إلى كيفية الإيصال كما في الغسل لا يفترق الحال بين أن يجري الماء على الأَعْضَاءِ أو يخوض ببدنه في الماء. والثاني: وهو اختيار القَفَّال: لا يجزئ؛ لأنه لا يسمى مسحاً، وهو مأمور بالمسح، ولو قطر على رأسه قطرة ولم تَجْرِ هي على الموضع، فعلى الخلاف فإن جرت كفى، وهذا يدل على أنَّ المقصود الوصول ولا عبرة باسم المسح هذا إن سلم أن الإمساس والوضع ليس بمسح (¬2). قال الغزالي: الفَرْضُ الخَامِسُ: غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مَعَ الكَعْبَيْنِ. قال الرافعي: قال الله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (¬3)، وحكم الرجل على ¬
انقسامها إلى الكاملة والناقصة كما سبق في اليد. والكَعْبَانِ: هما العَظْمَانِ النَّاتَئَانِ من الجانبين عند مفصل الساق والقدم، وروى القاضي ابن كج وغيره عن بعض الأصحاب: أن الكعب هو الذي فوق مُشْطِ القدم (¬1). وجه الأول: ما روى النُّعْمَان بْنُ بشير -رضي الله عنه- قال: "أَمَرنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِإِقَامَةِ الصُّفُوفِ، فَرَأَيتُ الرَّجُلَ يَلْزُقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ أَخِيهِ وَكَعْبَهُ بِكَعْبِهِ" (¬2). والذي يتصور فيه التزاق القائمين في الصفِّ ما ذكرنا دون ظهر القدم، وقد يمتحن فيسأل عن وضوء ليس فيه غسل الرجلين وصورته: ما إذا غسل الجنب جميع بدنه إلا رجليه، ثم أحدث والأصل في المسألة على الاختصار أن من اجتمع في حق الحدث أكبر والأصغر، هل يكفيه الغسل أم يحتاج معه إلى الوضوء؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يكفيه؛ لأن الطَّهَارَتَينِ عبادتان مختلفتان، فلا تتداخلان كالصَّلاتين، ولأنهما مختلفتا السبب والأثر والفعل، وهذه الاختلافات تمنع التداخل. وأصحهما: أنه يكفيه الغَسْل لظاهر الأخبار، نحو ما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَمَّا أَنَا فَأَحْثِي عَلَى رَأسِي ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ فَإِذَا أَنَا قَدْ طَهُرْتُ" (¬3). ولم يفصل بين الجنابة المجردة والجنابة مع الحدث، مع أن الغالب أن الجنابة لا تتجرد، فعلى الأول يجب الوضوء والغسل ولا ترتيب بينهما، وعلى الثاني وهو الأصح: هل من شرط الغسل ليكفي مراعاة الترتيب في أعضاء الوضوء، فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن الترتيب خاصية الوضوء، والتداخل إنما يجري فيما يشترك المتداخلان فيه من الأفعال دون خواصهما، فعلى هذا يكفي غسل البدن مرة واحدة، ولكن يشترط أن تكون أعضاء الوضوء مغسولة على الترتيب، وزاد بعضهم على هذا الوجه شرطاً آخر: وهو أن يمسح الرأس؛ لأنه من خاصية الوضوء أيضاً بناء على أن الغسل لا يقوم مقام المسح. والثاني: وهو الأصح، لا يشترط رعاية الترتيب لما أشرنا إليه من الظواهر، ولا ¬
يبعد أن يدخل الأصغر في أكبر فلا تبقى خاصيته، ألا ترى أن العُمْرَةَ تفوت بما يفوت به الحج إذا دخلت تحته بِالقرَانِ ولو انفردت لا تفوت. فقد بطلت خاصيتها حين ما دخلت في الأكبر، فعلى هذا هل يحتاج إلى أن ينويهما جميعاً بغسله أم يكفيه نية الأكبر؟ فيه وجهان: أحدهما: يحتاج إلى الجمع، كالحج والعمرة يتداخلان في الأفعال دون النِيَّة. وأصحهما: لا حاجة إليه؛ لأن الطهارات موضوعة على التداخل فعلاً ونية، ألا ترى أنه إذا اجتمعت الأحداث كفى فعل واحد ونية واحدة، هذا كله إذا اتفق وقوع الأكبر والأصغر معاً، أو سبق الأصغر أكبر. أما إذا سبق الاكبر الأصغر فطريقان: أطهرهما: طرد الخلاف. والثاني: الاكتفاء بالغسل بلا خلاف؛ لأن الأكبر إذا تقدم تأثر به جميع البدن، فلا يؤثر فيه الأصغر بعد ذلك، والأصغر إذا تقدم جاز أن يؤثر الأكبر فيه بعده لعظمه وزيادة آثاره. إذا عرفت هذا الأصل فنعود إلى الصورة المذكورة، ونقول: إن قلنا: يجب وضوء وغسل عند اجتماع حدثين، وجب غسل الرجلين عن الجنابة ووضوء كامل عن الحدث يقدم منهما ما شاء ويؤخر ما شاء، وتكون الرجل مغسولة مرتين، وإن قلنا: يكفي الغسل، ثم يشترط الترتيب في أعضاء الوضوء، وجب غسل الرجلين مؤخراً عن سائر أعضاء الوضوء، ويكون غسلهما واقعاً عن الجهتين: الجنابة والحدث جميعاً. وإن قلنا: يكفي الغسل من غير اشتراط الترتيب، فعلية غسل الرِّجْلَيْنِ عن جهة الجَنَابة، إما قبل سائر أعضاء الوضوء أو بعدها أو في خلالها، ويغسل سائر الأعضاء عن الحَدَثِ على الترتيب، وهذا هو الأصح واختيار ابن سريج وابن الحدَّاد (¬1)، وعلى هذا الوجه يكون المَأتِيُّ به وضوءاً خالياً عن غسل الرجلين؛ لأن الرجلين قد اجتمع فيهما الحَدَثَانِ ونحن على هذا الوجه نحكم باضْمِحلاَلِ الأصغر في جنب الأكبر، ¬
فليست الرجلان مغسولتين عن جهة الوضوء، فهذه هي صورة الامتحان، وَيَنْبَغِي أن يعلم أن هذا لا يختص بغسل الرجلين بل لو غسل الجنب من بدنه ما سوى الرأس والرجلين، ثم أحدث كان الكلام في الرأس والرّجلين على ما ذكرنا في الرجلين، ولزم أن نقول على الوجه الصحيح هذا وضوء خالٍ عن مسح الرأس والرجلين، وعلى هذا القياس لو غسل جميع بدنه سوى اليدين والرأس والرجلين (¬1) فلهذا لا نتيح المحصل بأمثال هذه الامتحانات. فائدة: عدوا غسل الرجلين أحد فروض الوضوء وأركانه لكن المتوضئ غير مكلف بغسل الرجلين بعينه، بل الذي يلزمه أحد أمرين إما غسل الرجلين أو المسح على الخفين بشرطه، فلو عبر معبر عن هذا الركن هكذا لكان مصيباً، والمراد عند الإطلاق ما إذا كان لا يمسح أو أن الأصل الغسل والمسح بدل. قال الغزالي: الفَرْضُ السَّادِسُ: التَّرتِيبُ (ح م ز) إِلاَّ إِذَا اغْتَسَلَ سَقَطَ التَّرتِيبُ فِي أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ فَإنَّه يُكْفِي لِلجَنَابَةِ فَلِلأَصْغْرِ أَوْلَى، وَالنِّسْيَانُ لَيْسَ بِعُذْرٍ فِي تَرْكِ التَّرْتِيبِ (ح) عَلَى الجَدِيدِ، وَإِذَا خَرَجَ مِنْهُ بَلَلٌ وَاحْتَمَلَ الجَنَابَةَ وَالحَدَثَ فإن شَاءَ اغْتَسَلَ وَلَمْ يَغْسِلِ الثَّوْبَ وَإِنْ شَاءَ تَوَضَّأَ وَضُوءاً مُرَتَّباً وَغَسَلَ الثَّوْبَ. قال الرافعي: روى أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَقْبَلُ اللهُ صَلاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الطُّهُورَ مَوَاضِعَهُ" (¬2)، فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ يُغْسِلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِرَأْسِهِ، ثم يغسل رجليه وهذا ونحوه ظاهر في اعتبار الترتيب، وخلاف أبي حنيفة، ومالك فيه مشهور وقد تكلم في هذا الركن في أمور: أحدها: لو اغتسل المحدث بدلاً عن الوضوء هل يجزئه ذلك: نظر إن أتى بالغسل بحيث يتأتى فيه تقدير الترتيب في لحظات متعاقبة كما إذا انغمس في الماء ومكث فيه زماناً، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجزئه, لأن الترتيب من واجبات الوضوء، والواجب لا يسقط بفعل ما ليس بواجب، وأصحهما: يجزئه لمعنيين: ¬
أحدهما: أن الغسل أكمل من الوضوء، فإنه يكفي لرفع أعلى الحدثين فللأصغر أولى، كيف والأصل هو الغسل وإنما حط تخفيفاً. والثاني: أن الترتيب حاصل في الحالة المفروضة، فإنه إذا لاقى الماء وجهه, وقد نوى يرتفع الحدث عن وجهه وبعده عن اليدين لدخول وقت غسلهما وهكذا إلى آخر الأعضاء، فعلى المعنى الأول وهو الذي ذكره في الكتاب إِيْثار الغسل على الوضوء يسقط الترتيب. وعلى الثاني: الترتيب حاصل والرافع للحدث هو الوضوء المندرج تحت الغسل، كما لو اغتسل مراعياً للترتيب في أعضاء الوضوء حقيقة يرتفع حدثه بلا خلاف، وإن يتأت فيه تقدير الترتيب بإن انغمس وخرج على الفور أو غسل الأسافل قبل الأعالي ففيه وجهان مبنيان على الوجهين في الحالة الأولى: إن قلنا: لا يجزئ ثَمَّ فهنا أولى، وإن قلنا: يجزئ فيبنى على المعنيين إن قلنا: الترتيب ساقط والرافع للحدث هو الغسل أجزأه هاهنا أيضاً، وإن قلنا: بالمعنى الثاني فلا والمعنى الثاني أصح، فلا جرم الأصح في هذه الحالة أنه لا يجزئه، ولا خلاف في الاعتداد بغسل الوجه في الحالتين جميعاً إذا قارنته النية، والكلام فيما عداه، ومنهم من قال: في الحالة الأولى يجزئه ما أتى به بلا خلاف، والخلاف في الحالة الثانية وهذا إذا نوى رفع الحدث، فإن نوى رفع الجَنَابَة إن قلنا: لا يجزئه إذا نوى رفع الحدث فهاهنا أولى، وإن قلنا: يجزئه فوجهان هاهنا: أحدهما: لا يجزئه لأنه إذا نوى رفع الجنابة نوى طهارة غير مرتبة. وأصحهما: الجواز، والنية لا تتعلق بخصوص الترتيب نفياً وإثباتاً، وهذا كله في المحدث المَحْضِ يغتسل. إما إذا أجنب وأحدث فالظاهر أنه يكفيه الغسل كما تقدم، والأصغر يتلاشى في جنب الأكبر وإذا عرفت ما ذكرناه، ونظرت في لفظ الكتاب، وجدته يعم الحالتين ما إذا اغتسل بحيث يَتَأَتَّى فيه تقدير الترتيب، وما إذا اغتسل بِحَيْثُ لا يتأتى فيه ذلك، فإن أرادهما جميعاً فالخلاف شامل، لكن الأظهر عند الجمهور أنه لا يجزئه الغسل في الحالة الثانية على خلاف ما ذكره. وإن أراد الحالة الأولى فالنقل والاختيار كما ذكره غيره. الثاني: لو ترك الترتيب عامداً لم يَجْزِهِ وضوءه لكن يعتدُّ بغسل الوجه وبما بعده على الانتظام فلو استعان بأربعة غسلوا أعضاءه دفعة واحدة لم يَجْزِهِ الوضوء، كما لو نكس لأن المَعِيَّةَ تنافي الترتيب أيضاً، وفيه وجه: أن الشرط عدم التَّنْكيس، ويجزئه الوضوء هاهنا، وان ترك الترتيب ناسياً فقولان: الجديد: أنه كما لو ترك عامداً كما لو ترك سائر الأركان ناسياً، وفي القديم قول: أنه يعذر بالنسيان، وذكر الأئمة أنه مخرج من القول القديم في ترك الفاتحة ناسياً، ووجه
الشبه أن قراءة الفاتحة وإن كانت ركنا لكنها ليست قائمة بنفسها كالرُّكُوعِ والقيام ونحوهما وإنما هي زينة وتتمة للقيام. كذلك الترتيب زينة وهيئة في سائر الأركان. الثالث: الوضوء نوعان: أحدهما: وضوء من يتقن أن حدثه الأصغر، فيعتبر فيه الترتيب. والثاني: وضوء من يجوز أن يكون حدثه الأكبر، ونظيره ما إذا خرج منه بلل واحتمل أن يكون مَنِيّاً، واحتمل أن يكون مَذْياً ففيما يلزمه وجوه: أحدها: أنه يجب عليه الوضوء؛ لأن غسل ما زاد على الأعضاء الأربعة مشكوك فيه، والمستيقن هذا القدر؛ وعلى هذا الوجه لو عدل إلى الغسل كان كالمحدث يغتسل بدلاً عن الوضوء. والثاني: يجب عليه الوضوء وغسل سائر البدن وغسل ما أصابه ذلك البلل؛ لأن شغل ذمته بإحدى الطهارتين معلوم وصلاته موقوفة على الطهارة التي لزمته فعليه الإتيان بهما ليخرج عن العهدة بيقين. والثالث: وهو الأصح أنه يتخير بين أن يغتسل أخذاً بأنه مني، أو يتوضأ أخذاً بأنه مَذيٌ, لأن كل واحد منهما محتمل، فإذا أتى بموجب أحدهما وجب أن تصح صلاته؛ لأن لزوم الآخر مشكوك فيه، والأصل العدم، وهذا الوجه هو الذي ذكره في الكتاب. وليكن قوله: "فإن شاء" "وإن شاء" مُعْلَمَيْنِ بالواو؛ إشارة إلى ما روينا من الوجهين، ثم على الوجه الأظهر لو توضأ وجب أن يغسل ما أصابه ذلك البَلَل من ثوب وغيره؛ لأنه على التقدير الذي يجب الوضوء، يكون ذلك الخارج نجساً، وفيه وجه: أنه لا يجب غسل الثوب، وهو ضعيف، ولا بد أن يكون الوضوء المَأْتِيُّ به مرتباً. وفيه وجه: أنه لا يجب الترتيب؛ لأنه إذا شك في كونه منياً، أو غيره فقد شك في أن الواجب الطهارة الصغرى أو الكبرى، والترتيب من خاصية الطهارة الصغرى، فلا يجب بالشك؛ كما لا يجب ما يختص بالطهارة الكبرى، وإنما يجب المشترك بينهما، ويقال: كان القفال يقول بهذا الوجه، ثم رجع إلى الأول، وهو المذهب؛ لأنه إما مَنِي، فموجبه الغسل، أو غيره فموجبه الوضوء بأركانه، فإذا لم يرتب الوضوء، ولا اغتسل، فقد صلى مع أحد المحدثين يقيناً. ويجري هذا الخلاف فيما إذا أوْلَج خُنْثَى مشكل في دبر رجل، فهما بتقدير ذكورة الخنثى جنبان، وإلا فمحدثان، فالجَنَابَةُ محتملة غير مُسْتَيقَنةٍ، فإذا توضأ وجب عليهما المحافظة على الترتيب في ظاهر المذهب. وفي وجه: لا يجب؛ لأن لزوم الترتيب مشكوك فيه، وهذا الوجه هو الذي دعا إلى إيراد مسألة البلل هاهنا وإن لم يذكره في لفظ الكتاب، والله أعلم.
القول في سنن الوضوء وهي ثماني عشرة
الْقَوْلُ فِي سُنَنِ الوُضُوءِ وَهِيَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ قال الغزالي: أَنْ يَسْتَاكَ بِقُضْبَانِ الأَشْجَارِ عَرَضاً، وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ عِنْدَ كُلِّ صَلاَة وَعِنْدَ تَغَيُّرِ النَّكْهَةِ، وَلاَ يُكْرَهُ إلا بَعْدَ الزَّوَالِ (ح م) لِلصَّائِمِ. قال الرافعي: عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَم مَرْضَاةً لِلرَّبِ" (¬1) إلى أخبار كثيرة فيستحب الاستياك مطلقاً ولا يكره إلاَّ بعد الزوال للصَّائم خلافاً لأبي حنيفة ومالك وأحمد -رحمهم الله- وسنذكر تفصيل مذاهبهم في الصوم إن شاء الله تعالى. لنا أنه يزيل أثر العبادة وهو خُلُوفُ الفَم، وأنه مشهود له بِالطِّيبِ قال -صلى الله عليه وسلم-: "لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيح الْمِسْكِ" (¬2). وإذا كان كذلك فيكره إزالته كَدَمِ الشَّهداءِ وَإنما خص بما بعد الزوال؛ لأنه تغير الفم بسبب الصوم، وحينئذ يطهر، وفي غير هذه الحالة يطرد الاستحباب، لكنه آكَدُ في مواضع: منها: عند الصلاة، وإن كان على الطهارة، سواء كان متغير الفم، أو لم يكن لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ" (¬3). ومنها: عند تغيير النَّكْهَة، وذلك قد يكون للنوم، فيستحب عند الاستيقاظ الاستياك، كان النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا اسْتَيْقَظَ اسْتَّاكَ" (¬4) وروى "أَنَّهُ كَانَ يَشُوصُ فَاهُ بالسِّوَاكِ" (¬5) وقد يكون لطول السكوت، وقد يكون لترك الأكل، وقد يكون لأكل ماله رائحة كريهة، فَيُسْتَحَبَّ الاستياك عندها جميعاً؛ لأنها أسباب تغير الفم، فتشبه النوم. ومنها: اصْفِرَارُ الأسنان، وقد يفرض ذلك من غير تغير النَّكْهَة. ومنها: قراءة القرآن، تعظيماً, وتطهيراً له. ومنها: عند الوضوء، وإن لم يصلّ في الحال: روي في بعض الروايات أنه -صلى الله عليه وسلم- "لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِتَأَخِيرِ الْعِشَاءِ وَالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءِ" (¬6). ¬
وقد حَكَيْنَا فيما تقدم عن بعض الأصحاب: أن السواك لا يعد من سنن الوضوء فلك أن تعلم قوله: "إن يستاك" بالواو، وإشارة إلى ذلك الوجه. وقوله: "بقضبان الأشجار" ليس على سبيل الاشتراط، لكنها أولى من غيرها، والأولى منها الآراك، والأحب أن يكون يابساً، لين بالماء دون ما لم يلين، فإنه يقرح اللَّثَةَ، ودون الرطب فإنه لا ينقى اللُّزُوجة، وأصل السنة تَتَأَدَّى بكل خشن، يصلح لإزالة القِلْحِ، كالخِرْقَةِ الخشنة ونحوها، نعم لو كان جزءاً منه كَأُصبُعِهِ الخشنة، ففيه ثلاثة أوجه: أظهرها: لا يجزئ؛ لأنه لا يسمى استياكاً. والثاني: يجزئ لحصول مقصود الاستياك به. والثالث: إن قدر على العود ونحوه فلا يجزئ، وإلا فيجزئ, لمكان العُذْرِ. وأما قوله: "عرضاً" فقد ذكر إمام الحرمين: أنه يمد السواك على طول الأسنان وعرضها، فإن اقتصر على إحدى الجِهَتَيْنِ، فالعرض أولى؛ لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اسْتَاكُوا عَرْضاً" (¬1) وهكذا أورده المصنف في الوسيط، وذكر آخرون منهم صاحب "التتمة": أن يستاك في عرض الأسنان لا في طولها. ورووا في الخبر: "أَنَّه قَالَ: "اسْتَاكوا عَرْضاً لاَ طُولاً" فعلى الأول قوله: "عرضاً" ليس لأنه متعين في إقامة هذه السنة، بل خصه بالذكر لأنه أولى، وعلى الثاني هو تعيين (¬2). قال الغزالي: وَأَنْ يَقُولَ: بِسْم اللهِ فِي الابْتِدَاءِ، وَأَنْ يَغْسِلَ يَدَيْهِ ثَلاَثاً قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا الإِنَاءَ. قال الرافعي: ومن سنن الوضوء أن يقول في ابتدائه: بسم الله على سبيل التَّبَرُّكِ والتَّيَمُّن، وذهب أحمد إلى أن التسمية واجبة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ اللهَ عَلَيْهِ" (¬3). ¬
قلنا: المعنى لا وضوء كاملاً، كذلك روى في بعض الروايات، ويدل عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَوَضَّأَ وَذَكَر اسْمَ اللهِ كَانَ طَهُوراً لِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَمَنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللهِ، كَانَ طَهُوراً لأَعْضَاءِ وَضُوئِهِ" (¬1). ولو كانت التسمية واجبة لما طَهُرَ شيء، ثم لو نسي التسمية في الابتداء، وتذكرها في أثناء الوضوء أتى بها, كما لو نسي التسمية في ابتداء الأكل يأتي بها إذا تذكر في الأثناء، ولو تركها في الابتداء عمداً، فهل يشرع له التدارك في الأثناء؟ هذا محتمل (¬2). ولك أن تعلم قوله: "وأن يقول بسم الله" بالألف، والواو، "فالألف", لأن أحمد عَدَّها من الواجبات. "والواو"؛ لأن بعض الأصحاب لم يعدها من سنن الوضوء، وقال: هي محبوبة في كل أمر ذي بال، فلا اختصاص لها بالوضوء. ومن سننه غسل اليدين إلى الكُوعَينِ قبل غسل الوجه: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي وُضُوئِهِ" (¬3) ولا فرق في استحبابه بين القائم من النوم، وغيره، ولا بين أن يتردَّد في طهارة يديه، أو يتيقنها، ولا بين من يدخل يديه في الإناء من توضئه وبين من لا يفعل ذلك ولفظ الكتاب لا يقتضي إلا الاستحباب في حق من يدخل يديه في الإناء ثم مَنْ يدخل يديه في الإناء، ولم يتيقن طهارة يديه بأن قام من النوم، واحتمل تنجس يديه في طوافهما، وهو نائم يختص بشيء، وهو أنه يكره له ذلك قبل الغسل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذَا اسْتَيقَظَ أحَدكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإنَاءِ حَتَّى يِغْسِلَهَا ثَلاثاً، فَإِنَّهُ لاَ يَدرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ" (¬4) وكذلك لو كان مستيقظاً ولم يستيقن طهارة اليدين، وإن تيقن طهارة يديه، فهل يكره له الغمس قبل الغسل؟ فيه وجهان: أظهرها: لا، بل بتخير بين تقديم الغمس وتأخيره؛ لأن سبب المنع ثم الاحتياط للماء؛ لاحتمال نجاسة اليد. وهذا مفقود هاهنا. ¬
والثاني: يكره، لأن المتيقن والمتردِّد يستويان في أصل استحباب الغسل، فكذلك في استحباب تقديم الغسل على الغَمْس (¬1). وليكن قوله: "وأن يغسل يديه" مُعْلماً بالألف والواو أيضاً، أما "الألف" فلأن عند أحمد إن قام من نَوْمِ الليل يجب غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، وإن قام من نوم النهار لا يجب. وأما "الواو" فلأن بعضهم لا يعده من سنن الوضوء على ما سبق. وأما قوله: "ثلاثاً"، فليس ذلك من خاصية هذه السنة، بل التَّثْلِيثُ مُسْتَحَبٌّ في جميع أفعال الوضوء، كما سيأتي. قال الغزالي: وَأَنْ يَتَمَضْمَضَ ثُمَّ يَسْتَنْشِقَ فَيَأخُذَ غرْفَةً لِفيهِ وَغرْفَةً لأَنْفِهِ عَلى أَحَدِ القَوْلَيْنِ، وَفي الثَّانِى يَأَخُذُ غرْفَةَ لَهِمَا ثُمَّ يَخْلِطُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَينِ إِذَا كَانَتِ الغرْفَةَ وَاحِدَةً وَيُقَدِّمِ المَضْمَضَةَ فِي الوَجْهِ الثَّاني وَأَنْ يُبَالِغَ فِيهِمَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ صَائِماً فَيَرْفُقُ. قال الرافعي: "كَانَ رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ فِي وُضُوئِهِ" (¬2) فهما مستحبان فيه، خلافاً لأحمد حيث قال بوجوبهما. لنا: ما روى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "عَشْرٌ مِنَ السُّنَّةِ" (¬3). وَعَدَّ مِنْهَا المَضْمَضَةَ، وَالاسْتِنْشَاقَ ثم أصل الاستحباب يتأدَّى بإيصال الماء إلى الفم والأنف، سواء كان بغرفة واحدة، أو أكثر، لكن اختلفوا في الكيفية التي هي أفضل على طريقين: أصحهما: أن فيه قولين. أصحهما: أن الفصل بين المضمضة والاستنشاق أفضل لما روى عن طلحة بن مصرف، عن أبيه، عن جده قال: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَفْصِلُ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ" (¬4). ويقال: إن عثمان وعلياً -رضي الله عنهما- كذلك روياه (¬5)؛ ولأنه أقرب إلى النظافة. والثاني: أن الجمع بينهما أفضل؛ لما روى عن علي -رضي الله عنه- في وصف ¬
وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَّهُ يَتَمَضْمَضُ مَعَ الاِسْتِنْشَاقِ بِمَاءٍ وَاحِدٍ" (¬1)، ونقل مثله عن وصَفِ عبد الله بن زيد (¬2)، والرواية عنه وعن عثمان وعلي -رضي الله عنهم- في الباب مختلفة. والطريق الثاني: أن الفصل أفضل بلا خلاف، وحيث ذكر الجمع أراد بيان الجَوَازِ. فإن قلنا: بالفصل ففي كيفيته وجهان: أصحهما: "أَنَّهُ يَأخُذُ غَرْفَةً يَتَمَضْمَضُ مِنْهَا ثَلاَثًا وَغَرْفَةً أُخْرَى يَسْتَنْشِقُ مِنْهَا ثَلاَثاً, لأَن عَلِيّاً- رَضِي الله عَنْهُ- كَذَلِكَ رَواهُ" (¬3). والثاني: أنه يأخذ ثلاث غَرَفَاتِ لِلْمَضْمَضَةِ، وثلاثاً للاستنشاق؛ لأنه أقرب إلى النظافة، وأيسر ثم على هذا القول يقدم المضمضة على الاستنشاق، وهذا التقديم مستحق على أظهر الوجهين؛ لأنهما عضوان فَيَتَعَيَّنُ الترتيب بينهما، كما في سائر الأعضاء. والثاني: أنه مُسْتَحَبٌّ؛ لأنهما لتقاربهما بمنزلة العضو الواحد كاليمين مع اليسار. وإن قلنا: بالجمع، ففي كيفيته وجهان أيضاً: أظهرهما: أنه يأخذ غرفة يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم يأخذ غرفة أخرى يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم يأخذ ثالثة؛ فيفعل بها مثل ذلك، كذلك روى عن وصف عبد الله بن زيد (¬4). والثاني: أنه يأخذ غَرْفَةً واحدة، يتمضمض منها ثلاثاً، ويستنشق ثلاثاً، روى ذلك في بعض الروايات أيضاً. ثم على هذا الوجه، وهو اتِّحْادُ الغرفة هل يخلط المضمضة بالاستنشاق؟ أم يقدم المضمضة؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يخلط، فيتمضمض ويستنشق مرة بما معه، ثم يفعل ذلك ثانية، وثالثة، لأن اتحاد الغرفة يدل على أنهما في حكم عضو واحد. والثاني: يقدم المضمضة على الاستنشاق، فإن ذلك أقرب إلى النَّظَافَة (¬5). ولنبين ¬
ما يشتمل عليه الكتاب من هذه الاختلافات. أما قوله: "فيأخذ غَرْفَة لفيه، وغرفة لأنفه على أحد القولين"، فهو قول الفصل بالكَيْفِيّة المذكورة في الوجه الأول من الوجهين المذكورين على هذا القول. وأما قوله: "وفي الثاني يأخذ غَرْفَة لهما" فهو قول الجمع بالكَيْفِيَّة المذكورة في الوجه الثاني على هذا القول. وقوله: "ثم يخلط على أحد الوجهين" إلى آخره هما الوجهان المذكوران أخيراً. ومن سنن الوضوء: المبالغة في المَضْمَضَة والاستنشاق، ففي المضمضة يبلغ الماء أقصى الحَنَكِ، وَوَجْهَي الأسنان واللَّثَات مع إمرار الإصبع عليها، وفي الاستنشاق يصعد الماء بالنفس إلى الخَيْشُوم مع إدخال الإصبع، وازالة ما فيه من الأَذَى، لكن لو كان صائماً لا يبالغ فيهما، كيلا يصل الماء إلى الدماغ، أو البطن، وقد روى "عَنْ لَقِيطِ بْنِ صَبَرَةَ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْوُضُوءِ. قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "أَسْبِغِ الْوُضُوءَ وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابعِ، وَبَالَغْ فِي الاسْتِنْشَاقِ إِلا أَنْ تَكُونَ صَائِماً (¬1) " (¬2). قال الغزالي: وَأَن يُكَرِّرَ الغَسْلَ وَالمَسْحَ (ح م و) فِي الجَمِيع وَإِن شَكَّ أَخَذَ بِالأَقَلِّ. قال الرافعي: "توَضَّأَ رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَلاَثاً ثَلاَثاً، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وُضُوئِي، وَوُضُوءُ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي، وَوُضُوءُ خَلِيلِي إِبْرَاهِيمَ" (¬3). وروى: "أَنَّه تَوَضَّأَ ثَلاَثاً ثَلاَثاً، وَقَالَ: مَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَد أَسَاءَ وَظَلَم" (¬4). ولا فرق بين المَغْسُولِ من الأعضاء والممسوح المفروض منهما، وغير المفروض؛ لأن لفظ الخبر مطلق يتناول المغسول والممسوح. ¬
وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد -رحمهم الله-: لا يستحب التَّكْرار في مَسْحِ الرأس وحكاه أبو عيسى التِّرْمذي في جامعة عن الشافعي -رضي الله عنه- ونقله أبو عبد الله الحناطي وجهاً للأصحاب فيه، وفي مسح الأذنين. واحتجوا عليه بما روى: "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- مَسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً" (¬1) وعن علي وعثمان -رضي الله عنهما- أنهما في وَصْفِ وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "مَسَحَا رُؤُوسَهُمَا مَرَّةً وَاحِدَةً". قلنا: ورد في رواية الرُّبَيِّع بنت معوذ: "أَنَّهُ مَسَحَ رَأسَهُ مَرَّتَيْنِ (¬2) "، وعن عثمان "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ، فَمَسَحَ رَأسَهُ ثَلاَثاً" (¬3)، على أن ما رويتموه يَجْوزُ أن يكون فعله في بعض الأحوال؛ لبيان الجواز. وهذا لبيان الفضيلة، فلو شك في أنه غسل، أو مسح مرة، أو مرتين، أو شك في أنه فعل ذلك مرتين، أو ثلاثاً؛ فوجهان: أصحهما: وهو المذكور في الكتاب: أنه يأخذ بالأقل؛ كما لو شك في عدد رَكَعَاتِ الصلاة. والثاني: ذكره الشيخ أبو محمد: أنه يأخذ بالأكثر؛ حذراً من أن يزيد غسلة رابعة، فإنها بِدْعَةٌ وترك السنة أهون من اقتحام البدعة، لكن من قال بالأول لا يسلم أن الرابعة بدعة على الإطلاق؛ بل البدعة: إتيانه بالرَّابِعَة عن علم منه بحقيقة الحال (¬4). قال الغزالي: وأنْ يُخَلِّلَ اللَّحْيَةَ إِذَا كَانَتْ كَثِيفَةً. قال الرافعي: ما لا يجب إيصال الماء إلى باطنه ومنابته من شَعرِ الوجه، يستحب تَخْلِيلُه بالأصابع، روى عن عثمان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يخلِّلُ لِحْيَتَه (¬5) وروى: أنه كان يُخَلل لحيته، وَيدْلُكُ ¬
عَارِضَيْهِ بعض الدلك. وعن المزني: أن التَّخلِيلَ واجب (¬1) ورواه القاضي ابن كج عن بعض الأصحاب، فإن أراد المزني فتفرداته لا تعد من المذهب إذا لم يخرجها على أصل الشافعي -رضي الله عنه- وإن أراد غيره حصل وجه موافق لما ذهب إليه المزني. قال الغزالي: وأنْ يُقَدِّمَ اليُمْنَى عَلَى اليُسْرَى. قال الرافعي: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحب التيامن في كل شيء، حتى في وضوئه وانتعاله (¬2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا تَوَضَّأتم فَأْبْدَؤُا بِمَيَامِنُكِم" (¬3) وزعم المرتضى (¬4) من الشيعة أن الشافعي -رضي الله عنه- في القديم كان يوجب تقديم اليمنى على اليسرى، وليس لهذا ذكر في كتب أصحابنا، ولا اعتماد عليه، ويدل على نفي الوجوب ما روى عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: ما أبالي بيميني بدأت، أو بشمالي إذا أكملت الوضوء (¬5). ثم استحباب تقديم اليمنى على اليسرى في كل عضوين يعتبر إيراد الماء عليهما دفعة واحدة، كاليدين والرجلين، أما الأذنان فلا يستحب البداية باليمنى منهما؛ لأن مسحهما معاً أهون، وكذلك الخدان يغسلان معاً: نعم الأقطع يعجز عن غسل الخدين، ومسح الأذنين دفعة واحدة فيراعى التَّيَامُنُ، هكذا ذكر القاضي أبو المحاسن (¬6) وليكن قوله: "وأن يقدم اليمنى" مرقوماً بالألف؛ لأن أحمد صار إلى وجوبه. قال الغزالي: وأنْ يطَوِّلَ الغُرَّةَ. قال الرافعي: وروى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أُمَّتِي يَومَ الْقِيَامَةِ غُرٌّ مُحَجُّلُونَ مِنْ آَثَارِ الوُضُوءِ" (¬7). قال أبو هريرة: "فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَغْسِلُ أَيْدِيَنَا إِلَى الأبَاطِ" (¬8). ¬
واختلف الأصحاب في التفسير، ففرق بعضهم بين تطويل الغُرَّة وتطويل التَّحْجِيل فقالوا: تطويل الغرة غَسْلُ مُقَدَّمات الرأس مع الوجه، وكذلك غسل صَفْحَةِ العُنُقِ، والتحجيل غسل بعض العَضُد عند غسل اليد وغسل بعض الساق عند غسل الرجل، وغاية ذلك استيعاب العضد، والساق وفسر كثيرون تطويل الغرة بغسل شيء من العضد والساق، وأعرضوا عن ذكر ما حوالى الوجه، والأول أولى وأوفق لظاهر الخبر. قال الغزالي: وَأَنْ يَسْتَوْعِبَ الرَّأْسَ بِالمَسْحِ فَإِنْ عَسُرَ تَنْحِيَةُ العِمَامَةِ كَمَّلَ بِالمَسْحِ عَلَى العِمَامَةِ. قال الرافعي: من سنن الوضوء اسْتِيعَابُ الرأس بالمسح، والأحبُّ في كيفيته أن يضع يده على مقدم رأسه، وكل واحدة من سَبَّابَتَيْهِ مُلْصَقَة بالأخرى، وإبهاماه على صُدْغَيه ثم يذهب بهما إلى قَفَاه، ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه، روى عن عبد الله ابن زيد في صفة وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، أَقْبَلَ بِهِمَا، وَأَدْبَرَ بَدَأَ بِمَقْدِمِ رَأْسِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلى الْمَوْضِعِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ" (¬1). وهل الذِّهَاب باليد والرد مَسحَةٌ واحدة؟ أم الذهاب وحده مسحة؟ إن لم يكن على رأسه شعر، أو كان عليه شعر لا ينقلب بذهابه باليد؟ وردها لكونه ضَفِيرَةً معقودة، أو لطوله فإمرار اليد من المقدم إلى المؤخر مَسْحَة واحدة. قال في التهذيب: ولا يحسب الرد، والحالة هذه مسحة أخرى؛ لِصَيْرُورَةِ البَلَلِ مستعملاً بحصول مسح جميع الرأس، وإن كان على رأسه شعر ينقلب بالذهاب باليد، وردها فهما جميعاً مسحة واحدة؛ ليستوعب البلل جميع الرأس، فإن مَنَابِتَ الشعور مختلفة، منها ما يكون وجهه إلى مقدم الرأس، ومنها ما يكون وجهه إلى مؤخره، فبالذهاب يبتلُّ بواطن القسم الأول، وظواهر الثاني وبالرد يبتل ظواهر الأول، وبواطن الثاني، والأول أن يمسح من الرأس النَّاصية، "مَسَحَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى عِمَامَتِهِ" (¬2) ولا يجوز الاقتصار على مسح العِمَامَةِ؛ لأن المأمور به مسح الرأس، والماسح على العمامة ليس بماسح على الرأس، ولو عسر عليه تنحية ما على رأسه من عمامة، وغيرها ومسح من الرأس قدر ما يجب كمل بالمسح على العمامة، بدلاً من الاستيعاب وتشبها به. قال الغزالي: وَأَنْ يَمْسَحَ أُذُنَيهِ بِمَاءٍ جَدِيدٍ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا. ¬
قال الرافعي: يستحب مَسْحُ الأُذُنَيْن؛ لما روى: "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- مَسَحَ فِي وُضُوئِهِ بِرَأْسِهِ وَأُذَنَيهِ، ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا، وَأَدْخَلَ إِصْبَعَيهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ" (¬1). وينبغي أن يمسحهما بماء جديد؛ لما روى عن عبد الله بن زيد، في صفة وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَمَسَحَ أُذُنَيهِ بِمَاء غَيْرِ المَاءِ الَّذِي مَسَحَ بِهِ الرَّأْسَ" (¬2). وليس من الشرط أن يأخذ ماءً جديداً حينئذ؛ بل لو أمسك بعض أصابعه من البلل المأخوذ لمسح الرأس، ومسح به الأذنين تأَدَّت هذه السنة؛ روى "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- "أَمْسَكَ بسَبَّابَتَيْهِ، وإبْهَامَيْهِ عَنِ الرَّأْسِ؛ لِمَسْحِ الأُذُنيْنِ، فَمَسَحَ بِسَبَّابَتَيْهِ بِاطِنَهُمَا، وَبِإِبْهَامَيْهِ ظًاهِرَهُمَا" (¬3)، ويمسح الصِّمَاخَيْنِ بماء جديد أيضاً نص عليه؛ لأنه من الأذن، كالفم والأنف من الوجه، وحكى قول آخر: أنه يكفي مَسْحُه ببقية بلل الأذن؛ لأن الصِّمَاخَ من الأذن، والأحبُّ في إقامة هذه السنة أن يدخل مسبحتيه في صِمَاخَيْه، ويديرهما على المَعَاطف، ويمر إبهاميِه على ظهورهما، ثم يلصق كفيه، وهما مبلولتان بالأذنين استظهاراً. ولك أن تعلم قوله: "وأن يمسح أذنيه" بالألف؛ لأن أحمد قال بوجوبه، وبالميم؛ لأن مالكاً قال في رواية: هما من الوجه يُغْسَلاَن معه، ولا يُمْسَحان. وقوله: "بماء جديد" بالحاء لأن أبا حنيفة يقول: هما من الرأس يمسحان بالبلل المأخوذ للرأس (¬4)، وبالميم، لأن مالكاً: يقول في رواية هما من الوجه يمسحان بالبَلَلِ الباقي عن غسل الوجه (¬5) وبالألف، لأن أحمد مع قوله "بالوجوب" يجوزه بالمأخوذ لمسح الرأس، وعن مالك روايتان، أخريان أحداهما: مثل مذهبنا، والأخرى مثل مذهب أبي حنيفة. قال الغزالي: وأنْ يَمْسَحَ الرَّقَبَةَ. ¬
قال الرافعي: روى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَسْحُ الرَّقَبَةِ أَمَانٌ مِنَ الْغُلِّ" (¬1) وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى عُنُقِهِ وُقِيَ الْغُلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (¬2) "] (¬3). وهل يمسح بماء جديد، أم بما يبقى من بلل مسح الرأس، أو الأذن؟ بناه بعضهم على وجهين في أن مسح العنق سنة أم أدب، إن قلنا: سنة مسح بماء جديد وإن نقلنا: أدب مسح بالبلل الباقي. واعلم أن السُّنة والأدب يشتركان في أصل الندبية، والاستحباب، لكن السنة ما يتأكد شأنها، والأدب دون ذلك، ثم اختيار القاضي الروياني: أنه ينبغي أن يمسحه بماء جديد، وميل الأكثرين إلى أنه يكفي مسحه بالبلل الباقي، وهو قضية كلام المسعودي، وصاحب "التهذيب"؛ لأن المسعودي قال: إنه غير مقصود في نفسه، بل هو تابعٌ للقَفَا في المسح والقفا تابع للرأس؛ لتطويل الغُرَّة. وقال صاحب "التهذيب": يستحب مسحه؛ تبعاً للرأس، أو الأذن إطالةً للغرة، وإذا كان استحبابه لتطويل الغرة، كفى فيه البلل الباقي (¬4) -والله أعلم-. قال الغزالي: وَأنْ يُخَلَّلَ أَصَابعَ الرِّجْلَينِ بِخنْصِرِ اليَدِ اليُسْرَى مِنْ أَسْفَلِ أَصَابعِ الرِّجْلِ اليُمْنَى وَيَبتَدِئُ بِخِنْصِر اليُمْنَى وَيَخْتُمِ بِخِنْصِرَ اليُسْرَى. قال الرافعي: من سنن الوضوء: تخليلُ أصابع الرجلين في غسلهما؛ لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال للقيط بن صبرة: "إِذَا تَوَضَّأتَ فَخَلِّلِ الْأَصَابع". وهذا إذا كان الماء يصل إليها من غير تَخْلِيلٍ، فلو كانتِ الأصابع ملتفة لا يصل الماء إليها إلا بالتخليل، فحينئذ يجب التخليل، لا لِذَاتِهِ، لكن الأداء فرض الغسل، وإن كانت ملتحمة لم يجب الفَتْقُ، ولا يستحب أيضاً، والأحب في كيفية التخليل: أن يخلل بخنصر اليد اليسرى من أسفل الأصابع، مبتدئًا بخِنْصَرِ الرِّجْل اليمنى، ومختتماً بخِنْصَر اليسرى، وَرَدَ الخبر (¬5) بذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذلك ذكره الأئمة، وعن أبي طاهر ¬
الزيادي (¬1)؛ أنه يخللُ ما بين كل إصْبُعَيْن من أصابع رجله بإصبع من أصابع يده؛ ليكون بماء جديد، ويفصل الإبهامان، فلا يخلل بهما؛ لما فيه من العسر، وهل التخليل من خاصية أصابع الرجلين؟ أم هو مستحب في أصابع اليدين أيضاً؟ معظم أئمة المذهب ذكروه في أصابع الرجلين، وَسَكتُوا عنه في اليدين، لكن القاضي أبا القاسم بن كج قال: إنه مستحب فيهما، واستدل بخبر لقيط بن صبرة، فإن لفظ الأصابع ينتظمها، وفي جامع أبي عيسى الترمذي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا تَوَضَّأتَ فَخَلِّلْ أَصَابعَ يَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ" (¬2). وعلى هذا فالذي يقرب من الفهم هاهنا أن يشبك بين الأصابع، ولا تعود فيه الكيفية المذكورة في الرجلين، ولك أن تعلم قوله: "بخنصر اليد اليسرى" بالواو، إشارة إلى ما حكينا عن الأستاذ أبي طاهر. قال الغزالي: وأنْ يُوَالِيَ بَيْنَ الأَفْعَالِ فَهِيَ سُنَّةٌ عَلَى الجَدِيدِ. قال الرافعي: اختلف قول الشافعي -رضي الله عنه- في الموالاة. فقال في القديم: هي واجبة، وبه قال مالك، وأحمد في رواية؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ على سبيل الموالاة، وقال: "هذَا وُضُوء لاَ يَقْبَلُ اللهُ الصَّلاَةَ إِلاَّ بهِ" (¬3)؛ ولأنها عبادة ينقضهما الحدث، فيعتبر فيها الموالاة، كالصلاة، وقال في الجَديد: هي سنة؛ لما روى "أَنَّ رَجُلاً تَوَضَّأَ وَتَرَكَ لُمعَةً فِي عَقِبِهِ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أمَرَهُ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- بِغَسْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالاِستِئنَافِ (¬4) " ولم يبحث عن قَدْرِ المدة الفاصلة، وعن ابن عمر -رضي الله ¬
عنهما-: أنه كان يتوضأ في سوق المدينة، فدُعِيَ إلى جنازة، وقد بَقِيَ من وضوئه فرض الرجلين، فذهب معها إلى المُصَلَّى، ثم مسح خفيه وكان لابساً ولأن أفعال الوضوء يجوز أن يتخلَّلها الزمان اليسير، فكذلك الزمان الكثير بخلاف الصلاة. ثم لجريان القولين شرطان، وإن أطلق في الكتاب. أحدهما: أن يهمل الموالاة بتفريق كثير، أما التفريق اليسير فلا يقدح بلا خلاف، سواء كان بعذر، أو بغير عذر، والتفريق الكثير أن يمضي من الزمان ما يَجِفّ فيه المَغْسُولُ مع اعتدال الهواء ومزاج الشخص، ولا عبرة بحال المَحْمُومِ، ولا بتباطُؤ الجفاف؛ بسبب بُرُودَةِ الهواء، ولا بتَسَارُعِهِ بسبب الحرارة. وقيل: يؤخذ الكثير والقليل من العادة. وقيل: إذا مضى قدر ما يمكن فيه إتمام الطهارة فقد كثر التفريق، واعتبار مدة التفريق من آخر الفعل المأتي من أفعال الوضوء، حتى لو غسل وجهه ويديه، ووقع فصل، ثم مسح رأسه، قبل جفاف ماء اليدين لم يضر، وإن جف الماء على وجهه. وإذا غسل ثَلاثاً، فالاعتبار من الغسلة الأخيرة. الشَّرْط الثاني: أن يكون التفريق الكثيرة بغير عذر، أما إذا كان بعذر فلا يضر، ولا يعود فيه القول القديم. قال المسعودي: لأن الشافعي -رضي الله عنه- جوز في القديم تفريق الصلاة بالعُذْرِ، فإنه إذا سبقه الحدث يتطهر، ويبني، ففي الطهارة أولى، والعذر كما إذا نفد ماؤه، فذهب لطلبه، أو خاف من شيء فهرب، وهل النسيان من الأعذار؟ فيه وجهان، للشيخ أبي محمد: والأظهر: أنه من الأعذار، ومنهم من طرد القولين في التفريق بالعُذْر أيضاً، والأكثرون على الأول، وَحُكِيَ عن نص الشافعي -رضي الله عنه- ما يدل عليه وإذا عرفت موضع القولين، فنقول: إذا فرعنا على القديم وفرق وجب عليه الاستئناف. وإن فرعنا على الجديد، فله البناء، ثم إن كان مستديماً للنية فذاك، وإن لم يكن فهل يحتاج إلى تجديد النية؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن استيفاء النية حكماً خلاف الحقيقة، إنما يصار إليه عند تواصل الأفعال. وأظهرهما: لا؛ لأن التفريق إذا كان جائزاً كانت النية الأولى كافية، ألا ترى أن الحج إذا جاز فيه التفريق كَفَتِ النية الأولى فيه. قال الغزالي: وَأَنْ لاَ يَسْتَعِينَ فِي الوُضُوءِ بِغَيْرِهِ، وَأَنْ لاَ يُنَشِّفَ الأَعْضَاءَ فَهِيَ سُنَّةٌ
عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ، وَأَنْ لاَ يَنْفُضَ يَدَيْهِ لِلنَّهْي عَنْهُ، وَأَنْ يَدْعُو بِالدَّعَوَاتِ المَأْثُورَةِ المَشْهُورَةِ عِنْدَ غَسْلِ الأَعْضَاءِ. قال الرافعي: هذه البقية تشتمل على أربع سنن: إحداهما: أن لا يستعين في وضوئه بغيره. روى: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَنَا لاَ أَسْتَعِينُ عَلَى وُضُوئِي بأَحَدٍ" (¬1) قاله لعمر -رضي الله عنه- وقد بادر لِيَصُبَّ الماء على يديه؛ ولأنه نوع من التنعيم والتكبر، وذلك لا يليق بحال المتعبِّد، والأجر على قدر النصب. وهل تكره الاستعانة؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، لما ذكرناه. وأظهرهما: لاَ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ اسْتَعَانَ أَحْيَانًا (¬2) مِنها: ما رُوِيَ "أَنَّ أُسامة (¬3) وَالربيع بِنْتَ مُعَوِّذِ صَبَّا الْمَاءَ عَلَى يَدَيْهِ" (¬4). ومنها ما روى "أنَّهُ اسْتَعَانَ بالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةُ لِمَكَانِ جُبَّةٍ ضَيِّقَةِ الْكُمَّيْنِ كَانَ قَدْ لَبِسَهَا فَعَسَرَ عَلَيْهِ الإِسْبَاغُ مُنْفرَداً" (¬5) ولا يستبعدن الخلاف في أن الاستعانة هل تكره؟ مع الجزم بأن تركها محبوب فإن الشيء قد يكون أولى، ولا يوصف ضده بالكراهية كأستغراق الأوقات بالعبادة وتركه. الثانية: هل يستحب ترك تنشيف الأعضاء فيه وجهان: أظهرهما: نعم، لما روى عن أنس "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ لاَ يُنَشِّفُ أَعْضَاءَهُ" (¬6). ¬
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصْبِحُ جُنُبًا، فَيَغْتَسِلُ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ، وَرَأسُهُ يَقْطُرُ مَاء" (¬1). والثاني: لا يستحب ذلك. وعلى هذا اختلفوا. منهم من قال: لا يستحب التَّنْشِيف أيضاً، وقد روي من فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التنشيف، وتركه، وكل حسن، ولا ترجيح، ومنهم من قال: يستحب التنشيف؛ لما فيه من الاحتراز عن التصاق الغبار، وإذا فرعنا على الأظهر، وهو استحباب الترك، فهل نقول التَّنْشِيفُ مَكْرُوهٌ؛ أم لا؟ فيه ثلاثة أوجه: أظهرها: لا؛ "لأَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اغْتَسَلَ، فَأَتَى بِمَلحَفَةٍ وَرَسِيَّةٍ، فَالْتَحَفَ بِهَا حَتَّى رُؤي أَثَرُ الوَرَسِ فِي عُكَتِهِ" (¬2). ولو كان مكروهًا لما فعل. والثاني: نعم؛ لأنه إزالة لأثر العبادة، فأشبه إزالة خُلُوف فَمِ الصائم. والثالث: حُكِيَ عن القاضي الحسين: أنه إن كان في الصيف كره، وإن كان في الشتاء لم يكره؛ لعذر البرد. الثالثة: أن لا ينفض يديه، فهو مكروه (¬3) لما روى: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا تَوَضَّأتُم فَلاَ تَنْفضُوا أَيْدِيَكُم، فَإِنَّهَا مَرَاوح الشَّيْطَانِ" (¬4). الرابعة: أن يحافظ على الدعوات (¬5) الواردة في الوضوء، فيقول في غسل الوجه: "اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه"، وعند غسل اليد اليمنى: "اللهم أعطني كتابي بيميني وحاسبني حساباً يسيراً"، وعند غسل اليسرى: "اللهم لا تعطني ¬
كتابي بشمالي ولا من وراء ظهري"، وعند مسح الرأس: "اللهم حَرِّمْ شعري وبشري على النار" وروى: "اللهم احْفَظْ رأسي وما حوى، وبطني وما وعى"، وعند مسح الأذنين: "اللَّهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه"، وعند غسل الرجلين: "اللَّهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل فيه الأقدام"، ورد بها الأثر عن السلف الصالحين (¬1) خاتمتان: إحداهما: السنن التي أوردها، يعود يصفها في الغسل، التسمية، وغسل اليدين، والمضمضة والاستنشاق، والمبالغة فيهما، والتكرار، والمُوَالاة، وترك الاستعانة، والتنشيف، والنفض. وفي التسمية وجه: أنها لا تستحب في الغسل، وفي الموالاة طريق: أنها لا تجب في الغسل بلا خلاف. الثانية: ظاهر لفظ الكتاب حصر السنن في العدد المذكور، لكن للوضوء مَنْدُوبَات أخر. منها: أن يقول بعد التسمية: الحَمْدُ لله الذي جعل الماء طهوراً. وأنَّ يستصحب النية في جميع الأفعال. وأن يجمع في النية بين اللِّسان القلب. وأن يتعهد الماقين (¬2) بالسبابتين، وما تحت الخَاتِمَ بتحريك الخاتم، وكذلك المواضع التي يحتاج فيها إلى الاحتياط. وأن يبدأ في غسل الوجه بأعلاه، وفي مسح الرأس بمقدمه وفي اليد والرجل بأطراف الأصابع، ويختم بالمرافق، والكعب إن كان يصب الماء عليهما بنفسه، وإن صبه عليه غيره بدأ بالمِرْفَقِ، والكَعْبِ. وأن لا ينقص الماء المتوضأ به عن مدٍ. وأن لا يسرف في صب الماء. وأن لا يزيد على ثلاث مرات. وأن لا يتكلم في أثنائه. ولا يَلْطُم الوجه بالماء. وأن يتوضأ في مكان لا يرجع رشاش الماء إليه. وأن يُمِرَّ اليدَ على الأعضاء المغسولة. وأن يقول بعد الوضوء مستقبلاً للقبلة: أشهدُ أن لا إله إلا اللهُ، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، اللهمَّ اجعلني من التَّوابين، واجعلني من المتطهرين، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وليس لك أن تقول: هذا من الأذكار والأدعية، وقد أشار إليها في الكتاب، فلا يكون وراء ما ذكره؛ لأن الأدعية التي أشار إليها في الكتاب، هي المأثورة عند غسل الأعضاء، وهذا متأخر عن غَسْلِهَا. ¬
الباب الثاني في الاستنجاء
الْبَابُ الثَّانِي فِي الاسْتِنْجَاءِ وَهُوَ وَاجِبٌ، وَفِيهِ فُصُولٌ أَرْبَعَةُ قال الغزالي: الأوَّلُ فِي آدَابِ قَضَاءِ الحَاجَةِ: وَهِيَ أَنْ يَستُرَ عَوْرَتَهُ ولا يُحَاذِيَ بِهَا الشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالقِبْلَةَ واستدْبَاراً وَاسْتِدْبَاراً إِلاَّ إِذَا كلانَ فِي بِنَاءٍ، وَأَنْ لاَ يَجْلِسَ في مُتَحَدَّثِ النَّاسِ وَلاَ عَلَى الشَّوَارعِ. قال الرافعي: الاسْتِنْجَاء واجب عندنا، خلافاً لأبي حنيفة. لنا ظاهر قوله -عليه الصلاة والسلام: "وَلْيَسْتَنْجِ أَحَدُكُمْ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ" (¬1) ونحوه، ثم المحوج إلى الاستنجاء إنما هو قضاء الحاجة؛ فلذلك قدم فصلاً أولاً في آدابه، وذكر منها أموراً: أحدها: أن يستر عورته عن العيون بشجرة، أو بقية جدار، ونحوهما؛ لما روى عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ أَنْ يَجْمَعَ كَثِيباً مِنْ رَملٍ فَلْيَفْعَلْ" (¬2)، وهذا إذا لم يكن في بِنَاءِ ساتر، وهو أن يكون مسقفاً، أو مَحُوطاً يمكن تَسْقِيفُه، فلو كان في بُسْتَان مَحُوطٍ، وجلس بعيداً عن الجدار أو جلس في عَرْصَةِ دار فَيْحَاء، فهو كما لو جلس في الصحراء، فينبغي أن يستتر بشيء، ثم ليكن الساتر قريباً من مؤخرة الرجل، وليكن بينه وبين الساتر قدر ثلاثة أذرع، فما دونها، ولو أناخ راحلته وتستر بها، أو جلس في وَهْدَةٍ، أو نهر، أو أرخى ذَيْلَهُ حصل الغرض. الثاني: أَنْ لاَ يَسْتَقْبِلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بِفَرْجِهِ، فَقَد وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ (¬3)، ويشترك فيه الصحراء، والبنيان، كذلك ذكره المحاملي. الثالث: إذا كان في بناء، أو بين يديه ساتِرُ، فالأدب أن لا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، وإذا كان في الصحراء، ولم يستتر بشيء، حرم عليه استقبال القبلة. واستدبارها؛ لما روى: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا ذَهَبَ أَحَدَكُمُ الْغَائِطَ، فَلاَ يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، وَلاَ يَسْتَدْبِرْهَا بِغَائطٍ وَلاَ بَوْلٍ" (¬4) وروى: أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "لاَ تَسْتَقْبِلُوا ¬
الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ، وَلاَ بَولٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا، أَوْ غَرِّبُوا" (¬1). ولا يحرم ذلك في البناء، وإن كان الخبر مطلقاً، خلافاً لأبي حنيفة؛ وذلك لما روى عن ابن عمر -رضي الله عنهما - قال: "رَقَيْتُ السَّطْحَ مَرَّةً فَرَأَيْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- جَالِسًا عَلَى لَبَنَتَيْنِ، مُسْتَقْبِلاً بَيْتَ الْمَقْدِسِ" (¬2) ومن استقبل بيت المقدس بالمدينة، فقد استدبر الكعبة (¬3) وعن جابر قال: "نَهَانَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نَسْتَقِبْلَ الْقِبْلَةِ بِفُرُوجِنَا"، ثم رأيته قبل موته بعام مستقبل القبلة" (¬4). وسبب المنع في الصحراء، فيما ذكر الأصحاب أن الصحراء لا تخلو عن مُصَلٍّ من ملك، أو جني، أو إنسي، فربما وقع بصره على عورته، فأما في الأبنية، فالحشُوشُ لا يحضرها إلا الشياطين، ومن يصلي يكون خارجاً عنها، فيحول البناء بينه وبين المصلى، وليس السبب مُجَرَّدَ احترام الكعبة، وقد نقل ما ذكروه عن ابن عمر، وعن الشعبي -رضي الله عنهما-. الرابع: أن لا يجلس في متحدث الناس؛ كيلا يفسد عليهم مجلسهم، فيلعنوه، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "اتَّقُوا الْمَلاَعِنَ" (¬5). ثم في لفظ الكتاب في الأدب الثاني، والثالث كلامان: ¬
أحدهما: قوله: "ولا يُحَاذِي بها الشمس، والقمر، والقبلة، استقبالاً، واستدباراً، يقتضي المنع من استقبال الشمس والقمر، واستدبارهما جميعاً، كالقبلة سواء رجع قوله "استقبالاً واستدباراً" إلى الشمس والقمر، والقبلة، أو إلى القبلة وحدها، أما على التقدير الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن لفظة المحاذاة، وهي تشمل الاستقبال والاستدبار. وأكثر الكتب ساكتة عن استدبارهما، وإن كان المنع عن استقبالهما مشهوراً، لكنه صحيح حكاه في البيان عن الضيمري ورأيته في الشافي، لأبي العباس الجرجاني، وفي الخبر ما يدل عليه. الثاني: ظاهر كلامه يقتضي عَوْدَ الاستثناء في قوله: "إلا إذا كان في بناء" إلى الشمس، والقمر، والقبلة جميعاً؛ ولا شك أنه ليس كذلك؛ بل هو مخصوص بِالقِبْلَةِ، ثم الاحتراز عن استقبال النَّيرينِ واستدبارها ليس بواجب بحال، وإنما هو أَدَبٌ، والاحتراز عن استقبال الكعبة واستَدبارهما أدب في حال، وواجب في حال، كما سبق بيانه. وإذاعرفت ذلك فيتوجه للناظر أن يقول: إن أراد الإمام بالمنع حالة التحريم لم يحسن درجة في جملة الآداب، ولا الجمع بين القبلة والشمس والقمر في جملة واحدة، وإن أراد حالة الكراهة، فلم استثنى ما إذا كان في بناء، والأدب الاحتراز في البناء أيضاً؟ قال الغزالي: وَلاَ يَبُولَ فِي المَاءِ الرَّاكِدِ وَلاَ فِي الجِحَرَةِ وَلاَ تَحْتَ الأَشْجَارِ المُثْمِرَةِ وَلاَ فِي مَهَابِّ الرِّيَاحِ اسْتِنزَاهاً مِنَ البَوْلِ. قال الرافعي: ومن الآداب: أن لا يبول في الماء الرَّاكِدِ؛ لما روى: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَبولُ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ" (¬1) ويروى: "فِي الرَّاكِدِ". وهذا المَنْعُ يَشْمَلُ القليل والكثير؛ لما فيه من إلاسْتِقْذَارِ، ثم إن كان قليلاً ففيه شيء آخر، وهو أنه تنجيس للماء، وتعطيل لفوائده فإن كان بالليل زاد شيء آخر، وهو ما قيل: أن الماء بالليل للجِنِّ، فلا يبغي أن يبال فيه، ولا يغتسل؛ خوفًا من آفة تصيب من جهتهم. ومنها: أن لا يبول في الحُجْرَةِ؛ لما روى قتادة عن عبد الله بن سرجس، "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْهُ. قِيلَ لِقَتَادَةَ: مَا بَالُ الجُحْرَةِ؟ قَالَ: يُقَالُ: إِنَّهَا مَسَاكِنُ الجِنِّ" (¬2). ¬
ومنها: أن لا يجلس تحت الأشجار المثمرة؛ صيانة لها عن التَّلْويثِ والتَّنْجِيس، وهذا في البول والغائط جميعاً، وإن كان نظم الكتاب يخص البول. ومنها: أن لا يبول في مَهَابِّ الرياح؛ استنزاهًا من البول، وحذاراً من رَشَاشِهِ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ، فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَاب الْقَبْرِ مِنْهُ" (¬1) وروى "أَنَّه -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَتَمَخَّرُ الرِّيحَ" (¬2)، أي: ينظر أي مجراها، فلا يستقبلها؛ لئلا يُرَدُّ عليه البول، لكن يَسْتَدْبِرُهَا. قال الغزالي: وَيَعْتَمِدَ فِي الجُلُوس عَلَى الرِّجْلِ اليُسْرَى، وَيَعُدَّ النَّبْلَ وَلاَ يَسْتَنْجِيَ بِالمَاءِ فِي مَوْضِعِ قَضَاءِ الحَاجَةِ، وَلاَ يَسْتَصْحِبَ شَيئًا عَلَيْهِ اسْمُ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ، ويُقَدِّمَ الرِّجْلَ اليُسْرَى في دُخُولِهِ الخَلاَءَ واليُمْنَى فِي الخُرُوج، وأنْ يَسْتَبْرئَ مِنَ البَوْلِ بِالتَّنَحْنُحِ وَالنَّتْرِ. قال الرافعي: ومنها: أن يعتمد إذا جَلَسَ على الرجل اليسرى؛ لما روى عن سُرَاقَةَ بن مالك، قال: "عَلَّمَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَتَيْنَا الخَلاَءَ أَنْ نَتَوَكَّأَ عَلَى الْيُسْرَى" (¬3). ومنها: أن يعد النَّبَل إن كان يستنجي بالأحجار، ثم يشتغل بعد ذلك بقضاء الحاجة؛ لما روى: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتَّقُوا الْمَلاَعِنَ، وَأَعِدُّوا النَّبلَ" (¬4). والمعنى: فيه خوف الانتشار لو طالبها بعد قضاء الحاجة، والنَّبَلُ: أحجار الاستنجاء، جمع نَبَلَةٍ، وأصلها الحَصَاةُ الصغيرة. ومنها: أن لا يستنجي بالماء في موضع قضاء الحاجة؛ بل ينتقل عنه، ثم يستنجي تحرُّزاً من عَودِ الرَّشَاشِ إليه (¬5) إذا أصاب الماء النجاسة، وأما إذا كان يستنجي بالحجر، فلا يقوم عن الموضع؛ كيلا تنتشر النَّجَاسة. ¬
الفصل الثاني فيما يستنجى عنه
ومنها: أن لا يستصحب شيئاً عليه اسم الله تعالى، كالخاتم والدراهم التي عليها اسم الله تعالى، "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَخَلَ الخَلاَءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ" (¬1)؛ لأنَّه كَانَ عَلَيْهِ مُحَمَّد رَسُولُ الله (¬2)، وألحق باسم الله تعالى اسم رسوله -صلى الله عليه وسلم-، تعظيماً؛ وتوقيراً له كذلك يحترز عن اسْتِصْحَاب ما عليه شَيْءٌ من القرآن، وهل يختص هذا [الأدب] (¬3) بالبنيان، أم يعم البُنْيَان وَالصَّحَارِي؟ فيه اختلاف للأصحاب، والأظهر التعميم. ورأيت للصيمري: أنه إذا كان على فص الخاتم ذكر الله تعالى، خلعه قبل دخول الخلاء، أو ضم كفه عليه فخير بينهما، وكلام غيره يشعر بأنه لا بد من النَّزْع، نعم قيل: إنه لو غفل عن النزع حتى اشتغل بفضاء الحاجة، ضم كفه عليه حتى لا يظهر. ومنها: أن يُقَدِّمَ رجله اليُسْرَى في دخول الخَلاَءِ، واليمنى في الخروج على العكس من دخول المسجد، والخروج منه؛ لأن اليسار للأذى، واليمنى لغيره، وهل يختص ذلك بالبنيان، أم لا؟ اختلف فيه كلام الأصحاب، والذي ذكره في "الوسيط" يقتضي الاختصاص، لكن الأكثرين على أنه لا يختص، حتى يقدم رجله اليسرى إذا بلغ مَوْضِعَ جلوسه في الصَّحَرَاء، أيضاً، وإذا فرغ قدم اليمنى. ومنها: أن يستبرئ من البول بالتَّنَحْنُحِ عند انقطاعه، وبالنَّتْرِ ثلاثاً بأن يمر بعض أصابعه على أسفل الذَّكَرِ ويدلكه لإخراج ما هنالك من البقايا؛ وهذا للاسْتِنْزَاه من البول أيضاً، ويروى: أَنَّه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "فَلْيَتنُزْ ذَكَرَهُ" (¬4) ولو استبرأ بالمشي عُقَيْبَ البول فلا بأس، وأكثره فيما قيل: سبعون خطوة، ويكره حشو الإِحْلِيلِ بالقُطْنَةِ ونحوها. قال الغزالي: الْفَصْلُ الثَّانِي فِيمَا يُسْتَنْجَى عَنْهُ: وَهَي كُلُّ نَجَاسَةٍ ملَوثَةٍ خَارِجَةٍ عَن المَخْرَجِ المُعْتَادِ نَادِرةً كَانَتْ أَوْ مُعْتَادَة جَازَ الاقتِصَارُ فِيهَا عَلَى الحَجَرِ مَا لَمْ تَنْتَشَرْ إِلاَّ مَا يَنْتَشِرُ مِنَ العَامَّةِ وَلاَ يُقْتَصَرُ عَلَى الحَجَرِ فِي دَمِ الحَيْضِ، وَفِي النَّجَاسَاتِ النَّادِرَةِ قَولٌ أنَّهُ يَتَعَيَّنُ المَاءُ وَقِيلَ: المَذْيُ نَادِرٌ، وَاِذَا خَرَجَتْ دُودَةٌ لَمْ ثلوِّثْ فَفِي وُجُوبِ الاسْتِنْجَاءِ وَجْهَانِ. ¬
قال الرافعي: الخارج من البدن إما ريحٌ فلا اسْتنْجَاءَ منها، أو عين، فإن وجبت بخروجها الطهارة الكبرى كالمَنِيِّ والحَيْضِ، فيجب الغَسْلُ، ولا يمكن الاقتصار على الحِجَارَة (¬1) وإن لم تجب به الطهارة الكبرى نظر، إن لم تجب به الصغرى فإن كان طاهراً فذاك، وإن كان نجساً كدم الفَصْدِ والحِجَامة فيزال، كما تزال سائر النجاسات، ولا مدخل للجحر فيه، وإن وجبت به الطهارة الصغرى، فإن خرج من الثقبة التي تنفتح، ويحكم بانتفاض الطهارة بالخارج منها على ما سيأتي، فتزال كسائر النجاسات، أم للحجارة فيه مدخل. فهي وجوه ثلاثة قد ذكرها في الكتاب في باب الأحداث، ونذكرها في موضعها إن شاء الله -تعالى- وإن خرج من السَّبَيْلَيْنِ نظر، إن لم يكن مُلَوَّثًا كالدُّودَة والحَصَاة التي لا رطوبة معها، ففي وجوب الاستنجاء منه قولان: أصحها: لا يجب. لا بالماء، ولا بالحجر؛ لأن المقصود من الاستنجاء إزالة النجاسة، أو تخفيفها عن المحل، فإذا لم يتلوث المحل، ولم يتنجس فلا معنى للإزالة، ولا للتخفيف. والثاني: يجب؛ لأنه لا يخلو عن رطوبة (¬2) وإن قلت: وخفيت، وإن كان ملوثاً فينظر إن كان نادراً كالدم والقَيْحِ، ففيه قولان: أحدهما: أنه يتعين إزالته بالماء، رواه الربيع حيث حُكِيَ عن نصه: أنه إن كان في جوف مَقعَدَتِه بَوَاسير يخرج منها الدَّمَ والقَيْحُ يجب غسله بالماء، ووجهه أن الاقتصار على الحجر تخفيف على خلاف القياس، ورد فيما يعم به البلوى، فلا يلحق به غيره. والثاني: رواه المزني، وحرملة، وهو الأصح: أنه يجوز فيه الاقتصار على الحجر، نظراً إلى المخرج المعتاد، فإن خروج النجاسات منه على الانقسام إلى الغالبة والنادرة مما يتكرر ويعسر البحث عنها، والوقوف على كيفياتها، فيناط الحكم بِالمَخْرَج، ومنهم من قطع بهذا، وحمل ما رواه الربيع على ما إذا كان بين الإِلْيَتَيْنِ لا في الداخل. ومن جملة النجاسات النادرة المذي، فيجيء فيه هذا الاختلاف، وحكى عن القَفَّال تفصيل في النجاسات النادرة، وهو: أن ما يخرج منها مَشُوباً بالمعتاد كفى الحجر ¬
فيه، وإن تمحض النادر فلا بد من الماء، هذا في الخارج النادر: أما المعتاد فإن لم يعد المخرج فعليه أحد الأمرين، إما إزالته بالماء كسائر النجاسات، وإما التخفيف بجامد على الشرط المذكور في الفصل الثالث، وذلك أن الأصل في النجاسات الإزالة بالماء بحيث لا يبقى عَيْنٌ ولا أَثَرٌ، فإن جرى على الأصل فذاك، وإلا أجزأه الاقتصار على الأحجار؛ تخفيفاً. روى عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْغَائِطِ فَلْيُذْهِبْ مَعَهُ بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ، يَسْتَطِبُّ بِهَا، فَإِنَّهَا تُجزِئُ (¬1) عَنْهُ". وإن عدا المخرج نظر، إن لم ينتشر أكثر من القدر المعتاد، فكذلك يتخير بين الأمرين، وذلك القدر من الانتشار يتعذر، أو يتعسر الاحتراز عنه، ونقل المزنى -رحمه الله- أنه إذا عدا المخرج لا يجزي فيه إلا الماء، فمنهم من أثبته قولاً آخر، وزعم أن الضرورة تختص بالمحرج، فلا تسامح فيما عداه بالاقتصار على الأحجار، والأكثرون امتنعوا من إثباته قولاً، وانقسموا إلى مغلط ومؤول، وإن انتشر أكثر من القدر المعتاد، وهو أن يعدو المخرج وما حواليه، فينظر، إن لم يجاوز الغائط الألْيَتَينِ ففي جواز الاقتصار فيه على الأحجار قولان: أظهرهما: الجواز رواه الربيع، واحتج الشافعي -رضي الله عنه- لهذا القول بأن قال: "لم يزل في زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإلى اليوم رقَّة البطون". وكان أكثر أقواتهم التمر، وهو مما يرقق البطن، ومن رق بطنه انتشر خلاؤه عن الموضع، وما حَوَالَيْهِ، ومع ذلك أمروا بالاسْتِجْمَار. والثاني: ذكره في القديم: أنه لا يجوز؛ لأنه انتشار لا يعم ولا يغلب، فإذا اتفق وجب غسله كسائر النجاسات، وفيه طريقتان أخريان: إحداهما: القطع بالقول الأول، رواها الشيخ أبو محمد، والمسعودي. والثانية: القطع بالقول الثاني، حكاها كثيرون من الأئمة. وأما البول فالحَشَفَةُ فيه بمثابة الإِلْيَتَيْنِ في الغائط، والأمر فيه على هذا الاختلاف، وعن أبي إسحاق المروزي أنه قال: إذا جاوز البول الثُقْب لم يَجُزْ فيه الحجر قولاً واحداً، والخلاف والتفصيل في الغائط. والفرق أن البول ينفصل على سبيل التزريق، فيبعد فيه الانْتِشَارُ، وإن جاوز الغائط الإليتين، والبول الحَشَفَة، تعيَّنت الإزالة بالماء كسائر النجاسات؛ لأنه نادر نحوه؛ ولا فَرْقَ بين القَدْرِ المجاوز وغيره، ومنهم من جعل ما لم يجاوز على الخلاف، ثم حيث يجوز الاقتصار على الحجر فذاك، بشرط أن لا تنتقل النجاسة عن الموضع ¬
الذي أصابته عند الخروج، فلو قام وانضمت إليتاه عند الخطو، وانتقلت النجاسة تعين الماء، ويشترط أن لا يصيب موضع النَّجْو نجاسة من خارج حتى لو عاد إليه رَشَاش، ما أْصاب الأرض تعين الماء، ويشترط في النادر أن لا يَجِفَّ الخارج على الموضع، فإن جف تَعَيَّن الماء، وحكى القاضي الروياني: أنه إن كان يُقْلِعُهُ الحجر يجزي فيه الحجر، وإلا فلا، وأختار هذا الوجه -والله أعلم-. هذا فقه مَسَائِل [الفصل. وألفاظ الكتاب في بعض المواضع من الفصل تفتقر إلى مزيد بيان، فنقول: أما قوله] (¬1): الفصل الثاني فيما يستنجى عنه، فلفظ الاستنجاء يشمل الإزالة بالماء، والتَّخْفِيف بالأحجار؛ لأنه مشتق من النَّجْو وهو القَلْع، إلا أن المراد هاهنا إنما هو الاستنجاء بالحجر لا مطلق الاستنجاء، وإلا فلا يشترط في مطلق الاستنجاء كونه خارجاً من المَخْرَج المعتاد، ولا كونه غير مُنْتَشِرٍ، لكن قوله: في آخر الفصل: فإذا خرجت دُودَةٌ لم تلوَث ففي وجوب الاستنجاء وجهان، ليس المراد منه الاسْتِنْجَاء بالحجر؛ بل مطلق الاستنجاء على ما بينا المسألة من قبل، وقد عبر عن الخلاف في المسألة بالوجهين، وكذلك نقل الشيخ أبو محمد، والصيدلاني، والإمام، والأكثرون نقلوا قولين، ومنهم من حكاهما عن الجامع الكبير، والله أعلم. وأما قوله: كل نجاسة، يخرج عنه الأشياء الطاهرة، وقوله: مُلَّوَثَةٌ، يخرج عنه ما لا يلوث، واشتراط هذا القيد على الخلاف المذكور. وقوله: خارجة عن المخرج عن دَم الفَصْدِ والحِجَامَةِ، وكذا الخارج عن الثقبة المنفتحة، وإن حكمنا بانتفاض الطهر بالخارج منها، وفيه الخلاف الذي أشرنا إليه من قبل، لكن الأظهر أنه لا يقتصر فيه على الحجر، فلا بأس بخروجه عن الضابط. وقوله: نادرة كانت أو معتادة، جرى على أصح القولين في النَّجَاسَاتِ النَّادرة، وهو: أنه يقتصر فيها على الحجر، وقد ذكر القول الثاني بعد ذلك. وقوله: ما لم ينتشر إلا ما ينتشر من العامَّة، يَنْبَغِي أن تكون كلمة الاستثناء منه مرقوم بالواو؛ إشارة إلى مَذْهَب من جعل منقول المزني قولاً، فإن عدم الانتشار شرط عنده من غير استثناء، وكذلكَ قوله: ما ينتشر من العامة؛ إشارة إلى القول الذي رواه الربيع: أنه وإن زاد على ذلك جاز الاقْتِصَار فيه على الحَجَرِ ما لم يجاوز الإلْيَتَيْنِ، والذي ذكره جواب على القول المنسوب إلى القديم، واختيار له، وقد رجّحَه إمامُ الحرمين وكثيرون، لكن منقول الربيع أظهر كما سبق، وكذلك ذكره المسعودي، والقاضي الرُّوياني وآخرون، وبه أجاب المحاملي في المقنع. وأما قوله: المَذْيُ نادر فيقتضي إثبات خلاف في أنه هل يعد من النجاسات ¬
الفصل الثالث فيما يستنجى به
النادرة؟ ولكلامه في "الوسيط" إشعار به أيضاً، لكن الذي يشتمل عليه كتب الأصحاب قديمها وحديثها عده من النجاسات النادرة من غير التعرض لخلاف فيه، وطرح بعضهم لهذا السبب لفظة قيل: من الكتاب، وقد أحسن، ولك أن تستدرك فنقول ما ذكره في الضَّابط لا يحوي جملة الشرائط المعتبرة في جواز الاقْتِصَار على الحجر؛ لأن منها أن لا تَجِفَّ النجاسة على الموضع ولا تنتقل عنه، ولا تصيبه نجاسة أخرى كما سبق، وقد سكت عنها. قال الغزالي: الفَصْلُ الثَّالِثُ فِيمَا يُسْتَنْجى بِهِ: وَهُو كُلُّ عَيْنِ طَاهِرَةٍ مُنَشِّفَةٍ غَيْرِ مُحْتَرَمةٍ فَلاَ يَجُوزُ بِالرَّوْثِ وَالزُّجَاج الأَمْلَسِ وَالمَطْعُومِ وَفِي سُقُوطِ الفَرْضِ بِالمَطْعُومِ وَجْهَانِ، وَالعَظْمُ مَطْعُومٌ، وَالجِلْدُ الطَّاهِرُ يَجُوزُ الاسْتِنْجَاءُ بِهِ عَلَى أَصَحِّ الأَقْوَالِ. قال الرافعي: قوله: فيما يستنجى به أي: من الجَامِدَات، وله شروط: أحدها: أن يكون طاهراً خلافاً لأبي حنيفة. لنا ما روى: أنه -صلى الله عليه وسلم- "نَهَى عَنْ الاسْتِنْجَاءِ بالرَّوَثِ (¬1)، وَالرِّمَّةِ، ولأن النجاسة لا تزال بالنَّجس، كما لا تزال بالماء النجس، ولا فرق بين نجس العَيْنِ كالرَّوَثِ، وما تنجس بِعَارِض، ألا ترى أن الشافعي -رضي الله عنه- قال: ولا يستنجى بحجر قد مسح به مَرَّة إلا أن يكون قد طهر بالماء، فلو استنجى بنجس هل يتعين استعمال الماء بعد ذلك؟ أم له الاقتصار على الحجر؟ كما قبل استعماله؟ فيه وجهان: أحدهما: له الاقتصار على الحجر؛ لأن النجس لا يتأثر بالنجاسة، فيبقى حكمه كما كان، وأظهرهما أنه يتعيَّن الماء؛ لأن المحل قد أصابته نجاسة أجنبية باستعماله فيه، والاقتصار على الحجر تخفيف فيما تَعُمُّ به البَلْوَى، فلا يلحق به. والثاني: أن يكون منشفاً قالعًا للنجاسة، فما لا يقلع لملاسته كالزَّجَاج الأملس وَالقَصَبِ، والحديد المملس لا يجوز الاسْتِنْجَاء به؛ لأنه لا يزيل النجاسة، وينقلها عن موضعها، وكذلك ما لا يقلع لِلُزوجَتِهِ، أو لِتَنَاثُرِ أجزائه كالحمَمة الرَّخوة، والتراب لا يجوز الاستنجاء به، وقد نقل عن الشافعي -رضي الله عنه- جواز الاستنجاء بالمقابس، ونقل أنه لا يجوز بالحممة فمنهم من أثبت قولين، والأصح: تنزيلهما على حالين إن بقيت فيه صلابة، إما لضعف تأثير النار فيه، أو لقوة في جوهره كالغَضَا، فيجوز الاسْتِنْجَاء به، وهو المراد بالمَقَابسِ، وإن كان يَتَنَاثَرُ عند الاعتماد فلا يجوز، وهو المراد بالحممة، وكذلك نقل اختلاف النص في التراب، وأثبت بعضهم فيه قولين، وإن ¬
كان يتناثر، والأصح أنه حيث جوز أراد المَدَرَ المتماسك، وحيث منع أراد المتناثر؛ لأنه يلتصق بالنجاسة، ولا يتأتى التحامل عليه ولو تحامل لتعدت النجاسة موضعها، وانتشرت، ثم لو استنجى بما لا يقلع لم يسقط الفرض به، وإن انقى، ويتعين بعده الإزالة بالماء إن نقل النجاسة من موضع إلى موضع، وإن لم ينقل جاز الاقتصار على الحَجَرِ، وخرجوا على الشرط الأول. والثاني: امتناع الاستنجاء بالحجر الرَّطْبِ، ونحوه؛ لأن البَلَلَ الذي عليه ينجس بإصابة النجاسة إياه، ويعود شيء منه إلى مَحِلِّ النَّجْو، فيحصل عليه نجاسة أجنبية، ويكون كاستعمال الحجر النجس؛ ولأن الشيء الرطب لا يزيل النجاسة، بل يزيد التلوث والانتشار. وحكى القاضي ابن كج وغيره وجهاً آخر، أنه يجوز الاستنجاء بالشيء الرطب، ولمن نصره أن يقول لا نسلم أن البلل الذي عليه ينجس بإصابة النجاسة إياه، وإنما ينجس عندي بالانفصال كالماء الذي يغسل به النجاسات، وأما قوله: إنه لا يزيل النجاسة ممنوع، نعم لو كان عليه شيء محسوس من الماء فربما كان كذلك، أما مجرد البلل فلا. والثالث: أن لا يكون محترماً فلا يجوز الاستنجاء بالمطعومات لحرمتها، والعَظْمُ معدود من المَطْعُومَاتِ، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نَهَى عَنْ الاسْتِنْجَاءِ بالْعَظْمِ، وَقَالَ: إِنَّهُ زاد إخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ" (¬1). وليس له حكم طعامنا في تحريم الربا، فيه وغيره، وعند مالك لَا منع من الاسْتِنْجَاء بالعَظْمِ الطاهر، والخبر حُجَّةٌ عليه، ومن الأشياء المحترمة ما كتب عليه شيء من العلم، كالحديث والفقه، وفي جزء الحيوان المتصل به كَاليَدِ وَالعَقِب من المستنجى وغيره كَذَنَبِ الحمار وجهان: أصحهما: أنه لا يجوز الاستنجاء به؛ لحرمته، ومنهم من فرق بين أن يستنجى بيد نفسه [أو يد غيره، فقال: لا يجوز أن يستنجى بيد نفسه] (¬2) ويجوز أن يستنجى بيد غيره، كما يجوز أن يسجد على يد غيره دون يد نفسه، وعكس إمام الحرمين ذلك، فقال: له أن يستنجى بيد نفسه دون يد غيره، لأنه لا حرج على المرء في تعاطي النجاسات، ومهما جرى الخلاف في جزء الحيوان، ففي جملة الحيوان أولى، وصورته: أن يستنجى بعصفورة حية، وما في معناها، ولا يلحق بالمحترمات في هذا الحكم للذهب، والفضة في أظهر الوجهين فيجوز الاستنجاء بالقطعة الخَشِنَةِ من الذهب، والجواهر النفيسة، كما يجوز أن يستنجى بالقطعة من الدِّيْبَاج، ثم إذا استنجى ¬
بشيء محترم من مَطْعُومٍ وغيره عصى، وهل يجزئه ذلك عن الفرض؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن المقصود، قلع النجاسة، وقد حصل فصار كالاستنجاء باليمين. وأظهرهما: أنه لا يجزئه، لأن الاقتصار على الأحجار [من قبيل الرُّخَصِ، والرخص لا تُنَاط بالمعاصي؛ وعلى هذا فله أن يقتصر على الأحجار] (¬1)، كما لو لم يستعمل شيئاً إلا إذا نقل النجاسة عن موضعها، كما في الأَمْلَسِ، ويلتحق بهذا الشرط القول في الجِلْدِ، والطاهر منه ضَرْبانِ غير المدبوغ، وهو جلد المَأْكُول المُذكَّى، والمدبوغ من المأكول وغيره، أما غير المدبوغ ففي جواز الاستنجاء به قولان: أحدهما: الجواز كالثياب وسائر الأعيان، وإن كان فيه حرمة فليست هي، بحيث تمنع الاستعمال في سائر النجاسات فكذلك في هذه النجاسة. وأصحهما: المنع لأمرين: أحدهما: أن فيه دُسُومَةً تمنع التَّنْشِيفِ. والثاني: أنه مأكول ألا ترى أنه يؤكل على الرؤوس والأَكَارعِ، فصار كسائر المَطْعُومَاتِ، ومنهم من قال: لا يجوز بلا خلاف، وإليه مال الشَيخ أبو حامد، وكثيرون، وحملوا ما نقل من تَجْوِيزِ الاستنجاء على ما بعد الدِّبَاغِ. وأما الضرب الثاني: وهو المدبوغ، ففيه قولان أيضاً: أصحهما: الجواز؛ لأن الدِّباغ يزيل ما فيه من الدُّسُومة، وبقلبه عن طَبْعِ اللحوم إلى طبع الثياب والثاني لا يجوز؛ لأنه من جنس ما يؤكل، ويجوز أكله إذا دبغ، وإن كان جلد ميته على اختلاف فيه قد قدمناه، ومنهم من قال: يجوز هاهنا بلا خلاف، وما نقل من المنع محمول على ما قبل الدّباغ، وإذا جرينا على الطريقة الظاهرة، وهي إجراء القولين في الصورتين، واعتبرنا مُطْلَق الجلد انتظم ثلاثة أقوال، كما ذكر في الكتاب المنع مطلقاً، والتجويز مطلقاً؛ والفرق بين المدبوغ وغيره، وهو الأصح في المذهب، وإن جعل صاحب الكتاب الثاني أصح، وليس من شرط المستنجى به أن لا يكون قد استنجى به مرة أخرى، بل إن تلوث وتنجس جاز استعماله مرة أخرى إذا طهر وَجَفَّ، وإن لم ينجس كالحجر الثاني. والثالث: إذا لم يبق على الموضع شَيْءٌ جاز استعماله في الحال، وفيه وجه: أنه لا يجوز كالتراب المستعمل، ولو كان كذلك لما جاز أيضاً بعد غسله، ولم يختلفوا في جواز استعماله بعد الغسل. ¬
الفصل الرابع، في كيفية الاستنجاء
قال الغزالي: الفَصْلُ الرَّابعُ، فِي كَيْفِيَّةِ الاسْتِنْجَاءِ: فَيَسْتَنْجِي بِثَلاَثةِ أَحْجَار وَالعَدَدُ وَاجِبٌ (ح م ز). فَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ الإِنْقَاءُ اسْتَعمَلَ رَابِعاً حَصَلَ أَوْتَرَ بِخَامِسَةٍ، وَيَمُرُّ كُلَّ حَجَرٍ عَلَى جَمِيعِ المَوضِعِ عَلَى أَحْسَنِ الوَجْهَينِ، وَقِيلَ: إِنَّ وَاحِدَةٌ لِلصَّفْحَةِ اليُمْنَى وَوَاحِدَةً لِلصَّفْحَةِ اليُسْرَى وَوَاحِدَةً لِلوَسَطِ، وَينْبَغِي أَنْ يَضَعَ الحَجَرَ عَلَى مَوْضِع طَاهِرِ حَتَّى لاَ يَلْقَى جُزْءاً مِنَ النَّجَاسَةِ ثُمَّ يُدِير لِيخَتَطِفَ النَّجَاسَةَ وَلاَ يُمِرَّ فَيَنْقُلُهَا، فَإنْ أمَرَّ وَلَمْ يَنْقُلْ كَفَى عَلَى أَصَحَّ الوَجْهيْنِ وَيَسْتَنْجِي بِيَدِهِ اليُسْرَى، وَالأَفْضَلُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ المَاءِ والحَجَرِ. قال الرافعي: وفي الفصل مسائل: إحداها: إذا كان يستنجي بالجامد وجب أن يستوفي ثلاث مَسَحَات، إما بأحرف حجر واحد وما في معناه، أو بأحجار؛ لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ لِحَاجَتِهِ فَليَمْسَح ثَلاَثَ مَسَحَاتٍ" (¬1). وعن سلمان -رضي الله عنه- قال: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- "أَنْ لاَ نَجْتَزِئَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ". وظاهر الأمر للوجوب (¬2) فيجب رعاية العدد. وعند أبي حنيفة الاستنجاء مستحب من أصله، والعدد فيه غير مُسْتَحَبٍّ، وإنما الاعتبار للإنْقَاءِ. وقال مالك: إذا حصل الإنقاء بما دون الثَّلاَثِ كفى، ولأصحابنا وجه يوافقه حكاه أبو عبد الله الحناطي وغيره، ويحتج له بما روى: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ [مَنْ فَعَلَ فَقدْ أَحْسَنَ] وَمَنْ لاَ فَلاَ حَرَجَ" (¬3). ومن أوجب العدد حمله على ما بعد الثلاث؟ جمعاً بين الأخبار، وحينئذ لا حرج في ترك الإِيتَارِ، ثم قوله: وَلْيَسْتَنْجِ بثلاثة أحجار ليس لتخصيص الحكم بها؛ لأن غير الحجر بالشرائط المذكورة مشارك للحجر في تحصيل مقصود والاستنجاء، وقد روى أَنَّه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلاَثَةِ أَحْجَار، لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ ولا عَظْمٌ" (¬4). ¬
هذا يشعر بأن الحكم غير مخصوص بالحجر، وإلا فلا فرق بين الرَّجِيعِ والعَظْمِ وسائر ما ليس بحجر، ولعل ذكر الأحجار جرى لغلبتها والقدرة عليها في عامة الأماكن، ثم إذا استنجى بثلاثة أحجار ونحوها واستوفى العدد، لكنه لم ينق وجب عليه أن يزيد، حتى ينقى. فإنه المقصود الأصلي من شرع الاسْتِنْجَاء، فلو حصل الإنقاء بالرابعة استحب أن يِوتِرَ بخامسة؛ لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا اسْتَجمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُسْتَجْمرْ وِتْراً (¬1) ". وإذا عرفت ذلك لم يخف عليك أن قوله: فيستنجى بثلاثة أحجار مسوق على موافقة الخبر، وإلا فالحكم غير مخصوص بالأحجار، وقوله: استعمل رابعة. أي: وجوباً وقوله: أوتر بخامسة، أي: استحباباً. المسألة الثانية: في كيفية الاستنجاء، وجهان: أظهرهما: وبه قال ابن أبي هريرة وأبو زيد المروزي: أنه يمسح بكل حجر جميع المَحِلِّ، بأن يضع واحداً على مقدم الصفحة اليمنى فيمسحها [به إلى مؤخرها، ويديرها إلى الصفحة اليسرى فيمسحها] (¬2) به من مؤخرها إلى مَقْدِمِهَا، فيرجع إلى الموضع الذي بدأ منه، ويضع الثاني على مقدم الصفحة اليسرى، ويفعل به مثل ذلك، ويمسح بالثالث الصفحتين والمسربة. وتوجيهه ما روى: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ، يُقْبِلُ بِوَاحِدَةٌ وَيُدْبِرُ بِأُخْرَى، وَيُحَلِّقُ بِالثَّالِثِ (¬3). وَالثَّانِي": قاله أبو إسحاق، إنَّ حجراً للصفحة اليمنى، وحجراً لليسرى، وحجراً للوسط؛ لما روى: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "حَجَرٌ لِلصَّفْحَةِ الْيُمْنَى، وَحَجَرٌ لِلصَّفْحَةِ الْيُسْرَى، وَحَجَرٌ لِلْوَسَطِ (¬4) " وحكى في "التهذيب" وجهاً ثالثًا، وهو أنه يأخذ واحداً؛ فيضعه على مقدم المسرَبة، ويديره إلى مؤخرها، ويضع الثاني على مؤخرها، ويديره إلى مقدمها، ويحلق بالثالث، كأن المراد بالمسربة جميع الموضع، وعلى هذا الوجه يمسح بالحجر الأول، والثاني جميع الموضع، كأنه صَفْحَةٌ واحدة، ويدير الحجر الثالث على المنفد، بهذا يفارق هذا الوجه الأول، فإنه على ذلك الوجه يُطِيفُ الحجرين الأولين، ويمسح بالثالث جميع الموضع، وهذا الخلاف في الاستحقاق، أم في الأولوية، والاستحباب فيه وجهان عن الشيخ أبي محمد: أن الوجهين موضوعان على التنافي، فصاحب الوجه ¬
الأول لا يجيز الثاني، لأن تخصيص [كل حجر بموضع مما يمنع رعاية العدد الواجب، ولا يحصل في كل موضع إلا مَسْحَةٌ واحدة، وصاحب الوجه الثاني لا يجيز الأول؛ للخبر المصرح بالتخصيص] (¬1) ويقول العدد معتبر بالإضافة إلى جملة الموضع، دون كل جزء منه، وقال المعظم: الخلاف في الأولوية، والاستحباب لثبوت الروايتين جميعاً، وكل منهما جائز. وقوله في هذه المسألة: ويمر كل حجر على جميع الموضع -يعني- به المسح المشترك بين الإِمْرَارِ، والإِدْارَةِ، دون خصوص الإمرار، ألا تراه يقول بعد ذلك: يدير الحجر ولا يمره. المسألة الثالثة: ينبغي أن يضع الحجر على موضع طاهر بالقرب من النَّجَاسة؛ لأنه لو وضع على النجاسة لبقي شيء منها، ونشرها، وحينئذٍ يتعين الغسل بالماء، ثم إذا انتهى إلى النجاسة أدار الحجر قليلاً قليلاً حتى يرفع كل جزء منه جزءاً من النجاسة، ولو أمره من غير إدارة لنقل النجاسة من الموضع إلى الموضع وتعين الماء، ولو أمر ولم ينقل هل يجزئه ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن الجزء الثاني من المحل فيلقى ما تنجس من الحجر، والاستنجاء بالنجس لا يجوز. وأظهرهما: أنه يجزئه؛ لأن الاقتصار على الحجر رخصة، وتكليف الإدارة يضيق باب الرخصة، وقد يعبر عن هذا الخلاف بأن الإِدَارَةَ هل تجب أم لا؟ المسألة الرابعة: الأدب للاستنجاء باليسار دون اليمين؛ لما روى عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: "كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- اليُمْنَى لِطُهُورِهِ وَطَعَامِهِ، وَكَانَتْ اليُسْرَى لِخَلاَئِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَذًى" (¬2)، فإن كان يستنجي بالماء صَبَّه بيمينه ومسح بيساره، وإن كان يستنجي بالجامد ففي الغَائِطِ يأخذ الحجر بِيَسَارِهِ ويمسح به الموضع، ولا يستعين باليمنى، بخلاف ما في الماء، وكذلك تفعل المرأة في الاستنجاء من البول، وأما الرجل إذا كان يستنجي من البول فينظر إن استنجى بما لا يحتاج إلى ضبطه كالصخرة العظيمة والجدار أخذ ذكره باليسار ومسحه عليه ثلاثاً في مواضع (¬3)، وإن كان ¬
يحتاج إلى ضبطه كالحجر الصغير فيمسكه بين إِبْهَامَي الرجلين، أو بين العَقِبَيْنِ، ويأخذ ذَكَرَهُ بيساره، ويمسحه عليه فإن احتاج إلى الاستعانة باليمين أخذ الحجر باليمين والذكر باليسار ويحرك اليسار دون اليمين فلو حركها جميعاً أو خص اليمين بالحركة كان مستنجياً باليمين، ومنهم من قال: الأولى أن يأخذ الحجر بيساره والذكر بيمينه، ويمر الحجر على الذكر، لأن الاستنجاء يقع بالحجر فإمساكه باليسار أولى، والأول أظهر وأشهر؛ لأن مس الذكر باليمين مكروه، روى أبو قتادة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَمَسُّ ذَكَرَهُ بيَمِينِهِ" (¬1). وذكر بعضهم أنه لا طريق للاحتراز عن هذه الكراهية إلا الإمساك بين العَقبين، أو الإبهامين أما إذا استعمل اليمين فيه كان مرتكباً للنهي كيف فعل. الخامسة: الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر، أو ما في معناه "قَدْ أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ قُبَاءَ، بِذَلِكَ، وَأُنْزِلَ فِيهِ قَولُهُ تَعَالَى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} (¬2) " الآية. وفيه من طريق المعنى أن العَيُنَ تزول بالحجر والأثر بالماء، فلا يحتاج إلى مُخَامَرَةِ عَيْنِ النجاسة، وهي محبوبة، فإن اقتصر على أحدهما، فالماء أولى؛ لأنه يزيل العين والأثر، والحجر لا يزيل إلا العين، والله أعلم. ونختم الباب بمسألة في حال المستنجين باعتبار الذُّكُورة والأنوثة. فنقول: لا فرق بين الخنثى المشكل وبين واضح الحال في الاستنجاء، من الغائط وأما في البول فليس للمشكل أن يقتصر على الحجر إذا بال من مَسْلَكَيْهِ أو أحدهما؛ لأن كل واحد منهما إذا أفرد بالنظر احتمل أن يكون زائداً، فسبيل النجاسة الخارجة منه سبيل دم الفَصْدِ وَالحِجَامَةِ، نعم يجيء في مسلكيه الخلاف الذي نذكره في جواز الاقتصار على الحجر في الثقبة المنفتحة مع انفتاح المسلك المعتاد، إذا قلنا: تنتقض الطهارة بالخارج منها، وأما واضح الحال فالرجل مُخَيَّرٌ، إن شاء اقتصر على الماء، وإن شاء استعمل الأحجار، أو ما في معناها، وكذلك البِكْرُ؛ لأن البكارة تمنع من نزول البول في الفرج، وأما الثيب فالغالب أنها إذا بالت تَعَدَّى البول إلى فَرْجِهَا الذي هو مَدْخَلُ الذكر، ومخرج الولد؛ لأن ثقبة البول فوقه، فيسيل إليه، فإن تحققت أن الأمر كذلك لم يجزئها إلا الماء، وإن لم تتحقق جاز لها الاقتصار على الحجر؛ لأن موضع خروج البول لا يختلف بالثيابة والبكارة، وانتشار البول إلى غيره، غير معلوم، وحكى وجه: أنه لا يجوز لها الاقتصار على الحَجَرِ بحال، ثُمَّ القدر المَغسُول من الرجل ظاهر، وهو من المرأة ما يظهر إذا ¬
جلست على القدمين، وفي وجه: تغسل الثيب باطن فروجها، كما تخلل أصابع رجليها؛ لأنه صار ظاهراً بالثَّيَابَةِ (¬1). ¬
الباب الثالث في الأحداث، وفيه فصلان
قال الغزالي: الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْأحدَاثِ، وَفِيهِ فَصْلاَنِ الْفَصْلُ الأوَّلُ، فِي أَسْبَابِهَا وَلاَ تَنْتَقِضُ الطَّهَارَةُ بِالْفَصْدِ (¬1) (ح) وَالحِجَامَةِ (¬2) (ح) وَالقَهْقَهَة (ح) فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا وَأكْلِ مَا مَسَّتهُ النَّارُ (و). قال الرافعي: الحدث: يقع على الحالة الموجبة للوضوء، والحالة الموجبة للغُسْلِ، ألا ترى أنه يُقَالُ: هذا حدث أصغر، وذا حدث أكبر، لكن إذا أْطلق مجرداً عن الوصف بالصِّغَرِ والكِبَرِ كان المراد منه الأصغر غالباً، وهو الذي أراده في هذا الموضع، ثم له سبب وأثر، فجعل كلام الباب في فصلين: أحدهما: في الأسباب. والثاني: في الآثار، وتكلم أولاً فيما ليس من أسباب الحدث عندنا، واشتهر خلاف العلماء أيانا فيه، فمن ذلك الفَصْدُ والحِجَامَةُ، وكل خارج من غير السَّبيلين، لا ينقض الطَّهَارة، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: كل نجاسة خارجة من البدن تنقض الوضوء، كالدم إذا سال، والقيء إذا ملأ الفم، وبه قال أحمد، إلاَّ أنه لا يقول بالانتقاض إذا كان الدم قطرة أو قطرتين. لنا ما روى أنس: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- احْتَجَمَ وَصَلَّى وَلمْ يَتَوَضَّأْ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى غَسْلِ مَحَاجِمِهِ (¬3) ". ¬
وروى مثل مذهبنا عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن أبي أوفى، وأبي هريرة، وجابر بن عبد الله، وعائشة -رضي الله عنهم-. ومنها: القَهْقَهَةُ، فلا تنقض الوضوء، سواء وجدت في الصلاة أو في غيرها. وعند أبي حنيفة القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء، إلا في صلاة الجَنَازَةِ، لنا ما روي عن جابر -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الضَّحِكُ يَنْقُضُ الصَّلاةَ وَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ" (¬1). ومنها أكل ما مَسَّتْهُ النار، فلا يؤثر في انتقاض الطهارة. وقال أحمد: تَنْتَقِضُ الطهارة بأكل لحم الجَزُورِ، وحكى ابن القاص عن القديم قولاً مثله (¬2) لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "تَوَضَئوا مِنْ لَحُومِ الْإِبِلِ وَلاَ تَتَوَضَئوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَم" (¬3)، لنا ما روي عن جابر قال: "كانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- تَرْكُ الوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ" (¬4). ¬
قال الغزالي: وَإِنَّمَا تَنْتَقِضُ بأُمُورٍ أَرْبَعَةٍ (الْأَوَّلُ) خُرُوجُ الْخَارجِ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ رِيحًا كَانَ أَوْ عَينًا نَادِراً كَانَ أَوْ مُعتَادًا طَاهِرًا أَوْ نَجِساً. قال الرافعي: نواقض الوضوء عندنا أربعة: أحدها: خروج الخارج من أحد السَّبِيلَيْنِ، يدل عليه الإجماع والنصوص، كقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} (¬1) وقوله -صلى الله عليه وسلم- في المَذْي: "يَنْضَحُ فَرْجَهُ بِالْمَاءِ ويتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ" (¬2). ولا فرق بين العين والريح قال -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ وُضُوءَ إِلاَّ مِنْ صَوْتٍ (¬3) أَوْ رِيحٍ" وقد يفرض خروج الريح من القُبُلِ في النساء، ومن الإحليل أيضاً؛ لأدرة وغيرها فينقض الطهارة أيضاً خلافاً لأبي حنيفة، لنا القياس على الدُّبُرِ، ولك أن تعلم قوله: (ريحاً) بالحاء إشارة إلى هذا الخلاف، وإذا كان الخارج عيناً فلا فرق بين أن يكون معتاداً أو نادراً كالذود والحصا خلافاً لمالك في النادر إلا في دم الاسْتِحَاضة. لنا القياس على المعتاد بعلَّة أنه خارج من السبيلين، وظاهر ما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ" (¬4). ونحو ذلك. وأما قوله طاهراً أو نجساً فقد يتوهم أن المراد من الطاهر المَنِيُّ، وليس كذلك، بل المراد منه الدود والحصا وسائر ما هو طاهر العين. وأما المني فلا يوجب خروجه الحدث وإنما يوجب الجَنَابة، ولا يُغْتَرُّ بتعميم الأئمة القول في أن الخارج من السبيلين ناقض للطهارة، فإن هذا ظاهر يعارضه نصهم في تصوير الجنابة المجردة عن الحَدَثِ، على أن من أنزل بمجرد النظر أو بالاحتلام ¬
قاعداً فهو جنب غير محدث، وَحُكِيَ في "البيان" عن القاضي أبى الطيب (¬1) أن خروج المني يوجب الحدثين جميعاً، الأصغر، لأنه خارج من أحد، السبيلين، والأكبر؛ لأنه مني، والمذهب المشهور هو الأول، فالشيء مهما أوجب أعظم الأثرين بخصوصه لا يوجب أهونها بعمومه، كزنى المُحْصَن، لما أوجب أعظم الحَدَّين؛ لأنه زنى المحصن، لا يوجب أدناهما لأنه زنى، ولا يخفى أن المراد من قوله: "خروج الخارج من السبيلين"، هو الخروج من أيهما كان، ولا يشترط في الانتقاض الخروج من كليهما، وكل ما ذكرناه فيمن هو واضح الحال في أمر الذُّكورة والأنوثة، أما المشكل (¬2) فإن خرج (¬3) الخارج من فرجيه جميعاً فهو حدث؛ لأن أحدهما أصلي، وإن خرج من أحدهما، فالحكم كما لو خرج من واضح الحال خارج من ثقبة انفتحت تحت المعدة مع انفتاح السبيل المعتاد، وسيأتي حكمه. قال الغزالي: وَفِي مَعْنَاهُ ثُقْبَةٌ انْفَتَحَتْ تَحْتَ المَعِدَةَ مَعَ انْسِدَادِ المَسْلَكِ المُعْتَادِ، فَإِنْ كَانَ فَوْقَ المَعِدَةِ أَوْ تَحْتَهَا وَلَكِنْ مَعَ انْفِتَاحِ المَسْلَكِ المُعْتَادِ فَقَوْلاَنِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَنْتَقِضُ فَلَوْ كَانَ الْخَارجُ نَادِراً فَقَوْلاَنِ، وَفِي جَوَازِ الإِقْتِصَارِ فِيهِ عَلَى الْحَجَرِ ثَلاثَةُ أوْجُهِ يُفَرَّقُ فِي الثَّالِثَ بَيْنَ المُعْتَادِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَا فِي انْتِقَاضِ الطُّهْرِ بِمَسِّهِ وَوُجُوبِ الغُسْل بِالإِيلاجِ فِيهِ وَحِلِّ النَّظَرَ إِلَيْهِ تَرَدُّدٌ. قال الرافعي: لو انسد السبيل المعتاد وانفتحت ثقبة تحت المعدة، نُظِر إن خرج منها النجاسة المعتادة وهي البول والعُذْرَة (¬4) انتقض الطهر؛ لأن الإنسان لا بد له في مُطَّرد العادة من مَنْفَذٍ يخرج منه الفضلات التي تدفعها الطبيعة، فإذا انسد ذلك قام ما ¬
انفتح مقامه، وإن خرج غيرها كالدُّود والحَصَا والدم والريح، ففيه قولان: أحدهما: لا ينتقض به الوضوء؛ لأن غير الفَرْج إنما يقام مقامه لضرورة أن الإنسان لا بد له من منفذ تنفصل فيه الفضلات المعتادة الَتي تخرج لا محالة ولا ضرورة في خروج غير المعتاد. وأظهرهما: أنه ينتقض؛ لأنه منفذ تنتقض الطهارة بالمعتاد إذا خرج منه، فكذلك بغيره كالفرج الأصلي. ولو انفتحت الثقبة فوق المعدة، وقد إنسد السبيل المعتاد، أو تحت المعدة والمعتاد منفتح، فهل تنتقض الطهارة بالخارج المعتاد منها في الصورتين؟ فيه قولان: أصحهما: لا. أما في الصورة الأولى فلأن ما يخرج من فوق المعدة، أو من حيث يُحَاذيها لا يكون مما أحالته الطبيعة، لأن ما تحيله تلقيه إلى الأسفل، فهو إذًا بالقَيْءِ أشبه، وما في الثانية فلأن غير الفرج إنما يعطي حكمة، لضرورة أن الإنسان لا بد له من مسلك، فيقام المنفتح عند انسداد المعتاد مقامه، ولا انسداد. والثاني: ينتقض؛ لأن الخارج النجاسة المعتادة، ولا يضر في أن تتحول الثقبة التي تنفصل فيها الفضلات إلى مكان أعلى أو أسفل. وهاتان الصورتان هما المجموعتان في قوله: "فإن كان فوق المعدة أو تحتها ولكن مع انفتاح المَسْلِك المعتاد" المعنى: فإن كان فوق المعدة (¬1) مع الانسداد أو تحتها ولكن مع الانفتاح، فإن قلنا: لا تنتقض الطهارة بخروج المعتاد في الصورتين فلا كلام، وإن قلنا: تنتقض، فهل تنتقض بخروج النادر، فيه القولان المذكوران في خروج النادر من ثقبة تحت المعدة مع انسداد السبيل المعتاد، وإن انتفى المعنيان، فلم يكن المعتاد منسدًّا، ولا المنفتح تحت المعدة، فلا انتقاض (¬2) كالقيء والرعاف ونحوهما، ومتى حكمنا بالانتقاض فيتفرع عليه فروع: أحدها: هل يجوز الاقتصار في الخارج منه على الأحجار وما في معناها أم تتعين الإزالة بالماء؟ حكى صاحب الكتاب فيه ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه يتعين الماء؛ لأنه نادر والاقتصار على الحَجَرِ خارج عن القياس، فلا يكون في معنى السبيلين. وثانيها: يجوز الاقتصار عليه؛ لأنه منفذ ألحق بالسبيلين في كون الخارج منه ناقضاً للطهارة، فكذلك في جواز الاقتصار على الحجر. ¬
وثالثها: يفرق بين أن يكون الخارج النجاسة المعتادة فيجوز، وبين أن تكون غيرها فلا، لانضمام ندرة الخارج إلى ندرة المَخْرَج، وحكى إمام الحرمين بدل الوجوه أقوالاً، وهو والإمام الغزالي -قدَّس الله روحيهما- مسبوقان بهذا الاختلاف، لأن القاضي أبا القاسم ابن كج (¬1) حكى في المسألة قولين وهما: الأول والثاني وحكاهما أبو علي صاحب الإفصاح (¬2): وجهين، وكذلك روى الصيدلاني (¬3). الثاني: هل تنتقض الطهارة بمسه؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه التحق بالفرج في انْتِقَاضِ الطهارة بالخارج منه فكذلك في حكم الانتقاض بمسه وأصحهما لا؛ لأنه لا يقع مسه في مَظَنَّةِ الشَّهوة؛ ولأنه ليس بفرج حقيقة، فلا يتناوله النصوص [الواردة في مس الفرج، وحينئذ وجب أن يحكم ببقاء الطهارة. الثالث: إذا أوْلَجَ فيه هل يجب الغُسْل؟ فيه وجهان] (¬4) لا يخفى توجيههما مما ذكرنا. ¬
الرابع: هل يَحِلُّ النظر إليه؟ فيه هذان الوجهان، وموضع الوجهين ما إذا كان فوق السرة، أما إذا كان تحتها فلا يحل النظر إليه لا مَحَالة، ولو كان بحيث يُحَاذي السُّرَةَ جرى الوجهان، كما لو كان فوقها؛ لأن الصحيح أن السُّرَةَ لَيْسَتْ من العَوْرَةِ والظاهر أنه لا يثبت شيء من الأحكام. قال إمام الحرمين: والتردُّد في هذه الأحكام على بعده لا يتعدى أحكام الأحداث، فلا يثبت في الإيْلاَجِ فيه شيء من أحكام الوَطْءِ سوى ما ذكرناه في وجوب الغُسْلِ، نعم كان شيخي يتردد في حل النظر وهو قريب هذا كلامه. ورأيت لأبي عبد الله الحناطي (¬1) طرد التردد في إيجاب المَهْرِ وسائر أحكام الوطء والله أعلم. قال الغزالي: (الثَّانِي) زَوَالُ الْعَقْلِ بِإغْمَاء أَوْ جُنُونٍ أَوْ سُكْرٍ أَوْ نَوْمٍ، كُلُّ ذلِكَ يَنْقُضُ الطُّهْرَ إِلاَّ النَّوْمَ قَاعِدًا (م وز) مُمْكِّناً مَقْعَدَهُ مِنَ الْأَرْضِ. قال الرافعي: زوال العقل يفرض بطرقين: أحدهما: غير النوم كالجنون والإغماء والسكر، فينتقض الوضوء بكل حال، لأن النوم ناقض على ما سيأتي، وإنما كان كذلك، لأنه قد يخرج منه الخارج من غير شعوره به، ومعلوم أن الذُّهُولَ عند هذه الأسباب أبلغ، والسُّكْرُ الذي ينقض الوضوء هو الذي لا يبقى معه الشعور دون أوائل النَّشْوَةِ، وحكى في "التَّتمة" وجهاً ضعيفاً: أن السكر لا ينقض الوضوء أصلاً. والثاني: النوم وإنما تحصل حقيقته إذا استرخى البَدَنُ، وزال الاسْتِشْعَار، وخفى عليه كلام من يتكلم عنده، وليس في معناه النّعاس، وحديث النفس، وهو من نواقض الوضوء في الجُمَلة لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْعَيْنَانِ وِكَاءُ السَّهِ (¬2)، فَإذَا نَامَ الْعَيْنَانُ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ، فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ". ¬
وروى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنِ اسْتَجْمَعَ نَوْماً فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ" (¬1). وتفصيله بأن يقال: النوم إما أن يكون في غير الصلاة أو في الصلاة، إن كان في غير الصلاة نظر إن نام قاعداً ممكناً مقعده من مَقَرِّه فلا ينتقض وضوءه، لأنه يأمن استطلاق الوِكَاء إذا نام على هذه الحالة، وقد روي أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كانوا يَنْتَظِرُونَ العِشَاء، فَينَامُونَ قُعُودًا، ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلاَ يَتَوَضَّئُونَ" (¬2). وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ وُضُوءَ عَلَى مَنْ نَامَ قَاعِداً، إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعاً، فَإِنَّ مَنْ نَامَ مُضْطَجِعاً] اسْتَرخَتْ مَفَاصِلُهُ" (¬3) ولا فرق بين أن يكون مستنداً أو غير مستند، بعد أن يكون المَقْعَدُ متمكناً من الأرض، ولا بين أن يكون السِّنَاد بحيث لو سل لسقط، وبين أن لا يكون كذلك، وعن الشيخ أبي محمد أنه إن كان بحيث لو سل لسقط بطل الوضوء، وإن نام على غير هيئة القعود بالصفة المذكورة بطل الوضوء، سواء كان مضطجعاً أو مُسْتَلْقياً أو قائماً أو على هيئة الساجدين أو الراكعين، (وفي قول لا ينتقض الوضوء بالنوم قائماً مستوياً) (¬4)، وفي قول: لا ينتقض الوضوء بالنوم على أي هَيْئة كانت من هيئات المُصَّلين عند الاختيار، وإن لم يكن في الصلاة وبه قال أبو حنيفة لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: ¬
"لاَ وُضُوءَ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا" (¬1) لكن أئمة الحديث ضعفوه، فعلى هذين القولين لا يَنْحَصِرُ الاستثناء في حالة القعود، على خلاف ما ذكره صاحب الكتاب، وعن الشافعي -رضي الله عنه- قول آخر أن تلك الحالة أيضاً لا تستثنى بل النوم في عينه حدث، لإطلاق ما سبق من الأخبار، وكما في سائر الأحداث لا فرق فيها بين حالتي القعود وغيرها، وإلى هذا القول صار المزني. وعن مالك أنه إن نام جالساً قليلاً لم ينتقض [وضوءه وإن نام كثيراً انتقض] (¬2) هذا كله إذا كان في غير الصلاة، [أما إذا كان في الصلاة] (¬3) فقولان: القديم: أنه لا ينتقض وضوءه، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا نَامَ الْعَبْدُ فِي صَلاَتِهِ بَاهَى اللهُ بِهِ مَلاَئِكَتَهُ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي رُوحُهُ عِنْدِي وَجَسَدُهُ سَاجِدٌ بَيْنَ يَدَيَّ" (¬4). والجديد: أن حكمه كما لو كان خارج الصلاة، لما سبق من الأخبار وللقياس على سائر الأحداث، ولأن النوم إنما أثر؛ لأنه قد يخرج منه الشيء من غير شعوره به، وهذا المعنى لا يختلف بين أن يكون في الصلاة أو خارج الصلاة (¬5). وإذا عرفت ما ذكرنا عرفت أن قوله: "أو سكر" ينبغي أن يكون مُعلمًا بالواو، وكلمة الاستنثاء من قوله: "إلا النوم قاعداً" بالقاف والزاي إشارة إلى القول الذي حكينا أن عين النوم حَدَثٌ، وإليه ذهب المزني (¬6) فإنه لا استثناء على ذلك القول وقوله: ¬
"وكذا النوم قاعداً" بالميم لما ذكرنا من مَذْهَبِ مالك، وكذلك ينبغي أن يكون قوله: "كل ذلك ينقض الطهر" مُعْلماً بالقاف إشارَةً إلى القول المنقول في النوم قائماً أنه لا ينقض، وفي النوم على هيئات المصلِّين، وكذلك في النوم في الصلاة، فإنها مُسْتثناة أيضاً على هذه الأقوال. قال الغزالي: (الثَّالِثُ) لَمْسُ بَشَرَةِ الْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ نَاقِضٌ لِلطَّهَارَةِ (م ح) فَإِنْ كَانَتْ مَحْرَماً أَوْ صَغِيرَةً أَوْ مَيِّتَةَ أَوْ مَسَّ شَعْرَهَا أَوْ ظُفُرَهَا أَوْ عُضْوًا مُبَاناً مِنْهَا فَفِي الكُلِّ خِلاَفٌ، وَفِي المَلْمُوسِ قَوْلاَنِ، وَاللَّمْسُ سَهْوًا أَوْ عَمدًا سَوَاءٌ (وم). قال الرافعي: اللَّمْسُ من نواقض الوضوء خلافاً لأبي حنيفة، إلا في المُبَاشَرَةِ الفاحشة، وهي أن يضع الفَرْجَ على الفَرجِ مع الانْتِشَار، ولمالك وأحمد فإنهما اعتبرا الشهوة في كونه ناقضاً، هذه رواية عن أحمد وعنه روايتان أخريان: إحداهما: مثل مذهبنا، والأخرى: مثل مذهب أبي حنيفة. لنا قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (¬1) عطف اللَّمْسَ على المجيء من الغائط، ورتب عليهما الأمر بالتيمم عند فقدان الماء، فدل على كونه حدثاً كالمجيء من الغائط، والمراد من اللمس الجَسُّ باليد، كذلك روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- وغيره ثم ينظر إن وجد اللمس من الرجل بالصفات المذكورة في الكتاب، وهي أن يلمس بشرة المرأة الكبيرة الأجنبية فَتَنْتَقِضُ طَهَارته. فإن قيل: الشرط في الانتقاض أن لا يكون بينهما حائل ولم يتعرض له. قلنا: في قوله "لمس بشرة المرأة" ما يفيد ذلك؛ لأنه إذا كان بينهما حائل فلا يقال: لمس ولا مس، ولهذا لو حلف أن لا يَمْسُّ امرأة فمسها من وراء حَائلٍ، قال الأصحاب: لا يَحْنَثٌ، وإن فقد شيء من الصفات التي ذكرها نظر إن لمس غير البشرة، كالشعر والظفر والسن ففيه وجهان: أحدهما: ينتقض وضوءه كسائر أجزاء البدن، ولهذا يسوى بين الكل في الحِلِّ والحرمة وإضافة الطلاق، وأصحهما: لا ينتقض، لأن الالْتِذَاذ بهذه الأشياء إنما يكون بالنظر دون اللمس، أو معظم الالْتِذَاذ فيها بالنظر. وإن كان الملموس عضواً مباناً منها ففيه وجهان: أحدهما: أنه كالمتصل ألا ترى أن مس الذكر المقطوع كمس الذكر المتصل على الصحيح. ¬
وأصحهما: أنه لا ينتقض، لأن المس حدث لظاهر الآية، وفهم من جهة المعنى اعتبار الوقوع في مَظَنَّةِ الشهوة (¬1) ولمس المُبَانِ ليس في مظنة الشهوة، ولا يقال لمن لمسه: لمس امرأة، بخلاف من مس الذكر المبان فإنه قد مس الذكر. وإن لمس صغيرة، والمراد التي لم تبلغ حَدَّ الشهوة، ففيه وجهان: أحدهما: نعم، لظاهر الآية، وأصحهما: لا، لأنه ليس في مظنَّة الشهوة، فصار كلمس الرجلِ الرجلَ. ومنهم من يقول في المسألة قولان كما في المحرم، وإن لمس محرماً فقولان: أحدهما: أن حكمها حكم الأجنبيات في اللمس لعموم الآية، وأصحهما: لا، لأنها ليست في مظنَّة الشهوة بالإضافة إليه، ولا فرق بين محرَمِيَّة النَّسب والرِّضَاع والمُصَاهرة في اطِّراد القولين وإن لمس ميتة ففيه وجهان أيضاً، ينظر في أحدهما إلى عموم اللفظ وفي الثاني إلى أن لمسها ليس في مظنة الشهوة، والظاهر الأول، كما يجب الغُسْلُ بالإيلاجَ فيها، ولم يذكر مسألة الميتة في "الوسيط"، وإذا عرفت ما ذكرناه تبين لك أن الخَلاف الذي أبهمه في قوله: "ففي الكل خلاف"، قولان في مسألة المحرم، ووجهان في سائر المسائل، وهذا مما ينبغي أن يعتني به محصل هذا الكتاب، فإنه كثيراً ما يرسل ذكر الخلاف والتردد في مسائل يعطف بعضها على بعض، وهو قول في بعضها ووجه في البعض، فينبغي أن يُضْبَطَ. ثم كما ينتقض وضوء الرجل إذا لمس بهذه الشرائط، ينتقض وضوء المرأة إذا لَمَسَتْ بهذه الشَّرائط، وفي الملموس قولان: أصحهما: أنه ينتقض وضوءه أيضاً لاستوائهما في اللَّذة، كما أن الفاعل والمفعول يستويان في حكم الجماع. والثاني: لا ينتقض، لما روى عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أصابت يدي أخْمُصَ قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة، فلما فرغ من صلاته قال: "أَتَاكِ شَيْطَانُكِ" (¬2) ولو انتقض طهر الملموس لما أتم الصلاة، ثم حكى قولان في أن الملموس من هو: أحدهما: أن الملموسة هي المرأة، وإن وجد فعل اللمس منها، والرجل لامس. والثاني: وهو الأَصَحُّ المشهور، أن الَّلامس من وجد منه فعل اللمس رجلاً كان أو امرأة، والملموس الآخر، ويخرج مما ذكرناه قول أن المرأة لا ينتقض وضوءها وإن ¬
لمست وإن نفى المُصَنِّف في "الوسيط" أن يكون في الانتقاض خلاف، ثم لا فرق بين أن يتفق اللمس عمداً أو سهواً كسائر الأحداث، ولا بين أن يكون بشهوة أو بغير شهوة. وحكي وجه أن اللمس إنما ينقض الوضوء إذا وقع قصداً (¬1)، وكان تَخْصِيصُ اللمس بالذَّكَرِ في الكتاب إنما كان لمكان هذا الوجه، وإلا فسائر الأحداث أيضاً عمدها وسهوها سواء، لكن أبا عبد الله الحناطي روى في مس الذكر ناسياً وجهين أيضاً، وحكى في اللَّمس أن ابن سريج ذهب إلى اعتبار الشهوة، كما صار إليه مالك قال: وحكى ذلك عن الشافعي -رضي الله عنه- أيضاً ولمس العجوز كغيرها، ولمس العضو الأشَلِّ والزائد كلمس الصحيح والأصلي، وفي الصور الثلاث وجه آخر. قال الغزالي: (الرَّابعُ) مَسُّ الذّكَرِ بِبَطْنِ الكَفِّ نَاقِضٌ (ح ز) لِلْؤضُوءِ وَكَذَا مَسُّ فَرْجِ المَرْأَةِ وَكَذَا مَسُّ حَلْقَةِ الدُّبُرِ (م) عَلَى الجَدِيدِ وَكَذَا فَرْجُ البَهِيمَةِ عَلَى القَدِيمِ وَكَذَا فَرْجُ المَيِّتِ (و) وَالصَّغِيرِ (م) وَكَذَا مَحَلُّ الجَبِّ (و)، وَفِي الذَّكَرِ المُبَانِ وَجْهَانِ، وَفِي المَسِّ بِرَأْسِ الأَصَابع وَجْهَانِ، وَبِمَا بَيْنَ الأَصَابع لا يَنْتَقِضُ عَلَى الصَّحِيحِ. قال الرافعي: مَسُّ الذكر ناقض للوضوء خلافاً لأبي حنيفة ومالك، فإن حكم المس عندهما على ما ذكرنا في اللمس: لنا حديث بسرة بنت صفوان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَليَتَوَضَّأْ" (¬2) وإنما ينتقض الوضوء إذا مس بالكَفِّ، والمراد بالكف الرَّاحَة وبطون الأصابع، وقال أحمد: تنتقض الطهارة سواء مس بظهر الكف أو بِبَطْنها: لنا أن الأخبار الواردة في الباب جرى في بعضها لفظ اللمس، وفي بعضها لفظ الإفضاء، ومعلوم أن المراد منهما واحد، والإفضاء في اللغة: اللمس ببطن الكف (¬3). ¬
ولو مس بِبَطْنِ أصبع زائدة نظر إن كانت على استواء الأصابع فهي كالأصلية على أصح الوجهين، وإن لم تكن على اسْتِوَاء الأصابع فلا في أصح الوجهين، ولو كانت له كَفَّان فإن كانتا عاملتين فبأيتهما مسَّ انتقض الوضوء، وإن كانت إحداهما عاملة دون الأخرى انتقض بالمس بالعاملة دون الأخرى، ذكره القاضي الروياني (¬1) وصاحب "التهذيب"، وحكى بعضهم خلافاً في اليد الزائدة مطلقاً، واليد الشلاَّء كالصحيحة في أصح الوجهين، وكذا الذكر الأشل كالصحيح. وحكم فرج المرأة في المس حكم الذكر، لما روى عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَمَسُّونَ فُرُوجَهُمْ ثُمَّ يصَلَّونُ وَلاَ يَتَوَضَئُونَ" قالت عائشة: بأبي وأمي هذا للرجال أفرأيت النساء، قال: "إذَا مَسَّتْ إِحْدَاكُنَّ فرْجَهَا فَلْتَتَوَضَّأْ" (¬2). وفي حلقة الدُّبُرِ وهي ملتقى المنفذ قولان: في القديم: لا ينتقض الوضوء بمسه، وبه قال مالك؛ لأن الأخبار وردت في القُبُلِ وهو الذي يفضي بمسه إذا كان على سبيل الشهوة إلى خروج المذي وغيره، فأقيم مسَّه مقام خروج الخارج، بخلاف الدبر. وقال في الجديد: ينتقض؛ لأنه فرج فينتقض الوضوء بمسّه؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَمَسُّونَ فُرُوجَهُمْ وَلاَ يَتَوَضَئُونَ" (¬3) وبالقياس على القُبُلِ، ومن الأصحاب من جزم بما قاله في الجديد، ونفى الخلاف فيه، وعن أحمد روايتان كالقولين، وفي فَرْج البَهِيمَة قولان حكى عن القديم أن مسه كمس فرج الآدمي؛ لظاهر قوله: "مِنْ مَسِّ الْفَرْجِ الْوُضُوء" (¬4)؛ ولأن فرج البهيمة كفرج الآدمي في الإيْلاَجِ، فكذلك في حكم المس وهذا القول في القبل دون الدبر، فإن دبر الآدمي لا يلحق على القديم بالقبل، فمن غيره ¬
أولى (¬1). وقال في الجديد: لا أثر لمسه كما لا يجب ستره، ولا يحرم النظر إليه، ولا يتعلق به خِتَانٌ ولا اسْتِنْجَاء، ولأن لمس إناث البهائم ليس بحدث، فكذلك مس فروجها، وقطع بعضهم بما قاله في الجديد. وفي مَسِّ فرج الميت ذكراً كان أو أنثى وجهان: أصحهما: وهو المذكور في الكتاب: أنه كفرج الحَيِّ لشمول الاسم وبقاء الحُرْمَة. والثاني: لا أثر لمسه لزوال الحياة وخروج لمسه عن مظنَّة الشهوة. وفي فرج الصغيرة وجهان: أصحهما: أنه كفرج الكبير لما ذكرنا. والثاني: لا، لما روي: "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- مَسَّ رَبِيبَةَ الْحَسَنِ أَوِ الْحُسَيْنِ، وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ" (¬2): ومس محل الجَبِّ من المَجْبُوب هل يؤثر فيه، وجهان: أصحهما: نعم، لأن مسّه مظنة خروج الخارج منه فأشبه الشاخص. والثاني: لا؛ لأنه مس محل الذكر دون الذكر وقد حكى عن القفال أن الموجهين مركبان على أحد أصلين: إما مس حلقة الدبر. فإن قلنا: إنه لا يؤثر فهذا أولى. وإن قلنا: يؤثر فهاهنا وجهان؛ لأن الحلقة طاهرة بأصل الخلقة، وهذا قد طهر بعارض، وأما مس الثقبة المنفتحة مع انْسِدَاد المَسْلَكِ المعتاد فيه وجهان سبق ذكرهما، وعلى هذا فالانتقاض هاهنا أولى؛ لأنه أصلي، والوجهان في المسألة فيما إذا لم يبق شيء شاخص أصلاً، فإن بقي شيء فلا خلاف في أن مسه ناقض، وفي الذكر المبان وجهان: أصحهما: أنه كالمتصل بشمول الاسم له. والثاني: لا؛ لخروج لمسه عن مظنة الشهوة ولعلك تقول: رجح الأئمة من ¬
الخلاف في مسائل اللمس الوجه الناظر إلى وقوعه في محل الشَّهوة ومظنتها، حتى قالوا لا تنقض الطهارة بلمس المحرم والصغيرة على الأصح وهاهنا عكسوا ذلك فقالوا: الأصع الانتقاض بمس فرج الميت والصغير، ولم يعتبروا الشهوة فما الفرق. فالجواب: أن اللَّمْسَ والمَسَّ متقاربان في أمر الشهوة، وحصول الخلاف إذا وقعا في غير مظنة الشهوة، إلا أن الشافعي -رضي الله عنه- نظر في اللمس إلى شيء آخر، إذا كان الممسوس فَرْج الغير، وهو أنه بالمس هاتك حرمة الممسوس فرجه، فحكم بانتقاض وضوئه، منعاً له عن ذلك، ولهذا لم يحكم بانتقاض طَهَارة المَمْسُوس فرجه؛ لأنه لا هتك منه، بخلاف الملموس حيث انتقض طهره على أظهر القولين، لشمول معنى الشهوة، وكان الهتك أرجح المعنيين عند الشافعي -رضي الله عنه- والنظر إليه أولى، ألا تراه علل في مس فرج البهيمة لا يوجب حدثاً، فقال: لأنه لا حرمة لها، ولا تعُبّد عليها -والله أعلم-. وهذه المسائل كلها في المس ببطن الكف، أما لو مس برءوس الأصابع، ففيه وجهان: أحدهما: أن المَسَّ بها كالمس بالراحة؛ لأنها من جنس بشرة الكف، ويُعْتَاد المس بها بالشهوة وغيرها وأظهرهما: أنه لا يؤثر المس بها؛ لأنها خارجة عن سمت الكف، ولا يعتمد على المس بها وحدها من أراد معرفة ما يعرف باللمس من اللين والخُشُونة وغيرهما، وفيما بين الأصابع أيضاً وجهان، وعدم الانتقاض فيه أظهر، وقد نقلوه عن نص الشافعي -رضي الله عنه- وأطبقوا على ترجيحه، وأما في رءوس الأصابع، فمنهم من رجح القول بالانْتِقَاض، وكأنه لهذا التفاوت صرح بأن الصحيح عدم الانتقاض في المسألة الثانية، وسكت عن الترجيح والتصحيح في الأولى، والمعنى برأس الإصبع موضع الاستواء بعد المنحرف الذي يلي الكف، فإنه من الكف بلا خلاف، ثم من يقول: بأن المس برأس الإصبع ناقض يقول: باطن الكف ما بين الأظفار، والزّند (¬1)، أي: في الطول، ومن يقول: إنه غير ناقض يقول: باطن الكف هو القدر المنطبق إذا وضعت إحدى اليدين على الأخرى، مع تَحَامُل يسير والتقييد بقولنا: مع تحامل يسير، ليدخل فيه المنحرف الذي ذكرناه، وطرف الكَفِّ وهو حرف اليد على الوجهين في رءوس الأصابع. قال الغزالي: وَإِذَا مَسَّ الخُنْثَى مِنْ نَفْسِهِ أحَد فَرْجَيْهِ لَم يَنْتَقِضْ لاحْتِمَالَ أنَّهُ زَائِدٌ، ¬
وَإِنْ مَسَّ رَجُلٌ ذَكرَهُ أَوِ امْرَأَةٌ فَرْجَهُ انْتَقَضَ إِذْ لاَ يَخْلُو عَنْ مَسِّ وَلَمْسٍ، وَإِنْ مَسَّ رَجُلٌ فَرجَهُ أَوِ امْرَأَة ذَكَره لَمْ يَنْتَقِضْ لاحْتِمَالِ أَنَّ المَلْمُوسَ زَائِدٌ، وَلَوْ أَنَّ خُنْثَيَيْنِ مَسَّ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ الفَرْجَ وَمَسَّ الآخَرُ الذَّكَرَ، فَقَدِ انْتَقَضَ طَهَارَةُ أَحَدِهِمَا لاَ بِعَيْنِهِ، وَلكِنْ يَصِحُّ صَلاَةُ كُلِّ وَاحِدٍ وَحْدَهُ، لأَنَّ بَقَاءَ طَهَارَتِهِ مُمْكِنٌ. قال الرافعي: ما سبق من المسائل فيما إذا اتفق المس، ولم يكن في الماسِّ ولا في الممسوس إشكال في حكم الذُّكورة والأنوثة، فإن كان ففيه مسائل: إحداها: إن مسّ الخُنْثَى المشكل فرجاً واضحاً فالحكم على ما سبق، وإن مس فرج نفسه نُظِر، إن مس فرجيه جميعاً انتقض وضوءه، لأنه إن كان رجلاً فقد مس ذكره، وإن كانت امرأة فقد مست فرجها، وإن مس أحدهما لم ينتقض وضوءه، لأنه إن مس الذكر فيجوز أن يكون أنثى، وهو سلعة زائدة، وإن مس الآخر فيجوز أن يكون رجلاً وهو ثقبة زائدة، وإن مس أحدهما وصلَّى الصبح مثلاً ثم توضأ، ومس الآخر وصلى الظهر ففي المسألة وجهان: أحدهما: أنه يقضيهما جميعاً؛ لأن إحدى صلاتيه وَاقِعَةٌ مع الحدث. وأظهرهما: أنه لا يقضي واحدة منهما؛ لأن كل صلاة مُفَرَدٌ بحكمها، وقد بني كل واحدة على ظن صحيح فصار كما لو صلى صلاتين إلى جهتين باجتهادين، وإن مس أحدهما وصلى الصبح، ثم مس الآخر وصلى الظهر من غير وضوء بينهما أعاد الظُّهر؛ لأنه محدث عندها، ومضت الصبح على الصحة. الثانية: لو مس الواضح فرج مشكل نُظِر، إن مس رجل ذكره انتقض وضوءه؛ لأنه إن كان رجلاً فقد مس الذكر، وإن كانت امرأة فقد لمس امرأة، وإن مست امرأة فرجه انتقض وضوءها أيضاً لمثل هذا المعنى، وهذا إذا لم يكن بين الخُنْثَى والماس محرمية وغيرها، مما يمنع لمسه على أنه ينتقض به الوضوء، فإن كان فلا انتقاض، وإن مس الرجل فرجه لم ينتقض وضوءه؛ لاحتمال أن يكون رجلاً، والممسوس ثقبة زائدة، وإن مسّت المرأة ذكره فكذلك لا ينتقض وضوءها؛ لاحتمال أن يكون الخُنْثَى امرأة، والممسوس سلعة زائدة. والضابط أن الواضح إذا مس منه ما له انتقض وضوءه، فإن مس ما ليس له فلا. ثم إذا حكمنا بانْتِقَاض طهارة الواضح فلا نقول: الخنثى ملموس حتى يعود في انتقاض طهارته القولان، بل هو مَمْسُوس حتى لا تنتقض طهارته؛ طرحًا للشك؛ واستصحاباً للطهارة. والثالثة: لو مس مشكل فرج مشكل آخر نظر، إن مس فرجيه جميعاً انتقض
وضوؤه كما لو مسهما من نفسه، وكذلك لو مس ذكر مُشْكل وفرج مشكل آخر ينتقض وضوؤه أيضاً، لكن هاهنا ينتقض لعلة المس، أو اللمس، وإن مس أحد فرجيه لا غير لم ينتقض وضوؤه؛ لاحتمال كونه عضواً زائداً، ولو مس أحد المشكلين فرج الآخر، ومس الآخر ذكر الأول انتقض طهارة أحدهما، لا بعينه؛ لأنهما إن كانا رجلين فقد أحدث ماس الذكر، وإن كانتا امرأتين فقد أحدثت ماسة الفرج، وإن كان أحدهما رجل والآخر امرأة فقد أحدثا جميعاً بسبب اللمس، فإذاً طهارة أحدهما باطلة لا محالة، لكنه غير متعين، وما من واحد منهما أفردناه بالنَّظر، إلا والحدث في حقه مشكوك فيه، فنستصحب يقين الطهارة، ولا نمنع واحداً منهما عن الصلاة، ونظائر ذلك لا تخفى. وأما قوله في الكتاب في هذه المسألة: "ولكن تصح صلاة كل واحد منهما وحده" ففي كلمة "وحده" إشكال؛ لأن المفهوم منه أن لكل واحد منهما أن يصلى منفرداً، ويمتنع أن يقتدى بالآخر، كما نقول: إذا اختلف اجتهاد اثنين في إنَائَيْنِ مشتبهين، صلَّى كل واحد منهما وحده، يريد به ما ذكرنا، لكن اقتداء الخُنْثَى بالخنثى ممتنع على الإطلاق، فإن معنى التقييد في هذه المسألة: أن كلمة وَحْدَهُ يشبه أن يكون من سَبْقِ القلم، لا عن قَصْدٍ وَتَعَمُّدٍ؛ لأنه في "الوسيط" لم يتعرض لذلك، وإنما قال: "لكن تصح صلاتهما، ويأخذ كل واحد منهما باحتمال الصّحة"، وإن أتى بها عن قصد، فقد ذكر بعضهم أن فائدة التقييد أنه لا تجزئ صلاة واحد منهما خلف الآخر قطعاً، وإن بان بعد الفراغ كون الإمام رجلاً، بخلاف ما إذا اقتدى الخُنْثَى بالخنثى في غير هذه الصورة، ثم بان بعد الفراغ كون الإمام رجلاً، فإن في وجوب القضاء قولين -والله أعلم-. قال الغزالي: وَالْيَقِينُ لاَ يُرفَعُ بِالشَّكِّ (م) لاَ فِي الطَّهَارَةِ وَلاَ فِي الْحَدَثِ، وَلَو تَيَقَّنَ أنَّهُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ تَوَضَّأَ وَأَحْدَثَ وَلَمْ يَدْرِ أَيُّهُمَا سَبَقَ أَسْنَدَ الوَهْمَ إِلَى مَا قَبْلَهُ، فَإِنْ انْتَهَى إِلَى الْحَدَثِ فَهُوَ الآنَ مُتَطَهِّرٌ لأَنَّهُ تَيَقَّنَ طُهْرًا بَعْدَهُ وَشَكَّ فِي الحَدَثِ بَعْدَ الطُّهْرِ، وَإنِ انْتَهَى إِلَى الطُّهْرِ فَهُوَ الانَ مُحْدِثٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَسْتَصْحِبُ مَا قَبْلَ الْحَالَتَيْنِ وَيَتَعَارَضُ الظَّنَّانِ. قال الرافعي: من القواعد التي يَنْبَنِي عليها كثير من الأحكام الشرعية استصحاب اليقين، والإعراض عن الشَّكِّ، والأصل فيما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ، أَمْ لاَ؟ فَلاَ يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمسَجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحاً" (¬1). وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ ¬
الشَّيْطَانَ لَيَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ، وَيقُولُ: أَحْدَثْتَ، أَحْدَثتَ، فَلاَ يَنْصَرِفَنَّ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً، أَوْ يَجِدَ رِيحاً" (¬1) ولا فرق عندنا بين أن يَتَيقَّنَ الطهارة، ويشك في الحَدَثِ بعده، أَوْ يتيقَّن الحدث ويشك في الطهارة بعده، بل يستصحب اليقين في الحالتين، خلافاً لمالك حيث قال: إذا استيقن الطهارة، وشك في الحدث، أخذ بالحدث احتياطاً، وتوضأ إذا كان خارج الصلاة وإن كان في الصلاة فله أن يمضي في صلاته، وما رويناه من الخبر حجة عليه، لأنه مطلق، وحَكَى في "التتمة" وجهاً عن بعض الأصحاب يوافق مذهب مالك. ومن نظائر الشك في عروض الحدث ما إذا نام قاعداً، ثم تمايل وانتبه، ولم يدر أيهما سبق، فلا ينتقض وضوءه، بخلاف ما إذا عرض الانتباه وكان بعد التَّمَايُلِ يلزمه الوضوء. ومنها ما إذا شك في أنه لمس الشعر، أو البشرة إذا قلنا: إنه لا أثر للمس الشعر. ومنها ما إذا مس الخنثى فرجه مرتين، وشك في أن الممسوس ثانياً هو الممسوس أولاً، أو الفرج الآخر. ومنها ما لو شك في أن ما عرض له رؤيا، أو حديث نفس فلا يلزمه الوضوء في شيء منها، وكذلك القول في الشك في الحدث الأكبر، وهذا كله إذا عرف سبق الطهارة، أما إذا لم يعرف ذلك بأن تيقن أنه بعد طلوع الشمس توضأ وأحدث، ولم يَدْرِ أيهما سبق، أنه الآن على ماذا؟ ففي المسألة وجهان: أصحهما: قال صاحب التلخيص: والأكثرون يؤمر بإسناد الوَهْمِ إلى ما قبل طلوع الشمس وتَذَكَّر ما كان عليه من الطهارة والحدث، فإن تذكر أنه كانَ محدثاً فهو الآن على الطهارة؛ لأنه تيقن الطهارة بعد ذلك الحدث، وشك في تَأَخُّرِ الحدث المعلوم بعد الطلوع عن تلك الطهارة، وإن تذكر أنه كان متطهراً فهو الآن محدث؛ لأنه تيقن حدثاً بعد تلك الطهارة، وشك في تأخر الطهارة عن ذلك الحدث، ومن الجائز سبقها على الحدث، وتوالي الطهارتين، وهذا إذا كان الشخص ممن يعتاد تجديد الطهارة، فإن لم يكن التجديد من عادته فالظاهر أن طهارته بعد الحدث، فيكون الآن متطهراً، وإن لم يتذكر ما قبلها فلا بد من الوُضُوء؟ لتعارض الاحتمالين من غير تَرْجِيح، ولا سبيل إلى الصلاة مع التردد المَحْضِ في الطهارة؛ ومنهم من قال: يؤمر بالتذكُّر، لكنه إن تذكر الحدث قبل الطلوع فهو الآن محدث أيضاً، وإن تذكر الطهارة فهو الآن متطهر، لأن ما يذكره من قبل معلوم، فيستصحب ويتعارض الظنان الطارئان بعده، لتقابل الاحتمالين، والوجه الثاني، أنه لا نظر إلى ما قبل الطلوع، ويؤمر بالوضوء بكل حال؛ أخْذاً بالاحْتِيَاطِ. ثم نتكلم في قوله: "واليقين لا يرفع بالشك" في ابتداء هذا الفصل، من ثلاثة أوجه: ¬
أحدها: قد يتوهم أن هذا الكلام متصل بآخر مسألة الخنثيين، وهو قوله: "لأن بقاء طهارته ممكن"، ولا شك أنه صالح لذلك، لكنه لم يقصد تذنيب المسألة به، وإنما أراد افتتاح قاعدة مقصودة في نفسها، وإيراده في "الوسيط" يوضح ذلك، ثم لا يخفى تخريج مسألة الخنثيين على هذه القاعدة. الثاني: لا نعني بقولنا: اليقين لا يرفع ولا يترك بالشك يقيناً حاضراً، فإن الطهارة والحدث نقيضان، ومهما شككنا في أحد النقيضين فمحال أن نَتَيَقَّنَ الآخر، ولكن المراد أن اليقين الذي كان لا يترك حكمه بالشك، بل يستصحب؛ لأن الأصل في الشيء الدَّوام والاستمرار، فهو في الحقيقة عمل بالظن وطرح للشك. الثالث: المشهور من معنى الشك التردد في طرفي وجود الشيء وعدمه بصفة التساوي، فإذا حدث له هذا التردُّد في الحدث بعد تيقن الطهارة، أو في الطهارة بعد تيقن الحدث لم يلتفت إليه واستصحب ما كان، وهذا الحكم لا يختص بالشك في طرف الحدث، بل لو كان الحادث ظن الحدث بعد تيقُّن الطهارة فهو كالشك في أنه يجوز له الصلاة؛ استصحاباً ليقين الطهارة، لكن لو ظَنَّ الطهارة بعد الحدث لم يستصحب حكم الحدث [بل له أن يصلي بالظن، فإذاً حكم الشك واحد في الطرفين، وحكم الظن في الحدث] (¬1) خلاف حكمه في الطهارة. قال الغزالي: قَاعِدَةٌ تَنْكَشِفُ حَالُ الخُنْثَى بِثَلاَثِ طُرُقٍ: (الأوُلَى): خُرُوجُ خَارج مِنَ الفَرْجَينِ فَإِنْ بَالَ بِفَرْجِ الرِّجَالِ أَوْ أَمْنَى فَرَجُلٌ وَإِنْ بَالَ بِفَرْجِ النِّسَاءِ أَوْ حَاضَ فَامْرَأَةً فَإنْ بَالَ بِفَرْجِ الرِّجَالِ وَحَاضَ بِفَرْجِ النِّسَاءِ قِيلَ: التَّعْوِيلُ عَلَى المَبَالِ؛ لأَنَّهُ أَدْوَمُ وَقِيلَ: مُشْكِلٌ (الثَّانِيَةُ): نَبَاتُ اللِّحْيَةِ وَنُهُودُ الثَّدْيِ فِيهِ خِلاَفٌ، وَالأَظْهَرُ أَنَّهُ لاَ عِبْرَةَ بِهِمَا كمَا لاَ عِبْرَةَ بِتَأخُّرِ النَّبَاتِ وَالنُّهُودِ عَنْ أَوَانِهِمَا (الثَّالِثَةُ): أَنْ يُرَاجَعَ الشَّخْصُ لِيُحْكَمَ بِمَيْلِهِ فَإِذَا أَخْبَرَ لاَ يُقْبَلُ رُجُوعه إِلاَّ أَنْ يُكَذِّبَهُ الحِسُّ بِأَنْ يَقُولَ: أَنَا رَجُلٌ ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا. قال الرافعي: لما تكلم في صور مَسِّ الخنثى أراد أن يبين ما ينكشف به حال الخُنْثَى، فذكر له طرقًا. منها: خروج الخارج من أحد الفَرْجَيْنِ، وذلك على قسمين: أحدهما: خارج لا يوجب الغُسْل، وهو البول، فإذا بال بفرج الرجال فَرَجُلٌ، وإن بَالَ بفرج النساء فامرأة، لما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ¬
في الذي له ما للرجال وما للنساء: "يُورَثُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ" (¬1). وهذا بشرط أن يكون له ما يشبه آلَةَ الرجال، وما يشبه آلة النساء، ويكون بوله من أحدهما. فأما إذا لم يكونا له، وهو يبول من ثقبة، أو كان له، لكنه لا يبول بهما، فلا دلالة في بوله. ولو بال بهما جميعاً، ففيه وجهان: أحدهما: أن دلالة البول قد سقطت. وأصحهما: أن ما يختص بسبق الخروج، أو تأخر الانقطاع، فالحكم له، فإن وجد أحد المعنيين في أحدهما، والآخر في الثاني، فالأخذ بسبق الخروج أولى، وإن فقد المعينان فيهما سقطت دلالة البول، ولا حكم للكثرة، ولا للتَّزْرِيقِ والتَّرْشِيش في أصح الوجهين. والثاني بأن الحكم للأكثر، وأنه إن زرق بهما فرجل، وإن رشش فامرأة، وإن زرق بهذا ورشش بذلك فحينئذ تسقط دلالة البول. والقسم الثاني: خارج موجب للغسل، كالحَيْضِ، والمَنِيِّ، فإذا أمنى بفرج الرجال فرجل، وإن أمنى بفرج النساء، أو حاض فامرأة، وذلك بشرطين: أحدهما: أن ينفصل في وقت إمكان خروج المني والحيض. والثاني: أن يتكرر خروجه، ليتأكد الظن. ولا يتوهم كونه اتفاقياً، ولو أمنى من الفرجين جميعاً فوجهان: أحدهما: أنه تسقط هذه الدلالة، ويستمر الإشكال. وأصحهما: أنه لو أمنى منهما على صفة مني الرجال يكون رجلاً، ولو أمنى منهما على صفة مني النساء يكون امرأة؛ لأن الظاهر أن المني الموصوف بصفة مني الرجال ينفصل من الرجال، وكذلك ما هو بصفة مني النساء ينفصل من النساء، نعم لو أمنى من فرج الرجال على صفة مني النساء، أو من فَرْجِ النساء على صفة مني الرجال، أو أمنى من فرج الرجال على صفة منيهم، ومن فرج النساء على صِفَةِ منيهن يستمر الإشكال. ومن هذا القسم خروج الولد، فيفيد القطع بالأُنوثَةِ حتى يترجح على ما يعارضه من الأمَارَاتِ، أما لو تعارض البول مع الحَيْضِ، أو مع المني، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحكم بمقتضى البول؛ لأنه دائم متكرر، فيكون أقوى دلالة، وأصحهما: أنه يستمر الإشكال ويتساقطان. ومنها نبات اللِّحية ونُهُود الثدي، وفيهما وجهان: ¬
أحدهما: أن نَبَاتَ اللحية يدل على الذُّكورة، ونهود الثدي على الأنوثة؛ لأن اللِّحىَ إنما تكون للرجال غالباً، وتدلي الثديين للنساء غالباً؛ فيستدل بهما على الذكورة، والأنوثة، وأظهرهما أنه لا عبرة بهما؛ لأنه لا خلاف أن عدم نَبَات اللحية في وقته لا يقتضي الأنوثة، وعدم تدلي الثديين في وقته لا يقتضي الذكورة، ولو جاز الاستدلال بنبات اللحية على الذكورة لجاز الاستدلال بعدمه على الأنوثة؛ لأن الغالب من حال من لا يلتحى في وقته الأنوثة، كما أنِ الغالب من حال من يَلْتَحِي الذكورة. وأجرى بعضهم الوجهين في نزول اللبن، أيضاً، وذهب بعض الأصحاب إلى أنه تعد أضلاع الخنثى من جانبيه، فإن نقص عددها من الجانب الأيسر فهو دليل الذكورة، وإن تساوى عددها من الجانبين فهو دليل الأنوثة، وظاهر المذهب أنه لا عبرة بذلك، والتفاوت بين الرجل والمرأة في عدد الأضلاع غير مَعْلُومٍ، ولا مُسَلَّم. ومنها: أن يراجع الخنثى، فإن قال أميل إلى الرجال استدللنا عى الأنوثة، وإن قال أميل إلى النساء استدللنا به على الذكورة؛ لأن الله تعالى أجرى العادة بميل الرجال إلى النساء، والنساء إلى الرجال بالطبع، وهذا إذا عجزنا عن الأمَارَاتِ السابقة، وإلا فالحكم لها؛ لأنها محسوسة معلومة الوجود، وقيام الميل غير معلوم، فإنه ربما يكذب في إخباره، ومن شرط الاعتماد على إخباره وقوعه بعد العَقْلِ والبلوغ، كسائر الروايات والأخبار، ومن الأصحاب من قال: يكفي وقوعه في سِنِّ التمييز، كالحَضَانة يخيَّر فيها الصبي بين الأبوين في سن التَّمْييز، والمذهب الأول، لأن اختيار الخنثى لازم، فلا حكم له قبل البلوغ، كالمولود إذا تداعاه اثنان لا يصح انْتِسَابُهُ قبل البلوغ، والاختيار في الحَضَانَةِ ليس بلازم، ثم يتعلق بفصل الاختيار فروع: أحدها: إذا بلغ وهو يجد من نفسه أحد الميلين يجب عليه أن يخبر عنه، فإن أخر عصى. الثاني: لا يخبر بالتَّشهِّي فإنه غير مخير، ولكن يخبر عما يجده من ميله الجِبلِّي. الثالث: لو زعم أنه لا يميل إلى الرجال ولا إلى النساء، أو أنه يميل إليهما جميعاً استمر الإشكال. الرابع: إذا أخبر عن أحد الميلين لزمه، ولا يقبل رجوعه بعد ذلك؛ لاعترافه بموجبه، نعم لو وجدت الدلالة القاطعة بعد إخباره عن الذكورة، وهي الولادة غيَّرْنَا الحكم؛ لأنا تيقنا خلاف ما ظنناه، وكذا لو ظهر حمل بعده تبين بطلان إخباره، كما لو حكمنا بشيء من الدلائل الظاهرة، ثم ظهر به حمل بطل ذلك، وقد ذكر هذا الفرع في
الفصل الثاني في حكم الحدث
الكتاب، لكن للمتأمل وقفة عند قوله: "فإذا أخبر لا يقبل رجوعه إلا إذا كذبه الحِسِّ" لأن ظاهر الاسْتِثْنَاء يقتضي قبول الرجوع عند الوِلاَدة، وإذا ولدت فلا عبرة بالرُّجُوع، ولا معنى له، بل يبطل الحكم السابق سواء، وجد الرجوع أم لا، وكأنه أراد أن لا يقبل رجوعه، ويجري عليه حكم قوله الأول، إلا أن يكذبه الحس بالولادة، فالاستثناء يرجع إلى إجزاء حكم القول الأول عليه، لا إلى عدم قبول الرجوع، وكذلك أورد إمام الحرمين -رحمه الله- هذه اللفظة. الخامس: ذكرنا أن الاختيار إنما يرجع إليه عند فقد الأمارات الظاهرة، فلو رجعنا إليه لفقدها، ثم وجد بعض تلك الأمَارَات يجوز أن يقال: لا نُبَالِي به ونستصحب الحكم الأول، إلا أن توجد دَلاَلَةٌ قاطعة (¬1) وهذا قضية قوله: (إلا أن يكذبه الحس) إذا قدرنا عَوْدَ الاستثناء إلى ما بيَّناه، ويجوز أن يقال: يعدل إلى الأمارة الظاهرة، ويحكم بها كما إذا تداعى اثْنَانِ مَوْلُودًا، ولم يكن قائفًا (¬2) فانتسب بعد البلوغ، واختار ثم وجدنا القائف تقدم القِيَافَةِ على اختياره -والله أعلم-. قال الغزالي: الفَصْلُ الثَّانِي فِي حُكْمِ الحَدَثِ وَهُوَ المَنْعِ مِنَ الصَّلاَةِ وَمَسِّ المُصْحَفِ وَحَمْلِهِ وَيَسْتَوِي (ح) فِي المَسِّ الجَلْدُ وَالحَوَاشِي وَمَحِلّ الكِتَابَةِ، وَفِي مَسِّ الخَرِيطَةِ وَالصُّنْدُوقِ (ح) وَالعِلاقةِ وَتَقْلِيب الأَوْرَاقِ بقَضِيب وَحَمْلِ صُنْدُوقٍ فِيهِ أَمْتِعَةٌ سِوَى المُصْحَفِ خِلاَفٌ، وَلاَ يَحْرُمُ مَسُّ كِتَاب الفِقْهِ وَالتَّفْسِير وَالدَّرَاهِمِ المَنْقُوشَةِ، إلاَّ مَا كُتِبَ لِلدرَاسَةِ كَلَوْحِ الصِّبيَانِ (و) وَالأصَحُّ أنَّهُ لاَ يَجِبُ علَى المُعَلِّمِ تكْلِيفُ الصَّبِيِّ المُمَيِّزِ الطَّهَارَةَ لِمَسِّ اللَّوْحِ وَالمُصْحَفِ. قال الرافعي: المحدث ممنوع من الصلاة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ صَلاةَ إِلاَّ بِطَهَارَةٍ" (¬3) وكذلك من الطَّوَافِ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "الطَوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاَةٌ إِلاَّ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَه وَتَعَالَى أَبَاحِ فيه الْكَلاَمَ" (¬4). وَسَجْدَةُ الشكر والتلاوة كالصلاة في أن المحدث ممنوع منهما، ويحرم عليه ¬
أيضاً مس المصحف، وحمله، قال الله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬1) وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لحكيم بن حزام: "لاَ تَمَسُّ الْمُصْحَفَ إِلاَّ طَاهِراً" (¬2) وروي أنه قال: "لاَ تَحْمِلِ المُصْحَفَ، وَلاَ تَمَسَّهُ إِلاَّ طَاهِراً" (¬3) ثم فيه مسائل: إحداها: إذا كان المصحف مجلداً، فهل يحرم مس الجِلْدِ؟ كمس الموضع المكتوب؟ فيه وجهان: أصحهما (¬4): [وهو الذي ذكره في الكتاب] (¬5) نعم؛ لأنه كالجزء من المصحف، ألا ترى أنه لو باعه دخل الجلد فيه. والثاني: لا؛ لأنه ظرف ووعاء لما كتب عليه القرآن، فصار كالكِيْسَ والجراب الذي فيه المصحف. الثانية: لا فرق في حكم المس بين موضع الكتابة وبين الحَوَاشِي، والبياض في خلال السطور، لأن اسم المصحف يقع على جميع ذلك وقوعاً واحداً. الثالثة: في مس الخريطة والصُّنْدُوق والعِلاَقة (¬6) وجهان إذا كان المصحف فيها: أظهرهما: أنه يحرم؛ لأنها متخذة للقرآن منسوبة إليه، فإذا اشتملت على القرآن اقتضى التعظيم أن لا يمس إلا على الطهارة. والثاني: لا، لأن الظواهر واردة في المصحف وهذه الأشياء غير المصحف، وهذا الخلاف قريب من الخلاف من الجِلْدِ، ولذلك جمع بعض الأصحاب بينهما جميعاً، وحكى فيهما الوجهين، ومنهم من جزم بالجواز في غير الجِلْدِ وخصص الخلاف بالجلد، ومنهم من جزم بالمَنْعِ في الجلد، وخصص الخلاف بما سواه، وكلامه في الكتاب أوفق لهذه الطريقة، أو هو هي، وفي كتب أصحابنا عن أبي حنيفة: ¬
أنه يجوز للمحدث مس غير المكتوب من الحَوَاشِي، وظهر المصحف، وغيرهما: نعم لا يجوز ذلك للجنب والحائض. وعنه أيضاً: أنه يجوز للمُحْدِث الحمل، والمس مطلقاً، ولا يجوز للجنب والحائض. وعنه أيضاً: أنه يجوز له حمل المصحف بعِلاقته، وبه قال أحمد، وحكَى بعضهم عن مالك أنه يجوز له حمل المصحف ومسه من غير طهارة، والمشهور أن هذا قول داود، ولا يخفى موضع العلاقة من هذه الاختلافات. الرابعة: لو وضع المصحف بين يديه وهو يقلب أوراقه بقضيب وغيره، ويقرأ منه، هل يجوز فيه؟ وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه لم يحمل المصحف ولا مسه، فقد حافظ على شرط التعظيم. وأصحهما: أنه لا يجوز، لأنه حمل بعض المصحف مقصوداً، فإن الورقة بحمله تنتقل من جانب إلى جانب (¬1). الخامسة: المَنْعُ من الحَمْلِ حيث كان المصحف هو المقصود بالحمل، فأما إذا حمل صندوقاً فيه ثياب وأمتعة سواه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز؛ لأنه حامل للمصحف. وحكم الحمل لا يختلف بين أن يكون هو المحمول، أو يكون محمولاً مع غيره، ألا ترى أنه لو حمل نجاسة في صلاته لم تصح صلاته، سواء حملها وحدها، أو مع غيرها. وأصحهما: الجواز؛ لأن المنع من الحمل المُخِلِّ بالتعظيم والإجلال، ويفارق حمل الصندوق والخريطة، فإن ذلك تبع للمصحف، وهنا بخلافه: السادسة: المصحف مكتوب لدراسة القرآن منه، فحكمه في المس والحمل ما ذكرنا. وفي لوح الصبيان وجهان: أصحهما: هو الذي ذكره في الكتاب أنه في معنى المصحف؛ لأنه أثبت فيه القرآن للتعلم منه ولدراسته. والثاني: لا؛ لأنه لا يقصد لإثباته الدوام، بل هو كالمِسْوَدَّة التي تتخذ وسيلة، ولا يُعْتَنَى بها، وأما ما أثبت فيه شيئاً من القرآن لا للدراسة، كالدراهم الأحديةِ والعِمَامَةِ المُطَرَّزَةِ بآيات القرآن، والحيطان المَنْقُوشَةِ به وكتب الفقه والأصول والتفسير ففيه وجهان: ¬
أحدهما: أنها كالمصحف في حرمة المس والحمل؛ تعظيماً للقرآن. وأصحهما: أنه لا مانع، لما روي: "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- كَتَبَ كِتَاباً إِلَى هِرَقْلَ وَكَانَ فِيهِ {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية (¬1) ولم يأمر الحامل بالمحافظة على الطهارة، ولأن هذه الأشياء لا يقصد بإثبات القرآن فيها قراءته، فلا تجري عليها أحكام القرآن، ولهذا يجوز هَدْمُ الجِدَارِ المنقوش عليه، وأكل الطعام، وهذا الوجه هو المذكور في الكتاب (¬2) وذهب بعض الأصحاب إلى تفصيل في الكتب. فقال: إن كان القرآن أكثر حرم المس والحمل، وإلا فوجهان ذكروا ذلك في كتاب التفسير، ولا شك في أن غيره في معناه، ومنهم من قال: إن كتب القرآن بخط غليظ والتفسير بخط دقيق وميّز بينهما حَرُمَ الحمل، وإن كان الكل بخط واحد فوجهان: السابعة: كل ما ذكرناه في العاقل البالغ، أما الصبي المميز هل يجب على الولي والمعلم منعه من مس المصحف وحمله إذا كان محدثاً؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن البالغ إنما يمنع منه تعظيماً للقرآن، والصبي أنقص حالاً منه، فأولى أن يمنع، وأصحهما لا، لأن تكليفهم استصحاب الطهارة مما يعظم فيه المشقة، والوجهان جاريان في اللوح أيضاً وفيه تكلم في الكتاب، وهو بناء على أن اللوح حكمه حكم المصحف كما تقدم هذه مسائل الكتاب ونختمها بفروع: الأول: كتابة القرآن على الشيء الموضوع بين يديه من غير مس ولا حمل جائز للمحدث في أصح الوجهين. الثاني: لا يحرم مس التوراة والإنجيل وحملهما في أصبح الوجهين، وكذا حكم ما نسخ قراءته من القرآن. الثالث: حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لا يلحق بالقرآن فيما نحن فيه، لكن الأولى أن يكون على الوضوء إذا مسّه. قال الغزالي: ¬
الباب الرابع في الغسل
الْبَابُ الرَّابعُ فِي الغُسْل وَمُوجِبُهُ الحَيْضُ وَالنَّفَاس وَالمَوْتُ وَالوِلاَدَةُ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ جَفَافٍ عَلَى الأَظْهرَ. قال الرافعي: عندنا موجبات الغسل أربعة: يشتمل هذا الفصل على ثلاثة منها: أحدها: الحيض قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (¬1) ثم وجوبه بخروج الدم، أو بانقطاعه فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بخروجه كما يجب الوضوء بخروج البول، والغسل بخروج المني. وثانيها: بالانقطاع لقوله -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة بنت أبي حبيش: "إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَة فَدَعِي الصَّلاَةَ، وَإذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي" (¬2) علق الاغتسال بإدبار الدم: وثالثها: وهو الأظهر أن الخروج يوجب الغسل عند الانقطاع (¬3) كما يقال: الوطء يوجب العدة عند الطلاق، والنكاح: يوجب الإرث عند الموت، وكذلك نقول في البول والمني خروجهما يوجب الغسل والوضوء عند الانقطاع، بل عند القيام إلى الصلاة، والنفاس كالحيض في الغسل، ومعظم الأحكام. الثاني: الموت يوجب غسل التي على ما سيأتي في الجنائز، ولك أن تقول: إن الغسل إما أن يكون مفسراً بما سوى النية، وهو غسل الأعضاء، أو يكون مفسراً به مع النية، والأول ضعيف، فإن النية عندنا من جملة الغسل، ولولا ذلك لعد نجاسة جميع ¬
البدن، ونجاسة موضع منه أشبه بالباقي من موجبات الغسل، وقد امتنع صاحب الكتاب، ومعظم الأئمة منه، فتعين الثاني، وحينئذ، إما أن يكون المعتبر مطلق النية، أو النية من صاحب الأعضاء المغسولة، فإن كان الثاني لم ينتظم عد الموت من موجبات الغسل، وكان إطلاق الغسل في الميت بمعنى آخر، وإن كان الأول فغسل الميت إنما يكون من هذه الجملة، إذا كانت النية معتبرة فيه من جهة الغاسل، ولنا في ذلك وجهان. سيأتي ذكرهما في باب الجنائز: الثالث: الولادة فلو ولدت ولداً ولم تر بللاً ولا دماً، ففي وجوب الغسل عليها وجهان: أحدهما: لا يجب لظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ" (¬1) فإنه ينفي وجوب الغسل بغير الإنزال خالفنا في الأسباب المتفق عليها، فيتمسك به فيما عداها، وأظهرهما: الوجوب لأنه لا يخلو عن بلل وإن قل غالباً، فيقام الولد مقامه كالنوم يقام مقام الخروج لمقارنته إياه غالباً، ولأنه يجب الغسل بخروج الماء الذي يُخْلَقُ الولد منه، فبخروج الولد أولى ويجري الوجهان في إلقاء العلقة والمضغة. قال الغزالي: وَالجَنَابَةُ، وَحُصُولُهَا بِالْتِقَاءِ الخِتَانَيْنِ أَوْ بِإيلاجَ قَدْرِ الحَشَفَةِ مِنْ مَقْطُوعِ الحَشَفَةِ فِي أَيِّ فَرْج كانَ مِنْ غَيْرِ المَأْتِيِّ أَوْ مَيِّتٍ (ح) أَوْ بَهِيمَةٍ (ح)، وَبِخُرُوجِ المَنِيِّ، وَخَوَاصُّ صِفَاتِهِ ثَلاَثَةٌ: رَائِحَةُ الطَّلْعِ، وَالتَّدَفَّق بِدَفَعَاتٍ، وَالتَّلَذُّذُ بِخُرُوجِهِ، فَلَوْ خَرَجَ عَلَى لَوْنِ الدَّمِ لاسْتِكْثَارِ الوِقَاعِ وَجَبَ الغُسْلُ لِبَقِيَّةِ الصِّفَاتِ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ (ح م) بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لِمَرَضٍ أَوْ خَرَجَ بَقِيَّتُهُ بَعْدَ الغُسْلِ حَصَلَتْ (م) الجَنَابَةُ إذَا بَقِيَتْ رَائِحَةُ الطَّلْعِ، وَلَوِ انْتَبَهَ وَلَمْ يَرَ إلاَّ الثَّخَانَةَ وَالبَيَاضَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَدْيًا فَلاَ يَلزَمُهُ الغُسْلُ، وَالمَرْأَةُ إذَا تَلَذَّذَتْ بِخُرُوجِ مَاء مِنْهَا لَزِمَهَا الغُسْلُ، وَكَذَا إِذَا اغْتَسَلَتْ وَخَرَجَ مِنْهَا مَنِيُّ الرَّجُلِ بَعْدَهُ فَإنَّهُ لاَ يَنْفَكُّ عَنْ مَائِهَا. قال الرافعي: السبب الرابع: الجنابة ولها طريقان: إحدهما إلتقاء الختانين: قالت عائشة -رضي الله عنها-: "إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَقَد وَجَبَ الْغُسْلُ (¬2) فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَاغْتَسَلْنَا"، وفسر الشافعي -رضي الله عنه- التقاء الختانين فقال: المراد منه ¬
تحاذيهما لا انضمامهما فإن التضام غير ممكن لأن مدخل الذكر في أسفل الفرج، وهو مخرج الولد، والحيض، وموضع الختان في أعلاه وبينهما ثقبة البول، وشفرا المرأة يحيطان بها جميعاً، وإذا كان كذلك كان التضام متعذراً لما بينهما من الفاصل. وهاهنا شبهة وهي أن يقال إن كان موضع ختان المرأة في حيز الداخل بحيث لا يصل إليه شيء من الحشفة فالقول بتعذر التضام واضح، لكن لو كان بحيث إذا أحاط الشفران بأول الحشفة لاقى (¬1) شيء من الحشفة ذلك الموضع كان التضام ممكناً، فلعل المراد من الخبر ذلك، والله أعلم. ثم موضع الختان غير معتبر بعينه لا في الذكر ولا في المحل، أما في الذكر فمقطوع الحشفة إذا غيَّب مقدار الحشفة لزمه الغسل، فإنه في معنى (¬2) الحشفة ومعلوم أن ما أسفل الحشفة ليس موضع ختان، ولكن تغييب قدر الحشفة معتبر فلو غيب البعض لم يجب الغسل، لأن التحاذي لا يحصل به غالباً، وحكى القاضي ابن كج أن تغييب بعض الحشفة كتغييب الكل، وروى وجه أن تغييب قدر الحشفة من (¬3) مقطوع الحشفة لا يوجب الغسل (¬4) وإنما الموجب تغييب جميع الباقي إذا كان مثل الحشفة، أو أكثر وأما في المحل فلأن المحل الذي هو موضع الختان قبل المرأة، كما يجب الغسل بالإيلاج فيه يجب الغسل بالإيلاج في غيره كالإتيان في غير المأتى، وهو الدبر (¬5) يجب الغسل به على الفاعل، والمفعول، وكذا فرج البهيمة خلافاً لأبي حنيفة لنا أنه جماع في الفرج، فأشبه فرج الأدمي بل إيجاب الغسل هاهنا أولى لأنه أحق بالتغليظ، ولا فرق بين الإيلاج في فرج الميت، والإيلاج في فرج الحي، وخالف أبو حنيفة في فرج الميت وكذا قال: في الصغيرة التي لا تشتهي. لنا أنه قد التقى الختانان فيجب الغسل، ثم كما يجب الغسل بالايلإج في فرج الميت، والبهيمة يجب على من غاب في فرجه فرجها ولا يجب إعادة غسل الميت بسبب الإيلاج فيه على أظهر القولين (¬6) وإذا عرفت ما ذكرناه فانظر في لفظ الكتاب (¬7) واعلم أنه إنما عقب قوله: (بالتقاء الختانين) بقوله أو (إيلاج قدر الحشفة) في أي فرج ¬
كان لما بينا أن إلتقاء الختانين غير معتبر (¬1) بعينه، والإيلاج في كل فرج في معناه، ولو اقتصر على قوله: "والجنابة وحصولها بإيلاج قدر الحشفة" في أي فرج كان حصل الغرض، ودخل فيه التقاء الختانين إلا أن التقاء الختانين هو الأصل الذي ورد فيه الخبر، فقدمه ثم بين أن كل جماع في معناه وفي قوله: "قدر الحشفة" إشارة إلى ما سبق أن المرعي مقدار الحشفة لا عينها: وليكن معلماً بالواو للخلاف الذي حكيناه، ثم قوله: "أو إيلاج قدر الحشفة" يتناول ظاهره ما إذا لف خرقة على ذكره وأولج، وكذلك التقاء الختانين، لأن المراد منه التحاذي، فهل هو كذلك أم لا تحصل الجنابة حينئذ فيه ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه تحصل الجنابة لما سبق من حديث عائشة -رضي الله عنها-، وروى أنها قالت قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ" (¬2) والالتقاء ينتظم بهذه الصورة، ولا يخلو عن قضاء شهوة أيضاً. والثاني: لا يحصل، لأن اللذة إنما تكمل عند ارتفاع الحجاب. والثالث: أنه إن كانت الخرقة لينة حصلت الجنابة، وإلا فلا لأن اللينة لا تمنع [من] (¬3) حصول اللذة بخلاف الخشنة، والخشنة هي التي تمنع وصول بلل الفرج للذكر ووصول الحرارة من أحدهما إلى الآخر، واللينة ما لا تمنع (¬4) وكل هذا فيما إذا جرى الإيلاج، وهما واضحا الحال أما إذا كان مشكلين وأولج (¬5) أحدهما في فرج الآخر فلا جنابة، ولا حدث لجواز كونهما امرأتين أو رجلين وكذا لو أولج كل واحد منهما في فرج الآخر، وإن أولج كل واحد منهما في دبر الآخر، فلا جنابة أيضاً لجواز كونهما امرأتين، ولكن بالنزع يحدثان لأن خروج الخارج من السبيلين ينقض الوضوء (¬6) وإن أولج أحدهما في دبر الآخر انتقض وضوء المولج في دبره لهذا المعنى، وإن أولج أحدهما في فرج الآخر وأولج الآخر في دبر الأول فلا جنابة أيضاً لاحتمال كونهما امرأتين، لكنهما على هذا التقدير يحدثان بالنزع لخروج الخارج من قبل أحدهما ودبر الثاني، وعلى غير هذا التقدير هما جنبان، فيحكم بثبوت أدنى المحدثين، ولو كان ¬
الإشكال في الفاعل وحده، فلا جنابة أيضاً سواء أولج في فرج بهيمة أو امرأة لجواز كونه امرأة، وينتقض وضوء المرأة بالنزع، وإن أولج في دبر رجل فلا جنابة أيضاً لكن يحدثان، لأن بتقدير الذكورة هما جنبان، وبتقدير الأنوثة قد لمس الخنثى وخرج من دبر الرجل شيء وهما من نواقض الوضوء، فيثبت أدنى الحدثين، ولو كان الإشكال في المفعول وحده فالإيلاج في دبره كهو في دبر غيره، والإيلاج في فرجه لا يوجب جنابة ولا حدثاً لجواز كونه رجلاً، ولو أولج رجل في فرج مشكل، والمشكل في فرج امرأة، فالمشكل جنب، لأنه جامع أو جومع، والرجل والمرأة لا يجنبان لكن ينتقض وضوء المرأة بالنزع. الطريق الثاني للجنابة خروج المني فهو موجب للغسل للإجماع ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ" (¬1) ولا فرق بين أن يخرج [منيه] (¬2) من الطريق المعتاد، أو من غيره مثل أن يخرج من ثقبة في الصلب، أو في الخصية كذلك ذكره صاحب التهذيب وغيره، وهو ظاهر ما ذكره في الكتاب، وقال في التتمة حكمه في الجنابة حكم النجاسة المعتادة، إذا خرجت من منفذ غير السبيلين فيعود فيه التفصيل، والخلاف المذكور، ويجوز أن يكون الصلب هاهنا بمثابة المعدة، ثم [قال] (¬3) يخرج المني من الصلب ثم للمني خواص ثلاث: أحداها: الرائحة الشبيهة برائحة العجين، والطلع ما دام رطباً فإذا جفت اشتبهت رائحته برائحة بياض البيض. والثانية: التدفق بدفعات قال الله تعالى: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} (¬4). والثالثة: التلذذ بخروجه، واستعقابه فتور الذكر، وانكسار الشهوة، وله صفات أخر نحو الثخانة والبياض في مني الرجل، والرقة، والاصفرار في مني المرأة في حال اعتدال الطبع، لكن هذه الصفات ليست من خواصه بل الودي أيضاً أبيض ثخين كمني الرجل، والمذي رقيق كمني المرأة، لماذا عرفت هذا فنقول: ما ليس من خواصه لا ينفي عدمه كونه منياً ولا يقتضي وجوده كونه منياً ويوضح الطرقين بالمثال. أما الأول: فلو زالت الثخانة والبياض لمرض وجب الغسل عند وجود شيء من خواصه، ولو خرج على لون الدم لاستكثار الوقاع وجب الغسل أيضاً اعتماداً على الصفات الخاصة به، وحكى وجه أنه لا يجب الغسل هاهنا لأن المني دم في الأصل فإذا خرج على لون الدم لم يقتض غسلاً كسائر الدماء. وأما الثاني: فلو تنبه ولم ير إلا الثخانة، والبياض فلا غسل عليه، لأن الودي ¬
يشارك المني في هاتين الصفتين فيحتمل أن يكون الخارج (ودياً)، فلا يجب الغسل بالشك بل يتخير بين أن يتوضأ ويغسل المحل الذي أصابه ذلك الخارج، وبين أن يغتسل، ولا يغسله على ما ذكرناه في فصل الترتيب هذا ظاهر المذهب، وقد حكينا وجهاً أنه يلزمه الغسل فلذلك أعلم. قوله: في الكتاب "فلا يلزمه الغسل" بالواو. فإن قلنا بظاهر المذهب، وغلب على الظن أنه مني لأن الودي لا يليق بصاحب (¬1) الواقعة، أو لتذكر وقاع [قبله] (¬2) تخيله: قال إمام الحرمين يجوز أن يقال: يستصحب يقين الطهارة، ويجوز أن يحمل الأمر على غالب الظن تخريجاً على غلبة الظن في النجاسة، والاحتمال الأول أوفق لكلام المعظم هذا حكم غير الخواص. فأما خواص المني فلا يشترط اجتماعها بل الخاصة الواحدة كافية في معرفة أن الخارج مني، فلو خرج بغير دفق وشهوة لمرض أو لحمل شيء ثقيل وجب الغسل خلافاً لأبي حنيفة، وكذلك لمالك وأحمد -رحمهما الله- فيما حكاه أصحابنا. لنا أن الخارج مني لوجود خاصية الرائحة فيه فيوجب الغسل لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ" (¬3). [ولو اغتسل عن الإنزال ثم خرجت منه بقية وجب الغسل لوجود الرائحة] سواء خرجت بعد ما بال، أو قبله خلافاً لمالك حيث قال: في إحدى الروايتين لا غسل عليه في الحالتين وفي رواية أنه خرج قبل البول فهو من بقية المني الأول، فلا يجب الغسل ثانياً وإن خرج بعده فهو مني جديد فيلزمه الغسل، وخلافاً لأحمد حيث قال: إن خرج قبل البول وجب الغسل ثانياً، وإن خرج بعده فلا. وحكى عن أبي حنيفة مثله وجعل ذلك بناء على المسألة الأولى وهي اعتبار التدفق والشهوة، لأن ما خرج قبل البول بقية ما خرج لشهوة، وما خرج بعد البول خرج بغير شهوة لنا ما سبق وقياس إحدى الحالتين على الأخرى، وقول من قال الخارج بعد البول (¬4) مني جديد ممنوع بل هو بقية الأول بكل حال -والله أعلم-. ولا فرق في خروج المني بين الرجال وبين النساء في حكم الغسل: روي أن أم سليم جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فقالت: إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحِي مِنَ الْحَقِّ هَلْ عَلَى المَرْأَةِ مِنْ غُسْلِ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ قَالَ: نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ" (¬5). وقوله في الأصل: "والمرأة إذا تلذذت بخروج ماء منها لزمها الغسل" يشعر بأن طريقة معرفة المني في حقها الشهوة والتلذذ لا غير. ¬
وقد صرح به في الوسيط فقال: ولا يعرف في حقها إلا من الشهوة وكذلك ذكره إمام الحرمين لكن ما ذكره الأكثرون تصريحاً وتعريضاً التسوية بين مني الرجل والمرأة في طرد الخواص الثلاث. وقد قال في التهذيب: أن مني المرأة إذا خرج بشهوة أو بغير شهوة وجب الغسل كمني الرجل، فإذا وجب الغسل مع انتفاء الشهوة كان الاعتماد على سائر الخواص ولو اغتسلت المرأة من الجماع، ثم خرج منها المني لزمها الغسل بشرطين: أحدهما: أن تكون ذات شهوة دون الصغيرة التي لا شهوة لها. والثاني: أن تقضي شهوتها بذلك الجماع لا كالنائمة والمكرهة. وإنما وجب الغسل عند اجتماع هذين الشرطين، لأنه حينئذ يغلب على الظن اختلاط منيها بمنيه، وإذا خرج منها ذلك المختلط فقد خرج منها منيها. أما في الصغيرة والمكرهة والنائمة إذا خرج المني بعد الغسل لم يلزم إعادة الغسل لأن الخارج مني الرجل، وخروج مني الغير من الإنسان لا يقتضي جنابته. وصورة المسألة في الكتاب، وإن كانت مطلقة لكن في قوله: "فإنه لا ينفك عن مائها" ما يبين اشتراط ما ذكرنا: وحكى وجه آخر أنه لا يشترط إعادة الغسل بحال لأنه لا يتيقن خروج منيها، نعم الاحتياط الإعادة هذا تمام الكلام في طريقي الجنابة ولفظ الكتاب ظاهر في الحصر فيهما، وهو الصحيح وزاد بعض الأصحاب طريقاً آخر للجنابة، وهو استدخال المني قالوا: إذا استدخلت المرأة منيّاً لزمها الغسل كما يجب به العدة إذا كان الماء محترماً: وينسب هذا إلى أبي زيد المروزي وعلى هذا لا يفترق الحال بين القبل والدبر، والمذهب الأول لأن الاستدخال غير متناول بالنصوص الواردة في الباب، ولا هو في معنى المنصوص عليه. خاتمة قوله في أول الباب "وموجبه الحيض والنفاس" إلى آخره يقتضي حصر موجبات الغسل في الأربعة الذكورة لكن إلقاء المضغة، والعلقة موجب على الصحيح كما سبق، وهو لا يدخل في لفظ الولادة، فيكون خارجاً عما ذكره واختلفوا في شيئين آخرين: أحدهما: غسل الميت [فإن منهم] من قال: في القديم يجب به الغسل على الغاسل وإليه ذهب أحمد لما روي: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَن مَسَّهُ فَلْيَتَوَضَّأُ" (¬1)، والجديد أنه ليس من موجبات الغسل، والحديث إن ثبت محمول على الاستحباب. ¬
والثاني: زوال العقل بالجنون والإغماء حكى بعضهم عن أبي هريرة أن زواله بالجنون يوجب الغسل، وروى آخرون وجهين: في الجنون والإغماء جميعاً: ووجه وجوبه أن زوال العقل يفضي إلى الإنزال غالباً، فأقيم مقامه كالنوم أقيم مقام خروج الخارج، والمذهب المشهور أنه لا يجب به الغسل ويستصحب يقين الطهارة إلى أن يستيقن الإنزال، والقول بأن الغالب منه الإنزال ممنوع (¬1). قال الغزالي: ثُمَّ حُكْمُ الجَنَابَةِ حُكْمُ الحَدَثِ مَعَ زَيادَةِ تَحْرِيم قِرَاءَةِ القُرْآنِ والمُكْثِ فِي المَسْجِدِ (ز)، أَمَّا العُبُورُ فَلاَ (م ح) ثُمَّ لاَ فَرْقَ فِي القِرَاءَةِ بَيْنَ آيَةٍ (م) أَوْ بَعْضِهَا (ح) إلاَّ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ الله عَلَى قَصْدِ الذّكْرِ، وَلاَ يَحِلُّ لِلْحَائِضِ قِرَاءَةٌ لِحَاجَةِ التَّعْلِيمِ (م) وَخَوْفِ النِّسْيَانِ عَلَى الأَصَحِّ. قال الرافعي: لما فرغ من بيان موجب الجنابة ذكر حكمها، وأما حكم الحيض والتفاس فيأتي في بابهما ولا يفرض في الموت مثل هذه الأحكام فيقول: كل ما يحرم بالحدث الأصغر يحرم بالجنابة بطريق الأولى لأنها أغلظ ويزداد تحريم شيئين: أحدهما: قراءة القرآن فيحرم على الجنب أن يقرأ شيئاً من القرآن قاصداً به القرآن سواء كان آية، أو بعض آية خلافاً لمالك حيث جوّز قراءة الآيات اليسيرة للجنب، ولأبي حنيفة حيث جوّز له قراءة بعض الآية وبه قال أحمد في أصح الروايتين: لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَقْرَأ الْجُنُبُ وَلاَ الْحَائِضُ شَيْئاً مِنَ القُرْآنِ" (¬2) وعن علي -رضي الله ¬
عنه- قال: لم يكن يحجب النبي -صلى الله عليه وسلم- عن القرآن شيء سوى الجنابة (¬1)، ويروى (يحجز)، ولا يستثنى عندنا شيء من الصور إلا إذا لم يجد الجنب ماء، ولا تراباً وصلى على حسب الحال، ففي جواز قراءة الفاتحة له وجهان: أحدهما: يجوز، والترخيص في الصلاة ترخيص في قراءة الفاتحة إذ لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، فعلى هذا الوجه تستثنى هذه الصورة. أصحهما: وهو الأظهر أنه لا يجوز قراءتها كقراءة غيرها ويأتي بالذكر والتسبيح بدلاً كالعاجز عن القراءة (¬2) حقيقة، أما إذا قرأ شيئاً منه لا على قصد القرآن فيجوز كما لو قال: باسم الله الرحمن الرحيم على قصد التبرك والابتداء، أو الحمد لله في خاتمة الأمر، أو قال: "سُبْحَانَ اللَّهِ الذِي سَخَّرَ لَنَا هذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ" (¬3) على قصد إقامة سنة الركوب، لأنه إذا لم يقصد القرآن لم يكن فيه إخلال بالتعظيم ولو جرى على لسانه ولم يقصد هذا ولا ذاك فلا يحرم أيضاً. وكما تحرم القراءة على الجنب تحرم على الحائض لما سبق من الخبر، ولأن حدثها أغلظ فيكون الحكم في التحريم أولى. وعن مالك أنه يجوز لها قراءة القرآن، ورواه أبو ثور عن أبي عبد الله فمن الأصحاب من قال أراد به مالكاً، ونفى أن يكون الجواز قولاً للشافعي ومنهم من قال أراد الشافعي -رضي الله عنه-، وهو قول له في القديم (¬4) وهذا ما ذكره في الكتاب فقال: ولا يحل للحائض القراءة لحاجة التعليم وخوف النسيان على الأصح أي من القولين وهذه الطريقة أظهر لأن الشيخ أبا محمد قال: وجدت أبا ثور جمع بينهما في بعض المواضع فقال: قال: أبو عبد الله ومالك فثبت نقل قول الجواز وتوجيهه ما أشار إليه، وهو أنها قد تكون معلمة، فلو منعناها عن القراءة والحيض مما يعرض في كل شهر غالباً لانقطعت عن حرفتها، ولأن ترك القراءة يؤدي إلى النسيان لامتداد زمان ¬
الحيض بخلاف الجنابة فإنه يمكن إزالتها في الحال، وهذا القول يجري في النفساء أيضاً. الثاني: المكث في المسجد وهو حرام على الجنب، روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ أُحِلُّ الْمسجِدَ لِحَائِضٍ وَلاَ جُنُبٍ" (¬1)، ولا يحرم العبور قال الله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} (¬2) والمعنى الفارق بين المكث والعبور أن العبور في المسجد لا قربة فيه، وفي المَكث قرية الاعتكاف فمنع منه الجنب، ثم قد يعذر في المكث عند الضرورة كما لو نام في المسجد فاحتلم، ولم يمكن الخروج لإغلاق الباب أو الخوف من العسس، أو غيره على النفس أو المال وليتيمم في هذه الحالة تطهيراً وتخفيفاً للحدث بقدر الإمكان، وهكذا إذا وجد تراباً غير تراب المسجد، ولا يتيمم بترابه [لكن لو تيمم به صح والعبور وإن لم يكن حراماً [فمكروه] (¬3) إلا لغرض كما إذا كان المسجد طريقه إلى مقصده، أو كان أقرب الطريقين إليه ولا فرق في الجواز بين أن يكون له سبيل أخر إلى مقصده، وبين أن لا يكون في وجه إنما يجوز إذا لم يجد طريقاً سواه، وليس له أن يتردد في أكتاف المسجد فإن التردد في غير جهة الخروج كالمكث (¬4) وليكن قوله: "والمكث في المسجد" معلماً بالألف، لأن عند أحمد يجوز للجنب المكث إذا توضأ، وبالزاي، لأن عند المزني في الرواية المشهورة يجوز له المكث مطلقاً، وقوله: "أما العبور فلا" معلماً بالحاء والميم؛ لأن عندهما لا يجوز له العبور أيضاً إلا أن يحتلم في المسجد فله أن يعبر في الخروج، ولا يكلف قصد الباب الأقرب. قال الغزالي: وَفَضْلُ مَاءِ الجُنُبِ وَالحَائِضِ طَهُورٌ، وَلاَ بَأْسَ لِلْجُنُبِ أَنْ يُجَامِعَ وَيَأْكُلَ وَيَشْرَبَ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ، وَيَغْسِلَ فَرجَهُ عِنْدَ الْجِمَاعِ. قال الرافعي: في الفصل مسألتان: ¬
إحداهما: فضل ماء الجنب والحائض طهور ولا كراهية في استعماله وقال: أحمد لا يجوز للرجل أن يتوضأ بفضل ما استعملته المرأة إذا خلت بالماء، واستعملت بعضه، لنا ما روي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كُنْتُ أَغْتَسِل أَنا وَرَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْجَنَابَةِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ" (¬1) تختلف أيدينا فيه قال إمام الحرمين: لو فسر فضل ماء الحائض والجنب بما لم يمساه من الماء فلا يتخيل امتناع استعماله، والذي يتوهم فيه الخلاف ما مسه بدن الجنب والحائض على وجه لا يصير الماء به مستعملاً ولهذا استدل الشافعي -رضي الله عنه- في الباب بأخبار تدل على طهارة بدنهما. الثانية: يجوز للجنب أن يجامع ثانياً، وأن ينام ويأكل ويشرب لكن يستحب أن لا يفعل شيئاً من ذلك إلا بعد غسل الفرج، والوضوء كما [يتوضأ] (¬2) به للصلاة، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ تَوَضَّأَ لِلصَّلاَةِ" (¬3) وروي أنه قال: "إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُعَاوِدَ فَليَتَوَضَّأ بَيْنَهُمَا وُضُوءاً" (¬4)، والمقصود منه التنظيف ودفع الأذى. وأعلم أن كلامه في الكتاب يشعر بتخصيص الوضوء وغسل الفرج بالجماع أو تخصيص غسل الفرج به، واستحباب الوضوء بغير الجماع؛ لأنه قال: "لا بأس للجنب أن يجامع ويأكل ويشرب لكن يستحب له أن يتوضأ وضوءه للصلاة ويغسل فرجه عند الجماع"، فإن كان قوله: "عند الجماع" راجعاً إلى جميع ما وصفه بالاستحباب فهو تخصيص للوضوء، وغسل الفرج معاً بالجماع، وإلا فهو راجع إلى غسل الفرج المذكور أخيراً. وفيه تخصيص لغسل الفرج بالجماع لكن ليسا ولا واحداً منهما مما يختص استحبابه بالجماع، بل هما مستحبان في الأكل والشرب والنوم أيضاً، كذلك ذكره في التهذيب وغيره، وقد روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله أيرقد أحدنا وهو جنب قال: "نَعَمْ إِذَا تَوَضَّأَ أحَدُكُمْ فَلْيَرْقُد" (¬5) ويروى عنه أنه قال: "اغْسِلْ ذَكَرَكَ وَتَوَضَّأْ ثُمَّ نَمْ" (¬6). ¬
قال الغزالي: (أَمَّا كَيْفِيَّةُ الْغُسْلِ) فَأَقَلُّهُ النِّيَّةُ وَاسْتِيعَابُ البَدَنِ بِالْغَسْلِ، وَلاَ يَجِبُ المَضْمَضَةُ وَالاسْتِنْشَاقُ (ح)، وَيَجِبُ إِيصَالُ المَاءِ إِلَى مَنَابِتِ الشُّعُورِ وَإِنْ كثُفَث وَيَجِبُ (م) نَقْضُ الضَّفَائِرِ إِنْ كَانَ لاَ يَصِلُ المَاءُ إلَى بَاطِنِهَا. قال الرافعي: لما فرغ من الكلام في موجبات الجنابة وأحكامها، تكلم في كيفية الغسل والقول في كيفيته يتعلق بالأقل والأكمل، أما الأقل فهو شيئان: أحدهما: النية فهي واجبة عندنا خلافاً لأبي حنيفة، كما في الوضوء وقد ذكرنا مسائل النية في الوضوء ونظائرها في الغسل تقاس بها فلا يجوز أن تتأخر النية عن أول الغسل المفروض، كما لا يجوز أن تتأخر في الوضوء عن أول غسل الوجه، وإن حدثت مقارنة لأول الغسل المفروض صح الغسل لكنه لا ينال ثواب ما قبله من السنن على ما سيأتي بيانها، وإن تقدمت على أول غسل مفروض وعزبت قبله فوجهان كما سبق في الوضوء، ثم إن نوى رفع الجنابة أو رفع الحدث عن جميع البدن أو نوت الحائض رفع حدث الحيض صح الغسل، وإن نوى رفع الحدث مطلقاً، ولم يتعرض للجنابة ولا غيرها صح غسله أيضاً على أظهر الوجهين. [لأن الحدث عبارة عن المانع من الصلاة وغيرها على أي وجه فرض. ولو نوى رفع الحدث الأصغر فإن تعمد لم يصح غسله على أظهر الوجهين] (¬1) وإن غلط فظن أن حدثه الأصغر لم ترتفع الجنابة عن غير أعضاء الوضوء وفي أعضاء الوضوء وجهان: أحدهما: لا ترتفع عنها أيضاً، لأن الجنابة أغلظ ولم يقصد رفعها. وأظهرهما: أنها ترتفع عن الوجه واليدين والرجلين، لأن غسل هذه الأعضاء واجب في المحدثين، فإذا غسلها بنية غسل واجب كفى، ولا يرتفع عن الرأس في أصح الوجهين، لأن فرض الرأس في الوضوء المسح فالذي نواه إنما هو المسح، والمسح لا يغنى عن الغسل أما إذا نوى المغتسل استباحة فعل نظر إن كان مما يتوقف على الغسل كالصلاة والطواف وقراءة القرآن فالحكم على ما سبق في الوضوء، ومن هذا القبيل ما إذا نوت الحائض استباحة الوطء في أصح الوجهين: والثاني: أن غسلها بهذه النية لا يصح للصلاة، وما في معناها كغسل الذمية عن الحيض لتحل للزوج، وإن لم يتوقف الفعل المنوي على الغسل [نُظر، إن لم يستحب له الغسل لم تصح نية استباحته: وإن كان يستحب له الغسل] (¬2) كالعبور في المسجد، ¬
والأذان وكذا إذا اغتسل للجمعة (¬1) والعيد، فالحكم على ما ذكرنا في الوضوء، وإن نوى الغسل المفروض أو فريضة الغسل صح غسله، الثاني استيعاب جميع البدن بالغسل، قال -صلى الله عليه وسلم-: "تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَة، فَبُلُّوا الشَّعْرَ وَأنْقُوا البَشَرَةَ" (¬2) ومن جملة البشرة ما يظهر من صماخي الأذنين وما يبدو من الشقوق، وكذا ما تحت القلفة من الأقلف، وما ظهر من أنف المجدوع في أظهر الوجهين، وكذا ما ظهر من الثيب بالافتضاض قدر ما يبدو عند القعود لقضاء الحاجة دون ما وراء ذلك في أظهر الوجوه، لأنه صار ذلك في حكم الظاهر كالشقوق. والثاني: أنه لا يجب غسل ما وراء ملتقى الشفرين كما لا يجب غسل باطن الفم والأنف. والثالث: يجب عليها غسل باطن الفرج في غسل الحيض والنفاس خاصة، لإزالة دمها ولا يدخل فيها باطن الأنف والفم، فلا تجب المضمضة والاستنشاق في الغسل عندنا خلافاً لأبي حنيفة ذكر إمام الحرمين أن بعض تعاليق شيخه حكاية وجه موافق لمذهب أبي حنيفة: لنا أنهما لا يجبان في غسل الميت ولو وجب في غسل الحي لوجبا في غسل الميت وأيضاً فلو وجب غسل باطن الفم والأنف في الغسل لكانا من الوجه. ولو كانا من الوجه لوجب غسلهما في الوضوء. وأما الشعور فيجب إيصال الماء إلى منابتها خفت أو كثفت بخلاف الوضوء لأنه يتكرر في اليوم والليلة مراراً فلو كلف إيصال الماء فيه إلى المنابت لعظمت المشقة. ويجب نقض الضفائر إن كان لا يصل الماء إلى باطنها إلا بالنقض: أما الأحكام الشد أو للتبلد ولغيرهما فإن وصل الماء إليها بدون النقض فلا حاجة إليه. وعن مالك أنه لا يجب نقض الضفائر [ولا إيصال الماء إلى باطن الشعور الكثيفة وما تحتها. وعن أبي حنيفة أنه إذا بلغ الماء أصول الشعر فليس على المرأة نقض الضفائر] (¬3): وعن أحمد أن الحائض تنقض شعرها دون الجنب. لنا الخبر الذي قدمناه، ويستثنى من الشعور ما ينبت في العين، فإن إدخال الماء في العين لا يجب وكذلك باطن العقد التي تقع على الشعرات يسامح به وحكى القاضي ¬
الروياني وجهاً آخر أنه يلزم قطعها (¬1). قال الغزالي: وَالْأَكْمَلُ أَنْ يَغْسِلَ مَا عَلَى بَدَنِهِ مِنْ أَذىً أَوَّلاً ثم يَتَوَضَّأَ لِلصَّلاَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا وَيُؤَخِّرَ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ إِلَى آخِرِ الغُسْلِ فِي أَحَدِ القَوْلَيْنِ، ثُمَّ يَتَعَهَّدَ مَعَاطِفَ بَدَنِهِ ثُمَّ يُفِيّضَ المَاءَ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ يُكَررَ ثَلاَثًا ثُمَّ يَدْلُكَ، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا تَسْتَعْمِلُ فُرْصَةً مِنْ مِسْكٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا، وَمَاءُ الغُسْلِ وَالوْضُوءِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ (ح) وَقَدْ يُرْفَقُ بِالْقَلِيلِ فَيَكْفِي وَيُخْرَق بِالكَثِيرِ فَلاَ يَكْفِي وَالرِّفقُ أَوْلى وَأَحَبُّ. قال الرافعي: كمال الغسل [يحصل] (¬2) بأمور ذكر منها ثمانية: أحدها: أن يغسل ما على بدنه من أذى أولاً: فإن اعترض معترض فقال: الأذى المذكور إما أن يكون المراد منه الشيء القذر، أو النجاسة، وكيف يجوز الأول وقد فسر الشارحون قول الشافعي -رضي الله عنه- "ثم يغسل ما به من أذى" بموضع الاستنجاء إذا كان قد استنجى بالحجر، وهذا تفسير له بالنجاسة وكذلك فسروا لفظ الأذى في الخبر. وإن كان الثاني فكيف عطف النجاسة على الأذى في الوسيط، والعطف يقتضي المغايرة، ثم من على بدنه نجاسة لا بد له من إزالة النجاسة أولاً ليعتد بغسله ووضوئه، وإذا كان كذلك كان غسل الموضع عن النجاسة من الواجبات لا من صفات الكمال. الجواب قلنا: من على بدنه نجاسة لو اقتصر على الاغتسال أو الوضوء، وزالت تلك النجاسة طهر المحل، وهل يرتفع الحدث [فيه] (¬3)، وجهان: حكاهما في المعتمد وغيره. فإن قلنا: بارتفاع الحدث أمكن عَدَّ إزالة النجاسة من جملة صفات الكمال ولعل من عدَّه منها صار إلى ذلك الوجه. وإن قلنا: لا يرتفع الحدث وهو الظاهر من المذهب فالأذى المحدود إزالته من جملة صفات الكمال، إنما هو الشيء المستقذر. وأعلم أنا إذا جرينا على ظاهر المذهب وهو أنه لا يرتفع الحدث إذا كان على بدنه نجاسة حتى يغسل النجاسة أولاً ثم يغسل الموضع عن الحدث، فكما لا يصح عدّ إزالة النجاسة من كمال الغسل لا يصح عدّها من أركانه أيضاً، خلافاً لكثير من أصحابنا حيث قالوا: واجبات الغسل ثلاثة: غسل النجاسة إن كانت على البدن، والنية، وإيصال الماء إلى الشعر والبشرة. ¬
لنا أنه لو كان من واجبات نفس الغسل لكان الترتيب معتبراً في أركان الغسل لاشتراط تقديم إزالة النجاسة، وقد اتفقوا على أنه لا ترتيب في الغسل، ولأن الأمر في الوضوء والغُسْل واحد، ولم يعده أحد من أركان الوضوء فإذاً تقديم إزالة النجاسة شرط فيهما، وشرط الشيء لا يعد من نفس ذلك الشيء كالطّهارة وستر العورة لا يعدان من أفعال الصّلاة وأركانها: وأما من جمع بين الأذى والنجاسة وعدَّ إزالتهما من كمال الغُسْل لم ينتظم ما فعله في النّجاسة إلا على قولنا إن الغسلة الواحدة كافية عن الخبث والحدث جميعاً. ولم يتفق المفسرون لكلام الشافعي -رضي الله عنه- على أن المراد من الأذى النَّجاسة، بل اختلفوا منهم من فسره بها. ومنهم من فسره بالمني، ونحوه، مما يستقذر: حكى هذا الخلاف القاضي أبو القاسم بن كج وغيره ولعل ذلك بحسب الاختلاف في المَسْئلة المذكورة -والله أعلم-. الثاني: أنْ يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، روت عائشة -رضي الله عنها- أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا اغتسل من الجَنابة بدأ فغسل يديه، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلّل بها أصول شعره، ثم يفيض الماء على جلده كله (¬1). وأعلم أن قوله في الأصل: "ويتوضأ وضوءه للصّلاة وإن لم يكن مُحدثا" يشعر باطّراد الاستحباب فيما إذا كان يغتسل من الجنابة المجردة، وفيما إذا انضم الحدث إلى الجنابة، وإنما يتضح ذلك بتصوير الجنابة المجردة أولاً فنقول من صور ذلك: إتيان الغلام والبهيمة يوجب الجنابة دون الحدث لفقد أسبابه الأربعة. ومنها: ما إذا لف خرقة على ذكره وأولج في فرج امرأة تحصل الجنابة على قولنا أن الخرقة الحائلة لا تمنع حصول الجنابة، وقد قدمنا الخلاف فيه ولا يحصل الحدث، لأن اللمس إنما يوجب الحدث إذا لم يكن بين البشرتين حائل. ومنها: إذا أنزل بفكر ونظر أو احتلم قاعداً ممكَّناً مقعده من الأرض تحصل الجنابة دون الحدث على ما سبق في باب الأحداث، وألحق المسعودي بهذه الصور الجماع مطلقاً، وقال: إنه يوجب الجنابة لا غير، واللمس الذي يتضمنه مغموراً به كما أن خروج الخارج الذي يتضمنه الإنزال يصير مغموراً به، واستشهد على ما ذكره (¬2) بأن من جامع في الحجّ يلزمه بدنه، وإن كان متضمّناً للمس، ومجرد اللمس يوجب شاة وعند الأكثرين بالجماع يحصل الحدثان جميعاً، ولا يندفع أثر اللمس الذي يتضمنه ¬
الجماع بخلاف اندفاع أثر خروج الخارج الذي يتضمنه الإنزال، لأن اللمس يسبق حصول حقيقة الجماع، فيجب ترتيب حكمه عليه، وإذا تم حقيقة الجماع وجب حصول الجنابة أيضاً، وفي الإنزال لا يسبق خروج الخارج الإنزال، بل إذا نزل حصل خروج الخارج، وخروج المنيّ وموجب خروج المني أعظم الحَدَثين فيدفع حلوله حلول الأصغر معه كما سبق. وأما مسألة المحرم فممنوع على وجه، وعلى التسليم ففي الفدية معنى الزجر والمُؤَاخَذَة، وسبيل الجنايات اندراج المقدمات في المقاصد، ألا يرى أن مقدمات الزِّنا لو تجردت أوجبت التعذير، وإذا أفضت إلى الزنا لم يجب التعزير مع الحد، وأما هاهنا فالحكم منوط بصورة اللمس، ولهذا لا يفرق فيه بين العمد والنِّسيان: وإذا عرفت ذلك فنقول: إن تجردت الجنابة فالوضوء محبوب في الغُسْل عنها، وإن اجتمع الحدث والجنابة فقد حكينا في باب صفة الوضوء الخلاف في أنه هل يكفيه الغسل أم يجب معه الوضوء؟ فإن اكتفينا بالغُسْل فالوضوء فيه محبوب كما لو كان يغتسل عن مجرد جَنَابة، وعلى هذا ينتظم القول باستحباب الوضوء على الاطّراد أما إذا أوجبنا معه الوضوء امتنع القول باستحبابه في الغسل، ولا صائر إلى أنه يأتي بوضوء مفرد وبوضوء آخر، لرعاية كمال الغسل، ولا ترتيب على هذا الوجه بين الوضوء والغسل، بل يقدم منهما ما شاء، ولا بد من إفراد الوضوء بالنِّيَّة، لأنها عبادة مستقلّة على هذا الخلاف أما إذا كان من محبوبات الغسل فإنه لا يحتاج إلى إفراده بنية: ثم الوضوء المَحْبُوب في الغُسْل هل يتمه في ابتداء الغسل أم يؤخر غسل الرجلين إلى آخر الغسل؟ فيه قولان: أظهرهما: أنه يتمه ويقدم غسل الرجلين مع سائر أعضاء الوضوء، لما سبق من حديث عائشة فإنها قدمت الوضوء على إفاضة الماء، والوضوء ينتظم غسل الرجلين. وثانيهما: أنه يؤخره إلى آخر الغسل، وبه قال أبو حنيفة: لأن ميمونة وصفت غسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "ثُمَّ تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهَ وَذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِر جَسَدِهِ، ثمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ رِجلَيْهِ" (¬1). ولا كلام في أن أصل السنة يتأدّى بكل واحد من الطّريقين، إنما الكلام في الأولى. الثالث: يتعهد من بدنه الموضع الذي فيه انعطاف والتواء، كالأُذُنَيْن فيأخذ كفًّا من الماء، ويضع الأذن برفق عليه ليصل إلى معاطفه، وزواياه كغضون البطن إذا كان سَمِيناً، وكذلك بفعل بِمَنَابت الشّعر، فيخلل أصول الشعر ومنابته، وكل ذلك قبل إفاضة ¬
الماء على الرأس، وإنما بفعل ذلك ليكون أبعد عن الإسْرَافِ في الماء، وأقرب إلى الثِّقة بوصول الماء. الرابع: يفيض الماء على رأسه ثم على الشق الأيمن، ثم على الشق الأيسر، ويروى ذلك في صفة غسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬1). الخامس: يكرر غسل البدن ثلاثاً كما في الوضوء، بل أولى، لأن الوضوء مبني على التُّخفيف، فإن كان ينغمس في الماء انغمس ثلاث مرات، وهل يستحب تجديد الغسل؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما لو ضوء. وأظهرهما: لا، لأن الترغيب في التجديد إنّما ورد في الوضوء، والغُسل ليس في معناه؛ لأن موجب الوضوء أغلب وقوعاً واحتمال عدم الشّعور به أقرب فيكون الاحتياط فيه أتمّ. السّادس: يدلك ما وصل إليه يده من بدنه، يتبع بها الماء، والفائدة ما ذكرناه في التعهد. وقال مالك: يجب الدّلك، لنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أَمَّا أَنَا فَأحْثِي عَلَى رَأسي ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ مِنَ الْمَاءِ، فَإِذَا أنا قَدْ طَهُرْتُ" (¬2). رتَّب الطَّهارة على إفاضة الماء، ولم يتعرض للدّلك. السّابع: إذا اغتسلت الحائض تَتَعَهَّدُ أثر الدم بِمِسْكِ أَوْ طِيْب آخر، بأن تجعله على قُطْنَةٍ وتدخلها في فرجها، روى عن عائشة أن امرأة جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسأله عن الغُسْلِ من الحَيْضِ، فقال: "خُذِي فُرْصَةَ مِنْ مِسْكٍ فَتَطَهَّرِي بِهَا"، فلم تعرف ما أراد فاجتذبتها، وقال: تتبعي بها آثار الدّم (¬3)، والفرصة: القطعة من كل شيء، ذكره ثعلب، ويروى: "خُذِي فرْصَةً مُمْسِكَة". ¬
قال العراقيين (¬1): الفُرْصَةُ القطعة من الصوف أو القطن، فالأولى المِسْكُ، فإن لم تجده استعملت طِيْباً آخر، فإن لم تجد فَطِينًا لقطع الرّائحة الكريهة، فإن لم تجد كفى الماء، والنُّفَسَاء كالحائض في ذلك. الثّامن: ماء الوضوء والغسل غير مقدر. قال الشّافعي -رضي الله عنه-: "وقد يخرق بالكثير فلا يكفي، ويرفق بالقليل فيكفي". والأحبّ أن لا ينقص ماء الوضوء عن مُدِّ، وماء الغسل عن صَاع، لما روى: "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- أنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَيغْتَسِلُ بِالصَّاعِ" (¬2) وروي أنه قال: "سَيَأْتِي أَقْوَامٌ يَسْتَقِلُّونَ هَذَا فَمَنْ رَغِبَ فِي سُنَّتِي وَتَمَسَّكَ بِهَا بُعِثَ مَعِي فِي حَضِيرَةِ القُدْسِ" (¬3). والصَّاع والمُدُّ معتبران على التّقريب، دون التحديد، -والله أعلم- وحكى بعض مشايخنا عن أبي حنيفة أنه يتقدر ماء الغسل بِصَاعٍ فلا يجوز أقل منه، وماء الوضوء بِمُدٍّ، وربما حكى ذلك عن محمد بن الحسن، لنا أن ثبتت الرواية عنهما ما روى: "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ بِنِصْفِ مُدٍّ" (¬4) وروى أيضاً: "أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ تَوَضَّأَ بِثُلُثِ مُدٍّ" (¬5). ونختم الباب بكلامين: أحدهما: إن أدخل كلمةٌ "ثمَّ" في معظم هذه الآداب، وهي على حقيقتها في الترتيب إلا في قوله: "ثم يدلك" بعد قوله: "ثم يُكَرِّر ثلاثاً"، فإن الدّلك لا يكون متأخراً عن التَّكْرار ثلاثاً، بل الدلك في كل غسلة معها. ¬
الثاني: أن كَمَالَ الغُسْلِ لا ينحصر فيما ذكره بل له مندوبات أخر. منها: ما بيناه في فضل سنن الوضوء. ومنها: أن يستصحب النية إلى آخر الغسل. ومنها: أن لا يغتسل في الماء الراكد، ومنها أن يقول في آخره: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (¬1). ¬
كتاب التيمم
قال الغزالي: كِتَابُ التَّيَمُّمِ وَفِيهِ ثَلاَثةُ أَبْوَابٍ الْبَابُ الْأَوَّلُ فِيمَا يُبِيحُ التَّيَمُّمَ، وَهُوَ العَجْزُ عنِ اسْتِعْمَالِ المَاءِ، وَلِلْعَجزِ أَسْبَابٌ سَبعَة (الأوَّلُ) فِقْدَانُ المَاءِ وَلِلْمُسَافِرِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ، الأولَى أَنْ يَتَحَقَّقَ عَدَمُ المَاءِ حَوَالَيْهِ فيَتَيَمَّمَ مِنْ غيْرِ طَلَبٍ (و). قال الرافعي: لا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ في أنه متى يتيمَّم، وكيف يتيمم، ولم يتيمم فجعل الباب الأول فيما يبيح التيمم فحينئذ يتيمّم والثاني في كيفيته، والثالث: في حكمه، ليعرف ما يستفاد به [وما لا يُسْتَفَاد] (¬1) فإنه إِنَّمَا يتيمم لفائدته. الباب الأول في المُبِيح، وهو شيء واحد وهو العَجْزُ عن استعمال الماء، والمراد منه أن يَتَعَذَّرَ اسْتِعْمَال الماء عليه أو ينغمس للُحُوقِ ضرر ظاهر، وأَسْبَابُ العَجْزِ فيما ذكره سبعة: أحدها: فَقْدُ الماء قال الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (¬2) وللمسافر أربع أحوال، لأنه إمّا أن يتيقَّن وجود الماء حَواليه، أو لا يتيقنه، فإن لم يتيقنه فإمَّا أن يتيقن عدمه، وهو الحالة الأولى، أو لا يتيقن عدمه أيضاً، بل يتردد، وهو الثانية، فإن تيقَّنه فإما أن لا يزاحمه غيره على الأخذ والاستيفاء، وهو الحالة الثالثة، أو يزحمه غيره عليه، وهو الرّابعة. الحالة الأولى: أن يتحقق عدم الماء حواليه مثل أن يكون في بعض رِمَالِ البَوَادِي، فتيمم، وهل يفتقر إلى تقديم الطلب عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وإنما يقال لم يجد إذا فقد بعد الطَّلب. وأظهرهما: وهو الذي ذكره في الكتاب أنه لا حاجة إلى الطلب، لأن الطلب مع يقين العدم عبث: وأما ذكر الأول في الاستدلال بالآية ممنوع. ¬
قال الغزالي: الثَّانِيَةُ أَنْ يَتَوَهَّمَ وُجُودَ المَاءِ حَوَالَيْهِ فَليَتَرَدَّدِ (ح) الرَّجُلُ اِلَى حَدٍّ يَلْحَقُهُ غَوْثُ الرِّفَاق، فَلَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ صَلاَةٍ أُخْرَى فَفِي وُجُوبِ إعَادةَ الطَّلَبِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: إذا لم يتيقن عدم الماء حواليه، بل جوَّز وجوده تَجْوِيزاً قريباً أو بعيداً وجب تقديم الطلب على التَّيمم؛ لأن التَّيمم طهارة ضرورة ولا ضرورة مع إمكان الطهارة بالماء، ويشترط أن يكون الطلب بعد دخول الوقت، فحينئذ تحصل الضرورة، وهل يجب أن يطلب بنفسه أو يجوز أن ينيب غيره؟ فيه وجهان: أظهرهما: أنه يجوز الإِنَابَةُ حتى لو بعث النَّازِلُونَ واحداً ليطلب الماء أجزأ طلبه عن الكُلِّ ولا خلاف أنه لا يسقط بطلبه الطَّلَب عمن لم يأمره، ولم يأذن له فيه. وكيفية الطَّلب أن يبحث عن رحله إن كان وحده، ثم ينظر يميناً وشمالاً وَخَلْفاً وَقُدَّاماً إذا كان في مُسْتَوى من الأرض، ويخص مَواضِعَ الخُضْرَة، واجتماع الطُّيُورِ بمزيد الاحتياط، وإن لم يكن مستوياً، واحتاج إلى التردد نظر. فإن كان يخاف على نفسه وماله فلا يجب ذلك؛ لأن الخوف يبيح له الاعراض عند تيقُّن الماء، فعند التَّوهُّم أولى وإن لم يخف، وهذه الحالة هي المَحْكُومُ فيها بقوله في الكتاب "فعليه أن يتردَّد إلى حدٍّ يلحقه غَوْثُ الرِّفَاق" وهذا الضابط مستفاد من إمام الحرمين -رحمه الله-. قال: لا نكلفه البعد عن مُخَيَّم الرّفْقَة فَرْسَخًا، أو فَرْسَخَيْنِ وإن كانت الطُّرُقُ آمِنَةً: ولا نقول لا يفارق طُنُبَ (¬1) الخِيَامِ، فالوجه القصد أن يتردد، ويطلب إلى حيث لو استغاث بالرّفقة لأَغَاثُوهُ مع ما هم عليه من التَّشَاغُلِ بالأشغال والتفاوض (¬2) في الأقوال، وهذا يختلف باستواء الأرض واختلافها صُعُودًا وَهُبُوطاً، وهذا الضَّبْطُ لا يكفي في كلام غيره لكن الأئمة من بعده تابعوه عليه، وليس في الطرق ما يخالفه: هذا إذا كان وحده فإن كان في رفقة وجب البحث عنهم أيضاً، إلى أن يستوعبهم أو يضيق الوقت فلا يبقى إلا ما يسع لتلك الصلاة، وفي وجه إلى أن يستوعبهم أو لا يبقى من الوقت إلا ما يَسَعُ رَكْعَةً. وفي وجه إلى أن يستوعبهم وإن خرج وقت الصلاة (¬3) وإذا عرف أن معهم ماء فهل يجب استيهابه من صاحبه فيه وجهان: أحدهما: لا، لصعوبة السؤال على أهل المُرُوءَةِ. ¬
والثاني: وهو الأظهر نعم، لأنه ليس في هِبَة الماء كثير مِنَّةٍ. وهذان الوجهان يخرجان على ظاهر المَذْهَبِ في أنه إذا وهب منه الماء وجب عليه قبوله، وفيه وجه نذكره من بعد: وكل ما ذكرناه إذا لم يسبق تيمَّمَه تَيَمُّمٌ آخر، وطلب للماء، فإن سبق ذلك واحتاج إلى التيمم مرة أخرى إما لبطلان الأول بحدث، أو لفريضة أخرى فَائِتَةٍ، أو مؤداة، فهل يفتقر إلى إعادة الطلب فيه نظر إن انتقل من ذلك المكان إلى مكان آخر، أو أطبقت غمامه أو طلع ركب، وما أشبه ذلك مما يظن عنده حصول الماء، وجب الطلب كما في التيمم الأول نعم كل موضع تيقُّن بالطلب الأول أنه لا ماء فيه، ولمّا لم يجوّز بالسَّبب الذي حدث حصوله فيه لم يحتج إلى البحث والطلب في ذلك الموضع على ظاهر المذهب كما سبق. وإن لم ينتقل عن ذلك الموضع ولم يحدث شيء يوهم حصول الماء فإن تيقَّن بالطَّلب الأول أن لا ماء ثمَّ، فعلى ما ذكرنا في حالة يقين العدم: وإن لم يتيقنه، بل غلب على ظنه العدم فوجهان: أحدهما: أنه لا يحتاج إلى إعادة الطلب، لأنه لو كان ثم ماء لَظَفَرَ به بالطَّلب الأول ظاهراً. وأظهرهما: أنه يجب الطّلب ثانياً، لأنه قد يطلع على بئر خَفِيَتْ (¬1) عليه، أو يجد من يدله على الماء، لكن يجعل الطلب الثاني أخفّ من الأول. وإذا عرفت ما ذكرناه، وتأملت قوله: "فإن دخل عليه وقت صلاة أخرى، ففي وجوب إعادة الطلب وجهان": فينبغي أن لا يخفى عليك منه شيئان: أحدهما: أن هذا الخلاف غير مخصوص بما إذا دخل عليه وقت صلاة أخرى، بل معهما احتاج إلى إعادة التيمم، إما لهذا السَّبَب أو لأن تيممه الأول قد بطل بعروض حَدَثٍ أو طلوع رَكْب جرى الوجهان سواة تَخَلَّلَ بين التيممين زمان، أو لم يتخلل. والثاني: أن كلامه وإن كان مُطْلقاً لكن الشرط في سورة الخِلاَف أن لا يحدث سبب يوهم حدوث الماء من الانتقال إلى مكان أخر، أو طلوع ركب ونحوهما، وإلا وجب إعادة الطَّلب بلا خلاف، وأن لا يكون العدم مستيقناً بمقتضى الطلب الأول، وإلا فإذا استيقن العدم ولم يحدث ما يوهم حصول الماء كان اليقين الأول مستمراً، ولا معنى للطَّلَبِ مع تيقُّن العدم كلما تقدم، ولك أن تعلم قوله: "فليتردد الرجل" بالحاء لأمرين: أحدهما: أن عند أبي حنيفة ليسس على المتيمم طلب إلا إذا غلب على ظَنِّهِ أن بقربه ماء. ¬
والثاني: أن عنده صلاة العيد، وصلاة الجنازة يجوز أن يتيمَّم لهما إذا خاف الفوات لو اشتغل بالوضوء، وإن كان الماء موجوداً عنده، وكلام الكتاب مطلق. قال الغزالي: الثَّالِثَةُ أَنْ يَتَيقَّنَ وُجُودَ المَاءِ فِي حَدِّ القُرْبِ فَيَلْزَمُهُ (ح) أَنْ يَسْعَى إِلَيْهِ، وَحَدُّ القُرْبِ إِلَى حَيْثُ يَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ المُسَافِرُ لِلرَّعْي وَالاَحْتِطَابِ وَهُوَ فَوْقَ حَدِّ الغَوْثِ، فَإِنِ انتَهَى البُعْدُ إلَى حَيْثُ لاَ يَجِدُ المَاءَ فِي الوَقْتِ فَلاَ يَلْزَمُهُ، وإنْ كَانَ بَيْنَ الرُّتبَتَيْنِ فَقَدْ نَصَّ أَنَّهُ يَلْزُمُهُ إِذَا كَانَ عَلَى يَمِينِ المَنْزِلِ أَوْ يَسَارِهِ، وَنَصَّ فِيمَا إِذَا كَانَ عَلَى صَوْبِ مَقْصِدِهِ أنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ فَقِيلَ قَوْلاَنِ وَقِيلَ بِتَقْرِيرِ النَّصَّيْنِ، لِأَنَّ جَوَانِبَ المَنْزِلِ مَنْسُوَبةٌ إِلَيْهِ دُونَ صَوْب الطَّرِيقِ. قال الرافعي: إذا تيقَّن وجمود الماء حواليه فله ثلاث مراتب: إحداها: أن يكون على مسافة ينتشر إليها النَّازِلُونَ في الاحْتِطَاب وَالاحْتِشَاش، وتنتهي البهائم إليها في الرَّعي، فيجب السَّعْي إليه، والوضوء به، لأنَه إذا كان يَسْعَى لأشغاله إلى هذا الحَدِّ، فلينته (¬1) للعبادة أولى وهذا فوق حد الغوث الذي يسعى إليه عند التَّوَهُّمِ. قال الأمام محمد بن يحيى ولعله يقرب من نصف فَرْسَخٍ. الثانية: أن يكون بعيداً عنه بحيث لو سعى إليه لفاته فرض الوقت فيتيمم ولا يسعى إليه لأنه فاقد في الحال، ولو وجب انتظار الماء مع خروج الوقت لما ساغ التيمُّم أصلاً، بخلاف ما لو كان واجداً للماء، وخاف فوات الوقت لو توضَّأ حيث لا يجوز له التيمم؛ لأنه ليس بفاقد، على أن صاحب التَّهْذِيبِ حكى في هذه الصورة وَجْهاً أنه يتيمم، ويصلي لحرمة الوقت، ثم يتوضّأ ويعيد: وقد يقول النّاظر أيعتبر كونه بحيث لو سعى إليه لفاته فرض الوقت من حين نزوله في ذلك المنزل، أو من أول وقت الصلاة لو كان نازلاً فيه. فإن كان الأول فقد يكون الماء في حد القرب، ولو سعى إليه لفاته فَرْضُ الوَقْتِ لنزوله في أخر الوَقْتِ، فإذا لم نوجب السعي إليه بطل إطلاق قولنا: "إنه إذا كان الماء في حد القُرْب لزم السَّعْيُ إليه، وإنا اعتبرنا من أَوَّلِ وقتِ الصلاة فمواقيت الصلاة مختلفة في الطُّولِ وَالقِصَرِ، فما الذي يفعل أنعتبر الوسط منها كما يفعل في حد القرب؟ فان القَدْرَ الذي ينتشر إليه المسافر لحاجته مختلفة صيفاً وشتاء، ويؤثر فيه وُعُورَةُ المكان وسهولته، وما أشبه ذلك، والمعتاد في نَظائِرِ ذلك الأخذ بالوسط المعتدل أم نعتبر في كل صلاة وقتها، فتختلف المسافة التي يحتاج إلى قَطْعِهَا، أم كيف الحال، ولو كان يتيمَّم لفائته فكيف يقدر فوات وقتها لو سعى إلى الماء؟ أيقال وقتها أول حالة ¬
التذكر؟ فيلزم أن لا يسعى إلى الماء في حد القُرْبِ، لأنه زمان يسير أو لا يقال هذا وحينئذ لا يفرض لها وقت آخر يَفُوت بالسَّعْي إلى الماء، ولو كان يتيمم للنوافل وجوزنا ذلك فكيف نعتبر الوقت فيها، وهل نجعل مواقيت الفرائض الخمس مِعْيارًا للفوائت والنَّوَافِلِ أم لا؟. والجواب الأشبه بكلام الأئمَّةِ أن الاعتبار من أوَّل وقت الصلاة، لو كان نازلاَ في ذلك المنزل، ولا بأس باختلاف المواقيت والمسافات، فإن الغرض صيانة وظيفة الوَقْتِ عَنِ الفَوَاتِ وعلى هذا إذا انتهى إلى المنزل في أخر الوقت، وكان الماء في حد القُرْبِ لزم السَّعْيُ إليه والوضوء به، وإن كان يفوته فرض الوقت كما لو كان الماء في رحله وفاته الوقت (¬1) لو توضأ، والأشبه أن تجعل وقت الحاضرة مِعْياراً في الفوائت والنوافل، فإنَّها الأصل والمقصد بالتيمم غالباً -والله أعلم-. الثالثة: أن يكون بين الرُّتْبَتَيْنِ وتزيد المسافة على التي يتردد المسافر إليها لحاجاته، ولا ينتهي إلى حَدِّ خروج الوقت فهل يلزمه السَّعي إليه أم يجوز له التيمم؟ نص الشّافعي على أنه إذا كان على يمين المنزل، أو يساره يلزمه السعي إليه، ولا يجوز له التيمم، وفيما إذا كان على صَوْبِ مَقْصَدِهِ أنه لا يجب السعي إليه، وله التيمم، فاختلف الأصحاب فيه على طريقتين. إحداهما: تقرير النَّصَّيْنِ. والثانية: جعل المسألتين على قولين نقلاً وتخريجًا (¬2)، ولنبين أولاً معنى قول المذهبين في المسألتين قولان بالنقل (¬3)، والتخريج، فنقول إذا ورد نَصَّان عن صاحب المذهب مختلفان في صورتين متشابِهَتَيْنِ، ولم يظهر بينهما ما يصلح فارقًا فالأصحاب يخرجون نصه في كل واحدة من الصورتين في الصُّورَةِ الأخرى لاشتراكهما في المعنى، فيحصل في كل واحدة من الصورتين قولان (¬4): منصوص وهو مخرج. المنصوص في هذه هو المُخَرَّجُ في تلك، والمنصوص في تلك هو المُخَرَّجُ في هذه، فيقولون: فيهما قولان بالنقل والتخريج، أي نقل المنصوص في هذه الصُّورة إلى ¬
تلك، وخرج منها وكذلك بالعكس، ويجوز أن يُرَادَ بالنقل الرواية، ويكون المعنى في كل واحدة من الصُّورتين قول منقول، أي: مروى عنه، وآخر مخرج: ثم الغالب في مثل ذلك عدم إطْبَاقِ الأصحاب على هذا التصرُّف؛ بل ينقسمون إلى فريقين: منهم من يقول به، ومنهم من يأبى، ويستخرج فارقاً بين الصورتين يستند إليه افتراق النصين، وإنما ذكرنا هذا الكلام في هذا الموضع، لأنه أول موضع ذكر فيه المصنف النقل والتَّخْرِيج، وإذا عرفت ذلك فنقول. أما من قرر النَّصَّين، فرق بأن المسافر قد يَتَيَامَنُ وَيَتَيَاسَرُ في حَوَائِجِهِ، ولا يمضي في صَوْبِ مقصده، ثم يرجع قَهْقَرَى، وجوانب المنزل منسوبة إليه دون ما بين يديه: وأما من جعل الصورتين على قولين، وَجَّهَ تجويز التيمم بأنه فاقد للماء في الحال، والمَنْعُ بأنه قادر على الوصول إلى الماء، والتيمُّم إنما يعدل إليه عند الضرورة، وهذه الطريقة أَظْهَرُ من الأولى؛ لأن لأصحابنا أن يقولوا للأوّلين: المسافر ما دام سائراً لا يعتاد المضي يَمِيناً وَشَمَالاً، كما لا يرجع قَهْقَرَى. وإذا كان في المنزل انتشر في (¬1) الجوانب كُلِّهَا يعود إلى منزله، فالفرق ممنوع، وما ذكرناه من الطريقين نقل صاحب الكتاب، وإمام الحرمين في آخرين. وقال في التهذيب: إذا كان الماء على طريقه، وهو يتيقَّن الوصول إليه قبل خروج الوقت، وصلى في [أول] (¬2) الوقت بالتيمم جاز. وقال في الإملاء لا يجوز، بل يؤخر حتى يأتي الماء والمذهب الأول. وإن كان الماء على يمينه أو يساره أو ورائه لم يلزمه إتيانه، وإن أمكن في الوقت؛ لأن في زيادة الطريق مشقة عليه كما لو وجد الماء يباع بأكثر من ثمن المِثْلِ لا يلزمه الشراء. وقيل: لا فرق، بل متى أمكنه أن يأتي الماء في الوقت من غير خوف، فلا فرق بين أن يكون على يمينه أو يساره أو أمامه، في جواز التيمم قولان، هذا ما رواه وبينه وبين الكلام الأول بعض المباينة توجيهاً وحكماً. أما التوجيه فظاهر، وأما الحكم فلأن هذا الكلام إنما يستمر في حق السائر، وقضيته نفي الفرق بين الجوانب في حق النازل في المنزل؛ لأنه يحتاج إلى الرُّجُوع إلى المنزل من أي جانب مضى إلى الماء، وفي زيادة الطريق مَشَقَّة، وأما الكلام الأول فقضيته الفرق بين الجوانب في حق المنازل أيضاً؛ إلاَّ أن ذلك الفرق ممنوع كما تقدم، وأيضاً فإن منقول صاحب الكتاب يقتضي كون السَّعْي إلى ما يكون على اليمين واليسار أولى بالإيجاب، وما ذكره في التَّهْذِيب يقتضي كون الإيجاب فيما على صوب القصد أولى؛ لأنه جعل فيه قولين، وفيما على اليمين واليسار طريقين، وجزم في أحدهما ينفي ¬
الوجوب، واعلم أن ظاهر المذهب جواز التيمم، وإن علم الوصول إلى الماء في آخر الوقت، روى أن ابن عمر -رضي الله عنه-، أقبل من الجرف، حتى إذا كان بالمريد تيمَّمَ وصلَّى العصر، فقيل له: أتتيمم وجدران المدينة تنظر إليك؟ فقال: أَوَ أَحْيىَ حتى أدخلها؟ ثم دخل المدينة والشمس حَيَّة مرتفعة فلم يُعِدِ الصلاة (¬1). وإذا جاز التَّيمم في حق من يعلم الانتهاء إلى الماء في صوب سفره، فأولى أن يجوز للنَّازل في بعض المراحل إذا كان الماء على يمينه أو يساره، لزيادة مشقة السير لو سعى إليه، وإذا جاز التيمم للنَّازل فهو للسائر أجوز، وهذا في حَقِّ المسافر. أما المقيم فذمَّتُهُ مشغولة بالقضاء، وإن صلَّى بالتيمم فليس له أن يصلي بالتيمم، وإن خاف فوات الوقت لو سَعى إلى الماء وتوضَّأ، وإذا كان ممنوعاً من الصلاة بالتيمم مع فوات الوقت فأولى أن يكون ممنوعاً عنها في أول الوقت. قال الغزالي: ثُمَّ إنْ تَيَقَّنَ وُجُودَ المَاءِ قَبْلَ مُضِيِّ الوَقْتِ، فَالأَوْلَى التَّأخِيرُ قَوْلاً وَاحِداً، فَإِنْ تَوَقَّعَهُ بِظَنٍّ غَالِبٍ فَقَوْلاَنِ لِتَقَابُلِ نَفْسِ فَضِيلَةِ أَوَّلِ الوَقْتِ مَعَ ظَنِّ إدْرَاكِ الوُضُوءِ. قال الرافعي: هذا تِفْرِيعٌ على جواز التيمم، وإن أمكن الوصول إلى الماء قبل مضي الوقت وقد ذكرنا الخلاف فيه، فإن جوزناه وهو المذهب. فنقول الأولى أن يؤخر إلى أن يصلي (¬2) بالوضوء، لأن فضيلة الصلاة بالوضوء أولى من تعجيل الصلاة أو أن يعجل الصلاة (¬3) بالتيمم نظر إن تيقن وجود الماء في أخر الوقت، فالأولى أن يؤخر ليصلي بالوضوء، لأن فضيلة الصَّلاة بالوضوء وإن كان في آخر الوقت، أبلغ من فَضِيلَةِ الصلاة بالتيمم في أوله، أَلاَ ترى أن تأخير الصلاة إلى آخر الوقت جائز مع القدرة على أدائها في أوله، ولا يجوز التيمم مع القدرة على الوضوء هذا ما قطع به الأكثرون، وبه قال صاحب الكتاب، حيث قال: "قولاً واحداً" وحكى ¬
في التتمة خلافاً في الأولى التقديم، أو التأخير على ما سنحكي نظيره في الحالة الثانية، ذلك أن تعلم قوله: "قولاً واحداً" بالواو إشارة إلى هذا الخلاف. وإن لم يتيقن وجود الماء في آخر الوقت، ولكن رجاه فقولان: أصحهما: التعجيل في أول الوقت بالتيمم أفضل (¬1) لأَنَّهُ سُئِلَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَفْضَلِ الأَعْمَالِ فَقَالَ: "الصَّلاة فِي أوَّلِ وَقْتِهَا" (¬2)، ولم يفرق بين أن يكون بالوضوء، أو بالتيمم؛ ولأن فضيلة الأولويَّة نَاجِزَةٌ، وهي تفوت بالتأخير يقيناً، وَفَضِيلَةُ الوضوء غير معلومة الحصول، فَصَيَانَةُ النَّاجِزِ (¬3) عن يقين الفوات أولى من المُحَافَظَةِ على أمر موهوم. والثاني: وبه قال أبو حنيفة أن التأخير أفضل؛ لأن الإيراد بالظهر، وتأخيرها عند شدة الحَرِّ مأمور به، كي لا يختل معنى الخشوع، فالتأخير لإدراك الوضوء أولى أن يؤمر به. واحتج في "الوسيط" للقول الأول بأن تَعْجِيلَ الصَّلاة منفرداً أفضل من تأخيره لحيازة الجماعة، وكذلك فعل إمام الحَرَمَيْنِ، لكن أبا علي الطَّبَرِي ذكر في "الإِفْصَاحِ" أن التأخير لِحِيَازَةِ الجماعة أفضل، واحتج به للقول الثاني، وتوسط آخرون فجعلوا المسألة على وجهين مبنيين على القولين في المسألة التي نحن فيها (¬4) ثم لا يخفى أن موضع القولين ما إذا اقتصر على صلاة واحدة، أما إذا صلى بالتيمم في أول الوقت وبالوضوء في آخره فهو النهاية في إِحْرَازِ الفضيلة. ¬
ولك أن تبحث عن قوله: "وإن توقعه بظن غالب" فنقول: لِمَ قيده بالظن الغالب، ولم يقتصر على مجرد التوقع فاعلم أن التَوَقُّع يشمل الظَّنَّ، ومجرد التجويز، فلو لم يقل بظن غالب، لدخل فيه ما إذا تساوى الطرفان عنده، فلم يظن الوجود في آخر الوقت، ولا العدم، وما إذا ظن العدم، وجواز الوجود، ولا جريان للقولين في هاتين (¬1) الحالتين، بل الحكم فيهما أولوية التَّعْجِيل لا محالة، وموضع القولين ما إذا ترجَّح عنده الوجود على العدم، وإن لم يتيقنه، فكذلك قال بظن غالب، وربما وقع في كلام بعضهم نقل القولين فيما إذا لم يظن الوجود، ولا العدم ولا وثوق به، وكأن ذلك القائل أراد بالظن اليقين. قال الغزالي: الرَّابِعَةُ أَنْ يَكُونَ المَاءُ حَاضِراً كَمَاءِ البِئْرِ يَتَنَازَعُ عَلَيهَا الوَارِدُونَ، وَعَلِمَ أَنَّ النَّوْبَةَ لاَ تَنْتَهيِ إِلَيْهِ إِلاَّ بَعْدَ الوَقْتِ، فَقَدْ نَصَّ فِيهِ وَفي مِثْلِهِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ أنَّهُ يَصْبِرُ، وَنَصَّ فِي السَّفِينَةِ أَنَّهُ يُصَلِّي قَاعِداً إِذَا ضَاقَ مَحَلُّ القِيَامِ وَلاَ يَصْبِرُ فَقِيلَ: سبَبُهُ أَنَّ القُعُودَ أَهْوَنُ وَلذَلِكَ جَازَ في النَّفْلِ مَعَ القُدْرَة عَلَى الْقِيَامِ، وَقِيلَ قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ. قال الرافعي: إذا زاحمه غيره على الاسْتِقَاءِ كما إذا انتهوا إلى بئر ولم يمكن الاسْتِقَاء إلا بِالمُنَاوَبَةِ إما لاتحاد آلة الاستقاء أو لضيق موضع النَّازحِ، فإن توقع وصول النّوبة إليه قبل خروج الوقت لم يتيمم، فلعله يجد فرصة الوضوء. وإن علم أنه لا تنتهي النوبة إليه إلا بعد الوقت، فقد حكى عن نص الشَّافعي -رضي الله عنه- أنه يَصْبِرَ إلى أن يتوضأ، ولا يبالي بخروج الوقت، وإن حضر جمع من العُرَاةِ، وليس ثم إلا ثوب واحد، يصلون فيه على التَّنَاوب، وعلم أن النوبة لا تنتهى إليه إلا بعد الوقت، نص أنه يصبر أيضاً، ولا يصلي عاريًا في الوقت، ولو اجتمعوا في سَفِينَةٍ، أو بيت ضَيِّقِ، وهناك موضع واحد يمكن فيه الصَّلاة قائماً، نص أنه يصلي في الوقت قاعداً، ولا يصبر إلى انتهاء النوبة إليه بعد الوقت، وهذا يخالف النص في المسألتين الأولين، فاختلف الأصحاب على طريقين: أظهرهما: وبها قال أبو زبد المروزي: لا فرق، والمسائل كلها على قولين بالنقل والتخريج. أظهرهما: أنه يصلي في الوقت بالتيمم، وعارياً وقاعداً، لأن حرمة الوقت لا بد من رِعَايَتِهَا، والقدرة بعد الوقت لا تأثير لها في صلاة الوقت. والثاني: أنه يصبر لوجود القدرة على الوضوء واللبس والقيام. ¬
والطريقة الثانية: تقرير النصين، والفرق أن تقرير أمر القعود أسهل من أمر الوضوء واللبس، ولهذا جاز تركه في النَّقْلِ مع القدرة على القيام بخلاف التيمم، وكشف العَوْرَةِ لا يحتمل في النقل كما في الفرض، وهذا الفرق حكاه الشيخ أبو محمد عن القَفَّال، قال إمام الحرمين: هذا ضعيف، لأن القيام رُكْنٌ في صلاة الفرض فمن أين ينفع حطه في صلاة أخرى؟. وللفارق أن يقول الواجب في نوعي الفرض والنقل أهم من الواجب في أحدهما: فيكون أبعد عن قبول المسامحة، وينتظم الفرق. وقال كثيرون من الأصحاب: لا نصّ للشافعي في مسألة البِئْرِ لكن نص في المسألتين الأخريين على ما سبق، فمنهم من نقل وخرج، ومنهم من قرر النصين، وفرق بوجهين: أحدهما: ما سبق. والثاني: أن للقيام بدلاً ينتقل إليه، وهو القعود، ألا ترى أن قعُودَ المريض كقيام الصحيح، وستر العورة لاَ بَدَلَ له فوجب الصَّبْرُ إلى القدرة عليه، وهؤلاء ألحقوا مسألة البئر بمسألة السَّفينة، وقالوا: لا يصبر، لأن للوضوء بدلاً وهو التيمُّم، ولك أن تعلم قوله: "فقد نص فيه وفي الثوب" بالواو؛ لأن هؤلاء نفوا أن يكون للشَّافعي نص في مسألة البئر، وخالفوا ما رواه. وأعلم أن إمام الحرمين أجرى الخلاف المذكور في هذه المَسْألَةِ فيما إذا ضاق الوقت ولاح للمسافر (¬1)، ولا عائق، لكن علم أنه لو اشتغل به لفاتته الصلاة، وذكر في "الوسيط" ذلك أيضاً، وهو يقتضي إثبات الخلاف في المَرْتَبَةِ الثانية من مراتب الحالة الثالثة وإن لم يذكر، ثم (¬2). قال الغزالي: فَرْعَانِ، أحَدُهُمَا، لَوْ وَجَدَ مَاءً لاَ يَكْفِيهِ لِوُضُوئهِ يَلْزَمُهُ (ح) اسْتِعْمَالُهُ قَبْلَ التَّيَمُّمِ عَلَى أَظْهَرِ القَوْلَيْنِ. قال الرافعي: إذا وجد الجُنُبُ من الماء ما لا يكفيه لغسله، أو المُحْدِث ما لا يكفيه لوضوئه ففيه قولان: ¬
أحدهما: وبه قال أبو حنيفة ومالك واختاره المزني لا يجب استعماله، بل يتيمَّم كما لو وجد بعض الرَّقَبَةِ لا يجب إعتاقه عن الكَفَّارة، بل يعدل إلى الصوم، وأصحهما أنه يجب استعماله (¬1)، ويتيمم للباقي؛ لأنه قد قدر على غسل بعض أعضائه، فلا يسقط بالعَجْزِ عن الباقي فصار كما إذا كان بعض أعضائه جريحاً، والبعض صحيحاً يجب غسل الصحيح، وهذا الثاني قوله الجديد، والأول القديم. وذكر الشيخ أبو علي (¬2)، والمسعودي أن له في الجديد قولين: أحدهما: مثل القديم، ورواية المزني في "المختصر" تدل على ما قالاه بأن فرّعنا على القول الثاني، وجب اسْتِعْمَال الماء أولاً ليصير فاقداً، ولهذا قال في الأصل يلزمه استعماله قبل التيمُّم، ثم إن كان محدثاً غسل به وجهه، ثم يديه على الترتيب، إلى أن ينفد، وإن كان جنباً غسل أي عضو شَاءَ، إذ لا ترتيب في الغسل، والأولى أن يستعمله في أعضاء الوضوء، وفي الرأس، وإنما يجب تقديم استعماله على التيمم إذا وقع الغسل، والتيمم عن طهارة واحدة: أما لو أحدث وأجنب ووجد ما يكفي الوضوء به دون الغسل، وقلنا: الحدث الأصغر لا يدخل في أكبر، بل يجب الوضوء مع الغسل، فإنه يتوضَّأ به ويتيمّم عن الجَنَابَةِ ويتخيَّرُ في التقديم والتأخير. وإن قلنا: يدخل الأصغر في الأكبر سقط حكمه، وواجبه الغسل، فيجب تقديم استعماله على التيمُّم على هذا القول، وكل ما ذكرناه فيما إذا كان الموجود يصلُح للغسل، فأمَّا إذا كان الشَّخْصُ محدثاً، ولم يجد إلا ما يصلح للمسح دون الغسل كثلج وبَرَدٍ لا يذوب، ففيه طريقان: أظهرهما: أنه يكفيه التيمم هاهنا، لأنا حيث نوجب استعمال الموجود من الماء على المحدث نأمره بتقديمه على التيمم، ولا يمكن تقديم مَسْحِ الرأس مع بقاء فرض الوجه، واليدين عليه. والثاني: أنه على القولين فإن قلنا يجب استعمال الماء الناقص فقد ذكر أبو العباس الجرجاني من أصحابنا أنه يتيمم على الوجه واليدين، ثم يمسح رأسه بِبَلَلِ (¬3) الثلج.، ثم يتيمم للرجلين، وهذا كله إذا وجد تراباً يتيمم به، أما إذا وجد المُحدْث أَو الجُنُب الماء الناقص، ولم يجد ما يتيمم به ففيه طريقان: أحدهما: طرد القولين: ¬
وأظهرهما: أنه يجب استعماله لا محالة، لأنه لا بدل ينتقل إليه فصار كالعريان يجد ما يستر به بعض عورته، يلزمه ستر ما يمكن به، بخلاف ما إذا وجد بعض الرَّقَبَةِ في الكفارة ولم يقدر على الصَّوْمِ والإِطْعَام، لا يؤمر بالإِعْتَاقِ لأن الكفّارات على التَّرَاخِي، وقد تطرأ القدرة بعد ذلك، فافهم هذه المسائل، واعرف موضع القولين اللذين أطلقهما في الكتاب (¬1). قال الغزالي: الثَّانِي لَوْ صَبَّ المَاءَ فِي الوَقْتِ فَتَيَمَّمَ فَفِي القَضَاءِ وَجْهَانِ: وَجْهُ وُجُوبهِ أنَّهُ عَصَى بِصَبِّهِ بِخَلاَفِ الصَّبِّ قَبْلَ الوَقْتِ وَبِخَلاَفِ مَا لَوْ تَجَاوَزَ نَهْراً وَلَمْ يَتَوَضَّأ فِي الْوَقْتِ. قال الرافعي: إذا فوت الماء الذي عنده بالإِراقة أو الشرب أو غيرهما، واحتاج لذلك في التيمم، فلا خلاف في أنه يتيمم؛ لأنه فاقد في الحال، وكذلك لو نجسه، ثم ننظر، إن فعل ذلك قبل دخول الوقت وتيمم في الوقت فلا قضاء عليه، سواء فعل ذلك لغرض أو سَفَها؛ لأنه لا فرض عليه ما لم يدخل الوقت، وإن فعله بعد دخول الوقت، فإن كان له فيه غرض، فكذلك لا قضاء عليه، وذلك مثل أن يتبرد به، أو يشربه لحاجة العَطَشِ، أو يغسل به ثوبه تنظيفاً، وكذلك إذا اشتبه عليه الإناءان، واجتهد ولم يغلب على ظنه شيء فأراقهما، أو جمع بينهما وتيمم، فهو معذور، لأن فيه غرضاً وهو أن لا يكون مصلياً بالتيمم، وعنده ماء طاهر بيقين، وإن فوّته لغير غرض، وفائدة وتيمَّم وصلى، فهل يجب عليه القضاء؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا، لأنه فاقد حين يتيمم فيكفيه البَدَل، كما لو قتل عبده أو أعتقه، وكفر (¬2) بالصوم يجزئه. والثاني: نعم؛ لأنه عصى بِالصَّب، والحالة هذه وسقوط الفرض بالتيمم من قبيل ¬
الرُّخَصِ فلا يُنَاط بالمعاصي بخلاف ما إذا كان الصب قبل الوقت، فإنه لا يقضي، وبخلاف ما إذا كان الصب لغرض، فإنه معذور، ولو اجتاز بماء في الوقت ولم يتوضأ، ثم بعد عنه وصلى بالتيمم، فالذي ذكره في الكتاب يشعر بالقطع، بأنه لا قضاء عليه، وكذلك أورده صاحب "التهذيب" وغيره: والفرق أنه لم يصنع شيئاً هاهنا، وإنما امتنع من التَّحْصيل والتَّقْصير في تفويت الحاصل أشد منه في الامتناع من تحصيل ما ليس بحاصل، ورأيت في كلام الشيخ أبي محمد طرد الوجهين في سورة الاجتياز وهو غريب. ولو وهب الماء في الوقت من غير حاجة ولا (¬1) عطش [للمتهب] (¬2) أو باعه من غير حاجة إلى ثمنه، ففي صحة البيع والهبة وجهان: أشبههما: المنع؛ لأن البدل حرام عليه فهو غير مقدور على تسليمه شرعاً. وثانيهما: الجواز، لأنه مالك نافذ التَّصرف، والمنع لا يرجع إلى سبب يختص بالعقد فلا يؤثر في فساد العقد. فإن قلنا بصحة البيع والهبة، فحكم قضاء الصلاة على البائع والواهب ما ذكرنا في الصّب؛ لأنه فوته بإزالة الملك عنه. وإن قلنا بعدم الصحة فلا يصح تيمُّمه ما دام الماء في يد المُبْتَاعِ، أو الموهوب منه، وعليه الاسْتِرْدَاد إن قدر، فإن لم يقدر وتيمم، قضى وإن تَلَف في يده وتيمم ففي القضاء الخلاف المذكور في الإراقة، لأنه إذا تلف بالماء صار فاقداً عند التيمم، ثم إذا أوجبنا القضاء في هذه الصُّورة ففي القدر المقنضي ثلاثة أوجه: أصحها: أنه يقضي تلك الصلاة الواحدة التي فوت الماء في وقتها. والثاني: يقضي أغلب ما يؤديه بوضوء واحد. والثالث: كل صلاة صَلاَّها بالتيمم (¬3) -والله أعلم-. قال الغزالي: (السَّبَبُ الثَّانِي) أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ مِنْ سَبُعِ أَوْ سَارِقِ فَلَهُ التَّيَمُّمُ وَلَوْ وُهِبَ مِنْهُ المَاءَ أَوْ أُعِيرَ مِنْهُ الدَّلوُ يَلزَمُهُ القَبُولُ بِخِلاَفِ مَا إِذَا وُهِبَ (ز) ثَمَنُ المَاءِ أَوِ الدَّلوَ فَإِنَّ المِنَّةِ فِيهِ تَثْقُلُ، وَلَو بِيعَ بِغَبْنِ لَمْ يَلْزَمهُ شِرَاؤُهُ وَبِثَمَنِ المِثْلِ يُلْزَم إِلاَّ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَينٌ مُسْتَغْرِقٌ أَوِ احْتَاجَ إِلَيْهِ لِنَفَقَةِ سَفَرِهِ، وَالأَصَحُّ أَن ثَمَنَ المِثْلِ يُعْرَفُ بِقَدْرِ أُجْرَةِ النَّقْلِ. ¬
قال الرافعي: إذا كان لقرْبه ماء، لكنه يخاف من السَّعي إليه علي نفسه من سَبُعٍ، أو عَدُوٍّ أو على ماله المُخْلَفِ في المنزل، أو الذي معه من غاصب، أو سارق فله التيمم، وهذا الماء كالمعدوم، وكذلك الحكم لو كان في السّفينة، ولا ماء معه وخاف على نفسه لو اسْتَقَى من البَحْرِ، والخوف على بعض الأعضاء كالخوف على النَّفْس، ولو خاف الوحدة والانقطاع عن الرّفقة لو سعى إلى الماء، فإن كان عليه ضَرَرٌ وَخَوْفٌ في الانقطاع لم يلزمه السَّعي إليه ويتيمم، وإن لم يكن ضرر فكذلك على أظهر الوجهين، وإن كان الماء لغيره فوهبه منه، فهل عليه قبوله؟ فيه وجهان المذهب أنه يجب، وهو الذي ذكره في الكتاب؛ لأنه والحالة هذه يعد واجداً للماء، والمُسَامحة غالباً في الماء فلا تعظم منَّة في قبوله بخلاف ما لو وهب منه الرَّقبة لا يلزمه قبول، لأنها ليست في محل المسامحة غالباً. والثاني: أنه لا يلزمه (¬1) القبول؛ لأنه نوع يكسب للطَّهارة، فلا يلزمه كما لا يلزمه اكتساب ثمن الماء، ولو أعير منه الدَّلو، أو الرَّشَاء وجب قبوله؛ لأن الإعارة لا يعظم فيها المنَّة، والقادر على قبولها لا يعد فاقداً للماء هكذا أطلقه الأكثرون، ومنهم صاحب الكتاب، وفصل بعضهم. فقال: إن لم تزد قيمة المسُتَعَار على ثمن مثل الماء وجب القبول، وإن زادت فلا؛ لأن العارية مضمونة، وقد يتلف فيحتاج إلى غَرَامَةٍ ما فوق ثمن الماء، ولو اقترض الماء وجب قبوله في أصح الوجهين؛ لأنه إنما يطالب عند الوجدان، وحينئذ يهون الخروج عن العهدة، ولو بيع منه الماء وهو لا يملك الثَّمَنَ، لكنه وهب منه فقد أطلق القول في الكتاب بأنه لا يلزمه قبوله، لأن المِنَّة تثقل فيه كما لا يلزم على العَمَارِي قبول الثَّوب. وحكى بعض الأصحاب فيما إذا وهبه الأب من الابن، أو العكس وجهين، كالوجهين فيما إذا بذل الابن لأبيه، أو بالعكس، المال في الحَجِّ، هل يلزمه وهل يصير مستطيعاً به؟ وهذا حسن لكن الأظهر ثم إنه لا يجب القَبُول، فيجوز أن يكون إطلاق الجواب هاهنا جرياً على الأظهر، واقتصاراً عليه وَهِبَةُ آلات الاسْتِقَاء، كالدَّلْو والرِّشَاء، كهبة ثمن الماء في الحُكْمِ، ولو اقترض منه الثمن فإن كان معسراً لم يلزمه الاستقراض، وإن كان موسراً لكن المال غائب عنه فكذلك في أظهر الوَجْهَيْنِ، بخلاف ما إذا استقرض منه الماء، لأن الماء في محل المُسَامَحَةِ، والقدرة عليه عند توجه المطالبة أظهر وأغلب. ولو بيع منه الماء نَسِيئَةَ، وهو موسر، لزمه الشراء على أظهر الوجهين؛ لأن ¬
الأجل لازم هاهنا، فلا مطالبة قبل الحلول بخلاف سورة الإِقْرَاضِ، ولو ملك الثمن فكان حاضراً عنده، لكنه كان محتاجاً إليه لدين مستغرق في ذمته أو لنفقته أو نفقة رَقِيقِهِ، أو حيوان محترم معه، أو لسائر مُؤْنَات سفره في ذهابه، وإيابه، فلا يجب عليه الشراء، ويعذر في الصّرف إلى هذه الوجوه، وإن فضل عن حاجته لزمه الشراء، إن بيع بثمن المِثْلِ، لأنه قادر على استعمال الماء، ويصرف إليه أي نوع من المال كان معه، وإن بيع بِغَبْنٍ لا يلزمه الشِّرَاء، كما لو كان يتلف شيء من ماله لو سعى إلى الماء المباح، وظاهر كلامه في الكتاب وعليه الأكثرون أنه لا فرق بين أن يكون الغبن بقدر قليل، أو كثير. ومنهم من قال: إن بيع بزيادة يَتَغَابَنُ الناس بمثلها وجب الشراء، ولا عِبْرَةَ بتلك الزيادة، وإذا كان البيع نَسِيئَةً وزيد بسبب التأجيل ما يَلِيقُ به فهو بيع بثمن المثل على أظهر الوجهين، وإن زاد المبلغ على ثمن مثله نقداً فيجب الشّراء على قولنا: يجب الشراء بالنَّسيئة. وكيف يعتبر ثمن مثل الماء وما معناه؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ثمن مثله قَدْر أجرة نَقْلِهِ إلى المَوضِعِ الذي فيه الشخص، لأنه لا يرغب في الماء بأكثر منه، وعلى هذا فالأجْرَة تختلف باختلاف المَسَافة طولاً وقصراً، فيجوز أن يعتبر الوسط المقصد، ويجوز أن يعتبر الحَدّ الذي يسعى إليه المسافر عند تيقن الماء، فإنَّ ذلك الحد لو لم يقدر على السعي إليه بنفسه، واحتاج إلى بَذْلِ الأجرة لم ينقل الماء منه إليه، يلزمه البذل إذا كان واجداً لها. وثانيها: أنه يعتبر ثمن مثله في ذلك الموضع في غالب الأوقات، ولا يعتبر ذلك الوقت بخصوصه، فإن الشَّربة الواحدة عند العزّة يرغب فيها بدنانير كثيرة. وثالثها: أنه يعتبر ثمن مثله في ذلك الموضع في تلك الحالة، فإن لكل شيء سُوقاً يرتفع وينخفض، وثمن مثل الشيء ما يليق به في تلك الحالة، ألا ترى أن الرَّقَبَةَ وإنْ كانت غالية بالإضافة إلى عموم الأحوال يجب شِرَاؤُهَا بما يرغب فيها في تلك الحالة، وهذا الوجه هو الأظهر عند الأكثرين من الأصحاب. والوجه الثاني: منقول عن أبي إسحاق، واختاره القاضي الروياني، ولم أر أحداً اختار الوجه الأول سوى صاحب الكتاب، ومن تابعه. وقد ذكر إمام الحرمين إن ذلك الوجه مبني على أن الماء لا يملك، فإنه إذا لم يملك لم يكن له ثمن، فاعتبر أجرة النقل. وأشار المسعودي إلى هذا البناء أيضاً، ومعلوم أن القول بأن الماء لا يملك وجه ضعيف في المذهب، فليكن كذلك ما هو مبني عليه. وادعى في "الوسيط" أن الوجه الذي اختاره غير مبني على ذلك الوجه، حيث قال: أحدها أن ثمن مثله أجرة نقل الماء فيه تعرف الرغبة في الماء، وإن كان مملوكاً
على الأصح يعني: أنه وإن كان مملوكاً فالقَدْرُ الذي يرغب به فيه أجرة النقل. وللأكثرين: أن يقولوا إن ادعيت أن هذا القدر هو الذي يرغب به في الماء حيث يكثر الماء في البلاد، وغيرها، فهذا مسلم، لكن الماء والحالة هذه لا يشتري إنما ينقل وإن ادعيت أنه القدر الذي يرغب به في الماء حيث يحتاج إلى الشِّراء فممنوع، ولو بيع منه آلات الاسْتِقَاء كالدَّلْوِ والرَّشَاء بثمن المثل وجب شراؤهما، إذا كان فاقداً لها، وكذلك لو أُوجِرَتْ بأجرة مثلها، فإن باعها مالكها أو أجرها بزيادة لم يجب تحصيلها، هكذا ذكروه ولو قال قائل: يجب التَّحصيل ما لم تَجَاوز الزِّيادة. ثمن مثل الماء لكان محسناً؛ لأنْ الآلة المشتراة تبقى له، وقدر ثمن الماء محتمل التّلف في هذه الجهة ولو لم يجد إلا ثوباً وقدر على شده في الدّلو ليستقى لزمه ذلك: ولو لم يكن دلو وأمكن إدلاؤه في البئر ليبتلّ ويعصر منه ما يتوضأ به لزمه ذلك، ولو لم يصل إلى الماء وأمكن شقّه وشد البعض في البعض ليصل وجب: وهذا كله إذا لم يدخل نقصان أو لم يزد نقصاً به على أكثر الأمرين من ثمن مثل الماء وأجرة مثل الحبل. قال الغزالي: (الثَّالِثُ) أَنْ يَحتَاجَ اِلَى المَاءِ لِعَطَشِهِ فِي الْحَالِ أَوْ تَوَقُّعِه فِي المَآلِ أَوْ لِعَطَشِ رَفِيقِهِ أَوْ عَطَشِ حَيَوَانٍ مُحْتَرِمٍ، فَلَهُ التَّيَمُّمُ وَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ المَاءِ وَرُفَقَاؤُهُ عَطْشَى يَمَّمُوهُ وَغَرَّمُوا لِلوَرِثَةِ الثَّمَنَ فَإِنَّ المِثْلَ لاَ يَكُونُ لَهُ قِيمَةٌ غَالِباً، وَلَوْ أَوصَى بِمَائَةٍ لِأَوْلَى النَّاسِ بِهِ فَحَضَرَ جُنُبٌ وَحَائِضٌ وَمَيِّتٌ فَالْمَيِّتُ أَوْلَى لِأَنَّهُ آخِرُ عَهْدِهِ وَمَنْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ أَوْلَى مِنَ الجُنُبِ إِذْ لاَ بَدَلَ لَهُ، وَفِيهِ مَعَ المَيِّتِ وَجْهَانِ، وَالجُنُبُ أَوْلَى مِنَ المُحْدِثِ إِلاَّ إِذَا كَانَ المَاءُ قَدْرَ الوُضُوءِ فَقَطْ، فَإِنْ انْتَهَى هَؤُلاَءِ اِلَى مَاءٍ مُبَاحٍ وَاستَوَوا فِي إِثْبَاتِ اليَدِ فَالمِلْكُ لَهُمْ، وَكُلُّ وَاحِدٍ أَوْلَى بِمِلْكِ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ حَدَثُ غَيْرِهِ أَغْلَظَ. قال الرافعي: في الفصل مسائل: إحداها: لو قدر على ماء مَمْلُوكٍ أو غير مملوك لكنه احتاج إليه لعطشه فله التيمُّم، دفعاً لما يلحقه من الضَّرر، ولو توضأ والقول فيما يلحقه لو توضَّأ ولم يشرب يقاس بما سيأتي في المَرَضِ المبيح للتيمم. ولو احتاج إليه رفيق له أو حيوان آخر محترم للعطش دفعه إليه، إما مجاناً أو بعوض، وتيمّم، وللعطشان أخذه منه قهراً لو لم يبذله له، وغير المحترم من الحيوان هو الحَرْبِيُّ والمُرتَدُّ والخنزير والكلب العَقُور وسائر الفواسق الخمس وما في معناها، وكان والدي -رحمه الله- يقول: ينبغي أن يقال: لو قدر على التَّطهُّر وجمعه في ظَرْفٍ ليشربه لزم ذلك، ولم يَجُزِ التيمّم، وما ذكره يجيء وجهاً في المذهب، لأن أبا علي الزجاجي، وأقضى القضاة المارودي، وآخرين، ذكروا في كتبهم أن من معه ماء طاهر
وآخر نجس وهو عطشان يشرب النَّجس، ويتوضّأ بالطاهر (¬1) وإذا أمر بشرب النّجس ليتوضأ بالطاهر فأولى أن يؤمر بالوضوء وشرب المستعمل، وهل يفترق الحال بين أن تكون هذه الحالة (¬2) ناجزة، أو متوقعة في المآل؟. أما في عطش نفسه فلا فرق، بل توقعه مآلاً لإعواز غير ذلك الماء طاهراً لحصوله حالاً. وأما في عطش الرّفيق والبهيمة فقد أبدى فيه إمام الحرمين تردداً فيه، وتابعه عليه في "الوسيط"، والظاهر الذي اتفق عليه المعظم بأنه يتزود لرفيقه ويتيمم، كما يفعل ذلك لنفسه، إذ لا فرق بين الزّوجين في الحرمة. الثانية: قال الشافعي -رضي الله عنه-: "إذا مات رجل له ماء وَرِفاقه يخافون العطش شربوه، ويمَّمُوه وأدوا ثمنه في ميراثه، وإنما جاز لهم شربه وإن كان فيه تفويت غسل الميت عليه، لأنهم يخافون على مَهْجِهِم، وليس للشرب بدل، وللطّهارة بدل وهو التَّيمم وأما قوله: "وأدّوا ثمنه في ميراثه" فقد تكلموا في المراد بالثَّمَن، منهم من قال: أراد بالثَّمَنِ المِثْلَ؛ لأن الماء مثل، والمثليات تُضْمَنُ بالمثل دون القيمة، ومنهم من قال: أراد به القيمة، وإنما وجبت القيمة هاهنا؛ لأن المسألة مفروضة فيما إذا كانوا في مَفَازَةٍ عند الشرب، ثم رجعوا إلى بلدهم (¬3)، ولا قيمة للماء بها، فلو أدوا الماء (¬4) لكان ذلك إحباطاً لحقوق الوَرَثَةِ، فيغرمون قيمة يوم الإتلاف في موضعه: وهذا الثاني هو الذي ذكره في الكتاب، وينبغي أن يعلم لفظ الثمن. في قوله: "وغرموا للورثة الثمن" بالواو؛ لأنه أراد به القيمة، حيث علل فقال: "فإن المثل لاَ يَكُونُ له قيمة غالباً"، ولو أنه لم يعلل لما انتظم إعلامه بالواو؛ لأن من أوجب المثل جوز تسميته بالثمن أيضاً، ألا تراهم اختلفوا في مراد الشّافعي -رضي الله عنه- بلفظ الثمن. الثالثة: إذا أوصى بمائة لأولى الناس به، أو لكل (¬5) رجلاً يصرف ماءه إلى أولى الناس به، وحضر محتاجون إلى ذلك الماء كالجُنُب والحائض والميت ومن على بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ فمن يقدم منهم؟ أعلم أن الميت ومن علىَ بدنه نجاسة أولى من غيرهما. أما الميت فلمعنيين. ¬
أحدهما: قال الشَّافعي -رضي الله عنه- إن أمره يفوت فليختم بأكمل الطّهارتين، والأحياء يقدرون عليه في ثاني الحال. والثاني: قال بعض الأصحاب: المقصد من غسل الميت تنظيفه وتكميل حاله، والتراب لا يفيد ذلك، وغرض الحي استباحة الصلاة وإسقاط الفرض عن الذِّمَّةِ، وهذا الغرض يحصل بالتيمم حصوله بالغسل: وأما من على بدنه نجاسة فلأن إزالة النجاسة لا بدل لها، وللطّهارات بدل وهو التيمم، وإذا اجتمعا فمن المقدم منهما؟ فيه وجهان: أصحهما: أن الميت أولى. قال المحاملي (¬1) من أئمة العراق والصيدلاني من غيرهم، الوجهان مبنيان على المعنيين في المَيِّت، إن قلنا بالتعليل الأول فالميِت أولى، وإن قلنا بالتعليل الثاني فالنجس أوْلى، لأن فرضه لا يسقط بالتيمُّم، بخلاف غسل الميت ولا خلاف أنه إذا كان على بَدَنِ الميت نجاسة فهو أولى، ولا يشترط في استحقاق الميت أن يكون له ثم وارث يقبل عنه، كما لو تَطَوَّع إنسان بتكفين ميت ولا حاجة إلى قابل، وفي المسألة وجه ضعيف. وان اجتمع ميتان والماء لا يكفي إلا لأحدهما، فإن كان المَاءُ موجوداً قبل موتهما وماتا على الترتيب فالأول أولى، وان ماتا معاً أو وجد الماء بعد موتهما فأفضلهما أولى، فإن استويا أقرع بينهما هذا كلامنا في المَيِّت ومن عليه نجاسة. أما غيرهما ففي الحَائِضِ مع الجنب ثلاثة أوجه: أصحها: الحائض أولى؛ لأن حدثها أغلظ ألا يرى أن الحيض يحرم الوطء ويسقط إيجاب الصلاة. والثاني: الجُنُب أولى؛ لأنه أحق بالاغتسال، فإن الصَّحَابة اختلفوا في تيمُّم الجنب، ولم يختلفوا في تيمم الحائض. والثالث: هما سواء لتعارض المعنيين، وعلى هذا إن طلب أحدهما القِسْمَة، والآخر القُرْعَة فالقرعة أولى في أظهر الوجهين، والقسمة في الثاني، هذا إن أوجبنا ¬
استعمال الماء النَّاقص، وإلا تعيَّنت القُرْعَة وإن اتفقا على القِسْمة جاز إن قلنا: يجب استعمال الماء الناقص، وإلا لم يجز فإنه تضييع، وإذا حضر جنب ومحدث نظر، إن كان ذلك الماء كافياً للوضوء دون الغسل، فالمحدث أولى إن لم توجب استعمال الماء الناقص، وإن أوجبناه فثلاثة أوجه: أصحها: أن المُحْدِث أولى أيضاً؛ لأنه يرتفع حدثه بكماله. والثاني: الجنب أولى لغلظ حدثه. والثالث: يتساويان وتفريعه على ما سبق، وإن لم يكن ذلك كافياً لواحد منهما فالجنب أولى إن أوْجَبْنَا استعمال الماء الناقص لغلظ حدثه، وإلا فهو كالمعلوم وإن كان كافياً لكلّ واحد منهما، فننظر إن فضل شيء من الوضوء به ولم يفضل من الغسل فالجنب أولى إن لم توجب استعمال الناقص، لأنه لو استعمله المحدث لضاع الباقي (¬1)، وإن أوجبنا استعمال الناقص فثلاثة أوجه: أصحها: أن الجنب أوْلى أيضاً؛ لغلظ حدثه. والثائي: المحدث أولى بقدر الوضوء، والباقي للجنب مراعاة الجانبين. والثالث: أنهما سواء، وإن فضل من كل واحد منهما شيء، أو لم يفضل من واحد منهما، فالجنب أولى لا مَحَالَة، وإن كان الماء الموجود كافياً للغُسْلِ دون الوضوء، ويتصور ذلك بأن يكون الجنب نِضْواً لخلقه، فقيد الأعضاء والمحدث ضَخْماً عظيم الأعضاء، فالجنب أولى أيضاً؛ لأنا إن لم نوجب استعمال الماء الناقص فالمحدث لا ينتفع به، وإن أوجبناه فحدث الجنب أغلظ: وإذا عرفت ما ذكرنا تبين لك أن أحوال المسألة أربع: أن يكون الماء كافياً للوضوء دون الغسل؛ وأن يكون كافياً لكل واحد منهما؛ وأن لا يكون كافياً لواحد منهما؛ وأن يكون كافياً للغسل دون الوضوء، والظَّاهر تقديم المحدث في الحالة الأولى وتقديم الجُنُب فيما عَدَاهَا، فلذلك قال: والجُنُبُ أوْلَى من المحدث إلا أن يكون الماء قدر الوضوء فقط، وليكن المستثنى والمستثنى منه من هذا اللفظِ مُعْلَماً بالواو، لما حكيناه من التَّفْصِيل والخلاف. وقوله: "قدر الوضوء فقط" إن كان المراد أنه قدر الوضوء دون الغُسْلِ فحسن، وإن كان المراد أنه لا يزيد على قدر الوضوء فهذا ليس بشرط في تصوير الحالة الأولى، بل إذا لم يكن كافياً للغسل وكان كافيًا للوضوء فالمحدث أولى، سواء زاد ¬
على قدر الوضوء أو لم يزد عليه، فهذا شرح مسألة الوصية. واعلم أنه إن عَيَّن المكان فقال: اصرفوا هذا الماء إلى أولى النَّاس به في هذه المَفَازَةِ، فالحكم على ما ذكرنا، ولو لم يعين بل قال: اصرفوا إلى أولى الناس به واقتصر عليه، فينبغي أن يبحث عن المُحْتَاجين في غير ذلك المكان، ألا يرى أنه لو أوصى لأعلم الناس لا يختص بأهل ذلك الموضع إلا أن حفظ الماء ونقله إلى مفازة أخرى، كالمستبعد والله أعلم. ولو انتهى هؤلاء المُحْتَاجُون إلى مَاءٍ مُبَاحٍ واستووا في إحْرَازِهِ وإثبات اليد عليه ملكوه على السَّوَاء لاستوائهم في سبب المِلْكِ، وكل واحد أحَقُّ بملك نفسه من غيره، وإن كان ذلك الغير أحوج إلى الماء، وكان حدثه أغلظ، بل لا يجوز لكل واحد أن يبذل ما ملكه لغيره، وإن كان ناقصاً إلا إذا قلنا: لا يجب استعمال الماء الناقص عن قدر الكفاية. هذا ما أورده صاحب الكتاب، وذكره إمام الحرمين، وأورد أكثر الأصحاب هذه الصورة، وقالوا: يقدم فيها الأحوج فالأحوج كما في مسألة الوَصِيَّةِ، ولا مُنَافَاةَ بين الكلامين؛ لأن هؤلاء أرادوا التقديم على سبيل الاستحباب، وكأنهم يقولون: مجرد الانتهاء إلى الماء المباح لا يقتضي المِلْكَ، وإنما يثبت (¬1) الملك بالاسْتِيلاء والإحراز فيستحب لغير الأحوج ترك الإحراز والاستيلاء إيثاراً للأحوج، وهؤلاء [لا] (¬2) يسلمون أنهم لو لم يفعلوا ذلك واستولوا عليه وازدحموا كان الأمر على ما ذكره إمام الحرمين، لكن يمكن أن ينازع هو فيما ذكروه من الاسْتِحْبَاب، ويقول: إنه متمكن من الطهارة بالماء، فلا يجوز له العدول إلى التَّيمُّم كما لو ملكه لا يجوز له بذله لغيره. قال الغزالي: (الرَّابعُ) العَجْزُ بِسَبَبِ الجَهْلِ كَمَا إِذَا نَسِيَ المَاءَ في رَحلِهِ فَتَيَمَّمَ (ح) قَضَى الصَّلاة عَلَى الجَدِيدِ، وَلَوْ أَدْرَجَ فِي رَحْلِهِ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ لَمْ يَقْضِ عَلَى الصَّحِيحِ إِذْ لاَ تَفْرِيطَ، وَلَو أَضَلَّ المَاءَ فِي رَحْلِهِ فَلَمْ يَجِدهُ مَعَ الإِمْعَانِ فِي الطَّلَبِ فَفِي القَضَاءِ قَوْلاَنِ كَمَنْ أَخْطَأَ القِبْلَةَ، وَلَو أضلَّ رَحلَهُ في الرِّحَالِ فَقَوْلاَنِ، وَالأَوْلَى سُقُوطُ القَضَاءِ؛ لأَنَّ المُخَيَّمَ أَوْسَعُ مِنَ الرَّحْلِ. قال الرافعي: لك أن تقول: الكلام هاهنا في أسباب العَجْزِ المبيح للتّيمم، والسّبب المبيح هاهنا إنّما هو الفَقْدُ في ظَنِّهِ إلاَّ أنه تبيَّن بعد ذلك أنه لم يكن فاقداً، ولا شكَّ في أن الأسباب المبيحة يكفي فيها الظن، ولا يعتبر التَّعيُّن، وإذا كان كذلك فليس ¬
هذا سبباً خارجاً عما تقدمّ، وأما الكلام في أنه هل يقضي الصلاة إذا تبين أنه غير فاقد فذلك شيء آخر وراء جواز التيمم، واللاَّئِقُ ذكره في أحد موضعين، إما آخر سبب الفقد، وإما الفصل المعقود فيما يقضى من الصَّلوات المختلفة (¬1) ثم ذكر في هذا الفصل مسائل: إحداها: لو نسي الماء في رَحْلِهِ، فتيمم على ظن أنه لا ماء عنده، ثم تبيَّن الحال فهل يلزمه قضاء الصلاة التي أداها به؟ نص في "المختصر" على وجوب الإعادة. وعن أبي ثور قال: سألت أبا عبد الله عنها، فقال: لا إعادة عليه. واختلف الأصحاب على طريقتين: أظهرهما: وهو المذكور في الكتاب أن في المَسْأَلَةِ قَولينِ: الجديد الصحيح: وجوب الإعادة، وبه قال أحمد؛ لأن مثل هذا الشّخص إما أن يكون واجداً للماء، أو لا يكون، إن كان واجداً فقد فات شرط التّيمم، وهو أن لا يجد، وإن لم يكن واجداً فسببه تقصيره، فتجب الإعادة كما لو نسي ستر العوْرَة، أو غسل بعض أعضاء الطهارة. والقديم: أنه لا تجب الإعادة؛ لأن النِّسيان عذر حال بينه وبين الماء، فيسقط فرضه بالتيمم، كما لو حال بينهما سَبُعٌ وشبهوا هذا القول القديم في نسيان الترتيب في الوضوء ونسيان الفاتحة، وعن مالك روايتان كالقولين، وعند أبي حنيفة لا إعادة. والطريقة الثانية: القطع بوجوب الإعادة، وتأويل ما نقله أبو ثور يحمل أبي عبد الله على مالك، أو تنزيل ما نقله على المسألة الثّانية التي نذكرها. ولو علم المسافر أن في موضع نزوله بِئْراً فنسيها، وتيمم، وصلى، ثم تذكر، فعلى الطريقتين: ولو كان الماء يباع فنسي الثمن، وتيمم وصلى، ثم تذكر قال القاضي أبو قاسم بن كج: يحتمل أن يكون مثل نسيان الماء، ويحتمل غيره، والأوّل أظهر. المسألة الثانية: لو أدرج الماء في رَحْلِهِ من غير شعوره به، فتيمم على اعتقاد أن لا ماء عنده، وصلَّى ثم تبيَّن الحال، ففي المسألة طريقتان: إحداهما: طرد قول النسيان (¬2) فيه، لكن الأصح هاهنا نفي الإعادة. ¬
والثانية: القَطْعُ بنفي الإعادة لعدم التقصير هاهنا بخلاف سورة النسيان، فإنه كان عالماً بالماء ثم ذهل عنه. ولو تبين أن بقربه بئراً، ولم يكن علم بها أصلاً فهو نظير هذه الصورة. وقوله في الكتاب: "لم يقض على الصحيح" يجوز أن يكون اختياراً للطريقة الثانية، والمعنى على الصحيح من الطَّريقين، ويجوز أن (¬1) يكون جواباً على الطريقة الأولى، والمعنى الصحيح من القولين، وطريقة القولين أظهر عند علماء الأصحاب. الثالثة: لو كان في رَحْلِهِ ماء فاضله: فتيمم ثم وجده نظر، إن لم يمعن في الطلب فعليه القضاء لتقصيره، وإن أمعن حتَّى غلب على ظنه فقد الماء فقولان: أحدهما: أنه لا إعادة عليه، لأنه لم يفرط في البحث، والطلب، فيعذر. وأظهرهما: تجب الإعادة؛ لأنه عذر نادر لا يدوم، وإنما يسقط القضاء بالأعذار العامة، والنادرة التي تتّصل وتدوم. قال الأئمة: والقولان مُخَرَّجَان على القولين فيمن اجتهد في القِبْلَةِ، وصلى ثم تيقن الخطأ، ولذلك يقول بعضهم في المسألة وجهان. الرابعة: لو أضلّ رحله في الرحال بسبب ظلمة أو غيرها، فإن لم يمعن في الطّلب وجبت الإعادة ولا محالة، وإن أمعن فطريقان: أحدهما: أنه على القولين في إضلال الماء في الرحل. والثاني: القَطْعُ بنفي الإعادة والفرق من وجهين (¬2): أحدهما: ما ذكر في الكتاب أن مُخَيَّمَ الرّفْقَةِ أوسع من الرَّحْلِ ورحله أضبط للماء من المخيم للرحل، وإذا كان كذلك كان أبعد عن التّقصير هاهنا. والثاني. أن من صلّى في رحله وفيه ماء فقد صلى بالتيمم على الماء، ومن صلّى وقد أضل رحله فقد صلّى وليس معه ماء. ومنهم من يحكي في المسألة وجهين كما ذكرنا في الصورة السابقة. وعن الحليمي (¬3) وجه ثالث أنه لو وجده قريباً منه فيعيد، ولو وجده بعيداً فلا. ¬
وظاهر المذهب نفي الإعادة مطلقاً، ولا ينبغي أن يفهم ذلك من قوله في الكتاب: "وأولى بسقوط القضاء" فإنهم إذا رتَّبوا صورة على صورة في الخلاف ثم قالوا: وأوْلَى بكذا، لا يَعْنُون به سوى رُجْحَان ما وصفوه بالأولويّة بالإضافة إليه في الصورة المرتب عليها، ولا يلزم من كون النّفي أو الإثباب في صورة أرجح منه في صورة أخرى كونه أرجح على مقابله، نعم إذا قيل أولى الوجهين كذا فقضيته رجحان ذلك الوجه كما إذا قيل الأظهر أو الأصح كذا. قال الغزالي: (الخَامِسُ) المَرَضُ الَّذِي يَخَافُ مِنَ الوُضُوءِ مَعَهُ فَوْتَ الرُّوحِ أو فَوْتَ عُضْو أَوْ مَنْفَعَةِ أَوْ مَرَضاً مَخوُفًا، وَكذَا إنْ لَمْ يَخَف إِلاَّ شِدَّةَ الضَّنَى وَبُطْءَ الْبُرْءِ أَوْ بَقَاءَ شَيْنٍ عَلَى عُضْوٍ ظَاهِرِ عَلَى أَقْيَسِ الوَجْهَيْنِ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ يَتَألَّمُ فِي الحَالِ وَلاَ يَخَافُ عَاقِبَةً لَزَمَهُ الوُضُوءُ. قال الرافعي: المرض مبيح للتَّيمم في الجملة، قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ ...} إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬1) نقل عن ابن عباس أن المعنى وإن كنتم مرضى فتيَّمموا (¬2)، وإن كنتم على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا (¬3). ثم هو على ثلاثة أقسام: أولها: المرض الذي يخاف من الوضوء معه فَوْتُ الرُّوحِ، أو فوت عُضْوٍ أو فوت منفعة عضو فيبيح التيمم نقل عن ابن عباس في تفسير الآية إذا كان بالرجل جراحة في سبيل الله، أو قُروح أو جُدَري فَيُجْنِب ويخاف أن يغتسل فيموت يتيمم بالصّعيد (¬4) وألحق بهذا النّوع ما إذا خاف مرضاً مخوفاً، وكذا لو كان به مرض لا يخاف من اسْتِعْمَال الماء معه التَّلف، لكن يخاف من استعمال الماء معه حدوث المرض المخوف. وينبغي أن يعلم قوله: "أو مرضاً مخوفاً" بالواو؛ لأن إمام الحرمين حكى فيه عن العراقيين طريقين: ¬
أحدهما: القَطْعُ بجواز التيمم. والثاني: أن فيه قولين، وقد توجه المنع بالقدرة على استعمال الماء، وقصور الضرر فيه عما تقدم من المضّار، فظاهر المذهب القطع بالجواز، لأنه إذا خاف المرض الذي يخاف منه التّلف فقد خاف التلف، وهذا قضية كلامه في "المختصر"، وهو الَّذِي ذكره المسعودي وغيره في الشروح: على أن في تشبيه الإمام الطريقين في هذه الصورة شبهة قوية فإن الَّذي يلغي في كتبهم حكاية الطريقتين في صورة بُطْءِ البُرْء وأخواتها كما سيأتي، لا في هذه الصورة بل الَّذي يدل عليه كلامهم تجويز التيمُّم هاهنا من غير تردُّد، والله أعلم. وثانيها: المرض الذي يخاف من استعمال الماء معه شدة الضَّنى أو زيادة العِلَّة أو بطء البرء وبقاء الشّين القَبِيحِ، ولنفصل هذه الصور وأحكامها: أما زيادة العلّة وبطء البُرْءِ فقد حكوا فيهما ثلاثة طرق: أظهرها: أن في جواز التيمم للخوف منها قولين: أحدهما: المنع؛ لأن إباحة التَّيمم لمريض مأخوذة من الآية وقد روينا عن تفسير ابن عباس اعتبار خوف التّلف فيه. وأظهرهما: الجواز، وبه قال مالك وأبو حنيفة، لأنا لا نوجب شراء الماء بأكثر من ثَمَنِ المِثْلِ لما فيه من الضَّرر، ومعلوم أن الضَّرر هاهنا أشد؛ ولأن ترك الصوم وترك القيام في الصَّلاة لا يعتبر فيه خوف التّلف، بل يلغى فيه هذا النوع من المرض فكذلك هاهنا. والطريق الثاني: القطع بالجواز وتأويل قول المنع على ما إذا لم يلحقه إلاَّ مُجَرَّد الألم والمشقَّة. والثالث: القطع بالمنع وتأويل الجواز على ما إذا كان المخوف التَّلف. فإن قلت: وما الفرق بين زيادة العِلَّة وبطء البرء؟ فالجواب أن المراد من زيادة العلة إفراط الألم وكثرة المقدار وإن لم تمتد المُدَّة، ومن بُطْءِ البرء امتداد المدّة وإن لم يزد القدر ثم قد يجتمع الأمران، وأما شدَّة الضَّنى ففي جواز التيَّمم بها الطريقان الأوليان، والظاهر عود الطريقة الثالثة أيضاً، والمراد من الضَّنى المرض المُدْنف الذي يجعله ضمناً، وكأنه نوع من المرض خاص. وأما إذا خاف من استعمال الماء بقاء الشين على بدنه فننظر إن خاف شيئاً قبيحاً على عضو ظاهر كالسَّوَاد الكثير في الوجه ففيه ثلاث طرق أيضاً: أحدها: الجزم بالجواز، لأنه يشوِّه الخِلْقَة ويدوم ضرره فأشبه تلف العضو ويحكى ذلك عن ابن سريج والإصطخري.
والثاني: الجزم بالمنع إذ ليس فيه بطلان عضو ولا منفعته وإنما هو فوات جمال. والثالث: أنه على القولين المقدمين، وإن خاف شيئاً يسيراً كأثر الجُدَرِي والسَّوَاد القليل فلا عبرة به، وكذلك لو خاف شيئاً قبيحاً على غير الأعضاء الظَّاهرة، والمراد من الظاهر ما يبدو عند المهنة غالباً كالوجه واليدين. وأما تعبيره عن الخلاف في هذه المسائل بالوجهين فإنما اتّبع فيه إمام الحرمين، والمشهور في طرق الأصحاب أن فيها قولين على طريقة إثبات الخلاف كما حكيناه. وثالثها: المرض الذي لا يخاف من استعمال الماء معه محظوراً في العاقبة، فلا يرخَّص في التّيمم وإن كان يتألم في الحال لجراحة أو حَرٍّ أو بَرْدٍ، لأنه واجد للماء، قادر على استعماله من غير ضرر شديد. واعلم أن المرض المرخص لا يفترق الحال فيه بين أن يعرف كونه بحيث يرخص بنفسه، وبين أن يخبره طبيب حَاذِقٌ بشرط كونه مسلماً بالغاً عدلاً، وفي وجه يقبل في ذلك خبر الصبي المراهق والفاسق أيضاً، ولا فرق بين الحُرِّ والعَبْدِ، والذكر والأنثى؛ لأن طريقة الخبر وأخبارهم مقبولة ولا يشترط فيه العدد. وحكى أبو عاصم العبادي (¬1) فيه وجهين، وهذا كله فيما إذا منعت العقة استعمال الماء أصلاً لعموم العذر جميع موضع الطهارة وضوءًا كان أو غسلاً، فإن تمكَّنت العلة من بعض أعضاء الطَّهارة دون بعض غسل الصحيح بقدر الإمكان، وما الَّذِي يفعل العليل؟ نذكره بعد هذا (¬2) والله أعلم. قال الغزالي: (السَّادِسُ) إِلْقَاءُ الجَبِيرَةِ بِانْخِلاعَ العَضْوِ فَيَجِبُ غُسْلُ مَا صَحَّ مِنَ الأَعْضَاءِ وَالمَسْحُ عَلَى الجَبِيرَةِ بِالمَاءِ، وَفي نُزُولهِ مَنْزِلَةَ مَسَحْ الخُفِّ فِي تَقْدِيرِ مُدَّتِهِ وَسقُوطِ الاسْتِيعَابِ وَجْهَانِ، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ مَعَ الغُسْلِ وَالَمسْحِ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ، وَلاَ ¬
يَمْسَحُ الجَبِيرَةَ بِالتُّرَابِ عَلَى الأَصَحِّ لِأَنَّ التُّرَابَ ضَعِيفٌ، وَفِي تَقْدِيمِ الغُسْلِ عَلَى التَّيَمُّمِ ثَلاثَةُ أَوْجُهِ: الأَعْدَلُ هُوَ الثَّالِثُ، وَهُوَ أنَّهُ لاَ يَنْتَقِلُ عن عُضْوٍ مَا لَمْ يَتِمَّ تَطْهِيرُ ذَلِكَ العُضْوِ، فَلَوْ كَانَتِ الجِرَاحَةُ عَلَى يَدِهِ تَيَمَّمَ قبْلَ مَسْحِ الرَّأْسِ. قال الرافعي: لو جعل المرض سبباً واحداً من أسباب العَجْزِ ثم قسمه إلى ما لا يحوج إلى إلقاء الجَبِيرَةِ ولا لصوق عليه، وإلى ما يحوج إليه وحذف السَّبب السَّادس والسَّابع لكان أحسن وأولى، فإن الانخلاع والجراحة نوعان خاصان من العِلَلِ والأمراض، ولو عددنا كل مرض سبباً على حده لطال الأمر وكثرت الأسباب. فإن قلت: اسم المرض لا يقع على انْخِلاَعِ العُضْوِ والجراحة. قلنا: نحن لا نعني بالمرض سوى العلّة العارضة التي يخاف معها من استعمال الماء على أن ابن عباس -رضي الله عنه- فسر المريض بالجريح كما تقدم، فدلّ على أن اسم المرض يقع على الجراحة، ثم الكسر والانخلاع له حالتان: إحداهما: أن يحوج إلى إلقاء الجَبَائِرِ على موضعه وهي الألواح التي تهيأ لذلك. والئانية: أن لا يحوج إليه، والمعتبر في حاجة الإلقاء أن يخاف شيئاً من المضار السابقة لو لم يلقها عليه. الحالة الأولى: أن يحتاج إلى إلقائها عليه، والغالب في مثلها أن يكون ذلك المَوْضِع بحيث لا يخاف من إيصَالِ الماء إليه، وإنما يقصد بإلقائها الانْجِبَارُ، فإذا ألقاها على موضع فلا يخلو إما أن يقدر على نزعها عند الطّهارة من غير أنَ يخاف شيئاً من المَضَارِّ السابقة، أو لا يقدر عليه، فإن لم يقدر لم يكلف النزع، ويراعي في الطَّهارة أموراً: أحدها: غسل الصّحيح، وفي وجوبه عليه طريقان: أحدهما: أن فيه قولين، في قول: يجب، وفي قول: لا، بل يكفيه التيمم، وهما عند أصحاب هذا الطريق مخرجان من القولين فيما إذا وجد من الماء ما يكفي لبعض الأعضاء، هل يقتصر على التيمم أم يستعمله مع التَّيمم؟ ووجه الشبه أنه في الصُّورتين تمكن من غسل بعض الأعضاء دون بعض، وغسل البعض لا يكفي مطهراً، والتَّيمم يكفي مطهراً. والطَّريق الثَّاني -وهو الأصح-: القَطْع بوجوب غسل الصحيح، لأن اعتلال بعض الأعضاء لا يزيد على فقدانه، ولو كان مقطوع بعض الأطراف لم يسقط عنه غسل الباقي فهنا أولى بخلاف ما إذا وجد بعض الماء، فإنَّ الخلل ثم في الآلة التي تتأدَّى بها
العبادة، فأشبه ما إذا وجد بعض الرَّقبَة، فإن قلنا بالصحيح وهو وجوب غسل الصحيح فيجب ذلك بحسب الإمكان حتى لو قدر على غسل ما تحت أطراف الجَبِيْرَةِ من الصَّحيح الذي أخذته الجبيرة، وجب ذلك بأن يضع خِرْقَةً مَبْلُولَةً عليه ويعصرها؛ لتنغسل تلك المواضع بالتَّقَاطُرِ منها. والثاني: يجب المسح على الجُبَيْرَةِ بِالمَاءِ لما روي "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْجَبَائِر" (¬1) وحكى أبو عبد الله الحناطي قولاً: أنه لا يمسح ويكفيه التَّيمم. وعن القاضي أبي الطيب أنه قال: عندي يكفيه التَّيمم وغسل الصحيح، والأول هو الصَّحيح المشهور، وعليه تتفرع مسائل: إحداها: إن كان جنباً مسح الجَبِيرَةَ متى شاء، وإن كان محدثاً والجبيرة على بعض أعضاء الوضوء مسحها إذا وصل إلى غسل العضو الذي عليه الجَبِيرَة، فإنَّ التَّرتيبُ رُكْنٌ في الوضوء. الثانية: هل تتقدّر مدّة هذا المسح فيه وجهان: أحدهما: نعم، لأنه مسح على حائل فأشبه المسح على الخف، فيتقدر في حقِّ المقيم بيوم وليلة وفي حق المسافر بثلاثة أيام ولياليهن. وأصحهما: وبه قطع الصَّيدلاني. لا؛ لأن التقدير إنما يعرف بنقل أو توقيف، ولم يرد، بل له الاستدامة إلى الاندمال. قال إمام الحرمين: وهذا الاختلاف فيما إذا كان (¬2) يتأتى الرّفع بعد إنقضاء كل يوم وليلة من غير ضرر، فإن لم يمكن فلا خلاف في جواز استدامته، وإن كان يتأتى ذلك في كل طهارة لم يجز المسح ووجب النزع والغسل (¬3) لا محالة. الثالثة: هل يجب تعميم الجبيرة بالمسح؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، بل يكفيه (¬4) ما يقع عليه الإسم؛ لأنه مسح بالماء فأشبه مسح الرأس والخُفّ. ¬
وأصحهما: أنه يجب؛ لأنه مسح أبيح لضرورة العجز عن الأصل، فيجب فيه التَّعْمِيم كالمسح في التَّيمم، بخلاف مسح الخُفِّ، فإنه بني على التَّخفيف والتَّرخُّص، وهاتان المسألتان هما اللَّتان أشار إليهما بقوله: "وفي نزوله منزلة المسح على الخف في تقدير مدة وسقوط الاستيعاب وجهان"، وينبغي أن يكون قوله: "فيجب غسل ما صح من الأعضاء والمسح على الجَبِيرَةِ" معلماً بالواو؛ لما سبق حكايته في الغسل والمسح جميعاً. والثالث: التَّيمم على الوجه واليدين، وفي وجوبه مع الغسل والمسح طريقان: أظهرهما: أن فيه قولين: أحدهما: لا يجب؛ لأن المسح على الجَبِيرَةِ ناب عما تحتها فلا حاجة إلى بدل آخر كالمسح على الخُفِّ. وأصحهما: أنه يجب؛ لحديث جابر -رضي الله عنه- في المَشْجُوجِ الذي احتلم واغتسل فدخل الماء شجته ومات أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّما كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ عَلَى رَأسِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ" (¬1). والطَّريق الثاني: أن ما تحت الجَبِيرَةِ إنْ كان معلوماً بحيث لا يمكن غسله وإن كان بادياً وجب التَّيمم، كالجريح الذي ليس على جرحه شيء، فإنه يتيمم وإن كان يمكن غسله لو كان بادياً فلا حاجة إلى التَّيمم كالمسح على الخُفِّ، واعلم أن المشهور عند أصحاب الطريقة الأولى أن المسألة على قولين وحكوهما جميعاً عن البويطي، ورووا عن "الأم" أنه يتيمم، وعن القديم أنه لا يتيمم، وصاحب الكتاب عبر عن الخلاف بوجهين تقليداً بإمام الحرمين، فإنه كذلك روي فإن قلنا: يتيمَّم تفرع عليه مسألتان: إحداهما: لو كانت الجَبِيْرَة على موضع التيمم فهل يمسح بالتراب في تيممه؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم محاولة لإتمام التيمم بالمسح (¬2) بالتُّراب كما يحاول إتمام الوضوء بالمسح بالماء. وأصحهما: لا، لأنَّ التُّراب ضعيف فلا يؤثر من وراء حَائِلٍ، بخلاف الماء فإن تأثيره من وراء الحَائِلِ معهود في المسح على الخُفِّ. ¬
الثانية: هل يجب تقديم غسل الصحيح على التيمم أم لا؟ أما في حق الجنب فوجهان: أحدهما: أنه يجب، لأن الغسل أصل والتَّيمم بَدَلٌ فيقدم الأصل كما إذا وجد من الماء ما لا يكفيه يستعمله ثم يتيمم، وأصحهما أنه يتخيَّرُ إن شاء قدم، وإن شاء أخر؛ لأنه إنَّما يتيمم لما به من العلّة، وهي مستمرة بخلاف تلك المسألة، فإنه إنما يتيمَّم لعدم الماء، فلا بد من استِعْمَال الموجود أولاً ليصير عادماً، وأما المحدث ففيه ثلاثة أوجه أشار إليها في الكتاب: أحدها: يجب تقديم غسل المقدور عليه من أعضاء الوضوء كلها كما ذكرنا في الجنب. والثَّاني: أنه يتخير إن شاء قدم الغسل، وإن شاء آخره عن التَّيمم، وإن شاء أدخله في خلال المغسول، ولا نظر إلى أن الترتيب مرعي في الوضوء؛ لأنَّ التيمم فرض مستقل بنفسه، والترتيب إنما يراعى في العبادة الواحدة، وهدا اختيار الشيخ أبي علي. والثالث: وهو الصحيح عند المعظم أن التيمم بدل عن موضع العذر فلا يجوز أن ينتقل عن العضو المعلول قبل أن يتمِّم ولا يجوز أن يقدمه عليه إذا لم يكن المعلول أول أعضاء الوضوء، وذلك لأن الترتيب شرط في الوضوء، فلا يعدل من عضو إلى عضو، ما لم يتم تَطْهِير الأوّل أصلاً، وبدلاً وقول الأوّل: إن التَّيمم فرض مستقلُّ بنفسه ممنوع، بل هو وصف تابع في طهارة المَعْلُول، وكونه مستقلاً في بعض الموانع لا ينافي كونه تابعاً هاهنا، فعلى هذا لو كانت الجَبِيْرَةُ على الوجه وجب تقديم التّيمم على غسل اليدين، ويتخيّر في تقديمه على غسل الصّحيح من الوجه، وتأخيره عنه فإن العضو الواحد لا ترتيب فيه، وإن كانت على اليدين وجب أن يكون التّيمم مؤخراً عن غسل الوجه، مقدّماً على مسح الرَّأس، وعلى هذا القياس، ولو كان له على عضوين فصاعداً جبائر، فَلاَ بُدَّ من تعديد التَّيمم على هذا الوجه الثالث. نظيره كانت على الوجه جَبيرة، وعلى اليد أخرى يغسل الصحيح من وجهه، ويتيمم للمعلول منه ثم يغسل الصحيح من يديه، ويتيمم للمعلول منهما، ثم يمسح يرأسه، ويغسل رجليه. وعلى الوجه الأول والثاني يكفي التيمم الواحد، وإن تعدّدت الجراحات. وإنما يجوز الاقْتِصَار على غسل الصحيح، والمسح على الجَبَائِر مع التيمم أو دونه على الخلاف المتقدم (¬1) بشرطين: ¬
أحدهما: ألا يأخذ من الصحيح تحت الجَبِيرَةِ إلاَّ القدر الذي لا بد منه للاسْتِمْسَاك. والثاني: أن يضع الجَبِيرة على طهر، كالخُفِّ لا بُدَّ وأن يلبس على الطهارة، ليجوز المسح عليه، هذا ظاهر المذهب، وفي وجه لا يشترط الوضع على الطَّهارة، ثم ليس معنى اشتراط الطهارة تَعَذُّر المسح أصلاً، ورأساً لو وضع الجبيرة على الحَدَثِ، ولكنَّ المراد أنه يلزم النَّزع وتقديم الطَّهارة إن أمكن النزع، وإلا فيجب القضاء بعد البُرء، وفي سقوط الفرض بالتَّيمم بإلقاء الجَبِيرَة خلاف يأتي ذكره في الباب الثَّالث من الكِتَاب إنْ شاء الله تعالى. فهذا إذا لم يقدر على نَزْع الجَبِيْرَةِ عند الطَّهَارة، فإن قدر على النَّزع وأحل من غير ضرر فعليه النَّزع عند الطَّهَارة، وغسل ذلك الموضع إن أمكن، والمسح بالتُّراب إن كان على موضع التَّيمم، ولم يمكن الغسل (¬1). هذا كمال الحالة الأولى، وهي أن يحوجه الكَسْرُ إلى إلقاء الجبيرة عليه. الحالة الثانية: ألا يحتاج إليه، ويخاف من إيصال الماء إليه، فيغسل الصحيح بقدر الإمكان، ويتلطَّف إذا خاف سَيَلاَن الماء إلى موضع العِلَّةِ بوضع خِرْقَةٍ مبلولة بالقرب منه، ويتحامل عليها لينغسل بالمتقاطر منها ما حَوَالَيْهِ من غير أن يسيل إليه، ويلزمه ذلك، سواء قدر عليه بنفسه، أو بغيره، فإن لم يطعه الغير إلا بأجره لزمته، كالأقْطَعِ الذي يحتاج إلى من يوضِّئه، وهل يحتاج إلى ضم التيمم إليه. فيه الخلاف الذي قدَّمناه في الحالة الأولى، ولا يجب مسح موضع العِلَّةِ بالماء، وإن كان لا يخاف من المسح، فإن الواجب الغسل، فإذا تعذَّر ذلك فلا فائدة في المسح بخلاف المَسْحِ على الجَبِيْرَةِ، فإنه مسح على حائل كالخُفِّ، وقد ورد الخبر به، هكذا ذكره الأئمَّة -رضي الله عنهم-، وللشَّافعي -رضي الله عنه- نص [مساقه] (¬2) وجوب ¬
المسح، وليس هذا موضع ذكره، وإذا فرعنا على أنه يتيمَّم، فلو كانت العلَّة على محلّ التيمم، أمر التراب على موضعها، فإنه لا ضرر، ولا خوف في إمرار التراب عليه، بخلاف إمرار الماء، وكذا لو كانت للجراحة أفواه مفتحة، وأمكن إمرار التُّراب عليها لزم؛ لأنها صارت ظاهرة (¬1) فهذا شرح هذا الفصل. وينبغي أن يعلم قوله: "ثم يتيمَّم مع الغسل، والمسح" بالحاء، لأن أبا حنيفة -رحمه الله- لا يقول بوجوب الغسل على الإطلاق، ولا بوجوب التيمم على الإطلاق، بل قال: إن كان أكثر بدنه صحيحاً اقتصر على غسل الصحيح، وإن كان الأكثر جريحاً اقتصر على التيمم. قال الغزالي: (السَّابعُ) الجِرَاحَةُ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا لُصُوقٌ فَلاَ يَمْسَحُ عَلَى مَحَلِّ الجُرْحَ وَإِنْ كَانَ فَهِيَ كَالجَبِيرَةِ، وَفِي لُزُومِ إلْقَاءِ اللُّصُوقِ عَنْدَ إمْكَانِهِ تَرَدُّدٌ كَالتَّرَدُّد في لُزُومِ لُبْس الخُفِّ عَلَى مَنْ وَجَدَ مِنَ المَاءِ مَا يَكْفِيهِ لَوْ مَسَحَ عَلَى الخُفِّ. قال الرافعي: الجراحة قد تحتاج في معالجتها إلى إلصاق لصوق بها من خِرْقة، وقطنة، ونحوهما، كما يحتاج في معالجته الانْخِلاَعَ والانْكِسَارَ إلى إلقاء الجَبَائِرِ، وحكم الجراحة وما عليها من اللُّصُوقِ حكم الانكسار، وما على موضعه من الجبائر فيعود فيه جميع ما سبق، وإذا لم يكن على الجِرَاحَةِ لصوق فلا يجب المسع على محل الجرح كما ذكرنا في الانكسار إذا لم يكن عليه جبيرة، وهل يجب إلقاء اللُّصُوق عليه عند إمكانه، وكذا إلقاء الجَبِيْرَة؟ فيه وجهان: قال الشيخ أبو محمد: يجب؛ لأنه لو ألقى الحائل لمسح عليه بدلاً عن الغسل، فليتسبب إليه تكميلاً للطَّهارة بقدر الإمكان، واستبعد إمام الحرمين ذلك، وقال: إنه لا نظير له في الرُّخَصِ، وليس للقياس مجال فيها، ولو اتَّبَعَ القياس لكان أقرب شيء أن يمسح على محل الجرح عند الإمكان، فإذا لم يَجِبْ ذلك فهذا أولى. قال: ولم أر القول بالوجوب لأحد من الأصحاب، ثم رتَّب عليه ما إذا كان الشَّخص على طهارة كاملة، وقد أرهقه حدث، ووجد من الماء ما يكفي لوجهه ويديه ورأسه، ويقصر عن رجليه، ولو لبس الخُف لأمكنه أن يمسح على خفيه، فهل يجب عليه أن يلبس الخف، ثم يمسح بعد الحدث عليه؟ قال: قياس ما ذكره شيخي إيجاب ذلك، وهو بعيد عندي والله أعلم. ¬
وإذا عرفت ذلك لم يَخْفَ عليك أن المراد من التردُّد في قول صاحب الكتاب، وفي لزوم إلقاء اللصوق عند إمكانه تردد، وهو الوجهان اللذان حكيناهما، ما صار إليه الشيخ أبو محمد، وما عليه الأكثرون. وأما ما أشار إليه من التردُّد في مسألة وجوب اللبس، فسياق كلامه يشعر بإثبات وجهين في المسألة، لكن إمام الحرمين لم يذكرهما نَقْلاً عن شيخه، وإنما قال: قياس ما ذكره وجوب اللبس، ولا يصح إثبات الخلاف إذا لم يكن نقل إلا إذا انتفى الفارق، وقد وجد الفرق بين المسألتين، وبينه الإمام فقال: لشيخي أن ينفصل عما ذكرته في المسح على الخف، بأنه رخصة مَحْضَة، فلا يليق بها إيجاب لبس الخف، وما نحن فيه من مسالك الضَّرُوريات، فيجب فيه الإتْيَان بالممكن، وإلقاء خِرْقة يمسح عليها ممكن. واعلم أن ظاهر المذهب اشتراط الطهارة عند إلقاء الجَبِيرَةِ، واللّصوق ليجوز المسح عليه، كما يشترط ذلك عند لبس الخف، وقد بيناه من قبل، وإذا كان كذلك فمن يقول بوجوب الإلقاء عند الإمكان، يأمر به قبل الحدث ليمسح عليه إذا تَطَهّر بعد الحدث كما في مسألة اللبس، ويضعف المصير إلى الوجوب في الصورتين بشيء، وهو أن الشخص إذا كان متطهِّرًا، فلا يخلو إما أن يكون أدَّى وظيفة الوقت، أو لم يؤدها، فإن لم يؤدها فهو متمكن من أدائها بهذه الطّهارة، فلا يكلف، والحالة هذه بطهارة أخرى، والطَّهارة التي لا يكلف بها لا يكلف بإعداد أسبابها، ألا ترى أنه لا يؤمر بإمساك الماء ليتوضأ به للصّلاة الَّتي لم يدخل وقتها، ولو صبه هزلاً واحتاج إلى الصلاة بالتَّيمم لم يلزمه القضاء، وإن أدَّى وظيفة الوقت فليس عليه طهارة أخرى حتى يدخل وقت الصَّلاة الأخرى، ولا يكلف لإعداد أسباب الطهارة التي لم يلزم بعد. قال الغزالي: ثمَّ مَهْمَا تَيَمَّمَ لِمَرَضٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَعَادَهُ لِكُلِّ صَلاَةٍ وَلَمْ يَعِدِ الوُضُوءَ وَلاَ المَسْحَ. قال الرافعي: الأصل في المسألة أن التَّيمم لا يؤدي به فريضتان، بل تفتقر كل فريضة إلى تيمم، وكذلك وضوء المُسْتَحَاضَةِ، وسنذكره في موضعه. وإذا عرفت ذلك فنقول: من غسل الصحيح، وتيمم لمكان عذر المرض، أو الانْخِلاَعِ، أو الجراحة، إما مع المسح على الحائل، أو دونه إذا لم يكن حائل وصلّى فريضة بطهارته فله أن يصلي بها من النَّوافل ما شاء، ولا بد من إعادة التَّيمم للفريضة الأخرى، وإن لم يحدث، وهل يحتاج إلى إعادة الوضوء مع التيمم المعادِ؟ فيه طريقان: أحدهما: أن فيه قولين، كما لو نزع الماسح على الخُفِّ أو انقضت مدة المسح،
هل يستأنف الوضوء أم يقتصر على غسل الرجلين؟ فيه قولان، ووجه الشبه أن الطَّهارة في الصورتين كملت من جنسين أصل وبدل، فإذا بطل حكم البدل، هل يبطل الأصل حتى يؤمر بالاستئناف فيه خلافه والطريق الثاني: القَطْعُ بنفي الاستئناف؛ لأن التَّيمم طهارة مستقلَّة في الجملة، فلا يلزم بارتفاع حكمها انتقاض طهارة أخرى، وإن كانت بعضاً منها كما في هذه الصورة، كما لو اغتسل الجُنُب، ثم أحدث يلزمه الوضوء، ولا ينتقض غسله، وإن كان أعضاء الوضوء بعض المغسول في الجَنَابَةِ، لأن الوضوء طَهَارَةٌ مستقلّة في الجملة، ويخرج عليه (¬1) المسح على الخُفِّ، فإنه غير مستقل أصلاً، وهذا الخلاف جار في الجنب إذا غسل الصحيح من بدنه، وتيمم للعليل، وصلى، هل يفتقر للفريضة الثانية إلى استئناف الغسل مع التيمم؟ وإذا فرعنا على الصَّحيح، وهو أنه لا يجب استئناف الوضوء والغسل، فهل يجب إعادة شيء منهما مع التَّيمم؟ أما في الغُسْل فلا، وأما في الوضوء فوجهان: أحدهما: وبه قال ابن الحداد: لا، لأن الوُضُوءَ الكامل لا يجب إعادته لكل فريضة، فكذلك غسل الصحيح الذي هو بعضه، وإنما التَّيمم هو الذي يعاد لكل فريضة. وأظهرهما: أنه يجب أن يعيد مع التيمم غسل كل عضو يترتب على العضو المجروح رعاية للترتيب، فإنه إذا تيمّم بدلاً عن محلّ العذر، فإذا وجب إعادته خرج ذلك العضو عن أن يكون طهارته تامّة، فإذا أتمَّها (¬2)، وجب إعادة غسل ما بعد ذلك العضو، كما لو أغفل لُمْعَةً من وَجْهِهِ وتنبَّهَ له بعد الفراغ من الوضوء يغسلها، وما بعد الوجه من الأعضاء. ثم نعود إلى لفظه في الكتاب ونقول، لا يخفى أن قوله: "لم يعد الوضوء (¬3) لكل صلاة" أراد الفريضة لا مطلق الصَّلاة، وهكذا هو في بعض النّسخ، وينبغي أن يعلم قوله: "لم يعد الوضوء" بالواو لما حكينا من الخلاف، ثم لك أن تقول قوله: "ولم يعد الوضوء"؟ إما أن يعني به أنه لا يعيد الوضوء بكماله، أي لا يستأنف، أو يعني به أنه لا يعيد شيئًا منه. والأول صحيح، وجواب على الطَّريقة الثانية، إلا أن كلامه في "الوسيط" يبين أنه ما أراده، وإنما أراد المعنى الثَّاني؛ لأنه قال يجب إعادة التّيمم عند كل صلاة، ولا ¬
الباب الثاني في كيفية التيمم
يجب إعادة الغسل، ولا إعادة مسح الجَبِيْرَةِ، فنفى إعادة مطلق الغسل، لكن إرادة المعنى الثاني لا تحسن من وجهين: أحدهما: أن يكون جواباً بالوجه الأول، الذي ذهب إليه ابن الحداد، وظاهر المذهب إنما هو الثاني. والثاني: أن الشيخ أبا علي، والمعتبرين، قالوا: الخلاف في أنه هل يعيد شيئاً من الوضوء، أم لا؟ مبني على الخلاف الذي سبق في أن التَّيمم المضموم إلى الوضوء، هل يعتبر فيه التَّرتيب أم لا؟ فإن أوجبنا الترتيب أعاد هاهنا مع التَّيمم، غسل الأعضاء المترتِّبة على العضو المعلول، وإلا فلا، وإذا كان كذلك فصاحب الكتاب قد اختار، ثم وجه اعتبار الترتيب، وعبر عنه بالأعدل فلا يلائمه أن يقول هاهنا لا يعيد شيئاً من الوضوء أصلاً. والله أعلم. ولو تطهر المعلول كما ذكرنا، ثم برأ، وهو على طهارته غسل موضع العُذْر جنبًا كان، أو محدثاً، ويغسل المحدث ما بعد العضو المعلول، أيضاً بلا خلاف رعاية للترتيب، وهل يجب استئناف الوضوء والغسل؟ فيه القولان كما في نزع الخف، فلو تحقق الانْدِمَالُ والبُرْءُ بعد الطهارة هو كما لو وجد العادم الماء بعد التَّيمم، فيبطل تيمُّمه، وغسل ذلك الموضع والاستئناف على ما ذكرنا، ولو توهَّمَ الانْدِمَال فرفع اللّصوق فإذا هو لم يندمل، لم يبطل تيمُّمه على أصح الوجهين بخلاف ما إذا توهَّمَ وجود الماء، يبطل تيمُّمه، وإن بان خلاف ما توهمه، لأن توهم الماء يوجب الطَّلب، وتوهم الانْدِمَال لا يوجب (¬1) البحث والطلب عنه، وإذا وجب الطلب بطل التّيمم، لأن التّيمم طهارة ضرورة، فلا صحة له إلا حيث يتمكن من الصَّلاَة وإذا وجب الطَّلب لم يتمكن من الصَّلاة، وتوقف إمام الحرمين في قول الأصحاب لا يجب الطلب عند توهُّم الانْدِمَال. قال الغزالي: الْبَابُ الثَّانِي فِي كَيْفِيَّة التَّيَمُّم وَلَهُ سَبعَةُ أَركَان: (الرُّكْنُ الأَوَّلُ) نَقْلُ التُّرَابِ إِلَى الوَجْهِ وَاليَدَيْنِ فَلاَ يَكْفِي ضَرْبُ (ح) اليَدِ عَلَى حَجَرٍ صَلْدٍ، ثُمَّ لْيَكُن المَنْقُولُ تُرَابًا طَاهِراً خَالِصًا مُطْلَقاً فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ ¬
بالأَعْفَرِ وَالأَسْوَدِ وَالأَصْفَرِ وَالأَحْمَرِ وَالأَبْيَضِ وَهُوَ المَأْكُولُ وَالسَّبخ والبَطْحَاءِ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ تُرَابٌ، وَلاَ يَجُوز الزَّرْنيخُ (ح) وَالِجَصُّ (ح) وَالنُّورَةُ (ح) والمَعَادنُ إذْ لاَ يُسَمَّي تُرَابًا وَلاَ يَجْوزُ التُّرَابُ النَّجِسُ وَالمَشُوبُ بِالزَّعْفَرَانِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً وَلاَ التُّرَابُ المُسْتَعْمَلُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَلاَ يَجُوزُ سُحَاقَةُ الخَزَفِ، وَفِي الطِّينِ المَشْوِيِّ المَأكُولِ تَرَدُّدٌ، وَيَجُوزُ بِالرَّمْلِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ غُبَارٌ. قال الرافعي: جعل للتيمم سبعة أركان: أحدها: نقل التراب إلى الوجه واليدين، وغرضه في هذا الفصل الكلام في التراب وما يعتبر فيه من الأوصاف، فأما الكلام في النقل وفي الوجه، واليدين، فهو مذكور فيما بعد من الأركان، وجملة ما اعتبره فيما يتيمم به أربعة أمور أن يكون ترابًا طاهراً خالصاً مطلقاً، أما كونه تراباً فلا بد منه، وبه قال أبو يوسف وأحمد؛ فلا يكفي ضرب اليد على حجر صَلْدٍ، لا غبار عليه، خلافاً لأبي حنيفة، ومحمد، حيث قالا: يجوز بكل ما هو من جنس الأرض، كالتراب، والرمل، والحجر، والزَّرْنيخِ، والكُحْلِ، ولا يشترط أن يكون على الحجر المضروب عليه غبار، ولمالك حيث قال: بمثل قولهما، وزاد يجوز بكل متصل بالأرض أيضاً، كالأشجار والزروع لنا قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (¬1)، عن ابن عمر، وابن عباس (¬2) -رضي الله عنهما-:"أي تراباً طاهراً" وعن حذيفة -رضي الله عنه- أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلاَثٍ، جعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ مَسْجِدًا، وَجُعِلَ تُرَابُهَا طَهُوراً" (¬3) عدل إلى ذكر التراب بعد ذكر الأرض، ولولا اخْتِصَاص الطَّهورية بالتراب لقال: جعلت لنا الأرض مسجداً وطهوراً، ثم اسم التراب لا يختص ببعض الألوان، والأنواع، ويدخل فيه الأصفر وهو ما لا يخلص بياضه، والأصفر والأسود، ومنه طِيْنُ الدّواة والأحمر، ومنه طين الأرْمني الذي يؤكل تَدَاوِياً، والأبيض ومنه الذي يؤكل سَفَهًا، ويقال: إنه الخراساني، وَالسَّبخ وهو الذي لا ينبت دون الذي يعلوه مِلْحٌ، فإن الملح ليس بتراب، والبَطْحَاءُ وهو التُّراب الليل في سيل الماء، وكل ذلك يقع عليه اسم التراب كما يقع اسم الماء على المِلْحِ، ¬
والعَذْب، والكَدَرِ، والصَفِيِّ، وسائر الأنواع، "وَقَد تَيَمَّمَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِتُرَابِ الْمَدِينَةِ، وَأَرضُها سَبْخَة" (¬1). وقد روي أن الشَّافعي -رضي الله عنه- قال في بعض المواضع في بيان ما لا يتيمم به: "ولا السَّبخُ ولا البَطْحَاءُ"، وليس ذلك باختلاف قول منه باتفاق الأصحاب، وإنما أراد به ما إذا كانا صَلْبَيْنِ لا غُبَار عليهما، فهما إذًا كالحجر الصّلب، ولو ضرب اليد على ثوب أو جدار، ونحوهما وارتفع غبار كفى فإنَّه تيمّم بالتراب. وسئل القَاضِي الحُسَيْن (¬2) عن تراب الأرضة (¬3)، فقال: "ما أخرجته من الخَشَبِ لم يَجُزِ التيمم به، فإنه ليس بتراب، وإن أشبهه، وإن أخرجته من مَدَر جاز، ولا بأس باختلاطه بلعابها كالتُّراب المَعْجُونِ بالخَلِّ إذا جَفَّ يتيمَّم به، ولا يدخل تحت اسم التراب الزَّرْنيخِ، والنّورة، والجصّ، وسائر المعادن، فلا يجوز التَّيمُّم بها، وأغرب أبو ¬
عبد الله الحناطي من أصحابنا، فحكى في جواز التيمم بالذّريرةِ، والنُّورَةِ، والزَّرْنِيخِ، قولين: وكذا في الأَحْجَارِ المدفوقة، والقوارير المَسْحُوقَةِ، وأشباهها، وأما الرَّمْل، فقد حكى عن نصه في "القديم" و"الإملاء" جواز التيمم به، وعن "الأم"، المنع واختلفوا فيه على طريقين: أحدهما: قال صاحب "التلخيص"، أنه على قولين: أحدهما: المنع كالحِجَارَةِ المدفوقة (¬1). والثَّاني: الجواز، لأنه من جِنْسِ التراب، وعلى طبعه. والثانية: هي الصحيحة، أنه ليس فيه اختلاف قول، والنَّصَّان محمولان على حالتين إن كان خَشِنًا لا يرتفع منه غبار، لم يكف ضرب اليد عليه، وهو المراد بالمنع، وإن كان يرتفع منه غبار يَعْلَقُ باليد، يجوز التيمم به، فإن ذلك المرتفع غبار، وهو المراد بالجواز، وأما كون المتيمم به طاهراً، فلا بد منه فلا يجوز التَّيمم بالتراب النجس، كما لا يجوز الوضوء بالماء النَّجس، والتُّراب النجس هو الذي أصابه مائع نجس، أما إذا اختلط به جامد نجس كأجْزَاء الرَّوْثِ، فلا مؤثر في أجزائه بالنَّجَاسة، لكن لا يجوز التَّيمم به أيضاً، لأنه إذا استعمله كان الواصل إلى بعض أجزائه تُراباً، وإلى بعضها رَوْثاً، والنجس لا يطهر، ولو تيمَّم بتراب المقابر التي عم فيها النَّبش، وغلب اختلاطُ صَدِيدِ المَوْتَى به، ففي جوازه قولاً (¬2) تقابل الأصل، والغالب والظاهر (¬3) كما تقدم. وإن ضرب يده على ظهر كلب عليه تراب، فإن عرف إلتصاقه به في حالة الجَفَافِ جاز، وإن عرف إلتصاقه به في حال الرُّطُوبَةِ، أو علم أنه أصابه عرق (¬4)، فلا، وإن تردد فيه فعلى القولين (¬5)، وأما كونه خالصاً، فيخرج عن المَشُوب بالزَّعْفَران، والدَّقيق، ونحوهما، فإن كان الخَلِيطُ كَثيراً، لم يَجُزِ التيمم به، بلا خلاف، فإن الخليط الكثير يسلب طهورية الماء، مع قوته، فأولى أن يسلب هاهنا، وإن كان قليلاً فوجهان عن أبي إسحاق، وصاحب "التقريب" أنه لا يضرّ، كما في الماء، إلحاقاً (¬6) بالمعدوم، وقال الأكثرون أنه يسلب طهوريته كالكثير بخلاف الماء، فإنه لطيف (¬7) لا يمنعه الخليط عن السَّيلاَنَ، فيزيل جزء الدقيق في صَوْبِ جريانه، ويجري على مَوْضِعِهِ، وليس للتّرَاب ¬
هذه القوة لكثافتِهِ، فالموضع الذي علق به الدقيق لا يصل إليه التراب، ثم بماذا نعتبر القلة والكثرة [ذكر إمام الحرمين أن المرعى أن يطهر الشيء الخليط ويرى فإن طهر لم يجز التيمم به، وإلا فيه الوجهان، ولم أر لغيره تعرضاً لذلك، بل اقتصروا على ذكر القلة والكثرة] (¬1) ولو اعتبرت الأوصاف الثلاثة كما في الماء لكان مسلكاً وأما كونه مطلقاً فقد قال إمام الحرمين: يتعلق به شيئان. أحدهما: الكلام في التراب المستعمل، ونحن نذكر حكم المستعمل، ثم تعود إلى ما ذكر من التَّعلق بوصف الأطلاق واختلفوا في أن التراب المستعمل في التيمم، هل يجوز استعماله فيه ثانياً وثالثًا؟ على وجهين: أصحهما: لا كما في الماء؛ لأنه تأدت به العبادة، واستبيح به الصلاة. والثاني: نعم بخلاف الماء؛ لأنه يرفع الحدث، والتّراب لا يرفع، فلا يتأثر بالأستعمال، ثم الكلام في أن الملتصق من التراب بالوجه واليدين مستعمل حتى لا يجوز على الأصح أن يضرب الإنسان يده على وجه المتيمم ويده ليتيمّم بالغبار المأخوذ منه، وأما المتناثر فهل هو مستعمل حتى يعود فيه الخلاف المذكور؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، لأن التراب كَثِيفٌ إذا علقت منه صفحة بالمَحلِّ، منعت التصاق غيرها به، وإذا لم يلتصق بالمحل فلا يؤثر، ولا يتأثر، بخلاف الماء، فإن صفحاته رقيقة لطيفة، فيلاقى المحل بجميعها. وأصحهما: أنه مستعمل، كالمُتَقَاطر من الماء، لأن الملتصق والسَّاتر (¬2) ما دام يمسح بتردّد من الموضع إلى الموضع، وَالفرض يسقط بالجميع، فهذا هو حكم المستعمل، والذي ذكره الإمام من تعلقة بوصف الإطلاق، فليس له وجه بين، لأن التّراب المستعمل موصوف بوصف الإطلاق، كما أنه موصوف بوصف الخَلُوص، وسائر الأوصاف التي هي معتبرة في المتيمم به، ألا ترى أن الإمام الغزالي -قدَّس الله روحه- استثنى الماء المستعمل من الماء المطلق في أول الكتاب، ولولا كون المستعمل مطلقاً لما انتظم الاستثناء، نعم من قال: لا يجوز التيمم بالمستعمل، اعتبر سوى الأوصاف الأربعة شرطاً آخر، وهو أَلاَّ يكون مستعملاً، ومن جوز التيمم به اكتفى بالأوصاف الأربعة، ومعلوم أن هذا الكلام لا اختصاص له بقيد الإطلاق. الثاني: قال: إن سحَاقَةِ الخَزَفِ أصلها تراب، ولكنها لا تسمى تراباً مطلقاً، فلا يجوز التيمم بها، وتابعه صاحب الكتاب، فجعل وصف الإطلاق احترازًا عن السّحَاقَةِ، وذكره في "الوسيط" ولك أن تقول التراب المطلق وغير المطلق يشتركان في مسمَّى ¬
التّراب، وسحَاقَة الخَزَفِ لا تسمى ترابًا أصلاً، لا مطلقاً، ولا غير مطلق، فهي خارجة عن اسم التراب، ولا حاجة إلى هذا القيد، يوضح ذلك أنه حكى عن نص الشافعي -رضي الله عنه- في الأم أنه قال: إن دق الخزف ناعماً، لم يَجُزِ التَّيمم به، لأن الطَّبخ أحاله عن أن يقع عليه اسم التراب، ولو أحرق التراب حتى صار رماداً، فكذلك لا يجوز التَّيمم ولو شوى الطّين المأكول، وسحقه، ففي جواز التيمم به وجهان: أحدهما: لا يجوز كالخزف والآجِرِ المَسْحُوقَيْنِ. والثاني: يجوز [وهو الأظهر] (¬1) لأن اسم التراب لا يبطل بمجرد الشيء، بخلاف طبخ الخَزَفِ والآجر، فإنه يسلب اسم التراب، ويجعله جنساً آخر، ولو أصاب التراب ناراً، فاسود ولم يحرق، بحيث يسمى رَمَاداً، فعلى هذين الوجهين. ونختم الفصل بالتَّنْصِيصِ على المواضع المستحقّة من لفظ الكتاب المرقوم المشيرة إلى ما حكينا من الاختلافات. فنقول ينبغي أن يعلم قوله: "فلا يكفي ضرب اليدين على حجر صَلْدٍ" بالحاء والميم، وكذا لفظ: "التراب" في قوله: "ليكن المنقول ترابًا طاهراً" أو قوله: "ولا يجوز الزرنيخ" إلى آخره بهما بالواو، لما رواه الحناطي، وقوله: "وإن كان قليلاً" بالواو [وكذا "سحَاقَةُ الخزف" لما رواه الحناطي، وقوله: "ويجوز بالرَّمل" بالواو. قال الغزالي: (الثَّاني) القَصْدُ إِلَى الصَّعِيدِ فَلَوْ تَعَرَّضَ لِمَهَابَّ الرِّيَاحِ لَمْ يَكْفِ، وَلَوْ يَمَمَّهُ غَيْرُه بِإِذْنِهِ وَهوَ عَاجِزٌ جَازَ، وَإِنْ كَانَ قَادِراً فَوَجْهَانِ. قال الرافعي: القصد إلى التراب معتبر، واحتجوا عليه بقّوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا} (¬2) أمرنا بالتيمم، والمَسْح، والتيمم هو القصد، فلو وقف في مَهَبِّ الريح فسفت عليه التراب فأمر اليد عليه، نظر إن وقف غيرنا، وثم لما حصل التراب عليه نوى التيمم لم يصح تيممه، وإن وقف قاصداً بوقوفه التيمم حتى أصابه التراب فمسحه بيده، فظاهر نص الشّافعي -رضي الله عنه-، وقول أكثر الأصحاب أنه لا يصح تيممه؛ لأنه لم يقصد التراب، وإنما التراب أتاه. وعن أبي حامد المروروذي (¬3) -قدس الله روحه- أنه لا يصح، كما لو جلس في ¬
الوضوء تحت المِيْزَابِ، أو برز لِلْمَطَرِ، وذكره صاحب "التقريب"، وبه قال الحليمي، والقاضي أبو الطيب، وحكاه القاضي أبو القاسم بن كج، عن نص الشافعي -رضي الله عنه-، وإذا عرفت ذلك فاعلم أن لفظ الكتاب في المسألة يجوز أن يراد به الصورة الأولى ويجوز أن يراد به الثانية، أو المشترك بينهما، وعلى هذا يكون نفي الجواز جواباً على أظهر الوجهين، والظاهر الاحتمال الثاني؛ لأنه حكى الخلاف في "الوسيط"، ولا خلاف في الصورة الأولى، وإذا كان كذلك فليكن قوله: "لم يكف" مُعْلَمًا بالواو. ولو يممه (¬1) غيره نظر إن كان بغير إذنه فهو كالتَّعرض لمهب الريح، وإن كان بإذنه نظر إن كان عاجزاً عن المُبَاشَرَةِ بنفسه لقطع أو مرض جاز، بل يجب عليه ذلك، إذا وجد غيره، وإن كان قادراً فوجهان: قال صاحب "التلخيص": لا يجوز كما في مسألة الريح؛ لأنه مأمور بقصد التراب، ولم يقصد. والأظهر الجواز إقامة لفعل نائبه مقام فعله، ويحكى ذلك عن نصه في الأم. قال الغزالي: (الثَّالِثُ) النَّقْلُ فَلَوْ كَانَ عَلَى وَجْهِهِ ترَابٌ فَرَدَّدَهُ بِالْمَسْحِ لَمْ يَجُزْ إِذْ لاَ نَقْلَ فَإِنْ نَقَلَ مِنْ سَائِرِ أَعْضَائِهِ إِلَى وَجْهِهِ جَازَ، وَإِنْ نَقَلَ مِنْ يَدِهِ إِلَى وَجْهِهِ جَازَ عَلَى الأَصَحِّ، وَلَوْ مَعَكَ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ. قال الرافعي: نقل التراب الممسوح به إلى العضو ركن في التَّيمم، واحتجوا عليه بأن الله تعالى أمر بالتَّيمم، وهو القصد، وإنَّما يكون قاصداً إذا نقل التراب إلى المحلّ الممسوح، وغير هذا الاستدلال أوضح منه، وجملة المذهب في النقل أن التراب المسوح به (¬2) إما أن [يكون على العضو] (¬3) الممسوح، أو يُنْقَل إليه من غيره، فإن كان عليه بأن كانت الريح قد سَفَتْه عليه من غير قصد منه إلى التيمم، أو بسبب آخر فردده عليه من جانب إلى جانب، ومسحه لم يَجُزْ؛ لأنه لم ينقل، ولو أخذ (¬4) منه ورده إليه ومسحه به جاز على أصح الوجهين؛ لأنه بالانفصال انقطع حكم ذلك العضو عنه، وإن ¬
نقله إلى العضو الممسوح من غيره، نظر إن نقله من عضو ليس هو محل التّيمم (¬1)، فيجوز، كما لو نقله من الأرض، أو من بدن غيره، وهذا ما أراد بقوله: "وإن نقله من سائر أعضائه" وإن نقله من يده إلى وجهه أو بالعكس، فوجهان: أحدهما: لا يجوز، لأنه منقول من محل الفرض فأشبه ما لو نقل من أعلى الوجه إلى أسفله، أو من الساعد إلى الكتف. وأظهرهما: يجوز (¬2)، لأنه منقول من غير العضو الممسوح به فصار كالمنقول من الرَّأسِ والظَّهر، وهذا في غير تُرَاب التَّيمم، فأما لو مسح وجهه بتُرَاب كثير، ثم أخذه ليمسح به اليد زاد النَّظر في استعمال المستعمل وقد سبق ذلك، وَلو تمعَّك في التراب، فوصل إلى وجهه ويديه بهذا الطريق، نظر إن كان معذوراً جاز نص عليه، وإلا فوجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه لم ينقل التراب إلى أعضاء التّيمم إنما نقل العضو إليه، وادعى المسعودي أن هذا ظاهر المذهب. وأصحهما: عند الأكثرين الجواز، لأن القَصْدَ إلى التراب قد تحقق بهذا الطريق، وهو المطلوب، ولو سَفَتِ الريح تراباً على كمه، فمسح به وجهه جاز على أصح الوجهين، وكذا لو أخذ التّراب من الهواء للمسح (¬3) حالة إثارة الرِّيح إياه. قال الغزالي: (الرَّابعُ) أَنْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ الصَّلاَةِ فَلَوْ نُوَي رَفْعَ الحَدَثِ لَمْ يَجُزْ، وَأَكْمَلُهُ أنْ يَنْوِيَ استِبَاحَةَ الفَرْضِ وَالنَّفْلِ جَمِيعًا أَوِ اسْتِبَاحَةَ الصَّلاَةِ مُطْلقًا فَتَكْفِيهِ (و) فَلَوْ نَويَ اسْتِبَاحَةَ الفَرْضِ جَازَ النَّقْلَ أَيضًا بالتَّبَعَيِة عَلىَ الصَّحِيحِ، وَلَكِنْ فِي جَوَازِهِ عدَ وَقْتِ تِلْكَ الفَرِيضَةِ أَوْ قَبْلَ فِعْلِهَا خِلاَفٌ مَشْهُورٌ، وَلَوْ نَوَى النَّفْلَ فَفِي جَوَازِ الفَرْضِ بِهِ قَوْلاَنِ، فَإِنْ مُنِعَ فَفِي جَوَازِ النَّفْلِ وَجْهَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّفْلِ كَالتَّابعِ فَلاَ يُفْرَدُ، وَلَوْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ فَرْضَيْنِ صَحَّ تَيَمُّمُهُ لِفَرْضِ وَاحِدٍ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ. قال الرافعي: النِّيَّةُ واجبة في التيمُّمِ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ لِلمَرْءِ مِنْ عَمَلِهِ إِلاَّ مَا نَوَاهُ" (¬4)، وقد ذكرناه في صحَّة الوضوء إذا نوى أحد أمور ثلاثة، فبين في التيمُّم حكمها الأول رفع الحدث، وهل يجوز التيمم بهذه النية؟ فيه وجهان: ¬
أحدهما: نعم؛ لأن التَّيمم يرفع الحدث في حقِّ الفريضة الواحدة، والنوافل؛ لأنها مستباحة به، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ صَلاةَ إِلاَّ بِطَهَارَةٍ" (¬1) ولأن رفع الحدث يتضمن اسْتِبَاحَةَ الصَّلاةَ، فقصد رفع الحدث يتضمن قصد الاستباحة، ويحكى هذا الوجه عن ابن سريح، وجعله ابن خيران قولاً للشافعي -رضي الله عنه-، وأصحهما وهو المذكور في الكتاب، أنه لا يجوز؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث، ألا ترى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لعمرو بن العاص وقد تيمم للجنابة من شدة البرد: "يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأصْحَابِكَ، وَأَنْتَ جُنُبٌ، فَقَالَ عَمرُو: إِنِّي سَمِعْتُ الله تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (¬2)} {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (¬3) فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَلَمْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ شَيْئاً" (¬4) سمَّاه جنباً بعد التَّيمُّم؛ ولأنه لو رفع الحدث (¬5) لما بطل، إلا بعروض الحدث، ولما تأثر برؤية الماء، وإذا لم يرفع الحدث لم يجز التّيمم بصحة بنية رفعه، كما لو قصد شيئاً آخر لا يفيده التّيمم، ولو تيمم الجنب بنية رفع الجنابة، فهو على هذا الخلاف. الثاني: استباحة الصلاة وغيرها مما لا يباح إلا بالطَّهارة، وإذا تيمم بنية استباحة الصلاة مثلاً، فله أربعة أحوال: أحدها: أن يقصد استباحة نوعيها الفرض والنفل، وأخطرهما بالبال فيصح تيممه، لأنه قد تعرض لمقصود التّيمم، وتباح له الفريضة بهذا التّيمم، وكذلك النافلة قبل الفريضة وبعدها، حكى عن نصه في رواية البويطي، وفي وجه ليس له التنفل بعد خروج وقت الفريضة، وإنما يخرج هذا الوجه إذا كانت الفريضة المَنْوِيِّة معينة، وهل يشترط تعينها بصفاتها أم يكفي نية مطلق الفريضة؟ فيه وجهان: أحدهما: يشترط، ويروى ذلك عن أبي إسحاق وابن أبي هريرة (¬6)، وبه قال أبو القاسم الصيمري، واختاره الشيخ أبو علي؛ لأنه لا بد من نية الفريضة ليستبيحها، فلا بد من تعيُّنِهَا، ألا ترى أن في نيَّةِ الصلاة لما وجب التَّعرض للفريضة وجب تعينها. ¬
وأصحهما: عند الأكثرين أنه لا يشترط؛ لأنه لا يحتاج (في الطهارة) إلى تعيين الحدث الذي ينوي رفعه فكذلك لا يحتاج إلى تعين ما ينوى استباحته، وعلى هذا إذا أطلق صلّى أية فريضة شاء، ولو عين واحدة جاز له أن يصلِّي غيرها. الحالة الثانية: أن ينوي الفريضة، ولا تخطر له النَّافلة فتباح الفريضة له بشرط التعيين، أو دونه كما سبق، لأنه نَوَاها، وللمرء من عمله ما نواه، وحكم المَنْذُورَةِ حكم المكتوبات الخمس، وإذا استباح الفريضة بهذا التّيمم فهل له أن يتنفَّلَ به قبل فعل الفريضة، فيه قولان: أصحهما: نعم؛ لأن النَّوافل تبع الفرائض، فإذا صلحت طهارته للفريضة التي هي الأصل فللنوافل أولى. والثاني: لا يجوز، وبه قال مالك؛ لأن النوافل تؤدي بالتيمم تبعاً للفرائض، فإنها طهارة ضرورة، ولا ضرورة في الإتيان بالنَّوافل، والتابع لا يتقدم على المتبوع، وهل ينتفل بعد الفريضة؟ فيه طريقان: أصحهما: القطع أنه ينتفل، لأنه إذا قدم الفريضة فقد حافظ على قضيَّة التَّبعية، وهي تقديم المتبوع وتأخير التَّابع. والثاني: وهو اختيار القفال، وفيما حكاه الشَّيخ أبو محمد طرد القولين، ووجه المنع أنه لم يَنْوِ غير الفريضة، فلا يباح له غيرها، فإن جوَّزنا له التَّنَفُّلَ بعد الفريضة بذلك ما دام وقت الفريضة باقياً إن عينها، فإذا خرج فهل يَجُوزُ له أن يَتَنَفَّلَ بذلك التيمّم، فيه وجهان: أظهرهما: نعم، لأنه إذا جاز له التنفل وجب ألا يفترق الحال فيه بين ما قبل انقضاء الوقت، وما بعده، كما في الوضوء. والثاني: لأنقطاع التَّبعية بانقضاء الوقت ومن قال بالطريقة الثانية في أنه هل يتنفل بعد الفريضة وطرد القولين انتظم منه أن يقول إذا تيمم للفرض، فهل له أن يتنفل؟ فيه قولان، إن قلنا: نعم، فذلك بعد فعل الفريضة، وقبل خروج وقته، أما قبل فعله، فهل له ذلك؟ قولان وبعد خروج الوقت وجهان، وكلام صاحب الكتاب إلى هذا الإيراد أقرب، فقوله: "جاز النفل أيضاً بالتبعية على الصحيح" أي من القولين وقوله: "خلاف مشهور" يعني به قولين فيما قبل فعل الفريضة، ووجهين فيما بعد وقتها، وهذا كله فيما إذا لم يقصد عدداً من الفرض، بل قصد نوع الفرض أو فريضة واحدة، أما إذا تيمم لفائتتين، أو منذورتين، فهل يصح تيممه، فيه وجهان: أصحهما: نعم، لأنه نوى للواحدة وزاد فلغت الزيادة وعمل الأصل.
والثاني: لا، لأنه نوى ما لا يباح بالتيمم الواحد ففسدت نيته، وصار كما لو لم ينو أصلاً، وقرب إمام الحرمين الوجهين ههنا من الوجهين فيما إذا نوى المتوضئ استباحة صلاة دون غيرها، لأنه يقتصر النية على الصلاة الواحدة مخالف حكم الوضوء، كما أن المتيمم بنية الزيادة مخالف حكمه، وإذا عين فريضة فيشترط أن تكون عليه حتى لو تيمم لفائته ظنها عليه، ولم تكن عليه فائتة أصلاً، أو تيمم لفائتة ظهر ثم بان أن التي عليه عصر، لم يصح تيممه، لأن استباحة الفريضة لازمة، وإن لم يجب التعيين وإن عين وأخطأ لم يصح كما إذا عين الإمام في الصلاة وأخطأ بخلاف مثله في الوضوء، لأن نية الاستباحة غير لازمة في الوضوء من أصلها، فلا يضر الخطأ فيها كما لو عين المصلى اليوم وأخطأ (¬1). الحالة الثالثة: أن ينوي النفل، ولم يخطر له الفرض، فهل يباح له الفرض بهذا التيمم؟ فيه قولان: أصحهما: لا، لأن الفرض هو الأصل، والنفل تبع فلا يجعل المتبوع تابعاً. والثاني: نعم، لأنه نوى بطهارته ما يفتقر إلى الطهارة، فأشبه ما لو توضأ للنافلة، وعن أبي الحسين بن القطان أنه لا يختلف القول في أنه لا يباح الفرض به، فهذا طريق آخر جازم، فإن قلنا: يباح له الفريضة فالنافلة أولى، وإن قلنا: لا تباح الفريضة ففي النافلة وجهان: أصحهما: أنها تباح، لأنه نواها بطهارته، والتيمم صالح للفرض إذا نواه فللنفل أولى. والثاني: لا يباح، لأن النفل تابع، والتيمم طهارة ضرورة، فلا يجعل مقصداً به، ومن قال بهذا الوجه فقد قال بأن هذا التّيمم لا يصح أصلاً، ولو نوى بتيممه حمل المصحف، أو سجود التلاوة، أو الشكر، أو نوى الجنب الاعتكاف، وقراءة القرآن، فهو كما لو نوى بتيممه صلاة النفل، ففي جواز الفريضة له قولان، وإذا منعنا ففي جواز ما نواه وجهان، ولو تيمم لصلاة الجنازة فهو كما لو تيمم للنافلة على أظهر الوجهين؛ لأنها وإن تعيَّنت عليه فهي كالنَّافلة (¬2) من حيث إنها لا تنحصر، وهي غير متوجّهة نحوه على التَّعيين، ويتصور سُقُوطها بفعل الغير بخلاف المكتوبات، ولو نوت الحائض استباحة الوطء، صح تيممها على أصح الوجهين؛ لأنه مما يفتقر إلى الطَّهَارة لكنه يكون كالتَّيمم للنَّافلة. ¬
الحالة الرابعة: أن يقصد نفس الصلاة من غير تعرض للفرض والنفل، ففيه وجهان: أحدهما: أنه كما لو نوى الفرض، والنَّفل جميعاً، وهذا هو الذي ذكره في الكتاب، حيث قال: أو استباحة الصَّلاَة مطلقًا فيكفيه، وهو قياس قول الحليمي فيما حكاه أبو الحسن العبادي، وقطع به إمام الحرمين -رحمهم الله-؛ لأن الصَّلاةَ اسم جنس يتناول الفرض والنَّفل جميعاً، فأشبه ما لو تعرَّض لهما في نِيَّتهِ. والثاني: أنه كما لو نوى النفل وحده؛ لأن مطلق اسم الصَّلاة محمول عليه، والفرض يحتاج إلى تخصيصه بالنية، ألا ترى أنه لو لم تحرم الصلاة مطلقاً انعقدت صلاته نفلاً، وهذا الوجه أظهر، ولم يذكر أصحابنا العراقيون غيره، وهو المنقول عن القَفَّال، فهذا تمام الأحوال الأربع، وهي بأسرها مذكورة في الكتاب (¬1). الأمر الثالث: لو نوى فريضة التَّيمم، أو إقامة التَّيمم المفروض، ففيه وجهان: أحدهما: يصح تيمّمه كما يصح الوضوء بهذه النّية. وأصحهما: أنه لا يصح؛ لأن التَّيمم ليس مقصوداً في نفسه، وإنما يؤتى به عن ضرورة، فلا يصلح مقصداً بخلاف الوضوء، ولهذا يستحب تجديد الوضوء دون التّيمم. واعلم أنه كما لا يجوز أن تتأخر النية في الوضوء عن أول فعل مفروض كذلك لا يجوز في التّيمم (¬2). وأوّل أفعاله المفروضة نقل التراب، ولو قارنته النّية، وعزبت قبل مسح شيء من الوجه، فهل يجوز؟ وجهان: أحدهما: نعم، كما لو قارنت أول غسل الوجه في الوضوء، وعزبت بعده. وأظهرهما: وهو الَّذِي ذكره في التَّهذيب، أنه لا يجوز، لأن النَّفل وإن كان واجباً إلا أنه ليس بِرُكْنٍ مقصود في نفسه، بخلاف غسل الوجه في الوضوء، ولو تقدمت النّية على أول فعل مفروض فهو كمثله في الوضوء. قال الغزالي: (الخَامِسُ) أَنْ يَسْتَوعِبَ (ح) وَجْهَهُ بَالْمَسْحِ وَلاَ يَلْزَمُهُ إِيصالُ التُّرَابِ اِلَى مَنَابِتِ الشُّعُورِ وَإِنْ خَفَّتْ. قال الرافعي: [قال الله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (¬3) (¬4)] يجب استيعاب الوجه بالمسح بالتراب خلافاً لأبي حنيفة، حيث قال: يجوز أن يترك من ظاهر الوجه دون الرُّبع، حكاه الصَّيدلاني من أصحابنا وعن أبي الحسن بن زياد عن أبي حنيفة، أنه إذا مسح أكثر وجهه أَجْزَأَهُ. ¬
لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "تَيَمَّمَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ" (¬1)، ومن لم يستوعب صح أن يقال ما مسح وجهه، إنما مسح بعض الوجه، وأيضاً فإنه عضو وهو محل الفرض في الطَّهَارتين يجب استيعابه في الوضوء، فيجب في التَّيمم، ولا يجب إيصال التراب إلى مَنَابتِ الشُّعور خفيفة كانت، أو كثيفة، عامة كانت أو نادرة، كِلِحْيَةِ المرأة؛ لأن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "تَيَمَّمَ بِضَرْبَتَيْنِ مَسَحَ بِإِحْدَاهُمَا وَجْهَهُ" (¬2)، وَبالضَّربة الواحدة لا يصل التراب إلى مَنَابِتِ الشّعور. وفيه وجه أنه يجب إيصال التُّراب إلى ما تحت الشعور [التي يجب إيصال الماء إليها، إعطاء للبدل حكم الأصل، والفرق ظاهر لِعُسْرِ إيصال التراب إلى منابت الشعور] (¬3) وهل يجب مسح ظاهر المسترسل من اللّحية الخارج عن حد الوجه؟ فيه قولان، كما في الوضوء. قال الغزالي: (السَّادِسُ) مَسْحُ اليَدَيْنِ اِلَى المِرْفَقَيْنِ (م) فَيَضْرِبُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً لِوَجْهِهِ وَلاَ يَنْزعُ خَاتَمَهُ وَلاَ يُفَرِّجُ أَصَابِعَهُ وَيَنْزغُ وَيُفَرِّجُ فِي الضَّرَبةِ الثَّانِيَةِ وَيمْسَحَ اِلَى المِرْفَقَيْنِ وَلاَ يُغْفِلُ شَيْئاً. قال الرافعي: يجب استيعاب اليدين إلى المِرْفَقَيْنِ وبالمسح في التَّيمم، كما يجب الاستيعاب بالغسل في الوضوء لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم-: "تَيَمَّمَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ" (¬4) والذِّراع اسم لِلسَّاعد إلى المرفق وروى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ، ضَربَةٌ لِلْوَجْهِ، ¬
وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ" (¬1). وقال مالك وأحمد: يمسح يده إلى الكُوَعَيْنِ، لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لعمار: "يَكْفِيكَ ضَرْبَةٌ لِلوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْكَفَّيْنِ" (¬2). ونقل مثل هذا عن "القديم" للشافعي -رضي الله عنه- وأنكر الشيخ أبو حامد (¬3) وطائفة، ذلك، وسواء ثبت أم لا، فالمذهب الأول، واعلم أنه قد تكرر لفظ الضَّرْبَتَيْنِ في الأخبار، فجرى طائفة من الأصحاب على الظاهر وقالوا: لا يجوز أن ينقص منهما، ويجوز أن يزيد فقد لا يتأتى له الاستيعاب بالضربتين. وقال آخرون: الواجب إيصال التراب إلى الوجه واليدين، سواء كان بضربة، أو أكثر، وهذا أصح، نعم يستحب ألاَّ يزيد، ولا ينقص، وحكى القاضي ابن كج عن بعض أصحابنا أنه يستحب أن يضرب ضربة للوجه، وأخرى لليد اليمنى، وأخرى لليسرى، والمشهور الأول (¬4) وصورة الضرب غير معيَّنة، بل لو كان التراب ناعماً فوضع اليد عليه وعلق الغُبَار بيده كفى، ثم إذا أخذ التراب بدأ في مسح الوجه بأعلاه، ومسح اليدين بأن يضع أصابع يده اليسرى سوى الإبهام على ظهور الأصابع (¬5) اليمنى سوى الإبهام، بحيث لا تخرج أَنَامِلُ اليُمْنَى عَنْ مسْبَحَةِ اليُسْرَى، ويمرها على ظهر كفه اليمنى، فإذا بلغت الكُوعَ ضم أطراف أصابعه إلى حرف الذراع، ويمرها إلى المرفق، ثم يدير بطن كفه إلى بَطْنِ الذِّراع، فيمرها عليه، وإبهامه منصوبة، فإذا بلغ الكوع مسح إبهامه ببطنها ظهر إبهامه اليمنى، ثم يضع أصابع اليمنى على اليسرى، فيمسحها كذلك، وهذه الكيفية محبوبة على المشهور، وقد زعم بعضهم أنها منقولة من فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال الصيدلاني: إنها غير واجبة، ولا سنة، وهو قضية كلام أكثر الشَّارحين للمختصر. قالوا: إنما ذكر الشّافعي -رضي الله عنه- هذه الكيفية رداً على مالك -رضي الله عنه-، حيث قال: بالضَّرْبة الواحدة لا يتأتى المسح إلى المرفقين، وهذا يشعر بأنها غير محبوبة، ولا مقصودة في نفسها، وهل يفرق أصابعه في الضربتين؟. أما في الثَّانية فنعم، وأما في الأولى فقد روى المازني التَّفريق أيضاً، واختلف ¬
الأصحاب فيه، فغلطه قوم، منهم القفال. وقالوا: لا يفرق في الضربة الأولى؛ لأنها لمسح الوجه، ولا يمسح الوجه بما بين الأصابع، وما لم يمسح الوجه لا يدخل وقت مسح اليدين، حتى يقدر الاحْتِسَاب به على اليدين، فلا فائدة في التفريق. وأما في الضربة الثانية دخل وقت مسح اليدين فيفرق حتى يستغنى عن إيصال التُّراب إليها مما على الكَفِّ، وصوّبه آخرون، وقالوا: فائدته زيادة تأثير الضرب في إثارة الغُبَارِ لاختلاف موضع الأصابع إذا كانت مفرقة، وهذا أصح، أما القائلون بالأول اختلفوا في أنه هل يجوز أن يفرق في الضربة الأولى؟. فقال الأكثرون: نعم إذ ليس فيه إلا حُصُول تراب غير مستعمل بين أصابِعِهِ فإن لم يفرق في الضَّرْبة الثَّانية كفاه هذا التُّراب لها، وإن فرق حصل فوقه تراب آخر غير مستعمل بين أصابعه فيقع المجموع عن الفرض، وقال الأقلون، ومنهم القَفَّال: لا يجوز ذلك، ولا يصح تيمُّمه لو فعل؛ لأن فرض ما بين الأصابع لا يتأتى بالضَّربة الأولى، لوجوب التَّرتيب، وحصول ذلك الغُبَار، ولمنع وصول الثاني ولصوقه بالمحل. ومن قال بالأول قال: الغبار الأول لا يمنع وصول الثاني، أو لا يمنع الوصول المعتبر، ولهذا لو غشيه غبار في تَقَلُّبهِ في السَّفَرِ، ثم تيمَّم، يصح تيممه، ولا يكلف نفض التراب أولاً، ثم إذا فرق في الضَّربتين وجوزنا ذلك، أو فرق في الضَّربة الثَّانية وحدها، فيستحب تخليل الأصابع بعد مسح اليدين على الهيئة المذكورة احتياطاً، ولو لم يفرق فيهما، أو فرق في الأولى وحدها، وجب التخليل [آخرًا؛ لأن] (¬1) ما وصل إليه قبل مسح الوجه غير معتد به، ثم يمسح بعد ذلك إحدى الرَّاحلتين بالأخرى، وهو واجب، أو مُسْتَحَبٌّ فيه خلاف مبني على أن فرض الكفين هل يتأتَّى بضربهما على التُّراب، أم لا؟ وفيه وجهان: منهم من قال لا؛ لأنه لو تأدَّى فرضهما حينئذ لما صلح الغبار الحاصل عليهما لموضع آخر؛ لأنه يصير بالانفصال عنه مستعملاً، ومنهم من قال وهو الأصح: نعم؛ لأنه وصل الطّهور إلى محل الطَّهَارة بعد النِّيّة، ودخول وقت طهارة ذلك المحلّ، فعلى هذا المسح آخراً مستحب وعلى الأول (¬2) هو واجب، هذا ما يتعلّق بهذه الهيئة. والقدر الواجب إيصال التراب إلى الوجه واليدين، كيف ما كان، ولا يشترط أن يكون المسح باليد؛ بل لو مسح وجهه بِخِرْقَةٍ أو خشبة عليها تراب جاز، ولا يشترط الإمرار على أصح الوجهين كما ذكرنا في مسح الرأس، ولا يشترط أيضاً أَلاَّ يرفع عن العضو الممسوح حتى يستوعبه في أصح الوجهين: ¬
والثَّاني: يشترط؛ لأن التراب الباقي بالفصل يصير مستعملاً، فلا يصح تيمُّمه بالمردود حتى يأخذ ترابًا جديداً، ومن قال بالأول أجاب بأنا إذا قلنا: إن المستعمل هو اللاَّصق بالعضو، والباقي غير مستعمل بحال. وإن قلنا: إن المتنافر مستعمل قائماً يثبت حكم الاستعمال إذا انفصل بالكلية، وأعرض المتيمم عنه؛ لأن في إيصال التراب إلى الأعضاء عسراً سِيَّماً مع رعاية الاقْتِصَارِ على الضَّرْبَتَيْنِ، فيعذر في رفع اليد وردها، كما يعذر في التَّقَاذُفِ الَّذي يغلب في الماء، ولا يحكم باستعمال المتقاذف -والله أعلم-. ونعود إلى لفظ الكتاب في نَزْعِ الخَاتِمِ، وَتَفْرِيجِ الأصَابع. قال: "فيضرب ضربة واحدة لوجهه، ولا ينزع خاتمه، ولا يفرج أصابعه"، وقد يوجد في بعض النسخ: "وينزع خاتمه، ولا يفرج أصابعه"، فعلى الأول المراد أنه لا يجب نَزْعُ الخاتم؛ لأن المقصود من الضربة الأولى مسح الوجه دون اليدين، وقد ذكرنا أن المَسْحَ لو كان بخرقة، ونحوها، جاز فعليه مَسْحُ بعض الوجه بما على الخاتم، وليس المراد أنه لا يجوز النَّزْع (¬1)، فإنه لا صائر إليه ولا وجه له بل يستحبُّ النزع ليكون مسح جميع الوجه باليد اتباعاً للسّنة. وقوله: "ولا يفرج أصابعه"، يمكن أن يراد به أنه لا يجوز التَّفرِيجُ ذهاباً إلى ما صار إليه القَفَّال، ومن وافقه، لكنه لم يرد ذلك، لأنه نقل كلام القَفَّال في "الوسيط" واستبعده، وإنما أراد أنه لا يجب التَّفريج، وأنه لا يستحب، أو أنه يستحب ألا يفرج، فإن أراد الاحتمال الأول فلا كلام فيه، وإن أراد غيره فليكن مُعْلَمًا بالواو لما ذكرنا من رواية المازني، وتصحيح الأصحاب لها، وبينا أنه ظاهر المذهب، وأما من روى في الكتاب "وينزع خاتمه"، فذلك ظاهر، والمراد الاستحباب على ما سبق. قال الغزالي: (السَّابعُ) التَّرْتِيبُ كَمَا فِي الوُضُوءِ. قال الرافعي: التَّرتِيبُ مُعْتَبَرٌ بين الوجه واليدين، كما في الوضوء، وتركه ناسياً حكمه على ما سبق في الوضوء، ولا يشترط الترتيب في أخذ التُّرَاب للعضوين على أصح الوجهين، حتى لو ضرب يديه على الأرض معاً وتمكن من مسح الوجه بيمينه، ومن مسح يمينه بيساره جاز؛ لأن الركن الأصلي هو المسح، وأخذ التراب ونقله وسيلة إليه، فلا يعتبر فيه ترتيب. "خاتمتان": ¬
إحداهما: قال جماعة من الأصحاب: أركان التَّيمم وفروضه خمسة، وحذفوا الركن الأول والثاني من السَّبعة التي عدها في الكتاب، والذي فعلوه أولى. أما الركن الأول، فلأنه ما ساقه إلا للكلام في التراب المتيمم به، ولو حسن عد التُراب ركناَ في التَّيمم؛ لحسن عد الماء ركناً في الوضوء، والغسل. وأما الركن الثاني، فلأن القصد داخل في النفل، فإنه إذا نقل التراب على الوجه الذي سبق، وقد نوى التيمم كان قاصداً إلى التُّراب لا محالة، وحذف بعضهم النفل أيضاً فاقتصر على أربعة والأكثرون عدوه ركناً، وبنوا عليه أنه لو أحدث بعد أخذ التُّرَاب، وقبل أن يمسح به الوجه يبطل ما فعله، وعليه الأخذ ثانياً، كما لو غسل في الوضوء وجهه، ثم أحدث، بخلاف ما إذا أخذ كفاً من الماء، ليغسل بها وجهه، فأحدث، ثم غسل الوجه، جاز؛ لأن القصد إلى الماء، ونقله لا يجب، وقياس ذلك أنه لا يضر عذوب النيّة بعد اقترانها بأخذ التراب، وهو وجه قدمناه. لكن الأصح أنه لا بد من الاستصحاب إلى مسح بعض الوجه لما سبق، وإذا يممه غيره بإذنه، وهو عاجز أو قادر، وجوزناه، وأحدث أحدهما بعد الضرب، وأْخذ التراب، وقبل المسح، فقد ذكر القاضي في فتاويه أنه لا يضر ذلك؛ لأن الأذن لا يأخذ (¬1) حتى يبطل بحدثه، وحدث المأذون لا يؤثر في طهارة غيره، وهذا مشكل، بل ينبغي أن يبطل الأخذ بحدث الإذن، كما لو كان يتيمَّم بنفسه، ولهذا لو أحدث بعد مسح الوجه يبطل، ولا نقول إنه لم يمسح حتى يبطل بحدثه، ولو ضرب يده على بَشْرَةِ امرأة أجنبية عليها تراب، فإن كان كثيراً يمنع تلاقي البشرتين فلا بأس، وإن كان قليلاً لا يجوز، لأن اللمس حدث، والحدث إذا قارن فعل الطهارة منع الاعتداد به، وفرق في التَّتمة بين أن يضرب اليد عليها في الضَّرْبَةِ الأولى، أو في الثانية، وقال: الأخذ للوجه صحيح، فإذا ضرب اليد عليها في المرّة الثانية بطل مسح الوجه، لأنه حدث طرأ في أثناء التَّيمم، والأول هو الوجه، فإن النفل من الأركان، فمقارنة الحدث له، كمقارنته لغسل الوجه في الوضوء، وهكذا أطلق القاضي في الفتاوى، وزاد بعضهم في الأركان طلب الماء وليس ذلك من نفس التيمم، فان المريض يتيمم كالمسافر، والطلب مخصوص بالمسافر، وما يختص به بعض المتيممين لا يكون من نفس مطلق التَّيمم. الثانية: لم يفرد في الكتاب السُّنن بالذكر كما فعل في الوضوء وللتيمم سنن منها ما صار مذكوراً في كيفية مسح الوجه واليدين، ومنها التَّسْمِية، وتقديم اليمنى على اليسرى، ومنها إمرار التُّرَابِ على العضد، ذكره في التَّهذيب وغيره أنه مستحب، ونازع ¬
الباب الثالث في أحكام التيمم
بعضهم فيه، ومنها المُوَالاَةَ، وفيها قولان، كما في الوضوء، ويعتبر هاهنا مدة الجَفَافِ لو كان المستعمل ماء، هذا إذا اعتبرنا، ثم الجفاف. وحكى أبو عبد الله الحناطي هاهنا طريقة أخرى جازمة بأنها لا تشترط في التَّيمم. وذكر القاضي ابن كج طريقة ثالثة جازمة بالاشتراط. ومنها تخفيف التُّراب المأخوذ إذا كان كثيراً بنفض اليدين. ومنها أَلاَّ يرفع اليد عن العضو الممسوح حتى يتم مسحه، ومنها إلاَّ يُكَرِّرَ المسح، وفيه وجه ضعيف (¬1). قال الغزالي: الْبَابُ الثَّالِثُ فِي أحْكَامِ التَّيَمُّمِ وَهِيَ ثَلاثَةٌ: (الأَوَّلُ) أنَّهُ يَبْطُلُ بِرُؤْيَةِ المَاءِ قَبْلَ الشُّرُوع فِي الصَّلاَةِ وَلاَ تَبْطُلُ الصَّلاَةُ (ح ز) بَعْدَ الشُّرُوع فِيهَا وَتَبْطُلُ بِظَنِّ وُجُودِ المَاءِ قَبْلَ الشُّرُوعِ وَلَكِنَّ المُصَلِّيَ إِذَا رَأَى المَاءَ، فَالأَوْلَى لَهُ أَنْ يَقْلِبَ فَرْضَهُ نَفْلاً عَلَى وَجْهٍ، وَأَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى وَجْهٍ، وأنْ يَخْرُجُ مِنَ الصَّلاَةِ عَلَى وَجْهٍ لِيُدْرِكَ فَضِيلَةَ الوُضُوءِ، وَفِي وَجْهٍ يَلزَمُهُ المُضِيُّ وَلاَ يَجُوزُ الْخُرُوجُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كانَ فِي نَافِلَةٍ بَطُلَتْ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَانِعَةٍ مِنَ الخُرُوجِ وَهُوَ بَعِيدٌ، نَعَمْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَزِيدَ فِي رَكْعَاتِ النَّافِلَةِ فَفِى جَوَازِهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: ذكرنا أنَّ هذا الباب مسوق لبيان فائدة التَّيمم، وهي التي تباح به، فتكلَّم في ثلاثة أمور: في أنه إلى ما أبيح؟ وفي أنه ماذا يبيح؟ وفي أن ما يبيحه إذا أتى به هل يستغني عن القضاء، أم لا؟. ¬
أما الأوَّلُ فَلاَ شَكَّ في أن التَّيمم يبطل بعروض الحدث، كالوضوء، ويختصُّ هو بالبطلان بعروض القدرة على استعمال الماء، فجعل كلام الحكم الأول فيه. واعلم أن التَّيَمُّمَ على قسمين: أحدهما: ما يرخص فيه مع وجدان الماء، كتيمُّم المريض. والثاني: ما يكون بسبب إِعْوَازِ الماء، أو الحاجة إليه أو الخوف من الاسْتِقَاءِ، وما أشبه ذلك. فالأول لا يتأثر برؤية الماء، وطلوع الرَّكْبِ بحال. وأمَّا الثَّاني: فيتأثَرُ بذلك، وجملته أن ننظر إن رأْى الماء خارج الصَّلاَةِ، يبطل تيمُّمه لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي ذَرٍّ -رضي الله عنه-: "إِذَا وَجَدْتَ المَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَكَ" (¬1)، وكذا لو لم يتيقّن الظّفر بالماء، لكن ظنه كما لو طلع عليه ركب، أو أَطْبَقَتْ بِالقُربِ منه غَمَامَةٌ أو توهمه كما إذا تخيَّلَ سَرَاباً ماء؛ لأنه يجب عليه الطَّلب عند حدوث هذه العَوَارِض، وقد ذكرنا أنه إذا وجب الطَّلَبُ بطل التيمم، وإنما يبطل التَّيمم في هذه الصور، بشرط أن لا يقارن هذه العوارض مانع آخر من استعمال الماء، فلو قارنها مانع لم يبطل التَّيمم، [لأنه يجوز التَّيمم] (¬2) ابتداء، فأولى أن يدفع البطلان دواماً، وذلك كما إذا وجد ماء، وهو محتاج إليه لِسَقْيِهِ أو وجده في قعر بئر، وهو عند العثور عليه عالم بتعذر الاسْتِقَاءِ، أو قال إنسان أودعني فلان ماء، وهو حين يسمع يعرف غيبة المودع، وما أشبه ذلك، وإن أرى الماء في الصَّلاة فلا يخلو إما أن تكون الصلاة مغنية عن القضاء، أو لا تكون فإن لم تكن مغنية عن القضاء كما إذا تيمَّم الحاضر لعدم الماء، وشرع في الصَّلاة، ثم رأى الماء في صلاته، فهل تبطل صلاته وتيممه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، لأنه شرع في الصَّلاة بطهور أمر باستعماله، فيتمها محافظة على حرمتها، ثم يتوضأ ويعيد. وأصحهما: نعم، لأنَّ الحاضر تلزمه الإعادة إذا وجد الماء بعد الفراغ، فإذا وجده في أثناء الصَّلاة فليشتغل بالإعادة، وإن كانت مغنية عن القضاء، فظاهر المذهب المنصوص أنه لا يبطل تيمُّمه، ولا صلاته وأشار المزني إلى تخريج قول أنهما يبطلان، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد في رواية، وساعد بن سريج المزني على التخريج. ¬
وقال: "المُسْتَحَاضَةُ إذا انقطع دمها في الصلاة تبطل (¬1) صلاتها"، فليكن المتيمِّم برؤية الماء كذلك؛ لأن الضَّرورة قد ارتفعت في الصُّورَتَيْنِ، وجعل المسألتين (¬2) على قولين بالنَّقْلِ والتَّخْرِيج، وجه الأول أنه لو طلع عليه رَكْبٌ لا يبطل تيممه، فكذلك إذا رأى الماء وتيقَّن وجوده، لأنهما متلازمان، ألا ترى أنه قبل الشروع يبطل بهما، وبعد الفراغ لا يبطل، لا بهذا ولا بذاك، وأيضاً لما شرع في الصَّلاة فقد تلبَّس بالمقصود، ووجدان الأصْلِ بعد التَّلَبُّسِ بمقصود البدل لا يبطل حكم البدل، كما لو شرع في الصيام، ثم وجد الرَّقَبة، وأيضاً فإنَّ إحْبَاطَ الصَّلاَة عليه أشد ضرراً من تكليفه شراء الماء بالزيادة على ثمن المثل، بقدر يسير، فإذا لم يجب ذلك، فاستعمال الماء هاهنا أولى، ألا يجب لحرمة الصَّلاَةِ. ووجه الثاني ظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فَأَمْسِسَّهُ جِلْدَكَ" (¬3) وأيضاً فإن المعتدَّة بالشُّهور لو حاضت في أثنائها تنتقل إلى الإقراء، فكذلك هاهنا والفرق بين المتيمّم والمُسْتَحَاضَة نذكره في أحكام المستحاضة إن شاء الله تعالى، ويتعلق بالمذهب المنصوص، ويتفرع عليه أمور: أحدها: أنه يستثنى عنه ما لو شرع في الصَّلاة، وهو مسافر، ثم نوى الإقامة فيها بعد وجدان الماء، ففي بطلان صلاته وجهان: أصحُّهما: البطلان تغليباً لحكم الإقامة، وهما كَالوَجْهَيْنِ فيما إذا كان مقيماً، ورأى الماء في صلاته، ولو شرع المسافر في الصَّلاة بالتَّيمم، ونوى القصر، ثم وجد الماء في الصَّلاة، ونوى الإتمام بعده بطلت صلاته أيضاً في أصح الوجهين، لأن تيمَّمه صح لهذه الصلاة المقصورة، وقد التزم الآن زيادة ركعتين. والثَّاني: لو كان في صلاة فريضة فهل يجوز له أن يخرج منها ليتوضأ؟ فيه ثلاثة أوجه: أظهرهما: نعم، وهل هو أولى؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم، ليخرج من الخلاف فإن من العلماء من حرم عليه الاستمرار، ولأنه لو وجد الرَّقَبَةَ في أثناء الصيام، فالأفضل أن يعدل إلى التَّحْرير، فكذلك هاهنا. والثاني: الأولى الاستمرار؛ لأن الخروج إبطال للعمل، وقد قال الله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعمَالَكُمْ} (¬4) حكى الوجهين هكذا الشيخ أو حامد، وطبقته وعن الشيخ أبي محمد، والقاضي الحسين أن الخروج المطلق ليس بأولى لا محالة، لكن الخلاف في ¬
أن الأولى أن يقلب فرضه نفلاً ويسلم عن ركعتين أو الأولى أن يتم الفريضة، فمن صائر إلى الأول صيانة للعبادة عن الإبطال، وأداء الفريضة بأكمل الطهارتين، ومن صائر إلى الثَّاني محافظة على حرمة الفريضة. والوجه الثاني: في أصل المَسْأَلَةِ أنه لا يجوز الإعراض عن الفريضة بحال؛ لأن الإعراض عن الفريضة إبطال للفريضة. والثالث: ذكره إمام الحرمين أنه يفرق بين أن يضيق الوقت فلا يجوز الخروج؛ لأنه إن لم يكن في الصَّلاة تعيَّن عليه البدار حينئذ، فإذا كان فيها يمتنع الخروج، وإن لم يضيق الوقت فله الخروج؛ لأن الوجوب في أوَّل الوقت موسع والشُّروع لا يلزم شيئاً، وهذا التَّفْصِيلُ عنده لا يختص بالمتيمِّم، بل مُطَّرد في كل مصل (¬1). الثالث: إذا لم يخرج منها، وأتم الفريضة فكما تمت بطل تيممه وإن كان الماء الذي ظَفَرَ به باقياً بحاله، حتى حكى القاضي الروياني عن والده أنه لا يسلم التَّسليمة الثانية (¬2). لأن التسليمة الأولى تمَّت الصلاة وبطل التّيمم، وإن لم يكن ذلك الماء باقياً، ولم يعرفه المصلِّي حتى فرغ، فكذلك وإن عرف فواته وهو بعد في الصلاة، فهل يبطل تيممه إذا فرغ؟ وجهان: قال صاحب "التلخيص": يبطل (¬3) وبه قال الشيخ أبو حامد؛ لأن التيمم يبطل بوجدان الماء، إلا في الصلاة التي هو فيها لحرمتها. وقال آخرون، منهم القَفَّال: لا يبطل، حتى يجوز له التَّنفل به؛ لأنه حين الفراغ غير واجد للماء، ولا متوهم للوجدان (¬4). الرَّابع: لو رأى الماء وهو في صلاة نافلة، ففي بطلانها وجهان: أصحهما: لا تبطل كالفريضة. والثاني: أنها تبطل؛ لأن حرمتها قاصرة عن حرمة الفريضة؛ ألا يرى أنها لا تلزم ¬
بالشُّروع، والفريضة تلزم، وهذا الوجه حكاه إمام الحرمين -قَدَّس الله روحه- عن ابن سريج -رحمه الله- فعلى الأولى الأصح، لو كان قد شرع فيها من غير تعيين عدد في نِيَّته لم يزد على ركعتين نص عليه؛ لأن الأولى في النَّوافل أن تكون مَثْنَى مَثْنَى، فليسلم عن ركعتين، وليصل بالوضوء. وعن القاضي الحسين أن له أن يَزِيدَ ما شاء، وإن كان قد نوى رَكْعَةً أو ركعتين فلا يزيد على ما نوى؛ لأنَّ الزيادة كافتتاح نافلة بعد وجود الماء، ألا ترى أنه يفتقر الزِّيادة إلى قصد جديد. وعن القفال: أنه يجوز أن يزيد ما شاء؛ لأن حرمة تلك الصلاة باقية ما لم يسلم، بخلاف ما لو سلم، وأراد افْتِتَاح نافلة أخرى، ولو نوى عدداً فوق الركعتين، ثم رأى الماء، فهل يستوفي ما نواه أم يجب الاقتصار على ركعتين؟ فيه وجهان: أظهرهما: أن له أن يستوفي ما نواه؛ لأن إحرامه انعقد لذلك العدد، فأشبه المكتوبة المقدرة، وعلى هذا ففي جواز الزيادة على المنوي الوجهان المذكوران، في جواز الزيادة على الركعتين إذا نواهما، وأصل هذه المسألة (¬1) أن المُصَلِّي مستقل من زيادة الركعات، ونقصانها في النَّوافل المطلقة كيف شاء، وسيأتي ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. فإذا وقفت على ما ذكرنا فعد إلى ألفاظ الكتاب واعلم أن قوله: "أنه يبطل برؤية الماء قبل الشروع في الصَّلاَةِ (¬2)، وإن كان مطلقاً مشروط بشرطين: أحدهما: أن يكون ذلك التَّيمم غير تيمم المريض، ونحوه. والثاني: اْلا يقارن رؤية الماء مانع، يرخص في ابْتِدَاء التَّيمم على ما بيناهما. وقوله: "ولا تبطل برؤْية الماء بعد الشُّروع فيها"، مقيد بما إذا كانت الصلاة مغنية عن القضاء، وإلا فهي باطلة على الأصح، ولا بد من اسْتِثْنَاءِ الصورتين المذكورتين من قبل أيضاً. وقوله: "ولكن المصلّي إذا رأى الماء" لا يتعلق بقوله: "ويبطل بظن وجود الماء قبل الشروع" وإن كان مذكوراً عقيبه؛ بل بقوله: "لا تبطل بعد الشّروع فيها"، والوجوه الثلاثة التي ذكرها في أن الأولى ماذا، كلها مبنية على أنه يجوز له الخروج، وترك الفريضة، والذي يقابله قوله: "وفي وجه يلزمه المضي، ولا يجوز الخروج"، وليس في الجمع بين هاتين العِبَارَتَيْنِ سوى الإيضاح، وقوله: "وعلى هذا لو كان في نافلة بطلت"، لأنها غير مانعة، يعني به أَنَّا إذا قلنا بوجوب المضي في الفريضة، إنَّما نقول به لحرمة الفريضة، وليس لِلنَّافلة حرمة ما نعمة من الخروج، فتبطل. ¬
وقوله: "وهو بعيد" يجوز أن يريد به هذا البِنَاء، ووجه البعد فيه أن قضية وجوب المضي لحرمة الفريضة أن يقول بعدم الوجوب، إذا فقدنا تلك الحرمة فَأمَّا أَنْ نقول بِالبُطْلاَنِ فلم؟ وطريق توجيه البطلان أن يقال: رؤية الماء تقتضي البُطْلاَن مطلقاً، خالفناه في الفريضة لزيادة حرمتها كما أشرنا إليه، لكن صاحب الكتاب لم يرد استبعاد البناء، وإنما أراد استبعاد أصل الوجه، وهو بين من كلامه في "الوسيط"، واستقرب بالإضافة إليه التَّردد في زيادة الرَّكعات. قال الغزالي: (الثَّانِي) أَنْ لاَ يَجْمَعَ بَيْنَ فَرْضَيْنِ بِتَيَمُّم وَاحِدٍ وَيَجمَعَ بَينَ فَرْضٍ وَنَوَافِلَ وَبَيْنَ فَرْضٍ وَمَنذُورَةٍ إِنْ قُلْنَا: يَسْلُكُ بِهَا مَسْلَكَ جَائِزِ الشَّرْعِ لاَ مَسْلَكَ وَاحِبِهِ، وَبَينَ فَرْضٍ وَرَكْعَتَي الطَّوَافِ إِلاَّ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُمَا فَرِيضَةٌ وَيَجْمَع بَيْنَهمَا وَبَيْنَ الطَّوَافِ بِتيَمُّمٍ وَاحِدٍ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ؛ لأَنَّهُمَا كَالتَّابعِ لَهُ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ فَرِيضَةٍ وَصَلاَةِ جَنَازَةٍ، وَلاَ يَقْعُدُ فِي صَلاَةِ الجَنَازَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، هَذَا نَصُّهُ وَقِيلَ قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ، وَقِيلَ: إن تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ فَلَهَا حُكْمُ الْفَرْضِ، وَقِيلَ: لَهَا حُكْمُ النَّفْلِ وَلكِنَّ القُعُودَ لاَ يَحْتَمِلُ مَعَ القُدْرَةِ لأَنَّ القِيَامَ أَظْهَرُ أَرْكَانِهَا. قال الرافعي: لا يؤدِّي بِالتَّيمم الواحد، ممَّا يتوقَّف على الطَّهارة إلا فريضة واحدة، خلافاً لأبي حنيفة، حيث قال: يؤدي به ما شاء. وكذلك قال أحمد في رواية، وفي رواية أخرى يتيمَّم لوقت كل صلاة. لنا ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "مِنَ السُّنَّةِ ألاَّ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّم إِلاَّ مَكْتُوبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِلأْخْرَى" (¬1). والسُّنَّةُ في كلام الصَّحابي تنصرف إلى سنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬2)؛ لأن التَّيمُّم طَهَارة ضرورة، فلا تؤدِّي به فريضتان، ولا فرق ¬
بين أَنْ يَتَّحِدَّ الجنس كصلاتين، أو طوافين، أو يختلف كصلاة، وطواف، ولا فرق في ذلك بين البالغ والصَّبي، وحَكَى القاضي الروياني في الصَّبي هل يجمع بين فريضتين بتيمم واحد؟ وجهين: والصحيح: أنه لا يجمع؛ لأنه وإن لم يكن مكلفاً لكن ما يؤذيه حكمه حكم الفرائض، ألا ترى أنه ينوي بصلاته المفروضة، ولا فرق في المكتوبة بين
الفائتة والمؤداة. وأغرب أبو عبد الله الحناطي فحكى وجهاً أنه يجوز الجمع بين الفوائت، وبين المؤداة، ويجوز أن يجمع المتيمِّم بين فريضة ونوافل، لأن النَّوافل مما لا يمكن المنع منها، وفي تجديد التّيمم لكل واحدة منها حرج عظيم؛ لأنها لا تَنْضبط، وأيضاً فهي إتباع للفرائض بخلاف الفرائض بعضها مع بعض، ثم في الفصل مسائل: إحداها: هل يجمع بين مكتوبة ومنذورة؟ فيه وجهان، وربما قيل قولان: أصحهما: لا؛ لأنها مفروضة متعينة (¬1) على النَّاذر فأشبهت المكتوبة. والثاني: نعم؛ لأنها وجبت بعارض، فلا يلحق بالمفروض الأصلي، وهذا الخلاف مبني على أصل [في النَّذْر، وهو أنه يسلك بالمنذور] (¬2) مسلك واجب الشرع، أو مسلك جائزه وهو أقل ما يتقرب به، وفيه وجهان: فإذا نذر هَدْيًا حمل في قول على شيء من النّعم؛ لأنه الهدى الواجب شرعاً، وعلى قول له أن يقتصر على دَجَاجة وقطعة لحم؛ لأن ذلك مما يتقرب به، وإذا قلنا بهذا القول فيعطى المنذور حكم القُربات التي لا تجب حتى يجوز القعود في الصَّلاة مع القدرة على القيام، ويجوز أداؤها على الرَّاحلة، وإذا قلنا: بالأول لا يجوز، وقول الأصحاب يسلك به مسلك جائز الشرع أي في الأحكام مع وجوب الأصل، وعنوا بجائز الشرع هاهنا القُرْبَاتِ التي جوز تركها، ويجري الخلاف فيما لو جمع بين منذورين. الثانية: في وجوب ركعتي الطَّواف، قولان يذكران في موضعهما: فإن لم نوجبهما فلا يخفى جواز الجمع بينهما، وبين الطَّواف، وبينهما وبين مكتوبة، وإن أوجبناهما ففي الجمع بينهما وبين الطّواف، وجهان: أحدهما: ويحكى عن ابن سريج: أنه يجوز؛ لأنهما تابعتان للطَّواف، أو كالجزء منه، بمثابة بعض الأشواط. وأصحهما: أنه لا يجوز؛ لأن ركعتي الطَّواف عبادة مستقلّة، ولهذا تحتاج إلى نيّة مفردة بخلاف بعض الأشواط، والخلاف في الوجوب مخصوص بركعتي طواف الفرض، أما ركعتا طواف التَّطوع فتطوع، ومنهم من أجرى القولين في ركعتي طواف التَّطوع أيضاً. وقال: اتفاق الفرض والنَّفل في الشرائط لا ينكر، ألا ترى أن صلاة الفرض والنفل يستويان في اعتبار الطَّهارة وستر العورة، فعلى هذا لو صلّى فريضة بتيمّم، وطاف تطوعاً، هل له أن يصلي به ركعتي الطواف؟ فيه وجهان؛ وفي جواز الجمع بين ¬
الخطبة وصلاة الجمعة بالتَّيمم الواحد وجهان، كالوجهين في الجمع بين الطواف الواجب وركعتيه إذا أوجبناهما؛ لأن الخطبة تابعة للصَّلاة، كالرَّكعتين للطواف، وهذا على قولنا تشترط طهارة الحدث في الخطبة الثالثة، نص في المختصر أنه يجمع بين فريضة وصلاة جنازة، وفي موضع آخر أنه لا يقعد فيها مع القُدْرَةِ على القيام، وأنها لا تؤدى على الرَّاحلة، فهذا يقتضي إلحاقها بالفرائض، والأول يقتضي إِلْحَاقَهَا بالنَّوافل، واختلفوا فيه على ثلاثة طرق: أحدها: أن المسألتين على قولين نقلاً وتخريجاً. أحدهما: أنها مُلحَقَةٌ بالفرائض، فلا يجوز الجمع، ولا القعود ولا على الراحلة؛ لأنها فرض في الجملة، والفرض بالفرض أشبه منه بالنّفل، وإن اختلفت كيفية الافتراض. والثاني: أنها ملحقة بالنَّوَافل، فيجوز فعلها على الراحلة، والجمع والقعود؛ لأن فروض (¬1) الكفايات كالنَّوَافل في جواز التَّرك، وعدم الانحصار. والطريق الثاني: تنزيل النَّصَّيْنِ على حالتين حيث قال: "يجمع" أراد ما إذا لم يتعيّن عليه، وفي هذه الحالة [له أن يقعد ويؤديها على الرّاحلة، وحيث قاتل: لا يقعد أراد ما إذا تعيَّنت عليه بأن لم يحضر غيره، وفي هذه الحالة] (¬2) لا يجمع. والثالث: أن حكمها حكم النَّفْل على الإطلاق إلا أنه لا يسامح بالقعود فيها؛ لأن قوامها بالقيام، إذ ليس فيها ركوع ولا سجود، فإذا قعد فيها بطلت صورتها بالكليَّة، فلا تلحق في هذا الحكم بالنَّوَافل، وهذا تقرير النصين. وظاهر المذهب جواز الجمع بكل حال، ولو جمع بين صَلاتَي جنازة بتيمُّم واحد ففيه هذا الخلاف، ولو أراد أن يصلي على جنازتين صلاة واحدة، فقد قال بعضهم يبنى ذلك على الخلاف، إن اعتبرنا لكل صلاة تيمماً لم يَجُزْ ذلك، وإلا فيجوز. وقال صاحب "المعتمد": ينبغي أن يجوز ذلك بكل حال؛ لأنه إذا جاز سقوط الفرضين بصلاة واحدة، جاز الاقتصار على التيمم الواحد. قال الغزالي: وَمَنْ نَسِيَ صَلاةً مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ يُصَلِّي خَمْسَ صَلَوَاتِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ نَسِيَ صَلاَتيْنِ، فَإِنْ شَاءَ صَلَّى خَمْسَ صَلَوَاتِ بِخَمْسِ تَيَمُّمَاتٍ، وإنْ شَاءَ اقْتَصَرَ عَلَى تَيَمُّمَيْنِ وَأَدَّى بِالتَّيَمُّمِ الأَوَّلِ الأَرْبَعَةَ الأُولَى مِنَ الخَمْسَةِ وَبِالثَّانِي الأرْبَعَةَ الأخِيرَةَ مِنَ الخَمْسَةِ. ¬
قال الرافعي: إذا نسي صلاة من صلوات نظر إن كانت متفقة كما إذا نَسِيَ ظهراً من إسبوع فلا يلزمه إلا ظهر واحدة، ولا أثر للتردُّد في اليوم الذي فاتت منه، ولا يخفى أن يفردها بتيمم، وإن لم تكن متّفقة كما إذا نسي صلاةً من الصَّلَوَات الخمس فيلزمه أن يأتي بالخمس ليخرج عن العهدة بيقين، وعن المزني: أنه يكفيه أربع ركعات، يَنْوِي فيها فائِتَته، ويجلس في الثَّلاث الأخيرة، ويسجد للسهو ويسلم. وهل يكفيه تيمُّم [واحد للجميع أم يفتقر لكل واحدة إلى تيمم (¬1)؟] فيه وجهان: أحدهما: ويحكى أن ابن (¬2) سريج: أنه يفتقر لكل صلاة إلى تيمم؛ لأن كل واحدة منها واجبة عليه بعينها فأشبهت الفَائِتَتَيْن، وهذا اختيار الخضري وأصحهما، وهو المذكور في الكتاب، وبه قال ابن القاصّ (¬3)، وابن الحدّاد أنه يكفيه تيمّم واحد للجميع، لأنها وإن كانت واجبة الفعل، فالمقصود منها واحدة، وما عداها كالوسيلة إليها. قال الشيخ أبو علي: الوجهان مبنيان على أنه لا يجب تعيين الفريضة المقصودة بالتيمم، فإن أوجبنا التَّعْيين، وجب لكل واحدة تيمم لا محالة (¬4) ولك أن تقول إنَّما يجب التَّعْيين إذا كانت الفَرِيضةُ مُعَيَّنَة معلومة فأما إذا لم تكن، فيجوز أن يقال: ينوي بتيمُّمهِ ما عليه، ويحتمل منه التردُّد والإبهام، كما يحتمل في كل واحدة من الصَّلَوات، ينوي أنها فائتته، وهو متردد في ذلك، ويجوز أن يعلم قوله: "يصلي خمس صلوات" بالزاي؛ لأن عنده يكفيه صلاة واحدة بالضفة التي تقدمت. وإن نسي صلاتين من صلوات، نظر إن كانتا مختلفتين، وهي الحالة المرادة في مسألة الكتاب، كما إذا نسي صلاتين من الوَظَائِفِ الخمس، فيجب الإتيان بالخمس لا محالة، وحكم التيمم يبنى ¬
على ما إذا كانت المَنْسِيَّةُ واحدة. فإن قلنا: يجب ثم خمس تيممات فكذلك هاهنا. وإن قلنا: ثم يكفي تيمم واحد، فما الَّذي يفعل هاهنا. قال ابن القاص: يتيمَّم لكل واحدة منها، ويقتصر عليها. وقال ابن الحداد: يقتصر على تيممين ويزيد في عدد الصلوات فيصلي بالتيمم الأول الفجر والظهر والعصر والمغرب، وبالثاني الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فيخرج عن العهدة بيقين؛ لأنه صلّى الظهر والعصر والمغرب مرتين بتيممين، فإن كانت الفائتتان من هذه الثلاث فقد تأدت كل واحدة بتيمم، وإن كانت الفائتتان الفجر والعشاء، فقد تأدّت الفجر بالتيمم الأول، والعشاء بالثاني، وإن كانت الفائتتين إحدى الثلاث، وأخرى الفجر والعشاء، فكذلك ولا شك أن ما ذكره ابن القاص جائز عند ابن الحداد، فيخرج عن العهدة. والذي ذكره ابن الحداد هل يجوز عند ابن القاص، ظاهر كلامه في "التلخيص" أنه لا يجوز. وقال الصيدلاني وغيره من الأئمة: لا خلاف بينهما، وكل واحد منهما يجيز ما قاله الآخر، فإن كان الأول التقى كلام ابن القاص، والخضري في هذه الصورة ونظائرها، وإذا كان الثاني انتظم أن يقال: هو مُخَيَّرٌ إن شاء فعل ذلك، وإن شاء فعل هذا، كما ذكره في الكتاب، ويجوز أن يعلم قوله: "إن شاء"، "وإن شاء" بالواو، لظاهر كلامه في التَّلْخِيصِ، وبالزَّاي؛ لأن قياس قوله: "أن لا يلزمه واحد من الأمرين، بل يكفيه صلاتان كما ذكرنا بتيمُّمين، وحكى وجه آخر أنه يتيمم مرتين، ويصلي بكل واحد منهم الصلوات الخمس؛ لأنه للفائتة الواحدة يقضي الخمس بتيمم فَلِلْفَائِتَتَيْنِ يلزمه ضعف ذلك، وهذا أبعد الوجوه عند مشايخ الأصحاب من جهة أنه إذا صلى الأربع بالتيم الأول، فقد علم سقوط إحدى الفَائِتَتَيْنِ عنه، ففعل الخامسة عبث لأنه لا يتأدَّى فرضان بتيمُّم واحد، والمستحسن عندهم ما ذكره ابن الحداد، ولا بد فيه من زيادة في عدد الصَّلَوات، فيجب معرفة ضابط القدر الزّائد، وما يشترط في كيفية أدائها ليخرج عن العهدة، أما الضّابط فهو أن يزيد في عدد المنسي فيه عدداً لا ينقص عما يبقى من المنسي فيه بعد إسقاط المنسي، وينقسم المجموع صحيحاً على المنسي بيانه في الصُّورَةِ المذكورة المنسي صلاتان، والمنسي فيه خمس يزيد عليه ثلاثة؛ لأنها لا تنقص عما يبقى من الخمسة بعد إسقاط الاثنين، بل يساويه، والمجموع هو ثمانية، ينقسم على الاثنين صحيحاً، ولو أنه أتى بعشر صلوات يجزئه عما ذكرنا في الوجه الآخر، لأنه زاد ما لا ينقص عن الباقي من المنسي فيه بعد إسقاط المنسي، وينقسم مع الأصل صحيحاً عليه، وأول عدد يزيد عليه ووجد فيه الوصفان المذكوران حصل به الفرض، فإن تكلف عليه زيادة، فاولى أن يجزئه، وأما ما يشترط في كيفية الأداء، فإنه يبتدئ من المنسي
فيه بأية صلاة شاء، ويصلّي بكل تيمم ما تقتضيه القسمة، لكن شرط خروجه عن العهدة بالعدد المذكور أن يترك في كل مرة ما ابتدأ به في المرة التي قبلها، ويأتي في المرة الأخيرة بما بقي من الصَّلَوَات، فلو صلَّى في المثال الذي سبق بالتيمم الأول الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وبالثاني الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، فقد أخل بهذا الشرط إذا لم يترك في المرّة الثانية ما ابتدأ به في المرة الأولى، وإنما ترك ما ختم به في المرّة الأولى فلا يخرج عن العهدة، لجواز أن يكون ما عليه الظّهر، أو العصر، أو المغرب مع العشاء، فبالتيمم الأول صحّت تلك الصلاة، ولم تصح العشاء، وبالتيمم الثاني لم يُصَلِّ العشاء، فلو صلى العشاء بعد ذلك بالتيمم الثاني، خرج عن العهدة، وقد أشار إلى هذا الشَّرط في الكتاب بقوله: "وأدى بالأول الأربع الأولى من الخمس، وبالثاني الأربع الأخيرة". ولو نسي ثلاث صلوات من صلوات يوم وليلة، ولم يعرف عينها فعلى طريقة صاحب "التلخيص" يتيمم خمس تيمُّمات، ويصلِّي الخمس، وعلى الوجه الآخر يتيمم ثلاث مرات، ويصلي بكل واحدة منها الخمس، وعلى قول ابن الحداد يقتصر على ثلاث تيممات، ويزيد في عدد الصلوات فيضم إلى الخمس أربعاّ؛ لأن الأربعة لا تنقص عما يبقى من الخمسة بعد إسقاط الثلاثة، بل يزيد عليه، وينقسم المجموع، وهو تسعة صحيحاً على الثلاثة، ولو ضممنا إلى الخمسة اثنين، أو ثلاثة، لما انقسم، ثم يصلّي بالتيمُّم الأوّل الصبح، والظهر، والعصر، وبالثَّاني الظهر، والعصر، والمغرب، وبالثالث العصر، والمغرب، والعشاء، وله غير هذا الترتيب إذا حافظ على الشَّرط المذكور، فلو أَخَلَّ به كما إذا صلّى بالتّيمم الأول العصر، ثم الظهر، ثم الصبح، وبالثاني المغرب، ثم العصر، ثم الظهر، وبالثالث العشاء، ثم المغرب، ثم العصر، لم يخرج عن العهدة، لجواز أن يكون التي عليه الصّبح، والعشاء، وثالثهما الظهر، أو العصر، فيتأدَّى بالتيمُّم الأول الظهر، أو العصر، ويتأدى بالثالث العشاء، ويبقى الصبح عليه فيحتاج إلى تيمم رابع للصبح، وقس على هذا نظائره، هذا كله فيما إذا نسي صلاتين مختلفتين، أو أكثر. أما إذا نسي صلاتين متفقتين من صلوات يومين فصاعداً، فعليه أن يأتي بعشر صلوات صبحين، وظهرين، وعصرين، ومغربين، وعشائين، ليخرج عن العهدة بيقين، ويجب لها عشر تيمُّمَات على الوجه المنسوب إلى الخضري، وعند معظم الأصحاب يكفيه تيممان يصلي بكل واحد منهما الصلوات الخمس، ولا يكني هاهنا ثمان صلوات بتيممين، بخلاف ما إذا كانتا مختلفتين؛ لأنه إذا فعل ذلك لم يأت بالصُّبح إلا مرة واحدة بالتَّيمم الأوَّل، ولا بالعشاء إلا مرة واحدة بالتيمم الثَّاني، ويجوز أن يكون ما عليه صبحين أو عشائين، ولو لم يعلم أن فَائِتَتَيْهِ متِّفِقَتَان، أو مختلفتان أخذ بالأسوأ، وهو أن تكونا متفقتين، فيحتاج إلى عشر صلوات بتيممين، ولا يكفيه الاقتصار على
الثمان، والوجه الذي هو اختيار الخضري لا يخفى -والله أعلم-. وإن اشتبه الحال على حاج، فلم يدر أترك صلاة فرض أم طواف فرض، أتى بالطَّواف وبالصلوات الخمس بتيمُّم واحد، وعلى وجه الخضري يحتاج إلى ستة تيمُّمات، ولو صلّى منفرداً بتيمم، ثم أدرك جماعة، وأراد إعادتها معهم فإن قلنا: المعادة سنة له أن يعيدها بذلك التّيمم، وإن قلنا: الفرض أحدهما لا بعينه، فهل يجوز فعله بذلك التيمم؟ فيه وجهان، كالوجهين فيما إذا نسي صلاة من الخمس، هل يكفيه لها تيمم واحد؟ والصحيح أنه يَكْفِي ولو صلى الفرض بالتيمم على وجه يحتاج إلى قضائه، كالمربوط على الخشبة، ونحوه، وأراد القضاء بالتيمم فينبني على أن الفرض المعاد، أو الأول أو كلاهما أو أحدهما لا بعينه إن قلنا: الفرض المعاد أو كلاهما افتقر إلى تيمم آخر، وإن قلنا: الفرض الأول، فلا حاجة إلى إعادة التّيمم، وإن قلنا: الفرض أحدهما لا بعينه، فهو على الوجهين السابقين. قال الغزالي: وَكَذَلِكَ لاَ يَتَيَمَّمُ لِفَرِيضَةٍ قَبْلَ دُخُولِ (ح) وَقْتِهَا، وَوَقْتُ صَلاَةِ الخُسُوفِ بِالخُسُوفِ، وَوَقْتُ الاسْتِسْقَاءِ بِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِي الصَّحْرَاءِ، وَوَقْتُ صَلاَةِ المَيِّتِ بِغُسْلِ المَيِّتِ وَالفَائِتَةِ بِتذكّرِها، وَالنَّوافِل الرَّوَاتِبُ لاَ يَتَأَقَّتُ تَيَمَمُّهَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنَ، وَلَوْ تَيَمَّمَ لِفَائِتَةٍ ضَحْوَةَ النَّهَارِ فَلَم يُؤَدِّ بِهِ إِلاَّ ظُهْراً بَعْدَ الزَّوَالِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الأَصَحِّ، وَكَذَا لَوْ تَيَمَّمَ لِلظُّهرِ ثُم تَذَكَّرَ فَائِتَةً فَأَدَّاهَا بِهِ جَازَ عَلَى الأَصَحَّ، وَلَوْ تَيَمَّمَ لِنَافِلَةٍ ضَحْوَةَ وَقُلْنَا: يُسْتَبَاحُ بِهِ الفَرِيضَةُ فَأَدَّى الظُّهْرِ بِهِ فَعَلَى هَذَا الْخِلاَفُ. قال الرافعي: لا يتيمَّم لصلاة قبل دخول وقتها خلافاً لأبي حنيفة، لنا أنه طهارة ضرورة، ولا ضرورة قبل دخول الوقت، فلو تيمّم لفريضة قبل دخول وقتها لم يصح للفرض، وهل يصح للنَّفل؟ حكى بعضهم فيه وجهين بناء على أن من أحرم بالظّهر قبل الزوال، هل تنعقد صلاته نفلاً؟ وظاهر المذهب أنه لا يصح تيممه لا للفرض ولا للنفل، وهذا الأصل يطلق إطلاقاً، إلا أنه لا بد من استثناء صورة عنه، وهي ما إذا كان يجمع بين صلاتي الجمع بالتَّيمّم، فإن ظاهر المذهب أن الجمع بين الصَّلاتَيْنِ [بتيممين] (¬1)، جائز وحينئذ إذا قدم الأخيرة فقد تيمَّم لها قبل وقتها الأصلي، ولو تيمم وصلى الظهر، ثم تيمَّم فيضم إليها العصر، فدخل وقت العصر قبل أن يشرع فيها فيبطل الجمع، ولا يصلي بذلك التَّيمم العصر لوقوعه قبل وقتها، وانحلال رابطة الجمع، وكما لا يقدم التَّيمم للمؤداة على ¬
وقتها، لا يقدم التَّيمم للفائتة على وقتها، ووقتها يدخل بتذكرها. قال -صلى الله عليه وسلم-: "فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ ذلِكَ وَقْتُهَا" (¬1). وإذا تيمَّم للفريضة في أوَّل الوقت وأخَّرها [إلَى آخِرِ الوقت] (¬2) جاز، نص عليه؛ لأنه تيمَّم في وقت الحاجة، ولو تيمَّم لفائتة ضحوة النهار، ولم يؤدها حتى زالت الشمس، فأراد أن يصلي به الظهر، هل يجوز؟ فيه وجهان: أصحُّهما: وبه قال ابن الحداد: يَجُوز؛ لأن التَّيمم قد صح لما قصده وإذا صحَّ التَّيمم لفريضة، جاز له أن يعدل عنها إلى غيرها، كما إذا كانت عليه فائتتان فتيمم لإحداهما، له أن يصلي الأخرى به دون التي تيمم لها. والثاني: لا يجوز، وبه قال أبو زيد، والخضري، لأنه يقدم على وقت الظهر، فلا يؤدي به كما إذا تيمَّم لها قبل وقتها، ولو تيمم للظُّهْرِ في وقتها، ثم تذكر فائتة (¬3) فأراد أَدَاءَهَا به، فيه طريقان: أحدهما: طرد الوجهين. والثاني: القطع بالجواز، والفرق أنه إذا تيمَّم لقضاء الفائتة ضحوة فقد تيمّم، والظهر غير واجبة عليه، فلا يصلح تَيمُّمه لها، وهاهنا تيمَّم للظُّهر والفائتة واجبة عليه، لكنه لم يكن عارفاً بوجوبها، وقد سلم الجواز هنا أبو زيد، والخضري. وقوله في الكتاب في الصُّورة الأولى: "على الأصح" يعني من الوجهين، وفي الصُّورَةِ الثَّانية يجوز أن يريد الأصح من الوجهين جرياً على طريقة طرد الوجهين، وسكوتاً عن الأخرى، ويجوز أن يريد الأصح من الطريقين، وهو قضية كلامه في "الوسيط"، لكن طريقة طرد الخلاف أظهر من جهة النقل، وكل هذا تفريع على أن تعيين الفريضة التي يتيمم لها ليس بشرط، فإن شرطناه لم يصلح التّيمم لغير ما عينه، وجملة ما ذكرناه فيما إذا كانت الصلاة التي يتيمم لها فريضة، أما النافلة فتنقسم إلى مؤقتة، وإلى غيرها، أما المؤقتة فكالرَّواتب التَّابعة للفرائض، وصلاتي العيد، والكسوف، وأَوْقاتها مذكورة في مواضعها، ومنها صلاة الاسْتِسْقَاء، ووقتها اجتماع الناس لها في الصَّحْرَاء، ومنها صلاة الجَنَازَةِ، وبم يدخل وقتها؟ فيه وجهان: أظهرهما: وهو المذكور في الكتاب، أنه يدخل بغسل الميت، فإنها حينئذ تباح، وتجزئ. ¬
والثاني: وبه أجاب صاحب الكتاب في الفتاوى: أن يدخل بالموت، فإنه السَّبب المحوج إلى الصلاة، فإن قدم التيمم لهذه النوافل على أوقاتها فالمشهور أنه لا يصح كما في الفرائض؛ لأنه مستغن عن التيمم لها قبل وقتها، وحكى إمام الحرمين فيه وجهين، والفرق أنَّ أَمَرَ النَّوَافِلِ أوسع، ولهذا جاز أداء نوافل كثيرة بتيمم واحد، فصاحب الكتاب ذكر هذا الخلاف في الرَّوَاتب، وهو غير مخصوص بها، وإن تيمَّم لهذه النوافل في أوقاتها جاز له أن يصلِّي النَّافلة التي تيمم لها، وغيرها، وهَلْ تَجُوزُ الفريضة؟ يبنى على القولين اللذين قدمناهما في أنه إذا تيمَّم للنافلة هل يصلِّي به الفريضة؟. إن قلنا: لا، فلا يجوز، وإن قلنا: نعم، فله ذلك، إن تيمّم للنافلة في وقت تلك الفريضة، ولو تيمم لنافلة ضحوة، ثم دخل وقت الظهر فهل له أن يصلي الظهر به على هذا القول. فيه الوجهان المذكوران، فيما إذا تيمم لفائتة قبل الزوال، هل يصلي الظهر به. وقوله: "فيه هذا الخلاف" يعني الوجهين المذكورين دون الطريقين، وإن كان مذكوراً بعد مسألة الطَّريقين، وما ذكرنا من المسائل فيما إذا تيمم للنافلة وحدها، مبني على ظاهر المذهب، وهو أن التيمم لمجرد النافلة صحيح، وفيه وجه قدمناه، وأما غير المؤقتة من النوافل فيتيمم لها متى شاء، إلا في أوقات الكراهية في أظهر الوجهين (¬1) وأعلم أن الشَّرْح قد يقتضي تغيير مسائل الكتاب عن نَظْمِهَا، وترتيبها وهذا الفصل من ذاك. قال الغزالي: (الحُكْمُ الثَّالِثُ) فِيمَا يُقْضَى مِنَ الصَّلَوَاتِ المُخْتَلَّةِ، وَالضَّابِطُ فِيهِ أَنَّ مَا كانَ بِعُذْرٍ (ح) إِذَا وَقَعَ دَامَ فَلاَ قَضَاءَ فِيهِ كَصَلاَةِ المُسْتَحَاضَةِ وَسَلَسِ البَوْلِ وَصَلاَةِ المَرِيضِ قَاعِداً وَمُضْطَجِعاً وَصَلاَةِ المُسَافِرِ بِتَيَمُّمٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ العُذْرُ فِيهِ دَائِمًا نَظَرَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَدَلٌ وَجَبَ (و) القَضَاءُ كَمَنْ لاَ يَجِدُ مَاءً وَلاَ تُرَابًا فَصَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَالمَصْلُوبُ إِذَا صَلَّى بِالإيمَاءِ أَوْ مَنْ عَلَى جُرْحِهِ أَوْ ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ وَيسْتَثْنَى عَنْهُ صَلاَةُ شِدَّةِ الخَوْفِ، فَإنَّهَا رُخْصَةُ وَإِنْ كانَ لَهَا بَدَلٌ كتَيَمُّمِ المُقِيمِ (و) أَوِ التَيَّمُّمِ لإِلْقَاءِ الجَبِيرَةِ أَوْ تَيَمُّمِ المُسَافِرِ لِشِدَّةِ (ح) البَرْدِ فَفِي القَضَاءِ قَوْلاَنِ. ¬
قال الرافعي: التَّيمم قد يكون بحيث يغنى الصلاة المؤداة به عن القضاء، وقد يكون بحيث لا يغنى، والغرض الأعظم في هذا الموضع بيان ذلك، ثم اختلط به القول في الصَّلوات المشتملة على غير ذلك من وجوه الخَلَلِ ما الَّتي تقضى وما التي لا تقضى لاندراج الكُلِّ تحت ضابط واحد، قال الأصحاب الأَعْذَارُ ضربان: عام، ونادر. فأما العام: فيسقط القضاء، لأن إيجابه مع عموم العذر يفضي إلى عموم المَشَقَّة. وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬1)، ولهذا المعنى جعلنا الحَيْضَ مسقطاً للقضاء، وعدواً في هذا القسم صوراً. منها: صلاة المسافر بالتيمم لعدم الماء، فلا إعادة عليه إذا وجد الماء في الوقت، ولا قضاء إذا وجده بعده "روي أَنَّ رَجُلَيْنِ خَرَجَا فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءُ فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيَّباً وَصَلَّيَا، ثُمَّ وَجَدَا المَاءَ فِي الْوَقْتِ، وَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الْوُضُوءُ وَالصَّلاةَ وَلَمْ يُعِدِ الآخَرُ، ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَذَكَرَا لَهُ ذلِكَ فَقَالَ لِلَّذِي أَعَادَ: لَكَ الأَجرُ مَرَّتَيْنِ، وَلِلَّذِي لَمْ يُعِدْ أَصَبْتَ السُّنَّةَ وَأَجْزَأَتكَ صَلاَتُكَ" (¬2). والمعنى فيه أن فَقدَ الماء في الأسفار عذر عام، وسنبين من بعد أن الحكم غير منوط بالسفر، بل الموضع الذي يغلب فيه فقد الماء، وإنما لا يقضي المسافر بشرط ألا يكون سفره سفر معصية، أمَّا لو كان سفر معصية وتيمم وصلَّى، ففي القضاء وجهان: أحدهما: لا يقضي، لأنَّا إذا أوجبنا عليه التّيمم، فقد صار عزيمة في حقه بخلاف القصر، والفطر، ونحوهما، فإنها لا تجب. وأظهرهما: أنه يجب، لأنه وإن كان واجباً فسقوط الفرض به رخصة، فلا يناط بسفر المعصية. وحكى الحناطي مع هذا الخلاف وجهاً آخر، أنه لا يتيمم أصلاً، وهل يشترط لعدم القضاء أن يكون السَّفر طويلاً، فيه قولان: أصحهما: لا، والقصير كالطويل في هذا الحكم. لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (¬3) الآية، واسم السفر يقع على ¬
الطَّويل والقصير، وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-:"أنَّهُ رَجَعَ مِنَ الْجَرْفِ (¬1): فَلَمَّا بَلَغَ المَرْبَدَ تَيَمَّمَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَلَمْ يُعِدْ مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ". والثَّانِي: أنه يقضي في السَّفر القصير، لأنه يلحق بالحضر، في امتناع القصر والفطر، فكذلك في حكم القضاء، ومنهم من قطع بالأول، ولم يثبت الثاني قولاً للشَّافعي -رضي الله عنه- قال إمام الحرمين -رضي الله عنه-: وفي هذه الصورة مزيد مع عموم العذر، وهو أنه وإن اختل الوضوء فقد أثبت الشرع عنه بدلاً، وهو التَّيمم فقام مقام المبدل وهذا المعنى يسقط القضاء على قول، وإن كان العُذْرُ نادراً على ما سنذكره من بعد، ولا فرق في نفي القضاء بين أن يكون تيممه عن جنابة، أو عن حدث، ولو كان مع المسافر ماء، لكنه يحتاج إليه للشُّرب، أو عجز عن تناول الماء للخوف من سبُع، أو ظالم، أو لفقدان آلة الاسْتِقَاء، فتيمم وصلى، فكذلك لا إعادة عليه. ومنها: ما إذا تيمَّم لمرض مانع من استعمال الماء. ومنها: المرض المُحْوِجُ إلى القعود، أو الاضطجاع في الصلاة، فإن المرض على الجملة من الأعذار العامة، فيسقط القضاء. وأما العذر النَّادر فعلى ضربين: نادر إذا وقع دام غالباً، ونادر إذا وقع لم يدم غالباً. أما الذي يدوم غالباً، فيسقط القضاء أيضاً لما يلحق صاحبه من المشقة الشديدة، وذلك كالاسْتَحَاضَةِ، وسلس البول، والمَذْي، والجُرْح السائل، واسترخاء المَقْعَدَةِ، دوام خروج الحدث منه، ولا فرق في هذا القسم بين أن يكون عن الصفة لِفَائِتَةٍ بدل، أو لا يكون، فإن المستحاضة وإن كانت تتوضَّأ لكل صلاة فريضة، لكن ليس للنَّجَاسات الدَّائمة إزالة، ولا بدل عنها. وأما الذي لا يدوم غالباً، فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون مع الخَلَلِ الحاصل بدل مشروع عن الفائت. والثاني: ألا يكون معه بدل، فإن لم يكن معه بدل، وجب القضاء لِنُذُور العُذْرِ، وفوات الصفة المطلوبة، لا إلى بدل، وذكر في الكتاب لهذا القسم صوراً. منها: ما إذا لم يجد ماء، ولا ترابًا، فصلى، وقد يفرض فقدهما جميعاً في حق المحبوس في موضع لا يجد واحداً منهما، أو في موضع لا يجد إلا تراباً نجساً، أو فيما إذا كانت الأرض متوحِّلة، ولم يقدر على تَجْفيف الطين، فإذا (¬2) اتفق ذلك ببعض هذه الأسباب، أو غيرها، فهل يجب عليه الصلاة؟. قال في القديم: لا تجب، لأنه لا يجب عليه الإعادة، وإن صلى فلو أوجبناه ¬
لالزمناه ظهرين. وقد روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ ظُهْرَانِ فِي يَوْمٍ" (¬1) نعم، يستحب ذلك لحرمة الوقت، والجديد: الصحيح أنه تجب عليه الصلاة في الوقت، لأنه استطاع الإتيان بأفعال الصَّلاة، وإن عجز عن الطَّهارة. وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعتُمْ" (¬2)، وصار كما إذا عجز عن ستر العُوْرَة، لا يترك الصَّلاة بسببه. ومنهم من نقل القول القديم في الحرمة. وقال: يحرم عليه أن يصلي كالحائض، وبه قال أبو حنيفة، وإذا صلّى في الوقت امْتِثَالاً لما أمرناه به وجوباً، أو ندياً فظاهر المذهب وجوب الإعادة؛ لأن هذا عذر نادر لا دوام له. وحكى بعض الأصحاب فيه قولين، وهذا العادم وإن أمر بالصلاة، والحالة هذه لا يجوز له حمل المصحف، وقراءة القرآن إن كان جنبًا، وإن كانت حائضًا فليس للزَّوج غِشْيَانُهَا، ولو قدر على أحد الطّهورين في خلال الصَّلاة بطلت صلاته. ومنها المربوط على الخشبة، ومن شد وثاقه على الأرض يُصَلِّي على حسب حاله بالإِيمَاءِ، ثم يعيد لأنه عذر نادر، بخلاف المريض يصلي بالإِيماء، ولا يعيد؛ لأن عذر المَرض يعم. وقال الصيدلاني: إن كان مستقبل القِبْلَة فلا إعادة عليه، كالمريض يصلي بالإيماء وعلى جنب، وإن لم يكن يلزمه الإعادة قال: وكذا الغريق يتعلق بعُودٍ، ويصلي بالإيماء، ويعيد إذا كان إلى غير القبلة، وذكر في "التهذيب" نحواً من هذا في مسألة الغريق (¬3) فقال: لا يعيد ما صلى إلى القبلة بالايماء، وما صلى إلى غير القبلة فيه قولان: أحدهما: لا يعيد أيضاً، كما لو صلى بالإيماء إلى القبلة. وأصحهما: أنه يعيد بخلاف ما لو صلى بالإيماء، لأن حكم الإيماء أخفُّ، من ترك القبلة، ألا ترى أن المريض يصلي بالإيماء ولا يعيد، وإذا لم يجد من يُحَوِّلُه إلى القبلة يصلي إلى غيرها ويعيد. أما مسألة المربوط فلم يذكر فيها هذا التَّفصيل، وحكم بوجوب الإعادة، وبه قال إمام الحرمين -قدس الله روحه-. ومنها: إذا كان على بَدَنِهِ ¬
جراحة عليها دم، وخاف من غسله التَّلف، صلى وأعاد، وإن كانت على أعضاء الوضوء تيمم، وصلى وأعاد، فإن هذا الخَلَلَ ليس له بدل، والعذر نادر غير دائم. وفي القديم: قول أنه لا يعيد، وبه قال أبو حنيفة، والمزني، وكذلك الخلاف فيما إذا كان محبوساً في مكان نجس، وصلى على النجاسة، هل يعيد أم لا؟ والقول القديم مطرد في كل صلاة، وجبت في الوقت، وإن كانت مختلة وهو اختيار المزني. والضرب الثاني أن يكون مع الخلل الحاصل بدل مشروع يعدل إليه، ففي وجوب القضاء خلاف نفصله في صور هذا القسم. منها المقيم إذا تيمّم لعدم الماء فصلى (¬1)، فظاهر المذهب أنه يجب عليه القضاء؛ لأن عدم الماء في موضع الإقامة (¬2) نادر، وإذا اتفق لا يدوم غالباً، فإن أهل ذلك الموضع يتبادرون إلى الإصلاح، والإثباط، فلا يصلح عذراً دافعاً لِلْقَضَاء، والبدل المعدول إليه يقام مقام الأصل في جواز الإتيان بالصلاة، حتى لا يخلو الوَقْت عن وظيفته. وفي القديم، وهو اختيار المزني، أنه لا إعادة عليه؛ لأنه بالمقدور. عليه. واعلم أن وجوب القضاء على المقيم إذا قلنا: بظاهر المذهب ليس لعلة الإقامة، بل لأن فقد الماء في موضع الإقامة نادر، وكذلك عدم الوجوب في السفر ليس لأنه مسافر، بل لأن الفقد في السفر مما يعم، ويغلب حتى لو أقام الرجل في مَفَازَةٍ، أو موضع يعدم فيه الماء غالباً، وطالت إقامته فيه يتيمَّم، ويصلّي، ولا يعيد. وفي مثله قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر، وكان يقيم بالرَّبَذَةِ (¬3)، ويفقد الماء أياماً: فسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬4) فقال: التُّرَابُ كَافِيكَ وَلَوْ لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ حِجَجٍ" (¬5). ولو دخل المسافر في طريقه بلد، أو قرية، وعدم الماء، وتيمم، وصلى أعاد على أظهر الوجهين، فإن كان حكم السفر باقياً، نظر إلى ندرة العدم في ذلك الموضع، وإذا عرفت ذلك فقول الأصحاب: المقيم يقضي، والمسافر لا يقضي، جار على الغالب من حال السَّفر، والإقامة، والحقيقة وما بينا. ومنها: التَّيمم لإلقاء الجبِيْرَة، وجملته أنه إذا كان به عذر يمنع من استعمال الماء في بعض محل الطهارة دون بعض فغسل المقدور عليه، وتيمّم وصلّى، هل يجزئه ذلك أم يلزمه القضاء عند زوال العذر؟ ننظر إن لم يكن على محل العذر ساتر من جبيرة، أو لصوق فيجزئه، ولا قضاء عليه؛ لأنه لو وجد ¬
تجرّد التيمم لشيء من العلل، والأمراض لما كان عليه إعادة، فإذا انضم إلى التيمم غسل بعض الأعضاء كان أولى، أن لا تجبل عليه الإعادة، وإن كان على محل الأعضاء ساتر، فنظر إن ألقاه على الطهارة، ففي القضاء قولان: أحدهما: يجب لأنه عذر نادر غير دائم. وأظهرهما: أنه لا يجب، لحديث جابر في الشّجوج، كما تقدم، ولم يأمره النّبي -صلى الله عليه وسلم- بالإعادة مع الحاجة إلى البيان؛ ولأن المسح على الخف يغني عن الإعادة مع أنه لا ضرورة إليه، فالمسح على الجَبيرَةِ أولى لمكان الضرورة، وإن إلقاه لا على غير الطهارة، فعليه النزع، إن أمكن، ولا يجوز المسح عليه كما سبق، وإن تعذر النَّزع، مسح وصلى للضرورة، وهل يعيد؟ فيه طريقان: أظهرهما: نعم، لفوات شرط الوضع على الطَّهارة. والثاني: طرد القولين فيه، وذكر بعضهم أنه إنْ وضع على الطَّهارة فلا يعيد في القديم قولاً واحداً، وفي الجديد: قولان: وإن لم يضع على الطهارة فيعيد في الجديد قولاً واحداً، وفي القديم: قولان، ولا فرق في جَرَيَانِ الخلاف في الإعادة بين أن نقول بوجوب التّيمم مع غسل المقدور عليه، وبين أن لا نوجب التيمم، ويجوز الاقْتِصَار على الغسل، وقد بينا الخلاف فيه في موضعه. وعن أبي حفص ابن الوكيل (¬1) أن الخلاف في الإعادة على قولنا: إنه لا يتيمم، أما إذا قلنا: بوجوب التيمم فلا إعادة بلا خلاف، وهذا كله فيما إذا كانت الجَبِيرَة، أو اللَّصُوقُ على غير محل التيمم، فأما إذا كان على محل التيمم وجبت الإعادة لا محالة، لنقصان البدل والمبدل جميعاً كذلك ذكره ابن الصباغ في "الشامل"، وأبو سعيد المتولي في "التتمة". ومنها التيمم لشدة البرد، فإن اتفق ذلك في السّفر، ففي إعادة الصَّلاة المؤداة به قولان: أحدهما: لا يجب، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن عمرو بن العاص تيمّم بسبب البرد في غزوة "ذات السَّلاَسل"، وصلى وحكى ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يأمره بالإعادة. وأصحهما: أنها تجب؛ لأن البرد وإن لم يكن شيئاً نادراً، لكن العجز عما يسخن به الماء، وعن ثياب يدفأ بها مع ذلك نادر، وإن اتفق فإنه لا يدوم، فلا يسقط الإعادة وإن اتَّفَقَ في الحضر، فالمشهور وجوب الإعادة. ¬
وعن أبي الحسن بن القطّان أنه يبنى ذلك على السفر، إن قلنا: يعيد في السَّفر ففي الحضر أولى، وإن قلنا: لا يعيد، ثم ففي الحضر قولان، ونعود إلى ما يتعلق من هذه المسائل بألفاظ الكتاب، ونظمه خاصة. اعلم أنه أهمل التقسيم الأول الذي حكيناه عن الأصحاب، حيث قالوا: "العذر ينقسم إلى عام ونادر"، ثم قالوا: النَّادر ينقسم إلى دائم، وغير دائم، واقتصر على تقسيم العذر إلى دائم إذا وقع، وإلى غير دائم، ويدخل العام، والنادر في كل واحد من هذين القسمين، إلا أن دوام الوقوع ليس بشرط في قسم العام، بل هو مسقط للقضاء دَام، أو لم يدم، أَلاَ ترى أن حاجة المسافر إلى ما عنده من الماء لِلشُّرْبِ مُسْقِطٌ للقضاء؛ لأنه يعم، ولا يظهر فيها الدوام، والاستمرار بل عدم الماء في السَّفَر ممَّا لا يدوم أيضاً غالباً، فإنه إنْ فقد الماء في مرحلة وجده في المرحلة الأخرى، وإذا كان كذلك فِلِمُضَايق أن يضايق في عدة صلاة المسافر بالتيمم على موجب التقسيم الذي ذكره من القسم الأول، وللمضايقة وجوه أخر، لا نطول بذكرها. وأما قوله: "فان لم يكن لها بدل، وجب القضاء"، ينبغي أن يعلم بالواو والزاي، لما ذكرنا من القول الذي اختاره المزني. وقوله: "فصلى فيمن لم يجد ماء، ولا تراباً" بالحاء والواو لمذهب أبي حنيفة، والقول الموافق له كما سبق. وقوله: "والمصلوب إذا صلى بالايماء" المراد منه المربوط على الخشبة، وليعلم بالواو لما ذكرنا في شَرْحِ المَسْألَةِ. بقي أن يقال: لم عدّها من قسم ما لا بدل له؟ وهلا جعل الإيماء بدلاً عن الركوع، والسجود؟. والجواب أن المعنى بالبدل في هذا المقام الشيء المضبوط الذي يعدل إليه العاجزون كلهم، كالتَّيمم مع الوضوء، والإيماء ليس كذلك، بل يختلف بالأحوال، والأشخاص، وله درجات متفاوتة ينتقل المعذور من كل واحدة إلى ما يليها، بحسب الإمكان. وأما قوله: "ويستثنى عنه صلاة شدة الخوف" فليس المراد الاستثناء من الصورة الأخيرة، هي ما إذا صلّى، وعلى جرحه نجاسة وجدها، بل المراد الاستثناء من أصل هذا القسم، وهو ندور العذر، وعدم البدل، وذلك في الصلاة حالة المسابقة اختلالاً ظاهراً في الأفعال، والأركان، ويحتمل أيضاً كثرة الأفعال، وتلطُّخ السلاح بالدّم، على تفصيل يأتي في موضعه، وليس لها بدل، وإنما احتمل ذلك رخصة بالنص. قال الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (¬1)، ونازع إمام الحَرَمَيْنِ -قدس الله روحه- في كون القتال والنَّجَاسة من الأعذار النادرة، وقال: هو كثير الوقوع في حق ¬
المقاتلة، فعلى هذا صلاة شدّة الخوف غير مستثناة عن هذا القسم. وقوله: "أو التيمم لإلقاء الجَبِيرَةِ" مطلق لم يفرق بين أن يكون الوضع، والإلقاء على الطّهارة، أولاً [فإن كان على الطهارة فهو] (¬1) جواب على طريقة ترك القولين في الحالتين، وفي عدّه مسألة الجبيرة من الأعذار التي لا تدوم كلام. فإن القاضي أبا المحاسن الروياني قال: هي ملحقة بالنادر الذي يدوم، وذكر كثيرون من الأصحاب أن الكثير من جملة الأعذار العامة، وعلى هذا فلا اعتبار بكونه دائماً، أو غير دائم، ولا يستبعدن قولهم: إنه عام فإنه لا يعني بالعموم في هذا الباب، سوى الكثرة، والكَسْرِ؟ والانخلاع كثير ليس بنادر. وأما قوله: أو تيمم المسافر لشدّة البرد" فَالتَّخصيص بالمسافر يشير إلى أنه لو كان مقيماً وتيمّم لشدة البرد قضى بلا خلاف، وهو الظَّاهر كما تقدم. قال الغزالي: وَالعَاجِزُ عَنِ السُّتْرَةِ فِي كَيْفِيَّةِ صَلاِتهِ ثَلاَثةُ أوْجُهٍ، فِي وَجْهٍ لاَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ بَلْ يُومِئُ حَذَراً مِنْ كَشْفِ العَوْرَةِ، وَفِي وَجْهِ يُتِمُّ، وَفِي وَجْهٍ يَتَخَيَّرُ، فَإِنْ قُلْنَا: لاَ يُتِمُّ فَيَقْضِي لِنُدُورِ العُذْرِ وَعَدَمِ البَدَلِ وَإنْ قُلْنَا: يُتِمُّ فَالأَظْهَرُ أنَّهُ لاَ يَقْضِي؛ لِأَنَّ وُجُوبَ السَّتْرِ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الصَّلاَةِ. قال الرافعي: العاجز عن ستر العورة إذا صلّى عارياً، هل يقضي؟ يبنى ذلك على أنه كيف يصلي، وفيه قولان: أحدهما: وهو اختيار المزني: أنه يصلى قاعداً ليكون أقرب إلى التستر، وأبعد عن الهيئة المستنكرة في الصَّلاة، وعلى هذا هل يتم الركوع والسجود أم يقتصر على الإيماء وإدنا الجبهة من الأرض؟ فيه قولان: وأصحهما: أنه يصلّي قائماً، ويتم الركوع والسجود، فإن المقدور عليه لا يسقط بالمعجوز عنه، كيف والقيام والرُّكوع والسُّجود أركان للصلاة، وستر العورة من الشرائط، وإنما اعتبرت الشرائط زينة وكمالاً للأركان، فلا يجوز ترك الأركان لها، هذا نقل المعظم، وهو الظاهر. وحكى إمام الحرمين بدل القولين، وجهين، ووجهاً ثالثاً، أنه يتخير لتعارض الأمرين، ولزوم أحد الاختلالين، وصاحب الكتاب تابع الإمام فحكى في المسألة ثلاثة أوجه، والمَرْوِيُّ عن أبي حنيفة، وأحمد التَّخْيِيرُ، كما ذكر في الوجه الثالث، فليكن ¬
الوجهان الأولان معلمين بعلامتهما، والخلاف في هذه المسألة يجري في صور. منها: إذا كان محبوساً في موضع نجس، ولو سجد لسجد على نجاسة، هل يتم السجود أم يقتصر على الإيماء؟ وإذا وجد ثوباً طاهراً لو فرشه لبقي عارياً، ولو لبسه لصلى على نجاسة، ماذا يفعل؟ فيه الخلاف، وإذا وجد العريان ثوباً نجساً، هل يصلي فيه أم يصلي عارياً؟ فيه الخلاف، وإذا عرف ذلك فإن قلنا، في مسألة العاري: إنه لا تتم الأركان، فيقضي على ظاهر المذهب، لندور العذر، وعدم البدل، كمن لم يجد ماء ولا تراباً، فصلى، وفيه الخلاف المذكور في تلك الصورة ونظائرها. وإن قلنا: تتم الأركان، فهل يقضي؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن العذر نادر، وليس له دوام ولا بدل. وأظهرهما: لا، ووجهوه بشيئين: أحدهما: أن وجوب السِّتر لا يختص بالصّلاة، فاختلاله لا يقتضي وجوب الإعادة، لكن سياق هذا أن لا يجب القضاء، وإن ترك السّتر مع القدرة كالاحتراز عن المكث في العَرصة (¬1) المَغْصُوبة لما لم تكن من خاصية الصلاة لم يقتض اختلاله وجوب القضاء، وإن صلى فيه عمداً، وهذا مذهب مالك. والثاني: أن العري عذر عام، أو نادر إذا اتفق دام فلا توجب القضاء، والطبع لا ينقاد لكونه العري بهذه الصفة، وأطلق قوم من شيوخ الأصحاب كصاحب "التقريب" القول ينفي الإعادة، وهو جواب منهم على ظاهر المذهب، ولا فرق في نفي الإعادة بين أن يكون العاري في الحضر، أو في السّفر، بخلاف المتيمم، لعدم الماء، والفرق أن الثوب في مظنة الضّنّة (¬2) فقد لا يبذل، وإن كان في الحضر والماء بخلافه، وكل ما ذكرناه فيما إذا اتفق العُري في ناحية لا يعتاد أهلها العُري، فأما إذا صلى عارياً في قوم يعتادون العري، فلا قضاء عليه إذا تحول واكتسى، لعموم العذر، وشيوعه عندهم، لذلك فصل الشيخ أبو محمد. وذكر إمام الحرمين أنه ساعده عليه كثير من الأصحاب، وهو الذي أورده صاحب الكتاب في "الوسيط" قال إمام الحرمين: والوجه اقطع بأن الذين يعتادون العُرى يتمُّون الركوع والسّجود، فإنهم يتصرفون في أمورهم عراة، فيصلون كذلك، ولا يقضون وجهاً ¬
باب المسح على الخفين
واحداً، واعلم أنَّ هذا التَّفصيل إنما ينتظم على قول من يعدّ العُرْيَ من الأعذار النادرة، ليصير باعتيادهم ذلك عاماً، فأما من عَدَّهُ من الأعذار العامة على الإطلاق يتجه أن لا يفرق بينهم، وبين غيرهم، -والله أعلم- (¬1). بَابُ المَسْحِ عَلَى الْخَفَّيْنِ قال الغزالي: (وَالنَّظَرُ فِي شُرُوطِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَحُكْمِهِ)، وَلَهُ شَرْطَانِ: (الأَوَّلُ) أَنْ يَلْبَسَ الخُفَّ عَلَى طَهَارَةٍ مَائِيَّةٍ كَامِلَةٍ قَوِيَّةٍ، فَلَوْ غَسَلَ إِحْدَى رِجْلَيهِ وَأَدْخَلَهَا الْخُفَّ لَمْ يَصِحَّ لُبْسُهُ حَتَّى يَغْسِلَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ يَبْتَدِئَ اللُّبْسَ، وَكَذَا لَو صَبَّ المَاءَ فِي الخُفِّ (ح) بَعْدَ لُبْسِهِ عَلَى الحَدَثِ، ¬
قال الرافعي: عن أبي بكرة أَنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رخَّصَ للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلة، إذا تطهر فلبس خُفَّيْهِ أن يمسح عليهما (¬1). وعن صفوان بن عَسَّال قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كنا مسافرين أو سفراً، ألا ننزع خِفَافَنَا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جَنَابَةٍ لكن من غَائِطٍ أو بَوْلٍ أو نَوْمٍ (¬2)، والأحاديث في باب المسح كثيرة، ومن شرط المسح على الخفِّ أن يلبسه، وهو متطهِّر، وعند أبي حنيفة لا يشترط تقديم الطَّهَارة على اللّبس، وإنما المعتبر أن يطرأ الحدث بعد اللبس على طهارة كاملة. لنا حديث أبي بكرة، وعن المغيرة بن شعبة قال: "سَكَبْتُ الوضوء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما انتهيت إلى رجليه أهويت إلى الخفين لأنزعهما، فقال: دع الخُفَّيْنِ، فَإنِّي أَدْخَلْتُهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ" (¬3)، علل جواز المسح بطهارتهما عند اللّبس، وإذا كانتا طاهرتين كانت سائر الأعضاء طاهرة؛ لأن التَّرتيب واجب، وغسل الرجل آخر الأركان، ويترتب على هذا الأصل، ما لو غسل إحدى الرجلين، وأدخلها الخُفَّ، ثم غسل الأخرى، وأدخلها الخف، لم يجز المسح عليهما، إذا أحدث؛ لأن أول اللبس تقدم على تمام الطَّهَارة، وإذا كانت الطّهارة شرطاً للبس، يجب تقدمها بكمالها على اللبس، كلما يشترط تقدمها على الصلاة، فلو نزع ما لبسه أولاً، وأعاد اللّبس، وهو على طهارته جاز المسح إذا أحدث لكمال الطهارة حين اللبس المعاد، والآخر ملبوس على كمال الطَّهارة، فقد تحقَّق الشَّرْط فيهما جميعاً. وعن ابن سريج أنه إذا نزع الأول، وجب نزع الثاني أيضاً، ويستأنف لبسهما ليجوز له المسح؛ لأن حكم كل واحد منهما مرتبط بالآخر، أَلاَ ترى أن نزع أحدهما بعد الحدث يوجب نزع الثاني، ولو لبس الخُفَّين قبل أن يغسل رجليه، ثم صبّ فيهما الماء حتى انغسلتا، لم يجز له المسح، وإن تم وضوءه بما فعل؛ لأنه لبسهما قبل كمال الطَّهارة فإن نزعهما ثم لبسهما فله المسح، إذا أحدث، وعند أبي حنيفة، والمزني له المسح في الصورتين، ولا حاجة إلى النَّزْع. ¬
واعلم أنَّ الاعتبار فيما ذكرنا بحالة استقرار القَدَمَيْنِ في مقرّهما من الخُف، حتى لو أدخل الرجلين في ساق الخف قبل أن يغسلهما، وغسلهما في الساق، ثم أدخلهما موضع القدم جاز له المسح؛ لأنه حين استقرتا في مقرّهما على كمال الطهارة، ولو ابتدأ اللّبس، وهو متطهر، ثم أحدث قبل أن وصلت الرجل إلى قدم الخف، لم يَجُزِ المسح، نص عليه في الأم، وذكر فيه أنه إذا مسح على الخُفَّيْنِ بشرطه، ثم أزال قدمه من مقرها، ولم يظهر من محل الفرض شيء، فلا يبطل المسح، وقياس الأول أن يبطل، لكن الفرق إن الأصل عدم المسح، فلا يباح إلا باللّبس التَّام، وإذا مسح فالأصل استمرار الجواز، ولا يبطل إلا بالنَّزع التام. ونقل القاضي أبو حامد، أنه يبطل المسح في الصورة الثانية، واختاره القاضي أبو الطيب الطبري، كما أنه في الابتداء لا يمسح، وفي الصورة الأولى إيضاحه، أنه يجوز المسح إذا ابتدأ اللبس على طهارة، ثم أحدث قبل أن تستقر الرجلان في موضعهما. وفرض القاضي حسين المسألة، فيما إذا أحدث وقد أدخل بعض قدمه في مقرها، والباقي في ساق الخف. وقال: اختلفوا في صورتي الابتداء والانتهاء، في أن حكم البعض هل هو حكم الكل أم لا. وقوله في الكتاب: "على طهارة تامة قوية" لفظ التامة معلم بالحاء والزاي، لما حكيناه، واحترز به عما إذا غسل إحدى رجليه، وأدخلها الخف، ثم الثانية، وأدخلها الخُفِّ، وعما إذا لبسهما ثم صب الماء في الخف حتى انغسلتا ويمكن أن يقال: لا حاجة إلى قيد التمام، لأن من لم يغسل رجليه، أو إحداهما ينتظم أن يقال: إنه ليس على الطَّهارة، وأما قيد "القوة" فالغرض منه الاحتراز عن طهارة المستحاضة، وما في معناها. قال الغزالي: وَالْمُسْتَحَاضَةُ إِذَا لَبِسَتْ عَلَى وُضُوئِهَا لَمْ تَمْسَحْ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لِضَعْفِ طَهَارَتِهَا، وَوُضُوءُ المَجْرُوحِ إِذَا تَيَمَّمِ لِأَجْلِ الجِرَاحَةِ كَوُضُوءِ المُسْتَحَاضَةِ ثُمَّ إِنْ جَوَّزْنَا فَلاَ تَسْتَفِيدُ بِطَهَارَةِ المَسْحِ إلاَّ مَا كانَ يَحِلُّ لَهَا لَوْ بَقِيَتْ طَهَارَتُهَا الأُوْلَى، وَهُوَ فَرِيضَةٌ وَاحِدَةٌ وَنَوَافِلُ. قال الرافعي: إذا توضَّأَتِ المُسْتَحَاضة، ولبست الخفين، ثم أحدثت حدثًا غير حدث الاستحاضة، فهل لها أن تمسح على الخف؟ فيه وجهان، نسبهما الشيخ أبو علي إلى تخريج ابن سريج: أحدهما: لا، لأن وضوءها ضعيف ناقص (¬1)، وإنما يجوز المسح بعد طهارة ¬
قوية؛ لأنه ضعيف، فلا يحتمل انضمام ضعف إلى ضعف. وأصحهما: الجواز، ويروى أن أبا بكر الفارسي حكاه عن نص الشافعي -رضي الله عنه- في عيون المسائل، ووجهه أنها تحتاج إلى اللبس والارتفاق (¬1) به كغيرها، وأيضاً فإنها تستفيد الصَّلاة بطهارتها، وتستفيد المسح أيضاً، وموضع الوجهين ما إذا لم يقطع دمها قبل أن تمسح، فأما إذا انقطع دمها قبل المَسْحِ، وشفيت نزعت، وأَتَتْ بطهارة كاملة بلا خلاف؛ لأن الطهارة التي ترتب المسح عليها قد زالت بالشّفاء الطارئ، فيمتنح ترتيب المسح عليها، وطرد بعضهم الوجهين هاهنا أيضاً، وجعل انقطاع دمها بمثابة الحدث الطارئ، والمشهور الأول، ثم إذا جوزنا المسح، نظر إن أحدثت قبل أن تصلّي فريضة بطهارتها، مسحت وصلت فريضة، ونوافل، وإن أحدثت بعد ما صلّت فريضة مسحت، ولم تصل به إلاّ النوافل، لأن ما تستفيد بطهارتها فريضة ونوافل، فلا تستفيد بالمسح المترتِّب عليها أكثر من ذلك، ولا يجوز لها استيفاء مدة المسح، بل إذا مسحت وصلت فريضة ونوافل، أو نوافل على اختلاف الحالتين، ثم أرادت قضاء فائته، أو دخل وقت فريضة أخرى، وجب نزع الخف، والوضوء الكامل لتلك الفريضة، وكذلك لو أحدثت حدثاً غير حدث الاستِحَاضة بعد أَنْ صلَّت فريضة ونوافل بالمسح. وحكى عن تعليق أبي حامد أن لها أن تستوفي مدة المسح، إما يوماً وليلة، وإما ثلاثة أيام ولياليهن، لكن عند كل صلاة فريضة تعيد الطَّهَارة، وتمسح على الخف. وقال إمام الحرمين في كلامه إلى هذا من جهة المعنى، وقطع بنفيه نقلاً، وفي معنى طهارة المستحاضة، طهارة سلس البول، وكل من به حدث دائم، وكذلك الوضوء المضموم إليه التَّيمم بسبب جراحة، أو انكسار، فيجري فيها الخلاف المذكور في المستحاضة بالاتفاق (¬2)، وإما محض التَّيمم، فهل يستفاد به جواز المسح؟ ننظر إن كان سببه إعْوَاز الماء [فلا، بل إذا وجد الماء] (¬3) لزمه النزع والوضوء الكامل. وعن ابن سريج أنه يجوز المسح لفريضة ونوافل، كما ذكرنا في المُسْتَحَاضَة؛ لأن التيمم يبيح الصَّلاة أيضاً فيبيح المسح. والصحيح: الأول بخلاف طهارة المُسْتَحَاضة؛ لأن التَّيمم طهارة تفيد وتبيح عند الضرورة، ولا ضرورة بعد وِجْدان الماء، فلا سبيل إلى ترتيب المسح عليه، وطهارة المستحاضة لا تتأثر بوجدان الماء، كطهارة غيرها، وإن كان سبب التّيمم شيئاً آخر سوى إعواز الماء، فهو كطهارة المُسْتَحَاضة في جواز ترتيب المسح عليه، فإنه لا يتأثَّر بوجدان ¬
الماء، لكنه ضعيف لا يرفع الحدث كطهارتها، ولا يخفى بعد هذا الشَّرْحِ معنى قوله: "إن جوزنا فلا تستفيد بالمسح إلا ما كان يحل لها" إلى آخره، لكن ظاهر لفظه لا يتناول إلا ما إذا أحدثت قبل أن تُصلِّي الفريضة بطهارتها، فإنها حينئذ تَحِلُّ لها فريضة ونوافل، لو بقيت طهارتها الأولى، أما إذا أحدثت بعد أن تصلي الفريضة، فلا يحل لها، لو بقيت تلك الطهارة إلا النّوافل، والوافي بحكم الحَالَتَيْنِ على النظم الذي ذكره أن يقال في آخره، وهو فريضة واحدة، ونوافل أو نوافل. قال الغزالي: (الشَّرْطُ الثَّانِي) أَنْ يَكُونَ المَلْبُوسُ سَاِترًا قَوِيًّا حَلاَلاً فَإِنْ تَخَرَّقَ أَوْ كَانَ دُونَ الكَعْبَيْنِ لَمْ يَكُنْ سَاتِرًا وَالمَشْقُوقُ القَدَمِ الَّذِي يُشَدُّ مَحَلُّ الشَّقِّ مِنْهُ بِشَرَجٍ فِيهِ خِلاَفٌ، وَالقَوِيُّ مَا يَتَرَدَّدُ عَلَيْهِ فِي المَنَازِل، لاَ كَالجَوْرَبِ وَاللِّفَافِ وَجَوْرَبِ الصُّوفِيَّةِ، وَالمَغضُوبُ (و) لاَ يَجُوزُ الَمَسْحُ عَلَيْهِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لِأَنَّ المَسْحَ لِحَاجَةِ الاسْتِدَامَةِ وَهُوَ مَأمُورٌ بِالنَّزْعِ. قال الرافعي: اعتبر في الملبوس ثلاثة أمور: أحدها: أن يكون ساترًا لمحل فَرْضِ الغسل من الرِّجْلَيْنِ، فلو كان دون الكعبين لم يَجُزِ المسح عليه؛ لأن فرض الظاهر الغسل، وفرض المستور المسح، ولا صائر إلى الجمع بينهما، فيغلب حكم الغسل، فإنه الأصل، ولهذا لو لبس أحد الخُفَّيْنِ لم يَجُزِ المسح له، ولو كان الخُفُّ مُتَخَرِّقًا. ففيه قولان: القديمِ وبه قال مالك: إنه يجوز المسح عليه ما لم يتفاحش الخرق، لأنه مما يغلب في الأسْفَارِ، حيث يتعذَّر الإصلاح، والخرز فالقول بامتناع المسح يضيق باب الرخصة، فوجب أن يسامح، وعلى هذا فما حد الفاحش منه. قال الأكثرون: ما دام يتماسك في الرجل، ويتأتى المشي عليه، فهو ليس بفاحش، وقال في "الإفصاح": حده ألا يبطل اسم الخُفِّ، والقول الجديد: أنه لا يجوز المسح عليه قليلاً كان التَخَرُّق، أو كثيراً، لأن بعض محل الفرض غير مستور، ومواضع الخرز التي تَنْسَدُّ بالخيوط أو ينضم لا عبرة بها، فإن لم تكن كذلك، وظهر منها شيء لم يَجُزِ المسح أيضاً، ولو تخرقت الظّهارة (¬1) وحدها، أو البِطَانَة وحدها جاز المسح؛ إن كان ما بقي صَفِيقاً، وإلا فلا يجوز في أظهر الوجهين، وعلى هذا يقاس ما إذا تخرَّقَ من الظّهارة موضع، ومن البطانة موضع لا يحاذيه، والخف المشقوق القدم إذا شد منه محل الشق بالشَّرج إن كان يظهر منه شيء، مع الشد فلا يجوز المسح عليه، وإن لم يظهر منه شيء فَوَجْهَان: ¬
أحدهما: لا يجوز أيضاً، كما لو لف قطعة أدم على القدم وشَدَّها، لا يجوز المسح عليها. وأظهرهما: ونقله الشيخ أبو محمد عن نصّه، أنه يجوز لحصول الستر به، وارتفاق المشي فيه، فلو فتح الشرج بطل المسح، وإن لم يظهر شيء؛ لأنه إذا مشى فيه ظهر. وليكن قوله في الكتاب: "فلو تخرّق" معلماً بالواو والميم، لما ذكرنا، وبالحاء أيضاً؛ لأن عند أبي حنيفة إن كان الخرق بحيث يبين منه قدر ثلاث أصابع من أصابع الرجل، لم يَجُزِ المسح عليه، وإن كان أقل جاز. الثاني: أن يكون قوياً، والمراد منه كونه بحيث يمكن متابعة المشي عليه، لا فرسخاً ولا مرحلة؛ بل قدر ما يحتاج المسافر إليه من التردّد في حَوَائِجِهِ، عند الحطّ والتّرحال، فلا يجوز المسح على اللَّفائف، والجَوَارب المُتَّخذة من الصُّوف، واللّبد (¬1)؛ لأنه لا يمكن المشي عليها، ويسهل نزعها، ولبسها بلا حاجة إلى إدامتها في الرّجل؛ ولأنها لا تمنع نفوذ الماء إلى الرجل، ولا بُدَّ من شيء مانع على الأصح، كما سيأتي، وكذلك الجوارب المُتَّخذة من الجلد التي تلبس مع الكعب، وهي جورب الصُّوفية، لا يجوز المسح عليها، حتى تكون بحيث يمكن متابعة المشي عليها، وتمنع نفوذ الماء، إن اعتبرنا ذلك، إما لصفاقتها، أو لتجليد القدمين، والنعل على الأسفل أو الإلصاق بالكعب، وحكى بعضهم أنها وإن كانت صفيقة ففي اشتراط تجليد القدمين قولان: وعند أبي حنيفة لا يجوز المسح على الجوربين، وإن كانا صفيقين حتى يكونا مجلدين أو منعلين وخالفه صاحباه فهذا إذا تَعَذَّر المَشْيُ فيه لضعف الملبوس في نفسه. ولو تعذر المشي فيه لِسِعَتِهِ المُفرطة أو لثقله أو لِضِيْقِه ففي جواز المسح عليه وجهان: أحدهما: يجوز لأنه في نفسه صالح للمشي عليه ألا ترى أنه لو لبسه غيره لارتفق به. وأصحهما: لا يجوز، لأنه لا حاجة له في إِدَامَةِ مثل هذا الخف في الرِّجل ولا فائدة له فيه، ولو تعذَّر المشي فيه لثقله أو غلظه كما إذا اتخذ خفاً من خَشَبٍ أو حديد وهو بحيث لا يمكن المشي عليه، فلا يجوز المسح عليه، كما لو تعذَّر المشي فيه لضعفه وكذلك لو كان المتخذ من الخشب محدد الرأس لا يثبت مستقراً على الأرض ولو كان المتخذ من الخشب والحديد لطيفاً يتأتى المشي فيه جاز المسح عليه. ¬
هذا قضية ما ذكره الجمهور تصريحاً وتلويحاً. وذكر إمام الحرمين وصاحب الكتاب في "الوسيط": أنه يجوز المسح على الخف من الحديد وإن عسر المشي فيه، فإن ذلك ليس لضعف الملبوس وإنما هو لضعف اللابس ولا نظر إلى أحوال اللابسين فإنه لا ينضبط. الثالث: أن يكون حلالاً فالخف المغصوب والمسروق في جواز المسح عليه وجهان: قال صاحب "التلخيص": لا يجوز، لأن المسح عليه لحاجة الاستدامة وهو مأمور بالنزع والرَّفْض ولأن لبسه معصية والمسح رخصة والرُّخْصُ لا تُنَاطُ بالمعاصي. وقال أبو علي الطبري: والأكثرون يجوز كالوضوء بالماء المغصوب والصلاة في الثوب المغصوب. ولو اتخذ من الذَّهَبِ أو الفِضَّةِ خفًّا فجواز المسح عليه على أحد (¬1) الوجهين، وإيراد صاحب "التهذيب" يشعر بالمنع جزماً والأول أقرب ولعلك تقول أول كلام صاحب الكتاب يقتضي اشتراط الحل جزماً حيث. قال: الشرط الثاني أن يكون الملبوس ساتراً قوياً حلالاً وبالآخرة (¬2) ذكر وجهين في المسح على الخُفّ المغصوب ثم الأظهر منهما في المذهب جواز المسح عليه فينحذف القيد الثالث عن درجة الاعتبار ولا يلائم آخر الكلام أوله، فاعلم أن الضَّوابط في المَذْهَب تذكر كالتَّرَاجم لما قيل باعتباره وفاقاً أو خلاقاً، والاعتماد على ما يذكر من التفصيل آخرًا وكثيرًا ما ينحذف بعض القيود على الأظهر إلا أنه يذكر لمعرفة الخلاف، لكن هاهنا صورة أخرى تقتضي التَّعرض لهذا القيد واعتباره، وإن جوَّزنا المسح على الخف المغصوب والمسروق وهي ما إذا اتَّخذ خُفًّا من جلد الكَلْبِ أو جلد الميتة قبل الدِّبَاغ فهذا الجلد لنجاسة عينه لا يحل استعماله في البدن باللبس وغيره على أصح القولين، وقد نص في الأمِّ على أنه لا يجوز المسح عليه، لأنه لا يمكن الصَّلاَة فيه، وفائدة المسح وإن لم تنحصر في الصَّلاَة إلا أن المقصود الأصلي الصَّلاة وما عداها فالتَّابع لها وأيضاً فإن الخُفَّ بدل عن الرجل ولو كانت الرجل نجسة لم تغسل عن الوضوء ما لم تطهر عن النجاسة فكيف يمسح على البدل وهو نجس العين ولا يعود الخلاف في هذه الصورة. واعلم أنه يعتبر في الملبوس وراء الصفات الثلاث المذكورة في الكتاب صفات أخر: إحداها: أَنْ لا يتعذَّر المشي عليه بسبب السّعة المفرطة أو الضّيق المفرط أو بسبب الثقل أو الاحتداد كما سبق. ¬
والثانية: ذكر الشَّيخ أبو محمد أنه ينبغي أن يقع عليه اسم الخف حتى لو لف على قدمه قطعة أدم وشده بالرباط لم يجز المسح عليه؛ لأن اللَّف لا يقوى، ولا يتأتَّى التردُّد ومتابعة المشي عليه فإن فُرِضَ ربط قوى فمثل ذلك يعسر إزالته وإعادته على هيئته مع استيفاز المسافر فلا يحصل الارْتِفَاق المقصود بالمسح، فيتبع مورد النّص وهو الخُفّ. الثالثة: أن يمنع نَشَفُ الماء ووصوله إلى الرّجل فلو لم يمنع الخف المَنْسُوخ والذي لا صَفَاقَة له فهل يجوز المسح عليه؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا، لأن الغالب من الخِفاف أن تمنع النّفوذ فينصرف إليها نصوص المسح ويبقى الغسل واجباً فيما عداها. والثاني: يجوز كما لو تخرَّقت ظهارة الخف وبطانته من موضعين غير متوازيين يجوز المسح عليه مع نفوذ الماء واختار إمام الحرمين هذا الوجه وتابعه صاحب الكتاب في "الوسيط" ولذلك حذف هذا الشرط من أصله هاهنا لكن ظاهر المذهب الأول (¬1). قال الغزالي: فَرْعٌ الْجُرْمُوقُ الضَّعِيفُ فَوْقَ الخُفِّ لاَ يُمْسَحُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا لَمْ يَجُزِ (م ح) المَسْحُ عَلَيْهِ أَيْضاً فِي الْجَدِيد بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُدخِلَ اليَدَ بَيْنَهُمَا فَيَمْسَحَ عَلَى الأسْفَلِ. قال الرافعي: الجُرْمُوق هو الذي يلبس فوق الخف وإنما يلبس غالباً لشدّة البرد فإذا لبس جرموقين فوق الخُفَّين أو خفين فوق الخفين (¬2) فلا يخلو من أربع أحوال: إحداها: أن يكون الأسفل بحيث لا يمسح عليه [لضعف أو تخرق والأعلى بحيث يمرح عليه] (¬3) فالمسح على الأعلى والأسفل والحالة هذه كالجَوْرَبِ واللّفافة. والثانية: أن يكون الأمر بالعكس من ذلك فيمسح على الأسفل القوي وما فوقه كخرقة تُلَفُّ على الخف فلو مسح على الأعلى فوصل البلل إلى الأسفل فإن قصد المسح على الأسفل جاز وكذا لو قصد المسح عليهما جاز، وبلغوا قصد المسح على الأعلى. وفيه وجه أنه إذا قصدهما لم يعتد بالمسح، وإن قصد المسح على الأعلى الضَّعيف لم يجزه، وإن لم يقصد شيئاً بل كان على نِيَّته الأولى وقصد المسح في الجملة ففيه وجهان: أظهرهما: الجواز؛ لأنه قصد إسقاط فرض الرجل بالمسح، وقد وصل الماء إليه فكفى. ¬
الحالة الثالثة: ألا يكون واحد منهما بحيث يمسح عليه فلا يخفى تعذر المسح. الرابعة: أن يكون كل واحد منهما بحيث يمسح عليه، فهل يجوز المسح على الأعلى؟ فيه قولان: قال: في "القديم" و"الإملاء" يجوز وبه قال أبو حنيفة وأحمد والمزني؛ لأن المسح على الخُفِّ جوز رفقاً وتخفيفاً، وهذا المعنى موجود في الجرموق فإن الحاجة تدعو إلى لبسه وتلحق المشقة في نزعه عند كل وضوء. وقال في الجديد: لا يجوز (¬1) وهو أشهر الروايتين عن مالك؛ لأن الأصل غسل الرّجلين والمسح رخصة وردت في الخُفِّ والحاجة إلى لبسه أهم وأعم فلا يلحق به الجرموق، فإن فرعنا على القديم وجوزنا المسح على الجرموق فكيف السبيل في ذلك: ذكر ابن سريج فيه ثلاثة معان: أظهرها: أن الجُرْمُوق بدل عن الخف والخف بدل عن الرجل؛ لأنه يستر الخف ستر الخف للرجل ويشق نزعه كما يشق نزع الخف فأقيم مقامه. وثانيها: أن الأسفل كاللفافة والخف هو الأعلى. لأنا إذا جوزنا المسح عليه فقد جعلناه أصلاً في رخصة المسح. وثالثها: أن الأعلى والأسفل معاً بمثابة خف واحد فالأعلى كالظّهارة والأسفل كالبطانة ويتفرع على هذه المعاني مسائل. منها: لو لبسهما جميعاً وهو على كمال الطَّهارة، له أن يمسح على الأعلى على هذا القول، وهل له أن يمسح على الأسفل (¬2) بأن يخل اليد بينهما؟ فيه وجهان: إن قلنا: الأعلى بدل الأسفل، يجوز، كما لو غسل الرجل في الخف، وإن قلنا: الأسفل كاللفافة، أو هما كطاقتي خف واحد، فلا. ومنها: لو لبس الأسفل على كمال الطّهارة، ولبس الأغلى على الحدث، ففي جواز المسح على الأعلى وجهان: إن قلنا: بالمعنى الأول، أو الثاني، فلا، يجوز؛ لأنه مقصود بالمسح، وقد لبسه محدثاً، فلا يمسح عليه كالخف الواحد. وإن قلنا: بالمعنى الثَّالث، فيجوز، كما لو لبس الخف على الطهارة، ثم أحدث وألصق به طاقة أخرى. وفي المسألة طريقة أخرى: أنه لا يجوز المسح عليه جزماً، ولو لبس الأسفل كذلك وأحدث ومسح عليه، ثم لبس الجُرْمُوق، فهل يمسح عليه؟ منهم من بناه على ¬
المعاني. إن قلنا: الجرموق بدل الخف، أو قلنا: إنه كالظهارة، فيجوز. وإن قلنا: إنه الخف، والأسفل كاللفافة فلا. وقيل: يبنى الجواز على هذا المعنى الثالث، على أن المسح على الخُفِّ هل يَرفع الحدث أم لا؟. إن قلنا: يرفع، فيجوز، وإلا فلا؛ لأنه لم يلبس على طهارة قوية. ومنهم من بني المسألة على هذا الأصل، وقطع النظر عن المعاني الثلاثة، وإذا جوزنا المسح في هذه المسألة على الأعلى، فقد ذكر الشيخ أبو علي: أن ابتداء المدة يكون من حين أحدث أول ما لبس، لا من وقت الحدث بعد لبس الجُرْموقين، لأن كله كاللبس الواحد، يبنى البعض على البعض، وفي جواز المسح على الأسفل الخلاف الذي سبق. ومنها: لو لبس الأسفل على الحدث، وغسله فيه، ثم لبس الأعلى وهو على طهارة كاملة، فلا يجوز المسح على الأسفل لا محالة، وهل يجوز على الأعلى؟ يبنى على المعاني. إن قلنا: الأعلى بدل البدل، فلا يجوز؛ لأن الأسفل ليس ممسوحاً عليه، إذا كان ملبوساً على الحدث فلا يصلح للبدلية، وإن قلنا: إنهما كالظهارة والبطانة فكذلك لا يجوز، كما إذا لبس الخف [على الحدث] (1) ثم ألصق به طاقة أخرى، وهو متطهِّر، وإن قلنا: الأسفل كاللّفافة، فله المسح على الأعلى. ومنها: لو تخرق الأعلى من الرجلين جميعاً، أو نزعهما بعد ما مسح عليه، وبقي الأسفل بحاله. فإن قلنا: الأعلى بدل البدل، لم يجب نزع الأسفل؛ لأنَّ حكم الأصل لا يبطل بسقوط البدل؛ لكن لا بد من المَسْحِ على الخفين، كما إذا نزع الخف لا بد من غسل الرجلين، وهل يكفيه ذلك؟ أم يفتقر إلى اسْتِئنَاف الوضوء؟ فيه قولان، كما سنذكره في نزع الخف. وإن قلنا: إنهما كالظّهارة والبطانة، فلا شيء عليه. وإن قلنا: الأسفل كاللفافة فينزع الأسفل أيضاً، ويغسل الرّجلين، وفي لزوم الاسْتِئْنَاف قولان، فيحصل من مجموع الاخْتِلاَفات في المسألة خمسة أقوال، لا يلزمه شيء، يلزم المسح على الأسفل، لا غير، يلزم المسح مع استئناف الوضوء [يلزم نزع الخفين وغسل الرجلين، يلزم ذلك مع استئناف الوضوء] (2). ومنها: لو تخرق الأعلى من إحدى الرّجْلين، أو نزعه، فإن قلنا: الأعلى بدل البدل، فهل يلزمه نزعه من الرجل الأخرى؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم، كما لو نزع أحد الخُفَّيْن يلزمه نزع الثاني، ثم إذا نزع عاد القولان في أنه يكفيه المسح على الأسفلين، أم يحتاج (3) إلى إعادة الوضوء؟
والثاني: لا يلزم نزع الآخر؛ لأن كل واحدة من الرِّجلين دونها حائل، والفرض فيهما المسح، بخلاف ما إذا نزع أحد الخُفَّين، فإن فرض الرجل المكشوفة حينئذ الغسل، وعلى هذا فيما يلزمه قولان: أحدهما: المسح على الخف الذي خلع الأعلى من فوقه. والثاني: استئناف الوضوء، والمسح على ذلك الخف، وعلى الأعلى من الرجل الأخرى. وإن قلنا: الأعلى والأسفل كطاقتي خف واحد، لم يلزمه شيء. وإن قلنا: بالمعنى الثّالث نزع الأسفل من الرجل التي نزع منها الأعلى، أو تخرق، ونزعهما من الثانية، ويغسل الرّجلين، وفي لزوم الاستئناف قولان: ومنها: لو تخرَّق الأسفل من الرجلين جميعاً لم يضر على المعاني كلها، وإن تخرق من إحداهما، فإن قلنا: الأعلى بدل البدل نزع واحدة من الرْجل الأخرى أيضاً؟ كيلا يكون جامعاً بين البدل والمبدل، كذلك ذكره في التَّهْذِيب وغيره، ولك أن تقول هذا المعنى موجود فيما إذا تخرَّق الأعلى من إحدى الرجلين. وقد حكوا وجهين في لزوم النزع من الرجل الأخرى، فليحكم بِطَرْدِهِمَا هاهنا ثم إذا نزع (¬1) فما يلزمه؟ قولان: أحدهما: الأعلى من فوقه. والثاني: استئناف الوضوء والمسح عليه وعلى الأعلى الذي تخرق الأسفل تحته، وإن قلنا بالمعنى الثاني، أو الثالث فلا شيء عليه. ومنها: لو تخرَّق الأعلى والأسفل من الرجلين جميعاً أو من إحداهما لزم نزع الكل على المعاني كلها. نعم. إن قلناهما كَطَاقتي خُفٍّ واحد وكان الخرق في موضعين غير متجازيين لم يضر على ما تقدم. ومنها: لو تخرق الأعلى من رجل والأسفل من الثانية فإن قلنا: إنه بدل البدل نزع الأعلى المتخرق وأعاد المسح على ما تحته وهل يكفي ذلك أم يحتاج إلى اسْتِئْنَاف الوضوء ماسحاً عليه وعلى الأعلى من الرجل الأخرى. فيه قولان، وإن قلنا: هما كطاقتي خف واحد لم يضر. وإن قلنا: الأسفل كاللّفافة وجب نزع الكل كما لو تخرق أحد الخفين ثم إذا نزع غسل الرّجلين، وفي استئناف الوضوء قولان: هذا كله تفريع على القديم، وإن فرعنا على الجديد ومنعنا المسح على الجُرْمُوق والخُفّ الأعلى، فان نزع الأعلى ومسح على الأسفل فذاك، وإن أدخل اليد بينهما ومسح على الأسفل فهل يجوز؟ فيه وجهان: أصحهما: وهو المذكور في الكتاب نعم، كما لو غسل رجليه وهما في الخف يجوز. ¬
والثاني: لا يجوز؛ لأن المسح ضعيف فلا يجوز إذا كان هناك حائل؛ لانضمام ضعف إلى ضعف، وعلى هذا القول لو تَخَرَّق الخفان تحت الجرموقين نظر، إن كان عند التخرُّق على طهارة لبس الأسفل مسح على الأعلى؛ لأنه صار أصلاً بخروج ما تحته عن أن يمسح عليه، وإن كان محدثاً في تلك الحالة لم يمسح على الأعلى كما لو ابتدأ اللبس على الحدث؛ وإن كان على طَهَارة المسح، وذلك إذا جوزنا إدخال اليد بينهما، والمسح على الأسفل منهما ففي جواز المسح على الأعلى وجهان، كما ذكرنا في التفريع على القديم -والله أعلم-. ولو لبس الجُرْمُوق في إحدى الرِّجْلين، واقتصر في الأخرى على الخف وأراد المسح على جرموق وخف، فلا شك أنه يمتنع ذلك على الجديد، وعلى القديم يبنى على المعاني الثّلاثة إن قلنا: الجرموق بدل البَدَل لم يجز ذلك؛ لأن إثبات البدل في إحدى الرجلين يمتنع كما يمتنع المسح في إحدى الرجلين والغسل في الأخرى، وقد ذكرنا أنه لو مسح على الجُرْموقين ثم نزع أحدهما لا يلزمه شيء على رأى، ويستدام حكم المسح على جُرْمُوقٍ وخف، والفرق على هذا أن الأمر في الاستدامة أقوى ألا يرى أن اعتراض العدّة والرّدّ في دوام النَكِّاح لا تبطله، بخلاف ما في الابتداء. وإن قلنا: هما كطاقتي خف يجوز له المسح على الجرموق والخف الآخر، كما لو لبس خُفَّينِ لأحدهما طاقة واحدة وللآخر طَاقَتان. فإن قلنا: الأسفل كاللّفافة فوجهان: أحدهما: لا يجوز كما لو لبس خفًّا ولف على الرجل الثَّانية لفافة. وأصحهما: الجواز، لأنه إنما ينزل منزلة اللّفافة إذا كان مستوراً، فأما إذا كان بادياً فهو مستقل بنفسه بدل عن الرجل بخلاف ما لو نزع أحد الجرموقين يجب نزع الكل على ذلك التقدير؛ لأنه يلبس الجرموق، والمسح عليه صار الأسفل لفافة -والله أعلم-. قال الغزالي: النَّظَرُ الثَّانِي فِي كَيْفِيَّةِ المَسْحِ وَأَقَلُّهُ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الاسْمُ مِمَّا يُوَازِي مَحَلَّ الفَرْضِ، فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الأَسْفَلِ فَظَاهِرُ النَّصِّ مَنْعُهُ، وَأَمَّا الأكْمَلُ فَأَنْ يَمْسَحَ عَلَى أَعْلَى الخُفِّ وَأَسْفَلِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَسْفَلِهِ نَجَاسَةٌ، وَأَمَّا الغُسْلُ وَالتَّكرَارُ فَمَكْرُوهَانِ، وَاسْتِيعَابُ الجَمِيعِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ. قال الرافعي: الكلام في كيفية المسح يتعلّق بالأقل والأكمل، فأما الأقل فيكفي في قدره ما ينطلق عليه اسم المسح خلافاً لأبي حنيفة، حيث قدر الأقل بثلاثة أصابع من أصابع اليد. ولأحمد حيث أوجب مسح أكثر الخف. لنا أن النصوص متعرضة لمطلق المسح، وإذا أتى بما وقع عليه اسم المسح فقد
مسح، وهذا كما ذكرنا في مسح الرأس، ثم لا بد وأن يكون محل المسح ما يوازي محل الفرض من الرّجل، إذ المسح بدل عن الغسل، وهل جميع ذلك محل المسح؟ أم لا؟ لا كلام في أن ما يحازي غير الأَخْمُصَيْن وَالعَقِبَيْن محل له، وأما ما يحازي الأخمصين وهو أسفل الخف ففي جواز الاقْتِصَار على مسحه ثلاثة طرق: أظهرها: أن فيه قولين: أظهرهما: أنه لا يجوز؛ لأن الرخص يجب فيها الاتباع، ولم يؤثر الاقتصار على الأسفل. قال أصحاب هذه الطريقة: وهذا هو المراد فيما رواه المزني في "المختصر"؛ أنه إن مسح باطن الخف وترك الظاهر، وأعاد. والثاني: وهو مخرج أنه يجوز؛ لأنه محاذ لمحل الفرض كالأعلى، وعبر بعضهم عن هذا الخلاف بالوجهين: والطريق الثاني: القَطْعُ بالجواز، ثم من الصَّائرين إليه من غلط المزني، وزعم أن ما رواه لا يعرف الشافعي في شيء من كتبه. ومنهم من قال: أراد بالباطن الداخل، لا الأسفل. والطريق الثالث: القطع بالمنع، وأما عقب الخف ففيه وجهان أنه ثم منهم من رتب العَقِبَ على الأسفل، وقال: العقب أولى بالجواز لأنه ظاهر يرى والأسفل لا يرى في أغلب الأحوال فأشبه الدّاخل. ومنهم من قال العقب أولى بالمنع إذ لم يرد له ذكر أصلاً ومسح الأسفل مع الأعلى منقول: وإن لم ينقل الاقتصار عليه. وتنبه بعد هذا الأمور على ألفاظ الكتاب: أحدها: قوله: "فإن اقتصر على الأسفل" بعد قوله: "مما يوازي محل الفرض" كالمنقطع عنه، ولو قال، لكن لو اقتصر أو نعم لو اقتصر، وما أشبه ذلك كان أولى ليشعر باستثنائه مما يوازي محل الفرض. الثاني: قوله: "فظاهر النص منعه" جواب على طريقة القولين؛ لأن هذا الكلام إنما يطلق غالباً حيث يكون، ثم قول آخر، مخرج الثالث، ظاهر كلامه يقتضي تَجْوِيز المسح على عقب الخف؛ لأنه قال: أقله ما ينطلق عليه الاسم مما يوازي محل الفرض، ولم يخرج عنه إلا أسفل الخف وموضع العقب مما يوازي محل الفرض وليس هو من أسفل الخف لكن الأظهر عند الأكثرين أنه لا يجوز الاقتصار عليه، كالأسفل، وأما الأكمل فهو أن يمسح أعلى الخف وأسفله، خلافاً لأبي حنيفة، وأحمد حيث قالا: لا يمسح الأسفل. لنا ما روي عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-
مَسَح أَعْلَى الخُفِّ وَأَسْفَلَهُ" (¬1). والأولى أن يضع كفه اليسرى تحت العقب، واليمنى على ظهور الأصابع، ويمر اليسرى إلى أطراف الأصابع من أسفل، واليمنى إلى الساق، تروى هذه الكيفية ابن عمر -رضي الله عنهما- (¬2). وقوله: "إلا أن يكون على أسفله نجاسة" استثناء لم يذكره في "الوسيط"، ولا تعرض له الأكثرون، وفيه إشعار بالعفو عن النجاسة التي تكون على الخف، ولا شك أنه إن كان عند المسح على أسفل خفه نجاسة فلا يمسح عليه؛ لأن المسح يزيد فيها، وأما إشعاره بالعفو والقول في أنه كيف يصلي فيه، أيتعين إزالة النجاسة عنه بالماء كما في سائر المواضع؟ أم يكفي دلكه بالأرض فسيأتي في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى، وهل يستحب مسح عقب الخف؟ فيه قولان: وقيل وجهان: أصحهما: نعم، كسائر أجزاء الخف من الأعلى والأسفل. والثاني: لا؛ لأن السنة ما جاءت به؛ ولأنه موضع ثقيل، وبه قوام الخُفِّ، فإدامة المسح عليه تفسده، ومنهم من قطع بالاستحباب، ونفى الخلاف فيه، ثم مسح الأعلى والأسفل وإن كان محبوباً، لكن استيعاب الكل ليس بسنة مَسَحَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى خُفِّهِ خُطُوطاً مِنَ الْمَاءِ" (¬3). ¬
وحكى عن تعليق القاضي: أنه يستحب الاستيعاب كما في مسح الرأس، وأما قوله: "الغسل وَالتَّكرار مكروهان" فإنما يكره الغسل؛ لأنه تعييب للخُفِّ بلا فائدة، وكذلك التَّكرار يوجب ضعف الخف وفساده وهذا المسح رخصة مبنية على التَّخْفيف. ولك أن تعلم قوله: "فمكروهان" بالواو، وأما في الغُسْلَ، فلأن القول بالكراهة مبني على أن الغسل جائز قائم مقام المسح في صحة الوضوء، وفيه وجه: أن الغسل لا يجزئ كما ذكرنا في مسح الرَّأس إلا أنه مكروه، وأما في التَّكْرار فلأن القاضي أبا القاسم بن كج حكى وجهاً أنه يستحب فيه التَّكرار ثلاثاً، كما في مسح الرَّأْس (¬1). قال الغزالي: النَّظَرُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِهِ وَهوَ إِبَاحَةُ الصَّلاَة إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ أَوْ نَزْعِ الخُفِّ، وَمُدّتُهُ لِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ (م و) وَلِلْمُسَافِرِ ثَلاَثةُ أَيَّامٍ مِنْ وَقْتِ الحَدَثِ فَلَوْ لَبِسَ المُقِيمُ ثُمَّ سَافَرَ قَبْلَ الحَدَثِ أَتَمَّ مُدَّةَ المُسَافِرِينَ، وَكَذَا لَوْ أَحْدَثَ فِي الحَضَرِ، فَإِنْ مَسَحَ فِي الحَضَرِ (ح ز) ثُمَّ سافَرَ أَتَمَّ مَسْحَ المُقِيمِينَ (ح) تَغْلِيباً لِلإِقَامَةِ، وَلَوْ مَسَحَ فِي السَّفَرِ ثُمَّ أَقَامَ لَمْ يَزِدْ (ز) عَلَى مُدَّةِ المُقِيمِينَ وَلَوْ شَكَّ فَلَمْ يَدْرِ أَنُقِضَت المُدَّة أَوْ مَسَحَ فِي الحَضَرِ، فَالأَصْلُ وُجُوبُ الغَسْلِ وَلاَ يُتْرَكُ مَعَ الشَّكِّ. قال الرافعي: يباح بالوضوء الذي مسح فيه على الخُفَّين الصلاة وسائر ما يفتقر إلى الطَّهارة ومد صاحب الكتاب ذلك إلى إحدى غايتين إما قضاء مدة المسح وإما نزع الخف وفي معناه تفرقه فأما الغاية الأولى وهي مضي المدة فتعرف بمعرفة مدته، وهل يتقدر المسح بمدة أم لا؟ فيه قولان قال: في القديم: لا. وبه قال مالك لما روى عن خزيمة قال: "رَخَّصَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لِلْمُسَافِرِ أن ¬
يمسح ثَلاَثَةَ أيام وَلَيَالِيهِنَّ لَوِ اسْتَزَدْنَاهُ (¬1) لَزَادَنَا" (¬2) وعن أبي بن عمارة وكان ممن صلَّى إلى القبلتين قال: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَمْسَحُ عَلَى الْخُفِّ؟ قَالَ: نَعَمْ قُلْتُ: يَوْماً، قَالَ: وَيَوْمَيْنِ، قُلْتُ: وَثَلاثَةَ أَيَّامٍ، قَالَ: نَعَمْ وَمَا شِئْتَ" (¬3). وقال في الجديد: وهو المذكور في الكتاب يتقدر في حقِّ المقيم بيوم وليلة وفي حق المسافر بثلاثة أيام ولياليهن، لحديث صفوان بن عَسّال كما سبق، وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن النّبي -صلى الله عليه وسلم-: "جَعَلَ الْمَسْحَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْماً وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ" (¬4). ويتفرع على الجديد مسائل: إحداهما: يعتبر ابتداء المدة في حق المسافر والمقيم جميعاً من وقت الحدث بعد اللّبث خلافاً لأحمد حيث قال: في ما رواه أصحابنا: يعتبر من وقت المسح والذي رأيته لأصحابه أنه يعتبر من وقت الحدث كما ذكرنا ونسبوا الاعتبار من وقت المسح إلى داود. لنا أن وقت جواز المسح يدخل بالحدث ولا معنى لوقت العبادة سوى الزمان الذي يجوز فعلها فيه كوقت الصَّلاة وغيره وغاية ما يمكن فعله بالمسح من الصَّلوات المؤدَّاة على التَّوالي ست عشرة إذا لم يجمع وإن جمع فيتصور أن يؤدي به سبع عشرة صلاة وذلك في حالة عدم الجمع مثل أن يحدث بعد طلوع الفجر بقدر ما يسع صلاة الفجر وقد بقي إلى طلوع الشمس ما يسعها أيضاً فيتوضأ ويمسح على خُفَّيه ويصلّي الفجر، ويصلّي باقي صلوات اليوم والليلة بالمسح، وكذلك صلوات اليوم الثاني والثالث ويصلّي الفجر في اليوم الرابع قبل الانتهاء إلى وقت الحدث في اليوم الأول ¬
فتلك ست عشرة وفي حالة الجمع مثل أن يحدث بعد الزَّوال بقدر ما يسع صلاة الظهر والعصر، وقد بقي من وقت الظهر ما يسعهما، أيضاً فصلاّهما بالمسح وكذا ما بعدهما من الصلوات إلى أن يدخل وقت الزوَال في اليوم الرابع فيصلي بالجمع الظهر والعصر قبل الانتهاء إلى وقت الحدث في اليوم الأول فيكون قد صَلَّى أربع صلوات من صلوات اليوم الأول وعشراً من صلوات اليوم الثَّاني والثَّالث ثلاث صلوات من صلوات اليوم الرابع فجملتها سبع عشرة، وغاية ما يصلّي المقيم بالمسح من صلوات الوقت ست صلوات إن لم يجمع وسبع إن جمع، بعذر مطر ولا يخفى تصويره مما ذكرنا في المسافر. الثانية: إنما يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن بشرطين: أحدهما: أن يكون سَفَرُهُ طويلاً، أما السفر القصير فهو كالإقامة. والثاني: ألا يكون سفر معصية فإن كان سفر معية لم يمسح ثلاثة أيام ولياليهن كما لا يترخَّص بالقصر والإفطار، وهل يمسح يوماً وليلة؟ فيه وجهان مذكوران في باب صلاة المسافرين في الكتاب وسنشرحهما ثم ويجريان في أن العاصي بالإقامة كالعَبْدِ المأمور بالسفر إذا أقام عل يمسح يوماً وليلة أم لا. الثالثة: لو لبس الخف في الحضر ثم سافر وأحدث في السَّفَرِ فله أن يمسح مسح المسافرين وكذلك لو أحدث في الحضر ثم سافر وابتدأ المسح في السفر خلافاً للمزني حيث قال في هذه الصورة: يمسح مسح المقيمين، لأن ابتداء المدة وقع في الحضر. لنا أن أول المسح أول العبادة، فإذا وقع في السَّفَر أقيمت العبادة كما تقدم في السفر ولا نظر إلى دخول الوقت في الحضر ألا ترى أنه لو سافر بعد دخول وقت الصلاة كان له القصر على الصَّحيح ولا فرق بين أن يخرج وقت الصلاة بعد ما أحدث في الحضر وبين ألا يكون كذلك. قال أبو إسحاق المروزي: إذا مضى الوقت في الحضر ولم يصل ثم سافر مسح مسح المقيمين، لأنه عاص بإخراج الصلاة عن الوقت ولا رخصة للعاصي. والأول: أصح، كما لو فاتتة صلاة في الحضر له أن يقضيها بالتيمم في السفر. وليكن قوله في الكتاب: "وكذا لو أحدث في الحضر" معلماً بالزّاي لمذهب المزني وبالواو للتفصيل الذي رويناه عن أبي إسحاق. ولو ابتدأ المسح في الحضر ثم سافر أتم مسح المقيمين ولا يزيد عليه، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: يمسح مسح المسافرين إلا أن يتم اليوم والليلة قبل مفارقة العمران. وعن أحمد روايتان:
إحداهما: مثل مذهبنا. والثانية: أنه يمسح مسح المسافر. لنا أنه عبادة اجتمع فيها الحضر والسفر فيغلب حكم الحضر كما لو كان مقيماً في أحد طرفي صلاته لا يجوز له القصر. واعلم أن الاعتبار في المسح بتمامه حتى لو تَوَضَّأَ في الحَضَرِ، ومسح على أحد الخفين ثم سافر ومسح على الآخر، كان له أن يمسح مسح المُسَافرين؛ لأنه لم يتم المسح في الحضر (¬1) ولو ابتدأ المسح في السَّفَرِ ثم صار مقيماً نظر إن أقام بعد تمام يوم وليلة لم يمسح، بل ينزع ويستأنف اللبس ويجزئه ما مضى، وإن زاد على يوم وليلة وإن أقام قبل تمام يوم وليلة فله أن يتم يوماً وليلة مسح المقيمين. وقال المزني كل يوم وليلة في السفر مقابل بثلث يوم وليلة في الحضر، فإن مسح يوماً وليلة في السفر ثم أقام، فله ثلثا يوم وليلة. وإن مسح يومين وليلتين ثم أقام فله ثلثا يوم وليلة. لنا تغليب جانب الحَضَرِ كما تقدم. الرابعة: لو شك في انقضاء مدة المسح: أما المقيم في مدة المقيمين أو المسافر في مدة المسافرين وجب عليه غسل الرجلين وتعذر المسح. قال صاحب "التلخيص": هذا مما يستثنى عن قولنا: اليقين لا يترك بالشك؟ لأن جواز المسح يقين وانقضاء المدّة مشكوك فيه، أجاب الأصحاب بأن قالوا: لا بل هذا أخذ باليقين، لأن الأصل وجوب غسل الرّجلين والمسح رخصة منوطة بشرائط فإذا شك في المدة فقد شك في بعض الشّرائط فيعود، إلى الأصل وهذا كما لو توضَّأت المستحاضة ثم شكت في انقطاع دمها. قال الشافعي -رضي الله عنه-: لا تُصَلِّي حتى تتوضأ ولا نقول: الأصل سَيَلاَنُ الدم بل نقول: الأصل أن من أحدث توضأ وإنما جَوَّزَ لها الصلاة للضرورة فإذا شكت في بقاء الضرورة عادت إلى الأصل. وكذلك لو دخل المسافر بعض البلاد، ولم يدر أنه البلد الذي قصده، أم غيره فلا يقصر؛ لأن الأصل وجوب الأربع وقد شَكَّ في شرط القصر وهو السَّفر. ¬
ولو شك المسافر في أن ابتداء مسحه كان في الحضر أو في السّفر لا يزيد على مدة المقيمين أخذاً بالأصل المقتضي لوجوب الغسل فلو مسح في اليوم الثاني على الشَّكِّ وصلى ثم زال الشّك في اليوم الثالث وعلم أنه ابتدأ المسح في السَّفَرِ فعليه إعادة صلوات اليوم الثاني؛ لأنه صلاها على الشك ويجوز أن يصلي بالمسح في اليوم الثالث ثم إن كان على مسح اليوم الأول ولم يحدث في اليوم الثاني له أن يصلي في اليوم الثَّالث بذلك المسح، وإن كان قد أحدث في اليوم الثَّاني لكنه مسح على الشك وجب عليه إعادة المسح لصلوات اليوم الثَّاني، وفي وجوب استئناف الوضوء قولان. ويجوز له أن يعيد صلوات اليوم الثَّاني بالمسح في اليوم الثَّالث، ذكر كل ذلك في "التَّهْذِيب" وقال ابن الصباغ في الشامل: يجب إعادة الصلوات لكن يجزئه المسح مع الشك، والأول أظهر هذا تمام الكلام في إحدى الغَايَتَيْنِ. قال الغزالي: وَمَهْمَا نَزَع الخُفَّيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَيَجِبُ غَسْلُ القَدَمَيْنِ، وَأَمَّا الاسْتِئْنَافُ فَلاَ يَجِبُ إِن قُلْنَا: إِن المَسْحَ لاَ يَرْفَعُ الحَدَثَ وَإِنْ قُلْنَا: يَرفَعُ وَجَبَ لِأَنَّهُ فِي عَوْدِهِ لاَ يَتَجَزَّأُ. قال الرافعي: الغاية الثّانية نزع الخفين أو أحدهما، ومهما اتّفق ذلك وهو على طهارة لزم غسل الرِّجْلَيْنِ سواء كان عند انقضاء المدة أو قبلها، وهل يجب استئناف الوضوء؟ فيه قولان: أحدهما: يجب وبه قال أحمد: وأصحهما: لا، وبه قال مالك وأبو حنيفة والمزني، واختلف الأصحاب في أن القولين مستقلان بنفسهما أو هما مبنيان على أصل آخر: منهم من قال: هما مستقلان ووجه قول الاكتفاء بغسل الرّجلين بأن المسح بدل زال حكمه بظهور محل مبدله فيرجع إلى المبدل وهو الغسل كالمتيمّم يرى الماء. ووجه قول الاستئّناف بأن قال: عبادة بطل بعضها فيبطل كلها كالصَّلاة. ومنهم من قال: هما مبنيان على أصل واختلفوا فيه على ثَلاَثَةِ طرق. أحدهما: أنهما مبنيان على القولين في تفريق الوضوء إن جوزنا كفى غسلهما وإلا وجب الاستئناف، ويحكى هذا عن ابن سريج وأبي إسحاق لكن زيفه الجمهور، من وجوه منها أنه لا خلاف في جواز التفريق في الوُضُوء على الجديد ونص في مواضع من الجديد على وجوب الاستئناف هاهنا، ومنها: أن قولي التَّفريق يَخْتَصَّان فالتفريق الكثير
فأَمَّا اليسير منه فهو جائز بلا خلاف ولا سائر إلى الفرق فيما نحن فيه، ومنها أن التَّفْرِيق بالعُذْرِ جائز والعذر موجود هاهنا. والثاني: أنهما مبنيان على أن بعض الطّهارة هل يختص بالانتقاض أم يتداعى انتقاض البعض إلى انتقاض الكل؟ فيه قولان: أحدهما: يختص البعض بالانْتِقَاض؛ لأنه لو غسل بعض أعضاء طهارته يرتفع الحدث عنه، وإن لم يرتفع عن الباقي، وإذا جاز أن يَتَبَعَّضَ ارتفاعاً جاز أن بتبعض ثبوتاً فعلى هذا لا يجب الاستئناف. والثاني: لا يختص البعض بالانتقاض كالصلوات وسائر العبادات فعلى هذا يجب الاستئناف والثَّالث وهو المذكور في الكتاب، وبه قال القَفَّال والشيخ أبو حامد وأْصحابهما أنهما مبنيان على أن المسح على الخفين، هل يرفع الحدث عن الرجلين أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: يرفع؛ لأنه مسح بالماء فأشبه مسح الرأس، ولأنه يجوز الجمع به بين فرضين ولو لم يرفع الحدث لما جاز كالتَّيمم. والثاني: لا يرفع لأنه لو رفع الحدث لما تقدر بمدة ولا يمتد أثره إلى وجود الحدث فإن قلنا: إنه لا يرفع الحدث عن الرجل فلا يجب استئناف الوُضُوء؛ لأن الحدث قد ارتفع عن سائر الأعْضَاء إِلا عن الرجلين فإذا غسلهما ارتفع عنهما أيضاً، وكفى. قال في "التَّتمَّة": وهذا إذا لم يقع تفريق كثير وإن وقع ففيه خلاف التَّفريق، وإن قلنا: إن المسح يرفع الحدث عن الرجل فيجب استئناف الوُضُوء؛ لأن وجوب غسل الرجلين عند النزع يدل على عود الحدث فيهما والحدث، لا يتجَزَّأ في عوده (¬1). واعلم أن هذه الطريقة والتي قبلها متقاربتان، ومن يجوز انتقاض بعض الطَّهَارة دون بعض لا يبعد أن يقول بأن الحدث يتجزَّأُ عند العود، ولا يسلم لزوم الاستئناف -والله أعلم- هذا تمام الكلام في الغايتين ولك أن تقول غاية فائدة المسح لا تنحصر في الأمرين المذكورين بل تنتهي بأمرين آخرين. ¬
أحدهما: أن يلزم الماسح غسل جنابة أو كانت امرأة فلزمها غسل حَيْضٍ أو نِفَاسٍ فيجب غسل الرجلين، واستئناف اللّبس بعد ذلك إن أراد المسح. قال صفوان: كان يأمرنا أن لا ننزع خِفَافَنَا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جَنَابَةٍ والمعنى فيه أن الجنابة لا تتكرر فلا يشق نزع الخف لها. الثاني: إذا دَمِيَتْ رجله في الخف ولم يمكن غسلها فيه وجب النزع وغسل الدَّم ولا يكون المسح بدلاً عنه وإن أمكن غسلها فيه فغسلها لم يبطل المسح. قال الغزالي: فَرْعٌ لَوْ لَبِسَ فَرْدٌ خُفَّهُ لَمْ يَجُزِ المَسْحُ إلاَّ أَنْ تَكُونَ الرِّجْلُ الأخُرَى سَاقِطَةً مِنَ الكَعْبِ. قال الرافعي: سليم الرجلين إذا لبس أحد الخفين دون الآخر لم يجز المسح عليه لوجهين: أحدهما: أن المسح إنما جوز للارْتِفَاقِ بلبس الخف لغرض المشي، أو دفع الحَرِّ والبرد وغيرهما، والمعهود في تحصيل هذه الأغراض لبسهما جميعاً، فإذا لم يفعل لزمه الغسل الذي هو الأصل. والثاني: أن الرجلين بمثابة العضو الواحد وهو مخير فيهما بين الغسل وبين المسح على الخفين، وإذا تخير بين خصلتين في العبادة الواحدة، لم يَجُزْ له التَّوزيع كما في خِصَال الكفارة ولو لم يكن له إلا رجل واحدة إما بأصل الخِلْقة أو بسبب عارض فهي وحدها كالرجلين إن شاء غسلها وإن شاء مسح على سائرها بالشَّرَائط السَّابقة؛ لأنه قد يحتاج إلى اللَّبس أيضاً للمشي عليه مع عصا يتخذها، أو لدفع الحر والبرد ولو بقيت من الرجل الأخرى بقية لم يَجُزِ المسح حتى يواريها بساتر مستجمع لشرائط المسح (¬1). ¬
كتاب الحيض
كتَابُ الحَيْضِ وَفِيهِ خَمْسَةُ أَبْوَابِ الأَوَّلُ فِي حُكْمِ الحَيْضِ وَالاسْتِحَاضَةِ قال الغزالي: أَمَّا الحَيضُ فَأَوَّلُ وَقْتِ إِمْكَانِهِ أَوَّلُ السَّنَةِ التَّاسِعَةِ فِي وَجْهِ، وَإِذَا مَضَى سِتَّةُ أَشْهُرِ مِنْهَا فِي وَجْهٍ، وَأَوَّلُ الْعَاشِرَةِ فِي وَجْهٍ، فَمَا قَبْلَ ذَلِكَ دَمُ فَسَادٍ، وَأَقَلُّ مُدَّةِ الحَيْضِ يَوْمٌ (ح م) وَلَيْلَةٌ (و) وأَكثَرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً، وَأَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً (ح) وأَكثَرُهُ لاَ حَدَّ لَهُ، وَأَغْلَبُ الحَيْضِ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ، وَأَغلَبُ الطُّهْرِ بَقِيَّةُ الشَّهْرِ، وَمُسْتَنَدُ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ الوُجُوبُ المَعْلُومُ بِالاسْتِقرَاءِ فَلَوْ وَجَدْنَا امْرَأَةَ تَحِيضُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الاطِّرَادِ فَفِي اتِّبَاعِ ذَلِكَ خِلاَفٌ لِأَنَّ بَحْثَ الأَوَّلِينَ أَوْفَى. قال الرافعي: الدم الذي تراه النِّساء ينقسم إلى غير النِّفاس، وإلى النفاس، وغير النفاس ينقسم إلى حَيْضٍ، وَاسْتِحَاضَةٍ وهما مختلفا الحكم، ثم قد تكون المرأة بحيث تعرف حيضها من استحاضتها، وقد يختلط أَحَدُهُمَا بالآخر، فلا تعرف هذا من ذاك، وعلى الأحوال فالدم قد يطبق وقد ينقطع فترى مثلاً يوماً دماً، ويوماً نقاء فجعل كلام هذه الأمور في خمسة أبواب. أولها: في خَواصِّ الدم الذي هو حيض في أحكام الحيض، والاستحاضة. وثانيها: في معرفة المستحاضات. وثالثها: في المتحيرة المشتبهة الحال. ورابعها: في التقطع. وخامسها: في النفاس. أما الباب الأول: ففيما يحتاج إليه لمعرفة الحَيْضِ بيان السن المحتمل للحَيْض، وفيه ثلاثة أوجه: أصحها: أن أقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين، فإن رأت الصَّبية دماً قبل استكمال التِّسع فهو دم فساد قال: الشافعي -رضي الله عنه- وأعجل من سمعت من النِّسَاء نساء تِهَامَةَ يَحِضْنَ لتسع سنين وهذا هو الذي عبر عنه صاحب الكتاب بقوله: "وأول العاشرة في وجه".
والثاني: أن أوّل وقت الإمكان يدخل بالطَّعن في السنة التَّاسعة، وقد تسمى حينئذ بنت تسع. والثالث: يدخل بمضي ستة أشهر من السنة التاسعة. قال: الأصحاب في وقت الحيض وقدره الوجود فنرجع فيه إلى العرف؛ لأن كل ما ورد به الشَّرع مطلقاً، ولم يكن له ضابط في الشرع واللُّغة يرجع فيه إلى العرف كالقبوض والإحراز ثم كل واحد من أصحاب الوجوه الثلاثة يزعم أن ما ذكره قد عُهِد، والاعتبار على الوجوه بالسنين القمرية دون غيرها، وهل يعتبر بالتقريب أم بالتحديد فيه وجهان: أظهرهما: بالتقريب، وعلى هذا لو كان بين رؤية الدم وبين استكمال التِّسع على الوجه الأصح ما لا يسع لحيض، وطهر يكون ذلك الدَّم حيضاً وإلا فلا، ولا فرق في سن الحيض بين البلاد الحارة وغيرها، وعن الشَّيخ أبي محمد أن الأمر في البلاد الحارة على ما ذكرناه وفي البلاد الباردة وجهان: وأما أقل مدة الحيض فقد نص في "المختصر" على أن أقل الحَيْض يوم وليلة، وقال فيه في العدة: "وأقل ما علمناه من الحَيْضِ يوم" فاختلفوا فيه على طرق: أحدها: أن فيه قولين: أظهرهما: أن أقله يوم وليلة، لما روى عن عَلِيٍّ -رضي الله عنه- أن أقل الحيض يوم وليلة؛ ولأن المتبع فيه الوجود المعتاد، وقد قال الشَّافعي -رضي الله عنه- رأيت امرأة لم تزل تحيض يوماً وليلة، وروى مثله عن عطاء، وعن أبي عبد الله الزُّبيري -رضي الله عنهما-. والثاني: أقله يوم لما روي عن الأوزاعي قال: كانت عندنا امرأة تحيض بالغَدَاة وتطهر بالعَشِيّ. والطريق الثاني: القطع بأن أقله يوم وحيث قال أقله يوم وليلة، إنما قال ذلك؛ لأنه لم يجد في النساء من تَحِيضُ أقل من ذلك. ثم وجد وعرف فرجع إليه. والثالث: وهو الأظهر القطع بأن أقله يوم وليلة، وحيث قال يوماً أراد بليلته، والعرب كثيراً ما تفعل ذلك. وهذا هو المذكور في الكتاب وعليه تفاريع الحَيْض، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: أقله ثلاثة أيام، وعند مالك لا حدّ لأقله. وأما أكثر الحَيْض فهو خمسة عشر يوماً وليلة خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: أكثره عشرة أيام. لنا ما ذكرنا أن الرجوع إلى ما وجد من عادات النِّسَاء وأقصاها ما ذكرنا. روي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال ما زاد على خمسة عشر فهو استحاضة. وعن عطاء:
رأيت من تَحِيض يوماً ومن تحيض خمسة عشر يوماً، وعن أبي عبد الله الزّبيري مثل ذلك وأما الطّهر فأكثره لا حد له، فقد لا ترى المرأة الدّم في عمرها إلا مرة، وأقله خمسة عشر يوماً، خلافاً لأحمد حيث قال: أقله ثلاثة عشر. وعن مالك قال: ما أعلم بين الحَيْضَتَيْن وقتاً يعتمد عليه، وعن بعض أصحابه أن أقله عشرة أيام. لنا الرّجوع إلى الوجود، وقد ثبت ذلك من عادات النّساء. وروى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "تَمْكُثُ إِحْدَاكُنَّ شَطْرَ دَهْرِهَا لاَ تُصَلِّي" (¬1) أشعر ذلك بأقل الطّهر وكثر الحَيْضِ وغالب عادات النساء في الحيض ستٌ أو سبعٌ، وفي الطّهر باقي الشَّهر، وقد ورد به الحديث. قال -صلى الله عليه وسلم-: "تَحَيْضِي فِي عِلْمِ اللهِ سِتًّا أو سَبْعاً كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ وَيَطْهُرْنَ" (¬2)، وسيأتي ذلك من بعد. وقوله: ومستند هذه التقديرات الوجود المعلوم بالاستقراء يعني ما ذكرنا أن المتبع في الحيض والأقل والأكثر ما وجد من عادات النِّساء بعد البحث الشافي فاعتمدنا ذلك واتبعناه، ولو وجدنا امرأة تحيض أقل من يوم وليلة على الاطِّراد، أو أكثر من خمسة عشر، وتطهر أقل من خمسة عشر فهل نتبع ذلك؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: نعم وذهب إليه الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني في جواب له، والقاضي حسين فيما حكى. ووجهه أنا بينا أن المتبع في هذه المقادير الوجود. فإذا وجدنا الأمر على خلاف ما عهدنا وجب اتباعه وقد تختلف العادات باختلاف الأهوية والأعصار. والثاني: وهو الأظهر أنه لا عبرة به؛ لأن الأولين قد أعطوا البحث حقه، ولم ينقلوا زيادة ولا نقصاناً، وبحثهم أوفى واحتمال عروض دم فساد للمرأة أقرب من انْخِرَاقِ العادات المستمرة. والثالث: أنه إن وافق ذلك مذهب واحد من السَّلَفِ صرنا إليه، وإلا فلا؛ لأنه تبين لنا بذلك أن ما وجدناه قد وجد قبل هذا، لكنه لم يبلغ الشَّافعي -رضي الله عنه-، والمذهب المعتمد هو الوجه الثاني، وعليه يفرع مسائل الحيض ويدل عليه الإجماع ¬
على أنها لو كانت تحيض يوماً وتطهر يوماً -على الاستمرار- لا يجعل كل ذلك النقاء طهراً كاملاً. قال الغزالي: وَحُكْمُ الحَيْضِ تَحْرِيمُ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ (الأَوَّلُ) مَا يَفْتَقِرُ إِلَى الطَّهَارَةِ كَسُجُودِ التَّلاَوَةِ وَالطَّوَافِ وَالصَّلاَةِ ثُمَّ لاَ يَجِبُ قَضَاءُ الصَّلاَة عَلَيْهَا. قال الرافعي: يحرم على الحائض ما يحرم على الجنب، فليس لها أن تصلّي لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَقْبُلْتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاةَ (¬1) وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي". ولا أن تطوف لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة -رضي الله عنها- وقد حاضت وهي محرمة: "اصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ" (¬2). ولا أن تمس المصحف لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬3). ولا أن تلبث في المسجد لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ أُحِلُّ المَسْجِدَ لِجُنُبِ وَلاَ حَائِض" (¬4) ولا أن تقرأ القرآن لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَقْرَأُ الجُنُبُ وَلاَ الْحَائِضُ شَيْئاً مِنَ القُرْآنِ" (¬5). وفي قراءة القرآن قول قدمناه، وفي معنى الصلاة سُجُود التِّلاَوة والشكر، ولا يجب عليها قضاء الصلاة. قالت عائشة -رضي الله عنها-: "كُنَّا نُؤْمَرُ بقَضَاءِ الصَّوْم وَلاَ نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاَةِ" (¬6). وسيأتي المعنى فيه على الأثر، وقوله: "ما يفتقر إلى الطَّهارة" -إن كان المراد منه الطهارة الكبرى- فالمكث في المسجد داخل فيه [فلا] حاجة إلى تَكْراره في الأمر الثاني، حيث قال: فالمكث محرم وإن كان المراد الطّهارة الصغرى لم يكن الكلام حاوياً لقراءة القرآن وهي مما تُمْنَع على الحائض أيضاً. قال الغزالي: (الثَّاني) العُبُورُ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنْ أَمِنَتِ التَّلْوِيثَ فَالْمَكْثُ مُحَرَّمٌ وَفِي العُبُورِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: الحائض إنْ خافت تلويثَ المسجد -لو عبرت، إما لأنها لم تَسْتَوثِقْ، أو لغلبة الدم- فليس لها العبور فيه صيانةً للمسجد عن التَّلويث بالنجاسة، وليس هذا من خاصية الحائض بل المُسْتُحَاضة وَسَلَس البول ومن به جراحة نضاخة بالدّم -يخشى من المرور التَّلويث- ليس لهم العبور، وإن أمنت التلويث ففي جواز العبور لها وجهان: ¬
أحدهما: لا يجوز لإطلاق الخبر: "لاَ أُحِلُّ الْمَسْجِد لِجُنُب وَلاَ لِحَائِض". وأصحهما: الجواز كالجنب، ومن على بدنه نجاسة لا يخاف معها التلويث وقوله في الكتاب: "فإن أمنت التَّلويث فالمكث محرم" ترتيب تحريم المكث على حالة الأمن ليس على سبيل التخصيص بها، بل هو في حالة الخوف أولى بالتحريم، لكن (الفرض) أنه لا خلاف في تحريمه في هذه الحالة، وإن كان العبور مختلفاً فيه، وفي ذكره الوجهين في العبور حالة (الأمن) ما يبين أنه أراد بقوله: أولاً: العبور في المسجد حالة الخوف، أو أراد أنه ممتنع في الجملة إلى أن يبين التفصيل. قال الغزالي: (الثَّالِثُ) الصَّوْمُ، فَلاَ يَصِحُّ مِنْهَا وَبَجِبُ القَضَاءُ بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ. قال الرافعي: ليس للحائض أن تصوم، لما روي عن أبي سعيد الخدري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ" (¬1). وهذا التحريم يبقى ما دامت ترى الدم فإذا انقطع وارتفع وإن لم تغتسل بعد بخلاف الاسْتِمْتَاع وما يفتقر إلى الطَّهارة فإن التحريم فيه مستمر إلى أن تغتسل ومما يرتفع تحريمه بانقطاع الدَّم الطلاق، وسقوط قضاء الصلاة أيضاً ينتهي بانقطاع الدم، ثم يجب على الحائض قضاء الصَّوم وإن لم يجب قضاء الصلاة. روي أن معاذة العدوية قالت لعائشة -رضي الله عنها-: "مَا بَالُ الْحَائِض تَقْضِي الصَّوْمَ وَلاَ تَقْضِي الصَّلاةَ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّة أَنْتِ، كُنَّا نَدَعُ الصَّوْمَ وَالصَّلاةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَنَقْضِيَ الصَّوْمَ وَلاَ نَقْضِي الصَّلاةَ" (¬2). وذكروا في الفرق معنييِن: أحدهما: أن قضاء الصوم لا يشق مشقة قَضَاء الصلاة؛ لأن غاية ما يفوتها بعض شهر رمضان ويهون قضاؤه في السَّنة بخلاف الصلاة فإنها تكثر وتكرر. والثاني: أن أمر الصلاة لم يبن علي أن تؤخر ثم تقضي بل إما ألا تجب أصلاً، أو تجب بحيث لا تؤخر بالأعذار والصوم قد بترك بعذر السَّفَرِ والمرض ثم يقضي فكذلك يترك بالحَيْضِ ويقضي، فهل يقال بوجوب الصوم على الحَائِضِ في حال الحَيْضِ؟ فيه وجهان: فمن قائل: نعم، ولولاه لما وجب القضاء كالصلاة ومن قائل لا فإنها ممنوعة منه والمنع والوجوب لا يَجْتَمِعَانِ. ¬
قال الغزالي: (الرَّابعُ) الجِمَاعُ وَلاَ يَحْرُمُ الاستِمتَاعُ بِمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَمَا تَحْتَ الرُّكْبَةِ، وَبِمَا تَحْتَ الإِزَارِ (م) وَجْهَانِ، ثُمَّ إِنْ جَامَعَهَا وَالدَّمُ عَبِيطٌ (¬1) تَصَدَّقَ بِدِينَار، وَفِي أوَاخِرِ الدَّمِ بِنِصْفِ دِينَارٍ اسْتِحبَاباَ، أَمَّا الإِسْتحَاضَةُ فَكَسَلَسِ البَوْلِ لاَ تَمْنَعُ الصَّلاةَ، وَلَكِنْ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَة فِي وَقْتِهَا وَتَتَلَجَّمُ وَتَسْتَثْفِرُ وَتُبَادِرُ إِلَى الصَّلاَة فَإِنْ أَخَّرَت فَوَجْهَان، وَوَجْهُ المَنْعِ تَكَرُّرُ الحَدَثِ عَلَيْهَا مَعَ الاسْتِغْنَاءِ، وَفِي وُجُوبِ تَجِديدِ العِصَابَةِ لِكُلِّ فَرِيضَةِ وَجْهَان، فَإِنْ ظَهَرَ الدَّمُ عَلَى العِصَابَةَ فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّجْدِيدِ، وَمَهْمَا شُفِيَتْ قَبْلَ الصَّلاَة اسْتَأْنَفَتْ الوُضُوءَ، وإنْ كَانَتْ فِي الصَّلاَةِ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَالمُتَيَمَمِّ إِذَا رَأَى المَاءَ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَتَوَضَّأ وَتَسْتَأنِفُ، لِأَنَّ الحَدَثَ مُتَجَدِّدٌ فَإِنْ انْقَطَعَ قَبْلَ الصَّلاَةِ وَلَمْ يَبْعُدْ مِنْ عَادِتَهَا العَوْد فَلَهَا الشُّرُوعُ فِي الصَّلاَةِ مِنْ غيْرِ اسْتِئْنَافِ الوُضُوءِ، وَلَكِنْ إنْ دَامَ الانْقِطَاعُ فَعَلَيْهَا القَضَاءُ، وَإِنْ بَعُدَ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهَا فَعَلَيْهَا اسْتْئْنَاف الوُضُوءِ فِي الحَالِ. قال الرافعي: الاستمتاع ضربان: أحدهما: الجماع في الفَرْجِ فيحرم في الحَيْضِ، لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬2). قال -صلى الله عليه وسلم- في تفسيره: "افْعَلُوا كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ الجِمَاعَ في الفرج" (¬3). ويستمر هذا التحريم وإن انقطع الدم إلى أن تتطهر بالماء أو التراب عند العجز عن استعمال الماء، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: إذا انقطع الدم لأكثر الحيض حل الجماع، وإن لم تغتسل. لنا قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (¬4) بالتَّشديد أي يغتسلن، وأما على التخفيف، فقد قال: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} أي: اغتسلن، فلم يَجُز الإتيان إلا بعد الاغتسال، ولو لم تجد ماء، ولا ترابًا لم يَجُزْ وطؤها على أصح الوجهين بخلاف الصلاة فإنها تأتي بها تشبُّهًا لحرمة الوقت، ومهما جامع في الحيض عمداً وهو عالم بالتحريم ففيه قولان: الجديد: أنه لا عزم عليه لكنه يستغفر ويتوب مما فعل؛ لأنه وطء محرم لا لحرمة عبادة، فلا يجب به كفارة كوطء الجارية المَجُوسِيّة، وكالإتيان في الموضع المكروه لكنا ¬
نستحب له أن يتصدق بدينار إن جامع في إقبال الدم، وبنصف دينار إن جامع في إدباره، لورود الخبر بذلك. وهذا القول هو المذكور في الكتاب. والقديم: أنه يلزمه غرامة كفَّارة لما فعل، ثم فيها قولان: أحدهما: يلزمه تحرير رقبة بكل حال لمذهب عمر -رضي الله عنه-. وأشهرهما: أنه إنْ وطئ في إقبال الدم فعليه أن يتصدق بديناروإن كان في إدباره فعليه أن يتصدق بنصف دينار لما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أتى امْرَأَتَهُ حَائِضاً فَلْيَتَصَدَّقْ بدِينَارٍ وَمَنْ أتَاهَا وَقَدْ أَدْبَرَ الدَّمُ فَليَتَصَدَّقْ بِنِصْفِ دِينَار" (¬1). ثم الدِّينار الواجب أو المستحب مثقال الإسلام من الذَّهب الخالص يصرف إلى الفقراء والمساكين، ويجوز أن يصرف إلى واحد، وعلى قول الوجوب إنما يجب ذلك على الزوج دون الزوجة وما المراد بإقبال الدم وبإدباره؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني: أنه ما لم ينقطع الدم فهو مقبل، وإدباره أن ينقطع ولم تغتسل بعد، ويدلُّ عليه ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال "إِذَا وَطْئِهَا فِي إِقْبَالِ الدَّمِ فَدِينَارٌ وَإِنْ وَطِئَهَا فِي إِدْبَارِ الدَّمِ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ وَقَبْلَ الْغَسْلِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيْنَارٍ" (¬2). وأشهرهما: أنَّ إقباله أوَّله وشدته وإدباره ضعفه وقربه من الانقطاع، وهذا هو الذي ذكره في الكتاب، حيث قال ثم إن جامعها والدم عَبيطٌ تصدَّق بدينار إلى آخره، ويدل عليه ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا وَقع الرجل بِأَهْلِهِ وَهِيَ حَائِضٌ إِنْ كَانَ دَمًا أَحْمَرَ فَليَتَصَدَّقْ بِدِينَارٍ، وَإِنْ كَانَ أَصْفَرَ فَلْيَتَصَدَّق بِنِصْفِ دِينَار" وليكن قوله: "اسْتِحْبَاباً" معلماً للقول الذي حكيناه وبالألف؛ لأن عند أحمد يجب عليه دينار أو نصف دينار؛ لأنه روي في بعض الرِّوايات "فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِينَار أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ" وهذه الرواية مما يستدَلُّ بها على أن هذا الأمر للاستحباب؛ لأن التخيير بين القَدْرِ المعين وبعضه في الإيجاب لا معنى له فهذا إذا وطئ عامدًا عالماً بالتحريم، وإن وطئها ناسياً أو جاهلاً بتحريم وطء الحائض، أو بأنها حائض فلا شيء عليه. ¬
وقال بعض الأصحاب: يجيء على قوله القديم وجه آخر، أنه يجب عليه الكفارة أيضاً. الضرب الثاني: من الاستمتاع غير الجماع، وهو ضربان: أحدهما: الاستمتاع بما بين السُّرَّةِ والرُّكبة، وهو المراد بما تحت الإِزَارِ، فهل يحرم في الحيض؟ فيه ثلاثة أوجه: أظهرها: نعم، وَيُحْكَى ذلك عن نَصِّه في الأم؛ لظاهر قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬1) وعن معاذ قال: "سَألْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَمَّا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنِ امرَأَتِهِ وَهِيَ حَائِضُ فَقَالَ مَا فَوْقَ الإِزَارِ" (¬2)؛ ولأن الاستمتاع بما تحت الإزار يدعو إلى الاستمتاع بالفرج قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوقِعَهُ" (¬3)، فوجب أن يمنع منه، وبهذا قال أبو حنيفة. والثاني: أنه لا يحرم به قال أبو إسحاق وهو مذهب أحمد لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "افْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ إلاَّ الجِمَاعَ" (¬4)؛ ولأن الجماع في الفرج، إنما يحرم بسبب الأذى فلا يحرم الاسْتِمْتَاع بما حواليه كالموضع المَكْرُوهِ. والثالث: أنه إنْ أَمِنَ على نفسه التَّعَدِّي إلى الفرج -لورع أو قلة شهوة- لم يحرم، وإلاً حرم، ويروى هذا عن أبي الفياض. ونقل بعضهم في المسألة قولين، وقالوا: الجديد، التحريم، والقديم: الإباحة. (الضرب الثالث): الاستمتاع بما فوق السُّرة وتحت الركبة كالتَّقْبيل والمُضَاجعة، وهو جائز؛ لما روينا من حديث معاذ عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فِي الْخَمِيلَةِ فَحِضْتُ فَانْسَلَلْتُ، فَقَالَ: أنُفِسْتِ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: خُذِي ثِيَابَ حَيْضَتِكِ وَعُودِي إِلَى مَضْجَعَكِ وَنَالَ مِنِّي مَا يَنَالُ الرَّجُلَ مِنِ امْرَأَتِهِ إلاَّ تَحْتَ ¬
الإزَارِ" (¬1). ويروى مثله عن أم سلمة -رضي الله عنها- (¬2). ولا فرق بين أن يصيب دم الحيض موضعاً منه وبين إلاَّ يصيبه وفي وجه: لا يجوز الاستمتاع بالموضع المتلطِّخ به؛ لأنه لو استمتع به لأصابه أذى الحيض وإنما منع من وطء الحائض للأذى. والأول هو الظاهر لإطلاق الأخبار (ولك) أن تعلم قوله: "ولا يحرم الاستمتاع بما فوق السُّرة وبما وتحت الرُّكْبَة"؛ لهذا الوجه الذاهب إلى التَّفصيل، فهذا شرح الأمور الأربعة الممتنعة بالحَيْض. واعلم أن قوله: "وحكم الحيض امتناع أربعة أمور" يشعر بانحصار حكمه فيه، لكن له أحكام أخر. منها: أنه يجب الغُسْلُ، أو التَّيمم عند انقطاعه- على ما سبق بيان ذلك في مُوجِبَاتِ الغُسْل. ومنها: أنه تمتنع صحة الطَّهارة ما دام الدم مستمراً إلا الأغسال المشروعة لما لا يفتقر إلى الطَّهارة كالإحرام والوقوف بعرفة، فإنها تستحب للحائض؛ لأن المقصود من تلك الأغسال التَّنظيف، وإذا فرعنا على أن الحائض تقرأ القرآن، فلها أن تغتسل إذا أجنبت لتقرأ، ويستثنى هذا الغسل أيضاً على القول المشار إليه عن سائر الطّهارات. ومنها: أنه يجب البلوغ. ومنها: أنه يتعلق به العدَّة والاسْتِبْرَاء. ومنها: أنه يكون الطَّلاق فيه بدعياً، وهذه الأحكام تذكر في مواضعها وحكم النفاس، حكم الحَيْضِ إلا في إيجاب البُلُوغِ وما بعده (¬3). [قال الغزالي: أَمَّا الاسْتِحَاضَةُ فَكَسَلَسِ البَوْلِ لاَ تَمْنَع الصَّلاةَ، وَلَكِنْ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ فِي وَقْتِهَا وَتَتَلَجَّمُ وَتَسْتَثْفِرُ وَتُبَادِرُ إِلَى الصَّلاَة، فَإنْ أَخَّرَتْ فَوَجْهَانِ: وَوَجْهُ المَنْعِ تَكَرُّرُ الحَدَثِ عَلَيْهَا مَعَ الاسْتِغْنَاءِ وَفِي وُجُوبِ تَجْدِيدِ العِصَابَةِ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ وَجْهَانِ، فَإِنْ ظَهَرَ الدَّمُ عَلَى العِصَابَةِ فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّجْدِيدِ]. ¬
قال الرافعي: الاسْتِحَاضَةُ قد يعبر بها عن كل دم تراه المرأة غير دمي الحيض والنِّفَاس، سواء كان مُتَّصِلاً بدم الحَيْضِ كالمجاوز لأكثر الحيض، أو لم يكن مُتَّصِلاً به كالَّذي تراه المرأة قبل تسع سنين. وقد يعبر بها عن الدم المتَّصل بدم الحيض وحده، وبهذا المعنى تنوع المستحاضة إلى معتادة ومبتدأة ثم إلى مميزة وغيرها، ويسمى ما عدا ذلك دم فساد، لكن الأحكام الذكورة في جميع ذلك لا تختلف، والدم الخارج حدث دائم كَسَلَسِ البول والمذي، فلا يمنع الصوم والصَّلاَة؛ للأخبار التي نرويها في المُسْتَحَاضَاتِ، ولذلك يجوز للزوج (¬1) وطؤها وإنما أثر الأحداث الدائمة الاحتياط في إزالة النَّجاسة وفي الطَّهارة، فتغسل المستحاضة فَرْجَها قبل الوضوء أو التّيمم إن كانت تتيمم، وتحشوه بِقُطْنٍ أَوْ خِرْقَةٍ دَفعاً لِلنَّجَاسَةَ وتقليلاً لها. فإن كان الدم قليلاً يندفع به فذاك وإلاَّ شدَّت مع ذلك وتلجمَّت، بأن تشد على وسطها خِرْقَةً كالتِّكة (¬2)، وتأخذ خرقة أخرى مشقوقة الرأسين، وتجعل إحداهما قُدَّامها، والأخرى من ورائها، وتشدُّها بتلك الخرقة. وذلك كله واجب إلا في موضعين: أحدهما: أن تتأذَّى بالشدِّ ويحرقها اجتماع الدم فلا يلزمها لما فيه من الضَّرر. والثاني: أن تكون صائمة فتترك الحَشْوَ نهاراً وتقتصر على الشدِّ. وسلس البول أيضاً يدخل قُطْنَةً في إِحْلِيلِهِ، فإن انقطع وإلا عصب مع ذلك رأس الذَّكَرِ بخرقة. ثم تتوضَّأُ المستحاضة بعد الاحتياط الذي ذكرناه، ويلزمها الوضوء لكل فريضة، ولا تصلِّ فريضتين بطَّهارة واحدة، لقوله -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة بنت أبي حبيش: "تَوَضَّأي لِكُلِّ صَلاَةٍ" (¬3) ولا بد أن تكون طهارتها لِلصَّلاة بعد دخول وقتها، كما ذكرنا في التَّيمم. وحكى الشيخ أبو محمد وَجْهاً، أنه يجوز أن تَقَعَ طهارتها قبل الوقت بحيث ينطبق آخرها على أول الوقت وتصل به الصَّلاة والمذهب الأول، وينبغي أن تبادر إلى الصلاة عُقَيْب احتياطها وطهارتها، فلو أخرت بأن توضأت في أول الوقت، وصلت في آخره أو بعد خروج الوقت، نُظِر إن كان التَّأخر للاشتغال بسبب من أسباب الصَّلاَة، كستر العورة والاجتهاد في القِبْلَةِ والأذان والإقامة، وانتظار الجماعة والجمعة ونحوها فيجوز، وإلا فثلاثة أوجه: أصحها: المنع؛ لأن الحدث متكرر عليها وهي مستغنية عن احتمال ذلك قادرة على المبادرة. ¬
الثاني: الجواز كما في التَّيمم، ولأنها لو أمرت بالمبادرة لأمرت بِتَّخْفِيفِ الصلاة والاقتصار على الأقل. والثَّالث: أن لها التَّأْخر ما لم يخرج وقت الصَّلاة، فإذا خرج، فليس لها أن تصلي بتلك الطَّهَارة. وذلك لأن جميع الوقت في حق تلك الصَّلاة كالشيء الواحد والوجوب فيه موسع. وهل يلزمها تجديد غسل الفرج وحشوه وشده لكل فريضة؟ ننظر إن زالت العِصَابَةُ عن موضعها زوالاً له وقع أو ظهر الدم على جوانب العِصَابة فلا بد من التجديد، لأن النَّجَاسة قد كثرت وأمكن تقليلها فلا يحتمل، ولا بأس بالزوال اليَسِيرِ كما يعفى عن الانتشار اليسير في الاسْتِنْجَاءِ وإن لم تزل العِصَابة عن موضعها ولا ظهر الدم فوجهان: أصحهما: وجوب التَّجديد كما يجب تجديد الوضوء. والثاني: لا يجب إذ لا معنى للأمر بإزالة النجاسة مع استمرارها لكن الأمر بطهارة الحدث مع استمراره معهود. ونقل المسعودي الخلاف في المسألة قولين، وهذا الخلاف جَارٍ فيما إذا انتقض وضوء المُسْتَحَاضَةِ واحتاجت إلى وضوء آخر بسبب ذلك كما لو خرج منها ريح قُبُل إنْ صلَّت فيلزمها الوضوء وفي تجديد الاحتياط الخلاف. ولو انتقض وضؤها بأن بالت وجب التَّجديد لا مَحَالَةَ لظهور النَّجَاسة كيف وهي غير ما ابتليت به. واعلم أنه إذا خرج منها الدَّم بعد الشَّدِّ فإن كان ذلك لغلبة الدَّم لم يبطل وضؤها وإن كان لتقصيرها في الشَّدِّ بطل، وكذا لو زالت العِصَابَةُ عن مَوْضِعَها لضعف الشَّدِّ وزاد خروج الدَّمِ بسببه فإن انفق ذلك في الصَّلاَة بطلت الصَّلاةُ وإن اتفق بعد الفريضة لم يكن لها أن تنتقل. ولنعد إلى ألفاظ الكتاب أما قوله: "ولكن تتوضَّأ لكلِّ صلاة" يعني به كل صلاة الفرض وينبغي أن يعلّم بالحاء والألف؛ لأن عند أبي حنيفة وأحمد تتوضَّأ لوقت كل صلاة لا لكل صلاة ولها أن تجمع بين فرائض بوضوء واحد ما دام الوقت باقياً وبخروج الوقْتِ يبطل طهارتها. قال أبو حنيفة: "وإنْ توضَّأت قبل الوقت لصلاة، لا يمكنها أن تُصَلِّي تلك الصلاة بذلك الوضوء؛ لأن دخول وقت كل صلاة يكون بخروج وقت التي قبلها، وخروج الوقت مبطل، الأصلاة الظهر، فإنها إذا توضَّأت قبل الزَّوال، ثم زالت الشَّمس، لها أن تُصلِّي الظهر". وأما قوله: وَتَتَلَجَّمُ وَتَسْتَثْفِر فقد ورد اللَّفظان في خبر حمنة بنت جحش. قال: صاحب الصِّحاح (¬1): "اللِّجَامُ فارسي مُعَرَّبٌ، واللِّجَامُ ما تشده الحائض، ¬
وقوله: "تلجمي" أي شدي عليك اللِّجام. قال: وهو شبيه بقوله اسْتثْفِرِي، وأما الاسْتِثْفَارُ فقد قال "الغريبين" اللغويون: يحتمل أنْ يكون مأخوذاً من ثفر الدَّابَّةِ أي تشد الخرقة عليها كما يشد الثّفْر تحت الذَّنَب ويحتمل أن يكون مأخوذًا من الثّفر أريد به فَرْجها وإن كان أصله للسباع ثم استعير، يقال استثفر الكلب إذا أدخل ذنبه بين رجليه، واستثفر الرجل إذا أدخل ذَيْلَهُ بين رجليه من خلفه، هذا بيان اللفظين، والمراد بهما شيء واحد، وهو ما سبق وصفه، وسماه الشافعي -رضي الله عنه- التَّعْصِيبَ أيضاً، ويجب تقديم ذلك على الوضوء كما سبق، وإن آخره صاحب الكتاب في اللفظ عن الوضوء. وقوله: "فإن أخرت فوجهان" ظاهره يقتضي طرد الوجهين في مطلق التَّأخير، لكن لو كان التَّأخير، بسبب من أسباب الصَّلاة فقد نفى معظم النّقلة لخلاف فيه، وخصوه بما إذا لم يكن لعذر. فليحمل مطلق لفظه عليه -والله أعلم-. [قال الغزالي: وَمَهْمَا شُفِيَتْ قَبْلَ الشِّرُوعِ فِي الصَّلاَة اسْتَأنَفَتِ الوُضُوَءَ وَإِنْ كَانَتْ فِي الصَّلاَةِ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَالْمُتَيَمِّمِ إِذَا رَأَى المَاءَ. وَالثَّانِي: أنَّهَا تَتَوَضَّأُ وَتَسْتَأْنِفُ؛ لأَنَّ الحَدَثَ مُتَجَدّدُ فَإِنِ انْقَطَعَ قَبْلَ الصَّلاَةِ، وَلَمْ يَبْعَدْ مِنْ عَادَتِهَا العَوْدُ، فَلَهَا الشُّرُوعُ فِي الصَّلاَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَاف الوُضُوءِ، وَلَكِنْ إِنْ دَامَ الانْقِطَاع فَعَلَيْهَا القَضَاءُ، وَإِنْ بَعَدَ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهَا، فَعَلَيْهَا اسْتِئْنَافُ الوُضُوءِ فِي الحَالِ]. قال الرافعي: طهارة المُسْتَحَاضَةِ تبطل بحصول الشِّفَاء أو زوال العُذْرِ والضَّرورة، ويجب عليها اسْتِئْنَافها وفيه وجه ضعيف، أنه لو اتَّصل الشِّفاء بآخر الوضوء لم تبطل، هذا إن اتفق خارج الصلاة فإن وقع في الصَّلاة، فظاهر المذهب أنه يبطل الصَّلاة وتتوضَّأ وتستأنف؛ لأنها قدرت على أن تتطهَّر وتصلِّي، مع الاحتراز عن الحَدَثِ واستصحاب النَّجَاسة، وارتفعت الضَّرورة. وخرج ابن سريج من المتيمم يرى الماء في أثناء الصلاة قولاً هاهنا، إن طهارتها لا تبطل، وتمضي في الصَّلاة. لكن الفرق ظاهر من وجهين: أحدهما: إن حدث المتيمم؛ وإن لم يرتفع لم يزدد ولم يتجدَّد، والمُسْتَحَاضَةُ قد تجدد حدثها بعد الوضوء. والثاني: أن المستحاضة مستصحبة للنجاسة وَسُومِحَتْ به للضرورة، فإذا زالت الضَّرورة زالت الرخصة، والمتيمم لا نجاسة عليه، حتى لو كان على بَدَنِهِ نجاسة غير مَعفو عنها، ووجد الماء في أثناء الصلاة تبطل صلاته. ولا يجوز له البِنَاء، وقد ذكرنا في التَّيمم أن ابن سريج كما خرج من ثم إلى هاهنا خرج من هاهنا إلى ثم وجعل المسألتين على قولين بالنَّقْل والتَّخْريج.
ومنهم من عبر عن الخلاف هاهنا بالوجهين وكذلك فعل صاحب الكتاب، وإذا لم يكن القولان منصوصين، فكثيراً ما يعبر عنهما بالوَجْهَيْنِ. وعن الشَّيْخ أبي محمد: أن أبا بكر الفارسي حكى قولاً عن الربيع عن الشَّافعي -رضي الله عنه- أن المُسْتَحَاضة تخرج من الصلاة وتتوضأ وتزيل النجاسة وتبني على صَلاَتِهَا، ويمكن أن يكون هذا بناء على القول القديم في سبق الحدث، وهو يوافق تخريج ابن سريج في أنه لا يبطل ما سبق من صلاتها، ويخالفه في الأمر بالوضوء وإزالة النجاسة، فهذا حكم الانقطاع الكلي وهو الشفاء. وإذا عرفت ذلك فنقول مهما انقطع دمها، وهي تعتاد الانقطاع والعَوْد أَوْلاً تعتاده، ولكن أخبرها عنه من تعتمد من أهل البَصِيرَة، فينظر إن كانت مدَّة الانقطاع يسيرة لا تسع الطهارة والصَّلاة التي تطهَّرت لها، فلها الشُّروع في الصلاة، ولا عبرة بهذا النوع من الانقطاع؛ لأن الظاهر أنه لا يدوم، بل يعود على القرب، ولا يمكن من الطهارة والصلاة من غير حدث، فلو أنه امتد على خلاف عادتها، أو خلاف ما أخبرت عنه بأن بطلان الطهارة ووجب قضاء الصلاة، وإن كانت مدة الانقطاع كبيرة تَسَعُ الطهارة والصلاة، فعليها إعادة الوضوء بعد الانقطاع، فلو عاد الدم على خلاف عادتها قبل الإمكان، ففي وجوب إعادة الوضوء وجهان: أظهرهما: أنها لا تجب، لكن لو شرَعَتْ في الصلاة بعد هذا الانقطاع من غير إعادة الوضوء ثم عاد الدم قبل الفراغ وجب القضاء على أصح الوجهين؛ لأنها حين [الشروع] (¬1) كانت شَاكَّةً في بقاء الطَّهَارة الأولى، وإن انقطع دمها، وهي لا تعتاد الانقطاع والعود، ولم يخبرها أهل البَصِيرَةِ عن العَوْدِ -فتؤمر بإعادة الوضوء في الحال، ولا يجوز لها أن تصلِّي بالوضوء السَّابق؛ لأن هذا الانقطاع يحتمل أن يكون شفاء- وهو الظاهر، فإن الأصل بعد الانقطاع عدم العود فلو عاد قبل إمكان فعل الطَّهَارة والصلاة، ففيه وجهان: أصحهما: أن وُضُوءَهَا بحاله، لأنه لم يوجد الانقطاع المغني عن الصَّلاة مع الحدث. والثاني: يجب الوضوء، وإن عاد الدم، نظراً إلى أول الانقطاع، ولو خالفت أمرنا وشرعت في الصلاة من غير إعادة الوضوء بعد الانقطاع، فإن لم يعد الدَّم لم تصح صلاتها؛ لظهور الشِّفاء، وكذلك إن عاد بعد مضي إمكان الطهارة والصلاة؛ لتمكُّنِهَا من الصَّلاة من غير حدث، وإن عاد قبل الإمكان فهل يجب قضاء الصلاة؟ فيه وجهان كما في إعادة الوضوء، لكن الأصح الوجوب، لأنها شرعت فيه على تردد، وعلى هذا لو ¬
توضَّأت بعد انقطاع الدم، وشرعت في الصَّلاة، ثم عاد الدم فهو حدث جديد يجب عليها أن تتوضأ وتستأنف الصلاة. واعلم أن المُسْتَحَاضَةَ في غالب الأمر لا تدري عند انقطاع دمها أنه شفاء أم لا، وسبيلها أن تنظر هل تعتاد الانقطاع أم لا؟ وتجري على مقتضى الحالتين كما بينا. وحكم الشِّفَاء الكلي إذا عرف هو المذكور أولاً، وهذا الذي رويناه، وهو إيراد معظم أئِمَّةِ أصحابنا العراقيين وغيرهم، وبينه وبين كلام صاحب الكتاب بعض الاختلافات، لأنه قسم حال الانقطاع إلى قسمين: أحدهما: ألا يبعد من عادتها العود. والثاني: أن يبعد، وهما جميعاً يفرضان في الَّتي لها حالة عود، وما حكيناه يقتضي جواز الشروع في الصَّلاة متى كان العود معتاداً بعد أم قرب، وإنما يمتنع الشُّروع من غير استئناف الوضوء إذا لم يكن العود معتاداً أصلاً، ويجوز أن يؤول كلامه على ما ذكره المعظم ولا يبعد أن يلحق ندْرَة العود، وبعده في عادتها بعدم اعتياد العود -والله أعلم-. ثم قوله: "فلها الشروع في الصلاة في الحالة الأولى" محمول على ما إذا كانت مدة الانقطاع يسيرة، وإن كان اللفظ مطلقاً أما لو كانت مديدة، فلا بد من إعادة الوضوء كما سبق، ثم عروض الانقطاع في أثناء الصلاة كعروضه قبل الصَّلاة، بناء على ظاهر المذهب في أن الشِّفاء في الصلاة كهو قبلها، فإذا لم يكلن معتاداً لها، أو جرت على عادتها بالانقطاع قدر ما تتمكن فيه من فعل الطهارة، والصلاة بطلت طهارتها وصلاتها، وإن كان الانقطاع معتاداً لها ومدته دون ذلك، لم يؤثر. وقوله: "فإن انقطع قبل الصلاة" إنما قيد بما قبل الصلاة؛ لأنه أراد ترتيب الشُّروع عليه لا ترتيب حكم ينتظم الحالتين (¬1). ¬
الباب الثاني في المستحاضات وهن أربعة
الْبَابُ الثَّانِي فِي المُسْتَحَاضَاتِ وَهُنَّ أَرْبَعَةٌ قال الغزالي: [المُسْتَحَاضَةُ الأُولَى] مُبْتَدَأَة مُمَيِّزَةٌ تَرَى الدَّمَ القَوِيَّ (ح) أَوَّلاً فَتَحِيضُ فِي الدَّمِ القَوِيِّ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَزِيدَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً وَلاَ يَنْقُصَ عَنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَتَسْتَحِيضُ فَي الضَّعِيفِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَنْقُصَ عَنْ خَمْسَةَ عَشرَ يَوماً، وَالقَوِيُّ هُوَ الأَسْوَدُ أَوِ الأحْمَرُ بِالاِضَافَةِ إِلَى لَوْنٍ ضَعِيفٍ بَعْدَهُ، وَلَوْ رَأَتْ خَمْسَةً سَوَادًا ثُمَّ خَمْسَةً حُمْرَةً ثُمَّ أطْبَقَتِ الصُّفرَةُ فَالْحُمرَةَ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ القُوَّةِ وَالضَّعْفِ، فَفِي وَجْهٍ: تُلْحَقُ بالسَّوَادِ إِذَا أَمْكَنَ الجَمْعُ إِلاَّ أَنْ تَصِيرَ الْحُمْرَةُ أَحَدَ عَشَرَ، وَفِي وَجْهٍ: تُلْحَقُ الحُمْرَةُ أَبَداً بِالصُّفْرَةِ. قال الرافعي: المُسْتَحَاضَاتُ أربع؛ لأن التي جاوز دمها أكثر الحيض، إما أن تكون مبتدأة، وهي التي لم يسبق لها حَيْضٌ وطهر، أو معتادة وهي التي سبق لها ذلك، وعلى التَّقْدِيرين فإما أن تكون مميزة أو لا تكون، فالأصناف إذاً أربعة مبتدأة مميزة، ومبتدأة غير مميزة، معتادة مميزة، معتادة غير مميزة، وهذه أصناف اللواتي يتميز وقت حيضهن عن استحاضتهن. أما الناسية فلا يمكن التمييز في حَقِّها بين الحَيْضِ والاستحاضة، وتختص لذلك بأحكام، فأفرد لها باباً بعد هذا. (المُسْتَحَاضَةُ الأولى) المبتدأة المميزة هي التي ترى الدم على نَوْعَيْنَ، أحدهما أقوى أو على ثلاثة أنواع، أحدها أقوى، فترد إلى التَّميز على معنى أنها تكون حائضاً في أَيَّام القَوِيّ، مستحاضة في أيَّام الضَّعيف، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: ترد إلى أكثر الحيض وهو عشرة أيام (عنده) وتطهر باقي الشَّهر، لنا ما روي في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أمْرَأَةٌ أسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ؟ قَالَ: لاَ؛ إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ، فَدَعِي الصَّلاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنكِ الدَّمَ وَصَلِّي" (¬1). وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ: "دَمُ الْحَيض أَسْوَدُ وَأَنَّ لَهُ رَائِحَةً، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَدَعِي الصَّلاَةَ، وَإِذَا كَانَ الآخَرُ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي" (¬2). ¬
وورد في صفته: "أَنَّهُ أَسْوَدُ مُحتَدِمٌ بَحْرَانِيُّ ذُو دَفَعَاتٍ، وَفِي دَمِ الاسْتِحَاضَةِ أَنَّهُ أَحْمَرُ رَقِيقٌ مُشْرِقٌ" (¬1). والأسود هو الذي تعلوه حمرة متراكمة، فيضرب من ذلك إلى السَّواد، والمُحْتَدِمُ هو الجَاري الذي يَلْذَع البَشْرَةَ ويحرقها بحدَّتِهِ ويختَصُّ برائحة كريهة. ودم الاستِحَاضَةِ رقيق لا احتِدَامَ فيه يضرب إلى الشُّقرة أو الصفرة، ولذلك يسمى مشرقاً. وقيل: المحتدم هو الضَّارب إلى السواد، والبحراني هو الشديد الحمرة. قال صاحب "الغريبين": "يقال أحمر بَاحِرٌ وبَحْرَانِي، أي: شديد الحُمْرة، ثم إنما يحكم بالتمييز بثلاثة شروط، شرطان منها في القوى وهما: ألا يزيد على خمسة عشر يوماً، ولا ينقص عن يوم وليلة، وإلا كان زائداً على أكثر الحيض أو ناقصاً عن أقله فلا يمكن تحيضها فيه. والثالث: في الضعيف: وهو ألا ينقص عن خمسة عشر يوماً، وذلك لأنا نريد أن نجعل الضَّعيف طهراً، والقويّ بعده حَيْضَة أخرى، وإنما يمكن جعله طهرًا إذا بلغ أقل الطّهر، فلو رأت ستة عشر دماً أسود ثم أحمر -فقد فقد الشرط الأول ولو رأت يوماً أو نصف يوم أسود ثم أحمر- فقد الشرط الثَّاني، ولو رأت يوماً وليلة دماً أسود وأربعة عشر أحمر، ثم عاد الأسود -فقد فقد الشرط الثالث- وهو أْلا ينقص الضَّعيف عن خمسة عشر. وقول الأصحاب ينبغي ألا ينقص الضعيف عن خمسة عشر يوماً أرادوا خمسة عشر على الاتِّصال، وإلا فلو رأت يوماً أسود ويومين أحمر وهكذا أبداً فجملة الضَّعيف في الشهر لم ينقص عن خمسة عشر يوماً لكن لما لم يكن على الاتِّصَال، لم يكن ذلك تمييزاً معتبراً. ثم بماذا نعتبر القوة والضعف؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو الذي ذكره في الكتاب أن الاعتبار في القوة والضعف بمجرد اللون فالأسود قوي بالإضافة إلى الأحمر، والأحمر قوي بالإضافة إلى الأشقر، والأشقر أقوى من الأصفر والأكدر إذا جعلناهما حيضاً. وادعى إمام الحرمين -قدس الله روحه- كون هذا الوجه متفقًا عليه، وقال: لو رأت خمسة سواداً مع الرائحة المنعوتة في الخبر حيث قال: "لَهُ رَائِحَةٌ تُعْرَفُ" (¬2) وخمسة سوادًا بلا رائحة فهما دم واحد وفاقاً. ¬
والوجه الثاني: وهو الذي ذكره أصحابنا العراقيون وغيرهم: أن القوة تحصل بإحدى خصال ثلاث اللون، أما ذكرنا في الوجه الأول والرّائحة، فالذي له رائحة كريهة أقوى مما [لا] (¬1) له رائحة والثَّخن، فالثَّخِينُ أقوى من الرقيق فيجب أن يكون قوله: "والقوي هو الأسود أو الأحمر بالاضافة إلى لون ضعيف بعده" معلماً بالواو، لهذا الوجه، على أن الأصحَّ هذا الوجه، على خلاف ما ذكره صاحب الكتاب، ألا ترى أن الشافعي -رضي الله عنه- ذكر في صفة الحيض أنه مُحْتَدِمٌ ثَخِينٌ له رائحة، وورد في الخبر التَّعرض لغير اللون، كما ورد التَّعرض للون، وعلى هذا، فلا يشترط اجتماع الصفات كلها، بل كل واحدة منها تقتضي القوة وحدها، ولو كان بعض دمها موصوفاً بصفة من الصِّفات الثلاث والبعض خالياً عن جميعها - فالقوي هو الموصوف بها، وإن كان للبعض صفة وللبعض صفتان فالقوي الثَّاني، وإن كان للبعض صفتان وللبعض الصفات الثلاث فالقوي الثاني، وإن وجد في البعض صفة وفي البعض أخرى، فالحكم للسابق منهما، كذلك ذكره في "التَّتمة"، وهو موضوع التأمُّل. ثم إذا وجدت الشرائط الثلاث -للتمييز- فلا يخلو إما أن يتقدم القوي أو يتقدم الضعيف، فإن تقدم القوي نظر إن استمر بعده ضعيف واحد، كما إذا رأت خمسة سواداً ثم خمسة حمرة مستمرة، فأيام القوي حيض وأيام الضعيف اسْتِحَاضة، لما سبق من الخبر، ولا فرق بين أن يَتَمَادَى زمان الضَّعيف ويين أن يقصر على ظاهر المذهب، وفيه وجهان آخران: أحدهما: أن الضَّعيف إن كان مع القوي قبل تسعين يوماً فما دون ذلك، عملنا بالتَّمييز، وقلنا: هي مستحاضة في أيام الضَّعيف، وإن جاوز ابتدأت بعد التِّسعين حيضة أخرى، وجعلنا كل دور تسعين. ذكره إمام الحرمين، بناء على ما قاله القَفَّال في حَدِّ العادة المردود إليها، وسنذكر ذلك في باب النِّفَاس. والوجه الثاني: ذكر في "التَّتمة" أن من شرط اعتبار التَّمييز ألا يزيد مجموع القوي والضعيف على ثلاثين يوماً فإن زاد سقط حكم التّمييز، لأن الثلاثين لا تخلو عن حَيْضَةٍ وطهر في الغالب. وليس بعض المقادير بعد مجاوزة الثلاثين أولى بأن يجعل دوراً من بعض، فعلى هذا ينضم شرط رابع إلى الشروط الثلاثة المشهورة. والأصح الأول؛ لأن إخبار التمييز مطلقة، وهو الذي يوافق كلام الشَّافعي -رضي الله عنه- فإنه قال: فإذا ذهب ذلك الدّم يعني القوي، وجاءها الدم الأحمر الرقيق المشرق، فهو عِرْقٌ وليست بالحَيْضَة، فعليها أن تَغْتَسِلَ أطلق الكلام إطلاقاً هذا إذا استمر بعد القوي ضعيف واحد. أما إذا وجد بعده ضعيفان، كما إذا رأت خمسة ¬
سواداً، ثم خمسة حمرة، ثم صفرة مطبقة، فالحمرة المتوسطة تلحق بالقوي قبلها أم بالضعيف بعدها؟ حكى صاحب الكتاب فيه وجهين: أحدهما: أنها تلحق بالسَّواد إن أمكن وذلك بأن لا يزيد المجموع على خمسة عشر؛ لأنهما قويان بالإضافة إلى ما بعدهما، وقد أمكن جعلهما حيضاً فصار كما لو كان كل ذلك سواداً أو حمرة، فإن لم يمكن الجَمْع حينئذ تلحق الحمرة بالصّفرة. والثاني: اْنها تُلْحَقُ بالصُّفْرة بكل حال؛ لأنها إذا دارت بين أن تلحق بالقوي قبلها، وبين أن تلحق بالضَّعيف بعدها، والاحتياط هو الثاني، فيصار إليه ويحصل من هذا السِّياق إثبات وجهين في حالة إمكان الجمع والجَزْم بالإلحاق بالصُّفْرة في حالة عدم الإمكان، وفي كل واحدة من الحالتين طريقة أخرى سوى ذلك. أما في حالة إمكان الجمع فقد قطع بعضهم بضم الحُمْرة إلى السَّواد ونفي الخلاف فيه. وأما في حالة عدم الإمكان فقد أثبت بعضهم وجهين: أحدهما: أن حكم الحمرة حكم السَّواد لقوتها، ولو زاد السواد على خمسة عشر، لكانت فاقدة للتمييز. فكذلك إذا زادت مجموعهما. وأظهرهما: أن حيضها أيام السَّوَاد لا غير لاختصاصها بزيادة القوي بالأولية أيضاً. فإن قلت: إنما يكون ما ذكره جزماً بالإلحاق بالصُّفْرَة عند عدم الإمكان إذا كان حكم المستثنى في قوله: "إلا أن تكون الحُمْرة أحد عشر" الإلحاق بالصُّفرة ويحتمل أنه أراد إلا أن تكون الحُمْرَة أحد عشر فتكون فاقدة للتَّمْيِيزِ وهو أْحد الوَجْهَيْنِ المحكيين في الحالة الثانية، وعلى هذا التَّقْدير فيكون ما ذكره إثباتاً للخلاف في الحالتين، فنقول: نعم هذا محتمل لكن إيراده في "الوسيط" يبين أنه أراد ما ذكرناه. ثم اعلم أن قوله: "إذا أمكن الجمع إلا أن تصير الحمرة [أحد عشر" ليس بجيد من جهة اللفظ؛ لأنه يستحيل أن يكون ذلك استثناء من قوله: "إذا أمكن الجمع"] (¬1) فإن حالة عدم الإمكان لا تستثنى من الإمكان وإنما هو استثناء من قوله: "يلحق بالسَّواد" وحينئذ في قوله: "إذا أمكن الجمع" ما يغني عن هذا الاستثناء وفي الاستثناء ما يفهم المقصود ويغني عن قوله: "إذا أمكن الجمع" فأحدهما غير محتاج إليه فإن أراد التَّمثيل فالسَّبيل أن نقول، إذا أمكن الجمع بأن لا تزيد الحمرة على أحد عشر، ولو تقدم الأضعف من الضعيفين، وتأخَّر الأقوى منهما كما إذا رأت سواداً، ثم صفرة، ثم حمرة فهذه الصُّورة تترتب على ما إذا كانت الحمرة متوسطة، فإن ألحقناها بالسَّواد، فالحكم ¬
كما إذا رأت سواداً ثم حمرة ثم عاد السواد، ولا يخفى مما ذكرنا من شرائط التمييز، وإن ألحقناها عند الوسط بالصفرة، فالصفرة المتوسطة هاهنا أولى إن تلحق بما بعدها -والله أعلم-. قال الغزالي: هَذَا إِذَا تَقَدَّمَ القَوِيُّ، فَلَوْ رَأَتْ خَمْسَةً حُمْرَةً ثُمَّ خَمْسَةً سَوَاداً ثُمَّ اسْتَمَرَّتِ الحُمْرَةُ فَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّظَرَ اِلَى لَوْنِ الدَّمِ لاَ إِلَى الأَوَّليَّةِ، وَقِيلَ يُجْمَعَانِ إِذَا أَمْكَنَ الجَمْعُ بِأَنْ لَمْ يَزِدِ الْمَجْمُوعُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ. قال الرافعي: ذكرنا أن بعد شرائط التَّمييز لا يخلو الحال إما أن يتقدم الدَّم القوي، وقد بيناه أو يتقدم الضَّعيف كما إذا رأت خمسة حمرة ثم سواداً ثم عادت الحمرة واستمرت فإن أمكن الجمع بين الحمرة والسواد مثل أن ترى خمسة حمرة وخمسة سواداً ففيه ثلاثة أوجه محكية عن ابن سريج: أظهرها: أن النظر إلى لون الدم دون الأَوَّلية، فتكون حَائضًا في خمسة السواد ومُسْتَحَاضَة قبلها وبعدها، ووجهه ظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ دَمَ الْحَيْضِ أسْوَدُ يُعْرَفُ" (¬1) وأيضاً فإن ما سوى السَّوَاد ضعيف فلا يجعل حَيْضاً، كما لو كان متأخرًا عن السَّوَاد. والثاني: أنه يجمع بين السَّواد الحمرة قبله، فتحيض فيهما؛ لأن للحمرة قوة السَّبق، وللسَّواد قوة اللون وقد أمكن الجمع. والثالث: أنه يسقط التَّمييز؛ لأن العدول عن أول الدَّم مع حدوثه في زمان الإمكان بعيد، والجمع بين السَّواد والحمرة يخالف عادة التَّمييز، فلا يبقى إلا أن يحكم بسقوط التَّمييز، وإن لم يكن الجمع بين الحمرة والسَّوَاد، كما إذا كانت الحُمْرَة السابقة خمسة والسواد أحد عشر ترتب على الحالة الأولى إن قلنا: ثم حيضها الدم القوي، فكذلك هاهنا. وإن قلنا: هي فاقدة للتَّمييز فهاهنا أولى. فإن قلنا: يجمع بينهما فقد تعذر الجمع هاهنا. فهي فاقدة للتَّمييز وسنبيَّنُ حكم المبتدأة التي لا تمييز لها. وفيه وجه آخر أن حَيْضَها هاهنا الدّم المتقدّم على السَّواد نظراً إلى الأوَّلية فلو صار السَّواد ستة عشر فَقَدْ فَقَدَ أحد شروط التمييز فهي كمبتدأة لا تمييز لها ويعود الوجه الصَّائر إلى رعاية الأولية الذي ذكرناه الآن وهو ضعيف. وسنعيد هذه الصُّورة لغرض آخر إن شاء الله تعالى وإذا فَرَّعْنَا على الأصَحِّ وهو أن حيضها السَّواد فلو رأت المبتدأة خمس عشرة حمرة أولاً ثم خمسة عشر سواداً تركت الصَّوم والصَّلاة في جميع هذه المدة. ¬
أما في الخمسة عشر الأولى؛ فلأنها ترجو الانقطاع وأما في الثانية فلأن السَّواد بين ان ما قبله استحاضة وأنه هو الحيض أن اجتمع شرائط التَّمييز ويجوز أن يكون كذلك. قال الأئمة -رحمهم الله- ولا يتصوَّر مستحاضة تَدَعَ الصَّلاة شهراً كاملاً إلا هذه على هذا الوجه، وزاد أبو سعيد المتولّي نقال: ولو زاد السَّواد على الخمسة عشر والصورة هذه فقد فات شرط التمييز وحكمها أن ترد من أول الأحمر إلى يوم وليلة أو إلى ست أو سبع على اختلاف قولين نذكرهما من بعد فيكون ابتداء دورها الثَّاني الحادي والثلاثون فإن حيضناها فيه يوماً وليلة فهذه امرأة تُؤْمَرُ بترك الصَّلاة أحداً وثلاثين يوماً وإن حيضناها ستاً أو سبعاً فهذه امرأة تؤمر بتركها ستًّا وثلاثين أو سبعاً وثلاثين. قال الغزالي: ثُمَّ المُبْتَدَأَةُ إِذَا انْقَلَبَ دَمُهَا إِلَى الضَّعِيفِ فِي الدَّورِ الأوَّلِ فَلاَ تُصَلِّي فَلَعَلَّ الضَّعِيفَ يَنْقَطِعُ دُونَ الخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَيَكُونَ الكُلُّ حَيْضاً، فَإِنْ جَاوَزَ ذَلِكَ نَأْمُرُهَا بِتَدَارُكِ مَا فَاتَ فِي أَيَّامِ الضَّعِيفِ نَعَمْ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي كَمَا ضَعُفَ (م) الدَّمُ فَتَغْتَسِلُ إِذْ بَانَ اسْتِحَاضَتُهَا، وَمَهْمَا شُفِيَتْ قَبْلَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَالضَّعِيفُ حَيْضٌ مَعَ القَوِيِّ. قال الرافعي: إذا بلغت الأنثى سنَّ الحيض فبدأ بها الدم لزمها أن تترك الصَّلاة والصوم كما ظهر الدم ولا يأتيها الزَّوج ثم لو انقطعت لما دون أقل الحيض بأن أنه لم يكن حيضاً، فتقضي الصلاة والصوم هذا هو المذهب. وفيه وجه آخر أنها لا تترك الصّوم والصلاة حتى تمضي مدّة أقل الحَيْض من أوَّل ظهور الدم؛ لأن وجوبها مستيقن وكونه حيضاً مشكوك فيه فلا يترك اليقين بالشك وهذا ما ذكره الشيخ أبو علي في شرح الفروع حيث قال: "إذا ابتدأ الدم بها في رمضان وهي بنت خمس عشرة سنة فليس لها أن تفطر، حتى يدوم قدر أقل الحَيْض، فإنها حينئذ تعلم أنه حيض. والظّاهر من المذهب الأول؛ لأن الدَّمَ الخارج من مخرج الحيض في وقت الحيض يكون حيضًا غالباً وظاهراً. وإذا عرف ذلك فنقول: إذا كانت المبتدأة مميَّزة، فلا تشتغل بالصَّوم والصَّلاة بانقلاب دمها من القوي إلى الضَّعيف، فإنها لا تدري أنه تجاوز الخمسة عشر أم لا، وبتقدير ألا يجاوز يكون الضَّعيف حيضاً مع القوي فلا بد لها من التَّربُّص لتتبين الحال، فإذا تربَّصت وجاوز الخمسة عشر عرفت أنها مُسْتَحاضة وإن حيضها منحصر في أيام القوي على ما سبق فتتدارك ما فات من الصَّوم والصَّلاة في أيام الضعيف هذا حكم الشهر الأول، وأما في الشهر الثاني وما بعده فإذا انقلب الدم إلى الضَّعيف اغتسلت وصامت، وصلت ولم تتربّص ولا مخرج ذلك على أن العادة هل ثبتت بمرة أم لا؟ لأن الاستحاضة علة مُزْمِنَة، والظاهر دوامها ثم لو اتفق الانْقِطَاع قبل الخمسة عشر، وشفيت
في بعض الأدوار فالضَّعيف حيض مع القوي كما في الشهر الأول. واعلم أنه لا فرق في كون الكل حيضاً مهمًّا انقطع الدم قبل مجاوزة الخمسة عشر بين أن يتقدم القوي على الضعيف أو يتقدم الضَّعيف، هذا هو المشهور المقطوع به. وحكى في "التَّهذيب" وجهين: فيما إذا تقدم الضَّعيف على القوي ولم يزد على الخمسة عشر، كما إذا رأت خمسة حمرة وخمسة سواداً وانقطع دمها، أحد الوجهين ما ذكرنا. والآخر أن حيضها أيام السواد؛ لأنه أقوى وما قبله لا يتقوّى به، بخلاف ما بعده فإنه يتبعه وحكى وجهين أيضاً فيما إذا رأت خمسة حمرة وخمسة سواداً وخمسة حمرة. أصحهما: أنَّ الكل حيض (¬1). والثاني: حيضها السّواد وما بعده لا، ثم المفهوم من إطلاقهم انقلاب الدَّم إلى الضَّعيف أن يتمحَضَّ ضعيفاً حتى لو بقيت خطوط من السواد وظهرت خطوط من الحمرة لا ينقطع حكم الحيض، وإنما ينقطع إذا لم يبق السَّواد أصلاً. وصرح إمام الحرمين بهذا المفهوم. وقوله في الكتاب: "كما ضعف الدم" معلم بالميم؛ لأن مالكاً قال المُميّزة بعد الدم القوي تتحيض ثلاثة أيام من الدم الضَّعيف أيضاً احتياطاً. لنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وإذَا أَدْبَرَتِ الحَيْضَةُ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي" (¬2). وأيضاً فإنا لا نجعل شيئاً من الدم القوي طهراً إحتياطاً فكذلك لا نجعل شيئاً من الدَّم الضعيف (¬3) حيضاً. ولك أن تعلم قوله في آخر الفصل: "فالضَّعيف حيض مع القوي" بالواو؛ لأنه يشمل ما إذا تقدَّم الضَّعيف وما إذا تقدَّم القوي، وفي حالة تقدم الضَّعيف الوجه الذي حكيناه عن "التَّهْذِيب" -والله أعلم-. قال الغزالي: المُسْتَحَاضَةُ الثَّانِيَةُ مُبْتَدَأَةٌ لاَ تَمْيِيزَ لَهَا أو فَقَدَتْ شَرْطَ التَّمْيِيزِ فِيهَا قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُرَدَّ إِلَى عَادَةِ نِسَاءِ بَلَدْتِهَا عَلَى وَجه، أَوْ نِسَاءِ عَشِيرَتِهَا عَلَى وَجْهِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَنْقُصَ عَنْ سِتٍّ وَلاَ يَزِيدَ علَى سَبْعٍ لِقَولِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "تَحيِّضِي فِي عِلْمِ اللهِ سِتًّا أَوْ سَبْعاً كَمَا تَحيضُ النِّسَاءُ وَيطْهُرْنَ"، وَالقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَى أَقَلِّ مُدَّة الحَيْضِ احْتيَاطاً لِلْعِبَادَةِ، وَأَمَّا فِي الطُّهْرِ فَتُرَدُّ إِلَى أَغْلَبِ العَادَاتِ وَهِيَ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ لِأَنَّهُ ¬
أَغْلَبُ فِي الاحْتِيَاطِ وَقيلَ: إِلَى تِسْعِ وَعِشْرِينَ لِأَنَّهُ تتمَّةُ الدَّوْرِ. قال الرافعي: [المبتدأة] التي لا تَمْيِيزَ لها وهي التي يكون جميع دَمِهَا من نوع واحد ينظر في حالها إن لم تعرف وقت ابتداء دمها فحكمها حكم المتحيَّرة؛ لأن مردَّها على ما سيأتي يترتب في كل شهر على أول مُفَاتَحَة الدم، فإذا كان ذلك مجهولاً لزم التحَيُّر، وإن عرفت وقت الابتداء وهي الحالة المرادة في الكتاب، ففي القدر الذي تحيض فيه قولان: أصحهما: أنها تحيض أقل الحيض وهو يوم وليلة؛ لأن سقوط الصلاة عنها في هذا القدر مستيقن، وفيما عداه مشكوك فيه، فلا تترك اليقين، إلا بيقين أو أمارة ظاهرة كالتَّمميز والعادة. والثاني: ترد إلى غالب عادات النساء، وهو ست أو سبع، لأن الظاهر اندراجها في جملة الغالب. وقد روى أن حمنة بنت جحش قالت: "كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً شَدِيدَةً فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: تَحَيَّضِي فِي عِلْم اللهِ سِتَّةِ أيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّام ثُمَّ اغْتَسِلِي فَإذَا رَأَيْتِ أَنَّكِ قَدْ تَطَّهَّرتِ فَصَلِّي أَرْبَعاً وَعِشْرِين لَيْلَةً أَوْ ثَلاَثاً وَعِشْرِينَ لَيلَةً وَأَيَّامَهَا وَصُومِي وَصَلِّي فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُكِ". وروى أنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "تَحَيَّضِي فِي عِلْمِ اللهِ سِتًّا، أَوْ سَبْعاً كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ وَيطْهُرُنَ مِيقَاتَ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ". فقال جماعة من الأصحاب: منشأ القولين الذين ذكرناهما تردُّد الشّافعي -رضي الله عنه- في أن حمنة كانت مبتدأة أو معتادة، إن قلنا: كانتَ معتادة رددنا المبتدأة إلى الأقل أخذاً باليقين، ومن قال بهذا قال: لعلّه عرف من عادتها أنها أحد العددين الغالبين، إما السّت أو السّبع، لكن لم يعرف عينه فلذلك قال: تحيضي ستّاً أو سبعاً. وإن قلنا: كانت مبتدأة رددنا المبتدأة إلى الغالب. وقوله: "في علم الله" أي: فيما علمك الله من عادتك، إن قلنا: كانت معتادة ومن غالب عادات النّساء، إن قلنا: كانت مبتدأ فإن فرعنا على القول الثاني فهل الرَّد إلى السّت أو السّبع على سبيل التَّخيير بينهما أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه على التَّخيير لظاهر الخبر فتحيض إن شاءت ستّاً، وإن شاءت سبعاً، ويحكى هذا عن شرح أبي إسحاق المَرُوزِيّ. وزعم الحناطيُّ أنه أصح الوجهين: والثاني: وهو الصحيح عند الجمهور، أنه ليس على التَّخيير ولكن تنظر في عادات النّساء أهن يحضن ستاً أو سبعاً، ومن النسوة المنظور إليهن فيه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أن الاعتبار بنسوة عشيرتها من الأبوين جميعاً؛ لأن طبعها إلى طباعهن أقرب، فإن لم يكن لها عشيرة فاعتبار بنساء بلدها. والثاني: أن الاعتبار بنساء العصبات خاصة. والثالث: يعتبر نساء بلدها وناحيتها ولا تخصص بنساء العصبة ولا نساء العشيرة. وإذا عرفت ذلك فعليها أن تجتهد وتنظر في أمر النسوة المعتبر بهن، فإن كنّ يحضن جميعاً ستًّا أو سبعاً، أخذت بذلك، وعلى هذا حملوا على قوله -صلى الله عليه وسلم-: "تَحَيَّضِي فِي عِلْمِ اللهِ سِتًّا أَو سَبْعًا". وقالوا: إنه على التَّنويع أي إن كنّ يحضن ستًّا فتحيضي ستًّا، وإن كنّ يحضن سبعاً فتحيضي سبعاً، وإن كانت عادتهن جميعاً أقل من ستّ أو أكثر من سبع ففيه وجهان: أظهرهما: أنها ترد إلى الستّ في الصورة الأولى وإلى السَّبع في الأخرى أخذاً بالأقرب إلى عادتهن والخبر عين العددين وغالب عادات النِّساء لا تجاوزهما، فلا عدول عنهما. والثَّاني: أنها ترد إلى عادتهن إلحاقاً لها بالنِّسوة والمعتبر بهن. والوجه الأول هو الذي ذكره في الكتاب حيث قال: "بشرط إلاَّ ينقص عن ست ولا يزيد عن سبع" وإن اختلفت عادتهن فحاضت بعضهن ستًّا وبعضهن سبعاً، ردت إلى الأغلب فإن استوى البعضان ردّت إلى السِّت احتياطاً للعبادة، وكذلك الحكم لو حاضت بعضهن دون السِّتِّ وبعضهن فوق السَّبع، هذا بيان مردها في الحَيض. وأما في الطُّهر فإن قلنا: إنها مردودة في الحيض إلى الغالب، فكذلك في الطّهر فترد إلى ثلاث وعشرين أو أربع وعشرين كما نطق به الخبر. وإن قلنا: أنها مردودة إلى الأقل ففي طهرها قولان: أحدهما: أنها ترد إلى أقل الطهر أيضاً فيكون دورها ستة عشر يوماً وإذا جاء السابع عشر استأنفت حيضة أخرى. وأصحهما: أنها لا ترد في الطّهر إلى الأقل؛ لأن الرد في الحيض إلى الأقل إنما كان للاحتياط، ولو رددنا في الطّهر إلى الأقل لكثر حيضها لعوده على قرب، وذلك نقيض قضية الاحتياط، وعلى هذا فوجهان: أحدهما: أنها ترد إلى الغالب، وهو ثلاث وعشرون أو أربع وعشرون. وأظهرهما: أنها تردّ إلى تسع وعشرين ليتمّ الدور ثلاثين مراعاة لغالب الدور، وإنما لم نحمل الحيض على الغالب احتياطاً للعبادة.
ثم نعودُ إلى ما يتعلق بألفاظ الكتاب، وخاصة أما قوله: مبتدأة لا تمييز لها أو فقدت شرط التَّمييز فاعلم أنَّ التي لا تَمْيِيزَ لَهَا هي التي ترى الدّم كلها نوعاً واحداً، والتي فقدت شرط التَّميِيز أن ترى الدَّم على نوعين لكن القوي يكون دون يوم وليلة أو أكثر من خمسة عشر يوماً، أو يكون الضَّعيف دون الخمسة عشر وحكمهما واحد في جريان القولين. أحدهما: الرد إلى الأقل. والثَّاني: إلى الغالب وابتداؤه على القولين من أوَّل ظهور الدَّم، وعن ابن سريج: "أنه لو ابتدأ الدَّم الضَّعيف وجاوز القوي بعده أكثر الحيض، فالضَّعيف استحاضة وابتداء حيضها على اختلاف القولين من أول القوي والمعنى العمل بالتَّمييز بقدر الإمكان" ونظيره ما إذا رأت خمسة حمرة ثم اسودّ دمها وعبر الخمسة عشر، وهذه هي الصورة التي وعدنا من قبل أن نعيدها. ولك أن تعلم قوله: "إلى عادة نساء بلدها على وجه أو نساء عشيرتها على وجه" بالحاء والميم والألف، لأن أبا حنيفة لا يردها إلى هذا ولا إلى ذاك، إنما يردها إلى أكثر الحَيْضِ وهو عشرة عنده، وبه قال مالك وأحمد في إحدى الرِّوَايات عنهما إلا أن أكثر الحَيْضِ عندهما خمسة عشر يوماً، وعن مالك روايتان أخريان (¬1): إحداهما: أنها ترد إلى عادة لدَاتِهَا (¬2)، وتستظهر بعد ذلك بثلاثة أيّام، بشرط أَلاَّ تجاوز خمسة عشر يوماً. والثَّانبة: أنها ترد إلى عادة نسائها [والاستظهار] (¬3) كما ذكرنا، وعن أحمد روايتان أخريان مثل قولينا. وقوله: "وأما في الطّهر فترد إلى أغلب العادات إلى آخره" يجوز أن يكون مبنياً على قول الرّد إلى الأقل فإنَّ في طهرها على هذا القول اختلافاً كما بيّنّاه، وهذا قضية إيراده في "الوَسِيطِ"، ويجوز أن يجعل كلاماً مبتدأ غير مبني على أحد القولين، فإن قدر الطّهر إذا أفردناه بالنّظر مختلف فيه ثم الرد على الغالب يخرج على القولين جميعاً، وما عداه يختصُّ بقول الرد إلى الأقلّ، وليكن قوله: "إلى أغلب العادات" معلماً مما ذكرنا من العلامات، فإن من رد إلى أكثر الحيض لا يرد في الطّهر إلى أغلب العادات، وإنما يرد إلى الباقي من الثَّلاثين. ¬
وقوله: "وهي أربع وعشرون" يقتضي كون الأربع والعشرين أغلب من ثلاث وعشرين وهو ممنوع، ومن قال بهذا الوجه لا يرد لعين الأربع والعشرين، بل يقول بردها إلى الطُّهر الغالب وهو بين ثلاث وعشرين وبين أربع وعشرين حكاه إمام الحرمين هكذا، ثم قال: "وكان شيخي يرى على هذا الوجه أن ترد إلى أربع وعشرين فإن الاحتياط فيه أبلغ منه في ثلاث وعشرين، فإذا ذكره صاحب الكتاب مصير إلى كلام الشيخ أَبِي مُحَمَّدٍ، وقضية خبر حمنةَ أن نعتبر طهرها بعادة النِّساء المنظور إليهنّ كما في الحيض، فليكن قوله: "وهو أربع وعشرون" معلماً بالواو لما رويناه ثم إيراده يقتضي الميل إلى الرَّدِّ إلى غالب الطّهر، وتصحيح هذا الوجه، وعلى هذا التقدير يكون دورها خمسة وعشرين إذا ردت إلى أربع وعشرين في الطّهر وإلى الأقل في الحيض، لكن ما اتفقت طرق الأصحاب عليه أن ظاهر المذهب اشتمال كل شهر على حيض وطهر لها، سواء ردت إلى الأقل أو الغالب وذلك يقتضي ترجيح الوجه الصائر إلى تسع وعشرين وبالله التَّوفيق. قال الغزالي: ثُمَّ فِي مُدَّةِ الطُّهْرِ تَحْتَاطُ كَالْمُتَحَيِّرَةِ أَوْ هِيَ كَالْمُسْتَحَاضَاتِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ. قال الرافعي: في ترك الصَّوم والصلاة في الشهر الأول إلى تمام الخمسة عشر، فإذا جاوز الدم الخمسة عشر تبيّنت الاسْتِحَاضَة وعرفنا أن مردها الأقل، والغالب على اختلاف القولين فإن رددناها إلى الأقل قضت صلوات أربعة عشر يوماً، وإن رددناها إلى السِّتِّ أو السَّبع، قضت صلوات تسعة أيام أو ثمانية وأما في الشهر الثاني وما بعده، فينظر إن وجدت تمييزاً بالشّروط السابقة قبل تمام المرد أو بعده، فلا نظر إلى ما تقدم وهي في ذلك الدور كمبتدأة مميزة. مثاله: مبتدأة رأت أولاً دماً أحمر، ثم في الشّهر الثاني رأت خمساً دماً أسود والباقي أحمر فحيضها في الشهر الأول الأقل أو الغالب، وفي الشَّهر الثاني خمسة السّواد أخذاً بالتّمييز فإنه شاهد في صفة الدّم فالنظر إليه أولى، وإن استمر فقد التمييز فيما بعد الشهر الأول، وهذا مقصود الفصل، ومحل القولين فكما جاوز دمها المرد وهو الأقل أو الغالب فتغتسل وتصوم وتصلّي؛ لأن الظَّاهر دوام الاسْتِحَاضَةِ، ثم لو شفيت في بعض الشُّهور قبل الخمسة عشر بأن أنها غير مستحاضة فيه، وأن جميع الدم حيض فتقضي ما تركته من الَّصوم في المرد، وما صامته فيما وراءه أيضاً لتبيّن الحيض فيه، وتبين أن غسلها لم يصح عقب انقضاء المرد، ولا تأثم بفعل الصوم والصلاة والوطء فيما وراء المردَّ، لأنها معذورة في بناء الأمر على الظَّاهر، وهل يلزمها الاحتياط فيما وراء المرد إلى تمام الخمسة عشر؟ فيه قولان:
أحدهما: أنها تحتاط كالمتحيِّر، لأن احتمال الحيض والطهر والانقطاع قائم إلى تمام الخمسة عشر وإنما تحتاط المتحيِّرة لقيام هذه الاحتمالات، فكذلك هذه. وأصحهما: أنها لا تحتاط كسائر المُسْتَحَاضَاتِ، لأَنَّا قد جعلنا لها مردًّا في الحيض فلا عبرة بما بعده، كما في المعتادة والمميزة فإن قلنا: تحتاط فلا تحل للزوج إلى تمام الخمسة عشر ولا تقضي في هذه المدة فوائت الصوم والصلاة والطواف؛ لاحتمال أنها حائض ويلزمها الصَّوم والصَّلاة؛ لاحتمال أنَّها طاهر، وتغتسل لكل صلاة لاحتمال الانْقِطَاع، وتقضي صوم جميع الخمسة عشر، أما في المرد فلأنها لم تصم، وأما فيما وراءه فَلِاحْتِمَال الحيض. وإن قلنا: لا تحتاط فتصوم وتصلي ولا تقضي شيئاً، ويأتيها زوجها، ولا غسل عليها، وتقضي الفوائت، وعلى القولين لا تقضي الصَّلوات المأتي بها بين المرد والخمسة عشر؛ لأنَّها إن كانت طاهرة فقد صلَّت وإن كانت حائضاً فليس عليها قضاء الصلوات، وحكى في "المُهَذَّبِ" هذا الخلاف وجهين، والأشهر الأثبت القولان ولا يخفى عليك بعد ما ذكرناه شيئان: أحدهما: أن قوله: "ثم في مدة الطّهر" يعني به مدة الطُّهر إلى تمام الخَمْسة عشر لا إلى آخر الشهر فإن ما بعد الخمسة عشر طهر بيقين. والثاني: أن في وجوب قضاء الصَّلاة على المتحيرّة خلافاً نذكره في موضعه وهاهنا لا يجب قضاء الصَّلاة بحال، وإن أمرنا بالاحتياط فإذا قلنا: إنَّها تحتاط كالمتحيرة في قول وجب أن يستثنى قضاء الصلاة، وصاحب الكتاب لا يحتاج إلى هذا الاستثناء؛ لأنه نفى وجوب القضاء على المتحيّرة على ما سيأتي. قال الغزالي: المُسْتَحَاضَةُ الثَّالِثَةُ المُعْتَادَةُ وَهِيَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهَا عَادَةٌ فَتُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا فِي وَقْتِ الحَيْضِ وَقَدْرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ تَحِيضُ خَمْساً وَتَطْهُرُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَجَاءَهَا دَوْرٌ فَحَاضَتْ سِتًّا ثُمَّ اسْتُحِيضَتْ بَعْدَ ذَلِكَ رَدَدْنَاهَا إِلَى السِّتِّ، لِأَنَّ الصَّحِيحَ ثُبُوتُ العَادَةِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. قال الرافعي: المعتادة تنقسم إلى ذاكرة لعادتها وإلى ناسية، والذي بقي من هذا الباب يشتمل على قسم الذَّاكرة، وأما النَّاسية فقد أفرد لها الباب التَّالي لهذا الباب والذَّاكرة تنقسم إلى فاقدة لِلتَّمْيِيزِ وإلى واجدة، أما الفاقدة وهي المقصود بهذا الفصل فهي مردودة إلى عادتها القديمة خلافاً لمالك حيث قال: لا اعتبار بالعَادَةِ. لنا ما روى عن أم سلمة أن امرأة كانت تهريق الدِّمَاءَ على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستفتيت لها فقال: "لِتَنْظُرْ عَدَدَ الأيَّامِ وَاللَّيَالِي الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ مِنَ الشَّهْرِ قَبْلَ أَنْ
يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا فَلْتَتْرُكِ الصَّلاةَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ فَإِذَا خَلَفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِل ثُمَّ لْتَسْتثْفِرْ بِثَوْبٍ ثُمَّ لِتُصَلِّ" (¬1). وتفصيل القول فيها أن يقال: عادتها السابقة إِمَّا أَلاَّ يَكُونَ فِيهَا اختلاف لا في القدر ولا في الوقت أو يكون فيها اختلاف فهما حالتان، فأما في الحالة الأولى فننظر إن تكررت عادة حيضها وطهرها مراراً، ردّت إلى عادتها في قدر الحيض ووقته، وفي الطُّهر أيضاً. وظاهر المذهب أنه لا فرق بين أن تكون عادتها أن تحيض أيَّاماً من كل شهر أو من كل شهرين أو من كل سنة. وقيل: بخلاف ذلك وهو الذي حكاه صاحب الكتاب في باب "النِّفَاسِ" ونذكره ثم إن شاء الله تعالى، وإن لم يتكرر ما سبق من عادة الحَيْضِ والطُّهر ففيه خلاف مبني على أن العادة بماذا تثبت؟ وفيه وجهان مشهوران: أصحهما: وبه قال ابن سريج وأبو إسحاق: إنها تثبت بمرَّة واحدة واحتجوا عليه بقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أم سلمة: فَلْتَنْظُرْ عَدَدَ الأَيَّام وَاللَّيَالِي الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ مِنَ الشَّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا" (¬2). اعتبر الشَّهر الذي قبل الاستحاضة. والثاني: ويحكى عن ابْنِ خَيْرَانَ أنه لا تثبت العادة إلا بمرتين؛ لأن العادة مشتَّقة من العود، وإذا لم يوجد إلا مرَّة واحدة فلا عود. وَحَكَى أبو الحسن العبادي وجهاً ثالثاً أنها لا تثبت إلاَّ بثلاث مرَّات لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "دَعِي الصَّلاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ" (¬3). وأقل الجمع ثلاثة، وضرب في الكتاب مثالاً لهذه القاعدة، فقال: لو كانت تحيض خمساً وتطهر خمساً وعشرين، فجاءها دور فحاضت فيه ستًّا، ثم استحيضت بعد ذلك فإن قلنا: العادة لا تثبت إلا بمرّة واحدة رددناها إلى الخمس، وإن قلنا: أنها تثبت بمرة رددناها إلى السِّت، وقلنا: ردها إلى ما قرب ونسخ ما قبله أولى ثم المعتادة في الشهر الأَوَّل من شهور الاسْتِحَاضة تتربَّص كالمبتدأة لجواز أن ينقطع دون الخمسة عشر، وإن جاوز عادتها فإن عبر الخمسة عشر قضت صلوات ما وراء أيَّام العادة ثم في الدُّور الثَّاني وما بعده إذا مضت أيام العادة اغتسلت وَصَامَتْ وَصَلَّتْ، لطهور الاستحاضة، ولا يتأتى هاهنا قول الاحتياط الذي ذكرناه في المبتدأة لقول العادة. ¬
الحالة الثانية: أن يكون في عادتها السَّابقة اختلاف فمن صورها: أن يكون لها عادة دائرة وقد ذكره في آخر الباب الثَّالث في فروع وكان ذكره في هذا الموضع أليق؛ لأنها نوع من العادات. ومنها: أن يكون في عاداتها المتقدِّمة على الاسْتِحَاضَةِ اختلاف في القدر، أَوْ في الوقت وسمى متقدمو الأصحاب الَّتي انتقلت عادتها وتغيَّرت عما كانت ثم استحيضت منتقلة ونحن نذكر من مسائلها صوراً ترشد إلى غيرها. منها: لو كانت تحيض خمسًا من أَوَّلِ كل شهر، وتطهر باقيه فحاضت في دور أربعاً من الخمس المعتادة، ثم استحيضت بعد ذلك فهذه قد انتقل حيضها من الكثرة إلى القلة، ولو حاضت في دور ستاً، ثم استحيضت فقد انتقل من القلّة إلى الكثرة، والحكم في الصورتين مبني على الخلاف الذي سبق في العادة، إن اثبتناها بمرة رددناها إلى ما قبل الاستحاضة، وإلا فالعادة القديمة، ولو كانت المسألة بحالها فرأت في دور ستّة أيام دماً، وفي دور عُقَيْبه سبعة، ثم استحيضت فإن أثبتنا العادة بمرة رددناها إلى السّبعة، وإلا فوجهان: أحدهما: أنها ترد إلى الخمسة ويتساقط العددان في الدّورين الأخيرين، لأن واحداً منهما لم يتكرر على حياله. وأظهرهما: أنها ترد إلى السِّتّة، لأن التِّكرر قد حصل فيها فإنها وجدت مرة وحدها ومرة مندرجة في السَّبعة، وإذا فرعنا على الوجه الثالث فلا شك في ردها إلى الخمسة ولو كانت المسألة بحالها فحاضت في دور الخمسة الثانية من الشهر فهذه قد تغير وقت حيضها، وصار دورها المتقدم على هذه الخمسة بتأخر الحيض خمسة وثلاثين، خمسة منها حيض والباقي طهر، فينظر إن تكرر هذا الدّور عليها بأن رأت الخمسة الثّانية دماً، وطهرت ثلاثين، ثم عاد الدم في الخمسة الثالثة من الشهر الآخر وعلى هذا مرارًا ثم استحيضت - فهي مردودة إليه فتحيض من أوَّل الدم الدائم خمسة، وتطهر ثلاثين وعلى هذا أبداً، وان لم يتكرّر هذا الدور كما إذا استمرّ الدم المتأخر المبتدأ من الخمسة الثانية، وصارت مُسْتَحَاضَة فهل تحيضه من أوله؟ أم لا؟ فيه وجهان عن أبي إسحاق: أنه لا حيض لها في هذا الشّهر والذي بدأ استحاضة كله إلى آخر الشَّهر فإذا جاء أول الشَّهر ابتدأت منه دورها القديم حيضًا وطهرًا. وقال الجمهور: حَيْضُهَا خمسة من الدم الذي ابتدأ من الخمسة الثانية، ثم إن قلنا: بثبوت العادة بمرة حكمنا لها بالطُّهر ثلاثين يوماً، وأقمنا عليها الدَّور الأخير أبداً، وإن لم نقل بذلك فوجهان: أظهرهما: أن خمسة وعشرين بعدها طهر، لأنه المتكرر من إطهارها. والثاني: أن باقي الشهر طهر لا غير، وتحيض الخمسة الأولى من الشَّهر الآخر،
وتراعي عادتها القديمة قدرًا ووقتًا، وإن رأت الخمسة الثانية دماً، وانقطع وطهرت بقية الشهر، ثم عاد الدّم، فقد صار دورها خمسة وعشرين فإن تكرر ذلك بأن رأت الخمسة الأولى من الشَّهر بعده دماً وطهرت عشرين وهكذا مراراً، ثم استحيضت فترد إليه، وإن لم يتكرر كما إذا عاد في الخمسة الأولى واستمر، فلا خلاف في أن الخمسة الأولى حيض، ويبنى حكم الطهر على الخلاف في العادة إن أثبتناها بمرَّة فطهرها عشرون، وإلا فخمسة وعشرون، ولو كانت المسألة بحالها فَطَهُرَتْ بعد خمستها المعهودة عشرين، وعاد الدَّم في الخمسة الأخيرة فهذه قد تغيَّر وقت حيضها بالتقدّم، وصار دورها خمسة وعشرين، فإن تكرر هذا الدور بأن رأت الخمسة الأخيرة دماً، وانقطع وطهرت عشرين، وهكذا مراراً، ثم استحيضت فترد إليه، ولو لم يتكرَّر كما إذا استمر الدّم العائد، فمحصول ما تخرج من طرق الأصحاب في هذه المسألة ونظائرها أربعة أوجه: أظهرها: أنها تحيض خمسة من أوله وتطهر عشرين وهكذا أبداً. والثاني: تحيض خمسة وتطهر خمسة وعشرين. والثالث: تحيض عشرة منه وتطهر خمسة وعشرين، ثم تحافظ على الدّور القديم. والرابع: أن الخمسة الأخيرة استحاضة وتحيض من أول الدور خمسة وتطهر خمسة وعشرين على عادتها القديمة، وقد ذكرنا في صورة التأخر ما حكى عن أبي إسحاق من المحافظة على أول الدور، والحكم بالاستحاضة فيما قبله، واختلفوا في قياس مذهبه هاهنا منهم من قال: قياسه الوجه الثالث، ومنهم من قال: لا بل هو الرابع، ولو كانت المسألة بحالها حاضت خمستها وطهرت أربعة عشر يوماً ثم عاد الدَّم استمر، فالمتخلل بين خمستها وبين الدم العائد هاهنا ناقص عن أقل الطهر، فحاصل ما قيل فيه أربعة أوجه أيضاً: أظهرها: أن يوماً من الدم العائد استحاضة تكميلاً للطّهر، وخمسة بعده حيض وخمسة عشر طهر ودورها بما اتفق عشرين. والثاني: أن اليوم الأول استحاضة، والباقي من الشهر وخمسة من الشهر الذي بعده حيض، ومجموع ذلك خمسة عشر، ثم تطهر خمسة وعشرين، وتحافظ على دورها القديم. والثالث: أن اليوم الأول استحاضة وبعده خمسة حيضاً وخمسة وعشرون طهراً وهكذا أبداً. والرابع: أن جميع الدم العائد إلى أوّل الشهر استحاضة وتفتتح منه دورها القديم،
وقد ذكرت كيفية هذه الوجوه ومأخذها في غير هذا الموضع فلا أطول هاهنا، ولك أن تُعَلِّم قوله في آخر هذا الفصل "ثُبُوت العادة بمرة واحدة" بالحاء والألف، إشارةً إلى أنهما يقولان: لا تثبت العادة بأقل من مرتين. قال الغزالي: المُسْتَحَاضَةُ الرَّابِعَةُ المُعْتَادَةُ المُمَيِّزَةُ فَإِنْ رَأتِ السَّوَادَ مُطَابِقًا لأيَّامِ العَادَةِ فَهُوَ الْمُرَادُ، وإن اختَلَفَت بِأَنْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسَةً فَرَأَتْ عَشَرَةً سَوَاداً ثُمَّ أطْبَقَتِ الحُمْرَةُ، فَهَلْ الحُكْمِ لِلْعَادَةِ أَمْ لِلْتَّمْيِيزِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ، فَعَلَى هَذَا إنْ رَأَتْ فِي أَيَّامِ العَادَةِ خَمْسَةً حُمْرَةً ثُمَّ عَشَرَةً سوَاداً ثُمَّ أَطْبَقَتْ الحُمْرَةُ فَفِي وَجْهٍ: الحُكْمُ لِلْعَادَةِ (م) وَفِي وَجْهٍ لِلتَّميِيزِ فَتَحِيضُ فِي العَشْرِ السَّوَادِ، وَفِي وَجْهٍ (ح م) يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا إلاَّ أَنْ يَزِيدَ المَجْمُوعُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَتَعَيَّنَ الاقْتِصَارُ عَلَى العَادَةِ أَوْ عَلَى التَّمْيِيزِ. قال الرافعي: المعتادة الذَّاكرة لعادتها إذا كانت واجدة للتمييز نظر إن توافق مقتضى العادة والتمييز كما إذا كانت تحيض خمسة من أول كل شهر، وتطهر الباقي فاستحيضت، ورأت خمستها سواداً وباقي الشهر حمرة فحيضتها تلك الخمسة واعتضدت كل واحدة من الدِّلالتين بصاحبتها، وإن لم يتوافق مقتضاهما نظر إن لم يتخلَّل بين العادة والتمييز قدر أقل الطهر كما إذا كانت تَحِيضُ خمسة كما ذكرنا فرأت في دور عشرة سواداً، ثم حمرة واستحيضت ففيه ثلاثة أوجه: أصحها: وبه قال ابْن سريج [وأبو إسحاق] (¬1) أنها ترد إلى التمييز فتحيض في العشرة كلها لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "دَمُ الحَيْضِ أَسْوَدُ يُعْرَفُ". ظاهره ينفي كون غيره حيضاً؛ لأنَّ التَّمييز صفة موجودة، والعادة دلالة قد مضت، والرد إلى الدِّلالة الموجودة أولى. والثاني: وبه قال ابْنُ خَيْرَانَ والإِصْطَخْري: إنها ترد إلى العادة فترد إلى الخمسة القديمة -صلى الله عليه وسلم-: "فَلْتَنْظُرْ عَدَدَ الأَيَّامِ وَاللَّيَالِي الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ" ولم يفصل؛ ولأن العادة قد ثبتت واستقرت وصفة الدم بعرض البطلان ألا ترى أنه لو زاد الدّم القوي على خمسة عشر يوماً بطلت دلالة قوته. والثالث: إن أمكن الجمع بينهما يجمع عملاً بالدلالتين، وإلا فيتساقطان؛ فتكون كمبتدأة لا تمييز لها، وفيها ما قدمناه من القولين: مثال: إمكان الجمع أن ترى عشرة سواداً كما ذكرناه، ومثال عدم الإمكان أن ترى ¬
خمستها المعهودة حمرة وأحد عشر عقيبها سوادًا، وأن يتخلَّل بينهما أقل الطهر، كما إذا رأت عشرين فصاعدًا دماً ضعيفاً ثم خمسة قويًّا ثم ضعيفاً وعادتها القديمة خمسة من أوّل الشهر، كما سبق فقدر العادة حيض بحكم العادة، والقوي حيض آخر، لأنه تخلّل بينهما زمان طهر كامل. ومنهم من قال: تبنى هذه الحالة على الحالة الأولى إن قلنا: يقدم التَّمييز فحيضها خمسة السّواد، وطهرها المتقدم عليه خمسة وأربعون، وقد صار دورها خمسين. وإن قلنا: تقدم العادة فحيضها خمسة من أول الشهر وخمسة وعشرون من بعدها طهر. وإن قلنا: يجمع بينهما حيضت الخمسة الأولى بالعادة، وخمسة السواد بالتَّمييز؛ لإمكان الجمع يتخلُّل طهر كامل بينهما. هذا فقه الفصل، ولك أن تُعَلِّمَ قوله: "الحكم للعادة" بالميم؛ لما ذكرنا أنه لا اعتبار للعادة عنده، فضلاً عن أن تقدم على التَّمييز. وقوله: "الحكم للتمييز" بالألف؛ لأن عند أحمد تقدم العادة عند اجتماع المعنيين وبالحاء أيضاً؛ لأن عند أبي حنيفة لا اعتبار للتمييز. واعلم أنه تحصل مما حكيناه في كل واحدة من حالتي إمكان الجمع بين العادة والتَّمييز وعدم الإمكان، ثلاثة أوجه: أحدها: الحكم بالعادة. والثاني: الحكم بالتمييز، وهما يشملان الحالتين والثالث في إحدى الحالتين الجمع، وفي الثانية: التَّساقط ولفظ الكتاب يفيد الوجوه الثلاثة عند إمكان الجمع، والوجهين الشاملين عند عدم الإمكان دون الثالث، وقوله: "فيتعين الاقتصار على العادة أو على التمييز" أي: على العادة في وجه وعلى التمييِز في وجه. قال الغزالي: فَرْعَانِ الأَوَّلُ مُبْتَدَأةٌ رَأَتْ خَمْسَةً سوَادًا ثُمَّ أَطْبَقَ الدَّمُ عَلَى لَوْنٍ وَاحِدٍ، فَفِي الشَّهرِ الثَّاني نُحَيِّضُهَا خَمْساً لِأَنَّ التَّمْيِيزَ أَثْبَتُ (ح م) لَهَا عَادَةً. قال الرافعي: العادة التي ترد إليها المستحاضة المعتادة ليس من شرطها أن تكون عادة حيض وطهر صحيحين بلا استحاضة بل قد تكون كذلك وقد تكون تلك العادة هي التي استفادتها من التمييز، وهي مستحاضة، كما إذا رأت المبتدأة خمسة سواداً، وخمسة وعشرين حمرة، وهكذا مراراً، ثم استمر السواد، أو الحمرة في بعض الشهر، فقد عرفنا بما سبق من التَّمييز أن حيضها خمسة من أول كل شهر، وصار ذلك عادة لها فتحيضها، الآن خمسة من أول كل شهر، ونحكم بالاستحاضة في الباقي. هذا هو الصحيح، وحكى إمام الحرمين وجهاً آخر، أنه إذا انحرم التَّمييز فلا نظر إلى ما سبق، وهي كمبتدأة غير مميزة، ولو كانت المسألة بحالها فرأت في بعض الأدوار عشرة سواداً، وباقي الشهر حمرة، ثم استمر السواد في الدور الذي بعده.
فقد قال الأئمة: حَيْضُها عشرة السواد في ذلك الدور؛ لأن الاعتماد على صفة الدم ثم مردها بعد ذلك العشرة، ولو كانت المسألة بحالها وعاد السواد خمسة ثم استمر الدم ثم رأت في بعض الأدوار عشرة، فترد في ذلك الدور إلى العشرة؛ [وفي هاتين الصورتين إشكالان: أحدهما: ردها إلى العشرة] (¬1) في الصورة الأولى ظاهر إذا قلنا: العَادَةُ تَثْبُتُ بمرة واحدة، أما إذا قلنا: لا تثبت، فينبغي أَلا نكتفي بسبق العشرة مرة. قال صاحب الكتاب في "الوسيط": هذه عادة تمييزية فمنسخها واحدة، ولا يجري فيها ذلك الخلاف كغير المستحاضة إذا تغيرت عادتها القديمة مرة فإنا نحكم بالحالة المتأخرة ولا يشفى الغليل، وللمعترض أن يقول: لم يختص الخلاف بغير التمييزية تشتبه العادة التَّمييزية بالصورة الذكورة دون غير التمييزية وأما الفارق. الثاني: إذا أفاد التَّمييز عادة للمستحاضة ثم تغير مقدار القوى بعد إنخرام التَّمييز أو قبله وجب أن يخرم بالرد إليه، بل ينبغي أن يخرج على الخلاف فيما إذا اجتمع العادة والتمييز كما تقدم ولم يزد إمام الحرمين في هذا الموضع على دعوى اختصاص ذلك الخلاف بالعادات الجارية من غير استحاضة، ولم يبد معنى فارقاً ولمقرر الإشكال أن يمنع اختصاص الخلاف بتلك العادات ألا ترى أنها لو كانت ترى خمسة سواداً من أول كل شهر، وباقيه حمرةً ثم جاءها شهر رأت فيه الخمسة الأولى حمرة، والخمسة الثانية سوادًا، ثم عادت الحمرة واستمرت يجري فيها ذلك الخلاف مع أن هذه عادة مستفادة من التَّمييز، أورد هذه الصور صاحب "التَّهْذِيبِ" وغيره فعلى الوجه المغلِّب للتمييز حيضها الخمسة الثانية وعلى الوجه المغلب للعادة حَيضها الخمسة الأولى، وعلى وجه الجمع تحيض فيهما، -والله أعلم-. جئنا إلى ما يتعلق بلفظ الكتاب قوله: "مبتدأة رأت خمسة سوادًا ثم أطبق الدم على لون واحد". المفهوم من ظاهرة إطباق غير لون السواد، من انقضاء خمسة السواد، واستمراره على الإطلاق، لكن بتقدير أن يكون كذلك، فالضعيف على امتداده استحاضة، وليس لها شهر ثانٍ حتى نحكم بأنها تحيض خمسة من أوله، فإذا المعنى رأت خمسة سواداً وخمسة وعشرين حمرة، أو نحوها ثم أطبق السواد في الشهر الثاني، ثم قوله: "ففي الشهر الثاني تحيضها خمساً بناء على عدم اشتراط في العادة التمييزية، واكتفاء بوقوعها مرة واحدة" وقد ذكرنا ما فيه من الإشكال، ويؤيده أنَّ ما عدا الخمسة لو كان طهرًا محسوساَ، واستحيضت في الشهر الثَّاني لم نردها إلى الخمسة على قولنا: ¬
"العادة لا تثبت بمرة" ومعلوم أن التمييز لا يزيد عليه، وليكن قوله: "حيضها خمساً" معلَّمًا بالواو؛ إشارة إلى الوجه الذي تقدم. قال الغزالي: الثَّانِي قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: الصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ (م) في أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضٌ (ح) وَهُوَ كَذَلِكَ فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ، وَفِيمَا وَرَاءَهَا إِلَى تَمَامِ الْخَمْسَةِ عَشَرَ ثَلاَثةُ أَوْجَهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَيْضٌ كَأيَّامِ العَادَةِ، وَالثَّانِى: لاَ لِضَعْفِ اللَّوْنِ، وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِدَمٍ قَوِيٍّ وَلَوْ لَطْخَةً فيَكُونَ حَيْضًا وَإِلاَّ فَلاَ، وَمَرَدُّ المُبْتَدَأَةِ كَأيَّامِ العَادَةِ أَوْ كَمَا وَرَاءَهَا فِيهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: هذا الفرع لا اختصاص له بل معظم فائدته فيما إذا لم يعبر الدم الأكثر كما سيأتي، والصفرة: شيء كالصديد يعلوه اصفرار، والكدرة: شيء كدر [وليسا] على ألوان الدماء، ولا خلاف في كونهما حيضاَ في أيام العادة؛ لأن الوقوع في أيام العادة يغلب على الظن يكون الأذى الموجود فيه الحيض المعهود، وفيما وراء أيام العادة أربعة أوجه: أظهرها: أنَّ لهما حكم الحيض أيضاً، لقوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬1). والصفرة والكدرة أذى، ولما روي عن عائشة -[رضي الله عنها]- قالت: "كُنَّا نَعُدُّ الصُّفْرَةَ وَالكُدْرَةَ حَيْضاً" (¬2). وهذا إخبار عما عهدته في زمان الرسول -صلى الله عليه وسلم-. والثاني: ليس لهما حكم الحيض لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "دَمُ الْحَيْضِ أَسْوَدُ يُعْرَفُ" (¬3). وعن أم عطية، وكانت قد بايعت النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: "كُنَّا لاَ نَعُدَّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ شَيْئًا" (¬4). وبهذا الوجه قال الإصطخري، وينسب إلى صاحب "التَّلْخِيصِ" أيضاً، وبالأول قال ابن سريج وأبو إسحاق. والوجه الثالث: وبه قال أبو علي الطَّبَرِيُّ: إن سبق دم قوي من سواد أو حمرة، فالصُّفرة والكدرة بعده حيض، وإلاَّ فلا. والفرق أن الدم يبدو قويًا ثم يرق ويضعف على التدريج. ألا ترى أن الجراحة تصب دماً قويًا، ثم يرق ويختلط بالرّطوبات، فإذا سبق دم قوي استتبع ما بعده. ¬
والرابع: حكاه القاضي ابن كج: أنه إنما يحكم بكون الصُّفرة والكدرة حيضًا، بشرط أن يسبقها دم قوي، ويلحقها دم قوي لينسحب الحكم على المتخلل [وإلا كما ليس على هيئة الدِّماء لا يعطي له حكمها]، وأما المبتدأ، فقد حكى إمام الحرمين عن بعض الأصحاب: أنها إذا رأت صفرة أو كدرة ثم طهرت، فحكم مردها على اختلاف القولين وهما الأقل، والغالب كأيام العادة في حق المعتادة. قال أبو الصحيح أنه كما وراء أيام العادة فحصل وجهان، كما روى صاحب الكتاب إن قلنا: إنه كأيام العادة فالصفرة والكدرة فيها حيض بلا خلاف، وإن قلنا: كما وراء أيام العادة عاد فيه الأوجه وهذا هو الذي ذكره الجمهور. ولنوضح هذه المسألة بالأمثلة: امرأة عادتها أن تحيض من كل شهر خمسة وتطهر الباقي، فرأت خمستها صفرة، أو كدرة، وطهرت فهي حائض في تلك الخمسة بلا خلاف. ولو رأت خمستها سوادًا ثم خمسة صفرة أو كدرة وانقطع ما بها، فعلى الوجه الأول: الكل حيض وعلى الثَّاني حيضها بالسَّواد وعلى الثالث: الكل حيض لتقدم السّواد وعلى الرَّابع: حيضها السواد؛ لعدم لحوق القوي. ولو رأت مبتدأة خمسة عشر فما دونها صفرة أو كدرة فالَّذي رأته حيض على الوجه الأول دون الثَّاني؛ لخروجه عن أيام العادة وكذلك على الوجه الثَّالث؛ لأنَّه لم يتقدمه سواد ولا حمرة وكذا على الرَّابع، لعدم المتقدم والتأخر، هذا على طريقة طرد الخلاف، وفي مردها الوجه الذي سبق. وإذا اعتبرنا تقدم [الدَّم] القوي أو تأخره ففي المقدار المشروط وجهان: أصحهما: أنه لا يشترط له قدر معين، لأن المعنى فيه ما ذكرنا من هيئة التَّدريج وإذا سبق الدم القوي، وقد يتسارع إليه الضّعف، وقد لا يتسارع، ولا ينضبط وهذا هو الذي ذكره في الكتاب حيث قال: "ولو لحظة". والثاني: أنه يشترط أن يكون قدر يوم وليلة ليكون حيضًا بنفسه، حتى يقوي على امتناع غيره، وأما ما حكاه من لفظ الشّافعي -رضي الله عنه- في أول الفرع فقد نص عليه في "المختصر"، واختلفوا في المراد بأيام الحيض بحسب ما حكيناه من الخلاف. فمن قال: الصّفرة والكدرة في أيام العادة حيض لا غير قال: المراد بأيام الحيض أيام العادة ومن قال: حيض فيما وراء أيام العادة وفي المبتدأة، قال: أراد بأيام الحيض زمان إمكان الحيض. ولفظ الكتاب بعد رواية هذا النص يختلف في النسخ، فقد تجد في بعض النسخ: "وذلك في أيام العادة" وهذا لفظه في "الوسيط"، وقد تجد: "وهو كذلك في أيام العادة"
الباب الثالث في التي نسيت عادتها
وهما صحيحان وقد تجد: "وكذلك في أيام العادة" وهو فاسد، ولا يخفى عليك ذلك إذا عرفت ما قدمناه، وليكن قوله: "إنه حيض كأيام العادة" مُعَلَّماً بالألف؛ لأن الحكاية عن أحمد، أنه ليس بحيض قوله: "لا لضعف اللون" معلماً بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة هو حيض كما هو الأصحّ عندنا، -والله أعلم-. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الَّتِي نَسِيَتْ عَادَتَهَا قال الغزالي: وَلَهَا أَحْوَالٌ: الأُولَى الَّتِي نَسِيَتِ العَادَةَ قَدْراً وَوَقْتاً وَهِيَ الْمُتَحَيِّرَةُ وَهِيَ مَرْدُودَةٌ إِلَى المُبْتَدَأَةِ فِي قَدْرِ الحَيْضِ، وَاِلَى أَوَّلِ الأَهِلَّةِ فِي قَوْلٍ ضَعِيفٍ وَالصَّحِيحُ أنَّهُ لاَ يُعَيَّنُ أَوَّل الأَهِلَّةِ فَإِنَّهُ تَحَكُّمْ بَلْ تُؤمَرُ بِالاحْتِيَاطِ أخْذاً بِأشَقِّ الاحْتِمَالاَتِ فِي أُمُورٍ سِتَّةٍ. قال الرافعي: النَّاسية لعادتها إما أن تكون مميزة بشرط التمييز، وإما ألا تكون كذلك، فإن كان الأول فهي مردودة إلى التمييز؛ لأن الرجوع إلى العادة فقد تعذر، فنأخذ بدلالة التمييز كيف [اتفق] ولو أمكن الرجوع إلى العادة أيضاً، لكنا نأخذ بالتَّمييز على الأصح، وفي هذه الحالة لا تحير، ولا إشكال، وعن الإِصْطَخْرِيِّ وابن خيران أَنَّهَا لا ترد إلى التَّمييز، ولا فرق بين أن تكون مميزة أو لا تكون، وهذا لائق بمصيرهما إلى تقديم العادة عند اجتماع المعنيين، لكن المشهور الأصح [هو] الأول، وإن لم تكن مميزة بشرطه، وهذه الحالة هي المقصود بهذا الباب، فلها ثلاثة أحوال؛ لأنها: إما أن تكون ناسية لقدر الحيض ووقته جميعاً، وإما أن تكون ناسية لقدر [الحيض] دون الوقت وإما أن تكون بالعكس من ذلك الحالة الأولى: أن تكون ناسية لهما جميعًا وتعرف بالمتحيرة لتحيرها في شأنها، وقد تسمى محيرة أيضاً، لأنها تحير الفقيه في أمرها، وبعضهم يضع اسم المتحيرة موضع الناسية فتسمى ناسية الوقت وناسية القدر أيضاً متحيرة، وكذلك فعل صاحب الكتاب في "الوسيط" والأول أحسن والنسيان المطلق قد يعرض لغفلة وعلة عارضة، وقد [تُجَنّ] صغيرة وتستمر لها عادة في الحيض ثم تفيق وهي مستحاضة فلا تعرف مما سبق شيئاً، وفي حكمها في هذه الحالة قولان: أحدهما: أنها مردودة إلى المبتدأة؛ لأن العادة المنسية لا يمكن استفادة الحكم منها فيكون كالمعدومة ألا ترى أن التَّمييز لما لم يمكن استفادة الحكم منه لفوات بعض الشروط الحق بالعدم؛ ولأن المصير إلى القول الثَّاني يلزمها حرجاً عظيماً على ما سيأتي، ولا حرج في الدّين.
وأصحهما: أنها مأمورة بالاحتياط، غير مردودة إلى المبتدأة إذ ما من زمان يمرّ عليها إلا ويحتمل الحيض والطهر والانقطاع، فيجب الأخذ بالاحتياط وقد (نقل) أن سهلة بنت سهيل استحيضت فأتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فَأمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ" (¬1). فحمله حاملون على أنها كانت ناسية فأمرها به احتياطاً، ومنهم من يثبت سوى القول الثَّاني، لكن طريقة إثبات القولين أظهر، وهي التي ذكرها في الكتاب. فإن قلنا بالرّد إلى المبتدأة، فقد اختلفوا، منهم من طرد فيها القولين في الرد إلى الأقل والغالب، ومنهم من اقتصر على الرّد إلى الأقل. والأول أظهر وهو قضية إطلاقه في الكتاب، حيث قال: "فهي مردودة إلى المبتدأة في قدر الحيض" ويجوز أن يعلم بالواو، إشارة إلى الوجه الثاني، وأما وقت ابتداء حيضها فلا يمكن أخذه من المبتدأة، لأن ابتداء دورها معلوم بظهور الدم بخلاف الناسية، والمشهور تفريعاً على هذا القول -أن ابتداء حيضها أول الهلال حتى لو أفاقت المجنونة في أثناء الشهر الهلالي- عدت باقي الشهر استحاضة واحتجوا له بأنَّ الغالب أن الحيض يبتدأ مع استهلال الشَّهر، وهذه دعوى يخالفها الحس والوجود. وعن القَفَّال: أنها إذا إفاقت، فابتداء حيضها من وقت الإفاقة؛ لأن التكليف حينئذ يتوجه عليها. قال الأئمة: وهذا بعيد أيضاً، فإنها قد تفيق في أثناء الحيض، وأقوى ما زيفوا به أصل القول الذي يفرع عليه ما في ابتداء الحيض من الإشكال، أما الرد إلى الأقل أو الغالب كما في المبتدأة فغير بعيد، ولهذا قال صاحب الكتاب: والصحيح أنه لا يتعين أول الأهلّة، فإنه تحكم محض التحكُّم، بتعيين أوّل الأهلّة دون تعيين القدر، وإن كان ذلك متروكاً على قول الاحتياط أيضاً، ومتى أطلقنا الشهر في مسائل المستحاضات عنينا به ثلاثين يوماً، سواء كان ابتداؤه من أول الهلال أم لا، ولا نعني به الشهر الهلالي، إلا في هذا الموضع على هذا القول. وليكن قوله: "إلى أول الأهلة في وقته" معلّماً بالواو لما حكيناه عن القَفَّال، ثم على هذا القول، هل تؤمر بالاحتياط من انقضاء وقت الرد إلى آخر الخمسة عشر؟ فيه القولان المذكوران في المبتدأة، وأما التَّفريع على قول الاحتياط فقد حصره في ستة أمور ونحن نشرحها على النسق. قال الغزالي: (الأوَّلُ) أَنْ لاَ يُجَامِعَهَا زَوْجُهَا أَصْلاً لاِحتِمَالِ الحَيْضِ. قال الرافعي: ليس لزوج المتحيرة وسيدها أن يجامعها أصلاً إذ ما من زمان ¬
يفرض إلاّ وهو محتمل للحيض فلا بد من الاحتياط، وعن أقضى القضاة الماوردي، وجه آخر: أنه لا بأس بوطئها ورأيته لبعض المتأخرين أيضاً، ووجهه أن الاستحاضة علة مزمنة فالتَّحريم توريط لها في الفساد، وإذا قلنا بالصحيح، فلو فعل عصى ولزمها الغسل من الجنابة، ولا يعود هاهنا، فالقول المذكور في وجوب الكَفَّارة بوطء الحائض؛ لأنَّا لا نتيقن وقوعه في الحيض، فتسقط الكفّارة بالشُّبهة كما يثبت التَّحريم بالشُّبهة، وهل يجوز الاسْتِمْتَاع بما تحت الإِزار منها؟ فيه الخلاف الذي سبق في الحائض. قال الغزالي: (الثَّانِي) أَنْ لاَ تَدْخُلَ المَسْجِدَ، وَلاَ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ. قال الرافعي: المتحيرة لا تقرأ القرآن لاحتمال الحيض في كل زمان، وقد ذكرنا في الحائض قولاً: إنها تقرأ، فهذه أولى، إذ لا نهاية لعذرها، هذا في القراءة خارج الصلاة، وأما في الصلاة فهل تزيد على الفاتحة؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم، ولا حجر وحكمها في دخول المسجد حكم الحائض، فلا تمكث بحال ولا تعبر عند خوف التلويث وعند الأمن وجهان، ولا يخفى بعد هذا أنه ينبغي أن يعلّم قوله: "ولا تقرأ القرآن ولا تدخل المسجد" كلاهما بالواو. قال الغزالي: (الثَّالِثُ) أَنَّهَا تُصَلِّي وَظَائِفَ الأَوْقَاتِ لاحتِمَالِ الطُّهْرِ، وَتَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلاةٍ لاحْتِمَالِ انْقِطَاعِ الدَّمِ. قال الرافعي: يجب على المتحيّرة أن تصلّي الخمس أبداً؛ لأن كل وقت أفرد بالنظر فمن الجائز كونها طاهرة فيه فنأخذ بالاحتياط، وهل لها أن تتنفّل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه لا ضرورة في التَّنَفُّل مع احتمال الحيض فصار كقراءة القرآن في غير الصَّلاة، وحمل المصحف. وأصحهما: نعم، كالمتيمم يتنفل مع بقاء حدثه، ولأن النوافل من مهمات الدين فلا وجه لحرمانها عنها. ومنهم من جوز السنن الراتبة دون غيرها وهذا الخلاف يجري في نوافل الصوم والطواف ثم يلزمها أن تغتسل لكل فريضة لاحتمال الانقطاع قبلها ويجب أن يقع غسلها في الوقت؛ لأنه طهارة ضرورة فصار كالمتيمم وفي وجه: لو وقع غسلها قبل الوقت وانطبق أول الصلاة على أول الوقت وآخر الغسل جاز، وقد ذكرنا نظيره في طهارة المُسْتَحَاضَةِ، وهل تلزمها المبادرة إلى الصلاة عقيب الغسل؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، أما ذكرنا في وضوء المستحاضة. وأصحهما: عند إمام الحرمين وصاحب الكتاب: لا، لأنا إنما نوجب المبادرة
إلى الصلاة بعد الوضوء؛ تقليلاً للحديث والغسل إنما تؤمر به لاحتمال الانقطاع ولا يمكن تكرر الانقطاع بين الغسل والصلاة، ولو بادرت أيضاً فمن المحتمل أن غسلها وقع في الحيض وانقطع بعده، فإذاً لا حيلة في دفع هذا الاحتمال، وإن قرب الزَّمان. وللأول: أن يقول: نعم، دفع أصل الاحتمال لا يمكن، لكن الاحتمال في الزمان الطويل أظهر منه في الزمان القصير فبالمبادرة تقل الاحتمال. فعلى الوجه الثاني إذا أخرت لزمها لتلك الصلاة وضوء آخر، إذا لم تجوز للمستحاضة تأخير الصلاة عن الطهارة. قال الغزالي: (الرَّابعُ) يَلْزَمُهَا أَنْ تَصُومَ جَمِيعَ شَهْرِ رَمَضَانَ لاِحتِمَالِ دَوَامِ الطُّهر ثُمَّ عَلَيْهَا أَنْ تَقْضِي سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا لاحْتِمَالِ دَوَامِ الحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَومًا وَانْطِبَاقِهَا إِلَى سِتَّةَ عَشَرَ بِطَرَيَانِهَا فِي وَسَطِ النَّهَار، وَقَضَاءُ الصَّلَوَاتِ لاَ يَجِبُ (و) لِمَا فِيهِ مِنَ الحَرَجِ. قال الرافعي: مقصود الفصل مسألتان: إحداهما: أن المتحيّرة تصوم على قول الاحتياط جميع شهر رمضان؛ لاحتمال أنها طاهرة في الكل ثم كم يجزئها؟ من ذلك المنقول عن الشافعي -رضي الله عنه- أنه يجزئها خمسة عشر يوماً [إذ لا بد وأن يكون لها في الشهر طهر صحيح، وغاية ما يمكن امتداد الحيض إليه خمسة عشر يوماً] (¬1) فيقع صوم خمسة عشر يوماً في الطّهر، وهذا ما ذكره قوم من أصحابنا كصاحب "الإِفْصَاحِ" والشيخ أبي حامد. وقال أبو زيد وأكثر الأصحاب على اختلاف الطبقات: لا يجزئها إلا أربعة عشر يوماً لاحتمال أن يبتدئَ حيضها في أثنائها، ويمتد خمسة عشر يوماً، فينقطع في أثنائها أيضاً، فتنبسط الخمسة عشر يوماً على ستة عشر، ويفسد صومها، وأثبت إمام الحرمين في المسألة طريقتين: إحداهما: القطع بما ذكره الأكثرون وحمل كلام الشافعي -رضي الله عنه- على ما إذا حفظت أن دمها كان ينقطع بالليل. والثانية: جعل المنقول عن الشّافعي -رضي الله عنه- من المذهب أيضاً، فليكن قوله: "ثم عليها أن تقضي ستة عشر يوماً معلّمًا بالواو لهذا المعنى، وهذا إذا كان الشَّهر كاملاً وهو المراد من مسألة الكتاب، فأما إذا كان ناقصًا فالمحسوب على قياس المنقول عن الشَّافعي -رضي الله عنه- لا يختلف وتقضي هاهنا أربعة عشر يوماً، وعلى قول الأكثرين المقضي لا يختلف ويحسب لها ثلاثة عشر يوماً. وقال الشيخ أبو إسحاق ¬
الشيرازي في "المُهَذَّب": يحسب لها أربعة عشر يوماً، وهذا مع موافقته للأكثرين في صورة الكمال. واحتج له يحيى اليمني بأن قال: أجرى الله تعالى العادة بأن الشهر لا يخلو عن طهر صحيح كاملاً كان أو ناقصاً، وإذا كان كذلك فغاية الممكن أن يكون حيضها من الشَّهر الناقص أربعة عشر يوماً ثم يجوز أن يفسد به صوم خمسة عشر يوماً فيصح أربعة عشر يوماً. ولك أن تقول: لا نسلم أن الله تعالى أجرى العادة بما ادعيته ثم هب أنه كذلك لنا على قول الاحتياط لا نكتفى بالغالب، ولو اكتفينا به لجعلنا الفاسد صوم سبعة أيام أو ثمانية؛ لأن الغالب من الحيض ستة أو سبعة فإذاً ما ذكره الشيخ ساقط. المسألة الثانية: إذا أدت الصلوات الخمس فهل يجزئها ذلك؟ أم يجب القضاء مع الأداء كما في الصوم؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو المذكور في الكتاب أنه لا يجب، ولهذا سكت الشافعي -رضي الله عنه- عن قضاء الصلاة مع حكمه بوجوب قضاء الصوم، والمعنى فيه أن قضاء صلوات أيام الحيض لا يجب، فإن كانت طاهرة وقت الصلاة المؤداة أجزأها ما فعلت وإلا فلا صلاة عليها وأيضاً فإن قضاء الصلاة يفضي إلى حرج شديد. والثاني: أنه يجب القضاء لجواز أن ينقطع الحيض في خلال الصلاة، أو في آخر الوقت، ويجوز أن ينقطع قبل غروب الشمس فيلزمها الظهر والعصر، أو قبل طلوع الفجر فيلزمها المغرب والعشاء، وإذا سلكنا طريق الاحتياط وجب سلوكه في جميع جهات الاحتمال. ويحكى هذا عن ابن سريج ويشهر بأبي زيد، وهو ظاهر المذهب عند الجمهور، ولم يورد صاحبا "التَّهْذِيب" و"التَّتمَّة" سوى ذلك ومنهم من قطع به، وقال الشافعي -رضي الله عنه- كما لم يذكر وجوب القضاء لم ينفه أيضاً. وقضية مذهبه الوجوب فعلى هذا تغتسل في أول وقت الصبح وتصليها، ثم إذا طلعت الشمس اغتسلت مرة أخرى، وأعادتها لاحتمال أن المرة الأولى [وقعت في الحيض وانقطع بعده؛ فلزمها الصبح، وبالمرتين تخرج عن العهدة يقينًا: لأنها إذا كانت طاهراً في المرة الأولى] (1) فهي صحيحة وإلا فإن انقطع في الوقت أجزأتها المرَّة الثَّانية [وإن لم ينقطع فلا شيء عليها، ولا يشترط البدار إلى المرة الثانية] (2) بعد خروج الوقت بل متى قضتها قبل انقضاء خمسة عشر يوماً [من أول وقت الصبح خرجت من العهدة أيضاً؛ لأن الحيض لو انقطع في الوقت لم يعد إلى خمسة عشر يوماً] (3). قال إمام الحرمين ولا يشترط تأخر جميع الصلاة المرة الثّانية عن الوقت، بل لو وقع بعضها في
آخر الوقت جاز بشرط أن يكون دون تكبيرة إذا قلنا: تلزم الصلاة بإدراك تكبيرة، أو دون ركعة فإذا قلنا: لا تلزم إلا بادراك ركعة، وفيه قولان مذكوران في كتاب الصَّلاة وإنما يجوز ذلك؛ لأنه (إذا) فرض الانقطاع قبل المرة الثَّانية فقد اغتسلت وصلت، والانقطاع لا يتكرر، وإن فرض في أثنائها فلا شيء عليه في التَّصوير المذكور، ولك أن تقول إشكالاً المرة الثانية يتقدمها الغسل، فإذا وقع بعضها في الوقت والغسل سابق جاز أن يقع الانقطاع في أثناء الغسل، ويكون الباقي من وقت الصلاة [من] حينئذ قدر ركعة أو تكبيرة، فيجب أن ننظر إلى زمان الغسل سوى الجزء الأول منه، وإلى الجزء الواقع من الصَّلاة في الوقت فيقال: إن كان ذلك دون ما يلزم به الصلاة جاز وإلا فلا، ولا نقصر النظر على جزء الصلاة، ثم من المعلوم أنه لا يمكن أن يكون ذلك دون التَّكبيرة، ويبعد أن يكون دون الرَّكْعَةِ فهذا في الصبح، وأمّا في العصر والعشاء فيصليهما مرتين كذلك، وأما الظهر فلا يكفي وقوعها المرة الثانية في أول وقت العصر، ولا وقوع المغرب في أول وقت العشاء؛ لأنها لو أدركت قدر ركعة أو خمس ركعات على اختلاف القولين نذكرهما من وقت العصر يلزمها الظهر والعصر، وكذلك لو أدركته في وقت العشاء يلزمها المغرب [والعشاء] ومن الجائز انقطاع حيضها في الوقت المفروض؛ فيجب أن تعيد الظهر في الوقت الذي يجوز إعادة العصر فيه، وذلك بعد] (¬1) وقت العصر وتعيد المغرب في الوقت الذي يجوز إعادة العشاء فيه، وذلك بعد وقت العشاء ثم إذا أعادت الظُّهر والعصر بعد الغروب فينظر إن قدمتها على أداء المغرب فعليها أن تغتسل للظهر وتتوضَّأ للعصر وتغتسل للمغرب، وإنما كفى لهما غسل واحد؛ لأن دمها إن انقطع قبل الغروب فقد اغتسلت بعده، وإن انقطع بعد الغروب فليس عليها ظهر ولا عصر، وإنما لزم إعادة الغسل للمغرب، لاحتمال الانقطاع في خلال الظهر أو العصر أو عقيبهما، وهكذا الحكم فيما إذا قضت المغرب والعشاء قبل أداء الصبح بعد طلوع الفجر، وحينئذ تكون مصلية الوظائف الخمس مرتين بثمانية أغسال ووضوءين، وإن أخرت الظهر والعصر عن أداء المغرب اغتسلت للمغرب، وكفاها ذلك عن الظهر والعصر أيضاً؛ لأنه إن انقطع حيضها قبل الغروب فلا تعود إلى تمام مدة الظهر، وإن انقطع بعده لم يكن عليها ظهر ولا عصر، ولكن تتوضأ لكل واحدة من الظُّهر والعصر كما هو شأن المستحاضات، وهكذا القول في المغرب والعشاء إذا أخرتهما عن الصُّبح، وحينئذ تكون مصلية الوظائف الخمس مرتين بالغسل ست مرات وبالوضوء أربعًا. وبالطريق الثاني تخرج عن عهدة الصلوات الخمس، وأما بالطريق الأول فقد أخرت المغرب والصبح عن أول وقتهما؛ لتقديمها القضاء عليهما فتخرج عن عهدة ما ¬
عداهما، وأمّا هما فقد قال في "النِّهَاية": إذا أخرت الصلاة عن أول الوقت حتى مضى ما يسع الغسل، وتلك الصلاة فلا يكفي فعلها مرة أخرى في آخر الوقت أو بعده على التَّصوير الذي سبق لجواز أن تكون طاهراً في أول الوقت، ثم يطرأ الحيض فتلزمها الصلاة وتكون المرّتان واقعتين في الحيض بل يحتاج إلى فعلهما مرتين أخريين بغسلين، ويشترط أن تكون إحداهما بعد انقضاء وقت الرفاهية والضرورة، وقبل تمام خمسة عشر يوماً من افتتاح الصلاة المرة الأولى. والثانية في أول السادس عشر من آخر الصلاة الأولى، فحينئذ تخرج عن العهدة بيقين؛ لأن الخمسة عشر المتخللة إما أن تكون كلها طهرًا؛ فتصح المرة الثانية، أو كلها حيضًا فتصح المرة [الأولى أو الثالثة أو] يكون آخرها طهراً؛ فيكون قدر ما بعدها طهرًا أيضاً فإن انتهى إلى آخر المرة الثالثة فهي واقعة في الطهر وإلا فالثانية واقعة فيه أو يكون أولها طهرًا؛ فيكون شيء مما قبلها طهرًا أيضاً؛ وإن كان افتتاحه قبل المرة الأولى فهي في الطّهر، وإن كان في أثناء الأولى كانت الثّانية في الطّهر، ومع هذا كله فلو اقتصرت على أداء الصَّلوات في أوائل أوقاتها، ولم تقض شيئاً حتى مضت خمسة عشر يومًا أو مضى شهر، فلا يجب عليها لكل خمسة عشر يومًا إلا قضاء صلوات يوم وليلة؛ لأن القضاء إنما يجب لاحتمال الانقطاع، ولا يتصور الانقطاع في الخمسة عشر إلا مرة ويجوز أن يجب به تدارك صلاتي جمع، وهما الظهر والعصر المغرب والعشاء، فإذا أشكل الحال أوجبنا قضاء صلوات يوم وليلة كمن نسي صلاة أو صلاتين من خمس ولو كانت تصلي في أوساط الأوقات لزمها أن تقضي للخمسة عشر صلوات يومين وليلتين لجواز أن يطرأ الحيض في وسط صلاة فتبطل، وتنقطع في وسطه أخرى فيجب، ويجوز أن يكونا مثلين ومن فاته صلاتان مُتَمَاثلتان ولم يعرف عينهما فعليه صلوات يومين وليلتين، بخلاف ما إذا كانت تصلي في أول الوقت فإنه لو فرض ابتداء الحيض في أثناء الصلاة لما وجبت؛ لأنها لم تدرك من الوقت ما يسعها -والله أعلم-. قال الغزالي: (الخَامِسُ) إِذَا كَانَ عَلَيْهَا قَضَاءُ يَوْمٍ وَاحِدٍ فَلاَ تَبْرَأُ ذِمَّتُهَا إِلاَّ بِقَضَاءِ ثَلاَثةِ أَيَّام، وَسَبِيلُهُ أَنْ تَصُومَ يَوْمًا وَتُفْطِرَ يَوْماً ثُمَّ تَصُومَ يَوْمًا ثُمَّ تَصُومَ السَّابعَ عَشَرَ مِنْ صَوْمِهَا الأَوَّلِ فَتَخْرُج مِمَّا عَلَيْهَا بِيَقِين؛ لِأَنَّ الحَيْضَ كيْفَمَا قُدِّرَ مُقَدَّمًا أَوْ مُؤَخَّرًا فَيَخْرُجُ يَوْمٌ عَنْ الحَيْض، وَعِلَّةُ هَذَا التَّقْدِيرِ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ البَسِيطِ. قال الرافعي: تكلم في أن المتحيرة إذا أرادت قضاء صوم يوم لم تبرأ ذمتها، ولم يذكر ما إذا أرادت أن تقضي أكثر من يوم، ولا قضاء الصلوات الفائتة والمنذورة ونحن نذكرها على الاختصار، فأما صوم يوم واحد فإنما تخرج من عهدته بصوم ثلاثة أيام بأن تصوم يوماً متى شاءت وتفطر يوماً وتصوم اليوم الثالث ثم اليوم السابع عشر، وإنما
خرجت عن العهدة بذلك؛ لأنها إما طاهرة في اليوم الأول فتحصل به الفرض أو غير طاهر، وحيئنذ إما أن تكون حائضاً في جميعه فينقطع حيضها قبل السابع عشر لا محالة، ويقع الثالث أو السابع عشر في الطهر، وإما أن تكون حائضاً في بعضه، فإن كانت حائضًا في أوله وانقطع فيه، فهي طاهر في اليوم الثالث، وإن كانت حائضاً في آخره وابتدأ فيه فغاية الانتهاء إلى السادس عشر، ويقع السابع عشر في الطهر، فعلى أي تقدير قدر يقع يوم في الطهر، واعلم أن ذكر اليوم الثالث والسابع عشر للصوم الثاني والثالث إنما جرى كلام الأئمة لبيان أن السَّبعة عشر أقل مدة، ويمكن فيها قضاء اليوم الواحد، وإلاَّ فلا يتعين اليوم الثَّالث للصَّوم الثَّاني، ولا السابع عشر [للصوم الثالث، بل لها أن تصوم بدل الثالث يوماً بعده إلى آخر الخامس عشر وبدل السابع عشر] (¬1) يوماً بعده إلى آخر تسعة وعشرين يوماً، ولكن الشرط أن يكون المخلف من أول السادس عشر، مثل ما بين صومها الأول والثاني، أو أقل منه. فلو صامت الأول والثالث والثامن عشر، لم يجز؛ لأن المخلف من أول السادس عشر يومان، وليس بين الصومين الأولين، إلاَّ يوم وإنما امتنع ذلك، لجواز أن ينقطع الحيض في اليوم الثالث، ويعود في الثامن عشر، فيكون الكل في الحيض. ولو صامت الأول والرابع والثامن عشر جاز؛ لأن المخلف مثل ما بين الصَّومين. ولو صامت السابع عشر والحالة هذه جاز؛ لأن المخلف أقل مما بين الصومين، ولو صامت الأول والخامس عشر فقد تخلل بين الصومين ثلاثة عشر يوماً، فلها أن تصوم التاسع والعشرين؛ لأن المخلف حينئذ مثل ما بين الصومين، ولها أن تصوم يوماً قبله؛ لأن المخلف يكون أقل. نعم، لا يجوز أن تصوم السادس عشر، فإنها لو فعلت ذلك لم تخلف شيئاً، ولا بد من تخليف. ثم بشرط ما ذكرنا فهذا شرح ما أورده. ثم لك أن تعلّم قوله: "فلا تبرأ ذمتها إلا بقضاء ثلاثة أيام" بالواو؛ لأن من الأصحاب من قال: يكفيها يومان بينهما أربعة عشر يوماً. وحكى ذلك عن نص الشافعي -رضي الله عنه- وهذا قول من قال نحسب لها من رمضان خمسة عشر يوماً، والأكثرون قطعوا بأنه لا يكفي اليومان لجواز أن يبتدئ الحيض في اليوم الأوّل، وينقطع في السادس عشر (¬2) وأولوا كلام الشافعي -رضي الله عنه-، على ما إذا عرفت، أن دمها كان يبتدئ وينقطع ليلاً، وربما قالوا: إنه مهد القاعدة ولم يخطر له حينئذ تقدير ببعض اليوم، فما يقتضيه الاحتياط عين مذهبه ولو قال ¬
صاحب الكتاب: "إلا بصوم ثلاثة أيام" [بدل قوله: بقضاء ثلاثة أيام" (1) لكان أحسن؛ لأن الأيام الثلاثة لا تقع قضاء فائتتها يوم، وإنما الواقع قضاء واحد من الثلاثة، وأما إذا قضت أكثر من يوم فتضعف ما عليها وتزيد يومين ثم تصوم نصف المجموع ولاءً متى شاءت، وتصوم مثل ذلك من أول السادس عشر [فتخرج عن العهدة، مثاله: إذا أرادت أن تقضي يومين تضعف وتزيد يومين تكون ستة، تصوم ثلاثة متى شاءت ثم ثلاثة من أول السادس عشر] (2) فيكفيها لأن الثَّلاثة الأولى إما أن تكون في الطّهر فذاك أو لا تكون، فان كان كلها في الحيض، فغايته الانتهاء إلى السادس عشر بتقدير أن يكون الابتداء من اليوم الأول فيقع اليومان الأخيران في الطهر، وإن كان بعضها في الحيض دون البعض، فإن كان اليوم الأول في الطهر صح من الثامن عشر، وإن كان اليومان الأولان في الطهر صحّا وإن كان اليوم الأخير في [الطهر صح] (3) السادس عشر، وإذا كانت تقضي ثلاثة أيام صامت أربعة وَلاَءً ثم أربعة من أول السادس عشر، وعلى هذا القياس حتى إذا كانت تقضي أربعة عشر يوماً تضعف وتزيد يومين فتستوعب الشهر، وهو غاية ما يمكن قضاؤه في الشهر الواحد، ولذلك لم يحسب من رمضان إلاَّ هذا القدر، ولو أنها صامت ما عليها على الولاء متى شاءت من غير زيادة -وأعادته من أوَّل السَّابع عشر وصامت بينهما يومين، إما مجتمعين أو غير مجتمعين متصلين بالصوم الأول أو الثاني أو غير متصلين- لخرجت عن العهدة أيضاً، وكل واحد من هذين الطريقين يطرد في قضاء اليوم الواحد، لكن الطريق المذكور فيه أخف، للقناعة بصوم ثلاثة أيام، وعلى هذين الطريقين تصير أربعة، وهذا كله في قضاء الصوم الذي لا تتابع فيه. أما إذا قضت صوماً متتابعاً بنذر أو غيره، فإن كان قدر ما يقع في شهر - صامته على الولاء ثم مرة أخرى قبل السابع عشر ثم مرة أخرى من السابع عشر. مثاله: عليها يومان متتابعان، تصوم يومين وتصوم السابع عشر والثامن عشر، وتصوم بينهما يومين متتابعين، وإذا كان عليها شهران متتابعان صامت مائة وأربعين يوماً على التَّوالي أربعة أشهر لستة وخمسين يوماً وعشرين يوماً لأربعة أيام فإن دام طهرها شهرين فذاك وإلاَّ فقدر شهرين من هذه المدة صحيح لا محالة، وتخلل الحيض لا يقطع التَّتابع، وأما إذا كانت تقضي فائتة صلاة أو تريد الخروج عن عهدة منذورة نظر إن كانت واحدة صلَّتها بغسل متى شاءت، ثم تمهل زمانًا يسع الغسل. وتلك الصلاة وتعيدها بغسل آخر بحيث يقع في خمسة عشر يوماً من أول الصَّلاة المرة الأولى وتمهل من أول السادس عشر قدر الإمهال الأول، ثم تعيدها بغسل آخر قبل تمام الشهر من المرة الأولى، ويشترط أن لا تؤخر الثّالثة من أول السّادس عشر أكثر من الزمان المتخلل
بين آخر المرة الأولى، وأول الثانية. وهذا كله كما ذكرنا في الصوم والإمهال الأول كإفطار اليوم الثاني، والإمهال الثاني كالإفطار السادس عشر، وإن كانت الصلوات التي تريدها أكثر من واحدة، فلها طريقان: أحدهما: أن ننزلها منزلة الصلاة الواحدة، فتصليها على الولاء ثلاث مرات، كما ذكرنا في الواحدة، وتغتسل في كل مرة للصلاة الأولى، وتتوضَّأ لكل واحدة بعدها. ولا فرق على هذا بين أن تكون الصلوات متفقة أو مختلفة، والثاني أن تنظر فيما عليها من العدد إن لم يكن فيه اختلاف فتضعفه وتزيد عليه صلاتين أبداً، وتصلِّي نصف الجملة ولاء ثم النِّصف الآخر في أول السادس عشر من أول الشروع في النصف الأول. مثاله: عليها خمس صلوات صبح تضعفها وتزيد صلاتين (1) تكون اثنتي عشرة، تصلّي نصفها، وستة متى شاءت ثم ستة في أول السادس عشر، وإن كان في العدد الذي عليها اختلاف فتصلي ما عليها بأنواعه على الولاء متى شاءت، ثم تصلي صلاتين من كل نوع مما عليها بشرط أن يقعا في خمسة عشر يوماً من أول الشروع، وتمهل من أول السادس عشر زماناً يسع الصلاة المفتتح بها، ثم تعيد ما عليها على ترتيب فعلها في المرة الأولى. مثاله: عليها ثلاث صلوات صبح وظهران، تصلي الخمس متى شاءت ثم تصلي بعدها في الخمسة عشر صبحين وظهرين وتمهل من السادس عشر ما يسع لصبح، وتعيد الخمس كما فعلت أولاً، وفي هذا الطريق تفتقر لكل صلاة إلى غسل بخلاف ما ذكرنا في الطَّريق الأول، والطواف بمثابة الصلاة واحداً كان أو عددًا، وتصلي مع كل طواف ركعتيه، ويكفي غسل واحد للطواف مع الركعتين [إن لم توجب الركعتين] (2) وإن أوجبناهما فثلاثة أوجه: أصحها: أنه يجب وضوء للركعتين بعد الطواف. والثاني: يجب غسل آخر لهما. والثالث: لا يجب لا هذا ولا ذاك، ولو بسطنا القول في جميع ذلك لطال، وقد فعلته في غير هذا الكتاب. قال الغزالي: (السَّادِسُ) إِذَا طُلِّقَتِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِثَلاَثةِ أَشْهُرِ، وَلاَ تُقَدِّرُ تَبَاعُدَ حَيْضِهَا إِلَى سِنِّ اليَأْسِ لِأَنَّهُ تَشْدِيدٌ عَظِيمٌ. قال الرافعي: المتحيرة إذا طلقها زوجها بماذا تعتد؟ نقلوا عن صاحب "التقريب"
وجهاً، أنها تصبر إلى سن اليأس ثم تعتد بالأشهر؛ لأن من المحتمل تباعد الحيض ونحن نفرع عى قول الاحتياط فنأخذ في كل حكم بالأسوأ، والذي صار إليه المعظم ورواه صاحب الكتاب أن عدتها تنقضي بثلاثة أشهر؛ لأن الغالب أن يكون للمرأة في كل شهر حيضة، وحمل أمرها على تباعد الحيض وتكليفها الصَّبر إلى سن اليأس فيه مشقة عظيمة وضرر بين، فلا وجه لاحتماله بتجويز مجرد على خلاف الغالب بخلاف العبادات فإن المشقة فيها أهون، ثم في كيفية اعتدادها بالأشهر كلام ذكره في كتاب "العِدَّة". واعلم أن إمام الحرمين -قدّس الله روحه- مال إلى رد المتحيرة إلى المبتدأة في قدر الحيض، وإن لم يجعل أول الهلال ابتداء دورها، ومما استشهد به هذه المسألة. فقال: اتفاق معظم الأصحاب على أنها تعتد بثلاثة أشهر يدل على تقريب أمرها من المبتدأة في عدد الحيض والطهر، والمعنى القاضي برد المبتدأة إلى الأقل، والغالب يقضي بمثل ذلك في المتحيرة، فوجب القول به وهذا توسط بين القول الضّعيف، وبين الاحتياط التام، وفيه تخفيف الأمر عليها في المحسوب من رمضان، فإن غاية حيضها على هذا التقدير يكون سبعة، وأقصى ما يفرض انبساطه على ثمانية أيام، فيصبح لها من الشهر الكامل اثنان وعشرون يوماً، وكذلك في قضاء الصوم والصلاة فيكفيها على هذا التقدير إذا كانت تقضي صوم يوم أن تصوم يومين بينهما سبعة أيام، لكن الذي عليه جمهور الأصحاب ما تقدم، وبالله التوفيق. قال الغزالي: الحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ تَحْفَظَ شَيْئًا كَمَا لَوْ حَفِظَتْ أَنَّ ابْتِدَاءَ الدَّمِ كَانَ أَوَّلَ كُلِّ شَهْرٍ، فَيَوْمٌ وَلَيْلَةٌ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ حَيْضٌ بِيَقِينِ، وَبَعْدَهُ يَحْتَمِلُ الانْقِطَاعَ إِلَى انْقِضَاءِ الخَامِسَ عَشَرَ وَتَغْتَسِل لِكُلِّ صَلاَةٍ، وَبَعْدَهُ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ فَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ، وَلَو حَفِظَتْ أَنَّ الدَّمَ كَانَ يَنْقَطِعُ عِنْدَ آخِرِ كُلِّ شَهْرٍ، فَأوَّلُ الشَّهْرِ إِلَى النِّصْفِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ، ثُمَّ بَعْدَهُ يَتَعَارَضُ الاحْتِمَالُ وَلاَ يَحْتَمِلُ الانْقِطَاعَ؛ لِأَنَّ فِي آخِرِهِ حَيْضاً بِيَقِينِ فَتَتَوَضَّأُ وَتُصَلِّي إِلَى انْقِضَاءِ التَّاسِعِ وَالعِشْرِينَ، وَالْيَومُ الأَخِيرُ بِلَيْلَتِهِ حَيْضٌ بِيَقِينٍ. قال الرافعي: إذا حفظت الناسية من عادتها شيئاً ونسيت شيئاً، فالقول الجملي فيها أن الزمان الذي تتيقن فيه الحيض تثبت فيه أحكام الحيض، وكل زمان، تتيقن فيه الطهر تثبت فيه أحكام الطهر، نعم، لها حدث دائم، وكل زمان يحتمل الحيض والطهر فهي في الاستمتاع كالحائض، وفي لزوم العبادات كالطاهر، ثم إن كان ذلك الزمان محتملاً للانقطاع أيضاً فعليها أن تغتسل لكل فريضة، ويجب الاحتياط على ما يقتضيه الحال. وإذا عرفت هذه المقدمة فنقول: ذكرنا أن الناسية إذا لم تنس القدر والوقت جميعاً وحفظت شيئاً، فمحفوظها إما أن يكون الوقت، وإما أن يكون القدر. أو شيء منه فجعل الحالة الأولى من الحالتين الأخريين في القسم الأول، والثانية منهما في القسم الثاني.
وقوله: "أن تحفظ شيئاً" أي: من الوقت وإلا دخل فيه الحالة الأخيرة، واقتصر هاهنا على ذكر مثالين: أحدهما: لو عينت ثلاثين يوماً، وذكرت أنها كانت يبتدئ بها الدّم لأول هذه المدّة، وكذلك في كل ثلاثين بعدها ولم تعرف شيئاً غير ذلك فيوم وليلة من أوّل الثلاثين حيض بيقين؛ فإنه أقل الحيض وبعده يحتمل الحيض والطهر والانقطاع إلى آخر الخامس عشر، وبعده إلى آخر الشّهر طهر بيقين، وكذلك الحكم في كل ثلاثين بعدها، والمراد من الشّهر في هذه المسائل الأيام التي تعينها هي لا الشهر الهلالي. والثاني: إذا عينت ثلاثين يوماً بلياليها، وقالت: أحفظ أن الدم كان ينقطع آخر كل شهر، فالأول إلى انقضاء النِّصف طهر بيقين؛ لأن غاية الممكن افتتاح الحيض من (أَوَّل) ليلة السادس عشر وبعده يحتمل الحيض والطهر دون الانقطاع واليوم الثلاثون والليلة قبله حيض بيقين، ويتعلق بهذه الحالة مسائل تشتهر بمسائل الخلط، نذكر منها صورتين. إحداهما: الخلط المطلق، وهو أن تقول (كنت) أخلط شهرًا بشهر حيضاً، أي: كنت في آخر كل شهر وأول ما بعده حائضاً، فلحظة من أول كل شهر ولحظة من آخره حيض بيقين ولحظة من آخر الخامس عشر ولحظة من ليلة السادس عشر طهر بيقين، وما بين اللحظة من أول الشهر واللحظة من آخر الخامس عشر يحتمل الحيض والطّهر والانقطاع، وما بين اللّحظة من أول ليلة السادس عشر واللحظة من آخر الشهر يحتملهما ولا يحتمل الانقطاع، ولو قالت: كنت أخلط شهراً بشهر طهراً فليس لها حيض بيقين، لكن لها ساعتان، طهر بيقين، ساعة من آخر كل شهر وساعة من أوله، ثم قدر أقل الحيض بعد مضي اللَّحظتين لا يمكن فيه الانقطاع وبعده يمكن: الثانية: لو قالت: كنت أخلط الشهر بالشهر وكنت اليوم الخامس حائضاً، فلحظة من آخر الشهر إلى آخر خمسة أيام من الشهر الثاني حيض بيقين، ولحظة من آخر الخامس عشر إلى آخر العشرين طهر بيقين، وما بينهما كما سبق. قال الغزالي: الحَالَةُ الثَّالِثَةُ إِذَا قَالَتْ: أضللتُ عَشْرَةً فِي عِشْرِينَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ فَالْعَشْرُ الأَخِيرُ طُهْرٌ بِيَقِينٍ، وَجَمِيعُ العِشْرِينَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ يَحْتَمِلُ الحَيْضَ وَالطُّهرَ، نَعَمْ لاَ يَحْتَمِلُ الانقِطَاعَ فِي الْعَشْرِ الأُوَلِ فَتَتَوَضَّأ لِكُلِّ صَلاَةٍ وَيُحْتَمَلُ فِي العَشْرِ الثَّانِي فَتَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلاَةٍ، وَلَوْ قَالَتْ: أضللت خَمْسَةَ عَشَرَ فِي عِشْرِينَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ فَالْخَمْسَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَة مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ حَيْضٌ بيَقِين؛ لِأَنَّهَا تَنْدَرجُ تَحْتَ تَقْدِيرِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأخِيرِ جَمِيعاً. قال الرافعي: الحافظة لقدر الحيض إنما تخرج عن التحير المطلق، إذا حفظت مع
ذلك قدر الدور وابتداءه؛ إذ لو قالت: كان حيضي خمسة وأضللته في دوري ولا أعرف سوى ذلك، فلا فائدة فيما ذكرت لاحتمال الحيض والطهر والانقطاع في كل زمان، وكذا لو قالت: حيضي خمسة، ودوري ثلاثون ولا أعرف [ابتداءه وكذلك لو قالت: حيضي خمسة وابتداء دوري يوم كذا، ولا أعرف قدره] (¬1) وإذا حفظتهما جميعاً مع قدر الحيض فإشكال الحال بعد ذلك إنما يكون لإضلال الحيض والإضلال قد يكون في جميع الدّور وقد يكون في بعضه، فإن كان الإضلال في كله يحتمل الحيض والطّهر، وقدر الحيض من أول الدور لا يحتمل الانقطاع وبعده يحتمل الانقطاع أيضاً. مثاله: قالت دوري ثلاثون ابتداؤه كذا، وحيضي عشرة أضللتها في الثلاثين، فعشرة من أولها لا تحتمل الانقطاع، والباقي يحتمله والكل يحتمل الحيض والطهر. هذا إذا لم تعرف مع ذلك شيئاً آخر فإن عرفت شيئاً آخر فعليها الاحتياط كما يقتضيه الحال: مثاله: قالت: حيضي إحدى عشرات الشهر وقد نسيت عينها، فهذا يفارق الصّورة السابقة في احتمال الانقطاع بعد العشرة الأولى قائم إلى آخر الشهر، وهاهنا لا يحتمل الانقطاع إلا في آخر كل عشرة من العشرات، وإن كان الإضلال في بعض الدور فقد ذكر في الكتاب منه صورتين: إحداهما: إذا قالت: أضللت عشرة في عشرين من أول الشهر، فالعشرة الأخيرة طهر بيقين، والعشرون من أوله يحتمل الحيض والطهر، ولا يمكن الانقطاع في العشرة الأولى ويمكن في الثانية. والثانية: قالت: أضللت خمسة عشرة في عشرين من أوّل الشهر، فالعشرة الأخيرة طهر بيقين، والخمسة الثانية والثالثة حيض بيقين، لاندراجهما تحت تقدير تقديم الحيض وتأخيره جميعاً، والخمسة الأولى تحتمل الحيض والطهر دون الانقطاع، والرابعة تحتملها جميعاً، والطهر المستيقن في هاتين الصورتين وقع في الطرف الآخر من الدور وقد يقع في الطرف الأول كما إذا قالت: أضللت العشرة أو الخمسة عشر في العشرين من آخر الشّهر، وقد يقع في الوَسَطِ كما إذا قالت: كان حيضي خمسة والدور ثلاثون، وكنت اليوم الثالث عشر طاهراً فخمسة من أول الدور تحتمل الحيض، والطهر دون الانقطاع، وما بعدها يحتملهما جميعاً إلى آخر الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر طهر بيقين، ومن أول السادس عشر إلى آخر العشرين يحتمل الحيض والطهر دون الانقطاع، ومنهم إلى آخر الشهر يحتملهما جميعاً، ومتى كان القدر ¬
الذي أضلته زائدًا على نصف محل الضلال كان لها حيض بيقين من وسطه، وقدره ضعف القدر الزائد من الحيض على نصف محل الضلال، وإن شئت قلت ما يزيد من ضعف قدر الحيض من كل محل الضّلال، ففي الأولى من صورتي الكتاب لم يكن قدر الحيض زائدًا على نصف محل الضّلال، فلم يكن لها حيض بيقين، وفي الثانية كان زائدًا فلا جرم لها حيض بيقين، ومقداره عشرة لأن الزائد من قدر الحيض على نصف محل الضلال خمسة وضعف الخمسة عشرة، وبالعبارة الثانية نقول: ضعف قدر الحيض ثلاثون ومحل الضلال عشرون، والثلاثون تزيد على العشرين بعشرة. قال الغزالي: فَرْعٌ إِذَا اتَّسَقَتْ عَادَتُهَا وَكانَتْ تَحِيضُ فِي شَهْرٍ ثَلاَثاً ثُمَّ فِي شَهْرٍ خَمسًا ثُمَّ فِي شَهْرٍ سَبْعاً ثُمَّ تَعُودُ إِلَى الثَّلاَثِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ ثُمَّ اسْتُحِيضَتْ فَفِي رَدِّهَا إِلَى هَدِهِ العَادَةِ الدَّائِرَةِ وَجْهَانِ: فَإِنْ قُلْنَا: لاَ تُرَدُّ إِلَيْهَا فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا كَالْمُبْتَدَأَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا تُرَدُّ إِلَى القَدْرِ الأَخِيرِ قَبْلَ الاَسْتِحَاضَةِ، وَقِيلَ: تُرَدُّ إِلَى الثَّلاثَةِ إِنِ اسْتُحِيضَتْ بَعْدَ الخَمْسَةِ لِأَنَّهَا متَكَرِّرَة فِي الخَمْسَةِ، وَلَو كَانَتِ الأَقْدَار مَا سَبَقَ مِنْ ثَلاَثٍ وَخَمْسٍ وَسَبْعٍ وَلَكِنْ لاَ عَلَى سَبِيلِ الاتِّسَاقِ، فَإِنْ قُلْنَا: تُرَدُّ إِلَى العَادَةِ الدَّائِرَةِ فَهَذِهِ كَالَّتِي نَسِيَتِ النَّوْبَةَ المُتَقَدِّمَةَ فِي العَادَةِ الدَّائِرَةِ بَعْدَ الاسْتِحَاضَةِ، وَحُكْمُهَا الاحْتِيَاطُ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ بَعْدَ الثَّلاَثِ لِأنَّ الثَّلاَثَ حَيْضٌ بِيَقِينٍ ثُمَّ تَتَوَضَّأ لِكُلِّ صَلاَةٍ إِلَى انْقِضَاءِ الخَامِسِ. ثُمَّ تَغْتَسِلَ مَرَّةً أُخْرَى، ثُمَّ تَتَوَضَّأَ إِلَى انْقِضَاءِ السَّابعِ، ثُمَّ تَغْتَسِلَ، ثُمَّ هِيَ طَاهِرٌ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ. قال الرافعي: إذا استمرت للمرأة عادات حيض مختلفة المقادير، ثم استحيضت فلا تخلو إما أن تكون مُتَّسقة منتظمة أو لا تكون كذلك، فهما حالتان: إحداهما: أن تكون منتظمة لا تختلف كما إذا كانت تحيض في شهر ثلاثة ثم في شهر خمسة ثم في شهر سبعة ثم في الشهر الرابع ثلاثة ثم خمسة ثم سبعة وهكذا فهل ترد بعد الاستحاضة إلى هذه العادة؟ وجهان: أظهرهما: نعم؛ لأن تعاقب الأقدار المختلفة قد صار عادة لها فصار كالوقت والقدر المعتادين. والثاني: لا ترد إلى العادة الدائرة؛ لأن كل واحد من المقادير ينسخ ما قبله ويخرجه عن الاعتبار، ولا فرق على الوجهين بين أن يكون نظم عاداتها، على ترتيب العدد على ما ذكرنا، أو لا يكون كما إذا كانت ترى في شهر خمسة ثم ثلاثة ثم سبعة ثم تعود إلى الخمسة ولا فرق أيضاً بين أن ترى كل واحدة من العادات مرة، كما ذكرنا أو مرتين كما إذا كانت ترى في شهرين ثلاثة ثلاثة، وفي شهرين بعدهما خمسة خمسة،
وفي شهرين بعدهما سبعة سبعة، وقوله في صورة المسألة: ثم تعود إلى الثلاث على هذا الترتيب إنما ذكر ذلك؛ لأنه لو ابتدئ الحيض بها ورأت الأقدار الثلاثة في ثلاثة أدوار واستحيضت في الرابع فلا خلاف في أنها لا ترد إلى تلك الأقدار في أْدوارها، أما إذا أثبتنا العادة بمرة فلأن القدر الأخير ينسخ ما قبله وأما إذا لم نثبت، فلأنه لم يثبت كون العادات المختلفة عادة لها هكذا قاله في "النهاية". ولهذا قال الأئمة: أقل ما تستقيم فيه العادة في المثال المذكور في الكتاب ستة أشهر، فإن كانت ترى هذه الأقدار مرتين مرتين فسنة فإذًا محل الوجهين ما إذا تكررت العادة الدائرة. فإن قلنا: ترد إليها فاستحيضت عقيب شهر الثلاثة ردت في أول شهر الاستحاضة إلى الخمسة وفي الثَّاني إلى السبعة وفي الثالث إلى الثلاثة، وإن استحيضت عقيب شهر الخمسة ردت إلى السبعة، ثم إلى الثلاثة ثم إلى الخمسة وإن استحيضت عقيب شهر السبعة ردت إلى الثَّلاَثَةِ ثم إلى الخمسة ثم إلى السبعة. وإن قلنا: لا ترد إليها فقد نقل صاحب الكتاب ثلاثة أوجه: أحدها: أنها ترد إلى القدر الأخير قبل الاستحاضة أبداً، وهذا مبني على أن العادة تثبت بمرة وتنتقل بمرة. والثاني: ترد إلى القدر المشترك بين الحيضتين المتقدمتين على الاستحاضة [فإن استحيضت] (1) بعد شهر الخمسة ردت إلى الثلاثة، وكذا لو استحيضت بعد شهر الثلاثة، وإن استحيضت بعد شهر السّبعة ردت إلى الخمسة، وهذا والذي بعده خارجان على قولنا: إن العادة لا تثبت بمرة. والثالث: أنها كالمبتدأة؛ لأن شيئاً من الأقدار لم يصر عادة لها أما إذا لم يتكرر على حياله، ولا عبرة بالتّكرار في ضمن عدد أكثر منه، فإنه حينئذ ليس بحيضة لها، ولم أر بعد البحث نقل هذه الوجوه متفرعة على الوجه الثاني لغير صاحب الكتاب، حتى لشيخه إمام الحرمين -رحمه الله- فإنه وإن ذكر هذه الوجوه فإنما ذكرها فيما إذا لم تكرر العادة الدّائرة. وقد حكينا أن محل الوجهين ما إذا تكررت فإذًا صاحب الكتاب متفرد [بنقل] (2) هذه الوجوه تفريعاً على أحد الوجهين، والذي ذكره غيره تفريعاً عليه الرّد إلى القدر المتقدم على الاسْتِحَاضَةِ لا غير ثم إذا رددناها إلى القدر المتقدم على الاستحاضة فهل يجب عليها الاحتياط فيما بين أقل العادات وأكثرها؟ فيه وجهان:
أصحهما: لا، كذات العادة الواحدة لا تحتاط بعد الرد. والثاني: نعم، لجواز امتداد الحيض إليه فعلى هذا يجتنبها الزوج في المثال المذكور إلى آخر السَّبعة، ثم إن استحيضت عقيب شهر الثلاثة تحيضت، من كل شهر ثلاثة، ثم تغتسل وتصوم وتصلي [وتغتسل] (1) مرة أخرى لآخر الخامس، ومرة أخرى لآخر السابع، وتقضي صوم السبعة جميعاً؛ لأنها لم تصم الثلاثة، وفيما وراءهما احتمال الحيض قائم وإن صامت ولا تقضي الصلاة أيضاً؛ لأنها حائض في الثلاثة وليس على الحائض قضاء الصلاة، وفيما وراءها إن كانت حائضاً فلا شيء عليها؛ وإن كانت طاهراً فقد صلت وإن استحيضت عقيب شهر الخمسة تحضيت من كل شهر خمسة ثم تغتسل وتصوم وتصلي وتغتسل مرة أخرى لآخر السابع وتقضي صوم الكل وصلوات اليوم [الرابع] (2) والخامس لاحتمال أنها كانت طاهراً فيهما، ولم تصل وإن استحيضت عقيب شهر السَّبعة تحيضت من كل شهر سبعة واغتسلت عند إنقضاء السابع وتقضي يوم السَّبعة وصلوات ما وراء الثلاثة المستيقنة من السّبعة، -والله أعلم-. هذا كله إذا ذكرت العادة المتقدمة على الاستحاضة، فإن نسيتها تحيضت من كل شهر ثلاثة، فإنها أقل المقادير التي عهدتها وهي تحيض بيقين، ثم تغتسل وتصوم وتصلي وتغستل أيضاً آخر الخامس والسابع وتتوضأ فيما بينهما لكل فريضة كما تفعل المستحاضات ثم هي طاهر بيقين إلى آخر الشهر وهل يختص هذا الجواب بقولنا: إنها ترد إلى العادة الدائرة أو هو مستمر على الوجهين جميعاً قضية كلام الأكثرين أنه مستمر على الوجهين جميعاً وكثيراً ما يستوي التفريع على وجهين مختلفين، وإطلاق صاحب الكتاب يوافق كلامهم، وقال إمام الحرمين، هو مخصوص بقولنا: ترد إلى العادة الدائرة، أما إذا قلنا: ترد إلى القدر المتقدم على الاستحاضة فمنهم من قال هاهنا: ترد إلى أقل العادات ومنهم من قال: هي كالمبتدأة وقد ذكرنا قولين في المبتدأة أنها هل تؤمر بالاحتياط إلى آخر الخمسة عشر فهما جاريان هاهنا فيحصل من هذا خلاف في أنها هل تحتاط؟ وإذا احتاطت فلا يختص الاحتياط على هذا بآخر أكثر الأعداد. الحالة الثانية: (3) أن لا تكون تلك العادات منتظمة بل كانت تأتيها مختلفة مرة تتقدم هذه وأخرى هذه. ذكر إمام الحرمين وصاحب الكتاب: أن حكم هذه الحالة يبنى على حالة الانتظام إن قلنا: ثم لا ترد إلى العادة الدائرة فهاهنا أولى، وترد إلى القدر المتقدم على الاستحاضة على هذا.
وإن قلنا: ترد إلى العادة الدائرة فعدم الانتظام بمثابة نسيان النوبة المتقدمة على الاستحاضة، فتحتاط كما سبق، وقد ذكر غيرهما طرقًا في هذه الحالة (محصول الخارج) منها ثلاثة أوجه: أصحها: الرّد إلى القدر المتقدم على الاستحاضة، وهذا مبني على أن العادة تثبت بمرة. والثاني: أن القدر المتقدم عليها إن تكرر مرتين، أو ثلاثاً ردت إليها، وإلا فترد إلى الأقل من عادتها لأنه متكرر ومستيقن. والثالث: أنها كالمبتدأة ولا نظر إلى شيء من تلك العادات. ثم قالوا: [إن قلنا: ترد إلى القدر المتقدم على الاستحاضة أو إلى أقل العادات، فتحتاط إلى آخر أكثر العادات] (¬1) وإن قلنا: هي كالمبتدأة ففي الاحتياط إلى آخر الخمسة عشر الخلاف المذكور في المبتدأة، هذا إذا عرفت القدر المتقدم على الاستحاضة فإن نسيته، والعادات غير متسقة فهاهنا وجهان الذي ذكره الأكثرون الرد إلى أقل العادات. والثاني: أنها كالمبتدأة فعلى الثَّاني في الاحتياط الخلاف المذكور في المبتدأة، وعلى الأوّل يجب الاحتياط إلى آخر أكثر العادات. وحكى بعضهم أنه يستحب، ولا يجب وإذا تأملت ما حكينا حصل عندك جوابان في أنها هل تحتاط في الحالة الثانية سواء عرفت القدر المتقدم على الاستحاضة أو نسيته، إن قلنا: تحتاط فذلك إلى آخر أكثر المقادير أو إلى الخمسة عشر، فيه جوابان، ويحصل مثل هذا الخلاف عند النسيان في الحالة الأولى، بل عند العلم أيضاً لأنا روينا فيه الوجهين في الاحتياط آخر أكثر المقادير، وذكر في الكتاب وجهاً: أنها كالمبتدأة فيجيء فيه الخلاف المذكور في احتياط المبتدأة أيضاً، وعند هذا لك أن تعلّم قوله: "وحكمها الاحتياط" بالواو للوجه الصائر إلى أنه لا يلزمها الاحتياط، وقوله في آخر الباب: ثم هي طاهرة إلى آخر الشهر أيضاً للوجه الصائر إلى أنها تحتاط إلى آخر الخمسة عشر. وقوله: "فعليها أن تغتسل بعد الثلاث"؛ لأن الثلاث حيض بيقين أيضاً؛ لأن من قال بأنها كالمبتدأة يحيضها يوماً وليلة، أو ستاً أو سبعاً ولا يعتبر الثلاث. وقوله: "ثم تتوضأ إلى آخر الخامس، وإلى آخر السابع أيضاً" للوجه الذاهب إلى أنها تحتاط في جميع الخمسة عشر. ¬
الباب الرابع في التلفيق
واعلم أن الصحيح من هذا الخلاف عند العلم في حالة انتظام العادات أنها لا تحتاط، والصحيح عند النسيان وفي حالة عدم الانتظام أنها تحتاط لكن إلى آخر أكثر الأقدار، لا إلى تمام الخمسة عشر، ولهذا خلط في الكتاب الحالة الثانية بصورة النّسيان من حال الانتظام، والله أعلم. قال الغزالي: البَابُ الرَّابعُ فِي التَّلْفِيقِ فَإِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا يَوْمًا يَوْمًا وَانْقَطَعَ عَلَى الخَمْسَةَ عَشَرَ، فَفِي قَوْل: تُلْتَقَطُ أَيَّامُ النَّقَاءِ وَتُلْفَّقُ (ح) وَيُحْكَمُ بالطُّهرِ فِيهِ، وَالقَوْلُ الأَصَحُّ أنَّا نَسْحَبُ (م) حُكْمَ الحَيْضِ عَلَى أَيَّامِ النَّقَاءِ وَنَجْعَلُ ذَلِكَ كالفَتَرَاتِ بَيْنَ دَفَعَاتِ الدَّمِ، لِأَنَّ الطُّهْرَ النَّاقِصَ فَاسِدٌ كَالدَّمِ النَّاقِصِ. قال الرافعي: إذا انقطع دم المرأة وكانت ترى يوماً دماً، ويومأ نقاء أو يومين ويومين، فلا يخلو إما أن ينقطع قبل مجاوزة الخمسة عشر أو يجاوزها، فهما قسمان: الأول: أن ينقطع ولا يجاوز ففيه قولان: أحدهما وبه قال مالك وأحمد: أنها تلتقط أيام النقاء، وتلفق ونحكم بالطهر فيها وحيضها أزمنة الدم لا غير، لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (¬1) أي: ينقطع دمهن، وقد انقطع فوجب أن يجوز القربان، ولأنه لا يحكم في أيَّام الدم حقيقة بالطهر، فكذلك لا يحكم في أيام النّقاء حقيقة بالحيض؛ توفيراً لحكم كل واحدة من الحالتين عليها، ولا شك أن أزمنة النَّقاء لا تجعل أطهارًا في حق انقضاء العدة بها، والطَّلاق فيها لا يخرج عن كونه بدعيًا، فقولنا: نحكم بالطهر فيها على هذا القول أي: في الصوم والصلاة والاغتسال ونحوها. والثاني وبه قال أبو حنيفة: إن حكم الحيض ينسحب على أيام النقاء فتحيض فيها جميعاً؛ لأن زمان النقاء ناقص عن أقل الطهر فيكون حيضًا كساعات الفترة بين دفعات الدم؛ ولأن أزمنة النَّقاء لو كانت طهرًا واحدًا فإما أن يكون كل واحد منها طهرًا وحده أو مجموعها طهرًا واحداً، فإن كان الأوّل وجب انقضاء العدة بثلاثة منها، وإن كان الثَّاني على جميع الشَّهر حتى لا تكون مُسْتَحَاضَةً مع مجاوزة الدَّم بصفة التَّقطع وليس كذلك، والقول الأول أصح عند الشيخ أبي حامد، وطائفة من أصحابنا العراقيين، لكن ما عليه المعظم أن الثاني أصح على ما ذكره في الكتاب، وبه قال القاضي أبو الطيب ¬
الطَّبَرِيّ، وموضع القولين ما إذا كانت مدة الانقطاع زائدة على الفترات المعتادة بين دفعات الدم، فإنه لا يسيل دائماً في الغالب، فإن لم يزد عليها فلا خلاف في كون الكُل حيضًا، وهذا بين من إلحاقه أيام النقاء على قول السحب بها. وقد قال إمام الحرمين في الفرق بينهما: إن دم الحيض يجتمع في الرَّحم ثم الرحم يقتره شيئاً فشيئًا، فالفترة ما بين ظهور دفعة وانتهاء دفعة أخرى من الرحم إلى المنفذ فما زاد على ذلك فهو النَّقاء الذي فيه القولان، وربما يتردد الناظر في أن مطلق الزائد على المدة الذكورة هل تخرج عن حد الفترات المعتادة؟ لأن تلك المدة يسيرة والله أعلم بالصواب. ولا فرق على القولين بين أن يكون قدر الدم أكثر من قدر النقاء، أو قدر النقاء أكثر، أو يكونا متساويين، وإذا رأت صفرة أو كدرة بين سوادين، فإن قلنا: الصفرة في غير أيام العادة ليست حيضًا فهو من صور التقطع. قال الغزالي: وَلَكِنْ نَسْحَبُ حُكْمَ الحَيْضِ عَلَى النَّقَاءِ بِشَرْطَينِ: (أَحَدُهُمَا): أَنْ يَكُونَ النَّقَاءُ مُحْتَوِشًا بِدَمَيْنِ في الخَمْسَةَ عَشَرَ حَتَّى لَوْ رَأَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ نَقَاءً وَرَأَتْ فِي السَّادِسَ عَشَرَ دَمًا فَالنَّقَاءُ مَعَ مَا بَعْدَهُ مِنَ الدَّمِ طُهْرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُحْتَوِشاً بِالحَيْضِ في المُدَّة. (والثَّانِي) أن يكون قَدْرُ الحَيْضِ فِي المُدَّةِ الخَمْسَةَ عَشَرَ تَمَام يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَإنْ تَفَرَّقَ بالسَّاعَاتِ، وَقِيلَ: إِنَّ كُلَّ دَمٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ يَوْماً وَلَيْلَةً، وَقِيلَ: لا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ بَلْ لَوْ كَانَ المَجْمُوعُ قَدْرِ نِصْفِ يَوْمٍ صَارَ البَاقِي حَيْضاً. قال الرافعي: غرض الفصل بيان قاعدتين يشرطان على قول السّحب. إحداهما: لا بد من كون النقاء مُحْتُوَشًا بدمين في الخمسة عشر ليثبت لهما حكم الحيض، ثم ينسحب على ما بينهما، أما النَّقَاء الذي لا يقع بين دَمَينِ، فهو طهر لا محالة، وضرب له في الكتاب مثالاً، وهو ما إذا رأت يوماً وليلة دماً وأربعة عشر نَقَاء، ورأت في السادس عشر دماً، فالأربعة عشر طهر، إذ ليس بعدها دم محكوم له بالحيض، حتى ينسحب حكمه على النقاء، وإنما شرط في هذا المثال أن ترى الليلة دماً مع اليوم، لأنه لا دم في الخمسة عشر سوى ما رأته أولاً، فلو كان في اليوم وحده لما كان لها حيض أصلاً، وحينئذ لا يقتصر الطهر على الأربعة عشر وما بعدها، بل يعم الكل، ولا يخفى أن الغرض من قوله: "فالنَّقَاء مع ما بعده من الدّم طهر" التسوية بينهما في نفي الحيض لا في أحكام الطهارة مطلقاً، فإنها مُسْتَحَاضة في زمان الدَّم دون أيام النَّقاء، ولك ألا تستحسن هذا المثال في هذا الموضع؛ لأنه الآن يتكلم فيما إذا لم يجاوز الدم الخمسة عشر، وفي هذه الصورة قد جاوز واللائق غير هذا المثال، نحو ما
إذا رأت يوماً دماً، ويومًا نقاء إلى الثالث عشر، ولم يعد الدم طهر؛ لأن النَّقَاء فيهما غير مُحْتَوِش بدمين في الخمسة عشر. الثانية: الدماء المتفرقة إما أن يبلغ مجموعها أقل الحيض، أو لا يبلغ، فإن بلغ مجموعها أقل الحيض نظر إن بلغ الأول والآخر كل واحد منهما أقل الحيض، ففيه القولان. وحَكَى أبو عبد الله الحناطي طريقًا آخر أن أزمنة النَّقاء في هذه الحالة حيض بلا خلاف (¬1) والقولان فيما إذا لم يبلغ كل واحد من الطَّرفين الأقل، وإن لم يبلغ واحد منها أقل الحيض، كما إذا رأت نصف يوم دمًا ومثله نقاء، وهكذا إلى آخر الخمسة عشر، ففيه ثلاث طرق: أصحها: طرد القولين، فعلى قول التَّلْفِيق، حيضها أنصاف الدم سبعة ونصف، وعلى قول السّحب حيضها أربعة عشر ونصف؛ لأن النصف الأخير لم يتخلّل بين دمين في المّدة. والثاني: لا حيض لها وكل ذلك دم فساد؛ لأن جعل التقاء حيضاً خلاف الحقيقة إنما يصار إليه إذا تقدم أقل الحيض أو تأخر أقلّه أو وجد أحدهما حتى استتبع النقاء. والثالث: إنْ توسطهما قدر أقل الحيض على الاتصال، كفى ذلك لحصول القولين، وإلا فكلهما دم فساد، وإن بلغ أحدهما أقل الحيض دون الآخر، فثلاثة طرق أيضاً: أصحها: طرد القولين. والثاني: أن الدم الذي بلغه حيض وما عداه دم فساد. والثالث: إن بلغ الأول أقل الحيض، فهو وما سواه حيض، وإن بلغ الآخر الأقل، فهو حيض دون ما عداه، والفرق أن الحيض في الابتداء أقوى وأدوم. هذا كله إذا بلغ مجموع الدماء أقل الحيض، أما إذا لم يبلغ فطريقان: أظهرهما: أنه على القولين، إن قلنا بالتَّلْفِيقِ فلا حيض لها، بل هو دم فساد، وإن قلنا: بالسحب فكذلك على أظهر الوجهين. والثاني: أن الدماء وما بينها حيض. والثاني: القطع بأن لا حيض لها، وإذا تأملت ما ذكرناه حصل عندك في القدر المعتبر من الدَّمين ليجعل ما بينهما حيضًا على قول السّحب ثلاثة أوجه كما ذكر في الكتاب. ¬
أظهرها وبه قال أبو بكر المحمودي: إنه يشترط أن يكون مجموع الدِّماء قدر أقل الحيض، ولا بأس بتفرقها، ونقصان كل واحد منها، وقوله: "أنْ يكون قدر الحيض في المدة الخامسة عشرة تمام يوم وليلة عبارة عن هذا الوجه، وأراد بالحيض الدم، وإلا فالنَّقاء حيض أيضاً" على قول السحب. والثاني: أنه يشترط مع ذلك أن يكون كل واحد من الدَّمين قدر أقل الحيض، حتى لو رأت دماً ناقصًا على الأقل ودمين آخرين غير ناقصين. فالأول دم فساد والآخران وما بينهما من النقاء حيض. وقوله: "إنَّ كل دم ينبغي أن يكون يوماً وليلة"، لا نعني به كل دم في الخمسة عشر، إذ لا يشترط في الدماء المتوسطة ذلك. وإنَّما المراد كل دم من الأول والآخر. والثالث وبه قال الأنْمَاطِي: أنه لا بشترط شيء من ذلك، بل لو كان مجموع الدماء نصف يوم أو أقل، فهي وما بينها من النّقاء حيض على القول الذي نتكلم فيه. وقوله: "صار الباقي حيضًا" أي: الباقي من الخمسة عشر بشرط أن يكون متخللاً بين الدّمين، ويحصل مما سبق وجه رابع وهو أنه لا يشترط أن يكون أحدهما (¬1) أقل الحيض [لكن يشترط بلوغ أولهما هذا الحد] (¬2) ووجه خامس وهو أنه يشترط أن يكون أحدهما أقل الحيض إما الأول أو الآخر. ووجه سادس، وهو أنه يشترط ذلك إما في الأول أو الآخر أو الوسط. قال الغزالي: فَرْعٌ المُبْتَدَأَةُ إِذَا تَقَطَّعَ دَمُهَا فَتُؤْمَرُ بِالعِبَادَةِ فِي الحَالِ، وَإِذَا اسْتَمَرَّ التَّقَطُّعُ فَفِي الدَّورِ الثَّالِثِ لاَ تُؤْمَرُ بِالعِبَادَةِ، وَفِي الثَّانِي تُبْنَي عَلَى أَنْ العَادَةَ هَلْ تَثْبُتُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ؟ قال الرافعي: المبتدأة إذا انقطع دمها فكما انقطع وهو بالغ أقل الحيض، لزمها أن تغتسل وتصوم وتصلي، ولها أن تطوف، وللزوج أن يغشاها ولا فرق في كل ذلك بين القولين؛ لأنها لا تدري هل يعود الدم أم لا؟ والظاهر استمرار العدم. وفي الغشيان وجه أنه لا يجوز، ثم إذا عاد الدَّم تركت الصَّوم والصَّلاة، وامتنعت عن الوَطْء، وتبين على قول السحب وقول الوطء. والعبادات في الحيض، لكن لا يأثم بالوطء وتقضي الصَّوم والطَّواف دون الصَّلاة. وعلى قول اللّقط -والتَّلْفِيقِ ما مضى صحيح- ولا قضاء، وهذا الحكم في الانقطاع الثاني والثالث وسائر الانقطاعات في الخمسة عشر. ¬
وفيه وجه: أن في سائر الانقطاعات يبنى الأمر على أن العادة بماذا تثبت، فإذا ثبتت توقفنا في الغسل، وسائر العبادات ارتقاباً للعود، وأما في الدور الثاني، وما بعده من الأدوار، فعلى قول التلفيق لا يختلف الحكم، وعلى قول السحب في الدور الثاني طريقان: أصحهما: أنه يبنى على الخلاف في العادة، إنْ أثبتناها بمرة. وقد عرفنا التّقطع بالدور الأول فلا تغتسل ولا تصلي ولا تصوم، حملاً على عود الدم، فإن لم يعد بأن أنها كانت طاهراً، فتقضي الصوم والصلاة جميعاً، وإن لم نثبتها بمرة، فالحكم كما سبق في الشهر الأول، وفي الدور الثالث وما بعده تثبت العادة بمرتين سابقتين، فلا تغتسل إذا انقطع الدم، ولا تصلي ولا تصوم. وقد حكينا وجهاً من قبل أن العادة لا تثبت إلا بثلاث مرات، ولا يخفى قياسه، والطريق الثاني، ويحكى عن أبي زيد أن التقطع وإن تكرر مرات كثيرة، فالحكم في المرة الأخيرة كما في الأولى؛ لأن الدم إذا انقطع فبناء الحكم على عوده وترك العبادات بعيد. وقوله في الكتاب: "المبتدأة إذا انقطع دمها فتؤمر بالعبادة" يجوز أن يراد به الانقطاع الأول وحده، ويجوز أن يراد به كل انقطاع يتفق في الدور الأول، وعلى التقدير الثاني ينبغي أن يُعَلَّمَ قوله: "فتؤمر بالعبادة" بالواو للوجه الصائر إلى بنائه على الخلاف في العادة. وقوله: "ففي الدور الثالث لا تؤمر بالعبادة" ينبغي أن يُعَلَّم بالواو لشيئين: أحدهما: الوجه الذاهب إلى أن العادة تثبت بثلاث مرات. والثاني: الطريقة المنسوبة إلى أبي زيد. وكذلك قوله: "وفي الثاني يبني على أن العادة هل تثبت بمرة لطريقة أبى زيد"؟ هذا كله إذا كان الانقطاع بعد بلوغ الدم أقل الحيض. أما إذا رأت المبتدأة نصف يوم دماً وانقطع، وقلنا بطرد القولين، فعلى قول السحب لا غسل عليها عند الانقطاع الأول، لأنه إن عاد الدم في الخمسة عشر، فالنَّقاء الذي رأته بعد ذلك الدم حيض أيضاً وإن لم يعد فهو دم فساد، ولكن تتوضأ، وتصلي، وفي سائر الانقطاعات، إذا بلغ مجموع ما سبق دماً ونقاء أقل الحيض، يصير الحكم على ما سبق في الحالة الأولى، وعلى قول التَّلْفِيق لا يلزمها الغسل أيضاً في الانقطاع الأول على أظهر الوجهين، لأنَّا لا ندري هل هو حيض أم لا؟ والثاني: يجب احتياطاً كما يجب على الناسية احتياطاً، وفي سائر الانقطاعات،
إذا بلغ ما سبق من الدم وحده أقل الحيض يلزمها الغسل وقضاء الصوم والصلاة، وحكم الدور الثاني والثالث على القولين جميعاً، كما ذكرنا في الحالة الأولى، هذا تمام القسم الأول وهو أنْ لاَ يجاوز الدم المتقطّع خمسة عشر يومًا. قال الغزالي: أمَّا إِذَا جَاوَزَ الدَّمُ الخَمْسَةَ عَشَرَ صَارَتْ مُستَحَاضَة، فَلَهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: (الأوُلَى المُعتَادَةُ) فَإِنْ كَانَتْ تَحِيضُ خَمْساً وَتَطْهَرُ خَمْساً وَعِشْرِينَ، فَجَاءَهَا دَوْرٌ وَأَطْبَقَ الدَّمُ مَعَ التَّقَطُّعِ وَكَانَتْ تَرَى الدَّمَ يَوْماً وَلَيْلَةً وَالنَّقَاءَ كَذَلِكَ، فَعَلَى قَوْلِ السَّحْبِ نُحَيِّضُهَا خَمْسةً مِنْ أَوَّلِ الدَّوْرِ؛ لِأَنَّ النَّقَاءَ فِيهِ مُحْتَوشٌ بالدَّمِ، وَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا يَوْماً وَلَيْلَةً فَاسْتُحِيضَتْ وَكَانَتْ تَرَى يَوْمًا دَمًا وَلَيْلَةً نَقَاءً وَهَكَذَا، فَفِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ إِتْمَامَ الدَّمِ بِالنَّقَاءِ عَسِيرٌ، إِذْ لَيْسَ مُحْتَوِشًا بِدَمَيْنِ فِي وَقْتِ العَادَةِ فَلاَ يُمْكِنُ تَكْمِيل اليَوْمِ بِاللَّيْلَةِ، فَقَدْ قِيلَ ههُنَا: تَعُودُ إِلَى قَوْلِ التَّلْفِيقِ فَتَلْتَقِطُ النَّقَاءَ مِنَ الحَيْضِ، وَقِيلَ: لاَ حَيْضَ لَهَا أَصْلاً، وَقِيلَ: يُسْحَبُ حُكْمُ الحَيْضِ عَلَى لَيْلَةِ النَّقَاءِ وَيُضَمُّ اليَوْمُ الثَّانِي إِلَيْهِ، فَيَكُونُ قَدِ ازْدَادَ حَيْضُهَا. قال الرافعي: إذا جاوز الدم بصفة التلفيق الخمسة عشر فقد صارت مستحاضة كغير ذات التَّلفيق إذا جاوز دمها هذه المدة. ولا سائر إلى الالتقاط من جميع الشهر، وإن لم يزد مبلغ الدم على أكثر الحيض، وإذا صارت مستحاضة ووقعت الحاجة إلى الفرق بين حيضتها واستحاضتها. فالمرجع إلى العادة أو التمييز، كما في غير ذات التلفيق. وقال محمد ابن بنت الشافعي (¬1): إن اتصل الدم المجاوز بالدم في آخر الخمسة عشر، فالأمر كذلك، وإن انفصل عنه بنقاء متخلّل، فالمجاوز استحاضة، وجميع ما في الخمسة عشر من الدماء إما وحدها أو مع النقاء المتخلّل على اختلاف القولين حيض. مثال: ما إذا اتصل رأت ستة دماً وستة نقاء، وجاوز فالدم متصل هاهنا من آخر الخمس عشر بأول السادس عشر (¬2). ¬
ومثال: ما إذا انفصل، رأت يوماً دماً، ويومًا نقاء وجاوز، فهذه ترى الدم في الخامس عشر، وتكون نقية في السّادس عشر، فعنده جميع الخمسة عشر حيض - على قول السحب، وما فيها من الدماء على قول اللقط، وما جاوز الخمسة عشر استحاضة. وبه قال أبو بكر المحمودي، وغيره والمذهب الأول. ثم جعل صاحب الكتاب المستحاضات في هذا الباب أربعاَ: إحداهن: الناسية، وفي غير ذات التَّلفيق ذكر أَرْبعًا دون النَّاسية، وليس ذلك لاختلاف عددهن بالتقطع وعدم التقطع، لكن حذف ذكر المعتادة المميزة هاهنا، لأن الوقوف على حكمها سهل المأخذ من حيث إن الكلام في أن أي المعنيين، يرجع من العادة والتَّمييز. وقد سبق في غير ذات التَّلفيق، ولا فرق فيه بين حالة التّقطع، وعدم التقطع، وإذا رجحنا أحد المعنيين، فهي كالمنفردة بتلك الصفة. المستحاضة الأولى المعتادة الحافظة لعادتها، وعادتها السّابقة على ضربين: أحدهما: وهو الذي ذكر مثاله في الكتاب العادة التي لا تقطع فيها، فكل عادة تود إليها عند الإطباق والمجاوزة تردّ إليها عند التّقطع والمجاوزة، ثم على قول السحب كل دم يقع في أيام العادة، وكل نقاء يتخلّل بين دمين فيها حيض، وأما النّقاء الذي لا يتخلّل بين دمين فيها لا يكون حيضًا، وأيام العادة هاهنا بمثابة الخمسة عشر عند عدم المجاوزة، فلا معدل عنها وعلى قول التَّلفيق أزمنة النَّقاء طهر، وفيما يجعل حيضًا لها وجهان: أظهرهما: أن قدر عادتها [من الدماء الواقعة في الخمسة عشر حيض لها، فإن لم تبلغ الدّماء في الخمسة عشر قدر عادتها] (¬1) جعل الموجود حيضًا ووجهه أن المعتادة عند الإطباق مردودة إلى قدر عادتها، وقد أمكن ردها هنا إلى قدر العادة فيصار إليه. والثاني: أن حيضها ما يقع من الدماء في أيام العادة لا غير، لأن حكم الحيض عند الإطباق إنما يثبت للدماء الموجودة في أيام العادة، فكذلك هاهنا. مثاله: كانت تحيض خمسة على التّوالي من كل ثلاثين؛ فجاءها دور تقطع فيه الدم والنّقاء يوماً ويوماً وجاوز الخمسة عشر، فعلى قول السحب نحيضها خمسة من أول الدور، وما فيها من النّقاء مُحْتَوِش بالدم في أيّام العادة فينسحب عليه حكم الحيض، وعلى قول التّلفيق وجهان: أظهرهما: أن حيضها الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع وتجاوز أيام العادة محافظة على القدر. ¬
والثاني: أن حيضها الأول والثالث والخامس لا غير، ولو كانت تحيض ستة على التوالي ثم استحيضت والدم منقطع كما وصفنا، فعلى قول السحب لا تردها إلى السّتة؛ لأن النقاء في اليوم السادس غير محتوش بدمين في أيام العادة. وعلى قول التلفيق حيضها على الوجه الأول الأيام الخمسة والحادي عشر أيضاً. وعلى الوجه الثاني الأوّل والثّالث والخامس لا غير، ولو انقلبت عادتها بتقدم أو تأخر، ثم استحيضت عاد الخلاف كما ذكرنا في حالة الإطباق، وكذا الخلاف فيما يَثبت به العادة. مثال التقدُّم: كانت عادتها خمسة من ثلاثين كما ذكرنا، فرأت في بعض المشهور اليوم الثلاثين دماً واليوم الذي بعده نقاء، وهكذا إلى أن انقطع دمها وجاوز الخمسة عشر، فعن أبي إسحاق أنها تراعي أيّامها المتقدمة وما قبلها استحاضة، فعلى قول السّحب حيضها اليوم الثاني والثالث والرابع، وعلى قول اللّقط حيضها اليوم الثاني والرابع لا غير، وظاهر المذهب أن العادة تنتقل بمرة واحدة واليوم الثلاثون حيض، فعلى قول السحب حيضها خمسة متوالية من الثلاثين، وعلى قول اللّقط [حيضها اليوم الثلاثون والثاني والرابع] (¬1) إنْ لَمْ يجاوز أيام العادة، وإن جاوز ضممنا إليها السادس والثامن. مثال التأخُّر: ما إذا رأت في المثال المذكور اليوم الأول في بعض الأدوار نقاء ثم تقطع عليها الدم والنقاء من اليوم الثاني، وجاوز فعند أبي إسحاق الحكم على ما ذكرنا في الصورة السابقة، وعلى ظاهر المذهب أن فرعنا على قول السحب فحيضها خمسة على التَّوالي من اليوم الثاني، وإن فرعنا على قول اللّقط فإن لم يجاوز أيام العادة فحيضها الثّاني، والرابع، والسادس، وإنْ كان خارجاً عن أيَّام العادة القديمة، لكن بالتأخُّر قد إنتقلت عادتها، وصار أول الخمسة الثَّاني وآخرها السَّادس، وإن جاوزنا أيام العادة فحيضها هذه الأيام مع الثَّامن والعاشر، ولا يخفى أن قدر طهرها السّابق على الاستحاضة في هذه الصورة قد صار ستة وعشرين، وفي سورة المتقدم أربعة وعشرين، ولو لم يتقدم الدم في المثال المذكور ولا تأخُّر، لكن تقطع الدم والنّقاء عليها يومين يومين، فلا يعود خلاف أبي إسحاق، ويبني الحكم على قول التَّلفيق إن سحبنا فحيضها خمسة أيام ولاء واليوم السادس استحاضة كالدماء التي بعده، وإن لفقنا فإن لم يجاوز أيام العادة فحيضها اليوم الأول والثاني والخامس لا غير، وإن جاوز ضممنا إليها السّادس والتّاسع، وحكى وجه: أن الخامس لا يجعل حيضاَ على قولنا بعدم المجاوزة، ¬
ولا التاسع على قولنا بالمجاوزة، لأنهما متَّصلان بدم الاستحاضة فيضعفان بضعفه، ويجري هذا الوجه في كل نوبة دم يخرج بعضها عن أيام العادة - إن اقتصرنا على أيام العادة أو عن الخمسة عشر إن جاوزنا أيام العادة، وإذا عرفنا قدر حيض هذه المستحاضة على اختلاف الأحوال، فكم مدة طهرها بعد الحيض إلى استئناف حيضة أخرى؟ ينظر إن كان التّقطع بحيث ينطبق الدَّم على أول الدور فهو ابتداء الحيضة الأخرى، وإن لم ينطبق فابتداء حيضها أقرب نوب الدماء إلى أول الدور، تقدمت أو تأخرت، فإن استويا في التّقدم والتّأخر فابتداء حيضها النوبة المتأخرة، ثم قد يتفق المتقدم، أو التأخر في بعض أدوار الاستحاضة دون بعض. وإذا أردت أن تعرف هل ينطبق الدم على أول الدور أم لا؟ فخذ نوبة دم ونوبة نقاء، واطلب عددًا صحيحًا يحصل من ضرب مجموع النَّوبتين فيه مقدار دورها، فإن وجدته فاعرف انطباق الدم على أول الدور وإلا فاضربه في عدد يكون مردوده أقرب إلى دورها زائدًا كان أو ناقصًا، واجعل حيضها الثَّاني أقرب الدماء إلى أول الدور، فإن استوى طرفا الزيادة والنقصان فالاعتبار بالزائد، ولنوضح ذلك بأمثلة. عادتها خمسة من ثلاثين، وتقطع الدم يوماً ويومًا في بعض الأدوار وجاوز فنوبة الدم يوم ونوبة النقاء مثله، وأنت تجد عددًا لو ضربت الاثنين فيه كان الحاصل ثلاثين وهو خمسة عشر، فاعرف أنَّ الدم ينطبق على أول دورها أبداً ما دام التقطع بهذه الصفة، ولو كانت المسألة بحالها وتقطع الدّم والنّقاء يومين يومين، فلا تجد عددًا يحصل من ضرب أربعة ففيه ثلاثون، فاطلب ما يقرب الحاصل من الضَّرب فيه من ثلاثين هاهنا عددان سبعة وثمانية إن ضربت الأربعة في سبعة رد ثمانية وعشرين، وإنْ ضربتها في ثمانية رد اثنين وثلاثين، والتَّفاوت في طرفي الزيادة والنقصان واحد، فَخُذ بالزيادة واجعل أول الحيضة الأخرى الثالث والثلاثين وحينئذ يعود ما سبق نقله من خلاف أَبِي إِسْحَاقَ لتأخر الحيض عن أول الدور فحيضها عنده في [أول] الدُّور الثاني هو اليوم الثّالث والرابع لا غير على قولي التَّلفيق جميعاً، وأمّا قول السّحب، فلأن ما قبلهما وما بعدهما نقاء، لم يتخلل بين دمين في أيام العادة، وأما على قول اللّقط، فلأنه ليس لها في أيام العادة دم إلا في هذين اليومين، وأما على ظاهر المذهب، فإن فرعنا على السّحب حيضناها من اليوم الثَّالث خمسة على التّوالي، وإن فرعنا على اللّقط فان جوزنا أيام العادة [فحيضها الثالث والرابع والسابع والثامن والحادي عشر] وإن لم يجاوزها] فحيضها الثّالث والرّابع والسّابع لا غير ثم في الدور [الثالث] ينطبق الدم على أول الدور فلا يبقى خلافاً لأبي إسحاق، ويكون الحكم كما ذكرنا في الدور الأول، وفي الدور الرابع يتأخر الحيض، ويعود الخلاف على هذا أبداً ولم نر أحدًا يقول: إذا تأخر الدم في الدور الثاني بيومين فقد صار أول أدوار المجاوزة اثنين وثلاثين؛ فنجعل
هذا العدد دوراً لها تفريعاً على أن العادة تثبت بمرة وحينئذ ينطبق الدم على أول الدور أبداً؛ لأنا نجد عدداً يحصل من ضرب الأربعة فيه هذا العدد، وهو ثمانية، ولو قال به قائل لما كان به بأس، فإن قلت: هذا الدّور حدث في زمان الاسْتِحَاضَةِ فلا عبرة به، قلنا: لا نسلم فإنا قد نثبت عادة المُسْتَحَاضَةِ مع دوام العلّة ألا ترى أن المُسْتَحَاضَة المميزة يثبت لها بالتمييز عادة معمول بها، ولو كانت المسألة بحالها ورأت ثلاثة دماً وأربعة نقاء، فمجموع النوبتين سبعة فلا نجد عدداً إذا ضربت السبعة فيه رد ثلاثين، فاضربه في أربعة ليرد ثمانية وعشرين، واجعل أول الحيضة الثانية التاسع والعشرين، ولا تضربه في خمسة فإنه يرد خمسة وثلاثين، وذلك أبعد من الدور وعند ذلك يتقدم الحيض على أول الدور، فعلى قياس أبي إسحاق ما قبل الدور استحاضة، وحيضها اليوم الأول على قولي التّلفيق جميعاً، وقياس ظاهر المذهب لا يخفى، ولو كانت عادتها قديماً ستة من ثلاثين، وتقطع الدم في بعض الأدوار ستة ستة، وجاوز ففي الدور الأول حيضها الستة الأولى بلا خلاف، وأمّا في الدور الثاني فإنها ترى سِتَّة من أوله نقاء وهي أيام عادتها، فعند أبي إسحاق لا حيض لها في هذا الدَّور أَصْلاً. وَأَمَّا سائر الأصحاب فقد حكى إمام الحرمين في هذه الصورة عنهم وجهين: أظهرهما: أنا نحيضها الستّة الثانية على قولي السّحب، واللّقط جميعاً. والثاني: أن حيضها السّتّة الأخيرة من الدور الأول؛ لأن الحيضة إذا فارقت محلّها فقد تتقدم وقد تتأخر والسّتة الأخيرة قد تخلّل بينها وبين الحيضة التي قبلها طهر كامل، فتحيض فيها وتحكم بنقصان طهرها السابق، ويجئ هذا الوجه حيث خلا جميع أيام العادة عن الحيض، هذا كله إذا لم ينقص الدم الموجود في زمان العادة عن أقل الحيض، أما إذا نقص، كما إذا كانت عادتها يوماً وليلة نقاء واستحيضت. قال صاحب الكتاب: فهذا فيه إشكال يعني على قول السحب، لأن إتمام الدم بالنّقاء عسير؛ لأنه غير مُحْتَوِش بالدَّم في وقت العادة، ولا يمكن الاقْتِصَارُ على اليوم الواحد، ولا تكميله باليوم الثّاني، فإن مجاوزة العادة على قول السّحب ممّا لا يجوز، فبماذا تحكم؟ فيه ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه لا حيض لها في هذه الصُّورة؛ لتعذُّر الأقسام وبه قال أَبُو إِسْحَاقَ. والثاني: أنها تعود في هذه الصُّورة إلى قول التَّلفيق. وتستثنيها عن قول السحب؛ لأنه يبعد أن يقال: لا حيض لها، وهي ترى الدم شَطْرَ دَهْرِهَا على صفة الحيض، ويهذا قال أبو بكر المحمودي. والثالث: أنا نحيضها اليوم الأول والثّاني والليلة بينهما وليس فيه إلاَّ زيادة حيضها
وهو أقرب الأقسام والأحوال، وهذا الوجه ذكره الشيخ أبو محمد. وأما على قول التَّلْفيق فلا حيض لها إن لم تجاوز أيَّام العادة، وإن جاوزناها حيضناها في اليوم الأول والثاني، وقلنا: الليلة بينهما طهر. الضرب الثاني: العادة المتقطّعة فإذا استمرت لها عادة متقطعة قبل الاستحاضة، ثم استحيضت مع التّقطع فننظر إن كان التّقطع بعد الاستِحَاضَة كالتّقطع قبل الاستحاضة فمردها قدر حيضها على اختلاف القولين: مثاله: كانت ترى ثلاثة دماً وأربعة نقاء وثلاثة دماً وتطهر عشرين ثم استحيضت والتقطع بهذه الصفة فعلى قول السحب كان حيضها عشرة قبل الاستحاضة فكذلك بعدها، وعلى قول اللّقط كان حيضها ستّة يتوسط بين نصفيها أربعة فكذلك الآن وإن اختلفت كيفية التقطع كما إذا انقطع الدّم عليها في المثال المذكور في بعض الأدوار يوماً يوماً واستحيضت، فعلى قول السحب حيضها الآن تسعة أيام؛ لأنها جملة الدماء الموجودة في أيام العادة وما بينها من النقاء واليوم العاشر نقاء لم يتخلل بين دمين، في وقت العادة وعلى قول اللقط، إن لم يجاوز أيام العادة فحيضها اليوم الأول والثَّالث والتَّاسع إذ ليس لها في أيّام حيضها القديم على هذا القول دم إلا في هذه الثلاثة، وإن جاوزناها ضممنا إليها الخامس والسابع والحادي عشر تكميلاً لقدر حيضها. قال الغزالي: (الثَّانِيَةُ الْمُبْتَدَأَةُ) فَإذَا رَأَتِ النَّقَاءَ فِي اليَوْمِ الثَّانِي صَامَتْ وَصَلَّتْ، وَهَكَذَا تَفْعَلُ مَهْمَا رَأَتِ النَّقَاءِ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، فَإِذَا جَاوَزَ الدَّمُ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّهَا اسْتِحَاضَةٌ، ثُمَّ مَرَدُّهَا إِمَّا يَوْمٌ وَلَيلَةٌ وَإِمَّا أَغْلَبُ عَادَاتِ النِّسَاءِ فِي حَقِّهَا كَالعَادَةِ فِي حَقِّ المُعْتَادَةِ. قال الرافعي: ذكرنا أن المبتدأة إذا تقطع عليها الدَّم تصوم وتصلّي عند الانقطاع الأول، وهكذا في سائر الانقطاعات الواقعة في الخمسة عشر، وقد اشتمل الفرع المذكور قبل تقسيم المُسْتَحَاضَاتِ على ما ذكره في هذا الموضع أو على بعضه؛ لأن قوله: "ثم إذا انقطع دمها تؤمر بالعبادة في الحال" إن أراد به كل الانقطاع فهو والمذكور في هذا الموضع شيء واحد، وإن أراد به الانقطاع الأول فهو قوله هاهنا: "وإذا رأت النّقاء في اليوم الثّاني صامَت وصلَّت". وليكن قوله: "وهكذا تفعل مهما رأت النّقَاء" مُعَلَّمًا بالواو لما بيناه في شرح ذلك الفرع، ثم إذا جاوز دمها بصفة التّقطع الخمسة عشر تبين أنها مستحاضة، فإن قلنا: المبتدأة ترد إلى يوم وليلة وهو الأصح، وكان تقطع الدم والنقاء عليها يوماً يوماً فحيضها يوم وليلة والباقي طهر، وإن قلنا: إنها ترد إلى ست أو سبع فعلى قول السّحب أن رددناه إلى ست فحيضها خمسة على التّوالي؛ لأن اليوم السادس نقاء لم يحتوشه دمان
في المراد، وإن رددناه إلى سبع فحيضها سبع على التوالي (¬1) وعلى قول اللقط إن لم يجاوز أيام العادة. ورددناها إلى ست فحيضها اليوم الأول، والثالث والخامس وإن رددناها إلى سبع ضممنا اليوم السابع إلى هذه الأيام وإن جاوزنا أيام العادة ورددناها إلى ستِّ فحيضها ست من أيام الدماء، وإن رددناها إلى سبع فحيضها سبعة منها، وكل هذا على ما تقدم في المعتاد. فلذلك قال: "ومردها في حقها كالعادة في حق المعتادة" وابتداء الحيضة الثانية طريقة ما ذكرنا في المعتادة. ثم إذا كانت تصلِّي وتصوم في أيام النّقاء حتى جاوز الدم الخمسة عشر وتتركها في أيّام الدّم كما أمرناها به فلا خلاف في أنها تقضي صيام أيّام الدم بعد المرد وصلواتها؛ لأنها تركتهما رجاء الانقطاع قبل الخمسة عشر فإذا جاوزها الدم وتبين الطهر في تلك الأيام، فلا بد من قضاء العبادة المتروكة، وأما صلوات أيام النقاء وصيامها فعلى قول اللقط لا حاجة إلى قضائها أصلاً، وأما على السّحب فلا حاجة أيضاً إلى قضاء الصلوات؛ لأنها إن كانت طاهراً فقد صلَّت وإن كانت حائضاً فلا صلاة عليها وفي صومها قولان: أظهرهما: أنها لا تقضي أيضاً، كما في الصلاة. والثاني: تقضي لأنها صامت على تردد في صحته وفساده، فلا يجزئها بخلاف الصَّلاة فإن الصَّلاة إن لم تصح لم يجب قضاؤها إذ لا يجب قضاء الصلاة على الحائض ثم منهم من بني القولين على القولين فيما إذا صلّى خنثى خلف امرأة وأمرناه بالقضاء فلم يَقْضِ حتى بَانَ كونه امرأة هل يلزمه القضاء؟ لأن العبادة في الصورتين مؤداة على التردُّد في صحتها وفسادها. وقال الأكثرون: هما مبنيان على القولين المذكورين في أن المبتدأة هل تحتاط بعد المردّ إلى آخر الخمسة عشر أم لا؟ إن قلنا: تحتاط وجب القضاء مع الأداء، وإلا فلا. قالوا: ولو كان الخلاف مبنيًّا على مسألة الخنثى لكان مخصوصاً بالشهر الأول من شهور الاستحاضة، لثبوت الاستحاضة بعد ذلك الشهر، وارتفاع التردُّد والخلاف مطرد في الأدوار كلها خرج من هذا أنا إن حكمنا باللّقط لم تقض من الخمسة عشر إلا صلوات سبعة أيّام وصيامها إن رددنا المبتدأة إلى يوم وليلة وهي أيام الدّم سوى اليوم ¬
الأول، وإن رددناها إلى ست أو سبع فإن لم تجاوز أيام العادة وكان الرد إلى ست قضتها من خمسة أيام، وإن ردت إلى سبع فمن أربعة أيام، وإن جاوزناها وردت إلى ست قضتها من يومين، وإن ردت إلى سبع فمن يوم واحد، وأما إن حكمنا بالسحب، فإن رددناها إلى يوم واحد قضت صلوات سبعة أيام، وهي أيام الدم سوى اليوم الأول ولا تقضي غير ذلك وفي الصوم قولان: أظهرهما: لا تقضي إلا صيام ثمانية أيام، وهي أيام الدم كلّها. والثاني: تقضي صيام الخمسة عشر، ولفظ "الوسيط" يعبر عن القول الأول: إنه لا يلزمها إلا قضاء تسعة أيام في رمضان؛ لأنها صامت سَبْعَةً في أيام النقاء من الشطر الأول، ولولا ذلك النقاء لما لزمها إلا ستة عشر فإذا حسبنا سبعة بقى تسعة والصواب ما قلناه وهو المذكور في "التهذيب" وغيره، ولولا النقاء لما لزمها إلا خمسة عشر، وإنما تلزم الستة عشر إذا أمكن انبساط أكثر الحيض على الستة عشر، وهو غير ممكن في المثال الذي نتكلم فيه وإن رددناها إلى ست، أو سبع فان ردت إلى ست قضت صلوات خمسة أيام، وهي أيام الدماء التي لم تصل فيها بعد المرد؛ لأن جملتها ثمانية ويقع منها في المردّ ثلاثة، وإن ردت إلى سبع قضت صلوات أربعة أيام وأما الصّوم فعلى أحد القولين تقضي صيام الخمسة عشر جميعاً، وعلى أظهرهما: إن ردت إلى ست قضت صيام عشرة أيام ثمانية منها أيام الدم في الخمسة عشر، ويومان نقاء وقعا في المردِّ لتبين الحيض فيهما، وإن ردت إلى سبع قضت صيام أحد عشر يوماً، هذا تمام الكلام في المبتدأة التي لا تمييز لها. قال الغزالي: (الثَّالِثَةُ المُمَيَّزَةُ) وَهِيَ الَّتِي تَرَى يَوْماَ يَوْمًا قَوِيًّا وَيومًا دَمًا ضَعِيفًا، فَإِنْ أَطْبَقَ الضَّعِيفُ بَعْدَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ حَيَّضْنَاهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لإحَاطَةِ السَّوَادِ بِالضَّعِيفِ المُتَخَلِّلِ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَفْرِيعٌ عَلَى تَرْكِ التَّلْفِيقِ، وَأَمَّا إِذَا اسْتَمَر تَعَاقُبُ السَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ فَهِيَ فَاقِدَةُ التَّمْيِيزِ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ. قال الرافعي: المبتدأة إذا كانت مميزة ننظر إن كانت فاقدة لشرط التَّمييز فهي كالفاقدة لأصل التمييز، وحكمها ما سبق نظيره لو رأت يوماً سوادًا ويوماً حمرة إلى آخر الشَّهر فهي فاقدة لأحد شروط التَّمييز، وهو أن لا يجاوز القوي الخمسة عشر. وقوله: في هذا المثال فهي فاقدة للتمييز لفوات شرطه أي: للتّمييز المعتبر، وإلا فهي واجدة لأصله، وإن كانت واجدة لشرط التمييز، فعلى قول السّحب حيضها الدماء القوية في الخمسة عشر مع النّقاء المتخلل والضعيف المتخلل، وعلى قول اللّقط حيضها القوي دون ما يتخلّله مثاله رأت يوماً سواد ويومًا حمرة إلى آخر الخمسة عشر ثم
استمرت الحمرة بعد الخمسة عشر أما بصفة التقطع فحيضها على قول السحب جميع الخمسة عشر، وعلى قول اللقط أيام السواد، وهي ثمانية: وقوله: "المميّزة وهي التي ترى يوماً دماً قويًّا ويوماً دماً ضعيفاً" يوهم اشتراط التّقطّع بين القوي والضعيف ليثبت التمييز فإنه كالتفسير للمميزة ولا يشترط ذلك بل يثبت التمييز المعتبر، وإن كان التّقطّع بين القوي والنقاء، والشرط أن لا ترى القوي إلاَّ في الخمسة عشر، ويكون المجاوز هو الضعيف، ولا فرق في الضعيف المجاوز بين أن يكون دائمًا أو متقطعًا. وقوله: "وكل ذلك تفريع على ترك التَّلفيق" أي: قول السحب وإنما كان يحسن قوله: وكل ذلك إذا جرى تفريع طويل، ولم يَجْرِ هاهنا كثير شيء. قال الغزالي: (الرَّابِعَة النَّاسِيَةُ)، فَإنْ أَمَرْنَاهَا بِالاحْتِيَاطِ عَلَى الصَّحِيحِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَن أَطْبَقَ الدَّمُ عَلَيْهَا عَلَى قَوْلِ السَّحْبِ إِذْ مَا مِنْ نَقَاءٍ إِلاَّ وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، وَإنَّمَا تُفَارِقُهَا فِي أَنَّا لاَ نَأْمُرُهَا بِتَجْدِيدِ الوُضوءِ فِي وَقتِ النَّقَاءِ؛ لِأَنَّ الحَدَثَ فِي صُورَته غَيْرَ مُتَجَدِّدٍ وَلاَ بِتَجْدِيدِ الغُسْلِ إِذْ الانْقِطَاعُ مُسْتَحِيلٌ فِي حَالَةِ انْتِفَاءِ الدَّمِ، وَعَلَى قَوْلِ التَّلْفِيقِ يَغْشَاهَا الزَّوجُ فِي أَيَّامِ النَّقَاءِ وَهِيَ طَاهِرَةٌ فِيهَا فِي كُلِّ حُكْمٌ. قال الرافعي: النَّاسية لعادتها قد تنساها من كل وجه وهي المتحيرة وقد تنساها من وجه دون وجه كما في حالة الإطباق، فأما المتحيّرة فيعود فيها القولان المذكوران عند الإطباق، إن قلنا: هي كالمبتدأة فحكمها ما تقدم، وإن أمرناها بالاحتياط وهو الصحيح بنينا أمرها على قولي التّلفيق، إن قلنا بالسحب فتحتاط في أزمنة الدم من الوجوه التي ذكرناها في حالة الإطباق بلا فرق لاحتمال الحيض والطهر والانقطاع وتحتاط في أزمنة النقاء أيضاً إذا ما من نقاء إلا ويحتمل أن يكون حيضًا نعم لا تؤمر بالغسل في وقت النّقاء؛ لأن الغسل إنما يجب لاحتمال الانقطاع ولا انقطاع في حالة انتقاء الدم وكما لا تؤمر بتجديد الغسل لا تؤمر بتجديد الوضوء إيضًا؛ لأن ذلك إنما يجب لتجدّد الحدث ولا تجدد في وقت النقاء، فإذًا يكفيها لزمان النّقاء الغسل عند إنقطاع كل نوبة من نوب الدّماء، وإن قلنا باللقط فعليها أنْ تحتاط في أيام الدّم وعند كل انقطاع وأما في أزمنة النّقاء فهي طاهر في الغشيان وسائر الأحكام ولك أن تستدرك من جملة اللّفظ على قوله، وإنما تفارقها في أنّا لا نأمرها بتجديد الوضوء في أيام النقاء ونقول: إنما ينتظم هذا الكلام أن لو كانت المتحيّرة عند الإطباق مأمورة بتجديد الوضوء لتكون هذه مفارقة لها ومعلوم أنها لا تؤمر بتجديد الوضوء وإنما تؤمر بتجديد الغسل فكان الأحسن أن يقول: وإنما تفارقها في أنا لا نأمرها بتجديد الغسل وكذلك بتجديد الوضوء.
الباب الخامس في النفاس
وأما النَّاسية التي نسيت عادتها من وجه دون وجه، فتحتاط على مقتضى قولي التّلفيق، مع رعاية ما نذكره. مثاله: قالت: أضْللت خمسة في العشرة الأولى من الشهر وقد تقطع الدم والنّقاء عليها يوماً يوماً واستحيضت فإن قلنا بالسحب فاليوم العاشر طهر؛ لأنه نقاء لم يتخلل بين دمي حيض ولا غسل عليها في الخمسة الأولى لتعذر الانقطاع فإذا انقضت اغتسلت وبعدها لا تغتسل في أيام النقاء وتغتسل في آخر السابع والتاسع لجواز الابتداء في أول الثّالث والخامس، وهل تغتسل في أثناء السابع والتاسع؟ منهم. من قال: نعم، لإمكان الانقطاع في الوسط وغلطهم المعظم لأن الانقطاع في الوسط لو فرض هاهنا لفرض ابتداءً في أثناء الثاني أو الرابع، وهي نقية فيهما فإن قلت إذا خرج اليوم العاشر انحصر الضّلال في التّسعة والخمسة التي هي قدر الحيض زائدة على نصف التِّسعة فهلاَّ كان لها حيض بيقين كما كان في حالة الإطباق فالجواب: أن إضلال الخمسة في التسعة المتقطعة يوجب التردد في مقدار الحيض؛ لأن بتقدير تأخّر الحيض إلى الخمسة الأخيرة لا تكون الآن حائضاً إلاَّ في ثلاثة أيّام منها؛ لأن السَّادس نقاء لم يتخلّل بين دمي حيض، وكذلك العاشر وفي حالة الإطباق، لا تردد في قدر الحيض؛ فلهذا افترقا في تيقُّن الحيض، وأما إذا قلنا باللّقط، فإن لم يجاوز أيَّام العادة، فالحكم كما ذكرنا في قول السّحب، إلا أنها طاهر في أيام النقاء في كل حكم وأنها تغتسل عُقَيْبَ كل نَوْبَةٍ من نوب الدم في جميع المدة؛ لأن المتقطع حيض: وإن جاوزنا أيام العادة حيضناها خمسة أيام وهي الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع وبتقدير انطباق الحيض على الحيضة الأولى بتقدير تأخُّرها إلى الخمسة الثّانية فليس لها في الخمسة الثانية إلا يوماً دم وهما السّابع والتّاسع فتضم إليهما الحادي عشر والثالث عشر والخامس عشر، فهي إذًا حائض في السّابع والتّاسع بيقين لدخولهما في كل تقدير -والله أعلم-. الْبَابُ الخَامِسُ فِي النِّفَاسِ (¬1) قال الغزالي: وَأكْثَرُهُ سِتُّونَ يَوْمًا، وَأَغْلَبُهُ أَرْبَعُونَ يَوْماً، وَأَقَلُّهُ لَحْظَةٌ (ز) وَالتَّعْوِيلُ فِيهِ عَلَى الوُجُودِ. ¬
قال الرافعي: أكثر النِّفاس ستُّون يوماً، خلافاً لأبي حنيفة وأحمد، حيث قالا: أكثره أربعون يوماً، ورووا عن مالك فيه روايتين: أحداهما: مثل مذهبنا، والأخرى: أنه لا حد له، ويرجع إلى أهل الخبرة من النساء فتجلس أقصى ما يجلس النساء] (¬1). لنا الرجوع إلى ما وُجدَ وَعُهِدَ كما ذكرنا في الحَيْض، وقد روى عن الأوزاعي أنه قال: عندنا امرأة ترى النِّفاس شهرين، وعن ربيعة: أدركت النساء يقلن أكثر ما تنفس المرأة ستُّون يوماً. ولك أن تعلّم المسألة مع الحاء والألف والميم بالقاف؛ لأن أبا عيسى التِّرمذي روى في جامعه عن الشافعي -رضي الله عنه- أن دم النِّفاس إذا جاوز الأربعين، لم تدع الصلاة بعد ذلك (¬2)، فحصل قول على موافقتهم ووجهه ما روي عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَتِ النَّفَسَاءَ تَجْلِسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَرْبَعِينَ يَوْمًا" (¬3). وهذا على ظاهر المذهب محمول على الغالب ولا شك في أن غالب النّفاس أربعون يوماً. وأما أقله فلا حد له. ويثبت حكم النّفاس لما وجدته قل أو أكثر، والمعنى فيه الرجوع إلى الوجود كما ذكرنا. ولك أن تعلّم المسألة بالحاء، لأنه روى عن أبي حنيفة في أقل النّفاس ثلاث روايات: إحداها: مثل مذهبنا وهي الأظهر. والثانية: أنه أحد عشر يوماً. والثالثة: خمسة وعشرون يوماً، وبالزاي لأن المُزْنِيَّ قال أقله أربعة أيام؛ لأن أكثر النّفاس، مثل أكثر الحيض أربع مرات فليكن أقله مع أقله كذلك. واعلم أنه لا فرق في حكم النّفاس وبين أن يكون الولد حيًّا أو ميّتًا كامل الخِلْقَة أو ناقصها. ولو ألقت عَلَقَةَ أو مُضْغَةً، وقالت القوابل: إنه ابتداء خلق الآدمي، فالدم الذي تجده بعده نفاس ذكره في "التَّتمة". ¬
قال الغزالي: فَإنْ رَأَتْ قَبْلَ الوِلاَدَةَ دَمًا عَلَى أَدْوَارِ الحَيْضِ، فَلَهُ حُكْمُ الحَيْضِ فِي أَحَدِ القَوْلَيْنِ، إلاَّ فِي انْقِضَاءِ العِدَّةِ بِهِ، فَلَوْ كَانَتْ تَحِيضُ خَمْساً وَتَطْهُرُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَحَاضَتْ خَمْسًا وَوَلَدَتْ قَبْلَ مُضِيِّ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنَ الطُّهْرِ فَمَا بَعْدَ الوَلَدِ نِفَاسٌ، وَنقْصَانُ الطُّهْرِ قَبْلَهُ لاَ يَقْدحُ فِي إفْسَادِهِ وَلاَ فِي إفْسَادِ الحَيْضِ المَاضِي؛ لِأَنَّ تَخَلُّلَ الوِلاَدَةِ أَعْظَمُ مِنْ طُولِ المُدَّةِ، وَلَوْ اتَّصَلَتِ الوِلاَدَةُ بِآخِرِ الخَمْسَةِ وَجَعَلْنَاهَا حَيْضاً فَلاَ نَعُدُّهَا مِنَ النِّفَاسِ، وَلاَ نَقُولُ: هُوَ نِفَاسٌ سَبَقَ، وَكَذَلِكَ مَا يَظْهَرُ مِنَ الدَّمِ فِي حَالِ ظُهُورِ مَخَايِلِ الطَّلْقِ. قال الرافعي: ما تراه الحامل من الدم على ترتيب أدوار الحيض هل هو حيض أم لا؟ قال في القديم: لا، بل هو دم فساد، وبه قال أبو حنيفة وأحمد؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلاَ حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ" (¬1). جعل الحيض دليلاً على براءة الرحم، فلو قلنا: الحامل تحيض لبطلت دلالته، ولأن فم الرحم ينسد بالحمل فيمتنع خروج دم الحيض، فإن الحيض يخرج من أقصى الرحم. وقال في الجديد: هو حيض، وبه قال مالك لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "دَمُ الْحَيْضِ أَسْوَدُ يُعْرَفُ" (¬2). أطلق ولم يفصل بين الحامل والحائل، ولأنه دم في أيَّام العادة بصفة الحيض على قدره فجاز أن يكون حيضًا كدم الحامل والمرضع ولا فرق على القولين بين ما تراه قبل حركة الحمل وما تراه بعدها، ومنهم من قال القولان فيما بعد حركة الحمل أما من وقت العلُوق إلى الحركة، فهو كحال الحيال. فإن قلنا: إنه ليس بحيض فهو حدث دائم كسلس البول. وإن قلنا: إنه حيض حرم فيه الصّلاة والصّوم والوطء، ويثبت جميع أحكام الحيض، إلا أنه لا يحرم فيه الطلاق، ولا تنقضي به العدّة. قال الله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬3). ثم إن هذا القول في الدّم من التي ولدت بعد خمسة عشر فصاعداً من وقت ¬
انقطاعه، أما إذا ولدت قبل تمام خمسة عشر من انقطاعه، فهل يكون حيضًا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه لم يتخلّل بينه وبين النّفاس طهر كامل. وأصحّهما: أنه حيض أيضاً على هذا القول؛ لأنه قد تقدمه طهر كامل ونقصان الطهر إنّما يؤثر فيما بعده لا فيما قبله وهاهنا لم يؤثر فيما بعده؛ لأن ما بعد الولد نفاس بلا خلاف، فأولى أن لا يؤثر فيما قبله، وعند هذا لا نسلم اشتراط تخلّل الطهر الكامل بين الدمين مطلقاً، وإنما يشترط ذلك إذا كان كل واحد منهما حيضًا وهاهنا أحدهما نفاس. ولو رأت الحامل الدم على عادتها وولدت على الاتصال بآخره ولم يتخلل طهر أصلاً ففيه هذان الوجهان، ولا خلاف في أن ذلك الدم لا يعد من النفاس؛ لأن النفاس لا يسبق الولادة، بل هو عند الفقهاء عبارة عن الدم الذي يخرج عقب الولادة، ولهذا قطع معظم الأصحاب، بأن ما يبدو عند الطَّلق ليس بنفاس أيضاً، وقالوا: ابتداء النفاس يحسب من وقت انفصال الولد. وحكى صاحب "الإفْصَاح" وجهاً فيما يبدو عند الطلق: أنه نفاس لأنه من آثار الولادة، ثم على طريقة المعظم، كما لا نجعل ذلك الدم نفاسًا لا نجعله حيضًا كذلك، ذكره القاضي أبو المكارم (¬1) في العدة، ورأيته لأبي عبد الله الحناطي أيضاً. وحكى مع ذلك وجهاً آخر أنه حيض على قولنا: الحامل تحيض وإذا كان الظاهر في هذه الصورة أنه ليس بحيض أيضاً وجب أن يستثنى هذا الدم عن صورة القولين في دم الحامل، فإنها حامل بعد في تلك الحالة. وأما الدم الخارج مع الولد فهل هو نفاس أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، وبه قال ابن القاص وأبو إسحاق؛ لأنه خارج بسبب الولادة فصار كالخارج بعدها. وأصحهما: لما ذكرنا أنه لم يخرج عقيب الولادة. وقول الأول يشكل بالبَادي عند الطّلق، فإن كلا من الأصحاب استبعد عده من النِّفاس. ثم على الوجه الثّاني ما حكم ذلك الدم. ¬
حكى صاحب "التَّهْذِيب" فيه وجهين: أشهرهما: أنه كالخارج قبل الولادة لأنها قبل انفصال كل الولد في حكم الحامل، ألا ترى أنه يجوز للزوج مراجعتها. والثاني: أنه كالخارج بين الولدين لخروج بعض الحمل فإذا قلنا: إنه نفاس وجب به الغسل، وإن لم تر بعد الولادة دماً، وقلنا: لا غسل على ذات الجفَاف وتبطل صومها. وعلى الوجه الثاني: لا يجب الغسل به، ولا يبطل صومها إذا لم تر بعد الولادة دماً، أو كان ما بعد الولادة بعد انقضاء النهار، ويحصل من الخلاف المذكور في هذه المسائل وجوه في أن ابتداء مدة النّفاس من أي وقت يحتسب: أحدها: يحسب من وقت الدّم البادي عند الطّلق. والثاني: من الدم الخارج مع ظهور الولد. والثالث: وهو الأظهر من وقت انفصال الولد وحكى إمام الحرمين وجهاً: أنها لو ولدت ولم تر الدم أياماً، ثم ظهر الدم فابتداء مدة النّفاس من وقت خروج الدم بحسب لا من وقت الولادة فهذا وجه رابع وموضعه ما إذا كانت الأيام المتخللة دون أقل الطهر، وإذا عرفت ما ذكرناه فلا يخفى عليك أن قوله: "فلو كانت تحيض خمسة وتطهر خمسة وعشرين" إلى آخر المسألة تفريع على قولنا: إن الحامل تحيض، ولذلك حسن في التّصوير تسمية ما رأته حيضاً، وَإِلاَّ فهو على القول الآخر ليس بحيض ثم جريان عادتها بما ذكرناه ليس بشرط بل مهما رأت دماً في زمان الإمكان وولدت قبل مضي خمسة عشر من وقت انقطاعه فهو سورة المسألة سواء كان ذلك الدم معتاداً لها أم لا وليعلّم قوله: "ولا في إفساد الحيض" بالواو لما سبق. وقوله: "لأن تخلّل الولادة أعظم من طول المدة" أي في التَّأثير وفصل أحد الدّمين عن الآخر ولقوة تأثيرها قامت في العدة مقام المدة الطويلة. وقوله في الصورة الأخرى: "وجعلناها حيضًا" أي إذا فرعنا على أن ما تراه الحامل حيض، ولك أن تقول لا حاجة إلى هذا التّقييد في الحكم الذي رتبه عليه؛ لأن الَّذي على هذه الصّورة أنا لا نعدها من النّفاس ولا نقول هو نفاس سبق والأمر كذلك، وإن لم نجعل تلك الخمسة حيضًا على ما سبق بيانه. وقوله: "ما يظهر من الدم في حال ظهور مخايل الطلق" ينبغي أن يعلّم أيضاً بالواو للوجه الذي رويناه. قال الغزالي: فَأَمَّا الدَّمُ بَيْنَ التَّوْءَمَيْنِ فَنِفَاسٌ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَدَمِ
الحَامِلِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ نِفَاسٌ فَمَا بَعْدَ الثَّانِي مَعَهُ نِفَاسَانِ عَلَى وَجْهٍ، وَنفَاسٌ وَاحِدٌ عَلَى وَجْهٍ، وَقِيلَ: إِنْ تَمَادَى الأَوَّلُ سِتِّينَ يَوْمًا فَنِفَاسَانِ، وَإلاَّ فَنِفَاسٌ وَاحِدٌ. قال الرافعي: في الدم الذي تراه المرأة بين التَّوأمين وجهان: أحدهما: أنه ليس بنفاس، لأنه دم خرج قبل فراغ الرحم، فأشبه دم الحامل. والثاني: ويحكى عن صاحب "التَّلْخِيصِ" أنه نفاس، لأنه خرج عُقَيْبَ خروج نفس وجعل صاحب الكتاب هذا الوجه أصح اقتداء بإمام الحرمين، لكن الأصح عن الشيخ أبي حامد وأصحابنا العراقيين، إنما هو الأول، وتابعهم عليه صاحب "التَّهْذِيب"، فإن قلنا: ليس بنفاس، فقال الأكثرون: إنه ينبني على دم الحامل إن جعلناه حيضاً - فهو أولى، وإلاّ ففيه قولان، والفرق أنها إذا وضعت إحدى التَّوأمين كان استرخاء الدم قريباً، بخلاف ما قبل الولادة، فإن فم الرحم منسدُّ حينئذ، وهذا هو الذي ذكره في الكتاب حيث قال "وقيل: إنه كدم الحامل" وهو الوجه الثاني من قوله: "على أصح الوجهين"، وليعلّم بالحاء والألفِ، لأن عندهما هو نفاس. ويحكى مثل ذلك عن مالك وفي كلام بعض الأصحاب ما يقتضي كونه دم فساد. وإن قلنا: الحامل تحيض كالدَّم الذي يظهر عند الطَّلق، وأما إذا فرعنا على أنه نفاس، فهل بعد الثاني معه نفاس واحد أو نفاسان؟ فيه وجهان: أظهرهما: نفاسان لانفصال كل واحدة من الولادتين عن الأخرى، وعلى هذا لا يبالي بمُجَاوزة الدّم السّتين من الولادة الأولى. والثاني: هما نفاس واحد؛ لأنهما في حكم الولد الواحد، ألا ترى أن العدّة لا تنقضي بوضع أحدهما فعلى هذا إذا زاد الدّم على ستين من الولادة الأولى فهي مستحاضة، واختلفوا في موضع هذين الوجهين. قال الصيدلاني: موضعهما ما إذا كانت المدّة المتخلّلة بين الدّمين دون السّتين، أما لو بلغت السّتين، فهو نفاس آخر لا محالة، وهذا ما أشار إليه بقوله: "وقيل: إن تمادي الأول ستين يوماً" إلى آخره. وعن الشيخ أبي محمد: أنه لا فرق. وإذا ولدت الثاني بعد السّتين وفرعنا على اتّحاد النّفاس فما بعده استحاضة، ولو سقط عضو من الولد، والباقي مجبن (¬1) ورأت في تلك الحالة دماً، فهل هو نفاس؟ ذكر في "التتمة" أنه على الوجهين في الدّم الخارج ¬
بين الولدين والله أعلم، هذا إذا لم يجاوز دم النّفساء الستين. قال الغزالي: أَمَّا المُسْتَحَاضَاتُ فِي النِّفَاسِ فَهُنَّ أَرْبَعٌ: (الأُولَى) المُعْتَادَةُ فَتُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا مِنَ الأَرْبَعِينَ مَثَلاً ثُمَّ يُحْكَمُ بِالطُّهْرِ بَعْدَ الأرْبَعِينَ عَلَى قَدْرِ عَادَتِهَا ثُمَّ تَبْتَدِئُ حَيْضَهَا، وَلَوْ وَلَدَتْ مِرَاراً وَهِيَ ذَاتُ جَفَافٍ ثُمَّ وَلَدَتْ وَاسْتُحِيضَتْ فَهِيَ كَالمُبْتَدَأَةِ، وَعَدَمُ النِّفَاسِ لاَ يُثْبِتُ لَهَا عَادَةً، كَمَا أَنَّهَا لَوْ حَاضَتْ خَمْسَةَ وَطَهُرَتْ سِتَّةً وَهَكَذَا مِرَارًا ثُمَّ اسْتُحِيضَتْ فَلاَ تُقِيمُ الدَّوْرَ سَنَةً بَلْ أَقْصَى مَا يَرْتَقِي الدَّوْرُ إِلَيْهِ تِسْعُونَ يَوْماً، وَهِيَ مَا تَنْقَضِي بِهِ عِدَّةُ الآيِسَةَ فَمَا فَوقَهُ لاَ تُؤَثِّرُ العَادَةُ فِيهِ. قال الرافعي: إذا جاوز الستين فقد دخلت الاسْتِحَاضَة في النفاس، وطريق التمييز بينهما ما تقدم في الحيض، هذا ظاهر المذهب وعليه يبني تقسيم حالها إلى المعتادة والمبتدأة كما ذكر في الكتاب، وفيه وجهان آخران: أحدهما: أن جميع السّتين نفاس، والزائد عليه استحاضة بخلاف ما في الحيض، لأن الحيض محكوم به ظاهراً لا قطعًا، فجاز أن ينتقل عنه إلى ظاهر آخر والنِّفاس مقطوع به إذ الولادة معلومة والنفاس هو الخارج بعد الولادة، فلا ينتقل عنه إلى غيره إلا بيقين - وهو مجاوزة الأكثر وعلى هذا يجعل الزّائد اسْتِحاضة إلى تمام طهرها المعتاد أو المردود إليه في المبتدأة ثم ما بعده حيض. والوجه الثاني: أن السّتين نفاس والذي بعده حيض على الاتِّصال به، لأنهما دمان مختلفان فيجوز أن يتعقب كل واحد منهما الآخر، وأطبق الجمهور على ضعف هذين الوجهين، وقالوا: ننظر إن كانت معتادة ذاكرة لعادتها مثل إن كانت تنفس فيما سبق أربعين، ثم ولدت مرة وجاوز دمها السّتين فترد إلى الأربعين، كما ترد في الحَيْضِ إلى عادتها، ثم لها في الحيض حالتان ذكر أولهما في الكتاب دون الثانية. الأولى: أن تكون معتادة في الحيض أيضاً، فنحكم لها بالطهر بعد الأربعين على قدر عادتها في الطّهر، ثم تحيض قدر عادتها في الحيض. والثانية: أن تكون مبتدأة في الحَيْض فنجعل القدر الذي إليه ترد المبتدأة في الطّهر استحاضة، والذي ترد إليه في الحيض حيضًا، والخلاف المذكور فيما تثبت به العادة وفي أنه إذا اجتمعت العادة والتَّمييز أيهما يقدم يجري هاهنا كما في الحيض، ولو ولدت المرأة مراراً، وهي ذات جفاف، ثم ولدت مرة ونفست واستحيضت، فلا نقول عدم النّفاس عادة لها، وإنما هي مبتدأة في النفاس كالتي لم تلد أصلاً، وسنذكر حكم المبتدأة، وشبه صاحب الكتاب هذه المسألة بمسألة في الحَيْض، وهي أن المعتادة في الحيض لو كانت تحيض خمسة وتطهر سنة أو سنتين، واستمر بها ذلك - ثم إنها
استحيضت- فهل نجعل المدة الطويلة طهراً لها؟ قال القفال: لا، إذ يبعد أن لا نحكم بحيضها سنة أو سنتين، والحد الفاصل بين ما يكون طهراً بين حيضتين، ويثبت عادة وبين ما لا يكون كذلك تسعون يوماً، خمسة عشر فما دونها حيض والباقي طهر، لأن عدة الآيسة تنقضي بهذا القدر، والعدة وجبت لبراءة الرحم، والدور الواحد مظنّة البراءة بدليل الاسْتِبْرَاء، فلو تصور أن يزيد الدور على هذا القدر لما اكتفى به، وهذا هو الذي أورده في الكتاب -وعلى هذا لو زاد الطّهر المتقدم على الاسْتِحَاضَة على القدر المذكور نظر فيما قبل ذلك، إن كان لها طهر على الحد المعتبر- جعل طهرها بعد الاستحاضة ذلك القدر، وإلاَّ فحكمها في الطّهر حكم المبتدأة، ووجه تشبيه مسألة النّفاس بهذه المسألة أنّا لا نجعل عدم الحَيْض في المدّة الطويلة عادة لها، فكذلك عدم النّفاس لا يصير عادة، والذي يوافق إطلاق أكثر الأصحاب الرّد إلى عادتها في الطهر، طالت المدة أو قصرت، وقد نص عليه الشيخ أبو حامد والمقتدون به، ويدل عليه ظاهر خبر المعتادة التي استفتت لها أم سلمة كما سبق فإنه مطلق فوجب إعلام قوله: "فلا نقيم الدور سنة" بالواو لهذا المعنى. قال الغزالي: (الثَّانِيَةُ) المُبْتَدَأَةُ إِذَا اسْتُحِيضَتْ تُرَدُّ إلَى لَحْظَة عَلَى قَوْلٍ، وَإلَى أَرْبَعِينَ عَلَى قَوْلٍ، (الثَّالِثَةُ) المُمَيِّزَةُ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الحَائِضِ فِي شَرْطِ التَّمْيِيزِ إِلاَّ أَنَّ السِّتيِّنَ ههُنَا بِمَثَابَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ الدَّمُ القَوِيُّ عَلَيْهِ. قال الرافعي: إذا استحيضت في النّفاس وهي مبتدأة، فننظر هل هي مميزة بشرط التمييز أم لا؛ فإن لم تكن، ففيها قولان: أصحهما: الرد إلى الأقل، وهو لحظة. والثاني: الرد إلى الغالب، وهو أربعون يوماً، وفي المسألة طريقة أخرى عن ابْنِ سُرَيْجٍ وأبي إسحاق، وهي الجزم بالرد إلى الأقل، والمشهور إثبات القولين كما في الحَيْض، وهو الذي ذكره في الكتاب. وحكى في "العدّة" قولاً ثالثاً، وهو الرّد إلى أكثر النّفاس، ونقله قولاً عن الشّافعي غريب نعم هو مشهور بالمزنِيّ وينبغي أن يعلّم قوله: "إلى لحظة" و"إلى الأربعين" كلاهما بالزاي، لذلك ثم منهم من خصص ذهابه إليه بالمبتدأة ومنهم من طرده في المعتادة أيضاً، وحينئذ يكون مذهبه مثل الوجه الأول من الوجهين اللّذين حكيناهما في المعتادة على خلاف ظاهر المذهب، ثم ننظر في حال هذه النفساء إن كانت معتادة في الحَيْضِ حيث تعد مرد النّفاس قدر طهرها استحاضة ثم تبتدئ الحيض على عادتها، وإن كانت مبتدأة في الحيض أيضاً أقمنا لها الطهر والحيض كما يقتضيه حال المبتدأة،
وأما إذا كانت مميزة بشرط التمييز، فترد إلى التمييز كما في الحيض. وقوله في الكتاب: "فحكمها حكلم الحائض في شرط التمييز" غير مجرى على إطلاقه، لأنّا نعتبر في الحيض ثلاثة أمور، ألا ينقص القوي عن يوم وليلة، وأن لا يزيد على خمسة عشر، وأن لا ينقص الضّعيف عن خمسة عشر، والذي يعتبر من ذلك هاهنا ألا يزيد القوي على أكثر النّفاس، وهو ستون يوماً، وهي بمثابة الخمسة عشر في الحيض، أما في طرف القلة، فلا ضبط، وكذلك لا يعتبر للضّعيف حدّ معين. قال الغزالي: (الرَّابِعَةُ) المُتَحَيِّرَةُ إِذَا نَسِيَتْ عَادَتَهَا فِي النِّفَاسِ فَفِي قَوْلٍ تُرَدُّ إِلَى الاحْتِيَاطِ، وَعَلَى قَوْلٍ إِلَى المُبتَدَأَةِ، وَالرَّدُّ ههُنَا إِلَى المُبْتَدَأَةِ أَوْلَى، لِأنَّ أَوَّلَ وَقْتِهَا مَعْلُومٌ بِالوِلاَدَةِ. قال الرافعي: في النَّاسِيَة لعادة نفاسها قولان كما في النَّاسية لعادة الحيض. فعلى قول: ترد إلى ما ترد إليه المبتدأة. وعلى قول تؤمر بالاحتياط، وعلى هذا فلو كانت مبتدأة في الحيض، وجب الاحتياط أبداً؛ لأن أول حيضها لا يعلم، وقد بيّنا أن المبتدأة إذا لم تعرف وقت ابتداء الدم كانت كالمتحيرة، وإن كانت معتادة في الحيض ناسية لعادتها، فكذلك تستمر على الاحتياط، وإن كانت ذاكرة لعادة الحيض، فهذه يلتبس عليها الدور لالتباس معترض النفاس، وهي بمثابة ناسية لوقت الحيض عارفة بقدره، وقد سبق القول فيها. وقوله: "والرد هاهنا إلى المبتدأة أولى" لا يقتضي ترجيح هذا القول على قول الاحتياط، بل المراد أن هذا القول أظهر منه في الحيض؛ لأن وقت النّفاس معلوم بالولادة، وتعيين أول الهلال للحيض تَحكُّم على أن إمام الحرمين رجح قول الرد إلى المبتدأة هاهنا على قول الاحتياط، فيجوز أن يكون ما ذكره في الكتاب جرياً على موافقته. وقوله: "المتحيرة إذا نسيت عادتها" في اللفظ زيادة مستغنى عنها، لأنها لا تكون متحيرة إلا إذا نسيت عادتها وقد تجعل المتحيّرة مع الناسية اسمين مترادفين -كما سبق- فلو اقتصر على قوله المتحيرة في النّفاس لما ضر. قال الغزالي: (فَرْعٌ) إِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ عَلَى النفَسَاءِ عَادَ الخِلاَفُ فِي التَّلْفِيقِ، وَلَوْ طَهُرَتْ خَمْسَةَ عَشرَ يَوْمًا ثُمَّ عَادَ الدَّمُ فَالعَائِدُ نِفَاسٌ عَلَى وَجْهٍ لِوُقُوعِهِ فِي السِّتِينَ، وَهُوَ حَيْضٌ (ح) عَلَى وَجهٍ لِتَقَدُّمِ طُهْرِ كَامِلٍ عَلَيْهِ، فَإنْ قُلْنَا: إِنَّهُ نِفَاسٌ فَعَلَى قَوْلِ السَّحْبِ مُدَّةُ النَّقَاءِ أَيْضًا نِفَاسٌ، وَقِيلَ: تُسْتَثْنَى هَذِهِ الصُّورَةُ أَيْضاً عَلَى قَوْلِ السَّحْبِ إِذْ يَبْعُدُ تَقْدِيرُ مُدَّةٍ
كَامِلَةٍ فِي الطُّهْرِ حَيْضًا وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ مَا إِذَا وَلَدَتْ وَلَمْ تَرَ الدَّمَ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ فِي أَنَّ الدَّمَ الوَاقِعَ فِي السِّتِّينَ هَلْ هُوَ نِفَاسٌ أَمْ لاَ؟ وَاللهُ أَعْلَمُ. قال الرافعي: ما ذكرناه من أول الباب إلى هذا المَوْضِعِ فِيما إذا كان الدَّم مستمراً لا ينقطع، أمَّا إذا انقطع دم النُّفَسَاء فله حالتان: إحداهما: أنه لا يجاوز السّتين فننظر إن لم تبلغ مدة النّقاء بين الدّمين أقل الطّهر كما لو رأت يوماً دماً ويومًا نقاء فأزمنة الدّم نفاس لا محالة، وفي أزمنة النقاء القولان المذكوران في الحيض، وإن بلغ أقلّ الطّهر كما لو رأت الدم أيّاماً عُقَيْبَ الولادة ثم وطهرت خمسة عشر يوماً فصاعداً ثم عاد الدم فالعائد حيض أم نفاس؟ فيه وجهان: أصحهما: أنه حيض لأنه نقاء قبله، دمان تخللهما طهر صحيح فلا يضم أحدهما إلى الآخر كدمي الحيض ولأنّا لو جعلناه نفاساً لجعلنا الطّهر الصحيح نفاساً أيضاً تفريعاً على الصّحيح، وهو قول السحب ولا ضرورة بناء إلى ذلك. والثاني: أنه نفاس لوقوعه في زمان إمكان النفاس كما لو كان المتخلّل دون أقل الطّهر، وعلى هذا الخلاف يخرج ما إذا ولدت ولم تر الدّم خمسة عشر فصاعداً، ثم رأت الدم هل هو حيض أو نفاس؟ التفريع إن قلنا: العائد حيض فلا نفاس لها في هذه الصورة الأخيرة أصلاً ولو نقص العائد عن أقل الحيض، ففيه وجهان: أظهرهما: أنه دم فساد؛ لأن الطهر الكامل قطع حكم النّفاس. والثاني: أنه نفاس؛ لأنه تعذر جعله حيضاً وأمكن جعله نفاس فيصار إليه، وإن جاوز العائد أكثر الحيض فهي مُسْتَحَاضَةُ فننظر أهي معتادة أم مبتدأة؟ ونحكم بما يقتضيه الحال. وإن قلنا: العائد نفاس فمدة النقاء على قولي التَّلْفِيق إن قلنا بالسحب فهو نفاس وإن قلنا باللّقط فهو طهر، كما لو كانت المدّة دون أقل الطهر هذا أشهر الطريقين، ومنهم من قال: هو طهر على القولين وتستثنى هذه الصّورة على قول السّحب، إذ يبعد أن تجعل المدّة الكاملة في الطهر نفاساً، ولا نعطي لها حكم الطّهر بخلاف ما إذا كانت المدّة ناقصة فإنها لا تصلح طهراً وحدها فيستعقبها الدم. الحالة الثانية: أن يتجاوز السّتين فننظر إن بلغ زمان النّقاء في السّتين أقل الطهر، ثم جاوز العائد فالعائد حيض ولا يجيء فيه الخِلاَفُ المَذْكُور في الحالة الأولى، وبهذا تبين أن صاحب الكتاب أراد بكلامه المطلق الحالة الأولى وإن لم يبلغ زمان النّقاء أقل الطّهر فننظر إن كانت مبتدأة مميزة ردت إلى التّمييز، وإن لم تكن مميزة فعلى القولين السابقين في المبتدأة، وإن كانت معتادة ردت إلى عادتها وفي الأحوال تراعى قضية
التّلفيق إن سحبنا فالدم في أيام المرد والنّقاء بينهما نفاس، وإن لفقنا فنلفق أيّام المرد أو من جميع السّتين فيه الخلاف المذكور في الحيض، والله أعلم (¬1). ولك أن تعلّم قوله في الكتاب: "وهو حيض على وجه" بالحاء، لأن عند أبي حنيفة العائد نفاس وأن تعلّم قوله: "فالعائد نفاس" بالألف، وقوله أيضاً قبله: "وعاد الخلاف في التَّلفيق" بالألف، لأن عند أحمد الدم العائد مشكوك فيه تصوم وتصلّي فيه، وتقضي الصّوم ولا يأتيها الزوج؛ لأنه يحتمل أن يكون نفاساً، ويحتمل أنه دم فساد ولا فرق عنده بين أن يبلغ مدة النقاء أقل الطهر وبين أن لا يبلغه، والله أعلم (¬2). ¬
كتاب الصلاة
كِتَابُ الصَّلاَةِ وَفِيهِ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ البَابُ الأَوَّلُ فِي المَوَاقِيتِ وَفِيهِ ثَلاَثةُ فُصُولٍ قال الغزالي: الأَوَّلُ فِي وَقْتِ الرَّفَاهِيَةِ، أَمَّا الظُّهرُ فَيَدْخُلُ وَقْتُهُ بِالزَّوَالِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ ظُهُورِ زِيادَةِ الظِّلِّ لِكُلِّ شَخْصٍ فِي جَانِبِ المَشْرِقِ، وَيتَمَادى وَقْتُ الاخْتِيَارِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ الشَّخْصِ (م زح) مِثْلَهُ مِنْ مَوْضِعِ الزِّيَادَةِ. قال الرافعي: الكلام في الصلاة حواه في سبعة أبواب: أولها في المواقيت، وصدر الشافعي كتاب الصلاة بهذا الباب؛ لأن أهم الصلوات الوظائف الخمس، وأهم ما يعرف منها مواقيتها، لأنها بدخول الوقت تجب وبخروجه تفوت. وفي الباب ثلاثة فصول: أولها: في وقت الرفاهية. والثاني: في وقت العذر، وفي كلام الشافعي -رضي الله عنه- أن الوقت وقتان: وقت مقام ورفاهية، ووقت عذر وضرورة. قال الشارحون: المقام: الإقامة، والرفاهية: الفسحة والدعة، يقال: فلان رَافِهُ إذا كان حاضرًا غير ظاعن، وفلان في رَفَاهِيَةٍ من عَيْشِهِ أي خفض ودَعَةٍ، واتفقوا على أن الغرض بهما في كلامه شيء واحد، وهو وقت المترفه الذي ليس به عذر ولا ضرورة، وهو الوقت الأصلي للصّلوات، واختلفوا في العذر والضرورة، فمنهم من قال: وقت العذر غير وقت الضرورة، فالعذر ما يرخص في التقديم والتأخير من غير إلجاء إليه وهو السفر والمطر، والضرورة ما تدفع وتلجئ إليه وذلك في، الصبي يبلغ والمجنون يفيق، والكافر يسلم، والحائض والنفساء ينقطع دمهما. وعلى هذا قالوا: الأوقات ثلاثة، لكن الشافعي -رضي الله عنه- جعلهما على قمسين، وجعل وقتاً في حيز، ووقتين في حيز؛ لما بينهما من التناسب، ومنهم من
القول في وقت صلاة الظهر
قال: العذر والضرورة وَاحِدٌ، وأراد به وقت الصبي يبلغ ومن في معناه. وإذا عرفت ذلك فاعلم أن صاحب الكتاب جعل الفصل الأول في وقت الرفاهية، والثاني في وقت الضرورة، وسماها وقت العذر، كأنه وافق الفرقة الصائرة إلى أن المراد بالعذر والضرورة واحد. فأما الفصل الأول فالأصل فيه ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ بَاب الْبَيْتِ مَرَّتَيْن فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ حِينَ زَالَت الشَّمْسُ" (¬1)، وروي "حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْلَ الشِّرَاكِ، وَصَلَّى بِيَ الْعَصْرُ حِينَ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ بِقَدْر ظِلِّهِ، وَصَلَّى بِيَ الْمَغْرِبَ حِينَ أَفْطَرَ الصَّائِمُ، وَصَلَّى بِيَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، وَصَلَّى بِيَ الْفَجْرَ حِينَ حَرُمَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ صَلَّى بِيَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ بقَدرِ ظِلِّهِ، وَصَلَّى بِيَ الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، وَصَلَّى بِيَ الْمَغْرِبَ لِلْقَدَرِ الأَوَّلِ لَمْ يُؤَخِرْهَا، وَصَلَّى بِيَ الْعِشَاءَ حِينَ ذهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، وَصَلَّى بِيَ الفَجْرَ حِينَ أَسْفَرَ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَال يَا مُحَمَّدُ: هذَا وَقْتُ الْأنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ"، ويروى مثل ذلك عن ابن عمر -رضي الله عنهما- وأبي هريرة وأبي موسى وجابر وأنس وغيرهم -رضي الله عنهم- (¬2). ولهذا الحديث بدأ الأئمة بصلاة الظهر. القول في وقت صلاة الظهر: ووقتها يدخل بالزَّوَال، وبيانه: أن الشمس إذا طلعت وقع ظل كل شخص في جانب المغرب طويلاً، ثم ما دامت الشَّمس ترتفع فالظل ينقص حتى إذا بلغت كبد السماء وهي حالة الاستواء انتهى نقصانه، وقد لا يبقى له ظل أصلاً، وذلك في بعض البلاد "كمكة" و"صنعاء اليمن" في أطول أيام السنة، وإذا بقي فهو مختلف المقدار ¬
القول في وقت صلاة العصر
باختلاف البلاد والفصول، ثم إذا مالت الشمس إلى جانب المغرب فإن لم يبق ظل عند الاستواء حدث الآن في جانب المشرق، وإن بقي شيء زاد الآن وتحول إلى المشرق. فحدوثه أو زيادته هو الزوال، ثم إذا صار ظل الشاخص مثله من أصل الشاخص إن لم يبق شيء من الظل عند الاستواء أو من نهاية القدر الباقي في حالة الاستواء إن بقي شيء فقد خرج وقت الظهر. وقوله في الكتاب: "وهو عبارة عن ظهور زيادة الظل" يريد به أغلب الأحوال وهو بقاء الظل في حالة الاستواء وإن قل. فأما إذا لم يبق شيء عند الاستواء فالزوال بظهور الظل، ولا معنى للزيادة، لكنه نادر لا يكون إلا في يوم واحد من السنة في بعض البلدان. وقوله: "ويتمادى وقت الاختيار إلى أن يصير ظل الشخص مثله من موضع الزيادة" جار على الغالب أيضاً كما بيناه، فإذا كان الشاخص ذراعين مثلاً والباقي من ظله عند الاستواء ربع ذراع فإنما يخرج الوقت إذا صار الظل ذراعين وربع ذراع. وأراد بوقت الاختيار ما اشتمل عليه بيان جبريل عليه السلام بعد وقت الفضيلة ألا تراه يقول: في "وقت العصر ووقت الفضيلة في الأول ما بعده وقت الاختيار" وفسر بعضهم وقت الاختيار بما يشتمل عليه بيان جبريل من غير التقييد بكونه بعد وقت الفضيلة، وعلى هذا فوقت الاختيار ينقسم إلى وقت الفضيلة وإلى ما بعده، وليكون قوله: "إلى أن يصير ظل الشخص مثله" معلماً بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة -رحمه الله- يبقى وقت الظهر إلى أن يصير ظل الشيء مثله ثم يدخل وقت العصر، وبالميم أيضاً؛ لأن عند مالك يبقى وقت الظهر إلى أن يصير ظل الشخص مثله، ولكن إذا صار ظل الشيء مثليه دخل وقت العصر، وفي مصير الظل مثله إلى مصيره مثليه وقت لكل واحدة من الصلاتين، هكذا روى مذهبه طائفة من أصحابنا. وروى آخرون أنه قال: يدخل وقت العصر بمصير الظل مثليه، ولا يخرج وقت الظهر حتى يمضي قدر أربع ركعات، وهذا القدر هو المشترك بين الصلاتين، ويروى هذا عن المزني أيضاً، فليضف الزاي إلى الحاء والميم. قال الغزالي: وبِهِ يَدْخُلُ وَقْتُ العَصْرِ (ح ز) وَيتَمَادَى (م) إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَوَقْتُ الفَضِيلَةِ في الأَوَّلِ وَمَا بَعْدَهُ وَقْتُ الاخْتِيَارِ إلى مَصِيرِ الظِّلِّ مِثْلَيهِ، وَبَعْدَهُ وَقْتُ الجَوَازِ إِلَى الاصْفِرَارِ، وَوَقْتُ الكَرَاهِيَةِ عِنْدَ الاصْفِرَارِ. القول في وقت صلاة العصر: قال الرافعي: إذا صار ظل الشيء مثليه فقد دخل وقت العصر، لما روينا من
حديث ابن عباس، وقد يوهم الخبر اشتراكًا بين الظهر والعصر في قدر من الوقت كما حكيناه عن مالك؛ لأنه قال: صلّى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مِثليه، [وصلى العصر في اليوم الأول حين صار ظلُّ كلَّ شيء مثليه] (¬1) وأوَّله الشافعي -رضي الله عنه- على أنه ابتدأ العصر من اليوم الأول حين صار ظل الشّيء مثليه، وفرغ من الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل الشيء مثليه. ودليل التأويل ما روي عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الْعَصْرِ" (¬2). ثم يمتد وقت العصر إلى غروب الشمس؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِن الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَد أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أن تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أدْرَكَ الْعَصْرَ" (¬3). وفيه وجه آخر، وإليه ذهب أبو سعيد الإصطخري: أنه لا يمتد إلى غروب الشمس، بل آخر وقت العصر إذا صار ظل الشيء مِثْلَيْهِ، لأنه لو زاد عليه لبينه جبريل عليه السلام، وعلى ظاهر المذهب وقت الاختيار إلى مصير الظل مِثْلَيْهِ، وبعده وقت الجواز بلا كراهية إلى اصفرار الشمس، ومن اصفرار الشمس إلى الغروب، وقت الكراهية، ومعناه أنه يكره تأخيرها إليه. روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تِلْكَ صَلاَةُ الْمُنَافِقِ يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ، حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرَنَي الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا، لاَ يَذْكُرً اللهَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً" (¬4). وأما ما يتعلق بألفاظ الكتاب، فقوله: "وبه يدخل وقت العصر" ينبغي أن يعلم بالحاء؛ لما قدمناه، وقوله: "ويمتد إلى غروب الشمس" بالواو للوجه المنسوب إلى الإصطخري. فإن قلت: قال الشافعي -رضي الله عنه- في "المختصر": "ثم لا يزال وقت الظهر قائماً حتى يصير ظل كل شيء مثله، فإذا جاوز ذلك بأقل زيادة، فقد دخل وقت العصر ظاهراً"، هذا يقتضي اعتبار زيادة على مصير الظل مثله، ليدخل وقت العصر، وذلك ينافي قوله: "وبه يدخل وقت العصر" فهل في ذلك اختلاف قول أم وجه أم كيف الحال؟ فالجواب أنه لا خلاف في دخول وقت العصر حتى يخرج وقت الظهر عندنا. وكلام الشافعي محمول على أن خروج وقت الظهر لا يكاد يعرف إلا بزيادة الظل على المثل وإلا فتلك الزيادة من وقت العصر. وقوله: ووقت الفضيلة في الأول لا يختص به العصر، بل وقت فضيلة جميع الصلوات أول أوقاتها على ما سيأتي، لكن اجتماع الأوقات الأربعة الفضيلة، والاختيار، والجواز، والكراهية من خاصية وقت العصر والصبح وما عداهما. ¬
أما ذات وقتين: الفضيلة والاختيار كالظهر، وأما ذات ثلاث أوقاتِ الفضيلة، والاختيار، والجواز، كالعشاء، والعصر أول الصلاتين المخصوصتين بالأوقات الأربعة في الترتيب المذكور، فهذا هو الداعي إلى تقسيم وقت العصر إلى الفضيلة وغيرها. قال الغزالي: وَوَقْتُ المَغْرِبَ يَدْخُلُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ وَيمْتَدُّ (م) إِلَى غُرُوبِ الشَّفَقِ فِي قَوْلٍ، وَعَلَى قَوْلٍ: إِذَا مَضَى بَعْدَ الغُرُوبِ وَقْتُ وُضُوءٍ وَأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَقَدْرِ خَمْسَ (و) رَكَعَاتٍ فَقَدِ انْقَضَى (ح) الوَقْتُ، لِأَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام صَلاَّهَا فِي الْيَومَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ شَرَعَ فِي الصَّلاَةٍ فَمَدَّ آخِرَ الصَّلاَةِ إلَى وَقْتِ غُرُوبِ الشَّفَقِ فَفِيهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: لا خلاف في أن وقت المغرب يدخل بغروب الشمس، والاعتبار بسقوط قرصها، وهو ظاهر في الصحارى. وأما في العمران، وقلل (¬1) الجبال، فالاعتبار بأن لا يرى من شعاعها شيء على أطراف الجدران وقلل الجبال، ويُقبل (¬2) الظلام من المشرق، وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا أَقْبَلَ الظَّلاَمُ مِنْ هَاهُنَا -وَأَشَارَ إلَى الْمَشْرِقِ، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا- وَأَشَارَ إِلَى الْمَغْرِبِ - فَقَد أَفْطَرَ الصَّائِمُ" (¬3). وإلى متى يمتد وقت المغرب؟ فيه [قولان] (¬4) القديم: أنه يدوم وقتها إلى غيبوبة الشفق، لما روي عن بريدة "أَنَّ رَجُلاً سَألَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ وَقْتِ الصَّلاَةِ فَقَالَ: صَلِّ مَعَنَا هذَيْنِ"، يَعْنِي الْيَوْمَيْنِ إِلَى أَنْ قَالَ: "وَصَلَّى بِيَ الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ " (¬5). وروي في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَوَقْتُ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبْ الشَّفَقُ" (¬6). ويعبر عن هذا القول بأن للمغرب وقتين كسائر الصلوات، وفي "الجديد" إذا مضى قدر وضوء وستر عورة وآذان وإقامة وخمس ركعات فقد إنقضى الوقت؛ لأن جبريل عليه السلام صلاها في اليومين في وقت واحد، ولو كان لها وقتان لبين كما في سائر الصلوات؛ ثم معلوم أن ما لا بد منه من شرائط الصَّلاَةِ لا يجب تقديمه على الوقت، ¬
فيحتمل التأخير بعد الغروب قدر ما يشتغل بها، والاعتبار في جميع ذلك بالوسط المعتدل (¬1)، ويحتمل أيضاً أكل لقم يكسر بها سورة الجوع (¬2). وفي وجه: ما يمكن تقديمه على الوقت كالطهارة، وستر العورة يسقط من الاعتبار. وفي وجه: لا يعتبر خمس ركعات، وإنما يعتبر ثلاث ركعات، ويعبر عن هذا القول بأن للمغرب وقتاً واحداً يعتبر تقديره بالفعل، وعلى هذا القول لو شرع في المغرب في الوقت المضبوط فهل يجوز أن يستديم صلاته إلى أن ينقضي هذا الوقت؟ إن قلنا: إن الصلاة التي وقع بعضها في الوقت وبعضها بعد الوقت أداء، وأنه (¬3) يجوز تأخيرها إلى أن يخرج عن الوقت بعضها - فله ذلك لا محالة، وإن قلنا: لا يجوز ذلك في سائر الصلوات، ففي المغرب وجهان: أحدهما: المَنْعُ كسائر الصلواتِ. وأصحهما: أنه يجوز مدها إلى غروب الشفق، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "قرأ سورة الأعْرَافِ في المغرب" (¬4) فظاهر المذهب القول الجديد. واختار طائفة من الأصحاب القول الأول، ورجحوه، وعندهم أن المسألة مما يفتى فيها على القديم (¬5). وإذا عرفت ذلك فعد إلى ألفاظ الكتاب وعلم قولَه: (ويمتد إلى غروب الشفق) بالميم، لأن مذهب مالك مثل القول الجديد في أظهر الروايتين، وقوله: (فقد انقضى الوقت) بالحاء والألف؛ لأن مذهبهما مثل القول القديم، ولفط (الوضوء) بالواو، وكذا قوله: (وقدر خمس ركعات) لما حكينا من الوجهين، وادعى القاضى الروياني أن المذهب: اعتبار الثلاث دون الخمس، وقوله) (وعلى هذا، فلو مد آخر الصلاة إلى غروب الشفق، فوجهان) فيه، إشارة إلى أن الوجهين مبنيان على قولنا أن من سائر الصلوات لا يجوز الإتيان بها، بحيث يقع بعضها بعد الوقت، لا ما إذا جوزنا ذلك، فلا اختصاص للامتداد بغروب الشفق، مهما كان الشروع في الوقت المضبوط. ¬
القول في وقت صلاة العشاء
قال الغزالي: وَوَقْتُ العِشَاءِ يَدْخُلُ بِغَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، وَهُوَ الحُمْرَةُ (ح) الَّتِي تَلِي الشَّمْسَ دُونَ البَيَاضِ والصُّفُرَةِ، ثُمَّ يَمْتَدْ وَقْتُ الاخْتِيَارِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ عَلَى قَوْلٍ، وَإِلَى النِّصْفِ عَلَى قَوْلٍ، وَوَقْتُ الجَوَازِ اِلَى طُلُوعِ الفَجْرِ. القول في وقت صلاة العشاء: قال الرافعي: إذا غاب الشفق دخل وقت العشاء، لما روينا من [خبر] (¬1) جبريل عليه السلام: "والشَّفَقُ هُوَ الْحُمْرَةُ" (¬2) وبه قال مالك وأحمد خلافاً لأبي حنيفة والمزني، حيث قال: هو البياض الذي يعقب الحمرة، ويروى عن أحمد أن الاعتبار في الصحراء بالحمرة، وفي البنيان بالبياض. لنا: ما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: في الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ فَإذَا غَابَ الشَّفَقُ وَجَبَتِ الصَّلاَةُ". وإلى متى يمتد وقت الاختيار؟ فيه قولان. أصحهما: إلى ثلث الليل لبيان جبريل عليه السلام. والثاني: إلى نصف الليل. وبه قال أبو حنيفة، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرتُهُمْ بالسَّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ، وَلَأَخَّرْتُ الْعِشَاءَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ" (¬3). وعن أحمد روايتان، كالقولين ثم يستمر وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني. وفيه وجه آخر: أنه إذا ذهب وقت الاختيار على اختلاف القولين فقد ذهب وقت الجواز أيضاً، أما على قول: "الثلث" فلحديث جبريل عليه السلام حيث قال: "الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ". وأما على قول النصف فلما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَقْتُ الْعِشَاءِ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ نِصْفِ اللَّيْلِ" (¬4)، إلى هذا الوجه ذهب الإصطخري، وكذلك أبو بكر الفارسي فيما حكى المعلق عن الشيخ أبي محمد، والمذهب الأول. واحتجوا له بما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصَّبْحَ فَلْيُوتِرْ بِرَكْعَةٍ" (¬5). ¬
القول في صلاة الصبح
وبما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَيْسَ التَّفْرِيطُ فِي النَّوْمِ، وَإِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ، أَنْ تُؤَخَّرَ صَلاَةٌ حَتَّى يَدْخُلُ وَقْتُ صَلاَةٍ أُخْرَى" (¬1). ظاهره يقتضي امتداد وقت كل صلاة إلى دخول وقت الأخرى، ولا يخفى عليك مما ذكرناه المواضع المستحقة للعلامات من ألفاظ الكتاب، وأن قوله: "ووقت الجواز إلى طلوع الفجر المراد منه الفجر الثاني" وقوله: في تفسير الشفق "دون البياض والصفرة" لا كلام في أن البياض خارج عن تفسير الشفق عندنا، وأنه لا يعتبر غروبه. وأما الصفرة فقد ذكر إمام الحرمين في "النهاية": أن أول وقت العشاء يدخل بزوال الحمرة والصفرة، والشمس إذا غربت تعقبها حمرة ثم ترق إلى أن تنقلب صفرة ثم يبقى بياض. قال: وبين غيبوبة الشمس إلى زوال الصفرة كما بين الصبح الصادق إلى طلوع قرن الشمس، وبين زوال الصفرة إلى انمحاق البياض يقرب مما بين الصبح الصادق والكاذب، ونقل صاحب الكتاب في "البسيط" هذا الكلام، لكن الذي يوافق إطلاق المعظم ما ذكره في هذا الموضع، وهو الاكتفاء بغيبوبة الحمرة. ولفظ الشافعي -رضي الله عنه- دال عليه، ألا تراه يقول في "المختصر": وإذا غاب الشفق وهو الحمرة فهو أول وقت العشاء، ثم غروب الشفق ظاهر في معظم النواحي. أما الساكنون بناحية تقصر لياليهم ولا يغيب عنهم الشفق فيصلون العشاء، إذا مضى من الزمان قدر ما يغيب فيه الشفق في أقرب البلدان إليهم، ذكره القاضي حسين في "فتاويه". قال الغزالي: وَوَقْتُ الصُّبْحِ يَدْخُلُ بِطُلُوعِ الفَجْرِ الصَّادِقِ الُمْستَطِيرِ ضَؤْءُهُ لاَ بِالفَجْرِ الكَاذِبِ الَّذِي يَبْدُو مُسْتَطِيلاً كَذَنَبِ السِّرْحَانِ، ثُمَّ يَنْمَحِقُ أَثَرُهُ ثُمَّ يَتَمَادَى وَقْتُ الاخْتِيَارِ إلَى الإِسْفَارِ، وَوَقْتُ الجَوَازِ اِلَى الطُّلُوعِ. القول في صلاة الصبح: قال الرافعي: يدخل وقت الصبح بطلوع الفجر الصادق ولا عبرة بالفجر الكاذب. والصادق هو المستطير الذي لا يزال ضوؤه يزداد ويعترض في الأفق، سمى مستطيراً لانتشاره قال الله تعالى: {كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} (¬2) والكاذب يبدو مستطيلاٍ ذاهباً في السماء، ثم ينمحق وتصير الدنيا أظلم مما كانت والعرب تشبهه بذنب السرحان، لمعنيين: ¬
أحدهما: طوله. والثاني: أن الضوء يكون في الأعلى دون الأسفل كما أن الشعر يكثر على أعلى ذنب الذئب دون أسفله وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَغُرَّنَّكُمُ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ" (¬1). ويتمادى وقت الاختيار إلى الإسفار، لحديث جبريل عليه السلام. وهل يزيد الوقت عليه؟ قال أبو سعيد الإصطخري: لا، والمذهب أنه يبقى وقت الجواز إلى طلوع الشمس لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ" (¬2) ثم من الإسفار إلى طلوع الحمرة جواز بلا كراهية، ووقت طلوع الحمرة وقت الكراهية فيكره تأخير الصلاة إليها من غير عذر، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وكذلك [أورده] (¬3) في "التهذيب" فيحصل للصبح أربعة أوقات كما للعصر. وقوله: "ووقت الجواز إلى الطلوع" إن كان المراد منه ما تشترك فيه حالة الكراهية وحالة عدمها فلا مخالفة بينه وبين ما حكيناه، ولكنه خص اسم الجواز بما لا كراهة معه في فصل العصر، ألا تراه يقول: "وبعده وقت الجواز إلى الاصفرار ووقت الكراهية عند الاصفرار" فيشبه أن يريد بالجواز هاهنا مثل ذلك أيضاً، وحينئذ يكون ما ذكره مخالفاً لما حكيناه والله أعلم. قال الغزالي: ثُمَّ يُقَدَّمُ (وح) أَذَانُ هَذِهِ الصَّلاَةِ عَلَى الوَقْتِ فِي الشِّتَاءِ لِسَبْعِ بَقين مِنَ اللَّيْلِ، وَفي الصَّيْفِ بِنِصْفِ سُبْعٍ، وَقِيلَ: يَدْخُلُ وَقْتُ أَذَانِهِ بِخُرُوجِ وَقْتِ اخْتِيَارِ العِشَاءِ، ثُمَّ لْيَكُنْ لِلْمَسْجِدِ مُؤَذِّنَانِ يؤَذِّنُ أحَدُهُمَا قَبْلَ الصُّبْحِ والأخَرُ بَعْدَهُ. قال الرافعي: صلاة الصبح تختص في حكم الأذان بأمور، ذكر منها هاهنا شيئين: أحدهما: أنه يجوز تقديم آذانها على دخول الوقت خلافاً لأبي حنيفة. لنا ما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ بِلاَلاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ" (¬4) والمعنى فيه إيقاظ النُّوَامِ، فإن الوقت وقت النوم والغفلة ليتأهبوا للصلاة. ¬
وقال الشيخ يحيى اليمني في "البيان": ذكر بعض أصحابنا أنه إذا جرت عادة أهل بلد بالأذان بعد طلوع الفجر لم يقدم فيها الأذان على الوقت كيلا يشتبه عليهم الأمر، وهذا التفصيل غريب، وليكن قوله: "ثم يقدم" معلماً بالواو مع الحاء لذلك، ثم في القدر الذي يجوز به التقديم وجوه، ذكر منها في الكتاب وجهين: أحدهما: أنه يقدم في الشتاء لِسُبُعٍ بقي من الليل، وفي الصيف لِنْصِف سُبُع [بقي من الليل، وروي عن سعد القرظي (¬1) قال: "كَانَ الأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فِي الشِّتَاءِ لِسُبْعٍ بَقِيَ مِنَ اللَّيْلِ وَفِي الصَّيْفِ لِنِصْفِ سُبْعٍ"] (¬2) (¬3) وهذا القدر لا يعتبر تحديداً، وإنما يعتبر تقريباً، والغرض أن يتأهب الغافلون لأسباب الصلاة وفي التنبيه قريباً من السحر ما يحصل هذا المقصود. والثاني: أنه إذا خرج وقت اختيار العشاء إما الثلث وإما النصف على اختلاف القولين فقد دخل وقت أذان الصبح؛ لأنه لا يخاف اشتباه أحد الأذانين بالآخر فإن الظاهر أن العشاء لا تؤخر عن وقت الاختيار. والوجه الثالث: أن وقته النصف الأخير من الليل، ولا يجوز قبل ذلك، وإن قلنا: إن وقت اختيار العشاء لا يجاوز ثلث الليل وشبه ذلك بالدفع من "المزدلفة" والمعنى فيه ذهاب معظم الليل. والرابع: حكاه القاضي أبو القاسم بن كج وآخرون: أن جميع الليل وقت له كما أنه وقت لنية صوم الغد. واحتج له بإطلاق قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ بلاَلاً يُؤَذِّنْ بِلَيْلٍ" وأظهر الوجوه أنما هو الأول، ولم يفصل في "التهذيب" بين الصيف والشتاء، واعتبر السبع على الإطلاق تقريباً، وكل هذا في الأذان. أما الإقامة فلا تقدم على الوقت بلا خلاف. وهذا الفصل ليس من أحكام الأذان إلا أن الشافعي -رضي الله عنه- ذكره في هذا الموضع لتعلقه بالمواقيت وتأسى به الأصحاب. ¬
الثاني: يستحب أن يكون للمسجد مؤذنان يؤذن أحدهما قبل الصبح والآخر بعده كما كان لمسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والأول أولى بالإقامة، وإن لم يكن إلاَّ مؤذن واحد فيؤذن مرتين، مرة قبل الصبح، وأخرى بعده، ويجوز أن يقتصر على مرة واحدة، إما قبل الصبح أو بعده، أو بعض الكلمات قبل الصبح وبعضها بعده، فإذا اقتصر على مرة فالأولى أن تكون بعد الصبح على المعهود في سائر الصلوات (¬1). قال الغزالي: قَاعِدَةٌ، تَجِبُ الصَّلاَةُ بأَوَّلِ (ح) الوَقْتِ وُجُوباً مُوَسَّعاً (ح)، فَلَوْ مَاتَ فِي وَسَطِ الوَقْتِ قَبْلَ الأَدَاءِ عَصَى عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَلَوْ أَخَّرَ حَتَّى خَرَجَ بَعْضُ الصَّلاَةِ عَنِ الوَقْتِ فَفِي كَوْنهِ أَدَاءً ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ، وَفِي الثَّالِثُ يُجْعَلُ القَدْرُ الخَارجُ قَضَاءً (ح). قال الرافعي: الصلاة تجب بأول الوقت وجوبًا موسعاَ، ومعنى كونه موسعاً أن له أن يؤخرها إلى آخر الوقت ولا يأثم. وعند أبي حنيفة تجب بأخر الوقت، لكن لو صلى في أول الوقت سقط الفرض. لنا قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (¬2) والأمر للوجوب. ولو أخر من غير عذر ومات في أثناء الوقت فهل يعصى؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه ترك الواجب. وأصحهما: لا (لأنه أبيح له التأخير) (¬3)، بخلاف ما لو أخر الحج بعد الوجوب فمات بعد إمكان الأداء يعصى؛ لأن آخر الوقت غير معلوم، وأبيح له التأخير بشرط أن يبادر الموت، فإذا مات قبل الفعل أشعر الحال بتقصيره وتوانيه وفي الصلاة آخر الوقت معلوم فلا ينسب إلى التقصير ما لم يؤخر عن الوقت. ولو وقع بعض الصلاة في الوقت وبعضها بعد خروج الوقت، فقد حكى صاحب الكتاب فيه ثلاثة أوجه ولم يفرق بين أن يكون الواقع في الوقت ركعة أو دونها. أحدها: أن الكل أداء اعتباراً بأول الصلاة. والثاني: أن الكل قضاء اعتباراً بالآخر، فإنه وقت سقوط الفرض بما فعل. ¬
والثالث: أن الواقع في الوقت أداء وفي الخارج قضاء كما أنه لو وقع الكل في الوقت كان أداء وإذا وقع خارجه كان قضاء. والذي ذكره معظم الأصحاب الفرق بين أن يكون الواقع في الوقت ركعة فصاعداً أو دونها واقتصروا على وجهين: أصحهما: أنه إن وقع في الوقت ركعة فالكل أداء، وإلا فالكل قضاء، وبه قال ابن خيران؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْح قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ" (¬1). وأيضاً فإن للركعة من التأثير ما ليس بغيرها. ألا ترى أنه تدرك الجمعة بركعة، ولا تدرك بما دونها. والوجه الثاني: أن ما وقع في الوقت أداء والخارج عنه قضاء، وأورد إمام الحرمين الأوجه الثلاثة المذكورة في الكتاب ولكن بعد الفرض في الركعة، ثم قال: إن الأئمة ذكروا الركعة فيما يقع في الوقت، وكان شيخي يرد ذلك إلى تفصيل المذهب فيما يدرك به أصحاب الضرورات الفرض. قال: والذي ذكره غير بعيد. وإذا عرفت ذلك، فإن كان صاحب الكتاب أراد بالبعض الذي [أطلقه] (¬2) الركعة، فذاك وإلا فهو جري على المنقول عن الشيخ أبي محمد. ثم فيما يدرك به أصحاب الضرورة الفرض قولان: أحدهما: ركعة. والثاني: تكبيرة. ففرض الخلاف في مطلق البعض تكون جواباً على هذا القول الثاني، وليكن قوله: "يجعل القدر الخارج قضاء" معلماً بالألف؛ لأن القاضي الروياني روى أن عند أحمد إذا وقعت ركعة من الصلاة في الوقت فالكل أداء، كما هو الصحيح عندنا، ولا بأس بإعلامه بالحاء أيضاً؛ لأن عند أبي حنيفة لو طلعت الشمس -في خلال صلاة الصبح- بطلت، ولا يعتد بها لا قضاء ولا أداء، وسلم أنه لو غربت الشمس في خلال الصلاة من عصر يومه لا تبطل الصلاة. لنا: ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلاتَهُ وَإذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلاتَهُ" (¬3). ومتى قلنا الخارج عن الوقت قضاء، أو قلنا الكل قضاء لم يجز للمسافر قصر تلك الصلاة على قولنا أن القصر لا مدخل له في القضاء، وهل يجوز تأخير الصلاة إلى حد يخرج بعضه عن الوقت؟ إن قلنا إنها مقضية، أو أن بعضها مقضي ¬
فلا، وإن قلنا مؤداة فقد حكى إمام الحرمين عن أبيه ترديد الجواب في ذلك، ومال إلى أنه لا يجوز، وهذا هو الذي أورده في "التهذيب" من غير ترديد وبناء على خلاف، ولو شرع فيها وقد بقي من الوقت ما يسع الجميع لكن مدها بطول القراءة حتى خرج الوقت. لم يأثم، ولا يكره أيضاً في أظهر الوجهين. قال الغزالي: ثُمَّ تَعْجِيلُ الصَّلَوَاتِ أَفْضَلُ (ح) عِنْدَنَا، وَفَضِيلَةُ الأَوَّليَّةِ بِأنْ يَشْتَغِلَ بِأسْبَابِ الصَّلاَة كَمَا دَخَلَ الوَقْتُ، وَقِيلَ: تَتَمَادَى الفَضِيلَة اِلَى نِصْفِ وَقْتِ الاخْتِيَارِ، وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ العِشَاءِ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ، ويُسْتَحَبُّ الإبْرَادُ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الحَرِّ إِلَى وُقُوعِ الظِّلِّ الَّذِي يَمْشِي فِيهِ السَّاعي إِلَى الجَمَاعَةِ، وَفِي الإبْرَادِ بِالجُمُعَةِ وَجْهَانِ لِشِدَّةِ الخَطَرِ في فَوَاتِهَا. قال الرافعي: روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللهِ، وَآخِرُ الْوَقْتِ عَفْوُ اللهِ" (¬1) قال الشافعي -رضي الله عنه-: "رضوان الله إنما يكون للمحسنين "والعفو" يشبه أن يكون للمقصرين. وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَفْضَلُ الأَعْمَالِ الصَّلاَةُ لِأوَّلِ وَقْتِهَا" (¬2). وبم تحصل فضيلة الأولية؟ حكى الإمام فيه ثلاثة أوجه: أقربها: عنده وهو الذي ذكره صاحب "التقريب" أنها تحصل بأن يشتغل بأسباب الصلاة كالطهارة والأذان فإن دخل الوقت، فإنه لا يعد حينئذ متوانياً ولا مؤخراً. والثاني: يبقى وقت الفضيلة إلى نصف الوقت؛ لأن معظم الوقت باقٍ ما لم يمض النصف، فيكون موقعاً للصلاة في حد الأول، وإلى هذا مال الشيخ أبو محمد واعتبر نصف وقت اختيار. والثالث: لا تحصل الفضيلة إلا إذا قدم [قبل الوقت] ما يمكن تقديمه من الأسباب لتنطبق الصلاة على أول دخول الوقت، وعلى هذا قيل: لا ينال المتيمم فضيلة الأولية (¬3)، وعلى الأول: لا يشترط تقديم ستر العورة كالطَّهَارَةِ، وعن الشيخ أبي محمد اشتراطه؛ لأن ستر العورة لا تختص بالصلاة، والشغل الخفيف كأكل لُقَمٍ وكلام قصير لا يمنع إدراك الفضيلة، ولا يكلف العجلة على خلاف العادة (¬4). ولنتكلم في الصلاة ¬
واحدة واحدة. أما الظُّهْرُ فيستحب فيها التعجيل، إلا إذا اشتد الحر، وظاهر المذهب، أنه يستحب الإبراد به، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحُرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ" (¬1). ومن الأصحاب من قال الإبراد رخصة (¬2)، فلو تحمل القوم المشقة، ¬
وصلوا في أول الوقت، فهو أفضل. والأول المذهب، ثم الإبراد المحبوب أن يؤخر إقامة الجماعة عن أول الوقت في المسجد (¬1) الذي يأتيه الناس من بُعد بقدر ما يقع للحيطان ظل يمشي فيه الساعون إلى الجماعة. فلا ينبغي أن يؤخر عن النصف الأول من الوقت ولو كانت منازل القوم قريبة من ¬
المسجد، أو حضر جمع في موضع، ولا يأتيهم غيرهم: فلا يبردون بالظهر. وفيه قول آخر: أنهم يبردون بها، ولو أمكنهم المشي إلى المسجد في ركن، أو في ظل، أو كان يصلي منفردًا في بيته، فلا إبراد أيضاً. وفي وجه يستحب الإبراد، فمن قال الإبراد -في هذه الصور- احتج بإطلاق الخبر، ومن منع قال: المعنى المقتضي للإبراد دفع المشقة، والتأذي بسبب الحر، وليس في هذه الصور كبير مشقة، وهذا هو الأظهر. وهل يختص الاستحباب بالبلاد الحارة أم لا؟ فيه وجهان: منهم من قال: لا، وبه قال الشيخ أبو محمد؛ لأن التأذي في إشراق الشمس حاصل في البلاد المعتدلة أيضاً، وهذا بخلاف النهي عن استعمال الشمس يختص بالبلاد الحارة على الظاهر؛ لأن المحذور الظني لا يتوقع مما يشمس في البلاد المعتدلة. ومنهم من قال: باختصاصه بالبلاد الحارة، وبه قال الشيخ أبو علي؛ لأن الأمر هَيِّنٌ في غيرها، وهذا أظهر وحكاه القاضي ابن كج عن نص الشافعي -رضي الله عنه-. وهل يلحق صلاة الجمعة بالظهر في لإبراد؟. فيه وجهان: أحدهما: نعم، كالظهر في سائر الأيام. والثاني: لا، لشدة الخطر في فواتها، فإنها إذا أخرت ربما تكاسلوا فيها، وإذا حضروا فلا بد من تقديم الخطبة، ولأن النَّاسَ يبكرون إليها فلا يتأذون بالحر، وهذا أظهر. وأما العصر والمغرب، فالأفضل أن يعجلهما في جميع الأحوال. وأما العشاء، ففيها قولان: أظهرهما: أن تعجيلها أفضل كسائر الصلوات، لعموم الأخبار. والثاني: أن تأخيرها أفضل ما لم يجاوز وقت الاختيار لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأمَرْتُهُمْ بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ" (¬1). وأما الصبح، فيستحب فيها التعجيل أيضاً مطلقاً؛ لما روي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ النِّسَاءُ يَنْصَرفْنَ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُنَّ مُتَلَفِّعَات بِمُرُوطِهِنَّ لاَ يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ" (¬2). وينبغي أن يعرف مما يتعلق بنظم الكتاب سببين (¬3): أحدهما: أن كلمة "عندنا" في قوله: "ثم تعجيل الصلاة أفضل عندنا" على خلاف عادة الكتاب، ثم ليس فيه كبير فائدة، فإنا إذا أطلقنا الكلام أطلقناه بما عندنا لا بما عند ¬
غيرنا، وغايته الإشارة إلى خلاف في المسألة، لكن لا يعرف به المخالف من هو، وأنه ماذا يقول، ولا نعني عن الرموز التي هي عادة الكتاب، فليكن قوله: "هو أفضل" معلماً بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة الأفضل في صلاة الصبح الإسفار بها، وفي العصر التأخير ما لم تتغير الشمس، وفي العشاء التأخير ما لم يجاوز ثلث الليل، وساعدنا في المغرب على استحباب التعجيل، وكذلك في الظهر إذا لم يشتد الحر، وليكن معلماً بالميم أيضاً، لما روي عن مالك، أنه يستحب تأخير الظهر إلى أن يصير الفيء قدر ذراع، وفي العصر أيضاً يستحب التأخير قليلاً. والثاني: أن قوله: "تعجيل الصلاة أفضل" يشمل الصلاة كلّها. وقوله بعد ذلك: "يستحب تأخير العشاء على قول، ويستحب الإبراد" استثناء في الحقيقة عما أطلقه أولاً وإن لم يكن لفظه لفظ الاستثناء. وينبغي أن يعلم قوله: "ويستحب الإبراد" بالواو للوجه الصائر إلى أنه رخصة. قال الغزالي: فَرْعٌ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الوَقْتُ يَجْتَهِدُ وَيسْتَدِلُّ بِالأَوْرَادِ وَغَيْرِهَا فَإِنْ وَقَعَتْ صَلاتُهُ فِي الوَقْتِ أَوْ مَا بَعْدَهُ فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَقَعَتْ قَبْلُ قَضَى عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ، وَكذَا فِي طَلَبِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالقَادِرُ عَلَى دَرْكِ اليَقِينِ بِالصَّبْرِ هَلْ لَهُ المُبَادرَةُ بِالاجْتِهَادِ فِي أَوَّلِ الوَقْتِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: إذا اشتبه عليه وقت الصلاة بغيم، أو حبس في موضع مظلم، أو غيرهما اجتهد، واستدلَّ عليه بالدرس والأعمال والأوراد وما أشبهها. ومن جملة الأمارات صياح الديك المجرب إصابة صياحِهِ الوقت، وكذلك أذان المؤذنين في يوم الغيم، إذا كثروا، وغلب على الظن لكثرتهم أنهم لا يخطئون. والأعمى يجتهد في الوقت كالبصير. وإنما يجتهدان إذا لم يخبرهما عدل عن دخول الوقت عن مشاهدة. فلو قال رأيت الفجر طالعاً والشفق غارباً، فلا مساغ للاجتهاد ووجب قبول قوله. ولو أخبر عن اجتهاد فليس للبصير القادر على الاجتهاد تقليده، والأخذ بقوله، وهل للأعمى ذلك؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم، ويسوغ له الاجتهاد، والتقليد جميعاً، ويترتب على هذا الاعتماد على أذان المؤذن، فإن كان بصيراً لم يعتمد عليه في يوم الغيم، لأنه يؤذن عن اجتهاد، ويعتمد عليه في يوم الصحو، إذا كان المؤذن عدلاً عالماً بالمواقيت، لأنه يؤذن عن مشاهدة، وإن كان أعمى فهل يعتمد عليه؟ فيه الوجهان المذكوران في جواز التقليد له وحكى في "التهذيب" وجهين في تقليد المؤذن من غير فرق بين الأعمى والبصير. وقال: الأصح الجواز، واحتج عليه بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤَذِّنُونَ أمَنَاءُ النَّاسِ عَلَى
صَلَوَاتِهِمْ" (¬1). ويحكى: أن ابن سريج ذهب إليه والتفصيل أقرب، وهو اختيار القاضي الروياني وغيره (¬2). وإذا لزم الاجتهاد فصلى -من غير اجتهاد- لزمه الإعادة وإن وقعت صلاته في الوقت، وإن لم يكن دلالة أو كانت ولم يغلب على ظنه شيء أخَّرَ إلى أن يغلب على ظنه دخول الوقت. والاحتياط أن يؤخر إن لم يغلب على ظنه أنه لو أخر عنه خرج الوقت. وعند أبي حنيفة -رحمه الله- في يوم الغيم يؤخر الظهر، ويعجل العصر، ويؤخر المغرب، ويعجل العشاء وحكم الفجر - كما ذكر في يوم غير يوم الغيم، وهل يجتهد إذا قدر على الصبر إلى استيقان دخول الوقت؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني أنه لا يجتهد؛ للقدرة على الإيقاع في الوقت يقيناً. وأظهرهما: أنه يجتهد؛ إذ لا قدرة على اليقين في حالة الاشتباه، وهذا كالخلاف فيما إذا اشتبه عليه إناءان ومعه ماء طاهر بيقين. فإن قلت: وما من حالة إلا ويمكن الصبر فيها إلى درك اليقين، فإن الأوقات في المضي والاشتباه إنما يقع في أوائلها، فإذا صبر زال الاشتباه. قلنا: يجوز أن يكون محبوساً في مطمورة (¬3)، لا يعرف شيئاً من الأوقات أصلاً، ولا يدري أن الساعة التي هو فيها ليل أو نهار ويجوز في حق غيره أيضاً ألا يحصل له يقين أصلاً، بأن لا يعرف في يوم إطباق الغيم هل دخل وقت الظهر أم لا؟ ولا يعرف أنه إن دخل هل بقي أم لا؟. ثم إذا اجتهد وصلى، فإن لم يتبين الحال فذاك، وإن تبين نظر: إن وقعت صلاته في الوقت أو بعده فلا قضاء عليه، وما فعله بعد الوقت قضاء، أو أداء فيه جهان: أصحهما: أنه قضاء، حتى لو كان مسافر يجب عليه إعادة الصلاة تامة إذا قلنا لا ¬
الفصل الثاني في وقت المعذورين
يجوز قصر القضاء، فإن وقعت صلاته قبل الوقت نظر: إن أدرك الوقت، أعاد، وإلا فقولان، وكل ذلك خلافاً ووفاقاً يجري فيما إذا اشتبه شهر رمضان على الأسير فاجتهد وأخطأ، وأصح القولين وجوب الإعادة، وهما مبنيان على أن المفعول بعد الوقت قضاء كما في غير حالة الاشتباه، أو أداء قائم مقام الواقع في الوقت؛ لمكان العذر، فإن قلنا بالأول لم يعتد بما تقدم على الوقت، وإن قلنا: بالثاني اعتد به. الفَصْلُ الثَّانِي فِي وَقْتِ المَعْذُورِينَ قال الغزالي: وَنَعْنِي بِالعُذْرِ مَا يُسْقِطُ القَضَاءَ كَالْجُنُونِ وَالصِّبَا وَالحَيْضِ وَالكُفْرِ، وَلَهَا ثَلاَثةُ أَحْوَال: الأُولَى أَنْ يَخْلُو عَنْهَا آخِرَ الوَقْتِ بِقَدْرِ رَكْعَةٍ كَمَا لَوْ طَهُرَتِ الحَائِضُ قَبْلَ الغُرُوبِ بِرَكْعَةٍ يَلْزَمهَا العَصْرُ (ز) وَكَذَا بِقَدْرِ تكْبِيرَةٍ (م ز) عَلَى أَقْيَسِ القَوْلَيْنِ. القول في وقت أصحاب الأسباب المانعة من وجوب الصلاة: قال الرافعي: ذكرنا في أول الباب أن الغرض من هذا الفصل هو الكلام في الوقت الذي سماه الشافعي -رضي الله عنه- وقت الضرورة، سواء قلنا إنه ووقت العذر شيء واحد أم لا، والمراد من وقت الضرورة الوقت الذي يصير فيه الشخص من أهل لزوم الصلاة عليه بزوال الأسباب المانعة من اللزوم، وهي الصِّبا، والجنون، والكفر، والحيض، وفي معنى الجنونِ الإغماءُ، وفي معنى الحيضِ النفاسُ. ثم لهذه الأسباب أحوال ثلاثة، لأنها إما ألاَّ تستغرق وقت الصلاة، أو تستغرقه، وإن لم تستغرقه، فإما أن يوجد في أول الوقت ويخلو عنها في آخره، أو يكون بالعكس من ذلك: الحالة الأولى: أن يوجد في أول الوقت، ويخلو عنها آخره، كما لو طهرت عن الحيض أو النفاس في آخر الوقت، فننظر إن بقي من الوقت قدر ركعة فصاعداً لزمها فرض الوقت. واحتجوا عليه بقوله -صلى الله عليه وسلم- "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ". والمعتبر في الركعة أخف ما يقدر عليه أحد، وإنما يلزم فرض الوقت بإدراك قدر ركعة بشرطٍ وهو أن تمتد السلامة عن الموانع، قدر إمكان فعل الطهارة وتلك الصلاة، أما لو عاد مانع قبل ذلك فلا. مثاله: إذا بلغ الصبي في آخر وقت العصر، ثم جن، أو فاق المجنون ثم عاد
جنونه، أو طهرت حائض ثم جنت، أو أفاقت مجنونة ثم حاضت، فإن مضى في حال السلامة، قدر ما يسع أربع ركعات بعد الطهارة لزم العصر، وإلا فلا، هذا إذا كان الباقي من الوقت مقدار ركعة، أما إذا كان الباقي مقدار تكبيرة، أو فوقها ودون ركعة، ففي لزوم فرض الوقت به قولان في الجديد: أصحهما: وبه قال أبو حنيفة، نعم؛ لأنه أدرك جزءاً من الوقت، فصار كما لو أدرك قدر ركعة؛ ولأن الإدراك الذي تعلق به الإيجاب - تستوي فيه الركعة وما دونها. ألا ترى أن المسافر إذا اقتدى بمقيم في جزء يسير من الصلاة لزمه الإتمام كما لو اقتدى به في ركعة ثم اللزوم على هذا القول، إنما يكون بالشرط الذي ذكرناه فيما إذا بقي قدر ركعة. والقول الثاني: وبه قال المزني أنه لا يلزم به فرض الوقت، لأن الإدراك في الخبر منوط بمقدار ركعة، وصار كما إذا أدرك من الجمعة ما دون ركعة، لا يكون مدركًا لها، هذا مذهبه في القديم. ويحكي عن مالك مثل ذلك، وقد نقل الناقلون عن الجديد اللزوم، والقديم منعه اقتصاراً من قولي الجديد، على ما يقابل القديم. وقوله في الكتاب: "ونعني بالعذر ما يسقط القضاء" أي: إذا استغرق الوَقْتَ، واستبشع بعضهم عد الكفر من الأعذار، وقال: الكافر غير معذور بكفره ولا معنى للاستبشاع بعد العناية، وتفسير العذر بما يسقط القضاء، ولا شك أن القضاء ساقط عن الكافر، ويجوز أن يعد عذراً بعد الإسلام؛ لأنه غير مؤاخذ بما تركه في حال الكفر. وقوله: (وكذا بقدر تكبيرة) معلم بالميم والزاي. قال الغزالي: وَهَل يَلْزَمُهَا (ح) الظُّهْرُ بِمَا يَلْزَمُ بِهِ العَصْرُ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ: فَعَلَى قَوْلٍ يَلْزَمُ (م ح)، وَعَلَى الثَّانِي لاَ بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُتَصَوَّرَ الفَرَاغُ مِنَ الطُّهْرِ فِعْلاً ثُمَّ يُفْرَضُ لُزُومُ العْصَرِ بَعْدَهُ، وَهَذِهِ الأرْبَعَةُ فِي مُقَابَلَةِ الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ فِيهِ قَوْلاَنِ، وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِي المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ. قال الرافعي: ما ذكرناه من لزوم فرض الوقت، بإدراك ركعة، أو بما دونها على أحد القولين -يشمل الصلوات كلها، ثم الصلوات التي يتفق في آخر وقتها زوال العذر إما أن تكون صلاة لا يجمع بينها وبين ما قبلها، أو صلاة يجمع بينها وبين ما قبلها- على ما سيأتي كيفية الجمع في بابه-. فالقسم الأول: هو الصبح والظهر والمغرب، فلا يلزم بزوال العذر في آخر وقت الواحدة من هذه الصلوات سوى تلك الصلاة.
والقسم الثاني: هو العصر والعشاء، فيجب على الجملة بإدراك وقت العصر الظهر، وبإدراك وقت العشاء المغرب، خلافاً لأبي حنيفة والمزني. قال صاحب "المعتمد" وقول مالك يشبه ذلك. لنا ما روي عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس -رضي الله عنهما- أنهما قالا: في الحائض تطهر قبل طلوع الفَجْر بِرَكْعَةٍ يَلْزُمُهَا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ (¬1). وأيضاً فإن وقت العصر وقت الظهر في حالة العذر، ففي حالة الضرورة -وهي فوق العذر- أولى. لماذا عرفت ذلك، فينبغي أن يعرف أن صاحب الكتاب إنما فرض الكلام في وقت العصر حيث قال في الفصل السابق: "كما لو طهرت الحائض قبل الغروب" لأن العصر من القسم الثاني، فأراد أن يرتب لزوم الظهر عليه بعد بيان حكم العصر، فقال: "وهل يلزمها الظهر بما يلزم به العصر .... " إلى آخره. وشرح ذلك أن الشافعي -رضي الله عنه- بعد الجزم بأن الظهر قد يلزم إدراك وقت العصر اختلف قوله: في أنه بماذا يلزم فأصح قوليه: أنه يلزم بما يلزم به العصر، وذلك ركعة على قول، وتكبيرة على قول: ووجهه: أنا جعلنا وقت العصر وقتاً للظهر، ومعلوم أنه لو أدرك من وقت الظهر ركعة أو تحريمة يلزمه الظهر، فكذلك إذا أدرك من وقت العصر، لأنا لا نعتبر إمكان فعل الصلاتين، فيكفي إدراك وقت مشترك. والقول الثاني: أنه لا يلزم بل لا بد من زيادة أربع ركعات بعد ذلك القدر؛ لأنَّا إنما نجعلها مدركة للصلاتين حملاً على الجمع، وإنما يتحقق سورة الجمع، إذا تمت إحدى الصلاتين وبعض الأخرى في الوقت. ثم الأربع الزائدة تقع في مقابلة الظهر أو العصر؟ فيه قولان: وليسا بمنصوصين لكنهما مخرجان، ولذلك عبر الصيدلاني وغيره عنهما بوجهين: أصحهما: أن الأربع في مقابلة الظهر؛ لأنها السابقة، وعند الجمع لا بد من تقديمها وجوباً أو استحباباً على ما سيأتي في موضعه؛ ولأنه لو لم يدرك إلا قدر ركعة أو تحريمة -لما لزمه الظهر- على هذا القول الذي عليه تفرع وإذا زال قدر الأربع لزم الظهر، فدل على أن هذه الزيادة في مقابلة الظهر. والثاني: أنها في مقابلة العصر لأن الظهر هاهنا تابعة للعصر في الوقت واللزوم، ¬
فإذا اقتضى الحال الحكم بإدراك الصلاتين وجب أن يكون الأكثر في مقابلة المتبوع، والأقل في مقابلة التابع. وفائدة هذا الخلاف الأخير لا يظهر في هذه الصورة، وإنما يظهر في المغرب والعشاء، وذلك أن في لزوم المغرب بما يلزم به العشاء قولين، كما في لزوم الظهر بما يلزم به العصر، أصح القولين: أنه يلزم به. والثاني: لا بد من زيادة على ذلك. فإن قلنا في الصورة الأولى: الأربع في مقابلة الظهر كفى هاهنا قدر ثلاث ركعات للمغرب، زيادة على ما يلزم به العشاء، وإن قلنا إنها في مقابلة العصر وجب أن يزيد قدر أربع ركعات. وقوله في الكتاب: "حتى يتصور الفراغ من الظهر فعلاً، ثم يفرض لزوم العصر بعده". المراد منه ما قدمناه أن سورة الجمع، إنما يتحقق إذا تمت إحدى الصلاتين، وبعض الأخرى (في الوقت) وتعيين الظهر ولزوم العصر بعده (¬1)، كأنه مبني على أن الظهر لا بد من تقديمه عند الجمع. قال الغزالي: وَهَل تُعْتَبَرُ مُدَّةُ الوُضُوءِ مَعَ الوَقْتِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ. قال الرافعي: وهل يعتبر مع القدر المذكور للزوم الصلاة الواحدة أو صلاتي الجمع إدراك زمان الطهارة؟ فيه قولان: أحدهما: نعم؛ لأن الصلاة إنما تمكن بعد تقديم الطهارة. وأصحهما: لا، لأن الطهارة لا تختص بالوقت، ولا تشترط في الإلزام، وإنما تشرط في الصحة ألا ترى أن الصلاة تلزم على المحدث ويعاقب على تركها. وإذا جمعت بين الأقوال التي حكيناها حصل عندك في القدر الذي تلزم به كل صلاة من إدراك آخر وقتها أربعة أقوال: أصحها: قدر تكبيرة. وثانيها: هذا مع زمان طهارة. وثالثها: قدر ركعة. ورابعها: هذا مع زمان طهارة، وفيما يلزم به الظهر مع العصر؟ ثمانية أقوال، هذه الأربعة. وخامسها: قدر أربع ركعات مع تكبيرة. وسادسها: هذا مع زمان طهارة. وسابعها: قدر خمس ركعات. وثامنها: هذا مع زمان طهارة. وفيما يلزم به العشاء مع المغرب -مع هذه الثمانية- أربعة أخرى. أحدها: ثلاث ركعات وتكبيرة. والثاني: هذا مع زمان طهارة. والثالث: أربع ركعات. والرابع: هذا مع زمان طهارة -والله أعلم-. ¬
قال الغزالي: وَإِنْ زَالَ الصِّبَا بَعْدَ أَدَاءِ وَظِيفَةِ الوَقْتِ فَلاَ يَجِبُ (ح وز) إِعَادَتُهَا، وَكَذَا يَوْمُ الجُمُعَةِ وَإِنْ أَدْرَكَ الجُمُعَةَ بَعْدَ الفَرَاغِ مِنَ الظُّهرِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَكَذَا لَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ بالسِّنِّ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهَا وَقَعَ عَنِ الفَرْضِ. قال الرافعي: جميع ما ذكرنا فيما إذا كان زوال العذر قبل أداء وظيفة الوقت؟ وهكذا يكون حال ما سوى الصِّبا من الأعذار، فإنها كما تمنع الوجوب تمنع الصحة. فأما الصِّبا فيجوز أن يزول بعد أداء وظيفة الوقت، أو في أثنائها، لأنها لا تمنع الصحة وإن منع الوجوب، فإذا صلى الصبي وظيفة الوقت ثم بلغ وقد بقي شيء من الوقت إما بالسن أو بالاحتلام، فيستحب له أن يعيد وهل يجب عليه الإعادة؟ ظاهر المذهب -وهو المذكور في الكتاب- أنه لا يجب، لأنه أدى وظيفة الوقت وَصَحَّت منه فلا تلزمه الإعادة، كالأمة إذا صلت مكشوفة الرأس ثم عتقت والوقت باق -لا تعيد، وخرج ابن سريج أنه يجب الإعادة لأن ما أداه في حال الصغر واقع في حال النقصان، فلا يجزئ عن الفرض بعد حصول الكمال في الوقت، والمفعول مع النقصان كغير المفعول، وهذا مذهب أبي حنيفة والمزني، ورواه القاضي الروياني- عن مالك. قال: وعن أحمد روايتان، ولا فرق عند ابن سريج، بين أن يكون الباقي من الوقت حين بلغ قليلاً أو كثيراً. وعن الإصطخري أنه إن بلغ، والباقي من الوقت ما يسع لتلك الصلاة لزمت الإعادة، وإلا فلا. ولو بلغ في أثناء الصلاة -وإنما يكون ذلك بالسن- فقد قال الشافعي -رضي الله عنه- "أحببت أن يتم ويعيد، ولا يتبين لي أن عليه الإعادة". واختلفوا في معناه بحسب الاختلاف فيما إذا بلغ بعض الصلاة. فقال جمهور الأصحاب: يجب الإتمام وتستحب الإعادة، أما وجوب الإتمام فلأن صلاته صحيحة وقد أدركه الوجوب فيها فيلزمه إتمامها، وقد تكون العبادة تطوعاً في الابتداء ثم يجب إتمامها كحج التطوع، وكما إذا ابتدأ الصوم وهو مريض، ثم شفي، وكما لو شرع في صوم التطوع ثم نذر إتمامه يجب عليه الإتمام. وأما استحباب الإعادة فليؤدي الصلاة في حال الكمال، ومعنى قوله: "أحببت أن يتم ويعيد" عند هؤلاء، هو استحباب الجمع بينهما، وهذا الوجه هو الذي ذكره في الكتاب، حيث قال: "وقع عن الفرض". وقال ابْنُ سُرَيجٍ: الإتمام يستحب والإعادة واجبة وهذا خلاف قوله، ولا يبين لي أن عليه الإعادة، والإصطخري جرى على التفصيل الذي سبق. وقال: إذا كان الباقي قدراً لا يسع للصلاة أشبه ما إذا بلغ في أثناء صوم يوم من رمضان لا يجب عليه القضاء؛ لأن الباقي لا يسع صوم يوم.
واعلم أن مسألة الصوم قد سلم فيها أبو حنيفة. والمزني نفى القضاء، تعليلاً بما ذكره الإصطخري، واختلف سائر أصحابنا في تعليله، منهم من ساعدهم على هذا التعليل، وقال: بقية اليوم لا يسع الصوم ولا يمكن إيقاع بعضه في الليل بخلاف الصلاة يمكن إيقاع بعضها بعد خروج الوقت، ومنهم من علل بأن الصوم المأتي به صحيح واقع عن الفرض، وينبني على هاتين العلتين ما إذا بلغ وهو مفطر، فعلى التعليل الأول: لا قضاء عليه، وعلى الثاني: يجب. وعن ابْن سريج: أنه يجب القضاء في الصوم كما في الصلاة بلغ مفطراً أو صائماً، هذا في غير الجمعة من الصلوات، أما إذا صلى الظهر يوم الجمعة، ثم بلغ -والجمعة غير فائتة بعد- هل يلزمه حضورها؟ من قال في سائر الصلوات تلزم الإعادة أولى أن يقول باللزوم هاهنا، ومن نفى الإعادة في سائر الصلوات، اختلفوا هاهنا على وجهين: أحدهما: -وبه قال ابْن الحداد-: أنه يجب عليه الجمعة لأنه لم يكن من أهل الفرض حين صلى الظهر، وقد كمل حاله بالبلوغ بخلاف سائر الصلوات؛ لأنه بالبلوغ لا ينتقل إلى فرض أكمل مما فعل هاهنا ينتقل إلى الجمعة وهو أكمل من الظهر، ألا ترى أنها تتعلق بأهل الكمال، وبخلاف المسافر والعبد إذا صليا الظهر ثم أقام المسافر، وعتق العبد، وأدركا الجمعة لا تلزمهما جمعة، لأنهما حين صليا الظهر، كانا من أهل الفرض. والوجه الثاني: وهو الأصح أنها لا تلزم كسائر الصلوات، ومنعوا قوله: "إنه ليس من أهل الفرض"؛ لأنه مأمور بالصلاة مضروب على تركها، ولا يعاقب أحد على ترك التطوع. وعن الشيخ أبي زيد يُخَرَّج هذا الخلاف على الخلاف في أن المتعدي بترك الجمعة، هل يعتد بظهره قبل فوات الجمعة (لأن الصبي مأمور بحضور الجمعة، فإذا بلغ، ولم يصل الجمعة كان مؤدياً للظهر قبل فوات الجمعة) (¬1). ولا يخفى بعد حكاية هذه المذاهب، الحاجة إلى إعلام قوله: (فلا يجب إعادتها) بالحاء والميم والألف والزاي وبالواو أيضاً لما ذكره ابن سريج، والإصطخري، وكذا إعلام قوله: "وقع عن الفرض" بهذه العلامات، وكذا إعلام قوله: "وكذا يوم الجمعة" ما سوى الواو من العلامات. قال الغزالي: الحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَخْلُوَ أَوَّلُ الوَقْتِ، فَإذَا طَرَأَ الحَيْضُ وَقَدْ مَضَى مِنَ الوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ الصَّلاةَ لَزِمَتْهَا وَلاَ يَلْزَمُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: لاَ يَلْزَم مَا لَمْ تُدْرِكْ جَمِيعَ الوَقْتِ فِي صُورَة الطَّرَيَانِ، وَأَمَّا العَصْرُ فَلاَ يَلْزَمُ بِإدْرَاكِ أَوَّلِ الظُّهْرِ، لِأَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ لاَ يَصْلُحُ لِلْعَصْرِ فِي حَقِّ المَعْذُورِ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ فِعْلِ الظُّهْرِ. ¬
قال الرافعي: هذه الحالة الثانية عكس الأولى، وهي: أن يخلو أول الوقت عن الأعذار المذكورة، ثم يطرأ منها في آخر الوقت ما يمكن أن يطرأ منها -وهو الحيض، والنفاس، والجنون والإغماء، فأما الصِّبا فلا يتصور عروضه (والكفر) (¬1) وإن تصور عروضه، لكنه ردة (¬2) لا تسقط القضاء- كما سيأتي، فإذا حاضت في أثناء الوقت، نظر في القدر الماضي من الوقت إن كان قدر ما يسع لتلك الصلاة استقرت في ذمتها وعليها القضاء إذا طهرت، لأنها أدركت من الوقت ما يمكن فيه فعل الفرض، فلا يسقط بما يطرأ بعده، كما لو هلك النصاب بعد الحول وأمكن الأداء فلا تسقط الزكاة. وعن مالك أنه لا تلزمها تلك الصلاة ما لم تدرك آخر الوقت، وبه قال أبو حنيفة. قال الكرخي في "مختصره": وإن كانت طاهرة فحاضت في آخر الوقت، فلا قضاء عليها. وخرج ابن سريج مثل ذلك على أصل الشافعي -رضي الله عنه- وقال: لا يلزم القضاء ما لم تدرك جميع الوقت، أخذاً مما لو سافر الرجل في أثناء الوقت، يجوز له القصر، وإن مضى من الوقت ما يسع الصلاة الثانية. واعلم أن في تلك المسألة أيضاً تخريجاً مما نحن فيه، لأنه لا يقصر، وقد ذكر الاختلاف في المسألتين جميعاً في الكتاب في "باب صلاة المسافرين" نشرحه في موضعه -إن شاء الله تعالى- ثم على ظاهر المذهب المعتبر أخف ما يمكن من الصلاة، حتى لو طولت في صلاتها، فحاضت في أثنائها والماضي من الوقت يسمع تلك الصلاة لو خففت لزمها القضاء، ولو كان الرجل مسافراً فطرأ عليه جنون أو إغماء بعد ما مضى من وقت الصلاة المقصورة ما يسع ركعتين -لزمه قضاؤها، لأنه لو قصر لأمكنه أداؤها، ولا يعتبر مع إمكان فعل الصلاة زمان إمكان الطهارة من الوقت؛ لأن الطهارة يمكن تقديمها على الوقت إلا إذا لم يجز تقديم طهارة صاحب الواقعة على الوقت كالتيمم، وطهارة المستحاضة وإن كان الماضي من الوقت دون ما يسع لتلك الصلاة- لم تلزم تلك الصلاة. وقال أبو يحيى البلخي (¬3) من أصحابنا: إذا أدرك من أول الوقت قدر ركعة أو تكبيرة على اختلاف القولين المذكورين في آخر الوقت لزمه القضاء، اعتباراً لأول ¬
الوقت بآخره، حكاه أبو علي صاحب "الإفصاح" فمن بعده عنه، وخطأه فيما قال؛ لأنه لم يدرك من الوقت ما يتمكن فيه من فعل الفرض، فأشبه ما لو هلك النصاب بعد الحول، وقبل إمكان الأداء، ويخالف آخر الوقت؛ لأنه إذا أدرك جزءاً من الوقت أمكن البناء على ما أوقعه فيه بعد خروج الوقت، ثم ذكرنا في الحالة الأولى أن من الصلوات ما إذا أدرك صاحب العذر آخر وقتها لزمه التي قبلها معها، كالظهر يلزم بإدراك آخر وقت العصر، والمغرب يلزم بإدراك آخر وقت العشاء، وأما هاهنا فالعصر لا يلزم بإدراك وقت الظهر، ولا العشاء بإدراك وقت المغرب خلافاً لأبي يحيى البلخي، حيث قال: "إذا أدرك من وقت الظهر ثماني ركعات، ثم طرأ العذر لزمه الظهر والعصر، كما لو أدرك ذلك من وقت العصر، لزمه الصلاتان معا". والفرق على ظاهر المذهب أن الحكم بلزوم الصلاتين إذا أدرك وقت العصر مأخوذ من الجمع بينهما عند قيام سببه، ولأن كل واحدة منهما مؤداه في وقت الأخرى، ومعلوم أن وقت الظهر إنما يكون وقتاً للعصر على سبيل تبعية العصر للظهر، ألا ترى أنه إذا جمع بالتقديم لم يجز له تقديم العصر على الظهر، فإذا لم يفعل الظهر فليس وقتها بوقت العصر، وأما وقت العصر فليس وقتاً للظهر على سبيل تبعية الظهر للعصر. ألا ترى أنه إذا جمع بالتأخير جاز له تقديم الظهر على العصر، بل هو أولى على وجه، ومتعين على وجه كما سيأتي في "باب الجمع" وكان وقت العصر وقتاً للظهر من غير التوقف على فعل العصر، فلهذا المعنى افترق الطرفان. جئنا إلى ما يتعلق بلفظ الكتاب. أما قوله: "فإذا طرأ الحيض، وقد مضى من الوقت مقدار ما يسع للصلاة" وليس المراد منه مطلق الصلاة، بل المراد أخف ما يمكن من الصلاة بصفة العصر، إن وجد المعنى المجوز للقصر على ما بيناه. قوله: (لزمتها) معلم بالحاء والميم، لما قدمناه، ولا حاجَة إلى إعلامه بالواو إشارة إلى تخريج ابن سريج؛ لأن قوله بعد ذلك، وقيل: لا يلزم ما لم يدرك جميع الوقت في صورة الطريان، وهو ذلك التخريج. ثمن اعلم أن الحكم بلزوم الصلاة إذا أدرك من الوقت ما يسعها لا يختص بما إذا كان المدرك من أول الوقت، بل لو كان المدرك من وسطه لزمت الصلاة أيضاً. ونظيره ما إذا أفاق مجنون في أثناء الوقت، وعاد جنونه في الوقت، أو بلغ صبي ثم جن أو أفاقت مجنونة، ثم حاضت. وقوله: "لا يلزم بأقل من ذلك" معلم بالواو للوجه المشهور عن البلخي. وقد حكاه القاضي ابن كج عن غيره من الأصحاب أيضاً، وكذلك قوله: "فأما العصر فلا يلزم بإدراك أول الظهر" وليس لفظ الأول في قوله: "بإدراك أول الظهر" لتخصيص
الحكم به، فإن العصر لا يلزم بإدراك آخر وقت الظهر أيضاً؛ بل بإدراك جميعه، وإنما جرى لفظ الأول في مقابلة الآخر في الحالة الأولى. وقوله: "لأن وقت الظهر لا يصلح للعصر ... " إلى آخره المراد منه ما شرحناه في الفرق بين الأول والآخر، وأراد بالمعذور هاهنا الذي يجمع لسفر أو مطر، بخلاف ما في أول الفصل، فإنه أراد بالمعذور، ثم صاحب الضرورة على ما سبق إيضاحه. واعلم أن الأخيرة من صلاتي الجمع، وإن لم يلزم بإدراك وقت الأولى، لكن الأولى منهما قد يلزم بإدراك وقت الأخيرة، كما أنها تلزم بإدراك آخر وقتها. مثاله: إذا أفاق المغمى عليه في أول وقت العصر قدر ما يسع للعصر، والظهر جميعاً لزمتاه، فإن كان مقيماً، فالمعتبر قدر ثماني ركعات، وإن كان مسافراً يقصر كفى قدر أربع ركعات، ويقاس المغرب والعشاء في جميع ما ذكرناه بالظهر والعصر والله الموفق. قال الغزالي: الحَالَةُ الثَّالِثَةُ، أَنْ يَعُمَّ الْعُذْرُ جَمِيعَ الوَقْتِ فَيَسْقُطَ القَضَاءُ، وَلاَ تَلْتَحِقُ الرِّدَّةُ بِالكُفْرِ بَلْ يَجِبُ (م ح) القَضَاءُ عَلَى المُرْتَدِّ (م ح)، والصَّبِيُّ يُؤْمَرُ بِالصَّلاَةِ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينٍ، ويُضْرَبُ عَلَى تَرْكِهَا بَعْدَ الْعَشْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ علَيْهِ قَضَاءٌ، والإِغْمَاءُ فِي مَعْنَى الجُنُونِ (ح) قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَزَوَالُ الْعَقْلِ بِسُكْرِ أَوْ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ لاَ يُسْقِطُ القَضَاءَ، وَلَوْ سَكِرَ ثُمَّ جُنَّ فَلاَ يَقْضِي أَيَّامَ الجُنُونِ، وَلَوِ ارْتَدَّ ثُمَّ جُنَّ قَضَى أَيَّامَ الجُنُونِ، وَلَوِ ارْتَدَّتْ أَوْ سَكِرَتْ ثُمَّ حَاضَتْ لاَ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ أَيَّامِ الحَيْضِ، لِأَنَّ سُقُوطَ القَضَاءِ عَنِ المَجْنُونِ رُخْصَةٌ وَعَنِ الحَائِضِ عَزِيمَةٌ. قال الرافعي: قوله: أن يعم العذر جميع الوقت فيه شيئان: أحدهما: أنه فسر العذر قبل بما يسقط القضاء، والمراد ما إذا استغرق جميع الوقت كما تقدم فكأنه قال: إن يعم ما يسقط القضاء فيسقط، وغير هذا أجود منه، وليس في قولنا إذا وجد ما يسقط القضاء يسقط القضاء [وليس] في مثل هذا المقام كثير فائدة. والثاني: أن قوله: "جميع الوقت" ليس المراد منه الأوقات المخصوصة بالصلوات وكيف وقد ذكرنا أنه إذا زالت الضرورة في آخر وقت العصر لزم الظهر أيضاً مع أنه عم العذر جميع وقت الظهر، فإذاً المراد منه وقت الرفاهية والضرورة جميعاً. وغرض الفصل أن الأسباب المانعة من لزوم الصلاة -وقد عددناها من قبل- مسقطة للقضاء. أما الحيض فإنه يمنع وجوب الصلاة وجوازها، ويسقط القضاء على ما سبق في "كتاب الحيض".
وأما الكافر الأصلي مخاطب بالشرائع على أشهر وجهي أصحابنا في الأصول، لكن إذا أسلم لا يجب عليه قضاء صلوات أيام الكفر لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (¬1) المعنى فيه أن إيجاب القضاء ينفره عن الإسلام، والردة لا تلحق بالكفر بل يجب على المرتد قضاء صلوات أيام الردّة خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: الردة تسقط قضاء الصلوات أيام الردة والصلوات المتروكة قبلها أيضاً. لنا أنه التزم الفرائض بالإسلام فلا يسقط عنه بالردة كحقوق الأدميين. فأما الصبي فلا تجب عليه الصلوات قال -صلى الله عليه وسلم-: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ" (¬2) فلا يؤمر أحد ممن لا تجب عليه الصلاة بفعلها سوى الصبي فإنه يؤمر بها إذا بلغ سبع سنين، ويضرب على تركها إذا بلغ عشراً لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعٍ واضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ" (¬3). قال الأئمة: فيجب على الآباء والأمهات تعليم الأولاد الطهارة والصلاة والشرائع بعد السَّبْعِ، والضرب على تركها بعد العشر، وذكروا في اختصاص الضرب بالعشر معنيين: أحدهما: أنه زمان احتمال البلوغ بالاحتلام فرُبَّمَا بلغ ولا يصدق. والثاني: أنه حينئذ يقوى ويحتمل الضرب. واحتج بعض أصحابنا بهذا على أنه لا يجوز أن يختن الصبي قبل العشر؛ لأن ألم الختان فوق ألم الضرب، ويؤمر بالصَّوْمِ أيضاً إن أطاقه كما يُؤمر بالصَّلاَةِ، وأجرة تعليم الفرائض من مال الطفل، فإن لم يكن له مال فعلى الأب، وإن لم يكن فعلى الأم. ¬
وهل يجوز أن تعطى الأجرة من مال الطفل على تعليم ما سوى الفاتحة والفرائض من القرآن والأدب؟ فيه وجهان (¬1). وأما المجنون فلا صلاة عليه أيضاً؛ للخبر، والأصل أن من لا تجب عليه العبادة لا يجب قضاؤها، وإنما خالفنا ذلك في حق النائم والناسي؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذَا نَسِيَ أحَدُكُمْ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَليُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا" (¬2)، والإغماء في معنى المجنون يستوي قليله وكثيره في إسقاط القضاء إذا استغرق وقت العذر والضرورة، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: لا تسقط الصلاة بالإغماء ما لم يزد على يوم وليلة، ولأحد حيث قال: إنه لا يسقط القضاء قَلَّ أو كثرَ. لنا القياس على المجنون، ولا يلحق بالجنون زوال العقل بسبب محرم كشرب مسكر، أو دواء مزيل للعقل، بل يجب عليه القضاء؛ لأنه غير معذور وهذا إذا تناول الدواء وهو عالم بأنه مزيل للعقل من غير حاجة كما إذا شرب المسكر وهو عالم (¬3) أنه مسكر، أما إذا لم يعلم أن الدواء مزيل للعقل، وأن الشراب مسكر فلا قضاء عليه كما في الإغماء، ولو عرف أن جنسه مسكر لكن ظن أن ذلك القدر لا يسكر لقلته فليس ذلك بعذر. ولو وثب من موضع لحاجة فزال عقله فلا قضاء عليه، وإن فعله عبثًا قضى، ثم في الفصل فرعان: أحدهما: لو ارتد ثم جن قضى أيام المجنون وما قبلها إذا أفاق وأسلم تغليظاً على المرتد. ولو سكر ثم جن قضى بعد الإفاقة صلوات المدة التي ينتهي إليها السكر لا محالة. وهل يقضي صلوات أيام المجنون؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، لأن السكران يغلظ عليه أمر الصلاة كما يغلظ على المرتد، وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب: أنه لا يقضي أيام المجنون. والفرق أن من جن في ردته مرتد في جنونه حكماً، ومن جن في سكره ليس بسكران في دوام جنونه قطعاً. الثاني: لو ارتدت المرأة ثم حاضت أو سكرت فلا تقضي أيام الحيض، ولا فرق بين اتصالها بالرّدة واتصالها بالسكر، بخلاف المجنون، حيث افترق الحال بين اتصاله بالردة وبين اتصاله بالسكر. ¬
الفصل الثالث في الأوقات المكروهة
والفرق أن سقوط القضاء عن الحائض ليس من باب الرخص والتخفيفات بل هو عزيمة، فإنها مكلفة بترك الصلاة، والمجنون ليس مخاطباً بترك الصلاة، كما ليس مخاطباً بفعلها، وإنما أسقط القضاء عنه تخفيفاً، فإذا كان مرتدًّا لم يستحق التخفيف، ومما يوضح الفرق أنها لو شربت دواء حتى حاضت لا يلزمها القضاء، بخلاف ما لو شربت دواء يزيل العقل، وكذلك لو شربت دواء حتى ألقت الجنين ونفست، لا يجب عليها قضاء الصلوات على المذهب الصحيح؛ لأن سقوط الصلاة عن الحائض والنفساء عزيمة. فالحاصل أن من لم يؤمر بالترك لا يستحيل أن يؤمر بالقضاء، فإذا لم يؤمر كان تخفيفاً. ومن أمر بالترك فامتثل الأمر، لا يتوجه أن يؤمر بالقضاء (¬1)، وهذا يشكل لفصل الصوم، فإن الحائض مأمورة بترك الصوم ثم تؤمر بالقضاء؛ إلا أن ذلك معدول به عن القياس اتباعاً للنص. والمواضع المستحقة للعلامات من الفصل بينة، والذي لا بأس بذكره قوله: "ولو ارتد ثم جن قضى أيام المجنون" ينبغي أن يعلم: قوله: "قضى" بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة لا قضاء في الرّدة فكيف يؤثر في إيجاب قضاء أيام المجنون؟ الفَصْلُ الثَّالِثُ في الأَوْقَاتِ المَكْرُوهَةِ قال الغزالي: وَهِيَ خَمْسَةٌ، بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ صَلاَةِ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَوَقْتُ الطُّلُوعِ إِلَى أَنْ يَرْتَفِعَ قُرْصُ الشَّمْسِ، وَوَقْتُ الاسْتِوَاءِ إِلَى أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ، وَوَقْتُ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ تَمَامِ الغُرُوبِ. قال الرافعي: الأوقات المكروهة خمسة: وقتان: تعلق النهي فيهما بالفعل، وهي بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشَّمْسُ. روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ صَلاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلاَ صَلاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ" (¬2) ووجه تعلق النهي فيهما بالفعل أن صلاة التطوع فيهما مكروهة لمن صلى الصبح (¬3) والعصر دون من لم يصلهما، ومن صلاهما، فإن عجلهما في أول الوقت طال في حقه وقت الكراهية، وإن أخرهما قصر. وثلاثة أوقات: يتعلق النهي فيهما بالزمان: ¬
[الأول]: وهي عند طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رمح ويستولي سلطانها بظهور شعاعها، فإن الشعاع يكون ضعيفاً في الإبتداء. [الثاني]: وعند استواء الشمس حتى تزول. [الثالث]: عند اصفرار الشمس حتى يتم غروبها؛ لما روي: "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ، فَإذَا ارْتَفَعَت فَارَقَهَا، ثُمَّ اسْتَوَتْ قَارَنَهَا، فَإِذَا زَالَتْ فَارَقَهَا، فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوب قَارَنَهَا، فَإِذَا غَرُبَتْ فَارَقَهَا وَنَهَى عَنِ الصَّلاَةِ فِي هذِهِ الأَوْقَاتِ". وقوله: "ومعها قَرن الشيطان"، قيل: معناه قوم الشيطان وهم عبدة الشمس يسجدون لها في هذه الأوقات، نهى عن الصلاة فيها لذلك. وقيل: معناه أن الشيطان يقرب رأسه من الشمس في هذه الأوقات؛ ليكون الساجد للشمس ساجدًا له، ولك أن تُعَلِّم قول المصنف "إلى أن يرتفع قرص الشمس" بالواو؛ لأن من الأصحاب من قال: يخرج وقت الكراهية بطلوع القرصة بتمامها، ولم يعتبر الارتفاع. وإيراده في "الوسيط" يشعر بترجيح هذا الوجه، وظاهر المذهب الوجه الأول، ويدل عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فَإذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا" (¬1). واعلم أن حالة الاصفرار داخلة في الوقت الثاني، وهو ما بعد العصر حتى تغرب الشمس، لكن في حق من صَلَّى العصر -وحالة الطلوع إلى الارتفاع- متصلة بما بعد الصبح في حق من صلى الصبح، وذكر بعضهم في العبارة عن الوقت الأول من أوقات الكراهية أنه ما بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس قيد رمح، وعلى هذا فتنقص أوقات الكراهية عن الخمسة، وربما انقسم الواحد منها إلى متعلق بالفعل، وإلى متعلق بالزمان. قال الغزالي: وَذَلِكَ في كُلِّ صَلاَةٍ لاَ سَبَبَ لَهَا بِخِلاَفِ الفَائِتَةِ وَصَلاة الجَنَازَةِ وَسُجُودِ التِّلاَوَةِ وَتَحِيَّةِ المَسْجِدِ وَرَكْعَتَي الطَّوَافِ، وَفِي الاسْتِسْقَاءِ تَرَدُّدٌ، وَرَكْعَتَا الإحْرَامِ مَكْرُوهَةٌ لِأَنَّ سَبَبَهَا مُتَأخِّرٌ. قال الرافعي: الأوقات المكروهة لا ينهى فيها عن الصلاة على الإطلاق، بل عن بعض أنواعها، وما ورد فيها من النهي المطلق محمول على ذلك البعض، فالغرض من هذا الفصل بيان ما ينهى عنه من الصلوات في هذه الأوقات وما لا ينهى عنه. وقوله: "وذلك في كل صلاة لا سبب لها" أي النهي والكراهة. وقول الأصحاب في هذا المقام: صلاة لا سبب لها، وصلاة لها سبب، ما أرادوا ¬
به مطلق السبب. إذ ما من صلاة إلا ولها سبب، ولكن أرادوا بقولهم: "صلاة لها سبب" أن لها سبباً متقدماً على هذه الأوقات أو مقارناً لها، وبقولهم: صلاة لا سبب لها أي ليس لها سبب متقدم ولا مقارن، فعبروا بالمُطْلَقِ عن المُقَيَّدِ، وقد يفسر قولهم: "لا سبب لها" بأن الشارع لم يخصها بوضع وشرعية، بل هي التي يأتي بها الإنسان ابتداء وهي النوافل المطلقة، وعلى هذا التفسير فكل ما لا سبب له مكروه ولكن كل ما له سبب ليس بجائز. ألا ترى أن ركعتي الإحرام لهما سبب بهذا التفسير. وهما مكروهتان كما سنذكر إن شاء الله، ولفظ الكتاب يوافق التفسير الأول؛ لأنه خص النهي والكراهة بما لا سبب له من الصلوات، ثم إنه عد أنواعاً من الصلوات التي لها سبب، فمنها الفائتة فلا تكره في هذه الأوقات، لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ، أَوْ نَسِيَهَا، فَليُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ ذلِكَ وَقْتُهَا لاَ وَقْتَ لَهَا غَيْرُهُ" (¬1). ويستوي في الجواز قضاء الفرائض والسُّنَنِ والنوافل التي اتخذها وِرْداً له. ومنها صلاة الجنازة. روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَا عَلِيُّ لاَ تُؤَخِرْ أَرْبَعَاً" (¬2). وذكر منها: الجنازة إذا حضرت. ومنها: سجود التلاوة. فلا يكره في هذه الأوقات؛ لأن سبب سجدة التلاوة قراءة القرآن، وهي مقارنة لهذه الأوقات، فلا يؤخر عن وقتها، وفي معناه سجود الشكر، فإن سببه السرور الحادث فليس ذكرهما في هذا الموضع، لكونهما من أنواع الصلاة، لكن لأنهما كالصلاة في الشرائط والأحكام. ومنها تحية المسجد، فإن اتفق دخوله في هذه الأوقات -لغرض في الدخول- كاعتكاف، ودرس علم، وقراءة فيه لم تكره التحية بما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ" (¬3)، ولأن سبب التحية هو الدخول في المسجد، وقد اقترن بهذه الأوقات، ولو دخل في هذه الأوقات ليصلي التحية لا لحاجة في الدخول فهل يكره؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، لما سبق، وأقيسهما نعم، كما لو أخر الفائتة ليقضيها في هذه الأوقات، ويدل عليه ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَتَحَرَّى أَحَدُكُمْ الصَّلاةَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ¬
وَغُرُوبِهَا" (¬1)، ومنهم من لا يفصل ويجعل في التحية وجهين على الإطلاق، وينسب القول بالكراهية إلى عبد الله الزبيري -رضي الله عنه- وليكن قوله: وتحية المسجد" معلماً بالواو، لما حكيناه. ومنها: ركعتا الطواف فلا يكرهان في هذه الأوقات؛ لأنهما يؤديان بعد الطواف، فسببهما موجود في هذه الأوقات. ومنها صلاة الاستسقاء وفيها وجهان: عبر عنهما المصنف بالتردد. أحدهما: إنما يكره؛ لأن الغرض منها الدعاء والسؤال وهو لا يفوت بالتأخير، فأشبهت صلاة الاستخارة، وهذا هو الذي ذكره صاحب "التهذيب" وآخرون. وأظهرهما: لا تكره؛ لأن الحاجة الداعية إليها موجودة في الوقت، ومن قال بهذا قد يمنع الكراهة في صلاة الاستخارة أيضاً، ومن هذه الصلوات صلاة الخسوف فإنها لو أخرت عن هذه الأوقات فربما انجلت الشمس، وفاتت الصلاة. ومنها: إذا تطهر في هذه الأوقات جاز له أن يصلي ركعتين، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لبلال: "حَدَّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلاَمِ، فَإنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلاً أَرْجَى عِنْدِي إلا أَنِّي لَمْ أَتَطَّهَّرَ طُهُورًا فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إلاَّ صَلَّيْتُ بِذلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِيَ أَنْ أُصَلِّي" (¬2). وهل يلحق ركعتا الإحرام بهذه الصلوات؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، لحاجته إلى الإحرام في هذه الأوقات بالحج أو العمرة. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب: لا؛ لأن سببهما الإحرام وهو متأخر عنهما، وقد يتفق بعدهما، وقد يعوق دونه عائق؛ ولك أن تعلم قوله: "وذلك في كل صلاة لا سبب لها"، بالحاء؛ لأنه يقتضي حصر النهي في الصلاة التي لا سبب لها في الأوقات الخمسة جميعاً. وعند أبي حنيفة: الوقتان اللذان يتعلق النهي فيهما بالفعل يكره فيهما التطوع ولا يكره فيهما الفرض، ولا بأس بأن يصلي فيهما على الجنازة، ويقضي فوائت الفرائض، ويسجد للتلاوة والسهو، ولكن لا يصلي المنذورة ولا ركعتي الطواف والتطوعات. وأما في الأوقات الثلاثة فلا تجوز صلاة ما إلاَّ عصر اليوم عند غروب الشمس، فلو دخل في تطوع قال: يقطعه ويقضيه في الوقت المأمور به، فلو مضى فيه أساء وأجزأه، وإن صلى فيها فرضاً أو واجباً أعاد إلا عصر يومه، وصلاة الجنازة، وسجدة ¬
التلاوة، ولك أن تعلمه بالميم والألف أيضاً؛ لأنه روي عن مالك: أنه يقضي الفرائض في الأوقات الخمسة، ولا يصلي فيها النافلة، سواء كان لها سبب أو لم يكن، وبه قال أحمد، واستثنى على مذهبه ركعتا الطواف وصلاة الجماعة مع إمام الحي، وأبو حنيفة يكره إعادتها في الجماعة. لنا ما تقدم، وأيضاً ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "دَخَلَ بَيْتَ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَسَأَلَتْهُ عَنْهُمَا فَقَالَ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُمَا هَاتَانِ" (¬1). وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- "رَأَى قَيْسَ بنَ فَهْدٍ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الصُّبْحِ فَقَالَ: مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَكُنْ صَلَّيْتُ رَكْعَتَي الْفَجْرِ فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ" (¬2) ويتبين مما نقلناه أنه لو علم الفائتة وما بعدها بالحاء لجاز. قال الغزالي: وَقَدْ وَرَدَ الخَبَرُ بِاسْتِثْنَاءِ يَوْمِ الجُمُعَةِ عَن الكَرَاهِيَةِ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ ذلِكَ بِمَنْ يَغْشَاهُ النُّعَاسُ عِنْدَ حُضُورِ الجُمُعَةِ، وَوَرَدَ أَيْضًا بِاسْتِثْنَاءِ مَكَّةَ فَلاَ يُكْرَهُ فِيهَا صَلاَةٌ وَلاَ طَوَافٌ فِي وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ. فَرْعٌ: لَوْ تَحْرَّمَ بِالصَّلاَةِ فِي وَقْتِ الكَرَاهِيَةِ انْعَقَدَتْ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ كَالصَّلاَةِ فِي الحَمَّامِ. قال الرافعي: الصلاة المنهى عنها في الأوقات الخمسة على التفصيل الذي وضح، لا ينهى عنها على الإطلاق عندنا بل يستثنى عنها زمان ومكان. أما الزمان فهو يوم الجمعة، فيسثنى وقت الاستواء يوم الجمعة، ولا تكره فيها التطوعات خلافاً لأبي حنيفة ومالك وأحمد. لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "نَهَى عَنْ صَلاَةٍ نِصْفَ النَّهَارِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ إِلاَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ" وهل يستثنى باقي الأوقات الخمسة يوم الجمعة فيه وجهان: أحدهما: نعم كوقت الاستواء، تخصيصاً للجمعة وتفضيلاً وقد روي: "إِنَّ جَهَنَّمَ لاَ تُسَجَّرُ (¬3) يَوْمَ الْجُمُعَةِ". ¬
وأصحهما: لا؛ لأن الرخصة قد وردت في وقت الاستواء فيبقى الباقي على عموم النهي. فإن قلنا بالوجه الأول جاز التنقل في وقت الاستواء وغيره، وإن قلنا بالثاني فهل يجوز ذلك لكل واحد. فيه وجهان: أحدهما: نعم لمطلق قوله: "إِلاَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ" وإيراد المصنف يقتضي ترجيح هذا الوجه، لأنه حكم بالاستثناء. ثم رُوي عن بعضهم تخصيص الاستثناء بمن يغشاه النعاس، وبترجيحه قال صاحب "التهذيب" وغيره. واحتجوا عليه أيضاً بما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "كَرِهَ الصَّلاةَ نِصْفَ النَّهَارِ إِلاَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَالَ: "إنَّ جَهَنَّمَ تُسَجَّرُ إِلاَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ" (¬1). والوجه الثاني: أنه لا يجوز التنفل لكل أحد؛ لأن المعنى المرخص لا يشمل الكل، وذكروا في الترخيص معنيين. أحدهما: أن الناس عند الاجتماع يوم الجمعة يشق عليهم مراعاة الشَّمْسِ والتمييز بين حالة الاستواء وما قبلها وما بعدها، فخفف الأمر عليهم بتعميم الترخيص. والثاني: أن الناس يبتكرون إليها فيغلبهم النوم فيحتاجون إلى طرد النعاس بالتنفل كيلا يبطل وضوءهم فيفتقرون في إعادة الوضوء إلى تخطي رقاب الناس، فعلى هذين المعنيين جميعاً المتخلف القاعد في بيته وقت الاستواء لعذر أو غير عذر ليس له التنفل فيه، وأما الذي حضر الجمعة، فقضية المعنى الأول تجويز التنفل له مطلقاً، وقضية المعنى الثاني تخصيص الجواز بالذي يبتكر إليها ثم يغلبه النعاس، أما الذي لم يبتكر ولم يُؤْذِهِ النعاس فلا يجوز له ذلك، وقول صاحب الكتاب: "وقيل: يختص ذلك بمن يغشاه النعاس عند حضور الجمعة" يوافق المعنى الثاني من جهة اعتبار غشيان النعاس، ولكن قضية تجويز التنفل بمن يغشاه النعاس وإن لم يبتكر إليها، وفي كلام غيره ما يقتضي اعتبار التبكير وكون غلبة النعاس لطول الانتظار. واعلم أن قوله: "وقد ورد الخبر باستثناء يوم الجمعة عن الكراهية" ظاهره يقتضي استثناء جميع الأوقات الخمسة كما حكيناه وجهاً عن بعض الأصحاب، ولكن قوله: "وهل يختص ذلك بمن يغشاه النعاس؟ " يبين أنه أراد بالأول وقت الاستواء لا غير، وفيه اشتهر الخبر وهو الأصح في المذهب، وأما المكان فقد روي عن أبي ذر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ صَلاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَلاَ صَلاَةَ بَعْدَ صَلاةَ ¬
الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ إِلاَّ بِمَكَّةَ" (¬1). واختلف الأصحاب في هذا الاستثناء ومنهم من قال: مكة كسائر البلاد في أوقات الكراهة والاستثناء لركعتي الطواف، فإن له أن يطوف متى شاء وإذا طاف بالبيت يصلي ركعتي الطواف؛ لأنها صلاة لها سبب، والأصح وهو المذكور في الكتاب أن مكَّة، تخالف سائر البلاد لشرف البقعة وزيادة لفضيلة الصلاة فلا يحرم فيها عن استكثار الفضيلة بحال ويدل عليه ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ مَنْ وَليَ مِنْكُمْ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ شيَئاً فَلاَ يَمْنَعَنَّ أَحَداً طَافَ بِهذَا الْبَيْتِ أَوْ صَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ" (¬2). وليكن قوله: "فلا يكره فيها صلاة" معلماً بالواو للوجه الأول وبالحاء والميم، لأن عندهما لا فرق بين مكة وسائر البلاد، ثم ليس المراد من مكة نفس البلد بل جميع الحرم للإستواء في الفضيلة. وفي وجه: يختص بالاستثناء المسجد الحرام، وما عداه كسائر البلاد، والمشهور الصحيح الأول، ومتى ثبت النهي والكراهة فلو تحرم بالصلاة في الأوقات (¬3) المنهية هل ينعقد، أم لا؟ هذا هو الذي رسمه فرعاً في الكتاب، وفيه وجهان: أحدهما: نعم كالصلاة في الحمام، لا خلاف في انعقادها مع ورود النهي. وأظهرهما: لا كما لو صام يوم العيد لا يصح، وعلى هذين الوجهين يخرج ما لو نذر أن يصلي في الأوقات المنهية، إن قلنا: تصح الصلاة فيها، يصح النذر، وإن قلنا: لا تصح فلا يصح النذر كما لو نذر صوم يوم العيد: فإن صححنا النذر فالأولى أن يصلي في وقت آخر، كمن نذر أن يضحي شاة بسكين مغصوب يصح نذره ويذبحها بسكين غير مغصوب. وأما إذا نذر صلاة مطلقاً فله أن يفعلها في الأوقات المكروهة فإنها من الصلوات التي لها سبب كالفائتة، وتختم الفصل بشيئين: أحدهما: أن قوله في أول الفصل: "في الأوقات المكروهة وهي خمسة" يقتضي العصر في الخمسة المذكورة، وهو المشهور، والحصر في الخمسة حكم بإثبات الخمسة ونفي الزائد لكن في كلام الأصحاب حكاية وجهين في أن بعد طلوع الفجر هل يكره ما سوى ركعتي الفجر من النوافل أم لا؟ ¬
أحدهما: نعم، وبه قال أبو حنيفة، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ صَلاةَ بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ، إِلاَّ رَكْعَتَا الْفَجْرِ" (¬1). والثاني: لا، وبه قال مالك؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ صَلاةَ بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ" (¬2). والمفهوم من صلاة الصبح هو الفريضة، فالتخصيص بالفريضة يدل على عدم الكراهة قبلها. والوجه الثاني: هو الذي يوافق كلام معظم الأصحاب حيث قالوا بأن النهي في الوقتين يتعلق بالفعل، وإلا فإذا ثبتت الكراهة من طلوع الفجر لم يختلف زمان الكراهة بتقديم الصبح وتأخيرها طولاً وقصرًا، وهذا استدلال بين على ترجيح هذا الوجه، وصرح به الشيخ أبو محمد وغيره. لكن ذكر صاحب "الشامل" أن ظاهر المذهب هو الوجه الأول، ولم يورد في "التتمة" سواه، وإن قلنا: به دخل وقت الكراهية بطلوع الفجر، فإن عد ما قبل صلاة الصبح وقتاً بانفراده -زاد الأوقات المكروهة على خمسة، وإن جعل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وقتاً واحداً، وأدرجنا وقت الاصفرار فيما بعد صلاة العصر- كما سبق، عادت الأوقات المكروهة إلى أربعة وأن نضم حالة الطلوع إليه فتعود الأوقات المكروهة إلى ثلاثة، والشيخ أبو إسحاق الشَّيرَازِيُّ في آخرين ما أطلقوا الوجهين في الكراهة، من حين طلوع الفجر لكن نقلوا الوجهين في كراهة التنفل بعد ركعتي الفجر، وذلك يقتضي الجزم بنفي الكراهة قبل أن يصلي ركعتي الفجر. وما يتعلق بالحصر على بينته، لا يختلف بالطريقتين: الثاني: إذا فاتته راتبة أو نافلة اتخذها وِرْداً فقد ذكرنا أنه يجوز أن يقضيها في أوقات الكراهة ويدل عليه ما سبق من حديث أم سلمة. ثم إذا فعل ذلك، فهل له أن يداوم على تلك الصلاة في وقت الكراهة فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "دَاوِمْ عَلَىَ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ" (¬3). وعليه حمل ما روي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ¬
الباب الثاني في الأذان
"مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَأْتينِي فِي يَوْمٍ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلاَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ" (¬1). وأصحهما: أنه لا يجوز لعموم الأخبار الناهية وما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان مخصوصاً به فإنه كان يداوم على عمل، وقد روي عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ، وَينْهِي عَنْهَا" (¬2). فإن قلنا: بالأول فهذه الحالة، مما تستثنى عن عموم إخبار النهي. الْبَابُ الثَّانِي فِي الأَذَانِ وَفِيهِ ثَلاَثةُ فُصُولٍ قال الغزالي: الأَوَّلُ فِي مَحَلِّهِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ سُنَّةٌ عَلَى أَظْهَرِ الرَّأْيَيْنِ فِي الجَمَاعَةِ الأُولَى مِنْ صَلَوَاتِ الرِّجَالِ فِي كُلِّ مَفْرُوضَةِ مُؤَدَّاةٍ، وَفِي الْجَمَاعَةِ الثَّانِيَةِ فِي المَسْجِدِ المَطْرُوقِ قَوْلاَنِ، وَفِي جَمَاعَةِ النِّسَاءِ ثَلاَثةُ أَقْوَالٍ، وَفِي الثَّالِثِ أَنَّهَا تُقِيمُ وَلاَ تُؤَذِّنُ وَلاَ تَرْفَعُ الصَّوْتَ بِحَالٍ، وَفِي المُنْفَرِدِ فِي بَيْتِهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ، وَفِي الثَّالِثِ إِنَّمَا يُؤَذِّنُ إِذَا انْتَظَرَ حُضُورَ جَمْعٍ، فَإِنْ قُلْنَا: لاَ يُؤَذِّنُ فَفِي إِقَامَتِهِ خِلاَفٌ، وَإِنْ قُلْنَا: يُؤَذِّنُ فَيُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَلاَ أَذَانَ فِي غَيْرِ مَفرُوضَةٍ كَصَلاَةِ الخُسُوفِ وَالاسْتِسْقَاءِ وَصَلاَةِ الجَنَازَةِ وَالعِيدَينِ، بَل يُنَادِي لَهَا الصَّلاة جَامِعَةً، وَفِي الصَّلاَةِ الفَائِتَةِ المَفْرُوضَةِ ثَلاَثةُ أَقْوَالٍ، وَفِي الثَّالِثِ يُقِيمُ وَلاَ يُؤَذِّنُ (ح) وَلَو قَدَّمَ العَصْرَ إلَى وَقْتِ الظُّهْرِ يُؤَذِّنُ لِلظُّهْرِ وَيُقِيمُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ أَخَّرَ الظُّهْرِ إلَى العَصْرِ يُؤَدِّيهِمَا بِإقَامَتَيْنِ (ح) بِلاَ أَذَانٍ (و) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الظُّهْرَ كَالفَائِتَةِ فَلاَ يُؤَذَّنُ لَهَا. قال الرافعي: لا شك أن الأذان دعاء إلى الصلاة إعلام للوقت، ولكن لا يدعى به ¬
إلى كل صلاة، بل إلى بعض الصلوات، وليس دعاء على أي وجه اتفق بل له كيفية مخصوصة، ولا يدعو به كل أحد بل بعض الناس، فتمس الحاجة إلى بيان الصلاة التي هي محل الأذان، وبيان كيفية الأذان وصفات المؤذن؛ فتكلم في هذه الأمور في ثلاثة فصولها وافتتح القول في الأول يذكر الخلاف في أنه سنة أم فرض كفاية؟ ولو قدم هذه المسألة على الفصول أجمع، وقصر كلام الفصل الأول على بيان الصلوات التي تشرع فيها الأذان سُّنة كان أم فرضا كان أليق بترجمة الفصل، وكذلك فعل في "الوسيط"؛ واختلفوا في الأذان والإقامة أهما سنتان أم فرضاً كفاية؟ على ثلاثة أوجه: أصحهما: أنهما سنتان لأنهما للإعلام، والدعاء إلى الصلاة، فصار كقوله: "الصلاة جامعة" في العيدين ونحوهما، ولأَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم-: "جَمَعَ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ وَأَسْقَطَ الأَذَانَ مِنَ الثَّانِيَةِ" (¬1). والجمع سنة، فلو كان الأذان واجباً لما تركه لسنة. والوجه الثاني: أنهما فرضا كفاية لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، فَإذَا حَضُرَتْ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ" (¬2). وظاهر الأمر للوجوب، ولأنه من شعائر الإسلام فليؤكد بالفرضية، وهذان الوجهان هما اللذان أرادهما المصنف بالرأيين. والثالث: أنهما مسنونتان في غير الجمعة، وفرضا كفاية في الجمعة؛ لأنها اختصت بوجوب الجماعة فيها فاختصت بوجوب الدعاء إليها، وبالوجه الثالث قال ابن خيران، ونسبه القاضي ابن كج والشيخ أبو حامد إلى أبي سعيد الإصطخري، ونسب آخرون إلى أبي سعيد الوجه الثاني دون الثالث، فإن قلنا: هما سُّنة فلو اتفق أهل بلدٍ على تركها، هل يقاتلون عليه فيه وجهان: أصحهما: لا، كسائر السنن. والثاني: نعم ينسب إلى أبي إسحاق المروزي، لأنه من شعائر الإسلام فلا يمكن من تركه، وإن قلنا: هما فرضا كفاية فإنما يسقط الحرج بإظهارهما في البلدة أو القرية بحيث يعلم جميع أهلها أنه قد أذن فيها لو أصغوا؛ ففي القرية الصغيرة يؤذن في موضع واحد، والبلدة الكبيرة لا بد منه في مواضع ومحال، فلو امتنع قوم منها قوتلوا، ومن قال: بافتراضهما في صلاة بالجمعة خاصة فقد اختلفوا؛ منهم من قال: الأذان الواجب هو الذي يقام بين يدي الخطيب فإنه الذي يختص الجمعة فلا يبعد إيجابه كالجماعة والخطبة وغيرهما، وهذا ما حكاه الشيخ أبو محمد عن أحمد بن سيار من ¬
أصحابنا (¬1)؛ قال الشيخ: ووجدت لفظ الوجوب في هذا الأذان لفظا للشافعي -رضي الله عنه- فلعله أراد توكيد أمره. ومنهم من قال: يسقط الوجوب بالأذان الذي يؤتى به لصلاة الجمعة وإن لم يكن بين يدي الخطيب. ولك أن تعلم قوله: "مشروع سنة" بالألف؛ لأن بعض أصحاب أحمد ذكر: أن الأذان والإقامة فرضان على الكفاية عندهم وبالميم؛ لأن في تعاليق الشيخ أبي حامد أن مالكاً يقول بوجوب الأذان، ويلزم الإعادة ما بقي من الوقت، فإن ذهب الوقت وصلى من غير أذان جاز. ونعود بعد هذا إلى بيان محل الأذان وقد ضبطه المصنف فقال: "محله الجماعة الأولى من صلاة الرجال في كل مفروضة مؤداة" وفيه خمسة قيود: أولها الجماعة فالمنفرد في الصحراء أو في العصر هل يؤذن؟ الجديد: أنه يؤذن لما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "إِنَّكَ رَجُلٌ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْكَ وَقْتُ الصَّلاَةِ فَأذِّنْ وَارْفَعْ صَوْتَكَ فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُ صَوْتَكَ حَجَرٌ وَلاَ شَجَرٌ وَلاَ مَدَرٌ إِلاَّ شَهِدَ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (¬2). وحكى عن القديم: أنه لا يؤذن، لأن المقصود من الأذان الإبلاغ والإعلام، وهذا لا ينتظم في المنفرد، وقال بعض أصحابنا: إن كان يرجو حضور جمع أذن وإلا فلا، وحمل حديث أبي سعيد على أنه كان ينتظر حضور غلمانه ومن معه في البادية. هذا إذا لم يبلغ المنفرد أذان المؤذنين، فأما إذا بلغه بالخلاف فيه مرتب على هذا فالخلاف، وأولى بأن لا يؤذن كآحاد الجمع، فإن قلنا: لا يؤذن المنفرد فهل يقيم فيه وجهان: أحدهما: لا كالأذان، وأصحهما نعم؛ لأنها للحاضرين فيقيم لنفسه، وإذا قلنا: يؤذن فهل يرفع الصوت؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم؛ لحديث أبي سعيد. والثاني: إن انتظر حضور جمع رَفَع، وإلا فلا، ولا شك في أنه إذا أذن يقيم. واعلم أن هذا الترتيب يشتمل عليه كلام إمام الحرمين وهذا الذي اقتبسه منه ¬
المصنف إلا أنه جعل الفرق بين أن ينتظر حضور جمع أو لا ينتظر قولاً، وأْطلق في المسألة ثلاثة أقوال، والإمام لم يروه إلا عن بعض الأصحاب، والجمهور اقتصروا على ذكر المذهب المنسوب إلى الجديد ولم يتعرضوا لخلاف، نعم حكى القول القديم في "التتمة" ولكن إذا كان المنفرد يصلي في العصر خاصة ولم يطرده في المنفرد في الصحراء. وقوله في الكتاب: (وفي المنفرد في بيته) تخصيص البيت بالذكر يمكن أن يحمل على موافقة ما رواه في "التتمة" ولكنه لم يرد ذلك بل طرد الخلاف في السفر والحضر، وفي "الوسيط". وأما الفرق بين أن يرجو حضور جمع أو لا يرجو فسنبيّن في الأذان للفائتة أنه من أين أخذ، وليكن قوله: (وإن قلنا: يؤذن فيستحب رفع الصوت) مَرْ قُوماً بالواو لما قدمناه. ويدل على استحباب الأذان للمنفرد وعلى أن الإقامة أولى بالرعاية ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ بأَرْضٍ فَلاَةٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ صَلاَةٍ فَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلاَ إِقَامَةٍ صَلَّى وَحْدَهُ فَإِنْ صَلَّى بِإِقَامَةٍ صَلَّى بِصَلاَتِهِ مَلَكَاهُ وإنْ صَلَّى بِأَذَانٍ وإقَامَةٍ صَلَّى خَلْفَهُ صَفٌّ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ أَوَّلُهُمْ بِالْمَشْرِقِ وَآخِرُهُمْ بِالْمَغْرِبِ" (¬1). ويستثنى مما ذكرنا من أن المنفرد يرفع صوته بالأذان صورة وهي: ما إذا صلى في مسجد أقيمت الجماعة فيه وانصرفوا، فهاهنا لا يرفع الصوت لئلا يتوهم السامعون دخول وقت صلاة أخرى سيما في يوم الغيم. وثانيهما: كونها جماعة أولى ومهما أقيمت الجماعة في مسجد ثم حضر قوم فإن لم يكن له إمام راتب لم يكره لهم إقامة الجماعة فيه، وإن كان ففيه وجهان: أصحهما: أنه يكره، وبه قال أبو حنيفة. وإذا أقاموا جماعة ثانية مكروهة كانت أو غير مكروهة فهل يُسن لهم الأذان؟ حكى إمام الحرمين عن رواية صاحب "التقريب" فيه قولين: أحدهما: لا؛ لأن كل واحد منهم مدعوّ بالأذان الأول وقد أجاب بالحضور، فصاروا كالحاضرين في الجماعة الأولى بعد الأذان. والثاني: نعم؛ لأن الأذان الأول قد انتهى حكمه بإقامة الجماعة الأولى، لكن الأذان الثاني لا يرفع فيه الصوت كيلا يلتبس الأمر على الناس، وهذا أظهر، والأول مذهب أبي حنيفة. قال الكرخي في "مختصره"، ولا يؤذن في مسجد له إمام معروف ¬
مرتين. وأما ذكر المصنف للمطروق في صورة المسألة فليس للتقييد؛ لأن رواية صاحب "التقريب" مطلقة ولعله إنما ذكره؛ لأن إقامة الجماعة بعد الجماعة إنما تتفق غالباً في المساجد المطروقة -والله أعلم-. وثالثهما: صلاة الرجال، ففي جماعة النساء ثلاثة أقوال حكاها في النهاية. أصحها: وهو نصه في "الأم" و"المختصر": أنه يستحب لهن الإقامة دون الأذان، أما أن الأذان لا يستحب، فلأن الأذان للإبلاغ والاعلام، ولا يحصل ذلك إلا برفع الصوت، وفي رفع النساء الصوت خوف الافتتان، وقد روى عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، أنه قال: "لَيْس عَلَى النِّسَاءِ أَذَانٌ" (¬1) وأما أن الإقامة تستحب فلأنها لاستفتاح الصلاة واستنهاض الحاضرين فيستوي فيها الرجال والنساء، فلو أذنت على هذا القول من غير رفع الصوت لم يكره، وكان ذكراً لله تعالى. والثاني: أنه لا أذان ولا إقامة، أما الأذان، فلما سبق، وأما الإقامة فلأنها تبع الأذان. والثالث: أنه يستحب الأذان والإقامة؛ لما روى عن عائشة -رضي الله عنها-: "أَنَّهَا كَانَتْ تُؤَذِّنُ وَتُقِيمُ" (¬2). ثم لا يختص هذا الخلاف بما إذا صَلَّيْنَ جماعة بل هو جار في المرأة المنفردة، ولكن بالترتيب على الرجل، إن قلنا: لا يؤذن الرجل المنفرد فالمرأة أولى، وإن قلنا يؤذن ففي المرأة هذا الخلاف. وقوله: "ولا يرفع الصوت بحال" أي: لا ترفع المؤَذِّنَةُ صوتها فوق ما تسمع صواحبها، ويحرم عليها أن تزيد على ذلك. قال: "في النهاية" وحيث قلنا: في أذان الجماعة الثانية في المسجد الدم أقيم فيه الجماعة الأولى والأذان الراتب: إنه لا يرفع الصوت فلا يعني به [أنه يحرم الرفع، بل يعني به الأولى أن لا يرفع، وإذا قلنا إن المنفرد لا يرفع صوته به ولا يعني به] (¬3) أن الأولى أن لا يرفع فإن الرفع أولى في حقه، ولكن يعني به أنه يعتد بأذانه دون الرافع. ورابعهما: المفروضة، فليس في غير المفروضة أذان ولا إقامة، سواء فيه الصلاة ¬
التي يسن له الجماعة كالعيدين والكسوفين والاستسقاء، والتي لا يسن كصلاة الضحى، لأنه لم ينقل الأمر به عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا عن خلفائه الراشدين -رضي الله عنهم- ولكن ينادي لصلاة العيدين والكسوفين والاستسقاء "الصَّلاةَ جَامِعَةٌ" (¬1) وكذلك لصلاة التراويح إذا أقيمت جماعة، واختلف الناقلون في صلاة الجنازة فعدها المصنف من جملة ما يستحب فيه هذا النداء، وكذلك نقله القاضي ابن كج وآخرون. وقال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وطبقته: لا يستحب لها الأذان والإقامة ولا هذا النداء، ووافقهم صاحب "التهذيب" فلا بأس لإعلام قوله: "بل ينادي لها "الصلاة جامعة"" لهذا السبب. وخامسها: المؤداة، ففي الفائتة ثلاثة أقوال: الجديد: أنه لا يؤذن لها؛ لما روي عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "حُبِسْنَا عَنْ الصَّلاَةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْمَغْرِب هَوَيَا مِنَ اللَّيْلِ فَدَعَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِلاَلاً فَأَقَامَ لِلْظُّهْرِ فَصَلاَّهَا ثُمَّ أَقَامَ لِلْعَصْرِ فَصَلاَّهَاَ ثُمَّ أَقَامَ لِلْمَغْرِبِ فَصَلاَّهَا ثُمَّ أَقَامَ لِلْعَشَاءِ فَصَلاَّهَا وَلَمْ يُؤَذِّنْ لَهَا مَعَ الإقَامَةِ" (¬2). والقديم: أنه يؤذن لها، وبه قال مالك، وأبو حنيفة وأحمد لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان في سفر فقال: "احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلاتَنَا" (¬3) يعني ركعتي الفجر فضرب على أذانهم فما أيقظهم إلا حر الشمس فقاموا فساروا هيبة، ثم نزلوا فتوضأوا، وأذن بلال فصلوا ركعتي الفجر، وركبوا. وقال في "الإملاء": إن أمل اجتماع قوم يصلون معه أذن، وإلا فلا. قال الأئمة: الأذان في "الجديد" حق الوقت، وفي "القديم" حق الفريضة، وفي "الإملاء" حق الجماعة. وهذا الخلاف في الأذان. أما الإقامة فنأتي بها على الأقوال كلها، ثم استفيد من هذا الخلاف شيئان: أحدهما: أن الفرق في المنفرديين أن ينتظر حضور جمع أو لا ينتظر مخرج من قول "الإملاء" مصيراً إلى أن الأذان حق الجماعة، حكى تخريجه منه عن أبي إسحاق المرْوزي. والثاني: ظهور القول بأن المنفرد في المؤداة [يؤذن، ولولاه لما خض الفائتة في هذه الأقوال بالتنصيص عليها، ومتى استثنى الخلاف في المنفرد بالمؤداة هل] (¬4) يؤذن ¬
لها؟ وجب أن يرتب فنقول: إن قلنا: المؤداة لا يؤذن لها فالفائتة أولى، وإن قلنا: يؤذن ففي الفائتة خلاف. ولو أقيمت الفائتة جماعة فلا جريان للقول الثالث. واعلم بعد هذا أن قول المصنف: (في صلاة الفائتة المفروضة ثلاثة أقوال) لفظ (المفروضة) مستغني عنها فإنا عرفنا بالتقييد سابقاً أن غير المفروضة لا أذان لها إذا كانت مؤداة فكيف يتوهم لها الأذان إذا كانت مؤداة فائتة ثم قوله: (فيه ثلاثة أقوال: في الثالث يقيم ولا يؤذن) يقتضي أن يكون أحد الأقوال أنه يؤذن لها. والثاني: أنه لا يؤذن لها ولا يقيم. والثالث: ما ذكره، وتكون هذه الأقوال حينئذ على مثال ما قدمته في جماعة النِّسَاء لكنه سهو هاهنا بلا شك، فقد أطبقت النقلة على أن الفائتة يقيم لها وإنما الأقوال في الأذان، وأن ثالثها الفرق بين أن ينتظر حضور جمع أو لا ينتظره، وقد نقلها المصنف على الصحة في "الوسيط" فقال في "الجديد": يقيم ولا يؤذن، وفي "القديم": يقيم ويؤذن، وفي "الإملاء" إن انتظر حضور جمع أذن، إلا اقتصر على الإقامة، وهي متفقة على أنه يقيم لها، وهذا كله في الفائتة الواحدة، فإن كانت عليه فوائت وقضاها على التوالي ففي الأذان للأولى هذه الأقوال، ولا يؤذن لما عداها بلا خلاف، ويقيم لكل واحدة منها الأولى وغيرها. وعند أبي حنيفة: يتخير فيما بعد الأولى إن شاء أذن وأقام، وإن شاء اقتصر على الإقامة. ولو وإلى بين فريضة وقت وفائتة فإن قدم فريضة الوقت أذن وأقام لها واقتصر على الإقامة للفائتة، وإن قدم الفائتة أقام لها، وفي الأذان الأقوال. وأما فريضة الوقت فقد قال في "النهاية": إن قلنا: يؤذن للفائتة فلا يؤذن للمؤداة بعدها كيلا يتوالى الأذانان، وإن قلنا: يقتصر للفائتة على الإقامة فيؤذن للأداء بعدها ويقيم. والأظهر: أنه يقتصر لصلاة الوقت بعد الفائتة على الإقامة بكل حال؛ لحديث أبي سعيد الخدري، فإنه لم يأمر للعشاء بالأذان، وإن جمع بين صلاتي جمع لِسَفَرٍ أو مطر فإن قدم الأخيرة إلى وقت الأولى كتقديم العصر إلى الظهر فيؤذن ويقيم للأولى، ويقتصر للثانية على الإقامة، لما روى أنَّه -صلى الله عليه وسلم-: "جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِأَذَانٍ وَإقَامَتَيْنِ" (¬1)، وأيضاً فإنه لو أذن للثانية (¬2) لأخلَّ بالموالاة وهي مرعية عند التقديم لا محالة، وإن أخر الأولى إلى وقت الثانية كتأخير الظهر إلى العصر أقام لكل واحدة منهما، ولم يؤذن للعصر محافظة على الموالاة. ¬
الفصل الثاني في صفة الأذان
وأما الظهر فتجري فيه أقوال الفائتة؛ لأنها تشبهها من جهة أنها خارجة عن وقتها الأصلي، والأصح: أنه لا يؤذن لها أيضاً؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ بِإِقَامَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ". قال إمام الحرمين -قدس الله روحه- وينقدح أن يقول: يؤذن قبل الظهر (¬1)، وإن قلنا الفائتة لا يؤذن لها إما لأنها مؤداة ووقت الثانية وقت الأولى عند العذر، وإما لأن إخلاء صلاة العصر عن (الأذان وهي واقعة في وقتها فيعيد) (¬2) الأذان الواقع قبل صلاة الظهر للعصر، وقد يؤذن الإنسان لصلاة ويأتي بعده بتطوع وغيرها إلى أن تتفق الإقامة وتخلله لا يقدح في كون الأذان لتلك الصلاة. وعند أبي حنيفة يصلي للمغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان وإقامة، ولا يقيم للعشاء ويجوز أن يعلم بالواو قوله: "بلا أذان" وكذا قوله في حالة التقديم: "فيؤذن للظهر" لأنه لتخصيص الأذان بالظهر، وقد حكى القاضي أبو القاسم بن كج أن أبا الحسن بن القطان خرج وجهاً أنه يؤذن لكل واحدة من صلاتي الجمعة قدم أو أخر وقوله: (بناء على أن الظهر كالفائتة فلا يؤذن لها) هذا وحده لا يوجب نفي الأذان فيهما لكنه يفيد نفي الأذان للظهر، وأما العصر فإنما لا يؤذن لها لمعنى الموالاة، ويلزم من مجموع الأمرين أن يكون أداؤهما بلا أذان، وقد نجد في بعض النسخ التعرض بسبب نفي الأذان للعصر أيضاً -والله أعلم-. وإذا عرفت ما ذكرناه فلا يخفى عليك أن القيود الخمسة مختلف فيها كلها سوى القيد الرابع؛ فإن الظاهر عدم اعتبار الأول والثاني واعتبار الثالث والخامس. فرع: لا يشرع الأذان في الصلاة المنذورة كذلك رواه صاحبُ التهذيب وغيره، ويخرج عن الضابط بقيد الجماعة فإن الجماعة لا يشرع فيها. الفَصْلُ الثَّانِي فِي صِفَةِ الأَذَانِ قال الغزالي: وَهُوَ مَثْنًى مَثْنًى، وَالإِقَامَةُ فُرَادَى (ح) مَعَ الإِدْرَاجِ، وَالتَّرْجِيعُ (ح). ¬
القول في صفة الأذان
مَأْمُورٌ بِهِ وَكَذَا التَّثْوِيبُ (ح) فِي أَذَانِ الصُّبْحِ عَلَى القَدِيمِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَالقِيَامُ وَالاسْتِقْبَالُ شَرْطٌ لِلْصِّحَّةِ فِي أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، ثُمَّ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَلْتَفِتَ فِي الحَيَّعَلَتَيْنِ يَمِيناً وَشِمالاً، وألا يُحَوِّلُ (م ح) صَدْرَهُ عَنِ القِبْلَةِ. القول في صفة الأذان: قال الرافعي: الفصل ينتظم مسائل: أحدها: الأذان مثنى والإقامة فرادى خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: "والإقامة كالأذان، إلا أنه يزاد فيها كلمة الإقامة". لنا: ما روى عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: "كَانَ الأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَثْنَى وَالإقَامَةِ فُرَادَى إِلاَّ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ كَانَ يَقُولُ: قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ مَرَّتَيْنِ" (¬1). ثم قولنا: (الأذان مثنى) ليس المراد منه أن جميع كلماته مثناه؛ لأن كلمة: "لا إله إلا الله" في آخره لا يؤتى بها إلا مرة واحدة فكلمة التكبير يؤتى بها في أوله أربع مرات خلافاً لمالك حيث قال: "لا يؤتى بالتكبير في أوله إلا مرتين". لنا: "أَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ (¬2) كَذَلِكَ حَكَاهُ عَنْ تَلْقِين رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِيَّاهُ" وكذلك هو في قصة رؤيا عبد الله بن زيد في الأذان، وهي مشهورة (¬3). وقولنا: (الإقامة فرادى) لا نعني به أن جميع كلماتها موحدة، بل كلمة التكبير مثناه في الابتداء والانتهاء، وكذلك كلمة الإقامة، هذا قوله في "الجديد" وفي "القديم" لا يقول هذه الكلمات أيضاً إلا مرة، وبه قال مالك: لما روى: "أَنَّهُ أَمَرَ بِلاَلاً أنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ وَيُوتِرِ الإقَامَةَ" (¬4). وهذا يقتضي إيتار جميع الكلمات، وحجة الجديد ما قدمنا من خبر ابن عمر -رضي الله عنهما- ومنهم من يقتصر في حكاية القديم على إفراد كلمة الإقامة دون التكبير، ويجوز أن يعلم قوله: (والإقامة فرادى) مع الحاء بالواو؛ لأن ¬
محمد بن إسحاق بن خزيمة من أصحابنا قال: إن رجع في الأذان ثنى الإقامة وإلا أفردها جمعاً بين الأخبار في الباب، وذكر في "التهذيب" أنه قول الشافعي -رضي الله عنه-، لما روي عن أبي محذورة أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَّمَهُ الأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً وَالإِقَامَةَ سَبْعَ عَشَرَ كَلِمَةً" (¬1). الثانية: المستحب أن يرتل الأذان ويدرج الإقامة، والترتيل: أن يأتي بكلماتها مبينة من غير تمطيط يجاوز الحد. والإدراج أن يأتي بالكلمات حدراً من غير فصل، لما روى عن جابر -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لبلال: "إِذَا أَذنت فَتَرَسَّلْ وإِذَا أَقَمْتَ فَأحْدِرْ" (¬2)، والترسل: هو الترتيل. الثالثة: ينبغي أن يرجِّع في أذانه خلافاً لأبي حنيفة وأحمد، والترجيع هو أن يأتي بالشهادة مرتين مرتين بصوت خفيق ثم يمد صوته فيأتي بكل واحدة منهما مرتين آخريين بالصوت الذي افتتح الأذان به. لنا: ما روي عن أبي محذورة قال: "أَلْقَى عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- التَّأْذِينَ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: قُلْ: اللهُ أكبَرُ اللهُ أَكبَرُ اللهُ أكبَرُ اللهُ أَكبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، أَشْهَدُ أَن مُحَمدًا رَسُولُ اللهِ أَشْهَدُ أَن مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: ارْجعْ فَمُدَّ صَوْتَكَ أشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ أَشْهَدُ أَنَّ لاَ إِلهَ إلاَّ اللهُ أشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ" وذكر باقي الأذان (¬3) ووافقنا مالك على أنه يرجع، لكن الصيدلاني روى من مذهبه: أنه لا يزيد في كلمات الأذان بل الترجيع أن يقول مرة: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم مرة أشهد أن محمداً رسول الله ثم يرجع فيمد صوته ويعيد الكلمتين مرة مرة بصوتٍ عالٍ، ثم إن المصنف لم يزد في الكتاب على كون الترجيع مأموراً به، والأمرُ به يشمل المستحق والمستحب فمن أي القسمين هو؟ الأصح أنه مستحب، ولو تركه لم يضر كالتثويب، ولأن المقصودَ الإعلامُ والإبلاغُ والذي يأتي به بصوت خفيض لا يسمعه إلا من حوله فلا يتعلق به إبلاغ. وفيه وجه آخر: أنه مستحق ¬
فيه كسائر الكلمات المأمور بها، ومنهم من يحكيه قولاً: الرابعة: "التَّثْوِيبُ فِي أَذَانِ الصُّبْح وَرَدَ الْخَبَرُ بِهِ (¬1)، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بَعْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ: الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ الْنَّوْمِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يَأتِي بِبَاقِي الأَذَانِ". وسمى تثويباً من قولهم ثاب إلى الشيء أي عاد، والمؤذن يعود به إلى الدعاء إلى الصَّلاة بعد ما دعى إليها بالحيعلتين. وفيه طريقان: أحدهما: وهو المذكور في الكتاب: أن فيه قولين: القديم: أنه يثوب. والجديد: أنه لا يثوب. والثاني: القطع بأنه يثوب، وبه قال مالك وأحمد؛ لما روي عن بلال -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تُثَوِّبَنَّ فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ إِلاَّ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ" (¬2). وبهذه الطريقة قال أبُو عَلِيِّ الطَّبَرِيُّ والشَّيْخُ أبو حامد والقاضي ابن كج، وحكاها الصيدلاني واعتمدها، قال هؤلاء: وإنما كرهه في الجديد معللاً بأن أبا محذورة لم يحكه، وقد ثبت عن أبي محذورة أنه قال: "عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الأَذَانَ وَقَالَ: "إذَا كُنْتَ فِي أَذَانِ الصُّبْح فَقُلْتَ حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ فَقُلِ الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ" (¬3). فيحتمل: أنه لم يبلغه عن أبي محذورة، وبنى التثويب في القديم على رواية غيره، ويحتمل أنه بلغه في "القديم" ونسبه في "الجديد"، وعلى كل حال فاعتماده في الجديد على خبر أبي محذورة وروايته فكأنه قال: مذهبي ما ثبت في حديثه، ومن أثبت القولين قال المسألة مما يفتى فيها على "القديم". وأما أبو حنيفة فقد روي عنه مثل مذهبنا، وروي أنه يمكث بعد الأذان بقدر عشرين آية ثم يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح مرتين، وقال: إنه التثويب، ثم المشهور في التثويب القطع بأنه ليس بركن في الأذان. وقال إمام الحرمين: فيه احتمال عندي من جهة أنه يضاهي كلمات الأذان في شرع (¬4). رفع الصوت به فكان أولى بالخلاف من الترجيع. ¬
وقوله: "وكذا التثويب في أذان الصبح" مطلق يشمل الأذان الأول والثاني للصبح لكن ذكر في "التهذيب" أنه إذا أذن مرتين وَثَّوَب في الأول لا يثوب في الثاني على أصح الوجهين: الخامسة: ينبغي أن يؤذن ويقيم قائماً: "لَأَنَّ الْمَلَكَ الَّذِي رَآهُ عَبْدُ اللهِ بنُ زَيْدٍ فِي الْمَنَام أَذَّنَ قَائِماً (¬1) وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ بِلاَلُ وَغَيْرُهُ مِنْ مُؤَذِّنِي رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-" ولأنه أبلغ في الإعلام، فلو ترك القيام مع القدرة ففيه وجهان: أصحهما: أن الأذان والإقامة صحيحان لحصول أصل الإبلاغ والإعلام؛ ولأنه يجوز ترك القيام في صلاة النفل ففي الأذان أولى إلا أنه يكره ذلك إلا إذا كان مسافراً فلا بأس بأن يؤذن راكباً قاعداً. والثاني: أنه لا يعتد بأذانه وإقامته كما لو ترك القيام في الخطبة، وهذا لأن شرائط الشعار تتلقى من استمرار الخلق واتفاقهم، وهذا مما استمروا عليه، وينبغي أن يستقبل فيهما القبلة بمثل ما قدمنا، ولو تركه وأذن مستديراً ففيه الخلاف المذكور في ترك القيام (¬2). ويستحب الالتفات في الحَيْعَلَتَيْنِ يميناً وشمالاً وذلك بأن يلوي رأسه وعنقه من غير أن يحول صدره عن القبلة أو يزيل قدميه عن مكانهما، لما روي عن أبي جحيفة قال: "رَأَيْتُ بلاَلاً خَرَجَ إلَى الأَبْطَح فَأذَّنَ فَلَمَّا بَلَغَ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ لَوَى عُنُقَهُ يَمِينَاً وَشِمَالاً وَلَمْ يَسْتَدبِرْ" (¬3). وكيفيته: أن يلتفت يميناً فيقول: حي على الصَّلاَة مرتين، ثم يلتفت شمالاً فيقول: حي على الفلاح مرتين، وهذا هو الأصح وعليه العمل، وبه قال أبو حنيفة. وعن القفال، أنه يقسم كل حيعلة على الجهتين فيقول: حي على الصلاة مرة عن يمينه ومرة عن يساره، وكذلك قوله: حي على الفلاح، ولفظ الكتاب يصلح لهذا الوجه بأن يكون المعنى أن يلتفت في كل حيعلة يميناً وشمالاً ولكنه لم يرد ذلك، وإنما أراد الهيئة المشهورة، والمعنى مستحب أن يلتفت في الحيعلتين يميناً في الأُولى وشمالاً في الثانية، ثم حكى صاحب "البيان" على الوجه الأول وجهين. فيما يفعل إلى إتمام كل واحدة من الحَيْعَلَتَيْن. أحدهما: أنه يلتفت يميناً ويقول: حي على الصّلاة مرتين، ثم يرد وجهه إلى ¬
القبلة ثم يلتفت شمالاً ويقول: حي على الفلاح مرتين، وهذا ما عليه العمل. والثاني: يلتفت يميناً ويقول: حي على الصلاة مرة، ثم يرد وجهه إلى القبلة ثم يلتفت يميناً، ويقول: حي على الصلاة مرة أخرى وكذلك يفعل بالجهة الثانية، وإنما اختصت الحيعلتان بالالتفات دون سائر الأذان؛ لأن سائر الأذان ذكر الله تعالى وهنا خطاب الآدمي فلا يعدل عن القبلة فيما ليس بخطاب الآدمي، وهذا كالسلام في الصلاة ويلتفت فيه، ولا يلتفت في سائر الأذكار، وإنما لم يستحب في الخطبة أن يلتفت يميناً وشمالاً، لأن ألفاظها تختلف، والغرض منها الوعظ والإفهام فلا يخص بعض الناس بشيء منها كيلاَ يختل الفهم بذهاب بعض الكلام عن السماع، وهاهنا الغرض الإعلام بالصوت، وذلك يحصل بكل حال، وفي الالتفات إسماع النواحي، وهل يستحب الالتفات في الإقامة؟ فيه وجهان: أشهرهما: نعم كما في الأذان. والثاني: لا، لأن المقصود منها إعلام الحاضرين فلا حاجة إلى الإلتفات إلا أن يكبُرَ المسجد، ويحتاج إليه وليكن قوله: "ولا يحول صدره عن القبلة" معلماً بالحاء والألف؛ لأن عند أبي حنيفة وأحمد إن أذن على المنارة دار عليها، وإن أذن على وجه الأرض اقتصر على الالتفات. قال الغزالي: وَرَفْعُ الصَّوْتِ في الأذان رُكْنٌ. قال الرافعي: ينبغي للمؤذن أن يرفع الصوت بالأذان وأن يبالغ فيه ما لم يجهده، وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "يُغْفَرُ لِلْمُؤَذِّنِ مَدَى صَوْتِهِ" (¬1). ثم الأذان ينقسم إلى ما يأتي به الإنسان لنفسه وإلى ما يأتي به للجماعة. أما الأول: فيكفي فيه أن يسمع نفسه على المشهور؛ لأن الغرض منه الذكر، دون الإعلام. وقال الإمام: الاقتصار على إسماع النفس يمنع كون المأتي به أذاناً وإقامة، فليرد عليه قدر ما يسمع من عنده لو حضر، ثم يقر، بخلاف الذي قدمناه في أن المنفرد إذا أذن هل يرفع صوته؟ مفروض على المشهور في أنه هل يستحب الرفع؟ وعلى ما ذكره الإمام في أنه هل يعتد به دون الرفع؟ وأما الأذان للجماعة فقد ثقل عن نصه أنه لو جهر بشيء من الأذان وخافت بشيء لم يكن عليه إعادة ما خافت به كما لو أسر بالقراءة في موضع بالجهر، وللأصحاب فيه ثلاثة أوجه: ¬
أحدها: أنه لا بأس بالإسرار جرياً على ظاهر النص. وثانيها: أنه لا يجوز الإسرار بالكل، ولو أسر بكلمة أو بكلمتين فلا بأس، والنص محمول على هذه الحالة. وأصحها: وبه قال صاحب "الإفصاح" أنه لا يجوز الإسرار بشيء منه؛ لأن ذلك مما يبطل مقصود الأذان، وهو الإبلاع والإعلام، والنص محمول على أذان المنفرد، وقد عرفت بما ذكرنا أن لفظ الكتاب محمول على أذان الجماعة، ثم هو معلم بالواو للوجهين الآخرين، وأما الإقامة فلا يكفي فيها الاقتصار على إسماع النفس كما في الأذان على الأصح، ولكن الرفع فيها دون الرفع في الأذان لأنها للحاضرين. قال الغزالي: وَالتَّرْتِيبُ فِي كَلِمَاتِ الأذانِ شَرْطٌ فَلَوْ عَكَسَهَا لاَ يُعْتَدُّ بِهَا، وَإن طَوَّلَ السُّكُوتَ في أَثْنَائِهَا فَقَوْلاَنِ، وَلَوْ بَنَى عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَقْوَلانِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلَى بِالْبُطْلاَنِ، وَلَوْ ارْتَدَّ فِي أَثْنَاءِ الأذَانِ بَطُلَ وَإِنْ قَصُرَ الزَّمَانُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةُ تُحْبِطُ العِبَادَةَ. قال الرافعي: لعلك تقول لم عد رفع الصوت ركناً والترتيب شرطاً فاعلم أنه ليس في هذا كبير شيء، وكلاهما مما لا بد منه، ولو عد الترتيب ركناً في الأذان كما فعل في الوضوء لم يبعد، لكن يمكن أن يقال: ركن الشيء ما يفوت بفواته المقصود من ذلك الشيء، والشرط زينة الشيء وتتمته، وإذا كان كذلك فرفع الصوت مما يفوت بفواته المقصود من الأذان وهو الإعلام، والترتيب زينة وهيئة للكلمات، وبهذا فرقنا بين الترتيب وسائر الأركان في الوضوء، فجعلنا النسيان عذراً فيه دون غيره على قول: إن الظن إنه ما قصد تحقيق فرق بينهما، وفي سياق كلامه في "الوسيط" ما يفهم ذلك وغرض الفصل: أنه يعتبر في الأذان شيئان: أحدهما: الترتيب بين كلماته؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- "علمه مرتباً" فيتبع، ولأنه لو لم يكن لها ترتيب خاص لأورث ذلك اختلال الإعلام والإبلاغ، فلو عكس الكلمات لم يعتد بها معكوسة، ويبني على القدر المنتظم، ولو نزل بعض الكلمات من خلاله أتى به وأعاد ما بعده. الثاني: الموالاة؛ لأن غرض الإعلام يبطل إذا تخلل الفصل الطويل ويظن السامعون أنه لعب أو تعليم. ويتعلق بهذا الشرط مسائل: إحداها: لو سكت في أثناء الأذان يسيراً لم يضر؛ لأن مثله يقع للنفس والاستراحة ولا ينقطع به الولاء، وإن طول السكوت فقد حكى في الكتاب فيه قولين، وبناهما الإمام على القولين في الطهارة، وهذا أولى باعتبار الموالاة فيه كيلا يلتبس الأمر على السامعين ولا يبطل غرض الإعلام، فإن أعتبرنا الموالاة بطل المأتي به بالسكوت
الطويل ووجب الاستئناف، وإلا فله البناء على المأتي به، وبنى بعض الأصحاب القولين على القولين في جواز البناء على الصَّلاَة، إذا سبقه الحدث. الثانية: الكلام في خلال الأذان بمطلقه لا يبطله؛ لأنه ليس بآكد من الخطبة، وهي لا تبطل به، ولكن ينظر إن كان يسيراً لم يضر كما في الخطبة وكما في السكوت اليسير، هذا هو المشهور، وعن الشَّيْخِ أبي محمد تردد في تنزيل الكلام اليسير إذا رفع الصوت به منزلة السكوت الطويل، لأن الكلام أيقع وأشد جرًا للبس من السكوت، وإن تكلم بكلام كثير ففيه قولان مرتبان على السكوت الطويل وهو أولى بإبطال الولاء لما ذكرنا، وإذا خرج عن أهلية الأذان بغير الردة كما إذا أغمي عليه أو نام في خلال الأذان، فهو على هذا التفصيل: إن كان يسيراً أو زال على قرب لم يضر وجاز البناء عليه، وإن طال ففيه القولان، وإن خرج عن أهلية الأذان بالردة فسيأتي. واعلم أن صاحب "الإفصاح" والعراقيين قالوا: يجوز البناء في هذه الصور وإن طال الفصل، وحكوه عن نص الشافعي -رضي الله عنه-، لكن الأشبه وجوب الاستئناف عند تخلل الفصل الطويل؛ لأنهم اتفقوا على اشتراط الترتيب في الأذان، وما يقتضي اشتراط الترتيب فيه هو بعينه يقتضي اشتراط الموالاة، وهذا هو الذي أورده الصيدلاني والشيخ أبو علي وتابعهما صاحب "التهذيب" وغيره، وحملوا كلام الشافعي -رضي الله عنه- على الفصل اليسير، ثم في الإغماء والنوم يستحب الاستئناف وإن لم يجب إما لقصر الزمان أو على قولنا أنه لا يضر وإن طال الزمان، وكذلك يستحب الاستئناف في الكلام والسكوت الكثيرين وإن قلنا: إنهما لا يبطلان ولا يستحب الاستئناف إذا كانا يسيرين. الثالثة: المستحب أن لا يتكلم في أذانه بشيء، فلو عطس حمد الله تعالى في نفسه وبنى، ولو سلم عليه إنسان أو عطس لم يجب ولم يشمت حتى يفرغ، ولو أجاب أو شمت أو تكلم بما فيه مصلحة لم يكره، وإن ترك المستحب، وإن رأى أعمى يكاد يقع في بئر فلا بد من إنذاره. الرابعة: إذا لم يحكم ببطلان الأذان بالفصل المتخلل فله أن يبني على أذانه، وهل لغيره البناء عليه؟ فيه [قولان] (¬1) بناهما بعضهم على جواز الاستخلاف في الصلاة. وقال: إن جوزنا صلاة واحدة بإمامين ففي الأذان أولى، وإن لم نجوز ففي الأذان قولان. والفرق أن الأذان لا يتأثر بالكلام اليسير والإغماء بخلاف الصلاة، ومنهم من بناهما على جواز البناء على خطبة الخطيب إذا أغمي عليه في أثنائها، وهما قريبان، لأن ¬
الفصل الثالث في صفة المؤذن
الخلاف في الخطبة أيضاً مبني على قولي الاستخلاف في الصلاة، ولذلك إذا جوزنا البناء شرطنا أن يكون الذي يبني ممن سمع الخطبة من أولها، ومنهم: من رتب بناء غيره على بنائه على أذان نفسه عند طول الفصل وهو أولى بالبطلان؛ لأن صدور الآذان من رجلين أبلغ في أثارة اللبس، وهذا الترتيب هو المذكور في الكتاب، وظاهر المذهب المنع من بناء الغير عليه. الخامسة: لو ارتد بعد الفراغ عن أذانه ثم أسلم وأقام جاز، لكن المستحب أن لا يصلي بأذانه وإقامته بل يعيد غيره الأذان ويقيم؛ لأن ردته تورث شبهة في حاله، ولو ارتد في خلال الآذان لم يجز البناء عليه في الردة بحال، لأن أذان الكافر لا يعتد به كما سيأتي، ولو عاد إلى الإسلام فهل يجوز البناء عليه؟ منهم من يحكي فيه قولين، وكذلك فعل المصنف، ومنهم من رواهما وجهين، وهم الأكثرون، وإنما كان كذلك لأنهما ليس بمنصوصين، لكن روي عن نصه في الآذان أنه لا يبني، وفي المعتكف إذا ارتد ثم أسلم أنه يبني فخرجوهما على قولين: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة: أنه لا يجوز البناء؛ لأنه عبادة واحدة فتحبط بعروض الردة فيها كالصلاة وغيرها، وأصحهما الجواز، والردة إنما تمنع العبادة في الحال فلا تبطل ما مضى إلا إذا اقترن بها الموت، وتخرج عليه الصلاة ونحوها من العبادات؛ لأنها لا تقبل الفصل بحال، وقطع بعضهم بهذا الوجه الثاني، وحمل كلام الشافعي -رضي الله عنه- على ما إذا أطال زمان الردة، فالحاصل في الردة طريقتان: إحداهما: طرد الخلاف في مطلق الارتداد، طال زمانه أم قصر، وعلى هذا فللبطلان عند طول الزمان مأخذان طول الفصل، وكون الردة مبطلة للعبادة. والطريقة الثانية: تخصيص الخلاف بما إذا طال زمان الارتداد، وتجويز البناء إذا قصر جزماً، وعلى هذا فالردة بمثابة الإغماء والكلام وغيرهما، وهل لغير المرتد البناء على أذانه؟ فيه الخلاف الذي سبق، وكذا لو مات في خلال الأذان. وقوله: "ولو ارتد في أثناء الأذان بطل وإن قصر الزمان على أحد القولين" جرى على الطريقة الأولى وإثبات للخلاف في طول الزمان وقصره تعليلاً بأن الردة مبطلة للعبادة. الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي صِفَةِ المُؤَذِّنِ قال الغزالي: وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِماً عَاقِلاً ذَكَراً، فَلاَ يَصِحُّ أَذَانُ كَافِرٍ وَامْرَأَةٍ وَمَجْنُونٍ وَسَكْرَانَ مُخَبطٍ، وَيصِحُّ أَذَانُ الصَّبِي المُمَيِّزِ.
قال الرافعي: الصفات المعتبرة في المؤذن تنقسم إلى مستحقة ومستحبة، فبدأ بالمستحقة وهي الإسلام، والعقل، والذكررة. أما الإسلام فلا يصح أذان الكافر؛ لأنه ليس من أهل العبادة، ولأنه لا يعتقد مضمون الكلمات، ولا الصلاة التي هي دعاء إليها فإتيانه به ضرب من الاستهزاء، ثم الكفار ضربان: أحدهما: الدين يستمر كفرهم مع الإتيان بالأذان وهم العيسوية فرقة من اليهود، ويقولون: محمد رسول الله إلى العرب خاصة، فلا ينافي لفظ الأذان مقالتهم. والثاني: سائر الكفار، وفي الحكم بإسلامهم بكلمتي الشهادة في الأذان وجهان نقلهما صاحب "البيان": أحدهما: لا تحكم؛ لأنه يأتي به على سبيل الحكاية. وأصحهما: وهو المشهور في الكتب: أنه يحكم بالإسلام، كما لو تكلم بالشهادتين باستدعاء غيره، فعلى هذا لا يستمر كفر هؤلاء مع الإتيان بالأذان، ولكنه لا يعتد بأذانهم؛ لوقوع أوله في الكفر. وأما العقل: فهو شرط، فلا يصح أذان المجنون، لأنه ليس أهلاً للعبادة، وفي أذان السكران وجهان مبنيان على الخلاف في تصرفاته واعتبار قصده. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب: أنه يلحق بالمجنون تغليظاً للأمر عليه، وإنما شرط كونه مخبطاً إشارة إلى أن الذي هو في أول النشو ومبادئ النشاط يصح أذانه كسائر تصرفاته لانتظام قوله وفعله. وأما الذكورة فلا يصح من المرأة أن تُؤَذِّنَ للرجال كما لا يجوز أن تؤمهم، وكذلك لا يعتد بأذان الخنثى المشكل، للرجال، وأما أذان المرأة لنفسها ولجماعة النساء فقد سبق حكمه. وقوله: "ولا يصح أذان كافر وامرأة" المراد منه ما إذا أذنت للرجال، وإن كان الكلام مطلقاً، ويصح الأذان من الصبي المميز، لوجود الشرائط الثلاث وصار كإمامته للبالغين وليكن قوله: "ذكراً" وقوله: "وامرأة" مرقوماً بالحاء؛ لأن المحكي عن أبي حنيفة أنه يعتد بأذانها للرجال، وبالواو لأن صاحب التتمة روي وجهان مثل ذلك وليكن قوله: "ويصح أذان الصبي المميز" معلماً بالواو أيضاً لأن صاحب التتمة روى أنه لا يعتد بأذانه. ومأخذ الوجهين الغريبين تنزيل الأذان منزلة الإخبار، لأنه بناء عن دخول الوقت وخبر المرأة مقبول، وخبر الصبي غير مقبول. قال الغزالي: وَتُسْتَحَبُّ الطَّهَارَةُ في الأَذَانِ، وَيَصِحُّ بِدُونِهَا، وَالكَرَاهِيَةُ فِي الجُنُبِ أَشَدُّ، وَفي الإِقَامَةِ أَشَدُّ.
قال الرافعي: يستحب الطهارة في الأذان ولا تجب خلافاً لأحمد وبعض أصحابه. لنا: ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "حَقٌّ وَسَنَّةٌ أَنْ لاَ يُؤَذِّنَ الرَّجَلُ إِلاَّ وَهُوَ طَاهِرٌ" (¬1). وهذا يقتضي الاستحباب وينفي الوجوب، وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يُؤَذِّنُ إِلاَّ مُتَوَضِئٌ" (¬2). وأيضاً: فإنه يدعو إلى الصلاة فينبغي أن يكون هو بصفة تمكنه أن يصلي، إلا فهو واعظ غير متعظ، فلو أذن، أو أقام جنباً، أو محدثاً فقد فعل مكروهاً، ولكن يحسب أذانه؛ لحصول مقصوده وكونه أهلاً، وأذان الجنب أشد كراهةً من أذان المحدث؛ لأن الجنابة أغلظ، وما يحتاج إليه الجنب لتمكنه الصلاة فوق ما يحتاج إليه المحدث، والإقامة مع أي واحد من المحدثين اتفقت أشد كراهة من الأذان مع ذلك الحدث؛ لأن الإقامة يتعقبها الصلاة، وتكون بعد حضور القوم فإن انتظروه ليتطهر ويعود شق عليهم، إلا ساءت الظنون فيه واتهم بالكسل في الصلاة. قال الغزالي: وَلْيَكُنِ المُؤَذِّنُ صَيِّتاً حَسَنَ الصَّوْتِ لِيَكُونَ أَرَقَّ لِسَامِعِيهِ، وَلْيَكُنْ عَدْلاً ثِقَةً لِتَقَلُّدِهِ عُهْدَةَ المَوَاقِيتِ. قال الرافعي: مما يستحب في المؤذن أن يكون صيّتاً لقوله -صلى الله عليه وسلم-، في قصة عبد الله بن زيد: "أَلْقِهِ عَلَى بِلاَلٍ، فَإنَّهُ أَنْدَى مِنْكَ صَوْتًا" (¬3). والمعنى فيه: زيادة الإبلاغ والإسماع؛ ولهذا يستحب أن يضع أصبعيه في صماخي أذنيه لتنسد خروق الأذنين فيكون أجمع للصوت، وأن يؤذن على موضع عالٍ من منارة وسطح ونحوهما، ومما يستحب فيه أن يكون حسن الصوت "لأَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- اخْتَارَ أَبَا مَحْذُورَةَ لِحُسْنِ صَوْتِهِ" (¬4) ولأن الدعاء إلى العبادة جذب للنفوس إلى خلاف ما تقتضيه طباعها، فإذا كان الداعي حلو المقال رقت قلوب السامعين فيكون ميلهم إلى الإجابة أكثر، ومما يستحب فيه أن يكون عدلاً لمعنيين: أحدهما: أن السنة أن يؤذن على موضعٍ عالٍ، وحينئذ يشرف على العورات، فإذا كان عدلاً غض البصر وأُمِنَ منه. والثاني: أنه يتقلد عهدة المواقيت، فإذا كان فاسقاً لم يؤمن أن يؤذن قبل الوقت، وهذا المعنى الثاني هو الذي ذكره في الكتاب، فإن قلت: قد قَدَّمْتُم فيما سبق خلافاً في ¬
أنه هل يجوز الاعتماد على أذان المؤذن أم لا؟ فإن جاز فربما يؤذن قبل الوقت فيفطر الصائم ويصلي المبادر، فيلزم المحذور، أما إذا لم يجز فكل يعمل بعمله واجتهاده فلا يستمر هذا المعنى، قلنا الأذان قبل الوقت غير محسوب ولا يؤمن أن نقدمه على الوقت فيكون القوم مصلين بغير أذان، وكل أحد وإن اجتهد للصلاة فلا يجتهد للآذان فظهر المحذور على التقدير الثاني أيضاً. وأما قوله: "عدلاً ثقة" فلعلك تقول: لم جمع بين اللفظين؟ فاعلم أنهما جميعاً موجودان في كلام الشافعي -رضي الله عنه-، واختلف الأصحاب منهم من قال: إنه تأكيد في الكلام، ومنهم من قال: أراد عدلاً في دينه ثقةً في العلم بالمواقيت، ومنهم من قال: أراد عدلاً إن كان حراً، ثقة إن كان عبدًا؛ لأن العبد لا يوصف بالعدالة لكن يوصف بالثقة والأمانة. قال الغزالي: والإِمَامَةُ أَفْضَلُ مِنَ التَّأْذِينِ عَلَى الأَصَحِّ لِمُوَاظَبَةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيْهَا. قال الرافعي: كل واحد من الأذان والإمامة عمل فيه فضيلة، ثم لا يخلو إما أن تكون الإمامة أفضل من الأذان أو بالعكس أو لا يكون واحد منهما أفضل من الآخر، ورابع هذه الأقسام محال. فأما القسم الثالث: وهو التسوية بينهما فهو وجه غريب لبعض الأصحاب حكاه صاحب "البيان" وغيره، وأما القسمان الأولان ففيهما وجهان مشهوران: أحدهما: أن الإمامة أفضل؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- واظب عليها دون الأذان، وكذا الخلفاء بعده. والثاني: أن الأذان أفضل لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الْأَئِمَّةُ ضُمَنَاء وَالْمُؤَذِّنُونَ أُمَنَاءُ فَأرْشِدِ اللَّهُمَّ الأَئِمَّةَ واغْفِرْ لِلْمُؤذِّنِينَ" (¬1)، والأمين أحسن حالاً من الضمين، والدعاء بالمغفرة خيرٌ من الدعاء بالإرشاد، واعتذر الصائرون إلى هذا الوجه عن ترك الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأذان بوجوه: أحدها: أنه إذا قال: حي على الصلاة لزم أن يتحتم حضور الجماعة؛ لأنه أمر ودعاء وإجابة النبي -صلى الله عليه وسلم- واجبة، فتركه شفقة على أمته. والثاني: إنه لو أذن لكان إما أن يقول أشهد أن محمَّدًا رسول الله وليس ذلك يجزل والقائل محمد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإما أن يقول أشهد أني رسول الله وهو تغيير لنظم الآذان. ¬
والثالث: أنه ما كان يفرغ للمحافظة على الآذان لاشتغاله بسائر مهمات الدِّين، وغيره والصلاة لا بد من إقامتها بكل حال فأثر الإمامة فيها، وإلى هذا الوجه أشار عمر رضي الله عنه بقوله: "لَوْلاَ الخِلَّيْفَى لَأذَّنْتُ" (¬1) ولمن نصر الوجه الأول أن يقول: لا أسلم أنه لو أذن لتحتم الحضور وإنما يلغ ذلك أن لو كان الأمر والدعاء في هذا الموضع للإيجاب، ومعلوم أن الأوامر منقسمة إلى ما يكون للإيجاب، وإلى ما يكون للاستحباب (¬2). وأما الثاني فلم قلتم: أنه لو قال أشهد أن محمداً رسول الله لاختلت الجزالة ألا ترى أن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} (¬3) ونظائر ذلك (¬4) لا تحصى، ثم ما قولكم في كلمة الشهادة في التشهد أكان يقول أشهد أن محمدًا رسول الله أو يقول أشهد أني رسول الله، فإن كان الأول فلا اختلال، وإن كان الثاني هو المنقول فلم احتمل تغيير النظم فيه، ولا يحتمل هاهنا. وأما الثالث فلا نسلم أن الاشتغال بسائر المهمات يمنع من الأذان مع حضور الجماعة وإقامة الصلوات في أول الوقت بتقدير التسليم فلا شك أنه كان له أوقات فراغ فينبغي أن يؤذن في تلك الأوقات. وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الذي اختاره كثيرون من أصحابنا منهم الشيخ أبو حامد وأتباعه أن الأذان أفضل وَغلَّطُوا من صار إلى تفضيل الإمامة وبالغوا فيه وتابعهم صاحب "التهذيب" وعكس المصنف ذلك فجعل تفضيل الإمامة أصح، والذي فعله أولى وإليه ذهب صاحب "التقريب" والقفال، والشيخ أبو محمد وغيرهم. ورجحه القاضي الرّوياني أيضاً، وحكاه عن نص الشافعي -رضي الله عنه- في كتاب "الإمامة" وعلل بأن الإمامة أشق فيكون الفضل فيها أكثر، وتوسط بعض علمائنا بين المذهبين، منهم أبو علي الطبري والقاضي ابن كج، والمسعودي، والقاضي الحسين، فقالوا: إن علم من نفسه القيام بحقوق الإمامة وما ينوب فيهما واستجمع خصالها فالإمامة أفضل له، وإلا فالآذان ¬
أفضل، وأما الجمع بين الآذان والإمامة فلا يستحب [لأنه] لم يفعله الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا أمر به، ولا السلف الصالح بعده (¬1)، وأغرب القاضي ابن كج فقال: الأفضل لمن يصلح لهما أن يجمع بينهما، ولعله أراد الآذان لقوم والإمامة لآخرين والله أعلم. قال الغزالي: وَللإمَامِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَلَى الأَذَانِ مِنْ بَيْتِ المَالِ، وَهَلْ لِآحَادِ النَّاسِ ذَلِكَ؟ فِيهِ خِلاَفٌ. قال الرافعي: المؤذن يستحب له التطوع بالأذان، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أذَّنَ سَبْعَ سِنِينَ مُحْتَسِبًا كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ" (¬2). فإن لم يتطوع وطمع في شيء ففيما يصرف إليه؟ طريقان: أحدهما: إدرار رزق عليه. والثاني: أن يعطي أجرة في إجارة، والمذكور في الكتاب هو الثاني، فأما الطريق الأول فللإمام أن يرزق المؤذن من مال المصالح وهو خمس خمس الفيء، والغنيمة المضاف إلى الله تعالى ورسوله، ولا يرزقه من أربعة أخماس خمسها؛ لأنها لأقوام مخصوصين كالزكاة، وكذا لا يرزقه من أربعة أخماس الغنيمة؛ لأنها للغانمين، وفي أربعة أخماس الفيء قولان يأتي ذكرهما في موضعهما إن شاء الله تعالى، إن جعلناها للمصالح جاز أن يرزقه منها، وإلا فلا، ثم إنما يرزق عند الحاجة وعلى قدر الحاجة، فلو وجد فاسقاً يتطوع بالأذان [وأميناً لا يتطوع] فله أن يرزق أميناً لا يتطوع. وفيه وجه: بعيد، ولو وُجِدَ أميناً يتطوع وثَمَّ آخر حسن صوتاً منه فهل يجوز أن يرزقه؟ فيه وجهان: أحدهما: ينسب إلى ابن سريج: نعم. ¬
والثاني: ويحكى عن القفال: لا، وإذا كان في البلد مساجد: فإن لم يمكن جمع الناس في مسجد واحد رزق عدداً من المؤذنين تحصل بهم الكفاية ويتأدى الشعار، وإن أمكن فوجهان. أحدهما: يجمع ويقتصر على رزق واحد نظراً لبيت المال. والثاني: يرزق الكل حتى لا تتعطل المساجد ولو لم يكن في بيت المال سعة بدأ بالأهم وهو رزق مؤذن الجامع، وأذان صلاة الجمعة أهم من غيره، وكما يجوز الرزق من بيت المال يجوز للإمام أن يرزق من مال نفسه، وكذلك للواحد من الرعايا وحينئذ لا حجر، يرزق كما شاء ومتى شاء. وأما الطريق الثاني: وهو أن يستأجر على الأذان ويعطي أجرة عليه فهل يجوز ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة وأحمد: أنه لا يجوز، لأنه عمل يعود نفعه إلى الأجير، فلا يصح الاستئجار عليه كالاستئجار على القضاء لا يجوز وإن جاز أن يرزق القاضي من بيت المال، وهذا اختيار الشيخ أبي حامد، ويقال: إن ابن المنذر نقله عن الشافعي -رضي الله عنه-. وأصحهما: أنه يجوز، وبه قال مالك؛ لأنه عمل معلوم يجوز أخذ الرزق عليه، فيجوز أخذ الأجرة عليه ككتبة المصاحف، وعلى هذا فهل يختص الجواز بالإمام أم يجوز لكل واحد؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يختص بالإمام، أو من أذن له الإمام؛ لأنه من الشعائر والمصالح العامة، والإمام هو القوام بها فيصرف مال بيت المال إلى هذه الجهة. وأظهرهما: إنه يجوز لآحاد الناس من أهل المحلفة وغيرهم الاستئجار عليه من مالهم، كالاستئجار على الحج، وتعليم القرآن، ويحصل من هذا الترتيب ثلاثة أوجه: المنع المطلق، والجواز المطلق والفرق بين الإمام وغيره، وقد ذكرها المصنف جميعاً في باب "الإجارة" من الكتاب وإن لم يذكر في الإمام خلافاً في هذا الموضع، فلو أعلمت قوله: "وللإمام أن يستأجر" بالواو مع الحاء والألف لكان صحيحاً، والمذكور في الإجارة يشتمل على القدر المذكور هاهنا مع زيادة، فلو طرحه لما ضر، وإذا فرعنا على جواز الاستئجار فإنما يجوز للإمام الاستئجار من بيت المال حيث يجوز له الرزق منه خلافاً ووفاقاً، وذكر في "التهذيب" أنه لا يحتاج إلى بيان المدة إذا استأجر من بيت المال؛ بل يكفي أن يقول: استأجرتك لتؤذن في هذا المسجد في أوقات الصلاة كل شهر بكذا، وإن استأجر من مال نفسه أو استأجر واحد من عرض الناس ففي
اشتراط بيان المدة وجهان. قال: والإقامة تدخل في الاستئجار للأذان، فلا يجوز الاستئجار على الإقامة إذ لا كلفة فيها، وفي الآذان كلفة لمراعاة الوقت، وليست هذه الصورة بصافية عن الإشكال. قال الغزالي: فَرْعٌ: إِذَا كَثُرَ المُؤَذِّنُونَ فَلا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَرَاسَلُوا بَلْ إنْ اتَّسَعَ الوَقْتُ تَرَتَّبُوا، ثُمَّ مَنْ أَذَّنَ أَوَّلاً فَهُوَ يُقِيمُ فَإِنْ تَسَاوَوْا أُقْرعَ بَيْنَهُمْ، وَوَقْتُ الإِقَامَةِ مَنُوطٌ بِنَظَرِ الْإمَامِ، وَوَقْتُ الأَذَان بِنَظَرِ المُؤَذِّنِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. قال الرافعي: الفرع يشتمل على قاعدتين: أحدهما يستحب أن يكون للمسجد مؤذنان كما "كَانَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-بِلاَلٌ وَابْنُ أَمَّ مَكْتُومٍ". ومن الفوائد فيه: أن يؤذن أحدهما لصلاة الصبح قبل الفجر والآخر بعده كما تقدم، وتجوز الزيادة لكن الأحب أن لا يزاد على أربعة، فقد اتخذ عثمان -رضي الله عنه- أربعةً من المؤذنين، ولم يزد الخلفاء الراشدون على هذا العدد (¬1)، وإذا ترشح للأذان اثنان فصاعداً فلا يستحب أن يتراسلوا بالأذان إذ لم يفعله مؤذنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن ينظر إن وسع الوقت ترتبوا فإن تنازعوا في البداية أقرع بينهم، وإنضاق الوقت فإن كان المسجد كبيراً أذنوا متفرقين في أقطار المسجد فإنه أبلغ في الإسماع، وإن كان صغيرًا وقفوا معاً وأذنوا، وهذا إذا لم يؤدّ اختلاف الأصوات إلى تشويش، فإن أدى لم يؤذن إلا واحد، فإن تنازعوا أقرع بينهم، روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَوْ يَعلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا عَلَيْهِ" (¬2). وإذا انتهى الأمر إلى الإقامة فإن أذنوا على الترتيب فالأول أولى بالإقامة لما روى عن زياد الصدائي قال: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أُؤَذِّنَ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ فَأَذَّنْتُ فَأَرَادَ بِلاَلُ أَنْ يُقِيمَ فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ أَخَا صَدَاءٍ قَدْ أَذَّنَ وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ" (¬3). وهذا إذا لم يكن مؤذناً راتباً أو كان السابق هو المؤذن الراتب، فأما إذا سبق غير المؤذن الراتب فأذن فهل يستحق ولاية الإقامة؟ فيه وجهان: ¬
أحدهما: نعم لإطلاق الخبر. وأظهرهما: لا؛ لأنه مسيء بالتقدم، وفي القصة المروية كان بلال غائباً وزياد أذن بإذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وإذا قلنا: ولاية الإقامة لمن أذن أو لا فليس ذلك على سبيل الاستحقاق، بل لو أذن واحد، وأقام غيره اعتد به روى أن عبد الله بن زيد: "لَمَّا أَلْقَى الأَذَانَ عَلَى بِلاَلٍ فَأذَّنَ قَالَ عَبْدُ اللهِ أَنَا رَأَيْتُهُ وَأَنَا كُنْتُ أرِيدُهُ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ فَأَقِمْ أَنْتَ" (¬1). وحكى صاحب "التتمة" وغيره وجهاً أنه لا يعتد به تخريجاً من قول الشافعي -رضي الله عنه- أنه لا يجوز أن يخطب واحد ويصلي آخر، فهذا إذا أذنوا على الترتيب. أما إذا أذنوا معاً فإن اتفقوا على إقامة واحد فذاك، وإلا أُقرع بينهم، ولا يقيم في المسجد الواحد إلا واحد، فإنها لاستنهاض الحاضرين، إلا إذا لم تحصل الكفاية بواحد. وقيل: لا بأس، وبأن يقيموا معاً أيضاً إن لم يؤد إلى التشويش. ونعود إلى لفظ الكتاب قوله: (فلا يستحب أن يتراسلوا بل إن وسع الوقت ترتبوا) نفي لاستحباب التراسل مطلقاً وبيان لما يتسحب على أحد التقديرين، وهو سعة الوقت، وكان اللائق أن يبين معه حكم التقدير الثاني، فالتعرض لأحدهما والسكوت عن الثاني ترك غير مستحسن لا إيجاز. فإن قلت: تقدير للترتيب بما إذا وسع الوقت يفيد أن الحكم بخلافه فيما إذا لم يسع الوقت. قلنا: نعم، لكن لا يفيد إلاَّ أنهم يترتبون، ولا يعرف من ذلك أنهم يؤذنون جميعاً؛ لأن هاهنا قسمًا آخر وهو: أنه لا يؤذن إلا أحدهم، وبتقدير أنه يفيد أنهم يؤذنون جميعاً إما وحده أو بقرينة قوله بعد ذلك: "فإن استووا أقرع بينهم" لكنه لا يفيد أنهم يؤذنون مجتمعين أو متفرقين في نواحي المسجد، فإذا القدر المذكور لا يفيد معرفة الحكم المطلوب، وأما الإقامة فقد بين حكمها على التقديرين. وأما إذا أذنوا مرتبًا فحيث قال: "ثم من أذن أو لا فهو يقيم" وأما إذا أذنوا معاً فحيث قال: فإن استووا أقرع بينهم" والمعنى فإن استووا في الأذان وتنازعوا في الإقامة وإلا فلو سلموها لواحد فلا حاجة إلى القرعة. وقوله: "من أذن أو لا فهو يقيم" وإن كان مطلقاً لكنه محمول على ما إذا لم يكن السابق مسيئاً بمبادرة [المؤذن] (¬2) الراتب كما قدمناه، ثم الحكم بأنه يقيم استحقاق أو استحباب قد ذكرناه. ¬
الثانية: وقت الأذان منوط بنظر المؤذن لا يحتاج فيه إلى مراجعة الإمام، ووقت الإقامة منوط بنظر الإمام، فإنما يقيم المؤذن عند إشارته لما: روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْمُؤَذِّنُ أمْلَكُ بِالأَذَانِ وَالإمَامُ أَمْلَكُ بِالإقَامَةِ" (¬1). والمعنى فيه أن الإقامة سببها أن تعقبها الصلاة على الاتصال، والصلاة إلى الإمام فينبغي أن يكون عازماً على الشروع عند تمامها ولهذا لم يقولوا بترتيب الإقامة عند كثرة المؤذنين، لأن ما سوى الإقامة الأخيرة لا يتصل بها الصلاة. ونختم الباب بذكر محبوبات مما يتعلق بالأذان، أهملها المصنف. منها: أن يكون المؤذن ممن جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو بعض صحابته الآذان في أبائهم إذا وجد وكان عدلاً صالحًا له، وأن يصلي المؤذن ومن يسمح الأذان على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد الأذان، ويقول: "اللَّهُمَّ رَبَّ هذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ، وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدْتَهُ" (¬2). وأن يجيب من يسمح الآذان المؤذن فيقول مثل ما يقول. وإن كان السامع جنبًا أو محدثاً، إلا في الحَيْعَلَتَيْنِ فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإلا في كلمة الإقامة فإنه يقول أقامها الله وأدامها وجعلني من صالحي أهلها، وإلا في التثويب، فإنه يقول: "صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ" (¬3) وفي وجه يقول: "صَدَقَ رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْم" فإن كان في قراءة أو ذكر، فيستحب أن يقطعهما ويجيب، فإن ذلك لا يفوت، ولو كان في الصلاة فالمستحب لا يجيب حتى يفرغ منها، بل يكره أن يجيب في أظهر القولين، لكن لو أجاب بما استحببناه لم تبطل صلاته، لأنها أذكار، نعم لو قال حي على الصلاة، أو تكلم بكلمة التثويب بطلت صلاته؛ لأنه كلام، ولو أجاب في خلال الفاتحة استأنفها، فإن الإجابة في الصلاة غير محبوبة، ويستحب أن يقول من سمع آذان المغرب: "اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك فاغفر لي" (¬4). ¬
الباب الثالث في الاستقبال
ويستحب الدعاء بين الآذان والإقامة، وأن يتحول المؤذن، إلى موضع آخر للإقامة. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الاسْتِقْبَالِ قال الغزالي: وَالنَّظَرُ فِيهِ فِي أَرْكَان ثَلاَثةِ: الأَوَّلُ الصَّلاَةُ وَيَتَعَيَّنُ الاسْتِقْبَالُ فِي فَرَائضِهَا (و) إلاَّ فِي القِتَالِ، فَلاَ تُؤَدَّى فَرِيضَةٌ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَلاَ مَنْذُورَةٌ إنْ قُلْنَا: يَسْلُكُ بِهَا مَسْلَكَ وَاجِبِ الشَّرْعِ وَلاَ صَلاَةُ جَنَازَةٍ، (ح) لِأَنَّ الرُّكْنَ الأَظْهَرَ فِيهَا القِيَامُ. قال الرافعي: قال الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} (¬1) الآية. وروي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "دَخَلَ الْبَيْتَ وَدَعَا فِي نَوَاحِيهِ، ثُمَّ خَرَجَ وَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قِبَلِ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ: هذِه الْقِبْلَةُ" (¬2). واعلم أن الاستقبال يفتقر إلى مُسْتَقْبِل، ومُسْتَقْبَل وهو المسمى قبله، ولا بد من حالة يقع فيها الاستقبال، ومعلوم أن الاستقبال لا يجب في غير حالة الصلاة والحاجة تمس إلى الكلام في الأمور الثلاثة، فلذلك قال: "والنظر فيه في ثلاثة أركان، وهي الصلاة، والقبلة والمستقبل". أولها: الصلاة، وتنقسم إلى فرائض ونوافل: أما الفرائض: فيتعين الاستقبال فيها إلا في حالة واحدة وهي حالة شدة الخوف في القتال، فإنه يأتي بها بحسب الإمكان، قال الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (¬3). قال: ابن عمر -رضي الله عنهما-: "مُسْتَقْبِلي الْقِبْلَةِ، وَغَيْرِ مُسْتَقْبِلِهَا". قال نافع: لا أراه ذكر ذلك إلا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬4) وقوله في الكتاب: (إلا في القتال) يعني به حالة شدة الخوف لا مطلق القتال، ثم الشرط أن يكون القتال مباحًا على ما سيأتي في "صلاة الخوف" إن شاء الله تعالى، ويلتحق بهذا الخوف ما إذا انكسرت السفينة فبقي على لوح منها وخاف الغرق لو ثبت على وجه القبلة، وكذلك سائر وجوه الخوف، فليس القتال معنياً لعينه، وإنما المعتبر الخوف. ¬
وأما النوافل فكذلك يجب الاستقبال فيها إلا في حالة الخوف وفي السفر على ما سيأتي، فالمستثنى في قسم الفرائض حالة واحدة، وفي قسم النوافل حالتان، والشافعي -رضي الله عنه- عبر عن الفرض بعبارة أخرى من غير تقسيم الصلوات إلى الفرائض، والنوافل فقال: لا تجوز الصلاة من غير الاستقبال إلا في حالتين: إحداهما: النافلة في السفر. والثانية: شدة الخوف، فإن قيل: الاستثناء لا ينحصر في هاتين الحالتين ألا ترى أن المريض الذي لا يجد من يوجهه إلى القبلة ولا يطيق التوجه معذور، وكذلك المربوط على الخشبة؟ قلنا: الكلام في القادر على أن يصلي متوجهاً، فأما العاجز فلا يكلف بما ليس في وسعه، ولا حاجة إلى استثنائه من موارد إمكان التكليف. وإذا عرفت هذه المقدمة فيتفرع عليها أنه لا يجوز فعل الفريضة على الراحلة لاختلال أمر الاستقبال، وينبغي أن تعرف من قوله: فلا يؤدي فريضة على الراحلة شيئين: أحدهما: أنه ليس المراد منه الأداء الذي هو ضد القضاء، فإن الفريضة كما لا تؤدى على الراحلة لا تقضى أيضاً، وإنما المراد منه الفعل. والثاني: أنه وإن كان مطلقاً لكن الفرض ما إذا لم يلحقه خوف فأما إذا خاف الانقطاع عن الرفقة لو نزل لأداء الفريضة، أو خاف على نفسه، أو ماله من وجه آخر فله أن يصلي على الدابة؟ لكنه يعيد إذا نزل، وهل يجوز فعل المنذورة على الراحلة؟ يبني على أصل سبق ذكره، وهو أن المنذورة من العبادة عند الإطلاق يحمل على أقل واجب، ويعطي أحكام الواجبات أم لا؛ إن قلنا: لا، جاز ذلك، وإن قلنا: نعم. لم يجز، وهو الصحيح، والمحكي عن نصه في "الأم" ولك أن تعلم قوله: (ولا منذورة) بالحاء لأن أبا الحسن الكرخي حكى في مختصره أنه لا يصلي على الراحلة صلاة نذر أوجبها، وهو بالأرض فإن أوجب صلاة وهو راكب أجزأه فعلها على الدابة، وأما صلاة الجنازة ففي جواز فعلها على الرَّاحلة ثلاث طرق، بيناها في "التيمم"، والظاهر: ما ذكره في الكتاب وهو المنع؛ لأن الركن الأظهر فيها القيام، وفعلها على الراحلة يمحو صورة القيام، وذكر بعضهم للمنع معنى آخر سنذكره من بعد، ويجب أن يكون قوله: (ولا صلاة جنازة) مرقوماً بالواو لما تقدم. قال الغزالي: وَلاَ تَصِحُّ فَرِيضَةٌ عَلَى بَعِيرٍ مَعْقُولٍ، وَفِي أُرْجُوحَةٍ مُعَلَّقَةٍ بِالْحِبَالِ، لأَنَّهُمَا لَيْسَا لِلْقَرَارِ بِخِلاَفِ السَّفِينَةِ الجَارِيَةِ لِأنَّ الْمُسَافِرَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا، وَبِخِلاَفِ الزَّوْرَقِ المَشْدُودِ عَلَى السَّاحِلِ؛ لِأَنَّهُ كَالسَّريرِ وَالْمَاءُ كَالأَرْضِ. قال الرافعي: فعل الفريضة على الراحلة كما يشتمل على الإخلال بأمر القيام،
والاستقبال ففيه شيء آخر، وهو إقامة الفريضة على ما لا يصلح للقرار، وفي اشتراط إقامتها على ما يصلح للقرار كلام، فأراد المصنف أن (يبين أن) (¬1) امتناع فعل الفريضة على الراحلة ليس لاختلال أمر الاستقبال فحسب، بل من شرط الفريضة فعلها على ما هو للقرار، وهذا الشرط فأئت إذا أقيمت على الراحلة. وفقه الفصل أن استقرار المصلي في نفسه شرط، فليس له أن يصلي الفريضة وهو سائر ماشٍ؛ لأن المشي يشتمل على الحركات والأصل أنه لا يحتمل أصلاً فخالفنا في النوافل في السفر لما سيأتي، وهل يجوز فعلها على الدَّابَةِ؟ نظر إن أخل فعلها بالقيام، أو الاستقبال فلا يجوز، وإن أمكنه إتمام أركان الصلاة بأن كان في هودج، أو على سرير موضوع على الدابة، فالذي ذكره المصنف أن الفريضة لا تصح، وإن كانت الدابة واقفة معقولة، واتبع فيه إمام الحرمين حيث فقال: لا تقام الفريضة على الراحلة وإن كان المصلي قادراً على المحافظة على الأركان كلها مستقبلاً، وكان البعير معقولاً، لأنه مأمور بأداء الفرائض متمكناً على الأرض، أو ما في معناها، وليست الدابة للاستقرار عليها، وكذلك القول في الأرجوحة المشدودة بالحبال فإنها لا تعد في العرف مكان التمكن، وهو مأمور بالتمكن والاستقرار، وهذا بخلاف السفينة حيث تصح الصلاة فيها وإن كانت تجري وتتحرك بمن فيها، كالدواب تتحرك بالراكبين؛ لأن ذلك إنما يجوز لمسيس الحاجة إلى ركوب البحر، وتعذر العدول في أوقات الصلاة عنه، فجعل الماء علي الأرض كالأرض، وجعلت السفينة كالصفائح المبطوحة على الأرض، وألحق بالسفينة الجارية الزورق المشدود على الساحل، تنزيلاً له منزلة السرير، والماء منزلة الأرض، وتحركه تسفلاً وتصعداً كتحرك السرير ونحوه على وجه الأرض فلا يمنع صحة الفريضة. وأما الزورق البخاري، فهل للمقيم في "بغداد" وغيره إقامة الفريضة فيه مع تمام الأركان والأفعال. قال إمام الحرمين: فيه احتمال وتردد ظاهر، فإن الأفعال تكثر بجريان الزوارق، وهو قادر على دخول الشط وإقامة الصلاة قال: وإن احتمل رجال سريراً وعليه إنسان لم يصح عليه الفرض فإن محمول الناس كمحمول البهائم، هذا كلامهما، ولا يخفى أن من حكم بالمنع والدابة معقولة فلأن يحكم به وهي سائرة أولى، وأورد أكثر أصحابنا -منهم صاحب "المعتمد" والحسين الفراء، وأبو سعيد المتولي، والقاضي الروياني، وغيرهم- أنه يجوز فعل الفريضة على الدابة مع إتمام الأفعال والأركان بأن كان في ¬
هودج أو على سرير ونحوهما إذا كانت الدابة واقفة ولم يذكروا خلافاً فيه، وإن كانت سائرة ففيه وجهان: أحدهما: الجواز، كما لو صلى في سفينة جارية، ومنهم من قاسة على ما لو صلى على سرير يحمله جماعة كأنهم اتخذوا هذه الصورة متفقاً عليها. وأصحهما: وهو المحكي عن نصه في "الإملاء" أنه لا يجوز؛ لأن سير الدابة منسوب إليه، ولهذا يجوز الطواف عليها، وسير السفينة بخلافه فإنها بمثابة الدار في البر، وأيضاً فإن البهيمة لها اختيار في السير، ء فلا يكاد تثبت على حالة (¬1) واحدة، والسفينة كما يسير تسير، إذ لا اختيار لها. وإذا وقفت على ما حكيته تبين لك أنه يجب أن يكون قوله: (ولا تصح الفريضة على بعير) معلماً بالواو، بل الظاهر الجواز، إذا كانت الدابة واقفة على خلاف ما في الكتاب نقلاً عن المذهب في معنى. أما النقل فقد بيناه. وأما المعنى فلأن المصنف وإمام الحرمين لم يريدا في التوجيه على أن المصلي في الفريضة مأمور بالاستقرار على الأرض، أو غيرها. مما يصلح للقرار، وهذا لا يسلمه أصحاب الطريقة الأخرى، إنما المسلم عندهم أنه مأمور بالاستقرار في نفسه، ثم هو مشكل بالزورق المشدود على الشط، فإنه لا تتعلق به الحاجة المفروضة في السفينة والزورق الجاريين وهو قادر على الخروج إلى الساحل، والاستقرار على الأرض، فلم كان الزورق المشدود كالسرير على الأرض، ولم تكن الدابة المعقولة كعدل أو متاع ساقط على الأرض؟ فإن حاولت رفع الخلاف، وقلت: الفارقون بين أن تكون الدابة واقفة أو سائرة صوروا المسألة فيما إذا كان في هودج، أو سرير على الدابة، وليس في الكتاب تعرض لذلك، فلعل مسألة الكتاب فيما إذا وقف على ظهر الدابة من غير سرير ونحوه، وحينئذ لا يتنافى الكلامان؛ لتغاير الصورتين، نعم. يجب طلب الفرق فالجواب أن هذا فاسد من وجوه ثلاثة: أحدها: أن الدابة الواقفة إذا لم تصلح للقرار فالمحمول عليها من السرير ونحوه أولى ألا يصلح للقرار، فمحال أن يمنع من الوقوف عليها، ولا يمنع من الوقوف على ما عليها. والثاني: أن الفارقين بأسرهم ما صوروا المسألة في الهودج، والسرير، بل منهم من تعرض لذلك إيضاحاً؛ لأن إتمام الأركان والأفعال حينئذ يتيسر، ومنهم من فصل بين وقوف الدابة وسيرها من غير تعرض للسرير، هذا الشيخ إبراهيم المروزي ذكره فيما علق عنه إن أمكنه القيام والاستقبال في جميع الفريضة على الدابة نظر، إن كانت واقفة ¬
جاز، وإن كانت تسير فيه فوجهان، ولم يشترط أن يكون عليها سرير ونحوه. والثالث: أنا حكينا عن إمام الحرمين أنه ألحق ما إذا احتمل السرير رجال فصلى عليه بما إذا صلى على ظهر الدابة، وذلك يوضح أنه لا فرق بين أن يكون على الدابة سرير أم لا -والله أعلم-. قال الغزالي: أَمَّا النَّوَافِلُ فَيَجُوزُ إِقَامَتُهَا فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، وَفِي السَّفَرِ القَصِيرِ قَوْلاَنِ، وَلاَ يَجُوزُ (و) فِي الحَضَرِ. قال الرافعي: تكلمنا في حكم إقامة الفرائض على الرواحل. وأما النوافل فيجوز إقامتها في السفر الطويل عند السير راكباً، أو ماشياً، متوجهاً طريقه؛ لما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَت بهِ" (¬1). وخالف أبو حنيفة في الماشي، ويحكي مثله عن أحمد، فليكن قوله: (وماشيًا) معلماً برقميهما. لنا أن الإنسان قد يكون له أوراد، ووظائف، ويحتاج إلى السفر لمعاشه، فلو منع من التنفل في سيره لفاته أحد أمرين، إما أوراده، أو مصالح معاشه، ولا فرق في ذلك بين الراكب والماشي. وهل يختص ذلك بالسفر الطويل؟ فيه قولان: أحدهما: -وبه قال مالك-: نعم، كالقصر والفطر. وأصحهما: لا؛ لإطلاق الخبر الذي رويناه، وروي مثله عن جابر (¬2)، ولأن الحاجة كما تمس إلى الأسفار الطويلة تمس إلى الأسفار القصيرة، أو هي أغلب، ومنهم من قطع بالجواز في السفر القصير وامتنع من إثبات خلاف فيه [فيجوز] (¬3) لك أن تعلم بالواو لفظ القولين من قوله: (وفي السفر القصير قولان) وأما في الحضر فظاهر المذهب أنه لا يجوز ترك استقبال القبلة في النوافل، وهي والفرائض سواء في أمر القيام، وذلك لأن الغالب من حال المقيم اللبث والاستقرار. وقال أبو سعيد الإصْطَخري: يجوز للحاضر ترك الاستقبال فيها، والتنقل متوجهاً إلى مقصده في الترددات؛ لأن المقيم أيضاً محتاج إلى التردد في دار إقامته، وعلى هذا فالراكب والراجل سواء، وذكر في "التتمة" أن هذا اختيار القفال، ولم يحكه غيره عن اختياره على هذا الإطلاق، لكن الشيخ أبا محمد ذكر أنه اختار الجواز بشرط أن يكون ¬
مستقبلاً في جميع صلاته. فليكن قوله: (ولا يجوز في الحضر) معلماً بالواو لمكان هذا الوجه. ثم يتعلق بلفظ الكتاب في الفصل مباحثتان: إحداهما: أنه قال: (أما النوافل فيجوز إقامتها في السفر الطويل) ولفظ النوافل تدخل فيه الرواتب وغيرها، فما ليس بفرض، فهل يشمل الجواز الكل أم لا، والجواب أن طائفة من أصحابنا منهم القاضي ابن كج ذكروا أنه لا تقام صلاة العيدين والكسوفين والاستسقاء على الراحلة، وإنما تقام الرواتب وصلاة الضحى، وما يكثر ويتكرر، وأما هذه الصلوات فهي نادرة فأشبهت صلاة الجنازة، وبهذه العلة منع بعضهم صلاة الجنازة على الراحلة، وهذه العلة والتي قدمناها من نحو صورة القيام ينبغي أن تختلفا في التفريع إذا صلاهما على الراحلة قائماً. وقضية هذه العلة المنع، وقضية تلك العلة الجواز، وبه أجاب إمام الحرمين -رحمه الله-، وقضية لفظ الكتاب توافق إطلاق القول في النوافل بالجواز، وهو الظاهر عند الأكثرين، ولذلك قالوا في ركعتي الطواف، إن قلنا: بالافتراض فلا تؤدي على الراحلة، وإلا فتؤدي، ولم يبالوا بالندرة وقال في "التهذيب" يستوي فيه الرواتب وغيرها مما ليس بفرض. والثانية: أنه قال: (راكبًا وماشيًا) والركوب كما يستعمل في الدابة يستعمل في السفينة، فيقال: ركب السفينة أو الدابة وركب البحر، فهل يجوز أن يتنفل في السفينة حيث ما توجهت كما يجوز على الدابة؟ والجواب لا؛ حكى ذلك عن نص الشافعي -رضي الله عنه- ذلك، لأنه متمكن من الاستقبال، ولهذا تقول لو كان في هودج على الدابة يتمكن فيه من الاستقبال يلزمه ذلك على الصحيح كما سيأتي، واستثنى في العدة عن راكبي السفينة الملاح الذي يسيرها فله أن يتنفل إلى حيث توجه؛ لأن تكليفه الاستقبال يقطعه عن النافلة أو عن عمله وسيره. قال الغزالي: وَلاَ يَضُرُّ انْحِرَافُ الدَّابَّةِ عَنِ القِبْلَةِ، وَقِيلَ: يَجِبُ الاسْتِقْبَالُ عِنْدَ التَّحَرمِ (و)، وَقِيلَ: لاَ يَجبُ إلاَّ إِذَا كَانَ العِنَانُ بِيَدِهِ، ثُمَّ صَوْبُ الطَّرِيقِ بَدَلٌ عَنِ القِبْلَةِ فِي دَوَامِ الصَّلاَةِ، وَلاَ يُصَلِّي رَاكِبُ التَّعَاسِيفِ إِذْ لَيْسَ لَهُ صَوْبٌ مُعَيَّنٌ، وَإنْ حَرَّفَ الدَّابَّةَ عَمْدًا عَنْ صَوْبَ الطَّرِيقِ بَطُلَتْ صَلاتُهُ، وإنْ كَانَ نَاسِياَ لَمْ تَبْطُلْ إنْ قَصُرَ الزَّمَانُ لَكِنْ يَسْجُدُ لِلْسَّهْوِ، وَإِنْ طَالَ فَفِي البُطْلاَنِ خِلاَفٌ يَجْرِي مِثْلُهُ فِي الاسْتِدْبَارِ نَاسِيًا، وإنْ كَانَ بِجِمَاحِ الدَّابَّةِ بَطُلَ إنْ طَالَ الزَّمَانُ، وَإِنْ قَصُرَ فَوَجْهَانِ، ثُمَّ عَلَى الرَّاكِبِ أَنْ يُومِئَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودَ، وَيَجْعَلَ السُّجُودَ (ح) أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ، وإنْ كَانَ فِي مَرْقِدٍ أتَمَّ السُّجُودَ وَالرُّكُوعَ.
قال الرافعي: المتنفل في سيره إما راكب أو ماشٍ، ولا بد في الحالتين من النظر في الاستقبال وكيفية الأفعال، فبدأ بالكلام في الراكب ثم تكلم في الماشي، [أما الراكب] (¬1) فإما أن يكون على سرج ونحوه، ولا يمكنه إتمام السجود والركوع والاستقبال في جميع صلاته، وإما أن يكون في مرقد يمكنه ذلك، فأما في الحالة الأولى فلا يمنع من الصلاة بتعذر الاستقبال في جميعها، ولكن هل يجب عليه أن يستقبل القبلة عند التحرم؟ فيه وجوه: أحدها: لا كما في دوام الصلاة؛ لأن تكليف الاستقبال يشق عليه ويشوش عليه سيره. والثاني: نعم ليكون ابتداء الصلاة على صفة الكمال، ثم يخفف الأمر في الدوام كما أن النية يشترط اقترانها بالتكبير، ولا يشترط في دوام الصلاة فعلى، هذا الوجه لو تعذر الاستقبال في تلك الحالة لم تصح الصلاة أصلاً. والثالث: أنه إن سهل عليه الاستقبال عند التحرم وجب وإلا فلا، فلو كانت الدابة واقفة وأمكنه الانحراف عليها إلى القبلة لو أدارها إليها أو كانت سائرة والزمام في يده ولا حران بها، فالاستقبال سهل، وإن كانت مقطرة أو صعبة الإدارة لحرانها فهو عسير. أما الاشتراط عند السهولة، فلما روي عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ إذَا سَافَرَ وَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةِ بِنَاقَتِهِ، وَكَبَّرَ ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ وَجَّهَهُ رِكَابُهُ" (¬2). وأما عدم الاشتراط عند الصعوبة، فلدفع المشقة واختلال أمر السير عليه، ولهذا رخصنا في ترك الاستقبال في دوام الصلاة، وهذه الوجوه الثلاثة هي التي أوردها في الكتاب. واعلم أن الأكثرين سكتوا عن الوجه الثاني، واقتصروا على إيراد الأول والثالث، لكن حكاه الصيدلاني وتابعه إمام الحرمين، والمصنف على نقله، ثم إيراد الكتاب يقتضي أن يكون عدم الاشتراط مطلقاً أظهر؛ لأنه قال: "ولا يضر انحراف الدابة عن القبلة" ثم ذكر الوجهين الآخرين، والمذهبيون إذا أطلقوا الحكم، ثم قالوا: وقيل: كذا كأنه إشارةً منهم إلى ترجيح الأول إلا إذا نصوا على خلافه، لكن الذي رجحه معظم الأئمة إنما هو الوجه الثالث، وفيه جمع بين الخير والمعنى كما تقدم، ثم ظاهر لفظه في حكاية الوجه الثالث يقتضي الإيجاب فيما إذا كان العنان بيده ونفيه في غير هذه ¬
الحالة، لكن لو كانت الدابة واقفة وسهل الانحراف عليها يلزمه ذلك على هذا الوجه وإن لم يكن العنان بيده فكأنه جعل هذا مثالاً لصورة سهولة الاستقبال، ليلحق به ما هو في معناه، ويمكن أن يكون الذي حكاه ثانياً وجهاً مغايراً للوجه الثالث الذي قدمنا روايته، فإن الصيدلاني وغيره نقلوه كما نقله المصنف لكن الأول أقرب، فإن الفرق بين ما إذا كان العنان بيده وبين سائر صور السهولة بعيد. وفي لفظ الكتاب شيء آخر يحتاج إلى تأويله وذلك أنه قال: "ولا يضر انحراف الدابة عن القبلة" ومعلوم أنه لا اعتبار بانحراف الدابة واستقبالها، وإنما الاعتبار بحال الراكب، حتى لو استقبل الركب عند التحرم حصل الغرض وارتفع الخلاف وإن كانت الدابة منحرفة واقفة كانت أو سائرة فإذا المعنى ولا يضر انحرافه على الدابة أو لانحراف الدابة وما أشبه ذلك. وفي المسألة وجه رابع: وهو: أنه لو كانت الدابة متوجهة به عند افتتاح الصلاة، إما إلى القبلة أو إلى طريقه تحرم بالصلاة كما هو، ولو كانت منحرفة به إلى غيرها لم يجز التحرم إلا إلى القبلة، لأن تكليف صرف الدابة عن صوب الطريق إذا كانت متوجهة إليه قد يعسر، أما عند الانحراف إلى غير القبلة والطريق فلا بد من صرفها فليصرفها لهم القبلة أولاً ثم إلى الطريق فليس فيه كثير عسر، وإذا شرطنا الاستقبال عند التحرم ففي اشتراطه عند السلام وجهان: أحدهما: يشترط: لأنه أحد طرفي الصلاة، ولهذا اعتبرنا نية الخروج على رأي اعتباراً بالطرف الأول. وأصحهما: لا يشترط كما في سائر الأركان وهذا قضية نظم الكتاب، لأنه قال: "لا يضر الانحراف" ولم يستثن على بعض الوجوه سوى حالة التحرم. وإذا عرفت الخلاف في التحرم والتحلل، فاعرف أن فيما عداهما من أركان الصلاة يجعل صوب الطريق بدلاً عن القبلة، وكذلك عند التحرم والتحلل إذا لم يشترط فيهما الاستقبال، وإنما كان كذلك؛ لِأن المصلي لا بد وأن يستمر على جهة واحدة ليجتمع همه ولا يتوزع فكره، وجعلت تلك الجهة جهة الكعبة لشرفها، فإذا عدل عنها لحاجة السير فليلزم الجهة التي قصدها؛ محافظةَ على المعنى المقتضي للاستمرار على الجهة الواحدة، ثم الطريق في الغالب لا يستد؛ بل يشتمل على معاطف يلقاها السالك يمنة ويسرة، فيتبعه كيف ما كان لحاجة السير، وإنما قال: "صوب الطريق" لأنه لا يشترط أن يكون سلوكه في نفس الطريق المعبد، فقد يعدل المسافر عنه لزحمه ودفع غبار أو نحوهما، فالمعتبر الصوب دون نفس الطريق. ويتعلق بهذه القاعدة مسائل:
إحداها: ليس لراكب التعاسيف (¬1) ترك الاستقبال في شيء من صلاته، وهو الهائم الذي يستقبل تارة ويستدبر أخرى، إذ ليس له صوب ومقصد معين. وقوله: "ولا يصلي راكب التعاسيف" معناه أنه لا يتنفل متوجهاً إلى حيث تسير دابته كما يفعله غيره، لا أنه لا يتنفل أصلاً، فإن هذا الرجل لو تنفل مسقبلاً في جميع صلاته أجزأه، ولو كان له مقصد معلوم، لكن لم يسر في طريق معين، فهل يتنفل مستقبلاً صوبه، فيه قولان: أظهرهما: نعم؛ لأن له مقصداً معلوماً. والثاني: لا: إذ لم يسلك طريقًا مضبوطًا، وقد لا يؤدي سيره إلى مقصده. الثانية: لو انحرف [المصلي] (¬2) عن صوب الطريق أو انحرفت الدابة عنه، فيبني ذلك على ما لو انحرف المصلي على الأرض عن القبلة، وينظر فيه إن استدبر القبلة في صلاته أو تحول إلى جهة أخرى عمداً بطلت صلاته، وإن فعله ناسيًا للصلاة فإن تذكر على القرب وعاد إلى الاستقبال لم تبطل صلاته؛ كما لو تكلم في صلاته ناسيًا بكلام قليل، وإن طال الفصل ففي البطلان وجهان -كما لو تكلم ناسيًا بكلام كثير-: أصحهما: البطلان وهو الذي ذكره الصيدلاني، وصاحب "التهذيب"، لأن الصلاة لا تحتمل الفصل الطويل، ولأن ذلك مما يندر. والثاني: الصحة كما لو قصر الزمان للعذر، وهو الذي ذكره أبو حامد وطبقته، ولو أماله إنسان عن جهة القبلة قهرًا وطال الزمان بطلت صلاته، فإن عاد إلى الاستقبال على قرب فوجهان: أصحهما: البطلان. والفرق بين النسيان وقهر الغير إياه أن النسيان مما يكثر ويعم، والإكراه في مثل ذلك يندر، ولهذا المعنى نقول: لو أكره على الكلام في صلاته تبطل صلاته على الصحيح، بخلاف النسيان. جئنا إلى الانحراف عن صوب الطريق، أو تحريف الدابة عنه، فلو فعل ذلك عمداً فقد قال في الكتاب: بطلت صلاته، وهذا غير مجرى على إطلاقه، لأنه لو ¬
انحرف إلى جهة القبلة لا تبطل صلاته، وكيف تبطل وقد توجه إلى الجهة التي هي الأصل، فإذا المراد ما إذا حرف الدابة عن صوب الطريق إلى غير جهة القبلة، أو انحرف عليها وهكذا قيده سائر الأئمة، وإنما حكمنا بالبطلان لما ذكرنا من كون هذه الجهة قائمة مقام جهة القبلة، وإن حرف الدابة أو انحرف عليها إلى غير القبلة ناسيًا؛ فإن تذكر وعاد على قرب لم تبطل صلاته، وإن طال الزمان فوجهان كما ذكرنا في استدبار المصلي على وجه الأرض ناسيًا، والأصح البطلان. ولو أخطأ وظن أن الذي توجه إليه طريقه فهو كما لو انحرف ناسيًا للصلاة، ولو انحرف إلى غير القبلة لجماح الدابة فهذه الصورة تشبه ما لو أماله غيره قهرًا، فإن طال الزمان بطلت صلاته، وذكر الشيخ أبو حامد، أنها لا تبطل، كما ذكر في النسيان: فقوله: (بطل) معلم بالواو كذلك (وإن قصر) فقد حكى في الكتاب: فيه وجهين، كما رويناه في سورة الإمالة ولم يأت إمام الحرمين بحكاية الخلاف في الجماح، لكن قال: قد ذكرنا في مثل هذه الصورة خلافاً فيمن يصرف عن القبلة، والظاهر هاهنا أن الصلاة لا تبطل؛ لأن جماح الدابة مما يعم به البلوى، بخلاف صرف الرجل فهو نادر لا يعهد، وإن أراد أن الظاهر القطع بهذا والامتناع من تخريجه على الخلاف في سورة الصرف؛ لأنه قال -بعد الفرق بين الصورتين-: ولهذا قطع الأئمة بأن جماح الدابة في زمن قريب لا يبطل الصلاة، ولم أر ما يخالف هذا للأصحاب فالأمر على ما ذكرناه، فإذا بحثت وجدت كتب الأصحاب متفقة على أن الصلاة، لا تبطل في سورة جماح الدابة، إذا ردها على القرب، على أن الأكثرين سووا بين صورة النسيان وصورة الجماح، سواء منهم الحاكم بالصحة عند طول الزمان والحاكم بالبطلان، ويتبين من هذا أن المصنف كالمنفرد برواية الوجهين في بطلان الصلاة عند قصر المدة في سورة الجماح، فاعلم ذلك. الثالثة: إذا لم يحكم بالبطلان في النسيان والجماح فهل يسجد للسهو؟ أما عند النسيان فقد ذكر في الكتاب أنه يسجد للسهو عند قصر الزمان، وهكذا حكى الصيدلاني، والإمام وصاحب "التهذيب" ووجهه: أن [الانحراف] (¬1) عمداً مبطل للصلاة، فإذا اتفق سهوًا اقتضى سجود السهو، لكن الشيخ أبا حامد في طائفة حكوا عن نص الشافعي -رضي الله عنه- أنه لا يسجد للسهو إذا عاد عن قريب، فإن طال الزمان فحينئذ يسجد، فليكن قوله: (يسجد للسهو) معلماً بالواو، لذلك، وأما عند الجماح فمنهم من قال: لا يسجد إذا لم نحكم ببطلان الصلاة، لأنه لم يوجد منه ترك مأمور ولا فعل منهي، والذي وجد فعل الدابة، ومنهم من قال: -وهو الأظهر- يسجد، وفعل الدابة كفعله، وطريقة الشيخ ¬
أبي حامد هاهنا كما في النسيان، فالحاصل في الجماح ثلاثة أوجه: الأول: يسجد. الثاني: لا يسجد. الثالث: يفرق بين أن يطول الزمان أو يقصر، وفي النسيان لا يحصل إلا وجهان، وهذا كله متفرع على ظاهر المذهب وهو أن السهو في النافلة يقتضي السجود كما في الفريضة، وحكى قول: أنه لا مدخل لسجود السهو في النافلة بحال، هذا تمام الكلام في استقبال الراكب على السرج ونحوه. وأما كيفية إقامة الأركان فليس عليه وضع الجبهة على عُرف الدابة، ولا على السرج، والإكاف لما فيه من المشقة وخوف الضرر من نزقات الدابة، ولكن ينحني للركوع والسجود إلى الطريق، ويجعل السجود أخفض من الركوع. قال إمام الحرمين: والفصل بينهما عند التمكن محتوم، والظاهر أنه لا يجب مع ذلك أن تبلغ غاية وسعه في الانحناء، وأما كيفية سائر الأركان، فبينة. الحالة الثانية: أن يكون الراكب في مرقد ونحوه يسهل عليه الاستقبال وإتمام الأركان، فعليه الاستقبال في جميع الصلاة كراكب السفينة، إذ لا مشقة عليه في ذلك، وينبغي أن يتم الركوع والسجود أيضاً، فلو اقتصر على الإيماء كان بمثابة المتمكن على الأرض إذا تنفل مضطجعاً مقتصراً على الإيماء، وفي جوازه وجهان مذكوران في موضعهما، وحكى القاضي ابن كج عن نص الشافعي -رضي الله عنه- أنه لا يلزم الاستقبال ولا إتمام الركوع والسجود في المحمل الواسع، كما لا يجب على راكب السرج ذلك، وفرق بينه وبين راكب السفينة، بأن حركة راكب السفينة لا تؤثر فيها، وحركة راكب الدابة تؤثر في المحمل فيخاف الضرر، فإذاً قوله: (أتم الركوع والسجود) ينبغي أن يعلم بالواو لما رواه ابن كج أو للوجه الصائر إلى تجويز التنفل مومياً مضطجعاً، ألاَّ يريدَ بقوله: (أتم) أنه يلزم ذلك؛ بل يريد أنه الأحسن والأولى، والظاهر إرادة اللزوم. قال الغزالي: وَأَمَّا المَاشِي فَاسْتِقْبَالُهُ كَمَنْ بِيَدِهِ زِمَامُ نَاقَتِهِ وَيرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَيقْعُدُ لاَبثًا فِي هَذِهِ الأَرْكَانِ، وَلاَ يَمْشِي إِلاَّ فِي حَالِ القيامِ، وَفيهِ قَوْلٌ أنَّهُ يُوْمِيءُ بِذَلِكَ كُلِّهِ. قال الرافعي: لما فرغ من الكلام في استقبال الراكب وكيفية إقامته الأركان، اشتغل بالكلام فيهما في حق الماشي، وقد حكى الأصحاب على طبقاتهم عن نصِّ الشافعي -رضي الله عنه- أن الماشي يركع ويسجد على الأرض ولا يقتصر على الإيماء، لسهولة الأمر عليه، بخلاف الراكب فإن إتمامهما عسير عليه، أو متعذر، والنزول لهما أعسر وأشق، وزاد الشيخ أبو محمد فحكي ذلك عن نصه أنه يقعد في موضع التشهد أيضاً، ويسلم، ولا يمشي إلا في حال القيام، وتابعه إمام الحرمين
والمصنف، فقال: ويركع ويسجد ويقعد لابثاً في هذه الأركان إلى آخره، ونفى الشيخ أبو حامد والعراقيون من أصحابنا هذه الزيادة، وقالوا: لا يجب القعود، بل يمشي في حال التشهد كما في حال القيام، وهو ظاهر المذهب، لطول زمان التشهد كالقيام، وهذا ما أورده الشيخ الحسين وأبو سعيد المتولي، ثم ذكر إمام الحرمين أن ابن سريج خرج قولاً [ثالثًا] (¬1) أنه لا يلبث ولا يضع جبهته على الأرض بل يومئ راكعًا وساجداً كالراكب، لأن كثرة اللبث قد يفضي إلى الانقطاع عن الرفقة ويشوش عليه أمر السفر، وعلى هَذا فيجعل السجود أخفض من الركوع كالرَّاكِبِ، ولا يقعد في التشهد، وحكى الشيخ أبو محمد هذا القول المنسوب إلى ابن سريج عن القفال، وأنه أوَّلَ نص الشافعي -رضي الله عنه- على الاستحباب. قال الشيخ: ثم وجدت ما ذكره القفال منصوصاً للشافعي -رضي الله عنه- فحصل في الأركان المذكورة، هل يتمها الماشي لابثاً أم لا؟ قولان منصوص ومخرج على ما ذكره في الكتاب، أو منصوصان على ما رواه الشيخ، ويترتب على ما ذكرناه القول في استقبال القبلة، أما إذا قلنا: إنه يركع ويسجد ويقعد لابثاً فيها فلا شك في أنه يستقبل القبلة فيها، ويتحلل عن صلاته وهو مستقبل، وإذا لزم الاستقبال في هذه الأحوال فهو عند التحرم ألزم، فإن الراكب يستقبل عند التحرم على الأظهر، وإن لم يستقبل في سائر الأفعال والأركان، وإن استثنينا حالة التشهد عن النص وقلنا: لا يقعد فيها بل يمشي، ففي وجوب الاستقبال عند السلام وجهان، كما قدمناهما في الراكب، وأما إذا قلنا: بالاقتصار على الإيماء فلا يجب الاستقبال في الركوع والسجود ولا في التشهد، وحكمه التحرم حكم الراكب الذي بيده زمام دابته. والحاصل من الخلاف الذي سبق في هذا الراكب وجهان: أظهرهما: لزوم الاستقبال، فكذلك في الماشي. وإذا عرفتِ هذا فلك في عبارة الكتاب -أعني- قوله: (أما الماشي فاستقباله كمن بيده زمام دابته) نظران: أحدهما: أنه أطلق الكلام إطلاقًا ولم يقيد بحالة التحرم، ومعلوم أن استقبال الماشي ليس كاستقبال من بيده زمام دابته على الإطلاق، فإن الراكب لا يؤمر بالاستقبال في الركوع والسجود وإن كان بيده زمام دابته، والماشي يؤمر به على الأظهر. والثاني: أنه قيد بحالة التحرم، لكن هذا الكلام إما أن يكون موصولاً بما بعده، ¬
أو يكون منقطعًا عنه مستقلاً بنفسه، فإن كان موصولاً بما بعده على معنى أنه مقول على قولنا: أنه يركع ويسجد ويقعد لابثاً، فيكون هذا إثباتًا للخلاف في الاستقبال مع الحكم بإتمام هذه الأركانِ، لأن استقبال [هذا] (¬1) الراكب الذي بيده زمام دابته مختلف في وجوبه، ولا خلاف في وجوب الاستقبال عند التحرم على هذا المذهب، كذلك ذكره إمام الحرمين وغيره، وهو المعقول. وإن كان مستقلاً بنفسه منقطعًا عما بعده كان هذا إثباتاً للخلاف في أنه، هل يلزمه الاستقبال عند التحرم على الإطلاق؟ والظاهر القطع، بأنه يلزمه ذلك؛ لأن الظاهر أنه يتم الركوع والسجود، وحينئذ لا خلاف فيه على ما ذكرناه، وإنما الخلاف فيه على القول المخرج، فكان ينبغي أن يرتبت قوله: (استقبال الماشي كمن بيده زمام دابته) على القول المخرج كما نقله الإمام. وقوله في حكاية القول المخرج: أنه يومئ في ذلك كله ويرجع إلى الركوع والسجود دون القعود، وإن عمم اللفظ فإنه لا إيماء إلى القعود، بل يعتدل قائماً بعد الإيماء بالسجود ويتشهد فيقع قيامه بدلاً عن القعود كما يقع القعود بدلاً عن القيام في حق العاجز عن القيام ثم صوب الطريق، حيث لا يجب استقبال القبلة، يكون بدلاً عن القبلة في حق الماشي كما ذكرناه في الراكب ويعود فيه إلى المسائل السابقة. قال الغزالي: فَرْعٌ: لَوْ مَشَى فِي نجاسَةٍ قَصْداً بَطُلَتْ صَلاتُهُ بخِلاَفِ مَا لَوْ وَطِئَ فَرَسُهُ نَجَاسَةٌ، وَلاَ يَلْزَمُهُ المُبَالَغَةُ في التَّحَفُّظ عِنْدَ كَثْرَةِ النَّجَاسَةِ فِي الطَّرِيقِ. قال الرافعي: يجب أن يكون ما يلاقي الراكب وثيابه طاهراً من السرج وغيره. ولو بالت الدابة أو وطئت نجاسة لم يضر، لأن تلك النجاسة لا تلاقي بدنه وثيابه، ولا هو حامل لها، بل لو كان السرج نجساً فألقى عليه ثوباً طاهراً وصلى عليه جاز، أما لو أوطأ الدابة نجاسة فالذي ذكره في الكتاب أن ذلك لا يضر، كما لو وطئت بنفسها، وكذلك أورده صاحب "النهاية" لكن قال في "التتمة": لو سيرها على النجاسة عمداً بطلت صلاته لإمكان التحرز عنها، فليكن قوله: (بخلاف ما لو أوطئ فرسه نجاسة) معلماً بالواو، وأما الماشي فلا كلام في أنه لو مشى على نجاسة قصداً فسدت صلاته؛ لأنه يصير ملاقياً لها بخفة الملبوس، ولا يجب عليه التحفظ والاحتياط في المشي؛ لأن النجاسات تكثر في الطرق وتكليفه التحفظ يشوش عليه غرض السير، ولو انتهى إلى نجاسة ولم يجد معدلاً عنها فقد قال إمام الحرمين: وهذا فيه احتمال: قال: ولا شك أنها لو كانت رطبة فمشى عليها بطلت صلاته وإن كان عن غير ¬
القول في استقبال القبلة على الأرض
قصد؛ لأنه يصير حاملاً للنجاسة وما سبق في النجاسة اليابسة. وأعلم أنه يشترط في جواز التنفل راكبًا وماشيًا دوام السفر والسير؛ فلو بلغ المنزل في خلال الصلاة وجب إتمام الصلاة متمكناً متوجهًا إلى القبلة، وينزل إن كان راكباً. ولو دخل بلد إقامته فعليه النزول أول ما دخل البنيان وإتمام الصلاة مستقبلاً إلا إذا جوزنا للمقيم التنفل على الراحلة، وكذلك لو نوى الإقامة ببلدة أو قرية. ولو مر ببلدة مجتازاً فله إتمام الصلاة راكبًا، وإن كان له بها أهل فهل يصير مقيمًا بدخولها؟ قولان: إن قلنا: نعم وجب النزول والإتمام، وحيث أمرناه بالنزول فذلك عند تعذر البناء على الدابة، فلو لم يتعذر بأن أمكنه الاستقبال وإتمام الأفعال عليها وهي واقفة جاز، ويشترط أيضاً الاحتراز عن الأفعال التي لا يحتاج إليها، فلو ركض الدابة للحاجة إليه فلا بأس، ولو أعارها بغير عذر أو كان ماشيًا فعدا قصداً بغير عذر بطلت صلاته في أصح الوجهين. قال الغزالي: الرُّكْنُ الثَّانِي الْقِبْلَةُ: وَمَوَاقِفُ المُسْتَقْبِلِ مُخْتَلِفَةٌ، فَالمُصَلِّي في جَوْفِ الكَعْبَةِ يَسْتَقبِلُ أَيَّ جِدَارٍ شَاءَ، وَيَسْتَقْبِلُ البَابَ وَهُوَ مَردُودٌ، وَإِنْ كَانَ مَفْتُوحًا وَالعَتَبَةُ مُرْتَفِعَةٌ قَدْرَ مُؤَخَّرَةِ الرَّجُلِ جَازَ، وَلَو انْهَدَمَتِ الكَعْبَةُ وَالعِيَاذُ باللهِ صَحَّتْ صَلاتُهُ خَارِجَ العَرْصَةِ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهَا كَمَنْ صَلَّى عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ وَالكَعْبَةُ تَحْتَهُ، وإنْ صَلَّى فِيهَا لَمْ يَجُزْ (ح م) إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَجَرَةٌ أَوْ بَقِيَّةُ حَائِطٍ، وَالوَاقِفُ عَلَى السَّطْحِ كَالوَاقِفِ فِي العَرْصَةِ، فَلَوْ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيهِ شَيْئًا لاَ يَكْفِيهِ، وَلَوْ غَرَزَ خَشَبَةٌ فَوَجْهَانِ. القول في استقبال القبلة على الأرض: قال الرافعي: مسائل الركن مبنية على النظر في موقف المصلي، وهو إما أن لا يكون وراء الكعبة، أو يكون وراءها وإن كان وراءها فإما أن يكون في المسجد الحرام أو وراءه، وإن كان وراءه فإما أن يكون بمكة أو المدينة أو غيرهما، والفصل يشتمل على القسم الأول وهو أن لا يكون وراء الكعبة وحينئذ له ثلاثة أحوال؛ لأنها إما أن تكون على هيئتها مبنية، أو تنهدم -والعياذ بالله- فيقف في عرصتها؛ وإذا كانت على هيئتها مبنية فإما أن يقف في جوفها أو على سطحها. الحالة الأولى: أن يقف في جوفها فتصح صلاته فريضة كانت أو نافلة خلافاً لمالك وأحمد في الفريضة. لنا أنه صلى متوجهاً إلى بعض أجزاء الكعبة فتصح صلاته كالنافلة، وكما لو توجه
إليها من خارج، ثم يتخير في استقبال أي جدارٍ شاء؛ لأنها أجزاء البيت، ويجوز أن يستقبل الباب أيضاً إن كان مردوداً، فإن باب البناء معدود من أجزائه، ألا ترى أنه يدخل في بيعه، وإن كان مفتوحاً نظر في العتبة إن كانت قدر مؤخرة الرحل صحت صلاته، وإن كانت دونها فلا، ومؤخرة الرحل ثلثا ذراع إلى ذراع تقريباً (¬1). قال إمام الحرمين: وكأن الأئمة راعوا في اعتبار هذا القدر أن يكون في جلوسه يسامت بمعظم بدنه الشاخص ولكنه يكون في القيام خارجاً بمعظم بدنه عن المسامتة، فليخرج على الخلاف فيما إذا وقف على طرف ونصف بدنه في محاذاة ركن من الكعبة، وليكون قوله: (والعتبة مرتفعة قدر مؤخرة الرحل) معلماً بالواو؛ لأنه مذكور قيداً في الجواز وقد حكى في "البيان" عن الشيخ أبي حامد، وابن الصباغ: أنه يكفي للجواز أن تكون العتبة شاخصة بأي قدر كان وإن قل؛ لأنه استقبل جزءاً من البيت، وكذا قوله (جاز) لأن إمام الحرمين حكى وجهاً آخر أنه لا يكفي أن يكون الشاخص قدر المؤخرة بل يجب أن يكون بقدر قامة المصلي طولاً وعرضاً ليكون مستقبل بجميع بدنه الكعبة، والعتبة لا تبلغ هذا الحد غالباً فلا تصح الصلاة إليها على الوجه. الحالة الثانية: أن تنهدم الكعبة -حاشاها- ويبقى وضعها عرصة فإن وقف خارجها وصلى إليها جاز؛ لأن المتوجه إلى هواء البيت والحالة هذه يسمى مستقبلاً، وصار كمن صلى على جبل أبي (¬2) قبيس والكعبة تحته يجوز لتوجهه إلى هواء البيت، ولو صلى فيها فالحكم فيه كالحكم في الحالة الثالثة وهو: أن يقف على سطحها، فينظر إن لم يكن بين يديه شيء شاخص من نفس الكعبة ففيه وجهان: أحدهما: -وبه قال أبو حنيفة وابن سريج- يجوز كما لو وقف خارج العرصة متوجهاً إلى هواء البيت. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب أنه لا يجزئه، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "نَهَى عَنِ الصَّلاَةِ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ" (¬3)، ولأنه والحالة هذه مصل على البيت لا إلى البيت وخص بعضهم نقل الجواز عن ابن سريج بصورة العرصة دون السَّطح، لكن قال إمام الحرمين: لا شك أنه يجزئه في ظهر الكعبة وصرح في "التهذيب" بنقل الجواز عنه في الواقف ¬
على ظهر الكعبة فلا فرق، وإن كان بين يديه شاخص من نفس الكعبة فإن كان قدر مؤخرة الرَّحْل جاز، وإلا فلا كما ذكرناه في العتبة، ويجري الوجهان الآخران المذكوران في العتبة فيما نحن فيه. أحدهما: اشتراط كون الشاخص بقدر قامة المصلي. والثاني: الاكتفاء بأي قدر كان. ولذا عرفت ذلك فلو وضع بين يديه متاعاً لم يكفه، وإن استقبل بقية حائط أو شجرة نبتت في العرصة جاز، وكذا لو جمع ترابها واستقبله، أو حفر حفرة ووقف فيها، وكذا لو وقف في آخر السطح، أو العرصة وتوجه إلى الجانب الآخر وكان الجانب الذي وقف فيه أخفض من الجانب الذي استقبله يجوز، ولو نبتت حشيشة وعلت قال في "النهاية": لا حكم لها في الاستقبال، وألحق صاحب "التهذيب" الزرع بالشجرة، وما ذكره الإمام أظهر، ولو غرز عصا أو خشبة فوجهان: أحدهما: يكفي لحصول الاتصال بالغرز، ولذلك تعد الأوتاد المغروزة من الدار وتدخل في البيح. وأصحهما: لا كما لو وضع متاعاً بين يديه، ومطلق الغرز لا يوجب كون المغروز من البناء، والأوتاد جرت العادة بغرزها لما فيها من المصالح فقد تعد من البناء لذلك، والوجهان في الغرز المجرد، أما لو كانت مثبتة أو مسمرة كفت للاستقبال، نعم قال إمام الحرمين: الخشبة وإن كانت مثبتة فبدن الواقف خارج عن محاذاتها من الطرفين فيكون على الخلاف الذي يأتي ذكره فيمن وقف على طرف ونصف بدنه في محاذاة ركن من الكعبة. قال الغزالي: وَالوَاقِفُ فِي المَسْجِدِ لَوْ وَقَفَ عَلَى طَرَفٍ وَنصْفُ بَدَنِهِ فِي مُحَاذَاةِ رُكْنٍ، فَفِي صِحَّةِ صَلاَتِهِ وَجْهَانِ، وَلَوِ امْتَدَّ صَفٌّ مُسْتَطِيلٌ قَرِيبٌ مِنَ البَيْتِ، فَالخَارجُ عَنْ سَمْتِ البَيْتِ لاَ صَلاةَ لَهُ، وَهَؤُلاَءِ قَد يُفْرَضُ تَرَاخِيهِمْ عَنْ أُخْرَيَاتِ المَسْجِدِ، فَتَصِحُّ صَلاتُهُمْ لِحُصُولِ اسْمِ الاسْتِقْبَالِ. قال الرافعي: سنذكر اختلاف قول في أن المطلوب في الاستقبال عين الكعبة أو جهتها، وذلك الخلاف في حق البعيد عن الكعبة، أما الحاضر في المسجد الحرام فيجب عليه لا محالة استقبال عين الكعبة؛ لأنه قادر عليه، وقد روينا أنه -صلى الله عليه وسلم- "دَخَلَ الْبَيْتَ ثُمَّ خَرَجَ فَاسْتَقبَلَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: هذِهِ الْقِبْلَةُ" (¬1) أشار إلى عين الكعبة ¬
وحصر القبلة فيها. وإذا عرفت ذلك ففي الفصل ثلاث صور: إحداها: لو وقف على طرف من أطراف البيت وبعض بدنه في محاذاة ركن والباقي خارج ففي صحة صلاته وجهان: أحدهما: تصح؛ لأنه توجه إلى الكعبة بوجه وحصل أصل الاستقبال، وأصحهما لا تصح؛ لأنه يصدق أن يقال ما استقبل الكعبة إنما استقبلها بعضه. الثانية: الإمام يقف خلف المقام والقوم يقفون مستدبرين بالبيت، فلو استطال الصف خلفه ولم يستديروا فصلاة الخارجين عن محاذاة الكعبة باطلة؛ لأنهم لا يسمون مستقبلين، وذكر صاحب "التهذيب" وغيره من أصحابنا أن أبا حنيفة يصحح صلاة الخارجين عن محاذاة الكعبة، لأن الجهة كافية عندها وعلم لهذا قوله في الكتاب: (والخارج عن سمت البيت لا صلاة له) بالحاء، لكن أبا الحسن الكرخي وغيره من أصحاب أبي حنيفة فَصَّلوا وقالوا: الفرض على المصلي استقبال القبلة وإصابة عينها إذا قدر عليها، أو الجهة إذا لم يقدر على عينها وهذا يدل على أنه إنما يكتفي بالجهة حق البعيد الذي لا يقدر على إصابة العين لا مطلقاً. الثالثة: لو تراخى الصف الطويل ووقفوا في آخر باب المسجد صحت صلاتهم؛ لأن المتبع اسم الاستقبال وهو يختلف بالقرب والبعد، ولهذا يزول اسم الاستقبال عن القريب بانحراف يسير، ولا يزول عن البعيد بمثلة، والمعنى فيه أن الحرم الصغير كلما ازداد القوم عنه بعداً ازدادوا له محاذاة كغرض الرماة وغيره. قال الغزالي: وَالوَاقِفُ بِمَكَّةَ خَارجَ المَسْجِدِ يَنْبَغِي أَنْ يُسَوِّيَ مِحْرَابَهُ بَنَاءً عَلَى عِيَانِ الكَعْبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِر اسْتَدَلَّ عَلَيْهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا. قال الرافعي: المصلي بمكة خارج المسجد إن كان يعاين الكعبة كمن هو على جبل "أبي قبيس" صلى إليها بالمعاينة، ولو سوى محرابه بناء على العيان صلى إليه أبداً؛ لأنه يستيقن الإصابة، ولا حاجة في كل صلاة إلى معاينة الكعبة، وفي معنى المعاين المكي الذي نشأ بمكة وتيقن إصابة الكعبة وإن لم يشاهدها حين يصلي، وأما إذا لم يعاين الكعبة ولا تيقن الإصابة فيستدل بما أمكنه ويسوي محرابه بناء على الأدلة، هذا ما ذكره في الكتاب، وحكاه في "النهاية" عن العراقيين، وأنهم قالوا: لا يكلف الرقي إلى سطح الدّار مع إمكان العيان، واعتمدوا فيه ما صادفوا أهل مكة عليه في جميع الأعصار. قال: وفيه نظر عندي فإن اعتماد الاجتهاد بمكة مع إمكان البناء على العيان بعيد، وسنذكر في الركن الثالث -إن شاء الله تعالى- ما يزداد به هذا الفصل وضوحاً. قال الغزالي: وَالوَاقِفُ بِالمَدِينَةِ يُنَزِّلُ مِحْرَابَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فِي حَقّهِ مَنْزِلَةَ الْكَعْبَةِ
فَلَيْسَ لَهُ الاجْتِهَادُ فِيه بالتَّيَامُنِ والتَّيَاسُرِ، وَهَلْ لَه ذلِكَ فِي سَائِرِ البِلاَدِ؟ فَعَلَى وَجْهَيْنِ. قال الرافعي: محراب الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة نازل منزلة الكعبة؛ لأنه لا يقر على الخطأ فهو صواب قطعاً، وإذا كان كذلك فمن يعاينه يستقبله، ويسوي محرابه عليه، إما بناء على العيان أو استدلالاً كما ذكرنا في الكعبة، ولا يجوز العدول عنه إلى جهة أخرى بالاجتهاد بحال، وفي معنى المدينة سائر البقاع التي صلى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ضبط المحراب، وكذلك المحاريب المنصوبة في بلاد المسلمين، وفي الطرق التي هي جادتهم يتعين التوجه إليها، ولا يجوز الاجتهاد معها، وكذلك في القرية الصغيرة إذا نشأ فيها قرون من المسلمين، ولا اعتماد على العلامة المنصوبة في الطريق الذي يندر مرور الناس بها، أو يستوي فيه مرور المسلمين والكفار، وفي القرية الخربة التي لا يدري أنها من بناء المسلمين أو الكفار، ولا بد من الاجتهاد في هذه المواضع، وإذا منعنا من الاجتهاد في الجهة فهل يجوز الاجتهاد في التيامن والتياسر؟ أما في محراب الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلا، ولو تخيل عارف بأدلة القبلة أن الصواب فيه يتبامن أو يتياسر فليس له ذلك، وخياله باطل. وأما في سائر البلاد فعلى وجهين أصحهما: -ولم يذكر الأكثرون- سواه أنه يجوز؛ لأن الخطأ في الجهة مع استمرار الخلق واتفاقهم ممتنع، لكن الخطأ في الانحراف يمنة ويسرة مما لا يبعد، ويقال إن عبد الله بن المبارك كان يقول بعد رجوعه من الحج: "تياسروا يا أهل مرو". والثاني: أنه لا يجوز احتمال إصابة الخلق الكثير أقرب وأظهر من احتمال إصابة الواحد، وهذا يستوي فيه الجهة والانحراف يمنة ويسرة، وفصل القاضي الرُّويَاني وغيره بين البلاد بعد المدينة، فجعلوا قبلة "الكوفة" صواباً يقيناً كقبلة المدينة؛ لأنه صلى إليها الصحابة، ولم يجعلوا قبلة البصرة يقيناً، وقضية هذا الكلام جواز الاجتهاد في التيامن والتياسر في قبلة البصرة دون الكوفة، وفيما علق عن ابن يونس القزويني (¬1) مثل هذا الفرق فإنه قال: قبلة الكوفة قد صلى إليها عليٌّ -كرم الله وجهه- مع عامة الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين-، ولا اجتهاد مع إجماع الصحابة -رضي الله عنهم-. قال: واختلف أصحابنا: في قبلة البصرة، فمنهم من قال: هي صواب أيضاً كقبلة الكوفة ومنهم من جوز فيها الاجتهاد وفرق بأن قبلة الكوفة نصبها علي -رضي الله عنه- وقبلة البصرة نصبها عتبة بن غزوان، والصواب في فعل علي -رضي الله عنه- أقرب، ثم حكى في قبلة سائر البلاد وجهين، وجعل أصحهما جواز الاجتهاد فيها، وهذا إن عني به الاجتهاد في الجهة من أصلها فهو بعيد بمرة، بل الذي قطع به معظم الأصحاب منع ¬
ذلك في جميع البلاد في المحاريب المتفق عليها بين أهلها، وإن عني به الاجتهاد في التيامن والتياسر فالفرق بين الكوفة والبصرة كما نقله الروياني وهو بعيد أيضاً؛ لأن كل واحدة منهما قد دخلها الصحابة وسكنوها وصلوا إليها، فإن كان ذلك مما يفيد اليقين وجب استواؤهما فيه، وإن لم يفد اليقين فكذلك والله أعلم. قال الغزالي: الرُّكْنُ الثَّالِثُ فِي المُسْتَقْبِلِ: فَالقَادِرُ عَلَى مَعْرِفةِ القِبْلَةِ لاَ يَجُوزُ لَهُ الاجْتِهادُ، والقَادِرُ عَلَى الاجْتِهَادِ لاَ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ، وَالأَعْمَى العَاجِزُ يُقَلِّدُ شَخْصاً مُكَلَّفًا مُسْلِماً عَارِفاً بِأدِلَّةِ القِبْلَةِ، وَلَيْسَ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يُقَلِّد غَيْرَهُ، وَإِنْ تَحَيَّرَ فِي الحَالِ فِي نَظَرِهِ صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ وَقَضَى، وَقِيلَ: يُقَلِّدُ وَيَقْضِي، وَقِيلَ: إنَّهُ يُقَلِّدُ وَلاَ يَقْضِي، أَمَّا البَصِيرُ الجَاهِلُ بِالأَدِلَّةِ إنْ قَلَّدَ يَلْزَمُهُ القَضَاءُ إلاَّ إذَا قُلْنَا: لاَ يَجِبُ تَعَلُّمْ أَدِلَّة القِبْلَةِ عَلَى كُلِّ بَصِيرٍ، فَعِنْدَ ذلِكَ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الأَعْمى. قال الرافعي: المصلي إما أن يقدر على معرفة القبلة يقيناً أو لا يقدر عليها، فإن قدر على اليقين فليس له الاجتهاد كالقادر على العمل بالنص لا يجوز له الاجتهاد، وحكى القاضي الروياني وجهين فيما إذا استقبل المصلي حجر الكعبة وحده بناء على هذا الأصل. وقال: الأصح المنع؛ لأن كونه من البيت غير مقطوع به، وإنما هو مجتهد فيه، فلا يجوز العدول عن اليقين إليه. ثم المعرفة يقيناً قد تحصل بالمعاينة، وقد تحصل بغير المعاينة كالناشئ بمكة يعرف القبلة بأمارات تفيده اليقين وإن لم يعاين كما سبق، وكما لا يجوز للقادر على اليقين الاجتهاد لا يجوز له الرجوع إلى قول الغير أيضاً، وإن لم يقدر على درك اليقين فلا يخلو: إما أن يجد من يخبره عن القبلة عن علم وكان المخبر ممن يعتمد قوله أَوْ لاَ يجد فإن وجد رجع إلى قوله ولم يجتهد أيضاً كما في الوقت إذا أخبره عدل عن طلوع الفجر يأخذ بقوله ولا يجتهد، وكذلك في الحوادث إذا روى العدل خبراً يؤخذ به، وكل ذلك قبول الخبر من أهل الرواية وليس من التقليد في شيء، ويشترط في المخبر أن يكون عدلاً يستوي فيه الرجل والمرأة، والحر والعبد. وفي وجه لا تشترط العدالة بل يقبل خبر الفاسق؛ لأنه لا يتهم في مثل ذلك، والمذهب الأول، ولا يقبل خبر الكافر بحال، وفي الصبي بعد التمييز وجهان كما في رواية إخبار الرسول -صلى الله عليه وسلم-. والأكثرون على أنه لا يقبل. ثم الإخبار عن القبلة قد يكون صريحاً وقد يكون دلالة. أما الصريح فلا يخفى. وأما الدلالة فنصب المحاريب في المواضع التي يعتمد عليها كما سبق في التفصيل، ولا فرق في لزوم الرجوع إلى الخبر بين أن يكون الشخص من أهل الاجتهاد
وبين أن لا يكون، حتى إن الأعمى يعتمد بالمحراب إذا عرفه باللمس حيث يعتمد البصير بالرؤية، وكذا البصير إذا دخل المسجد في ظلمة الليل اعتمد المحراب باللمس، هكذا ذكر صاحب "التهذيب" وغيره، وقال في "العد" إنما يعتمد الأعمى على المس إذا شاهد محراب المسجد قبل العمى، أما لو (¬1) لم يشاهد فلا يعتمد عليه. ولو اشتبهت عليه طيقان المسجد فلا شك أنه يصبر حتى يخبره غيره صريحاً، وإن خاف فوات الوقت صلى على حسب الحال وأعاد، هذا إذا وجد من يخبره عن علم وكان ممن يعتمد قوله، أما إذا لم يجد فلا يخلو: إما أن يكون قادراً على الاجتهاد أو لا يكون، فإن قدر على الاجتهاد لزمه الاجتهاد والتوجه إلى الجهة التي يظنها جهة القبلة، ولا تحصل القدرة على الاجتهاد إلا بمعرفة أدلة القبلة وهي كثيرة صنفوا لذكرها كتبًا مفردة، وأضعفها الرياح، لأنها تختلف وأقواها القطب وهو نجم صغير في نبات نعش الصغرى بين الفرقدين والجدي إذا جعله الواقف خلف أذنه اليمنى كان مسقبلاً للقبلة، هكذا يكون بناحية الكوفة وبغداد وهمذان (¬2) وقزوين (¬3) والري (¬4) وطبرستان وجرجان (¬5)، وما والاها إلى نهر الشاش، وليس على القادر على الاجتهاد أن يقلد غيره فيعمل باجتهاده كما في الأحكام الشرعية، ولو فعل يلزمه القضاء، ولا فرق بين أن يخاف فوت الوقت لو اشتغل بالاجتهاد أو أتمه وبين أن لا يخاف في أنه لا يقلد، لكن عند ضيق الوقت يصلي لِحَقِّ الوقت كيفما كان ثم يجتهد ويقضي. وقال ابن سريج: يقلد عند خوف الفوات. وقال في "النهاية": لو كان في نظره وعلمه أن وقت الصلاة ينتهي قبل انتهاء نظره فيقلد ويصلي في الوقت أم يتمادى إلى إتمام الاجتهاد في نظره؟ وهذا كما لو تناوب جمع على بئر وعلم أن النوبة لا تنتهي إليه إلا بعد الوقت، وقد ذكرنا خلافاً في أنه هل يصبر أو يتيمم ويصلي في الوقت؟ فتحصل من هذا الكلام وجه ثالث أنه يصبر إلى إتمام ¬
الاجتهاد ولا يصلي وإن فات الوقت لا كيفما كان ولا بالتقليد. وما ذكرناه من الاجتهاد يتصور في حق الغائب عن مكة، فأما الحاضر بمكة إذا لم يعاين الكعبة لحائل بينه وبين الكعبة نظر: إن كان الحائل أصليًا كالجبل فله الاجتهاد والاستقبال بالاستدلال، ولا يكلف صعود الجبل أو دخول المسجد لما فيه من المشقة، وإن كان الحائل حادثًا كالأبنية فوجهان: أحدهما: لا يجوز لأن الفرض في مثل هذا الموضع قبل حدوث البناء إنما هو المعاينة دون الاجتهاد فلا يتغير بما طرأ من البناء. وأصحهما: الجواز كما في الحائل الأصلي لما في تكليف المعاينة من المشقة، وما ذكره في الكتاب قبل هذا الفصل أن الواقف بمكة خارج المسجد إذا لم يعاين الكعبة يستدل عليها بما يدل عليها كأنه جواب على هذا الوجه، ولو خفيت الدلائل على المجتهد إما لتغيم اليوم أو لكونه محبوسًا في ظلمة فتحير لذلك أو لتعارض الدلائل عنده ففي المسألة ثلاثة طرق: أظهرها: أن فيها قولين: أصحهما: عند الأكثرين: أنه لا يقلد لأنه قادر على الاجتهاد والتحير عارض وقد يزول عن قريب. والثاني: -وهو اختيار ابن الصباغ-: أنه يقلد؛ لأنه عجز عن استبانة الصواب بنظره فأشبه الأعمى. والطريق الثاني: القطع بالقول الأول. والثالث: القطع بالثاني، فإذا قلنا: لا يقلد فيصلي كيف اتفق ويقضي كالأعمى لا يجد من يقلده يصلي لحق الوقت ويقضي، وإن قلنا: إنه يقلد فهل يقضي؟ ذكر في "النهاية" أنه على وجهين مبنيين على القولين في لزوم القضاء إذا صلى بالتيمم لعذر نادر، لا يدوم كما سيأتي نظائره. وقضية هذا الكلام: أن يكون الأظهر وجوب القضاء على قولنا: إنه يقلد، كما أن الأظهر لزوم القضاء على من تيمم في الحضر لفقد الماء، ولكن الذي أورده الجمهور تفريعاً على قولنا: أنه يقلد أنه لا قضاء عليه كالأعمى إذا صلى بالتقليد، ثم قال إمام الحرمين -قدس الله روحه-: الخلاف المذكور في تحير المجتهد موضعه ما إذا ضاق الوقت وخشي الفوات، فأما في أول الوقت ووسطه يمتنع التقليد لا محالة إذ لا حاجة إليه، ثم قال: وفي المسألة نوع احتمال وسببه الإلحاق بالتيمم في أول الوقت مع العلم بأنه ينتهي إلى الماء في آخر الوقت، وهذا آخر الكلام في القادر على الاجتهاد؛ أما
العاجز عنه فينقسم إلى عاجز لا يمكنه تعلم الأدلة كالأعمى وإلى عاجز يمكنه التعلم. أما الأول فالأعمى لا سبيل له إلى معرفة أدلة القبلة، لأنها تتعلق بالصبر فالواجب عليه التقليد كَالْعَاميِّ في الأحكام، وإنما يجوز تقليد المكلف المسلم العدل العارف بأدلة القبلة، يستوي فيه الرجل والمرأة، والحر والعبد، وتقليد الغير هو قبول قوله المستند إلى الاجتهاد، حتى إن الأعمى لو أخبره بصير بمحل القطب منه وهو عالم بدلالته، أو قال: رأيت الخلق الكثير من المسلمين يصلون إلى هذه الجهة كان الأخذ بمقتضاه قبول خبر لا تقليد، ولو وجد مجتهدين واختلف اجتهادهما قلد من شاء منهما، والأحب أن يقلد الأوثق والأعلم عنده. وقيل: يجب ذلك فإن تساوى قول اثنين عنده تخير. وقيل: يصلي مرتين إلى الجهتين، وفي معنى الأعمى البصير الذي لا يعرف الأدلة وليس له أهلية معرفتها، فيقلد كالأعمى؛ لأن عدم البصيرة أشد من عدم البصر. القسم الثاني: العاجز الذي يمكنه التعلم فيبني أمره على أن تعلم أدلة القبلة هل هو من فروض الأعيان أم لا، فيه وجهان: أحدهما: لا بل، هو من فروض الكفايات كالعلم بأحكام الشريعة، ولأن الحاجة إلى استعمالها نادرة فإن الاشتباه مما يندر وأصحهما أنه من فروض الأعيان كأركان الصلاة وشرائطها بخلاف تعلم الأحكام فإنه يحتاج (¬1) إلى زمن طويل وتحمل مشقة كبيرة. فإن قلنا لا يجب التعلم فله أن يصلي بالتقليد ولا يقضي كالأعمى. وإن قلنا: يتعين فليس له التقليد، فإن قلد قضى لتقصيره، وإذا ضاق الوقت عن التعلم فهو كالعالم إذا تحير في اجتهاده وقد قدمنا الخلاف فيه. وأرجع بعد هذا إلى ما يتعلق بلفظ الكتاب خاصة فأقول. أما قوله: (فالقادر على معرفة القبلة لا يجوز له الاجتهاد) فاعلم: أن القادر على معرفتها وإن كان يمتنع عليه الاجتهاد لكن امتناع الاجتهاد لا يختص به، لأن من وجد عدلاً يخبره عن القبلة إخباراً يستند إلى علم في زعم المخبر يمتنع عليه الاجتهاد، ومع أن قوله لا يحصل المعرفة فإن قلت: قوله: يحصل الظن وإن لم تحصل المعرفة، والفقهاء كثيراً ما يعبرون بلفظ العلم والمعرفة عن الظن، وعن المشترك بين العلم والظن بالعلم في كونه معمولاً به في الشرعيات، فلعله أراد بالمعرفة ذلك، والجواب: أن لفظ المعرفة وإن كان يستعمل فيما ذكرت لكنه ما أراد به في هذا الموضع إلا العلم اليقيني، ألا تراه يقول في "الوسيط": فإن كان قادرًا على معرفة جهة القبلة يقينًا، لم يجز له الاجتهاد على أنه لا يمكن إرادة المشترك بين العلم والظن في هذا السياق؛ لأن الاجتهاد ¬
يفيد ضربًا من الظن، فإذا كان المراد من المعرفة المشترك دخل القادر على الاجتهاد في قوله: (فالقادر على معرفة القبلة) وحينئذ لا ينتظم الحكم بأنه لا يجوز له الاجتهاد. وأما قوله: (والقادر على الاجتهاد، لا يجوز له التقليد فإنه يفيد بما يفيده. قوله بعد ذلك: (وليس للمجتهد أن يقلد غيره) فالثاني تكرار والغالب (على الظن أنه) (¬1) إنما أعاده تمهيداً لبناء مسألة التحير عليه، لكن المحوج إلى الإعادة لهذا الغرض توسيط حكم الأعمى بين الكلامين، فلو عقب الكلام الأول بمسألة التحير وأخر حكم الأعمى لاستغنى عن ذلك. وأما قوله: "والأعمى العاجز يقلد شخصاَ مكلفاً ... " إلى آخره، فليعلّم المكلف بالواو؛ لأن في كلام الأصحاب وجهاً أنه يجوز تقليد الصبي، وهو كالخلاف المذكور في الرجوع إلى إخباره، ثم الصفات المذكورة غير كافية في المقلد، بل يشترط فيه شيء آخر وهو العدالة وليس لفظ العاجز للتقيد، فإن كل أعمى عاجز وإنما هو وصف له، وتنبيه على المعنى المجوز للتقليد، ومسألة التحير قد أطلق الخلاف فيها، وهو محمول على ما إذا ضاق الوقت كما حكيناه من قبل. وقوله: (أما البصير الجاهل بالأدلة إن قلد يلزمه القضاء) ليس مجرى على إطلاقه أيضاً؛ لأن البصير الجاهل إذا كان بحيث لا يمكنه التعلم فهو كالأعمى يقلد ولا يقضي كما تقدم. قال الغزالي: ثُمَّ مَهْمَا صَلَّى بالاجْتِهَادِ فَتَيَقَّنَ الخَطَأ وَبَانَ جِهَةُ الصَّوَابِ وَجَبَ (ح م) عَلَيْهِ القَضَاءُ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ، فَإِنْ تَيَقَّنَ الخَطَأ وَلَمْ يَظْهَرِ الصَّوَابُ إلاَّ بالاجْتِهَادِ، فَفي القَضَاءِ قَوْلاَنِ مُرَتَّبَانِ، وَأَوْلَى بِأَنْ لاَ يَجِبَ، وَمَنْ صَلَّى أَرْبَعَ صلَوَاتٍ إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ بِأرْبَعِ اجْتِهَادَاتٍ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ الخَطَأَ فَلاَ قَضَاءَ (و) عَلَيْهِ. قال الرافعي: المصلي بالاجتهاد إذا ظهر له الخطأ في اجتهاده فله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يظهر له الخطأ قبل الشروع في الصلاة. والثانية: أن يظهر بعد الفراغ منها. والثالثة: أن يظهر في أثناءها. أما الحالة الأولى فهي غير مذكررة في الكتاب وحكمها أن ننظر: إن تيقن الخطأ في اجتهاده أعرض عن مقتضاه وتوجه إلى الجهة التي يعلمها أو يظنها جهة الكعبة، وإن ¬
ظن الخطأ في اجتهاده وظن أن الصواب (¬1) جهة أخرى إن كان دليل الاجتهاد الثاني أوضح عنده من الأول أعرض عن مقتضى الأول، وإن كان دليل الأول أوضح عنده جرى على مقتضاه، وإن تساويا تخير. وقيل: يصلي إلى الجهتين مرتين. وأما الحالة الثانية وهي: أن يظهر الخطأ بعد الفراغ من الصلاة، فهذا الفصل مسوق لها، ولا يخلو، إما أن يظهر الخطأ يقيناً، أو ظناً، والقسمان مذكوران في الكتاب. أما القسم الأول: وهو أن يظهر الخطأ يقينًا ففي وجوب القضاء قولان: أصحهما: الوجوب، لأنه تعين له الخطأ فيما يأمن مثله في القضاء، فلا يعتد بما فعله كالحاكم إذا حكم ثم وجد النص بخلافه، واحترزوا بقولهم: فيما يأمن مثله في القضاء عن الخطأ في الوقوف بعرفة حيث لا يجب القضاء، لأن مثله غير مأمون في القضاء، ويمكن أن يقال في قولنا: تعين الخطأ ما يفيد هذا الاحتراز؛ لأن الأمر ثَمَّ مبني على رؤية الهلال ولا يقين يكون الرائيين مصيبين أو على استكمال العدد، وهو مبني على الرؤية في الشهور المتقدمة والإصابة فيها مظنونة، والمبني على المظنون مظنون. والقول الثاني: أنه لا يجب القضاء؛ لأنه ترك القبلة بعذر فأشبه تركها في حالة المسايفة. قال الصيدلاني: ومعنى القولين أنه كلف الاجتهاد لا غير، أو كلف التوجه إلى القبلة، فإن قلنا بالأول فلا قضاء، وإن قلنا بالثاني وجب القضاء، وبالقول الثاني قال أبو حنيفة ومالك وأحمد والمزني. وقوله في الكتاب: (وجب القضاء) معلم برقمهم جميعاً. وللمسألة نظائر: منها ما إذا اجتهد في وقت الصلاة فتبين بعد إنقضاء الوقت أنه أخطأ بالتقديم، أو اجتهد المحبوس في الصيام فوافق اجتهاده شعبان وتبين الحال بعد إنقضاء رمضان، ففي وجوب القضاء قولان: قال إمام الحرمين: وهذا إذا لم يتأت الوصول إلى اليقين، فإن تأتى ذلك فالوجه القطع بوجوب القضاء، وإن اجتهاده إنما يغني بشرط الإصابة. ومنها ما إذا رأوا سوادًا فظنوه عدواً فصلوا صلاة شدة الخوف ثم بان الخطأ ففي القضاء قولان: ومنها ما إذا دفع الزكاة إلى رجل ظنه فقيراً فَبَانَ غنياً ففي الضمان قولان؛ ثم اختلفوا في موضع القولين فيما نحن فيه على طريقين. ¬
قال الأكثرون: القولان جاريان فيما إذا تبين الصواب يقينًا مع يقين الخطأ وفيما إذا لم يتبين الصواب يقيناً مع يقين الخطأ ولا فرق، ومنهم من قال: القولان فيما إذا بَانَ يقين الخطأ مع يقين الصواب. أما إذا تيقن الخطأ دون الصواب فلا يجب القضاء بحال؛ لأنه لا يأمن الخطأ في القضاء أيضاً فأشبه خطأ الحجيج في الوقوف بعرفة، فإنهم لما لم يأمنوا مثله في القضاء لم يلزمهم القضاء، وهذا معنى قوله في الكتاب: (فإن تيقن الخطأ ولم يظهر الصواب إلا باجتهاد ففي القضاء قولان مرتبان، وأولى بأن لا يجب) ومتى رتب المذهبيون صورة على صورة في الخلاف وجعلوا الثانية أولى بالنفي أو الإثبات حصل في الصورة المرتبة طريقان: أحدهما: طرد الخلاف. والثاني: القطع بما في الصورة الأخيرة أولى به من النفي أو الإثبات. وقد يعبر عن هذا الغرض بعبارة أخرى مثل أن يقال: فيما نحن فيه هل يجب القضاء عند تيقن الخطأ؟ فيه ثلاثة أقوال: الأول: يجب. الثاني: لا يجب. الثالث: يفرق بين أن يتيقن معه الصواب فيجب وبين أن لا يتيقن فلا يجب، والأظهر طريقة طرد القولين، واعترض إمام الحرمين على التشبيه بخطأ الحجيج بأن قال: الخطأ ثَمَّ غير مأمون في السنين المستقبلة بحال، وهاهنا إن لم يأمن الخطأ في حالة الاشتباه فيمكنه الصبر حتى ينتهي إلى بقعة يستيقن فيها الصواب وما ذكرناه من الخلاف في أن المجتهد إذا بَانَ له يقين الخطأ هل يقضي بجري بعينه في حق الأعمى الذي قلده. القسم الثاني: أن يظهر الخطأ بعد الفراغ من الصلاة ظنًا وذلك لا يوجب القضاء؛ لأن الاجتهاد لا ينقصض بالاجتهاد، ألا ترى أن القاضي لو قضى باجتهاده ثم تغير اجتهاده لا ينقض قضاؤه الأول، وينبني على هذا ما لو صلى أربع صلوات إلى أربع جهات بأربعة اجتهادات فلا يجب عليه قضاء واحدة منها؛ لأن كل واحدة منها مؤداة باجتهاد لم يتعين فيه الخطأ، هذا ظاهر المذهب وهو الذي ذكره في الكتاب وعن صاحب "التقريب" وجهان آخران: أحدهما: إنه يجب عليه قضاء الكل؛ لأن الخطأ مستيقن في ثلاث صلوات منها، وإن لم يتعين فأشبه ما إذا فسدت عليه صلاة من صلوات، وحكي في "التتمة" هذا الوجه عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني. والثاني: أنه يجب قضاء ما سوى الصلاة الأخيرة، ويجعل الاجتهاد الأخير ناسخاً
لما قبله، وعلى هذا الخلاف لو صلى صلاتين إلى جهتين باجتهادين أو ثلاثاً إلى ثلاث جهات باجتهادات، فعلى ظاهر المذهب لا قضاء عليه، وعلى الوجه الثاني يقضي الكل، وعلى الثالث يقضي ما سوى الأخيرة وأعلم أنا سنذكر خلافاً في أنه إذا صلى بالاجتهاد هل يجب عليه تجديد الاجتهاد للصلاة الثانية، وحكم هذه الصورة لا يختلف بين أن نوجب تجديد الاجتهاد فيجدد وبين ألا نوجب لكن اتفق له ذلك. قال الغزالي: وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ اسْتَدْبَرَ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ تَحَوَّلَ وَبَنى إِلاَّ إِذَا قُلْنَا: يَجِبُ القَضَاءُ عِنْدَ الخَطَإ، فَههُنَا أَولَى بِالإبْطَالِ كَيْلاَ يُجْمَعَ فِي صَلاَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَ جِهَتَيْنِ، أَمَّا إِذَا ظَهَرَ الخَطَأ يَقِيناً أَوْ ظَنًّا وَلَكِنْ لَمْ يَظْهَر جِهَةُ الصَّوَاب، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الدَّرْكِ بِالاجْتِهَادِ بَطُلَتْ صَلاَتهُ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى ذلِكَ عَلَى القُرْبِ، فَفِي البُطْلاَنِ قَوْلاَنِ مُرَتَّبَانِ عَلَى تَيَقُّن الصَّوَابِ، وَأَولَى بِالبُطْلاَنِ لِأَجْلِ التَّحَيُّرِ فِي الحَالِ. قال الرافعي: هذا الفصل لبيان الحالة الثالثة وهي أن يظهر الخطأ في الاجتهاد في أثناء الصلاة ولا يخلو إما أن يظهر (له الصواب مقترناً بظهور الخطأ) (¬1) وإما أن لا يكون كذلك. فهما ضربان: الضرب الأول: أن يظهر له الصواب مقترناً بظهور الخطأ فننظر: إن كان الخطأ مستيقناً فنبني ذلك على القولين في وجوب القضاء عند ظهور يقين الخطأ بعد الصلاة إن قلنا: يجب بطلت صلاته هاهنا ولزمه الاستئناف، وإن قلنا: لا يجب فهاهنا وجهان، وربما قيل: قولان: أحدهما: أنه يستأنف؛ لأن الصلاة الواحدة لا تؤدي إلى جهتين، كالحادثة الواحدة لا يتصور إمضاؤها بحكمين مختلفين. وأصحهما: أنه ينحرف إلى جهة الصواب، ويبني على صلاته احتساباً لما مضى من صلاته، كما يحتسب بجميع صلاته على هذا القول إذا بَانَ يقين الخطأ بعد الصلاة، ولا ننكر إقامة الصلاة الواحدة إلى جهتين، ألا ترى أن أهل قباء كذلك فعلوا، وإن كان الخطأ ظاهراً بالاجتهاد، فقد ذكرنا أنه إذا وقع ذلك بعد الصلاة لم يؤثر، فإذا اتفق في أثنائها فهو على هذين الوجهين أو القولين. وأصحهما: أنه ينحرف ويبني، لأن الأمر بالاستئناف نقض لما أدى من الصلاة، والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. ¬
والثاني: أنه يستأنف كيلا يجمع في صلاة واحدة بين جهتين، فعلى الوجه الأول لو صلى أربع ركعات إلى أربع جهات بأربعة اجتهادات فلا إعادة عليه كما ذكرنا في الصلاة، وخص في "التهذيب" رواية الوجهين بما إذا تغير اجتهاده وكان الدليل الثاني أوضح من الأول. فأما إذا كان الدليل الثاني مثل الأول أو دونه قال: لا يتحول بل يتم صلاته إلى تلك الجهة ولا إعادة عليه، ولك أن تقول: إن كان الدليل الثاني دون الأول فلا يتغير الاجتهاد ولا يظهر الخطأ، لأن أقوى الظنين لا يترك بأضعفهما، وإنا كانا مثلين فقضيته التوقف والتحير، وحينئذ لا يكون الصواب ظاهراً، فتكون الصورة من الضرب الثاني وسنذكر حكمه. الضرب الثاني: أن لا يظهر الصواب مع ظهور الخطأ، فإن عجز عن درك الصواب بالاجتهاد على القرب بطلت صلاته إذ لا سبيل إلى الاستمرار على الخطأ، ولا وقوف على جهة الصّواب لينحرف وإن قدر على ذلك على القرب، فهل يبني وينحرف أم يستأنف؟ فيعود فيه الخلاف الذي ذكرناه في الضرب الأول بالترتيب، وهاهنا أولى بأن يستأنف؛ لأن ثمَّ يمكن من الانحراف إلى الصواب كما ظهر الخطأ وهاهنا بخلافه، فإنه متحير في الحال. مثال هذا الضرب: عرف أن قبلته يسار المشرق [والسماء متغيمة فتوجه إلى جهة على ظن أنها يسار المشرق] (¬1) فانقشع الغيم بحذائه وظهر كوكب قريب من الأفق فقد علم الخطأ يقينًا إذ تبين له أنه مشرق أو مغرب، ثم قد يعرف الصواب على القرب بأن يرتفع الكوكب فيعلم أنه مشرق أو ينحظ فيعلم أنه مغرب، ويترتب على ذلك معرفة القبلة، وقد يعجز عن ذلك بأن يطبق الغيم، ويستمر الالتباس. ولنبين ما يشتمل عليه الكتاب مما ذكرناه. واعلم: أنا قسمنا الضرب الأول قسمين: أحدهما: أن يستيقن الخطأ. والثاني: أنه لا يستيقنه فقوله: "وإن تيقن أنه استدبر" هو القسم الأول من هذا الضرب، فإن المستيقن للاستدبار عارف بالخطأ يقينًا وعارف بالصواب أيضاً مع معرفة الخطأ يقينًا، ولا فرق بعد تيقن الخطأ بين أن يظهر الصواب يقينًا أو ظناً وإن كانت الصورة المذكورة في الكتاب هو يقين الصواب مع يقين الخطأ. وقوله: (تحول وبني) جواب على قولنا أنه إذا بَانَ يقين الخطأ بعد الصلاة لا يجب ¬
عليه القضاء، وقد روينا وجهين على هذا القول فما ذكره جواب على أصحهما، ثم أشار إلى التفريع على القول الثاني بقوله: (إلا إذا قلنا يجب القضاء عند الخطأ) أي إذا أوجبنا القضاء عند ظهور الخطأ يقيناً بعد الصلاة فنحكم ببطلان الصلاة عند ظهوره في أثنائها، ولا يعتد بما أتى به بل البطلان هاهنا أولى كيلا يجمع في صلاة واحدة بين جهتين: وأما القسم الثاني من هذا الضرب فهو غير مذكور في الكتاب، وحكمه قريب من حكم القسم الأول؛ إنا وإن رتبنا الحكم ثم على القولين في أن تعين الخطأ بعد الصلاة هل يوجب القضاء كما سبق فلا يحصل إلا وجهان: أحدهما: أنه يبني. والثاني: أنه يستأنف، وهما جاريان في القسم الثاني على ما بينا، ولهذا قال في "الوسيط": وإن تبين بالاجتهاد أنه مستدبر فحكمه حكم المتيقن نعم يختلف التوجيه بحسب القسمين كما قدمناه. وأما قوله: "إذا ظهر الخطأ يقينًا أو ظناً ... " إلى آخره، فهو الضرب الثاني، وهاهنا صرح بالتسوية بين تيقن الخطأ وظنه. وقوله: (ففي البطلان قولان مرتبان على يقين الصواب) أي يقين الصواب مع الخطأ وهو صورة الاستدبار، وقد ذكر فيها قولين: أنه تبطل صلاته: أو يبني، وهذه مرتبة عليها والله أعلم. قال الغزالي: وَلَوْ بَانَ لَهُ الخَطَأُ فِي التَّيَامُنِ وَالتَّيَاسُرِ، فَهَلْ هُوَ كَالخَطَأ فِي الْجِهَةِ؟ فَعَلَى وَجْهَيْن يَرْجِعُ حَاصِلُهُمَا إِلَى أَنَّ بَيْنَ الْمُشْتَدِّ فِي الاسْتِقْبَالِ وَبَيْنَ الأَشَدِّ تَفَاوُتًا عِنْدَ الحَاذِقِ، فَهَلْ يَجِبُ طَلَبُ الأَشَدِّ أَمْ يَكْفِي حُصُولُ أَصْلِ الاشْتِدَادِ؟ فَعَلَى وَجْهَيْنِ. قال الرافعي: جميع ما ذكرنا من الأحوال الثلاث فيما إذا بَانَ له الخطأ في الجهة، فأما إذا كانت الجهة واحدة وبَانَ له الخطأ في التيامن والتياسر فهذا يستدعي تقديم أصل وهو أن المطلوب بالاجتهاد عين الكعبة أم جهتها؛ وفيه قولان: أظهرهما: أن المطلوب عين الكعبة لظاهر قوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (¬1). وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الخبر الذي تقدم ذكره مشيراً إلى العين: "هذِهِ الْقِبْلَةَ" (¬2) وهما مطلقان ليس فيهما فصل بين القريب والبعيد. والثاني: أن المطلوب جهة الكعبة، لأن حرم الكعبة صغير يستحيل أن يتوجه إليه أهل الدنيا فيكتفي بالجهة، ولهذا تصح صلاة الصف الطويل إذا بعدوا عن الكعبة ومعلوم أن بعضهم خارجون عن محاذاة العين، وهذا القول يوافق المنقول عن أبي ¬
حنيفة وهو: أن المشرق قبلة أهل المغرب، والمغرب قبلة أهل المشرق، والجنوب قبلة أهل الشمال، [والشمال قبلة أهل الجنوب] (¬1). وعن مالك أن الكعبة قبلة أهل المسجد، والمسجد قبلة أهل مكة، ومكة قبلة أهل الحرم، والحرم قبلة أهل الدنيا. وإذا ثبت هذا الأصل فنقول: الخطأ في التيامن والتياسر إن ظهر بالاجتهاد وكان ذلك بعد الفراغ من الصلاة فلا يقتضي وجوب الإعادة؛ لأن الخطأ في الجهة والحالة هذه لا يؤثر في التيامن، والتياسر أولى، وإن كان في أثناء الصلاة فينحرف ويبني، ولا يعود فيه الخلاف المذكور في نظيره من الخطأ في الجهة؛ لأنا استبعدنا الصلاة الواحدة إلى جهتين مختلفتين. فأما الالتفات اليسير فإنه لا يبطل الصلاة وإن كان عمداً. أما إذا ظهر الخطأ في التيامن والتياسر يقيناً، فيبنى على أن الفرض إصابة عين الكعبة، أما إصابة جهتها فإن قلنا: الفرض إصابة الجهة فلا أثر لهذا الخطأ في وجوب الإعادة إن ظهر بعد الصلاة ولا في وجوب الاستئناف إن ظهر في أثنائها. وإن قلنا: الفرض إصابة العين ففي الإعادة والاستئناف القولان المذكوران في الخطأ في الجهة؛ ثم قال صاحب "التهذيب" وغيره: لا يستيقن الخطأ في الانحراف مع بعد المسافة عن مكة وإنما يظن. أما إذا قربت المسافة فكل منهما ممكن، وهذا كالتوسط بين اختلاف أطلقه أصحابنا العراقيون في أنه هل يتيقن الخطأ في الانحراف من غير معاينة الكعبة بلا فرق بين قرب المسافة وبعدها. فقالوا: قال الشافعي -رضي الله عنه- لا يتصور ذلك، إلا بالمعاينة. وقال بعض الأصحاب يتصور -والله أعلم- هذا شرح المسألة. وأما قوله: (يرجع حاصلهما إلى أن بين المشتد في الاستقبال ...) إلى آخره، فهو كلام نحا فيه نحو إمام الحرمين -رحمة الله عليه-، وذلك أنهما حكيا أن الأصحاب بنوا الخلاف في خطأ التيامن والتياسر على الخلاف في أن مطلوب المجتهد عين الكعبة أو جهتها، واعترضا على هذه العبارة فقالا: محاذاة الجهة غير كافية؛ لأن القريب من الكعبة إذا خرج عن محاذاة العين لا تصح صلاته، وإن كان مستقبلاً للجهة ومحاذاة العين لا يمكن اعتبارها، فإن البعيد عن الكعبة على مسافة شاسعة لا يمكنه إصابة العين ومسامتتها، والمحال لا يطلب. وأيضاً فالصف الطويل في آخر المسجد تصح صلاته جميعهم مع خروج بعضهم عن محاذاة العين، وإذا بطل ذلك فما موضع الخلاف؟ وما معنى العين والجهة؟ ذكرنا ¬
أن الانحراف اليسير لا يسلب اسم الاستقبال عن البعيد عن الكعبة في المسجد وإن كان يسلبه عن القريب من الكعبة، وإذا لم يسلبه عن البعيد الواقف في المسجد [كان أولى] (¬1) أن لا يسلبه عن الواقف في أقصى المشرق والمغرب، ثم البصير بأدلة القبلة يجعل التفاوت البعيد وانحرافه على درجتين: إحداهما: الانحراف السالب لاسم الاستقبال، وهو الكثير منه وإن لم ينته إلى أن يولي الكعبة يمينه أو يساره. والثاني: الانحراف الذي لا يسلب اسم الاستقبال، وفي هذه الدرجة مواقف يظن الماهر في الأدلة أن بعضها أشد من بعض، وإن شملها أصل الشداد، فهل يجب طلب الأشد أم لا؟ فيه الخلاف، وربما أشعر كلام إمام الحرمين بإثبات ثلاثة درجات: التفات بقطع البصير بأنه يسلب اسم الاستقبال، والتفات يقطع بأنه لا يسلبه، والتفات يظن أنه لا يسلب لكنه لا يقطع به، فهل تجوز القناعة بالشداد المظنون أم يجب طلب المقطوع به؟ فيه الخلاف، هذا ما ذكراه، والجمهور على التعبير عن الخلاف بالعين والجهة، واتفق العراقيون والقفال على ترجيح القول الصائر إلى أن المطلوب العين، ولهم أن يقولوا: لا نسلم أن البعيد لا يمكنه إصابة عين الكعبة بل عليه ربط الفكر في اجتهاده بالعين دون الجهة، وأما الصف الطويل فلا نسلم خروج بعضهم عن محاذاة العين؛ وذلك لأن التباعد من الحرم الصغير يوجب زيادة محاذاة العين كما تقدم. قال الغزالي: فُرُوعٌ أَرْبَعَةٌ: الأَوَّلُ إِذَا صَلَّى الظُّهْرِ بِاجْتِهَاد، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الاسْتِئْنَافُ لِلْعَصْرِ؟ فَعَلَى وَجْهَيْنِ، وَلَوْ أدَّى اجْتهَادُ رَجُلَيْنِ إِلَى جِهَتَيْنِ فَلاَ يَقْتَدِي أَحَدُهُمَا بِالآخَرِ، وَإِذَا تَحَرَّمَ المُقَلِّدُ فِي الصَّلاَةِ، فَقَالَ لَهُ مَنْ هُوَ دُونِ مُقَلِّدِهِ أَوْ مِثْلُهُ: أَخْطَأَ بِكَ فُلاَنٌ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ فَهُوَ كَتَغَيُّرِ اجْتِهَادِ البَصِيرِ فِي أَثْنَاءِ صَلاَتِهِ فِي نَفْسهِ، وَلَوْ قَطَعَ بِخَطَئِهِ وَهُوَ عَدْلٌ لَزِمَهُ القُبُولُ؛ لِأنَّ قَطْعَةُ أَرْجَحُ مِنْ ظَنِّ غيْرِهِ، وَلَوْ قَالَ البَصِيرُ لِلأعْمَى: الشَّمْسُ وَرَاءَكَ وَهُوَ عَدْلٌ فَعَلَى الأعْمَى قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ مَحْسُوسٍ لاَ عَنِ اجْتِهَادٍ. قال الرافعي: خَتَمَ البابَ بِفروعٍ: أحدها: إذا صلى إلى جهة بالاجتهاد، ثم دخل عليه وقت صلاة أخرى، أو أراد قضاء فائته فهل يحتاج إلى تجديد الاجتهاد للفريضة الثانية؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن الأصل استمرار الظن الأول، فيجري عليه إلى أن يتبين خلافه. ¬
وأظهرهما: نعم سعياً في إصابة الحق؛ لأن الاجتهاد الثاني إن وافق الأول تأكد الظن، وإن خالفه فكذلك، لأن تغيير الاجتهاد لا يكون إلا لأمارة أقوى من الأمارة الأولى، وآكد الظنين أقرب إلى اليقين، وهذان الوجهان كالوجهين في طلب الماء في التّيمم، وكالوجهين في المفتي إذا استفتى عن واقعة واجتهد وأجاب فاستفتى مرة أخرى عن تلك الواقعة هل يحتاج إلى تجديد الاجتهاد؟ وأما النوافل فلا يحتاج إلى تجديد الاجتهاد لها [كما لا يحتاج إلى تجديد التّيمم لها] (¬1) ذكره صاحب "التهذيب" وغيره فإن قلت: ذكرتم أن الوجهين في وجوب تجديد الطلب مخصوصان بما إذا لم يبرح عن مكانه، فهل الأمر كذلك هاهنا؟ قلنا: في كلام بعض الأصحاب ما يقتضي تخصيص الوجهين بما إذا كان في ذلك المكان هاهنا أيضاً، لكن الفرق ظاهر؛ لأن الطلب في موضع لا يفيد معرفة العدم في موضع آخر، والأدلة المعرفة لكون الجهة جهة القبلة قد لا تختلف بالمكانين فإن أكثرها سماوية، ولا تختلف دلالتها بالمسافات القريبة. الثاني: لو أدى اجتهاد رجلين إلى جهتين فكل واحد منهما يعمل باجتهاده، ولا يقتدي أحدهما بالآخر، فإن كل واحد منهما مخطئ عند الثَّانِي، فصار كما لو اختلف اجتهادهما في الإناءين والثَّوْبَيْنِ، ولو اجتهد جماعة وتوافق اجتهادهم فأمهم واحد منهم، ثم تغير اجتهاد واحد من المأمومين فعليه أن يفارقه، وينحرف إلى الجهة الثانية، وهل عليه أن يستأنف أم له البناء؟ فيه الخلاف الذي قدمناه في تغيير الاجتهاد في أثناء الصلاة، وللخلاف هاهنا مأخذ آخر، وهو أنا سنذكر خلافاً في أن المأموم هل له أن يفارق الإمام أم لا، وهل يفترق الحال بين أن يفارق بعذر أو غير عذر؟ ثم منهم من قال: هذه المفارقة بعذر، ومنهم من قال: هو مقصر بترك إمعان البحث والنظر، ولو عذر ولو تغير اجتهاد الإمام فينحرف إلى الجهة الأخرى، إما بانياً أو مستأنفاً على الخلاف الذي سبق، وهم يفارقونه فلو اختلف اجتهاد رجلين في التيامن والتياسر والجهة واحدة [فإن أوجبنا على المجتهد رعاية ذلك فهو الاختلاف في الجهة فلا يقتدي أحدهما بالآخر] (¬2)، وإلا فلا بأس. الثالث: إذا شرع المقلد في الصلاة بالتقليد ثم قال: له عدل أخطأ بك من قلدته، فلا يخلو إما أن يقول ذلك عن اجتهاد أيضاً أو عن علم ومعاينة، فهما حالتان: فأما في الحالة الأولى فننظر: إن كان قول الأول أرجح عنده وأولى بالاتباع إما لزيادة عدالته وهدايته إلى الأدلة فلا اعتبار بقول الثاني إذ الأقوى لا يرفع بالأضعف، وإن كان قول الثاني مثل قول الأول، أو لم يعرف أنهما مثلان أو أحدهما أقوى من ¬
الآخر فكذلك لا أثر لقول لثاني، وإن كان قول الثاني أرجح عنده فهو كتغيير اجتهاد البصير المجتهد في نفسه فيعود فيه الخلاف المقدم في أنه يبني أو يستأنف كذا هو في "التهذيب" وغيره، ولو اجتهد المجتهد الثاني بعد الفراغ من الصلاة لم يلزمه الإعادة، وإن كان قول الثاني أرجح، كما لو تغير اجتهاد المجتهد بعد الفراغ. وقوله: (فقال له من هو دون مقلده أو مثله) أراد به هذه الحالة الأولى أي قال ذلك عن اجتهاد. وأما قوله: (لم يلزمه قبوله) فلعلك تقول قد عرفت أنه لا يلزمه فهل يجوز قبوله فالجواب أن هذا يرتب على أن المقلد إذا وجد مجتهدين قبل الشروع في الصلاة أحدهما أعلم من الآخر فهل يجب عليه أن يأخذ بقول الأعلم أم يتخير؟ فإن قلنا بالأول فلا يجوز قبوله، وإن قلنا بالثاني ففيه خلاف؛ لأنه إن بني كان مصليًّا للصلاة الواحدة إلى جهتين وإن استأنف كان مبطلاً للفرض من غير ضرورة، وفي نظائر كل واحد منهما خلاف. الحالة الثانية: أن يخبره عن علم ومعاينة فيجب الرجوع إلى قوله لاستناده إلى اليقين واعتماد الأولى على الاجتهاد، ولا فرق هاهنا بين أن يكن قول الثاني أصدق عنده أو لا يكون، ومن هذا القبيل أن يقول للأعمى: أنت مستقبل للشمس أو مستدبر، والأعمى يعرف أن قبلته ليست في صوب المشرق ولا المغرب فيجب قبول قوله، ويكون هذا بمثابة ما لو تيقن المجتهد الخطأ في أثناء الصلاة، فيلزمه الاستئناف على الصحيح، ولو قال الثاني: إنك على الخطأ قطعاً فكذلك يجب قبوله، فإن قطعه أرجح من ظن الأول، فينزل قطعه منزلة الإخبار عن محسوس، ثم القاطع بالخطأ قد يخبر عن الصواب قاطعًا به وقد يخبر عنه مجتهداً ويجب قبوله على التقديرين لبطلان تقليد الأول بقطعه، ولا يمكن أن يكون قطعه بالخطأ عن اجتهاد فإن الاجتهاد لا يفيد القطع، فلا عبرة بالعبادة الفارغة عن المعنى، وكل ما ذكرناه مفروض فيما إذا أخبره الثاني عن الصواب والخطأ جميعاً، فأما إذا أخبره عن الخطأ على وجه يجب قبوله ولم يخبره هو ولا غيره عن الصواب فهو كتغيير اجتهاد المجتهد في أثناء الصلاة وقد سبق حكمه -والله أعلم-. فإن قلت: وعد في الكتاب بأربعة فروع ولم يذكر إلا ثلاثة قلت: المسائل المذكورة في هذا الفصل لم يعدها في "الوسيط" إلا ثلاثة فروع وجعل في أولها فرعاً آخر، هاهنا عدها أربعة من غير ذلك المضموم فيجوز أن يقال جعل حالتي الفرع الأخير فرعين ويجوز غير ذلك والأمر فيه هين.
الباب الرابع في كيفية الصلاة
الْبَابُ الرَّابعُ فِي كَيْفِيَّةِ الصَّلاَةِ قال الغزالي: وَأَرْكَانُهَا أَحَدَ عَشَرَ: التَّكْبِيرُ وَالقِرَاءَةُ وَالْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالاعْتِدَالُ عَنْهُ وَالسُّجُودُ، وَالْقَعْدَةُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ مَعَ الطُّمَأنِينَةِ فِي الْجَمِيع، وَالتَّشَهُّدُ الأخِيرُ، وَالقُعُودُ فِيهِ، وَالصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَالسَّلاَمُ (ح)، وَالنِّيَّةُ بِالشَّرْطِ أشْبَهُ. قال الرافعي: الصلاة في الشريعة عبارة عن الأفعال المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، ولا بد من رعاية أمور أُخَر ليقع الاعتداد بتلك الأفعال وتسمى هذه الأمور شروطاً وتلك الأفعال أركانًا فجعل هذا الباب في الأركان والذي يليه في الشروط، ولا بد من معرفة الفرق بينهما. واعلم أن الركن والشرط يشتركان في أنه لا بد منهما وكيف يفترقان؟ منهم من قال: يفترقان افتراق العام والخاص، ولا معنى للشرط إلا ما لا بد منه، فعلى هذا كل ركن شرط ولا ينعكس. وقال الأكثرون: يفترقان افتراق الخاصين ثم فسر قوم الشرط بما يتقدم على الصلاة كالطهارة وستر العورة (¬1)، والأركان بما تشتمل عليه الصلاة، ويرد على هذا ترك الكلام والفعل الكثير وِسائر المفسدات فإنها لا تتقدم على الصلاة وهي معدودة من الشروط دون الأركان، ولك أن تفرق بينهما بعبارتين: إحداهما: أن تقول يعني بالأركان المفروضات المتلاحقة النبي أولها التكبير وآخرها التسليم، ولا يلزم التروك فإنها دائمة لا تَلْحَقُ وَلاَ تُلْحَقُ، ونعني بالشروط ما عداها من المفروضات. والثانية: أن نقول يعني بالشرط ما يعتبر في الصلاة بحيث يقارن كل معتبر سواه، وبالركن ما يعتبر لا على هذا الوجه. مثاله: الطهارة تعتبر مقارنتها للركوع والسجود وكل أمر معتبر ركنًا كان أو شرطًا، والركوع معتبر لا على هذا الوجه. إذا تبين ذلك فحقيقة الصلاة تتركب من هذه الأفعال المسماة أركاناً وما لم يشرع فيها لا يسمى شارعاً في الصلاة وإن تطهر وستر العورة واستقبل القبلة، وهذا واضح في عرف الشرع وإطلاقاته ثم إن المصنف عد الأركان أحد عشر يعني أجناسها، ثم منها ما لا يتكرر كالسلام ومنها ما يتكرر إما في الركعة الواحدة كالسجود، أو بحسب عدد ¬
الركعات كالركوع، ولم يعد الطمأنينة في الركوع وغيره أركاناً، بل جعلها في كل ركن كالجزء منه والهيئة التابعة له، وبه يشعر قوله -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي: "ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا" (1) [ومنهم من جعلها أركانًا مستقلة] (2) وضم صاحب "التلخيص" إلى الأركان المذكورة استقبال القبلة، واستحسنه القفال وصوبه، ومن فرض نية الخروج والموالاة والصَّلاَة على آل النبي -صلى الله عليه وسلم- ألحقها بالأركان، ومنهم من ضم إلى الأحد عشر التي ذكرها الترتيب في الأفعال، وهكذا أورد صاحب "التهذيب"، ويظهر عده من الأركان على العبارة الثانية (في تفسير الركن، وأما النية) (2) فقد حكى الشيخ أبو حامد وغيره وجهين في أنها من قبيل الشرائط أو من الأركان. أحدهما: وهو الأشبه عند صاحب الكتاب: أنها من الشرائط؛ لأن النية تتعلق بالصلاة فتكون خارجة عن الصلاة وإلا لكانت متعلقة بنفسها ولا اقترن إلى نية أخرى. وأظهرهما: عند الأكثرين: أنها من الأركان لاقترانها بالتكبير وانتظامها مع سائر الأركان، ولا يبعد أن تكون من الصلاة وتتعلق بسائر الأركان ويكون قول الناوي أصلي عبارة بلفظ الصلاة عن سائر الأركان تعبيراً باسم الشيء عن معظمه، وبهذا الطريق سماها المصنف في الصوم ركنًا، وإلا فما الفرق؟ ولك أن تعلم قوله: (وأركانها أحد عشر) بالواو لما حكينا من الاختلات على أن أكثره يرجع إلى التعبيرات وكيفية العد وحظ المعنى لا يختلف، وأبو حنيفة وسائر العلماء -رحمة الله عليهم- يخالفون في بعض الأركان المذكورة، وسنذكر مذهبهم عند تفصيل القول فيها فإن الغرض الآن تزاحم جملته، وإذا ذكرنا مذهبهم تبينت المواضع المحتاجة إلى العلامات من هذا الفصل. قال الغزالي: وَالأَبْعَاضُ أَرْبَعَة: القُنُوتُ وَالتَّشَهُّدُ الأَوَّلُ وَالقُعُودُ فِيهِ وَالصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي التَّشَهُّدِ الأَوَّلِ وَعَلَى الآلِ فِي التَّشَهُّدِ الأخِيرِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَهَذهِ الأَرْبَعُ تُجْبَرُ بِالسُّجُودِ وَمَا عدَاهَا فَسُنَنٌ لاَ تُجْبِرُ بِالسُّجُودِ. قال الرافعي: للصلاة مفروضات ومندوبات. أما المفروضات فهي الأركان والشروط. وأما المندوبات فقسمان: مندوبات يشرع في تركها سجود السهو، ومندوبات لا يشرع فيها ذلك، والتي تقع في القسم الأول تسمى أبعاضاً، ومنهم من يخصها باسم
المسنونات، وتسمى التي تقع في القسم الثاني هيئات. قال إمام الحرمين: وليس في تسميتها أبعاضاً توقيف ولعل معناها أن الفقهاء قالوا: يتعلق السجود ببعض السنن دون البعض، والتي يتعلق بها السجود أقل مما لا يتعلق، ولفظ البعض في أقل قسمي الشيء أغلب إطلاقاً، فلذلك سميت هذه الأبعاض، وذكر بعضهم أن السنن المجبورة بالسجود وقد تأكد أمرها وجاوز حد سائر السنن، وبذلك القدر من التأكيد شاركت الأركان فسميت أبعاضاً تشبيهاً بالأركان التي هي أبعاض وأجزاء حقيقة، وسيأتي وجه شرعية سجود السهو فيها في باب السجدات، وقد ذكرها المصنف في ذلك الباب، ولو لم يتعرض لها في هذا الموضع لما مر، لكنه لما ترجم الباب بكيفية الصلاة وعدت هذه السنن (¬1) من أبعاضها استحسن ذكرها في هذا الموضع أيضاً، ثم أنه عدها أربعة: أحدها: القنوت. وثانيها: التشهد الأول. وثالثها: القعود فيه. ورابعها: الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه، وفي استحبابها قولان يذكران من بعد، فإن قلنا بالاستحباب فهو من الأبعاض، وألحق بهذه الأربعة شيئان: أحدهما: الصلاة على الآل في التشهد الثاني إن قلنا إنها مستحبة لا واجبة، وكذلك في التشهد الأول إن استحببناها تفريعاً على استحباب الصلاة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيه، وهذا الخامس قد ذكره في الكتاب في باب السجدات، ونشرح الخلاف فيه من بعد إن شاء الله تعالى. والثاني: القيام للقنوت (¬2) عد بعضاً برأسه، وقراءة القنوت بعضاً آخر، حتى لو وقف ولم يقرأ سجد للسهو، وهذا هو الوجه إذا عددنا التشهد بعضًا والقعود له بعضاً آخر، وقد أشار إلى هذا التفصيل في القنوت إمام الحرمين -قدس الله روحه- وصرح به في "التهذيب" ثم كون القنوت بعضاً لا يختص بصلاة الصبح بل هو بعض في الوتر أيضاً في النصف الأخير من رمضان، وقوله: (وما عداها فسنن لا تجبر بالسجود) ينبغي أن يعلم بالحاء والميم والألف لما سيأتي في باب "سجود السهو". قال الغزالي: الرُّكْنُ الأَوَّلُ التَّكْبِيرُ، وَلْتَكُنِ النِّيَّة مَقْرُونَةً بِهِ بِحَيْثُ تُحْضَرُ فِي العِلْمِ صفَاتُ الصَّلاَةِ، وَيقْتَرِنُ القَصْدُ إلَى هَذا المَعْلُومِ بِأوَّلِ التَّكْبِيرِ، وَيَبْقَى مُسْتَدِيمًا لِلْقَصْدِ وَالْعِلْمِ إلَى آخِرِ التَّكْبِيرِ، فَلَ عَزُبَتْ بَعْدَ التَّكْبِيرِ لَمْ يَضُرَّ، وَلَوْ عَزُبَت قَبْلَ تَمَامِ التَّكْبِيرِ فَوَجْهَانِ. ¬
قال الرافعي: لما لم يعد النية ركنًا خلط مسائلها بمسائل التكبير؛ لأن وقت النية هو التكبير، ويجب أن تكون النية مقارنة للتكبير خلافاً لأبي حنيفة وأحمد حيث قالا: لو تقدمت النية على التكبير بزمان يسير ولم يعرض شاغل عن الصلاة جاز الدخول في الصلاة بتلك النية. لنا أن التكبير أول أفعال العبادة فيجب مقارنة النية له كالحج وغيره؛ ولهذا لو تقدمت بزمانٍ طويلٍ لم يجز بخلاف الصوم لما في اعتبار المقارنة ثم من عسر مراقبة طلوع الفجر، ولهذا يحتمل فيه المتقدم بالزمان الطويل، ثم في كيفية المقارنة وجهان: أحدهما: أنه يجب أن يبتدئ النية بالقلب مع ابتداء التكبير باللسان، ويفرغ منها مع الفراغ من التكبير. وأصحهما: أنه لا يجب ذلك بل لا يجوز لأن التكبير من الصلاة فلا يجوز الإتيان بشيء منه قبل تمام النية، وعلى تقدير التوزيع يكون أول التكبير خاليًا عن تمام النية المعتبرة، وهذا هو الذي ذكره في الكتاب حيث قال: (ويقترن القصد إلى هذا المعلوم بأول التكبير) ثم اختلفوا على هذا الوجه، فقال قوم منهم أبو منصور بن مهران شيخ الأودني: يجب أن تتقدم النية على التكبير ولو بشيء يسير ليأمن من تأخر أولها عن أول التكبير، واستشهد عليه بالصوم. وقال الأكثرون: لا يجب ذلك، ولو قدم فالاعتبار للنية المقارنة بخلاف الصوم، فإن المتقدم كان لورود الشرع بالتبييت، ثم سواء قدم، أو لم يقدم فهل يجب استصحاب النية إلى أن يفرغ من التكبير فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن ما بعد أول التكبير في حكم الاستدامة، واستصحاب النية في دوام الصلاة لا يجب. وأصحهما: نعم؛ لأن النية مشروطة في الانعقاد، والانعقاد لا يحصل إلا بتمام التكبير، ألا ترى أنه لو رأى المتيمم الماء قبل تمام التكبير يبطل تيممه، وأما بعد التكبير فلا يشترط استصحاب النية، ولا يضر عزوبها لما في تكليف استصحابها من العسر. وأما قوله: "بحيث تحضر في العلم صفات الصلاة ... " إلى آخره، فهو بيان لحقيقة النية وما تفتقر إليه، وذلك أن النية قصد، والقصد يتعلق بمقصود، ولا بد وأن يكون المقصود معلومًا، فالناوي يحضر في ذهنه أولا ذات الصلاة وما يجب التعرض لها من صفات كالظهرية والعصرية وغيرهما كما سيأتي، ثم يقصد إلى هذا المعلوم ويجعل قصده مقارناً الأول التكبير، ولا يغفل عن تذكره حتى يتم التكبير. وقوله: (ويبقى مستديماً للقصد والعلم إلى آخر التكبير) ينبغي أن يتنبه فيه لشيئين:
أحدهما: أنه لو لم يتعرض في مثل هذا الموضع للعلم لكان الفرض حاصلاً؛ لأن المستدام هو القصد إلى الصلاة بصفاتها المعتبرة ولا يمكن استدامة هذا القصد إلا باستدامة حصور المقصود في الذهن وهو العلم. والثاني: أن هذا الكلام بيان لما ينبغي أن يفعله المصلي، ثم هو واجب أو مسنون قد نبه آخر بقوله: (وإن عَزُبت قبل تمام التكبير فوجهان) وإن قلنا يجوز فالاستدامة مسنونة وإلا فواجبة. قال الغزالي: وَلَوْ طَرَأَ فِي دَوَامِ الصَّلاَةِ مَاَ يُناقِضُ جَزْمَ النِّيَّةِ بَطُلَ، كَمَا لَوْ نَوَى الخُرُوجَ فِي الحَالِ أَوْ فِي الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةِ أَوْ تَرَدَّدَ فِي الخُرُوجِ، وَلَوْ عَلَّقَ نِيَّةَ الخُرُوجِ بِدُخُولِ شَخْصٍ إِنْ دَخَلَ فَفِي البُطْلاَنِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: استدامة النية وإن لم يكن شرطاً في دوام الصلاة، إلا أن الامتناع عما يناقض جزم النية شرط، فإن هذا هين وإن كان الأول عسيراً وهذا كالإيمان لا يشترط فيه استحضار العقد الصحيح على الدوام، ولكن يستدام حكمه ويشترط الامتناع عما يناقضه. إذا تبين ذلك فنقول: لو نوى الخروج من الصلاة في أثنائها بطلت صلاته، فإن هذه النية تتناقض قصده الأول، ولو تردد في أنه يخرج أو يستمر فلذلك تبطل صلاته، لما بين التردد والجزم من التنافي. قال إمام الحرمين: والمراد من هذا التردد أن يطرأ له الشك المناقض للجزم واليقين، ولا عبرة بما يجري في الفكر أنه لو تردد في الصلاة (¬1)، كيف يكون الحال فإن ذلك مما يبتلي به الموسوس، وقد يقع له ذلك في الإيمان بالله تعالى أيضاً فلا مبالاة به. ولو نوى الخروج من صلاته في الركعة الثانية أو علق الخروج بشيء آخر يقع (¬2) في صلاته لا محالة بطلت صلاته في الحال؛ لأنه قطع موجب النية، فإن موجبها الاستمرار على الصلاة إلى انتهائها وهذا يناقضه، وحكى في "النهاية" عن كلام الشيخ أبي علي: أنه لا تبطل صلاته في الحال. ولو رفض هذا التردد قبل الانتهاء إلى الغاية المضروبة صحت صلاته فلا بأس بإعلام قوله: (أو في الركعة الثانية) بالواو لهذا الكلام وإن كان غريباً، ولو علق نية الخروج بدخول الشخص ونحوه مما يجوز عروضه في الصلاة وعدمه فهل تبطل صلاته في الحال؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم، كما لو قال: إن دخل فلان تركت الإسلام، فإنه يكفر في ¬
الحال، وكما لو شرع في الصلاة على هذه النية لا تنعقد صلاته بلا خلاف. والثاني: لا تبطل في الحال فإن ذلك المعلق عليه ربما لا يوجد فتبقى النية على استمرارها، فعلى هذا لو دخل الشخص ووجدت الصفة المعلق عليها فهل تبطل الصلاة حينئذ؟ وجهان عن الشيخ أبي محمد: أنها لا تبطل إذ لو بطلت لبطلت في الحال لقيام التردد، فإذا لم تبطل لم يكن لهذا التردد وقع، وكان وجوده وعدمه بمثابة واحدة، وقطع الأكثرون بأنها تبطل عند وجود الصفة فإنه مقتضى تعليقه. قال إمام الحرمين: ويظهر على هذا أن يقال: يتبين عند وجود الصفة أن الصلاة بطلت من وقت التعليق لا بوجود الصفة يعلم أن التعليق خالف مقتضى النية المعتبرة في الصلاة، وموضع الوجهين المفرعين على الوجه الثاني ما إذا وجدت الصفة وهو ذاهل عن التعليق المقدم. أما إذا لم يكن ذاهلاً فلا خلاف في بطلان صلاته؛ وليكن قوله: (ولو طرأ في دوام الصلاة ما يناقض جَزْم النية بطل) معلماً بالحاء؛ لأن عنده لا أثر لنية الخروج لا في الحال ولا في المآل، ولا للتردد في الخروج. وليس قوله: (ما يناقض جزم النية) مجرى على إطلاقه؛ لأن الغفلة عن جزم النية يناقضه، وهي غير قادحة (¬1) كما سبق والمراد ما عدا الغفلة. واعلم أنه لو لم ينو الخروج مطلقاً ولكن نوى الخروج من الصلاة التي شرع فيها وصرفها إلى غيرها كان قصد الخروج المطلق في أن الصلاة المشروع فيها تبطل، ثم ينظر إن صرف فرضاً إلى فرض كما لو شرع في الظهر ثم صرفها إلى العصر لا يصير عصراً، وإن صرف فرضاً إلى سنة راتبة أو بالعكس فكذلك، وفي بقاء صلاته نفلاً في هذه الصورة قولان نذكرهما من بعد: قال الغزالي: وَلَوْ شَكَّ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ وَمَضَى مَعَ الشَّكِّ رُكْنٌ لاَ يُزَادُ مِثْلُهُ فِي الصَّلاَةِ كَرُكُوع بَطُلَ، وَإِنْ لَمْ يَمْضِ وَقَصُرَ الزَّمَانُ لَمْ يَبْطُلْ، وَلَوْ طَالَ فَوَجْهَانِ، وَالصَّوْمُ يَبطُلُ بِالتَّرَدُّد فِي الخُرُوج عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَقْدٌ وَتَحْرِيمٌ يُؤَثِّرُ القَصْدُ فيه. قال الرافعي: الفصل يشتمل على مسألتين وثانيتهما في نظام الكتاب أولاهما بالتقديم لمضاهاتها المسائل المتقدمة على هذا الفصل فنقدمها، ونقول: لو تردد الصائم في أنه هل يخرج من صومه أم لا أو علق نية الخروج بدخول شخص فقد ذكر المعظم أن صومه لا يبطل، وأشعر كلامهم بنفي الخلاف فيه، وذكر ابن الصباغ في "كتاب الصوم" أن أبا حامد حكى فيه وجهين كما سنذكره في الصورة الآتية، ولو جزم نية الخروج ففيه وجهان: ¬
أحدهما: تبطل كما في الصلاة. وأظهرهما: وبه قال أبو حنيفة: لا كما في الحج. والفرق بين الصوم والصلاة أن الصلاة يتعلق تحرمها وتحللها بقصد الشخص واختياره، والصوم بخلافه، فإن النَّاوي ليلاً يصير شارعًا في الصوم بطلوع الفجر وخارجًا منه بغروب الشمس، وإن لم يكن له شعور بهما، وإذا كان كذلك كان تأثر الصلاة بضعف النية فوق تأثر الصوم، ولهذا يجوز تقديم النية على أول الصوم وتأخيرها في الجملة عن أوله، ولا يجوز ذلك في الصلاة، والمعنى فيه أن الصلاة أفعال وأقوال، والصوم ترك وإمساك والأفعال إلى النية أحوج من الترك. إذا تقرر ذلك فقوله في الكتاب: (وكذا يحرم الخروج) مقطوع عما قبله على ما أشعر به كلام المعظم، ولا جريان للوجهين في سورة التردد، وعلى ما رواه ابن الصباغ: يجوز صرف الوجهين إلى الصورتين، والأول هو قضية إيراده في "الوسيط". المسألة الأخرى: لو شك في صلاته في أنه هل أتى بالنية المعتبرة في ابتدائها، سواء شك في أصلها أو في بعض شروطها، فينظر: إن أحدث على الشك ركنًا فعليًا كالركوع والسجود بطلت صلاته، وإن أحدث ركنًا قوليًا كالقراءة والتشهد فهل هو كالفعلي حتى تبطل الصلاة بمضيه على الشك أيضاً؟ اختلف الناقلون فيه: فمنهم من قال: لا فرق بأن المأتي به على التردد غير محسوب فلا بد من إعادته والأركان الفعلية إذا زيدت عمداً بطلت الصلاة، ولئن عد معذوراً في الإعادة فهو غير معذور في الإنشاء على الشّك، بل كان من حقه التوقف، وأما الأركان القولية فزيادتها عمداً لا تبطل الصلاة فلا يضر إحداثها على التردد، وهذه الطريقة هي المذكورة في الكتاب فإنه قال: (ومضى مع الشك ركن لا يزاد مثله في الصلاة) وقصد به الاحتراز عن القراءة والتشهد ومد الطمأنينة، وهذا مبني على ظاهر المذهب في أنه لا تبطل الصلاة بتكرير الفاتحة والتشهد عمداً بخلاف تكرير الركوع والسجود. وفيه وجه منقول عن أبي الوليد النيسابوري وغيره، أن تكرير الفاتحة كتكرار الركوع، فلا فرق على ذلك الوجه، ومنهم من سوى بين الأركان القولية والفعلية وعللوا البطلان بأن المأتي به على الشك إذا لم يكن محسوباً فالاشتغال به تلاعب بالصلاة، فليمتنع مما ليس من الصلاة ولا فائدة فيه، وليتوقف إلى التذكر، وهذه الطريقة أظهر، وبها قال العراقيون ورووها عن نص الشافعي -رضي الله عنه- وليكن قوله: (لا يزاد مثله في الصلاة) معلماً بالواو لأنه مذكور للتقييد، ولا تقييد على هذه الطريقة الأخيرة وإن لم يحدث شيئاً من فروض الصلاة على التردد حتى يذكر النية نظر: إن قصر الزمان لم يضر أيضاً؛ لأنه معذور في عروضه وكثيراً ما يعرض الشك ويزول فيعفى عنه، وإن طال فوجهان:
أحدهما: أنه لا يضر أيضاً؛ لأنه قد أتى بما يليق بالحال حيث لم يحدث على الشك قولاً ولا تقصير منه في عروضه. وأظهرهما: البطلان لانقطاع نظم الصلاة وندرة مثل هذا الشك، وشبهوا الوجهين بالوجهين فيما إذا أكثر الكلام ناسيًا. والفرق بين طول الزمان وقصره سيأتي في نظائر المسألة. قال الغزالي: ثُمَّ كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ أَنْ يَنْوِي الأدَاءَ أَوِ الظُّهْرَ، وَهَلْ يَجِبُ التَعَرُّضُ لِلْفَرْضِيَّةِ وَالإِضَافَةِ إلَى اللهِ عَزَّ وَجلَّ؟ فَوَجْهَانِ، والنِّيَّةُ بِالقَلْبِ لاَ بِاللِّسَانِ، وَأَمَّا النَّوَافِلُ فلاَ بُدَّ مِنْ تَعيِينِ الرَّوَاتِبِ بِالإِضَافَةِ، وَغيْرُ الرَّوَاتِبَ يَكْفِي فِيهَا نِيَّةُ الصَّلاَةِ مُطْلَقَةً. قال الرافعي: الصلاة قسمان: فرائض ونوافل، أما الفرائض فيتعين فيها قصد أمرين بلا خلاف. أحدهما: فعل الصلاة لتمتاز عن سائر الأفعال، فلا يكفي إخطار نفس الصلاة بالبال مع الغفلة عن الفعل. الثاني: تعيين الصلاة المأتي بها من ظهر وعصر وجمعة لتمتاز عن سائر الصلوات، ولا يجزئه نية فريضة الوقت عن نية الظهر والعصر في أصح الوجهين؛ لأنه لو تذكر فائتة غير الظهر في وقت الظهر كان الإتيان بها فيه إتيانًا في الوقت. قال -صلى الله عليه وسلم-: "فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذلِكَ وَقْتُهَا" (¬1). وليست هذه بظهر، ولا يصح الظهر بنية الجمعة. وفيه وجه ضعيف، وتصح الجمعة بنية الظهر المقصورة إن قلنا: إنها ظهر مقصورة، وإن قلنا: هي صلاة على حيالها لم تصح، ولا تصح بنية مطلق الظهر على التقديرين، واختلفوا في اعتبار أْمور سوى هذين الأمرين منها التعرض للفريضة في اشتراطه وجهان أداء كانت الفريضة أو قضاء. أحدهما: وبه قال ابن أبي هريرة: لا يشترط؛ لأن الشافعي قال في الصبي يصلي ثم يبلغ في آخر الوقت: يجزئه، ولو كانت نية الفرض مشروطة لما أجزأه ذلك؛ لأنه لم ينو الفرضية. وأظهرهما عند الأكثرين: وبه قال أبو إسحاق: تشترط بأن الظهر قد يوجد من الصبي وممن صلى منفرداً ثم أعادها في الجماعة ولا يكون فرضاً فوجب التمييز. ولك أن تقول قولنا: المصلي ينوي الفرضية إما أن يعني بالفرضية في هذا المقام ¬
كونها لازمة على المصلي لعينة، أو كونها من الصلوات اللازمة على أهل الكمال، أو شيئاً آخر. إن عنينا به شيئاً آخر فلنلخصه أولاً ثم لنبحث عن لزومه، وإن عنينا الأول وجب أن لا ينوي الصبي الفريضة بلا خلاف، ولم يفرق الأئمة بين الصبي والبالغ بل أطلقوا الوجهين، وأيضاً فإنهم قالوا -فيمن صلى منفردآ ثم أدرك جماعة-: الصحيح أنه ينوي الفرض بالثاني، وهو غير لازم عليه. وإن عنينا الثاني فمن تعرض للظهر والعصر فقد تعرض لإحدى الصلوات اللازمة على أهل الكمال، وكونها ظهراً أخص من كونها صلاة لازمة عليهم، والتعرض للأخص يغني عن التعرض للأعم؛ ولهذا كان التعرض للصلاة مغنياً عن التعرض للعبادة ونحوها من الأوصاف، وبهذا البحث يضعف ما ذكر في توجيه الوجهين، ومنها الإضافة إلى الله تعالى بأن يقول: لله أو فريضة الله، فيها وجهان: أحدهما: وبه قال ابن القاصي: يشترط ليتحقق معنى الإخلاص. وأصحهما: عند الأكثرين: لا يشترط؛ لأن العبادة لا تكون إلا لله تعالى. ومنها التعرض لكون المأتي به قضاء أو أداء في اشتراطه وجهان: أحدهما: يشترط أنه ليمتاز كل واحد منهما عن الآخر، كما يشترط التعرض للظهر والعصر. والثاني: -وهو الأصح عند الأكثرين- أنه لا يشترط بل يصح الأداء بنية القضاء وبالعكس؛ لأن القضاء والأداء كل واحد منهما يستعمل بمعنى الآخر قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} (¬1) أي: أديتم. ويقال: قضيت الدين وأديته بمعنى، واستشهدوا لهذا الوجه بنص الشافعي -رضي الله عنه- على أنه لو صلى يوم الغيم بالاجتهاد ثم بان أنه صلى بعد الوقت يحكم بوقوعه عن القضاء مع أنه نوى الأداء، ولك أن تقول القول بأن نية الأداء هل تشترط في الأداء ونية القضاء هل تشترط في القضاء، وفرض الخلاف فيه منقدح، لكن قولنا: هل يصح الأداء بنية القضاء وبالعكس إما أن يعني به أن يتعرض في الأداء لحقيقته ولكن ما يجري في قلبه أو على لسانه لفظ القضاء، وكذلك في عكسه، أو يعني به أنه يتعرض في الأداء لحقيقة القضاء وفي القضاء لحقيقة الأداء أو شيئاً آخر إن عنينا به شيئاً آخر فلا بد من معرفته، وإن عنينا الأول فلا ينبغي أن يقع النزاع في جوازه؛ لأن الاعتبار في النية بما في الضمائر، ولا ¬
عبرة بالعبارات، وإن عنينا الثاني فلا ينبغي أن يقع نزاع في المنع؛ لأن قصد الأداء مع العلم بخروج الوقت والقضاء مع العلم ببقاء الوقت هزء (¬1) وعبث، فوجب أن لا ينعقد به الصلاة كما لو نوى الظهر ثلاث ركعات أو خمساً (¬2). ومنها التعرض لاستقبال القبلة شرطه بعض أصحابنا، واستبعده الجمهور؛ لأنه إما شرط أو ركن، وليس على النّاوي التعرض لتفاصيل الأركان والشرائط. ومنها التعرض لعدد الركعات شرطه بعضهم، والصحيح خلافه؛ لأن الظهر إذ لم يكن قصراً لا يكون إلا أربعاً. القسم الثاني: النوافل وهي ضربان: أحدهما: النوافل المتعلقة بوقت أو سبب فيشترط فيها أيضاً نية فعل الصلاة والتعيين فينوي سنة الاستسقاء، والخسوف، وسنة عيد الفطر، والتراويح، والضحى، وغيرها، وفي الرواتب يعين الاضافة فيقول أصلي ركعتي الفجر أو راتبة الظهر أو سنة العشاء. وفي الرواتب وجه: أن ركعتي الفجر لا بد فيهما منع التعيين بالإضافة وفيما عداهما يكفي نية أصل الصلاة إلحاقاً لركعتي الفجر بالفرائض لتأكدها إلحاقاً لسائر الرواتب بالنوافل المطلقة، وفي الوتر ينوي سنة الوتر ولا يضيفها إلى العشاء فإنها مستقلة بنفسها، وإذا زاد على واحدة ينوي بالجميع الوتر كما ينوي في جميع ركعات التراويح، وحكى القاضى الروياني وجوها أخرى: أحدها: أنه ينوي بما قبل الواحدة صلاة الليل. والثاني: ينوي سنة الوتر. والثالث: مقدمة الوتر، ويشبه أن تكون هذه الوجوه في الأولوية دون الاشتراط، وهل يشترط التعرض للنفلية في هذا الضرب؟ اختلف كلام النافلين فيه وهو قريب من الخلاف في اشتراط التعرض للفرضية في الفرائض والخلاف في التعرض للقضاء والأداء والإضافة إلى الله تعالى يعود هاهنا أيضاً. الضرب الثاني: النوافل المطلقة فيكفي فيها نية فعل الصلاة؛ لأنها أدنى درجات الصلاة، فإذا قصد الصلاة وجب أن يحصل له، ولم يذكروا هاهنا خلافاً في التعرض للنفلية، ويمكن أن يقال: قضية اشتراط قصد الفرضية لتمتاز الفرائض عن غيرها اشتراط التعرض للنفلية هاهنا بل التعرض لخاصيتها وهي الإطلاق والانفكاك عن الأسباب والأوقات كالتعرض لخاصية الضرب الأول من النوافل، ثم النية في جميع العبارات ¬
معتبرة بالقلب فلا يكفي النطق مع غفلة القلب ولا يضر عدم النطق ولا النطق بخلاف ما في القلب، كما إذا قصد الظهر وسبق لسانه إلى العصر، وحكى صاحب "الإفصاح" وغيره عن بعض أصحابنا أنه لا بد من التلفظ باللسان؛ لأن الشافعي -رضي الله عنه- قال في الحج: ولا يلزمه "إذا أحرم ونوى بقلبه أن يذكره بلسانه، وليس كالصلاة التي لا تصح إلا بالنطق". قال الجمهور: لم يرد الشافعي -رضي الله عنه- اعتبار التلفظ بالنية، وإنما أراد التكبير، فإن الصلاة تنعقد به، وفي الحج يصير محرماً من غير لفظ وإن عقب النية بقوله إن شاء الله بالقلب أو باللسان فإن قصد التبرك أو وقوع الفعل بمشيئة الله تعالى لم يضره، وإن قصد الشك لم تصح صلاته. وأعود إلى ما يتعلق بلفظ الكتاب فأقول: قوله: (أن ينوي الأداء والظهر) قصد بلفظ الأداء التعرض لشيئين: أحدهما: أصل الفعل وهذا لا بد منه. والثاني: الوصف المقابل للقضاء وهو الوقوع في الوقت، وهذا فيه خلاف بين الأصحاب كما سبق ذكره (¬1)، وما ذكره جواب على وجه اشتراط نية الأداء في الأداء فليكن [كلمة (الأداء) معلمة بالواو، وقوله: (والنية بالقلب لا باللسان)] (¬2) معلم بالواو للوجه الذي حكيناه فيه، وهذه المسألة لا تختص بنية الفرائض ولا بنية النوافل بل تعمهما فلو ذكرها في أول مسائل النية أو آخرها لكان أحسن من ذكرها بين قسم الفرائض والنوافل. وقوله: (فلا بد من تعيين الرواتب بالإضافة) معلم بالواو أيضاً للوجه المنقول فيهما سوى ركعتي الفجر، ثم أهم (¬3) الرواتب في الشهور للنوافل التابعة للفرائض وهي التي أرادها بلفظ الرواتب في باب صلاة التطوع لكن لا يمكن حمل اللفظ في هذا الموضع عليها وحدها؛ لأنه قال: وغير الرواتب يكفي فيه نية الصلاة مطلقة، وهذه النية غير كافية في صلاة العيد، وأخواتها مع أنها غير النوافل التابعة للفرائض. قال الغزالي: وَلَوْ نَوَى الفَرْضَ قَاعِدًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى القِيَامِ لَمْ يَنْعَقِدْ فَرْضُهُ، وَهَل يَنْعَقِدُ نَفْلاً فِيْهِ قَوْلاَنِ، وَكَذا الخِلاَفُ فِي التَّحَرُّم بِالظُّهْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَكُلُّ حَالَةٍ تُنَافِي الفَرْضِيَّةَ دُونَ النَّفْلِيَّةِ، هَذَا حُكْمُ النَّيَّةِ. قال الرافعي: الأصل الجامع لهذه المسائل: أن من أتى بما ينافي الفرضية دون النفلية إما في أول صلاته أو في أثنائها وبطل فرضه، فهل تبقى صلاته نافلة أم تبطل مطلقاً؟ فيه قولان، ذكر الأئمة إنهما مأخوذان بالنقل والتخريج من نصوص مختلفة ¬
للشافعي -رضي الله عنه- في صور هذا الأصل فمنها لو دخل في الظهر قبل الزوال لا يصح ظهراً، ونص أنه ينعقد نفلاً، كذلك رواه الصيدلاني وتابعه صاحب "التهذيب". ولو تحرم بالفرض منفرداً وجاء الإمام وتقدم ليصلي بالناس قال: أحببت أن يسلم عن ركعتين تكونان نافلة له، ويصلي الفرض في الجماعة فقد صحح النفل مع إبطال الفرض، ونص فيما إذا وجد القاعد خفه في أثناء الصلاة فلم يقم أنه تبطل الصلاة رأساً. ولو قلب فرضه نفلاً بلا سبب يدعو إليه فقد حكى ابن كج في نصه أن صلاته تبطل، فجعل الأئمة في هذه الصور وأخواتها كلها قولين: أحدهما: أن صلاته لا تبطل بالكلية وتكون نفلاً؛ لأن الاختلال إنما وقع في شرط الفرض لا في شرط الصلاة بمطلقها، وقد نوى صلاة بصفة الفرضية، فإن بطلت الصفة بقي فرض الصلاة وهذا القصد مصروف إلى النافلة. والثاني: أنها تبطل؛ لأن المنوي هو الفرض والنفل غير منوي فإذا لم يحصل المنوي فلأن لا يحصل غير المنوي كان أولى. وهذان القولان كالقولين فيما إذا أحرم بالحج قبل أشهر الحج هل ينعقد عمرة أم لا؟ ولتوجيههما شبه بتوجيه القولين فيما إذا قال لفلان: عليّ ألف من ثمن الخمر هل يلغو جميع كلامه أم تلغو الإضافة ويلزمه، الألف. ومن صور هذا الأصل ما إذا نوى الفرض قاعداً وهو قادر على القيام، والمسبوق إذا وجد الإمام في الركوع فيبادر إلى الركوع وأتى ببعض تكبيرة الإحرام بعد مجاوزة حد القيام فلا يصح الفرض فيهما، وهل يكون نفلاً؟ فيه القولان، وأما الأصح من القولين فقد ذكر الأصحاب أنه مختلف اختلاف الصور، ففي إذا تحرم الظهر قبل الزوال إن كان عالماً بحقيقة الحال فالأصح البطلان؛ لأنه متلاعب بصلاته، وإن كان يظن دخول الوقت بالاجتهاد فتبين خلافه فالأصح أنها تكون نفلاً؛ لأنه نوى التقرب إلى الله تعالى وبنى قصد الفرض على اجتهاد، فإذا ظهر الخطأ حسن أن لا يضيع سعيه، وفيما إذا تحرم بالفرض منفرداً، ثم أقيمت الجماعة فانفرد بركعتين وسلم، الأصح أن صلاته تبقى نفلاً؛ لأنه قصد النفل بعد الإعراض عن الفرض، وإنما فعل ذلك لأمر محبوب وهو استئناف الصلاة بالجماعة، وفيما إذا وجد القاعد خفة فلم يقم أو قلب فرضه إلى النفل لا لسبب وعذر الأظهر البطلان؛ لأن الخروج عن الفرض بغير عذر وإبطاله مما لا يجوز، وفيما إذا نوى الفرض قاعدًا وهو قادر على القيام الأظهر البطلان أيضاً؛ لتلاعبه بالصلاة، وأما مسألة السبوق فإن كان عالمًا بأنه لا يجوز إيقاع التكبيرة فيما بعد مجاوزة حد القيام فالأظهر البطلان، وإن كان جاهلاً فالأظهر أنها تنعقد نفلاً كما ذكرنا في التحرم بالظهر قبل الزوال.
قال الغزالي: أَمَّا حُكْمُ التَّكْبِيرِ فَتَتعَيَّنُ كَلِمَتُهُ عَلَى القَادِرِ، فلاَ تُجْزِئُ (ح) تَرْجَمَتُهُ، وَلَوْ قَالَ: اللهُ الأكْبَرُ فَلاَ بَأْسَ، لِأَنَّهُ لَم يغَيِّرِ النَّظْمَ وَالْمَعْنَى، وَلَوْ قَالَ: اللهُ الجَلِيلُ أكْبَرُ فَوَجْهَاِنِ لِتَغيُّر النَّظْم، وَلَو قَالَ: الأكْبَرُ اللهُ نَصَّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، وَنَصَّ فِي قَوْلهِ: عَلَيْكُمُ السَّلاَمُ أنَّهُ بَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُسَمِّى تَسْلِيماً وَذلِكَ لاَ يُسَمَّى تَكْبِيرًا، وَقِيْلَ قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ. قال الرافعي: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الْوُضُوءُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ" (¬1). والكلام في التكبير في القادر والعاجز. أما القادر فيتعين عليه كلمة التكبير (¬2) فلا يجوز له العدول إلى ذكر آخر وإن قرب منها كقوله: "الرحمن أجل"، و"الرب أعظم" بل لا يجزئه قوله: الرحمن أو الرحيم أكبر أيضاً، ولا يجزئه ترجمة التكبير بلسان آخر. وخالفنا أبو حنيفة في الفصلين جميعاً فحكم بإجزاء الترجمة وإجزاء التسبيح والتهليل وسائر الأذكار والأدعية إلا أن يذكر اسماً على سبيل النداء كقوله: يا الله أو يقول: اللهم اغفر لي ونحوه من الأدعية. لنا أنه -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يَبْتَدِئُ الصَّلاَةَ بِقَوْلِهِ: اللهُ أَكْبَرُ" (¬3) هكذا روته عائشة -رضي الله عنها- وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" (¬4). وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَضَعَ الطُّهُورَ مواضِعَهُ ويسْتَقبِلَ الْقِبْلَةَ فَيَقُولُ: اللهُ أَكبَرُ" (¬5)، وحكى القاضي ابن كج وجهًا لأصحابنا أنه تنعقد الصلاة بقوله الرحمن أكبر والرحيم أكبر كأنه (¬6) اعتبر لفظ الكبرياء على ذلك، ولم يعتبر اسماً من أسماء الله تعالى يعني بخصوصه. ¬
ولو قال: الله الأكبر أجزأه؛ لأن زيادة الألف واللام لا تبطل لفظة التكبير ولا المعنى بل قول القائل: الله الأكبر يشتمل على ما يشتمل عليه قول، الله أكبر مع زيادة مبالغة في التعظيم للإشعار بالاختصاص، والزيادة التي لا تغير النظم ولا المعنى لا تقدح كزيادة المد حيث يحتمله، وكقوله: الله أكبر من كل شيء أو أكبر، أو أجل وأعظم. وقال مالك وأحمد: لا يجزئه قول: الله الأكبر لظاهر الخبر السابق، وحكى قول عن "القديم" مثل مذهبهما، وممن حكاه القاضي أبو الطيب الطبري، ذكر، أن أبا محمد الكرابيسي نقل عن الأستاذ أبي الوليد روايته فليكن قوله: (فلا بأس) مرقومًا بالميم والألف والقاف، ولو قال: الله الجليل أكبر ففي انعقاد الصلاة به وجهان: أظهرهما: الانعقاد؛ لأن هذه الزيادة لا تبطل اسم التكبير ومعناه فأشبهت الزيادة في قوله: الله الأكبر. والثاني: المنع لتغير النظم بها بخلاف قوله: الله الأكبر فإن الزائد ثم غير مستقل ولا مفيد، ويجري هذا الخلاف فيما إذا أدخل بين كلمتي التكبير شيئاً آخر من نعوت الله تعالى، بشرط أن يكون قليلاً كقوله: الله عز وجل أكبر وما أشبهه ذلك، فأما إذا كثر الداخل بينهما كقوله: الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس أكبر فلا يجزئه؛ لأن هذه الزيادة تخرج المأتي به عن أن يسمى تكبيراً في اللغة ولهذا السبب لا يجوز أن يقف بين كلمتيه وقفة متفاحشة، ولو عكس فقال: الأكبر الله فظاهر كلامه في "الأم" و"المختصر" أنه لا يجوز، ونص في "الأم" على أنه لو قال في آخر الصلاة عليكم السّلام يجزئه، وإن كان مكروهًا فاختلف الأصحاب على طريقين: أظهرهما: تقرير النصين. والفرق أنه مأمور بالتكبير، وقول القائل الأكبر الله يسمى تكبيراً وعند السلام هو مأمور بالتسليم وقوله: عليكم السّلام، يسمى تسليمًا، ولأصحاب الطريق الثاني أن ينازعوا في تحقيق هذا الفرق فيقولوا: ذاك يسمى تكبيرًا إن كان هذا يسمى تسليمًا. والثاني: أن المسألتين على القولين نقلاً وتخريجًا. أحدهما: الجواز؛ لأن المعنى واحد قدم أو أخر فصار كما لو ترك الترتيب في التشهد. وأظهرهما: المنع؛ لما سبق من الظواهر، ويتأيد بترك الترتيب في الفاتحة، وأصحابنا العراقيون حكوا في عكس التكبير وجهين بدل القولين بالنقل والتخريج وهما متقاربان، والخلاف في قوله: الأكبر الله يجري في قوله أكبر الله أيضاً، وقيل: لا يجزئ أكبر الله بلا خلاف، ويجب على المصلي أن يحترز في لفظ التكبير عن زيادة تغير المعنى
بأن يقول الله أكبر؟ فينقلب الكلام استفهاماً أو يقول: الله أكبار فالأكبار جمع كبر وهو الطبل، ولو زاد واواً بين الكلمتين إما سكانة أو متحركة فقد عطل المعنى فلا يجزئه أيضاً، ويجب أن يكبر بحيث يسمع نفسه، ويجب أن يكبر قائماً حيث يلزمه القيام. قال الغزالي: أَمَّا العَاجِزُ فَيَلْزَمُهُ تَرْجَمَتُهُ وَلاَ يُجْزِئُهُ ذِكْرٌ آخَرُ لاَ يؤَدِّي مَعْنَاهُ، وَالبَدَوِيُّ يَلْزَمُة قَصْدُ البَلْدَةِ لِتَعَلُّمِ كَلِمَةِ التَّكْبِيرِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَلاَ يَكْفِيهِ التَّرْجَمَةُ بَدَلاً بِخِلاَف التَّيَمُّمِ. قال الرافعي: العاجز عن جميع كلمة التكبير أو بعضها له حالتان: إحداهما: أنه لا يمكنه كسب القدرة عليها، فإن كان لخرس ونحوه حرك لسانه أو شفتيه ولهاته بالتكبير بحسب ما يمكنه، وإن كان ناطقاً لكن لم يطاوعه لسانه على هذه الكلمة فيأتي بترجمتها؛ لأنه ركن عجز عنه فلا بد له من بدل، وترجمته أولى ما يجعل بدلاً عنه لأدائها معناها، ولا يعدل إلى سائر الأذكار بخلاف ما لو عجز عن الفاتحة لا يعدل إلى الترجمة، [لأن القرآن معجز، وسائر السور تشتمل أيضاً على النظم المعجز (¬1)]، وينبغي (¬2) أن يعلم قوله: (ولا يجزئه ذكر آخر) بالحاء؛ لأن أبا حنيفة يجوز سائر الأذكار في حال القدرة ففي حال العجز أولى وإنما قال: لا يؤدي معناه؛ لأنه لو أدى معناه كان كالترجمة بلغة أخرى وترجمة التكبير بالفارسية "خداي بزر كتر" ذكره الشيخ أبو حامد والقاضي الروياني، فلو قال: "خداي بزرك" وترك صيغة التفضيل لم يجز كقوله: الله الكبير. وجميع اللغات في الترجمة سواء فيتخير بينهما. وقيل: السريانية والعبرانية قد أنزل الله بهما كتاباً فإن أحسنهما لم يعدل عنهما، والفارسية بعدهما أولى من التركية والهندية. والحالة الثانية: أن يمكنه كسب القدرة عليها إما بالتعلم من إنسان أو مراجعة موضع كتبت هذه الصيغة عليه فيلزمه ذلك، فلو كان بدوياً لا يجد في موضعه من يعلمه الكلمة فهل يلزمه المسير إلى بلدة أو قرية لتعلمها فيه وجهان: أحدهما: لا بل له الاقتصار على الترجمة بدلاً كما لا يلزمه الانتقال ليتطهر بالماء ويجزئه التيمم بدلاً. وأصحهما: نعم، لأنه قادر على السير والتعلم إذا تعلم عاد إلى موضعه، وانتفع بالكلمة طول عمره بخلاف التّيمم فإن استصحاب الماء للمستقبل لا يمكن، ومفارقة الموضع بالكلية قد يشق عليه، ويدل على الفرق بين الفصلين أن العادم في أول الوقت ¬
يجوز له أن يتيمم ولا يلزمه التأخير ليصلي بالوضوء كما سبق، والجاهل بالكلمة لا يجوز له الاقتصار على الترجمة في أول الوقت إذا أمكنه التعلم والإتيان بها في آخر الوقت. فإن قلت: وهل على العاجز قضاء الصلوات التي أتى بها بتكبير؟ فالجواب أما في الحالة الأولى فلا، لأن العبادة المختلة إذا قضيت فإنما تقضي بعد ارتفاع الخلل، وثم لا يتوقع ارتفاعه. وأما في الحالة الثانية فإن ضاق الوقت أو كان بليدًا لا يمكنه التعلم إلا في يوم فصاعداً، لم يلزمه قضاء الصلوات المؤداة بالترجمة في الحال؛ لأنه معذور ولا تقصير منه. ولو أخر التعلم مع القدرة فإذا ضاق وقت الصلاة فلا بد من أن يصلي بالترجمة لحرمة الوقت، وهاهنا يلزمه القضاء لتفريطه بالتأخير. وفيه وجه آخر ضعيف. قال الغزالي: وَسُنَنُ التَّكْبِيرِ ثَلاَثٌ: أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ مَعَ التَّكْبِيرِ إلَى حَذوِ المَنْكِبَيْنِ فِي قَوْلٍ، وَإِلَى أَنْ تُحَاذِيَ رُءُوسُ الأَصَابِعِ أُذُنَيهِ فِي قَوْلٍ، وَإِلَى أَن تُحَاذِيَ أَطْرَافُ أَصَابِعِهِ أُذُنَيهِ، وَإبْهَامُهُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ، وَكَفَّاهُ مَنْكبَيْهِ فِي قَوْلٍ، ثُمَّ قِيلَ: يَرْفَعُ غَيْرَ مُكَبِّرٍ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ التَّكْبِيرَ عِنْدَ إِرْسَالِ اليَدِ، وَقِيلَ: يَبْتَدِيءُ الرَّفْعَ مَعَ التَّكْبِيرِ، وَقِيلَ يُكَبِّرُ وَيَدَاهُ قَارَّتَانِ بَعْدَ الرَّفْعِ وَقَبْلَ الإِرْسَالِ، ثُمَّ إذَا أَرْسَلَ يَدَيْهِ وَضَعَ اليُمْنَى عَلَى كُوعِ (ح) اليُسْرَى تَحْتَ صَدْرِهِ. قال الرافعي: لما فرغ من ذكر ما يجب رعايته في التكبير عدل إلى بيان السنن وذكر منها ثلاثاً: أحدها: رفع اليدين عند التكبير، وقد حكي في بعض نسخ الكتاب في قدر الرفع ثلاثة أقوال: أحدها: أن يرفع يديه إلى حذو المنكبين. والثاني: أن يرفعهما إلى أن تحاذي رؤُوس أصابِعِهِ أذنَيهِ. والثالث: إلى أن تحاذي أطراف أصابعه أعلى أذنيه وإبهامه شحمتي أذنيه، وكفاه منكبيه، وليس في بعض النسخ إلا ذكر القول الأول والثاني، ويمكن أن يحتج للقول الأول بما روي عن ابن عمر -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مِنْكَبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ" (¬1) وللقول الثاني، بما روي عن وائل بن حجر أنه -صلى الله عليه وسلم- "لَمْا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ أُذُنَيْهِ" (¬2) وللثالث لاستعمال هذين الخبرين، ولما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "رَفَعَ يَدَيْه إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ" (¬3) واعرف في ما نقله شيئين: ¬
أحدهما: أن المراد من القول الأول وهو الرفع إلى حذو المنكبين أن لا يجاوز بأصابعه منكبيه، هذا قد صرح به إمام الحرمين. وقوله في حكاية القول الثاني: وإلى أن تحاذي برءوس أصابعه أذنيه كأنه يريد شحمة الأذنين وأسافلهما، وإلا فلو حاذت برءوس أصابعه أعلى الأذنين حصلت الهيئة المذكورة في القول الثالث وارتفع الفرق. والثاني: أنه كالمنفرد بنقل الأقوال الثلاثة في المسألة أو بنقل القولين؛ لأن معظم الأصحاب لم ينقلوا فيه اختلاف قول بل اقتصر بعضهم على ما ذكره في المختصر أنه يرفع يديه إذا كبر حذو منكبيه، واقتصر آخرون على الكيفية المذكورة في القول الثالث، وبعضهم جعلها تفسيراً لكلامه في "المختصر" وللشافعي -رضي الله عنه- فيها حكاية مشهورة مع أبي ثور (¬1) والكرابيسي (¬2)، حين قدم بغداد، ولم أر حكاية الخلاف في المسألة إلاَّ للقاضي ابن كج وإمام الحرمين لكنهما لم يذكرا إلا القول الأول والثالث، فظهر تفرده بما نقل من القولين أو الثلاثة وكلامه في "الوسيط" لا يصرح بهذا جميعاً، وكيف ما كان فظاهر المذهب الكيفية المذكورة في القول الثالث. وأما أبو حنيفة فالذي رواه الطحاوي والكرخي: (¬3) أنه يرفع يديه حذو أذنيه. وقال القدوري: يرفع بحيث يحاذي إبهامه شحمة أذنيه، وهذا يخالف القول الأول وذكر بعض أصحابنا منهم صاحب "التهذيب": أن مذهبه رفع اليدين بحيث تحاذي الكفان الأذنين، وهذا بخلاف القول الثالث، ذلك أن تعلمهما معاً بالحاء للروايتين، ولو كان المصلي مقطوع اليدين أو إحداهما من المعصم رفع السَّاعد، وإن كان القطع من المرفق رفع عظم العضد في أصح الوجهين تشبيهاً بالرافعين، ولو لم يقدر على رفعهما أو رفع أحداهما القدر المسنون، بل كان إذا رفع زاد أو نقص أتى بالممكن، فإن قدر عليهما جميعاً فالزيادة أولى: ¬
الثانية: في وقت الرفع وجوه. أحدها: أنه يرفع غير مكبر، ثم يبتدئ التكبير مع ابتداء الإرسال، وينهيه مع انتهائه: "رُوِيَ ذلِكَ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِي عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- (¬1) ". وثانيها: أن يبتدئ الرفع مع ابتداء التكبير، ويروى ذلك عن وائل بن حُجْرٍ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬2). وثالثهما: أن يرفع ثم يكبر ويداه قارَّتان ثم يرسلهما فيكون التكبير بين الرفع والإرسال، ويروى ذلك عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬3)؛ وذكر في "التهذيب" أن هذا أصح لكن الأكثرين على ترجيح الوجه الثاني المنسوب إلى رواية وائل وهو أنه يبتدئ الرفع مع ابتداء التكبير واختلفوا على هذا في انتهائه، فمنهم من قال: يجعل انتهاء الرفع والتكبير معاً كما جعل ابتداؤهما معاً، ومنهم من قال: يجعل انتهاء التكبير والإرسال معاً وقال الأكثرون: الاستحباب في الانتهاء، فإن فرغ من التكبير قبل تمام الرفع أو بالعكس أتم الباقي، وإن فرغ منهما حط يديه ولم يستدم الرفع، ولو ترك رفع اليدين حتى أتى ببعض التكبير رفعهما في الباقي، وإن أتمه لم يرفع بعد ذلك. الثالثة: يسن بعد التكبير وحط اليدين من رفعهما أن يضع اليمنى على اليسرى، خلافاً لمالك في إحدى الروايتين عنه حيث قال: يرسلهما. لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثَلاَثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينُ، تَعْجِيلُ الْفِطْرِ، وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ، وَوَضْعُ اليُمْنَى عَلَى الشِّمَالِ فِي الصَّلاَةِ" (¬4). ثم المستحب أن يأخذ بيمينه على ¬
شماله بأن يقبض بكفه اليمنى كوع اليسرى وبعض الرسغ والساعد، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: يضع كفه اليمنى على ظهر كفه اليسرى من غير أخذ كذلك رواه أصحابنا. لَنَا مَا رُوِيَ عَنْ وَائِل أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم-: "كَبَّرَ ثُمَّ أَخَذَ شِمَالَهُ بِيَمِينِهِ" (¬1). ويروى عنه: "ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ والسَّاعِدِ" (¬2). ويتخير بين بسط أصابع اليمنى في عرض المفصل وبين نشرها في صوب الساعد، ذكره القفال؛ لأن القبض باليمنى على اليسرى حاصل في الحالتين ثم يضع يده كما ذكرنا تحت صدره وفوق سرته خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: يجعلهما تحت سرته، وبه قال أحمد في إحدى الروايتين، ويحكي عن أبي إسحاق المروزي من أصحابنا. لنا: ما روي عن علي -رضي الله عنه- أنه فسر قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (¬3) بوضع اليمين على الشمال تحت النحر. ويروى: أن جبريل عليه السلام كذلك فسره للنبي -صلى الله عليه وسلم-. إذا عرفت ذلك فأعلم قوله: (وضع اليمنى) بالميم وقوله: (على كوع اليسرى) بالحاء؛ لأنه يقول: يضع على ظهر كفه اليسرى دون الكوع. وقوله: (تحت صدره) بالحاء والألف والواو، ولك أن تبحث عن لفظ الإرسال الذي أطلقه في هذه السنة والتي قبلها وتقول: كيف يفعل المصلي بعد رفع اليدين عند التكبير أيد لي يديه كما يفعله الشيعة في دوام القيام ثم يضمها إلى الصدر أم يحطها ويضمها إلى الصدر من غير أن يدليهما. والجواب: أن المصنف ذكر في "الإحياء" أنه لا ينفض يديه يميناً وشمالاً إذا فرغ من التكبير، لكن يرسلهما إرسالاً خفيفاً رفيقاً ثم يستأنف وضع اليمين على الشمال. قال: وفي بعض الأخبار أنه كان يرسل يديه إذا كبر فإذا أراد أن يقرأ وضع اليمنى على اليسرى فهذا ظاهر في أنه يدلي ثم يضمها إلى الصدر. قال: صاحب "التهذيب" وغيره: المصلي بعد الفراغ من التكبير يجمع بين يديه، وهذا يشعر بالاحتمال الثاني، ونختم الفصل بكلامين: أحدهما: أن لمضايق أن ينازع في عد هذا المندوب الثالث من سنن التكبير، ويقول: إنه واقع بعد التكبير مقارن لحال القيام، فكان عده من سنن القيام أولى، وكذلك فعل أبو سعد المتولي. ¬
والثاني: أن ظاهر قوله: (وسنن التكبير ثلاث) حصر سننه فيها، وله مندوبات أخر. منها: أن يكشف يديه عند الرفع للتكبير. وأن يفرق بين أصابعه تفريقاً وسطاً. وأن لا يقصر التكبير بحيث لا يفهم ولا يمططه، وهو أن يبالغ في مده بل يأتي به مبيناً، والأولى فيه الحذف لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "التَّكْبِيرُ جَزْم وَالتَّسْلِيمُ جَزْمٌ" (¬1)؛ أي: لا يمد. فيه وجه: أنه يستحب فيه المد، والأول هو ظاهر المذهب بخلاف تكبيرات الانتقالات، فإنه لو حذفها على باقي انتقاله عن الذكر إلى أن يصل إلى الركن الثاني، وهاهنا الأذكار مشروعة على الاتصال بالتكبير. قال الغزالي: الرُّكْنُ الثَّانِي، القِيَامُ وَحَدُّهُ الانْتِصَابُ مَعَ الإقْلاَلِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الإقْلاَلِ انْتَصَبَ مُتَّكِئاً، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الانْتِصَابِ قَامَ مُنْحَنِيًا، فإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إلاَّ عَلَى حَدِّ الرَّاكِعِينَ قَعَدَ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ دُونَ القِيَامِ قَامَ (ح) وَأَوْمَأَ بِهِمَا. قال الرافعي: القيام بعينه ليس ركنًا في مطلق الصلاة بخلاف التكبير والقراءة؛ لأن القعود في النقل جائز مع القدرة عى القيام فإذًا الركن هو القيام أو ما يقوم مقامه فيحسن أن لا يعد القيام بعينه ركناً بل يقال: الركن هو القيام أو ما في معناه. وإذا عرفت ذلك فنقول: اعتبر في حد القيام أمرين: الانتصاب والإقلال؛ أما الإقلال: فالمراد منه أن يكون مستقلاً غير مستند ولا متكئ على جدار وغيره، وهذا الوصف قد اعتبره إمام الحرمين، وأبطل صلاة من اتكأ في صلاته من غير حاجة وضرورة، وإن كان منتصباً وتابعه المصنف عليه، وحكى صاحب "التهذيب" وغيره: أنه لو استند في قيامه إلى جدار أو إنسان صحت صلاته مع الكراهة. قالوا: ولا فرق بين أن يكون استناده بحيث لو رفع السناد لسقط [وبين ألئلا يكون كذلك مهما كان منتصباً. وفي بعض "التعاليق": أنه إن كان بحيث لو رفع السناد] (¬2) ¬
لسقط لم تجزه صلاته فيحصل من مجموع ذلك ثلاثة أوجه: أحدها -وهو المذكور في الكتاب-: أنه لا يجوز الاتكاء عند القدرة بحال. والثاني: الجواز ولعله أظهر؛ لأن المأمور به القيام ومن انتصب متكئاً فهو قائم. والثالث: الفرق بين الحالتين، وهذا الكلام في الاتكاء الذي لا يسلب اسم القيام، أما لو اتكأ بحيث لو رفع قدميه عن الأرض لأمكنه فهذا معلق نفسه بشيء، وليس بقائم، ولو لم يقدر على الإقلال انتصب متكئاً فإن الانتصاب ميسور له إن كان الإقلال معسوراً، والميسور لا يسقط بالمعسور، وحكى في "التهذيب": وجهاً آخر، أنه لا يلزمه (¬1) القيام والحالة هذه بل له أن يصلي قاعدًا فليكن قوله: (انتصب متكئاً) مرقومًا بالواو لهذا الوجه، أما الانتصاب فلا يخل به إطراق الرأس وإنما يعتبر نصب الفقار، فليس للقادر عليه أن يقف مائلاً إلى اليمين أو اليسار زائلاً عن سنن القيام، ولا أن يقف منحنياً في حد الراكعين؛ لأنه مأمور بالقيام، ويصدق أن يقال؛ هذا راكع لا قائم، وإن لم يبلغ انحناؤه حد الركوع لكن كان أقرب إليه منه إلى الانتصاب فوجهان: أظهرهما: أنه لا يجوز أيضاً هذا عند القدرة على الانتصاب، فأما إذا لم يقدر عليه بل تقوس ظهره لكبر أو زَمَانَة وصار في حد الراكعين، فقد قال في الكتاب: إنه يقعد؛ لأن حد الركوع يفارق حد القيام، فلا يتأدى هذا بذاك، وذكر إمام الحرمين مثل ما ذكره استنباطاً عن كلام الأئمة فقال: الذي دل عليه كلامهم أنه يقعد ولا يجزئه غيره، لكن الذي ذكره العراقيون من أصحابنا وتابعهم صاحب "التهذيب" و"التتمة": أنه لا يجوز له القعود، بل يجب عليه أن يقوم، فإذا أراد أن يركع زاد في الانحناء إن قدر عليه ليفارق الركوع القيام في الصورة، وهذا هو المذهب، فإن الواقف راكعًا أقرب إلى القيام من القعود فلا ينزل عن الدرجة القربى إلى البعدى، وقد حكى القاضي ابن كج: ذلك عن نص الشافعي -رضي الله عنه- (¬2) فيجب إعلام قوله: (قعد) بالواو، ومعرفة ما فيه ولو عجز عن الركوع والسجود دون القيام [لعلة بظهره تمنعه من الانحناء لزمه القيام خلافاً لأبي حنيفة. لنا أنه مستطيع للقيام] (¬3) فيلزمه لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: لعمران بن الحصين: "صَلِّ قَائِماً فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِداً فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ" (¬4)، ولأنه عجز ¬
عن ركن فلا يسقط عنه غيره كما لو عجز عن القيام لا تسقط عنه القراءة، ثم إذا انتهى إلى الركوع والسجود يأتي بهما على حسب الطاقة فيحني صلبه بقدر الإمكان فإن لم يطق حنى رقبته ورأسه فإن احتاج فيه إلى الاعتماد على شيء أو إلى أن يميل على جنبه لزمه ذلك، فإن لم يطق الانحناء أصلاً أومأ بهما. قال الغزالي: وَلَوْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَام قَعَدَ كَيْفَ شَاءَ، لَكِنَّ الإِقْعَاءَ مَكْرُوهٌ، وَهُوَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى وِرْكَيهِ وَينْصِبَ رُكْبَتَيْهِ، وَالافْتِرَاشُ أَفْضَلُ فِي قَوْلٍ، وَالتَّرَبُّعُ فِي قَوْلٍ، وَقِيلَ: يَنْصِبُ رُكْبَتَهُ الْيُمْنَى كَالقَارِئِ يَجْلِسُ بَيْنَ يَدَي المُقْرِئِ لِيُفَارِقَ جِلْسَةَ التَّشَهُّدِ. قال الرافعي: إذا عجز عن القيام في صلاة الفرض عدل إلى القعود لما سبق في خبر عمران، ولا ينتقص ثوابه لمكان العذر، ولا يعني بالعجز عدم التأتي فحسب بل خوف الهلاك، وزيادة المرض، ولحوق المشقة الشديدة في معناه، ومن ذلك خوف الغرق، ودوران الرأس في حق راكب السفينة. ولو جلس الغازون في مكمن فأدركتهم الصلاة، ولو قاموا لرآهم العدو وفسد التدبير فلهم أن يصلوا قعودًا لكن يلزمهم القضاء فإن هذا سبب نادر، وإذا قعد المعذور فلا يتعين للقعود هيئة بل يجزئه جميع هيئات القعود لإطلاق الخبر الذي تقدم لكن يكره الإقعاء، هذا في القعود وفي جميع قعدات الصلاة، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "نَهَى أَنْ يُقْعِيَ الرَّجُلُ فِي صَلاَتِهِ" (¬1) ويروى أنه قال: "لاَ تُقْعُوا إِقْعَاءَ الْكِلاَبِ" (¬2) واختلفوا في تفسيره على ثلاثة أوجه: أحدها: أن الإقعاء أن يفترش رجليه ويضع أليتيه على عقبيه. والثاني: أن يجعل يديه على الأرض ويقعد على أطراف أصابعه. والثالث: وهو الذي ذكره في الكتاب أن الإقعاء: هو الجلوس على الوركين ونصب الفخذين والركبتين، وهذا أظهر؛ لأن الكلب هكذا يقعد، وبهذا فسره أبو عبيد لكن زاد فيه شيء آخر وهو وضع اليدين على الأرض، وما الأولى من هيئات القعود فيه قولان. ووجهان أحد القولين: أن يقعد متربعاً لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "لَمَّا صَلَّى جَالِساً ¬
تَرَبَّعَ" (¬1). ويروى هذا عن مالك وأحمد وأبي حنيفة ثم يركع متربعًا أو مفترشاً إذا أراد الركوع عن أبي حنيفة وأصحابه فيه اختلاف رواية. وأصحهما: أنه يقعد مفترشاً؛ لأنه قعود لا يعقبه سلام فأشبه التشهد الأولى، وسيأتي معنى الافتراش في موضعه وتأويل الخبر: أنه ربما لم يمكنه الجلوس على هيئة الافتراش أو أراد تعليم الجواز وإلا فالتربع ضرب من التنعم لا يليق بحال العبادة، ويجري القولان فيما إذا قعد في النافلة. وأما الوجهان: فأحدهما: وقد ذكره في الكتاب: أنه ينصب ركبته اليمنى ويجلس على رجله اليسرى كالقارئ يجلس بين يدي المقرئ ولا يتربع لما ذكرنا، ولا يفترش لتفاوت هيئة الجلوس هاهنا هيئة الجلوس في التشهد، وهذا يحكى عن القاضي الحسين. والوجه الثاني: حكى في "النهاية" أن بعض المصنفين ذكر أنه يتورك في هذا القعود، ويمكن أن يوجه هذا بأن مدة القيام طويلة وهذا القعود بدل عنه فاللائق به التورك كما في آخر الصلاة، وأما الافتراش فإنه يؤمر به عند الاستيفاز. وإذا عرفت ما ذكرناه فلا يخفى عليك أن تفسير الإقعاء من لفظ الكتاب ينبغي أن يعلم بالواو، وقوله: (الافتراش أفضل) بالميم والألف والحاء، وكذلك ينصب ركبتيه اليمنى وقوله: "ليفارق جلسة التشهد" بعض التوجيه معناه لا يفترش لهذا المعنى ولا يتربع؛ لأنه هيئة تنعم، وأما هذه فهي لائقة بالتعظيم. قال الغزالي: ثُمَّ إِنْ قَدَرَ القَاعِدُ عَلَى الإرْتفَاعِ إِلَى حَدِّ الرُّكُوعِ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الرُّكُوعِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِر فَيَرْكَعُ قَاعِدًا إِلَى حَدٍّ تَكُونُ النِّسْبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّجُودِ كَالنِّسْبَةِ بَيْنَهُمَا فِي حَالِ القِيَامِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ وَضْعِ الجَبْهَةِ انْحَنَى لِلسُّجُودِ، وَلْيَكُنِ السُّجُودُ أَخْفَضَ مِنْهُ لِلْرُّكُوعِ. قال الرافعي: حكم المصنف بأن القاعد لو قدر على الارتفاع عند الركوع إلى حد الراكعين عن القيام لزمه ذلك، ذكره إمام الحرمين، ووجهه، بأن الركوع مقدور عليه فلا يسقط بالمعجوز عنه، وهذا الكلام تفرع منهما على أن من بلغ انحناؤه حد الركوع يقعد، فأما إذا فرعنا على أنه يقف كذلك وهو الأظهر على ما تقدم، فلا تجئ هذه المسألة إلا أن يفرض لحوق ضرر في الوقوف قدر القيام دون الوقوف قدر الركوع، فحينئذ يقعد لخوف الضرر لا بسبب الانحناء، ويرتفع عند الركوع وأما من لا يقدر على الارتفاع، فنتكلم في ¬
ركوعه قاعداً ثم في سجوده، فأما في ركوعه فقد ذكر الأئمة فيه عبارتين: إحداهما: أنه يعني حتى يصير بالإضافة إلى القاعد المنتصب كالرافع قائماً بالإضافة إلى القائم المنتصب فيعرف النسبة بين حالة الانتصاب وبين الركوع قائماً، ويقدر كان المائل من شخصه عند القعود هو قدر قامته فينحنى بمثل تلك النسبة. والثانية -وهي المذكورة في الكتاب-: أنه ينحني إلى حد تكون النسبة بينه وبين السجود كالنسبة بينهما في حال القيام ومعناه أن أكمل الركوع عند القيام أن ينحني بحيث يستوي ظهره ورقبته ويمدهما، وحينئذ يحاذي جبهته موضع سجوده، وأقله: أن ينحني بحيث تنال راحتاه ركبتيه، وحينئذ يقابل وجهه أو بعض وجهه ما وراء ركبته من الأرض، ويبقى بين الموضع المقابل وبين موضع السجود مسافة، فيراعى هذه النسبة في حال القعود، فأقل ركوع القاعد أن ينحني قدر ما يحاذي وجهه وراء ركبته من الأرض، والأكمل أن ينحني بحيث تحاذي جبهته موضع سجوده ولا يخفى أنه لا منافاة بين العبارتين، وكل واحدة منهما مؤدية للغرض. وأما السجود: فلا فرق فيه بينه وبين القادر على القيام، هذا إذا قدر القاعد على الركوع والسجود، فإن عجز لعلة بظهره أو غيرها أتى بالقدر الممكن من الانحناء. ولو قدر على الركوع وعجز عن وضع الجبهة على الأرض للسجود فقد قال في الكتاب: إنه ينحني للسجود أخفض منه للركوع، ويجب هاهنا معرفة شيئين: أحدهما: أن هذا الكلام غير مجرى على إطلاقه، ولكن للمسألة ثلاث صور أوردها صاحب "النهاية": احداها: أن يقدر على الانحناء إلى حد أقل الركوع، أعني ركوع القاعدين، ولا يقدر على الزيادة عليه، فلا يجوز تقسيم المقدور عليه من الانحناء إلى الركوع والسجود بأن يصرف بعضه إلى الركوع وتمامه إلى السجود حتى يكون الانحناء للسجود أخفض، وذلك لأنه يتضمن ترك الركوع مع القدرة عليه، بل يأتي بالمقدور عليه مرة للركوع ومرة للسجود وإن استويا. الثانية: أن يقدر على أكمل ركوع القاعدين من غير زيادة فله أن يأتي به مرتين، ولا يلزمه الاقتصار للركوع على حد الأقل حتى يظهر التفاوت بينه وبين السجود، فإن المنع من إتمام الركوع في حالة الركوع بعيد. الثالثة: أن يقدر على أكمل الركوع وزيادة، فيجب هاهنا أن يقتصر على حد الكمال للركوع ويأتي بالزيادة للسجود؛ لأن الفرق بين الركوع والسجود واجب عند الإمكان وهو ممكن هاهنا. قال إمام الحرمين: وليس هذا عرياً عن احتمال فليتأمل.
إذا عرفت ذلك تبين أنه لا يجب أن يكون الانحناء للسجود أخفض منه للركوع في الصورة الأولى ولا الثانية بل لو وجب إيماء وجب في الصورة الثالثة. والثاني: أن ظاهر كلامه يقتضي الاكتفاء بجعله الانحناء للسجود أخفض منه للركوع [لقوله في الراكب المتنفل يومئ للركوع والسجود ويجعل السجود أخفض منه للركوع] (¬1) فإنه يكفيه ارتفاع التفاوت بينهما على ما تقدم، وليس الأمر على الظاهر هاهنا بل يلزمه مع جعل الانحناء للسجود، أخفض أن يقرب جبهته من الأرض أقصى ما يقدر عليه حتى قال الأصحاب: لو أمكنه أن يسجد على صدغه أو عظم رأسه الذي فوق الجبهة وعلم أنه إذا فعل ذلك كانت جبهته أقرب إلى الأرض يلزمه أن يسجد عليه، فإذا كان الأحسن أن يقول: يجعل السجود أخفض من الركوع ويقرب جبهته من الأرض بقدر الإمكان فيجمع بينهما وكذلك فعله في "الوسيط". قال الغزالي: فَإِنْ عَجَزَ عَنِ القُعُودِ صَلَّى (ح) عَلَى جَنْبِهِ الأيْمَنِ (و) مُسْتَقْبِلاً بِمَقَادِيم (ح) بَدَنِهِ إِلَى القِبْلَةِ كالمَوْضُوعِ (و) فِي اللَّحْدِ، فَإِنْ عَجَزَ فَيُومِئُ (ح) بِالطَّرَفِ أَوْ يُجْرِي الأَفْعَالَ عَلَى قَلْبِهِ لِقَوْلهِ عليه السلام إِذَا أَمَرْتُكُم بِأمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (¬2). قال الرافعي: ذكرنا أن العجز عن القيام يتحقق بتعذره وفي معناه ما إذا لحقه خوف ومشقة شديدة، وأما العجز عن القعود فهو معتبر به، ولم يفرق الجمهور بينهما. وقال في "النهاية": لا أكتفي في ترك القعود بما اكتفى به في ترك القيام بل يشترط فيه عدم تصور القعود أو خيفة الهلاك أو المرض الطويل؛ إلحاقًا له بالمرض الذي يعدل بسببه إلى التّيمم. إذا عرف ذلك فنقول: العاجز عن القعود كيف يصلي؟ فيه وجهان، ومنهم من قال: قولان: أصحهما: أنه يضطجع على جنبه الأيمن مستقبلاً بوجهه مقدم بدنه القبلة كما يضجع الميت في اللَّحْدِ وبهذا قال أحمد، وهو المذكور في الكتاب، ووجهه قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث عمران: "فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ" (¬3) وعلى هذا لو اضطجع على جنبه الأيسر مستقبلاً جاز إلا أنه ترك سنة التيامن. والثاني: أنه يستلقي على ظهره، ويجعل رجليه إلى القبلة، فإنه إذا رفع وسادته قليلاً كان وجهه إلى القبلة، وإذا أومأ بالركوع والسجود، كان إيماؤه في صوب القبلة، والمضطجع على الجنب إذا أومأ لا يكون إيماؤه في صوب القبلة، وبهذا قال أبو ¬
حنيفة، وهذا الخلاف فيمن قدر على الاضطجاع والاستلقاء، أما إذا لم يقدر إلاَّ على إحدى الهيئتين أتى بها، وذكر إمام الحرمين أن هذا الخلاف ليس راجعًا إلى الأول بخلاف ما سبق من الكلام في هيئة القاعد، وإنما هو خلاف فيما يجب؛ لأن أمر الاستقبال يختلف به، وفي المسألة وجه ثالث ضعيف، أنه يضطجع على جنبه الأيمن وأخمصاه إلى القبلة، وإذا صلى على هذه الهيئة المذكورة؛ فإن قدر على الركوع والسجود أتى بهما، إلا أومأ بهما منحنياً، وقرب جبهته من الأرض بحسب الإمكان، وجعل السجود أخفض من الركوع، فإن عجز عن الإشارة بالرأس أومأ بطرفه، فإن لم يقدر على تحريك الأجفان أجرى أفعال الصلاة على قلبه، وإن اعتقل لسانه، أجرى القرآن والأذكار على قلبه، وما دام عاقلاً لا تسقط عنه الصلاة خلافاً لأبي حنيفة حيث قال، إذا عجز عن الإيماء بالرأس لا يصلي ولا يومئ بعينه ولا بقلبه، ثم يقضي بعد البرء، ولمالك حيث قال: لا يصلي ولا يقضي. لنا ما روي عن علي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِماً فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ صَلَّى جَالِسًا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ السُّجُودَ أَوْمَأَ، وَجَعَلَ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوع فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ صَلَّى عَلَى جَنْبهِ الأَيْمَنَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ صَلَّى عَلَى قَفَاهُ مُسْتَلْقِيًا وَجَعَلَ رِجْلَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ" (¬1). وجه الاستدلال أنه قال: "أوْمَأَ بِطَرَفِهِ"، وفيه: دليل على أن العاجز عن القعود يصلي على جنبه الأيمن، فإن عجز حينئذ يستلقي، واحتج في الكتاب للترتيب المذكور لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعتُمْ "؛ ولا يتضح الاحتجاج به في هذا المقام، لأن هذا الخبر أمر بالإتيان بما يشتمل عليه المأمور عند العجز عن ذلك المأمور فأنه قال: "فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعتُمْ" والقعود المعدول إليه عند العجز لا يشتمل عليه القيام المأمور به حتى يكون مستطاعاً من المأمور به، وكذلك الاضطجاع لا يشتمل عليه القعود وإجراء الأفعال على القلب لا تشتمل عليه الأفعال المأمور بها، ألا ترى أنه إذا أتى بالأفعال ولم يحضرها في ذهنه حين ما يأتي بها أجزأته صلاته، فلا تكون هذه المسائل متناولة بالخبر. ولنعد إلى أمور تتعلق بلفظ الكتاب قوله: (فإن عجز عن القعود صلى على جنبه الأيمن) كلمة (صلى) قد أعلم في النسخ بالخاء؛ لأن المصنف روى في "الوسيط": أن أبا حنيفة -رحمة الله عليه- قال: إذا عجز عن القعود سقطت الصلاة، لكن هذا النقل لا يكاد يلقى في كتبهم ولا في كتب أصحابنا، وإنما الثابت عن أبي حنيفة إسقاط الصلاة إذا عجز عن الإيماء بالرأس فإذاً موضع العلامة بالحاء. قوله: (فيومئ بالطرف) وليعلم بالميم أيضاً لما قدمنا حكايته وبالواو أيضاً؛ لأن ¬
صاحب "البيان" حكى عن بعض أصحابنا وجهاً مثل مذهب أبي حنيفة. وقوله: (على جنبه الأيمن) ينبغي أن يرقم بالحاء؛ لأنه عند ذلك يستلقي على ظهره، وكذلك بالواو إشارة إلى الوجه الصائر إلى مثل مذهبه، وكذلك قوله: (مستقبلاً بمقاديم بدنه القبلة) بالواو إشارة إلى الوجه الثالث. وقوله: (أو يجري الأفعال على قلبه) ليست كلمة (أو) للتخيير بل للترتيب. واعلم: أن جميع ما ذكر من أول الركن إلى هذه الغاية من ترتيب المنازل والهيئات مفروض من الفرائض، فأما النوافل فسنذكر حكمها في الفرع الثالث. قال الغزالي: فرُوعٌ ثَلاثَةٌ: الأَوَّلُ مَنْ بِهِ رَمَدٌ لاَ يَبْرَأَ إلاَّ بِالاضْطِجَاعِ، فَالأَقْيَسُ أَنْ يُصَلِّيَ مُضْطَجِعاً وَإِنْ قَدرَ عَلَى القِيَامِ، وَلَمْ تُرَخِّصْ عَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ لابْنِ عَباَّسٍ فِيهِ. قال الرافعي: القادر على القيام إذا أصابه رمد وقال له طبيب يوثق بقوله: إن صليت مستلقياً أو مضطجعاً أمكن مداواتك وإلا خفت عليك العمى فهل له أن يستلقي أو يضطجع بهذا العذر؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال الشيخ أبو حامد: لا؛ لما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- لما وقع الماء في عينيه قال له الأطباء إن مكثت سبعاً لا تصلي إلا مستلقياً عالجناك، فسأل عائشة وأم سلمة وأبا هريرة وغيرهم من الصحابة -رضي الله عنهم- فلم يرخصوا له في ذلك فترك المعالجة، وكف بصره، ويروى هذا الوجه عن مالك. وأظهرهما: وبه قال أبو حنيفة وأحمد: له ذلك كما يجوز له الإفطار في رمضان بهذا العذر، وكما يجوز ترك الوضوء والعدول إلى التيمم به كما يجوز ترك القيام لما فيه من المشقة الشديدة والمرض المضجر فلأن يجوز تركه لذهاب البصر كان أولى، ولو كانت المسألة بحالها وأمره الطبيب بالقعود فقد قال إمام الحرمين: الذي أراه أنه يجوز القعود بلا خلاف، وبنى هذا على ما حكيناه عنه في أنه يجوز ترك القيام بما لا يجوز به ترك القعود، قال: ولهذا فرض شيوخ الأصول الخلاف في المسألة في صورة الاضطجاع، وسكتوا عن صورة القعود والمفهوم من كلام غيره أنه لا فرق، -والله أعلم-. قال الغزالي: الثَّانِي: مَهْمَا وَجَدَ القَاعِدُ خِفَّةً في أَثْنَاءِ الفَاتِحَةِ فَلْيُبَادِرْ إلَى الْقِيَامِ، وَلْيَتْرُكِ القِرَاءَةَ فِي النُّهُوضِ إِلَى أَنْ يَعْتَدِلَ، وَلَوْ مَرِضَ فِي قِيَامِهِ فَلْيَقْرَأ فِي هَوِيِّه، وَإِنْ خَفَّ بَعْدَ الفَاتِحَةِ لَزِمَ القِيَامُ دُونُ الطُّمَأْنِينَةِ لِيَهْوِيَ إلَى الرُّكُوعِ، فَإِنْ خَفَّ فِي الرُّكُوعِ قَبْلَ الطُّمَأْنِينَةِ كَفَاهُ أَنْ يَرْتَفِعَ مُنْحَنِياً إلَى حَدِّ الرَّاكِعِينَ.
قال الرافعي: إذا عجز المصلي [في أثناء صلاته] (¬1) عن القيام قعد وبنى، وكذا لو كان يصلي قاعداً [فعجز عن القعود في أثناء صلاته يضطجع ويبني، ولو كان يصلي قاعداً] (¬2) فقدر على القيام في صلاته يقوم ويبني، وكذا لو كان يصلي مضطجعاً فقدر على القيام أو القعود يأتي بالمقدور عليه ويبني خلافاً لأبي حنيفة في هذه الصورة الأخيرة حيث قال: يستأنف. لنا أنه قدر على الركن المعجوز عنه في صلاته فيعدل إليه ويبني كما لو صلى قاعداً فقدر على القيام. إذا عرف ذلك فنقول تبدل الحال، إما أن يكون من النقصان إلى الكمال أو بالعكس. القسم الأول: كما إذا وجد القاعد قدرة على القيام لخفه المرض ينظر فيه إن اتفق ذلك قبل القراءة قام وقرأ قائماً، فإن كان في أثناء القراءة فكذلك يقوم ويقرأ بقية الفاتحة في القيام، ويجب أن يترك القراءة في النهوض إلى أن ينتصب ويعتدل، فلو قرأ بعض الفاتحة في نهوضه لم يحسب، وعليه أن يعيده؛ لأن حالة النهوض دون حالة القيام وقد قدر على أن يقرأ في أكمل الحالتين، وإن قدر بعد القراءة وقبل الركوع فيلزمه القيام أيضاً ليهوي منه إلى الركوع، ولا يلزمه الطمأنينة في هذا القيام فإنه غير مقصود لنفسه وإنما الغرض منه الهَوِيّ إلى الركوع لا غير، ويستحب في هذه الأحوال إذا قام أن يعيد الفاتحة لتقع في حالة الكمال، ولو وجد المريض الخفة في ركوعه قاعداً نظر إن وجدها قبل الطمأنينة لزمه الارتفاع إلى حد الراكعين عن قيام، ولا يجوز له أن ينتصب قائماً ثم يركع؛ لأنه لو فعل ذلك لكان قد زاد ركوعاً وإن وجدها بعد الطمأنينة فقد تم ركوعه، ولا يلزمه الانتقال إلى ركوع القائمين؛ وفي لفظ الكتاب ما ينبه على افتراق هاتين الحالتين في وجوب الارتفاع إلى حد الراكعين عن قيام وإن لم يصرح بذكرهما؛ لأنه قيد الخفة في الركوع بما قبل الطمأنينة فيشعر بأنه لو خف بعد الطمأنينة كان الأمر بخلافه. وقوله: (كفاه أن يرتفع) يفهم أن هذا الكافي لا بد منه وأنه يجب عليه الارتفاع منحنياً إلى حد الراكعين عن قيام، وهذا التفصيل ذكره إمام الحرمين هكذا بعد ما حكى عن الأصحاب أنهم قالوا: لا يجوز أن يرتفع راكعًا ولم ينصوا على أنه يجب ذلك. واعلم: أنهم لم يفرقوا في جواز الارتفاع إلى حد الراكعين بين أن يخف قبل الطمأنينة وبعدها؛ لأنه لا بد له من القيام للاعتدال إما مستويًا أو منحنياً، فإذا ارتفع منحنياً فقد أتى بصورة ركوع القائمين في ارتفاعه الذي لا بد له منه فلم يمنع منه، بخلاف ما لو انتصب قائمًا ثم ركع فإنه زاد ما هو مستغن عنه فقلنا: ببطلان صلاته. ولو خف المريض في الاعتدال عن الركوع قاعدًا فإن كان قبل أن يطمئن لزمه أن ¬
يقوم للاعتدال ويطمئن فيه، بخلاف ما إذا خف بعد القراءة فقام ليهوي منه إلى الركوع حيث لا تجب الطمأنينة فيه لما سبق، وإن كان بعد الطمأنينة فهل يلزمه أن يقوم ليسجد عن قيام؟ حكى في "التهذيب" فيه وجهين: أحدهما: نعم كما يلزمه إذا خف بعد القراءة ليركع عن قيام. وأظهرهما: لا؛ لأن الاعتدال ركن قصير فلا يعد زمانه، نعم لو اتفق ذلك في الركعة الثانية من صلاة الصبح قبل القنوت فليس له أن يقنت قاعدًا، ولو فعل بطلت صلاته بل يقوم ويقنت. وأما القسم الثاني: وهو أن يتبدل حاله من الكمال إلى النقصان كما إذا مرض في صلاته فعجز عن القيام فيعدل فيه إلى المقدور عليه بحسب الإمكان، فإن اتفق في أثناء الفاتحة فيجب عليه إدامة القراءة في هوية؛ لأن حالة الهَوِيّ أعلى من حالة القعود. قال الغزالي: الثَّالِثُ: القَادِرُ عَلَى القُعُودِ لاَ يَتَنَفَّلُ مُضْطَجِعاً عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ إِذْ لَيْسَ الاضْطِجَاعِ كالقُعُودِ فَإِنَّهُ يَمْحُو صُورَةَ الصَّلاَةِ. قال الرافعي: النوافل، يجوز فعلها قاعدًا، مع القدرة على القيام، لكن الثواب يكون على النصف من ثواب القائم؛ لما روي عن عمران بن الحصين -رضي الله عنه- قال: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ صَلاَةِ الرَّجُلِ وَهُوَ قَاعِدٌ فَقَالَ: مَنْ صَلَّى قَائِمًا، فَهُوَ أَفْضَلُ وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِماً فَلَهُ نِصْفُ أجْرِ الْقَاعِدِ" (¬1)، ويروي "صلاة النائم على النصف من صلاة القاعد" (¬2) ولو تنفل مضطجعاً مع القدرة على القيام والقعود فهل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، لأن قوام الصلاة بالأفعال، فإذا اضطجع فقد ترك معظمها وانمحت صورتها بخلاف القعود، فإن صورة الصلاة تبقى منظومة معه. وأصحهما: الجواز؛ لما روينا من الخبر، ثم المضطجع في صلاة الفرض إن قدر على الركوع والسجود يأتي بهما كما تقدم، وهاهنا الخلاف في جواز الاضطجاع جار في جواز الاقتصار على الإيماء؛ لكن الأظهر منع الاقتصار على الإيماء ثم قال الإمام: ما عندي أن من يجوّز الاضطجاع يجوِّز الاقتصار في الأركان الذكرية كالتشهد والتكبير وغيرهما على ذكر القلب، وبهذا يضعف الوجه الثاني من أصله، وإن ارتكبه من صار إليه كان طارداً للقياس لكنه يكون خارجاً عن الضبط مقتحماً، ولمن جوز الاضطجاع أن يقول: ما روينا من الخبر صريح في جواز الاضطجاع فليجز، ثم المضطجع وإن جوزنا ¬
له الاقتصار على الإيماء في الركوع والسجود فلا يلزم من جواز الاقتصار على الإيماء في الأفعال جواز الاقتصار على ذكر القلب في الأذكار، فإن الأفعال أشق من الأذكار، فهي أولى بالمسامحة، ولا فرق في النوافل بين الرواتب وصلاة العيدين وغيرهما. وقال القاضي ابن كج في "شرحه": صلاة العيدين والاستسقاء والخسوف لا يجوز فعلها عن قعود كصلاة الجنازة. قال الغزالي: الرُّكْنُ الثَّالِثُ القِرَاءَةُ: وَدُعَاءُ الاسْتِفْتَاحِ بَعْدَ التَّكْبِيرِ مُسْتَحَبٌّ (م ح)، ثُمَّ التَّعَوُّذُ (م) بَعْدَهُ مِنْ غيْرِ جَهْرٍ (و)، وَفِي اسْتِحْبَابِ التَّعَوُّذِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَجْهَانٍ. قال الرافعي: لركن القراءة سنتان سابقتان وأخريان لاحقتان، أما السابقتان فأولاهما: دعاء الاستفتاح، فيستحب للمصلي إذا كبر أن يستفتح بقوله: "وَجَّهْتُ وَجهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا مُسْلِماً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْركِينَ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ " خلافاً لمالك حيث قال: لا يستفتح بعد التكبير إلا بالفاتحة والدعاء، والتعوذ يقدمهما على التكبير، ولأبي حنيفة وأحمد حيث قال: يستفتح بقوله: "سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك". لنا ما روي عن علي -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إنَّهُ كَانَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلاةَ كَبَّرَ ثُمَّ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ إلى آخره" (1) وقال في آخره: "وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" لأنه -صلى الله عليه وسلم-، أول مسلمي هذه الأمة. وروي أنه كان يقول بعده: "اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِر لِي ذُنُوبِي جَمِيعاً، إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ، لاَ يَهْدِي لِأحْسَنِهَا إلاَّ أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لاَ يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالْمَهْدِيُّ مَنْ هَدَيْتَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلا مَنْجَى مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ" (2). وروي بعد قوله: "وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ" (2). قال المزني: أي لا يضاف إليك على انفراده. وقيل: أي لا يتقرب به إليك، والزيادة على ما ذكرنا أولاً نستحبها للمنفرد، والإمام إذا علم رضاء المأمومين بالتطويل.
إذا عرفت ذلك فأعلم قوله: (ودعاء الاستفتاح بعد التكبير مستِحب) بالميم، واللفظ لا يقتضي الإعلام بالحاء والألف، لأنهما يساعدان على أنه يستفتح قبل القراءة بشيء، وإنما يخالفان في أنه بم يستفتح وكل واحد من الذكرين، أعني "وجهت" و"سبحانك اللهم" يسمى دعاء الاستفتاح وثناءه، وليس في لفظ الكتاب تعرض للأول بعينه إلا أنه هو الذي أراده؛ فلذلك أعلم بهما أيضاً، ومن ترك دعاء الاستفتاح عمداً أو سهوًا حتى تعوذ أو شرع في الفاتحة لم يعد إليه ولم يتداركه في سائر الركعات، وفرع عليه ما لو أدرك الإمام المسبوق في التشهد الأخير فكبر وقعد فسلم الإمام كما يقعد يقوم، ولا يقرأ دعاء الاستفتاح؛ لفوات وقته بالقعود، ولو سلم الإمام قبل قعوده يقعد ويقرأ دعاء الاستفتاح، ولا فرق في دعاء الاستفتاح بين الفريضة وغيرها، وحكى بعض الأصحاب أن السنة في دعاء الاستفتاح أن يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك ... " إلى آخره، ثم يقول: "وجهت وجهي ... " إلى آخره، جمعاً بين الأخبار، ويحكى هذا عن أبي إسحاق المزوزي وأبي حامد وغيرهما. الثانية: يستحب بعد دعاء الاستفتاح أن يتعوذ؛ خلافاً لمالك إلا في قيام رمضان. لنا ما روي عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِم وغَيْرِهِ "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَتَعَوَّذُ فِي صَلاَتِهِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ". وصيغة التعوذ: "أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" ذكره الشافعي -رضي الله عنه- وورد في لفظ الخبر، وحكى القاضي الروياني عن بعضَ أصحابنا: أن الأحسن أن يقول: "أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ"، ولا شك أن كلا منهما جائز مؤدٍ للغرض، وكذا كل ما يشتمل على الاستعاذة بالله من الشيطان، وهل يجهر به؟ فيه قولان: أحدهما: أنه يستحب الجهرية في الصلاة الجهرية كالتسمية والتأمين. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب: أن المستحب فيه الإسرار في كل حال؛ لأنه ذكر مشروع بين التكبير والقراءة فيسن فيه الإسرار كدعاء الاستفتاح، وذكر الصيدلاني وطائفة من الأصحاب: أن الأول قول "القديم"، والثاني "الجديد"، وحكى في "البيان": القولين على وجه آخر، فقال أحد القولين: إنه يتخير بين الجهر والإسرار ولا يرجح. والثاني: أنه يستحب فيه الجهر، ثم نقل عن أبي علي الطبري أنه يستحب الإسرار به، فيحصل في المسألة ثلاثة مذاهب. ثم استحباب التعوذ يختص بالركعة الأولى أم لا؟ منهم من قال: لا، بل يسن في كل ركعة، إلا أنه في الركعة الأولى آكد، وحكوا ذلك عن نص الشافعي -رضي الله عنه-، أما أنه يستحب في كل ركعة، فلظاهر قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬1) وقد وقع الفصل بين القراءتين، فأشبه ما لو قطع القراءة خارج الصلاة بشغل ثم عاد إليها يستحب له التعوذ. ¬
وأما أن الاستحباب في الركعة الأولى آكد فلأن افتتاح قراءته في صلاته إنما يكون في الركعة الأولى، وقد اشتهر ذلك من فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يشتهر في سائر الركعات، ومنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: الاستحباب، لما ذكرنا. والثاني: لا يستحب في سائر الركعات، ويروى ذلك عن أبي حنيفة؛ كما لو سجد للتلاوة في قراءته ثم عاد إلى القراءة لا يعيد التعوذ، فكأن رابطة الصلاة تجعل الكل قراءة واحدة، وعلى هذا فلو تركه في الركعة الأولى عمداً أو سهوًا تدارك في الثانية بخلاف دعاء الاستفتاح، وسواء أثبتنا الخلاف في المسألة أم لا؟ فالأظهر أنه يستحب في كل ركعة، وبه قال القاضي أبو الطيب الطبري وإمام الحرمين والروياني وغيرهم، وبعضهم يروي في المسألة وجهين بدل القولين ومنهم إمام الحرمين والمصنف. قال الغزالي: ثُمَّ الفَاتِحَةُ بَعْدَهُ متَعَيَّنَةٌ (ح) لاَ يَقُومُ (ح) تَرْجَمَتُهَا مَقَامَهَا، وَيسْتَوِي فِيه الإِمَامُ وَالمَأْمُومُ (ح) فِي السِّرِّيَّةِ وَالجَهْرِيَّةِ (ح) إِلاَّ فِي رَكْعَةِ المَسْبُوقِ، وَنَقَل المُزَنِيُّ سُقُوطَهَا عَنْ المَأْمُومِ فِي الجَهْرِيَّةِ. قال الرافعي: للمصلي حالتان: إحداهما: أن يقدر على قراءة الفاتحة. والثانية: أن لا يقدر عليها، فأما في الحالة الأولى، فيتعين عليه قراءتها في القيام أو ما يقع بدلاً عنه، ولا يقوم مقامها شيء آخر من القرآن ولا ترجمتها، وبه قال مالك وأحمد، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: الفرض من القراءة آية من القرآن سواء كانت طويلة أو قصيرة، وبأي لسان قرأ جاز، وإن كان ترك الفاتحة مكروهًا والعدول إلى لسان آخر إساءة. لنا ما روي عن عبادة بن الصامت أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" (¬1). ولا فرق في تعيين الفاتحة بين الإمام والمأموم في الصلاة السرية. وفي الجهرية قولان: أحدهما: إنها لا تجب على المأموم، وبه قال مالك وأحمد لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "انْصَرَفَ مِنْ صَلاَةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ: هَلْ قَرَأَ مَعِيَ أَحَدٌ مِنْكُمْ فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: مَا لِيَ أُنَازعُ بِالقُرْآنِ فَانْتَهَى النَّاسُ عَن الْقِرَاءَةِ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ" (¬2). ¬
وأصحهما: أنه تجب عليه أيضاً؛ لما روي عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "كُنَّا خَلْفَ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- فِي صَلاَةِ الفَجْرِ فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فرَغَ قَالَ: لَعَلَّكُم تَقْرَؤُنَ خَلْفِي، قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: لاَ تَفْعَلُوا ذلِكَ إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" (¬1). وهذا القول يعرف "بالجديد"، ولم يسمعه المزني من الشافعي -رضي الله عنه- فنقله عن بعض أصحابنا عنه، يقال: إنه أراد الربيع، وأما القول الأول فقد نقله سماعاً عن الشافعي -رضي الله عنه- وقال أبو حنيفة: لا يقرأ المأموم لا في السرية ولا في الجهرية، وحكى القاضي ابن كج أن بعض أصحابنا قال به، وغلط فيه. التفريع إن قلنا: لا يقرأ المأموم في الجهرية فلو كان أصم أو كان بعيداً لا يسمع قراءة الإمام فهل يقرأ؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم، ولو جهر الإمام في صلاة السّر أو بالعكس، فالاعتبار بالكيفية المشروعة في الصلاة أم بفعل الإمام؟ فيه وجهان: قال صاحب "التهذيب": أصحهما: أن الاعتبار بصفة الصلاة، وهذا ظاهر لفظ المصنف حيث قال: (سقوطها عن المأموم في الجهرية) والصلاة الجهرية إن أسر الإمام بها والذي ذكره المحاملي حكايةً عن نص الشافعي -رضي الله عنه- يقتضي الاعتبار بفعل الإمام وهو الموافق للوجه الأصح في المسألة المتقدمة، وهل يسن للمأموم على هذا القول أن يتعوذ؟ روى في "البيان" فيه وجهين: أحدهما: لا، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه لا يقرأ. والثاني: نعم؛ لأنه ذكر سوى فيشارك الإمام فيه، كما لو أسر بالفاتحة، وإذا قلنا: المأموم يقرأ فلا يجهر بحيث يغلب جاره ولكن يأتي بها سراً بحيث يسمع نفسه لو كان سميعاً، فإن ذلك أدنى القراءة، ويستحب للإمام على هذا القول أن يسكت بعد قراءة الفاتحة قدر ما يقرأ المأموم الفاتحة، ذكره في "التهذيب". وإذا عدت إلى ألفاظ الكتاب عرفت أن قوله: (متعينة) وقوله: (لا تقوم ترجمتها مقامها) لم أعلم كل واحد منهما بالحاء. ¬
وقوله: (يستوي فيه الإمام والمأموم) ينبغي أن يعلم بالحاء، ثم إن كان المراد استواءهما في معنى الفاتحة فالحاء عليه، كهو على قوله: (متعينة) فإن أبا حنيفة لا يقول بتعينها على الإمام ولا على المأموم، فقوله يخالف قول القائل باستوائهما في تعينها عليهما؛ لأنه يقول باستوائهما في عدم تعينها عليهما، وأن المراد استواءهما في أصل ركن القراءة، فتكون الحاء إشارة إلى أن القراءة غير واجبة على المأموم أصلاً بخلاف الإمام، وليعلم هذا الموضع بالواو أيضاً للوجه الذي نقله القاضي ابن كج. وقوله: (والجهرية) بالميم والألف، لما رويناه من مذهبهما. وقوله: (إلا في ركعة المسبوق) إنما استثناهما؛ لأن من أدرك الإمام في الركوع كان مدركًا للركعة على ما سيأتي وإن لم يقرأ الفاتحة في تلك الركعة، ثم كيف يقول: أيتحمل الإمام عنه الفاتحة أم لا يجب عليه أصلاً؟ فيه مآخذان للأصحاب، وفي هذا الاستثناء إشارة إلى أن اشتمال الصلاة على القراءة في الجملة غير كافٍ، بل هي واجبة في كل ركعة من ركعات الصلاة خلافاً لأبي حنيفة، حيث قال: لا تجب القراءة في الفرائض إلا في ركعتين، فإن كانت الصلاة ذات ركعتين فذاك، وإن كانت أكثر من ركعتين فالواجب القراءة في ركعتين وفيما سواهما يتخير بين أن يقرأ أو يسبح أو يسكت، ولمالك حيث قال: تجب القراءة في معظم الركعات، ففي الثلاثية يقرأ في ركعتين، وفي الرباعية في ثلاث ركعات، ويروى هذا عن أحمد، والمشهور عنه مثل مذهبنا. لنا ما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نَقْرَأَ فَاتِحَةَ الكِتَابِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ" (¬1). وقوله: (ونقل المزني) أي سماعًا عن الشافعي -رضي الله عنه- وإلا فقد نقل القول الأول أيضاً عن غيره عن الشافعي كما ذكرنا، وهم جميعاً مذكوران في "المختصر". قال الغزالي: ثُمَّ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ (ح م) مِنْهَا، وَهِيَ آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ إِمَّا مَعَ الآيَةِ الأُولَى أَوْ مُسْتَقَلَة بِنَفْسِهَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. قال الرافعي: التسمية آية من الفاتحة لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "قَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فَقَرَأَ بِسْمِ ¬
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَعَدَّهَا آيَةَ مِنْهَا" (¬1). وروي أنه قال: "إِذَا قَرَأتُم فَاتِحَةَ الْكِتَاب فَاقْرَؤُا بِسْم اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فَإِنَّهَا أُمُّ الْقُرْآنِ، وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي، وَإِنَّ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ مَنْهَا" (¬2). وأما حكم التسمية في سائر السور سوى سورة "براءة" لأصحابنا فيه طريقان: أحدهما: أن في كونها من القرآن في أول السور قولين: أصحهما: أنها من القرآن؛ لأنها مثبتة في أوائلها بخط المصحف فتكون من القرآن كما في الفاتحة، ولو لم تكن كذلك لما أثبتوها بخط القرآن. والثاني: أنها ليست من القرآن وأنما كتبت للفصل بين السورتين، لما روي عن ابن عباس قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لاَ يَعْرِفُ فَضْلَ السُّورَتَيْنِ حَتى يَنْزِلَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" (¬3). والطريقة الثانية: وهي الأصح: أنها مِن القرآن في أول سائر السور أيضاً بلا خلاف، وإنما الخلاف في أنها آية مستقلة منها أم هي مع صدر السورة آية، ولا يستبعد التردد في كونها آية أو بعض آية في أول سائر السور مع القطع بأنها آية من أول الفاتحة، ألاّ ترى أنهم اتفقوا على أنها بعض آية من "سورة النَّمْلِ" وأن "الحمد لله رب العالمين" آية تامة من الفاتحة، وهو بعض آية في قوله تعالى: {وَآخِرُ دَعوَاهُم أَنِ الحَمدُ للهِ رَب العَالَمِينَ} (¬4) فأحد القولين: أنها بعض الآية من سائر السور؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "سُوَرةٌ تَشْفَعُ لِقَارئهَا وَهِيَ ثَلاثُونَ آيَةٌ وَهِيَ الْمُلْكُ" (¬5). وتلك السورة ثلاثون آية سوى التسمية؛ وأصحهما: أنها آية تامة كما في أول الفاتحة. واعلم: أن جمهور أصحابنا لم ينقلوا الطريقتين جميعاً، بل اقتصر بعضهم على نقل الثانية، والأكثرون على نقل الأولى، لكن جمع بينهما الصيدلاني، وتابعه إمام الحرمين وغيره، هذا مذهبنا. وقال مالك: ليست التسمية من القرآن إلا من سورة ¬
النَّمْلِ، وهي أشهر الروايتين عن أبي حنيفة. وقال بعض أصحابه: مذهبه: أنها آية في كل موضع أثبتت فيه، لكنها ليست من السورة. وإذا عرفت ذلك فعندنا يجهر المصلي بالتسمية في الصلاة الجهرية في الفاتحة وفي السورة بعدها، خلافاً لمالك حيث قال: لا يقرأها أصلاً لا في الجهرية ولا في السرية، ولأبي حنيفة حيث قال: يسر بها، وبه قال أحمد، إلا أنه يوجب ذلك في كل ركعة؛ لأن التسمية عنده من الفاتحة، وأبو حنيفة لا يأمر بها إلا استحباباً، ويقال: إنه لا يأمر بها إلا في الركعة الأولى كالتعوذ. لنا ما روي عن ابن عمر أنه قال: "صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَكَانُوا يَجْهَرُونَ بِالتَّسْمِيَةِ" (¬1). وعن علي وابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ يَجْهَرُ بِهَا فِي الصَّلاَةِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ" (¬2). وأما ما يتعلق بلفظ الكتاب، فقوله: (آية منها) معلم بالميم والحاء، وكذا قوله: (في كل سورة) ولا يخفى أن المراد ما سوى براءة. ويروى عن أحمد: أن التسمية حيث أثبتت آية وليست من السورة، ورأيت في "رءوس المسائل" لبعض أصحابه أنها ليست من الفاتحة، ولا من سائر السور، والمشهور عنه في كتب أصحابنا أنه يوافقنا في كونها من القرآن، وإنما يخالف في الجهر، فعلى المشهور لتكن الكلمتان معلمتين بالألف أيضاً. وقوله: "وهي آية من كل سورة .... " [إلى آخره، فيه كلامان: أحدهما: أن ظاهر قوله: (وهي آية من كل سورة) أنها آية] (¬3) مستقلة، لأنها إذا كانت مع صدر السورة آية، فلا تكون آية وإنما تكون بعض آية، وإذا كان كذلك فلا يحسن أن يرتب عليه التردد في أنها مستقلة أم لا، فإن الشيء الذي أثبتناه لا ينتظم من التردد فيه؛ ومعنى الكلام أنها من جملة السور معدودة من القرآن، وهل هي آية مستقلة؟ فيه الخلاف. والثاني: أن لفظ الكتاب يمكن تنزيله على الطريقة الثانية بأن يجعل جازماً بأنها ¬
من السورة وتردد الخلاف إلى أنها مستقلة أم لا؟ ويكون تقدير الكلام إما مع الآية الأولى على أحد القولين أو مستقلة بنفسها على أحد القولين، وهذا هو الذي أراده، ويمكن تنزيله على ذكر الخلاف الذي اشتمل عليه الطريقان جميعاً بأن يصرف قوله على أحد القولين إلى أول الكلام وهو قوله: (وهي آية من كل سورة). والقول المقابل له أنها ليست من السور، ويجعل الترديد في قوله: "إما مع الآية الأولى أو مستقلة بنفسها" إشارة إلى الخلاف المذكور في الطريقة الثانية، تفريعاً على أنها من القرآن، وإذا انتظم التردد في أنها آية على استقلالها أم لا بعد القطع بأنها من القرآن ينتظم التردد بعد إثبات الخلاف تفريعاً على أنها من القرآن. قال الغزالي: ثُمَّ كُلُّ حَرْفٍ وَتَشْدِيدٍ رُكْنٌ، وَفِي إِبْدَالِ الضَّادِ بِالظَّاءِ تَرَدُّدٌ. قال الرافعي: لا شك أن فاتحة الكتاب عبارة عن هذه الكلمات، الكلمات المنظومة، والكلمات المنظومة مركبة من الحروف المعلومة، وإذاقال الشارع -صلى الله عليه وسلم- "لاَ صَلاةَ إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" (¬1) فقد وقف الصلاة على جملتها، والموقوف على أشياء مفقود عند فقد بعضها كما هو مفقود عند فقد كلها، فلو أخل بحرف منها لم تصح صلاته، ولو خفف حرفاً مشدداً فقد أخل بحرف؛ لأن المشدد حرفان مثلان، أولهما ساكن، فإذا خفف فقد أسقط أحدهما، ولو أبدل حرفًا بحرف فقد ترك الواجب، وهل يستثنى إبدال الضاد في قوله: {غيرِ الْمَغضُوبِ عَلَيهِم وَلاَ الضَّالِينَ} بالظاء؟ ذكروا فيه وجهين (¬2). ¬
أحدهما: نعم، فيحتمل ذلك لقرب المخرج، وعسر التمييز بينهما. وأصحهما: لا يستثنى، ولو أبدل كان كإبدال غيرهما من الحروف، وكما لا يحتمل [الإخلال بالحروف لا يحتمل] (¬1) اللحن المخل للمعنى كقوله: (أنعمت عليهم) (وإياك نعبد)، بل تبطل صلاته إن تعمد، ويعيد على الاستقامة إن لم يتعمد، ويسوغ القراءات السبع، وكذا القراءة الشاذة (¬2) إن لم يكن فيها تغيير معنى ولا زيادة حرف ولا نقصانه. وقوله: (ثم كل حرف وتشديد ركن) يجوز أن يريد به أنه ركن [من الفاتحة، لأن ركن الشيء أحد الأمور التي يلتثم منها ذلك الشيء، ويجوز أن يريد به أنه ركن] (¬3) من الصلاة؛ لأن الفاتحة من أركان الصلاة وجزء الجزء جزء، والأول أصوب، لئلا تخرج أركان الصلاة عن الضبط. قال الغزالي: ثُمَّ التَّرْتِيبُ فِيهَا شَرْطٌ، فَلَوْ قَرَأَ النِّصْفَ الأخَيرَ أَوَّلاً لَمْ يُجْزِهِ، وَلَوْ قَدَّمَ آخِرَ التَّشَهُدِ فَهُو كَقَوْلِهِ: عَلَيْكُمُ السَّلاَمُ، وَالمُوَلاَةُ أَيْضًا شَرْطٌ بَيْنَ كَلِمَاتِهَا، فَلَوْ قَطَعَهَا بِسُكُوتٍ طَوِيلٍ وَجَبَ الاسْتِئْنَافُ (و) وَكَذَا بِتَسْبِيحٍ يَسِيرٍ، إلاَّ مَا لَهُ سَبَبٌ فِي الصَّلاَةِ كَالتَّأمِينِ لِقِرَاءَةِ الإمَامِ، وَالسُّؤَالِ وَالاسْتِعَاذَةِ أَوْ سُجُودِ التِّلاَوَةِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الإمَامِ آيَةَ سَجْدَةٍ أَوْ رَحمَةٍ أَوْ عَذَاب، فَإِنَّ الوَلاَءَ لاَ يَنْقَطِعُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَينِ، وَلَوْ تَرَكَ المُوَالاةَ نَاسِيًا فَفِيهِ تَرَدُّدٌ، وَلَو طَوَّلَ رُكْنًا قَصِيرًا نَاسِيًا لَمْ يَضُرَّ. قال الرافعي: الفصل يشتمل على جملتين مشروطتين في الفاتحة: إحداهما: الترتيب فيجب رعايتها؛ لأن الإتيان بالنظم المعجز مقصودٍ، والنظم والترتيب هو مناط البلاغة والإعجاز، فلو قدم مؤخراً على متقدم نظر إن كان عامداً بطلت قراءته، وعليه الاستئناف، وإن كان ساهياً عاد إلى الموضع الذي أخل منه بالترتيب فقرأ منه. قال الصيدلاني: إلا أن يطول فيستأنف، وعلى كل حال لا يعتد بالمؤخر الذي قدمه، وينبغي أن يحمل قوله: "فلو قدم النصف الأخير قبل الأول لم يجزه" على هذا؛ ¬
أي: لا يجزئه النصف الأخير، فأما النصف الأول فهل يجزئه ويبني عليه أم يلزمه الاستئناف؟ فيه التفصيل الذي ذكرناه. ولو أخل بترتيب التشهد نظر إن غير تغيراً مبطلاً للمعنى، فليس ما جاء به محسوباً، وإن تعمده بطلت صلاته؛ لأنه أتى بكلام غير منظوم قصداً، وإن لم يبطل المعنى وكان كل واحد من المقدم والمؤخر مفيداً مفهوماً ففيه الطريقان المذكوران فيما إذا عكس لفظ السلام فقال: عليكم السلام، والأظهر الجواز؛ لأنه لا يتعلق بنظمة إعجاز. وقوله: (ولو قدم آخر التشهد) يعني به هذه. الحالة الثانية: وهي أن لا يغير المعنى، وإن كان اللفظ مطلقاً. واعلم أن تغيير الترتيب على وجه يبطل المعنى كما يفرض في التشهد، يفرض في الفاتحة، فوجب أن يقال: ثم أيضاً إذا غير تغييراً مبطلاً للمعنى عمداً تبطل صلاته. والثانية: الموالاة بين كلماتها، والاخلال بها على ضربين: أحدهما: أن يكون الشخص عامداً فيه، فإن سكت في أثنائها نظر؛ إن طالت مدة السكوت وذلك بأن يشعر مثل ذلك السكوت بقطعه القراءة وإعراضه عنها، إما اختياراً أو لعائق فتبطل قراءته، ويلزمه الاستئناف، لأنه -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ يُوَالِي فِي قِرَاءَتِهِ، وَقَدْ قَالَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" (¬1). وروى إمام الحرمين والمصنف في "الوسيط" وجهاً آخر عن العراقيين: إن ترك الموالاة بالسكوت الطويل عمداً لا يبطل القراءة؛ واعلم لهذا الوجه قوله: (وجب الاستئناف) بالواو، وإن قصرت مدة السكوت فلا يؤثر؛ لأن السكلوت [اليسير] (¬2) قد يكون لتنفس وسعال ونحوهما، فلا يشعر بقطع القراءة، ونظيره التفريق اليسير في الوضوء لا يؤثر وإن أوجبنا الموالاة فيه، وهذا إذا لم ينو مع السكوت قطع القراءة، فإن نواه والسكوت يسير ففيه وجهان -حكيا عن الحاوي-: أحدهما: أنه لا تبطل القراءة أيضاً؛ لأن السكوت اليسير لا أثر له بمجرده، ولا للنية بمجردها، فلا يضر أنضمام أحدهما إلى الآخر. وأصحهما: -وهو الذي ذكره المعظم-: أنها تبطل، ويجب الاستئناف لاقتران الفعل بنية القطع، وقد تؤثر النية مع الفعل فيما لا يؤثر فيه أحدهما؛ ألا ترى أن نية التعدي من المودع لا توجب كون الوديعة مضمونة عليه، وكذلك مجرد النقل من موضع إلى موضع، وإذا اقترنا صارت مضمونة عليه، وإنما لم تؤثر مجرد النية هاهنا بخلاف نية قطع ¬
الصلاة فإنها تؤثر فيها؛ لأن النية ركن في الصلاة تجب إدامتها حكمًا إن لم تجب إدامتها حقيقة، ولا يمكن إدامتها حكماً مع نية القطع، فتبقى الأفعال بلا نية، [وقراءة الفاتحة لا تفتقر إلى نية خاصة فلا يؤثر فيها نية القطع] (¬1) فلو أتى بتسبيح أو تهليل في أثنائها، أو قرأ آية أخرى فيها بطلت الموالاة، قل ذلك أم أكثر؛ لأن الاشتغال بغيرها يغير النظم، ويوهم الإعراض عنها، وهذا فيما لا يؤمر به في الصلاة، أما ما يؤمر به وتتعلق به مصلحة الصلاة، كما إذا أَمَّنَ الإمام والمأموم في خلال الفاتحة فأمن معه، أو قرأ الإمام آية رحمة فسألها المأموم، أو آية عذاب فاستعاذ منه، أو آية سجدة فسجد المأموم معه، أو فتح على الإمام قراءته، ففي بطلان الموالاة في جميع ذلك وجهان: أحدهما، وبه قال الشيخ أبو حامد: تبطل، كما لو فتح على غير إمامه أو أجاب المؤذن، أو عطس فحمد الله تعالى. وأصحهما، وبه قال صاحب "الإفصاح" والقاضي أبو الطيب والقفال: لا تبطل صلاته، لأنه ندب إلى هذه الأمور في الصلاة لمصلحتها، فالاشتغال بها عند عروض أسبابها لا يجعل قادحاً، وهذا مفرع على استحباب هذه الأمور للمأموم وهو المشهور. وفيه وجه آخر: لم يجروا هذا الخلاف في كل مندوب إليه، فإن الحمد عند العطاس مندوب إليه، وإن كان في الصلاة فهو قاطع للموالاة، ولكن في المندوبات التي تختص بالصلاة، وتعد من صلاحها. وقوله: "إلاَّ ما له سبب في الصلاة" محمول على هذا، ولما كان السكوت مبطلاً للموالاة بشرط أن يكون طويلاً، وكان التسبيح ونحوه مبطلاً من غير هذا الشرط، قيد في لفظ الكتاب السكوت بالطويل، وجعل التسبيح يوصف كونه يسيراً مبطلاً للموالاة؛ تنبيهًا على الفرق بينهما، ثم لا يخفى أن ما يبطل قليله فكثيره أولى أن يبطل. الضرب الثاني: أن يخل بالموالاة ناسياً، ونذكر أولاً مسألة وهي: أنه لو ترك الفاتحة ناسياً هل تجزئه صلاته؟ الجديد -وهو المذهب- أنه لا يعتد بتلك الركعة، بل إن تذكر بعدما ركع عاد إلى القيام وقرأ، وإن تذكر بعد القيام إلى الركعة الثانية صارت هذه الركعة أولاه ويلغي ما سبق، ووجهة الأخبار الدالة على اعتبار الفاتحة، والإلحاق بسائر الأركان. وقال في "القديم" تجزئه صلاته تقليداً لعمر -رضي الله عنه- "فَإنَّهُ نَسِيَ الْقِرَاءَةَ فِي صَلاَةِ الْمَغْرِبِ فَقِيلَ لَه فِي ذلِكَ فَقَالَ: كَيفَ كَانَ الرُّكُوعُ وَالسجُودُ قَالُوا: كَانَ حَسَنًا ¬
قَالَ: فَلاَ بَأْسَ" (¬1) وقد ذكرت ما قيل في الفرق بين الفاتحة وسائر الأركان، في فصل الترتيب في الوضوء. إذا عرف ذلك فنقول: إن ترك الموالاة ناسياً، فالذي ذكره الجمهور ونقلوه عن نص الشافعي -رضي الله عنه-: إنه لا تنقطع الموالاة، وله أن يبني، وليس هذا تفريعاً على القول القديم في ترك الفاتحة ناسياً بل نقلوا ذلك مع القول بأنه إذا ترك الفاتحة ناسياً لم يعتد بالركعة، ومال إمام الحرمين، إلى أنه ينقطع الولاء بالنسيان إذا قلنا: النسيان ليس بعذر في ترك الفاتحة، حتى لا يجزئه ما أتى به، كما لو ترك الترتيب ناسياً، وتابعه الإمام الغزالي -رحمه الله- فجعل المسألة على التردد، واعترض إمام الحرمين -قدس الله روحه- على كلام الجمهور فقال: ترك الولاء إذا كان مما تختل به القراءة؛ فجريانه النسيان يجب أن يكون بمثابة ترك القراءة ناسياً حتى لا يعذر به، وللجمهور أن يقولوا: سلمت في هذا الاعتراض مقدمة مطلقة وهي أن ترك الولاء مما تختل به القراءة، وعندنا لا تختل به القراءة إلا عند التعمد، فإن قال: إذا اختلت به عند التعمد وجب أن تختل به عند النسيان، كما أن ترك القراءة من أصلها لا يفترق حكمه في الحالتين، فلهم أن يقولوا في الفرق: الموالاة هيئة من الكلمات تابعة لها، فإذا ترك القراءة فقد ترك التابع والمتبوع، وإذا ترك الموالاة فقد ترك التابع دون المتبوع، فلا يبعد أن يجعل النسيان عذرًا هاهنا ولا يجعل عذراً ثَم، ونظيره غسل الأعضاء في الوضوء، لا يحتمل تركها عمداً ولا سهواً، وترك الموالاة سهوًا يحتمل على الأظهر إن أوجبنا فيه الموالاة، وأما ما ذكره من ترك الترتيب ناسياً، فقد فرق الشيخ أبو محمد بينه وبين الموالاة؛ بأن أمر الموالاة أهون؛ ألا ترى أنه لو أخل المصلي بترتيب الأركان ناسياً فقدم السجود على الركوع لم يعتد بالسجود المقدم، ولو أخل بالموالاة بأن طَوَّلَ ركنًا قصيراً من الصلاة ناسياً لم يضر، واعتد بما أتى به، وكذلك لو ترك سجدة من الركعة الأولى أقيمت السجدة المأتي بها في الركعة الثانية مقامها وإن اختلت الموالاة؛ ولهذا يحتمل غير أفعال الصلاة في خلالها إذا كانت يسيرة كالخطوة وقتل الحية ونظائرهما، مع أنها تخل بصورة الموالاة، فلا يلزم من جعل النسيان عذرًا في أضعف المعتبرين جعله عذرًا في أقواهما، وقد حكى الإمام بعض هذا الفرق عن الشيخ، ولم يعترض عليه بأزيد مما سبق، وربما وجه النص المنقول في أن ترك الموالاة لا يضر بمسائل الموالاة ناسياً في الصلاة لتطويل الركن القصير ونحوه والله أعلم. وينكشف لك من هذا الشرح ما هو السبب الداعي إلى إيراد المصنف مسألة ¬
تطويل الركن القصير في خلال مسائل القراءة؟ ومن لم يعرف هذا السبب، ولم تكن فيه غباوة فإنه يتعجب من ذلك، وليس في لفظ الكتاب ما ينبه عليه، وأما تسميته كل واحد من الترتيب والموالاة شرطاً، والحروف والتشديدات أركاناً، فقد تقدم في باب الأذان ما يناظر ذلك والقول فيهما قريب. قال الغزالي: أَمَّا العَاجِزُ فَلاَ يُجْزِئُهُ تَرْجَمَتُهُ (ح) بِخِلاَفِ التَّكْبِيرِ بَلْ يَأْتي بِسَبْعِ آيَاتٍ مِنَ القُرْآنِ مُتَوَالِيَةً لاَ تَنْقُصُ حُرُوفُهَا عَنْ حُرُوفِ الفَاتِحَةِ، فَإنْ لَمْ يُحْسِنْ فَمُتَفَرِّقَة، فإنْ لَمْ يُحْسِنْ فَيَأْتِى بِتَسْبِيحِ وَتَهْلِيل لاَ تَنْقُصُ حُرُوفُهُ عَنْ حُرُوفِ الفَاتِحَةِ. قال الرافعي: ذكرنا أن للمصلي حالتين: إحداهما: أن يقدر على قراءة الفاتحة، وما ذكرناه إلى الآن كلام فيها. والثانية: أنه لا يقدر فيلزمه كسب القدرة عليها، إما بالتعلم أو التوصل إلى مصحف يقرأها منه، سواء قدر عليه بالشراء، أو الاستئجار، أو الاستعارة (¬1)، فإن كان بالليل، أو كان في ظلمة فعليه تحصيل السراج أيضاً عند الإمكان، فلو امتنع من ذلك مع الإمكان فعليه إعادة كل صلاة صلاها إلى أن قدر على قراءتها. وإذا تعذر التعلم عليه أو تأخر لضيق الوقت، أو بلادته وتعذرت القراءة من المصحف أيضاً. فكيف يصلي؟ هذا غرض الفصل؛ وجملته أنه لا تجزئه الترجمة، وخلاف أبي حنيفة يعود هاهنا بطريق الأولى، ويخالف التكبير حيث يعدل العاجز إلى ترجمته لما قدمناه: إن نظم القرآن معجز وهو المقصود، فيراعي ما هو أقرب منه، وأما لفظ التكبير فليس بمعجز، ومعظم الفرض معناه فالترجمة أقرب إليه. وإذا عرفت ذلك فينظر إن أحسن غير الفاتحة من القرآن فيجب عليه أن يقرأ سَبْعَ ¬
آيات من غيرها، ولا يجوز له العدول إلى الذكر؛ لأن القرآن بالقرآن أشبه، ولا يجوز أن ينقص عدد الآيات المأتي بها عن السبع وإن كانت طويلة؛ لأن عدد الآي مَرْعيٌّ فيها، قال الله تعالى: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} (¬1) "وَعَدَّهَا رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- سَبْعَ آيَاتٍ" فيراعي هذا العدد في بدلها، وهل يشترط مع ذلك ألئلا تنقص حروفها عن حروف الفاتحة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، ويكفي اعتبار الآيات كما لو فاته صوم يوم طويل يجوز قضاؤه في يوم قصير، ولا ينظر إلى الساعات. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب: أنه يشترط؛ لأنها معتبرة في الفاتحة، وقد أمكن اعتبارها في البدل فأشبهت الآيات. وهذان الوجهان في جملة الفاتحة مع جملة البدل، فلا يمتنع أن يجعل آيتين بدلاً عن آية. وفي وجه: يجب أن تعدل حروف كل آية بآية من الفاتحة على الترتيب، وينبغي أن تكون مثلها، أو أطول منها، ويحكي هذا عن الشيخ أبي محمد، ثم إن أحسن سبع آيات متوالية بالشرط المذكور لم يجز العدول إلى المتفرقة، فإن المتوالية أشبه بالفاتحة، وإن لم يحسنها أتى بها متفرقة. واستدرك إمام الحرمين فقال: لو كانت الآيات المفردة لا تفيد معنى منظوماً إذا قرأت وحدها، كقوله: "ثُمَّ نَظَرَ" (¬2) فيظهر أن لا نأمره بقراءة هذه الآيات المتفرقة، ونجعله كمن لا يحسن شيئاً من القرآن أصلاً [وإن] (¬3) كان ما يحسنه من القرآن دون السبع كآية أو آيتين، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب عليه أن يكرر حتى يبلغ قدر الفاتحة. وأصحهما: أنه يقرأ ما يحسنه، ويأتي بالذكر للباقي، هذا كله إذا أحسن شيئاً من القرآن (¬4). أما إذا لم يحسن، فيجب عليه أن يأتي بالذكر كالتسبيح والتهليل، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: لا يلزمه الذكر ويقف ساكتاً بقدر القراءة، ولمالك حيث قال: لا يلزمه الذكر، ولا الوقوف بقدر القراءة. لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُم إِلَى الصَّلاَةِ فَليَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ فَإِنْ كَانَ لاَ يُحْسِنُ شَيْئاً مِنَ الْقُرْآنِ فَلْيَحْمَد اللهَ وَلْيُكَبِّرْهُ". ¬
وروي أن رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ آخَذَ شَيْئاً مِنَ الْقُرْآنِ، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِيني فِي صَلاَتِي، فَقَالَ: قُلْ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالحَمْدُ للْهِ، وَلاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرَ، وَلاَ حَولَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ " (¬1) ثم هل يتعين شيء من الأذكار أم يتخير فيها؟ فيه وجهان: أحدهما: أن الكلمات المذكورة في الخبر الثاني متعينة لظاهر الأمر، وعلى هذا اختلفوا: منهم من قال: تكفيه هذه الكلمات الخمس؛ لأنه قال: "علمني ما يجزيني في صلاتي" والنبي -صلى الله عليه وسلم- علمه هذه الكلمات، وبهذا قال أبو علي الطبري والقاضي أبو الطيب، ومنهم من قال: يضم إليها كلمتين أخرتين حتى تصير سبعة أنواع، فيكون كل نوع بدلاً عن آية. والمراد بالكلمات هاهنا أنواع: الذكر لا الألفاظ المفردة. وأصحهما: أنه لا يتعين شيء من الأذكار، وبه قال أبو إسحاق المَرُوزي، وهذا هو الذي ذكره في الكتاب؛ لأنه أطلق فقال: فيأتي بتسبيح وتهليل، وعلى هذا فتعرض الخبر للكلمات الخمس جرى على سبيل التمثيل، وهل يشترط أن لا تنقص حروف ما يأتى به عن حروف الفاتحة؟ فيه وجهان: كما ذكرنا فيما إذا أحسن غير الفاتحة من القرآن. أصحهما -وهو المذكور في الكتاب- أنه يشرط، ثم قال إمام الحرمين: لا يرعى هاهنا إلا الحروف بخلاف ما إذا أحسن غير الفاتحة من القرآن، فإنه يراعي عدد الآيات، وفي الحروف الخلاف. وقال في "التهذيب": يجب أن يأتي بسبعة أنواع من الذكر، ويقام كل نوع مقام آية، وهذا أقرب تشبيهاً لمقاطع الأنواع بغايات الآيات، وهل الأدعية المحضة كالأثنية؟ فيه تردد للشيخ أبي محمد. قال إمام الحرمين: والأشبه أن ما يتعلق بأمور الآخر، يقوم دون ما يتعلق بالدنيا، ويشترط أن لا يقصد بالذكر المأتي به شيئاً آخر سوى البلدية، كما إذا استفتح أو تعوَّذَ على قصد إقامة سنتهما، ولكن لا يشترط قصد البدلية فيهما ولا في غيرهما من الأذكار في أظهر الوجهين، وإن لم يحسن شيئاً من القرآن والأذكار فعليه أن يقوم بقدر الفاتحة، ثم يركع، وكل ما ذكرناه فيما إذا لم يحسن الفاتحة أصلاً. قال الغزالي: فَإِنْ لَمْ يُحْسِنِ النِّصْفَ الأَوَّلَ مِنْهَا أَتَى بِالذِّكْرِ بَدَلاً عَنْهُ، ثُمَّ يَأْتِي بِالنِّصْفِ الأَخِيرِ. ¬
قال الرافعي: أصل المسألة: أن من يحسن بعض الفاتحة دون بعض يكرره، أو يأتي به ويبدل الباقي؟ فيه وجهان: وقيل: قولان: أحدهما: أنه يكرر ما يحسنه قدر الفاتحة، ولا يعدل إلى غيره؛ لأن بعضها أقرب إلى الباق من غيرها، فصار كما إذا أحسن غيرها من القرآن لا يعدل إلى الذكر. وأصحهما: أنه يأتي به، ويبدل الباقي؛ لأن الشيء الواحد لا يكون أصلاً وبدلاً، ويدل عليه "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ ذلِكَ السَّائِلَ بِالْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ"، ومنها: "الْحَمْدُ للهِ"، وهذه الكلمة من جملة الفاتحة، ولم يأمره بتكريرها، وهذا الخلاف فيما إذا كان يحسن للباقي بدلاً أما إذا لم يحسن إلا ذلك البعض فيكرره بلا خلاف. إذا تقرر ذلك فلو أحسن النصف الثاني دون الأول فقد قال في الكتاب: يأتي بالذكر بدلاً عن النصف الأول، ثم يأتي بالنصف الثاني، وهذا جواب على الوجه الأصح، ويجب أن يقدم البدل للنصف الأول على قراءة النصف الثاني رعايةً للترتيب، كما يجب الترتيب في أركان الصلاة وفي كلمات الفاتحة. وحكى في "التهذيب" وجهاً أنه لا يشترط الترتيب بين البدل والأصل، وكيف ما قرأ جاز. وأما إذا فرعنا على الوجه الأول وهو أنه يكرر القدر الذي يحسنه، فلا يأتي في هذه الصورة للنصف الأول ببدل، بل يكرر النصف الأخير، وليعلم هذا الوجه قوله: (أتى بالذكر بدلاً عنه) بالواو، وكذا قوله: (ثم يأتي بالنصف الأخير)؛ لأن كلمة ثم للترتيب، وقد ذكرنا وجهاً أنه لا يجب الترتيب، ولو كان الأمر بالعكس فكأن يحسن النصف الأول دون الثاني، فعلى الوجه الأول: يكرره، وعلى الأصح، يأتي بالنصف الأول، ثم [يأتي] (¬1) بالذكر بدلاً عن الثاني. قال الغزالي: فَإِنْ تَعَلَّمَ قَبْلَ قِرَاءَةِ البَدَلِ لَزِمَتْهُ قِرَاءَتُهَا، وإنْ كَانَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَلاَ، وإنْ كَانَ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَ الفَرَاغِ فَوَجْهَانِ. قال الرافعي: جميع ما سبق فيما إذا استمر العجز عن القراءة في الصلاة، فأما إذا تعلم الفاتحة في أثنائها، أو لقنه إنسان، أو أحضر مصحف، وتمكن من القراءة منه فينظر، إن اتفق ذلك قبل الشروع في قراءة البدل، فعليه أن يقرأ الفاتحة، وإن كان في خلال قراءة البدل مثل أن أتى بنصف الأذكار ثم قدر على قراءة الفاتحة فعليه قراءة النصف الأخير، وفي الأول وجهان: أحدهما: لا يجب، كما إذا شرع في صوم الشهرين، ثم قدر على الإعتاق، لا يلزمه العدول إلى الإعتاق. ¬
وأظهرهما: يجب كما إذا وجد الماء قبل تمام التيمم يبطُل تيممه وإن كان ذلك بعد قراءة البدل، وبعد الركوع فلا يجوز الركوع، وقد مضت تلك الركعة على الصحة، وإن كان بعد القراءة وقبل الركوع فوجهان: أحدهما: عليه قراءة الفاتحة؛ لأن محل القراءة باقٍ، وقد قدر عليها. وأظهرهما: لا يجب؛ لأن البدل قد تم، وتأدى الفرض به، وأشبه ما لو أتى المكفر بالبدل ثم قدر على الأصل، أو صلى بالتيمم، ثم قدر على الوضوء، ويجوز أن يعلم قوله: "لزمه قراءتها" بالواو؛ لأن قوله: "قبل قراءة البدل" يتناول ما إذا لم يشرع في البدل أصلاً ما إذا شرع، لكن لم يتمه حتى تعلم الفاتحة، وقد ذكرنا في الصورة الثانية وجهين، ويجوز أن يعلم قوله: (فوجهان) في الصورة الأخيرة أيضاً؛ لأن صاحب "البيان" ذكر طريقًا آخر أنه لا يجب قراءة الفاتحة وجهاً واحداً. قال الغزالي: ثُمَّ بَعْدَ الفَاتِحَةِ سُنَّتَانِ: (إِحْدَاهُمَا): التَّأْمِينُ مَعَ تَخْفِيفِ الميم مَمْدُودَة أَوْ مَقْصُورَةً، وَفِي جَهْرِ الإمَامِ بِهِ خِلاَفٌ، وَالأظْهَرُ الجَهْرُ، وَلْيؤَمِّنِ المَأْمُومُ مَعَ تَأْمِينِ الإمَامِ لاَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ. قال الرافعي: بينا أن لركن القراءة سنتين لاحقتين، فاشتغل بذكرهما حين فرغ من أحكام الفاتحة. إحداهما: التأمين، فيستحب لكُلِّ من قرأ الفاتحة خارج الصلاة، أو في الصلاة، أن يقول عقيب الفراغ منها: "آمين". ثبت ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعنى الكلمة، ليكن كذلك، وفيها لغتان: القصر، والمد، والميم مخففة في الحالتين، وينبغي أن يفصل بينها وبين قوله: {وَلَا الضَّالِّينَ} بسكتة لطيفة؛ تمييزًا بين القرآن وغيره، ويستوي في اَستحبابها الإمام والمأموم والمنفرد، ويجهر بها الإمام والمنفرد في صلاة الجهر تبعاً للقراءة، وقد روي عن وائل بن حُجْر قال: "صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا قَالَ: {وَلَا الضَّالِّينَ}. قَالَ: آمِينَ وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ" (¬1). وأما المأموم فقد نقل عن القديم أنه يؤمن جهراً أيضاً، وعن الجديد أنه لا يجهر، واختلف الأصحاب فقال الأكثرون في المسألة قولان: أحدهما: أنه لا يجهر [كما لا يجهر بالتكبيرات وإن كان الإمام يجهر بها]. وأصحهما: وبه قال أحمد: أنه يجهر] (¬2) لما روي عن عطاء قال: "كُنْتُ أَسْمَعُ ¬
الأَئِمَّةَ، وَذَكَرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَمَنْ بَعْدَهُ يَقُولُونَ: آمِينَ، وَيقُولُ مِنْ خَلْفِهِمْ: آمِينَ حَتَّى إِنَّ لِلْمَسْجِدِ لَضَجّةً" (¬1). ويروى عن أبي هريرة قال: "كَانَ إِذَا أمَّنَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَمَّنَ مَنْ خَلْفَهُ حَتَّى كَانَ لِلْمَسْجِدِ ضَجَّةٌ" (¬2) ولأن المقتدي متابع للإمام في التأمين، فإنه إنما يؤمن لقراءته، فيتبعه في الجهر كما يتبعه في التأمين، ومنهم من أثبت قولين في المسألة ولكن لا على الإطلاق، بل فيما إذا لم يجهر الإمام، فيجهر المأموم ليتنبه الإمام وغيره، ومنهم من حمل النصين على حالين، فحيث قال: "لا يجهر المأمومون" أراد: ما إذا قل المقتدون، أو صغر المسجد وبلغ صوت الإمام القوم فيكفي إسماعه إياهم التأمين، كأصل القراءة، وإن أكثر القوم يجهرون حتى يبلغ الصوت الكل، والأحب أن يكون تأمين المأموم مع تأمين الإمام، لا قبله ولا بعده؛ لما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا أَمَّنَ الإمَامُ أَمَّنَتِ المَلاَئِكَةُ، فَأمِّنُوا فَإِنَّ كُلَّ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (¬3). فإن لم يتفق ذلك أمن عقيب تأمينه. وأما لفظ الكتاب: ذلك أن تعلم قوله: (التأمين) بالميم؛ لأنه روي عن مالك أنه لا يسن التأمين للمصلي أصلاً. وعنه رواية أخرى أن الإمام لا يؤمن في الجهرية. ورواية أخرى أن الإمام والمأموم يؤمنان، لكن يسران وهو مذهب أبي حنيفة، ولذلك أعلم قوله: (والأظهر الجهر) بعلامتهما، وقوله: (ممدودة، أو مقصورة) التأنيث على تقدير الكلمة، وقوله: (وفي جهر المأموم به خلاف) أي [في] (¬4) الصلاة الجهرية، وأما في السرية فالمحبوب الإسرار للمأموم وغيره بلا خلاف، ثم قوله: "يجوز أن يريد به قولين" جواباً على الطريقة المشهورة، ويجوز أن يريد به طريقين: وهما الأول والثالث، فقد ذكرهما في "الوسيط"، فإن كان الأول فقوله: (الأظهر الجهر) أي: من ¬
القولين، وإن كان الثاني، فالمعنى والأظهر مما قيل في المسألة أنه يجهر. قال الغزالي: (الثانِيَةُ): السُّورَةُ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ لِلْإمَامِ وَالمُنْفَرِدِ في رَكْعَتَيِ الصُّبْحِ وَالأَوَّليَّيْنِ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَفِي الثَّالِثةَ وَالرَّابِعَةِ قَوْلاَنِ مَنْصُوصَانِ الجَدِيدُ: أَنَّهَا تُسْتَحَبُّ (ح) وَإنْ كَانَ العَمَلُ عَلَى القَدِيمِ، وَالمَأمُومُ لاَ يَقْرَأُ السُّورَةَ فِي الجَهْرِيةِ بَلْ يَسْتَمِعُ، فإنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الصَّوْتُ فَيِ قِرَاءَتِهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: يسن للإمام والمنفرد قراءة سورة بعد الفاتحة في ركعتي الصبح، والأوليين من سائر الصلوات لما سيأتي، وأصل الاستحباب يتأدى بقراءة شيء من القرآن، لكن السورة أحب، حتى إن السورة القصيرة أولى من بعض سورة طويلة، وروى القاضي الروياني عن أحمد: أنه يجب عنده قراءة شيء من القرآن، وهل يسن قراءة السورة [في] (¬1) الثالثة من المغرب، وفي الثالثة والرابعة من الرباعيات فيه قولان: "الجديد": أنها تسن، لكن تجعل السورة فيهما أقصر؛ لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلاَةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلاَثِينَ آيَةٍ وفِي الأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً، وَفِي الْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْن الأولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةَ، وَفِي الأخْرَيَيْنِ قَدْرَ نِصْفِ ذلِكَ" (¬2) والقديم: به قال أبو حنيفة ومالك وأحمد: أنها لا تسن؛ لما روي عن أبي قتادة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهرِ في الأُوْلَيَيْنِ بأُمِّ الْكِتَاب وَسُورَتَيْنِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ، وَيُسْمِعُنَا الآيةَ، وَيُطَوِّلُ في الرَّكْعَةِ الأولَى مَا لاَ يُطَوِّلُ فِي الثَّانِيَةِ" (¬3). وهل يفضل الركعة الأولى على الثانية؟ فيه وجهان: أحدهما: أظهرهما؛ لا، ويدل عليه حديث أبي سعيد. والثاني: وبه قال الإمام السرخسي: نعم، ويدل عليه حديث أبي قتادة، ويجري الوجهان في الركعتين، الأخريين إن قلنا: تستحب فيهما السورة. وقال أبو حنيفة: يستحب تفضيل الأولى على الثانية في الفجر خاصة، ويستحب أن يقرأ في الصبح بطوال المفصل "الحجرات"، نعم في الركعة الأولى من صبح يوم الجمعة يستحب قراءة "ألم" السجدة، وفي الثانية "هل أتى"، ويقرأ في الظهر بما يقرب من القراءة في الصبح، وفي العصر والعشاء بأوساط المفصل، وفي المغرب بقصاره، وأما المأموم فلا يقرأ السورة في الصلاة التي يجهر بها الإمام وهو يسمع صوته بل ينبغي ¬
أن ينصت ويسمع، قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (¬1) ولهذا يستحب للإمام أن يسكت بعد الفاتحة قدر ما يقرأ فيه المأموم الفاتحة كيلا يفوته استماع الفاتحة ولا استماع السورة، وإن كانت الصلاة سرية أو جهرية والمأموم لا يسمع لبعد، أو صم، فوجهان: أحدهما: أنه لا يقرأ؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا كُنْتُمْ خَلْفِي فَلاَ تَقْرَؤُا إِلاَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" (¬2). وأصحهما: يقرأ كالمنفرد، وإنما لا يؤمر بالقراءة حيث يستمع؛ ليستمع، وأما الحديث فله سبب، "وهو أَنَّ أَعْرَابيًّا رَاسَلَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي قِرَاءَةِ الشَّمْسِ وَضُحَاهَا فَتَعَسَّرَت القِرَاءَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا تَحَلَّلَ عَنْ صَلاَتِهِ قَالَ ذلِكَ"، ويستحب للقارئ في الصلاة وخارج الصلاة أن يسأل الرحمة إذا مر بآية رحمة، وأن يتعوذ إذا مر بآية عذاب، وأن يسبح إذا مر بآية تسبيح، وأن يتفكر إذا مر بآية مثل ذلك، وأن يقول: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين إذا قرأ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} (¬3)، ويقول: "آمنا باللهِ" إذا قرأ: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (¬4) والمأمَوم يفعل ذلك لقراءة الإمام. وقوله في الكتاب: (فقولان: منصوصان) التصريح بكونهما منصوصين يعرف أنهما ليسا ولا واحد منهما مخرج، ولا يتوهم من ذلك أنه إذا أرسل ذكر القولين كان ثم تخريج، كما أن التعرض "للقديم" و"الجديد" يعرف تاريخ القولين، ولا يلزم من إرسال القولين أن يكون أحدهما قديمًا والآخر جديدًا. وقوله: (وإن كان العمل على القديم) إشارة إلى ترجيح القول القديم، وبه أفتى الأكثرون، وجعلوا المسألة من المسائل التي يفتى فيها على القديم، ونازع الشيخ أبو حامد وطائفة فيه ورجحوا الجديد. واعلم أن مسألة جهر المأموم بالتأمين في جملة تلك المسائل، إذا أثبتنا الخلاف فيها، كما تبين في الفصل السابق. وقوله: (والمأموم لا يقرأ السورة في الجهرية ...) إلى آخره التعرض لحكم قراءته في الجهرية، وإهماله في السرية، فيه إشعار بأنه يقرأ في السرية، وهو الأظهر، كما بيناه، وإن لم يكن متفقاً عليه. قال الغزالي: الرُّكْنُ الرَّابعُ: الرُّكُوعُ وَأَقَلُّهُ أَنْ يَنْحَنِي بِحَيْثُ تَنَالُ رَاحَتَاهُ رُكْبَتَيْهِ ¬
وَيطْمَئِنُّ (ح) بِحَيْثُ يَنْفَصِلُ هَوِيُّهُ عَنْ ارتِفَاعِهِ، وَلاَ يَجِبُ الذِّكْرُ. قال الرافعي: تكلم في أقل الركوع، ثم في أكمله، أما أقله فقد ذكر فيه شيئين لا بد منهما: أحدهما: أن ينحني بحيث تنال راحتاه ركبتيه، يقال إنه ورد في لفظ الخبر، ومعناه: أنه يصير بحيث لو أراد أن يضع راحتيه على ركبتيه لتمكن، وهذا عند اعتدال الخلقة وسلامة اليدين والركبتين، وفي لفظ الكتاب الانحناء إشارة إلى أنه لو انخنس وأخرج ركبتيه، وهو مائل منتصب لم يكن ذلك ركوعاً، وإن صار بحيث لو مد يديه لنالت راحتاه ركبتيه؛ لأن نيلهما ركبتيه لم يكن بالانحناء. قال إمام الحرمين: ولو مزج الانحناء بهذه الهيئة، وكان التمكن من وضع الراحتين على الركبتين بهما جميعاً لم يعتد بما جاء به ركوعاً أيضاً، ثم إن لم يقدر على أن ينحني إلى الحد المذكور إلا بمعين، أو الاعتماد على شيء، أو بأن ينحني على شق لزمه ذلك، وإن لم يقدر انحنى القدر المقدور عليه، وإن عجز أومأ بطرفه عن قيام. واعلم أن الذي ذكره في هذا الوضع هو حد ركوع القائمين، فأما إذا كان يصلي قاعداً صار حد أقل ركوعه وأكمله مذكورًا في فصل القيام. والثاني: أن يطمئن، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: لا تجب الطمأنينة. لنا ما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاء، فَسَلَّمَ عَلَيهِ، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ، ارْجِعْ فَصَلِّ فَإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ. فَرَجَعَ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ؟ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: عَلِّمنِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَسْبغ الْوُضُوء ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَ رَاكِعًا" (¬1). ومعنى الطمأنينة في الركوع: أن يصير حتى تستقر أعضاؤه في هيئة الركوع، وينفصل هويُّه عن ارتفاعه منه، فلو جاوز حد أقل الركوع وزاد في الهَوِيِّ، ثم ارتفع والحركات متصلة فلا طمأنينة، وزيادة الهوى لا تقوم مقام الطمأنينة، فهذا بيان الأمرين اللذين لا بد منهما. وأما قوله: (ولا يجب الذكر) فالغرض من ذكره هاهنا بيان خروجه عن حد الأقل، خلافاً لأحمد، فإنه يحكى عنه إيجاب التسبيح في الركوع والسجود مرة واحدة، وكذلك إيجاب التكبير للركوع والسجود. ¬
لنا: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَأْمُرِ المُسِئَ صَلاتَهُ بِالذِّكْرِ فِيهِمَا" (¬1) ويجوز أن يعد في حد الأقل (¬2)، شيء آخر وهو أن لا يقصد بهويه غير الركوع. لأن صاحب "التهذيب" وغيره ذكروا أنه لو قرأ في صلاته آية سجدة، فهوى ليسجد للتلاوة ثم بدا له بعد ما بلغ حد الراكعين أن يركع لم يعتد بذلك عن الركوع. لأنه لم يقطع القيام لقصد الركوع. بل يجب عليه أن يعود إلى القيام، ثم يركع وسيأتي لهذا نظائر. ولك أن تعلم قوله: (بحيث تنال راحتاه ركبتيه) [بالحاء؛ لأن] (¬3) القاضي ابن كج حكى عن أبي حنيفة أنه لا يعتبر ذلك ويكتفي بأصل الانحناء. قال الغزالي: وَأَكْمَلُهُ أَنْ يَنْحَنِي بِحَيْثُ يَسْتَوِي ظَهْرُهُ وَعُنُقُهُ، وَينْصِبَ رُكْبَتَيهِ وَيَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَيْهِمَا، وَيُجَافِي الرَّجُلُ مِرْفَقَيهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَلاَ يُجَاوِزُ فِي الانْحِنَاءِ الاسْتِوَاءَ، ويقُولُ: اللهُ أكْبَرُ رَافِعًا يَدَيْهِ عِنْدَ الْهَوِيَ مَمْدُوداً عَلَى قَوْلٍ، وَمَحْذُوفاً عَلَى قَوْلٍ كَيْلاَ يُغَيَّرَ المَعْنَى بالمَدِّ، وَيَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلاَثاً، وَلاَ يَزِيدُ الإمَامُ عَلَى الثَّلاَثِ. قال الرافعي: الكلام في أكمل الركوع يقع في جملتين: إحداهما: في هيئته، وهي أن ينحني بحيث يستوي ظهره وعنقه، ويمدهما كالصفحة الواحدة، فلا تكون رأسه ورقبته أخفض من ظهره، ولا أعلى، يروى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يُسَوِّي ظَهرَهُ فِي الرُّكُوعِ بِحَيْثُ لَوْ صُبَّ المَاءُ عَلَى ظَهْرِهِ لاَسْتَمْسَكَ" (¬4). وروى أنه -صلى الله عليه وسلم-: "نَهَى عَنِ التَّذْبِيح فِي الصَّلاَةِ" (¬5). وفي رواية: "نَهَى أَنْ يُذَبِّحَ الرَّجُلُ فِي الرُّكُوعِ كَمَا يُذَبِّحُ الْحِمَارِ". والتَّذْبِيحُ: أن يبسط ظهره ويطأطئ رأسه، فتكون رأسه أشد إنحطاطاً من إليتيه، وهذا اللفظ يذكر بالدال، والذال. والأول أشهر، وينبغي للراكع أن ينصب ساقيه إلى الحقو، ولا يثني ركبتيه وهذا هو الذي أراده بقوله: (وينصب ركبتيه) ويستحب له وضع اليدين على الركبتين وأخذهما بهما، ويفرق بين أصابعه حينئذ ويوجههما نحو القبلة، روى أنه -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يُمْسِكُ رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فِي الرُّكُوعِ كَالْقَابِضِ عَلَيْهِمَا". ¬
ويفرج بين أصابعه، فإن كان أقطع أو كانت إحدى يديه عليلة، فعل بالأخرى ما ذكرنا، فإن لم يمكنه وضعهما على الركبتين أرسلهما. وَيُجَافِي الرَّجُلُ مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيهِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَفْعَلُ ذلِكَ (¬1). والمرأة لا تجافي فإنه أستر لها، والخنثى كالمرأة. وأما قوله: (ولا يجاوز في الانحناء حد الاستواء) فالمراد منه استواء الظهر والرقبة، وفي قوله: أولاً: (وأكمله أن ينحني بحيث يستوي ظهره وعنقه) ما يفيد هذا الغرض، فإنا إذا عرفنا استحباب استواء الظهر والعنق، نعرف أنه لا ينبغي أن لا يجاوز الاستواء فإعادته ثانياً، إما أن تكون تأكيداً، أو يكون الغرض الإشارة إلى أن المجاوزة مكروهة، قضيته، النهي عن التذبيح، وعلى هذا فالإعادة لا تكون [إلا] لمحض التأكيد، إذ لا يلزم من استحباب الشيء أن يكون تركه منهيًا عنه مكروهًا، وعلى كل حال، فلو ذكر قوله: (ولا يجاوز) متصلاً بالكلام الأول، لكان أحسن. الجملة الثانية في الذكر المستحب. ويستحب أن يكبر للركوع؛ لما روي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ، وَرَفْعٍ، وَقِيَامٍ، وَقُعُودٍ" (¬2) ويبتدئ به في ابتداء الهَوِيَّ، وهل يمده؟ فيه قولان: و"القديم": وبه قال أبو حنيفة: لا يمده بل يحذف؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "التَّكْبِيرُ جَزْمٌ" (¬3) أي: لا يمد؛ ولأنه لو حاول المد لم يأمن أن يجعل المد على غير موضعه؛ فيغير المعنى مثل أن يجعله على الهمزة فيصير استفهاماً. و"الجديد": أنه يمده إلى تمام الهَوِيِّ حتى لا يخلو جزء من صلاته عن الذِّكْر، والقولان جاريان في جميع تكبيرات الانتقالات، هل يمدها من الركن المنتقل عنه إلى أن يحصل في المنتقل إليه ويرفع يديه إذا ابتدأ التكبير؟ خلافاً لأبي حنيفة. لنا ما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكَبَيْهِ، إِذَا كَبَّرَ، وَإِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ " (¬4). ويستحب أن يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثاً [وذلك أدنى درجات ¬
الكمال، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيم ثَلاَثاً] (¬1) فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ، فَإذَا سَجَدَ فَقَالَ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى ثَلاَثاً فَقَدْ تَمَّ سُجُودُهُ، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ (¬2). واستحب بعضهم أن يضيف إليه "وبحمده" قال: إنه ورد في بعض الأخبار. والأفضل أن يضيف إليه: "اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَلَكَ خَشَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي، وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي وَشَعْرِي وَبَشَرِي، وَمَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ قَدَمِي لِلَّهِ رب العالمين" (¬3) فقد روى ذلك في الخبر، وهو أتم الكمال، وحكى عن "الحاوي" أن أتم الكمال. من سبع تسبيحات إلى إحدى عشرة، وأوسطه: ثم الزائد على أدنى الكمال من سبع تسبيحات إلى إحدى عشرة، وأوسطه خمس. أدنى الكمال إنما يستحب للمنفرد، أما الإمام فلا يزيد على التسبيحات الثلاث؛ كيلا يطول على القوم. وقال القاضي الروياني في "الحلية": لا يزيد على خمس تسبيحات وذكره غيره أيضاً. فليكن قوله: (ولا يزيد الإمام على الثلاث) معلماً بالواو، واستحباب التخفيف للإمام فيما إذا لم يرض القوم بالتطويل، أما إذا كان الحاضرون لا يزيدون، ورضوا بالتطويل، فيستوفئ أتم الكمال، ويكره قراءة القرآن في الركوع والسجود. قال الغزالي: ثُمَّ يَعْتَدِلُ عَنْ رُكُوعِهِ، وَيطْمَئِنُّ (ح) وَيسْتَحَبُّ رَفْعُ اليَدَيْنِ إلَى المَنْكَبَيْنِ، ثُمَّ يَخْفِضُ يَدَيْهِ بَعْدَ الاعْتِدَالِ، وَيَقُولُ عِنْدَ رَفعِهِ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، يَسْتَوِي (ح) فِيهِ الإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ. قال الرافعي: الاعتدال ركن في الصلاة لكنه غير مقصود في نفسه ولذلك عد ركناً قصيراً، فمن حيث إنه ركن عده في ترجمة الأركان في أول الباب، ومن حيث إنه ليس مقصوداً في نفسه جعله هاهنا تابعاً للركوع، وأوردهما في فصل واحد، وهكذا فعل، بالجلسة بين السجدتين. وقال أبو حنيفة: لا يجب الاعتدال، وله أن ينحط من الركوع ساجداً. وعن مالك روايتان: ¬
إحداهما: كمذهبنا. والأخرى كمذهب أبي حنيفة. لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال للمسئ صلاته: "ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِماً" (¬1). ولو كان يصلي قاعداً لمرض فيعود إلى القعود بعد الركوع وبالجملة، فالاعتدال الواجب أن يعود بعد الركوع إلى الهيئة التي كان عليها قبل الركوع، فلو ركع عن قيام وسقط في ركوعه نظر، إن لم يطمئن في ركوعه فعليه أن يعود إلى الركوع، ويعتدل منه، وإن اطمأن فيعتدل قائماً، ويسجد منه. ولو رفع الراكع رأسه، ثم سجد، وشك في أنه هل أتم اعتداله؟ وجب عليه أن يعتدل قائماً، ويعيد السجود، وتجب الطمأنينة في الاعتدال كما تجب في الركوع. وقال في "النهاية": في قلبي من الطمأنينة في الاعتدال شيء؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث المسيء صلاته ذكر الطمأنينة في الركوع، والسجود، ولم يذكرها في الاعتدال والقعدة بين السجدتين، فقال: "ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَعْتَدِلَ جَالِساً" (¬2). قال: وفي كلام الأصحاب ما يقتضي التردد فيها، والمنقول هو الأول ويستحب عند الاعتدال رفع اليدين إلى حذو المنكبين، فإذا اعتدل قائماً حطهما. وقال أبو حنيفة: لا يرفع. لنا ما روي عن ابنَ عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكَبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاةَ، وإذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوع، وإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذلِكَ، وَقَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ" (¬3). ويستحب أن يقول عند الارتفاع: "سمع الله لمن حمده" ويكون ابتداؤه برفع الرأس من الركوع، ورفع اليدين، والتسميع دفعة واحدة، فإذا استوى قائماً، قال: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدَ، وروينا في خبر ابن عمر: "وَلَكَ الْحَمْدُ" (¬4). والروايتان معاً صحيحتان ويستوي في الذكرين الإمام والمأموم والمنفرد، خلافاً لمالك وأبي حنيفة، حيث قالا: "لا يزيد الإمام على سمع الله لمن حمده، ولا المأموم على ربنا ولك الحمد". وأما المنفرد فقد روى صاحب "التهذيب" عنهما: أنه يجمع بين الذكرين، ثم روى مثل مذهبهما عن أحمد. والأشهر عن أحمد: أنه يجمع الإمام والمنفرد بينهما، ولا يزيد المأموم على: ¬
ربنا ولك الحمد، ويستحب أن يزاد فيه ما روي عن عبد الله بن أبي أوفى قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ من الرُّكُوعِ قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ، وَملْءَ الأرْضِ، وَمَلْءَ مَا شِئْتَ مِنَ شَيْءٍ بَعْدُ" (¬1). وعن علي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول مع ذلك: "أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالمَجْدِ أحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، كُلُّنَا لَكَ عَبْدُ، لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ" (¬2). والإمام لا يأتي بهذه الزيادة الأخيرة (¬3). ولنتكلم فيما يتعلق بلفظ الكتاب، قوله: (ثم يعتدل عن ركوعه ويطمئن، إشارة منه إلى واجب الاعتدال، ولذلك قال عقيبة: (ويستحب رفع اليدين) ليمتاز واجبه عن مسنونه. واعلم أن واجب الاعتدال لا ينحصر في الأمرين المذكورين، بل له واجب ثالث: وهو أن لا يقصد بالارتفاع شيئاً آخر، حتى لو رأى حية في ركوعه فاعتدل؛ فزعاً منها، لم يعتد به، وواجب رابع: وهو أن لا يطوله، فلو طوله عمداً بذكر أو قراءة بطلت صلاته على الأصح؛ لأنه ركن قصير، وسيأتي الكلام فيه من بعد في باب سجود السهو. إن شاء الله تعالى. وقوله: (ويستحب رفع اليدين إلى المنكبين ويجوز أن يعلم لفظ (إلى المنكبين) بالواو؛ لأن رفع اليدين في الاعتدال، وفي الركوع مثل رفعهما في حالة التحرم، وقد سبق، ثم ذكر الخلاف في أنه يرفع إلى المنكبين، أو يزيد، فيعود ذلك الخلاف هاهنا، وقوله: (ويقول عند رفعه: سمع الله لمن حمده) ويجوز أن يكون المعنى عند رفعه رأسه من الركوع، ويجوز أن يكون المعنى عند رفع اليدين؛ لأن المستحب في الرفعين المقارنة، فما يقارن هذا يقارن ذلك، أيضاً، وظاهر الكلام يوهم أن يكون قوله: "سمع الله لمن حمده"، وقوله: "ربنا لك الحمد" عند الرفع، لكن المستحب أن يكون الأول في حال الرفع، والثاني بعد أن يعتدل قائماً، كما بيناه، ولك أن تعلم قوله: (عند الرفع) ¬
بالواو؛ ولأن القاضي ابن كج ذكر أنه يبتدئ بقوله: سمع الله لمن حمده وهو راكع، ثم إذا ابتدأ به أخذ في رفع الرأس واليدين. وقوله: (يستوي فيه الإمام والمنفرد) معلم بالحاء والميم، وعلى رواية صاحب "التهذيب" بالألف أيضاً. قال الغزالي: وَيُسْتَحَبُّ (ح) القُنُوت فِي الصُّبْحِ، وَإِنْ نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ وَرَأَى الإِمَامُ القُنُوتَ فِي سَائِرِ الصْلَوَاتِ فَقَوْلاَنِ، ثُمَّ الْجَهْرُ بِالقُنُوتِ مَشْرُوعٌ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالمَأْمُومُ يُؤَمِّنُ فَإِنْ لَمْ يُسْمَعُ صَوْتَهُ قَنَتَ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ. قال الرافعي: لما كان القنوت مشروعاً في حال الاعتدال ذكره متصلاً بالكلام في الاعتدال وأذكاره. واَعلم أن القنوت يشرع في صلاتين. إحداهما: من النوافل، وهي الوتر في النصَف الأخير من رمضان، وسيأتي في "باب النوافل". والثانية: من الفرائض؛ وهي الصبح، فيستحب القنوت فيها في الركعة الثانية، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: لا يستحب. وعن أحمد: أن القنوت للأئمة يدعون للجيوش، فإن ذهب إليه ذاهب فلا بأس. لنا ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قَنَتَ شَهْراً، يَدْعُوَ عَلَى قَاتِلِي أَصْحَابِهِ بِبِئْرِ مَعُونَةَ، ثُمَّ تَرَكَهُ" (¬1). "فَأمَّا فِي الصُّبْح فَلَمْ يَزَل يَقْنُتْ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا"، وَرُوِيَ ذلِكَ عَنْ خُلَفَائِهِ الأَرْبَعَةِ. -رضوان الله عليهم- أجمعين (¬2). ومحله بعد الرفع من الركوع، خلافاً لمالك ¬
حيث قال: يقنت قبل الركوع. لنا ما روي عن ابن عباس، وأبي هريرة وأنس -رضي الله عنهم-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَنَتَ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكعَةِ الأَخِيرَةِ" والقنوت أن يقول: "اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تُقْضِي وَلاَ يَقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ" (¬1) هذا القدر يروى عن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علمه (¬2)، والإمام لا يخص نفسه، بل يذكر بلفظ الجمع، وزاد العلماء: "وَلاَ يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ" (¬3) قبل: "تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ" وبعده: "فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا قَضَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ" (¬4) ولم يستحسن القاضي أبو الطيب كلمة: "وَلاَ يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ"، وقال: لا تضاف العداوة إلى الله تعالى. قال سائر الأصحاب: ليس ذلك ببعيد، قال الله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} (¬5). وهل يسن فيه الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن أخبار القنوت لم ترد بها. وأظهرهما: وبه قال الشيخ أبو محمد: نعم؛ لأنه روي في حديث الحسن: أنه قال -صلى الله عليه وسلم-: "تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ، وَصَلَّى اللَّهَ عَلَى النَّبِيَّ وَسَلَّمْ (¬6)، وأيضاً، فقد قال الله ¬
تعالى: "وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ" (¬1). قال المفسرون: أي: لا أذكر إلا وتذكر معي (¬2). إذا عرفت ذلك فقوله: (ويستحب القنوت في الصبح) ينبغي أن يعلم بالحاء والألف؛ لما ذكرناه، ويجوز أن يعلم بالواو أيضاً؛ لأن أبا الفضل ابن عبدان، حكى عن أبي علي بن أبي هريرة أنه قال: المستحب ترك القنوت في صلاة الصبح إذ صار شعار قوم من المبتدعة، إذا الاشتغال به تعريض النفس للتهمة، وهذا غريب وضعيف. وهل تتعين كلمات القنوت؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو الذي ذكره المصنف في "الوسيط"؛ نعم كالتشهد. وأظهرهما: عند الأكثرين: لا. بخلاف التشهد؛ لأنه فرض، أو من جنس الفرض، وعلى هذا قالوا: لو قنت بما روي عن عمر -رضي الله عنه- كان حسناً، وسنذكره في باب النوافل -إن شاء الله تعالى-، وأما ما عدا الصبح من الفرائض، فقال: معظم الأصحاب: إن نزلت بالمسلمين نازلة من وباء، أو قحط، فيقنت فيها أيضاً، في الاعتدال عن ركوع الركعة الأخيرة، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث بئر معونة على ما سبق، وإن لم تنزل نازلة، ففيه قولان: أصحها: لا يقنت؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ترك القنوت فيها. والثاني: أنه يتخير إن شاء قنت، وإلا فلا. وعن الشيخ أبي محمد: أنه قلب هذا الترتيب، فقال: إن لم تكن نازلة فلا قنوت إلا في الصبح، وإن كانت نازلة فعلى قولين: وجه المنع القياس على سائر أركان ¬
الصلاة، وركعاتها، لا يراد فيها الدعاء بنزول النوازل، وهذه الطريقة الثانية هي التي أوردها في الكتاب، فإنه خص القولين بما إذا نزلت نازلة إشعاراً بأنها إذا لم تنزل فلا قنوت في غير الصبح بحال. وينبغي أن يعلم قوله: (فقولان) بالواو؛ لأن أصحاب الطريقة الأولى قالوا: يقنت عند نزول النازلة، ونفوا الخلاف فيه. وأما قوله: "ورأى الإمام القنوت في سائر الصلوات" فليس على معنى إن جواز القنوت فيها للناس موقوف على رأي الإمام وإذنه، بل من أراد القنوت جاز له ذلك، وكأنه أراد إمام القوم إذا صَلُّوا جماعة، فقال: إن رأى قنت: والقوم يتبعونه كما في الصبح، وإن أراد ترك، ولا بد للمقتدين من الترك أيضاً. وفيه إشارة إلى أنه لا يستحب القنوت في غير الصبح بحال، وإنما الكلام في الجواز، فحيث يجوز فالأمر فيه إلى اختيار المصلي، وهذا قضية كلام أكثر الأئمة، ومنهم من يشعر إيراده بالاستحباب، -والله أعلم-. ثم الإمام في صلاة الصبح هل يجهر بالقنوت؟ فيه وجهان: أحدهما: لا كالتشهد، وسائر الدعوات المشروعة في الصلاة. وأظهرهما: أنه يجهر؛ "لَأَنَّهُ رُوِيَ الْجَهْرُ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-" (¬1). وقوله: (على الظاهر) أي: من هذين الوجهين: وقوله: (مشروع) أي: بصفة الاستحباب، وليس المراد مجرد الجواز، ولفظ الكتاب وإن كان مطلقاً فالوجهان في الإمام. أما المنفرد فيسر به كسائر الأذكار والدعوات، وذكره في "التهذيب"، وأما المأموم فالقول فيه مبني على الوجهين في الإمام إن قلنا لا يجهر الإمام به فيقنت المأموم، كما يقنت الإمام قياساً على سائر الأذكار، وإن قلنا: يجهر الإمام به، فإن كان المأموم يسمع صوته فوجهان: أصحهما: وهو المذكور في الكتاب: أنه يؤمن، ولا يقنت، لما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يَقْنُتُ، وَنَحْنُ نؤَمِّنُ خَلْفَهُ". والثاني: ذكره ابن الصباغ: أنه يتخير بين أن يؤمن، وبين أن يقنت معه، فعلى الأول فيما إذا يؤمن فيه وجهان، حكاهما القاضي الروياني وغيره، أوفقهما لظاهر لفظ الكتاب أنه يُؤَمِّن في الكل. ¬
وأظهرهما: أنه يُؤَمِّنُ في القدر الذي هو دعاء، أما في الثناء فيشاركه، أو يسكت وإن كان لا يسمع صوت الإمام؛ لبعد؛ وغيره. وقلنا: إنه لو سمح لأمن، فهاهنا وجهان: أحدهما: يقنت. والثاني: يُؤَمِّن كالوجهين في قراءة السورة، إذا كان لا يسمع صوت الإمام، وإنما لم يجر الخلاف على قولنا الإمام يسر بالقنوت مع جريانه في قراءة السورة في الصلاة السرية؛ لأن السورة على الجملة مجهور بها، والقنوت إذا لم ير الجهرية ينزل منزلة سائر الأذكار، فيشارك المأموم الإمام فيه لا محالة، فهذا حكم الجهر بالقنوت في الصبح، وأما في سائر الصلوات إذا قنت فيها فإيراده في "الوسيط" يشعر بأنه يسر في السريات، وفي الجهريات الخلاف المذكور في الصبح، وإطلاق غيره يقتضي طرد الخلاف في الكل، وحديث (بئر معونة) يدل على أنه كان يجهر به في جميع الصلوات (¬1)، وهل يسن رفع اليدين في القنوت؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا دَعَوْتَ فَادْعُ بِبُطُونِ كَفَّيْكَ، فَإِذَا فَرَغْتَ فَامْسَحَ رَاحَتَيْكَ عَلَى وَجْهِكَ" (¬2). وقد روى الرفع في القنوت عن ابن مسعود، بل عن عمر وعثمان -رضي الله عنهم- وهو اختيار أبي زيد، والشيخ أبي محمد، وابن الصباغ، وهو الذي ذكره في "الوسيط". وأظهرهما: عند صاحبي "المهذب" و"التهذيب": أنه لا يرفع لما روي عن أنس - رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَمْ يَكُنْ يَرْفَعْ الْيَدَ إلاَّ فِي ثَلاثَةِ مَوَاطِنَ، الإسْتِسْقَاءِ، وَالإِسْتِنْصَارِ، وَعَشِيَّةَ عَرَفَةَ" (¬3) وهذا اختيار القفال، وإليه ميل إمام الحرمين، فَإِنْ قلنا: لا ¬
يرفع فذاك، وإن قلنا: يرفع فوجهان. في أنه هل يمسح بهما وجهه؟ قال في "التهذيب". أصحهما: أنه لا يمسح. قال الغزالي: الرُّكْنُ الخَامِسُ: السُّجُودُ وَأَقَلُّهُ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الأَرْضِ مَكْشُوفَةً بِقَدْر مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الاسْمُ، وَفِي وَضْعِ اليَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالقَدَمَيْنِ قَوْلاَنِ، فَإِنْ أوْجَبْنَا وَضْعَ اليَدَيْنِ فَفِي كَشْفِهِمَا قَوْلاَنِ، وَكَشْفُ الْجَبْهَةِ وَاجِبٌ وَلَوْ سَجَدَ عَلَى طُرَّتِهِ (ح) أَوْ كُورِ عِمَامَتِهِ (ح) أَوْ طَرَفِ كُمِّهِ المُتَحَرِّكِ بحَرَكتِهِ لَمْ يَجُزْ (ح)، وَالتَّنَكُّسُ وَاجِبٌ فِي السُّجُودِ، وَهُوَ اسْتِعْلاَءُ الأَسَافِلِ، وَلَوْ تَعَذَّرَ التَّنَكُّسُ لِمَرَضٍ وَجَبَ وضْعُ وِسَادَةٍ لِوَضْعِ الجَبْهَةِ علَيْهَا فِي أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ. قال الرافعي: الكلام في السجود في الأقل والأكمل. أما الأقل فهذا الفصل يتكفل ببيانه، وفيه مسائل: أحدها: فيما يجب وضعه على مكان السجود، ولا بد من وضع الجبهة؛ خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: الجبهة والأنف يجزئ وضع كل واحد منهما عن الآخر، ولا تتعين الجبهة. لنا ما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا سَجَدْتَ فَمَكِّنْ جَبْهَتَكَ مِنَ الأَرْضِ، وَلاَ تَنْقُرْ نَقْراً" (¬1). ولا يجب وضع جميع الجبهة على الأرض، بل يكفي (¬2) ما يقع عليه الاسم منها. وذكر القاضي ابن كج: أن أبا الحسين بن القطان حكى وجهاً أنه لا يكفي وضع البعض لظاهر خبر ابن عمر، والمذهب الأول؛ لما روى عن جابر -رضي الله عنه- قال: "رَأَيْتُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- سَجَدَ بِأعْلَى جَبْهَتِهِ عَلَى قِصَاصِ الشَّعْرِ" (¬3). ولا يجزئ وضع الجبين عن وضع الجبهة، وهما جانبا الجبهة، وهل يجب وضع اليدين والركبتين والقدمين على مكان السجود؟ فيه قولان: أحدهما: وبه قال أحمد: يجب، وهو اختيار الشيخ أبي علي؛ لما روي عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أُمِرْتَ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُم ¬
عَلَى الْجَبْهَةِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ" (¬1) ويروى: "عَلَى سَبعَةِ آرَابٍ" (¬2). وأظهرهما: لا يجب، وبه قال أبو حنيفة، ويروى عن مالك أيضاً؛ لأنه لو وجب وضعها لوجب الإيماء بها عند العجز، وتقريبها من الأرض كالجبهة، فإن قلنا: يجب فيكفي وضع جزء من كل واحد منها، والاعتبار في اليدين بباطن الكف، وفي الرجلين ببطون الأصابع، وإن قلنا: لا يجب فيعتمد على ما شاء منها، فيرفع ما شاء، ولا يمكنه أن يسجد مع رفع الجميع (¬3)، هذا هو الغالب، أو المقطوع به، ولا يجب وضع الأنف على الأرض في السجود، خلافاً لأحمد، في إحدى الروايتين، حيث قال: يجب وضعه مع الجبهة. لنا ما سبق من حديث جابر -رضي الله عنه-، ومعلوم أن من سجد بأعلى الجبهة لا يكون أنفه على الأرض. الثانية: يجب كشف الجبهة في السجود؛ لما روي عن خباب قال: "شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حَرَّ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِنَا، وَأَكُفِّنَا فَلَمْ يُشْكِنَا (¬4) -أَيْ: لَمْ يُزِلْ شَكْوَانَا"-. ولا يجب كشف الجميع، بل يكفي ما يقع عليه الاسم كما في الوضع، ويجب أن يكون المكشوف من الموضوع على الأرض، فلو كشف شيئاً، ووضع غيره لم يجز، وإنما يحصل الكشف إذا لم يكن بينه وبين موضع السجود حائل متصل به يرتفع بارتفاعه، فلو سجد على طرته، أو كور عمامته لم يجز؛ لأنه لم يباشر بجبهته موضع السجود. وقال أبو حنيفة: يجوز السجود على كور العمامة وعلى الناصية، والكُمّ، وعلى اليد أيضاً إذا لم تكن مرفوعةً عن الأرض بحيث لا يبقى اسم السجود، وعن أحمد روايتان، كالمذهبين. واختلف نقل أصحابنا عن مالك. لنا حديث خباب، وأيضاً فقد روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْزَقْ جَبْهَتَكَ بِالأَرْضِ". ولو سجد على طرف كُمِّهِ، أو ذيله نظر: إن كان يتحرك بحركته قياماً وقعوداً لم يجز ككور العمامة، وإن طال وكان لا يتحرك بحركته فلا بأس؛ لأنه في حكم المنفصل عنه، فأشبه ما لو سجد على ذيل غيره، وإذا أوجبنا وضع الركبتين والقدمين فلا نوجب كشفهما، أما الركبتان فلأنهما من العورة أو متصلان بالعورة، فلا يليق بتعظيم الصلاة كشفهما، وأما القدمان فلأنه قد يكون ماسحاً على الخف، وفي كشفهما إبطال لطهارة ¬
المسح، وتفويت تلك الرخصة، وأما اليدان إذا أوجبنا وضعهما. ففي كشفهما قولان: أحدهما: يجب لحديث خباب. وأصحهما: لا يجب؛ لأن المقصود من السجود إظهار هيئة الخضوع، وغاية التواضع، وقد حصل ذلك بكشف الجبهة، وأيضاً فلأنه قد يشق ذلك عند شدة الحر والبرد، بخلاف الجبهة فإنها بارزة بكل حال، فإن أوجبنا الكشف، كفى كشف البعض من كل واحد منهما، كما ذكرنا في الجبهة. الثالثة: إذا هوى من الاعتدال ووضع الجبهة وسائر أعضائه على الأرض، فَلِوَضْع أعالي أعضائه مع الأسافل. ثلاث هيئات: حداها: أن تكون الأعالي أعلى، كما لو وضع رأسه على شيء مرتفع، وكان رأسه أعلى من حقوه فلا يجزئه ذلك؛ لأن اسم السجود لا يقع على هذه الهيئة، فصار كما لو أكب، ومد رجليه. والثانية: أن تكون الأسافل أعلى، فهذه هيئة التنكس وهي المطلوبة، ومهما كان المكان مستوياً، فيكون الحقو أعلى لا محالة، وإن كان موضع الرأس مرتفعاً قليلاً فقد ترتفع أسافله، وتحصل هذه الهيئة أيضاً. والثالثة: أن يتساوى الأعالي والأسافل؛ لارتفاع موضع الجبهة، وعدم رفعة الأسافل ففيها تردد للشيخ أبي محمد وغيره. والأظهر: أنها غير مجزئة أيضاً؛ وهذا هو المذكور في الكتاب؛ وكذلك أورد صاحب "التهذيب" حيث قال: وحد السجود أن تكون أسافل بدنه أعلى من أعاليه، فلو تعذرت هذه الهيئة لمرض أو غيره فهل يجب وضع وسادة ونحوها ليضع الجبهة عليها؟ أم يكفي إنهاء الرأس إلى الحد الممكن من غير وضع الجبهة على شيء؟ فيه وجهان. وحكاهما في "النهاية". أظهرهما: عند صاحب الكتاب: أنه يجب وضع شيء؛ ليضع الجبهة عليه؛ لأن الساجد يلزمه هيئة التنكس، ووضع الجبهة، فإذا تعذر أحد الأمرين يأتي بالثاني؛ محافظة على الواجب بقدر الإمكان. والثاني: أنه لا يجب ذلك؛ لأن هيئة السجود فاتته، وإن وضع الجبهة على شيء فيكفيه الانحناء بالقدر الممكن، وهذا أشبه بكلام الأكثرين، ولا خلاف أنه لو عجز عن وضع الجبهة على الأرض، وقدر على وضعها على وسادة مع رعاية هيئة التنكس يلزمه ذلك، وإن عجز عن الانحناء أشار بالرأس، ثم بالطرف كما تقدم نظيره؛ هذا شرح مسائل الكتاب: أما ما يتعلق بألفاظه.
فقوله: (وأقله وضع الجبهة) يجوز أن يعلم بالحاء؛ لأن عنده الجبهة غير متعينة، كما سبق. وقوله: (مكشوفة) كذلك؛ لأن عنده يجوز أن يسجد على كور العمامة. وقوله: (بقدر ما ينطلق عليه الاسم) يجوز أن يرجع إلى القدر الموضوع منها، ويجوز أن يرجع إلى المكشوف، وعلى التقديرين فليعلم بالواو؛ إشارةً إلى الوجه الذي حكاه ابن القطان. وقوله: (فإن أوجبنا وضع اليدين، ففي كشفهما قولان) بعد ذكر القولين فيهما. وفي الركبتين والقدمين جميعاً، ففيه تنبيه على أن كشف الركبتين والقدمين لا يجب بلا خلاف. وقوله: (وكشف الجبهة واجب) لا حاجة إليه بعد قوله: أولاً (مكشوفة). واعلم أنه يعتبر في أقل السجود وراء ما ذكره أمور. أحدها: الطمأنينة كما في الركوع، خلافاً لأبي حنيفة. وكأنه ترك ذكرها هاهنا اكتفاء بما سبق. والثاني: لا يكفي في وضع الجبهة إلامساس، بل يجب أن يتحامل على موضع سجوده بثقل رأسه وعنقه، حتى تستقر جبهته وتثبت، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَكِّنْ جَبْهَتَكَ مِنَ الأَرْضِ" (¬1). فلو كان يسجد على قطن أو حشيش، أو على شيء محشو بهما، فعن الشيخ أبي محمد، أنه ينبغي أن يتحامل قدر ما يظهر أثره على يده لو فرضت تحته. وقال في "التهذيب": ينبغي أن يتحامل عليه حتى ينكس وتثبت جبهته عليه، فإن لم يفعل لم يجز، والكلامان متقاربان. وقال إمام الحرمين: بل يكفي عندي أن يرجي رأسه ولا يقله، ولا حاجة إلى التحامل، كيفما فرض موضع السجود؛ لأن الغرض إبداء هيئة التواضع (¬2)، وذلك لا يحصل بمجرد الإمساس، فإنه ما دام يقل رأسه كان كالضنين بوضعه، فإذا أرخى حصل الغرض، بل هو أقرب إلى هيئة التواضع من تكلف التحامل، إليه الإشارة بقول عائشة -رضي الله عنها-: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي سُجُودِهِ كَالْخِرْقَةِ الْبَالِيَةِ" (¬3). وهذا ما أورده المصنف في "الوسيط". الثالثة: ينبغي أن لا يقصد بهويه غير السجود، فلو سقط على الأرض من الاعتدال قبل قصد الهَوِيذُ للسجود لم يحسب، بل يعود إلى الاعتدال ويسجد منه، ولو ¬
هَوَى ليسجد فسقط على الأرض بجبهته نظر، إن وضع جبهته على الأرض بنية الاعتماد لم يحسب عن السجود، وإن لم تحدث هذه النية يحسب لو هوى ليسجد فسقط على جنبه فانقلب وأتى بصورة السجود على قصد الاستقامة والاستداد لم يعتد به، وإن قصد السجود اعتد به -والله أعلم -. قال الغزالي: وَأَمَّا أَكْمَلُ السُّجُودِ، فَلْيَكُنْ أَوَّل مَا يَقَعُ مِنْهُ عَلَى الأَرْضِ رُكْبَتَاهُ (ح م)، وَلْيُكَبِّرْ عِنْدَ الهَوِيِّ، وَلاَ يَرْفَع اليَدَ، وَيَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّي الأَعْلَى ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَيَضَعُ الأَنْفَ (ح) مَعَ الْجَبْهَةِ مَكْشُوفاً، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ رُكْبَتَيهِ، وَيُجَافِي مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَيُقِلُّ بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ وَهُوَ التَّخْوِيَةُ، وَالمَرْأَةُ لاَ تُخَوِّي، وَيَضَعُ يَدَيْهِ بِإزَاءِ مَنْكِبَيْهِ مَنْشُورَةَ الأَصَابع وَمَضْمُومَتَهَا. قال الرافعي: السنة أن تكون أول ما يقع من الساجد على الأرض ركبتاه، ثم يداه، ثم أنفه، وجبهته خلافاً لمالك، حيث قال: يضع يديه قبل ركبتيه، وربما خيّر فيه. لنا ما روي وائل بْن حُجْر -رضي الله عنه- قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيهِ" (¬1). ويبتدئ التكبير مع ابتداء الهَوِيّ، وهل يمد أو يحذف؟ فيه ما سبق من القولين؛ ولا يرفع اليد مع التكبير هاهنا؛ لما روي عن ابن عمر -رضي الله عنه- أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ لاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي السُّجُودِ" (¬2). ويقول في سجوده: "سُبْحَانَ رَبِّي الأَعْلَى ثَلاَثاً"؛ لما روينا من الخبر في فصل الركوع. وذلك أدناه. والأفضل: أن يضيف إليه ما روي عن علي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِيَ لِلَّذِي خَلَقَهُ، وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" (¬3). وهذا أتم الكمال، وما ذكرناه في فصل الركوع، أن المستحب للإمام ماذا، ¬
وللمنفرد ماذا؟ يعود كله هاهنا، ويستحب للمنفرد أن يجتهد في الدعاء في سجوده، ويضع الساجد الأنف مع الجبهة مكشوفاً؛ لما روي عن أبي حميد قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا سَجَدَ مَكَّنَ أنْفَهُ وَجَبْهَتَهُ مِنَ الأرْضِ، وَنَحَّى يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْه حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ". وبجوز أن يعلم قوله: (ويضع الأنف) بالألف؛ لأنه معدود من السنن، وقد قدمنا (¬1) أن إحدى الروايتين عن أحمد أن الجمع بين وضع الأنف والجبهة واجب، ويستحب له أن يفرق بين ركبتيه وبين مرفقيه وجنبيه، وبين بطنه وفخذيه. أما التفريق بين الركبتين فمنقول عن فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض الأخبار، وأما بين المرفقين والجنبين، فقد رواه أبو حميد كما سبق، وأما بين البطن والفخذين فقد روي عن البراء -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذه الجملة يعبر عنها بالتخوية (¬2) وهو ترك الخواء بين الأعضاء، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ إِذَا سَجَدَ خَوَّى فِي سُجُودِهِ" (¬3). والمرأة لا تفعل ذلك، بل تضم بعضها إلى بعضٍ فإنه أستر لها، ويضع يديه بإزاء منكبيه؛ لما سبق من حديث أبي حميد، ولتكن الأصابع منشورة، ومضمومة مستطيلة في جهة القبلة؛ لما روي عن وائل بن حجر -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ إِذَا سَجَدَ ضَمَّ أَصَابِعَهُ تُجَاهَ الْقِبْلَةِ" (¬4). قال الأئمة: وسنة أصابع اليدين إذا كانت منشورة في جميع الصلاة التفريج، المقتصد، إلا في حالة السجود، وينبغي أن لا يفرش زراعيه، بل يرفعهما، وأما أصابع القدمين فيوجهها إلى القبلة، وينصب قدميه، وتوجيهها إلى القبلة إنما يحصل بالتحامل عليها، والاعتماد على بطونها. وقال في "النهاية": الذي صححه الأئمة، أنه يضع أطراف الأصابع على الأرض من غير تحامل، والأول أظهر، والله أعلم. قال الغزالي: ثُمَّ يَجْلِسُ مُفْتَرِشًا (ح) بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى يَطْمَئِنَّ، وَيَضَعُ يَدَيْهِ قرِيباً مِنْ رُكْبَتَيهِ مَنْشُورَةَ الأَصَابعِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ ليَ واجْبُرْنِي وَعَافِني وَارْزُقْنِي وَاهْدِنِي. قال الرافعي: يجب أن يعتدل جالساً بين السجدتين، خلافاً لأبي حنيفة، ومالك ¬
حيث قال: لا يجب، بل يكفي أن يصير إلى الجلوس أقرب، وربما قال أصحاب أبي حنيفة: يكفي أن يصير إلى الجلوس أقرب، وربما قال أصحاب أبي حنيفة (¬1): يكفي أن يرفع رأسه قدر ما يمر السيف عرضاً، بين جبهته وبين الأرض. لنا قوله -صلى الله عليه وسلم- في خبر المسيء صلاته. "ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَعْتَدِلَ جَالِسًا، ثمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً" (¬2). ويجب فيه الطمأنينة؛ لأنه قد روي في بعض الروايات: "ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِساً". وينبغي ألاّ يقصد بالارتفاع شيئاً آخر، وأن لا يطول الجلوس كما ذكرنا في الاعتدال عن الركوع، والسنة أن يرفع رأسه مكبراً؛ لما تقدم من الخبر، وكيف يجلس؟ المشهور، وهو الذي ذكره في الكتاب أنه يجلس مفترشاً؛ لما روي عن أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه- في وصفه صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- "فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الأُولَى ثَنَى رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَقَعَدَ عَلَيْهَا" (¬3)، وحكى قول آخر أنه يضجع قدميه، ويجلس على صدرهما، ويروى ذلك عن ابن عباس -رضي الله عنهما- فليعلم قوله: (مفترشًا) بالواو (¬4) لذلك؛ وبالميم أيضاً؛ لأن أصحابنا حكوا عن مالك: أنه أمر بالتورك في جميع جلسات الصلاة، ويضع يديه على فخذيه قريباً من ركبتيه منشورة الأصابع. قال في "النهاية": ولو انعطف أطرافها على الركبة فلا بأس؛ ولو تركها على الأرض من جانبي فخذيه كان كإرسالها في القيام، ويقول في جلوسه: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ، واجْبُرْنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي، وَاهْدِنِي". وقال أبو حنيفة: لا يسن فيه ذكر. لنا ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول ذلك، ويروي: "وَارْحَمنِي" بدل قوله: "وَاجْبُرْنِي". قال الغزالي: ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَةً أُخْرَى مِثْلَهَا، ثُمَّ يَجْلِسُ جَلْسَةً خَفِيْفَةً لِلْاسْترَاحَةِ، ثُمَّ يَقُومُ مُكَبِّراً وَاضِعاً يَدَيْه علَى الأَرْضِ كَمَا يَضَعُ العَاجِنُ. مضمون الفصل مسألتان: إحداهما: أنه يسجد السجدة الثانية بعد الجلسة السجدة الأولى، في واجباتها، ومندوباتها بلا فرق. ¬
الثانية: إذا رفع رأسه من السجدة الثانية في ركعة لا يعقبها تشهد، فما الذي يفعل؟ نص في "المختصر": أنه يستوي قاعداً، ثم ينهض، وفي "الأم": أنه يقوم من السجدة وللأصحاب فيه طريقان: أحدهما: أن فيه قولين: أحدهما: أنه يقوم من السجدة الثانية، ولا يجلس؛ وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد؛ لما روي عن وائل -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ اسْتَوَى قَائِمًا" (¬1). وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب أنه يجلس جلسة خفيفة ثم يقوم، وتسمى هذه الجلسة جلسة الاستراحة، ووجهة ما روي عن مالك بن الحويرث "أنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي، فَإذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلاَتِهِ لَمْ يَنْهَضُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِداً (¬2)، وَوَصَفَ أَبُو حُمَيدٍ السَّاعِدِي فِي عَشْرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ- أَجْمَعِينَ صَلاةَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ هذِهِ الْجِلْسَةِ". والطريق الثاني: قال أبو إسحاق: المسألة على حالتين: إن كان بالمصلي ضعف لكبر، وغيره جلس للاستراحة، إلا فلا. فإن قلنا: لا يجلس المصلي للاستراحة فيبتدئ التكبير مع ابتداء الرفع، وينهيه مع استوائه قائماً، ويعود قول الحذف (¬3) كما تقدم. فإن قلنا: يجلس فمتى يبتدئ التكبير؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يرفع رأسه غير مكبر، ويبتدئ التكبير جالساً، ويمده إلى أن يقوم؛ لأن الجلسة للفصل بين الركنين (¬4)، فإذا قام منها وجب أن يقوم بتكبير، كلما إذا قام إلى الركعة الثالثة (¬5)، ويحكى هذا عن اختيار القفال. وأصحهما: أنه يرفع رأسه مكبراً؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "كانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ" (¬6)، فعلى هذا، فمتى يقطع؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه إذا جلس يقطعه، ويقوم غير مكبر؛ لأنه لو مد إلى أن يقوم لطال، ¬
ويتغير النظم، وبهذا قال أبو إسحاق والقاضي الطَّبَرِي. وأصحهما: أنه يمده إلى أن يقوم، ويخفف الجلسة حتى لا يخلو شيء من صلاته عن الذكر؛ وهذان الوجهان الأخيران كأنهما مفرعان على أن التكبير يمد ولا يحذف، وإذا لم يميز الابتداء عن الانتهاء حصل في وقت التكبيل ثلاثة أوجه، وصاحب الكتاب أورد منها في "الوسيط": الأول: الذي اختاره القفال. والثاني: الذي قال به أبو إسحاق، ولم يورد. الثالث: الذي هو الأظهر عند جمهور الأصحاب، وكذلك فعل إمام الحرمين والصيدلاني. وقوله هاهنا: (ثم يقوم مكبراً) بعد، قوله: (ثم يجلس) جوابٌ على اختيار القفال وهو أبعد الوجوه عند الأكثرين، ويجب أن يعلم قوله: (مكبراً) بالواو، إشارة إلى الوجه الثاني، وهو أنه يقوم عن الجلسة غير مكبر، وإلى الوجه الثالث أيضاً، فإنه عند القائلين به لا يقوم مكبرًا، إنما يقوم متمماً للتكبير، ولا خلاف في أنه لا يُكَبِّر تكبيرتين. والسُّنة في هيئة جلسة الاستراحة الافتراش، كذلك رواه أبو حميد (¬1)، ثم سواء قام من جلسة الاستراحة أو من السجدة، فإنه يقوم معتمداً على الأرض بيديه، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: يقوم معتمداً على صدور قدميه، ولا يعتمد بيديه على الأرض. لنا ما روي عن مالك بني الحويرث -رضي الله عنه- في صفة صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الأَخِيرَةِ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى، وَاسْتَوى قَاعِداً قَامَ وَاعْتَمَدَ عَلَى الأَرْضِ بِيَدَيْه" (¬2). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ، وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الأَرْضِ، كَمَا يَضَعُ الْعَاجِنُ" (¬3). قال صاحب "المجمل" (العاجن) (¬4) هو الذي إذا نهض اعتمد على يديه كأنه يعجن أي الخمير، ويجوز أن يكون معنى الخبر كما يضع عاجن الخمير، وهما متقاربان. قال الغزالي: الرُّكْنُ السَّادِسُ: التَّشَهُّدُ وَالتَّشَهُّدُ الأَوَّلُ سُنَّةٌ، وَالقُعُودُ فِيهِ عَلَى هَيْئَةِ الافْتِرَاشِ (م) لأنَّهُ مُسْتَوفِزُ لِلْحَرَكَةِ، وَالمَسْبُوقُ يَفْتَرِشُ فِي التَّشَهُّدِ الأَخِيرِ لاسْتِيفَازِهِ، وَمَنْ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ هَلْ يَفْتَرِشُ؟ فِيهِ خِلاَفٌ، وَالافْتِرَاشُ أَنْ يَضَعَ الرَّجْلَ اليُسْرَى وَيَجْلِسَ عَلَيْهَا وَيَنْصِبَ القَدَمَ الْيُمْنَى؛ وَيَضَعَ أَطْرَافَ الأَصَابِعِ عَلَى الأَرْضِ، وَالتَّوَرُّكُ سُنَّةٌ فِي ¬
التَّشَهُّدِ الأَخِيرِ، (ح) وَهُوَ أَنْ يَضَعَ رِجْلَيْهِ كَذَلِكَ ثُمَّ يُخْرِجَهُمَا مِنْ جِهَةِ يَمِينِهِ، وَيُمَكِّنُ ورْكَهُ مِنَ الأَرْضِ. قال الرافعي: أدرج في هذا الركن أركانًا ثلاثة: القعود، والتشهد، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولو فصل القعود والتشهد، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- عنهما لجاز، كما فصل القيام عن القراءة، فإن القيام للقراءة كالقعود لهما، وهكذا فعل في ترجمة الأركان، وعدها ثلاثة: وفقه الفصل: أن التشهد والقعود ينقسمان إلى واقعين في آخر الصلاة، كتشهد الصبح، وتشهد الركعة الرَّابعة من الظهر إلى واقعين لا في آخر الصلاة، كالتشهد بعد الثانية من الظهر. فالأول: من القسمين مفروض. والثاني: مسنون، ثم لا يتعين للقعود هيئة متعينة فيما يرجع إلى الأجزاء، بل يجزئه القعود على أي وجه كان، لكن السُّنَّة في القعود في آخر الصلاة التورك، وفي القعود الذي لا يقع في آخرها الافتراش، وقال أحمد: إن كانت الصلاة ذات تشهدين تَوَرَّكَ في الأخير وإن كانت ذات تشهد واحد افترش فيه، والافتراش أن يضجع الرِّجْلَ اليسرى، بحيث يلي ظهرها الأرض، ويجلس عليها، وينصب اليمنى، ويضع أطراف أصابعها على الأرض متوجهة إلى القبلة. والتورك: أن يخرج رجليه وهما على هيأتهما في الافتراش من جهة يمينه، وبمكن الورك من الأرض. وقال أبو حنيفة: السُّنة في القعودين الافتراش. وقال مالك: السنة فيهما التَّورُّكَ. لنا ما روي عن أبي حميد الساعدي أنه وصف صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ على رِجْلِهِ الْيُسْرَى، وَنَصَبَ الْيُمْنَى، فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الأَخِيرَةِ، قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الأخْرَى وَقَعَدَ عَلَى مِقْعَدَتِهِ (¬1). والفرق من جهة المعنى أن المصلي في التشهد الأول مستوفز (¬2) للحركة، يبادر إلى القيام عند تمامه، وذلك عن هيئة الافتراش أهون، وأما الجَلْسَة الأخيرة فليس بعدها عمل فيناسبها التورك الذي هو هيئة السكون والاستقرار، ويترتب على هذه القاعدة مسألتان: إحداهما: المسبوق إذا جلس مع الإمام في التشهد الأخير يفترش ولا يتورك، نص عليه؛ لأنه مستوفز يحتاج إلى القيام عند سلام الإمام، ولأنه ليس آخر صلاته، ¬
والتورك إنما ورد في آخر الصلاة. وحكى الشيخ أبو محمد وجهاً عن بعض الأصحاب أنه يتورك متابعة للإمام. وذكر أبو الفرج البزاز: أن أبا طاهر الزيادي، حكى في المسألة هذين الوجهين، ووجهًا ثالثاً أنه إن كان محل تشهد المسبوق كان أدرك ركعتين من صلاة الإمام جلس منتصباً وإلا جلس متوركًا؛ لأن أصل الجلوس لمحض المتابعة، فيتابعه في هيئته أيضاً، والأكثرون على الوجه الأول. الثانية: إذا قعد في التشهد الأخير وعليه سجود سهو فهل يفترش أم يتورك؟ فيه وجهان: أحدهما: يتورك؛ لأنه قعود آخر الصلاة. قاله الروياني في "التلخيص" وهو ظاهر المذهب. والثاني: أنه يفترش، ذكره القفال، وساعده الأكثرون؛ لأنه يحتاج بعد هذا القعود، إلى عمل وهو السجود، فأشبه التشهد الأول، بل السجود عن هيئة التورك أعسر من القيام عنها، فكان أولى بأن لا يتورك، وأيضاً فلأنه جلوس يعقبه سجود، فأشبه الجلوس بين السجدتين، وينبغي أن يعلم قوله: (والتشهد الأول مسنون) بالألف، لأن أحمد يقول بوجوبه. لنا أنه -صلى الله عليه وسلم- "قَامَ مِنَ اثْنَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ، وَلَمْ يَجْلِسْ، فَسَبَّحَ النَّاسُ لَهُ، فَلَمْ يُعِدْ، فَلَمَّا كَانَ آَخِرَ صَلاَتِهِ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ ". ولو كان واجباً لعاد إليه، ولما جبره السجود، ولا تخفى سائر المواضع المستحقة للعلامات. وقوله: (ويضع أطراف الأصابع على الأرض) كذلك، أي منتصبة. وقوله في التورك: (أن يضع رجليه كذلك) أي على هيئتهما في الافتراش، فاليمنى منصوبة مرفوعة العقب، واليسرى مضجعة. قال الغزالي: ثُمَّ يَضَعُ اليَدَ الْيُسْرَى عَلَى طَرَفِ الرُّكْبَةِ مَنْشُورَةً مَعَ التَّفْرِيجِ الْمُقْتَصِدِ، وَاليَدُ اليُمْنَى يَضَعُهَا كَذلِكَ لَكِنْ يَقْبِضُ الخِنْصَرَ وَالبِنْصَرَ وَالْوُسْطَى وَيُرْسِلُ المُسَبِّحَةَ، وَفِي الإِبْهَامِ أَوْجُهٌ قِيلَ يُرْسِلُهَا وَقِيلَ: يُحَلِّقُ الإِبْهَامَ وَالوُسْطَى، وَقِيلَ يَضُمُّهَا إلَى الوُسْطَى المَقْبُوضَةِ كَالقَابِضِ ثَلاَثاً وَعِشْرِينَ، ثُمَّ يَرْفعُ مُسَبِّحَتَهُ فِي الشَّهَادَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: اِلاَّ الله، وَفِي تَحْرِيكِهَا عِنْدَ الرَّفْعِ خِلاَفٌ. قال الرافعي: السنة في التشهدين جميعاً، أن يضع يده اليسرى على فخذه اليسرى؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلاَةِ، وَضعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى" (¬1). ¬
وينبغي أن ينشر أصابعه، ويجعلها قريبة من طرف الركبة، بحيث تسامت رؤوسها الركبة، وهل يفرج بين أصابع اليسرى أو يضمها؟ الذي ذكره في الكتاب أنه يفرج تفريجًا مقتصدًا، وهذا هو الأشهر، ألا تراهم قالوا: لا يؤمر بضم الأصابع مع نشرها إلا في السجود على ما قدمناه، وحكى الكرخي وغيره من أصحاب الشيخ أبي حامد أنه يضم بعضها إلى بعض حتى الإبهام؛ ليتوجه جميعها إلى القبلة، وهكذا ذكر القاضي الروياني، فليكن قوله: (مع التفريج) معلماً بالواو، وأما كونه مقتصدًا فليس من خاصية هذا الموضع، بل لا يؤمر بالتفريج المتفاحش في موضع ما. وأما اليد اليمنى فيضعها على طرف الركبة اليمنى كما ذكرنا في اليسرى، وهو المراد من قوله: (فيضعها كذلك) ولكن لا ينشر جميع أصابعه، بل يقبض الخنصر والبنصر ويرسل المسبحة، وفيما يفعل بالإبهام والوسطى، وثلاثة أقاويل: أحدها: "أَنَّهُ يَقْبِضُ الْوُسْطَى مَعَ الخنْصر والْبنْصَرِ وَيُرْسِلُ الإبْهَامَ مَعَ المُسَبِّحَةِ، لِمَا روي أَنَّ أَبَا حُمَيْدٍ السَّاعِدِي، وَصَفَ صَلاَة رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ هكَذَا" (¬1). والثاني: "أَنَّهُ يُحَلِّقُ بَيْنَ الإبْهَام وَالْوُسْطَى، لِمَا رُوِيَ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَعَلَ هكَذَا" (¬2). وفي كيفية التحليق وجهان: أحدهما: أنه يضع أنملة الوسطى بين عقدتي الإِبهام. وأصحهما: أنه يحلِّق بينهما برأسيهما. والقول الثالث، وهو الأصحّ: أنه يقصهما لما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ إذَا جَلَسَ فِي الصَّلاَةِ وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا وَأَشَارَ بِالْأُصْبَعِ الَّتِي تَلِي الإبْهَامَ" (¬3). وفي كيفية وضع الإبهام على هذا القول وجهان: أحدهما: أنه يضعهما على أصبعه الوسطى، كأنه عاقد ثلاثة وعشرين، لما روي عن ابن الزبير -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ يَضَعُ إِبْهَامَهُ عِنْدَ الْوُسْطَى" (¬4). وأظهرهما: أنه يضعها بجنب المسبحة كأنه عاقد ثلاثة وخمسين، لما روي عن ¬
ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ إِذَا قَعَدَ فِي التَّشَهُّدِ، وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى وَعَقَدَ ثَلاثَةً وَخَمْسِينَ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ" (¬1). ثم قال ابن الصباغ وغيره: وكيفما فعل من هذه الهيئات، فقد أتى بالسُّنة؛ لأن الأخبار قد وردت بها جميعاً، وكأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يضع مرة هكذا، ومرة هكذا، وعلى الأقوال كلها فيستحب له أن يرفع مسبحته في كلمة الشهادة إذا بلغ همزة: "إلا الله"، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: لا يرفعها. لنا ما سبق، أنه كان يشير بالسبابة، وهل يحركها عند الرفع؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، لما روي عن وائل -رضي الله عنه - قال: "ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أصْبَعَهُ، فَرَأَيْتُهُ يُحَرِّكُهَا" (¬2). وأصحهما: لا؛ لما روي عن ابن الزبير -رضي الله عنه- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُشِيرُ بِالسَّبَّابَةِ وَلاَ يُحَرِّكُهَا، وَلاَ يُجَاوِزُ بَصَرَهُ إِشَارَتَهُ" (¬3). وقوله في الكتاب: (ويقبض الخنصر، والبنصر والوسطى) إن أراد بالقبض هاهنا القدر الذي يشارك فيه الوسطى الخنصر، والبنصر، وهو ترك البسط والإرسال، فهذا لا خلاف فيه؛ وإن أراد أن يصنع بالوسطى ما يصنع بالخنصر، والبنصر فهذا، تنازع فيه قول التحليق فاعرفه. وأما التعبير عن الخلاف المذكور بالأوجه فإنما اقتدى فيه بإمام الحرمين، وعامة الأصحاب حكوه أقوالاً منصوصة للشافعي -رضي الله عنه-، معزية إلى كتبه. وقوله: "أيرسلها" هو القول الأول، و"التحليق" الثاني، والذي ذكره آخراً أحد الوجهين على القول الثالث. وقوله: (ثم يرفع) معلم بالحاء. وقوله: (عند قوله إلا الله) يجوز أن يعلم بالواو؛ لأن أبا القاسم الكرخي حكى وجهين في كيفية الإشارة بالمسبحة: أصحهما: أنه يشير بها وقت التَّشَهُّد، وهو الذي ذكره الجمهور. والثاني: أنه يُشِيرُ بها في جميع التَّشَهُّدِ. ¬
قال الغزالي: أَمَّا التَّشَهُّدُ الأَخِيرُ فَواجِبٌ (ح م) وَالصَّلاةُ عَلَى الرَّسُولِ عليه السلام وَاجِبَةٌ مَعَهُ (ح م) وَعَلَى الآلِ قَوْلاَنِ، وَهَل تُسَنُّ الصَّلاَةُ عَلَى الرَّسُولِ فِي الأَوَّلِ؟ قَوْلاَنِ: قال الرافعي: القعود للتشهد الأخير، والتَّشهد فيه واجبان خلافاً لأبي حنيفة، حيث قال: القعود بقدر التشهد واجب، ولا يجب قراءة التشهد فيه، ولمالك حيث قال: لا يجب لا هذا ولا ذاك. لنا أن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "كُنَّا نَقُولُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْنَا التَّشَهُّدُ: السَّلاَم عَلَى اللهِ قَبْلَ عِبَادِهِ، السَّلاَمُ عَلَى جِبْرِيلَ" إلى آخره (¬1)، دل على أنه قد فرض، ثم التشهد الأخير، إنما يكون لصلاة لها تشهد أول، وقد تكون الصلاة بحيث لا يشرع فيها إلا تشهد واحد كالصبح والجمعة، فحكمه حكم التشهد الأخير، في ذات التشهدين، والعبارة الجامعة أن يقال: التشهد الذي يعقبه التحلل عن الصلاة واجب. وتجب الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في التشهد الواجب، خلافاً لأبي حنيفة ومالك. لنا ما روي عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَقْبَلُ الله صَلاَةً إِلاَّ بِطُهُورٍ وَالصَّلاَةِ عَلَيَّ" (¬2). وهل تجب الصلاة على الآل؟ فيه قولان وبعضهم يقول: وجهان: أحدهما: تجب لظاهر ما روي أنه قيل: يا رسول كيف نصلي عليك؟ فقال: "قُولُوا اللَّهُمَّ صَلّي عَلَى محَمَّدٍ، وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ" (¬3). وأصحهما: لا؛ وإنما هي سنة تابعة للصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهل يسن الصلاة على الرسول في التشهد الأول؟ فيه قولان: أحدهما: -وبه قال أبو حنيفة وأحمد- لا؛ لأنها مبنية على التخفيف؛ روى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كان في التشهد الأول (¬4) كمن يجلس على الرضف" (¬5) وهي الحجارة المحماة، وذلك يشعر بأنه ما كان يطول بالصَّلاَةِ والدعاء. ¬
وأصحهما: ويروى عن مالك: أنها تسن؛ لأنها ذكرت، يجب في الجلسة الأخيرة، فيسن في الأولى كالتشهد، وأما الصلاة فيه على الآل، فتبنى على إيجابها في التشهد الأخير، إن أوجبناها ففي استحبابها في الأول الخلاف المذكور في الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإن لم نوجبها -وهو الأصحّ- فلا نستحبها في الأول، وإذا قلنا: لا تسن الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأول فصلى عليه كان ناقلاً للركن إلى غير موضعه، وفي بطلان الصلاة به كلام يأتي في "باب سجود السهو" وكذا إذا قلنا: لا يصلي على النّبي -صلى الله عليه وسلم- في القنوت، وهكذا الحكم إذا أوجبنا الصلاة على الآل في الأخير، ولم نستحبها في الأول فأتى بها. وآل النبي -صلى الله عليه وسلم- بنوا هاشم، وبنوا المطلب، نص عليه الشَّافعي -رضي الله عنه-. وفيه وجه: أن كل مسلم آله. قال الغزالي: ثُمَّ أَكْمَلُ التَّشَهُّدِ مَشْهُورٌ، وَأَقَلُّهُ التَّحِيَّاتِ لِلَّهِ سَلاَمٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ سَلاَمٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ اِلَهَ إِلاَّ الله وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَهُوَ الْقَدْرُ المُتَكَرِّرُ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، وَأَوْجَزَ ابْنُ سُرَيْجٍ بِالْمَعْنَى، وَقَالَ: التَّحِيَّات لِلَّهِ سَلاَمٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ سَلاَمٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِيَنَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ اِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ. قال الرافعي: الكلام في أكمل التشهد، ثم في أقله: أما أكمله، فاختار الشافعي -رضي الله عنه- ما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- وهو: "التَّحِيَاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، سَلاَمٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، وَرَحْمَةُ اللهِ، وَبَرَكَاتُهُ، سَلاَمُ عَلَيْنَا، وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ" هكذا روى الشافعي -رضي الله عنه- (¬1). وروى غيره: "السَّلاَمُ عَلَيْكَ"، "السَّلاَمُ عَلَيْنَا"، بإثبات الألف واللام، وهما صحيحان، ولا فرق وحكى في "النهاية" عن بعضهم؛ أن الأصل إثبات الألف واللام. وقال أبو حنيفة وأحمد: والأفضل ما رواه ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو: "التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ، وَالطِّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا، وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ" (¬2). وقال مالك: الأفضل أن يتشهد بما علمه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الناس على المنبر وهو: "التَّحِيَّات لله، الزَّاكِيَات لِلَّهِ، الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلاَمُ ¬
عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ" إِلَى آخره (¬1). كما رواه ابن مسعود -رضي الله عنه-، ووجه اختيار الشافعي -رضي الله عنه-، يستوي في الخلاف على أن الأمر فيه قريب، فإن الفضيلة تتأدى بجميع ذلك، ثم جمهور الأصحاب على أنه لا يقدم التسمية، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان أول ما يتكلم به عند القعدة: "التَّحِيَّاتِ لِلَّهِ" (¬2) وعن أبي على الطبري، وغيره من أصحابنا، أن الأفضل أن يقول: "بِسْمِ اللهِ، وَبِاللهِ التَّحِيَّاتُ" ويروى: "بِسم اللهِ خَيرِ الأَسمَاءِ" (¬3)، نقل عن جابر -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعن بعَض أصحابنا أن الأفضل: أن يقول: "التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ، الزَّاكِيَاتُ، وَالصَّلَوَاتُ، وَالطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ" (¬4)؛ ليكون آتيا بما اشتملت عليه الروايات كلّها. وأما الأقل: فالمنقول عن نص الشافعي -رضي الله عنه- أن أقل التشهد: "التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، سَلاَمٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، سَلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنَّ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ" هكذا روى أصحابنا العراقيون، وتابعهم القاضي الروياني، وكذا صاحب "التهذيب" إلا أنه نقل: "وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ"، وأسقط الصيدلاني في نقل نصه كلمة وبركاته، وجعل صيغة الشهادة الثانية: "وَأَشْهَدُ أَن مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ" وهذا هو الذي أورده في الكتاب وحكاية القاضي ابن كج؛ فإذا حصل الخلاف في المنقول عن الشافعي -رضي الله عنه- في ثلاثة مواضع: أحدها: في كلمة "وبركاته". والثاني: في كلمة "وأشهد" في الكرة الثانية. والثالث: في لفظ "الله" في الشهادة الثانية، فمنهم من اكتفى بقوله: (رسوله) ثم نقلوا عن ابن سريج في الأقل، طريقة أخرى، وهي: "التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، سَلاَمٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، سَلاَمٌ عَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، [أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ". هذا ما ذكره في الكتاب، ورواه طائفة، وأسقط بعضهم لفظ السلام الثاني واكتفى بأن يقول: "أيها النبي وعلى عباد الله الصالحين] (¬5)، وأسقط بعضهم لفظ "الصالحين" ¬
ويحكى هذا عن الحليمي، ووجه ذلك بأن لفظ العباد، مع الإضافة ينصرف غالباً إلى "الصالحين"، كقوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (¬1) ونظائره، فاستغنى بالإضافة عنه ثم قال الأئمة: كأن الشافعي -رضي الله عنه- اعتبر في حد الأقل ما رأه مكررًا في جميع الروايات، ولم يكن تابعًا لغيره، وما انفردت به الروايات، أو كان تابعًا لغيره جوز حذفه (¬2)، وابن سريج نظر إلى المعنى، وجوز حدف ما [لا] يتغير به المعنى، واكتفى بذكر السَّلام عن الرحمة والبركة، وقال بدخولهما فيه. وقوله في الكتاب: "وهو القدر المتكرر في جميع الروايات، وأوجز ابن سريج بالمعنى" (إشارة إلى هذا الكلام، لكن لم يتعرض إلا للتكرر في جميع الروايات) (¬3) ولا بد من التعرض للوصف الأخير، وهو أن يكون تابعاً للغير، إلا فالصلوات والطيبات متكررة في جميع الروايات، وقد جوز حذفها. واعلم أن ما ذكره الأصحاب من اعتبار التكرر وعدم التبعية أن جعلوه ضابطًا لحد الأقل فذاك، وإن عللوا حد الأقل به ففيه إشكال؛ لأن التكرر في الروايات، يشعر بأنه لا بد من القدر المتكرر، فأما إنه مجزئ فلا، ومن الجائز أن يكون المجزي هذا القدر مع ما تفردت به كل رواية. ولك أن تعلم قوله في طريقة الشافعي -رضي الله عنه- "وأشهد" في الكرة الثانية] بالواو (¬4) وكذا كلمة "السلام" الثاني، و"الصالحين"، في طريقة ابن سريج إشارة إلى ما سبق من الخلاف. قال الغزالي: وَيَقُولُ بَعْدَهُ اللَّهُمَّ صَلِّ علَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ مَا بَعْدَهُ مَسْنُونٌ إِلَى قَوْلهِ: إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، ثُمَّ الدُّعَاءُ بَعْدَهُ مَسْنُونٌ، وَلْيَخْتَرْ كُلٌّ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ. قال الرافعي: أقل الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: اللهم صل على محمد، ولو قال: صلَّى الله على محمد، أو صلى الله على رسوله جاز. وفي وجه: يجوز أن يقتصر على قوله: "صلى الله عليه وسلم" والكناية ترجع إلى ذكر محمد -صلى الله عليه وسلم- في كلمة الشهادة، وهذا نظر إلى المعنى، وأقل الصلاة على الآل أن يقول: "وآله"، ولفظ الكتاب يشعر بأنه يجب أن يقول: وعلى آل محمد؛ لأنه ذكر ذلك، ثم حكم بأن ما بعده مسنون: ¬
والأول: هو الذي ذكره صاحب "التهذيب"، وغيره. والأولى أن يقول: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آَلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ". روى كعب بن عجرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن كيفية الصلاة عليه، فأمرهم بذلك (¬1). قال الصيدلاني: ومن الناس من يزيد: "وارحم محمداً وآل محمد، كما رحمت على آل إبراهيم" وربما يقول: كما ترحمت على إبراهيم، قال: وهذا لم يرد في الخبر، وهو غير فصيح، فإنه لا يقال: ترحمت عليه، وإنما يقال: رحمته، وأما الترحم، ففيه معنى التكلف والتصنع، فلا يحسن إطلاقه في حق الله تعالى. ثم يستحب الدعاء في التشهد الأخير، بعد الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وله أن يدعو بما شاء من أمر الدنيا والآخرة، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: لا يدعو إلا بما يشبه ألفاظ القرآن، وبالأدعية المأثورة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا يدعو بما يشبه كلام الناس، ومن أصحابه من قال: يجزئ الدعاء بما لا يطلب إلا من الله تعالى، فأما إذا دعا بما يمكن أن يطلب من الآدميين بطلت صلاته. وقال أحمد: إذا قال: "اللهم ارزقني جاريةً حسناءَ ونحو ذلك " فسدت صلاته؛ لما روي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- في آخر حديث التشهد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو" (¬2). وروي أنه قال: "وَلْيَدْعُ بَعْدَ ذلِكَ بِمَا شَاءَ" (¬3). والأفضل أن يكون دعاؤه لأمور الآخرة، وما ورد في الخبر أحب من غيره. ومن ذلك: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَّدِمُ، وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ. وأيضاً: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بكَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَعَذَاب القَبْرِ، وَفِتْنَةِ المَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَفِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَالِ" (¬4). وأيضاً: "اللَّهُمَّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْتَمِ وَالْمَغْرَمِ" (¬5)، "اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلمًا كَثِيراً، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِيَ مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (¬6) وقوله: (ثم الدعاء بعده مسنون) أي في التشهد الأخير، فأما في الأول ¬
فيكره، بل لا يصلي على الآل أيضاً على الصحيح، كما سبق، ويجوز أن يعلم قوله: (مسنون) بالواو لأنه يقتضي الاستحباب مطلقاً، وقد ذكر الصيدلاني في طريقته: أن المستحب للإمام أن يقتصر على التشهد والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- ليخفف على من خلفه، فإن دعا جعل دعاؤه دون قدر التشهد، ولا يطول. وأما المنفرد: فلا بأس له بالتطويل، هذا ما ذكره، والظاهر الذي نقله الجمهور: أنه يستحب للإمام الدعاء، كما يستحب لغيره، ثم الأحب أن يكون الدعاء أقل من التشهد، والصلاة على النبي في لأنه تبع لهما فإن زاد لم يضر، إلا أن يكون إماماً فيكره له التطويل. وقوله: (وليتخير) مُعَلَّم بالحاء والألف؛ لما روينا، ويجوز أن يعلم بالواو أيضاً، لأن إمام الحرمين حكى في "النهاية" عن شيخه: أنه كان يتردد في مثل قوله: اللهم ارزقني جارية صفتها (¬1) كذا، ويميل إلى المنع منه وأنه يبطل الصلاة. قال الغزالي: فَرْعٌ العَاجِزُ عَنِ التَّشَهُّدِ يَأْتِي بِتَرْجَمَتِهِ كَتَكْبِيرَةِ التَّحَرُّمِ، وَالعَاجِزُ عَنِ الدُّعَاءِ بِالعَرَبِيَّةِ لاَ يَدْعُو بِالْعَجَمِيَّةِ بِحَالٍ، وَفِي سَائِرِ الأَذْكَارِ هَلْ يَأْتي بِتَرْجَمَتِهَا بِالْعَجَمِيَّةِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ. قال الرافعي: لا يجوز لمن أحسن التشهد بالعربية أن يعدل إلى ترجمته كالتكبير، وقراءة الفاتحة، فإن عجز أتى بترجمته كتكبيرة الإحرام بخلاف القرآن، لا يأتي بترجمته؛ لأن نظمه معجز كما سبق، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى الآل إن أوجبناها كالتشهد، وأما ما عدا الواجبات من الألفاظ المشروعة في الصَّلاَةِ إذا عجز عنها بالعَرَبية، فقد قَسَّمَهَا المُصَنِّفُ قسمين: أحدهما: الدعاء، فمنعه من أن يدعو بالعجمية مطلقاً. والثاني: سائر الأذكار كثناء الاستفتاح، والقنوت، وتكبيرات الانتقالات، وتسبيحات الركوع، والسجود، فقد روي منها في "الوسيط" ثلاثة أوجه: أحدها: ليس له أن يأتي بترجمتها، لأنها مسنونة لا ضرورة إلى الإتيان بها. والثاني: أنه يأتي بمعانيها، ويقيمها مقام العربية، كالتكبير والتشهد. والثالث: ما يجيز تركه بالسجود يأتي بترجمته، وما لا فلا. وقضية هذه الطريقة المنع من أن يأتي بالترجمة عند القدرة على العربية بطريق الأولى، ولم يجعل إمام الحرمين الدعاء قسمًا على إطلاقه لكن قال: ليس للمصلي أن يخترع دعوة بالعجمية ويدعو بها في صلاته، وإن كان له أن يدعو بغير الدعوات ¬
المأثورة بالعربية، ثم حكى الوجوه الثلاثة في "الأذكار المسنونة"، وإيراده يشعر بالمنع من الذكر المخترع، كالدعاء المخترع، وتطرد الوجوه في الدعاء المسنون كما في سائر الأذكار المسنونة، ولا فرق، وصرح سائر الأصحاب بهذا الذي أشعر به كلامه، فقالوا: إذا عجز عن الأذكار العربية والأدعية المَسْنُونَةِ، هل يأتي بترجمتها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه لا ضرورة إليها بخلاف الواجبات. وأصحهما: نعم. ليجوز فضلها، ولو أحسن العربية فهل يجوز له أن يأتي بالترجمة؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يجوز، كما في التكبير، والتشهد، ولو فعل تبطل الصلاة وذكر في "التهذيب" هذين الوجهين فيما إذا دعا بالعَجَمِيَّةِ مع القدرة على العربية، وأْطلقها في بعض التعاليق في جميع الأذكار. إذا عرفت ذلك فقوله: (والعاجز عن الدعاء لا يدعو بالعجمية بحال) إن أراد به الدعاء المخترع الذي لم يؤثر -كما ذكره إمام الحرمين- فلا يلزم منه المنع من أن يأتي العاجز بترجمة الدعاء المسنون بعد التشهد جزماً؛ بل يجري فيه الخلاف المذكور في سائر الأذكار، وإن أراد به مطلق الدعاء فما الفرق بين الدعاء المسنون، وبين التسبيح المسنون، ولم يمنع من ترجمة أحدهما جزماً، ويجعل ترجمة الآخر على الخلاف، ويلزم على ذلك أن لا يأتي بترجمة: "اللهم اغفر لي وارحمني". في الجلوس بين السجدتين، وظاهر لفظه الاحتمال الثاني، ولذلك أعلم بالواو؛ إشارة إلى الوجه المجوز للترجمة مع القدرة على العربية، فإنه أولى بتجويزها عند العجز، ويجوز أن يعلم بالحاء أيضاً؛ لأن أبا حنيفة يجوز ترجمة القرآن، وإن كان قادراً على نظمه، فترجمة الدعاء عند العجز أولى، بأن يجوزها، واعلم أنه إذا حمل كلامه على المحمل الثاني أشبه أن يكون هو منفرداً بنقل الفرق بين الدعاء وغيره، -والله أعلم-. قال الغزالي: الرُّكْنُ السَّابِعُ السَّلاَمُ وَهُوَ وَاجِبٌ، وَلاَ يَقُومُ (ح) مَقَامَهُ أَضْدَادُ الصَّلاَةِ، وَأَقَلُّهُ أَنْ يَقُولَ، السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، وَلَو قَالَ: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ فَوَجْهَانِ، وَفِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الخُرُوجِ وَجْهَانِ، وَأكْمَلُهُ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ مَرَّتَيْنِ (ح م) فِي الجَدِيدِ مَعَ الالْتِفَاتِ مِنَ الجَانِبَيْنِ بِحَيْثُ تُرَى خَدَّاهُ وَمَعَ نِيَّةِ السَّلاَمِ عَلَى مَنْ عَلَى جَانِبَيْهِ مِنَ الجِنِّ وَالإنْسِ وَالمَلاَئِكَةِ، وَالمُقْتَدِي يَنْوِي الرَّدَّ عَلَى إِمَامِهِ بِسَلاَمِهِ. قال الرافعي: لما وصف السلام بكونه ركنًا، فلو لم يقل -وهو واجب- لما ضره؛ لأن ركن الصلاة لا بد وأن يكون واجباً، وإذا ذكرهما، فينبغي أن يعلما بالحاء، وكذلك قوله: (ولا يقوم مقامه أضداد الصلاة). لأن عند أبي حنيفة لو أتى بما ينافي
الصلاة اختياراً من حدث، أو كلام خرج به عن الصَّلاَةِ، وقام مقام السلام. قال: ولو كان ناسياً فلا يخرج به من الصلاة، ولا تبطل صلاته، لكي يتوضأ ويبني، ولو وقع ذلك من غير اختياره كانقضاء مدة المسح، ورؤية المتيمم الماء في الصلاة، تبطل صلاته. لنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وَتَحْلِيلُهَا للتَّسْلِيمُ" (¬1) جعل التحليل بالتسليم (¬2) فوجب ألا يحصل بغيره، ثم القول في أقل السلام وأكمله. أما الأقل: فهو أن يقول: "السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ"، ولا بد من هذا النّظم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كذلك كان يسلم، وهو كاف؛ لأنه تسليم، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ". ولو قال: سلامٌ عليكم، فوجهان: أحدهما: أنه لا يجزئه؛ لأنه نقص الألف واللام، فأشبه ما لو قال: سلام عليكم من غير تنوين. وأظهرهما: أنه يجزئه، ويقوم التنوين مقام الألف واللام كما في التشهد يجزئه السلام، وسلام، ولو قال عليكم السلام فقد سبق حكمه في فصل التكبير، ولا يجزئه قوله: السلام عليك، ولا سلامي عليكم، ولا سلام الله عليكم، ولا: السلام عليهم، وما لا يجزئ فيبطل الصلاة إذا قاله عمداً، سوى قوله: السلام عليهم، فإنه دعاء لا على وجه الخطاب، وهل يجب أن ينوي الخروج عن الصلاة بسلامه فيه وجهان: أحدهما: نعم، وبه قال ابن سريج، وابن القاص، ويحكى عن ظاهر نصه في البويطي؛ لأنه ذكر واجب في إحدى طرفي الصلاة، فتجب فيه النية، كالتكبير ولأن نظم السلام يناقض الصلاة في وصفه، من حيث هو خطاب الآدميين، ولهذا لو سلم قصداً في الصلاة بطلت صلاته، فإذا لم يقترن به نية صَارِفَة إلى قصد التحلل كان مناقضاً. والثاني: لا (¬3) يجب ذلك وبه قال أبو حفص بن الوكيل، وأبو الحسين بن القطان، ووجهه القياس على سائر العبادات لا يجب فيها نية الخروج؛ لأن النية تليق بالإقدام دون التَّرْكِ، وهذا هو الأصح عند القفال. واختيار معظم المتأخرين، وحملوا نصه على الاستحباب. ¬
فإن قلنا: تجب نية الخروج فلا تحتاج إلى تعيين الصلاة عند الخروج، بخلاف حالة الشُّرُوع، فإن الخروج لا يكون إلا عن المشروع فيه، ولو عين غير ما هو فيه عمداً لبطلت صلاته على هذا الوجه، ولو سها سجد للسهو وسلم ثانياً مع النية، بخلاف ما إذا قلنا: لا تجب نية الخروج، فإنه لا يضر الخطأ في التعيين، وعلى وجه الوجوب ينبغي أن ينوي الخروج مقترناً بالتسليمة الأولى، فلو سلم ولم ينو بطلت صلاته، ولو نوى الخروج -قبل السلام- بطلت صلاته أيضاً. ولو نوى قبله الخروج عنده، فقد قال في "النهاية": لا تبطل صلاته بهذا ولكنه لا يكفيه، بل يأتي بالنية مع السلام، ويجب على المصلي أن يوقع السلام في حال القعود إذا قدر عليه. وأما الأكمل فهو أن يقول: الكلام عليكم ورحمة الله. وهل يزيد على مرة واحدة؟ الجديد: أنه يستحب أن يقوله المصلي مرتين، لما روي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُسَلِّمْ عَنْ يَمِينِهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ" (¬1). ويحكى عن القديم قولان: أحدهما: أن المستحب تسليمة واحدة؛ لما روي عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ يُسَلِّمُ تسليمة وَاحِدَةً، تِلْقَاءَ وَجْهِهِ" (¬2). والثاني: أن غير الإمام يسلم تسليمة واحدة، ويفرق في حق الإمام بين أن يكون في القوم كثرة، أو كان حول المسجد لغط، فيستحب أن يسلم تسليمتين؛ ليحصل الإبلاغ، وإن قلوا: ولا لغط ثم فيقتصر على تسليمة واحدة؛ فإن قلنا: يقتصر على تسليمة واحدة (¬3) فتجعل تلقاء وجهه، كما روي عن عائشة -رضي الله عنها- وإن قلنا بالصحيح -وهو أنه يسلم تسليمتين، فالمستحب أن يلتفت [في الأولى عن يمينه، وفي الأخرى عن شماله، وينبغي أن يبتدئ بها مستقبل القبلة، ثم يلتفت] (¬4) بحيث يكون انقضاؤها مع تمام الالتفات، وكيف يلتفت؟ قال الشافعي -رضي الله عنه- في "المختصر" حتى يرى (¬5) خداه، وحكى الشارحون أن الأصحاب اختلفوا في معناه. ¬
منهم من قال: معناه حتى يرى خداه من كل جانب. ومنهم من قال: حتى يرى من كل جانب خده، وهو الصحيح؛ لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ، حَتَّى يُرَى بَيَاضَ خَدِّهِ الأَيْمَنِ، وَعَنْ يَسَارِهِ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ، حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الأَيْسَرِ" (¬1). ثم المصلي إن كان إماماً فيستحب له أن ينوي بالتسليمة الأولى السلام على من على يمينه من الملائكة، وعلى [ومسلمي] الجن والإنس، وبالثانية السلام على من على يساره منهم، والمأموم ينوي مثل ذلك. ويختص بشيء آخر: وهو أنه إن كان على يمين الإمام ينوي بالتسليمة الثانية الرد على الإمام، وإن كان على يساره ينويه بالتسليمة الأولى، وإن كان في محاذاته ينويه بأيهما شاء، وهو في التسلمية الأولى أحب، ويحسن أن ينوي بعض المأمومين الرد على البعض، وروي عن سمرة قال: "أَمَرَنَا رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نُسَلِّمَ عَلَى أَنْفُسِنَا، وأنْ يَنْوِيَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضَ" (¬2)، وقال علي -رضي الله عنه-: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعاً، وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا، وَقَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعاً، يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ بِالتَّسْلِيم عَلَى الْمَلاَئِكَةِ الْمُقَربِينَ وَالنَّبِيِّينَ وَمَنْ تَبِعَهم مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" (¬3). وأما المنفرد فينوي بهما السلام على من على جانبيه من الملائكة، وكل منهم ينوي بالتسليمة الأولى الخروج من الصلاة أيضاً إن لم نوجبها. فقوله في الكتاب: (مرتين) ينبغي أن يعلم بالميم؛ لأن المنقول عن مالك أن الاختيار للإمام والمنفرد الاقتصار على تسيلمة واحدة، وأما المأموم فيسلم تسليمتين، ويروي عنه استحباب الاَقتصار على التسليمة الواحدة مطلقاً. وقال أحمد في أصح الروايتين: التسليمتان جميعاً واجبتان مطلقاً، فيجوز أن يعلم قوله: (مرتين) بالألف؛ لأن عنده ليس ذلك من حد الكمال، ويجوز أن يعلم به قوله: (وأقله السلام عليكم) أيضاً. ¬
وقوله: (بحيث يرى خداه) أراد به المعنى الثاني الصحيح على ما صرح به في "الوسيط"، فليكن مرقوماً بالواو للوجه الأول. قال الغزالي: خَاتمَةٌ: لاَ تَرْتيبَ فِي قَضَاءِ الفَوَائِتِ، لَكِنَّ الأَحَبَّ تَقْدِيمُ الفَائِتَةَ عَلَى المُؤَدَّاة إِلاَّ إِذَا ضَاقَ وَقْتُ الأَدَاءِ، فَإِنْ تَذَكَّرَ فَائِتَةٌ وَهُوَ فِي المُؤَدَّاةِ أَتَمَّ الَّتِي هُوَ فِيهَا ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالقَضَاءِ. قال الرافعي: إذا فاتت الفريضة وجب قضاؤها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَليُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا" (¬1). أمر المعذور بالقضاء، ويلزم مثله في حق غير المعذور بطريق الأولى، وينبغي أن يقضي على الفور؛ محافظةً على الصلاة وتبرئة الذمة، وهل يجب ذلك؟ فيه كلام أخرناه إلى كتاب الحج؛ لأن صاحب الكتاب أورد المسألة ثم. وإذا قضى فائتة الليل بالليل جهر فيها، وإن قضى فائتة النهار بالنهار لم يجهر فيها، وإن قضى فائتة الليل بالنهار أو بالعكس؟ فالاعتبار بوقت القضاء في أصح الوجهين، وبوقت الأداء في الثاني، وإذا فاتته صلاة فالمستحب في قضائها الترتيب؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاتته أربع صلوات يوم الخندق، فقضاها على الترتيب (¬2)، ولا يستحق في قضائها الترتيب، وكذا لا يستحق الترتيب بين الفائتة وصلاة الوقت، خلافاً لمالك وأبي حنيفة وأحمد: لنا أنها عبادات مستقلة، والترتيب فيها من توابع الوقت وضروراته، فلا يبقى معتبراً في القضاء، كصيام أيام رمضان، ولنفصل المذاهب فيه: أما عندنا: فيجوز تقديم الفائتة المؤخرة على المقدمة، وتأخير المقدمة، ولو دخل عليه وقت فريضة، وتذكر فائتة نظر، إن كان وقت الحاضرة واسعاً فالمستحب له أن يبدأ بالفائتة، ولو عكس صحتا. وإن كان الوقت ضيقًا -بحيث لو بدأ بالفائتة لفاتته الحاضرة-، فيجب أن يبدأ بالحاضرة كيلا تفوت، ولو عكس صحتا أيضاً، وإن أساء ولو أنه تذكر الفائتة بعد شروعه في صلاة الوقت - أتمها، سواء كان الوقت واسعاً أو ضيقًا، ثم يقضي الفائتة، ويستحب أن يعيد صلاة الوقت بعدها، ولا تبطل بتذكر الفائتة الصلاة التي هو فيها، وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلاةً فَذَكَرَهَا، وَهُوَ فِي صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ، فَلْيَبْدَأْ بِالَّتِي هُوَ فِيهَا، فَإذَا فَرَغَ مِنْهَا صَلَّى الَّتِي نَسِيَ" (¬3). وقال أبو حنيفة: يجب الترتيب في قضاء الفوائت ما لم يدخل في حد التكرار، ¬
[بأن لا يزيد على صلوات يوم وليلة] (1)، فإن زادت جاز التنكيث، [وكذا لو كان عليه فائتة ودخل وقت الحاضرة، إن دخلتا مع ما بينهما في حد التكرار] (1) لم يجب إعادة الترتيب، إلا وجب الترتيب ولم يجز تقديم الحاضرة مع تذكر الفائتة، إلا أن يخشى فوات الحاضرة، فله تقديمها، وإن تذكرها في خلال صلاة الوقت بطلت إن وسع الوقت، فيقضي الفائتة ثم يعيد صلاة الوقت، وإن كان الوقت ضيقاً فلا تبطل، وإن تذكرها بعد ما فرغ من صلاة الوقت، فقد مضت على الصحة، ويشتغل بقضاء الفائتة. ومذهب مالك يقرب من هذا، لكن نقل عنه أنه يستحب إذا تذكر الفائتة في خلال الحاضرة، أن يتمها، ثم يقضي الفائتة، ثم يعيد الحاضرة؛ ونقل أيضاً أنه إذا تذكرها بعد الفراغ من الحاضرة، فعليه قضاء الفائتة، وإعادة الحاضرة، ولا يجعل النسيان عذراً في سقوط الترتيب. وقال أحمد: يجب الترتيب في قضاء الفوائت وإن كثرت، حتى لو تذكر فائتة، ولم يعدها حتى طالت المدة، وهو يأتي بصلاة الوقت، فعليه قضاء تلك الفائتة، وإعادة جميع ما صلى بعدها. قال: ولو تذكر فائتة، وهو في الحاضرة، يجب عليه إتمامها، وقضاء الفائتة، وإعادة الحاضرة. إذا عرفت ذلك لم يخف عليك إعلام قوله: (لا ترتيب في قضاء الفوائت) بعلامتهم جميعاً، وكذا إعلام قوله: (أتم التي هو فيها) بالحاء؛ لأنها تبطل عنده؛ وبالميم؛ لأنا نعني بقولنا: (أتم)، أنه يجب عليه الإتمام، ومالك لا يوجبه، ولا حاجة إلى إعلامه بالألف. وقوله: (لكن الأحب تقديم الفائتة على المؤداة، إلا إذا ضاق وقت الأداء) أي فيجب تقديم المؤداة، ولا يجوز تقديم الفائتة، وليس الغرض مجرد سلب الأحبية. واعلم أن هذه المسائل لا اختصاص لها بباب صفة الصلاة، لكن طرفاً منها مذكور في "المختصر" في أواخر هذا الباب، فتبرك المصنف بترتيب المزني -رحمه الله- أو الشافعي -رضي الله عنه- وجعلها خاتمة الباب. تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني، وأوله: الباب الخامس من كتاب الصلاة: "في شرائط الصلاة"
فهرس محتويات الجزء الأول من العزيز شرح الوجيز
العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير تأليف الإمام أبي القاسم عبدالكريم بن محمد بن عبد الكريم الرافعي القزويني الشافعي المتوفي سنة 623 هـ تحقيق وتعليق الشيخ على محمد معوض ... الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الجزء الثاني يحتوي على الكتب التالية: تتمة الصلاة - صلاة الجماعة - صلاة المسافرين - صلاة الجمعة صلاة الخوف - صلاة العيدين - صلاة الخسوف - صلاة الاستسقاء صلاة الجنائز - الزكاة دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
جميع الحقوق محفوظة جميع حقوق الملكية الادبية والفنية محفوظة لدار الكتب العلميه بيروت - لبنان ويحظر طبع أو تصوير أو ترجمة أو إعادة تنضيد الكتاب كاملا أو مجزأ أو تسجيله على أشرطة كاسيت أو إدخاله على الكمبيوتر أو برمجته على اسطوانات ضوئية إلا بموافقة الناشر خطياً الطبعة الأولى 1417 هـ - 1997 م دار الكتب العلمية بيروت - لبنان العنوان: رمل الظريف، شارع البحتري، بناية ملكارت تلفون وفاكس: 364398 - 366135 - 602132 (9611). صندوق بريد: 9424 - 11 بيروت - لبنان
الباب الخامس في شرائط الصلاة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ البَابُ الخَامِسُ في شَرَائِطِ الصَلاَةِ قال الغزالي: وَهِيَ سِتَّةٌ: الأوَّلُ الطَّهَارَةُ، عَنِ الحَدَثِ فَلَوْ أَحْدَثَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا بَطُلَتْ صَلاتُهُ، وَلَوْ سَبَقَهُ الحَدَثُ بَطُلَتْ (ح) عَلَى الجَدِيدِ، وَعَلَى القَدِيمِ يتَوَضَّأُ وَيَبْنِي بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَتَكَّلَمَ وَلاَ يُحْدِثَ عَمْداً. قال الرافعي: ترجم الباب بشروط الصلاة، ولم يرد جميع شروطها؛ لأن منها (¬1) الاستقبال، وقد سبق له باب منفرد. ومنها: إيقاع الصَّلاةِ بعد العِلْم بدخول وقتها، أو بعد غلبة الظن به، وقد صار ذلك مذكوراً في باب المواقيت، ولكن الغرض هاهنا الكلام في ستة شروط سوى ما سبق. أحدها: طهارة الحدث، وقد تبين في كتاب الطهارة أنها كيف تحصل، فلو لم يكن عند الشروع في الصلاة متطهراً لم تنعقد صلاته بحال، سواء كان عامداً أو ساهياً، ولو شرع فيها وهو متطهر، ثم أحدث، نظر إن أحدث باختياره بطلت صلاته، لأنه قد بطلت طهارته، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ صَلاَةَ إِلاَّ بِطَهَارَةٍ" (¬2) ولا فرق بين أن يكون ذاكرًا للصلاة، أو ناسياً لها، وهو المراد من قوله في الكتاب: (فلو أحدث عمداً أو سهْواً بَطُلَتْ صَلاتُه) وإن أحدث بغير اختياره؛ كما لو سبقه الحدث فلا خلاف في بطلان طهارته، وهل تبطل صلاته؟ فيه قولان: الجديد: أنها تبطل؛ لأنه لا صلاة إلا يطهارةِ، ولما روي عن عليّ بْنِ أَبي طَالِبٍ، قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَنْصرِفْ، وَلْيَتَوَضَّأ، ¬
وَلْيُعِد الصَّلاَةَ" (¬1) وبهذا قال أَحْمَدُ، ويروى عن مالك أيضاً. والقديم: وبه قال أبو حنيفة، أنها لا تبطل؛ بل يتوضأ، ويبنى على صلاته، وهو أشهر الروايتين عن مالك، لِمَا رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ أَوْ أَمْذَى فِي صَلاَتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ، وَلْيَتَوضَّأ، وَلَيَبْنِ عَلَى صَلاَتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ" (¬2)، وليس المراد ما إذا فعل ذلك باختياره بالإجماع، فيتعين السبق مرادًا [فإذا] (¬3) فرعنا على القديم، فلا فرق بين الحدث الأصغر والأكبر، كما إذا غلب عليه النوم في صلاته فاحتلم، فإنه يغتسل ويبني. وقال أبو جنيفة: تبطل صلاته هاهنا، وكيف يبني؟ أيعود إلى الركن الذي سبقه الحدث فيه أم يشتغل بما بعده؟ قال الصيدلاني: لو سبقه الحدث في الركوع فيعود إلى الركوع لا يجزئه غيره. قال: ووافقنا أبو حنيفة فيه، وفصل إمام الحرمين فقال: إن سبقه الحدث قبل أن يطمئن في ركوعه فلا بد من العود إليه، وإن كان بعد أن يطمئن فالظاهر أنه لا يعود إليه؛ لأن ركوعه قد تم في الطهارة، وهذا التفصيل هو الذي أورده المصنف في "الوسيط"؛ فيجوز أن يجري كلام الصيدلاني على إطلاقه، ويقال: لا بد من العود إليه، وإن اطمأن قبل الحدث لينتقل منه إلى الركن الذي بعده فإن الانتقال من الركن إلى الركن واجب، وقد قدمنا له نظائر. ويجب على المصلي إذا سبقه الحدث وأراد أن يتوضأ ويبني أن يسعى في تقريب الزمان، وتقليل الأفعال بحسب الإمكان، فليس له أن يعود إلى الموضع الذي كان يصلي فيه بعد ما تطهر إن كان يقدر على الصلاة في موضع أقرب منه إلا إذا كان إماماً لم يستخلف، أو مأموماً يبغي فضيلة الجماعة، فهما معذوران في العود إليه، ذكره في "التتمة" وما لا يستغنى عنه من السعي إلى الماء والاستسقاء وما أشبه ذلك، فلا بأس به، ولا يؤمر بالعود والبدار الخارج عن الاقتصاد، ويشترط أن لا يتكلم على ما ورد في الخبر إلا إذا احتاج إليه في تَحْصِيل الْمَاء، وهل يشترط أن يمتنع عن أسْبَابِ الحَدَثْ عَمْدًا إلى أن يتوضأ؟ حكى أصحابنا العراقيون وغيرهم عن نص الشافعي -رضي الله عنه ¬
- تفريعاً على القديم أنه لو سَبَقَهُ البَوْل فخرج واسْتَتَّم الباقي لم يضر ذلك: لأن طهارته [فيها] (¬1) قد بطلت بما سبق، ولم تتأثر الصَّلاة به، فالبول بعده يَطْرَأ على طهارةٍ باطلةٍ فلا يؤثر. وقال إمام الحرمين: تبطل صلاته بما فعله إذا أمكنه التماسك؛ لأن الفعل الكثير يبطل صلاته إذا كان مستغنىً عنه، فكذلك الحدث إذا كان مختاراً فيه، وهذا هو الذي أورده في الكتاب، فقال: ولا يحدث عمداً، والذي أورده الجمهور هو الأول، ونقل صاحب "البيان" هذه الصورة وحكمهما عن النص، قال: واختلفوا في المعنى، فمنهم من علل بحاجته إلى إخراج البقية، ومنهم من علل بأن الطهارة قد بطلت بالقدر الذي سبقه فلا أثر لما بعده، فعلى الأول لا يجوز أن يحدث حدثاً آخر مستأنفاً، وعلى الثاني يجوز، ولا يخفى أن جميع ما ذكرناه في "طهارة الرفاهية" فأما صاحب طهارة الضرورة كالمستحاضة فلا أثر لحدثه المتجدد، لا عند الشروع، ولا في أثناء الصلاة. قال الغزالي: وَيَجْرِي هَذَا القَوْلُ في دَفْعِ كُلِّ مُنَاقِضٍ لاَ تَقْصِيرَ مِنْهُ فِيهِ كَمَا إِذَا انْحَلَّ إِزَارُهُ فَرَدَّهُ، وَكَمَا لَوْ وقع عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ يَابِسَةٌ فَدَفَعَهَا فِي الحَالِ، وَانْقِضَاءُ مُدَّةِ المَسْحِ مَنْسُوبٌ إلَى تَقْصِيرِهِ، وَفِي تَخَرُّقِ الخُفِّ تَرَدُّدٌ، لِتَقْصِيرِهِ بِالذُّهُولِ عَنْهُ. قال الرافعي: ما سوى الحدث من الأسباب المناقضة للصلاة إذا طرأت في الصلاة باختياره بَطلت صلاتُه، كما لو أحدث باختياره، وكل ما يبطل الصَّلاة إذا طَرأ باختياره يبطلها أيضاً إذا طَرأ لا باختياره، لكن إذا كان منتسباً فيه إلى تقصير؛ كما لو كان ماسحاً على الخف، فانقضت مدة مسحه في أثناء الصلاة، واحتاج في ذلك إلى غسل القدمين، أو استئناف الوضوء فتبطل صلاتُه، ولا يخرج على قول سبق الحدثِ، لأنه مُقَصِّرٌ بإيقاع الصَّلاة في الوقت الذي تنقضي مدّة المَسْح في أثنائها، فأشبه المختار في الحدث. وقضية هذا أن يقال: لو شرع في الصَّلاَةِ على مُدَافَعَةِ الأَخْبَثَيْنِ وهو يعلم أنه لا تبقى له قوة التماسك في أثنائها، ووقع ما علمه تبطل صَلاتُه لا محالة، ولا يخرج على القولين، ولو تَخَّرَق خُفَّ الماسِحِ في صلاته، وظهر شىِء من محل الفرض، فوجهان: أحدهما: أنه تبطل الصَّلاة بلا خلافٍ، لأنه مقصر من حيث ذَهَل عن الخُفّ، ولم يتعهده ليعرف قوته وضعفه، فأشبه انقضاء المدة. وأظهرهما: أنه على قَولَيْ سَبْقِ الحدث؛ لأن الإنسان لا يتعهد الخف كل ساعة، ¬
فلا يعد مقصراً بترك البَحْثِ عنه، وقد يفجأ الخرق لبعض العوارض أيضاً؛ أما إذَا حدث مناقِضٌ في الصلاة لا باختياره ولا تقصير منه فإن أمكن إزالته على الاتصال بحدوثه؛ كما لو انكشفت عورتُه فرد الثوب في الحال، أو وقعت عليه نجاسة يابسة فنفض ثوبه وسقطت في الحال، فلا يقدح في صحة الصلاة، وكذا لو ألقى الثوب الذي وقعت عليه النجاسة في الحال صحت صَلاتُه، ولا يجوز أن ينحيها بيده أو كمه، هكذا نقل صاحب "التهذيب" وغيره، وإن احتاج في الدفع إلى زمان يتخلل بين عروضه واندفاعه، ففيه القولان المذكوران في سبق الحدث. وقوله: (يجري هذا القول في دفع كل مناقض لا تقصير منه فيه) -يعني- به هذه الحالة، وإن كان اللفظ مطلقاً، فأما إذا دفعه في الحال، فالصلاة صحيحة بلا خلاف. ومثال ما يحتاج في دفعه إلى زمان: ما إذا تنجس ثوبه، أو بدنه واحتاج إلى الغسل، أو طيرت الريح ثوبه وأبعدته. ولو أصاب المصلي جرح، وخرج منه دم على سبيل الدَّفْقِ، ولم يلوث البَشرة فقد قال في "التتمة": لا تبطل صلاته بحال، لأن المنفصل منه غير مضافٍ إليه، ولعل هذا فيما إذا لم يمكن غسل موضع الانفتاق، أو كان ما أصابه قليلاً، وقلنا: القليل من الدّم معفوٌّ عنه كما سيأتي، وإلا فقد صار ذلك من الطَّاهِرِ فيجب غسله. قال الغزالي: الشّرْطُ الثَّانِي: طَهَارَةُ الخَبَثِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي الثَّوْبَ وَالبدَنِ وَالمَكَانِ (وَأَمَّا الثَّوْبُ) فإِنْ أَصَابَ أَحَدَ كُمَّيهِ نَجَاسَةٌ فَأدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى أَحَدِهِمَا فَغَسَلَهُ لَمْ تَصِحَّ صَلاتُهُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ استَيقَنَ نَجَاسَةَ الثَّوْبِ وَلَمْ يْسَتَيقِنْ طَهَارَتَهُ. قال الرافعي: النجاسة قسمان: أحدهما: النجاسة التي تقع في مظنة العذر والعفو. والثاني: التي تقع فيها. أما الأول: فيجب الاحتراز عنه في ثلاثة أشياء: في الثوب، والبدن، والمكان، ويجوز أن يعلم قوله: (فهي واجبة) بالميم؛ لأن أصحابنا نقلوا عن مالك أن إزالة النجاسة عنده لا تجب للصلاة، وإنما تستحب، ويدل على وجوب طهارة الثَّوْبِ قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (¬1). وقد قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لأسماء -رضي الله عنها- "حِتِّيهِ، ثُمَّ [اقْرِضِيهِ] (¬2) ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالمَاءِ، ثُمَّ صَلِّي فِيهِ" (¬3) فإن أصابه نجاسة، وعرف موضعها منه، ¬
فطريق إزالتها بالغسل كما سبق، ولو قطع موضع النجاسة حصل الغرض، ويلزمه ذلك إذا تعذر الغسل، وأمكن ستر العورة بالطاهر منه، ولم ينقص من قيمته بالقطع أكثر من أجرة مثل الثوب لو استأجره، وإن لم يعرف موضع النجاسة من الثوب، وكان يجوزه في كل جزء منه، وجب غسل جميعه وكذلك في البدن، ولا يجوز الاقتصار على غسل البعض لا بالتحري، ولا دونه، وإن أفاد ذلك الشك في نجاسة الباقي؛ لأن حصول النجاسة في هذا الثوب متيقن، واليقين لا يدفع بالشَّكِّ. ولو شَقَّه نِصْفيْن لم يجز التَحَرِّي فيهما؛ لجواز أن يكون الشَّقُّ في موضع النجاسة فيكونا نَجِسَيْنِ، ولو أصاب شيء رطب طرفاً من هذا الثَّوب لا نحكم بنجاسته؛ لأنا لا نتيقن نجاسة موضع الإصابة، ولو غسل أحد نصفيه، ثم غسل النصف الثاني، فهو كما لو تيقن نجاسة الكُلِّ، وغسله هكذا، وفيه وجهان: أحدهما: أنه لا يطهر حتى يغسل الكل دفعة واحدة. وأظهرهما: أنه إن غسل مع النصف الثاني القدر الذي يجاوره من الأول طهر الكل، وإن لم يغسل إلا النصف في الدفعة الثانية طهر الطرفان، وبقي المنتصف نجساً في صورة اليقين، ونجساً في الصورة الأولى. ولو نجس واحد من موضعين منحصرين، أو مواضع وأشكل عليه؛ كما لو تنجس أحد الكُمَّيْنِ فأدى اجتهاده إلى نجاسة أحدهما فغسله وصلّى فيه، فهذه مسألة الكتاب، وفي صحة صلاته وجهان: أحدهما: وينسب إلى ابن سريجَ؛ أنها تَصِحّ، لحصول غلبة الظَّنِّ بالطَّهَارة. وأصحهما عند معظم الأصحاب: أنها لا تصح؛ لأن الثوب واحدٌ، وقد تيقن نجاسَتَه، ولم يتيقن الطَّهارة، فيستصحب اليقين، وصار كما لو خفي موضع النجاسة ولم تنحصر في بعض المواضع، فلو فصل أحد الكُمَّيْنِ عن الثوب واجتهد فيهما فهما كالثَّوْبين إن غسل ما ظنه نجسًا وصلى فيه جاز، وإن صلَّى فيما ظنه طاهراً جاز أيضاً؛ لأنه لم يستيقن نجاسته أصلاً، فاجتهاده متأيد باستصحاب أصل الطهارة، بخلاف ما قبل الفصل. ويجري الوجهان فيما إذا نجس إحدى يديه، أو إحدى أصابعه، وغسل النجس عنده وصلى؛ وكذلك فيما لو اجتهد في ثوبين، وغسل النجس عنده، وصلى فيهما معاً؛ لأنه استيقن النجاسة في المجموع ولم يستيقن الطهارة، لكن الأظهر هاهنا الجواز، وفرقوا بأن محل الاجتهاد الاشتباه بين الشيئين، فأما إذا اشتبه عليه أجزاء الشيء الواحد، فلا يؤمر فيه بالاجتهادِ، ولهذا لا يجتهد إذا خفي عليه موضع النجاسة، ولم ينحصر في
موضعين، أو مواضع مخصوصة، وفإذا كان كذلك، فتأثير الاجتهاد فيه أضعف. ولو غسل إحدى الكُمَّين بالاجتهاد وفصله عن الباقي فجواز الصَّلاة فيما لم يغسله وحده على الخلاف [وإذا غسل أحد الثوبين بالاجتهاد تجوز الصلاة في كُلِّ واحدٍ منهما وحده بلا خلاف] (¬1). ولو اشتبه عليه ثوبان طاهر ونجس، أو أثواب بعضها طاهر وبعضها نَجِس، فيجتهد كما سبق في الأواني، فإن لم يغلب على ظنه شيء، وأمكنه غسل واحد ليستصحبه في صلاته لزمه ذلك، وإلا فهو كما لو لم يجد إلا ثوباً نجساً، وسيأتي حكمه في الشَّرْطِ الثَّالِثِ (¬2)، ولو غلب على ظنه طهارة أحد الثَّوْبَيْن، واستصحبه، ثم تغير اجتهاده عمل بمقتضى الاجتهاد الثاني في أظهر الوجهين، كما في القبلة (¬3)، بخلاف الأواني، حيث لا يعمل فيها بالاجتهاد الثاني على النص لما سبق أنه يلزم منه نقض الاجتهاد بالاجتهاد. قال الغزالي: وَلَوْ أَلْقَى طَرَفَ عِمَامَتِهِ عَلَى نَجَاسَةٍ بَطُلَتْ صَلاتُهُ وَإِنْ كَانَ لاَ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ، وَلَو قَبَضَ طَرَفَ حَبْلٍ مُلْقى عَلَى نَجَاسةٍ بَطُلَتْ صَلاتُهُ إِنْ كَانَ المُلاَقِي يَتَحرَّكُ بِحَرَكَتِهِ وإلاَّ فَوَجْهَانِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى سَاجُورِ كَلْبٍ أَوْ عُنُقِ حِمَارٍ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ فَوَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلَى بِالجَوَازِ، وَلَوْ كَانَ رَأسُ الحَبْلِ تَحْتَ رِجْلِهِ فَلاَ بَأْسَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ حَامِلاً. قال الرافعي: ما لبسه المصلي يجب أن يكون طَاهِراً، سواء كان يتحرك بحركته في قيامه وقعوده، أو كان لا يتحرك بعض أطرافه كذنابة العَمَامَةِ، وكما لا يجوز أن يكون شيء من ملبوسه نجساً لا يجوز أن يكون ملاقياً للنجاسة، فلو ألقى طرف عمامته على أرض نجسة، أو عين نجسة بطلت صَلاتُهُ، وإن لم يتحرك بحركته؛ لأنها ملبوسة له أو معدودة من ثيابه، فصار كما لو لبس قميصاً طويلاً لا يرتفع زيله بارتفاعه، وكان نجساً لا تصح صلاته، وذكر الصيدلاني وآخرون أن عند أبي حنيفة: إن لم يتحرك طرف العمامة الملقى على النجاسة بحركته جازت صلاته، فليكن قوله: (وإن كان لا يتحرك بحركته) معلماً بالحاء لذلك، ولو قبض على طرف حبل، أو ثوب وطرفه الآخر ¬
نجس، أو ملقى على نجاسة، فإن كان يتحرك ذلك الطرف بارتفاعه وانخفاضه بطلت صلاته؛ لأنه حامل للشيء النجس، أو لما هو متصل بالنجاسة [وإن كان لا يتحرك فوجهان: أحدهما: تبطل صلاته كما في العَمَامة، لأنه حامل لشيء متصل بالنجاسة] (¬1). والثاني: أنها لا تبطل، لأن الطَّرف الملاقي للنجاسة ليس محمولاً له، فإنه لا يرتفع بارتفاعه، بخلاف العمامة فإنها منسوبة إليه لبساً، والمصلي مأخوذ بطهارة ثيابه، وكلام الأكثرين يدل على أن الوجه الأول أرجح عندهم، ولو كان طرف الحبل ملقى على ساجور (¬2) كلب، أو مشدوداً به، فوجهان مرتبان على الصورة السابقة، وهذه الصورة أولى بصحة الصلاة، لأن بين الكلب وطرف الحبل واسطة، وهي الساجور، فيكون أبعد عن النجاسة. ولو كان طرف الحبل على الكلب فهو والصورة السابقة سواء. ولو كان طرف الحبل على موضع طاهر من حمار، وعليه نجاسة في موضع آخر، فالخلاف فيه مرتب، وهذه الصورة أولى بالصحة من سورة السَّاجُور؛ لأن الساجور قد يعد من توابع الحبل وأجزائه، بخلاف الحمار، هكذا رتب السائل إمام الحرمين وصاحب الكتاب في "الوسيط" وأشار هاهنا إلى معظم الغرض وإذا تركت الترتيب، وقلت: أخذ بطرف حبل طرفه الآخر نجس، أو متصل بنجاسة حصل في الجواب ثلاثة أوجه: أحدها: تصح. والثاني: لا. والثالث: إن كان الطرف الآخر نجساً أو متصلاً بعين النجاسة كما لو كان في عنق كلب فلا تصح، وإن كان متصلاً بشيء طاهر، وذلك الطاهر متصل بنجاسة، كما لو كان مشدوداً في ساجور، أو خرقة وهما في عنق كلب أو عنق حمار وعليه حِمْلٌ نَجِسٌ فلا بأس، وهكذا أورد الخلاف الصيدلاني، وتابعه صاحب "التهذيب". ثم اعرف هاهنا أموراً. أحدها: أن فرض صاحب الكتاب الصورة فيما إذا قبض بيده على طرف الحبل، ليس لتخصيص الحكم بالقبض، بل لو شده في يده، أو رجله، أو في وسطه كان كما ¬
لو قبض عليه، على أن صاحب "التهذيب" جعل صورة الشد أولى بالمنع، حيث ألحقها بمسألة العمامة، ولم يحك فيها خلافاً، وفي القبض باليد روى الوجوه الثلاثة. الثاني: الفرق بين أن يكون الطرف الملقى على النجاسة يتحرك بحركته، وبين أن لا يتحرك في الجزم بالمَنْعِ في الحالة الأولى، وتخصيص الخلاف بالحالة الثانية لم أره إلا للمصنف، وإمام الحرمَين، ومن تابعهما، وعامة الأصحاب أرسلوا الكلام إرسالاً، سواء منهم من جزم بالمنع، ومن أثبت الخلاف. الثالث: أطلق الكلام في الكلب، وهكذا فعل الشيخ أبو محمد، والصيدلاني، وابن الصباغ، وفصل الأكثرون وقالوا: إن كان الكلب صغيراً، أو ميتاً؛ وطرف الحبل مشدود عليه بطلت صلاته بلا خلاف؛ لأنه حامل للنجاسة، ويعنون به أنه لو مشى لجره، وإن كان الكلب كبيراً حياً، فأصح الوجهين: أنها تبطل أيضاً؛ لأنه حامل لشيء متصل بالنجاسة. والثاني: لا؛ لأنه يمشي باختياره، وله قوة الامتناع، وإذا كان مشدوداً في سفينة وموضع الشد طاهر، وفي السفينة نجاسة فإن كانت صغيرةً تنجر بالجر فهي كالكلب، وإن كانت كبيرةً فلا بأس، كما لو كان مشدوداً في باب دار فيها نجاسة، وحكوا وجهاً بعيداً في السفينة الكبيرة أيضاً، ويعرف من هذا الفصل صحة قولنا من قبل. إن قضية كلام الأكثرين ترجيح وجه البطلان. الرابع: قوله: (على ساجور كلب، أو عنق حمار عليه نجاسة) يفهم أن الشد ليس بشرط، بل يجري الخلاف عند حصول الاتصال والالتقاء والعراقيون من أصحابنا أطبقوا على التصوير في الشَّد، ولعل السبب فيه أنهم ينظرون إلى الانجرار عند الجر، ولا يكون ذلك إلا بتقدير الشد، ثم اتفقت الطوائف على أنه لو جعل رأس الحبل تحت رجله صحت صلاته في الصور جميعها؛ لأنه ليس حاملاً لنجاسة، ولا لما هو متصل بنجاسة، وما تحت قدمه طاهر، فأشبه ما لو صلى على بساط طرفه الآخر نجس. قال الغزالي: وَأَما البَدَنُ: فَيَجِبُ تَطْهِيُرُه كَمَا سَبَقَ في الطَّهَارَةِ، وَفِيهِ مَسْألَتَان: إِحْدَاهُمَا: إِذَا وَصَلَ عَظْمَهُ بِعَظْمٍ نَجِسٍ وَجَبَ (ح و) نَزْعُهُ وإِنْ كَانَ يَخَافُ الهَلاَكَ عَلَى المَنْصُوصِ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ مُتَعَدِّياً فِي الجَبْرِ بأن وَجَدَ عَظْماً طَاهِراً وَإِذَا لَمْ يَكْتِسِ العَظْمُ بِاللَّحْمِ فَإِنِ استَتَرَ سَقَطَ حُكْمُ النَّجَاسَةِ عَنْهُ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ النَّزْعِ لَمْ يَنْزَع عَلَى النَّصِّ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ كُلُّهُ، وَفِيهِ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ أنَّهُ لاَ يَنْزعُ عِنْدَ خَوْفِ الهَلاَكِ. قال الرافعي: "فيجب تطهيره كما سبق في الطهارة" لا اختصاص له بالبدن، بل حكم إزالة النجاسة فيه، وفي الثوب والمكان واحد، فلو ذكر هذا الكلام عند قوله:
(وهي واجبة في الثوب والبدن والمكان) لكان أحسن، إلا أن يريد به الإشارة إلى الاستنجاء أيضاً، فإن النجاسة التي تصيب البدن تنقسم إلى: ما يزال بالماء لا غير، وإلى ما يخفف بالحجر ونحوه، وهذا من خاصية البدن، ثم تكلم هاهنا في مسألتين: إحداهما: وَصَل العَظم. ومن انكسر عظم من عظامه فجبره بعظم طاهر (¬1) فلا بأس، إن جبره بعظم نجس ينبغي أن يتذكر أولاً: إن هذا يتفرع على ظاهر المذهب في نجاسة العظام، فينظر إن احتاج إلى الجبر ولم يجد عظماً طاهراً يقوم مقامه فهو معذور للضرورة، وليس عليه نزعه، وإن لم يحتج إليه، أو وجد طاهراً يقوم مقامه، فيجب عليه النزع إن كان لا يخاف الهلاك، ولا تلف عضو من أعضائه، ولا شيئاً من المحذورات المذكورة في التيمم، فإن لم يفعل أجبره السلطان عليه، ولم تصح صلاته. معه؛ لأنه حامل لنجاسة يمكنه إزالتها، وقد تعدى بحملها، ولا عبرة بالألم الذي يلحقه، ولا يخاف منه، ولا فرق بين أن يكتسي باللحم، وبين ألا يكتسي خلافاً لأبي حنيفة، حيث قال: إذا اكتسى باللحم لم يجب النزع، وإن كان لا يخاف الهلاك. لنا: أنه حامل لنجاسة أصابته من خارج، ولم تحصل في معدن النجاسة، فيلزمه الإزالة عند القدرة، كما لو كانت على ظاهر البدن، ومال إمام الحرمين إلى ما ذكره أبو حنيفة، وذكر القاضي ابن كج: أن أبا الحسين حكاه عن بعض الأصحاب، وإن خاف من النزع الهلاك أو ما في معناه ففي وجوب النزع وجهان: أحدهما: يجب؛ لتفريطه، ولو لم ينزع لكان مصلياً عمره مع النجاسة، ونحن نحتمل سفك الدم في ترك صلاة واحدة. والثاني: وهو المذهب الذي لا يجب إبقاء للروح، كما لو كان عليه نجاسة يخاف من غسلها التلف لا يجب عليه غسلها، بل يحرم وهذا في حالة الحياة، أما لو مات قبل النزع، فهل ينزع منه العظم الذي يجب نزعه في الحياة؟ فيه وجهان: أظهرهما: وهو الذي نص عليه في "المختصر"، وغيره: أنه لا ينزع؛ لأن فيه مثلة، وهتكًا لحرمة الميت، ولأن النزع في حالة الحياة إنما أمر به، محافظةً على شرائط الصلاة، فإذا مات زال التكليف، وسقط التعبد. والثاني: أنه ينزع؛ لئلا يلقى الله -تعالى- حاملاً للنجاسة، ومنهم من خصص هذا ¬
الوجه بما إذا لم يستتر باللحم، وقطع بنفي النزع بعد الموت عند استتاره، ولنعد إلى ما يتعلق بلفظ الكتاب. قوله: (وجب نزعه، وإن كان يخاف الهلاك على المنصوص)، الخلاف في وجوب النزع يرجع إلى حالة خوف الهلاك، وليس هو مختلفاً فيه على الإطلاق. وقوله: (ولكن إذا كان متعديًا في الجبر) لا يختص بقولنا: يوجب النزع عند خوف الهلاك، بل حيث وجب النزع، إما وفاقاً وهو [في] (¬1) حالة عدم الخوف، أو على أحد المذهبين في حالة الخوف، فشرطه أن يكون متعدياً في الجبر. وقوله في آخر المسألة: (فيه قول مخرج أنه لا ينزع عند خوف الهلاك) هو المقابل لقوله: هاهنا؛ (إن كان يخاف الهلاك على المنصوص) ولا تعلق له بقوله: (لم ينزع على النص)، لأنه ميت كله، وتعبيره عن الخلاف في وجوب النزع بالقولين المنصوص، والمخرج من تفرداته، وسائر الأصحاب لم يطلقوا في المسألة إلا وجهين، كما قدمنا، ورجحوا القول بعدم الوجوب، وايراده يشعر بترجيح الوجوب، ويجوز أن يقال: إنما عبر عن وجوب النزع بالمنصوص؛ لأن الشافعي -رضي الله عنه- قال في "المختصر": "ولا يصل ما انكسر من عظمه إلا بعظم ما يؤكل لحمه ذكيًا، وإن رقعه بعظم ميته، أجبره السلطان على قلعه" وهذا مطلق يتناول حالة الخوف وعدمه، ولك أن تعلم قوله: (وإن كان يخاف الهلاك) بالحاء؛ لأن الصيدلاني روى عن أبي حنيفة، أنه لا ينزع عند خوف الهلاك، سواء التحم، أو لم يلتحم، وعند الالتحام لا ينزع خيف الهلاك، أم لم يخف. وقوله: (بأن وجد عظماً طاهراً) معناه عظماً طاهراً يقوم مقام العظم النجس عند الحاجة إلى الجبر، وإلا فالتعدي لا يحصل بمجرد وجدان العظم الطاهر. وقوله: "وإذا لم يستتر العظم باللحم، فإن استتر سقط حكم نجاسته" جواب عن الوجه [الأول] (¬2) الذي ذكرنا، أن إمام الحرمين مال إليه، والظاهر عند الجمهور أنه لا فرق بين أن يستتر، أو لا يستتر، حيث أوجبنا النزع فليكن، قوله: (وإذا لم يستتر) معلماً بالواو؛ لأنه جعله مشروطًا، وكذا قوله: (سقط حكم نجاسته) وقوله: (فإن مات قبل النزع لم ينزع على النص، لعلك تقول: ما معنى قوله: (لم ينزع) معناه أنه لا يجوز النزع، أم أنه لا يجب؟. والجواب أن قضية التعليل بهتك الحرمة، أنه لا يجوز، وقضية التعليل الثاني، أنه ¬
لا يجب، وقد اختلف كلام الناقلين في الوجه المقابل له، وهو أنه ينزع، منهم من روى الوجوب، ومنهم من قال: الأولى النزع. وقوله: (لأنه ميت كله)، لفظ الشافعي -رضي الله عنه- قال في "المختصر": "فإن مات صار ميتاً كله، والله حسيبه" أي: محاسبه، فإن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه، واختلفوا في معنى قوله: (صار ميتاً) منهم من قال: أراد أنه صار نجساً كله، مثل ذلك العظم، فلا معنى لقلعه، واستخرجوا من هذا اللفظ أن له قولاً في نجاسة الآدمي بالموت [ومنهم من قال: أراد أنه سقط عنه حكم التكليف بالموت] (¬1) وكنا نأمره بالقلع لحق الصلاة، فلا حاجة إلى النزع الآن، واعلم أن مداواة الجرح بالدواء النجس، والخيط النجس كالوصل بالعظم النجس، فيجب النزع، حيث يجب نزع العظم النجس، وكذا لو شق موضعاً من بدنه، وجعل فيه دماً، وكذا لو وشم يده بالنؤورة، أو العِظْلِم (¬2) فإنه ينجس عند الغرز، وحكى عن "تعليق" الفراء أنه يزال الوشم بالعلاج، فإن لم يمكن إلا بالجرح لا يجرح، ولا إثم عليه بعد التوبة. قال الغزالي: الثَّانِيَةُ: قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: لَعَنَ الله الوَاصِلَةَ وَالمُسْتَوصِلَةَ وَالوَاشِمَةَ والمُسْتَوشِمَةَ وَالوَاشِرَةَ وَالمُسْتَوشِرَةَ (¬3)، وَعِلَّةُ تَحْرِيمِ الوَصْلِ أَنَّ الشَّعْرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَجِسًا أو شَعْرَ أجْنَبيِّ لاَ يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُبَانًا عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، فَإِنْ كَانَ شَعْرَ بَهِيمَةٍ وَلَمْ تَكُنِ المَرْأَةُ ذَاتَ زَوْجٍ فَهِيَ مُتَعَرضَةَ لِلتُّهْمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ فَهِيَ مُلَبِّسَةٌ عَلَيْهِ، وإنْ كانَ بإذْنِ الزَّوْجِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى أَقْيَسِ الوَجْهَيْنِ، وَفِي تَحْمِيرِ الوَجْنَةِ تَرَدُّدٌ فِي إلْحَاقِهِ بِالوَصْلِ. قال الرافعي: المسألة الثانية: "وصل الشَّعْرِ" والأصل فيه ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لَعَنَ اللهُ الوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوشِمَةَ، وَالْوَاشِرَةَ وَالْمُسْتَوْشِرَةَ". قال علماء العرب: الوَاصِلَة: هي التي تَصْلُ الشَّعْرُ بِشَعْرٍ آخرَ. والمستوصلة: هي التي تسأل أن يفعل بها ذلك. ¬
والوَشم: غرز ظهر الكف ونحوه بالإبرة، وأشباهه بالعِظْلِم (1) ونحوه حتى يخضر. والوَاشِمَةُ: هي التي تفعل ذلك. والمُسْتَوْشِمَة [هي] (2) التي يفعل بها. والوَاشِرَة التي تشِر الأسنان حتى يكون لها أَشَرٌ، وهو التحدد، والرِّقَةُ في طرف الأسنان، تفعله الكبيرة تشبهاً بالصغائر، ويروى [بدل] (3) "المستوشمة والمستوشرة" "المتوشمة والمتوشرة" والمعنى واحد. وإذا عرفت ذلك فاعلم أن وصل الشَّعْرِ حَرَامٌ وِفاقاً في بعض الأحوال، وخلافاً في بعضها. ثم قد يحرم لمعنى واحدٍ، وقد يجتمع له معان، وتفصيله أن الشَّعْرَ إما نجس، وإما طاهر، وهذا التقسيم مفرع على ظاهر المذهب، وهو أن الشعر قد ينجس بالموت، فأما الشعر النجس فيحرم وصله؛ لأنه لا يجوز استصحابه في الصلاة، وفي غير الصلاة يكون مستعملاً للشيء النجس العين في بدنه استعمال اتصال، وذلك حرام في أصح القولين، ومكروه في الثاني إلا عند ضرورة أو حاجة حاقة، ونظيره الادهان بالدهن النجس، ولبس جلد الميتة والكلب والخنزير، والامتشاط بمشط عاج، كل ذلك حرام على الأصح. وأما غير النجس فينقسم إلى شعر الآدمي وغيره، وهذا التقسيم مفرع على ظاهر المذهب، وهو أن شعر الآدمي لا ينجس بالموت والإبانة، فأما شعر الآدمي فيحرم وَصْلُه؛ لأن من كرامته أن لا ينتفع بشيء منه بعد مَوْتِهِ وانفصاله عنه، بل يدفن؛ وأيضاً فلأنه إن كان شعر رجل فيحرم على المرأة استصحابه والنظر إليه، وإن كان شعر امرأة فيحرم على زوجها، أو سيدها النظر إليه، وهذا بتقدير أن يكون شعر رجل أجنبي عنها، أو شعر امرأة أجنبية عن زوجها أو سيدها، وبتقدير أن يتفرع على أن العضو المبان يحرم النظر إليه، ومسه، وفيه وجهان، فإن كان شعر رجل من محارمها، أو شعر امرأة من محارم زوجها، أو لم يكن لها زوج، أو فرعنا على جواز النظر إلي العضو المبان، فلا تكاد تطرد هذه العلة الأخيرة. ويثبت التحريم بظاهر الخبر، وبالمعنى الأول، ولا فرق في تحريم الوَصْلِ بالشعر النجس، وشعر الآدمي، بين أن تكون المرأة خَلِيَّة، أو ذات زوج. وأما شعر غير الآدمي فينظر فيه إلى حال المرأة، إن لم يكن لها زوج ولا سيد فلا يجوز لها وصله للخبر، ولأنها تعرض نفسها للتُّهمَةِ، ولأنها تغر الطَّالِبَ، وذكر الشَّيْخُ أبو حامد، وطائفة: أنه يكره، ولا يحرم. الأول: أظهر، وبه قال القاضي ابن كج والأكثرون، فإن كان لها زوج، أو سيد
فلا يجوز لها الوصل بغير إذنه، لأنه تغرير له، وتلبيس عليه، وإن وصلت بإذنه فوجهان: أحدهما: المنع أيضاً؛ العموم الخبر. وأقيسهما وأظهرهما: الجواز كسائر وجوه الزينة المحببة إلى الزوج. وقال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ ومتبعوه: لا يحرم، ولا يكره إذا كان لها زوج، ولم يفرقوا بين أن يأذن، أو لا يأذن، وسوي ابن كج بين حالتي الإذن وعدمه، وحَكَى في الجواز وجهين فيهما، هذا حاصل المسألة. وقوله: (وعلة تحريم الوصل) يوهم الجزم بالتحريم على الإطلاق، ورد الكلام إلى العلة؛ لكنه لم يرد ذلك؛ ألا تراه يقول آخراً: (لم يحرم على أقيس الوجهين). وإنما أراد أن يبين مواضع التحريم؛ خلافاً ووفاقاً مع التعرض للمعاني الموجبة للتحريم، فقوله: (إما أن يكون نجساً)، أي: فيحرم. وهو إشارة إلى قسم النَّجِسِ من الشُّعْورِ، وغير النجس على ما ذكرناه في شعر الآدمي. وقوله: (أو شعر أجنبي) إشارة إليه، وأما شعر غيره، وهو قوله: (أو شعر بهيمة) وإنما قال: (أو شعر أجنبي)، لأنه أراد التعليل بالمعنى الثاني على ما سبق، دون المعنى الأول، وهو كرامة الآدمي، والشَّعْرُ الموصول مبان فبين أن في تحريم النظر إلى العضو المبان وجهين؛ ليعرف أن التحريم معللاً بهذا المعنى إنما يستمر على قولنا بتحريم النظر. واعلم أنه نص في هذا الموضع على وجهين في تحريم النظر، والذي أجاب به في أول كتاب النكاح، إنما هو التحريم، حيث قال: (والعضو المبان كالمتصل)، وسنشرح المسألة ثم -إن شاء الله تعالى-. وقوله: (فهي متعرضة للتهمة)، أي: فيحرم عليها، وكذا قوله: (فهي ملبسة عليه)، وكأنه حذف ذكر التحريم اكتفاء بقوله أولاً: (وعلة تحريم الوصل) ولا بأس لو أعلمت قوله: (إما أن يكون نجساً) بالحاء، والواو؛ لأن عنده الشَّعْر لا يكون نجساً أصلاً، وهو قول لنا، وأما قوله: (وفي تحمير الوجنة (¬1) تردد) فاعلم أن الصيدلاني، والقاضي الحسين ذكرا في طريقهما أن تحمير الوجنة كوصل الشَّعْرِ الطاهر، فلا يجوز إن كانت المرأة خلية، ولا إذا كانت ذات زوج ولم يأذن لها، وإن فعلته بإذنه ففيه وجهان، واستبعد إمام الحرمين -قدس الله روحه- الخلاف فيما إذا كان بإذن الزَّوْجِ، وخصه بالوَصْل؛ لأنه ورد فيه النَّهْيُ، وفيه تغيير للخِلْقَة، وليس في التحْمِير نَهْيً، وَلا ¬
تغيير ظاهر، إذا الوجنة قد تحمر لعارض غضب، أو فرح، فعلى هذا لا [يلتحق تحمير] (¬1) الوجنة بوصل الشَّعْرِ الطاهر على الإطلاق، بل هو جائز عند الإذن بلا خلاف، وعلى الأول يلتحق به مطلقاً، فهذا تنزيل التردد المذكور في الكتاب ومعناه؛ ونسب في "الوسيط" التردد في المسألة إلى الصيدلاني، وليس في كلامه ما يقتضي ذلك، ولا حكاه إمام الحرمين عنه، والخضاب بالسواد، وتطريف الأصابع ألحقوه بالتحمير. قال في "النهاية": ويقرب منه تجعيد الشَّعْرِ، ولا بأس بتصفيف الطرة (¬2) وتسوية الأصداغ، وأطلقوا القول باستحباب الخضاب بالحناء لها بكل حال، وقد تنازع معنى التعرض للتهمة في بعض هذه الأحوال (¬3) إذا كانت خَلِيَّة، فليكن الأمر على تفصيلٍ سنحكيه في فصل سُنَنِ الإِحْرَامِ -إن شاء الله تعالى-. وأما الوشم المذكور في الخبر فلا يجوز بحال، والوشر كوصل الشعر الظاهر. قال الغزالي: (وَأَمَّا المَكَانُ) فَلْيَكُن كُلُّ مَا يُمَاسُّ بَدَنَهُ طَاهِراً (ح) وَمَا لاَ يُمَاسُّ فَلاَ بَأْسَ بِنَجَاسَتِهِ إلاَّ مَا يُحَاذِي صَدْرَهُ فِي السُّجُودِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَنَّهُ كالْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ. قال الرافعي: يجب أن يكون ما يلاقي بدن المصلي وثيابه من موضع الصلاة طاهراً، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: لا يشترط إلا طهارة موضع القدمين، وفي رواية: طهارة موضع القدمين والجبهة، ولا يضر نجاسة ما عداه إلا أن يتحرك بحركته. لنا النهي عن الصلاة في المزبَلة والمجزرة، كما سيأتي، ولا سبب له إلا نجاستهما، وكما يعتبر ذلك في جهة السفل، يعتبر في جهة العلُوّ والجوانب المحيطة به، حتى لو وقف بحيث يحتك في صلاته بجدار نَجِسٍ [أو سقف نجس] (¬4) بطلت صلاته، ولو صلى على بُسَاطٍ تحته نجاسة، أو على طرف آخر منه نجاسة، أو على سرير قوائمه على نجاسة لم يضر، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال [إذا كان] (¬5) يتحرك ذلك الموضع بحركته لم يجز، وإذا نجس أحد البيتين تحرى كما في الثياب والأواني، وإذا اشتبه مكان من بيت أو بساط فوجهان: أصحهما: أنه لا يجزئ؛ كما لو خفي موضع النجاسة من الثوب الواحد. ¬
والثاني: نعم، كما لو اشتبه ذلك في الصحراء يتحرى ويصلي، ولو كان ما يلاقي بدنه وثيابه من موضع الصلاة طاهراً، لكن كان ما يحاذي صدره، أو بطنه، أو شيئاً من بدنه في السجود نجساً فهل تصح صلاته؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن القدر الذي يوازيه منسوب إليه بكونه مكان صلاته، فيعتبر طهارته كقميصه الفوقاني الذي لا يلاقي بدنه، لما كان منسوباً إليه نعتبر طهارته. وأصحهما: أن صلاته صحيحة؛ لأنه ليس حاملاً للنجاسة، ولا ملاقياً لها، فصار كما لو صَلَّى على بُسَاطٍ أحد طرفيه نجس تصح صلاته، وإن عد ذلك مصلاة ونسب إليه. وقوله: (فليكن كل ما يماس بدنه طاهراً) ينبغي أن يعلم بالحاء، وكذا قوله: (فلا بأس بنجاسته) لما ذكرناه، والمراد ما يماس بدنه وثيابه. وقوله: (وما لا يماس) أي: لا يماسهما، وفي لفظ المماسة إشارة إلى أنه لو كان تحت البساط الذي يصلي عليه نجاسة لم يضر، وإن كان يصلي على نجاسة؛ لأنه لا مماسة، ولو بسط على النجاسة ثوباً مهلهل النسيج وصلى عليه فإن كان يحصل المماسة والالتقاء في الفُرَج لم تصح الصلاة، وإن كان لا يحصل الالتقاء لكن النجاسة تحاذي من الفُرَجِ يده الموضوعة عليه في السجود أو سائر بدنه، فهذا على الوجهين السابقين في نجاسة ما يحاذي صدره. قال الغزالي: وَقَد نَهَىَ عليه السلام عنِ الصَّلاَةِ فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ: المَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَبَطْنِ الوَادِي وَالحَمَّامِ وَظَهْرِ الكَعْبَةِ وَأَعْطَانِ الإبِلِ (¬1)، أَمَّا مَسْلَخُ الحَمَّامِ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ، وَأَعْطَانُ الإِبِلِ مُجْتَمَعُهَا عِنْدَ الصَّدْرِ عنِ المَنْهَلِ إِذْ لاَ يُؤْمَنُ نِفَارُهَا، هَذَا حُكْمُ النَّجَاسَاتِ الَّتِى لاَ عُذْرَ فِي اسْتِصْحَابِهَا. قال الرافعي: مما يتعلق بمكان الصلاة الكلام في الأماكن التي ورد النهي عن الصلاة فيها، وقد روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الصلاة في سبعة مواطن: المَزْبَلَةِ والمجزَرَةِ، وَقَارِعَةِ الطَّريق، وبطن الوادي، والحَمَّامِ، ومَعَاطِنِ الإبل، وفوق ظهر بيت الله تعالى ويروى بدل بطن الوادي: المَقْبَرَةُ (¬2). فأما المزبلة والمجزرة، فالنهي فيهما لنجاسة المكان، فلو فرش (¬3) عليه ثوباً أو ¬
بساطًا طاهراً صحت الصلاة، وتبقى الكراهية لكونه مصلياً على النجاسة، وإن كان بينه وبينها حائل. وأما قارعة الطَّريق فللنهي فيها معنيان: أحدهما: غلبة النجاسة في الطرق. والثاني: أن مرور الناس يشغله عن الصلاة. قال في "التتمة": اختلفوا في أن العلة ماذا؟ وبنى عليه الصلاة في جوار الطرق في البراري، إن قلنا: النهي للمعنى الأول يثبت فيها أيضاً، وإن قلنا: للمعنى الثاني فلا، وفي صحة الصلاة في الشوارع مع غالبة النجاسات فيها القولان اللذان ذكرناهما في باب الاجتهاد؛ لتعارض الأصل والغالب، فإن صححناها فالنهي للتنزيه، وإلا فللتحريم، فلو بسط شيئاً طاهراً صحت لا محالة، وتبقى الكراهة بسبب الشغل. وأما بطن الوادي فسبب النهي فيه خوف السيل السالب للخشوع، فإن لم يتوقع السيل ثم فيجوز أن يقال: لا كراهة، ويجوز أن يتبع ظاهر النهي (¬1). وأما الحَمَّام فقد اختلفوا في سبب النهي فيه، منهم من قال سببه أنه يكثر فيه النجاسات والقاذورات، فيخاف إصابة الرشاش إياه، ومنهم من قال: بل سببه أنه مأوى الشيطان، فلا يصلى فيه، وفي المسلخ وجهان مبنيان على هذين المعنيين، إن قلنا: بالأول فلا تكره الصلاة فيه، وإن قلنا: بالثاني فتكره، وأيضاً فإن دخول الناس يشغله، وهذا الوجه أظهر، وتصح الصلاة بكل حال في المسلخ وغيره إذا علم طهارة الموضع؛ خلافاً لأحمد. وأما ظهر الكعبة، فحكمه ما سبق في باب الاستقبال. وأما أعطان الإبل ففد فسرها الشافعي -رضي الله عنه- بالمواضع التي تنحى إليها الإبل الشَّاربة، ليشرب غيرها، فإذا اجتمعت استبقت، وهو المراد من قوله: (مجتمعها عند الصدر من المنهل)، وليس النهي فيها لمكان النجاسة، فإنه لا كراهة في مراح الغنم، وأمر النجاسة لا يختلف، روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا أَدْرَكْتُكُمُ الصَّلاَةُ، وَأَنْتُمْ فِي ¬
مَرَاحِ الْغَنَم، فَصَلُّوا فِيهَا، فَإنَّهَا سَكِينَةٌ وَبَرَكَةٌ، وَإِذَا أَدْرَكَتُكُمُ، وَأَنْتُمْ فِي أَعْطَانِ الإبِلِ؛ فَاخْرُجُوا مِنْهَا، وَصَلُّوا، فَإِنَّهَا جِنٌّ خُلِقَتْ مِنْ جِنٍّ، [أَلاَ تَرَى إِذَا نَفَرَتْ كَيْفَ تَشْمَخُ بِأَنْفِهَا" (¬1). والفرق من وجهين: أحدهما: قال الشافعي -رضي الله عنه- يبين الخبر أنها خلقت من جن] (¬2)، والصلاة تكره في مأوى الجن والشياطين، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "اخْرُجُوا مِنَ هذَا الْوَادِي، فَإِنَّ فِيهِ شَيْطَاناً" (¬3). والثاني: أنه يخاف من نفارها، وذلك يبطل الخشوع، وهذا المعنى لا يوجد في الغنم، ومراح الغنم هو مأواها لَيْلاً، وقد يُصَوَّرَ في الغنم مثل ما صُوِّرَ في أعطان الإبل، وحكمهما واحد، ومأوى الإبل ليلًا كالموضع المعبر عنه بالعطن، نظراً إلى أنها مخلوقة من الجن، ويخاف منها أيضاً، نعم النّفار في الموضع الذي تقف فيه صادرة من المنهل أقرب لاجتماعها، وازدحامها جاثية وذاهبة، فتكون الكراهة فيه أشد، وكل واحد من العطن والمراح إذا كان نجساً بالأبوال والأبعار لم تجز الصلاة فيه، وإن كانا طاهرين صحت مع افتراقهما في الكراهة. وقال أحمد: لا تصح الصلاة في العطن بحال. وأما المقبرة فالصلاة فيها مكروهة بكل حال، روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ، إلاَّ الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ" (¬4). ثم إن كانت جديدة لم تنبش، أو فرش على نبشها ثوباً طاهراً، وصلى صحت صلاته، خلافاً لأحمد، وإن صلى في مقبرة يعلم أن موضع الصلاة منها منبوش لم تصح الصلاة؛ لاختلاط صديد الموتى به، وإن شك في نبشه فقولان سبقاً في نظائر المسألة. أظهرهما: الجواز؛ لأن الأصل الطهارة، وبه قال [مالك، وابن أبي هريرة] (¬5). ¬
والثاني: المنع؛ لأن الغالب في المقابر النبش، وبه قال أبو إسحاق، ويكره استقبال القبور في الصلاة؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "نَهَى أَنْ تُتَّخَذَ الْقُبُور مَحَارِيبَ" (¬1). هذا تمام الكلام في النَّجاسات التي ليست هي في مظنة العفو والعذر. قال الغزالي: أَمَّا مَظَانُّ الأعْذَارِ فَخَمْسَةٌ: (الأوُلِىَ) الأَثَرُ عَلَى مَحَلِّ النَّجْو، وَلَوْ حَمَلَ المُصَلِّي مَنِ اسْتَجْمَرَ لَمْ يَجُزْ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ، لِأَنَّ العَفْوَ فِي مَحَلِّ نَجْوِ المُصَلِّي لِلْحَاجَةِ وَلَوْ حَمَلَ طَيْرًا جَازَ، وَمَا فِي البَطْنِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ قَبْلَ الخُرُوجِ لِأَنَّهَا مُسْتَتِرَةٌ خِلْقَةٌ، وَمَا عَلَى مَنْفَذِهِ لاَ مُبَالاةَ بِهِ عَلَى الأَظْهَرِ، وَفِي إِلْحَاقِ البَيْضَةِ المَذِرَةِ بِالحَيَوانِ تَرَدُّدٌ، لِأَنَّ النَّجَاسة مُسْتَتِرَةٌ خِلْقَةٌ، وَالقَارُورَةُ المُصَمَّمَةُ الرَّأْسِ لَيْسَتْ كَالْبَيْضَةِ (و). قال الرافعي: القسم الثاني من النجاسات: النجاسات الواقعة مظنة العذر والعفو، وقد جعل مظان العذر خمساً: إحداها: الأثر على محل النجو إذا استنجى بالحجر، فهو معفو عنه، وإن كان ذلك الأكل نجساً، أما كونه معفوًا عنه؛ فلما سبق من جواز الاقتصار على الحجر، وأما كونه نجساً، فلأن المطهر هو الماء، فلو خاض في ماء قليل نجس الماء؛ لأن العفو رخصة، وتخفيف الخوض في الماء مما تندر الحاجة إليه، ولو حمل المصلي من استنجى بالحجر ففي صحة صلاته وجهان: أحدهما: تصح؛ لأن ذلك الأثر واقع في محل العفو، فلا عبرة به، كما لو صلى المحمول معه، وكما يعفى عنه من الحامل. وأصحهما: أنها لا تصح؛ لأن العفو عنه من المستجمر إنما كان للحاجة، ولا حاجة به إلى حمل الغير، فصار كما لو حمل شيئاً آخر نجساً، وينسب الوجه الأول إلى الشيخ أبي علي، والثاني إلى القفال. ويجري الوجهان فيما إذا حمل المصلي من على ثوبه نجاسة معفو عنها (¬2)، ويقرب منهما الوجهان فيما لو عرق وتلوث بمحل النجو غيره، لكن الأصح هاهنا العفو لتعذر الاحتراز (¬3) بخلاف حمل الغير ولو حمل طيراً، أو حيواناً آخر لا نجاسة عليه ¬
صحت صلاته، ولا نظر إلى ما في بطنه من النجاسة؛ لأنها في معدنها الخلقي، فلا يعطى لها حكم النجاسة، كما في جوف المصلي، وما قدمناه من الفرق بين المصلي والمحمول ينقدح هاهنا، لكن روي: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- حَمَلَ أُمَامَةَ بنْتَ أَبِي الْعَاصِ فِي صَلاتِهِ، وَهِيَ بِنْتُ بنْتِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- زَيْنَبُ" (¬1)؛ فلذلك قلنا بالصَحة، وهذا إذا كان الحيوان المحمول طاهر المنفذ، فإن لم يكن فهو جزء طاهر تنجس بما يخرج من النجاسة، فهل تصح الصلاة؟ فيه وجهان: أظهرهما: عند المصنف: أنها تصح، ولا مبالاة بذلك القدر اليسير. والثاني: لا تصح، كما لو كان جزء آخر منه نجساً، وهذا أظهر عند إمام الحرمين، ولم يورد في "التتمة" سواه. والوجهان جاريان فيما لو وقع هذا الحيوان في ماء قليل، أو مائع آخر، وخرج حيًّا هل يحكم بنجاسته؛ لنجاسة المنفذ؟ لكن الظاهر ثم العفو، لأن الحمل لا تعرض الحاجة إليه إلا على سبيل الندور، وصيانة الماء وسائر المائعات عنها مما يشق، وأيضاً فإن الطيور لم تزل تَغُوص في المياه الكثيرة والقليلة، وكان الأولون لا يحترزون عنها. ولو حمل بيضة صار حشوها دماً، وظاهرها طاهراً، ففي صلاته وجهان، حكاهما القفال، وغيره: أحدهما: تصح صلاته، كما لو حمل حيواناً طاهراً؛ لأن النجاسة في الصورتين مستترةٌ خلقة. وأظهرهما: أنها لا تصح، كالنجاسات الطاهرة إذا حملها، بخلاف باطن الحيوان؛ لأن للحيوان أثراً في درء النجاسات، ألاَ ترى أنها إذا زالت نجس جميع الأجزاء، وأما البيضة فهي جماد، ويجري هذا الخلاف فيما إذا حمل عنقود استحال باطن حياته خمراً، ولا رشح على ظاهرها، وكذلك في كل استتار خِلْقِي. ولو حمل قارورة مصممة الرأس بصفر ونحوها، وفيها نجاسة، فظاهر المذهب -وهو المذكور في الكتاب-، أن صلاته تبطل؛ لأن استتار النجاسة هاهنا ليس بخلقي، بخلاف البيضة والحيوان، وعن أبي علي بن أبي هريرة أنها تصح؛ لأن النجاسة باطنة لا يخرج منها شيء فأشبهت ما في البيضة، وباطن الحيوان. ولو حمل حيواناً مذبوحًا بعد غسل الدم عن موضع الذبح، فالذي قاله الأئمة أن الصلاة باطلة، بخلاف الحمل في حال الحياة، ولم يذكروا هاهنا الخلاف المذكور في ¬
البيضة ونحوها، وذلك جواب منهم على ظاهر المذهب، وإلا فالنجاسة مستترة هاهنا أيضاً خِلْقَة، ويجوز أن يجعل منافذ الحيوان فارقاً -والله أعلم-. وقوله: في مسألة حمل الطير: (لأنها مستترة خلقة) ظاهر اللفظ إنما هو التعليل بمجرد الاستتار خلقة، ولو كان كذلك لوجب أن لا يقع التردد في البيضة لوجود العلة، لكن في الحيوان وجد أمران الاستتار الخِلقي، وكونه [في] (¬1) باطن الحيوان، فكأن بعضهم جعل العلة مجموع الأمرين، ومنع من حمل البيضة، وبعضهم اكتفى بالوصف الأول، وجوز حمل البيضة، فإذًا قوله: (لأنها مستترة خلقة) إشارة إلى الوصف الذي لا بد منه، ثم يبقى الكلام في أنه مؤثر وحده، أو مع شيء آخر، وأراد بالبيضة المذكورة التي صار حشوها دماً، وإلا فهي كالملح المنتن، وهو طاهر. وقوله: القارورة المصممة الرأس، يعني بالصفر والنحاس وما أشبه ذلك، أما التصميم بالخرقة ونحوها فلا يغني كَلَفِّ النجاسة في الخرقة، والشمع عند بعضهم كالخرقة، وألحقه القاضي ابن كج بالرصاص. قال الغزالي: (الثَّانِيَةُ) يُعْذَرُ مِنْ طِينِ الشَّوَارعِ فِيمَا يَتَعَذَّرُ الاحْتِرَازُ عَنْهُ غَالِبًا، وَكَذَا مَا عَلَى الخُفِّ فِي حَقِّ مَنْ يُصَلِّي مَعَهُ. قال الرافعي: طين الشوارع ينقسم إلى ما يغلب على الظن اختلاطه بالنجاسات، وإلى ما يستيقن، وإلى غيرهما، فأما غيرهما فلا بأس به، وأما ما يغلب على الظن اختلاطه بالنجاسات، ففيه قولان: سبق ذكرهما في باب الاجتهاد، وأما ما تستيقن نجاسته فيعفى عن القليل منه؛ لأن الناس لا بد لهم من الانتشار في حوائجهم، وكثير منهم لا يملك إلا ثوباً واحداً، فلو أمروا بالغسل لَعَظُمَ العناء والمشقة، وأما الكثير فلا يعفى عنه كسائر النجاسات، والقليل هو الذي يتعذر الاحتراز عنه، والرجوع في الفرق بينه، وبين الكثير إلى العادة، ويختلف الأمر فيه بالوقت وبموضعه من البدن، وذكر الأئمة له تقريباً. فقالوا القليل المعفو عنه؛ هو الذي لا ينسب صاحبه إلى سقطة، أو نكبة، أو قلة تَحَفُّظٍ، فإن نسب إلى شيء من ذلك فهو كثير. وقوله: (ويعذر من طين الشوارع) أراد به القسم الثالث: وهو المستيقن النجاسة على ما صرح به في "الوسيط"، ثم الذي يغلب على الظن نجاسته في معناه إن فرعنا علي العمل بالغالب. وأما قوله: (وكذا ما على الخف في حقْ من يصلي معه) فاعلم أولاً أن أصحابنا ¬
حكوا عن الشافعي -رضي الله عنه- قولين في أنه إذا أصابت أسفل خفه أو نعله نجاسة فدلكه بالأرض حتى ذهب أجزاؤها، هل تجوز صلاته فيه؟ قالوا: وهما مبنيان (¬1) على أنه لا يطهر، والكلام في العفو. أحدهما -وهو القديم-: أنه تجوز صلاته فيه، وبه قال أبو حنيفة، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا أَصَابَ خُفَّ أَحَدِكُمْ أَذًى فَلْيدْلِكْهُ بِالأَرْضِ" (¬2). ولأن النجاسة تكثر في الطرق، وغسله كل مَرَّةٍ مما يشق، فعفى عنه، فاكتفى بالمسح كمحل النجو. والثاني -وهو الجديد-: أنه لا يجوز الصلاة فيه ما لم يغسل كالثوب إذا أصابه نجاسة، والأذى في الخبر محمول على المستقذرات، وذكروا للقولين شروطاً: أحدهما: أن يكون تنجسه بنجاسة لها جُرْمٌ يلتصق به، أما البول ونحوه فلا يكفي فيه الدلك بحال. والثاني: أن يقع الدلك في حال الجفاف، فأما ما دام رطباً فلا يغنى الدلك بلا خلاف. والثالث: حكي عن الشيخ أبي محمد بأن الخلاف فيما إذا كان يمشي في الطريق فأصابته النجاسة من غير تعمد منه، فأما إذا تعمد تلطيخ الخف بها وجب الغسل لا محالة، ثم قال الأصحاب: الفتوى على الجديد، ولم يفرقوا في حكاية القولين بين القليل والكثير من طين الشوارع المستيقن نجاسته وبين سائر النجاسات الغالبة في الطرق. واعلم ثانياً أن قوله: (وكذا ما على الخف) يعني: من طين الشوارع، وسائر النجاسات الغالبة في الطرق، كالروث وغيره، لأن لفظه في "الوسيط" (وكذا ما على الخف من نجاسة، لا يخلو الطريق عن مثلها) وإذا عرفت ذلك ذلك أن تقول: إن قلنا بالقديم فيحتمل نجاسة الخف، ويكتفي بانتشار جرم النجاسة عنه بالدلك بعد الجفاف، وإن قلنا بالجديد فلا يحتمل ذلك، فما معنى قوله: (وكذا ما على الخف) أهو جواب على القديم أم كيف الحال؟ والجواب: أن خروجه على القديم واضح لا ينكر ووراءه احتمالان أقربهما أن يكون القولان مفروضين في الكثير الذي يعفى عنه من النجاسات، وهل يجب غسله إذا أصاب الخف أم يكتفي فيه بالدلك؟ ويكون المراد مما ذكره في ¬
الكتاب القليل من الطين المستيقن نجاسته، ومن الروث وغيره، فيعفى عنه في الخف كما في الثوب والبدن من غير غسل ولا دلك؛ بل العفو فيه؛ لأن الاحتراز أشق، وكذلك يكتفي فيه بالدلك على قول، ولا يكتفي به في الثوب والبدن بحال، فعلى هذا لا يتعين كلام الكتاب جوابًا على القديم، بل القليل معفو عنه بلا خلاف، والأثر الباقي على القديم أيضاً فينتظم فيهما الحكم بالعفو مما على الخف. والاحتمال الثاني هو: أن يؤخذ بإطلاق القولين، ويطرد في القليل والكثير من هذه النجاسات، ويجوز أن يفرق على هذا بين الخف والثوب بأن الحاصل على الخف قدر كبير، وأيضاً فإن الخف ينزع في الغالب، ولا يحتاج إلى استصحابه بخلاف الثياب، فعلى هذا يتعين كلام الكتاب جوابًا على القديم، ومتى وقع التفريع على القديم مراداً سواء كان ذلك كل المراد، أو من المراد، فيجب أن يريد بقوله: (وكذا ما على الخف) أثر النجاسات المذكورة بعد الجفاف دون عينها، فإنه لو بقي العين فلا يحتمل على القديم أيضاً، كما لا يحتمل على الجديد، وعلى الاحتمال الأول ينبغي أن يعفى عن اللوث الحاصل على جميع أسفل الخف وأطرافه، وبعد ذلك قليلاً بخلاف ما لو كان على الثوب والبدن، وكذا يعفى عن اللوث في حال الرطوبة كما في الثوب البدن، بخلاف ما إذا فرعنا على القديم، فإن العفو يختص بالأثر الباقي بعد الجفاف والدَّلْكِ، ثم العفو بكل حال فيما يحصل من غير قصد منه، أما لو تعمد التلطيخ فلا، وهكذا يكون الحكم في الثوب والبدن، ولهذا قال في باب الاستقبال: الماشي المتنفل لو مشى على نجاسة قصداً بطلت صلاته، ولا تجب المبالغة في التحفظ عند كثرة النجاسات في الطرق فإن قلت حكيتم ثَم عن إمام الحرمين أنه لو مشى على نجاسة رطبة بطلت صلاته، سواء كان قاصدًا إليها، أو لم يكن، وهذا يخالف ما ذكرتم الآن قلنا: ذاك إذا جرينا على الاحتمال الأول، الأقرب محمول على ما إذا حصل تلويث كثير لا يقع في حد العفو. واعلم أن قوله في باب المسح على الخفين: (يمسح أعلى الخف، وأسفله إلا أن يكون على أسفله نجاسة) إن كان تجويزًا للصلاة معه، وعفوًا فتنزيله على قضية القولين كما ذكرنا في قوله: (وكذا ما على الخف) ويمكن أن يقال: ليس الغرض ثَمَّ، سوى أنه لا يصح على الأسفل إذا كان عليه نجاسة كما قدمناه. قال الغزالي: الثَّالِثَةُ: دَمُ البَرَاغيثِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ إِلاَّ إِذَا كَثُرَ كَثْرَةَ يَنْدُرُ وُقُوعَهُ وَيَخْتَلِفُ ذلِكَ بِالأَوْقَاتِ وَالأمَاكِنِ، فَإِنْ وَقَع كَثْرَتُهُ فِي مَحَلِّ الشَّكِّ فَالاْحْتِيَاطُ أَحْسَنُ، وَالتَّرَخَّصُ بهِ جَائِزٌ أَيْضًا. قال الرافعي: دم البراغيث ينقسم إلى قليل وكثير، فالقليل مَعْفُو عنه في الثوب
والبدن جميعاً، لأنه مما تَعم [البلوى به] (¬1) ويشق الاحتراز عنه، فعفى عنه نفياً للحرج، وأما الكثير ففيه وجهان: أصحهما عند العراقيين، والقاضي الروياني وغيرهم، أنه يعفى (¬2) عنه أيضاً، لأنه من جنس ما يتعذر الاحتراز عنه، والغالب في هذا الجنس عسر الاحتراز، فيلحق غير الغالب منه بالغالب كما أن المسافر يترخص، وإن لم يلحقه في سفره مشقة اعتباراً بالغالب، وبأن الحاجة إلى الفرق والتمييز بين القليل والكثير مما توجب المشقة. والوجه الثاني: أنه لا يعفى عنه؛ لأن الأصل اجتناب النجاسات، وإنما خالفنا في القليل لعموم البلوى به، وهذا أصح عند إمام الحرمين، وهو المذكور في الكتاب، وفي معنى دم البراغيث دم القمل، والباعوض وما أشبه ذلك، وكذا ونيم (¬3) الذباب، وبول الخفاش، ولو كان قليلاً فعرق وانتشر اللطخ بسببه، ففيه الوجهان المذكوران في الكثير، واختيار القاضي الحسين أنه لا يعفى عنه لمجاوزته محله، واختيار أبي عاصم العبادي (¬4) العفو، لتعذر الاحتراز، ثم بماذا يفرق بين القليل والكثير في دم البراغيث وغيره؟ حكي فيه قولان قديمان: ¬
أحدهما: أن القليل قدر دينار فما دونه وإن زاد عليه فهو كثير. والثاني: أن القليل ما دون قدر الكف، والجديد: أنه لا عبرة بذلك، واختلفوا فيما يضبط به على قياسه في الجديد على وجهين: أحدهما: أنه إذا بلغ حدًا يظهر للناظر من غير تأمل وإمعان طلبًا فهو كثير، وإن كان دونه فهو قليل؛ لأن المقصود من الاحتراز عن النجاسات تعظيم أمر الصلاة وأداؤها على الهيئة الحسنى، وإذا صارت النجاسة بحيث تظهر للناظرين فقد اختل معنى التعظيم. وأظهرهما: أن الرجوع فيه إلى العادة مما يقع التلطيخ به غالباً، ويعسر الاحتراز عنه، فهو قليل، وإن زاد عليه فهو كثير، وذلك لأن أصل العفو إنما أثبتناه لتعذر الاحتراز عن هذه النجاسة، فينظر في الفرق بين القليل والكثير إليه أيضاً، فعلى الوجه الأول لا يختلف الحال بالأماكن والأوقات، وعلى الوجه الثاني هل يختلف؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، بل يعتبر الوسط المعتدل، ولا ينظر في الأزمنة والأمكنة إلى ما يندر فيه ذلك، ولا إلى ما يتفاحش فيه. وأظهرهما: أنه يختلف الأمر باختلاف الأوقات والأماكن؛ لأن لها تاثيراً ظاهراً في سهولة الاحتراز وعسره، فعلى هذا يجتهد المصلي فيه وينظر؛ أهو قليل أم كثير؟ وإذا فرعنا على ما ذكره في الكتاب، وهو أن الكثير لا يعفى عنه؛ فلو شك في أن ما أصابه قليل أو كثير فقد ذكر إمام الحرمين فيه احتمالين: أحدهما: أنه لا يعفى عنه؛ لأن الأصل اجتناب النجاسة، والرخصة إنما تثبت في القليل، فإذا شككنا في أنه قَلِيلٌ أم لا، فقد شككنا في المرخص. والثاني: أنه يعفى: لأن الأصل في هذه النجاسة العفو إلا إذا تيقنا الكثرة، وهذا هو الذي رجحه وذكره في الكتاب، حيث قال: (والترخص جائز أيضاً) والأول هو الاحتياط. ولنبين المواضع المستحقة للعلامات من هذا الفصل. قوله: (إلا إذا كثر) ينبغي أن يعلم بالواو للوجه الصائر إلى العفو في الكثير والقليل، وكذلك بالحاء والألف؛ لأن الحكاية عن أبي حنيفة أن دم البراغيث طاهر، وبه قال أحمد في أصح الروايتين، فلا فرق بين القليل والكثير، وهذا مذهبهما في الرطوبة المنفصلة عن كل ما ليس له نفس سائلة كونيم الذباب، ونحوه. وقوله: (كثرة يندر وقوعها) بالواو، إشارة إلى القولين القديمين، فإنهما لا ينظران إلى غلبة الوقوع وندرته، ولا يعتبران الكثرة بندرة الوقوع.
وقوله: (ويختلف ذلك بالأوقات والأماكن) للوجه الصائر إلى مراعاة الظهور، والوجه المعتبر للوسط أيضاً. وقوله: (والترخيص جائز أيضاً) ينبغي أن يعلم (أيضاً) للاحتمال الأول على ما سبق. قال الغزالي: (الرَّابِعَةُ) دَمُ البَثَرَاتِ وَقَيْحُهَا وَصَدِيدُهَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وإنْ أَصَابَهُ مِنْ بَدَنِ غَيْرِهِ فَوَجْهَانِ، وَلَطَخَاتُ الدَّمَامِيلِ والفِصْدَانِ دَامٍ غالِباً فَكَدَمِ الاسْتِحَاضَةِ، وإنْ لَمْ يُدْمَ فَفِي إِلْحَاقِهَا بِالبَثَرَاتِ تَرَدُّدٌ. قال الرافعي: دم البثرات كدم البراغيث، لأن الإنسان قلما يخلو عن بثرة يترشح منها شيء، فلو وجب الغسل كل مرة لَشقَّ، بل ليس دم البراغيث إلا رشحات تمصها البراغيث من بدن الإنسان، ثم تمجها، وإلا فليس لها دماء في نفسها، ذكره إمام الحرمين، ولذلك عدت البراغيث مما ليس له نفس سائلة. إذا تمهد ذلك، فالقليل منه معفو عنه بلا خلاف، وفي الكثير وجهان كما في دم البراغيث، ولفظ الكتاب هاهنا وإن كان مطلقاً إلا أنه أراد به القليل لوجهين: أحدهما: أنه أجاب بعدم العفو في دم البراغيث إذا كان كبيراً والخلاف في الدمين واحد، فلا ينتظم أن نحكم هاهنا بالعفو في الكثير. والثاني: أنه قال: متصلاً به (وإن أصابه من بدن الغير فوجهان) والخلاف فيما يصيبه من بدن الغير في القليل دون الكثير على ما سيأتي، وإذا كان مراده القليل فلا حاجة إلى إعلامه بالواو من حيث إن اللفظ يتناول الكثير، وهو مختلف فيه؛ لأن القلة مضمرة فيه، لكن يجوز أن يعلم بالواو من جهة أنه يشمل ما إذا عصر البثرة قصداً، وأخرج ما فيها، وقد نقل صاحب "التتمة" في هذه الصورة وجهين، لأنه مستغنى عنه، وإلا ظهر العفو على ما يقتضيه إطلاق الكتاب، لما روي أن ابن عمر -رضي الله عنه- عصر بثرة على وجهه، ودلك بين أصابعه بما خرج منها، وصلى، ولم يغسله (¬1)، ولو أصابه دم من بدن غيره، من آدمي، أو بهيمة، أو غيرهما، نظر إن كان كثيراً فلا عفو عنه؛ لأنه قدر فاحش، والاحتراز عنه سهل، وإن كان قليلاً وهو المراد من لفظ الكتاب، فقد حكى فيه وجهين، وكذلك فعل الصيدلاني، وجماعة من الجمهور حكوهما قولين: أحدهما: وهو نصه في "الإملاء": أنه لا يعفى عنه، لأنه لا يشق الاحتراز عنه، فأشبه القليل من الخمر وسائر النجاسات. ¬
والثاني: وهو نصه في "القديم" وفي "الأم": أنه يعفى عنه، لأن جنس الدم يتطرق إليه العفو، فيقع القليل منه في محل السامحة. والأصح منهما عند العراقيين، إنما هو العفو، وتابعهم صاحب "التهذيب"، وعند إمام إلحرمين وجماعة عدم العفو، وهو الأحسن، ولو أصابه شيء من دم نفسه، ولكن لا من البثرات، بل من الدماميل [والقروح، ومن موضع القصد والحجامة. ففيه وجهان: أحدهما: ويحكى عن ابن سريج: أنه كدم البثرات؛ لأنها دمان لم تكن غالبة فليست بنادرة أيضاً، وإذا وجدت دامت وعسر الاحتراز عن لطخها، [ولأن الفرق بين البثرات والدماميل] (¬1) الصغار قد يعسر. والثاني: أنها لا تلحق بدم البثرات؛ لأن البثرات لا يخلو معظم الناس عنها في معظم الأحوال، بخلاف الدماميل والجراحات، وعلى هذا فينظر إن كان مثلها مما يدوم غالباً فهي كدم الاستحاضة، وحكمه ما سبق في "الحيض" وإن كان مما لا يدوم غالباً فيلحق بدم الأجنبي، حتى لا يعفى عن كثيره بحال، وفي قليله الخلاف الذي سبق. والوجه الأول: هو قضية كلام الأكثرين، حيث لم يفرقوا في الدم الخارج من البدن بين أن يخرج من البَثَرَاتِ، أو غيرها. والوجه الثاني: هو اختيار القاضي ابن كَج، والشيخ أبي محمد، وإمام الحرمين -رحمهم الله- وهو الأولى. وإذا أردت تلخيص حكم الدماء بعد دم البراغيث فطريقه على قضية الوجه الأول أن نقول: ما سوى دم البراغيث ينقسم إلى الخارج من بدنه، فهو كدم البراغيث، وإلى غيره فلا يعفى عن كثيره، وفي قليله الخلاف، وعلى قضية الوجه الثاني أن نقول: ما سوى دم البراغيث ينقسم إلى الخارج من بدنه على وجه يعم، وهو دم البثرات فهو كدم البراغيث، وإلى غيره ويدخل فيه ما يخرج من بدنه وعلى وجه لا يعم، وما يخرج عن غيره فلا يعفى عنه كثيره، وفي قليله الخلاف. وحكم القيح والصديد حكم الدم في جميع ما ذكرناه؛ لأنهما دمان مستحيلان إلى نتن وفساد، وأما ماء القروح والنفطات فإن كان له رائحة كريهة فهو نجس كالقيح، والصديد، وإلا ففيه طريقان (¬2): أحدهما: القطع بطهارته تشبيهاً له بالعرق. ¬
والثاني: فيه قولان: أحدهما: هذا. وأظهرهما: النجاسة كالصديد الذي لا رائحة له ويحكى هذا عن الشيخين أبي محمد، وأبي علي. وأما ما يتعلق بلفظ الكتاب فمنه ما اندرج في أثناء الكلام، ومنه أن قوله: (وإن أصابه من بدن الغير) راجع إلى أول كلامه، وهو دم البثرات (¬1)، لكن الخلاف في دم الغير لا يختص بالخارج من بثراته، بل يستوي فيه الخارج من البثرات وغير البثرات، وقوله: (ولطخات الدماميل والفصد)، وقد يقرأ بعضهم بدل الفصد العقد، ولا بأس به، فموضع الفصد والحجامة والدماميل كلها في الحكم سواء. وقوله: (وإن دام غالباً) أي: إن دام مثلها غالباً، وكذا قوله: (إن لم يدم) أي: مثلها، وما أشبه ذلك، وإلا فلا يمكن أن يكون قوله دام، ولم يدم صفة الدماميل، ولا صفة اللطخات، لأن منها ما هو دائم، ومنها ما هو غير دائم، فلا يجوز وصف كلها لا بالدوام، ولا بعدم الدوام، ثم لك أن تستدرك فتقول: نظم الكتاب يقضي أن يكون التردد في إلحاقها بدم البثرات مخصوصاً بلطخات الدماميل التي لا تدوم، وأن تكون لطخات الدماميل الدائمة ملحقة بدم الاستحاضة من غير تردد، وليس الأمر كذلك، بل حكى إمام الحرمين وغيره في إلحاقها بدم البثرات وجهين مطلقاً كما قدمنا، ثم يفصل على وجه عدم الإلحاق فيقال: ما يدوم منها كدم الاستحاضة، وما لا يدوم كدم الأجنبي، وإيراده في "الوسيط" محتمل لما ذكره في "الوجيز"، ولما هو الحق. قال الغزالي: الخَامِسَةُ: الجَاهِلُ بِنَجَاسَةِ ثَوْبِهِ فِيهِ قَوْلاَنِ: الجَدِيدُ: وُجوُبُ القَضَاءِ فَإِنْ كانَ عَالِمًا ثُمَّ نَسِيَ فَقَوْلاَنِ مُرَتَّبَانِ، وَأَوْلَى بِالوُجُوبِ (م)، وَمَثَارُ التَّرَدُّدِ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ المَنَاهِي فَيَكُونُ النِّسْيَانُ عُذْراً فِيهِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الشُّرُوطِ كَطَهَارَةِ الحَدَثِ. قال الرافعي: إذا صلى وعلى ثوبه أو بدنه أو موضع صلاته نجاسة غير معفو عنهما، وهو لا يدري نظر إن لم يعلم بها أصلاً ثم تبين الأمر له، ففي وجوب القضاء قولان: الجديد وبه قال أَبُو حَنِيفَةَ: أنه يجب؛ كما لَو بَانَ له بعد الفراغ من الصلاة أنه كان محدثاً، والقديم: أنه لا يجب لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "خَلَع نَعْلَه فِي الصَّلاَةِ، فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُم، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى مَا صَنَعْتُم، قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَكَ ¬
فألْقَيْنَا نِعَالَنَا، فَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ أتَانِي وَأَخْبَرنِي أَنَّ فِيهَا قَذَرًا" (¬1). والاستدلال أنه بعد تبين الحال مضى في صلاته، ولم يستأنف، ولو علم بالنجاسة، ثم نَسِيَ فصلى، ثم تذكر فطريقان: أحدهما: القطع بوجوب القضاء، لتفريطه. والثاني: أنه على القولين، لأن النسيان عذر كالجهل ويقال: إن القول بعدم وجوب الإعادة مخرج من القول القديم في نسيان الماء في الرحل ولا يمكن اعتبارها بالحدث، فإن العفو إلى النجاسات أسرع منه إلى الحدث، فيجوز أن يعد الجهل والنسيان فيها من الأعذار، ثم إذا أوجبنا الإعادة فيجب إعادة كل صلاة تيقن أنه صلاها مع تلك النجاسة، وإن احتمل أنها حدثت بعد ما صلى، فلا شيء عليه. وعن أبي حنيفة: إن كانت النجاسة رطبة أعاد صلاة واحدة، وإن كانت يابسةً وكان في الصيف فكذلك، وإن كان في الشتاء أعاد صلاة يوم وليلة. إذا عرفت ذلك، فاعلم أن قوله: (الجاهل بنجاسة ثوبه) - المراد منه النجاسة التي لا يعفى عنها؛ والخلاف لا يختص بالثوب بل البدن والمكان في معناه، وإنما ذكر الثوب مثالاً. قوله: (الجديد وجوب القضاء) اعلم لفظ (الوجوب) بالميم، لأن المنقول عن مالك إن كان الوقت باقياً يعيد، وإلا فلا. قال الشيخ أبو حامد: ومهما قال مالك ذلك فلا يوجب الإعادة، ولكن يستحبها في الوقت، وحكى إمام الحرمين مثل ذلك عن أئمة مذهبه، ويجوز أن يعلم بالألف أيضاً؛ لأنه روي عن أحمد روايتان في المسألة كالقولين، وقوله: فقولان مرتبان في الصورة الثانية يشير إلى أن فيها طريقين (¬2) كما رويناهما. وقوله: (وأولى بالوجوب) يجوز أن يعلم لفظ "الوجوب" بالميم والألف؛ إشارة إلى مذهبهما، والحكم عندهما واحد في الصورتين. وقوله: "ومثار التردد ... " إلى آخره، شرحه أن خطاب الشارع قسمان: أحدهما: خطاب التكليف بالأمر، أو النهي، والنسيان يؤثر في هذا القسم ألا ترى أن الناسي لا يأثم بترك المأمور، ولا بفعل المنهي، لأنه لم يبق مكلفاً عند النسيان، بل التحق بالمجنون وبسائر من لا يخاطب. ¬
والقسم الثاني: خطاب الأخبار (¬1) وهو ربط الأحكام بالأسباب، وجعل الشيء شرطاً من هذا القبيل، فإن معناه أن يقول: إذا لم يوجب كذا في كذا فهو غير معتد به، والنسيان لا يؤثر في هذا القسم، ولهذا يجب الضمان على من أتلف مال الغير ناسياً، لأنه مأخوذ من قوله: (من أتلف ضمن) واختلاف القولين مستند إلى أن استصحاب النجاسة من قبيل المناهي في الصلاة، حتى إذا كان ناسياً يعذر، ولا يعد مقصراً مخالفاً، أو الطهارة عنها من قبيل الشروط، فلا يؤثر الجهل والنسيان كما في طهارة الحدث، وقد ورد في الباب ألفاظ ناهية، نحو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "تَنَزَّهُوا مِنَ الْبَوْلِ" (¬2). وقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (¬3). وألفاظ شارطة نحو ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "تُعَادُ الصَّلاَةُ مِنْ قَدْرِ الدَّرْهَمِ مِنَ الدَّمِ" (¬4) فهذا بيان ما ذكره. وأعلم أن هذا الكلام يوجب أن يكون قوله من قبيل الشرط. الثاني: طهارة الحدث بناء على قوله الجديد، وأن يكون القوم القديم منازعاً فيه، ثم لك أن تقول: إنه عد ترك الكلام من الشروط، ومعلوم أن الكلام ناسياً لا يضر بلا خلاف بيننا، فإن كانت الشروط لا تتأثر بالنسيان فمن الواجب أن لا يعده شرطاً، وحيث أدرجه في الشروط، فكأنه أراد بالشروط عند عد الأشياء الستة ما لا بد منه في الصَّلاَةِ عند العلم، وأراد بالشروط في قوله هاهنا: ومن قبيل الشروط ما لا بد منه مطلقاً، وما لا بد منه عند العلم قد يكون بحيث لا بد منه على الإطلاق، وقد لا يكون كذلك، ثم بتقدير أن يكون استصحاب النجاسة من المناهي في الصلاة، فلم تبطل الصلاة إذا أستصحبها عالمًا، أيلزم ذلك من نفس النهي أم يؤخذ من دليل زائد؟ فيه كلام أصولي لا أطول منها بذكره. خاتمة لهذا الشرط: قوله في أول القسم الثاني: (أما مظان الأعذار فخمس) يشعر بانحصارها في الخمس المذكورة، لكن للعذر مظاناً أخر. ¬
منها: النجاسة التي تستصحبها المستحاضة، وسلس البول في صلاته. ومنها ما إذا كان على جرحه دَمٌ كثير يخاف من إزالته. ومنها: تلطخ سلاحه بالدم في صلاة شدة الخوف. ومنها الشَّعْرُ الذي ينتف ولا يخلو عنه ثوبه وبدنه، وحكمه حكم دم البراغيث. ومنها القدر الذي لا يدركه الطرف من البول، والخمر، وغير الدم من النجاسات، ففيه خلاف ذكرناه في الطهارة. وقال أبو حَنِيفَةَ: النجاسة قسمان: مُغَلَّظَةْ، ومخففة [فالمغلظة] (¬1) كالخمر، وللعذرة، وبول ما لا يؤكل لحمه، فيعفى عنها في الثوب والبدن والمكان بقدر الدرهم البغلي (¬2) فما دونه، فإن زاد لم يجز، والمخففة كبول ما يؤكل لحمه، فتجوز الصلاة معه ما لم يتفاحش، وهو أن لا يبلغ ربع الثوب، ومنهم من قال: التفاحش الشبر في الشبر (¬3). قال الغزالي: الشَّرْطُ الثَّالِثُ: سَتْرُ العَوْرَةِ، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ، وَفِي وُجُوبهِ فِي الخَلْوَةِ تَرَدُّدٌ، وَالمُصَلِّي فِي خَلْوَةٍ يَلْزَمُهُ السَّتْرُ فهي الصَّلاَةِ. القول في ستر العورة: قال الرافعي: وجوب ستر العورة عند القدرة لا يختص بحالة الصلاة، بل يجب في غير حالة الصلاة أيضاً، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تَكْشِفْ فَخْذَكَ، ولا تَنْظُر إِلَى فَخِذِ حَيٍّ، وَلاَ مَيِّتٍ" (¬4). وروي: "لاَ تُبْرِزْ فَخْذَكَ". وهذا إذا كان معه غيره، فأما إذا كان في الخلوة فوجهان: أحدهما، وبه قال الشيخ أبو محمد: لا يجب إذ ليس ثم من ينظر إليه، وروي هذا عن أبي حنيفة، وأحمد. وأصحهما، وبه قال الشيخ أبو علي: يجب لظاهر الخبر، وللتستر عن الجن والملائكة، وأيضاً فإن الله تعالى أحق أن يُسْتَحَى منه. ¬
وأما في حالة الصلاة فهو شرط للصحة، فلو تركه مع القدرة بطلت صلاته، سواء كان في خلوة، أو معه غيره (¬1) خلافاً لمالك، حيث قال: إنه ليس بشرط؛ لكنه واجب في الصلاة وغيرها، وروى بعضهم عن مذهبه أن الستر شرط عند الذكر، ولا يشترط حالة النسيان. لنا قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬2). عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: يعني الثياب عند الصلاة. وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَقْبَل الله صَلاَةَ حائِضٍ إلاَّ بِخِمَارٍ" (¬3). والمراد بالحائض البالغة (¬4)، ذلك أن تعلم قوله: (الشرط الثالث ستر العورة) بالميم لما حكينا عن مذهب مالك. وقوله: (يلزمه الستر في الخلوة) إن كان المراد منه الاشتراط، فكذلك ينبغي أن يعلم بالميم، وإن كان المراد منه الوجوب فلا يجوز أن يعلم قوله: (ستر العورة) بالحاء، والألف أيضاً؛ لأنه يشير إلى أن ستر الكل شرط، فإنه لو كان البعض مكشوفاً صح أن يقال: ما ستر عورته، ستر بعضها. وعند أبي حنيفة: لو ظهر من العورة المُغَلَّظَةِ قدر درهم بطلت صلاته، ولا بأس بظهور ما دونه، ولو ظهر من العورة المخففة قدر ربع عضو بطلت الصَّلاة، ولا بأس بظهور ما دونه. قال: والمغلظة السوأتان، والمخففة ما سواهما على تفاوته بين الرجل والمرأة كما سيأتي. وعند أحمد لو ظهر اليسير من العورة، لم يضر، ولم يقدر كما فعله أبو حنيفة -رحمه الله-. قال الغزالي: وَعَوْرَةُ الرَّجُلِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَعَوْرَةُ الحُرَّةِ جَمِيعُ بَدَنِهَا إلاَّ الوَجْهَ ¬
وَاليَدَيْنِ إِلى الكُوعَينِ، وَظُهُورُ القَدَمَيْنِ عَورَةٌ فِي الصَّلاَةِ، وَفِي أُخْمُصَيْهَا وَجْهَانِ، وَأَمَّا الأَمَةُ فَمَا يَبْدُو مِنْهَا فِي حَالِ المِهنَةِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَمَا بَيْنَهُ إِلَى مَحَلِّ عَوْرَةِ الرَّجُلِ فِيه وَجْهَانِ: قال الرافعي: ترجمة هذا الشرط الثالث إنما هي ستر العورة، فيجب بيان العورة، وبيان كيفية السَّتْرِ، وأنه بم يحصل؟ وهذا الفصل لبيان حد العورة، وهي من الرجل حراً كان أو عبداً: ما بين السُّرَّةِ والرُّكْبَةِ، وليست السرة من العورة ولا الركبة على ظاهر المذهب؛ لما روي عن أبي اْيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا فَوْقَ الرُّكْبَةِ وَدُونَ السُّرَّةِ عَوْرَةٌ" (¬1). وروي أنه قال: "عَوْرَةُ الرَّجُلِ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ" (¬2). وليكن قوله: (ما بين السّرة والركبة) معلماً بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة الركبة غير خارجة عن حد العورة، وإن كانت السرة خارجة، وبالميم؛ لأن عن مالك الفخذ ليس بعورة، وبالواو لأمور ثلاثة: أحدها: أْنهم حكوا وجهاً عن بعض الأصحاب أنهما جميعاً من العورة. والثاني: أن أبا عبد الله الحناطي حكى عن الإصطخري أن عورة الرجل هي القبل والدبر فقط. والثالث: أن أبا عاصم العبادي حكى عن بعضهم أن الركبة من العورة دون السُّرة، وليكن معلماً بالألف أيضاً؛ لأن عن أحمد رواية أن عورة الرجل القبل والدبر لا غير، وعنه رواية أخرى مثل مذهبنا، وهي أظهر عندهم، وأيضاً فإن المراد من العورة هاهنا ما يجب ستره في الصلاة، وعنده يجب ستر المنكب في الصلاة المفروضة، وهو خارج عما بين السرة والركبة. أما المرأة فإن كانت حرة فجميع بدنها عورة، إلا الوجه واليدين (¬3) لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (¬4). ¬
قال المفسرون: هو الوجه والكفان، وليس المراد الراحة وحدها، بل اليدان ظهراً وبطناً إلى الكوعين خارجتان عن حد العورة، ولا يكاد يفرض ظهور باطن اليدين دون ظاهرهما، ولا يستثنى ظهور قدميها خلافاً لأبي حنيفة، حيث قال: ليست القدمان من العورة، وبه قال المزني. لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "سُئِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ تُصَلِّي فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ مِنْ غَيرِ إِزَارٍ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ إِذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا" (¬1). وهل يستثنى أخمصا القدمين؟ حكى صاحب الكتاب وطائفة فيه وجهين، وجعلهما (¬2) آخرون قولين، منهم القفال. أحدهما: أنهما ليستا من العورة، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- خص ظهور القدمين بالذكر، فأشعر ذلك بأن تغطية باطن القدمين لا تجب. وأصحهما: أنها من العورة تسوية بين ظاهرهما وباطنهما، كما يسوى بين ظاهر اليدين وباطنهما في الخروج عن حد العورة، ولك أن تعلم قوله: (واليدين) بالألف لأن أصحابنا حكوا عن أحمد أنه لا يستثني إلا الوجه، ويدها عورة. وقوله: (وظهر القدمين عورة في الصلاة) كالمستغنى عنه، ولو اقتصر على قوله: (إلا الوجه واليدين، وفي أخمصي قدميها وجهان) لحصل الغرض، لأنه إذا لم يستثن إلا الوجه واليدين بقي ظهر القدمين داخلاً في المستثنى منه، وإذا ذكره فاليعلم بالحاء والزاي لما قدمناه. وقوله: (عورة في الصلاة) أشار به إلى أن العورة قد تطلق لمعنى آخر، وهو ما يحرم [النظر إليه، وكلامنا الآن فيما يجب ستره] (¬3) في الصلاة، فأما ما يجوز النظر إليه، وما لا يجوز فيذكر في أول كتاب النكاح، هذا ما قصده، لكن هذه الإشارة لا اختصاص لها بظهر القدم، فلو تعرض لها في أول ما ذكر العورة لكان أحسن. وأما الأمة فقد جعل بدنها على ثلاث مراتب: أحدها: ما هو عورة من الرجل فلا شك في كونه عورة منها. والثانية: ما يبدو وينكشف في حال المهنة، فليس بعورة منها، وهو الرأس والرقبة والساعد وطرف السّاقِ، لأنها تحتاج إلى كشفه، ويعسر عليها ستره. ¬
وفيه وجه أن جميع ذلك عورة كما في حق الحرة، سوى الرأس، لأنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَأَى أَمَةً سَتَرَتْ رَأْسَهَا فَمَنَعَهَا عَنْ ذلِكَ، وَقَالَ: أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحرائِرِ؟! فليكن قوله: (مما يبدو منها في حالة المهنة) معلماً بالواو لهذا الوجه. والثالثة: ما عداهما كالصدر والظهر، وفيه وجهان: أحدهما: إنه عورة كما في حق الحرة، وإنما اَحتملنا الكشف فيما يظهر عند المهنةِ، لأن الحاجة تدعو إليه. وأصحهما: أنه ليس بعورة، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في الرجل يشتري الأمة. "لاَ بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا إِلاَّ إِلَى الْعَوْرَةِ، وَعَوْرَتُهَا بَيْنَ مَعْقِدِ إِزَارِهَا إِلَى رُكْبَتِهَا" (¬1). وحكم المكاتبة والمدبرة والمستولدة ومن بعضها رقيق حكم الأمة، وحكم الخنثى المشكل إن كان رقيقاً، وقلنا بظاهر المذهب وهو أن عورة الأمة كعورة الرجل، فلا يلزمه أن يستر في صلاته إلا ما بين السرة والركبة، وإن كان حراً أو رقيقاً وقلنا: إن عورة الأمة أكثر من عورة الرجل، وجب عليه ستر الزيادة على عورة الرجل أيضاً؛ لجواز الأنوثة، فلو خالف ولم يستر إلا ما بين السرة والركبة، فهل تجزئه صلاته؟ فيه وجهان نقلهما في "البيان": أحدهما: نعم، لأن كون الزيادة عورة مشكوك فيه. والثاني: لا؛ لاشتغال ذمته بفرض الصلاة، والشك في براءتها (¬2). قال الغزالي: وَأَمَّا السَّاتر فَكُلُّ مَا يَحُولُ بَيْنَ النَّاظِرَ وَبَيْنَ البَشَرَةِ، فَلاَ يَكْفِي الثَّوْبُ السَّخِيفُ وَلاَ المَاءُ الصَّافِي، وَيَكْفِي المَاءُ الكَدِرُ والَطِّينُ، وَفي وُجُوبِ التَّطيينِ عِنْدَ فَقْدِ الثَّوْبِ وَجْهَانِ، وَإِذَا كَانَ القَمِيصُ مُتَّسِعَ الَّذيْلَ فَلاَ بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ مُتَّسِعَ الأَزْرَارِ لَمْ يَجُزْ إلاَّ إِذَا كَانَتْ كثَافَةُ لِحْيَتِه تَمْنَعُ مِنَ الرُّؤْيَةِ عِنْدَ الرُّكُوعِ فَيَجُوزُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَكذَا لَوْ سَتَرَ بِاليَدِ بَعْضَ عَوْرَتَهِ. قال الرافعي: في الفصل مسألتان: إحداهما: في صفة السَّاتر، ويجب أن يستر عورته بما يحول بين الناظر ولون ¬
البشرة، فلا يكفي الثوب الرقيق الذي يشاهد من وراءه سواد البشرة وبياضها، وكذا الغليظ المهلهل النسج الذي تظهر بعض العورة من فُرَجِهِ، فإن مقصود السَّتْرِ لا يحصل بذلك، أما لو (¬1) ستر اللون ووصف حجم الأعضاء فلا بأس كما لو لبس سروالاً ضيقاً، أو ثوباً صفيقاً، ووقف في الشمس، وكان حجم أعضائه يبدو من ورائه، ولو وقف في ماءٍ صافٍ لم تصح صلاته، لأنه لا يحول بين الناظر وبين لون البشرة إلا إذا غلبت الخضرة لتراكم الماء، فإن خاض فيه إلى عنقه ومنعت الخضرة من رؤية لون أبي البشرة فحينئذ يجوز، وقوله: (ولا الماء الصافي) المراد منه غير هذه الحالة وإن كان اللفظ مطلقاً. ولو وقف في ماء كدر وصلى، فهل يجزئه؟ فيه وجهان: أصحهما: وهو المذكور في الكتاب، أنه يجزئه؛ لأنه يمنع مشاهدة اللون، فأشبه ورق الشَّجَرِ، والجلد، وغيرها. والثاني: لا يجزئه؛ لأنه لا يعد ساتراً، حكي هذا عن "الحاوي" (¬2) ونقله أبو اَلْحَسَنِ العَبَّادِيّ عن القفال أيضاً، وإنما تفرض الصلاة في الماء إذا قدر على الركوع والسجود [على الأرض، أو كان في صلاة الجنازة حتى لا يحتاج إلى الركوع، والسجود] (¬3) ولو طين عورته واستتر اللون أجزأه، وإن قدر على الستر بالثياب لحصول مقصود الستر هذا هو المشهور، وذكر إمام الحرمين أنه متفق عليه بين الأصحاب، لكن صاحب "العدة" قال فيه وجه آخر: أنه لا يجوز؛ لأنه إذا جف تشقق فلا يحصل به السَّتْر، وهذا قريب من [الوجه] (¬4) المحكى في الماء الكدر، فإن السَّتْرَ بهما مما لا يعتاد بحال، فليكن كل واحد من اللفظين (الماء الكدر والطين) معلماً بالواو. وإذا فرعنا على الظاهر فلو لم يجد ثوباً ونحوه وأمكنه التطيين، فهل يجب عليه ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، وبه قال أبو إسحاق لما فيه من المشقة والتلويث. وأصحهما: نعم؛ لحصول السَّتْر، وإذا طين فإن كان الطين ثخينًا، وأمكن الاحتراز عن مس الفرج بثخنه فذاك، وإن كان رقيقًا فيلف خرقة على اليد إن وجدها، وله أن يستعين فيه بغيره، وكل هذا إذا عجز عن تقديم التطيين على الوضوء ¬
القول في صفة الستر: المسألة الثانية: في كيفية الستر، قال الأصحاب: الستر يرعى من الجوانب، ومن فوق ولا يرعى من أسفل الإزار والذيل، حتى لو صلى في قميص متسع الذيل جاز، وإن كان على طرف سطح يرى عورته من نظر من الأسفل؛ [لأن الستر إنما يلزم من الجهة التي جرت العادة بالنظر منها، والعادة لم تجر بالنظر من أسفل] (1) وتوقف إمام الحرمين، وصاحب "المعتمد" في سورة الواقف على طرف السطح؛ [لأن الستر من الأسفل إنما لا يراعى إذا كان على وجه الأرض، فإن التطلع من تحت الإزار لا يمكن إلا بحيلة وتعب، أما إذا كان على طرف السطح] (2) [فالأعين] (3) تبتدر إدراك السَّوْءَة، فليمتنع ذلك، ولو صلَّى في قميص واسع الجيب ترى عورته من الأعلى في حال من أحوال الصلاة إما في الركوع والسجود، أو غيرهما، لم تصح الصلاة لما روي عن سلمة بن الأكوع قال: "قلت يا رسول الله إني رجل أسيد أفأصلي في القميص الواحد؟ قال: "نَعَمْ، وَأزْرُرْهُ وَلَو بِشَوْكَةٍ" (4). وطريقه عند سعة الجيب أن يزره كما أرشد إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أو يشد وسطه بخيط، أو يشتد موضع الجيب بشيء يلقيه على عاتقه، أو ما أشبه ذلك، وكذا لو لم يكن واسع الجيب، لكن كان على صدر القميص، أو ظهره خرق تبدو منها العورة، فلا بد من شيء مما ذكرناه، ولو كان القميص بحيث يرى من سعة جيبه شيئاً من العورة عند الركوع والسجود لكن منع منها لحيته، أو شعر رأسه، ففيه وجهان: أحدهما: لا تجزئه صلاته؛ لأن الساتر لا بد وأن يكون غير المستتر، فلا يجوز أن يكون بعضه لباساً له، وهذا ما ذكره القاضي ابن كج، والروياني. وأصحهما: أنه يجوز لحصول مقصود الستر كما لو ستره بمنديل، وكما لو كان على إزاره ثقبة فجمع عليها الثوب بيده، ولو ستر باليد الثقبة ففيه الوجهان، ولا يخفى أن الكلام فيما إذا لم تمس السوءة، ولو كان القميص بحيث تظهر منه العورة عند الركوع، ولا مانع وكان لا يظهر شيء منها في القيام فهل تنعقد صلاته ثم إذا انحنى بطل، أو لا تنعقد أصلاً؟ قال إمام الحرمين: فيه هذان الوجهان؛ لأن سبب عدم التكشف التصاق صدره في القيام بموضع إزاره. وتظهر فائدة الخلاف فيما لو اقتدى به غيره قبل الركوع، وفيما لو ألقى ثوباً على
عاتقه قبله، ويتبين بما ذكرناه أن قوله: (إلا إذا كانت كثافة لحيته مانعة من الرؤية) ليس لحصر الاستئناء في هذه الصورة، بل لو صلى في قميص متسع الجيب وشد وسطه، أو أتى بطريق آخر يمنع الرؤية كما سبق جاز [وقوله] (¬1) (وكذا لو ستر باليد بعض عورته) في جريان الوجهين، والأصح منهما. وأعلم: أنه يشترط في الستر أن يكون الساتر شيئاً يشتمل المستور عليه إما باللبس كالثوب والجلد، أو بغير اللبس كما في سورة التطيين، فأما الفسطاط الضيق ونحوه فلا عبرة به؛ لأنه لا يعد مشتملاً عليه، وإنما يقال: هو داخل فيه. ولو وقف في جب وصلى على جنازة، فإن كان واسع الرأس تظهر منه العورة لم يجز، وإن كان ضيق الرأس فقد قال في "التتمة": يجوز ذلك، ومنهم من قال: لا يجوز؛ لأنه لا يعد ذلك سترًا (¬2). قال الغزالي: وَلَوْ وَجَدَ خِرْقَةً لاَ تَكْفِي إِلاَّ لإحْدَى سَوْءَتَيْهِ لَمْ يَسْتُرْ بِهَا الفَخِذَ، وَيُخَيَّرُ بَيْنَ السَّوْءَتَيْنِ عَلَى أَعْدَلِ الوُجُوهِ إِذْ لاَ تَرْجِيحَ، وَلَوْ عُتِقَتِ الأَمَةُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ تَسَتَّرَت وَاسْتَمَرَّتْ فَلَوْ كَانَ الخِمَارُ بَعِيداً فَعَلَى قَوْلي سَبْقِ الحَدَثُ. قال الرافعي: في الفصل مسألتان نذكرهما، وما يليق بهما في قاعدتين: أحدهما: إذا لم يجد المصلي ما يستر به العورة صلى عارياً، والقول في إنه كيف يصلي؟ وإذا صلى هل يقضي؟ قد سبق في آخر كتاب التيمم، ولو حضر جمع من العراة؛ فلهم أن يصلوا جماعة، وينبغي (¬3) أن يقف إمامهم وسطهم كالنسوة إذا عقدن الجماعة، وهل يسن لهم إقامة الجماعة أم الأولى أن ينفردوا؟ فيه قولان: "القديم" أن الانفراد أولى (¬4)، ويحكى عن ابن حنيفة، ولو كان فيهم لاَبِسٌ فليؤمهم، وليقفوا صفاً واحداً خلفه فإن خالفوا فأم عارٍ واقتدى به اللابس جاز خلافاً لأبي حنيفة، حيث قال: لا يجوز اقتداء اللابس بالعاري، ولو اجتمع رجال ونساء فلا يصلون معاً، لا في صف واحد ولا في صفين، بل يصلي الرجال أولاً، والنساء جالسات خلفهم مستدبرات ¬
للقبلة، ثم يصلي الرجال والنساء جالسون خلفهن، كذلك ولو وجد المصلي ما يستر به بعض العورة، فعليه أن يستر به القدر الممكن بلا خلاف، لا كمن يجد من الماء ما لا يكفيه لطهارته، فإن فيه خلافاً قدمناه؛ لأن للماء بدلاً ينتقل إليه، والستر بخلافه، ثم إن كان ما وجده يكفي للسوءتين بدأ بهما، ولو كان لا يكفي إلا إحداهما لم يعدل إلى ستر غيرهما كالفخذ؛ لأن ما سوى السوءتين كالتابع والحريم لهما، فسترهما أهم وأولى، وفيهما ثلاثة أوجه: أصحها: عند جمهور الأصحاب، وحكوه عن نَصِّ الشافعي -رضي الله عنه- أنه يستر القبل رجلاً: كان أو امرأة؛ لأنه لا حائل دون القبل، ودون الدبر حائل وهو الأليتان. والثاني: أنه يستر الدبر؛ لأنه أفحش عند الركوع والسجود. والثالث: أنه يتخير لتعارض هذين المعنيين، حكى هذا الوجه القاضي ابن كج وغيره، وهو أرجح عند المصنف، وأعدل لتقابل الأمرين وانتفاء الترجيح، لكن من صار إلى الوجه الأول ذكر شيء آخر وهو أنه يستقبل بالقبل القبلة، فيكون ستره أهم تعظيماً لها، وهذا كله في واضح الذكورة والأنوثة. أما الخنثى المشكل إن وجد ما يستر به قبله ودبره قدم سترهما، فإن لم يف الموجود بهما وفرعنا على أنه يقدم القبل فيستر قُبُليه، فإن كان لا يكفي إلاَّ لأحدهما سَتَرَ أيهما شاء، والأولى أن يستر آلة الرجال إن كان ثَمّ امرأة، وآلة النساء إن كان ثم رجل، ثم ما ذكرناه من تقديم السوءتين أو أحدهما على الفخذ وغيره، ومن تقديم إحدى السوءتين على الأخرى على الخلاف الذي فيه كلام في الاستحقاق، أو في الأولوية والاستحباب. قال إمام الحرمين: لا يمتنع أن يقال: الكلام في الأولوية، وله ستر ما شاء؛ لأن الفخذ وما دون السّرَّة من العورة، ولا فرق عندنا بين السوءة وغيرها في وجوب الستر. وأبو حنيفة -رحمه الله- هو الذي يفصل ويقسم العورة إلى مُغَلَّظَة ومخففة. قال: وفي كلام الأصحاب ما يدل على أنه في التحتم نظر إلى عرف الناس، فإن من ستر فخذه وترك السوءة بادية يعد منكشفاً. واعلم: أن الأول من هذين الاحتمالين هو الذي أورده طائفة منهم القاضي والروياني، وردوا (¬1) الكلام إلى الأولوية صريحاً. والثاني: قضية كلام الأكثرين وهو الأولى. ¬
وقوله في الكتاب: (لم يستر بها الفخذ) إن كان المراد منه أحد الاحتمالين، فليعلم بالواو لمكان الثاني، وإن كان المراد المشترك بينهما وهو الظاهر فذاك. الثانية: لو كانت الأمة: تصلي مكشوفة الرأس فعتقت في خلال الصلاة، نظر إن لم تقدر على السترة مضت في صلاتها كالعاجز يأتي بجميع الصّلاة في العرى، وإن كانت قادرة على الستر لكنها لم تشعر بقدرتها عليه، أو لم تشعر بالعتق حتى فرغت من الصلاة، ففي وجوب القضاء عليها القولان المذكوران فيما إذا صلى جاهلاً بنجاسة ثوبه، ومنهم من قطع بالوجوب هاهنا، لأنها كانت متمكنة من السَّتْرِ قبل الشُّرُوع في الصلاة، وإن شعرت بهما فإن كان الخمار قريباً منها فطرحته على رأسها، أو طرحه غيرها عليها مضت في صلاتها، وكان ذلك بمثابة ما لو كشف الريح عورته فرد الثوب في الحال، وإن كان بعيداً، أو احتاجت (¬1) في التستر إلى أفعال كثيرة، ومضى مدة في التكشف ففيه القولان المذكوران في سبق الحدث، فإن فرعنا على القديم فلها أن تسعى في طلب الساتر، كما يسعى في طلب الماء، وإن وقفت حتى أتيت به نظر، إن وصل إليها في المدة التي كانت تصل إليه لو سعت فلا بأس، وإن زادت المدة فوجهان: أحدهما: يجوز ذلك، لما فيه من ترك المشي والأفعال. وأظهرهما: لا يجوز وتبطل صلاتها لزيادة المدة، وكثرة الأفعال لا بأس بها على القول الذي يفرع عليه، وينبغي أن يطرد هذا التفصيل، والخلاف في طلب الماء عند سبق الحدث، وإن لم تذكره ثم هو لو شرع العاري في الصلاة ثم وجد السترة في أثنائها، فحكمه على ما ذكرناه في الأمة تعتق وهي واجدة السترة (¬2). وتختم الكلام في هذا الشرط بفروع مهمة: منها: أنه ليس للعاري أخذ الثوب من مالكه قهرًا (¬3) ولو وهبه منه لم يلزمه قبوله (¬4)، وحكي فيه وجهان آخران: ¬
أحدهما: أنه يلزمه القبول والصلاة فيه، ثم له الرد. والثاني: عليه القبول، وليس له الرد، ولو أعاره منه فعليه القبول، فلو لم يقبل وصلى عُرْيَانًا لم تصح صلاته (¬1). ولو باعه أو أجره منه فهو كما لو بيع الماء منه، وقد ذكرناه في "التيمم" وإقراض الثوب كإقراض الثمن. ولو احتاج إلى شراء الثوب والماء، ولم يقدر على شرائهما يقدم شراء الثوب. ومنها: لو أوصى بثوبه لأولى النَّاس به في ذلك الموضع فالمرأة أولى من الرجل والخنثى أولى من الرجل. ومنها: لو لم يجد إلا ثوباً نجساً، ولم يجد ما يغسله به فقولان: أحدهما: يصلي فيه تستراً عن أعين الناس كما أنه يجب التستر به خارج الصلاة، وعلى هذا تجب الإعادة. وأصحهما: أنه يصلي عارياً ولا يلبسه، فإن لم يجد إلا ثوب حرير فأصح الوجهين أنه يصلِّي فيه؛ لأن لبس الحرير يياح للحاجة (¬2). ومنها: يستحب أن يصلي الرجل في أحسن ما يجده من ثيابه يتعمَّم، ويتقمَّص ويرتدي، فإن اقتصر على ثوبين فالأفضل قميص ورداء، أو قميص وَسَرَاوِيل؛ فإن اقتصر على واحد فالقميص أولى، ثم الإزار ثم السراويل، وإنما كان الإزار أولى؛ لأنه يتجافى، ثم في الثوب الواحد، إن كان واسعًا التحف به وخالف بين طرفيه، كما يفعل القصار في الماء، وإن كان ضَيِّقًا عقده فوق سرته، ويجعل على عاتقه شيئاً. ويستحب أن تصلي المرأة في قميص سابغ وخمار وتتخذ جلبابًا كثيفًا فوق ثيابها ليتجافى عنها؛ ولا يبين حجم أعضائها (¬3). ¬
القول في الكلام في الصلاة
قال الغزالي: الشَّرْطُ الرَّابعُ تَرْكُ الكَلاَمِ، وَالعَمْدُ مِنْهُ مَعَ العِلْمِ بِتَحْرِيمِهِ مُبْطِلٌ لِلصَّلاَةِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ فَتَبْطُلُ الصَّلاَةُ بِالحَرْفِ الوَاحِدِ إنْ كَانَ مُفْهِمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُفهِمًا فَلاَ تَبْطُلُ إِلاَّ بِتَوَالِي حَرْفَيْنِ، وَفِي حَرْفٍ بَعْدَهُ مَدَّةٌ تَرَدُّدٌ، وَالتَّنَحْنُحُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ مُبْطَلٌ فِي أَصَحِّ الوُجُوهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَتِ القِرَاءَةُ إِلاَّ بِهِ لَمْ يَضُرَّ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الجَهْرُ فَوَجْهَانِ. القول في الكلام في الصلاة قال الرافعي: عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ صَلاتَنَا هَذِهِ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ الآدَمِّيِينَ، إِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَتِلاَوَةُ الْقُرْآنِ" (¬1). وروي أن -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللهَ يُحْدِثُ مَن أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وإنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لاَ تَتَكَلَّمُوا فِي الصَّلاَةِ" (¬2). للمتكلم في الصلاة حالتان: أحداهما: أن لا يكون معذوراً فيه. والثانية: أن يكون معذوراً، وهذا الفصل مسوق لبيان الحالة الأولى فينظر إن نطق بحرف واحد لم تبطل صلاته، إلا إذا كان مفهمًا أما أنه لا تبطل إذا لم يكن مفهماً، فلأن أقل ما بني عليه الكلام حرفان، والحرف الواحد ليس من جنس الكلام، وأما أنه تبطل إذا كان مفهمًا فلاشْتِمَالِهِ على مقصود الكلام، والإعراض به عن الصلاة، ومثال الحرف الواحد المفهم "ق" و"ش" و"من" و"قي" و"وشي" وما أشبه ذلك، فإنه يفهم وإن كان ينبغي أن يسكت عليها بالهاء، وإن نطق بحرفين، بطلت صلاته، سواء أفهما أم لا؛ لأن ذلك من جنس الكلام، والكلام ينقسم إلى مفيد وغير مفيد، ولو أتى بحرف ومدَّة بعده، فهل هما كالحرفين؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنها قد تتفق لإشباع الحركة ولا يعد حرفًا. ¬
وأظهرهما: نعم؛ لأن المدة ألف أو ياء أو واو، وهي حروف مخصوصة فضمها إلى الحرف كضم حرف آخر إليه؛ ومال إمام الحرمين إلى رفع هذا الخلاف، بحمل الوجه الأول على ما إذا اتبعه بصوت غفل لا يقع على صورة المدات، والجزم بالمنع إذا اتبعه بحقيقة المدِّ، وفي التنحنح ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه إن لم يبن منه حرفان فلا تبطل الصلاة، وإلا فيبطلها، كما لو أتى بحرفين على وجه آخر. والثاني: أنه لا تبطل، وإن بَانَ منه حرفان؛ لأنه ليس من جنس الكلام، ولا يكاد يتبين منه حرف محقق فأشبه الصوت الغفل، وحكي هذا عن نص الشافعي -رضي الله عنه-. والثالث: ذكره القَفَّالُ أنه إن كان مطبقًا [فمه] (¬1) لم يضر، وإن كان فاتحًا فمه ننظر حينئذ: هل يبين منه حرفان أم لا؟. والفرق أنه إن كان مطبقاً شفتيه كان التنحنح كقرقرة في التجاويف، فإذا فرعنا على الأول وهو الذي قطع به الجمهور، فذلك إذا أتى به قصداً من غير حاجة، فأما إذا كان مغلوباً فلا بأس، ولو تعذرت القراءة إلا به تنحنح، وهو معذور، وإن أمكنه القراءة لكن تعذر عليه الجهر لو لم يتنحنح ففيه وجهان: أحدهما: أنه يعذر به إقامةً لشعار الجهر، ولأن التنحنح في أثناء القراءة لا يعد منقطعاً عن القراءة، بل يعد من توابعها. وأظهرهما: أنه ليس بعذر؛ لأن الجهر أدب وسنة، ولا ضرورة إلى احتمال التنحنح له، ولو تنحنح الإمام وظهر منه حرفان؛ فهل للمأموم أن يدوم على متابعته؟ فيه وجهان ذكرهما القاضي الحسين: أحدهما: لا، بل يفارقه؛ لأن الأصل سلامته، وصدور أفعاله عن اختياره. وأظهرهما: أن له أن يدوم على متابعته؛ لأن الأصل بقاء العبادة، والظاهر من حالة الاحتراز عن مبطلات الصلاة، فيحمل على كونه مغلوباً، والضحك والبكاء والنفخ والأنين كالتنحنح، إن بَانَ منها حرفان بطلت صلاته، وإلا فلا؛ ولا فرق بين أن يكون بكاءه لأمر الدّنيا أو الآخرة. وعند أبي حنيفة إن كان الأنين والبكاء لأمر الجنة والنَّار لم يضر، وإن كان لمرض ونحوه بطلت صلاته بكل حال. ¬
إذا عرفت ذلك فعد إلى ألفاظ الكتاب: واعلم أن قوله: (والعمد منه مبطل للصلاة) الغرض منه بيان حكم الكلام في غير المعذور لإدارة الحكم على وصف العَمْدِية، فإنه قد يتكلم عامدًا ولا تبطل صلاته على ما سيأتي في الأعذار، لكن الوصف المقابل للعمدية وهو النسيان أشهر الأعذار، فكنى بالعامد من غير المعذور. وقوله: (فتبطل الصلاة بالحرف الواحد ...) إلى آخره، إشارة إلى حد القليل، معناه: ما قَلَّ، هو الحرف الواحد، إن كان مفهماً أو حرفان كيفما كانا. وقوله: (والتنحنح لغير ضرورة مبطل في أصح الوجوه) مطلق، والمراد منه ما إذا ظهر منه حرفان، فإن قُلْتَ: لو لم يظهر إلا حرف واحد لم يقع عليه اسم التنحنح، وقد تعرض في الكتاب للتنحنح، فلا حاجة إلى التقييد المذكور. فالجواب أن انتفاء ظهور الحرفين قد يكون لانحصار (¬1) ما ظهر في الحرف الواحد، وقد يكون لاسترسال سعال، لا يبين منه حرف أصلاً فلا بد من التقييد. قوله: "لغير ضرورة" كان المراد بالضرور الحاجة، وإلا فيدخل في قوله: (والتنحنح لغير ضرورة مبطل) ما إذا تعذرت القراءة إلا به؛ لأنه يمكنه الصبر، فلعلها تتيسر على قربٍ، وحينئذ يكون ما ذكره حكماً بالبطلان في تلك الصورة، ومعلوم أنه ليس كذلك. قال الغزالي: وَلاَ تَبْطُلُ الصَّلاَةُ بِسَبْقِ اللِّسَانِ وَلاَ بِكَلاَمِ النَّاسِي (ح)، وَلاَ بِكَلاَمِ الجَاهِلِ (ح) بِتَحْرِيمِ الكَلاَمِ إِنْ كَانَ قَرِيبَ العَهْدِ بِالْإِسْلاَمِ، وَهَلْ تَبْطُلُ بِكَلاَمِ المُكْرَهِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ، وَمَصْلَحَةُ الصَّلاَةِ لَيْسَتْ عُذْرًا (م) فِي الكَلاَمِ. قال الرافعي: غرض هذا الفصل القول في أعذار الكلام. فمنها: سباق اللسان إلى الكلام عن غير قصد منه، لا يقدح في الصَّلاة بحال؛ لأنا سنبين أن الناسي معذور، فهذا أولى؛ لأن الناسي يتكلم قاصداً إليه وإنما غفل عن الصلاة، وهذا غير قاصد إلى الكلام، وكذلك لو غلبه الضحك أو السعال لم يضر وإن بَانَ منه حرفان، ومنها النّسيان، فلا تبطل الصلاة بكلام الناسي للصلاة خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: كلام الناسي ككلام العابد، وسلم أبو حنيفة أن كلام الناسي لا يبطلها، وعن أحمد روايتان: أحداهما: مثل مذهبه، والأشهر مثل مذهبنا. ¬
لنا ما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْعَصْرَ وَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ، فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: أَقُصِرَتِ الصَّلاَةُ أَمْ نَسِيَتَ، فَقَالَ: كُلَّ ذلِكَ لَمْ يَكُنْ. [فَقَالَ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذلِكَ فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ] (¬1) فَقَالَ: أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقِيلَ: نَعَمْ فَأتَمَّ مَا بَقِيَ مِنَ الصَّلاَةِ، وَسَجَدَ للسَّهْوِ" (¬2). ووجه الاستدلال: أنه تكلم معتقدًا أنه ليس في الصلاة، ثم بني عليها. وأيضاً القياس على السلام ناسياً، وعلى الأكل في الصوم ناسياً. ومنها: الجهل بتحريم الكلام على المصلي، لما روي عن معاوية بن الحكم قال: "لَمَّا رَجَعْتُ مِنَ الْحَبَشَةِ، صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَعَطَسَ بَعْضُ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ فَحَدَقَنِي النَّاسُ بأَبْصَارِهِمُ، فَقُلْتُ: مَا شَأَنكُم تَنْظُرُونَ إِلَيَّ، فَضَرَبُوا بِأيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِم يُسَكِّتُونَنِي، فسَكت، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: يَا مُعَاوَيةُ إِنَّ صَلاتَنَا هذِهِ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ، إِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ" (¬3). وهذا عذر في حق قريب العهد بالإسلام، فإن كان بعيد العهد به بطلت صلاته، لأنه مقصر بترك التعلم، ولو علم أن الكلام حرام "في الصلاة" ولكن لم يعلم أنه مبطل لها لم يكن ذلك عذرًا، كما لو علم أن شرب الخمر حرام ولم يعلم أنه يوجب الحد، بخلاف ما لو لم يعلم التحريم، والسبب فيه أنه بعد ما عرف التحريم حقه الامتناع. وقال في "الوسيط" عقيب هذه المسألة: الجهل بكون التنحنح أو ما يجري مجراه مبطلاً فيه تردد -يعني- وجهين، والأصح أنه عذر، ويبعد أن يكون التصوير فيما إذا جهل كون التنحنح مبطلاً بعد العلم بتحريمه، فإنا إنما اكتفينا في المسألة السابقة بالعلم بالتحريم من حيث إنه إذا علم التحريم فينبغي أن يمتنع عن الحرام، ولا حاجة إلى العلم بكونه مبطلاً، وهذا موجود في التنحنح فلا يظهر بينهما فرق مع التسوية في الحرمة، والقول (¬4) بكونهما مبطلين، ولكن الأقرب شيئان: أحدهما: أن يكون هذا التردد في الجاهل، لكون التنحنح مبطلاً بعد العلم بكون الكلام مبطلاً، أو حراماً؛ لأن التنحنح وإن بَانَ منه حرفان لا يعد كلاماً، فلا يلزم من العلم بالمنع عن الكلام العلم بالمنع منه، والتردد على هذا التنزيل قريب من التردد فيما إذا علم أن جنس الكلام محرم ولم يعلم أن ما أتى به، هل هو ¬
[محرم] (¬1) أم لا؟ والظاهر في الصورتين أنه معذور. والثاني: أن يكون التردد في حق بعيد العهد بالإسلام، إذا جهل كون التنحنح مبطلاً هل يعذر أم لا؟ فعلى رأي لا، كما إذا جهل كون الكلام مبطلاً، وعلى رأي: نعم؛ لأن ذلك مشهور لا يكاد يجهله مُسْلِمٌ، وهذا ما يختص بمعرفته الفقيه -والله أعلم-. ومنها: الإكراه فلو أكره حتى تكلم، هل تبطل صلاته؟ فيه قولان، كالقولين فيما لو أكره الصائم على الأكل. أحدهما: لا تبطل صلاته إلحاقًا للإكراه بالنسيان. وفي الخبر: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" (¬2). وأصحهما: ولم يذكر في "التهذيب" سواه: أنها تبطل؛ لأنه أمر نادر بخلاف النسيان، وصار كما لو أكره على أن يصلي بلا وضوء أو قاعداً تجب عليه الإعادة، ولا يكون عذراً، ثم جميع هذه الأعذار في الكلام اليسير، فأما إذا كثر ففي صورة النسيان وجهان مشهوران: أحدهما: أنها لا تبطل الصلاة؛ لأنه لو أبطلها (¬3)، لأبطلها القليل، كما في حالة التعمد، وبهذا قال أبو إسحاق. وأظهرهما: عند الجمهور: أنها تبطل، وعليه يدل كلام الشافعي -رضي الله عنه- في "المختصر" وذكروا له معنيين: أحدهما: أن الاحتراز عن الكثير سهلٌ غالباً؛ لأن النسيان فيه يبعد ويندر، وما يقع نادراً لا يعتد به. والثاني: أنه يقطع نِظْمَ الصَّلاَةِ وهيئتها، والقليل يحتمل لقلته، ورتبوا على هذه المسألة بطلان الصوم بالأكل الكثير ناسياً، إن قلنا: لا تبطل الصلاة فالصوم أولى بالاَّ يبطل، وإن قلنا: ببطلان الصلاة، ففي الصوم وجهان مبنيان على المحنيين، إن قلنا: بالمعنى الأول يبطل وإن قلنا: بالثاني فلا إذ ليس في الصوم أفعال منظومة حتى يفرض انقطاعها، وإنما هو انكفاف مجرد، وأجرى صاحب "المهذب" وغيره هذا الخلاف في ¬
حالة الجهل أيضاً، وكذلك في سبق اللسان، وما الحد الفارق بين القليل والكثير؟ حكي في "البيان" عن الشيخ أبي حامد أن الكلام اليسير حده الكلمة والكلمتان والثلاث ونحوها (¬1)، [وعن] ابن الصباغ أن اليسير هو: القدر الذي تكلم به النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث ذي اليدين وكل واحد منهما للتمثيل أصلح منه للتحديد، والأظهر فيه وفي نظائره الرجوع إلى العادة على ما سيأتي. إذا عرفت ذلك عرفت أن قوله: (ولا تبطل لسبق اللسان، ولا بكلام الناسي ...) إلى آخره المراد منه الكلام اليسير وإن كان اللفظ مطلقاً إلا أن يريد الجواب على الوجه المنسوب إلى أبي إسحاق، فحينئذ لا حاجة إلى التقييد، ويحتاج إلى الإعلام بالواو والظاهر أنه ما أراد إلا اليسير. وقوله: (ولا بكلام النَّاسِي) معلم بالحاء والألف لما قدمناه، ولك أن تعلم قوله: (ولا بكلام الجاهل) بالحاء أيضاً لأن في كلام أصحابنا حكاية الخلاف عن أبي حنيفة في صورة الجهل أيضاً. وقوله: (بأن كان قريب العهد بالإسلام) في بعض النسخ إن كان قريب العهد، وهو أولى؛ لأن الغرض تقييد الجاهل، وإنما يقال: بأن يكون كذا في موضع التفسير والبيان. وقوله: (ومصلحة الصلاة ليست عذراً في الكلام) الغرض منه بيان أنه لا فرق بين أن يتكلم لمصلحة الصلاة مثل أن يقول: لإمامه الساهي بالقيام: اقعد، أو بالقعود: قم، أو تكلم لا لمصلحتها، وكونه لمصلحتها ليس من جملة الأعذار، خلافاً لمالك -رضي الله عنه- وهو رواية عن أحمد في حق الإمام خاصة. لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْكَلاَمُ يَنْقُضُ الصَّلاَةَ وَلاَ يَنْقُضُ الوُضُوءَ" (¬2). وهذا مطلق. واحتج الأصحاب أيضاً بأن المأموم إذا أراد تنبيه الإمام على سهوه فالسُّنة له أن يسبح إن كان رجلاً، وإن تصفق إن كانت امرأة فلو جاز أن ينبه بالكلام لما أمر بالعدول إلى التسبيح، وغيره. واعرف هاهنا شيئين: ¬
أحدهما: أن التسبيح والتصفيق لا اختصاص لهما بحالة تنبيه الإمام، بل متى ناب الرجل شيء في صلاته كما إذا رأى أعمى يقع في بئر واحتاج إلى تنبيهه أو استأذنه إنسان في الدخول، وأراد إعلام غيره أمراً فالسُّنَّة له أن يسبح، والمرأة تصفق، في جميع ذلك لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا نَابِ أَحَدُكُمْ شَيْءٌ فِي صَلاَته، فَلْيُسَبِّحْ، فَإِنَّمَا التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ" (¬1). والثاني: أن المراد من التصفيق أن تضرب بطن كلها الأيمن على ظهر كلها الأيسر. وقيل: أن تضرب أكثر أصابعها اليمنى على ظهر أصابعها اليسرى. وقيل: هو ضرب أصبعين على ظهر الكف، والمعاني متقاربة، والأول أشهر، ولا ينبغي أن تضرب بطن الكف على بطن الكف، فإن ذلك لعب، ولو فعلت ذلك على وجه اللعب بطلت صلاتها، وإن كان ذلك قليلاً، لأن اللعب ينافي الصلاة، فهذا شرح مسائل الكتاب، وينخرط في سلك الأعذار سوى ما ذكره أمور: منها: ما يقع جوابًا للرسول -صلى الله عليه وسلم- فإذا خاطب مصلياً في عصره وجب عليه الجواب، ولم تبطل بذلك صلاته. ومنها: لو أشرف إنسان على الهلاك، فأراد إنذاراه وتنبيهه ولم يحصل ذلك إلا بالكلام فلا بد له من أن يتكلم، وهل تبطل صلاته؟ فيه وجهان: أحدهما -وبه قال أبو إسحاق واختاره جماعة من الأصحاب-: لا كإجابة النبي -صلى الله عليه وسلم-. وأصحهما: عند الأكثرين، نعم للنصوص المطلقة، ويستثنى جواب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لشرفه، ولهذا أمر المصلي بأن يقول: سلام عليك أيها النبي؛ ولا يجوز أن يقول ذلك لغيره. ومنها: ما حكى المحاملي وغيره: أنه لو قال: آه من خوف النار لم تبطل صلاته، والمشهور خلافه. قال الغزالي: وَلَوْ قَالَ: ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ عَلَى قَصْدِ القِرَاءَةِ لَمْ يَضُرَّ وَإِنْ قَصَدَ التَّفْهِيمَ، فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ إِلاَّ التَّفْهِيمَ بَطُلَتْ، وَفِي السُّكُوتِ الطَّوِيلِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ وَجْهَانِ. ¬
قال الرافعي: الكلام الذي يقدح في الصلاة عند عدم الأعذار هو ما عدا القرآن والأذكار، وما في معناها فأما القرآن: فإذا أتى بشيء من نظمه قاصداً به القراءة لم يضر، وإن قصد مع القراءة شيئاً آخر كتنبيه الإمام أو غيره والفتح على من ارتج عليه، وتفهيم أمر من الأمور مثل أن يقول لجماعة يستأذنون في الدخول (ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ) أو يقول: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) وما أشبه ذلك ولا فرق بين أن يكون منتهياً في قراءته إلى تلك الآية أو ينشئ قراءتها حينئذ. وقال أبو حنيفة: إذا قصد شيئاً آخر سوى القراءة بطلت صلاته، إلا أن يريد تنبيه الإمام أو المَارِّ بَيْنَ يديه، وكذا لو أتى بذكر وتسبيح في الصلاة، وقصد به مع الذكر شيئاً آخر ففيه مثل هذا الخلاف، وذلك مثل أن يحمد الله تعالى على عطاس، أو بشارة يبشر بها، أو يخبر بما يسوءه فيقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون". لنا: ما روي عن علي -رضي الله عنه- قال: "كَانَتْ لِي سَاعَةٌ أَدْخُلُ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَإنْ كَانَ فِي الصَّلاَةِ سَبَّحَ، وَذلِكَ إِذْنُهُ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ أَذِنَ" (¬1) ولأنه قصد الإفهام والإعلام بشيء مشروع في الصلاة فلا يضر؛ كما لو قصد تنبيه الإمام والمار بين يديه، ونقل صاحب "البيان" وغيره وجهاً عن بعض أصحابنا أيضاً، أنه إذا قصد مع التلاوة شيئاً آخر بطلت صلاته، فليكن قوله: (وإن قصد التفهيم) معلماً بالحاء والواو كذلك، وإن لم يقصد إلا الإفهام والإعلام فلا خلاف في بطلان الصلاة، كما لو أفهم بعبارة أخرى، ولو أتى بكلمات لا توجد في القرآن على نظمها وتوجد مفرداتها، مثل أن يقول: (يا إبراهيم)، (سلام) (كن) بطلت صلاته ولم يكن لها حكم القرآن بحال. وأما الأذكار والتسبيحات والأدعية بالعربية فلا تقدح أيضاً، سواء المسنون وغير المسنون منها، نعم ما فيه خطاب مخلوق غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجب الاحتراز منه فلا يجوز أن يقول للعاطس: يرحمك الله. وعن يونس بن عبد الأعلى (¬2) عن الشافعي -رضي الله عنه- أنه لا يضر ذلك، وصحح القَّاضِي الرّوَيانِي هذا القول، والمشهور الأول، ويدلُّ عليه ما قدمنا من حديث ¬
معاوية بن الحكم، ولم ينقل خلاف في أنه لا يجوز أن يسلم، ولا أن يرد السلام لفظًا ويرده إشارة بيده أو برأسه، خلافاً لأبي حنيفة. ولو قال: يرحمه الله، أو عليه السلام لم يضر، هذا هو الكلام في إحدى مسألتي الغسل وما يتعلق بها. والثانية: السكوت اليسير في الصَّلاَةِ لا يضر بحال، وفي السكوت الطويل إذا تعمده وجهان: أحدهما: أنه يبطل الصلاة؛ لأنه كالإضراب عن وظائفها، إذ اللائق بالمصلي الذكر والقراءة والدعاء، ومن رآه في سكتة طويلة سبق إلى اعتقاده أنه ليس في الصلاة كما إذا رآه يتكلم. وأصحهما: لا تبطل؛ لأن السكوت لا [يحرم] (¬1) هيئة الصلاة وما يجب فيها من رعاية الخضوع والاستكانة، وخص في "التهذيب" الوجهين بما إذا سكت لغير غرض، فأما لو سكت طويلاً لغرض بأن نسي شيئاً فتوقف لتذكر: فلا تبطل صلاته ولا محالة، ولو سكت سكوتًا طويلاً ناسياً، وقلنا: إن عمده مبطل فطريقان: أحدهما: التخريج على الخلاف المذكور في الكلام الكثير ناسياً. والثاني: أنه لا يضر جزماً تنزيلاً له منزلة الكلام اليسير، ولهذا عند التعمد جعل طويل السكوت كقليل الكلام، وسومح بقليل السكوت. قال في "الوسيط": وهذا أصح. واَعلم: أن الإشارة المفهمة من الأخرس نازلة منزلة عبارة الناطق في العقود، وهل تبطل الصلاة بها؟ أجاب الإمام الغزالي -رحمه الله- في "الفتاوى" بأنها لا تبطل ورأيت بخط والدي -رحمه الله- حكاية وجه آخر أنها تبطل ككلام الناطق. قال الغزالي: الشَّرْطُ الْخَامِسُ: تَرْكُ الأَفْعَالِ الكَثِيرَةِ، والكَثِيرُ مَا يُخَيِّلُ لِلنَّاظِرِ الإِعْرَاضَ عَنِ الصَّلاَةِ كَثَلاَثَ خُطُوَاتٍ أوْ ثَلاثِ ضَرَبَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ، وَلاَ تَبْطُلُ بِمَا دُونَهُ، وَلاَ بِمُطَالَعَةِ القُرْآن، وَلاَ بِتَحْرِيكِ الأَصَابع فِي سُبْحَةٍ أَوْ حَكَّةٍ عَلَى الأظْهَرِ. قال الرافعي: ما ليس من أفعال الصلاة ضربان: أحدهما: ما هو من جنسها، فإن فعله ناسياً عُذِّر، ولم تبطل صلاته، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ الحَالُ سَجَدَ للسَّهْوِ وَلَمْ يُعِدِ ¬
الصَّلاَةِ" (¬1)، وإن كَانَ عامدًا بطلت سواء كثر أو قلّ كركوع وسجود ونحوهما؛ لأنه تلاعب في الصلاة، وإعراض عن نظام أركانها. وقال أبو حنيفة: لا تبطل صلاته بزيادة الركوع والسجود عمداً، وإنما تبطل بزيادة ركعة. والضرب الثاني: ما ليس من جنس أفعال الصَّلاَةِ، وهو المقصود في الكتاب، فلا خلاف أنه يفرق فيه بين القليل والكثير؛ لما روي "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى وَهُوَ حَامِلُ أُمَامَةَ بِنْتِ أَبِي الْعَاصِ فَكَانَ إِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ رَفَعَهَا". وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اقْتُلُوا الأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلاَةِ الحية وَالعَقْرَبِ" (¬2). وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- "أَخَذَ بِأُذُنِ ابْنِ عَبَّاس -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ فَأدَارَهُ مِنْ يَسَارِهِ إِلَى يَمِينِهِ" (¬3). ودخل أبو بكر المسجد والنبي -صلى الله عليه وسلم- في الركوع فركع خيفة أن يفوته الركوع ثم خطا خطوة ودخل الصف، فلما فرغ قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "زَادَكَ اللهُ حِرصاً، وَلاَ تَعُدْ" (¬4) ولم يأمره بالإعادة. وروي "أَنَّهُ صَلَّى -صلى الله عليه وسلم- سَلَّمَ عَلَيهِ نَفَر مِنَ الأَنصَارِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِالإشَارَةِ" (¬5). دلت هذه الأخبار ونحوها، على احتمال الفعل القليل في الصلاة، وإلى هذا أشار المصنف حيث قال في ترجمة الشرط "ترك الأفعال الكثيرة" وفي الكلام لما استوى قليله وكثيره في الإبطال، أطلق فقال: (ترك الكلام). والمعنى فيه: أنه يعسر على الإنسان أو يتعذر الكون على هيئة واحدة في زمان طويل، بل لا يخلو عن حركة واضطراب، ولا بد للمصلي من رعاية التعظيم والخشوع، [فعفى عن القدر الذي لا يحمل على الاستهانة بهيئة الخشوع] (¬6) وأما في ¬
الكلام فالاحتراز عن قليله وكثيره هين، ثم بماذا يفرق بين القليل والكثير؟ للأصحاب فيه عبارتان غريبتان، وعبارتان مشهورتان، فإحدى الغريبتين أن القليل: ما لا يسع زمانه لفعل ركعة من الصلاة فإن وسع فهو كثير، حكاها صاحب "العدة". الثانية: أن كل عمل لا يحتاج فيه إلى كلتا اليدين فهو قليل، وما يحتاج فيه إليهما فهو كثير. فالأول: كرفع العمامة وحل أشرطة السراويل. والثاني: كتكوير العمامة وعقد الإزرار والسراويل. وأما المشهورتان: فإحداهما: ما حكي عن القفال وغيره أن القليل هو القدر الذي لا يظن الناظر إليه أن فاعله ليس في الصلاة، والكثير الذي يظن أن فاعله ليس في الصلاة، وهذا هو الذي ذكره في الكتاب، فقال: "والكثير ما يخيل إلى الناظر الإعراض عن الصلاة" واعترضوا عليها بأن هذا الظن والتخيل إما أن ينشأ من أنه غير محتمل في الصَّلاَة شرعاً، أو أن غالب عادة المصلين الاحتراز عنه من غير أن ينظر إلى محتمل، أم لا، فإن كان الأول فإنما يحصل هذا الظن أو الخيال لمن عرف حد الكثير المبطل، ونحن عنه نبحث، فكأنا قلنا: الكثير هو الذي يحكم ببطلان الصلاة به من عرف أنه مبطل، ومعلوم أن هذا لا يفيد شيئاً، وإن كان الثَّانِي فهو يشكل بما إذا رآه يحمل صبيًا، أو يقتل حية، أو عقربًا، فإنه محتمل مع أن الناظر إليه يتخيل أنه ليس في الصلاة؛ لأنه على خلاف عادة المصلين غالباً. والثانية: أن الرجوع [في الفرق بينهما] (¬1) إلى العادة فلا يضر ما يعده النَّاس قليلاً، كالإشارة برد السلام، وخلع النعل، ولبس الثوب الخفيف ونزعه، وما أشبه ذلك، وهذه العبارة هي التي اختارها الأكثرون ومنهم الشيخ أبو حامد ومن تابعه، ولم يذكر صاحب "التهذيب" سواها، وأوردها الصيدلاني مع الأولى، وأشعر إيراده بترجيح هذه الثانية أيضاً، وعند هذا لا يخفى عليك أن قوله: (والكثير ما يخيل إلى الناظر) ينبغي أن يعلّم بالواو إشارة إلى العبارات الآخر، ثم أطبق أصحاب العبارتين المشهورتين على أن الفعلة الواحدة معدودة من القليل (¬2)، كالخطوة الواحدة والضربة الواحدة، وقد ¬
نص عليه الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- وعلى أن الثلاث فصاعداً من الكثير، وفي الفعلتين وجهان محكيان عن رواية القاضي أبي الطيب وغيره. أحدهما: أنهما من حد الكثير لمكان التكرار، وكالثلاث. وأصحهما: أنهما من القليل لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "خَلَعَ نَعْلَيْهِ في الصَّلاَةِ" وهما فعلتان، ورأيت في كثير من نسخ الكتاب قوله: (ولا تبطل بما دونه) معلماً بالواو، كأنهم أشاروا به إلى الوجه الأول لكن إنما ينتظم ذلك لو رجعت الكناية في قوله: (بما دونه) إلى الخطوات والضربات ورجوعها إلى قوله: (والكثير أظهر) من رجوعها إلى الخطوات، ألا ترى أنه ذكر الكناية ولم يؤنثها، ثم أجمعوا على أن الكثير إنما يبطل بشرط أن يوجد على التوالي، وإليه أشار بقوله: (متوالية) أما لو تفرق كما لو خطا خطوة، ثم بعد زمانٍ خَطَا خطوة أخرى، وهكذا مراراً لم تبطل صلاته، وكذلك لو خطا خطوتين، ثم بعد زمان خطوتين أخريين إذا قلنا: إن الفعلتين من حد القليل. واحتجوا عليه بحديث حمل أمامة، فَإِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَحْمِلُهَا وَيَضَعُهَا، ولم يضر ذلك لتفريق الأفعال، والتفريق بأن يعد الثاني منقطعاً عن الأول في العادة. وقال في "التهذيب": فيما إذا ضرب ضربتين، ثم بعد زمان ضربتين أخرتين. وحد التفريق عندي أن يكون بين الأوليتين والأخرتين قدر ركعة لحديث أمامة، ثم ما ذكره الأئمة أن الفعلة الواحدة تعد من القليل أرادوا به نحو الطعنة والضربة والخطوة، فأما إذا أفرطت كالوثبة الفاحشة، فإنها تبطل الصلاة، ذكره صاحب [التهذيب] (¬1) وغيره، وهو قضية العبارتين المشهورتين، وكذلك قولهم: (الثلاث المتوالية من الكثير المبطل) أرادوا من الخطوة وما يشبهها، وأما الحركات الخفيفة، كتحريك الأصابع في سبحة، أو حكة، أو عقد حل، ففيها وجهان: أحدهما: أنها إذا كثرت وتوالت أبطلت؛ لأنها أفعال متعددة فأشبهت الخطوات. وأظهرهما: أنها لا تؤثر؛ لأنها لا تخل بهيئة الخشوع، فهي مع كثرة العدد بمثابة الفعل القليل، وقد حكي عن نص الشافعي -رضي الله عنه- أنه لو كان يعد الآي في صلاته عقداً باليد، لم تبطل صلاته، وإن كان الأولى أن لا يفعله، وبه قال أبُو حَنِيفَةَ، وجميع ما ذكرناه في ما إذا تعمد الفعل الكثير، فأما إذا أتى به ناسياً فقد حكى في "النهاية" فيه طريقين: أحدهما: أنه على الوجهين في الكلام الكثير ناسياً. ¬
والثاني: أن أول حد الكثرة لا يؤثر كالكلام اليسير من الناسي، فإن أول حد الكثرة هو الذي يبطل عند التعمد، كالكلام الكثرِ عند التعمد، وما جاوز أول حد الكثرة وانتهى إلى السرف، فهو على الخلاف في الكلام الكثير ناسياً، والذي حكاه الجمهور من هذا الخلاف أنه لا فرق في الفعل الكثير بين العمد والسهو، وهو الذي يوافق ظاهر قوله: (الشرط الخامس ترك الأفعال الكثيرة) وفرقوا بينه وبين الكلام، بأن الفعل أقوى من القول، ولهذا ينفذ إحبال المجنون دون إعتاقه، قالوا: ولا يعارض هذا بأن القليل من الفعل محتمل، والقليل من الكلام غير محتمل؛ لأن القليل من الفعل لا يتأتي الاحتراز عنه، والْكَلاَمُ مما يتأتى الاحتراز عنه من النَوْعَين، -والله أعلم-. واعلم أنه يستثنى عن إبطال العمل الكثير الصلاة حال شدة الخوف، فيحتمل فيها الركض والعدو عند الحاجة، وهل يحتمل عند عدم الحاجة؟ فيه كلام مذكور في الكتاب في صلاة الخوف على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى-. وأما قوله: (ولا بمطالعة القرآن) فاعلم أنه لو قرأ القرآن من المصحف لم يضر، بل يجب ذلك إذا لم يحفظ الفاتحة على ما سبق، ولو قلب الأوراق أحيانًا لم يضر؛ لأنه عمل يسير. وعن أبي حنيفة أنه لو قرأ القرآن من المصحف بطلت صلاته؛ لأن النظر عمل دائم، وعندنا لو كان ينظر في غير القرآن، ويردد في نفسه ما فيه لا تبطل صلاته أيضاً؛ لأن النظر لا يشعر بالإعراض عن الصلاة، وحديث النفس معفو عنه، وحكى القاضي ابن كج وجهاً أن حديث النفس إذا أكثر أبطل الصلاة، وقوله بعد: (مطالعة القرآن): (ولا بتحريك الأصابع في سُبْحَة، أو حكَّة على الأظهر) الوجهان المخصوصان بالتحريك، لا جريان لهما في مطالعة القرآن، فلا يتوهم من العطف غير ذلك. قال الغزالي: وَإِذَا مَرَّ المَارُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدفَعْهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتَلْهُ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ هَذَا لَفْظُ الخَبَرِ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِكَرَاهِيةِ المُرُورِ وَاسْتحْبَابِ الدَّفْعِ، فَإِنْ لَمْ يَنصِبِ المُصَلِّي بَيْنَ يَدَيْهِ خَشبَةً أَوْ لَمْ يَسْتَقْبِلْ جِدَارًا أَوْ عَلاَمَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ الدَّفْعُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لِتَقْصِيرِهِ، وَلاَ يَكْفِيهِ أَنْ يَخُطَّ عَلَى الْأرْضِ بَلْ لاَ بُدَّ مِنْ شَيْءٍ مُرْتَفِعٍ أَوْ مُصَلَّى طَاهِرٍ، فَإذَا لَمْ يَجِدِ المَارُّ سَبِيلاً سِوَاهُ فَلاَ دَفْعَ لَهُ بِحَالٍ. قال الرافعي: السبب الداعي إلى إيراد هذا الفصل هاهنا الاستدلال بالأمر بالدفع على أن الفعل القليل لا بأس به في الصلاة، ثم يتعلق به مسائل مقصودة فجرت العادة بذكرها في هذا الموضع، والخبر المشار إليه ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا مَرَّ المَارَّ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدِكُمْ، وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَدفَعْهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيَدفَعْهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّهُ
شَيْطَانٌ" (¬1) وروى البخاري في "الصحيح" عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءِ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيطَانٌ" (¬2). قيل: معناه شيطان الإنس. وقيل: معناه فإن معه شيطانًا، فإن الشيطان لا يجسر أن يمر بين يدي المصلي وحده، فإذا مر إنسي رافقه. والمستحب للمصلي أن يكون بين يديه ستره من جدار، أو سارية أو غيرهما، ويدنو منها بحيث لا يزيد ما بينه وبينها على ثلاثة أذرع، وإن كان في الصحراء فينبغي أن يغرز عصا ونحوها، أو يجمع شيئاً من رحله ومتاعه، وليكن قدر مؤخرة الرحل، فإن لم يجد شيئاً شاخصاً خط بين يديه خطاً، أو بسط مصلَّى؛ لما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شَيْئاً؛ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَنْصِبَّ عَصاً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَصاً فَلْيَخُطَّ خَطًّا؛ ثُمَّ لاَ يَضُرُّهُ مَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ" (¬3) ثم إذا صلى إلى سترة كره لغيره أن يمر بينه وبين السترة، وهل هذه الكراهة للتحريم أو للتنزيه؟ الذي ذكره في "التهذيب" أنه لا يجوز المرور، وصاحب الكتاب أراد بقوله وهو تأكيد لكراهية المرور التنزيه؛ لأنه صرح في "الوسيط" بأن المرور ليس بمحزور، وإنما هو مكروه، وكذلك ذكره إمام الحرمين، والأول أظهر؛ لأنه صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال. "لَوْ يَعْلُمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ، لكَانَ أنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ" (¬4). والإثم إنما يلحق بالحرام، وليكن قوله: (بكراهية المرور) معلماً بالواو، لما ذكرناه، وذكر القاضي الروياني في "الكافي" أن للمصلي أن يدفعه، وله أن يضربه على ذلك، وإن أدى إلى قتله، وكل ذلك لا يكون إلا إذا حرم المرور، ولو لم يجعل بين يديه ستره؛ فهل له دفع المار؟ فيه وجهان حكاهما صاحب "النهاية" وغيره. ¬
أحدهما: نعم، لعموم الخبر المذكور في الكتاب. وأصحهما: وهو الذي أورده في "التهذيب": لا؛ لتقصيره وتضييعه خط نفسه، ورواية الصحيح مقيدة بما إذا صلى إلى السترة، والمطلق محمول على المقيد. ولو وقف بعيداً من السترة فهو كما لو صلَّى لا إلى سترة. ولو وجد الداخل فُرْجَةً في الصف الأول فله أن يمر بين يدي الصَّفِّ الثاني ويقف فيها؛ لتقصير أصحاب الصَّف الثاني بإهمالها، ذكره الشَّيْخُ أَبُو محمد. وأما قوله: (فلا يكفيه أن يخط على الأرض) فاعلم أن إمام الحرمين نقل أن الشافعي -رضي الله عنه- مال إلى الاكتفاء بالخط في القديم، وروى في الجديد ذلك أيضاً، وحض عليه. قال: وما استقر عليه الأمر أن الخط لا يكفي إذ الغرض الإعلام (¬1) وذلك لا يحصل بالخط، وهذا هو الذي ذكره في الكتاب، وقال: لا بد من شيء مرتفع، أو مصلى ظاهر ليقف المار عليه ليعدل عن حريم صلاته، وقد تعرض لما نقله عن "الجديد" متعرضون، لكن لم يثبتوه قولاً، واتفقت كلمة الجمهور على الاكتفاء بالخط [وقالوا (¬2) إذا خط فليس لغيره أن يمر بينه وبين الخط] كما إذا استقبل شيئاً شاخصًا (¬3)، فليكن قوله: (ولا يكفيه أن يخط) معلماً بالواو، لذلك فإن توهمت الجمع بين كلام الكتاب، وما ذكره الأكثرون، وقلت، إنهم وإن ذكروا استحباب الخط لم يذكروا أنه يمتنع به المرور، ويثبت للمصلي ولاية الدفع، فلعله وإن كان مستحبًا لا يفيد جواز الدفع، وحينئذ لا يكون بين قوله: (ولا يكفيه أن يخط) وبين ما ذكروه منافاة، وبتقدير أن يكون هذان الحكمان متلازمين، فإنما ذكروا الاستحباب فيما إذا لم يجد شيئاً شاخصًا فليحمل ما ذكره إمام الحرمين، والمصنف على ما إذا وجد فالجواب؛ أما الأول فممتنع نقلاً وحجاجًا، أما النقل فلأن صاحب "البيان" حكى عن المسعودي امتناع المرور، وولاية الدفع فيما إذا خط حسب ثبوتهما فيما إذا صلى إلى سترة، أو عصا. ¬
وأما الحجاج فمن وجهين: أحدهما: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في آخر خبر أبي هريرة -رضي الله عنه-: "ثُمَّ لاَ يَضُرُّهُ مَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ" أي: من وراء العلامات المذكورة، ومنها الخط. والثاني: أن المقصود من أمر المصلي بنصب السترة وغيرها أن يظهر حريم صلاته، ليضطرب فيه في حركاته وانتقالاته، ولا يزحمه غيره ويشغله عن صلاته. وأما الثاني: فلو أنهما أرادا إحالة وجدان الشاخص لسويا بينه وبين بسط المصلى، كما أن الدين قالوا باستحباب الخط عند فقدان الشَّاخِصِ سووا بينه وبين بسط المصلى، ذكره صاحب "التهذيب" وغيره، ولم يفعلا ذلك، بل ألحقا بسط المصلي بنصب الخشبة، ويدل عليه ظاهر لفظ الكتاب في موضعين من الفصل، وبالجملة فليس في لفظه هاهنا، ولا في "الوسيط" ما يشعر بهذا التأويل، بل فيه ما يدل على أنه لا عبرة بالخط بحال. وقوله: (فإن لم ينصب المصلي بين يديه خشبة، أو لم يستقبل جداراً، أو علامة) عني بالعلامة بسط المصلى، وقضية ما سبق نقله حمل، أو في قوله: (أو علامة) على الترتيب، وكذا في قوله: أو مصلى ظاهر دون التخيير والتسوية. وأما قوله: (وإذا لم يجد المار سبيلاً سواه، فلا يدفع بحال)، فقد ذكره إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أيضاً. وقال: النهي عن المرور، والدفع إذا وجد سواه سبيلاً أما إذا لم يجد، وازدحم الناس فلا نهي عن المرور، ولا يشرع الدفع، وهذا فيه إشكال؛ لأن البخاري روى في "الصحيح" عن أبي صالح السمان قال: رأيت أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- في يوم جمعة يصلي إلى سترة، فأراد شاب أن يمر بين يديه فدفع أبو سعيد -رضي الله عنه- في صدره، فنظر الشَّابُ فَلَمْ يَجِد مَسَاغًا إِلاَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فعاد ليجتاز، ودفعه أبو سعيد أشد من الأولى، فلما عوتب في ذلك روى الحديث الذي قدمناه (¬1). وأكثر الكتب ساكتة عن تقييد المنع بما إذا وجد سواه سبيلاً (¬2) -والله أعلم-. ¬
قال الغزالي: الشَّرْطَ السَّادِسُ تَرْكُ الأكْلِ، وَقَلِيلُهُ مُبْطِلٌ لِأَنَّهُ إِعْرَاضٌ، وَهَلْ تَبْطُلْ بِوصُولِ شَيْءٍ إِلَى جَوْفِهِ كَامْتِصَاصِ سُكَّرَةٍ مِنْ غَيْرِ مَضْغٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: قال الرافعي: الأكل نوع من الأفعال فإفراده بالذكر يبين أنه أراد بترك الأفعال في الشرط الخامس ما عدا الأكل من الأفعال. والفرق بينه وبين سائر الأفعال أن قليلها لا يبطل كما سبق، وقليل الأكل يبطل؛ لأنه ينافي هيئة الخشوع، ويشعر بالإعراض عن الصلاة، فلو كان بين أسنانه شيء، أو نزلت نخامة من رأسه فابتلعها عمداً بطلت صلاته، هذا ظاهر المذهب، وهو الذي ذكره في الكتاب، فقال: (فقليله مبطل) وليكن معلماً بالواو؛ لأن صاحب "التتمة" حكى في القليل وجهاً: أنه لا يبطل كالقليل من سائر الأفعال، ثم الحكم بالبطلان فيما إذا أكل عمداً، أما [إذا] (¬1) كان مغلوباً كما لو جرى الريق بباقي الطعام، أو نزلت النخامة ولم يمكنه إمساكها لم تبطل صلاته، ولو أكل [ناسياً، أو] (¬2) جاهلاً بالتحريم، فإن كان قليلاً لم تبطل، وإن كان كثيراً فوجهان: أصحهما: البطلان، هكذا ذكره الأئمة، وجعلوه كالكلام في الصلاة ناسياً والأكل في الصوم ناسياً، ولم يجعلوه كسائر الأفعال في الصلاة، إذ الجمهور على أن الفعل لا فرق فيه بين العمد والسهو على ما تقدم. واعلم أنه لا يعني بالقليل هاهنا ما يقابل الكثير بالمعنى الذي ذكره في الأفعال؛ لأن تفسير الكثير ثَمَّ ما يخيل إلى الناظر الإعراض عن الصلاة، فالقليل المقابل له ما لا يخيل، والأكل أيْ قَدر كان يخيل الإعراض، فيكون كثيراً بذلك التفسير بكل حال، وإنما المراد من القليل والكثير هاهنا ما يعده أهل العرف قليلاً وكثيراً، ولو وصل شيء إلى جوفه من غير أن يفعل فعلاً من ابتلاع ومضغ كما لو وضع في فمه سكرة كانت تذوب وتسوغ، ففي بطلان صلاته وجهان: أحدهما: وبه قال الشيخ أبو حامد: لا تبطل صلاته؛ لأنه لم يوجد منه مضغ وازدراد، وهذا ذهاب إلى أن الأكل إنما يبطل لما فيه من العمل. وقضيته: أن لا يبطل القليل منه، كما حكاه صاحب "التتمة". وأظهرهما: أنها تبطل، ويعبر عنه بأن الإمساك شرط في الصلاة، كما يشترط الانكفاف عن الأفعال، وعن مخاطبة الآدميين ليكون حاضر الذهن راجعاً إلى الله تعالى وحده، تاركاً للعادات، فعلى هذا تبطل الصلاة بكل ما يبطل به الصّوم. ¬
وقوله: "كامتصاص سكرة من غير مضغ" ينبغي أن يعرف أن الامتصاص لا أثر له، بل متى كانت في فمه وهي تذوب وتصل إلى جوفه يحصل الخلاف، وإن لم يكن امتصاص، وإنما قال: من غير مضغ، لأن المضغ فعل من الأفعال يبطل الكثير منه، وإن لم يصل شيء إلى الجوف حتى لو كان يمضغ علكاً في فمه بطلت صلاته، [وإن لم يمضغه وكان جديداً فهو كالسكرة، وإن كان مستعملاً لم تبطل صلاته] (¬1) كما لو أمسك في فمه أجاصة (¬2) ونحوها. قال الغزالي: خَاتِمَةٌ لِلْمُحْدِثِ المُكْثُ فِي المِسْجِدِ، وَلِلْجُنُبِ العبُورُ دُونَ المَكْثِ، وَلَيْسَ لِلْحَائِضِ العُبُورُ عِنْدَ خَوْفِ التَّلْوِيثِ، وَعِنْدَ الأَمْنِ وَجْهَانِ، وَالكَافِرُ يَدْخُلُ المَسْجِدَ بِإذْنِ المُسْلِمِ وَلاَ يَدْخُلُ بِغَيْرِ إِذْنٍ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، فَإنْ كَانَ جُنُبًا مُنِعَ كَالمُسْلِمِ وَقِيلَ: لاَ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِم تَفْصِيلَ شَرْعِنَا. قال الرافعي: مسائل: (الخاتمة) إلى قوله: (فوجهان) مكررة إما أن المحدث له المكث (¬3) فقد صار معلوماً بقوله في باب الغسل؛ (ثم حكم الجنابة حكم الحدث مع زيادة تحريمه قراءة القرآن، والمكث في المسجد) وفيه تصريح بتحريم المكث وجواز العبور للجنب. أما حكم الحائض فقد ذكره في "كتاب الحيض" وشرحنا المسائل في الموضعين، ثم جميع ذلك في حق المسلم. أما الكافر فلا يمكن من دخول حرم مكة بحال، يستوي فيه مساجده وغيرها، قال الله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬4). وأما مساجد غير الحرم فله أن يدخلها بإذن المسلم خلافاً لمالك، ووافقه أحمد في أظهر الروايتين. لنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أَثَالٍ فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ إِسْلاَمِهِ" (¬5). ¬
"وَقَدِمَ علَيْهِ قَوْمٌ مِنْ ثَقِيفٍ فَأنْزَلَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يُسْلِمُوا بَعْدُ" (¬1). وهل يدخلها بغير إذن أحد من المسلمين؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه ببذل الجزية فصار من أهل دار الإسلام، والمسجد من المواضع العامة فيها فصار كالشوارع، وهذا أظهر عند القاضي الروياني، وجماعة. والثاني: وهو الأصح عند الأكثرين ولم يذكر صاحب "التهذيب" و"التتمة" سواه؛ أنه ليس له ذلك ولو فعله عزر، ووجهه: أنه لا يؤمن أن يدخل على غفلة من المسلمين فيلوثه، ويستهين به، ولأنه ليس من أهل [ما] (¬2) بني المسجد له "وكان المسجد مختصاً بالمسلمين" اختصاص دار الرجل به، وذكر في "التهذيب": أنه لو جلس الحاكم في المسجد يحكم فللذِّمِّي الدخول للمحاكمة، ويتنزل جلوسه فيه منزلة التصريح بالإذن، وإذا استأذن في الدخول بعض المسلمين لنوم، أو أكل ينبغي أن لا يأذن له، وإن استأذن لسماع القرآن، أو علم؛ أذن له رجاء أن يسلم، هذا كله إذا لم يكن جنبًا، فإن كان جنبًا فهل يمكن من المكث في المسجد أم يجب منعه؟ فيه وجهان: أحدهما: يمنع؛ لأن المسلم ممنوع عند الجنابة لحرمة المسجد، فالكافر أولى بأن يمنع. وأصحهما: أنه لا يمنع: "لأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَدْخُلُونَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ويُطِيلُونَ الْجُلُوسَ، وَلاَ شَكَّ بِأنَّهُمْ كَانُوا يُجْنِبُونَ" (¬3)، ويخالف المسلم، فإنه يعتقد حرمة المسجد، فيؤخذ بموجب أعتقاده، والكافر لا يعتقد حرمته، ولا يلتزم تفاصيل التكليف، فجاز أن لا يؤخذ به، وهذا كما أن الكافر لا يحد على شرب الخمر؛ لأنه لا يعتقد تحريمه والمسلم يحد، وأما الكافرة الحائض فتمنع حيث تمنع المسلمة؛ لأن المنع تم لخوف التلويث ولهذا يمنع من به جرح يخاف منه التلويث، وكذا الصبيان والمجانين يمنعون من دخوله (¬4). ¬
الباب السادس في السجدات
وقوله: (والكافر يدخل المسجد) يعني به غير مساجد الحرم وإن كان اللفظ مطلقاً، وقوله: (فإن كان جنبًا منع) أي: من المكث، فإنه الذي يمنع منه المسلم دون أصل الدخول ثم إيراده يشعر بترجيح هذا الوجه، لكن الوجه الثاني أرجح على قضية كلام أكثر الأصحاب، وأوفق لكلام الشافعي -رضي الله عنه- وصرح بترجيحه الشيخ أبو محمد، والقاضي الروياني -والله أعلم-. الْبَابُ اَلسَّادِسُ فِي السَّجْدَاتِ قال الغزالي: وَهِيَ ثَلاَثةٌ: الأُولَى سَجْدَةُ السَّهْوِ، وَهِيَ سُنَّةٌ (ح م) عِنْدَ تَرْكِ التَّشَهُّدِ الأَوَّلِ أَوِ الجُلُوسِ فِيهِ أَوِ القُنُوتِ أَوِ الصَّلاَة عَلَى الرَّسُولِ فِي التَّشَهُّدِ الأَوَّلِ أَوْ عَلَى الآلِ فِي التَّشَهُّدِ الثَّانِي إِنْ رَأَيْنَاهُمَا سُنَّتَيْنِ، وَسَائِرُ السُّنَنِ تُجْبَرُ بِالسُّجُودِ، وَأَمَّا الأَرْكَانُ فَجَبْرُهَا بِالتَّدَارُكِ، فَإنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ هَذِهِ الأَبْعَاضِ لَمْ يَسْجُدْ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ. القول في سجود السهو: قال الرافعي: السجدات ضربان: أحدهما: سجدات طلب الصلاة، ولا يخفى أمرها. والثاني: غيرها وهي ثلاث: إحداها: سجدة السهو، وليست بواجبة، وإنما هي سنة خلافاً لأبي حنيفة، حيث قال بوجبها مع تسليم أن الصلاة لا تبطل بتركها، وبعض أصحابنا يرويه عن الكرخي، وعن مالك أنه إن كان السهو لنقصان يجب السجود، ويروى عن أحمد وأصحابه الوجوب مطلقاً. لنا أن الصلاة لا تبطل بتركها، فلا تجب كالتشهد الأول، وأيضاً فإن سجود السهو
مشروع لترك ما ليس بواجب، ويدلُّ ما ليس بواجب لا يكون واجباً، ثم إنه جعل الكلام في سجود السهو قسمين: أحدهما: فيما يقتضيه. والثاني: في محله وكيفيته. أما مقتضيه فشيئان ترك مأمور، وارتكاب منهي. أما ترك المأمور: فاعلم أن المأمورات تنقسم إلى أركان وغيرها، أما الأركان فلا تنجبر بالسجود؛ بل لا بد من التدارك، ثم قد يقتضي الحال بعد التدارك السجود على ما سيأتي. وأما غير الأركان فتنقسم إلى الأبعاض وهي التي عددناها في أول صفة الصلاة، إلى غيرها، فالأبعاض مجبورة بالسجود، أما التشهد الأول فلما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صَلَّى الظُّهْرَ بِهِمْ، فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُوَلَيَيْنِ لَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلاَةَ، وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ، وَهُوَ جَالِسٌ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ" (¬1). ولو قعد ولم يقرأ يسجد أيضاً، فإن القعود مقصود للذكر، وأما الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في التشهد الأول إذا استَحْببناها وهو الصحيح؛ فلأنه لو تركها في التشهد الأخير عامداً بطلت صلاته، فيسجد لها في التشهد الأول كالتشهد، وأما الصلاة على الآل في التشهد الثاني فإن قلنا بوجوبها فهي من الأركان يجب تداركها، وإن قلنا: إنها سُّنة فهي من الأبعاض وتجبر بالسجود، وكذلك الحكم لو جعلناها سُّنة في التشهد الأول، وقد سبق بيان الخلاف فيه، وأما القنوت فلأنه ذكر مقصود في نفسه فيشرع لتركه سجود السهو كالتشهد الأول. ومعنى قولنا: "مقصود في نفسه" أنه شرع له محل مخصوص به، ويخرج عن سائر الأذكار، فإنها كالمقدمة لبعض [الأذكار] (¬2) كدعاء الاستفتاح، أو كالتابع كالسورة، وأذكار الركوع، والسجود، وأما موضع القنوت فإنما شرع فيه التطويل للقنوت، وحيث لا يقنت يمنع من تطويله، فهذا حكم الأبعاض إذا تركتِ سهواً، وإن تركت عمداً فهل يشرع لها السجود؟ فيه: فيه وجهان: ¬
أحدهما: لا، وبه قال أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ؛ لأن الساهي معذور، فيشرع له سبيل الاستدراك ومن تعمد الترك فقد التزم النقصان، وفوت الفضيلة على نفسه. وأصحهما: نعم؛ لأن الخلل عند تعمد الترك أكثر، فيكون الجبر أهم، وصار كالحلق في الإحرام لا فرق فيه بين العمد والسهو. وأما الأبعاض من السنن فلا يجبر بالسجود، خلافاً لأبي حنيفة، حيث قال: يسجد لترك تكبيرات العيد، وترك السورة، وكذلك لو أسر في موضع الجهر، أو جهر بثلاث آيات في موضع الإسرار. ولمالك حيث قال: يسجد لترك كل مسنون ذِكْراً كان أو عملاً، وعن أبي إسحاق أن للشافعي -رضي الله عنه- في القديم قولاً مثل ذلك، حكاه ابن الصباغ، قال: وهو مرجوع عنه، وحكى ابن يونس القزويني (¬1) عن عبد الباقي (¬2) أن الداركي (¬3) ذكر وجهاً فيمن نسي التسبيح في الركوع والسجود أنه يسجد للسهو. وعند أحمد: لا يسجد لترك تكبيرات العيد والسورة، وعنه في تبديل الجهر بالإسرار وعكسه روايتان: أصحهما: أنه لا يسجد، وقال في تكبيرات الانتقالات، وتسبيح الركوع، والسجود، والتسميع، والتحميد: يسجد لتركها. لنا ظاهر ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ سَهْوِ إِلاَّ فِي قِيَامٍ عَنْ جُلُوسٍ، أَوْ جُلُوسٍ عَنْ قِيَامٍ" (¬4). ¬
وعلى أبي حنيفة القياس على دعاء الاستفتاح، وسائر المسنونات، وكذلك عن أحمد. وعلى مالك ما روي: "أَنَّ أنسًا جَهَرَ فِي الْعَصْرِ، فَلَمْ يُعِدْهَا، وَلَمْ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ" (¬1). فهذا هو الكلام في ترك المأمورات، ونعود إلى ما يتعلق بلفظ الكتاب قوله: (وهي سُّنة) ينبغي أن يعلّم بالحاء والميم والألف، وكذا قوله: (وسائر السنن لا تجبر بالسجود) ولا بأس بإعلامه بالواو أيضاً؛ لما سبق حكايته، وليس المراد من قوله: (سنة عند ترك التشهد الأول ...) إلى آخرها تخصيص الاستحباب بترك هذه الأمور؛ لا بمعنى أنها لا تشرع إلا عند تركها، ولا بمعنى أن في سائر الأسباب تجب، بل حيث تشرع سُّنة، وأراد في هذا الفصل ذكر شيئين: أحدهما: أن سجدة السهو سنة. والثاني: أن الكلام فيما يقتضيها من ترك المأمورات، ثم وصل أحدهما بالآخر فقال: هي سنة عند كذا وكذا، وهذا بَيِّنٌ من كلامه في "الوسيط". وقوله: "عند ترك التشهد" إلى قوله: (لا يجبر بالسجود) مذكورة في أول الباب الرابع؛ نعم زاد هاهنا ذكر الصلاة على الآل وما عداها مكرر، وأحقَ الموضعين بذكره هذا الباب. وقوله: (إن رأيناهما سنتين) المقابل لهذا الرأي في الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في التشهد الأول عدم الشرعية إيجاباً واستحباباً، وفي الصلاة على الآل في التشهد الثاني الإيجاب دون عدم الشرعية. وقوله: (وأما الأركان فجبرها بالتدارك) فمعناه أنه لا بد من جبرها من التدارك؛ لأن كل الجبر يحصل به؛ لأنه قد يؤمر مع التدارك بسجود السهو على ما سيأتي بيانه. وقوله: (لم يسجد على أظهر الوجهين) خلاف ما ذكره جمهور الأئمة، فإنهم حكوا أن الأظهر في المذهب أنه يسجد، منهم أصحابنا العراقيون، وصاحب "التهذيب"، وغيرهم، ومن الأئمة من لم يذكره سواه كالشيخ أبي حامد، والصيدلاني، وعبر بعضهم عن الخلاف في المسألة بالقولين، وجعل المنصوص أنه يسجد، والثاني من تخريج أبي إسحاق المروزي. قال الغزالي: وَلَوِ ارْتَكَبَ مَنْهِيًّا تَبْطُلُ الصَّلاَةُ بِعَمْدِهِ كَالأكْلِ وَالأَفْعَالِ الكَثِيرَةِ ¬
فَلْيَسْجُدْ عِنْدَ ارتِكَابِهِ سَهْوًا، وَمَوَاضِعُ السُّجُودِ سِتَّةٌ: (الأَوَّلُ) إِذَا قَرَأَ التَّشَهُّدَ أَوِ الْفَاتِحَةَ فِي الاعْتِدَالِ مِنَ الرُّكُوعِ عَمْدًا بَطُلَت صَلاتُهُ وَإِنْ سَهَا سَجَدَ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ تَطْوِيلِ رُكْنٍ قَصِيرٍ وَنَقْلِ رُكْنٍ، وَلَوْ وَجَدَ أَحَدَ المَعْنَييْنِ دُونَ الثَّانِي، فَفِي البُطْلاَنِ بِعَمْدِهِ وَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: لاَ تَبْطُلُ فَفِي السُّجُودِ بِسَهْوِهِ وَجْهَانِ، وَالأَظْهَرُ أَنَّ الجَلْسَةَ بَين السَّجْدَتَيْنِ رُكْنٌ طَوِيلٌ. قال الرافعي: المقتضى الثاني لسجود السهو ارتكاب المنهي والمنهيات قسمان: أحدها: ما لا تبطل الصلاة بعمده، كالالتفات والخطوة والخطوتين. والثاني: ما تبطل بعمده نحو الكلام، والركوع الزائد، وما أشبه ذلك، فقال الأصحاب: ما لا تبطل الصلاة بعمده لا يقتضي السهو به السجود، وما تبطل الصلاة بعمده يقتضي سهوه السجود، أما الأول فلأن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فَعَلَ الْفِعْلَ الْيَسِيرَ فِي الصَّلاَةِ، وَرَخصَ فِيهِ، وَلَمْ يَسْجُدْ لِلسَّهْوِ، وَلاَ أَمَرَ بِهِ" (¬1). وأما الثاني فلما روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "صَلَّى الظُّهْرِ خَمْساً، ثُمَّ سَجَدَ لِلسَّهْوِ" (¬2) وقد ذكر الطرف الثاني في الكتاب صريحاً، وأشار به إلى الأول، ولا شك في جريان هذا الضابط من الطرفين في أغلب الصور، ومنهم من وفي بطرده على الإطلاق كما سنفصله. والطرف الثاني المذكور في الكتاب، وهو أنَّ ما تَبْطُلُ الصَّلاَةُ بعمده يسجد عند ارتكابه سهواً يرد عليه شيئان: أحدهما: أن الفعل الكثير سوى الأكثرون بين عمده، وسهوه في إبطال الصلاة كما سبق، فجلى ما ذكروه الفعل الكثير منهي عنه تبطل الصلاة بعمده، ولا يسجد عند سهوه، بل تبطل الصلاة أيضاً، وكذلك الأكل والكلام الكثير عمدهما يبطل الصلاة، وكذلك سهوهما في أصح الوجهين كما قدمنا. والثاني: أنه لو أحدث عمداً بطلت صلاته، ولو أحدث سهوًا فكذلك تبطل، ولا يسجد للسهو، فأدرج صاحب "التهذيب" في هذا الضابط ما يخرج عنه الثاني فقال: ما يوجب عمده بطلان الصلاة يوجب سهوه سجود السهو إن لم تبطل الطهارة، وإذا أحدث فعمده وسهوه يستوي في إبطال الطهارة، وأما الأول فما احترز عنه، بل أدخل العمل في أمثلة، هذا الضابط، ولم يحسن فيه مع تسويته في فصل العمل بين العمد والسهو من كثيره، ولو قيل: ما تبطل الصَّلاة بعمده يسجد عند ارتكابه سهواً إذا لم ¬
تبطل الصلاة لخرجت المسائل كلها، وقد ذكر أبو سعيد المتولي هذه اللفظة، وقيداً آخر، وبذلك القيد قصد الاحتراز، لكن فيها غُنْيَة عنه، ثم تكلَّم في الكتاب في ستة من مواضع السهو منها ما يتعلق بترك المأمور. ومنها ما يقع في قسم أرتكاب المنهي، وهذا الفصل يشتمل على أولها، وهو يتضمن مسائل يقتضي الشرح أن نفصلها أولاً، ثم نطبق نظم الكتاب عليها. أحدها: الاعتدال عن الركوع ركن قصير، أمر المصلى فيه بالتخفيف، ولهذا لا يسن تكرير الذكر المشروع فيه بخلاف التسبيح في الركوع والسجود، وكأنه ليس مقصوداً لنفسه وإن كان فرضاً، وإنما الغرض منه الفصل بين الركوع والسجود، ولو كان مقصودًا لنفسه لشرع فيه ذكر واجب؛ لأن القيام هيئة معتادة فلا بد من ذكر يصرفها عن العادة إلى العبادة كالقيام قبل الركوع، والجلوس في آخر الصلاة، لما كان كل واحد منهما هيئة تشترك فيه العادة والعبادة وجب فيها شيء من الذّكر، وبهذا الفقه أجاب أصحابنا أحمدَ بْنَ حنبل -رحمه الله- حيث قال: بوجوب التسبيح في الركوع والسجود كالقراءة في القيام والتشهد في القعود، فقالوا: الركوع والسجود لا تشترك فيهما العادة والعبادة؛ بل هما محض عبادة فلا حاجة إلى ذكر مميز بخلاف القيام والقعود، فإن قيل (¬1): لو كان الغرض الفصل لما وجبت الطمأنينة فيه، فالجواب أن الطمأنينة إنما وجبت ليكون على سكينة وثبات، فإن تناهى الحركات في السرعة يخل بهيئة (¬2) الخشوع والتعظيم، ويخرم الأبهة. إذا عرف ذلك، فلو أطاله عمداً بالسكوت أو بالقنوت أو بذكرٍ آخر ليس بركن فهل تَبْطُل صلاته؟ فيه وجهان حكاهما صاحب: "النهاية" وغيره. أحدهما: لا؛ لما روي عن حذيفة قال: "صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةً فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَالنِّسَاءَ وَآلَ عِمْرَانَ فِي [رَكْعَةٍ] (¬3) ثُمَّ رَكَعَ فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحوًا مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَامَ قَرِيباً مِنْ رُكُوعِهِ، ثُمَّ سَجَدَ" (¬4). والثاني: أنها تبطل إلا حيث ورد الشرع بالتطويل بالقنوت، أو في صلاة التسبيح؛ لأن تطويله يعتبر لموضوعه، فأوجب عمده بطلان الصلاة، كما لو قصر الأركان الطويلة ونقص بعضها، وهذا الوجه هو الذي أورده في "التهذيب"، وذكر إمام الحرمين أنه ظاهر المذهب أيضاً، وحكي وجهاً ثالثاً عن القفال أنه إن قنت عامداً في اعتداله بطلت صلاته، وإن طَوَّلَ بذكر آخر لا يقصد القنوت لم تبطل، ويقرب من هذا كلام الشيخ أبي ¬
إسحاق في "المهذب"، فإنه عد من المبطلات تطويل القيام بنية القنوت في غير موضع القنوت، واحتج إمام الحرمين للوجه الأظهر بأنه لو جاز تطويله لبطل معنى الموالاة فإن سائر الأركان قابلة للتطويل، فإذا طوله أيضاً لم تبق الموالاة، ولا بد من الموالاة في الصَّلاَةِ، ولمن ذهب إلى الوجه الأول أن يقول: إن كان معنى الموالاة أن لا يتخلل فصل طويل بين أركان الصلاة بما ليس منها، فلا يلزم من تطويله وتطويل سائر الأركان فوات الموالاة، وإلا فلا أسلم اشتراط الموالاة بمعنى آخر. المسألة الثانية: لو نقل ركنًا ذِكْرياً عن موضعه إلى ركن آخر طَوِيل، كما لو قرأ الفَاتِحَة أو بعضها في الرُّكُوع أو الجلوس آخر الصلاة، أو قرأ التشهد أو بعضه في القيام عمداً، فهل تبطل صلاته؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما لو نقل الأركان الفعلية إلى غير موضعها. وأصحهما: لا، لأن نقل الأركان الذكرية لا يغير هيئة الصلاة؛ ولهذا قلنا: لو كرر الفاتحة أو التشهد عمداً لا تبطل صلاته على الصحيح، بخلاف الركوع والسجود، وقطع قاطعون بهذا الوجه الثاني، ويجري الخلاف فيما لو نقله إلى الاعتدال ولم يطل بأن قرأ بعض الفاتحة، أو التشهد. الثالثة: لو اجتمع المعنيان فطول الاعتدال بالفاتحة، أو التشهد، فقد ذكر في "النهاية" ما يخرج منه طريقان: أظهرهما: طرد الوجهين فيه، ولا يخفى أن الأصح بطلان الصلاة لما ذكرنا. والثاني: القطع بالبطلان؛ لانضمام نقل الركن إلى التطويل. الرابعة: الجلوس بين السجدتين ركن طويل أم قصير؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه طويل حكاه إمام الحرمين عن ابن سريج، والجمهور؛ تشبيهاً بالجلوس بين السجدتين. والثاني: أنه قصير، حكاه عن الشيخ أبي علي، وهذا هو الذي ذكره الشيخ أبو محمد في "الفروق" وتابعه صاحب "التهذيب" وغيره وهو الأصح لمثل ما ذكرناه في الاعتدال؛ فإن قلنا بالأول فلا بأس بتطويله، وإن قلنا بالثاني ففي تطويله عمداً الخلاف المذكور في الاعتدال. الخامسة: إذا قلنا: في هذه الصور ببطلان الصَّلاة؛ فلو فرضنا السهو بذلك الشيء سجد سهواً، وحصل الوفاء بما سبق أن ما يبطل عمده يسجد لسهوه إذا لم يبطل، وإذا قلنا بعدم البطلان فهل يسجد عن الارتكاب سهواً؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، كالالتفات، والخطوة، والخطوتين، وسائر ما لا يبطل عمده
الصلاة، وعلى هذا يحصل الوفاء بالطرف الثاني أيضاً، وهو أن ما لا يبطل عمده الصلاة، لا يقتضي سهوه السجود. وأصحهما: نعم، أما في تطويل الركن القصير فكما لو قصر الركن الطويل فلم يتم الواجب، وعدل إلى غيره سهواً؛ وأما في نقل الركن فكما لو نقل الركوع إلى غير محله سهواً، وهذا لأن المصلي مأمور بالتحفظ وإحضار الذهن حتى لا يتكلم، ولا يزيد في صلاته ما ليس منها، وهذا الأمر مؤكد عليه تأكد التشهد الأول، فإذا غفل فطول الركن القصير أو نقل الركن، فقد ترك الأمر المؤكد، وغير شعار فاقتضى الحال الجبر بالسجود، وكترك التشهد الأول، والقنوت، وعلى هذا الوجه تستثنى هذه الصورة (¬1) على قولنا: ما لا تبطل الصلاة بعمده لا يقتضي سهوه السجود، فهذه هي المسائل أما ما يتعلق بلفظ الكتاب. فقوله: (إذا قرأ التشهد، أو الفاتحة في الاعتدال من الركوع عمداً) هو صورة المسألة الثالثة. وقوله: (بطلت صلاته) يجوز أن يكون جواباً على الطريقة القاطعة بالبطلان، ويجوز أن يكون جواباً على الأصح مع إثبات الخلاف، وعلى التقديرين فليكن معلماً بالواو. ¬
واعلم أن الحكم بالبطلان في هذه الصورة قد نقل عن الشافعي -رضي الله عنه-، وذكر الشيخ أبو محمد وغيره أن الأصحاب اختلفوا في معناه، منهم من قال: إنما بطلت الصَّلاَة لتطويل الركن القصير، فلم يحكم بالبطلان إذا قرأ الفاتحة في القيام، أو الركوع، ومنهم من قال: إنما بطلت لنقل الركن، فحكم بالبطلان [حيث وجد النقل]. وقوله: "ولو وجد أحد المعنيين دون الثاني" [إن وجد التطويل] (¬1) وحده، فهو صورة المسألة الأولى، والأظهر فيها البطلان، وإن وجد النقل وحده فهو صورة المسألة الثانية، والأظهر فيها عدم البطلان، ويجوز أن يعلم قوله: (وجهان) بالواو إشارة إلى طريقة القاطعين بعدم البطلان في الصورة الثانية وقوله: (فإن قلنا: لا تبطل) هو المسألة الأخيرة. وقوله: (والأظهر ...) إلى آخره هو المسألة الرابعة، لكن الحكم بأنها قصيرة أظهر على ما سبق، ولا يتضح فرق بين الاعتدال والجلسة. قال الغزالي: (الثَّانِي) مَنْ تَرَكَ أرْبَعَ سَجَدَاتٍ مِنْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ سَهْوًا لَمْ يَكْفِهِ أَنْ يَقْضِيهَا فِي آخِرِ صَلاَتهِ بَلْ لاَ يُحْتَسَبُ لَهُ مِنَ الأَرْبَعِ إِلاَّ رَكْعَتَانِ، وَلَوْ تَرَكَ مِنَ الأُولَى وَاحِدَةً وَمِنَ الثَّانِيَةِ ثِنْتَيْنِ وَمِنَ الرَّابِعَةِ وَاحِدَةً فَلْيَسْجُدْ سَجْدَةً وَاحِدَةً ثُمَّ لْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَلَمْ يَدْرِ مِنْ أَيْنَ تَرَكَهَا فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَرَكْعَتَانِ أَخذاً بِأَشَقِّ التَّقْدِيرَيْنِ المَذْكُورَيْنِ، فَرْعٌ: لَوْ تَذَكَّرَ فِي قِيَامِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ نَسِيَ سَجْدَةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَكُنْ قد جَلَسَ بَعْدَ السَّجْدَةِ الأُولَى فَلْيَجْلِس ثُمَّ لْيَسْجُدْ، والقِيَامُ لاَ يَقُومُ مَقَامَ الجَلْسَةِ، وَإِنْ كَانَ قَد جَلَسَ بَعْدَ السَّجْدَةِ الأُولَى فَيَكْفِيهِ أَنْ يَسْجُدَ عَنْ قِيَامِهِ، فَإنْ كَانَ قَصَدَ بِتِلْكَ الجَلْسَةِ الاسْتِرَاحَةَ، فَفِي تأدِّي الفَرْضِ بِنيَّةِ النَّفْلِ وَجْهَانِ، ثُمَّ لاَ يَخْفِى أنَّهُ يَسْجُدُ لِلسَّهْو فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. قال الرافعي: قاعدة الفصل أن الترتيب في أركان الصلاة واجب الرعاية، وإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يرتب، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" (¬2) فلو ترك الترتيب عمداً بطلت صلاته، ولو تركه سهواً لم يعتد بما فعله بعد الركن المتروك حتى يأتي بما تركه، فإن تذكر الحال قبل فعل مثله في ركعة بعدها فكما تذكر يشتغل به، وإن تذكر بعد فعل مثله في ركعة أخرى تمت الركعة الأولى به، ولغى ما بينهما، هذا إذا عرف عين المتروك وموضعه إن لم يعرف أخذ بأدنى الممكن، وأتى بالباقي وفي الأحوال كلها ¬
يسجد للسهو إلا إذا وجب الاستئناف بأن ترك ركنًا، وأشكل عينه عليه، وجوز أن يكون ذلك الركن هو النية، أو التكبير، وإلا إذا كان المتروك هو السلام فإنه إذا تذكر ولم يطل الفصل يسلم، ولا حاجة إلى سجود السهو، وقد ذكر في الكتاب مسألتين مما يترتب على هذه القاعدة. إحداهما: لو تذكر في الركعة الثانية أنه ترك سجدة من الأولى، فلا يخلو: إما أن يتذكر قبل أن يسجد في الثانية، أو بعد أن يسجد فيها، فأما الحالة الأولى فيشتمل عليها الفرع المرسوم في الكتاب آخرًا ولا بأس أن تقدمه، فنقول: إذا تذكر في قيام الثانية أنه ترك سجدة من الأولى، فلا بد من الإتيان بها كما تذكر، ثم ننظر إن لم يجلس عقيب السجدة المفعولة، فهل يكفيه أن يسجد عن قيام أم يجلس مطمئناً ثم يسجد؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يخر ساجداً، والقيام يقوم مقام الجلسة بين السجدتين؛ لأن الغرض منها الفصل بينهما، وقد حصل ذلك بالقيام. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب أنه يجب أن يجلس مطمئناً، ثم يسجد؛ لأنه وإن كان المقصود الفصل، فالفصل واجب بهيئة الجلوس، فلا يقوم القيام مقامها كما لا يقوم مقام الجلوس للتشهد، وإن جلس عقيب السجدة المفعولة نظر إن قصد به الجلسة بين السجدتين ثم غفل ولم يسجد الثانية فمن قال، في الصورة الأولى: يكفيه أن يسجد عن قيامه فهاهنا أولى، ومن قال: ثم يجلس ثم يسجد اختلفوا هاهنا فقال أبو إسحاق وغيره: يجب أن يجلس هاهنا أيضاً لينتقل منه إلى السجود؛ كما لو قدر المريض على القيام بعد القراءة يجب عليه أن يقوم ليركع عن قيام، وظاهر المذهب وهو المذكور في الكتاب أنه يكفيه أن يسجد عن القيام، كما لو ترك أربع سجدات من أربع ركعات ثم تذكر تحتسب له ركعتان، كما سيأتي، وإن كانت السجدة التي في الثانية والتي في الرابعة واقعتين عن قيام، وإن قصد بتلك الجلسة الاستراحة لظنه أنه أتى بالسجدتين جميعاً فوجهان مذكوران في الكتاب. أحدهما: لا يحسب ذلك الجلوس، ويجب أن يجلس ثم يسجد؛ لأنه قصد بتلك الجلسة السُّنة، فلا تنوب عن الفرض كما في سجدة التلاوة لا تقوم مقام سجود. الفرض، وبهذا قال ابْن سُرَيْجٍ وبه يقول أبو إِسْحَاقَ أيضاً لينتقل من الجلوس إلى السجود. والثاني: أنه يكفيه أن يسجد عن قيام، ولا يضر اعتقاده أنه يجلس للاستراحة كما لو جلس في التشهد الأخير وهو يظن أنه الأول ثم تذكر يجزئه ذلك، وما الأظهر من هذين الوجهين؟ قال في "التهذيب": المذهب هو الأول؛ لكن الأكثرين منهم العراقيون والقاضي الروياني رجحوا الوجه الثاني.
والوجهان في المسألة كالوجهين فيما إذا أغفل المتوضئ لمعة في المرة الأولى، وانغسلت في الثانية، أو الثالثة، هل يجزئه؟ وقد ذكرنا في "باب الوضوء" أن الأصح عند المعتبرين الإجزاء بخلاف ما إذا انغسلت في تجديد الوضوء، لأن قضية نيته في ابتداء الوضوء أن لا يقع شيء عن السنة حتى يرتفع الحدث، كذلك هاهنا قضية نيته السابقة أن لا يكون الجلوس عن الاستراحة إلا بعد الفراغ من السجدتين، ولو تردد في أنه جلس بعد السجدة المفعولة أم لا؟ فالحكم كما إذا علم أنه لم يجلس. وقوله في الكتاب: (فليجلس ثم ليسجد) ينبغي أنه يعلم بالميم؛ لأن عند مالك أن ذكر الحال بعد أن ركع في الثانية واطمأن فلا يعود إلى السجود، بل تلغى الأولى وتصير الثانية أولاه، وإنما يعود للسجود إذا تذكر قبل الركوع وبالألف أيضاً؛ لأن عند أحمد إن ذكر بعد الشروع في القراءة لا يعود إلى السجود، بل تلغى الأولى ويعتد بالثانية، وإنما يعود إذا ذكر قبل الشروع في القراءة. لنا أن ما أتى به من الأولى وقع صحيحاً فلا يبطل بترك ما بعده كما إذا تذكر قبل الركوع عند مالك، وقبل القراءة عند أحمد، ويجوز أن يعلم بالحاء أيضاً؛ لأن عند أبي حنيفة -رحمة الله عليه-: يكفيه أن يسجد في آخر صلاته سجدة فتلحق بموضعها، ولا يرجع إلى السجود، وكذلك الحكم عنده لو ترك سجدة عمداً، حكاه القاضي الروياني، وغيره، وليعلم قوله: (فليجلس) بالواو أيضاً، وكذلك قوله: (والقيام لا يقوم مقام الجلسة) إشارة إلى الوجه الذي ذكرناه أنه يسجد عن قيام ولا يجلس. وفي قوله: (فليجلس ثم ليسجد) ما يفيد أصل الفرض (¬1)، ويبين أن القيام لا يقوم مقام الجلسة، لكن عقبه به إيضاحاً وتنبيهاً على ما يتمسك به صاحب الوجه البعيد. وقوله: (بعد السجدة الأولى) في موضعين من الفرع إنما سماها أولى بالنسبة إلى ما سيفعله من بعد، وإلا فليس قبل التذكر إلا سجدة واحدة. الحالة الثانية: أن يتذكر الحال بعد أن يسجد في الثانية، فينظر إن تذكر بعد السجدتين معاً، أو في الأخرى منهما فقد تم بما فعل ركعته الأولى، ولغى ما بينهما، ثم إن كان قد جلس في الأولى على قصد الجلسة بين السجدتين فتمامها بالسجدة الأولى، وكذا إن كان قد جلس على قصد الاستراحة وأقمناها مقام الجلسة بين السجدتين، وإن لم يجلس أصلاً، أو جلس على قصد الاستراحة ولم يكتف بها، فإن قلنا: إذا تذكر في القيام والحالة هذه يجلس ثم يسجد، وهو الأصح، فتمام الركعة الأولى هاهنا بالسجدة الثانية، وإن قلنا: ثم يسجد عن قيام فتمامها بالسجدة الأولى، ¬
وينبني على هذا الخلاف ما إذا تذكر بعد السجدة الأولى، فإن قلنا: بالأول فركعته غير تامة فيسجد سجدة ثم يقوم إلى ركعة ثانية، وإن قلنا بالثاني فركعته تامة، فيقوم إلى أخرى هذه مسألة. والثانية: إن تذكر في جلوس الركعة الرابعة أنه ترك من صلاته الرباعية أربع سجدات، فلا يكفيه أن يقضيها فيأتي بأربع سجدات ولاءً ويسلم؛ لأن الترتيب يقتضي أن لا يعتد بشيء بعد الركن المتروك حتى يأتي به في ركعة أخرى، ثم ترك السجدات الأربع من الصلاة الرباعية قد يقتضي الاحتساب بثلاث ركعات إلا سجدتين، وقد يقتضي الاحتساب بركعتين ناقصتين بسجدة، فهذه ثلاثة أوجه، والثالث أسوأها، والمصنف ذكر لكل واحد من الوجهين الأخيرين مثالاً دون الوجه الأول، ونحن نذكرها جميعاً على الاختصار، فلو ترك ثنتين من الثالثة، وثنتين من الرَّابِعَةِ صحت له الركعتان الأوليان، وصحت الركعة الثالثة أيضاً، لكن لا سجدة فيها وفيما بعدها حتى يتم بها فيسجد سجدتين ويقوم إلى ركعة رابعة، فهذه الصورة من صور الوجه الأول؛ وكذلك لو ترك واحدة من الأولى وواحدة من الثانية وثنتين من الرابعة، وكذا ترك واحدة من الثانية، وواحدة من الثالثة، وثنتين من الرابعة. وأما الوجه الثاني فمن صوره أن يترك من كل ركعة سجدة، فيحصل له ركعتان؛ لأن الأولى تتم بالسجدة التي في الثانية، ويلغى ما بينهما، وكذلك تتم الركعة الثالثة بالسجدة التي في الرّابعة. ومنها ترك ثنتين من الثانية وثنتين إما من الأولى أو الثالثة، ومنها: ترك ثنتين من الثانية وواحدة من الأولى وأخرى من الثالثة، ومنها ترك ثنتين من الثانية، وواحدة من الثالثة، وأخرى من الرابعة، ومنها ترك ثنتين من الأولى، واثنتين من ركعتين بعدها متواليتين، ومنها ترك واحدة من الأولى، وواحدة من الثانية، واثنتين من الثالثة، ومنها ترك واحدة من الثانية، واثنتين من الثالثة، وواحدة من الرابعة، فيحصل في هذه الصور كلها ركعتان، ويقوم إلى ركعتين أخريين. وأما الوجه الثالث: فمن صوره: أن يترك من الأولى واحدة ومن الثانية ثنتين، ومن الرابعة واحدة، فالحاصل ركعتان إلا سجدة، وذلك لأن ما بعد السجدة في الركعة الأولى غير محسوب حتى تتم هي، وليس في الثانية ما يتمها فتتم بسجدة من الثالثة، وتلغى سجدتها الأخرى؛ لأن الركعة إذا تمت فالواجب بعدها القيام، وتحتسب ركعته الرابعة، وليس فيها إلا سجدة فيسجد أخرى ليتمها، ويقوم إلى ركعتين أخريين، ومنها لو ترك من الأولى ثنتين، وواحدة من الثانية، وأخرى من الرابعة، وكذلك كل صورة ترك فيها ثنتين من ركعة، وثنتين من ركعتين أخريين غير متواليتين.
إذا عرفت ذلك فإن عرف السَّاهِي موضع الأربع المتروكة، فالحكم ما بينا، وإن لم يعرف أخذ بالأسوأ ليخرج عن العهدة بيقين، والأسوأ أن يأتي بسجدة وركعتين، وحكى إمام الحرمين عن أبيه أنه كان يقول: يلزمه في سورة الإشكال أن يسجد سجدتين، ثم يقوم إلى ركعتين أخريين لاحتمال أنه ترك ثنتين من الثالثة، وثنتين من الرابعة، أو على سورة أخرى من صور الوجه الأول، ولو كان كذلك لكان عليه أن يسجد سجدتين، ثم يقوم إلى ركعة أخرى فيجب أن يسجد سجدتين لجواز أن يكون الترك على وجه يقتضي ذلك، ثم لا يجزئه إلا ركعتان لجواز أن يكون الترك على وجه آخر فيصلي ركعتين أخريين ليكون آتيا بكل ما تعذر وجوبه، واعترض عليه بأن السجدة الثانية غير معتد بها، فإنه إذا سجد سجدة واحدة والإشكال مستمر حصل له مما فعل ركعتان قطعاً، ولا شك أنا نأمره بركعتين أخريين فالزيادة لغو والله أعلم. ثم جميع ما ذكرناه فيما إذا كان قد جلس عقيب السجدات كلها على قصد الجلسة بين السجدتين، أو على قصد الاستراحة، وأقمناها مقام الجلسة المفروضة، وإذا فرعنا على أن القيام يقوم مقام الجلسة، فأما إذا لم يجلس في بعض الركعات، أو في شيء منها إلا في الرابعة وفرعنا على الصَّحِيح، وهو أن القيام لا يقوم مقام الجلسة لم يحسب ما بعد السجدة المفعولة إلى أن يجلس حتى لو تذكر أنه ترك من كل ركعة سجدة، ولم يجلس إلا في الأخيرة، أو جلس بنية الاستراحة، أو جلس في الثانية على قصد التشهد الأول، وقلنا: الفرض لا يتأدى بالنفل فلا يحصل له مما فعل إلا ركعة ناقصة بسجدة؛ لأنه لم يأت بعدها بجلوس على قصد الفرضية، ثم هذا الجلوس الذي نذكر الحال فيه يقوم مقام الجلسة بين السجدتين، فيسجد سجدة، ويقوم إلى ثلاث ركعات، فهذا ما يتعلق بترك أربع سجدات من صلاة رباعية. ولو تذكر أنه ترك منها سجدة واحدة فإن علم أنه نسيها من الأخيرة سجدها، واستأنف التشهد إن كان قد تشهد، وإن علم أنه تركها من غير الأخيرة فعليه أن يقوم إلى ركعة أخرى، وإن أشكل أْخذ بالاحتمال الأخير، وإن تذكر ترك سجدتين منها فإن كانتا من الركعة الأخيرة كفاه أن يأتي بسجدتين، وإن كانتا من غير الأخيرة فإن كانتا من ركعة واحدة فعليه أن يقوم إلى ركعة، وإن كانتا من ركعتين فقد يكفيه أن يقوم إلى ركعة، وقد يلزمه أن يقوم إلى ركعتين؛ لأنه ترك واحدة من الأولى وواحدة من الثالثة، وإن أشكل أخذ بهذا الأسوأ، وإن تذكر ترك ثلاث سَجَدَات فقد يقتضي ذلك حصول ثلاث ركعات إلا سجدة فيسجد سجدة، ويقوم إلى ركعة، وذلك مثل أن يكون اثنتان من الأولى أو الثانية أو الثالثة وواحدة من الرابعة، وقد يكون بحيث يحصل له ثلاث ركعات إلا سجدتان مثل أن تكون واحدة من الأولى واثنتان من الرابعة، وقد يكون بحيث لا يحصل له إلا رَكْعَتَان، مثل أن يكون الثَّلاَثُ من الثَّلاَثِ الأوليات فإن أَشْكَل
أخذ بهذا الأَسْوَأ (¬1)، وإن تذكر ترك خمس، فقد يحصل ركعتان سوى سجدتين بأن تكون واحدة من الأولى، وثنتان من الثَّانية، وثنتان [من الرابعة، وقد لا يحصل إلا ركعة، مثل أن تكون واحدة من الأولى، وثنتان من الثانية، وثنتان] (¬2) من الثالثة، فإن أشكل الحال فقد قال في "المهذب" يلزمه سجدتان وركعتان. وقال غيره: لا؛ بل ثلاث ركعات وهو الصحيح، ولا وجه للأول، ولو ترك ست سجدات فلا يحصل له إلا ركعة، ولو ترك سبعاً فلا يحصل إلا ركعة ناقصة بسجدة، وحكم الثمان لا يخفى، ونعود إلى ما يتعلق بألفاظ الكتاب سوى ما تقدم. قوله: (من ترك أربع سجدات من أربع ركعات) عني به ما إذا ترك كل سجدة من ركعة، وإن كان اللفظ مطلقاً، وقد صرح به في "الوسيط" وهذه الصورة من جملة الصور التي تقتضي ترك السجدات الأربع فيها الاحتساب بركعتين على ما سبق ذكرها، ولو اقتصر في الحكم على قوله: (لم يكفه أن يقضيها في آخر صلاته) لأمكن إجراؤه على إطلاقه، فإنه لا يكتفي قضاء السجدات في آخر الصلاة بحال، ولكن لما عقبه ¬
بقوله: "بل لا يحتسب له من الأربع إلا ركعتان" تعذر إجراؤه على الإطلاق، ثم شرط الاحتساب بالركعتين أن يجلس عقيب السجدات كما سبق، وإن لم يتعرض له لفظ الكتاب. وقوله: (لم يكفه) معلم بالحاء، لأن أبا حنيفة يقول في الصورة المرادة: يكفيه أن يسجد أربع سجدات، ولا يسلم، وليس ذلك؛ لأن الترتيب في أفعال الصلاة ليس بشرط عنده، فإنه سلم أنه لو ترك ثماني سجدات لم يكفه الإتيان بها في آخر الصلاة، بل لا يحتسب له إلا ركعة بلا سجدة، كما هو مذهبنا، لكنه اكتفى هاهنا بالسجدات؛ لأن عنده إذا تقيدت الركعة بسجدة واعتد بها، حتى لو ترك من كل ركعة سجدة قصداً كفاه فعلها في آخر الصلاة أيضاً. لنا أنه لو وقع الاعتداد بالركعة المقيدة بسجدة لما وجب فعل السجدات في آخر الصلاة كركعة المسبوق لما أعتد بها لم يجب تدارك القيام والقراءة منها. وقوله "في آخر صلاته" إنما [سماها] (¬1) آخر الصلاة على تقدير أنا لو كان قضاؤها كافياً أو بالإضافة إلى ظن المصلي أولاً؛ وإلا فليس الجلوس الذي فرضنا فيه التذكر آخر صلاته في الحقيقة، ثم هذه اللفظة إشعار بأنه أراد تصوير الكلام فيما إذا تذكر سهوه قبل أن يسلم من صلاته، وإلا فالسجدات لو قضيت لا تكون في آخر صلاته، بل بعد آخرها، وأما الحكم لو تذكر في السهو في المسائل المذكورة بعد السلام إن لم يطل الفصل فهو كما لو تذكر قبل السَّلاَم بلا فرق، وإن طال وجب الاستئناف، ومعنى طول الفصل سيأتي. وقوله: (إلا ركعتان) يجوز أن يعلم بالميم والألف؛ لأنهما لا يصححان إلا الركعة الأخيرة، وهي ناقصة بسجدة، فيسجد سجدة ويقوم إلى ثلاث ركعات. وروي عن مالك: أن صلاته تبطل. فأما قوله: "ولو ترك من الأولى واحدة ... " إلى آخره فهي من الصور التي يقتضي ترك السجدات الأربع فيها الاحتساب بركعتين إلا سجدة. وفوله في الصورة الثَّالثه: (ولم يدر من أين تركها) يوضح أنه أراد بالصورة الأولى ما إذا دري من أين ترك، وهو مَا بَيَّنَّاه. وقوله: (فعليه سجدة واحدة)، يجوز أن يُعَلَّم بالواو ولما حَكَيْنَاه عن الشَّيْخ أبي محمد -رحمه الله-. ¬
وقوله: (أخذ بأسوأ التقديرين المذكورين وأسوأ التقديرين) (¬1) ما إذا ترك سجدة من الأولى، وثنتين من الثانية، وواحدة من الرابعة، ولا يجب عند الإشكال الحمل على هذه الصورة بعينها، فإن لها أخوات في معناها كما بَيَّنا، وإنما الواجب الحمل عليها، أو على شيء منها. وقوله في آخر الفصل: (ثم لا يخفى أنه يسجد للسهو في جميع ذلك) أي: في جميع مسائل الفصل، ويمكن عدّها من قسم ترك المأمور؛ لأن الترتيب مأمور به، وتركه عمداً مبطل، فإذا سها سجد، ومن قسم ارتكاب المنهي أيضاً؛ لأنه إذا ترك الترتيب فقد زاد في الأفعال والأركان. قال الغزالي: الثَّالِثُ: إِذَا قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ نَاسِيًا فَإنْ انْتَصَبَ لَمْ يَعُدْ إِلَى التَّشَهُّدِ، لِأَنَّ الفَرْضَ لا يُقْطَعُ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ عَادَ عَالِمًا بَطُلَتْ صَلاتُهُ، وَإِنْ عَادَ جَاهِلاً لَمْ تَبْطُلْ لَكِنْ يَسْجُدُ لِلسَّهْو، وإنْ كَانَ مَأْمُومًا وَقَعَدَ إِمَامُهُ جَازَ الرُّجُوعُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ القُدْوَةَ فِي الجُمْلَةِ وَاجِبَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ التَّقَدُّمُ بِهَذَا القَدْرِ مُبْطِلاً، وَإِنْ تَذَكَّرَ قَبْلَ الانْتِصَابِ فَيَرْجِعُ ثُم يَسْجُدُ للسَّهْو إِنْ كَانَ قَدِ انْتَهَى إِلَى حَدِّ الرَّاكِعِينَ لِأَنَّهُ زَادَ رُكُوعاً. قال الرافعي: قد سبق أن فوات التشهد الأول يقتضي سجود السهو، وفي هذا الفصل يتبين أنه متى يفوت، وإلى متى يجوز تداركه بالعود إليه، وإذا عاد إليه هل يحتاج إلى سجود السَّهْوِ أم لا؟ فنقول: إذا نَهَضَ من الركعة الثانية ناسياً للتشهد، أو جلس ولم يقرأ التشهد، ونهض منه ناسياً، ثم تذكر فلا يخلو إما أن يتذكر بعد الانتصاب أو قبله. الحالة الأولى: أن يتذكر بعد الانتصاب، فلا يجوز له العود إلى التشهد خلافاً لأحمد، حيث قال: يجوز ما لم يشرع في القراءة، والأولى أن لا يعود، وحكى القاضي ابن كج عن أبي الحسين [عن بعض (¬2) الأصحاب] مثل ذلك. لنا ما روي عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ الرَّكْعَتَينِ فَلَم يَسْتَتِمَّ قَائِماً، فَلْيَجْلِسْ، وَإِذَا اسْتَتَمَّ قَائِماً فَلاَ يَجْلِسْ وَيسْجُدْ سَجْدَ السَّهْوِ" (¬3) ولأن القيام فرض، والتشهد الأول سُّنة لما سبق، والفرض لا يقطع بالسُّنَّة، فلو خالف وعاد؛ نظر إن تعمده وهو عالم بأنه لا يجوز العود بطلت صلاته، ¬
وإن عاد ناسياً لم تبطل، وعليه أن يقوم كما تذكر، وإن عاد جاهلاً بعدم الجواز؟ ففيه وجهان منقولان في "التهذيب" وغيره. أحدهما: أنه لا يعذر وتبطل صلاته لتقصيره بترك التعلم. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب: يعذر ولا تبطل صلاته كالناسي، لأنه مما يخفى على العوام، ولا يمكن تكليف كل واحد تعلمه، وعلى هذا يسجد للسهو لما زاد في صلاته سهواً، وكذلك في سورة النسيان، وهذا الذي ذكرناه في المنفرد والإمام في معناه، فلا يرجع بعدم الانتصاب إلى التشهد، ولا يجوز للمأموم أن يشتغل به، ولو فعل بطلت صلاته، نعم لو نوى مفارقته ليتشهد جاز، وكان مفارقاً بالعذر، ولو انتصب مع الإمام، ثم عاد الإمام لم يجز للمأموم أن يعود؛ بل يخرج عن متابعته، لأنه إما مخطئ بالعود فلا يوافقه في الخطأ، أو عامداً فصلاته باطلة، وهل يجوز أن ينتظره قائماً حملاً على أنه عاد ناسياً، حكى في "التهذيب" فيه وجهين، وقد سبق في التنحنح نظيره، ولو قعد الإمام للتشهد الأول، وقام المأموم ساهياً، أو نهضاً، ثم تذكر الإمام فعاد قبل الانتصاب، والمأموم قد انتصب: هل يعود المأموم في الصورتين؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم؛ لأن متابعة الإمام فرض بخلاف متابعة الإمام والمنفرد فإنهما لو رجعا لرجعا من فرض إلى سنة. والثاني: أنه لا يعود، بل يصبر إلى أن يلحقه الإمام، لأنه حصل في ركن القيام، وليس فيما فعله إلا تقدم الإمام بركن، وأنه غير مبطل، وإن كان عمداً فلا حاجة إلى الرجوع، وقوله في الكتاب: (لأن القدوة في الجملة واجبة، وإن لم يكن المتقدم بهذا القدر مبطلاً) إشارة إلى توجيه الوجهين، وفي بعض النسخ: "لأن القدوة في الكملة واجبة". الثاني: لا، لأن سبق الإمام بركن لا يبطل، وهما قريبان، ويجوز أن يعلم قوله: (وإن لم يكن المتقدم مبطلاً) بالواو؛ لأن في وجه المتقدم على الإمام يبطل الصلاة ولو بركن واحد، وقد أورده في الكتاب في الصلاة بالجماعة، والذي ذكره هاهنا مفرع على ظاهر المذهب، وصاحب "النهاية" قد صرح بذلك، ثم ذكر أن الخلاف في المسألة في جواز الرجوع وعدم الجواز، ولا خلاف في أنه لا يجب الرجوع، لأنه لو قام قصداً لم يقض ببطلان صلاته، ووافقه المصنف فقال: (جاز الرجوع على أحد (¬1) الوجهين) ففرض الخلاف في الجواز، لكن الشيخ أبا محمد (¬2) ومن تابعه نقلوا الوجهين في أنه هل يجب الرجوع؟ وقالوا: ¬
أصحهما: الوجوب، ولو لم يرجع بطلت صلاته؛ لأن متابعة الإمام فرض، ولم يورد صاحب "التهذيب" الأوجه الوجوب، ثم قطع إمام الحرمين بأن في صورة قصد القيام ليس له أن يعود، كما لو ركع قبل الإمام، أو رفع رأسه قبله عمداً لا يجوز أن يعود، ولو عاد بطلت صلاته؛ لأنه زاد ركناً عمداً، ولو فعل ذلك سهواً كما لو سمع حساً فظن أن الإمام ركع فركع، ثم تبين أنه لم يركع بعد، أو ظن أنه اعتدل عن الركوع فاعتدل، ثم بَانَ أنه لم يعتدل بعد، فقد ذكر في "النهاية" وجهين في أنه هل يجوز له أن يرجع؛ لأنه غالط فيما فعل، وصاحب "التهذيب" وآخرون حكوا الوجهين في هذه المسألة في وجوب الرجوع أيضاً، وقالوا في وجه: تبطل صلاته لو لم يرجع، وفي وجه: يتخير بين أن يرجع أو لا يرجع وهو الأصح، وللنزاع في سورة قصد القيام أيضاً مجال ظاهر؛ لأن أصحابنا العراقيين أطبقوا على أنه لو ركع قبل الإمام عمداً فينبغي أن يرجع ليركع مع الإمام فاستحبوا الرجوع فضلاً عن الجواز، وربما تعود المسألة في باب الجماعة. وقوله: (لم يعد إلى التشهد) معلم بالألف والواو لما قدمنا، وكذا قوله: (بطلت صلاته) وقوله في الجاهل: (لم تبطل) معلم بالواو. الحالة الثانية: أن يتذكر قبل الانتصاب، فقد نص الشافعي -رضي الله عنه- على أنه يرجع إلى التشهد، وحكى الروياني خلافاً للأصحاب في أنه ما الذي أراد بالانتصاب؟ فمنهم من قال: أراد الاعتدال والاستواء، ومنهم من قال: أراد به أن يصير إلى حالة هي أرفع من حد أقل الركوع، والأول ظاهر اللفظ وهو الذي ذكره الجمهور، ويدل عليه حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-، وبالثاني فسر المسعودي كلام الشافعي -رضي الله عنه- وبه قال الشيخ أبو محمد، وهذا الاختلاف يرجع إلى شيء وهو أن من قام في صلاته منحنياً فوق حد أقل الركوع هل يجزئه ذلك أم لا؟ فيه وجهان حكيناهما في ركن القيام، فمن قال: لا يجزئه وهو الأصح قال، هاهنا: له أن يعود، ومن قال: يجزئه قال: إذا صار في ارتفاعه إلى هذا الحد لا يعود؛ لأنه حصل في حد الفرض. وقوله في الكتاب: (فيرجع) معلم بالميم؛ لأن عند مالك إن كان إلى الانتصاب أقرب لم يرجع، وعن ابْنِ المُنْذِر عنه أنه إذا فارقت إليتاه الأرض لم يرجع، وبالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة إن كان إلى القيام أقرب لم يعدد، ذكره القدوري (¬1)، ويجوز أن يعلم بالواو أيضاً؛ لأن مراده من الانتصاب الاستواء، ومن ذهب إلى التفسير الثاني لا يطلق ¬
الرجوع إذا لم يستو، ثم إذا عاد قبل الانتصاب فهل يسجد للسهو؟ حكى الشيخ أبو حامد وأصحابنا العراقيون فيه قولين: أظهرهما: عندهم أنه لا يسجد؛ لأنه روي في حديث المغيرة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "وإنْ ذَكَرَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَتِمَ قَائِماً جَلَسَ، وَلاَ سَهْوَ" (¬1)، ولأنه عمل قليل، فلا يقتضي سجود السهو. والثاني: وبه قال أحمد واختاره القاضي أبو الطيب أنه يسجد، لما روي أن أنساً - رضي الله عنه- "تَحَرَّكَ لِلْقِيَامِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنَ الْعَصْرِ فَسَبَّحُوا بِهِ فَجَلَسَ، ثُمَّ سَجَدَ لِلسَّهْوِ" (¬2) ولأن ما أتى به زيادة من جنس الصلاة، فأشبه ما إذا زاد ركوعاً، وقال كثير من الأصحاب: إن صار أقرب إلى القيام منه إلى القعود ثم عاد سجد السهو، وإن كان يعد أقرب إلى القعود، لم يسجد، ويحكى هذا عن القفال أيضاً، ووجهه: أنه إذا صار إلى القيام أقرب فقد أتى بفعل يغير نظم الصلاة، ولو أتى به عمداً في غير موضعه لبطلت صلاته، فيقتضي سهوه السجود، وهذا كالتوسط بين القولين، وحمل للقولين على الحالين، وذكر في "النهاية" هذه العبارة، وزاد أنه لو عاد من حد يكون نسبته إلى القعود كنسبته إلى القيام لا يسجد أيضاً، وذكر عبارة أخرى عن الشيخ أبي محمد وآخرين وهي: أنه لو عاد قبل أن ينتهي إلى حد الراكعين فلا يسجد، وإن عاد بعد أن ينتهي إلى حد الراكعين يسجد؛ لأنه زاد ركوعاً سهواً، وهذه العبارة هي التي ذكرها في الكتاب، وليس المراد من حد الركوع هاهنا أقل الركوع؛ فإن المرتفع إذا انتهى إلى حد أقل الركوع فقد جاوز أكمله، وزاد ركوعاً، ولم يبلغه فهو في حد الراكعين أيضاً، نص عليه في "النهاية"، وهذا الخلاف في الوجه الذي حكيناه عن بعضهم في تفسير الانتصاب، حيث يعتبر أقل الركوع؛ لأن النظر ثم إلى الحصول في حد فرض القيام والعبارة الأولى أوفى بالغرض، فإن الثانية لا تجزى إلا إذا انتهض منحنياً، ومن الجائز أن لا ينحني في انتهاضه فيحتاج إلى الرجوع إلى العبارة الأولى، وهما متقاربتان، وليستا على التنافي، بل من قال بالأولى قال: بأنه إذا انتهى إلى حد الراكعين وعاد يسجد للسهو، ومن قال بالثانية سلم بأنه إذا عاد بعد ما صار أقرب إلى القيام من غير انحناء يسجد، وليكن قوله: (ثم يسجد [للسَّهْوِ] (¬3)) معلماً بالواو لمكان طريقة القولين المطلقين في العود قبل الانتصاب، والظاهر التفصيل، وبه أجاب صاحب "التهذيب" والروياني في "الحلية" وجميع ما ذكرناه من الحالتين في ما إذا ترك التشهد الأول، ونهض ناسياً، فأما إذا فعل ذلك عمداً، ثم عاد قبل الانتصاب والاعتدال فإن عاد بعدما ¬
صار إلى القيام أقرب بطلت صلاته، وإن عاد قبله لم تبطل، ذكره في "التهذيب"، ولو كان يصلي قاعداً فافتتح القراءة بعد الركعتين فإن كان على ظن أنه فرغ من التشهد وجاء وقت الثالثة لم يعد بعد ذلك إلى قراءة التشهد في أصح الوجهين، وإن سبق لسانه إلى القراءة وهو عالم بأنه لم يتشهد فله أن يعود إلى قراءة التشهد، وترك القنوت يقاس بما ذكرنا في التشهد، فإذا نسيه ثم تذكر بعد وضع الجبهة [على الأرض] (¬1) لم يجز العود، وإن كان قبله فله العود، ثم إن عاد بعد بلوغه حد الراكعين يسجد للسهو، وإن كان قبله فلا. قال الغزالي: (الرَّابعُ) إِذَا تَشَهَّدَ فِي الأَخِيرِ قَبْلَ السُّجُودِ تَدَارَكَ السُّجُودَ وَأَعَادَ التَّشَهُّدَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ؛ لأنَّهُ زَادَ قُعُودًا طَوِيلاً، وَلَوْ تَرَكَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ وَتَشَهَّدَ ثُمَّ تَذَكَّرَ لَمْ يَسْجُدْ لِهذَا السَّهْوِ، لِأَنَّهُ رُكْنٌ طَوِيلٌ فَلَمْ يُوجَدْ إِلاَّ نَقْلُ التَّشَهُّدِ وَهُوَ غيْرُ مُبْطِلٍ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وإنْ جَلَسَ عَنْ قِيَامٍ وَلَمْ يَتَشَهَّدْ لَكِنْ طَوَّلَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ تَذَكَّرَ عَلَى القُرْبِ فَلاَ لِأَنَّ قَدْرَ جَلْسَةِ الاسْتِرَاحَةِ فِي مِثْلِ هذَا الوَقْتِ عَمْداً لاَ يُبْطِلُ الصَّلاةَ. قال الرافعي: صورة المسألة الأولى أن يجلس في الركعة الأخيرة عن قيامه ظاناً أنه إذا أتى بالسجدتين فتشهد، ثم تذكر الحال بعد التشهد، فيجب عليه تدارك السجدتين وإعادة التشهد؛ مراعاةً لترتيب الصلاة، ويسجد للسَّهْوِ والحالة هذه؛ لمعنيين: أحدهما: وهو المذكور في الكتاب: أنه زاد قعوداً طوِيلاً في الصَّلاَةِ، ولو فعل ذلك عَمْداً لَبَطَلَتْ صلاته، فإذا فعله سَهْواً سجد. والثاني: أنه نقل ركن التَّشهد عن مَوْضِعِهِ إلى غير موضعه، وذلك يقتضي سجود السَّهْوِ على أظْهُرِ الوجهين، كما تقدَّم، ويتفرع على هذا ما لو جلس بعد السجدتين في الركعة الأولى، أو الثالثة وقرأ التَّشَهُّدَ، أو بعضه، ثم تذكر سجد للسهو، نص عليه الشافعي -رضي الله عنه- لأنه نقل ركن التشهد إلى غير موضعه ولو لم يقرأ شيئاً، فإن طوّل سجد للسهو، لأنه زاد قعوداً طويلاً، وإن لم يطول فلا لانتفاء المعنيين، والتطويل بأن يزيد على قدر جَلْسَة الاستراحة. وأعلم أن الحكم المذكور لا يختص بالركعة الأخيرة، بل لو اتفق له ذلك في الركعة الثانية من صلاة رباعية أو ثلاثية فكذلك يتدارك السجود ويعيد التشهد، ويسجد للسهو إلا أن إعادة التشهد هاهنا تكون مسنونة، ولو اتفق ذلك في ركعة لا يعقبها تشهد فإذا تذكر تدارك. ¬
المسألة الثانية: لو سجد في الركعة الأخيرة سجدة وتشهد على ظن أنه فرغ من السجدتين، ثم تذكر فلا شك في أنه يتدارك السجدة الثانية، ويعيد التشهد، وهل يسجد للسهو؟ قال في الكتاب: [لا يسجد] (¬1) بناء على شيئين: أحدهما: أن الجلوس بين السجدتين ركن طويل، فلم يوجد منه زيادة قعود طويل. والثاني: أن نقل الركن الذكري عن موضعه لا يقتضي السجود، فتكون قراءة التشهد هاهنا بمثابة ما لو أتى بذكرٍ آخر، ويحكى هذا عن ابن سريج، لكن كل واحد من هذين الأصلين مختلف فيه، والظاهر أن الجلسة بين السجدتين ركن قصير وأن نقل الركن الذكري عن موضعه يقتضي السجود على ما بيناه من قبل، فإذًا الظاهر في المسألة أنه يسجد للسهو، وبه قال الشَّيْخُ أَبُو عَلِيِّ وَغَيْرُهُ، وذكر في "التهذيب" أنه المذهب، ولو كانت المسألة بحالها وطول لا بالتشهد فهاهنا لا نقل، لكن الظاهر أنه يسجد للسهو أيضاً تفريعاً على قولنا: إن الجلسة بين السجدتين ركن قصير. واعرف من لفظ الكتاب [في المسألة] (¬2) أموراً ثلاثة. أحدهما: قوله: (لم يسجد لهذا السهو) ليس جواباً ينفي السجود [جزماً؛ لأنه ذكر الخلاف فيما جعله علة لنفي السجود حيث قال] (¬3) (لأنه ركن طويل) ولم يوجد إلا نقل التشهد، وهو غير مبطل، يعني إذا كان عمداً على أحد الوجهين، والخلاف في العلة يوجب الخلاف في المعلول، فتبين بذلك أنا إذا قلنا: إن عمده مبطل يسجد للسَّهْو، فإذًا لا حاجة إلى إعلام قوله: (لم يسجد) بالواو؛ لأنه بمثابة قوله: "لم يسجد على أحد الوجهين". الثاني: قوله: (أحد الوجهين) يجوز أن يرجع إلى النقل وحده، ويجوز أن يرجع إليه، وإلى قوله قبله: "ركن طويل" فإن الخلاف ثابت فيهما، فإن كان الأول فليعلم قوله: (ركن طويل) بالواو. الثالث: لفظ الكتاب يشعر بأن الحكم بأن عمده غير مبطل مع قولنا: الجلسة ركن طويل يقتضي نفي السجود هاهنا، لكنه قد ذكر من قبل إنا وإن لم نجعل عمد النقل مبطلاً ففي السجود لسهوه وجهان، فإذًا القول بنفي السجود هاهنا بناء على الأصلين جواب على أنه إذ ما لم يبطل عمده لا يسجد لسهوه، فالأظهر أنه وإن لم يبطل عمده يسجد لسهوه كما تقدم. ¬
المسألة الثالثة: لو جلس عن قيام ولم يتشهد، ثم تذكر اشتغل بالسجدتين، وبما بعدهما على ما يقتضيه ترتيب صلاته، ثم إن طال جلوسه سجد للسهو لما سبق أن زيادة القعود الطويل عمداً مبطلة، وإن لم يطل بل كان في حد جلسة الاستراحة لا يسجد للسهو؛ لأن العمد منه في غير موضعه لا يبطل الصلاة بخلاف الركوع والسجود والقيام يبطل عمدها الصلاة وإن قصر زمانه، وذلك لأن الجلوس معهود في نفس الصلاة من غير أن يكون ركناً كجلوس التشهد الأول، وجلسة الاستراحة، وهي لا تقع في نفس الصلاة إلا أركاناً، فيكون تأثيرها في تغيير نظم الصلاة أشد، والمسألتان الأخيرتان لا اختصاص لهما بالركعة الأخيرة كما ذكرنا في المسألة الأولى، لكن هذا السهو حيث يكون بين يديه تشهد أقرب وقوعاً وإذا كان التشهد فرضاً يجب عليه إعادته بعد تبين الحال، فلذلك كانت مسائل الكتاب مصورة في الركعة الأخيرة. قال الغزالي: (الخَامِسُ) إِذَا قَامَ إِلَى الخَامِسَةِ نَاسِياً بَعْدَ التَّشَهُّدِ فَإِنْ تَذَكَّرَ جَلَسَ وَسَلَّمَ، وَالقِيَاسُ أَنَّهُ لاَ يُعِيدُ التَّشَهُّدَ، وَالنَّصُّ أَنَّهُ يَتَشَهّدُ لِرِعَايَةِ الوَلاَءِ بَينَ التَّشَهُّدِ وَالسَّلاَمِ وَكَيْ لاَ يَبْقَى السَّلاَمُ فَرْداً غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِرُكْنٍ مِنْ أَحَدِ الجَانِبَيْنِ. قال الرافعي: إذا قام إلى الخامسة في صلاة رباعية، ثم تذكر قبل أن يسلم فعليه أن يعود إلى الجلوس ويسجد للسهو، سواء تذكر في قيام الخامِسة، أو ركوعها، أو سجودها، وإن تذكر بعد الجلوس فيها سجد للسَّهْوِ ويسلم. وقال أبُو حَنِيفَةَ: إن تذكر قبل أن يسجد في الخامسة يعود إلى الجلوس، وإن تذكر بعد ما سجد فيها فإن لم يكن قعد في الرَّابِعَةِ بَطَلَ فرضُه وتحولت صَلاتُه نفلاً، وعليه أن يضم إليها ركعةً سادسةً، وإن كان قد قعد في الرابعة ضم إليها ركعة أخرى، وتكون أربُع رَكَعَاتٍ من صلاته فرضاً، وركعتان نَفْلاً. لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "صَلَّى الظُّهْرَ خَمْساً. فقيل له أتزيد في الصلاة، قال: "وَمَا ذَاكَ" قالوا: صليت خَمْساً، فسجد سجدتين بعدما سَلَّمَ" (¬1). والاستدلال أنه لا يخلو إما أن كان قد قعد في الرابعة، أو لم يقعد، فإن قعد فيها لم يضم إلى صلاته ركعة أخرى، وإن لم يقعد فيها لم يعد الصلاة. وقوله في الكتاب: (جلس وسلم) بعد سجود السهو، وهل يتشهد بعدما تذكر الحال؟ نظر إن تذكر بعد الجلوس والتشهد في الخامسة فلا حاجة إلى إعادته بحال، وإن تذكر قبل الجلوس فيها فجلس، أو بعد الجلوس فيها، وقبل التشهد، فإن لم يكن ¬
تشهد في الرابعة فلا بد وأن يتشهد الآن، وإن كان قد تشهد فيها وهذه الحالة هي المذكورة في الكتاب، فهل يحتاج إلى إعادة التشهد؟ فيه وجهان: أصحهما: وبه قال معظم الأصحاب: لا؛ لأنه أتى به في موضعه، فأشبه ما إذا قام إلى الخامسة من السجود ثم تذكر فإنه يقعد ويتشهد، ولا يحتاج إلى العود إلى السجود. والثاني: وبه قال ابن سريجَ: أنه يجب إعادته، وينسب هذا إلى نَصِّ الشافعي -رضي الله عنه- لأنه قال في "المختصر": وإن ذكر أنه في الخامسة سجد، وإن لم يسجد قعد في الرابعة، أو لم يقعد فإنه يجلس للرابعة، ويتشهد، ويسجد للسهو، حكم بأنه يجلس ويتشهد سواء قعد في الرابعة، أو لم يقعد، وذكر ابْن سُرَيْجٍ لهذا الوجه الثاني معنيين: أحدهما: رعاية الموالاة بين التشهد والسَّلام، فإن تشهده في الرابعة قد انقطع بالركعة الزائدة فلا بد من إعادته ليليه السَّلام. والثاني: أنه لو لم يعد التشهد لبقي السلام فرداً غير متصل بركن قبله ولا بعده، والكتاب يشتمل على هذين المعنيين معاً، وفرع ابن سريج عليهما ما إذا ترك الركوع ثم تذكره في السجود [فإن] (¬1) قلنا بالمعنى الأول، يجب أن يعود إلى القيام ويركع منه، وإن قلنا بالمعنى الثاني كفاه أن يقوم راكعاً، فإنه لا يبقى فرداً لاتصاله بالسجود وما بعده، والأول مثل ما حكيناه عن أبي إسحاق فيما إذا تذكر في قيام الثانية أنه ترك سجدة من الأولى، وكان قد جلس بعد السجدة المفعولة أنه يجلس ثم يسجد. قال أصحاب الوجه الأول: أما لفظ الشافعي -رضي الله عنه- فإنما يتعرض للقعود، ولم يقل تشهد أو لم يتشهد، فالمراد ما إذا قعد ولم يتشهد. أما المعنيان فضعيفان، أما الأول فلأن الفصل بالنسيان لا يقدح في الموالاة، لأنه إذا أعاد التشهد فإما أن يكون المعتد به تشهده الأول، أو يكون هو الثاني، فإن كان المعتد به الأول فلا معنى للأمر بالثاني، ثم المحذور هو انقطاع الموالاة بين التشهد والسلام يبقى بحالة، وإن كان المعتد به الثاني فلا موالاة بينه وبين ما قبله من الأركان، فلم يحتمل انقطاع الموالاة بين التشهد وما قبله، ولا يحتمل بين التشهد والسلام. وأما المعنى الثاني فهو مفرع على انقطاع الموالاة، وإلا فالسلام ليس فرداً؛ بل هو متصل بما قبله. ¬
وهذا كله إذا كان قد تشهد على قصد التشهد الأخير، وهو المراد من مسألة الكتاب، فأما إذا تشهد على ظَنِّ أنه التشهد الأول عاد الوجهان في تأدي الفرض بنية النفل (¬1) إن قلنا: يتأدى ففيه الخلاف المذكور، وإن قلنا: لا يتأدى فيجب إعادة التشهد بلا خلاف. وإذا عرفت ما ذكرناه تبين لك أنه لم قال: القياس أنه لا يتشهد، والنص أنه يتشهد لكن في اللفظ شيئين: أحدهما: أنه سلم أن النص أنه يتشهد، وأصحاب الوجه الأول لم يسلموا ذلك بل منهم من يمنع دلالته عليه، ومنهم من أوله. والثاني: أن قوله في مقابلته القياس: أنه لا يتشهد إنما يذكر مثله في إبداء الشيء على سبيل الاحتمال، وهو منقول منصوص عليه من جهة معظم الأصحاب، والله أعلم. قال الغزالي: (السَّادِسُ) إِذَا شَكَّ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ أَخَذَ بِالأَقَلِّ (ح) وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَلَوْ شَكَّ بَعْدَ السَّلاَمِ فَقَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَقُومَ إِلَى التَّدَارُكِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ، وَالثَّانِي: أنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ بَعْدَ الفَرَاغِ لِمَا فِيهِ مِنَ العُسْرِ، وَإِنْ لَمْ يَشُكَّ إِلاَّ بَعْدَ طُولِ الزَّمَانِ، فَالقِيَاسَ (¬2) أنَّهُ لاَ يُتَلَفَّتُ إِلَيْهِ. قال الرافعي: ليس في هذا الموضع السادس سهو محقق، فكأنه أراد بقوله أولاً: (ومواضع السهو ستة مواضع سجود السهو) ثم ليس ذلك على سبيل العصر، بل الصور المفردة التي يشرع فيها السجود تزيد على أضعاف هذا العدد، ويمكن التقسيم الجملي على وجه ينتقص عنه. وقوله: (إِذَا شك في أثناء الصلاة) يعني في عدد الركعات، وسبب الأخذ بالأقل وسجود السهو قد ذكره في الكتاب بعد هذا، وأعاد المسألة كما سنشرحها، وليعلم قوله: (أخذ بالأقل) بالحاء والألف لما سيأتي، وإن وقع الشك في عدد الركعات، أو في ترك ركن من الأركان بعد السلام، فينظر إن لم يطل الزمان ففيه قولان: أحدهما: أنه يشتغل بالتدارك ويسجد للسهو كما لو وقع الشَّكُّ في أثناء الصَّلاَةِ؛ لأن الأصل أنه لم يفعله، وأيضاً فلأنه لو تيقن بعد السلام ترك ركن، أو ركعة ولم يطل ¬
الفصل يتدارك كما لو كان ذلك قبل السلام، فكذلك يتساويان في حكم الشَّكِّ؛ وأظهر هما أنه لا عبرة بهذا الشك، لأن الظاهر أن ختم الصلاة كان على تمام الركعات والأركان، ولو اعتبر الشك الطارئ بعد الفراغ لعسر الأمر على الناس، وفي المسألة طريق آخر وهو القطع بهذا القول الثاني، فليكن قوله: (فقولان) معلماً بالواو لذلك، ولفظ الكتاب وإن لم يصرح بوضع القولين فيما إذا لم يطل الزمان لكنه اشتمل على ما يبين ذلك. ألا ترى أنه قال بعد القولين: (فإن لم يشك إلا بعد طول الزمان) فأفهم أنهما فيما إذا لم يطل، وإن طال الزمان ثم شك ففيه طريقان حكاهما في "النهاية". أحدهما: طرد القولين. وأصحهما: القطع بأنه لا عبرة بالشِّكِّ بعده؛ لأن الإنسان بعد طول المدة تكثر تردداته وشكوكه فيما مضى من أفعاله، ولو اعتبر ذلك لكان الطريق أن يؤمر بالقضاء، ومثل هذا الشك غير مأمون في القضاء أيضاً. وقوله: "على الصحيح" أي: من الطريقين، وبه قال الشيخ أبو محمد، ويجوز أن يريد من القولين جواباً على الطريقة الأولى، وإذا لم يفصل بين طول الزمان وقصره، قلت: في الشَّكِّ الطارئ بعد الفراغ طريقان: أحدهما: أنه لا يعتبر بحال. والثاني: وهو المذكور في "الوسيط" فيه ثلاثة أقوال: أصحها: الفرق بين أن يطول الزمان فلا يعتبر، وبين أن لا يطول فيعتبر. فإن قلت: وبم يضبط الزمان الطويل، ويميز عن غير الطويل؟ وهذا البحث يحتاج إليه هاهنا، وفيما إذا تيقن أنه ترك [ركعة] (¬1) أو ركناً بعد السلام؛ فإن الحكم فيه يختلف بطول الزمان وقصره على ما سبق؟ فالجواب: أنه حكي عن البويطي أن الطويل ما يزيد على قدر ركعة، وبه قال أبو إسحاق المرْوزي. وعن ابن أبي هريرة أن الطويل قدر الصلاة التي كان فيها، والأظهر أن الاعتبار فيه بالعرف والعادة، ويحكى ذلك عن [الأم] (¬2) وإذا جوزنا البناء فلا فرق بين أن يتكلم بعد السلام ويخرج من المسجد ويستدبر القبلة، وبين أن لا يفعل ذلك. وقيل: القدر الذي نقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الفصل محتمل فإن زاد فلا، والمنقول أنه قام ومضى إلى ناحية المسجد، وراجع ذا اليدين، وسأل الصحابة فأجابوا. ¬
قال الغزالي: قَوَاعِدُ أَرْبَعٌ، الأُولَى: مَن شَكَّ فِي تَرْكِ مَأمُورٍ سَجَدَ لِلسَّهْوِ إِذِ الأَصْلُ أنَّهُ لَمْ يَفْعَلُهُ، وَإِنْ شَكَّ فِي ارْتِكَابِ مَنْهِيٍّ لَمْ يَسْجُدْ لِأَنَّ الأَصْلَ العَدَمُ، وَلَو شَكَّ فِي أنَّهُ سَجَدَ لِلسَّهْوِ أَوْ فِي أنَّهُ سَجَدَ وَاحِدَةٌ أَوْ ثِنْتَيْنِ لِلسَّهْوِ، فَالأَصْلُ العَدَمُ إِلاَّ فِي مَسْأَلَةٍ، وَهُوَ أنَّهُ لَو شَكَّ أنَّهُ صَلَّى ثَلاَثاً أَوْ أَرْبَعًا أَخَذَ بِالأَقَلِّ قِيَاسًا وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ جَبْراً وَإِنْ كَانَ الأَصْلُ أنَّهُ لَمْ يَرْدْ، وَقِيلَ: إِنَّ عِلَّتَهُ أنَّهُ أَدَّى الرَّابِعَةَ عَلَى تَرَدُّدٍ حَتَّى لَوْ تَيَقَّنَ قَبْلَ السَّلاَمِ أنَّهِا رَابِعَةٌ سَجَدَ أَيْضًا، وَقِيلَ لاَ يَسْجُدُ عِنْدَ زَوَالِ التَّرَدُّدِ. قال الرافعي: هذه القواعد أصول في الباب لا بد من معرفتها، والأولى منها مبنية على أصل كثير الولوج في أبواب الفقه، وهو أنا إذا تيقنا وجود شيء، أو عدمه ثم شككنا في تغيره، وزواله عما كان فإنا نستصحب اليقين الذي كان، ونطرح الشك، إذا تذكرت ذلك. فلو شك في ترك مأمور ينجبر تركه بالسجود وهو الأبعاض، فالأصل أنه لم يفعله فيسجد للسهو. قال في "التهذيب": هذا إذا كان الشَّك في ترك مَأْمُورٍ مفصل، فأما إذا شك في الجملة في أنه هل ترك مأموراً أم لا؟ فلا يسجد كما لو شك هل سها أم لا؟ ولو شك في ارتكاب منهي مثل شكه في أنه تكلم ناسياً أم لا، أو سلم ناسياً أم لا، فالأصل أنه لم يفعل، ولا سجود عليه، ولو تيقن السَّهْوَ وشك في أنه هل سجد للسَّهْوِ أم لا فيسجد؟ لأن الأصل أنه لم يسجد، ولو شك في أنه سجد للسهو سجدة أو سجدتين فيأخذ بأنه لم يسجد إلا واحدة ويسجد أخرى، لأن الأصل في الثانية العدم (¬1). ولو شك في صلاته فلم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً أخذ بالأقل، وأتى بالمشكوك فيه، وسجد للسهو، خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- حيث قال: إن كان هذا الشك أول ما عرض له بطلت صلاته، وإن كان يعرض له كثيراً تحرى وبنى على غالب ظنه، فإن لم يغلب على ظنه شيء بنى على اليقين. وعن أحمد رواية أن الإمام يتحرى خاصة، ويعمل بغالب ظنه، والظاهر عنه مثل مذهبنا. لنا ما روى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي- قال: "إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلاَثاً أَمْ أَربَعًا؟ فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا ¬
اسْتَيقَنَ، وَيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ صَلاتُهُ تَامّةٌ كَانَتْ الرَّكْعَةُ وَالسَّجْدَتَيْنِ نَافِلَةً، وَإِنْ كَانَتْ صَلاتُهُ نَاقِصَةً كَانَتْ الرَّكْعَةُ تَمَاماً، والسَّجْدَتَانِ تَرْغِيماً لِلشَّيْطَانِ" (¬1). وعن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فَلَمْ يَدْرِ أَوَاحِدَةٌ صَلَّى أَمْ اثْنَتَيْنِ، فَلْيَبْن عَلَىِ وَاحِدَةٍ، وَإنْ لَمْ يَدْرِ ثِنْتَيْنِ صَلَّى أوْ ثَلاثَاً، فَلْيَبْن عَلى ثِنْتَيْن، فإنْ لَمْ يَدْرِ ثَلاَثاً صَلَّى أَمْ أْرْبَعاً؟ فَلْيَبْنِ عَلَى ثَلاَثٍ، وَيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمِ" (¬2). وعندنا لا مجال للاجتهاد في هذا الباب، ولا يجوز العمل بقول الغير أيضاً. وفيه وجه: أنه يجوز الرجوع إلى قول جمع كثيرين كانوا يرقبون صلاته، وكذلك إذا قام الإمام إلى ركعة يظنها رابعته، وعند القوم أنها خامسة، فنبهوه لا يرجع إلى قولهم. وفي وجه: وإن أكثر عددهم رجع إلى قولهم، والمشهور الأول لأنه تردد في فعل نفسه، فلا يرجع إلى قول غيره فيه، كالحاكم إذا نسي حكمه لا يأخذ بقول الشهود عليه. إذا عرف ذلك، فالبناء على الأصل مستمر على الأصل الذي تقدم؛ لأن الأقل فيما سوى القدر المستيقن العدم، وأما الأمر بسجود السهو فمخالف لذلك الأصل؛ لأنه إذا بني على اليقين، وأتى بركعة أخرى فقد تمت صلاته خالية عن السهو بالزيادة ظاهراً، فلماذا يسجد؟ حكى إمام الحرمين خلافاً في تنزيله قال: قال شيخي، وطائفة: المعتمد فيه ما روينا من الخبر، ولا اتجاه له من جهة المعنى. وقال الشيخ أبو علي: المقتضى للسجود تردده في أمر الركعة الأخيرة، فإن كانت زائدة فزيادتها تقتضي السجود، وإلا فالتردد فيها أهي أصلية مفروضة، أم زائدة يوجب ضعف النية، ويحوج إلى الجبر بالسجود، قال: ويتفرع على هذا الخلاف ما لو زال تردده قبل السَّلاَمِ، وعرف أن الركعة الأخيرة هي الرابعة حقاً، وأنه ما زاد شيئاً، هل يسجد للسهو؟ قطع الشيخ أبو محمد بأنه لا يسجد، فإن المتبع الحديث، والحديث ورد في دوام الشَّكِّ والتردد. وقال الشيخ أبو علي: يسجد؛ لأن تلك الركعة تأدت على التردد، وضعف النية فيها، فزوال التردد بعد ذلك لا يغني عن الجبر الذي مال إليه إمام الحرمين كلام شيخه وأنه لا يسجد عند زوال التردد، واعترض على كلام الشيخ أبي علي، وقال إنه منقوض ¬
بما إذا لم يدر الرجل أقضى الفائتة التي كانت عليه أم لا؟ فإنا نأمره بقضائها، ولا يسجد للسهو إذا قَضَاها، وإن كان هو متردداً في أنها هل هي مَفْرُوضَة عليه من أول الصَّلاَةِ إلى آخرها أم لا؟ وفي لفظ الكتاب ما يشعر بموافقته الإمام على اختياره، فإنه أسند سجود السهو في المسألة إلى الخبر، ثم قال: وقيل: إن عليه كذا، وقد بَيَّنَّا أن هذا السِّياق يشعر بترجيح الأول، لكن المنقول عن القفال يوافق ما نسبه في المسألة إلى الشيخ أبي علي، ولم يورد صاحب "التهذيب" وكثيرون سواه، وضبطوا صور عروض الشك وزواله، فقالوا: إن كان ما فعله من وقت عروض الشك إلى زواله ما لا بد منه على كل احتمال فلا يسجد للسهو، فإن كان زائداً على بعض الاحتمالات سجد للسهو. مثاله: لو شك في قيام من صلاة الظهر أن تلك الركعة ثالثة أو رابعة فركع وسجد على هذا الشَّك، وهو على عزم القيام إلى ركعة أخرى أخذاً باليقين، ثم تذكر قبل القيام إلى الأخرى أنها ثالثته، أو رابعته فلا يسجد للسَّهْوِ؛ لأن ما فعله في زمان الشَّكِّ لا بد منه على التقديرين جميعاً، وإن لم يتذكر حتى قام إلى الأخرى سجد للسَّهْوِ، وإن تذكر أنها كانت ثالثته، وهذه رابعة لأنه كان احتمال الزيادة، وكونها خامسة ثابت حين قام (¬1). وقوله في الكتاب: (فالأصل العدم إلا في مسألة) -يعني- أنه يعمل بقضية هذا الأصل إلا في هذه المسألة، فلا يعمل به، لأن هذه المسألة تغاير ما قبلها في نفس الأصل حتى لا يكون الأصل فيها العدم، وليس الغرض استثناء هذه الصورة الفردة؛ بل نظائرها في معناها كما إذا شك في ترك ركن سوى النية والتكبير يبنى على اليقين، ويسجد للسهوِ، وتَرْكُ الأَصْلِ في هذه الصورة ليس في الأخذ بالأقل، ولكنه في الأمر بسجود كما بَيَّنَّا، ولذلك قال: (أخذ بالأقل قياساً، ومسجد للسهو جبراً)، والصورة المستثناة قد ذكرها وحكمها في الفصل السابق على هذا الفصل فهي معادة هاهنا، لكن هذا الموضع أحق بذكرها، ولذلك زاد هاهنا الكلام في سبب سجود السَّهْو، وفرع عليه وكأنه قصد بذكرها في الفصل السابق التدرج منعاً إلى الشك بعد السلام، ولو اقتصر على ذكرها في هذا الموضع وعقبها بمسألة الشَّكِّ بعد السلام لم يكن به بأس. وقوله آخراً: (وقيل: لا يسجد عند زوال التردد) تفريع على إسناد سجود السهو إلى الجبر، وليس شيئاً مستأنفاً، ولو قال: وعلى الأول لا يسجد عند زوال التردد لكان أوضح. ¬
قال الغزالي: الثَّانِيَةُ: إِذَا تكَرَّرَ منه (¬1) السَّهْوُ فَيَكْفِي سَجْدَتَانِ فِي آخِرِ الصَّلاَةِ، وَإِنَّمَا يَتَعَدَّدُ سُجُودُ السَّهْوِ فِي حَقِّ المَسْبُوقِ إِذَا سَجَدَ لِسَهْوِ الإِمَامِ فَإنَّهُ يُعِيدُ فِي آخِر صَلاَةِ نَفْسِهِ، وَكَذا إِذَا صَلَّوا صَلاَةَ الجُمُعَةِ ثُمَّ بَانَ لَهُمْ بَعْدَ سُجُودِ السَّهْوِ أَنَّ الوَقْتَ خَارجٌ تَمَّمُوهَا ظُهْراً وَأَعادُوا السُّجُودَ، وَلَوْ ظَنَّ الإِمَامُ سَهْواً فَسَجَدَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنْ لاَ سَهْوَ فَقَدْ زَادَ سَجْدَتَيْنِ فَيَسْجُدُ لِهذَا السَّهْوِ سَجْدَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، وَقِيلَ: هُمَا جَابِرَتَانِ لِأَنْفُسِهِمَا كَشَاةٍ مِنْ أَرْبعِينَ شَاةً تُزَكِّي نَفْسَهَا وَغيْرَهَا. قال الرافعي: لا يتكرر سجود السهو بتكرر السهو وتعدده، بل يكفي سجدتان في آخر الصلاة، سواء تكرر نوع واحد، أو وجد نوعان فصاعداً، ووجهه الخبر والمعنى. أما الخبر فهو حديث ذي اليدين فإن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سَلَّمَ وَتَكَلَّمَ، وَاسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ، وَمَشَى، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى سَجْدَتَيْنِ" (¬2). وأما المعنى: أن سجود السهو مؤخر إلى آخر الصلاة، ولولا أنه يتداخل لأمر به عند السهو، كسجود التلاوة يأتي عند التلاوة. قال الأئمة: "ولا يتعدد سجود السهو إلا في مواضع" قالوا: ونعني بذلك صورة السجود، وإلا فالمعتمد به سجدتان بلا استثناء، فمنها المسبوق إذا سجد مع الإمام لسهوه يعيد في آخر صلاة نفسه على اختلاف يأتي من بعد، والغرض هاهنا الإشارة إلى أنه من المستثنيات، واقتصر على ذكر الأصح، وهو أنه يعيد في آخر صلاة نفسه، ويجوز أن يعلم قوله: (يعيد) بالواو للخلاف الذي يأتي ذكره، ومنها: لو سها الإمام في صلاة الجمعة، فسجدُوا للسهْوِ، ثم تبَيَّن لهم قبل أن يسلموا خروج وقت الظُّهْرِ، فعليهم إتمامها ظهراً، ويعيدون سجود السهو؛ لأن محل السجود في آخر الصلاة، وقد تبين أن الأول لم يقع في آخر الصلاة، وهذا تفريع على ظاهر المذهب، وفي المسألة قول آخر يأتي ذكره في الجمعة أنهم لا يتمونها ظهراً؛ بل يستأنفون، فعلى ذلك القول لا تستمر المسألة، ولا بأس لو أعلمت قوله: (تمموها ظهراً) بالواو؛ لمكان ذلك القول. ومنها لو ظن أنه سها في صلاته فسجد للسهو، ثمَ بَانَ قبل أن يسلم أنه لم يسه، فهل يسجد؟ فيه وجهان: أصحهما: أنه يسجد؛ لأنه زاد سجدتين سهواً، فيجبر هذا الخلل بالسجود. ¬
والثاني: وبه قال الشيخ أبو محمد: لا يسجد؛ لأن سجود السهو يجبر كل خلل في الصلاة، فيجبر نفسه كما يجبر غيره، وهذا كوجوب شاة في أربعين إذا أخرج واحدة تزكي نفسها وغيرها، فإنها من جملة الأربعين، فهذه الصور الثلاث هي المذكورة في الكتاب. وقوله: (وإنما يتعدد سجود السهو) يشعر بالحصر فيها، ولكن وراءها صوراً أخرى منها: لو شرع المسافر في الصلاة بنية القصر فسها وسجد للسهو، ثم نوى الإتمام قبل أن يسلم، أو صار مقيماً بانتهاء السفينة إلى دار الإقامة يجب عليه أن يتم الصلاة ويعيد السجود في آخر صلاته؛ لأن محله آخر الصلاة. ومنها: لو سجد للسَّهو، ثم سَهَا قبل أن يسلم بكلام، أو غيره هل يسجد للسهو؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال ابن القاص: نعم؛ لأنه وإن جبر ما قبله وما فيه فلا يجبر ما يقع بعده. وأصحهما: لا يسجد، كما لو تكلم في سجود السهو أو سلم بينهما. والمعنى فيه أنه لا يؤمن من وقوع مثله في السجود ثانياً أو بعده فيتسلسل، ولو سجد للسهو ثلاثاً سهواً لا يسجد لهذا السَّهْوِ، وكذلك لو شك في "أنه سجد للسهو سجدة، أو سجدتين فأخذ بالأقل، وسجد أخرى كما أمرناه به، ثم تحقق أنه كان قد سجد سجدتين لا يسجد ثانياً للمعنى الذي ذكرناه، وعبروا عن هذا الوجه بالأصح وعن الأصح في الثالثة من صور الكتاب بأن قالوا: السهو في سجود السهو لا يقتضي السجود، والسهو بسجود السهو يقتضي السجود. ومنها لو ظن أن سهوه ترك القنوت، فسجد للسهو، ثمَ بَانَ له قبل أن يسلم أن سهوه شيء آخر. هل يسجد ثانياً؟ فيه جوابان للقاضي الحسين: أحدهما: نعم؛ لأنه قصد بالأول جبر ما لا حاجة إلى جبره وبقي الخلل بحاله. وأظهرهما: لا؛ لأنه قصد جبر الخلل، وأنه يجبر كل خلل. قال الغزالي: الثَّالِثَةُ إِذَا سَهَا المَأْمُومُ لَمْ يَسْجُدْ بَلِ الإِمَامُ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ كَمَا يَتَحَمَّلُ عَنْهُ سُجُودَ التِّلاَوَةِ وَدُعَاءَ الْقُنُوتِ وَالْجَهْرَ وَالْقِرَاءَةَ عَنِ المَسْبُوقِ وَالتَّشَهُّدَ الأَوَّلَ عَنِ المَسْبُوقِ بِرَكْعَة، وَلَو سَهَا بَعْدَ سَلاَمِ الإِمَامِ لَمْ يَتَحَمَّلْهُ، وَلَوْ ظَنَّ أَنَّ الإِمَامَ سَلَّمَ فَقَامَ لِيَتَدَارَكَ ثُمَّ جَلَسَ قَبْلَ سلاَمِ الإِمَامِ، فَكُلُّ مَا جَاءَ بِهِ سَهْوٌ وَلاَ سُجُودَ عَلَيْهِ، فَإِذَا سَلَّمَ الإمَامُ فَلْيَتَدَارَكِ الآنَ، وَإن تَذَكرَ فِي القِيَامِ أَنَّ الإِمَامَ لَمْ يَتَخَلَّلْ فَلْيَرْجِع إِلَى الْقُعُودِ أَوْ
لِيَنْتَظِر قَائِماً سَلاَمَهُ ثُمَّ لْيَشْتَغِلْ بِقِرَاءَةِ الفَاتِحَةِ بَعْدَهُ. قال الرافعي: إذا سها المأموم خلف الإمام لم يسجد، ويتحمل الإمام سهوه؛ لما روى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَيْسَ عَلَى مَنْ خَلْفَ الْإمَامِ سَهْوٌ، وَإِنْ سَهَا الْإمَامُ فَعَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ" (¬1). ولحديث معاوية بن الحكم الذي رويناه في فصل الكلام، فَإِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَم يَأْمُرْهُ بِالسُّجُودِ مَعَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ خَلْفَهُ" (¬2). وشبه في الكتاب تحمله سهو المأموم بأمور أخر يتحملها. أحدها: سجود التلاوة؛ فإن المأموم لو قرأ آية سجدة لا يسجد على ما سيأتي. والثاني: دعاء القنوت على ما سبق. والثالث: الجهر، فإن المأموم لا يجهر في الصلاة الجهرية ولو كان منفرداً لجهر، ويجوز أن يعلم هذا بالحاء، لأن عند أبي حنيفة لا يجهر المنفرد، وإذا كان كذلك فلا معنى للتحمل. والرابع: القراءة يتحملها عن المسبوق الذي أدركه في الركوع، وكذلك يتحمل عنه اللبث في القيام، لا يتحمل عنه أصل القيام فإنه لا بد له من إيقاع التكبيرة في حد القيام. والخامس: التشهد الأول يتحمله عن المسبوق الذي لحقه في الركعة الثانية، فإنه إذا قعد الإمام للتشهد الأول يتابعه، وهو غير محسوب للمسبوق من صلاته، وموضع تشهده الأول آخر الركعة الثالثة للإمام وهو لا يقعد فيه، بل يقوم مع الإمام، فهذه الخمسة هي المذكورة في الكتاب. ومنها: القنوت في صلاة الصبح إذا لحق المسبوق في الركعة الثانية، على ما ذكرنا في التشهد الأول (¬3). ومنها قراءة السورة على التفصيل المتقدم. ومنها قراءة الفاتحة في الجهرية على القول القديم. ولو سها المأموم بعد سلام الإمام لم يتحمله الإمام، لانقطاع رابطة الاقتداء، وذلك في المسبوق إذا سها فيما يتفرد بتداركه، وكذلك المأموم الموافق لو تكلم ساهياً ¬
عقيب سلام الإمام والمنفرد إذا سها في صلاته، ثم دخل في جماعة وجوزنا ذلك على ما سيأتي، فلا يتحمل الإمام سهوه ذلك، ولو ظن المأموم أن الإمام قد سلم فسلم، ثم بان له أنه لم يسلم بعد فيسلم معه، ولا سجود عليه فإنه سهو في حالة الاقتداء، ولو تيقن في التشهد أنه ترك الفاتحة أو الركوع من ركعة سهواً فإذا سلم الإمام فعليه أن يقوم إلى ركعة أخرى، ثم لا يسجد للسهو؛ لأن سهوه كان خلف الإمام، ولو سلم الإمام فسلم المسبوق سهواً، ثم تذكر بني على صلاته وسجد للسهو؛ لأن سلامَهُ وقع بعد انفراده، ولو ظن المسبوق أن الإمام سلم بأن سمع صوتاً خَيَّلَ إليه ذلك، فقام ليتدارك ما عليه وكان ما عليه ركعة مثلاً فأتى بها، وجلس ثم علم أن الإمام بعد لم يسلم وأن ظنه كان خطأ فهذه الركعة غير معتد بها؛ لأنها مفعولة في غير موضعها، فإن وقت التدارك ما بعد انقطاع القدوة إما لخروج الإمام عن الصلاة أو لقطع المأموم القدوة حيث يجوز ذلك ولم يوجد واحد من الأمرين، وإنما ظن زوال القدوة فتبين خلافه، فإذا سلم الإمام يقوم إلى التدارك، ثم لا يسجد للركعة التي سها بها لبقاء حكم القدوة، وهذه المسألة منقولة عن نص الشافعي -رضي الله عنه-، والعبارة عنها في الكتاب تحتاج إلى إضمارات، فقوله: (ولو ظن أن الإمام سلم) يعني المسبوق، وقوله: (فقام ليتدارك ثم جلس ...) إلى آخره أي وتدارك ثم جلس قبل سلام الإمام، وعلم أن الإمام لم يسلم بعد، وكل ما جاء به سهو، ولو كانت المسألة بحالها فسلم الإمام وهو قائم، فهل يجوز له أن يمضي في صلاته، أم يجب عليه أن يعود إلى القعود ثم يقوم؟ حكى صاحب "التهذيب" وغيره فيه وجهين، إن جوزنا المضي فلا بد من استئناف القراءة، وفرعوا على الوجهين ما لو سلم الإمام في قيامه، لكنه لم ينتبه لذلك حتى أتم الركعة، إن جوزنا المضي فركعته محسوبة، ولا يسجد للسهو، وإن قلنا: عليه القعود، لم يحسب ويسجد للسهو لزيادته في الصلاة بعد تسليم الإمام، ولو كانت المسألة بحالها وتبين له في القيام أن الإمام لم يسلم بعد، فقد خيره في الكتاب بين أن يرجع إلى القعود، وبين أن ينتظر قائماً سلام الإمام وذكر إمام الحرمين -قدس الله روحه- في هذه المسألة أنه إن آثر أن يرجع، وهو الوجه، وإن بدا له أن يتمادى ويقصد الانفراد قبل أن يتحلل الإمام، فهو مبنى على أن المقتدي إذا أراد الانفراد ببقية الصلاة، وقطع القدوة، هل له ذلك؟ إن منعناه تعين عليه الرجوع، وإن جوزنا الانفراد فوجهان: أحدهما: يجب الرجوع، لأن نهوضه غير معتد به فليرجع ثم ليقطع القدوة إن شاء. والثاني: لا يجب؛ لأن الانتهاض ليس مقصوداً لعينه، وإنما المقصود نفس القيام، وما بعده فصار كما لو قصد عنه أبتداء النهوض إذا عرفت ذلك فالمفروض في المسألة إذا لم يرجع إلى القعود حالتان:
أحدهما: أن يقطع القدوة. والثانية: أن لا يقطعها؛ بل ينتظر قائماً إلى أن يسلم الإمام، والذي نقلناه عن الإمام كلام في الحالة الأولى، وفيه ما يقتضي وجوب الرجوع في الحالة الثَّانية، وامتناع الانتظار، وما في الكتاب كلام في الحالة الثانية؛ لأنه إذا قطع القدوة، وجوزناه فلا ينتظر سلام الإمام، بل يشتغل بتدارك ما عليه، وليس تجويز الانتظار قائماً إلى سلام الإمام صافياً عن الإشكال لما فيه من المخالفة الظاهرة بخلاف سبقه الإمام بركن، فإن المسبق اليسير إلى ما سينتهي الإمام إليه لا يعد مخالفة محضة، وبتقدير أن يكون قيام المسبوق كالسبق بركن، فقد ذكرنا من قبل وجهين فيما إذا غلط المأموم فسبق الإمام بركن هل يجب عليه العود أم يجوز له أن ينتظر فيه؟ فليكن قوله: (ولينتظر قائماً) معلماً بالواو، وعلى كل حال فلو كان قد قرأ قبل تبين الحال لم يعتد بقراءته، بل عليه الاستئناف فلذلك قال: (ثم ليشتغل بقراءة الفاتحة بعده). قال الغزالي: الرَّابِعَةُ يَسْجُدُ المَأْمُومُ مَعَ الإمَامِ إِذَا سَجَدَ لِسَهْوِهِ (ح) فَإِنْ تَرَكَ الإِمَامُ سَجَدَ المَأْمُومُ عَلَى النَّصِّ لِأَجْلِ سَهْو (ز) الإِمَامِ، وَلَوْ سَجَدَ المَسْبُوقُ مَعَ الإِمَامِ، فَهَلْ يُعِيدُ فِي آخِرِ صَلاَةِ نَفْسِهِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ يَلْتَفِتَانِ إِلَى أَنَّهُ يَسْجُدُ لِسَهْوِهِ أَوْ لِمُتَابَعَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْجُدِ الإِمَامُ سَجَدَ فِي آخِرِ صَلاَةِ نَفْسِهِ عَلَى النَّصِّ، وَسَهْوُ الإِمَامِ قَبْلَ اقْتِدَائِهِ يَلْحَقُة عَلَى الأَظْهَرِ كَمَا بَعْدَ اقْتدَائِهِ. قال الرافعي: إذا سها الإمام في صلاته لحق سهوه المأموم، لما روي في الخبر الذي تقدَّم، وإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه، ولأنه لما تحمل سهو المأموم لزمه سهو نفسه، ويستثني صورتان: إحداهما: أن يتبين له كون الإمام جنباً، فلا يسجد لسهوه، ولا يتحمل هو عن المأموم أيضاً. والثانية: أن يعرف سبب سهو الإمام، ويتيقن أنه مخطئ في ظنه، كما إذا ظن ترك بعض الأبعاض، والمأموم يعلم أنه لم يترك فلا يوافق الإمام إذا سجد. إذا ثبت هذا الأصل، فينظر إن سجد الإمام وافقه المأموم فيه، ولو تركه عمداً بطلت صلاته، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤتَمَّ بِهِ" (¬1)، وسواء عرف المأموم سهوه أو لم يعرفه، فإذا سجد سجدتين في آخر صلاته، وجب على المأموم متابعته؛ حملاً على ¬
أنه سها وإن لم يطلع على سهوه، بخلاف ما لو قام إلى ركعة خامسة لا يتابعه حملاً على أنه ترك ركناً من ركعة؛ لأنه وإن تحقق الحال ثم لم يكن له متابعته لإتمامه الصلاة يقيناً (¬1). ولو لم يسجد إلا سجدة واحدة سجد المأموم أخرى حملاً على أنه نسي، وإن ترك الإمام السجود لسهوه وسلم، فهل يسجد المأموم؟ نص الشافعي -رضي الله عنه- على أنه يسجد؛ لأن صلاة المأموم كملت بسبب اقتداءه بالإمام، فإذا تطرق نقص إلى صلاة الإمام، تعدى إلى صلاة المأموم وخرج بعض أصحابنا على أصول الشافعي-رضي الله عنه-، منهم أبو حفص ابن الوكيل: أنه لا يسجد؛ بل يتابعه في السلام، كما لو ترك الإمام التشهد الأول، أو سجود التلاوة، لا ينفرد المأموم بهما وبهذا قال أبو حنيفة -رحمه الله-، وكذلك أحمد -رحمه الله- في إحدى الروايتين والمزني، وقد أشار في "المختصر" إلى تخريجه على أصل الشافعي -رضي الله عنه-؛ لأنه ينفرد به مذهباً، وظاهر المذهب هو الأول، وأجابوا عن التشهد الأول وسجدة التلاوة بأنهما يقعان في خلال الصلاة، فلو انفرد بهما لخالف الإمام، وهاهنا سجود السهو يقع بعد سَلاَمِ الإمام وخروجه من الصَّلاة. قال في "النهاية": وعبر عن هذا الخلاف؛ بأن المقتدي يسجد لسهو الإمام أو لمتابعته، إن قلنا: لسهوه يسجد، وإن لم يسجد الإمام، وإن قلنا: لمتابعته فلا، ولو سلم الإمام ثم عاد إلى السجود نظر إن سلم المأموم معه ناسياً يوافقه في السجود، فلو لم يفعل هل تبطل صلاته؟ فيه وجهان مبنيان على أن من سلم ناسياً قبل السجود ثم عاد إلى السجود هل يعود إلى حكم صلاته أم لا؟ وسيأتي ذلك، وإن سلم المأموم عمداً مع ذكر السَّهْوِ فلا يلزمه متابعته، وإن لم يسلم المأموم وعاد الإمام ليسجد فإن عاد بعد أن سجد المأموم للسهو لم يتابعه؛ لأنه قطع صلاته عن صلاة الإمام بالسُّجُود، وإن عاد قبل أن يسجد المأموم فأصح الوجهين أنه لا يجوز أن يتابعه، بل يسجد منفرداً. والثاني: أنه يلزمه متابعته، وتبطل صلاته لو لم يفعل، ولو سبق الإمام حدث بعد ما سها أتم المأموم صلاته، وسجد لذلك السهو، تفريغاً على ظاهر المذهب (¬2) وإن كان الإمام حَنَفِيًّا فسلم قبل أن يسجد للسَّهْوِ لم يسلم معه المأموم بل يسجد قبل السلام ولا ينتظر سجود الإمام؛ لأنه فارقه بسلامه، وهذا تفريع على أن اقتداء الشافعي بالحنفي ¬
جائز وسيأتي، ولو كان المأموم مسبوقاً وسها الإمام بعد ما لحقه وسجد في آخر صلاته فيجب على المسبوق أن يسجد معه رعاية للمتابعة، كما يوافقه في سائر الأفعال التي لا تحتسب له، ويدل عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ" (¬1). وحكى الصَّيْدَلاَنِيُّ عن بعض أصحابنا أنه لا يسجد معه؛ لأن موضع سجود السَّهْوِ آخر الصلاة، والصَّحِيحُ المنصوص هو الأول، وعليه فرع في الكتاب قوله: (ولو سجد المسبوق مع الإمام فهل يعيد في آخر صلاة نفسه؟) فيه قولان: أصحهما: نعم؛ لأن سهو الإمام اقتضى خللاً في صلاته فيحتاج إلى جبره بالسجود ومحل الجبر بالسجود آخر الصلاة وما أتى به كان لمتابعة الإمام. والثاني: لا وهو اختيار المزني -رحمه الله-؛ لأنه إنما يسجد لمتابعة الإمام؛ وإلا فليس من جهته سهو وقد ارتفعت المتابعة بسلام الإمام، فهذا إذا ما سجد الإمام وسجد المسبوق معه، فإما إذا لم يسجد الإمام فلا شك في أن المسبوق لا يسجد في آخر صلاة الإمام إذ لا متابعة، وليس هو محل السجود بالإضافة إلى المسبوق، وهل يسجد في آخر صلاة نفسه؟ فيه الخلاف الذي قدمناه في المأموم الموافق هل يسجد إذا لم يسجد الإمام فليكن قوله: (سجد في آخر صلاة نفسه) معلماً بالحاء والألف والزاي أيضاً، وكل هذا في سهو الإمام بعد اقتدائه، فإما إذا سها قبل اقتداء المسبوق به فهل يلحقه حكمه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، لأنه لم يكن بينهما رابطة الاقتداء (¬2) حينئذ كما لو في تداركه بعد سلام الإمام لا يتحمله الإمام، فعلى هذا قال في "النهاية" إن لم يسجد الإمام فلا يسجد هو أصلاً، وإن سجد فالظَّاهِرُ أنه لا يسجد معه. وقال بعضهم: يسجد متابعةً لكن لا يسجد في آخر صلاته. والوجه الثاني -وهو الأظهر-: أنه يلحقه حكمه؛ لأنه دخل في صلاة ناقصة، فعلى هذا إن سجد الإمام سجد معه، وهل يعيد في آخر صلاة نفسه؟ (¬3) فيه القولان، وإن لم يسجد الإمام سجد هو في آخر صلاته على النص، وإذا قلنا: إن المسبوق يعيد السجود في آخر صلاته فلو اقتدى بالمسبوق بعد ما أنفرد مسبوق آخر وبذلك المسبوق بعد ما انفرد مسبوق ثالث، فكل واحد منهم يسجد لمتابعة إمامه ثم يسجد في آخر ¬
صلاة نفسه، ولو سها المسبوق في تداركه فإن قلنا لا يسجد لسهو الإمام في آخر صلاته فليسجد لسهوه سجدتين، وإن قلنا: يسجد لسهو الإمام في آخر صلاته فكم يسجد؟ فيه وجهان: أحدهما: أربع سجدات لتغاير الجهتين. وأصحهما: سجدتان كما لو سها سهوين، ولو انفرد المصلي بركعة من صلاة رباعية وسها فيها ثم اقتدى بِمُسَافرٍ وجوزنا الاقتداء في أثناء الصَّلاَةِ وسَهَا إمامُه ثم قام إلى ركعته الرابعة وسها فيها فكم يسجد في آخر صلاته؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحها: سجدتان. والثاني: أربع نظراً إلى سهوه في حالتي الجماعة والانفراد. والثالث: ستٌ باعتبار الأحوال، فإن كان قد سجد الإمام فلا بُدَّ وأن يسجد معه، ويكون قد أتى على الوجه الثالث بثمان سجدات، وكذا المسبوق بركعة إذا اَقتدى بمسافرٍ وسَهَا الإمام وسجد، وسجد معه المسبوق ثم صار الإمام مقيماً قبل أن يسلم فأتم وأعاد سجود السَّهْوِ وأعاد معه المسبوق ثم قام إلى الركعة الرابعة وسها فيها؛ وقلنا: إنه يسجد أربع سجدات فقد أتى بثمان سَجَدَاتٍ، فإن سَهَا بعدها بكلام ونحوه وفَرَّعْنَا على قول صاحب "التلخيص" صارت السَّجَدات عَشْراً، وقد يزيد عدد السجود على هذا تفريعاً على الوجوه الضعيفة (¬1). قال الغزالي: أَمَّا مَحَلُّ السُّجُودِ وَكيْفِيَّتُهُ فَهُمَا سَجْدَتَانِ (ح م) قَبْلَ السَّلاَمِ عَلَى القَوْلِ الجَدِيدِ، فَإِنْ سَلَّمَ عَامِداً قَبْلَ السُّجُودِ فَقَدْ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ سَلَّمَ نَاسِياً (¬2) فَطَالَ الزَّمَانُ فَقَدْ فَاتَ، وَإِنْ تَذَكَّرَ عَلَى القُرْبِ فَإِنْ عَنَّ لَهُ أَنْ لاَ يَسْجُدَ فَقَدْ جَرَى السَّلاَمُ مُحَلَّلاً، وإنْ عَنَّ لَهُ أَنْ يَسْجُدَ عَادَ إلَى الصَّلاَةِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَبَانَ أَنَّ السَّلاَمَ لَمْ يَكُنْ مُحَلَّلاً. قال الرافعي: ذكرنا أن الكلام في سجود السهو يقع في قسمين: أحدهما: في مقتضيه وقد تم. ¬
والثاني: في محله وكيفيته، وهما سجدتان بينهما جلسة يُسَنَّ في هيئتها الافتراش، وبعدهما إلى أن يسلم يتورَّك، وكتب الأصحاب سَاكِتَةٌ عن الذكرِ فيهما، وذلك يُشْعِرُ بأن المحبوب فيهما هو المحبوب في سجدات صلب الصلاة كَسَائِرِ ما سكتوا عنه من واجبات السّجود ومحبوباته، وسمعت بعض الأئمة يحكي أنه يستحب أن يقول فيهما: "سُبْحَانَ مَنْ لاَ يَنَامُ وَلاَ يَسْهُو" (¬1) وهو لائق بالحال (¬2). وفي محلهما ثلاثة أقوال: أصحها: أنه قبل السلام. روي عن عَبْدِ اللهِ ابْنِ بَحَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى بِهِمُ الظُّهْرِ فَقَامَ إِلَى الرَّكْعَتَيْنِ الْأُوَلَتَيْنِ لَم يَجلِسْ فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلاةَ وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ سَلَّمَ" (¬3)، ولحديث أبي سعيد وعبد الرَّحْمن -رضي الله عنهما- المذكورين في الشَّكِّ في عدد الركعات. والثاني: وبه قال مالك والمزني -رحمهما الله-: أنه إن سَهَا بزيادَةِ فِعْلٍ سَجَدَ بعد السَّلاَمِ، وإن كان بنقصان سجد قبل السَّلاَم، أما أنه يسجد في الزيادة بعد السلام فلقصة ذي اليدين فإن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سَلَّمَ وَتَكَلَّمَ وَمَشِيَ فَلَمَّا بَنَى عَلَى صَلاَتِهِ سَلَّمَ ثُمَّ سَجَدَ لِلسَّهْوِ". وأما أنه يسجد في النقصان قبل السلام فلحديث عبد الله ابن بحينة. والثالث: أنه مخير إن شاء قدم، وإن شاء أخر؛ لثبوت الأمرين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذان القولان الأخيران منقولان عن القديم، والأول هو الجديد الصحيح، وقد نقل عن الزُّهْري: "أَنَّ آخِرَ الأَمْرَيْنِ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْسُّجُودُ قَبْلَ السَّلاَمِ" (¬4). ثم هذا الاختلاف في الإجزاء على المشهور بين الأصحاب وحكى القاضي ابْنُ ¬
كِجَّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ طريقة أخرى أنه ما الأفضل، وفي قول: الأفضل التقديم، وفي قول: الأفضل التأخير، ففي قول: هما سواء. وقال أبو حنيفة: السجود بعد السلام بكل حال، واختلفت الرواية عن أحمد، فروي عنه مثل القول الثاني، وروي مثل القول الأول، وروي أنه قبل السلام إلا في موضعين: أحدهما: أن يسلم ساهياً وقد بقي عليه شيء من صلاته كالركعة ونحوها. والثاني: أن يكون إماماً ويشك في عدد صلاته ويتحرى على أحد الروايتين لهم فإنه يسجد بعد السلام. والرواية الثالثة: أظهر عند أصحابه. وقد عرفت من هذه الاختلافات الحاجة إلى إعلام قوله: (قبل السلام) بالحاء والميم والألف والزَّاي. التفريع إن قلنا يسجد قبل السَّلاَم، فلو سلم قبل أن يسجد لم يخل: إما أن يسلم عامداً ذاكراً للسهو أو يسلم ناسياً، فإن سلم عامداً ففيه وجهان: أصحهما -وهو المذكور في الكتاب-: أنه فوت السجود على نفسه؛ لأن محل السجود قبل السَّلاَمِ وقد قطع الصَّلاةَ بالسلام. والثاني: أنه كما لو سلم ناسياً إن طال الفَصْلُ ولم يسجد وإلا سجد كالنوافل التي تقضي لا فرق فيها بين العمد [والنسيان] (¬1) ولا خلاف في أنه وإن سجد لا يكون عائداً إلى الصَّلاة بخلاف ما لو سلم ناسياً وسجد ففيه خلاف سيأتي، فإن سلم ناسياً فينظر إن طال الزمان ففيه قولان: "الجديد": وهو الذي ذكره في الكتاب؛ أنه لا يسجد؛ لفوات محله وتعذر البناء بطول الفصل كما لو ترك ركناً وتذكر بعد طول الفصل لا يبنى. "والقديم": أنه يسجد؛ لأنه جبرانُ عِبَادَةٍ فيجوز أن يتراخى عنها كجبرانات الحَجِّ. وعن مالك: أنه إذا ترك السجود ناسياً سجد متى تذكر ولو كان بعد شهر، ولهذا أعلم قوله: (فقد فات) بالميم مع القاف، وإن لم يطل الزمان بل تذكر على القرب فإن بدا له أن لا يسجد فذاك، والصلاة ماضية على الصِّحَّةِ وحصل التحلل بالسلام؛ لأنه لما لم يكن له رغبة في السجود عرفنا أنه وإن لم يعتره نسيان لكان يسلم ولا يسجد. ¬
وقال في "النهاية": ورأيت في أدراج كلام الأئمة تردداً في ذلك، والظاهر أنه إذا أراد أن يسجد، قلنا: له سَلِّمْ مرة أخرى؛ لأن ذلك السلام غير معتد به، فإنك لو أردت أن تسجد لحكمنا بأنك في الصلاة، وهذا يوجب أن يكون قوله: (فقد جرى السلام محللاً) معلماً بالواو، وإن أراد أن يسجد فقد حكى إمام الحرمين فيه وجهين: أحدهما: لا يسجد؛ لأن السلام ركن جرى في محله، والسجود يجوز تركه قصداً، فلو قلنا: يسجد لاحتجنا إلى إخراج السلام عن الاعتداد به، فإنا نفرع على أن محل السجود قبل السلام، وذلك مما لا وجه له، وإلى هذا الوجه مال الإمام وصاحب الكتاب في "الفتاوى". والثاني: أنه يسجد، وبه قطع الجمهور، ونَصَّ عليه الشافعي -رضي الله عنه- لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا وَسَلَّمَ، فَقِيل لَهُ فِي ذَلِكَ فَسَجَدَ لِلسَّهْوِ"، وإذا قلنا: إنه يسجد هاهنا -وهو الصحيح- أو قلنا: يسجد إذا طال الفصل تفريعاً على القديم فقد اختلفوا في أنه هل يعود إلى حكم الصلاة على وجهين: أحدهما: لا؛ لأن التحلل قد حصل بالسَّلام بدليل أنه لا يجب إعادة السلام والعود إلى الصلاة، وهذا أرجح عند صاحب "التهذيب". والثاني: أنه يعود إلى حُكْم الصَّلاَةِ، وبه قال أبو زيد، وذكر القفال أنه الصحيح، وتابعهما إمام الحرمين، والمصنف قطع في "الفتاوى" بذلك إذا قلنا: إنه يسجد، وهكذا ذكر القاضي الروياني وغيره، ووجهه أنه سلم ناسياً لسهوه ولو كان ذاكراً لما سلم لرغبته في السجود، وعلمه بأن محل السجود قبل السَّلام؛ فالنسيان يخرجه عن كونه محللاً كما يخرجه عن كونه محللاً إذا سلم ناسياً لركن ثم تذكر، ويتفرع على الوجهين مسائل: منها: لو تكلم عامداً، أو أحدث في السجود بطلت صلاته على الوجه الثاني؛ وعلى الأول لا تبطل. ومنها: لو كان السَّهْوُ في صَلاَة جُمعَةٍ وخرج وقت الظهر في السجود فاتت الجمعة على الوجه الثاني، وعلى الأول: لا. ومنها: لو كان مسافراً يقصر ونوى الإتمام في السجود لزمه الإتمام على الثاني، وعلى الأول: لا. ومنها: هل يكبِّر للافتتاح؟ وهل يتشهد؟ (¬1) إن قلنا بالوجه الثاني فلا يفعل ذلك، ¬
وإن قلنا: بالأول يكبر (¬1)، وفي التشهد وجهان: أصحهما: أنه لا يتشهد، قال في "التهذيب": والصحيح أنه يسلم سواء قلنا: يتشهد أو لا يتشهد، بقي هاهنا كلامان: أحدهما: البحث عن حد (¬2) طول الزمان، وفيه الخلاف الذي ذكرناه فيما إذا ترك ركناً ناسياً ثم تذكر بعد السلام أو شك فيه، والأصح الرجوع إلى العرف والعادة، وحاول إمام الحرمين ضبط العرف فقال: إذا مضى من الزمان قدر يغلب على الظن أنه أضرب عن السجود قصداً أو نسياناً فهذا فصل طويل، وإلا فليس ذلك بفصل. قال: وهذا إذا لم يفارق المجلس فإن فارق ثم تذكر على قرب من الزمان فهذا محتمل عندي؛ لأن الزمان قريب لكن إذا نظرنا إلى العرف فمفارقة المجلس تغلب على الظن الإضراب عن السجود كطول الزمن، قال: ولو سلم وأحدث ثم انغمس في ماء على قرب الزمان فالظاهر أن الحدث فاصل وإن لم يطل الزمان. واعلم: أنه قد نقل قول عن الشافعي -رضي الله عنه- أن الاعتبار بالمجلس فإن لم يفارقه سجد وإن طال الزمان، وإن فارقه لم يسجد وإن قرب الزمان، لكن الذي اعتمده الأصحاب الرجوع إلى العرف كما سبق وقالوا: لا تضر مفارقة المجلس واستدبار القبلة -والله أعلم-. والثاني: أن لفظ الكتاب في المسألة وهو قوله: (وإن عن له أن يسجد عاد إلى الصلاة على أحد الوجهين) يمكن حمله على طريقة الجمهور بأن يقال: إنه يسجد ثم في عوده إلى الصلاة الوجهان، ولكنه لم يرد ذلك، وإنما أراد نقل الوجهين في أنه هل يسجد جرياً على طريقة الإمام كما قدمناها؟ إن قلنا: يسجد فهو عائد إلى الصَّلاَةِ وإلاَّ فَلاَ، وقد صرح بذلك في "الوسيط" وغيره هذا كله تفريع على قولنا إن السجود قبل ¬
السلام، أما إذا قلنا: إنه بعد السلام إما في السَّهْوِ بالزيادة أو على الإطلاق فينبغي أن يسجد على القرب، فإن طال الفصل عاد الخلاف، وإذا سجد فلا يحكم بالعود إلى الصلاة جَزْماً. وقال أَبُو حَنِيفَةَ: يعود إليها، وهل يتحرم للسجدتين ويتشهد ويتحلل؟ قال في "النهاية": الحكم فيها كحكمها في سجدة التِّلاَوَةِ وسيأتي ذلك، ثم إذا رأينا التشهد فالمشهور أنه يتشهد بعهد السجدتين كما في سجود التِّلاوة يَتَشَهَّد بعده وعن الأستاذ أَبِي إِسْحَاق الإسْفِرَايِينِي (¬1) -رحمة الله عليه-: أنه يتشهد قبل السجدتين ليليهما السلام، وحكى الحناطي -رحمة الله عليه- على هذين المذهبين قولين، وروي في "البيان" الوجهين في التفريع على القول الأول إذا قلنا: إنه يتشهد (¬2). قال الغزالي: السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ: سَجْدَةُ التِّلاَوَةِ وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ في أَرْبَعَ عَشَرَةَ آيَةَ (م و) ¬
القول في سجود التلاوة
وَلاَ سَجْدَةَ فِي ص (ح م)، وَفِي الحَجِّ سَجْدَتَانِ (م) ثُمَّ هِيَ عَلَى القَارِئ وَالمُسْتَمِع جَمِيعاً، فَإِنْ سَجَدَ القَارِئُ تَأكَّدَ الاسْتِحْبَابُ عَلَى المُسْتَمِعِ، وإِنْ كَانَ فِي الصَّلاَةِ سَجَدَ لِقِرَاءَةِ نَفْسِهِ إنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ لِقِرَاءَةِ إِمَامِهِ إنْ سَجَدَ إِمَامُهُ، وَلاَ يَسْجُدُ (ح) لِقَرَاءَةِ غيْرِ الإِمَامِ، وَمَنْ قَرَأَ آيَةً فِي مَجْلِسٍ مَرَّتَيْنِ هَلْ تُشْرَعُ السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. القول في سجود التلاوة قال الرافعىِ: الفصل يشتمل على مسائل: إحداها: سُجُودُ التِّلاَوَةِ سُنَّة، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال بوجوبها. لنا: ما روي عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- "أَنَّهُ قَرَأَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- سُورَةَ النَّجْم فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا وَلاَ أَمَرَهُ بالسُّجُودِ" (¬1). وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- "أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَر سُورَةَ السَّجْدَةِ فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الأُخْرَى قَرَأَهَا فَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَقَالَ عَلَى رسْلُكِمْ إِنَّ اللهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إِلاَّ أَنْ نَشَاءَ" (¬2). الثانية: في عدد آيات السجدة قولان: "الجديد": أنها أربع عشرة آية، وفي القديم أسقط سجدات المفصل وردها إلى إحدى عشرة؛ لما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "لَمْ يَسْجُدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ (¬3) واحتج في الجديد بما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (¬4) " وكان إسلام أبي هريرة -رضي الله عنه- بعد الهجرة بسنين فرأى إثباته أَولى من النفي. وأبو حَنِيفَةَ -رحمه الله- يوافق الجديد في العدد ومالك القديم إلا أنهما أثبتا سجدة لا نعدها ونفيا بدلها أخرى نحن نثبتها، أما الأولى فسجدة "ص" عندنا ليست من عزائم السجود، وإنما هي سجدة شكر خلافاً لهما. ¬
لنا: ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "سَجَدَ فِي (ص) (¬1) وَقَالَ: سَجَدَهَا دَاودٌ تَوْبَةٌ وَسَجَدْتُهَا شُكْرًا" (¬2). أي: على النعمة التي أتاها الله تعالى داود وهي قبول توبته. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه-: أنَّهُ كانَ لاَ يَسْجُدُ فِي (ص)، إذا ثبت هذا فلو سجد فيها خارج الصلاة فهو حسن (¬3)، ولو سجد في الصلاة جاهلاً أو ناسياً لم يضر وإن كان عالماً فوجهان: أحدهما: وبه قال ابن كج: لا تبطل طلاته؛ لأن سببه التلاوة. وأصحهما: تبطل كسجود الشكر، ولو سجد إمامه في "ص" لأنه ممن يراها فلا يتابعه المأموم فيها بل يفارقه أو ينتظره قائماً، وإذا انتظره قائماً هل يسجد للسَّهْوِ؟ فيه وجهان (¬4): وأما الثاني: ففي الحج عندنا سجدتان خلافاً لهما في الثانية. لنا: ما روي عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: "قُلْتُ يا رَسُولَ اللهِ فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ بِأَنَّ فِيهَا سَجْدَتيْنِ قَالَ نَعَمْ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلاَ يَقْرَأْهُمَا" (¬5)، وسار ابن سريج إلى إثبات سجدة "ص" والثانية في الحج معاً وجعل آيات السجود خمس عشرة. لما روي عن عمرو بن العاص أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أقَرَأَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا ثَلاَثٌ فِي الْمُفَصِّلِ وَفِي الْحَجِّ سَجْدَتَانِ" (¬6) وعن أحمد روايتان. إحداهما: مثل مذهب ابن سريج. وأصحهما: مثل القول الجديد، وإذا وقفت على هذه الاختلافات علمت قوله: ¬
"وهي مستحبة" بالحاء، وقوله في "أربع عشرة آية" بالواو للقول القديم ولمذهب ابن سريج، وقوله: "ولا سجدة في ص" بالميم والحاء والألف والواو، وقوله: "في الحج سجدتان" بالميم والحاء، ثم مواضع السجود من الآيات بينة لا خلاف فيها إلا في "حم" السجدة ففي موضع السجود فيها وجهان: أحدهما: أنه عند قوله: {إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (¬1) ويروى هذا عن أبي حنيفة وأحمد. وأصحهما: أنه عند قوله: {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ}، لأن عنده يتم الكلام. الثالثة: كما يسن السجود للقارئ يسن للمستمع إليه. لما: روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ فإِذَا مَرَّ بِسَجْدَةٍ كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا مَعَهُ". ولا فرق بين أن يكون القارئ في الصلاة أو لا يكون كذلك، ذكره في "التهذيب" وبه قال أبو حنيفة، وحكى في "البيان" أنه لا يسجد المستمع بقراءة من في الصلاة وأقام هذه المسألة خلافية بيننا وبين أبي حنيفة والأول أظهر وأوفق لإطلاق لفظ الكتاب، وكذلك ظاهر اللفظ يشتمل قراءة الصبي والمحدث (¬2) والكافر ويقتضي شرعية السجود للمستمع إلى قراءتهم وبه قال أبو حنيفة. وقال في "البيان" لا اعتبار بقراءتهم خلافاً له، وأما الذي لا يستمع قصداً ولكنه سمع ما رأى فقد حكي عن "مختصر البويطي" أن الشافعي -رضي الله عنه- قال: لا أؤكد عليه كما أؤكد على المستمع وإن سجد فحسن. وعند أبي حنيفة: لا فرق بينه وبين المستمع والقارئ، ونقل مثله عن بعض أصحابنا لكنه يقول باللزوم ونحن بالاستحباب. ودليل الفرق ما روي عن عثمان -رضي الله عنه- "أَنَّهُ مَرَّ بِقَاص فَقرَأَ آيَةِ السَّجْدَةِ ليَسْجُدَ عُثْمَانُ -رضي الله عنه- مَعَهُ فَلَمْ يَسْجُدْ وَقَالَ: مَا اسْتَمَعْنَا لَهَا" (¬3) وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "السَّجْدَةُ لِمَنْ جَلَسَ لَهَا" (¬4). وذكر في "النهاية" أن السامع لا يسجد؛ لأنه لم يقرأ ولا قصد الاستماع، فلو ¬
سجد لكانت سجدته منقطعة عن سبب ينشئه (¬1) فحصل في السامع ثلاثة أوجه كما يرى، وإذا سجد القارئ فيكون الاستحباب في حق المستمع آكد وإن كِان أصل الاستحباب لا يتوقف على سجوده، هذا ما ذكره أكثر الأئمة من العراقيين وغيرهم، وحكاه إمام الحرمين عن نصه في البويطي، ونقل الصيدلاني؛ أنه لا يسن له السجود إلا أن يسجد القارئ، ورجح الإمام هذا الوجه واستشهد عليه بما روي "أَنَّ رَجُلاً قَرَأَ عِنْدَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- السَّجْدَةَ فَسَجَدَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَرَأَ آخَرُ عِنْدَهُ السَّجْدَةَ فَلَمْ يَسْجُدْ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: سَجَدْتَ لِقِرَاءَةِ فُلاَنٍ وَلَمْ تَسْجُدْ لِقِرَاءَتِي فَقَالَ: كُنْتَ إِمَامَنَا فَلَوْ سَجَدْتَ لَسَجَدْنَا" (¬2). وحمل الأول (¬3) ذلك على تفاوت الاستحباب، وحث الثاني على السجود وهذا في غير الصلاة، أما المصلي فإن كان منفرداً سجد لقراءة نفسه، فلو لم يسجد وركع ثم بدا له أن يسجد لم يجز؛ لأنه اشتغل بالفرض فإن كان قبل بلوغه حد الراكعين فيجوز، ولو هوى بسجود التلاوة ثم بدا له فرجع جاز؛ لأنه مسنون فله ألا يتمه كما له أن لا يشرع فيه، وهكذا لو قعد للتشهد الأول وقرأ بعضه ولم يتم جاز، ولو أصغى المنفرد إلى قراءة قارئ في الصلاة أو في غير الصلاة فلا يسجد؛ لأنه ممنوع من الإِصغاء، ولو فعل بطلت صلاته، هذا قضية كلام الأصحاب، وإن كان المصلي في جماعة نظر إن كان إماماً فهو كالمنفرد فيما ذكرنا، ولا يكره له قراءة آية السجدة في الصَّلاة خلافاً لمالك حيث قال: يكره. ولأبي حنيفة وأحمد حيث قالا: يكره في السَّرِّيَةِ دون الجَهْرِيَّةِ. لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "سَجَدَ فِي الظُّهْرِ فَرَأَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُ قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ فَسَجَدُوا" (¬4). وإذا سجد الإمام سجد المأموم فلو لم يفعل بطلت صلاته، ولو لم يسجد الإمام لم يسجد المأموم، ولو فعل بطلت صلاته، ويحسن القضاء إذا فرغ ولا يتأكد، ولو سجد الإمام ولم ينتبه المأموم حتى رفع الإمام رأسه من السجود لم يسجد، وإن علم وهو بَعْدُ في السجود سجد، وإن كان في الهَوِيِّ ورفع الإِمَام رأسه رجع معه ولم يسجد، وكذا الضعيف الذي أهوى مع الإمام لسجود التلاوة فرفع الإمام رأسه قبل انتهائه إلى الأرض لبطء حركته يرجع معه ولا يسجد، وإن كان المصلي مأموماً لم ¬
يسجد لقراءة نفسه، بل يكره له قراءة آية السجدة، ولا يسجد لقراءة غير الإمام بل يكره له الإصغاء إليها، ولو سجد لقراءة نفسه أو لقراءة غيره بطلت صلاته. وقوله في الكتاب: (هي على القارئ والمستمع) ليس (على) هاهنا للإيجاب، وإنما المراد تأكد الاستحباب وكثيراً ما يتكرر ذلك في كلام الأصحاب في هذه السجدة وسجدة السهو، والمراد ما ذكرنا، وقد يستعملون لفظ الوجوب واللزوم أيضاً. وقوله: (فإن سجد القارئ تأكد الأستحباب على المستمع) إشارة إلى أن أصل الاستحباب ثابت وإن لم يسجد القارئ جواباً على الأظهر المنصوص، ويجوز أن يعلم بالواو؛ لأن من قال: لا يسن للمستمع السجود إلا إذا سجد القارئ لا يقول بتأكد الاستحباب عند عدم سجوده، وإنما يثبته عنده. وقوله: (ولا يسجد لقراءة نفسه ولا لقراءة غير الإمام) هكذا هو في بعض النسخ، وهو عبارة "الوسيط" وعلى هذا فالمراد ولا يسجد المأموم وهو متعلق بقوله: (أو لقراءة إمامه إن سجد إمامه) ولفظ الكتاب على هذا التقدير ساكت عن حكم الإمام، ولا بأس به للعلم بأن الإمام كالمنفرد في هذا الباب وأمثاله، وفي بعض النسخ: "ولا يسجد لقراءة غير الإمام" وطرح ما سواه، وعلى هذا فالمفهوم من سياق الكلام رجوعه إلى المأموم أيضاً، وسبب الطرح أنا إذا قلنا: ولا يسجد لقراءة غير الإمام دخل فيه نفسه أيضاً، وذكر بعضهم أن المصنف أراد: ولا يسجد المصلي لقراءة غير الإمام. واعلم قوله: (ولا يسجد) بالحاء على هذا التأويل؛ لأنا نعني بقولنا: لا يسجد: أنه لا يجوز له السجود ولو فعله بطلت صلاته. وعند أبي حنيفة: لو سجد الإمام والمقتدون لقراءة غيرهم لم تبطل صلاتهم وإن كان لا يجزئهم ذلك، ويسجدون بعد الصلاة، ذكره القدوري وغيره. الرابعة: لو قرأ آيات السجدة في مكان واحدٍ سجد لكل واحدة سجدة، ولو كرر الآية الواحدة في المجلس الواحد فينظر إن لم يسجد للمرَّة الأولى فيكفيه سجود واحد، وإن سجد للأولى فوجهان: أحدهما: لا يسنجد مرة أخرى، وتكفيه الأولى كما في الصورة السابقة، وبه قال أبو حنيفة وابن سريج. وأظهرهما: أنه يستحب مرة أخرى لتجدد السبب بعد توفية حكم الأول، وفي المسألة وجه ثالث أنه إن طال الفصل سجد مرة أخرى، إلا فتكفيه السجدة الأولى. قال في "العدة" وعليه الفتوى. ولو كرر الآية الواحدة في الصَّلاَةَ فإن كان في الركعة الواحدة فهي كالمجلس
الواحد، وإن كان في ركعتين فيهما كالمجلسين فيعيد السجود، ذكره الصيدلاني وغيره. ولو قرأ مرة في الصلاة ومرة خارج الصلاة في المجلس الواحد وسجد في الأولى فهذا لم أره منصوصاً عليه في كتب الأصحاب وإطلاقها لخلاف التكرار يقتضي طرده هاهنا، وعند أبي حنيفة: إذا سجد خارج الصلاة (¬1) لقراءة آية ثم أعادها في الصلاة أعاد السجدة ولم تجزه الأولى بخلاف ما لو لم يسجد حتى دخل في الصلاة وأعادها فإنه يسجد وتجزئه عن التِّلاَوَتَيْنِ. واعلم أن في قوله: (هل تشرع السجدة الثانية؟) إشارة إلى أن صورة الوجهين ما إذا كان قد سبق في المَرَّة الأولى، وإلا لم تكن سجدته سجدة ثانية والله أعلم. قال الغزالي: ثُمَّ الصَّحِيحُ أَنَّ هذِهِ سَجْدَةٌ فَرْدَةٌ وَإِنْ كانَتْ تَفْتَقِرُ إِلَى سَائرِ شَرَائِطِ الصَّلاَةِ، وَيُسْتَحَبُّ قَبْلَهَا تَكْبِيرَةُ مَعَ رَفْعِ اليَدَيْنِ إِنْ كَانَ فِي غَيْر الصَّلاَةِ وَدُونَ الرَّفْعِ إِنْ كَانَ فِي الصَّلاَةِ، وَقيلَ: يَجِبُ التَّحْرُّمُ وَالتَّحَللُ وَالتَّشَهُّدُ، وَقِيلَ يَجِبُ التَّحَرمُ وَالتَّحَلُّلُ دُونَ التَّشَهُّدِ، وَقِيلَ: لاَ يَجِبُ إِلاَّ التَّحَرُّمُ. قال الرافعي: الكلام في كيفية سجود التلاوة، وشرائطه، ولا خلاف في افتقاره إلى شروط الصلاة كطهارة الحدث، والخبث، وستر العورة، واستقبال القبلة، وغيرها كما في الصلاة. وأما الكيفية فهو: إما أن يكون في الصلاة أو خارج الصَّلاة، فإن كان خارج الصَّلاة فينوي ويكبر للافتتاح لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ إِذَا مَرَّ فِي قِرَاءَتِه بِالسُّجُودِ كَبَّرَ وَسَجَدَ" ويرفع يديه حذو منكبيه في هذه التكبيرة كما يفعل ذلك في تكبيرة الافتتاح في الصلاة، ثم يكبر تكبيرة أخرى لِلْهَوِيِّ من غير رفع اليدين كما في الْهَوِيِّ إلى السُّجُودِ الذي هو من صُلْبِ الصلاة ثم تكبير الهوي مستحب وليس بشرط، وفي تكبير الافتتاح وجهان: أحدهما: وهو الذي ذكره الشيخ أبو محمد واختاره صاحب الكتاب أنه مستحب أيضاً وليس بشرط. والثاني: أنه شرط وهو قضية كلام الأكثرين فإنهم أطبقوا على الاحتجاج لأحد القولين في السلام بأن السجود يفتقر إلى الإحرام فيفتقر إلى السلام، وسيأتي ذلك، وحكى الشيخ أبو حامد وغيره عن أبي جعفر الترمذي من أصحابنا: أنه لا يكبر تكبيرة ¬
الافتتاح لا وجوباً ولا استحباباً؛ لأن سجود التلاوة ليس صلاة بانفراد حتى يكون له تحرم، والمستحب أن يقوم ويكبر وينوي قائماً ثم يهوي من قيام، وروي ذلك عن فعل الشيخ أبي محمد وعن القاضي الحسين وغيرهما (¬1). ويستحب أن يقول في سجوده "سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ" لما روي عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ يَقُولُ ذلِكَ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ" (¬2) ويستحب أيضاً أن يقول: "اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْراً وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْراً وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْراً وَاقْبَلْهَا مِنِّي كَمَا قَبِلْتَ مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ"؛ لما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "قَالَ ذلِكَ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ" (¬3). ولو قال ما يقوله في سجود صلاته جاز. ثم يرفع رأسه مكبراً كما يرفع عن سجود صُلْب الصَّلاة، وهل يفتقر إلى السَّلام؟ فيه قولان: أحدهما: لا، كما لو سجد في الصَّلاة. وأظهرهما: نعم؛ لأنه يفتقر إلى الإحرام فيفتقر إلى التحلل كالصلاة، وعلى هذا هل يفتقر إلى التشهد؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه سجود يفتقر إلى الإحرام والسلام فيفتقر إلى التشهد كسجود الصلاة. وأصحهما: لا؛ لأن التشهد في مقابلة القيام، ولا قيام فيه بل القيام أولى بالرعاية بدليل صلاة الجنازة فكما لم يشترط ذلك فأولى أن لا يشترط التشهد، ومن الأصحاب من يجمع بين التشهد والسَّلام وبقول: فيهما ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا حاجة إليهما، وهو ظاهر ما نقل عن البويطي. وثانيها: أنه لا بد منهما. وثالثها، -وهو الأظهر- أنه لا بد من السَّلاَم دون التشهد، وبهذا قال ابن سريج ¬
وأبو إسحاق، وإذا قلنا: إن التشهد ليس بشرط فهل يستحب؟ ذكر في "النهاية" أن للأصحاب خلافاً فيه هذا كيفية السجود خارج الصلاة، وأما في الصلاة فلا يكبر للافتتاح، ولكن يستحب له التكبير للهوي إلى السجود من غير رفع اليدين، وكذلك يكبر عند رفع الرأس كما يفعل في سجدات الصَّلاَة، وعن أبي علي بن أبي هريرة أنه لا يكبر لا عند الهَوِيّ ولا عند رفع الرأس كيلا تشتبه هذه السجدة بسجدات الصلاة، ولا فرق في الذكر بين ما لو سجد في الصلاة أو خارجها، وإذا رفع الرأس يقوم منها ولا يجلس للاستراحة ويسن أن يقرأ شيئاً ثم يركع ولا بد من أن ينتصب ثم يرفع فإن الهَوِيّ من القيام واجب كما تقدم. ولنعد إلى ما يتعلق بلفظ الكتاب. قوله: "والصحيح أن هذه سجدة فردة" يريد بالفردة أنها لا تفتقر إلى تحرم وتحلل، ولا يريد أنها واحدة لا كسجدتي السَّهْو لأنه قال: "والصحيح" ولا خلاف في أنها واحدة، وعن أحمد أنه يكبر لِلْهَوِيِّ والرفع ويسلم؛ فإن أراد به الاشتراط فليكن قوله: (فردة) معلماً بالألف. وقوله: (وإن كانت تفتقر إلى سائر شرائط الصلاة) تشتمل على بيان مسألة مقصودة وهي أن شرائط الصلاة مرعِيَّة في سجدة التلاوة، وأشار بالإيراد الذي ذكره إلى أنها وإن كانت كالصَّلاة في اعتبار الشروط لكنها تفارقها في الحاجة إلى التحلل والتحرم على هذا الوجه، ثم الذي يوجد في معظم النسخ وإن كانت تفتقر إلى سائر شرائط الصلاة، وحذف لفظ (سائر) وكأنه حمله عليه اشتهار لفظ السائر في البعض الباقي من الشيء وشرائط الصلاة بأسرها معتبرة في سجدة التلاوة ولم يجز ذكر البعض حتى يضم الباقي إليه بلفظ السائر إلا أن إطلاق السائر بمعنى الجميع صحيح، قال صاحب "الصحاح": وسائر النَّاس جميعهم فإذا المعنى: وإن كانت تفتقر إلى جميع شرائط الصلاة ولا حاجة إلى الحذف. واعلم أن النية عند صاحب الكتاب معدودة من شرائط الصلاة كما سبق، والتكبير وحده يقع عليه اسم التحريم، والتحريم قال -صلى الله عليه وسلم-: "وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ" وإذا كان كذلك فظاهر اللَّفْظِ يَقْتَضِي اشتراط النّية على الوجه الذي عبر عنه بالصحيح وإن لم يشترط التكبير لكنه في "الوسيط" أخرج النية عن الاعتبار في هذا الوجه وعلى هذا فالنية تكون مستثناة عن قوله: (وإن كانت تفتقر إلى سائر الشرائط)، ويكون التحرم مفسراً بالنية والتكبير معاً إذ بهما تشرع في الصلاة. وأما قوله: "ويستحب قبلها تكبيرة ... " إلى آخره فهو تفريع على هذا الوجه الذي
يقول إنها سجدة فردة لا يشترط فيها التكبير ولا غيره، وقوله: (تكبيرة) يُوهِمُ قصر الاستحباب على تكبيرة واحدة، لكنا ذكرنا استحباب تكبيرتين وإن قلنا بعدم الاشتراط إحداهما للافتتاح والأخرى لِلْهَوِيِّ، وهكذا ذكر جمهور الأصحاب فلا يتوهم قصر الاستحباب على واحدة إذا كان يسجد خارج الصَّلاَة، واعلم عند هذا أنه لا يمكن حمل التكبيرة التي جرت في لفظ الكتاب على تكبيرة الافتتاح بخصوصها؛ لأنه لا تكبيرة للافتتاح إذا كان يسجد في الصَّلاَة، وهو قد جعلها شاملة حيث قال: "ودون الرفع إن كان في الصلاة" ولا يمكن حملها على تكبيرة الهَوِيّ بخصوصها؛ لأنه قد استحب الرفع معها، ولا يستحب رفع اليد مع تكبيرة الهَوِيِّ بحَالٍ، الوجه أن يحمل كلامه على تكبيرة مطلقة، ويقال بأن تكبيرة مستحبة في الصَّلاَة وغير الصلاة ثم في غير الصلاة الأهم تكبيرة الافتتاح، ويستحب معها رفع اليدين، وفي الصلاة لا يفرض إلا تكبيرة الهَوِيّ وليس معها رفع اليد، فهذا تنزيل لفظ الكتاب مع التكلف الذي فيه على ما ذكره الجمهور منهم أصحابنا العراقيون، والصيدلاني وصاحب "التهذيب"، والقاضي الروياني -رحمهم الله- وغيرهم، والمفهوم من كلامه هاهنا وفي "الوسيط" أنه ليس إلا تكبيرة واحدة، وهي للتحرم خارج الصلاة، ولِلْهَوِيِّ في الصلاة، وبه يشعر كلام إمام الحرمين -قدس الله روحه- وعلى هذا فليكن قوله: (ويستحب قبلها تكبيرة) معلماً بالواو للوجه الذي تقدم عن الترمذي، وفي "الوسيط" إشارة إليه. وقوله: (مع رفع اليدين) معلم بالحاء، لأن عنده لا يرفع يديه. واعلم قوله: (ودون الرفع إن كان في الصلاة) بالواو؛ لأنه قال في "الوسيط": ولا يستحب رفع اليدين في الصلاة. وقال العراقيون: يستحب رفع اليدين؛ لأنه يكبر للتحرم، لكن هذا شيء بدع حكم وعلة ولا يكاد يوجد نقله لغيره، ولا ذكر له في كتبهم. وقوله: "قيل يجب التحرم والتحلل ... " إلى رأس الفرع، هذه الوجوه هي المقابلة للصحيح المذكور أولاً كأنه قال: في أقل سجدة التلاوة أربعة أوجه: أحدها: أن الأقل سجدة واجباتها في صلب الصلاة لا غير. والثاني: سجدة مع التحرم والتحلل والتشهد. والثالث: مع التحرم والتحلل لا غيره. والرابع: مع التحرم لا غير وجعل أولها الأصح، وهو متأيد بما حكي عن الشافعي -رضي الله عنه- أنه قال: وأقله سجدة بلا شروع ولا سلام، والظاهر عند الأكثرين اعتبار التحرم والتحلل كما سبق وهو الوجه الثالث، ثم الخلاف في السلام
قولان عند أكثر الناقلين وفي التشهد [قولان] (¬1) فقوله: (قيل) في هذا الموضع محمول على القول تارة وعلى الوجه أخرى، وتعجب بعض الشَّارحين من لفظ الوجوب في هذه الوجوه، واستحسن إبداله بالاشتراط والاعتبار؛ لأن أصل السجدة لا تجب فكيف يقول: يجب فيها كذا وكذا، ولا شك أن المراد الاشتراط لكن لا حاجة إلى تغيير اللفظ؛ لأن الوجوب في مثل هذا الموضع معهود بمعنى أن الشيء لا بد منه، يقال الوضوء وستر العورة واجبان في صلاة النفل أي لا بد منهما. قال الغزالي: فَرْعٌ: الأَصَّحُّ أَنَّ هذِهِ السَّجْدَةَ إِذَا فاتَتْ وَطَالَ الفَصْلُ لاَ تُقْضَى، لأِنَّهُ لاَ يُتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِسَجْدَةِ ابتِدَاءً كَصَلاَةِ الكُسُوفِ وَالاسْتِسْقَاء بِخِلاَفِ النَّوَافِلِ الرَّوَاتِبِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ بِهَا ابْتِدَاءً. قال الرافعي: سجدة التلاوة ينبغي أن تقع عقيب قراءة الآية أو استماعها، فلو تأخر نظر إن لم يطل الفصل سجد، وإن طال فلا، وضبط الفرق بين أن يطول الفصل أو لا يطول يؤخذ مما ذكرناه في سجود السهو، ولم يجعل إمام الحرمين لمفارقة المجلس أثراً هاهنا مع التردد في تأثيره في باب سجود السهو كما حكيناه عنه ولا يتضح فرق بينهما. إذا عرفت ذلك فلو فاتت السجدة لطول الفصل هل تقضى؟ ذكر في "النهاية": أن صاحب التقريب حكى فيه قولين وقربهما من الخلاف في أن نوافل الصلاة هل تقضى على ما سيأتي؟ لكن الأصح أن السجدة لا تقضى ولم يذكر الصيدلاني وآخرون سواه؛ لأن النوافل المقضية هي التي تتعلق بالأوقات، أما التي تتعلق بأسباب عارضة كصلاة الخسوف والاستسقاء فلا تقضى والسجود كذلك، ولو كان القارئ والمستمع محدثاً عند التلاوة فإن تطهر على القرب سجد وإلا فالقضاء على الخلاف، [وعن صاحب "التقريب": أنه لو كان يصلي فقرأ قارئ آية السجدة فإذا فرغ هل يقضي؟ فيه هذا الخلاف] (¬2). قال الإمام: وهذا فيه نظر؛ لأن قراءة غير إمامه في الصلاة لا تقضي سجوده وإذا لم يجر ما يقتضي السجود أداء فالقضاء بعيد، وقطع صاحب "المعتمد" وغيره بأنه لا يسجد كما ذكره إمام الحرمين، وجعلوا هذه المسألة خلافية بيننا وبين أبي حنيفة، وذكر في "التهذيب" أنه يحسن أن يقضي ولا يتأكد كما يجيب المؤذن إذا فرغ من الصلاة (¬3) وكذا إذا ¬
قرأ الإمام ولم يسجد فإذا فرغ المأموم من الصلاة يحسن أن يقضي ولا يتأكد. والله أعلم. وفي الفصل مسألة أخرى وهي: أنه لو خضع الرجل لله تعالى فتقرب إليه بسجدة ابتداء من غير سبب هل يجوز ذلك؟ فيه وجهان عن صاحب "التقريب": أنه يجوز ذلك، وعن الشيخ أبي محمد أنه لا يجوز، كما لا يجوز التقرب بركوع مفرد ونحوه، والعبادات يتبع فيها الورود، وهذا هو الصحيح عند إمام الحرمين والمصنف وغيرهما، وقوله في الكتاب: (إذا فاتت وطال الفصل) ليس على معنى طول الفصل شيء مضموم إلى الفوات وقيد فيه (وإنما هو سبب الفوات) والمراد إذا فاتت لطول الفصل. وقوله: (لا يقضي) معلم بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة يجب على القارئ المحدث والمستمع القضاء بعد الطهارة، وسلم أن الحائض إذا استمعت لا قضاء عليها، وأن المصلي إذا قرأ السجدة ولم يسجد حتى سلم لا يقضي. وقوله: (لأنه لا يتقرب إلى الله تعالى بسجدة ابتداء) لعلك تقول: لم علل منع القضاء بأنه لا يتقرب بها إلى الله تعالى فاعلم أنه حكي عن صاحب "التقريب" أنه جعل ذلك ضابطاً لما لا يقضي جزماً، ولما يجري الخلاف في قضائه فقال: ما لا يجوز التطوع به ابتداء لا يجوز فرض قضائه كصلاة الخسوف والاستسقاء، وما يجوز التطوع به ابتداء كالنوافل والرواتب ففي قضائه خلاف، ثم إنه جوز التقرب إلى الله تعالى بسجدة ابتداء كما سبق فأجرى الخلاف في قضائها؛ لذلك إذا عرفت هذا فالمصنف بين أن هذه السجدات لا يتقرب بها إلى الله تعالى ابتداء، ورتب عليه المنع من القضاء
القول في سجود الشكر
كصلاة الخسوف؛ لأنه لو قضى من غير تلاوة كان المأتي به على صورة سجدة لا سبب لها والأشبه بإيراده إثبات طريقة جازمة بأن هذه السجدات لا تقضى كصلاة الخسوف والاستسقاء بخلاف الرواتب في قضائها قولان؛ لأنه يتقرب بها إلى الله تعالى ابتداء ولا يتقرب بهذه، وعلى هذا قوله: (الأصح أن هذه السجدات) أي من الطريقين، وقوله: (وقيل يتقرب بها إلى الله تعالى) ابتداء إشارة إلى الطريق الثاني، أي إذا كانت كذلك جرى فيها الخلاف كما في الرواتب. قال الغزالي: السَّجْدَةُ الثَّالِثَةُ: سَجْدَةُ (ح) الشُّكْرِ وَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَ هُجُومِ نِعْمَةٍ أَوْ انْدِفَاعِ بَلِيَّةٍ لاَ عِنْدَ اسْتِمرَارِ نِعْمَةٍ، وَيُسْتَحَبُّ السُّجُودُ بَيْنَ يَدَي الفَاسِقِ شُكْراً عَلَى دَفْعِ المَعْصِيَةِ وَتَنْبِيهًا لَهُ، وَإِنْ سَجَدَ إِذَا رَأَى المُبْتَلَى فَلْيَكْتُمْهُ كَيْلاَ يَتَأذَّى. القول في سجود الشكر: قال الرافعي: سجدة الشكر سُّنة خلافاً لمالك حيث قال: هي مكروهة، وبه قال أبو حنيفة في رواية وقال في رواية: لا أعرفها. لنا ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "رَأَى رَجُلاً نُغَاشِيًّا فَسَجَدَ شُكْراً لِلَّهِ تَعَالَى" (¬1). وعن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "سَجَدَ فَأطَالَ فَلَمَّا رَفَعَ قِيلَ لَهُ فِي ذلِكَ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أنَّ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ عَشْراً فَسَجَدْتُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالى" (¬2). وليس تسن سجدة الشُّكْرِ عند استمرار النعم، وإنما تسن عند مفاجأة نعمة أو اندفاع بَلِيَّة من حيث لا يحتسب، وكذا إذا رأى مبتلي ببلية أو بمعصية (¬3) فيستحب أن يسجد شكراً لله تعالى، ثم إذا سجد لنعمة أصابته أو بلية اندفعت عنه لا تعلق لها بالغير أظهر السجود، وإن كان لبلاء في غيره نظر إن لم يكن ذلك المغير معذوراً فيه كالفاسق ¬
فيظهر السجود بين يديه تعييراً له فربما ينزجر ويتوب، وإن كان معذوراً كمن به زمانة ونحوها فيخفى كيلا يتأذى، وكيلا يتخاصما. وسجود الشكر يفتقر إلى شرائط الصلاة كسجود التلاوة، وكيفيته ككيفية سجود التلاوة خارج الصلاة، ولا يجوز سجود الشكر في الصَّلاة بخلاف سجود التلاوة فإنه يتبع التلاوة، والتلاوة تتعلق بالصلاة (¬1). قال الغزالي: وَهَلْ يُؤَدِّي سُجُودَ التِّلاَوَةِ وَالشُّكْرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: سجود الشكر هل يقام على الراحلة: حكى في "النهاية" فيه وجهين وشبههما بالخلاف في أن صلاة الجنازة هل تقام على الراحلة؟ من حيث أن إقامة السجود على الراحلة بالإيماء يبطل ركنه الأظهر وهو تمكين الجبهة من موضع السجود كما إن إقامة صلاة الجنازة عليها يبطل ركنها الأظهر وهو القيام. قال: والخلاف فيهما كالخلاف في أن القادر على القيام والقعود هل يتنفل مضطجعاً مومياً أم لا، وسجود التلاوة في النافلة المقامة على الراحلة يجوز بلا خلاف تبعاً للنافلة كسجود السهو فيها، وأما خارج الصَّلاَةِ ففيه الوجهان المذكوران في سَجود الشُّكْرِ، ولفظ الكتاب وإن كان مطلقاً لكن المراد ما إذا كان خارج الصلاة، ثم الأظهر من الوجهين عند الأئمة أنه يجوز أداؤها على الراحلة بالإيماء وليس في "التهذيب" و"العدة" ذكر لغيره. فإن قلت: ذكرتم في صلاة الجنازة أن الأظهر المنع من أدائها على الراحلة فلم كان الأظهر الجواز هاهنا إن كان الخلاف كالخلاف؟ قلنا: يجوز أن يفرق بينهما بأن صلاة الجنازة تندر فلا يشق فيها تكليف النزول وأيضاً فاحترام الميت يقتضي ذلك، وسجدة التلاوة والشكر يكثران، فلو كلفناه النزول لشق، والخلاف فيما إذا كان يقتصر على الإيماء، فلو كان في مرقد وأتم السجود جاز، وأما الماشي فيسجد على الأرض على الظاهر، كما سبق في السجود الذي هو من صلب الصلاة. قال الغزالي: الْبَابُ السَّابعُ فهي صلاَةِ التَّطَوُّعِ وَفِيهِ فصْلاَنِ الأَوَّلُ فِي الرَّواتِبِ وَهِيَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، رَكْعَتَانِ قَبْلَ الصُّبْحِ، وَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهُ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ المَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ العْشَاءِ، وَالوَتْرُ رُكْعَةٌ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَرَكْعَتَين بَعْدَ الظُّهْرِ فَصَارَ سَبْعَ عَشْرَةَ. ¬
القول في صلاة التطوع
القول في صلاة التطوع قال الرافعي: اختلف اصطلاح الأصحاب في تطوع الصلاة فمنهم من يفسره بما لم يرد فيه مخصوص نقل وينشئه الإنسان باختياره، وهؤلاء قالوا: ما عدا الفرائض ثلاثة أقسام: سنن وهي التي واظب عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ومستحبات: وهي التي فعلها أحياناً ولم يواظب عليها. وتطوعات وهي التي ذكرنا، ومنهم من يرادف بين لفظتي النافلة والتطوع، ويطلقهما على جميع ما سوى الفرائض (¬1)، وبهذا الاصطلاح ترجم صاحب الكتاب الباب، واختلف اصطلاحهم في الرواتب أيضاً، فمنهم من قال: هي النوافل المؤقتة بوقت مخصوص، وعد منها التراويح، وصلاة العيدين، وصلاة الضُّحَى، ومنهم من قال: هي السُّنَنُ التابعة للفرائض، وبهذا الاصطلاح يتكلم صاحب الكتاب. إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم أن ما سوى الفرائض من الصلوات قسمان: ما تسن فيه الجماعة كصلاة العيدين، والكسوفين، والاستسقاء ولها أبواب مفردة مذكورة بعد هذا، وما لا تسن فيه الجماعة، وينقسم إلى الرواتب وغيرها، وغرض الفصل الأول من الباب: الكلام [في الرَّوَاتِب، وغرض الثاني: الكلام] (¬2) في مَرَاتِب النوافِلِ، وبعض أحكامها: أما الأول فالرواتب ضربان: الوِتْرُ، وَغَيْرُ الوِتْرِ. أما غير الوتر فقد اختلف الأصحاب في عدده. قال الأكثرون: عشر ركعات: ركعتان قبل الصبح، وركعتان قبل الظُّهْرِ، وركعتان بعده، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء؛ لما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِب فِي بَيْتِه، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ في بَيْتِهِ، وحدثتني حفصة -رضي الله عنها- أنه -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ حِينَ يَطْلُعُ الفَجْرُ" (¬3). ¬
قال في "العدة" وهذا ظاهر المذهب، ومنهم من نقص ركعتي العشاء، يحكى هذا عن نصه في البويطي، وبه قال الخُضَرِيُّ فيما حكاه صاحب "النهاية" وغيره. ومنهم من زاد على العشر ركعتين قبل الظهر مضمومتين إلى الركعتين اللتين سبق ذكرهما؛ لما روي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ ثَابَرَ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنَ السُّنَّةِ بَنَى الله لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ" (¬1) "أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ"، والباقي كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. ومنهم من زاد على هذا العدد أربع ركعات قبل العصر؛ لما روي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رَحِمَ اللهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ العَصْرِ أَرْبَعاً" (¬2). وعن علي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يَصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعاً، يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ" (¬3). ومنهم من زاد على هذا العدد ركعتين أخريين بعد الظهر؛ لما روي عن أم حبيبة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ حَافَظَ، عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ" (¬4). فهذه خمسة أوجه للأصحاب، وليس الخلاف في أصل الاستحباب، وإنما الخلاف في أن المؤكد الرواتب ماذا وإن شمل الاستحباب الكل؛ ولهذا قال صاحب "المهذب" وجماعة: "أدنى الكمال عشر ركعات" وهو الوجه الأول، وأتم الكمال ثماني عشرة ركعة، وهو الوجه الأخير. وعند أبي حنيفة السُّنَّة: ركعتان قبل الصبح، وأربع قبل الظهر، وركعتان بعده، وأربع قبل العصر. وفي رواية: ركعتان بعد المغرب، وأربع قبل العشاء، وأربع بعده، وإن شاء صَلَّى ركعتين، وكل أربع من ذلك فهو بتسليمة واحدة، وفي استحباب ركعتين قبل المغرب وجهان لأصحابنا، منهم من قال باستحبابها، وإن لم يكونا من الرواتب المؤكدة؛ لما روي عن أنس -رضي الله عنه- قال: "صَلَّيْتُ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ ¬
اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قِيلَ: لَهُ رَآكُمْ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: نَعَمْ، فَلَمْ يَأْمُرْنَا، وَلَمْ يَنْهَنَا" (¬1). وروى عبد الله المزني [-رضي الله عنه-] (¬2)، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ كَرَاهِيَةِ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً" (¬3) وبهذا الوجه قال أبو إسحاق الطوسي (¬4)، وكذلك أبو زكريا السكري (¬5). قيل (¬6): إنه ذكره في "شرح الغنية" لابن سريج، ومنهم من قال: لا يستحبان؟ لما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه سئل عنها فقال: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّيهِمَا" (¬7). وعن عمر -رضي الله عنه-: "أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ عَلَيْهِمَا" (¬8). وبهذا قال أَبُو حَنِيفَةَ. وأما لفظ الكتاب فقد ذكر من الأوجه الخمسة وجهين، وهما الأول والرابع، لكنه ضم إليها أقل الوتر، وهو ركعة، فصارت على الوجه الأول إحدى عشرة، وعلى الوجه الثاني سبع عشرة، وهي عدد الفرائض، وهكذا عد ابن القاص الرواتب في "المفتاح" لكنه حسب الوتر ثلاث ركعات، ولم يحسب قبل الظهر إلا ركعتين وقوله: (ركعتين بعد العشاء) معلم بالواو؛ للوجه الذي اختاره الخضري. ¬
القول في أحكام الوتر
وقوله: (والوتر ركعة) بالحاء والميم؛ لما سيأتي -والله أعلم-. قال الغزالي: أَمَّا الوَتْرُ فَسُنَّةٌ (ح) وَعَدَدُهُ مِنَ الوَاحِدَةِ إِلَى إِحْدَى عَشْرَةَ بِالأَوْتَارِ، وَفِي جوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ تَرَدُّدٌ (¬1) لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَل، وَإِذَا زَادَ عَلَى الوَاحِدَةِ فَيَتَشَهَّدُ تَشَهُّدَينِ فِي الأَخِيرَتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ، وَتَشَهُّدًا وَاحِداً فِي الأَخِيرَةِ عَلَى الوَجْهِ الثَّانِي، وَهُمَا مَنْقُولاَنِ، وَالْكَلاَمُ فِي الْأُولَى، وَالأَظْهَرُ أَنَّ ثَلاَثةً مَفْصُولَةَ أَفْضَلُ مِنَ ثَلاَثةٍ مَوْصُولَةٍ، وَأَنَّ الثَّلاَثةَ المَوْصُولَةَ أَفْضَلُ مِنْ رَكْعَةٍ فَرْدَةٍ. القول في أحكام الوتر قال الرافعي: قد سبق من نظم الكتاب ما يعرف كون الوتر سنة، وهو إدراجه في الرواتب، وعد الرواتب بأسرها من صلاة التطوع، والغرض من التنصيص على كونه سنة هاهنا التدريج إلى بيان أحكامه، والتعرض لمذهب أبي حنيفة حيث قال: وهو واجب. قال الكرجي: وروي عنه أنه فرض. لنا ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الوَتْرُ حَقٌّ مَسْنُونٌ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلاَثٍ فَلْيَفْعَل" (¬2) وروي أنه قال: "حَقٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ" (¬3). ثم في الفصل ثلاث مسائل: إحداها: يجوز أن يوتر بواحدة، وثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، أما الواحدة والثلاث والخمس؛ فلما روي عن أبي أيوب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أنْ يُوتِرَ بثَلاَثٍ فَلْيَفعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفعَلْ" (¬4) وأما السبع؛ فلما روي عن أبي أمامة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يُؤترُ بِسَبْعِ رَكَعَاتٍ" (¬5). وأما التسع والإحدى عشرة؛ فلما روي عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أوْتِرُوا بِخَمْسٍ، أَوْ سَبْعٍ، أَوْ تِسْعٍ، أَوْ إِحْدَى عَشْرَةَ" (¬6). ¬
وأما الإيتار (¬1) بثلاث عشرة، فقد حكي في "النهاية" تردداً في ثبوت النقل فيه، والمذكور في الكتاب. أن غاية ما نقل إحدى عشرة، وهو الذي ذكره الشيخ أبو حامد، والقاضي ابن كج، ومن تابعهما، قالوا: أكثر الوتر إحدى عشرة، وذكر صاحب "التهذيب"، وأخرون أن الغاية ثلاث عشرة ركعة، ورووا عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "لَمْ يَكُنْ يُوتِرُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَ عَشْرَةَ " (¬2). وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُوتِرُ بِثَلاَثِ عَشْرَةَ، فَلَمَّا كَبُرَ وَضَعُفَ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ" (¬3). وهل يجوز الزيادة على الغاية المنقولة، أما الإحدى عشرة، أو الثلاث عشرة فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن اختلاف فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه السُّنة يشعر بتفويض الأمر إلى [خيبرة] (¬4) المصلي، وأن له أن يزيد ما أمكنه. وأظهرهما: أنه لا تجوز الزيادة، ولو فعل لم يصح وتره؛ اقتصاراً على ما ورد النقل به، كما لا تجوز الزيادة في ركعتي الفجر وسائر الرواتب (¬5). وقال أَبُو حَنِيفَةَ: الوتر ثلاث ركعات، بلا زيادة ولا نقصان. وقال مَالِكٌ: أقل الوتر ثلاث ركعات، لكن أبا حنيفة يقول: هي بتسليمة واحدة كالمغرب، إلا أنه يجهر فيها جميعاً. وقال مَالِكٌ: هي بتسليمتين لكن لا يتكلم بعد الكلام لولا يحتاج إلى تجديد النية للثالثة، وسلم أنه لو أحدث في الثالثة لم تبطل الركعتان. قال: ولو كان مع الإمام أوتر بوتره، ولا يخالفه، وحكي في "البيان" عنه أن أقل ¬
الوتر ركعة، وأقل الشفع ركعتان، وفي هذا المعنى كالأول، ونقل عنه أنه ليس للأكثر حد، وذكر بعضهم: أن الأكثر عنده ثلاث عشرة. إذا عرفت ذلك فاعلم قوله: (من الواحدة) بالحاء والميم، وقوله: (إلى إحدى عشرة) بهما وبالواو، ثم في قوله: (وعدده من الواحدة إلى إحدى عشرة) استدراك لفظي من جهة الحساب، وهو أنه جعل الواحد من العدد، والحساب يمتنعون عن ذلك، ويجعلون الواحد أم العدد، ويقولون: العدد نصف حاشيته اللتين بعدهما منه سواء، وليس للواحد حاشيتان. المسألة الثانية: إذا زاد على ركعة واحدة وأوتر بثلاث فصاعداً، فظاهر المذهب: أن له أن يتشهد في الركعة الأخيرة لا غير. وله أن يتشهد في الركعتين الأخيرتين؛ لأن كل منهما منقول، وروي عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يُوتِرُ بِخَمْسٍ، وَلاَ يَجْلِسُ إِلاَّ فِي أُخْرَاهُنَّ" (¬1). وروى عنها أيضاً: "أَنَّهُ أَوْتَرَ بِتِسْعٍ، لَمْ يَجْلِسْ إِلاَّ فِي الثَّامِنَةِ وَالتَّاسِعَةِ، وَبِسَبْع، لَمْ يَجْلِسْ بها إِلاَّ في السَّادِسَة وَالسَّابِعَةِ" (¬2). وحكي في "النهاية" عن بعض التصانيف: أن من أصحابنا من لم ير الاقتصار في التشهد على الواحد مجزئاً، وحمل ما روي من التشهدين على ما إذا فَصَل بين الركعة الأخيرة وما قبلها بالسَّلاَمِ، ونقل بعضُهم عن "طريقة" القاضي الحُسَين، أن الوتر بثلاث كصلاة المَغْرِب بتشهدين وتسليمة لا يجوز، وربما يقول: تبطل صلاته؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يُوتِرُ بثَلاَثٍ لا يَجْلِسُ إِلاَّ فِي أُخْرَاهِنَّ" (¬3) وروي أنه قال: "لاَ تُوتِرُوا بِثَلاَثٍ فَتَشَبَّهُوا بِالْمَغْرِبَ" (¬4). والظاهر الأول؛ وهو أنهما سائغان وهو الذي ذكره في الكتاب، ورد الخلاف إلى الأولى، ففي وجه الاقتصار على تشهد واحد أول؛ فَرْقاً بين صلاة المغرب والوتر إذا أوتر بثلاث، وهذا ما اختاره القاضي الروياني في الحلية، وفي وجه الإتيان بتشهدين أولى كيلا يخرج عن وضع سائر الصلوات، وقد أطلق كثيرون منهم صاحب "التهذيب": أنه إن شاء فعل هكذا، وإن شاء هكذا، ومطلق التخيير يقتضي التسوية بينهما. وقوله في الكتاب: (وإذا زاد على واحدة) أي: ووصل وقوله: (والكلام في الأولى) ينبغي أن يعلم بالواو، لما حكينا من الوجهين، ولو زاد على تشهدين فجلس ¬
في كل ركعتين، ولم يتحلل وجلس في الأخيرة أيضاً، لم يكن له ذلك، فإنه خلاف المنقول، وذكر في "التهذيب" وجهاً آخر: أن له ذلك، كما في النافلة الكثيرة الركعات: المسألة الثالثة: الإيتار بثلاث مفصولة أفضل أم بثلاث موصولة؟ ففيه وجوه: أظهرها -وهو الذي ذكره أصحابنا العراقيون والصيدلاني-: أن المفصولة أفضل، لما روي عن ابن عمر، وابن عباس -رضي الله عنهم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والْوَتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ" (¬1). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يَفْصِلُ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (¬2)، وَكَانَ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يُسَلِّمُ، وَيأْمُرُ بَيْنَهُمَا بِحَوَائِجِهِ" (¬3). والثاني: وبه قال أَبُو زَيْد، [ويحكى عن نصه في القديم-: أن الثلاث الموصولة أفضل، لأن العلماء اتفقوا على جوازها واختلفوا في إفراد الواحدة فالاحتراز عن الخلاف أولى. والثالث-] (¬4) ونسبه الموفق ابن طاهر إلى الخضري، والشريف ناصر العمري (¬5) -رضي الله عنه- أن الثلاثة الموصولة أفضل؛ لأن العلماء اتفقوا على جوازها، واختلفوا في إفراد الواحدة، فكان الوصل أولى. والثالث: ويحكى عن الشافعي، ونصه في القديم-: أنه إن كان منفرداً، فالفصل أفضل، وإن كان يصلي بقوم فالوصل أفضل؛ لأن الجماعة تنظم أصحاب المذاهب المختلفة، فالإيتار (¬6) بالمجمع عليه أولى، وعكس القاضي الروياني هذا فقال: أنا أصل إذا كنت منفرداً، وإذا كنت في الجماعة أفضل؛ كيلا يتوهم خلل فيما صار إليه الشافعي ¬
-رضي الله عنه- وهو صحيح ثابت بلا شك، وهل الثَّلاثُ الموصولة أفْضَلُ من ركعة فردة لا شيء قبلها أم هي أفضل؟ فيه وجوه أيضاً: أصحها -وبه قال القفال-: أن الثلاث أفضل؛ لزيادة العبادة. والثاني: أن الركعة الفردة أفضل؛ لِمُوَاظَبَةِ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الإيتَارِ (¬1) بِوَاحِدَةٍ، قال في "النهاية": وغلا هذا القائل فجعل الركعة الفردة أفضل من إحدى عشرة ركعة موصولة. والثالث: الفرق بين المنفرد والإمام كما سبق. قال الغزالي: وَمِنْ شَرْطِ الوَتْرَ أَنْ يُوتَرَ مَا قَبْلَهُ وَلاَ يَصِحُّ (ح) قَبْلَ الفَرْضِ، وَفِي صِحَّتِهِ بَعْدَ الفَرْضِ وَقَبْلَ النَّفْلِ وَجْهَانِ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الوِتْرُ آخِرَ تَهَجُّدِهِ بِاللَّيْلِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الوِتْرُ هُوَ التَّهَجُّدَ. قال الرافعي: ما سبق من المسائل في كيفية الوتر، وغرض هذا الفصل بيان وقته، وهو من حينِ يصلي العشاء إلى طلوع الفجر، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللهَ قَدْ أَمَدَّكُمْ بِصَلاَةٍ هِي خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، الوَتْرُ جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ فِيمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ" (¬2). فلو أوتر قبل صلاة العشاء لم يعتد به، سواء كان عامداً أو ساهياً، بأن ظن أنه صلى العشاء، أو صلى العشاء على ظن أنه متطهر، ثم أحدث وتوضأ وأوتر، ثم بأن له أنه كان محدثاً في فرض العشاء. وعند أبي حنيفة: لو أوتر قبل العشاء سهواً اعتد به. لنا: القياس على ما لو ظن دخول وقت الفريضة فصلَّى، ثم تبين أنه لم يدخل، وحكي في "النهاية" عن بعض أصحابنا: أنه يعتد بالوتر قبل العشاء، سواء كان عامداً، أو ساهياً. وعند هذا القائل يدخل وقت الوتر بدخول وقت العشاء لا بفعل العشاء، وظاهر المذهب ما تقدم، ولو صَلَّى العشاء وأوتر بعدها بركعة فردة قبل أن ينتقل، ففيه وجهان حكاهما الشيخ أبو محمد وغيره. أحدهما: لا يعتد به؛ لأن صفة الوتر أن يوتر ما تقدم عليه من السنن الواقعة بعد العشاء، فإذا لم يوجد غيره لم يكن موتراً. ¬
وأظهرهما: أنه يعتد به؛ لما تقدم من الخبر، وما ادعاه الأول فلا نسلم أن صفة الوتر ذلك، بل يكفي كونه وتراً في نفسه، وعلى التسليم فإنه يوتر ما قبله من فريضة العشاء، فإذا قلنا: لا يعتد به وتراً فقد ذكر إمام الحرمين أنه تَطَوُّعٌ، وإن لم يكن الوتر المشروع، وهذا ينبغي أن يكون على الخلاف فيما إذا نوى الظهر قبل الزوال، هل يكون تطوعاً، أم يبطل من أصله. واعلم أن المصنف قيد المسألتين في "الوسيط" أعني الإيتار قبل فرض العشاء وبعده بما إذا أوتر بركعة، وهذا القيد لا حاجة إليه في المسألة الأولى بل أطلق الأئمة المنع، وعليه يدل الخبر، وأما في المسألة الثانية فهو محتاج إليه؛ لأن الناقلين للوجهين إنما نقلوهما فيما إذا أوتر بركعة واحدة وليس بينهما وبين فرض العشاء شيء. وقوله في الكتاب: (وفي صحته بركعة (¬1) بعد الفرض وقبل النقل وجهان) يحتاج إلى التقييد والإضمار. معناه: وفي صحة الإيتار بركعة بعد الفرض وقبل أن يتنفل بشيء سواء كان راتبة العشاء، أو الشفع، أو صلاة الليل، والذي يسبق إلى الفهم من ظاهر اللفظ راتبة العشاء، ومطلق الوتر دون الإيتار بركعة. وقوله: (من شروط الوتر أن يوتر ما قبله) يبين أنه لا بد من تقدم صلاة عليه، ثم هل يكفي تقدم الفرض؟ فيه الخلاف وقوله: (فلا يصح قبل الفرض) معلم بالحاء والواو؛ لما روينا. وأما قوله: (ويستحب أن يكون الوتر آخر تهجده بالليل) ففي لفظ (التهجد) ما يغني عن قولهْ (بالليل)؛ لأن صلاة النهار لا تسمى تهجداً بحال، ثم فيه مباحثة، وهي أن التهجد يقع على الصلاة بعد الهجود، -وهو النوم- يقال تهجد: إذا ترك الهجود وأما الصلاة قبل النوم فلا تسمى تهجداً (¬2)، وإذا كان كذلك فاللفظ لا يتعرض إلا لمن تهجد، فمتى يوتر من لا تهجد له، ثم لفظ الكتاب يقتضي تأخير المتهجد الوتر إلى أن يقوم ويصلّي، فَهَلْ هو كذلك أم لا؟ إن قلتم: لا. فكيف يفعل أيوتر مرة قبل النوم، ومرة بعد ما نام وتهجد، وهذا خلاف ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ وِتْرَانِ فِي لَيْلةٍ" (¬3)، أم يقتصر على ما قبل النَّوْمِ وحينئذٍ لا يكون الوتر آخر التهجد. ¬
وإن قلتم: إنه يؤخر الوتر إلى أن يقوم ويصلي، كما يقتضي لفظ الكتاب، فهذا خلاف ما نقله في "الوسيط"؛ لأنه نقل الخبر المشهور أن أبا بكر -رضي الله عنه-: "كَانَ يُوتِرُ ثُمَّ يَنَامُ، ثُمَّ يَقُومُ وَيتَهَجَّدُ، وَأَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ الله عَنْهُ- كَانَ يَنَامُ قَبْلَ أَنْ يُوتِرَ، ثُمَّ يَقُومُ، وَيُصَلِّي، وُيوتِرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لِأَبي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ أَخَذَ بالْحَزْمِ، وَقَالَ لِعُمَرَ -رَضِيَ الله عَنْهُ- أَنَّهُ أَخَذَ بِالْقُوَّةِ" (¬1). ثم ذكر أن الشافعي -رضي الله عنه- أختار فعل أبي بكر -رضي الله عنه- وكذلك نقل صاحب "النهاية"، والجواب أنه يستحب أن يكون الوتر آخر الصلاة بالليل، روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْراً" (¬2). فإن كان الرجل ممن لا تهجد له فينبغي أن يوتر بعد فريضة العشاء وراتبتها، ويكون وتره آخر صلاته بالليل، وأما من له تهجد فقد ذكر أصحابنا العراقيون أن الأفضل له أن يؤخر الوتر، كما نقل عن فعل عمر -رضي الله عنه-، واحتجوا له بما روي عن جابر - رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ خَافَ مِنْكُمْ أَنْ لاَ يَسْتَيْقِظُ مِنْ آخِرَ اللَّيْل، فَلْيُوتِرْ مِنْ أوَّلِ اللَّيْلِ، وَمَنْ طَمِعَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَيقِظَ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ، فَإِنَّ صَلاةَ آخِرِ اللَّيلِ مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ" (¬3). وهذا هو الموافق للفظ الكتاب، وأما ما نقله في "الوسيط" فيجوز أن يجمع بينهما بحمله على من لا يعتاد قيام الليل، فيقال: إن الأفضل له أن يقدم؛ لأنه من الانتباه على خطر ظاهر، ويجوز أن يقدر فيه اختلاف وجه أو قول، وبالجملة فالأمر فيه قريب، وكل سَائِغٌ، روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَأَوْسَطِهِ، وَآخِرِهِ، وَإِذَا أَوْتَرَ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ، ثُمَّ قَامَ، وَتَهَجَّدَ لَمْ يُعِدِ الْوِتْرَ" (¬4). وكذلك روي عن فعل أبي بكر -رضي الله عنه-، ومن أصحابنا من قال: يصلي ركعة حتى يصير وتره شفعاً، ثم يتهجد ما شاء، ثم يوتر ثانياً، ويروى ذلك عن ابن عمر -رضي الله عنهما- يسمى ذلك نقض الوتر. وأما قوله: (ويشبه أن يكون [الوتر هو التهجد)]، (¬5) فهذا قريب من لفظ الشافعي - رضي الله عنه- في "المختصر" و"الأم" قال الشارحون: معناه أن الله تعالى أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالتهجد، وأوجبه عليه فقال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ (¬6) نَافِلَةً لَكَ} وقوله: {نَافِلَةً لَكَ} (¬7) ¬
القول في قنوت رمضان
أي: زيادة لك وفضيلة لك، ويشبه أن يكون المراد من هذا الأمر الوتر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحيي اللَّيْلَ بوتره، وكان الوِتْرَ وَاجِباً عليه، روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "كُتِبَ عَلَيَّ الْوِتْرُ، وَهُوَ لَكُمْ سُنَّةٌ، وَكُتِبَ عَلَيَّ رَكْعَتَا الضُّحَى، وَهُمَا لَكُمْ سُنَّةٌ" (¬1). وهذا الذي ذكره يبين أنه ليس قوله: (ويشبه أن يكون الوتر هو التهجد) لحصر التهجد في الوتر، حتى يكون كل تهجد وتراً، وإنما الذي يلزم منه أن يكون كل وتر تهجداً مأموراً به، ويجوز أن يعلم ذلك بالواو؛ لأن القاضي الروياني حكى أن بعضهم قال: الوتر غير التهجد وأوّل كلام الشافعي -رضي الله عنه-. واعلم أن حمل التهجد في الآية على الوتر مع ما سبق أن التهجد إنما يقع على الصلاة بعد النوم مقدمتان يلزم منهما اشتراط كون الوتر بعد النوم، ومعلوم أنه ليس كذلك، فليترك أحدى الدعوتين في الآية. قال الغزالي: وَيُسْتَحَبُّ القُنُوتُ فِي النِّصْفِ الأخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ. القول في قنوت رمضان قال الرافعي: يعني: في الوتر، فإن أوتر بركعة قَنَتَ فيها، وإن زاد قَنَتَ في الركعة الأخيرة، وفي استحباب القنوت في الوتر فيما عدا النِّصْفِ الأخير من رمضان وجهان: أحدهما: أن الاستحباب يعم جميع السَّنةِ، وبه قال أَبُو عَبْدِ اللهِ الزُّبَيْرِيُّ -رضي الله عنه- وأبو الفضل بن عبدان (¬2)، وأبو منصور بن مهران (¬3)، وأبو الوليد النيسابوري (¬4) من أصحابنا -رحمهم الله-؛ لما روي: أنه -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ إِذَا أَوْتَرَ قَنَتَ فِي الرَّكْعَةِ الأَخِيرَةِ" (¬5). ¬
وهذا مطلق، وبهذا قال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ. وأظهرهما: وبه قال جمهور الأصْحَابِ: أن الاستحباب يختص بالنصف الأخير من رمضان؛ "لِأَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ، فَلَمْ يَقْنُتْ إِلاَّ فِي النِّصْفِ الثَّانِي، وَلَمْ يَبْدُ مِنْ أَحَدٍ إِنْكَارٌ عَلَيْهِ فَكَانَ ذلِكَ إِجْمَاعاً". وعن عمر -رضي الله عنه- قال: "السُّنَّةُ إذَا انْتَصَفَ شَهْرُ رَمَضَانَ أَنْ يلْعَنَ الْكَفَرَةُ فِي الْوِتْرِ بَعدَمَا يَقُولُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" (¬1). فعلى الوجه الأول، لو ترك القنوت سجد للسهو، كما في الصبح، وعلى الوجه الثاني المشهور لو تركه في النصف الأخير سجد لِلسَّهْوِ ولو قنت من غير النصف الأخير سهواً سجد للسهو (¬2) وذكر القاضي الروياني: أن كلام الشافعي -رضي الله عنه- يدل على كراهية القنوت في غير النصف الأخير، فضلاً عن نفي الاستحباب، ثم حكي عن بعض الأصحاب وجهاً متوسطاً، وهو أنه يجوز أن يقنت في جميع السَّنَةِ من غير كَرَاهِيَةٍ، لكن لو ترك لا يسجد للسَّهْوِ، بخلاف ما لو تركه في النِّصْفِ الأخير يَسْجُد. قال: وهذا اختيار مشايخ طبرستان، واستحسنه، وأثبت ما روي عن مالك موافقة ظاهر مذهبنا، وروي عنه أنه يقنت في جميع شهر رمضان، وروي في جميع السَّنَةِ، وقد أعلم قوله: (في النصف الأخير) بالحاء والميم والألف؛ إشارة إلى مذاهبهم ثم لنا في موضع القنوت من الركعة وجهان: أصحهما: ويحكى عن نصه في حرمله أنه بعد الركوع؛ لما روينا من حديث عمر -رضي الله عنه- وكما في الصبح، فإن ما قبل الركوع محل القراءة، والقنوت دعاء، فهو في موضع الدعاء، حيث يقول: سمع الله لمن حمده: أليق. الثاني -وبه قال ابْنَ سُرَيْجٍ-: أنه يقنت قبل الركوع؛ لما روي عن أبي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يَقْنُتُ قَبْلَ الرِّكُوعِ" (¬3). وأيضاً فإن الفرق بين الفرض والنفل مقصوِد، كما أن خطبة الجمعة قبل الصلاة، وخطبة العيدين بعدها، وبهذا الوجه قال مَالِكَ وَأْبُو حَنِيفَة، وبالأول قالَ أَحْمَدُ، وحكي في "البيان" عن بعض متأخري الأصحاب: أنه يتخير بين التقديم والتأخير، وأنه إذا قدم ¬
كبر بعد القراءة، ثم قنت، وبه قال أَبُو حَنِيفَةَ، وقال في "التتمة": إذا قلنا يقنت قبل الركوع، يبتدئ به بعد الفراغ من القراءة من غير تكبير، وبه قالَ مَالِكٌ. والقنوت: هو الدعاء الذي ذكرناه عن رواية الحسن بن علي -رضي الله عنهما- في "باب صفة الصلاة" واستحب الأئمة، منهم صاحب "التلخيص" أن يضيف إليه ما روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه قنت به وهو: "اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغفِرُكَ، وَنسْتَهْدِيكَ وَنُؤْمِنُ بِكَ، وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْكَ، وَنُثْنِي عَلَيْكَ الْخَيْرَ كُلَّه، نَشْكُرُكَ وَلاَ نَكْفُرُكَ، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُركَ اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُد، وإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفَدُ، نَرْجُوا رَحْمَتَكَ، وَنَخْشَى عَذَابَكً، إِنَّ عَذَابَكَ الْجَدُّ بالْكُفَّارِ مُلْحَقٌ" ثُمَّ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اهْدِنَا" إلى آخره، هكذا ذكره القاضي الروياني، وعليه العمل، ونقل في "البيان" عن القاضي أبو الطيب أنه قال: كان شيوخنا يدعون بقنوت عمر -رضي الله عنه- بعد الكلمات التي رواها الحسن -رضي الله عنه-، فعكس الترتيب وزاد هو وغيره في المنقول عن عمر -رضي الله عنه- "اللَّهُمَّ عَذِّبْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَاب، الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبيلِكَ، وَيُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيُقَاتِلُونَ أَوْلِيَاءَكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَاصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وألِّفْ بَيْنَ قلُوبِهِمْ، وَاجْعَلْ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَان وَالْحِكْمَةَ، وَثَبِّتْهُمْ عَلَى مِلَّةِ رَسُولِكَ، وَأَوْزِعْهُمْ أَنْ يُوفُوا بِعَهْدِكَ الَّذي عَاهَدْتَهُمْ عَلَيْهِ، وَانْصُرهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ، وَعَدُوِّهِمْ إِلهَ الْحَقِّ، وَاجْعَلْنَا مِنْهُمْ"، ونقل القاضي الروياني عن ابن القاص: أنه يزيد في آخر القنوت: "رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا" إلى آخر السورة واستحسنه (¬1) ثم حكمه في الجهر، ورفع اليدين، وغيرهما على ما سبق في الصُّبْح. ويستحب إذا أوتر بثلاث أن يقرأ بعد الفاتحة في الركعة الأولى:: {سَبِّحْ} وفي الثانية: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَالمُعَوِّذَتَين، رُوِي ذلِكَ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- (¬2) وبه قَالَ مَالِكُ. وعن أبي حنيفة وأحمد أنه يقتصر على "الإخلاص" في الثالثة. وقال الكرخي في "مختصره": ليس في الوتر قراءة سورة معلومة، ولكن يقرأ في الأولى بقدر: {سَبِّحْ}، وفي الثانية بقدر: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة بقدر: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. قال الغزالي: الْفَصْلُ الثَّانِي، فِي غَيْرِ الرَّوَاتِبِ وَمَا شُرِعَتِ الجَمَاعَةُ فِيهَا كالعِيدَيْنِ وَالخُسُوفَيْنِ وَالاِسْتِسْقَاءِ فَهِيَ أَفْضَلُ مِنَ الرَّوَاتِبِ وَمِنْ صَلاَةِ الضُّحَى وَرَكْعَتَي التَّحِيَّةِ ¬
القول في النوافل التي تسن فيها الجماعة
وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ، ثُمَّ أَفْضَلُهَا صَلاَةُ العِيدَيْنِ، ثُمَّ الخُسُوفَيْنِ، وَأَفْضَلُ الرَّوَاِتبِ الوِتْرُ وَرَكْعَتَا الفَجْرِ، وَفِيهِمَا قَوْلاَنِ. القول في النوافل التي تسن فيها الجماعة قال الرافعي: النوافل، على ما قدمناه قسمان: نوافل: تسن فيها الجماعة، ونوافل: لا تسن فيها الجماعة. والتي تسن فيها الجماعة أفضل؛ لأن استحباب الجماعة فيها وتشبيهها فيه بالفرائض يدل على تأكد أمرها، وصلاة العيدين والكسوفين والاستسقاء كلها من هذا القسم، وأفضلها صلاة العيدين؛ لأن لها وقتاً زمانياً كالفرائض وتليها صلاة الكسوفين؛ لأنه يخاف فوتهما كما يخاف فوت المؤقتات بالزمان؛ ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- "رُبَّمَا اسْتَسْقَى وَرُبَّمَا تَرَكَ، وَلَمْ يَتْرِكِ الصَّلاَةَ عِنْدَ الخُسُوفِ بِحَالِ" (¬1). ثم كلام الأئمة يشعر بحصر ما تسن فيه الجماعة في هذه الصلوات الخمس، وربما صرحوا بذلك، ولفظ الكتاب وهو قوله: (كالعيدين والكسوفين) لا يوجب الحصر، وإنما يفيد التمثيل، وهذا أولى؛ لأن التراويح خارجة عن الخمس، والجماعة مستحبة فيها على الأصح، كما سيأتي ولك أن تبحث هاهنا، فنقول: لفظ الكتاب يقتضي أن تكون التراويح أفضل من الرَّوَاتِبِ؛ لأن الجماعة مَشْرُوعَة في التراويح، وقد حكم بأن ما شرع فيه الجماعة أفضل، فهل هو كذلك؟ أما لا؟ والجواب: أن إمام الحرمين قال: من أئمتنا من سبب تفضيلها على الرواتب إذا قلنا باستحباب الجماعة فيها؛ لأن الجماعة أقوى معتبر في التفضيل، قال: والأصح أن الرواتب أفضل منها، وإن شرعنا فيها الجماعة، وهذا هو الذي ذكره في "العدة" ووجهه بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- "لم يداوم على التراويح، وداوم على السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ"، وعلى هذا، فالقول بأن ما شرع فيه الجماعة أفضل غير مجرى على إطلاقه، بل صلاة التراويح مستثناة منه. وأما القسم الثاني: وهو ما لا تشرع فيه الجماعة، فينقسم إلى ما يتعلق بوقت أو فعل، وإلى التطوع المطلق. والأول أنواع: منها الرواتب، كما عددناها، ومنها: صلاة الضحى: عن أبي الدَّرْدَاء قال: "أَوْصَانِي خَلِيلِي -صلى الله عليه وسلم- بِثَلاَثٍ لاَ أَدَعَهُنَّ بِشَيءٍ، أَوْصَانِي بِصِيَامٍ ثَلاثةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَلاَ ¬
أَنَامَ إِلاَّ عَلَى وَتْرٍ، وَسُبحَةِ الضُّحَى، فِي الْحَضَرِ والسَّفَرِ" (¬1). وأقلها ركعتان، والأفضل أن يصلي ثَمَانِي ركعات، وأكثرها اثنتي عشرة، ذكره القاضي الروياني، وورد في الأخبار، ويسلم من كل ركعتين، روي عن أم هانئ -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "صَلَّى يَوْمَ الْفَتْحِ سُبْحَةَ الضُّحَى، ثَمَانِي رَكَعَاتٍ، يُسَلِّمْ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ" (¬2) ووقتها: من حين ترتفع الشمس إلى وقت الاستسواء (¬3). ومنها: تحية المسجد، روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ، فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ" (¬4) ولو صلى الداخل فريضة، أو وِرْداً، أو سُّنة، ونوى التحية أيضاً حصلا، كما لو كبر وقصد إعلام الناس، ولو لم ينو التحية حصلت أيضاً، كذلك ذكره صاحب "التهذيب"، وغيره، ويجوز أن يطرد فيه الخلاف المذكور فيما إذا نوى غسل الجنابة هل يجزئه عن العيد والجمعة إذ لم ينوهما؟ ولو صلَّى الدَّاخِلُ على جنازة أو سجد لتلاوة، أو شكْر لم تحصل تحية المسجد (¬5) قاله في "التهذيب" ويدل عليه الخبر الذي سبق، فإنه لم يركع ركعتين. وقضية الخبر أن لا تحصل التحية بركعة واحدة أيضاً، وفيها جميعاً وجه آخر. ومنها: ركعتا الإحرام. ¬
ومنها: ركعتا (¬1) الطواف إذا لم توجبهما، وسيأتي ذكرهما في موضعهما. إذا عرفت ذلك فأوكد ما لا تسن له الجماعة السنن الرواتب؛ لمداومة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليها، وكثرة الترغيبات فيها، وأفضل الرواتب الوتر وركعتا الفجر؛ لأن الأخبار فيهما أكثر، وأيهما أفضل فيه؟ قولان: القديم: أن ركعتي الفجر أفضل، وبه قال أَحْمَدُ؛ لما روي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِل [أَكْثَر] (¬2) تَعَاهُدًا مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَي الْفَجْرِ" (¬3). وروي أنه قال: "رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنيَا وَمَا فِيهَا" (¬4) وعلى هذا فيليهما في الفضيلة الوتر. والجديد: الأصح أن الوتر آكد، وبه قال مالك؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا" (¬5). ولأن الوتر مختلف في وجوبه، ولا خلاف في أن ركعتي الفجر سُنَّة (¬6) وعلى هذا فما الذي يلي الوتر في الفضيلة؟ ¬
قال جمهور الأصحاب: يليه ركعتَا الفَجْرِ. وعن أبي إسحاق "أن صلاة الليل تتقدم عليهما" ونقل في "البيان" عن بعض الأصحاب أن الوتر وركعتي الفجر يستويان في الفضيلة. ثم بعد السنن الرواتب الأفضل من الصلوات المذكورة صلاة الضحى، ثم ما يتعلق بفعل [كركعتي الطواف] (¬1)، وركعتي الإحرام، وركعتي التحية. وقوله في الكتاب: (وركعتي الطواف) معلم بالواو؛ للقول الصائر إلى وجوبها، فإن شيئاً من النوافل على ذلك القول لا يكون أفضل منهما. وقوله: (ثم أفضلها صلاة العيدين) يجوز أن ترجع الكناية إلى النوافل التي شرعت فيها الجماعة، ويجوز أن ترجع إلى النوافل المذكورة كلها، والقول في أن أفضل الرواتب ماذا؟ وأن ركعتي الفجر أفضل أم الوتر؟ كالدخيل في هذا الفصل؛ لأنه ترجمة بغير الرواتب، ولو ذكره في الفصل الأول لكان أحسن، ولعلك تقول: نظم الكتاب يقتضي ألا تكون الجماعة مشروعة في الوتر أيضاً؛ لأنه حكم بأن ما شرع فيه الجماعة أفضل من الرواتب، فيلزم أن لا تكون الجماعة مشروعة في الرواتب، والوتر معدود من الرواتب، فهل هو كذلك أم لا؟ فالجواب: أنا إذا أستحببنا الجماعة في التراويح نستحبها في الوتر أيضاً، وأما في غير رمضان فالمشهور أنه لا تستحب فيه الجماعة؟ وبه قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ وأطلق أبو الفضل بن عبدان حكاية وجهين في اسْتِحبَاب الجماعة في الوِتْرِ. إذا عرفت ذلك فكلام الكتاب مبني على الأكثر، وهو ما سوى رمضان -والله أعلم-. قال الغزالي: ويُسْتَحَبُّ الجَمَاعَةُ فِي التَّرَاوِيحِ تأسِّياً بِعُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُ: وَقِيلَ: الانْفِرَادُ بِهِ أَوْلى لِبُعْدِهِ عَنِ الرِّيَاءِ. ¬
القول في أحكام صلاة التراويح
القول في أحكام صلاة التراويح قال الرافعي: صلاة التراويح عشرون ركعة بعشر تسليمات. وبه قال أبو حنيفة، وأحمد؛ لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "صَلَّى بالنَّاسِ عِشْرِينَ رَكْعَةٌ لَيْلَتَيْنِ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ اجْتَمَعَ النَّاسُ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، ثمَّ قَالَ مِنَ الْغَدِ: "خَشِيتُ أَنْ تُفرَضَ عَلَيْكُمْ فَلاَ تَطِيقُونَهَا" (¬1). وعن مالك: أنها ست وثلاثون ركعة لفعل أهل المدينة. قال العلماء: وسبب فعلهم أن الركعات العشرين خمس ترويحات، كل ترويحة أربع ركعات، وكان أهل مكة يطوفون بين كل ترويحتين سبعة أشواط، ويصلون ركعتي الطواف أفراداً، وكانوا لا يفعلون ذلك بين الفريضة والتراويح، ولا بين التراويح والوتر، فأراد أهل المدينة أن يساورهم في الفضيلة، فجعلوا مكان كل أسبوع من الطواف ترويحة، فحصل أربع ترويحات وهي ست عشرة ركعة تنضم إلى العشرين، والوتر ثلاث ركعات، تكون الجملة تسعاً وثلاثين؛ فلذلك قال الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه-: ورأيتهم بالمدينة يقولون: بتسع وثلاثين. قال أصحابنا: لغير أهل المدينة ذلك؟ لشرفهم بمهاجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقبره، ثم الأفضل في التراويح الجماعة أو الانفراد؟ فيه وجهان، ومنهم من يقول قولان. أحدهما: أن الانفراد بها أفضل، ويروى هذا عن مالك -رضي الله عنه- لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- "خَرَجَ لَيَالِيَ مِنْ رَمَضَانَ، وَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ بَاقِيَ الشَّهْرِ، وَقَالَ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلاَةِ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ" (¬2). ولأن الاستخلاء بالنوافل أبعد عن الرياء. وأصحهما: أن الجماعة أفضل؛ لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَابِ -رضي الله عنه- جَمَعَ النَّاسَ علي أُبيَّ بْنِ كَعْبٍ -رضي الله عنه- (¬3) وَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- الْخُرُوج؟ خَشْيَةِ الافْتِرَاضِ"، وبهذا قال ابْنُ سُرَيْجٍ، وأبو إسحاق والأكثرون، ثم ذكر أصحابنا العراقيون، والصيدلاني وغيرهم؛ أن الخلاف فيما إذا كان الرجل يحفظ القرآن ولا يخاف النوم والكسل، ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه، فأما إذا لم يحفظ أو خاف ذلك فالجماعة أولى لا محالة. ¬
وأطلق آخرون ثلاثة أوجه في المسألة، منهم القاضي ابن كج وإمام الحرمين. أحدها: أن الانفراد أفضل على الإطلاق. والثاني: أن الجماعة أفضل. والثالث: إن كان حافظاً للقرآن آمِناً من الكل ولم تختل الجماعة لتخلفه، فالأفضل أن ينفرد، وإلا فلا، ويحكى هذا عن ابن أبي هريرة، وإنما يدخل وقت التراويح بالفراغ من صلاة العشاء، كما ذكرنا في الوتر. قال الغزالي: ثُمَّ التَّطَوُّعَاتُ لاَ حَصْرَ لَهَا، فَإِنْ تَحَرَّمَ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ لَهُ أَنْ يُتِمَّهَا عَشْراً فَصَاعِداً، وَإِنْ تَحَرَّمَ بِعَشْرِ جَازَ لَهُ الاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَلَهُ أَنْ يَتَشَهَّدَ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ أَوْ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ إِنْ شَاءَ، وَالأَحَبُّ مَثْنًى مَثْنًى. قال الرافعي: التطوعات التي لا تتعلق بسبب، ولا وقت، لا حصر لأعدادها، ولا الركعات الواحدة منها. "وَالصَّلاَةُ خَيْرُ مَوْضُوع، فَمَنْ شَاءَ اسْتَقَلَّ وَمَنْ شَاءَ اسْتَكْثَرَ"، هذا لفظ الخبر المشهور عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬1)، ثم إذا شرع في تطوع فإن لم ينو شيئاً، فله أن يسلم من ركعة، وله أن يسلم من ركعتين فصاعداً، روي أن عمر - رضي الله عنه- "مَرَّ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى رَكْعَةً، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا صَلَّيْتُ وَاحِدَةً فَقَالَ: إِنَّمَا هِي تَطَوُّعٌ، وَمَنْ شَاءَ زَادَ، وَمَنْ شَاءَ نَقَصَ" (¬2). وحكى الأصحاب عن نصفه في "الإملاء": أنه لو صلَّى من غير إحصاءٍ، ثم سلم وهو لا يدري كما صلى أجزأه. وقال بعض السلف الذي صليت له يعلم كم صليت؟ وإن نوى ركعة، أو عدداً قليلاً، أو كثيراً، فله ذلك، هذا هو المشهور، وحكي في "البيان" عن المسعودي: أن له أن يصلي ثلاث عشرة ركعة بتسليمة واحدة، وهل له أن يزيد؟ فيه وجهان؛ ثم إذا نوى عددًا فله أن يزيد وله أن ينقص حتى لو تحرم بركعة، فله أن يجعلها عشرة فصاعداً، أو بعشرٍ فله أن يقتصر على واحدة ولكن بشرط أن يغير النية قبل الزيادة والنقصان، فلو زاد أو نقص قبل تغيير النية بطلت صلاته. مثاله: نوى أن يصلي ركعتين ثم قام إلى الثالثة بعد ما نوى الزِّيادة جاز، ولو قام قبلها عمداً بطلت صلاته، ولو قام سهواً عاد، وسجد للسهو وسلم، فلو بدا له بعد ¬
القيام أن يزيد فهل يجب العود إلى القعود ثم القيام منه أم له المضي؟ فيه وجهان: أصحهما: أولهما، ثم يسجد للسهو في آخر صلاته. ولو زاد ركعتين سهواً، ثم نوى إكمال أربع صلى ركعتين أخريين، وما سها به لا يحسب. ولو نوى أن يصلي أربعاً، ثم غير نيته وسلم عن ركعتين جاز، ولو سلم قبل تغيير النية عمداً بطلت صلاته، ولو سلم سَاهِياً أتم أربعاً، وسجد لِلسَّهْوِ، فلو زاد أربعاً وأراد بعد السلام ساهياً أن يقتصر سجد للسهو، وسلم ثانياً، فإن سلامه الأول غير محسوب، ثم إن تطوع بركعة فلا بد من التَّشَهُّدِ فيها، وإن زاد فله أن يقتصر على تشهدٍ واحدٍ في آخر الصلاة، وهو تشهد الركن، وله أن يتشهد في كل اثنتين، كما في الفرائض الرباعية، فلو كان العدد وتراً فلا بد من التشهد في الأخيرة أيضاً، وهل له أن يتشهد في كل ركعة؟ قال إمام الحرمين: فيه احتمال؛ لأنا لا نجد في الفرائض صلاة على هذه الصورة، لكن الأظهر الجواز؛ لأن له أن يصلي ركعة فردة، ويتحلل عنها، وإذا جاز له ذلك جاز له القيام منها إلى أخرى، وهذا ما ذكره المصنف، وسوغ له الأمور الثلاثة في "الوسيط" وأقتصر هاهنا في الأمر الثاني والثالث. واعلم أن تجويز التشهد في كل ركعة لم يرد له ذكر إلا في "النهاية" وفي كتب المصنف، وأما الاقتصار على تشهد واحد في آخر الصَّلاَة فلا يكون فيه خلاف؛ لأنه لو اقتصر في الفرائض عليه لجاز أيضاً، وأما التشهد في كل اثنتين، وقد ذكره العراقيون من أصحابنا، وغيرهم وقالوا: إنه الأولى وإن جاز الاقتصار على واحد، وذكر في [النهاية] (¬1) شيئاً آخر، وهو أنه لا تجوز الزيادة على تشهدين بحال، ثم إن كان العدد شفعاً فلا يجوز أن يجعل بين التشهدين أكثر من ركعتين وإن كان وتراً فلا يجوز أن يجعل بينهما أكثر من ركعة تشبهاً في القسمين بالفرائض. مثاله: إذا صلى ستًّا يتشهد في الركعة الرابعة والسادسة، وإذا صلى سبعاً يتشهد في السادسة والسابعة، وإلى هذا مال المستمدون من كلام المراوزة، ومنهم صاحب "التهذيب" وظاهر "المذهب" الزيادة على تشهدين، ثم قال في "التهذيب": إن صلى بتشهد واحد قرأ السورة بعد الفاتحة في الركعات كلَّها، وإن صلى بتشهدين هل يقرأ على القولين المذكورين في الفرائض؟ والأحب أن يسلم المتطوع من كل ركعتين على مثال الرواتب، سواء كان بالليل أو بالنهار، لما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- ¬
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صَلاَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى" (¬1)، وبهذا قال مَالِكٌ وأَحْمَدُ -رحمهما الله- ونعود بعد هذا إلى ما يتعلق بلفظ الكتاب وبيان موضع العلامات. قوله: (ثم التطوعات لا حصر لها)، أراد بالتطوع هاهنا ما ينشئه الإنسان باختياره، ولا يتعلق بوقت ولا سبب، لأنه أراد بقوله: (لا حصر لها) أنه لا حصر لركعاتها على ما صرح به في "الوسيط"، والظاهر أن هذا حكم منه على كل واحد منها، وفي أول الباب أراد بالتطوع مطلق النافلة، كما سبق بيانه. وينبغي أن يعلم قوله: (لا حصر لها) بالحاء، لأن عند أبي حنيفة يكره في نوافل النهار أن تزاد على أربعة ركعات بتسليمة واحدة، وفي نوافل الليل أن تزاد على ثمان ركعات، وذكر صاحب "البيان" أنه يحكم بالبطلان لو زاد على العددين، والأحب عنده في نوافل النهار أن تكون أربعاً، حتى في الرواتب سوى ركعتي الفجر، وفي نوافل الليل يصلي بتسليمة واحدة ثمان ركعات، أو ستاً أو أربعاً، أو ركعتين، ولا فضل لبعضها على بعض، ويجوز أن يعلم بالواو أيضاً لما سبق حكايته عن المسعودي، ويجوز أن يعلم قولة: (أن يتمها عشراً) بالحاء أيضاً، إذ لا مزيد عنده على ثمان ركعات. وقوله: (جاز له الأقتصار على واحدة) معلم بالميم؛ لأن عنده الشروع في التطوع ملزم، إلا أن يكون هناك عذر، وبالحاء لأمرين: أحدهما: أن الشروع يلزم عليه ركعتين. والثاني: أن الركعة الفردة ليست بصلاة عنده، وعندنا هي صلاة؛ لما سبق، ولو نوى صلاة تطوع ولم ينو واحدة ولا عدداً، فهل يجوز الاقتصار على واحدة؟ حكى في "التتمة" فيه وجهين مبنيين على ما لو نذر صلاة مطلقة، هل يخرج عن العهدة بركعة أم لا بد من ركعتين؟ وينبغي أن يقطع بجواز الاقتصار على واحدة (¬2)؛ لأنه وإن نوى ركعتين فصاعداً لا يجوز له الاقتصار على واحدة، فعند الإطلاق أولى أن يجوز. وقوله: (وله أن يتشهد بين كل ركعتين) ينبغي أن يعلم بالواو، لأمرين: أحدهما: أن صاحب "البيان" حكى وجهاً: أنه لا يجلس إلا في الأخيرة. والثاني: أنا حكينا عن بعض الأصحاب أنه لا يزيد على تشهدين وإن كثرت الركعات، وذلك القائل لا يُجَوِّزُ التشهد بين كل ركعتين. ¬
وقوله: (أو في كل ركعة) اعلم بالحاء، لأنه يقول: بتشهدٍ بين كل ركعتين وبالواو لأن كثيراً من الأصحاب قالوا: إنه بالخيار بين أن يصلي بتشهد واحد وبين أن يتشهد بين كل ركعتين (¬1) والتخيير بين الشيئين ينفي التمكن من شيء ثالث. وقوله: (والأحب مثنى مثنى) معلم بالحاء لما سبق. قال الغزالي: وَأَظْهَرُ الأَقْوَالِ أَنَّ النَّوَافِلِ المُؤَقَّتَةَ تُقْضَى (ح م) كَمَا تُقْضَى الفَرَائِضُ، وَرَكْعَتَا الصُّبْحِ بَعْدَ فَرْضِ الصُّبْحِ أَدَاءٌ بِقَضَاءٍ. قال الرافعي: غرض الفصل يتضح برسم مسألتين. أحدهما: في وقت الرواتب وهي ضربان: أحدهما: الرواتب التي تسبق الفرائض ويبقى وقت جوازها ما بقي وقت الفريضة، ووقت اختيارها ما قبل الفريضة. مثاله: ركعتا الفجر يدخل وقتهما بطلوع الفجر، ويبقى إلى طلوع الشمس، والاختيار تقديمها على صلاة الفجر، وحكى جماعة منهم صاحب "البيان" أن وقت ركعتي الفجر يبقى إلى الزوال ويكون أداء، وإن خرج وقت الفريضة. والضرب الثاني: الرواتب المتأخرة عن الفرائض فيدخل وقتها بفعل الفرائض، لا بدخول وقتها كما ذكرنا في الوتر، وآخر وقتها يخرج بخروج وقت الفرائض، كما في الضرب الأول؛ لأنها تابعة للفرائض، وحكي في "التتمة" في الوِتْرِ قولاً آخر: أن وقت الوتر يبقى إلى أن يصلي الصبح، ولا يخرج بطلوع الفجر؛ لظاهر ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "صَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إِلَى صَلاَةِ الصُّبْحِ" (¬2). وهذا يشبه خلافاً سيأتي ذكره في المسألة الأخرى. المسألة الثانية: النوافل تنقسم إلى ما لا يتأقت، وإنما يفعل لسبب عارض - وإلى ما يتأقت. والأول: لا مدخل للقضاء فيه، وهو كصلاتي "الخسوف" و"الاستسقاء" وتحية المسجد. والثاني: "كصلاتي العيد" و"صلاتي الضحى"، والرواتب التابعة للفرائض في قضائها إذا فاتت قولان مشهوران: ¬
أصحهما، وبه قال أَحْمَدٌ: أنها تقضى لمطلق قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا" (¬1) ولأنها صلاة راتبة بوقت فتستدرك إذا فاتته كالفرائض. والثاني، وبه قال مالِكٌ: أنها لا تقضى كصلاة الخسوف ونحوها، وهذا لأن الأصل أن لا تقضى وظيفة مؤقتة أصلاً لاقتضاء صيغة التأقيت اشتراط الوقت في الاعتداد بها، لكن خالفنا في الفرئض لأوامر مجردة وردت فيها لتأكدها. وعن أبي حنيفة: إن فاتت الرواتب مع الفرائض قضيت معها، وإن فاتت وحدها فلا تقضى، ونقل بعض أصحابنا عن مذهب: أنه لا يقضي منها إلا ركعتا الفجر، إذا فاتت مع الفرض، وحكي في "النهاية" قولاً ثالثاً: وهو أن ما أستقل منها، ولم يتبع غيره "كصلاة العيدين" وصلاة "الضحى" يقضي لمشابهتها الفرائض في الاستقلال، وما كان تابعاً لغيره كالرواتب لا يقضى، فهذه هي الأقوال التي ذكرها في الكتاب وإنما قيد "بالمؤقتة" ليخرج القسم الأول، فإنها لا تقضى بلا خلاف. التفريع: إن قلنا: إنها لا تقضى فلا كلام، وإن قلنا: تقضى فهل تقضى أبداً؟ فيه قولان: أصحهما: وهو اختيار المزني -رحمه الله عليه- نعم كالفرائض لما قضيت جاز قضاؤها أبداً. وقوله في الكتاب: (كما تقضى الفرائض) يمكن حمله على التشبيه في كيفية القضاء، أي كما تقضى الفرائض أبداً، كذلك هذه، لكنه ما أراد ذلك، وإنما أراد قياس أصل القضاء على الفرائض، وذلك بَيِّنٌ في عبارة "الوسيط". والقول الثاني: أنها لا تقضى أبداً، وعلى هذا إلى متى تقضى؟ أما صلاة العيد ففيها تفصيل وخلاف مذكور في الكتاب، في باب صلاة العيدين، وأما الرواتب ففيها قولان: أحدها: أنه لا تقضى كالوتر بعد صلاة الصبح، ولا ركعتا الفجر بعد صلاة الظهر. قال إمام الحرمين: وعلى هذا النسق سائر التوابع؛ لأنه إذا استفتح فريضة أخرى، انقطع حكم التبعية عن الصلاة السابقة، وحكي على هذا القول وجهاً آخر أن الاعتبار بدخول وقت الصلاة المستقبلة لا بفعلها، فعلى هذا تقضى ركعتا الفجر ما لم تزل الشمس، فإن زالت فلا. ¬
والقول الثاني -وقد نقله المسعودي عن القديم-: أنه ما كان من صلاة النهار يقضى ما لم تغرب الشمس، وما كان من صلاة الليل يقضى ما لم يطلع الفجر، فعلى هذا تقضى ركعتا الفجر ما دام النَّهَار باقياً. وقوله في الكتاب: (وركعتا الصبح بعد فرض الصبح أداء وليس بقضاء)، قصد به بيان أن تأخير ركعتي الصبح إلى ما بعد الفريضة لا يوجب فواتهما [فلا يجري] (¬1) فيه الخلاف المذكور في القضاء، وتقديمها مستحب لا مستحق، وقد يؤمر بالتأخير بسبب يعرض كمن دخل المسجد والإمام يصلي الصبح، فينبغي أن يقتدي به، ثم بعد الفراغ [يشتغل بركعتي السُّنَّة. وعن أبي حنيفة أنه لو علم أنه يدرك ركعة من الفريضة بعد الفراغ] (¬2) من السُّنَّةِ تُقَدَّمُ السُّنَّةُ. لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَلاَ صَلاةَ إِلاَّ المَكْتُوبَةُ" (¬3) ثم في معنى ركعتي الصبح سائر التَّوابع المقدمة على الفرائض، وذكرهما جرى على سبيل ضرب المثال، وأراد بقوله: (بعد فرض الصبح) ما لم تطلع الشمس، وقد حكينا من قبل وجهاً أن وقتها يمتد إلى الزوال لكنه ما أراد بذلك، فإن المذهب الظاهر خلافه (¬4). ¬
كتاب الصلاة بالجماعة
كِتَابُ الصَّلاَةِ بِالجَمَاعَةِ وَفِيهِ ثَلاَثةُ فُصُولٍ قال الغزالي: الأَوَّلُ فِي فَضْلِهَا، وَهِيَ مُسْتَحَبة وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ إِلاَّ في الجُمُعَةِ، وَلاَ فَرْضَ كِفَايةٍ عَلَى الأَظْهَرِ، وَتُسْتَحَبُّ لِلنِّسَاءِ (ح)، وَالفِعْلُ فِي الجَمعِ الكَثِير أَفْضَلُ إلاَّ إِذَا تَعَطَّلَ فِي جِوَارِهِ مَسْجِدٌ فَإحْيَاؤُهُ أَفْضَلُ. القول في أحكام صلاة الجماعة: قال الرافعي: أركان الصلاة وشروطها لا تختلف بين أن تؤدى على سبيل الانفراد، أو بالجماعة، لكن الأداء بالجماعة أفضل، وهي تختص باعتبار أمور تنقسم إلى معتبرة في نفس الإمام، إلى غيرها، فأدرج لذلك مسائل هذا الكتاب في ثلاثة فصول. أحدها: فيما يتعلق بفضلها. وثانيها: في الأمور المعتبرة في نفس الإمام، إما اعتبار اشتراط أو استحباب. وثالثها: في سائر المعتبرات. فأما الفصل الأول. فاعلم أن الأصل في فضلها الإجماع والأخبار، نحو ما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال "صَلاَةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاةَ [الْفَرْدِ] (¬1) بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (¬2). والفرائض الخمس تنقسم إلى صلاة الجمعة وغيرها فأما في صلاة الجمعة، فالجماعة فرض عين، كما سيأتي في بابها، وأما في غيرها فليست بفرض عين خلافاً لأحمد حيث قال: بأنها فرض عين، وبه قال ابن المنذر، ومحمد بن إسحاق بن ¬
خزيمة (¬1) من أصحابنا، وفي بعض التعاليق أن أبا سليمان الخطابي (¬2) ذكر أنه قول للشافعي -رضي الله عنه-. لنا: حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- وأيضاً روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "صَلاَةُ الرَّجُلِ مَعَ الْوَاحِدِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَتِهِ مَعَ الْوَاحِدِ، وَحَيْثُمَا كَثُرَتِ الْجَمَاعَةُ فَهُوَ أَفْضَلُ" (¬3). والاستدلال أنه لا يحسن أن يقال: الإتيان بالواجب أفضل من تركه، وتفضيل أحد الفعلين على الآخر يشعر بتجويزهما جميعاً، وهل هي فرض كفاية أم سنة؟ وجهان: أظهرهما: عند المصنف، وصاحب "التهذيب": أنها سُّنة؛ لأن الجماعة خصلة مشروعة في الصَّلاة، لا تبطل الصلاة بتركها، فلا تكون مفروضة كسائر السنن المشروعة في الصلاة، وفي ما سبق من الأخبار ما يشعر بأن سبيلها سبيلْ الفضائل، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة، والثاني وبه قال ابن سريج وأبو إسحاق إنها فرض كفاية، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِنْ ثَلاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ لاَ تُقَامُ فِيهِمُ الْجَمَاعَةَ إِلاَّ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ" (¬4): وذكر المحاملي وجماعة أن هذا ظاهر المذهب، فإن قلنا: إنها فرض على الكفاية، فلو امتنع أهل بلدة، أو قرية عن إقامتها، قاتلهم الإمام عليها ولا يسقط الحرج، إلا إذا ¬
أقاموها، بحيث يظهر هذا الشعار فيما بينهم ففي القرية الصغيرة يكفي إقامتها في موضع واحد، وفي القرى الكبيرة والبلاد تقام في محلها، ولو أطبقوا على إقامة الجماعة في البيوت، فعن أبي إسحاق المروزي: أنه لا يسقط الفرض بذلك، لأن الشعار في البلد لا يظهر به، ونازعه فيه بعضهم، إذا ظهر ذلك في الأصوات وأما إذا قلنا: إنها سنة، فهل يقاتلون على تركها؟ فيه وجهان كما ذكرناهما في الأذان: وأصحهما: لا (¬1) وكل ما ذكرناه في حق الرجال. أما النساء فلا تفرض عليهن الجماعة، لا فرض عين ولا فرض كفاية، وتستحب لهن ولكن فيه وجهان ذكرهما القاضي الروياني: أحدهما: أن [استحبابها لهن] (¬2) كاستحبابها للرجال؛ لعموم الأخبار. وأظهرهما -الذي ذكره المعظم-: أنه لا يتأكد تأكده في حق الرجال فلا يكره لهن تركها ويكره للرجال ذلك. وقال أَبُو حَنِيفَةَ ومالك: يكره لهن أن يصلين جماعة، وبه قال أَحْمَدُ في رواية، والأصح عنه مثل مذهبنا. لنا ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَمَرَ أُمَّ وَرَقَةٍ أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا" (¬3) ثم إذا صلين جماعة، فالمستحب أن تقف التي تَؤَمُّهُنَّ وسطهن، كَذَلِكَ فَعَلَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وَأُمُّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- لَمَّا أمَّتَا" (¬4). وجماعتهن في البيوت أفضل، فإن أردن حضور المسجد في جماعة الرجال كره ذلك للشَّوَابّ لخوف الفتنة ولم يكره للعَجَائِزِ، روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "نَهَى النِّسَاءَ عَنِ الْخُرُوجِ ¬
إِلَى الْمَسَاجِدِ فِي جَمَاعَةِ الرِّجَالِ إِلاَّ عَجُوزاً فِي مَنْقَلِهَا" والمنقل الخف (¬1). وإمامة الرجال لهن أولى من إمامة النساء، لكن لا يجوز أن يخلو بهن من غير ذي محرم (¬2) ثم لو صَلَّى الرجل في بيته برقيقه أو زوجته وولده نال أصل فضيلة الجماعة، لكنها في المسجد أفضل؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ". وحيث كان الجمع أكثر من المساجد فالفضل أكثر لما سبق، فلو كان بالقرب منه مسجد قليل الجمع وبالبعد مسجد كثير الجمع، فالأفضل أن يذهب إلى المسجد البعيد إلا في حالتين: أحدهما: أن تتعطل الجماعة في المسجد القريب بعدوله عنه إما لكونه إماماً، أو لأن الناس يحضرون بحضوره، فإقامة الجماعة في المسجد القريب أفضل. الثانية: أن يكون إمام المسجد البعيد مبتدعاً كالمعتزلي وغيره (¬3)، وإمام المسجد القريب بريئاً عن البدعة، فالصلاة في المسجد القريب أولى. قال الْمُحَامِلِيُّ وغيره: وكذا لو كان إمام المسجد البعيد (¬4) حنفياً، لأنه لا يعتقد وجوب بعض الأركان، بل ¬
حكوا عن أبي إسحاق المروزي أن الصلاة منفرداً أولى من الصلاة خلف الحنفي، وهذا مبني على جواز الصلاة خلفه، وفيه خلاف يأتي من بعد، وفي المسألة وجه آخر حكاه في "النهاية" أن رعاية حق الجوار أولى على الإطلاق، لأنا لو جوزنا العدول عن المسجد القريب، ولا شك أن يعدل عنه واحد بعد واحد، فيفضي إلى تعطيله. وأما لفظ الكتاب فقوله: (وليست بواجبة) يعني به الوجوب على الأعيان، وهو معلم بالألف والواو وقوله: (تستحب للنساء) معلم بالحاء والميم وبالألف أيضاً لإحدى الروايتين عن أحمد، والمراد أصل الاستحباب [ثم في كيفية الاستحباب] (¬1) ما سبق من الخلاف. وقوله: (إلا إذا تعطل في جواره مسجد) ليس فيه إلا استثناء الحالة الأولى، وقد استثنى كثير من الأصحاب الحالة الثانية أيضاً كما ذكرنا، ويجوز أن يعلم قوله: (في الجمع الكثير أفضل) بالواو، لأنه يدخل فيه ما إذ كان في جواره مسجد ولم يتعطل إذا لم يستثن إلا إذا تعطل، وقد ذكرنا وجهاً أن الأفضل رعاية حق الجوار، وإن لم يتعطل. قال الغزالي: وَفَضِيلَةُ الجَمَاعَةِ لاَ تَحْصَلُ إِلاَّ بِإدْرَاكِ رَكْعَةٍ مَعَ الإِمَامِ، وَفَضِيلَةُ التَّكْبِيرَةِ الأُولَى لاَ تَحْصُلُ إِلاَّ بِشُهودِ تَحْريِمَةِ الإِمَامِ وَاتْبَاعِهِ عَلَى الأَصَحِّ. قال الرافعي: في الفصل مسألتان: إحداهما: فيما يحصل للمأموم به فضيلة الجماعة، الذي ذكره في الكتاب أنها لا تحصل إلا بإدراك ركعة مع الإمام، ووجهه في "الوسيط" بأن إدراك ما دون الركعة ليس محسوباً من صلاته، فلا ينال بها الفضيلة، والذي ذكره أصحابنا العراقيون وغيرهم وتابعهم صاحبا "المهذب" و"التهذيب" أن من أدرك الإمام في التشهد الأخير حصل له فضيلة الجماعة، وقد يوجه ذلك بأن هذه البقية إذا لم تكن محسوبة من صلاته، فلو لم ينل بها الفضيلة لمنع من الاقتداء والحالة هذه؛ لكونها زيادة في الصلاة لا فائدة فيها، وبالجملة فظاهر المذهب الذي ذكره الجمهور خلاف ما في الكتاب. المسألة الثانية: وردت أخبار في إدراك التكبيرة الأولى مع الإمام نحو ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ صَلَّى أَرْبَعِينَ يَوْماً فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الأوْلَى كُتِبَ لَهُ بَرَاءَتَانِ، ¬
بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ" (¬1) ولما في إدراكها من الفضل صار أبو إسحاق المروزي إلى أن الساعي إلى الجماعة يسرع إذا خاف فواتها؛ لكن الصحيح عند الأكثرين أن لا يسرع بحال لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةَ فَلا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ، وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ وَالوَقَارُ" (¬2). ثم بماذا يكون مدركًا للتكبيرة الأولى؟ فيه وجوه: أظهرها: أن من شهد تكبيرة الإمام واشتغل عقيبها بعقد الصلاة كان مدركاً لفضيلة التكبيرة الأولى، وإلا لم يكن مدركاً لها؛ لأنه إذا أجرى التبكير في غيبته لم يسم مَدْرِكاً. والثاني: أن تلك الفضيلة تدرك بإدراك الركوع الأول. والثالث: أن إدراك الركوع لا يكفي، بل يشترط إدراك شيء من القيام أيضاً. والرابع: إن شغله أمر دنيوي لم يكن بإدراك الركوع مدركاً للفضيلة، وإن منعه عذر واشتغال بأسباب الصلاة كالطهارة وغيرها كفاه إدراك الركوع. قال الغزالي: وَمَهْمَا أَحَسَّ الإمَامُ بِدَاخِلٍ فَفِي اسْتِحْبَابِ الانْتِظَارِ لِيُدْرِكَ الدَّاخِلُ الرُّكُوعَ قَوْلاَنِ، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُطَوِّلَ وَلاَ أَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ دَاخِلٍ وَدَاخِلٍ. قال الرافعي: مما يحتاج إلى معرفته في المسألة أن المستحب للإمام تخفيف الصلاة من غير ترك الأبعاض والهيئات، لما روي عن أنس -رضي الله عنه- قال: "مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَام قَطّ أَخَفَّ صَلاَةٍ وَلاَ أَتَمِّ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-" (¬3). فإن رضي القوم بالتطويل، وكانوا منحصرين لا يدخل عليهم غيرهم فلا بأس حينئذ بالتطويل، ثم قال الأئمة: انتظار الإمام في الصلاة وتطويله بها يفرض على وجوه: منها: أن يصلي في مسجد سوق، أو محله، فيطول الصلاة ليلحق قوم آخر وتكثر الجماعة، فهذا مكروه لما فيه من سقوط الخشوع، وشغل القلب، ومخالفة قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَمَّ أَحَدُكُمْ فَليُخَفِّفْ" (¬4). ¬
ومنها: أن يؤم في مسجد بحضرة رجل شريف فيطول الصلاة على الحاضرين ليلحق ذلك الرجل، فهذا مكروه أيضاً؛ لأنه ينفر الحاضرين ويُشَوِّشُ عليهم. ومنها: أن يَحِس في صلاته بمجيء رجل يريد الاقتداء به، فله أحوال: أحدها: أن يكون في الركوع، وهي مسألة الكتاب فهل ينتظر ليدرك الركوع؟ فيه قولان: أصحهما -عند إمام الحرمين وآخرين-: أنه لا ينتظره؛ لمطلق قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَمَّ أَحَدُكُمْ بِقَوْمٍ فَلْيُخَفِّفْ" ولأن انتظاره يطول الصلاة على الحاضرين، والتطويل على الحاضرين لمسبوق وقد يكون مقصراً بتخلفه لا وجه له (¬1). والثاني: ينتظره؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يَنْتَظِرُ فِي صَلاَتِهِ مَا سَمِعَ وَقَعَ نَعْلٍ" وهذا كما أنه ينتظر في صلاة الخوف ذهاب قوم ومجيء قوم لينالوا فضيلة الجماعة، ثم ذكر الأئمة للقولين شرطين: أحدهما: أن يكون الرجل الجائي حين ينتظر داخل المسجد، أما لو كان بعد خارجه فلا ينتظر قولاً واحداً. والثاني: أن يقصد به الاحتساب والتقرب إلى الله تعالى، فأما لو قصد التودد إليه واستمالته فلا ينتظر قولاً واحداً، ثم اختلفوا في أن القولين فيما إذا؟ على طرق قال معظم الأصحاب: ليس الخلاف في استحباب الانتظار، ولا في أنه لو انتظر هل تبطل صلاته أم لا؟ وإنما الاختلاف (¬2) في الكراهة، فأحد القولين: إنه يكره وبه قال أبو حنيفة، ومالك، واختاره المزني. والثاني: لا يكره، وبه قال أحمد، وهو أصح القولين عند القاضي الروياني. وقال بعض الأصحاب: القولان في أنه هل يستحب الانتظار، ويحكى هذا عن القاضي أبي الطيب، وقال آخرون: في المسألة قولان: أحدهما: أنه يكره. والثاني: أنه يستحب، وهذا ما أورده صاحب "المهذب"، وقال: الأصح الثاني، وهذه الطريقة كالمركبة من الطريقتين الآخريين، ثم إذا قلنا: لا ينتظر فلو فعل هل تبطل صلاته؟ منهم من قال: فيه قولان كما لو زاد في صلاة الخوف على انتظارين، وقطع المعظم بأنها لا تبطل، وركب في "الوسيط" من القول بالبطلان، ومما تقدم ثلاثة أقوال: ¬
أحدها: أنه يستحب الانتظار. والثاني: أنه يكره. والثالث: أنه لا يجوز، وتبطل الصلاة. إذا عرفت ذلك فانظر في لفظ الكتاب. واعلم أن في لفظ "الداخل" من قوله: (وإذا أحس الإمام بداخل) ما ينبه على الشرط الأول، وهو تقييد الخلاف بانتظار من دخل المسجد، أو الموضع الذي تقام فيه الصلاة، فأما من لم يدخل بعد فلا ينتظر. وأما الشرط الثاني وهو أن يكون قصده التقرب إلى الله تعالى فليس في لفظ الكتاب تعرض له، لكن الواقف على مقاصد الكلام يفهمه من قوله: (ولا أن يميز بين داخل وداخل) كما سيأتي. وقوله: (ففي استحباب الانتظار لدرك الداخل الركوع قولان) جواب على طريقة فرض الخلاف في الاستحباب، ثم المقابل لقول الاستحباب إنما هو عدم الاستحباب، ويمكن إدراج الحاصل من باقي الاختلافات فيه بأن يقال: إذا قلنا: لا يستحب، فهل يكره؟ فيه قولان: إن قلنا: يكره فهل يبطل الصلاة؟ فيه قولان، ويجوز أنه يعلم قوله: (قولان) بالواو، لأن القاضي ابن كج حكى طريقة عن بعض الأصحاب أن موضع القولين هو الانتظار في القيام، أما في الركوع فلا ينتظر قولاً واحداً، وعلل بأن القيام موضع تطويل، والركوع ليس موضع تطويل. وأما قوله: (ولا ينبغي أن يطول) فهذا إشارة إلى أن الخلاف مفروض فيما إذا لم يطوِّل الانتظار، فأما التطويل فيجتنبه، وهذا قد ذكره الصيدلاني وغيره وهو شرط ثالث مضموم إلى الشرطين السابقين. قال إمام الحرمين: وليس المراد أصل التطويل، فإن الانتظار لا يوجد صوره إلا إذا طول وزاد على القدر المعتاد، ولكن ضبطه أن يقال: إن طول تطويلاً لو وزع على جميع الصلاة لظهر له أثر محسوس في الكل، فهذا ممنوع مه لإفراطه، وإن كان بحيث يظهر في الركوع، ولكن لا يظهر في كل الصلاة لو وزع، فهذا موضع الاختلاف، ويجوز أن يعلم قوله: (ولا ينبغي أن يطول) بالواو، لأن أبا علي قال في "الإفصاح" (¬1): إن كان الانتظار لا يضر بالمأمومين، ولا يدخل عليهم مشقة، جاز كانتظار النبي -صلى الله عليه وسلم- في حَمْلِ أُمَامَةَ، وَوَضْعِهَا فِي الصَّلاَةِ (¬2)، وإن كان ذلك مما يطول ففيه الخلاف. وقوله: (ولا أن يميز بين داخل، وداخل) المراد منه أن يعم انتظاره الداخلين، فلا ¬
يخص به بعض القوم لصداقة، أو سيادة، وإذا عم فلا يقصد استمالة قلوب الناس، والتودد إليهم، بل التقرب إلى الله تعالى كما تقدم، ويجوز الوسم بالواو هاهنا أيضاً لأمرين: أحدهما: لأن أبا سعيد المتولي حكى عن بعض الأصحاب: أنه إن عرف الداخل بعينه لم ينتظره إذ لا يخلو عن تقرب إليه، وإن لم يعرفه بعينه انتظره. والثاني: أن صاحب "البيان" حكى عن بعضهم أنه إن كان الداخل ممن يلازم الجماعة وعرفه انتظره، وإن كان غريباً لم ينتظره، وكلا الوجهين يوجب التمييز بين الداخل والداخل. الحالة الثانية: أن تكون الإمام حين أحس بالداخل في التشهد الأخير، فهل يؤخر الكلام انتظاراً له بما سبق من الشرائط؟ ذكر معظم الأصحاب أن الخلاف يطرد فيه، لأن هذا الانتظار يفيده أيضاً من حيث إنه ينال من فضيلة الجماعة، وإن لم يدرك باللحوق فيه شيئاً من الركعات، وقياس قول من يقول: إنه لا يدرك فضيلة الجماعة إلا بإدراك ركعة مع الإمام أن يكون حكم الانتظار هاهنا حكمه في القيام ونحوه. الحَالَةُ الثالثة: أن يكون في سَائِر الأركان من القيام والسجود وغيرهما، قطع الأكثرون بأنه لا ينتظره، لأنه لا فائدة للداخل في انتظاره، فإنه بسبيل من إدراك الركعة، أو فضيلة الجماعة، وإن لم ينتظره، وذلك لأنه إن كان قبل الركوع فهو بإدراك الركوع يدرك الركعة، وإن كان بعد الركوع فبإدراكه في التشهد ينال فضيلة الجماعة، وحكى إمام الحرمين عن بعضهم طرد الخلاف في سائر الأركان لإفادة الداخل بركة الجماعة، وروينا عن ابن كج أن بعضهم خصص الخلاف بحالة القيام، وحيث قلنا: لا ينتظر، فلو انتظر ففي البطلان ما سبق من الطريقين. قال الغزالي: وَمَنْ صَلَّى مُنْفَرِداً فَأَدْرَكَ جَمَاعَةً يُسْتَحَبُّ لَهُ إِعَادَتُهَا ثُمَّ يَحْتَسِبُ اللهُ تَعَالَى أَيَّهُمَا شَاءَ. قال الرافعي: من انفرد بصلاة من الصلوات الخمس، ثم أدرك: جماعة يصلونها، فالمستحب له أن يعيدها معهم؛ لينال فضيلة الجماعة، وقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صَلَّى الصُّبْحَ فَلَمَّا فَرَغَ رَأَى رَجُلَيْنِ فِي آخِرِ الْقَوْم لَمْ يُصَلَّيَا مَعَهُ، فَقَالَ عَلَيَّ بِهِمَا، فَجِيءَ بهِمَا فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا، فَقَالاَ كُنَّا صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا قَالَ: فَلاَ تَفْعَلاَ إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا، ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ" (¬1). ¬
وعند أبي حنيفة: يعيد الظهر والعشاء، ولا يعيد الصبح والعصر والمغرب، وذكر في "النهاية" أن شيخه حكى مثل ذلك وجهاً لبعض أصحابنا. ووجهه: أن الصبح والعصر يستعقبان الوقت المكروه، فلا يصلي بعدهما، والمغرب وتر النهار، فلو أعيدت لصارت شفعاً، ونقل العراقيون وجهً أنه يعيد ما سوى الصبح والعصر، وظاهر المذهب الأول والوجهان ضعيفان، وعند مالك يعيد كلها إلا المغرب، وبه قال أَحْمَدُ وفي رواية يعيد المغرب أيضاً، لكن إذا سلَّم الإمام قام إلى ركعة أخرى فجعلها شَفْعاً، وإذا وقفت على ما ذكرناه علمت أنه لم أعلم قوله: (يستحب له إعادتها) بالحاء والميم والألف والواو، ولو صلى إحدى الخمس في جماعة، ثم أدرك جماعة أخرى، فهل يعيدها معهم؟ فيه وجوه: أصحها: عند عامة الأصحاب أنه يعيد كما لو كان منفرداً؛ لإطلاق الخبر. والثاني: وهو الأصح عند الصَّيْدَلاني، وبه قال المصنف في "الوسيط": أنه لا يستحب الإعادة؛ لأن فضيلة الجماعة حَصَلَتْ، فلا معنى للإعادة بخلاف المنفرد. قال الصَّيْدَلاَنِيُّ: وعلى هذا يكره إعادة الصُّبْحِ والعصر، دون غيرهما؛ لأنهما وقتا كراهة، والصلاة المعادة تَطَوُّعٌ مَحْضٌ، على هذا الوجه قال، وعلى هذا فلو أعاد المغرب فينبغي أن يضم إليها ركعة أخرى، لأن ما أتى به تطوع محض، فليكن شفعاً، واعلم أن المعاد إن كان تطوعاً محضاً، فقياس المذهب أن تمتنع الإعادة بنية المغرب، وسائر الوظائف الخمس، ولو فعل يكون صحة التطوع على الخلاف المذكور في التطوع بنية الظهر قبل الزّوال. والوجه الثالث: أنه إن كان في الجماعة الثانية زيادة فضيلة لكون الإمام أعلم أو وأورع، أو لكون الجمع أكثر، أو لكون المكان أفضل، فيستحب الإعادة، وإلا فلا. والرابع: أنه يستحب إعادة الظهر والمغرب والعشاء، ولا يستحب إعادة الصبح والعصر، وقد سبق في المنفرد مثله، ثم إذا استحببنا الإعادة في هذه المسألة وفيما إذا صلى منفرداً فأعاد، فالفرض منهما ماذا؟ فيه قولان: الجديد- وبه قال أَبُو حَنِيفَة (7) وَأَحْمَدُ: أن الفريضة هي الأولى لما سبق من الحديث. والقديم: أن الفريضة أحدهما لا بعينها، والله تعالى يحتسب بما شاء منهما، وربما قيل: يحتسب بأكملهما، ويروى هذا القول عن "الإملاء"، وبه قَالَ مَالِكٌ. ووجه، بأنه لو كانت الثانية نفلاً على التعيين لما ندب إلى إقامتها بالجماعة، والذي ذكره في الكتاب هذا القول القديم، لكن الأكثرين قالوا بأن المذهب الجديد،
وحكي في "التتمة": أن بعض الأصحاب صار إلى أنهما جميعاً يقعان عن الفرض. وعن الشَّيْخِ أبي محمد: أن بعضهم؛ قال: فيما إذا صلى منفرداً؛ إن الفريضة هي الثانية لكمالها بالجماعة، فتبين بالآخرة أن الأولى نفل، فحاصل ما في المسألة قولان، ووجهان: التفريع إن فرعنا على غير الجديد نوى الفرض في المرة الثانية، ولو كانت الصلاة مغرباً أعادها مثل المرة الأولى، وإن فرعنا على الجديد فهل ينوي الفرض؟ فيه وجهان: قَالَ الصَّيْدَلاَنِيّ الصحيح أنه ينوي الفرضَ، وبه قال الأكثرون واستبعده إمام الحرمين، وقال: كيف ينوي الفرض مع القطع بأن الثانية ليست بفرضة (¬1)، بل الوجه أن ينوي الظُّهْرَ والعصر ولا يتعرض للفريضة، ويكون ظهره نفلاً كظهر الصَبِيِّ، وهذا ما ذكره في "الوسيط" وفيه مباحثة قدمتها في أول "صفة الصلاة" وإذا كانت الصلاة مغرباً ففيه وجهان: أظهرهما: أنه يعيدها كما فعل في المَرَّةِ الأولى (¬2). والثاني: أن المستحب أن يقوم إلى ركعة أخرى إذا سلم الإمام حق لا يصير وتره شفعاً (¬3). قال الغزالي: وَلاَ رُخْصَةَ لَهُ فِي تَرْكِ الجَمَاعَةِ إلاَّ بِعُذرٍ عَامٍّ كَالمَطَرِ وَالرِّيحِ العَاصفَةِ بِاللَّيْلِ، أَوْ عُذْرٍ خَاصٍّ مِثْلِ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا أَوْ مُمَرِّضاً أَوْ خَائِفاً مِنَ السُّلْطَانِ أَوْ مِنَ الغَرِيمِ وَهُوَ مُعْسِرٌ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ قِصاصٌ يَرْجُو العَفْوَ عَنْهُ أَوْ كَانَ حَاقِناً أَوْ جَائِعاً أَوْ عَارِياً. قال الرافعي: لا رخصة للمتدين في ترك الجماعة، سواء جعلناها سنة، أو فرض كفاية إلا إذا كان ثَمَّ عُذْر، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ سَمِعَ النِّدَاء فَلَمْ يَأْتِهِ فَلاَ صَلاةَ لَهُ إِلاَّ مِنْ عُذْرٍ" (¬4) ثم الأعذار قسمان: عامة وخاصة. ¬
فمن الأعذار العامة المطر ليلًا كان أو نهاراً، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذَا ابْتَلَّتِ النِّعَالُ فَالصَّلاَةُ فِي الرِّحَالِ" (¬1). ومنها الريح العاصفة بالليل دون النهار، روى أنه -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يَأْمُرُ مُنَادِيَهُ فِي اللَّيْلَةِ الْمطِيرَةِ، وَاللَّيْلَةِ ذَاتِ الرَّيحِ أَلاَ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ" (¬2). والمعنى فيه أن المشقة التي تلحق بها في الليل أكثر، وبعض الأصحاب يقول: الريح العاصفة في الليلة المظلمة، وليس ذلك على سبيل اشتراط الظلمة -والله أعلم-. ويتبين بما ذكرنا أن قوله: (بالليل) في نظم الكتاب يرجع إلى الريح وحدها، ولا يرجع إلى المطر المعطوف عليه، ومن الأعذار الخاصة المرض "قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الْعُذْرُ؟ في الخبر الذي سبق فقال: "خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ". ولا يشترط أن يبلغ مبلغاً يجوز القعود في الفريضة، لكن المعتبر أن تلحقه مشقة مثل ما يلقاه الماشي (¬3) في المطر، قاله في "النهاية" ومنها: أن يكون ممرضاً، وللتمريض تفصيل يذكر في "كتاب الجمعة". ومنها: أن يخاف على نفسه أو ماله أو على من يلزمه الذَّب عنه من سلطان أو غير سلطان يظلمه، أو يخاف من غريمٍ يلازمه، أو يحبسه إن رآه، وهو معسر ولا يجد وفاء لدينه فله التخلف، ولا عبرة بالخوف ممن يطالبه بحق هو ظالم في منعه، بل عليه الحضور، وتوفية ذلك الحق، ويدخل في صور الخوف على المال ما إذا كان خبره في التنور، وقدره على النَّارِ، وليس ثَمَّ من يَتَعَهَّدُهَا لو سعى إلى الجماعة. ومنها: أن يكون عليه قصاص، ولو ظفر به المستحق لقتله وكان يرجو العفو مجاناً، أو على مال لو غيب الوجه أياماً وسكن الغليل فله التخلف بذلك، وفي معناه حد القذف دون حد الزنا، وما لا يقبل العفو. قال إمام الحرمين: وفي هذا العذر إشكال عندي؛ لأن موجب القصاص من الكبائر، فكيف يستحق صاحبه التخفيف، وكيف يجوز تغييب الوجه عن المستحق. ومنها: أن يدافع أخبثيه، أو يدافع الريح بل الصلاة مكروهة في تلك الحالة، والمستحب أن يفرغ نفسه، ثم يصلي [وإن] (¬4) فاتت الجماعة فلا بأس، روي أنه -صلى الله عليه وسلم- ¬
قال: "لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُدَافِعُ الأَخْبَثَيْنِ" (¬1). وروي أيضاً: "إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَوَجَدَ أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلْيَبدَأْ بِالْغَائِطِ" (¬2). وهذا إذا كان في الوقت سعة، فإن كان يخرج الوقت لو قضى حاجته ففي "التهذيب" حكاية وجهين: أظهرهما: أنه يبدأ بالصلاة. والثاني: أنه يقضي حاجته وإن فات الوقت ثم يقضي، كما لو خاف فوت الوقت لو اشتغل بالوضوء يلزمه الوضوء، ويشبه أن يكون هذا الوجه ذهاباً من صاحبه إلى أنه لا تصح الصَّلاة إذا ضاق الأمر عليه لانسلاب الخشوع، وقد حكى إمام الحرمين الذهاب إلى البطلان عن القاضي الحسين، وصاحب "البيان" عن أبي زيد المروزي، لكن أبا سعيد المتولي جعل الخلاف في أن الأولى أن يفرغ نفسه، أو أن يصلي لا في بطلان الصلاة على المدافعة. وقوله في الكتاب: (أو كان حاقناً) يجوز أن يقرأ بالباء، ويجوز أن يقرأ بالنون فالحاقب هو الذي احتاج إلى الخلاء، فلم يتبرز حق حضر غائطه، والحاقن في البول كالحاقب في الغائط، قاله في الغريبين (¬3). ومنها: أن يكون به جوع شديد، أو عطش شديد، وقد حضر الطَّعَام والشراب ونفسه تَنُوقُ إليه فيبدأ بالأكل والشرب، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَابْدَؤُوا بِالْعَشَاءِ" (¬4). قال الأئمة: وليس المراد منه أن يستوفي ما يشبع لكن يأكل لُقماً يكسر سورة جوعه، ويؤخر الباقي إلا أن يكون الطعام مما يؤتى عليه دفعة واحدة كالسويق واللبن استثناه المحاملي وغيره، فإن خاف فوات الوقت لو اشتغل بالأكل حكى في "التتمة" (¬5) [فيه] وجهين في أن الأولى ماذا كما في مدافعة الأخبثين. ¬
ومنها: أن يكون عارياً لا لباس له (¬1) فيعذر في التخلف، سواء وجد قدر ما يستر به العورة، أو لم يجد، هذه هي الأعذار المذكورة في الكتاب، ويلتحق (¬2) بها أعذار أُخَر. فمن العامة الوحل، وسيأتي في "كتاب الجمعة" ومنها: السموم وشدة الحر في وقت الظهر فإن الإبراد بها محبوب كما سبق، فلو أقاموا الجماعة ولم يبردوا كان له أن يتخلف. ومنها: شدة البرد. قال في "التهذيب": إنها عذر، ولم يفرق بين الليل والنهار، وعلى هذا فشدة الحر في معناها، وربما يبقى العذر وإن أبردوا، ومن الأعذار الخاصة أن يريد السفر وترتحل الرفقة، فله أن يتخلف عن الجماعة ولا يتخلف عنهم. ومنها: أن يكون مُنْشِدَ ضَالَّةٍ يرجو الظفر بها لو ترك الجماعة، أو وجد من غصب ماله وأراد استرداده منه. ومنها: أن يكون قد أكل بصلاً أو كراثاً (¬3) ونحوهما ولم يمكن إزالة الرائحة بغسل، ومعالجة، فهو عذر في التخلف عن الجماعة، فإن كان مَطْبُوخاً فلا، وذلك القدر محتمل. ومنها: غلبة النوم عدها صاحب "العدة" وغيره من الأعذار. ¬
الفصل الثاني في صفات الأئمة
الفَصْلُ الثَّانِي فِي صِفَاتِ الأَئِمَّةِ قال الغزالي: وَكُلُّ مَنْ لاَ تَصِحُّ صَلاتُهُ صِحَّةً تُغْنِيهِ عَنِ القَضَاءِ فَلا يَصِحُّ الاقْتِدَاءُ بِهِ، وَمَنْ صَحَّتْ صَلاتُهُ صَحَّ الاقْتِدَاءُ بِهِ، إِلاَّ اقْتِدَاءَ القَارِيءِ بِالأُمِّيَ عَلَى القَوْلِ الجَدِيدِ، وَمَنْ لاَ يُحْسِنْ حَرفاً مِنَ الفَاتِحَةِ، وَالمَأْمُومُ يُحْسِنُهُ فَهُوَ أُمِّي فِي حَقِّهِ، وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الأُمِّيِّ بمِثْلِهِ، وَلاَ يصِحُّ اقْتِدَاءُ الرَّجُلِ بِالْمَرأَةِ وَلاَ بِالخُنْثَى وَلاَ اقْتِدَاءُ الخُنْثَى بِالْخُنْثَى، وَيصِحُّ اقْتِدَاء المَرْأَةِ بِالْخُنْثَى وَبِالرَّجُلِ. القول في صفة الأئمة: قال الرافعي: صفات الأئمة ضربان: مشروطة، ومحبوبة، وقد ضمن الفصل ما أراد إيراده. فأما المشروطة فنأتي منها بما ذكره في الكتاب، وما أهمله في تقسيم نرسمه، ونقول: الإنسان لا يخلو إما أن لا تكون صلاته صحيحة عنده، وعند المأموم معاً، وإما أن تكون صحيحة. القسم الأول: أن لا تكون صحيحة عندهما معاً فينظر إن توافق اعتقاد الإمام والمأموم على أنه لا صحة لها، ولا اعتبار كصلاة من به حدث أو جنابة، وصلاة من بثوبه نجاسة ونحو ذلك، فلا يجوز لمن علم حاله الاقتداء به؛ لأنه ليس من أهل الصَّلاَةِ، وكذلك الكافر لا يجوز الاقتداء به، وإذا صلى الكافر لم يجعل بذلك مسلماً خلافاً لأبي حنيفة، حيث جعله مسلماً بذلك في بعض الأحوال، ولأحمد حيث جعله مسلماً بكل حال، وعن القاضي أبي الطيب: أنه إذا صلى الحربي في دار الحرب حكم بإسلامه، ويحكى ذلك عن نص الشافعي -رضي الله عنه-، والمذهب المشهور هو الأول، ثم إذا لم تسمع منه كلمتا الشهادة، فإن سمعتا منه في التشهد، ففي الحكم بإسلامه ما قدمنا فيما إذا أذن (¬1)، وإن كانت صحيحة في اعتقاد الإمام دون المأموم، أو بالعكس فهذا يفرض على وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك لاختلافهما في الفروع الاجتهادية كما إذا مس الحنفي فرجه وصلى ولم يتوضأ، أو ترك الاعتدال في الركوع والسجود، أو قرأ غير الفاتحة في ¬
صلاته ففي صحة اقتداء الشافعي به وجهان: أحدهما -وبه قال القفال-: تصح؛ لأن صلاته صحيحة عنده، وخطؤه غير مقطوع به، فلعل الحق ما ذهب إليه. والثاني -وبه قال الشيخ أبو حامد-: لا تصح؛ لأن صلاة الإمام فاسدة في اعتقاد المأموم، فأشبه ما لو اختلف اجتهاد رجلين في القبلة لا يقتدي أحدهما بالآخر، وهذا أظهر عند الأكثرين، ولم يذكر الروياني في "الحلية" سواه، وبه أجاب صاحب الكتاب في "الفتاوى"، لكن بشرائط ليس من غرضنا ذكرها، ولو أن الحنفي صلى على وجه لا يعتقده صحيحاً، واقتدى الشافعي به وهو يعتقده صحيحاً انعكس الوجهان، فعلى ما ذكره القفال لا يصح الاقتداء أعتباراً بحال الإمام، وعلى ما ذكره أبو حامد يصح اعتباراً باعتقاد المأموم. وحكى أبو الحسن العبادي أن الأودني (¬1)، والحليمي قالا: إذا أمّ الوالي، أو نائبه بالنَّاسِ ولم يقرأ التسمية والمأموم يراها واجبة فصلاته خلفه صحيحة عالماً كان أو عامياً، وليس له المفارقة لما فيها من الفتنة، وهذا حسن. وقضيته: الفرق بين الإمام وخلفائه، وبين غيرهم، أما إذا حافظ الحنفي على جميع واجبات الطهارة والصلاة عند الشافعي فاقتداؤه به صحيح عند الجمهور، وعن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني أنه لا تصح؛ لأنه لا يأتي بها [على اعتقاد] (¬2) الوجوب، وعلى الأول لو شك في أنه هل أتى بها أم لا؟ فقد ذكر صاحب الكتاب في "الفتاوى" أنه يجوز الاقتداء به، كما لو علم أنه حافظ عليها، لأن الظاهر إتيانه بها إقامة لما يعتقده سنة، وتوقياً عن شبهة الخلاف. ¬
وحكى أبو الفرج البزاز عن الشيخ أبي علي أنه لا يصح الاقتداء به كما لو [عرف] أنه لم يأت بها، وحكي عن الشيخ أبي حامد الصحة، كما قاله صاحب الكتاب في "الفتاوى"، وإذا عرفت ذلك وسئلت عن اقتداء الشافعي بالحنفي مطلقاً فقل: فيه ثلاثة أوجه: ثالثها -وهو الأظهر-: الفرق بين أن يحافظ على الواجبات، وبين أن يتركها، ولك أن تضم إليها وجهاً فارقاً على ما قدمناه، ولو اقتدى الحنفي بالشافعي، وصلى الشافعي على وجه لا يراه الحنفي، كما لو اقتصد وصلى، ففيه الخلاف، وإذا جوزنا اقتداء أحدهما بالآخر فلو صلى الشافعي الصبح خلف حنفي، ومكث الحنفي بعد الركوع قليلاً وأمكنه أن يقنت فيه فعل، إلا تابعه، وهل يسجد للسهو؟ إن اعتبرنا اعتقاد المأموم: نعم فإن اعتبرنا اعتقاد الإمام فلا، ولو صلى الحنفي الصبح خلف الشافعي وترك الإمام القنوت ساهياً، وسجد للسهوِ تابعه المأموم، وإن ترك الإمام سجود السهود سجد المأموم إن اعتبرنا اعتقاد، وإلا فلا. والثاني: أن لا يكون ذلك لاختلافهما في الفروع، فلا يجوز لمن اعتقد بطلان صلاة غيره أن يقتدى به، وذلك كما إذا اجتهد اثنان فصاعداً في القبلة واختلف اجتهادهم، لم يجز لبعضهم الاقتداء ببعض؛ لأن صلاة كل واحد منهم باطلة عند أصحابه، وكذا لو اشتبه إناءإن طاهر ونجس، واختلف فيهما اجتهاد رجلين، ولو كثرت الأواني والمجتهدون واختلف اجتهادهم فحيث تعين عند المأموم بطلان صلاة الإمام امتنع الاقتداء، وحيث لا يتعين جاز الاقتداء، وفيه وجه أنه لا يجوز أيضاً، وهذا هو الكلام الجملي فيه، ونوضحه بصورتين: إحداهما: لو اشتبه ثلاثة أوان، واجتهد فيها ثلاثة، واستعمل كل واحد منهم واحداً لأداء اجتهاده إلى طهارته، فإن كان الطاهر منها واحداً لم يجز اقتداء بعضهم ببعض، وإن كان النجس منها واحداً وأراد أحدهم أن يقتدي بآخر فإن ظن طهارة إناء أحد صاحبين كما ظن طهارة إناء نفسه، فلا خلاف في جواز اقتدائه به، وامتناع اقتدائه بالثالث، وإن لم يظن إلا طهارة إناءه، ففي المسألة وجهان: قال صاحب "التلخيص": لا يجوز لواحد منهم الاقتداء بواحد من صاحبيه، لأنه يتردد في أن المحدث المستعمل للنجاسة هذا أم ذاك، وليس أحد الاحتمالين بأولى من الآخر، فيمتنع الاقتداء، كما يمتنع الاقتداء بالخنثى لتعارض احتمالي الذكورة والأنوثة، وقال ابْنُ الْحَدَّادِ -وهو الأصح-: يجوز لكل واحد منهم أن يقتدي بواحد من صاحبيه، ولا يجوز أن يقتدي بهما جميعاً في صلاتيه، أما الأول فلأنه لا يدري نجاسة إناء من يقتدي به، وبقاء حدثه، وإذا لم يعلم المأموم من حال الإمام ذلك سومح، وجوز الاقتداء على ما
سيأتي، وأما الثاني فلأنه إذا اقتدى بأحدهما تعين إناء الثالث للنجاسة فامتنع الاقتداء به، وبهذا قال أَبُو إِسْحَاقَ المروزي إلا أنه قال: لو اقتدى بهما جميعاً وجب إعادة الصلاتين؛ لأن إحداهما باطلة لا بعينها، فيلزمه قضاؤهما، وعند ابن الحداد والأكثرين: لا يجب إلا قضاء الثانية فإنه لو اقتصر على الاقتداء الأول لما كان عليه قضاء الثانية، ولو كانت الأواني خمسة، والنجس منها واحد، وظن كل واحد بعد الاجتهاد طهارة أحدهما، ولم يظن شيئاً من حال الأربعة الباقية، وأم كل واحد منهم أصحابه في واحدة من الصلوات الخمس، وبدؤوا بالصُّبْحِ فعند صاحب "التلخيص" على كل واحد منهم إعادة الصلوات الأربع التي كان مأموماً فيها، وعند ابن الحداد والأكثرين: يعيد كل واحد منهم آخر صلاة كان مأموماً فيها، ويلزم من ذلك أن يعيد كلهم العشاء إلا إمام العشاء، فإنه يعيد المغرب، وإنما أعادوا العشاء؛ لأن بزعمهم تتعين النجاسة في حق إمام العشاء، وإنما أعاد إمام العشاء المغرب؛ لأنه صحت له الصبح والظهر والعصر عند أئمتها، وهو متطهر عنده، فيتعين بزعمه النجاسة في حق إمام المغرب. وعند أبي [حنيفة] (¬1) يعيد كل واحد منهم جميع الأربع التي كان مأموماً فيها؛ لأنه اقتدى في واحدة منها بمن توضأ بماء نجس، وهي غير متعينة، فصار كما لو نسي واحدة من أربع، وحكي عن بعض الأصحاب: طريقة أخرى، وهي أن هذه الوجوه فيما إذا سمع من بين خمسة نفر صوت حدث، ونفاه كل واحد عن نفسه، وأموا على ما ذكرنا، فأما في مسألة الأواني: فكل واحد يعيد آخر صلاة كان مأموماً فيها بلا خلاف. والفرق أن الاجتهاد في الأواني جائز، فكان لك واحد اجتهد في إناءه وإناء إمامه إلى أن تعينت النجاسة في الآخر، ولا مجال للاجتهاد في مسألة الصوت، ولو كانت المسألة بحالها لكن النجس من الأواني الخمس أثنان صحت صلاة كل واحد منهم خلف اثنين، وبطلت خلف اثنين، ولو كان النجس ثلاثة صحت صلاة كل واحد منهم خلف واحد، ولو كان أربعة امتنع الاقتداء بينهم على الإطلاق. القسم الثاني: أن تكون صلاته صحيحة عنده وعند المأموم معاً، فلا يخلو؛ إما أن تصح صحة غير مغنية عن القضاء، وإما أن تصح صحة مغنية عن القضاء، فإن لم تكن مغنية عن القضاء كصلاة من لم يجد ماء ولا تراباً، فلا يجوز الاقتداء به للمتوضئ والمتيمم الذي لا يقضي؛ لأن تلك الصلاة إنما يؤتى بها لحق الوقت، وليست هي معتداً بها، فأشبهت الفاسدة، ولو اقتدى به من هو في مثل حاله ففيه وجهان للشيخ أبي محمد: ¬
أحدهما: يجوز، لأن الصلاتين متماثلتان، فيجزئ الاقتداء فيهما، ثم يقضيان. والثاني: لا؛ لأن ربط الاقتداء بما لا يعتد به كربط الاقتضاء بالصَّلاَةِ الفَاسِدَةِ، وهذا أوفق لإطلاق الأكثرين حيث منعوا الاقتداء به، ولم يفصلوا في معنى صلاة من لم يجد ماء، ولا ترابًا صلاة المقيم المتيمم لعدم الماء، وصلاة من أمكنه أن يتعلم الفاتحة، فلم يتعلم ثم صلى لحق الوقت، وصلاة العاري، وصلاة المربوط على الخشبة إذا ألزمناه الإعادة على هؤلاء، وقد سبق بيان الخلاف فيه، أما إذا صَحَّتْ الصلاة صحة مغنية عن القضاء فلا يخلو الحال، إما أن يكون المصلي مأموماً أو لا يكون، فإن كان مأموماً لم يجز الاقتداء به؛ لأنه تابع لغيره، ويلحقه سهو ذلك الغير، ومنصب الإمام يقتضي الاستقلال وتحمل سهو الغير فلا يجتمعان، ولو رأى رجلين واقفين أحدهما بجنب الآخر يصليان جماعة، وتردد في أن الإمام هذا أم ذاك لم يجز الاقتداء بواحد منهما حق يتبين له الإمام، ولو التبس على الواقفين فاعتقد كل واحد منهما أنه المأموم فصلاتهما باطلة؛ لأن كل واحد منهما مقتد بمن يقصد الائتمام، وكذلك لو كان كل واحد منهما شاكاً. لا يدري أنه إمام أو مأموم فصلاتهما باطلة، وإن اعتقد كل واحد منهما أنه إمام صحت صلاتهما، وإن شك أحدهما في حالة دون الآخر بطلت صلاة الشَّاك، وغير الشاك إن ظن أنه إمام صحت صلاته، وإن ظن أنه مأموم فَلاَ، وإن لم يكن المصلي مأموماً فلا يخلو إما أن يُخِلَّ بالقراءة أو لا يُخِلَّ، فإن أَخَلَّ بأن كان أُمِيًّا ففي صحة اقتداء القارئ به قولان: الجديد: أنه لا يصح، وبه قال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدْ؛ لأن الإمام يصدر لحمل القراءة عن المأموم بحق الإمامة بدليل المسبوق، فإذا لم يحسنها لم يصلح للتحمل. والقديم: أنه إن كانت الصَّلاَةُ سِريّةً صَح الاقتداء، وإلا فلا؛ بناء على القول القديم في أن المأموم لا يقرأ في الجهرية بل يتحمل عنه الإمام، فإذا لم يحسن القراءة لم يصلح للتحمل، وفي السرية يقرأ المأموم لنفسه، فيجزئه ذلك، هذا نقل جمهور الأصحاب، منهم الشيخ أبو حامد، والقاضي ابن كج والصيدلاني، والمسعودي، وذكر معظمهم أن أبا إسحاق خرج قولاً ثالثاً على الجديد: أن الاقتداء [به] صحيح، سواء كانت الصَّلاَةُ سريةٌ أو جهرية، لأن المأموم تلزمه القراءة في الحالتين فيجزئه ذلك، كما قال بإجزائه في السِّرِّيَّةِ في القديم، ومنهم من لم يثبت هذا القول الثالث، ومأخذ الطريقتين على ما ذكره الصيدلاني أن أصحابنا اختلفوا في نصين للشافعي -رضي الله عنه- خالف الآخر الأول هل يكون الآخر رجوعاً عن الأول أم لا؟ منهم من قال: نعم، فعلى هذا لا يأتي في الجديد إلا قول واحد أنه لا يصح اقتداء (¬1) القاري بالأمي، ومنهم ¬
من قال: لا يكون رجوعاً؛ لأنه قد ينص في موضع واحد على قولين، فيجوز أن يذكرهما متعاقبين، فعلى هذا يخرج قول آخر في الجديد كما سبق، وإذا أثبتنا القول الشاك فأبو إسحاق مسبوق به؛ لأنه قد ذهب إليه المزني، وخرجه على أصول الشافعي -رضي الله عنه- وعكس صاحب الكتاب في "الوسيط" ما ذكره الجمهور في القول الثاني، والثالث فجعل الثاني قولاً مخرجاً، والثالث منصوصه في القديم، ثم الأمي على أصلنا هو الذي لا يحسن بعض الفاتحة أو كلّها؛ لِخَرَسٍ ونحوه، ويدخل في هذا التفسير الأَرَت وهو الذي يدغم حرفًا في حرف في غير موضع الإدغام. وقال في "التهذيب": هو الذي يبدل الراء بالتاء، والألثغ: وهو الذي يبدل حرفاً بحرفٍ كالسِّين بالثَّاء، فيقول: "المثتقيم" أو الراء بالغين فيقول: "غيغ المغضوب" ويدخل الذي في لسانه رخاوة تمنع أصل التشديدات، والخلاف الذي ذكرناه في اقتداء القارئ بالأمي فيما إذا لم يطاوعه لسان، أو طاوعه لكن لم يمض عليه من الزمان ما يمكنه التَعَلُّم فيه، فإذا مضى وقَصَّرَ بترك التعلم فلا يقتدي به بلا خلاف؛ لأن صلاته حينئذ مقضية يؤتى بها لِحَقِّ الوقت كصلاة من لم يقدر على الماء والتراب، ويجوز اقتداء الأمي بأمي مثله لاستوائهما في النقصان كاقْتضاء المرأة بالمرأة، [ولو] حضر رجلان كل واحد منهما يحسن بعض الفاتحة، إن كان ما يحسنه هذا يحسنه ذاك جاز اقتداء كل واحد منهما بالآخر، وإن أحسن أحدهما غير ما يحسنه الآخر فاقتداء أحدهما بالآخر كاقتداء القارئ بالأمي، ففي الخلاف الذي سبق، وعليه يخرج اقتداء الأرث بالألثغ، وبالعكس؛ لأن كل واحد منهما قارئ ما ليس صاحبه فيه بقارئ. وتكره إمامة التمتام والفأفاء (¬1)، ويجوز الاقتداء بهما؛ لأنهما لا ينقصان شيئاً ويزيدان زيادة هما معذوران فيها، وتكره إمامة من يلحن في القراءة، ثم ننظر إن كان لحناً لا يغير المعنى ولا يبطله كرفع الحاء من الحمد لله فتجوز صلاته، وصلاة من اقتدى به، وإن كان بغير المعنى كقوله: أنعمتُ عليهم أو يبطله كقوله: بالمستقين، فإن كان يطاوعه لسانه ويمكنه التعلم فْيلزمه ذلك، فلو قَصَّر وضاق الوقت صَلَّى وقَضَى، ولا يجوز الاقتداء به، وإن لم يطاوعه لسانه أو لم يمض ما يمكن التعلم به، فإن كان في الفاتحة فصلاة مثله خلفه صحيحة، وصلاة صحيح اللسان خلفه كاقتداء القارئ بالأمي، وإن كان في غير الفاتحة صحت صلاته وصلاة من خلفه. ¬
قال إمام الحرمين: ولو قيل: ليس لهذا الذي يلحن في غير الفاتحة [أن] (¬1) يقرأ ما يلحن فيه؛ لأنه يتكلم في صلاته بما ليس من القرآن، ولا ضرورة إليه لما كان بعيداً -والله أعلم-. هذا تمام قسم الإخلال، وإن لم يخل بالقراءة فلا يخلو إما أن يكون رجلاً، أو امرأة، أو خنثى مشكل، فأما الرجل فيصح اقتداء الرجال والنساء به، وأما المرأة فيصح اقتداء النساء بها، ولا يصح اقتداء الرجل بها؛ لما روي: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَلاَ لاَ تُؤمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلاً، وَلاَ أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِراً" (¬2). ولا يجوز اقتداء الخنثى بها أيضاً؛ لجواز أن يكون رجلاً، وأما الخنثى فيجوز اقتداء المرأة به؛ لأنه إما رجل، أو امرأة، واقتداؤهما بالصنفين جائز، ولا يجوز اقتداء الرجل به؛ لاحتمال أنه امرأة، ولا أقتداء مشكل آخر؛ لاحتمال أن يكون الإمام امرأة والمأموم رجلاً، وحيث حكمنا بصحة الاقتداء فلا بأس يكون الإمام متيمماً أو ماسحاً على الخف، وكون المأموم متوضئاً أو غاسلاً، ويجوز أيضاً اقتداء السليم بسلس البول، والطاهرة بالمستحاضة التي ليست بمتحيرة في أصح الوجهين، كما يجوز الاقتداء بمن استجمر، وبمن على ثوبه أو بدنه نجاسة معفو عنها. والثاني -وبه قال أبو حنيفة-: لا يجوز؛ لأن صلاتهما صلاة ضرورة، ولا بأس بصلاة القائم خلف القاعد، خلافاً لمالك حيث قال: لا يجوز ذلك، ولأحمد حيث قال: إذا قعد الإمام قعد القوم خلفه، لنا ما روي: أنه -صلى الله عليه وسلم- "صَلَّى قَاعِداً، وأَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَالنَّاسُ خَلفَهُ قِيَامٌ" (¬3). وبجوز اقتداء القائم والقاعد بالمضطجع، خلافاً لأبي حنيفة. لنا: القياس على الصورة السابقة، فإنه سلمها: هذا آخر التقسيم، وقد تبين به الأوصاف المشروطة في الإمام. ونعود الآن إلى ما يتعلق بلفظ الكتاب. وقوله: (وكل من لا تصح صلاته صحة تغنيه عن القضاء) يدخل فيه من لا تصح صلاته أصلاً، ومن تصح صلاته صحة غير مغنية عن القضاء؛ لأن كل صلاة ليس لها نفس الصحة ليس لها الصحة الخاصة، وحكم الضربين ما ذكره. وقوله: "فلا يصح الاقتداء به" مطلق، وظاهره يقتضي أن لا يصح اقتداء من لم ¬
يجد ماء ولا تراباً بمثله، كما لا يصح اقتداء غيره به، وهو الوجه الذي ذكرنا: أنه الموافق لإطلاق الأكثرين. وقوله: "ومن صحت صلاته صح الاقتداء به" يعني: صحت صلاته الصحة المبنية في القسم الأول، وهي المغنية عن القضاء. وقوله: "إلا اقتداء القارئ" معلم بالزاي؛ لأن عند المزني هذه الصورة غير مستثناة كما سبق، ثم نظم الكتاب لا يصرح إلا باستثناء اقتداء القاريء بالأمي عن هذا الضابط، لكن اقتداء الرجل بالمرأة مستثنى عنه أيضاً، والمراد: إلا اقتداء الرجل بالمرأة، وقد حصر إمام الحرمين الاستثناء في هذين الموضعين، وضم إليهما في "الوسيط" ثالثاً، وهو: الاقتداء بالمقتدي ولك أن تقول: قولنا من صحت صلاته صح الاقتداء به، إما أن يريد به صحة اقتداء كل واحد به أو يعني صحة الاقتداء به في الجملة، فإن عنينا الأول فالاستثناء غير منحصر في الموضعين، ولا في الثلاثة؛ بل من صور الاستثناء الاقتداء بمن يتعين في زعم المأموم كونه محدثاً، وغير هذه الصورة على ما تقدم، وإن عنينا الثاني فلا حاجة إلى استثناء الأمي إذ يصح اقتداء مثله به، ولا استثناء المرأة، إذ يصح اقتداء المرأة بها. وقوله: (ومن لا يحسن حرفاً من الفاتحة، والمأموم يحسنه فهو أمي في حقه) أي فيحصل فيه الخلاف المذكور في اقتداء القارئ بالأمي. قال الغزالي: فَإنْ اقْتَدَى الرَّجُلُ بِخُنْثَى فَبَانَ بَعْدَ الْفَرَاغِ كَوْنُهُ رَجُلاً وَجَبَ القَضَاءُ عَلَى أَظْهَرِ القَوْلَيْنِ لِوُجُودِ التَّرَدُّدِ فِي نَفْسِ الصَّلاَةِ، وَلَوْ بَانَ بَعْدَ الفَرَاغِ كَوْنُهُ أُمِّيًّا أَوْ مُحْدِثاً أَوْ جُنُباً فَلاَ قَضَاءَ (ح)، وَلَوْ بَانَ كَونُهُ امْرَأَةً أَوْ كَافِراً وَجَبَ القَضَاءُ لِأَنَّ لَهُمَا عَلاَمَةً، وَلَوْ بَانَ كَوْنُهُ زِنْدِيقًا فَوَجْهَانِ. قال الرافعي: جميع ما سبق فيما إذا عرف المأموم حال الإمام في الصفات المشروطة وجوداً وعدماً، وغرض هذا الفصل الكلام فيما إذا ظن شيئاً وتبين خلافه، فمن صوره: ما لو اقتدى رجل بخنثى، وَبَانَ بعد الصلاة كونه رجلاً، وقد قدمنا أن هذا الاقتداء غير صحيح، وإذا لم يصح فلا يخفى وجوب القضاء، فلو لم يقض حتى بَانَ كون الإمام رجلاً، فهل يسقط القضاء؟ فيه قولان: أحدهما: نعم؛ لأنه قد تبين كون الإمام رجلاً. وأظهرهما: لا يسقط، لأنه كان ممنوعاً من الاقتداء به للتردد في حاله، وهذا التردد يمنع من صحة الصَّلاَةِ، وإذا لم تصح فلا بد من القضاء.
وقوله في الكتاب: (وجب القضاء على أظهر القولين) ليس المراد منه استفتاح الوجوب، وإنما المراد استمراره على ما بَيَّنَّا، ويجري القولان فيما لو اقتدى خُنْثَى بامرأة، ولم يَقْضِ الصلاة حتى بَانَ كونُه امرْأة، وفيما إذا اقتدى خنثى بخنثى، ولم يقض المأموم حق بَانَا رجلين أو امرأتين، أو بَانَ كون الإمام رجلاً (¬1) أو كون المأموم امرأة، وذكر الأئمة لهذه الصور نظائر. منها: لو باع مال أبيه على ظن أنه حي، فبَانَ أنه كان ميتاً، ففي صحة البيع قولان (¬2). ومنها: لو وكل وكيلاً بشراء شيء، وباع ذلك الشيء من إنسان على ظن أنه ما اشتراه وكيله بعد، وكان قد اشتراه ففي صحة البيع قولان. ومن مسائل الفصل: ما لو اقتدى برجل ظنه متطهراً، ثم بَانَ بعد ما صلى أنه كان جنبًا، أو محدثاً، فلا قضاء عليه خلافاً لأبي حنيفة، حيث قال: يجب، ولمالك وأحمد حيث قالا: إن كان الإمام عالماً بحدثه وأَمَّ مع ذلك وجب على المأموم القضاء، وإن لم يكن عالماً لم يجب، وحكى صاحب "التلخيص" مثل ذلك قولاً للشافعي -رضي الله عنه- منصوصاً. لنا: ما رويِ أنه -صلى الله عليه وسلم-: "دَخَلَ فِي صَلاَتِهِ، وَأَحْرَمَ النَّاسُ خَلْفَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ جُنُبٌ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ كَمَا أنْتُمُ، ثُمَّ خَرَجَ، واغْتَسَلَ، وَرَجَعَ وَرَأْسُهُ يَقْطُر مَاءٌ" (¬3) وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ. وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا صَلَّى الإمَامُ بِقَوْمٍ، وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَجْزَأَتْهُمْ وَيُعِيدُ هُوَ" (¬4). ¬
وَأَيْضاً: فإنه غير مأمور بالبحث عن حدث الإمام وطهارته؛ لأنه لا علامة للمحدث والمتطهر يعرفان بها، فليس منه تقصير في الاقتداء به، وكل مصل لنفسه ففساد صلاة الإمام لا توجب فساد صلاة المأموم، والمسألة فيما إذا لم يعرف المأموم حدثه أصلاً، فإن علم حدثه، ولم يتفرقا، ولم يتطهر، ثم اقتدى به ناسياً وجبت الإعادة، وهي مفروضة في غير الجمعة، فأما إذا اتفق ذلك في الجمعة فسيأتي الكلام في بابها. ومنها: لو اقتدى بمن ظنه قارئاً فبَانَ أنه أمي. قال في "التهذيب": تجب الإعادة على قولنا: إن الصلاة خلف الأمي لا تصح، والذي ذكره في الكتاب أنه لا قضاء عليه؛ كما لو بان جنباً، ووجهه إمام الحرمين بأن البحث عن كون الإمام قارئاً لا يجب، بل يجوز حمل الأمر على الغالب، وهو أنه لا يؤم إلا قارئ، كما يجوز حمل الأمر على أنه متطهر، فإذا بان خلاف الغالب فهو كما لو بانت الجنابة، قال: وإذا كانت الصلاة جَهْرِيَّةٌ فيظهر فيها أنه قارئ، أو أمي، فإن لم يجهر فيها فحينئذ اختلف الأصحاب في أنه هل يجب البحث، وما حكاه صاحب "التهذيب" في المسألة أقرب إلى سياق الأكثرين، ويجوز أن يفرق بينه وبين ما إذا بَانَ جنباً بأن الحدث ليس بنقص في الشخص، وهذا نقص، فصار كما لو بَانَ كون الإمام كَافِراً، أو امرأة، وأيضاً فإن الوقوف على كونه قارئاً أسهل من الوقوف على كونه متطهراً؛ لأن عروض الحدث وإن عرف أنه تطهر قريب، وصيرورته أمياً بعد ما سمعه يقرأ في غاية البعد، وأما إذا اقتدى بمن لا يعرف حالة في صلاة جهرية ثم لم يجهر فحكاية العراقيين فيه عن نصه في "الأم" أنه يلزمه الإعادة؛ لأن الظاهر أنه لو كان قارئاً لجهر، فلو سلم وقال: أسررت ونسيت الجهر لم تجب الإعادة، وتستحب. وإذا وقفت على ما ذكرنا أعلمت قوله: (فلا قضاء) بالحاء والميم والألف، وكذلك بالواو ولأمرين: أحدهما: القول الذي حكاه صاحب "التلخيص". والثاني: الخلاف الذي نقلناه في مسألة الأمي. فإن قلت: ولم قيد هذه الصور بما إذا بَانَ الحال بعد الفراغ من الصَّلاَة، وكذلك قيد ما إذا اقتدى بخنثى، وبَانَ كونه رجلاً بما بعد الفراغ، وما الحكم لو بَانَ ذلك قبل الفراغ من الصلاة. فالجواب: أما في صورة الخنثى: فالقولان جاريان في الحالتين، وحكى القاضي ابن كج القولين فيما إذا اقتدى خنثى بامرأة، ثم لم يخرج من الصلاة حتى بَانَ للمأموم
أنه أنثى، وقد سبق أن هذه الصورة وصورة الكتاب يستويان في طرد القولين، فإذاً قوله: (بعد الفراغ): في مسألة الخنثى ليس للتقييد. وأما إذا بَانَ في الصلاة كونه جنبًا، أو محدثاً، فلا قضاء أيضاً إذا أتم، ويجب أن ينوي المفارقة كما علم الحال، وكذلك الحكم فيما إذا بَانَ في الصَّلاة كونه أُمِّياً على ما ذكره في الكتاب، وإذا اقتدى بمن ظنه رَجُلاً فَبَانَ كونه امرأة وجب القضاء؛ لأن المرأة تمتاز عن الرجل بالصوت والهيئة، وسائر العلامات، فالمقتدي منتسب إلى التقصير بترك البحث، وكذلك الحكم لو بَانَ خنثى عند أكثر الأصحاب؛ لأن أمر الخنثى ينتشر في الغالب، ولا يخفى إذ النفوس مجبولة على التحديث بالأعاجيب وإشاعتها، وعن صاحب "التلخيص": أنه لا تجب الإعادة إذا بَانَ خنثى، ولو اقتدى بمن ظنه مسلماً فبَانَ كافراً ينظر إن كان كافراً يتظاهر بكفره كاليهودي والنصراني وجب القضاء لمعنيين: أحدهما: ذكره الشافعي -رضي الله عنه-: وهو أن الكافر لا يجوز أن يكون إماماً [بحال النقص فيه بخلاف الجنب فإنه لا يجوز أن يكون إماماً] (¬1) لحالة عارضة لا لصفة نقصان، وأيضاً فالجنب إذا تَيَّمَم يجوز أن يؤم مع أن حدثه باق. والثاني: ذكره الأصحاب (¬2) وهو الذي أورده في الكتاب: أن للكافر أمارات يعرف بها من الغيار وغيره، فالمقتدي مقصر بترك البحث، وإن كان كافراً يظهر الإسلام ويسر الكفر كالزنديق والدهري والمرتد الذي يخفي رِدَّتَهُ خوفًا من القتل، ففي وجوب القضاء وجهان بناهما العراقيون على المعنيين: إن قلنا بالأول وجب القضاء؛ لأنه لا يجوز أن يكون إماماً بحال النقصان فيه، وإن قلنا بالثاني: لا يجب، وهذا الثاني أصح عند صاحب "التهذيب" وجماعة (¬3). ولو اقتدى برجل ثم بَانَ أنه كان على بدنه أو ثوبه نجاسة (¬4)، فإن كانت خفيفة فهو كما لو بَانَ الحدث، وإن كانت ظاهرةً فقد قال إمام الحرمين فيه احتمال عندي، لأنه من جنس ما يخفى. ¬
وقوله في الكتاب: (ولو بَانَ كونه امرأة أو كافراً) [يعني كافراً (¬1)] لا يستسر بكفره، ومسألة الزنديق بعده توضحه، وليكن قوله: (وجب القضاء) معلماً بالزاي لأن عند المزني لا يجب القضاء لا فيما إذا بَانَ امرأة، ولا فيما إذا بَانَ كافراً. قال الغزالي: وَيصِحُّ الاقْتِدَاءُ بِالصَّبِيِّ وَالعَبْدِ وَالأعْمَى وَهُوَ أَوْلَى (ح) مِنَ البَصِيرِ؛ لِأَنَّهُ أَخْشَعُ. قال الرافعي: في الفصل صور: إحداها: الاقتداء بالصبي المميز صحيح، خلافاً لأبي حنيفة ومالك، وأحمد -رحمهم الله- حيث قالوا: لا يصح الاقتداء به في الفرض، واختلفت الرواية عنهم في النفل. لنا: ما روي أن عمرو بن سلمة: "كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ" (¬2). ولا خلاف في أن البالغ أولى منه. والثانية: الاقتداء بالعبد صحيح من غير كراهة، لكن الحر أولى منه، وعند أبي حنيفة أنه تكره إمامته. لنا ما روي أن عائشة -رضي الله عنها- كان يؤمها عَبْدٌ لَهَا لم يعتق يُكْنَى أبا عمرو. وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَلَوْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ أَجْدَعُ مَا أَقَامَ فِيكُمْ الصَّلاَةَ" (¬3). واَعلم أن الصورتين فيما إذا أَمَّا في غير الجمعة، فأما في الجمعة فسيأتي. الثالثة: إمامة الأعمى صحيحة؛ لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ يَؤُمُّ النَّاسَ" (¬4). وهل هو أولى من البصير أم كيف الحال؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها -وهو الذي ذكره في الكتاب، ويحكى عن أبي إسحاق المروزي-: أن ¬
الأعمى أولى؛ لأنه لا ينظر إلى ما يلهيه ويشغله، فيكون أبعد عن تفرق القلب، وأخشع. والثاني -وبه قال أبو حنيفة: أن البصير أولى؛ لأنه أحفظ لبدنه وثيابه عن النجاسات؛ ولأنه مستقل بنفسه في الاستقبال [وهذا] (¬1) اختيار الشيخ أبي إسحاق الشَّيرَازِي. والثالث -وهو: المنقول عن نصه في "الأم" وغيره: أْنهما سواء لتعرض المعنيين، وهذا هو المذهب عند عامة الأصحاب، ولم يورد الصيدلاني والإمام وصاحب "التهذيب" [شيئاً] (¬2) سواه. قال الغزالي: وَالأَفْقَةُ الصَّالِحُ الَّذِي يُحْسِنُ الفَاتِحَةَ أَوْلَى مِنَ الأَقْرَأ وَالأَوْرَعِ وَالأسَنِّ وَالنَّسِيبِ، وَفِي الأَسنِّ وَالنَّسِيبِ قَوْلاَنِ لِتَقَابُلِ الفَضِيلَةِ، وإذَا تَسَاوَتِ الصِّفَاتُ قُدِّمَ بِحُسْنِ الوَجْهِ وَنَظَافَةِ الثَّوبِ (¬3). قال الرافعي: ما ذكره في أول الفصل الثاني إلى هذا الموضع كلام فيمن يجوز الاقتداء به، ومن لا يجوز، ومن هاهنا إلى آخر الفصل كلام فيمن هو أولى بالإمامة إذا اجتمع قوم يصلحون لها والأصل في التقديم بالفضائل ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَأُهُمْ لِكِتَاب اللهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، وَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءَ فَأَقْدَمُهُمْ فِي الْهِجْرَةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرةِ سَوَاءً فَأكْبَرُهُمْ سِنًّا" (¬4). وقد تعرض في الكتاب لخمس خصال من أصول خصال التقديم، وهي: الفقه، والقراءة، والورع، والسِّن والنَّسَبُ، وأبدل كثير من الأصحاب الورع بالهجرة، وقالوا: صفات التقديم خمس، وجمع بينهما في "التهذيب" وضم إليهما الأربع البواقي فجعلها ستاً. أما الفقه والقراءة فالمراد منهما ظاهر. وأما الورع فليس المراد منه مجرد العدالة (¬5)، بل ما يزيد عليِه من العِفَّةِ وحُسْنِ السِّيَرةِ، وهو أيضاً بين. ¬
وأما السن فقد قال الأصحاب: المعتبر أن يمضي عليه في الإسلام فلا يقدم شيخ أسلم اليوم على شاب نشأ في الإسلام، ولا على شاب أسلم أمس، والظاهر أنه لا تعتبر الشيخوخة، وإنما النظر إلى تفاوت السِّنِّ على ما يشعر به قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فَأكْبَرهُمْ سِنًّا" وأشار بعضهم إلى أن النظر إلى الشيخوخة. وأما النسب فلا خلاف أن نسب قريش معتبر، وهل يعتبر غيره؟. قال في "النهاية" رأيت في كلام الأئمة تردداً فيه، والظاهر: أنه لا يختص بالانتساب إلى قريش، بل تراعى كل نسب يعتبر في الكفاءة في "باب النكاح"، كالانتساب إلى العلماء والصُّلَحَاءِ؛ وعلى هذا فالهاشمي والمطلبي يقدمان على سائر قريش، وسائر قريش يقدمون على غيرهم، ثم يقدم العرب على العجم، وأما الهجرة فمن هاجر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقدم على من لم يهاجر، ومن تقدمت هجرته يقدم على من تأخرت هجرته، وكذلك الهجرة بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- من دار الحرب إلى دار الإسلام (¬1) معتبرة، وأولاد من هاجر، أو تقدمت هجرته يقدمون على أولاد غيرهم، وهذا التقديم في الأولاد يندرج تحت شرف النسب، هذه مقدمة الفصل، ويتلوها مسائل: احداها: لو اجتمع عدل وفاسق، فالعدل أولى بالإمامة، وإن اختص الفاسق بزيادة الفقه والقراءة وسائر الأفضال؛ لأن الفاسق يخاف منه أن لا يحافظ على الشرائط، وفي لفظ الكتاب إشارة إلى هذا حيث قال: "والأفقه الصالح ... " إلى آخره فشرط الصَّلاَحِ في تقديم الأَفْقَه على غيره، وبالغ مالك فمنع الاقتداء بالفاسق بغير تأويل، كشارب الخمر، والزاني، وعنه روايتان في الفاسق بالتأويل، كمن يسب السَّلَفَ الصَّالِحَ. وعن أحمد روايتان في جواز الاقتداء بالفاسق مطلقاً: أصحهما: المنع، ونحن اقتصرنا على الكراهة، وجوزناه؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِر" (¬2). ويمكنك أن تستدل بكراهة الاقتداء بالفاسق على كراهة الاقتداء بالمبتدع بطريق الأولى؛ لأن فسق الفاسق يفارقه في الصَّلاة، واعتقاد المبتدع لا يفارقه، وهذا فيمن لا يكفر ببدعته، أما من يكفر فلا يجوز الاقتداء به، كما سبق، وعند صاحب "الإفصاح" من يقول بخلق القرآن (¬3)، أو بنفي شيء من صفات الله تعالى ممن ¬
يكفر، وكذلك جعل الشيخ أبو حامد ومتابعوه المعتزلة ممن يكفر، والخوارج (¬1) ممن لا يكفر، ويحكى تكفير القائل بخلق القرآن عن الشافعي -رضي الله عنه-، وأطلق كثير من الأصحاب منهم القفال القول بجواز الاقتداء بأهل البدع، وأنهم لا يكفرون، قال في "العدة": وهو ظاهر مذهب الشافعي -رضي الله عنه- (¬2) لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، وَخَلْفَ مَنْ قَالَ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ" (¬3). الثانية: قال صاحب "التهذيب" و"التتمة": الأورع أولى من الأفقه، ومن الأقرأ؛ لأن الإمامة سفارة بين الله تعالى، وبين الخلق، فأولاهم بها أكرمُهم على الله تَعَالى، ورُوِي مِثْله عن الشيخ أبي محمد، وهذا خلاف ما ذكره في الكتاب، فإنه قدم الأفقه على الأقرأ والأورع، وهو أظهر وأوفق لإطلاق الأكثرين، ووجهه ما سيأتي في تقديم الأفقه على الأقرأ. وينبغي أن يعلم لفظ (الأورع) بالواو لذلك. الثالثة: إذا اجتمع شخصان: أحدهما لا يقرأ إلا ما يكفي في الصلاة لكنه صاحب فقه كثير، والآخر يحسن القرآن كله وهو قليل الفقه فظاهر المذهب وهو المذكور في الكتاب أن الأفقه أولى خلافاً لأبي حنيفة وأحمد حيث قالا: الأقرأ أولى احتاجاً بالخبر الذي تقدم، فإنه قدم الأقرأ على الأعلم بالسُّنة وهو الأفقه. لنا أن الواجب [من القراءة] (¬4) في الصلاة محصور، والوقائع الحادثة في الصَّلاة غير محصورة، فالحاجة إلى الفِقْهِ أهَمّ، وأجاب الشافعي -رضي الله عنه- عن الاحتجاج بالخبر بأن أهل العصر الأول كانوا يتفقهون قبل أن يقرأوا، وما كان يوجد منهم قارئ إلا وهو فقيه، وإذا كان كذلك فالذي يقتضيه الخبر تقديم القارئ على الفقيه الذي ليس بقارئ، وذلك مما لا نزاع فيه، وكذلك تقديم الجامع لهما على ¬
القارئ الذي ليس بفقيه، وحكى القاضي الروياني وغيره وجهاً آخر أن الأقرأ والأفقه يستويان لتقابل الفضيلتين، فليكن قوله: (أولى من الأقرأ) معلماً بالواو مع الحاء والألف؛ وإنما قال الذي يحسن الفاتحة، إشارة إلى أن الأفقه لو لم يحسن الواجب من القراءة لا يكون أولى من الأقرأ، وإنما الأولوية بشرط أن يقرأ ما يجب. الرابعة: تقدم كل واحدة من خصلتي الفقه والقراءة على السِّنِّ والنَّسَبِ والهجرة، ونَصَّ في صلاة الجنازة على تقديم الأسن على الأفقه كما سيأتي في موضعه، فحكى صاحب "النهاية" أن العراقيين حكوا عن بعض الأصحاب جعل المسألتين على قولين نقلاً وتخريجاً، فيجوز أن يعلم بالواو لذلك لفظ: (الأسن) أيضاً، وإذا استويا فيهما فبماذا يقع التقديم، أما المتعرضون للهجرة فقد اختلفت طرقهم، قال الشيخ أبو حامد وجماعة؛ لا خلاف في تقدم السِّنِّ والنَسَبِ جميعاً على الهجرة، وفي السِّنِّ وفي النسب إذا تعارضا فاجتمع شاب قرشي وشيخ غير قرشي قولان: الجديد: أن الشيخ أولى؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ" (¬1) ولأن النسب فضيلة في الآباء، والسِّنِّ فضيلة في ذات الشخص، واعتبار الفضيلة التي في ذاته أولى. والقديم: أن الشَّاب النسيب أولى لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "قَدِّمُوا قُرَيْشاً" (¬2) ولأن شرف النسب بفضيلة اكتسبها الآباء، والسِّن مُضِيُّ زَمَانٍ لا اكتساب فيه، واعتبار الفضيلة المكتسبة أولى، وعكس صاحب "التهذيب" و"التتمة" الترتيب، فقال: الهجرة مقدمة على السِّنِّ والنسب، وفيهما القولان، وأدرج آخرون منهم صاحب "المهذب" الهجرة في حكاية القولين فقالوا في الجديد: يقدم بالسن [ثم بالنسب] (¬3)، ثم بالهجرة، ثم في "القديم" يقدم بالنسب، ثم بالهجرة، ثم بالسن، وأما صاحب الكتاب ومن لم يتعرض للهجرة اقتصروا على ذكر القولين في السِّنِّ والنَّسَبِ، وطريقتهم توافق ما ذكره الشيخ أبو حامد، فإنهم يرجحون بالهجرة بعد السن والنسب لا محالة، وإن لم يعدوها من أصول الخصال، ورَجَّحَ جماعة من الأصحاب القول القديم في المسألة على خلاف الغالب. الخامسة: إذا تساويا في جميع الصفات المذكورة؛ قدم بنظافة الثوب والبدن عن الأوساخ، وطيب الصنعة وحسن الصوت، وما أشبهها من الفضائل؛ لأنها تفضي إلى ¬
استمالة القلوب، وكثرة الجمع، وحكى الأصحاب عن بعض متقدمي العلماء أنهم قالوا: يقدم أحسنهم، واختلفوا في معناه، منهم من قال: أحسنهم وَجْهاً، وجعلوا له اعتبارًا في التقديم، ومنهم من قال: المراد منه حسن الذكر بين النَّاس، والأول هو المذكور في الكتاب، ويجوز أن يعلم بالواو، ثم ليس في لفظ الكتاب ما يوجب تقديم حسن الوجه على نظافة الثوب ولا عكسه، وفي "التتمة": أنه تقدم النظافة، ثم حسن الصوت، ثم حسن الصورة (¬1). قال الغزالي: وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ المَكَانِ فَالوَالِي أَوْلَى مِنَ المَالِكِ، وَالمَالِكُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَالمُكْتَرِي أَوْلَى مِنَ المُكْرَى، وَالمُعِيرُ أَوْلَى مِنَ المُسْتَعِيرِ (ح م)، وَالسَّيِّدُ أَوْلَى مِنَ العَبْدِ السَّاكِنِ. قال الرافعي: ما ذكرنا من الأسباب المقدمة صفات في الشَّخْصِ، وقد يكون المتقدم باعتبار اقتضاء المكان التقديم، لا باعتبار صفة فيه، فالوالي في محل ولايته أولى من غيره وإن اختص ذلك الغير بالخصال التي سبقت، ووي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يُؤَمَّنَّ الرَّجُلُ الرجُلَ فِي سُلْطَانِهِ" (¬2) وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يصلي خلف الحَجَّاج، ويتقدم على الإمام الراتب في المسجد (¬3)، وكذلك يتقدم على مالك الدَّار ونحوها إذا اجتمعوا في موضع مملوك، ورضي المالك بإقامة الجماعة فيه؛ لأن تقدم غيره بحضرته لا يليق ببذل الطاعة، فإن أذن فلا بأس، ثم يراعى في الولاة تفاوت الدرجة، فالإمام الأعظم أولى من غيره، ثم الأعلى، فالأعلى من الولاة والحكام، وحكى القاضي ابن كج وأخرون؛ قولاً آخر، أن في المواضع المملوكة المالك أولى من الوالي، فليكن قوله: (أولى من المالك) معلمً بالواو، لذلك ولو اجتمع قوم في موضع مملوك وليس فيهم الوالي، فساكن الموضع بالاستحقاق أولى بالتقديم والتقدم من الأجانب، عن ذلك الموضع، فإن لم يكن أهلا للتقدم فهو أولى بالتَّقْدِيم، روي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لاَ يَؤُمَّهُمْ إِلاَّ صَاحِبُ البَيْتِ" (¬4)، ولا فرق بين أن يكون الساكن عبدًا أسكنه سيده فيه، أو حراً مالكاً كان أو مستعيراً، أو مستأجراً، ولو كانت ¬
الفصل الثالث في شرائط القدوة
الدار مشتركة بين شخصين، وهما حاضران، أو أحدهما، والمستعير من الآخر فلا يتقدم غيرهما إلا بإذنهما، ولا أحدهما إلا بإذن الآخر، وإن لم يحضر إلا أحدهما فهو الأخرى، ولو اجتمع مالك الدار والمكتري فأيهما أولى؟ فيه وجهان نقلهما القاضي الروياني وغيره: أصحهما -وهو المذكور في الكتاب-: أن المكتري أولى؛ لأن استحقاق المنافع له، وهذا استيفاء للمنافع. والثاني: أن المكري أولى؛ لأنه المالك للرقبة، ولو اجتمع المعير والمستعير، فقد نقل عن القفال اختلاف الجواب فيه، قال مرة: المعير أولى؛ لأنه يملك الرقبة ويملك الرجوع في المنفعة، وقال مرة: المستعير أولى؛ لأنه صاحب السكنى، إلى أن يمنع وهذا ما ذكره آخراً، ورجع إليه، ولم يورد صاحب "التهذيب" سواه، لكن الأظهر، عند الأئمة الأول، وهو الذي ذكره في الكتاب، وأما إذا اجتمع السيد والعبد السَّاكن فالسيد أولى، ولا يجيء في الخلاف المذكور في المعير والمستعير؛ لأن فائدة السكون، لم ترجع إلى المستعير فيجوز أن يدام له الحق، ما لم يرجع المعير، وفائدة سكون العبد في الدَّارِ ترجع إلى السيد أيضاً؛ لأنه ملكه فإذا حضر وهو المالك والمنتفع بالسكون كان أولى؛ ولا فرق بين المأذون في التجارة وغيره، ولو حضر السيد والمكاتب في دار المكاتب فالمكاتب أولى، ولو حضر قَوْمٌ في مسجد له إمام راتب فهو أولى من غيره، فإن لم يحضر بعد، يستحب أن يبعث إليه ليحضر، فإن خيف فوات أول الوقت استحب أن يتقدم غيره. الفَصْل الثَّالِثُ في شَرَائِطِ القُدْوَةِ قال الغزالي: وَيرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى شُرُوطٍ سِتَّةٍ: الأَوَّلُ أَنْ لاَ يَتَقَدَّمَ فِي المَوْقِفِ عَلَى الإمَامِ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ تَنْعَقِدْ (م و) صَلاتُهُ، وَالأحَبُّ أَنْ يَتَخَلفَ، وَلَوْ سَاوَاهُ فَلاَ بَأَسَ، ثُمَّ إِنْ أَمَّ باثْنَيْنِ اصْطَفَّا خَلْفَهُ، وَإِنْ أَمَّ بِوَاحِدٍ وَقَفَ عَلَى يَمِينِهِ، وَالْخُنْثَى يَقِفُ خَلْفَ الرَّجُلِ، وَالمَرْأَةُ خَلْفَ الخُنْثَى، وَيُكْرَهُ أَنْ يَقِفَ المُقْتَدِي مُنْفَرِداً بَل يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ الصَّفَّ أَوْ يَجُرَّ إلَى نَفْسِهِ وَاحِداً، فَإنْ لَمْ يَفْعَل صَحَّتْ صَلاتُهُ مَعَ الكَرَاهِيَةِ، وَإِنْ تَقَابَلَ الإِمَامُ وَالمَأْمُومُ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ فَلاَ بَأسَ، وَإِنْ كَانَ المَأْمُومُ أَقْرَبَ إِلَى الجِدَارِ فِي جِهَةٍ مِنَه الإمَامِ فَفِيهِ وَجْهٌ: أنهُ لاَ يَصِحُّ.
قال الرافعي: غرض الفصل الكلام في شروط الاقتداء، ويتضمنها أمور مستحبة ويعقبها فروع: فأما الشروط فقد عدها ستة: أحدها: أن لا يتقدم المأموم على الإمام في جهة القبلة (¬1)، فإن تقدم ففيه قولان: الجديد: أن صلاته لا تنعقد، كما لو كان متقدماً عند التحرم، وتبطل لو تقدم في خلالها، وبهذا قال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: لأن المخالفة في الأفعال مبطلة على ما سيأتي، وهذه المخالفة أَفْحَشُ من المخالفة في الأفعال، وهذا هو الذي أورده في الكتاب. والقديم وبه قال مَالِكٌ: أنه لا يخل بالصلاة؛ لأنه خطأ في الموقف فأشبه الخطأ بالوقوف على اليسار. إذا عرفت حكم المتقدم عرفت أن هذا الشرط مختلف فيه، وإدراجه في الشروط جواب على الجديد، والأدب للمأموم أن يتخلف عن موقف الإمام قليلاً إذا كان واحداً، فإن أم به اثنان فصاعداً فيصطفون خلفه، ويكون بينهم وبين الإمام قدر من التخلف صالح كما سيأتي، ولو ساوى الإمام المأموم فلم يتخلف ولا تقدم صحت صلاته. قال في "النهاية" و"التهذيب" وغيرهما: والاعتبار في المساواة والتقدم بالعقب، فإن المأموم قد يكون أطول فيتقدم رأسه عند السجود، والقدم والأصابع قد تكون أطول أيضاً، فلذلك وقع الاعتبار بالعقب فإن تحاذى عقب الإمام وعقب المأموم، أو تقدم عقب الإمام جاز، وإن كانت أصابع المأموم متقدمة، ولو تقدم عقب المأموم فهو موضع القولين وإن كانت أصابعه متأخرة أو محاذية، وذكر في "التتمة" وجهاً آخر: أنه تصح صلاته نظراً إلى الأصابع، وفي "الوسيط" ذكر الكتب بدل العقب، والوجه الأول. هذا فيمن بعد عن البيت، أما إذا صلوا جماعة في المسجد الحرام، فالمستحب أن يقف الإمام خلف المقام، ويقف الناس مستدبرين بالكعبة، فإن كان بعضهم أقرب إليها، نظر إن كان متوجهاً إلى الجبهة التي توجه إليها الإمام ففيه القولان؛ القديم والجديد، وإن كان متوجهاً إلى غيرها فطريقان، عن أبي إسحاق المروزي أنه على القولين. ¬
وقال أكثر الأصحاب: يجوز قولاً واحداً؛ لأن رعاية القرب والبعد من غير جهة الإمام مما يشق، وبهذا قال أبو حنيفة، ولو وقف الإمام والمأموم داخل الكعبة، فهذه المسألة هي التي [أوردها] (¬1) في آخر الفصل، وحكمها أنه يجوز الاقتداء فيها، مع اتحاد جهة الإمام والمأموم، ومع اختلاف الجهتين، فَإِنَّ الكُلَّ قِبلةٌ، ثم إن اتحدت الجهة وَوَلَّى المأمُوم ظهره وجهَ الإمام، عاد القولان؛ لأنه أقرب إلى الجدار الذي توجها إليه، وإن اختلفت الجهة وكان المأموم أقرب إلى الجدار الذي توجه إليه من الإمام إلى ما توجه إليه، وفرعنا على الجديد فوجهان: [أحدهما] (¬2): أنه لا يجوز، كما لو اتحدت الجهة وكان أقرب. وأظهرهما: أنه يجوز؛ لأن اختلاف الجهة أعظم من تفاوت المسافة، فإذا احتملنا ذلك، فلا يبقى معه معنى النظر إلى القرب والبعد. وقوله: (فإن كان المأمومُ أقربَ إلى الجدار في جهته من الإمام) ففيه وجه: أنه يصح ما يشعر بترجيح الوجه الثاني؛ لأنه بين أنه لا بأس بتقابل الإمام والمأموم، وهذا مُطْلَق يتناول ما إذا كان المأموم أقْرَبُ إلى الجدار، وما إذا لم يكن، ثم بين أن للأصحاب وجهاً آخر في الحالة الأولى لك أن تقرأه على وجه آخر، فتقول: وإن كان المأموم أقرب وتعلقه بقوله: (فلا بأس) ثم تقول وفيه وجه أنه لا يصح. ولو وقف الإمام في الكعبة والمأموم خارجاً يجوز، وله التوجه إلى أي جهة شاء، ولو وقفا بالعكس جاز أيضاً، لكن لو توجه إلى الجهة التي توجه إليها الإمام عاد القولان؛ لأنه حينئذ يكون سابقاً على الإمام، ثم الفصل يشتمل على مسألتين سوى ما ذكرنا: إحداهما: لو لم يحضر مع الإمام إلا ذكر، فإن كان واحداً وقف على يمين الإمام، بالغاً كان أو صبياً، ولو وقف على يساره أو خلفه لم تبطل صلاته. ووَقَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَلَى يَسَارِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَدَارَه إِلَى يَمِينِهِ" (¬3). فإن جاء مأموم آخر، على يساره وأحرم، ثم إن أمكن تَقَدُّم الإمام وتأخر المأمومين لسعة المكان من الجانبين تقدم أو تأخر أو أيهما أولى؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال القفال-: أن تقدمه أولى-؛ لأنه يبصر ما بين يديه، فيعرف كيف يتقدم. ¬
وأصحهما: ولم يذكر الأكثرون سواه: أن تأخرهما أولى؛ لما روي عن جابر -رضي الله عنه- قال: "صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُمْتُ عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَامَ عَنْ يَسَارِهِ فَدَفَعَنَا جَمِيعاً حَتَّى أَقَامَنَا مِنْ خَلْفِهِ" (¬1). وإن لم يمكن إلا المتقدم أو التأخر لضيق المكان من أحد الجانبين، حافظوا على الممكن، وهذا في القيام، أما [إذا] (¬2) لحق الثَّاني في التشهد أو في السجود فلا تقدم ولا تأخر حق يقوموا، وإن حضر معه في الابتداء رجلان أو رجل وصبي قاما خلفه صفاً واحداً، وإن لم يحضر معه إلا الإناث يضفهُنَّ خلفه سواء الواحدة والأثنتان والثلاث فصاعداً، وإن حضر مع الإمام رَجُلٌ وامرأة قام الرجل عن يمينه، وقامت المرأة خلف الرجل، وإن حضرت امرأة مع رجلين، أو مع رجل وصبي قام الرجلان، أو الرجل والصبي خلف الإمام صَفاً وقامت المرأة خلفهما. روي عن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: "صَلَّيْتُ أَنَا وَيتِيمٌ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي بَيْتنَا، وَأُمُّ سُلَيْمِ خَلْفَنَا" (¬3). وإن كان معه رجل وامرأة وخنثى، وقف الرجل عن يمينة، والخنثى خلفهما لاحتمال أنه امرأة، والمرأة خلف الخنثى لاحتمال أنه رجل، وإن حضر رجال وصبيان، وقف الرجال خلف الإمام في صف، أو صفوف، والصبيان خلفهم، وعن بعض الأصحاب أنه يوقف بين كل رجلين صبياً ليتعلموا منهم أفعال الصلاة، ولو حضر معهم نساء أخر صف النساء، عن صف الصبيان، وأما النساء الخلص إذا أقمن الجماعة فقد ذكرنا أنهن كيف يقفن؟ وكل هذا استحباب، ومخالفته لا تؤثر في بطلان الصلاة بحال. وقال أبو حنيفة: إذا وقفت المرأة بجنب رجل، وهما في صلاة واحدة بطلت صلاته إذا اجتمعا في الركوع، وقبله لا يؤثر، بل لو وقفت بجنبه وتقدم بخطوة قبل أن يركع لم يضر. والمعنى بقوله: (في صلاة واحدة) أن يكونا مقتديين بأمام واحد، أو تكون مقتدية به، ثم إن كانا مقتديين بإمام واحد بطلت صلاة من وقفت بجنبه دون صلاتها، وإن اقتدت به بطلت صلاته وصلاتها، وصلاة جميع القوم. قال: فلو وقفت امرأة في خلال الصفوف بطلت صلاة رجل عن يمينها، ورجل ¬
عن يسارها، ورجل يحاذيها من خلفها، ولو كان خلف صف النساء صلت الرجال أو صفوف بطلت صلاتهم إلا إذا كان صفهم أطول من صف النساء، فيصح صلاة الخارجين عن محاذاة النِّسَاء، وتصح صلاة الصفوف الأخر خلف ذلك الصف الطويل، وساعدنا في صلاة الجنازة أنه قال: لا تبطل صلاة أحد، ولا يخفى عليك بعد التفصيل الذي ذكرناه في أداب الموقف أن قوله في الكتاب: (ثم إن أمّ باثنين اصطفا خلفه، وإن أمّ بواحد، وقف على يمينه) يعني به من الذكور، وإلا فقد يختلف الحكم. واعلم أن التفصيل المذكور في أدب وقوف الرجال مفروض فيما إذا لم يكونوا عراة، فأما العراة: فيقفون صفاً واحداً، ويقف إمامهم وسطهم، وسببه ظاهر. المسألة الثانية: إذا دخل رجل والقوم في الصلاة فيكره أن يقف منفرداً خلف الصف، بل إن وجد فرجة (¬1) أو سعة (¬2) في الصف دخل الصف، وله أن يخرق الصف الآخر إن لم يجد فرجة فيه ووجدها في صف قبله؛ لأنهم قصروا حيث لم يتموه، ولو لم يجد فرجة أو سعة في الصف فماذا (¬3) يفعل؟ حكي عن نصه في "البويطي" أنه يقف منفرداً، ولا يجذب إلى نفسه أحداً، لأنه لو جذب واحداً إلى نفسه لفوت عليه فضيلة الصف الأول، ولأوقع الخلل في الصف، وبهذا قال القاضي أبو الطيب، ونقله في "البيان" عن مالك -رضي الله عنه-. وقال أكثر الأصحاب: إنه يجر إلى نفسه واحداً؛ لما روي: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل صلى خلف الصف: "أَيُّهَا الْمُصَلِّي هَلاَّ دَخَلْتَي الصَّفِّ، أَوْ جَرَرْتَ رَجُلاً مِنَ الصَّفِّ فَيُصَلِّي مَعَكَ، أعِدْ صَلاتَكَ" (¬4) قالوا: إنما يجره بعد أن يتحرم بالصلاة، ويستحب للمجرور أن يساعده، وذلك مما يدل على أن العمل القليل لا يبطل الصلاة، والمذكور في الكتاب هذا الذي قاله الأكثرون، فإنه قال يدخل الصف، أو يجر إلى نفسه واحداً، وليكن قوله: (أو يجر) معلماً بالميم والواو لما ذكرناه، وعلى كل حال فلو وقف منفرداً، وصلى صحت صلاته خلافاً لأحمد -رضي الله عنه- لظاهر الخبر الذي نقلناه، ونحن حملناه على الاستحباب: "لِأَنَّ أَبَا بَكْرَةَ دَخَلَ، وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ¬
رَاكِعٌ فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الصَّفِّ، ثُمَّ دَخَلَ الصَّفِّ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ زَادَكَ اللهُ حِرْصًا وَلاَ تَعُدْ" (¬1) ولم يأمره بالإعادة مع أنه أتى ببعض الصلاة منفرداً خلف الصَّفِّ. ولفظ الكتاب في المسألة يشمل الداخل في أثناء صلاة، والحاضر في الابتداء، وإجراؤه على ظاهره جائز صَحِيحٌ، لكن الظاهر أنه أراد الداخل على ما ذكره في "الوسيط". قال الغزالي: الشَّرْطُ الثَّانِي الاجْتِمَاعُ فِي المَوْقِفِ بَيْنَ الإمَامِ وَالْمَأْمُومِ إِمَّا بِمَكَانٍ جَامِعٍ كَالمَسْجِدِ فَلاَ يَضُرُّ فِيهِ التَّبَاعُدُ وَاخْتِلاَفُ البِنَاءِ أَوْ بِالتَّقَارُبِ كَقَدْرِ غَلْوَةِ سَهْمٍ يُسْمَعُ فِيهَا صَوْتُ الإمَامِ فِي السَّاحَاتِ المُنْبَسِطَةِ مِلْكاً كَانَ أَوْ وَقْفاً أَوْ مَوَاتاً مَبْنِيّاً أَوْ غَيْرَ مَبنِيِّ، وَأَمَّا بِاتَّصَال مَحْسُوسٍ عِنْدَ اختِلاَفِ البِنَاءِ كَمَا إِذَا وَقَفَ فِي بَيْتٍ آخَرَ عَلَى يَمِينِ الإمَامِ فَلاَ بُدَّ مِنَ اتِّصَالِ الصَّفِّ بِتَوَاصُلِ المَنَاكِبِ، وَلَوْ وَقَفَ فِي عُلْوٍ وَالإِمَامُ فِي سُفْل فَالاتِّصَالُ بِمُوَازَاةِ رَأسِ أَحَدِهِمَا رُكْبَةَ الآخَرِ، وَإِنْ وَقَفَ فِي بَيْتٍ آخَرَ خَلْفَ الإِمَامِ فَالاتِّصَالُ بِتَلاَحُقِ الصُّفُوفِ عَلَى ثَلاَثةِ أَذْرُعٍ وَذَلِكَ كَافٍ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى ثَلاَثةِ أَذْرُعٍ لَمْ تَصِحَّ القُدْوَةُ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ فَرْعٌ لَوْ كَانَ الإمَامُ فِي المَسْجِدِ، وَالمَأْمُومُ فِي مَوَاتٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَائِلٌ صَحَّ عَلَى غلْوَةِ (¬2) سَهْمٍ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ أَوْ جِدَارٌ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ كَانَ مُشْبَكٌ أَوْ بَابٌ مَرْدُودٌ غَيْرَ مُغْلَقٍ فَوَجْهَانِ، وَلَو كَانَ بَيْنَهُمَا شَارعٌ مَطْرُوقٌ أَوْ نَهْرٌ لاَ يَخُوضُهُ إِلاَّ السَّابحُ فَوَجْهَانِ. قال الرافعي: مما يجب معرفته في الفصل أن العلم بالأفعال الظاهرة من صلاة الإمام مما لا بد منه، اتفق عليه الأصحاب، وحكوه عن نص الشافعي -رضي الله عنه-؛ ووجهوه؛ بأنه لو لم يعلمها لكانت صلاته موقوفة على صلاة من لا يتمكن من متابعته، ثم العلم قد يكون بمشاهدة الإمام، أو بمشاهدة بعض الصفوف، وقد يكون بسماع صوت الإمام، أو صوت المترجم في حق الأعمى والبصير الذي لا يشاهد لظلمة، أو غيرها، وقد يكون بهداية غيره إن كان أعمى أو كان أصم، وهو في ظلمة، وهذا في الحقيقة شرط من شروط القدوة زائد على ما ذكره في الكتاب، وحيث نحكم بجواز الاقتداء في الفصل بعد المسافة، أو قربها مع الحائل، أو دونه، فذلك بعد حصول هذا الشرط إذا عرفت ذلك فنقول: الإمام والمأموم إما أن يكونا جميعاً في ¬
المسجد، أو لا يكون واحد منهما في المسجد، أو يكون أحدهما في المسجد، والآخر خارجه، فهذه ثلاثة أقسام، ومتن الكتاب يشتمل عليها جميعاً. أما الأول: فمتى كان الإمام والمأموم في مسجد واحد صح الاقتداء، قربت المسافة بينهما أو بعدت لكبر المسجد، اتحد البناء الذي وقفا به أو اختلف كصفة المسجد وصحته، وإنما كان كذلك؛ لأن المسجد كله مبني للصَّلاة وإقامة الجماعة فيه، فالمجتمعون فيه مجتمعون لإقامة الجماعة مؤدون لشعارها، فلا يضرهم بعد المسافة، واختلف الأبنية، فلو كان أحدهما على المنارة المبنية في المسجد، والآخر في سرداب فيه صحت الصلاة، وكذا لو كان الإمام في المسجد، والمأموم على السطح يجوز إذا تأخر موقف المأموم عن موقف الإمام، أو حازاه، فإن تقدم ففيه القولان السابقان في تقدم المأموم على الإمام، وقد روي "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- صَلَّى عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ بِصَلاَةِ الإمَام فِي الْمَسْجِدِ" (¬1). ثم لا يخفى أن المسألة مفروضة فيما إذا كان السطح من المسجد، أما لو كان السَّقْفُ مملوكاً فليست المسألة من هذا القسم، وإنما هي بمثابة ملك متصل بالمسجد، وقف أحدهما فيه والبناآن من المسجد الواحد، لا بد وأن يكون باب أحدهما نافذاً إلى الثاني، إلا فلا يعدان مسجداً واحداً، وإذا كان كذلك فلا فرق بين أن يكون الباب بينهما مفتوحاً، أو مردوداً مغلقاً، أو غير مغلق، وحكي في "النهاية" وجهاً آخر: أنه لو كان الباب بينهما مغلقاً لم يجز الاقتداء؛ لأن الإمام والمأموم حينئذ لا يعدان مجتمعين، ونقل القاضي ابن كج عن أبي الحسين بن القطان مثل ذلك، فيما إذا كان أحدهما على السطح وكان باب المرقى مغلقاً، وكل واحد منها زيف ما حكاه. وقوله في الكتاب: (إما بمكان جامع) إلى أن قال: (واختلاف البناء) هذا كلام القسم الأول، وأراد بكونه جامعاً، أنه لا بد وأن يكون الإمام والمأموم مجتمعين في الموقف على ما ترجم هذا الشرط به، ومن أسباب الاجتماع أن يكون الموضع مبنياً للصلاة، فيكون جامعاً لهما وإن اختلف البناء وبعدت المسافة، ولعله لو قال: وهو المسجد بدل قوله: "كالمسجد" لكان أحسن؛ لأن الكاف للتشبيه والتمثيل ولا مكان سوى المسجد يكون جامعاً، ثم لك مباحثة في قوله: (كالمسجد) وهي أن تقول: اللفظ يشمل المسجد الواحد والمسجدين فما قولكم فيما إذا وقف هذا في مسجد وذاك في مسجد آخر متصل به أو غير متصل أيكون الحكم كالحكم فيما لو وقفنا في مسجد واحد أو لا يكون كذلك؟ وظاهر اللفظ متروك. ¬
والجواب أن أبا سعيد المتولي -رحمه الله- ذكر فيما إذا كان بين مسجدين طريق فاصل أن ظاهر المذهب أنه ليس حكمهما حكم المسجد الواحد، وفي "التهذيب": أنه لو كان بين الإمام والمأموم الواقفين في المسجد نهر إن حفر بعد بناء المسجد فالنهر مسجد أيضاً فلا يضر، وإن حفر قبله فهما مسجدان غير متصلين، فلا بد من اتصال الصف من أحدهما إلى الآخر، فأفاد ما ذكراه أن الطريق والنهر يوجبان تغاير حكم المسجد وتمايزها، وإذاكان كذلك فالجدار الحائل بين مسجدين لا ينفذ باب أحدهما إلى الآخر أولى أن يكون موجباً لتغاير الحكم، وفي كلام الشيخ أبي محمد: أنه لو كان في جوار المسجد مسجد آخر ينفرد بإمام ومؤذن وجماعة فيكون حكم كل واحد منهما بالإضافة إلى الثاني كالملك المتصل بالمسجد، وهذا كالضابط الفارق بين المسجد الواحد والمسجدين، وظاهره يقتضي تغاير الحكم إذا انفرد بالأمور المذكورة، وإن كان باب أحدهما لاَفِظاً إلى الثاني -والله أعلم- (¬1). وأما رحبة المسجد فقد عدها الأكثرون منه، ولم يذكروا فرقاً بين أن يكون بينها وبين المسجد طريق أو لا يكون، ونزلها القاضي ابن كج إذا كانت منفصلة منزلة مسجد آخر، وقوله: (واختلاف البناء) يجوز أن يعلّم بالواو؛ لأنه يشمل ما إذا كان بينهما باب مغلق وقد حكينا فيه خلافاً. القسم الثاني: أن لا يكون واحد منهما في المسجد فلهما حالتان: إحداهما: أن يكونا في فضاء واحد، ويشتمل عليها قوله: (أو بالتقارب) إلى قوله (غير مبني) وحكمها: أنه يجوز الاقتداء بشرط القرب، وهو: أن لا يزيد بين الإمام والمأموم الذي يليه على ثلاثمائة ذراع (¬2) ومم أخذ هذا التقدير؟ اختلفوا فيه، فعن ابن خيران، وابن الوكيل وبه قال الأكثرون: أنه أخذ مِنْ عُرْفِ النَّاس وعادتهم؛ لأن المكان إذا اتسع ولا حائل يعده المتباعدان ضرباً من البعد مجتمعين. وعن ابن سريج، وأبي إسحاق: "أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ صَلاَةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِذَاتِ الرِّقَاع فَإنَّهُ تَنَحَّى بطَائِفَةٍ إِلَى حَيْثُ لاَ تُصِيبُهُمْ سِهَامُ العَدُّوِّ، وَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، وانْصَرَفَتِ الطَّائِفَةُ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَهُمْ فِي الصَّلاَةِ عَلَى حُكْمِ الاقْتِدَاءِ، وَسِهَامُ الْعَرَبِ لاَ تَبْلُغُ أَكْثَرَ مِنْ الْقَدْرِ المَذْكُورِ". ¬
واعلم أن هذه الكيفية في صلاة ذات الرقاع، رواها ابن عمر -رضي الله عنهما- والذي ذكرها المصنف في صلاة الخوف غير هذه، وسنذكرها -إن شاء الله تعالى- (¬1)، ثم القدر المذكور من أي شيء أخذ معتبراً بالتقريب على أصح الوجهين لا بالتحديد، ولو وقف شخصان أو صفان خلف الإمام فالمسافة المذكورة تعتبر بين الصف الأخير وبين الصف الأول، ويجوز أن تكثر الصفوف ويبلغ ما بين الإمام والصف الأخير فرسخاً، وحكى وجهاً أنها تعتبر بين الإمام والصف الأخير إذا لم تكن الصفوف القريبة من الإمام متصلة على العادة، ولا بأس بأن يكون بين الإمام والمأموم، أو بين الصفين نهر يمكن العبور من أحد طرفيه إلى الآخر من غير سباحة، إما بالوثوب فوقه، أو المشي فيه أو على جسر ممدود على متنه وإن كان يحتاج فيه إلى السباحة، أو كان بينهما شارع مطروق فوجهان: أصحهما: أن ذلك لا يضر أيضاً، كما لو كانا في سفينتين على ما سيأتي، ولا فرق في الحكم الذي ذكرناه بين أن يكون الفضاء مواتاً كله، أو وقفاً كله، أو ملكاً كله، أو بعضه مواتاً وبعضه وقفاً أو ملكاً. قال في "النهاية": وذكر شيخي وغيره وجهاً آخر: أن في السَّاحَةِ المملوكة يشترط اتصال الصفوف، كما سيأتي بخلاف الموات؛ لأنه يشبه المسجد من حيث إنه مشترك بين المسلمين (¬2) وليس الملك كذلك، وإذا قلنا بظاهر المذهب فلا فرق بين أن تكون السَّاحة ملكاً لشخصٍ واحدٍ وبين أن تكون لشخصين، ونقل الصَّيْدَلاَنِيُّ وغيره وجهاً آخر: أنه لو وقف أحدهما في ملك زيد، والآخر في ملك عمرو يشترط اتصال الصف من أحد الملكين بالثاني. وقوله في الكتاب: (أو بالتقارب كقدر غَلْوة سهم يسمعُ فيها صوت الإمام في الساحات المنبسطة) فيه تقديم وتأخير، والمعنى: أو بالتقارب في الساحات المنبسطة كقدر غلوة السهم، ويجوز أنه يعلم قوله: (بالتقارب) بالميم؛ لأن الغرض من اعتبار القرب في السَّاحَاتِ، وأنه لا يكتفي بوقوف المأموم على حركات الإمام وانتقالاته، وقد قال إمام الحرمين: بلغت عن مالك -رضي الله عنه- أنه ذهب في الباب إلى مذهب عطاء (¬3)، واشتهر عن عطاء -رحمه الله- أنه يكتفي بالعلم بحركات الإمام في جميع الأماكن. ¬
ونقل عن مالك أنه يستثني الجمعة فلا يكتفي فيها بذلك. وقوله: (كقدر غلوة سهم) ليس للتمثيل المحض، وإنما المراد تقدير القرب كما سبق. وقوله: (يسمع فيها صوت الإمام) ليس اشتراط ذلك في الغلوة، وإنما هو إشارة إلى أن القدر المذكور يبلغ فيه صوت الإمام إذا جهر لتبليغ المأموم الجهر المعتاد في مثله، وإذا كان كذلك كانا مجتمعين متواصلين، فلذلك قدر القرب به. وقوله: (ملكاً) معلم بالواو لما تقدم. وقوله: (مبنياً أو غير مبني) أي: محوطاً أو غير محوطٍ، ويجوز أن يريد المسقف وغير المسقف، فإن الصفة الكبيرة والبيوت الواسعة داخلة في هذه. الحالة الثانية: أن لا يكون في فضاء واحد. وقوله: "وإما باتصال محسوس ... " إلى رأس الفرع كلام في هذه الحالة فنقول: إذا وقف الإمام في صحن الدار أو في صلتها والمأموم في بيت أو بالعكس، فموقف المأموم قد يكون على يمين موقف الإمام أو يساره، وقد يكون خلفه، وفيهما طريقان للأصحاب: أحدهما: أن في الصورة الأولى يشترط في جواز الاقتداء أن يكون الصف مُتَّصِلاً مِنَ الْبِنَاءِ الذي فيه الإمام إلى البناء الذي فيه المأموم، بحيث لا تبقى فرجة تسع واقفاً؛ لأن اختلاف البناء يوجب كونهما مفترقين، فلا بد من رابطة يحصل بها الاتصال، فإن بقيت فرجة لا تسع واقفاً فوجهان: أصحهما: أنه لا يضر؛ لأنه معدود صفاً واحداً، فلو كان بينهما عتبة عريضة يمكن أن يقف عليها رجل وجب أن يقف عليها واحد واثنان من جانبيها، وإن كانت بحيث لا يمكن الوقوف عليها فعلى الوجهين في الفرجة اليسيرة. وأما في الصورة الثانية ففي جواز الاقتداء وجهان: أحدهما: المنع؛ لما ذكرنا أن اختلاف البناء يوجب افتراقهما، وإنما جوزنا في اليمين واليسار؛ لأن الاحتمال المحسوس بتواصل المناكب فيه ممكن. وأظهرهما: الجواز إذا اتصلت الصفوف، وتلاحقت؛ لأن هذا هو القدر الممكن فيه، وكما تمس الحاجة إلى الاقتداء في بناء آخر على اليمين واليسار، تمس إليه في بناء آخر خَلْفَه، فيكتفي فيه بالمُمْكِن، ومعنى اتصال الصُّفُوفِ: أن يقف رجل أو صف في آخر البناء الذي فيه الإمام، ورجل أو صَفٌ في أول البناء الذي فيه المأموم، بحيث لا يكون بينهما أكثر من ثلاثة أذرع، وهذا القدر هو المشروع بين الصَّفَّيْنِ، وإذا وجد هذا
الشرط فلو كان في بناء المأموم بيت على اليمين، أو اليسار اعتبر الاتصال بتواصل المناكب، فهذه طريقة، وبها قال القفال وأصحابه، وكلام القاضي ابن كج يوافقها، وقد حكي أصلها أبو علي صاحب "الإفصاح" عن بعض الأصحاب، لكنه اختار الثانية التي نذكرها. والثالثة: أنه لا يشترط اتصال الصَّفِّ الواحد، ولا اتصال الصفوف في الصورة الثانية؛ بل المعتبر القرب والبعد على الضبط المذكور في الصحراء، وهذا إذا كان بين البنائين باب نافذ، فوقف بحذائه صف أو رجل، أو لم يكن جدارٌ أصلاً، كالصفة مع الصحن، ولو كان بينهما حائل يمنح الاستطراق دون المشاهدة [كالمشبكات فقد ذكروا فيه وجهين، وإن كان يمنع الاستطراق والمشاهدة] (¬1) جميعاً لم يجز الاقتداء باتفاق الطريقين؛ نعم، إذا صح اقتداء الواقف في البناء الآخر، إما بشرط الاتصال، أو دونه، فتصح صلاة الصفوف خلفه، وإن كان بينهم وبين البناء الذي فيه الإمام جدار تبعاً له وهم معه كالمأمومين مع الإمام، حق لا يجوز الصَّلاةِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وإن كان متأخراً عن سمت مَوْقِف الإمام إذا لم نجوز التقدم على الإمام، وهو الصحيح، وعن القاضي الحسين تفريعاً على هذا الأصل: أنه لا يجوز أن يتقدم تكبيرهم على تكبيره، وهذه الطريقة الثَّانية حكاها الشَّيخ أبو محمد عن أصحاب أبي إسحاق المروزي، وهي التي يوافقها كلام معظم أصحابنا العراقيين. ولو وقف الإمام في صحن الدًار والمأموم في مكان عالٍ من سطح، أو طرف صفة مرتفعة، أو بالعكس منه، فبماذا يحصل الاتصال؟ ذكر الشيخ أبو محمد: أنه إن كان رأس الواقف في السُّفل يحاذي ركبة الواقف في العلو جاز الاقتداء، وإن زاد عليه امتنع. وقال الأكثرون: إن حاذى رأس من في السفل قدم على من على العلو حصل الغرض، وجاز الاقتداء، قال إمام الحرمين: وهذا هو المقطوع به، ولست أرى لذكر الركبة وجهاً؛ أما اعتبار محاذاة شيء من بدن هذا شيئاً من بدن ذاك فمعقول، وإذا كان الانخفاض والارتفاع قدر ما لا يمنع القدور، فلو كان بعض الدين يحصل بهم الاتصال عند اختلاف البنائين على سرير أو متاع، وبعضهم على الأرض لم يضر، ولو كانوا في البحر والمأموم في سفينة والإمام في أخرى، وهما مكشوفتان فظاهر المذهب: أنه يصح الاقتداء إذا لم يزد ما بين الإمام والمأموم على ثلاثمائة ذراع، كما في الصَّحَرَاء، والسفينتان كدكتين في الصَّحَرَاء، يقف الإمام على إحداهما، والمأموم على الأخرى. ¬
وقال الإصطخري: يشترط أن تكون سفينة المأموم مشدودة بسفينة الإمام، ليؤمن من تقدمها عليه، وإن كانت السفينتان مسقوفتين فهما كالدارين، والسفينة التي فيها بيوت كالدار التي فيها ييوت، وحكم المدارس والخانات والرباطات حكم الدور والسرادقات في الصحراء، كالسفن المكشوفة، والخيام كالبيوت. إذا عرفت ذلك فاعلم أن قوله: (فيما إذا وقف على يمين الإمام فلا بد من تواصل المناكب). جواب: على الطريقة الأولى، وينبغي أن يعلم بالواو لمكان الثانية، وبالميم لما سبق حكايته عن مالك، وبالحاء؛ لأنه عند أبي حنيفة فيما حكى الشيخ أبو محمد وغيره: لا يشترط اتصال الصفوف. وقوله: "فيما إذا وقف أحدهما في علو، والآخر في سفل" الاتصال بموازاة رأس المتسفل ركبة العالي. جواب على ما سبق نقله عن الشيخ أبي محمد، وقد عزاه الشيخ إلى نص الشافعي -رضي الله عنه- ويجب إعلامه بالواو، لما تقدم، وزيد في بعض النسخ: "لو قدر لكل واحد منهما قامة معتدلة" وهذه إشارة إلى أنه لو كان قصيراً أو قاعداً؛ لكن لو قام فيه رجل معتدل القامة تحصل المحاذاة كفى ذلك، واعتبار القامة المعتدلة لكل واحد منهما إنما ينتظم على الوجه الناظر إلى الركبعة، فأما إذا نظرنا إلى القدم فلا يعتبر ذلك في حق العالي. وقوله: فالاتصال بهذا ليس على معنى أن كل الاتصال المطلوب يحصل بهذا القدر، وإنما المراد أن هذا لا بد منه حق لو وقف المأموم على صفة مرتفعة والإمام في الصحن، فلا بد على الطريقة المذكورة في الكتاب من وقوف رجل على طرف الصفة، ووقوف آخر في الصحن متصلاً به. وقوله: "فالاتصال بتلاحق الصفوف" يعني: أن القدر الممكن فيما إذا كان البيت خلف الإمام، هذا النوع من الاتصال وهل هو كافٍ أم لا ويمتنع الاقتداء رأساً؟ فيه الوجهان؛ والأذرع الثلاث معتبرة بالتقريب، فلو زاد شيء لا يتبين في الحس ما لم يدرع فلا بأس به. وقوله: (وإن زاد على ثلاثة أذرع لم تصح القدوة على أظهر الوجهين). الوجه الثاني: هو الطريقة الثانية التي شرحناها، وقد تعرض لها في هذه الصورة، ولم يتعرض لها فيما إذا كان البيت على يمين الإمام، فاعرف ذلك. القسم الثالث: أن يكون أحدهما في المسجد، والآخر خارجه، والفرع الباقي من
الفصل يشتمل على بعض صوره، وهو ما لو وقف الإمام في مسجد والمأموم في موات متصل به فينظر، إن لم يكن بين الإمام والمأموم حائل فلا يشترط اتصال الصف لصحة الاقتداء، ولكن يجب أن يقف في حد القرب، وهو ما دون ثلاثمائة ذراع على ما سبق في الصحراء، ومن أين تعتبر المسافة؟ فيه وجهان: أحدهما -وبه قال صاحب "التلخيص": إنها تعتبر من آخر صف في المسجد، فإن لم يكن فيه إلا الإمام فمن موقف الإمام؛ لأن الاتصال مرعي بينه وبين الإمام (لا بينه وبين المسجد). وأظهرهما: أنها معتبرة من آخر المسجد؛ لأن المسجد مبنى للصلاة، فلا يدخل في الحد الفاصل؛ ولهذا لو بَعُد موقف المأموم فيه لم يضر. وفيه وجه ثالث: أنه لو كان للمسجد حريم، والموات وراءه، فالمسافة تعتبر من الحريم، وحريم المسجد هو الموضع المتصل به المهيأ لمصلحته، كانصباب الماء إليه، وطرح الثلج والقمامات فيه. وقوله: (فإن لم يكن الحائل) يدخل فيه ما إذا لم يكن بين المسجد والموات جدار أصلاً، وما إذا كان بينهما جدار، لكن الباب النافذ بينهما مفتوح، فوقف بحذائه، والحكم في الحالتين واحد، ثم لو اتصل الصف بمن وقف في المحاذاة وخرجوا عن المحاذاة جاز، ولو لم يكن في الجدار باب نافذ، أو كان ولم يقف بحذائه؛ بل عدل عنه ففيه وجهان عن الشيخ أبي إسحاق المروزي: أنه لا يمتنع الاقتداء، فإنه من جملة أجزاء المسجد. وقال الْجُمْهُورُ: يمنع؛ لافتراقهما بسبب الحائل، والوجهان في جدار المسجد، فأما غيره فيمنع الاقتداء بلا خلاف. وقوله: (وإن كان بينهما جدار لم يصح) يجوز أن يريد بين المسجد والموات، ويجب تقييده بما إذا لم يكن بينهما باب نافذ، ويجوز أن يريد بين الإمام والمأموم، وحينئذ يجب تقييده بما إذا لم يكن باب نَافِذ، أو كان ولم يقف بحذائه أحد، وإلاَّ فالاقتداء صحيح، وعلى التقديرين فقوله: (لم يصح) معلم بالواو؛ لما نقل عن أبي إسحاق وبالميم؛ لما سبق عن مالك، ولو كان بينهما باب مردود مغلق فهو كالجدار؛ لأنه يمنع الاستطراق والمشاهدة، ولو كان غير مغلق فهو مانع من المشاهدة دون الاستطراق، ولو كان بينهما مشبك فهو مانع من الاستطراق دون المشاهدة، ففي الصورتين وجهان: أحدهما: أنه لا يمنع الاقتداء لحصول الاتصال من وجه، وهذا أصح عند إمام الحرمين.
وأظهرهما عند صاحب "التهذيب" والرُّوياني، والأكثرين: أنه يمنع لحصول الحائل من وجه، وجانب المنع أولى بالتغليب، هذا كله في الموات المتصل بالمسجد. ولو وقف في شارع متصل بالمسجد فهو كالموات، كذلك ذكره الشيخ أبو محمد. وفيه وجه [آخر] أنه يشترط اتصال الصف بين المسجد والطريق، ولو وقف في حريم المسجد فقد ذكر في "التهذيب": أنه كالموات؛ لأنه ليس بمسجد، وذكر أيضاً أن الفضاء المتصل بالمسجد لو كان مملوكًا فوقف المأموم فيه لم يجز الاقتداء به، حتى يتصل الصَّف من المسجد بالقضاء، وكذلك يشترط اتصال الصف من سطح المسجد بالسطح المملوك، وكذا لو وقف في دار مملوكة متصلة بجنب المسجد يشترط اتصال الصف بأن يقف رجل في آخر المسجد متصلاً بعتبة الدار، وآخر في الدار متصلاً بالعتبة بحيث لا يكون بينهما موقف رجل، وهذا الذي ذكره في الفضاء غير صَافٍ عن الإشكال؛ لأن حكم الفضاء المملوك والموات واحد في ظاهر المذهب كما سبق، فليكن الفضاء المملوك المُتَّصِل بالمسجد كالمَوَاتِ. وأما في الدور فالذي ذكره مثل الطريقة المذكورة في الكتاب في البنائين المملوكين، وحكى العراقيون عن أبي إسحاق: أنه إذا صلى الرجل في بيته وبينه وبين المسجد جدار المسجد صح، كما سبق في الموات. وقال أبو علي الطبري في "الإفصاح": لا يشترط اتصال الصفوف إذا لم يكن حائل، ويجوز الاقتداء إذا وقف في حد القرب. وأما قوله في الكتاب: (ولو كان بينهما شارع إلى آخره) فهذه المسألة لا تختص بما إذا وقف الإمام في المسجد، والمأموم في الموات، بل يجري فيه، وفيما إذا كان في الصحراء وغيرها ما لم يكونا في المسجد على ما تقدم، والمحكى عن مالك أنهما لا يمنعان الاقتداء، وعن أبي حنيفه وأحمد: أنهما يمنعان، وصورة الوجهين فيما إذا كان الإمام في المسجد والمأموم في الموات أن يكون النهر في الموات. أما إذا كان في المسجد فقد سبق بيانه والله أعلم. قال الغزالي: (الثَّالِثُ) نِيَّةُ الاقْتِدَاءِ فَلَوْ تَابَعَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ بَطُلَتْ صَلاتُهُ، وَلاَ يَجبُ تَعْيِينُ الإِمَامِ، ولكِنْ لَوْ عَيَّنَ فَأخْطَأ بَطُلَتْ صَلاتُهُ، وَلاَ يَجِبُ مُوَافَقَةُ نِيَّةِ الإِمَامِ وَالمَأْمُومِ بَلْ يَقْتَدِي (ح م و) فِي الفَرْضِ بِالنَّفْلِ، وَفِي الأَدَاءِ بِالقَضَاءِ وَعَكْسِهِمَا، ولاَ تَجِبُ نِيَّةُ الإِمَامَةِ عَلَى الإِمَامِ وإن اقْتَدَى (ح) بِهِ النِّسَاءُ، فَلَوْ أَخْطَأَ فِي تَعْيِينِ الْمُقْتَدِي لَمْ يَضُرَّ، لِأَنَّ أَصْلَ النَّيَّةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ.
قال الرافعي: في الفصل ثلاث مسائل: إحداها: أن من شروط الاقتداء أن ينوي المأموم الجماعة أو الاقتداء (¬1)، وإلا فلا تكون صلاته صلاة جماعة، إذ ليس للمرء من عمله إلا ما نَوَاه، وينبغي أن تكون مقرونةً بالتكبير، كسائر ما ينويه من صفات الصَّلاَة، وإذا ترك نِيَّةَ الاقتداء انعقدت صلاته منفرداً، ثم لو تابع الإمام في أفعاله فهل تبطل صلاته؟ فيه وجهان، نقلهما صاحب "التتمة" وغيره. أحدهما: لا؛ لأنه أتى بواجبات الصَّلاَة، وليس فيه إلا أنه قارن فعله فعل غيره. وأصحهما -وهو المذكور في الكتاب-: نعم: لأنه وقف صلاته على صلاة غيره، لا لاكتساب فضيلة الجماعة، وفيه ما يشغل القلب، وما يسلب الخشوع فيمنع منه، وإذا فرعنا على هذا الوجه فلو شك في نية الاقتداء في أثناء الصلاة نظر، إن تذكر قبل إن أحدث فعلاً على متابعة الإمام لم يضر، وإن تذكر بعد ما أحدث فعلاً على متابعته بطلت صلاتُه؛ لأنه في حالة الشَّكِّ في حكم المنفرد، وليس للمنفرد أن يتابعِ غيره في الأفعال، حتى لو عرض هذا الشك في التّشهد الأخير، لا يجوز أن يقف سلامه على سَلام الإمام، هكذا نقل صاحب "التهذيب" وغيره، وهو مقيس بما إذا شك في أصل النية، وقياس ما ذكره في الكتاب في تلك المسألة أن يفرق بين أن يمضي مع هذا الشك ركن لا يزاد مثله في الصلاة، وبين أن يمضي غيره ويمكنك أن تستفيد من لفظ الكتاب في المسألة فائدتان: إحداهما: أن تبحث فتقول: اللفظ مطلق يشمل صلاة الجمعة وغيرها، فهل تجب فيها نية الجماعة أيضاً جرياً على إطلاق اللفظ أم لا؟ والجواب: اْنهم حكوا فيه وجهين: أحدهما: لا؛ لأن صلاة الجمعة لا تصح إلا بالجماعة، فلا حاجة إلى التعرض لها. وأصحهما: نعم؛ لتتعلق صلاته بصلاة الإمام، فعلى هذا الأصح اللفظ مجرى على إطلاقه. ¬
الثانية: في قوله: "فلو تابع من غير نية" ما ينبه على أن الحكم بالبطلان فيما إذا انتظره ليركع عند ركوعه، ويسجد عند سجوده، فأما إذا اتفق انقضاء أفعاله مع انقضاء أفعال الإمام، ولم ينتظره فهذا لا يسمى (¬1) متابعة، وهو غير مبطل للصَّلاَةِ، ذكره في "العدة" وشيئاً آخر وهو أن الوجهين في البُطْلاَن فيما إذا طال الانتظار، فأما الانتظار اليسير فلا يؤثر، ثم لا يجب على المأموم أن يعين في نيته الإمام (¬2)، بل يكفي نية الاقتداء بالإمام الحاضر (¬3)، فإن مقصود الجماعة لا يختلف، ولو عين وأخطأ بأن نوى الاقتداء يزيد، فبان أنه عمرو بطلت صلاته، كما لو عين الميت في صلاة الجنازة وأخطأ لا تَصِحّ صلاته، ولو نوى الاقتداء بالحاضر واعتقده زيداً فكان غيره، رأى إمام الحرمين تخريجه على الوجهين فيما إذا قال: بعتك هذا الفرس، وأشار إلى الحمار. الثانية: اختلاف نية الإمام والمأموم فيما يأتيان به من الصلاة لا يمنع صحة الاقتداء؛ بل يجوز للمؤدي أن يقتدي بالقاضي، وبالعكس، وللمفترض أن يقتدي بالمتنفل وبالعكس، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: لا يجوز اقتداء المتنفل بالمفترض، وبه قال أحمد في أصح الروايتين، وكذلك مالك ويروى عنه المنع مطلقاً. واحتج الشافعي -رضي الله عنه- بما روي عن جابر -رضي الله عنه- قال: "كَانَ مُعَاذَ -رَضِيَ الله عَنْهُ- يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- الْعِشَاءَ؛ ثُمَّ يَنْطَلِقُ إِلَى قَوْمِهِ، فَيُصَلِّيهَا بِهِمْ، هِيَ لَهُ تَطَوَّعٌ وَلَهُمْ مَكتُوبَةٌ" (¬4). ¬
واحتج المزني بأنه إذا جاز النفل خلف من يصلي الفرض جاز الفرض خلف من يصلي النفل، قال الأصحاب: والجامع أنهما صلاتان متفقتان في الأفعال الظاهرة. الثالثة: لا يشترط لصحة الاقتداء أن ينوي الإمام الإمامة، سواء اقتدى به الرجال أو النساء، خلافاً لأحمد حيث اشترط ذلك، ولأبي حنيفة حيث قال: إن أمَّ نساء لا تصح صلاتهن ما لم ينو إمامتهن، وإنما قصد حجة الإسلام بقوله: وإن اقتدت به النساء التعرض لمذهبه. لنا على أحمد ما روي عن أنس -رضي الله عنه- قال: "أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُصَلِّي فَوَقَفْتُ خَلْفَهُ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ حَتَّى صِرْنَا رَهْطاً كَثِيراً، فَلَمَّا أَحَسَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بنَا أَوْجَزَ في صَلاَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا فَعَلْتُ هذَا لَكُمْ" (¬1). ويروى: أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَدْخُلُ فَيَرَى أَبَا بَكْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الصَّلاَةِ فَيَقْتَدِي بِهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَفْعَلُ مِثْلَ ذلِكَ إِذَا رَأَى عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُصَلِّي" (¬2) وعلى أبي حنيفة: القياس على ما إذا أمَّ رجلاً، وإذا لم ينو الإمام الإمامة صحت صلاته، بخلاف المأموم، فإن صلاته إنما تبطل بتوقيفه إياها على أفعال من ليس إماماً له، وهاهنا أفعال الإمام غير مربوطة بغيره، وهل تكون صلاته جماعة حتى ينال بها فضيلة الجماعة، فيه وجهان: أحدهما: نعم لتأدي شعار الجماعة (¬3) بما جرى، وإن لم يكن عن قصد منه. وأصحهما: لا، إذ ليس للمرء من عمله إلا ما نَوَى، ويقال: إن القَفَّال سُئِل عمن كان يصلي منفرداً فاقتدى به قوم وهو لا يدري، هل ينال فضيلة الجماعة فقال: الذي يجاب به على فضل الله تعالى: أنه ينالها؛ لأنهم بسببه نَالُوهَا، وهذا كالتوسط بين الوجهين، ومن فوائد الوجهين: أنه إذا لم ينو الإمامة في صلاة الجمعة هل تصح جمعته؛ والأصح أنهما لا تصح، وبه قال القاضي الحسين، وعلى هذا فقوله في الكتاب: (ولا تجب نية الإمامة على الإمام) غير مجرى على إطلاقه، بل الجمعة مستثناه عنه واعلم أن أبا الحسن العبادي حكى عن أبي حفص، وعن القفال: أنه تجب نية الإمامة على الإمام، وأشعر كلامه بأنهما يشترطانها في صحة الاقتداء، فإن كان كذلك فليكن قوله: (ولا تجب نية الإمام [على الإمام] [مع الألف] (¬4) معلماً بالواو، ولو نوى الإمام الإمامة، وعين في نيته المقتدي فبان خلافه لم يضر، لأن غلطه في النية لا يزيد ¬
على تركها أصلاً، ورأساً، ولو تركها لم يقدح على ما سبق، بخلاف ما إذا أخطأ المأموم في تعيين الإمام، فإن أصل النية واجب عليه. قال الغزالي: (الرَّابعُ) تَوَافُقُ نَظْمِ الصَّلاَتيْنِ فَلاَ يَقْتَدِي فِي الظُّهْرِ بِصَلاَةِ الجَنَازَةِ وَصَلاَةِ الخُسُوفِ وَيَقْتَدِي فِي الظُّهْرِ بِالصُّبْحِ، ثُمَّ يَقُومُ عِنْدَ سلاَمِ الإِمَامِ كَالمَسْبُوقِ، فَإِنْ اقْتَدى فِي الصُّبْحِ بِالظُّهْرِ صَحَّ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ عِنْدَ قِيَامِ الإمَامِ إِلَى الثَّالِثَةِ بَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَ أَوْ يَنْتظَرَ الإمَامَ إِلَى الآخِرِ. قال الرافعي: لو اختلف صلاتا الإمام والمأموم في الأفعال الظاهرة، كما لو اقتدى في فريضة بمن يصلي الجنازة، أو الخسوف هل يجوز؟ فيه وجهان: أصحهما -وهو المذكور في الكتاب-: أنه لا يجوز لتعذر المتابعة مع المخالفة في الأفعال. والثاني -ويحكى عن القفال-: أنه يجوز؛ لأن المقصود من الاقتداء اكتساب الفضيلة، وكل يراعي واجبات صلاته، فعلى هذا إذا اقتدى بمن يصلي الجنازة لا يتابعه في التكبيرات والأذكار بينها؟ بل إذا كبر الإمام الثانية، يخير بين أن يخرج نفسه عن المتابعة، وبين أن ينتظر سلام الإمام، وإذا اقتدى بمن يصلي صلاة الخسوف يتابعه في الركوع الأول، ثم إن شاء رفع رأسه معه [وفارقه] (¬1) وإن شاء انتظره. قال إمام الحرمين: وإنما ينتظره في الركوع إلى أن يعود إليه الإمام (ثم يعتدل معه عن الركوع الثاني، ولا ينتظره بعد الرفع؟ لما فيه من تطويل الركن القصير، وإن اتفقت الصلاتان في الأفعال نظر إن توافقت عدد الركعات كالاقتداء في الظهر بالعصر أو بالعشاء جاز وإن كان عدد ركعات الإمام أقل، كما لو اقتدى في الظهر بالصبح جاز أيضاً؛ لأن متابعة الإمام فيما يأتي به متيسرة، ثم إذا تمت صلاة الإمام قام المأموم وأتم صلاته، كما يفعله المسبوق، وبتابع الإمام القنوت كما لو أدرك الإمام في الصُّبْحِ في الركعة الثانية يتابعه في القنوت، ولو أراد أن يفارقه إذا اشتغل بالقنوت فله ذلك، ولو اقتدى في الظهر بالمغرب، فإذا أنتهى الإمام إلى الجلسة الأخيرة يخير المأموم بين المتابعة والمفارقة، كما في القنوت، وإن كان عدد ركعات الإمام أكثر كالاقتداء في الصبح بالظهر، ففي المسألة طريقان: أحدهما: وهو المذكور في الكتاب أن فيها قولين: ¬
أحدهما: أنه لا يصح الاقتداء؛ لأنه يحتاج إلى الخروج عن صلاة الإمام قبل فراغه، بخلاف ما إذا كانت صلاته أطول، فإنه لا يفارق الإمام ما دام في صلاته. وأصحهما: أنه يصح كما في الصورة السابقة، والجامع أنهما صلاتان متفقتان في النَّظْمِ، والطريق الثاني القطع بهذا القول الثاني. قال في "التهذيب"، وهو الأصح-: وإذا فرعنا عليه فإذا قام الإمام إلى الركعة الثالثة فهو بالخيار، إن شاء فارقه وسلّم، وإن شاء انتظره حتى يسلم معه، وإن أمكنه أن يقنت في الركعة الثانية فإن وقف الإمام يسيراً فذاك، وإلا تركه ولا شيء عليه وله أن يخرج عن متابعته ويقنت، ولو اقتدى في المغرب بالظهر، فإذا قام الإمام إلى الرابعة لم يتابعه المأموم، بل يجلس للتشهد ويفارقه، فإذا تشهد سلم، وهل له أن ينتظره؟. قال في "النهاية": ظاهر المذهب أنه ليس له ذلك، لأنه أحدث تشهداً لم يفعله الإمام بخلاف الصورة السابقة، فإنه وافق الإمام في تشهده ثم استدامه، ومنهم من أطلق وجوب الانتظار في الصورتين، ولو صلَّى العشاء خلف من يصلي التراويح جاز، كما في اقتداء الظهر بالصبح، وقد نقله الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- عن فعل عطاء بن أبي رباح -رضي الله عنه-، ثم إذا سلم الإمام قام إلى باقي صلاته، والأولى أن يتم منفرداً، فلو قام الإمام إلى ركعتين أخريين من التراويح فاقتدى به مرة أخرى هل يجوز؟ فيه القولان اللذان نذكرهما فيمن أحرم منفرداً بالصلاة؟ ثم اقتدى في أثنائها. وقوله في الكتاب: (توافق نظم الصلاتين) أراد في الأفعال والأركان لا في عدد الركعات، على ما تبين، وصلاة العيدين والاستسقاء كصلاة الخسوف والجنازة أم لا؟ اختلف الأصحاب فيه. وقوله: (يقتدى في الظهر بالصبح) معلم بالحاء والميم والألف، وكذا قوله: (صح) في المسألة التي بعدها؛ لأنه لا بد وأن يكون أحدهما قضاء، وهم يمنعون من الاقتداء في انقضاء بالأداء، وبالعكس كما سبق، وقوله: (على أحد القولين): معلم بالواو للطريق الأخرى، وفي نسخ "الوسيط" ذكر وجهين بدل القولين، والأول أشهر، ولا يخفى أن قوله: (ثم يتخير) تفريع على صحة الاقتداء. قال الغزالي: (الخَامِسُ) المُوَافَقَةُ وَهُوَ أَنْ لاَ يَشْتَغِلَ بِمَا تَرَكَهُ الإمَامُ مِنْ سُجُودِ التَّلاَوَةِ أَوْ التَّشَهُّدِ الأَوَّلِ، وَلاَ بَأسَ بِانْفِرَادِهِ بِجَلْسَةِ الاسْتِرَاحَةِ وَالقُنُوتِ إِنْ لَحِقَ الإمَامَ فِي السُّجُودِ. قال الرافعي: إذا ترك الإمام شيئاً من أفعال الصلاة نظر، إن كان فرضاً كما إذا قام في موضع القعود، أو بالعَكْس، ولم يرجع بعد ما سَبَّحَ به المأموم، فليس للمأموم أن
يتابعه؛ لأنه إما عامداً فصلاته باطله أو ساهٍ فذلك الفعل غير معدود من الصَّلاَةِ وإن لم يكن مبطلاً، وإنما يتابعه في أفعال الصَّلاَةِ، لا في غيرها وإن ترك سنة نظر، إن كان في الاشتغال بها تخلف فاحش، كسجود التلاوة والتشهد الأول، فلا يأتي بهما المأموم قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ" (¬1) ولو اشتغل بهما بطلت صلاته؛ لعدوله من فرض المتابعة إلى السُّنة، ويخرج عن هذا جود السَّهْوِ، يأتي به وإن تركه الإمام؛ لأنه يفعله بعد خروج الإمام من الصلاة فلا مخالفة، وكذا يسلم التسليمة الثَّانية إذا تركها الإمام، وإن لم يكن فيه إلا تخلف يسير كجلسة الاستراحة فلا بأس بانفراده بها كما لا بأس بزيادتها في غير موضعها، وكذلك لا بأس بانفراده بالقنوت إذا لحقه على القرب. وقوله: (إن لحق الإمام في السجود) يعني في السجدة الأولى، فأما إذا كان اللحوق في الثانية فيكثر التخلف وسيأتي بيان التخلف المبطل في الفصل التَّالي لِهَذَا. قال الغزالي: (السَّادِسُ) المُتَابَعَةُ فلَا يَتَقَدَّمُهُ وَلاَ بَأْسَ بِالمُسَاوَقَةِ إِلاَّ فِي التَّكْبِيرِ فَإِنَّهُ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأخِيرِ، وَالأَحَبُّ التَّخَلُّفُ فِي الكُلِّ مَعَ سُرْعَةِ اللُّحُوقِ، فَإِنْ تَخَلَّفَ بِرُكْن لَمْ يَبْطُلْ وَإنْ تَخَلَّفَ بِرُكْنَيْنِ مِنْ غيرِ عُذرِ بَطُلَ (ز). وَالأَصَحُّ بِأنَّه إِذَا رَكَعَ قَبْل أَنْ يَبْتَدِئَ الإِمَامُ الهَوِيَّ إلَى السُّجُودِ لَمْ تَبْطُلْ، وَإِنْ ابْتَدَأَ الهُوِيَّ لَمْ تَبْطُلْ أَيْضًا عَلَى وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الاعتِدَالَ لَيْسَ رُكْناً مَقْصُودًا، فَإِنْ لاَبَسَ الإِمَامُ السُّجُودَ قَبْلَ رُكُوعِهِ بَطُلَ، وَالتَّقَدُّمُ كَالتَّخَلُّفِ، وَقِيلَ: يَبْطُلُ وإنْ كَانَ بِرُكْنٍ وَاحِدٍ. قال الرافعي: يجب على المأموم أن يتابع الإمام، ولا يتقدم عليه في الأفعال؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تَبَادِرُوا الإمَامَ، إِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وإذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وإذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا" (¬2). وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَالْإمَامُ سَاجِدٌ أَنْ يُحَوِّلَ اللهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ" (¬3) والمراد من المتابعة أن يجري على أثر الإمام، بحيث يكون ابتداؤه بكل واحدٍ منها متأخراً، عن ابتداء الإمام، ومتقدمًا على فراغه. روي عن البراء بن عازب قال: "كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَإِذَا قَالَ: سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهرُهُ، حَتَّى يَضَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- جَبْهَتَهُ عَلَى الْأَرْضِ" (¬4) فلو خالف ¬
وترك المتابعة على التفسير المذكور لم يخل إما أن يساوق فعله فعل الإمام، وإما أن يتخلف عنه، أو يتقدم عليه. الحالة الأولى: أن يساوق فعله فعل الإمام، أما التكبير فالمساوقة فيه تمنع انعقاد صلاة المأموم، خلافاً لأبي حنيفة. لنا ظاهر قوله: "فَإذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا"، ويخالف الركوع وسائر الأركان، حيث تحتمل المساوقة فيها؛ لأن الإمام حينئذ في الصَّلاَةِ فينتظم الاقْتِدَاء به ولو شَكَّ في أن تكبيره هل وقع مساوقاً لم تنعقد صلاته أيضاً، ولو ظن أنه لاحق فبان خلافه فلا صلاة له، ويشترط تأخير جميع التكبير عن جميع تكبيرات الإمام، ويستحب للإمام أن لا يكبر حتى تستوي الصفوف، ويأمرهم بذلك مُتَلَفِّتًا يَمِيناً وشمالاً، وإذا فرغ المؤذن من الإقامة قَام النَّاسَ واشتغلوا بتسوية الصُّفوف. وقال أبو حنيفة: يشتغلون به عند قوله: حَيَّ على الصَّلاة، وأما ما عدا التكبير، فغير السَّلام يجوز فيه المساوقة، وفي السَّلام وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز فيه المساوقة اعتباراً للتحلل بالتحرم. والثاني: يجوز كسائر الأركان، وذكر بعضهم أن الوجهين مبنيان على أن نية الخروج هل تشترط؟ إن قلنا: نعم، فالسَّلام كالتكبير وإن قلنا: لا، فهو كسائر الأركان، والأصح من الوجهين أن المساوقة لا تضر، وهو المذكور في الكتاب. وقوله: (لا بأس بالمساوقة إلا في التكبير) معلم بالواو؛ للوجه الصائر إلى إلحاق السلام بالتكبير، وليس المراد من قوله: (لا بأس) التسويغ المطلق، فإن صاحب "التهذيب" وغيره ذكروا أنه يكره الإتيان بالأفعال مع الإمام، وتفوت به فضيلة الجماعة، وإنما المراد: أنها لا تفسد الصلاة. وقوله: (فإنه لا بد فيه من التأخير) معلم بالحاء. وقوله: (والأحب التخلف في الكل مع سرعة اللحوق) المراد منه ما ذكرنا في تفسير المتابعة. الحالة الثانية: أن يتخلف عن الإمام، وذلك إما أن يكون بغير عذر، أو بعذر، فإن تخلف من غير عُذْرٍ نظر، إن تخلف بركن واحد فقد حكى صاحب "النهاية" فيه وجهين: أحدهما: أنه مبطل للصَّلاةِ؛ لما فيه من مخالفة الإمام. وأظهرهما -وهو المذكور في الكتاب-: أنه غير مُبْطِلٍ. واحتج له بعضهم بما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تُبَادِرُوني بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَمَهْمَا أسْبِقكُمْ بِهِ إِذَا رَكَعْتُ تُدْرِكُونِي
إِذَا رَفَعتُ، وَمَهْمَا أَسْبِقكُمْ بِهِ حِينَ سَجَدْتُ تُدرِكُونِي حِينَ رَفَعْتُ" (1). وإن تخلف بركنين بطلت صلاته؛ لكثرة المخالفة. ومن صور التخلف بغير عذر: أن يركع الإمام وهو في قراءة السورة بعد الفاتحة، فيشتغل بإتمامها، وكذا التخلف للاشتغال بتسبيحات الركوع والسجود، ومن المهمات في هذا المقام البحث عن شيئين: أحدهما: معنى التخلف بالركن والركنين. والثاني: أن الحكم هل يعم جميع الأركان أم يفرق بين ركن وركن. واعلم أن في قوله: (والأصح [أنه] (2) إذا ركع ...) إلى آخره تعرضاً لهما جميعاً، فنشرحه ونقول: من أركان [الصلاة] (3) ما هو قصير، ومنها ما هو طويل، أما القصير فالاعتدال عن الركوع، وكذا الجلوس بين السجدتين على الأظهر كما تقدَّم، وأما الطَّويل فما عداهما، وما هو طويل فهو مقصود في نفسه، والقصير هل هو مقصود في نفسه؟ أشار في "النهاية" إلى ترددٍ فيه لِلأصْحَابِ، فَمِنْ قَائِلٍ: نعم كالطويل، وَمِنْ قَائِلٍ: لا، فإن الغرض منه الفَصْل، فهو إذا تابع لغيره، وهذا ما ذكره في "التهذيب"، ثم نقول بعد هذه المقدمة: إذا ركع الإمام قبل المأموم ثم ركع المأموم، وأدركه في ركوعه، فليس هذا تخلفاً بركن، ولا تبطل به الصلاة وفاقاً لأنه لحق الإمامَ قبل تمام الرُّكنِ الذي سبقه به. ولو اعتدل الإمام والمأموم بعد قائم، فهل تبطل صلاته؟ فيه وجهان: واختلفوا في مأخذهما [فقيل: مأخذهما] (4) التردّد في أن الاعتدال هَلْ هُوَ مقصودٌ أم لا؟ إن قلنا: نعم، فقد فارق الإمام ركناً، واشتغل بركن آخر مقصود؛ فتبطل صلاة المتخلف، وإن قلنا: إنه ليس بمقصود، فهو كما لو لم يفرغ من الركوع، لأن الذي فيه تبع له، فلا تبطل صلاته وقيل: إن مأخذهما الوجهان اللذان سبقا في أن التخلف بركن واحد، هل يبطل أم لا؟ إن قلنا: نعم فقد تخلف بركن الركوع تاماً فتبطل صلاته، وإن قلنا: لا، فما دام في الاعتدال لم يكن الركن الثاني تاماً، فلا تبطل صلاته، وإذا هوى إلى السجود، ولم يَنْتَهِ إليه والمأموم بعد قائم، فعلى المأخذ الأول لا تبطل صلاته؛ لأنه يشرع في ركن مقصود، وعلى المأخذ الثاني تبطل، لأن ركن الاعتدال قد تم، هكذا ذكره إمام الحرمين، والمصنف في "الوسيط"، وقياسه. أن يقال: إذا ارتفع عن حد
الركوع، والمأموم بعد في القيام فقد حصل التخلف بركن واحد، وإن لم يعتدل حتى تبطل الصلاة عند من يجعل المتقدم بركن واحد مبطلاً. أما إذا انتهى الإمام إلى السجود، والمأموم في قيامه بطلت صلاته وفاقاً. واعرف بعد هذا أمرين: أحدهما: أنا إن اكتفينا بابتداء الهَوِيّ عند الاعتدال، وابتداء الارتفاع عند حد الركوع، فالتخلف بركنين هو أن يتم للإمام ركنين، والمأموم بعد فيما قبلهما، وبركن واحدٍ هو أن يتم الإمام الركن الذي سبق إليه، والمأموم فيما قبله، وإن لم يكتف بذلك فللتخلف شرط آخر وهو أن لا يلابس مع تمامهما أو تمامه ركناً آخر، فحصل خلاف في تفسير التخلف كما ترى. والثاني: أن قوله: (وإن تخلف بركن لم تبطل) ينبغي أن يعلم بالواو؛ لما سبق نقله من الوجهين، وإيراد صاحب "التهذيب" يشعر بترجيح وجه البطلان، فيما إذا تخلف بركنٍ كاملٍ مقصود، ويصرح بترجيح عدم البطلان، فيما إذا تخلف بركن غير مقصود، كما إذا استمر في الركوع حتى اعتدل الإمام وسجد. وقوله: (وإن تخلف بركنين من غير عذر بطل) يبين أن التخلف بالعذر بخلافه، وإن لم يذكر حكمه في الكتاب. وقوله: (فيما إذا ركع المأموم قبل أن يبتدئ الإمام بالهوي إلى السجود: أن الأصح عدم البطلان، ليس بناء على المأخذ الأول، وهو أن الاعتدال غير مقصود؛ لأن الأكثرين سووا بينه وبين سائر الأركان، والإمام استبعد التردد فيه، ومال إلى الجزم بكونه مقصوداً، والمصنف يساعده في الأكثر، ويوضحه أنه أطلق البطلان في التخلف بركنين، ولم يفرق بين ركن وركن، فإذا هو بناء على المأخذ الثاني، ويصير إلى أن التخلف بالركنين إنما يحصل إذا شرع في ركن ثالث فاعرف ذلك. وقوله: (فإن ابتدأ بالهوي لم تبطل أيضاً على وجه) إشارة إلى المأخذ الأول، ولم يذكر هاهنا أن الأصح عدم البطلان؛ بل في سياق الكلام ما يشعر بأنه لا يرتضيه، هذا تمام الكلام فيما إذا تخلف بغير عذر. وأما العذر. فأنواع: منها: الخوف، وسنذكره في صلاة الخوف. ومنها: أن يكون المأموم بطيء القراءة (¬1)، والإمام سريعها، فيركع قبل أن يتم المأموم الفاتحة، ففيه وجهان: ¬
أحدهما: أنه يتابعه ويسقط عنه الباقي، فعلى هذا لو اشتغل بإتمامها كان متخلفاً بغير عذر. وأصحهما: وهو الذي ذكره صاحب "التهذيب"، وإبراهيم المروزي: أنه لا يسقط، وعليه أن يتمها، ويسعى خلف الإمام على نظم صلاته ما لم يسبقه بأكثر من ثلاثة أركان مقصودة، فإن زاد على ثلاثة أركان فوجهان: أحدهما: أنه يخرج عن متابعته؛ لتعذر الموافقة. وأظهرهما: أن له أن يدوم على متابعته وعلى هذا فوجهان: أحدهما: أنه يراعي نظم صلاته، ويجري على إثره، وهو معذور، وبهذا أفتى القفال. وأظهرهما: أنه يوافقه فيما هو فيه، ثم يقضي ما فاته بعد سلام الإمام، وهذان الوجهان كالقولين في مسألة الزحام. ومنها أخذ التقدير بثلاثة أركان مقصود، فإنه إنما يَحْصُل القولان في تلك المسألة إذا ركع الإمام في الثانية، وقبل ذلك لا يوافقه، وإنما يكون التخلف قبله بالسَّجْدَتَيْنِ والقِيَام، ولم يعتبر الجُلوس بين السَّجدتين على مذهب من يقول: إنه غير مقصود، ولا يجعل التخلف بغير المقصود مؤثراً، وأما من لا يفرق بين المقصود وغير المقصود أو يفرق ويجعل الجلوس مقصوداً؛ لأنه ركن طويل، وهو المرضي عند صاحب الكتاب، والقياس على أصله، التقدير بأربعة أركان أخذاً من مسألة الزِّحَامِ. ولو اشتغل المأموم بدعاء الاستفتاح، ولم يتم الفاتحة لذلك، وركع الإمام فيتم الفاتحة كما في بطيء القراءة، وهو معذور في التخلف، ذكره في "التهذيب"، وكل هذا في المأموم الموافق، فأما المسبوق إذا أدرك الإمام في القيام، وخاف ركوعه فينبغي أن لا يقرأ دعاء الاستفتاح؛ بل يبادر إلى قراءة الفاتحة، فإن الاهتمام بشأن الفرض أولى، ثم إن ركع الإمام في أثناء الفاتحة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يسقط عنه ما بقي من الفاتحة، ويركع معه. والثاني: أن يتم الفاتحة؛ لأنه أدرك القيام الذي هو محلها. والثالث -وبه قال أبو زيد، وهو الأصح عند القفال والمعتبرين-: بأنه إن لم يقرأ شيئاً من دعاء الاستفتاح يقطع القراءة ويركع معه، ويكون مدركاً للركعة؛ لأنه لم يدرك إلا ما يقرأ فيه بعض الفاتحة، فلا يلزمه فوق ذلك كما إنه إذا لم يدرك شيئاً من القيام لا يلزمه شيء من الفاتحة، وإن قرأ شيئاً من دعاء الاستفتاح لزمه بقدره من الفاتحة لتقصيره بالعدول من الفريضة إلى غيرها.
فإن قلنا: عليه إتمام الفاتحة فتخلّفه ليقرأ تخلف بالعُذر (¬1)، ولو لم يتم ورَكَعَ مع الإمام بَطَلَتْ صَلاتُه. وإن قلنا: إنه يركع فلو اشتغل بقراءة البَقِيَّة، كان هذا تَخَلُّفاً بِغَيْرِ عُذْرٍ، فإن سبقه الإمام بالركوع وقرأ هذا المسبوق الفاتحة، ثم لحقه في الاعتدال، فلا يكون مُدْرِكاً للركعة، وأصح الوجهين أنه لا تبطل صلاته، إذا فرعنا على أن التقدم بركن واحدٍ لا يبطل كما في حق غير المسبوق. والثاني: تبطل؛ لأنه ترك متابعة الإمام، فيما فاتت به الركعة، وكانت بمثابة السبق بركعة. ومنها: الزحام، وسيأتي في الجمعة. ومنها: النسيان، فلو ركع مع الإمام، ثم تذكر أنه نسي الفاتحة، أو شك في قراءتها، فلا يجوز أن يعود؛ لأنه فات محل القراءة، فإذا سلم الإمام قام، وتدارك ما فاته، ولو تذكر أو شَكَّ بعد ما رَكَعَ الإمامُ، وهو لم يركع بعد، لم تسقط القراءة بالنِّسيان، وماذا يفعل؟ فيه وجهان منقولان في "التهذيب": أحدهما: أنه يركع معه، فإذا سلم الإمام قام وقضى الركعة. والثاني: أنه يتمها أولاً، وهذا أشبه وبه أفتى القفال، وعلى هذا فتخلفه ليقرأ تَخَلُّفُ مَعْذُورٍ أم لا؟ فيه وجهان حكاهما صاحب "التتمة". وأظهرهما: أنه تَخَلُّفُ مَعْذُورٍ. والثاني: لا لتقصيره بالنسيان. الحالة الثالثة: أن يتقدم على الإمام إما في الركوع والسجود وغيرهما من الأفعال الظاهرة، فينظر: إن كان لم يسبق بركن كامل لم تبطل صلاته؛ لأنه مخالفة يسيرة. مثاله: ما إذا ركع قبل الإمام ولم يرفع حتى ركع الإمام، وعن بعض الأصحاب أنه تبطل إذا تعمد، وحكاه الإمام عن الشيخ أبي محمد، ووجهه أن التقدم يناقض ¬
الاقتداء بخلاف التخلف، وعلى الصحيح لو فعل ذلك عمداً لم يجز أن يعود، ولو عاد بطلت صلاتُه؛ لأنه زادَ ركناً، هكذا ذكره صاحب "النهاية" و"التهذيب" وحكى العراقيون على النَّصِّ أنه يستحب أن يعود إلى موافقته وركع معه، وقد مر ذكر هذه المسألة، ولو فعله سهواً فوجهان: أحدهما: أنه يجب العود، ولو لم يعد بطلت صلاته. وأظهرهما: أنه لا يجب، وإنما هو بالخيار، إن شاء عاد وإلا فلا، وإن سبق الإمام بركنين فصاعداً بطلت صلاته، إن كان عامداً عالماً بأنه لا يجوز؛ لتفاحش المخالفة، وإن كان ساهياً أو جاهلاً لم تبطُل، لكن لا يُعْتَد بتلك الرَّكْعَة فيتداركها بعد سَلاَمِ الإمام، والتقدم بركنين لا يخفى قياسه، مما مر في التخلف (¬1)، ومثَّل أئمتنا العراقيون ذلك بما إذا ركع قبل الإمام، فلما أراد الإمام أن يركع رفع، فلما أراد أن يرفع سجد، فلم يجتمع معه في الركوع ولا في الاعتدال، وهذا يخالف ذلك القياس، فيجوز أن يقدر مثله في التخلف، ويجوز أن يخصص ذلك بالتقدم؛ لأن المخالفة فيه أفحش، وإن سبقه بركن واحد، كما إذا ركع قبل الإمام ورفع رأسه، والإمام في القيام، ثم وقف حق رفع الإمام، واجتمعا في الاعتدال فالذي ذَكَرَه الصيدلاني وقوم: أنه تبطل صلاته؛ لتعمد المخالفة، وبعد هذه المخالفة عما يناسب حال المقتدي. قالوا وهذا في التقدم بالركن المقصود، فأما إذا سبق الاعتدال بأن اعتدل وسجد والإمام بعد في الركوع، أو سبق بالجلوس بين السجدتين، كما إذا رفع رأسه عن السجدة الأولى وجلس وسجد الثَّانية، والإمام بعد في الأولى فوجهان كما ذكرناهما في حالة التَّخَلُّفِ. وقال أصحابنا العراقيون وأخرون: إن التقدم بركن واحد لا يبطل الصَّلاة؛ لأنه مخالفة يسيرة فهي بمثابة التخلف، وهذا أظهر وأشهر، ويحكى عن نَصِّ الشافعي -رضي الله عنه-، هذا في الأفعال الظاهرة، وأما التكبير فالسبق به غير محتمل على ما قدمناه. وأما قراءة الفاتحة وفي معناها التشهد، فالسبق بها على الإمام غير مبطل، وإن ¬
قلنا إن السَّبْقَ بتمام الركوع مُبْطِلٌ لأنه لا تظهر به المخالفة، وفي "التتمة" حكاية وجه ضعيف أنه يبطل كالركوع، وعلى هنا المذهب هل تقع محسوبة أو يجب إعادتها مع قراءة الإمام أو بعدها؟ فيه وجهان: أظهرهما: أنها تقع محسوبة. إذا عرفت ما ذكرناه ونظرت في قوله: (والتقدم كالتخلف) سبق إلى فهمك أنه جواب على ما ذكره العراقيون، وحكوه عن النَّصِّ وهو أن التقدم بركن واحد لم يبطل، وهذا هو الذي أورده في التخلف، وحمل قوله: (وقيل: إنه يبطل، وإن كان بركن واحد) على ما رواه الصيدلاني، وغيره هذا تنزيل صحيح لكنه نقل الوجه الثاني، في "الوسيط" عن الشيخ أبي محمد، وليس في "النهاية" تعرض لذلك، والمشهور عنه (¬1) ما قدمناه أن المبادرة إلى الركن مبطلة (¬2)، أن لم يسبق بتمامه، فإن لم يثبت عن الشيخ إلاَّ ذا وإن كان القول به قولاً بالبطلان عند السبق بتمام الركن فإن كان المراد ما اشتهر عن الشيخ فالتقدم في لفظ الكتاب، وفي "الوسيط" محمول على المبادرة إلى الركن، من غير أن يسبق بتمام -والله أعلم-. قال الغزالي: فُرُوعٌ المَسْبُوقُ يَنْبَغِي أَنْ يُكَبِّر لِلْعَقْدِ ثُمَّ لِلْهَويَ، فَإنْ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدٍ جَازَ، إِلاَّ إِذَا قَصَدَ بِهِ الهَوِيَّ، فَإِنْ أَطْلَقَ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ لِتَعَارِضُ القَرِينَةِ. قال الرافعي: المسبوق إذا أدرك الإمام في الركوع يكبر للافتتاح، وليس له أن يشتغل بقراءة الفاتحة، بل يهوي للركوع ويُكَبِّرُ له تكبيرةً أخرى؛ وكذلك الحكم لو أدركه قائماً فكبر، وركع الإمام كما كَبَّر، ولو اقتصر على تكبيرة واحدة، فلا يخلو من إحدى أحوال أربع: الأول: أن ينوي بها تكبيرة الافتتاح فتصح صلاته؛ لأن تكبيرة الركوع سُنَّة، ويشترط وقوعها في حال القيام كما تقدم. الثاني: وأن ينوي بها تكبيرة الركوع، فلا تصح. الثالث: وأن ينوي بهما جميعاً، فظاهر المذهب أنها لا تصح أيضاً؛ لأنه يشرك بين الفرض وغيره، الذي لو اقتصر على قصد الفرض لم يحصل به ذلك الغير، فأشبه ما لو تحرم بفريضة ونافلة، ويخالف ما إذا اغتسل للجنابة والجمعة ونظائره. وفيه وجه أن صلاته تنعقد نفلاً، نقله القاضي ابن كج عن حكاية أبي حامد القَاضِي. ¬
والرابعة: أن لا ينوي هذا ولا ذاك بل يطلق التكبيرة. قال بعض الأصحاب: تنعقد صَلاتُه؛ لأن قرينة الافتتاح تصرفها إليه، والظاهر أنه لا يقصد الهَوِيّ ما لم يتحرم، وحكى أصحابنا العراقيون عن نصه في: "الأم": أنها لا تنعقد؛ لأن قرينة الهَوِيّ تصرفها إليه، وإذا تعارضَتِ القرينتان فلا بُدَّ من قَصْدٍ صَارِفٍ، وإلا فَهِي بمثابة ما لو قصد التشريك بينهما، ومَيْلَ إمام الحرمين إلى الوجه الأول، وظاهر المذهب عند الجمهور الثاني. وقوله في الكتاب: (جاز إلا إذا قصد به الهَوِيَّ) ليس العصر للاستثناء فيه، بل قوله: (فإن أطلق) في معنى المستثنى، وكأنه قال: وإلا إذا أطلق نعم، هذا مختلف فيه وذاك متفق عليه، ثم لا بد من استثناء الحالة الثالثة أيضاً، وإن لم يتعرض لها، والمراد من التردد الذي أطلقه القول المنصوص، والوجه المقابل له. وقوله: (لتعارض القرينة) يجوز أن يكون إشارةً إلى توجيه الخلاف، ويجوز أن يكون علة لعدم الانعقاد، أي: إذا تعارضتَا فلا بُدَّ من قصدٍ مُخَصَّصٍ. قال الغزالي: وَلَوْ نَوَى قَطْعَ القُدْوَةِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ فَفِي بُطْلاَنِ صَلاَتِهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ يُفَرِّقُ الثَّالِثُ بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغيْرَ الْمَعْذُورِ، وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ إِذَا أَحْدَثَ الإِمامُ لَمْ تَبْطُلْ (ح) صَلاةُ الْمَأْمُومِ. قال الرافعي: إذا أخرج المأموم نفسه عن متابعة الإمام، ففي بطلان صلاته قولان: أحدهما: أنها تبطل لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ" (¬1). وأيضاً فإنه التزم بالاقتداء، وانعقدت صلاته على حكم المتابعة، فكيف بها. والثاني: لا تبطل؛ لما روي "أَنَّ مُعَاذًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَمَّ قَوْمَهُ لَيْلَةً فِي صَلاَةِ الْعِشَاءِ بَعْدَ مَا صَلاَّهَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَافْتَتَحَ سُوَرَةَ الْبَقَرَةِ فَتَنَحَّى مِنْ خَلْفِهِ رَجُلٌ، وَصَلَّى وَحْدَهُ فَقِيلَ لَهُ: نَافَقْتَ ثُمَّ ذَكَرَ ذلِكَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ أَخَّرْتَ الْعِشَاءَ، وَإِنَّ مُعَاذاً صَلَّى مَعَكَ، ثُمَّ أَمَّنَا وافْتَتَح سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَإِنَّمَا نَحْنُ أَصْحَابُ نَوَاضِح، نَعْمَل بِأَيْدِينَا فَلَمَّا رَأَيْتُ ذلِكَ تَأَخَّرْتُ، وَصَلَّيْتُ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَفُتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ اقرَأ سُورَةَ كَذَا وَكَذَا، وَلَمْ يَأْمُرِ الرَّجُلَ بِالإعَادَةِ" (¬2). ¬
وأيضاً فإن الجماعة سُّنة، والتطوعات لا تلزم بالشروع، وهذا أصح القولين. وعن الإصطخري أنه قطع به، ولم يثبت في المسألة قولين، والأشهر إثباتهما، ثم اختلفوا في محلها على طرق. أصحها: أن القولين فيمن خرج عن متابعة الإمام بغير عذر، فأما المعذور فيجوز له الخروج بلا خلاف، "وَلهذَا فَارَقَتِ الْفِرْقَةُ الأُولَى رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في صَلاَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، بَعْدَ مَا صَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً" (¬1). قال إمام الحرمين: والأعذار كثيرة والأقرب المعتبر فيها أن يقال: كل ما يجوز ترك الجماعة به ابتداء يجوز ترك الجماعة به بعد الشروع فيها، وألحقوا بها ما إذا ترك الإمام سُنَّة مقصودةٌ كالتشهد الأول، والقنوت وما إذا لم يصبر على طول القراءة لضعف، أو شغل، وعن الشيخ أبي حامد: ما ينازع في هذا الأخير؛ لأنه حكي في "البيان" عنه أنه جعل انفراد الرجل عن معاذ انفراداً بغير عذر. والطريق الثاني: أن القولين فيما إذا خرج بغير عذر، فأما غير المعذور لو خرج بطلت صلاتُه قولاً واحداً. والثالث: أن القولين في الكُلُّ، ويحكى أنه اختيار الحليمي، ونظم الكتاب يوافق هذه الطريقة؛ لأنه جمع بين الحالتين، وأطلق ثلاثة أقوال، وإنما ينتظم ذلك عند من يثبت الخلاف في الحالتين، وإذا كان كذلك فيجوز أن يعلم قوله: (ثلاثة أقوال) بالواو؛ للطريقة الأولى والثانية، فإن كل واحدة منهما لا يثبت الخلاف إلا في حالة؛ ولما نقل عن الإصطخري فإنه نفى الخلاف فيهما. وعند أبي حنيفة: تبطل صلاته بالمخالفة سواء كان بعذر أو بغير عذر، وعند أحمد: يجوز بالعُذْرِ، ولا يجوز بغير عُذْر في أَصَّحِّ الروايتين. وقوله: (وعلى كل قول ...) إلى آخره فالغرض منه بيان أن الخلاف فيما إذا قطع المأموم القدوة والإمام في صلاته، فأما إذا انقطعت القدوة لحدث الإمام فليس هذا موضع الخلاف، ولا تبطل صلاة المأموم بحال؛ لأنه لم يحدث شيئاً. وقوله: (لم تبطل صلاة المأموم) معلم بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة: لو تعمد الحدث بطلت صلاة المأمومين، وكذا لو سبقه الحدث ولم يستخلف. قال الغزالي: وَالمُنْفَرِدُ إِذَا اقْتَدَى فِي أَثْنَاءِ صَلاَتِهِ لَمْ يَجُزْ فِي الجَدِيدِ. ¬
قال الرافعي: لو أقيمت الجماعة وهو في الصلاة منفرداً نظر، إن كان في فريضة الوقت فقد قال الشافعي -رضي الله عنه- في "المختصر": أحببت أن يكمل ركعتين، ويسلم ويكونان له نافلة، ويبتدي بالصلاة مع الإمام. ومعناه؛ أن يقطع نِيَّةَ الفريضة وَيقْلِبُهَا نَفْلاً، وفيه وفي نظائره خلاف قدمناه في مسائل النية في "باب صفة الصَّلاَة" ثم ما ذكره فيما إذا كانت الصلاة ثلاثية أو رباعية ولم يكمل بعد ركعتين، فأما إذا كانت ذات ركعتين أو أكثر وقد قام إلى الثالثة فيتمها ثم يدخل في الجماعة، وإن كان في فائتة فقد قال القاضي الحسين -رحمه الله-: لا يستحب أن يقتصر على ركعتين، ليصلي تلك الصلاة بالجماعة، لأن الفائتة لا تشرع لها الجماعة بخلاف ما لو شرع في الفائتة في يوم غَيْم فانكشف الغيم، وخاف فوات الحاضرة يسلم عن ركعتين، ويشتغل بالحاضرة؛ لأن مراعاة الوقت أولى من مراعاة الجماعة، وإن كان في نافلة وأقيمت الجماعة فإن لم يخش فوتها أتمها، وإن خشيه قطعها ودخل في الجماعة، فأما إذا لم يسلم عن الصَّلاة التي أحرم بها منفرداً واقتدى في خلالها ففيه طريقان: أصحهما: أن فيه قولين: أحدهما: لا يجوز وتبطل صلاتُه، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وكذلك أحمد في أصح الروايتين؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تَخْتَلِفُوا عَلَى إِمَامِكُمْ". وهذا يقضي إلى الاختلاف، وأيضاً قال: "فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا" أمر المأموم بأن يكبر إذا كَبَّر الإمام، وهذا كَبَّر قبله. وأصحهما: أنه يجوز، وبه قال المُزني؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "صَلَّى بِأَصْحَابِهِ، ثُمَّ تَذَكَّرَ فِي صَلاَتِهِ أَنَّهُ جُنُبٌ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ: كَمَا أَنْتُمْ، وَخَرَجَ وَاغْتَسَلَ وَعَادَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ وَتَحَرَّمَ بِهِمْ" (¬1). ومعلوم أنهم أنشأوا اقتداءً جديداً إذ تبين أن الأول لم يكن صحيحاً، وأيضاً فإنه يجوز أن يصلي بعض الصلاة منفرداً ثم يقتدي به جماعةً فيصير إماماً، وكذلك يجوز أن يصير مأموماً بعد ما كان منفرداً. والطريق الثاني: القطع بالمنع، حكى الطريقين الشيخان أبو محمد، والصيدلاني، وغيرهما، والمشهور إثبات القولين، ثم اختلفوا في محلهما على طرق: أحدها -وبه قال القاضي أبو حامد-: أن القولين فيما إذا لم يركع المنفرد بعد في ¬
صلاته، فأما بعده فلا يجوز الاقتداء قولاً واحداً؛ لأنه يخالف الإمام في الترتيب وموضع القيام والقعود، فلا تَتَأتَى المتابعة. وثانيهما: أن القولين فيما إذا اقتدى بعد الركوع، فأما قبله فيجوز قولاً واحداً، وبه قال أبو إسحاق واختاره القاضي أبو الطيب. وأصحهما: أن القولين يطردان في الحالتين، وحكي في "التهذيب" طريقة الفرق بعبارة أخرى، فقال: منهم من قال: والقولان فيما إذا اتفقا في الرَّكْعَةِ، فإن اختلفا وكان الإمام في ركعة، والمأموم في أخرى متقدماً، أو متأخراً لا يجوز، وهذا هو الوفاء بالنظر إلى اختلاف الترتيب، وإذا جوزنا الاقتداء على الإطلاق، واختلفا في الركعة قعد المأموم في موضع قعود الإمام، وقام في موضع قيامه، وإذا تم صلاة المأموم أولاً لم يوافق الإمام في الزيادة، بل إن شاء فارقه وإن شاء انتظره في التشهد، وطَوَّلَ الدعاءَ ليتم صلاته فيسلم معه، وإن تم صلاة الإمام أولاً قام المأموم وأتمَّ صلاتَه، كما يفعل المسبوق، وإذا سَهَا المأمومُ قبل الاقتداء لم يتحمل عن الإمام، [بل إذا سلَّم الإمام سجد هو لسهوه، وإن سَهَا بعد الاقتداء تحمل عنه الإمام] (1) وإن سَهَا الإمام قبل الاقتداء أو بعده لحق المأموم، ويسجد مع الإمام، ويعيد في آخر صلاته على الأصح على ما ذكرناه في المسبوق. وقوله في الكتاب: (لم يجز على الجديد) جواب على الطريقة المشهورة [وهي إثبات الخلاف في المسألة، وظاهره يوافق الطريقة المشهورة بعد إثبات الخلاف] (2) وهي طرده في الأحوال كلّها. وأما تعبيره عن قول المنع بالجديد، فهكذا ذكره الشيخ أبو محمد، والمسعودي، وغيرهما. وقالوا: قوله في "المختصر": "وكرهت أن يفتتحها صلاة انفراداً، ثم يجعلها صلاة جماعة" أراد به أني لا أجوزه، وجعلوا الجواز قوله القديم. وقال صاحب "المهذب" وشيخه أبو القاسم الكرخي، وآخرون: يجوز ذلك في القديم والجديد معاً، وحكوا قول المنع عن "الإملاء" وأرادوا بالجديد "الأم" ونقلوا الجواز عنه. واعلم أن "الإملاء" محسوب من الكتب الجديدة، فيحصل عما نقلوه عنه وعن "الأم" قولان في الجديد، ويمكن تنزيل التعبيرين عليهما، وبتقدير انحصار المنع في
الجديد على ما يشعر به لفظ الكتاب، فالمسألة مما يفتي فيها على القديم (¬1)؛ لأن الأصح عند جمهور الأصحاب جواز الاقتداء، ويجوز أن يعلم قوله: [(لم يجز) بالزاي؛ لما ذكرنا من مذهب المزني. وقوله: (على الجديد) بالواو] (¬2) لأمرين: أحدهما: الطريق الثاني للخلاف في بعض الأحوال. والثاني: الطريق الثاني للخلاف في المسألة أصلاً ورأساً. قال الغزالي: وَإِذَا شَكَّ المَسْبُوقُ أَنَّ الاِمَامَ هَلْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ رُكُوعِهِ؟ فَفِي إِدْرَاكِهِ قَوْلاَنِ لأَنَّ الأَصْلَ كَوْنُهُ لَمْ يُدْرِكْ، وَيُعَارِضُهُ أَنَّ الأَصْلَ أنَّهُ لَمْ يَرْفعَ رَأْسَهُ. قال الرافعي: الأصل الذي تتفرع عليه المسألة: أن من أدرك الإمام في الركوع كان مدركاً للركعة، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ مِنَ الرَّكْعَةِ الأَخِيرَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَليُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ الرُّكُوعَ عَنِ الرَّكْعَةِ الأَخِيرَةِ فَلْيُصَلِّ الظُّهْرَ أَرْبَعاً" (¬3). وروي أن أبا بَكْرَة دخل المسجد، والنبي -صلى الله عليه وسلم- رَاكِعٌ، فركع ثم دخل الصف، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك (¬4)، ووقعت ركعته معتداً بها، وذكر في "التتمة" أن أبا عاصم العبادي حكى عن محمد بن إسحاق بن خزيمة من أصحابنا أنه قال: لا تدرك الركعة بإدراك الركوع ويجب تداركها. واحتج بما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُّوعِ فَلْيَرْكَع مَعَهُ، وَلْيُعِدِ الرَّكْعَةُ" (¬5). وروى الحاكم أبو عبد الله في "تاريخ نيسابور"، ومثله عن أبي بكر الصِبْغي (¬6)، ¬
والمذهب المشهور الأول وعليه جرى النَّاس في الأعصار، ويعتبر فيه أن يكون ذلك الركوع محسوباً للإمام، فإن لم يكن ففيه كلام قد تعرض له في "كتاب الجمعة" وسنشرحه ثَمَّ إن شاء الله تعالى. إذا عرفت ذلك فاعلم أن معنى إدراكه في الركوع أن يكتفي هو وإمامه في حد أقل الركوع، حق لو كان هو في الهَوِيُّ والإمام في الارتفاع وقد بلغ من هويُّه حد الأقل قبل أن يرتفع الإمام عنه، كان مدركاً، وإن لم يلتقيا فيه فلا، هذه عبارة الأصحاب على طبقاتهم. وهل يشترط أن يطمئن قبل ارتفاع الإمام عن الحد المعتبر؟ الأكثرون لم يتعرضوا له، ورأيت في "الييان" اشتراط ذلك صريحاً، وبه يشعر كلام كثير من النَّقَلَةِ وهو الوجه -والله أعلم-. ولو كَبَّر وانحنى وشك في أنه هل بلغ الحد المعتبر قبل ارتفاع الإمام عنه أم لا؟ فهذه مسألة الكتاب، وقد نقل فيها قولين، وحكاهما في "النهاية" على وجهين: أحدهما: أنه غير مُدْرِك للركعة، لأن الأصل عَدَم إدراك الركوع. والثاني: أنه مدرك لها؛ لأن الأصل بقاء الإمام في الركوع في زمان الشَّكِّ، والأول أظهر؛ لأن الحكم بإدراك ما قبل الركوع بإدراك الركوع على خلاف الحقيقة لا يصار إليه إلا عند تَيَقُّنِ الركوع، وإن إدراكه فيما بعد الركوع من الأركان لا يكون مدركاً للركعة، وعليه أن يتابعه في الركن الذي أدركه فيه، وإن لم يكن محسوباً؛ لما روي: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الصَّلاةَ، وَالإِمَامُ عَلَى حَالٍ فَليَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الإمَامُ" (¬1). قال الغزالي: وَالمَسْبُوقُ عِنْدَ سَلاَمِ الإِمَامِ يَقُومُ مِنْ غَيْرِ تَكْبِيرٍ عَلَى النَّصِّ. قال الرافعي: المسبوق إذا أدرك الإمام في الركوع، فقد ذكرنا أنه يكبر لِلْهَوِيِّ بعدد تكبيرة الافتتاح، ولو أدركه في السجدة الأولى أو الثانية أو في التشهدِ، فهل يكبر للانتقال إليه؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم كالركوع. وأظهرهما: لا؛ لأن الركوع محسوب له فيكبر للانتقال إليه، وهاهنا بخلافه، ويخالف أيضاً ما لو أدركه في الاعتدال، فما بعده فإنه ينتقل مع الإمام من ركن إلى ركن، مكبراً وإن لم تكن محسوبةً له؛ لأن ذلك لموافقة الإمام، ولذلك نقول: يوافقه ¬
في قراءة التشهد، وفي التسبيحات على أصح الوجهين، فهذا حكم تكبيره إذا لحق الإمام. أما إذا سلَّم الإمام فقام المسبوق ليتدارك فقد قال في الكتاب: "إِنَّه يقوم من غير تكبير" وأسنده إلى النص، وهكذا فعل في "الوسيط" وذكر أن الشيخ أبا محمد قال: إنه يكبر للانتقال، ولم يرسل جمهور الأئمة الخلاف في المسألة، وهكذا، وحيث أثبتوا الخلاف لم يسندوا نفي التكبير إلى النَّصِّ، ولكن قالوا: ينظر إن كان الجلوس الذي سلم من الإمام موضع الجلوس المسبوق كما لو أدركه في الثالثة من الصلوات الرباعية، أو في الثانية من المغرب، فيقوم مكبراً، فإنه لو كان وحده لكان هكذا يفعل، وإن لم يكن موضع جلوسه كما إذا أدركه في الثانية أو الرابعة من الرباعيات أو في الثالثة من المغرب ففيه وجهان: أظهرهما: وبه قال القفال: أنه لا يُكَبِّرُ عند قيامه؛ لأنه ليس موضع تكبيره، وليس فيه موافقة الإمام. والثاني: ويحكى عن أبي حامد: أنه يُكَبِّر كَيْلاَ يَخْلُو الانتقال عن ذكره، ومتى لم يكن الموضع جلوسه لم يجز له المكث بعد سلاَم الإمام، ولو مكث بطلت صلاته، وإن كان موضع جلوسه لم يضر المُكْث. وقوله: (والمسبوق عند سلام الإمام) لك أن تبحث فتقول الاعتبار بالتسليمة الأولى، أو بالثانية، فاعلم أن السنة أن يقوم عقيب تسليمتي الإمام فإن الثانية من الصلاة وإن لم تكن مفروضة، ويجوز أن يقوم عقيب الأولى، ولو قام قبل تمامها بطلت صلاته، إن تعمد القيام، وهذا يبين أنه ليست كلمة "عند" للحصر -أعني في قوله: (عند سلام الإمام) ومن الأصول في المسبوق أن ما يدركه مع الإمام أول صلاته، وما يأتي به بعد سلام الإمام آخر صلاته، حق لو أدرك ركعةً من المغرب، فإذا قام لإتمام الباقي يجهر في الثانية ويسر في الثالثة، ولو أدرك ركعةً من الصبح وقنت مع الإمام، يعيد القنوت في الركعة التي يتداركها بعد سلام الإمام، ونص الشافعي: أنه لو أدرك ركعتين من صلاة رباعية ثم قام للتدارك يقرأ السورة بعد الفاتحة في الركعتين، وهذا يخالف قياس الأصل الذي ذكرناه، فمن الأصحاب من قال: إنه جواز على قوله: (يستحب قراءة السورة في الركعات) ومنهم من قال: وإنما أمره بقراءة السورة؛ لأن إمامه لم يقرأ السُّورة في الركعتين اللتين أدركهما، المسبوق وفاتته فضيلتها، فيتداركها في الركعتين الباقيتين، فصار كما لو ترك "سورة الجمعة" في الركعة الأولى من صلاة الجمعة يقرؤها مع "سورة المنافقين" في الثانية. وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: ما أدرك المسبوق مع الإمام آخر صلاته الإمام، وما
يتداركه بعد سلام الإمام أول صلاته، ووافقنا على أنه لو أدرك ركعة من المغرب، وقام بعد سلام الإمام للتدارك يقعد في الثانية، ولو كان ما يتداركه أول صلاته لما قعد (¬1). ¬
كتاب صلاة المسافرين
كِتَابُ صَلاَةِ المُسَافِرِينَ وَفِيهِ بَابَانِ قال الغزالي: الأَوَّلُ، في القَصْرِ، وَهُوَ رُخْصَةٌ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَالمَحَلِّ وَالشَّرْطِ. قال الرافعي: لم يترجم العلماء هذا الباب بصلاة المسافرين، لا على معنى أن للمسافرين صلاة يختصون بها، ولكن على معنى أن لهم كيفية في إقامة الفرائض لا تعم كل مصل، وإنما شرعت تخفيفاً عليهم؛ لما يلحقهم من تَعَبِ السَّفرِ. وهي نوعان: أحدهما: تخفيف في نفس الصَّلاة، وهو القصر. والثاني: تخفيف في رعاية وقتها، وهو الجمع فرسم لهم بابين، والتخفيف الثاني: لا يختص بالسفر بل المطر يثبته أيضاً، لكن السفر أقوى سببيه على ما تبين في التفاصيل، فجعل الآخر تبعاً له، وأورد في صلاة المسافرين. أما القصر فهو جائز بالإجماع، وقد قال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬1). روي أن يعلى بن أمية قال: "قُلْتُ لِعُمَرَ بنِ الْخَطَّاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: إِنَّمَا قَالَ اللهُ: {إِنْ خِفْتُمْ} وَقَد أَمِنَ النَّاسُ، فَقَالَ عُمَرٌ عَجِبْتُ مَمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ" (¬2). وهل هو رخصة أو عزيمة؟ عندنا هو رخصة. ولو أراد الإتمام جاز، وبه قال أحمد؛ لما روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "سَافَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا رَجَعْتُ قَالَ مَا صَنَعْتِ فِي سَفَرِكِ، فَقُلْتُ: أَتْمَمْتُ الَّذِي قَصَرْتُ وَصُمْتُ الَّذِي أَفْطَرْتُ فَقَالَ: أَحْسَنْتِ" (¬3). ¬
وقال أبو حنيفة: القصر عزيمة، ولا تجوز الزيادة على الركعتين في الصَّلاة الرباعية، ولو صلى أربعاً فإن قعد في الثانية مقدار التشهد أجزأت الركعتان عن فرضه، والأخريان له نافلة، وإن لم يقعد مقدار التشهد بطلت صلاته؛ وهذا في المنفرد، وأما إذا اقتدى بمقيم سلّم أنه يتم. وعن مالك روايتان: إحداهما: كمذهبنا، والأخرى كمذهبه، واعلموا في نسخ الكتاب قوله: (وهو رخصة) بالحاء والميم إشارة إلى مذهبهما، وظني أن هذا الإعلام فاسد؛ لأن وصف الشيء بأنه رخصة قد يكون بالمعنى المقابل للعزيمة، وقد يكون بمعنى أنه جائز -يقال أرخص لفلان في كذا، أي: جوز له ذلك-، والأشبه أن المراد هاهنا المعنى الثاني؛ لأنه قال عند وجود السبب والمحل والشرط؛ ومعلوم أن الجواز يفتقر إلى هذه الأمور، سواء كان رخصة أو عزيمة، ولا يختص الافتقار إليها بالرخصة المقابلة للعزيمة، وإذا كان المراد أنه جائز فلا خلاف فيه حتي يعلم. قال الغزالي: (الأَوَّلُ) السَّبَبُ وَهُوَ كُلُّ سَفَرٍ طَوِيلٍ مُبَاحٍ (ح) وَالمُرَادُ بِالسَّفَرِ رَبْطُ القَصْدِ بِمَقْصَدٍ مَعْلُومٍ، فَالهَائِمُ لاَ يَتَرَخَّصُ وَإنَّمَا يَتَرَخَّصُ المُسَافِرُ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ السُّورِ أَوْ عُمْرَانِ البَلَدِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سُورٌ وَإِنْ لَمْ يُجَاوِزِ المَزَارعَ والبَسَاتِينَ، وَيُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهَا عَلَى سُكَّانِ القَرَايَا أَعْنِي المَزَارعَ المَحُوطَةَ، وَعَلَى النَّازِلِ فِي الوَادِي أَنْ يَخْرُجَ عَنْ عُرْضِ الوَادِي، أَوْ يَهْبِطَ إنْ كَانَ عَلَى رَبْوَةٍ، أَوْ يَصْعَدَ إنْ كَانَ فِي وَهْدَةٍ، أَوْ يُجَاوِزَ الخِيَامَ إنْ كَانَ فِي حِلَّةٍ. قال الرافعي: السبب المجوز للقصر السفر الطويل (¬1) المباح (¬2)، فهذه ثلاثة قيود: أولها: السفر، وقد تكلَّم في معناه ثم في ابتدائه وانتهائه. أما معناه: فلا بد فيه من ربط القصد بمقصد معلوم فلا رخصة للهائم الذي لا يدري إلى أين يتوجه أكان طال سيره؛ لأن كون السَّفر طويلاً لا بد منه، وهذا لا يدري أن سفره طويل أم لا، والهائم هو الذي سماه راكب التعاسيف في باب الاستقبال، ويجوز أن يعلم قوله: (فالهائم لا يترخص) بالواو؛ لأن صاحب "البيان" حكى عن بعضهم فيه وجهين، بناء على القولين فيما إذا سلك الطريق الطويل وترك القصير لا ¬
لغرض، ولعل هذا بعد أن يسير مسافة القصر، والله أعلم. ولو استقبله برية، واضطر إلى قطعها أو ربط قصده بمقصد معلوم بعد ما هام على وجهه أياماً فهو منشئ للسفر من حينئذ، وتنبه من لفظ الكتاب أمور. أحدها: إنما قال: (والمراد بالسفر) ولم يذكر أن السفر عبارة عن المعنى الذي يخرج عنه الهائم؛ لأنه ينتظم أن يقال، هو هائم في سفره. والثاني: أنه في الكلام إضمار، معناه ربط قصد السَّيْرِ بمقصد مَعْلُوم، لأن مجرد النِّية لا يَجعله مسافراً ولا تفيد الرخصة، قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} (¬1) الآية، ربط القصر بالضَّرْبِ في الأرض لا بقصد الضرب، وهذا بخلاف ما لو نوى المُسَافِرُ الإقامةَ في موضع صالح لها، حيث يصير مقيماً؛ لأن الأصل الإقامة والسفر عارض، فيجوز أن يعود إلى الأصل بمجرد النية ولا يعود به من الأصل إلى العارض وهذا كما أن مال القنية لا يصير مال نجدة بمجرد النية ومال التجارة يصير مال قنية بمجرد النية (¬2). والثالث: أن قوله ربط القصد بمقصد معلوم، يخرج عنه ما لو خرج في طلب آبق لينصرف مهما لقيه؛ لأن المراد من المقصد المكان الذي كان يتوجه بسيره إليه وهو لا يقصد ثَمَّ مكاناً معيناً، وهذه المسألة قد ذكرها في الكتاب في قيد طويل، وسنذكرها ونظائرها من بعد. وأما ابتداء السفر فيتبين بتفصيل الموضع الذي منه الارتحال، فإذا ارتحل عن بلدة، نظر إن كان لها (¬3) سورة فلا بد من مجاوزته، وإن كان داخل السور مزارع أو مواضع خربة لأن جميع ما في داخل السور معدود من نفس البلدة محسوب من موضع الإقامة، وإذا جاوز السور فلفظ الكتاب كالصريح في أنه ابتداء السفر، ولا يتوقف الترخص على شيء آخر؛ لأنه قال: (وإنما يترخص المسافر عند مجاوزة السور) ونَقْلُ كثير من الأئمة يوافقه، ولكن في بعض "تعاليق" المروذيين أنه إن كان خارج السور دور متلاصقة أو مقابر فلا بد من مفارقتها، ويقرب من هذا إيراد الكلام في "التهذيب" فلك أن تقدر في المسألة وجهين، وتوجه الأول بأن تلك الأبنية لا تعد من البلد، ألا ترى: أنه يقال: مدرسة كذا خارج البلد. ¬
ويوجه الثاني بأنها من مواضع الإقامة المعدودة من توابع البلد ومضافاتها، فلها حكمها، ولك أن لا تثبت خلافاً في المسألة وتؤول أحد النقلين على الآخر. والثاني: أوفق لكلام الشافعي، فإنه -رضي الله عنه- قال في "المختصر": "وإن نوى السفر فَلاَ يقصر حق يفارق المنزل إن كان حَضَرِيًّا" فلم يعتبر السور، وإنما اعتبر مفارقة المنازل. والله أعلم. وإن لم يكن للبلدة سور، إما في صور سفره أو مطلقاً، فابتداء السفر بمفارقة العمران حتى لا يبقى بيت متصل ولا منفصل، والخراب الذي يتخلل العمارات معدود من البلد كالنهر الحائل بين جانبي البلد مثل ما في بغداد، فلا يترخص بالعبور من أحد الجانبين إلى الآخر، وفي هذا شيء سنذكره في "كتاب الجمعة" إن شاء الله تعالى. وإن كانت أطراف البلدة خربة ولا عمارة وراءها، فلفظ الكتاب يقتضي الاستغناء عن مجاوزتها، فإنه قال: (أو عمران البلد إن لم يكن سور) ووجهه أنه الخراب ليس موضع إقامة، وهذا هو الموافق للنص الذي قدمناه، وهو الذي أورده صاحب "التهذيب". وقال أصحابنا العراقيون والشيخ أبو محمد: لا بد من مجاوزتها؛ لأنها معدودة من البلدة ومجاوزة البلدة لا بد منها، فليعلم قوله: (أو عمران البلد) بالواو كذلك، وهذا الخلاف فيما إذا كانت بقايا الحيطان قائمةً ولم يتخذوا الخراب مزارع ولا هجروه بالتحويط على العامر، فإن كان الأمر بخلافه فلا خلاف في أنه لا حاجة إلى مجاوزتها، ولا يشترط مجاورة البساتين والمزارع المتصلة بالبلد، وإن كانت محوطة؛ لأنها لا تتخذ للسكنى والإقامة إلا إذا كانت فيها قصور أو دور يسكنها ملاكها في جميع السنة أو في بعض فصولها، فلا بد من مجاوزتها حينئذ، وليعلم قوله: (وإن لم يجاوز المزارع والبساتين) بالواو؛ لأن صاحب "التتمة" حكى عن بعض الأصحاب، اشتراط مجاوزة البساتين والمزارع المضافة إلى البلدة مطلقاً، هذا كله فيما إذا ارتحل عن بلده. وأما القرية فحكمها حكم البلدة في جميع ما ذكرناه، إلا أنه شرط في الكتاب مجاوزة البساتين والمزارع المحوطة في القرى. وقوله في الكتاب: (أعني المزارع المحوطة) ليس لتخصيص الحكم بالمزارع، بل البساتين في معناها بطريق الأولى، وقد صرح به في "الوسيط" ويمكن أن يقال: الغالب في البساتين [التحويط أو هو شرط في وقوع اسم البساتين] (¬1) فلم يحتج إلى إعادة ¬
ذكرها مقيدة بالتحويط، وهذا الذي ذكره حجة الإسلام -قدس الله روحه- من اعتبار مجاوزة البساتين، والمزارع المحوطة، جميعاً بخلاف ما نقله غيره، أما إمام الحرمين، فإنه اعتبر مجاوزة البساتين. وقال: هي معدودة من القُرَى، ولم يعتبر مجاوزة المزارع؛ لأنها ليست مَوْضِعَ سُكُونٍ، ثم قال: "فلو كانت بساتينها غير محوطة على هيئة المزارع أو مزارعها محوطة فلا يشترط عندي مجاوزتها" فصرح بأن مجاوزة المزارع وإن كانت محوطة لا تشترط. وأما العراقيون من أصحابنا فإنهم لم يشترطوا مجاوزة البساتين، ولا مجاوزة المزارع، لأنهم ذكروا عدم الاشتراط في البلد، ثم قالوا: الحكم في القرى إذا أراد أن يسافر من القرية كالحكم في البلدة سواء، هذا لفظ المحاملي وغيره، فإذاً يجب إعلام قوله: (ويشترط مجاوزتها جميعاً على سكان القرى) بالواو ومعرفة ما فيه، ولو فرضت قريتان ليس بينهما انفصال فارق فهما كمحلتين، فيجب مجاوزتهما. قال الإمام: وفيه احتمال فلو كان بينهما انفصال فإذا فارق قريته كفى وإن كانتا في غاية التقارب. وعن ابن سريج أنهما إذا تقاربتا وجب مفارقتهما. ولو جمع سور قرى متفاصلة فلا يشترط للسفر منها مجاوزة ذلك السور، وكذا لو قدر ذلك في بلدتين متقاربتين. ويتبين بهذا أن قوله في الكتاب: (عند مجاوزة السور) المراد منه السور المختص بالموضع الذي يرتحل منه، وأما المقيم في الصحارى، فلا بد له من مفارقة البقعة التي أقام بها قدر ما يكون فيه رحله وأمتعته وينتسب إليه، فإن سكن وادياً وسافر في عرضه فلا بد من مجاوزة عرض الوادي، نص عليه الشافعي -رضي الله عنه-. قال الأصحاب: وهذا على الغالب في اتساع الوادي، فإن أفرطت السّعة لم يجب إلا مجاوزة القدر الذي يُعَد موضع نزوله أو موضع الحلة (¬1) التي هو منها، كما لو سافر في طول الوادي. وعن القاضي أبي الطيب: أن كلام الشافعي -رضي الله عنه- مجرى على إطلاقه، وجانبا الوادي بمثابة سور البلد، والنازل فيهما يتحصن بهما، فلا بد من مجاوزتهما، ¬
وإذا كان النازل على ربوة، فلا بد من أن يهبط، وإنه كان في وهدة فلا بد من أن يصعد، وهذا أيضاً عند الاعتدال كما ذكرنا في الوادي، وإذا كان في قوم أهل خيام كالأعراب والأكراد فإنما يترخص إذا فارق الخيام مجتمعة أو متفرقة ما دامت تعد حلة واحدة، وهي بمثابة أبنية البلدة والقرية، ولا يعتبر مفارقته لحلة أخرى، بل الحلتان كالقريتين المتقاربتين، وضبط الصَّيدلاني التفرق الذي لا يؤثر، بأن يكونوا بحيث يجتمعون للسمر في ناد واحد، ويستعير بعضهم من بعض فإذا كانوا بهذه الحالة فهم حَيٌّ واحد، ويعتبر مع مجاوزة الخيام مجاوزة مرافقيها كمطرح الرماد، وملعب الصبيان، والنادي، ومعاطن الإبل، فإنها معدوة من جملة مواضع إقامتهم. وقوله: (وعلى النازل في الوادي أن يخرج عن عرض الوادي) وفي بعض النسخ: (أن يجزع عرض الوادي) وفي بعضها: (أن يجاوز) والمعنى لا يختلف، يقال: جزع الوادي أي قطعة وجزعة منعطفة، وفي الكلام إضمار معناه: يشترط عليه الخروج عن عرض الوادي إن كان سفره في صوب العرض. وقوله: (يهبط إن كان على ربوة) لا يختص بالنازل في الوادي، بل الربوة والوهدة في غير الوادي أغلب، وقد يفرضان فيه أيضاً، والحكم لا يختلف، وليست كلمة (أو) فيهما مجاوزة الخيام للتخيير، لكن المقصد التعرض لأحوال النازل في الصحراء، وهو تارة يكون في وادٍ، وتارة على ربوة، وتارة تكون في وهدة، وتارة في مستوٍ من الأرض، فلا يفرض في حقه خروج من العرض ولا هبوط، ولا صعود، ولكنه يجاوز الخيام إن كان في حلة، ولا فرق في اعتبار مجاوزة عرض الوادي والصعود والهبوط بين المقيم المنفرد في خيمة، وبين أن يكون في جماعة أهل خيام على التفصيل الذي بيناه، ولك أن تعلم قوله: (أو يجاوز الخيام) بالواو؛ لأن القاضي ابن كج حكى وجهاً، أنه لا يعتبر مفارقة الخيام، بل يكفي مفارقته خيمته خاصة. قال الغزالي: فَإِنْ رَجَعَ المُسَافِرُ لِأَخْذِ شَيْءِ نَسِيَهُ لَمْ يُقْصِرْ فِي رُجُوعِهِ إلى وَطَنِهِ إِلاَّ إِذَا رَجَعَ إِلَى بَلَدٍ كَانَ غَرِيباً، فَأَظْهَرُ الوَجْهَيْنِ أَنَّهُ يَتَرَخَّصُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَقَامَ بِهَا. قال الرافعي: إذا فارق المسافر بنيان البلدة، ثم رجع إليها لحاجة كأخذ شيء نسية، وغسل الدم من رعاف أصابعه، وتجديد طهارة، وما أشبه ذلك فلتلك البلدة أحوال ثلاث: إحداها: أن لا يكون له بها إقامة أصلاً، فلا يصير مقيمًا بالرجوع إليها والحصول فيها. والثانية: [أن تكون وطنه، فليس له القصر إذا عاد إليها، لحصوله في مسكنه وموضع إقامته، وإنما يترخص إذا فارقها ثانياً.
والثالثة:] (¬1) أن لا تكون وطنه قد أقام بها مدة، فهل يترخص إذا عاد إليها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، كما لو كانت وطنًا له، وهذا هو الذي ذكره في "التهذيب". والثاني: نعم؛ لأنه أبطل عزم الإقامة وليست وطناً له، فكانت بالإضافة إليه كسائر المنازل، وهذا هو المذكور في "التتمة" والأصح عند إمام الحرمين وصاحب الكتاب؛ وحيث حكمنا بأنه لا يترخص إذا عاد إليه، فلو نوى أن يعود ولم بعدُ لا يترخص أيضاً، ويصير بالنية مقيمًا، ولا فرق بين حالة الرجوع وحالة الحصول في البلدة المرجوع، إليها أن ترخص ترخص فيهما، وإلا فلا، فقد صَرَّح بالتسوية بينهما في "الوسيط"، وبينه بقوله هاهنا: "لم يقصر في رجوعه إلى وطنه" على أنه لا يقصر في الوطن، بطريق الأولى، ولا يخفى أن الكلام مفروض فيما إذا لم يكن من موضع الرجوع إلى الوطن قدر مسافة القصر، وإلا فهو سَفَر مُنْشَأٌ. ويجوز أن يعلم قوله: (لم يقصر في رجوعه) بالواو، لأن القاضي أبا المكارم ذكر في "العدة": أنه يجوز له القصر في طريق البلد ذاهباً وجائياً ما لم يدخل البلد، فإذا دخل لا يقصر. وقوله: (إلاَّ إذا رجع) استثناء منفصل، فإن البلدة التي تكون وطنًا له لا يكون الإنسان غريباً بها. قال الغزالي: ثُمَّ نِهَايَةُ سَفَرِهِ بِالْعَوْدِ إلَى عُمْرَانِ الوَطَنِ أَوْ بِالْعَزْمِ عَلَى الاِقَامَةِ مُطْلِقاً أَوْ مُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَى ثَلاَثة أَيَّام لَيْسَ فِيهَا يَوْمُ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِي الْبَلَدِ غَرَضٌ يَعْلَمُ أنَّهُ لاَ يُنْتَجَزُ فِي ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَهُوَ مُقِيمٌ، إلاَّ إِذَا كانَ الغَرَضُ قِتالاً فَيَتَرَخَّصُ عَلَى أَظْهَرِ القَوْلَيْنِ لِفِعْلِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَلِكَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهَلْ يَزِيدُ عَلَى تِلْكَ المُدَّةِ؟ فَقَوْلاَنِ، وَإِنْ كَانَ يَتَوَقَّعُ انتِجَازَ غَرَضِهِ كُلَّ سَاعَةٍ وَهُوَ عَلَى عَزْمِ الارْتِحَالِ تَرَخَّصَ إنْ كَانَ الغَرَضُ قِتَالاً، وإنْ كانَ غَيْرَهُ فَقَوْلاَنِ. قال الرافعي: غرض الفصل الكلام في ما ينتهي به السفر، وقد عده في الوسيط ثلاثة أمور: أحدها: العود إلى الوطن. والضبط فيه: أن يرجع إلى الموضع الذي شرطنا مفارقته في إنشاء السفر منه، ¬
وفي معنى الوصول إلى الوطن الوصول إلى المقصد الذي عزم على الإقامة فيه الحد المعتبر كما سيأتي، ولو لم يعزم على الإقامة به ذلك الحد لم ينته سفره بالوصول إليه على أصح القولين؛ بل له القصر بعد الوصول إليه وفي انصرافه، ذكره في "التهذيب" وغيره، ولو حصل في طريقه في قرية أو بلدة له بها أهل وعشيرة، فهل ينتهي سفره بدخوله؟ فيه قولان: أحدهما: نعم كدخول وطنه. وأصحهما: لا؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وَمَن مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَمَّا ضحوا قَصَرُوا بِمَكَّةَ وَكَانَ لَهُمْ بِهَا أَهْلٌ وَعَشِيرَةٌ" (¬1). وطرد الصيدلاني هذين القولين فيما إذا مر في طريق سفره بوطنه؛ لأنه قال: لو خرج مَكِيٌّ إلى جدَّه، أو إلى موضع آخر يقصر إليه الصلاة ونوى أنه إذا رجع إلى مكّة خرج منها إلى بعض الآفاق من غير إقامة فهل يصير مقيماً إذا دخلها راجعاً؟ فيه قولان، وذلك أن الرجل إذا مر ببلدة له فيها أهل ومال، هل يصير بدخولها مقيماً؟ فيه قولان؛ فعلى هذا العود إلى الوطن لا يوجب انتهاء السفر إلا إذا كان عازماً على الإقامة لكن المشهور أنه يصير مقيماً بنفس الدخول بلا خلاف، ولذلك قطعوا فيما إذا رجع إلى وطنه لأخذ شيء نسيه بأنه لا يقصر، وقد نقل في "البيان" مثل ما ذكره الصيدلاني عن بعض الأصحاب، واستبعده، وقطع بأنه لا يقصر إذا عاد إلى مكة ويصير مقيماً. الثاني: نية الإقامة. إذا نوى الإقامة في طريقه مطلقاً انقطع سفره وجمار مقيماً لا يقصر، فلو أنشأً السير بعده فهو سفر جديد، فإنما يقصر إذا توجه إلى مرحلتين، هذا إذا نوى الإقامة في موضع يصلح لها من بلدة أو قرية أو واد يمكن للبدو النزول فيه للإقامة. فأما المفازة ونحوها، فهل ينقطع سفره بنية الإقامة فيها؟ فيه قولان: أحدهما -وبه قال أبو حنيفة-: لا؛ لأن المكان غير صالح للإقامة. وأظهرهما- عند جمهور الأصحاب-: نعم؛ لقصده قطع السفر، وهذا أوفق لفظ الكتاب وأرجح عنده في "الوسيط"، ولو نوى الإقامة مدة نظر إن نواها ثلاثة أيام فما دونها لم يصر مقيماً بذلك؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلاَثاً" (¬2) وكان يحرم على المهاجرين الإقامة بمكة ومساكنة الكفار، فلما رخص لهم في المكث هذا القدر أشعر ذلك بأنه لا يقطع حكم السَّفر، ولا واجب الإقامة. ¬
ومنع عمر -رضي الله عنه- أهل الذِّمَّةِ من الإقامة في أَرْضِ الحِجَاز، وجَوَّزَ للمجتازين بها المُكْثَ ثلاثة أيَّام. وإن نوى الإقامة أكثر من ثلاثة أيام فعبارة الشافعي -رضي الله عنه- وجمهور الأصحاب: أنه إذا قصد إقامة أربعة أيام صار مقيماً، وذلك يقتضي أن لا يكون قصد إقامة ما دون الأربعة منهياً للسفر وإن زاد على ثلاثة أيام، وقد صرح به كثيرون، واختلفوا في أن الأيام الأربعة كيف تحتسب على وجهين مذكورين في "التهذيب" وغيره. أحدهما: أنه يحتسب يوم الدخول والخروج كما يحسب يوم الحدث، ويوم نزع الخف في مدة المسح. وأصحهما (¬1): لا؛ لأن المسافر لا يستوعب النَّهار بالسير إنما يسير في بعضه، وهو في يومي الدخول والخروج سائر في بعض النهار، ولأنه في يوم الدخول في شغل الحط وتنضيد الأمتعة، ويوم الخروج في شغل الارتحال، وهما من أشغال السفر، فعلى الأول لو دخل يوم السبت وقت الزوال على عزم الخروج يوم الأربعاء وقت الزوال، فقد صار مقيماً لبلوغ المكث في البلد أربعة أيام، وعلى الثاني لا يصير مقيماً، وإن دخل ضحوة يوم السبت على عزم الخروج عشية يوم الأربعاء. وقال صاحب الكتاب وشيخه: متى نوى إقامة زيادة على ثلاثة أيام فقد صار مقيماً، وهذا الذي ذكرنا يوهم أنه على خلاف قول الجمهور، لأنهم احتملوا ما دون الأربعة، وإن زاد على الثلاثة وهما لم يحتملا زيادة، وهو كذلك من حيث الصورة، لكن لا خلاف في الحقيقة؛ لأنهم احتملوا زيادة لا تبلغ الأربعة غير يومي الدخول والخروج، [وهما لم يحتملا زيادة على الثلاثة غير يومي الدخول والخروج] (¬2) وفرض الزيادة على الثلاثة بحيث لا تبلغ الأربعة، ويكون غير يومي الدخول والخروجِ مما لا يمكن وقد روي: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ الْأَحَدِ وَخرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ إِلَى مِنًى، كُلُّ ذلِكَ يَقْصُرُ" (¬3). ¬
ثم الأيام المحتملة معدودة مع الليالي لا محالة، وإذا نوى إقامة القدر الذي لا يحتمل، فيصير مقيماً في الحال، ولا يتوقف على انقضاء المدة المحتملة، ولو دخل ليلاً لم يحتسب بقية الليل، ويحتسب الغدو، وجميع ما ذكرنا في غير المحارب، فأما المحارب إذا نوى الإقامة قدرًا لو نواه غيره لصار مقيماً، ففيه قولان: حكاهما الشيخ أبو حامد وكثير من الأئمة. أحدهما: لا يصير مقيماً وله القصر أبداً؛ لأنه قد يضطر إلى الارتحال فلا يكون له قصد جازم. وأصحهما: أنه يصير مقيماً كغيره؛ وهذا هو الموافق لإطلاق لفظ الكتاب، والخلاف كالخلاف فيما لو قصد الإقامة في موضع لا يصلح لها. وقوله: (أو مدة تزيد على ثلاثة أيام) معلم بالحاء والزاي؛ لأن عن أبي حنيفة لا يصير مقيماً إلاَّ إذا نوى إقامة خمسة عشر يوماً فصاعداً، وهو اختيار المزني. وحكى عن مالك وأحمد مثل مذهبنا. ويروى عن أحمد، أنه إن نوى اثنين وعشرين صلاة أتم، وإن نوى إقامة إحدى وعشرين فما دونها قصر؛ ويجوز أن يعلم بالألف أيضاً. وقوله: (ليس فيها يوم الدخول والخروج) معلم بالواو؛ لأن على الأول من الوجهين المذكورين في كيفية الاحتساب لا يحتمل اليومان مع الثلاثة على الإطلاق. الثالث: صورة الإقامة إذا زادت على ثلاثة أيام على الوجه الذي بينها فمهما عرض كله شغل في بلدة أو قرية، واحتاج إلى الإقامة لذلك فلا يخلو إما أن يكون ذلك الشغل بحيث يتوقع تنجزه لحظة فلحظة، وهو على عزم الارتحال متى تنجز أو يكون بحيث يعلم أنه لا يتنجز في الأيام الثلاثة كالتفقه والتجارة الكثيرة ونحوهما. فأما في الحالة الأولى فله القصر إلى أربعة أيام على ما تقدم وصفها، ثم لا يخلو إما أن يكون على القتال أو خائفاً منه، أو لا يكون كذلك. فإن كان على القتال أو خائفاً منه ففي المسألة طريقان: أظهرهما: أن فيها قولين: أحدهما: أنه ليس له القَصْرُ؛ لأن نفس الإقامة أبلغ من نية الإقامة، فإذا امتنع القصر بنية إقامة أربع فصاعداً، فلأن يمتنع بإقامتها كان أولى. وأصحهما: أن له القَصْرَ؛ لأنه قد ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَقَامَ عَامَ الْفَتْحِ عَلَى
[قِتَالِ] (¬1) هَوَازِنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يَقْصُرُون" على هذا كم يقصر؟ فيه قولان: أصحهما: أنه يقصر المدة التي قصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيما عدا ذلك فالأصل وجوب الإتمام، وقد اختلفت الرَّواية في مدة إقامته بمكة للحرب المذكورة فروى: "أَنَّهُ أَقَامَ سَبْعَةَ عَشَرَ" (¬2)، وروي: "أَنَّهُ أَقَامَ تِسْعَةَ عَشَرَ" (¬3)، وروى: "أَنَّهُ أَقَامَ عِشْرِينَ" (¬4). وعن عمران بن الحصين -رضي الله عنه-: "أنَّهُ أَقَامَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ" (¬5). قال في "التهذيب": واعتمد، الشافعى -رضي الله عنه- رواية عمران بن حصين -رضي الله عنه- لسلامتها عن الاختلاف. والقول الثاني: له القصر أبداً ما دام على هذه النية؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْماً يَقْصُرُ" (¬6). وأيضاً فإن الظاهر أنه لو زادت الحاجة لدام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على القصر. وروي أن ابن عمر -رضي الله عنهما- أَقَامَ بِأذْرِبِيجَانَ سَتَّةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُ" (¬7). والطريق الثاني: أنه لا خلاف في جواز القصر ثمانية عشر يوماً وبعده قولان: وأما إذا لم يكن على القتال ولا خائفاً منه، لكن أقام للتجارة ونحوها يتوقع تنجز الغرض لحظة فلحظة وهو على عزم الارتحال فطريقان: أحدهما: القطع بالمنع. والفرق بين المحارب وغيره أن للحرب أثراً في تغيير صورة الصلاة. ألا يَرى أنه يحتمل بسببه ترك الركوع والسجود والقبلة. ¬
وأظهرهما: أن فيه قولين؛ ثم إن جوزنا ففي كيفيته قولان كما ذكرنا في المحارب؛ وقد نقل عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأقَامَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْماً يَقْصُرُ فِيهَا الصَّلاةَ" (¬1). أشعر هذا الإطلاق بأن حكم الحرب وغيره سواء. وإذا اختصرت قلت في جواز القصر في هذه الحالة الأولى طريقان: أظهرهما: أن فيه ثلاثة أقوال سواء المحارب وغيره. أحدها: منع القصر على الإطلاق. والثاني: جوازه على الإطلاق وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد والمزني -رحمهم الله- تعالى. والثالث: وهو الأصَحُّ جوازه إلى ثمانية عشر يوماً والمنع بعده. والطريق الثاني: أن هذه الأقوال في المحارب وفي غيره يقطع بالمنع. الحالة الثانية: أن يكون الشُّغل بحيث يعلم أنه لا يتنجز في ثلاثة أيام، ونتكلم فيها أيضاً في المحارب ثم في غيره، فأما المحارب فقد أطلق في "الوسيط" ذكر قولين فيه: أحدهما: أن له القصر، لفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض الغزوات. والثاني: المنع؛ لأنه المقيم، ومجرد القتال لا يرخص وفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- محمول على عزم الارتحال كل يوم، والأحسن ما أشار إليه إمام الحرمين وهو ترتيب هذه الحالة على الأولى. إن قلنا: المحارب ثَمَّ لا يقصر، فهاهنا أولى، وإن قلنا: يقصر، فهاهنا قولان: والفرق أنه متردد ثَمَّ وهاهنا مُطْمَئِنُّ ساكن بعيد عن هيئة المسافرين، وإن قلنا: يترخص، فهل يزيد على ثمانية عشر يوماً؟ فيه قولان؛ كما في الحالة الأولى. وأما غير المحارب -كالمتفقه والتاجر تجارة كثيرة- فظاهر المذهب أنه لا يترخص وهو مقيم؛ لأن ارتحاله موقوف في عزمه على تنجز شغله، وذلك غير متنجز في المدة التي يحتمل إقامتها؛ وقياس التسوية بين المحارب وغيره عود الخلاف هاهنا، وقد أشار إليه صاحب "النهاية" واستنكره وقال: هو نتيجة التفريع على الأقوال الضعيفة. إذا عرفت حكم الحالتين، فارجع إلى لفظ الكتاب. واعلم أن ثانيتهما في الشرح أولاهما في نظم الكتاب؛ وأن قوله: (فهو مقيم إلا إذا كان الغرض قتالاً) يجوز أن يعلم لفظ (المقيم) بالواو، للوجه الذي ذكرناه الآن في غير المحارب. ¬
وقوله: (إلا إذا كان الغرض قتالاً) كلام في المحارب، ولا فرق بين أن يكون مشغولاً بالحرب أو مستعداً لَهُ أو خائفاً منه، وإن لم يتمحض ذلك غرضاً له، والحكم سواء في جميع هذه المسائل. واعرف في قوله: "فيترخص على أظهر القولين" أشياء: أحدها: أنه يجوز إعلام قوله: (على أظهر القولين) بالواو إشارة إلى طريقة تحصل بما حكينا من ترتيب الحالة الثانية على الأولى ويحرم بالمنع. والثاني: أن الحكم يكون الترخص أظهر القولين ليس في هذه الحالة على خلاف المشهور، وإنما جعلوا قول الترخص أظهر وأصحِّ، فيما إذا كان يتوقع تنجز الغرض كل ساعة، وأما هذه الصورة فقد جعلوها بمثابة ما لو عزم على الإقامة مدة طويلة. وقد ذكرنا أنه إن كان محارباً، ففي ترخصه قولان، والأصح منهما: أنه لا يترخص وهو مقيم. والثَّالِثُ: أنه أراد بقوله: (فيترخص على أظهر القولين) أنه يترخص ثمانية عشر يوماً على ما يثبته سياق الكلام، والمقابل له أنه لا يترخص هذه المُدَّة، وحينئذ ما الحكم؟ أنقول لا يترخص أصلاً، أم يترخص دون هذه المدة؟. إن قلنا: الحكم في هذه الحالة كالحكم فيما إذا كان يتوقع مجاز غرضه كلّ ساعة فيترخص ثلاثة أيام كما سَبَق. وإن قلنا: إنه مطمئن ليس على هيئة المسافرين، فلا يترخص أيضاً، كما إذا نوى الإقامة فوق أربعة يصير مقيماً في الحال. وقوله: (وإن كان يتوقع إنجاز غرض ...) إلى آخره، وهو الحالة الأولى. وقوله: (فيترخص) يجوز أن يكون جواباً على الطريقة القاطعة بالترخيص إلى ثمانية عشر يوماً، ويجوز أن يكون جواباً على الأصح مع تسليم الخلاف، وهو الذي ذكره في "الوسيط"، وعلى التقديرين فهو معلم بالواو، ثم لم يبين أنه كم يترخص؟ وربما يفهم ظاهر اللفظ الترخيص على الإطلاق، لكن الأصح أنه لا يترخص بعد الثمانية عشر، وقد بَيَّنَّا جميع ذلك. قال الغزالي: أَمَّا الطَّوِيلُ فَحَدُّهُ مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ (ح) وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخاً لاَ تُحْتَسبُ مِنْهَا مُدَّةُ الإِيَابِ، وَيَشْتَرِطُ عَزمُهُ فِي أَوَّلِ السَّفَرِ، فَلَوْ خَرَجَ فِي طَلَبِ آبِقٍ (¬1) ¬
لِينْصَرِفَ مَهْمَا لَقِيَهُ لَمْ يَتَرَخَّصْ، وَإِنْ تَمَادَى سَفَرُهُ إِلاَّ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لاَ يَلْقَاهُ قَبْلَ مَرْحَلَتَيْنِ، وَلَوْ تَرَكَ الطَّرِيقَ وَعَدَلَ إِلَى الطَّوِيلِ لِغَيْرِ غَرَضٍ لَمْ يَتَرَخَّصْ (ح وز)، وَمَهْمَا بَدَا لَهُ الرُّجُوُعُ فِي أَثْنَاءِ سَفَرِهِ انْقَطَعَ سَفَرُهُ فَلْيُتِمَّ إِلَى أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ مَكَانِهِ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَرْحَلَتَينِ. قال الرافعي: القيد الثاني كون السفر طويلاً، واختلفت عبارات الشَّافعي -رضي الله عنه- في حده فقال في "المختصر" وغيره: ستة وأربعون ميلاً بالهَاشِمي. وقال في موضع: ثمانية وأربعون ميلاً. وقال في موضع: أربعون ميلاً. وقال في موضع: أربعة بُرُد. وقال في موضع: مسيرة يومين واتفق الأصحاب على أنه ليس له في ذلك اختلاف قول وحيث قال: ستة وأربعون أراد ما سوى الميل الأول والآخر وحيث قال: ثمانية وأربعون أدخلهما في الحساب، وحيث قال: أربعون أراد بأميال بني أمية، وهي ثمانية وأربعون ميلاً، وهي أميال هاشم جد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ وكان قد قدر أميال البادية، فيكون ستة عشر فرسخاً؛ لأن كل ثلاثة أميال فرسخ وهي أربعة برد؛ لأن كل بريد أربعة فراسخ، ومسيرة يومين؛ لأن مسيرة كل يوم على الاعتدال ثمانية فراسخ، وكل ميل أربعة آلاف خطوة، واثني عشر ألف قدم، لأن كل خطوة ثلاثة أقدام. وقال أبو حنيفة: السَّفَرُ الطَّوِيلُ مَسِيرة ثلاثة أيام، ولم يقدر بالفَرَاسِخِ والأَمْيَالِ. وذكر القاضي الروياني وغيره من أصحابنا أنه أربعة وعشرون فرسخاً عنده، وهو على قياس مسيرة اليومين كما ذكرناه. لنا ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَا أَهْلَ مَكَّةَ لاَ تَقْصُرُوا فِي أَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عَسْفَانَ وَإِلَى الطَّائِفِ" (¬1). وهو يقتضي الترخيص في هذا القدر، وروي مثل مذهبنا عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصَّحَابة -رضوان الله عليهم أجمعين- (¬2). وبه قال مالك وأحمد، واستحب الشافعي -رضي الله عنه- أن لا يقصر في أقل ¬
من مسيرة ثلاثة أيام للخروج من الخلاف (¬1)، وما ذكرناه من تفسير الطول معتبر بالتقريب، أو يجوز بالتحديد؟ حكى القاضي الروياني فيه وجهين، وقال: الصحيح أنه تحديد؛ ونقل الحناطي وصاحب "البيان" قولاً أن القصر يجوز؛ في السفر القصير بشرط الخوف؛ لعموم قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} (¬2) الآية، فإن ثبت ذلك اقتضى إعلام لفظ (الطويل) عند قوله قبل هذا: (وهو كل سفر طويل مباح) بالواو. ثم في الفصل مسائل: إحداها: مسافة الإياب لا تحتسب في الحد المذكور، حتى لو قصد موضعاً على مرحلة على عزم أن يرجع ولا يقيم فيه فليس له القصر، لا ذاهباً ولا جائياً. وإن نالته مشقة السير مرحلتين على التوالي؛ لأنه لا يسمى سفراً طويلاً. والغالب في الرخص الاتباع، وما رويناه من خبر ابن عباس -رضي الله عنهما- ظاهر في أن المعتبر المسافة التي يقطعها من منشأ سفره إلى مقصده؛ وحكى الحناطي وجهاً؛ أنه إذا كان الذهاب والرجوع حد السفر الذي يقصر إليه الصَّلاة قصر، فيجوز أن يعلم قوله: (لا يحتسب) بالواو لذلك. ¬
الثانية: يشترط عزمه على قطع هذه المسافة في الابتداء، فلو خرج لطلب غريم أو عبد آبق لينصرف مهما لقيه -وهو لا يدري موضعه- لم يترخص، وإن طال [سيره] (¬1) كما ذكرناه في الهائم؛ فإذا وجده وعزم على الرجوع إلى بلده-، وبينهما مسافة القصر- يترخص إذا ارتحل عن ذلك الموضع، ولو كان يعرف موضعه في ابتداء السير، أو يعرف أنه لا يلقاه قبل مرحلتين فله الترخص، ولو قصد مسافة القصر، ثم نوى أنه إن وجد عبده أو غريمه ينصرف، نظر إن نوى ذلك قبل مفارقة عمران البلد - لم يترخص؛ لأنه غير النية قبل انعقاد حكم السَّفر، وإن نواه بعد مفارقة العمران، ففيه وجهان مذكوران في "النهاية" و"التهذيب". أصحهما: أنه يترخص ما لم يجده، فإذا وجده صار مقيماً؛ لأن سبب الرُّخْصَة قد انعقد، فيستمر حكمه إلى أن يوجد ما غير النية إليه، وكذلك لو نوى الخروج إلى مسافة القَصْر، ثم نوى الإقامة في بلد وسط الطريق. وإن كان من مخرجه إلى المقصد الثاني مسافة القصر يترخص، وإن كان أقل فوجهان: أصحهما: أنه يترخص، ما لم يدخله (¬2) كما في مسألة الغريم. وإذا سافر العبد بسير المولى، والمرأة بسير الزوج، والجندي بسفر الأمير، وهم لا يعرفون مقصدهم، فليس لهم القصد، وإن نووا مسافة القصر، فلا عبرة بنية العبد والمرأة، وتعتبر نية الجُنْدِيِّ، فإنه ليس تحت يد الأمير وقهره. وإن عرفوا مقصدهم ونووا فلهم القصر (¬3). وقال أبو حنيفة: العَبْدُ والمرأة يترخصان تبعاً للسيد والزوج وإن لم يعرفا المقصد. الثالثة: لو كان له إلى مقصده طريقان يبلغ أحدهما مسافة القصر، والثاني لا يبلغها، فَسَلَكَ الطَّريق الطَّويل نظر إن كان لغرض كخوف أو حزونة في القصير، أو ¬
قصد زيارة، أو عبادة في الطَّويل (¬1)، فله القصر؛ ولو قصد التنزه فكذلك. وعن الشيخ أبي محمد -رحمه الله تعالى- تردد في اعتباره وإن قصد الترخص ولم يكن غرض سواه، ففي المسألة طريقان: أظهرهما: أن في الترخص قولين: أحدهُمَا: أنه يترخص، وبه قال أبو حنيفة والمزني، وهو نصه في "الإملاء"؛ لأنه سفرٌ مباحٌ، فأشبه سائر الأسفار. وأصحهما: أنه لا يترخص؛ لأنه طَوَّل الطريق على نفسه [من غير غرض، فصار كما لو سلك الطريق القصير، وكان يذهب يميناً وشمالاً وطول على نفسه] (¬2) حتى بلغت المرحلة مرحلتين فإنه لا يترخص. والطريق الثاني: القطع بهذا القول الثاني؛ وحمل نصه في "الإملاء" على ما إذا سلكه لغرض، ولو كان يبلغ كل واحد من الطريقين مسافة القصر، وأحدهما أطول، فسلك الأطول - فله القصر بلا خلاف. وإذا عرفت ذلك فقوله في الكتاب: (لم يترخص) يجوز أن يكون جواباَ على الطريقة الجازمة بالمنع، ويجوز أن يكون جواباً على الأصح، مع إثبات الخلاف، وعلى التقديرين فهو معلم بالواو مع الحاء والزَّايِ. الرابعة: إذا خرج إلى بلده والمسافة طويلة، ثم بدا له في أثناء السفر أن يرجع، فقد انقطع سفره بهذا القصد، ولم يكن له أن يقصر ما دام في ذلك الموضع، فإذا ارتحل عنه فهو سفر جديد، فإنما يقصر إذا توجه من ذلك المكان إلى مرحلتين، سواء رجع أو بطل عزمه، وصار إلى مقصده الأول وتوجه إلى غيرهما؛ ولو توجه إلى بَلَدٍ لا تقصر إليه الصَّلاة، ثم نوى مجاوزته إلى بل تقصر إليه الصلاة فابتداء سفره من حيث غير النية، وإنما يترخص إذا كان من ذلك الموضع إلى مقصده الثاني مرحلتان، ولو خرج إلى سَفَرٍ طويل -على قصد الإقامة في كل مرحلة أربعة أيام- لم يترخص لانقطاع كل سفرة عن الأخرى. قال الغزالي: وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَالعَاصِي بِسَفَرِهِ لاَ يَتَرَّخَّصُ (ح ز) كالآبِقِ وَالعَاقِّ، فَإِنْ ¬
طَرَأَتِ المَعْصِيَة فِي أَثْنَاءِ السَّفَرِ تَرَخَّصَ علَى النَّصِّ، وَفِي تَنَاوُلِ المَيْتَةِ وَمَسْحِ يَوْمٍ وَلَيلَةٍ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لأنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ خَصَائِصِ السَّفَرِ. قال الرافعي: القيد الثالث: كَوْنُ السفر مباحاً، وليس المراد من المباح -في هذا الموضع- ما خير بين طرفين واعتدلا، فإن الرخصة كما تثبت في سفر التجارة تثبت في سفر الطَّاعة كالحَجِّ والجهاد ونحوهما. وإنما المراد منه ما ليس بمعصية؛ وأما سفر المعصية فلا يفيد الرخصة (¬1)، خلافاً لأبي حنيفة والمزني. وذلك كهرب العبد من مولاه، والمرأة من زوجها، والغريم مع القدرة على الأداء، وكما إذا سافر ليقطع الطريق، أو ليزني بامرأة، أو ليقتل بريئاً. لنا أن الرخصة أثبتت تخفيفاً وإعانة على السَّفَر، ولا سبيل إلى إعانة العاصي فيما هو عاص به، بخلاف ما لو كان السَّفَرُ مباحاً وهو يرتكب المعاصي في طريقه، فانه لا يمنع من السَّفَرِ، إنما يمنع من المعصية. ولو أنشأً سفراً مباحاً، ثم نقله إلى معصية، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يترخص؛ لأن هذا السفر انعقد مباحاً مرخصاً، والشرط يراعي في الابتداء. والثاني: لا يترخص كما لو أنشأ السفر بهذه النية؛ هكذا أرسل الجمهور ذكر الوجهين في المسألة، وكلامهم يميل إلى ترجيح الوجه الثاني، وقد صَرَّح به في "العدة"، ونسب في "النهاية" القول بالترخص إلى ظاهر النص، والثاني إلى تخريج ابن سريج، وتابعه في الكتاب، فقال: "ترخص على النص" والاقتصار عليه يفهم ظهور القول بالترخص، لكنه ذكر في "الوسيط" أن عدم الترخص أوضح كما حكيناه عن غيره. ولو أنشأ السَّفَر على قصد مَعْصِيَة ثم تاب، وبدل قصده من غير تغيير صوب السفر؛ فالذي قاله الأكثرون في هذه الصورة، إن ابتداء سفره من ذلك الموضع إن كان منه إلى مقصده مسافة القصر - ترخص، وإلا فلا، وحكى في "النهاية" عن شيخه، أن عروض قصد الطاعة على سفر المعصية، كعروض قَصْدِ المَعْصِية على سَفَرِ الطَّاعة. فقياس ظاهر النَّصِّ أنه لا يترخص لفقد الشرط في الابتداء؛ وعند ابن سريج يترخص نظرًا إلى الحال. وقوله في الكتاب: (وكذا على العكس) يوهم أنه يترخص في العكس؛ لأنه ¬
معطوف على قوله: (ترخص على النص) وما أراد به ذلك، وإنما أراد العَطْف على معنى النَّصِّ، وهو النَّظَرُ إلى الابتداء، فكأنه قال ترخص على النص اعتبارًا بالابتداء. وكذا على العكس ينظر إلى الابتداء، فلا يترخص وعلى التخريج؛ وهو الأظهر أنه ينظر إلى الحال في الصُّورتين. إذا عرفت ذلك فنقول: العاصي بسفره لا يقصر، ولا يفطر، ولا يَتَنَفَّل على الراحلة، ولا يجمع بين الصَّلاتين، ولا يصح ثلاثة أيام، وهل يَمسح يوماً وليلة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، لما فيه من التَّخْفَيفِ عليه، وتسرعه بسبب ذلك إلى المَعْصِية. وأظهرهما: عند الجمهور نعم؛ لأن المسح يوم وليلة ليس من رخص المُسَافرين، بل هو جائز للحَاضِر أيضاً، وغاية ما في الباب إلحاق هذا السَّفر باَلْعَدَمِ لكن حكى عن الشيخ أبي محمد أن المقيم إذا كان يدأب في معصية، ولو مسح على خفيه لكان ذلك عوناً له عليها، فيحتمل أنه يمنعه من المسح، واستحسن الإمام ذلك، فعلى هذا يتوجه أن يقال: إنه لَيْسَ من خصائص السَّفَر ولا الحَضَرِ، لكنه من مَرَافِقِ اللبس بشرط عدم المعصية، وهل للعاصي بسَفَرِه أن يتناول المَيْتَةَ عِنْدَ الاضْطرَارِ؟ فيه وجهان نقلهما صاحب، "النهاية" وغيره: أحدهما: وبه قال الأودني: لا؛ لما فيه من التخفِيفِ على العاصي، وهو متمكن من دَفْعِ الهَلاَك عن نفسه بأن يتوب ثم يأْكُلُ. والثاني: نعم، إحياءً لِلنَّفْسِ المُشْرِفَةِ على الهلاك، ولأن المُقِيم متَمكِّن من تناول المَيْتة عند الاضطرار، فليس ذلك من رخص السَّفَرِ فأشبه تناول الأطعمة المباحة ما لم يكن من خصائص السَّفَر، لم يمنع منه العَاصِي بِسَفَرِه، وبالوجه الأول قطع عامة الأصحاب من العراقيين وغيرهم، ونفوا الخلاف في المسألة، وقد قيل: في المقيم العاصي ليس له تناول المَيْتَة أيضاً ما لم يتب، والله أعلم. وهذا الشرط ينبهك من لفظ الكتاب في المسألتين على أمرين: أحدهما: أنه يجوز أن يعلم قوله: (وجهان) بالواو؛ لأنه أثبت في المسألتين وجهين، وقد ذكرنا أن بعضهم يقطع بالمنع في تناول الميتة. والثاني: أنه جعل أصح الوجهين في المسألتين الجواز، وهذا المسلم في المسح يوماً وليلة ممنوع في تناول المَيْتَة على رأي الجُمْهُور، ويجوز أن يعلم لفظ (الجواز) بالألف؛ لأن عند أحمد لا يجوز له تناول المَيْتَة كما هو أحد وَجْهَيْنَا، ومما ألحق بِسَفَرِ المَعْصِية أن يتعب الإنسان نفسه ويُعَذِّب دابته، بالركض من غير غرض، ذكر الصيدلاني أنه لا يحل له ذلك.
ولو كان الرجل ينتقل من بلدة إلى بلدة من غير غَرَضٍ صحيح، فقد قال في "النهاية": إنه لا يترخص وإن خرج عن مضاهاة من يهيم وظهر له قصد (¬1)، ونقل عن الشَّيْخِ أبي محمد: أن السفر لمجرد رؤية البلاد، والنظر إليها ليس من الأغراض الصحيحة. قال الغزالي: النَّظَرُ الثَّانِي، فِي مَحَلِّ القَصْر، وَهُوَ كُلُّ صَلاَةٍ رُبَاعِيَّةٍ مُؤَدَّاةٍ فِي السَّفَرِ، فَلاَ قَصْرَ فِي الصُّبْح وَالمَغْرِب، وَلاَ فِي فَوَائِتِ الحَضَرِ، وَفِي فَوَائِتِ السَّفَرِ ثَلاَثةُ أَقْوَالٍ: يُفَرّقُ فِي الثَّالِثِ بين أن يَقْضِيَ فِي الحَضَرِ أَوِ السَّفَر. قال الرافعي: محل القصر كل صلاة رباعية مؤداة في السَّفَرِ، وذكر في "الوسيط" قيداً آخر، وهو أن يدرك وقتها في السفر للمسألة التي تأتي بعد هذا الفصل، فيخرج من الرباعية المغرب والصُّبْحُ فلا قصر فيهما بالإجماع، ويخرج عن المؤداة في السَّفر المقضيَّة، وينظر فيها إن كانت فائتة الحضر فلا يجوز للمسافر قصرها، خلافاً للمزني حيث قال: يجوز؛ اعتباراً بحال القضاء، كما لو ترك صلاة في الصَّحَّةِ له قضاؤها في المَرَضِ قَاعِداً. لنا إنه لزمته الأربع، فلا يجوز النقصان كما لو لم يسافر، ويفارق صلاة المريض؛ لأن المرض حالة ضرورة، فيحتمل ما لا يحتمل للسَّفر ألا يرى أنه لو شَرَع في الصلاة قائماً، ثم طرأ المرض له أن يقعد، ولو شرع فيها في الحضر [ثم سارت] (¬2) به السفينة، لم يكن له أن يقصر، وإن تردد أنها فائتة السَّفر أو الحَضَر فكذلك لا يجوز له قَصْرُهَا، وأما فائتة السَّفَرِ فإما أن يقضيها في السفر أو في الحضر، فإن قضى في السَّفر، فإما أن يقضي في تلك السفرة أو في سفرة أخرى، فإن قضى في تلك السفرة ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يجوز القصر؛ لأن شرط الرَّدِّ إلى ركعتين الوقت بدليل الجمعة. والثاني: يجوز؛ لأن اللاَّزِمَ عليه ركعتان، فيجزئه في الْقَضَاءِ ركعتين، وجعل صاحب "التهذيب" و"التتمة" المنع أصح القولين، لكن ما عليه الأكثرون من العراقيين وغيرهم أن الأصح هو الجواز؛ لبقاء العذر المرخص، وأما إذا قَضَى في سَفَرِهِ أخرى، ففيه طريقان: أظهرهما: طرد القولين. والثاني: القطع بالمنع، والفرق أن الأمر بالقضاء متوجه عليه في كل حالة، فإذا لم يقض وقد تخللت حالة إقامة فكأنها تركها في تلك الحالة كما لو نَصَبَ شيئاً، وتلف ¬
عنده لزمه أقصى القِيَم، لأنه مخاطب في كل حالة بالرَّدِّ، فإذا لم يرد التزم قيمة أكمل الأحوال، وإن قَضَاهَاَ في الحضر أطرد الطريقان، والمنع هاهنا أوضح وأصحّ، ورتب في "النهاية" بعض الصور الثَّلاث على بعض، فحكى قولين فيما إذا قضى في ذلك السَّفَرِ وفيما إذا قضَى في الْحَضَرِ قولين مُرَتَّبَيْنِ عليهما، وأولى بالمَنْعِ، وجعل الصُّورة الثَّالِثة متوسطة بينهما إن رتبت على الأولى فهي أولى بالمنع، وإن رتبت على الثانية فهي أولى بالجواز؛ وإذا اختصرت وتركت التفصيل قلت: في المسألة أقوالٌ كما ذكر في الكتاب: أحدها -وهو القديم-: الجواز على الإطلاق، وبه قال أبو حنيفة ومالك. وثانيها -وهو الجديد-: المنع على الإطلاق، وبه قال أحمد. وأظهرها -ويحكى عن "الإملاء" الفرق بين أن يقضي في الحضر وفي السفر، وهذا إذا طَرَدنا القولين في القضاء في تلك السفرة، وفي سفرة أخرى، وإن فَرَّقْنَا صَارَتْ الأقوالُ أربعةً. واعلم قوله: (يفرق في الثالث) بالحاء والميم؛ لما ذكرنا من مذهبهما، ونقل في "الوسيط" أن مذهب المزني الجواز على الإطلاق أيضاً، لكن روى الصَّيْدَلاَنِي وغيره عنه المنع فيما إذا قضى في الحضر، وهذا هو الصحيح، وقياس مذهبه المشهور في عكسه وهو ما إذا فاتته في الحضر، فيقضي في السَّفَرِ، كما تقدّم، وإذا قلنا فائتة السفر لا تقصر، وإن قضيت في تلك السفرة، فلو شرع في الصَّلاَةِ بنية القَصْرِ، فخرج الوقت في أثنائها فهو مبني على أن الصلاة التي يقع بعضها في الوقت وبعضها خارجه قضاء أم داء؟ وقد قدمنا ذلك في "باب المواقيت" وتعرضنا لهذه الصور فيه، وظاهر المذهب أنه إن وقع في الوقت ركعة فهي أداء فيقصر على هذا القول أيضاً، وإن وقع دون ركعة فلا يقصر على هذا القول؛ لأنها قضاء، وعن صاحب "التلخيص" أنه يجب الإتمام، وإن وقع في الوقت ركعة كالجمعة، إذا وقع: بعضها خارج والوقت يتمها أربعاً. قال الغزالي: وَالمُسَافِرُ فِي آخِرِ الوَقْتِ نُقْصِرُ، وَالحَائِضُ إِذَا أَدْرَكَت أَوَّلَ الوَقْتِ ثُمَّ حَاضَتْ تَلْزَمُهَا الصَّلاةُ لِأَنَّ هذَا القَدْرَ كُلَّ وَقْتِ الإِمْكَانَ فِي حَقِّها، بِخِلاَفِ المُسَافِرِ هذَا هُوَ النَّصُّ، وَقِيلَ: فهمَا قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ. قال الرافعي: إذا سافر في أثناء الوقت، وقد مضى منه قدراً يتمكن من فعل الصَّلاة فيه، فالنَّصُّ أنه يجوز له القصر، ونَصَّ فيما لو أدركت من أول الوقت قدر الإمكان، ثم حَاضَت يلزمها القضاء، وكذلك سائر أصحاب العذر، واختلفوا في المسألتين على طريقين:
أحدهما: أن فيهما قولين: أحدهما: أن إدراك أول الوقت ملزم، فالحائض تَقْضِي تلك الصَّلاة، والمسافر يتم؛ لأن الصَّلاة تجب بأول الوقت، وقد أدركا وقت الوجوب. والثاني: أنه لا يلزمها الصلاة ويجوز له القصر؛ لأن الاستقرار إنما يكون بآخر الوقتِ؛ ولهذا نقول: لو أخر الصَّلاة عن أول الوقت ومات لا يلقى الله تعالى عاصياً على الأصح. والثاني: تقرير النَّصَّيْنِ. والفرق أن الحيض مانع من الصَّلاَةِ، فإذا طَرَأَ انحصر وقت الإمكان في حَقِّهَا في ذلك القدر، وكأنها أدركت جميع الوقت بخلاف المسافر، فإن السَّفَرَ غيرُ مَانِعٍ، وأيضاً فإن الحيض لو أثر إنما أثر في إسقاط الصلاة بالكلية، والقول بالسقوط مع إدراك وقت الوجوب بعيدٌ، والسَّفر إنما يُؤَثِّرُ في كيفية الأداء لا في أصل الفعل، فأشبه ما لو أدرك العبد من الوقت قدر ما يصلي فيه الظهر ثم عتق، يلزمه الجمعة دون الظهر، وظاهر المذهب الفرف بين المسألتين على موجب النَّصين، وسواء أثبتا طريقة القولين أم لا، ونقل الأصحاب عن المزني، وابن سريج في مسألة المسافر أنه لا يقصر. واعلم قوله في الكتاب: (يقصر) بالزاي لذلك، لكنه تخريج من المزني للشافعي -رضي الله عنه- خرجه من مسألة الحائض، وليس مذهبًا له؛ لأنا قدمنا عنه أنه لو ذهب جميع الوقت في الحضر، وفاتته الصلاة كان له القصر إذا قضاها في السفر، فهاهنا أولى، فإذًا لا يصح الإعلام بالزاي، وأما ابن سريج فإنه خرج من كل واحدة من المسألتين في الأخرى واختار عدم القصر، وقد ذكرنا تخريجه في الحائض من هذه المسألة في باب المواقيت في الفصل الثاني، ووافق أبو الطيب بن سلمة ابن سريج على أنه لا يقصر، لكن لا على الإطلاق، بل فيما إذا سافر ولم يبق من الوقت إلا قدر أربع ركعاتٍ، لأنه إذا ضاف الوقت تَعَيَّن عليه صلاة الحضر، فهذا مذهب ثَالِث: وراء القولين وإن سافر وقد بقي من الوقت أقل من قدر الصَّلاة فجواز القصر يبنى على أن من أوقع بعض صلاته في الوقت وبعضها خارجه، تكون جميع صلاته أداء أم لا، إن قلنا: نعم قصر، وإلا فلا. وقوله: "والمسافر في آخر الوقت" ليس المراد منه الجزء الأخير بل المراد ما إذا سافر وقد مضى من أوله ما يسع الصلاة، وكذا قوله: (والحائض إذا أدركت أول الوقت، ثم حاضت) يعني أدركت منه ما يسع للصلاة ولو قال: ولو أدركت المرأة أول الوقت، ثم حاضت بدل الحائض، لكان أحسن، ولو سافر والماضي من الوقت دون ما يسع الصلاة فقد قال في "النهاية": ينبغي أن يمتنع القصر إن قلنا: إنه يمتنع لو كان
الماضي قدر ما يسع الصلاة، بخلاف ما لو حَاضَت بعد مضي القدر النَّاقص، حيث لا يلزمها الصَّلاة على الصحيح؛ لأن عروض السَّفَر لا ينافي إتمام الصَّلاة، وعروض الحيض ينافيه (¬1). قال الغزالي: النَّظَرُ الثَّالِثُ، فِي الشَّرْطِ وَهُوَ اثْنَانِ: (الأَوَّلُ) أَنْ لاَ يَقْتَدِي بِمُقِيم فَلَو اقتَدَى وَلَوْ فِي لَحْظَةٍ (م) لَزِمَهُ الإتْمَامُ، وَلَو شَكَّ فِي أَنَّ إِمَامَهُ مُقِيمٌ أَمْ لاَ لَزِمَهُ الإِتْمَامُ، وَلَوْ شَكَّ فِي أَنَّهُ نَوَى الإتْمَامَ وَهُوَ مُسَافِرٌ لَمْ يَلْزَمْهُ الإِتْمَامُ لِأَنَّ نِيَّةَ الإتْمَامِ لاَ شِعَارَ لَهَا بِخِلاَفِ المُسَافِرِ. قال الرافعي: جعل شرط القصر شيئين: أحدهما: أن لا يقتدي في صلاته بمقيم أو بمسَافِرٍ مُتِم، فلو فعل ذلك -ولو في لحظة- لزمه الإتمام، خلافاً لمالك حيث قال: إن أدرك معه ركعة لزمه الإتمام وإن أدرك دون ركعة فله القصر؛ لنا ما روي "أَنَّهُ سُئَلَ ابْنُ عَبَّاسِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- مَا بَالُ الْمُسَافِرِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إِذَا انْفَرَدَ وَأَرْبَعاً إِذَا ائتَمَّ بِمُقِيمٍ؟ فَقَالَ: تِلْكَ السُّنَّةِ" (¬2). والمفهوم منه سُّنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وأعلم قوله: (ولو في لحظة) بالميم؛ لما حكيناه عن مالك. والاقتداء في لحظة يفرض من وجوه كثيرة. منها: أن يدرك الإمام في آخر صلاته. ومنها: أن يحدث الإمام عقيب اقتدائه وينصرف. قوله: (أن لا يقتدي بمقيم) في بعض النسخ (بمتمم) وهو أعم، فإن كان مقيم متم، وقد يكون المسافر مُتِمًّا أيضاً، والحكم لا يختلف. وعند أبي حنيفة: أنه إذا صلّى مسافر بمسافرين -ونووا الإتمام- جاز له القصر، وسلم إنه إذا اقتدى بمقيم لم يجز القصر، فإذا كانت النسخة "أن لا يقتدي بمقيم" جاز إعلام (الحكم) بالحاء، ولو اقتدى في الظهر بمن يقضي الصبح مسافراً كان أو مقيماً فهل له القصر؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، لتوافق الصَّلاتين في العدد. ¬
وأصحهما: لا؛ لأن الصَّلاة تامة في نفسها، ولو دخل في مروره بلدة وأهلها يقيمون الجمعة فاقتدى في الظهر بالجمعة، قيل: إن قلنا: إن الجمعة ظهر مقصور فله القصر وإلا فهي كالصُّبح (¬1). وظاهر المذهب عند الأكثرين: المنع بكل حال؛ لأنها صلاة إقامة، وهو الموافق لظاهر لفظ الكتاب. إذا عرفت ذلك فنقول: المسافر إما أن يعلم حال الذي يقتدي به في السفر والإقامة أو لا يعلم، فإن علم نظر إن عرفه مقيماً فقد ذكرنا أن عليه الإتمام، وكذا لو ظَنَّه مقيماً، فلو اقتدى به ونوى القصر انعقدت صلاته، ولغت نية [من نوى] (¬2) القصر، بخلاف المقيم ينوي القصر لا ينعقد ظُهْرُه؛ لأنه ليس من أهل القصر والمسافر من أهله فلا يضره نية القصر، كما لو شرع في الصَّلاة بنية القصر، ثم نوى الإتمام أو صار مقيماً، فإنه يتم، وإن عرفه أو ظنه مسافراً - وعرف أنه نوى القصر، أو ظنه، فله أن ينوي القصر وإن لم يدر أنه نوى القصر أم لا فكذلك، ولا يلزمه الإتمام بهذا التردد؛ لأن الظَّاهِرَ من حال المسافر القصر؛ وليس للنية شعار يعرف به، فهو غير مقصر في الاقتداء على التردد، ولو عرض هذا التردد في أثناء الصَّلاة فكذلك لا يلزمه الإتمام؛ ومتى لم يعرف نيته فهل يجوز أن يعلق نيته فيقول: إن قصر قصرت وإن أتم أتمت أو لا بد من الجزم بالقصر؟ فيه وجهان: أصحهما: جواز التعليق فإن الحكم متعلق به، وإن جزم إن أتم الإمام أتم وإن قصر قصر، ولو أفسد الإمام صلاته أو فسدت، ثم قال: كنت نويت القصر، فللمأموم القصر، وإن قال: كنت نويت الإتمام لزمه الإتمام، وإن انصرف -ولم يظهر للمأموم ما نواه- فوجهان: حكاهما أصحابنا العراقيون. أظهرهما -وبه قال أبو إسحاق-: يلزمه الإتمام؛ لأنه شاكٌ في عدد ما يلزمه من الركعات فيأخذ باليقين. والثاني -وبه قال ابن سريج-: له القصر؛ لأنه افتتح الصَّلاة بنية القصر خلف من الظاهر من حاله القصر؛ ويتبين بما ذكرنا أن قوله في الكتاب: (ولو شك في أن إمامه هل نوى الإتمام وهو مسافر لم يلزمه الإتمام) ليس على إطلاقه، بل لو ظهر أن الإمام نوى الإتمام يلزمه الإتمام. وهل يشترط لعدم لزوم الإتمام ظهور نية القَصْر للإمام أم لا ¬
ويكفي استمرار التردد؟ فيه الوجهان المذكوران، والموافق لإطلاق اللفظ هو المنسوب إلى ابن سريج ولو قال حجة الإسلام. ولو شك أن إمامه هل نوى القصر بدلاً عن قوله: (هل نوى الإتمام) لكان أحسن؛ لأنه لو لم ينو الإتمام ولا القصر، كان بمثابة ما لو نوى الإتمام، كما سيأتي في الشرط الثاني. فإنما ثبت [الوجه] (¬1) إذا نوى القصر، لا إذا لم يَنْوِ الإتمام، وأما إذا لم يعرف أنه مسافر أو مقيم ولا ظن بل كان شاكاً فيه لزمه الإتمام وإن بَانَ مسافراً قاصراً؛ لأنه شرع على تردد فيما يسهل معرفته؛ لظهور شعار المسافرين والمقيمين، وسهولة البحث، والأصل الإتمام. فإذا قصر لزمه الإتمام، ويخالف التردد في نية القصر مع العلم بأنه مسافر، إذ لا تقصير ثم كما سبق، وحكى في "النهاية" وجهاً أخر أنه إذا بَانَ مسافراً قاصراً كان له القصر، كما لو تردد في النِّية، والمشهور الأول، وهو الذي ذكره في الكتاب. قال الغزالي: وَلَوِ اقْتَدَى بِمُقِيم ثُمَّ فَسَدَت صلاَتُهُ لَزِمَهُ (ح) الإِتْمَامُ، وَكَذَا لَوْ ظَنَّ الإِمَامَ مُسَافِراً فَكَانَ مُقِيماً لِأنَّهُ مُقصِرٌ إِذْ شِعَارُ الإقَامَةِ ظَاهِرَةٌ، وَلَو بَانَ أَنَّ الإِمَامَ مُقِيمٌ مُحْدِثٌ لَمْ يَلْزَمْهُ الإِتْمَامُ عَلَى الأَصَحِّ؛ لِأنَّهُ لاَ قُدْوَةَ ظَاهِراً وَبَاطِناً. قال الرافعي: في الفصل مسألتان: إحداهما: لو اقتدى بمقيم أو بمسافرٍ مُتِمٍّ ثم فسدت صلاة الإمام أو بَانَ محدثاً -لزمه الإتمام بالاقتداء به، وكذلك لو فسدت صلاة المأموم لزمه الإتمام- إذا استأنف خلافاً لأبي حنيفة. لنا أنها صلاة تعين عليها إتمامها، فلم يجزه بعد قصرها، كما لو فاتته في الحضر، ثم سافر. وقوله: (ثم فسدت صلاته) أراد صلاة المأموم. وإن أمكن صوت الكناية إلى الإمام أيضاً، وذلك بين من لفظ "الوسيط". الثَّانية: لو اقتدى بمن ظنه مسافراً فبان مقيماً يلزمه الإتمام لتقصيره؛ إذ شعار الإقامة ظاهر، وهو كما ذكرنا فيما إذا لم يدر أنه مقيم أو مسافر. وإن بأن أنه مقيم محدث نظر: إن بَانَ كونه مقيماً أو لا، لزمه الإتمام، كما لو اقتدى بمن علمه مقيماً، ثم بان أنه محدث، وإن بان كونه محدثاً أو لا أو بانا معاً فوجهان. أحدهما -وبه قال صاحب التلخيص-: لا يلزمه الإتمام؛ لأنه اقتداءه لم يصح في الحقيقة، وفي الظاهر ظنه مسافراً بخلاف ما لو اقتدى بمسافر في ظنه مسافراً، ثم ¬
فسدت صلاته بحدث، ثم بان أنه كان مقيماً عليه الإتمام؛ لأن اقتداء كان صحيحًا. والثاني: يلزمه الإتمام؛ لأن حدث الإمام لا يمنع صحة اقتداء الجاهل به، فإذا بَانَ أنه مقيم، فقد بَانَ أنه اقتدى بمقيم، وقد أطلق في الكتاب ذكر الخلاف فيما إذا بأن أنه مقيم محدث، لكن موضع الوجهين ما ذكرنا دون ما إذا بَانَ كونه مقيماً أو لا، كذلك قاله صاحب "النهاية" و"التهذيب" وغيرهما، ثم أطبق الأئمة على ترجيح الوجه الأول على ما ذكره في الكتاب، ومنهم من لا يورد سواه، وقد تنازعه كلامهم في المسبوق إذا أدرك الإمام في الركوع، ثم بَانَ كونه محدثاً، فإنهم رجحوا الإدراك. ومأخذ المسألتين واحد. وقوله: (لأنه لا قدوة ظاهراً وباطناً) أي لا قدوة بمقيم ظاهراً وباطناً، أما ظاهراً فلأنه ظنه مسافراً، وأما باطناً فلأنه محدث؛ وصاحب الوجه الثاني يمنع هذا. والله أعلم. ولا أثر لعدم الإتمام من غير خوض على الصِّحَّة، كما لو شرع في الصَّلاَة مقيماً، ثم بَانَ له أنه محدث ثم سافر -والوقت باق- فله القصر، بخلاف ما لو شرع فيها مقيماً ثم عرض سبب مفسد، لا يجوز له القصر، ولزمه الإتمام بالشروع، وكذا لو اقتدى بمقيم، ثم تذكر المأموم - حدث نفسه فله القصر وكذا لو اقتدى بمن يعرفه محدثاً ويظنه مقيماً؛ لأنه لم يصح شروعه. قال الغزالي: وَلَو رَعَفَ الإِمَامُ المُسَافِرُ وَخَلْفَهُ مُسَافِرُونَ فَاسْتَخلَفَ مُقِيمًا أَتَمَّ المُقْتَدُونَ، وَكذَا الرَّاعِفُ إِذَا عَادَ وَاقْتَدَى بِهِ. قال الرافعي: المسألة مبنية على أنه إذا أحدث الإمام أو عرض سبب آخر يوجب فساد صلاته يجوز له أن يستخلف مأمومًا ليتم بالقوم الصلاة، هذا هو الصحيح، وسنذكره والخلاف فيه في "باب الجمعة" إن شاء الله تعالى. إذا عرفت ذلك فصورة المسألة أن يؤم مسافر بمسافرين ومقيمين فيرعف (¬1) الإمام في صلاته أو يسبقه الحدث فيستخلف مقيماً - يجب على المسافرين المقتدين الإتمام، خلافاً لأبي حنيفة. ¬
لنا أنهم مقتدون بمقيم، فيلزمه الإتمام، كما لو اقتدوا بمقيم فأحدث واستخلف مسافراً، والدليل على أنهم مقتدون به أن سهوه يلحقهم. واعلم أن أئمتنا لم يذكروا خلافاً في أن القوم يتمون، لكن يأتي فيه وجه، لأنا سنحكي في مسائل الاستخلاف وجهاً أنه يجب على القوم نية الاقتداء بالخليفة، فعلى هذا إنما يلزم المأمومين في هذه المسألة إذا نووا الاقتداء بالخليفة، أما إذا لم يفعلوا فلا؛ لأنهم ما نووا الإتمام ولا اقتدوا بمقيم، وكان ما أطلقوه جواب على الأصح، وهو أنه لا حاجة إلى نية الاقتداء بالخليفة؛ وما ذكرناه يجوز إعلام قوله: (أَتَمَّ المقتدون) بالواو مع الحاء. وقوله في صورة المسألة: (وخلفه مسافرون) أي ومقيم أو مقيمون، ول تمحض المأمومون مسافرين - لكان استخلاف المقيم استخلاف غير المأمومين، وفيه كلام سنذكره من بعد، وأما الإمام الذي سبقه الرعاف أو الحدث ماذا يفعل؟ ظاهر نص الشافعي -رضي الله عنه- يقتضي وجوب الإتمام عليه، فإنه قال -بعد تصوير المسألة-: (كان على جميعهم والراعف أن يصلوا أربعاً) واعترض المزني فقال: إنما أتم الخليفة؛ لأنه مقيم والقوم خلفه؛ لأنهم مؤتمون بمقيم، فأما الراعف فليس بمقيم ولا مؤتم بمقيم، فما باله يتم؟ واختلف الأصحاب في الجواب على طريقتين، منهم من قرر ظاهر النَّص، وقال: يجب عليه الإتمام أيضاً؛ لأن الخليفة فرع له، ولا يجوز أن تكون صلاة الأصل أنقص من صلاة الفَرْع، حكاه ابن سريج عن بعض أصحابنا وضعفه، وسلم الجمهور للمزني ما ذكره، واختلفوا في تأويل النَّصِّ على وجوه. أحدها: أن ما ذكره الشَّافعي -رضي الله عنه- جواب على القول القديم، وهو إن سبق الحدث الرعاف لا تبطل الصلاة، لكنه يرفع المانع ويبني، فعلى هذا الراعف وإن انصرف فهو في صلاة وهو كالمؤتم بخليفة، وبتقدير أن لا يكون مؤتماً، فقد حصل في جماعة إمامها مقيم في بعض الأحوال، فيلزمه الإتمام لذلك؛ وهذا التأويل يحكى عن ابن سريج، وضَعَّفَه الشيخ أبو حامد وغيره من أئمتنا، ومنعوا كونه مؤتمًّا بالخليفة، وأنه إذا حصل في جماعة إمامها مقيم في بعض الأحوال يجب عليه الإتمام إذا لم يأتم هو به، وأيضاً فإن البناء على الصلاة إنما يجوز على القديم دون الجديد. والاستخلاف الذي عليه بناء المسألة إنما يجوز على الجديد دون القديم فلا ينتظم التفريع. الثاني: قال أبو غانم ملقى (¬1) وابن سريج: صورة النص أن يحس الإمام بالرعاف ¬
قبل أن يخرج الدّم، فيستخلف، ثم يخرج الدّم، فيلزمه الإتمام؛ لأنه صار مؤتمًا بمقيم في جزء من صلاته. قال المحافلي وغيره: وهذا لا يصح؛ لأنه استخلاف قبل وجود العذر، وأنه لا يجوز ذلك؛ وسئل الشيخ أبو محمد عنه فجعل الإحساس به عذراً، وقال: متى حضر إمام هو أفضل أو حاله أكمل يجوز استخلافه (¬1). الثالث: وقال أبو إسحاق: صورة النص أن يعود بعد غسل الدم، ويقتدي بالخليفة إما بناء على القول القديم وإما استئنافاً على الجديد، فيلزمه الإتمام؛ لأنه اقتدى بمقيم في جزء من صلاته؛ فأما إذا لم يقتد فلا يلزمه الإتمام، وهذا أصح الأجوبة عند الأكثرين. قالوا: وقد أشار إليه الشافعي -رضي الله عنه- في التعليل، حيث قال: لأنه لم يكمل واحد منهم الصلاة حتى كان فيها في صلاة مقيم. وقوله في الكتاب: (وكذا الراعف إذا عاد واقتدى) جرى على هذا الجواب الصّحيح فإنه قيد لزوم الإتمام باقتداءه بالخليفة. وقد نرى في بعض النّسخ إعلام هذه الكلمة بالزَّاي، وليس بصحيح، فإنه لا نزاع للمزني في لزوم الإتمام إذا اقتدى، نعم، يجوز أن يعلم قوله: (واقتدى) بالواو؛ إشارةً إلى الطريقة المقررة لظاهر النص، فإن الاقتداء ليس بِشَرْطٍ على تلك الطريقة. قال الغزالي: (الشَّرْطُ الثَّانِي) أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى نِيَّةِ القَصْرِ جَزْماً فِي جَمِيعِ الصَّلاَةِ فَلَوْ لَمْ يَنْوِ القَصْرَ وَلاَ الإتْمَامَ أَوْ شَكَّ فِي نِيَّةِ القَصْرِ وَلَوْ لَحْظَةً لَزِمَهُ (ز ح) الإِتْمَامُ. قال الرافعي: من شرط القصر نية القصر، فلو نوى الإتمام لزمه ما التزمه، ولو لم ينو القصر ولا الإتمام لزمه الإتمام أيضاً؛ لأن الأصل هو الإتمام فينعقد مطلق التحرم عليه، ويجب أن تكون نية القصر في ابتداء الصلاة كأصل النية، ثم لا يجب تذكرها في دوام الصَّلاة، ولكن يشترط الانفكاك عن الشَّكِّ والتردد والجزم بالإتمام، فلو نوى القصر أولاً ثم نوى الإتمام -أو تردد بين القصر والإتمام- لزمه الإتمام، ولو شك في أنه هل نوى القصر أم لا لزمه الإتمام، وإن تذكر في الحال أنه نوى القصر نص عليه في "الأم" بخلاف ما لو شك في أصل النِّيَّة ثم تذكر على القرب، حيث تصح صلاته ولا ¬
يكون ذلك قادحاً. والفرق أن الشَّكَّ في النية بمثابة عدم النية، فإذا كان الشَّك في أصل النية، فالموجود في زمان الشك غير محسوب عن الصلاة، لكنه جعل عذراً لقلته، وحسب عن الركن ما قبله أو بعده. وهاهنا الموجود حالةُ الشك محسبو عن الصلاة؛ لوجود أصل النية، فيتأدى ذلك الجزء على التمام، وإذا انعقد جزء من الصلاة على التمام. وعند أبي حنيفة لا حاجة إلى نية القصر بناء على أنه عزيمة. وقال المزني: لا بد منها، لكن لا تجب في الابتداء، ويجوز أن ينوي القصر في الأثناء، ولو نوى الإتمام ثم أراد القصر جاز. وقوله: "أن يستمر على نية القصر جزماً في جميع الصَّلاة"، يتضمن اعتبار نية القصر، ثم ليس المراد أنه يشترط استحضارها في جميع الصَّلاة، وإنما المراد ما ذكرنا أنه يشترط الخلو عن الشَّكِّ والتردد. وقوله: (في جميع الصلاة) يجوز أن يعلم بالزَّاي؛ لأن عنده لو كان جازماً في البعض بالإتمام، ثم نوى القصر جاز، وقوله: (لزمه الإتمام) معلم بالحاء والزاي؛ لما حكيناه. قال الغزالي: وَلَوْ قَامَ الإمَامُ إلَى الثَّالِثَةِ سَاهِياَ فَتَوَهَّم المُقْتَدِي أنَّهُ نَوَى الإتْمَامَ شَاكّاً لَزِمَهُ الإِتْمَامُ، وَلَوْ قامَ المُسَافِرُ إِلَى الثَّالِثَةِ والرَّابِعَةِ سَهْوًا سَجَدَ لِسَهْوِهِ، وَلاَ يَكُونُ مُتِمًّا بَلْ لَوْ قَصَدَ أَنْ يَجْعَلَهُ إِتْمَاماً فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ. قال الرافعي: في الفصل مسألتان: إحداهما: لو اقتدى بمسافر عرف أنه ينوي القصر أو ظنه، وصلّى ركعتين، فقام الإمام إلى ركعة ثالثة، نظر: إن علم أنه نوى الإتمام لزمه الإتمام، وإن علم أنه ساهٍ بأن كان حنفيًّا، لا يرى الإتمام، فلا يلزمه الإتمام، ويتخير بين أن يخرج عن متابعته ويسجد للسَّهْوِ وَيُسَلِّم، وبين أن ينتظر حتى يعود، ولو اتفق له أنه يتم أتم، لكن ليس له أن يقتدي بالإمام في سهوه، فإنه غير محسوب له، ولا يجوز الاقتداء بمن يعرف أن ما فيه غير محسوب له كالمسبوق إذا أدرك من آخر الصَّلاة ركعة فقام الإمام سهوًا إلى ركعة زائدة، لم يكن للمسبوق أن يقتدي به في تدارك ما عليه؛ ذكره في "النهاية" ولو شك في أنه قام ساهياً، أو متتماً فهذه مسألة الكتاب، وحكمها أن عليه الإتمام وإن بَانَ كونه ساهياً؛ لأن أحد المحتملين لزوم الإتمام، فيلزم كما لو شَكَّ في نية نفسه، وبخلاف ما لو شَكَّ في نِيةِ الإمام المسافر ابتداء حيث لم يلزمه الإتمام بذلك كما قدمناه؛ لأن النِّية لا يَطَّلِعُ عليها، ولم تظهر أمارةٌ مُشْعِرَةٌ بالإتمام، وهاهنا القيام فعل مشعر بالإتمام مخيل له.
وقوله: (شاكاً) في لفظ الكتاب لا ضرورة إليه، والغرض حاصل بقوله فيتوهم. وقوله: (لزمه الإتمام) يجوز أن يعلم بالحاء؛ لأنّا حكينا عن مذهب الإمام أبي حنيفة أن نِيَّة الإمام المسافر لا تلزم المأمومين القصر، فما ظنك بتوهمها. الثانية: لو نوى القصر وَصَلَّى ركعتين ثم قام إلى الثّالثة، نظر: إن حدث أمر موجب الإتمام كنية الإتمامْ أو نية الإقامة في ذلك الموضع، أو حصوله في دار الإقامة بانتهاء السفينة إليها، وقام لذلك - فقد أتى بما ينبغي وإن لم بحدث شيء من ذلك؛ فإن قام عمداً بطلت صلاته، كما لو قام المتم إلى ركعة خامسة، وكما لو قام المتنفل إلى ركعة زائدة قبل تغير النية، وإن قام سهواً ثم تذكر، فعليه أن يعود ويسجد لِلسَّهْوِ ويسلم؛ فلو بدا له بعد التذكر أن يتم عاد إلى القعود، ثم نهض مُتِمًّا، وفي وجه له أن يمضي في قيامه، ولو صلى ثالثة ورابعة سهواً وجلس للتشهد ثم تذكر سجد لِلسَّهْو -وهو قَاصِرٌ- ورَكْعَتَا السَّهْو غير محسوبتين بل يلزمه أن يقوم ويصلي ركعتين أخريين، ثم يسجد للسَّهْوِ في آخر صلاته؛ ويجوز أن يعلم قوله في الكتاب: (فليقم ويصل ركعتين أخريين) بالميم؛ لأن صاحب "البيان" حكى عن مالك أن المسافر إذا نوى القصر لم يكن له أن ينوي الإتمام ويزيد على نيته الأولى. وأعلم: أن لفظ الكتاب في أول النظر الثالث يوهم حصر شرط القصر في الاثنين المذكورين، لكن له شروط اُخر. منها: أن يكون مسافراً من أول الصَّلاة إلى آخرها، فلو نوى الإقامة في أثناء الصَّلاة، أو كان يُصَلِّي في السَّفِينة فانتهت إلى دار إقامته -لزمه الإتمام؛ لأن سبب الرخصة قد زال، فتزول الرخصة كما لو كان يصلِّي قاعداً لمرض فزال المرض يجب عليه أن يقوم؛ ولو شرع في الصَّلاة مقيماً، ثم سارت به السفينة، فكذلك يلزمه الإتمام، تغليباً للحضر في العبادة التي اشترك فيها الحضر والسفر، ولو شَكَّ هل نوى الإقامة أم لا، أو دخل بلدًا بالليل وشك في أنه مقصده أم لا؟ يلزمه الإتمام؛ لأنه شك في سبب الرخصة، والأصل الإتمام فصار كما لو شَكَّ في بقاء مدة المسح لا يمسح. ومنها: العلم بجواز القَصْر، فلو جهل جوازه وقصر لم يجزه؛ لأنه عابث في اعتقاده غير مصلي؛ يحكى ذلك عن نصه في "الأم" (¬1). ¬
الباب الثاني في الجمع
البَابُ الثَّانِي فِي الجَمْعِ قال الغزالي: وَالجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ، وَبَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ فِي وَقْتَيهِمَا جَائِزٌ بِالسَّفَر (زح) وَالمَطَرِ، وَهَلْ يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ قَوْلاَنِ. قال الرافعي: يجوز الجمع بين الظهر والعصر تقديماً في وقت الظهر، وتأخيراً في وقت العصر بعذر السفر، وكذلك الجمع بين المغرب والعشاء؛ لما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا جَدَّ بِهِ سَيْرٌ جَمَعَ بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ" (¬1). وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ يَجْمَعُ بَينَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السَّفَرِ" (¬2). وهذا في السَّفَرِ الطَّوِيلِ؛ وفي جواز الجمع في القصير قولان: أحدهما -وهو القديم-: أنه يجوز، وبه قال مالك -رضي الله عنه- لإطلاق حديث أنس -رضي الله عنه-، واعتباراً بالتنفل على الراحلة. وأصحهما -وبه قال أحمد -رحمه الله-: لا يجوز؛ لأنه إخراج عبادة عن وقتها، فاختص بالسفر الطويل كالفطر، والأفضل للسائر في وقت الصلاة الأولى تأخيرها إلى الثانية، وللنازل في وقت الأولى تقديم الثانية إليها. ثبت ذلك من فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمعنى فيه بين. وشرط جواز الجمع في السفر أن لا يكون سفر معصية، كما ذكرنا في القصر، ويجوز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بعذر المطر أيضاً؛ لما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ لِلْمَطَرِ" (¬3). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أن النبِي -صلى الله عليه وسلم- جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ سَفَرٍ" (¬4). قال مالك: أرى ذلك في المطر. وقوله: (لعذر السفر) معلم بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة لا يجوز الجمع بعذر ¬
السفر، ولا جمع إلا للنسك بعرفة، والمزدلفة كما سيأتي. وقوله: (والمطر) معلم بالحاء أيضاً والزَّاي، لأن عندهما لا جمع بالمطر، وبالميم؛ لأن عند مالك يجوز الجمع بين المغرب والعشاء بعذر المطر، ولا يجوز الجمع بين الظهر والعصر به، وبالألف؛ لأن أحمد صار في إحدى الروايتين إلى مثل مالك -رحمه الله-، وبالواو لأن الإمام ذكر أن صاحب "التقريب" (¬1) حكى قولاً ضعيفاً مثل مذهب مالك -رحمة الله عليه-، وقوله: (في وقتيهما جائز) يقتضي جواز التقديم والتأخير جميعاً بالعذرين السفر والمطر ولكن في جواز التأخير بعذر المطر خلاف ذكره في آخر الباب على ما سيأتي، والأظهر المنع، ولا يجوز الجمع بين صلاة الصبح وغيرها، ولا بين العَصْرِ والمغرب، لم يرد بذلك نقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال الغزالي: وَالحَجِيجُ يَجْمَعُونَ بِعِلَّةِ السَّفَر أوْ بِعِلَّةِ النُّسُكِ فِيهِ خِلاَفٌ. قال الرافعي: الْحُجَّاج الأفاقيون يجمعون بين الظهر والعصر بعرفَة في وقت الظهر، وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة في وقت العشاء، ثبت ذلك من فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه جرى الناس في الأعصار، واختلف أصحابنا في سبب هذا الجمع، منهم من قال: إنما يجتمعون بسبب السفر كسائر المسافرين، ومنهم من قال: إنما يجمعون بسبب النُّسك. وذلك أن الحاج يحتاج إلى الدعاء بعد الظهر، فلو لم تقدم العصر لشغلته عن الدّعاء، وإذا غربت الشمس فهو وقت الاشتغال بالدفع من عرفة، فجوز له الجمعان تكميلاً لشغل النسك، فإن قلنا بالمعنى الأول فهل يجمع المكي؟ فيه قولان؛ لأن سفره قصير، ولا يجمع العرفي بعرفة، ولا المزدلفي بالمزدلفة، فإنه في وطنه؛ وهل يجمع كل عنهما بالبقعة الأخرى؟ فيه القولان؟ وإن قلنا: بالمعنى الأول جاز لجميعهم الجمع فحصل للجمع سبب ثالث وهو النسك، ذكره كله صاحب "النهاية" وغيره؛ ومنهم من يقول: في جواز الجمع للمكي قولان: الجديد: المنع. والقديم: الجواز، ثم لم يجوز قيل للسفر وقيل للنسك، فإن فرعنا على القديم فهل للعرفي والمزدلفي الجمع؟ فيه وجهان بناء على المعنيين، وأصل الفرض في الإيرادين واحد وإن اختلفا في بعض الأمور؛ وقد عرفت بما ذكرنا أن قوله: (والحجيج يجمعون) يعني به الحجيج الآفاقيين، فأما غيرهم فالخلاف في حقهم في أصل الجمع لا في العلّة؛ وظاهر المذهب عند الأئمة أن العلةَ السفرُ وأن المكي والعرفي لا يجمعان. ¬
وعند أبي حنيفة: العلة النسك. وقال: لا يجوز الجمع بعرفة إلا في الجماعة، فأما المنفرد في رحله فلا يجمع، وجوز له الجمع بين العشائين بالمزدلفة، ولم يجوز ترك الجمع بالمزدلفة وفعل المغرب في وقتها، ولا الجمع بينهما في وقت المغرب، ولا الجمع بينهما في وقت العشاء في الطريق، وأوجب أن يكون ذلك بالمزدلفة، ولم يجوز أن يجمع بعرفة بين الظُّهْر والعصر في وقت العصر، لكن جَوَّز ترك الجَمْعِ وفعل العصر في وقتها، حكى الصيدلاني هذه المسائل مجموعة عن مذهبه. وعندنا الحكم في الجمع في البقعتين حكمه في سائر الأسفار، وهو فيه بالخيار. وعند مالك العلة النُّسُك، ولهم جميعاً الجمع، بل للمكي والعرفي في القصر أيضاً بعلة النسك. قال الغزالي: وَالرُّخَصُ المُخْتَصَّةُ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ أَرْبَعَةٌ: القَصْرُ وَالِفْطرُ، وَالمَسْحُ ثَلاثةَ أَيَّامِ، وَالجَمْعُ عَلَى أَصَحِّ القَوْلَيْنِ، ثُمَّ الصَّومُ أَفْضَلُ مِنَ الفِطْرِ، وَفِي القَصْرِ والإِتْمَامِ قَوْلاَنِ، وَالَّذِي لاَ يَخْتَصُّ بِالطَّوِيلِ أَرْبَعَة: التَّيَمُّمُ، وَتَرْكُ الجُمُعَةِ، وَأَكْلُ المَيْتَةِ، وَالتَّنَفُّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ عَلَى أَصَحِّ القَوْلَيْنِ. قال الرافعي: غرض الفصل شيئان: أحدهما: عد الرخص التي تختص بالسفر الطويل والتي لا تختص. والثاني: بيان أن القصر والفطر أفضل أم الإتمام والصوم؟ ولا اختصاص لواحد منهما بباب الجمع. والثاني: بيان القصر أليق، ثم إنه أدخل الثاني بين قسمي المقصد الأول [ولو أنه فرغ منهما ثم ذكره لكان أحسن، وكذلك فعل في "الوسيط" أما المقصد الأول] (¬1) فالرخص المختصة بالسفر الطَّويل أربع: إحداها: القصر كما تقدم. والثانية: الإفطار كما سيأتي. والثالثة: المسح ثلاثة أيام، وقد ذكرنا في باب المسح اختصاصه بالسفر الطويل، وإن لم يصرح به في الكتاب ثم. ¬
والرابعة: الجمع بين الصلاتين، وفيه قولان مذكوران في هذا الباب، وكان قد أرسل ذكر القولين في المسألة فنص ههنا على الأصح وأدرجه في هذا القسم تفريعاً عليه، والتي لا تختص بالسفر الطويل جعلها أربعًا أيضاً: إحداها: التيمم، وهذا يجوز أن يراد به الترخص من فعل الصلاة به، ويجوز أن يراد به إسقاط فرض الصلاة به، وعلى هذا التقدير فهو جواب على الأصح من وجهين ذكرناهما في "باب التيمم" وأن التيمم في السفر القصير، هل يغني عن القضاء أم لا؟ ثم على التقديرين ينبغي أن يعلم أن التيمم كما لا يختص بالسفر الطويل، لا يختص بنفس السفر، لما بيناه في ذلك الباب. الثانية: أكل الميتة وهو أيضاً مما لا يختص بالسفر نفسه. والثالثة: ترك الجمعة. والرابعة: التنفل على الراحلة، وفي جوازه في السَّفَرِ القصير قولان أرسلهما في باب الاستقبال، ونص على الأصح هاهنا، وأدرجه في هذا القسم تفريعاً عليه. وأما المقصد الثاني: فاعلم أن الصوم في السفر أفضلُ من الفطر على المذهب المشهور، لما فيه من تبرئة الذمة والمحافظة على فضيلة الوقت، وهذا إذا أطلق الصَّوْم. وفيه وجه آخر رواه القاضي الروياني وغيره، أن الفطر أفضل، وبه قال أحمد؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ" (¬1). وفي الأفضل من القصر والإتمام قولان: أحدهما -وبه قال المزني-: أن الإتمام أفضل؛ لأنه الأصل، والقصر بدل معدول إليه، فأشبه غسل الرجل مع المسح على الخف. وأصحهما -وبه قال مالك وأحمد-: أن القصر أفضل؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "خِيَارُ عِبَادِ اللهِ الَّذِينَ إِذَا سَافَرُوا قَصَرُوا" (¬2). ولأنه متفق عليه، والإتمام بخلافه، وبخلاف الصوم مع الفطر، حيث قلنا: الصوم أفضل وإن صار أهل الظاهر إلى أنه لا يصح. قال إمام الحرمين: لأن المحققين من علماء الشريعة لا يقيمون لمذهبهم وَزْناً، وذكر الصيدلاني أن القصر أَفْضَلُ من الإتمام، وفي الإفطار والصوم وجهان، وهذا يوهم ¬
القطع بأفضلية القَصْر، وكذلك حكاه الإمام عن الصيدلاني، واستبعده وأحاله على خطأ النساخ، [فإن] (¬1) ثبت ذلك فقوله: (قولان) معلم بالواو. والفرق بين الرخصتين حيث كان الصوم أفضل والقصر أفضل على الظاهر فيهما أن الذمة تبقى مشغولة بالصوم إذا أفطر، وقد يعرض عائق من القضاء، وفي القصر بخلافه وأيضاً فإن فضيلة الوقت تفوت بالإفطار ولا تفوت بالقصر، ونقل أبو عبد الله الحناطي وغيره في القصر والإتمام وجهاً آخر أنهما سواء، ثم القولان في المسألة وإن كانا مطلقين فلا بد من استثناء صور: إحداها: إذا كان سفره دون ثلاث مراحل فليس ذلك موضع القولين، بل الإتمام فيه أفضل للخروج عن الخلاف، وقد حكيناه من قبل عن نصه. والثانية: إذا كان يجد من نفسه كراهة القصر وثقله فهذا يكاد يكون رغبة عن السُّنة، فالأفضل له القصر قولاً واحداً، بل يكره له الإتمام إلى أن تزول عنه تلك الكراهية، وكذلك القول في جميع الرُّخَص في هذه الحالة. الثالثة: المَلاَّحُ الذي يسافر في البحر ومعه أهله وأولاده في سفينته الأفضل له الإتمام، لأنه في وطنه، يحكى ذلك عن نصه في "الأم"، وفيه خروج عن الخلاف أيضاً، فإن عند [أحمد] (¬2) لا يجوز له، وللمكاري (¬3) الذي معه أهله وماله القصر. واعلم: أن مسافة القصر في البحر مثل المسافة في البر وإن كانت تقطع فيه في لحظة ويجتهد فيها عند الشَّكِّ. قال الغزالي: ثُمَّ شَرَائِطُ الجَمْعِ ثَلاَثَةٌ: التَّرْتِيبُ، وَهُوَ تَقْدِيمُ الظُّهْرِ عَلَى العَصْرِ، وَنيَّةُ الجَمْعِ فِي أَوَّلِ الصَّلاَةِ الأُوَلى أَوْ فِي وَسَطِهَا، وَلاَ يَجُوزُ فِي أَوَّلِ الثَّانِيَةِ، وَالُوَالاةُ، وَهُوَ أَنْ لاَ يُفَرِّقَ بَيْنَ الصَّلاَتيْنِ بِأَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ إِقَامَةٍ، وَفِي هذِهِ الشَّرَائِطِ عِنْدَ الجَمْعِ بالتَّأْخِيرِ خِلاَفٌ. قال الرافعي: المسافر إذا جمع فإما أن يقدم الأخيرة من الصَّلاتين إلى وقت الأولى، أو يؤخر الأولى إلى وقت الأخيرة، فإن قدم فيعتبر فيه ثلاثة شرائط. إحداها: الترتيب، وهو تقديم الظهر على العصر والمغرب على العشاء؛ لأن الوقت للأولى والثانية تبع له، فيجب تقديم الأصل، فلو قدم العصر على الظهر لم ¬
يصح عصره ويعيدها بعد الظُّهْرِ، ولو قدم الظُّهْر وبان فسادها بسبب فالعصر فاسدة أيضاً. والثانية: نية الجمع، تمييزاً للتقديم المشروع على التقديم سهواً وعبثاً، ومتى ينوي الجمع نَصَّ في الجمع بالسفر أنه ينوي عند التحرم بالأولى أو في أثنائها، ونص في الجمع بالمطر أنه ينوي عند التحرم بالأولى، واختلف الأصحاب على طريقتين: إحداهما: تقرير النصين. والفرق أن نية الجمع ينبغي أن تقارن سبب الجمع؛ وداوم السَّفَرِ في الصلاة الأولى شرط فجيمعها وقت النية، وأما المطر فلا يشترط دوامه في الأولى كما سيأتي، ويتشرط في أولها، فتعين وقتاً للنية. وأصحهما -وبه قال المزني-: أن فيهما قولين نقلاً وتخريجاً: أحدهما: أنها شرط في الفصلين عند التحرم كنِيَّةِ اَلْقَصْرِ. وأصحهما: أنها لو وقعت في أثنائها جاز أيضاً؛ لأن الجمع هو ضم الثَّانِيَة إلى الأولى، فإذا تقدمت النِّيَّة على حالة الضم حصل الغرض، وتفارق نية القصر، لأنها لو تأخرت لتأدى بعض الصَّلاة على التمام، وحينئذ يمتنع القصر، وعلى هذا فلو نوى مع التَّحلُّلِ. قال الإمام: رأيت للأئمة تردداً فيه، كان شيخي يمنعه، وذكر الصيدلاني وغيره أنه يجوز؛ لوجود النية في الطرفين، الطرف الأخير من الظهر، والطرف الأول من العصر، وعلى هذا يَدِلُّ نَصُّ الشافعي -رضي الله عنه-، ثم قال المسعودي والصيدلاني وغيرهما: وخرج المزني قولاً ثالثاً: وهو أنه لو نوى بعد الكلام على قرب وصلى الصلاة الأخيرة جَازَ، كما لو سلَّم من اثنتين وقرب الوقت يبني، وإن طال فلا وهذا تخريج منه للشافعي -رضي الله عنه-، وحكوا عن مذهبه أن النية الجمع ليست مشروطة أصلاً، فإن الجمع معنى ينتظم الصلاتين، ولا عهد بنية تجمع بين صلاتين، وجعل الصيدلاني مذهبه وجهاً لأصحابنا، فليكن قوله في الكتاب: (ونية الجمع) معلماً بالزاي والواو، ويجوز أن يعلم قوله: (ولا يجوز في أول الثانية) بهما أيضاً. وقوله: "أو في وسطها" معلم الواو (¬1) للقول الصائر إلى اشتراط النية في أولها، واعتبار الوسط يقتضي المنع فيما إذا نوى مع التحلل إذ لا تكون النية حينئذ في الوسط، وهذا ما سبق عن الشَّيْخ أبي محمد، والظَّاهر عند الأكثرين خلافه. ¬
الثالثة: الموالاة فهي شرط خلافاً للإصطخري فيما حكى صاحب "التتمة" عنه حيث قال: يجوز الجمع وإن طال الفصل بين الصلاتين ما لم يخرج وقت الأولى منهما، ويروى مثله عن أبي عَلِيّ الثقفي. وقال الموفق بن طاهر: سمعت الشيخ آبا عاصم العبادي يحكي عن الإمام أنه لو صلَّى المغرب في بيته، ونوى الجمع، وجاء إلى المسجد وصلَّى العشاء فيه جاز، ووجه ظاهر المذهب ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "لَمَّا جَمَعَ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ وَالَى بَيْنَهُمَا وَتَرَك الرَّوَاتِبَ بَيْنَهُمَا" (¬1). لولا اشتراط الموالاة لما تركها، والمراد من الموِالاة أن لا يطول الفَصْلُ بينهما ولا بأس بالفصل اليسير؛ لأنَّهُ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أمْرُ الإقَامَةِ بَيْنَهُمَا" (¬2) [وبماذا يفرق بين الطَّوِيل واليَسِير؟ قال الصيدلاني: حده أصحابنا بِقَدْرِ إتيان المؤذن بالإقامة] (¬3) وهذا يوافق ما في الكتاب، فإنه قال: "وهي أن لا يفرق بين الصَّلاتَيْنِ بأكثر من قدر إقامة". وقال أصحابنا العراقيون: الرجوع في الفَصْلِ بينهما إلى العادة، وقد تقتضي العادة احتمال الزائد على قدر الإقامة، وتدل عليه مسألة وهي: أن المتيمم هل له الجمع؟ عن أبي إسحاق أنه ليس له الجمع؛ لأنه [يحتاج] إلى طلب الماء، وتجديد التيمم، وذلك يُطَوِّل الفصل بينما فصار كما لو طَوَّل بشيء آخر. وقال عامة الأصحاب: له الجمع كالمتوضئ يطلب للتيمم. الثاني: طلباً خفيفاً، ولا ينقطع به الجمع؛ لأنه من مصلحة الصلاة فأشْبَه الإقامة، وذكر في "التهذيب" أنه المذهب، ومعلوم أن الطلب والتيمم يزيدان على قدر الإقامة المشروعة على الإدراج فيجوز، أن يعلم قوله: (بأكثر من قدر إقامة) بالواو، ولما ذكرناه، ومتى طال الفصل بقدر ضم الثانية إليها فيؤخرها إلى وقتها، ولا فرق بين أن يطول من غير عذر أو بعذر كالسَّهْوِ والإغماء، ولو جمع بينهما ثم تذكر بعد الفراغ منها أنه ترك سجدة أو رُكْناً أخر من الصَّلاة الأولى بطلت الصلاتان جميعاً، أما الأولى فلترك بعض أركانها، وتعذر التدارك بطول الفصل، وأما الثانية فلأن شرط صحتها تقدّم الأولى، وإذا بطلتا فله أن يعيدهما على سبيل الجمع، ولو تذكر تركها من الثانية، فإن كان الفصل قريباً تدارك ومضت الصلاتان على الصِّحَّة، وإن طال الفصل فالثانية باطلة، وليس له الجمع لوقوع الفصل الطويل بالصلاة الثانية فيعيدها في وقتها، ولو لم يدر أنه ¬
ترك من الأولى والثانية لزمه إعادة الصَّلاتين جميعاً، لاحتمال أنه تركها من الأولى، ولا يجوز له الجمع لاحتمال أنه تركها من الثانية، فيعيد كل واحدة في وقتها أخذًا بالأسوأ من الطرفين، وحكي في "البيان" عن الأصحاب أنه يجيء فيه قول آخر أن له الجمع كما لو أقيمت الجمعتان في بلدة ولم يعرف السابقة منهما يجوز إعادة الجمعة في كل قول، هذا كله فيما إذا جمع بتقديم الثَّانية، أما إذا جمع بتأخير الأولى، فهل يجب الترتيب أم يجوز فعل الأخيرة قبل الأولى؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب كما لو جمع بالتقديم. وأصحهما -ولم يذكر كثيرون سواه- أنه لا يجب، ويجوز تقديم الثَّانية؛ لأن الوقت لها والأولى تبع، ولأنه لو أخر الظهر من غير عذر حتى دخل وقت العصر، كان له تقديم العصر، فإذا أخر بعذر كان أولى، وكذا في اشتراط الموالاة بينهما، وجهان: أصحهما: أَنَّهَا لا تشترط لشبه الأولى بخروج وقتها بالفائتة، وإن لم تكن فائتة، ولهذا قلنا: لا يؤذن لها كالفائتة وإن لم تكن فائتة، فإن قلنا باشتراط الترتيب، فلو قدم الصَّلاة الثانية صَحَّت لأنها في وقتها، لكن تفسير الأولى قضاء، وكذلك لو ترك الموالاة وشرطناها تفسير الأولى قضاء، حتى لا يجوز قصرها إن لم يجوز قصر القضاء، وأما نِيَّة الجمع عند التأخير فقد قال في "النهاية": إن شرطنا الموالاة فنوجب نية الجمع كما في الجمع بالتقديم، وإلا فلا نوجب نية الجمع، ويحكى هذا البناء عن القاضي الحسين -رحمه الله-، وهذا الخلاف في أنه هل ينوي الجمع عند الشروع في الصَّلاة، وأما في وقت الأولى فقد قال الأئمة: يجب أن يكون التأخير بنية الجمع، ولو أخر من غير نية الجمع حتى خرج الوقت عصى وصارت قضاء، وامتنع قصرها إن لم تجوز قصر القضاء، وكذا لو أخر حتى ضاق الوقت، فلم يبق إلا قدر لو شرع في الصَّلاة فيه لما كان أداء وقد سبق بيان ذلك. قال الغزالي: وَمَهْمَا نَوَى الإقَامَةَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ الأُولَى عِنْدَ التَّقْدِيمِ بَطُلَ الجَمْعُ، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الثَّانِيَةِ فَوَجْهَانِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الثَّانِيَةِ فَوَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ، وَأَوْلَى بأنْ لاَ تُبْطُلَ، هذَا فِي السَّفر. قال الرافعي: لو أراد الجمع بين الصلاتين بالتقديم فصار مقيماً في أثناء الأولى إما بنية الإقامة أو بانتهاء السفينة إلى دار الإقامة فيبطل الجمع، وكذا لو فرض ذلك بعد الفراغ منها وقبل الشروع في الثانية لزوال العذر قبل حصول سورة الجمع، ومعنى بطلان الجمع هاهنا أنه يتعين تأخير الثانية إلى وقتها، أما الأولى فلا تتأثر بذلك، ولو صار مقيماً في أثناء الثانية فوجهان:
أحدهما: أنه يبطل الجمع أيضاً كما لو صار مقيماً في أثناء صلاة القصر تبطل رخصة القصر، ويلزمه الإتمام، وعلى هذا هل الثانية تبطل أصلاً ورأساً، أو تبقى نفلاً؟ يخرج على القولين السابقين في نظائرها. والثاني -وهو الأظهر-: أنها لا تبطل، ويكفي اقتران العذر بأول الثَّانية صيانة لها عن البطلان بعد الانعقاد على وجه الرخصة بخلاف مسألة القصر، فإن وجوب الإتمام لا يؤدي إلى بطلان ما مضى من صلاته، ولو صار مقيماً بعد الفراغ من الثانية فقد أطلق في الكتاب فيه وجهين مرتبين على الوجهين فيما إذا صار مقيماً في خلالها. إن قلنا: لا تَؤُثر الإقامة ثُمَّ فهاهنا أولى، وإن قلنا: تؤثر ثُمَّ فهاهنا وجهان: أحدهما: أنها تؤثر؛ لأن الصَّلاة الفائتة مقدمة على وقتها كالزكاة تعجل قبل الحول، فإذا زال العذر وأدرك وقتها فليعد كما لو حال الحول، وقد خرج الأخذ عن الشَّرط المعتبر لا يعتد بما عجل. وأظهرهما: أنها لا تؤثر؛ لأن رخصة الجمع قد تَمَّت، فأشبه ما لو قصر ثم طرأت الإقامة لا يلزمه الإتمام، وخص صاحب "التهذيب" وآخرون الخلاف بما إذا طرأت الإقامة بعد الفراغ من الصَّلاتين، إما في وقت الأولى أو في وقت الثانية، ولكن قبل مضي إمكان [فعلها، فأما لو طرأت بعد مضي إمكان فعلها] (¬1). قالوا: لا يجب إعادتها وجهاً واحداً لبقاء العذر في وقت الوجوب، وتنزيل إطلاق الكتاب على ما ذكروه بَيِّن (¬2)، لكن صاحب النِّهاية صرح بإجزاء الوجهين ما دام يبقى من وقت الثانية شيء والله أعلم. وأما إذا جمع بينهما بالتأخير، ثم صار مقيماً بعد الفراغ منهما لم يصر، ولو كان قبل الفراغ [صارت] (¬3) الأولى قضاء ذكره في "التتمة" وغيره، وكأن المعنى فيه أن الصلاة الأولى تَبَع للثَّانية عند التأخير فاعتبر وجود سبب الجمع في جميعها. قال الغزالي: (أَمَّا المَطَرُ) فَيرَخَّصُ (ح ز) فِي القَدِيمِ فِي حَقِّ مَنْ يُصَلِّيِ بِالجَمَاعَةِ، فَأمَّا فِي المُنْفَرِدِ أَوْ مَنْ يَمْشِي إلَى المَسْجِدِ فِي رُكْنٍ فَوَجْهَانِ، وَفى التَّأْخِيرِ أَيْضاً وَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ لاَ يَثِقُ بِدَوَامِ المَطَرِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ وُجُودِ المَطَرِ فِي أَوَّلِ الصَّلاَتيْنِ، فَإِنْ انْقَطَعَ قَبْلَ الصَّلاَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ فِي أَثْنَائِهَا فَهُوَ كَنِيَّةِ الإِقَامَةِ. قال الرافعي: المطر سبب للجمع لما سبق، وللجمع طريقان التقديم والتأخير، ¬
فأما التقديم فجائز بالشراط المذكورة في التقديم بسبب السَّفَرِ، ولا فرق بين قوي المَطَر وضعيفه إذا كان بحيث يبل الثوب، والشَفّان -مطر وزيادة- والثّلج والبَرَد إن كانا يزوبان فهما كالمطر، وإلا فلا يرخصان في الجمع. وفيه وجه: أنه لا يرخصان فيه بحال اتباعاً للفظ المطر، ثم هذه الرخصة تثبت في حتى من يصلي في الجماعة، ويأتي مسجداً بعيداً يتأذى بالمطر في إتيانه، فأما إذا كان يصلي في بيته منفرداً أو في جماعة أو كان يمشي إلى المسجد في ركن، أو كان المسجد على باب داره أو النساء يصلين في بيوتهن، هل تثبت هذه الرخصة؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- جمع بِسَبَبِ المَطَرِ وَبُيُوت أزواجه بجنب المسجد. وأصحهما: لا؛ لأنه يتأذى بالمطر، وبيوت أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت مختلفة منها ما هو بجنب المسجد، ومنها ما هو بخلافه، فلعله حين جمع لم يكن في البيت الملاصق، ومن أصحابنا من ينقل بدل الوجهين قولين في هذه المسائل، وينسب الجواز إلى "الإملاء" والمنع إلى "الأم"، وأما التأخير، فهل يجوز بسبب المَطَرِ؟ روي في الكتاب فيه وجهان. وقال جمهور الأصحاب: فيه قولان: القديم: أنه يجوز كما في السَّفَرِ يجوز التقديم والتأخير جميعاً. والجديد: أنه لا يجوز؛ لأن استدامة السفر إليه متصورة واستدامة المطر متعذرة، فربما تمسك السماء قبل أن يجمع فإن جوزنا التأخير قال أصحابنا العراقيون: صلاها مع الثانية، سواء كان المطر متصلاً أو لم يكن، وذكر في "التهذيب" أنه لو انقطع المطر قبل دخول وقت الثانية، لم يجز الجمع وصلّى الأولى في آخر وقتها كالمسافر إذا أخر بنية الجمع ثم أقام قبل دخول وقت الثانية، وقضية هذا أن يقال: لو انقطع في وقت الثانية قبل فعلها امتنع الجمع أيضاً، وصارت الأولى قضاءً كما لو صار (¬1) مقيماً، وإذا قدم فلا بد من وجود المطر في أول الصلاتين ليتحقق الجمع مع العذر، وهل يجب مع ذلك وجوده في حالة التحلل عن الصَّلاة الأولى؟ نقل في "النهاية" عن المعظم أنه لا يجب، وعن أبي زيد أنه لا بد منه أيضاً ليتحقق اتصال آخر الأولى بأول الثانية مقروناً بالعذر، وهذا الثاني هو الذي ذكره أصحابنا العراقيون وصاحب "التهذيب" وغيرهم، ولا يضر بعد وجوده في الأحوال الثَّلاث انقطاعه في أثناء الصَّلاة الأولى أو في الثانية، أو بعد ¬
الثانية، فيحكى ذلك عن نص الشَّافعي -رضي الله عنه- وقطع به الأكثرون. قال إمام الحرمين: وحكى بعض المصنفين في انقطاعه في أثناء الثَّانية أو بعدها مع بقاء الوقت الخلاف الذي ذكرناه في طريان الإقامة إذا كان سبب الجمع السّفر، واستبعد ذلك وضعفه. وقال: إذا لم يشترط دوام المطر في الصلاة الأولى، فأولى أن لا يشترط في الثَّانية وما بعدها. ونعود إلى ما يتعلق بلفظ الكتاب: قوله: (فيرخص في التقديم) يجوز أن يعلم بالحاء والميم والزاي لما سبق في أول الباب، وذكر في "الإبانة" أن المطر يرخص في التأخير، وفي التقديم وجهان على عكس ما نقله الجمهور، فإن ثبت ذلك أحوج إلى الإعلام بالواو أيضاً. وقوله: (في التقديم) أراد به تقديم العصر إلى الظهر، والعشاء إلى المغرب معاً، وفي "النهاية" قول ضعيف عن حكاية صاحب "التقريب" أن الجمع بعذر المطر يختص بالمغرب والعشاء في وقت المغرب. [وقوله: (في حتى من يصلي بالجماعة) يشمل ظاهره الجماعة في المسجد وفي البيت، لكن لو صَلُّوا جماعة في بيت اجتمعوا فيه ففي جواز الجمع لهم وجهان كما سبق] (¬1). وقوله: (فأما في المنفرد) يشمل المنفرد في بيته وفي المسجد، وهو مجرى على إطلاقه، فقد حكى الصيدلاني الوجهين في الذين حضروا المسجد وصَلُّوا فُرَادَى، وجه المنع أن رخصة الجمع نقلت مرتبطة بالجماعة في المسجد، وقوله: (ولا بد من وجود المطر في أول الصلاتين) مشعر بالاكتفاء بذلك، على ما حكاه الإمام عن المعظم، لكن ظاهر المذهب أنه لا بد منه عند التحلل أيضاً، كما سبق ثم ينبغي أن يعلم قوله (في أول الصلاتين) بالواو؛ لأن القاضي ابن كج حكى عن بعض الأصحاب أنه لو افتتح الصَّلاة ولا مطر، ثم مطرت السَّماء في أثناء صلاته الأولى. فجواز الجمع على القولين في أنه إذا نوى الجمع في أثناء الأولى؛ هل يجوز الجمع أم لا؟ واختار ابن الصباغ هذه الطريقة. وقوله: (فإن انقطع قبل الصلاة، أو في أثنائها) عني به ما إذا لم يعد، أما إذا عاد في آخرها، فالجمع ماضٍ على الصِّحَّةِ؛ وقد صرح بهذا القيد في "الوسيط"، ثم القول ¬
بأنه كنية الإقامة، جواب على ما نقله في "النهاية" عن بعض المصنفين، ويجب وَسْمُه بالواو للطريقة الجازمة بأن ذلك لا يقدح، وهي التي قالها الأكثرون. فروع: أحدها: قال ابن كج: يجوز الجمع بين صلاة الجمعة والعصر بعذر المطر، ثم إذا قدم، فلا بد من وجود المطر في الحالات الثلاث كما بينا. قال في "البيان": ولا يشترط وجوده في الخُطْبَتَيْنِ، وقد تنازع فيه ذهاباً إلى تنزيلهما منزلة الركعتين، وإن أراد تأخير الجمعة، قال في "البيان": يجوز ذلك على قولنا، المطر يرخص في التأخير، فيخطب في وقت العصر، ويصلي؛ لأن وقت الثَّانية من صلاتي الجمع وقت الأولى. والثاني: المشهور أنه لا جمع بالمرض والخوف والوحل إذ لم ينقل أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- جمع بهذه الأسباب مع حدوثها في عصره. وعن مَالِكٍ وَأَحْمَدَ أنه يجوز الجمع بالمرض والوحل، وبه قال بعض أصحابنا، منهم أبو سليمان الخطابي، والقاضيِ الحسين، واستحسنه الروياني في الحلية؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ، مِنْ غَيرِ خَوْفٍ وَلاَ سَفَرٍ وَلاَ مَطَرٍ" (¬1) فعلى هذا يراعي الرفق بنفسه، فإذا كان يُحم مثلاً في وقت الثانية من الصلاتين. قدمها إلى الأولى بالشَّرائط التي سبقت، وإن كان يُحَمّ في وقت الأولى أخرها إلى الثانية. والثالث: في جمع الظهر والعصر يصلي سنة الظُّهْرِ، ثم سنة العصر، ثم يأتي بالفريقتين وفي جمع العشائين يصلي بعد الفرضين سنة المغرب ثم سنة العشاء ثم الوتر (¬2). ¬
كتاب الجمعة
كتَابُ الجُمُعَةِ وَفِيهِ ثَلاثَةُ أَبْوَابٍ الْبَابُ الأَوَّلُ قال الغزالي: فِي شَرَائِطِهَا وَهِيَ سِتَّةٌ: (الأَوَّلُ الوَقْتُ) فَلَوْ وَقَعَت تَسلِيمَةُ الإِمَامِ فِي وَقْتِ العَصْرِ فَاتَتِ الجُمُعَةِ، وَلَوْ وَقَعَ آخِرُ صَلاَةِ المَسْبُوقِ فِي وَقْتِ العَصْرِ جَازَ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ تَابَعَ فِي الوَقْتِ كَمَا فِي القُدْوَةِ. قال الرافعي: قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (¬1) الآية. وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَنْ تَرَكَ ثَلاَثَ جُمَع تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللهُ عَلَى قَلْبِهِ" (¬2) الجمعة فرض على الأعيان إذا اجتمعت الشرائط التي نذكرها، وحكى القاضي اَبنُ كِج عن بعض أصحابنا أنها فرض على الكفاية كصلاة العيدين، وذكر القاضي الروياني في "البحر" أن بعض أصحابنا زعم أنه قول للشافعي -رضي الله عنه-، وغلط ذلك الزَّاعم وقال: لا يجوز حكاية هذا عن الشافعي -رضي الله عنه-. إذا عرفت ذلك فاعلم أن الجمعة كسائر الفرائض الخمس في الأركان والشرائط، ولكنها تختص بثلاث خواص: أحدها: اشتراط أمور زائدة في صحتها. والثانية: اشتراط أمور زائدة في لزومها. والثالثة: آداب ووظائف تشرع فيها، فجعل الكتاب على ثلاثة أبواب كل واحد في خاصية منها. الباب الأول: في شروط الصحة: ¬
أحدها: الوقت، فلا مدخل للقضاء في الجمعة على صورتها بالاتفاق، بخلاف سائر الصلوات فإن الوقت ليس شرطاً في نفسها، وإنما هو شرط في إيقاعها أداءاً وقتها وقت الظهر خلافاً لأحمد حيث قال: يجوز فعلها قبل الزَّوال، واختلف أصحابه في ضبط وقته، فَمِنْ قَائِلِ: وقتها وقت صلاة العيدين، وَمِنْ قَائِلٍ، يقول: إنما تقام في السَّاعة السادسة. لنا: ما روي عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ" (¬1). وقد ثبت عنه أنه قال: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" (¬2). وإذا خرج الوقت أو شك في خروجه فلا سبيل إلى الشروع فيها، ولو أغفلوها إلى أن لم يبق من الوقت ما يسع الخطبتين وركعتين يقتصر فيهما على ما لا بد منه، لم يشرعوا فيها وصلّوا الظهر، نص عليه في "الأم"، ولو شرعوا فيها في الوقت ووقع بعضها خارج الوقت فأتت الجمعة خلافاً لمالك وأحمد، هكذا أطلق أكثر أصحابنا النقل عنهما، وفصَّل الصيدلاني مذهب مالك، فقال: عنده إن صلوا ركعة ثم خرج الوقت أتموا الجمعة وإلا فقد فاتت. لنا: أنها عبادة لا يجوز الابتداء بها بعد خروج وقتها، فتنقطع بخروج الوقت كالحج، وأيضاً فإن الوقت شرط في ابتداء الجمعة، فيكون شرطاً في دوامها كدار الإقامة، ثم إذا فاتت الجمعة فهل يتمها ظهراً، أم لا؟ ظاهر المذهب أنه يجب عليه أن يتمها ظُهْراً، ولا بأس ببنائها عليها؛ لأنهما صلاتا وقت واحد فجاز بناء أطولهما على أقصرهما؛ كصلاة الحضر مع السَّفَرِ، [وخرج] (¬3) فيه قول آخر: أنه لا يجوز بناء الظهر على الجمعة بل عليهم استئناف الظهر، وبه قال أَبُو حَنِيفَةَ، وبنوا هذا الخلاف على الخلاف في أن الجمعة ظهر مقصورة أم هي صلاة على حيالها؟ إن قلنا بالأول جاز البناء، وإلا فلا، وسيعود هذا الأصل في مواضع من الباب فإن قلنا: بظاهر المذهب فيسر بالقراءة من حينئذ، ولا يحتاج إلى تجديد نية الظهر على أصح الوجهين، ذكره في "العدة" على أن حكينا وجهاً ضعيفاً، أن الظهر تصح بنية الجمعة ابتداءً فهاهنا أولى. وإن قلنا: لا بد من استئناف الظهر فهل تبطل صلاته أم تنقلب نفلاً؟ فيه قولان مذكوران في نظائرها، ولو شك في صلاته هل خرج الوقت أم لا؟ فوجهان: أحدهما: يتمها جمعة وبه قال الأكثرون؛ لأن الأصل بقاء الوقت، وصار كما لو شَكَّ بعد الفراغ فيه. ¬
والثاني: أنه يتمها ظهراً؛ لأنه شَكَّ في شرط الجمعة قبل تمامها ومضيها على ظاهر الصِّحَّة، فيعود إلى الأصل وهو الظهر، وهذا كله في حق الإمام والمأمومين الموافقين فأما المسبوق الذي أدرك معه ركعة لو قام إلى تدارك الركعة الثَّانية فخرج الوقت قبل أن يسلم هل تفوت جمعته؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم، كما في حق غيره. والثاني: لا؛ لأنه تابع للقوم، وقد صحت جمعتهم، فصار كالقدوة فإنها من شرائط الجمعة، ثم هي محطوطة عنه تبعاً لهم وكذلك العدد، ومن قال بالأول فرق بأن اعتناء الشرع برعاية الوقت أكثر، ألا ترى أن أقوال الشافعي -رضي الله عنه- اختلفت في الانقضاض، وإن اختلفت الجماعة، ولم يختلف قوله في أنه إذا وقع شيء من صلاة الإمام بعد خروج الوقت فاتت الجعة. وقوله: (فلو وقع تسليم الإمام) المراد التسليمة الأولى، فإن الثَّانِيَة غير معدودة من نفس الصَّلاة، بل من لَوَاحِقِها، ولهذا لو قارنها الحدث لم تبطل صلاته، ولعلك تقول: لم قيد بتسليمة الإمام، وما الحكم لو وقعت تسليمة الإمام في الوقت وتسليمة القوم، أو بعضهم خارج الوقت، فاعلم أن التعرض لتسليمة الإمام قد جرى في كلام الشَّافعي -رضي الله عنه- في "المختصر" كما ذكره في الكتاب، ولم أر فيما وجدته من الشروح بحثاً عنه، ويمكن أن يكون التعرض له باعتبار أن وقوع تسليمة الإمام خارج الوقت موجب فوات الجمعة في البقعة مطلقاً، فإنه إذا كان سلامه بعد الوقت فسلام غيره يكون بعد الوقت أيضاً، فأما إذا وقع سلامُه في الوقت وسلام بعضهم بعده فالمُسَلِّمُون خارج الوقت لا شك في أن ظاهر المذهب بطلان صلاتهم، وإن فرض فيه خلاف، وأمما الإمام والمُسلِّمون معه إن بلغوا العدد المعتبر في الجمعة فجمعتهم صحيحة، وإلا فالصورة تشبه مسألة الانفضاض -والله أعلم-. واعلم أنه سلامه الواقع في وقت العصر إن كان قد علم منه بالحال فيتعذر بناء الظهر عليه لا محالة، وتبطل صلاته إلا أن يغير النِّية إلى النَّفل ثم يسلم ففيه ما سبق في موضعه، وإن كان عن جهل منه فلا تبطل صلاته، وهل يبنى أو يستأنف؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه. قال الغزالي: الثَّانِي دَارُ الإقَامَةِ فَلاَ تُقَامُ الجُمُعَةُ فِي الصَّحَارِي (ح) وَلاَ فِي الخِيَامِ (و) بَلْ تُقَامُ فِي خُطَّةِ قَرْيَةٍ (ح) أَوْ بَلْدَةٍ إِلَى (¬1) حَدٍّ يَتَرَخَّصُ المُسَافِر إِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ. ¬
قال الرافعي: يشترط إقامة الجمعة في دار الإقامة خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: يجوز إقامتها خارج البلد حيث تقام صلاة العيد، وبه قال أَحْمَدُ. لنا: القياس على الموضع البعيد عن البلد، فإن كل واحد منهما خارج عن البلد، وأيضاً فَإِنَّ الجُمُعَةَ لم تَقُمْ فِي عَصْرِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ فِي عَصْرِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- إِلاَّ فِي مَوَاضِعِ الإقَامَةِ (¬1)، وَلَوْلاَ أنه شرط لأشبه أن يقيموها في غيرها كسائر الجماعات، والمراد من دار الإقامة الأبنية التي يستوطنها المقيمون للجمعة، سواء في ذلك البلاد والقرى والسراب التي تتخذ وطناً، ولا فرق بين أن تكون الأبنية من حَجَرٍ، أو طِينٍ، أو خَشَبٍ؛ وأهل الخيام النازلون في الصحراء لا يقيمون الجمعة، فإنه إذا جاء الشتاء أْحوجهم إَلى الانتقال، فليسوا بمقيمين في ذلك الموضع، وإن اتخذوه وطنًا لا يبرحون عنه شتاءً ولا صيفاً ففيه قولان: أحدهما: أنه تلزمهم الجمعة، ويقيمون في ذلك الموضع؛ لأنهم استوطنوه. وأصحهما: لا؛ لأن قبائل العرب كانوا مقيمين حول المدينة وما كانوا يصلُّون الجمعة، ولا أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، وهذا لأنهم على هيئة المسافرين، وليس لهم أبنية المستوطنين. ولو انهدمت أبنية البلدة أو القرية فأقام أهلها على العمارة (¬2) لزمهم إقامة الجمعة فيها، فإنهم في دار إقامتهم، سواء كانوا في مَظالّ أو غيرها، وكذا لو كانت الأبنية باقية، وليس من الشرط إقامتها في كنّ أو مسجد، بل يجوز إقامتها في فضاء معدودة من خطة البلدة غير خارج عنها؛ لأن الجماعة قد تكثر ويعسر اجتماعها في محوط، أما الموضع الخارج الذي إذا انتهى إليه من ينشئ السفر من البلدة كان له القَصْر لا يجوز إقامة الجمعة فيه على ما سبق، وهذا هو الذي أراد بقوله: (إلى حد بترخص المسافر إذا انتهى إليه) واستعمال (إلى) هاهنا نحو استعمالها في قول الله تعالى جده: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬3) فليس الحد المذكور داخلاً في الخطة. وقوله: (في الصحاري) معلم بالحاء والألف لما قدمناه، ويجوز وضعهما على قوله: (في خطة قرية أو بلدة) أيضاً، (ولا في الخيام) معلم بالواو؛ للقول الذي سبق حكايته. قال الغزالي: الثَّالِثُ أَنْ لا تَكُونَ الجُمُعَةُ مَسْبُوقَةً بِجُمُعَةٍ أُخْرَى، فَلَوْ عُقِدَتْ ¬
جُمْعَتَانِ فالَّتِي تَقَدَّمَ تكْبِيرُهَا هِيَ الصَّحِيحَةُ، وَقِيلَ: الْعِبْرَةُ بِتَقَدُّمِ السَّلاَمِ، وَقِيلَ بِتَقَدُّمِ أَوَّلِ الْخُطْبَةِ، فَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ فِي الثَّانِيَةِ فَهِيَ الصَّحِيحَةُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لِكَيْلاَ يَقْدِرَ كُلُّ شِرْذِمَة عَلَى تَفْوِيتِ الجُمُعَةِ عَلَى الأكْثَرِينَ، وَإِنْ وَقَعَتِ الجُمْعَتَانِ مَعاَ تَدَافَعَتَا فَتُسْتَأْنَفُ وَاحِدَةٌ، وَكَذَا إِنْ أَمْكَنَ التَّلاَحُقُ وَالتَّسَاوُق، فَإِنْ تَعَيَّنَتِ السَّابِقَةُ ثُمَّ الْتَبَسَتْ فَاتَتِ (وز) الجُمُعَةُ وَوَجَبَ (ز) الظُّهْرُ عَلَى الجَمِيعِ، وَلَوْ عُرِفَ السَّبْقُ وَلَمْ تَتَعَيَّنِ اسْتُؤنِفَتِ الجُمُعَةُ (و) وَمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ كَأَنَّهُ لَمْ يُسْبَقْ، وَفِيهِ قَوْلٌ (¬1) آخَرُ: أَنَّ الجُمُعَة فَائتَةٌ. قال الرافعي: قال الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه-: ولا يجمع في مصر وإن عظم وكثرت مساجده إلاَّ في مسجد واد، وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء بعده لم يفعلوا إلا كذلك، وإذا لم تجز إقامتها في مساجد البلد كسائر الجماعات، واحتمل تعطل المسجد عرف أن المقصود إظهار شعار الاجتماع، واتفاق كلمة المسلمين فليقتصر على الواحد؛ لأنه أفضى إلى هذا المقصود؛ ولأنه لا ضبط بعد مجاوزة الواحد، وتكلم الأصحاب في أمر "بغداد"، فإن أهلها لا يقتصرون على جمعة واحدة، وقد دخلها الشافعي -رضي الله عنه- وهم يقيمون الجمعة في موضعين. وقيل: في ثلاثة فلم ينكر عليهم، وذكروا فيه وجوهاً. أحدها: أن الزيادة على الواحدة إنما جازت في بغداد؛ لأن نهرها يحول بين شِقَّيْهَا، فيجعلها كبلدين، قاله أبو الطيب بن سلمة، وعلى هذا لا يقام في كل جانب إلا جمعة واحدة، وكل بلدة حال بين جانبها نهر يحوج إلى السباحة والزوارق فهي بمثابة بغداد، واعترض الشيخ أبو حامد على هذا فقال: لو كان الجانبان كالبلدين لجاز القصر لمن عبر من أحد الجانبين إلى الآخر، وإن لم يجاوز ذلك الجانب وابن سلمة فيما حكى القاضي ابن كج الزم هذه المسألة فالتزمها، وقال: يجوز له القصر. والثاني: أن الزيادة على الواحدة إنما جازت لأنها كانت ترى متفرقة، ثم اتصلت الأبنية فأجرى عليها حكمها القديم، وعلى هذا يجوز التعديد في كل بلدة كانت كذلك، واعترض الشيخ أبو حامد عليه بمثل ما اعترض به على الوجه الأول، وربما يلتزم الصائر إليه جواز القصر أيضاً، فإن الإمام حكى عن صاحب "التقريب" أنه قال: يجوز أن يقال، على هذا، إذا جاوز الهام بالسفر قرية من تلك القرى ترخص. والثالث: أنها إنما جازت؛ لأن بغداد بلدة كبيرة يشق على أهلها الاجتماع في موضع واحد وعلى هذا تجوز الزيادة على الجمعة الواحدة في سائر البلاد إذا كَثُر ¬
النَّاس، وعَسُر اجتماعُهم، وبهذا قال ابْنُ سُرَيْجٍ وأبو إسحاق وهو مذهب أحمد. والرابع: أن الزيادة لا تجوز بحال، وإنما لم ينكر الشافعي -رضي الله عنه- في بغداد لما دخلها؛ لأن المسألة مسألة اجتهادية، وليس بعض المجتهدين الإنكار على سائرهم (¬1)، وهذا الوجه الرابع يوافق إطلاق الكتاب حيث قال: (إن لا تكون الجمعة مسبوقة بأخرى) فإنه لم يفصل بين بلدة وبلدة وهو ظاهر نص الشافعي -رضي الله عنه- الذي قدمناه، ورأى الشَّيخ أبو حامد وطبقته الاقتصار عليه مذهباً، لكن الذي اختاره أكثر أصحابنا تعريضاً وتصريحاً: إنما هو الوجه المنسوب إلى ابن سريج وأبي إسحاق، وهو تجويز التعديد عند كثرة النَّاس والازدحام، ومِمَّن رَجَّحِهُ القاضي ابن كج والحناطي والقاضي الروياني، وعليه يدل كلام حُجَّة الإسلام في "الوسيط" مع تجويزه للنهر الحائل أيضاً، ولا يخفى مما ذكرناه، أنه ينبغي أن يُعَلم قوله: (أن لا تكون الجمعة مسبوقة بأخرى) بالألف والواو؛ لأنه مُطْلَقٌ، والوجوه المذكورة تنازع فيه سوى الوجه الأخير، إذا عرف ذلك فمتى منعنا من الزيادة على جمعة واحدة فزادوا وعقدوا جمعتين فله صور: إحداها: أن تسبق إحداهما الأخرى، فالسابقة صحيحة لاجتماع الشرائط فيها، واللاحقة باطلة لما ذكرنا أنه لا مزيد على واحدة وبماذا يعتبر السبق فيه ثلاثة أوجه: أصحها: أن الاعتبار بالتحرم، فالتي سبق عقدها على الصحة هِيَ الصحيحة، وإن تقدمت الثانية في الخطبة أو السلام. والثاني: أن الاعتبار بالسَّلام، فالتي سبق التحلل عنها هي الصحيحة؛ لأن الصلاة إذا وقع التحلل عنها أمن عروض الفساد لها، بخلاف ما قبل التحلل فكان الاعتبار به أولى. والثالث: أن الاعتبار بالخوض في الخطبة فالتي تقدم أول خطبتها هي الصَّحيحة. قال الإمام: وهذا ملتفت إلى أن الخطبتين بمثابة ركعتين، ولم يحك أكثر أصحابنا العراقيين سوى الوجه الأول والثاني: ونقلهما صاحب "المهذب" قولين. وقوله في الكتاب: (فالتي تقدم تكبيرها هي الصحيحة) يقع على تمام التكبير حتى لو سبقت إحداهما بهمزة التكبير والأخرى بالراء منه، فالصحيحة هي التي سبقت بالراء؛ لأنها التي تقدم تكبيرها، وهذا هو أصح الوجهين، وفيه وجه آخر أنه ينظر إلى أول التكبير، ثم على اختلاف الوجوه لو سبقت إحداها الأخرى لكن كان السلطان مع ¬
الأخرى، فقد حكى صاحب الكتاب والإمام فيه وجهين، والجمهور نقلوهما قولين: أظهرهما: أن الصَّحِيحَة هي الأولى، كما لو لم يحضر السلطان في وأحدة منهما، وكما لو كان ثَمَّ أميران وكان كل واحد منهما في واحدة. والثاني: أن الصحيحة هي الثانية منعاً للآخرين من التقدم على الإمام، ولو لم نقل بهذا لأدى إلى أن تفوت كل شرذمة تنعقد بهم الجمعة فرض الجمعة على أهل البلد، ولو شَرَعَ الناس في صلاة الجمعة فأخبروا أن طائفة أخرى سبقتهم بها وفاتت الجمعة عليهم، فالمستحب لهم استئناف الظهر، وهل لهم أن يتموها ظهراً؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه فيما إذا خرج الوقت في أثناء الجمعة. الصُّورة الثانية: أن تقع الجمعتان معاً فيتدافعان وتستأنف واحدة إن ومع الوقت. الثالثة: أن يشكل الحال فلا يدري أوقعتا معاً أو سبقت إحداها الأخرى؟ فيعيدون الجمعة أيضاً؛ لجواز وقوعهما معاً، والأصل عدم الجمعة المجزئة، قال إمام الحرمين: وقد [حكمت] (¬1) الأئمة بأنهم إذا أعادوا الجمعة برئت ذمتهم، وفيه إشكال؛ لأنه يجوز تقدم إحدى الجمعتين على الأخرى، وعلى هذا التقدير لا يصح عقد جمعة أخرى ولا تبرأ ذمتهم بها، فسبيل اليقين أن يقيموا جمعة ثم يصلوا الظهر. الرابعة: أن تسبق إحدى الجمعتين على التعيين، ثم يلتبس فلا تخرج واحدة من الطَّائفتين عن العهدة خلافاً للمزني. لنا: أنه ليس في الطائفتين من يتيقن صحَّة جمعته، والأصْلُ بقاء الفرض في ذِمَّتِهِمْ، ثُمَّ إذا لم يخرجوا عن العُهْدَة فماذا يفعلون؟ فيه طريقان: أظهرهما فيه -وهو المذكور في الكتاب-: أنه ليس لهم إعادة الجمعة؛ لأن إحدى الجمعتين في البلد قد صحت على [اليقين] (¬2) فلا سبيل إلى الزيادة، ولكن يُصَلُّون الظُّهْرَ. والثَّاني: أنه على الخلاف الذي نذكره في الصورة الخامسة، وهذا هو الذي ذكره العراقيون. وقوله: (فاتت الجمعة) أراد به بطلانها على الطائفتين وافتقارهما إلى فعل الظهر (¬3)، وإلا فالجمعة السابقة صحيحة، وليكن معلماً بالزاي والواو لما ذكرناه. الخامسة: أن تسبق إحداها ولا يتعين كما إذا سمع مريضان، أو مسافران تكبيرتين ¬
متلاحقتين، وهما خارج المسجد فأخبراهم بالحال ولم يعرفا أن المتقدمة تكبيرة من؟ فلا يخرجون عن العهدة أيضاً، لما ذكرنا في الرابعة، وقد نقل خلاف المزني هاهنا أيضاً، ثم ماذا يفعلون؟ فيه قولان: أظهرهما: في "الوسيط" أنهم يستأنفون الجمعة إن بقى الوقت؛ لأن الجمعتين المفعولتين باطلتان غير مجزئتين؛ وكأنه لم يقم في البلدة جمعة أصلاً. والثاني: وهو رواية الربيع بأنهم يُصَلُّون الظُّهْرَ؛ لأن إحدى الجمعتين صَحِيحة في علم الله تعالى، وإنما لم يخرجوا عن العُهْدَة للإشكال (¬1). قال الأصحاب: وهذا هو القياس. هذا تمام الصور وهي يأسرها مذكورة في الكتاب، ولهذه الصور الخمس نظائر في نكاحين عقدهما وَلِيّان على امرأة واحدة، وستأتي في موضعها -إن شاء الله تعالى- وإن أردت حصرها قلت: إذا عقدت جمعتان فإما أن لا يعلم حالهما في التَّساوق والتلاحق، أو يعلم، وعلى هذا فإما أن يعلم تساوقهما أو سبق إحداهما على الأخرى. وعلى هذا فإما أن يعلم ذلك في واحدة لا على التعيين، أو في واحدة معينة، وعلى هذا فإما أن يستمر العلم أو يعرض التباس، ثم قال أصحابنا العراقيون: لو كان الإمام في إحدى الجمعتين في الصور الأربع الأخيرة ترتب على ما ذكرنا في الصورة الأولى إن قلنا: الصحيحة هي التي فيها الإمام مع تأخيرها، فهاهنا أولى، وإلا فلا أثر لحضوره والحكم كما لو لم يكن مع واحد منهما. قال الغزالي: الرَّابعُ: العَدَدُ فَلاَ تَنْعَقِدُ الجُمُعَةُ بِأقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ (ح م) ذُكُورٍ مُكَلَّفِينَ أَحْرَارٍ (ح) مُقِيمِينَ (ح) لاَ يَظْعَنُونَ شِتَاءً وَلاَ صَيْفاً إلاَّ لِحَاجَةٍ، وَالإِمَامُ هُوَ الحَادِي وَالأَرْبَعُونَ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ. قال الرافعي: لا تنعقد الجمعة بأْقل من أربعين. وبه قال أحمد خلافاً لأبي حنيفة، حيث قال: تنعقد بأربعة أحدهم الإمام، واختلفت رواية أصحابنا عن مالك، فمنهم من روى عنه مثل مذهبنا، ومنهم من روى أن الاعتبار بعدد يعد بهم الموضع قرية، ويمكنهم الإقامة فيه، ويكون بينهم البيع والشراء، ونقل صاحب "التلخيص" قولاً عن القديم: أن الجمعة تنعقد بثلاثة إمام ومأمومين، وعامة الأصحاب لم يثبتوه. لنا: ما روي عن جابر -رضي الله عنه- أنه قال: "مَضَتِ السُّنَّةُ أنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ¬
فَمَا فَوْقَهَا جُمُعَةً" (¬1). وعن أبى الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذَا اجْتَمَعَ أَرْبَعُونَ رَجُلاً فَعَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ" (¬2). أورده في "التتمة"، وذكر القاضي ابن كج أن الحناطي روى عن أبي أمامة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ جُمُعَةَ إِلاَّ بِأرْبَعِينَ" (¬3). وليكن قوله: (ولا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين) معلماً -لما حكيناه- بالميم والحاء والواو، ثم نعتبر في الأربعين أربع صفات، الذُّكورة، والتكليف، والحرية، والإقامة المعتبر، الإقامة على سبيل التَّوَطَّنِ، وصِفَتُهُ أن لا يَظْعَنُوا عن ذلك الموضع شتاءً ولا صيفًا إلا لحاجة، فلو كانوا ينزلون الموضع صيفاً ويرتحلون عنه شتاء، أو بالعكس فليسوا بمتوطين، ولا تنعقد الجمعة بهم، وحكى ابن الصباغ أن أبا حنيفة يقول: بانعقادها (¬4) بأربعة من العبيد، وبأربعة من المسافرين، واحتج عليه بأن من لا تلزمه الجمعة لا تنعقد به الجمعة كالنِّسَاء، وأعلم لذلك كلمتي: (أحرار، مقيمين بالحاء، إشارة إلى أن الحرية، والإقامة لا يشترطان في العدد المعتبر عنده، وفي الانعقاد بالمقيم الذي لم يجعل الموضع [وطئًا] (¬5) خلاف سنذكره في الباب الثالث، وهل تنعقد الجمعة بالمرضي؟ المشهور أنها تنعقد لِكَمَالِهِمْ، وإنما لم تجب عليهم تخفيفاً، وهذا هو المذكور في الكتاب في الباب الثاني، ونقل ابن كج عن أبي الحسين أن الشَّافعي -رضي الله عنه- قال في موضع: لا تنعقد الجمعة بأربعين مريضاً كالمسافرين والعبيد، فعلى هذا صفة الصّحة تعتبر مع الصفات المذكورة في الكتاب، ثم عدد الأربعين معتبر مع الإمام أو هو زائد على الأربعين فيه وجهان: أصحهما: أنه من جملة الأربعين لما ذكرنا من الأخبار فإنها لا تفصل بين الإمام وغيره. والثاني: أنه زائد على الأربعين، لما روي: أنه -صلى الله عليه وسلم-: "جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَجْمَعْ ¬
بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ" (¬1). وهذا يشعر بزيادته على الأربعين، وقد حكى القاضي الروياني الخلاف في المسألة قولين: القديم: أنه زائد على الأربعين. قال الغزالي: وَلَوِ انْقَبَضَّ القَوْمُ فِي الخُطْبَةِ لَمْ يَجُزْ (خ) لِأَنَّ إِسْمَاعَهَا أَرْبَعِيْنَ رَجُلاً وَاجِبٌ، فَإِنْ سَكَتَ الخَطِيبُ ثُمَّ بَنَى عِنْدَ عَوْدِهِمْ مَعَ طُولِ الفَصْلِ فَقَدْ فَاتَتِ المُوَالاةُ، وَفِي اشْتِرَاطِهَا قَوْلاَن، وَكَذَلِكَ فِي اشْتِرَاطِهَا بَيْنَ الخُطْبَةِ وَالصَّلاةِ. قال الرافعي: العدد المعتبر في الصَّلاَة وهو الأربعون مُعْتَبَرٌ في الكلمات الواجة من الخُطْبَة، واستماع القوم إليها فقال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} (¬2) قال كثير من المُفَسِّرِين: إن المراد منه الخَطْبَة. وعن أبين حنيفة في رواية: أنه لو خطب منفرداً جاز، واحتجوا عليه بأن الخطبة ذكر واجب في الجمعة، فيشترط حُضُور العدد فيه كتكبيرة الإحرام. إذا عرفت ذلك فلو حضر أربعون فصاعداً لإقامة الجمعة ثم انفض كلهم أو بعضهم، والباقون دون الأربعين لم يخل إما أن يكون الانفضاض في أثناء الصَّلاة وسيأتي في الفصل التالي لهذا الفصل، أو قبلها وذلك إما أن يكون قبل افتتاح الخطبة أو في أثنائها، أو بعدها، فإن كان الانفضاض قبل افتتاح الخطبة لم يبتدئ حتى يجتمع أْربعون، وإن كان في أَثْنَائِها -وهي مسألة الكتاب- فلا خلاف في أن الركن الْمَأْتِيّ به في غيبتهم غير محسُوب، بخلاف ما إذا نقص العدد في الصَّلاة، فإن فيه خلافاً سيأتي. قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: والفرق أن كل مُصَلٍّ يصلي لنفسه فجاز أن يتسامح في نقصان العدد في الصَّلاة، وفي الخطبة الخطيب لا يخطب لنفسه، وإنما الغرض إسماع الناس وتذكيرهم، فما جرى ولا مستمع أو مع نقصان عدد المستمع فقد فات فيه مقصود الخطبة، فلم يحتمل، ثم ننظر إن عادوا قبل طول الفَصْل بني على الخطبة، فإن الفَصْلَ اليسير في مثل ذلك كعدم الفَصْل، ألا ترى أنه لو سلم ناسياً ثم تذكر ولم يطل الفصل جاز، وكذلك يحتمل الفَصْل اليسير بين صلاتي الجمع، وإن عادوا بعد طول الفصل فهل ينبي أم يستأنف؟ فيه قولان يعبر عنهما بأن الموالاة هل تجب في الخطبة أم لا؟ أحدهما: لا؛ لأن الغرض الوعظ والتذكير، وذلك حاصل مع تفرق الكلمات. ¬
وأصحهما: نعم؛ لأن للولاء وقعاً في استمالة القلوب وتنبيهها، ولأن الأولين خطبوا على الولاء فيجب اتباعهم فيه، وذكر صاحب [التهذيب] (¬1) وغيره أن هذا القول الثاني هو الجديد، وبنى أبو سعيد المتولي وآخرون الخلاف في المسألة على أن الخطبتين بدلٌ من الركعتين أم لا؟ إن قلنا: نعم وجب الاستئناف وإلا فلا، وقرب حُجَّة الإسلام -قدس الله روحه- في "الوسيط" خلاف المسألة من الخلاف في الوضوء هل يجب فيه الموالاة؟ لكن ظاهر المذهب ثَمَّ إنها لا تجب، وهاهنا أنها تَجِب، ويدلُّ على الفرق بين البنائين أن الفصل بالعذر ثَمّ لا يقدح على أظهر الطريقين، وهاهنا لا فرق بين أن تفوت الموالاة بعذر أو بغير عذر. قال في "النهاية": ولولا ذلك لما ضَرَّ الفصل الطويل هاهنا؛ لأن سببه عذر الانفضاض، ولو لم يعد الأولون واجتمع بدلهم أربعون فلا بد من استئناف الخطبة، طال الفصل أو لم يطل، كذلك ذكره صاحب "التهذيب" وغيره. ولو انفضوا بعد الفراغ من الخطبة نظر، إن عادوا قبل طول الفصل صلى الجمعة بتلك الخطبة، وإن عادوا بعد طول الفصل ففي اشتراط الموالاة بين الخطبة والصلاة قولان كاشتراطهما في الخطبة، والأصح الاشتراط، وشبهوا الخطبة والصلاة بالصلاتين المجموعتين تجب الموالاة بينهما، فعلى هذا لا تمكن الصَّلاة بتلك الخطبة، وعلى الأول تمكن ثم إن المزني نقل في "المختصر" عن الشافعي -رضي الله عنه- أنه قال في هذه الصورة: أحببت أن يبتدئ الخطبة ثم يصلي الجمعة، فإن لم يفعل صَلَّى بهم الظهر، واختلف الأصحاب فيه قال ابْنُ سُرَيْجٍ: يجب أن يعيد الخُطْبة، ويصلي بهم الجُمُعَة؛ لأنه متمكن من إقامتها فلا سبيل إلى تركها، وهذا اختيار القفال والأكثرين (¬2). قالوا: ولفظ الشافعي -رضي الله عنه- (أوجبت)، وأما (أحببت) فهو تصحيف من النَّاقل، أو وهم، وربما حملوا "أحببت" على "أوجبت" وقالوا: كل واجب محبوب كما أن كل محرم مكروه، ولذلك يطلق لفظ الكراهة ويراد به التحريم، وقوله: (وصلى بهم الظهر) حملوه على ما إذا ضاق الوقت. وقال أبو إسحاق: لا تجب إعادة الخطبة، لكن يستحب، وتجب الجمعة، أما الأول فلأنهم قد ينفضون ثانياً، فيعذر في ترك إعادتها، وأمَّا الثاني فللقدرة على إقامتها. وقال أبو علي صاحب "الإفصاح": لا تجب إعادة الخطبة ولا الجمعة، ويستحبان ¬
على ما يدل عليه ظاهر النَّص؛ لأنه لا يأمن انفضاضهم ثانياً لو اشتغل بالإعادة، فيصير ذلك عذراً في ترك الجمعة، واعلم أن ابن سريج وأبا علي متفقان على وجوب الموالاة بين الخطبة والصلاة، وامتناع بناء الجمعة على الخطبة التي مضت، لكن هذا عذره في تركها جميعاً، وذلك لم يعذره، وأوجب إعادة الخطبة ليصلي الجمعة بها، وأما أبو إسحاق فإنه احتمل الفصل الطويل، وجوز البناء على الخطبة الماضية، وتَحَصَّلَ مما ذكرناه خلاف في وجوب إقامة الجمعة على ما اختصره في "الوسيط"، فقال: وإذا شرطنا الموالاة ولم يعد الخطبة أثم المنفضون، وهل يأثم الخطيب فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأنه أدى ما عليه والذنب لهم. والثاني: نعم؛ لتمكنه من الإعادة. وقوله في الكتاب: (لم يجز) معلَّم بالحاء لما تقدم. وقوله: "فإن سكت الخطيب ... " إلى آخره الحكم غير مخصوص بصورة السكوت، بل لو مضى في الخطبة، ثم لما عادوا أعاد ما جرى من واجباتها في حالة الانفضاض كان كما لو سكت. قال الغزالي: فَلَوِ انْفَضُّوا فِي خِلاَلِ الصَّلاَةِ وَلَوْ فِي لَحْظَةٍ بَطُلَ عَلَى قَوْلٍ، وَعَلَى قَوْلٍ ثَانٍ: لاَ تَبْطُلُ (م) مَهْمَا تَوَفَّرَ العَدَدُ فِي لَحْظَةٍ إِذَا بَقِيَ مَعَ الإِمَامِ وَاحِدٌ عَلَى رَأْيٍ أَوِ اثْنَانِ عَلَى رَأْيٍ، وَعَلَى قَوْلٍ ثَالِثٍ: لاَ تَبْطُلُ بِالانْفِضَاضِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ الجَمَاعَةُ. [وعلى قول رابع لا تبطل مهما توفر العدد، وإن بقي الإمام وحده] (¬1). قال الرافعي: لو تحرم بالعدد المعتبر، ثم حضر أربعون آخرون وَتَحَرَّمُوا، ثم انفض الأولون لم تبطل الجمعة، لأن العدد لم يبطل في أي شيء من الصَّلاة، ولا فرق بين أن يكون اللاَّحقون قد سمعوا الخطبة أو لم يسمعوها؛ لأنهم إذا لحقوا والعدد تَام صارَ حكمهم واحداً، فإذا ثبتوا استمرت الجمعة، كما لو تحرم بثمانين سمعوا الخطبة، ثم انفض منهم أربعون. قال إمام الحرمين: ولا يمتنع عندي أن يقال: يشترط بقاء أربعين سمعوا الخطبة فلا تستمر الجمعة إذا كان اللاَّحِقُون لم يَسْمَعُوها، وإن انفضوا ولحق أربعون على الاتصال فقد قال في "الوسيط": تستمر الجمعة أيضاً، لكن يشترط هاهنا أن يكون اللاَّحِقُون ممن سمعوا الخطبة، وإن انفضوا ونقص العدد في باقي الصَّلاة أو في شيء من هذه مسألة الكتاب، وفيها قولان؛ ومنهم من أضاف إليها قولاً ثالثاً، ونذكره بعد توجيه القولين وتفريعها. ¬
وأصحهما -وبه قال أحمد-: أن الجمعة تَبْطُلُ، ويشترط العدد في جميع أجزاء الصَّلاة، لأنه شرط في الابتداء، فيكون شرطاً في سائر الأجزاء كالوقت، ودار الإقامة، ولأن الانفضاض لا يحتمل في شيء من الخطبة التي هي مقدمة الصَّلاة، فلأن لا يحتمل في نفس الصَّلاة كان أولى. والثاني: لا تبطل، ولا يشترط استمرار العدد في جميع الصلاة، لما روي: "أَنَّهُمْ انْفَضُّوا عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} (¬1) الآية". ثم إنه بني على الصَّلاة، وأيضاً فإن بقاء العدد عنده لا يتعلق باختيار الإمام، وفي الابتداء يمكن تكليفه بأن لا يتحرم حتى يحضروا، والشيء قد يشترط في الابتداء ولا يشترط في الدوام كالنِّيَّةِ في الصَّلاة وغيرها. التفريع: إن شرطنا دوام العدد فلو تَحرَّم الإمام وتباطأ المقتدون ثم تحرموا نظر إن تأخر تحرمهم عن ركوعه فلا جمعة، وإن لم يتأخر عن الركوع فعن القفال: أن الجمعة صحيحة، وعن الشيخ أبي محمد: أنه يشترط أن لا يطول الفصل بين تحرمهم وتحرمه. وقال إمام الحرمين: الشرط أن يَتَمَكَّنُوا من إتمام قراءة الفاتحة، وإذا حَصَلَ ذلك فلا يضر الفَصْل، وهذا أصح عند حُجَّة الإِسْلاَم، وإن قلنا: لا يشترط دوام العدد فهل يشترط دوام الجماعة أم له إتمام الجمعة وإن بقي وحده؟ فيه قولان: أظهرهما: أنه يشترط؛ لأن الجمعة صَلاةٌ تجمع الجماعات، والغرض منها إقامة الشَّعار، وإظهار اتفاق الكلمة كما سبق، فإن احتمال اختلال العدد فلا ينبغي أن يحتمل اختلال أصل الجماعة، وعلى هذا ففي العدد المشروط بقاؤه قولان: الجديد: أنه يشترط بقاء اثنين؛ ليكونوا معه ثلاثة فإنها الجمع المطلق. والقديم: أنه يكفي بقاء واحد معه لأنَّا الاثنين فما فوقهما جماعة (¬2)، وهل يشترط أن يكون الواحد والاثنان على اختلاف هذين القولين على صفات الكمال. قال في "النهاية": الظاهر أنه يشترط ذلك كما يشترط كونهم على صفات الكمال في الابتداء، وعن صاحب "التقريب": أنه يحتمل خلافه فإنا إذا اكتفينا باسم الجماعة فلا يبعد أن نعتبر صفات الكمال. ¬
والقول الثاني: أنه لا يشترط بقاء الجماعة، بل لو بقي وحده كان له أن يتم الجمعة؛ لأن الشروع وقع والشُّروط مَوْفُور فلا يضر الانفراد بالعدد بعده، يحكى هذا عن القول عن تخريج المزني، وذكروا أنّه خرجه من القول القديم في منع الاستخلاف، فإنه إذا أحدث الإمام وقلنا: لا استخلاف يتمونها جمعة، ولم يذكروا في هذا الموضع فَصْلاً بين أن يكون حدثه بعدما صَلُّوا ركعة أو قبله، ثم قال القاضي ابن كج وكثير من أصحابنا: اختلف أئمتنا في تخريجه، فمنهم من سلمه ومنهم من أبى، ولم يثبته قولاً، فهذا شرح القولين في أصل المسألة، وخرج المزني قولاً آخر، وذهب إليه أنه إن كان الانفضاض في الركعة الأولى بطلت الجمعة، وإن كان بعدها لم تبطل، ويتم الإمام الجمعة، وكذا من معه إن بقي معه جَمْع، ووجهه ظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ اَلْجُمُعَةِ فَليُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى" (¬1). وأيضاً فإن المسبوق إذا أدرك ركعةً من الجمعة يتمها جمعة، فكذلك الإمام، وبهذا القول قال مالك وأبو حنيفة إلا أن أبا حنيفة يكتفي بتقييد الرَّكْعَة بسجدة ولا يعتبر تمامها، واختلف أصحابنا في قبول هذا التخريج أيضاً، منهم من أباه، وقال: المسبوق تَبَعٌ للقوم، وقد صحت لهم جمعة تامة وهاهنا بخلافه، ومنهم من سلمه وعدَّه قولاً آخر، وعلى هذا إذا اختصرت وتركت الترتيب قلت: في المسألة خمسة أقوال: أظهرها: بطلان الجُمُعَة. والثاني: إن بقي معه اثنان لم تبطل. والثالث: إن بقي معه واحدٌ لَمْ تَبْطُل، وهذه الثَّلاثة منصوصةٌ الأولان منها مذكوران في الجديد. والثالث: في القديم. والرابع: أنها لا تبطل وإن بقي وحده. والخامس: الفرق بين أن يكون الانفضاض بعد ركعة أو قبلها، وقد ذكر في الكتاب كلها سوى الرابع منها. وقوله: (بطل على قول) معلم بالحاء والميم والزَّاي لما حكيناه. وقوله: (على قول ثَانٍ) لا تبطل بالألف، وكذا قوله: (وعلى قول ثالث لا تبطل). وقوله: (مهما توفر العدد في لحظة) غير مجرى على إطلاقه، فإنه لا يجوز أن ¬
يكون اللحظة التي توفر فيها العدد بعد الركوع الأول والضبط فيما قبله ما بيناه. وقوله: (إذا بقي مع الإمام واحد على رأي واثنان على رأي) يجوز أن يعلم بالواو إشارة إلى القول الرابع، والذي ذكره جواب على قولنا: لأن الجماعة لا يشترط دوامها، وأراد بالرأيين القولين اللذين ذكرناهما، ويجوز أن يعلم قوله: (وعلى قول ثالث) بالواو إشارة إلى الطريقة الممتنعة من إثباته قولاً. قال الغزالي: الخَامِسُ: فَلاَ يصِحُّ الانْفِرَادُ بِالجُمُعَةِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ (ح) حُضُورُ السُّلْطَانِ فِي جَمَاعَتِهَا وَلاَ إِذْنُهُ (ح). قال الرافعي: ليس لقائل أن يقول: إذا شرطنا العدد فقد شرطنا الجماعة فلا حاجة إلى إفراد الجماعة وعدها شرطاً برأسه، وذلك لأن العدد والجماعة أمران ينفك كل واحد منهما عن الآخر، أما الجماعة دون العدد فَظَاهِر، إذ ليست الجماعة إلا الارتباط الحاصل بين صلاتي الإمام والمأموم، وذلك مما لا يستدعي العدد، وأما بالعكس فلأن المراد من العدد حضور أربعين بصفة الكمال، وأنه يوجد من غير جماعة، ثم القول في شرائط الجماعة كما سبق في غير الجمعة، ولا يشترط حضور السلطان ولا إذنه، فيها خلافاً لأبي حنيفة، حيث قال: لا تصح إلا خلف الإمام أو مأذونه، وبه قال أحمد في رواية، والأصَحُّ عنه مثل مذهبنا. لنا "أَنَّ عَلِيًّا أَقَامَ الْجُمُعَةِ وَعُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- مَحْصُورٌ" ونقيس على سائر العبادات، ويجوز أن يعلم قوله في الكتاب: (ولا يشترط) مع الحاء بالألف والواو؛ لأن صاحب "البيان" حكى عن بعض أصحابنا أن للشافعي قول في القديم مثل مذهب أبي حنيفة. قال الغزالي: وَفِيهِ ثَلاَثُ مَسَائِلَ: الأُولى: إِذَا كانَ الإمَامُ عَبْداً أَوْ مُسَافِراً صَحَّ لِأَنَّهُمَا فِي جُمُعَةٍ مَفْرُوضَةٍ، وَقِيْلَ: لاَ يَصِحُّ إِذَا عَدَدْنَاهُ مِنَ الأرْبَعِيْنَ، وَإِنْ كَانَ مُتَنَفِّلاً أَوْ صَبِيًّا فَقَوْلاَنِ، وإنْ كَانَ مُحْدِثاً فَقَوْلاَنِ مُرَتَّبَانِ، وَإِنْ كَانَ قَائِماً إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ سَهْواً فَهُوَ كالمُحْدِثِ فِي حَقِّ مَنْ اقْتَدَى بِهِ جَاهِلاً، وَلَو لَمْ يُدْرِكْ مَعَ المُحْدِثِ إِلاَّ رُكُوعَ الثَّانِيَةِ فَفِي إِدْرَاكِهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: ذكر ثلاث مسائل تتشعب عن شرط الجماعة. الأولى في أحوال الإمام، وفيها صور: إحداها: لو كان إمام الجمعة عبداً أو مسافراً نظر إن كان القوم معه أربعين فلا جمعة؛ لما ذكرنا أن يشترط كون الأربعين بصفات الكمال، وإن كانوا أربعين دونه وهو
المقصود من لفظ الكتاب فقد قال في "التهذيب": تصح الجمعة ولم يذكر غير ذلك. وقال في "النهاية": تبنى على أن الإمام معدود من الأربعين أم لا، فإن قلنا: لا، فلا بأس، وإن قلنا: نعم فوجهان: أحدهما: لا تصح الجمعة؛ لأنه إذا عد من العدد المعتبر، فيجب أن يكون على صفات الكمال كغيره أو هو أولى بذلك. وأظهرهما: الصحة؛ لأن العدد قد تَمَّ بصفة الكمال وجمعة العبد والمسافر صحيحة، وإن لم تلزمها، وقد أشار في الكتاب إلى هذا البناء حيث قال: وقيل: لا تصح إذا عددناه من الأربعين جعل هذا الوجه مفرغاً على عده من الأربعين بعدما حكم بالصِّحة على الإطلاق، واعلم أنه لو كان ذلك الخلاف في أن الإمام هل هو واحد من العدد المشروط أم لا؟ لكان هذا البناء واضحاً، ولكن ذلك الخلاف في أنه هل يشترط أن يكون زائداً على الأربعين أم يُكْتَفَى بأربعين أحدهم الإمام؟ ولا يلزم من الاكتفاء بأربعين أحدهم الإمام أن يكون الإمام واحداً من العدد المشروط إذا زادوا على الأربعين. وقوله: (صح) معلم بالميم؛ لأنه روي عن مالك أنها لا تَصِحْ خلف العبد، وبالألف؛ لأن عند أحمد لا تصح خلف المسافر، ولا خلف العبد على قوله: لا تجب الجمعة على العبد وعنه اختلاف رواية فيه سيأتي. وقوله: (لأنهما في جمعة مفروضة) معناه أنهما إذا صَلَّيَا الجمعة صَحَّت منهما وأجزأت عن فريضة الوقت بخلاف الصّور بعد هذه، وفيه إشارة إلى شيء وهو أن الكلام [فيما] (¬1) إذا لم يُصَلِّ المسافر والعبد الظهر قبل أن أما في الجمعة فإما إذا صَلَّيا الظهر ثم أمَّا فالاقتداء بهما كالاقتداء بالمتنفل، وسنذكره. الثانية: لو كان إمام الجمعة صبياً فهل تصح جمعة القوم؟ فيه قولان: أحدهما: نعم قاله في "الإملاء" ووجهه أنه يجوز الاقتداء به في سائر الفرائض فكذلك في الجمعة كالبالغ. والثاني: لا، قاله في "الأم"؛ لأنه ليس على صفة الكمال، والإمام أولى باعتبار صفة الكمال فيه من غيره، ولأنه لا جمعة عليه وإذا فعلها لا يسقط بها الفرض عن نفسه، إذ لا فرض عليه، بخلاف العبد والمسافر، فإنهما يسقطان بها فرض الظهر، وهذا القول يوافق مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد -رحمهم الله-؛ لأنهم منعوا إمامته ¬
في سائر الفرائض، ففي الجمعة أولى، ولو كان الإمام متنفلاً فهو على هذين القولين. وجه المنع أنه لا بد في العدد المشروط من أن يكونوا مصلين فرض الجمعة فكذلك الإمام، ويجوز أن يرتب المتنفل على الصبي، فيقال: إن جاز الاقتداء بالصبي فبالمتنفل أولى، وإلا فقولان: والفرق أنه من أهل فرض الجمعة ولا نقص فيه. وما الأظهر من الخلاف في المسألتين؟ رجح الشيخ أبو محمد (¬1) وأبو القاسم الكرخي وطائفة قول المنع، والحناطي والقاضي الروياني قول الجواز، وهو قضية كلام الأكثرين، وأطبقوا على أن الجواز في المتنفل أظهر منه في الصبي. وقالوا: هو المنصوص للشافعي -رضي الله عنه- في صلاة الخوف، قال: لو صَلَّى الإمام الظهر في شدة الخوف [ثم انكشف الخوف] (¬2) والوقت باق وقد بقي له أربعون لم يُصَلُّوا الظُّهْر جاز له أن يصلّي بهم الجمعة، ثم قال الإمام: موضع الخلاف في المسألتين، ما إذا تم العدد بصفة الكمال دون الإمام، فأما إذا تَمَّ بالصبي أو المتنفل فلا جمعة؛ ولو صلّوا الجمعة خلف من يصلِّي صُبْحاً أو عصراً ففيه قولان كما لو صلَّى خلف متنفل، وقيل: يجوز؛ لأن الإمام يصلّي الفرض، ولو صَلُّوها خَلْفَ مُسَافِرٍ يقصر الظُّهْرَ، يجوز إن قلنا: الجمعة ظُهْرٌ مقصورة وإن قلنا: صلاة على حيالها فهو كما لو صَلَّى خلف من يصلي الصبح، ذكر المسألتين صاحب "التهذيب". الصورة الثالثة: لو بَانَ أن إمام الجمعة كان جنباً أو محدثاً فإن لم يتم العدد دونه فلا جمعة لهم، وإن تم ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يقدح في صِحَّة جمعة القوم كما في سائر الصلوات. والثاني: يقدح؛ لأن الجماعة، شرط في الجُمُعَة، والجماعة ترتبط بالإمام والمأمومين، فإذا بَانَ أن الإمام لم يكن مُصَلِّيًّا بَانَ أنه لا جماعة، وأن أحد شروط الجمعة قد فات، بخلاف سائر الصلوات؛ لأن الجماعة غير مشروطة فيها، وغايته أنه صَلَّى منفرداً، ولا شك أن هذا القول أظهر منه في الاقتداء بالصبي والمتنفل، ولذلك قال في الكتاب: هما مرتبان على القولين، ثم هو أصح من مقابله عند الشيخين أبي علي وأبي محمد، وتابعهما صاحب "التهذيب" وجماعة، وذهب العراقيون وأكثر أصحابنا إلى ترجيح القول الأول، ونقلوه عن نَصِّه في "الأم" وأضافوا حكاية الخلاف إلى ابن القاص، واستبعدوه واعترضوا على توجيه قول المنع بأنا لا نسلم أن حدث ¬
الإمام يمنع صحة الجماعة وثبوت حكمها في حق المأموم الجاهل بحاله. وقالوا: إنه لا يمنع نَيْلَ فضيلة الجماعة في سَائِرِ الصلوات ولا غيره من أحكام الجماعة، وعلى هذا قال في "البيان": لو صلى الجمعة بأربعين فبَانَ أن القوم محدثون صَحَّت صلاة الإمام دونهم، بخلاف ما لو بَانُوا عبيداً أو نساءاً فإن ذلك مما يسهل الاطلاع عليه، وقياس من يذهب إلى المنع، أنه لا تصح جمعة الإمام لبطلان الجماعة. الصورة الرابعة: لو قام إمام الجمعة إلى ركعة ثالثةٍ سهواً فاقتدى به إنسان فيها فهذه المسألة من فروع ابن الحداد، وشرحها الأئمة فقالوا: أولاً: لو فرض ذلك في سائر الفرائض، فقام الإمام إلى ركعة زائدة واقتدى به إنسان فيها وأدرك جميع الركعة، ففيه وجهان: أحدهما: أنها لا تحسب له؛ لأنها غير محسوبة للإمام، والزيادة يمكن الاطلاع عليها بالمشاهدة وإخبار الغير، فلا يجزئه كما لو اقتدى بالمرأة والكافر. وأصحهما: أنها تحسب له، فإذا سَلَّم الإمام يتدارك باقي الصلاة، كما لو صَلَّى خلف جُنْبٍ يجزئه، وإن لم تكن تلك الصلاة محسوبة للإمام بخلاف الكافر والمرأة فليس لهما أهلية إمامته بحال، ولهذا لا يَصِح الاقتداء بهما أصْلاً، وهاهنا يصح الاقتداء بهذا السَّاهي، والكلام في أنه هل يصير مدركاً للركعة أم لا؟ هكذا ذكره الشيخ أبو علي -رضي الله عنه-، وأما في الجمعة فإن قلنا: إنه في غير الجمعة لا يدرك به الركعة فكذلك هاهنا، ولا تحسب بدلاً عن الظهر ولا عن الجمعة، وإن قلنا: يدرك فهل تكون هذه الركعة محسوبة عن الجمعة حتى يضيف إليها أخرى بعد سلام الإمام أو تكون محسوبة عن الظُّهر؟ فيه وجهان بناهما الأئمة على القولين فيما لو بَانَ كون الإمام محدثاً؛ لأن تلك الركعة غير محسوبة من صلاته كركعات المحدث، ولهذا قال في الكتاب: (فهو كالمحدث في حق من اقتدى به جاهلاً) واختار ابن الحداد أنها لا تحسب عن الجمعة واعرف هاهنا أموراً: أولها: إنما قال: "جاهلاً" لأنه لو كان عالماً بأن الإمام قائم إلى الثَّالثة ساهياً، ومع ذلك اقتدى به لم تنعقد صلاته بحال، كما لو اقتدى بالجنب عالماً بحاله. وثانيها: لم يذكروا في المحدث أن صلاة المقتدي منعقدةٌ وأن المأتي به يحسب عن الظهر، حتى لو تبين له الحال قبل سَلاَم الإمام أو بعده على القرب يتمها ظُهْراً إذا جوزنا بناء الظُّهْرِ على الجُمُعةِ، وقضية التسوية بين الفَصْلَين الانعقاد والاحتساب عن الظهر في المحدث أيضاً. وثالثها. من قال في مسألة المحدث: الأصح من القولين أن الجمعة غير صحيحة
قال بمثله هاهنا، والذين قالوا: الأصح صحتها منهم من لم يورد هذه المسألة، ومنهم من أوردها، ونقل جواب ابن الحداد من غير نزاع فيه، فيجوز أن يقدر المساعدة على ترجيح المنع هَاهُنَا، ويفرق بأن الحَدَث لا يمكن الاطلاع عله بحال، بخلاف الزيادة على ما سبق، ويمكن أن يعارض هذا بأن المحدث لا صَلاَة له أصلاً، وهذا السَّاهي في الصلاة، لكن ندرت منه زيادة هو معذور فيها، وكأن أولى بأن يصح الاقتداء به والله أعلم. الخامسة: قال حُجَّةُ الإِسْلام -قدس الله روحه-: ولو لم يدرك مع المحدث إلا ركوع الثانية ففي إدراكه وجهان، وهذا الفرع يتعلق بأصلين. أولهما: أن المسبوق في صَلاَة الجمعة إن أدرك الإمامَ في ركوع الرَّكْعَة الثَّانية كان مدركاً للجمعة، فإذا سَلَّم الإمام قام إلى رَكْعَةٍ أخرى، وإن أدركه بعد رُكُوعِ الثَّانية لم يكن مدركاً للجمعة، ويقوم بعد سلام الإمام إلى أربع خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: يكون مدركاً للجمعة وإن أدركه في التَّشهد أو في سجدتي السَّهْو بعد السَّلام. لنا ما رُوي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا وَمَنْ أَدْرَكَ دُونَ الرَّكْعَةِ صَلاَّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا" (¬1)، وإذا لحق بعد الركوع، فما الذي ينوي؟ فيه وجهان ذكرهما صاحب "البيان" وغيره: أحدهما: ينوي الظهر؛ لأنها التي يؤديها. وأظهرهما: ينوي الجمعة؛ موافقةً للإمام، وهذا هو الذي ذكره القاضي الروياني، ولو صَلَّى مع الإمام ركعة ثم قام وصلّى أخرى، وتذكر في التشهد أنه نَسِيَ سجدةً من إحدى الركعتين نظر، إن تركها من الثانية فهو مدرك للجمعة فيسجد سجدة، ويعيد التشهد، ويسجد للسهو ويسلم، وإن تركها من الأولى أو شك لم يكن مدركاً للجمعة، وحصلت له ركعة من الظُّهْرِ، ولو أدركه في الثَّانية وشك في أنه سجد معه سجدة أو سجدتين، فإن لم يسلم الإمام بعد سجد أخرى، وكان مدركاً للجمعة وإن سلم الإمام سجد أخرى [ولم يكن مدركاً للجمعة؛ لأنه ما أدرك مع الإمام ركعة. والثاني: أنا ذكرنا في باب الجماعة أن المسبوق إذا أدرك الركوع مع الإمام كان مدركاً] (¬2) للركعة وذلك في ركعة محسوبة للإمام، أما إذا لم تكن محسوبة، كما لو أدرك الركوع مع الإمام المحدث أو أدرك الإمام السَّاهي بركعة زائدة في ركوعها، وقلنا: إنه لو أدركها كلها لكانت محسوبة له ففيه وجهان: ¬
أحدهما: أن يكون مدركاً للركعة؛ لأنه لو أدرك كل الركعة لكانت محسوبة له فكذلك إذا أدرك ركوعها كالركعة المحسوبة للإمام. وأصحهما: أنه لا يكون مدركاً؛ لأن الحكم بإدراك ما قبل الركوع بإدراك الركوع خلاف الحقيقة، إنما يصار إليه إذا كان الركوع محسوباً من صلاة الإمام ليتحمل به، فأما غير المحسوب لا يصلح للتحمل عن الغير، ويخالف ما لو أدرك جميع الركعة، فإنه قد فعلها بنفسه، فتصحح على وجه الانفراد، إذا تعذر تصحيحها على وجه الجماعة، ولا يمكن التصحيح هاهنا على سبيل الانفراد فإن الركوع لا يُبتَدَأُ به. قال الشيخ أبو علي: والوجهان عندي مبنيان على القولين في جواز الجُمُعَةِ خلف الجنب والمحدث، ووجه الشبه أن المقتدي [في القولين في جميع الركعة في الجمعة كالمقتدي في الركوع في سائر الصلوات؛ لأنه بالاقتداء] (¬1) يسقط فرضاً عن نفسه، ولو كان منفرداً للزمه وهو رد الأربع إلى ركعتين، كما أن المقتدي في الركوع يسقط فرضاً عن نفسه وهو القيام والقراءة في تلك الركعة، فإن قلنا: يصح الاقتداء بالمحدث لإسقاط فرض الانفراد في الجمعة، فكذلك هَاهُنَا، وإلا فلا. إذا عرف ذلك، فنقول: لو لم يدرك في الجمعة مع الإمام إلا ركوع الثانية، ثم بَانَ أن الإمام كان محدثاً، فإن قلنا: إنه لو أدرك جميع الركعة معه لم يكن مدركاً ركعة من الجمعة، فهاهنا أولى، وإن قلنا: ثم يكون مدركاً ركعة من الجمعة فهاهنا وجهان، إن قلنا: إن مدرك الركوع مع الإمام المحدث مدرك للركعة فكذلك هاهنا، وإلا فلا. ثم قوله: (ولو لم يدرك مع المحدث إلا ركوع الثانية) يعني: لم يدرك شيئاً قبله، فأما ما بعد الركوع من أركان الركعة لا بد من إدراكها مع الإمام، أو قبل سلامه إن فرض زحام أو نسيان، وتخلف لذلك. وقوله: (ففي إدراكه وجهان) أي في إدراكه الجمعة، ولو حمل على الخلاف في إدراك الركعة لم يكن للتخصيص بركوع الثانية معنى. قال الغزالي: الثَّانِيَةُ إِذَا أَحْدَثَ الإمَامُ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا فَاسْتَخْلَفَ مَنْ كَانَ اقْتَدَى بِهِ وسَمِعَ الْخُطْبَةَ صَحَّ اسْتِخْلافُهُ فِي (¬2) الْجَدِيدِ فَإِنْ لَمْ يَسْمَعِ الخُطْبَةَ فَوَجْهَانِ، وَلاَ يَشْتَرِطُ اسْتِئنَافُ نيَّةِ القُدْوَةِ بَلْ هُوَ خَلِيفَةُ الأوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَخْلِفِ الإمَامُ فَتَقْدِيمُ القَوْمِ كَاسْتِخْلاَفِهِ (ح) بَلْ هُوَ أَوْلَى مِنَ اسْتِخْلافِهِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى، وَإِنْ كَانَ فِي الثَّانِيَةِ فَلَهُمْ الانْفِرَادُ بِهَا كَالْمَسْبُوقِ. ¬
قال الرافعي: إذا خرج الإمام عن الصَّلاة بحدثٍ أو غيره، وأراد أن يستخلف فذلك إما أن يكون في غير الجمعة أو فيها، والمذكور في الكتاب هو القسم الثاني، فنذكر الأول على الاختصار، ثم نعود إلى شرح الثاني، فنقول: إذا أحدث الإمام في سائر الصلوات ففي جواز الاستخلاف قولان، قال: في القديم: لا يجوز ذلك، "لِأَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَحْرَمَ بِالنَّاسِ. ثم ذكر أنه جنب، فذهب واغتسل، ولم يستخلف، ولو كان الاستخلاف جائزاً لأشبه أن يستخلف، ولأنها صلاة واحدة فلا تجوز بإمامين، كما لو اقتدى بهما دفعة واحدة، وقال في الجديد يجوز؛ وهو أصح الروايتين عن أحمد، وبه قال مَالِك وأبو حنيفة -رحمهم الله- لأنها صلاة بإمامين على التعاقب، فيجوز كما أَنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَدَخَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَجَلَسَ إِلَى جَنْبهِ، فَاقْتَدَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَالنَّاسُ (¬1). وفي "النهاية": أن من الأصحاب من قطع بجواز الاستخلاف في سائر الصلوات، وخص القولين بالجمعة، والمشهور طرد القولين. التفريع إن لم نجوز الاستخلاف أتم القوم الصَّلاة وحدَاناً، وإن جوزناه فيشترط أن يكون المستخلف صالحاً لإمامة القوم، فلو استخلف امرأةً فهو لغوٌ ولا تبطل صلاتهم إلا أن يقتدوا بها، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: تبطل بنفس الاستخلاف صلاتهم وصلاته (¬2). قال في "النهاية": ويشترط أن يجري الاستخلاف على قرب، فلو قضوا على الانفراد ركناً امتنع الاستخلاف بعده، وهل يشترط أن يكون الخليفة ممن اقتدى بالإمام قبل حدثه؟ قال أكثر أصحابنا من العراقيين وغيرهم، إن استخلف في الركعة الأولى، أو [الثالثة] (¬3) من الصلوات الرباعية من لم يقتد به جاز؛ لأنه لا يخالفهم في الترتيب، وإن استخلف في الثانية أو الرابعة، أو في الثالثة من المغرب لم يجز؛ لأنه يحتاج إلى القيام، وعليهم القعود فيختلف الترتيب بينهم، وأطلق جماعة من الأئمة اشتراط كون الخليفة ممن اقتدى به، وهذا ما ذكره إمام الحرمين -رضي الله عنه- مع زيادة فقال: لو أمره الإمام فتقدم لم يكن هذا استخلافاً ولا هو خليفة، وإنما هو عاقد لنفسه صلاة جار على ترتيبه فيها، لو اقتدى القوم به فهو اقتداء منفردين في أثناء الصَّلاة، وقد سبق الخلاف فيه في موضعه، وهذا قدوتهم انقطعت بخروج الإمام عن الصَّلاة، ولم يخلفه أحد ولا يشترط أن يكون الخليفة ممن اقتدى به في الركعة الأولى، بل يجوز استخلاف المسبوق، ثم عليه أن يراعيَ نَظْمَ صلاة الإمام، فيقعد في موضع قعوده، ويقوم في ¬
موضع قيامه، كما كان يفعله لو لم يخرج الإمام من الصلاة؛ لأنه بالاقتداء به التزم ترتيب صلاته حتى إنه لو لحق الإمام في الثانية من الصبح ثم أحدث الإمام فيها، واستخلفه قنت، وقعد فيها للتشهد، وإن كانت (¬1) أولاه، ثم يقنت في الثانية لنفسه، ولو كان الإمام قد سَهَا قبل اقتدائه أو بعده، سجد في آخر صلاة الإمام وأعاد في آخر صلاة نفسه على القول الأصح، وإذا تمت صَلاةُ الإمَام قام ليَتَدَارَكَ ما عليه، وَهُمْ بالخيار إن شاؤوا فارقوه وسلموا، وإن شاؤوا صبروا جَالسَين ليُسَلِّموا معه، هذا كله إذا عرف المسبوق نظم صلاة الإمام، فإن لم يعرف، فقد ذكروا فيه قولين (¬2) عن حكاية صاحب "التلخيص" وعن الشيخ أبي محمد أنهما لابن سريج، لا للشافعي -رضي الله عنه-، فإن جَوَّزْنَا تراقب القوم إذا أتم الركعة أن هَمُّوا بالقيام قام، وإلا قعد، وَسَهْوُ الخَلِيفَةِ قبل حَدَثِ الإمام يحمله الإمام، وسهوه بعد حدثه يقتضي السُّجُود عليه وعلى القوم وسهو القَوْمِ قبل حدث الإمام وبعد الاستخلاف محمول، وبينهما غير محمول، بل يسجد السَّاهي عند سلام الخليفة. القسم الثاني: أن يقع ذلك في صلاة الجمعة، ففي جواز الاستخلاف القولان إن لم تجز فينظر، إن أحدث في الركعة الأولى أتم القوم صلاتهم ظُهْراً، وإن أحدث في الثانية أتمها جمعة من أدرك معه ركعةً كالمسبوق، هذا هو المشهور، وعن الشيخ أبي محمد أنهم يتمونها جمعة، وإن كان الحدث في الركعة الأولى؛ تخريجاً من أحد الأقوال في مسألة الانفضاض، وهو أن جمعة الإمام تصح، وإن انفضوا في الركعة الأولى وبقي وحده، وذكر ابن الصباغ وغيره: أن المزني نقل هذا القول في "جامعه الكبير"، وعن صاحب "الإفصاح" أنهم وإن أدركوا ركعةً يتمونها ظُهْراً، لا جمعة، بخلاف المسبوق؛ لأن الجمعة قد كملت بغيره فجعل تابعاً لهم، وهذا الوجه قضية القياس عند إمام الحرمين، تخريجاً على أحد الأقوال في الانفضاض، وهو أن الإمام يتم الظهر وإن انفضوا في الثَّانية، وذلك لأن الإمام لأن ركن الجماعة في حَقِّ القوم، كما أنهم ركن الجماعة في حقه، فخروجه عن الصلاة في حقهم كانفضاضهم في حقه، وأما إذا جوزنا الاستخلاف فلا فرق فيه بين أن يسبقه الحدث، أو يحدث عمداً، أو يخرج من الصَّلاة بلا سبب، وكذلك في سائر الصلوات. وقال أبو حنيفة: إنما يجوز له الاستخلاف إذا جاز له البناء على صلاته، كسبق الحدث؛ فإما إذا تعمد بطلت صلاةُ القومِ أيضاً، ثم إذا استخلف [فلا يخلو؛ إما أن ¬
يستخلف] (¬1) من اقتدى به قبل حدثه، أو يستخلف غيره، فإن استخلف غيره لم يصح، ولم يكن لذلك الغير أن يصلي الجمعة. واحتجوا عليه بأنه لا يجوز ابتداء جمعة بعد انعقاد جمعة، ولو صَحَّ منه الجمعة لكان مبتدئاً بها بعد انعقاد جمعة الإمام، والقوم بخلاف المأموم يدخل في صلاة الجمعة فإنه تابع للقوم لا مبتدئ، ثم قال إمام الحرمين: في صِحَّة ظُهْرِه خلافٌ مَبْنِيٌّ على أن الظُّهْرَ هل تصح قبل فوات الجمعة أم لا؟ إن قلنا: لا تَصِح فهل تبقى نفلاً؟ فيه قولان: فإن لم تَصَحِّح صلاتَه، واقتدى به القوم بَطَلَتْ صلاتُهم، وإن صَحَّحْنَاهَا وكان ذلك في الرَّكعَة الأولى فلا جُمُعَةَ لهم، وفي صحة الظّهر خلاف مبني على أن الظهر هل تَصِح بنية الجمعة أم لا، وإن كان في الركعة الثانية، واقتدوا به كان هذا اقتداء طارئاً على الانفراد، وفيه الخلاف البخاري في سَائِرِ الصَّلوات؛ وفيه شيء آخر وهو الاقتداء في الجمعة بمن يصلي الظّهر، أو النافلة، وقد قدمنا الخلاف فيه، وإن استخلف من اقتدى به قبل الحدث، فينظر، إن لم يحضر الخطبة ففي جواز استخلافه وجهان: أحدهما: لا يجوز، كما لو استخلف بعد الخطبة من لم يحرضها ليصلي بهم لا يجوز. وأصحهما: الجواز؟ لأنه بالاقتداء صار في حكم من سمع الخطبة، ألا ترى أنه لو لم بحدث الإمام صحت له الجمعة كالسامعين، والصَّيْدَلاَنِيُّ جعل هذا الخلاف قولين ونقل المنع عن البويطي والجواز عن أكثر الكتب، وإن كان قد حضر الخطبة أو لم يحضرها، وفرعنا على أنه يجوز استخلافه فينظر، إن استخلف من أدركه في الركعة الأولى جاز، ويتم لها الجمعة، سواء أحث الإمام في الأولى أو الثانية. وعن صاحب "الإفصاح" وجه آخر: أنه يصلي الظهر والقوم يصلون الجمعة، وإن استخلف من أدركه في الرَّكعة الثانية، فقد قال إمام الحرمين: هذا يترتب على أنه هل يجوز استخلاف من لم يسمع الخطبة؟ إن قلنا: لا يجوز، فلا يجوز استخلاف المسبوق، وإن قلنا: يجوز ففيه قولان: أحدهما: المنع؛ بناء على أنه غير مدرك للجمعة على ما سيأتي. وأظهرهما -الذي ذكره الأكثرون-: الجواز، فإن الخليفة الذي كان مقتدياً بالإمام بمثابة الإمام، فعلى هذا القوم يصلّون الجمعة، وفي "الحلية" وجهان، رواهما صاحب "البيان". ¬
أحدهما: أنه يتمها جمعة أيضاً؛ لأنه صلى ركعة من الجمعة في جماعه فيتم الجمعة كما لو صَلَّى ركعة منها، مأموماً، وكما لو أدرك الإمام في ركوع الركعة الأولى، واستخلفه الإمام في تلك الركعة يتمها جمعة، وإن لم يدرك مع الإمام ركعة. وأصحهما: وهو المنصوص واختيار ابْنِ سُرَيْجٍ: أنه لا يتم الجمعة، لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة كاملة بخلاف المأموم فإنه إذا أدرك ركعة جعل تبعاً للإمام في إدراك الجمعة، والخليفة إمام لا يمكن جعله تبعاً للمأمومين، وبخلاف الصورة الأخرى؛ لأن هناك إدراك الإمام في وقت كانت جمعة القوم موقوفة على الإمام، وهاهنا أدركه في وقت لم تكن الجمعة موقوفة على الإمام الجواز أن يتموها فرادى، وكان ذلك الإدراك آكد وأقوى، وعلى هذا فهل يجوز ظهره؟ حكى الصيدلاني وغيره عن ابنِ سُرَيْجٍ أنه قال: يحتمل أن يكون في جواز ظهره قولان؛ لأن الجمعة لم تفت بعد وأدى الظهر مع إمكان الجمعة، وأنه كان بسبيل من أن لا يتقدم حتى يتقدم من أدرك الركعة الأولى، فتصح جمعته خلفه، وأيضاً ففي صحة الظهر بنية الجمعة إذا تعذرت اختلاف، ويحتمل أن يقال: يجوز ظهره قولاً واحداً، وهو معذور في التقدم عند إشارة الإمام، وهذا أظهر عند الأكثرين، فإن قلنا: لا يجوز ظهره فهل تنقلب صلاته نفلاً أو تبطل؟ فيه قولان: إن قلنا: تبطل فهذا مصير إلى منع استخلاف المسبوق، وهو القول الأول الذي نقلناه؛ لأن من تبطل صلاته يستحيل تقديره إماماً، وإذا جوزنا الاستخلاف والخليفة المسبوق يراعي نظم صلاة الإمام، فيجلس إذا صلى ركعة، ويتشهد، فإذا بلغ موضع السلام أشار إلى القوم، وقام إلى الركعة أخرى إن قلنا: هو مدرك للجمعة، وإلى ثَلاثٍ إن قلنا: إن صلاته ظهر، والقوم بالخيار، إن شاؤوا فارقوه وسلموا، وإن شاؤوا ثبتوا جالسين حتى يسلم بهم، ولو دخل مسبوق واقتدى به في الركعة الثَّانية التي استخلف فيها صحت له الجمعة، وإن لم تصح للخليفة حكى ذلك عن نَصِّ الشافعي -رضي الله عنه-؛ لأنه صلَّى ركعة خلف من يراعي نظم صلاة إمام الجمعة، بخلاف الخليفة لم يصل ركعة مع إمام الجمعة، ولا خلف من يراعي نظم صلاته، قال الأئمة: وهذا تفريع على أن الجمعة خلف من يصلي الظهر صحيحة، وتصح صلاة الدين أدركوا ركعة مع الإمام الأول بكل حال؛ لأنهم وإن انفردوا بالركعة الثانية كانوا مدركين للجمعة، فلا يضر اقتداؤهم فيها لمن يصلي الظهر، أو يتنفل. وقوله في الكتاب: (سهواً أو عمداً) لفظ (العمد) معلم بالحاء، لما تقدم. وقوله: (من كان قد اَقتدى به في هذا التقييد) إشارة إلى أنه لا يجوز أن يستخلف غير المقتدي. وقوله: (صح استخلافه) يجوز أن يعلم بالألف؛ لما حكينا من إحدى الروايتين عن أحمد.
وقوله: وسمع الخطبة وإن لم يسمعها، المراد منه الحضور، ونفس السماع ليس بشرط بلا خلاف، وصرح به الأئمة. ثم في الفصل صور تتفرع على جواز الاستخلاف. احداها: إذا استخلف الإمام فهل يشترط استئنافه نية القدوة؟ ذكر في "التهذيب" في اشتراطه وجهين في سائر الصلوات، ولا شك في طردهما في الجمعة. أحدهما: نعم؛ لأنهم بعد خروج الإمام من الصَّلاَة قد انفردوا، ألا ترى أنهم يسجدون لسهوهم في تلك الحالة. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب أنه لا يشترط؛ لأن الغرض من الاستخلاف إدامة الجماعة التي كانت، وتنزيل الخليفة منزلة الأول، ولهذا يراعي نَظْم صلاته، ولو استمر الإمام الأول لم يحتج القوم إلى تجديد نية، فكذلك الآن. الثانية: لو لم يستخلف الإمام قدم القوم بالإشارة واحداً، ولو تقدم واحد بنفسه جاز أيضاً، بل تقديم القوم أولى من استخلاف الإمام، لأنهم في الصَّلاة، والإمام قد خرج منها، ولهذا قال إمام الحرمين: لو قدم القوم واحداً والإمام آخر فأظهر الاحتمالين أن من قدمة القوم أولى، وحكى المسعودي وغيره من أصحابنا عن أبي حنيفة أنه يشترط أن يكون تقدم الخليفة بإذن الإمام، وأن القوم لا يستقلون بالتقديم، وفي "مختصر الكرخي" خلاف ذلك -والله أعلم-. الثالثة: لو لم يستخلف الإمام ولا قدَّم القوم ولا تقدم أحد فالحكم على ما ذكرنا؛ تفريعاً على القديم. قال الأئمة: ويجب على القوم تقديم واحد إن كان خروجه من الصَّلاة في الركعة الأولى، ولم يستخلف، وإن كان في الثانية لم يجب التقديم ولهم الانفراد بها كالمسبوق، وقد حكينا في الطريقين خلافاً تفريعاً على القديم، فيتجه عليه الخلاف في الوجوب وعدمه، هذا كله إذا أحدث في أثناء الصَّلاة، أما لو أحدث بين الخطبة والصلاة، وأراد أن يستخلف غيره ليصلي بالناس إن قلنا: يجوز الاستخلاف في الصَّلاة فيجوز ذلك، إلا فلا يجوز أن يخطب واحد ويؤم آخر؛ لأن الخطبتين في الجمعة بمثابة ركعتين من الصلاة، فعلى هذا إن وسع الوقت خطب بهم آخر، وصَلَّى، وإلا صلُّوا الظهر. ورتب بعضهم الخلاف في هذه الصورة على الخلاف في الاستخلاف في الصَّلاة، ثم أختلفوا فمنهم من جعل هذه الصورة أولى بالجواز؛ لأن الخطبة منفصلة عن الصَّلاة والصلاة عبادة واحدة فيكون احتمال التعدد فيها أبعد، وعكس الشيخ أبو حامد فجعل
هذه الصورة أولى بالمنع؛ لأن عقد الصَّلاة قد نظم الإمام والخليفة، وهي عبادة واحدة، والخطبة والصلاة متميزتان ليس لهما عقد متحد ينظمهما، ثم إذا جوزنا فالشرط أن يكون الخليفة ممن سمع الخطبة؛ لأن من لم يسمع ليس من أهل الجمعة، ألا ترى أنه لو بادر قَوْمٌ من السامعين بعد الخطبة إلى عقد الجمعة انعقدت لهم، بخلاف غيرهم، وإنما يصير غير السامع من أهل الجمعة إذا دخل في صلاة الإمام، هكذا قاله الجمهور، وذكر صاحب "التتمة" فيه وجهين: ولو أحدث في أثناء الخطبة وشرطنا الطهارة فيها، فهل يجوز الاستخلاف؟ إن قلنا: لا يجوز في الصَّلاَةِ فَلاَ، وإن قلنا يجوز: فوجهان، حكاهما ابنُ الصَّبَّاغِ. أصحهما: الجواز كما في الصَّلاة. فرع: لو صلى مع الإمام ركعة من الجمعة، ثم فارقه بعذر أو بغير عذر، ولم تبطل صلاته جاز له أن يتمها جمعة كما لو أحدث الإمام. فرع: لو أتم الإمام ولم يتم المأمومون فأرادوا أن يستخلفوا من يتم بهم، إن لم تجوز الاستخلاف للإمام، لم يجز لهم، وإن جوزنا فإن كان في الجمعة، بأن كانوا مسبوقين لم يجز؛ لأن الجمعة لا تنشأ بعد الجمعة، والخليفة مُنْشِئ، وإن كان في غيرها، فإن كانوا مسبوقين أو مقيمين وهو مسافر فوجهان: أظهرهما: المنع؛ لأن الجماعة قد حصلت في كمال الصلاة، وهم إذا أتموا فرادى نالوا فَضْلَها. قال الغزالي: الثَّالِثَةُ إِذَا زُوحِمَ المُقْتَدِي عَنْ سُجُودِ الرَّكْعَةِ الأُولَى فَانْتَظَرَ التَمَكُّنَ فَإِنْ سَجَدَ قَبْلَ رُكُوعِ الإِمَامِ وَقَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ كَانَ مَعْذُوراً فِي التَّخَلُّفِ، وَإِنْ وَجَدَ الإمَامَ رَاكعاً عِنْدَ فَرَاغهِ مِنَ السُّجُودِ الْتَحَقَ بِالْمَسْبُوقِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ حَتَّى تَسْقُطَ القِرَاءَةُ عَنْهُ لِلْرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنْ وَجَدَ الإمَامَ فَارِغاً مِنَ الرُّكُوعِ وَقُلْنَا: إنَّهُ كَالمَسْبُوقِ فَهَاهُنَا يُتَابع الإِمَامُ فِي فِعْلِهِ لَكِنْ يَقُومُ بَعْدَ سَلاَمِ الإمَامِ إلَى رَكْعَةٍ ثَانِيَة، وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ كَالمَسْبُوقِ فَيَشْتَغِلُ بِتَرْتِيبِ صَلاَةِ نَفْسِهِ وَيَسْعَى خَلْفَ الإِمَامِ وَهُوَ مَعْذُورٌ فِي التَّخَلُّفِ. قال الرافعي: هذا ابتداء مسألة الزحام، وهي موصوفة بالإشكال لانشعاب حالاتها وطول تفاريعها: ونحن نلخصها، ونوضح ما في الكتاب منها بحسب الإمكان. فنقول: إذا منعته الزحمة في الجمعة عن أن يسجد على الأرض مع الإمام في الركعة الأولى، نظر إن أمكنه أن يسجد على ظهر إنسان أو رجله لزمه ذلك؛ لأنه مُتَمَكِّن من ضرب من السجود يجزئه، وقد روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال:
"إِذَا زُوحِمَ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ، فَلْيَسْجُدْ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ" (¬1). وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد، وقال مالك يصبر ولا يسجد على ظهر الغير، ونقل المحاملي وغيره وجهاً أنه يتخير بين أن يسجد على ظَهْرِ الغير متابعةً للإمام، وبين أن يصبر ليحصل له فضيلة السجود على الأرض، والمذهب الأول، ثم قال مُعْظَمُ الأصْحَابِ: إنما يسجد على ظهر الغير إذا قدر على رعاية هيئة الساجدين، بأن كان على نشز من الأرض، والسجود على ظهره في موضع منخفض، فإن لم يكن كذلك لم يكن المأتي به سجوداً، وفي "العدة": أنه لا يضر ارتفاع الظَّهْر، والخروج عن هيئة الساجدين لمكان العذر، وقد ذكر صاحب "الإفصاح" ذلك، وإذا تمكن من السجود على ظهر الغير فلم يفعل، ففيه وجهان حكاهما الشيخ أبو محمد: وأظهرهما: أنه تخلف بغير عذر. والثاني: أنه تخلف بالعذر، وقد سبق حكم القسمين، أما إذا لم يمكنه أن يسجد على الأرض ولا على ظهر الغير، فلو خرج عن المتابعة لهذا العذر، وأراد أن يتمها ظهراً، هل يصح؟ فيه قولان؛ لأنه ظُهْرٌ قبل فوات الجمعة، وسيأتي الخلاف فيه، قال الإمام: ويظهر عندي منعه من الانفراد؛ لأن إقامة الجمعة واجبةٌ، والخروج عنها قصداً مع توقع إدراكها لا وجه له، فإذا دام على المتابعة فما الذي يفعل: ذكر في "النهاية": أن شيخه حكى فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يومئ بالسجود أقصى ما يمكنه كالمريض لمكان العذر. وأصحهما -وهو المذكور في الكتاب-: أنه ينتظر التمكن، ولا يومئ لقدرته على السجود، وندور هذا العذر وعدم دوامه. والثالث: أن يتخير بينهما، وهذه الوجوه كالوجوه في المغازي أنه يقعد ويومئ، أو يقوم ويتم الأركان، أو يتخير بينهما، وإذا فرعنا على الصحيح، وهو أنه ينتظر، فلا يخلو إما أن يتمكن من السجود قبل ركوع الإمام في الثانية، أو لا يتمكن إلى ركوعه فيها، فأما في القسم الأول فيسجد كما تمكن، ثم إذا فرغ فللإمام أحوال أربعة: إحداها: أن يكون بعد في القيام فيفتتح القراءة، فإن أتمها ركع معه، وجرى على متابعته، ولا بأس بما وقع من التخلف للعذر كما في صلاة عسفان يسجد الحارسون بعد قيام الإمام إلى الثانية للعذر، كما سيأتي في صلاة الخوف، وإن ركع الإمام قبل أن ينسها، فيبنى حكمه على وجهين نذكرهما في أنه هل يلتحق بالمسبوق أم لا؟ وقد بَيَّنَّا ¬
حكم المسبوق وغيره في ذلك في صلاة الجماعة (¬1). الثانية: أن يكون في الركوع، ففيه وجهان: أصحهما: عند الجمهور أنه يدع القراءة ويركع معه؛ لأنه لم يدرك محلها فسقطت عنه كالمسبوق. والثاني -وهو اختيار القفال وجماعة-: أنه لا يدعها، ولا تسقط عنه؛ لأنه مؤتم بالإمام في حال قراءته، فلزمته بخلاف المسبوق، فعلى هذا يقرأ ويسعى خلف الإمام، وهو متخلف بالعذر. الثالثة: أن يكون فارغاً من الركوع، لكنه بَعُد في الصلاة؛ فإن قلنا: في الصورة السابقة: إنه كالمسبوق فيتابع الإمام فيما هو فيه، ولا يكون محسوباً له، بل يقوم عند سلام الإمام إلى ركعة ثانية، وإن قلنا: ليس كالمسبوق فيشتغل بترتيب صلاة نفسه، وحكى في "النهاية" طريقة أخرى أنه ليس له في هذه الصورة إلا متابعة الإمام. الرابعة: لو وجد الإمام متحللاً من صلاته، لا يكون مدركاً للجمعة، فإن الإمام قد خرج من الصَّلاة قبل أن تتم له ركعة، بخلاف ما إذا رفع رأسه من السجود وسلم الإمام في الحال، قال إمام الحرمين: وإذا جوزنا له التخلف، وأمرناه بالجريان على ترتيب صلاة نفسه فالوجه أن يقتصر على الفرائض، فعساه يدرك الإمام، ويحتمل أن يجوز له الإتيان بالسنن مع الاقتصار على الوسط منها، وهذه الأحوال مذكورة في الكتاب سوى الرابعة منها، وإنما تكلم في الصورة التي يقع فيها هذه الأحوال، وهي أن تمنعه الزحمة من مطلق السجود دون أن تمنعه من السجود على الأرض، خاصة وقوله: (وقلنا: إنه كالمسبوق فهاهنا يتابع الإمام) يجوز إعلامه بالواو للطريقة التي حكاها الإمام أنه يتابع بلا خلاف. قال الغزالي: أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ السُّجُودِ حَتَّى رَكَعَ الإمَامُ فَقَوْلاَنِ: (أَحَدُهُمَا) يَرْكَعُ مَعَهُ وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ إِما مُلَفَّقَةٌ مِنْ هذَا السُّجُودِ وَالرُّكُوعِ الأَوَّلِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَإِمَّا مَنْظُومَةٌ مِنْ هذَا الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالمُلَفَّقَةِ، فَهَلْ تَصْلُحُ لِإدْرَاكِ الْجُمُعَةِ بِهَا؟ فَعَلَى وَجْهَيْنِ، وَلَوْ خَالَفَ أَمْرَنَا وَلَمْ يَرْكَعْ مَعَ الإِمَامِ لَكنْ سَجَدَ بَطُلَت صَلاَتهُ إلاَّ إِذَا كَانَ جَاهِلاً فَيُجْعَلُ كأَنْ لَمْ يَسْجُدْ، وَيَنْظُرُ بَعْدُ فَإِنْ رَاعَى تَرْتِيبَ صَلاَةِ نَفْسِهِ فَإِذَا سَجَدَ فِي رَكْعَتِهِ الثَّانِيَةِ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ فِيهَا نُقْصَانُ التَّلْفِيقِ وَنُقْصَانُ ¬
القُدْوَةِ الحُكْمِيَّةِ لِوُقُوعِهَا بَعْدَ الرُّكُوعِ الثَّانِي لِلْإِمَامِ، وَهَلْ تَصْلُحُ الحُكْمِيَّةُ لإدْرَاكِ الجُمُعَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، أَمَّا إِذَا تَابَعَ الإمَامَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ سُجُودِهِ الَّذِي سَهَا بِهِ فَقَدْ سَجَدَ مَعَ الإمَامِ حِسًّا وَتَمَّتْ لَهُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ. قال الرافعي: القسم الثاني: أن لا يتمكن من السجود حتى يركع الإمام في الثَّانية، وفيما يفعل والحالة هذه؟ قولان: أصحهما -وبه قال مالك وأحمد، واختاره القَفَّالُ-: أنه يتابعه فيركع معه لظاهر قوله: "إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فارْكَعُوا" (¬1) ولأنه أدرك الإمام في الركوع فيركع معه كالمسبوق. والثاني -وبه قال أبو حنيفة-: لا يركع معه بل يراعى ترتيب [صلاة نفسه] (¬2) فيسجد لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا" (¬3). وقد سجد الإمام في الأولى فليسجد هو امتثالاً للأمر، ولأنه لو ركع لكان موالياً بين ركوعيه في ركعة واحدة، قال الرُّوَيانِيُّ: وهذا أصح. التفريع: إن قلنا بالأول فإما أن يوافق ما أمرناه به، أو يخالف. الحالة الأولى: أن يوافق فيركع فأي الركوعين يحسب له، فيه وجهان، وقيل: قولان. أحدهما: الأول؛ لأنه أتى به في وقت الاعتداد بالركوع، وإنما أتى بالثاني لِعُذْرٍ، وهو موافقة الإمام، فأشْبَه ما لو وإلى بين ركوعين نَاسِياً. والثاني: المحسوب الثاني؛ لأن المدة قد طالت وأفرط التخلف، فكأنه مسبوق لحق الآن فيحسب له الركوع وما بعده، ويلغى ما سبق، وذكروا أن منشأ هذا الخلاف التردد في تفسير لفظ الشافعي -رضي الله عنه- فإنه قال على هذا القول: "فيركع معه في الثَّانية وتسقط الأخرى" فَمِنْ قَائِل: أراد بالأخرى الأخيرة، ومِن قَائِلٍ: أراد الأولى، قالوا: والأول أَصَحُّ، والثَّاني أَشْبَهُ بِكَلاَمِهِ. وقوله في الكتاب: "إما ملفقة إلى آخره وإما منظومة من هذا الركوع والسجود" أي: على هذا الوجه الثاني، فإن قلنا: بالوجه الثاني أجزأته الركعة الثانية من الجمعة، فيضم إليها أخرى عند سلام الإمام، وإن قلنا: بالأول فالحاصل ركعة ملفقة من هذا السجود، وذلك الركوع، وفي إدراك الجمعة بها وجهان: ¬
أحدهما- وبه قال ابْنُ أَبِي هُرَيرَة-: لا يدرك لنقصانها بالتلفيق، ومن شرط الجمعة وإدراكها استجماع صِفَة الكَمَال. وأصحهما -وبه قال أبو إسحاق-: تدرك لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَة مِنَ الْجُمعَةِ فَلْيُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى" (¬1). والتلفيق ليس بنقص في حق المعذور، وإن كان نقصاً فهو غير مانع، ألا ترى أنا إذا أحتسبنا بالركوع الثاني حكمنا بإدراك الجمعة بلا خلاف مع حصول التلفيق بين هذا الركوع وذلك التحرم. الحالة الثانية: أن يخالف ما أمرنا فلا يركع معه، ويسجد جرياً على ترتيب صلاته فإما أن يفعل ذلك عالماً بأن واجبه المتابعة، أو يفعله ناسياً، أو معتقداً أن الواجب عليه رعاية ترتيبه، فإن فعله عالماً ولم ينوِ مفارقة الإمام بطلت صلاته، وعليه التحرم بالجمعة إن أمكنه إدراك الإمام في الركوع، وإن نوى مفارقته فقد أخرج نفسه عن صلاة الإمام بغير عذر، وفي بطلان الصَّلاة به قولان سَبَقَا، فإن لم تَبْطُل لم تصح جمعته، وفي صِحَّة الظهر خلاف مبني على أن الجمعة إذا تعذر إتمامها هل يجوز إتمامها ظهراً؟ وعلى أن الظهر هل تصح قبل فوات الجمعة؟ وسيأتي ذلك. وقوله: "تبطل صلاته إلا إذا كان جاهلاً" ينبغي أن يُعْلَمَ فيه أن الاستثناء لا ينحصر في الجاهل، بل الناسي في معناه، وقوله: (بطلت صلاتُه) إن أراد ما إذا لم ينو المفارقة واستدام نيته الأولى فذاك، وإن أراد إطلاق الحكم نوى المفارقة أم لا؟ فيحتاج إلى الإعلام بالواو، وأما إذا فعله جاهلاً أو ناسياً، فما أتى به من السجود لا يعتد به، ولا تبطل الصَّلاة، ثم إذا فرغ والإمام راكِعٌ بعد بأن خفف سجوده، وطوَّل الإمام فعليه متابعته، فإن تابعه وركع معه فالتفريع كما سبق لو لم يسجد، وإن لم يركع معه أو كان الإمام قد فرغ من الركوع، فينظر: إن راعى ترتيب صلاة نفسه، بأن قام بعد السجدتين وقرأ وركع وسجد، فقد قال حُجَّةُ الإسلام -قدَّس الله روحه- هاهنا وفي "الوسيط": تتم له ركعتان بهما لكن فيها نقصانان: أحدهما: نقصان التلفيق، فإن ركوعها من الأولى وسجودها من الثانية، وفيها الخلاف المذكور. والثاني: نقصان القدوة الحكمية، وبين في "النهاية" معناه فقال: إن المزحوم لم يسجد على متابعة الإمام والاقتداء به حقيقة وحِسًّا، وإنما سجد متخلفاً عنه، إلا أنه ¬
معذور فسحبوا حكم القدوة عليه، وقالوا: إن لم يفرط التخلف بأن سجد قبل ركوع الإمام ألحق اقتداؤه بالاقتداء الحقيقي، وجعل مدركاً للجمعة كما تقدم، فإما إذا سجد بعد ركوعه، فقد أفرط التخلف وانتهى الإمام إلى آخر ما به يدرك المسبوق الجمعة، فالمتم ركعته معرضاً عن الاقتداء به حقيقة، هل يكون مدركاً للجمعة؟ فيه وجهان: وأصحهما: نعم، ويقرب توجيههما مما ذكرنا في الملفقة وقد عرفت مما ذكرنا أنه إلى ماذا أشار بقوله: "لوقوعها بعد الركوع الثاني للإمام" وأن الخلاف ليس في مطلق الحكمية، فإن السجود في حال قيام الإمام ليس على حقيقة المتابعة، ولا خلاف في إدراك الجمعة به ثم اعرف شيئين: أحدهما: أنه أطلق الحكم باحتساب سجدتيه في الثانية، وتمام الركعة بهما، ثم نقل التردد في إدراك الجمعة بها، ولا شك في أن هذا التردد مخصوص بما إذا وقعتا قبل سلام الإمام، فإما إذا وقعتا أو شيء منهما بعد سلام الإمام فقد نصوا على أنه لا يكون مدركاً للجمعة، على أن في أصل الاحتساب إذا وقعتا قبل سلام الإمام إشكالاً؛ لأنا على القول الذي عليه التفريع، نأمره بالمتابعة بكل حال، فكما لا يحسب له السجود والإمام راكع؛ لأن فرضه المتابعة وجب أن لا يحسب له والإمام في ركن بعد الركوع، والمفهوم من كلام الأكثرين هذا، وهو عدم الاحتساب بشيء مما يأتي به على سبيل المتابعة، فإذا سلم الإمام سَجَدَ سجدتين لِتَمَامِ الركعة، ولا يكون مدركاً للجمعة. نعم، صرح الصيدلاني باحتساب السجدتين، وبنقل الوجهين في إدراك الجمعة بها، كما ذكره في الكتاب والله أعلم. الثاني: أنه زِيدَ في بعض النُّسَخِ بعد قوله: (فيجعل "كأنه لم يسجد") ثم إن أدرك الإمام راكعاً، عاد التفريع كما مضى، وإن فات الركوع ينظر بعده، فإن راعى وهكذا هو في "الوسيط" وليس في بعضها هذه الزيادة، والأمر فيها قريب، وعلى الأول فليس التفصيل المرتب على قوله: (فإن فات الركوع) مخصوصاً بما إذا فات الركوع عند فراغ المزحوم من السجود، بل لو كان الإمام في الركوع بعد، لكنه جرى على ترتيب صلاته، كان الحكم كما لو فات إلا أن يطيل الإمام ركوعه، فيكون بعد فيها حين سجد المزحوم في الثانية، فلا يعتد به، هذا كله فيما إذا جرى على ترتيب صلاته بعد فراغه من سجدتيه اللتين لم يعتد بهما، فأما إذا فرغ منهما، والإمام ساجد، فاتفق له متابعته في السجدتين، فهذا هو الذي نأمره به، والحالة هذه تفريعاً على هذا القول، فيحسبان له، ويكون الْحَاصِل ركعة ملفقة. وأما النقصان الآخر فهو: مفقود هاهنا؛ لأنه سجد مع الإمام حِسًّا. وقوله: (بعد سجوده الذي سها به) أي جهل حكمه فإنه بمثابة السهو، وإن وجده
جالساً للتشهد وافقه، فإذا سَلَّم سجد سجدتين لتتم له الركعة، ولا جُمُعَة له؛ لأنه لم يتم له الركعة والإمام في الصَّلاة، وكذلك يفعل لو وجده قد سلم حين فرغ من سجدتيه. قال الغزالي: (وَالقَوْلُ الثَّانِي) أَنَّهُ لاَ يَرْكَعُ مَعَ الإِمَامِ بَلْ يُرَاعيِ تَرْتِيبَ صَلاَة نَفْسِهِ، فَإِنْ خَالَفَ مَعَ العِلْمِ وَرَكعَ بَطُلَتْ صَلاتُهُ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً لَمْ تَبْطُلْ، وَحَصَلَ لَهُ بِسُجُودِهِ مَعَ الإِمَامِ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ، وَإِنْ وَافَقَ قَوْلَنَا وَسَجَدَ فَسُجُودُهُ وَاقِعٌ فِي قُدْوَةٍ حُكْمِيَّةٍ فَفِي الإِدْرَاكِ بِهَا وَجْهَانِ، فَعَلَى هذَا للإِمَامِ حَالَتَانِ عِنْدَ فَرَاغهِ مِنَ السُّجُودِ، فَإِنْ كانَ فَارِغاً مِنَ الرُّكُوعِ فَيَجْرِي عَلَى تَرْتِيبِ صَلاة نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ رَاكِعًا رَكَعَ مَعَهُ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ كَانَ كَالمَسْبُوقِ، وَإلاَّ جَرِيَ عَلَى تَرْتِيبِ صَلاَةِ نَفْسِهِ. قال الرافعي: ذكرنا أصل هذا القول وتوجهه مع الأول، وأما التفريغ: فإنه لا يخلو إما أن يوافق ما أمرناه به وهو رعاية ترتيبه أو يخالف. إحدى الحالتين: أن يخالف أمرنا ويركع مع الإمام، فإن كان عامداً بطلت صلاتُه، وعليه أن يبتدئ [الإحرام] (¬1) بالجمعة إن أمكنه إدراك الإمام في الرّكوع، وإن كان ناسياً أو جاهلاً يعتقد أن الواجب عليه الركوع مع الإمام فلا يعتد بركوعه، ولا تبطل صلاته فإذا سجد معه بعد الركوع فهل تحسب له السجدتان؟ المشهور أنهما يحسبان له، لأنا أمرناه بالسجود على هذا القول، فقدَّم عليه شيئاً غيرَ معتد به، ولا مفيد، فإذا انتهى إليه، وجب أن يقع عن [المأموم] (¬2) وهذا هو الذي ذكره في الكتاب، فقال: (وحصلت له بسجوده مع الإمام ركعة ملفقة) وحكي الشيخ أبو محمد -رحمه الله- في السلسلة وجهاً آخر، أنه لا يعتد بهما [لأنه أتى بهما] (¬3) على قصد الثَّانية، فلا يقع عن أولاه كما لو نَسِيَ سجدة من صلب الصَّلاة، ثم سجد لتلاوة أو سهو لا يقوم مقامها، فإن قلنا بالأول، فالحاصل ركعةٌ ملفقة، وفي الإدراك بها ما سبق من الخلاف. الحاله الثانية: أن يوافق ما أمرناه به، فيسجد، فهذه القدوة حكمية لوقوع السجود بعد الركوع الثاني للإمام، وفي إدراك الجمعة بها الوجهان السَّابِقَان، وهما مشهوران في هذا الموضع في كلام الأصحاب، ثم إذا فرغ من السجود فللإمام حالتان: إحداهما: أن يكون فارغاً من الركوع إما في السجود أو في التشهد، ففيه وجهان: أحدهما -وهو المذكور في الكتاب-: أنه يجري على ترتيب صلاة نفسه، فيقوم ¬
ويقرأ ويركع؛ لأنا أمرناه بذلك حالة ركوِع الإمام، مع أنه الركن الذي يتعلق به إدراك المسبوق، فلأن نأمره به بعد مجاوزته كان أولى. والثاني: أنه يلزمه متابعة الإمام فيما هو فيه، فإذا سلم الإمام اشتغل بتدارك ما عليه؛ لأنه إنما جعل الإمام ليؤتم به، فصار كالمسبوق يدرك الإمام ساجدًا أو متشهدًا، بخلاف الركعة الأولى، فإنه أدرك منها القيام والركوع، فلزمه إتمامها ويشبه أن يكون هذا الوجه أظهر في المذهب؛ لأن كثيراً من أصحابنا لم يوردوا سواه، منهم جماعة من العراقيين والشيخ أبو محمد، ونقل ابن الصباغ وصاحب "المهذب" الوجهين، وقالا: الأصح، هو الثاني، وعلى هذا الثاني. قال الشيخ أبو محمد: لو كان الإمام عند فراغه من السجود قد هوى للسجدتين فتابعه، فقد والى بين أربع سجدات، فالمحسوب لتمام الركعة الأولى الأوليان أم الأخريان؟ فيه وجه كما سبق في الركوعين: أقربهما إلى الصَّواب: احتساب الأوليين، وعلى الوجه الثاني يعود الخلاف المذكور في الركعة الملفقة. والثانية: أن يكون الإمام راكعاً بعد، فهل عليه متابعته وتسقط عنه القراءة كالمسبوق أو يشتغل بترتيب صلاة نفسه فيقرأ؟ فيه وجهان كما ذكرنا تفريعاً على القول الأول، فعلى الأول يسلم معهم ويتم جمعته، وعلى الثاني يقرأ ويسعى ليلحقه، وهو مدرك للجمعة أيضاً. وقوله: في أول القول الثاني: "لا يركع معه" معلّم بالميم والألف، وقوله في أول القول الأول: "يركع معه" بالحاء؛ لما قدمناه، ويجوز أن يعلم كلاهما بالزَّاي؛ لأن الأصحاب اختلفوا في اختيار المزني ومذهبه من القولين، فعن ابن سُرَيْجٍ واَبْنِ خَيْرَان أن اختياره القول الثاني، وعن أبي إسحاق أن اختياره القول الأول، ولهذا الاختلاف شرح ليس هذا موضعه، ولعلك تقول قوله: "فعلى هذا للإمام حالتان" تفريقع وترتيب، فعلى ماذا رتبه، والمذكور قبله، وجهان مرسلان في أن القدورة الحكمية، هل تفيد إدراك الجمعة؟ والجواب: أنه أراد الترتيب على قولنا: أن القدوة الحكمية تصلح للإدراك، وقد بين ذلك في "الوسيط"، لكن إيراد المعظم يدل على أن كلام الحالتين لا يختص بالتفريع على أحد الوجهين، بل هو شامل لهما وإنما يختلفان في القدر الذي يتداركه، هذا تمام الكلام فيما إذا لم يتمكن المزحوم في السجود حتى ركع الإمام في الثانية، ولو لم يتمكن منه حتى سجد الإمام في الثانية فيتابعه في السجود قولاً واحداً، والحاصل ركعة مُلَفَّقَة، وإن قلنا: الواجب متابعة الإمام، وغير ملفقة إن قلنا: الواجب عليه رعاية ترتيب صلاته ذكره في "التهذيب"، ولو لم يتمكن منه حتى تشهد الإمام قال في
"التتمة": يسجد، ثم إن أدرك الإمام قبل الكلام فقد أدرك الجمعة، وإلا فلا (¬1) ولو كان الزحام في سجود الركعة الثانية وقد صلى الأولى مع الإمام فيسجد متى تمكن قبل سلام الإمام أو بعده، وجمعته صحيحة، وإن كان مسبوقاً لحقه في الثانية، فإن تمكن قبل سلام الإمام سجد، وقد أدرك ركعته، وإن لم يتمكن حتى سلم الإمام، فلا جمعة له، ولو زحم عن ركوع الركعة الأولى حتى ركع الإمام في الثَّانية يركع معه، قال الأكثرون: يعتد له بالركعة الثَّانية، وتسقط الأولى، ومنهم من قال: الحاصل ركعة ملفقة. قال الغزالي: وَمَهْمَا حَكَمْنَا بِأنَّهُ لَمْ يُدْرِكِ الجُمُعَةَ فَهَلْ تَنْقَلِبُ صَلاتُهُ ظُهْراً؟ فيه قَوْلاَنِ يُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِأَنَّ الجُمُعَةَ قِي ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ أَمْ هِيَ صَلاةٌ علَى حِيَالِهَا (¬2) فَإِنْ قُلْنَا: لاَ تَنْقَلِبُ ظُهْرًا فَهَلْ تَبْقَى نَفْلاً؟ يُبْنَى عَلَى القَوْلَيْنِ فِي المُتَحَرِّمِ بِالظُّهرِ قَبْلَ الزَّوَالِ. قال الرافعي: إذا عرضت حالة في الصلاة تمنع من وقوعها جمعة في صورة الزّحام وغيرهما، فهل يتم صلاته ظُهْراً؟ فيه قولان يتعلقان بأصل، وهو أن الجمعة ظهر مقصورة أو هي صلاة على حالها؟ وقد اختلف قول الشافعي -رضي الله عنه- في فروع تقتضي اختلافه في هذا الأصل. أحدهما: أنها ظهر مقصورة؛ لأن وقتها وقت الظهر، ولكن وجب القصر فيها عند تمام شروطها. والثاني: أنهما صلاة على حيالها، ألا ترى أنه لا يجوز فعلها في سائر الأيام، ولا يجوز فعل الظهر في هذا اليوم. فإن قلنا: إنها ظهر مقصورة، فإذا فات بعض شرائط الجمعة أتمها ظهراً كالمسافر إذا فات شروط قصره. وإن قلنا: إنها فرض آخر فهل يتم، فيه وجهان مذكوران في "التهذيب" وغيره. أحدهما: لا؛ لأنه شرع فيها بنية الجمعة. والثاني: نعم؛ لأنهما فرضُ وقتٍ وَاحِدٍ. وقوله في الكتاب: (فهل تنقلب صلاته ظهراً؟) يشعر بأن الخلاف في انقلابه بنفسه، وفي "النهاية" حكاية وجهين (¬3) في ذلك على قولنا: أنه تتم صلاته ظهراً. ¬
أحدهما: [أنها] (¬1) تنقلب ظهراً من غير قصدٍ منه؛ لأنا إذا جعلناها ظُهْراً مقصورة، فمتى بطل القصر ثبت الإتمام. والثاني: أن الشرط أن يقلبهما ظهراً بقصده؛ لأن بين الجمعة والظهر تغايراً في الجملة ليس بين القصر والإتمام، فلا بد من قصد البناء، والظاهر من الخلاف في المسألة أن له أن يتمها ظُهْراً، وإذا قلنا: لا يتمها ظهراً فهل تبقى صلاته نفلاً أم تبطل من أصلها؟ فيه القولان السابقان فيما إذا تحرم بالظُّهرِ قبل الزوال ونظائرها؛ ثم قال إمام الحرمين: قول البطلان لا ينتظم تفريعه إذا أمرناه في صورة الزحام بشيء فوافق أمرنا؛ لأن الأمر بالشيء والحكم ببطلانه ورفعه آخراً محال، فليكن ذلك مخصوصاً بما إذا أمرناه بشيء، فخالف، وحيث أطلق الأئمة ترتيب الخلاف وتنزيله فهو محمول على هذا. قال الغزالي: وَالنِّسْيَانُ هَل يَكُونُ عُذْراً كَالزِّحامِ؟ فيه وَجْهَانِ. قال الرافعي: التخلف بالنسيان هل هو كالتخلف بالزحام؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم؛ لمكان العذر. والثاني: لا؛ لأنه نادر، ولأنه مفرط إذ هو بسبيل من إدامة الذِّكْرِ، هكذا أطلق جماعة نقل الوجهين منهم المصنِّف، والمفهوم من كلام الأكثرين أن في ذلك تفصيلاً: إن تأخر سجوده عن سجدتي الإمام ثم سجد في حال قيام الإمام فالحكم كما ذكرناه في الزحام، وكذلك لو تأخر لمرضٍ لشمول العذر، وعدم إفراط التخلف، وإن بقي ذاهلاً عن السجود حتى ركع الإمام في الثانية ثم تنبه فهاهنا خلاف، منهم من قال: فيه القولان في المزحوم: أحدهما: يركع معه. والثاني: يجري على ترتيب صلاة نفسه، وبهذا قال القاضي أبو حامد، ومنهم من قال: يتبعه قولاً واحداً؛ لأنه مُقَصِّر بالنِّسْيَانِ، فلا يجوز له ترك المتابعة، وهذا أظهر عند القاضي الروياني. خاتمة: الزحام كما يفرض في صلاة الجمعة، يفرض في سائر الصلوات وإنما يذكر في الجمعة خاصة؛ لأن الزحمة فيها أكثر، ولأنها يجتمع فيها وجوه من الإشكال لا تجري في غيرها مثل التردد في أن الركعة الملَفَّقَة هل تدرك بها الجمعة؟ وكذا التردد في القدوة الحكمية، والتردد في أن المبنية على أن الجمعة ظهر مقصورة، ولأن ¬
الجماعة شرط فيها ولا سبيل إلى المفارقة ما دام يتوقع إدراك الجمعة بخلاف سائر الصلوات. إذا عرفت ذلك، فإذا فرض الزَّحمة في سائر الصلوات وامتنع عليه السجود في الأولى حتى يركع الإمام في الثانية اطرد فيه القولان، وحكى القاضي ابْنُ كَجٍّ طريقتين أخريين: إحداهما: أنه يركع معه بلا خلاف. والثاني: أنه يراعي ترتيب صلاته بلا خلاف. قال الغزالي: الشَّرْطُ السَّادِسُ: الخُطْبَةُ، وَأَرْكَانُهَا خَمْسَةٌ: (ح)، الحَمْدُ لِلَّهِ وَيتَعَيَّنُ هَذَا اللَّفْظُ، وَالصَّلاة عَلَى رَسُولِ اللهِ ويَتَعَيَّنُ لَفْظُ الصَّلاَةِ، وَالوصِيَّةُ بِالتَّقْوَى، وَلاَ يَتَعَيَّنُ لَفْظُهَا إِذْ غرَضُهُ الوَعْظُ، وَأَقَلُّهَا أَطِيعُوا اللهَ، والدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَقَلُّهُ رَحِمَكُمُ اللهُ، وَقِرَاءَةُ القُرْآنِ، وَأَقَلُّهَا آَيَةٌ، وَالدُّعَاءُ لاَ يَجِبُ إِلاَّ فِي الثَّانِيَةِ، وَالقِرَاءَةُ تَخْتَصُّ بِالأُولَى عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَالتَّحْمِيدُ وَالصَّلاَةُ وَالوَصِيَّةُ وَاجِبَةٌ فِي الخُطْبَتَيْنِ. قال الرافعي: من شرائط الجمعة تقدم خطبتين "لِأَنَّ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ إِلاَّ بِخُطْبَتَيْنِ" (¬1) وقد قال: "صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي" (¬2) وروي عن عمر -رضي الله عنه- وغيره "أن الصَّلاَةَ إِنَّمَا قُصِرَت لِلْخُطْبَةِ" (¬3). والكلام في واجبات الخطبة وسننها. أما الواجبات: فقد جعلها قسمين: الأركان والشرائط، وعد الأركان خمسة: أحدها: حمد الله تعالى لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَحَمِدَ اللهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ" (¬4)، ويتعين لفظ الحمد اتباعا لما درجوا عليه من عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى عصرنا هذا. والثاني: الصَّلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى افتقرت إلى ذكر رسوله كالأذان والصَّلاة، ويتعين لفظ الصلاة كما ذكرنا في الحمد، ¬
وحكى في "النهاية" عن كلام بعض الأصحاب ما يوهم أنهما لا يتعينان، ولم ينقله وجهاً مجزوماً به. والثالث: الوصية بالتقوى لِأنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- "وَاظَبَ عَلَيْهَا فِي خُطْبَتِهِ" (¬1). ولأن المقصود من الخطبة الوعظ والتحذير، فلا يجوز الإخلال به، وهل يتعين لفظ الوصية؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كالحمد لله والصلاة. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب لا؛ لأن غرضها الوعظ فبأي لفظ وَعظ حَصَل الغَرَضُ، وقد روي هذا عن نصه في "الإملاء" قال الإمام: ولا يكفي الاقتصار على التحذير من الاغترار بالدنيا وزخارفها، فإن ذلك قد يتواصى به المنكرون للمعادِ أيضاً، بل لا بد من الحمل على طاعة الله تعالى وحده، والمنع من المعاصي، ولا يجب في المَوْعِظَةِ فَصْلٌ وكلامٌ طويلٌ، بل لو قال: أطيعوا الله كفاه، وأبدى الإمام احتمالاً فيه، وقال: الغرض استعطاف القلوب، وتنبيه الغافلين ولا يحصل ذلك إلا بفصل يهز ويستحث، وعلى ذلك جرى الأولون، واللائَّق بمذهب الشافعي -رضي الله عنه- الاتباع، ولا تردد في كلمتي الحمد والصلاة أنهما كافيتان، ثم هذه الأركان الثلاثة لا بد منها في الخطبتين جميعاً، وحكى الحناطي وجهاً غريباً أنه لو صلَّى على النبي -صلى الله عليه وسلم- في إحداهما جاز، فيجوز أن يُعَلَّم لذلك لفظ (الصلاة) في قوله: "والتحميد والصلاة والوصية واجبة في الخطبتين" بالواو. والرابع: الدُّعَاءُ للمؤمنين ركنٌ في ظاهر المذهب اتباعاً، وفيه أوجه أُخَر أنه لا يجب في غير الخطبة كالتسبيح، وكلام صاحب "التلخيص" يوافق هذا الوجه، ويحكى عن نصه في "الإملاء" أيضاً، وإذا قلنا بالأول فهو مخصوص بالثَّانية فإن الدعاء يَلِيقُ بحالة الاختتام، ولو دعا في الأول لم يحسب عن الثانية، ويكفي ما يقع عليه الاَسم قال الإمام: وأرى أنه يجب أن يكون متعلقاً بأمور الآخرة غير مقتصرٍ على أوطار الدُّنيا، وأنه لا بأس بتخصيصه بالسّامعين بأن يقول: رحمكم الله. الخامس: قراءة القرآن، وهي من الأركان. روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ يَقْرَأُ آيَاتٍ وَيَذْكُرُ اللهَ تَعَالَى" (¬2)، ونقل قول عن "الإملاء": أنها ليست من الأركان، وإنما هي من المستحبات وقد يحكى المذهبان على وجهين عن أبي إسحاق المروزي فإن قلنا بالمشهور، وهو أنها ركن فقد قال الأصحاب: أقله آية، ¬
ويحكى ذلك عن نص الشافعي -رضي الله عنه-، ولا فرق بين أن يكون مضمونها وَعْداً أو وعيداً أو حكماً أو قصة، قال الإمام: ولا يبعد الاكتفاء بشطر آية طويلة، ولا شك أنه لو قال: "ثُمَّ نَظَرَ" (¬1) لم يكف وإن عد آية بل يعتبر أن تكون مفهمة، واختلفوا في محلها على ثلاثة أوجه: أظهرها -وينقل عن نصه في الأمِّ-: أنها تجب في إحداهما لا بعينها؛ لأن المنقول أنه كان يقرأ في الخطبة وهذا القدر لا يوجب كون القراءة فيهما ولا في واحدة على التعيين. والثاني: أنها تجب فيهما؛ لأنها ركن فأشبهت الثلاثة الأول. والثالث: أنها تختص بالأولى في مقابلة الدعاء المختص بالثانية، وهذا ظاهر لفظه في "المختصر". وقوله في الكتاب: (والقراءة تختص بالأولى على أحد الوجهين) تعرض لهذا الوجه الثالث، ويمكن إدراج الوجهين الآخرين في مقابله بأن يقال: والثاني لا يختصِ، وعلى هذا تجب فيهما أو تجب في واحدة لا على التعيين، فيه وجهان. "وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْخُطْبَةِ سُورَةَ (ق)، رُوِيَ ذلِكَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-" (¬2) وإن قرأ آية سجدة نَزَلَ وَسَجَدَ، فإن كان المنبر عالياً لو نزل لطال الفصل، ففيه الخلاف المذكور في اشتراط الموالاة، ولا تداخل في الأركان المذكورة، حتى لو قرأ آية فيها موعظة، وقصد إيقاعها عن الجهتين، لم يجز، ولا يجوز أن يأتي بآيات تشتمل على الأركان المطلوبة فإن ذلك لا يسمى خطبة، ولو أتى ببعضها في ضمن آية لم يمتنع. وقوله في الكتاب: (وأركانها خمسة) معلم بالواو للخلاف المذكور في القراءة والدعاء، وبالحاء؛ لأن عنده يكفيه أن يقول: الْحَمْدُ للهِ، أو لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ أو نحوهما، وبالميم؛ لأنه روي عن مالك مثل مذهب أبي حنيفة، وروي أنه قال: لا يجزئه إلا ما سمته العرب خطبة، ويجوز أن يعلم كل واحد من الأركان بعلامتها؛ لما ذكرنا، وكذا الحكم بتعين الحمد لله والصلاة، ولك أن تبحث في شيئين من قوله: (ويتعين هذه اللفظة) وقوله: (يتعين لفظ الصلاة): أحدهما: أن الحكم بتعين اللفظين يقتضي عدم إجزائهما بغير العربية، فهل هو كذلك؟ ¬
والجواب: أنَّ في اشتراط كون الخطبة كلها بالعربية وجهين. أصحهما: أنه شرط اتباعاً لما جرى عليه النَّاس. والثاني: ذكره في "التتمة" مع الأول: أنه لا يشترط اعتباراً بالمعنى، فعلى الصَّحيح لو لم يكن فيهم من يحسن العربية خطب بغيرها، ويجب أن يتعلم واحد منهم الخطبة بالعربية، كالعاجز عن التكبير بالعربية عليه التعَلم، فلو مضت مدة إمكان التعلم ولم يتعلموا عصوا، وليس لهم الجمعة. الثاني: لم قال في الحمد لله: (وتتعين هذه اللفظة) ولم يقل مثل ذلك في الصلاة على رسول الله، ولكن خَصَّ التعيين بالصلاة؟ والجواب: إنما لم يقل في الصَّلاة، وتتعين هذه اللفظة؛ لأنه لو قال: والصلاة على محمد، أو على النبي جاز ولا يشترط التعرض للفظ الرسول. وقوله في الحمد: (وتتعين هذه اللفظة) مقتضاة أنه لو قال: الحمد للرحمن أو الرحيم، لا يجزئه، وذلك مما لا يبعد كما في كلمة التكبير، لكن لم أره مسطوراً، فأما أن قوله: "والصلاة على النبي مجزئ فلا شك فيه"، وهو لفظ الشافعي -رضي الله عنه- في "المختصر". قال الغزالي: وَشَرَائِطُهَا سِتٌّ، الوَقْتُ وَهُوَ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَتَقْدِيمُهَا عَلَى الصَّلاَة بِخِلاَفِ صلاَةِ العِيدَيْنِ، وَالْقِيَامُ فِيهِمَا، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ الخُطْبَتَيْنِ مَعَ الطَّمَأْنِينَةِ، وَفِي طَهَارَةِ الخَبَثِ والحَدَثِ وَالمُوَالاَةِ خِلاَفٌ. قال الرافعي: لما فرغ من الأركان اشتغل بذكر الشرائط وعدها سِتًّا، وهذا الفصل يشتمل على خمس منها: إحداها: الوقت، وهو ما بعد الزَّوال، فلا يجوز تقديم الخطبتين، ولا شيء منهما عليه خلافاً لأحمد حيث قال: يجوز كما حكينا عنه في نفس الصلاة، ولمالك حيث جوز تقديم الخطبة على الزوال وإن لم يجز تقديم الصلاة. لنا: ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يَخْطُبُ يَومَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ" (¬1). ولو جاز التقديم لقدمها تخفيفاً على المبكرين، وإيقاعاً للصلاة في أول الوقت. ¬
الثانية: تقديم الخطبتين على الصَّلاة بخلاف صلاة العيد تقدم على الخطبتين؛ لأن النقل هكذا ثبت في الطرفين، ثم فرقوا من وجهين: أحدهما: أن خطبة الجمعة واجبة، فقدمت ليحتبس الناس في انتظار الصلاة فيستمعوها ولا ينتشروا، وخطبة العيد غير واجبة، ولو انتشروا عنها لم يقدح. والثاني: أن الجمعة لا تؤدي إلا جماعة، فقدمت الخطبة عليها ليمتد الوقت، ويلتحق النَّاس، وصلاة العيد تؤدي من غير جماعة. الثالثة: القيام فيها عند القدرة، خلافاً لأبي حنيفة وأحمد حيث قالا: لا يشترط ذلك، ويجوز القعود مع القدرة. لنا: "أَن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَمَنْ بَعْدَهُ لَمْ يَخْطُبُوا إِلاَّ قِيَاماً" (¬1). ولأنه ذِكْرٌ يختص بالصَّلاة ليس من شرطه القعود، فكان من شرطه القيام كالقراءة والتكبير، فإن عجز "عن القيام فالأولى أن ينيب غيره، ولو لم يفعل وخطب قاعداً أو مضطجعاً جاز كما في الصَّلاة، ويجوز الاقتداء به، سواء قال: لا أستطيع القيام أو سكت، فإن الظاهر أنه إنما قعد لعجزه، فإن بان أنه كان قادراً فهو كما لو بان الإمام جنباً. وقوله: (القيام فيها) معلم بالحاء والألف؛ لما حكيناه من مذهبهما، ويجوز إعلامه بالميم؛ لأن بعض أصحاب أحمد حكى عن مالك مثل مذهبهما، بالواو؛ لأن القاضي ابن كج حكى عن بعض أصحابنا وَجْهًا، أنه لو خطب قاعداً مع القدرة على القيام يجزئه. الرابعة: الجلوس بينهما؛ خلافاً لأبي حنيفة ومالك وأحمد حيث قالوا: إنه سنة وليس بشرط. لنا: "مَا ثَبَتَ مِنْ مُوَاظَبَةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَمَنْ بَعْدَهُ عَلَيْهِمَا" (¬2). وتجب الطمأنينة فيه كما في الجلسة بين السجدتين، ولو خطب قاعداً لعجزه عن القيام، لم يضطجع بينهما للفصل، ولكن يفصل بينهما بسكتة [ويجب ذلك من أصح الوجهين وحكى القاضي ابن كج عن ابن القطان عن بعض الأصحاب أنه يكفي القائم أيضاً أن يفصل بينهما بسكتة] (¬3) خفيفة، وهذا يقتضي إعلام قوله: (والجلوس بين الخطبتين) بالواو جمع الحاء والميم والألف. فإن قلت: لم عد القيام والقعود هاهنا من الشرائط وهما معدودان في الصَّلاَة من ¬
الأركان؟ فاعلم: أن إمام الحرمين أجاب عنه بأن قال: الأمر فيه قريب، ولا حجر على من بعدهما من الأركان كما في الصلاة، ولا على من لا يعدهما من الأركان في الصلاة أيضاً، ونقول: المقصود ما يقع فيهما، وهما محالان، ويجوز الفرق بأن الغرض من الخطبة الوعظ، وهو أمر معقول، ولا يصح (¬1) في الصلاة أمر معقول، فجعل القيام بمثابة ما فيه، وهاهنا عد شرطاً ومحلاً لما هو المقصود. الخامسة: هل يشترط في الخطبة طهارة الحدث وطهارة البدن والثوب والمكان عن الخبث؟ فيه قولان: القديم: لا، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد؛ لأن الخطبة ذِكْرٌ يتقدم الصَّلاة فأشبه الآذان. والجديد: نعم اتباعاً لما جرت الأئمة عليه في الأعصار كلها، وهذا الخلاف مبني عن بعض الأئمة على أن الخطبتين بدل عن الركعتين، أم لا؟ وقال إمام الحرمين: وهو مبني على أن الموالاة في الخطبة هل هي شرط أم لا؟ إن قلنا: نعم، فلا بد من أن يكون متطهراً؛ لأنه يحتاج إلى الطهارة بعد الخطبة فتختل الموالاة. وإن قلنا: لا تشترط الموالاة لا تشترط الطَّهارة، ومنهم من جعل الخلاف في الطهارة وجهين، والقولان أشْهَرُ، وقد طرد الخلاف في سَتْرِ العورة، أما من يبنى على أن الخطبتين بدل من الركعتين أم لا فتوجيهه هَيِّنٌ على أصله، وأما من لم يبن عليه فقد قال الإمام: سبب الاشتراط بروز الخطيب، وما فيه من هتكة الانكشاف لو لم يتستر. وقوله: (في طهارة الحدث) لفظ (الحدث) يشمل الحدث الأصغر والأكبر، وقد صَرَّحَ في "التتمة" بطرد الخلاف في اشتراط الطهارة عن الحدث والجنابة جميعاً، لكن قال في "التهذيب": إن خطب جنباً لم تحسب قولاً واحداً؛ لأن القراءة شَرْطٌ، ولا تحسب قراءة الجنب، وهذا أوضح (¬2) والخلاف الذي أرسله المراد منه ما بيناه، ونقله المصنف في "الوسيط" وجهين وأما الخلاف في الموالاة فهو قولان، ومسألة الموالاة مكررة قد ذكرها مرة في الشرط الرابع للجمعة، وإنما جمع بينها وبين الطهارة لتناسب والبناء الذي ذكره الإمام، وإذا اشترطنا الطهارة فلو سبقه الحدث في [الخطبة] (¬3) لم ¬
يعتد بما يأتي به في حال الحدث، وفي بناء غيره عليه الخلاف الذي سبق، ولو تطهر وعاد وجب الاستئناف إن طال الفصل وشرطنا الموالاة، وإن لم يطل الفصل ولم نشترط الموالاة فوجهان: أظهرهما: الاستئناف أيضاً؛ لأنها عبادة واحدة، فلا تؤدي بطهارتين كالصَّلاَة. قال الغزالي: وَيَجِبُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ أَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِ الكَمَالِ، وَهَلْ يَحْرُمُ الكَلاَمُ عَلَى مَنْ عَدَا الأَرْبَعِينَ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ، الجَدِيدُ أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ كَمَا لاَ يَحْرُمُ الكَلاَمُ عَلَى الخَطِيبِ، وَقِيلَ بِطَرْدِ القَوْلَيْنِ فِي الخَطِيبِ فَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ الإِنْصَات فَلاَ يُسَلِّمُ الدَّاخِلُ، فَإِنْ سَلَّمَ لَمْ يُجَبْ، وَفِي تَشْمِيتِ العَاطِسِ وَجْهَانِ، وَفِي وُجوبهِ عَلَى مَنْ لاَ يَسْمَعُ الخُطْبَةَ وَجْهَانِ، وَتَحِيَّة المَسْجِدِ مُسْتَحَبةُ فِي أَثْنَاءِ الخُطْبَةِ (ح م)، وَإِنْ قُلْنَا: لاَ يَجِبُ الإنْصَات فَفِي تَشْمِيتِ العَاطِسِ وَفِي رَدِّ السَّلاَمِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: الشريطة السادسة للخطبة رفع الصوت، فإن الوَعْظَ الذي هو مقصود الخطبة لا يحصل إلا بالإبلاغ والإسماع (¬1)، وذلك لا يحصل إلا برفع الصوت، فلو خطب سرًّا بحيث لم يسمع غيره لم يحسب كالآذان، وحكى صاحب "البيان" عن أبي حنيفة أنها تُجْزِئ، وقد حكاه القاضي الروياني وغيره وجهاً. لنا ثم الضبط على ظاهر المذهب أن يسمع أربعين من أهل الكمال على ما سبق وصفهم، ولو رفع الصوت قدر ما يبلغ لكن كانوا أو بعضهم صُمًّا ففيه وجهان: أصحهما: أنها تجزئ كما لو بعدوا عنه، وكما أنه يشترط سماع شهود النكاح. والثاني: يجزئ كما لو حلف لا يكلم فلاناً فكلمه بحيث يسمع لكنه لم يسمع لصممه يحنث، وكما لو سمعوا الخطبة ولم يفهموا معناها لا يضر، وينبغي للقوم أن يقبلوا بوجوههم إلى الإمام وينصتوا ويسمعوا قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (¬2) ذكر في التفسير أن الآية وردت في الخطبة سميت قرآناً لاشتمالها عليه، والإنصات: هو السكوت، والاستماع شغل السمع بالسماع، وهل الإنصات فرض والكلام حرام أم لا؟ قال في القديم "والأم": الإنصات فَرْضٌ والكلامُ حرامٌ وبه قال أبو حنيفة ومالك، وهو أظهر الروايتين عن أحمد، ووجهه ظاهر الأمر في الآية، فإنه للإيجاب وما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أنْصِتْ وَالْإِمَام (9) يَخْطُبُ يَومُ الْجُمُعَةِ فَقَدْ لَغَوْتَ" (¬3) واللّغو الإثم قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ ¬
مُعْرِضُونَ} (¬1) وقال في الجديد: الإنصات سنة والكلام ليس بحرام لما روى: "أَنَّ رَجُلاً دَخَل وَاِلنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ يَومَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ فَأوْمَأ النَّاسُ إِلَيْهِ بِالسُّكُوتِ، فَلَمْ يَقْبَلْ وَأَعَادَ الكَلاَمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ الثَّالِثَةَ: مَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا. فَقَال: حُبَّ اللهِ وَرَسُولَهُ، فَقَال إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ" (¬2). والاستدلال أنه لم ينكر عليه ولم يبين له وجوب السكوت، وذكر أصحابنا العراقيون أن أبا إسحاق حكى في الشرح عن بعض أصحابنا طريقة أخرى جازمة بالوجوب وأنه أَوَّلَ كلامه في الجديد، والذي عليه الجمهور طريقة القولين، وهل يحرم الكلام على الخطيب؟ فيه طريقان: أصحهما: القطع بأنه لا يحرم، وإنما حرم على المستمع في قول كيلا يمنعه عن الاستماع، "وَأَيْضاً فَقَدْ كَلَّمَ رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَتَلَهُ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ كَيْفِيَّةِ قَتْلِهِ فِي الْخُطْبَةِ" (¬3)، وَكَلَّمَ أَيْضاً سُلَيْكاً الْغَطَفَانِي (¬4) فِي الْخُطْبَةِ، كما سيأتي، وعلى هذه الطريقة شبه في الكتاب المستمع بالخطيب، فقال: الجديد أنه لا يحرم على الخطيب، وقد ذكر المزني هذا الاستدلال لترجيح الجديد. والطريقة الثانية: طرد القولين في الخطيب، وهي تخرج على أن الخطبتين بمثابة الركعتين أم لا؟ إن قلنا: نعم حرم الكلام عليه، وبه قال مالك وأبو حنيفة. ثم تكلم في محل القولين وتفريعهما. أما المحل ففيه كلامان: أحدهما: أن الخلاف في الكلام الذي لا يتعلق به غرض مهم ناجز فأما إذا رأى أعمًى يقع في بِئْرٍ أَوْ عَقْرَبًا تَدُبُّ على إنسان فأنذره، أو علَّم إنساناً شيئاً من الخير أو نهاه عن منكر فهذا لا يحرم قولاً واحداً، وإن كان لفظ الكتاب مطلقاً، كذلك ذكره الأصحاب على طبقاتهم، وحكوه عن نَصِّ الشافعي -رضي الله عنه- نعم المستحب أن يقتصر على الإشارة ولا يتكلم ما وجد إليه سبيلاً. والثاني: أنه يجوز الكلام قبل أن يبتدئ الإمام في الخطبة وكذلك بعد الفراغ منها إلى أن ينزل، أو يتحرم بالصلاة، وليس ذلك موضع الخلاف، لأنه ليس وقت ¬
الاستماع، وأما حالة الجلوس بين الخطبتين فمنهم من أخرجها من حَيِّز الخلاف أيضاً، وهو ما أورده صاحب "المهذب"، وحجة الإسلام في "الوسيط"، وأجرى المحاملي وابن الصباغ وآخرون الخلاف فيه، ويجوز للداخل في أثناء الخطبة أن يتكلم ما لم يأخذ لنفسه مكاناً، والقولان بعد ما قعد حكاه الإمام وغيره. وأما تفريع القولين، فإن قلنا: بالقديم فالداخل في أثناء الخطبة ينبغي أن لا يسلم، فإن سلم لم تجز إجابته باللسان، ويستحب أن يجاب بالإشارة كما في الصَّلاة، وهل يجوز تشميت العاطس؟ فيه وجهان: أصحهما -وهو المنصوص-: لا؛ كَرَدِّ السلام. والثاني: يجوز؛ لأن العاطس لا يتعلق بالاختيار، والتشميت من حقوق المُسْلِمِ على المُسْلِم، فَيُوَفَّى، بخلاف رَدِّ السَّلام، فإن المسلم والحالة هذه مُضَيِّعٌ سَلاَمه، وعلى هذا فهَل يستحب؟ حكى إمام الحرمين فيه وجهين، ووجه المنع بأن الإنصات أهم فإنه واجب على هذا القول، والتشميت لا يجب قط، وحكى في "البيان" عن بعض الأصحاب أنه يرد السلام، ولا يشمت العاطس؛ لأن تشميت العاطس سنة ورد السَّلام واجب، والواجب لا يترك بالسّنة، وقد يترك بواجِبٍ آخر، وهل يجب الإنصات على من لا يسمع الخطبة؟ فيه وجهان شبيهان بالوجهين، في أن المأموم الذي لا يسمع قراءة الإمام هل يقرأ السورة أم لا؟. أحدهما: أنه لا يجب؛ لأن الإنصات للاستماع، فعلى هذا له أن يشتغل بذكر وتلاوة. والثاني: يجب كيلا يرتفع اللغط ولا يتداعى إلى منع السامعين من السماع، وهذا أظهر، ولم يذكر كثيرون سواه، وحكوه عن نَصِّ الشافعي -رضي الله عنه- وقالوا: البعيد بالخيار بين الإنصات وبين الذكر والتلاوة، وأما في كلام الأدميين فهو والقريب سواء، وإن فرعنا على الجديد فقد قال في الكتاب؛ يشمت العاطس، وفي رد السَّلاَم وجهان، ولا بُدَّ من البحث عنه أهو كلام في الاستحباب أم في الوجوب؟ أما جوازهما فلا شَكَّ فيه على هذا القول، أما غيره فقد جعل صاحب "التهذيب" الوجهين في وجب الرد. أصحهما: وجوبه كما في سائر الأحوال. والثاني: لا يجب؛ لأنه مُقَصِّرٌ مُضَيَّعٌ للسلام، كمن سلم على من يقضي حاجته، قال: وفي استحباب التشميت الوجهان، وذكر المضنف في "الوسيط" أن التشميت يجب، وفي الرَّد وجهان، والظاهر أنه أراد نصب الوجهين في الاستحباب على ما صرح
به إمام الحرمين، فقال: لا يجب الرد لتقصير المسلم ووضعه الكلام في غير موضعه، والوجهان في استحباب الرد. واعلم: أن القول بوجوب التشميت خلاف ما أطبق عليه الأئمة، فإنهم قالوا: التشميت محبوب غير واجب بحال، فلا ينبغي أن يحمل قوله: (ويشمت العاطس) عليه بل الوجه تأويل ما في "الوسيط" أيضاً، ولا يحسن حمله على الجواز أيضاً؛ لأنه عطف عليه قوله: (وفي رد السلام وجهان) فإذا كان المراد من الأول الجواز، كان قضية الإيراد فرض الخلاف في الجواز، ولا يمكن تصوير الخلاف فيه على هذا القول، فإذا قوله: (يشمت العاطس) معناه أنه يستحب ذلك، وليكن معلماً بالواو لما حكاه صاحب "التهذيب". واعلم: أنه لو تكلم لم تبطل جمعته على القولين جميعاً، والخلاف في الإثم وعدمه؛ وأما قوله: (وتحية المسجد مستحبة) فشرحه: أن الخطيب إذا صعد المنبر، فينبغي لمن ليس في الصَّلاة من الحاضرين أن لا يفتتحها سواء صلى السُّنَّة أم لا، ومن كان منهم في الصَّلاة خففها، وروي عن الزّهري أنه قال: "خُرُوجُ الْإِمَامِ يَقْطَعُ الصَّلاَةُ، وَكَلاَمُهُ يَقْطَعُ الْكَلاَمُ" (¬1) والفرق بين الكلام الذي لا بأس به، وإن صعد المنبر، ما لم يبتدئ الخطبة وبين الصَّلاة أن قطع الكلام هين متى ابتداء الخطيب الخطبة بخلاف الصلاة، فإنه قد يفوته سماع أول الخطبة إلى أن يتمها، وأما الدَّاخل في أثناء الخطبة، فيستحب له التَّحِيَّة خلافاً لمالك وأبي حنيفة، حيث قالا: يكره له الصَّلاة كما للحاضرين. لنا: ما روي: "أَنَّهُ جَاءَ سُلَيْكُ الْغَطَفَانِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ فَجَلَسَ فَقَالَ: لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- قُمْ يَا سُلَيْكُ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وتَجَوَّزْ فِيهِمَا"، ثُمَّ قَالَ: "إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ [يَوْمُ الجُمُعَةِ] (¬2) وَالإمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا" (¬3)، ولو أن الداخل لم يُصَلِّ السنة بعد صلاها، وحصلت التحية بها أيضاً وإن دخل الإمام في آخر الخطبة لم يُصَلِّ، حتى لا يفوته أول الجمعة مع الإمام، وحكم التَّحِيَّةِ لا يختلف بقولي الإنصات، وذِكْرُه في الكتاب متَّصِلاً بتفريع القديم ليس لاختصاص الاستحباب به، بل استحباب التحية على قولنا باستحباب الإنصات أظهر منه على قولنا يوجب الإنصات، وقوله في أول الفصل (ويجب رفع الصوت بحيث يسمع أربعين من أهل الكمال) يجوز إعلامه بالحاء والميم؛ لما تقدم نقله، وقوله: (وهل يحرم الكلام على من عدا الأربعين) ¬
يقتضي الجزم بتحريم الكلام على الأربعين، وهذا التقدير بعيد في نفسه ومخالف لما نقله الأصحاب أما بعده في نفسه فلأن الكلام في السامعين للخطبة ألا تراه يقول بعد ذلك: (وفي وجوبه على من لا يسمع الخطبة وجهان) وإذا حضر جمع زائد على الأربعين، وهم بصفة الكمال، فلا يمكن أن يقال: بأن الجمعة تنعقد بأربعين منهم على التعيين، حتى يفرض تحريم الكلام عليهم قطعاً، والتردد في حق الآخرين بل الوجه الحكم بانعقاد الجمعة بهم أو بأربعين منهم لا على التعيين [حتى يفرض تحريم الكلام عليهم قطعاً والتردد في حق الآخرين، بل الوجه الحكم بانعقاد الجمعة بهم أو بأربعين منهم لا على التعيين] (¬1) وأما مخالفته لنقل الأصحاب، فإنك لا تجد للجمهور إلا إطلاق قولين في السامعين، ووجهين في حق غيرهم كما سبق، ويجوز أن يعلم قوله: (قولين) بالواو إشارةً إلى الطريقة الجازمة بالوجوب المروية عن أبي إسحاق. وقوله: (كما لا يحرم الكلام على الخطيب) معلم بالحاء والميم، هذا آخر ما ذكره في الكتاب من واجبات الخطبة ووراءها واجبات أخر. منها: أن تكون بالعربية كما سبق. ومنها: نية الخطبة وفرضيتها، حكى عن القاضي الحسين اشتراط ذلك كما في الصَّلاة. ومنها: التَّرتِيب ذكر صاحب "التهذيب" وغيره أنه يجب الترتيب بين الكلمات الثلاث المشتركة بين الخطبتين، يبتدئ بالتحميد، ثم بالصلاة، ثم بالوصية، ولا ترتيب بين القراءة والدّعاء، ولا بينهما، ولا بين غيرهما، ونفى صاحب "العدة" وآخرون وجوب الترتيب في ألفاظها أصلاً، وقالوا الأفضل رعايته (¬2). قال الغزالي: وَأَمَّا سُنَنُ الخُطْبَةِ فَأَنْ يُسلّم الخَطِيبُ عَلَى مَنْ عِنْدَ المِنْبَرِ، ثُمَّ إِذَا صَعَدَ المِنْبَرَ أَقْبَلَ وَسَلَّمَ (م ح) وَجَلَسَ إِلَى أَنْ يَفْرَغَ المُؤَذِّنُ. قال الرافعي: سنن الخطبة ثلاث جمل: إحداها: السنن السابقة على نفس الخطبة. منها: أن يخطب على المنبر: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ مُسْتَنِداً إِلَى جِذْعٍ فِي ¬
الْمَسْجِدِ، ثُمَّ صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرِ فَكَانَ يَخْطُب عَلَيْهِ" (¬1). والسنة: أن يوضع على يمين المحراب، هكذا وضع منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والمراد من يمين المحراب الموضع الذي يكون على يمين الإمام إذا استقبل، ويكره وضع المنبر الكبير الذي يضيق المكان على المصلين إذا لم يكن المسجد متسع الخطة، فإن لم يكن منبر خطب على موضع مرتفع ليبلغ صوته الناس. ومنها: أن يسلم على من عند المنبر إذا انتهى إليه، لما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ إِذَا دَنَا مِنْ مِنْبَرِهِ سَلَّمَ عَلَى مَنْ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ يَصْعَدُ فَإذَا اسْتَقْبَل النَّاسَ بِوَجْهِهِ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَعَدَ" (¬2). ومنها: إذا بلغ في صعوده الدرجة التي تلي موضع القعود ويسمى ذلك الموضع المستراح، أقبل على الناس بوجهه وسلم عليهم، خلافاً لمالك وأبي حنيفة حيث قالا: يكره هذا السَّلام. لنا خبر ابن عمر -رضي الله عنهما- وروي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "اسْتَوَى عَلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي تَلِي الْمُسْترَاحِ قَائِماً ثُمَّ سَلَّمَ" (¬3). ومنها: أن يجلس بعد السلام على الموضع المسمى بالمستراح ليستريح من تعب الصعود روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ وَيجْلِسُ جَلْسَتَيْنِ" (¬4) والمراد هذه الجلسة والجلسة بين الخطبتين ومتى جلس يشتغل المؤذن بالأذان قال الأئمة: "وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لِلْجُمْعَةِ أَذَانٌ قَبْلَ هذَا الأَذَانِ فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ، كَثُرَ النَّاسُ وَعَظُمَت البَلْدَة أَمَرَ الْمُؤَذِّنِينَ بَالتَّأْذِينَ عَلَى مَكَانِهِم" ثم كان يؤذن المؤذن بين يديه إذا استوى على المنبر فثبت الأمر على ذلك ويديم الإمام الجلوس إلى فراغ المؤذن من الأذان. وقوله: (إلى أن يفرغ المؤذن) وحد لفظ المؤذن، ويمكن حمله على ما [حكى] (¬5) في "البيان" عن صاحب "الإفصاح" والمحاملي أن المستحب أن يكون المؤذن واحداً، "لأنه لم يكن يُؤَذِّنُ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة إلا وَاحِدٌ" (¬6) وفي كلام ¬
بعض الأصحاب ما ينازع فيه، ويشعر باستحباب التعدد -والله أعلم-. قال الغزالي: ثُمَّ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ بليغتين قَرِيبَتَيْنِ مِنَ الإِفْهَامِ مَائِلَتَيْنِ إِلَى القِصَر يَسْتَدبِرُ القِبْلَةَ فِيهِمَا، وَيَجْلِسُ بَيْنَ الخُطْبَتَيْنِ بِقَدْرِ سُورَةِ الإِخْلاَصِ، وَيَشْغَلُ إِحْدَى يَدَيْهِ فِي الخُطْبَتَيْنِ بِحَرْفِ المِنْبَرِ وَالثَّانِيَةَ بِقَبْضِ سَيْفِ أَوْ عَنْزَةٍ. قال الرافعي: الجملة الثانية: السنن المتعلقة بنفس الخطبة. منها:. أن تَكُونَ الخُطْبَةُ بليغةً غير مُؤَلَّفَةٍ من الكلمات المتبذلة؛ لأنها لا تؤثر في القُلوب، ولا من الكلمات الغربية الوحشية؛ فإنه لا ينتفع بها أكثر النَّاس؛ بل يجعلها قريبة من الإفهام. ومنها: أن لا يطول، روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "قِصَرُ الْخُطْبَةِ وَطُولُ الصَّلاَةِ مِئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ" (¬1) وإنما قال: مائلتين إلى القِصَر ولم يقل قصيرتين؛ لأن المحبوب فيهما التَّوَسُّط، روي أن صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَتْ قَصْداً وَخُطْبَتُهُ قَصْداً" (¬2). ومنها: أن يستدبر القبلة ويقبل على النَّاس ولا يلتفت يميناً وشمالاً، روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ إذَا خَطَبَ اسْتَقبَلَ النَّاسَ بِوَجْهِهِ، وَاسْتَقْبَلُوهُ وَكَانَ لاَ يَلْتَفِتُ" (¬3) وإنما استدبر القبلة؛ لأنه لو استقبلها لم يخل إما أن يكون في صدر المسجد على ما هو المعتاد أو في آخره، فإن كان في صدر المسجد واستقبلها، كان مستدبراً للقوم، واستدبارهم وهم المخاطبون قبيح، خارج عن عرف المخاطبات، وإن كان في آخره فإما أن يستقبله القوم فيكونوا مستدبرين للقبلة واستدبار واحد أهون من استدبار الجم الغفير، وإما أن يستدبروه فيلزم ما ذكرنا من الهيئة القبيحة، ثم لو خطب مستدبراً للناس جاز، وإن خالف السنة، وحكى في "البيان" وغيره وجهاً أنه لا يجزئ. ومنها: أن يجلس بين الخطبتين بقدر قراءة سورة "الإخلاص" حكى عن نصه في "الكبير" قال الإمام: وهو قريب من القدر المستحب من الجلسة بين السجدتين. وقوله: (ويجلس بين الخطبتين) إلى آخره الغرض منه عد تقدير الجلوس بالقدر المذكور من جملة السُّنَن. وأما أصله فهو من الواجبات وهو كقوله: (ثم يخطب خطبتين بليغتين) لا أنه ¬
يخطب خطبتين ويجوز أن يعلم بالواو؛ لأن القاضي الروياني ذكر في التجربة أنه يجب أن يكون جلوسة بقدر قراءة سورة "الإخلاص"، ولا يجوز أقلّ منه، ونسبه إلى النص. ومنها: أن يعتمد على سيف أو عنزة وهي شبه الحربة أو عصَا أو نحوها، روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يَعْتَمِدُ عَلَى عَنْزَتِهِ اعْتِمَاداً" (¬1). وروي: "أَنَّهُ اعتَمَدَ عَلَى قَوْسٍ فِي خُطْبَتِهِ" فَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئاً سكن جسده ويديه إما بأن يجعل يده اليمنى على اليسرى، أو يقرهما مرسلتين، والغرض أن يخشع ولا يَعْبَث بهما، وإذا شغل إحدى يديه بسيف أو ما في معناه شغل الأخرى بحرف المنبر، وبأيتهما يقبض السَّيْف ونحوه، لم يتعرض الأكثرون لذلك، وذكر في "التهذيب" أنه يقبض باليسرى، وقوله: (بسيف أو عنزة) في بعض النسح أو غيره، ولا بأس به أيضاً وينبغي للقوم أن يقبلوا على الخطيب (¬2) مستمعين، لا يشتغلون بشيء آخر، حتى يكره الشرب للتلذذ ولا بأس به للعطش لا للقوم ولا للخطيب (¬3). ¬
الباب الثاني فيمن تلزمه الجمعة
قال الغزالي: ثُمَّ إِذَا فَرَغَ ابْتَدَرَ النَّزُولَ مَعَ إِقَامَةِ المُؤَذِّنِ بِحَيْثُ يَبْلُغُ المِحْرَابَ عِنْدَ تَمَامِ الإقَامَةِ. قال الرافعي: الجملة الثالثة: ما يتأخر عن نَفْسِ الخُطبة، وهو أن يأخذ في النزول والمؤذن في الإقامة ويبتدر ليبلغ المِحْراب مع فراغ المؤذن من الإقامة، والمعنى فيه المبالغة في تحقيق الموالاة. الْبَابُ الثّاني فِيمَن تَلْزَمُهُ الجُمُعَةُ قال الغزالي: وَلاَ تَلْزَمُ إِلاَّ عَلَى مُكَلَّفٍ حُرٍّ ذَكَرٍ مُقِيمٍ صَحِيحٍ فَالعَارِي عَنْ هذِهِ الصِّفَاتِ لاَ يُلْزَم فَإِنْ حَضَرَ لَمْ يَتِمّ العَدَدُ بِهِ سِوَى المَرِيضِ لَكِن تَنْعَقِدْ لَهُ سِوَى المَجْنُونِ، وَلَهُمْ أَدَاءُ الظُّهْرِ مَعَ الحُضُورِ سِوَى المَرِيضِ فَإِنَّهُ إِذَا حَضَرَ لَزَمَهُ لِكَمَالِهِ. قال الرافعي: مقصود الباب الكلام فيمن تلزمه الجمعة ومن لا تلزمه، وللزومها خمسة شروط: أحدها: التكليف فلا جمعة على صبي ولا مجنون كسائر الصَّلوات، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، إلاَّ أرْبَعَةً عَبْداً أَوْ امْرَأَةً أَوْ صَبيّاً أَوْ مَرِيضاً" (¬1) الثَّانِي الحرية [فلا تجب] (¬2) على عبدٍ، خلافاً لأحمد في رواية، والأصح عنه أيضاً مثل مذهبنا لما ذكرنا من الخبر. وأيضاً فقد روي عن جابر -رضي اِللهِ عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْم الآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةِ، إِلاَّ عَلَى امْرَأْةٍ أو مُسَافِرٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ مَرِيضٍ" (¬3)، ولا فرق في ذلك بين القِنّ والمدبّر والمكاتب. الثالث: الذكورة؛ فلا جُمْعَة على امرأةِ، لما روينا من الخبرين، والخنثى المشكل كالمرأة، قاله صاحب "التهذيب" وغيره؛ لأنه يحتمل أن يكون أنثى فلا يلزمه بالشَّك. الرابع: الإقامة فلا جمعة على مسافر؛ للخبر الثاني، فلو كان وقت الجمعة في بلد على طريقه استحب له حضورها، وكذلك القول في الصَّبِيِّ والعبد. ¬
الخامس: الصِّحة فلا جمعة على مريض للخبرين، ولا فرق بين أن تفوت الجمعة بتخلفه لنقصان العدد دونه وتمامه به، وبين أن لا تفوت ثم في الفصل صور: إحداها: من فقد شرطاً من الشروط المذكورة كما لا تلزمه الجمعة لا يتم العدد به سوى المريض؛ لأنه متوطن ليس به نقيصة، وغيره إما ناقص أو غير متوطن، وفي معنى المرض أعذار نذكر في الفَصْل التالي لهذا الفَصْل فلا يجب على صاحبها الجمعة، وتَنْعقد به، وقوله: "فالعاري عن هذه الصفات" أي عن مجموعها، وقد يوجد فيه بعضها وقد لا يوجد شيء منها، وقوله: "لم يتم العدد به" معلم بالحاء، وقوله: "سوى المريض" بالواو، لما سبق في الشرط الرابع للجمعة. الثانية: من لا تلزمه الجمعة، إذا حَضَر الجمعة وصلاها انعقدت له وأجزأته لأنها أكمل في المعنى، وإن كانت أقصر في الصورة، فإذا أجزأت الكاملين الدين لا عذر لهم، فلأن تجزي أصحاب العذر كان أولى، ويستثنى عن هذا المجنون، فإنه لا اعتداد لفعله. الثالثة: الدين لا تلزمهم الجمعة إذا حضروا الجامع، هل لهم أن ينصرفوا ويصلؤا الظهر؟ أما الصبيان والنّسوان والعبيد والمسافرون فلهم ذلك؛ لأن المانع من وجوب الجمعة عليهم الصّفات القائمة بهم، وهي لا ترتفع بحضورهم، وأما المرضى فقد أطلق كثيرون في أنه ليس لهم بعدما حضروا الانصراف، وتلزمهم الجمعة؛ لأن المانع في حقهم المشقة فقد ارتفع هذا المانع وتعب العود، لا بد منه، سواء صلى الجمعة أو الظهر. وفَصَّل إمام الحرمين فقال: إذا حَضَرَ المريض قبل دخول الوقت فالوجه القطع بأن له أن ينصرف، وإن دخل الوقت وقامت الصَّلاة لزمه الجمعة، وإن كان يَتَخَلَّل زمان بين دخول الوقت وبين الصلاة، فإن لم يلحقه مزيد مَشَقَّة في الانتظار حتى تقام الصَّلاة لزمه ذلك، وإن لَحِقَهُ لم يلزمه، وهذا تفصيل فقيه، ولا يبعد أن يكون كلام المطلقين منزلاً عليه، وألحقوا بالمرضى أصحاب المعاذير الملحقة بالمرض، وقالوا: إنهم إذا حضروا لزمهم الجمعة، ولا يبعد أن يكون هذا على التَّفْصِيل أيضاً؛ إن لم يزدد ضرر المعذور بالصَّبْرِ إلى إقامة الجمعة، فالأمر كذلك، وإن زاد فله الانصراف وإقامة الظهر في منزله، وذلك لكما في الخائف على ماله، ومهما كانت مدة غيبته أطول كان احتمال الضياع أقرب، وكذلك الممرض يزداد ضرره بالانتظار، والله أعلم. وهذا كله فيما قبل الشّروع في الجمعة، فأما إذا أحرم الدين لا تلزمهم الجمعة بالجمعة ثم أرادوا الانصراف قال في "البيان": لا يجوز ذلك للمسافر والمريض، وذكر في العبد والمرأة وجهين عن حكاية الصيمري (¬1) وقوله في الكتاب: "ولهم أداء الظهر مع الحضور" يجوز أن يعلم ¬
بالواو؛ لأنه لم يستثن عنه إلا المريض، وقد خرج صاحب "التلخيص" في العبد أنه تلزمه الجمعة، إذا حضر كالمريض، قال، في "النهاية" وهذا غلط باتفاق الأصحاب، ولا يوجد في جميع نسخ كتابه، فلعله هفوة من ناقل. قال الغزالي: وَيلْتَحِقُ بِعُذْرِ المَرَضِ المَطَرُ وَالوَحْلُ الشَّدِيدُ، وَكُلُّ مَا ذُكِرَ مِنَ المُرَخَّصَاتِ فِي تَرْكِ الجَمَاعَةِ، وَيتْرُكُ بِعُذْرِ التَّمْرِيضِ أَيْضًا إِذَا كَانَ المَرِيضُ قَرِيباً مُشْرِفاً عَلَى الوَفَاةِ، وَفِي مَعْنَاهُ الزَّوْجَةُ وَالمَمْلُوكُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْرِفاً وَلَمْ يَنْدَفِعْ بِحُضُورِهِ ضَرَرٌ لَمْ يَجُزِ التَّرْكُ، وَإِنْ انْدَفَعَ بِهِ ضَرَرٌ جَازَ. قال الرافعي: ما يمكن فرضه في صَلاة الجُمُعة من الأعذار المرَخَّصة في ترك الجماعة يرخص في ترك الجمعة أيضاً، وهذا القيد لا بد منه، وإن أطلق قوله: "وكل ما ذكر من المُرَخَّصَات في ترك الجماعة" لأن مما ذكر من المرخصات الريح العاصفة، وهي مرخصة بِشَرْط كونها في اللَّيْلِ، وهذا الشَّرْط لا يتصور هَاهُنَا، وقد سبق شرح تلك الأعذار، وكنا أخرنا عنها الكلام في شيئين فنذكرهما. أحدهما: الوحل الشديد، وفيه وجهان: أصحهما -وهو المذكور في الكتاب-: أنه عذر لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا ابْتُلَّتِ النّعَالُ فَالصَّلاَةُ فِي الرِّحَالِ" (¬1). والثاني: ليس بعذر؛ لأن له عدة دافعة، وهي الخفاف والصَّنَادل، وهذا يشكل بالمطر، وذكر في "العدة" وجهاً فارقاً، وهو أن الوحل ليس بعذر في صلاة الجُمُعَة، وهو عذر في ترك الجماعة في سائر الصَّلَواتِ، لأنها تتكرر في اليوم والليلة خمس مَرَّات، قال: وبهذا أفتى أئمة طبرستان. والثاني: التمريض والمريض، لا يخلو إما أن يكون له من يتعهده [أو لا يكون. القسم الأول: أن يكون له من يتعهده] (¬2) ويقوم بأمره فينظر: إن كان قريباً وهو مشرف على الوفاة فله أن يتخلف عن الجمعة ويحضر عنده، روي أن ابن عمر -رضي الله عنهما- "تَطَيَّبَ لِلْجُمُعَةِ، فَأُخْبِرَ أَن سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ -رضي الله عنه- مَنْزُولٌ بِهِ، وَكَانَ قَرِيبًا لَهُ فَأَتَاهُ وَتَرَكَ الْجُمُعَةِ" (¬3)، والمعنى فيه شغل القلب السالب للخشوع لو حضر، ¬
فإن لم يكن مشرفاً على الوفاة لكن كان يستأنس به، فله أن يتخلف أيضاً ويمكث عنده ذكره في "التهذيب"، وإن لم يكن استئناس أيضاً فليس له التخلف، وحكى أصحابنا العراقيون عن ابن أبي هريرة وجهاً آخر، أن له [التخلف] (¬1) عند شِدَّة المرض لشغل القلب بشأنه، وإن كان المريض أجنبيًّا لم يجز التخلف للحضور عنده في هذا القسم بحال، وفي معنى القريب المملوك والزوجة وكل من بينه وبينه مصاهرة، وذكر المحاملي وغيره أن الصَّديق أيضاً كالقريب. القسم الثاني: أن لا يكون للمريض متعهد، قال الإمام: إن كان يخاف عليه الهلاك، لو غاب عنه، فهو عذر في التخلف، سواء كان قريباً أو أجنبياً، فإن إنقاذ المسلم من الهلاك من فروض الكفايات، وإن كان يلحقه بغيبته ضرر ظاهر، لا يبلغ دفعه مبلغ فروض الكفايات، ففيه وجوه: أصحها: أنه عذر أيضاً، فإن دفع الضرر عن المسلم من المهمات. والثاني: أنه ليس بعذر؛ لأن ذلك مما يكثر وتجويز التخلف له قد يتداعي إلى تعطيل الجمعة. والثالث: الفرق بين القريب والأجنبي لزيادة الرّقة والشفقة على الغريب، ولو كان له متعهد، لكن لم يتفرغ لخدمته لاشتغاله بشراء الأدوية أو بشراء الكفن وحفر القبر، إذا كان منزولاً به فهو كما لو لم يكن متعهد. وقوله في الكتاب: (وإن لم يكن مشرفاً) المراد منه، وإن لم يكن المريض مشرفاً، ولو قدر أن المراد وإن لم يكن القريب مشرفاً لزم أن يكون لفظ الكتاب ساكتاً عن حكم الأجنبي مع أن الحكم المرتب على قوله: "وإن لم يكن مشرفاً" يستوي فيه القريب والأجنبي. وقوله: (ولم يندفع بحضوره ضرر) يدخل فيه ما إذا كان مستغنياً في تلك الحالة عن خادم ومتعهد، وما إذا كان له متعهد يراعيه. وقوله: (وإن اندفع به ضرر جاز) جواب (¬2) على الوجه الأصح، وينبغي أن يكون معلماً بالواو؛ لما ذكرنا. ويجب على الزَّمن أن يحضر الجمعة، إذا وجد مركباً ملكاً أو إجارة أو عارية، ولم يشق عليه الركوب، وكذا الشيخ الضعيف ويجب أيضاً على الأعمى إذا وجد قائداً متبرعاً أو بأجرة، فله مال، فإن لم يجد قائداً لم يلزمه الحضور، هكذا أطلق الأكثرون، ¬
وعن القاضي الحسين أنه إن كان يحسن المشي بالعصا من غير قائد لزمه ذلك، وعن أبي حنيفة أن الجمعة لا تجب على الأعمى بحال. قال الغزالي: فُرُوعٌ، فِي صِفَاتِ النُّقْصَانِ: مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنصْفُهُ رَقِيقٌ كَالرَّقِيقِ، وَقِيلَ: تَلْزَمُهُ الجُمُعَةُ الوَاقعَةُ فِي نَوْبَتِهِ عِنْدَ المُهَايَأة. قال الرافعي: المسائل المذكورة من هذا الموضع إلى آخر الباب متفرعة على صفات النقصان، ومتعلقة بها، وقد عدها في "الوسيط" ستة فروع: وأحدها: ظاهر المذهب أن من بعضه حر وبعضه رقيق لا تلزمه الجمعة، كما لو كان كله رقيقاً؛ لأن رق البعض يمنع من الكمال والاستقلال، وذلك معتبر في لزوم الجمعة، ولهذا لا تجب على المكاتب، وفيه وجه أنه لو جرى بينه وبين السيد مهايأة تلزمه الجمعة الواقعة في نوبته؛ لاستقلاله في ذلك اليوم، وضعفه الإمام بأن قال: مثل هذا الشخص مدفوع في نوبة نفسه إلى الجد في الكسب لنصفه الحر، فهو في شُغْلٍ شَاغِلٍ لمكان الرق، قال: ولا شَكَّ في أن الجمعة لا تنعقد به والخلاف في الوجوب عليه. قال الغزالي: وَالمُسَافِرُ إِذَا عَزَمَ عَلَى الإِقَامَةِ بِبَلْدَةٍ مُدَّةً لَزِمَتْهُ الجُمُعَةُ ثُمَّ لَمْ يَتِمَّ العَدَدُ بِهِ. قال الرافعي: الثاني: الغرباء إذا أقاموا ببلدة نظر إن اتخذوها وطناً فحكمهم حكم أْهلها تلزمهم الجمعة ويتم العدد بهم، وإن لم يتخذوها وطناً بل عزمهم الرجوع إلى بلادهم بعد مدة قصيرة أو طويلة، كالمتفقه والتجار فهؤلاء تلزمهم الجمعة إذا استجمعوا صفات الكمال؛ لأنهم ليسوا بمسافرين، فلا يترخصون بترك الجمعة، كما لا يترخصون بالقَصْرِ والفِطْر، وهل يتم عدد الجمعة بهم؟ فيه وجهان: أحدهما -وبه قال ابن أبي هريرة-: نعم؛ لأن من وجبت عليه الجمعة انعقدت به كالمتوطن. وأصحهما -وبه قال أبو إسحاق، وهو المذكور في الكتاب-: لا، واحتجوا له بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يجمع في حجَّة الوداع وقد وافق يوم عرفة يوم الجمعة (¬1)، وإنما لم يجمع؛ لأنه وَمَنْ معه لم يكونوا متوطنين، وإن عزموا على الإقامة أياماً، ولا يخفى مما ذكرنا أن قوله في الكتاب: "وإن عزموا على الإقامة مدة" المراد منه مدة ينقطع بعزم إقامتها حكم السفر لا كاليوم واليومين، وقوله: (لزمه الجمعة) قريب من التكرار؛ لأنه ¬
معلومٌ من قوله في أول الباب: "ذكر حر صحيح مقيم" فإنه يبين لزومها على المقيم عند اجتماع سائر الشرائط وهذا مقيم. قال الغزالي: وَأَهْلُ القُرَى لاَ تَلْزَمُهُمُ الجُمُعَةُ إلاَّ إِذَا بَلَغُوا أَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِ الكَمَالِ أو بَلَغَهُمْ نِدَاءُ البَلَدِ مِنْ رَجُلٍ رَفِيعِ الصَّوْتِ وَاقِفٍ عَلَى طَرَفِ البَلَدِ في وَقتْ هُدُوِّ الأَصْوَاتِ وَرُكُودِ الرِّيَاحِ. قال الرافعي: الثالث: القرية: إما أن يكون فيها أربعون من أهل الكمال أو لا يكون، فإن كان فيها أربعون من أهل الكمال لزمتهم الجمعة كأهل البلاد إذا أقاموا الجمعة في موضعهم فذاك، وإن دخلوا المصر وصلُّوها سقط الفرض عنهم ولو كانوا مسيئين؛ لتعطيلهم الجمعة في إحدى البقعتين، وحكى في "البيان" وجهاً، أنهم غير مسيئين؛ لأن أبا حنيفة -رحمة الله عليه- لا يجوز إقامة الجمعة في القرى، ففيما فعلوه خروج عن الخلاف، وإن لم يكن فيها أربعون من أهل الكمال، فإما أن يبلغهم النِّدَاء من حيث تقام الجمعة فيه من بلد أو قرية، وإما أن لا يبلغهم، فإن بلغهم فعليهم الجمعة؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ" (¬1) والمعتبر نداء مؤذن على الصَّوْت يقف على طرف البلد من الجانب الذي يلي تلك القرية ويؤذن على عادته، والأصوات هادئة والرياح ساكنة (¬2)، فإذا سمع صوته بالقرية من أصغى إليه ولم يكن أصم ولا جاوز حدة سمعه العادة، وجبت الجمعة على أهلها، وإنما كان الاعتبار من الطَّرَف الذي يلي تلك القريةِ، لأن البلدة قد تكون كبيرةً لا يبلغ النداء من وسطها إلى أْطرافها، فاعتبر آخر موضع يصلح لإقامة الجمعة فيه احتياطًا للعبادة، وفيه وجه آخر أنه يعتبر من وسط البلد، ووجه آخر أنه يعتبر من الموضع الذي تقام فيه الجمعة فليكن قوله: "على طرف البلد" معلماً بالواو؛ لهذين الوجهين، وهل يعتبر أن يكون المنادي على موضعِ عال كمنارة وسور؟ قال الأكثرون: لا يعتبر ذلك؛ لأن حد الارتفاع لا ينضبط، وعن القاضي أبي الطيب أنه قال: سمعت شيوخنا يقولون: لا يعتبر إلا بطبرستان، فإنها بين رياض وأشجار تمنع من بلوغ الصوت، فينبغي أن يعلو عليها، ولو كانت القرية على قلة جبل سمع أهلها النِّداء لعلوها، ولو كان على استواء الأرض لما سمعوا، أو كانت في وهدة من الأرض لم يسمع أهلها النداء لانخفاضها، ولو كانت على استواء الأرض لسمعوا ففيه وجهان: ¬
أظهرهما -وبه قال القاضي أبو الطَّيِّبَ-: لا تجب الجمعة في الصورة الأولى، وتجب في الثَّانِيَة اعتباراً للسماع بتقدير الاستواء وإعراضاً عما يعرض بسبب الانخفاض والارتفاع كما يعتبر ركود الرياح، ولا ينظر إلى السَّمَاع العارض لشدتها. والثاني -وبه قال الشيخ أبو حامد-: أن الحكم على العكس نظراً إلى نفس السَّماع وعدمه، وإن لم يبلغ النداء أهل القرية فلا جمعة عليهم؛ لظاهر الخبر الذي سبق، وأهل الخيام إذا لزموا موضعاً (¬1) ولم يبرحوا عنه، وقلنا: إنهم لا يقيمون الجمعة في ذلك الموضع، فهم كأهل القرى إذا لم يبلغوا أربعين من أهل الكمال، إن سمعوا النِّدَاء لزمتهم الجمعة، وإلا فلا. وقوله: "إلا إذا بلغوا" معلَّم بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة لا استثناء أصْلاً، ولا تلزم الجمعة أهل القرى بحال، سواء بلغهم النداء أو لم يبلغهم، بلغوا عدد الكمال أم لا، وإنما تلزم الجمعة أهل الأمصار الجامعة، والمصر الجامع عنده أن يكون فيه سلطان قَاهِر، وطبيب حَاذِقٌ، ونهرٌ جارٍ وسوقٌ قائمة. وقوله: "أو بلغهم النداء" يجوز أن يعلم بالميم والألف، لأن مالكاً وأحمد لا يكتفيان بمجرد بلوغ النِّداء، ويعتبران كونه على ثلاثة أميال فما دونها. وعن أحمد رواية أخرج أن المسافة لا تتقدر كما هو مذهب الشافعي -رضي الله عنه- وقوله: (من البلد) ليس لتخصيص الحكم بالبلد، بل لو بلغهم من قرية تقام فيها الجمعة كان كذلك. قال الغزالي: وَالعُذْرُ الطَّارِئُ بَعْدَ الزَّوَالِ مُرَخِّصٌ إلاَّ السَّفَرَ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ إِنْشَاؤُهُ، وَفِي جَوَازِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَ الفَجْرِ قَوْلاَنِ: أَقْيَسُهُمَا الجَوَازُ، ثُمَّ المَنْعُ في سَفَرٍ مُبَاحٍ، أَمَّا الوَاجِبُ وَالطَّاعَةُ فَلاَ مَنْعَ مِنْهُمَا. قال الرافعي: الرابع: العذر المبيح لترك الجمعة يبيحه، وإن طرأ [العذر] (¬2) بعد الزَّوال لكن السفر يحرم إنشاؤه بعد الزوال، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: يجوز إلا أن يضيق الوقت بناءً على أن الصلاة تجب بآخر الوقت. لنا أن الجمعة قد وجبت عليه، فلا يجوز الاشتغال بما يؤدي إلى تركها كالتجارة واللَّهْو، وهذا مبني على أن الوجوب بأول الوقت، وقد سبق في موضعه. فإن قيل: الوجوب وإن ثبت في أول الوقت، لكن مُوَسَّعٌ فلم يمتنع السفر قبل التضيق. ¬
قلنا: الناس في هذه الصُّورة تَبَعُ الإمام، فلو عجلها (¬1) تَعَيَّنَت متابعته، وسقط خيرة الناس، وفيه وإذا كان كذلك فلا يدري متى يقيم الإمام الصلاة فيتعين عليه انتظار ما يكون، ذكر هذا الجواب إمام الحرمين -رحمة الله عليه-، وأما قبل الزوال وبعد طلوع الفجر الثاني هل يجوز إنشاء السَّفَر؟ فيه قولان: قال في القديم وَحَرْمَلَة: يجوز، وبه قال مالك، وأبو حنيفة -رحمهما الله-، لأنه لم يدخل وقت وجوب الجمعة، فأشبه السَّفر قبل طلوع الفجر. وقال في الجديد: لا يجوز، قال أصحابنا العراقيون: وهو الأصح؛ لأن الجمعة وإن كان يدخل (¬2) وقتها بالزَّوال، فهي مضافة إلى اليوم، ولذلك يعتد بغسل الجمعة قبل الزَّوال، ويجب السَّعْي إليها لمن بعد داره قبل الزَّوَال، وعن أحمد روايتان كالقولين: أظهرهما: المنع، وحكى في "النهاية" طريقة أخرى قاطعة بالجواز مؤولة قول المنع. ولك أن تعلم قوله في الكتاب: "قولان" بالواو، إشارة إليها، ويجوز أن يعلم لفظ "الجواز" (¬3) من قوله: (أقيسهما الجواز) بالألف إشارةً إلى الظَّاهِرِ من مذهب أحمد، والحكم بأن الجواز أقيس لا ينافي كون المنع أظهر؛ لأنه قد يكون أحد طرفي الخلاف أقرب إلى القياس، وإن كان الثَّاني أظهر، فإذا ليس ما في الكتاب مخالفاً لما قاله العراقيون، وذكر في "العدة" أن ظاهر مذهب الشَّافعي -رضي الله عنه- قوله الجديد، والفتوى على القديم وهو الجواز، ثم للقولين شروط (¬4): أحدها -وقد ذكره في الكتاب-: أن يكون السفر مباحاً كالزيارة والتجارة، أما لو كان واجباً كالحَجِّ والجهاد في بعض الأحوال أو مندوباً فلا منع منهما، وذلك ليس موضع القولين، هكذا قاله كثير من أئمتنا. واحتجوا عليه بما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ عَبْدَ اللهِ بنَ رَوَاحَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي سَرِيَّةٍ فَوَافَقَ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَغَدا أَصْحَابُهُ، وَتَخَلَّفَ هُوَ لِيصَلِّي، وَيَلْحَقَهُم فَلَمَّا صَلَّى قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَا خَلَّفَكَ، قالَ: أَرَدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ مَعَكَ، ثُمَّ أَلْحَقَهُمْ، فَقَالَ: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، مَا أَدْرَكْتَ فَضْلَ غَزْوَتهِمْ (¬5). وفي كلام العراقيين وإيرادهم ما يوجب طرد الخلاف في سفر الغزو والله أعلم. ¬
والمراد من الطَّاعة في لفظ الكتاب المندوب، وإلا فالواجب طاعة أيضاً، وهل كون السَّفَر طاعة عذر في إنْشَائه بعد الزوال؟ المفهوم من كلام الأصحاب أنه ليس بعذر، ورووا عن أحمد أنه عذر. والثاني: أن لا ينقطع عن الرفقة، ولا يناله ضَرَرٌ لو تَخَلَّفَ إلى أن يصلّي الجمعة، فإما إذا انقطع وفات سفره بذلك أو ناله ضرر، فله الخروج بلا خلاف، وكذلك الحكم لو كان الخروج بعد الزَّوال، وقد عددنا ذلك من الأعذار في الصَّلاة بالجماعة، ورأيت في كشف "المختصر" للشيخ أبي حاتم القزويني، ذكر وجهين في جواز الخروج بعد الزوال لِخوف الانقطاع عن الرفقة. والثالث: أن لا يمكنه حضور الجمعة في منزله وطريقه، فأما إذا أمكن ذلك فلا منع بحال (¬1). قال الغزالي: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُرْجَى زَوَالُ عُذْرِهِ أَنْ يُؤَخِّرَ الظُّهرَ إِلَى اليَأْسِ عَنْ دَرْكِ الجُمُعَةِ، وَمَنْ لاَ يَرْجُو فَلْيُعَجِّلِ الظُّهْرَ كَالزَّمَنِ، فَإِنْ زَالَ العُذْرُ بَعْدَ الفَرَاغِ فَلاَ جُمُعَةَ (ح) عَلَيْهِ، وَكَذَا الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَزَوَالُ العُذْرِ فِي أَثْنَاءِ الظُّهرِ كَرُؤْيَةِ المُتَيَمِّمِ المَاءَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ. قال الرافعي: الخامس من الفروع: المعذرون، وهما ضربان: معذور يرجو زوال عذره، كالعبد يتوقع العتق، والمريض الذي يتوقع الخِفَّة، فالمستحب له تأخير الظُّهْر إلى اليأس من إدراك الجمعة، لأنه رُبَّمَا يزول العذر، وَيتَمَكَّن من فرض أهل الكمال، ومتى رفع الإمام رأسه من الرّكُوعِ الثَّانِي فقد حَصَل اليأس عن إدراك الجمعة، وعن بعض الأصحاب أنه يراعي تصور الإدراك في حق كل أحد، فإذا كان منزله بعيداً وانتهى الوقت إلى حد لو أخذ في السَّعْيِ لم يُدْرِك الجمعة فقد حصل الفوات في حقه، هذا أحد الضربين. والثاني: معذورٌ لا يرجي زوال عذره كالمرأة والزَّمِن، فالأولى له أن يُصَلِّي الظُّهْرَ في أَوَّلِ الْوَقْتِ؛ لأنه آيس من درك الجمعة فيحافظ على فضيلة الأولية (¬2)، وإذا اجتمع ¬
معذورون فَهَلْ يستحب لهم الجماعة في الظُّهْرِ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، بل الجماعة في هذا اليوم شِعَار الجُمُعَة، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة. وأصحهما: نعم؛ لعموم الترغيبات الواردة في الْجَماعة، وعلى هذا فَقَدْ نَصَّ الشَّافعي -رضي الله عنه- على أن المستحب لَهُم الإخفاء حتى لا يتهموا، بالرَّغْبَة عن صَلاَة الإمام، وحمل الأصحاب ما ذكره على ما إذا كان العذر (¬1) خَفِيًّا، أما إذا كان ظاهراً فلا تهمة، ومنهم من لم يفصل واستحب الإخفاء مطلقاً، ولو صلى المعذور الظُّهْرَ قبل فوات الجُمُعَة صَحَّت، فإنها فَرْضُه، ولو زال العُذْر وأمكنه حضور الجمعة لم يلزمه ذلك؛ لأنه أدَّى فرضه وقته. ومثال ذلك المريض يبرأ والمسافر يقيم والعبد يعتق، ويستثنى عن هذا الأصل صورة ذكرها في البيان، وهي أن يصلي الخُنْثَى الظهر، ثم يتبين أنه رَجُل قبل فوات الجُمُعة، تلزمه الجمعة؛ لأنه تبين كونه رَجُلاً حين صَلَّى الظُّهر، ومثل هذا لا يفرض في سائر المعذورين، وأما الصبي إذا صَلَّى الظُّهر ثم بلغ لم تلزمه الجمعة على ظاهر المذهب كسائر المعذورين، والمسألة مكرَّرة في هذا الموضع، فذكرها والخلاف فيها في بابت المواقيت، ثم هي داخلة في مطلق قوله: (فإن زال العذر إلى آخره) فلو طَرَحها لما ضَرَّ من وجهين، وإذا لم يفعل فيجوز أن يكون قوله: (وكذا الصَّبِيُّ) مرقوماً بالحاء والواو لما بَيَّنَّاه، ثم هؤلاء يستحب لهم حضور الجمعة، وإن لم يلزم، وإذا صلوا الجمعة فالفرض هو الظهر السابقة، أو يحتسب الله تعالى بما شاء منهما؛ فيه قولان أصحهما أولهما. قال أبو حنيفة: إذا سَعَى إلى الجمعة بعد الظُّهْرِ بطل ظهره، ولو زال العذر في أثناء الظُّهْرِ، فقد قال إمام الحرمين: أجرى القفال ذلك مجرى ما لو رأى المتيمم الماء في الصَّلاة، وهذا يقتضي إثبات الخلاف في البطلان، لما ذكرناه في رؤية المتيمم الماء في الصَّلاة، وقد صَرَّح الشيخ أبو محمد، فيما علق عنه حكاية وجهين في هذه المسألة، وظاهر المذهب استمرار الصَّلاة على الصِّحة، قال الإمام: وهذا الخلاف، مبني على قولنا: "إن غير المعذور لا يصح ظهره قبل فوات الجمعة" فإن صححنا فلا نحكم بالبُطْلاَن بِحَالٍ. قال الغزالي: وَغَيْرُ المَعْذُورِ إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الجُمُعَةِ فَفَي صِحَّتِهِ قَوْلاَنِ فَإِنْ ¬
قُلْنَا: يَصِحُّ فَفِي سُقُوطِ الْخِطَابِ بِالجُمُعَةِ قَوْلاَن، وإنْ قُلْنَا: لاَ تَسْقُط فَصَلَّى الجُمُعَةَ فَالفَرْضُ هُوَ الأوَّلُ أَوِ الثَّاني أَوْ كِلاَهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا لاَ بعَيْنِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. قال الرافعي: السادس: من لا عُذْرَ بِهِ إذا صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ فوات الجُمُعة، ففي صِحَّة ظهره قولان: القديم -وبه قال أبو حنيفة-: أنها تَصِحّ والجديد -وبه قال مالك وأحمد-: لا تصح. وذكر الأصحاب أن القولين مبنيان على أن الفرض الأصلي يوم الجمعة ماذا؟ فعلى القديم الفرض الأصلي الظهر؛ لأنه إذا فاتت الجُمُعَة فعليه قضاء أربع ركعات، ولو كان فرض اليوم الجمعة لما زادت ركعات القضاء، وعلى الجديد الفرض الأصلي هو الجُمُعَة، للأخبار الواردة فيها، ولأنه لو كان الأصل الظُّهر، لكانت، الجمعة بدلاً، ولو كان كذلك، لجاز له ترك البدل، والاستقلال بالأصل كمن ترك الصَّوْمَ في الكَفَّارة، وأعتَق، ومعلومٌ أنه ممنوع من ذلك، وهل يجري القولان فيما إذا ترك أهل البلدة كلهم الجُمُعَة وصلُّوا [الظهر] (¬1) أم يختص بما إذا صَلَّى الآحاد الظهر مع إقامة الجمعة في البلدة؟ حكي في "المهذب" عن أبي إسحاق أن ظهر أهل البلدة مجزئة، وإن أثموا بترك الجمعةِ، لأن كل واحد منهم لا تنعقد به الجمعة، قال: والصَّحيح أنه لا تجزئهم ظهرهم على الجديد؛ لأنهم صلوها وفريضة الجمعة متوجبة عليهم. التفريع: إن قلنا بالجديد، فالأمر بحضور الجمعة قَائِم كما كان إن حضرها فذاك، وإن فاتت قَضَاها الآن أربعاً، وما فعله أولاً يبطل من أصله، أو يكون نَفْلاً؛ فيه القولان المشهوران في أمثاله وإن قلنا بالقديم، فهل يسقط الخطاب بالجمعة؟ قال في الكتاب: فيه قولان، وكذلك ذكره إمام الحرمين، جعل السقوط خارجاً على قولنا: إذا صلَّى الجُمَعة، بعد الظُّهْر أن فرضه الأول أو أحدهما، وعدم السقوط خارجٌ على قولنا: أن الفرض الثاني: أو أن كليهما فرض، والذي ذكره الأكثرون، تفريعاً على القديم أنه لا يسقط عنه الخطاب بالجُمُعة، ومعنى صحّة الظهر الاعتداد بها في الجملة، حتى لو فاتت الجمعة تجزئه الظُّهر السابقة، ثم إذا قلنا: لا يسقط عنه الخطاب بالجمعة، فَصَلَّى الجمعة، فقد قال الإمام: إن الشيخ أبا محمد ذكر فيه أربعة أقوال: أحدها: أن المفروض هو الأول؛ لأنه لو اقتصر عليه لبرئت ذمته على القول الذي يتفرع عليه. ¬
الباب الثالث في كيفية الجمعة
والثاني: أن المفروض هو الثاني؛ لأنه به خرج عن الحرج. والثالث: أنهما فرضان للمتعينين. والرابع: أن الفرض أحدهما لا بعينه إذ المفروض في اليوم والليلة خمس صَلَوات، ونظير هذه الأقوال قد سبق فيمن صَلَّى منفرداً، ثم أدرك جماعة، ويشبه أن يكون بعضها منصوصاً، وبعضها غير منصوصاً، والذي نقله ابن الصباغ وغيره في المسألة تفريعاً على القديم إنما هو الرابع، وقال (¬1): يتحسب الله تعالى جدّه بما شاء منهما، وإذا أثبتنا الأقوال فينبغي أن لا نختص بقولنا: أن الخطاب بالجُمُعة لا يسقط عنه بل يطرد (¬2) على قولنا بسقوط الخطاب بالجمعة أيضاً، كما إذا صَلَّى منفرداً وأعاد في جماعة فإنه غير مخاطب بالثَّاني، وهذا كله فيما إذا صلَّى الظُّهرَ قبل فَوَاتِ الجُمُعة، فإن صَلاَّهَا بعد الركوع الثَّاني للإمام وقبل فراغه، قال ابن الصباغ: ظاهر كلام الشافعي -رضي الله عنه- يَدُلُّ عَلى الْمَنْع يعني في الجديد، ومن أصحابنا من يقول بالجواز، وفيما إذا امتنع أهل البلدة جميعاً من الجمعة وصلُّوا الظهر الفوات يكون بخروج الوقت أو ضيقه بحيث لا يسع الركعتين. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي كَيْفِيَّةِ الجُمُعَةِ قال الغزالي: وَهِيَ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَإنَّمَا تَتَمَيَّزُ بِأرْبَعَةِ أُمُورٍ: الأَوَّلُ الغُسْلُ وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ بَعْدَ (ح) الفَجْرِ، وَأَقْرَبُهُ إلَى الرَّوَاحِ أَحَبُّ، وَلاَ يُجزِئُ قَبْلَ الفَجْرِ بِخِلاَف غُسْلِ الْعِيدِ فَإِنَّ فِيهِ وَجْهَيْنِ، وَلاَ يُسْتَحَبُّ إلاَّ لِمَنْ حَضَرَ الصَّلاَة بِخِلاَفِ غُسْلِ العِيدِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَوْمُ الزَّينَةِ عَلَى العُمُومِ. وَالأَوْلَى أَنْ لاَ يَتَيَمَّمَ بَدَلاً عَنِ الغُسْلِ عِنْدَ فَقْدِ المَاءِ، وَقِيلَ: يَتَيَمَّمُ. قال الرافعي: قوله: (في كيفية الجمعة) أراد به كيفية إقامتها بعد اجتماع شَرَائطها، وأما الأركان التي يتركب عنها ذاتها فلا فرق فيها بينها وبين سائر الصَّلوات، والقصد بالباب التعرض لأمور مندوبة تمتاز بها الجمعة عن سَائِر الفرائض وجعلها أربعة: أحدها: الغسل، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الجمعةَ فَلْيَغتَسِلْ" (¬3). ¬
وروي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبهَا وَنِعْمَتْ وَمَنْ أغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ" (¬1). وعن مالك غُسْلَ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ لكن تَصِحّ الصلاة بدونه، والخبر الثاني حُجَّة عليه. وثم فيه مسائل: إحداها: وقت هذا الغسل ما بعد الفجر؛ لأن الأخبار علقته باليوم نحو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً" (¬2). وفي "النهاية" حكاية وجه بعيد أنه يجزئ قبل الفجر كما في غسل العيد، وظاهر المذهب الأول، والفرق بينه وبين غسل العيد، إن جوزناه قبل طلوع الفجر من وجهين: أحدهما: أنه إذا اغتسل قبل طلوع الفجر يبقى أثره إلى أن يؤدي صلاة العيد لقربها من أول النَّهَار، وصلاة الجُمُعَة تُؤَدَّى بعد الزَّوال فلا يبقى أثره. والثاني: أنه لو لم يجز غُسْل العِيد قبل الفَجْر لَشَقَّ لقرب صَلاَتِهِ من أول النهار، بخلاف غسل الجمعة فإن من طلوع الفجر إلى وقت الصَّلاة سعة، والأولى أن يقرب الغسل من الرواح إلى الجمعة؛ لأن الغرض التنزه وقطع الروايح الكريهة، فما كان أفضى إليه فهو أولى. وقوله: (ويستحب ذلك بعد الفجر) ليس الغرض منه أن إيقاعه بعد الفجر مستحب فإن ذلك شرط الإجزاء على ما بينه بقوله: (ولا يجزئ قبل الفجر) وإنما المراد بيان استحباب أصل الغسل. وقوله: (بعد الفجر) إشارة إلى وقت هذا المستحب. وإذا عرفت ذلك فأعلم قوله: (ويستحب ذلك) بالميم. وقوله: (ولا يجزئ قبل الفجر) بالواو؛ لما سبق، وذلك أن تعلم قوله: "وأقربه إلى الرَّواح أحب" بالميم؛ لأن أصحابنا رووا عن مالك أنه يشترط اتصال الرَّوَاح بالْغُسْلِ، وأنه لا يجوز أن يشتغل بعده بشيء سِوَى الخروج، ومن يقول بذلك ينازع في قولنا: الأقرب إلى الرواح أْحَب. ¬
وقال القفال: رأيت في "الموطأ" عنه مثل مذهبنا -والله أعلم-. وقوله: (بخلاف غُسْل العِيد) (¬1) فإن فيه وجهين وقد أعاد هذه المسألة وما فيها من الخلاف في صلاة العيدين، وكان الغرض هاهنا بيان افتراق الغُسْلَيْنِ في الوقت وإن لم يبين المعنى الفارق. الثانية: هل يختص استحباب الغسل بمن يريد حضور الجمعة أن يستحب له ولغيره؟ فيه وجهان، حكى في "البيان" أنهما مبنيان على وجهين في أن غُسْل الجُمُعَة مَسْنُون لليوم أو للصَّلاة. أحدهما: أنه لليوم؛ لأنه في الأخبار (¬2) معلق باليوم، فعلى هذا يستحب للكل. وأصحهما: أنه للصَّلاة فلا يستحب إلا لمن حَضَرَها، وهذا هو المذكور في الكتاب، ويدل عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن جَاءَ مِنْكُمْ الجمعةَ فَلْيَغْتَسِلُ" (¬3). ويخالف غُسْل العيد يستحب للكل؛ لأنه للزينة وإظهار السرور، وهذا الغسل للتنظيف وقطع الروائح الكريهة، كيلا يتأذى من يقربه، فاختص بمن يريد الحضور، ولو نازع منازع في طرفي هذا الفرق لم يكن بعيداً، ولا فرق في حق من يريد الحضور بين أن يكون من أهل العذر أو لا يكون؟ وعن أحمد أنه لا يستحب الغُسْل للنِّساء، ولا يقدح الحدث بعد الغسل فيه (¬4) وبه قال مالك في "الموطأ". الثالثة: قال الصَّيدلاني وغيره من الأصحاب: إن لم يجد الماء لغسل الجمعة فتيمم حاز الفضيلة، ويتصوَّر ذلك في موضوعين: أحدهما: الذي به قروح على غير موضع الوضوء يتيمم بنية الغسل. والثاني: قَوْمٌ في بَلَدٍ توضأوا ثم نفذ ماؤهم فتيممووا بدلاً عن الغُسْل. قال إمام الحرمين: والظَّاهر ما ذكره الصَّيدلاني، وفيه احتمال من جهة، أن هذا الغسل منوط بقطع الروائح الكريهة والتنظيف، والتيمم لا يفيد هذا الغرض، ورجح حجة الإسلام هذا الاحتمال حيث قال: والأولى أن لا يتيمم أي من الوجهين. وقوله: (وقيل يتيمم) هو الوجه الذي ذكره عامة الأصحاب. ¬
قال الغزالي: وَمِنَ الأَغْسَالِ المُسْتَحَبةِ غُسْلُ العِيدَيْنِ، وَالغُسْلُ مِنْ غُسْلِ المَيِّتِ، وَالإِحْرَامِ، وَالوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَبِمُزْدَلِفَةَ وَلِدُخُولِ مَكَّةَ، وَثَلاَثةُ أَغْسَالِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَلِطَوَافِ الوَدَاعِ عَلَى القَدِيمِ وَللْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ غَيرَ جُنُبِ بَعْدَ الإسْلاَمِ عَلَى وَجْهٍ، وَقَبْلَهُ عَلَى وَجْهٍ، وَالغُسْلُ مِنَ الإقَامَةِ مِنْ زَوَالِ العَقْلِ، وَأَمَّا الغُسْلُ عَنِ الحِجَامَةِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الحَمَّامِ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ. قال الرافعي: عد جملة من الأغسال المستحبة في هذا الموضع. منها: اغتسال الحاج في مواطن معروفة، وقد أعاد ذكر ما سِوَى طواف الوداع منها في كتاب الحَجِّ، وذلك الموضع أحق بها، فتؤخر الشرح إليه. ومنها: غسل العيدين، وهو مذكور في باب صَلاَةِ العِيدَيْنِ. ومنها: الغسل من غُسْلِ الميت، وفيه قولان: نقل عن القديم أنه واجب، وكذا الوُضوء من مَسِّهِ؛ لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ غَسَّلَ مَيْتاً فَلْيَغْتَسِلْ وَمَن مَسَّهُ فَلْيَتَوَضَّأْ" (¬1). والجديد أنه مُسْتَحَب وهو المذكور في الكتاب والخبر أن صَحَّ محمول على الاستحباب؛ لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ غُسْلَ عَلَيْكُمْ مِنْ غُسْلِ مَيِّتِكُمْ" (¬2). وليكن قوله: (والغسل من غسل الميت) معلماً بالواو؛ ولأنه على القديم غير معدود من الاغسال المستحبة، بل هو من الأغسال الواجبة، وأيضاً بالحاء والزاي؛ لأن الصَّيدلاني وغيره حكوا أن أبا حنيفة والمزني لا يريان استحباب هذا الغسل، فضلاً عن الإيجاب، وإذا قلنا بالجديد الصَّحيح فهذا الغسل غسل الجمعة اكد الأغسال المسنونة، وما الآكد منهما قولان: الجديد: أن هذا الغسل آكد؛ لأنه متردد بين الوُجوب والاستحباب، وغُسْلُ الجمعة قد ثبت استحبابه. والقديم: أن غسل الجمعة آكد؛ لأن الأخبار فيه أصَحّ، وأَثْبَت، وهذا أرجح عند صاحب "التهذيب" والروياني والأكثرين على خلاف قياس القديم والجديد، ورجح ¬
صاحب "المهذب" وآخرون الجديد على القياس، وحكى الحناطي وغيره وجهاً أنهما سواء (¬1). واعلم أن ما نقلناه يقتضي تردد قوله في وجوب هذا الغسل في القديم؛ لأنه لو جزم بوجوبه في القديم لما انتظم منه القول بأن غسل الجمعة آكد منه. ومنها: غسل الكافر إذا أسلم، ولا يخلو إما أن يعرض له في الكفر ما يجب الغسل، من حيض أو جنابة، أو لا يعرض، فإن عرض ذلك فيلزمه الغسل بعد الإسلام، ولا عبره باغتساله في الكفر على الأصح كما سبق في موضعه، وإن لم يعرض له ذلك فيستحب له الغسل ولا يجب خلافاً لأحمد حيث أوجبه، وبه قال ابن المنذر. لنا: "أنه أسلم خلق كثيرٌ ولم يأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالاغتسال وَأَمَرَ بِهِ ثُمَامَةَ الْحَنَفِيِّ، وَقَيْسَ بنَ عَاصِم لَمَّا أَسْلَمَا" (¬2) فدل أنه مستحب لا واجب، ثم يغتسل بعد الإسلام أم قبله؟ فيه وجهان: أحدهما: قبله تنظيفاً للإسلام وتعظيماً له (¬3). وأصحهما: بعه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرهما بالغُسْلِ بعد الإسلام، ولا سبيل إلى تأخير الإسْلاَم بحال. ومنها: الغسل للإفاقة من زوال العقل، ظاهر المذهب أنه مستحب؛ لأنه قد قيل: إن من زال عقله أنزل فإذا أفاق اغتسل احتياطاً، ولا يجب، لأن الأصل استصحاب الطهارة السَّابقة، والناقض غير معلوم، ونقل القاضي ابْنِ كجٍّ عن ابن أبي هريرة أنه يجب الغسل على من أفاق من المجنون دون الإغماء، وحَكَى الحناطي في وجوب الغسل على من أفاق منهما جميعاً وجهين، ووجه الوجوب التشبيه بالنَّوم من جهة أن (¬4) النائم قد يخرج منه حدث وهو لا يدري، فجعل النَّوم حدثاً، كذلك من زَالَ عقله قد ¬
ينزل ولا يدري، وليكن قوله: (والغسل من الإفاقة من زوال العقل) مرقوماً بالواو؛ لهذا الوجه؛ فإنه غير معدود على هذا الوجه من الأغسال المستحبة. ومنها: الغسل عن الحجامة والخروج من الحمام، ذكر صاحب "التلخيص" عن القديم أنه مندوب إليه، وذكر الصيمري في "الكفاية" أن الغسل عن الحجامة حسن، والأكثرون أهملوا ذكرهما، فإن قلنا: بالقديم، فقد قال في "التهذيب" قيل: إن المراد من غسل الحمام ما إذا تنور، قال: وعندي أن المراد منه أن يدخل الحمام فيعرق فيستحب أن لا يخرج من غير غسل (¬1) وذكر أن في غسل الحجامة أثراً -والله أعلم-. قال الغزالي: الثَّانِي البُكُورُ إِلَى الجَامِعِ. قال الرافعي: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأنَّمَا قَربَ كَبْشاً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الخَامِسَةِ فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً؛ فَإِذَا خَرَجَ الإمَامُ حَضَرَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَسْتمِعُونَ الذِّكْرَ" (¬2) قال المفسرون للخبر قوله: (غسل الجنابة) أي كغسلهما. وقيل: أي جامع واغتسل، وَمِن مَتَى تعتبر السّاعات المذكورة؟ حكى أصحابنا العراقيون فيه وجهين: أحدهما: أنها تعتبر من أول طلوع الشَّمس؛ لأن أهل الحساب منهم يحسبون اليوم، ويعدون السَّاعات. وأصحهما: من أول طلوع الفجر الثاني؛ لأنه أول اليوم شرعاً، وبه يتعلق جواز الغسل للجمعة، ونقل صاحب "التهذيب" والرّوَيانِي وجهاً ثالثاً وهو الاعتبار من وقت الزَّوال؛ لأن الأمر بالحضور حينئذ يتوجه عليه، ويبعد أن يكون الثواب في وقت لم يتوجه عليه الأمر فيه أعظم، وأيضاً فإن الرَّواح اسم للخروج بعد الزوال، ومن قال بأحد ¬
الوجهين الأولين؛ قال: إنما ذكر لفظ الرواح لأنه خروج لأمر يؤتى به بعد الزوال، ثم ليس المراد من السَّاعات عى اختلاف الوجوه الأربع والعشرين التي قسم اليوم والليلة عليها، وإنما المراد ترتيب الدرجات وفضل السابق على الذي يليه. واحتج القَفَّالُ عليه بوجهين: أحدهما: أنه له لو كان المراد بالساعات المذكورة لاستوى الجانبان في الفضيلة في ساعة واحدة مع تعاقبهما في المجئ. والثاني: أنه لو كان كذلك لاختلف الأمر باليوم الشَّاتِي (¬1) والصَّائف، ولفاتت الجمعة في اليوم لمن جاء في السَّاعة الخامسة. قال الغزالي: الثَّالِثُ لُبْسُ الثِّيَابِ البِيضِ وَاسْتِعْمَالُ الطِّيبِ، وَالترَجُّلُ فِي المَشْي مَعَ الهَيْنَةِ وَالتُّؤَدَةِ، وَلاَ بَأْسَ بحُضُورِ العَجَائِزِ مِنْ غيْرَ زِينَةٍ وَتَطَيُّبٍ. قال الرافعي: روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنِ اغْتَسَلَ يَومَ الْجُمُعَةِ وَلَبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ وَمَسَّ مِنْ طِيب إِنْ كَانَ عِنْدَهُ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةِ، فَلَمْ يَتَخَطَّ أَعْنَاقَ النَّاسِ، ثم صلَّى مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ ثُمَّ أَنْصَتَ إِذَا خَرَجَ إِمَامَهُ حَتَّى يفرغ مِنْ صَلاَتِهِ كَانَتْ لَهُ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهَا، وَجُمُعَته الَّتِي قَبْلَهَا" (¬2). يستحب التزين للجمعة يأخذ الشعر والظِّفر والسِّواك، وقطع الروائح الكريهة، ولبس أحسن الثياب، وأولاها البياض، لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْبِسُوا الْبَيَاضَ فَإِنَّهُ خَيْرَ ثيِابِكُمْ" (¬3) وإن لبس مصبوغًا لبس ما صبغ غزله ثم نسج كالبرود، ولا يلبس ما صبغ لونه (¬4). قال أصحابنا العراقيون: لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَمْ يَلْبَسْ ذَلِكَ". ويستحب أيضاً أن يتطيب بأطيب ما عنده، ويزيد الإمام في حسن الهيئة ويتعمم، ويرتدي: "كَانَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- كَذَلِكَ يَفْعَلُ" (¬5). ويستحب أن يأتي الجمعة ماشياً، ولا يركب إلا لعذر، وكذلك في إتيان العيد ¬
والجنازة وعيادة المريض، روى: "أنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا رَكِبَ فِي عِيدٍ وَلاَ جَنَازَةٍ" (¬1). قال الأئمة ولم يذكر الجمعة لأن باب حجرته كان في المسجد، وينبغي أن يمشي في سكون وتؤدة ما لم يضق الوقت، ولا يسعى وليس هذا من خاصية الجمعة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَأتُوهَا تَمْشُونَ، وَلاَ تَأْتُوهَا تَسْعَونَ وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ" (¬2). ولو ركب لعذر فينبغي أن يسيرها على هينة أيضاً، والهينة السكون، ولا بأس للعجائز بحضور الجمعة، إذا أذن أزواجهن، ويحترزون عن التطيب والتزين، فذلك أستر لهن. قال الغزالي: الرَّابعُ يُسْتَحِبُّ قِرَاءَةُ سُورَةِ الجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ، فَلَو نَسِيَ الجُمُعَةِ فِي الأُولَى قَرَأَهَا مَعَ سُورَةِ المُنَافِقونَ فِي الثَّانِيَةِ. قال الرافعي: يستحب أن يقرأ في الركعة الأولى من صلاة الجُمُعَةِ بعد الفاتحة سورة الجُمُعَة، وفي الثانية سورة المنافقين؛ لأنه روى عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يَقْرَأُهُمَا فِيهِمَا" (¬3). وروى ذلك من فعل علي -رضي الله عنه- وأبي هريرة (¬4)، وعلى هذا فلو نسي سورة الجمعة في الأولى قرأها في الثانية مع المنافقون، ولو قرأ سورة المنافقون في الأولى قرأ الجمعة في الثانية كيلا تخلو صلاته عن هاتين السورتين كذلك ذكره في "البيان" (¬5) وينبغي أن يعلم قوله: (ويستحب سورة الجمعة) بالحاء؛ لأن عنده يكره تعيين سورة في الصلاة. وبالواو لأن الصَّيْدَلاَنِيُّ نقل عن القديم أنه يقرأ في الأولى: "سَبِّح" وفي الثانية: "هل أتاك حديث الغاشية" (¬6). وقال: رواه النعمان بن بَشِير (¬7) -رضي الله عنه-. ¬
وقوله: (في الثانية: إذا جاءك المنافقون) معلم بهما، وبالميم؛ لأن عند مالك، يقرأ في الثَّانية: "هل أتاك"، وفي الأولى "الجمعة"، ويتعلق بالجمعة مندوبات أخرى. منها: أن يحترز عن تخطي رقاب الناس إذا حضر المسجد، ورد الخبر بذلك، ويستثنى عنه ما إذا كان إماماً، وما إذا كان بين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بأن يَتَخَطَّى الرِّقَاب، ولا يجوز أن يقيم أحداً من مجلسه ليجلس فيه، ويجوز أن يبعث من يأخذ له موضعًا، فإذا جاء تَنَحَّى المبعوث، وإن فرش لرجل ثوباً فجاء أخر لم يجز له أن يجلس عليه، وله أن ينحيه، ويجلس مكانه، قال في "البيان": ولا يرفعه حتى لا يدخل في ضمانه. ومنها: إذا حضر قبل الخطبة اشتغل بذكر الله تعالى، وقراءة القرآن، والصَّلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- ويستحب الإكثار من الصلاة عليه يوم الجمعة وليلة الجمعة وقراءة "سورة الكهف" ويكثر من الدعاء يوم الجمعة، رجاءَ أن يصادف ساعة الإجابة. ومنها: الاحتراز عن البيع قبل الصلاة وبعد الزَّوال، فهو مكروه إن لم يظهر الإمام على المنبر، وحرام إن ظهر وأذن المؤذن بين يديه، قال الله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (¬1) الآية، ولو تبايع اَثنان أحدهما من أهل فرض الجمعة دون الآخر، أثماً جميعاً، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلإعانته على الحرام، ولا يكره البيع قبل الزَّوال بحالٍ، وحيث حكمنا بِحُرْمَة البيع، فلو خالف وباع صح (¬2)، خلافاً لمالك وأحمد. ومنها: أن لا يَصِلْ صلاة الجمعة بنافلة بعدها، لا الراتبة ولا غيرها، ويفصل بينها ¬
وبين الراتبة بالرجوع إى منزله، أو التحول إلى موضع آخر، أو بكلام ونحوه، ذكره في "التتمة"، وثبت في الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬1) (¬2). ¬
كِتَابُ صلاة الخوف [الحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً حمداً كثيراً طيباً مباركاً، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وأطهر المطهرين وسلم تسليماً كثيراً، وحسبنا الله ونعم الوكيل] (¬1). ¬
كتاب صلاة الخوف
كِتَابُ صَلاَةِ الخَوْفِ وَفِيهِ أَرْبَعَةٌ أَنْوَاعٍ قال الغزالي: الأَوَّلُ أَن لاَ يَكُونَ العَدُوُّ فِي جِهَةِ القِبْلَةِ فَيَصْدَعَ الإمَامُ أَصْحَابَهُ صَدْعَيْنِ وَيُصَلِّي بِأَحَدِهِمَا رَكْعَتَيْنِ وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ تَحْرُسُهُ وَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الأخُرَى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ هُمَا لَهُ سُنَّةٌ وَلَهُمْ فَرِيضَةٌ وَذَلِكَ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَكِنَّهُ كذَلِكَ صَلَّى رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِبَطْنِ النَّخْلِ. قال الرافعي: ليس المراد من ترجمة الباب أن الخوف يقتضي صلاة على حيالها كقولنا صلاة العيد، ولا أنه يؤثر في تغيُّير فعل الصَّلاة أو وقتها، كقولنا: صلاة السفر، وإنما المراد أن يؤثر في كيفية إقامة الفرائض، ويقتضي احتمال أمور فيها كانت لا تحتمل لولا الخوف، ثم هو في الأكثر لا يؤثر في مطلق إقامة الفَرَائض، بل في إقامتها بالجماعة على ما سَنُفَصِّلُه. إذا عرفت ذلك، فالأصل في الباب قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (¬1) الآية والأخبار التي نذكرها في أثناء الباب، واعلم قوله: (كتاب صلاة الخوف) بالزاي؛ لأن المزني -رحمه الله- ذهب إلى نَسْخِ صلاة الخوف. واحْتَجَّ عَلَيه "بأنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يُصَلِّهَا فِي حَرْبِ الْخَنْدَقِ" (¬2) وأجاب الأصحاب عنه بأن حرب الخندَق كان قبل نزول آية صلاة الخَوْف، وكان المسلمون قبل نزولها يؤخرون الصَّلاة في الخوف عن وقتها، ثم يقضونها كما فعلوا في حرب الخندق، ثم علموا بالآية وشاع ذلك بين الصَّحابة، وروي عن علي -رضي الله عنه-: "أَنَّهُ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلاَةَ الْخَوْفِ لَيْلَةَ الْهَرِيرِ" (¬3). ¬
القول في صلاة بطن نخل
وعن أبي موسى وحذيفة وغيرهما -رضي الله عنهم- أَنهم فَعَلُوهَا" (¬1). وقوله: (وهي أربعة أنواع) سبيل ضبطها أن يقال: للخوف حالتان: إحداهما: أن يشتد الخوف بحيث لا يتمكن أحد من ترك القتال، وفيها يقع النوع الرابع. والثانية: أن لا يبلغ الخوف هذا الحد، فإما أن يكون العدو في جهة القبلة أو لا يكون، فإن كان فيصلي فيها النوع الثاني، وهو صلاة "عَسَفَان"، وإن لم يكن فيجوز أن يصلي فيها صلاة "بطن النخل" وهي النوع الأول، ويجوز أن يصلي فيها صلاة "ذَاتِ الرِّقَاع" وهي النوع الثالث، وآيتهما أولى؟. الأظهر: أن صلاة ذات الرقاع أولى؛ لوجهين: أحدهما: أنها أعدل بين الطائفتين. والثاني: أن في صلاة بطن النخل تكون الفرقة الثانية مصلية الفريضة خلف النافلة، وفي جواز ذلك اختلاف بين العلماء، وحكى القاضي الرَّويَانِيّ وجهاً عن أبي إسحاق أن صلاة "بطن النخل" أولى لكل واحدة (¬2) من الطَّائفتين فضيلة الجماعة على التمام، فهذا ضبط الأنواع. القول في صلاة بطن نخل: النوع الأول: صلاة بطن النخل، وهي أن يجعل الناس فرقتين، فيصلي بفرقة جميعها وفرقة في وجه العدو تحرس فإذا سلَّم بالفرقة التي خلافه، ذهبت إلى وجه العدو، وجاءت الطائفة (¬3) الأخرى فيصلي بهم مرة ثانية تكون له سُّنة، ولهم فريضة، وروى عن أي بكرة وجابر -رضي الله عنهما-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى بِبَطْنِ النَّخْلِ بِالنَّاسِ" هكذا قال أصحابنا العراقيون، وإنما يُصَلِّي الإمام هذه الصَّلاة بثلاثة شروط: أحدها: أن يكون العدو في غير جهة القبلة. والثاني: أن يكون في المسلمين كثرة وفي العدو قِلَّة. والثالث: أن لا يأمنوا من انكباب العدو عليهم في الصلاة، ولا شَكَّ أن اعتبار هذه الأمور ليس على معنى اشتراطها، في الصحة، فإن الصَّلاة على هذا الوجه جائزة ¬
النوع الثاني أن يكون العدو في وجه القبلة
وإن لم يكن خوف أصلاً، إذ ليس فيه إلاَّ اقتداء مفترض يمتنفل في المرة الثَّانية، فإذًا المعنى في إقامة الصَّلاة هكذا، إنما يختار ويندب إليه عند اجتماع هذه الأمور. وقوله: (فيصدع الإمام أصحابه صدعين) أي يفرقهم فرقتين، ويجوز فيصدع من الصدع وهو الشق. وقوله: (ويصلي بأحدهما ركعتين) مفروض فيما إذا كانت الصلاة ركعتين مقصورة كانت أو غير مقصورة، فإن كانت أكثر من ذلك صلاها بتمامها مَرَّتين ولا فرق. قال الغزالي: الثَّانِي أَنْ يَكُونَ العَدُوْ فِي وَجْهِ القِبْلَةِ فَيُرَتِّبَهُمُ الإِمَامُ صَفَّيْنِ فَإِذَا سَجَدَ فِي الأُولَى حَرَسَهُ الصَّفُّ الأَوَّلُ فَإِذَا قَامَ سَجَدُوا وَلَحِقُوا بِهِ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الصَّفُّ الثَّانِي فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ هَكَذَا صَلَّى رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِعَسَفَانَ وَلَيْسَ فِيهِ إِلاَّ تَخَلُّفٌ عَنِ الإِمَامِ بِرُكْنَيْنِ وَذَلِكَ جَائِزٌ لِحَاجَةِ الخَوْفٍ، ثُمَّ لاَ بَأْسَ لَوِ اخْتُصَّ بِالحِرَاسَةِ فِرْقَتَانِ مِنْ أَحَدِ الصَّفَّيْنِ، وَلَو تَوَلَّى الحِرَاسَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ طَائِفَةٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يَجُزْ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ لِتَضَاعُفِ التَّخَلُّفِ فِي حَقِّهِمْ عَنِ الإمَامِ، وَالحِرَاسَةُ بالصَّفِّ الأَوَّلِ أَلْيَقُ فَلَوْ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الثَّانِي فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الصَّفِّ الأَوَّلِ وَتَأَخَّر الصَّفُّ الأَوَّلُ وَلَمْ تَكْثُرْ أَفْعَالُهُمْ كَانَ ذَلِكَ حَسَناً. قال الرافعي: النوع الثاني صلاة عسفان: وهي: أن يرتب الإمام النَّاس صُفَّيْن، ويحرم بهم جميعاً فيصلون معاً إلى أن ينتهي إلى الاعتدال عن ركوع الركعة الأولى، فإذا سَجَدَ سجد معه الصَّفُّ الثاني، ولم يسجد الصف الأول بل حرسوهم قائمين، فإذا قام الإمام والساجدون سجد أهل الصف الأول، ولحقوه، وقرأ الكُلّ معه، وركعوا واعتدلوا، فإذا سجد سجد معه الحارسون في الركعة الأولى، وحرس الساجدون معه في الأولى، فإذا جلس للتشهد سجدوا ولحقوه، وتشهد الكُلُّ معه، وسلَّم بهم، هذه الكيفية ذكرها الشافعي -رضي الله عنه- في "المختصر" واختلف الأصحاب، فأخذ كثيرون بها منهم أصحاب القفال، وقالوا: إنها منقولة عن فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن معه بسعفان (¬1)، وعلى ذلك جرى حجة الإسلام -رضي الله عنه- في الكتاب. وقال الشيخ [أبو حَامِد] (¬2) ومن تابعه: ما ذكره الشافعي -رضي الله عنه- خلاف ¬
الترتيب الثَّابت في السنة فإن الثَّابت في السُّنة أن أهل الصَّفِّ الأول يسجدون معه في الركعة الأولى، وأهل الصَّفِّ الثَّاني يسجدون معه في الثانية، والشافعي -رضي الله عنه- عكس ذلك، قالوا: والمذهب ما ورد في الخب؛ لأن الشافعي -رضي الله عنه- قال: إذا رأيتم قولي مخالفاً للسنة فاطرحوه. واعلم: أن مسلماً وأبا داود وابن ماجة وغيرهم من أصحاب المسانيد، لم يرووا إلا الترتيب الذي ذكره أبو حامد، نعم، في بعض الروايات أن طائفة سجدت معه ثم في الركعة الثانية سجد معه الدين كانوا قياماً، وهذا يحتمل الترتيبين جميعاً، ولم يقل الشافعي -رضي الله عنه- أن الكيفية التي ذكرتها صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بعسفان ولكن قال: (هذا نحو صلاته [عليه السلام] (¬1) يوم عسفان) فأشبه تجويز كل واحد منهما، إذ لا فرق في المعنى، وقد صرح به الرَّويَانِي، وصاحب "التهذيب" وغيرهما، قا لوا: واختار الشَّافِعِيّ -رضي الله عنه- ما ذكره لأمور: أحدها: أن الصَّفَّ الأول أقرب من العدو فهم أمكن من الحراسة. والثاني: أنهم إذا حرسوا كان جُنَّة لمن ورائهم، فإنْ رماهم المشركون تلقُّوهم بسلاحهم. والثالث: أنهم يمنعون أبصار المشركين عن الاطلاع على عدد المسلمين وعدتهم، إذا عرفت ذلك فيجوز أن يعلم قوله في الكتاب: (حرسة الصف الأول) بالواو إشارةً إلى قول من قال: إن في الركعة الأولى يحرسهُ الصَّفُّ الثَّاني، وهو الذي أورده في "المهذب". وقوله: هكذا صلَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعسفان فيه نزاع من جهة النقل، فإن الروايات المشهورة على خلاف ما ذكره كما بَيَّنَّا، ثم المشهور أن الكُلَّ يركعون معه في الركعتين، وإنما التَّخَلُّف في السجود، وذكر في معناه أن الركوع لا يمنع من النَّظَر والحراسة، بخلاف السجود، وحكى أبو الفضل بن عبدان أن من أصحابنا من قال: يحرسون في الرّكوع أيضاً وفي بعض الروايات ما يدل عليه، فهذا هو الكلام في كيفية هذا النوع، وأما موضعه فقد قال الأئمة لهذه الصَّلاة ثلاثة شروط: أحدها: أن يكون العدو في جِهَةِ القِبْلَةِ، ليَتَمَكَّن الحارسون من رؤيتهم. والثاني: أن يكونوا على قلة جبل أو مستوٍ لا يمنعهم شيء من أبصار المسلمين. والثالث: أن يكون في المسلمين كثرة لتمكن جعلهم فرقتين، إحداهما تصلي ¬
معه، والثانية تحرس، ولم يتعرض في الكتاب إلا للشَّرْط الأول. وقوله: (وليس فيه إلا تخلف عن الإمام بركنين ...) إلى آخره إشارة إلى أنهم لو أرادوا الصَّلاة في حالة الأمن هكذا لم يجز صلاة المتخلفين، وإنما احتمل هاهنا لحاجة الخوف وظهور العذر، وظاهر قوله: (إلا بركنين) حصر للتَّخلف فيهما، وعنى بهما السجدتين لكن التَّخَلُّف غير منحصر فيهما، فإنَّهُم متخلفون بالجلسة بين السجدتين أيضاً وهي ركن ثالث. فإن قيل: الجلسة بين السجدتين ليس ركناً مقصوداً على ما سبق، والتَّخَلُّف المُؤَثِّرُ هُو التَّخَلُّفُ بِالأركان المقصودة فلهذا اقتصر على ذكر الركنين (¬1). الجواب: أن هذا كلام حَسَنٌ قد قدَّمناه في موضعه، لكن الأظهر عند المصنّف أن الجلسة بين السجدتين ركنٌ طويل فيكون (¬2) كسائر الأركان، ويكون التخلف الحاصل هاهنا حاصلاً بأركان، وهكذا ذكر في "الوسيط" والإمام في "النهاية" ثم ذكر في الفصل فروعاً نذكرها، وما يحتاج إليه. الأول: ليس من الشَّرْط أن لا يزيد عَلَى صَفَّين، بل لو رتبهم صفوفاً كثيرة جاز، ثم يحرس صفان كما سبق، ولا يشترط أن يحرس كل من في الصف، بل لو حرست فرقتان من صَفٍّ واحد في الركعتين على المناوبة، ودام من سواهم على المتابعة جاز؛ لحصول الغرض بحراستهم. الثاني: لو تولى الحراسة في الركعتين طائفة واحدة ثم سجدت، ولحقت ففي صِحَّة صلاتها وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأن ذلك يوجب تضاعف التَّخَلُّف بالإضافة إلى ما كان يوجد لو تناوبوا، والنَّصُّ ورد في ذلك القدر من التخلف فلا يحتمل الزيادة عليه. وأظهرهما -ولم يذكر جماعة سواه-: أنه يَصحّ؛ لأن هذا القدر من التخلف محتمل في ركعة لمكان العذر، فمثله في ركعة أخرى مضموماً إليه لا يضر ألا ترى أن القدر الذي يحتمل من التَّخلف بلا عُذْر لا يفترق الحالين أن يتفق في ركعة أو في ركعات كثيرة، وفي بعض نسخ الكتاب ذكر قولين في المسألة بدل الوجهين، وهو قريب؛ لأن الخلاف على ما ذكره صاحب "التهذيب" وغيره مبني على القولين فيما إذا زاد الإمام على الانتظارين في النوع الثالث من صلاة الخوف، وسيأتي ذلك. الثالث: لو تأخر الحارسون أولاً إلى الصَّفِّ الثَّاني في الركعة الثانية، وتقدَّمت ¬
النوع الثالث: أن يلتحم القتال ويحتمل الحال اشتغال بعضهم بالصلاة
الطَّائفة الثّانية، ليحرسوا جاز إذا لم تكثر فِعَالُهُم، وذلك بأن يتقدَّم كلُّ وَاحِدٍ من أهل الصَّفِّ الثَّانِي خطْوَتين، ويتأخر كل واحد من أهل الصَّفِّ الأول خطوتين، وينفذ كل واحد منهم بين رجلين، وهل هذا أولى أم الأولى أن يلازم كل واحد منهم مكانه؟ أشار في الكتاب إلى أن التقدم والتأخر أحسن وأولى؛ لأن الحراسة بالصَّف الأول أَلْيَقُ، وقد سبق وجهه، وهكذا ذكر الصيدلاني، والمسعودي وآخرون، وقال أصحابنا العراقيون: الأولى أن يلازم كل منهم مكانه، فلا يضطرب ولا ينتقل ولفظ الشافعي -رضي الله عنه- في "المختصر" على هذا أدل، وهذا كله مبني على ما ذكره الشافعي -رضي الله عنه- أن في الركعة الأولى يحرس الصَّف الأول، فأما على ما اختاره أبو حامد واشتهر في الخبر أن الصف الثَّاني يحرسون في الركعة الأولى، ففي الركعة الثانية يتقدم أهل الصَّفِّ الثاني، ويتأخر أهل الصف الأول، فتكون الحِرَاسة في الركعتين مِمَّنْ خلف الصف الأول لا من الصف الأول، كذلك ورد في الخبر، وقوله في الكتاب: (فإذا سجد في الأولى حرسه الصف الأول) يجوز أن يعلم بالحاء، وكذا قوله: "سجدوا ولحقوا به" وكذا يفعل الصف الثاني في الركعة الثانية؛ لأن أصحابنا حكوا عن أبي حنيفة أنه إذا كان العدو في جهة القبلة لم يُصَلّ بهم إلا كما يصلّي والعدو في غير جهة القبلة، وتفصيله على ما سيأتي في النوع الثالث، ورسموا هذه مسألة خلافية بيننا وبينه. قال الغزالي: الثَّالِثُ: أَنْ يَلْتَحِمَ القِتَالُ وَيَحْتَمِلَ الحَالُ اشْتِغَال بَعْضِهِمْ بِالصَّلاَةِ فَيَصْدع الإمَامُ أَصْحَابَهُ صَدْعَيْنِ وَينْحَازَ بطَائِفَةٍ إلَى حَيْثُ لاَ تَبْلِغُهُمُ سِهَامُ العَدُوُّ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً فَإِذَا قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ انْفَرَدُوا بِالثَّانِيَةِ وَسَلَّمُوا وَأَخَذُوا مَكَانَ إِخْوَانِهِم فِي الصَّفِّ وَانْحَازَ الفِئَةُ المُقَاتِلَةُ إلَى الإِمَامِ وَهُوَ يَنْتِظرُهُمْ وَاقْتَدَوْا بِهِ فِي الثَّانِيَةِ فَإِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ قَامُوا وَأَتَمُّوا الثَّانِيَةَ وَلَحِقُوا بِهِ قَبْلَ السَّلاَمَ وَسَلَّمَ بِهِمْ هَكَذَا صَلَّى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِذَاتِ الرَّقَاعِ فِي رِوَايَةِ خَوّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ وَلَيْسَ فِيهَا إلاَّ الانْفِرَادُ عَنِ الإِمَامِ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَانْتِظَارُ الإِمَامِ لِلطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ مَرَّتَيْنِ (¬1)، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّ فِيهَا كَثْرَةَ الأَفْعَالِ مَعَ الاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا. قال الرافعي: النوع الثالث: صلاة ذات الرقاع (¬2) في كيفيتها في الصُّبح، والصَّلاة المقصورة في السفر ثم في الصلاة الثلاثية والرباعية، أما في ذات الركعتين فيفرق الإمام القوم فرقتين وتقف طائفة جِهَة العدوّ، وينحاز بطائفة إلى حيثُ لا تبلغهم سهامُ العدوِّ، ¬
فيفتتح بهم الصلاة ويصلِّي بهم ركعة، هذا القدر اتفقت الرواية عليه، ثم فيما يفعل بعد ذلك؟ روايتان فَصَّلَ في الكتاب إحداهما، وأجْمَل ذكر الأخرى، أما المُفَصَّلة فهي أنه إذا قام إلى الثانية، خرج المقتدون عن متابعته، وأتموا الثانية لأْنفسهم، وتشهدوا، وسلَّموا، وذهبوا إلى وجاه العدو، وجاء أولئك واقتدوا به في الثانية، وهو يطيل القيام إلى لحوقهم فإذا لحقوه صلى بهم الثانية، فإذا جلس للتشهد قاموا وأتموا الثانية، وهو ينتظرهم، فإذا لحقوه سلم بهم؟ هكذا روى مالك عن يزيد بن رومان عن صالح عن خوات بن جبير عمن صَلَّى مع النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- صَلاةَ يَومِ ذَاتِ الرِّقَاعِ" ورواه أبو داود والنسائي عن صالح عن سهل ابن خيثمة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬1). وأما الرواية التي أجملها فهي أن الإمام إذا قام إلى الثانية لا يتم المقتدون به الصَّلاة، بل يذهبون إلى مكان إخوانهم وجاه العدو، وهم في الصَّلاة فيقفوا سكوتاً، وتجيء تلك الطَّائفة فَتُصَلِّي مع الإمام الركعة الثانية، فإذا سَلَّم ذهبت إلى وجاه العدو، وجاء الأولون إلى مكان الصَّلاة، وأتموا لأنفسهم، وذهبوا إلى وجاه العدو، وجاءت الطَّائفة الثانية إلى مكان الصَّلاة وأتمت أيضاً، وهذه رواية ابن عمر -رضي الله عنهما-. إذا عرفت ذلك، فاعلم أن الشافعي -رضي الله عنه- اختار الرواية الأولى؛ لأنها أوفق للقرآن، قال الله تعالى جده: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا} (¬2). وذلك يشعر بأن الطائفة الأولى قد صَلَّت، ولأنها أليق بحال الصَّلاة، لما في الرواية الأخرى من زيادة الذهاب والرجوع، وكثرة الأفعال والاستدبار، ولا ضرورة إلى احتمال جميع ذلك، ولأنها أحوط لأمر الحرب، فإنها أخف على الطَّائفتين جميعاً، إذ الحراسة خارج الصَّلاَةِ أهون، وااَختار مالك وأحمد أيضاً ما اختاره الشافعي -رضي الله عنه- لكن مالكاً -رحمة الله عليه-، قال في رواية: إذا صلَّى الإمام بالطَّائفة الثانية الركعة الثانية تَشَهَّد بهم وَسَلَّم، ثمِ يقومون إلى تمام صلاتهم كالمسبوق في غير صلاة الخوف، ونقل الصيدلاني قولاً عن القديم مثل ذلك، وحكى صاحب "الإفصاح" والعراقيون قولاً قريباً من ذلك، فقالوا: يقومون في قول إذا بلغ الإمام موضع السَّلام، ولم يسلم بعد، وذهب أبو حنيفة إلى اختيار رواية ابن عمر -رضي الله عنهما- وقال: الطائفة الأولى: يتمون الصلاة بعد سلام الإمام بغير قراءة، لأنهم أدركوا التحريمة، فسقط عنهم القراءة في جميع الصَّلاَةِ، والطائفة الثانية يتمونها بقراءة؛ لأنهم أدركوا التحريمة. واعلم أن إقامة الصَّلاة على الوجه المذكور ليس عزيمةً لا بُدَّ منها، بل لو صلى الإمام بطائفة وأمر غيره فصلى بالآخرين، وصلَّى بعضهم أو كلهم منفردين جاز، لكن ¬
كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يسمحون بترك فضيلة الجماعة، ويتنافسون في الاقتداء به، فأمره الله تعالى جَدُّه بترتيبهم هكذا؛ لتحوز إحدى الطائفتين فضيلة التكبيرة معه والأخرى فضيلة التسليم معه، وهل تَصِحّ الصلاة على الوجه الذي رواه ابن عمر -رضي الله عنهما-؟ ذكروا فيه قولين. أحدهما: وتحتمل تلك الرواية على النسخ، لخبر سهل، فإنها مطلقة ورواية سهل مقيدة بذات الرقاع وهي آخر الغزوات. وأصحهما: نعم، وبه قال أحمد؛ لصحة الرواية وعدم العلم بالنسخ، ولا سبيل إلى المصير إليه بمجرد الاحتمال. وأرجع بعد هذا إلى ما يتعلق بنظم الكتاب: فأقول: قد سبق أن موضع هذا النوع ما إذا لم يكن العدو في جهة القبلة ثبتت ذلك من جهة النقل، ونَصَّ عليه الأصحاب، وإن لم يتعرض له لفظ الكتاب وفي معناه ما إذا كانوا في جهة القبلة، لكن كان بينهم وبين المسلمين حائل يمنع من رؤيتهم لو هجموا. وقوله: (إن يلتحم القتال) ليس مذكوراً على سبيل الاشتراط، بل لو كان العدو قارين في معسكرهم في غير جهة القبلة، ولم يلتحم القتال بعد وكان يخاف هجومهم، فالحكم كما لو التحم فيجعلهم طائفتين، واحدة تحرس، وأخرى تقتدي به، وإذا التحم القتال، فإنما تمكن (¬1) هذه الصَّلاة، إذا أكثر القوم، وأمكن الانحياز لطائفة وحصل الكفاية بالباقيين، فإن لم يكن كذلك فالحال حال شدة الخوف، وسنذكرها، فلهذا قال: (ويحتمل الحال اشتغال بعضهم بالصلاة). وقوله: (فإذا قام إلى الثانية انفردوا بالثانية) مر قوم بالحساء، لأنه عنده لا ينفرد بالثانية، إذا قام الإمام إليها بل بعد سلامة. ثم في هذا الفصل شيئان ينبغي أن يتنبه لهما: أحدهما: أن قوله: انفردوا بالثانية، ليس المراد منهم انفرادهم بالفعل فحسب، بل ينوون مفارقته وينفردون بالفعل، وفي حق الطائفة الثانية قال: (قاموا وأتموا الركعة الثانية) ولم يقل وانفردوا بها، لأنهم لا يخرجون عن المتابعة، كذا قاله الجمهور، وفيه شيء آخر سيأتي. والثانية: أنه قال: (فإذا قام الإمام إلى الثانية) ولم يقل: فإذا أتم الأولى؛ لأنه الأَولى أن ينووا مفارقته بعد الانتصاب لا عند رفع رأسه من السّجود الثاني فإنهم ¬
صائرون إلى القيام كالإمام، ولو فارقوه عند رفع الرأس من السجود جاز أيضاً، ذكره في "التهذيب" وغيره، وقوله: (وانحاز الفئة المقاتلة) إنما سماها مقاتلة؛ لأنه فرض الكلام فيما إذا التحم القتال، فإما إذا كان يخاف هجومهم ويتوقع القتال، فليست هي بمقاتلة في الحال، يجوز أن يقرأ الفئة المقابلة بالباء، فيشمل الحالتين؛ لأنهما على التقديرين مقابلة للعدو وقوله (فإذا جلس للتشهد، قاموا وأتموا) معلم بالحاء؛ لأن عنده إنما يقومون إذا سلم الإمام لا إذا جلس لِلتَّشَهُّدِ، وبالميم والواو لما سبق. وقوله (هكذا صَلَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِذَاتِ الرِّقَاعِ) اختلفوا في اشتقاق هذه اللفظة قيل: كان القتال في سفح جبل فيه جُدَدٌ بِيضٌ وحمر وصفر كالرقاع، وقيل: كانت الصحابة -رضوان الله عليهم- حفاة لَفُّوا على أرجلهم الخرق والجلود، لِئلاَّ تحترق. وقوله في رواية خوات بن جبير: (اشتهر في كتب الفقه نسبة هذه الرواية إلى خوات) والمنقول أصول الحديث رواية صالح عن سهل وَعَمَّنْ صلَّى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فالفعل هذا المبهم ذِكْرُ خواتٍ أبو صالح ولله أعلم. وقوله: (وليس فيها إلا الانفراد عن الإمام في الركعة الثانية) هذا الانفراد ظاهر في حق الطائفة الأولى، فأما الطائفة الثانية فهم على متابعته بعد الركعة الثانية، وفي الركعة الثانية كلام سيأتي ذكره مِنْ بَعْد، والمقصود منه بيان رُجْحَان هذه الرواية على رواية ابن عمر -رضي الله عنهما-، وفيه إشارة إلى مسألة لاَ بُدَّ من ذكرها وهي أنه لو أقام الصَّلاة بهم على هذه الهيئة في حالة الأمن، هل يجوز ذلك أم لا؟ أما صلاة الإمام فمنهم من قال: لا تصح قولاً واحداً؛ لأنه تطويل صلاة بالقراءة أو التَّشَهد، وذلك مما لا منع منه (¬1). وقال الأكثرون: فيه قولان؛ لأنه انتظر المأمومين بغير عذر، وبنى القاضي أبو الطيب القولين فيما إذا فرقهم أربع فرق في الصَّلاة الرباعية؛ لأنه في الصورتين انتظر في غير محل الحاجة، وأما الطَّائفة الأولى ففي صِحّة صلاتها قولان؛ لأنها فارقت الإمام بغير عذر، وأما الطائفة الثانية، فإن قلنا: صلاة الإمام تبطل امتنع عليهم الاقتداء، والأصح إجزاؤهم، ثم تبنى صلاتهم إذا قاموا إلى الركعة الثانية على خلاف يأتي في أنهم متفردون بها أم حكم الاقتداء باق عليهم؟ إن قلنا بالأول ففي صلاتهم (¬2) قولان مبنيان على أصلين: ¬
أحدهما: أنهم انفردوا من غير عذر. والثاني: أنهم اقتدوا بعد الانفراد. وإن قلنا بالثاني بطلت صلاتُهم، لانفرادهم بركعة مع بقاء القدوة، ولو فرضت الصَّلاَة في حالة الأمن الذي رواه ابن عمر -رضي الله عنه- فصلاة المأمومين باطلة قطعاً. وقوله: (وهذا أولى) يجوز أن يريد أنه أولى بأن يفعله الإمام مما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- فيكون جواباً على تجويز إقامة الصَّلاة على ذلك الوجه أيضاً، ويجوز أن يريد به أن الأخذ به والمصير إليه أولى، فلا يلزم تجويز ذلك الوجه، وعلى التقديرين هو معلم بالحاء. قال الغزالي: ثُمَّ الصَّحِيحُ أَنْ الإِمَامَ فِي الثَّانِيَةِ يَقْرَأُ الفَاتِحَةَ قَبْلَ لُحُوقِ اَلْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ لَكِنْ يَمُدُّ القِرَاءَةَ عِنْدَ لُحُوقِهِمْ، وَنَقَلَ المُزَنِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- أَنَّهُ يُؤَخِّرُ الفَاتِحَةَ إِلَى وَقْتِ لُحُوقِهِمْ، وَكَذَا هَذَا الخِلاَفُ فِي انْتِظَارِهِ فِي التَّشَهُّدِ قَبْلَ لُحُوقِهِمْ. قال الرافعي: إذا قام الإمام إلى الثانية، فهل يقرأ الفاتحة في انتظاره الفرقة الثانية أم يؤخر إلى لحوقها؟ نقل الربيع أنه يقرؤها، ثم بعد لحوقهم يقرأ بقدر الفاتحة سورة قصيرة، ونقل المزني أنه يقرأ بعد لحوقهم، بأمِّ القرآن وسورة، وهذا قول بتأخير القراءة إلى لحوقهم؛ لأن الفاتحة لا تكرر، واختلف الأصحاب على طريقتين. أصحهما: أن المسألة على قولين: أحدهما: أنه لا يقرأ إلى لحوقها؛ لأنه قرأ في الركعة الأولى بالطَّائفة الأولى، فليقرأ في الثانية بالطائفة الثانية، تسوية بينهما. وأصحهما -وبه قال أحمد-: أنه يقرأ أولاً، ولا يؤخر. واحتجوا عليه بأنه لو لم يقرأ فإما أن يسكت أو يقرأ غير الفاتحة من القرآن، وكل واحد منهما خلاف السنة، أو يشتغل بذكر وتسبيح، وليس القيام محلاً لذلك، وهذا لا يسلمه من صار إلى القول الأول على الإطلاق، بل ذكروا تفريعاً عليه أنه يسبح ويذكر اسم الله تعالى جدُّه بما شاء. والطريق الثاني: أنها ليست على القولين، ثم اختلفوا فعن أبي إسحاق أن النصين مُنَزَّلاَن على حالتين حيث قال: "يقرأ" أراد إذا كان الإمام يريد قراءة [سورة طويلة بعد الفاتحة فتمكن استدامة القراءة إلى لحوق الطائفة الثانية، وحيث قال: لا يقرأ أراد إذا
كان يريد، (¬1) سورة قصيرة فتفوت القراءة على الطَّائفة الثانية فهاهنا يستحب الانتظار، ومنهم من قطع بما رواه الربيع، وغلط المزني في النقل وقال: لفظ الشَّافعي -رضي الله عنه-: ويقرأ بعد إتيانهم بقدر أم الكتاب وسورة قصيرة لا بأم القرآن، وإنما أمر بذلك لينالوا فضيلة القراءة، فلو لم يفعل وأدركوه في الركوع، كانوا مدركين للركعة. وقوله في الكتاب: (لكنه يمد القراءة عند لحوقهم) إشارةً إلى ما ذكرنا وهو أنه يمكث في قراءته بعد لحوقهم قدر قراءة أم القرآن وسورة، وفي بعض القراءة ولكنه يمد القراءة إلى وقت لحوقهم، وعلى هذا ففرض الكلام أنه لا يؤخر القراءة إلى لحوقهم، لا أنه يقطع القراءة كما لحقوا. وأما قوله: (وكذا هذا على الخلاف في انتظاره في التشهد قبل لحوقهم) فاعلم أنه مبني على أن الطائفة الثانية يقومون إلى الركعة الثانية إذا جلس الإمام للتشهد، وهو المذكور في الكتاب، والمشهور، وقد حكينا قولاً آخر أنهم يقومون إليها بعد سلامه، فعلى ذلك القول ليس له انتظار في التشهد، وعلى المشهور هل يتشهد قبل لحوقهم، أما القاطعون في الانتظار الأول بأنه يقرأ الفاتحة فقد قطعوا هاهنا بأنه يتشهد بطريق الأولى، وأما المثبتون للخلاف ثُمَّ فقد اختلفوا هاهنا، منهم من طرد القولين، ومنهم من قطع بأنه يتشهد؛ لأن الأمر بتأخير القراءة في قول إنما كان ليقرأ بالطائفة الثانية كما قرأ بالطائفة الأولى، وهذا المعنى لا يفرض في التشهد. إذا عرفت ذلك فلا يخفى عليك أن قوله: (وكذا هذا الخلاف) جواب على طريقة طرد القولين في التشهد، ويجب أن يعلم بالواو؛ للطريقة الأخرى على أنها أظهر عند الأكثرين. قال الغزالي: ثُمَّ هذِهِ الحَاجَةُ إنْ وَقَعَتْ فِي صَلاَةِ المَغْرِبِ فَلْيُصَلِّ الإِمَام بِالطَّائِفَةِ الأُولَى رَكْعَتَينِ وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً لِأَنَّ فِي عَكْسِهِ تَكْلِيفَ الطَّائفَةِ الثَّانِيَةِ تَشَهُّدًا غَيرَ مَحْسُوبٍ، ثُمَّ الإمَامُ إِنِ انْتَظَرَهُمْ فِي التَّشَهُدِ الأَوَّلِ فَجَائِزٌ، وَإِنْ انْتَظَرَهُمْ فِي القِيَامِ الثَّالِثِ فَحَسَنٌ. قال الرافعي: ما سبق كلام في الصلاة الثَّنَائِيَّة كيف تؤدي بالنَّاسِ في الموضع الذي بيناه، فإما إذا كانت الصلاة مَغْرِباً، وفرض الخوف كذلك فلا بد من تفضيل إحدى الطائفتين على الأخرى، فيجوز أن يصلي بالأولى ركعة، وبالثانية ركعتين، ويجوز أن يصلي بالأولى ركعتين، وبالثانية ركعة وأيهما أولى فيه قولان: أصحهما: أن الأفضل أن يصلّي بالطائفة الأولى ركعتين، وبالثانية ركعة؛ لأن ¬
الطائفة الأولى سابقون فهم أولى بالتفضيل؛ ولأنه لو عكس فَصَلَّى بالطائفة الأولى ركعة وبالثانية ركعتين لزاد في صلاة الطائفة الثانية تشهداً غير محسوب؛ لأنهم حينئذ يحتاجون إلى الجلوس مع الإمام في الركعة الثانية، وهو غير محسوب لهم، فإنها أولاهم، والألْيَقُ بالحال التخفيف دون التطويل. والثاني: أن الأفضل أن يصلي بالأولى ركعتين، وبالثانية ركعتين؛ لأَنَّ عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- صَلَّى لَيْلَةَ الْهَرِيرِ (¬1) بالنَّاسِ هكَذَا، ثم إن فعل هكذا، فالطائفة الأولى تفارقه إذا قام إلى الثَّانِية، وتتم لنفسها على ما ذكرنا في ذات الركعتين، وإن صلى بالأولى ركعتين فيجوز أن ينتظر الثانية في التشهد الأول، ويجوز أن ينتظرهم في القيام الثالث، وأيهما أولى؟ فيه قولان: أحدهما: أن انتظارهم في التَّشهد الأول أولى، ليدركوا معه الركعة من أولها، وينقل هذا عن "الإملاء". وأصحهما: أن انتظارهم في القيام الثالث أولى؛ لأن القيام مبني على التطويل، والجلسة الأولى مبنية على التخفيف، ولأن في ذات الركعتين ينتظر قائماً، فكذلك هاهنا؛ لأنه إذا انتظرهم في الجلوس لا تدري الطائفة الأولى متى يقومون؟ ثم إذا انتظرهم في القيام - فهل يقرأ الفاتحة أم يصير إلى لحوق الفرقة الثانية؟ فيه الخلاف المتقدم. وقوله في الكتاب: (فليصل بالطائفة الأولى ركعتين، وبالثانية ركعة) جواب على القول الأول، ويجوز أن يكون جزماً بأنه يفعل كذلك؛ لأن القاضي الرويان حكى طريقة جازمة به مع طرد القولين، وعلى التقديرين فلفظ: (الركعة والركعتين) معلَّمٌ بالواو. وقوله: (فليصل) أمر استحباب وفضيلة، وليس ذلك بلازم. وقوله: (وإن انتظرهم في القيام الثالث، فحسن) هو لفظ الشافعي -رضي الله عنه- في "المختصر"، وقد حملوه على أن الأفضل الانتظار فيه، وإذا كان كذلك فيجوز أن يعلم بالواو؛ إشارة إلى القول المنقول عن "الإملاء". قال الغزالي: وَإِنْ كَانَ فِي صَلاَةٍ رُبَاعِيَّةٍ في الحَضَرِ فَلْيُصَلِّ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ فَرَّقَهُمْ أَرْبَعَ فِرَقٍ فَالانْتِظَارُ الثَّالِثُ زَائِدٌ عَلَى المَنْصُوصِ وَفِي تَحْرِيمِهِ قَوْلاَنِ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: الانْتِظَارُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ هُوَ الانْتِظَارُ الثَّانِي فِي حَقِّ الإِمَامِ فَلاَ مَنْعَ مِنْهُ. قال الرافعي: إذا كان الخوف في السفر فسبيل الصَّلاة الرباعية أن تقصر وتُؤَدَّى ¬
كما سبق، فلو أرادوا إتمامها وكانوا في الحضر وقد جاءهم العدو فينبغي أن يفرق الإمام الناس فرقتين، ويصلي بكل طائفة ركعتين، ثم هل الأفضل أن ينتظر الثَّانِيَة في التشهد الأَوَّل، أو في القيام الثَّالث؟ فيه الخلاف المذكور في المغرب، ويتشهد بكل واحدة من الطائفتين بلا خلاف؛ لأنه موضع تشهدهما، ويتضح بما ذكرناه أن قوله: (وإن كان في صلاة رباعية في الحضر) ليس الحضر مذكوراً على سبيل الاشتراط، لجواز الإتمام في السَّفَرِ، لكن الغالب أن الإتمام لا يكون. إلا في الحضر، لأن القصَر أفضلُ مطلقاً عند الإمكان على الأصح، وأليق بحال الخوف، فلهذا قال في الحضر: وقوله: (فليصل بكل طائفة ركعتين) معلّم بالميم؛ لأن في رواية عن مالك لا يجوز أن يصلي بهم الصلاة الرباعية كذلك. لنا قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (¬1) الآية، لا فرق فيها بين السفر والحضر، ولو فرقهم أربع فرق، وصلى بكل فرقة ركعة، وذلك بأن يصلي بفرقة ركعة، وينتظر قائماً في الثانية، وينفردوا هم بثلاث، ويسلموا، ويذهبون، ثم يصلي الركعة الثانية بفرقة ثانية، وينتظر جالساً في التشهد الأول، أو قائماً في الثالثة، ويتموا لأنفسهم، ثم يصلّي بفرقة ثالثة، وينتظر في قيام الرابعة، ويتموا صلاتهم، ثم يصلي الرابعة بالفرقة الرابعة، وينتظرهم في التشهد الأخير إلى أن يتموا صلاتهم، ويسلم بهم فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأن الأصل أن لا يحتمل الانتظار في الصلاة أصلاً؛ لما فيه من شغل القلب، والإخلال بالخشوع، وقد ورد عن فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انتظاران فلا يزاد عليهما. وأصحهما: نعم؛ لأن جواز انتظارين إنما كان للحاجة، وقد تقتضي الحاجة أكثر من ذلك بأن لا يكون في وقوف نصف الجند، في وجه العدو كفاية بل يحتاج إلى وقوف ثلاثة أرباعهم بكل حال. التفريع: إن جوزنا فقد قال إمام الحرمين من شرطه (¬2)، أن تمس الحاجة إليه، فأما إذا لم تكن حاجة فالحكم كما لو جرى ذلك في حالة الاختيار، والطائفة الرابعة على هذا القول كالطائفة الثانية في ذات الركعتين، فيعود الخلاف في أنهم يفارقونه قبل التشهد، أو يتشهدون معه ويقومون بعد سلام الإمام إلى ما عليهم كالمسبوق، وتتشهد الطائفة الثانية معه في أظهر الوجهين. ¬
والثاني: تفارقه قبل التشهد، وعلى هذا القول تصح صلاة الإمام، وفي صلاة الطوائف قولان: المنقول عن "الأم" أن صلاتهم صحيحة، وعن "الإملاء" أن صلاتهم باطلة سوى صلاة الطائفة الرابعة، وبنوا ذلك على أن المأموم إذا أخرج نفسه عن صلاة الإمام بغير عذر هل تبطل صلاتُه أم لا؟ وقالوا: الطوائف الثلاث خرجوا عن صلاة الإمام بغير عذر؛ لأن وقت المفارقة ما نقل عن فعل المقتدين بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو نصف الصَّلاة، وكل طائفة من الثلاث قد فارقته قبل تمام النصف، وأما الطَّائفة الرابعة فإنها لم تخرج عن صلاة الإمام، بل أتمت صلاة على حكم المتابعة، وليس هذا البناء والفرق صافياً عن الإشكال -والله أعلم-. وإن فرعنا على أن لا يجوز ذلك فصلاة الإمام باطلة، ومتى تبطل؟ فيه وجهان. قال ابن سُرَيْج: تبطل بالانتظار الثالث، وهو الواقع في الرَّكعة الرابعة، ولا تبطل بالانتظار الواقع في الركعة الثالثة، لأنه انتظر مرَّة للطائفة الثانية في الركعة الثانية، وانتظاره في الركعة الثالثة هو انتظاره الثاني إذا لم يكن له في الأولى انتظار، وقد ثبت من فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، انتظاران فلا بأس بهما، ولا فرق في الفصلين سوى أن المنتظر ثم في المرتين الطائفة الثانية، والمنتظر هاهنا في المرة الثانية طائفة أخرى، لكن هذا لا يضر إذا لم يزد عدد الانتظار، كما لا يضر زيادة قدر الانتظار لو فرقهم فرقتين وصلَّى بكل واحدة ركعتين، وقال جمهور الأصحاب: تبطل صلاتُه بالانتظار الواقع في الركعة الثالثة؛ لمخالفته الانتظار الثاني الذي ورد النقل به في المنتظر وفي القدر، فأما المنتظر فقد وضح، وأما في القدر فلأن النبي -صلى الله عليه وسلم- انتظر في الركعة الثانية فراغ الطائفة الثانية فحسب والإمام هاهنا ينتظر فراغ الثانية وذهابها إلى وجه العدو، ومجيء الثَّالثة، والذي قاله الجمهور وهو ظاهر النص، ولذلك قد يعبر عن هذا الخلاف بقولين منصوص ومخرَّجٌ لابن سريج، ثم حكي في "البيان" وجهين تفريعاً على ظاهر النص. أحدهما: أن صلاته تبطل بمضي الطائفة الثانية، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينتظرهم في المرة الثَّانية إلا قدر ما أتمت صلاتها، فإذا زاد بَطَل. والثاني -وبه قال الشيخ أبو حامد-: أنها تبطل بمضي قدر ركعة من انتظاره الثاني، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينتظر الطَّائِفتين جميعاً، إلا بقدر الصَّلاة التي هو فيها مع الذهاب والمجيء وهذا وقد انتظر في المرة الأولى قدر ما صَلَّت الطائفة الأولى ثلاث ركعات وذهبت وجاءت الثانية، فإذا مضى قدر ركعة فقد تَمَّ قدر الانتظار المنقول فتبطل صلاتُه بالزيادة عليه، هذا هو الكلام في صلاة الإمام تفريعاً على قول المنع، وأما صلاة الطَّوائف فتبنى على صلاته فَتَصحّ صلاة الطائفة الأولى والثانية على ظاهر النَّص وقول ابْنُ سُرَيْج معاً؛ لأنهم فارقوه قبل بطلان صلاته، وصلاة الطَّائفة الرابعة باطلة إن علمت
بطلان صلاة الإمام، وإن لم تعلم فَلاَ، وحكم الطائفة الثالثة حكم الرابعة على ظاهر النّص: وحكم الطائفتين الأوليين على قول ابْنُ سُرَيْج (¬1) ولو فرق القوم في صلاة المغرب ثلاث فرق وصلى بكل فرقة ركعة، وقلنا: لا يجوز ذلك فصلاة جميع الطوائف صحيحة عند ابْنِ سُرَيجٍ، وعلى ظاهر النص صلاة الطائفة الثالثة باطلة إلا أن لا يعلم بطلان صلاة الإمام، وإذا عرفت ما ذكرناه ولخصت ما في المسألة من الخلاف، قلت: فيها أربعة أقوال: أصحها: صحة صلاة الإمام والقوم جميعاً. والثاني: صحة صلاة الإمام والطائفة الرابعة لا غير. والثالث: بطلان صلاة الإمام، وصحة صلاة الطائفة الأولى والثانية، والفرق في حق الثَّالثة والرابعة بين أن تعلم بطلان صلاة الإمام أو لا تعلم. والرابع: صحة صلاة الثالثة لا محالة. والثاني: كما ذكرنا في القول الثالث وهو ابن سُرَيْج (¬2). وقوله في الكتاب: (فلانتظار الثالث زائد على المنصوص) أي على نَصِّ الشارع وما ثبت من فعله، وأراد بالانتظار الثالث: الانتظار الواقع في الركعة [الثالثة وهو الثاني من انتظارات الإمام ثم يلزمه من إثبات الخلاف فيه إثباته في الانتظار الواقع في الركعة] (¬3) الرابعة بطريق الأولى، وهو الثالث في الحقيقة، ولو أراد الانتظار الثالث ¬
حقيقة لكان ذلك عين قول ابْنِ سُرَيج، ولما انتظم من أن يقول بعد ذلك. وقال ابن سريج، ورتب في "الوسيط" الخلاف في بطلان الصَّلاة، بالانتظار الثالث على الخلاف في تحريمه، فقال: في تحريمه قولان: إن قلنا يحرم ففي بطلان الصلاة به قولان، ولم يذكر المعظم هذا الترتيب، وإنما تكلموا في الصحة والبطلان، وذكر الشافعي -رضي الله عنه- مع القول بصحة صلاة الجميع، أنهم مسيئون بذلك، وهذا يشعر بالجزم بالتحريم والله أعلم. قال الغزالي: وَفِي إِقَامَةِ الجُمُعَةِ عَلَى هذِهِ الهَيْئَةِ وَجْهَانِ (م) وَوَجْهُ المَنْعِ أَنَّ العَدَدَ فِيهَا شَرْطٌ وَيُؤَدِّي إِلَى الانْفِضَاضِ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ. قال الرافعي: إذا كان الخوف في بلد ووافق ذلك يوم الجمعة وأرادوا إقامة صلاة الجمعة على هيئة صلاة ذات الرِّقَاع، فقد نقل المصنف فيه وجهين: أحدهما: الجواز كسائر الصلوات الثنائية. والثاني: المنع، لأن العدد شرط فيها، وتجويز ذلك يفضي إلى انفراد الإمام في الركعة الثانية، والأول هو الذي حكاه أصحابنا العراقيون عن نصه في "الأم"، ثم ذكروا في طريقتين: إحداهما: أن ذلك جواب على أحد الأقوال في مسألة الانفضاض، وهو أنه إذا نفض القوم عنه وبقي وحده يُصَلِّي الجُمُعَة، قلنا إذا لم نقل بذلك امتنع إقامة الجمعة على هذا الوجه. والثانية: القطع بالجواز بخلاف سورة الانفضاض؛ لأنه معذور هاهنا بسبب الخوف، ولأنه يترقب مجيء الطائفة الثانية، ويجوز أن يرتب فيقال: إن جوزنا الانفضاض فتجويز إقامة الجمعة على هذه الهيئة أولى، وإلا فوجهان، والفرق العذر، وإيراد الكتاب إلى هذا الترتيب أقرب، وكيف ما كان فالأظهر عند الأكثرين الجواز، ثم له شرطان: أحدهما: أن يخطب بهم جميعاً ثم يفرقهم فرقتين، أو يخطب بطائفةٍ ويجعل فيها (¬1) مع كل واحد من الفرقتين أربعين فصاعداً، فأما لو خطب بفرقة وصلى بأخرى فلا يجوز. والثاني: أن تكون الفرقة الأولى أربعين فصاعداً، فلو نقص عددهم عن الأربعين ¬
لم تنعقد الجمعة، ولو نقصت الفرقة الثانية عن أربعين، فقد حكى ابن الصَّباَّغ عن الشيخ أبي حامد أنه لا تضر ذلك بعد انعقادها بالأولى، وعن غيره أنه على الخلاف في الانفضاض، ولو خطب الإمام بالناس وأراد أن يقيم الجمعة بهم على هيئة صلاة عَسَفَان فهي أولى، بالجواز إن جوزناها على هيئة صلاة ذات الرِّقَاع، ولا يجوز إقامتها على هيئة صلاة بطن النَّخْلِ، إذ لا تقام جمعة بعد جمعة. قال الغزالي: ثمَّ يجب حَمْلُ السِّلاحَ في هذِهِ الصَّلاَةِ وَصَلاة عَسَفَانَ إنْ كَانَ فِي وَضْعِهَا خَطَرٌ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ السَّلاَمَةَ وَاحْتَمَلَ الخَطَرَ فَيُسْتَحَبُّ الأخْذُ وَفِي الوُجُوبِ قَوْلاَنِ. قال الرافعي: قال الشافعي -رضي الله عنه- في "المختصر" وغيره: واجب للمصلي -أي في الخوف- أن يأخذ سلاحه، وقال في موضع: ولا أجيز وضعه، واختلف الأصحاب على طرق: أظهرها -وبه قال أبو إسحاق-: إن في المسألة قولين: أحدهما: أنه يجب؛ لظاهر قوله: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} (¬1) وقال تعالى جدُّه: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} (¬2) أشعر ذلك بقيام الجناح، إذا وُضِعَ من غير عُذْر. وأصحهما -وبه قال أبو حنيفة وأحمد-: أنه لا يجب، والآية محمولة على الاستحباب. واحتجوا لهذا القول بأنه لا خلاف، أن وضعه لا يفسد الصلاة، فوجب أن لا يجب حملهما كسائر ما لا يفسد تركه الصلاة ولا يجب فعله. والطريق الثاني: القطع بالاستحباب. والثالث: القطع بالإيجاب. والرابع: ما يدفع به عن نفسه كالسَّيْفِ والسِّكين يجب حمله، وما يدفع به عن نفسه وغيره كالرمح والقوس لا يجب حمله؛ لأن الدفع عن النفس أولى بالوجوب، وهؤلاء حملوا النصين على هذين النوعين، والخلاف في المسألة مشروط بشروط: أحدها: أن يكون طاهراً، فأما السّلاح النجس فلا يجوز حمله بحالٍ، ومنه السَّيْف الذي سقى السُّم النَّجِس، والنبل المريش بريش طائر لا يؤكل، أو طائر ميت؛ لأنه نجس على الصَّحِيح. ¬
والثاني: أن لا يكون مما يمنع من بعض أركان الصلاة، كالحديد المانع من الركوع، والبيضة المانعة من مباشرة (¬1) المصلَّي بالجبهة، فإن كان كذلك لم يحمل بلا خلاف. والثالث: أن لا يتأذى به الغير كالرمح، فإن حَمْلَه في وسط الصِّفِّ يؤذي القوم فيكره، إلا أن يكون في حاشية الصَّف فلا يتأذى بحمله أحد. والرابع: قال الإمام: موضع الخلاف أن يخاف من وضع السلاح وتنحيته خطر على سبيل الاحتمال، فأما إذا كان يتعرض للهلاك ظاهراً، لو لم يأخذ السلاح فيجب القطع بوجوب الأخذ، وإلا فهو استسلام للكفار، وهذا الشرط قد ذكره في الكتاب، فأوجب الحمل إذا كان في موضع خطر، وخص الخلاف بما إذا ظهرت السَّلامة واحتمل الخطر. واعلم أن ترجمة المسألة هي حمل السلاح، قال إمام الحرمين: وليس الحمل معيناً لعينه بل لوضع السيف بين يديه، وكان مد اليد إليه في اليسر والسهولة كمدها إليه وهو محمول متقلد، كان ذلك بمثابة الحمل قطعاً، وأما لفظ السلاح فقد قال القاضي ابن كج: إنه يقع على السيف والسكين والرمح والنشاب ونحوها، أما الترس فليس بسلاح، وكذا لو لبس درعاً لم يكن حاملاً سلاح والله أعلم. ثم في لفظ الكتاب شيئان: أحدهما: أنه خص الكلام بصلاة ذات الرِّقَاعِ، وصلاة عسفان، وأشعر ذلك بنفي الوجوب في صلاة بطن النخل، لكن معنى الخوف يشملها جميعاً، والجمهور أطلقوا القول في صلاة الخوف إطلاقاً. والثاني: أنه قال في آخر الفصل: (فيستحب الأخذ وفي الوجوب قولان): وقضية هذا الكلام الجزم بالاستحباب، وقصر الخلاف على الوجوب وإنما يكون كذلك، إن لو اشتمل الوجوب على الاستحباب اشتمال العام على الخاص، وفيه كلام لأهل الأصول، فإن لم يحكم باشتماله عليه فالصائر إلى الوجوب نافٍ للاستحباب فلا يكون الاستحباب إذًا مجزوماً بِهِ. قال الغزالي: فَرْعٌ: سَهْوُ الطَّائِفَتَيْنِ مَحْمُولٌ فِي وَقْتِ مُوَافَقَتِهِمُ الإِمَامَ، وسَهْوُ الطَّائِفَةِ الأُولى غَيْرُ مَحْمُولٍ فِي رَكْعَتِهِمُ الثَّانِيَةَ وَذلِكَ لاِنْقِطَاعِهِمْ عَنِ الإمَامِ، وَمَبْدَأُ الانْقِطَاعِ الاعْتِدَالُ فِي قِيَامِ الثَّانِيَةِ أَوْ رَفْعُ الإمَامِ رَأْسَهُ مِنْ سُجُودِ الأُولَى فِيهِ وَجْهَانِ، وَأَمَّا ¬
سَهْوُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَفِي حَمْلِهِ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُمْ سَيَلْتَحِقُونَ بِالإِمَامِ قَبْلَ السَّلاَمِ، وَهُوَ جَارٍ فِي المَزْحُومِ إِذَا سَهَا وَقْتَ التَّخَلُّفِ، وَفِيمَنْ انْفَرَدَ بِرَكْعَةٍ وَسَهَا ثُمَّ اقْتَدَى فِي الثَّانِيَةِ. قال الرافعي: أصل الفرع أن سهو المأموم يحمله الإمام، وهذه قاعدة شرحناها في "باب سجود السهو" إذا تذكرت ذلك فنقول: إذا سها بعض المأمومين في صلاة ذات الرقاع على الرواية المختارة فينظر، إن سهت الطائفة الأولى فسهوها في الركعة الأولى محمول؛ لأنها مقتدية بالإمام، وسهوها في الثانية غير محمول؛ لانقطاعها عن الإمام، وما مبدأ الانقطاع؟ فيه وجهان، حكاهما الإمام عن شيخه: أحدهما: أن مبدأ الانقطاع الاعتدال في الركعة الثانية؛ لأن القوم والإمام جميعاً صائرون إلى القيام، فلا تنقطع القدوة ما لم يعتدلوا قائمين. والثاني: أن مبدأ الانقطاع رفع الإمام رأسه من السجود الثاني؛ لأن الركعة تنتهي بذلك، فعلى هذا لو رفع الإمام رأسه وهم بعد في السجود، وفرض منهم سهو لم يكن محمولاً، ولك أن تقول: قد نصوا على أنهم ينوون المفارقة عن الإمام، وأنه يجوز ذلك عند رفع الرأس وعند الاعتدال كما سبق، وإذا كان كذلك فلا معنى لفرض الخلاف في أن الانقطاع يحصل بهذا أو بذاك، فإنه ليس شيئاً يحصل بنفسه، بل هو منوط بنية المفارقة، فوجب قصر النظر على وقتها. وأما الطائفة الثانية فسهوها في ركعتها الأولى محمول أيضاً؛ لأنها على حقيقة المتابعة، وفي سهوها في الركعة الثانية وجهان: أحدهما -وينسب إلى ابن خيران وابن سريج-: أنه غير محمول؛ لأنهم منفردون به في الحقيقة. وأصحهما: أنه محمول؛ لأن حكم القدوة باقٍ بدليل أنهم مقتدون به إذا حصلوا معه في التشهد، وإلا لما كان لانتظاره إياهم معنى، وإذا كان كذلك فلولا استمرار حكم القدوة لاحتاجوا إلى إعادة نية القدوة إذا جلسوا للتشهد، ولا يحتاجون إليها والوجهان جاريان في المزحوم في الجمعة إذا سَهَا في وقت تخلفه، وأجروهما أيضاً فيما كان يصلي منفرداً فَسَهَا في صلاته، ثم اقتدى بإمام وجوزنا ذلك على أحد القولين، واستبعد الإمام إجراء الخلاف في هذه الصورة، وقال: الوجه القطع بأن حكم السّهْوِ لا يرتفع بالقدوة اللاَّحقة، فإن السهو كان أو هو منفرد لا يخطر له أمر القدوة، فلا ينعطف حكمهما على ما تقدَّم من الانفراد، وقوله: (لأنهم سيلحقون بالإمام) يجوز أن يريد به التحاقهم في الصورة مصيراً إلى أن حكم القدوة مستمر في الحال، ويجوز أن يريد به
النوع الرابع: صلاة شدة الخوف
أنهم سيصيرون مقتدين، وإن كانوا منفردين في الحال، فيؤخذ بآخر الأمر، والضمير في قوله: (وهو جار) عائد إلى الخلاف وإن لم يكن [لفظه] (¬1) مذكوراً. وقوله فيمن انفرد بركعة وسها، (ثم اقتدى في الثانية)؛ لأنه ليس للتقييد، وأنه لا فرق بين أن يقتدي في الأولى، والثانية بعد السهود منفرداً. واعلم أن جميع ذلك مبني على أن الطَّائفة الثانية يقومون إلى الركعة الثانية إذا جَلَسَ الإمام للتشهد، فإما إذا قلنا: إنهم يقومون إليها إذا سَلَّم الإمام على ما نقل عن القديم فسهوهم في الثانية غير محمول لا محالة، كالمسبوق، وهذا حكم سهو المأمومين، أما لو سها الإمام نظر، إن سَهَا في الركعة الأولى لَحِقَ سهوه الطائفتين، فالطائفة الأولى يسجدون إذا أتموا صلاتَهم، ولو سَهَا بعضهم في الركعة الثانية فهل يقتصر على سجدتين أم يسجد أربعاً؟ فيه خلاف تقدم نظائره، والأَصَحُّ الأول والطائفة الثانية يسجدون مع الإمام في آخر صلاته، وإن سَهَا في الركعة الثانية لم يلحق سهوه الطائفة الأولى؛ لأنهم فارقوه قبل السَّهْو، وتسجد الثانية معه في آخر الصلاة، ولو سَهَا في انتظاره إياهم فهل يلحقهم ذلك السهو؟ فيه الخلاف المذكور في أنه هل يتحمل سهوهم والحالة هذه؟ قال الغزالي: النَّوْعُ الرَّابِعُ: صَلاَةُ شِدَّةِ الخَوْفِ، وَذَلِكَ إِذَا الْتَحَمَ الفَرِيقَانِ وَلَمْ يُمكِنْ تَرْكُ القِتَالِ لِأَحَد فَيُصَلُّونَ رِجَالاً وَرُكْبَاناً مُسْتَقْبِلِي القِبْلَةِ وَغيرَ مُسْتَقْبِلِيهَا إِيمَاءً بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مُحْتَرِزِينَ عَنِ الصَّيْحَةِ وَعَنْ مُوَالاَةِ الضَّرْبَاتِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَإِنْ كَثُرَتْ مَعَ الحَاجَةِ فِي أَشْخَاصٍ فَيُحْتَمَلُ، وَفِي شَخْصٍ وَاحِدٍ لاَ يُحْتَمَلُ لِنُدُورِهِ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ فِي المَوْضَعَيْنِ، وَقِيلَ: لاَ يُحْتَمَلُ فِيهِمَا، فَإِنْ تَلَطَّخَ سِلاَحُهُ بِالدَّمِ فَلْيُلْقِهِ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجاً إِلَى إِمْسَاكِهِ فَالأَقْيَسُ أَنَّهُ لاَ يَجِبُّ عَلَيْهِ القَضَاءُ، وَالأَشْهَرُ وُجُوبُهُ لِنُدُورِ العُذْرِ. قال الرافعي: إذا التحم القتال ولم يتمكنوا من تركه بحال لقلتهم وكثرة العدو، أو اشتداد الخوف، وإن لم يلتحم القتال فلم يأمنوا أن يركبوا أكتافهم لو وَلُّوا عَنهم، أو انقسموا فيُصَلُّون بحسب الإمكان، وليس لهم التأخير عن الوقت. وعن أبي حنيفة أن لهم ذلك. ثم في كيفية هذه الصَّلاة مسائل: إحداها: لهم أن يصلوا ركباناً على الدَّوَابِّ، أو مشاةً على الأقدام، قال الله تعالى ¬
جَدُّه: {فَإِنْ خِفْتُم فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} (¬1) ويجوز أن يعلم لفظ (الرجال) في قوله: (فيصلون رجالاً) بالحاء؛ لأن أصحابنا حكوا عن أبي حنيفة -رضي الله عنه- أنه ليس للراجل أن يصلي بل يؤخر. الثانية: لهم أن يتركوا الاستقبال إذا لم يجدوا بُدَّا عنه، قال ابن عمر -رضي الله عنهما- في تفسير الآية: "مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ، وَغَيْرُ مُسْتَقْبِلِيهَا" (¬2). قال نافع: لا أراه ذكر ذلك إلا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويجوز أن يأتم بعضهم ببعض مع اختلاف الجهة، كالمصلي حول الكعبة، وفيها: وإنما يعفى عن الانحراف عن القبلة إذا كان بسبب العدو، فأما إذا انحرف لجماح الدابة وطال الزمان بطلت صَلاتُه كما في غير حالة الخوف، ويجوز أن يعلم قوله: (غير مستقبليها) بالحاء؛ لأنهم حكوا عن أبي حنيفة أنه لا يجوز ترك الاستقبال. الثالثة: إذا لم يتمكنوا من إتمام الركوع والسجود اقتصروا على الإيماء بهما، وجعلوا السجود أخفض من الركوع، ولا يجب على الماشي استقبال القبلة في الركوع والسجود، ولا عند التحرم، ولا وضع الجبهة على الأرض، فإنه تعرض للهلاك بخلاف ما ذكرنا في المتنفل ماشياً في السَّفَر. الرابعة: يجب عليهم الاحتراز عن الصياح، فإنه لا حاجة إليه. قال الإمام: بل الكمي المقنع السكوت أهيب في نفوس الأقران، ولا بأس بالأعمال القليلة فإنها محتملة من غير خوف، فعند الخوف أولى، وأما الأعمال الكثيرة كالطعنات والضربات المتوالية فهي مبطلة إن لم يكن محتاجاً إليها، وإن كان محتاجاً إليها فوجهان: أحدهما: أنها مبطلة، وقد حكاه العراقيون وغيرهم عن ظاهر نصه في "الأم"؛ لأن الآية وردت في المشي والركوب، وانضم ترك الاَستقبال إليه فيما ورد من التفسير، فما جاوز ذلك يبقى على المنع. والثاني -وبه قال ابن سريج-: أنها غير مبطلة؛ لمكان الحاجة كالمشي وترك الاستقبال، وتَوَسَّطَ بعض الأصحاب بين الوجهين فقال: يحتمل في أشخاص؛ لأن الضربة الواحدة لا تدفع عن المضروب فيحتاج إلى التوالي لكثرتهم، ولا تحتمل في الشخص الواحد لندرة الحاجة إلى توالي الضربات فيه، وإيراد الكتاب يشعر بترجيح هذا الوجه المتوسط، لكن الأكثرين رجحوا الوجه المنسوب إلى ابْنِ سُرَيج، وقطع به القَفَّالُ ¬
فيما حكاه الرّويَانِي، ومنهم من عبر عن الوجوه بالأقوال، وكذلك فعل في "الوسيط". وقولى: (من غير حاجة) تقييد لموالاة الضَّرب دون الصَّيْحة، والاحتراز عنها واجب بكل حالٍ، وليست هي من ضروريات القتال، هكذا ذكر الأئمة. وقوله: (فيحتمل)، وكذا قوله: (وقيل لا يحتمل)، يجوز أن يعلما بالحاء؛ لأن الصيدلاني حكى عن أبي حنيفة أنه يجوز فيها العمل الكثير. الخامسة: لو تَلَطَّخَ سلاحُه بالدَّمِ، فينبغي أن يلقيه أو يجعله في قرابة تحت ركابه إن احتمل الحال ذلك، وإن احتاج إلى إمساكه فله الإمساك، ثم هل يقضي؟ حكى إمام الحرمين عن الأصحاب أنه يقضي لندور العذر، ثم منعه، وقال: تلطخ السلاح بالدم من الأعذار العامه في حق المقاتل، ولا سبيل إلى تكليفه تنحية السلاح، فتلك النجاسة ضرورية في حَقِّه، كنجاسة المستحاضة في حقها، ثم جعل المسألة على قولين مركبين على القولين فيما إذا صلَّى في حصن، أو موضع آخر نجس، وهذه الصورة أولى بنفي القضاء، لإلحاق الشَّرع القتال بسائر مسقطات القضاء في سائر المحتملات كالاستدبار والإيماء بالركوع والسجود، فليكن أمر النجاسة كذلك، ويتبين بما ذكرنا أنه لم جعل الأقيس نفي القضاء، والأشهر وجوبه؟ ويجوز إقامة الصلاة عند شدة الخوف بالجماعة، خلافاً لأبي حنيفة، وتقام صلاة العيدين والخسوفين في شدة الخوف لأنهما بعرض الفوات، ولا تقام صلاة الاستسقاء. قال الغزالي: ثُمَّ هَذِهِ الصَّلاةُ تُقَامُ فِي كُلِّ قِتَال مُبَاحٍ وَلَو فِي الذَّبِّ عَنِ المَالِ، وَكَذَا فِي الهَزِيمَةِ المُبَاحَةِ عَنِ الكُفَّارِ، وَلاَ تُقَامُ فِي اتِّبَاعِ أَقْفِيَةِ الكُفَّارِ عِنْدَ انْهِزَامِهِمْ، وَيُقِيمُهَا الهَارِبُ مِنَ الحَرَقِ وَالغَرَقِ والسَّبُعِ، والمُطَالَبُ بالدَّيْنِ إِذَا أَعسَرَ وَعَجَزَ عَنِ البَيِّنَةِ، وَالمُحْرِم إِذَا خَافَ فَوَاتَ الوُقُوفِ قِيلَ: يُصَلِّي مُسْرِعاً فِي مَشْيِهِ، وَقِيلَ: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ. قال الرافعي: مقصود الفصل الكلام فيما يرخص في هذه الصلاة، إذ لا شك في أنها غير جائزة عند الأمن والسلامة، وفيه صور: إحداها: تجوز هذه الصلاة في كل ما ليس بمعصية من أنواع القتال، دون ما هو معصية؛ لأن الرخص لا تناط بالمعاصي، فيجوز في قتال الكفار ولأهل العدل في قتال أهل البغي، وللرفقة في مال الطريق، ولا يجوز لأهل البغي والقُطاَّع، ولو قصد نَفْسَ رَجُلٍ أو حَرِيمَه، أو نفس غيره، أو حريمه واشتغل بالدفع كان له أن يصلي هذه الصَّلاة في الدفع، ولو قصد إتلاف ماله نظر، إن كان حيواناً فكذلك الحكم، وإلا فقولان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن الأصل المحافظة على أركان الصَّلاة وشرائطها، خالفناه فيما عدا المال؛ لأنه أعظم حرمة.
وأصحهما -وهو المذكور في الكتاب-: أنه يجوز؛ لأن الذَّبَّ بالقتال عن المال جائز، كالذَّبِّ عن النَّفْس، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" (¬1). الثَّانِية: لو وَلُّوا ظهورهم عن الكفار منهزمين، نظر إن كان يحل لهم ذلك، بأن يكون في مقاتلة كل مسلم أكثر من كَافِرَيْنِ، فلهم أن يصلُّوا صَلاَة شدة الخوف؛ لتعرضهم للهلاك لو أتوا بالصلاة على الكمال، وإن لم يحل كما إذا كان في مقابلة كل مسلم كافران فليس لهم ذلك؛ لأنهم عاصون بالانهزام، والرخص لا تناط بالمعاصي، فإن كان فيهم متحرف لقتال أو متحيز إلى فئة فله الترخص لجواز الانهزام، ولو انهزم الكفار واتبع المسلمون أقعيتهم، ولو أكملوا الصلاة وثبتوا لفاتهم العدو، فليس لهم صلاة شدة الخوف؛ لأنهم لا يخافون محذوراً بل غاية الأمر فوات مطلوب، والرخص لا يتعدى بها مواضعها، فلو خافوا كميناً أو كرة، كان لهم أن يصلُّوها. الثالثة: الرخصة في الباب لا تتعلق بخصوص القتال، بل تتعلق بعموم الخوف، فلو هرب من حَرِيقٍ يغشاه، أو من سيل منحدرٍ إلى موضعه ولم يجد في عرض الوادي ما يقدر على اللّبث فيه والصعود، فغدا في طوله، أو هرب من سبع قصده فله أن يصليها؛ لأنه خائف من الهلاك، والمديون المعسر إذا عجز عن بينة الإعسار ولم يصدقه المستحق، ولو ظفر به لحبسه، كان له أن يصليها هارباً دفعاً لضرر الحبس، ويجوز أن يعلم قوله: (والمطالب بالدين) بالواو؛ لأن الحَنَّاطِي حكى عن الإمام أنه لو طلب رجل لا ليقتل لكن ليحبس أو يؤخذ منه شيء لا يصلي صلاة الخوف، وغاية المحذور هاهنا هو الحبس، ولو كان عليه قصاص يرجو العفو عنه إذا سكن الغليل وانطفأ الغضب فقد جوز الأصحاب أن له أن يهرب، وقالوا: له أن يصلي صلاة شدة الخوف في هربه، واستبعد الإمام جواز الهرب من المستحق بهذا التوقع. الرابعة: المحرم إذا ضاق وقت وقوفه بعرفة وخاف فوت الحج لو صلى متمكناً ما الذي يفعل؟ حكى الشيخ أبو محمد عن القفال فيه وجوهاً: أحدها: أنه لا يؤخر الصلاة، فإن قَضَاءَها هين، وأمر الحَجِّ خطير، وقضاؤه عسير. والثاني: أنه يقيمها، كما تقدَّم في شدة الخوف، ويحتمل فيها العذر؛ لأن الحج في حتى المحرم كالشيء الحاصل، والفوات طارئ عليه، فأشبه ما لو خاف هلاك مال حاصل لو لم يهرب، ولأن الضرر الذي يلحقه بفوات الحج لا ينقص عن ضرر الحبس أياماً في حق المديون. ¬
والثالث: أنه تلزمه الصَّلاة على سبيل التمكن والاستقرار، لأن الصَّلاةِ تلْو الإيمان، ولا سبيل إلى إخلاء الوقت عنها؛ لعظم حرمتها، ولا سبيل إلى إقامتها كما تقام في شدة الخوف؛ لأنه لا يخاف ذوات حاصل هاهنا، فأشبه فوت العدو عند انهزامهم، ويشبه أن يكون هذا الوجه أوفق لكلام الأئمة -والله أعلم-. وقوله: (قيل: يصلي مسرعاً في مشيه) هو الوجه الثاني، وقوله: (وقيل: لا يجوز ذلك) يمكن إدراج الأول والثالث فيه. قال الغزالي: وَلَوْ رَأَى سَوَادًا فَظَنَّهُ عَدُوًّا فَفِي وُجُوبِ القَضَاءِ قَوْلانِ، وَمَهْمَا فَاجَأَهُ فِي أَثْنَاءِ صَلاِتهِ خَوْفٌ فَبَادَرَ إِلَى الرُّكُوبِ وَكَانَ يَقْدِرُ عَلَى إِتْمَامِ الصَّلاَةِ رَاجِلاً فَأَخَذَ بِالحَزْمِ لَمْ يَصِحَّ بِنَاءُ الصَّلاَةِ، وَلَوِ انْقَطَعَ الخَوْفُ فَنَزَلَ وَأَتَمَّ الصَّلاةَ صَحَّ، وَإِذَا أَرْهَقَهُ الخَوْفُ فَرَكبَ وَقَلَّ فِعْلُهُ جَازَ البِنَاءُ، وَإِنْ كَثُرَ الفِعْلُ مَعَ الحَاجَةِ فَوَجْهَانِ كَمَا فِي الضَّرَبَاتِ المُتَوَالِيَةِ. قال الرافعي: في الفصل مسأْلتان: إحداهما: لو رأوا سواداً أو إبلاً أو أشجاراً، فظنوها عدواً فصلّوا صلاة شدة الخوف، ثم تبين الحال ففي وجوب القضاء قولان. أصحهما: وهو قوله في "الأم"، وبه قال أبو حنيفة: أنه يجب؛ لأنه ترك في صلاته فروضاً بسبب هو مخطئ فيه فيقضي، كما لو أخطأ في الطهارة. والثاني: نقله المزني عن "الإملاء" أنه لا يجب لقيام الخوف عند الصلاة، وهو أصح عند صاحب "المهذب"، والجمهور على ترجيح الأول، ثم اختلفوا في محل القولين فمنهم من قال: القولان فيما إذا كانوا في دار الحرب لغلبة الخوف والعدو فيها، فأما إذا كانوا في دار الإسلام فوجب القضاء لا محالة، وحكى هذا الفرق صاحب "التهذيب" عن نصه في القديم وأصحاب هاتين الطريقتين نسبوا المزني إلى السَّهْوِ فيما أطلقه عن "الإملاء" وادعت كل فرقة أنه إنما نفى الإعادة في "الإملاء" بالشرط المذكور، ومن الأصحاب من عمم القولين في الأحوال، وهذا أظهر، وهو الموافق لمطلق لفظ الكتاب. ويجوز أن يعلم قوله: (قولان) بالواو؛ إشارة إلى الطريقتين الأولتين، ولو تحققوا العدو فصلُّوا صلاة شدة الخوف، ثم بان أنه كان دونهم حائل من خندق، أو نارٍ أو ماءٍ، أو بان أنه كان بقربهم حصن يمكنهم التحصن به، أو ظنوا أن بإزاء كل مسلم أكثر من مشركين فصلوها منهزمين، ثم بان خلافه فحيث أجرينا القولين في الصورة السابقة تجريها أيضاً في هذه الصورة ونظائرها، ومنهم من قطع بوجوب القضاء هاهنا؛ لأنهم
قصروا بترك البحث عما بين أيديهم، قال في "التهذيب": ولو صلوا في هذه الأحوال صلا عَسَفَان اطرد القولان، ولو صلوا صلاة ذات الرِّقَاع، فإن جوزناها في حال الأمن فهاهنا أولى، وإلا جرى القولان. الثانية: لو كان يصلي متمكناً على الأرض متوجهاً إلى القبلة، فحدث خوف في أثناء صلاته، فركب نص الشافعي -رضي الله عنه- على أنه تبطل صلاته، وعليه أن يستأنف، ونقل عن نصه في موضع آخر أنه يبني على صلاته، واختلفوا فيهما على طريقتين حكاهما أصحابنا العراقيون. وأحدهما: أن المسألة على قولين: أحدهما: أن الركوب يُبْطِلُ الصلاة؛ لأنه عمل كثير. والثاني: لا يبطلها؛ لأن العمل الكثير بعذر شدة الخوف لا يقدح. وأظهرهما -وبه قال ابن سريج وأبو إسحاق-: أن النصين محمولان على حالين، حيث قال: يستأنف الصَّلاة، أراد ما لم (¬1) يكن مضطراً إلى الركوب وكان يقدر على القتال، وإتمام الصَّلاة راجلاً فركب احتياطاً، وأخذ بالحزم، وحيث قال: (يبني) أراد ما إذا صار مضطراً إلى الركوب، ثم قال هؤلاء: إذا قل فعله في الركوب لحذقه بني بلا خلاف، وإن أكثر فعله، ففيه الوجهان المذكوران في العمل الكثير للحاجة، والمذكور في الكتاب هو الطريق الثاني، فقوله: (ومهما فاجأه في أثناء صلاته (¬2) خوف) عبارة عن الحالة الأولى، وقوله: (وإن أرهقه الخوف فركب) عبارة عن الحالة الثانية، وحينئذ لا يخفى أن قوله: (لا يصح بناء الصلاة) وقوله: (جاز البناء) ينبغي أن يعلَّما بالواو وإشارة إلى الطريقة الأولى، وقد أدخل بين الكلامين سورة وهي عكس هذه المسألة، وهي أنه لو كان يصلي راكباَ في شدة الخوف فانقطع الخوف، نَص الشافعي -رضي الله عنه- على أنه ينزل ويبني على صلاته، وفرق بينه وبين الركوب على قوله بأنه إذا ركب استأنف بأن قال: النزول أخف وأقل عملاً من الركوب، واعترض المزني عليه بأن هذا لا ينضبط، وقد يكون الفارس أخف ركوباً وأقل شغلاً لفروسيته من نزول ثقيل غير فارس، واختلف الأصحاب في الجواز بحسب اختلافهم في الركوب، فمن أثبت الخلاف في الركوب على الإطلاق فرق بين الركوب على أحد القولين، وبين النزول بأن قال: نزول كل فارس أخف من ركوبه، وإن أمكن أن يكون أثقل من ركوب فارس آخر، ومن نزل النَّصَّيْن في الركوب على الحالين المذكورين قال: لا فرق بين الركوب والنزول إن حصل بفعل قليل بني وإن كثر الفعل، فوجهان، وتبين من هذا الحاجة إلى ¬
إعلام قوله: (فنزل وأتم الصلاة صح) بالواو؛ لأنه مطلق، وفي الصحة عند كثرة الفعل اختلاف، وذكر صاحب "الشامل" وغيره: أنه يشترط في بناء النازل أن لا يستدبر القبلة في نزوله، فإن استدبر بطلت صلاتُه -والله أعلم- (¬1). قال الغزالي: وَبَجُوزُ لُبْسُ الحَرِيرِ وَجِلْدُ الكَلْبِ وَالْخَنْزِيرِ عِنْدَ مُفَاجَأَةِ القِتَالِ، وَلاَ يَجُوزُ فِي حَالَةِ الاخْتِيَارِ بِخِلاَفِ الثِّيَابِ النَّجِسَةِ، ويجُوزُ تَسْمِيدُ الأرْضِ بِالزِّبْلِ لِعُمُومِ الحَاجَةِ، وَفِي لُبْسِ جِلْدِ الشَّاةِ المَيِّتَةِ وَتَجْلِيلِ الخَيْلِ بِجِلِّ مِنْ جِلْدِ الكِلاَبِ وَجْهَانِ، وَفِي الاسْتِصْبَاحِ بِالزَّيْتِ النَّجْسِ قَوْلاَنِ. قال الرافعي: ختم الشافعي -رضي الله عنه- صلاة الخوف بباب فيما له لبسه، وفيما ليس له، فاقتضى الأكثرون من الأصحاب به، وأوردوا أحكام الملابس في هذا الموضع، ومنهم من أوردها في صلاة العيد؛ لأنا نستحب التزين يوم العيد، فتكلموا في التزين الجائز والذي لا يجوز، وصاحب الكتاب أورد بعضها هاهنا وبعضها في صلاة العيد، والمذكور هَاهُنَا يشتمل على مسألتين: إحداهما: سنذكر أن لبس الحرير حرام على الرجال، لكن يجوز لبسه في حالة مفاجأة القتال إذا لم يجد غيره، وذلك في حكم الضرورة، وكذلك يجوز أن يلبس منه ما هو جُنَّة القتال كالديباج الصّفيق الذي لا يقوم غيره مقامه، وجوز القاضي ابْنِ كَج اتخاذ القباء ونحوه، مما يصلح في الحرب من الحرير، ولبسه فيها على الإطلاق، لما فيه من حسن الهيئة وزينة الإسلام؛ لينكسر الكفار منه، كتحلية السيف ونحوه، والمشهور الأول. وقوله: (ولا يجوز في حالة الاختيار) مطلق، لكن أحوالاً يجوز فيهما لبس الحرير في حال الاختيار مستثناة عنه على ما سيأتي في صلاة العيد. الثانية: للشافعي -رضي الله عنه- نصوص مختلفة في جواز استعمال الأعيان النجسة، وحكى صاحب "التهذيب" وغيره فيها طريقتين، منهم من طرد قولين في وجوه الاستعمال كلها. أحدها: المنع لقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (¬2). ¬
والثاني: يجوز، كما يجوز لبس ثوب أصابه نجاسة، ومنهم من فَصَّل، وقال: لا يجوز استعمال النجاسات في البدن، والثوب إلا لضرورة وفي غيرها يجوز إن كانت النجاسة مخففة، وإن كانت مغلظة وهي نجاسة الكلب والخنزير فلا، ونزل النصوص على هذا التفصيل، وهذا أظهر، وبه قال اْبُو بَكْرٍ الفَارِسِي والْقَفَّالُ وأصحابه، والفرق بين استعمالها في البدن والثوب وغيرهما ما ذكره الشافعي -رضي الله عنه- وهو أن على الإنسان تَعَبُّداً في اجتناب النجاسات، بإقامة الصلوات وسائر العبادات، ولا تعبد على الفرس والأداة وغيرها، فلا يمنع من استعمالها فيها، والفرق بين نجاسة الكلب والخنزير، وسائر النجاسات غلظ حكمها، ولذلك لا يجوز الانتفاع بالخنزير في حياته أصلاً وبالكلب أيضاً إلا في أغراض مخصوصة، فأولى أن لا يجوز الانتفاع بهما بعد الموت. إذا تقرر ذلك فنقول: لا يجوز له لبس جلد الكلب والخنزير في حالة الاختيار، بخلاف الثياب النجسة يجوز لبسها والانتفاع بها في غير الصلاة ونحوها؛ لأن نجاستها عارضة سهلة الإزالة فإن فاجأه قتال ولم يجد سواه، أو خاف على نفسه من حر أو برد كان له أن يلبس جلد الكلب والخنزير، كما له أكل الميتة عند الاضطرار، ولا بأس لو أعلم قوله: (ولا يجوز في حالة الاختيار) بالواو؛ إشارةً إلى الطريقة الطاردة للقولين في وجوه الاستعمال، في جميع النجاسات، وهل يجوز لبس جلد الشاة الميتة وسائر الميتات في حالة الاختيار؟ فيه وجهان بنوهما على أن حكمنا بتحريم لبس جلد الكلب والخنزير لنجاسة العين أم لما خُصَّا به من التغليظ. وأظهر الوجهين: المنع، ويجوز أن يلبس هذه الجلود فرسه وأداته، والمنع في البدن، وجلد الكلب والخنزير كما لا يستعمل في البدن لا يستعمل في غيره، نعم لو جَلَّلَ كلباً أو خنزيراً بجلد كلب، أو خنزير فهل يجوز ذلك فيه وجهان: أحدهما: لا، فإنه مستعمل، ولا ضرورة. وأظهرهما: الجواز؛ لاستوائهما في تغلظ النجاسات، وأما تسميِد الأرض بالزّبل فهو جائز. قال الإمام: ولم يمنع منه للحاجة الحاقة القريبة من الضرورة، وقد نقله الاثبات عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي كلام الصّيدلاني ما يقتضي بإثبات خلافه فيه، والله أعلم. وهل يجوز الاستصباح بالزيت النجس؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأن السّراج قد يقرب من الإنسان ويصيب الدخان بدنه وثيابه. وأظهرهما: نعم؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "سُئِلَ عَنِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ، وَالْوَدَكِ
فَقَالَ: اسْتَصْبِحُوا بِهِ، ولاَ تَأْكُلُوهُ" (¬1). وأما الدخان فقد لا يصيب، وبتقدير أن يصيب فللأصحاب وجهان في نجاسته، فإن لم نحكم بنجاسته فلا بأس به كبخار المعدة لا ينجس الفم، وإن حكمنا بنجاسته -وهو الأظهر- كالرماد فقليله معفو عنه، والذي يصيب في الاستصباح قليل لا ينجس غالباً. وأعلم أنه لا فرق للاستصباح بين أن ينجس بعارض، وبين أن يكون نجس العين كودك الميتة، ويطرد القولان في الحالتين، قاله صاحب "النهاية" وغيره -والله أعلم-. ¬
كتاب صلاة العيدين
كِتَابُ صَلاَة العِيدَيْنِ قال الغزالي: وَهِيَ سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِفَرْضِ كِفَايَةِ، وَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَوَقْتُهَا مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا شُرُوطُ الجُمُعَةِ في الجَدِيدِ. قال الرافعي: قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (¬1). قيل: أراد به صلاة الأضحى. ويروى: "أنَّ أَوَّلَ عِيدِ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عِيدُ الْفِطْر، فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُوَاظِبُ عَلَى صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا" (¬2). وفي الفصل صور هي مقدمات الباب: أحدها: صلاة العيد سنة أم فرض كفاية؟ اختلفوا فيه على وجهين: قال الأكثرون: هي سُّنة وقد نصّ عليها في "باب صلاة التطوع"، حيث عدّها من جملة التّطوعات التي شرعت الجماعة فيها. واحتجوا عليه بأنها صلاة ذات ركوع وسجود لم يسن لها الأذان فلا تكون واجبة كصلاة الاسْتِسْقَاء، وهذا الوحه هو الذي ذكره في الكتاب. وقال الإصطخري: هى فرض كفاية. وبه قال أحمد؛ لأنها من شعار الإسلام، وفي تركها تهاون بالدين، فعلى هذا لو أتفق أهل بلدة على تركها قوتلوا وعلى الوجه الأول هل يقاتلون؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال أبو إسحاق: نعم. وأظهرهما: لا، وقد ذكرنا وجههما في الأذان. وقوله: "هي سنة" معلم بالواو والألف، وكذا قوله: "وليست بفرض كفاية"، ولو ¬
اقتصر على إحدى اللفظتين لحصل الغرض، ويجوز أن يعلّم قوله: "وهي سنة" بالحاء أيضاً؛ لأن عند أبي حنيفة -رحمه الله- هي واجبة، وإن لم تكن مفروضة وما نقل المزني عن الشَّافعي -رضي الله عنه- أن هنا وجب عليه حضور الجمعة، وجب عليه حضور العيدين، فهذه اللّفظة مؤولة باتفاق الأصحاب. أما الجمهور فقالوا: معناها من وجب عليه حضور الجمعة فرضاً وجب عليه حضور العيدين سُّنة، وقد يعبر عن الاستحباب المؤكِّد بالوجوب. وأما الإصطخري فإنه قال: معناه من وجب عليه حضور الجُمعة عيناً وجب عليه حضور العيدين كفاية. الثانية: القول في كيفية هذه الصلاة يتعلق بالأكمل والأقل. أما الأكمل فنبين ببيان سنتها، وهي مذكورة من بعد. وأما الأقل فقد قال: وأقلها ركعتان كسائر الصلوات، وليس المراد منه أن الأكمل فوق الركعتين، وإنما المراد أن الركعتين بصفة كونهما كسائر الصلوات، هو الأقل، والأكمل ركعتان لا بهذه الصفة منه بل مع خواص شرعت فيهما. ثم قوله: "كسائر الصلوات" غير مجرى على إطلاقه، فإنها تختصُّ بنية صلاة العيد وبالوقت الذي نذكره والمراد أنها كهي في الأفعال والأركان ويخرج عنه التكبيرات الزائدة، فليست هي من أركان الصلاة، ويجبر تركها بالسجود كالتعوّذ، وقراءة السورة. الثالثة: لفظ الكتاب يقتضي دخول وقت هذه الصلاة بطلوع الشمس فإنه قال: "ووقتها ما بين طلوع الشمس إلى زوالها"، وصرّح بذلك كثير من الأصحاب منهم صاحب "الشَّامل" و"المهذب" والقاضي الروياني. قالوا: "إن وقتها إذا طلعت الشَّمس" ويستحب تأخيرها إلى أن ترتفع قيد رمح وإيراد جماعة يقتضي دخول الوقت بالارتفاع قيد رمح (¬1)، منهم الصيدلاني وصاحب "التهذيب" -والله أعلم-. ولا خلاف في أنه إذا زالت الشمس خرج وقتها [واحتجوا] (¬2) عليه بأن مبنى المواقيت على أنه إذا دخل وقت صلاة خرج وقت التي قبلها، وبالزوال يدخل، وقت الظهر فيخرج وقت صلاة العيد (¬3). الرابعة: قال الشّافعي -رضي الله عنه- في "المُخْتَصِر" وسائر الكتب الجديدة، ¬
يجوز للمنفرد في بيته وللمسافر [والمرأْة والعبد (¬1) صلاة العيد (¬2). وقال في "القديم" لا يصلي العيد، إلاَّ في الوضع الذي يصلي فيه الجمعة، فظاهره أن لا يصلي هؤلاء العيد كما يصلُّون الجمعة إلا تبعاً للقوم. واتلف الأصحاب على طريقين: أحدهما: الجمعة وهو المذكور في الكتاب أن المسألة على قولين. الجديد: أنه لا يشترط فيها شروط لأنها نافلة فأشبهت صلاة الاسْتِسْقَاء والخسوف. والقديم: يشترط. وبه قال أبو حنيفة وكذلك أحمد في رواية واستشهدوا بأن النَّبي "لم يصل العيد "بمنى": لأنه كان مسافراً كما لم يصلِّ (¬3) الجمعة. فعلى هذا تشترط الجماعة والعدد بصفات الكمال وغيرهما إلاَّ أنه يستثنى إقامتها في خطة (¬4) البلدة والقرية، فلا يشترط ذلك على هذا القول أيضاً لتطابق النَّاس على إقامتها بارزين، كذلك ذكره الشيخ أبو حامد وكثيرون. وعن الشيخ أبي محمد: أنه لا يستثنى، ولا يجوز إقامتها على هذا القول إلا حيث تجوز الجمعة وهذا هو الموافق لظاهر لفظ الكتاب، ويستثنى بعضهم عدد الأربعين أيضاً، ويفترقان أيضاً في أن خطبتي الجمعة مشروطتان قبل الصّلاة، وخطبتا العيد بعد الصلاة. قال إمام الحرمين: ولو فرض إخلال بالخطبة فيبعد جداً في التّفريع على هذا القول انعطاف البطلان على الصَّلاة. هذا أحد الطَّريقين: والثاني: وبه قال أبو إسحاق: القطع بما ذكر في "الجديد" وحمل كلامه في "القديم" على أن صلاة العيد لا تقام في مساجد المحال كصلاة الجمعة، فيجوز أن يعلّم لهذه الطريقة. قوله "على الجديد" بالواو؛ لأنه إثبات للخلاف. ومن قال بالطريقة الثَّانية نفى ذلك. وقوله: "لا يشترط معلّم بالحاء والألف لما تقدم، وإذا فرّعنا على الصحيح، فإذا صلاها المنفرد لم يخطب. ¬
وحكى القاضي ابن كج وجهاً آخر: أنه يخطب، وهو قريب من الخلاف في أن المنفرد هل يؤذن؟ وإن صلى المسافرون صلى بهم واحد وخطب. قال الغزالي: وَإِذَا غَرُبَتِ الشَّمْسُ لَيْلَةَ الْعَيدَيْنِ اسْتُحِبَّ التَّكْبِيرَاتُ المُرْسَلَةُ ثَلاثاً نَسَقاً حَيْثُ كَانَ فِي الطَّرِيقِ وَغَيْرِهَا إِلَى أَنْ يَتَحَرَّمَ الإِمَامُ بِالصَّلاةِ، وَفِي اسْتِحْبَابِهَا عَقِيْبَ الصَّلَوَاتِ الثَّلاَثِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: التَّكبير الذي يذكر في هذا الباب ضربان: أحدهما: ما يشرع في الصلاة والخطبة، وسيأتي في موضعه. الثاني: غيره. والمَسْنُون في صفته أن يكبر ثلاثاً نَسَقاً. وبه قال مالك خلافاً لأبي حنيفة وأحمد، حيث قال: يكبر مرتين وحكى صاحب التتمة قولاً عن القديم مثل مذهبهما لنا الرواية عن جابر وابن عباس -رضي الله عنهم- أيضاً فإنه تكبير شرع شعاراً للعيد، فكان وتراً كتكبير الصلاة. يتم قال الشافعي -رضي الله عنه-: وما زاد من ذكر الله فحسن واستحسن في "الأم" أن تكون زيادته. ما نقل عن رسول الله أنه قال على الصَّفا هو: "اللهُ أَكْبَرُ كَبِيراً وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا وَسُبْحَانَ اللهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً لاَ إِلهَ إلاَّ اللهُ وَلاَ نَعْبُدُ إِلاَّ إِيَّاهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ لاَ إِلهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأحْزَابَ وَحْدَهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ" (¬1). وحكى الصَّيدلاني وغيره عن القديم أنه يقول بعد الثلاث: "اللهُ أَكْبَرُ كَبِيراً وَالْحَمْدُ للهِ كَثِيراً اللهُ أكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا والْحَمْدُ للهِ عَلَى ما أبْلانَا وَأوْلانَا" (¬2). ¬
قال في "الشَّامل": والذي يقوله النَّاس لا بأس به أيضاً، وهو: "اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ اللهُ اكْبَرُ، لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَللهِ الحَمْدُ". ثم هذا الضَّرب نوعان: رسل، ومقيد فالمرسل: هو الذي لا يتقيّد ببعض الأحوال، بل يؤتي به في المنازل والمساجد والطرق ليلاً ونهاراً. والمقيد: هو الذي يؤتى به في أدبار الصَّلوات خاصة. فأما التَّكبير المرسل فهو مشروع في العيدين، خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- حيث قال في رواية: لا يسن في عيد الفطر. لنا ما روي: "أن النّبي (¬1) كان يخرج يوم الفطر والأضحى رافعاً صوته بالتهليل والتكبير حتى يأتي المصلّى. وأول وقته في العيدين جميعاً غروب الشمس ليلة العيد. وعن مالك وأحمد: أنه لا يكبر ليلة العيد وإنما يكبّر في يومه. لنا قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (¬2). قال الشَّافعى: سمعت من أرضى به من أهل العلم بالقرآن: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} أي: عدة صوم رمضان: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أي: عند إكمالها، وإكمالها بغروب الشمس آخر يوم من رمضان. وفي آخر وقته طريقان: أظهرهما: وبه قال ابن سريج وأبو إسحاق: أن المسألة على ثلاثة أقوال: أصحها: وهي رواية البويطي واختيار المزني: أنهم يكبرون إلى أن يتحرم الإمام بصلاة العيد، لأن الكلام يباح إلى تلك الغاية، والتكبير أولى ما يقع به الاشتغال به، فإنه ذكر الله تعالى، وشعار اليوم. والثاني: إلى أن يخرج الإمام من الصلاة؛ لأنه إذا برز احتاج الناس إلى أن يأخذوا أهبة الصلاة ويشتغلوا بالقيام إليها. ويحكى هذا عن "الأم". والثَّالث: إلى أن يفرغ الإمام من الصلاة. لما روي: "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُكَبِّرُ فِي الْعِيدِ حَتَّى يَأْتِيَ المُصَلَّى وَيَقْضِيَ الصَّلاَةَ" (¬3). ¬
وهذا القول منقول عن "القديم"، وإنما في حقِّ من لا يصلّي مع الإمام، ونقّله آخرون على وجه آخر. وقالوا: إلى أن يفرغ من الصلاة والخطبتين جميعاً، وروي مثل ذلك عن مالك وأحمد. والطريق الثَّاني: القطع بالقول الأول، وتأويل غيره بحمل الخروج في القول الثّاني على التّحرم لما بينهما من التَّواصل والتقارب، وحمل التكبير في الثالثة على جنس التكبير الذي يؤتي به في الصلاة وقبلها، ولا فرق في التكبير المرسل بين عيد الفطر، والأضحى برفع الناس أصواتهم به، في الليلتين في المنازل والمسجاد والطرق والأسواق سفراً كانوا أو حاضرين وفي اليومين في طريق المصلّى وبالمصلي إلى الغابة المذكورة. ويستثنى عن ذلك الحاج، فلا يكبر ليلة الأضحى وإنما ذِكْرُه التَّلْبِيَة. وحكى القاضي الروياني وغيره قولين في أن التكبير في ليلة الفطر آكد أم ليلة الأضحى؟ وقالوا: الجديد الأول، والقديم الثاني. وأما النوع الثاني: وهو التّكبير المقيد بأدبار الصلوات فحكمه في عيد الأضحى مذكور بعد هذا الفصل في الكتاب. وأما عيد الفطر فوجهان: أظهرهما: عند الأكثرين ولم يذكر في "التَّهذيب" سواه. أنه لا يستحب؛ لأنه لم ينقل ذلك عن فعل رسول الله ولا أصحابه. والثّاني: يستحب؛ لأنه عيد استحب فيه التكبير المطلق فيسن فيه التّكبير المقيد كالأضحى، فعلى هذا يكبر عُقَيْبَ ثلاث صلوات وهي المغرب، والعشاء ليلة الفطرة، والصبح يوم الفطرة، وحكم الفوائت والنوافل في هذه المدّة على هذا الوجه تُقَاس بما سنذكره في عيد الأضحى، وصاحب "التتمة" نقل هذا الخلاف قولين، وجعل الجديد الأول والقديم الثاني، هذا فقه الفصل. ولا بأس بالتَّنصيص على المواضع المستحقّة للعلامات من لفظ الكتاب. فقوله: "إذا غربت الشمس" معلّم بالميم والألف إشارة إلى أنه لا يكبر عندهما إذا غربت الشمس، وإنما التّكبير بالنهار وقوله: "ليلة العيد" بالحاء؛ لأنه مطلق، وقد حكينا خلفه في التَّكبير في عيد الفطر. وقوله: "ثلاثاً نسقاً" بالحاء والألف والواو.
وقوله: "إلى أن يتحرم الإمام بالصلاة" بالميم والألف والواو، ثم يجوز أن يكون هو جواباً على أصح الأقوال؟ على الطريقة الأولى، ويجوز أن يكون ذهاباً إلى الطريقة الثانية وكلامه في "الوسيط" إليها أميل. قال الغزالي: وَيُسْتَحَبُّ إِحْيَاءُ لَيْلَتِي العِيدِ لِقَوْلهِ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ أَحْيَا لَيْلَتِي العِيدِ لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ القُلُوبُ (¬1). قال الرافعي: إحياء ليلتي العيد بالعبادة مَحْنُوثٌ عليه للحديث الذي رواه (¬2). قال الصيدلاني: وقد قيل لم يرد فيه شيء من الفَضَائل مثل هذا؛ لأن موت القلب إمّا للكفر في الدنيا، وأما للفزع في القيامة، وما أضيف إلى القلب فهو أعظم لقوله تعالى جده: "فَإِنَّهُ اثِمٌ قَلْبُهُ" (¬3) -والله أعلم-. قال الغزالي: وَيُسْتَحَبُّ الغُسْلُ بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ، وَفِي إِجْزَائِهِ لَيْلَةَ العِيدِ لِحَاجَةِ أَهْلِ السَّوَادِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: روي عن النبي أنه: "كَانَ يَغْتَسِلُ لِلْعِيدَيْنِ" (¬4) وأيضاً فهما يومان يجتمع فيهما الكافة للصَّلاة. فسن لهما الغسل كالجمعة، ولا خلاف في إجزائه بعد الفجر، وأما قبله، فقد حكى الجمهور فيه قولين: أحدهما: لا يجزئ كغسل الجمعة. وبه قال أحمد. وأصحهما: وهو نصه في البويطي أنه يجزئ؛ لأن أهل السّواد يبتكرون إليها من قراهم فلو لم نجوّز الغسل قبل الفجر لَعَسر الأمر عليهم. والفرق بينه وبين غسل الجمعة قد ذكرناه في "باب الجمعة". ¬
والصيدلاني في آخرين حكوا الخلاف في المسألة وجهين وتابعهم صاحب الكتاب، وقد أورد هذه المسألة في "كتاب الجمعة مرة" وزاد هاهنا التَّنبيه على وجه الجواز. وإذا جوّزنا فهل يختص بالنصف الثاني من الليل، كأذان الصبح، أم يجوز في جميع الليل كنية الصوم. عن القاضي أبي الطيب: أنه يختصّ بالنصف الثّاني، وهذا ما ذكره في "المُهذّب". وقال الإمام: المحفوظ، إن جميع ليلة العيد وقت له، وهذا أبداه صاحب "الشامل" على سبيل الاحتمال، وهو الموافق للفظ الكتاب. قال الغزالي: ثُمَّ التَّطَيُّبُ وَالتَّزَيُّنُ بِثِيَاب بيضي مُسْتَحَبٌّ لِلْقَاعِدَ وَالخَارجِ مِنَ الرِّجَالِ، وَأَمَّا الْعَجَائِزُ فَيَخْرُجنَ فِي بَذْلَةِ الثِّيَابِ. قال الرافعي: يستحب التَّطيُّب يوم العيد لما روي عن الحسن بن علي -كرم الله وجهيهما- قال: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ أَن نَتَطَيَّبَ بِأَجْوَدِ مَا نَجِدُهُ فِي الْعِيدِ" (¬1). وكذلك يستحب التّنظيف بحلق الشّعر وقلم الأظفار وقطع الروائح الكريهة؟ وأن يلبس أحسن ما يجده من الثّياب ويتعمم، والبيض من الثياب أحب من غيرها وإن لم يجد إلا ثوباً واحداً فيستحب أن يغسله للجمعة والعيدين، ويستوي في استحباب جميع ذلك القاعد في بيته، والخارج إلى صلاة العيد كما ذكرناه في الغسل هذا في حق الرجال. وأما في النّساء فيكره لذوات الهيئة والجمال الحضور لخوف الفتنة بهن، ويستحبُّ للعَجَائِزِ الحضور، ويتنظفن بالماء ولا يتطيبن، روي أنه قال: "لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلاَتٍ" (¬2) أي غير متطيبات، وكذلك إذا خرجن فلا يلبسن من الثِّيَاب ما يشهرهن بل يخرجن في بذلتهن. وعن أبي حنيفة -رحمه الله- أن النّساء لا يشهدن العيد ولا المكتوبات إلا الصُّبح والعشاء فليكن قوله: "فيخرجن" معلماً بالحاء. وذكر الصيدلاني: أن الرخصة في خروجهن وردت في ذلك الوقت. فأما اليوم فيكره لهن الخروج إلى مجمع المسلمين؛ لأن النّاس قد تغيروا، وروي ¬
هذا المعنى عن عائشة (¬1) -رضي الله عنها- وهذا يقتضي إعلام قوله: "فيخرجن" بالواو أيضاً. قال الغزالي: وَيحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ التَّزَيُّنُ بِالحَرِيرِ وَالمُرَكَّبُ مِنَ الإبْرَيْسَمِ وَغَيْرِهِ حَرَامٌ إِنْ كانَ الإبْرَيْسَمُ ظَاهِراً وَغَالِباَ فِي الوَزْنِ، فَإِنْ وُجِدَ أَحَدُ المَعْنَيَيْنِ دُونَ الثَّانِي فَوَجْهَانِ، وَلاَ بَأْسَ بِالمُطَرَّفِ بِالدِّيبَاجِ وَبِالمُطَرَّزِ وَبِالمَحْشُوِّ بِالإبْرَيْسَمِ، فَإِنْ كَانَتِ البطَانَةُ مِنْ حَرِيرِ لَمْ يَجُزْ، وَفِي جَوَازِ افْتِرَاشِ الحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ خِلاَفٌ، وَفِي جَوَازِ لُبْسِ الدِّيبَاجِ لِلصِّبْيَانِ خِلاَفٌ، وَيَجُوزُ لِلْغَازِي لُبْسُ الحَرِيرِ، وَكَذَا لِلْمُسَافِرِ لِخَوْفِ القَمْلِ والحَكّةِ، وَهَلْ يَجُوزُ بِمُجَرَّدِ الحَكَّةِ فِي الحَضَرِ؟ فِيهِ وَجْهَان. قال الرافعي: والتَّزيُّن بالدّيباج والحرير حرام على الرجال، دون النساء؛ لما روى عن علي -رضي الله عنه- أن النبي: "خَرَجَ يَوْماً وَفِي يَمِينِهِ قِطةُ حَرِيرٍ، وَفِي شِمَالِهِ قِطْعَةُ ذَهَبٍ، هذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أمَّتِي حِلٌّ لإنَاثِهَا" (¬2). ويحرم على الخُنثى أيضاً لاحتمال كونه رجلاً حكاه في "البيان"، ويجوز أن ينازع فيه، وعد الأئمة القزّ من الحرير، وحرموه على الرّجال وإن كان كمد اللون، وادَّعى صاحب "النهاية" وفارق الأصحاب فيه، لكن في "بحر المذهب" و"التتمة" حكاية وجه: أنه لا يحرم؛ لأنه ليس من ثياب الزّينة. ثم في الفصل مسائل: إحداها: لو لم يتمحض الثوب حريراً؟ بل كان مركباً من الإِبْرَيْسِمِ وغيره ففيه طريقان: قال جمهور الأصحاب: إن كان ذلك الغير أكثر في الوزن لم يحرم لبسه، وذلك كالخزِّ سُدَاه الإِبْرَيْسِم ولُحْمته صوف فإن اللُّحمة أكثر من السدي، وإن كان الإِبْرَيْسِمُ أكثر يحرم، وإن كانا نصفين فهل يحرم؟ وجهان: أصحهما: لا يحرم؛ لأنه لا يسمى ثوب حرير، والأصل: الحلّ. والثاني: وبه قال صاحب "الحاوي": يحرم تغليباً للتحريم. والطريق الثاني وبه قال القفَّال، وطائفة من أصحابه: لا ننظر إلى الكثرة والقلّة، ولكن ننظر إلى الظّهور، فإن لم يظهر الإِبْرَيْسِمُ حل كالخزّ الذي سُداه إبريسم، وهو لا يظهر وإن ظهر الإبريسم لم يحل، وإن كان قدره في الوزن أقل فيخرج من هاتين ¬
الطّريقتين القطع بالتحريم، إن كان الإبريسم ظاهراً أو غالباً في الوزن كما ذكر في الكتاب لاجتماع المعنيين المنظور إليهما [وإذا] (¬1) وإن وجد الظهور دون غلبة الوزن حرم عند القّفال، ولم يحرم عند الجمهور، وإن وجد غلبة لوزن دون الظهور انعكس المذهبان. الثانية: يجوز لبس الثّياب المُطرَّفةِ بالدّيباج، والمُطرَّزة به لما روي أنه: "كَانَ لَهُ جُبَّةٌ مَكْفُوفَةُ الْجَيْبِ وَالْكُمَّيْنِ وَالفَرْجَيْنِ بِالدِّيبَاجِ" (¬2). قال الشيخ أبو محمد وغيره: والشرط فيه الاقتصار على عادة التّطريف، فإن جاوز العادة فيه كان سرفاً محرماً، والترقيع بالديباج كالتَّطريز به، وشرط في "التهذيب" أن يكون الطِّراز بقدر أربع أصابع. فما دونها فإن زاد لم يجز، ويدل عليه ما روى عن علي -رضي الله عنه- قال: "نَهَى رَسولُ اللهِ عَنِ الحَرِيرِ إِلاَّ فِي مَوْضِعِ إِصْبَع أَو إِصْبَعَينِ أَوْ ثَلاَثٍ أَوْ أَرْبَعٍ" (¬3). ولو خاط ثوباً بإبريسم جاز لبسه، وبفارق الذّهب يحرم كثيره وقليلُه في الدّرع المنسوجة بالذهب، والقبَاء بأزار الذَّهب؛ لأن الخُيَلاء فيه أكثر وكل واحد يعرفه، ولا يخرج على التّفصيل في الإناء المضبّب فإن أمر الحرير أهو من أمر الأواني، ألا ترى أنه يحرم على النّساء الأواني ولا يحرم عليهن لبس الحرير والقباء، المحشوّ بالإبْرَيْسم أو القزّ لا يحرم، حكى ذلك عن نصه في "الأم"؛ لأن الحَشْوَ ليس ثوباً منسوجاً، ولا يعد صاحبه لابس حرير، وأثبت في "التَّهْذيب" خلافاً فيه فقال: ولو لبس جبَّة محشوَّة بالقزِّ أو الإبريسم جاز على الأصحّ، فليكن قوله: "وبالمحشوّ بالإبريسم" معلّماً بالواو، لذلك ولو كانت بطانة الجبّة من حرير لم يَجُزْ لبسها؛ لأنه لابس حرير، وقد روي أنه قال: "حُرِّمَ لِبَاسُ الْحَرِيرِ والذهب عَلَى ذُكُورِ (¬4) أُمَّتِي". قال إمام الحرمين: وكان معنى الفخر والخيلاء وإن كان مرعياً في الحرير، ولكن فيه شيئاً آخر، وهو أنه ثوب رفاهية وزينة، وإبداء زي يليق بالنساء دون شهامة الرجال، ¬
وهذا حسن إلا أن هذا القدر لا يقتضي التّحريم عند الشافعي -رضي الله عنه-، لأنه قال: في "الأم": ولا أكره لبس اللؤلؤ إلا للأدب فإنه من زي النِّساء لا للتَّحريم. الثالثة: تحريم الحرير على الرِّجال لا يختصّ باللبس بل افتراشه والتَّدثُّر به واتّخاذه ستراً، وسائر وجوه الاستعمال في معنى اللبس خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: "لا يحرم إلا للبس" ولأبي الفضل العراقي من أصحابنا حيث قال فيما حكاه أبو عاصم العبادي؛ إنه يجوز لهم الجلوس عليه. لنا ما روي عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: "نَهَانَا رَسُولُ اللهِ عَنْ لِبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَإِنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ" (¬1). ولأن السَّرف والخُيَلاء في سائر وجوه الاستعمال أظهر منه في اللبس، فيكون بالتحريم أولى. وهل يحرم افتراش الحرير على النساء؟ فيه وجهان: أحدهما: لا كاللبس. وأظهرها -ولم يورد في "التَّهْذِيب" سواه- نعم كاستعمال الأواني للسّرف والخيلاء، بخلاف اللبس فإنه للزينة فصار كالتَّحلِّي. الرابعة: هل للقوم إلباس الصّبيان الحرير أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا لتغليظ ورد فيه عن ابن عمر -رضي الله عنه (¬2) - بل عليهم أَنْ يمنعوهم من لبسه. والثَّاني: نعم؛ لأن ثوب الحَرِير لائق بحال الصّبيان إذ ليس لهم شَهَامة تناقضها، وحكى في "البيان" وجهاً ثالثاَ: وهو الفرق بين أن يكون دون سبع ستين، فلا يمنع منه وبين أن يكون له سبع سنين فصاعداً؛ فيمنع منه كَيْلا يعتاده، وهذا الوجه أظهر ولم يذكر في "التَّهذيب" سواه. الخامسة: حيث قلنا بتحريم لبس الحرير، فذلك عند عدم الضرورة والحاجة، فأما عن الضرورة فلا بأس بلبسه كما إذا فاجاءه القتال ولم يجد غيره، وهذا قد سبق ذكره في "صلاة الخوف". وقوله: "ويجوز للغازي لبس الحرير" محصول على هذه الحالة، وليس الغزو عذراً على الإطلاق، فهو إذن مكرر، ومن الضرورة لبسه لحر أو برد مهلك. ¬
وأمَّا الحاجة فهو أن يكون به جَرَبٌ، أو حكّة فله لبس الحرير لذلك لما روي أنه: "رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا" (¬1). وفي "التنبيه" حكاية وجه: أنه لا يجوز والمشهور الأول، وكذلك يجوز لبسه لدفع القمل؛ لأن في بعض الروايات أن ابن الزبير وعبد الرحمن -رضي الله عنهما- شَكَيَا الْقُمَّلَ في بعض الْأَسْفَارِ فَرَخَّصَ رَسُولُ اللهِ لَهُمَا فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ" (¬2). وهل يشترط السَّفر في ذلك أم يجوز لمجرد الحَكَّة في الحضر؟ فيه وجهان: أصحهما: لا يشترط لإطلاق الخبر. والثاني: نعم، لأن السَّفر شاغل عن التَّفقد والمعالجة. وفي الرواية الثَّانية ما يقتضي اعتباره في دفع القُمَّل، -والله أعلم-. قال الغزالي: ثُمَّ إذَا تَزَيَّنَ فَلْيَقصِدِ الصَّحْرَاءَ مَاشِياً، وَالصَّحْرَاءُ أَوْلَى مِنَ المَسْجِدِ إِلاَّ بِمَكَّةَ، وَلْيَكُنِ الخُرُوجُ فِي عِيدِ الأَضْحَى أَسْرَعَ قَلِيلاً. قال الرافعي: لما تكلم في استحباب التَّزين لصلاة العِيد اعترض النظر في التزين المباح، والممنوع منه فعاد بعد الفراغ منه إلى ترتيب السُّنن. وقال: "ثم إذا تزين فليقصد الصحراء" والفصل يتضمن أموراً: أحدها: أن الخروج لصلاة العيد إلى الصَّحراء أولى، أم إقامتها في المسجد الجامع. أما "بمكّة" فإقامتها في المسجد أولى؛ لأن الأئمة كانوا يصلّون صلاة العيد فيه والمعنى فيه فضيلة البقعة، ومشاهدة الكعبة وغيرهما، وألْحَق الصّيدلاني "بيت المقدس" به. وأما سائر البلاد فينظر إن كان هناك عذر من مطر أو ثلج، فإقامتها في المسجد أوْلى، لما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أَصَابَنَا مَطَرٌ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ في الْمَسْجِدِ" (¬3). وإن لم يكن عذر نظر إن كان المسجد ضيقاً فالخروج إلى الصحراء أولى بل ويكره إقامتها في المسجد لوقوع النَّاس في الزِّحام وعسر الأمر عليهم وإن كان المسجد واسعاً. ففيه وجهان حكاهما الإمام عن صاحب "التقريب": أحدهما -وهو الموافق لمطلق لفظ الكتاب-: إن أقمتها في الصّحراء أولى، لأن ¬
ذلك أرفق بالناس فإن صلاة العيد يحضرها الدّاني، والقاصي والفرسان والرّجالة وكذلك يحضرها النّساء الحُيّض ولا يتأتى لهنّ دخول المسجد. وأظهرهما: وهو الذي ذكره العراقيون وتابعهم صاحب "التهذيب" وغيره: أَنَّ المسجد أولى لشرف المسجد وتسهيل الأمر على الناس عند سعته، والحُيّض إن حضرن وقفن على باب المسجد. وفي كلام الأئمة ما يفهم بناء على هذا التّردد على أن إقامتهم الصلاة: "بمكة" كان لخصوص فضيلة المسجد الحرام أو لسعة الخطة، فإن قلنا بالثاني فالمسجد أولى في سائر البلاد أيضاً، وإن قلنا بالأول فلا. ومهما خرج الإمام إلى الصّحراء فينبغي أن يستخلف في البلد من يصلِّي بضعفة النَّاس، كالشيوخ والزَّمْنَى والمرضى، وهذا على الصحيح في أن صلاة العيد لا يشترط فيها شروط الجُمْعَة، فإن شرطناها ولم نسْتَثْنِ إقامتها خارج البلدة فلا معنى لهذا التّفصيل، والاختلاف، ولا تقام في الصَّحراء أصلاً، وإن استثنينا هذا الشرط عن الاعتبار امتنع استخلاف من يصلّي بالضَّعفة ولم تقم إلا في موضع واحد كالجُمُعة. والثَّاني: أن المستحبَّ للسّاعي إلا صلاة العيد، المشي دون الركوب لما روي أن النبي:، "مَا رَكِبَ فِي عِيدٍ وَلاَ جَنَازَةٍ قَطُّ" (¬1). فإن عجز أو ضعف لكبر، أو مرض فله أن يركب، وأما في الرّجوع فإن شاء مشى، وإن شاء رَكِبَ -وَاللهُ أعلم-. والثالث: أنه يستحب للإمام أن يؤخِّر الخروج في عيد الفطر قليلاً، ويعجل في عيد الأضحى، لما روى أنه: "كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ وَلاَّهُ الْبَحْرَيْنَ أَنْ عَجِّلَ الْأَضْحَى وَأَخِّرِ الْفِطْرَ وَذَكِّرَ النَّاسَ" (¬2). والمَعْنَى فيه: أن شغل الناس وهو أمر الأضاحي يكون بعد الصَّلاَة، فالتَّعْجِيلُ أَوْلَى ليشتغلوا به وشغلهم يوم الفطر قبل الصلاة وهو تفريق صدقة الفطر، فالتأخير أولى ليفرغوا عنه، ويستحب للقوم أن يُبَكروا إذا صلّوا الصبح ليأخذوا مجالسهم وينتظروا الصلاة. إذا عرفت ذلك ونظرت في قوله في الكتاب: "وليكن الخروج في عيد الأضحى أسرع قليلاً"، وجدت نظم الكتاب يقتضي كون هذا الكلام في خروج القوم؛ لأنه عقبة بقوله: "ثم ليخرج الإمام". ¬
لكن الذي قاله الجمهور ودل عليه سياق النص في "المختصر" أن سُّنة القوم الابتكار بلا فرق بين العيدين وتعجيل الخروج وتأخيره محبوبان في حق الإمام خاصة. قال الغزالي: ثُمَّ لْيَخْرُج الإمَامُ وَلْيَتَحَرَّمْ بِالصَّلاَةِ فِي الحَالِ وَليُنَادِ الصَّلاةَ جَامِعَةً. قال الرافعي: السُّنة للإمام أن لا يخرج إلا بعد خروج القوم. لئلا يحتاج إلى انتظارهم فإن انتظارهم إياه أليق من انتظاره إياهم وكما يحضر يشتغل بالصَّلاة لما روى أنه: "كَانَ يَخْرُجُ فِي الْعِيدِ إِلَى الْمُصَلَّى، وَلاَ يَبْتَدِئُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ" (¬1). ويكره للإمام أن يتنفَّل قبلها أو بعدها. روي أن النَّبي: "صَلَّى رَكْعَتَيِ الْعِيدِ وَلَمْ يَتَنَفَّلْ قَبْلَهَا وَلاَ بَعْدَهَا" (¬2). ولا يكره للمأموم التَّنفُّل لا قبلها ولا بعدها خلافاً لأحمد في الحالتين، ولمالك كذلك في المُصلّى. وعنه في المسجد روايتان، ولأبي حنيفة فيما بعدها. لنا قياس التَّنفل في هذا الوقت على التَّنفل في سائر الأيَّام. ويستحب في عيد الفطر أنْ يَطْعَمْ شَيْئًا قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى الصَّلاَةِ، وَلاَ يُطْعَمُ فِي عِيدِ الأَضْحَى حَتَّى يَرْجِعَ رواه أنس وبريدة (¬3) وغيرهما -رضي الله عنهما- عن فعل رسول الله. وأما قوله: "وَلْيُنَاد الصلاة جامعة" فقد سبق مرة في باب الأذان وقد روى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النّبي: "صَلَّى الْعِيدَ ثُمَّ خَطَبَ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلاَ إِقَامَةٍ" (¬4). وذكر في "العدّة": أنه لو نودي لصلاة العيد حيّ على الصلاة فلا بأس بل هو مستحبّ (¬5). قال الغزالي: فَيَقْرَأُ أَوَّلاً دُعَاءَ الاسْتِفتَاحِ، وُيكَبِّرُ سَبْعَ (ح) تَكْبِيرَاتٍ زَائِدَةٍ (م) فِي ¬
الأَولىَ وَخَمْساً (ح) فِي الثَّانِيَةِ وَيقُولُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ بَعدَ التَّكْبِيرِ وَالتَّعَوُّذِ وَيَقْرَأُ سُورَةَ ق في الأُولَى وَاقْترَبَتْ فِي الثَّانِيَةِ، وَيَرْفَعُ اليَدَيْنِ (ح) فِي هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ. قال الرافعي: ذكر في هذا الفَصْلِ الكيفية المخصوصة بصلاة العيد، ولا فرق فيها بين الإمام وغيره وإن كان كلام الكتاب يختصُّ بالإمام فنقول: التَّحرم بصلاة العيد يستفتح عُقيبَ التَّحرم كما في سائر الصلوات ويجوز أن يعلّم قوله: "وليقرأ أولاً دعاء الاستفتاح" بالواو، لأن صاحب "البيان" روى عن بعضهم حكاية قول أنه يأتي به بعد التَّكبيرات الزَّوائد، ثم يكبر في الرَّكعة الأولى سبع تكبيرات، سوى تكبيرة الافتتاح والهَوِيِّ إلى الرّكوع، وفي الثانية خمس تكبيرات سوى تكبيرة القيام من السجود والهوي إلى الركوع خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: التكبيرات الزّائدة في كل ركعة ثلاث، ولمالك وأحمد -رحمهما الله- حيث قالا: التكبيرات الزوائد في الركعة الأولى ست، وبه قال المزني وساعدونا في الركعة الثّانية، وعن أحمد رواية أخرى مثل مذهبنا مطلقاً. لنا ما روى أن النَّبي: "كَانَ يُكَبِّرُ فِي الْفِطْرِ وَالأَضْحَى فِي الْأُولَى سَبْعاً وَفِي الثَّانيَةِ خَمْساً" (¬1). ويروى أنَّهُ: "يُكَبِّرُ اثْنَتَي عَشْرَةَ تَكْبِيرَةَ، سِوَىَ تَكْبِيرَةِ الافتِتَاحِ وَتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ" (¬2). وإذا عرفت ما نقلناه عن المذهب أعلمت قوله: "سبع تكبيرات" بالحاء. وقوله: "زائدة" بالميم والألف والزاي؛ لأن عندهم الزائدة ست لا سبع. وقوله: "وخمساً" بالحاء وحده، ويقف بين كل تكبيرتين بقدر قراءة آية لا طويلة ولا قصيرة يهلّل الله ويكبِّره ويمجده هذا لفظ الشّافعي -رضي الله عنه-، وقد روي نحو ذلك عن ابن مسعود (¬3) قَوْلاً وَفِعْلاً. وأيضاً فإن سائر التَّكبيرات المشروعة في الصلاة يتعقبَّها ذكر مسنون، فكذلك هذه ¬
التكبيرات ثمِ الذي ذكره الأكثرون وأورده في الكتاب أنه يقول: "سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ"، ولو زاد جاز. قال الصَّيدلاني: وعن بعض الأصحاب أنه يقول: "لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". قال ابن الصباغ: ولو قال ما اعتاده الناس وهو: "اللهُ أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بُكْرة وأصيلاً وصلى الله على محمد وآله وسلم تَسْلِيمًا كَثِيراً" كان حسناً أيضاً. وقوله: "بين كل تكبيرتين" مرقوم بالحاء؛ لأن عنده يوالي بين التّكبيرات، ولا يقف وبالميم، لأن أصحابنا حكوا عن مالك أنه يقف بينهما، ولا يذكر شيئاً ثم ينبغي أن يعرف أن قوله: "بين كل تكبيرتين" راجع إلى التكبيرات الزوائد، فلا يأتي بهذا الذِّكر بين تكبيرة الافتتاح والأولى من الزوائد نص عليه في "الأم" بل يكفي بينهما دعاء الاستفتاح، وكذلك لا يأتي به بعد التَّكبيرة السَّابعة والخَامسة بل يتعوذ بعد السّابعة وكذا بعد الخامسة إن قلنا: يستحب التَّعوُّذ في كل ركعة وعن أبي يوسف: أنه يتعوذ قبل التّكبيرات. وذكر الروياني أنه قال: قيل أنه مذهب أبي حنيفة -رحمه الله-. لنا: أن التَّعوُّذ لافتتاح القراءة فليكن عقبها. وأشار الصَّيدلاني إلى تردد في المسألة فقال: الأشبه بالمذهب أن التَّعوذ بعد التَّكبيرات وقبل القراءة ثم يقرأ الفاتحة كما في سائر الصّلوات. وعند أبي حنيفة: أن القراءة في الركعة الأولى بعد التَّكبيرات الزوائد، وفي الثانية قبل التكبيرات ويوالي بين القرائتين. لنا؛ ما روي أن النبي: "كَانَ يُكَبِّرُ فِي الْفِطْرِ وَالأَضْحَى، فِي الأُولَى سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ قَبْلَ القِرَاءَةِ" (¬1). فليعلم قوله: "بعد التكبير" بالحاء لما حكينا من مذهبه، وبالألف لأن عند أحمد رواية مثل مذهبه. والصحيح: عنه مثل مذهبنا ثم يقرأ في الأُولى بعد الفاتحة سورة "ق" وفي الثَّانية: "اقتربت السَّاعة" خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- حيث قال: ليس بعض السّور ¬
أولى من بعض، ولمالك وأحمد -رحمهما الله- حيث قالا يقرأ في الأُولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ}، وفي الثَّانية: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. لنا: ما روي عن أبي واقد اللَّيثي -رضي الله عنه- أن النَّبي: "كَانَ يَقرَأُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأضْحَى بِـ {ق وَالْقُرآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} (¬1). يستحبّ رفع اليدين في التكبيرات، وبه قال أبو حنيفة ويروى ذلك عن فِعْلِ عُمَرَ -رضي الله عنه- (¬2). وقال مالك: لا يرفع. وإذا شك في عدد التَّكبيرات أخذ بالأقل. ولو كبر ثمان تكبيرات، وشك في أنه هل نوى التّحرم بواحدة منها؟ فعليه استئناف الصلاة. ولو شكَّ في التَّكبيرة التي نوى التحرم بها أخذ بأنه تحرم بالأخيرة فيعبد التَّكبيرات. ولو صلَّى خلف من يكبر ثلاثاً، أو ستًّا تابعة في فعله ولا يزيد عليه في أصح القولين. وعند أبي حنيفة -رحمه الله- لو صلّى خلف من يكبر سبعاً تابعه وينبغي أن يضمّ اليمنى على اليسرى بين كل تكبيرتين وحكى عن "العمدة" ما يشعر بخلاف في المسألة. قال الغزالي: ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلاَةِ كَخُطْبَةِ الجُمُعَةِ لَكِنْ يُكَبِّرُ تِسْعاً قَبْلَ الخُطْبَةِ الأُولَى وَسَبْعًا قَبْلَ الثَّانِيَةِ عَلَى مِثَالِ الرَّكْعَتَيْنِ. قال الرافعي: إذا فرغ الإمام من صلاة العيد صعد المنبر وأقبل بوجهه على الناس وسلم وهل يجلس قبل الخطبة؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: لا، بخلاف ما في خطبة الجمعة يجلس قبلها ليؤذن المؤذن ولا أذان في هذه. والأصح المنصوص أنه يجلس ليستريح من تعب الصُّعود ويتأهَّب ويتأهب الناس للاستماع ثم يخطب خطبتين أركانهما كأركانهما في الجمعة (¬3) يقوم فيهما ويجلس بينهما كما في الجمعة، لكن لا يجب القيام هاهنا؟ بل يجوز القعود مع القدرة على القيام كما فيّ نفس الصلاة، وقد روي: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- خَطَبَ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَومَ الْعِيدِ" (¬4). ¬
ويستحب أن يعلمهم في عيد الفطر أحكام صدقة الفطر وفي عيد الأضحى أحكام الأضحية ويستحب أن يفتتح الخُطبة الأولى بتسع تكبيرات تَتْرى والثانية بسبع تترى. روي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود -رضي الله عنهم-: "أَنَّهَا مِنَ السُّنَّةِ" (¬1). ولو أدخل بينهما الحمد والتهليل والثناء جاز، وذكر بعضهم أن كيفيتهما ما سبق في التكبيرات المرسلة والمقيّدة، ويستحب للنّاس استماع الخطبة ومن حضر والإمام يخطب فإن كان في المصلى جلس واستمع الخطبة ولم يصل التَّحية ثم إِنْ شاء صلَّى صلالة العيد في الصَّحراء، وإن شاء صلاَّها إذا انصرف إلى بيته وإن كان في المَسْجد يستحب له التحية. ثم قال أبو إسحاق: ولو صلّى صلاة العيد. والحالة هذه كان أولى، وحصلت التّحية كما لو دخل المسجد -وعليه مكتوبة يفعلها- ويحصل بها التحية. وقال ابن أبي هريرة: يصلي التَّحية ويؤخر صلاة العيد إلى ما بعد الخطبة فإنها تطول فيفوت عليه الاستماع، والأول أصح عند الأكثرين. وأما ما يتعلّق بلفظ الكتاب؛ فقوله: "ثم يخطب بعد الصلاة كخطبة الجمعة" لو حذف "بعد الصلاة" لكان الباقي دالاً على الغرض؛ لأن كلمة "ثم" تفيد التَّراخي، وإنما أخذ كون هذه الخطبة بعد الصَّلاة من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين -رضوان الله عليهم- أجمعين فلو قدَّمها خطيب أساء، وهل يعتد بخطبته؟ فيه احتمال عند إمام الحرمين (¬2). وقوله: "كخطبة الجمعة لكن يكبر تسعاً" غير مجرى على إطلاقه؛ لأنه لم يستدرك إلا افتراق الخطبتين [في] (¬3) التكبير، وهما يفترقان في أمور أخر. منها: أنه لا يجب القيام في خطبة العيد. ومنها: استحباب التَّعرض لصدقة الفطر، والأضحية فيها. وقوله: "على مثال الركعتين" أي: إذا حسبنا تكبيرة التَّحرم والهوِيّ إلى الرُّكوع مع الزْوائد في الأولى، وحسبنا تكبيرة الانْتِهَاض والهوِيّ إلى الركوع مع الزَّوَائد في الثَّانية ويجوز أن يريد بقوله: "على مثال الركعتين" أنه يجعل التَّفاوت بين عدد التَّكْبيرات في الخطبة الأولى، وعددها في الثَّانية كالتِّفاوت بينهما في الركعتين، فإن فضل التِّسعة على السَّبعة كفضل السَّبعة على الخمسة. ¬
قال الغزالي: ثُمَّ إِذَا خَطَبَ رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ. قال الرافعي: وروي أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يَغْدُو يَومَ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى فِي طَرِيقٍ، وَيَرْجِعِ فِي طَرِيقٍ" (¬1). واختلفوا في سببه قيل: ليتبرك به أهل الطَّريقين. وقيل: ليستفتى فيهما. وقيل: ليتصدق على فقرائهما. وقيل: ليزور قبور أقاربه فيهما. وقيل: ليشهد له الطريقان. وقيل: ليزداد غيظ المنافقين. وقيل: لئلا تكثر الزَّحمة. وقيل: كان يتوخَّى أطول الطريقين في الذِّهاب وأقصرهما في الرجوع، وهو أظهر المعاني ثم من شاركه من الأَئمَّة في المعنى استحب له ذلك، وفيمن لا يشارك وجهان. قال أبو إسحاق: لا يستحب له ذلك. وقال ابن أبي هريرة: يستحب كالرّمل والاضْطِبَاع يؤمر بهما مع زوال المعنى، وإلى هذا ميل الأكثرين وهو الموافق لإطلاق لفظ الكتاب ويستوى في هذه السُّنة الإمام والقوم، نصّ عليه في "المختصر" ولم يتعرض في الكتاب إلا للإمام. قال الغزالي: وَيُسْتَحَبُّ فِي عِيدِ النَّحْرِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ عَقِيبَ خَمْسَ عَشْرَةَ مَكتُوبَةٍ، أَوَّلَهَا الظُّهْرُ مِنْ يَوْمِ العِيدِ، وَآخِرُهَا الصُّبْحُ آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، ثُمَّ قِيلَ: يُسْتَحَبُّ عَقِيبَ كُلِّ صَلاةٍ تُؤَدَّى فِي هَذِهِ الأَيَّامِ وإنْ كَانَ نَفْلاً أَوْ قَضَاءَ، وَقِيلَ: لاَ يُسْتَحَبُّ إلاَّ عَقِيبَ الْفَرْضِ وَقِيلَ: لاَ يُسْتَحَبُّ إلاَّ عَقِيبِ فَرْضِ مِنْ فَرَائِضِ هَذِهِ الأَيَّامِ صُلِّيَت فِي هَذِهِ الأيَّامِ قَضَاءً أَوْ أَدَاءً. قال الرافعي: سبق الوَعْدُ بالكلام في التَّكْبير المقيّد في عيد النحر وهو غرض هذا الفصل. فنقول: أولاً لا فرق في هذا التكبير بين المنفرد ومن يصلّي جماعة، ولا بين الرجال والنساء والمقيم والمسافر. وعند أبي حنيفة: لا يكبر المنفرد ولا المرأة ولا المسافر، ثم النَّاس ينقسمون إلى الحجيج وغيرهم. أما الحَجِيج فيبتدءون التكبير عُقَيْبَ الظّهر يوم النحر ويختمونه عُقَيْبَ الصُّبح آخر أيام التشريق قاله العرِاقيون وغيرهم، ووجهوا الابتداء بأن ذكر الحجيج التَّلبية، وإنما يبدلونها بالتَّكبير مع أوَّل حصاة يرمونها يوم النَّحر، فالظهر أول صلاة ينتهون إليها من وقت قطع التَّلبية. قالوا: والختم لأن سبح اليوم الثالث آخر صلاة يصلونها بمنى. قال الإمام: ولا شك فيما ذكروه في الابتداء وفي الانتهاء تردد. وأما غير الحجج فخلف كم صلاة يكبرون فيها طريقان: ¬
أظهرهما: أن المسألة على أقوال. أصحها: وهو منقول عن المُزني والبويطي والزَّعفراني -رحمهما الله- أنَّهم يكبرون عُقَيْبَ خمس عشرة مكتوبة، أوَّلها ظهر يوم النَّحر، وآخرها سبح اليوم الثَّالث من أيام التشريق كالحجيج وسائر الناس تَبَعٌ لهم في ذلك. ويروى هذا عن عثمان، وابن عمر، وابن عباس وزيد بن ثابت (¬1) -رضي الله عنهم-. والقول الثاني: أنهم يبتدئون عُقَيْبَ المغرب ليلة النحر، كما أن في عيد الفطر يبتدئ التَّكبير عقيب المغرب ولم يبين الانتهاء في هذا النص. وحمله الأصحاب على ما ذكر في القول الأول وعلى هذا يكون مكبّرًا عُقَيْبَ ثمان عشرة صلاة. والثالث: أنهم يبتدءون عقيب الصبح يوم عرفة ويختمونه عقيب العصر آخر أيام التَّشريق خلف ثلاث وعشرين صلاة لما روى أنه: "كَبَّرَ بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَمَدَّ التَّكْبِيرَ إِلَى الْعَصْرِ آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ" (¬2). وبهذا قال أحمد واختاره المزنِيُّ وابن سريج. قال الصَّيدلاني وغيره: وعليه العمل في الأمصار ولم ينسب ابن الصَّبَّاغ هذا القول إلى اختيار المزنيّ، ولكن قال عنده: "يكبر من الظُّهر يوم النَّحر إلى الظّهر من اليوم الثالث". والطريق الثاني: القطع بالقول الأول وحمل ما عداه على حكاية مذهب الغير. وقال أبو حنيفة: يكبر من الصبح يوم عرفة إلى العصر من يوم النحر، وهي ثمان صلوات. وروى بعض أصحابنا عن مالك مثل القول الأول، وروى بعضهم عنه مثل القول الثالث. وقوله في الكتاب: "عقيب خمس عشرة" معلم بالحاء. والميم والألف والزاي والواو، لما حكيناه من الاختلافات وجميع ما ذكرناه في وظائف الوقت. ولو فاتته فريضة من فرائض صلاة الأيام فقضاها في غير هذه الأيام لم يكبر عقيبها؛ لأن التَّكبير شعار هذه الأيام. ولو فاتته في غير هذه الأيام أو في هذه الأيام وقضاها في هذه الأيام ففيه قولان: أحدهما: لا يكبر خلفهما؛ لأنها غير مؤداة في وقتها. ¬
وأصحهما: أنه يكبر؛ لأنه شعار الوقت، وعلى هذين القولين السنن الرواتب ومنها: صلاة العيد وكذلك النوافل المطلقة ومنهم من قطع بأنه لا يكبر بعدها؛ لأنها أبعد عن مُشَابهة الفرائض، ومنهم من فرَّقَ بين المشروع في هذه الأيام كالسنن الرواتب وصلاة العيدين، وبين ما لا يختصُّ بها النَّوافل المطلقة المطلقة وبنى طائفة من الأئمّة الاختلاف في هذه الصّور كلها على أَنَّ المعنى في التَّكبير عقيب وظائف الوَقْتِ ماذا؟ وذكروا فيها ثلاثة مَعَانٍ: أحدها: أنها فرائض مؤدَّاة في وقتها من أيام التَّكبير. والثاني: أنها صلوات مشروعة في أيام التَّكبير. والثالث: أنها صلوات مفعولة في أيَّام التَّكبير، ولا يخفى تَخْريج الاختلافات عليها. وإذا سألت عن مطلق ما يكبر خلفه من الصَّلوات فقل: فيه وجوه: أظهرها: أنه يكبر عُقَيْبَ كل صلاة مفعولة في هذه الأيام. والثاني: لا يكبر إلا عُقَيْبَ الفرائض منها سواء كانت مؤدَّاة هذه الأيام أو فائتتها أو فائتة غيرها. والثالث: لا يُكَبِّرُ إلا عُقَيْبَ فرائض هذه الأيام قضاء كانت أو أداء. وهذه الوجوه هي المذكورة في الكتاب ويخرج ممَّا سبق وجه رأبع هو: أنه لا يكبر إلا عُقَيْبَ الفرائض أو السنن الرواتب. وقوله في العبارة عن الوجه الأوَّل: "عُقَيْبَ كل صلاة" يشمل صلاة الجَنَازة أيضاً، لكن قال في "التَّتمة": لا يكبِّر خلفها، لأنها بنيت على التخفيف. وقوله: "وإن كانت نفلاً" معلم بالميم والحاء والألف؛ لأن عندهم لا يكبِّرُ خلف النَّوافل. قال إمام الحرمين: وجميع ما ذكرناه في التَّكبير الذي يرفع به الصَّوت ويجعله شعاراً. أما لو استغرق عمره بالتَّكبير في نفسه فلا مانع منه. ولو نسي التَّكبير خلف الصلاة ثم تذكر، والفصل قريب كبر، وإن فارق مصلاّه، وإن طال الفصل فكذلك في أصح الوجهين، والمسبوق لا يكبر مع الإمام، وإنّما يكبر إذا أتم صلاة نفسه -والله أعلم-. قال الغزالي: وَلَوْ نَسِيَ التَّكْبِيرَاتِ فِي رَكْعَةٍ فَلاَ يَتَدَارَكُهَا عَلَى الجَدِيدِ إِذَا تَذَكَّرَهَا بَعْدَ القِرَاءَةِ لِفَوَاتِ وَقْتِهَا. قال الرافعي: لو نسي التَّكبيرات الزَّوائد في إحدى ركعتين، ثم تذكر نظر إن تذكرها في الركوع أو بعده مضى في صلاته ولم يكبِّرْ ولم يسجد للسَّهو كما لو ترك القعود أو السورة ولو عاد إلى القيام ليكبر بطلت صلاته ولو تذكرها قبل الركوع وبعد القراءة، وهذه مسألة الكتاب ففيه قولان:
الجديد: أنه لا يكبِّر لفوات وقته كما لو نسي دعاء الاسْتِفْتَاح فتذكر بعد القراءة لا يعيد. والقديم: أنه يكبر. وبه قال أبو حنيفة: فيما حكاه صاحب "البَيَان" لأن محلّه باق وهو القيام، وعلى هذا القول لو تذكَّرها في أثناء الفاتحة قطع القراءة وكبر ثُمَّ يستأنف، وإذا كبَّر بعدها يتسحب الاسْتِئنَاف ولا يجب. وحُكِيَ وَجْهٌ آخر: أنه يجب. ولو أدرك الإمام بعد ما كبَّرَ بعض التكبيرات أو في حال قراءته فعلى الجديد لا يكبِّرُ ما فاته وعلى القديم يكبر. وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-. وإذا أدركه وهو راكع يركع معه ولا يكبِّر قولاً واحداً. وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: يكبر تكبيرات العيد في حال الركوع. ولو أدركه في الرَّكعة الثَّانية كبَّر معه خمساً على الجديد، فإذا أقام للثانية كبر خمساً أيضاً؛ لأن سنة الرَّكعة الثَّانية خمس بلا زيادة. قال الغزالي: وَإِذَا فَاتَتْ صَلاَةُ العِيدِ بِزَوَالِ الشَّمْسِ فَقَدْ قِيلَ: لاَ تُقْضَى، وَقِيلَ: تُقْضَى (ح م) أَبَدًا، وَقِيلَ: لاَ تُقْضَى إِلاَّ فِي الحَادِي وَالثَّلاثِينَ، وَقِيلَ: تُقْضَى فِي شَهْرِ العِيدِ كُلِّهِ، وَإذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الهِلاَلِ قَبْلَ الزَّوَالِ أَفْطَرْنَا وَصلَّينَا، وَإِنْ شَهِدُوا بَعْدَ الْغُرُوبِ يَوْمَ الثَّلاَثينَ لَمْ نُصْغِ إِلَيْهِمْ إِذْ لاَ فَائِدَةَ إِلاَّ تَرْكُ صَلاَةِ العِيدِ، وإنْ شَهِدُوا بَيْنَ الزَّوَالِ وَالْغُرُوبِ أَفْطَرْنَا وَبَانَ فَوَاتُ صلاَة العِيدِ عَلَى الأَصَحِّ، ثُمَّ قَضَاؤُهَا فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ أَوْلَى أَوْ فِي الحَادِي وَالثَّلاثِينَ فِيهِ خِلاَفٌ، وَإِنْ شَهِدُوا نَهَاراً وَعَدَلُوا لَيْلاً فَالْعِبْرَةُ بِوَقْتِ التَّعْدِيلِ أَوِ الشَّهَادَةِ فِيهِ خِلاَفٌ. قال الرافعي: ممَّا يجب معرفته في هذا الفصل أصل قدمناه، وهو أن قضاء النَّوافل المؤقتة قولان ومن جملتها صلاة العيد. وأصل آخر وهو: أن صلاة العيد هل تنزل منزلة صلاة الجمعة ويعتبر فيها شرائطها أم لا؟. إذا تذكرت ذلك فنقول: لو شهد شاهدان يوم الثَّلاثين من رمضان إنَّا رأينا الهلال البارحة، وكان ذلك قبل الزوال وقد بقي من الوقت ما يمكن جمع النَّاس فيه وإقامة الصلاة، أفطروا وصلوا وكانت الصلاة أداء (¬1)، وإن شهدوا بعد غروب الشمس يوم الثَّلاثين لم تقبل شهادتهم، كما لو شهدوا في اليوم الحادي والثَّلاثين؛ لأن شوَّالاً قد دخل يقيناً، وصوم الثَّلاثين قد تمَّ فلا فائدة في قبول شهادتهم، إلاَّ المنع من صلاة العيد فلا يصغي إليها، ويصلّون من الغد وتكون صلاتهم أداء هكذا نقله الأئمّة، وأطبقوا ¬
عليه. وفي قوله: "لا فائدة إلاَّ ترك صلاة العيد" إشكال فإنَّ لاستهلال الهلال فوائد [أخر] (¬1) كوقوع الطَّلاق، والعتق المعلّقين على استهلال شوَّال واحتساب العدّة من انقضاء التاسع والعشرين ونحو ذلك، فوجب أن تقبل الشهادة لمثل هذه الفوائد، ولعل مرادهم عدم الإصغاء فيما يرجع إلى صلاة العيد، وجعلها فائتة لا عدم القبول على الإطلاق وإن أطلقوا ذلك في عباراتهم -والله أعلم-. وإن شهدوا بعد الزَّوَال وقبل الغروب أو قبل الزَّوَال بزمان يسير لا يمكن الصَّلاة فيه فالشَّهادة مقبولة لتعلّق فائدة الإفطار بها، وهل تفوت الصَّلاة؟ حكى في "النَّهَاية" قولاً: أنها لا تَفُوت، ويصلُّونها غدًا أداء؛ لأن التَّردُّد في الهلال ممَّا يكثر، وصلاة العيد من شعائر الإسلام فيقبح أن لا تقام على النَّعت المعهود في كل سنة فأشبه هذا غلط الحَجيج في الوقوف فإنه يقام وقوفهم يوم العاشر مقام الوقوف يوم التاسع، وظاهر المذهب ولم يذكر الجُمهور سواه أنَّ صلاة العيد فائتة لخروج وقتها ثم قضاؤها مبني على أن النَّوافل المؤقتة هل تقضي أم لا إن قلنا: لا تقضي فلا كلام، وإن قلنا: تقضي فيبنى على أنها هل هي بمثابة الجمعة أم لا؟ إن قلنا: هي بمثابتها في الشَّرَائِطِ والأحكام لم تُفْض وإلاَّ فلهم قضاؤها من الغَدِ وهو الصحيح، وقد روي: "أَنَّ رَكْبًا جَاؤُوا إِلَى النَّبِيَّ يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ رَأَوُا الْهِلاَلَ بِالْأَمْسِ فَأمَرَهُمْ أَنْ يُفْطِرُوا وإِذَا أَصْبَحُوا أَنْ يَغْدُوا إِلَى مُصَلاَّهُمْ" (¬2). وهل لهم أن يصلوها في بقية اليوم؟ وجهان: مبنيان على أنَّ إقامتها في الحادي والثَّلاثين أداء أم قضاء إن قلنا: أداء فلا، وإن قلنا: قضاء وهو الصحيح فيجوز ثم هو أولى أو التأخير إلى ضَحْوَة الغد فيه وجهان: أحدهما: أن التَّأْخير أَوْلَى؛ لأن اجتماع النَّاس فيها أمكن والضَّحوة بالضحوة أشبه. وأصحهما: أن التقديم أولى مبادرة إلى القضاء وتقريباً له من وقته وهذا إذا سهل جمع النَّاس بأن كانوا في قرية أو بلدة صغيرة. أمَّا إذا عسر ذلك فالأولى التَّأخير إلى الغد (¬3)، كيلا يفوت الحضور على النَّاس وإذا قلنا: إنهم يقيمونها في الحَادِي والثَّلاثين ¬
قضاء، فهل يجوز تأخيرها عنه؟ فيه قولان: ومنهم من يقول وجهان: أصحهما: نعم كالفرائض إذا فَاتَتْ لا يتعيَّن وقت قضاؤها. والثَّاني: لا، لأن الحادي والثَّلاثين يجوز أن يكون عيداً بأن يخرج الشَّهر كاملاً بخلاف ما بعده من الأيام ثم حكى إمام الحَرَمَيْن عن بعض الأصْحَاب، أنا إذا قلنا: تقضى بعد الحادي والثَّلاثين فيمتدُّ إلى شهر، فإن وقع بعد شهر فعلى وجهين. قال: ولعله في شهر شوال نقص أو كمل وفي بقيَّة ذي الحجّة ولا اعتدّ به من المذهب وجميع ما ذكرناه فيما إذا شهد عدلان مقبولان أوْ مستوران وعدلا في الأوقات المذكورة. فأمّا إذا شهد قبل الغروب وعدلا بعد الغروب فقولان، ويقال وجهان: أحدهما: أنَّ العبرة بوقت الشَّهادة؛ لأن التَّعْديل وإن بَانَ أخيراً فهو مستند إلى الشَّهَادة. وأصحهما: أنَّ العبرة بوقت التَّعْديل؛ لأنه وقت جواز الحكم بالشَّهادة، فعلى هذا يصلُّون من الغد بلا خلاف وتكون أداء، وعلى الأول تعود الاختلافات المذكورة، فهذا هو الَّذي أورده معظم الأصحاب وإيضاحه. ولنعد إلى ما يتعلَّق بلفظ الكتاب. أما قوله: "وإذا فَاتَتْ صلاة العيدين بزوال الشَّمس ... " إلى آخره فاعلم أن الاختلافات المذكورة، عبر عنها في "الوسيط" بالأقوال وإيراد في الكتابين يقتضي طردها في فوات صَلاَةِ العيد للنَّاس كلهم، وفواتها في حق الأفراد وفيما إذا كان الفوات لاشتباه الهلال، وغيره ولكن الفهوم من كلام الأصحاب تخصيص الاخْتِلاف المذكور بصورة اشتباه الهلال وفوات العيد على جميع الناس. فأما إذا اختصَّ الفوات بالأفراد فلا يجري إلا قولان: منع القضاء وجوازه على التَّأييد، ولا يتَّجه التخصيص بالحادي والثَّلاثين لما ذكره إمام الحرمين. فقال: هذا اليوم يجوز أن يفرض عيداً، فإقامة شعار الصَّلاة فيه لا يبعد، وفيما بعده من الأيام إقامة الشّعار المعهود مما يستنكره النَّاس، إلا خواصّهم وتعطيل الشّعار أهون من ذلك، ومعلوم أن هذا لا مساغ له في قضاء الأفراد، وأما المصير إلى القضاء في شهر العيد كله، فلم أر نقله إلاَّ للإمام ولم ينقله إلاَّ في اشْتباه الهِلاَل فاعرف ذلك. ثم قوله: "لا تقضى" معلّم بالألف؛ لأن عند أحمد هي مقضية. وقوله: "تقضى أبداً" بالميم والحاء، فإن عندهما لا تقضى والزَّاي، لأن اختيار المزنيّ مثله. فإن قيل حيث قلنا: بتخصيص القَضَاء بالحادي والثَّلاثين، فلا شك أن ذلك في عيد الفطر، فهل يختص بالحادي عشر إذا فرض ذلك في عيد الأضحى؟ قلنا: نعم؛ لأنه يجوز أن يفرض يوم عيد إلاَّ أن يقال: إن الشَّهادة بعد دخول ذي الحجة غير
مسموعة على قياس ما ذكروه في الحادي والثَّلاثين -والله أعلم-. وقوله: "وإذا شهد الشُّهود على الهلال قبل الزَّوَال أفطرنا وصلَّينا" المراد منه ما إذا سبقت الشَّهادة الزَّوال بقدر ما يسع الصَّلاة، فإن لم يسع فالحكم كما لو شهدوا بين الزَّوال والغروب. وقوله: "ثم قضاؤها في أول اليوم أولى، أو في الحادي والثَّلاثين" فرض الخلاف في الأولويّة جواب منه على الأصح، وهو أن قضاؤها في بقية اليوم جائز، وفيه خلاف تقدم -والله أعلم-. قال الغزالي: وَإِذَا كَانَ العِيدُ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَلأِهْلِ السَّوَادِ الرَّجُوعُ قبْلَ الجُمُعَةِ، وَإِنْ كَانَ النِّدَاء يُبْلغُهُمْ عَلَى الصَّحِيحِ لِلْخَبَرِ. قال الرافعي: إذا وافق العيد يوم الجُمُعَة، وحضر أهل القرى الَّذين يبلغهم النِّداء لصلاة العيد، وعلموا أنهم لو انصرفوا لفاتتهم الجمعة فهل عليهم أن يصيروا ليصلوا الجمعة، أم لهم أن ينصرفوا ويتركوها؟ فيه وجهان: أحدهما: عليهم الصّبر كأهل المصر وكسائر الأيام. وأصحهما: أن لهم أن ينصرفوا ويتركوها، ويحكى هذا عن نصه قديماً وجديدًا (¬1) لما روي: "أنه اجتمع عيدان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في يوم واحد فصلى العيد في أول النهار، وقال: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ اجْتَمَعَ لَكُمْ فِيهِ عِيدَانِ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَشْهَدَ مَعَنَا الجُمُعَةَ فَلْيَفعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أن يَنْصَرِفَ فَلْيَفْعَلْ" (¬2). وأراد به أهل السَّواد وهذا هو الخبر الذي أبهم ذكره في الكتاب. ¬
كتاب صلاة الخسوف
قال الغزالي: كِتَابُ صَلاَةِ الخُسُوفِ وَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلاَ تُكْرَهُ إلاَّ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهِيَةِ، وَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ (ح) وَقِيَامَانِ، فَإِنْ تَمَادَى الْكُسُوفُ فَهَلْ يَجُوزُ زَيَادَةُ ثَالِثَةٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَإنْ أَسْرَعَ الانْجِلاَء فَهَلْ يُقْتَصَرُ عَلَى وَاحِدَةٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: قال الله سبحانه وتعالى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} (¬1). قال بعض المفسرين: أراد به صلاة الخُسوف والكسوف. وقال أبو بكرة: "كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَانْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ النَّبِيُّ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلْنَا فَصَلَّى بِنَا رُكْعَتَيْنِ، حَتَّى انْجَلَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتٍ أَحَدٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا، فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ" (¬2). صلاة الكُسوف والخُسوف سنّة مؤكدة، ولا فرق في استحبابها بين أوقات الكراهة وغيرها؛ لأن لها سببًا خلافاً لمالك وأبي حنيفة، وتفصيل مذهبهما ما قدمناه في "فصل الأوقات المكروهة" ثم الكلام في أقلّ هذه الصّلاة وأكملها. أما أقلها فهو أن يتحرّم بنيّة صلاة الكسوف ويقرأ الفاتحة، ثم يركع ثم يرفع فيقرأ الفاتحة ثم يركع مرة أخرى ثم يرفع ويطمئن ثم يسجد، وكذلك يفعل في الركعة الثانية فهي إذاً ركعتان في كل ركعة قيامان وركوعان كما ذكر في الكتاب، وقراءة الفاتحة في كل ركعة مرتين من حدّ الأقلّ أيضاً. وقوله: "ركوعان وقيامان" معلم بالحاء والألف. أما الحاء فلأن أبا حنيفة يقول: ركعتان كسائر الصلوات لكي يطول فيها القراءة. وأما الألف فلأن في رواية عن أحمد يركع في كل ركعة ثلاث مرات، والأظهر عنه مثل مذهبنا. لما رِوي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "رَكَع أَرْبَعَ رُكُوعَاتٍ في رَكْعَتَيْنِ وَأْرْبَعَ سَجَدَاتٍ" (¬3). وقد اشتهرت الرواية عن فعل رسول الله. ¬
ولو تمادى الكسوف، فهل يزيد ركوعاً ثالثاً فيه وجهان: أحدهما: نعم، ويحكى عن ابن خزيمة وأبي سليمان الخطابي وأبي بكر (¬1) الضَّبعي من أصحابنا على هذا الوجه لا يختصّ الجواز بالثَّالث له أن يزيد رابعاً وخامساً حتى ينجلي الكُسوف؛ لما روي أنه: "صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَرْبَعَ رُكُوعَاتٍ" (¬2). ويروى: "خمسُ رُكُوعَاتٍ" (¬3) ولا محمل له إلا حالة التّمادي. وأظهرهما: أنه لا تجوز الزِّيادة كسائر الصَّلوات، لا يزاد على أركانها، وروايات الركوعين أشهر وأصح، فيؤخذ بها، كذلك ذكره الأئمة. ولو كان في القيام الأول فانْجَلَى الكُسوف لم تبطل الصلاة، ولكن هل يجوز أن يقتصر على قومة واحدة وركوع واحد في كل ركعة فيه وجهان بنوهما على جواز الزّيادة عند التَّمادي إن جوزنا الزِّيادة جوزنا النُّقصان، بحسب مدّة الخُسوف وإلا فلا، ولو تحلَّل من صلاته والخسوف باق، فهل له أن يستفتح صلاة الخُسوف مرة أخرى؟ فيه وجهان خرجوهما على جواز الزيادة في عدد الركوع، والمذهب المنع. وقوله: "فهل تجوز الزيادة بثالث" أي بركوع ثالث وقيام ثالث، وكذا قوله: "فهل يقتصر على واحد؟ " وفي بعض النسخ: "ثالثة وواحدة" على تأويل الرَّكْعَة والقَوْمَة -والله أعلم-. قال الغزالي: وَأكْمَلُهَا أَنْ يَقْرَأَ فِي القِيَامِ الأَوَّلِ بَعْدَ الفَاتِحَةِ سُورَةَ البَقَرَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ آلَ عِمْرَانَ وَفِي الثَّالِثَةِ النِّسَاءَ وَفِي الرَّابِعَةِ المَائِدَةَ أَوْ مِقْدَارَهَا وَكُلُّ ذَلِكَ بَعْدَ الفَاتِحَةِ، وُيسَبِّحُ فِي الرُّكُوعِ الأوَّلِ بِقَدْرِ مَائَةِ آيَةٍ وَفِي الثَّانِي بِقَدْرِ ثَمَانِينَ وَفِي الثَّالِثِ بِقَدْر سَبْعِينَ وَفِي الرَّابعِ بِقَدْرِ خَمْسِينَ، وَلاَ يُطَوِّلُ السَّجَدَاتِ وَلاَ القَعْدَةَ بَيْنَهُمَا. قال الرافعي: ولو اقتصر في كل قَومَةِ على قراءة الفاتحة وفي كل ركوع على قدر الطمأنينة جاز، كما في سائر الصلوات، لكن المستحب أن يقرأ في القيام الأَول بعد "الفاتحة" وسوابقها "سُورَةَ الْبَقرة" أو مقدارها إن لم يحسنها، وفي الثاني: "آل عمران" أو مقدارها، وفي الثالث "النساء" أو مقدارها، وفي الرابعة "المائدة" أو مقدارها، وكل ¬
ذلك بعد "الفاتحة" هذا ما ذكره في الكتاب وعزاه الأصحاب إلى رواية البويطي. قال المزني في: "المُخْتَصَر" يقرأ في القيام الأول البقرة أو مقدارها إن لم يحفظها، وفي الثاني قدر مائتي آية من سورة البقرة، وفي الثالث قدر مائة وخمسين آية منها، وفي الرابع قدر مائة آية منها وكل ذلك بعد الفاتحة، وهذه الرواية هي التي أوردها الأكثرون وليستا على الاختلاف المحقق، بل الأمر فيه على التَّقريب وهما متقاربتان. وقد روى الشَّافعي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- بإسناده قال: "خُسِفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ فَصَلَّى وَالنَّاسُ مَعَهُ فَقَامَ قِياماً طَوِيلاَ فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَاماً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ قِياماً طَوِيلاً وَهُوَ دُونَ الْقِيَامٍ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوع الْأوَّلِ ثُمَّ رَفَع فَقَامَ طَوِيلاً وَهُوَ دُونَ القِيَامِ الأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعَ الأَوَّلِ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ انْصَرَفَ" (¬1). وأما قدر مُكْثِهِ في الرُّكوع فينبغي أن يسبح في الركوع الأول بقدر مائة اآية من "البقرة" وفي الثاني بقدر ثمانين منها، وفي الثّالث بقدر سبعين، وفي الرابع بقدر خمسين والأمر فيه على التَّقريب، ولذلك قال كثير من الأصحاب، يسبح في الركوع الثاني بقدر ثمانين آية إلى تسعين. وقال صاحب "الإفصاح" يسبح في الثالث بقدر خمسين أو سبعين آية. ويقول في الاعتدال (¬2) عند كل ركوع: "سمع الله لمن حمده" و"ربنا لك الحمد". ¬
وهل يطوّل السجود في هذه الصلاة؟ فيه قولان ويقال: وجهان: أظهرهما -وهو المذكور في الكتاب-: لا، كما لا يزيد في التَّشهد، ولا يطول القَعْدَة بين السَّجدتين. والثاني وبه قال ابن سريج-: نعم؛ لأنه منقول في بعض الروايات مع تطويل الركوع أورده مسلم في "الصحيح" ويحكي هذا القول عن رواية "البويطي" ونقله أبو عيسى التِّرمذي في "جامعه" عن الشَّافعي -رضي الله عنه- أيضاً (¬1). قال الغزالي: وَيُسْتَحبُّ أَنْ تُؤَدَّى بِالْجَمَاعَةِ، وَأَنْ يَخْطُبَ الإِمَامُ بَعْدَهَا خُطْبَتَيْنِ كَمَا فِي العِيدِ وَلاَ يَجْهَرُ (م) فِي صَلاة الكُسُوفِ وَيَجْهَرُ فِي الخُسُوفِ. قال الرافعي: في الفصل ثلاث مسائل: إحداها: أنه يستحب الجماعة في صلاة الخسوفين. أما في خسوف الشمس فقد اشتهر إقامتها بالجماعة عن فعل رسول الله وكان يُنَادَى لَهَا الصَّلاةَ جَامِعَةً (¬2). وأما في خسوف القمر، فلما روي عن الحسن البصري قال: "خَسَفَ الْقَمَرُ وابن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- بالبَصْرَةِ، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ ركعةٍ رُكُوعَانِ، فَلَمَّا فَرَغَ ¬
رَكِبَ وَخَطَبَنَا، وَقَالَ: صَلَّيْتُ بِكُمْ كَمَا رَأَيْتُ رسول الله يُصَلِّي بِنَا" (¬1). وإنما تقام الجَمَاعة لهما في المسجد دون الصَّحراء لما قدمنا من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- ولأن هذه الصَّلاة بعرض الفَوَات بالانجلاء. واعلم قوله: "ويستحبّ أن تؤدى بالجماعة" بالحاء والميم؛ لأن عند أبي حنيفة لا تؤدى صلاة خسوف القمر بالجماعة، بل يؤدونها منفردين. وعند مالك -رحمه الله- لا يصلون له أصلاً، واللفظ يشمل الصَّلاتين جميعاً، ويجوز أن يعلّم بالواو أيضاً؛ لأن إمام الحرمين قال: ذكر شيخنا الصيدلاني من أئمتنا من خرج في صلاة الخسوفين وجهاً؛ أن الجماعة شرط فيها كالجمعة، ولم أجده في كتابه هكذا لكن قال: خرج أصحابنا وجهين في أنها، هل تصلّى في كل مسجد أو لا تكون إلا في جماعة واحدة؟ كالقولين في العيد. الثانية: يستحبُّ للإمام أن يخطب بعد الصلاة خطبتين بأركانهما وشرائطهما المذكورة في صلاة الجمعة (¬2)، ولا فرق بين أن يقيموا الجماعة في مصر أو يقيمها المسافرون في الصَّحراء. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد -رحمهم الله- لا خطبة في هذا الباب أصلاً. لنا ما روى عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لما خُسِفَتِ الشَّمْسُ صَلَّى فَوَصَفَت صَلاتَهُ، ثُمَّ قالت فَلما انْجَلَت انْصَرَفَ وخطب الناس وذَكَرَ اللهِ تَعَالى جَدُّهِ واثْنَى، عَلَيْهِ" (¬3). وينبغي للإمام أن يحثَّ الناس في هذه الخطبة على الخير والتوبة عن المعاصي، ومن صلى منفرداً لم يخطب، فإن الغرض من الخطبة تذكير الغير. فإن قلت: قضية التّشبيه في قوله: "كما في العيد" أن يكبر في أوَّل الخطبتين كما يفعل في خُطْبتي العيد، فهل هو كذلك أم لا؟. فالجواب: أنّ كُتُبَ الأصحاب ساكتة عن التَّصريح بذلك مع تعرّضهم لأذكارها المفروضة والمندوبة على التّفصيل، وأعادها هاهنا ولو كان التّكبير مشروعاً هاهنا لأعادوا ذكره، سيما في المطوّلات، فإذًا المراد تشبيهُها بخطبتي العيد في تأخيرها عن الصَّلاة على الإطلاق -والله أعلم-. ¬
الثالثة: يستحبُّ الجهر بالقراءة؛ في صلاة خُسوف القمر والإسرار في خسوف الشمس. وبه قال مالك وأبو حنيفة خلافاً لأحمد -رحمهم الله- حيث قال: "يجهر فيها أيضاً" وبه قال أبو يوسف، وفيما ذكره الصَّيدلاني أن مثله يروى عن أبي حنيفة. لنا ما روى ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه حكى صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- في خُسوف الشمس فقال: "قرأَ نَحْواً مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ" (¬1). ولو جهر لكان لا يقدره وروي عنه أنه قال: "كُنْتُ إِلى جَنْبِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَمَا سَمِعْتُ مِنْهُ حَرْفاً" (¬2). وقوله في الكتاب: "ولا يجهر في صلاة الكُسُوف، ويجهر في صلاة الخُسُوف" تخصيص للفظ الكُسُوف بالشَّمس والخسوف بالقمر وقد قيل بذلك" لكن استعمال كل واحد من اللَّفظين فيهما صحيح سائغ في اللغة. وتجوز أن يعلّم قوله: "ولا يجهر" بالواو مع الألف؛ لأن أبا سليمان الخطَّابي ذكر أنَّ الذي يجيء على مذهب الشَّافعي -رضي الله عنه- الجهر فيهما واحتجّ له بما روى عن عائشة -رضي الله عنها-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى بِهِمْ في كُسُوفِ الشَّمْسِ وَجَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ" (¬3) -والله أعلم-. قال الغزالي: فُرُوعٌ المَسْبُوقُ إِذَا أَدْرَكَ الرُّكُوعَ الثَّانِي لَمْ يُدْرِكِ الرَّكْعَةَ لِأَنَّ الاصْلَ هُوَ الأَوَّلُ. قال الرافعي: عدّ في "الوسيط" المسائل من هذا الموضع إلى قريب من آخر الباب ثلاثة فروع، وهذا الفصل يشتمل على أولَّها غرضه الكلام في المسبوق في هذه الصَّلاة فنقول: إن من أدرك الإمام في الركوع الأول من الركعة الأولى فقد أدرك الصَّلاة ولو أدركه في الرّكوع الأول من الرَّكعة الثَّانية كان مدركاً للركعة فإذا سلم الإمام قام وصلى ركعة بركوعين، ولو أدركه في الركوع الثاني من إحدى الرّكعتين فالمنقول عن نصّه في البويطي أنه لا يكون مدركاً لشيء من الرَّكعة أصلاً، وعن صاحب "التَّقْرِيب" حكاية قول آخر أنه بإدراك الرّكوع الثاني يصير مدركاً للقومة الَّتي قبله فعلى هذا لو أدرك الرّكوع ¬
الثَّاني من الرّكعة الأولى قام عند سلام الإمام وقرأ وركع. واعتدل وجلس وتشهَّد وتحلّل ولا يسجد؛ لأن إدراك الركوع إذا أثر في إدراك القيام الذي قبله كان السّجود بعده محسوبًا لا محالة. واتفق الأصحاب على أن الصَّحيح هو الأول، ووجهوه بأنَّ الركوع الأول هو الأصل، والثَّاني في حكم التابع له ألا ترى أنه لا يصير بإدراكه مدركاً لجميع الركعة ولو صار مدركًا بإدراكه لصار مدركًا لجميع الركعة، كما لو أدرك جزءاً من الرّكوع في سائر الصَّلوات، وأيضاً فإن الأمر بقيام وركوع من غير سجود مخالف لنظم الصَّلوات كلها، وعلى القول الصحيح لو أدركه في عهد القيام الثاني لا يكون مدركًا لشيء من الرَّكعة أيضاً. إذا عرفت ذلك فقوله في الكتاب: "لم يدرك الرَّكعة" إن أراد به أنه غير مدرك لشيء من الرَّكعة فينبغي أن يعلَّم بالواو، وإن أراد به أنه غير مدرك بجملتها فلا يجوز إعلامه؛ لأن القولين متفقان عليه. قال الغزالي: وَتَفُوتُ صَلاَةُ الكُسُوفِ بِالانْجِلاَءِ وَبِغُرُوبِ الشَّمْسِ كَاسِفَةً، وَيفُوتُ الخُسُوفُ بِالانْجِلاءِ وبِطُلُوعِ قُرْصِ الشَّمْسِ، وَلاَ يَفُوتُ بِغرُوبِ القَمَرِ خَاسِفاً؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ كُلَّهُ سُلْطَانُ القَمَرِ، وَلاَ يَفُوتُ بِطُلُوع الصُّبْحِ عَلَى الجَدِيدِ لِبَقَاءِ الظُّلْمَةِ. قال الرافعي: الفرع الثاني: فيما يفوت به هذه الصّلاة. أَمَّا صلاة خسوف الشَّمس فتقوت بطريقين: أحدهما: الانجلاء فإذا لم يصلّ حتى انجلت لم يصل. واحتجّ له بما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "فَإِذَا رَأيْتُمْ ذَلكَ فَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِي" (¬1). دل أنه لا يصلِّي بعده، ثم الاعتبار بانْجِلاَء الكُلِّ أَمَّا انجلاء البعض فلا أثر له، وله أن يشرع في الصَّلاة للباقي كما لو لم ينكسف إلاَّ ذلك القدر ولو حال سحاب، ولم يَدْرِ هل انجلت أم لا؟ فله أن يصلي؛ لأن الأَصل بقاء الكسوف وعلى عكسه لو كانت تحت الغمام فظنَّ الكسوف لم يصل حتى يستيقن. والثَّاني: أن تغرب كاسفة فلا يصلِّي؛ لأن سلطان الشَّمس النَّهار، وقد ذهب وبطل الانتفاع بضوئها نيّرة كانت أو منكسفة. وأمَّا صلاة خسوف القمر فتفوت بطريقين أيضاً: أحدهما: الانْجِلاَء كما سبق. ¬
والثَّاني: طلوع الشمس فإذا طلعت والقَمر بعد خاسف لم يصل؛ لأنَّ سلطان القمر الليل وقد ذهب وبطلت منفعته بطلوع الشمس، ولو غاب القمر خاسفاً، لم يؤثر وجازت الصلاة؛ لأن سلطان القمر باقٍ وهو الليل فغروبه كغيبوبته تحت سحاب خاسفًا. ولو طلع الفجر وهو خاسف أو خسف بعد طلوع الفجر فقولان: القديم: أنه ليس له أن يصلِّي لذهاب اللَّيل بطلوع الفجر. والجديد: أن له ذلك لبقاء ظُلْمَةِ اللَّيل والانتفاع بضوء القمر في هذا الوقت، وعلى هذا لو شرع في الصَّلاة بعد طلوع الفجر، فطلعت الشَّمس في أثنائها لم تبطل صلاته كما لو شرع قبل طلوع الفجر، وكما لو اتَّفق الانجلاء في أثناء الصلاة، وذكر القاضي ابْن كج، أن هذا الانجلاء مخصوص بما إذا غَابَ القمر خاسفاً بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشَّمس، فأما إذا لم يَغِب وبقي خاسفاً، فلا خلاف في أن الشروع في الصَّلاة جائز (¬1). قال الغزالي: وَلَوِ اجْتَمَعَ عِيدٌ وَكُسُوفٌ قُدِّمَ العِيدُ إِنْ خِيفَ فَوَاتُهُ وَإِلاَّ فَقَوْلاَنِ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأخِيرِ، وَلَوْ اجْتَمَعَ كُسُوفٌ وَجُمُعَةٌ قُدِّمَتِ الجُمُعَةُ عِنْدَ خَوْفِ الفَوَاتِ وَإلاَّ فَقَوْلاَنِ، وَلَوِ اجْتَمَعَ جَنَازَةٌ مَعَ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ فَهِيَ مُقَدَّمَةٌ إِلاَّ الجُمُعَةَ فَإِنَّهَا تُقَدَّمُ عِنْدَ ضِيقِ وَقْتِهَا، وَيكْفِيهِ لِلْجُمُعَةِ وَالْكسُوفِ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَا لِلْعِيدِ وَالْكُسُوفِ وَلاَ يَبْعَدُ اجْتِمَاعُ العِيدِ وَالْكُسُوفِ فَإِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. قال الرافعي: الفرع الثالث فيما إذا اجتمعت صَلاَتان في وقت واحد، والأَصل فيه تقديم ما يخاف فواته، ويتعلّق أيضاً بالنظر إلى الأوكد، فالأوكد من الصلاة وفيه صور: أحدها: إذا اجتمع عيد وكسوف نظر إن خيف فوات صلاة العيد لضيق وَقْتها قدمت صلاة العيد، وإن لم يخف فقولان: أحدهما: وهو رواية البويطي: يبدأ صلاة العيد؛ لأنها أوكد لمشابهتها الفرائض بانضباط وقتها. وأصحهما: أنه يبدأ بصلاة الكُسوف، لأنه يعرض الفوات بالانْجِلاَءِ. الثَّانية: لو اجتمع كسوف وجمعة نظر إن خيف فوات الجمعة فهي مقدمة، وإن لم يخف فواتها فقولان: ¬
أحدهما: تقدم الجمعة لافتراضها. وأصحهما: يقدم الكسوف لخطر الفوات ولو اجتمع الكسوف مع فريضة أخرى، فالحكم كما لو اجتمع مع الجمعة ولو وجد الخسوف في وقت الوتر والتَّراويح قدم صلاة الكسوف، وإن خيف فوات الوتر؛ لأن صلاة الخسوف آكد ولأنها إذا فاتت لا تقضى. الثالثة: لو اجتمع عيد وجنازة أو كسوف وجنازة قدمت صلاة الجنازة (¬1) لما يخشى من حدوث التَّغير في الميت ثم لا يتبعها الإمام إذا قدمها بل يشتغل بعدها بغيرها من الصلوات، ولو لم تحضر الجَنَازَةُ أو بعد أو حضرت ولم يحضر الولي أفرد الإمام جماعة ينتظرونها واشتغل بغيرها. ثم بعد الجنازة يقدم العيد أو الكسوف فيه الكلام الذي سبق. ولو حضرت وقت الجمعة جنازة ولم يضق وقت الجمعة قدمت الجَنَازة، وإن ضاق قُدِّمت الجمعة لافتراضها. وقال في "النهاية": قطع شيخي بتقديم صلاة الجنازة؛ لأن للجمعة خلفاً، وهو الظهر والّذي يحذر وقوعه من الميت لو فرض لم يجبره شيء. وليكن قوله في الكتاب: "إلا الجمعة فإنها تقدم" معلماً بالواو لهذا الوجه. وتختم هذه الصورة بفصلين: أحدهما: في الخطبة المأتى بها لِلصَّلاتين المجتمعتين. أما إذا اجتمع العيد والكسوف فيخطب لهما بعد الصَّلاتين خطبتين، ويذكر فيهما شأن العيد والكسوف. وأما إذا اجتمع الجمعة والكسوف، فإن اقتضى الحال تقديم الجمعة خطب لها، ثم صلّى الجمعة ثم صلى الكسوف ثم خطب لها، وإن اقتضى الحال تقديم صلاة الكسوف بدأ بها، ثم خطب للجمعة وذكر فيها شأن الكسوف كما أن النبي: "اسْتَسْقَى في خُطْبَتِهِ لِلْجُمُعَةِ ثُمَّ صَلَّى الْجُمُعَةِ" (¬2). واعرف في قوله: "ويكفيه للجمعة والكسوف خطبة واحدة" شيئين: ¬
أحدهما: أن المراد من هذا الكلام أنه يكفيه من الخطبة ما كان يكفيه لو لم يصل إلا واحدة من الصَّلاتين وهي خطبتان، ولا يحتاج إلى أربع خطب وليس المراد أنه تكفي خطبة فردة. وثانيهما: أن كلام الأصحاب ينازع في اللَّفظ الذي ذكره فإنهم قالوا: "لا يخطب للجمعة والكسوف"؛ لأن الخطبة فرض في الجمعة، ولا يجوز التَّشريك بين الفرض والنَّفل، ولكن يخطب للجمعة، ثم يذكر فيها أمر الخُسوف بخلاف العيد والخسوف يجوز أن يقصد بخطبته كلتيهما؛ لأنهما سنتان (¬1). قالوا: ولهذا قال الشَّافعي -رضي الله عنه- في "المختصر" في مسألة اجتماع العيد والخسوف "ثم يخطب للعيد والخُسوف". وقال في مسألة اجتماع الجمعة والخسوف: "ثم يخطب للجمعة ويذكر فيها الخسوف " فإذاً اللفظ مؤول، والمعنى أنه لا يحتاج إلى خُطْبَتَيْن لكلِّ صلاة. والفصل الثَّاني: أن طائفة اعترضت على تصوير الشَّافعي -رضي الله عنه- اجتماع العيد والخسوف، وقالت: هذا محال؛ لأن العيد إما الأول من الشهر، وإما العاشر والكسوف لا يقع إلاَّ في الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين، وأجاب الأَصحاب عنه بوجوه: أحدها: أن هذا قول أهل التَّنْجيم، وأما نحن فنجوّز وقوع الكسوف في غير اليومين المَذْكُورَيْن، فإنَّ الله تعالى على كلِّ شَيْءٍ قدير، وقد نقل وقوع مثل ذلك إذ صح أَنَّ الشَّمْسَ انْكَسَفَتْ يَومَ مَاتَ إِبْرَاهِيم ابْنُ رسول الله (¬2). وروى الزُّبير بن بكَّار -رضي الله عنه- في كتاب "الأَنْسَابِ" أَنَّه تُوُفِّيَ فِي العَاشِرِ من رَبيعٍ الأَوَّلِ" (¬3). وروى البَيْهَقِيّ مثله عن الواقدي بإسناده (¬4)، وكذلك اشتهر أن قتل ¬
الحسين بن علي -رضي الله عنهما- كان يوم عاشوراء. وروى البيهقي عن أبي قبيل أنه لما قتل الحسين -رضي الله عنه- كسفت الشَّمْس كسفة بدت الكَوَاكب نصف النَّهَار حتى ظننا أنها هي. والثاني: هَبْ أَنَّ الكسوف لا يقع إلاَّ في الثَّامن والعشرين أو التَّاسع والعشرين، لكن يجوز أن يوافق العيد اليوم الثَّامن والعشرين بأن يشهد شاهدان على نقصان رجب، ويفرض مثل ذلك في شعبان ورمضان وكانت في الحَقِيقَةِ كاملة فإنَّ اليوم الأول المحسوب من شعبان بناء على شهادتهما يكون من رجب ويومان من أول رمضان يكونان من شعبان، فيبقى سبعة وعشرون ويوافق العيد اليوم الثامن والعشرين. والثالث: هَبْ أن ذلك لا يقع أصلاً لكن الفقيه قد يصور ما لا يتوقع وقوعه لِتَشْحِيذ الخاطر وتحصيل الدُّرْية في مجاري النظر واستخراج التَّفَاريع الدَّقيقة -والله أعلم-. قال الغزالي: وَلاَ تُصَلَّى صَلاَةُ الكُسُوف لِلْزَّلاَزِلِ وَغَيْرِهَا مِنَ الآيَاتِ. قال الرافعي: فيما سوى كسوف النّيرين من الآيات كالزَّلازل والصَّواعق والرياح الشديدة لا يصلّي له بالجماعة إذ لم يثبت ذلك عن رسول الله ولكن يستحب له الدعاء والتّضرع. روي عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- قال: "مَا هَبَّتْ رِيحٌ قَطُّ إِلاَّ جَثَا النَّبِيُّ على رُكْبَتَيْهِ، وقال: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً، وَلاَ تَجْعَلْهَا عَذَاباً اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحاً وَلاَ تَجْعَلْهَا رِيحاً" (¬1). وكذلك يستحب لكلِّ أحد أن يصلّي منفرداً لئلا يكون على غفلة إن حدثت حادثة، فلذلك قال في الكتاب: "ولا يصلِّي صلاة الكسوف" أي كما يصلي للكسوف ولم يقل: ولا يصلي مطلقاً. وليكن قوله: "ولا يصلي" معلَّماً بالألف؛ لأن عند أحمد يصلّي جماعة في كل آية وبالواو؛ لأنه ذكر أن الشافعي -رضي الله عنه- روى أن عَلِيّاً -رضي الله عنه- صَلَّى فِي زَلْزَلَةٍ جَمَاعَةً" (¬2) ثم قال: إن صحَّ قلت به فمن الأصحاب من قال هذا قول آخر له في الزلزلة وحدها، ومنهم من عمَّمه في جميع الآيات (¬3) -والله أعلم-. ¬
كتاب صلاة الاستسقاء
كِتَابُ صَلاَةِ الاسْتِسْقَاءِ قال الغزالي: وَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْمِيَاهِ، وَلَوِ انْقَطَعَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ استُحِبَّ لِغَيْرِهِمْ أَيضًا هَذِهِ الصَّلاَةُ، وَلاَ بَأْسَ بِتَكْرِيرِهَا إِذَا تَأخَّرَتِ الإِجَابَةُ، وَإنْ سُقَينَا قَبْلَ الصَّلاَةِ خَرَجْنَا للشُّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالوَعْظِ، وَهَل نُصَلِّي لِلْشُّكْرِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ. قال الرافعي: المراد من الاسْتِسْقَاءِ في الباب مسألة الله تعالى سُقْيَا عباده عند حاجتهم إليه، وله أنواع: أدناها: الدُّعاء المجرَّد من غير صلاة ولا خلف صلاة، إمّا فرادى أو مجتمعين لذلك. وأوسطها: الدّعاء خلف الصلوات، وفي خطبة الجمعة ونحو ذلك. وأفضلها: الاسْتِسْقَاء بركعتين وخطبتين كما سنصفه. والأخبار وردت بجميع ذلك، وأنكر أبو حنيفة -رحمه الله- استحباب النوع الثالث. وقال: "المسنون في الاسْتِسْقَاء هو الدعاء، والخطبة والصلاة لها بدعة". لنا: ما روي عن عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عن عمه أنّ رسول الله: "خَرَجَ بِالنَّاسِ يَسْتَسْقِي فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِيهِمَا، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَدَعَا وَاسْتَسْقَى وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ" (¬1). وعن ابْن عباس -رضي الله عنهما- أنَّ النبي: "خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى مُتَبَذِّلاً مُتَوَاضِعاً، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي الْعِيدَ" (¬2). ولا فرق في اسْتِحْبَاب الاسْتِسْقَاء بين ¬
أهل القُرى والبَوَادِي والأَمصار ولا بين المقيمين والمسافرين، ويُسنُّ لهم جميعاً الصلاة والخطبة له لاستواء الكلِّ في الحاجة. وقوله في الكتاب: "وهي سنة" أُعلم بالحاء لرجوعه إلى ترجمة الباب وهي صلاة الاستسقاء. وقد حكينا عن أبي حنيفة أن الصلاة غير مسنونة. وقوله: "عند انْقِطَاع المِيَاهِ". بيان لِلسَّبب الدَّاعي إلى الاسْتِسْقَاء وعمم به ما إذا انقطع المطر، وما إذا غارت العُيُون في ناحية أو انبثقت الأنهار ونحوها؛ لحصول الضّرار بجميع ذلك، ولا بد من قيد في قوله: "عند انقطاع المياه" وهو أن تمسّ الحاجة إليها في ذلك الوقت وإلاَّ فلا يستسقون، ثم في الفصل مسائل: أحدها: إذا انقطع المياه عن طائفة من المُسْلِمِين استحبّ لغيرهم أن يصلوا وَيَسْتَسْقوا لهم ويسألوا الزيادة لأنفسهم (¬1). روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَرْجَى الدُّعَاءِ دُعَاءُ الأخَ لِلأْخ بِظَهْرِ الْغَيْب" (¬2)، وقد اثنى الله -تعالى جدّه- على الدّاعين لإخوانهم بقوله: "رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ" (¬3). الثانية: إذا استسقوا فسقوا فذاك وإن تأخرت الإجَابة استسقوا وصلّوا ثانياً وثالثاً حتى يسقيهم الله -تعالى جدّه- فإنَّ الله يحب المُلحِّينَ في الدعاء. وحكى القَاضِي ابْنُ كَجٍّ وجَّهَا آخر: أنهم لا يفعلون ذَلك إلا مرّة واحدة إذ لم ينقل زيادة عليها، ثم على ¬
الأوّل الصحيح، هل يعودون من الغد أم يصومون ثلاثة أيام قبل يوم الخروج كما سيأتي استحباب ذلك للخروج الأول؟ قال في "المختصر": يعودون من الغَدِ. وحكي عن القديم" أنهم يقدمون صوم ثلاثة أيّام، واختلفوا فيهما على طريقين: منهم من قال: هما قولان: وبه قال ابن القطان، وزعم أنه ليس في الاسْتِسْقَاء مسألة فيها قولان سوى هذه. والأول منهما أظهر. وقال الشيخ أبُو حَامِدٍ وغيره: هما مُنَزَّلان على حالين إن لم يشقَّ على الناس ولم ينقطعوا عن مصالحهم عَادُوا غدًا وبعد غدٍ، وإن اقتضى الحال التّأخير أيّاماً استأنفوا للخروج صوم ثلاثة أيام (¬1). وقوله في الكتاب: "ولا بأس بِتَكْرِيرها"، هذه الكلمة لا توجب إلاَّ نَفْي الخروج والكراهة. لكن الّذي قاله الجمهور أَنَّ التَّكرير مستحبٌّ نعم الاستحباب في المرَّة الأولى آكد. الثالثة: لو تأهَّبوا للخروج لصلاة الاسْتِسْقَاء فسقوا قبل وعد الخروج خرجوا للوعظ والدّعاء والشّكر على إعطاء ما عزموا على سؤاله، وهل يصلون شكراً؟. حكى المصنّف وإمَامُ الحَرَمَيْنِ فيه وجهين: أحدهما: لا؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا صَلَّى هَذِهِ الصَّلاةَ إِلاَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ" (¬2). وأصحهما: وهو الذي ذكره الأكثرون وحكاه المُحَامِلِيُّ عن نصه في "الأم": أنهم يصلُّون للشكر كما يجتمعون ويدعون. وأجرى الوجهان فيما إذا لم تنقطع المياه وأرادوا أن يصلُّوا للاستزادة. وقوله: "خرجنا للشكر يبين أن صلاة الاستسقاء تقام في الصحراء بخلاف صلاة الخسوف؛ لأن النبي: "كَانَ يَخْرُجُ لِلاسْتِسْقَاءِ إِلَى الصَّحْرَاءِ" (¬3)، أو لأن النَّاس يكثرون فيه فلا يَسَعُهُمُ المسجد غالباً. قال الغزالي: وَالأَحَبُّ أَنْ يَأمُرَ الإِمَامُ النَّاسَ قَبْلَ يَوْمِ المِيعَادِ بِصَوْمِ ثَلاثَةِ أَيَّام وَبِالْخُرُوجِ مِنَ المَظَالِمِ، ثُمَّ يَخْرُجُ يِهِمْ فِي ثِيَابِ بَذْلَةٍ وَتَخَشُّعٍ مَعَ الصِّبيَانِ وَالبَهَائِمِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ. قال الرافعي: الفصل يشتمل على آداب لهذه الصلاة: منها: أن يأمر الإمام النّاس بصوم ثلاثة أيَّام قبل اليوم الذي هو ميعاد الخُروج وبالخروج عن المظالم في الدَّم ¬
والعِرض والمال، وبالتَّقرب إلى الله -تعالى جدّه- بما يستطيعون من الخير، ثم يخرجون في اليوم الرابع صياماً، ولكل واحدة من هذه الأمور أثر في إجابة الدّعاء على ما ورد في الأخبار. ومنها: يخرج بهم في ثياب بُذِلَةٍ وَتَخَشُّع، ولا يتزينون ولا يتطيبون، لما قدمناه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، لكن يتنظَّفون بالماء والسِّواك وما يقطع الروائح الكريهة ويخالف العيد؛ لأن ذلك يوم زينة وهذا وقت مسألة واستكانة، فاللائق به التَّواضع ولبس بَذْلَة الثِّياب دون جديدها. ومنها: يستحبُّ [إخراج] (¬1) الصِّبيان والمَشَايخ؛ لأن دُعَاؤهم إلى الإجابة أقرب، وكذلك إخراج مَنْ لا هَيْئَةَ لها من النِّساء، وفي إخراج البهائم قصداً وجهان ذكرهما صاحب "النِّهاية" وغيره. أحدهما: لا يستحب إذ ليس لها سؤال وأهليّة طلب لكن لو أخرجت فلا بأس. وأصحهما: أنه يستحبُّ إخراجها؛ لما روي أنها تستسقي (¬2). وعن رسول الله أنه قال: "لَوْلاَ رِجَالٌ رُكَّعُ، وَصِبْيَانٌ رُضَّعُ، وَبَهَائِمُ رُتَّعُ، لَصُبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ صَبّاً" (¬3). وقوله في الكتاب: "والبَهَائم" جواب على هذا الوجه، وإدراج له في حدِّ الأحب، وليكن معلّماً بالواو للوجه الأول. وأما خروج أهل الذِّمَّة فقد نص الشَّافعي -رضي الله عنه- على كراهته والمَنْع منه إن حضروا مستسقى المسلمين؛ لأنهم ربّما كانوا سبب القحط واحتباس القَطْر، وإن تميزوا ولم يختلطوا بالمسلمين لم يمنعوا (¬4)؛ لأنهم مُسْتَرْزقة وقد تعجل إجابة دعاء الكافر اسْتدراجاً له. وحكى القاضي الرُّوياني وجهاً آخر: أنهم يمنعون وإن تميزوا إلا أن يخرجوا في غير يوم المسلمين، وهذا يقتضي إعلام قوله: "وأهل الذمة" بالواو، على أن إيراد الكتاب يقتضي إدراج الخروج بهم في حَدّ الأحبّ، لكن الجمهور ساكتون عنه والتّفصيل في أنهم يمنعون أم لا؟ ومن الآداب أن يذكر كل واحد من القوم في نفسه ما ¬
فعل من خير فيجعله شافعًا. ومن الآداب أن يستسقى بالأكابر وأهل الصَّلاح، سيّما من أقارب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اسْتَسْقَى عُمَرُ بِالْعَبَّاسِ (¬1)، وَمُعَاوِيةُ بِيَزِيدَ بْنِ الأَسْوَدِ" (¬2) -رضي الله عنهم-. قال الغزالي: وَيُصَلِّي بِهِم رَكْعَتَيْنِ كَصَلاَةِ العِيدِ وَيَقْرَأُ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَينِ "إنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً". قال الرافعي: قد روينا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي الْعِيدَ" (¬3). وفي رواية: "صَنَعَ فِي الاسْتِسْقَاءِ مَا صَنَعَ فِي الْفِطْرِ وَالأَضْحَى" (¬4). فينبغي أن ينادي لها الصَّلاة جامعة، ويكبّر في الأولى سبع تكبيرات زائدة، وفي الثانية خمساً ويجهر فيهما بالقراءة، ويقرأ في الأولى سورة (ق)، وفي الثانية (اقْتَرَبَت) (¬5). وعن بعض الأصحاب: أنه يقرأ في إحدى الركعتين (إنَّا أَرْسَلنَا) (¬6) حكاه الصيدلاني وغيره، وهو المذكور في الكتاب، ولتكن تلك الركعة هي الثانية ويقرأ في الأولى (ق) رعاية لنظم السور، وهكذا حكاه في "التَّهذِيب"، ثم روى المحاملي عن لفظ الشّافعي -رضي الله عنه-: أنه يقرأ فيهما ما يقرأ في العيدين، وإن قرأ (إِنَّا أَرْسَلْنَا) كان حسنًا، وهذا يثسعر بأنه لا خلاف في المسألة، وإن كان سائغاً، ومن أثبت خلافاً في أن الأحبّ ماذا؟. وقال: الأصح: أنه يقرأ فيهما ما يقرأ في العيد، وعلى هذه الطريقة أعلم قوله: (إِنَّا أَرْسَلْنَا) بالواو، وسبب تعيين هذه السورة، أنها لائقة بالحال لما فيها من ذكر الاستسقاء، قال الله -تعالى جده-: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} (¬7) الآية. وأما وقت إقامة هذه الصلاة فمنهم من قال: هي كصلاة العيد في الوقت؛ لأن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "صَلاَّهَا فِي هذَا الْوَقْتِ" وهذا ما ذكره صاحب "التهذيب"، وحكاه الإمام عن الشيخ أبِي عَلِيٍّ واستغربه، وذكر الرُّوياني وآخرون: أن وقتها يبقى بعد الزَّوال ما لم يصل العصر، ولك أن تقول: قدمنا وجهين ذكرهما الأئمة في أنَّ صلاة الاسْتِسْقَاء هل تكره في أوقات الكراهية أم لا؟ ومعلوم أَنَّ الأوقات المكروهة غير داخلة في وقت صلاة ¬
العيد ولا فيه مع انضمام ما بين الزَّوَال والعصر إليه فيلزم أن لا يكون وقت الاسْتِسْقَاء منحصراً (¬1) في ذلك، وليس لحامل أن يحمل الوجهين في أوقات الكراهية على قضائها، فإن صلاة الاستسقاء لا تقضى (¬2). وقد صرح صاحب "التَّتِمَّة" بأن صلاة الاسْتِسْقَاء لا تختص بوقت دون وقت بل أي وقت صلاها من ليل أو نهار جاز. وقوله: "ويصلي ركعتين" معلم بالحاء لما سبق أنه لا تستحب الصلاة. وقوله: "كصلاة العيد" بالميم والألف؛ لأن عند مالك ليس في هذه الصلاة تكبير زائد وبه قال أحمد في رواية: قال الغزالي: ثُمَّ يَخْطُبُ كَخُطْبَةِ العِيدِ وَلَكِنْ يبُدِّلُ التَّكْبِيرَاتِ بِالاسْتِغْفَارِ، ثُمَّ يُبَالِغُ فِي الدُّعَاءِ فِي الخُطبَةِ الثَّانِيَةِ، وَيْسَتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ فِيهِمَا وَيحَوِّلُ رِدَاءَهُ تَفَاؤُلاً بِتَحْوِيلِ الحَالِ فَيَنقْلِبُ الأعْلَى إلَى الأَسْفَلِ وَالَيَمِينَ إِلَى اليَسَارِ وَالظَّاهِرَ إلَى البَاطِنِ، وَيتْرُكُة كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يَنْزِعَ ثِيَابَهُ. قال الرافعي: قوله: "ثم يخطب" مرقوم بالألف؛ عنده لا خطبة لصلاة اسْتِسْقَاء، ولكن يدعو الإمام ويكثر في دعائه من الاسْتِغْفَار وهو مخير بين أن يدعو قبل الصلاة أو بعدها، وعندنا يخطب له، لما روى ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّ النبي: "صَنَعَ فِي الإسْتِسْقَاءِ كَمَا صَنَعَ فِي الْعِيدِ" (¬3). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم-: "خَرَجَ إِلَى الإِسْتِسْقَاءِ فَصَلَّىَ رَكْعَتَيْنِ وَخَطَبَ" (¬4). إذا ثبت ذلك فينبغي أنْ يخطب خطبتين، وهما في الأَرْكَان والشرائط كما تقدم، ويبدل التَّكبيرات المشروعة في أول خُطْبَتي العيد بالاستغفار، فيقول: "أسْتَغفِرُ اللهَ الَّذِي ¬
لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيَّومُ وَأتُوبُ إِلَيْهِ" ويختم كلامه بالاستغفار أيضاً ويكثر منه في الخطبة ومن قوله: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} (¬1). ويجوز أن يعلم قوله: "يبدل التكبيرات بالاستغفار" بالواو؛ لأن صاحب "البَيَان" حكى عن المُحَاملي أنه يكبِّر في أول الخطبتين، كما يكبِّر في أوّل خطبتي العيد. وقوله: "لكن يبدل" استدراك واستثناء عن تشبيه هذه الخطبة بخطبة العيد، لكن افتراقهما غير منحصر فيه، بل يفترقان في أمور أخر: منها: أن يستقبل القِبْلَة في الخطبة الثانية كما سنذكر. ومنها: أن يدعو في الأولى بما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما - أنّ النبي: كان إذا استسقى قال: "اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا، هَنِيئاً مَرِيئاً، مَرِيعاً غَدَقاً، مُجَلَّلاً سَحّاً، طَبقاً دَائِماً، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الغَيْثَ، وَلاَ تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ، اللَّهُمَّ إِنَّ بِالْعِبَادِ وَالْبِلاَدِ مِنَ الَّلأوَاءِ وَالْجَهْدِ وَالضَّنْكِ مَا لاَ نَشْكُوهُ إِلاَّ إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ أَنْبِتْ لَنَا الزَّرْعَ، وَأدِرَّ لَنَا الضَّرْعَ، وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، وَأنْبِتْ لَنَا مِنْ بَرَكَاتِ الأرْضِ، اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْجَهْدَ وَالْجُوعَ وَالْعُرْىَ، وَاكْشِفْ عَنَّا مِنَ الْبَلاَءِ مَا لاَ يَكْشِفُهُ غَيْرُكَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَغْفِرُكَ إِنَّكَ كُنْتَ غَفَّاراً، فَأرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدرَاراً" (¬2). ويكون في الخطبة الأولى وصدر الثَّانية مستقبلاً الناس مستدبراً للقبلة كما في الجمعة والعيد ثم يستقبل القبلة ويبالغ في الدعاء سرّاً أو جهراً، قال الله -تعالى جدّه-: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (¬3) وإذا أسرَّ دعا الناس سرّاً ورفعوا أيديهم في الدّعاء. وقد روى عن أنس -رضي الله عنه- أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "اسْتَسْقَى فَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ" (¬4). قال العلماء: وهكذا السّنة لمن دعا لدفع البَلاَء جعل ظهر كفَّيه إلى السَّمَاء، وإذا سأل الله -تعالى- شيئاً جعل بطن كفه إلى السماء. قال الشافعي -رضي الله عنه-: وليكن مِنْ دُعَائهم في هذه الحالة: "اللَّهُمَّ أَنْتَ أَمَرْتَنَا بِدُعَائِكَ، وَوَعْدَتْنَا إِجَابَتَكَ، وَقَدْ دَعَوْنَاكَ كَمَا أَمَرْتَنَا، فَأَجِبْنَا كَمَا وَعَدْتَنَا، اللَّهُمَّ فَامْنُنْ عَلَيْنَا بِمَغْفِرَةٍ في مَا قَارَفْنَا، وإِجَابَتِكَ فِي سُقْيَانَا وَسَعَةٍ في رِزْقِنَا". وقوله في الكتاب: "ويستقبل القبلة فيها"، ربما أوهم استحباب الاستقبال في جميعها وليس كذلك، بل المراد: أنه يستقبل القِبْلَةَ في أثنائها. ثم إذا فرغ من الدّعاء مستقبلاً أقبل بوجهه على النّاس وحضَّهم على طاعة ربهم، ¬
ويصلي على النبي ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، ويقرأ آية أو آيتين ويقول: أستغفر الله لي ولكم، ثم ينزل، هذا لفظ الشَّافعي -رحمه الله-. ويستحب عند تحوّله إلى القيام أن يحول (¬1) رداءه، وهل ينكسه مع التحويل؟ فيه قولان: الجديد: نعم. والقديم: لا، وبه قال مالك وأحمد، وعند أبي حنيفة -رحمه الله- لا يفعل واحداً منهما. والتحويل: أن يجعل ما على عاتقه الأيمن على عاتقه الأيسر، وبالعكس. والتنكيس: أن يجعل أعلاه أسفله وبالعكس. أما التَّحوَّل فهو منقول عن فعل رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- (¬2). وأما التَّنكيس فقد نقل: أَنَّهُ هَمَّ به، لَكِنْ كان عليه خَمِيصَةٌ، فثقلت عليه، فقلبها مِنَ الأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ" (¬3)، فرأى الشَّافعي -رضي الله عنه- في الجديد اتباعه فيما هم به لظهور السَّبب الدَّاعي إلى التَّرك، ومتى جعل الطرف الأسفل الَّذي على شقّه الأيسر على عاتقه الأيمن والطرف الأسفل الذي على شقّه الأيمن على عاتقه الأيسر فقد حصل التحويل والتنكيس جميعاً، وهذا كله في الرِّداء المربع. فأمّا المقوّر والمثلّث فليس فيه إلاَّ التَّحْويل، والنَّاس يفعلون بأرْدِيَتِهِمْ مثل ما فعل الإمَام؛ والسبب في ذلك التَّفاؤل بتحويل الحال من الجدُوبَة إلى الخَصب، "وكَانَ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يُحَبُّ الْفَأْلَ" (¬4) وإذا حوَّلوا الأَرْدِيَة تركوها كذلك إلى أن ينزعوا الثِّيَاب. وقوله: "ويحوِّلُ رداءه" مرقوم بالحاء لما ذكرنا. وقوله: "فيقلب" مرقوم به أيضاً وبالميم والأف والواو للقول القديم الصَّائر إلى أنه لا يقلب الأعلى إلى الأسفل، وهذا الكلام تفسير منه لِلتَّحويل والتَّنْكيس مندرج فيه، فقد أخذ في التَّفسير قلب الظَّاهر إلى البَاطن، وإنما قلَّد فيه إمام الحرمين -رحمه الله-، فقد حكي عن الجديد أنه يقلب أسفل الرِّدَاء إلى الأعلى، ويقلب ما كان من جانب اليمين إلى اليسار، ويقلب ما كان باطناً يلي الثِّياب ¬
منه إلى الظاهر، فتحصل ثلاثة أوجه من التَّقليب. واعلم أنَّ هذا الوجه الثَّالث لم يذكره الجُمْهُور، وليس في لفظ الشافعي -رضي الله عنه- تعرُّض له، والوجه حذفه؛ لأن الأمور الثَّلاثة لا يمكن اجتماعها إلا بوضع ما كان منسدلاً على الرأس أو لفه عليه، ومعلوم أنَّ هذه الهيئَةَ غير مأمور بها وليست هي من الارْتِدَاء في شيء، وفيما عدا ذلك لا يجتمع من الأمور الثلاثة إلا أثنان، إما قلب اليمين إلى اليسار مع قلب الظاهر إلى الباطن، أو قلب اليمين إلى اليسار مع قلب الأعلى إلى الأسفل، أو قلب الظَّاهِرِ إلى البَاطِنِ مع قلب الأعلى إلى الأسفل، فإن شككت فيه فجرِّبه يزل شكّك (¬1)، -[والله أعلم]-. ¬
كتاب صلاة الجنائز
كِتَابُ صَلاةِ الجَنَائِزِ قال الغزالي: المُخْتَصَرُ يُسْتقْبَلُ بِهِ القِبْلَةُ فَيُلْقي عَلَى قَفَاهُ (ح م) وَأُخْمُصَاهُ إلَى الْقِبْلَةِ، وَيُلَقَّنُ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ، وَتُتْلَى عَلَيْهِ سُورَةُ يس، وَلْيَكُنْ هُوَ فِي نَفْسِهِ حَسَنَ الظَّنِّ بِرَبِّهِ تَعَالَى. قال الرافعي: يُسْتَحَبُّ لكل أحد ذكر الموت، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أكْثِرُوا ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ" (¬1) يعني الموت. وينبغي أن يكون مستعدّاً له بالتَّوبة وردّ المظالم، فربُّما يأتيه فجأة، وكل ذلك للمريض آكد، ويستحبُّ له الصَّبْرُ على المرض والتَّدَاوي وترك الأَنِين ما أطاق، ويستحب لغيره عيادته إن كان مسلماً وإن كان ذمياً جازت عيادته، ولا يستحب إلا لقرابة أو جوار أو نحوهما، ثم العائد إن رأى أمارة البُرْءِ دَعَا للمريض وانْصَرَفَ، وإن رأى خِلاَفَ ذلك رغّبه [في التوبة] (¬2) والوصية إذا عرفت ذلك فغرض الفصل الكلام في "آداب المحتضر"، وقد ذكر منها أربعة: أحدها: أن يستقبل به القبلة وفي كيفيته وجهان: أحدهما: أنه يلقى على قفاه وَأَخْمَصَيه إلى القبلة كالموضوع على المُغْتسل. والثاني: وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله- أنَّهُ يفجع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة كالموضوع في اللّحد؛ لأنه أبلغ في الاسْتِقبَال، والوجه الأول هو المذكور في الكتاب، لكن الثاني أظهر عند الأكثرين، ولم يذكر أصحابنا العراقيون سواه، وحكى عن نص الشَّافعي -رضي الله عنه-. واحتجوا له بما روي أنه قال: "إِذَا نَامَ أَحَدُكُم فَليَتَوَسَّدْ يَمِينَهُ" (¬3). واستثنوا ما إذا ضاق المكان فلم يمكن وضعه على جنب أو كان به علَّة تمنع ¬
من ذلك فحينئذ يلقى على قفاه ويجعل مستقبلاً بوجهه ورجليه. والثاني: تَلْقِينُ كلمة الشَّهَادة، قال: "لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ قَولَ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ" (¬1). وقال: "مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ" (¬2). والأحب أن لا يلحّ الملقّن عليه، ولا يواجهه بأن يقول: قل: لا إله إلا الله، ولكن يذكر الكلمة بين يديه ليتذكرها فيذكرها، أو يقول ذكر الله -تعالى- مبارك، فنذكر الله جميعاً (¬3)، ويقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وإذا قال مرّة لا تعاد عليه إلا أن يتكلّم بعدها بكلام، والأحب أن يلقّن غير الورثة، فإن لم يحضر غيرهم لقّن أشفقهم عليه (¬4). والثالث: تتلى عليه سورة "يس"؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اقرءوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ" (¬5) واستحب بعض التابعين المتأخرين قراءة سورة "الرَّعد" عنده أيضاً. والرابع: ينبغي أن يكون حسن الظّن باللهِ عز وجل؛ لما روى جابر -رضي الله عنه- قال: "سَمِعْتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول قبل موته بثلاث: "لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ" (¬6). ويستحب لمن عنده تحسين ظنّه وتطميعه في رحمة الله -تعالى جدّه-. قال الغزالي: ثُمَّ إِذَا مَاتَ تُغْمَضُ عَيْنَاهُ، وَيُشَدُّ لِحْيَاهُ بِعِصَابَةٍ، وَتُلَيَّنُ مَفَاصِلُهُ وَيُسْتَرُ بِثَوْبٍ خَفِيفٍ، وَيُوضَعُ عَلَى بَطْنِهِ سَيْفٌ أَوْ مِرْآةٌ. ¬
قال الرافعي: هذا الفصل في الاداب المَشْرُوعة بعد الموت وقبل الغسل. أولها: أن يغمض عَيْنَيْه؛ لما روي أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَغْمَضَ أَبَا سَلَمَةَ. لَمَّا مَاتَ" (¬1) ولأنه لو لم يغمض لبقيت عيناه مفتوحتين وقبح منظره. وثانيها: أن يُشَدَّ لِحْيَاه بعَصَابَة عريضة، تأخذ جميع لَحْيَيه، ويربطها فوق رأسه لئلا يبقى فمه منفتحاً فتدخله الهَوَام. وثالثها: أن تلين مفاصله بأن يرد المتعهّد ساعده إلى عَضُده، ثم يمدها ويرد ساقيه إلى فخذيه وفخذيه إلى بطنه ثم يردها، ويلين أصابعه ليكون الغسل أسهل، فإنَّ في البدن بعد مفارقة الروح بقيَّةُ حرارة، إن ألينت المفاصل في تلك الحالة لانت وإلا لم يمكن تليينها بعد ذلك. ورابعها: يستر جميع بدنه بثوب خفيف؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "لَمَّا تُوُفِّيَ سُجِّيَ بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ" (¬2). قال الغزالي: ولا يجمع عليه أَطْبَاق الثِّياب حتى لا يتسارع إليه الفساد، ويجعل أطراف الثَّوب السَّاتر تحت رأسه ورجليه لئلا ينكشف. وخامسها: يوضع على بطنه شيء ثقيل من سيف أو مرآة أو نحوهما؛ فإن لم يكن حديد فقطعة طين رطب لئلا ينتفخ ويصان المصحف عنه فهذه الخمسة هي المذكورة في الكتاب، ويتولى هذه الأمور أرفق محارمه به بأسهل ما يقدر عليه. ومنها: أن يوضع على شيء مرتفع من سرير ونحوه لئلا تصيبه نَدَاوَةُ الأرض فيتغير. ومنها: أن يستقبل به القبلة كما في "المحتضر". ومنها: أن ينزع عنه ثيابه الَّتِي مات فيها، فإنه على ما حكى يسرع إليه الفساد. ومنها: أن يبادر إلى قضاء دَيْنِهِ وتنفيذ وصيته إن تيسر ذلك في الحال (¬3). ¬
قال الغزالي: ثُمَّ يُشْتَغَلُ بِغُسْلِهِ وَأَقَلُّهُ إِمْرَارُ المَاءِ عَلَى جَمِيعِ أَعْضَائهِ، وَفِي وُجُوبِ النِّيَّةِ عَلَى الغَاسِلِ وَجْهَانِ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا لَمْ يَصِحَّ مِنَ الكَافِر، وَأُعِيدَ غُسْلُ الغَرِيقِ. قال الرافعي: يستحبُّ المبادرة إلى الغُسْلِ والتَّجْهِيز عند تحقُّق الموت وذلك بأن يكون به علة، وتظهر أمارات الموت مثل أن تسترخي قدماه فلا ينتصبا أو يميل أنفه أو ينخسف صدْغَاه أو تمتد جلدة وجهه أو ينخلع كفاه من ذراعيه أو تتقلَّص خِصْيَتَاهُ إلى فوق مع تَدَلِّي الجلدة. وعند الشَّكِّ يتأنَّى إلى حصول اليقين. وموضعه أن لا يكون به علة، ويجوز أن يكون ما أصابه سَكْتَة أو ظهرت أمارة فزع واحتمل أنه عرض ما عرض لذلك فيتوقف إلى حصول اليقين بتغيُّر الرَّائحة وغيره (¬1). إذا عرفت ذلك فنقول: غسل الميت من فروض الكفايات، وكذلك التَكفين والصَّلاة عليه والدّفن بالإجماع، والنظر في الغسل في شيئين: أحدهما: في كفيته. والثاني: فيمن يغسل. النظر الأول في كيفيته، والكلام في الأقل والأكمل. أما الأقل فلا بُدَّ من استيعاب البدن بالغُسْل مرَّة بعد أَنْ يزال ما عليه من النَّجَاسة إن كانت عليه نجاسة، وهل تشترط النّية على الغاسل؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه غسل واجب فافتقر إلى النِّية كغسل الجنابة. والثاني: لا؛ لأن المقصود من هذا الغسل النَّظافة وهي حاصلة نوى أو لم ينو، وإنما تشترط النية في سائر الأغسال على المغتسل، والميت ليس من أهل النية، وهذا أصح فيما ذكره القَاضي الرُّوياني وغيره، ويترتب على الخلاف صورتان: إحداهما: لو غسل الكافر مسلماً هل يجزئ؟. إنْ فرَّعنا على الوجه الأول فلا، وإلاَّ فَنَعَم. والثانية: لو غرق إنسان ثم لفظه الماء، وظفر نابه إن قلنا بالأول لَمْ يَكْفِ ما سبق ووجب غسله، وإن قلنا بالثاني كفى ذلك، واعرف هاهنا ثلاثة أمور: أحدها: أن المحكيَّ عن نَصِّ الشافعي -رضي الله عنه- في الصُّورة الأخيرة أنه ¬
يجب الغسل ولا يكفي إصابة الماء إياه، ونصَّ فيما إذا غسلت الذِّمية زوجها المسلم أنه يكره، ويجوز وهو أحد أمثلة الصورة الأولى، وكأنَّ الوجهين مستنبطان من هذين النَّصين، والظاهر في الصورتين هو الذي نص عليه. أما في سورة غسل الكافر فهو مستمرٌّ على ما حكينا أن الأصح عدم اشتراط النّية. وأما في سورة الغَرِيق فسبب الأمر بالغسل أنَّا مأمورون بغسل الميت فلا يسقط الفرض عنَّا إلا بفعلنا. والثاني: أن في قولنا: "الكافر ليس أهلاً للنِّية" إشكالاً أشرنا إليه في "باب صفة الوضوء". والثالث: أن قوله: "وأعيد غسل الغَرِيق" إن كان بضمِّ الغَيْنِ يقتضي أن يكون أصابه الماء إياه بمجردها غسلاً، ليكون هذا إعادة له لكن الأليق توجُّه وجوب النِّية أن لا يوقع اسم الغسل إلا على غسل الأعضاء مع النِّيَّة -والله أعلم-. قال الغزالي: وَأَمَّا الأكْمَلُ فَأنْ يُحْمَلَ إِلَى مَوضِعٍ خَالٍ وَيُوضَعَ عَلَى سَرِيرٍ وَلاَ يُتْزَعَ قَمِيصُهُ (م ح) وَيُحْتَاطَ فِي غضِّ البَصَرِ عَنْ جَمِيعِ بَدَنِهِ إِلاَّ لِحَاجَةٍ، وَيُحْضَرُ ماءٌ بَارِدٌ (ح) طَهُورٌ، وَيُبْعَدُ الإِنَاءُ مِنَ المُغْتَسِلِ حَذَرًا مِنَ الرَّشَاشِ ثُمَّ يَبْتَدِئُ بِغَسْلِ سَوْءَتَيهِ بَعْدَ لَفِّ خِرْقَةٍ عَلَى اليَدِ، وَبَعْدَ أَنْ يَجْلِسَ فَيمْسَحَ عَلَى بَطْنِهِ لِتَخْرُجَ الفَضَلاَتُ، ثُمَّ يتَعَهَّدُ مَوَاضِعَ النَّجَاسَةِ مِنْ بَدَنِهِ، ثُمَّ يَتعَهَّدُ أَسْنَانَهُ وَمَنْخَرتْه بِخِرْقَةٍ مَبْلُولَةٍ، ثُمَّ يتَوَضَّأ ثَلاَثاً مَعَ المَضْمَضَةِ (ح) وَالاسْتِنْشَاقِ. قال الرافعي: الفصل لذكر أمور محبوبة مقدمة على نفس الغسل: أحدها: أن يحمل الميت إلى موضع خَالٍ مستور لا يدخله أحد إلاَّ الغاسل ومن لا بد من معونته؛ لأنه في حياته كان يستتر عند الاغتسال فكذلك يستر بعد موته، ولأنه قد يكون ببعض بدنه ما يكره ظهوره. وذكر القاضي الرُّوَيانِيُّ وغيره؛ أن للولي أن يدخل ذلك الموضع إن شاء، وإن لم يغسل؟ ولا أعان، ويروي:"أَنَّ غُسْلَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- تَوَلاَّهُ عَلِيٌّ، وَالْفَضْلُ بنُ عَبَّاسٍ، وَأُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ -رضي الله عنهم (¬1) - يَتَنَاوَلُ الْمَاءَ وَالْعَبَّاسُ وَاقِفٌ". ثم يوضع على لَوْحٍ أو سرير هي لذلك، وليكن موضع رأسه أعلى لينحدر الماء ¬
عنه، ولا يقف تحته، ويغسل في قميص خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: "الأولى أن يجرَّد" ويروى مثله عن مالك، وحكاه القَاضِي ابْنُ كَجٍّ وجهاً عن بعض الأصحاب، لنا: أنه أستر له، ولأن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "غُسِّلَ فِي قَمِيصٍ" (¬1). دل أنه أفضل، وليكن القميص باليًا أو سخيفاً ثم إن كان القميص واسعاً أدخل يديه في كُمَّيه وغسله من تحته وعلى يده خرقة، وإن كان ضيِّقاً فتق رُؤُوس الدَّخَارِيصِ (¬2)، وأدخل اليد في موضع الفَتْقِ فلو لم يجد قميصاً، أو لم يتأتّ غسله فيه، ستر منه ما بين السُّرَّةِ والرُّكبة، وحرم النظر إليه؛ لما روى عن عَلِيٍّ -كرم الله وجهه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تُبْرِزْ فَخْذَكَ وَلاَ تَنْظُرْ إِلَى فَخْذِ حَيٍّ وَلاَ مَيِّتٍ" (¬3). وعند أبي حنيفة يلقى خرقة على فرجه وفخذه مكشوفة ويكره للغاسل أن ينظر إلى شيء من بدنه إلا لحاجة، بأن يريد معرفة المَغْسُول من غير المغسول، والمُعين لا ينظر إلا لضرورة. وقوله في الكتاب: "ولا ينزع قميصه" غير هذه العبارة أولى منها؛ لأنها توهّم كونه في قميص قبل حالة الغسل، والمحبوب نزع الثِّياب المخيطة عنه من حين مات إلى وقت الغسل، والقميص الذي يغسله فيه يلبس عند غسله، ذكره المسعودي وغيره. الثَّاني: يحضر ماء بارداً في إناء كبير كالجب ونحوه ليغسل به وهو أولى من المسخّن إلاَّ أن يحتاج إلى المسخّن لشدة البرد أو لوسخ وغيره (¬4). وعند أبي حنيفة المسخن أولى بكل حال. لنا أن البارد يشدّ بدنه والمسخن يرخيه، فكان البارد أولى، وينبغي أن يبعد الإناء الذي فيه الماء عن المغتسل بحيث لا يصيبه رَشَاشُ الماء عند الغسل، أمّا من صار إلى قول نجاسة الآدمي بالموت قال: لئلا ينجس بالرَّشاش الذي يصيبه، وربما احتج بهذه المسألة على النَّجاسة. وأما من نصر القول الصحيح وهو طهارته، قال: إنما يبعد عنه لتكون النفس أطيب في أن لا يَتَقَاطَرَ الماء إليه. وأيضاً فالماء المستعمل إذا أكثر تقاطره فقد يثبت لما يتقاطر إليه حكم الاستعمال ¬
فيخرج عن كونه طهوراً، وأما وصفه الماء المحضر بكونه طهوراً ففيه فائدة على طهوره، وهي أنا نحب استعمال السَّدْر في بعض الغسلات على ما سيأتي، لكن الظاهر أنَّ الفرض لا يسقط به فلا يجوز أن يكون الماء المحضر مغيراً بالسِّدْر. والثالث: يعدُّ الغاسل قبل الغسل خِرْقَتَيْن نظيفتين، وأول ما يبدأ به بعد وضعه على المغتسل أن يجلسه إجلاساً رفيقاً بحيث لا يعتدل، ويكون مائلاً إلى ورائه ويضع يده اليُمْنَى على [كتفه] (¬1) وإبهامه في نقْرَة قَفَاه حتى لا يَتَمَايل رأسه، ويسند ظهره إلى ركبتيه اليمنى، ويمر يده اليسرى على بطنه إمراراً بليغاً ليخرج ما فيه من الفَضَلات، وينبغي أن تكون المَجْمَرَة والحالة هذه متّقدة فائحة بالطِّيب، والمُعين يصبّ عليه ماء كثيراً لئلا تظهر رائحة ما يخرج، ثم يرده على هيئة الاسْتِلْقَاء، ويغسل بيساره وهي ملفوفة بإحدى الخِرْقَتَيْن دُبَرَه وَمَذَاكِيره (¬2) وَعَانَتَه، كما يَسْتَنْجِي الحَيُّ ثم يلقي تلك الخِرْقَةَ ويغسل يده بماء [وأَشْنَان] (¬3) إن تلوثت. وقوله في الكتاب: "ثم يبتدئ بغسل سَوْأتيه بعد لَفِّ خِرْقَةِ اليد" يشعر بأنه يغسل السَّوْأَتَيْنِ معاً بخرقة واحدة، وكذلك ذكر الجمهور، وسيحكى ما يفعله بالخرقة الثَّانية من الخِرْقَتَين المعدّتين، وفي "النِّهاية" و"الوسيط" أنه يغسل كلّ سوأة بخرقة ولا شك أنه أبلغ في التَّنظيف (¬4). وقوله: "ثم يتعهَّد مواضع النَّجَاسة من بدنه" فيه إشكال؛ لأنه إن كانت عليه نجاسة فإزالتها قبل الغسل واجبة على ما تقدم في غسل الأحياء، فلا يَنْبَغِي أن يدرج في حدِّ الأكمل، ولم يذكر صاحب "النِّهَايَةِ" لفظ النَّجَاسَة في هذا الموضع لكن قال: "إن كان ببدنه قَذَرٌ اعتنى به ولف خرقة على يده وغسله". ¬
الرابع: إذا فرغ من غسل سَوْأَتيه لفَّ الخِرْقَةَ الأخرى على اليد، وأدخل أصبعه في فيه وأمرَّها على أسنانه بشيء من المَاء ولا يقعِّر فاه، وكذا يدخل طرف أصبعه في مَنْخَرَيْه بشيء من الماء؛ ليزيل ما فيها من الأذى، ثم يوضِّئه كما يتوضأ الحي ثلاثاً ثلاثاً، ويراعي المَضْمَضَة والاسْتِنْشَاق خلافاً لأبي حنيفة. لنا أَنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: قال للواتي غسلن ابنته: "ابْدَأنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا" (¬1). وموضع المضمضة والاستنشاق من مواضع الوضوء. ثم لفظ الكتاب وكلام الأكثرين يقتضي أَنْ يكون إدخال الأصبع [في] (¬2) الفم والمنخَرَيْن غير المَضْمَضة والاستِنْشَاق وأنه في الفم بمنزلة السِّواك وغرضه التَّنْظيف، وفي "الشَّامِلِ" وغيره ما يدل على أن المضمضة والاستنشاق ليسا وراء ذلك، والظاهر الأول، ثم يميل رأسه في المضمضة والاستنشاق حتى لا يصل الماء إلى باطنه، وهل يكتفي بوصول الماء إلى مَقَادِيمِ الشّعْرِ والمنخَرَيْن أم يوصل الماء إلى الداخل؟ حكى إمام الحرمين فيه تردد لخوف وصول الماء إلى جوفه، وتأثيره في تسارع الفساد إليه وقطع بأنه لو كانت أسنانه متراصّة لم يكلّف فتحها. قال الغزالي: ثُمَّ يُتَعَهَّدُ شَعْرُهُ بِمُشْطٍ وَاسِعِ الأَسْنَانِ، ثُمَّ يُضْجَعُ عَلَى جَنْبِهِ الأَيْسَرِ وَيُصَبُّ المَاءُ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ، ثُمَّ يُضْجَعُ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ وَيصَبُّ المَاءُ عَلَى الشِّقِّ الأَيْسَرِ وَذَلِكَ غَسْلَةٌ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاَثاً، فَإِنْ حَصَلَ الإِنْقَاءُ وَإِلاَّ فَخَمْسٌ أَوْ سَبْعٌ، ثُمَّ يُبَالَغُ فِي تَنْشِيفِهِ صِيَانَةً لِلْكَفَنِ، وَيَسْتَعْمِلُ قَدْراً مِنَ الكَافُورِ لِدَفْعِ الهَوَامِّ، وَيسْتَعْمَلُ السِّدْرَ فِي بَعْضِ الغَسَلاَتِ، وَلاَ تَسْقُطُ (ح) الفَرْضُ بِهِ. قال الرافعي: إذا فرغ من تَوضِيئه غسل رأسه، ثم لِحْيَتَه بالسِّدْرِ والخَطْمِيِّ، وسرَّحَهُمَا بمشط واسع الأْسنان إن تلبَّد شعرهما، ويرفق حتى لا يُنْتَف شيء، وإن أنتف ردَّه إليه، وليكن قوله: "بمشط" معلَّمًا بالحاء والألف؛ لأن عندهما لا يتعهّده بالمشط، ولكن يغسل ويزيل الوَسَخَ. لنا ما روى أَنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "افْعَلُوا بِمَيِّتِكُمْ مَا تَفْعَلُونَ بِعَرُوسِكُمْ" (¬3). ¬
ومعلوم أن العروس يسرَّح شَعْرها، ثم يُضْجَع على جنبه الأيسر فيصبُّ الماء على شقِّه الأيمن، ثم يضجع على جنبه الأيمن فيصب الماء على شقه الأيسر، هكذا ذكره صاحب الكتاب والإمام في آخرين، والأكثرون زادوا في هذه الكيفية ونقصوا فقالوا: يغسل شقّه الأيمن المقبل من عنقه وصدره وفخذه وساقه وقدمه، ثم يغسل شقّه الأيسر كذلك، ثم يحرفه إلى جنبه الأيسر فيغسل شقّه الأيمن مما يلي القَفَا والظّهر من الكتف إلى القدم، ثم يحرفه إلى جنبه الأيمن، فيغسل شقه الأيسر كذلك، وهذا ما ذكره الشَّافعي -رضي الله عنه- في "المُخْتَصر"، وحكى أصحابنا العِرَاقيون قولاً آخر: أنه يغسل جنبه الأيمن من مقدمه، ويحوله فيغسل جانب ظهره الأيمن، ثم يلقيه على ظهره فيغسل جانبه الأيسر من مقدمه ثم يحوّله ويغسل جانب ظهره الأيسر. قالوا: وكل واحد من هذين الطَّريقين سائغ والأول أولى، وليس في هذين الطريقين إضجاع على الجانب الأيسر في أوَّل الأمر بل هو مُسْتَلْقٍ فيهما إلى أن يغسل بعضه، ثم يجري الاضجاع فلا بأس لو أعلمت قوله: "ثم يضجع على جنبه الأيسر" بالواو، وإنما أمرناه بالابتداء بالمَيَامِنِ؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أمَرَ غَاسِلاَتِ ابنَتِهِ أَنْ يَبْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا" (¬1). ويجب الاحتراز من كبِّه على الوجه، وإذا عرفت ذلك فاعلم أن جميع ما ذكرناه غسلة واحدة، وهذه الغَسْلَة تكون بالماء، والسدر، والخَطْمِيِّ تنظيفاً، وإنقاء له ثم يصب عليه الماء القرَاح من قَرْنه إلى قدمه، ويستحبّ أن يغسله ثلاثاً، فإن لم يحصل النّقاء والتَّنظيف زاد حتى يحصل، فإن حصل بشفع فالمُستَحَبُّ أن يزيد واحدة ويختم بالوتر، روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لغاسلات ابنته -رضي الله عنها-: "اغْسِلْنَهَا وِتْراً ثَلاَثاً أَوْ خَمْساً أَوْ سَبْعاً" (¬2). وهل يسقط الفرض بالغسلة التي فيها السّدر والخَطْمِي؟ ذكر في الكتاب فيه وجهين: أحدهما: نعم، ونسبه في "النِّهاية" إلى أبي إسحاق المَرْوَزِي، لأن المقصود من غسل الميت التَّنظيف، فالاستعانة بما يزيد في التَّنْظيف ممَّا لا يقدح. وأظهرهما: لا، لأن التَّغيير به فَاحِشٌ سالب للطهورية، فأشبه ما لو استعمله الحي في وضوءه وغسله وعلى هذا فتلك الغَسْلَة غير محسوبة من الغَسَلاَت الثلاث، وهل تحسب الغسلة الواقعة بعدها؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، لأنها غسلة بماء طهور لم يخالطه شيء، وهذا أصح عند القاضي الرُّويَانِي. ¬
وأظهرهما: عند الأكثرين، ولم يذكر في "التَّهْذِيبِ" سواه: أنها لا تحسب؛ لأن الماء إذا أْصاب المَحل اختلط بما عليه من السِّدر، وتغير به، فعلى هذا المحسوب ما يصبّ عليه من الماء القراح بعد زوال السِّدر، ويستحب أن يجعل في كل ماء قراح كَافُوراً، وهو في الغسلة الأخيرة آكد. لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لأم عطية وهي من غاسلات ابنته -رضي الله عنها-: "وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُوراً" (¬1). والسَّبب فيه أنَّ رائحته مطردة للهَوَام، وليكن قليلاً لا يتفاحش التغير به ولا يسلب الطهورية، وقد يكون صلباً لا يقدح التَّغير به وإن كان فاحشاً على الصحيح؛ لأنه مجاور وبعد تَلْيين مفاصله بعد الغَسل؛ لأنها لانت بالماء فيتوخى بالتَّليين بقاء لينها كما ذكرنا في التَّليين عُقَيب الموت، ونقل الْمَزنِيُّ إعادة التَّليين في أول وضعه على المغتسل وأنكره أكثر الأصحاب ثم ينشفه ويبالغ فيه كيلا تبتلَّ أكفانه، فيسرع إليه الفساد، ثم هذا تمام مسائل الفصل. ثم اعرف أموراً: منها: أن صاحب الكتاب في "الوسيط" والإمام في "النهاية" أشارا إلى أن تعهد الشَّعر بالغسل والتَّسريح ليس من نفس الغسل، بل هو من مقدماته، كالوضوء وغيره، ولذلك قالا: "يصبُّ الماء على شِقِّه الأيمن مُبتدئاً من رأسه إلى قدمه"، والأكثرون لم يذكروا صَبَّ الماء على الرأس، ولكن قالوا: بصبه على صَفْحَةِ العنق والصدر والفخذ والساق، وهذا مصير منهم إلى أن غسل الرأس، وتعهد الشعر من جملة الغسل، وكلام الشَّافعي -رضي الله عنه- في "المختصر" يوافق قول الأكثرين. ومنها: أن قوله: "وذلك غسلة واحدة، ثم يفعل ذلك ثلاثاً" يقتضي اسْتحباب ثلاث غسلات بعد تلك الغسلة، وهو صحيح بناء على أن تلك الغسلة بالماء المتغير بالسدر والخَطْمِي، وأن المحسوب الغسل بالماء القراح، فإنه حينئذ يراعي ثلاث غسلات بعدها بالماء القراح. وقوله: بعدها "أو يستعمل السِّدر في بعض الغسلات" ذلك البعض هو الغسلة الأولى، نصوا عليه كما قدمناه، وإنما أبهم ذكره المُصَنف وشيخه وربما أوهم إيراده عد الغسلة التي فيها السِّدر من الثَّلاث، وتخصيص الخلاف بأن الفرض هل يسقط بها فيجب الاحتراز عن الوهم؟ ومعرفة أنا إذا لم نسقط الفرض بها لا نحسبها من الثلاث أيضاً. يجوز أن يرقم لفظ "الثلاث" و"الخمس" و"السبع" [في الكتاب] (¬2) بالميم؛ لأنه روى عن مالك: أنه لا اعتبار بالعدد، وإنما المعتبر الإنقاء. ¬
وقوله: "يستعمل قدراً من الكَافور" مرقوم بالحاء؛ لأن أبا حنيفة قال: لا أعرف الكَافور وذكر في السِّدْر أنه يغسل مرة بالماء القراح وأخرى بالسدر وثالثة بالمَاءِ القُرَاح. قال الغزالي: فَإِنْ خَرَجَتْ نَجَاسَةٌ بَعْدَ الغُسْلِ أُزِيلَتِ النَّجَاسَةُ وَلَمْ يُعَدِ الغُسْلُ عَلَى الصَّحِيحِ وَفِي إِعَادَةِ الوُضُوءِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: يتعهَّد الغاسل مسح بطن الميت في كل مره بأرفق ممَّا قبلها، فلو خرجت منه نجاسة في آخر الغسلات أو بعدها ففيه ثلاثة أوجه: أحدها -وبه قال ابن أبي هريرة-: يجب إعادة غسله ليكون خاتمة أمره على كمال الطهارة. والثاني: لا يجب ذلك، لكن تجب إعادة الوضوء كالحي يغتسل ثم بحدث فإنه يتوضأ. ويحكى هذا عن أبي إسحاق. وأصحهما: وبه قال مالك وأبو حنيفة والمزني -رحمهم الله-: أنه لا يجب شيء سوى إزالة النَّجاسة لسقوط الفرض بما وجد وحصول غرض التَّنظيف وربما بنى الخلاف في وجوب الغسل وعدمه على اختلاف قراءة لفظ الشَّافعي -رضي الله عنه- فإنه قال في المَسْألة: إنقاءها بالخرقة، وأعاد غسله، فمنهم من قرأ بضم الغين، وأوجب إعادة الغسل، ومنهم من قرأ بفتحها وحمله على إزالة النجاسة، وربما سلموا أن لفظة الغسل وحملوه على الاسْتِحْبَاب، وإذا قلنا بالوجه الصحيح فلا فرق بين النَّجاسة الخارجة من السَّبيلين وغيرها، وإن قلنا بوجوب الوضوء فذلك في النجاسة الخارجة من السَّبيلين دون غيرها، وإن قلنا: بوجوب الغسل ففي إعادة الغسل لسائر النَّجَاسات احْتمال عند إمام الحَرَمين -قدَّس الله روحه (¬1) -. ولو لمس رجل امرأة ميتة بعد غسلها فإن قلنا: يجب إعادة الغسل أو الوضوء بخروج الخارج، فكذلك هاهنا، هكذا أطلق صاحب "التَّهذيب"، وذكر غيره أن هذا الجواب مبني على أن المَلْموس ينتقض طهره (¬2)، وإن قلنا: لا يجب إلا غسل المحلّ فلا يجب هاهنا شيء. ولو وطئت [بعد الغسل] فعلى الوجه الأول، والثاني في خروج النجاسة يجب هاهنا إعادة الغسل، وعلى الثالث لا يجب شيء (¬3). ¬
واعلم أن نفي وجوب الغسل أظهر من نفي وجوب الوضوء، ولذلك أرسل صاحب الكتاب ذكر الخلاف في الوضوء، وبين الصحيح في الغسل والنجاسة واجبة الإزالة بكل حال، فلذلك جزم به. وقوله: "ولم يعد الغسل" معلم بالألف؛ لأن عند أحمد يعاد غسله سبع مرات، ولم يتعرض الجمهور للفرف بين أن تخرج النَّجاسة قبل الإدراج في الكفن أو بعده. وأشار صاحب "العدّة" إلى تخصيص الخلاف في وجوب الوُضوء وللغسل بما إذا خرجت قبل الإدراج -والله أعلم-. قال الغزالي: وَأَمَّا الغَاسِلُ، فَلاَ يَغْسِلُ رَجُلٌ امْرَأَةَ إِلا بَزِوجِيَّةٍ (ح) أَوْ مَحْرَمِيَّةٍ أَوْ مِلْكِ يَمِيينٍ فَيُغْسِّلْ مُسْتَولِدَتَهُ وَأَمَتَهُ (ح) وَتُغَسِّلُ الزَّوْجَةُ زَوْجَهَا، وَلاَ تُغَسِّلُ المُسْتَوْلَدَةُ والأَمَةُ سَيدَهُمَا عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ؛ لأَنَّ المَوْتَ يَنْقُلُ مِلْكَ اليَمِينِ وَيُقَرِّرُ مِلْكَ النِّكَاحِ. قال الرافعي: النَّظر الثاني فيمن يتولى الغسل. والأصل أن يغسل الرجال الرجال والنساء النساء، وأولى الرجال بغسل الرجل أولاهم بالصَّلاة عليه وسيأتي ترتيبهم فيها، والنساء أولى بغسل المرأة بكل حال؛ عورتها بالإضافة إليهن أخف، وليس للرجل غسل المرأة إلا بأحد أسباب ثلاثة: أولها: الزوجية، فللزَّوج غسل زوجته خلافاً لأبي حنيفة، وذكر صاحب "الشامل" أن عند أحمد رواية مثل قول أبي حنيفة. والأصح عنه مثل قولنا: لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة: "لَوْ مِتِّ قَبْلِي لَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ" (¬1). "وَغَسَّلَ عَلِيّ فَاطِمَةَ -رَضِيَ الله عَنْهَا-" (¬2) وله ذلك وإن تزوج بأختها أو بأربع سواها في أصح الوجهين ولو كانت الزوجة ذمية فله أن يغسلها إن شاء (¬3). والثاني: المحرمية وسياق الكلام في الكتاب يقتضي تَجْوِيز الغسل للرِّجال المَحَارم مع وجود النِّساء؛ لأن قوله: "لا يغسل رجل امرأة إلا بكذا وكذا مفروض في ¬
حال الاخْتِيَار، وإلاَّ فعند الضرورة قد يجوز للأجانب غسلها أيضاً كما سيأتي، لكن لم أرَ لعامة الأصحاب تصريحاً بذلك، وإما يتكلمون في التَّرتيب ويقولون: إن المحارم بعد النساء أولى (¬1). والثالث: مِلْك اليمين، فيجوز للسيد غسل أَمَته ومدبرته وأمّ ولده خلافاً لأبي حنيفة فيما رواه في "الشامل". واحتج لنا بأنه يلزمه الاتْفاق عليها بحكم المِلْك فكان له أن يغسلها كالحَيَّة ويجوز له غسل المُكَاتبة أيضاً؛ لأن الكتابة ترتفع بموتها، وهذا كله إذا لم يكن مزوجات ولا معتدات (¬2)، فإن كن مزوجات أو معتّدات، لم يكن له غسلهن، وكما يغسل الزَّوج زوجته تغسل الزوجة زوجها خلافاً لأحمد في رواية. والأصح عنه موافقة الجمهور بأن طلقها طَلْقَة رجعية، ومات أحدهما في مدة العدة، فليس للآخر غسله لحرمة النظر والمس في الحياة، وإلى متى تغسل المرأة زوجها؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ما لَمْ تَنْقضِ عدتها، فإن انقضت بوضع الحمل عُقَيب الموت لم تغسله، وبه قال أبو حنيفة. والثَّاني: تغسله ما لم تنكح. والثالث: وهو الأصح: أبداً وهو الذي ذكره في الكتاب في "باب العدّ". وإذاغسل أحد الزوجين لفَّ خرقة على يده ولم يمسه، فإن خالف فقد قال القَاضِي: يصح الغسل، ولا يبنى على الخلاف في انتقاض طهر الملموس -والله ¬
أعلم- (¬1). وهل يجوز لأم الولد والمدبرة والأمة غسل السيد؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال أحمد: نعم؛ لأنهن مُحللات له فأشبهن بالزوجة. وأظهرهما: وبه قال أبو حنيفة: لا؛ لأن الموت ينقل ملك اليمين، أما في حق الأمة فإلي الورثة، وأما في المدبرة وأم الولد؛ فهما يعتقان بموته فكان الملك في رقبتهما ينتقل إليهما بخلاف ملك النكاح لا تنقطع حقوقه بالموت، أَلاَ ترى أنهما يتوارثان، وليس للمُكَاتبة غسل السيد فإنها محرمة عليه قبل الموت. قال الغزالي: فَإِنْ مَاتَتِ المَرْأَةُ وَلَمْ يَحْضُرْ إلاَّ أَجْنَبِيٌّ غَسَّلَهَا (م ح) وَغضَّ البَصَرَ، وَقيلَ: تيَمَّمُ، وَكَذَا الخُنْثَى يُغسِّلُهُ رَجُلٌ أو امرَأَةٌ اسْتِصْحَابًا لِحُكمِهِ فِي الصِّغَرِ. قال الرافعي: في الفصل مسألتان: إحداهما: لو ماتت امرأة وليس هناك إلاَّ رجل أجنبي، ففيه وجهان: أحدهما: أنها لا تغسل، ولكن تيمم وتدفن، ويجعل فقد الغاسل كفقد الماء، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة. والثاني: أنه يغسلها في ثيابها، ويلفّ خرقة على يده ويغض الطرف ما أمكنه فإن اضطر إلى النظر عذر للضرورة (¬2). وعن أحمد روايتان كالوجهين، فيجوز أن يعلم قوله: "غسلها" بالحاء والميم، ثم إيراد الكتاب يقتضي ترجيح الوجه الثاني، وهكذا ذكره الإمام وحكاه عن القفال. لكن الأظهر عند أصحابنا العراقيين والقاضي الروياني والأكثرين هو الأول، والوجهان جاريان فيما لو مات رجل، وليس هناك إلا امرأة أجنبية. الثانية: الخُنْثى المُشْكل إذا مات، وليس هناك محرم له من الرِّجال أو النساء، ¬
ينظر إن كان صغيراً بعد جاز للرِّجال والنِّساء غسله، وكذا واضح الحال من الأطفال يجوز للفريقين جميعاً غسله كما يجوز مسه والنظر إليه، وإن كان كبيراً فهل يغسل؟ فيه وجهان كالوجهين في المسألة السابقة، لأنه يجوز أن يكون رَجُلاً فيمتنع مسُّه على النساء، أو امرأة فيمتنع مسها على الرجال. أحدهما: أنه يُيمَّم ويدفن، وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-. والثاني: أنه يجوز غسله، ومن الذي يغسله؟ فيه وجوه: أحدها: أنه يشتري من تركته جارية لتغسله، فإن لم يكن له تركة فيشتري من بيت المال. قال الأئمة: وهذا ضعيف؛ لأن إثبات المِلْك ابتداء للشَّخص بعد موته مستبعد، وبتقدير ثبوته فقد ذكرنا أن الصحيح أن الأَمَةَ لا تغسل سَيّدها، والوجه الثَّاني أنَّه في حق الرِّجال كالمرأة، وفي حق النساء كالرجل أخذاً بالأسوأ في كل واحد من الطَّرفين. والثالث: وبه قال أبو زيد وهو الأظهر: أنه يجوز للرِّجال والنِّساء غسله جميعاً؛ لأنه مَسَّت الحاجة إلى الغسل، وكان يجوز في الصِّغر غسله للطَّائفتين، فيستصحب ذلك الأصل. واعلم أنه ليس المراد من الكبير في هذا الفصل البلوغ ومن الصغر عدمه، لكن المعنى بالصَّغير الذي لم يبلغ حدّاً يشتهي مثله وبالكبير الذي بلغه. قال الغزالي: فَإِنْ ازدَحَمَ جَمْعٌ كَثِيرٌ يَصْلُحُونَ لِلْغُسْلِ عَلَى امْرَأَةً فَالبِدَايَةُ بِنِسَاءِ المَحَارِمِ ثُمَّ بِالأجْنَبِيَّاتِ ثُمَّ بِالزَّوْجِ ثُمَّ بِالرَّجَالِ الْمَحَارِمِ ثُمَّ تَرْتِيبُ المَحَارِمِ كَتَرْتِيبِهِمْ فِي الصَّلاَة، وَقِيلَ: يُقَدَّمُ الزَّوْجُ عَلَى النِّسَاءِ؛ لأنَّهُ يَنْظُرُ مَا لاَ يَنْظُرْنَ إلَيْهِ، وَقِيلَ: يُقَدَّمُ رِجَالُ المَحَارِمِ عَلَى الزَّوْجِ؛ لأَنَّ النِّكَاحَ انتَهَى بِالمَوْتِ. قال الرافعي: الصَّالحون لغسل الميت إذا ازْدَحَمُوا لم يخل إما أن يكون الميِّت رَجُلاً أم امرأة فإن كان رجلاً فيغسله قَرَابَاته على التَّرتيب الذي نذكره في الصَّلاة عليه، وهل تقدم الزوجة عليهم؟ فيه وجهان (¬1) سيظهر توجيههما، وإن كان الميت امرأة فالنساء يقدمن في غسلها وأولاهن نساء القرابة منهن كل ذات رَحِمِ محرَم، فإن استوت اثنتان في المحرمِيّة، فالتي هي في محل العصُوبَة أولى، كالعمة مع الخالة واللواتي لا محرمية لهن يقدم منهن الأقرب فالأقرب، وبعد نساء القرابة تقدم النساء الأجنبيات ثم رجال القرابة ¬
وترتيبهم كما سيأتي في الصلاة، وهل يتقدم الزوج على نساء القرابة؟ فيه وجهان: أظهرهما: تقديم نساء القرابة، ويحكى عن نَصِّ الشَّافعي -رضي الله عنه- فإن الأنثى بالأناث أليق. والثاني: أنهن لا يقدمن؛ بل الزوج يقدم عليهن؛ لأنه ينظر إلى ما لا ينظرن إليه، وفي تقديم الزَّوج على الرجال الأقارب أيضاً وجهان: أحدهما: أنهم يقدمون عليه؛ لأن النِّكاح ينتهي بالموت، وسبب المَحْرميّة يدوم ويبقى. وأظهرهما: وهو اختيار القَفَّال: أن الزوج يقدم؛ لأنهم جميعاً ذكور، وهو ينظر إلى ما لا ينظرون إليه فيقدم، وأحكام النِّكاح تَبْقَى بعد الموت ولولاه لما جاز له غسل الزَّوجة وجميع ما ذكرناه من التقديم فهو بشرط أن يكون المحكوم بتقديمه مسلماً، فإن كان كافراً فهو كالمعدوم ويقدم من بعده حتى يقدم المسلم الأجنبي على القريب المشرك. ويشترط أيضاً أن لا يكون قاتلاً نعم لو كان قاتلاً بحق فيبنى على الخلاف في أنه هل يرث عنه؟ ولو أن المقدم في أمر الغسل سلّمه لمن بعده جاز له تعاطيه ولكن بشرط اتحاد الجنس فليس للرجال كلهم التَّفويض إلى النِّساء وبالعكس، ذكره الشيخ أبو محمد وغيره، وقد حكاه المصنف في "الوسيط" بعد إطلاق الغسل للمستأجر، وأشعر كلامه بوجهين في اعتبار الشَّرط المذكور. قال الغزالي: فَرْعٌ المُحْرِمُ لاَ يُقَرِّبُ طِيباً وَلاَ يَسْتُرُ رَأْسَهُ بَلْ يَبْقَى (م ح) أَثَرُ الإحْرَامِ وَهَل تُصَانُ المُعتَدَّةُ عَنِ الطِّيبِ فِيهِ وَجْهَانِ، وَغَيْرُ المُحْرِمِ هَلْ يُقَلَّمُ ظُفْرُهُ وَيحْلِقُ شَعْرُهُ الَّذِي يُسْتَحَبُّ فِي الحَيَاةِ حَلْقُهُ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ. قال الرافعي: ذكرنا أنه يُطْرح قَدْرٌ من الكافور في الماء الذي يغسل به الميت، وذلك في غير المُحْرِمِ، فأما المحرم فلا يقرب منه طيباً إبقاء لحكم الإحرام وكذلك لا يستر رأسه إن كان رجلاً، ووجهه إن كان امرأة، ولا يلبس المخيط ولا يؤخذ شعره وظفره، وبه قال أحمد خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: حكمه حكم سائر الموتى وروي مثله عن مالك. لنا ما روي: "أَنَّ رَجُلاً كَانَ مَعَ النَّبِيِّ فَوَقَصَتْهُ نَاقَةٌ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَمَاتَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: اغْسِلُوهُ بمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلاَ تَمَسُّوهُ بطِيبٍ، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِياً" (¬1). ¬
ولا بأس بالتَّخمير عند غسله كما لا بأس بجلوس المحرم عند العَطَّار، وإذا ماتت المعتدة التي تحدّ، هل يجوز تطيّيبها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، صِيَانة لها عمَّا كان حراماً عليها في حياتها كالمحرم، وبهذا قال أبو إسحاق. وأظهرهما: نعم؛ لأن التَّحريم كان احترازاً عن الرِّجَال وتفجعاً لفراق الزوج، وقد زال المعنيان بالموت بخلاف المُحْرم، فإن التحريم في حقه لحق الله -تعالى جدّه- فلا يزول بالموت، وهل يقلّم أظفار غير المحرم من الموتى ويؤخذ شاربه وشعر إبطه وعانته؟ فيه قولان: القديم: لا (¬1)، ويه قال مالك وأبو حنيفة والمزني -رحمهم الله-؛ لأن مصيره إلى البَلِى، وصار كالأَقْلَفِ لا يختن بعد موته. والجديد: وبه قال أحمد: نعم، كما يتنظَّف الحيُّ بهذه الأشياء، وقد روي أنه قال: "اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ مَا تَفْعَلُونَ بِعَرُوسِكُمْ" (¬2). والقولان في الكراهية، ولا خلاف في أن هذه الأمور لا تستحب، كذلك ذكره القَاضِي الروياني، ونقل تَفْريعاً على الجديد أنه يتخيَّر الغاسل في شعر الإبطيين النَّتف والإزالة بالنُّوْرَة ويأخذ شعر العَانَة بالجلم، أو المُوسَى أو النُّورة. وحكي عن بعض الأصحاب أنه لا يزال إلا بالنّورَة احْتِرَاز عن النَّظَرِ إلى الفَرْج. وقوله في الكتاب: "الَّذي يستحبُّ في الحياة حلقه" فيه إشارة إلى أنه لا يحلق شعر الرأس بحال، فإنَّ إزالته غير مأمور بها إلاَّ في المناسك، ومنهم من طرد الخلاف في شعر الرأس إذا كان من عادة الميت الحلق في حالة الحياة. واعلم: أن جميع ما ذكرناه في وظيفة الغسل مفروض في حقِّ غير الشهيد وأما ¬
القول في التكفين
الشهيد فسيأتي حكمه في "فصل الصَّلاة على الميت" ولو احترق مسلم ولو غسل لتهرّي لا يغسل بل ييمَّم محافظة على جثَّته لتدفن بحالها، ولو كان عليه قُرُوحٌ وخِيفَ من غسله تسارع البِلَى إليه بعد الدَّفن غسل، ولا مبالاة بما يكون بعده، فالكُلُّ صائرون إلى البِلَى (¬1). قال الغزالي: القَوْلُ فِي التَّكْفِينِ وَالمُسْتَحَبُّ فِي لَوْنهِ البَيَاضُ وَفِي جِنْسِهِ القُطْنُ وَالكِتَّانُ دُونَ الحَرِيرِ فَإنَّهُ يَحْرُمُ لِلرِّجَّلِ وَيُكرَهُ لِلْنِّسَاءِ، وَأَمَّا عَدَدُهُ فَأَقَلُّهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ سَاتِرٌ لِجَمِيعِ البَدَنِ وَالثَّاني وَالثَّالِثُ حَقُّ المَيِّتِ فِي التَّركَةِ تَنْفُدُ وَصِيَّتُة بِإسْقَاطِهِمَا، وَلَيَسْ لِلوَرَثَةِ المُضَايَقَةُ فِيهِمَا، وَهَلْ لِلْغُرَمَاءِ المَنْعُ مِنْهُمَا فِيهِ وَجْهَانِ، وَمَنْ لاَ مَالَ لَهُ يُكَفَّنُ مِنْ بَيْتِ المَالِ، وَيُقْتَصَرُ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ فِي أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ، وَفِي وُجُوبِ الكَفَنِ عَلَى الزَّوْجِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: يتّضح الفصل برسم مسائل: إحداها: أن المستحبَّ في لون الكفن البياض، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "خَيْرُ ثِيَابُكُمْ الْبِيضُ فَاكْسُوهَا أحْيَاءَكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ" (¬2). وجنسه في حقِّ كل ميت ما يجوز لبسه في حال الحياة، فيجوز تَكْفِينُ المرأة بالحَرِيرِ، لكنه يكره؛ لأنه سرف غير لائق بالحَالِ، ويحرم تكفين الرِّجال به، كلبسه في الحياة، ولك أَنْ تقول قوله: "ومن جسه القطن والكتان" إما أن يريد استحباب هذين النوعين على الخصوص أو يشير بهما إلى جميع الأنواع المباحة، ويكون التقدير القطن والكتان وما في معناهما. ¬
أمَّا الأول فقضيته تقديم النَّوعين على سائر الأنواع المباحة كالصُّوف وغيره، وهذا شيء لم نَرَهُ في كلام الأصحاب وإن أراد الثَّاني فظاهر اللَّفظ معمول به في حقِّ النِّسَاء [دون الرجال. أما إنه معمول به في حق النساء] (¬1) فلأن تكفينهن بغير هذه الأنواع وهو الحرير جائز، وإن كره فينتظم أن نقول تكفينهن بهذه الأنواع مستحب، وأما أنه غير معمول به في حق الرجال، فلأن اسْتِحْباب شيء من هذه الأنواع إنما يكون إذا جاز تكفينهم بغير هذه الأنواع، وأنه ممتنع. الثانية: أقل الكفن ثوب واحد، وأحبه للرجال ثلاثة أثواب. روى أن النبي: "كُفِّنَ فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ" (¬2). ثم شرط صاحب الكتاب في الثَّوب الواحد الأقل أن يكون سَاتراً لجميع البدن، وهكذا ذكر الإمام وكثير من الأصحاب، وحكى آخرون من العراقيين وغيرهم: أن الواجب قدر ما يستر العورة؛ لأن الميت ليس آكد حالاً من الحَيِّ، والواجب في الحي ستر العورة لا غير وعلى هذا يختلف الحال باختلاف حال الميت في الذُّكورة والأنوثة لاختلاف مقدار العورة بالحالتين وجمع القاضي الرُّويَانيْ وآخرون بين النقلين وجعلوا المسألة على وجهين: أحدهما: أن الواجب القدر السَّاتر للعورة. والثاني: أنَّ الواجب ثوب سابغ وقد حكى عن نصه في "الأم" أنه إن كان له ثوب واحد لا يغطي جميع البدن ستر به العورة؛ لأنه واجب وستر غيرها ليس بواجب [فإن] (¬3) كان يبدو رأسه أو رجلاه غطى به رأسه، لما روي أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يخلف إلا نمر فكان إذا غطى بها رأسه بدت رِجْلاَه، وإذا غطَّى بها رجليه بدى رأسه، فقال: "غَطُّوا بِهَا رَأسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإذْخَرِ" (¬4). واعرف في قوله في الكتاب: "وأما عدد فأقله ثوب واحد ... " إلى آخره شيئين: أحدهما: أنَّ هذا اللفظ يقتضي كون الواحد عدداً لكن الحساب لا يجعلون الواحد عدداً ويقولون العدد ما يتركب عن الواحد. والثَّاني: أنا وإن أوجبنا ثوباً ساتراً لجميع البدن، فذلك في حقِّ غير المُحْرم، أما ¬
المُحْرم فلا يستر رأسه إن كان رجلاً، ووجهه إن كان امرأة على ما سبق. الثالثة: الثوب الواحد على ما وصفناه حقّ الله -تعالى جدّه- لا تنفذ وصيّة الميت بإسقاطه والثاني والثالث حق الميت وهي بمثابة ثياب التجمُّل للحي، فلو أوصى بإسقاطها نفذ: "كمَا أَوْصَى أبُو بَكرٍ -رَضِيَ الله عَنْهُ- بِأَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبِهِ الْخَلِقِ، فَنُفِّذَتْ وَصِيَّتُهُ" (¬1). ولو لم يُوصِ وتنازع الورثة في أكفانه وأراد بعضهم الاقْتِصَار على ثوب واحد، فقد حكى في "النهاية" فيه طريقين: أحدهما: أن فيه وجهين كما سنذكرهما في مضايقة الغُرَمَاء فيه. والثاني: القطع بالمنع تقديماً لحاجة المالك، وظاهر المَذْهَب وهو المذكور في الكتاب أنه ليس لهم المُضَايَقَة سواء أثبتنا الخلاف أم لا. ولو اتَّفَقَ الورثة جميعاً على تَكْفِينِه في ثوب واحد، فقد قال في "التهذيب": يجوز وطرد صاحب "التَّتمة" الخلاف فيه. ولو كان عليه دين مستغرق فقال الغرماء: لا نكفنه إلا في ثوب واحد، فهل يجابون إليه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، كالمُفْلس الحي تترك عليه ثياب تجمله. وأظهرهما: نعم، فإن السّتر قد حصل وهو إلى إبراء ذمته أحوج منه إلى زيادة الستر بخلاف الحي يحتاج إلى التجمل ويتقلب بين الناس. الرابعة: مَحِلُّ الكفن رأس مال التَّركة إن ترك الميّت مالاً يقدم على الديون والوصايا والميراث، نعم لا يباع المرهون في الكفن ولا العبد الجَانِي ولا المال الذي فيه الزكاة فإنه كالمرهون بها، وإن لم يترك مالاً فكفَّنه على من هو في نفقته، فيجب على القَرِيب كفن القريب وعلى السيد كفن العبد وأم الولد، وكذلك يجب كفن المكاتب عليه؛ لأن الكتابة تنفسخ بالموت، ولا فرق في الأولاد بين الصِّغار والكبار؛ لأن نفقتهم واجبة إذا كانوا عاجزين زَمْنَى والميت عاجزٌ، ذكره في التَّتمة. وهل يجب على الزوج تكفين الزوجة ومؤنتها؟ فيه وجهان: أحدهما -وبه قال ابن أبي هريرة-؛ لا؛ لأن مُؤْنَةَ الزوجة إنَّما تجب على الزَّوج مفي مُقَابلة التَّمكين من الاسْتِمْتَاع فإذا ماتت فقد زال هذا المعنى، وبهذا الوجه قال مالك وأبو حنيفة [وأحمد] (¬2) -رحمهم الله-. وأصحهما: أنه يجب ذلك على الزَّوج، لأنها في نفقته في الحياة فيلزمه مؤنتها ¬
بعد الموت، كالأب مع الابن والسيد مع العبد فعلى هذا لو لم يكن للزَّوج مال فحينئذ يجب في مالها. أما: إذا لم يترك الميت مالاً، ولا كان له من ينفق عليه فتكفينه ومؤنة دفنه من بيت المال كنفقته في الحياة. وهل يقتصر على ثوب واحد أم يكمل الثلاث؟ فيه وجهان: أظهرهما: يقتصر عليه ليتأدّى الواجب به. الثاني: يكمل الثلاث ولا يقتصر عليه كما لا يقتصر في كسوة الحي المحتاج على ساتر العورة فعلى الأول لو ترك ثوباً واحداً فلا شيء من بيت المال وعلى الثاني هل يكتفي بما خلفه أم يكمل الثلاث من بيت المال؟ ذكر الإمام أن صاحب "التقريب" حكى فيه وجهين: أظهرهما: الثاني وإذا لم يكن في بيت المال مال فعلى عامة المسلمين الكفن ومؤنة الدفن (¬1). قال الغزالي: وَالزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلاَثِ إلَى الخمْسِ مُسْتَحَبٌّ لِلنِّسَاءِ جَائِزٌ لِلرِّجَالِ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الخَمْسِ سَرَفٌ عَلَى الإِطْلاَقِ، ثُمَّ إن كُفِّنَ فِي خَمْسٍ فَعَمَامَةٌ وَقَمِيصٌ وَثَلاَثُ لَفَائِفَ سوَابغ، وَإِنْ كُفِّنَ فِي ثَلاَثٍ فَثَلاَثُ لَفَائِفَ مِنْ غَيْرِ قَمِيصٍ وَلاَ عِمَامةٍ، وَإِنْ كُفِّنَتْ فِي خَمْسٍ فَإزَارٌ وَخِمَارٌ وَثَلاَثُ لَفَائِفَ سَوَابغَ، وَفِي قَوْلٍ: تُبَدَّلُ لِفَافَةٌ بِقَمِيصٍ، وَإِنْ كُفِّنَتْ فِي ثَلاَثٍ فَثَلاَثُ لَفَائِفَ. قال الرافعي: قد ذكرنا أن العدد المستحب في كَفَنِ الرِّجال ثلاث أثواب، فلو زيد عليه إلى خَمْسَةِ أثواب فهو جائز، وإن لم يكن مَحْبُوباً،. وأما المرأة فيستحب أن تكفَّن في خمسة أثواب رعاية لزيادة السّتر في حقها وحكم الخنثى في ذلك حكم المرأة والزيادة على الخمسة مكروهة على الإطلاق لما فيها من السَّرف، وقد روى أن النَّبي قال: "لاَ تُغَالُوا فِي الكَفَنِ، فَإنَّهُ يُسْلَبُ سَلْباً سَرِيعاً" (¬2). فإذا كانت المُغَالاة مكروهة فزيادة العدد أَوْلَى أن تكون مكروهة ثم إن كفن الرَّجل أو المرأة في ثلاث فالمحبوب ثلاث لفائف من غير عمامة للرجل ولا قميص ¬
وعن أبي حنيفة: أن الرَّجل يكفن في إزار ورداء وقميص. لنا: ما روى أن النَّبي: "كُفِّنَ فِي ثَلاثَةِ اثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةِ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ" (¬1). وإن كُفن الرجل في خمسة أثواب فليكن في عمامة وقميص وثلاث لفائف، وتجعل العمامة والقميص تحتها، ويستثنى المحرم عن ذلك فلا يلبس المخيط على ما تقدم، وإن كُفنت المرأة في خمسة أثواب فقولان: أحدهما: إزار وخمار وثلاث لفائف، والإزار والخمار كالعمامة والرداء للرجل واللفائف كاللفائف. والثاني: إزار وخمار ولفافتان وقميص، لما روي: "أَنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ لَمَّا غَسَّلَتْ أُمَّ كُلْثُوم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ كَانَ النَّبِيُّ جَالِسًا عَلَى الْبَابِ فَنَاوَلَهَا إِزَارًا وَدِرْعاً وَخِمَاراً وَثَوْبَيْنِ" (¬2). وينسب القول الأول إلى الجديد والثاني إلى القديم، وذكر المُزَنِيُّ أن الشافعي -رضي الله عنه- ذكر القميص مرة ثم خط عليه ونقل عنه القول الأول وإيراد الكتاب يقتضي ترجيحه، لكن الأكثرين على ترجيح القول الثاني، ويجوز أن تعد المسألة من المسائل التي يجاب فيها على القديم. ثم قال الشافعي -رضي الله عنه-: "يشدّ على صدرها ثوب، لئلا يضطرب ثديها عند الحمل فتنشر الأكفان" واختلفوا في ذلك الثوب، فقال أبو إسحاق هو ثوب سادس ليس من جملة الأكفان وُيحَلُّ عنها إذا وضعت في القبر. وقال ابْنُ سُرَيْجٍ يشد عليها ثوب من الخمسة ويترك والأول أظهر عند الأئمة. وكيف ترتيب الأثواب الخمسة؟ قال المُحَامِلِيُّ وغيره على قول أبي إسحاق إن قلنا: تُقَمّص فيشدُّ عليها المِئْزَرُ أو لا ثم القميص ثم الخِمَار، ثم تلفُّ في ثوبين ثم يشد عليها الثالث، وإن قلنا: لا تقمص، يشد عليها المِئزَرُ، ثم الخمار، ثم تلفُّ في ثلاثة أثواب ثم يشدُّ عليها خرقة وعلى قول ابْنُ سُرَيْجٍ: إن قلنا: تقمص يشد عليها المئزر ثم الدرع ثم الخمار ثم تشد عليها الخرقة ثم تلف في ثوب، وإن قلنا: لا تقمص، يشد عليها المِئْزَر ثم الخمار ثم تلف في ثوب ثم يشد عليها آخر ثم تلفُّ في الخامس. وإذا وقع التَّكْفِين في اللَّفائف الثَّلاث، فكيف تكون هي؟ فيه وجهان: ¬
أحدهما: أن تكون متفاوتة فالأسفل يأخذ ما بين سُرّته وركبته، والثَّاني يأخذ من عُنُقه إلى كَعْبه، والثَّالث يستر جميع بدنه. وأظهرهما: أنه ينبغي أن تكون مستوية في الطَّول والعرض يأخذ كل واحد منها جميع بدنه. واعلم أنه لا فرق في التَّكفين في الثلاث بين الرجل والمرأة، وإنما الفرق بينهما في الخمس، فهي في حق الرجل قميص وعمامة وثلاث لفائف، وفي المرأة القولان المذكوران، وإذا كان كذلك فإيراد الفرض في أقصر من لفظ الكتاب هَيّنٌ -والله أعلم-. قال الغزالي: ثُمَّ يُذَرُّ عَلَى كُلِّ لِفَافَةٍ حَنُوطٌ، وَيُوضَعُ المَيِّتُ عَلَيْهِ، وَيأْخُذُ قَدْراً مِنَ القُطْنِ الحَلِيجِ وَيدُسُّهِ فِي الألْيَتَيْنِ، وَتُشَدُّ الألْيَتَانِ وَتُسْتَوْثَقُ، وَتُلْصَقُ بِجَمِيعِ مَنَافِذِ البَدَنِ مِنَ المَنْخِرَيْنِ وَالأُذُنيْنِ وَالعَيْنَيْنِ قُطْنَةٌ عَلَيْهَا كَافُورٌ ثُمَّ يُلَفُّ الكَفَنُ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يُبَخِّرَهُ بِالعُودَ وَيشُدُّ عَلَيْهِ بِشِدَادِ، وَبَنْزِعُ الشِّدَادِ عِنْدَ الدَّفْنِ. قال الرافعي: غرض الفصل الكلام في إِدْرَاج الميت في الكَفَنِ وتوابعه. فنقول: تبخير الكفن بالعود مستحبٌّ إذا لم يكن الميت مُحْرماً، وذلك بأن ينصب مشجَبٌ وتوضع الأكفان عليها ويجمَرُ تحتها ليصيبها دُخَان العُود، ثم تبسط أحسن اللَّفائف وأوسعها ويذرُّ عليها حنُوطٌ، وتبسط الثانية فوقها ويدر عليها حنوط، وتبسط الثَّالثة التي تلي المَيِّت فوقها ويذرُّ عليها حنوط وكافور ثم يوضع الميت فوقها مستلقياً ويأخذ قدر من القطن الحَلِيج ويجعل عليه حنوط وكافور ويدسُّ في إِلْيَتَيْهِ حتى تتَّصل بالحلقة ليرد شيئاً عساه عند التَّحريك ينفصل منه ولا يدخله في باطنه، وفيه وجه: أنه لا بأس به ثم تشد إِلْيَتَيْهِ وتستوثق وذلك بأن يأخذ خِرْقَةً ويشد رأسها ويجعل وسطها عند إِلْيَتَيه وعانته ويشدها عليه فوق السُّرة بأن يرد ما يلي ظهره إلى سرته ويعطف الشِّقين الآخرين عليه. ولو شد شقًّا من كل رأس على هذا الفَخِذِ ومثل ذلك على الفَخِذِ الثَّاني جاز أيضاً. وقيل: يشدها عليه بالخيط ولا يشق طرفيها ثم يأخذ شيئاً من القطن، ويضع عليه قدرًا من الكافور الحنُوطِ، ويجعله على مَنَافِذِ البدن من المنخَرَينِ والأُذُنَيْنِ والعينين والجِرَاحَات النَّافِذَة إن كانت عليه دفعاً للهَوَام، ويجعل الطِّيب على مَسَاجدِهِ، وهي الجَبْهَة، والأَنْف، وباطن الكَفَّين، والركبتانِ، والقدمان إكراماً لها، وذلك بأن يجعل الطِّيب على قِطْعَةِ قُطن وتوضع على هذه المواضع. وقيل: يجعل عليها بلا قطن. ثم يلفُّ الكفن عليه بأن يثنى من الثَّوب الذي يليه صنعته التي تلي شقَّه الأيسر على شقِّه الأيمن، والتي تلي شقّه الأيمن على شقّه الأيسر كما يفعل الحيّ بالقَباء، ثم يلف الثاني والثَّالث كذلك.
وفيه قول آخر: أنه يبدأ بالشقة التي تلي شقَّه الأَيْمن فيثنيها على شقِّه الأيسر، ويجعل الَّتي تلي الأيسر عَلَى اليَمِين غالباً، ولعلَّ هذا أسبق إِلَى الفَهْمِ ممَّا رواه المُزَنِيُّ في "المختصر"، لكن الأول أصحُّ عند الجمهور ومنهم من قطع به. وإذا لفَّ الكفن عليه جمع الفاضل عند رأسه جمع العِمَامَة ورد على وجهه وصدره إلى حيث يبلغ، وما فضل عند رجليه يجعل على القَدَمين والساقين. وينبغي أن يوضع المَيِّتُ على الأكفان أولاً بحيث إذا (¬1) ألقيت عليه كان الفاضل عند رأسه أكثر، كما أن الحيَّ يجعل فضل ثيابه على رأسه، وهو العمامة ثم تشتد الأكفان عليه بشداد خَيْفَة انتشارها عند الحمل فإذا وضع في القبر نزع. وفي كون التَّحنيط واجباً أو مستحباً وجهان: أظهرهما: عند المصنف وإمام الحرمين الثاني (¬2). قال الغزالي: ثُمَّ يَحْمِلُ الجَنَازَةَ ثَلاثَةُ رِجَالٍ رَجُلٌ سَابِقٌ بَيْنَ العَمُودَيْنِ وَرَجُلاَنِ فِي مُؤَخِّر الجَنَازَةِ، فَإنْ عَجَزَ السَّابِقُ أَعَانَهُ رَجُلاَنِ خَارجَ العَمُودَيْنِ فَتَكُونَ الجَنَازَةُ مَحْمُولَةٌ بَيْنَ خَمْسَةٍ أَوْ بَيْنَ ثَلاَثةٍ، وَالمَشْيُ قُدَّامَ الجَنَازَةِ أَفْضَلُ (ح) وَالإِسْرَاعُ بِهَا أَوْلَى. ¬
قال الرافعي: ليس في حمل الجنازة الجنازة وسقوط مروءة بل هو بِرٌّ وأكرام للميت، وقد نقل ذلك عن فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعين- رضوان الله عليهم أجمعين- ولا يتولاَّه إلا الرِّجال ذكراً كان الميت أو أنثى، ولا يجوز الحمل على الهَيْئَات المُزْرِية ولا على الهيئة التي يخاف منها السُّقوط. إذا عرفت ذلك ففي الفصل ثلاث مسائل: إحداها: في كيفية الحمل وقد نقل طريقان: أحدهما: الحمل بين العَمُودين. يُرْوَى أن النَّبي: "حَمَلَ جَنَازَة سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ" (¬1). ومعناه: أن يتقدم رجل فيضع الخَشبَتَين الشَّاخِصَتَين وهما العمودان على عاتقيه، والخشبة المعترضة بينهما على كتفيه، ويحمل مؤخرة الجنازة رجلان: أحدهما: من الجانب الأيمن، والثَّاني من الأيسر، ولا يمكن أن يتوسَّط الخشبتين واحد من مؤخرهما، فإنه لا يرى موضع قدميه، والطريق بين يديه حينئذ، فإن لم يستقلّ التقدم بالحمل أعَانه رجلان خارج العَمُودَين يضع كل واحد منهما واحداً على عاتِقِه فتكون الجنازة محمولة على خمسة. والثاني: التَّرْبِيع، روي عن ابن مسعود- رضي الله عنه- أنه قال: "إِذَا تَبعَ أَحَدُكُمْ جَنَازَةٌ فَلْيَأخُذْ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ الأَرْبَعَةِ ثُمَّ لِيَتَطَوَّعْ بَعْدُ أَوْ ليَذَرْ فَإِنَّهُ السُّنَّةَ" (¬2). والتَّرْبِيعُ: أن يتقدَّم رجلان فيضع أحدهما العمود الأيمن على عاتقه الأيسر، والآخر العمود الأيسر على عاتقه الأيمن، ولذلك يحمل العمودين من مؤخرها اثنان فتكون الجَنَازة على هذه الهَيْئة محمولة على أربعة. وقد نقل عن نَصِّ الشَّافعي -رضي الله عنه- أن من أراد التَّبَرُّك يحمل الجنازة من جوانبها الأربعة بدأ بالعَمُود الأيسر من مؤخرها فحمله على عَاتِقِه الأيمن ثم يسلم إلى غيره، ويأخذ العمود الأيسر من مؤخِّرها فيحمله على العاتق الأيمن أيضاً ثم يتقدم فيعترض بين يديها لئلاً يكون ماشياً خلفها فيأخذ العمود الأيمن من مقدمها ويحمله على عاتِقِهِ الأيسر ثم يأخذ العمود الأيمن من مؤخرها، ولا شك أن ذلك إنما يتأتى والجَنَازة ¬
محمولة على هيئة التَّرْبِيع فهذا شأن الطَّريقين، وكل واحد منهما جائز. وحكى القاضي الرُّوياني عن بعض الأصحاب: أن الأفضل الجمع بينهما بأن يحمل تَارَةً هكذا وتارة هكذا، وإذا أراد الاقْتِصَار على أَحَدِهِمَا فأيتهما أفضل؟ المشهور في المذهب: أن الحمل بين العمودين أفضل. وعن أحمد: أن التَّربيع أفضل، وبه قال بعض أصحابنا. وعن مالك: أنهما سواء، وأشار صاحب "التَّقريب" إلى وجه يوافقه. وقال أبو حنيفة: الحَمْل بين العمودين بدعة. الثانية: المَشْي أمام الجنازة أفضل، وبه قال مالك، وروى مثله عن أحمد، ويروى عنه أنه إن كان راكباً صار خلفها، وإن كان راجلاً فقدَّامها. وقال أبو حنيفة: المشي خلفها أفضل. لنا ما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ وأبا بَكْرٍ، وعُمَرَ -رضي الله عنهما- يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ" (¬1) والأفضل أن يكون قدَّامها قريباً منها بحيث لو التفت لرآها (¬2)، ولا يتقدمها إلى المَقْبَرة، ولو تقدم لم يكره، ثم هو بالخِيَار إن شاء قام منتظراً لها، وإن شاء قعد؛ لما روي عن علي -رضي الله عنه- قال: "قَامَ رسول الله مَعَ الْجَنَازَةِ حَتَّى تُوضَعَ وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ قَعَدَ بَعْدَ ذلِكَ وَأَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ" (¬3). وقال أبو حنيفة وأحمد: يكره الجلوس حتى توضع الجنازة. الثالثة: سُنَّة المشي بالجنازة الإسراع إلا أن يخاف من الأسراع تغيُّراً في الميت، فيتأنى بها، والإسراع فوق المشي المعتاد دُونَ الْخَبَب، روي أن النَّبي "سُئِلَ عَنِ الْمَشْيِ بِالْجِنَازَةِ، فَقَالَ دُونَ الْخَبَبِ فَإِنْ يَكُ خَيْراً عَجَّلْتُمُوهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ يَكُ شَرّاً فُبُعْداً لِأَهْلِ النَّارِ" (¬4). وإن خِيفَ عليه تغَيُّرٌ وانفجار زيد في الإِسْرَاع. ¬
القول في الصلاة
الْقَوْلُ فِي الصَّلاَةِ قال الغزالي: وَالنَّظَرُ فِي أَرْبَعَةِ أَطْرَافٍ: الأَوَّلُ، فِيمَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهُوَ كُلُّ مَيِّتٍ مُسْلِمٍ لَيْسَ بِشَهِيدٍ، احْتَرَزْنَا بِالمَيِّتِ عَنْ عُضْوٍ آدمِيٍّ فَإنَّهُ لاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ إِلاَّ إِذَا عُلِمَ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ فَيُصَلَّى عَلَى صَاحِبِهِ وَإِنْ كَانَ غائِباً، وُيغَسَّلُ العُضْوُ وَيُوَارَى بِخِرْقَةٍ وَيُدْفَنُ. قال الرافعي: حصر حجة الإسلام -رحمه الله- عليه بقية الكلام في صلاة الميت في أربعة أطراف للحاجة إلى النّظر فيمن يصلى عليه، ومن لا يصلى عليه، وفي أركان هذه الصَّلاة وشرائطها. الأول: فيمن صلى عليه، ويعتبر فيه ثلاثة قيود. أن يكون ميتاً، مسلماً، غير شهيد. فأما قيد المسلم فيتعلق به مسألتان يشتمل الفصل على إحداهما، وهي ما إذا وجدنا بعض مسلم دون باقيه مثل إن أكله السبع، فلا يخلو إما أن يكون قد يعلم موت صاحبه أو لا يعلم، فإن لم يعلم فلا يصلى عليه، وإن علم. موته صلى عليه قل الموجود أم كثر، وبه قال أحمد خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: "لا يصلى عليه إلا أن يكون أكثر من النِّصف" ويروى عن مالك مثله. لنا أن الصَّحابة -رضي الله عنهم- صَلُّوا عَلَى يَدِ عبد الرحمن بن عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ -رضي الله عنه- أْلْقَاهَا طَائِرٌ بِمَكَّةِ فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ وعَرَفُوا أَنَّهَا يَدُهُ بِخَاتَمِهِ" (¬1). وهذا في غير الشعر والظفر ونحوها، وفي هذه الأجزاء وجهان: أقربهما: إلى إطلاق الأكثرين أنها كغيرهما، نعم قال في "العدة": إن لم يوجد إلاَّ شعرة واحدة فلا يصلى عليها. في ظاهر المذهب، إذ لا حرمة لها ومتى شرعت الصلاة، فلا بد من الغسل والمُوَارَاة بخرقة (¬2). وأما الدَّفن فلا يختص [بما إذا علم] (¬3) بموت صاحب العضو، بل ما ينفصل من الحَيِّ من ظفر وشعر وغيرهما يستحب لهم دفنها، وكذلك يُوَارِى دم الفَصْد وَالحجَامَة ¬
والعَلَقَة والمُضْغَة تلفيهما المرأة، وإذا وجد بعض ميت أو كله ولم يعلم أنه مسلم، فإن كان في دار الإسلام صلى عليه، لأن الغالب في الإسلام المسلمون. وقوله: "إلا إذا علم موت صاحبه" يبين أنه لا صلاة فيما إذا علم حياة صاحبه، وفيما إذا لم يعلم موته ولا حياته، فإن كل واحدة من الحالتين تبقى في المستثنى منه. وقوله: "فيصلى على صاحبه" معلم بالحاء والميم، وفيه إشارة إلى أن الصَّلاة ليست على نفس العضو وإنما هي على الميت ولا ينوي إلا الصلاة على جملته، وقد صرح بهذا القَاضِي الروياني وغيره، وكلام من قال: يصلي على العضو محمول عليه، فإن قلت: هذا حسن لكنه استثنى الحالة التي حكبم فيها بأنه يصلِّي على صاحبه من قوله: "فإنه لا يصلى عليه"، وفي هذه الحالة لا يصلِّي على العضو أيضاً فكيف ينتظم الاستثناء. فالجواب: أن قوله: لا يصلِّي عليه أي على صاحبه، كما أن قول من قال: يصلِّي على العضو محمول عليه، وحينئذ ينتظم الاستثناء. وقوله: "وإن كان غائباً" يشير إلى أن غَيْبة باقي الشَّخص لا تضر، فإنا نجوّز الصَّلاة على الغالب كله، فعلى الغائب بعضه أولى، ولذلك قال إمام الحرمين: حقيقة الخلاف بيننا وبين أبي حنيفة -رحمه الله- في العضو يستند إلى أن الصَّلاة على الغائب صحيحة -وهو لا يراها- ويربط الصلاة بما شهد وحضر. قال الغزالي: وَكَذَا السَّقْطُ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ التَّخْطِيطُ لاَ يُغَسَّلُ وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، فَإِنْ ظَهَرَ التَّخْطِيطُ فَفِي الغُسْلِ قَوْلاَنِ، فَإِنْ غُسِّلَ فَفِي الصَّلاَةِ قَوْلاَنِ مَنْشُؤُهُمَا التَّرَدُّدُ فِي الحَيَاةِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يُوَارَى بِخِرْقَةِ وَيُدْفَنُ، فإنِ اخْتَلَجَ بَعْدَ الانْفِصَالِ فَالصَّلاةُ عَلَيْهِ أَوْلَى (ح م)، فَإِنْ صَرَخَ وَاسْتَهَلَّ فَهُوَ كَالكَبِيرِ. قال الرافعي: المسألة الثانية في السّقْط وله حالتان (¬1): إحداهما: أن يستهلّ أو يبكي، فهو والكبير سواء؛ لأنا تيقَّنا حياته وموته بعد الحياة، وقد روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا اسْتَهَلَّ السَّقْطُ صُلِّيَ عَلَيْهِ" (¬2). والثَّانِية: أن لا يتيَّقن حياته باستهلال وغيره، فإما أن يُعَرَّى عن أمارات الحياة ¬
كالاخْتِلاجَ ونحوه أو يوجد شيء من ذلك، فإن عرى فينظر هل بلغ حداً يمكن نفخ الروح فيه؟ وهو أربعة أشهر فصاعداً أم لا؟ فإن لم يبلغه فلا يصلى عليه، وهل يغسل؟ فيه طريقان: أصحهما: لا، كما لا يصلى عليه، فإن حكم كل واحد منهما حكم من عرض له الموت، وعروض الموت يستدعى سبق الحياة. والثاني: فيه قولان وسنذكر الفرق بين الغسل والصَّلاة، وإن بلغ أْربعة أشهر فصاعداً فهل يصلى عليه؟ فيه قولان: أحدهما -وينسب إل القديم - نعم إذا ورد في الخبر: "أنَّ الْوَلَدَ إِذَا بَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ" (¬1)، ويحكى عن "الأمِّ" والبُويطِيِّ: أنه لا يصلى عليه ويوجه بالخبر الذي سبق، فإن ظاهره يقتضي اشتراط الاستهلال. وأيضاً بأنه لا يرث ولا يورث، فلا تجب الصلاة عليه كما لو سقط لدون أربعة أشهر. وفي الغسل طريقان: أظهرهما: القطع بأنه يغسل. والثاني: فيه قولان. والفرق أن الغسل أوسع باباً من الصلاة، أَلاَ ترى أن الذِّميَّ لا يصلى عليه ويغسل، وأما إذا اخْتَلَجَ بعد الانفصال وتحرك ففي الصلاة عليه قولان: أحدهما: لا يصلى عليه، وبه قال مالك لعدم تيقُّن الحياة بخلاف الاسْتِهْلاَل. وأظهرهما: أنه يصلِّي عليه لظهور احْتمال الحياة بسبب الأَمارة الدَّالَّة عليها، ومنهم من قطع بأنه يصلى عليه، وفي الغسل هذان الطريقان لكن القَطْع في الغسل أظهر منه في الصلاة. ثم نعود إلى ما يتعلق بلفظ الكتاب. أما قوله: "السَّقط الذي لم يظهر فيه التَّخْطيط". وقوله: "ظهر فيه التخطيط" فيعلم أن المراد منه ظهور خلقة الآدمي، وهذه العبارة حكاها إمام الحرمين عن الشيخ أبي علي، وعبارة الجمهور التي قدمناها، وهي: أن ينظر هل بلغ حد نفخ الروح أم لا؟ قال الإمام: ويمكن أن يقال: الاختلاف في مَعْض العبارة، ومهما بدأ التَّخليق فقد دخل أوان نفخ الروح، وإن لم يَبْدُ لم يدخل، وقد يظن تخلَّل زمان بين أوائل التَّخْليق وبين جريان الروح فإن كان هكذا اختلف الطريقان -والله أعلم-. وقوله: "وإن ظهر التخطيط" أي: ولم يختلج ولا تحرك. أما: إذا اخْتَلَجَ فقد ذكره من بعد. قوله: "وإن ¬
غسل ففي الصَّلاة قولان" ترتيب الصَّلاة على الغسل إن قلنا: لا يغسل فلا يصلّى عليه، وإن قلنا: يغسل ففي الصلاة قولان: وإذا جمعنا بينهما قلنا: فيه ثلاثة أقوال: ثالثها: الفرق بين الغسل والصَّلاة. وقوله: منشأهما التردد في الحياة، أي: في منشأ القَوْلين فيهما جميعاً، لا في الصَّلاة وحدها، وإن كان مذكورًا بعد ذكر قولين الصلاة. وقوله: "وعلى كل حال يوارى بخرقة ويدفن"، المواراة قد تكون على هَيْئَة التكفين على ما سبق بيانها، وقد تكون على غير تلك الهيئة، فما لم يظهر فيه خلقة الآدمي، يكفي فيه المُوَاراة كيف كانت وبعد ظهور خلقة الآدمي حكم التَّكْفِين حكم الغسل. وقوله: "عند الاخْتِلاج فالصلاة عليه أولى" أي: من الصَّلاة عند عدم الاخْتِلاجَ، وهو جواب على طريقة طَرْدِ القولين والحالة هذه، وقد حكينا فيها قطع قاطعين بأنه يصلى عليه، فإنه يجوز أن يعلّم قوله: "فالصلاة عليه أولى" بالواو وإشارة إليه. قوله: فإن صرخ واستهل هو الحالة الأولى في ترتيب الشَّرح. قال الغزالي: وَاحْتَرَزْنَا بِالمُسْلِمِ عَنِ الكَافِرِ فَإنَّهُ لاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ ذِمِّيّاً كَانَ أَوْ حَرْبِيّاً لَكِنَّ تكْفِينَ الذِّمِّيِّ وَدَفْنَهُ مِنْ فُرُوضِ الكِفَايَاتِ وَفَاءً بِذِمَّتِهِ. وَقِيلَ: لاَ ذِمَّةَ بَعْدَ المَوْتِ فَهُوَ كَالحَرْبِيِّ، وَلَوْ اخْتَلَطَ مَوْتى المُسْلِمِينَ بِالمُشْرِكِينَ غَسَّلْنَا جَمِيعَهُمْ وَكَفَّنَّاهُم تَفَصِّياً عَنِ الوَاجِبِ، ثُمَّ عِنْدَ الصَّلاَةِ يُمَيَّزُ المُسْلِمُونَ بِالنِّيَّةِ. قال الرافعي: القيد الثاني كونه مسلماً، فلا تجوز الصَّلاة على الكافر حربياً كان أو ذمياً. قال الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} (¬1). ولا يجب على المسلمينِ غسله أيضاً، ذمياً كان أو حربياً لكن يجوز خلافاً لمالك -رحمه الله-. لنا: أنَّ النَّبِيَّ "أَمَرَ عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنُهُ- بغَسْلِ أَبِيهِ أَبِي طَالِب" (¬2) وأقاربه الكُفَّار أَوْلَى بغسله من المُسْلمين، وأما التَّكفين والدَّفْن فَينظر إن كان الكافر ذميّاً، ففي وجوبهما على المُسْلمين وجهان: أظهرهما: يجب وفاء لذمته، كما يجب أن يطعم ويكسى في حياته. والثاني: لا يجب فإنا لم نلتزم إلا الذَّبَّ عنه في حياته والذمة قد انتهت بالموت ¬
وإن كان حربياً ففي الكتاب إشعار بأنه لا يجب تكفينه ولا دفنه بلا خلاف؛ لأنه ألحق الذِّمي به في الوجه الثاني، لكن صاحب "التهذيب" فرق بين الأمرين، فقال: لا يجب تكفينه؛ لأن النّبي "أَمَرَ بِإلْقَاءِ قَتْلَى بَدْرِ فِي الْقَلِيبِ عَلَى هَيْئَاتِهِمْ" (¬1). وفي وجوب موارته وجهان: أحدهما: يجب؛ لأن النَّبِي أمر بها في قَتْلَى بدر (¬2). والثاني: لا يجب بل يجوز إغْراء الكلاب عليه فإن فعل فذاك، لئلا يتأذَّى الناس برائحته وكذلك حكم المرتد. إذا عرفت ذلك فلو اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين ولم يتميزوا بأن انهدم عليهم سقف مثلاً وجب غسل جميعهم والصلاة عليهم. وبه قال مالك وأحمد ثم إن صلّى عليهم دفعه جاز، ويقصد المسلمين منهم بنيته، وإن صلّى عليهم واحداً واحداً جاز أيضاً وينوي الصلاة عليه إن كان مسلماً، ويقول: "اللهم اغفر له إن كان مسلماً"، وعند أبي حنيفة -رحمه الله- لا يصلّى عليهم إلاَّ أن يكون المسلمون أكثر. لنا أن الصَّلاة على المسلمين واجبة بالنُّصوص ولا سبيل إلى إقامة الواجب هاهنا إلا بهذا الطريق. قال الغزالي: وأَمَّا الشَّهِيدُ فلاَ يُغَسَّلُ (ح) وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، والشَّهِيدُ مَنْ مَاتَ بِسَببِ القِتَالِ مَعَ الكُفَّار فِي وَقْتِ قِيَامِ القِتَالِ فَإِنْ كانَ فِي قِتَالِ أَهْلِ البَغْي أَوْ مَات حَتْفَ أَنْفِهِ فِي قِتَالِ الكُفَّارِ أَوْ قَتَلَهُ الحَرْبيُّ اغْتِيَالاً مِنْ غيْرِ قِتَالٍ أو جرحٍ فِي القِتَالِ وَمَاتَ بَعْدَ انْفِصَالِ القِتَالِ وَكَانَ بحَيْثُ يُقْطَع بِمَوْتهِ فَفِي الكُلِّ قَوْلاَنِ مَنْشَؤُهُمَا التَّرَدُّدُ فِي أَنَّ هَذِهِ الأَوْصَافَ هَلْ هِيَ مُؤَثِّرَةٌ أَمْ لاَ؟ أَمَّا القَتِيلُ ظُلْمًا مِنْ مُسْلِم أَوْ ذِمِّيِّ أَوْ بَاغ أَوِ المَبْطُونُ أَو الغَرِيبُ يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ. قال الرافعي: القيد الثَّالث لمن يصلى عليه ألا يكون شهيداً، فالشهيد لا يصلى عليه ولا يغسل أيضاً، وبه قال مالك خلافاً لأبي حنيفة في الصّلاة، وبه قال أحمد في رواية واختاره المزني. لنا أن جابراً وأنساً -رضي الله عنهما- رويا: أن النّبي "لَمْ يُصَلِّ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ، وَلَمْ يُغَسِّلهُمْ" (¬3). ولا فرق بين الرَّجُل والمرأة والحُرِّ والعبد والبالغ والصبي. وعند أبي حنيفة الصبي كسائر الموتي يغسل، ثم ما المعنى بقولنا: "لا يغسل ولا يصلى عليه"، يعني به: أنهما لا يجبان، أو يحرمان. وأما الصلاة ففي "النهاية" و"التهذيب" ذكر وجهين في جوازها: ¬
أظهرهما: أنها غير جائزة، ولو جازت لوجب كالصلاة على سائر الموتى. والثاني: أنها جائزة، وإنما تترك رُخْصَة لمكان. الاشْتِغال بالحرب، وهذا ما صححه الشيخ أبو محمد فيما علق عليه، وأما الغسل فقد أطلق في "التّهذيب" المنع منه، وذكر الإمام: أنه لا سبيل إليه، وإن جوزنا الصلاة إذا أدى غسله إلى إزالة دم الشَّهادة، فإن لم يكن عليه دم ففي غسله تردد، كما في الصلاة إذا تكرر ذلك فلا بد من معرفة الشهيد. واعلم: أن اسم الشهيد قد يخصّ في الفقه بمن لا يغسل ولا يصلى عليه، وعلى هذاً فقوله: "والشّهيد من مات بسبب القتال ... " إلى آخره، مجرى على ظاهره، وقد يسمى كل مقتول ظلماً شهيداً، وهو أظهر ألا ترى أن الشّافعي -رضي الله عنه- يقول في "المختصر": و"الشُّهداء الذين عاشوا وأكلوا الطعام ... " إلى أن قال: "كغيرهم من الموتى" أثبت اسم الشهداة مع الحكم بأنهم كسائر الموتى، وعلى هذا فقوله في الكتاب: "والشهيد من مات" أي: والشَّهيد الذي ذكرنا أنه لا يغسل، ولا يصلى عليه، وعلى هذا الاصطلاح نقول: الشهداء نوعان: أحدهما: الدين لا يغسلون ولا يصلى عليهم، وضبط في الكتاب فقال: "والشَّهيد من مات بسبب القتال مع الكفار في وقت قيام القتال" وقد اشتمل على ثلاثة معان: الموت بسبب القتال، وكونه قتال الكفار، وكون الموت في قيام القتال ويدخل فيه ما إذا قتله مشرك، وما إذا أصابه سلاح مسلم خطأ، أو عاد إليه سهمه، أو تردى في حملته في وَهْدَة، أو سقط على فرسه، أو رَفَسَتْه دابَّة فمات، وما إذا انكشف الحَرْبُ عن قتيل من المسلمين سواء كان عليه أثر أم لا؛ لأن الظاهر موته بسبب من أسباب القتال، ويحتمل أنه مات لِسَقْطَة وغيرها، فلم يظهر عليه أثر. وعند أبي حنيفة وأحمد: إن لم يكن عليه أثر غُسل وصلى عليه، ومهما فقد أحد المعاني التي يتركب عنها الضابط، ففي ثبوت حكم الشهادة خلاف، ويتبين ذلك بمسائل: إحداها: المقتول من أهل العَدْلِ في مُعْتَرك أهل البغي، هل يغسل ويصلى عليه؟ فيه قولان: إحداهما: لا، وبه قال أبو حنيفة في الغسل كالمقتول في معترك الكفار، ويروى أن عليّاً -رضي الله عنه- "لَمْ يُغَسِّلْ مَنْ قُتِل مَعَهُ (¬1)، وَأَوْصَى عَمَّارٌ -رضي الله عنه- بأَنْ لاَ يُغَسَّلَ (¬2). ¬
والثَّاني: وبه قال مالك: نعم؛ لأنه قتيل مسلم، فأشبه ما لو قتله في غير القتال. واحتج لهذا القول بأن أسماء "غَسَّلَتِ ابْنَهَا ابْنَ الزُّبَيْرِ -رضي الله عنهم- وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا مُنْكِرٌ" (¬1). وعن أحمد روايتان كالقولين، وذكر قول منهم صاحب "العدة": أن القول الأول أصح، لكن الجمهور على ترجيح الثاني، والقولان منصوصان في "المختصر"، في كتاباً "قتال أهل البغي"، ولا خلاف عندنا في أن البَاغِي إذا قتله العادل يغسل، ويصلّى عليه. وقال أبو حنيفة: "لا يصلى عليه عقوبة له"، ومن قتله القُطَّاع من الرّفقة فيه طريقان: أحدهما: أن حكمه على القولين في العَادِل إذا قتله أهل البغي. والثاني: أنه ليس بشهيد جزماً. والفرق: أَنَّ قتالهم مع أهل العَدْل على تأويل الدين بخلاف القطّاع. الثانية: لو مات في مُعْتَرك الكفار لا بسبب من أسباب القتال ولكن مفاجأة أو لمرض، فقد حكى الإمام عن شيخه فيه وجهين: أصحهما: أنه ليس بشهيد، ولم يذكر في "التَّهذيب" سواه. ووجهه أن الأصل وجوب الغُسْل والصلاة، وخالفناه فيما إذا مات بسبب من أسباب القتال تعظيماً لأمره، وحثّاً للناس عليه. الثالثة: لو دخل الحَرْبِيُّ بلاد الإسلام فقتل مسلماً اغتيالاً من غير قتال، فقد ذكر الإمام أن الشيخ أبا علي حكى فيه وجهين، والأصح المشهور: أنه لا يثبت له حكم الشهادة. الرابعة: لو جرح في القتال ومات بعد انقضائه ففي ثبوت حكم الشهادة قولان: أحدهما: يثبت؛ لأنه مات بجرد وجد فيه، فأشبه ما لو مات قبل انقضائه. وأظهرهما: وبه قال أحمد، فيما رواه صاحب "الشامل": وغيره. أنه لا يثبت لأنه عاش بعد انقضاء الحرب، كما لو مات بسبب آخر، ولا فرق على القولين بين أن يطعم أو يتكلم أو صلى وبين أن لا يفعل شيئاً من ذلك، ولا بين أن يمتدَّ الزمان أو لا يمتد، وقال مالك: إن امتدّ الوقت أو أكل غسل وصلى عليه، وإلاَّ فلا. وقال أبو حنيفة: إن أطعم أو تكلم أو صلّى فهو كسائر الموتى، وللقولين شرطان: ¬
أحدهما: قد تعرّض له في الكتاب أن يقطع بموت من تلك الجراحة فأما إذا توقع بقاؤه فمات بعد انقضاء القتال فليس بشهيد بلا خلاف. والثاني: أن تبقّى فيه حْيَاة مستقرّة، ثم يموت بعد إنقضاء القتال، فأما إذا انقضى القتال وليس به إلا حركة المَذْبُوح، فهو شهيد بلا خلاف، وهذه المسائل الأربع بأسرها مذكورة في الكِتَاب، وقد تبيَّن بما ذكرناه أن الأظهر فيها جميعاً انتفاء الشَّهادة واعتبار المَعاني الثلاثة في الضابط. وأعلم قوله "في وقت قيام القتال" بالحاء والميم؛ لأنهما لا يعتبران قيام القتال، وإنما مذهبهما ما قدمناه. وقوله: "ففي الكل قولان" فيه إثبات قولين في الصور الأربع، انهما مشهوران في الأولى والرابعة، وأما الثّانية والثّالثة فلم تر للمعظم فيهما حكاية القولين، وإنما ذكر من الخلاف وجهين ويجوز أن يعلم قوله: "قولان" بالواو؛ لأن في "النهاية" حكاية طريقة في الصورة الرابعة مفصلة، وهي أنه إن مات قريباً ففيه قولان، وإن بقي أياماً ثم مات فليس بشهيد قطعاً، والذي في الكتاب إثبات قولين على الإطلاق. وقوله: "منشأهما التردد في أن هذه الأوصاف هل هي مؤثرة أم لا" يعني الأوصاف الثلاثة المذكورة في الضابط هل هي مؤثرة في موضع الإثبات أم لا؟ وليس في هذا القدر من التَّوجيه كثير فائدة، فإن الفقيه لا يشك في أنّا إذا أبطلنا حكماً بأمور، واختلفنا في بقاء ذلك الحُكْم مع ذوات بعض الأمور فقد اختلفا في تأثيره، وإنما المهمُّ النَّظر في أنه لم يعتبر أو يلغى. النوع الثاني من الشهداء: العارون عن الأوصاف المذكورة جميعاً، فهم كسائر الموتى يغسلون ويصلى عليهم، وإن ورد لفظ الشهادة فيهم، كالمَبْطُون والغَرِيب والغَرِيق والميت عشقاً والميتة طلقاً، وكذا الذي قتله ظلماً مسلم أو آدمي أو باغ في غير القتال حكمه حكم سائر الموتى. وبه قال مالك، وهو رواية عن أحمد خلافاً لأبي حنيفة، حيث قال: كل من قتل ظلماً قتلاً يوجب القصاص فهو شهيد، وإنْ وجب به المال فلا يخرج من ذلك أن المقتول بالمُثقّلِ ليس بشهيد فيما نحن فيه، ولم يعتبر في القِتَال ذلك، بل أثبت حكم الشّهادة سواء قتل بالمُثَقّلِ أو بالمُحَدَّد. وقال أحمد في رواية: كل مقتول ظلماً فهو شهيد. لنا أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- غسل، وصلي عليه (¬1)، وكذلك ¬
عثمان (¬1) -رضي الله عنه- وقد قتلا ظلماً بالمحدّد. قال الغزالي: وَكَذا القَتِيل بِالحَقِّ قِصَاصاً أَوْ حَدّاً لَيْسَ بِشَهِيدٍ، وَتَارِكُ الصَّلاَةِ يُصَلَّى عَلَيْهِ (و) وَقَاطِعُ الطَّريقِ يُقْتَلُ أوّلاً وُيصَلَّى عَلَيْهِ وَيُغَسَّلُ وُيكَفَّنُ ثُمَّ يُصْلَبُ مُكَفَّناً عَلَى قَوْلٍ، وَعَلَى قَوْلٍ: يُقْتَلُ مَصْلُوباً ثمَّ يُنْزَلُ وُيغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ يُقْتَلُ مَصْلُوباً وَيَبْقَى فقَدْ قَالَ: لاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ. قال الرافعي: إذا تبيَّن أن المقتول ظلماً ليس بشهيد إذا لم يكن بالصفات المقدمة، فالقتيل حقّاً أولى أن لا يكون شهيداً. وقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "رَجَمَ الْغَامِدِيَّةِ، وَصَلَّى عَلَيْهَا" (¬2). وذكر في الكتاب مما يتفرع على هذا الأصل صورتين، وذكرهما في غير هذا الموضع. إحداهما: أن تارك الصَّلاة يصلى عليه ويغسل؛ لأنه مسلم مقتول حقّاً، وعن صاحب "التلخيص" بأنه لا يصلى عليه؛ لأنه تارك الصلاة في حياته فتترك الصلاة عليه. وقال أيضاً: لا يغسل ولا يكفن ويطمس قبره تغليظاً عليه. الثانية: غسل قاطع الطريق والصلاة عليه، تبنى على كيفية إقامة الحدّ عليه، وفي قتله وصلبه إذا اقتضى الحَالُ الجَمْعُ بينهما خلافاً على ما سيأتي شرحه وتفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى. وأظهر القولين: أنه يقدم القتل على الصَّلبُ، فيقتل ثم يغسل ويصلى عليه ثم يصلب مكفناً: والقول الثاني: أنه يقدم الصلب ثم يقتل. وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-، وعلى القولين إذا صلب فهو ينزل بعد ثلاثة أيام أو يبقى حتى يتهرّى، فيه وجهان: فإن قلنا بالوجه الأول تفريعاً على القول الثاني فيغسل بعد ما ينزل ويصلّى عليه. وإن قلنا بالوجه الثاني تفريعاً عليه فلا يغسل ولا يصلّى عليه، وهذا ما أشار إليه بقوله: "ومن رأى أنه يقتل ويبقى فقد قال: لا يصلى عليه". قال إمام الحرمين: وكان لا يمتنع أن يقتل مصلوباً، وينزل فيغسل ويصلى عليه ثم ¬
يرد، ولكن لم يذهب إليه أحد. وقوله: "ويصلّى عليه" مرقوم بالحاء؛ لأنه يقول: لا يصلى على قاطع الطريق عقوبة له كما ذكر في الباغي. وحكى في "النهاية" طريقة أخرى غير مبنيّة على كيفية عقوبة قاطع الطريق، فقال: قال بعض الأصحاب: لا يغسل ولا يصلى عليه استهانة به وتحقيراً لشأنه، فيجوز أن يعلّم قوله في الكتاب في موضعين من الفصل: "ويغسل ويصلى عليه" بالواو، إشارة إلى هذه الطريقة، وليست هي بالوجه المذكور في قوله: "ومن رأى أنه يقتل مصلوباً ... " إلى آخره؛ لأنه مبني على كيفية عقوبته. قال الغزالي: ثمَّ الشَّهِيدُ لا يُغَسَّلُ وَإِنْ كَانَ جُنُبًا، وَهَلْ يُزَالُ أَثَرُ النَّجَاسَةِ الَّتي لَيْسَتْ مِنْ أَثَرِ الشَّهَادَةِ؟ فيه خِلاَفٌ، وَثِيَابُهُ المُلَطَّخَةُ بِالدَّمِ تُتْرَكُ عَلَيْهِ مَعَ كَفَنِه إِلاَّ أَنْ يَنْزِعَة الوَارِثُ، وُينْزَعُ مِنه الدِّرْعُ وَثِيَابُ القِتَالِ. قال الرافعي: الفصل يشتمل على ثلاث صور: إحداها: لو استشهد جنب هل يغسل؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ وهو المذكور في الكتاب. وبه قال مالك؛ لأن حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ جُنُبٌ، فَلَمْ يُغَسِّلْهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ: رَأَيْتُ المَلاَئِكَةَ تُغَسَّلُهُ" (¬1). والثاني: وبه قال أحمد وابن سريج وابن أبي هريرة: يغسل؛ لأن الشهادة إنما تؤثر في غسل وجب بالموت، وهذا الغسل كان واجباً قبله، والوجهان متفقان على أنه لا يصلّى عليه، وعند أبي حنيفة يغسل ويصلّى عليه. الثانية: لو أصابته نجاسة لا بسبب الشَّهادة فهل تغسل تلك النّجاسة عنه. قال إمام الحرمين: حاصل القول فيه أوجه استخرجتها من كلام الأصحاب. أحدها: وهو الظاهر أنها لا تزال؛ لأن الذي مبقيه أثر العبادة، وليست هذه النجاسة من أثر العبادة. والثاني: لا؛ لأنا نهينا عن غسل الشهيد مطلقاً. والثالث: أنه إن أدى إزالتها إلى إزالة أثر الشَّهادة، فلا تزال وإلاَّ فتزال. الثالثة: الأولى: أن يكفَّن في ثيابه الملطَّخة بالدم، فإن لم يكن ما عليه سابغاً أتم، وإن أراد الوَرَثَةُ نزع ما عليه من الثِّياب وتكفينه في غيرها لم يمنعوا. ¬
وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: لا يجوز إبدالها بغيرها من الثياب، وأما الدّرع والجلود والفِرَاء والخفَاف فتنزع منه خلافاً لمالك حيث قال: لا ينزع منه فَرْوٌ ولا خُفّ. لنا على أبي حنيفة القياس على سائر الموتى، ويفارق الغسل والصلاة. أما الغسل؛ فلأن في تركه إبقاء لأثر الشَّهادة على بدنه، وأمّا الصّلاة فلأن في تركها تعظيماً له واشعاراً باستغنائه عن دعاء القوم، وعلى مالك لما روي أنه النَّبي "أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ وأَنْ يُدْفَنُوا بِدِمَائهِمْ وَثِيَابِهِمْ" (¬1). وقوله في الكتاب: "وثيابهم الملطخة بالدم تترك عليه مع كفنه طاهرة"، يقتضي كونها غير الكفن لكن الذي قاله الجمهور: أنه يكفن بها فإن لم تَكْفِ أتمت -والله أعلم-. قال الغزالي: الطَّرَفُ الثَّانِي فِيمَنْ يُصَلِّي: وَالأَولَى بِهَا القَرِيبُ، وَلاَ يُقَدَّمُ عَلَى القَرَابَةِ إلاَّ الذُّكُورُ وَلاَ يُقَدَّمُ الوَالِي (و) عَلَيْهِ، ثُمَّ يُبْدَأُ بِالأَبِ ثُمَّ الجَدِّ ثُمَّ الابْنِ ثُمَّ العُصَبَاتِ عَلَى تَرْتِيبِهِمْ فِي الوِلاَيَةِ، ثُمَّ الأخُ مِنَ الأَبِ وَالأُمِ مُقَدَّمٌ عَلَى الأخِ مِنَ الأَبِ فِي أَصَحِّ الطَّرِيقَيْنِ، ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ فَذَوُو الأَرْحَامِ، وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِمُ المُعْتَقُ. قال الرافعي: غرض الفصل الكلام فيمن هو أَوْلَى بالصَّلاة على الميت، وقد اختلف قول الشافعي -رضي الله عنه- في أنَّ الولي أَوْلَى بها أم الوالي؟ قال في القَديم: الوالي أولى ثم إمام المسجد ثم الوالي. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد -رحمهم الله- كما في سائر الصلوات. وقد روي "أَنَّ حُسَيْناً -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَدَّمَ سَعِيدَ بْنَ العَاصِ أَمِيرَ الْمَدِينَةِ فَصَلَّى عَلَى الْحَسَنِ -رَضِيَ الله عَنْهُ-" (¬2). وقال في الجديد وهو المذكور في الكتاب: الوَلِيُّ أولى؛ لأنها من قضاء حقِّ الميت، فأشبهت الدَّفن والتكفين؛ ولأنها من الأمور الخاصَّة بالقريب، فالولِيُّ أولى بها من الوالي، كولاية التَّزويج وتفارق سائر الصلوات؛ لأن معظم الغرض هاهنا الدّعاء للميت، فمن يختص بزيادة الشَّفقة دعاؤه أقرب إلى الإجابة، ونعني بالوَلِيِّ القريب، فلا يقدم غيره عليه إلا أن يكون القريب أنثى وثمّ أجنبي ذكر فهو أولى حتى يقدم الصَّبي المراهق على المرأة القريبة، وهكذا الحكم في سائر الصلوات الرجل أولى من المرأة، لأن اقتضاء النساء بالرجال جائزة وبالعكس لا يجوز، ثم في انْفِرَاد النسوة بهذه الصَّلاَة كلام سيأتي من بعد، ثم الأولى من الأقارب الأب ثم الجد أبو الأب وإن علا ثم الابن ثم ابن الابن وإن سفل، وهما مؤخران عن الأب والجد، وإن كانا مُقّدمين عليها في ¬
عصوبة الميراث، ومُقدّمان على سائر العَصَبات، وإن لم يثبت لهما ولاية التَّزويج، أما تأخيرهما عَنِ الأَب والجدِّ؛ فلأن المقصود الدُّعاء، والأب أشفق فيكون دعاؤه أقرب إلى الإِجَابة، وأما تَقديمهما على سائر العَصَبَات فلمثل هذا المعنى أيضاً بخلاف أمر النِّكاح فإن اعتنائهم بحفظ النَّسب أشد ثم بعد الابن يقدم الأخ وفي تقديم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب، طريقان: أحدهما: أن فيه قولين كما سيأتي ذكرهما في ولاية النكاح، وبه قال القَاضِي أَبُو حَامِدٍ، وأبو علي الطَّيَرِي. وأصحهما: القطع بتقديمه؛ لأن لقرابة النّساء تأْثيراً في الباب على ما سيأتي فيصلح للتَّرجيح، وليس لها تأثير في ولاية التزويج بحال، وعلى هذا فالمقدّم بعدهما ابن الأخ للأب والأم ثم ابن الأخ للأب ثم العم للأب والأم ثم العم للأب ثم ابن العم للأب والأم ثم ابن العم للأب ثم عم الأب ثم عم الجدّ على ترتيب العَصَابَات في الميراث والولاية، وإن لم يكن أحد من عصابات النَّسب أصلاً قدم المعتق. قال في "النّهاية": ولعل الظاهر تقديمه على ذَوِي الأرحام، ولهم استحقاق في هذا الباب للمعنى الدم تقدم بخلاف ما في الميراث. وأما ما يتعلَّق بلفظ الكتاب فقوله: "ولا يقدم الوالي عليه" مرقوم بالميم والحاء والألف والواو، لما قدمناه، ولك أن تعلم قوله: "الأولى بها القريب" بهذه العلامات أيضاً، وقد يبحث عن قوله: ولا يقدم على القرابة إلا الذّكورة فنقول: قضيَّة هذا الكلام تقديم القَرِيب على الأجنبي الذي أوصى الإِنسان بأن يصلّى عليه، فهل هو كذلك أم يتبع وصيته؟ والجواب: أن الشيخ أبا محمد خرّج المسألة على وجهين كالوجهين فيما إذا أوصى في أمر أطفاله إلى أجنبي وأبوه الذي يلي أمرهم شرعاً حي. أصحهما: ولم يذكر الأكثرون سواه: تقديم القريب؛ لأنَّ الصَّلاة حقه، فلا تنفذ وصيّة فيه. والثَّاني: أنه تتبع وصيته، وهو مذهب أَحْمَد -رحمه الله- وبه أَفْتَى الإمَامُ محمد بن يحيى- قدّس الله روحه -في جواب مسائل سأله عنها والدي -رحمة الله عليهما-. وقوله: "ثم يبدأ بالأب ثم الجدّ" معلّم بالميم، لأن مالكاً يقدم الابن علي الأب. وقوله: "ثم العصابات" معلّم بالميم أيضاً؛ لأنه يوجب تأخير الأخ عن الجد، وعنده يقدم الأخ عليه. وقوله: "ثم إن لم يكن وارث فذووا الأرحام" يقتضي تقديم الأخ للأم على ذوي الأرحام كلهم. قال صاحب "التَّهْذِيب": إن لم يكن أحد من العَصَبات فإن الأم أولى ثم
الأخ للأم ثم الخال ثم العم للأم فيقدم أبو الأم وهو من ذوي الأرحام على الأخ للأم فالوجه أن يحمل قوله: "إن لم يكن وارث" أي: من العصبات وهم الَّذِين سبق ذكرهم هذا فقه الكلام. وقوله: "ويقدم عليهم المُعْتق" كأنه مذكور إيضاحاً، وإلاَّ فقد تقدم في موضعين من لفظ الكتاب ما يفيده. أحدهما: "حيث قال: ثم العَصَبات على ترتيبهم في الوِلاية" وذلك يقتضي أن يلي درجة المعتق درجة عصبات النَّسب كما في الولاية وذلك يقتضي أنْ لا يتخلَّلها ذوو الأرحام. والثاني: حيث قال: "ثم إن لم يكن وارث فذوو الأرحام" والمعتق من الوارثين، ثم لا بأس بإعلام قوله: "ويقدم عليهم المعتق" بالواو؛ لأن في لفظ صاحب "النّهاية" ما يقتضي إثبات خلاف فيه كما قدمناه، وكذلك لفظ المصنف في "الوسيط" والله أعلم. قال الغزالي: فَإذَا تَعَارَضَ السِّنُّ وَالفِقْهُ فَالفَقِيهُ أَوْلَى عَلَى أَظْهَرِ المَذْهَبَيْنِ، وَلَوْ كَانَ فِيهِمْ عَبْدٌ فَقِيهٌ وَحُرٌّ غَيْرُ فَقِيهٍ أَوْ أَخٌ رَقِيقٌ وَعَمٌّ حرّ ففِي المَسْألَتَيْنِ تَرَدُّدٌ، وَعِنْدَ تَساوِي الخِصَالِ لاَ مَرْجِعَ إِلا القُرُعَةُ أَوِ التَّرَاضي. قال الرافعي: إذا اجتمع اثنان في درجة واحدة كابنان وأخوين ونحوهما وتنازعا فقد قال في "المختصر": يقدم الأسن، وذكر في سائر الصلوات أنَّ الأفقه أولى، واختلف الأصحاب على طريقتين: أصحهما: وهي التي ذكرها الجمهور أن المسألتين على ما نص عليها والفرق بين سائر الصلوات وصلاة الجنازة أن الغرض من صلاة الجنازة الدعاء والاستغفار للميت، والأسن أشفق عليه، ودعاؤه أقرب إلى الإجابة لما روي أنه قال: "إِنَّ اللهَ لاَ يَرُدُّ دَعْوَةٌ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ" (¬1). والثانية حكاها الإمام عن رواية العراقيين: التَّصرف في النَّصَّين بالنقل والتَّخريج، وليس المعتبر في تقديم السِّن الشّبيه، وبلوغ سن المشايخ، ولكن يقدم الأكبر وإن كانا شابين، وإنما يقدم الأَسنُّ بشرط أن يكون محمود الحال، فأما في الفاسق والمبتدع فلا، ويشترط مضي السِّن في الإسلام كما سبق في سائر الصلّوات. وقوله: على أظهر المَذْهَبَيْن جواب على طريقة إثبات الخلاف في المسألة إذ لا ¬
يمكن حمل المذهبين على الطّريقتين، فإنه يَقْتَضِي إثبات طريق جازم بتقديم الفقيه، وذلك مِمَّا لا سائر إليه في صلاة الجنازة. وإذا عرفت ذلك فكلام المُصَنِّف يخالف ما ذكره المعظم من وجهين: أحدهما: أنهم رجحوا الطريقة القاطعة بتقديم السّن، وهو أجاب بإثبات الخلاف. والثاني: أنهم جعلوا الأَظْهَر تقديم السِّن، وإن قدر إثبات الخِلاَف، هذه إحدى مسائل الفصل. والثانية: لَوْ اسْتَوى اثْنَان في الدَّرَجَة، وأحدهما رقيق فالحُرُّ أَوْلَى، وإن كان أحدهما رقيقاً فقيهاً والآخر حراً غير فقيه. فقد حكى إمام الحرمين فيه وجهين للشيخ أبي محمد لتعارض المعنيين. قال في "الوسيط": ولعل التَّسوية أولى. الثالثة: لو كان الأقرب رقيقاً والأبعد حراً كالأخ الرقيق مع العم الحر فأيهما أولى؟ فيه وجهان: أحدهما: الأخ أولى؛ لأن هذه الصَّلاة مبناها على الرِّقة والشَّفقة والأقرب أشفق، ولهذا يقدم القريب المملوك على الأجنبي الحُرِّ. وأظهرهما عند الأكثرين: أن العَمَّ أولى لاختصاصه بأهلية الولاية كما في ولاية النكاح وكما لو استويا في الدرجة. قال في "النهاية": وأوثر في مثل هذه المسألة مصير بعض الأصحاب إلى التَّسْوِية لِتَقَابُل الأمرين. الرابعة: إذا اجتمع قوم في درجة واحدة واستوت خصالهم، فإن رضوا بتقديم واحد فذاك وإلاَّ أقرع بينهم قطعاً للنزاع. قال الغزالي: ثُمَّ ليَقِفِ الإِمَامُ وَرَاءَ الجَنَازَةِ عِنْدَ صَدْرِ المَيِّتِ إِنْ كَانَ ذَكَراً وَعِنْدَ (ح) عَجِيزَةِ المَرْأَةِ كَأنَّهُ يَسْتُرُهَا عَنِ القَوْمِ، فَلَوْ تَقَدَّمَ عَلَى الجَنَازَةِ لَمْ يُجِزْ عَلَى الأَصَحِّ؛ لِأنَ ذَلِكَ يُحْتَمَلُ فِي حَقِّ الغَائِبِ بِسَبَبِ الحَاجَةِ. قال الرافعي: غرض الفصل الكلام في موقف المُصلّي على الجَنَازة، وفيه مسألتان: إحداهما: السُّنة للإمام أن يقف عند عَجِيزَة المرأة. لما روي عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- أنَّ النّبي "صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ وَسَطَهَا" (¬1). والمعنى: فيه محاولة سترها عن أعين الناس. ¬
وأما الرجل فأين يقف منه؟ ذكر في الكتاب أنه يقف عند صَدْرِه، وكذلك قاله في "النهاية"، والذي ذكره معظم الأصحاب منهم العراقيون والصَّيْدَلاَنِي: أنه يقف عند رأسه ونسبوا الأول إلى أبي علي الطَّبَرِي، واحتجوا لما روي أن أنساً -رضي الله عنه- "صَلَّى علَى جنَازَةِ رَجُل فَقَامَ عِنْدَ رَأسِهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةِ امْرَأَة فَصَلَّى عَلَيْهَا، وَقَامَ عِنْدَ عَجِيْزَتِهَا، فَقِيلَ لَهُ: أهكَذًا كَانَ يُصَلِّي رَسُولُ اللهِ؟ يَقُومُ عِنْدَ رَأسِ الرَّجُلِ، وَعِنْدَ عَجِيْزَةِ الْمَرْأَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ" (¬1). ورأيت أبا علي قد حكى عن فعل أنس -رضي الله عنه- مثل قوله، وهو الوقوف عند الصَّدر والله أعلم. ولك أن تعلم قوله: "عند صدر الميت" بالواو لما ذكرناه، وأن تعلمه وقوله: "عند عجيزة المرأة كليهما" بالميم؛ لأن عند مالك يقف عند وسط الرجل، ومَنْكبي المرأة، وأن تعلم الكلمة الثانية بالحاء أيضاً، لأن عند أبي حنيفة -رحمه الله- يقف عند صدر الميت رجلاً كان أو امرأة، وعند أحمد يقف عند صدر الرجل وعجيزة المرأة، كما هو المذكور في الكتاب. الثانية: أن تقدم على الجَنَازة الحاضرة وجعلها خلف ظهره. قال في "النّهاية": خرجه الأصحاب على القولين في تقديم المأموم على الإمام ونزلوا الجنازة منزلة الإمام، قال: ولا يبعد أن يقال تجويز التَّقَدُّم على الجَنَازة أَوْلَى، فإنها ليست إماماً متبوعاً حتى يتعين تقدمه، وإنما الجنازة والمصلون على صورة مجرم يحضر باب الملك ومعه شفعاء، ولولا الأَتْبَاع لما كان يتجه قول تقديم الجَنَازة وجوباً، وهذا الذي ذكره إشارة إلى ترتيب الخلاف، وإلاَّ فقد اتفقوا على أن الأصح المنع. وقوله في الكتاب: "لأن ذلك يحتمل في حق الغائب بسبب الحاجة" جواب عن كلام يحتج به لجواز التقدم على الجنازة، وهو أن الغائب يصلى عليه كما سيأتي مع أنه قد يكون خلف ظهر المصلى، فكذلك إذا كان حاضراً ففرق بينهما بذلك. قال الغزالي: وَإِذَا اجْتَمَعَتِ الجَنَائِزُ فَيَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ وأنْ يُصَلَّى عَلَى جَمِيعِهِمْ صَلاةٌ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ يُوضَعُ (و) بَيْنَ يَدَيِ الإمَامِ بَعْضُهُمْ وَرَاءَ بَعْضِ وَالكُلُّ فِي جِهَةِ القِبْلَةِ، وَلْيُقَرَّبْ مِنَ الإمَامِ الرَّجُلُ ثُمَّ الصَبِيُّ ثُمَّ الخُنْثَى ثُمَّ المَرْأَةُ، وَلاَ يُقَدَّمُ بِالحُرِّيَّةِ وَإِنَّما يُقَدَّمُ بِخِصَالٍ دِينيَّةٍ تُرَغِّبُ فِي الصَّلاة عَلَيْهِ، وَعِنْدَ التَّسَاوِي لاَ يَسْتَحِقُّ القُرْبَ إلاَّ بِالقُرْعَةِ أَوِ التَّرَاضِي. قال الرافعي: إذا حضرت جنائز، جاز أن يصلى على كل واحد صلاة وهو الأولى، وجائز أن يصلى على الجميع صلاة واحدة، لأن معظم الفرض من هذه الصلاة ¬
الدعاء للميت، ويمكن الجمع بين عدد من الموتى في الدُّعَاءِ، وقد يقتضي الحال الجمع ويتعذر إفراد كل جنازة بصلاة، ولا فرق في ذلك بين أن يتمحَّض الموتى ذكوراً أو إناثاً أو يجتمع النوع ثم إن اتحد النوع، ففي كيفية وضع الجنائز وجهان، وصاحب "التتمة" حكاهما قولين: أصحهما وهو المذكور في الكتاب: أنَّها توضع بين يدي الإِمَامِ في جهة القِبْلَة بعضها خلف بعض ليكون الإمَام في مُحَاذَاةِ الكُلِّ. والثاني: وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله- يُوضع الكُلّ صفاً واحداً رأس كل ميت عند رجل الآخر ويجعل الإمام جميعها على يمينه ويقف في محاذاة الأخيرة، وإن اختلف النّوع فهيئة وضعها ما ذكرنا في الوجه الأول ولا يجيء الوجه الثاني، فإن الرجل والمرأة لا يقفان صفًّا واحداً في الجماعات فكذلك لا يضعان صفاً واحداً. ويجوز أن يعلم قوله: "بعضهم وراء بعض" بالواو؛ لأن اللَّفظ يشمل حالتي اتحاد النوع واختلافه، وقد ذكرنا في الحالة الأولى وَجْهاً آخر، وهو كذلك معلم بالحاء ثم إذا كان هيئة وضعها ما بينا في الوجه الأول، فمن الذي يلي الإمام من الموتى؟ لا يخلو الحال إما أن تحضر الجنازة دفعة واحدة أو مرتبة. فأما الحالة الأولى وهي التي تكلم فيها في الكتاب، فينظر إن اختلف النوع فَلْيَلِ الإِمَامُ الرجل ثم الصبي ثم الخنثى ثم المرأة، لما روي أن سعيد بن العاص "صلى على زيد بن عمر بن الخطاب وأمِّه أمِّ كُلْثُومٍ بنت علي -رضي الله عنهم- فوضع الغلام بين يديه والمرأة خلفه، وفي القوم نحو من ثَمَانِينَ نَفساً من أصحاب النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فَصَوَّبُوهُ وقالوا: هذِهِ السُّنَّةُ" (¬1). وروي أن ابْنَ عمر -رضي الله عنهما- "صَلَّى عَلَى تَسْعِ جَنَائِزَ، فَجَعَلَ الرِّجَالَ يَلُونَهُ، وَالنِّسَاءَ يَلِينَ الْقِبْلَةَ" (¬2). ولو حضر جنائز جماعة من الخَنَاثى وضعت صفاً واحداً لئلا تتقدم امرأة على رجل، فإن اتحد النوع فيقرب من الإمام أفضلهم، والمعتبر فيه الورع والخصال التي ترغب في الصلاة عليه، ويغلب على الظَّن كونه أقرب من -رحمة الله تعالى جدّه- ولا يتقدم بالحريَّة بخلاف استحقاق الإمامة فيه الحُرُّ على العبد. قال في "النهاية": لأن الإمامة في الصلاة تصرف فيها، والحر مقدم على العبد في التصرفات، وإذا ماتا استويا في انقطاع التَّصرف فأقرب معتبر فيه ما ذكرنا، فإن استووا ¬
في جميع الخصال وتنازع الأولياء في القرب، دفع نزاعهم بالقرعة، وإن رضوا بتقريب واحد فذاك. الحالية الثانية: أن تحضر الجنائز مرتبة، فللسبق تأثير في الباب، فلا تنحَّى الجنازة السابقة للُحُوق أخرى، وإن كان صاحبها أفضل هذا عند اتحاد النوع، ولو وضعت جنازة امرأة، ثم حضرت جنازة رجل أو صبي فتنحى جنازتها وتوضع جنازة الرجل أو الصبي بين يدي الإمام، ولو وضعت جنازة صبي ثم حضرت جنازة رجل لم تنحَّ جنازة الصبي؛ بل يقال لوليه: إما أن تجعل جنازتك خلف الصبي أو تنقله إلى موضع آخر. والفرق أنَّ الصَّبيّ قد يقف مع الرجل في الصف والمرأة تتأخر بكل حال فكذلك بعد الموت. وعن صاحب "التقريب" وجه: أنه تنحَّى جنازة الصبي كجنازة المرأة. فإن قلت: ولى كل ميت أولى بالصلاة عليه، فمن الذي يصلي على الجنازة الحاضرة إذا اقتصروا على صلاة واحدة. قلنا: كل من لم يَرْضَ بصلاة غيرِه صَلَّى على ميته، وإن رضوا جَمِيعاً بصلاة واحدة فإن حضرت الجنائز مرتّبة فولى السابقة أولى رجلاً كان مَيّتُها أو امرأة، لأن حضرت معاً أُقْرعَ بينهم والله أعلم. قال الغزالي: الطَّرَفُ الثَّالِثُ، في كَيْفِيَّةِ الصَّلاَةِ، وأَقَلُّها تِسْعَة أَرْكَانِ: النِّيَّةُ وَالتَّكبِيرَاتُ الأَرْبَعُ وَالسَّلاَمُ وَالفَاتِحَةُ (م ح) بَعْدَ الأُولَى وَالصَّلاةُ عَلَى الرَّسُولِ بَعْدَ الثَّانِيَةِ، وَفِي الصَّلاَةِ عَلَى الآلِ خِلاَفٌ، والدُّعَاءُ للْمَيِّت بَعْدَ الثَّالِثَةِ، وَقِيلَ: يَكْفِي الدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِين، وَلَوْ زَادَ تكْبِيرَةٌ خَامِسَةً لَمْ تَبْطُلِ الصَّلاَةُ عَلَى الأَظْهَرِ. قال الرافعي: الكلام في كيفية هذه الصلاة في الأقل والأكمل. أما الأقل: فمن أركانها النّية، ووقتها ما سبق في سائر الصلوات، وكذا في اشتراط التعرّض للفرضية الخلاف المقدم، وهل يحتاج إلى التعرض لكونها فرض كفاية أم تكفي نية مطلق الفرض؟ حكى القاضي الرُّويانِيُّ فيه وجهين: أصحهما: الثاني، ثم إن كان الميت واحداً نوى الصَّلاة عليه، وإن حضر موتى نوى الصلاة عليهم، ولا حاجة إلى تعيين الميت ومعرفته، بل لو نوى الصَّلاة على من يصلي عليه الإمام جاز، ولو عين الميت فأخطأ لم تصحَّ صلاته، ويجب على المُقْتَدِي نية الاقْتِداء كما في سائر الصلوات. ومنها: التَّكبيرات الأربع. روي عن جابر -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِي "كَبَّرَ عَلَى الْمَيِّتِ أَرْبعاً، وَقَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأُوْلَى" (¬1). فلو كَبَّر خمساً لم يَخْلُ إما أن يكون ساهياً أو عامداً، فإن كان ¬
ساهياً لم تبطل صلاته، ولا مدخل للسجود في هذه الصلاة، وإن كان عامداً فهل تبطل صلاته؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما لو زاد ركعة أو ركناً عمداً في سائر الصَّلَوَات، وهذا الوجه هو المذكور في "التتمة"، و"الوسيط". وأصحهما: على ما ذكره هاهنا، وبه قال الأكثرون: أنها لا تبطل لثبوت الزيادة عن رسول الله (¬1) إِلاَّ أنَّ الأربع أولى لاستقرار الأمر عليها واتفاق الأصحاب، وقد حكي عن ابن سريج -رضي الله عنه- أن الاختلافات المَنْقُولة في تَكْبيرات صلاة الجنازة من جملة الاختلاف المباح وأن كل ذلك سائغ، وإن كان مأموماً فزاد إمامه على الأربع فإن قلنا: الزيادة تبطل الصلاة فارقه، وإن قلنا: لا تبطل لم يفارقه، ويتابعه في الزيادة على الأصح من القولين، وهل يسلّم في الحال أو ينتظر ليسلّم معه؟ فيه وجهان: أظهرهما: ثانيهما. واعلم: أن أركان هذه الصّلاة قد عدّها في الكتاب تسعة، والنية والتكبيرات الأربع خمسة منها، والسادس السلام، وفي وجوب نية الخروج معه ما سبق في سائر الصلوات، ويجوز أن يعلّم بالحاء، لما ذكرنا ثَمَّ هَلْ يَكْفي أن يقول الكلام عليك؟ حكى الإمام تردد الجواب فيه عن الشَّيخ أبي علي، والظاهر المنع. والسابع قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يقرأ فيها شيئاً من القرآن. لنا ما روي عن جابر -رضي الله عنه- أن النّبي "قَرَأَ فِيهَا بأُمِّ القُرْآنِ" (¬2). وقد قال: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" (¬3). والسابق إلى الفهم من قوله في الكتاب: "والفاتحة بعد الأولى"، أنه ينبغي أن يكون عُقَيْبهما مقتدمة على الثانية، لكن القَاضِي الروياني وغيره حكوا عن نصه أنه لو أخَرَّ قراءتها إلى التكبيرة الثانية جاز. والثامن الصَّلاة على النبي بعد الثانية خلافاً لأبي حنيفة ومالك، فإن عندهما لا يجب ذلك كما ذكر في سائر الصلوات. لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ" (¬4). وهل تجب الصلاة على الآل؟ فيه قولان أو وجهان ذكرناهما في غير هذه الصلاة، وهذه الصلاة أوْلَى بأن لا يجب فيها؛ لأنها مبنيَّة على الاخْتِصَار. ¬
والتاسع الدعاء بعد التكبيرة الثالثة للميت. وعن أبي حنيفة أنه لا يجب ذلك. لنا ما روي أن النَّبي قال: "إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا الدُّعَاءَ لَهُ" (¬1). وفيه وجه: أنه لا يجب تخصيص الميت بالدعاء، ويكفي إرساله للمؤمنين والمؤمنات والميت يندرج فيهم، وهذا الوجه مُعْزَى في "النهاية" إلى الشيخ أبي مُحَمَّدٍ -رحمه الله-، وقدر الواجب من الدعاء ما ينطلق عليه الاسم، أما الأحب فسيأتي والله أعلم. واعلم: أن القيام واجب في هذه الصلاة عند القدرة على الأصح كما سبق، فيتوجه إلحاقه بالأركان كما أنه معدود من الأركان في الوَظَائِفِ الخمس والله أعلم. قال الغزالي: فَأمَّا الأكْمَلُ فَأَنْ يَرفعَ (م ح) اليَدَيْنِ في التَّكْبِيراتِ، وَفِي دُعَاءِ الاسْتِفْتَاحِ والتَّعَوُّذ خِلاَفٌ، وَالأَصَحُّ أَنَّ الاسْتِفْتَاحِ لاَ يُسْتَحَبُّ، ثُمَّ لاَ يُجْهَرُ بِالقِرَاءَةِ لَيْلاً كَانَ أَوْ نَهَاراً، ويُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ لِلمُؤْمِنِينَ عِندَ الدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِذِكْر بَيْن التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ وَالسَّلاَمِ. قال الرافعي: لصلاة الجنازة وظائف مندوبة هي توابع للأركان. فمنها: رفع اليدين في التكبيرات الأربع خلافاً لأبي حنيفة ومالك حيث قالا: لا يرفع إلا في التَّكبيرة الأولى. لنا: أن ابن عمر وأنساً (¬2) -رضي الله عنهما- "كَانَا يَرْفَعَانِ فِي جَمِيعِ التَّكْبِيرَاتِ"، وعن عروة (¬3) وابن المسيب (¬4) -رضي الله عنهما- مثله، ويجمع يديه بينهما ويضعهما تحت صدره، كما في سائر الصلوات. ومنها: في قراءة دعاء الاسْتِفْتَاح عُقَيب التكبيرة الأولى وجهان: أحدهما: أنه يقرأ كما في سائر الصلوات، وهذا اختيار القاضي أَبِي الطَّيب والقَفَّال فيما حكاه القَاضِي الرُّوياني. وأصحهما: أنه لا يقرأ؛ لأن هذه الصلاة مبنيَّة على التَّخفيف، ولهذا لم يشرع فيها الرُّكوع والسُّجود، وشبهوا ذلك بقراءة السورة، لكن صاحب "التهذيب" حكى في قِرَاءَة السُّورة بعد الفاتحة الوجهين أيضاً، وهل يتعوذ؟ فيه وجهان أيضاً، لكن الأصح أنه يتعوَّذ بخلاف دعاء الاستفتاح؛ لأن التعوذ من سنن القراءة كالتَّأْمين عند تمام الفاتحة؛ ¬
ولأنه لا يفضي إلى مثل تطويل دعاء الاسْتِفْتَاح، وإذا جمعت بينهما، قلت: هل يستفتح ويتعوذ؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحهما: أنه لا يستفتح وَيتَعَوَّذ. وقوله في الكتاب: "والأصح أن الاستفتاح لا يستحب" بعد ذكر الخلاف فيهما مشعر؛ لأن الأصح في التعوُّذ الاسْتِحْبَاب، ولك أن تعلم قوله: "والتعوُّذ" بالواو؛ لأنه أثبت الخلاف فيهما جميعاً، وفي كلام الشَّيخ أبي محمد طريقة أخرى قاطعة باسْتِحْبَاب التَّعوذ. ومنها: أن السُّنة فيها الإسْرار بالقراءة نَهَاراً، وباللَّيل وجهان: أصحهما: وهو ظاهر المَنْصُوص: أنه يسر أيضاً، لأنها قومة شرعت فيها الفَاتحة دون السُّورة، فأشبهت الثَّالثة من المغرب، والثالثة والرابعة من العشاء. والثاني وبه قال الدَّارِكيُّ أنه يجهر بها؛ لأنها صلاة تفعل ليلاً ونهاراً، فيجهر بها ليلاً كصلاة الخُسُوف، وهذا هو الَّذِي حكاه الإمَامُ عن الصَّيْدَلاَنِي والقَاضي الرُّويانيّ عن أبي حامد. وقوله في الكتاب: "ليلاً" معلَّم بالواو لهذا. ومنها: نقل المزنِيُّ في "المختصر" أن عقيب التكبيرة الثانية يحمد الله تعالى ويصلِّي على النَّبي ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، فهذه ثلاثة أشياء أوسطها الصَّلاة على النبي وهن من الأركان على ما سبق ذكرها، وأولها الحمد، ولا خلاف في أنه لا يجب، وهل تستحب؟ نقل المزني فيه وجهين: أحدهما: لا وهو قضية كلام الأكثرين وقالوا: ليس في كتب الشَّافعي -رضي الله عنه- ما نقله المزني. والثاني: نعم، وهو الذي أورده صاحب "التهذيب" و"التتمة". قال هؤلاء: ولعل المزني سمعه لفظاً. وثالثها: الدعاء للمؤمنين والمؤمنات وعامة الأصحاب على استحبابه عُقَيْبَ الصَّلاَة على النَّبي ليكون أقرب إلى الإجابة، وفيه كلام آخر نذكره من بعد. ومنها: إذا كبر الثالثة فيستحب أن يكون في دعائه للميت "اللَّهم هذا عبدك وابن عبدك، خرج من روح الدنيا وسعتها، ومحبوبه وأحبائه فيها إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه كان يشهد أن لا إله إلا أنت، وأن محمداً عبدُك ورسولك وأنت أعلم به، اللهم إنه نزل بك وأنت خير مَنْزُول به، وأصبح فقيراً إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له، اللهم إن كان محسناً فَزِدْ في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه، وَلَقِّه برحمتك رضاك، وَقِهِ فتنة القبر وعذابه، وأفْسِحْ له في قبره، وجاف الأرض عن جنبيه، ولَقِّه برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك برحمتك يا أرحم
الراحمين". هذا ما نقله المزني في "المختصر"، وورد في الباب عن عوف بن مالك -رضي الله عنه- قال: "صلَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جنازة فحفظت من دعائه "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بالْمَاءِ، وَالثَّلْجِ، وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَاراً خَيْراً مِنْ دَارِهِ وَأَهْلاً خَيْراً مِنْ أَهْلهِ، وَزَوْجاً خَيْراً مِنْ زَوْجِهِ، وقِهِ فِتْنَةَ الْقَبْر، وَعَذَابَ النَّار"، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ ذلِكَ المَيِّتَ (¬1). وعن ابن القاصّ -رضي الله عنه- دعاء آخر قال في "الشامل": وعليه أكثر أهل خُرَاسَانَ، وهو ما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلَّى على الجَنَازة قال: "اللَّهُمَّ اغْفِر لِحَيِّنَا، وَمَيَّتِنَا، وَشَاهِدِنَا، وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا، وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرنَا وَأُنْثَانَا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإسْلاَمِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَّفَّهُ عَلَى الإيْمَانِ" (¬2)، فإن كان الميت امرأة قال: اللَّهُمَّ هذه أَمَتُكَ وبنت عبدك، ويؤنِّث الكِنَايات، وإن كان الميت طِفْلاً اقتصر على المَرْوِي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- ويضيف إليه: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ فَرْطاً لِأبوَيْهِ وَسَلَفاً وَذُخْراً وَعِظَةً وَاعْتِبَاراً وَشَفِيعاً وَثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا، وَأَفْرغْ الصَّبْرَ عَلَى قُلُوبِهِمَا، وَلاَ تَفْتِنْهُمَا بَعْدَهُ، وَلاَ تَحْرِمْهُمَا أَجْرَهُ. وقوله في الكتاب: "ويستحب الدعاء للمؤمنين والمؤمنات عند الدعاء للميت" أعلم بالواو؛ لأنه حكى في "الوسيط" تردُّداً في ذلك، ثم قال: "والأصح الاسْتحباب" ولعلَّك تقول قوله عند الدعاء للميت يقتضي اسْتِحْبَاب الدُّعاء للمؤمنين والمؤمنات بعد التَّكبيرة الثَّالثة مع الدعاء للميت، والجمهور قاله باستحبابه في الثانية، كما سبق وذكروا أنه يخلص في الثالثة الدّعاء للميت، فكيف سبيل الجمع؟ والتَّردد الذي رواه في "الوسيط" ليس له ذكر في كلام الأصحاب، فعلى ماذا ينزل؟ والجواب: أنَّ إمام الحرمين حكى في اسْتِحْبَابه تردُّداً للأئمَّة في التَّكبيرة الثَّانية ووجه استحبابه؛ لأن الصلاة على النبي في التَّشهد الأخير يستعقب الدعاء للمؤمنين والمؤمنات، فكذلك في هذه الصلاة، فإن أراد حجة الإسلام -قدس الله روحه- هذا التردُّد فالوجه أن يؤول كلمة "عند"، ويقال. أراد النظر في أنه هل يدعو للمؤمنين والمؤمنات في هذه الصلاة مع الدعاء للميت؟ ويجوز أن يحمل ما ذكره على الدُّعاء الَّذِي ذكره ابْنُ القاص؛ فإنَّه دعاء لِلْمُؤْمنين والمؤمنات وما قبله يختصُّ بالميت، ولا ¬
يبعد أن يقدر فيه تردد، فإن قول من قال يخلص الدُّعاء للميت في الثالثة، ينافي اسْتِحْبَاب هذا الدُّعاء والله أعلم. وقوله: "ولم يتعرض الشافعي -رضي الله عنه- لذكر بين التكبيرة الرابعة والسلام"، أراد في "المختصر" وعامة كتبه لا على الإطلاق فإن البُويطِيِّ روى عنه أن يقول بينهما: "اللَّهم لا تَحْرمنا أجره ولا تفتنَّا بعده". هكذا نقل الجمهور، ونقل الصَّيدلاني عن روايته أن يقول: "اللَّهم اغفر لحيِّنا وميتنا". وحكى قوم: منهم صاحب "التهذيب" الذكر المشهور عن البويطي نفسه، فإن كان كذلك أمكن إِجْرَاء قوله: "ولم يتعرض الشَّافعي -رضي الله عنه-" على إطلاقه، وكيف ما كان فالذكر بينهما ليس بواجب، والظاهر استحبابه، وفي "الكافي" للروياني وجه آخر: أنه لا اسْتِحْبَاب، وإنَّما هو بالخيار بين أن يذكره أو يدعه ويسلم عقيب التكبيرة، وهكذا كان يفعل الإمام محمد بن يحيى -قدس الله روحه- فيما حكاه والدي -رحمه الله- وفي كيفية السَّلام من صلاة الجَنَازة قولان: أصحهما: أن الأولى أن يسلّم تسليمتين: إحداهما: عن يمينه، والأخرى: عن شماله، على ما ذكرنا في سائر الصَّلَوات. والثاني: قاله في "الإملاء" يَقتصر على تسليمة واحدة؛ لأن مبنى هذه الصلاة على التَّخفيف خوفاً من التَّغيرات التي عساها تحدث في الميت، وعلى هذا فالمنصوص أنه يبدأ بها ملتفتاً إلى يمينه، ويختمها ملتفتاً إلى يساره، فيدير وجهه وهو فيها. ومنهم من قال: يأتي بها تِلْقَاء وَجْهِه من غير الْتفات. قال إمام الحرمين: ولا شكَّ أن هذا التردُّد يجري في جميع الصلوات، إذا رأينا الاقْتِصَار على تسليمة واحدة، واختلفوا في أن القولين في أنَّ الأولى تسليمة أو تسليمتان؟ هما القولان المذكوران من قبل في سائر الصلوات أم لا؟ فقال قوم: هما هما. وقال آخرون: لا، بل هما مُرَتبان على القولين في سائر الصَّلوات إن قلنا: يقتصر فيها على تسليمة واحدة فهاهنا أولى، وإن قلنا: يسلم تسليمتين فهاهنا قولان، وهذا أصح؛ لأن قول الاقْتِصَار في سائر الصَّلَوَاتِ لم ينقل إلاَّ عن القديم، وهو منقول هاهنا عن "الإملاء"، وأنه محسوب من الجديد؛ ولأنهم وجَّهوه ببناء هذه الصَّلاة على التَّخفيف، وهذا لا يجيء في سائر الصلوات ويقتضي الترتيب. وقد صرح لفظ "المختصر" بتكرير السلام في سائر الصلَّوات. وقال هاهنا: ثم يسلم عن يمينه وعن شماله. وهذا القدر يحتمل القولين جميعاً، وعلى قول الاقْتِصَار على التَّسْليمة واحدة هل
يزيد "ورحمة الله"، أم يقتصر على قوله "السلام عليكم"؟ ذكر في "النّهاية" أن الشيخ أبا علي حكى تردداً فيه من طريق الأولى رعاية للاختصار. قال الغزالي: فَرْعٌ: المَسْبُوقُ يُكَبِّرُ (ح و) كَمَا أَدْرَكَ وَإِنْ كانَ الإِمَامُ فِي أَثْنَاءِ القِرَاءَةِ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ الإمَامِ صَبَرَ إلَى التَّكْبِيرَةِ الثَّالِثَةِ فَيُكَبِّرُ التَّكْبِيرَةَ الثَّانِيَةِ عِنْدَهَا، ثُمَّ إِذَا سَلَّمَ الإمَامُ تَدَارَكَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ، وَلَو لَمْ يُكَبِّرِ الثَّانِيَةَ قَصْداً حَتَّى إذا كَبَّرَ الإِمَامُ الثَّالِثَةَ بَطُلَتْ صَلاَتُهُ إِذْ لاَ قُدْوَةَ إِلاَّ فِي التَّكْبِيراتِ. قال الرافعي: الفرع يشتمل على مسألتين: إحداهما: لو لحق مسبوق في خلال صلاة الجَنَازَة كبَّر شارعاً، ولم ينتظر تكبيرة الإمام المستقبلة خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- حيث قال: يصبر حتى يكبر معه، فلو لَحِق بعد التّكبيرة الرابعة تعذر الإدراك عنده. وعن مالك روايتان كالمذهبين كما في سائر الصلوات. لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضوا" (¬1). ولأنه أدرك الإمام في بعض صلاته فلا ينتظر ما بعده كما في سائر الصلوات، ثم في المسألة فروع: أحدها: إذا كبَّر المسبوق اشْتغل بقراءة الفاتحة، وإن كان بعد التَّكبيرة الثَّانية، والامام يصلي على النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أو بعد الثَّالثة والإمام يدعو بناء على أنَّ ما يدركه المَسْبُوق أول صلاته، فيراعى ترتيب صلاة نفسه، كذا ذكره وهو غير صاف عن الإشكال. الثاني: إذا لحق قبل التّكبيرة الثانية وكبر نظر إن كبر الإمام كلما فرغ من تكبيرة كبر معه الثانية، وسقطت عنه القراءة كما إذا ركع الإمام عقيب تكبيرة في سائر الصلوات، وإن قرأ الفاتحة ثم كبر الإمام الثانية كبر معه، وقد أدرك جميع الصلاة، وإن كبر الإمام قبل فراغه من القراءة، فهل يقطع الفاتحة ويوافقه أو يتم قراءته؟ فيه وجهان كما لو قرأ المسبوق بعض الفاتحة ثم ركع الإمام. أصحهما: في الموضعين عند الأكثرين منهم: ابن الصباغ والقاضي الروياني: أنه يقطع القراءة ويتابعه، وعلى هذا هل يقرأ بعد الثانية (¬2) لأنه مَحِلُّ القراءة بخلاف الركوع أم يقال: لما أدرك قراءة الإمام صار مَحِلُّ قراءته مُنْحَصراً فيما قبل الثَّانية، وذكر في "الشَّامل" فيه احتمالين، ولعلَّ الثَّاني أظهر، وصاحب الكتاب أجاب بالوجه الثَّاني، وهو أنه يتم القراءة، ولا يوافقه في التكبيرة الثانية حيث قال: "ثم إن لم يتمكن من التَّكبيرة ¬
الثانية مع الإمام" أي لعدم إتمام الفاتحة صبر إلى التكبيرة الثالثة، يعني يتمّها ويؤخر تكبيرته الثّانية إلى أن يكبر الإمام الثالثة، وإلى هذا الوجه صغو إمام الحرمين. إذا عرفت ذلك فأعلم قوله: "صبر" بالواو، واعرف أن ذلك الوجه المشار إليه أظهر. الثالث: إذا فاته بعض التَّكْبيرات تدارك بعد سلام الإمام، وهل يقتصر على التكبير نسقاً أم يأتي بالدعاء والذكر بينها؟ فيها قولان: أحدهما: يقتصر على التَّكبيرات، فإن الجنازة ترفع بعد سلام الإمام، فليس الوقت وقت التطويل. وأصحهما: أنه يدعو لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا" (¬1). وكما فاته التّكبيرات فاته الدّعاء، والمستحب أَلاَّ ترفع الجنازة حتى يتم المسبوقون ما عليهم، وإن رفعت لم تبطل صلاتهم، وإن حولت عن قَبَالة القبلة بخلاف ابتداء عقد الصلاة لا يحتمل فيه ذلك والجنازة حاضرة. المسألة الثانية: لو تخلَّف المقتدي فلم يكبر مع الإمام الثانية أو الثالثة حتى كبر الإمام التكبيرة المستقبلة من غير عذر بطلت صلاته؛ لأن القدوة في هذه الصلاة لا تظهر إلا في التَّكبيرات، وهذا التَّخلف متفاحش شبيه بالتَّخلف بركعة في سائر الصلوات، حكى الإمام المسألة وجوابها عن شيخه وقطع بما ذكره، وتابعهما المصنف -رحمهم الله-. قال الغزالي: الطَّرَفُ الرَّابعُ، فِي شَرَائِطِ الصَّلاَةِ: وَهِيَ كَسَائِرِ الصَّلَواتِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الجَمَاعَةُ فِيهَا وَلَكِنْ قِيلَ: لاَ يَسْقُطُ الفَرْضُ إِلاَّ بِأرْبَعَة يُصَلُّونَ جَمْعاً أَوْ آحَاداً، وَقِيلَ: يَسْقُطُ بِثَلاَثٍ، وَقِيلَ: يَسْقُطُ بِوَاحِدٍ، وَفِي الاكْتِفَاءِ بِجِنْسِ النِّسَاءِ خِلاَفٌ. قال الرافعي: الشرائط المرعيّة في سائر الصلوات كالطهارة وستر العورة والاستقبال وغيرها مرعية في هذه الصلاة أيضاً، وأراد بقوله: "وهي كسائر الصلوات" التسوية فيها دون الأركان والسنن، ويجوز أن يعلّم بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة -رحمه الله- هذه الصلاة تفارق غيرها في أمر الطهارة فيجوز التَّيمم لها عند خوف الفَوَاتِ مع وجود المَاء، ومعظم غرض هذا الطَّرف الكلام فيما وقع الخلاف في اشتراطه في هذه الصَّلاة. إما ما بين أصحابنا أو بيننا وبين غيرنا وفيه مسائل. منها: أن السُّنَّة أن تقام جماعة كذلك "كان النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- يفعل" (¬2) وعليه استمر النَّاس، ولا يشترط فيها الجماعة كسائر الصلوات، وَقَدْ صَلَّى الصَحَابَةُ عَلَى الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم- ¬
أَفْرَاداً (¬1). وفيمن يسقط به فرض هذه الصَّلاة وجوه: أحدها: أنه لا بد من أَربعة يصلون جماعة وأفراداً كما لا بد من أربعة يحملونه، كذا ذكره الشيخ أبو علي وغيره، قال الإمام: هذا التّشبيه هفوة، فإن الحمل بين العمودين أفضل للحاملين، وإنه يحصل بثلاثة كما تقدم. والثاني: أنه يكفي ثلاثة. واحتج له بقوله: "صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" (¬2). خاطب به الجمع وأقله ثلاثة، وهو أصح الوجوه عند الشيخ أبي الفرج البَزَّاز. والثالث: أنه يسقط الفرض بواحد؛ لأنه لا يشترط فيه الجَمَاعة، فكذلك العدد كسائر الصَّلوات. والرابع أورده في "التهذيب": أنه لا بد من اثنين ويكتفي بهما بناء على أن أقل الجمع اثنان، وهذا الوجه لم يبلغ الإمام نقلاً لكن قال: هو محتمل جداً؛ لأن الاجتماع يحصل بذلك، وهو كقولنا في مسألة الانفضاض على رأي يكتفى ببقاء واحد مع الإمام. ونقل جماعة من أئمتنا الوجه الثاني والثالث قولين منصوصين منهم صاحب "الشامل" ومنهم القاضي الروياني، وقال هو وغيره: الظاهر الاكتفاء بواحد والله أعلم. ويتفرع على هذه الوجوه ما لو تبين حدث الإمام أو بعض المقتدين، إن بقي العدد المكتفي به فالفرض ساقط به وإلا فلا. وهل الصبيان المميّزون بمثابة البالغين على اختلاف الوجوه؟ فيها وجهان: أظهرهما: نعم، وفي النّساء وجهان: أحدهما: أنهن كالرجال لصحة صلاتهن وجماعتهن. وأصحهما: ولم يذكر صاحب "التهذيب" وكثيروان سواه-: أنه لا يكتفي بهن وإن كثرن نظراً للميت، فإن دعاء الرجال أقرب إلى الإجابة، وأهليتهم للعبادات ولأن فيه استهانة بالميِّت. وموضع الوَجْهَيْن: ما إذا كان هناك رجال، فإن لم يكن رجل صلين للضَّرورة منفردات وسقط الفرض. قال في "العدة": وظاهر المذهب أنه لا يستحب لهن أن يصلين جماعة في جنازة الرجل والمرأة. وقيل: يستحب ذلك في جنازة المرأة. قال الغزالي: وَلاَ يُشْتَرَطُ حُضُورُ الجَنَازَةِ بَلْ يُصَلَّى (م ح) عَلَى الغَائِبِ إِلاَّ (و) إِذَا كَانَ فِي البَلَدِ. ¬
قال الرافعي: تجوز الصَّلاة على الغائب بالنَّية، سواء كان في جهة القِبْلة أو في غير جهتها، والمصلي مستقبل بكل حال. وبه قال أحمد خلافاً لمالك وأبي حنيفة -رحمهم الله-. لنا ما روي "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرَ بِمَوْتِ النَّجَاشِيِّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَخَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى، وَصَفَّهُمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تكْبِيرَاتِ" (¬1). وهذا إذا كانت الجَنَازة في بلدة أو قرية، ولا فرق بين أن يكون بين الموضعين مسافة القَصْر أو لا يكون، فإن كانت في تلك البلدة، فهل يجوز أن يصلى عليها وهي غير موضوعة بين يديه؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم كالغائبة عن البلد. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب -لا، لتيسير الحُضور، وشبه هذا الخلاف بالخلاف في نفوذ القَضَاء على من في البلد مع إمكان الإحضار، وإذا شرطنا حضور الجَنَازة فينبغي أن لا يكون بين الإمام وبينها أكثر من مائتي زراع أو ثلاثمائة على التقريب، حكاه المعلق عن الشيخ أبي محمد. قال الغزالي: وَلاَ يُشْتَرَطُ (م ح) ظُهُورُ المَيِّتِ بَل تَجُوزُ الصَّلاة عَلَى المَدْفُونِ، وَلَكِنْ تَقْدِيمُ الصَّلاةِ وَاجِبٌ، فَإِنْ لَمْ تُقَدَّمْ فَلاَ يَفُوتُ بِالدَّفنِ ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهُ يُصَلِّي بَعْدَ الدَّفْنِ إِلَى ثَلاَثةِ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: إِلَى شَهْر، وَقِيلَ: إِلَى انْمِحَاقِ الأَجْزَاءِ، وَقِيلَ: مَنْ كَانَ مُمَيِّزاً عِنْدَ مَوْتِهِ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَمَنْ لاَ فَلاَ، وَقِيلَ: يُصَلَّى عَلَيْهِ أَبدًا، وَمَعَ هَذَا فَلاَ يُصَلَّى عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-. قال الرافعي: إذا أقيمت جماعة في صلاة الجَنَازة ثم حضر آخرون، فلهم أن يصلُّوا عليها أفراداً أو في جماعة أخرى، وتكون صلاتهم فرضاً في حقهم، كما أنها فرض في حق الأولين، بخلاف من صلاها مرة لا تستحب له إعادتها فإن المعادة تكون تطوّعاً، وهذه الصلاة لا يتطوع بها، فإن كان قد صلى مرة، وأراد إعادتها في جماعة لم يستحب أيضاً في أظهر الوجهين، ولا فرق بين أن يكون حضور الآخرين قبل الدفن أو بعده، ولا يشترط ظهور الميت، وخالف أبو حنيفة في الحالتين. أما قبل الدفن؛ فلأن عنده لا يصلى على الجنازة مرتين، وأما بعده فلأن عنده لا يصلى على القبر إلا إذا دفن ولم يصلّ عليه الولي فله أن يصلي على القبر، وهكذا له أن يصلّي عليه قبل الدَّفن إذا كان غَائباً وصلّى عليه غيره، وساعد أبا حنيفة مالك في الفصلين، والخلاف جاء فيما إذا دفن ميت قبل أن يصلى عليه فعندنا يصلى على قبره ¬
ولا ينبش للصلاة ولكن يأثم الدافنون بما فعلوا، فإن تقديم الصلاة على الدفن واجب، وعندهما لا يصلى على القبر. لنا ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أنَّ النَّبِيَّ مَرَّ بِقَبْرٍ دُفِنَ لَيْلاً فَقَالَ: مَتَى دُفِنَ هَذَا؟ قَالُوا: الْبَارِحَةَ، قَالَ: أَفَلاَ آذنْتُمُونِي. قَالُوا: دَفَنَّاهُ فِي ظُلْمَةِ الْلَيْلِ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ، فَقَامَ وَصَفَّنَا خَلْفَهُ، قَال ابْن عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَأَنَا فِيْهِمْ، فَصَلَّى عَلَيْهِ" (¬1). ولك أن تعلم قوله في الكتاب: "فلا تفوت بالدفن" بالواو؛ لأن أبا عبد الله الحَنَّاطي حكى عن أبي إسحاق المَرْوَزِي أن فرض الصَّلاة لا يسقط بالصَّلاة على القبر، وإنما يصليِّ على القبر من لم يدرك الصَّلاة، وإلى متى تجوز الصلاة على القبر؟ فيه خمسة أوجه: أحدهما: إلى ثلاثة أيام، ولا تزاد؛ لأنها أول حدِّ الكثرة وآخر حد القلة، ويروى هذا عن أصحاب أبي حنيفة -رحمه الله- حيث جوزوا للوليّ الصلاة على القبر. والثاني: وبه قال أحمد -رحمه الله-: أنه يصلِّي عليه إلى شهر ولا يزاد، وهذا ما ذكره ابن القاصّ في "المفتاح". قال القفَّال: يحتمل أنه خرّج ذكل من صلاة النَّبي على النَّجاشي، فإنه كان بينهما مسيرة شهر، ومعلوم أنه لولا الوحي لما علموا بموته إلا بعد شهر، ومنهم من وجهه بما روي "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى عَلَى الْبَرَاءِ بْنِ مَغرُورٍ بَعْدَ شَهْرٍ" (¬2). ولم تنقل الزّيادة عليه. الثالث: أنه يصلي عليه ما دام يبقى منه شيء في القبر، فإن انمحقت الأجزاء كلها فلا إذ لم يبق ما يصلّى عليه، وعلى هذا لو تردد في انْمِحَاق الأجزاء فلإمام الحرمين -رحمه الله- فيه احْتِمَالان: أحدهما: أن يقال الصَّلاة تستدعي تيقّن البقاء في القبر. والثاني: أن يقال: الأصل بقاؤه فيجوز وهذا الثاني أْوفق لرواية الصَّيدلاني وآخرين، وأصل الوجه فإنهم نقلوا أنه يصلي عليه ما لم يعلم بلاه. والوجه الرابع: أنَّه يصلّى عليه من كان من أهل فرض الصَّلاة يوم الموت ولا يصلّى عليه غيره، هكذا رواه الشيخ أبو محمد والصَّيدلاني وغيرهما عن الشيخ أبي زيد، وأشار إليه صاحب "الإفصاح"، ووجهه: بأن من كان من أهل الفرض يومئذ كان الخطاب متوجهًا عليه فمتى أَدَّى كان مؤدياً لفرضه، وغيره لو صلّى كان متطوعاً، وهذه ¬
الصلاة لا يتطوع بها، وروى المُحَامِلِيُّ وطائفة هذا الوجه بعبارة أخرى، فقالوا: من كان من أَهْل الصَّلاة يصلِّي عليه يوم موته ومن لا فلا، فعلى العبارتين معاً من لم يولد عند الموت، أو لم يكن مميزاً لم يكن له أن يصلّي على القبر ومن كان مميزاً حينئذ هل يصح؟ أما على العبارة الأولى فلا؛ لأنه لم يكن من أهل فرضيّة الصلاة، وأما على الثَّانية فنعم، لأنه كان من أَهْل الصَّلاة، والعبارة الأولى أشهر، والثانية أصحّ عند القاضي الروياني، وهي التي يوافقها لفظ الكتاب، فإنه قال: وقيل من كان مميزاً عند موته يصلّي فلا يعتبر إلا التّمييز الذي يعطي أهليّة الصَّلاة دون أهليّة الافتراض. والوجه الخامس: أنه يصلّي عليه أبداً؛ لأن القصد بهذه الصَّلاة الدُّعاء وهو جائز في الأوقات كلّها، وأظهر الوجوه هو الرّابع، ثم هذا كله في قبر غير النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم-. فأما الصَّلاَة على قبره فتبنى على الوجوه المذكورة في حق غيره، فعلى الوجوه الأربعة الأولى لا يصلّى عليه اليوم، أما على غير الثَّالث فظاهر، وأما على الثالث فليس الامْتِنَاع؛ لأنه لا يبلى إِذِ الأَرْض لا تَأْكُلُ أَجْسَاد الأَنبياء، ولكن لأنه روى في الخبر أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَنَا أَكْرَمُ عَلَى رَبِّي مِنْ أَنْ يَتْرُكَنِي فِي قَبْرِي بَعْدَ ثَلاَثٍ" (¬1). وعلى الوجه الخامس هل يصلى عليه؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِم مَسَاجِدَ" (¬2). والثاني: نعم، كما في حقِّ غيره، ولكن فرادى لا جماعة كما فعل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويحكى هذا عن أبي الوليد النَّيْسَابُوري. إذا عرفت ذلك أعلمت قوله: "فلا يصلى على قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" بالواو، ويجوز أن يعلم ما سوى الثَّاني من الوجوه بالألف؛ لأن مذهبه الثاني كما قدمناه. فائدة: قوله في أول هذا الطرف: "وهي كسائر الصلوات" أراد به في الشّرائط كما قدمناه، ثم الغرض بيان أنَّ شرائط سائر الصَّلوات مرعية فيها؛ لأن شرائط هذه الصَّلاة منحصر فيها؛ لأنه يشترط فيها تقدّم غسل الميّت حتى لو مات في بئر، أو في معدن انْهَدَم عليه، وتعذَّر إخْرَاجه وغسله لم يصلّ عليه، ذكره صاحب "التتمة"، ويشترط فيها أيضاً عدم التقدم على الجنازة الحاضرة بين يديه، وعلى القبر إن كان يصلى عليه على الصحيح. ¬
القول في الدفن
القَوْلُ فِي الدَّفْنِ قال الغزالي: وَأَقَلَّهُ حُفْرَةٌ تَحْرُسُ المَيِّتَ عَنِ السِّبَاعِ وَتَكْتُمُ رَائِحَتَهُ، وأَكْمَلُهُ قَبْرٌ عَلَى قَامَةِ الرَّجُلِ، وَاللَّحْدُ أَوْلَى مِنَ الشَّقِّ، وَلْيَكُنِ اللَّحْدُ فِي جِهَةِ القِبْلَةِ، ثُمَّ تُوضَعُ الجَنَازَةُ عَلَى رَأسِ القَبْرِ بِحَيْثُ يَكُونُ رَأَسُ المَيِّتِ عِنْدَ مُؤَخِّرِ القَبْر فَيَسُلُّهُ الوَاقِفُ إِلى القَبْرِ مِنْ جِهَةِ رَأْسِهِ، وَلاَ يَضَعُ المَيِّتَ فِي قَبْرِهِ إِلاَّ الرَّجُلُ، فَإِنْ كانَتِ امْرَأَةً فَيَتَوَلَّى ذَلِكَ زَوْجُهَا وَمَحَارِمُهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَبِيدُهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَخَصِيَّانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَأَرْحامٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالأجَانِبُ لِأَنَّهُنَّ يَضْعَفْنَ عَنْ مُبَاشَرَةِ هَذَا الأَمْرِ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يَسْتَقِلَّ وَاحِدٌ بِوَضْعِهِ فَلْيَكُنْ عَدَد الوَاضِعِينَ وَتْراً. قال الرافعي: دفن الميت من فروض الكِفَايات كغسله والصلاة عليه والدفن في المقبرة أولى، لينال الميت دعاء المَارِّين والزَّائرين. "وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَدْفِنُ أَصْحَابَهُ فِي المَقَابِرِ" (¬1) ويجوز الدَّفن في غير المَقَابِر؛ لأنهم "دَفَنُوا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ -رَضِيَ الله عَنْهَا- (¬2). فلو تَنَازع الوَرَثَة فقال بعضهم ندفنه في ملكه، وقال آخرون: بل في المقبرة المسبلة، دفن في المقبرة المسبلة؛ لأن ملكه قد إنتقل إلى الورثة وبعض الشركاء غير راض بدفنه فيه، فلو بادر بعضهم ودفنه فيه كان لِلْبَاقين نقله إلى المَقْبَرَةِ، والأولى أن لا يفعلوا لما فيه من الهتك، ولو أراد بعضهم دفنه في خالص ملكه لم يلزم الباقين قبوله ولو بادر إليه، قال ابن الصباغ: لم يذكره الأصحاب وعندي أنه لا ينقل فإنه هتك وليس في إبقائه إبطال حق الغير. ولو توافقوا على دفن الميت في ملكه ثم باعوه لم يكن للمبتاع نقله، وله الخيار إن كان جاهلاً به، ثم لو اتفق نقله أو بَلِيَ كان الموضع للبائعين أو للمشتري؟ فيه وجهان سيأتي في البيع نظائرها. إذا عرفت ذلك ففي الفَصْل مسائل: إحداها: لا يجوز الاقْتِصَارُ في الدَّفن على أدنى احْتِقَار، بل أقل ما في الباب حُفْرة تكتم رائحة الميت وتحرسه عن السِّبَاع لعسر نَبْش مثلها عليها غالباً، وهذان المعنيان كتمان الرائحة والحِرَاسة عن السِّباع ذكرهما إمام الحرمين في حدِّ واجب الدفن وتابعه المصنف فإن كانا مُتَلاَزمين فمتى وجدت إحدى الصِّفتين في الحُفْرة توجد ¬
الأُخْرَى، والغَرَض من ذكرهما بيان الفَائِدَة المَطْلُوبة بالدَّفن، وإن لم يكونا مُتَلاَزمين فبان أنه يجب رعايتهما، ولا يكتفي بأحدهما مقصوداً أيضاً. وأما الأكمل فيستحب توسيع القَبْرِ وتعميقه، روي أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "احْفُرُوا وَوَسِّعُوا وَعَمِّقُوا" (¬1) والمنقول عن لفظ الشَّافِعِيّ -رضي الله عنه- أنه يعمق قدر بسْطَةٍ. قال المحاملي وغيره: إنما أراد بسطَةً بعد القيام، على ما روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "عَمِّقُوا إِلَى قَدْرِ قَامَةٍ وَبَسْطَةٍ" (¬2) وقدره بثلاثة أذرع ونصف وهو قدر ما يقوم الرجل وَيَبْسُطُ يده مرفوعة غالباً، والاعتبار بالأربعة من الرجال، وفيما علق عن الشيخ أبي محمد: أن السنة من التَّعميق بقدر قامة وهو ثلاثة أذرع، وذكر في "النهاية" ما يوافقه، فنقل لفظ البَسْطة وفسَّرها بقامة رجل وبسطة فيشبه أن يكون وجهاً آخر، وهو الذي وافقه لفظ الكتاب، والمشهور في المَذْهب هو الأول. وقوله في الكتاب: "وأقلّه وأكمله" الكناية فيهما يجوز أن ترجع إلى غير مذكور المعنى وأقل المدفون فيه ويجوز أن ترجع إلى المذكور وهو الدفن، وحينئذ يحتاج الكلام إلى إضمار، ومعناه: وأقل الدَّفن في حفرة والأول أولى؛ لأن واجب الدَّفن لا ينحصر في الدَّفْن في حفرة صفتها ما ذكر، بل يجب مع ذلك وضع الميِّت مستقبل القبلة على ما سيأتي. وأعلم قوله: "قدر قامة الرجل" بالميم؛ لأن المحكيّ عن مالك: أنه لا حد في تعميق القبر. المسألة الثانية: اللَّحد والشَّق كل واحد منهما جائز، واللّحد أن يحفر حائط القبر مائلاً عن استوائه من الأسفل [قدر] (¬3) ما يوضع الميت فيه، وليجعل ذلك من جهة القبلة. والشق: أن يحفر حفرة كالنهر أو يبنى جانباه باللَّبن أو غيره، ويُجْعل بينهما شقّ يوضع الميت فيه ويسقف وأيهما أولى إن كانت الأرض صلبة فاللحد، وإن كانت رخوة فالشق، وعند أبي حنيفة الشّق أولى بكل حال، هكذا روى جماعة من أصحابنا، وفي مختصر الكَرْخِي وغيره من كتب أصحابه أنه يُلْحَدُ، ولا يشق كمذهبنا. ووجه تقديم اللّحد ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا" (¬4). ¬
وروي: "أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا يَلْحَدُ، والآخَرُ يَشُقُّ فَبَعَثَ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي طَلَبِهِمَا، وَقَالُوا أَيُّهُمَا جَاءَ أَوّلاً عَمِلَ عَمَلَهُ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَ الذِي يَلْحَدُ، فَلَحَدَ لِرَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-" (¬1). الثالثة: توضع الجنازة على شَفِيرِ القبر بحيث يكون رأس الميت عند رجل القبر، ثم يُسَلُّ في القبر من قبل رأسه سَلاًّ رفيقاً وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: توضع الجنازة بين القبر والقِبْلة، ويدخل القبر عرضاً. لنا ما روي عن ابن عمر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "سُلَّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ سَلاًّ" (¬2). وقوله في الكتاب: "ثم تُوضَعُ الجَنَازَةُ عَلَى رَأْسِ القبر" لم يَعْنِ برأس القبر ضد رجله ومؤخره، وإنما أراد طرفه، ألا تراه يقول عُقَيبه: بحيث يكون رأس الميت عند مؤخرة القبر. الرابعة: لا يدخل الجَنَازَة في القَبرِ إلا الرِّجال ما وجدوا سواء كان الميت رجلاً أو امرأة؛ لأنه يحتاج إلى بطش وقوة، والنساء يضعفن عن مثل ذلك غالباً، ويخشى من مباشرتهنّ لذلك انهتاك الميتة وانكشافهن، ثم أولى الرجال بالدفن أولاهم بالصلاة، نعم الزّوج أحق بدفن الزوجة من غيره ثم بعده المحارم، ويقدم منهم الأب ثم الجد ثم الابن ثم ابن الابن ثم الأخ ثم ابن الأخ ثم العم، فإن لم يكن منهم أحداً فعبيدها، وهم أولى من بني العم؛ لأنهم كالمحارم في جواز النظر ونحوه على الصحيح، وفيه خلاف سيأتي في موضعه، فإن أَلْحَقنَاهُم بالأَجَانِب فلا يتوجه تقديمهم. وأبدى إمام الحرمين فيهم الاحتمال من جهة أخرى، وهي أن مالكها ينقطع عنهم بالموت، وشبهه بالتردّد في غسل الأَمَةِ مولاها، فإن لم يكن لها عبيد فالخِصْيَان أولى لضعف شهوتهم. قال الإمام: وفيه احتمال بيِّن سنذكره في أحكام النظر، فإن لم يكونوا فذوو الأرحام الَّذين لا محرميّة لهم، فإن لم يكونوا فأهل الصَّلاح من الأجانب. قال الإمام: وما أرى تقديم ذوي الأرحام محتوماً بخلاف تقديم المَحَارِم؛ لأن الدين لا محرمية لهم من ذوي الأرحام كالأجانب في وجوب الاجتناب عنهم في الحياة، وقدم "في العدة" صاحبها نساء القرابة على الرجال الأجانب وهو خلاف النص، والمذهب المشهور. إذا عرفت ما ذكرنا فلا يخفى عليك أن قوله في الكتاب: "زوجها ومحارمها" ليس ¬
للجميع، ولا للتخيير وإنما الأمر فيه على الترتيب، وأن قوله: "فعبيدها" يجوز أن يعلم بالواو، وكذا قوله: فخصيان. وقوله: "فأرحام" أي: ذووا أرحام. وقوله: "لأنهن يضعفن عن مباشرة هذا الأمر" تعليل لأول الكلام، وهو قوله: "ولا يضع الميت في قبره إلا الرجال"، ويجوز أن يعلم قوله: "فإن لم يكن فالأجانب" بالواو أيضاً، لما ذكرنا في "العدة". الخامسة: إن استقل واحد بوضع الميت في القبر، فإن كان طفلاً فذاك، وإلا فالمستحبّ أن يكون عدد الدَّافنين وترًا ثلاثة أو خمسة على [قدر] (¬1) الحاجة وكذلك عدد الغاسلين، ويروى أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- "دَفَنَهُ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ وأُسَامَةُ -رَضِيَ الله عَنْهُمْ-" (¬2)، ويستحبُّ أن يستر القبر عند الدَّفْنِ بِثَوْبٍ رجلاً كان أو امرأة، لكن ستر المرأة آكد، وعند أبي حنيفة -رحمه الله- يختص الاسْتِحْبَاب بالمرأة، وروي مثله عن أحمد واختاره أبو الفضل بن عبدان من أصحابنا. لنا ما روي "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا دُفِنَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ -رضي الله عنه- سَتَرَ قَبْرَهُ بِثَوْبٍ" (¬3). والمعنى فيه أنَّهُ ربَّما يَنْكَشِفُ عند الإضْجَاع، وحلّ الشّداد، ويستحب لمن يدخله القبر أن يقول: بسم الله، وعلى ملة رسول الله، وروي ذلك عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬4) "ثُمَّ يَقُولَ اللَّهُمَّ أَسْلَمَهُ إِلَيْكَ الأَشْحَاء مِنْ وَلَدِهِ وَأَهْلِهِ، وَقَرَابَتِهِ وإِخْوَانِهِ وفَارَقَهُ مَنْ كَانَ يُحِبُّ قُرْبَهُ، وَخَرَجَ مِنْ سِعَةِ الدُّنْيَا وَالْحَيَاةِ، إِلَى ظُلْمَةِ القَبرِ وَضِيقِهِ، وَنَزَلَ بِكَ، وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بهِ، إِنْ عَقَابتَهُ فَبذَنْبهِ، وإن عَفَوْتَ فَأهْلُ العَفْوِ أَنْتَ، أَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابهِ، وَهُوَ فَقِيرٌ إِلَى رَحْمَتِكَ، اللَّهُمَّ اشْكُر حَسَنَتَهُ، وَاغْفِرْ سَيِّئَتَهُ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَاب الْقَبْرِ، وَاجْمَع لَهُ بِرَحْمَتِكَ الأَمْنَ مِنْ عَذَابِكَ، وَاكْفِهِ كُلَّ هَوْل دُونَ الجَنَّةِ، اللَّهُمَّ فَاخْلَفْهُ فِي تَرِكَتِهِ فِي الْغَابِرِين، وَارْفَعْهُ فِي عِلِّيِّينَ، وَعُدْ عَلَيْهِ بِفَضْلِ رَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ". وهذا الدعاء منقول عن لفظ الشَّافِعي -رضي الله عنه- في "المختصر" والله أعلم. قال الغزالي: ثُمَّ يُضْجَعُ المَيِّتُ عَلَى جَنْبِهِ الأَيْمَنِ فِي اللَّحْدِ بِحَيْثُ لاَ يَنْكبُّ وَلاَ ¬
يَسْتَلْقِي، ويُفْضَى بِوَجْهِهِ إلَى تُرَاب أَوْ لَبَنَةٍ، ثُمَّ يُنَضَّدُ اللَّبِنُ عَلَى فَتْحِ اللَّحْدِ، وَتُسَدُّ الفُرَجُ بِمَا يَمنَعُ التُّرَابَ، ثُمَّ يَحْثُو عَلَيْهِ كُلُّ مَنْ دَنَا ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ، ثُمَّ يُهَالُ عَلَيْهِ التُّرَابُ بِالمَسَاحِي. قال الرافعي: إذا أدخل الميّت القبر أُضجع في اللَّحد على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، كذلك فعل برسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬1) وكذلك كان يفعله (¬2)، وليكن الإضجاع بحيث لا يَنْكَب ولا يَسْتَلْقي، وذلك بأن يدني من جدار اللَّحد فيسند إليه وجهه ورجلاه، ويجعل في باقي بدنه بعض التَّجافي، فتكون هيئته قريبة من هيئة الرَّاكعين، ويسند ظهره إلى لَبَنِةِ ونحوها، فهذا يمنعه من الاسْتِلْقَاء، وذلك من الانْكِبَاب، واعلم بأن وضعه مُسْتَقبل القبلة واجب على ما حكاه الجمهور حتى لو دفن مستدبراً أو مستلقياً، فإنه ينبش ويوجه إلى القبلة ما لم يتغير، فإن تغير فقد قال في "التهذيب" وغيره: لا ينبش بعد ذلك. وحكي عن القاضي أبي الطّيّب أنه قال في "المجرد": التوجيه إلى القبلة سُنَّة، فإذا ترك فيستحبُّ أن ينبش ويوجه ولا يجب، ولو ماتت ذمِّيّة (¬3) في بطنها جنين مسلم ميت، فيجعل ظهرها إلى القِبْلَة توجيهاً للجنين المسلم إلى القبلة، فإن وجه الجَنين فيما ذكر إلى ظهر الأم وأين تدفن هذه؟ قيل بين مقابر المُسْلمين والكفار. وقيل: في مقابر المسلمين، وتنزل هي منزلة صندوق للولد، ويروى أن عمر -رضي الله عنه- أمر بذلك (¬4)، وحكي في "العدة" وجهاً آخر، أنها تدفع في مقابر المشركين. وأما الإضجاع على اليمين فليس بواجب، بل لو وضع على الجنب الأيسر مستقبلاً كره، ولم ينبش، كذلك ذكره في "التتمة" ويجعل تحت رأس الميِّت لبنة أو حجراً، ويفضي بخدِّه الأيْمن إليه أو إلى التراب فذلك أبلغ في الاستكانة ولا يوضع تحت رأسه مخدّة، ولا يُفْرش تحته فِرَاشٌ، حكى العراقيون كراهة ذلك عن نص ¬
الشَّافعي -رضي الله عنه-؛ لأنه لم ينقل عن أحد من السلف، وفيه تَضْييع المال. وقال في "التهذيب": لا بأس به، إذ روى عن ابْن عبَّاس -رضي الله عنهما- "أنَّهُ جَعَلَ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَطِيفَة حَمْراء" (¬1). ويكره أن يجعل في تَابُوت إلا إذا كانت الأرض رَخْوة أو نَدِيّة، ولا تنفذ الوصية به، إلاَّ في مثل هذه الحالة ثم يكون التَّابوت من رأس المال. ثم إذا وقع الفراغ من وضع الميت نصب اللّبن علي فتح اللَّحد، روي عن سعد ابْنِ أبي وقّاص -رضي الله عنه- أنه قال: "اصْنَعُوا بِي كَمَا صَنَعْتُمْ بِرَسُولِ اللهِ برسول -صلى الله عليه وسلم- انْصُبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ وأَهِيلُوا عَلَيَّ التُّرَابَ" (¬2). وتسد فُرَجُ اللَّبنِ بِكَسْر اللّبن مع الطِّين أو بالإِذْخِر ونحوه، ثم يُحْثَى كل من دنا ثلاث حَثَيَات من التُّرَاب بيديه، ثم يهال بالمَسَاحِي روي أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- "حَثَى عَلَى الْمَيت ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ بِيَدَيْهِ جَمِيعاً" (¬3). قال في "التَّتمة": ويستحب أن يقول مع الأولى: "منها خلقناكم" ومع الثّانية: "وفيها نعيدكم" ومع الثالثة: "ومنها نخرجكم تارة أخرى" (¬4). وقوله في الكتاب: "ثم يُنْضَد اللبن" من التَّنْضيد، وهكذا ذكر إمام الحرمين، ولفظ الشافعي -رضي الله عنه- وعليه الأصحاب -رحمة الله عليهم- ينصب وهما جميعاً مؤديان للغرض. قال الغزالي: وَلاَ يُرفَعُ نَعْشُ القَبْرِ إِلاَّ بِقَدْرِ شِبْرٍ وَلاَ يُجَصَّصُ، ولاَ يُطَيَّنُ، وَلا بَأْسَ بِالحَصَا وَوَضْعِ حَجَرٍ عَلَى رَأْسِ القَبْرِ لِلْعَلاَمَةِ، ثُمَّ التَّسْنِيمُ أَفْضَلُ مِنَ التَّسْطِيحِ مُخَالَفَةً لِشِعَارِ الرَّوَافِضِ. قال الرافعي: المُسْتَحب أن لا يزاد في القَبْر على ترابه الذي خرج منه حتى لا يعظم شخوِصه عن الأرض، ولا يرفع نَعْشه إلا قدر شِبْر؛ لما روي عن جابر -رضي الله عنه- "أنَّهُ لُحِدَ لِرَسُولِ اَللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَنُصِبَ عَلَيْهِ اللَّبِنُ نَصْباً، وَرُفِعَ قَبْرَهُ عَنِ الأَرْضِ قَدْرَ شِبْر" (¬5). وعن القاسم بن محمد قال: "دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَقُلتُ يَا أُماه اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلاثَةِ قُبُورِ لاَ مُشْرِفَةٍ ولا لاَطِئَةٍ مَبْطُوحَةٍ ببَطحَاءِ العَرْصَةِ الحَمْرَاءِ" (¬6). وإنما يرفع نَعْشُ القبر ليعرف فيزاد ويحترم واستنثى في "التَّتِمَّة" ما إذا مات مسلم في بلاد الكفر. قال: لا يرفع قبره ويخفى كيلا ¬
يتعرّض له الكُفّار إذا خرج المسلمون منها، ويكره تَخْصِيص القبر والكتابة والبناء عليه (¬1)، لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَخْصِيصِ الْقَبْرِ وإنْ يُبنَى عَلَيْهِ وإنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ وأنْ يُوْطَأَ" (¬2). ولو بني عليه هُدِمَ كانت المقبرة مُسْبلَة، وإن كان القبر في مِلْكه فلا. وأما قوله: "فلا يطيّن" فليس له ذكر في أكثر كتب الأصحاب، وإنما ذكره المصنف وإمام الحرمين كأنهما ألحقا التَّطْيين بالتَّجْصِيص، لكن لا يبعد الفرق بينهما، فإن التَّجصيص زينة دون التَّطيين أو الزِّينة في التَّجصيص أكثر، وذلك لا يناسب حال الميت، وقد روي أبو عيسى التّرمذي في "جامعة" عن الشافعي -رضي الله عنه- أنَّه لا بأس بالتَّطيين، وروى مثله عن أحمد، ذلك أن تعلم قوله: "ولا يطين" بالواو والألف، ويستحب أن يرش الماء على القبر ويوضع عليه الحصى، روي ذلك "عَنْ فِعْلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِقَبْرِ ابنِهِ إِبْرَاهِيمَ" (¬3). "وَرَشَّ بِلاَلٌ -رَضِيَ الله عَنْهُ- عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-" (¬4). ويستحب أن يوضع عند رأسه صَخْرَة أو خَشَبَة ونحوها. "وَضَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- صَخْرَةَ عَلَى رَأْسِ قَبْرِ عُثْمَانُ بْنِ مَظْعُونٍ، وَقَالَ: أُعَلِّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي، وأَدْفِنُ إِلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي" (¬5). وقوله في الكتاب: "ولا بأس بالحصى، ووضع الحجر" لا يقتضي إلا نفي الحُرْمة والكراهة وهما مع ذلك مستحبَّان نص عليه الأئمة كما بيناه فاعرف ذلك، ثم الأفضل في شَكْلِ القبر التَّسْطِيح أو التَّسِنْيم، ظاهر المذهب أن التسطيح أفضل. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد -رحمهم الله-: التَّسْنِيم أفضل. لنا أَنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- "سَطَّحَ قَبْرَ ابْنِهِ إِبْرَاهِيم" (¬6). "وَعِنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: رَأَيْتُ قَبْرَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وأبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رَضِيَ ¬
اللهُ عَنْهُمَا- مُسَطّحَةً" (¬1). وقال ابن أبي هريرة: إن الأفضل الآن العُدول من التَّسْطِيح إلى التَّسْنِيم؛ لِأَنَّ التَّسْطِيح صار شعاراً للروافض، فالأولى مخالفتهم، وصيانة الميت وأهله عن الاتِّهام بالبدعة، ومثله ما حكي عنه أن الجَهْر بالتَّسمية إذا صار في موضع شعاراً لهم فالمستحبّ الإسرار بها مخالفة لهم، واحتج له بما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ يَقُومُ إِذَا بَدَتْ جَنَازَة فَأُخْبِرَ أَنَّ الْيَهُودَ تَفْعَلُ ذلِكَ فَتَرَكَ الْقِيَامِ بَعْدَ ذلِكَ مُخَالَفَةَ لَهُمْ" (¬2). وهذا الوجه هو الذي أجاب به في الكتاب، ومال إليه الشيخ أبو محمد -رحمه الله- وتابعه القاضي الروياني. لكن الجمهور على أن المذهب الأول. قالوا: ولو تركنا ما ثبت في السُّنة لإطباق بعض المبتدعة عليه لجرَّنا ذلك إلى تَرْكِ سُنَنِ كثيرة وإذا اطَّرد جرينا على الشيء خرج عن أن يعد شعاراً للمبتدعة. قال الغزالي: ثُمَّ الأَفْضَلُ لِمُشَيِّعِ الجَنَازَةِ أَنْ يَمْكُثَ إِلَى مُوَارَاةِ المَيِّتِ. قال الرافعي: عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَن صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ وَرَجَعَ فَلَهُ قِيْرَاطٌ، وَمَن صَلَّى عَلَيْهِا وَلَمْ يَرجِعْ حَتَّى دُفِنَ فَلَهُ قِيْرَاطَانِ أَصْغَرُهُمَا -وَرُوِيَ أحَدُهُمَا- مِثْلُ أُحُدٍ" (¬3). قال الأَصْحَاب: وللانصراف من الجَنَازَةِ أربع درجات: إحداها: أن ينصرف عُقَيْبَ الصَّلاة فله من الأجر قيراط. والثانية: أنْ يتبعها حتى تُوَارى ويرجع قبل إِهَالة التُّراب. والثالثة: أنْ يقف إلى الفَرَاغ من القبر، وينصرف من غير دُعَاء. والرابعة: أن يقف على القبر، ويستغفر الله تعالى جدُّه للميت، وهذه أقصى الدَّرَجات في الفضيلة، روي أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ إذَا فَرَغَ منْ قَبْرِ الرَّجُل وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَال: اسْتَغْفِرُوا اَللهَ لَهُ، وَاسْأَلُوا اللهَ تَعَالَى لَهُ التَّثبِيتَ فَإِنَّهُ الأَنَ يُسْأَلُ" (¬4). وحيازة القِيْرَاطِ الثَّاني تحصل لصاحب الدَّرَجة الثَّالثة، وهل تحصل لصاحب الثانية؟ حكى الإمام فيه ¬
تردُّداً، واختار الحصول (¬1). إذا وقفت على ما ذكرنا عرفت أنه ليس الغرض من قوله في الكتاب: "ثم الأَفْضَلُ لمشيع الجنازة ... " إلخ أنه الأفضل على الإطلاق بل فوقه ما هو أفضل منه، وإنما المراد أنه أفضل من الانْصِرَاف عُقَيْبَ الصلاة. ويستحب أن يلقن الميت بعد الدفن، فيقال: يا عبد الله ابن أَمَةِ الله اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن البعث حق، وأن السَّاعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنك رضيت بالله ربًّا، وبالإسْلاَم ديناً، وبمحمد نبيًّا، وبالقرآن إماماً، وبالكعبةِ قِبْلَةً، وبالمؤمنين إخواناً، ورد الخبرَ به عن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- (¬2). قال الغزالي: فَرْعَانِ، الأَوَّلُ: لاَ يُدْفَنُ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ مَيِّتَان إلاَّ لِحَاجَة، ثُمَّ يُقَدَّمُ الأَفْضَلُ إلَى جِدَارِ اللَّحْدِ، وَلاَ يُجْمَعُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إلاَّ لِشِدَّةِ الحَاجَةِ، ثُمَّ يُجْعَلُ بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ مِنَ التُّرَابِ. قال الرافعي: المستحبُّ في حال الاختيار أن يدفن كل ميت في قبر، كذلك فعل النّبي -صلى الله عليه وسلم- وأمر به، فإن أكثر الموتى بقتل وغيره، وعسر إفراد كل ميت بقبر دفن الاثْنَان والثَّلاثة في قبر واحد (¬3)، لما روي "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِلأَنْصَارِ يَوْمَ أُحُدٍ احْفُرُوا وَأَوْسِعُوا ¬
وَعَمِّقُوا، وَاجْعَلُوا الاِثْنَيْنِ وَالثَّلاثَةِ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ، وَقَدِّمُوا أكْثَرَهُمْ قُرْآناً" (¬1). وليقدم الأفضل إلى جدار اللَّحد مما يَلِي الِقْبلة، ويقدم الأب على الابن، وإن كان الابن أَفْضَل لحرمة الأبوَّة، وكذلك تقدم الأمّ على البنت، ولا يجمع بين الرِّجال والنِّساء، إلا عند شدة الحاجة، وانْتِهَائِهَا إلى الضَّرُورَةِ، ويجعل بينهما حاجز من التراب، ويقدم الرَّجل وإن كان ابْناً، والمرأة أمه، فإن اجتمع رجل وامرأة وخُنْثَى وصبي قدم الرجل ثم الصبي ثم الخنثى ثم المرأة، والسابق إلى الفهم من لفظ الكتاب وإشارة جمع من الأصحاب أنه لا حاجة إلى الحاجز بين الرجلين وبين المرأتين، وإنما الحَاجِزُ عند اختلاف النوع، وذكر العراقيون أنه يجعل بين الرجلين حاجز أيضاً، وكذا بين المرأتين والله أعلم. قال الغزالي: الثَّاني: القبْرُ يُحْتَرَمُ فَيُصَانُ عَنِ الجُلُوسِ وَالمَشْيِ وَالاْتِّكَاءِ عَلَيْهِ، بَلْ يَقْرُبُ الإِنْسَانُ مِنْهُ كَمَا يَقْرُب مِنْهُ فِي زِيَارَتهِ لَوْ كَانَ حَيَّا، وَلاَ يُنْبَشُ القَبْرُ إِلاَّ إِذَا انْمَحَقَ أَثَرِّ المَيِّتِ بِطُولِ الزَّمَانِ، أَوْ دُفِنَ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ، أَوْ فِي أَرْض مَغْصُوبَةٍ، أوْ فِي كَفَنٍ مَغْصُوبٍ (و)، وَلَوْ دُفِنَ قَبْلَ التَّكْفِينِ لَمْ يُنْبَشْ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ، وَاكْتُفِيَ بالتُّرَابِ سَاتِرَاً، وَلاَ يُصَلَّى عَلَى جَنَازَة مَرَّتَيْنِ إِلاَّ أَنْ يَحْضُرَ الوَلِيُّ وَقَدْ صَلَّي عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَيُصَلَّى، وَلاَ يُكْرَهُ الدَّفْنُ لَيْلاً، فَإِنْ دُفِنَت ذِمِّيَّةٌ حَامِل بِمُسْلِم دُفِنَتْ بَيْنَ مَقَابِرِ المُسْلِمِينَ والكُفَّارِ، وَقِيلَ: يُجْعَلُ ظَهْرُهَا إِلَى المَقْبَرَةِ، فَإِنْ ابْتَلَعَ جَوْهَرَةً لِغيْرِهِ وَمَاتَ شُقَّ جَوْفُهُ عَلَى الأَصَحِّ، وِإنْ كَانَتْ لَهُ فَوَجْهَانِ أَيْضاً. قال الرافعي: أصل الفرع أن القبر محترم توقيراً للميت، ويبنى عليه مسائل: إحداها: أنه يكره الجلوس عليه والاتِّكَاء وكذلك وطؤه إلا لحاجة، بأنْ لا يصل إلى قبر ميته إلا بوطْئِهِ. وعن مالك: أنه لا يُكْرَهُ شيء من ذلك. لنا ما روي أنَّ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لِأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتَحْرِقُ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ" (¬2). الثانية: يستحب زيارة القُبُور للرِّجال؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ" (¬3). وَأَمَّا النِّسَاء فهل يكره لهن الزيارة؟ فيه وجهان: ¬
أحدهما: ولم يذكر الأكثرون سواه نعم لقلّة صبرهن وكثرة جَزَعهن. وقد روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ" (¬1). والثاني: لا. قال الرُّوياني في "البحر": وهذا أصح عندي إذا أَمِنَ الافْتِتَان. والسُّنَّة أن يقول الزَّائر: سلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله عن قريب بكم لاحقون، اللَّهم لا تحرمنا أَجْرَهُم، ولا تَفْتِنَّا بعدهم (¬2). وينبغي أَنْ يَدنو الزَّائر مِنَ القَبْرِ المَزُور بقدر ما يدنو من صاحبه لو كان حيًّا وزاره، وسئل القَاضِي أبِي الطَّيب عن ختم القُرْآن في المَقَابِر، فقال: الثَّواب للقارئ ويكون الميِّت كالحَاضِرِين يرجى له الرحمة والبركة فيستحبُّ قراءة القرآن في المَقَابر لهذا المعنى، وأيضاً فالدُّعَاء عقيب القراءة أقرب إلى الإجابة والدعاء ينف الميت. الثالثة: لا يجوز نَبْش القبر إلا في مواضع: منها: أن يبلى الميت ويصير تراباً، فيجوز نبشه ودفن غيره فيه، ويرجع في ذلك إلى أهل الخِبْرة، ويختلف باختلاف أهوية البلاد وأرضها، وإذا بَلِيَ الميت لم يجز عمارة القبر وتسوية التُّراب عليه في المقابر المُسْبَلة، لئلا يتصور بصور القبور الجديد فيدفن فيه من شاء ميته. ومنها: أن يدفن إلى غير القِبْلَة وقد سبق. ومنها: أن يدفن من يجب غسله من غير غسل، فظاهر المَذْهَب وهو المذكور في الكِتَاب أنه يجب النَّبش، تداركاً لواجب الغسل، وعن صاحب "التقريب" حكاية قول: أنه لاَ يجب ذلك بل يكره لما فيه من هَتْك الميت، وعلى الأول متى يخرج للغسل؟ فيه وجهان مذكوران في "العدة": أظهرهما: وهو المذكور في "النهاية" و"التهذيب" ما لم يتغير الميِّت. والثاني: ما دام يبقى جزء منه من عَظْم وغيره. وعند أبي حنيفة ولو أهيل عليه التراب لم ينبش إلا نبش للغسل، فلذلك أعلم قوله: "أو دفن من غير غسل" بالحاء مع الواو. ومنها: لو دفن في أرض مَغْصُوبة فالأولى لصاحبها أن يتركه، فإن أبى وطلب ¬
إخراجه كان له ذلك، قال في "النهاية": وأشار الأئمة إلى أنه يخرج وإن تغير وكان في إِخْرَاجه هتك حرمته؛ لأن حرمة الحَيِّ أَوْلَى بالمُرَاعَاة، وَبجُوزُ أن يظن ظَانّ تركه فإنه سيبلى عن قريب، وقد تنزل حرمة الميت منزلة الحي فيما هذا سبيله. ومنها: لو كفن في ثوب مغصوب أو مسروق ودفن فهل ينبش؟ أورد فيه ثلاثة أوجه: أظهرها: وهو المذكور في الكتاب نعم، كما ينبش لرد الأرض المَغْصوبة. والثاني: -وهو الذي ذكره صاحب "الشَّامل"- لا يجوز نبشه؛ لأنه مشرف على الهلاك بالتَّكفين بخلاف الأرض فيعطى حق الهالك، وينقل حكم المالك إلى القيمة، ولأن هتك الحُرْمَة في نزع الكَفَنِ أكثر. والثَّالث: أن تغير الميت وكان في النَّبش ورد الثّوب هتكه لم ينبش، وإلاَّ نبش ورد. ومنها: لو دفن في ثوب حرير هل ينبش؟ فيه هذا الخلاف. ولو دفن من غير كَفَنٍ فهل ينبش ليكفن؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما لو دفن من غير غسل، فإن كل واحد منهما واجب. وأظهرهما: لا؛ فإن المقصود من التَّكفين ستره واحترامه، وقد ستره التّراب فالاكتفاء به أولى من هتك حرمته بالنبش. ومنها: لو وقع في القَبْر خاتم أو متاع آخر ينبش ويرد. ولو ابتلع في حياته مالاً ثم مات، وطلب صاحبه الرد شقّ جوفه ورد. قال في "العدة": إلا أن يضمن الوَرَثَةُ مثله أو قيمته فلا يخرج ولا يُرَدُّ في أَصَحِّ الوجهين. وفيه وجه آخر وهو اخْتِيَار القَاضِي أبي الطَّيب: أنه لا يخرج أصلاً، ويجب الغرم من تركته على الورثة. ولو ابتلع شيئاً من مال نفسه، ومات فهل يخرج؟ فيه وجهان؛ لأنه كالمُسْتهلك لمال نفسه بالابتلاع. قال أبو العباس الجرجاني في "الشافي": والأصح الإخراج أيضاً. إذا عرفت ذلك فحيث يشقّ جوفه ويخرج فلو دفن قبل الشَّقِّ ينبش لذلك أيضاً. وإذ، تأملت ما ذكرناه عرفت أن قوله: "لا ينبش القبر إلا إذا انمحق ... " إلى آخره، وإن كان ظاهره يقتضي حصر الاسْتِثْنَاء في الصُّورَةِ المذكورة لكنه ليس كذلك. فرع: لو مات إِنْسَان في السَّفينة فإن كان أهلها بقرب السَّاحل، أو بقرب جزيرة انتظروا به ليدفنوه في البر وإلا شدوه بين لوحين لئلا ينتفخ وألقوه في البحر، ليلقيه البحر بالسّاحل فلعله يقع إلى قوم يدفنونه، فإن كان أهل الساحل كفاراً ثقل بشيء ليرسب (¬1). ¬
القول في التعزية والبكاء على الميت
القَوْلُ فِي التَّعْزِيَةِ وَالبُكَاءِ عَلَى المَيِّتِ قال الغزالي: (التَّعْزِيَةُ) سُنَّةٌ اِلى ثَلاَثةِ أَيَّامٍ، وَهُوَ الحَمْلُ عَلَى الصَّبْرِ بِوَعْدِ الأَجْرِ وَالدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ وَلِلْمُصَابِ، وَيُعَزَّى المُسْلِمُ بِقَرِيبِهِ الكَافِرِ وَالدُّعَاءِ لِلْحَيِّ، وُيعَزَّى الكَافِرُ بِقَرِيبِهِ المُسْلِمِ وَالدُّعَاءِ لِلمَيِّتِ، وَيُسْتَحَبُّ تَهْيئَةُ طَعَامٍ لِأَهْلِ المَيِّتِ، وَالبُكاءُ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ نَدْبٍ وَلاَ نِيَاحَةٍ وَمِنْ غَيْرِ جَزَعٍ وَضَرْبِ خَدٍّ وَشَقِّ ثَوْبٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ، وَلا يُعَذَّبُ المَيِّتُ بِنِيَاحَةِ أَهْلِهِ إلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهِ، فَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى
قال الرافعي: في الفصل ثلاث مسائل: إحداهها: التَّعزية سُنة، روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن عَزَّى مُصَاباً فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ" (¬1). وينبغي أن يُعَزَّى جميع أهل الميت الكَبير والصغير والرجل والمرأة، نعم الشَّابة لا يُعَزِّيها إلا محارمها، ويكره الجُلُوس لها، ولا فرق فيها بين ما قبل الصَّلاة وبعدها وما قبل الدفن وبعده، فيما يرجع إلى أصل الشريعة، لكن تأخيرها إلى ما بعد الدَّفن حسن لاشتغال أهل الميت قبله بتجهيزه، ولاشتداد حُزْنهم حينئذ بسبب المفارقة. وعن أبي حنيفة: أن التَّعزية قبل الدفن، فأما بعده فلا، إلى متى تشرع التَّعزية؟ فيه وجهان: أظهرهما: -وهو المَذْكُور في الكتاب- إلى ثلاثة أيام فلا يعزيه بعد ذلك إلا أن يكون المعَزّي أو المعزى غائباً، وهذا لأن الغرض من التَّعزية تَسْكِينُ قلب المصاب، والغالب سُكُون قَلْبِهِ في هذه المّدة فلا يجدد عليه الحُزن. قال الشيخ أبو محمد فيما علق عنه: وهذه المدة على التَّقْرِيب دون التَّحْديد. والثاني: حكاه في "النهاية" مع الأول أنه لا أمد تقطع عندها التَّعزية، فإن الغَرض الأعظم منها الدّعاء. ومعنى التَّعزية الأمر بالصبر، والحمل عليه بوعد الأجر والتَّحْذير عن الوزر بالجزع، والدعاء للميت بالمغفرة، والمُصَاب يجبر المصيبة، فيقول في تعزية المسلم بالمسلم: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاك، وغفر لميتك، وفي تَعْزية المُسْلم بالكافر: أعظم الله أجرك، وأخلف عليك أو جَبَرَ الله مصيبتك، وألهمك الصَّبر وما أشبه ذلك. وفي تعزية الكافر بالمسلم: غفر الله لميّتك وأحسن عزاك. ويجوز للمسلم أن يعزي الذّمي بقريبة الذّمي، فيقول: أخلف الله عليك، ولا نقص في عددك وهذا لتكثر الجزية لِلْمُسْلِمِينَ. الثَّانية: يستحبُّ لجيران المَيِّت والأبعدين من قرابته تهيئة طعام لِأَهْلِ المَيِّت، يشبعهم في يَوْمِهِمْ وليلتهم، فإنَّهم لا يفرغون له، ولو اشْتَغَلُوا به لعيروا. روي "أنَّهُ لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- اجْعَلُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَاماً، فَقَدْ جَاءَهُمْ أَمْرٌ يُشْغِلُهُمْ" (¬2). ويستحب إلحاحهم على الأكل ولو اجتمع نساء يَنُحن لم يجز لهنَّ طعام، فإنه إعانة على المعصية. الثالثة: البكاء على الميِّت جائز قبل زُهُوق الرُّوح وبعده وقبل الزُّهُوق أَوْلَى رُوِيَ ¬
أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "فَإذَا وَجَبَ فَلاَ تَبْكِيَنَّ بَاكيَةٌ" (¬1) وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ابْنَهُ إِبْرَاهِيمَ فِي حِجْره، وَهُوَ يَجُودُ بنَفْسِهِ فَذَرَفَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقِيْل لَهُ في ذلِكَ فَقَال: إِنَّهَا رَحْمَةٌ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ، ثُمَّ قَالَ العَيْنُ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبُ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يُرْضِي رَبَّنَا" (¬2). والندب حرام، وهو أن يعدّ شَمَائل الميت، فيقال وَاكَهْفَاهُ وَجَبَلاَهُ ونحو ذلك، وكذا النِّيَاحة والجزع بضرب الخَدِّ وشق الثوب ونشر الشَّعر كُلُّ ذَلِكَ حرام، لما روي أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَعَنَ اللهُ النَّائِحَةَ والمُسْتَمِعَةَ" (¬3). وروي أنه قال: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ" (¬4). ولو فعل أهل الميت شيئاً من ذلك لم يعذّب الميت به، قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬5). وما روي من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ" (¬6). وفي رواية: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَاباً عَلَى عَذَابِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". فقد أوّلوه من وجوه: منها: قال المزني: بلغني أنهم كانوا يوصون بالنَّدب (¬7) والنياحة، وذلك حمل منهم على المَعْصية، وهو ذنب فزيدوا عذاباً بذلك إذا عمل أهلهم بوصيتهم، ولك أَنْ تَقُولُ: ذنب الميّت الحمل على الحرام والأمر به فوجب أَنْ لا يختلف عذابه بالامْتِثَال ¬
باب تارك الصلاة
وعدمه، فإن كان لامتثالهم أثر فَالإِشْكَالُ بحاله. ومنها: قال بعضهم: المراد منه أن يُقَالَ للميت إذا ندبوه أكنت كَمَا يقولونه، ولك أَنْ تقول: لا شك أن هذا السلام توبيخ له، وتخويف وهو ضرب من التَّعذيب، فليس في هذا السلام سوى بيان نوع التَّعذيب فلم يعذب بما يفعلون. ومنها: أن قوله "ببكاء أهله" أي: عند بكاء أهله، وإنما يعذب بذنبه. قال القَاضي الحُسين: يجوز أن يكون الله تعالى قدر العفو عنه إن لم يبكوا عكليه وانقادوا لقضائه، فإذا جزعوا عوقب بذنبه، وقد روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "رَحِمَ اللهُ عُمَرَ، ولله مَا كَذَبَ، وَلَكِنَّهُ أَخْطَأ، أَوْ نَسِيَ إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى يَهُودِيَّةٍ وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهَا، فَقَالَ إِنَّهُمْ يَبْكُونَ، وإنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا" (¬1). فهذه الرواية مجراة على ظاهرها، ومبينة أن المراد من قوله: "ببكاء أهله" ما سبق، وكأنه قال: هي معذبة، فما ينفعها بكاؤهم عليها والله أعلم. بَابُ تَارِك الصَّلاَةِ (¬2) قال الغزالي: مَنْ تركَ صَلاةً وَاحِدَةً عَمْداً وَامْتَنَعَ عَنْ قَضَائِهَا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُ الرَّفَاهِيَةِ وَالضَّرُورَةِ قُتِلَ (ح) بِالسَّيْفِ وَدُفِنَ كمَا يُدْفَنُ سَائِرُ المُسْلِمينَ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَلاَ يُطْمسُ قَبْرُهُ، وَقِيلَ: لاَ يُقْتَلُ إلاَّ إِذَا صَارَ التَّرْكُ عَادَةً لَهُ، وَقيلَ: إِذَا تَرَكَ ثَلاَثَ صَلَوَاتٍ، واللهُ أَعْلَمُ. قال الرافعي: أخر حجة الإسلام -رحمه الله- هذا الباب إلى هذا الموضع، وهو في ترتيب المُزَنِّي وجمهور الأصحاب مقدم على كتاب "الجَنَائز" ولعلّه أليق، ومقصود السلام في عقوبة تارك الصلاة، فنقول: تارك الصلاة ضربان: أحدهما: أن يتركها جاحداً لوجوبها، فهذا مرتدٌّ تجري عليه أحكام المرتدين، إلا أن يكون قريب عهد بالإِسْلام، ويجوز أن يخفى عليه ذلك، وهذا لا يَخْتَصُّ بِالصَّلاة، ¬
بل يجري في جحود كُلِّ حكم مجمع عليه (¬1). والثاني: أنْ يتركها غير جاحد، وهو ضربان: أحدهما: أن يترك بعذر من نوم أو نسيان فعليه القضاء لا غير، ووقت القضاء موسع. والثاني: أن يترك من غير عذر بل كَسَلاً أو تهاوناً بفعلها، فلا يحكم بكُفْرِه خلافاً لأحمد، وبه قال شِرْذَمة من أصحابنا، حكاه الحَنَّاطي وصاحب "المهذب" وغيرهما. لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئاً كَانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّة، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْد، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الجَنَّةَ" (¬2). ويشرع القتل في هذا القسم حدًّا، وبه قال مالك خلافاً لأبي حنيفة حيث قال في رواية: لا يتعرض لتارك الصلاة، فهي أمانة بينه وبين الله -تعالى- وحده والأمر فيها موكول إلى الله -تعالى-. وقال في رواية: إنه يحبس ويؤدب حتى يصلّي، وبه قال المزني. لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذَّمَةُ" (¬3)؛ ولأنها ركن من الخمسة لا يدخلها النِّيابة ببدن ولا مال، فيقتل تاركه كالشَّهادتين. إذا عرف ذلك نُفَرِّع عليه مسائل: إحداها: في عدد الصَّلاة المستحق بتركه القَتْل، وظاهر المَذْهَب اسْتِحْقَاق القَتْلِ بترك صلاة واحدة، فإذا تضيق وقتها طالبناه بفعلها، وقلنا له: إن أخرتها عن وقتها قتلناك، فإذا أخَّرها فقد اسْتَوْجَبَ القتل، ولا يعتبر بضيق وقت الثَّانية، وبهذا قال مالك. ¬
واحتج له بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَرَكَ صَلاَةً مُتَعَمِّداً فَقَدْ كَفَرَ" (¬1) أي: استوجب ما يستوجبه الكَافِر. وهذا قد تَرَكَ صلاة، وُيحْكَى عن أبي إسحاق أنه إنما يستوجب القَتْل إذا ضاق وقت الثَّانية وامتنع عن أدائها. وعن الإصْطَخُري أنه لا يقتل حتى يترك ثلاث صلوات ويضيق وقت الرابعة، ويمتنع من أدائها هذه هي الرواية المشهورة عنه. وفي "النهاية" روايتان أخريان عن الإصْطَخْرِي. إحداهما: أنه إنما يستوجب القَتْلَ إذا ترك أربع صلوات، ويمتنع عن القَضَاءِ. والثَّانِية: أنه لا تَخْصِيص بعدد، ولكن إِذَا ترك من الصَّلوات قدر ما يظهر لنا به اعتياده الترك وتهاونه بأمر الصلاة فحينئذ يقتل، وقد نقل صاحب "الإفصاح" هذا وجهاً لبعض الأصحاب، وإن لم ينص على قائله، والمذهب الأول والاعتبار بإخراج الصلاة عن وقت العذر والضرورة، فإذا ترك الظهر لم يقتل حتى تغرب الشّمس، وإذا ترك المغرب لم يقتل حتى يطلع الفجر، حكاه الصَّيدلاني وتابعه الأئمة عليه. الثانية: على اخْتِلاَف الوُجُوه لا بدَّ من الاسْتِتَابة قبل القتل، فإنه ليس بأشدِّ حالاً من المرتدّ والمرتد يستتاب، وهل تكفي الاستتابة في الحال أم يمهل ثلاثاً؟ فيه قولان كما سيأتي ذكرهما في استتابة المرتدِّ، واختار المزنيّ للشَّافعي -رضي الله عنه- أنه لا يمهل، وذكر في "العدة" أنه المذهب، والقولان في الوُجُوب أَوْ فِي الاسْتِحبَاب، حكى المعلق عن الشيخ أبي محمد فيه طريقين: أصحهما: أنهما في الاستحباب. الثالثة: الظاهر أنه يقتل صبراً بالسَّيف كالمرتد، وهو الذي ذكره في الكتاب. وعن صاحب "التلخيص": أنه ينخس فيه حديدة، ويقال: قم فصل، فإن قام ترك، وإلا زيد في النخس حتى يصلِّي أو يموت، لأن المقصود حمله على الصَّلاة، فإذا فعل فذاك، وإلا عُوقِبَ كما يعاقب الممتنع من سائر الحُقُوق ويقاتل. ويروى مثل هذا عَن ابْنِ سريج، ويروى عنه أنه يضرب بالخَشَبِ حتى يصلّي أو يموت. الرابعة: إذا قتل غسل وصلى عليه، ودفن في مقابر المسلمين، ولا يُطْمَس قبره كسائر أصحاب الكبائر إذا حدوا وقد حكينا من قبل عن صاحب "التلخيص": أنه لا يصلّى عليه ولا يغسل، وإذا دفن في مقابر المسلمين طمس قبره حتى ينسى ولا يذكر، وإن أَرَادَ الإمامُ المُعَاقَبَةَ عَلَى تَرك الصَّلاة فقال قَد صَلَّيْتُ في بيتي صدق. وإذا عرفت ما ذكرنا أعلمت قوله في الكتاب: "قتل" بالحاء والزاي. وقوله: "بالسيف" بالواو. وقوله: "كما يدفن سائر المسلمين" بالواو، وكذا قوله: "ويصلى عليه ولا يطمس ¬
قبره" ولك أن تعلم قوله: "كما يدفن" وقوله: "ويصلى عليه" بالألف، لما حكينا عن أحمد -رحمه الله- أنه يكفر بترك الصلاة. فرعان: أحدهما: قال حجة الإسلام في "الفَتَاوَى": لو امتنع عن صلاة الجُمعة من غير عذر، وقال: أصليها ظهراً لم يقتل؛ لأن الصوم لم يلحق بالصلاة في هذا الحكم، فالجمعة مع أن لها بدلاً وأعذارها أكثر أولى ألا تلحق (¬1). الثاني: حكى القاضي الرُّوياني في تارك الوُضُوءِ وجهين: أصحهما: أنه يقتل؛ لأن الامتناع منه امتناع من الصلاة والله أعلم. ¬
كتاب الزكاة، وفيه ستة أنواع
كِتَابُ الزَّكَاةِ، وفِيهِ سِتَّةُ أنْوَاعٍ قال الغزالي: الأَوَّلُ: زَكَاةُ النَّعَمِ، والنَّظَرُ فِي وُجُوبِهَا وَأَدَائِهَا، أَمَّا الوُجُوبُ فَلَهُ ثَلاثَةُ أَرْكَان: (الأَوَّلُ) قَدْرُ الوَاجِبِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ (الثَّانِي) مَا يَجِبُ فِيهِ وَهُوَ المَالُ وَلَهُ سِتَّةُ شَرَائِطَ: أَنْ يَكُونَ نَعَماً نِصَاباً مَمْلُوكاً مُتَهَيِّئاً لِكَمَالِ التَّصَرفِ سَائِمَةً بَاقِيَةً خَوَلاً، الشَّرْطُ الأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ نَعَمَاً، فَلاَ زَكَاةَ إلاَّ فِي الاِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَم، وَلاَ تَجِبُ فِي غَيْرِهَا وَلاَ فِي الخَيْلِ (ح) وَلاَ فِي المُتَوَلِّدِ بَيْنَ الظِّبَاءِ وَالغَنَمِ وَإنْ كَانَتِ الأُمَّهَاتُ (ح) مِنَ الغَنَمِ. قال الرافعي: قال الله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬1) وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} (¬2). وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَانِعُ الزَّكَاةِ فِي النَّارِ" (¬3). الزكاة أحد أركان الإسلام، فمن منعها جاحداً كفر إلاَّ أن يكون حديث عهد بِالإِسْلاَم، لا يعرف وجوبها، فيعرف ومن منعها وهو معتقد لوجوبها أخذت منه قهراً، فإن لم يكن في قَبْضَة الإمام وامتنع القوم قاتلهم الإمام على منعها، كما فعل الصِّدِّيق -رضي الله عنه-. قال الأصحاب: الزَّكاة نوعان: زكاة الأبدان وهي الفطرة ولا تعلّق لها بمال، إنما يراعى فيها إمكان الأداء. وزكاة الأموال: وهي ضربان: زكاة تتعلق بالقيمة والمالية، وهي زكاة التِّجارة وزكاة تتعلّق بالعين. والأعيان التي تتعلّق بها الزَّكاة ثلاث حيوان وجوهر ونبات. وتختص من الحيوان بالنَّعَم (¬4) ومن الجواهر بالنَّقْدَين ومن النَّبات بما يُقْتَات على ما سنفصل فيه، وصاحب الكتاب ترك التَّرْتِيب والتَّقسيم، واقتصر على ¬
المَقَاصد، فقال: (الزكاة ستة أنواع، وهي زكاة النَّعَم والمُعشرات والنَّقْدَين والتِّجَارة والمَعَادن وزكاة الفطر) ثم تَكَلَّمَ في زكاة النَّعَمِ في طرفين: الوجوب، والأداء ولك أن تقول: كان الأَحْسن في التَّرتيب أن يقول أولَاً النظر في الزَّكاة في طرفين الوجوب، والأداء ونتكلم في الأنواع السِّتة في طرف الوجوب، ثم نعود إلى طَرَفِ الأَدَاء؛ لأن الكَلاَم في الأداء لا اخْتِصَاص له بزكاة النَّعَمِ، بل يعمّ سائر الأَنْوَاع، ثم جعل للوجوب ثَلاثةَ أرْكَانٍ: قدر الواجب، وما تجب فيه ومن تجب عليه ولك أن تقول: من تجب عليه زَكَاة النّعم، هو الذي تجب عليه زكاة المُعشرات وغيرها، فلا تفصيل فيه بين الأنواع، وإنما التَّفْصيل في الرُّكْنين الباقيين، فكان الأولى أن يقول: النظر في الزكاة في الوجوب، والأداء، وللوجوب أركان: أحدها: من تجب عليه ونفرغ منه ثم نذكر الرُّكْنين الآخرين، ويدرج فيهما تفصيل الأنواع وما يختلف فيه، ثم قدر الواجب من الأركان الثَّلاثة يتبين في خلال بيان النّصب فلذلك أحاله على ما بعده، وأما ما تجب فيه وهو المال فقد قال له ستة شروط: أحدها: كونه نعماً (¬1). والثاني: كونه نِصَاباً. والثالث: الحَوْل. والرابع: دوام المِلْك فيه مدة الحَوْل. والخامس: السَّوْم. والسادس: كمال المِلْك، وهاهنا كلامان: أحدهما: أن من هذه الشروط ما لا يختص بزكاة النَّعَم كالحَوْل وكمال الملك، وما يعتبر في هذا النوع وغيره لا يحسن تخصيص هذا النوع بذكره بل الأحسن إيراد يستوي نسبتها إليه. والثاني: أن قوله: ما تجب فيه، وهو المال لا شك أن المراد منه ما تجب فيه زكاة النَّعَم، فإن الكلام فيها ولا معنى لزكاة النَّعَمِ سوى الزكاة الواجبة في النَّعَم، فكأنه قال: شرط الزكاة الواجبة في النَّعم أن يكون الواجب فيه نعماً، وهذا رَكِيكٌ من الكلام، وإن لم يكن رَكيكاً فهو أوضع من أن يحتاج إلى ذكره. وفقه الفصل أنه لا تجب الزكاة في غير الإبل والبقر والغنم من الحيوانات كالخيل والرقيق إلاَّ أن يكون للتجارة. وقال أبو حنيفة -رحمه الله- إذا كانت الخَيْل ذكوراً وإناثاً أو إناثاً فصاحبها بالخِيَار ¬
إن شاء أعطى من كل فرس ديناراً وإن شاء قَوَّمَهَا وأعطى من كل مائتي درهم خَمْسة دَرَاهم، وإن كانت ذكورًا منفردة فلا شيء فيها. لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِم فِي عَبْدِهِ وَلاَ فَرَسِهِ صَدَقَةٌ" (¬1). ولا تجب الزكاة فيما يتولد من الظِّباء (¬2) والغَنَمِ سواء كَانت الغَنَم فُحولاً أو أمهات خلافاً لأحمد -رحمه الله- حيث قال: تجب في الحالتين، ولأبي حنيفة ومالك حيث قالا: تجب إن كانت الأمهات من الغنم. لنا أنه لم يتولّد من أصلين تجب الزَّكاة في جنسهما فلا تجب فيه الزَّكاة كما إذا كانت الفُحُول والأمهات ظِبَاء، وأيَّد الشّافعي -رضي الله عنه- المسألة بأن البغل لا يسهَّم له بِسَهْم الفَرَس، وإن كان أحد أصليه فرساً وموضع العلامة في الصورتين من لفظ الكتاب واضح، وإنما ذكرهما ليشير إلى الخلاف فيهما، وإلا ففي قوله: فلا زكاة إلا في الإبِل والبَقَرِ والغنم ما يفيد نفي الوجوب في الصُّورتين بل في قولنا: يشترط كونه نعماً ما يفيد نفي الوجوب في غير الإبل والبقر والغنم؛ لأن اسم النَّعَم لهذه الحيوانات الثلاثة عند العرب. ولذلك قال الله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}. ثم قال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} (¬3). ففصل الخيل عن الأنعام، وإنما صرح بقوله: فلا زكاة إلا في الإِبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ، وفيه إشارة إلى اخْتِصَاص اسم النَّعَم بالأنواع الثَّلاثة، وأما قوله بعد ذلك: ولا تجب في غيرها فلا فائدة فيه. قال الغزالي: الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ النَّعَمُ نِصَاباً (أَمَّا الإِبِلُ) فَفِي أَرْبَعِ وَعِشْرِينَ مِنَ الإبِلِ فَمَا دُونَهَا الغَنَمُ، فِي كُلِّ خَمْس شَاةٌ فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْساً وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْس وَثَلاَثينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى، فَإنْ لَمْ تَكُنْ فِي مَالِهِ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونِ ذَكَرٌ، فَإذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلاثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونِ، فَإِذَا بَلَغَت سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حَقّةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ، فَإذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُون، فَإذَا بَلَغَت إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا حِقَّتَانِ، فَإذَا صَارَتْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلاَثُ بَنَاتٍ لَبُونٍ، فَإذَا صَارَتْ مِائَةً وَثَلاَثينَ فَقَدِ اسْتَقَرَّ الحِسَابُ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ (ح)، كُلُّ ¬
ذَلِكَ لَفظُ أَبِي بَكْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي كِتَابِ الصَّدَقَةِ، وَبِنْتُ المَخَاضِ لَهَا سَنَةٌ، وَلبِنْتِ اللَّبُون سنَتَانِ، وَللْحِقَّةِ ثَلاَثٌ، وَللْجَذَعَةِ أَرْبعٌ، قال الرافعي: الأصل المرجوع إليه في نِصَاب الإبل ما روى الشَّافِعِي -رضي الله عنه- بإسناده عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: هَذِهِ الصَّدَقَةُ بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم هَذِهِ فَرِيْضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى المُسْلِمِيْنَ الَّتِيَ أَمَرَ اللهُ بِهَا رَسُولَهُ فَمَنْ سَأَلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا، وَمَنْ سَأَلَهَا فَوْقَ حَقِّهِ فَلاَ يُعْطِهِ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الإِبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنَ الغَنَمِ، وَذَكَرَ مِثْلَ مَا أَوْرَدَهُ فِي الكِتَاب لَفْظًا بِلَفْظٍ إلى قوله: فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ إلا أنه قال: في سِتٍّ وَأَرْبَعِيْنَ فَفِيها حَقَّةٌ طَرُوقَةٌ الجَمَل، وَفِي إِحْدَى وَتِسْعِينَ حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الجَمَلِ (¬1). قوله: هذه الصَّدقة ترجمة الكتاب وعنوانه، كما يقال: هذا مختصر كذا وكتاب كذا ثم افتتح الكتاب. وقوله: هذه فريضة الصَّدَقة أي: بيان الصَّدَقة التي أمر اللهُ بِهَا، وأجمل ذكرها بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} (¬2). وقوله: التي فرضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال الصيدلاني: يعني قدرها، وقال المَسْعُودي: يعني أوجبها وصاحب "الشَّامل" أوردهما معاً على سبيل الاحتِمَال. وقوله: "من سألها فوق حقه فلا يعطه" فيها وجهان لأصحابنا: منهم من قال: لا يعطه شيئاً. ومنهم من قال: لا يعطه الزِّيَادة، وهو الأصحّ باتِّفاق الشَّارحين. إذا تقرَّر ذلك فنقول: لا زكاة في الإبل (¬3) حتى تبلغ خَمْساً، فإذا بلغت خَمْساً ففيها شاةً، ولا يزيد بزيادتها شيء حتى تبلغ عشراً، فحينئذ ففيها شَاتَان، ولا يزياد بزيادتها شيء حتى تبلغ خمس عشرة، فحينئذ فيها ثَلاَثُ شياه ولا يزيد بزيادتها شيء حتى تبلغ عشرين فحينئذ فيها أربع شياه ثم لا يزيد شيء حتى تبلغ خَمْساً وعشرين فحينئذ فيها "بِنْت مَخَاض"، ثم لا شَيْءَ حَتى تَبْلُغ سِتًّا وثلاثين ففيها "بِنْتُ لَبُون" ثم لا شيء حتى تبلغ ستًّا وأربعين ففيها "حِقَّة"، ثم لا شيء حتى تَبْلُغ إحدى وستين، ففيها جَزَعَة، ثم لاشيء حتى تبلغ ستاً وسبعين ففيها "بِنْتًا لبون"، ثم لاشيء حتى تَبْلُغ إحدى وتسعين ففيها "حِقَّتَان"، ثم لا يزيد شيء بزيادتها حتى تجاوز مائة وعشرين، فإن ¬
زادت واحدة وجبت ثلاث "بَنَات لَبُون"، وإن زاد شقْصٌ من واحدة فهل هو كزيادة الوَاحِدَة حتى تجب ثلاث بنات لَبُون أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما وبه قال الإصطخري: نعم، لظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فَإِنْ زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ" (¬1)، وزيادتها على هذا المبلغ كما تحصل بواحدة تحصل بما دونها. وأصحهما: لا، ولا يجب إلا حِقَّتَان؛ لأن الزيادة مفسّرة بالواحدة، في رواية ابن عمر -رضي الله عنهما-؛ ولأن الزكاة مبنيّة على تغيير واجبها بالأَشْخَاص دون الأَشْقاص، وإذا زادت واحدة وأوجبنا ثلاث بنات لَبُون، فهل للواحدة قسط من الواجب أم لا؟ فيه وجهان: قال الاصطخري: لأنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ" (¬2) ولو قدرنا أنَّ لها قسط من الوَاجب، لكانت كلُّ بنت لَبُون في أربعين وثلث. وقال الأكثرون: نعم، لأن تغيُّر الواجب بالواحدة، فيتعلّق الواجب بها كالعَاشِرَة والخَامِسَة والعشرين وغيرهما، وما ذكر من الظَّاهِرِ يعارضه ما روى في بعض الروايات أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ عَلَى الْمَائَةِ وَالْعِشْرِينَ فَفِيهَا ثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ" (¬3). فعلى هذا لَوْ بَلَغَتْ الواحدة بعد الحَوْل وقبل التَمَكُّن، سقط من الواجب جزء من مائة واحدى وعشرين جزءاً، وعلى قول الإِصْطخري لا يسقط شيء؛ ثم الأمر يستقرُّ بعد بلوغ الإبل مائة وإحدى وعشرين، فيجب في كل أربعين بنت لَبُون، وفي كل خمسين حقة، وإنما يتغير الواجب بزيادة عشر عشر، وإذا وجب عدد من بنات اللَّبون، ثم زادت عشر فصيرت ثلاثين أربعين، أبدلت بنت لبون بحقة، فإن زادت عشرة أخرى أبدلت بأخرى وهكذا، حتى يصير الكل حقَاقاً، فإذا زادت عشر عشر بعد ذلك أبدلت الحَقاق كلها ببنات اللَّبون، وزيدت واحدة. مثاله: في مائة واحدى وعشرين ثلاث بَنَات لَبُون، كما عرفت فإذا صارت مائة وثلاثين ففيها بِنْتا لَبُون وحِقَّة، فإذا صارت مائة وأربعين ففيها بنت لَبُون وحقَّتَان، فإذا صارت مائة وخمسين ففيها ثلاث حقَاق، فإذا صارت مائة وستّين ففيها أربع بنات لَبُون، ثم في مائة وسَبْعِين ثلاث بنات لَبُون وحقة، وفي مائة وثمانين بنتا لَبُون وحقَّتان، وعلى هذا القِيَاس هذا مذهبنا، والحُجَّة عليه الخبر الذي تقدَّم، وساعدنا أبو حنيفة ومالك وأحمد -رحمهم الله- على ما ذكرنا إلى مائة وعشرين، ففيها حَقَّتان بالاتفاق، ثم عند أبي حنيفة يستأنف الحساب، ففي كل خمس تزيد شاة مع الحِقَّتَيْن فإذا بلغت مائة ¬
وخمساً وأربعين، ففيها بنت مَخَاض مع الحِقَّتين، فإذا بلغت مائة وخمسين ففيها ثلاث حِقَاق، ثم يستأنف الحساب فيجب في كل خمس تزيد شاة مع الحقاق الثّلاث، إلى أن تبلغ مائة وخمساً وسبعين، فحينئذ فيها بنت مَخَاض وثلاث حقَاق، وفي مائة وست وثمانين بنت لَبون وثلاث حقاق، وفي مائة وست وتسعين أربع حِقَاق، وربما قيل وفي مائتين أربع حِقاق؛ لأن الأربع عفو لا يختلف الوَاجِبُ بوجودها وعدمها، ثم بعد المائتين يستأنف الحِساب، وعلى رأس كل خمسين يجعل أربع عفواً على ما ذكرنا، وعند مالك إِذَا زَاد على عشرين ومائة أقل من عشر لم يتغير الواجب، فإذا بلغت مائة وثلاثين فحينئذ فيها بنتا لَبُون وحِقَّة، وقد استقر الحساب في كل أربعين بنت لَبُون، وفي كل خمسين حِقَّة وعنه رواية أخرى مثل مذهبنا، ورواية ثالثة أنه إذا زادت واحدة على المائة والعشرين تغيَّر الفرض، وتخيَّر السَّاعي بين الحِقَّتَيْن وبين ثلاث بنات لَبون. وعن أحمد روايتان كالروايتين الأوليين عن مالك، والأصح عنه مثل مذهبنا. إذا عرفت هذه المذاهب رقّمت قوله في الكتاب: "فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، بالحاء والميم والألف وقد أعلم بالواو أيضاً؛ لأن إمام الحرمين قال: حكى العراقيون أن ابْن خَيْرَان من شيوخنا كان يخيّر وراء المائة والعشرين بين مذهب الشّافعي -رضي الله عنه- ومذهب أبي حنيفة -رحمه الله-، فجعل ذلك وجهاً، لكن لم أَجِدْ في الكتب المَشْهُورَة للعراقيين، وتعليقاتهم، نسبة هذا المذهب إلى ابْنِ خيران، وإنما حكوه عن ابْنِ جرير الطَّبَرِي، وربما وقع تغيير في بعض النّسخ، لتقارب الاسمين، وتفرد ابْنُ جَرِير لا يعد وجهاً في المذهب، وإن كان معدوداً من طبقة أصحاب الشافعي -رضي الله عنه-، ثم في الفَصْلِ أمور لا بد من معرفتها: أحدها: أن قوله: في الكتاب فإن لم يكن في ماله بنت مَخَاض فابن لَبُون ذكر إنما ذكره جرياً على لفظ الخبر ونظامه، وأما فقهه وتعريفه فهو مذكور من بعد، ولماذا قيد ابن اللَّبون بالذَّكر وبنت المَخَاض قبل ذلك بالأنثى؟ ذكروا فيه قولين: أصحهما: أنه وقع تأكيداً في الكلام كما يقال: رأيت بعيني وسمعت بأذني، وكما قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما أبقت الفرائض فَلأَوْلى رجل ذكر". والثَّاني: أن الغَرَض منه أن لا يؤخذ الخُنْثَى فإن في خلقته تشويهاً وعيباً، والصَّحيح أجزاء الخُنْثَى على ما سيأتي، ثم في لفظ الابْنِ والبنت ما يغني عنه. الثَّاني: أنك ربما تجد في بعض النُّسَخِ عند قوله: فإذا زادت على عِشْرين ومائة، ففي كُلِّ أربعين بنت لَبُون، وفي كل خمسين حِقَّة زيادة، وهي فإذا زادت على عشرين ومائة واحدة ففيها ثلاث بنات لَبُون، ثم في كل أربعين بنت لَبُون، وهذه الزيادة صحيحة ولكن الكلام مستقيم دونها، والظاهر أنها مُلْحقة غير مذكورة من جهة المصنف لأمرين.
أحدهما: أنه لم يذكرها في "الوسيط". والثاني: أنه قال: آخراً كل ذلك لفظ أبي بَكْرٍ -رَضِيَ الله عنه- في كتاب "الصَّدَقَة" وليس فيما نقل من لفظ أبي بكر -رضي الله عنه- الزَّيَادة، وإنَّمَا نسبه إلى أبي بكر؛ لأنه -رضي الله عنه- هو الَّذي كتب لأنس بن مالك -رضي الله عنه- كتاب "الصَّدقة" لمَّا وجهه إلى البحرين (¬1). والثالث: بيان الأَسْنان التي جرى ذكرها في الفصل. اعلم أن النَّاقة أوَّل ما ولدت، يسمى وَلَدُهَا الذَّكر رَبْعاً، والأنثى رَبْعَة، ثم يقال له: هيعاو هيعة (¬2) ثم فَصِيلٌ إلى تَمام سنة، فإذا تمت له السَّنة، وطعن في الثانية سعى ابْن مَخَاض إن كان ذكراً، وبنت مَخَاض إن كانت أنثى وذلك لأن الناقة بعد تمام سنة من ولادتها تحيل مرة أخرى، فتصير من المَخَاض وهي الحَوَامل، فيكون الولد ولد ناقة هي المَخَاض، وتسمى بذلك وإن لم تحبل بعد نظر إلى الوقت ثم إذا تمَّت للولد سنتان، وطعن في الثالثة سمى الذكر ابن لبون، والأنثى بنت لَبُون، لأن الأم قد ولدت وصارت لَبوناً، ثم إذا استوفى الولد ثلاث سنين وطعن في الرَّابعة سمى الولد حقّاً، والأنثى حقَّة، ولمَ سمى بذلك؟ اختلفوا فيه منهم من قال: لاستحقاقه الحَمْل عليه وركوبه، ومنهم من قال: لأن الذَّكر استحق أن يَنْزُوَ والأنثى استحقت أن يُنْزَى عليها، وَبِحَسب هذين القولين اختلفوا في قوله: طَرُوقَةُ الجَمَل، على ما سبق في الخبر، فمن قال بالأول قرأ: طَرُوقَةُ الجمل -بالحاء- أي استحقت الحمل عليه، ومن قال بالثَّاني قرأ طَرُوقَة الجمل بالجيم، لأنها استحقَّت أن يطرقها الجَمل، ذكر ذلك كله المَسْعُودي والمشهور الصَّحيح هو الجمل، ويدل عليه ما روي في بعض الروايات طروقة الفَحْل، ثم إذا استوفى الولد أربع سنين، وطعن في الخَامسة سمى الذَّكر جَزَعًا والأنثى جَذَعَة، لأنه يجذع مَقْدم أَسْنانه أي يسقطه وهذه غاية أَسْنَان الزكاة. قال الغزالي: (وَأَمَّا البَقَرُ) فَفِي ثَلاِثينَ مِنْهُ تَبِيعُ وَهُوَ الَّذِي لَهُ سَنَةٌ، وَفِي أَرْبَعِينَ ¬
مُسِنَّةٌ وَهِيَ الَّتِي لَهَا سَنَتَانِ، ثُمَّ فِي السِّتِّينَ تَبِيعَانِ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الحِسَابُ فَفِي كُلِّ ثَلاَثينَ تَبِيع، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ. قال الرافعي: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أمر معاذاً حين بعثه إلى اليمن أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تَبِيعاً ومن أربعين مُسِنَّةٌ" (¬1). لا شيء في البقر (¬2) حتى تبلغ ثلاثين، فإذا بلغت ثلاثين ففيها تَبِيعٌ، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ أْربعين، ففيها مُسِنَّة ثم لا شيء حتى تبلغ ستِّين ففيها تَبِيعَان، وقد استقرَّ الحساب في كل ثلاثين تَبِيعٌ، وفي كل أربعين مُسِنَّة، ويتغير الواجب بزيادة عَشْر عشر، ففي سبعين تَبِيعٌ ومُسنَّة، وفي ثمانين مسنتان، وفي تسعين ثلاث أَتْبعه، وفي مائة مسنة وَتَبِيعان، وعلى هذا القياس، وبقولنا قال أحمد ومالك، وعن أبي حنيفة ثلاث روايات: إحداها: مثل قولنا: وأظهرها: أن فيما زاد على الأربعين يجب بحساب ذلك في كل بقرة ربع عشرة مُسِنَّة، إلى أن يبلغ ستين. والثالثة: أنه لا شيء في الزيادة على الأربعين حتى تبلغ خمسين فيجب فيها مسنة وربع مسنَّة، وإذا بلغت ستِّين وجب تَبيعَان على الرِّوايات كلّها، واستقر الحساب كما ذكرنا، والتّبيع هو الذي له سنة وطعنَ في الثَّانية، سمى بذلك لأنه يتبع الأم، وقيل: لأن قرنه يتبع أذنه ويكاد يساويها، والأنثى تبيعة، والمِسنَّة هي التي تَمَّت لها سنتان ودخلت في الثَّالثة، والذكر مسن هذا هو المشهور في تفسيرهما، ويجوز أن يعلّم قوله: "وهو الذي له سنة" وقوله: "وهي التي لها سنتان" بالواو، لأن صاحب "العدة" وغيره حكوا وجهاً أن السنة ما تم لها سنة، والتَّبيع ما له ستة أشهر، وقد أشار في "النِّهاية" إلى هذا الوجه، قال: ورد في بعض أخبار الجَذع مكان التَّبِيع والجَذع من البَقَرِ كالجَذع من الضَّأن، وفي سن الجَذَعة من الضَّأْن تردد سيأتي، وهو يجري في التَّبِيع، قال: والمُسِنَّةُ في البَقَرِ بمثابة الثّنية في الغَنَمِ. قال الغزالي: (وَأَمَا الغَنَمُ) فَفِي أَرْبَعِينَ شَاةٌ شَاةٌ، وَفِي مَائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ ¬
شَاتَانِ، وَفِي مَائَتَيْنِ وَوَاحِدٍ ثَلاَثُ شِيَاهٍ، وَفِي أَرْبَعْمَائَة أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَمَا بَيْنَهُمَا أَوْقَاصٌ لاَ يُعْتَدُّ بِهَا، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الحِسَابُ فَفِي كُلِّ مَائَةٍ شَاةٌ، وَالشَّاةُ الوَاجِبَةُ فِي الغَنَمِ إمَّا الجَذَعَةُ مِنَ الضَّأنِ وَهِيَ الَّتي لَهَا سَنَة أَوْ الثَّنِيَةُ مِنَ المَعْز وَهِيَ الَّتي لَهَا سَنَتَانِ. قال الرافعي: عن أنس ابن مالك أن أبا بكر -رضي الله عنهما- كتب له: "فريضة الصَّدَقة التي أمر الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وفي صدقة الغَنَم في سَائمتها، إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة، فإذا زادت على عِشْرِين ومائة واحدة إلى مائتين، ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين واحدة إلى ثلثمائة ففيها ثلاث شياه فإن زادت على ثلثمائة ففي كل مائة شاة: "ليس في الغَنَمِ زكاة حتى تبلغ أربعين، فإذا بلغتها ففيها شاة، ثم لا يزيد بزيادتها شيء حتى تبلغ مائة وإحدى وعشرين، ففيها شاتان ثم لا يزاد شيء حتى تبلغ مائتين وواحدة ففيها ثلاث شياه، ثم لا يزاد شيء حتى تبلغ أربعمائة ففيها أربع شياه، وقد استقرَّ الحساب في كل مائة شاة، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وأحمد، والشّاة الواجبة فيها الجَذعة من الضَّأن أو الثنية من المعز وبه، قال أحمد خلافاً لمالك: حين قنع فيهما بالجذعة، ولأبي حنيقة حيث أوجب فيهما الثّنية؟ وروي عنه مثل مذهبنا أيضاً لنا ما روي سعيد بن غفلة قال سمعت مصدق النَّبي -صلى الله عليه وسلم-يقول: "أَمَرَنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَالْجَذَعَةِ مِنَ الضَّأْنِ، أو الثَّنِيَّةِ مِنَ الْمَعِزِ" (¬1). ولأنهما ساعدانا في الأضحية على ذلك. واحتج الأصحاب على مالك في الجذعة من المَعِزِ، بأن هذا سن لا يجوز في الأضحية فلا يجوز في صدقة الغَنَمِ قياساً على ما دونها وعلى أبي حنيفة في الجذعة من الضَّأن بأنها سنٌّ يجوز أضحية فيجوز في صدقة الغنم كالثَّنية، واختلفوا في تفسيرهما على أوجه: أظهرهما: وهو المذكور في الكتاب أن الجذعة ما استوفت سَنَةٌ ودخلت في الثَّانية، والثَّنية ما استوفت سنتين سميت الجذعة جذعة، لأنها تجدع السِّنّ كما [ذكر] (¬2) في الإبل. والثاني: أن الجذعة ما لها ستة أشهر، والثَّنية ما لها سنة وهو الذي ذكره في الثَّنية. والثالث: أن الجذعة هي التي لها ثمانية أشهر، والثّنية هي التي لها سنة، وهو اختيار القاضي الروياني في "الحلية"، ويقال: إذا بلغ الضَّأن سبعة أشهر، وكان من بين ¬
شَاتَيْن، فهو جذع؛ لأن له نزواً وضرَاباً، وإن كان من بين هَرَمين، فلا تسمى جَذَعَةً حتى تستكمل ثمانية أشهر. وقوله: في أثناء الكلام وما بينها أَوْقَاصٌ هي جمع وقْص وهو ما بين الفَرِيضَتَيْن، ثم منهم من يقول: القاف من الوَقْص متحركة، وهو الذي ذكره في "الصِّحاح"، قالوا: ولو كانت ساكنة لجاء الجمع على أفعل، كفلس وأفلس، وكلب وأكلب، ومنهم من يسكن القاف ويقول: هو مثل هَوْل وأَهْوَال، وحول وأحوال، والشّنْق بمعنى الوَقْصِ، ومنهم من قال: الوَقْصَ في البقر والغنم خاصّة، والشّنق في الإبل خاصة (¬1). وقوله: لا يعتدّ بها يجوز أن يريد به أنها لا تؤثر في زِيادَةِ الوَاجِب، ويجوز أن يريد به أن الوَاجب لا ينبسط عليها بل هو عفو، وهو الصَّحيح وفيه خلاف مذكور في الكتاب من بعد. وقوله: أما الجَذَعة من الضَّأن، وهي التي لها سنة ليس المفسّر الجَذَعَة من الضَّأن بخصوصها بل الجَذَعة من الغَنم هي التي لها سنة على الوجه الأظهر سواء كانت من الضّأن أو المَعِز، وكذلك الثّنية من الغَنَمِ هي التي لها سنتان سواء كانت من الضَّأْن أو من المَعِزِ، ثم الواجبة من هذه الجذعة ومن تلك الثَّنية -والله أعلم-. قال الغزالي: ثُمَّ يَتَصَدَّى النَّظَرُ فِي زَكَاةِ الإِبِلِ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ: الأَوَّلُ: فِي إِخْرَاجِ شَاةٍ عَنِ الإِبِلِ وَهِيَ جَذَعَةٌ مِنَ الضَّأْنِ أَوْ ثَنِيةٌ مِنَ المَعْزِ، وَالعِبْرَةُ فِي تَعْيِينِ الضَّأنِ ¬
أَوُ المَعْزِ بِغَالِبِ غَنَمِ البَلَدِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُخْرِجُ مَا شَاءَ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ لِأَنّ الاسْمَ مُنْطَلِقٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَخْرَجَ ذَكَرًا فَهُوَ عَلَى هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ، وَلَوْ أَخْرَجَ بَعِيرًا عَنْ خَمْسٍ أَوْ عَنْ عَشْرٍ أَخَذَ وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ عَنْ قِيمَةِ شَاةٍ. قال الرافعي: لك أن تقول: النَّظَرُ الثَّالث والخامس لا اختصاص لهما بزكاة الإبل على ما سنبينه من بعد، وإنما كان يحسن قوله في زكاة الإبل في خمسة مواضع، إذا كانت المواضع كلها مختصة بالإبل، إذا تقرر ذلك فالنظر الأول في كيفية إخراج الشَّاة من الإبل، وقد ذكرنا أن الواجب في الإبل قبل بلوغها خمساً وعشرين الشِّياه، وإنما تجب الجَذَعَة من الضَّأن، والثَّنيةُ من المعز كما ذكرنا في الشَّاة الواجبة في الغنم، لما روي أن مصدق النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّمَا حَقُّنَا فِي الجَذَعَةِ مِنَ الضَّأْنِ، وَالثَنِيَّةِ مِنَ الْمَعْزِ" (¬1). وروي أنه قال: "أُمِرْنَا بَأَخْذِهِمَا" (¬2) وخلاف أبي حنيفة في أن الواجب منها الثنية ومالك في أن الجذعة منهما تجزئ عائد هاهنا أيضاً، ثم في الفصل مسائل؟ إحداها: هل يتعين أحد النوعين من الضَّأن والمَعِزِ؟ حكى في الكتاب فيه وجهين: أحدهما: أنه يتعين غالب غنم البلد، إن كان الغالب الضَّأن وجب الضأن، وإن كان الغالب المَعِزُ وجب المعز؛ لأنه مال وجب في الذِّمة بالشرع، فاعتبر فيه عرف البلد كالكَفَّار، هذا ما ذكره صاحب "المهذّب"، وقال: إن استويا يخير بينهما. والثاني: أنه يخرج ما شَاءَ من النَّوعين، ولا يتعيّن الغالب في البلد، لأنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "في خَمْسِ مِنَ الإِبِلِ شَاةً"، واسم الشاة يقع عليهما جميعاً، فصار كما في الأَضْحِيَة لا يتعين فيها غنم البلد؛ وفي "النهاية" و"الوسيط" حكاية وجه آخر، وهو أنه يتعين نوع غنمه إن كان يملك غنماً، كما إذا كان يزكي عن الغنم، وكما في إبل العَاقِلَةِ على رأي، ويجوز أن يعلّم قوله في الكتاب: "فغالب غنم البلد" وكذا قوله: "يخرج ما شاء" بالواو لمكان هذا الوجه الثالث، والثاني معلّم بالميم أيضاً؛ لأن الحكاية عن مالك أنه يجب من غالب غنم البلد. وقوله: "يخرج ما شاء ويؤخذ منه"، لا ضرورة إلى الجمع بين هذين اللفظين، والمقصود حاصل بأحدهما. ثم اعلم أن إيراد الكتاب يقتضي ترجيح الوجه الأول، وحكاه إمام الحرمين عن العِرَاقيين، وذكر أن صاحب "التَّقْرِيب" نقله عن نص الشافعي -رضي الله عنه-، ونقل نصوصاً أخر تقتضي التَّخيير ورجحها، وساعده الإمام عليه، وإليه صار الأكثرون وربما ¬
لم يذكروا سواه، فإذاً الوجه الثاني أصحُّ في المذهب. والشُّبْهة داخله في حكاية الإمام عن العِرَاقيين من وجهين: أحدهما: أن الشيخ أبا حامد وَشِيْعته نصوا على أنه لا يعتبر غالب غنم البلد، وإنما يعتبر غنم البلد فحسب. والثَّاني: أنه يشبه أنهم أرادوا بما ذكروا تَعْيِينَ ضَأْن البلد ومعزه، وذلك لا ينافي التَّخْيير بين الضَّأن والمَعِزِ يدل عليه أن صاحب "الشَّامل" خير بين الضَّأن والمَعِز، ومع ذلك قال: يخرج من غنم البلد وكذلك خير في "التَّتمة" بين النوعين، ثم حكى وجهين في أن الضَّأن المخرج أيضاً مثلاً هل يجب أن تكون مع نوع ضان البلد، أم لا؟ ومن قال: يتعيين غنم البلد قال: لو أخرج غيرها وهي خير من غنم البلد بالقيمة أجزأته، وكذلك لو كانت مثلها إنما الممتنع أن يخرجها وهي دونها. الثانية: لو أخرج جذعاً من الضَّأن أو ثَنياً من المَعِزِ هل يجزئه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، كالشَّاة المخرجة من الأربعين من الغنم، وكَأَسْنَان الإبل المؤدّاة في زكاتها وهذا لأن في الإِنَاثِ رفق الدّر والنَّسل فيبنى أمر الزَّكَاة على اشْتراط الأنوثة في المؤدي فيها: وأظهرهما: وبه قال أبو إسحاق ونعم، لشمول الاسم كما في الأضحية. ثم ذكر في "التتمة" طريقين: أشهرهما: أن الوجهين مطردان فيما إذا كانت الإبل ذكوراً كلها وفيما إذا كانت إناثاً أو مختلطة، وهذا هو الموافق لإطلاق الكتاب والمذكور في "التهذيب". والثاني: أنها إذا كانت إناثاً أو كان بعضها إناثاً لم يَجُزْ إخراج الذكر والوجهان مخصوصان بما إذا كانت ذكوراً كلها والوجهان مبنيان على أصل سنذكره، وهو أن الشَّاة المخرجة عن الإبل أصل بنفسها أم عن الإبل. إن قلنا: بدل جاز إخراج الذَّكر كما لو أخرج عنها بعيراً ذكراً يجزئه، وإن قلنا: أصل لم يجز جرياً على الأصل المعتبر في الزكوات وهو كون المخرج أنثى، وقوله في الكتاب: "فعلى هذين الوجهين" أشار به إلى تقارب مأخذ الخلاف في هذه المسألة والتي قبلها. الثَّالثة: لو ملك خمساً من الإبل ولزمته شاة فأخرج بعيراً، فظاهر المذهب أنه يجزئه، وإن كانت قيمته أقلَّ من قيمة الشَّاة، خلافاً لمالك وأحمد حيث قالا: لا يجزئ إلا الشَّاة. لنا أن البعير يجزئ عن خمس وعشرين، والخمس داخلة فيها، فأولى أن يجزئ عنها منفردة، وفي المسألة وجهان آخران: أحدهما: أن البعير إنَّما يجزئ إذا بلغت قيمته قيمة شَاة، أما إذا انقصت فلا لما
فيه من الإِجْحاف بالفقراء، حُكِيَ هذا عن القفال والشيخ أبي محمد. والثاني: أنه إن كانت الإبل مراضاً أو قليلة القيمة لعيب بها فأخرج بعيراً منها جاز، وإن كانت قيمته أقل من قيمة الشاة أما إذا كانت صحاحاً سليمة لم يجز أن يخرج عنها بعيراً قليل القيمة. والفرق أنه في المراض لا يعتقد بأداء البعير تطوعاً وفي الصحاح يعتقد التَّطوع. وأقل ما في التطوع أن لا ينقص عن الواجب، وهذا الوجه هو الذي أورده الصَّيْدَلاَني وحكى المنع فيما إذا كانت الإبل صحاحاً هو وغيره عن نص الشافعي -رضي الله عنه- وفي كلام الشيخ أبي محمد حمل ذلك النَّص على الاسْتحباب، وإذا قلنا بظاهر المذهب فأخرج بعيراً عن خمس من الإبل فهل يكون كله فرضاً أو يكون خمسة فرضاً والباقي تطوعاً؟ فيه وجهان شبههما الأئمة بالوجهين في المُتمتع إذا ذبح بُدْنة بدل الشَّاة هل تكون كلها فرضاً أو الفرض سبعها؟ وفيمن مسح جميع الرأس هل يقع الكل فرضاً أم لا؟ وجعلوا المصير إلى أن الكلَّ ليس بفرض، في مسألتي الاسْتِشْهاد أوجه؛ لأن الاقتصار على سبع بدنة في الهَدَايا، وعلى بعض الرأس في المسح جائز، ولا يجزئ هاهنا أخراج خمس بعير بالاتفاق وكذلك قال الإمام من يقول: الفرض مقدار الخمس يعني به، على شرط التَّبرع بالباقي ليزول عيب التَّشْقِيص، وذكر قوم منهم صاحب "التهذيب" أن الوجهين مبنيّان على أصل، وهو أن الشياة الواجبة في الإبل أصل بنفسها أم هي بدل عن الإبل؟ فيه وجهان: أحدهما: أنها أصل جرياً على ظاهر النص. والثاني: بدل لأن الأصل وجوب جنس المال؟ إلاَّ أن إيجاب بعير قبل كثرة الإبل يجحف بربِّ المال وإيجابُ شِقْص بعير ممَّا يشقُّ لما فيه من نقصان القيمة وعسر الانْتِفَاع، فعدل الشَّارع إلى الشَّاة ترفيهاً وإرفاقاً، فإن قلنا: الأصل هو الشاة، فإذا أخرج البعير كان كله فرضاً كالشاة، وإن قلنا: الأصل هو الإبل، فإذا أخرج بعير كان الواجب خمساً؛ لأنه يجزئ عن خمس وعشرين وحصّة كل خمس حينئذ خمسة. ولو أخرج بعيراً عن عشر من الإبل أو عن خمس عشرة أو عشرين، هل يجزئه؟ فيه وجهان بنوهما على الخلاف الذي تقدم، إن قلنا: إذا أخرجه عن الخمس وقع الكلام فرضاً، وقام مقام شاة فلا يكفي في العشر بعير واحد، بل لا بد من بعيرين أو بعير وشاة، وفي الخمس عشرة من ثلاثة أَبْعرة أو بعيرين وشاة، أو شاتين وبعير، أو ثلاث شياة، وفي العشرين من أربعة، وإن قلنا: الفرض قدر خمسة فيجزئ ويكون متبرعاً في العشر بثلاثة أخماسه، وفي الخمس عشرة بخمسة وفي العشرين بخمسة، ولم يرتض الإمام هذا البناء، ومن وجوه الإشكال فيه أنه يقال: لم يلزم من كون كله فرضاً
النوع الثاني في العدول إلى ابن لبون
إذا أخرجه عن خمس ألا يكتفي به عن العشر بل يجوز أن يكون كله فرضاً إذا أخرج عن هذا وفرضاً إذا أخرج عن ذاك، أَلاَ تَرَى أنه يقع فرضاً فيكتفي به عن الخمس والعشرين مع الحكم بأن كله فرض إذا أخرج عن الخمس وكذا البُدنة ضحية واحدة إذا ضحَّى بها وهي بعينها ضحية سبع إذا اشتركوا فيها، وسواء كان البناء المذكور مرضياً أم لا، فظاهر المذهب إجزاؤها عما دون الخمس والعشرين كإجزائها عن الخمس والعشرين، وهو المذكور في الكتاب، والوجهان المذكوران هاهنا مبنيان على الصّحيح في إجزاء البعير عن الخمس مطلقاً، والوجهان الآخران ثم يعودان هاهنا أيضاً ونعتبر تفريعاً عليهما أن لا تنقص قيمته في العشر عن قيمة شاتين، وفي الخمس عشرة عن قيمة ثلاث شياه، وفي العشرين عن قيمة أربع. وإذا عرفت جميع ما ذكرنا رقمت قوله في الكتاب: "أخذ" بالميم والألف والواو وقوله: "وإن نقصت قيمته" بالواو أيضاً للوجه المنسوب إلى القَفَّال وأبي محمد -رحمهما الله-. واعلم: أن الشَّاة الواجبة في الإبل يجب أن تكون صحيحة، وإن كانت الإبل مراضاً لأنها في الذّمة (¬1) ثم فيها وجهان: أحدهما: وهو الذي أورده كثيرون أنه يؤخذ من المراض صحيحة تليق بها. مثاله: خمس من الإبل مراض قيمتها خمسون، ولو كانت صحاحاً لكانت قيمتها مائة وقيمة الشاة المجزئة عنها ستة دراهم فيؤمر بإخراج شاة صحيحة تساوي ثلاثة دراهم، فإن لم توجد بهذه القيمة شاة صحيحة قال في "الشَّامل": فرق الدراهم. والثاني: أنه يجب فيه ما يجب في الإبل الصحاح بلا فرق قال في "المهذب": وهذا ظاهر المذهب، ونسب الأول إلى أبي عَلِيِّ بنِ خَيْرَانَ -[والله أعلم]-. قال الغزالي: النَّظَرُ الثَّانِي فِي العُدُولِ إِلَى ابْنِ لَبُونٍ، فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَلَمْ تَكُنْ فِي مَالِهِ أَخَذَ ابْنَ لَبُونٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا فِي مَالِهِ جَازَ لَهُ شَرَاءُ ابْنِ لَبُونٍ، وَلَوْ كَانَ ¬
فِي مَالِهِ بِنْتُ مَخَاض مَعِيبَةٌ فَهِيِ كَالْمَعْدُومَةِ، وَلَوْ كَانَتْ كَرِيمَةً لَزِمَهُ عَلَى الأَقْيَسِ شِرَاءُ بِنْتِ مَخَاضٍ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي مَالِهِ وَإِنَّمَا تُتْرَكُ نَظَراً لَهُ، وَتُؤخَذُ الخُنْثَى مِنْ بَنَاتِ اللَّبُونِ بَدَلاً عَنْ بِنْتِ مَخَاض عِنْدَ فَقْدِهَا، وَيُؤْخَذُ الحِقُّ بَدَلاً عَنْ بِنْتِ لَبُونٍ عِنْدَ فَقْدِهَا كمَا يُؤْخَذُ ابْنُ لَبُونٍ بَدَلاً عَنْ بِنْتِ مَخَاضٍ. قال الرافعي: إذا ملك خمساً وعشرين من الإبل وجبت عليه بنت مخاض فإن وجدها لم يعدل إلى ابن اللَّبون، وإن لم يجدها وكان عنده ابن لَبُون جاز أخذه منه سواء قدر على تحصيل بنت المَخَاض أم لا، وسواء كانت قيمته أقل من قيمة بنت المخاضَ، أو لم يكن لما رويناه في الخبر ولا جبْرَان، بل فضل السن يجبر فضل الأنوثة ثم فيه مسائل: إحداها: لو لم يكن في ماله بنت المَخَاض، ولا ابن اللَّبون ففيه وجهان (¬1): أظهرهما: وهو المذكور في الكتاب أنه يشتري ما شاء منها ويخرجه أما بنت المَخَاض فلأنها الأصل، وأما ابن اللَّبون فلأن شرط إجزائه موجود وإذا اشتراه كان في ماله ابن لبون وهو فاقد لبنت المخاض. والثاني: وبه قال مالك وأحمد وصاحب "التقريب" يتعيّن عليه شراء بنت المخاض؛ لأنهما لو استويا في الوجود لم يخرج ابن اللَّبون، فكذلك إذا استويا في الفقد، وقدر على تحصيلهما. الثانية: لو كانت عنده بنت مَخَاض معيبة فهي كالمعدومة؛ لأنها غير مجزئة، ولو كانت كريمة وإبله مهازيل فلا يكلّف إخراجها. لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِيَاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ" (¬2) فإن تطوّع بها فقد أحسن وإن أراد إخراج ابن لبون ففيه وجهان: أظهرهما: عند صاحب الكتاب وشيخه: أنه لا يجوز؛ لأن شرط العدُول إلى ابن اللَّبون أن لا يكون في ماله بنت مَخَاض، وهي موجودة هاهنا بصفة الإجزاء، إلاَّ أنها تَركت نظراً له ورعاية لجانبه، وهذا ما أجاب به الشيخ أبو حامد (¬3)، وأكثر شيعته ورجحه الأكثرون. ¬
والثاني: يجوز، لأنها لما لم تكن موجودة في ماله كانت كالمَعْدُومة، ويحكى هذا عن نصه إلى ترجيحه يميل كلام صاحبي "المهذب" و"التهذيب". قوله في الكتاب: "لزمه على الأَقْيس شراء بنت مخاض" لا يخفى أنه ليس الغرض منه عين الشراء، بل المقصود تحصيله بأي طريق كان وإخراجه عن الزكاة وكذا حيث قال في هذه المسائل: يجوز الشِّراء أو لا يجوز، وقوله في أول الفصل: "أخذ منه ابن لبون" ليس على معنى أنه يلزم بذلك، إذ لو حصل بنت مخاض وأخرجها جاز، ولكن المعنى أنه يقنع به. الثالثة: لو لم يكن في ماله مَخَاض فأخرج خنثى من أولاد اللَّبون، هل يجزئه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، لتشوّه الخلْقة بنقصان الخنوثة فأشبه سائر العيوب. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب: نعم، فإنه إما ذكر وابن اللبون مأخوذ بدلاً عن بنت المَخَاض، أو أنثى وهي أولى بالجواز لزيادة السِّن مع بقاء الأنوثة، ثم لا جبران للمالك لجواز أن يكون المخرج ذكراً بخلاف ما إذا لم يكن في ماله بنت مخاض، وكانت عنده بنت لبون فأخرجها له الجبران، ولو وجد ابن اللّبون وبنت اللّبون فأراد إخراج بنت اللّبون وأخذ الجبران لم يكن له ذلك في أصح الوجهين قاله في العدّة، ولو لزمته بنت مَخَاض وهي موجودة في ماله فأراد أن يخرج خنثى من أولاد اللبون بدلاً لم يجز لجواز أن يكون ذكراَ وابن لبون مأخوذ بدلاً عن بنت مخاض مع وجودها بخلاف ما لو أخرج بنت لبون. وقوله في الكتاب: "وتؤخذ الخنثى من بنات اللبون" لو قال: "من أولاد اللبون" لكان أحسن، فإن الخُنُوثة تمنع من معرفة كونه ابناً أو بنتاً، وكذلك هو في بعض النّسخ. الرابعة: لو أخرج حقّاً بدلاً عن بنت مَخَاض عند فقدها فلا شك في جوازه؛ لأن إخراج ابن اللّبون جائز فالحِق أجوز وأولى، ولو أخرجه بدلاً عن بنت لبون لزمته فوجهان: أحدهما: يجوز، لاختيار فضيلة الأنوثة بزيادة السّن كما يجوز إخراج ابن اللّبون بدلاً عن بنت المخاض. والثاني: لا يجوز؛ لأن النص ورد ثَمَّ وهذا ليس في معناه؛ لأن تفاوت السِّن في بنت المَخَاض وابْن اللَّبون تفاوت يوجب اخْتصاصه بقوّة ورود الماء والشجر والامتناع من صغار السباع، والتفاوت بين بنت اللبون والحِقْ لا يوجب اختصاص الحقّ بهذه القوة بل هي موجود فيهما جميعاً، فلا يلزم من كون تلك الزيادة حائزة لفضيلة الأنوثة
النوع الثالث إذا ملك مائتين من الإبل
كون هذه الزيادة جابرة لها، والمذكور في الكتاب من هذين الوجهين هو الأول، لكن المذهب الثاني بل الجمهور لم يذكروا سواه ولم يتعرض للخلاف إلا الأقلون منهم الحناطِيُّ. قال الغزالي: النَّظَرُ الثَّالِثُ إِذَا مَلَكَ مَائَتَيْنِ مِنَ الإبِلِ، فإِنْ كَانَ فِي مَالِهِ أَحَدُ السِّنَّيْنِ أَخَذَ مِنْهُ المَوْجُودَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا فِي مَالِهِ اشْتَرى (و) مَا شَاءَ مِنَ الحِقَاقِ أَوْ بَنَاتِ اللَّبُونِ، وَإِنْ وُجِدَا جَمِيعاً وَجَبَ إِخْرَاجُ الأغْبَطِ لِلْمَسَاكِينَ، وَقِيلَ: الخِيَرَةُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ الحِقَاقُ فَلَوْ أَخَذَ السَّاعِي غَيْرَ الأَغبَطِ قَصْدًا عَلَى قَوْلِنَا: يَجِبُ الأَغْبَطُ لَمْ يَقَعِ المَوْقِعَ وَإِنْ أَخَذَ بِاجتِهَادِهِ فَقِيلَ: لاَ يَقَعُ المَوْقِعَ، وَقِيلَ: يَقَعُ المَوْقِعَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ جَبْرُ التَّفَاوتِ، وَقِيلَ: عَلَيْهِ جَبرُ التَّفَاوتِ بِبَذْلِ الدَّرَاهِمِ، وَقِيلَ: يَجِبُ جَبْرُةُ بِأنْ يَشْتَرِي بَقِدْرِ التَّفَاوُتِ شِقْصًا إِنْ وَجَدَهُ إِمَّا مِنْ جِنْسِ الأَغْبَطِ عَلَى رَأيٍ أَوْ مِنْ جِنْس المُخْرجِ عَلَى رَأْيٍ. قال الرافعي: مقصود هذا النظر الكلام فيما إذا بلغت ماشيته حدّاً يخرج فرضه بحسابين كما إذا ملك مائتين من الإبل فهي أربع خمسينات وخمس أربعينات. وقد روينا في الخبر أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "فِي كُلِّ أَرْبَعِينِ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ" (¬1). فما الواجب فيها؟ نص في الجديد على أن الواجب أربع حقاق أو خمس بنات لبون. وفي القديم على أنه يجب أربع حقاق واختلفوا على طريقين: أحدهما: أن المسألة على قولين: أصحهما: أنَّ الواجب أحد الصّنفين لما ذكرنا أن المائتين أربع خمسينات وخمس أربعينات فيتعلق بها أحد الفرضين. والثَّاني: أن الواجب الحِقَاق؛ لأن الاعتبار في زكاة الإبل بزيادة السّن ما وجد إليها سبيل، ألا ترى أن الشّرع رقي في نصيبها إلى منتهى الكمال في الأسنان ثم عدل بعد ذلك إلى زيادة العدد، فأشعر ذلك بزيادة الرغبة في السن. والطريق الثاني: القطع بما ذكره في الجديد، وحمل القديم على ما إذا لم يوجد إلا الحقاق، فإن أثبتا القديم وفرعنا عليه نظر إن وجدت الحِقَاق بصفة الإجزاء لم يجز غيرها، وإلاَّ نزل منها إلى بنات اللَّبون أو صعد إلى الجِذَاع مع الجبْرَان، وإن فرعنا على الجَدِيد الصّحيح فللمسالة أحوال، ذكرنا ثلاثاً منها في الكتاب فنشرحها، ثم نذكر غيرها على الاخْتِصار. إحدى الأحوال الثلاث: أن يوجد في المال القدر الواجب من أحد ¬
الصِّنفين بكماله دون الآخر فيؤخذ ولا يكلف تحصيل الصنف الثاني وإن كان أنفع للمساكين، ولا يجوز النّزول والصّعود عنه مع الجبران ولا فرق بين أن لا يوجد الصنف الآخر أصلاً وبين أن يوجد بعضه والناقص كالمعدوم، ولا يجوز أن يؤخذ الموجود من الناقص، ويعدل بالباقي إلى الصعود والنزول مع الجبران، إذ لا ضرورة إليه، ولو وجد الصنفان لكن أحدهما معيب فهو كالمعدوم. والحالة الثانية: أن لا يوجد في ماله شيء من الصّنفين، وفي معناه أن يوجد أو هما معيبان، فإن أراد تحصيل أحدهما بشراء وغيره فوجهان: أحدهما: يجب تحصيل الأغبط كما يجب على الظَّاهر إخراج الأَغْبَط إذا وجد على ما سيأتي: وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب يحصل ما شاء من الحقاق أو بنات اللبون، فإنه إذا اشترى أحد الصّنفين صار واجداً له دون الآخر فيجزئه، والوجهان كالوجهين فيما إذا ملك خمساً وعشرين، وليس فيها بنت مَخَاض، ولا ابن لبون، هل يجب تحصيل بنت المَخَاض أم لا؟ يجوز في هذه المسألة أن لا يحصل الحقاق ولا بنات اللبون، ولكن ينزل أو يصعد مع الجبران، وحينئذ إن شاء جعل بنات اللبون أصلاً ونزل منها إلى خمس بنات مَخَاض فأخرجها مع خمس جبراناتا، وإن شاء جعل الحِقَاق أصلاً وصعد منها إلى أربع جِذَاع فأخرجها وأخذ أربعة جبرانات، ولا يجوز أن يجعل الحقاق أصلاً وينزل منها إلى أربع بنات مخاض، مع ثمان جبرانات ولا أن يجعل بنات اللبون أصلاً ويصعد منها إلى خمس جذاع ويأخذ عشر جبرانات لإمكان تقليل الجبْرَان بجعل الجِذَاع بدل الحِقَاق وبنات المخاض بدل بنات اللبون. وحكى الشيخ أبو محمد في "الفروق" وجهاً آخر وهو أنه يجوز النّزول والصّعود فيهما كما لو لزمته حقة فلم يجدها ولا بنت لَبُون في ماله فنزل إلى بنت مخاض فأخرجها مع جبرانين أو لزمته بنت لبون فلم يجدها، ولا حقّة في ماله فيصعد إلى الجذعة فيخرجها ويأخذ جبرانين يجوز والظاهر الأول. والفرق أن في صورتي الاستشهاد لا يتخطّى واجب ماله، وفيما نحن فيه يتخطّى في الصعود، والنزول أحد واجبي ماله. والحالة الثالثة: أن يوجد الصِّنْفان معاً بصفة الإجْزَاء فقد قال الشّافعي -رضي الله عنه- نصاً: يأخذ السَّاعي ما هو الأَغْبَط منهما لأهل السَّهْمَيْن؛ لأن كل واحد من الصَّنفين فرض نصابه لو انفرد، فإذا اجتمعا روعي الأصلح للمحتاجين، واحتج له بظاهر قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (¬1). ¬
وعن ابن سريج: أن المالك بالخيار يعطي ما شاء منهما، كما أنه بالخيار في الصعود والنُّزول عند فقد الفرض، وأجاب الأصحاب أن المالك ثَمَّ يسبيل من ترك الصُّعود والنزول معاً، بأن يحصل الفرض، وإنما شرع ذلك تخفيفاً للأمر عليه ففوض إليه وهاهنا خلافه. التفريع إن خيرنا المعطي على رأي ابن سريج فيستحب له مع ذلك أن يعطي الأَغْبط إلا أن يكون وَلِيَّ يتيم فيراعى حظه، وإن فرعنا على النّص وهو ظاهر المذهب فلو أخذ السَّاعي غير الأغبط نظر إن وجد تقصير منه بأن أخذه مع العلم بحالة واحدة من غير اجتهاد، ونظر في أن الأغبط ماذا، أو وجد تقصير من المالك بأن دلَّس وأخفى الأغبط لم يقع المأخوذ عن جهة الزَّكاة، وإن لم يوجد تقصير من واحد منهما وقع عن جهة الزَّكاة، هذا ما اعتمده الأكثرون منهم صاحب "المهذّب" وهو الظاهر، وزاد في التَّهذيب شيئاً آخر، وهو أن لا يكون باقياً بعينه في يَدِ السَّاعي، فإن كان باقياً لم يقع عن الزكاة وإن لم يقصر واحد منهما، وهذا قد حكاه الشيخ أبو الفضل بْن عَبْدَان عن ابن خَيْرَان ووراء ما نقلنا من الظَّاهر وجوه أخر: أحدها: أنه يقع عن الزَّكَاة بكل حال، وإن أخذ من غير اجتهاد حكاه ابن كج وغيره؛ لأنه يجزئ عند الانفراد، فكذا عند الاجتماع وهذا رجوع إلى رأي ابن سريج. والثاني: لا يقع عن الزَّكاة بحال؛ لأنه ظهر أنَّ المأخوذ غير المأمور به. والثالث: إن فرقة على المستحقّين ثم ظهر الحال حسب عن الزَّكاة بكل حال وإلاَّ لم يحسب، والفرق عسر الاسْتِرْجاع. والرابع: عن أبي الحسين بن القطَّان عن بعض الأصحاب: أنه إن دفع المالك مع العلم بأنه الأدنى لم يجزه، وإن كان السَّاعىِ هو الذي أخذ جازِ، ويقرب عن هذا عد صاحب "التَّهْذيب" مجرَّد علم المالك بحالة تقصيراً مانعاً من الإجزاء، وإن لم يوجد إخفاء وتدليس. وفي كلام الصيدلاني وغيره ما ينازع فيه إذا أخذه السَّاعي بالاجتهاد، فهذا بيان الاختلافات في هذا الموضع. التَّفْريع حيث قلنا: لا يقع المأخوذ عن الزَّكَاة فعليه إخراج الزكاة، وعلى السَّاعي ردُّ ما أخذه إن كان باقياً وقيمته إن كان تالفاً، وحيث قلنا: يقع فهل يجب إخراج قدر التَّفاوت؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يستحب ولا يجب؛ لأن المخرج محسوب عن الزكاة فيغني عن غيره كما إذا أدى اجتهاد الإمام إلى أخذ القيمة وأخذها لا يجب شيء آخر. وأصحهما: أنه يجب لنقصان حتى أهل السَّهْمين، قال الأئمة: وإنما يعرف قدر التفاوت بالنَّظَرِ إلى القِيمَة، فإذا كانت قيمة الحقاق أربعمائة وقيمة بنات اللبون أربعمائة وخمسون وقد أخذ الحقاق فقدر التفاوت خمسون. التّفريع: إن كان قدر التَّفاوت يسيراً لا يؤخذ به شِقْص من ناقة دفع الدَّراهم للضّرورة. وحكى إمام الحرمين -رحمه الله-
عن صاحب "التقريب" إشارة إلى أنه يتوقف إلى أن يجد شِقْصاً واستبعدها، وإن كان قدراً يؤخذ به شقص، فهل يجب شراؤه أم يجوز دفع الدراهم؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب؛ لأن الواجب الإبل والعدول إلى غير جنس الواجب في الزكاة ممتنع على أصلنا. وأصحهما: أنه يجوز دفع الدَّراهم لما في إخراج الشِّقْص من ضرر المُشَاركة، وقد يعدل إلى غير جنس الوَاجب لضرورة تعرض أَلاَ ترى أنه لو وجب شاة عليه في خمس من الإبل، ولم يوجد جنس الشاة يخرج قيمتها، ولو لزمته بنت مخاض فلم يجدها ولا ابن لبون لا في ماله ولا بالثّمن يعدل إلى القيمة على أن الغرض هاهنا جبْرَان الواجب فأشبه دراهم الجبران. التفريع إن قلنا: يجوز دفع الدراهم فلو أخرج بها شِقْصاً، فالظَّاهر جوازه. قال في "النهاية" وفيه أدنى نظر، لما فيه من العسر على المَسَاكين، وإن قلنا: يجب إخراج شِقْص ينبغي أن يكون ذلك الشّقص من الأَغْبَط، أو من المخرج، فيه وجهان: أحدهما: من المخرج كيلا تتفرق الصدقة. وأظهرهما: عند الصّيدلاني وغيره: من الأغبط فإنه الواجب في الأصل، ففي المال الذي سبق ذكره يخرج على الوجه الأول نصف حقة، لأن قيمة كل حقة مائة وقدر التّفاوت خمسون. وعلى الوجه الثاني: يخرج خمسة أتساع بنت اللبون؛ لأن قيمة كل بنت لَبَون تسعون، فإذا أخرج الشّقص لزمه صرفه إلى السّاعي على قولنا: يجب الصَّرف إلى الإمام في الأموال الظاهرة، وإذا أخرج الدَّراهم فوجهان: أحدهما: لا يجب الصَّرف إليه؛ لأنها من الأموال البَاطنة. والثاني: يجب؛ لأنها جبران المال الظَّاهر (¬1) هذا تمام السلام في الأحوال المذكورة في الكتاب. ومن أحوال المسألة: أن يوجد بعض كل واحد من الصّنفين، كما إذا وجد ثلاث حقاق وأربع بنات لبون فهو بالخيار بَيْنَ أن يجعل الحِقَاق أصلاً فيعطيها مع بنت لبون وجبران وبين أن يجعل بنات اللبون أصلاً فيعطيها مع حقة ويأخذ جبراناً، وهل يجوز أن يعطي حقة مع ثلاث بنات لبون وثلاث جبرانَات؟ فيه وجهان لبقاء بعض الفرض عنده، ¬
وكثرة الجبران مع الاستغناء عنه. ويجري الوجهان فيما إذا لم يجد إلا أربع بنات لبون وحقة، فأعطى الحقَّة مع ثلاث بنات لبون وثلاث جبرانات ونظائره. قال صاحب "التهذيب" ويجوز في الصورة الأولى أن يعطي الحقاق مع الجذعة ويأخذ جبراناً، وأن يعطي بنات اللبون وبنت مخاض مع جبران. ومن أحوال المسألة: أن يوجد بعض أحد الصنفين، ولا يوجد من الآخر شَيْء، كَمَا إذا لم يجد إلا حِقَّتَيْن فله أن يجعلها أصلاً، ويخرجها مع جذعتين ويأخذ جبرانَيْن، وله أن يجعل بنات اللَّبون أصلاً فيخرج بدلها خمس بنات مَخَاض مع خمس جبرانات، ولو لم يجد إلا ثلاث بنات لبون فله أن يخرجها مع بنتي مخاض وجبرانين وله أن يجعل الحقاق أصلاً فيخرج أربع جذاع بدلها ويأخذ أربع جبرانات. هكذا ذكر الصورتين في "التهذيب" ولم يحك خلافاً أصلاً، وقياس الوجهين المذكورين في الحالة السّابقة على هذه يقتضي طرد الخلاف في جعل بنات اللَّبون أصلاً في الصورة الأولى، وجعل الحقاق أصلاً في الصورة الثانية لبقاء بعض الفروض عنده وكثرة الجبران، فإن كان هذا جواباً على الظاهر، فالظاهر ثم أيضاً الجواز. واعلم: أنه إذا بلغت البقر مائة وعشرين كان حكمها حكم بلوغ الإبل مائتين، فإنها ثلاث أربعينات وأربع ثلاثينات، والواجب فيها ثلاث مسنّات، أو أربع أَتْبِعة، ويعود فيها الخلاف والتَّفاريع التي ذكرناها، ولهذا قلنا: إن السلام في النظر الثالث لا يختص بزكاة الإبل، وأعود بعد هذا إلى ما يتعلق بلفظ الكتاب ونظمه. أما قوله: "إذا ملك مائتين من الإبل، فإن كان في ماله أحد السّنين" ففيه شيء مدرج تقديره إذا ملك مائتين من الإبل فعليه أربع حقاق أو خمس بنات لبون، فإن كان في ماله هذا، أو ما أشبهه. وقوله: "وجب إخراج الأغبط للمساكين"، لفظ المساكين في هذا الموضع وأمثاله لا يعني به الَّذين هم أحد الأَصناف الثَّانية خاصة، بل أهل السَّهمان كلعهم لكن المساكين والفقراء أشهر الأصناف فيسبق اللِّسان إلى ذكرهم. وقوله: "وقيل: الخيرة إليه" هو الوجه المنسوب إلى ابن سريج. وقوله: "وقيل: تتعين الحقاق" هو القول المنقول عن القديم، لكن إيراده في الموضع المذكور في الكتاب يقتضي اختصاصه بما إذا وجد الصّنفان جميعاً في ماله، وهكذا زعم القَاضِي ابن كج، لكن الشيخ أبو حامد وعامة من نقل ذلك القول أثبته عند بلوغ الإبل مائتين على الإطلاق وتفريعه ما قدمناه. وقوله: فيما إذا أخذ غير الأغبط قصداً "لم يقع الموقع" معلم بالواو؛ لأنه لم يَحْكِ الخلاف إلا فيما أخذه بالاجتهاد، وقد حكينا وجهاً أنه يقع الموقع وإن أخذه من
غير الاجتهاد. وقوله: "قيل: لا يقع الموقع" "وقيل: يقع الموقع" ليس المراد منه السلام في كونه مجزئاً، إذ لو كان كذلك لما انتظم التفريع على وجه وقوع الموقع بأنه هل يلزم جبر التفاوت أم لا؟ وإنما المراد من وقوعه الموقع كونه محسوباً عن الزّكاة. وقوله: "وقيل: عليه جبر التفاوت ببذل الدراهم" يشبه أن تكون الدراهم في كلام الأصحاب ليست معينة في هذا الفصل بعينها بل المعتبر نقد البلد، وهذه العبارة هي التي أوردها الشيخ إبراهيم المروزيّ فيما علق عنه (¬1). وقوله: "إمَّا من جنس الأَغْبط على رأي أو من جنس المخرج على رأي" يجوز أن يعلّم بالواو؛ لأن إمام الحرمين حكى عن إشارة بعض المصنفين وجهاً ثالثاً، ومال إليه وهو أنه يتخير بين الصنفين بعد حصول الجبران، ولا يتعين هذا ولا ذاك. قال الغزالي: فَرْعٌ لَوْ أَخْرَجَ حَقَّتَيْنِ وَبِنْتَيْ لَبُونٍ وَنِصْفاَ لَمْ يَجُزْ للتَّشْقِيصِ، وَلَوْ مَلَكَ أَرْبَعمائَةٌ فَأَخْرَجَ أَرْبَعَ حِقَاقٍ وَخَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ جَازَ عَلَى الأَصَحِّ. قال الرافعي: مالك المائتين من الإبل لو أخرج حقَّتَيْن وبنتي لَبُون ونصفاً لم يجز؛ لأن التَّشْقيص نقصان وعيب، ولو ملك أربعمائة من الإبل فعليه ثمان حِقَاق أو عشر بنات لبون؛ لأنها ثمان خمسينات وعشر أربعينات، ويعود فيها جميع ما في المائتين من الخلاف والتفريع. ولو أخرج عنها أربع حقاق وخمس بنات لبون، ففي جوازه وجهان: قال الإصطخري: لا يجوز؛ لأنه تفريق الفريضة كما في المائتين وتمسك بنصه في "المختصر"، ولا يفرق الفريضة. والأصح وبه قال الجمهور: يجوز؛ فإن كل مائتين أصل علي الانفراد، فيجوز إخراج فرض من إحداهما وفرض من الأخرى، كما يجوز في إحدى الكَفَّارتين الإطعام وفي الأخرى الكسوة، وكما يجوز في أحد الجبرانين الشِّياه وفي الآخر الدراهم، بخلاف ما إذا لم يملك إلا مائتين، فإن التَّفْريق فيها كالتفريق في الجبران الواحد، والكفَّارة الواحدة على أنه ليس المانع في المائتين مجرد التَّفريق، أَلاَ تَرَى أَنَّه لو أخرج حِقَّتَيْن وثلاث بنات لَبُون يجوز، قاله صاحب "التهذيب" وكذا لو أخرج أربع بنات لبون وحقة بدل بنت لبون يجوز، وإنما المانع من المائتين التَّشقيص، ولا تشقيص هاهنا. ¬
النوع الرابع في الجبران وجبران كل مرتبة في السن عند فقد السن الواجب بشاتين أو عشرين درهما
وقوله: "ولا يفرق الفريضة" منهم من لم يثبته لما بيناه من جواز التفريق، وقال: الثابت رواية الربيع، وهي لا تفارق الفريضة أي: إذا وجد السَّاعي في المال أحد الصّنفين دون الآخر لم يجز أن يفارق الموجود ويكلفه تحصيل المفقود، ومَنْ أَثْبته حمله على تفريق التَّشْقيص في صورة المائتين، أو التَّفريق مع الجَبْران من غير ضرورة مثل أن يأخذ أربع بنات لَبُون وحقَّة، ويعطي الجبران وهو واجد لخمس بنات لبون، ويجري الوجهان متى بلغ المال أربعينات وخمسينات بحيث يخرج منها بنات اللَّبون والحقاق بلا تشقيص، ولعلَّك تقول: ذكرتم أن السَّاعي يأخذ الأَغْبَط ويلزم من ذلك أن يكون أَغْبَط الصنفين هو المخرج، فكيف يخرج البعض من هذا والبعض من ذاك. فاعلم أن ابن الصَّبَّاغ أجاب عن هذا فقال: أما ابن سريج فلا يلزمه هذا إذ الخِيَار هذا عنده لرب المال، أما على قول الشافعي -رضي الله عنه- فيجوز أن يكون لهم حظّ ومَصْلَحة في اجتماع النَّوعين، وهذا يفيد معرفة شيء آخر وهو أن جهة الغبْطَة غير منحصرة في زيادة القيمة إذا كان التَّفَاوت لا من جهة القيمة يتعذر وإخراج الفضل وقدر التفاوت. قال الغزالي: النَّظَرُ الرَّابعُ فِي الجَبْرَانِ وَجُبْرَانُ كُلِّ مَرتَبَةٍ فِي السِّنِّ عِنْدَ فَقْدِ السِّنِّ الوَاجِبِ بِشاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَماً، فَإنْ رَقَى إِلَى الأكْبَرِ أَخَذَ الجُبْرَان، وَإِنْ نَزَلَ أُعْطِيَ، وَالخِيرَةُ فِي تَعْيِينِ الدَّرَاهِمِ وَالشَّاةِ (و) إِلَى المُعْطِي، وَالخِيرَةُ فِي الانْخِفَاضِ وَالارْتِفَاع إِلَى المَالِكِ إلاَّ إِذَا كَانَ إِبلُهُ مِرَاضاً فَارتَقَى وَطَلَبَ الْجُبرَانَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُون خَيْرًا مِمَّا أَخْرَجَهُ. قال الرافعي: في حديث أنس -رضي الله عنه- أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ جَذَعَةً وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيُعْطِيه المصَدَّقُ شَاتَيْنِ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَماً ومن بلغت صدقته حقه وليست عنده وعنده جذعة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق شاتين أو عشرين درهماً" (¬1) وروي مثل ذلك في بنت المَخَاضِ وبنت اللَّبُونِ. من وجبت عليه بنت مخاض، وليست عنده جاز أن يخرج بنت لبون، ويأخذ من السَّاعي شاتين، أو عشرين درهماً؟ وإن وجبت عليه بنت لبون وليست عنده جاز أن يخرج حقَّة، ويأخذ ما ذكرنا؟ وإن وجبت عليه حِقَّة وليست عنده جاز أن يخرج جَذَعَة، ويأخذ ما ذكرنا، وهذه صور الارتقاء عن الواجب. ولو وجبت عليه جَذَعَة وليست عنده جاز أن يخرج حِقَّة مع شَاتَيْن، أو عشرين درهماً. ¬
ولو وجبت عليه حِقَّة وليست عنده جاز أنْ يخرج بنت لَبُون مع ما ذكرنا، ولو وجبت عليه بنت لَبُون وليست عنده جاز أنْ يخرج بنت مخاض مع ما ذكرنا، وهذه صور النُّزول وجملة ذلك تفصيل قوله في الكتاب: "وجبرَان كلّ مرتبة في السِّن" إلى قوله: "أعطى"، وصفة شاة الجبران ما ذكرنا في الشَّاة المخرجة عما دون خمس وعشرين من الإبل، وفي اشتراط الأُنوثة إذا كان المعطي هو المالك الوجهان المذكوران في تلك الشَّاة، والدَّراهم التي يخرجها هي البقرة. قال في "النَّهَاية": وكذلك دراهم الشَّرْعية حيث وردت، فإذا احتاج الإِمَام إلى إعطاء الجبْرَان، ولم يكن في بيت المال دَراهم باع شيئاً من مال المساكين، وصرفه إلى الجبران، وإلى من تكون الخيرة في تعيين الشَّاتِيَن أو الدَّرَاهم نص في "المختصر" على أن الخيرة إلى المعطى، سواء كان هو السّاعي أو المالك، وعن "الإملاء" قول آخر: أن الخيرة للسّاعي يأخذ الأَغْبَط منها للمساكين، وللأصحاب فيه طريقان مذكوران في "النهاية". إحداهما: أن المسألة على قولين: أصحهما: أن الخيرة للمعطي لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وَأْخْرَجَ مَعَهَا شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهمًا" (¬1). وهذا تخيير للمخرج فإذا كان السَّاعي هو المعطي راعى مصلحة المساكين. والثاني: أن الخيار إلى السَّاعي كالخيار في المائتين بين الحِقَاق وبنات اللَّبون على الظاهر. والطريقة الثانية وبه قال الأكثرون: أن الخيرة إلى المعطي بلا خلاف، وما ذكره في الكتاب يجوز أن يكون جواباً على هذه الطَّريقة، ويجوز أن يكون جواباً على الصَّحيح مع تسليم الخِلاف وهو الذي ذكره في "الوسيط"، وإذا فقد السِّن الواجبة وأمكلن الصعود والنزول فإلى من الخيار فيهما؟ فيه وجهان: أحدهما: إلى السَّاعي كما في تخييره بين الحِقَاق وبين بنات اللبون في المائتين من الإبل. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب إلى المالك، لأن الصّعود والنّزول شرعاً تخفيفاً عليه، فيفوض الأمر إلى خيرته، وموضع الوجهين ما إذا طلب المالك خلاف الأغْبَط للمساكين، فإذا كان الأغْبَط ما يطلبه فلا خلاف، وعلى السّاعي مساعدته وهذا عند الصّحة والسلامة. فأما إذا كان الواجب مريضاً أو معيباً لكون أبله مراضاً أو معيبة ¬
فأراد الصعود وطلب الجبران، مثل أن يجب بنت مَخَاض معيبة فارتقى إلى بنت لَبُون معيبة وطلب الجبْرَان فيبنى ذلك على الوجهين، إن قلنا: الخيار إلى الساعي، فلو رأى الساعي الغبطة فيه جاز، وإن فَرَّعنا على الصَّحيح وهو تفويض الخِيَار إلى المالك فيستنثى هذه الحَالَة ولا يفوض الخيار إليه (¬1)، وعلَّله جماعة منهم صاحب الكتاب بأن الجبران المأخوذ قد يزيد على المعيب المدفوع، ومقصود الزكاة إفادة المساكين لا الاستفادة منهم، وأحسن منه ما أشار إليه العراقيون فقالوا: لو صرف إليه الجبران إما أن يصرف إليه الجبران المشروع بين الصَّحيحين أو غيره. والأول: ممتنع؛ لأن قدر التَّفَاوت بين الصَّحِيحَيْن فوق قدر التَّفَاوت بين المريضين كما يدفع إليه، لا على التَّفَاوت كيف يدفع لأدناهما؟ والثاني: يمتنع؛ لأنه لا نظر إلى القيمة في الزَّكوات عندنا، ولم يرد نص فنتبعه، ولو أراد أن ينزل من السِّن المريضة أو المعيبة إلى سن ناقصة دونها، ويبذل الجبران فهذا لا منع منه؛ لأنه تبرع بزيادة؛ لأن ما يعطيه من الجبران هو الجبران المشروع بين الصيحيحين. قال الغزالي: وَلَوْ أَخْرَجَ بَدَلَ الجَذَعَةِ ثَنِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ جُبْرَانٌ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ جَاوَزَ أَسْنَانَ الزَّكَاةِ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ بِنْتُ لَبُونٍ فَلَمْ يَجِدُوا فِي مَالِهِ إِلاَّ حِقَّةٌ وَجَذَعَةٌ فَرَقَي إِلَى الجَذَعَةِ لَمْ يَجُزْ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ لِأنَّهُ كَثَّرَ الجُبْرَانَ مَعَ الاسْتِغْنَاء عَنْهُ، وَلَوْ أَخْرَجَ عَنْ جُبْرَانٍ وَاحِدٍ شَاةً وَعَشَرَةَ دَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ أَخْرَجَ عَنْ جُبْرَانَيْنِ شَاتَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا جَازَ. قال الرافعي: في الفصل مسائل: إحداها: لو وجب عليه جَذَعَة فأخرج مكانها ثَنية، ولم يطلب جبراناً جاز، وقد زاد خيراً ولو طلب الجبران فوجهان: إحداهما: يجوز (¬2) لزيادتها في السّن كما في سائر المراتب، وإلى هذا يميل كلام العراقيين وهو ظاهر النص. ¬
وأظهرهما عند المصنّف وصاحب "التهذيب": المنع؛ لأن المؤدي ليس من أَسْنَان الزكاة فأشبه ما لو أخرج فَصِيلاً لم يبلغ أَسْنان الزكاة مع الجبْرَان لا يجوز. الثانية: كما يجوز الصُّعود والنُّزول بدرجة واحدة يجوز بدرجتين مثل أن يعظي مكان اللَّبون جذعة عند فقدها وفقد الحِقَّة ويأخذ جبرانين أو يعطي بدل الحِقَّة بنت مَخَاض عند فقدها (¬1) مع جبرانين، وكذلك بثلاث درجات مثل أن يعطي مكان الجَذَعَة عند فقدها، وفقد الحقة وبنت اللَّبون بنت مخاض مع ثلاث جبرانات أو يعطي مكان بنت المخاض عند فقدها وفقد بنت اللبون والحقة جذعة ويأخذ ثلاث جبرانات، وهل يجوز الصعود والنزول بدرجتين مع القدرة على الدرجة القربى كما إذا لزمته بنت لبون فلم يجدها في ماله ووجد حقة وجذعة فَرَقَى إلى الجذعة؛ فيه وجهان: أحدهما: يجوز كما لو لم يجد الحِقّة، فإنها ليست واجب ماله فوجودها وعدمها بمثابة واحدة، وهذا ما ذكره القاضي ابْنُ كَجٍّ، ونسبه الإمام إلى القَفَّال -رحمه الله-. وأصحهما: عند الأكثرين المَنْعُ للاستغناء عن أخذ الجبرانين ببذل الحِقَّة، وموضع الوجهين ما إذا رَقَى إلى الجذعة وطلب جبرانين أما لو رضي بجبران واحد فلا خلاف في الجواز، ويجري الخلاف في النُّزول من الحِقَّة إلى بنت المخاض، مع وجود بنت اللَّبون، ولو لزمته بنت اللَّبون فلم يجدها في ماله ولا حقه وفي ماله جذعة وبنت مخاض، فهل يجوز أن يترك النزول إلى بنت المخاض وَيرْقَى إلى الجذعة؟ فيه وجهان مرتبان وأولى بالجواز وبه أجاب الصَّيدلاني؛ لأن بنت المخاض وإن كانت أَقْرَب إِلاَّ أنها ليست في الجهة المعدول إليها. الثالثة: لو أخرج المالك عن جبرانين شاتين وعشرين درهماً جاز كما يجوز إطعام عشرة مَسَاكين في كَفَّارة يمين وكسوة عشرة في أخرى ولو أخرج عن جبران واحد شَاةً وعشرة دراهم لم يجز؛ لأن الجَبْرَ يقتضي التَّخْيير بين شَاتَيْن وعشرين درهماً فلا تثبت خيرة ثالثة، كما أن في الكفَّارة الواحدة لا يجوز أن يطعم خمسة ويكسو خمسة، ولو كان المالك هو الآخذ ورضي بالتَّفريق جاز فإنه حقه وله إسقاطه أصلاً ورأساً. ¬
القول في صفة المخرج في الكمال والنقصان
فرع: لو لزمته بنت لَبُون فلن يجدها في ماله، ووجد ابن لبون وحقة فأراد أن يعطي ابن اللَّبون مع الجبران، هل يجوز؟ فيه وجهان نقلهما القَاضِي ابن كج وغيره: وجه الجواز أنَّ الشَّرْع نزله منزلة بنت المَخَاض حيث أقامه مقامها في خمس وعشرين. قال في "العدّة": والأصح المنع. واعلم: أن الجبران لا مدخل له في زكاة البقر والغنم؛ لأن السنة لم ترد به إلا في الإبل، وليس هو بموضع القياس والله أعلم. " القول في صفة المخرج في الكمال والنقصان" قال الغزالي: النَّظَرُ الخَامِسُ: فِي صِفَةِ المُخْرَجِ فِي الكمَالِ وَالنُّقْصَانِ، وَالنُّقْصَانُ خَمْسَةٌ: (الأَوَّلُ) المَرَضُ فِإنْ كَانَ كُلُّ المَالِ مِرَاضًا أَخَذَ (م) مِنْهُ مَرِيضَةً، فَإنْ كَانَ فِيهَا صَحِيحٌ لَمْ يَأخُذْ إِلاَّ صَحِيحَةً تقَرُبُ قِيمَتُهَا مِنْ رُبْعِ عُشْرِ مَالِهِ إِذَا كَانَ مَالُهُ أَرْبَعِينَ شاةً. قال الرافعي: هذا النظر لا يختص بزكاة الإبل، ومقصوده السلام في صفة المخرج في الكمال والنُّقصان، ومن الصفات ما يعد في هذا الباب نقصاناً وهو كمال في غيره كالذّكورة: لأن الإناث في مظنَّة الدّر والنّسل فهي أرفق بالفقراء، ثم جعل أسباب النصقان خمسة: أحدها: المرض، فإن كانت ماشيته كلها مراضاً لم يكلفه السّاعي إخراج صحيحة. وعن مالك: أنه يكلف ذلك. لنا أن ماله رديء فلا يلزمه إخراج الجَيِّد كما في الحُبُوب ثم المأخوذ من المراض الوسط جمعاً بين الحقّين، ولو انقسمت الماشية إلى صحاح ومراض. فإما أن يكون الصَّحيح منها قدر الواجب فصاعداً، أو كان دونه فإن كان قدر الواجب فصاعداً لم يَجُزْ إخراج المريضة. لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تُؤْخَذُ فِي الزَّكَاةِ هَرِمَةٌ، وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ" (¬1). فإن كانت المريضة ذات عَوَار فالنَّصُّ مانع منها وإلاَّ فهي مَقِيسَةٌ عليها، وقضية ذلك أنْ لا تؤخذ المريضة أصلاً. خالفنا [فيما] (¬2) إذا كانت ماشيته كلها مراضاً، قيبقى الباقي على قضية الدَّليل، هذا إذا وجب حيوان واحد، فإن وجب اثنان ونصف ماشيته مراض كبنتي لَبُون في ستِّ وسبعين وشاتين في مائتين من الشِّياه، فهل يجوز أن يخرج صحيحه ومريضه؟ فيه وجهان حكاهما في "التهذيب": أظهرهما: عنده: نعم. وأقربهما: إلى كلام الأكثرين: لا، وإن كان الصَّحيح منها دون قدر الواجب، ¬
كما إذا وجب شاتان في مائتي شاة، وليس فيها إِلاَّ صحيحة فوجهان: أحدهما: ويحكى عن الشيخ أبي محمد: أنه يجب عليه صحيحتان ولا يجزئه صحيحة ومريضة؛ لأن المخرجتين كما يزكيان ماله يزكّي كل واحد منهما الأخرى، فيلزم أن تزكّى المريضة الصحيحة وهو ممتنع. وأصحهما ولم يذكر العراقيون والصَّيْدلاَنيّ غيره: أنه يجزئه صحيحه ومريضه؛ لأن امتناع إخراج المراض يقدر بقدر وجود الصّحاح، أَلاَ ترى أن ماشيته لو كانت مراضاً بأسرها جاز له إخراج محض المراد؟ فالمطلوب أن لا يخرج مريضه ويستبقي صحيحه كي لا يكون مُتيّمماً بخبيث ماله لينفق منه، وإذا أخرج صحيحه من المال المنقسم إلى الصِّحاح والمراض فلا يجب أن تكون من صحاح ماله ولا مما يساويها في القيمة، ولكن يؤخذ صحيحة لائقة بماله. مثاله: أربعون شاة نصفها صحاح وقيمة كل صحيحة ديناران، وقيمة كل مريضة دينار يخرج صحيحة بقيمة نصف صحيحة ونصف مريضة وذلك دينار ونصف، ولو كان الصِّحاح منها ثلاثين والقيمة ما ذكرناه أخرج صحيحة بقيمة ثلاثة أرباع صحيحة وربع مريضة وهو دينار ونصف وربع، ولو لم يكن فيها إلاَّ صحيحة أخرج صحيحة بقيمة تسعة وثلاثين جزءاً من أربعين من مريضة وجزء من أربعين من صحيحه وذلك دينار وربع عشر دينار، وجميع ذلك ربع عشر المال على ما قال في الكتاب: تقرب قيمتها من ربع عشر ماله إذا كان ماله أربعين شاة، واعرف في هذا اللَّفظ شيئين: أحدهما: أن قوله: "تقرب قيمتها" يشعر بأن الأمر في ذلك على التقريب، وهذا لم أره في كلام غيره ولا ينبغي أن يسامح بالنُّقصان والبخس. والثاني: الذي ذكرناه من طريق التَّقسيط هو ما أورده أكثر الأصحاب وهو يتضمن النظر إلى آحاد الماشية، ولا يستمر إلا فيما إذا استوت قيم الصحاح وقيم المراض وقد تكون مختلفة القيمة، ولفظ الكتاب يغني عن النّظر إلى الآحاد، ورأيت القاضي ابن كَجّ رواه عن أبي إسحاق فمتى قُوّم جملة النصاب وكانت الصحيحة المخرجة ربع عشر القيمة كفى ثم لا يخفى أن هذا في الشَّاة مع الأربعين، فإن ملك مائة وإحدى وعشرين شاة فينبغي أن يكون قيمة الشاتين قدر جزء من مائة وإحدى وعشرين من قيمة الجملة، وإن ملك خمساً وعشرين من الإبل فينبغي أن تكون النَّاقة المأخوذة بالقيمة جزءاً من خمسة وعشرين جزءاً من قيمة الكل، وقِسْ على هذا سائر النّصب وواجباتها. ومن الأمثلة في الباب: لو ملك ثلاثين من الإبل نصفها صحاح ونصفها مراض، وقيمة كل صحيحة أربعة دنانير وقيمة كل مريضة ديناران يجب عليه صحيحه بقيمة نصف صحيحة ونصف مريضة وهو ثلاثة دنانير، أورده صاحب "التهذيب" وغيره، ولك
أن تقول: هلاّ كان هذا ملتفتاً إلى أن الزكاة هل تنبسط على الوقص أم لا؟ فإن انبسطت فذاك وإلاَّ قسط المأخوذ على الخمس والعشرين (¬1). قال الغزالي: (الثَّاني) العَيْبُ فَإِنْ كَانَ الكُلُّ مَعِيباً أخَذَ مَعِيبَةً، وَإِنْ كَانَ فِيهَا سَلِيمَةٌ طَلَبْنَا سَلِيمَةً تَقْرُبُ قِيمَتُهَا مِنْ رُبْعِ عُشْرِ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الكُلُّ مَعِيبًا وَبَعْضُهُ أَرْدَأَ أَخَذَ الوَسَطَ مِمَّا عِنْدَهُ. "النقص الثاني": قال الرافعي: السلام في العَيْب كالكلام في المرض، سواء تمحضت الماشية معيبة أو انقسمت إلى سَلِيمَة ومعيبة. وأعلم قوله: "أخرج الوسط مما عنده" بالواو، وليس هذا الاعلام للخلاف الذي يوهمه نظم "الوسيط" ولكنه يصح لغيره. وأما أنه ليس لما يوهمه نظم "الوسيط" فلأنه لا خلاف في ذلك الوجه ولا عبرة بإيهامه. بيانه: أنه قال في "الوسيط": قال الشافعي -رضي الله عنه- يخرج أجود ما عنده. وقال الأصحاب: يأخذ الوسط بين الدرجتين وهو الأصح فأوهم أنَّ في المسألة خلافاً، وأراد بما نقله عن الشَّافعي -رضي الله عنه- ما رواه المزني في "المختصر" حيث قال: "ويأخذ خير المعيب" لكن الأصحاب متفقون على أنه مأول، منهم من قال: أراد: بـ "الخير" الوسط، ومنهم من قال غير ذلك، ولم يثبتوا خلافاً بحال. وأما أنه يصح لغير ذلك فلأن إمام الحرمين حكى وجهين فيما إذا ملك خمساً وعشرين من الإبل معيبة وفيها بنتا مخاض إحداهما من أجود المال مع العيب، والأخرى دونها. أحدهما: أنه يأخذ التي هي أجود. وأصحهما: أنه يأخذ الوسط، وذكر أن من قال بالأول شبه المسألة بأخذ الأغبط من الحِقَاق وبنات اللبون إذا اجتمع الصِّنفان في المالين ثم العيب المرعى في الباب ماذا؟ فيه وجهان: أصحهما: ما ثبت الرَّد به في البيع. والثاني: هذا مع ما يمنع الإِجْزَاء في الضَّحَايَا. قال الغزالي: (الثَّالِثُ) الذُّكُورَةُ فَإِنْ كَانَ فِي مَالِهِ أُنْثَى أَوْ كَانَ الكُلُّ إِنَاثًا لَمْ تُؤْخَذْ ¬
إِلاَّ الأُنْثَى لِورُودِ النَّصِّ بِالإِنَاثِ، فَإِنْ كَانَ الكُلُّ ذُكُوراً لَمُ يُؤْخَذِ الذَّكَرُ أَيْضاً عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ. "النقص الثالث": قال الرافعي: غرض الفصل يتَّضح بتفصيل أَجْنَاس النّعم، أما الإبل فإن تمحضت إناثاَ أو انقسمت إلى إناث وذكرر فلا يجوز فيها إخراج الذكر إلاَّ في خمس وعشرين، فإنه يجزئ فيها ابن لَبُون عند عدم بنت المَخَاض (¬1) وإن كانت كلها إناثاً، وذلك في المستثنى والمستثنى منه مأخوذ من النّص على ما تقدم وإن تمحّضت ذكوراً، فهل يجوز أخذ الذكر؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال ابن سلمة وأبو إسحاق: لا، ويروى هذا عن نص مالك؛ لأن النّص ورد بالإناث من بنت المَخَاض وبنت اللبون وغيرهما فلا عدول عنها، وعلى هذا فلا يؤخذ منها أنثى كانت تؤخذ لو تمحضت إبله إناثًا بل تقوم ماشيته لو كانت إناثاً وتقوم الأنثى المأخوذة منها ويعرف نسبتها من الجملة ثم تقوم ماشيته الذكور، ويؤخذ منها أنثى قيمتها ما تقتضيه النسبة، وكذلك الأنثى المأخوذة من الإناث، والذكور تكون دون الأنثى المأخوذة من محض الإناث، فطريق التّقسيط ما ذكرناه في المِراض. وأظهرهما: وبه قال ابن خَيْران، ويروى عن نصه في "الأم": أنه يجوز أخذ الذكور منها كما يجوز أخذ المريضة من المراض، والمعنى فيه أن في تكليفه الشّراء حرجاً وتشديداً وأمر الزكاة مبني على الرفق، ولهذا شرع الجِبْرَان، ومنهم من فَصَّل فقال: إن أدَّى أخذ الذكور إلى التَّسوية بين نِصَابَيْن لم يؤخذ، وإلاَّ فيؤخذ بيانه: يؤخذ ابْن مَخَاض من خمس وعشرين وحق من ست وأربعين وجذع من إحدى وستين، وكذا يؤخذ الذكر إذا زادت الإبل واختلف الفرض بزيادة العدد، ولا يؤخذ ابن لبون من ست وثلاثين؛ لأن ابن اللبون مأخوذ من خمس وعشرين عند فقد بنت الخاض، فيلزم التّسوية بينهما. ومن قال بالوجه الثاني قال: لا تسوية، لا في كيفية الأخذ ولا في المأخوذ. أما في كيفية الأخذ فلأن أخذ ابن اللَّبون من ست وثلاثين مشروط بعدم بنت اللَّبون لا بعدم بنت المخاض، وأخذه من خمس وعشرين مشروط بعدم بنت المَخَاض لا بعدم بنت اللبون. وأما في المأخوذ: فلأن عندي يؤخذ من ست وثلاثين ابن لَبُون ¬
فوق ابن اللَّبون المأخوذ من خمس وعشرين، ويعرف ذلك بالتَّقْويم والنِّسْبة. وأما البقر فالتَّبيع مأخوذ منها في مواضع وجوبه وجب واحد منه أو عدد للنص الذي رويناه، ولا فرق بين أن تتمحَّض إناثاً أو ذكوراً أو تنقسم إلى النَّوْعين وحيث تجب المسنّة، فهل يؤخذ المسن عنها إن تمحضت إناثاً، أو انقسمت إلى ذكور وإناث؟ فلا، وإن تمحضت ذكوراً فوجهان كما في الإبل، وأما الغنم فإن تمحضت إناثاً أو كانت ذكوراً وإناثاً لم يَجُزْ فيها الذَّكر خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: يؤخذ الذكر منها مكان الأنثى، وسلم في الإبل أنه لا يؤخذ إلا على طريق اعتبار القيمة على أصله في دفع القيم لنا قياس الغنم على الإبل، وأيضاً فقد روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَلاَ يُخْرَجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلاَ ذَاتُ عَوَارٍ وَلاَ تَيْسٌ" (¬1) وإن تمحَّضت ذكوراً فطريقان: أحدهما: القطع بأنه يؤخذ الذّكر منها. والثاني: طرد الوجهين المذكورين في الإبل والأول هو ما أورده الأكثرون، وفرقوا بأن أخذ الذكر منها لا يؤدي إلى التَّسوية بين نصابين، فإن الفرض فيها يتغير بالعدد، وفي الإبل يؤدي إلى التَّسوية بين القليل والكثير؛ لأن الفرض فيها يتغير بالسِّن أولاً كما سبق. وعد بعد هذا إلى لفظ الكتاب، وأْعلم قوله: "لم يؤخذ، إلاَّ الأنثى" بالحاء، فإن عند أبي حنيفة -رحمه الله- يؤخذ الذّكر على ما بيناه، ولفظ الكتاب وإن كان مطلقاً لكن لا بد من استثناء أخذ التَّبيع في مواضع وجوبه عنه، وكذلك أخذ ابن اللَّبون بدلاً عن بنت مَخَاض، وذكروا وجهين فيما إذا أخرج عن أربعين من البقر أو خمسين تبيعين. أظهرهما عند الأكثرين: الجواز؛ لأن إخراجهما عن ستين جائز فعمَّا دونها أجوز، فعلى هذا تستثنى هذه الصُّورة أيضاً. وقوله: "لم يأخذ الذكر أيضاً" يجوز أن يعلم بالألف؛ لأن ظاهر كلام أحمد فيما رواه أصحابه أنه يجوز أخذه. وقوله: "على أحد الوجهين" بالواو؛ لأن اللفظ يشمل الغَنَم وغيرها، وفي الغنم طريقة أخرى قاطعة بالجواز و [الله أعلم]. قال الغزالي: (الرَّابعُ) الصِّغَرُ فَإِنْ كَانَ فِي المَالِ كَبِيرَةٌ لَمْ تُؤْخَذِ الصَّغِيرَةُ، فَإِنْ كَانَ الكُلُّ صِغَاراً كَالسِّخَالِ وَالفِصْلاَنِ أَخَذْنَا الصَّغِيرَةِ، وَقِيلَ: لاَ تُؤْخَذُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي في الإِبِلِ إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ القَلِيلِ وَالكَثِيرِ، وَقِيلَ: يُؤْخَذُ فِي غَيْرِ الإِبِلِ وَفِي الإِبِلِ فِيمَا جَاوَزَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَلاَ يُؤْخَذُ فِيمَا دُونَهُ كَيْلاَ يُؤَدِّي إِلَى التَّسْوِيَةِ. ¬
"النقص الرابع": قال الرافعي: الماشية إمَّا أن تكون كلها أو بعضها في سِنِّ الفرض أو لا يكون شيء منها في تلك السِّنِّ، وحينئذ إِمَّا أَنْ تكون في سنِّ فوقها أو دونها، فهذه ثلاث أحوال: الحالة الأولى: أن تكون كلها أو بعضها في سن الفرض، فيؤخذ لواجبها ما في سِنِّ الفرض ولا يؤخذ ما دونه ولا يكلف بما فوقه. أما الأول فللنصوص المقتضية لوجوب الأَسْنَان المقدّرة. وأما الثاني فلما فيه من الإِجْحَاف والإضرار بالمالك. وقد روي أن عمر -رضي الله عنه- قال لساعين سفيان بن عبد الله الثقفي -رحمه الله-: "اعتد عليهم بالسَّخلة التي يروح بها الرّاعي على يده ولا تأخذها ولا تأخذ الأَكُولَة والرُّبَّى والمَخَاض ولا فحل الغنم، وخذ الجذعة والثنية، فذلك عدل بين غذاء المال وخياره" (¬1). الأكولة: هي المُسمنة للأكل في قول أبي عبيدة. وقال شمر: أكولة غنم الرجل الخصي، والهَرِمَة: العاقر، والرُّبَى: هي الشاة الحديثة العهد بالنِّتَاج، ويقال: هي في رِبَائِهَا كما يقال: المرأة في نِفَاسِهَا، والجمعُ رُباب بالضّم، والماخض: الحامل، وفحل الغنم: الذكر المعدّ للضّرَاب والغذَاء السخال الصغار، جمع غذي وهذه التي فسَّرناها لو تبرَّع بها المالك أخذت إلا فحل الغنم، ففيه ما ذكرنا في أخذ الزكاة. الحالة الثانية: أن تكون كلّها في سن فوق سن الفرض فلا يكلَّف بإخراج شيء منها بل يحصِّل السِّن الواجب ويخرجها، وله الصعود والنزول كما في الإبل كما سبق. والحالة الثالثة: أن يكون الكلّ في سن دونه، وقد يستبعد تصوير الحالة ببادى الرأي، فيقال لا شك أن المراد من الصّغر هو الانْحِطاط عن السِّن المجزئة، ومعلوم أن أحد شروط الزكاة الحَوْل وإذا حال الحول فقد بلغت الماشية حدَّ الإجزاء، والأصحاب صوروها فيما إذا حدثت من الماشية في أثناء الحَوْل فَصْلان أو عجُول أو سخَال ثم ماتت الأمهات كلها وتم حولها وهي صغار بعد، وهذا مبني على ظاهر المذهب في أن الحول لا ينقطع بموت الأمهات بل تجب الزكاة في النِّتَاج إذا كان نِصَاباً عند تمام حول الأصل، وبه قال مالك، وذهب أبو القاسم الأَنْمَاطِيُّ من أصحابنا إلى أن الأمهات مَهْمَا نقصت عن النِّصاب انقطع حَوْل النِّتاج فضلاَ من أن لا يبقى منها شيء، فعلى قوله: لا تتصور هذه الحالة الثالثة من هذا الطريق، وكذلك لا يتصور عند أبي حنيفة -رحمه الله-؛ لأنه شرط ¬
بقاء شيء من الأمهات ولو واحدة، وإن لم يشترط بقاء النصاب. وعند أحمد -رحمه الله- روايتان: أصحهما: كمذهبنا والأخرى كمذهب أبي حنيفة -رحمه الله-، وسيأتي هذا الأول بشرحه في "شرط الحول" -إن شاء الله تعالى- ويمكن أن تصور هذه الحالة في صورة أخرى، وهي أَنْ يملك نِصَاباً من صغار المَعز ويمضي عليها حول فتجب فيها الزكاة، وإن لم تبلغ سن الإجزاء فإن الثنية من المعز على أظهر الأوجه التي سبقت هي التي لها سنتان، وهذه الصورة لا تستمر على مذهب أبي حنيفة -رحمه الله- أيضاً؛ لأن عنده لا ينعقد الحَوْل على الصّغار من المواشي، وإنما يبتدئ الحَوْل من وقت زوال الصغر. إذا عرف التصوير ففيما يؤخذ وجهان. وقال صاحب "التهذيب" وغيره: قولان: القديم: أنه لا يؤخذ إلاَّ كبيرة؛ لأن الأخبار الواردة في الباب تقتضي إيجاب الأسْنَان المقدرة من غير فرق بين أن تكون الماشية صغاراً أو كباراً، وعلى هذا تؤخذ كبيرة هي دون الكبيرة المأخوذة من الكبار في القيمة، كذا إذا انقسم ماله إلى صغار وكبار يأخذ الكبيرة بالقسط على ما سبق في نظائره فإن لم توجد كبيرة بما يقتضيه التقسيط يؤخذ منه القيمة للضرورة، ذكره المَسْعُودِيّ في "الإفصاح". والجديد: أنه لا يشترط كونها كبيرة بل يجوز أخذ الصَّغيرة من الصّغَار كما يجوز أخذ المريضة من المِرَاض، وعلى هذا فتؤخذ مطلقاً أم كيف الحال؟ قطع الجمهور بأخذ الصَّغيرة من الصّغار من الغنم، وذكروا في البقر والإبل ثلاثة أوجه: أحدها: وبه قال أبو العباس وأبو إسحاق: أنه لا يؤخذ منها الصغار؛ لأنا لو أخذنا لسوَّيْنا بين ثلاثين من البقر وأربعين في أخذ العجل وبين خمس وعشرين من الإبل، وإحدى وستين وما بينهما من النّصابين في أخذ فَصِيل، ولا سبيل إلى التَّسوية بين القليل والكثير بخلاف ما في الغنم، فإن الاعتبار فيها بالعدد فلا يؤدي أخذ الصغار إلى التسوية، وعلى هذا فتؤخذ كبيرة بالقسط على ما سبق في نظائره، ولا يكلف كبيرة فتؤخذ من الكبار. والوجه الثاني: أنه لا يؤخذ الفَصِيل من إحدى وستِّين فما دونها؛ لأن الواجب فيها واحد، واختلافه بالسِّن فلو أخذنا فَصِيلاً لسوَّينا بين القليل والكثير، أما إذا جاوز ذلك فالاعتبار بالعدد فأشبه الغنم وكذلك البقر. والثالث: أنه يؤخذ الصّغار منهما مطلقاً اعتباراً بجنس المال كما يؤخذ من الغنم، ولكن يجتهد الساعي ويحترز عن التَّسوية فيأخذ من ست وثلاثين فصيلاً فوق الفصيل
المأخوذ من خمس وعشرين ومن ست وأربعين فصيلاً فوق المأخوذ من ست وثلاثين، وعلى هذا القياس -والله أعلم-. ولنبين ما في الكتاب من هذه الاختلافات. والأظهر منها: قوله: "أخذنا الصغيرة" وهو الوجه الأخير المجوز لأخذ الصّغار من الغنم وغير الغنم وإيراده يشعر بترجيحه، وكذلك ذكر صاحب "التَّهذيب" وآخرون أنه الأصح. وليكن قوله: "أخذنا" معلم بالميم والحاء. أما بالميم فلأن عنده لا تؤخذ إلاَّ الكبيرة وأما بالحاء فلأن عنده لا تؤخذ الصغيرة ولا الكبيرة، ولا زكاة في الصّغار كما سبق بيانه. وقوله: وقيل: لا يؤخذ، هو المحكي عن القديم الصائر إلى المنع مطلقاً، وأراد بقوله: "لأنه في الإبل يؤدي إلى التسوية" أنا لو أخذنا الصغيرة لأخذناها من الإبل أيضاً، كالمريضة والمعيبة حيث تؤخذ تؤخذ من غير الإبل من جميع النعم، ولو أخذنا من الإبل لزم التَّسوية بين القليل والكثير فامتنع الأخذ أصلاً ورأساً. وقوله: "وقيل: يؤخذ في غير الإبل ... " إلى آخره هو الوجه الثاني من الوجوه التي بَيَّنَّاها على الجديد، وزيفه الأئمة من وجهين: أحدهما: أن التسوية التي تلزم في إحدى وستين فما دونها تلزم في ست وسبعين وإحدى وتسعين أيضاً، فإن الواجب في ست وسبعين بنتًا لَبُون وفي إحدى وتسعين حقَّتَان، فإذا أخذنا فَصِيلين من هذا ومن ذاك فقد سوينا بينهما لا فرق إلا أن المأخوذ قبل مجاوزة إحدى وستين واحد وبعد مجاوزتها اثنان، فإن وجب الاحتراز عن تلك التسوية فكذلك عن هذه. والثاني: أن هذه التسوية تلزم في البقر بين الثلاثين والأربعين، وعبر قوم من الأصحاب عن هذا الوجه بعبارة أخرى تدفع هذين الالْتِزَامين، وهي أن الصغيرة تؤخذ حيث لا يؤدي أخذها إلى التسوية بين القليل والكثير، ولا تؤخذ حيث يؤدي أخذها إلى التسوية، وهكذا ذكر المصنف في "الوسيط" والإمام في "النهاية". وقوله: "ولا يؤخذ فيما دونه" يجوز أن يعلم بالواو؛ لأن صاحب "التهذيب" خص وجه المنع بالست والثلاثين والست والأربعين فما فوقهما، وجوز إخراج فصيل من خمس وعشرين إذ ليس في تجويزه وحدة تسوية وفي كلام، الصيدلاني مثل ذلك -[والله أعلم]-. قال الغزالي: (الخَامسُ) رَدَاءَةُ النَّوْعِ فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ مَعْزاً أَخَذَ المَعْزَ، وَإِنْ اخْتَلَفَ فَقَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا أنَّهُ يَنْظُرُ إلَى الأغْلَبِ وَعِنْدَ التَّسَاوِيَ يُرَاعِي الأَغْبَطَ لِلْمَسَاكين، وَالثَّانِي: أنَّهُ يؤْخَذ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ بِقِسْطِهِ، هَذَا بَيَانُ النِّصَابِ وَلاَ زَكَاةَ فِيمَا دُونَهُ إلا إِذَا تَمَّ بِخَلْطَةٍ نِصَاباً.
قال الرافعي: نوع الجنس الذي يملكه من الماشية إن اتحدَّ أخذ الفرض منها، كما إذا كانت إبله أَرْحبِيَّةً (¬1) كلها أخذ الفرض منها، وإن كانت مُهَرِيَّةً (¬2) أخذ الفرض منها وإن كانت غنمه ضأناً أخذ الضأن، وإن كانت مَعِزاً أخذ المعز، وذكر في "التهذيب" في ذلك وجهين في أنه هل يجوز أن يؤخذ ثنية من المعز باعتبار القيمة عن أربعين ضأناً، أو جذعة من الضأن عن أربعين معزاً؟: أحدهما: لا، كما لا يجوز البقر من الغنم. وأصحهما: نعم، لاتفاق الجنس، كالمهرِيَّةِ مع الأرَحبِيَّةِ. وحكى عن القاضي حسين: أنه يحتمل أن لا يؤخذ المعز من الضّأن ويؤخذ الضأن من المعز؛ لأن المعز دون الضَّأن كما تؤخذ المهرِيَّة عن المجِيدِيَّة (¬3)، وكلام إمام الحرمين -رحمه الله- يقرب من هذا التفصيل، فإنه قال: الضأن أشرف من المعز، فلو ملك أربعين من الضّأن الوسط فأخرج ثَنِية من المَعِز الشريفة، وهي تساوي جذعة من الضّأن الذي يملكه فهذا محتمل والظاهر إجزاؤها، وإن اختلف نوع الجنس الذي يملكه من الماشية كالمُهَرِيَّة والأَرْحَبِيَّةِ من الإبل وَالعِرَاب والجَوَامِيس من البَقر والضَّأْن والمَعِزِ من الغَنَم فيضم البعض إلى البعض لاتِّحاد الجنسَ، وفي كيفية أخذ الزكاة منها قولان مشهوران: أحدهما: أنها تؤخذ من الأغلب، لأن النظر إلى كل نوع مما يشق فيتبع الأقل والأكثر ولو استوى النوعان أو الأنواع في المقدار، فقد قال في "النهاية" تفريعاً على هذا القول: إنه عند الأئمة بمثابة ما لو اجتمع في المائتين من الإبل الحِقَاق وبنات اللَّبون، فظاهر المذهب أن السّاعي يأخذ الأَغْبَطَ للمساكين، وهو المشهور، والمذكور في الكتاب، ومن قال: ثم الخيرة إلى المالك، فكذلك يقول هاهنا، فيجوز أن يرقم لهذا قوله: "وعند التساوي يراعي الأغبط" بالواو. والقول الثاني: وهو الأظهر: أنه يؤخذ من كل نوع بالقسط رعاية للجانبين، وليس معناه أن يُؤْخَذ شِقْص من هذا، وشِقْص من ذاك (¬4) فإنه لا يجزئ بالاتِّفاق، ولكن ¬
المراد النَّظر إلى الأَصْناف باعتبار القيمة على ما سنبينه في الأمثلة، وإذا اعتبرت القيمة والتَّقسيط فمن أي نوع كان المأخوذ جاز، هكذا قال الجمهور. وقال ابن الصباح: ينبغي أن يَكُونَ المأخوذ من أعلى الأنواع، كما لو انْقَسَمَت ماشيته إلى صحاح ومراض يأخذ بالحصَّة من الصِّحاح، ولك أن تقول: ورد النهي عن المريضة والمعيبة (¬1) فلذلك لا نأخذها ما قدرنا على صحيحة وما نحن فيه بخلافه. في المسألة قول ثالث محكي عن "الأم": وهو أنه إذا اختلفت الأنواع يؤخذ الفرض من الوسط كما في الثِّمار، ولا يجئ هذا القول فيما إذا لم يكن إلا نَوْعين، ولا فيما إذا كانت أَنْوَاعاً متساوية في الجَوْدَةِ والرَّدَاءَةِ. وحكى القاضي ابن كج وجهاً: وهو أنه يؤخذ من الأجود أخذاً من نَصِّه في اجتماع الحِقَاقِ وبنات اللَّبُون (¬2) ويجوز أن يعلم قوله في الكتاب: "فقولان" بالواو؛ لأن القاضي أبا القاسم بن كج حكى عن أبي إسحاق أن موضع القولين ما إذا لم تحتمل الإبل أخذ واجب كل نوع لو كان وحده منه، فإن احتمل أخذ كذلك بلا خلاف، مثل أن يملك مائتين من الإبل مائة مُهَرِيَّة، ومائة أَرْحَبِيَّة، فيؤخذ حقَّتَان من هذه، وحقَّتَان من هذه، والمشهور طرد الخلاف على ما يقتضيه لفظ الكتاب، ونوضح القولين بمثالين: أحدهما: له خمس وعشرون من الإبل عشرة مهَرِيَّة، أرحِبيَّة أَرْحَبِيَّة، وخمسة ¬
مجِيْدِيّة، فعلى القول الأول تؤخذ بنت مَخَاض أَرْحَبِيَّة أو مهرية بقيمة نصف أَرْحَبِيّة ومهرية؛ لأن هذين النَّوْعين أغلب، ولا نظر إلى المجِيدِيّة. وعلى الثاني يؤخذ بنت مَخَاض من أي الأنواع أعطى بقيمة خمس مهَرِيّة، وخمس أَرْحَبِيَّة، وخمس مجِيْدِيّة (¬1) فإذا كانت قيمة بنت مخاض مهرية عشرة وقيمة بنت مخاض أرحبية خمسة وقيمة بنت مخاض مجيدية ديناران ونصف فيأخذ بنت مخاض من أحد أنواعها قيمتها ستة ونصف وهي خمساً عشرة وخمسًا خمسة وخمس ديناران ونصف، وصور بعضهم قيمة المجيدية أكثر، وذلك فرض في إبل الشخص على الخصوص، وإلاَّ فالمجيدية أردأ الأنواع الثلاثة، وغرض التمثيل لا يختلف. والثاني: له ثلاثون من المعز، وعشر من الضَّأْن، فعلى القول الأول يؤخذ ثنية من المعز. قال في "النهاية": ويكتفي بماعزة كما يأخذها، لو كانت غنمة كلها معزاً، وعلى عكسه لو كانت ثلاثون منها ضأناً أخذنا جذعة من الضَّأن كما نأخذها لو تمخَّضت غنمه ضأناً، وعلى القول الثاني يخرج ضائنة، أو ماعزة بقيمة ثلاثة أرباع ماعزة وربع ضائنة الصورة الأولى وبقيمة ثلاثة أرباع ضائنة وربع ماعزة في الصُّورة الثانية، ولا يجيء قول اعتبار الوسط هاهنا وعلى الوجه الذي رواه ابن كج يؤخذ من الأَشرف فلا يخفى قياسها في المثال الأول. ¬
باب صدقة الخلطاء
بَابُ صَدَقَةِ الخُلَطَاءِ وَفِيهِ خَمْسَةُ فُصُولٍ قال الغزالي: الأَوَّلُ، فِي حُكْمِ الخُلْطَةِ وَشَرْطِهَا وَحُكْمُ الخُلْطَةِ تَنْزِيلُ المَالَيْنِ مَنْزِلَةَ مَالٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ خَلَطَ أَرْبَعِينَ بِأَرْبَعِينَ لِغَيْرِهِ فَفِي الكُلِّ شَاةٌ وَاحِدَةٌ (ح)، وَلَوْ خَلَطَ عِشْرِينَ بِعِشْرِينَ لِغَيرِهِ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ (م ح) شَاةٍ. قال الرافعي: النَّظَر في المواضع الخمسة كان معترضاً في شرط النِّصاب، فلما فرغ منها عاد إلى القول في النِّصاب، ولما كانت الزِّكاة قد تجب على مَنْ لا يملك نصاباً بسبب الخَلْطَة وجب اسْتِثْنَاؤها عن اشتراط النِّصَاب، فاستثنى ووصل به باب صَدَقَة الخُلَطَاء وهو من أصول أبواب الزكاة، وأدرج مقصوده في خَمْسَةِ فصول: أولها: في حكم الخلْطَة وشرطها. اعلم: أن الخلطة نوعان: خلطة اشتراك وخلطة جوار (¬1)، وقد يعبر عن الأولى بخلطة الأعيان، والثاني بخلطة الأوصاف، والمراد من النوع الأول أن لا يتميّز نصيب أحد الرَّجلين أو الرِّجال عن نصيب غيره كماشية ورثها اثنان أو قوم أو ابتاعوها معاً، فهي شائعة بينهم. ومن النوع الثاني: أن يكون مال كل واحد معيناً متميزاً عن مال غيره، ولكن تَجَاورا تَجَاوُرَ المال الواحد على ما سنصفه، ولكلتا الخلطتين أثر في الزّكاة، ويجعلان مال الشخصين أو الأشخاص منزلة مال الشَّخص الواحد في الزكاة، ثم قد تكثر (¬2) الزَّكَاة كما لو كان جملة المال أربعين من الغنم يجب فيها شاة ولو انفردا كل واحد بنصيبه لم يجب شيء وقد نقل كما لو كان بينهما ثمانون مختلطة يجب فيها شاة ولو انفرد كل واحد بأربعين لوجب على هذا شاة وعلى هذا شاة. وحكى الحناطي وجهاً غريباً أن خَلْطَة الجوار لا أثر لها، وإنما تؤثر خلطة الشُّيُوع. وعند أبي حنيفة -رحمه الله- لا حكم للخلْطَة أصلاً، وكل واحد يزكِّي زكاة الانْفِرَاد إذا بلغ نصيبه نصاباً، وعند مالك لا حكم للخلْطَة إِلاَّ إذا كان نصيب كل واحد منهما نِصَاباً، فلذلك أعلم قوله في الكتاب: "إلا إذا تم بخلطة نصاباً" بالحاء والميم، ¬
وكذلك قوله: "ففي كل واحد نصف شاة"، وقوله: "ففي الكل شاة واحدة" بالحاء وحده، ومذهب أحمد -رحمه الله- كمذهبنا والدليل عليه ما روي في حديث أنس وابن عمر -رضي الله عنهم- أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَلاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ" (¬1). قال العلماء: هذا نهي للسَّاعي والملاك عن الجمع والتَّفريق اللَّذَين يقصد بهما السّاعي تكثير الصدقة والملاّك تقليلها، فجمع الساعي أن يكون لزيد عشرون من الغنم، ولعمرو عشرون وهي متفرقة متميزة، فأراد السّاعي الجمع بينهما ليأخذ منها شاة، وتفريقه أن يكون بينهما ثمانون مختلطة، فأراد أن يفرق ليأخذ شاتين. (وأما) جمع الملاك مثل أن يكون لزيد أربعون من الغنم، ولعمرو أْربعون متفرقة فأراد الجمع لئلا يأخذ السَّاعي منها إلاَّ واحدة، وتفريقهم مثل أن يكون لهما أربعون مُخْتَلَطة فأراد التَّفريق لئلا يأخذ منهما شيئاً، ولولا أن الخلطة مؤثرة لما كان لهذا الجمع والتفريق معنى. قال الغزالي: وَشَرْطُ الخُلْطَةِ اتِّحَادُ المَسْرَحِ وَالْمَرْعَى وَالمَرَاحِ وَالْمَشْرَعِ وَكَوْنِ الخَلِيطِ أَهْلاً لِلزَّكَاةِ لاَ كَالذِّمِّيِّ، وَالمُكَاتَبِ، وَفِي اشْتِرَاكِ الرَّاعِيِ وَالفَحْلِ وَالمَحْلَبِ وَوُجُودِ الاخْتِلاَطِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ وَجَرَيَانِ الاخْتِلاَطِ بِالقَصْدِ وَاتِّفَاقِ أَوَائِلِ الأحْوَالِ خِلاَفٌ. قال الرافعي: نوعاً الخلْطَة يشتركان في اعتبار شروط وتختص خلْطَة المُجَاورة بشروط زائدة، فمن الشروط المشتركة: أن يكون المجموع نصاباً، وفي لفظ الكتاب ما يدل على اعتباره حيث قال: إلا إذا تم بخَلْطه نصاباً فلو ملك زيد عشرون شاة، وعمرو مثلها، فخلطا تسع عشرة بتسع عشرة وتركا شاتين منفردتين فلا أثر لخلطتهما ولا زكاة أصلاً. ومنها: أن يكون المختلطان من أهل وجوب الزَّكاة فلو كان أحدهما ذمِّياً أو مكاتباً فلا أثر للخلطة بل إن كان نصيب الحُرِّ المسلم نصاباً زكى زكاة الانفراد، وإلاَّ فلا شيء عليه وذلك من ليس أهلاً لوجوب الزكاة عليه لا يجوز أن يصير ماله سبباً لتغير زكاة المسلم. ومنها: دوام الخلْطَة في جميع السّنة على ما سيأتي شرحه. وأما الشروط التي تختص خلطة الجوار باعتبارها. فمنها: اتِّحاد المَرْعى والمَسْرح والمَرَاح والمَشْرَع (¬2)، وهذا لفظ الكتاب والمراد ¬
من اتِّحاد المَشْرَع: أن تسقى غنمهما من ماء واحد من نَهْر أو عَيْن أو بئر أو حوض أو مياه متعددة، ولا تخصّ غنم أحدهما بالسَّقي من موضع، وغنم الآخر بالسَّقي من غيره. والمراد بالمَرَاح: مأواها ليلًا فلو كان يختّص غنم أحدهما بمَرَاح وغنم الآخر بمَرَاح آخر، لم تثبت الخلْطَة، وإن كانا يخلطانها نهاراً. وأما المَرْعَى والمَسْرح فلفظ الكتاب يقتضي تَغَايُرهما، وكلام كثير من الأئمة يوافقه، ومنهم من يقتصر على ذكر المَسْرَح ويفسره بالمَرْعَى، ولفظ "المختصر" قريب منه وليس في الحقيقة اختلاف، لكن الماشية إذا سَرَحَت عن أماكنها، تجئ قطعة قطعة وتقف في موضع، فإذا اجتمعت امتدت إلى المرعى، وكان بعضهم أطلق اسم المسرح على ذلك الموضع وعلى المرتع نفسه؛ لأن الإبل مسرحة إليها ومنهم من خصَّ اسم المسرح بذلك الموضع وإنما شرط اتِّحاد المالين في هذه الأمور ليجتمع اجْتِمَاع ملك المالك الواحد على الاعْتِيَاد. وقد روى عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنه سمع النبي يقول: "لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ (¬1)، وَالْخَلِيطَانِ مَا إِذَا اجْتَمَعَا فِي الْحَوْضِ وَالْفَحْلِ والرَّاعِي". فنص على اعتبار الاجتماع في الحوض والرعي من الأمور الأربعة، وقيس عليهما البَاقي، ومنها اشتراك المالين في الرَّاعي، حكى المصنف وشيخه وجهين: أظهرهما: أنه يشترط كالاشْتِرَاك في المراح والمسرح، وأيضاً فقد روي في بعض الرِّوَايات عن سعد بدل الرَّعي الراعي (¬2) (¬3). والثّاني: أنه ليس بشرط؛ لأن الافتراق فيه لا يرجع إلى نفس المال، فلا يضر بعد الاجتماع في المَراح وسائر ما ذكرنا، ولا شك في أنه لا بأس بتعدد الرّعاة، والخلاف في أنه، هل يشترط أن لا تختص غنم أحدهما براع أم لا؟ ويجوز أن يعلّم قوله في ¬
الكتاب: "في اشتراك الراعي" بالواو؛ لأن كثيراً من الأَصْحَاب نفوا الخلاف في اشتراطه. ومنها: الاشتراك في الفَحْل فيه وجهان كما في الراعي. أحدهما: أنه لا يعتبر ولا يُقْدَح في الخَلْطَة اختصاص كل واحد منهما بِإِنْزَاء فَحْل على ماشيته، وهذا أصح عند المَسْعُودِي، لكن يشترط كون الإِنْزَاء على موضع واحد على ما سنذكره في الخلاف. وأظهرهما: ولم يذكر الجمهور سواه (¬1) أنه يعتبر لما ذكرنا في خبر سعد، وعلى هذا فالمراد أن تكون الفُحُولَة مرسلة بين ماشيتهما، ولا يخصّ واحد منهما ماشيته بِفَحْل سواء كانت الفُحُولة مشتركة بينهما أو مملوكة لأحدهما أو مُسْتَعَار. وحكى الشيخ أبو محمد وغيره وجهاً آخر، أنه يجب أن تكون مُشْتَرَكة بينهما، وضعفه (¬2). ولك أن تعلَّم لفظ "الفحل" بالواو لمثل ما ذكرنا في الراعي. ومنها: حكى في الكتاب في الاشْتِراك في المِحْلَب خلافاً وشرحه أن المُزنِيَّ روى في "المختصر" في شرائط الخلْطَة أنه يعتبر أن يُحْلَبا معاً، وحكى مثله عن حَرْمَلَةَ ورواية الزَّعْفَرَانِيّ وليس له ذكر في "الأم" فاختلفوا منهم من أثبت قولين: أحدهما: اعتباره كما في السَّقْيَ والرعي. والثاني: المنع فإنه ارْتِفَاقٌ وانتفاع فلا يعتبر الاجْتِمَاع فيه كما في الرُّكُوب، ومنهم من قطع بنفي الاعتبار حكى الطريقتين القاضي ابن كج، والظاهر الذي أورده الأكثرون وفَرَّعوا عليه إنَّما هو الاعتبار ثم هاهنا أشياء موضع يحلب فيه، وإناء يتقَاطَرُ فيه اللَّبن وهو المَحْلَب وشخص يحلب ففي ماذا يعتبر الاشتراك أما الموضع فلا بدلا من الاشتراك فيه كالمَرَاح والمَرْعى فلو حلب هذا ماشيته في أهله وذاك ماشيته في أهله، يثبت حكم الخلْطَة (¬3)، وأما الحالب ففيه وجهان: ¬
أحدهما: أنه يعتبر الاشْتِراك فيه أيضاً على معنى، أنه لا يَجُوز أن ينفرد أحدهما بحالب يمنع عن حلب ماشيته لآخر، وهذا ما ذكره الصَّيْدَلاَنِي. وأظهرهما: وبه قال أبو إسحاق: لا يعتبر ذلك كما في الجاز وفي الاشتراك في المحْلَب وجهان أيضاً: أظهرهما: لا يعتبر الاشتراك فيه كما لا يعتبر الاشتراك في آلات الجَزِّ فإن كل واحد منهما نوع انتفاع. والثاني: يعتبر وبه قال أبو إسحاق هاهنا، ومعناه أنه لا يجوز أن ينفرد أحدهما بمحْلَب أو محالب ممنوعة عن الثَّاني، وعلى هذا فهل يشترط خلط اللبن أو يجوز أن يحلب أحدهما في الإناء، ويفرغه ثم يحلب الآخر؟ فيه وجهان: أظهرهما: أنه لا يشترط ذلك، فإن لبن أحدهما قد يكون أكثر، فإذا اختلطت امتنعت القِسْمَة. والثَّاني: يشترط ثم يَتَسَامحون في القِسْمة كما يخلط المسافرون أزوادهم ثم يأكلون، وفيهم الزّهيد والرغيب. ومنها: نِيَّة الخلطة، وفي اشتراطها وجهان: أحدهما: أنها تشترط، لأنها تغير أمر الزَّكَاة، إما بالتَّكْثِير أو بالتَّقْلِيل، ولا ينبغي أن يكثر من غير قصده ورضاه ولا أن يَقُلْ إذا لم يقصد محافظة على حق الفقراء. وأظهرهما: أنها لا تشترط فإن الخَلْطَة إنما تؤثِّر من جهة خفَّة المؤنة باتِّحَاد المرافق، وذلك لا يختلف بالقصد وعدمه، وهذان الوجهان كوجهين يأتيان في قصد الاسَامَة والعَلَفِ، ويجريان غالباً فيما لو افترقت المَاشية في شيء مِمَّا يعتبر الاجتماع فيه بنفسها أو فرقها الرَّاعي ولم يشعر المالكان إلا بعد طول الزَّمان؟ هل تنقطع الخلطة أم لا؟ ولو فرقاها أو أحدهما قصداً في شَيْءٍ من ذلك انقطع حكم المخالطة وإن كان يسيراً والتفرق اليسير من غير قصد لا يؤثر، لكن لو اطَّلَعَا عليه فأقراها على تفرقهما ارتفعت الخلطة؟ ومهما ارتفعت الخلطة فعلى من كان نصيبه نصاباً زكاة الانفراد إذا تَمَّ الحَوْل من يوم المِلْك لا من يوم ارتفاعه. وأما قوله: "ووجد الاختلاط في أول السنة"، وقوله: "واتفاق أوائل الأحوال"
فهما المسألتان اللتان يشتمل عليهما الفصل الثالث ونشرحهما إذا انتهينا إليه، والخلاف الذي أبهم ذكره في جميع الصُّوَرِ وَجْهَان، إلا في وجود الاخْتِلاَط في أول السَّنة فهو في هذه المسألة قولان ستعرفهما؟ ولك أن تعلم قوله: "وشرط الخلطة اتحاد المَرْعَى والمَسْرَح ... " إلى آخره بالميم؛ لأن ابن الصَّبَّاغ حكى عن أصحاب مالك اختلافاً في الأمور التي شرطناها في الخلطة، فمنهم من شرط اجتماع المالين في أمرين منها، ومنهم من اعتبر الرَّعي والرَّاعي، ومنهم من اعتبر الرَّعي وأمراً آخر أيّما كان. قال الغزالي: وَفِي تَأْثِيرِ الخُلْطَةِ فِي الثِّمَارِ وَالزَّرْعِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ، فَعَلَى الثَّالِثِ يُؤَثِّرُ خُلْطَةُ الشُّيُوعِ دُونَ الجِوَارِ، وَلاَ تُؤَثِّرُ خُلْطَةُ الجِوَارِ فِي مَالِ التِّجَارَةِ، وَفِي الشُّيُوعِ قَوْلاَنِ. قال الرافعي: لا خلاف عندنا في تأثير الخَلْطَة في المَوَاشي، وهل تؤثر في غير المواشي من الثِّمار والزروع والنقدين وأموال التجارة؟ أما خلطة المشاركة ففيها قولان: القديم: وبه قال مالك وكذلك أحمد في أَصَحِّ الرِّوايتين أنها لا تثبت بخلاف المَوَاشي، فإنّ فيها أوقاصاً فالخلْطَة تنفع المالك تارة والمسكين أخرى، ولا وَقْصَ في المُعشرَات، فلو أثبتنا الخلطة فيها لتمحَّضت ضرراً في حقِّ المالكين، لأنها تضر فيما إذا كان ملك كل واحد منهما دون النصاب، ولا يثبت نفع بإزائه واحتج له أيضاً بظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وَالْخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَا فِي الْحَوْضِ وَالْفَحْلِ وَالرَّعْي" (¬1). فإنه يقتضي حصر الخَلِيطَيْن في المجتمعين في هذه الأمور، وذلك لا يفرض إلاَّ في المواشي. والجديد: أنها تثبت؛ لأنهما كما يَرْتَفِقَان بالخلطة في المَوَاشي لخفّة المُؤْنة باتِّحاد المرافق كذلك يرتفقان في غيرهما باتحاد الجرِين والنَّاطُور والدّكان، والحَارِس والمتعهّد وكرَّاء البيت وغيرها. واحتج له بإطلاق قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ" (¬2). وأما خلطة المُجَاورة: فإن لم تثبت خلطة المُشَاركة، فهذه أوْلى وإن أثْبتنا تلك ففي هذه قولان ومنهم من يقول: وجهان، وذلك بأَنْ يكون لكلِّ واحد صف نخيل أو زرع في حائط واحد أو كيس دراهم في صندوق واحد أو أمتعة تجارة في خزانة واحدة. أصحهما: عند العراقيين وصاحب "التهذيب" والأكثرين: أنها تثبت أيضاً كما في المَوَاشي، وهذا الحصول حصول ارتفاق باتحاد النَّاطُور والعَامِلِ والنَّهْرِ الذي منه تسقى وباتحاد الحارث ومكان الحفظ وغيرها. ¬
الفصل الثاني في التراجع
والثاني: أنها لا تثبت؛ لأن كل نَخْلَة متميزة بمكانها الذَّي تشرب منه، فأشبه افْتِرَاق المَاشِيَة في المَشْرَب، ونسب القاضي ابْنُ كَجٍّ هذا إلى اختيار أبي إسحاق، والأول إلى اختيار ابن أبي هريرة، ولا فرق في جميع ما ذكرنا بين الثِّمار والزُّروع وبين النَّقْدَين وأموال التِّجَارة على المَشْهُور وعن القَفَّال طريقة أخرى، وهي أن الخِلاَفَ في الثِّمَار والزُّروع في الخلطتين جميعاً وفي النَّقْدَين وأموال التجارة في خلطة المشاركة وحدها، وفي خلطة الجوار نقطع بأنها لا تثبت فيها، وهذه الطريقة هي التي أوردها الشّيخان الصَّيدلانيّ وأبو محمد، وذكرها صاحب الكتاب فقال: "ولا تؤثر خلطة الجوار في مال التجارة وفي الشيوع قولان" فأعلم قوله: "ولا تؤثر" بالواو، وقوله: "تؤثر خلطة الشيوع" بالميم والألف لما قدمناه، واعرف أنا حيث أثبتنا الخلاف وتركنا الترتيب حصلت ثلاثة أقوال كما ذكر في الكتاب: أحدها: تأثير الخلطتين. والثاني: المنع. والثالث: تأثير خلطة الشيوع دون الأخرى، وفرعوا على الصحيح وهو تأثير الخلطتين فروعاً. منها: نخيل موقوفة على جماعة معينين في حائط واحد أثمرت خمسة أوسق لزمهم الزكاة، وساعدنا مالك في هذه الصورة ويمثله لو وقف أربعين شاة على جماعة معينين، هل تجب عليهم الزكاة؟ يبنى ذلك على أن المِلْك في الوَقْف، هل ينتقل إليهم؟ إن قلنا: لا، فلا زكاة عليهم، وإن قلنا: نعم، فوجهان: أصحهما: لا زكاة لنقصان مِلْكهم كما في ملك المُكَاتب (¬1). ومنها: لو استأجر أجيراً ليتعهد نخيله على ثمرة نخلة بعينها بعد خروج ثمارها وقبل بدوّ الصّلاح وشرط القَطْع لكن لم يتّفق القطع حتى بدا الصّلاح وكان مبلغ ما في الحائط نصاباً وجب على الأجير عشر ثمرة تلك النخلة وإن قلَّت. قال الغزالي: الفَصْلُ الثَّانِي في التَّرَاجُعِ: وَلِلسَّاعي أَنْ يَأْخُذَ مِنْ عُرْضِ المَالِ مَا يَتَّفِقُ ثُمَّ يُرْجِعُ المَأْخُوذَ مِنْهُ بِقِيمَةِ حِصَّةِ خَلِيطِهِ، فَلَوْ خَلَطَ أَرْبَعِينَ مِنَ البَقَرِ بِثَلاَثِينَ لِغَيْرِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَى السَّاعيِ أَخْذُ المُسِنَّةِ مِنَ الأَرْبَعِيْنَ وَالتَّبِيعِ مِنَ الثَّلاَثِينَ بَلْ يَأْخُذُ كَيْفَ اتَّفَقَ، ¬
فَإِنْ أَخَذَ كَذَلِكَ فَيَرْجعُ بَاذِل المُسِنَّةِ بِثَلاثَةِ أَسْبَاعِهَا عَلَى خَلِيطِهِ وَبَاذِلُ التَّبِيعِ بِأَرْبَعَةِ أَسْبَاعِهَا عَلَى خَلِيطِهِ؛ لِأنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ السِّنَّينِ وَاجِبٌ فِي الجَمِيعِ عَلَى الشُّيُوعِ كَأنَّ المَالَ مِلْكٌ وَاحِدٌ. قال الرافعي: روينا عن النّبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "وَمَا كَانَا مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ" (¬1). أخذ الزكاة من مال الخليطين يقتضي رجوع أحدهما على صاحبه دون رجوع الآخر عليه وقد يقتضي التراجع بينهما، وهو الذي تعرض له الخبر. وقوله -عليه السّلام- بالسَّوية حمله الأئمة على الحصّة، فإذا ملك ما دون خمس وعشرين من الإبل بينهما نصفين وأخذ السَّاعي واجباً من أحدهما رجع بنصف قيمة المأخوذ على صاحبه ولو كانت بينهما أثلاثاً أو أرباعاً فالرجوع بالحساب ثم الرجوع والتَّراجع يكثران في خلطة الجواز، وإنما رَسَمَ الفصل في الكتاب للتراجع في هذه الخلطة وقد يتفقان قليلاً في خلطة المشاركة أيضاً على ما سنذكره آخراً، وحكى المُحَامِليُّ فيما يحمل عليه الخبر من الخلطتين قولين: الجديد: أن مطلق الخلطة ينصرف إلى خلطة المشاركة. والقديم: أنه ينصرف إلى خلطة المُجَاورة، وعليها حمل المعظم الخبر إذا عرفت هذه المقدمة فنتكلم في مقصود الفصل أوّلاً ونقول: إذا اختلط المالان خلطة جوار بشرائطها ووجب الزَّكاة نظر، هل يمكن أخذ ما يخص مال كل واحد منها لو انفرد من ماله أم لا؛ فإن لم يمكن فللسّاعي أن يأخذ الفرض من إيهما شاء فإن لم يجد سن الفرض بصفة الأجزاء إلا في مال أحدهما أخذه منه. مثاله: بينهما أربعون من الغنم بالسّوية لا يمكن التَّشْقيص فيأخذ شاة من أَيِّهِمَا اتّفق، ولو وجب بنت لَبُون في إبلهما ولم يجدها إِلاَّ في مال أحدهما أخذها منهم، ولو كانت ماشية أحدهما مراضاً أو معيبة أخذ الفرض من الآخر، وإن أمكن أخذ ما يخص مال كل واحد منهما لو انفرد منه فوجهان: أحدهما: فقد قال أبو إسحاق يأخذ كل واحد ما يخص ماله، ولا يجوز غير ذلك إغناء لهما عن التراجع. وأصحهما وبه قال ابن أبي هريرة والمعظم وهو المذكور في الكتاب: أن له أن يأخذ من عرض المال ما يتفق ولا حجر عليه، بل وإن أخذ كما ذكر صاحب الوجه الأول يبقى التراجع بينهما، وذلك لأنَّ المالين عند الخلطة يَنْزِلان منزلة المَالِ الواحد، ¬
أَلاَ ترى أنَّ الواجب يقلّ تارة ويكثر أخرى، كما لو كان الكلُّ لواحد [وإذا] (¬1) كان كذلك فكلُّ المأخوذ شائع في جميع المال وليس شيئاً منه بعينه عن شيء من المال بعينه والباقي عن الباقي. مثال هذه الحالة التي فيها الوجهان: أن تجب شاتان في الغَنَمِ المخلوطة، وأمكن أخذ إحداهما من هذا والثانية من ذاك، وكذلك لو كان بينهما سبعون من البقر أربعون لإحداهما وثلاثون للآخر وأمكن أخذ المسنة من الأربعين والتَّبيع من الثلاثين، وكذلك لو كان بينهما مائة وثمانون من الإبل مائة لأحدهما وثمانون للآخر وأمكن أخذه حِقَّتين من المائة وبنتي لَبُون من الثَّمانين، ولا يخفى نظائره إذا تقرر ذلك فلنبين كيفية الرّجوع والتراجع عند أخذ الزَّكاة على الوجه المُحوج إلى أحدهما على حسب الخلاف الذي حكيناه. فنقول: إذا أخذ شاة من أحد الخَلِيطين عن أربعين من الغنم عشرون منها لهذا وعشرون للآخر رجع المَأْخُوذ منه بنصف قيمة الشَّاة المَأْخوذة على الآخر ولا يرجع بنصف شاة؛ لأن الشَّاة ليست بمثليه ولو كانت ثَلاَثون لأحدهما وعشرة للآخر، فإن أخذ الشَّاة من صاحب الثلاثين رجع بربعها على الآخر ولا يرجع بنصف شاة، وإن أخذها من الآخر ورجع بثلاثة أرباعها على صاحب الثلاثين، ولو كان بينهما مائة وخمسمون شاة لأحدهما مائة وللآخر خمسون فأخذ السّاعي الشاتين الواجبتين فيها من صاحب المائة رجع على الآخر بقيمة ثلث كل شاة ولا نقول بقيمة ثُلُثي كل شاة؛ لأن قيمة الشَّاتين تختلف وإن أخذها من صاحب الخَمْسِين رجع على الآخر بقيمة ثلثي شاة ولو أخذ من كل واحد شاة ورجع صاحب المائة على صاحب الخمسين بقيمة ثلث شاته وصاحب الخمسين على صاحب المائة بقيمة ثُلُثِي شاته ولو كان نصف الشَّاة لهذا ونصفها للآخر فكل واحد منهما يرجع على الآخر بقيمة نصف شاته، فإن تساوت القيمتان خرج على أقوال التّقاص عند تساوي الدِّينين قدراً وجنساً، ولو كان بينهما سبعون من البقر أربعون لأحدهما وثلاثون للآخر فالتَّبِيع والسُنَّة واجبان عليهما على صاحب الأَرْبَعِين أربعة أسباعهما، وعلى صاحب الثلاثين ثلاثة أسباعهما، فلو أخذهما الساعي من صاحب الأربعين رجع بقيمة ثلاثة أسباعهما على الآخر، ولو أخذهما من الآخر رجع بقيمة أربعة أسباعهما على صاحب الأربعين، ولو أخذ التَّبيع من صاحب الأربعين والمسنة من صاحب الثَّلاثين رجع صاحب الأَرْبَعِين بقيمة ثلاثة أسباع التَّبِيع على الآخر ورجع الآخر عليه بقيمة أربعة أسباع المسنة، ولو أخذ المسنة من صاحب الأربعين والتبيع من الآخر رجع صاحب الأربعين بقيمة ثلاثة أسباع المسنة على الآخر، ورجع الآخر عليه بقيمة أربعة أسباع ¬
الفصل الثالث: في اجتماع الخلطة والأنفراد في حول واحد
التبيع (¬1)، وهذه الحالة الرابعة المذكورة في الكتاب، ولك أن تُعلَّم قوله: "من عرض المال ما يتفق" بالواو، وكذا قوله: "لم يجب على الساعي أخذ المسنة" وقوله: "بل يأخذ كيف اتفق"، وقوله: "فيرجع باذل المسنّة" للوجه المنسوب إلى أبي إسحاق فإن كان ذلك مشروط على ذلك الوجه بأن لا يمكن أخذ ما يخص كل واحد منهما لو انفرد منه على ما سبق. وقوله: "بثلاثة أسباعهما"، أي: بقيمتها. وكذا قوله: "بأربعة أسباعه". ولو ظلم الساعي فأخذ من أحد الخَلِيطَين، والواجب شاة شاتين أو أخذ شاة حبلى رُبّى أو مَاخِضَة رجع المأخوذ منه على الآخر بنصف قيمة الواجب لا قيمة المأخوذ فإن السَّاعي ظلمه بالزيادة والمظلوم يرجع على الظالم دون غيره، فإن كان المَأْخوذ باقياً في يد السَّاعي استردوه، وإلا استرد الفضل والفرض ساقط، ولو أخذ القيمة في الزكاة أو أخذ من السّخَال كبيرة، فهل يرجع على خليطه؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال أبو إسحاق في أخذ القيمة: أنه لا يرجع. وأصحهما: وبه قال ابن أبي هريرة: يرجع؛ لأنهما من مسائل الاجتهاد، فالقيمة مأخوذة عن أبي حنيفة ومالك، والواجب في السّخَال كبيرة عند مالك، ومنهم من خصّ الوجهين بمسألة القيمة، وقطع في أخذ الكبيرة فالرجوع هذا تمام ما نذكره من خلطة الجوَار. أما خلطة الشيوع: فإن كان الواجب من جنس المال وأخذه السّاعي منه فلا يراجع فإن المأخوذ مشاع بينهما، وإنْ كَانَ الوَاجِب من غير جنس المال كالشَّاة فيما دون خمس وعشرين من الإبل، فإذا أخذ السَّاعي شاة من أحد الخليطين عن خمس من الإبل بينهما رجع المأخوذ منه على الآخر بنصف قيمتها، ولو كان بينهما عشر فأخذ من كل واحد منهما شاة ثبت التراجع فإن تساوت القيمتان خرج على أقوال التقاص، ومتى ثبت الرجوع وتنازعا في قيمة المأخوذ فالقول قول المأخوذ منه؛ لأن غارم. قال الغزالي: الفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي اجْتِمَاعِ الخُلْطَةِ وَالأنْفِرَادِ فِي حَوْلٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا مَلَكَ رَجُلاَنِ كُلُّ وَاحِدٍ أَرْبَعِينَ غُرَّةَ المُحَرَّمِ وَخَلْطاَ غُرَةَ صَفَرٍ، فَفِي الجَدِيد يَجِبُ عَلَى ¬
كُلِّ وَاحِدٍ فِي آخِرِ الحَوْلِ الأَوَّلِ شَاةٌ، وَفِيمَا بَعْدَهُ مِنَ الأَحْوَالِ نِصْفُ شَاةٍ تَغْلِيبًا لِلأنْفِرَادِ، وَعَلَى القَدِيمِ يَجِبُ أَبدًا نِصْفُ شَاةٍ، فَإِنْ مَلَكَ الثَّانِي غُرَّةَ صَفَرِ وَخَلَطَ غُرَّةَ رَبِيعٍ فَالقَوْلاَنِ جَارِيَانِ، وَخَرَجَ ابْنُ سُرُيجٍ أَنَّ الخُلْطَةَ لاَ تَثْبُتُ أَبدًا لِتَقَاطُعِ أَوَاخِرِ الأَحْوَالِ. قال الرافعي: اجتماع الخلطة والانفراد في حول واحد، أما أن يكون بطروء الخلطة على الانفراد أو بطروء الانفراد على الخلطة، وهذا الفصل الثالث مرسوم للقسم الأول فنبينه، ونقول: لا خلاف في أنه لو لم تكن لهما حالة انفراد بأن ورثا ماشية أو ابتاعها دفعة واحدة شائعة أو غير شائعة لكن مخلوطة وإذا ما الخلطة أنهما يزكيان زكاة الخلطة وكذا لو كان ملك كل واحد منهما دون النصاب وبلغ بالخلطة نصاباً زكاه زكاة الخلطة؛ لأن الحَوْل لم ينعقد على ما ملكاه عند الانفراد، فأما إذا انعقد الحول على الانفراد ثم طرأت الخلطة فلا يخلو، إما يتفق ذلك في حق الخليطين جميعاً أو في حق أحدهما. الحالة الأولى: أن ينعقد الحول على الانفراد في حقهما جميعاً ثم تطرأ الخلطة فأما أن يتفق حولاهما أو يختلف، فإن اتفق كما لو ملك كل واحد أربعين شاة غرة المحرم ثم خلطا غرة صفر ففيه قولان (¬1): الجديد وبه قال أحمد: أن حكم الخلطة لا يثبت في السنة الأولى؛ لأن الأصل الانفراد والخلط عارض فيغلب حكم الحول المنعقد على الانفراد، فعلى هذا إذا جاء المحرم وجب على كل واحد منهما شاء. والقديم وبه قال مالك: أنه يثبت حكم الخلطة نظراً إلى آخر الحَوْلِ والعبرة في قدر الزَّكَاة بآخر الحَوْل أَلاَ تَرى أنه لو مَلَكَ مائة وإحدى وعشرين شاة فتلف منها شاة أو شاتان في آخر الحَوْل؛ لا يجب عليه إلاَّ شاة فعلى هذا إذا جاء المحرم فعلى كل واحد منهما نصف شَاة، وعلى القولين جميعاً في الحَوْل الثّاني وما بعده يزكيان زكاة الخليطة لوجودها في جميع السنة (¬2). ¬
فإذا قلنا بالجديد فوجود الخلطة في جميع السنة شرط في ثبوت حكم الخلطة، فلذلك أدرج حجة الإسلام -قدس الله روحه- هذه المسألة في جملة الشرائط التي حكي الخلاف فيها على ما سبق، وإن اختلف حولاهما كما لو ملك هذا غرة المحرم وهذا غرة صفر وخلطا غرة شهر ربيع الأول، فينبغي على القولين عند اتفاق الحول، فعلى الجديد: إذا جاء المحرم فعلى الأول شاة، وإذا جاء صفر فعلى الثاني شاة، وعلى القديم: إذا جاء المحرم فعلى الأول نصف شاة، وإذا جاء صفر فعلى الثاني نصف شاة ثم في سائر الأحوال يتفق القولان على ثبوت حكم الخلطة فيكون على الأول عند غرة كل محرم نصف شاة، وعلى الثاني عند غرة كل صفر نصف شاة، وذهب بعض الأصحاب إلى أن حكم الخلطة لا يثبت في سائر الأحوال أيضاً، ويزكيان أبداً زكاة الانْفِراد واتَّفق حملة المذهب على ضعف هذا الوجه. وقالوا: بأن الخلطة في سائر الأحوال حاصلة في جميع الحول فيثبت حكمها كما لو اتفق الحول ولا شك في بعد هذا الوجه لو سلم صاحبه ثبوت القول القديم في الحول الأول وامتنع من طرده في سائر الأحوال، لكنه لو طرد القولين في سائر الأحوال وكان ما ذكرَ من عدم ثبوت الخلطة تفريعاً على الجديد لم يكن بعيداً، ويجوز أن يوجه بأن حول الثاني غير تام عند تمام الحول الأول، وحكم الانفراد مستمر عليه فيلزم انعقاد الحول الثاني للأول على حكم الانفراد، وإذا انعقد الحول على الانفراد يستمر حكمه كما في الحول الأول ثم إذا تم حول الثاني فلصاحبه حكم الانفراد فينعقد حوله الثاني على الانفراد أيضاً، وهكذا أبداً وسواء قوي هذا أو ضعف، فمن صار إليه جعل اتفاق أوائل الأحوال من شرائط ثبوت الخلطة، ولذلك أدرج حجة الإسلام هذه المسألة في الشرائط المختلف فيها، ونسب المعظم هذا الوجه إلى تخريج ابن سريج، وعلى ذلك جرى في الكتاب فقال: وخرج ابن سريج أن الخلطة لا تثبت أبداً، ولم يصحح ذلك على ابن سريج المحاملي، وذكر أن أبا إسحاق حكى في الشرع عن ابن سريج مثل هذا المذهب، وأضاف الوجه المذكور إلى غيره من الأصحاب فإن كان المراد أنه غير ثابت عنه فيجوز أن يعلم قوله: "وخرج ابن سريج" بالواو، ويجوز أن يقال: "خرجه ولم يذهب إليه" جمعاً بين الروايتين، ويجوز إعلام قوله: "لا تثبت أبداً" بالميم والألف؛ لأن عندهما تثبت الخلطة في سائر الأحوال، وإنما يختلفان في الحول الأول اختلاف القديم والجديد ولا يخفى موضع رقمهما في الصورة الأولى.
والحالة الثانية: أن ينعقد الحول على الانفراد في حتى أحدهما دون الآخر كما لو ملك أحدهما أربعين غرة المحرم، وملك الثَّاني أربعين غرة صفر كما لو ملك خلطاً أو خلط أول أربعينه غرة صفر بأربعين لغيره ثم باع الثاني أربعينه من ثالث، فإن الأول يثبت له حكم الانفراد شهراً، والثاني لم يثبت له حكم الانفراد أصلاً، فيبنى الحكم هاهنا على الحكم في الحالة الأولى، فإذا جاء المحرم فعلى الأول شاة في الجديد ونصف شاة في القديم. وأما الثّاني فإذا جاء صفر فعليه نصف شاة في القدم، وفي الجديد وجهان: أحدهما: شاة؛ لأن الأول لم يرتفق بخلطته فلا يرتفق هو بخلطة الأول أيضاً. وأظهرهما: نصف شاة؛ لأنه كان خليطاً في جميع الحَوْل وأمَّا في سائر الأحوال فيثبت حكم الخلطة على الظاهر، وعلى الوجه المنسوب إلى ابن سريج لا يثبت وفرَّعوا على هذه الاختلافات صوراً: منها: لو ملك الرجل أربعين غرة المحرم، ثم أربعين غرة صفر، فإذا جاء المحرم فعلى الجديد يلزمه للأربعين الأولى شاة، وإذا جاء صفر يلزمه للأربعين الثانية نصف شاة أو شاة فيه وجهان: أصحهما: أولهما. وعلى القديم إذا جاء المحرم لزمه للأربعين الأولى نصف شاة؛ لأنه كان خليطاً لمكله في آخر الحول، فإذا جاء صفر لزمه للأربعين الثّانية نصف شاة في سائر الأحول يتفق القولان، وعلى الوجه المنسوب إلى ابن سريج يجب في الأربعين الأولى شاة عند تمام حولها، وفي الثانية شاة عند تمام حولها، وهكذا أبداً ما لم ينقص النصاب وكما يمتنع حكم الخلطة في ملك الشَّخصين عند اختلاف التَّأريخ كذلك يمتنع في ملكي الواحد. ومنها: لو ملك الرجل أربعين غرة المحرم ثم أربعين غرة صفر ثم أربعين غرة شهر ربيع الأول فعلى القديم: يجب في كل أربعين عند إتمام حولها ثلث شاة. وعلى الجديد: يجب في الأولى عند تمام حولها شاة، وفيما يجب في الثانية عند تمام حولها وجهان: أحدهما: شاة لأن الأربعين الأولى لم يلحقها تخفيف بالثَّانية فلا يلحق الثَّانية تخفيف بها. وأصحهما: نصف شاة؛ لأنها كانت خليطة أربعين في جميع حولها وفي الأربعين الثَّالثة عند تمام حولها وجهان أيضاً: أصحهما: ثلث شاة لكونها خليطة ثمانين. والثاني: شاة وفي سائر الأحوال يتفق القولان وعلى الوجه المنسوب إلى ابن سريج يجب في كل أربعين عند رأس حولها شاة أبداً. ومنها: لو ملك رجل أربعين غرة
المحرم وملك آخر عشرين غرة صفر وكما ملك خلطا فإذا جاء المحرم وجب على الأول شاة في الجديد وثلثا شاة في القديم تغليباً للخلطة، وإذا جاء صفر وجب على الثَّاني ثلث شاة على القولين جميعاً؛ لأنه كان مخالطاً في جميع حوله، وعلى الوجه المنسوب إلى ابن سُريج يجب على صاحب الأَرْبَعِين شاة أبداً ولا شيء على صاحب العشرين ولا تثبت الخلطة لاختلاف التَّاريخ. واعلم: أن الاختلاط مع من لا زكاة عليه الانفراد حتى لو كان بين مسلم وذمي ثمانون شاة ملكاها أول المحرم ثم أْسلم الذِّمي غرة صفر كان المسلم بمثابة ما إذا انفرد بماله شهراً ثم طرأت الخلطة، وجميع ما ذكرنا في الحالتين مفروض فيما إذا طرأت خلطة الجوار، أما إذا طرأت خلطة الشُّيوع كما إذا ملك أربعين شاة وأقامت في يدة ستة أشهر ثم باع نصفها مشاعاً، فهل ينقطع حول البائع في الباقي؟ جعله ابن خَيْرَان على قولين مبنيين على القولين فيما إذا انعقد حولهما على الانفراد ثم خلطا. إن قلنا: يزكيان زكاة الخلطة لم ينقطع الحول هاهنا. وإن قلنا: يزكيان زكاة الانفراد، ولا يبني حول الخلطة على حول الانفراد إذا انقطع الحول لنقصان النصاب والذي قطع به الجمهور رواه المزنيّ والرَّبيع عن نصه أن الحَوْل لا ينقطع لاستمرار النصاب إما بصفة الانفراد أو بصفة الاشتراك فعلى هذا إذا مضت ستّة أشهر من يوم الشّراء فعلى البائع نصف شاة لإتمام حوله، وأما المشتري فينظر إن أخرج البائع واجبه وهو نصف شاة من المال المشترك فلا شيء عليه لنقصان المجموع عن النصاب قبل تمام حوله، وإن أخرج من غيره فيبنى على أن الوكاة تتعلق بالعَيْن أو بالذمة. إن قلنا: تتعلق بالذّمة فعليه أيضاً نصف شاة عند تمام حوله. وإن قلنا: تتعلق بالعَيْن ففي انقطاع حول المشتري قولان: أصحهما عند العراقيين: الانقطاع ومأخذ القولين أن إخراج الواجب من موضع آخر يمغ زوال الملك عن قدر الزكاة أو يفيد عوده بعد الزوال، ولو ملك ثمانين شاة فباع نصفها مشاعاً في أثناء الحَوْل لم ينقطع حول البائع عن النصف الباقي قطعاً، وفيما يجب عليه عند تمام حوله وجهان: أحدهما: شاة؛ لأنه كان منفرداً بنصاب في بعض الحول فغلب حكم الانفراد. وأصحهما عند صاحب "التهذيب": نصف شاة؛ لأن الحول انعقد على ثمانين والنصف الذي بقي له آخراً كان مختلطاً بأربعين في جميع الحَوْل، ولو ملك أربعين وباع نصفها معينًا نظر إن ميَّزها قبل البيع أو بعده وأقبضها فقد زالت الخلطة إن أكثر زمان التفريق، فإذا خلطا يستأنف الحول، وإن كان زمان التفريق يسيراً ففي انقطاع الحول وجهان: أوفقهما لكلام الأكثرين: الانقطاع ولو لم يميز لكن أقبض البائع المشتري جميع الأربعين لِتَصير العشرون مقبوضة فالحكم كما لو باع النصف مشاعاً، فلا ينقطع
الفصل الرابع: في اجتماع المختلط والمنفرد في ملك واحد
حول الباقي على الصحيح، وفيه وجه: أنه ينقطع الانفراد بالبَيْع، والطارئ في صورة بيع النصف على التَّعيين خلطة الجوار، وإن أوردناه في هذا الموضع ولو أنا رجلين لهذا أربعون ولهذا أربعون فباع أحدهما جميعها بجميع ما لصاحبه في خلال الحول انقطع حولاهما واستأنفا من يوم المبايعة، ولو باع أحدهما النصف الشائع من أغنامه بالنصف الشائع من أغنام صاحبه والأربعينان متميزان فحكم الحول فيما بقي لكل واحد منها من أربعينه كالحكم فيما إذا كان للرجل أربعون فباع نصفها شائعاً، والصحيح أنه لا ينقطع فإذا تم حول ما بقي لكل واحد منهما فهذا مال ثبت له الانفراد أولاً، والخلطة في آخر الحَوْل ففيه القولان السَّابقان: القديم: أنه يجب على كل واحد ربع شاة؛ لأنه خليط ثمانين حال الوجوب وحصة العشرين ربع. والجديد: أنه يجب على كل واحد منهما نصف شاة؛ لأنه كان منفرداً بأربعينه وحصة العشرين منهما النصف وإذا مضى حَوْلٌ من وقت التَّبَايع فعلى كل واحد منهما للقدر الذي ابتاعه ربع شاة على القديم. وفي الجديد وجهان: أصحهما: ربع شاة أيضاً؛ لأنه كان مختلطاً من حين ملك إلى آخر الحول. والثاني: نصف شاة؛ لأنه لما لم يرتفق البَاقي لكل واحد منهما بالحَادث لم يرتفق الحادث بالباقي أيضاً. القسم الثاني: أن يطرأ الانفراد على الخلطة فيزكي من بلغ ماله نصاباً زكاة الانفراد من وقت الملك كما سبق، ولو كان بينهما أربعون مختلطة فخالطهما رجل بعشرين في أثناء حولهما ثم ميّز أحد الأوليين ماله قبل تمام الحول فلا شيء عليه عند تمامه ويجب على الآخر نصف شاة، وكذا على الثَّالث عند تمام حوله نصف شاة. والوجه المنسوب إلى ابن سريج ينازع فيه. ولو كان بينهما ثمانون مشتركة فاقتسما بعد ستّة أشهر. فإن قلنا: القسمة إفراز حق فعلى كل واحد عند تمام الحول شاة، كما لو ميزا في خلطة الجوار. وإن قلنا: بيع، فيجب على كل واحد عند تمام باقي الحول نصف شاة ثم إذا مضى حول من وقت القسمة فعلى كل واحد منهما نصف شاة لما تجدد ملكه عليه، وهكذا في كل ستة أشهر كما لو كان بينهما أربعون شاة فاشترى أحدهما نصف الآخر بعد مضي ستة أشهر يجب عليه عند مضي كل ستة أشهر نصف شاة والله أعلم. قال الغزالي: الفَصْلُ الرَّابعُ: فِي اجْتِمَاعِ المُخْتَلِطِ وَالمُنْفَرِدِ في مِلْكٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ خَلَطَ عِشْرِينَ بِعِشْرِينَ لِغيْرِهِ وَهُوَ يَمْلِكُ أَرْبَعِينَ بِبَلْدَةٍ أُخْرَى فَقَوْلان: أَحَدَهُمَا: أَنَّ الخُلْطَةَ خلُطَةُ مِلْكٍ فكَأَنَّهُ خَلَطَ السِّتِّينَ بِالعِشْرِينَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ خُلْطَةُ عَيْنٍ فلاَ يَتَعَدَّى حُكْمُهَا إِلَى
غَيرِ المَخْلُوطِ، فَإِنْ قُلْنَا بخُلطَةِ العَينِ فَعَلَى صَاحِبِ العِشْرِينَ نِصْفُ شَاةٍ، وَإِنْ قُلْنَا بِخُلْطَةِ المِلْكِ فَعَلَيْهِ رُبْعُ شَاةٍ وَكَأنَّهُ خَلَطَ السِّتِّينَ، وَأَمَّا صَاحِبُ السِّتِّينَ فَقَدْ قِيلَ: يَلْزَمُهُ شَاةٌ تَغْلِيبًا لِلانْفِرَادِ، وَقِيلَ: ثَلاثَةُ أَرْبَاعِ شَاةٍ تَغْلِيباً لِلْخُلْطَةِ، وَقِيلَ: خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ وَنِصْفُ سُدُسِ جَمْعاً بَيْنَ الاعْتِبَارَيْنِ فَيُقَدَّرُ فِي الأَرْبَعِينَ كَأَنهُ مُنْفَرِدٌ بِجَمِيعِ السِّتِّينَ فَيَخُصَّ الأَرْبَعِينَ ثُلُثَا شَاةٍ، وَيُقَدِّرُ فِي العِشْرِينَ كَأنَّهُ مخَالِطٌ بِالجَمِيعِ فَيَخُصُّ العِشْرِينَ رُبُعُ شَاةٍ وَالمَجْمُوعُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَوْ خَلَطَ عِشْرِينَ لِغَيْرِهِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعُونَ يَنْفَرِدُ بِهِ فَالأَوْجهُ الثَّلاثَةُ جَارِيَةٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ. قال الرافعي: هذا الفَصْل والَّذي بعده ذوا غور لالتفاف ما فيهما من الاختلاف فتشمّر للفهم. واعلم: أنه إذا اجتمع في ملك الواحد ماشية مختلطة وماشية منفردة من جنسها كما لو خلط عشرين شاة بعشرين لغيره خلطة جوار أو خلطة شركه وله أربعون منفرد بها، فكيف يؤديان الزكاة؟ فيه قولان: أصلهما: أن الخلطة خلطة ملك أو خلطة عين وفيه قولان: أصحهما: وعليه فرع في "المختصر"، وهو اختيار ابن سريج وأبي إسحاق والأكثرين: أن الخلطة خلطة ملك أي كل ما في ملكه يثبت فيه حكم الخلطة، ووجهه أن الخلطة تجعل مال الاثنين كمال الواحد ومال الواحد يضم بعضه إلى بعض، وإن كان في مواضع متفرقة فعلى هذا في الصورة المذكورة يجعل كأن صاحب الستين خلط جميع ستينه بعشرين لصاحبه، فيلزمهما شاة ثلاثة أرباعها على صاحب الستين وربعها على صاحب العشرين. والثاني: أن الخلطة خلطة عين أي: يقتصر حكمها على قدر المخلوط، ووجه أن علّة ثبوت الخلطة خفة المُؤْنة في المرافق لاجتماع الماشية في المكان الواحد، وهذا المعنى لا يوجد إلا في القدر المختلط واستفيد هذا القول من نصه في رواية الربيع: إن الرجل إذا كان له ثمانون من الغنم ببلدين أربعون بكل واحد منهما، فباع نصف أحدهما شائعاً من رجل، فإذا تم حول البائع فعليه شاة، وإذا تم حول المشتري فعليه نصف شاة. قال أبو بكر الفارسي: لولا أنه لم يحكم بالخلّطة إلا في القدر المُخْتَلط لكان على صاحب السِّتِّين ثلاثة أرباع شاة وعلى صاحب العشرين ربعها عند تمام حولها، وهكذا يكون الجواب إذا فرعنا على أن الخلطة خلطة ملك وإذا قلنا بالقول الثاني ففي الصورة المذكورة أولاً يجب على صاحب العشرين نصف شاة بلا خلاف؛ لأن جميع ماله خليط عشرين وفي أربعين شاة فخصّه العشرين نصفها. وما الذي يجب على صاحب الستين؟ فيه خمسة أوجه: ذكر الثلاثة الأولى منها في الكتاب:
أصحهما: وهو اختيار الأَوَدِنيِّ والقَفَّال: أنه يلزمه شاة؛ لأنه اجتمع في ماله الاخْتِلاطَ والانْفِرَاد فيغلب حكم الانْفراد، كما لو انفرد بالمال في بعض الحول ثم خلط، وإذا غلبنا حكم الانفراد صار كأنه منفرد بجميع السّتين وفيها شاة وهذا الوجه هو الذي نص عليه في المسألة التي حكيناها عن رواية الرَّبيع. والثاني: ذكره ابن أبي هريرة وأبو علي الطَّبري فيما حكاه صاحب "الشَّامل": أنه يلزمه ثلاثة أرباع شاة؛ لأن جميع ماله ستون وبعضهم مختلط حقيقة، فلا بد من إثبات حكم الخلطة فيه وإذا أثبتنا حكم الخلطة فيه وجب إثباته في الباقي؛ لأن ملك الواحد لا يتبعض حكمه فيجعل كأنه خلط جميع السِّتين بالعشرين، وواجبنا شاة حصّة السّتين منها ثلاثة أرباع، وهذا معنى قوله في الكتاب: "تغليباً للخلطة"، وهذا الوجه يشبه القول القديم في تغليب الخلطة إذا انفرد في بعض الحول ثم خلط، هو والأول متفقان على أنه لا يمكن أن يحكم لمالي صاحب الستين بحكمين مختلفين الخلطة والانفراد، ثم صاحب الوجه الأول يقول: تغليب الانفراد أولى، وصاحب الثاني يقول: الخلطة أولى، وأما أصحاب الوجوه الآتية فيجوزون الحكم في مالي المالك الواحد بحكمين مختلفين ويحتجون عليه بما لو ملك زرعين سقى أحدهما بالنَّضح، وسقى الثاني بماء السماء، فإنه يجب في هذا العشر وفي ذاك نصف العشر، ويضم البعض إلى البعض في استكمال النّصاب. والوجه الثالث: وهو اختيار أبي زيد والخضري: أن عليه خمس أسْدَاس شاة ونصف سدس جميعاً بين اعتبار الخلطة والانفراد، وذلك لأن جميع ماله ستون بعضة مختلط وبعضه منفرد، ولا بد من ضم أحدهما إلى الآخر، وإن حكمنا لهما بحكمين مختلفين فنوجب في الأربعين المنفردة حصتها من الواجب لو انفرد بالكل، وذلك شاة حصة الأربعين منها ثلثا شاة، ونوجب في العشرين المختلطة حصتها من الواجب لو خلط الكل وهي ربع شاة؛ لأن الكلَّ ثمانون وواجب ثمانين شاة فحصة عشرين منها ربع شاة والثُّلثان والربع خمسة أسداس ونصف سدس. والوجه الرابع: ويحكى عن ابن سريج واختيار صاحب "التقريب": أن عليه شاة وسدس شاة من ذلك نصف شاة في العشرين المختلطة، كما أَنَّها واجب خليطة في عشرينة المختلطة، فلا يتعدى حكم الخلطة عن الأربعين وثلثا شاة في الأربعين المنفردة، فإنه حصة الأربعين لو انفرد بجميع ماله. والوجه الخامس: أن عليه شاة ونصف شَاةٍ في الأربعين المنفردة ونصف شاة في العشرين المختلطة كما لو كان المالان لمالكين، وهذا أضعف الوجوه؛ لأن فيه أفراد ملك الواحد بعضه عن بعض مع اتحاد الجنس وإيجاب شاة ونصف شاة في الستين ولو
خلط عشرين بعشرين لغيره ولكل واحد منهما أربعون منفرد بها فقد اجتمع في ملك كل واحد منهما المختلط والمنفرد ففيما يجب عليهما القولان؟ إن قلنا: الخلطة خلطة ملك فعليهما شاة على كل واحد نصفها؛ لأن جميع المال مائة وعشرون وفيها شاة، وإن قلنا: الخلطة خلطة عين ففيما على كل واحد منهما الأوجه الخمسة لكن قد يختلف المقدار في بعض الوجوه: أصحها: أنَّ على كل واحد منهما شاة تغليباً للانفراد. وثانيها: أنَّ على كل واحد منهما ثلاثة أرباع شاة؛ لأن كل واحد منهما يملك ستِّين منها ما هو خليط عشرين فيغلب حكم الخلطة في الكلِّ فيكون لكل ثمانون حصّة ستين منها ثلاثة أرباع هكذا ذكر في "التهذيب"، ولفظ الكتاب يوافقه حيث قال: فالأوجه الثلاثة جارية في حث كل واحد، لكن الشيخ أبا علي وإمام الحرمين قالا: إذا غلبنا حكم الخلطة يجب على كل واحد منهما في هذه الصورة نصف شاة بخلاف الصورة الأولى، يجب فيها على صاحب الستين ثلاثة أرباع؛ لأن ثم إذا قدرنا الاختلاط في جميع المالين يكون المبلغ ثمانين والستون ثلاثة أرباعها، وهاهنا إذا غلبنا الخلطة وأثبتناها في الكلّ يكون المبلغ مائة وعشرين فواجبها شاة حصة كل واحد نصفها، ولمن قال بالأول أن يقول: إنما ثبت حكم المختلط في المنفرد برابطة اتِّحاد المالك، وذلك يقتضي أَنْ يدخل في الحساب على كل واحد منهما ما ينفرد به كل واحد منهما واحد، ثم على ما ذكره الشيخ يكون الواجب عليهما جميعاً شاة واحدة، وجملة المال مائة وعشرون والواجب عليهما في الصورة الأولى شاة وربع مع أن جملة المال ثمانون فكيف يزداد المال وينقص الواجب مع وجود الخلطة في الحالتين. وئالثها: أن على كل واحد منهما خمسة أسداس شاة ونصف سدس جمعاً بين اعتبار الخلطة والانفراد فيقدر كل واحد منهما منفرداً بالستين، ولو كان كذلك لكان فيها شاة فحصّة الأربعين فيها ثلثا شاة، ثم يقدر أنه خلط جميع الستين بالعشرين وذلك ثمانون، وفيها شاة فحصة العشرين منها ربع شاة، فالمجموع خمسة أسداس ونصف السدس، هكذا ذكر الشيخ أبو علي والإمام وهو الموافق للفظ الكتاب. وأورد في "التهذيب" أن على كل واحد منهما على هذا الوجه خمسة أسداس شاة بلا زيادة توجب في العشرين بحساب ما لو كان جميع المالين مختلطاً؟ وذلك مائة وعشرون وواجبها شاة، فحصّة العشرين سدس شاة ويجب في الأربعين ثلثا شاة كما سبق فالمبلغ خمسة أسداس. واعلم: أن هذا التّوجيه مثل ما ذكره الشيخ والإمام في الوجه الثاني، وما ذكرناه في هذا الوجه مثل ما ذكره في "التهذيب" في الوجه الثاني، ولم يستمر واحد من الكلامين على طريقة متّحدة والله أعلم.
ورابعها: أن على كل واحد منهما شاة وسدس شاة، نصف شاة في العشرين المختلطة قصراً لحكم الخلطة على الأربعين، وثلثا شاة في الأربعين المنفردة على ما سبق. وخامسها: أنَّ على كل واحد منهما شاة ونصف شاة للأربعين المنفردة ونصف شاة للعشرين المختلطة، هذا شرح المسألتين المذكورتين في الكتاب، ثم نعود إلى ما يتعلق بلفظ الكتاب. أما قوله: "فلو خلط عشرين بعشرين لغيره وهو يملك أربعين ببلدة أخرى"، فقد يخطر ببالك في هذا الموضوع بحثان: أحدهما: أنه لم قال: ببلدة أخرى، وما الحكم لو كان بتلك البلدة؛ فاعلم أن أبا نصر صاحب "الشامل" -رحمه الله- صرح بنفي الفرق بين أن يكون الأربعون المنفردة في بلد المال المختلطة أو في بلد أخرى ولا شبهة في أنّ الأمر على ما ذكر، وكأن تعرض الأصحاب لكون الأربعين في بلدة أخرى اتِّباع للفظة الشَّافعي -رضي الله عنه- فإنه هكذا صور المسألة في "المختصر". لكن من يورد القولين لا يحسن منه ذكره في صورة المسألة حسنه في "المختصر"؛ لأنه أجاب فيه على أن الخلطة خلطة ملك، والفرض فيما إذا كان ماله المنفرد في بلدة أخرى يفيد غرض المبالغة؛ لأنه إذا اتَّحد الحكم وبعض المال في بلدة أخرى، فلأنه يتّحد والكل في بلدة واحدة كان أَوْلَى. والثَّانِي: أن التَّصوير فيما إذا اتفق حول صاحب الستين وصاحب العشرين أم فيما إذا اختلف حولاهما أم لا فرق؟ والجواب: أنه لا فرق في إثبات القولين ثم إن اختلف الحَوْلان زاد النَّظر في التَّفاصيل المذكورة في الفَصْلِ قبل هذا. وذكر القاضي ابن كج: أن الخلاف فيما إذا اختلف حولاهما فأمَّا إذا اتَّفقا فلا خلاف في أن عليهما شاة ربعها على صاحب العشرين والباقي على صاحب الستين؟ وهذا يرخص في إعلام قوله في الكتاب: "فقولان" بالواو والمشهور الأول. وقوله: "فإن قلنا بخلطة العين ... " إلى آخره في نظم الكتاب خلط في تفريع أحد القولين بالآخر ولم ينص على ما يجب على صاحب الستين على قولنا: الخلطة خلطة ملك. وقوله عقيب التفريع على هذا القول: "وأما صاحب الستين" يرجع إلى أول الكلام وهو التفريع على خلطة العين فاعرف ذلك، وكان الأحسن به أن يقول: فإن قلنا بخلطة الملك فعلى صاحب العشرين ربع شاة، وإن قلنا بخلطة العين فعليه نصف شاة، وأمَّا صاحب الستين ... إلى آخره حتى لا يدخل الكلام من قول في قول، ويجوز أن يعلَّم قوله: "يلزمه شاة" بالواو، وكذا الحكم المذكور في الوجهين بعده إشعاراً بأن في المسألة وراء هذه الوجوه خلافاً آخر. وقوله: الصورة الثانية فالأوجه الثلاثة جارية أي على دول خلطة العين، وأما على
الفصل الخامس في تعدد الخليط
قول خلطة الملك فالحكم ما قدمناه، ولك أن تعلم قوله: "جارية" بالواو لما حكينا من الاضْطراب في الوجه الثَّاني والثَّالث والله أعلم. قال الغزالي: الفَصْلُ الخَامِسُ فِي تَعَدُّدِ الخَلِيطِ، فَإذَا مَلَكَ أَرْبَعِينَ وَخَلَطَ عِشْرينَ بِعِشْرِينَ لِرَجُلٍ وَعِشْرِينَ بِعِشْرِينَ لِآخَرٍ فِإِن قُلْنَا بِخُلْطَةِ المِلْكِ فَعَلَى صَاحِبِ الأَرْبَعِينَ نِصْفُ شَاةٍ فِإنَّ الكُلَّ ثَمَانُونَ وَصَاحِبُ العِشْرِينَ يَضُمُّ مَالَهُ إِلَى خَلِيطِهِ، وَهَلْ يَضُمَّ إِلَى خَلِيطِ خَلِيطِهِ؟ فَوَجْهَانِ، فَإنْ ضَمَّ فَوَاجِبُهُ رُبعُ شَاةٍ وإِلاَّ فَوَاجِبُهُ ثُلُثُ شَاةٍ لِأَنَّ المَجْمُوعَ سِتُّونَ، وَإِنْ قُلْنَا بِخُلْطَةِ العَيْنِ فَعَلَى صاحِبِ العِشْرِينَ نِصْفُ شَاةٍ، وَفِي صاحِب الأَرْبَعِينَ الوُجُوهُ الثَّلاثةُ وَهُوَ شَاةٌ لِتَغْلِيبِ الانْفِرَادِ، أَوْ نِصْفُهَا لِتَغْلِيبِ الاْخْتِلاَطِ، أَو ثُلُثَا شَاةٍ لِلْجَمِيعِ بَينَ الاعْتِبَارَيْنِ. قال الرافعي: كلام هذا الفصل مبني على قولي: خلطة المِلْك والعَيْن أيضاً، وخاصيته أن الواحد إذا خالط ببعض ماله واحداً وببعضه آخر ولم يخالط أحد خليطة الآخر، وما ترجم الفصل به لا يفصح عن هذه الخاصيّة، لكنها هي المقصودة. إذا عرفت ذلك فنقول: إذا كان للرجل أربعون من الغنم فخلط عشرين منها بعشرين لرجل لا يملك سواها، والعشرين الباقية بعشرين لآخر لا يملك سواها، فإن قلنا: الخلطة خلطة الملك فعلى صاحب الأَرْبَعِين نصف شاة؛ لأنه خليط لهما ومبلغ الأموال ثمانون وواجبها شاة فحصة الأربعين نصفها، وأمَّا كل واحد من صاحبي العشرين فماله مَضمُوم إلى جميع مال صاحب الأربعين، وهل يضم إلى مال الآخر؟ أيضاً فيه وجهان: أحدهما: نعم، لينضم الكلّ في حقهما كما انضم في حق صاحب الأربعين. والثاني: لا؛ لأن كل واحد منهما لم يخالط بماله الآخر أصلاً بخلاف صاحب الأربعين، فإنه خالط كل واحد منهما ببعض ماله فلذلك ضم الكل في حقه، وهذا أصح عند الشيخ أبي علي، والأول اختيار صاحب "التقريب"، وبه أجاب أصحابنا العراقيين. وإن قلنا بالوجه الثاني، فعلى كل واحد منهما ثلث شاة؛ لأن مبلغ ماله ومال خليطه ستون، وواجبها شاة حصّة العشرين منها ثلث، وإن قلنا بالأول فعلى كل واحد منهما ربع شاة؛ لأن المجموع ثمانون حصّة العشرين منها ربع وإن قلنا: الخلطة خلطة عين فعلى كل واحد من صاحبي العشرين نصف شاة؛ لأن مبلغ ماله وما خالط ماله أربعون، وله نصفها وأما صاحب الأربعين فيجيء فيه الوجوه المذكورة في الفصل الأول في حق صاحب الستين.
أحدهما: أن عليه شاة تغليباً للانفراد، هذا لفظ صاحب الكتاب والأئمة ولم يريدوا به حقيقة الانفراد، فإنه غير منفرد بشيء من ماله، لكن قالوا: ما لم يخالط به زيداً فهو منفرد عنه، ولا فرق بالإضافة إليه بين أن يكون مخلوطاً بمال غيره، وبين أنْ لا يكون مخلوطا أصلاً، وإذا كان كذلك فيعطى له حكم الانفراد، ويغلب حتى يصير كالمنفرد بالباقي أيضاً، وكذا بالإضَافَة إلى الخليط الثَّاني وكأنه لم يخالط أحدًا، وعلى الوجه الثَّاني يلزمه نصف شاة تغليباً للخلطة فإنه لا بد من إثبات حكمها فيما وجدت، ولا بد من ضمّ ملكية أحدهما إلى الآخر للاجتماع في الملك فكل المال ثمانون وكأنه خلط أربعين بأربعين. قال في "النهاية": وهذا الوجه أصح هاهنا، وعلى الوجه الثالث: يلزم ثلثا شاة جمعاً بين اعتبار الخلطة والانفراد، وذلك بأن نقول: لو كان جميع ملكه مضموماً إلى ملك زيد لكان المبلغ ستين، وواجبها شاة حصة العشرين منها الثلث، وهكذا نفرض في حق الثاني فيجتمع عليه ثلثان، وعلى الوجه الرابع وهو أن ثمَّة يجب شاة وسدس فهاهنا يجب شاة مثل ما ذكرنا في الوجه الأول؛ لأنا نوجب في العشرين المختلطة بمال زيد نصف شاة، وكذا في العشرين المختلطة بمال عمرو فيجتمع عليه شاة، وهكذا يكون قياس الوجه الخامس هاهنا فالحاصل في المسألة ثلاثة أوجه على ما ذكر في الكتاب لا غير. ونختم الباب بذكر صور أخرى مما يتفرَّع على القولين: إحداها: ملك ستين من الغنم وخالط بكل عشرين منها عشرين لرجل، فإن قلنا بخلطة الملك فعلى صاحب الستين نصف شاة، وفي أصحاب العشرينات وجهان إنْ ضَمَمْنا مال بعضهم إلى بعض كما نضمّ مال صاحب الستين إلى مال كل واحد منهم فعلى كلِّ واحد منهم سدس شاة وإلاَّ فعليه ربع شاة، وإن قلنا بخلطة العَيْن فعلى كل واحد من أصحاب العشرينات نصف شاة، وفي صاحب الستين الوجوه على الأول يلزمه شاة. وعلى الثاني نصف شاة، وعلى الثالث: ثلاثة أرباع شاة؛ لأن كل ماله لو كان مع زيد كان المبلغ ثمانين حصة العشرين المختلطة منها ربع، وهكذا يقدر بالإضافة إلى عمرو وبكر فيجتمع ثلاثة أرباع. وعلى الرابع: شاة ونصف في كل عشرين نصف شاة كما يجب ذلك على كل خليط. الثانية: ملك خمساً وعشرين من الإبل فخالط بكل خمس منها خمساً لرجل، إن قلنا بخلطة الملك فعلى صاحب الخمس والعشرين نصف حِقَّة؛ لأن الكُلّ خمسون وفيما على كل واحد من خلطائه وجهان: أحدهما: عشر حقَّة.
والثاني: سدس بنات مخاض كأنه خلط خمساً بخمس وعشرين لا غير. وإن قلنا بخلطه العَيْن فعلى كل واحد من خلطائه شاة، وفي صاحب الخمس والعشرين الوجوه المتقدم على الأول عليه بنت مَخَاض وعلى الثاني نصف حقَّة، وعلى الثَّالث خمسة أسداس بنت مخَاض؛ لأن جميع ماله لو كان مختلطاً بالخمس التي هي لزيد، مثلاً: كان المبلغ ثلاثين وفيها بنت مَخَاض حصّة الخمس سدسها، وهكذا نقدِّر في حق سائر الخُلَطَاء فيجتمع ما ذكرنا، وعلى الرَّابع خمس شياة في كل خمس شاه كما في حق خلطائه. الثّالثة: له عشر من الإبل خلط خمساً منها بخمس عشرة لرجل، وخمسة بخمس عشرة لآخر، إن قلنا بخلطة الملك فعلى صاحب العشر ربع بنت لَبُون؛ لأن الكلَّ أربعون، وفيما على صاحبيه وجهان إن ضممنا مال أحدهما مع صاحب العشر إلى الآخر فعلى كل واحد ثلاثة أثمان بنت لَبُون؛ لأن خمسة عشر ثلاثة أثمان أربعين وإنْ لم نضمه إلاَّ إلى مال صاحب العشرة فعلى كل واحد ثلاثة أخماس بنت مَخَاض؛ لأن الكل خمس وعشرون، وإن قلنا بخلطة العين فعلى كل واحد من الخليطين ثلاث شياه؛ لأنه خالط خمس عشرة بخمس، وحكم الخلطة لا يتعدّى المخلوط على هذا القول، وفيما يلزم صاحب العشر الوجوه على الأول يلزمه شاتان كأنه منفرد بالعشر، وعلى الثاني ربع بنت لَبُون كأنه خلط عشراً بثلاثين، وعلى الثالث خمسَا بنت مخاض، إذ لو خلط كل العشر بمال زيد لكان فيها بنت مَخَاض، وحصّة الخمس خمس بنت مخاض. وهكذا نقدر في حقِّ الآخر فيجتمع ما ذكرنا، وعلى الرابع يلزمه شاتان كما ذكرنا في الوجه الأول كما لو كانت الخمستان لشخصين فتعود الأوجه إلى ثلاثة في هذه الصورة، وهذه الصورة من "مولدات" ابن الحَدَّاد، وجوابه فيها أن على صاحب العشر ربع بنت لَبُون، وعلى كل واحد من خليطيه ثلاث شياه وغلطه أبو زيد والخضري وغيرهما، فقالوا: إيجاب ربع بنت اللبون على صاحب العشر جواب على قول: خلطة الملك وإيجاب الشياه عليهما جواب على قول: خلطة العين، ولا يصح أن يفرع الجواب في حق البعض على قول، وفي حق البعض على قول آخر، وصوبه القفال وقال: كلاهما صحيح تفريعاً على قول خلطة العين، أما إيجاب الشَّاة عليها فظاهر، وأمَّا إيْجَاب ربع بنت اللَّبون فهو جرى منه على الوجه الثَّاني من الوُجُوه المذكورة على هذا القول؟ وعليه بني مسائل في "المولدات" ولعل تغليط الشيخين أبي زيد والخضري مبني على أنهما يذهبان إلى الوجه الثَّالث كما شق، وتابع الشَّيخ أبو علي القَفَّال في "التصويب".
الرابعة: [إن] (¬1) أردت أن تفرع صورة على هذه الاختلافات من عند نفسك فقدر أن لكل عشرين من الإبل خلطت كل خمس منها بخمس وأربعين لرجل، واعرف أنا إن قلنا بخلطة الملك فعليك الأَغْبَط من نصف بنت لبون أو خمس حقة على الصَّحيح، وذلك لأنا قد قدمنا أنَّ الإبل إذا بلغت مائتين، فالصَّحيح أَنَّ واجبها الأَغْبَط من خمس بنات لبون أو أربع حقاق، وجملة أموال خلطائك مع مالك مائتين، فإن كان الأغبط خمس بنات لبون فحصّة عشرين منها نصف بنت لبون، وإن كان الأغبط أربع حقاق فحصَّة العشرين منها خمسا حقة، وفيما يجب على خلطائك وجهان إن ضممنا مع ضم مالك إلى مال كل واحد منهم مع ضم مال بعضهم إلى بعض، فعلى كل واحد منهم تسعة أثمان بنت لبون، وهي بنت لبون وثمن أو تسعة أعشار حقة، وإن لم يضم إلى مال كل واحد منهم إلا مالك فعلى كل واحد منهم تسعة أجزاء من ثلاثة عشر جزءاً من جذعة، لأن جملة المال خمس وستون وواجبها جذعة، فحصّة خمس وأربعين منهما ما ذكرنا، وإن قلنا بخلطة العَيْن فعلى كل واحد من خلطائك تسعة أعشار حقة؛ لأن المبلغ خمسون، وفيما يلزمك الوجوه على الأول يلزمك أربع شياه كأنك منفرد بالعشرين، وعلى الثّاني يلزمك الأغبط من نصف بنت لبون أو خمس حقة كأنك خلطت العشرين بمائة وثمانين، وعلى الثالث يلزمك أربعة أجزاء من ثلاثة عشر جزءاً من جذعة إذ لو خلطت جميع مالك إلى مال زيد من خلطائك لبلغ المجموع خمسماً وستين، وفيها جذعة حصة خمس منها جزء من ثلاثة عشر جزءاً من جذعة، وهكذا تقدر في حق الثلاثة الباقيين، فيجتمع ما ذكرنا، وعلى الرابع يلزمك أربع شياه كما في الوجه الأول كما لو كانت خمس لرجل، وهذه المسائل كلها مفروضة فيما إذا اتفقت أوائل الأحوال، فإن احنتلفت انضم إلى هذه الاختلافات ما سبق من الخلاف عند اختلاف الحول. مثاله في الصورة الأخيرة: لو اختلف حَوْل خلطائك وحولك فتزكى، وهم في السّنة الأولى زكاة الانْفراد، وهي الشياه كل عند تمام حوله، وفي سائر السّنين كل يؤدي زكاة الخلطة، هذا هو الصحيح وفي القديم الواجب في السّنة الأولى أيضاً زكاة الخلطة، وعلى الوجه المنسوب إلى ابن سريج لا تثبت الخلطة أصلاً. فرع: لو خلط خمس عشرة من الغنم بخمس عشرة لغيره ولأحدهما خمسون ينفرد بها فإن قلنا: الخلطة خلطة عَيْن، فلا شيء على صاحب الخمس عشرة، لأن المبلغ ناقص عن النصاب وعلى الآخر زكاة خمس وستين وهي شاة وهو كمن خالط ذميّاً أو مُكَاتباً حكمه حكم المنفرد، وإن قلنا: الخلطة خلطة مِلْك ففيه وجهان: ¬
[باب لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول]
أحدهما: أنه لا حكم لهذه الخلطة أيضاً؛ لأن المختلط يجب أن يكون نصاباً ليثبت حكم الخلطة فيه ثم يستتبع غيره. والثاني: وهو الأصحُّ يثبت حكم الخلطة، ويجعل كأنَّ الخمسين مضمومة إلى الثَّلاثين المختلطة والمجموع ثمانون وواجبها شاة، فيجب على صاحب الخمس والسنتين (¬1) ستة أَثْمَان شاة ونصف ثمن، وعلى الآخر ثمن ونصف (¬2) ولا يخفى نظائره على الموفّق. [باب لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول] قال الغزالي: الشَّرْطُ الثَّالِثُ فِي الحَوْلِ فَلاَ زَكاةَ فِي النَّعَمِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الحَوْلُ إلاَّ السِّخَالَ الحَاصِلَةَ فِي وَسَطِ الحَوْلِ مِنْ نَفْسِ النِّصَابِ الَّذِي انْعَقَدَ الحَوْلُ عَلَيْهِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهَا بِحَوْلِ الأُمَّهَاتِ مَهْمَا أُسِيمَتْ فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ، فَلَوْ مَاتَ الأُمَّهَاتُ وَهِيَ نِصَابٌ لَمْ تَنْقَطِعِ التَّبَعِيَّةُ (ح و)، وَلَوْ مَلَكَ مَائَةً وَعِشْرِينَ فَنَتَجَتْ فِي آخِرِ الحَوْلِ سَخْلَةٌ وَجَبَ شَاتَانِ لِحُدوثهَا فِي وَسَطِ الحَوْلِ. قال الرافعي: ذكر في أول "كتاب الزكاة" للمال الواجب فيه سِتَّة شروط: أحدهما: كونه نعماً. والثَّاني: كونه نصاباً، وقد تمَّ الكلام فيهما. والثَّالث: الحَول فيشترط في وجوب الزكاة في النّعم الحول عملاً بإطلاق ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ" (¬3). ويستثنى عنه النِّتَاج فيضم إلى الأمَّهات في الحول لما روينا من قبل عن عمر (¬4) -رضي الله عنه- أنه قال لساعيه: "اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بالسَّخْلَةِ". وعن علي (¬5) -رضي الله عنه- أنه قال: "اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالْكِبَارِ وَالصِّغَارِ". وإنما يضم بثلاثة شروط: ¬
أحدها: أن يحدث قبل تمام الحول سواء أكثر الباقي من الحول أو قلّ، فأما إذا حدث بعد تمام الحول فينظر إن حدث بعد إمكان الأداء فلا تضم إلى الأمهات في الحول الأول لاستقرار واجبه ولكن يضم إليها في الحول الثاني، وإن كان قبل إمكان الأداء فطريقان: أحدهما: وبه قال القاضي أبو حامد: أنه يبنى على القولين وسنذكرهما في أن الإمكان شرط الوجوب أو شرط الضمان، إن قلنا: شرط الوجوب فتضم إلى الأمهات كالنِّتاج قبل الحول، وإن قلنا: شرط الضَّمان فلا. واحتج للأول: بأن عمر -رضي الله عنه- قال: "اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بالسَّخْلَةِ يَرُوحُ بِهَا الرَّاعِي (¬1) عَلَى يَدَيْهِ". ومعلوم أنه لا يروح بها إلاَّ وقد ولدت في ذلكَ اليوم، ولا تعد المواشي إلا بعد الحول، وذكر في البيان أن من الأصحاب من يجعل المسألة على قولين غير مبنيين على شيء. وأظهرهما: وهو المذكور في "الوسيط" أنه لا يضم أصلاً؛ لأن الحول الثاني ناجز، فالضم إليه أولى من الضَّمِّ إلى المتقضى. والشرط الثَّاني: أنْ يحدث من نفس ماله أمَّا المُسْتَفَاد بالشِّراء أو الإرث أو الهبة فلا يضم إلى ما عنده في الحول، وبه قال أحمد خلافاً لأبي حنيفة ولمالك أيضاً فيما رواه القاضي ابن كج وغيره. لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَيْسَ فِي مَالِ الْمُسْتَفِيدِ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ" (¬2). وأيضاً فإنه مستفاد (¬3) هو أصل بنفسه تجب الزكاة في عينه، ¬
فينفرد بالحول كالمستفاد من غير الجنس، وأيضاً فإن أبا حنيفة -رحمه الله- سلم أنه لو كان له دراهم فأخرج زكاتها ثم اشترى بها ماشية لا تضم إلى ما عنده في الحول، فنقيس غيره عليه ثم عندنا المستفادات وإن لم تضم إلى ما عنده في الحَوْل تضم إليه في النِّصاب على ظاهر المذهب، وبيانه بصور: إحداها: ملك ثلاثين من البقر ستة أشهر، ثم اشترى عشرة أخرى فعليه عند تمام حول الأصل تَبِيع، ثم إذا تم حول العشرة فعليه ربع مسنة، فإذا حال حول ثان على الأَصْلِ فعليه ثلاثة أرباع مسنة، فإذا حال حول ثان على العشرة فعليه ربع سنة وهكذا أبداً، وهذا كما ذكرنا في طرق الخلطة على الانفراد، يجب في السّنة الأولى زكاة الانفراد وبعدها زكاة الخلطة، وعن ابن سريج أن المستفاد لا يضم إلى الأصل في النّصاب كما لا يضم إليه في الحَوْل فعلى هذا لا ينعقد الحول على العشرة حتى يتم حول الثلاثين، ثم يستأنف الحول على الكل. الثانية: ملك عشرين من الإبل ستة أشهر، ثم اشترى عشراً فعليه عند تمام حول العشرين أربع شياه، وعند تمام حول العشرة ثلث بنت مَخَاض، لأنها خالطت العشرين في جميع حولها، وواجب الثلاثين بنت مخاض حصة العشرة ثلثها، فإذا حال حول ثان على العشرين فعليه ثلثا بنت مخاض، وإذا حال حول ثان على العشرة فعليه ثلث بنت مخاض وهكذا يزكي أبداً. وعلى ما حكى عن ابن سريج عليه أربع شياه عند تمام الحول على العشرين وشاتان عند تمام الحول على العشرة ولا نقول هاهنا بعدم انْعِقاد الحَوْل على العشرة، حتى يستفتح حول العشرين، لأن العشرة من الإبل نصاب بخلاف العشرة من البقر في الصُّورة الأولى، ولو كانت المسألة بحالها واشترى خمساً، فإذا تم حول العشرين فعليه أربع شياه وإذا تم حول الخمس فعليه خمس بنت مخاض، وإذا تم الحول الثاني على الأصل فعليه أربعة أخماس بنت مخاض، وعلى هذا القياس وعلى ما حكى عن ابن سريج في العشرين أربع شياه أبداً عند تمام حولها وفي الخمس شاة أبداً، ورأيت في بعض الشروح حكاية وجه آخر: أن الخمسة لا تجري في الحول حتى يتم
حول الأصل، ثم ينعقد الحول على جميع المال، وهذا يطرد في العشرة في الصُّورة السابقة بلا شك. الثالثة: ملك أربعين من الغنم غرة المحرم ثم اشترى أربعين غرة صفر ثم أربعين غرة شهر ربيع الأول، فقد ذكرناها وما يناظرها في الفصل الثالث من الخلطة. قال الصيدلاني وغيره: وجميع ذلك إذا قلنا: الزّكاة في الذّمة وأداؤها من غير المال، فإن قلنا: أنها تتعلّق بالعَيْن، أو قلنا: هي في الذِّمة وأدَّاها من المال فينقص الواجب من المستفاد بالقسط، وكذا في الأصل عند تمام الحَوْل الثاني. والشرط الثالث: أنْ يكون حدوث الفروع بعد بلوغ الأمَّهات نصاباً، فلو ملك عدداً من الماشية، ثم توالدت فبلغ النِّتَاج مع الأصل نصاباً، فالحول يبتدئ من وقت كمال النِّصَاب خلافاً لمالك حيث اعتبر الحول من حين ملك الأصول، وبه قال أحمد في إحدى الروايتين، والأصح عنه مثل مذهبنا. لنا مطلق الخبر: "لاَ زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ" (¬1). ولأنها زيادة بها تم النِّصَاب فيبتدئ الحَول من وقت التَّمَام كالمستفاد بالشَّراء، وإذا اجتمعت الشَّرَائط الثلاث ثم ماتت الأمهات جميعها أو بعضها، والفروع نصاب لم ينقطع حول الأمهات بل تجب الزكاة فيها عند تمام حول الأمهات؛ لأن الولد إذا اتبع الأم في الحكم لم ينقطع الحكم بموت الأم كالأضحية وغيرها، هذا ظاهر المذهب وفيه وجهان آخران: أحدهما: ويشهر بالأنماطيّ أنه يشترط بقاء نصاب من الأمهات، فلو نقصت عن النصاب انقطعت التبعية؟ وكان حول الفروع من يوم حصلت؛ لأنها خرجت عن أن تجب فيها الزَّكاة، ولو انفردت فلا تستتبع غيرها. والثاني: نقله القاضي ابن كج عن رواية أبي حامد: أنه لا يشترط بقاء نصاب منها ولكن لا بد من بقاء شيء منها ولو واحدة. وبه قال أبو حنيفة وقد سبق ذلك في فصل صفات النقصان، وقد ذكرنا مذهب مالك وأحمد أيضاً ثُمَّ وأما ما يتعلق بلفظ الكتاب. فقوله: "إلا في السَّخَال" ليس الحكم مقصوراً على السَّخَال بل العُجُول والفَصْلاَن في معناها. وقوله: "في وسط الحَوْل" إشارة إلى الشَّرْط الأَوَّل، ويجوز أن يعلّم بالميم، لأن القاضي ابن كج حكى عن مالك أنها تضم إلى الأمهات، وإن توالدت بعد الحَوْل ولو حصلت بعد الحَول، وقبل الإمكان وجعلناها مضمومة إلى الأمهات كما سبق، فلا يكون الحصول في وسط الحول شرطاً، فيجوز إعلامه بالواو أيضاً لذلك. ¬
وقوله: "من نفس النصاب" فيه إشارة إلى الشرطين الآخرين. وقوله: "الذي انعقد عليه الحول" جار مجرى التأكيد والإيضاح. وقوله: "مهما أسيمت في بقية السنة" كالمستغنى عنه في هذا المقام؛ لأنه ليس فيه إلاّ تعرض لشرط السّوم، ونحن إذا تكلمنا في شرط لا نحتاج إلى التعرض لسائر الشروط في أثنائه. وقوله: "لم تنقطع التبعية" معلّم بالحاء والألف والواو لما قدمناه. وقوله في آخر الفصل: "لحدوثها في وسط الحول" كذا هو في بعض النّسخ باللام، وفي بعضها كحدوثها بالكاف. والأول أقرب إلى سياق كلامه في "الوسيط" فإنه ذكر هذه المسألة بعد ما ذكر ما لو ملك تسعاً وثلاثين، فحدثت سَخْلَة يستفتح الحَوْل من حينئذ، وبين تغايرهما بأنَّ هناك لم يَكنِ الأصْل نصاباً، ولم ينعقد الحول عليه، وهاهنا ما سبق جَارٍ في الحول هذا لفظه، وهو معنى قوله هاهنا: لحدوثها في وسط الحول أو في أثناء الحول المنعقد على الأصل وإن قرب من الانقضاء، ومن قرأ كحدوثها في وسط الحول لا يمكنه حمل وسط الحول على ما هو المراد منه عند قوله: إلاَّ في السّخَال الحاصلة في وسط الحول فإن المراد ثم ما قبل التمام، ولا شك أن المراد من آخر الحول هاهنا حالة القرب من التّمام، وهي قبل التّمام فلا يغاير حتى يشبه أحدهما بالآخر، فلعله يحمل الوسط على حقيقته المشهورة وليس ذلك بالجيد. واعلم أن فائدة الضم إنما تظهر إذا بلغت الماشية بالنِّتاج نصاباً ثانياً كما لو ملك مائة شاة فحدثت إحدى وعشرون سخلة، فَأمَّا إذا لم يحدث إلاَّ عشرون فلا تظهر فائدته والاعتبار بالانفصال فلو خرج بعض السّخلة وتم الحَوْل قبل انفصالها فلا حكم لها، ولفظ الحصول في قوله: الحاصلة في وسط الحول قد يوهم خلافه فلا يغلط، وإذا اختلف السّاعي والمالك فقال المالك: حصل هذا النِّتَاج بعد الحَوْل، وقال الساعي: بل قبله، أو قال المالك: حصل بسبب مستقل، وقال الساعي: بل من نفس النّصاب، فالقول قول المالك فإن اتَّهمه السَّاعي حلفه (¬1). قال الغزالي: الشَّرْطُ الرَّابِعُ أَنْ لاَ يَزُولَ المِلْكُ عَنْ عَيْنِ النِّصَابِ فِي الزَّكَوَاتِ العَينِيَّةُ، فَإِنْ زَالَ بِالإِبْدَالِ بِمِثْلِهِ وَلَوْ فِي آخِرِ السَّنَةِ انْقَطَعَ الحَوْلُ، فَلَوْ عَادَ بِفَسْخٍ أَوْرَدَ بِعَيْب اسْتُؤْنفَ الحَوْلُ وَلَمْ يَبْنِ، وَكَذَا إِذَا انْقَطَعَ مِلْكُهُ بِالرِّدَّةِ ثُم أَسْلَمَ، وَكَذَا لاَ يَبْنَى حَوْلَ ¬
وَارِثهِ إِذَا مَاتَ عَلَى حَوْلِهِ، وَمَنْ قَصَدَ بَيْعَ مَالِهِ فِي آخِرِ الحَوْلِ صَحَّ بَيْعُهُ (م) وَأَثِمَ. قال الرافعي: قد سبق أنَّ الزَّكَاة ضربان: زكاة تتعلّق بالقيمة وهي زكاة التِّجارة فلا يقدح فيها إبدال عين بعين، وزكاة تتعلّق بالعين والأعيان الَّتي تجب فيها الزَّكاة، ويشترط في وجوبها الحَوْل، ولو زال الملك عنها في خلاله انقطع الحول؟ سواء بادل بجنسه كالإبل بالإبل، أو بغير جنسه كالإبل بالبقر (¬1)، وإذا تَبَادَلا بكل واحد منهما يستأنف الحَوْل، وكذا الحكم في النَّقدين إذا بادل الذهب بالذهب أو بالورق ولم يكن صرفياً يقصد به التجارة، وإن كان صرفياً اتخذ التَّصَرُّف في النَّقْدين متجراً، ففيه وجهان في رواية ابْن كج والحنَّاطِيّ وصاحب "المهذب" وغيرهم، وقولان في رواية الشيخ أبي محمد وصاحب "التهذيب" وآخرين: أحدهما: لا ينقطع الحَوْل كما في العروض لو بادل بعضها ببعض على قصد التِّجارة. وأصحهما: وهو الجديد على رواية القولين أنه ينقطع؛ لأن التِّجارة فيها ضعيفة نادرة والزكاة الواجبة فيها زكاة عين، وإلى هذا ذهب ابْنُ سُرَيْجٍ ويحكى عنه أنه قال: "بَشِّروا الصيارفة بأن لا زكاة عليهم وبنى الصَّيدلاني وطائفة المسألة على أَصْلٍ، وهو أَنَّ زَكَاةَ التِّجَارة وزكاة العين إذا اجتمعتا في مال أيتهما تقدم، وفيه خلاف مذكور في الكتاب في موضعه إن غلبنا زكاة التجارة لم ينقطع الحول، وإن غلبنا زكاة العين، فحينئذ فيه وجهان: وجه عدم الانقطاع أن دوام الملك حولاً شرط في زكاة العين، وقد فقد فيصار إلى زكاة التِّجارة كما لو لم يبلغ ماله نصاب زكاة العَيْن، وبلغت قيمته نصاب زكاة التِّجارة تجب زكاة التجارة، وإزالة الملك عن بعض المال والباقي دون النصاب كإزالته عن جميع النصاب، هذا تفصيل مذهبنا وساعدنا أبو حنيفة في المَوَاشِي، وقال في مبادلة النَّقد بالنقد (¬2): أن الحول لا ينقطع سواء بادل الجنس بالجنس أو بغير الجنس. وقال في مبادلة بعض النصاب الجنس: لا ينقطع الحول سواء فيه المواشي وغيرها بناء على أصلين: ¬
أحدهما: أن نُقْصَان النِّصَاب في أَثْنَاء الحول لا يقطع الحول عنده. والثاني: أن المستفاد بالشِّراءِ ونحوه يضم إلى الأصل في الحول، فقال مالك: إذا بادل نصاباً بجنسه بني على الحول سواء فيه المواشي وغيرها، وفي مبادلة الحيوان بالنقد وعكسه ينقطع، وفي مبادلة جنس من الحَيَوَان بجنس آخر عنه روايتان، وقال أحمد في مبادلة النَّقْد بالنَّقْد بقول أبي حنيفة -رحمه الله- وفي مبادلة الجنس بالجنس من المواشي بقول مالك، وفي مبادلة الجنس بالجنس من المواشي قال: ينقطع. لنا: ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ زَكَاةَ فِي مَال حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ" (¬1). لأنه أصل تجب الزكاة في عينه فلا ينبني حوله على حول غيره كالجنسين، وكل ما ذكرناه في المُبَادَلة الصحيحة أما الفَاسِدة فلا تقطع الحول، لأنها لا تزيل الملك خلافاً لأبي حنيفة فيما إذا اتّصل القبض بها. ثم لو كانت سائمة وعلفها المشتري فقد قال في "التهذيب": هو كعلف الغَاصِب لقطع الحول، وفيه وجهان وقال القاضي ابن كج: عندي تسقط الزكاة وينقطع الحول، لأنه مأذون من جهة المالك في التَّصرف، فأشبه علفه علف الوكيل بخلاف الغاصب، ولو باع معلوفه بيعاً فاسداً فأسامها المشتري فهو كما لو أسامها الغاصب، وسيأتي ذلك إذا عرفت هذا الأصل فيتعلق به مسائل: إحداها: لو باع المال الزكوي، أو بادله قبل تمام الحول ثم وجد المشتري به عيباً قديماً نظر إن لم يَمْضِ عليه حول من يوم الشِّراء، فله الرّد بالعيب، والمردود عليه يستأنف الحول سواء رده بعد القبض أو قبله. وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: إن رده قبل القبض أو بعده لكن بقضاء القاضي يبني على الحول الأول، وإن رده بعد القبض بالرِّضا يستأنف، وإن مضى عليه حول من يوم الشراء، ووجب عليه الزكاة فينظر إن لم يخرج الزَّكاة بعد فليس له الرد؟ سواء قلنا: الزكاة تتعلق بالعين، أو بالذمّة؛ لأن للساعي أخذ الزكاة من عينها لو تعذر أخذها من المشتري، فلا يتقاعد وجوب الزكاة فيه عن عيب حادث، ولا يبطل حق الرد بالتأخير إلى أن يؤدي الزكاة؛ لأنه غير متمكّن من الرد قبله، وإنما يبطل الحق بالتأخير مع التمكن، ولا فرق في ذلك بين عروض التجارة وبين الماشية التي تجب زكاتها من جنسها وبين الإبل التي تجب فيها الغنم وبين سائر الأموال. وفي كلام ابْن الحَدَّاد تجويز الرَّدِّ قبل إخراج الزَّكَاة، ولم يثبتوه وجهاً وإن أخرج الزكاة نظر إن أخرجها من مال آخر فينبني جواز الرَّد على أنَّ الزكاة تتعلَّق بالعين أو تجب في الذّمة، وفيه خلاف يأتي من بعد أن قلنا: تجب في الذّمة، والمال مرهون به ¬
فله الرد كما لو رهن ما اشترى ثم انفكَّ ووجد به عيباً، وإن قلنا: يتعلق بالعَيْنِ تعلّق الأَرْش بالعَبْد الجاني، فكذلك الجواب، وإن قلنا: المسكين شريك فهل له الرد؟ حكى الشيخ أبو علي فيه طريقين: أحدهما: أن فيه وجهين كما لو اشترى شيئاً وباعه وهو غير عالم بعيبه، ثم اشتراه أو ورثه هل يرد؟ فيه خلاف وهذا ما ذكره العراقيون والصيدلاني وغيرهم. والثاني: القطع بأن له الرَّد إذ ليس للمسكين شركة محققة في هذا المال، أَلاَ ترى أن له أن يؤدي الزكاة من مال آخر؟ بخلاف ما لو باعه، فإنه زال المِلْكُ لا محالة، ولأنه بالبيع قد اسْتَدْرك الظّلاَمة التي لحقته بالشّراء من حيث أنه رَوَّج كما روح عليه وبإخراج الزَّكَاة لم يستدرك الظّلاَمة. قال الشيخ: وهذا الطريق هو الصَّحِيح، وبه أجاب كثير من أئمتنا ولم يذكروا سواه، ورأيت للقاضي ابن كج رواية وجه غريب، أنه ليس له الرَّد على غير قول الشّركة أيضاً؛ لأن ما أداه عن الزكاة قد يخرج مستحقاً، فيتبع السّاعي عين النصاب. وإمام الحرمين أشار إلى هذا الوجه لكن خصَّه بقدر الزكاة، وقال فيما وراءه قولاً تفريق الصفة، وإن أخرج الزكاة من عين المال، فإن كان الواجب من جنس المال، أو كان من غير جنسه فباع منه بقدر الزَّكَاة، فهل له ردُّ البَاقي؟ فيه قولان: أحدهما: وهو المنصوص عليه في الزكاة: أنه ليس له ذلك، وهذا إذا لم نجوّز تفريق الصفقة، وعلى هذا هل يرجع بالأرش؟ منهم من قال: لا يرجع إن كان المخرج باقياً في يد المساكين، فإنه رُبَّما يعود إلى ملكه فيتمكن من أداء الجميع فإن كان تالفاً رجع، ومنهم من قال: يرجع مطلقاً وهو ظاهر نصّه. لأن نقصانه عنده كَعَيْب حادث، ولو حدث عيب وامتنع الرد يرجع بالإِرْش ولا ينتظر زوال العَيْبِ الحادث. القول الثاني: أنه ير البَاقِي بحصَّته من الثَّمن، وهذا إذا جوَّزنا تفريق الصَّفْقَة وسيأتي القولان في موضعهما -إن شاء الله تعالى-. وفيه قول ثالث أنه يردّ الباقي وقيمة المخرج في الزكاة، ويسترد جميع الثمن ليحصل غرض الرد، ولا تتبعض الصفقة ولو اختلفا في قيمة المخرج على هذا القول، فقال البائع: ديناران؟ وقال المشتري: بل دينار، فالقول قول من؟ فيه قولان: أحدهما: قول البائع، لأن الأصل استمرار ملكه في الثمن، فلا يسترد منه إلا بما يقربه. والثاني: قول المشتري؛ لأنه غارم لِمَا أَخْرَجه. المسألة الثانية: حكم الإِقَالَة حكم الرَّد بالعَيْب في جميع ما ذكرنا، ولو باع المال الزَّكَوِيّ في خلال الحول بشرط الخيار وفسخ البيع فإن قلنا: الملك في زمان الخيار
للبائع أو هو موقوف بني على حوله ولم يستأنف، وإن قلنا: إنه للمشتري فالبائع يستأنف بعد الفسخ. الثالثة: لو ارتدَّ في خلال الحول هل ينقطع الحول؟ يبني على الخلاف في ملك المرتد، إن قلنا: يزول بالردة ينقطع، فإن عاد إلى الإسلام استأنف، وإن قلنا: لا يزول فالحَوْل مستمر، وعليه الزكاة عند تمامه، وإن قلنا: إنه موقوف فإن هلك على الردة تبين الانقطاع من وقت الردة، وإن عاد إلى الإسلام تبين استمرار الملك ووجوب الزكاة على المرتد في الأحوال الماضية، في الردة ينبني على هذا الخلاف أيضاً، وسنذكره في الركن الثالث -إن شاء الله تعالى. الرابعة: لو مات في أثناء الحَوْل وانتقل مال الزكاة إلى الوارث هل يبنى على حول المورث؟ فيه قولان: القديم: نعم؛ لأنه حليفته في حقوق الملك أَلاَ ترى أنه يقوم مقامه في حق الخيار والرد بالعيب. والجديد: وهو المذكور في الكتاب: أنه لا يبنى بل يبتدئ الحَوْل من يوم ملكه كما لو ملك بالشراء وغيره، وبهذا قال أبو حنيفة وذكر القاضي ابْن كَجّ أنَّ أبا إسحاق قطع به وامتنع من إثبات قول آخر فحصل في المسألة طريقان وحيث قلنا: لا يبنى، فلو كان مال تجارة لا يَنْعَقِدُ الحَوْل عليه حتى ينصرف الوارث بنية التّجارة ولو كانت سائمة، ولم يعلم الوارث الحال تى تَمَّ الحَوْل، فهل تجب الزكاة أم يبتدئ الحول من يوم علم؟. فيه خلاف مبني على أن قصد السّوم، هل يعتبر؟ وسيأتي ذلك. الخامسة: لا فرق في انقطاع الحَوْل بالمُبَادَلة والبَيْع في خلاله بين أن يكون محتاجاً إليه وبين أن لا يكون بل قصد الفرار من الزَّكَاة إلاَّ أنه يكره الفرار، وعن مالك وأحمد أنه إذا قصد الفِرَار من الزَّكَاة أخذت منه الزَّكاة، وهل ذلك لامتناع صحة البيع أم كيف الحال؟ قال في "الوسيط" عند مالك لا يصح البَيْع، وأشار المسعودي إلى أنه إذا عاد إلى ملكه يبني ولا يستأنف. ونقل القاضي ابن كج أنه إذا باع، وقد قرب الحول فراراً من الزكاة، أخذت منه الزكاة، وهذا يُوهِمُ الاكْتِفَاء بما مضى من الحَوْل -والله أعلم-. ونرجع الآن إلى ما يتعلَّق بلفظ الكتاب ونظمه. أما قوله: أن لا يزول المِلْك عن عين النِّصاب في الزَّكَوات العَيْنية فلا شك أن المُرَاد منه عدم الزَّوَال مدة الحَوْل لا على الإطْلاق واحترز بالزَّكَاة العَيْنية عن زكاة التِّجارة، فَلِمَ التبادل فيها لا يقدح على ما قدمنا؟ ولمستدرك أن يقول: الكلام الآن في زكاة النّعم، والشروط المذكورة تتصرف من حيث النَّظم والتَّرْتيب إليها فلا حاجة إلى الاحتراز عن زكاة التجارة وهو غير متناول بالكلام.
واعلم أن السابق إلى الفَهْم من حولان الحول هو مضيّ المدة المعلومة في ملكه بصفة التوالي، لكن لا يمكن أن يكون مراد صاحب الكتاب من شرط الحول هذا؛ لأنه لو أراده لارتفع الفرق بين الشرط الثالث والرابع وعاد إلى شيء واحد، بل المراد من شرط الحول في إيراده مجرد مضي المدة في ملكه من غير اعتبار صفة التَّوَالي. وقوله: فإن زال بالإِبْدَال بمثله لا فرق عندنا بين أن يبدله بالمثل أو بغير المثل، وإنما خص الكلام بالإبدال بالمثل؛ لأنه محل النظر والخلاف على ما تقدم، وأعلم لذلك قوله: "انقطع الحول" بالحاء والميم والألف. وقوله: "ولو عاد بفسخ أورد بعيب" الرد بالعيب هو ضرب من الفسخ أيضاً، لكن كأنه أراد بالفسخ ما يثبت، لا بسبب العَيْب كالفسخ بشرط الخِيَار، وخيار الرؤية إن أثْبَتناه والمُقَابَلَةَ إِذَا جعلناها فسخاً وهو الصحيح. وقوله: "وكذا إذا انقطع ملكه بالردة" أي: إذا قلنا: إن الردة تزيل الملك، فإذا أسلم استأنف الحول على ما بينا وقد رسم قوله: "وكذا إذا انقطع" بالواو للخلاف في أن الردة، هل تزيل الملك أم لا؟ فإن في نفس اللفظ إشعاراً لكن لأنه ذكر في "الوسيط": أن القول القديم في أن الوارث يبني على حول الموروث طرد في أن المرتدّ بعد الإسْلام يبني، وإن حكمنا بانقطاع ملكه بالردة. وحكى الحناطي أيضاً وجهاً على هذا القَول أنه لا يستأنف. وقوله: "ومن قصد بيع ماله" فيه إضمار أي قصده فراراً من الزَكاة، وأعلم قوله: في "صح بيعه" بالميم لما ذكرنا عن مالك في بعض الروايات. وقوله: "وأثم" حكم بالتَّحْريم وقد حكاه إمام الحرمين عن بعض المصنِّفين، وتردّد فيه من جهة، أنه تصرّف مسوغ ولو أثمناه لكان ذلك بمجرد القصد والموجود في لفظ الشافعي -رضي الله عنه- وجمهور الأصحاب إنما هو الكراهية -والله أعلم-. قال الغزالي: الشَّرْطُ الخَامِس السَّوْمُ، فَلاَ زَكَاةَ فِيمَا عُلِفَ فِي مُعْظَمِ السَّنَةِ، وَفِيمَا دُونَهُ أَرْبَعَةُ أَوجُهٍ: أَفْقَهُهَا: أَنَّ المُسْقِطَ قَدْرٌ يُعَدُّ مَؤُونَةً بِالإِضَافَةِ إلَى رِفْقِ السَّائِمَةِ، وَقِيلَ: لاَ يَسْقُطُ إلاَّ العَلَفُ فِي مُعْظَمِ السَّنَة، وَقيل: القَدْرُ الَّذِي كَانَتِ الشَّاةُ تَمُوتُ لَوْلاَهُ يَسْقُطُ حَتَّى لَوْ أَسَامَهَا نَهَاراً وَعَلَفَهَا لَيْلاً لَمْ يَسْقُطْ، وَقِيلَ: كُلُّ مَا يُتَمَوَّلُ مِنَ العَلَفِ يُسْقِطُ. قال الرافعي: لا تجب الزَّكَاة في النّعم إلا بشرط السّوم خلافاً لمالك واحتج الشَّافعي -رضي الله عنه- بمفهوم ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "فِي سَائِمَةِ الغَنَمِ زَكَاةُ" (¬1) وعن ¬
أنس: "أَنَّ أبَا بَكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ -صلى الله عليه وسلم- بِهَا، وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهِا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمَائَةٍ شاة" (¬1). إذا عرف ذلك فالسَّائمة في جميع الحَوْل تجب فيها الزّكاة، والمَعْلوفة في جميع الحول أو أكثره لا زكاة فيها، وإن أُسِيمت بعض الحَوْل، وعلفت في بعضه وهو دون المعظم. فقد حكى في الكتاب فيه أربعة أوجه: أفقهها (¬2) عنده: أنه إن علفت قدراً يعد مؤنة بالإضافة إلى رفق السَّائمة فلا زكاة، وإن استحقر بالإضافة إليه وجبت الزَّكاة كما لو أُسِيمَت في جميع الحَوْل، وفسر رفق السائمة بدرِّهَا ونَسْلها وأصْوافها وأوبارها، ويجوز أن يقال: المراد منه رفق إسَامَتِهَا فإنَّ في الرعي تخفيفاً عظيماً، فإن كان قدر العلف حقيراً بالإضافة إليه فلا عبرة به، وإلى هذا الوجه يميل كلام القَاضِي ابن كج، وفيما علَّق عن الشَّيخ أبي محمد أنَّ أبا إسحاق رجع إليه بعدما كان يعتبر الأغلب. والثاني: أن ذلك لا أثر له وإنما ينقطع الحَوْل وتسقط الزكاة العَلَفِ في أكثر السنة وبه قال أبو حنيفة وأحمد -رحمهما الله-؛ لأنه إذا كانت الإسَامَة أكثر تخفف المُؤْنَة. ويحكى هذا عن ابن أبي هريرة تخريجاً من أحد القولين في السَّقي بماء السماء والنّضح: أنه يعتبر الأغلب منهما وعلى هذا الوجه لو استويا قال في "النهاية": فيه تردد، والأظهر السّقوط. والوجه الثالث: أنه إن علف قدراً كانت الماشية تعيش لولاه لم يؤثر وإن علف قدراً كانت تموت لو لم ترع ولا علفت في تلك المدة انقطع الحول وسقطت الزكاة لظهور المؤنة، وهذا هو الذي ذكره الصَّيدلاني وصاحب "المهذب" وكثير من الأئمة، وقد قيل: إن الماشية تصبر عن العَلَفِ اليوم واليومين ولا تصبر ثلاثة فصاعداً. قال في "النهاية": ولا يبعد أن يلحق الضَّرب البيّن بالهلاك على هذه الطريقة. والوجه الرابع: أن ما يتمول من العلف وإن قلّ يبطل حكم السوم فلو أسيمت بعد ذلك اسْتُؤنف الحَوْل؛ لأن رفق السَّوم لم يتكامل. فإن قلت: هذه الوجوه مخصوصة بما إذا لم يقصد بالعَلَفِ قطع السَّوم وإن قصده ¬
ينقطع الحَوْل لا محالة (¬1) أو هي مخصوصة بما إذا قصده، وإن لم يقصد لم يؤثر لا محالة أو هي شاملة للحالتين. فاعلم أن في كلام النّاقلين لبساً في ذلك، ولعل الأقرب تخصيص الخلاف بما إذا لم يقصد شيئاً، أما إذا علف على قصد قطع السّوم ينقطع الحول لا محالة كذا أورد صاحب "العدّة" وغيره ولا أثر لمجرد نيّة العلف ولو علفها قدراً يسيراً لا يتموّل فلا أثر له أيضاً، إليه أشار بقوله في الكتاب في الوجه الرابع، وقيل: كل ما يتمول من العلف يسقط، ويجوز أن يعلم من لفظ الكتاب ما سوى الوجه الثاني بالألف والحاء لما ذكرنا أن مذهبهما الثّاني ولا يخفى على المراد من قوله: ولا زكاة فيما علف في معظم السنة ما إذا تمحَّض العلف إذ لو كانت تسام نهاراً وتعلف ليلاً في جميع السنة (¬2) كان موضع الخلاف على ما سبق. فرع: لو كانت ماشيتة سائمة لكنها تعمل كالنَّواضح ونحوها، فهل تجب الزَّكاة فيها؟ فيه وجهان حكاهما أبو القاسم الكرخي وآخرون: أصحهما: لا، وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله- وهو الذي أورده معظم العراقيين؛ لأنها لا تقتني للنَّماء، وإنما تقتنى لِلاسْتِعْمال فلا تجب الزَّكَاة فيها كثيَاب البدن ومتاع ¬
الدار. وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَيْسَ في الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ" (¬1). والثاني: نعم، لحصول الرفق بالإِسَامة وزيادة فائدة الاستعمال، وفي لفظ "المختصر" ما يمكن الاحتجاج به لهذا الَوجه، وهو الذي ذكره الشيخ أبو محمد في "مختصر المختصر" وغيره. قال الغزالي: وَلَوِ اعْتَلَفَتِ الدَّابةُ بِنَفْسِهَا أَوْ عَلَفَهَا المَالِكُ لامْتِنَاعِ السَّوْم بِالثَّلْجَ عَلَى أَنْ يَرُدَّهَا إلى الإسَامَةِ أَوْ عَلَفَهَا الغَاصِبُ فَفِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ وَجْهَانِ يُعَبرُ عَنْهُمَا بِأَنَّ القَصْدَ هَلْ يُعْتَبَر؟ وَكَذَا الخِلاَفُ فِي قَصْدِ السَّوْمِ فَإِنْ أَوْجَبَنَا الزَّكَاةَ فِي مَعْلُوفَةٍ أَسَامَهَا الغَاصِبُ فَفِي رُجُوعِهِ بِالزَّكاةِ عَلى الغَاصِبِ وَجْهَانِ: قال الرافعي: الأَصْلُ في هذه المَسَائِلِ أنه اخْتَلَفَ الوجهِ في أَنَّ القَصْدَ في العَلَفِ والسّوم هل يعتبر؟ فمن الأَصحاب من قال: لا يعتبر، أمَّا في العَلَف فلأنه يفوت شرط السّوم سواء كان عن قَصْد، أو لم يكن. وأما في السوم؛ فلأنه يحصل به الرُفْق وتخفّ المؤنة، وإن لم يكن عن قصد. ومنهم من قال: يعتبر. إمَّا في العلف، فلأنه إذا لم يقصده يُدَام حكم السّوم رعاية لجانب المُحْتَاجين. وإمَّا في السّوم فلأنه إذا لم يتلزم وجوب الزكاة في هذا المال وجب أن لا يلزم، ويتفرع على هذا الأصل صور: منها لو اعتلفت سائمة بنفسها القدر المؤثر من العلف، هل ينقطع الحول؟ فيه وجهان والموافق لاختيار الأكثرين في نظائرها: أنه ينقطع لفوات شرط السَّوم فصار كفوات سائر شروط الزكاة، لا فرق فيه بين أن يكون عن قصد أو اتفاقاً، ولو رَتَعَت الماشية بنفسها ففي وجوب الزكاة وجهان أيضاً، وفي كلام أصحابنا العراقيين طريقة أخرى قاطعة بعدم الوجوب هاهنا. ومنها: لو علف المالك ماشيته لامتناع السوم بالثلج وهو على عزم ردَّها إلى الإِسَامَةِ عند الإمكان، ففيه الوجهان: أظهرهما: انقطاع الحول لفوات الشرط. والثاني: لا، كما لو لبس ثوب تِجَارة لا بنية القنية لا تسقط الزَّكاة. واعلم: أن العلف جرى في هذه الصّور بقصد المالك واختياره، لكن لما كانت الضرورة داعية إليه وكان ملجأ إليه ألحقت الصُّورة بما إذا جرى العلف من غير قصده، ¬
وطرد الخِلاَف فيها. ومنها: لو غصب سَائِمَةٌ وعلفها فيخرج أولاً على أنه لو لم يَعْلِفْهَا، هل كان تجب الزكاة فيها أم لا تجب لكونها مغصوبة؟ وفيه خلاف يأتي في الفصل التّالي لهذا الفصل. فإن قلنا: لا زكاة في المَغْصُوب فلا شيء فيها. وإن قلنا: تجب الزكاة في المغصوب فهاهنا وجهان: أحدهما: تجب؛ لأن فعل الغَاصِب عديم الأثر في تَغْيير حُكْمِ الزكاة، أَلاَ تَرى أنه لو غصب ذهباً وصاغه حُلياً لا تسقط الزكاة؟ والثَّاني: لا تجب لفوات شرط السّوم كما لو ذبح الغاصب بعض الماشية وانتقص النّصاب وهذا أصح عند الأكثرين، وفصل الشَّيخ أبو محمد، فقال: إن علفها بعلف من عنده فالأظهر أن حكم السوم لا ينقطع؛ لأنه لا يلحق مؤنة بالمالك، ولو كان الأمر بالعكس فغصب معلوفة وأَسَامَهَا، إن قلنا: لا زكاة في المغصوب، فذاك، وإن قلنا: تجب فوجهان: أحدهما: تجب لحصول الرّفق وخفّة المؤنة، وصار كما لو غصب حِنْطَة وبذرها يجب العشر فيما ينبت منها. وأظهرهما: لا تجب؛ لأن المالك لم يقصد الإِسَامَة وشبّهوا ذلك بما إذا رَتَعَتِ الماشية بنفسها، لكن الخلاف يجري فيه على أحد الطَّريقين كما سبق، وإذا أوجبنا الزَّكاة فقد حكى في "التَّهْذيب" وجهين في أنها تجب على الغَاصِب، لأنها مؤنة لزمت بفعله أو على المالكّ؛ لأن نفع خفّة المؤنة عائد إليه. ثم حكى على هذا وجهين آخرين في أنه إذا أخرج المالك بزكاة، هل يرجع بها على الغاصب. وقوله في الكتاب: "فإن أوجبنا الزَّكَاة في معلوفة أسامها الغاصب، ففي رجوعه بالزكاة على الغاصب وجهان، أراد به إن أوجبناها على المالك وجه عدم الرجوع أن سبب الزكاة ملك المال ووجه الرجوع، وهو الأظهر أنه لولا فعل الغاصب لما وجبت الزكاة. وقطع صاحب "التتمة" بالرجوع ورد الخلاف إلى أنه هل يؤمر الغاصب بالإخراج أم يخرج المالك ثم يغرم له الغاصب؟ وذكر في "النهاية" وجهين في أنا إذا أثبتنا الرُّجوع للمالك، هل يرجع قبل إخراج الزَّكَاة أم يخرج ثم يرجع؟ واعلم: أن البخاري على قياس المذهب لمن أوجب الزكاة هاهنا أن يوجبها على المالك ثم يغرم له الغاصب. أما إيجاب الزكاة على غير المالك فبعيد وإن كنا نوجب عليه ابتداء فيجب أن يوجب أيضاً، إن قلنا: لا تجب الزكاة في المغصوب. قال الغزالي: الشَّرْطُ السَّادِسُ كَمَالُ المِلْكِ، وَأَسْبَابُ الضَّعْفِ ثَلاثَةُ: الأَوَّلُ: امْتِنَاعُ التَّصَرُّفِ فَإِذَا تَمَّ الحَوْلُ عَلَى مَبِيعِ قَبْلَ القَبْضِ أَوْ مَرهُونٍ أَوْ مَغْصُوبٍ أَوْ ضَالٍّ أَوْ مَجْحُودٍ
لاَ بَيِّنَة عَلَيْهِ أَوْ دَيْنٍ عَلَى مُعْسِرٍ فَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ خِلاَفٌ لِحُصُولِ المِلْكِ وَامْتِنَاعِ التَّصَرُّفِ، وَفِي المَغْصُوبِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: أنَّهُ إِنْ عَادَ بِجَمِيعِ فَوَائِدِهِ زَكَّاةُ لِأَحْوَالِهِ المَاضِيَةِ، وَإنْ لَمْ تُعَدَّ الفَوَائِدُ فَلاَ، وَالتَّعْجِيلُ قَبْلَ عَوْدِ المَالِ غَيْرُ وَاجِبٍ قَطْعاً، وَالدَّيْنُ المؤَجَّلُ قِيلَ: إِنَّهُ يُلْحَقُ بِالمَغْصُوبِ، وَقِبلَ كالغائِبِ الذِي يَسْهُلُ إِحْضَارُة، فَإِنْ أَوْجَبْنَا لَمْ يَجِبِ التَّعْجِيلُ فِي أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الخَمْسَةَ نَقْداً تُسَاوِي سِتَّةً نَسِيئَةً فَيُؤَدِّي إلَى الإجْحَافِ بِهِ. قال الرافعي: إنما جعل أسباب الضّعف ثلاثة لأن الملك إما أن لا يكون مستقرًّا وهو السَّبب الثالث أو يكون مستقراً. فإما أن يتسلط الغير على إزالته وهو السبب الثاني أو لا يتسلط. فأما أن تمتنع فيه التصرفات بكمالها وهو السبب الأول أو لا تمتنع فلا ضعف، وممّا يجب معرفته أن اعتبار هذا الشرط مختلف فيه، فإن في مسائله كلها اختلاف قول أو وجه على ما سيأتي. إذا تقرر ذلك ففي الفصل مسائل: إحداها: لو ضَلَّ ماله أو غصب أو سرق وتعذَّر انتزاعه أو أودعه عند إنسان فجحده أو وقع في بحر، فهل تجب فيه الزكاة. قال في "باب صدقة الغنم": "ولو ضلت غنمه أو غصبها أحوالاً ثم وجدها زكَّاها لأحوالها" وقال في "باب الدَّين مع الصدقة": "ولو جحد ماله أو غصبه أو غرق فأقام زماناً ثم قدر عليه فلا يجوز فيه إلا واحد من قولين أن لا يكون عليه زكاة حتى يحول الحول عليه من يوم قبضه؛ لأنه مغلوب عليه أو يكون عليه الزكاة؛ لأن ملكه لم يَزُل عنه". واختلف الأصحاب على ثلاث طرق: أحدها: أن المسألة على قولين: أحدهما وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله تعالى-: أنه لا زكاة في هذه الأموال لتعطُّل نمائها، وفائدتها عليه بسبب خروجها من يده، وامتناع التصرف فيها فأشبهت مال المكاتب لا تجب الزكاة فيها على السّيد. وأصحهما: الوجوب لملك النصاب وحولان الحول وعبر أصحابنا العراقيُّون وغيرهم عن هذا القول بالجديد، وعن الأول بالقديم وعن أحمد روايتان كالقولين. وأصحهما: الوجوب. وقال مالك: تجب فيها زكاة الحَوْل الأَوَّلِ دون سائر الأحوال. والطَّرِيق الثاني: أنه تجب الزَّكاة فيها قولاً واحداً، ومن قال بهذا حمل ما ذكره من التَّرْدِيد على الرَّدِّ على مالك، فقال: أراد الشَّافعي -رضي الله عنه- أن لا يتوجَّه إلا وجوب زكاة جميع الأحوال كما قلت لاستمرار الملك أو نفيها على الإطلاق كما قال أبو حنيفة. أما الفصل بين السنة الأولى وغيرها فلا سبيل إليه.
والثالث: حكى القاضي ابن كَجٍّ عن ابْن خَيْرَان أن المسألة على حالين حيث قال: يزكيها لأحوالها أراد إذا عادت إليه بنمائها، وحيث قال: لا تجب أراد إذا عادت إليه من غير نمائها (¬1). فإذا قلنا بالطريقة الأولى، فهل القولان مطلقان أم لا؟ فيه طريقان: أحدهما وبه قال ابْنُ سُرَيج وأبو إسحاق: لا بل موضع القولين ما إذا عادت إليه من غير نَمَائها، فإن عادت إليه بنمائها وجبت الزَّكاة قطعاً؛ لأن المؤثر على قول: إنما هو فوات النَّماء عليه، وذكر إمام الحرمين شيئين على هذه الطَّرِيقة ينبغي أن يحاط بهما: أحدهما: أنه إن عاد المال إليه مع بعض الفوائد دون بعض كان كما لو لم يعد شيء من الفوائد إليه. والثَّاني: أن المعنى بفوات الفوائد أن يهلكها الغاصب أو تضيع لزوال نظر المالك ويتعذر تغريم الغاصب. فأمّا إذا فات شيء في يد الغاصب كان يفوت في يد المالك أيضاً فلا مبالاة ولو غرم الغاصب كان كما لو عادت الفوائد بأعيانها، ويتخرَّج على هذه الطَّريقة قول من قال: إن كان المال المغصوب الدَّرَاهم والدَّنانير ففي وجوب الزكاة قولان، وإن كان المواشي فتجب الزّكاة بلا خلاف؛ لأن الدراهم لا تعود بربحها، فإن ما حصل من الربح يكون للغاصب، والمواشي تعود بفوائدها إمّا بعينها أو بقيمتها حتى لو غصبها أهل الحرب وأتلفوا الدر والنسل جرى فيها القولان، هذا أحد الطريقين. وأصحهما وبه قال أبو علي بن أبي هريرة والطبري: طرد القولِين في الحالتين؛ لأن المؤثر على أحد القولين ذوات اليد والتصرف دون فوات النماء، أَلاَ ترى أن الذكور التي لا تنمو تجب فيها الزكاة، وجميع ما ذكرناه فيما إذا عاد المال إليه، ولا شك في أنه لا يجب إخراج الزكاة قبل عود المال إلى يده. ولو تلف بعد مضي أحوال في الحَيْلُولَة سقطت الزكاة على قول الوجوب، لأنه لا يتمكَّن من المال وتلف المال بعد الوجوب وقبل التَّمكُّن يسقط الزكاة. ثم اعرف في المسألة أمرين آخرين: أحدهما: أن موضع الخلاف في الماشية المَغْصُوبة ما إذا كانت سائمة في يد ¬
المالك والغاصب جميعاً، فإن كانت مَعْلُوفة في يد أحدهما عاد النَّظر في أن علف الغاصب وإسامته هل يؤثران؟ والثاني: أن زكاة الأَحْوَال المَاضِية إنما تجب على أحد القولين إذا لم تنقص الماشية عن النِّصَاب بإخراج زكاة بعض الأحوال، أما إذا كانت نصاباً بلا مزيد ومضى عليه أحوال فالحكم على هذا القول كما لو كانت في يده، ومضت أحوال ولم يخرج الزكاة، وسنذكره إن شاء الله تعالى جده. ولو كانت له أربعون من الغنم فضلت منها واحدة ثم وجدها إن قلنا: لا زكاة في الضَّالة استأنف الحول سواء وجدها قبل تمام الحول أو بعده، وإن قلنا: تجب الزَّكاة فيها، فإن وجدها قبل تمام الحَوْل بني، وإن وجدها بعده أخرج الزّكاة عن الأربعين، ولو دفن ماله في موضع ونسيه ثم تذكره فهذا ضرب من الضَّلاَل، وقد ذكرنا ما فيه من الخلاف ولا فرق بين أن يكون الدّفن في داره أو في غيرها، وقطع بعض المثبتين للقولين في سائر صور الضّلال بالوجوب هاهنا؛ لأنه غير معذور بالنّسيان، وعند أبي حنيفة -رحمه الله- أن دفنه في حِرْزه ففيه الزكاة، وإلاَّ فلا، ولو أسر المالك وحيل بينه وبين ماله، ففيه طريقان: منهم من طرد الخلاف، ومنهم من قطع بالوجوب وهو الأصح؛ لأن تصرُّفه نافذ فيه بالبيع وغيره بخلاف ما لو غصب ماله أو ضل. واعلم أن الأئمة ذكروا أن مذهب مالك في الفصل بين الحول الأول وما بعده على ما سبق مبنى على أصل له، وهو أن الإمكان من شرائط وجوب الزكاة، ولا يبتدأ الحول الثاني إلا من يوم الإمكان ويوم الإمكان هاهنا هو يوم الوجدان، فمنه يفتتح الحول الثاني ولا يخرج لما مضى إلا زكاة حول، وهذا الذي ذكروه يقتضي أن يكون للشَّافعي -رضي الله عنه-[مثل قول] (¬1) مذهبه؛ لأن له قولاً كمذهبه في أن الإمْكان من شرانط الوجوب والله اعلم. المسألة الثانية: لو اشترى من الأموال الزَّكاوية نصاباً ولم يقبضه حتى مضى حول في يَدِ البَائِعَ، هل تجب الزكاة على المشتري؟ فيه طرق: أحدها: حكى في "النهاية" عن بعض المصنّفين عن القَفّال: أنها لا تجب قولاً واحداً بخلاف المغصوب؛ لأن ملك المشتري ضعيف فيه، ألا ترى أنه لا ينفذ تصرفه، فإن رضي البائع ولو تلف تلف على ملك البائع. وثانيها: أنه على القولين في المَغْصُوب. ¬
وأصحهما وبه قطع الجمهور: وجوب الزَّكَاة فيها قولاً واحداً بخلاف المغصوب، فإنه يتعذّر الوصول إليه وانتزاعه، وهاهنا يمكنه تسليم الثَّمَن وتسلّم المبيع. الثالثة: لو رهن ماشيته أو غيرها من أموال الزَّكاة، فقد حكى الإمام والمصنف في "الوسيط" في وجوب الزكاة فيها عند تمام الحول وجهين لامتناع التَّصرف، وعلى ذلك جرى هاهنا فأثبت الخِلاَف في المَرْهُون كما في المغصوب والمجحود ونحوهما، وقطع الجمهور بوجوب الزكاة فيه، وقالوا: لا اعتبار بامْتناع التَّصرف فيه كما في الصَّبي والمَجْنُون، ولهم أن يفرقوا بين الحَيْلُولة وامتناع التصَّرف الواقعين في المرهون وبين الحيلولة وامتناع التصرف الواقعين في المغصوب بأن ما حصل في المرهون حصل برهنه وإقباضه، وهو بما فعل متنفع بملكه ضرباً من الانتفاع - بخلاف المغصوب والمجحود، نعم يجيء في وجوب الزكاة في المرهون الخلاف بجهة أخرى، وهي أنَّ الرهن لا بد وأن يكون بِدَيْن (¬1) فيأتي فيه الخلاف الذي سنذكره في أن الدَّين هل يمنع وجوب الزكاة أم لا؟ والذي قاله الجمهور جواب على القول المشهور: وهو أنه لا يمنع ثم إذا حكمنا بوجوب الزكاة فيبقى الكلام في أنها تؤخذ من عين المَرْهون أو غيره، وقد ذكره في الكتاب قبيل النوع الثّاني من الزَّكاة سنشرحه إذا انتهينا إليه. الرابعة: الدَّين الثابت على الغير إمّا أن يكون لازمًا كَمَالِ الكتابة فلا زكاة فيه؛ لأن الملك غير تام فيه، وللعبد إسقاطه متى شاء، وإن كان لازماً فينظر: إن كان ماشية فلا زكاة فيها أيضاً وذكروا له معنيين: أحدهما: أن السّوم شرط لزكاة المواشي، وما في الذّمة لا يتَّصف بالسّوم ولك أَنْ تقول: لِمَ لا يجوز أن تكون الماشية الثَّابتة في الذِّمة موصوفة بوصف كونها سائمة؟ ألا ترى أنا نقول: إذا أسلم في اللّحوم يتعرض لكونه لحم راعية أو معلوفة، فإذا جاز أن يثبت في الذمة لحم راعية جاز أن يثبت في الذمة راعية. وأصحهما: أن الزكاة إنما تجب في المال النَّامي، والماشية في الذمة لا تنمو بخلاف الدّراهم إذا ثبتت في الذِّمة فإن سبب الزكاة فيها رواجها وكونها معدة للتصرف، ولا فرق فيه بين أن يكون نقداً أو على ملئ، وإن كان الدَّيْن عروض تجارة أو دراهم أو دنانير ففيه قولان: قال في القديم فيما رواه الزعفراني: لا زكاة في الدين بحال؛ لأنه لا ملك فيه حقيقة فأشبه دين المكاتب. ¬
والجديد الصحيح: أنها تجب في الدَّيْن في الجملة، وتفصيله إنه إن كان يتعذر الاسْتِيفاء لكون من عليه معسراً أو لكونه جاحداً ولا بيّنة عليه أو ماطله فهو كالمغصوب، ففي وجوب الزكاة فيه القولان، ولا يجب الإخراج قبل حصوله قطعاً، وفرّق في "العدة" بين الجحود والاعسار فجعل وجوب الزَّكَاة في الصورتين على القولين وبين المُطْل فقطع بوجوب الزَّكَاة فيه، وكذا فيما إذا كان دينه على ملئ غائب، وإن لم يتعذَّر استيفاؤه بأن كان على ملئ مقر باذل فينظر: إن كان حالاً وجبت الزَّكَاة فيه، ويلزم إخراجها في الحال -خلافاً لأبي حنيفة وأحمد -رحمهما الله- حيث قالا: لا يؤمر لإخراجها إلا بعد القبض. لنا: أنه مال مقدور عليه فأشبه ما لو كان مودعاً عند إنْسان وإن كان مؤجلاً ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها تجب فيه الزكاة قولاً واحداً كالمال الغائب الذي يسهل إحضاره. والثاني: أنه لا زكاة فيه قولاً واحداً، ويحكى هذا عن ابْنِ أَبِي هُرَيْرَة؛ لأن من له دَيْن مؤجل لا يملك شيئاً قبل حُلُول الأجل. والثالث وبه قال أبو إسحاق: أنه على القولين في المغصوب والمجحود؛ لأنه لا يتوصل إلى التّصرف فيه قبل الحُلُول، وهذا أظهر عند الأئمّة. وإذا قلنا: تجب فيه الزكاة فهل يلزم إخراجها في الحال؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم كالغائب الذي يسهل إحضاره. وأصحهما: لا، حتى يقبضه (¬1)؛ لأنه لو أخرج خمسة نقداً مثلاً وماله مؤجل كان بمثابة [إخراج] (¬2) ستة وهو إجحاف به، فإن الخمسة نقداً تساوي ستة نسيئة، ولا سبيل إلى القناعة بما دون الخمسة. الخامسة: المال الغائب إذا لم يكن مقدوراً عليه لانقطاع الطريق أو انقطاع خبره فهو كالمغصوب والمجحود، وذكر في "التهذيب" وجهاً آخر: أنه لا يجب الزكاة فيه لا محالة، نعم لا يخرج في الحال حتى يصل إليه، وإن كان مقدوراً عليه معلوم السَّلاَمة وجب إخراج زكاته في الحَالِ، وينبغي أنْ يخرج في بلد المال، فإن أخرج في غير ذلك البلد ففيه خلاف نقل الصدقة، وهذا إذا كان المال مستقرّاً في بلد، فإن كان سائراً فقد قال في "العدة": لا يخرج زكاته حتى يصل إليه، فإذا وصل زكّاه لما مضى بلا ¬
خلاف (¬1) ثم أعود بعد هذا إلى ما يتعلق بألفاظ الكتاب. قوله: أو مجحوداً لا بينة عليه يتناول العَيْن يَجْحَدُها مَنْ أودع عنده والدَّين جميعاً، وإنما قال: لا بينة عليه، لأنه لو كان له بينة عاد له، فالحكم كما لو لم يكن جاحداً؛ لأنه يقدر على الإثبات والاستيفاء، ولو كان القاضي عالماً بالحال، وقلنا: إنه يقضي بعلمه فهو كما لو كانت له بينة. وقوله: ففي جميع ذلك خلاف أراد بالخلاف الذي أبْهَمَه وجهين في الرُّهون على ما صرح به في "الوسيط"، وقولين في سائر المسائل جواباً على طريقة إثبات القولين فيهما، ألا تراه يقول بعد ذلك، وفي المغصوب قول ثالث؟ ولك أن تعلم قوله: "ففي جميع ذلك خلاف" بالواو إشارة إلى الطرق القاطعة بالنفي أو الإثبات. وقوله: وفي المغصوب قول ثالث إشارة إلى طريق من خص القولين بما إذا عاد المال إليه بفوائده وإذا ضم ذلك إلى قول من طرد القولين خرجت ثلاثة أقوال كما ذكره، وربما أوهم قوله: "وفي المغصوب قول ثالث" تخصيص هذا القول بالمغصوب من بين سائر الصور، وليس كذلك بل هو جَار في الضَّال والمجحود أيضاً، وقوله: أيضاً قبل ذلك لِحُصُولِ الملك وامتناع التَّصرُّف إِشَارة إلى تَوْجِيهِ القَوْلَيْن فحصول الملك وجه الوجوب وامتناع التَّصَرُّف وجه المنع. وقوله: وإن لم تعد الفوائد فلا غير مجرى على ظاهره بل المعنى لا بأعيانها ولا بأبدالها على ما سبق بيانه. وقوله: والتَّعجيل قبل عود المال، وقوله بعده: "لم يجب التعجيل" ليس المراد من التعجيل هاهنا معناه المشهور في الزكاة وهو التقديم على الحول، وإنما المراد التقديم على أخذ المال وقد جرى ذلك في لفظ الشافعي -رضي الله عنه-. وقوله: والدَّين المؤجل أي: على الموسر المقرّ. وقوله: قيل: "إنه كالمغصوب" ليس للتسوية على الإطلاق، فإن القول الثالث في المغصوب لا يأتي هاهنا، وإنما الغرض منه التسوية في القولين الأولين وكذا قوله: "وقيل: كالغائب الَّذي يسهل إحضاره" ليس مجرياً على إطلاقه، لأن الغاصب الذي يسهل إحضاره يجب إخراج زكاته في الحال، وفي الدين لا يجب في أظهر الوجهين بل المراد التسوية في وجوب الزكاة قولاً واحداً، ثم يجوز إعلام كلاميهما بالواو وللوجه المعزى إلى ابن أبي هريرة. قال الغزالي: السَّبَبُ الثَّانِي تَسَلُّطُ الغَيْرِ عَلَى مِلْكِهِ كالملْكِ فِي زَمَنِ الخِيَارِ، وَالمِلْكُ فِي اللُّقَطَةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إِذَا لَمْ يَتَمَلَّكْهَا المُلْتَقِطُ هَلْ تَجِبُ الزَّكَاة فِيهَا؟ فيه خِلاَفٌ. قال الرافعي: في الفصل مسألتان: ¬
أحدهما: إذا باع مالاً زكويّاً قبل تمام الحول بشرط الخيار فتم الحول في مدة الخيار أو اصطحبا مدة فتم الحَوْل في مدة خيار المجلس، فوجوب الزكاة ينبني على الخلاف في أن الملك في زمان الخيار لمن يكون. إن قلنا: إنه للبائع فعليه الزكاة وبهذا القول أجاب الشَّافعي -رضي الله عنه- في هذه المسألة التي نحن فيها. وإن قلنا: إنه للمشتري، فلا زكاة على البائع لانقطاع حوله بزوال ملكه، والمشتري يبتدئ الحول من يوم الشراء، فإذا تم الحول من يومئذ وجبت الزكاة عليه. وإن قلنا: إنه موقوف فإن تم العقد تبينا أن الملك للمشتري، وإن فسخ تبينا أنه كان للبائع وحكم الحالتين ما ذكرنا هذا ما ذكره الجمهور من أئمتنا -رضي الله عنهم- ولم يتعرضوا لخلاف بد البناء على الأصل المذكور. قال إمام الحرمين: إلا صاحب "التقريب" فإنه قال: وجوب الزكاة على المشتري مخرج على القولين في المغصوب بل أولى لعدم استقرار الملك مع ضعف التَّصرف، وعلى هذا جرى المصنّف فأثبت الخلاف في الملك في زمان الخيار. قال إمام الحرمين: وإنما خرجه صاحب "التقريب" على القولين إذا كان الخيار للبائع أو لهما، فأما إذا كان الخيار للمشتري وحده، والتفريع على أن الملك له فملكه ملك الزكاة بلا خلاف؛ لأن الملك ثابت والتَّصرف نافذ، وتمكّنه من ردِّ الملك لا يوجب تَوْهِيناً، وعلى قياس هذه الطَّريقة يجري الخِلاَف في جانب البَائِعِ أيضاً، إذا فرعنا على أن الملك وكان الخيار للمشتري، فإنه لو أجاز لزال ملك البائع فهو ملك بتسلط الغير على إزالته. الثانية: اللُّقَطَة في السَّنة الأولى باقية على ملك المالك، فلا زكاة فيها على الملتقط، وفي وجوبها على المالك الخلاف المذكور في المغصوب والضَّال، ثم إن لم يعرفها حولاً فهكذا الحكم في سائر السّنين، وإن عرفها فيبنى حكم الزكاة على أن الملك في اللُّقطة يحصل بنفس مضي سنة التعريف أو باختيار التملك أو بالتصرف، وفيه اختلاف يأتي في موضعه -إن شاء الله تعالى جده-. فإن قلنا: يملك بانقضائها فلا زكاة على المالك، وفي وجوبها على الملتقط وجهان، حكاهما الشيخ أبو محمد، وبناهما على أن المالك لو علم بالحال، والعين باقية، هل يتمكن من الاسترداد أم لا. إن قلنا: نعم فهو ملك يتسلط الغير على إزالته. وإن قلنا: يملك باختيار التملك، وعليه بني المسألة في الكتاب حيث قال: "إذا لم يتملكها الملتقط" وهو المذهب فينظر: إن لم يتملكها، فهي باقية على ملك المالك وفي وجوب الزكاة عليه طريقان: أحدهما: أن فيه قولين كما في السَّنة الأولى، قال في في "الشامل" وغيره: وهو الأصح.
والثاني: القطع بنفي الزكاة فيها، وينقل ذلك عن حكاية أبي إسحاق. والفرق أن ملك المالك في المغصوب ونظائره مستقر غير معرض للزوال، وملكه في اللُّقطة بعد سنة التعريف تعرض للإزالة، وإن تملكها الملتقط فليس على صاحبها زكاتها وهو يستحق القيمة على التملك لكنها في حقه ملك ضال ففي وجوب زكاتها الخلاف من وجهين: أحدهما: أنه دين. والثاني: أنه غير مقدور عليه فهو كالأعيان التي لا يقدر عليها، ثم الملتقط مديون بالقيمة فإن لم يملك غيرها ففي وجوب الزكاة عليه الخلاف الذي نذكره في أن الدَّيْن هل يمنع وجوب الزَّكَاة وإن ملك ما بقي بالقيمة، ففي الوجوب وجهان مبنيان على ما سبق. أظهرهما وأشهرهما: الوجوب، وإن قلنا: أن الملك فيها يحصل بالتصرف ولم يتصرف، فالحكم كما إذا لم يتملك. وقلنا: لا بد منه. واعلم: أن الملتقط لو رد اللُّقْطة بعد ظهور المالك تعين عليه القبول، وفي تمكن الملك من استردادها قهراً وجهان، وهذا يوجب أن تكون القيمة الواجبة بعرض السقوط وحينئذ لا يبعد التردُّد في امتناع الزكاة كالتردُّد في وجوب الزكاة على الملتقط مع الحكم بثبوت الملك له لكونه يعرض للزوال. وإذا عرفت المسألتين لم يَخْفَ عليك أنَّ المراد من الخلاف الذي أبهم ذكره طريقان: أظهرهما: في كلام الأصحاب في المسألة الأولى: القطع بالوجوب. والثَّاني: إثبات القولين: وأظهرهما في الثانية: إثبات القولين. والثاني: القطع بالمنع. وقوله: "إذا لم يتملكها الملتقط" أي بعد التعريف سنة، فإن التسلط حينئذ يثبت. قال الغزالي: وَإِذَا اسْتَقْرَضَ المُفْلِسُ مَائَتَيْ دِرْهَم فَفِي زَكَاتِهِ قَوْلاَنِ: وَجْهُ المَنْعِ: صَعْفُ المِلْكِ لِتَسَلُّطِ مُسْتَحِقِّ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَقَدْ يُعَلَّلُ بأَدائِهِ إِلَى تَثْنِيَةِ الزَّكَاةِ إِذْ يَجِبُ عَلَى المُسْتَحِقِّ بِاعْتِبَارِ يَسَارِهِ بِهَذَا المَالِ، وَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ المُسْتَحِقُّ بِحَيْثُ لاَ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ لِكوْنهِ مُكَاتِباً أَوْ يَكُونُ الدَّيْنُ حَيَوَاناً أَوْ نَاقِصاً مِنَ النِّصَابِ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ عَلَى المُسْتَقرِضِ، فَإِنْ كَانَ المُسْتَقْرِضُ غَنِيّاً بِالعَقَارِ وَغَيْرِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ (زح م) وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِالدَّيْنِ، وَقِيلَ: الدَّيْنُ لاَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ إِلاَّ فِي الأَمْوَالِ البَاطِنَةِ (ح).
قال الرافعي: الدين هل يمنع الزكاة؟ اختلف فيه قول الشافعي -رضي الله عنه-. قال في أكثر الكتب الجديدة: لا يمنع، وهو المذهب لإطلاق النصوص الواردة في باب الزَّكاة، وأيضاً فإنه مالك للنِّصاب وتصرفه نافذ فيه وأيضاً فإن الزكاة إما أن تتعلّق بالذِّمة أو بعين المال، إن كان الأول فالذِّمَّة لا تضيق عن ثبوت الحُقُوق، وإن كان الثَّاني فالدَّين المتعلق بالذمة لا يمنع الحق المتعلق بالعين، ألا ترى أن العبد المديون (¬1) لو جنى تعلق أرش الجناية برقبته. وقال في القديم: وفي اختلاف العراقيين من الجديد: إنه يمنع؛ لأن الزَّكَاة حَقٌّ يجب في الذِّمة بوجود مال فصنع الدين وجوبه كالحج وأيضاً فلما سيأتي في التفريع، ومن الأصحاب من حكى قولاً ثالثاً وهو أن الدين يمنع الزَّكَاة في الأموال الباطنة، وهي الذَّهَب والفضَّة وعروض التِّجَارة، ولا يمنعها في الأموال الظَّاهرة وهي المواشي والزُّروع والثِّمَار والمعادن، والفرق أن الأموال الظَّاهرة تنمو بنفسها أو هي نماء في نفسها والأموال الباطنة ليست كذلك، وإنما ألحقت بالنَّاميات للاستغناء عنها واستعدادها للاسترباح بالتَّصَرُّف والإخراج، والدين يمنع من ذلك ويحوج إلى صرفها إلى قضائه، وبهذا القول الثالث قال مالك -رضي الله عنه-، وبالقول الثاني قال أبو حنيفة -رضي الله عنه- إلا أنه يمنع العشر عنده، وعندنا لا فرق، وعند أحمد -رحمه الله- يمنع الزكاة في الأموال الباطنة، وفي الظاهرة روايتان. التفريع إن قلنا: الدَّيْن لا يمنع [وجوب] (¬2) فلو أحاطت بالرّجل ديون، وحجر عليه القاضي فله ثلاث أحوال: إحداها: أن يحجر ويفرّق ماله بين الغرماء، فهاهنا قد زال ملكه ولا زكاة عليه. والثّانية: أن يعين لكلّ واحد منهم شيئاً من ماله على ما يقتضيه التَّقسيط، ومكنهم من أخذه، فحال الحَوْل، ولم يأخذوه. قال معظم الأصحاب: لا زكاة عليه أيضاً؛ لأنه ضعف ملكه وصاروا هم أحق به، ولم يحكوا فيه خلافاً، وحكى الشيخ أبو محمد في هذه الصورة عن بعض الأصحاب: أن وجوب الزكاة يخرج على الخلاف في المَجْحُود والمغصوب؛ لأنه حيل بينه وبين ماله. وعن القفال: أنه يخرج على الخلاف في اللُّقطة ¬
في السنة الثانية؛ لأنهم تسلَّطوا على إزالة ملكه تسلط الملتقط بخلاف المجحود والمغصوب، ولك أن تقول: ميل الأكثرين في صورة اللُّقَطة إلى وجوب الزكاة، وهاهنا نفوا الوجوب، والصورتان يشتركان في المعنى فهل من فارق؟ والجواب: أنه يجوز أن يقال: تسلط الغرماء أقوى من تسلط الملتقط؛ لأنهم أصحاب حق على المالك؛ ولأن تسلطهم يستند إلى تَسْلِيطِ الحاكم بخلاف تسلُّط الملتقط، وأيضاً فالملك الذي يَتَسَلَّطُون على إزالة مِلْك المالك لإثباته أقوى، ألا ترى أن للمالك استرداد اللُّقطة بعد تملُّك الملتقط على أحد الوجهين، وهاهنا بخلافه. واعلم: أن الشَّافعي -رضي الله عنه- قال في "المختصر": ولو قضى عليه بالدّين وجعل لهم ماله حيث وجدوه قبل الحول ثم حال الحول قبل أن يقضيه الغرماء لم يكن عليه زكاه، لأنه صار لهم دونه قبل الحول، فمن الأصحاب من حمله على الحالة الأولى، ومنهم من حمله على الثانية. والثالثة: أَنْ لا يفرِّق ماله، ولا يعين لكل واحد من الغُرَمَاء شيئاً، ويحول الحول في دوام الحَجْرِ، ففي وجوب الزَّكَاة ثلاثة طرق: أصَحُّها: تخريجه على الخِلاَف في المَغْصُوب والمَجْحُود؛ لأن الحجر مانع من التصرف. والثاني: القطع بالوجوب، وبه قال صاحب "الإفصاح"، لأن الملك حاصل، والحجر لا يؤثر كحجر السفيه. والثالث: يحكى عن أبي إسحاق القطع بالوجوب في المواشي؛ لأن الحجر لا يؤثر في نمائها، وتخريج الذهب والفضَّة على الخِلاَف في المَغْصُوب لامتناع التَّصرف، وتوقف النَّماء فيها على التَّصرُّف، وإن قلنا: الدَّين يمنع الزكاة، فقد ذكر الأئمة في توجيهه أولاً شيئين، واختلفوا في أن العلّة منهما ماذا؟ أحدهما: أن ملك المَدْيون ضعيف؛ لأن مستحق الدين بسبيل مَنْ أخذه إذا لم يوفر دينه. والثاني: أن مستحقّ الدَّين يلزمه الزّكاة على ما سبق، فلو ألزمنا المديون الزكاة أيضاً، وصار المال الواحد سبباً لزكاتين على شخصين وهو ممتنع. ويتفرع على هذا الاختلاف صور: إحداها: لو كان مستحق الدّين لا تلزمه الزكاة لكونه ذميّاً أو مكاتباً، فإن قلنا بالمعنى الثَّاني وجب على المديون؛ لأنه لا يلزمه التَّثنية هاهنا.
وإن قلنا بالمعنى الأول لم يجد؛ لأن ضعف الملك [لا] (¬1) يختلف. والثانية: لو كان الدّين حيواناً كما إذا ملك أربعين من سائمة الغَنَم، وعليه أربعون من الغنم ديناً عن سلم، فإن قلنا بالمعنى الأول لم تجب الزَّكاة، وإن قلنا بالثاني تجب، إذ لا تَثْنية، فإنه لا زكاة في الحَيَوَان في الذِّمَّة كما مرَّ في الفصل قبل هذا، وعلى هذا يخرج أيضاً ما لو أنْبَتَت أرضه نصاباً من الحِنْطَة، وعليه مثله عن سلم. الثالثة: لو ملك نصاباً، والدَّين الذي عليه ناقص عن النّصاب كما لو ملك مائتي درهم وعليه مائة دينار، إن قلنا بالمعنى الأول فلا زكاة لتطرّق النّقصان إلى بعض المال، ونقصان النّصاب بسببه. وإن قلنا بالمعنى الثّاني تجب، لأنه لا زكاة على المستحق باعتبار هذا المال كذا أطلقوه، والمراد ما إذا لم يملك سواه من دين أو عين، وإلاّ فلو ملك ما يتم به النصاب فعليه زكاه باعتبار هذا المال، ولو ملك بقدر الدَّين مالاً زكاة فيه من العقار وغيره وجبت الزكاة في النصاب الزكويّ على هذا القول أيضاً خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- وحكى الشيخ أبو حامد وجهاً مثل مذهبه مبنيّاً على لزوم التَّثنية ووجه الوجوب مراعاة الحظ والنفع للمساكين، ولو زاد ماله الزَّكوي على الدين نظر: إن كان الفاضل نصاباً وجبت الزكاة فيه، وفي قدر الدين القولان، وإن كان دون النصاب يجب على هذا القول لا في القدر المقابل للدين ولا في الفاضل. فرع منقول عن "الأم" ملك أربعين من الغنم فأستأجر راعياً يرعاها بِشَاةٍ، وحال الحول عليها نظر: إن استأجر بشاة معينة من الأربعين فكانت مختلطة بباقي الشِّياه، فعليها شاة على الراعي جزء من أربعين منها والباقي على المستأجر، وإن كانت منفردة، فلا زكاة على واحد منهما، وإن استأجره بشاة موصوفة في الذمة، فإن كان للمستأجر مال آخر يفي بها وجبت الزكاة في الأربعين، وإلاّ فعلى القولين في أن الدين هل يمنع الزكاة؟. وأما ما يتعلق بلفظ الكتاب من الفوائد: فقوله: "وإذا استقرض المُفْلس مائتي درهم"، أشار بلفظ المُفْلس إلى أنه لا يملك شيئاً سوى ما استقرضه، ففي هذه الصورة يظهر القولان وفي معناها ما إذا كان الدَّين ينقص النّصاب وإن لم يستغرقه، فأما إذا ملك ما يفي به ممَّا لا زكاة فيه مع النّصاب أو ملك فوق قدر الدَّين فقد ذكرناه ثم إن أجدت النظر في لفظ الكتاب بحثت عن شيئين: أحدهما: أنه صور في الاسْتِقْرَاض ولا مدخل للأجل فيه، فهل له أثر أم لا فرق بين الدَّين والحال والمؤجل؟ ¬
والثاني: أنه صور فيما إذا كان من جنس ما عليه، فهل يختص القولان به أم لا؟ وإن لم يختص فما الحكم عند اختلاف الجنس؟ والجواب: أما الأول فلا فرق بين الدين الحال والمؤجل، هكذا أورد صاحب "التهذيب" وغيره. وأما الثاني: فإن قلنا: الدين لا يمنع الزكاة عند اتحاد الجنس فعند الاختلاف أولى. وإن قلنا: يمنع فقد أشار إمام الحرمين إلى تردد عند اختلاف الجنس، وقال: الأصح المنع في هذه الصورة، والأشبه بسياق كلامه أنه أراد منع التأثير، لكن الأصح في "التهذيب" أنه يمنع الزَّكاة تفريعاً على هذا القول كما لو اتَّحد الجنس ويجوز أن يخرج هذا التَّردد على ما سبق من التَّعليلين إنْ علَّلنا بالضّعف، فهو موجود، وإن علّلنا بالتثنية فهاهنا لا تلزم التثنية في مال واحد. وقوله: "وجه المنع ضعف الملك" إلى أن قال: "وقد يعلل بأدائه إلى تثنية الزكاة". فيه إشارة إلى ترجيح العلّة الأولى حيث وجه المنع بها، ثم حكى العلّة الثانية حكاية، والأمر على ما أشار إليه نقلاً ومعنى. أما النقل فلأن الأكثرين أجابوا في الصّور المفرعة على التّعليلين بما يقتضيه الأول، وأما المَعْنَى فمن وجهين: أحدهما: أنّا لا نسلم لزوم التَّثنية في المال الواحد، وهذا لأن المستحقّ للمستقرض هذا المال، والمستحق للمقترض مطلق المال، لا هذا المال، فليس وجوب الزكاة عليه باعتبار هذا المال حتى تلزم التَّثنية. والثَّاني: هَبْ أنه تلزم التثنية في المال الواحد لكن التثنية كما تندفع بأن لا تجب الزكاة على المديون تندفع بأن لا تجب على الدَّائنِ فلم يتعين الأول فإن رجح جانب المديون بضعفه ملكه عاد الكلام إلى العلة الأولى، وإن رجح بأن ماله مستغرق بحاجة مهمة وهي قضاء الدَّيْن وهذا كافٍ في التَّوْجيه ولا حاجة إلى توسُّط التثنية. وقوله: "أو يكون الدَّين حيواناً" فيه استدراك لفظي من جهة أنه لم يذكر في أصل المَسْألَة عبارة تشمل الحَيَوان وغيره حتى يخرج على التَّعليلين ما إذا كان الدَّين حيواناً، وإنما تكلَّم في استقراض مائتي درهم، والمديون بالدراهم لا يكون دينه حيواناً إلاَّ أنه اعتمد فهم المعنى والمقصود. وقوله: "وإنْ كان المستقرض غنيّاً بالعقار وغيره ولم يمتنع" معلم بالحاء والواو لما قدمنا، وأَشَار بلفظ العقار إلى أنه ملك مالاً غير زكويِّ ولك أن تَبْحَث عن قوله: وغيره، فتقول: المراد مطلق غير العقار أم غير العقار الذي ليس بزكوي؟ فإنْ كان الثَّاني فما الحكم لو كان عليه دين وله مالان زكويان؟ والجواب: أن المراد الغير الذي ليس
بزكويِّ. أما إذا ملك مالين زكويين كَنِصَاب من الغنم ونصاب من البقر وعليه دين نظر إن لم يكن الدَّين من جنس ما يملكه، فقد قال في "التهذيب": يقص عليهما فإن خص كل واحد منهما ما ينقص به عن النصاب فلا زكاة على القول الذي عليه تفرع، وذكر أبو القاسم الكَرْخِيُّ وصاحب "الشامل": أنه يراعي الأحظّ للمساكين، كما أنه لو ملك مالاً آخر غير زكويّ صرفنا الدَّين إليه رعاية لحقهم. ويحكى عن ابن سريج ما يوافق هذا وإن كان الدَّين مِنْ جنس أحد المالين، فإن قلنا: الدين يمنع الزكاة فيما هو من غير جنسه، فالحكم كما لو لم يكن من جنس أحدهما، وإن قلنا: لا يؤثر من غير الجنس اختص بالجنس. وقوله: "وقيل: الدّين لا يمنع الزَّكَاة" إشارة إلى القول الثَّالث في أصل المسألة على ما صرح به في "الوسيط"، ويأتي فيه مثل [الاستدراك الذي سبق فإنه لم يتكلم إلاَّ في المال الباطن، ويجوز أن يعلم قوله: "بالواو"؛ لأن من الأصحاب من لم يثبته واقتصر على القولين الأوليين -والله أعلم-] (¬1). قال الغزالي: وَلَو قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أتَصَدَّقَ بِالنِّصابِ، فَهَذَا أَوْلَى بِأنْ يَمْنَعَ الزَّكَاةَ لِتَعَلُّقِهِ بِعَيْنِ الْمَالِ، وَلَو قَالَ: جَعَلْتُ هَذِهِ الأَغْنَامِ ضَحَايَا فَلاَ يُبْقَى لإِيجَابِ الزَّكَاةِ وَجْهٌ مُتَّجَهٌ وَإِنْ تَمَّ الحَوْلُ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ التَّصَدُّقُ بِأَرْبَعَينِ مِنَ الغَنَمِ فَهَذَا دَيْنٌ يَتَرَتَّبُ عَلَى دَيْنِ الآدَمِيِّينَ، وَأَوْلَى بِأَنْ لاَ يَدْفَعَ الزَّكاةَ، وَدَيْنُ الحَجِّ كَدَيْنِ النَّذْرِ. قال الرافعي: إذا قلنا: الدَّيْن يمنع الزَّكَاة فلا فرق عندنا بين دين الآدميين ودين الله -تعالى- وعند أبي حنيفة -رحمه الله- دين الآدميين يمنع، وكذا الزَّكَاة تمنع الزكاة والكَفَّارات لا تمنع. إذا عرفت ذلك ففي الفَصْلِ صور: إحداها: لو ملك نصاباً من المواشي أو غيرها فقال: لله على أن أتصدق بهذا المال أو بكذا من هذا المال فمضى الحول قبل التصدق، هل لجب زكاته؟ إن قلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة فهاهنا أولى بأن لا تجب الزكاة لتعلق النَّذْر بعين المال وصيرورته واجب التَّصرُّف إلى ما نذر قبل وقت وجوب الزَّكَاة. وإن قلنا: الدين لا يمنع وجوب الزَّكاة فهاهنا وجهان: أحدهما: أنه كالدَّين، لأنه في ملكه إلى أن يتصدق. والثاني: يمنع لتعلّقة بعين المال، وامتناع التصرف فيه ويخرج مما حكيناه طريقان في هذه الصورة: ¬
أحدهما: القطع بالمنع. والثاني: التَّخْريج على الخلاف السابق، وإلى هذا الترتيب أشار في الكتاب بقوله: فهذا أولى بأن يمنع الزكاة. الثانية: لو قال: جعلت هذا المال صدقة أو هذه الأغنام ضحايا فقد طرد في "النهاية" أصل التردد فيها. وقال: "الظاهر أنه لا زكاة" لأن ما جعل صدقة لا يبقى فيه حقيقة ملك بخلاف الصورة الأولى فإنه لم يتصدق وإنما التزم أن يتصدق ولفظ الكتاب يشعر أيضاً ببقاء الخلاف هاهنا، فإنه لم يجزم بامتناع الوجوب ولا نفي الخلاف وإنما نفي أن يكون للوجوب وجه بصفة الاتجاه. ولو قال: "لله عليّ أن أضحي هذه الشَّاة"، فهو كقوله: "جعلتها ضحية"، إن قلنا: إن قوله: لله عليَّ التضحية بهذه يفيد التعيين، وفيه خلاف مذكور في الكتاب في موضعه، وإن تم الحَوْل عليه لو لم يذكره لم يضّر كما لم يتعرَّض له في أخوات هذه الصُّورة، وذلك لأنه لا يخفى أن الخلاف في وجوب الزكاة حينئذ يفرض. الثالثة: لو أرسل النذر فقال: لله علي أن أتصدق بأربعين من الغنم أو بمائة درهم، ولم يضف إلى ماشيته وورقه، فهذا دَيْن نذر لله -تعالى-، فيرتب على دين الآدميين، فإن قلنا إنه لا يمنع فهذا أولى، وإن قلنا: أنه يمنع ففي هذا وجهان: أحدهما: يمنع؛ لأنه أيضاً دين لازم في الذِّمّة. وأصحهُّما: عند الإمام أنه لا يمنع، وفرق بين الدينين من وجهين: أحدهما: أن هذا الدَّين لا مطالب به في الحال فكان أضعف حالاً. والثاني: أن النذر يشبه التبرعات إذ النَّاذر بالخيار في نذره، فالوجوب بالنذر أضعف، وهذه الصورة والأولى قد حكاها أبو القاسم الكرخيُّ وغيره من تفريع ابْنِ سُرَيْجٍ على كلام لمحمَّد -رضي الله عنهما- وينبغي أنْ يفهم هاهنا أنَّ المال يتعين بتعيين النَّاذر إيَّاه للصدقة، ولو لم يتعين لما انتظم قوله في الصورة الأولى: لتعلّقه بعين المال ولما كان الفرق بين أن ينذر التصدّق بهذه الأربعين وبين أَنْ ينذر التَّصدُّق بأربعين، وهذا المفهوم هو ظاهر المذهب، وفيه شيء نذكره -إن شاء الله تعالى- في شرح قوله في: "كتاب الضحايا"، "ولو عين الدراهم للصدقة لم تتعين"، وبالجملة فمن أجاب بعدم التَّعيين لا يستقيم منه الفرق في هذه الصّورة، وقوله في هذه الصورة وفي الأولى، لو قال: لله عليَّ لو أبدله بأن يقول: لو نذر التَّصدق بكذا، لكان أَوْلَى؛ لأن الصِّيغة الَّتِي لا خلاف فيها في النَّذر أن يقول: إن شفى الله مريضي فلله علي كذا. أما إذا اقتصر علي قوله: لله على كذا ففيه قولان مذكوران في كتاب النَّذْر، فإن
قلنا: إنها غير ملتزمة احتجنا إلى إضمار في لفظ الكتاب هاهنا. الرابعة: لو وجب عليه الحج وتم الحول على نصاب في ملكه، يكون وجوب الحج دَيْناً مَانعاً من الزكاة؟ إن قلنا: الدَّين لا يمنع الزكاة فلا أثر له وإن قلنا: يمنع فقد ذكر الإمام وتتابعه المصنف أن فيه وجهين كالوجهين في دَيْنِ النَّذْر في الصُّورة الَّتي قبل هذه؛ لأن دين الحج وإن وجب من غير اختيار لكن المال غير مقصود فيه، ودين النذر وإن كانت المالية مقصود فيه لكن النَّاذر التزمه متبرعاً فيعتدلان، وأيضاً فدين الحج لا مطالب به في الحال كدين النّذر. قال الغزالي: وَإذَا اجْتَمَعَ الزَّكَاةُ وَالدَّيْنُ فِي تَرِكَةٍ فَفِي التَّقْدِيمِ ثَلاَثةُ أَقْوَالٍ: وَفِي الثَّالِثِ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا، وَوَجْهُ تَقْدِيمِ الزَّكَاةِ تَعَلُّقُهَا بِالعَيْنِ. قال الرافعي: إذا قلنا ة الدَّيْنُ لا يمنع الزكاة فمات قبل الأداء، واجتمع الدَّيْن والزكاة في تَرِكَتِهِ ففيه ثلاثة أقوال: أظهرها: أن الزكاة تقدم لظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ" (¬1). ولأن الزكاة متعلّقة بالعَيْن والدَّيْنُ مُسْتَرْسل في الذِّمة، ولهذا تقدم الزكاة في حال الحياة ثم يصرف الباقي إلى الغرماء. والثاني: يقدّم دَيْنُ الآدمي لافْتِقَار دين الآدمي واحتياجه، ولهذا إذا اجتمع القِصاص وحَدّ السرقة يقدم القِصَاص. والثالث: أنهما يستويان فيوزع المال عليهما؛ لأن الحقّ المالي المضاف إلى الله -تعالى- تعود فائدته إلى الآدميين أيضاً وهم المنتفعون بها، وعلى هذه الاقول تجري مسائل نذكرها في موضعها -إن شاء الله تعالى جده-. ولك أن تعلّم قوله: "ثلاثة أقول" بالواو لأن عن بعض الأصحاب طريقة أخرى قاطعة بتقديم الزَّكَاة المتعلّقة بالعَيْن والأقوال، في اجتماع الكفارات وغيرها مما يسترسل في الذمة مع حقوق الآدميين، وقد تعرَّض الزَّكاة من هذا القبيل بأن يتلف ماله بعد الوجوب والإمكان ثم يموت وله مال فإن الزَّكَاة هاهنا متعلّقة بالذّمة، لا تعلق لها بعين ماله -والله أعلم-. قال الغزالي: السَّبَبُ الثَّالِثُ: عَدَمُ قَرَارِ المِلْكِ، فَفِي الزَّكَاةِ فِي الغَنِيمَةِ قَبْلَ القِسْمَةِ ثَلاثةُ أَوْجُهٍ: وَجهُ الإِسْقَاطِ: ضَعْفُ المِلْك، فَإنَّهُ يَسْقُطُ بِالإِسْقَاطِ، وَفِي الثَّالِثِ إِنْ كَانَ ¬
الكُلُّ زَكَوِيًّا وَجَبَ وَإلاَّ فَلاَ لاحْتِمَالِ أَنَّ الزَّكَاةَ تَقَعُ فِي سَهْمِ الخُمْسِ، وَلَو أَكْرَى دَاراً أَرْبَعَ سنين بِمائَةِ دِينَار نَقْدًا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي السَّنَةِ الأُولَى زَكاةِ رُبْعِ الْمِائَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ زَكاةُ نِصْفِهَا لِسَنَتَيْنِ إلاَّ مَا أَدَّى، وَفِي الثَّالِثَةِ زَكَاةُ ثَلاثَةِ أَرْبَاعِهَا لِثَلاَثِ سِنِينَ إلاَّ مَا أَدَّى، وَفِي الرَّابِعَةِ زَكَاةُ الجَمِيعِ لِأَرْبَعِ سنِينَ وَيُحَطُّ عَنْهُ مَا أَدَّى؛ لِأَنَّ الأُجْرَةَ هَكَذَا تَسْتَقِرُّ، بِخِلاَفِ الصَّدَاقِ فَإِنَّ تَشَطُّرَهُ بِالطَّلاَقِ لَيْسَ مقْتَضى العَقْدِ، وَسُقُوطُ الأُجْرَةِ بِالانْهِدَامِ مُقْتَضَى الإِجَارَةِ وَفِي المَسْألةِ قَوْلٌ ثَانٍ: أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ سَنَةٍ إِخْرَاجُ زَكَاةِ جَمِيعِ المِائَةِ. قال الرافعي: مقصود الفصل مسألتان: إحداهما: إذا أحرز الغازون الغنيمة فينبغي للإمام أن يعجل قسمتها، ويكره له التأخير من غير عذر، فإذا قسم فكل مَنْ أصابه مال زَكَوِيّ وهو نصاب أو بلغ نصاباً مع الّذي كان يملكه ابتدأ الحول من حينئذ، وإن تأخرت القسمة بعذر أو بغير عذر حتى مضى حول، فهل تجب الزكاة؟ ينظر إن لم يختاروا التملك فلا زكاة؛ لأنها غير مملوكة للغانمين أوْ هي مملوكة لهم ملكاً في غاية الضّعف والوهن، ألا ترى أنه يسقط بمجرد الإعراض؟ وللإمام أن يقسمها بينهم قسمة تحكم فيخصّ بعضهم ببعض الأنواع وبعض الأعيان إن اتَّحد النوع ولا يجوز هذا الضَّرب من القسمة في سائر الأملاك المشتركة، إلاَّ بالتَّرَاضي وِإن اختاروا التَّملُّك ومضى حول من وقت الاخْتِيَار نظر إن كانت الغنيمة أصنافاً فلا زكاة سواء كانت ممَّا تجب الزَّكاة في جميعها أو كان بعضها مِمَّا لا يجب فيه زكاة؛ لأن كل واحد منهم لا يدري ماذا يصيبه؟ وكم يصيبه؟ وإن لم تكن إلا صنفاً وِاحداً زكوياً، وبلغ نصيب كل واحد من الغانمين نصاباً فعليهم الزكاة، وإن بلغ مجموع أَنْصِبَائِهِمْ نصاباً، وكانت الغنيمة ماشية فكذلك وهم خلطاء فيها، وكذا لو كانت غير ماشية وأثبتنا الخلطة فيه، ولو كان يتم أنصباؤهم بالخُمُس نصاباً فلا زكاة عليهم إذ الخلطة مع أهل الخمس لا تثبت؛ لأنه لا زكاة في الخمس بحال من حيث أنه لغير معينين كمال بيت المال من الفيء وغيره ومال المساجد والرّبَاطَات، فهذا حكم زكاة الغنيمة على ما ذكره جمهور أئمتنا -رحمهم الله- من العراقيين والمَراوِزَة وهو ظاهر المذهب، وزاد في "التهذيب" شيئين: أحدهما: أن لا زكاة قبل إفْراز الخمس بحال، فإن أفرز فحينئذ نفصل الأمرين أن يختاروا التملك أو لا يختاروه، وهذا لم يتعرض له الأكثرون، ولم يفصلوا بين أن يفرز الخمس أو لا يفرز، وصرح في "العدة" أنه لا فرق بين الحالين. والثاني: حكى في حالة عدم الاختيار وجهاً آخر؛ أنه تجب الزكاة وهذا يتعرض له ما في الكتاب، فإنه جعل وجوب الزكاة قبل القسمة على ثلاثة أوجه، وهكذا إمام
الحرمين -قدس الله روحه- بعد البناء على أصل مذكور في السّير، وهو أن الغنيمة هل تملك قبل القسمة أم لا؟ إنْ قلنا: لا، فلا زكاة فيها بحال، وإن قلنا: نعم ففي وجوب الزَّكاة هذه الأوجه: أحدها: لا، لضعف الملك. والثاني: نعم اكتفاء بأصل الملك. والثالث: إن كان في الغنيمة ما ليس بِزَكَوِيّ، فلا تجب لجواز أَنْ يجعل الإمام الزّكوي سهم الخمس، وإن كان الكل زكويًا تجب، وكان الأحسن لصاحب هذا الوجه أن يقول: إن كان الزكوي بقدر خمس المال لا تجب الزكاة، وإن زاد تجب زكاة القدر الزائد (¬1)، ويخرج مما تقدم وجه رابع وهو الظاهر: أنهم إن اختاروا التملك وكانت الغنيمة صنفاً واحداً زكوياً وجبت الزَّكَاة وإلا فلا، وتمام توجيهه ينكشف عند معرفة الأصل المحال على "كتاب السير". المسألة الثَّانية: في زكاة الأجرة وقد أدرج في خلالها مسألة أخرى يقتضي الشرح أن نقدمها فنقول: إذا أصدق امرأته أربعين شاة سائمة بأعيانها فعليها الزَّكَاة إذا تَمَّ حول من يوم الإصْداق، سواء دخل بها أو لم يدخل قبضتها أو لم تقبض لأنها ملكت الصّداق بالعقد، وبه قال [مالك] (¬2) -رحمه الله-، وعند أبي حنيفة -رحمه الله- إذا لم تقبضها فليس عليها ولا على الزَّوْج زكاتها، ويأْتي لنا وجه مثله تفريعاً على أن الصَّدَاق مضمون ضمان العقد، فإنه يكون على الخلاف الذي سبق في المبيع قبل القبض، وظاهر المذهب وهو القطع بالوجوب، وعلى هذا فلو طلقها قبل الدخول نظر، إن طلّق قبل الحول عاد نصفها إلى الزوج، فإن لم متميزاً، فهما خليطان فعليها عند تمام الحول من يوم الطلاق الإصداق نصف شاة، وعليه عند تمام الحول من يوم الطلاق نصف شاة، وإن طلقها بعد تمام الحول فلا يخلو إما إن كانت قد أخرجت الزكاة من عينها أو مِنْ موضع آخر أو لم تخرج أصلاً فهذه ثلاثة أحوال: إحداها: إذا كانت قد أخرجت الزَّكَاة من عينها، فإلى ماذا ترجع؟ فيه ثلاثة أقوال: ¬
أحدها: أنه يأخذ نصف الصَّداق من الموجود، ويجعل المخرج من نصيبها فإن تساوت قيم الشياه أخذ عشرين منها، وإن تفاوتت أخذ النِّصْف بالقيمة. قال المَسْعُودي: هذه رواية الرَّببع. والثاني: يأخذ نصف الأغنام الباقية ونصف قيمة الشَّاة المخرجة. والثالث: أنه بالخيار بين ما ذكرنا في القول الثاني وبين أن يترك الكل ويأخذ نصف القيمة (¬1)، وهذا مخرج مما لو أَصْدقها إناءين فانْكَسَرَ أحدهما، وطلقها قبل الدُّخُول نصَّ فيه على القول الثَّاني والثالث، قال الأئمة: ولفظ "المختصر" في المسألة التي نحن فيها صالح للقول الأول والثَّاني، وهو إلى الأول أقرب. الحالة الثانية: إذا كانت قد أخرجت من موضع آخر فإن قلنا: تتعلق الزكاة بالذِّمة أو قلنا: تتعلَّق بالعَيْنِ لا على سبيل الشّركة عاد نصف الأربعين إلى الزوج، وإن قلنا: تتعلق بالعَيْن على سبيل الشّركة. فقد قال الصَّيدلانيُّ وجماعة من الأئمة: يبنى هذا على الوجهين فيما إذا زال ملكها عن الصَّدَاق وعاد إليها ثم طلَّقَها قبل الدخول. أحدهما: يرجع بنصف القيمة كما لو طلقها ولم يعد. والثَّانية: بنصف العين كما لو طلَّقَها ولم يزل، لكن الشَّاة الَّتي زال ملكها عنها، وعاد بِأداء الزَّكَاة مِنْ موضع آخر غير متعينة، فعلى الوجه الأول لا يأخذ شيئاً من الأربعين بل يعدل إلى نصف القيمة. وعلى الثاني: يأخذ نصف الأربعين، وهذا ما ذكره أصحابنا العراقيون وغيرهم من غير تفصيل. والثالثة: إذا لم تخرج الزَّكاة أصلاً حئى طلقها ففيه اختلاف وتفريع طويل مبني على كيفية تعلّق الزكاة، والجواب الخارج على ظاهر المذهب ما ذكره في "التهذيب" إن شاء الله -تعالى-، وهو نصف الأربعين يعود إلى الزَّوْج شَائِعاً، فإن جاء السَّاعِي وأَخَذ ¬
من عينها شَاةً رجع الزَّوج عليها بنصف قيمتها. جئنا إلى مسألة الأجرة إذا أكرى داراً أربع سنين بمائة دينار معجلة وقبضها، كيف يخرج زكاتها؟ فيه قولان: أحدهما: ذكره في "الأم" ونقله المزنيُّ في "المختصر": أنه لا يلزمه أن يخرج عند تمام كل سنة، إلاَّ زكاة القدر الذي استقرَّ ملكه عليه؛ لأنها قبل الاستقرار يعرض السقوط بانهدام الدار فأورث ضعف الملك. والثاني: قاله في البُويطِيِّ واختاره المُزَنِيُّ: أنه يلزمه عند تمام السّنة الأولى زكاة جميع المائة؛ لأنه ملكها ملكاً تاماً، أَلاَ تَرَى أنه لو كانت الأُجْرة جَارِيَةٌ يحل وَطْؤُها، ولو كان الملك ضعيفاً لم يحل، غايته أنه يتوهم سقوط بعض الأجرة بالانهدام لكنه لا يقدح في وجوب الزكاة كما أن المرأة يلزمها زكاة الصَّدَاق قبل الدخول وإن كان يتوهّم عود جميعه بارتداد أحدهما أو عود نصفه بالطَّلاق، وهذا القول أَصَحُّ عند صاحب "المهذب"، ومال إليه في "الشامل"، لكن الجمهور على ترجيح القول الأول وهو الَّذِي يقتضيه إيراد الكتاب والقول بثبوت الملك التام في الأجرة ممنوع على رأي بعض الأصحاب، فإن صاحب "النهاية" حكى طريقة أن الملك يحصل في الأجرة شيئاً فشيئاً، فمن قال بذلك لا يسلم بثبوت الملك في الأجرة فضلاً عن ثبوت المِلْك التَّام، وعلى التَّسْليم فوجه الضعف والنقصان ما ذكرنا، وأما حلْ الوَطْءِ فلا نسلم أنه يتوقف على ارْتِفَاع الضّعف من كل وجه وأمَّا الصَّدَاق فقد روى الحَنَّاطِى عن ابْن سُرَيْجٍ تخريج قول من الأجرة في الإصداق، فعلى هذا لا فرق وعلى التسليم فالفرق أَنْ الأُجرَة تستحق في مقابلة المَنَافع، فإذا لم تسلم المنافع للمستأجر ينفسخ العقد من أصله، والصَّدَاق ليس في مقابلة المَنَافع، أَلاَ ترى أنها لو ماتت يستقر الصداق؟ وإن لم تسلم المنافع للزوج والتَّشطر ثبت بتصرف من جهة الزوج يفيد ملك النِّصف عليها، ولا ينقص ملكها من الأصل. التفريع: إن قلنا: بالقول الأول أخرح عن تمام السّنة الأولى زكاة رُبع المائة وهو خمسة وعشرون ديناراً، وزكاتها خمسة أثْمان دينار؛ لأن ملكه استقر على هذا القدر، فإن مضت السَّنة الثَّانية فقد استقر ملكه على خمسين ديناراً أو كانت في ملكه سنتين زكَّاها زكاة خمسين لسنتين وهي ديناران ونصف لكنه قد أدَّى زكاة خمسة وعشرين لسنة فيحط ذلك ويخرج الباقي وهو دينار وسبعة أثمان دينار، فإذا مضت السنة الثالثة فقد استقر ملكه على خمسة وسبعين ديناراً وكانت في ملكه ثلاث سنين وزكاتها لثلاث سنين خمسة دنانير وخمسة أثمان دينار أخرج منها للسنتين الماضيتين دينارين ونصفاً، يبقى ثلاثة دنانير وثُمن يخرجها الآن، فإذا مضت السنة الرابعة فقد استقر ملكه على جميع المائة، وكانت في ملكه أربع سنين وزكاة المائة لأربع سنين عشرة دنانير، أخرج من
ذلك خمسة دنانير وخمسة أثمان دينار، فيخرج الباقي وهو أربعة دنانير وثلاثة أثمان دينار، وقد يعبر عن هذا المعنى بعبارة أخرى فيقال: يخرج عند تمام السنة الأولى زكاة خمسة وعشرين لسنة وعند تمام السنة الثّانية زكاة خمسة وعشرين لسنتين وزكاة الخمسة والعشرين الأولى لسنة، وعند تمام الثَّالثة زكاة الخمسين لسنة، وزكاة خمسة وعشرين أخرى لثلاث سنين، وعند تمام الرابعة زكاة الخمسة والسبعين لسنة وزكاة خمسة وعشرين لأربع سنين، هذا إذا كان يخرج واجب كل سنة من غير المائة، وأمَّا إذا أخرج من عينها واجب السنة الأولى فعند تمام الثَّانية أخرج زكاة الخمسة والعشرين الأولى، سوى ما أخرج في السَّنة الأولى لسنة، وزكاة خمسة وعشرين أخرى لسنتين، وعند تمام الثَّالثة يخرج زكاة الخمسين سوى ما أخرج في السَّنَتَيْنِ الأوليين لسنة وزكاة خمسة وعشرين أخرى لثلاث سنين، وعلى هذا قياس السنة الرابعة، وإن قلنا بالقول الثاني، وهو أنه يخرج زكاة جميع المائة عند تمام السنة الأولى فعليه مثل ذلك عند تمام كل سنة، إن كان يخرج الواجب من موضع آخر، وإن كان يخرج منها فعند تمام السَّنة الثَّانية يخرج زكاة سبعة وتسعين ديناراً ونصفاً، وقس على هذا السَّنتين الآخريَيْن. وزاد أصحابنا العراقيون في التفريع على القول الأول كلاماً آخر، وهو مبني على القولين في المسألة في كيفية الإخراج وزكاة جميع المائة واجبة عند تمام الحول الأول بلا خلاف أو هما في نفس الوجوب، فعن القاضي أبي الطَّيِّب أنهما في نفس الوجوب، وبه يشعر كلام طائفة، وقال الشيخ أبو حامد وشيعته: القولان في كيفية الإخراج والوجوب ثابت قطعاً، واحتجوا له بأنه لو امتنع الوجوب على أحد القولين لعدم استقرار الملك لكان يستأنف الحول، ولا يزكيه لما مضى كمال الكتابة، فلما نَصَّ في هذا القول على أنه يزكَي لما مضى دل أنه لم يجعل هذا الاختلاف مانعاً من الوجوب، وهذا قضية كلام الأكثرين صريحاً أو إشارة ثم هؤلاء القاطعون بالوجوب غاصوا فقالوا في التفريع على القول الأول: يخرج في السنة الأولى زكاة خمسة وعشرين كما سبق، ثم يبنى الحكم بعدها على الخلاف في أن الزكاة استحقاق جزء من العَيْن أم لا؟ وإن قلنا: ليست استحقاق جزء من العين، فهل الدين يمنع الزكاة أم لا؟ فإذا مضت السنة الثانية فقد استقر ملكه على خمسين، أما الخمسة والعشرون الأولى فقد زكاها للسنة الأولى، فإن كان قد أخرج زكاتها من موضع آخر زكاها للسَّنة الثانية أيضاً، وإن كان قد أخرج من عينها زكى ما بقي منها. وأما الخمسة والعشرون الثَّانية فقد وجب الزَّكَاة في السَّنة الأولى في جميعها، وعليه إخراجها الآن وأما زكاة السّنة الثانية فإن قلنا: الزكاة ليست استحقاق جزء، وقلنا: الدَّيْن لا يمنع الزَّكَاة فكذلك يخرج الزَّكَاة عن جميعها، وإن قلنا: إنها استحقاق جزء، وقلنا: ليست كذلك لكن الدَّين يمنع الزَّكاة ولم يملك شيئاً آخر، فلا يزكى للسنة الثانية
عن جميعها بل عما سوى القدر الواجب في السنة الأولى؛ لأن ذلك القدر قد استحقه المساكين أو هو دين يمنع وجوب الزَّكَاة في قدرة، ثم إذا مضت السَّنة الثَّالثة فقد استقرَّ ملكه على خمسة وعشرين أخرى، أما الأولى والثانية فقد أخرج زكاتهما لما مضى على التَّفْصيل المذكور، فإن أخرج من موضع آخر زكَّى جميعها للسَّنة الثَّالثة أيضاً، وإن أخرج منها زكّى الباقي. وأما هذه الثالثة فقد مضى عليها ثلاث سنين، فإن قلنا: الزكاة ليست استحقاق جزء، والدَّيْن لا يمنع الزكاة أخرج زكاة جميعها لثلاث سنين، وإن قلنا: إنها استحقاق جزء وقلنا: الدَّيْن يمنع الزكاة، ولم يملك شيئاً آخر، فيخرج زكاة جميعها للسّنة الأولى، وزكاة جميعها سوى قدر الواجب في السَّنة الأولى للثانية، وزكاة جميعها سوى قدر الواجب في السَّنَتَيْن الأوليين للثّالثة، وقس الرابعة على هذا. ثم هاهنا كلامان: أحدهما: للمسألة شريطة ذكرها إمام الحرمين، وهي أن تكون أجرة السنتين متساوية ولا بد منها؛ لأنها لو تفاوتت لزاد القدر المستقر في بعض السِّنين على ربع المائة ونقص في بعضها؛ لأن الإجارة إذا انفسخت توزّع الأجرة المسماة على أجرة المثل في المدتين الماضية والمستقبلة. والثّاني: لعلك تبحث فتقول: كلام المسألة فيما إذا كانت المائة في الذمة ثم نقداً أم فيما إذا كانت الإجارة بمائة معينة، أم لا فرق؟ أمّا كلام النّقلة فإنه يشمل الحالتين جميعاً، وأما التفصيل والنّص عليهما فلم أو له تعرضاً إلا في فتاوى القاضي الحُسَيْن قال في الحالة الأولى: الظاهر أنه يجب زكاة كل المائة إذا حال الحول؛ لأن ملكه مستقر على ما أخذ حتى لو انهدمت الدار، لا يلزمه رد المقبوض بل له رد مثله، وفي الحالة الثانية قال: حكم الزكاة حكمها في المَبِيْع قبل القبض؛ لأنه بفرض أن يعود إلى المستأجر بانفساخ الإجارة، وبالجملة فالصورة الثانية أحق بالخلاف من الأولى، وما ذكره القاضي اختيار للوجوب في الحالتين جميعاً فاعل ذلك. وعد بعده إلى لفظ الكتاب. أَمَّا قوله: "نقداً" فهو إشارة كونها حالة مقبوضة والأجرة عندنا تملك بنفس العقد معجلة إن أطلقا أو شرطا التَّعْجيل ومؤجلة إذا شرطا التأجيل، فإذا كانت دَيْناً حالاً أو مؤجلاً زاد ما سبق من الكَلاَم في زكاة الدَّين. وقوله: وجبت عليه في السَّنَة الأولى فيه المَبَاحث الَّتي تقدَّمت في أنَّ الكلام في نفس الوجوب وفي وجوب الإخراج، واللفظ إلى الاحتمال الأول أقرب.
[القول في زكاة الصبي والمجنون والمكاتب]
وقوله: "زكاة ربع المائة" وكذا "زكاة نصفها وزكاة ثلاثة أرباعها" يجوز أن يعلّم بالميم؛ لأن الشيخ أبا محمد حكى فيما علّق عنه عن مالك أنه يجب في كل سنة زكاة جميع المال كالقول الثَّاني. وقوله: "في القول الثَّاني تجب في كل سنة" معلّم بالحاء؛ لأن مذهب أبي حنيفة -رحمه الله- كالقول الأول، وعبارة الكتاب في القولين جميعاً محمولة على ما إذا أخرج الواجب من غير المائة، وهي الحالة الَّتِي ينزل عليها كلام الشَّافعي -رضي الله عنه- في "المختصر"، فإن كان يخرج من عينها فقد ذكرنا حكمه. ثم نختم الفصل بفرعين: أحدهما: باع شيئاً بنصاب من النَّقْد مثلاً وقبضه ولم يقبض المشتري المبيع حتى حال الحول، هل يجب على البائع إخراج الزكاة؟ يخرج على القولين لأن الثمن قبل قبض المبيع غير مستقر، وخرجوا على القولين أيضاً ما إذا أسلم نصاباً في ثمره أو غيرها، وحال الحول قبل قبض المسلم فيه، وقلنا: إن تعذر المسلم فيه يوجب انفساخ العقد، وإن قلنا: إنه يوجب الخيار فعليه إخراج الزكاة. الثاني: أوصى لإنسان بنصاب ومات الموصي، ومضى حول من يوم موته قبل القبول، إن قلنا: الملك في الوصيّة يحصل بالموت فعلى الموصى له الزكاة، وإن كان يرتد برده وإن قلنا: يحصل بالقبول فلا زكاة عليه، ثم إن أبقيناه على ملك الميت فلا زكاة على أحد. وإن قلنا: إنه للوارث فهل عليه الزكاة؟ فيه وجهان: أصحهما: لا، وإن قلنا: إنه موقوف فإذا قبل بَانَ أنه ملكه بالموت فهل عليه الزَّكَاة؟ روي في "التَّهْذِيب" فيه وجهين: أصحهما: لا؛ لأن ملكه لم يكن مستقرّاً عليه. قال الغزالي: الرُّكْنُ الثَّالِثُ: فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ كُلُّ حُرٍّ مُسْلِم فَتَجِبُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ (ح) والمَجْنُونِ (ح)، وَفِي مَالِ الجَنِينِ تَرَدُّدٌ، وَتَجِبُ عَلَى المُرْتَدِّ (م ح) إِنْ قُلْنَا بِبَقَاءِ مِلْكِهِ مُؤَاخَذَةً لَهُ بِالإِسْلاَمِ، وَلاَ زَكَاةَ عَلَى مُكَاتِبٍ وَرَقِيقٍ وَلاَ عَلَى سَيِّدِهِمَا شَيئًا فِي مَالِهِمَا، وَمَن مَلَكَ بِنِصْفِهِ الحُرِّ شَيْئاً لَزِمَهُ (م ح) الزَّكَاةُ. [القول في زكاة الصبي والمجنون والمكاتب]: قال الرافعي: فقه الفصل صور: إحداها: تجب الزكاة في مال الصَّبِيّ والمجنون، وبه قال مالك وأحمد خلافاً لأبي حنيفة -رحمهم الله- وسلَّم وجوب العشر وصدقة الفطر. لنا: ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ وَلِيَ يَتِيماً فَليَتَّجِرْ لَهُ وَلاَ يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ
الصَّدَقَةُ" (¬1). وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، لاَ تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ" (¬2). إذا تقرر ذلك فيجب على الولي إخراجهما من مالهما، فإن لم يَفْعَل أخرج الصَّبي بعد البلوغ والمجنون بعد الإفَاقَة زكاة ما مضى، وهل تجب في المال المنسوب إلى الجنين؟ حكى إمام الحرمين فيه تردداً لوالده -رحمهما الله- قال: والذي ذهب إليه الأئمة أنَّ الزَّكاة لا تجب فيه؛ لأن حياة الحمل غير موثوق بها، وكذلك وجوده، ونحن وإن قضينا بأن الحمل يعرف، فالحكم يتعلّق به عند انفصاله. والثاني: أنه تجب الزكاة إذا انفصل، كما في مال الصَّبيّ والمجنون. الثانية: الكافر الأصلي غير ملزم بإخراج الزَّكَاة لا في الحال ولا بعد الإسلام، وأما المرتد فلا يسقط عنه ما وجب في الإسلام، فإذا حال الحَوْل على ماله في الرّدة، فهل تجب فيه الزكاة؟ يبني على الخلاف في ملكه، إن قلنا: يزول ملكه بالرّدّة فلا، وإن قلنا: لا يزول فنعم مؤخذة له بحكم الإسلام، وإن قلنا: إنه موقوف إلى أنْ يعود إلى الإسلام، أو يهلك على الردة، فالزكاة أيضاً على الوقف، فإن قلنا: لا يزول ملكه وأوجبنا الزكاة، فقد ذكر في "التَّهْذيب" أنه لو أخرج في حال الردة جاز كما لو أطعم عن الكفَّارة بخلاف الصوم لا يصح منه؛ لأنه عمل البدن فلا يصح إلا ممن يكتب له، وروي في "النَّهاية" عن صاحب "التقريب": أنه لا يبعد أن يقال: لا يخرجها ما دام مرتّداً، وكذا الزَّكَاة الواجبة قبل الردة؛ لأن الزكاة قربة مفتقرة إلى النية، فعلى هذا إن عاد إلى الإسلام أخرج الزَّكَاة الواجبة في الردة وقبلها، وإن هلك على الردة حصل اليأس عن الأداء وبقيت العقوبة في الآخرة. قال الإمام: هذا خلاف ما قطع به الأصحاب، لكن يحتمل أن يقال: إذا أخرج في الرّدة ثم أسلم، هل يعيد الزكاة؟ فيه وجهان كالوجهين في الممتنع، إذا ظفر الإمام بماله وأخذ الزكاة منه، هل يجزئه أم لا؟ ولك أن تعلّم قوله في الكتاب: "إن قلنا يبقى ملكه" بالواو؛ لأن الحَنَّاطي ذكر أنه يحكي عن ابن سُرَيج أنه تجب الزكاة على الأقاويل كلها كالنَّفقات والغرامات. الثالثة: لا تجب الزكاة على المكاتب، لا العشر ولا غيره وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: يجب العُشْر في زرعه. لنا: ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ زَكَاةَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ" (¬3). ¬
وأيضاً فإن ملكه ضعيف، أَلا تَرى أنه لا يرث ولا يورث عنه ولا يعتق عليه قريبه ثم إذا أعتق وبقي المال في يده ابتدأ الحَوْل من يوم العتق، وإن عجز وصار مَا فِي يده للسَّيد ابتدأ الحول من حينئذ. الرابعة: العبد القنّ لا يملك بغير تمليك السَّيد لا محالة، وهل يملك بتمليك السيد؟ فيه قولان مذكوران في الكتاب في موضعهما؛ فإن قلنا: لا، وهو المذهب فزكاة ما ملكه من الأموال الزَّكوية على السَّيد، ولا حكم لذلك التَّمليك، وإن قلنا: نعم، فلا زكاة على العبد كما لا زكاة على المُكاتب بل أولى؛ لأن للسَّيد أن يسترده وينتزعه متى شاء، وهل يجب على السيد؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأن ملكه زائل. والثّاني: نعم؛ لأن ثمرة الملك باقية، فإن للسَّيد أن يتصرف فيه كيف شاء، وإذا أعتق العبد ارتد الملك إليه بخلاف ملك المكاتب إذا أعتق، حكى هذا الوجه أبو عبد الله الحَنَّاطي، ونقله الإمام عن "شرح التَّلخيص"، وقد عرفت بما ذكرنا أن قوله: "ولا على سيديهما في مالهما" تفريع على أنَّ العبد يملك بتمليك السَّيد إياه، وإلا فليس للعبد مال وهو معلّم بالواو. لما روينا من الوجه الثاني، والمدبّر وأم الولد كالعبد القنّ (¬1). الخامسة: من بعضه حرٌّ وبعضه رقيق، لو ملك بنصفه الحر نصاباً فهل عليه زكاته؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، لنقصانه بالرِّقِّ كالعبد والمُكَاتب، وهذا هو الَّذي ذكره في "الشامل". وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب أنه تجب؛ لأن ملكه تام على ما ملكه بالجزء الحُرّ منه، ولهذا قال الشافعي -رضي الله عنه- أنه يكفر كفارة الحرّ الموسر، وقال: إنه يلزمه زكاة الفطر بقدر ما هو حر، هذا تمام الصّور وقد تبيّن بها أن المعتبر فيمن تجب عليه الحرية والإسلام على ما ذكر في أول الفصل، لكن قوله: "وهو كل حر مسلم" يقتضي أَنْ لا تجب الزَّكَاةُ على من ملك بنصفه الحُرّ؛ لأنه يقع على من جميعه حرٌّ، فأما من بعضه حر وبعضه رقيق، يصدق عليه القول بأنه ليس بحُرّ، فلما وجبت الزَّكَاة عليه على ظاهر المذهب، وهو الذي ذكره في الكتاب ووجب تأويل اللفظ والله أعلم. تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث، وأوله: "باب أداء الزكاة وتعجيلها" ¬
العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير تأليف الإمام أبي القاسِم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الرافعي القزويني الشافعي المتوفى سنة 623 هـ تحقيق وتعليق الشيخ على محمد معوض ... الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الجزء الثالث يحتوي على الكتب التالية: تتمَّة الزكاة - الصِّيَام - الاعْتكاف - الحَجّ دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
جميع الحقوق محفوظة جميع حقوق الملكية الادبية والفنية محفوظة لدار الكتب العلمية بيروت - لبنان ويحظر طبع أو تصوير أو ترجمة أو إعادة تنضيد الكتاب كاملا أو مجزأ أو تسجيله على أشرطة كاسيت أو إدخاله على الكمبيوتر أو برمجته على اسطوانات ضوئية إلا بموافقة الناشر خطيا. الطبعة الأولى 1417 هـ - 1997 م دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
باب أداء الزكاة وتعجيلها
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ باب أداء الزكاة وتعجيلها قال الغزالي: (الطَّرَفُ الثَّانِي لِلزَّكَاةِ طَرَفُ الأَدَاءِ) وَلَهُ ثَلاَثةُ أَحْوَالٍ: الأُولَى الأَدَاءُ فِي الوَقْت وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الفَوْرِ (ح) عِنْدَنَا وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الصَّرْفِ إلَى الاِمَام أَوْ إلَى المَسَاكِينِ فِي الأَمْوالِ البَاطِنَةِ وَأَيُّهُمَا أَولَى فِيهِ وَجْهَانِ، والصَّرْف إلَى الإمَامِ أوْلَى فِي الأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَهَلْ يَجِبُ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ. قال الرافعي: ذكر في أول الزكاة أن النظر في الوجوب والأداء، وقد فرغ الآن من النظر الأول. وأما: الأداء فله ثلاث حالات؛ لأنه إما أن يتفق في الوقت أو قبله أو بعده. الحالة الأولى: الأداء في الوقت، وهو واجب على الفور بعد التمكن. وقوله: "عندنا" قصد به التَّعرض لمذهب أبي حنيفة -رحمه الله- فيما رواه إمام الحرمين وغيره أنها واجبة على التَّرَاخي، ونقل صاحب "الشامل" وغيره اختلافاً لأصحابه فيه، فعن الكرهي: أنها على الفور، وعن أبي بكر الرازي (¬1): أنها على التراخي. لنا: أن الأمر بإيتاء الزكاة وارد، وحاجة المستحقين ناجزة، فيتحقق الوجوب في الحال. ثم أداء الزكاة يفتقر إلى وظيفتين، فعل ونية [أما الأداء فـ] الأداء يفرض على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يباشره بنفسه وهو جائز في الأموال الباطنة، لما روي عن عثمان -رضي الله عنه- إنه قال في المحرم: "هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ، فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَليَقْضِ دِينَهُ، ثُمَّ ليُزَكِّ بَقِيَّةَ مَالِهِ" (¬2). والأموال الباطنة هي الذهب والفضة وعرض التجارة ¬
والرِّكاز وزكاة الفِطْر مُلْحَقَة بهذا النَّوع (¬1)، وأَمَّا الأموال الظَّاهرة وهي المواشي والمُعشرات والمَعَادن، فهل يجوز أن يفرق زكاتها بنفسه؟ فيه قولان: أصحهما وهو الجديد: نعم، كزكاة الأموال الباطنة. والثّاني: وهو القديم ومذهب أبي حنيفة -رحمه الله-، ويروى عن مالك أيضاً: أنه لا يجوز، بل يجب صرفها إلى الإمام لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (¬2). ولأنه مال للإمام المطالبة به، فيجب دفعه إليه كالخراج هذا إذا كان الإمام عادلاً، فإن كان جائراً فوجهان: أحدهما: يجوز، ولا يجب خوفاً من أن لا يوصله إلى المستحقين. وأصحهما: أنه يجب لنفاذ حكمه وعدم انعزاله بالجور، وعلى هذا القول لو فرق بنفسه لم يحسب، وعليه أن يؤخر ما دام يرجو مجيء الساعي، فإذا أيس فرق بنفسه. والثاني: أن يصرف إلى الإمام وهو جائز فإنه نائب المستحقين، "وكانَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، والخلفاءُ بعده يَبْعَثُونَ السُّعَاةَ لِأَخَذِ الزَّكَاةِ" (¬3). والثالث: أن يوكل بالصرف إلى الإمام أو بالتفرقة على المستحقين، حيث تجوز له التفرقة بنفسه، وهو جائز أيضاً، لأنه حق مالي فيجوز التوكيل في أدائه كديون الآدميين. وأما الأفضل من هذه الطّرق فلا خلاف في أن تفرقة الزكاة بنفسه أفضل من التوكيل بها؛ لأنه على يقين من فعل نفسه وفي شك من فعل الوكيل، وبتقدير أنْ يجوز لا يسقط الفرض عن الموكل وله على الوكيل غرم ما أتلف، وفي الأفضل من الطريقين الأولين (¬4) في الأموال الباطنة وجهان: ¬
أحدهما: وبه قال ابن سريج وأبو إسحاق أن الصَّرف إلى الإمام أولى؛ لأنه أعرف بأهل السّهمان وأقدر على التفرقة بينهم؛ ولأنه إذا فرق الإمام كان على يقين من سقوط الفرض، بخلاف ما لو فرق بنفسه لجواز أن يسلم إلى مَنْ ليس بصفة الاستحقاق، وهو يظنه بصفة الاستحقاق. والثَّاني: أن الأولى أن يفرقها بنفسه؛ لأنه يفعل نفسه أوثق، ولينال أجر التفريق وليخص به أقاربه وجيرانه، وهذا الوجه هو المذكور في "التَّهذيب" و"العدة"، ومن قال به تعلق بقوله في "المختصر"، "وأحب أن يتولى الرجل قسمتها بنفسه، ليكون على يقين من أداءها عنه" والأول هو الأظهر عند أكثر الأئمة من العراقيين وغيرهم، ولم يذكر الصَّيْدلاني غيره، وحملوا قول الشافعي -رضي الله عنه- على أنه أولى من التَّوْكيل، ومنهم من قال: أراد به في الأموال غير الظاهرة. وأما في الأموال الظاهرة فالأولى الصَّرف إلى الإمام ليخرج عن شبهة الخِلاف، ومنهم من أطلق الخلاف من غير فرق بين الأموال الباطنة والظاهرة، وهكذا فعل صاحب الكتاب في قسم الصدقات، وعبر عن هذا الخلاف بالقولين على خلاف المشهور، ورأيت المُحَاملي صرح في القولين والوجهين بطرد الخلاف، فليكن قوله: "والصرف إلى الإمام في الأموال الظاهرة أولى" معلماً بالواو، وحيث قلنا: الصرف إلى الإمام أولى، فذلك إذا كان الإمام عادلاً فإن كان جائراً فوجهان: أحدهما: أنه كالعادل، ويحكى ذلك عن صاحب "الإفصاح" لما روي أن سعد بن أبي وقاص، وأبا هريرة وأبا سعيد -رضي الله عنهم- سُئلوا عن الصَّرف إلى الولاة الجائرين فأمروا به (¬1). وأصحهما: وهو الذي ذكره في الكتاب في قسم الصدقات: أن التَّفريق بنفسه أولى من الصرف إليه، لظهور جَوْره وخِيَانته، بل حكى الحَنَّاطي وجهاً أنه لا يجوز الصرف إلى الجائر فضلاً عن الأفضلية (¬2) -والله أعلم-. قال الغزالي: وَتَجِبُ نِيَّةُ الزَّكَاةِ بِالقَلْبِ (ح) فَيَنْوِي الزَّكَاةُ المَفْرُوضَةَ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّض لِلْفَرْضِ فَوَجْهَانِ، وَلاَ يَلْزَمُ تَعْيِينُ المَالِ، فَإنْ قَالَ: عَنْ مَالِي الغَائِبِ وَكَانَ تَالِفاً لَمْ يَنْصَرِفْ إلَى الحَاضِرِ، وَلَوْ قَالَ: عنِ الغَائِبِ، فَإِنْ كَانَ تَالِفاَ فَعَنِ الحَاضِرِ أَوْ هوَ صدَقَةٌ جَازَ لِأَنَّهُ مُقْتَضى الإِطْلاَقِ. ¬
قال الرافعي: الوظيفة الثَّانية النَّية، ولا بد منها في الجملة لقوله -صلى الله عليه وسلم-:"إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ". وهل المعتبر قَصْد القَلْب أم يكفي القول باللسان؟ قال الشافعي -رضي الله عنه- في "المختصر": وإذا ولى الركل زكاة ماله لم يجزه إلا بنية أنه فرض، والنية هي القصد فقضية هذا اعتبار قصد القلب، ونقل عن "الأم" أنه سواء نوى أو تكلم بلسانه إنه فرض يجزئه. قال الأصحاب: في المسألة وجهان: وقال القفال وغيره: قولان: أصحهما: وهو المذكور في الكتاب: أنه لا بد من قصد القلب، وهذا ما خرجه ابْنُ القاص، إليه ذهب صاحب "التقريب". والثاني: أنه يكفي القول باللسان، وهو اختيار القَفَّال فيما حكى الصَّيدلاني، واحتج بأن إخراج الزكاة في حال الردة جائز، ومعلوم أن المرتد ليس من أهل نية وهي قربة، فدل أن لفظة كَافٍ، وأيضاً فإنَّ الزكاة تجري فيها النّيابة، وإن لم يكن النائب من أهلها، فإذا جاز أن ينوب فيها شخص عن شخص جاز أن ينوب اللّسان عن القلب، ولا يلزم الحج فإن النائب فيه، لا بد وأن يكون من أهل الحج، ومن قال بالأول حمل كلامه في "الأم" على أنه لا فرق، بين أن يقتصر على قصد القلب، وبين أن يجمع بين قصد القلب والتّلفظ. وأما فصل المرتد ففي أدائه الزكاة في حال الردة كلام تقدم، وعلى التسليم فلا نسلم إن القصد غير معتبر في حق المرتد. نعم، لا يتصور معه قصد هو قُرْبة، لكن كما لا يتصور منه ذلك لا يتصور أيضاً لفظ هو قربة، وقد قيل للقفال: لا يسقط الفرض حتى يقول المرتد هذا عطاء، فقال: كذا ينبغي أن يكن، فإذا جاز اعتبار اللفظ وإن لم يكن قربة، لم لا يجوز اعتبار القصد وإن لم يكن قربة؟ وأما الوجه الثاني: فهو باطل بالوضوء، فإنه يجوز فيه إنَابَة الأَهْل وغير الأَهْل، ومع ذلك يُعْتَبَر فيه قصد القلب. وروى الشيخ أبو علي طريقة أخرى عن بعضهم قاطعة باعتبار قصد قلب. وكيفية النية أن ينوي هذا فرض زكاة مالي أو فرض صدقة مالي، أو زكاة مالي المفروضة أو الصدقة المفروضة، ولا يكفي التعرض لفرض المال، فإن ذلك قد يكون كفارة ونذراً، ولا يكفي التَّعرض للصّدقة في أصح الوجهين (¬1) فإنها قد تكون نافلة، ولو ¬
تعرض للزكاة دون صفة الفرضية فهل يجزئه؟ فيه وجهان. الذي ذكره أن الأكثرون أنه يجزئه؛ لأن الزكاة لا تكون إلا مفروضة. قال في "التهذيب": وهما كالوجهين فيما إذا نوى صلاة الظهر، ولم يتعرض للفرضية، لكن صلاة الظهر قد تكون نافلة من الصَّبي، وممن صلى منفرداً ثم أعاد في جماعة، ولا انقسام في الزكاة ولا يجب تعيين المال المزكَّى عنه، فإن عوض ببعض المال ودفع حاجة المستحقين لا يختلف، بل يزكّي عن مواشيه ونقوده حتى يخرج تمام الواجب، فلو ملك أربعمائة درهم مثلاً مائتان حاضرتان ومائتان غائبتان، أخرج خمسين من غير تعيين جاز، وكذا لو ملك أربعين من الغنم، وخمساً من الإبل فأخرج شاتين، ولو أخرج خمسة مطلقاً، ثم بَانَ له تلف أحد المالين أو تلف أحدهما بعد الإخراج، فله أن يحسب المخرج عن الزَّكَاة الأخرى، ولو عين حالاً لم ينصرف إلى غيره، حتى لو أخرج الخمسة عن المال الغائب فَبَان تَالفاً، لم يكن له صرفه إلى الحاضر، ولو قال: هذه عن مالي الغائب إن كان سالماً فبان تالفاً هل له الصرف إلى الحاضر؟ حكى في "العدة"، فيه وجهين: قال: والأصح أنه لا يجوز، ولو قال: هذه عن مالي الغائب فإن كان تالفاً فهي صدقة أو قال: إن كان مالي الغائب سالماً فهذه زكاته إلا فهي صدقة جاز؛ لأن إخراج الزَّكَاة عن الغائب هكذا يكون، وإن اقتصر على قوله: عن مالي الغَائِب حتى لو بان تالفاً، لا يجوز له الاسترداد إلا إذا صرح فقال: هذه عن مالي الغائب، فإن بَانَ تَالفاً استرددته وليست هذه الصورة، كما إذا أخرج خمسة وقال: إن كان مورثي قد مات وورثت مالت فهذه زكاته، فبان موته لا يحسب المخرج عن الزكاة؛ لأن الأصل بقاء المورث وعدم الإرث، وهاهنا الأَصْل سلامة المال، فالتردد بهذا الأصل، ونظير هذه المسألة أن يقول: في آخر شهر رمضان أصوم غداً عن رمضان، إن كَانَ من الشَّهر يصح، ونظير مسألة الميراث أن يقول في أوله: أنا صائم ثم غدا عن رمضان، إن كان من الشهر لا يصح، ولو قال: هذه عن مالي الغائب فإن كان تالفاً فعن الحاضر. فالذي قاله معظم الأئمة: أن الغائب إنْ كان سالماً يقع عنه، وإلاَّ فلا يقع عن الحاضر؛ لأنه قد جزم بكونها زكاة ماله، والتردد في أنها عن أي المَالَيْن بحسب بقاء الغَائب وتلفه لا يضر كالتَّردد بين الفرض والنَّفْل في الصّورَة السَّابقة على اختلاف التَّقْدِيرَيْن، وهذا تعيين المال ليس بشرط فلا يقدح التردد فيه، حتى لو قال: هذه عن
مالي [الغائب أو الحاضر] (¬1) أجزأته، وعليه خمسة أخرى ويخالف ما لو نوى الصلاة عن فرض الوقت إن دخل الوقت، وإلا فَعَنِ الفائتة لا يجزئه؛ لأن التعيين شرط في العبادات البدنية. وحكي في "النهاية" تردداً عن صاحب "التقريب" في وقوع المخرج عن الحاضر؛ لأن النَّيَّة مترددة بالإضافة إليه تردداً غير معتضد بالأصل فإنه إنَّما جعلها عن الحاضر بشرط تلف الغائب، والأصل في الغائب البقاء والاسْتمرار وكان الوُقُوع عن الغَائِبِ على خلاف الأصل، ويخالف ما لو قال: وإِلاَّ فهي نَافِلَة؛ لأنه يحتاط في الفَرْضِ بما لا يحتاط به للنَّفْل. وقوله في الكتاب: "فإنْ كان تالفاً فعن الحاضر أو هو صدقة" [ليس المراد أن الناوي ردد هكذا لكنهما صورتان عطف أحدهما على الأخرى والمعنى أو قال هو صدقة، ولو ردد قفال عن الحاضر أهو صدقة] (¬2) وكان الغائب تالفاً لم يقع عن الحاضر كما قال الشَّافعي -رضي الله عنه-: لو قال إن كان مالي الغائب سالماً فهذه زكاته أو نافلة وكان ماله سالماً لم يجزئه؛ لأنه لم يقصد بالنية قصد فرض خالص، ونظيره أن يقول: أصلِّي فرض الظّهر أو نافلة وأصوم غداً عن رمضان أو نافلة فلا ينعقد. وقوله: "جاز" معلَّم بالواو؛ لأنه حكم بالجواز في الصورتين معاً، وفيما إذا قال: "فإن كان تالفاً فمن الحاضر" الوجه النقول عن صاحب "التقريب". وقوله: "لأنه مقتضى الإطلاق" يرجع إلى الصورة الأخيرة، وهي أن يقول: "فإن كان تالفاً فهو صدقة"، لأن المفهوم من الإطْلاَق هاهنا أنْ يَقْتَصِرَ على قوله: هذا المال عن الغَائب، ولو اقْتَصَرَ عليه وكان الغائب تالفاً يكون المخرج صدقة على ما سبق، ولا يقع عن الحاضر فظهر أنَّ الإجزاء عن الحاضر ليس مقتضى الإطلاق: فإن قلت: في جواز نقل الصدقة خلاف يأتي في موضعه، فتجويز الإخراج عن المال الغائب في مسائل الفصل وجواب على قول الجواز أم كيف الحال؟ فالجواب أن أبا القاسم الكرخي جعلها جواباً على قول الجواز، ويجوز أن تفرض الغيبة عن منزلة وعدم وقوفة على بقاء المال وهلاكه، فيصح تصوير هذه المسائل من غير النظر إلى ذلك الخلاف، وقد أشار إلى هذا في "الشامل". قال الغزالي: وَيَنْوي وَلِيُّ الصَّبِيِّ وَالمَجْنُونِ، وَهَلْ يَنْوي السُّلْطَانُ إِذَا أخَذَ الزَّكَاةَ مِنَ المُمْتَنِعِ؟ إِنْ قُلنَا: لا تَبْرَأُ ذِمَّةُ المُمْتَنِع فَلاَ، وَإِنْ قُلْنَا: تَبْرَأُ فَوَجْهَانِ. قال الرافعي: كما أن صاحب المال قد يفرق الزّكاة بنفسه، فغيره قد ينوب عنه ¬
فيه، فإن فرق بنفسه فلا بد من النية كما بيناه، وإن ناب عنه غيره كذلك يفرض على وجوه: منها: نيابة الوَلِيّ عن الصبي والمجنون، ويجب عليه أن ينوي، لأن المؤدي عنه ليس أهلاً (¬1) للنية كما ليس أهلاً للقسم والتَّفريق فينوب عنه في النية كما ينوب عنه في القسم. قال القاضي ابْنُ كج: "فلو دفع من غير نية لم يقع الموقع عليه الضمان". ومنها: أن يتولى السلطان قسم زكاته، وذلك إما أن يكون بدفعه إلى السلطان طوعاً أو يأخذ السلطان منه كرهاً، فإن دفع طوعاً ونوى عند الدفع كفى، وإن لم يَنْوِ السلطان لأنه نائب المستحقين فالدفع إليه كالدفع إليهم، وإن لم يَنْوِ صاحب المال ونوى السلطان أو لم ينو هو أيضاً ففيه وجهان: أحدهما: وهو ظاهر كلامه في "المختصر" ولم يذكر كثيراً من العراقيين سواه: أنه يجزئ، ووجهوه بأنه لا يدفع إلى السُّلْطان إلاَّ الفرض، وهو لا يفرق على أهل السّهمان إلا الفرض، فأغنت هذه القرينة عن النية. والثاني: لا يجزئ؛ الإمام نائب الفقراء، ولو دفع إليهم بغير نِيَّة لم يجز، فكذلك إذا دفع إلى نَائِبِهِمْ. قال صاحب "المهذب" و"التهذيب" وجمهور المتأخرين: هذا أصح، وهو اختيار القاضي أبي الطيب، وحملوا كلام الشَّافعي -رضي الله عنه- على الممتنع يجزئه المأخوذ وإن لم ينو، لن نقل عن نصه في "الأم" أنه قال: يجزئه وإن لم يَنْوِ طائعاً كان أو كارهاً، وأما إذا امتنع عن أداء الزكاة فللسلطان أخذها منه كرهاً، خلافاً لأبي حنيفة. لنا قوله -تعالى جده-: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا" (¬2). ولا يأخذ إلا قدر الزَّكاة على الجديد، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ" (¬3). وقال في القديم: يأخذ مع الزكاة شَطْر ماله لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ¬
مِنَ الإبِلِ السَّائِمَةِ بِنْتُ لَبُونٍ مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِراً بِهَا فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبَّنَا، لَيْسَ لآلِ مُحَمَّدٍ فِيهَا شَيْءٍ" (¬1). إذا عرفت ذلك فإن نوى الممتنع حالة الأخذ برئت ذمته ظاهراً وباطناً، ولا حاجة إلى نية الإمام، وإن لم يَنْوِ فهل تبرأ ذمته؟ نظر إن نوى الإمام سقط عنه الفرض ظاهراً ولا يطالب به ثانياً، وهل يسقط باطناً؟ فية وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه لم ينو، وهو متعبد بأن يتقرب بالزّكاة. وأظهرهما: أنه يسقط إقامة لنية الإمام مقام نيته كما أن قسمه قام مقام قسمه، وكما أن نية الولي تقوم مقام نية الصبي، وإن لم يَنْوِ الإمام أيضاً لم يسقط الفَرْض في البَاطِن، وكذا في الظَّاهِرِ على أظهر الوَجْهَين، وهذا التَّرتِيبُ والتفصيل ذكره في "التهذيب"، وإذا اقتصر خرج منه الوجهان المَشْهُورَان، في أن المُمْتنع إذا أخذت منه الزَّكَاة، ولم يَنْوِ هل يسقط الفرض عنه باطناً؟ وبنى إمام الحرمين وصاحب الكتاب وجوب النية على الإمام على هذين الوجهين، إن قلنا: لا تبرأ ذمة الممتنع باطناً فلا يجب، وإن قلنا: تبرأ فوجهان: أحدهما: لا؛ كيلا يتهاون المالك فيما هو متعبّد به. والثاني: نعم؛ لأن الإمام فيما يليه من أمر الزَّكَاةِ كوليّ الطفل، والممتنع مقهور كالطفل، وظاهر المذهب أنه يجب عليه أن ينوي ولو لم يَنْوِ عصى، وإن نيته تقام مقام نية المالك، وهذا لفظ القَفَّال في "شرح التلخيص". ومنها: أن يوكل وكيلاً بتفريق الزكاة، وإن نوى الموكل عند الدفع إلى الوكيل ونوى الوكيل عند الدفع إلى المساكين، فهو أولى، وإن لم ينو واحد منهما، أو لم يَنْوِ الموكل لم يَجُز كما لو دفع إلى المساكين بنفسه ولم ينو، وإن نوى الموكل عند الدفع، ولم ينو الوكيل فيه طريقان: أحدهما: القطع بالجواز، كما لو دفع إلى الإمام ونوى. وأظهرهما: أنَّه يبنى على أنه لو فرق بنفسه هل يجزئه تقديم النية على التفرقة فيه وجهان: ¬
أحدهما: لا كما في الصلاة. وأظهرهما: وبه قال أصحاب أبي حنيفة -رحمه الله-: نعم، كما في الصوم للعسر (¬1)؛ ولأن المقصود الأظهر من الزكاة إخراجها، وسد خَلاَّت المستحقين بها، ولذلك جازت النِّية فيه مع، القدرة على المُبَاشرة، وعلى هذا تكفي نية الموكل عند الدَّفع إلى الوكيل، وعلى الأول لا بد من نية الوَكيلِ عند الدَّفْعِ إلى المَسَاكين أيضاً، ولو وكَّل وكيلاً وفوَّض النِّية إلَيه أيضاً جاز، كذا ذكره في، "النّهاية" و"الوسيط". فرع: لو تصدق بجميع ماله، ولم ينو الزكاة لم تسقط عنه الزَّكَاة، وعن أصحاب أبي حنيفة -رحمه الله- أنها تسقط. قال الغزالي: وَيُسْتَحِبُّ لِلسَّاعي أنْ يعَلِّمَ فِي السَّنَةِ شَهْراً لِأخْذِ الزَّكَوَاتِ، وأنْ يَرُدّ المَوَاشِي إلَى مَضِيقٍ قَرِيبٍ مِنَ المَرْعَى لِيَسْهُلِ عَلَيْهِ العَدُّ. قال الرافعي: كان النَّبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء بعده يبعثون السُّعَاة لأخذ الزَّكَاة (¬2). والمعنى فيه أن كثيراً من النَّاس لا يعرفون الوَاجب والواجب فيه ومن يصرف إليه، فبعثوا ليأخذوا من حيث تجب ويضعوا حيث يجب (¬3). والأموال نوعان: أحدهما: مَا لاَ يُعْتبر فيه الحول كالثمار والزروع، فتبعث السعاة لوقت وجوبها، وهو إدراك الثمار، واشتداد الحبوب، وذلك لا يختلف في الناحية الواحدة كثير اختلاف. والثاني: ما يُعْتبر فيه الحول، وهو موضع كلام الكتاب فأحوال الناس تختلف، ولا يمكن بعث ساع إلى كل واحد عند تمام حوله، فيعين شهراً يأتيهم الساعي فيه، واستحب الشافعي -رضي الله عنه- أن يكون ذلك الشهر المحرم صيفاً كان أو شتاء، فإنه أول السنة الشرعية (¬4)، وليخرج قبل المحرم ليوافيهم أول المحرم، ثم إذا جاءهم ¬
فمن تم حوله أخذ زكاته، ومن لم يتمَّ حوله فيستحب له أن يعجل، فإن لم يفعل استخلف عليه من يأخذ زكاته، وإن شاء أخر إلى مجيئه من قابل، وإن وثق به فوض التَّفْريق إليه وأن يأخذ زكاة المواشي إنْ كانت تَرِدُ الماء أخذها على مياههم، ولا يكلفهم ردّها إلى البلد، ولا يلزمه أن يتبع المراعي، وبهذا فسر قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ جَلَبَ وَلاَ جَنْبَ" (¬1) أي: لا يكلفون أن يجلبوها إلى البلد، وليس لهم أن يجنبوها السّاعي، فيشقوا عليه، فإن كان لِرَبِّ المال ماء أن أمره بجمعها عند أحدهما، وإن اجتزأت الماشية بالكَلَأَ في وقت الربيع ولم ترد الماء أخذ الزكاة في بيوت أهلها وافنيتهم، هذا لفظ الشّافعي -رضي الله عنه- وقضية تجويز تكليفهم الرد إلى الأفنية، وقد صرح به المُحَامليُّ وغيره (¬2)، وإذا أراد معرفة عددها فإن أخبره المالك وكان ثقة قبل قوله، إلاَّ أحصاها، والأوْلَى أن تجمع في حظيرة ونحوها وينصب على الباب خشبة معترضة وتساق لتخرج واحدة بعد واحدة، ويثبت كل شاة إذا بلغت المضيق، ويقف رب المال أو نائبه من جانب، والساعي أو نائبه من جانب، وبيد كل واحد منهما قضيب يُشِيْرَان به إلى كل شاة أو يصيبان ظهرها به، فذلك أبعد عن الغلط وإن اختلفا بعد الإحصاء وكان الوَاجب يختلف أعاد العدّ. وقوله: "قريب من المَرْعَى" فيه إشارة إلى أنه لا يكلفهم الرَّدّ من المرعى إلى البلدة والقرية، بل يأمر بجمعها في مضيق قريب من المَرْعَى، فإن عمر الحضور فقد ذكرنا أنه يأمر بالرد إلى الأفنية -[والله أعلم]-. قال الغزالي: وَيُسْتَحَبْ أَنْ يَقُولَ لِلْمُؤَدِّي: آجَرَكَ اللهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَجَعَلَهُ لَكَ طَهُوراً وَبَارَكَ لَكَ فيمَا أَبْقَيْتَ، وَلاَ يَقُولَ: صَلَّى اللهُ عَلَيْكَ، وَإنْ قَالَهُ علَيْهِ السَّلاَمُ لاَلِ أبي أَوْفَى لِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهِ فَلَهُ أَنْ يُنْعِمَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَمَا لاَ يُقَالُ: مُحَمَّدٌ عَزَّ وجَلَّ وَإن كَانَ عَزِيزاً جَلِيلاً فَلاَ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: أَبُو بَكرٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَإن كَانَ يَدْخُلُ تَحْتَ آلِهِ تَبَعاً. ¬
قال الرافعي: قال الله تعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} (¬1) أي: ادع لهم، فيستحب لِلسَّاعي أَنْ يدعو لِرَبِّ المَالِ (¬2) تَرْغِيبًا له في الخير وتطييباً لقلبه، ولا يتعين شيء من الأدعية واستحب الشافعي -رضي الله عنه- أن يقول: أجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهوراً وبارك لك فيما أبقيت، وهو لائق بالحال، وحكى الحَنَّاطي وجهاً: أنه يجب عليه الدعاء وله متمسك من لفظ الشافعي -رضي الله عنه- فإنه قال: فحق على الوالي أن يدعو له، وكما يستحب للساعي يستحب للمساكين أيضاً؛ إذا فرق رب المال عليهم، وقد روي عن عبد الله بن أَبِي أَوْفَى -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلانٍ"، فأتاه أبي بصدقته فقال: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى" (¬3). قال الأئمة: هذا وإن ذكره النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لا يقوله غيره؛ لأن الصلاة قد صارت مخصوصة في لسان السَّلَف بالأَنْبِيَاء- عليهم الصَّلاَة والسَّلام- كما أن قولنا: عزَّ وجَلَّ صار مخصوصاً بالله تعالى جده، وكما لا يقال: محمد عز وجل، وإن كان عزيزاً جليلاً، لا يقال: أبو بكر وعليِّ صلوات الله عليهما، وإن صح المعنى، وهل يكره ذلك أم هو مجرد ترك أدب؟ أطلق القاضي حسين لفظ الكراهة، وكذا فعل المصنِّف في "الوسيط"، ووجهه إمام الحرمين بأن قال: المكروه يَتَمَيَّزُ عَنْ ترك الأولى بأن يفرض فيه نهي مقصود، فقد ثبت نهي مقصود عن التَّشبيه بأهل البدع وإظهار شعارهم، والصلاة على غير الأنبياء مما اشتهر بالفئة الملقّبة بالرفض، وظاهر كلام الصَّيْدَلاني أنه في حكم ترك الأدب والأولى، وبه يشعر قوله في الكتاب: فلا يحسن أن يقال: أبو بكر صلوات الله عليه، وصرح بنفي ¬
[القول في تعجيل الزكاة]
الكراهة في "العدة" وقال أيضاً الصَّلاة بمعنى الدُّعاء تجوز على كل أحد، أما بمعنى التَّعْظيم والتَّكريم يختصُّ بها الأنبياء -عليهم السَّلام- والمشهور ما سبق، ويجوز أن يجعل غير الأنبياء تبعاً لهم في الصلاة فيقال: اللهم صلي على محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه؛ لأن ذلك لم يمتنع منه السَّلف وقد أمرنا به في التشهد وغيره. قال الشيخ أبو محمد: والكلام في معنى الصَّلاة، وقد قرن الله تعالى بينهما فقال: (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (¬1) فلا يفرد به غائب غير الأنبياء، ولا بأس به في معرض المُخَاطَبَةِ فيقال للأحياء والأموات من المؤمنين: السلام عليكم (¬2). إذا تقرر ذلك فالصَّلاة لما كانت حقّاً للنَّبي -صلى الله عليه وسلم- كان له أن ينعم بها على غيره وغيره لا يتصرّف فيما هو حقّه، كما أَنَّ صاحب المنزل يجلس غيره على تكرمته وغيره لا يفعل ذلك. وقوله: وإنْ كان يدخل تحت آله تبعاً إِنَّمَا يستمر على قولنا أن كل مسلم من آل النبي -صلى الله عليه وسلم- لكن الظَّاهر المنقول عن نص الشافعي -رضي الله عنه- أن آله بنو هاشم وبنو المطلب، فعلى هذا لا يدخل أبو بكر -رضي الله عنه- تحت الآل، وإنما يدخل تحت الأصحاب، وقد ذكرنا هذا الخلاف في موضعه. قال الغزالي: القِسْمُ الثَّانِي في التَّعْجِيلِ، وَالنَّظَرُ فِي أُمُورٍ ثَلاَثةٍ: الأوَّلُ: فِي وَقْتِهِ، وَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ (ح م) قَبْلَ تَمَامِ الحَوْلِ، وَلاَ يَجُوزُ قَبْلَ كَمَالِ النِّصَابَ وَلاَ قَبْلَ السَّوْم، وفي تَعْجِيلِ صَدَقَةِ عَامَيْنِ وَجْهَانِ، وَلَوْ مَلَكَ مِائَةً وَعِشْرِينَ شَاةً فَعَجَّلَ شَاتيْنِ ثُمَّ حَدَثَتْ سَخْلَةٌ فَفِي إِجْرَاءِ الثَّانِيَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ الأصَحُّ: إِجْزَاؤُهُ. [القول في تعجيل الزكاة]: قال الرافعي: التَّعْجيل جائز في الجملة (¬3)، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، لما روي عن علي -رضي الله عنه- أن العباس -رضي الله عنه- سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تَعْجِيل ¬
صَدَقَتِهِ قبل أَنْ تَحِلَّ فَرَخَّصَ لَهُ (¬1). إذا عرفت ذلك فالحاجة تمسُّ إلى معرفة أن التَّعجيل بأية مدة يجوز، وأنه إذا عَجّل في الوقت يجزئه على الإطلاق أوله شرائط، وأنه إذا لم يقع مجزئاً هل للمعجل أن يرجع فيما دفع؟ فلذلك قال: "والنَّظر في ثلاثة أمور": أحدها: في التَّعْجيل والأموال الزَّكوية ضربان: أحدهما: مال تجب فيه الزَّكَة بالحَوْل والنصاب فيجوز تعجيل زكاته قبل الحول خلافاً لمالك، حيث قال: لا يجوز. قال المسعودي: إلاَّ أن يقرب وقت الوجوب فإن لم يبق من الحَوْلِ إلاَّ يوم أو يومان. لنا ما سبق من الخبر وأيضاً فإن الزَّكَاة حقٌّ مالي أجل رفقاً فجاز تعجيله قبل محلّه كالدين المؤجل وككفار اليمين قبل الحنْث، فإن مالكاً سلم جواز التّعجيل في الكَفَّارة، ولا يجوز التَّعجيل قبل [تمام] (¬2) النِّصاب كما إذا ملك مائة درهم فعجل منها خمسة دراهم، أو ملك تسعاً وثلاثين شاة فعجل شاة ليكون المعجَّل عن زكاته إذا أتم النّصاب وحال الحول عليه، وذلك لأن الحَقَّ المالي إذا تعلَّق بشيئين ووجد أحدهما يجوز تقديمه على الآخر، لكن لا يجوز تقديمه عليهما جميعاً أَلاَ ترى أنه يجوز تقديم الكفارة على الحنث إذا كان قد حلف، ولا يجوز تقديمها على الحنث واليمين جميعاً؛ وهذا في الزكاة العينية، أما إذا اشترى عرضاً للتجارة يساوي مائة درهم فعجل زكاة مائتين، وحال الحول وهو يساوي مائتين جاز المعجل عن الزكاة على ظاهر المذهب، وإن لم يكن يوم التَّعجيل نصاباً؛ لأن الحول منعقد والاعتبار في زكاة التجارة بآخر الحول، ولو ملك أربعين من الغنم المَعْلُوفة وعجَّل شاة على عزم أن يسيمها حولاً لم يقع عن الزكاة إذا أسامها؛ لأن المَعْلُوفة ليست مال الزَّكَاة كالناقص عن النصاب، وإنما تعجل الزكاة بعد انعقاد الحَوْل، ولو عجل صدقة عامين فصاعداً فهل يجزئ المخرج عما عدا السنة الأولى؟ في وجهان: أحدهما: نعم لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "تَسَلَّفْتُ مِنَ العَبَّاسِ صَدَقَةٌ عَامَيْنِ" (¬3). وبهذا قال أبو إسحاق. ¬
والثاني: لا؛ لأن زكاة السنة الثانية لم ينعقد حولها، والتعجيل قبل انعقاد الحول لا يجوز كالتعجيل قبل تمام النصاب. والوجه الأول أصح عند صاحب الكتاب ذكره في "الوسيط"، وكذا قاله الشيخ أبو حامد، وصاحب "الشامل"، والأكثرون على ترجيح الوجه الثاني ومنهم معظم العراقيين وصاحب "التهذيب"، وحملوا الحديث على أنه تسلفها بدفعتين، فإن جوزنا فذلك إن بقي عنده بعد التَّعْجيل نصاب كامل، كما إذا ملك ثنتين وأربعين شاة فعجل منها شاتين، فأما إذا لم يَبْقَ عنده بعد التَّعْجيل نصاب كامل، كما إذا ملك أربعين أو إحدى وأربعين فعجل شاتين فوجهان: أحدهما: الجَوَاز كما لو عَجَّل عن أربعين صَدَقَة عام فإنه يجوز. وأصحهما: المنع؛ لأن التّعجيل عن النّصاب لا يجوز، وفي تعجيل شاتَيْن ما يوجب نقصان النصاب في جميع السنة الثانية، وذكر أبو الفضل بن عبدان تفريعاً على جواز تَعْجِيل صَدَقَة عامين، أنه هل يجوز أن ينوي تقديم زكاة السنة الثانية على الأولى؟ فيه وجهان كالوجهين في تقديم الصلاة الثانية على الأول في الجمع، ولو ملك نصاباً فعجل زكاة نصابين نظر: إن كان ذلك في زكاة التِّجارة كما لو اشترى عرضاً بنيّة التِّجارة بمائتي درهم وأخرج زكاة أربعمائة فحال الحول والعرض يساوي أربعمائة أجزاء ما أخرج؛ لأن الاعتبار في زكاة التجارة بآخر الحول، وإن كان في زكاة العين فإن أخرج على توقع حصول نصاب آخر بسبب مستقبل، كما لو ملك مائتي درهم، وأخرج زكاة أربعمائة على توقع اكتساب مائتين واكتسب مائتين لم يجزئه ما أخرجه عن المائتين الحادثتين، وبه قال أحمد خلافاً لأبي حنيفة، بناء على أن المستفاد في أثناء الحول مضموم إلى ما عنده في الحول فكأنه موجود وقت الإخراج، وإن أخرج على رجاء حصول نصاب آخر، أو [كمال نصاب آخر من عَيْن ما عنده] (¬1) فصدق رجاؤه كما إذا ملك مائة وعشرين شاة فعجل شاتين ثم حدثت سَخْلَة، أو ملك خمساً من الإبل فعجل شاتين ثم بلغت بالتّوالد عشراً، فهل يجزئه ما أخرج عن النصاب الذي كمل الآن؟ فيها وجهان: أصحهما -عند حجة الإسلام، وصاحب "التتمة": الإجزاء؛ لأن النِّتَاج الحاصل في أثناء الحول بمثابة الموجود في أوله، وهذا قياس المحكى عن أبي حنيفة -رحمه الله- في الصورة السابقة. والثاني -وهو الأصح، عند العراقيين وصاحب "التّهذيب": المنع؛ لأنه تقديم ¬
زكاة العين على النصاب فأشبه ما لو أخرج زكاة أربعمائة درهم وهو لا يملك إلا مائتين، ورتب إمام الحَرَمَيْن هذين الوَجْهَيْن على الوجهين في جواز تقديم صدقة عامين، إن جَوَّزْنا ذلك فَالتَّقْدِيمِ للنِّصَاب الثَّاني أولى، وإن منعنا ذاك فهاهنا وجهان. والفرق: أن النتاج الحاصل في وسط الحول لا يحتاج إلى حول جديد، وكان حول المال الذي واجبه شاة منعقد على ما واجبه شاتان ولا كذلك زكاة السنة الثانية، فإن حولها لا يدخل بحال، وطرد ابْن عَبْدَان الوَجْهَيْن المذكورين في هذه الصُّورة في الصورة الأولى أيضاً، وهي ما إذا اشترى عرضاً بمائتين وأخرج زكاة أربعمائة، فحال الحول وقيمته أربعمائة، ولو عجل شاة عن أربعين فولدت أربعين وهلكت الأمهات، هل يجزئه ما أخرج عن السِّخَال؟ نقل في "التهذيب" فيه وجهين (¬1). ولك أن تعلم قوله في الكتاب: "ويجوز تعجيل الزكاة قبل تمام الحول" بالواو مع الميم المُشِيرة إلى مذهب مالك؛ لأن الموفق بن طاهر حكى عن أبي عبيد (¬2) بن حَرْبَوَيه من أصحابنا منع التعجيل كما يحكى عن مالك. قال الغزالي: وَأمَّا زَكَاةُ الفِطْر فَتُعَجَّلُ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ، وَزَكَاةُ الرُّطَب والعِنَبِ لاَ تُعَجَّلُ قَبْلَ الجِفَافِ، وَقِيلَ: تُعَجَّلُ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاحَ، وَقِيلَ: تُعَجَّلُ بَعْدَ بُدُوِّ الطَّلْعِ، وَأَمَّا ¬
الزَّرْعُ فَوُجُوبُ زَكَاتِهِ بِالفَرْكِ وَالتَّنْقِيَةِ، وَيَجُوزُ عِنْدَ الأِدْرَاكِ وَبَعْدَ الإِدْرَاكِ وَإِنْ لَمْ تُفْرَكْ، وَقِيلَ: يَجُوزُ بَعْدَ ظُهُورِ الحَبِّ وَإِنْ لَمْ يَشْتَدَّ. قال الرافعي: الضرب الثاني: ما لا يتعلق وجوب الزَّكَاة فيه بالحول كالثمار والزروع، ولنتكلم في زكاة الفِطْر أولاً. أما: أنها تجب فسيأتي في موضعه، وأما تعجيلها فيجوز بعد دخول شهر رمضان؛ لأن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان يبعث صَدَقَة الفطر إلى الَّذي يجمع عنده قبل الفطر بيومين (¬1)، واحتج له أيضاً بأن وجوبها بشيئين برمضان والفطر منه، وقد وجد أحدهما وهو حصول رمضان، هذا ما قاله جمهور الأصحاب، وذكر أبو سعيد المُتَوَلِّي: أن زمان جواز تعجيلها من أول اليوم الأول من رمضان لا من أول رمضان؛ لأن زكاة الفطر وجبت بالفطر عن رمضان، والصوم هو سبب الفطر فلا تعجل زكاة الفطر قبل سبب الفطر. وقوله في الكتاب: "فتعجل في أول رمضان" يجوز أن يعلّم بالواو لما حكينا عن "التتمة"، ولأنه لابتداء الغاية في جواز تعجيلها على دخول رمضان وجهان كالوجهين في تعجيل صدقة عامين والأصح المنع كما هو قضية لفظه، ويجوز أن يعلّم بالحاء أيضاً؛ لأن عند أبي حنيفة أنه يجوز تقديمها على رمضان من غير ضبط وبالألف؛ لأن عند أحمد أنه لا تعجل من أول رمضان، إنما تعجل قبل الفطر بيوم أو يومين. وأما الثمار والزروع: فاعلم: أن زكاة الثِّمَار تجب ببدُوِّ الصّلاح، وزكاة الزُّروع تجب باشتداد الحب على ما سيأتي، وليس المراد منه وجوب الأداء بل المراد أن حقَّ المساكين يثبت في هاتين الحالتين ثم الإخراج يلزم بعد الجفاف وتنقية الحبوب (¬2). إذا عرفت ذلك فالإخراج بعدما صار الرّطب تمراً والعنب زبيباً ليس بتعجيل بل هو لازم حينئذ، ولا خلاف أنه لا يجوز التقديم على بُدُوِّ الصَّلاح وخروج الثمرة كما لا يجوز التَّعجيل في الضرب الأول على كمال النصاب، ووراء ذلك للثمار حالتان: إحداهما: ما بعد الطّلع وخروج الثّمرة، وقبل بدو الصلاح وفيه وجهان: أظهرهما عند أكثر العراقيين وتابعهم في "التهذيب": أنه لا يجوز الإخراج، ووجهوه بشيئين: أحدهما: أنه لا يظهر ما يمكن معرفة مقداره تحقيقاً، ولا حرصاً وتخميناً فصار كما لو قدم الزَّكَاة على النِّصاب. ¬
والثاني: أنَّ هذه الزَّكَاة تجب بسبب واحد وهو إدراك الثِّمَار فيمتنع التَّقْدِيم عليه. والوجه الثَّاني: أنه يجوز كزكاة المواشي قبل الحول. وحكى الحناطي هذا الوجه عن ابن سريج ويشهر بابن أبي هريرة والأول بأبي إسحاق، وذكر القاضي ابن كَجّ أن أبا إسحاق أجاب بالوجهين في دفعتين، ولمن قال بالثاني أن يقول: أما التوجيه الأول فالكلام فيما إذا عرف حصول قدر النّصاب، وإن لم يعرف جملة الحاصل فبعد ذلك إن خرج زائداً على ما ظنه فيزكّي الزيادة، وإن خرج ناقصاً فبعض المخرج تطوع فلم يمتنع الإخراج. وأما الثاني فلا نسلم أن لهذه الزكاة سبباً واحداً بل لها سببان أيضاً: ظهور الثمرة وإدراكها والإدراك بمثابة حولان الحول. الحالة الثانية: ما بعد بُدُوِّ الصلاح وقبل الجفاف، وقد حكى إمام الحرمين في هذه أيضاً وجهين: أحدهما: المنع، لعدم العدم بالقدرة. وأصحهما -ولم يذكر الجمهور عنده-: الجواز كما يجوز إخراج الزكاة في الضرب الأول بعد النّصاب وقبل الحول بَلْ أَوْلَى إذ لا وجوب ثم بعد، وهاهنا يبدو الصلاح قد ثبت الوجوب وإنْ لم يلزم الإخراج. وإذا تركت هذا التفصيل واختصرت فالحاصل ثلاثة أوجه كما ذكر في الكتاب: أحدط: أَنَّ زكاة الثِّمَار لا تعجل قبل الجفاف. والثاني: أنها تعجل بعد بُدُوَّ الصَّلاح. والثالث: أنها تعجَّل بعد بدو الطَّلع، وبه قال أحمد وإيراد الكتاب يقتضي ترجيح الوجه الأول، وقد صرح به في "الوسيط" لكن الظَّاهر عند المعظم هو الثاني، بل نفى أبو الحسين بن القَطَّان أن يكون فيه خلاف، وكذا نقف صاحب "العدة" فهذا هو الكلام في زكاة الثمار ويقاس بها زكاة الزروع، فالإخراج بعد الفرك والتنقية لازم، وليس بتعجيل ولا يجوز الإخراج قبل نبات الزرع، ورأيت في بعض كتب أصحاب أحمد أن أبا حنيفة يجوزه بعد طرح البذر في الأرض ثم وراء ذلك حالتان: إحداهما: ما بعد التَّسَنْبُل وانعقاد الحبوب، وقبل اشتدادها ففيه وجهان على ما سبق، والمنع هاهنا أولى؛ لأن الحبوب غير موجودة الزرع بقل، والثمار موجودة وإن لم يبد فيها الصلاح. والثانية: ما بعد الاشْتداد والإدراك وقبل الفَرْكِ والتَّنْقِية، فالصحيح جواز
الإخراج، وعن الشَّيخ أبي محمد أنه لا يجوز الإخراج ما لم ينق؛ لأن قدر المال إنما يعرف بِالتَّنْقِية. وقوله في الكتاب: "لا يعجل" ينبغي أن يعلّم بالألف لما ذكرنا. وقوله: "وأما الزرع فوجوب زكاته بالفَرْكِ" أي: وجوب الإخراج إلاَّ فَالحَقُّ يثبت عند الاشْتِدَادِ. وقوله: "ويجوز عند الإدْرَاكِ" وكذا قوله: "يجوز بعد ظهور الحب" لا بأس بإعلامهما بالواو للوجه الصائر إلى أنه لا يجوز الإخراج قبل التنقية. ثم عد الأئمة في هذا الباب ما يقدم على وقت الوجوب من الحقوق المالية وما لا يقدم. فمنها: كفارة اليمين والظّهار والقَتْل وجزاء الصَّيد، وسيأتي ذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى. ومنها: لا يجوز للشَّيخ الهَرِم والحامل والمُرضع تقديم الفِدْية على رمضان. ومنها: لا يجوز تقديم الأضحية على يوم النحر. ومنها: كفارة الوِقَاع في رَمَضان حكى الحَنَّاطي في جواز تقديمها على الوِقَاع وجهين: والأصح: المنع. ومنها: إذا قال: إذا شفى الله مريضي فلله عليَّ أن أعتق رقبة فأعتق قبل الشِّفاء. قال ابْنُ عَبْدَان لا يجزئ في أصح الوجهين (¬1)، وممَّا ذكره وهو من شرط الباب زكاة المَعْدن والرِّكَاز قال: لا يجوز تقديمهما على الحصول (¬2). قال الغزالي: الثَّانِي، فِي الطَوَارِئ المَانِعَةِ مِنَ الإِجْزَاءِ، وَهُوَ فَوَاتُ شَرْطِ الوُجُوبِ، وَذَلِكَ فِي القَابِضِ بِأَنْ يَرْتَدَّ أَوْ يَمُوتَ أَوْ يَسْتَغْني بِمَال آخَرَ، فَإِنْ عَرَضَتْ بَعْضُ هَذِهِ الحَالاَتِ وَزَالَتْ قَبْلَ الحَوْلِ فَوَجْهَانِ، أَوْ فِي المَالِكِ بِأَنْ يَرتَدَّ أَوْ يَمُوتَ أَوْ يَتْلَفَ مَالُهُ فَيَتَبَيَّنَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ أَنَّ المُعَجَّلَ لَمْ يَقَعْ عَنِ الزَّكَاةِ، أَمَّا المَالُ لَوْ تَلَفَ فِي يَدِ المِسْكِينِ أَوْ فِي يَدِ الإمَامِ، وَقَدْ قُبِضَ بِسُؤَالِ الْمِسْكِين فلاَ بَأسَ، وَإِنْ قُبِضَ بُسُؤَالِ المَالِكِ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ المَالِكِ، وَإِنْ اجْتَمَعَ سُؤَالُ المَالِكَ وَالمِسْكِينَ فَأَيُّ الجَانِبَيْنِ يَرْجَعُ فِيْهِ وَجْهَانِ، وَحَاجَةُ أَطْفَالِ المَسَاكِينِ كَسُؤَالِهِمْ، وَحَاجَةُ البَالِغينَ هَلْ تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ سُؤَالِهِم؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: يشترط في كون المعجّل مجزئاً أَنْ يبقى القابض بصفة الاسْتِحْقَاق ¬
إلى آخر الحَوْل، ولو ارتدَّ قبل الحول أو مات لم يحسب المعجل عن الزكاة (¬1)، وإن استغنى نظر: إِنِ استغنى بالمدفوع إليه أو به وبمال آخر لم يضر، فإنَّ الزكاة إنما تصرف إليه ليستغنى، فلا يصير ما هو المقصود مانعاً من الإجزا، وإن استغنى بمال آخر لم يحسب المعجل عن الزكاة لخروجه عن أهليّة أخذ الزَّكاة عند الوجوب، وإن عرض شيء من الحَالاَت المانعة، ثم زال وكان بصفة الاسْتِحْقَاق عند تمام الحَوْل ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجزئ المعجَّل أما لو لم يكن عند الأخذ من أهله ثم صار عند تمام الحول من أهله. وأصحهما: أنه يجزئ اكْتِفَاء بِالأهليَّة في طرفي الأَدَاء والوجوب. هذا ما يشترط في القابض ويشترط في المالك بقاؤه بصفة وجوب الزَّكاة عليه إلى آخر الحول، فلو ارتدَّ وقلنا: الردة تمنع وجوب الزكاة أو مات أو تلف جميع ماله أو باعه أو نقص عن النِّصاب لم يكن المعجّل زكاة، وهل يحسب في صورة الموت عن زكاة الوارث؟ نقل عن نصه في "الأم" أنَّ المعجّل يقع عن الوارث، وقد سبق ذكر قولين في أن الوارث، هل يبنى على حول المورث أم لا؟ فقال الأصحاب: هو الذي ذكره في "الأم" يستمر جواباً على القول القديم وهو أنه يبنى؛ لأن الوارث على هذا القول يبنى على حكم ذلك النِّصاب والحول فيجزئه ما عجَّله المورث كما كان يجزئ المورث لو بقي. وعلى هذا لو تعدَّد الورثة ثبت حُكْمُ الخلطة بينهم، إن كان المال ماشية أو غير ماشية، وقلنا بثبوت الخلطة في غير الماشية، وإن قلنا: لا تثبت ونقص نصيب كل واحد عن النِّصَاب أو اقتسموا المال ماشية كانت أو غيرها ونقص نصيب كل واحد عن النِّصَاب فينقطع الحول، ولا تجب الزكاة على المشهور، وعن صاحب "التقريب" وجه آخر: أنهم يجعلون كالشَّخْص الواحد، وكأنهم عين المتوفى فيستدام حكمه في حقهم. فأما إذا فَرَّعْنَا علي الجديد الصحيح، وهو أن الوارث لا يبني على حَوْل المورث فلا يجزئ المعجْل عن الوارث؛ لأنه مالك جديد، وذلك المعجل مقدم على النصاب والحول في حقه، هذا هو الأظهر، ومنهم من قال: يجزئه المعجّل كما ذكر في "الأم"، ¬
وهو جواب على أحد الوجهين في تعجيل صدقة عامين فتعجّل السّنة المُسْتَأْنفَة في حَقِّ الوَارِثِ كالسّنة الثانية في حف المعجل. إذا عرف ذلك فنقول: الإمام إذا أخذ من المالك قبل أن يتم حوله مالاً للمساكين فلا يخلو إما أن يأخذه بحكم القَرْضِ أو ليحسبه عند زكاته عند تمام الحَوْلِ. الحَالَةُ الأولى: أن يأخذ بحكم القرض فينظر إن استقرض بسؤال المَسَاكِين فضمانه عليهم سواء تلف في يده أو سلَّمه إليْهِم كما لو استقرض الرَّجَلُ مالاً لغيره بإذنه، وهل يكون للإمام طريقاً في الضَّمان حتى يؤخذ منه ويرجع على المساكين أم لا؟ إن علم المأخوذ منه أنه يستقرض لِلْمَسَاكين بإذنهم، فلا يكون طريقاً على أظهر الوَجْهَيْن بل يرجع عليهم. والثاني: أَنْ يكون طريقاً كالوكيل بالشراء يكون مطالباً على ظاهر المذهب، وإن ظن المأخوذ منه أنه يستقرض أو للمساكين من غير سؤالهم، فله أن يرجع على الإمام، والإمام يقضيه من مال الصدقة أو يجعله محسوباً عن زكاة المقرض (¬1). ولو أقرضه المالك للمساكين ابتداء من غير سؤالهم (¬2) فتلف في يد الإمام فلا ضمان على أحد، إمَّا على المساكين فظاهر، وإمَّا على الإمام فلأنه وكيل المالك كما لو دفع الرجل مالاَ إلى غيره ليقرضه من ثالث فهلك عنده لا ضمان عليه. ولو استقرض الإمام بسؤال المقرض والمَسَاكين جميعاً، فهلك عنده فهو من ضمان المالك أو المساكين فيه وجهان على ما سنذكر في الحالة الثَّانية، ولو اسْتَقْرَضَ لا بسؤال المالك ولا بسؤال المَسَاكين فينظر، إن استقرض ولا حاجة بهم إلى القرض فالقرض يَقَعُ للإمام، وعليه ضمانه من خالص ماله سواء تلف في يده أو دفعه إِلَى المساكين، ثم إن دفع إليهم متبرعاً فلا رجوع وإن أقرضهم فقد أقرضهم من مال نفسه وإن استقرض لهم وبهم حاجة إليه فإن هلك في يده فوجهان: أحدهما وبه قال أبو حنيفة وأحمد -رحمهما الله- أنه من ضمان المساكين يقضيه الإمام من مال الصدقة كولي اليتيم إذا استقرض لحاجته فهلك في يده يكون الضمان في مال الصبي. وأصحهما: أنَّ عليه الضَّمَان من خالص ماله؛ لأن المَسَاكِينَ غير مُعَيَّنين، وفيهم أو أكثرهم أهل رُشْد لا ولاية عليهم لأحد (¬3) أَلاَ تَرى أنه لا يجوز منع الصدقة عنهم من ¬
غير عذر، ولا التصرف في مالهم بالتجارة، وإنما يجوز الاسْتِقْرَاضُ لَهُمْ بشرط سلامة العَاقبة بخلاف اليتيم، وإن دفع المستقرض إليهم فالضمان عليهم، والإمام طريق فيه، فإذا أخذ الزكاة والمدفوع إليه بصفة الاستحقاق فله أن يقضيه من الزكاة وله أن يحسبه عن صدقة المقرض (¬1)، وإن لم يكن المدفوع إليه بصفة الاستحقاق عند تمام حول الزكاة المأخوِذة لم يجز قضاؤه منها، بل يقضي من مال نفسه ثم يرجع على المدفوع إليه إن وجد له (¬2) مالاً. الحالة الثانية: أن يأخذَ الإمام المال ليحسبه عن زكاة المأخوذ منه عند تمام حوله، وفيها أربع مسائل كما في القرض: الأولى: أن يَسْتلف بسؤال المساكين فإن دفع إليهم قبل الحول وتم الحول وهم بصفة الاستحقاق والمالك بصفة الوجوب وقع الموقع، وإن خرجوا على الاستحقاق فعليهم الضَّمَان وعلى ربِّ المال إخراج الزَّكَاة ثانياً. وإن تلف في يده قبل تمام الحَوْل من غير تفريط فينظر: إن خرج المَالِك عَنْ أن تجب عليه الزَّكَاة، فله الضَّمَان على المَسَاكِين، وهل يكون الإمام طريقاً؟ فيه وجهان على ما ذكرناه في الاستقراض، وإن لم يخرج عن أن تجب عليه الزكاة، فهل يقع المخرج عن زكاته؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم، وهو المذكور في "الشَّامِلِ" و"التتمة"؛ لأن الإمام نائب المساكين فصار كما لو أخذوه وتلف في أيدهم. والثاني: لا؛ لأنه لم يصل إلى المستحقِّين فعلى هذا له أخذ الضَّمان من المساكين، وفي أخذه من الإمام الوجهان، فإن لم يكن للمساكين مال صرف الإمام إذا اجتمعت الزكاة عنده ذلك القدر إلى قوم آخرين عن جهة الذي تسلف منه. ¬
والثانية: أن يتسلف بسؤال المالك فإن دفع إلى المساكين فتم الحول وهو بصفة الاستحقاق وقع الموقع وإلا رجع المالك على المساكين دون الإمام، وإن تلف في يد الإمام لم يجزئ المالك سواء كان التلف بتفريط من الإمام أو بغير تفريط، كما لو دفعه إلى وكيله فتلف عنده ثم إنْ تلف بتفريط منه فعليه الضمان للمالك، وإن تلف بغير تفريط فلا ضمان عليه، ولا على المساكين. الثالثة: أن يتسلف بسؤال المالك والمساكين جميعاً فمن ضمان من يكون؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه من ضمان المالك كما لو تسلَّف بمحض سُؤَاله؛ لأن جانبه أقوى إذ الخيار في الدَّفْع والمنع إليه. والثاني: أنَّه من ضمان المَسَاكِين؛ لأن المنفعة تعود إليهم فيكون المال من ضمانهم ألا ترى أن ضمان العارية على المستعير لعود المنفعة عليه؟ وهذا الوجه أصحّ عند صاحب "الشامل" إليه يميل كلام الأكثرين، وفي "التتمة" و"العدة" أن الأول أصح. الرابعة: أن يَتَسَلَّف لا بسؤال المالك ولا بسؤال المساكين، لما رأى بهم من الخّلة والحاجة فهل تنزل حاجتهم منزلة سؤالهم؟ فيه وجهان حكاهما إمام الحرمين وغيره. أحدهما: نعم؛ لأن الزكاة مصروفة إلى جهة الحاجة لا إلى قوم معينين، والإمام ناظر لها فإذا رأى المصلحة في الأخذ كان له ذلك كما لو أخذ بسؤالهم وصار كولي الطفل. وأظهرهما: أنها لا تنزل منزلة سؤالهم؛ لأنهم أهل رشد ونظر، ولو عرفوا صلاحهم في التَّسَلّف لالتمسوه من الإمام فعلى هذا إن دفعه إليهم وخَرَجُوا عن الاسْتِحْقَاق عند تمام الحَوْل استردَّه منهم ودفعه إلى غيرهم، وإن خرج الدافع عن أهليه الوجوب استرده ورده إليه فإن لَمْ يَجِدْ المدفوع إليه مالاً ضمنه من مال نفسه فرّط أو لم يفرط، وعلى المالك إخراج الزكاة ثانياً. وفيه وجه آخر: أنه لا ضمان على الإمام، ويُحكى مثله عن أبي حنيفة وأحمد ثم الوجهان في أن الحاجة هل تنزل منزلة السؤال في حق البالغين؟ فأما إذا كانوا أطفالاً، فهذا يبنى أوّلاً على أن الصغير هل يدفع إليهم من سهم الفقراء والمساكين أم لا؟ أما إذا كان مكتفياً بنفقة أبيه وغيره من الأقارب ففيه وجهان مذكوران في قسم الصدقات في الكتاب وسنشرحها ثم -إن شاء الله تعالى جده-
وأما إذا لم يكن من منفق عليه من أب وجد وغيرهما فقد حكى القاضي ابن كَجٍّ عن أبي إسحاق أنه لا يجوز صرف الزكاة إليه لاسْتِغْنائه عن الزكاة بالسّهم المصروف إلى اليتامى من الغنيمة. وعن ابن أبي هريرة: أنه يجوز صرف الزكاة إلى قيمة قال: وهذا هو المذهب. إذا عرفت ذلك فإن قلنا بجواز الصرف فحاجة أطفال المساكين كسؤال البالغين إذ ليس لهم أهلية النظر والتماس التسلف، فتسلف الإمام الزكاة واستقراضه لهم كاستقراض قيم اليتيم له. هذا إذا كان الذي يلي أمرهم الإمام، فأما إذا كان يلي أمرهم من هو مقدّم على الإمام فحاجتهم كحاجة البالغين؛ لأن لهم من يسأل التسلف لو كان صلاحهم فيه. أما إذا قلنا: لا يجوز الصرف إلى الصَّغير فلا تجيء هذه المَسْألة في سهم الفُقَراء والمساكين، ويجوز أَنْ تجيء في سَهْمِ الغارمين ونحوه؛ لأن الخلاف في المكفي بنفقة أبيه لا يتَّجه في سهم الغارمين إذ ليس على القريب قضاء دَيْن القريب. وفي المسائل كلها لو تلف المعجّل في يد الساعي أو الإمام بعد تمام الحول، سقطت الزَّكَاة عن المالك، لأن الحصول في يدهما بعد الحول كالوصول إلى المَسَاكين كما لو أخذ بَعْدَ الحَوْل ثم إن فرط في الدَّفع إليهم ضمن من مال نفسه لهم، وإلاَّ فلا ضمان على أحد، وليس من التفريط أن ينتظر انضمام غيره إليه لقلته، فإنه لا يجب تفريق كل قليل يحصل عنده (¬1). وعد بعد هذا إلى لَفْظِ الكتاب، واعلم أن قوله: "وهو فوات شرط الوجوب" يفتقر إلى التأويل إذ ليست الطوارئ المانعة من الإجزاء منحصرة في ذوات شرط الوجوب بل ذوات شرط الاستحقاق في القابض مانع من الإجزاء أيضاً، وأيضاً فإنه قال: "وذلك في القابض بأن يرتد ... " إلى آخره وصفات القابض ليست من شرط الوجوب في شيء وإنما هي من شرائط جواز الصرف إليه. وقوله: "بأن يرتد أو يموت أو يستغني" معلَّم بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة تغير حال القابض لا يؤثر إذا كان عند الأَخْذ بصفة الاسْتِحْقاق. وقوله: أو في المالك بأن يرتدّ يجوز أن يرقم قوله: "يرتد" بالواو، ولأنا إن أبقينا ملك المرتد، وجوزنا إخراج الزكاة في حالة الرِّدة أجزأ المعجل. وقوله: "أما المال لو تلف .. " إلى آخر الفصل ¬
يمكن حمله على الاسْتِقْرَاض وعلى التَّسَلُّف للزكاة، ومراده الثَّاني على ما صرح به في "الوسيط". وقوله: لو تلف في يد المساكين مطلقاً سواء قبض الإمام بسؤال المالك أو بسؤال المساكين وسلّمه إليهم والتَّفصيل فيما إذا كان التَّلف في يد الإمام. وقوله: فلا ضمان أي إذا اجتمع شرائط الوجوب، والاستقاق جميعاً أجزأ المعجّل عن الزكاة ولا ضمان على أحد، وقد نجد في بعض النسخ: "فلا بأس" بدل قوله: "فلا ضمان"، ولا بأس به معناه: لا يضر ذلك، وتقع الزَّكَاة موقعها، وأيهما كان فهو عند اجْتِمَاع الشَّرائط كما سبق. وقوله: وحاجة أَطْفَال المَسَاكين كسؤالهم، أي: كسؤال البالغين لا كسؤال الأَطْفَال، إذ ليس من ضرورة أَطْفَال المساكين أن يكونوا مساكين فاللفظ النَّاصُّ على الفرض أَنْ يقال: وحاجة أطفال المَسَاكين، ولا يخفي أَنّ لفظ المساكين في هذه المَسَائِل كناية عن أهل السّهمان جميعاً، وأنه ليس المراد جميع آحاد الصنف، بل سؤال طائفة منهم وحاجتهم. قال الغزالي: الثَّالِثُ فِي الرُّجُوعِ عِنْدَ طَرَيَانِ هَذهِ الأَحْوَالِ، فَإِنْ قَالَ: هَذِهِ زَكَاتِي المعَجَّلَةُ فَلَهُ الرُّجُوعُ، وَقِيلَ: شَرْطُهُ أَنْ يُصَرِّحَ بِالرُّجُوعِ وَعَلَى هَذَا لَوْ نَازَعَهُ المَسَاكِينَ فِي الشَّرْطِ فَالمَالِكُ هُوَ المُصَدَّقُ فِي أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لأنَّهُ المُؤَدِّي، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْتَّعجِيلِ وَلاَ عَلِمَهُ المَسَاكِينُ فَفِي الرُّجُوعِ وَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَرْجِعُ فَيَصْدُقُ مَعَ يَمِينِهِ إِذَا قَالَ: قَصدَتُّ التَّعْجِيلَ. قال الرافعي: إذا دفع الزَّكاة المعجَّلة إلى الفقراء، وقال: إنها معجلة فإن عرض مانع استردت فله الاسْتِرْدَاد إن عرض مانع، وعن أبي حنيفة: أنه لا استرداد إلا إذا كان المال بعد في يد الإمام أو الساعي. لنا: إنه مال دفعه لما يستحقّه القابض في المستقبل، فإذا عرض ما يمنع الاسْتِحْقَاق استردُّه، كما إذا عَجَّل الأُجْرة ثم انْهَدَمت الدَّار قبل انْقِضَاء المدَّة، وإن اقتصر على قوله: هذه زكاة معجلة، وعلم القابض ذلك ولم يذكر الرّجوع، فهل له الاسترداد عند عروض مانع؟ فيه وجهان حكاها الشّيخ أبو محمد وغيره: أحدهما: لا؛ لأن العادة جارية بأن المدفوع إلى الفقير لا يسترد، فكأنه ملكه بالجهة المعينة إن وجد شرطها وإلاَّ فهو صدقة، وصار كما لو صرح، وقال: هذه زكاتي المعجّلة فإن وقعت الموقع فذاك، وإلاّ فهي نافلة. وأصحهما: ولم يذكر المعظم غيره أنه له الرجوع؛ لأنه عين الجهة فإن بطلت رجع كما قلنا في تعجيل الأجرة.
قال صاحب الوجه الأول: هذا يشكل بما إذا قال: هذه الدراهم عن مالي الغائب وكان تالفًا فإنه يقع صدقة، ولا يتمكّن من الرجوع إلاَّ إذا شرط الرجوع بتقدير تَلَفِ الغائب، أجاب الصَّيْدَلانيّ بأنه قد تعرض لكونها معجّلة، وإذا تعرض لذلك فقد شرط الرجوع إن عرض مانع، وهذا غير واضح كما ينبغي، وقرب إمام الحرمين الوجهين في المسألة من القولين فيما إذا نوى الظُّهر قبل الزَّوَال هَل تَنْعَقِد صلاته نَفْلاً؟ وهذان الوَجْهَان فيما إذا دفع المَالِك بنفسه، وفيه تكلم صاحب الكتاب، ألا تراه يقول: فلو قال هذه زَكَاتي المعجَّلة، والإمام لا يقول ذلك. أما إذا دفع الإمام فلا يمكن جعله نافلة فلا حاجة إلى شرط الرُّجوع، لكن لو لم يعلم القابض أنه زكاة غيره فيجوز أن يقال على الوجه الأول: لا يسترد وعلى الإمام الضمان للمالك لتقصيره بترك شرط الرجوع، ولو جرى الدفع من غير تعرض للتعجيل، ولا علم القابض به فهل يثبت الاسترداد؟ ظاهر نصه في "المختصر" أنه إذا كان المعطي الإمام يثبت، وإن أعطئ المالك بنفسه فلا يثبت، وللأصحاب فيه طريقان: أحدهمأن: تقرير النَّصين. والفرق: أن المالك يعطي من ماله الفرض والتطوع، فإذا لم يقع عن الفرض وقع تطوعاً، والإمام يقسم مال الغير فلا يعطي إلاَّ الفرض فكان مطلق دفعه كالمقيد بالفرض، وهذا هو الذي ذكره القاضي ابن كَجٍّ وعامة أصحابنا العراقيين. والثاني: أنه لا فرق بين الإمام والمالك؛ لأن الإمام قد يتصدق بمال نفسه كما يفرق مال الغير، وبتقدير أن لا يقسم إلاَّ الفرض، لكنه قد يكون معجلاً وقد يكون في وقته، واختلف هؤلاء على طريقين: أحدهما: تنزيل النصين على حالين، حيث قال: يثبت الرجوع، فذلك عند وقوع التعرض للتعجيل، وحيث قال: لا يثبت فذلك عند إهماله، والإمام والمالك يستويان في الحالتين، وذكر في "الشامل" أن الشيخ أبا حامد حكى هذا الطريق أيضاً، وهو الذي أورده الجَامِعُون لطريقة القفَّال واختياراته. والثاني: أن فيهما قولين نقلاً وتخريجاً. أحدهما: أنه يثبت الرجوع كما لو دفع مالاً إلى غيره، على ظن أن له عليه ديناً فلم يكن له الاسْتِرداد: والثاني: لا يثبت؛ الصَّدقة تنقسم إلى فرض وتطوع، وإذا لم تقع فرضاً تقع تطوعاً، كما لو أخرج زكاة ماله الغائب، وهو يظن سلامته فَبَانَ تالفاً يقع تطوعاً، وهذا الطريق أوفق لما ذكره في الكتاب إلا إنه حكى بدل القولين وجهين، وكذا فعل إمام
الحرمين وهو قريب في موضع النقل والتخريج، ولم يحك الخلاف في الإمام والمالك جميعاً، فإن المسألة مَسُوقَة على ما سبق في أول الفصل، وهو كلام في المالك على ما بينته. والأظهر: أنه لا يثبت الركوع سواء أثبتنا الخلاف أم لا، وهو فيما إذا دفع المالك بنفسه أولى وأظهر، في ظاهر النصين المنقولين عن "المختصر" وكشف المراد منهما كلام كثير لا يحتمله هذا الموضع. فإن قلنا: يثبت الاسْتِرْدَاد وإن لم يتعرض للتّعجيل ولا علمه القابض، فمهما قال المالك: قصدت التعجيل ونازعه القابض فالقول قول المالك مع اليمين فإنه أعرف بنيته ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهته، ولو ادَّعى المالك علم القابض بأنها كانت معجلة فالقول قول القابض، لأن الأصل عدم العلم، والغالب هو الأداء في الوقت. وإن قلنا: لا يثبت الاسترداد عند عدم التعرض للتعجيل وعلم القابض فلو تنازعا في أنه هل يُشترط التعجيل على الوجه الأصح أو في أنه هل يشرط مع ذلك الرجوع على الوجه الثاني فالقول قول من؟ فيه وجهان: أحدهما: أن القول قول المالك مع يمينه؛ المؤدي وهو أعرف بقصده، ولهذا لو دفع ثوباً إلى غيره واختلفا، فقال الدافع هو عارية، وقال الآخر هبة، كان القول قول الدافع. وأظهرهما: ولم يذكر في "العدّة" غيره أن القول قول المسكين مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الاشتراط والغالب كون الأداء في الوقت؛ ولأنهما اتفقا على انْتِقَال اليد والملك والأصل استمرارها. وقوله في الكتاب: "وعلى هذا لو نازعه المساكين في الشرط" قَدْ يوهم تخصيص المَسْأَلَة والوجهين فيها بالوجه المذكور قبله وهو قوله: "وقيل: شرطه أن يصرح بالرجوع" وليس كذلك بل سواء اكتفينا بشرط التعجيل أو شرطنا التَّصْريح بالرُّجُوع وفرض النزاع، جرى الوجهان ولو أنه أخَّر المسألة إلى أن يفرغ من السلام فيما إذَا لَمْ يتعرض للتَّعجيل ولا علمه المساكين لكان أولى؛ لأن هذا النزاع إنما يجري إذا قلنا: لا يثبت الاسْتِرْداد، ثم إذا أثبتناه فلا فائدة للنزاع في جريان الاشتراط فإن المالك وإن سلمه وادَّعى أنه قصد التعجيل والرجوع نصدقه كما سبق، والوجهان في تنازع المالك والقابض يجريان في تنازع إلإمام والقابض إذا قلنا: إنه يحتاج إلى الاشتراط، ولفظ "التهذيب" يشمل الصورتين جميعاً. وقوله: "ففي الرجوع وجهان" يجوز أن يعلَّم بالواو لما قدمنا من الطريقة القاطعة
بامتناع الرجوع، ولك أن تبحث في قوله: "أما إذا لم يتعرض للتعجيل، ولا علمه المسكين" فنقول: هذا يشمل ما إذا سكت فلم يذكر شيئاً أصلاً، وأَمَّا إذا قال: هذه زكاتي أو صدقتي المفروضة، ولم يتعرض للتعجيل ولا علمه المسكين، فهل يخرج لمخرج الزكاة أن لا يتلفظ بشيء أصلاً؟ وبتقدير أن يجوز فهل الحكم واحد في الحالتين أم بينهما فرق؟ والجواب: أما الأول فقد ذكر صاحب "النهاية" (¬1) وغيره أن مخرج الزكاة لا يحتاج إلى لفظ؛ لأنه في حكم توفية حق على مستحق. قال: وفي صدقة التطوع تردد، والظاهر الذي به عمل الكافة أنه بحاجة إلى لفظ أصلاً. وأما الثاني: ففيه طريقان: أحدهما: أنه إذا قال: "هذه زكاتي" "أو صدقتي المفروضة" كان بمثابة ما لو ذكر التعجيل ولم يصرح بالرجوع. وأظهرهما: أنه كما لو لم يذكر شيئاً أصلاً، فإن ذكر التعجيل يعرف أنها في الحال غير واجبة. وقوله: "هذه زكاتي" لا يفيد ذلك، والغالب إنما هو الأداء في الوقت. والذي أجاب به العراقيون أنه لا يسترد المالك بخلاف الإمام فإن الإمام قد يستعجل الزكاة في العادة، والملاَّك لا يؤدون قبل دخول وقت الوجوب غالباً، وهذا جرى منهم على طريقتهم التي سبقت. وحكوا في التفريع عليها وجهين في أنه لو كان الطَّارئ موت المسكين، هل للمالك أن يستحلف ورثته على نفي العلم بأنها معجلة؟ عن أبي يحيى البَلْخِيّ أنهم يحلفون لإمكان صدقه، وعن غيره: أنهم لا يحلفون؛ لأن الظاهر من قوله: هذه زكاتي، أنها واجبة في الحال فليس له دعوى خلافه، وشبهوا هذا بالوجهين، فيما إذا رهن وأقر بأنه أقبض ثم ادَّعى بأنه لم يقبض وأراد التحليف عليه. وقوله في أول الفصل الثالث: في الرجوع عند طَرَيَان هذه الأحوال" إشارة إلى أنه لا بد للرُّجُوع من عروض شيء من هذا الخلاف، وليس له أن يسترد المعجل من غير سبب؛ لأنه تبرع بالتعجيل فأشبه ما لو عجل دَيْنَا مؤجلاً لا استرداد له. قال الغزالي: وَلَوْ تَلَفَ النِّصَابُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَمْتَنِعِ الرُّجُوعُ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ. قال الرافعي: والمسألة من الطوارئ المانعة من وقوع المعجل زكاة تلف النّصاب ¬
فحيث يثبت الاسترداد بهذا السبب، هل يثبت لو أتلفه المالك بنفسه فيه وجهان: أحدهما: لا، لقصيره بالإتْلاَف. وأصحهما: نعم، لحصول التَّلف وخروج المعجل، عن أن يكون زكاة وقضية التَّعْجيل الأول أن لا يجري الخلاف فيما إذا أتلفه بالإنفاق وغيره من وجوه الحاجات، ولو أتلف بعض ماله حتى انتقص النصاب كان كالاتف جميع المال مثل أن يعجل خمسة دراهم عن مائتي درهم ثم يتلف منها درهماً، وتنقل هذه الصورة والوجهان فيها عن الاصْطخري. قال الغزالي: وَإِنْ كانَ الْمَالُ تَالِفاً فِي يَدِ المِسْكِينِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَإِنْ صَارَ نَاقِصاً فَفِي الأَرْشِ وَجْهَانِ، وَإِنْ كَانَ بَاقِياً رُدَّ بِزَوَائِدِهِ المُنْفَصِلَةِ وَالمُتَّصِلَةِ وَنَقِضَ تَصَرُّفُة وَكَأنَّهُ بانَ أنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ وَقِيلَ: إِنَّا نُقَدِّرَهُ مُقْرِضاً إِذَا لَمْ يقَعْ عَنْ جِهَةِ الزَّكَاةِ فَتَلْتَفِتُ هَذِهِ الأَحْكامُ عَلَى أَنَّ القَرْضَ يَمْلُكَ بِالقَبْضِ أَوْ بِالتَّصَرُّفِ. قال الرافعي: متى أثبتنا حق الاسترداد فلا يخلو المعجل، إمَّا أن يكون تالفاً أو باقياً في يد القابض، فإن كان تالفاً فعليه ضمانه بالمثل إن كان مثلياً والقيمة إن كان متقوماً، وفي القيمة المعتبرة وجهان: أحدهما: أنه يعتبر قيمته يوم التلف، أن الحق انتقل إلى القيمة يوم التَّلف، فاعتبرت قيمته ذلك اليوم كما في العارية. والثاني: ويحكي عن أحمد: أنه يعتبر قيمة يوم القبض؛ لأن ما زاد عليها زاد في ملك القابض فلم يضمنه، كما لو تلف الصَّدَاق في يد المرأة ثم ارتدت قبل الدُّخول أو طلقها، فإن الزوج يرجع بقيمة يوم القبض. قال المحاملي: وهذا أشبه. وينقدح عند إمام الحرمين رجه ثالث وهو إيجاب أقصى القيم بناء على أنه المِلْك غير حاصل للقابض واليد يد ضمان. وقد ذكر مثل هذا في المُسْتَعِير والمّسْتَام فإن كان القابض قد مات فَالضَّمَان في تّكته (¬1) وإن كان المال باقياً نظر إنْ لم يحصل فيه زيادة ولا نقصان استرده ودفعه أو مثله إلى المستحق، إن بقي بصفة الوجوب وإن كان الدافع هو الإمام ¬
أخذه، وهل يصرفه إلى المستحقين بدون أذن جديد من المالك؟ حكى في "التتمة" فيه وجهين: أظهرهما: وهو المذكور في "التهذيب": له ذلك وإذا أخذ القيمة، فهل يجوز صرفها إلى المستحقين؟ فيه وجهان؛ لأن دفع القيم لا يجزئ فإن جوزناه وهو الأظهر فهل يحتاج إلى إذن جديد؟ فيه وجهان: وإن حدثت (¬1) فيه زيادة فإن كانت متّصلة كالسمن [والكبر] (¬2) أخذه مع الزيادة كما لو زاد الموهوب في يد الابن زيادة متصلة ورجع الأب فيه، وكما إذا أفلس المشتري بالثمن، وقد زاد المبيع زيادة متصلة، وإن كانت منفصلة كالولد واللبن، فهل يأخذها مع الأصل؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم بأنا بينا بما طرأ أخيراً أنه لم يملك المقبوض. وأصحهما: ولم يذكر الجمهور غيره: لا، كما أن الأب لا يرجع في الزِّيَادة المنفصلة من الموهوب وكما أنه يسلم للمشتري إذا رد الأصل بالعيب، أو رد عليه العوض. ويحكي هذا الثاني عن نص الشَّافعي -رضي الله عنه- وإن حدث فيه نقصان، فهل يجب فيه أَرْشَه؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما يجب الضمان عند التلف فيعتبر الجزء بالجملة. وأصحهما: عند العراقيين وغيرهم: لا، وحكوه عن ظاهر. نصه في "الأم"، ووجهوه بأنه نقصان حدث في ملكه فلا يضمنه كالأب إذا رجع في، الموهوب، وقد نقص فلا يأخذ معه الأرْش، وكالبائع إذا استرد المبيع، وقد نقص عند إفلاس المشتري، ليس له الأَرْشُ وهذا الوجه هو اختيار القَفَّال فيما حكى الصَّيْدَلاَنِي، قال: واستشهد عليه بما إذا رد المبيع بعيب والثمن باق، لكنه حدث فيه عيب ليس له إلا المعيب. وإن كان يأخذ مثله أو قيمته لو كان تالفاً. قال إمام الحرمين: وهذا مشكل وإلزامه الرضا بالثمن المعيب بعيد، وإنما الذي قاله الأصحاب: أنه لو وجد بالمبيع عيباً، وتمكن من الرد فرضاً لا أَرْش له، والكلام فيه يتضح في موضعه -إن شاء الله تعالى جَدَّهُ-. ¬
ثم أشار حجة الإسلام -رحمه الله- في هذه المسائل إلى أصل ذكره الإمام وهو أن المعجل هل يصير ملكاً للقابض أم لا؟ وإن صار ملكاً له فيأتي فيه وبه يكون ملكاً له، قال: حيث لا يثبت الركوع: فالمعجل متردد بين أن يكون فرضاً أو تطوعاً، والملك حاصل للقابض على التقديرين، وحيث يثبت فله تقديران لم يصرح بهما الأصحاب، وجزم عليهما صاحب "التقريب". أحدهما: أن الملك موقوف إلى أن يكشف الأمر في المال، فإن حدث مانع تبين اسْتمرار ملك المالك، وإلاَّ تبين أنه صار مِلْكًا للقابض من يومئذ. والثاني: أنَّ الملك ثابت للقابض، لكن إن استمرت السلامة تبين أنه ملك عن جهة زكاة مستحقة، إلا تبين وقوعه فرضاً، ثم الفرض يملك بالقبض أو بالتصرف وإن ملك بالتصرف فبأي تصرف يملك؟ فيه خلاف مذكور في بابه، وعلى هذا الأصل يجري الوجهان في الزوائد المنفصلة فإن قلنا: بالتوقف وجب رَدُّها لتبين حدوثها على ملك المالك وينقلنا بتقدير الفرض، فإن قلنا: إنه يملك بالقبض سلمت الزوائد للقابض، وإن قلنا: يملك بالتصرف وحدثت الزوائد قبل التصرف فهذا كما لو استقرض أغناماً ونتجت في يده ثم باعها واستبقى النِّتَاج، قال الإمام: ينقدح فيه أمران: أحدهما: أن يقدر انتقال الملك في الأغنام إلى المستقرض قبيل البيع، ويجعل النتاج للمقرض. والثاني: أن يستند الملك في حالة القبض، ويجعل النتاج للمستقرض، وممَّا يخرج على هذا الأصل تصرفه في المال المعجل، بأن باع ما قبضه ثم طرأ بعض الأحوال المانعة، فإن توقفنا في الملك تبين انتفاض بيعه. وإن قلنا: بالفرض فلا ومما يخرج عليه أنه هل يجوز للقابض عند بقاء العين الإبدال أم يلزمه رد عين المال المأخوذ؟ فإن قلنا: بالتوقف لزم رد عينه، وإن قلنا: بالفرض فإنْ قلنا: إنه يملك بالقبض فله الإبدال. وإن قلنا: يملك بالتصرف ولم يوجد فللمالك استرداده بعينه. واعلم أن إيراد الكتاب يقتضي ترجيح التقدير الأول، لكن كلام المعظم يقتضي ترجيح الجزم بثبوت الملك، ولذلك قالوا: لا يجب رد الزوائد المنفصلة ولا أَرْش النقصان على ما قدمناه. قال الغزالي: وَلَوْ لَمْ يَمْلِكْ إلاَّ أَرْبَعِيْنَ فَعَجَّلَ وَاحِدَةً فَاسْتَغنَى القَابِضُ، فَإنْ القَابِضُ، فَإنْ جَعَلْنَا المُخْرَجَ لِلزَّكَاةِ قَرْضاً لَمْ يَلْزَمْهُ تَجْدِيدُ الزَّكَاةِ؛ لِأَنْ الحَوْلَ انْقَضَى عَلَى تَسْعٍ وَثَلاَثِينَ بِخِلاَف مَاذَا وَقَعَ المُخْرَج عَنِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ المُخْرَجَ عَنِ الزَّكَاةِ كَالبَاقِي، وَإِنْ قُلْنَا: تَبَيَّنَ أَنَّ المِلْكَ لَمْ يَزَلِ الْتَفَتَ عَلَى المَجْحُودِ وَالمَغْصُوبِ لِوُقُوعِ الْحَيْلُولَةِ.
قال الرافعي: الَّذِي يحتاج إلى معرفته أولاً، وقد أشار إليه في أثناء الفصل أن المعجل للزكاة مضموم إلى ما عنده ونازل منزلة ما لو كان في يده. بيانه: لو أخرج شاة من أربعين ثم حال الحول ولم يطرأ مانع أجزأه ما عجل، وكانت تلك الشَّاة بمثابة الباقيات عنده. ولو عجل شاة عن مائة وعشرين، ثم نتجت واحدة أو عن مائة وحدثت عشرون وبلغت غنمه مع الواحدة المعجلة مائة وإحدى وعشرين لزمه شاة أخرى، وإن أنفق القابض تلك المعجلة، ولو عجل شاتين عن مائتين ثم حدثت سَخْلَة قبل الحَوْل فقد بلغت غنمه مع المعجلتين مائتين وواحدة، فيلزمه عند تمام الحول شاة ثالثة، فلو كانت المعجلة في هاتين الصورتين مَعْلُوفة أو اشتراها وأخرجها لم يجب شيء زائد؛ لأن المعلوفة والمشتراة لا يتم بهما النصاب، وإن جاز إخراجهما عن الزكاة، وخالف أبو حنيفة هذا الأصل فلم يُجَوِّز التعجيل إلا بشرط أن يكون الباقي عنده نصاباً ولم يجعل المعجل مضموماً إلى ما عنده فيخرج من ذلك امْتِنَاع التَّعجيل في الصورة الأولى، وأن لا تجب شاة ثانية في الثانية ولا ثالثة في الثالثة، وساعدنا أحمد على ما ذكرنا، واحتج الأصحاب على جواز التعجيل عن الأربعين فحسب بأمن قالوا: هذا نصاب يجب الزَّكَاة فيه بحولان الحول فجاز تعجيلها منه كما لو كان أكثر من أربعين، واحتج الشافعي -رضي الله عنه- علي تكميل النِّصَاب الثاني والثالث بالمعجل بأن التعجيل إنما جوز إرفاقاً بالفقراء، فلا يجوز أن يصير سبباً لإسقاط حقوقهم، ومعلوم أنه لولا التعجيل لوجبت زيادة على ما أخرجه. إذا عرفت ذلك فلا يخلو الحال بعد تعجيل الزكاة إما أن يتم الحول على السَّلامة أو يعرض مانع فإن تَمَّ الحَوْل على السَّلاَمة أجزأه ما أخرج، ثم كيف التَّقْدِير إذا كان الباقي عنده ناقصاً عن النِّصاب كما لو لم يملك إلا أربعين فعجل منها واحدة: أيزول الملك عن المعجل ومع ذلك يحتسب عن الزكاة أم لا يزول؟ عن صاحب "التقريب": أنه يقدر كأنَّ صاحب الملك لم يزل لينقضي الحول وفي ملكه نصاب واستبعد إمام الحرمين ذلك. وقال: تصرف القابض فيه نافذ بالبيع والهبة وغيرهما، فكيف نقول ببقاء ملك المعطي. وهذا الاستبعاد حتى إن أراد صاحب "التقريب" بقاء ملكه حقيقة إلى آخر الحَوْل، وإن أراد أنه نازل منزلة الباقي حتى يكون مجزئاً عن زكاته ويكمل به النصاب الآخر فلا استبعاد، والأصحاب مطبقون عليه وكأنه اكتفى عن التعجيل بمضي ما سبق من الحول على كمال النصاب رفقاً بالفقراء، فهذا إذا تم الحول على السَّلامة، وإن عرض مانع من وقوع المعجل زكاة فينظر إن كان المخرج أهلاً للوجوب وبقي في يده نصاب لزمه الإخراج ثانياً، وإن كان الباقي دون النصاب فحيث لا يثبت الاسترداد فلا
زكاة عليه، وكأنه تَطَوَّع بشاة قبل تمام الحول، وحيث يثبت الاسْتِرْدَاد فاسترد، وقد ذكر شيوخنا العراقيون فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يستأنف الحَوْل، ولا زكاة لما مضى لِنُقصان ملكه عن النِّصَاب قبل تمام الحول. والثاني: أنه تجب الزكاة للحول الماضي؛ لأن المخرج للزكاة كالباقي على ملكه واحتجوا عليه بما إذا وقع عن الزكاة. والثالث: أنه يفرق بين النَّقد فيزكيه لما مضى وبين الماشية فلا يزكيها لما مضى؛ لأن السَّوْم شرط في زكاة الماشية، وذلك ممتنع في الحيوان في الذّمة. قالوا: وأظهر الوجوه هو الثاني، وهو الذي ذكره في "التهذيب" بل لفظه يقتضي وجوب الإِخْرَاج ثانياً، وإن لم يسترد بعد إذا كان المخرج بعينه باقياً في يد القابض. وعن صاحب "التقريب" بناء المسألة على الأصل السابق وهو أنه إذا ثبت الاسترداد فتبين أن الملك لم يزل عن المعجّل، أو يقال بالزوال ويجعل قرضاً إن قلنا بالزوال فإذا استرجع استفتح الحول من يومئذ ولا زكاة لما مضى. وإن قلنا: يتبين أن الملك لم يزل لزمه الزكاة لما مضى لتبين اطِّراد الحول على نصاب كامل، وزاد الإمام شيئاً آخر على هذا التقدير الثاني، فقال: الشاة التي تسلط القابض على التصرف فيها قد حصلت الحيلولة بينها وبين المالك، فيجيء فيها خلاف المغصوب والمجحود. وهذا الطريق هو الذي أورده في الكتاب، وكلام العراقيين يشعر بتخريج الوجوه كلها بعد تسليم زوال المِلْك عن المعجل، وكيف ما كان فالظاهر عند المعظم أنه يجب تجديد الزكاة ولو كان المخرج تالفاً في يد القابض فقد صار الضمان ديناً عليه فإن أوجبنا تجديد الزكاة إذا كان باقياً فيجيء هاهنا قولاً وجوب الزكاة في الدَّيْن هذا في الدين، وفي المواشي لا تجب الزَّكَاة بحال؛ لأن الواجب على القابض القيملا فلا يكمل بها نصاب الماشية وروى القاضي ابن كج عن ابن إسحاق إقامة القيمة مقام العين هاهنا مراعاة لجانب المساكين، وقوله في أول الفصل: ولو لم يملك إلا أربعين فعجل واحدة فاستغنى القابض أي بغير الزَّكَاة، وذكر الاستغناء مثالاً، والحكم لا يختص به بل الموت وسائر الطَّوَارئ في معناه. وقوله: بخلاف ما إذا وقع المخرج عن الزكاة؛ لأن المخرج كالباقي لِلزَّكَاة أي: المخرج للزكاة إذا وقع عن الزَّكَاة كالباقي. فأما إذا طرأ مانع فلا يجعل كالباقي، وهكذا ذكر صاحب "التهذيب" في فرع سنذكره على الأثر، لكن ما حكينا عن العراقيين في توجيه الوجه الثَّاني ينازع فيه ويصرح بكونه كالباقي وإن لم يقع عن الزكاة. فرع: لو عجل بنت مَخَاض عن خمس وعشرين من الإبل فبلغت بالتَّوالد ستّاً وثلاثين قبل الحول فلا يجزئه بنت المَخَاض المعجلة، وإن صارت بنت لَبُون في يد
[القول في تأخير الزكاة]
القابض بل يستردُّهما، ويخرجها ثانياً أو بنت لَبُون أخرى. قال صاحب "التَّهْذيب" من عنده: فإن كان المخرج هالكاً، والنِّتَاج لم يزد على أحد عشر ولم تكن إبله ستًّا وثلاثين إلاَّ مع المخرج وجب أن لا تجب بنت لَبُون؛ لأَنَّا إنما نجعل المخرج كالقائم إذا وقع محسوباً عن الزَّكَاة أما إذا لم يقع محسوباً فلا بل هو كهلاك بعض المال قبل الحول. قال الغزالي: القِسْمُ الثَّالِثُ، فِي تَأْخِيرِ الزَّكَاةِ، وَهُوَ سَبَبُ الضَّمَانِ (ح) وَالعِصْيَانِ (ح) عِنْدَ التَّمَكُّنِ، وَإِنْ تَلَفَ النِّصَابُ بَعْدَ الحَوْلِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ فَلاَ زَكَاة. [القول في تأخير الزكاة]: قال الرافعي: إذا تَمَّ الحَوْلُ على المال الَّذِي يشترط في زكاته الحول وتمكن من الأداء فأخر عصى (¬1) لما تقدم أَنَّ الزَّكَاة على الفور ويدخل في ضمانه حتى لو تلف المَالَ بعد ذلك لزمه الضَّمَان، سواء تلف بعد مطالبة السَّاعي أو الفقراء أو قبل ذلك. وعند أبي حنيفة -رحمه الله- تسقط الزكاة ولا ضمان إن كان التلف قبل المطالبة. وإن كان بعدها فلا صحابة فيه اختلاف. لنا: أنه قصر بحبس الحق عن المستحق فلزمه ضمانه. ولو تلف ماله بعد الحول وقبل التمكن فلا شيء عليه كما لو دخل وقت الصَّلاة فعرض له جنون أو نحوه قبل التَّمكن من فعلها، أو ملك الزَّاد والرَّاحلة ولم يتمكن من فعل الحج، ولو أتلفه بنفسه بعد الحول، وقبل التمكن لم تسقط عنه الزَّكاة لتقصيره بإتلافه. وعن مالك: أنه إن لم يقصد بالإتْلاَف الفرار عن الزَّكَاة تسقط، وإن أتلفه غيره فينبني على أصل سيأتي وهو أن الإمكان من شرائط الوجوب -أو من شرائط الضمان، إن قلنا بالأول فلا زكاة- كما لو أتلف قبل الحول، وإن قلنا بالثاني وقلنا: مع ذلك الزكاة تتعلق بالذمة فلا زكاة أيضاً؛ لأنه تلف قبل حصول شرط الاسْتِقْرَار، وإن قلنا: تتعلَّق بالعَيْن انتقل حق المستحقّ إلى القيمة كما إذا قتل العبد الجاني أو المرهون ينتقل الحقّ إلى القيمة (¬2). ¬
وقوله في الكتاب: "هو سبب الضَّمَان والعصيان" معلَّم بالحاء لما ذكرنا، ويجوز أن يعلّم قوله: "فلا زكاة" بالألف؛ لأن صاحب "الشَّامل" حكى عن أحمد أنه لا تسقط الزَّكَاة كما لو أتلفه. قال الغزالي: وَإِنْ مَلَكَ خَمْسًا مِنَ الإبِلِ فَتَلَفَ وَاحِدٌ قَبْلَ التَّمَكُّنِ فَأَحَدُ القَوْلَيْنِ أَنَّهُ يُسْقِطُ كُلّ الزَّكَاةِ كَمَا لَوْ تَلَفَ النِّصَابُ قَبْلَ الحَوْلِ؛ لِأَنَّ الإمْكَان شَرْطُ الوُجُوبِ، وَالأَصَحُّ أنَّهُ لاَ يُسْقِطُ إِلاَّ خُمْسَ شَاةٍ، لِأَنَّ الإمْكَانَ شَرْطُ الضَّمَانِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ مَلَكَ تِسْعاً فَتَلَفَ أرْبَعٌ قَبْلَ التَّمَكُّنِ فَالجَدِيدُ أَنَّ الزَّكَاةَ لاَ تُبْسَطُ عَلَى الوَقْصِ فلاَ يَسْقُطُ بِسَبَبِهِ شَيْءٌ مِنَ الزَّكَاةِ، وَعَلَى القَدِيمِ يَسْقُطُ أَرْبَعَةُ أَتْسَاعٍ شَاةٍ. قال الرافعي: مسألتا الفصل مبنيَّتان على أصلين: أحدهما: أن إمكان الأداء من شرائط الضَّمَان، وهل هو مع ذلك من شرائط الوجوب؟ فيه قولان: أحدهما: ويحكي عن القديم و"الأم"، وبه قال مالك: أنه من شرائط الوجوب كما في الصَّوْم والصَّلاَة والحَجّ؛ لأنه لو تلف ماله قبل الإمكان سقطت الزكاة ولو وجبت لما سقطت، وبهذا القول أجاب في "المختصر" في مواضع. وأصحهما: عند ابن سريج وجمهور الأصحاب وهو قوله في "الإملاء" ومذهب أبي حنيفة -رحمه الله-: أنه ليس إلا من شرائط الضمان؛ لأنه لو أتلف المال بعد الحول لا تسقط عنه الزكاة، ولولا الوجوب لسقطت كما لو أتلف قبل الحول، واحتج كثيرون لهذا القول بأنه لو تأخر الإمكان مدة فابتداء الحول الثَّاني يحسب من تمام الحول الأول لا من حصول الإمكان وبأنه لو حدث نِتَاج بعد الحول وقبل الإمكان يضم إلى الأَصْل في الحول الثَّاني دون الأول، وهذا جرى منهم في المسألة الثانية على أظهر الطَّرِيقين وقد قَدَّمنا في فصل النِّتَاج أن من الأصحاب من بني المسألة على القولين في الإمكان. وعند مالك: ابتداء الحول الثاني من وقت حصول الإمكان، ونتاج الحادث من وقت حصول الإمكان مضموم إلى الأصل في الحَوْل الأول، وعبر صاحب "التتمة" عن تحقيق هذا الخلاف بأنا إذا قلنا: الإمكان من شرائط الوجوب فهو على سبيل التَّبيين،
معناه أنا نتبين بالإمكان حصول الوجوب عند تمام الحول ونسميه شرط الوجوب توسعاً. ومالك يجعله شرط الوجوب حقيقة ولا يقول بالتبيين. وبعض أصحابنا يعبر عن القول الأول بالقديم وعن الثاني بالجديد، وهو اقتصار من الجديد على ما يقابل القديم، وإلاَّ فقضية ما ذكرنا حصول قولين في الجديد. أحدهما: كالقديم. والثاني: خلافه. الأصل الثاني: أن الأوقَاص وهي ما بين النّصابين كما بين الخمس والعشر من الإبل هل يتعلق الواجب بها مع النصب أم هي عفو والزكاة تتعلق بالنصب؟ فيه قولان: أصحُّهما وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله- والمزني: أنها عفو. لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "فِي خَمْسٍ مِنَ الإبِلِ شَاة، ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ عَشْراً" (¬1). ولأنا لو بسطنا الواجب على الوَقْص والنِّصاب لسقط قسط من الواجب بتلف الوَقْص بعد الحول كما سيأتي، ومالاً تزيد الزَّكَاة بزيادته لا ينبغي أن تنقص بنقصانه. والثاني وهو اختيار ابْن سُرَيج: أن الواجب ينبسط على الكل. لقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أنس (¬2): "فِي أَرْبَع وَعِشْرينَ من الإبل فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ ومن كُلِّ خَمْسٍ شاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلاَثينَ فَفيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ". علق الفرض بالنّصاب والوَقْص ولأنه حقّ الله تعالى يتعلّق بنصاب من المال فيتعلق به وبما زاد، كما لو سرق أكثر من نصاب يتعلق القطع بالكل، فإذا ملك تسعاً من الإبل فعلى القول الأول عليه في خمس منها لا بعينها شاة والباقى عفو. وعلى الثاني: الشاة واجبة في الكل. وقال إمام الحرمين: الوجه عندي أن تكون الشاة متعلقة بجميع التّسع لا محال، والمراد من القولين أن الوقص هل يجعل وقاية للنصاب كما يجعل الرِّيح في القراض وقاية لرأس المال عند الخسران، ففي قول: يجعل وقاية له وهو الصحيح، لأن الزكاة لا تزيد به ولا تنقص بتلفه، وفي قول: لا يجعل وقاية حتى لو تلف البعض سقطت حِصَّته، وهذا أحسن، والمشهور الأول. إذا عرفت ذلك فإحدى مسألتي الفصل أن تملك خمساً من الإبل ويحول عليها الحول ثم تتلف منها واحدة قبل التمكن فلا زكاة ¬
عليه للتالف، وهل يجب للباقي؟ يبنى على الأصل الأول. إن قلنا: الإمكان شرط للوجوب فلا شيء عليه، كما لو تلف قبل تمام الحول. وإن قلنا: إنه شرط الضمان دون الوجوب فعليه أربعة أخماس شاة؛ لأن هذا القدر هو المستقر بالإمكان، ولو تلف أربع فعلى الأول لا شيء عليه وعلى الثَّاني عليه خمس شاة، ولو ملك ثلاثين من البقر وتلف خمس منها قبل الإمكان وبعد الحول، فإن قلنا: بالأول فلا شيء عليه، وإن قلنا بالثاني فعليه خمسة أسداس تَبِيع. والمسألة الثانية: ملك تسعاً من الإبل وحال عليها الحول، ثم تلف قبل التمكُّن أربع، فحكمها يقتبس من الأصلين. إن قلنا: الإمكان شرط الوجوب فعليه شاة كما لو تلف قبل الحول، وإن قلنا: إنه شرط للضمان فإن قلنا: الوَقْص عفو فعليه شاة أيضاً، لبقاء متعلّق الواجب، وإن قلنا: الواجب ينبسط على الجميع ففيه وجهان: أصحهما: ولم يذكر الجمهور سواه أن عليه خمسة أَتْسَاع شاة؛ لأنها متعلّقة بجميع التّسع فحصَّة كل بعير منها تسع يسقط بتلف الأربع أربعة أتساع، ويبقى الباقي، والثاني عن القاضي أبي الطّيب: أن أبا إسحاق قال: عليه شاة أيضاً، ووجهه ابن الصباغ بأن الزيادة ليست شرطاً في الوجوب فلا يؤثر تلفها، وإن تعلق بها الواجب كما لو شهد خمسة على محصن بالزنا فرجمناه ثم رجع واحد منهم وزعم أنه غلط فلا ضمان على واحد منهم وإن رجع اثنان حينئذ يجب الضَّمان، ولو كانت المسألة بحالها، وتلف خمس فإن قلنا: الإمكان من شرائط الوجوب فلا شيء عليه؛ لانتقاص النصاب قبل الوجوب كما لو تلف قبل الحول، وإن قلنا: من شرائط الضمان فإن قلنا: الوقص عفو فعليه أربعة أخماس شاة؛ لأن [الواجب لم يتعلق] (¬1) إلا بخمس منها، ولم يتلف من الخمس إلا واحدة، وإن بسطنا الواجب على الكل فعليه أربعة أتساع شاة؛ لأن الشاة تعلقت بالتسع، وقد بقي منها أربع فلا يجيء هاهنا، وجه أبي إسحاق ولو ملك ثمانين من الغنم فتلف منها أربعون بعد الحول وقبل التمكن، فإن قلنا: الإمكان شرط الوجوب أو قلنا: إنه شرط الضمان والوقص عفو فعليه شاة، وإن قلنا: أنه شرط الضمان وبسطنا الواجب على الكل فعليه نصف شاة، وعلى الوجه المررى عن أبي إسحاق تجب شاة أيضاً، وعلى هذه الصورة يقاس نظائرها. وأما لفظ الكتاب. فقوله: "فتلف واحد قبل التمكن" أي وبعد الحول. وقوله: "لأن الإمكان شرط الوجوب" معلّم بالحاء. وقوله: "شرط الضمان" بالميم لما قدمناه، وقد استدرك من جهة اللفظ على ¬
قوله: "يسقط كل الزكاة"؛ لأن السقوط يفتقر إلى سبق الثبوت، ونحن على هذا القول نقول بعدم الوجوب أصلاً إلا أن لفظ السقوط قد يستعمل حيث يكون الشيء بعرضية الثبوت فتبطل عرضيته. وقوله في أول الصورة الثانية: "وعلى هذا" أي على قولنا: إن الإمكان شرط الضمان، فإنا حينئذ نبني المسألة على الخلاف في الوَقْص. وقوله: "يسقط أربعة أتْسَاع شاة" أي: لأن الزكاة تنبسط على الوقص، ويجوز أن يُعَلم بالحاء والزاي والواو أيضاً لوجه أبي إسحاق. وقوله: "فالجديد أن الزكاة لا تنبسط على الوقص" وتسمية ما يقابله قديماً إتباع لما ذكره الصَّيدلاني والإمام، وليس ذلك على سبيل جزم الجديد بعدم الانبساط؛ لأن الشيخ أبا حامد وغيره من الشُّيوخ نقلوا عدم الانْبِسَاط عن القديم، وأكثر الكتب الجديدة والانْبِسَاط عن البويطي "والإملاء" فاقتضى ذلك قولين في الجديد، وكلامهم يشعر بجزم القديم بعدم الانبساط، فإن كان كذلك لم يَجُز نسبة الانْبسَاط إلى القديم، وإلا فهو غير جازم بالانْبِسَاط كما أن الجديد غير جازم بعدم الانبساط. قال الغزالي: وَإِمْكَانُ الأَدَاءِ يَفُوتُ بِغَيْبَةِ المَالِ أَوْ بِغَيْبَةِ المُسْتَحِقّ وَهُوَ المِسْكِينُ أَوِ السُّلْطَانُ فَإِنْ حَضَرَ مُسْتَحِقٌّ فَأَخَّرَ لاِنْتِظَارِ القَرِيبِ أَوِ الجَارِ لَمْ يَعْصِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَلَكِنَّ جَوَاز التَّأخِيرِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ. قال الرافعي: مقصود الفصل بيان المراد من إمكان الأداء، فاعلم أنه ليس المراد من الإمكان مجرد كونه بسبيل من إخراج الزكاة، ولكن يعتبر معه شيء آخر وهو وجوب الإخراج، وذلك بأن تجتمع شرائطه. فمنها: أن يكون المال حاضراً عنده فأما إذا كان غائباً فلا يوجب إخراج زكاته من موضع آخر، وإن جوزنا نقل الصَّدقات. ومنها: أن يجد المصروف إليه والأموال على ما قدمنا ظاهرة وباطنة، والباطنة يجوز صرف زكاتها إلى السُّلْطَان ونائبه، ويجوز أن يفرِّقها بنفسه فيكون واجداً للمصروف إليه سواء وجد أهل السُّهمان أو الإمام أو نائبه (¬1). ¬
وأما في الأموال الظاهرة فكذلك إنْ جوزنا له أن يفرق زكاتها بنفسه، وإلاَّ فلا إمكان حتى يجد الإمام أو نائبه ثم إذا وجد من يجوز الصرف إليه لكن أخر لطلب الأفضل. ففي جوازه وجهان، وذلك كما إذا وجد الإمام أو نائبه وأخر ليفرق بنفسه حيث قلنا: إنه أولى أو وجد أهل السُّهْمَان فأخر ليدفع إلى الإمام أو نائبه حيث قلنا: إنه أولى أو أخر لانتظار قريب أو جار أو من هو أحوج إليه. أحد الوجهين: أنه لا يجوز التَّأْخير لذلك؛ لأن المستحق حاضر والزكاة واجبة على الفور فلا يؤخر. وأظهرهما: الجواز؛ لأنه تأخير لغرض ظاهر، وهو اقْتِنَاص الفضيلة به فيسامح فعلى هذا لو أخر وتلف هل يضمن؟ فيه وجهان: أحدهما: لا كالتأخير لسائر الأسباب الجائزة. وأصحهما: نعم، لأن الإمكان حاصل، وإنما يؤخر لغرض نفسه فيتقيَّد جوازه بشرط سلامة العاقبة. وذكر إمام الحرمين للوجهين شرطين: أحدهما: أن يظهر اتِّصَاف الحاضرين بصفة الاستحقاق، فإن تردد في استحقاقهم (¬1)، وأخرَّ ليترَوَّى وينظر فلا خلاف. والثاني: أن لا يشتد حاجة الحاضرين وفاقتهم، أما لو كانوا يتضررون جوعاً فأخَّر لانتظار قريب أو جَارٍ لم يجز بلا خلاف، ولك أن تقول: إشباع الجائعين، وإن وجب لكنه غير متعين على هذا الشخص ولا من هذا المال ولا من مطلق مال الزكاة (¬2)، وإذا كان كذلك فلم يلزم من وجوب الإشباع في الجملة أن لا يجوز تأخير الزَّكَاة لاقتناص فضيلة في الأداء. وقوله في الكتاب: "أو بغيبة المستحق" أراد به مستحق الأخذ لا مستحق المال المأخوذ. وقوله: "وهو المسكين أو السلطان" إشارة إلى الخلاف في وجوب صرف زكاة الأموال الظاهرة إلى الإمام، معناها: وهو المسكين في المال الباطن والسلطان في المال الظاهر على أحد القولين، وهذا لفظه في "الوسيط"، لكن قوله: "وهو المسكين" غير مجرى على ظاهره، فإن المسكين غير متعيّن الاستحقاق في المال الباطن بل يجوز الصَّرْف إلى السلطان أيضاً، ثم قضية قوله: وإمكان الأداء يفوت بغيبة المال، أو بغيبة المستحق انحصار فوات الإمكان في الأمرين، وبتقدير أن يكون كذلك يكون الإمكان لازم الحصول عند اجتماع الأمرين لكن قال صاحب "التهذيب" وغيره: يشترط في إمكان الأداء أن لا يكون مشتغلاً بشيء يهمه من أمر دينه ودنياه، فإذاً اللفظ محتاج إلى ضرب من التأويل. ¬
قال الغزالي: فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ تَعَلُّق الزَّكَاةِ بِالعَيْنِ؟ قُلْنَا: فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالِ: لاَ تتَعَلَّقُ بِهِ، وَقِيلَ: الْمِسْكِينُ شَرِيكٌ فِيهِ، وَقِيَل: لَهُ اسْتيثَاقُ المُرْتَهِن، وَقِيلَ: إِنَّ لَهُ تَعَلُّقاً كتَعَلُّقِ أَرْشِ الجِنَايَةِ، وَهُوَ الأَصَحُّ. قال الرافعي: سقوط الزَّكَاة بتلف النِّصَاب بعد الحول وقبل التَّمكن يشعر بأن الزكاة متعلَّقة بالنصاب غير مسترسلة في الذمة فلما جرى ذكر هذه المسألة حسن البحث عن وجه ذلك التعلق، والوجه أن نشرح ما أورده في الكتاب ثم نذكر ما ينبغي أن يعرف. فأما ترتيب ما في الكتاب فهو: أن للشافعي -رضي الله عنه- قولين في كيفية تعلق الزكاة. أحدهما: أنها في الذمة ولا تعلق لها بالعَيْن، لأنها عبادة وجبت ابتداء من جهة الشَّرْع فتتعلق بالذمة كالحج وصدقة الفطر وكذلك الكفارات. والثاني: أنها تتعلّق بالعَيْن. لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "في أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ" (¬1). وعلى هذا ففي كيفية التعلّق قولان: أحدهما: أن أهل السُّهْمَان يصيرون شركاء لربِّ المال في قدر الزَّكَاة؛ لأن الواجب يتبع المال في الصِّفة حتى يؤخذ من المراض مريضة ومن الصحاح صحيحة؛ ولأنه لو امتنع من إخراج الزَّكَاة أخذها الإمام من عين النّصاب قهراً كما يقسم المال المشترك قهراً، إذا امتنع بعض الشركاء من القسمة. والثاني: أنه يتعلق بالمال تعلق اسْتِيثَاق؛ لأنه لو صار مشتركاً لما جاز لربِّ المال الإخراج من موضع آخر كما لا يجوز للشَّريك أداء حق الشَّرِيك من غير مال الشّركة، وعلى هذا ففي كيفية الاسْتِيثَاق قولان: أحدهما: أنه يتعلَّق به تعلّق الدَّين بالرهن، بدليل أنه لو امتنع من أداء الزكاة ولم يوجد السن الواجبة في ماله كان للإمام بيع بعض النصاب وشراء السن الواجبة كما يباع المرهون لقضاء الدِّين. والثاني: أنه يتعلق به تعلق الأَرْش برقبة العبد الجاني؛ لأنه يسقط الواجب بهلاك النّصاب، ولو كان تعلُّقُها كتعلق الدين بالمرهون لما سقطت، ويخرج من ذلك عند الاختصار أربعة أقوال كما ذكر في الكتاب، ويجوز أن يُعَلَّم قوله: "فيه أربعة أقوال" بالواو؛ لأن إمام الحرمين ثم صاحب "البيان" حكياً عن ابْنِ سُرَيجٍ أنه لا خلاف في تعلقها بالعَيْن، وإنما التردد في كيفية التعلّق فتعود الأقوال على هذه الطريقة إلى ثلاثة. ¬
وعند مالك -رحمه الله- تتعلّق الزكاة بالعَيْن تعلق استحقاق وشركه ذلك أن تعلّم ما عدا هذا القول بالميم. وعند أبي حنيفة -رحمه الله- فيما رواه الصَّيدلانيّ وصاحب "الشامل" تتعلق تعلق الأَرْش برقبة الجاني، وهو إحدى الروايتين عن أحمد -رحمه الله تعالى- فيجوز أن يعلّم ما عدا هذا القول بالحاء والألف، واعرف بعد هذا أموراً: أحدها: أن عامة مشايخنا -رحمهم الله- لم يُوردوا إلاَّ قول الذِّمة وقول الشركة، وقالوا: الأول: قديم، والثاني: وهو الجديد الصحيح، واعتذروا عن جواز الإبدال استقلالاً بأن أمر الزَّكَاة مبني على المُسَاهلة والإرفاق، فيحتمل فيه ما لا يحتمل في سائر الأموال المشتركة، وصاحب الكتاب رجح القول الرابع، وهو أن تعلق الزكاة كتعلق الأَرْش فيجوز أن يقال: الكلامان مختلفان فيما هو الأصح في المسألة، ويجوز أن يقال: إنهم حكموا بكون الشَّركة أصح من قول الذمة، ولا يلزم منه أن يكون أصح على وجه الإطلاق، والأول أظهر. والثاني: أن إيراد الكتاب يقتضي كون الوجوب في الذمة قولاً برأسه، وتعلّق الرهن قولاً برأسه، وكذا نقل الإمام لكن العراقيين والصيدلاني والقاضي الرُّوياني والجمهور جعلوا الأمرين قولاً واحداً، فقالوا: إنها تتعلق بالذمة والمال مرتهن بها. وجمع صاحب "التَّتمة" بين الطريقين، فحكى وجهين في أنَّا إذا قلنا: بتعلّقها بالذمة، هل يجعل المال خلو أو نقول: هو رهن بها؟ والثالث: أنَّا إذا قلنا بثبوت استيثاق المرتهن أو قولاً برأسه أو جزءاً من قول الذِّمة، فهل يجعل جميع المال مرهوناً بها أو يخص قدر الزكاة بالرهن بها؟ فيه وجهان سنفرع عليهما، وكذا الخلاف إذا قلنا بثبوت تعلق كتعلق الأَرْش في أنه يتعلق بجميع النصاب أم بقدر الزكاة. وجميع ما ذكرناه فيما إذا كان الواجب من جنس المال. وأما إذا كان من غير جنسه كالشاة الواجبة في الإبل ففيه طريقان مذكوران في "التتمة" وغيرها: أحدهما: القطع بتعلقها بالذمة لتغاير الجنس. وأظهرهما: أنه على الخلاف السابق (¬1)، أما الاستيثاق فلا يختلف، وأما الشركة ¬
[القول في بيع مال الزكاة]
فسبيلها تقدير الاستحقاق بمقدار قيمة الشاة، وهذا الطريق هو الموافق لإطلاق الكتاب. قال الغزالي: وَعَلَيْهِ نُفَرِّعُ فَنَقُولُ: يَصِحُّ بَيْعُهُ قَبْلَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَلَكِنَّ السَّاعِي يَتْبَعُ المَالَ إِنْ لَمْ يُؤَدِّ المَالِكُ، فَإِنْ أَخَذَ السَّاعِي مِنَ المُشْتَرِي انْتَقَضَ البَيْعُ فِيهِ، وَفِي البَاقِي قَوْلاً تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَلِلْمُشْتَرِي الخِيَارُ قَبْلَ أَخْذِ السَّاعِي إِذَا عَرَفَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لِتَزَّلْزُلِ مِلْكِهِ، فَإِنْ أَدَّى المَالِكُ سَقَطَ خِيَارُهُ عَلَى الأَصَحِّ، وَلاَ يلْتَفَتُ إِلَى رُجُوعِ السَّاعِي بِخُرُوجِ مَا أَخَذهُ مُسْتَحِقاً. [القول في بيع مال الزكاة]: قال الرافعي: القول في بيع مال الزَّكَاة يتفرَّع على أصلين: أحدهما: ما ذكرنا أن الزكاة تتعلق بالعين أو بالذِّمة. والثاني: تفريق الصَّفقة وسيأتي في بابه إن شاء الله -تعالى جده- وتفصيله أنه إذا باع مال الزكاة بعد الحول وقبل إخراج الزكاة لم يَخْلُ إما أنْ يبيع جميع النصاب أو بعضه فَإِن باع جميعه فهل يصح في قدر الزكاة؟ يتفرع على الأقوال. إن قلنا: إن الزكاة في الذمة والمال خلو عنها فيصح، وإن قلنا: المال مرهون بها فقولان: أحدهما: وهو الذي ذكره إمام الحرمين أنه لا يصح؛ لأن بيع المرهون بدون إذن المرتهن باطل. وأصحهما: عند العراقيين وغيرهم أنه صحيح، لأن هذه علقة تثبت من غير اختيار المالك وليس ثبوتها لشخص معين فيتسامح فيها بما لا يتسامح في سائر الرهون وهذا كما إذا قلنا على قول الشركة بنينا الأمر على المُسَامحة وإن قلنا بالشركة فقد حكى القاضي ابن كَجّ طريقين عن ابن القطان: القطع بالبطلان. وعن أبي إسحاق وغيره: أن المسألة على قولين وهذا ما أورده أكثر العراقيين. أحدهما: الصحة؛ لأن ملك المساكين غير مستقر فيه فإن له إسقاطه بالإخراج من موضع آخر فإذا باعه فقد اختار الإخراج من موضع آخر. والثاني: البطلان؛ لأنه باع ما لا يملكه وهذا ما أجاب به صاحب "التهذيب" وعامة المتأخرين فيمكن أن يكون ذلك اختياراً منهم للقول الثاني على هذه الطريقة ويمكن أن يكون ذهاباً منهم إلى الطريقة الأولى. وإن قلنا: إن تعلّق الزكاة كتعلق الأرش ففي صحة البيع قولان كما في بيع العبد الجاني، فإن صححنا فيكون بالبيع ملزماً بالفداء -كما سيأتي بيانه في عوضعه-، ثم إذا حكمنا بالصحة في قدر الزكاة ففيما عداه
أولى، وإذا حكمنا بالبطلان فهل يبطل فيما عداه (¬1)؟ أما على قول الشركة ففيما عداه قولاً بتفريق الصفقة، وأما على قول الاسْتِيْثَاق فإن قلنا: حق الاستيثاق متعلق بجميع المال فالبيع باطل في الباقي أيضاً، ولا فرق إن قصرنا الاستيثاق على قدر الزكاة ففي الباقي قولا التفريق. قال في "النهاية": والقصر هو الحق الذي قاله الجمهور وما عداه هفوة، وهل تفترق الفَتْوَى فيما عدا قدر الزَّكَاة بين أن يكون قدر الزَّكَاة جزئية معلومة كالعشر في المعشرات وربع العشر في النَّقْدين وبين أن لا يكون كذلك كالشَّاة من الأربعين؟ هذا قد ذكره صاحب الكتاب في "باب تفريق الصفقة": وسنشرحه -إن شاء الله تعالى جدُّه- وحيث منعنا البيع في الثمار فذلك قبل الخَرْص، فأمَّا بعده فلا منع إذا قلنا: إن الخَرْص تضمين على ما سنبينه. التفريع: اعلم أن مجموع ما يحصل من الاختلافات التي ذكرنا ثلاثة أقوال: بطلان البيع في الكل وصحته في الكل، وبطلانه في قدر الزكاة وصحته في الباقي. أما الأول فلا يخفي حكمه، وأما الثاني فقد تعرض في الكتاب لتفريعه، وإن قصر السلام على القول الرابع، وأما الثالث فلم يتعرض له ونحن نذكرها جميعاً. أما إذا صححنا البيع في الجميع فإن أدَّى البائعُ الزكاةَ من موضع آخر فذاك وإلاَّ فللسَّاعي أن يبيع المال. الحاصل في يد المشتري فيأخذ الزكاة من عينه وفاقاً وهذا يضعف قول التَّعلُّق بمحض الذِّمَّة إذ لو كان كذلك لما كان له أن يتبعه كمن باع مالاً وفي ذمَّته دين مرسل ليس لصاحب الدين أن يبيعه، فإن أخذ السَّاعي الواجب من عين المال انفسخ البيع في قدر الزَّكَاة، وهل ينفسخ في الباقي؟ فيه الخلاف في تفريق الصَّفقَة في الدَّوام إن قلنا: ينفسخ استردَّ الثمن وإلاَّ له الخيار إن كان جَاهِلاً لتبعضُّ ما اشتراه إن فسخ فذاك، وإن أجاز في الباقي فيجيز بقسطه من الثمن أم بالجميع؟ فيه قولان: أصحهما: أولهما، ولو لم يأخذ الساعي الواجب منه، ولم يؤد البائع الزّكاة من غيره، فهل للمشتري الخيار إن اطَّلع على حقيقة الحال؟ فيه وجهان: ¬
أصحهما: نعم، لتزلزل ملكه وتعرضه لأخذ الساعي. والثاني: لا؛ لأن ملكه في الحال حاصل، والظَّاهر استمراره وأداء البائع للواجب من موضع آخر فإن قُلْنَا بالأول فإذا أخرج البائع الواجب من موضع آخر هل يسقط خياره؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم، وهو المذكور في "التهذيب" لحصول استقرار الملك، كما إذا اشْتَرَى معيباً ولم يرده حتى زال العيب لا يبقى له الرَّد. والثاني: لا يسقط؛ لأنه يحتمل أن يخرج ما دفعه إلى السَّاعي مستحقّاً فيرجع السَّاعي إلى عين المال والوجهان جاريان فيما إذا باع العبد الجاني ثم فداه السيد، هل يبقى للمشتري الخيار؟ أما إذا أفسدنا البيع في قدر الزكاة وصححناه في الباقي، فللمشتري الخِيَار بين فَسْخِ البيع في الباقي وإجازته، ولا يسقط الخيار بأداء البائع الزَّكَاة من موضع آخر؛ لأنه إن فعل ذلك فالقصد لا ينقلب صحيحاً في قدر الزَّكَاة، وإذا جاز فيجيز بقسط الباقي من الثمن، أو بالجميع فيه قولان كما ذكرنا وفي "النهاية" أن بعض الأصحاب قطع بأنه يخيَّرُ بجميع الثَّمن في المَوَاشي؛ لأن الشَّاة ليست معينة، ولا جزءاً معلوماً فاستحقاقها كَعَيْب شائع في الجميع، والمشتري إذا اطَّلع على عيب قديم، وأراد الإجازة فإنما يجيز بجميع الثمن، والصحيح الأول. هذا كله فيما إذا باع جميع النصاب. أما إذا باع بعضه نظر إن لم يستبق قدر الزَّكَاة فالحكم كما لو باع الكل. وإن اسْتَبقَى قدر الزَّكَاة، إما على قصد صرفه إلى الزَّكَاة أوَّلاً على هذا القصد، فإن فرعنا على قول الشركة ففي صحة البيع وجهان: أحدهما: أنه يصح؛ لأن ما باعه حقه. وأقيسهما: عند ابن الصباغ: المنع؛ لأن حق أهل السُّهْمَان شائع في الكل، فأي قدر باعه كان حقه وحقهم، وهذا الخلاف مبني على كيفية ثبوت الشركة (¬1)، وفيه وجهان حكاهما صاحب "التتمة" وغيره: ¬
أحدهما: أَنَّ الزَّكَاة شائعة في الكُلِّ متعلّقة بكلِّ واحدة من الشياه بالقسط. والثاني: أنَّ محل الاسْتِحْقَاق قدر الواجب ثم يتعين بالإخراج. وأما على قول الرهن فيبنى على ما قَدَّمنا أنَّ جميع المال مرهون أو المرهون قدر الزكاة، فعلى الأول لا يصح البيع، وعلى الثاني يصح. وأما على قولنا: أنَّ تعلق الزكاة كتعلّق الأرش فإن صححنا بيع العبد الجاني صَحَّ البَيْع، إلا فالتَّفْرِيع كالتَّفْرِيع على قول الرهن -والله أعلم-. أما لفظ الكتاب فيجوز إعلام قوله: "يصح بيعه قبل أداء الزكاة" بالواو؛ لأنه وإن تكلم على القول الرابع ففي صحة البيع على ذلك القول قولان كما في بيع العبد الجَانِي. وقوله: ولكن للساعي أن يتبع المال لا يختصّ بهذا القول، بل الحكم كذلك متى صححنا البيع على جميع الأقوال. وقوله: "إذا عرف ذلك على أحد الوجهين" تنبيه على أنه لو عرف الحال من الابتداء لم يكن له خِيَار. وقوله: "ولا يلتفت إلَى رجوع السَّاعي ... " إلى آخره إشارة إلى توجيه القول المقابل، وبيان أنه لا مبالاة به على الأصح، وهو كما لو أدى الزَّكاة ثم باع النِّصَاب، واعلم أن كلام الفصل أصلاً وشرحاً في بيع النّصب التي يجب فيها زكاة الأعيان، فأما بيع مال التجارة بعد وجوب الزكاة فيه فستأتي في بابها -والله أعلم-. قال الغزالي: وإذَا مَلَكَ أَرْبَعِيْنَ مِنَ الغَنَمِ فَتَكَرَّرَ الحَوْلُ قَبلَ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ فَزَكَاةُ الحَوْلِ الثَّاني وَاجِبَةٌ الثَّاني وَاجِبَةٌ إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الدَّيْنَ لاَ يَمْنَعُ وُجوبَ الزَّكَاةِ. قال الرافعي: هذه المسألة تنبني على أصلين سبقاً: أحدهما: أَنَّ الزكاة تتعلَّق بالعَيْن أو الذمة. والآخر: أن الدَّيْن هل يمنع الزَّكَاة أم لا؟ وصورتها أن رجلاً ملك أربعين من الغنم، فحال الحول عليها، ولم يخرج زكاتها حتى حال عليها حول آخر، ولا يخلو إما أن يحدث منها في كل حول سَخْلة فصاعداً أو لا يحدث منها شيء، فإن حدثت سَخْلة
فصاعداً فعليه لكل حول شاة بلا خلاف؛ لأنه مضى على نصاب كامل وإن لم يحدث شيء، وهذه الحالة هي المقصودة في الكتاب، فلا خلاف في لزوم الشاة للحول الأول، وهل تجب شاة للحول الثاني؟ فإن قلنا: الزَّكَاة تجب في الذمة وكان يملك غير النصاب ما يفي بشاة فنعم وإن لم يملك سوى النصاب شيئاً فينبني ذلك على أن الدَّيْن هل يمنع الزكاة أم لا؟ إن قلنا: يمنع لم يجب الحول الثَّاني شيء؛ لأن واجب الحول الأول دين في ذمته، وإن قلنا: الزَّكَاة تتعلق بالعَيْن على سبيل الشَّركة لم يجب للحول الثاني شيء؛ لأن أهل السّهمان ملكوا واحدة منها للحول الأول فانتقص النِّصاب. قال القاضي ابن كج وإمام الحرمين: وإنما لم تجب زكاة الخلطة؛ لأن الزكاة غير واجبة على أهل السّهْمَان فيما استحقوه، فالاختلاط معهم كهو مع المكاتب والذمي. وإن فرعنا على أن تعلّق الزكاة كتعلّق الرَّهْن أو كتعلّق الأَرْش فقد قال الإمام هو كالتفريع على قول الذِّمَّة وكلام الكتاب ينزل على التَّفْريع على القول الآخر، فإنه وعد في الفصل السابق بأنه عليه يفرع التفريع، ورأيت كلام الصيدلاني في التفريع على القول الآخر بخلاف ما ذكراه فإنه قال: إذا قلنا: إنها متعلقة بالعَيْن فيجب في العام الأول شاة وبعد ذلك لا يجب؛ لأن النصاب ناقص سواء جعلنا تعلقه بالعَيْن للاستيفاء كالجناية أو على معنى الشركة، وقياس المذهب ما ذكراه نعم يجوز أن يفرض خلاف في وجوب الزَّكَاة من جهة تسلّط الغير عليه، وإن قلنا: الدين لا يمنع الزَّكَاة على ما قَدَّمْنا نظائره، وبتقدير أن يكون كذلك فلا يختَصُّ بالقول الأخير بل يجري على قول الرَّهْن والذمة أيضاً ولو ملك خمساً وعشرين من الإبل ومضى عليها حولان، ولا نتاج فإن قلنا: الزكاة تتعلّق بالذمة، وقلنا: الدين لا يمنع الزَّكَاة أو كان له ما بقى بالواجب فعليه بنتاً مَخَاض، وإن قلنا بالشركية فعليه للحول الأول بنت مخاض وللثاني أربع شياة، وتفريع القولين الآخرين على قياس ما سبق، ولو ملك خمساً من الإبل، ومضى عبيه حولان بلا نتاج، فالحكم كما في الصُّوَرَتَيْن السَّابقتين، نعم قد ذكرنا أنَّ من الأصحاب مَنْ لا يثبت قول الشَّركة فيما إذا كان الواجب من غير جنس الأصل، فعلى هذا يكون الحكم في هذه الصورة مطلقاً كما في الأوليين تفريعاً على قول الذمة. والظاهر وهو اختيار المزني: أنه لا فرق بين أن يكون الواجب من جنس المال أو لا من جنسه، ولهذا يجوز للسَّاعي أَنْ يبيع جزءاً من الإبل في الشَّاة، فدل ذلك على تعلّق الحق بعينها، وإذا تعلّق بعينها فكما يجوز أن يملك أهل السّهمان قدر الزَّكَاة إذا كان من جنس المال يجوز أن يملكوه إذا كان من غير الجنس. قال الغزالي: وَلَوْ رُهِنَ مالُ الزَّكَاةِ صَحَّ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الحَوْلِ وَقُلْنَا: الدَّيْنُ مَعَ الرَّهْنِ لاَ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ أُخْرِجَتِ الزَّكَاةُ مِنْ عَيْنِ المَرْهُونِ عَلَى الأَصَحِّ تَقْدِيماً لِحَقِّ الزَّكَاةِ
القول في رهن المال الزكوي
عَلَى الرَّهْنِ كمَا يُقَدَّمُ حَقُّ الجَانِي، ثُمَّ لَوْ أَيْسَرَ المَالِكُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْبُرَ لِلْمُرْتَهِنِ قَدْرَ الزَّكَاةِ بِبَذْلِ قِيمَتِهِ لِيَكُونَ رَهْنًا عِنْدَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. القول في رهن المال الزكوي: قال الرافعي: رهن مال الزَّكَاة إما أن يكون بعد تمام الحَوْل أو قبله، وقد ذكر الحالتين في الكتاب. فالأولى: قوله: "ولو رهن مال الزكاة صح". واعلم أن القول في صحة الرهن في قدر الزكاة كالقول في صحة بيعه، فيعود فيه جميع ما قدمناه، ويحتاج إلى إعلام قوله: "صح" بالواو لمثل ما ذكرناه في البيع، ثم إذا صَحَّحناه في قدر الزَّكَاة ففيما عداه أَوْلَى، وإنْ أبطلناه في قدر الزَّكَاةَ فَالحُكْمُ فيما عداه يترتب على البيع أن صححنا البيع فالرهن أولى وإن أبطلناه ففي الرهن قولان مبنيان على العلَّتين المشهورتين لقول فساد التفريق. إن منعنا التفريق لاتحاد الصِّيغة وفسادها في بعض مواردها بطل الرَّهن أيضاً، وإن عللنا باتِّحاد العوض لم يبطل، ويخرج مما ذكرناه طريقة جازمة بصحَّة الرَّهن فيما عدا قدر الزَّكاة وبها قال ابْنُ خَيْرَانَ: ثم إن صححنا الرهن في الجميع، ولم يؤدِّ الزكاة من موضع آخر كان للسَّاعي أخذها منه، فإذا أخذ انفسخ ارَّهْن فيه، وفي الباقي الخلاف فيما تقدم في البيع، وإن أبطلناه في الجميع أو في قدر الزكاة خاصّة، وكان الرهن مشروطاً في بيع ففي فساد البيع قولان، وإن لم يفسد فللمشتري الخيار ولا يسقط خياره بأداء الزكاة من موضع آخر. الحالة الثانية: أن يرهن قبل تمام الحَوْل، ثم يتم الحول، فقد ذكر في وجوب الزكاة فيه خلافاً في الكتاب قبل هذا وشرحناه، والرهن لا بد أن يكون بدين، وفي كون الدين مانعاً من الزكاة الخلاف المشهور. فإن قلنا: الرهن لا يمنع الزكاة قلنا: الدين أيضاً لا يمنع، أو قلنا: إنه يمنع لكن كان له مال آخر يفي بالدين وجبت الزكاة وإلاَّ لم تجب. إذا عرف ذلك فلا يخلو إما أن لا يملك هذا الراهن مالاً آخراً، أو يملكه، فإن لم يملك فهل تؤخذ الزكاة من عين المرهون؟ ينبني ذلك على كيفية تعلّق الزكاة. إن قلنا: تتعلق بالذمة فعن أبي علي الطَّبَرِي وغيره أنه قد اجتمع هاهنا حق الله تعالى وحق الآدمي، فيخرج على الأقوال الثلاثة في اجتماعها، فإن سوينا بينهما وزعنا، وعن أكثر الأصحاب أنه يقدم الرهن؛ لأنه أسبق ثبوتاً، والمرهون لا يرهن، وهذا الوجه
الثاني حكاه الإمَام -رضي الله عنه- عن شيخه تفريعاً على قول الرهن ثم إنه خالفه، واختار تقديم الزَّكَاة. واعلم: أن الذين حكوا الوجهين تفريعاً على قول الذِّمة العراقيون القائلون بأن المال مرتهن بالزَّكَاة على قول الذِّمة فأما من محض تعلّقها بالذِّمة فينبغي أن ينقطع بامتناع الأخذ من المرهون كسائر الديون المرسلة، وإن قلنا بالشركة فتؤخذ الزكاة من عين المرهون وكذا إن قلنا: إن تعلق الزكاة كتعلق الأَرْشِ كما تَقَدَّم حقُّ المَجْنِي عليه على حقّ المرتهن، ويحصل عند الاختصار مما حكيناه وجهان كما ذكر في الكتاب. أصحهما: الأخذ من عَيْنِ المرهون، وعلى هذا لو كانت الزكاة من غير جنس المال كالشَّاة في الإبل يباع جزء من المال في الزكاة، وهذا هو الطريق المشهور، وهو المحكي عن أبي إسحاق وعن ابْن أبي هريرة، وأبي حامد القاضي أنه إذا لم يكن له مَالٌ آخر تؤخذ الزَّكَاة من عين المرهون بلا خلاف إن كان الواجب من جنس المال، وإنما يكون الخلاف فيما إذا كان من غير جنسه، والفرق أنه إذا كان الواجب من غير جنس الأصل لم يكن متعلقاً بعينه، حكى ذلك عنهما القاضي ابن كجٍّ في أثناء طريقتين بينهما بعض الاختلاف، ثم إذا أخذت الزكاة من غير المرهون، وأيسر المالك الراهن بعد ذلك، فهل يغرم قدر الزكاة ليكون رهناً عند المرتهن. إن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة فنعم، وإن قلنا: تتعلق بالعين فوجهان: أحدهما: نعم، لانصرافه إلى مصلحة براءة ذمته. وأظهرهما: لا، لتعلقه بالمال بغير اختياره، وهذان الوجهان بناهما الشيخان أبو محمد والصيدلاني على أن الزكاة المخرجة من مال القرَاض على قولنا: العامل لا يملك الربح إلا بالقسمة معدودة من المؤن، أو هي كطائفة من المال يستردها المَالك، إن قلنا: بالأول لم يجب على الراهن الجبر، وإن قلنا بالثاني فيجب، وليس هذا البناء على التقدير الأول بواضح، فإن مؤنات المرهون على الرَّاهِنِ لا من نفس المَرْهُون بخلاف مؤنه مال القرض، فإنها من الربح، هذا كله فيما إذا لم يملك مالاً آخر، فأما إذا ملك مالاً آخر فالَّذِي قاله الجمهور، أن الزكاة تؤخذ من سائر أمواله، ولا تؤخذ من عين المرهون؛ لأنها من مؤنة المال فأشبهت النفقة، وعن أبي علي الطبري وآخرين: أنا إذا أوجبنا الزكاة في عين المال أخذناها من المرهون وإن ملك مالاً آخر، وهذا هو القياس كما لا يجب على السَّيِّد فداء العَبْد المرهون إذا جنى، وأبدى الإمام من عند نفسه تردداً في المسألة مبنيًا على وجوب الجَبْران في سورة الإِعْسَار إن قلنا: إن المعسر إذا أيسر لزمه الجَبْر وجب على الموسر ابتداء أداء الزكاة من مال آخر وإن قلنا: لا يلزمه الجبر لم يجب. وقوله في الكتاب: "أخرجت الزكاة من عين المرهون على الأصح" أراد به ما
القول في زكاة المعشرات
إذا لم يملك الراهن مالاً آخر دون ما إذا ملك، وإن كان اللفظ مطلقاً، والخلاف في الحالتين ثابت بدليل قوله من بعد: "ثم لو أيسر المالك" ويجوز أن يعلم قوله: "على الأصح" بالواو؛ لأن فيه إثبات الخلاف على الإطلاق، وعلى ما قدمنا روايته عن ابن أبي هريرة وأبي حامد تخرج الزكاة من عين المرهون بلا خلاف في بعض الأحوال، واعلم أن هذه المسألة ليست تفريعاً من حجّة الإسلام على القول الرابع فحسب بخلاف المسائل التي قبل هذه؛ لأنه ذكر الخلاف فيها، ولا يجيء الخلاف فيها إذا أفرد القول الرَّابع بالنظر وهو أن تعلّق الزَّكَاة كتعلّق الأَرْش، وإنما يجئ إذا نظرنا إلى غير هذا القول أيضاً على ما سبق. وقوله: "يبذل قيمته" أراد في المَواشي فإنها غير مثلية، فأما إذا كان النصاب من جنس المثليَّات كان الجبر بذل المثل على ما هو قاعدة الغَرَامَات، وقد صرح بذلك صاحب "التهذيب" وغيره -[والله أعلم]-. قال الغزالي: النَّوْعُ الثَّانِي زَكَاةُ المُعَشَّرَاتِ وَالنَّظَرُ فِي المَوْجِبَ وَالوَاجِبِ وَوَقْتِ الوُجُوب الطَّرَفُ الأوَّلُ المُوجِبُ وَهُوَ مَقْدَارُ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ كُلِّ مُقْتَاتِ (ح م) فِي حَالَةِ الاخْتِيَارَ (م) أنْبَتَتْهُ أَرْضٌ مَمْلُوكَةٌ أَوْ مُسْتَأْجِرَةٌ (ح)، خَرَاجِيَّةٌ (ح) أَوْ غَيْرُ خَرَاجِيَّةٍ إِذَا كَانَ مَالِكُهُ مُعَيِّناً (ح) حُرًّا (ح) مُسْلِماً (ح)، وَلاَ زَكاةَ عَلَى الجَدِيدِ فِي الزَّيْتُونِ وَالوَرْسِ وَالعَسَلِ (ح) وَالزَّعْفَرَانِ وَالعُصْفُرِ، كَمَا لاَ زَكَاةَ فِي الفَوَاكِهِ (ح) وَالخَضْرَوَاتِ، وَلَكِنْ يَجِبُ فِي الأُرْزِ وَالمَاشِ وَالبَاقِلاَّ وَغَيْرِهَا مِنَ الأَقْوَاتِ، وَالنِّصَابُ مُعْتَبِرٌ وَهُوَ ثَمَانِ مَائَةِ مَنٍّ فَإِنَّ الوَسْقَ سِتُّونَ صَاعاً، وَكُلُّ صَاعٍ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ، وَكُلُّ مُدٍّ رَطْلٌ وَثُلْثٌ بِالْبَغْدَادِيِّ، وَالرَّطْلُ مَائَةٌ وَثَلاَثونَ دِرْهَماً، وَالمَنُّ مَائَتَانِ وَسَتُّونَ دِرْهَماً، وَالرَّطْلُ نِصْفُ مَنٍّ وَهُوَ اثْنَتَا عَشْرَةَ أَوْقِيَةً، وَالأُوقِيَّةُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَأَرْبَعَةُ دَوَانِيقَ، وَالدِّرْهَمُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطاً، كُلُّ ذَلِكَ بِالوَزْنِ البَغْدَادِيِّ، فَإِنْ جَعَلْنَا ذَلِكَ تَقْرِيباً لاَ تَحْدِيداً فَلاَ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ إِلاَّ بِمِقدَارٍ لَوْ وُزِّعَ عَلَى الأوْسُقِ الخَمْسَةِ لَظَهَرَ النُّقْصَانُ. القول في زكاة المعشرات: قال الرافعي: حصر كلام هذا النوع في ثلاثة أطراف في أنه بِمَ يجب؟ وكم يجب؟ ومتى يجب؟ فأما على مَنْ يجب، فعلى ما سبق في النوع الأول، وقد أدرجه في ضبط الموجب هاهنا أيضاً. أما الطرف الأول فيحتاج فيه إلى معرفة جنس الموجب وقدره وأمور أخر نذكر جميعها في مسائل:
المسألة الأولى: تجب الزكاة في الأَقْوَات وهي من الثِّمَار ثمر النَّخل والكَرْم، ومن الحُبوب الحِنْطَة والشَّعِير والأُرْز (¬1) والعَدَس (¬2) والحِمَّص (¬3) والبَاقِلاَّء (¬4) والدُّخْن (¬5) والذُّرَة (¬6) واللُّوبيَا (¬7)، وتسمى الدُّخْن أيضاً والمَاش (¬8) والهُرْطُمَان (¬9). قال أبو القاسم الكرخي: وهو الجُلْبَان والجُلْبَان والخُلَّر واحد فيما ذكر صاحب "الشافي" (¬10)، وروى الأزهري عن أبي الأعرابيّ: أن الخُلَّر هو المَاش، فإن ثبتت المقدمتان فالهُرْطُمَان، والمَاش والخُلَّر والجُلْبَان عبارات عن معبر واحد، ووجه وجوب الزكاة في هذه الأجناس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ الزكاة في كثير منها (¬11)، والحِقَ الباقي به لشمول معنى الاقتيات لجميعها وصلاحها للاقتناء والادخار وعظم المنافع فيها. وأما ما سوى الأقوات فلم يختلف قول الشَّافعي -رضي الله عنه- في معظمها أنه لا زكاة فيه سواء كان من الثِّمَار أو الحُبُوب أو الخضروات وذلك كالتِّين والسَّفَرْجَل والخُوخ والتُّفَّاح والرُّمَّان وغيرهما وكالقُطْن والكِتَّان والسِّمْسِم والإسبيوش (¬12) وهو ¬
المعروف ببزر قطوناً والثّفاء (¬1) وهو حب الرّشَاد والكَمُّون والكُزْبُرَة والبَطِّيخ والقِثَّاء والسَّلْق والجَزَرِ والقُنَّبيط وحبوبها وبذورها، واختلف قوله قديماً وجديداً في أشياء منها الزَّيْتُون فالجديد الصحَيح: أنه لا زكاة فيه كالجُوزِ واللُّوز وسائر الثمار، وأيضاً قد روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصَّدَقَةُ فِي أَرْبَعَةٍ فِي التَّمْرِ والزَّبِيبِ والشَّعِيرِ وَالْحِنْطَةِ، وَلَيْسَ فِيمَا سِوَاهَا صَدَقَةُ" (¬2). هذا الخبر ينفي الزكاة في غير الأربعة، لكن ثبت أخذ الصَّدَقَة من الذُّرة وغيرها بأمر رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأقوات (¬3) وتمسكنا به فيما عداها. قال في القديم: تجب الزَّكَاة في الزيتون، لما روي عن عمر -رضي الله عنه- وغيره؛ أن "فِي الزَّيْتُون الْعُشْر" (¬4). وبه قال مالك -رحمه الله -تعالى فعلى هذا وقت الوجوب بدو الصَّلاح فيه وهو نضجه واسوداده، ويعتبر النصاب كما في الرُّطَب والعِنَب، هكذا قاله الجمهور، وحكى القاضي ابن كجٍّ أن ابن القَطَّان خرج اعتبار النِّصَاب فيه، وفي جميع ما يختص القديم بإيجاب الزكاة فيه على قولين، ثم إنْ كان الزَّيْتُون مِمَّا لا يجيء منه الزَّيت كالبَغْدَادي أخرج عشرة زيتوناً، وإن كان مما يجيء منه الزيت كالشَّامي فعن ابن المَرُزَبَان حكاية وجهين في جوز إخراج الزيتون. وجه المنع: أن نهاية أمره الزَّيْت فيتعيَّن الإخراج، كالتمر مع الرّطب. والصحيح عند المعظم وهو نصه في القديم: جواز إخراج الزيتون، لإمكان ادخاره ولو أخرج الزيت فهو أولى، وروى إمام الحرمين وجهاً آخر: أنه يتعين إخراج الزَّيْتون، وعلل بأن النصاب يعتبر فيه دون الزَّيْت بالاتفاق. ومنها الوَرْسُ (¬5) والزَّعْفَران والورس شجر يخرج شيئاً كالزَّعْفَران فلا زكاة فيهما على الجديد لما سبق. ونقل عن القديم: أنه يجب فيه الزكاة إن صح حديث أبي بكر -رضي الله عنه- ¬
وهو ما روي أنه كتب إلى بني خفاش: "أَنْ أَدُّوا زَكاةَ الذُّرَةِ وَالْوَرْسِ" (¬1). ثم قال في القديم: من قال في الوَرْس العشر يحتمل أن يقول بمثله في الزَّعْفَرَان لاشتراكهما في المنفعة والفائدة، ويحتمل أن لا يوجب فيه شيئاً؛ لأن الوَرْسَ ثمرة شجرة لها ساق والزعفران نبات كالخضروات. فقال الصَّيدلاني وغيره: له في الوَرْس قولان في القديم: لأنه مِثْل، وعلق بثبوت حديث أبي بكر -رضي الله عنه- والزعفران باتفاق الأصحاب مرتب على الوَرْس إن لم تجب فيه ففي الزعفران أولى، وإن وجب ففي الزعفران قولان، وإن أوجبنا فيهما الزكاة ففي اعتبار النصاب ما سبق من الخلاف، والأكثرون على عدم الاعتبار هاهنا؛ لأن الأثر الوارد مطلق، والغالب أنه لا يحصل الواحد منهما قدر النصاب، فدل أنه كان يؤخذ من القليل والكثير. ومنها العَسَل، فالجديد أنه كما سبق، وبه قال مالك لما روى أن معاذاً لم يأخذ زكاة العَسَل (¬2)، وقال: "لَم يَأمُرْنِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِيهِ بِشَيْءِ". وعن علي (¬3)، وابن عمر (¬4) -رضي الله عنهم-: "أنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِيهِ". وعن أبي إسحاق أن الشافعي -رضي الله عنه- علق القول فيه في القديم لما روي أن أبا بكر -رضي الله عنه-: "كَانَ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ مِنْهُ". وروى فيه الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬5) أيضاً. فإن قلنا بالوجوب فاعتبار النِّصَاب فيه كما سبق (¬6)، ومذهب أحمد وجوب الزكاة فيه. وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-: إذا أخذه من غير أرض الخراج، وذهب الشيخ أبو حامد وغيره إلى أنه قطع القول بنفي الزكاة فيه قديماً وجديداً، فيحصل فيه طريقان (¬7): ¬
ومنها: حَبّ العُصْفُر وهو القُرْطُم (¬1)، فالجديد كما سبق، والقديم وجوب الزكاة فيه، لما روي أن أبا بكر -رضي الله عنه-: "كَانَ يَأْخُذُ مِنْهُ" (¬2). فعلى هذا الظَّاهر اعتبار النِّصَاب فيه، كما في سائر الحُبُوب، والعُصْفُر نفسه هل يجري فيه الخلاف؟ قال أبو القاسم الكرخِيُّ: لا، والخلاف في الحَبِّ، وأجرى القاضي ابن كج الخلاف فيه، وفي الحب ويمكن تشبيهه بالوَرْسِ والزَّعْفَرَانِ. ومنها: التِّرْمس (¬3) وهو فيما ذكره الصَّيْدَلاَني وصاحب "التهذيب" شبيه بِالبَاقِلاً، لكنه أصغر منه. وقيل: هو شبيه باللُّوبيَا ولا زكاة فيه على الجديد؛ لأنه لا يقتات إنما يؤكل تَداوياً يقال: إنه يهيج البَاءَة، وحكى العراقيون عن القديم: أنه يجب فيه الزكاة لشبهة بالبَاقِلاَّ واللُّوبِيَا. حب (¬4) الفُول، حكى القاضي ابن كج وجوب الزكاة فيه على القديم، ولم أر هذا النقل لغيره وليس في الفرق بينه وبين حبوب سائر البقول معنى معقول. المسألة الثانية: لا يكفي في وجوب الكاة كون الشيء مقتاتاً على الإطلاق، بل المعتبر أن يفتات في حالة الاختيار وقد يقتات الشيء للضرورة، فلا زكاة فيه، ومثله الشَّافعي -رضي الله عنه- بالغثِّ وحب الحَنْظَل وسائر البذور البريّة وشبهها بالظِّبَاء وبقر الوَحْش لا زكاة فيهما؛ لأن الآدميين لا يَسْتَبِيحُونَها ولا يتعهدونها، كذلك هذه الحبوب. واختلفوا في تفسير الغثّ (¬5)، فعن المزنِيِّ وطائفة: أنه حب الغَاسُول وهو ¬
الأَشْنَان؛ ولأنه إذا أدرك وتناهى نُضْجُه حصلت فيه مَرَارَة وحُمُوضَة، وربما اقْتَاتها المضطرون. وقال آخرون: إنه حَبٌّ أسود يابس يدفن حتى تلين قشرفه ثم يزال قشره ويطحن ويخبز ويقتاته أعراب "طيء" واعلم أن الأئمة ضبطوا ما يجب العشر فيه بوصفين. أحدهما: أن يكون قوتاً. والثَّاني: أن يستنبته الآدميون أي يكون من ذلك الجنس. وقالوا: إن فقد الأول كما في الإسبيوش (¬1). والثاني كما في الفثّ أو كلاهما كما في الثّفَاء فلا زكاة، وإنما يحتاج إلى الوصف الثاني من لم يتعرض لكونه مقتاتاً في حال الاختيار بل أطلق الاقتيات، فأما من تعرض لذلك فهو غني عن ذكر الوصف الثَّاني إذ ليس فيهما لا يستنبت، أي شيء يقتات اختياراً، واعتبر العراقيون مع هذين الوصفين وصفين آخرين: أحدهما: أن يدَّخر. والثاني: أن ييبس ولا حاجة إليهما، فإنهما لازمان لكل مقتات مستنبت. المسألة الثالثة: النصاب معتبر في المعشرات، وهو قدر خمسة أَوْسُق. وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: يجب العشر في القليل والكثير، لكن له أن يفرق بنفسه فيما دون خمسة أوسق، فإذا بلغها دفع إلى الإمام. لنا ما روي أبو سعيد الخدرى -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ" (¬2). الْوَسْقُ: سِتُّونَ صَاعاً (¬3) [وقد نقل ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من رواية جابر وغيره، والصَّاع أربعة أمداد والمدّ: رطل وثلث فيكون المد ثلثي مَنّ] (¬4) والصَّاع: خمسة أرطال وثلث رطل، وهي مَنَوَان وثلثا مَنٍّ، ويكون الوَسْق الواحد مائة وستين مَنًّا، وجملة ¬
الأَوْسُق الخمسة ثلاثمائة منّ، وهذا بالمنِّ الصغير وبالكبير -أعني- الذي وزنه ستمائة درهم يكون ثلثمائة مَنٍّ وستة وأربعين منًّا، وثلثي مَنٍّ، وهل يعتبر القدر المذكور تقريباً أم تحديداً؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو الذي ذكره الصيدلاني تقريباً؛ لأن الوَسْق عبارة عن حمل بعير، وذلك قد يزيد وينقص، وإنما قدر بستين صاعاً تقريباً، وأخذاً بالوسط. وأصحهما عند المحاملي والأكثرين: أنه تحديد، لما روي عن عائشة -رضي الله عنه- أنها قالت: "جَرَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ" (¬1). ولأن نصاب المواشي وغيرها معتبر على التحديد، فكذلك هاهنا، فإن قلنا الأول احتمل نقصان القدر القليل كالرطل والرطلين، وحاول إمام الحرمين (¬2) ضبطه، فقال: الأوساق هي الأَوْقَار، والوَقر المقتصد مائة وستون مَنًّا، فكل نقصان لو زرع على الأَوْسُق الخمسة لم تعدّ منحطة عن حد الاعتدال، فلا يضر، وإن عدت منحطّة عن حد الاعتدال لم يحتمل، وإنْ أشكل الأمر فيجوز أن يقال: لا زكاة إلى أن تتحقق الكثرة، ويجوز أن يقال: يجب لبقاء الأوسق، وتعليق الزكاة بها في الخبر الذي رويناه قال: وهذا أظهر، ثم جرى في أثناء كلامه أن الاعتبار فيما علَّقه الشَّارع بالصَّاع والمدّ بمقدار موزون يضاف إلى الصَّاع، والمدّ لا بما يحوي البُرّ ونحوه وذكر القاضي الرويانيُّ وغيره: أن الاعتبار بالكيل لا بالوزن. قال أبو العباس الجرجاني: إلا العَسَلَ إذا أوجبنا الزكاة فيه فالاعتبار فيه بالأَرْطَال؛ لأنه لا يكال وهذا هو الصحيح، وسيأتي شواهده ومنها قوله في المختصر: "مكيلة زكاة الفطر" هذه الترجمة تشعر بأن المعتبر الكيل، وعلى هذا توسط في "العدة" بين وجهي التقريب والتحديد، فقال: هو على التحديد في الكيل، وعلى التقريب في الوزن، وإنما قدره العلماء بالوزن استظهاراً (¬3). ¬
المسألة الرابعة: لا فرق بين ما تنبته الأرض المملوكة، وما تملكه الأرض المكتراة في وجوب العشر، ويجتمع على المكتري العشر والأجرة كما لو اكترى حانوتاً للتجارة يجب عليه الأجرة وزكاة التجارة جميعاً، وعند أبي حنيفة -رحمه الله- العشر على المكري؛ لأن العشر عنده حق الأرض، وعلى هذا الأصل يبنى الخلاف في اجتماع العشر والخراج، فعندنا هما يجتمعان، وعنده لا عشر فيما تنبته الأَرْضُ الخراجية. لنا: أْنهما حقان وجبا بسببين مختلفين فلا يمنع أحدهما الآخر كالقيمة والجزاء في الصَّيد المملوك، ثم قال الأصحاب: وإنما تكون الأرض خراجية في صورتين: أحدهما: أن يفتح الإمام بلدة قهراً ويقسمها بين الغانمين ثم يبدلهم عنها، ويقفها على المسلمين ويضرب عليها خراجاً، كما فعل عمر -رضي الله عنه- بسواد العِرَاق على الصَّحيح (¬1) وفيه لابن سريج: خلاف مذكور في موضعه. والأخرى: أن يفتح بلدة صلحاً على أن تكون الأراضي للمسلمين ويسكنها الكفار بخراج معلوم، فالأراضي فيّ للمسلمين والخراج عليها أجرة لا يسقط بإسلامهم، وكذا لو انجلى الكفار عن بلدة، وقلنا: إن الأراضي تفسير وقفًا على مصالح المسلمين ¬
فيضرب عليها خراج يؤديه مَنْ يسكنها مسلماً كان أو ذمياً، فأما إذا فتحت بلدة صلحاً، ولم يشترط كون الأراضي للمسلمين، ولكن مكثوا فيها بخراج فهذا يسقط بالإسلام فإنه جزية، وعند أبي حنيفة لا يسقط، والبلاد التي فتحت قهراً وقسمت بين الغانمين واستبقيت في أيديهم، وكذا الذي أسلم أهلها عليها، والأراضي التي أحياها المسلمون عشرية محضة، وأخذ الخراج منها ظلم. فرع: النَّواحي التي يؤخذ الخَرَاج منها، ولا يعرف كيف كان حالها في الأصل، حكى الشيخ أبو حامد عن نص الشافعي -رضي الله عنه- أنه يستدام الأخذ منها، فإنه يجوز أن يكون الذي افتتحها صنع بها ما صنع عمر -رضي الله عنه- بسواد العراق، والظاهر: أن ما جرى طول الدَّهْر جرى بحق. فإن قيل: فهل يثبت فيها حكم أراضي السواد من امتناع البيع والرهن؟ قيل: يجوز أن يقال الظاهر في الأخذ كونه حقاً، وفي الاْيدي الملك فلا نترل واحداً من الظاهرين إلا بيقين ولهذا نظائر. فرع: الخراج المأخوذ ظلماً لا يقوم مقام العشر، فإن أخذ السُّلْطان على أن يكون بدلاً عن العشر فهذا كأخذ القيمة في الزَّكَاة بالاجتهاد، وقد حكوا في سقوط الفرض به وجهين، الذي ذكره في "التتمة" أنه يسقط، فإن لم يبلغ ذلك قدر العشر أخرج الباقي. وفي "النهاية" أن بعض المصنفين حكى قريباً من هذا عن أَبِي زيد المروزي واستبعده (¬1). ونعود بعد هذا إلى ما يتعلَّق بلفظ الكتاب. أما قوله: "وهو مقدار خمسة أوْسق" معلم بالحاء؛ لأن عنده لا حاجة إلى التَّقييد بهذا المقدار. وقوله: "في كل مقتات" بالحاء والميم والألف؛ لأن عندهم لا يتقيد الوجوب بالأقوات، بل عند أبي حنيفة يجب في جميع الثمار والخضروات والحبوب التي تنبتها الآدميون إلا الحَشِيش والقَصَب والحَطَب. وعند مالك يجب في كل ما تعظم منفعته ويدخر كالسِّمْسم، وبذر الكِتَّان، والقُطْن. وعند أحمد يجب في جميع الثمار والحبوب التي تكال وتدخر سواء النابت بنفسه والمستنبت. وقوله: "في حال الاختيار" يحصل به الاحتراز عن "الغثّ" وغيره مما يقتات عند الضَّرورة، وذكر في "الوسيط" أنه احترز به عن الثّفَاء والتِّرْمِس، فإن العرب تَقْتاته في حالة الاضْطِرار، وأورد الإمام نحواً من ذلك، والذي قاله الجمهور في الثّفَاء والتِّرْمِس ما قدمنا ولم يجعلوهما مما يُقْتات، وعدّ الأزهري كليهما مما لا يقتات والله أعلم. ¬
وقوله: "أو مستأجره" وكذا قوله: "خراجية" مرقومان بالحاء؛ لأن عنده لا يجب العشر على مالك الأوسق الخمسة المرفوعة منهما. وقوله: "إذا كان مالكه معيناً" احترز به عن ثمار البستان وغَلّة الضّيعة الموقوفين على المَسَاجد، والرّبَاطَات والقَنَاطِرِ والفُقَراء والمَسَاكين، فلا زكاة فيها إذ ليس لها مالك معين، ويجوز أن يعلّم بالواو؛ لأن صاحب "البيان" حكى أن ابن المنذر روي عن الشَّافعي -رضي الله عنه- وجوب الزكاة فيها، وإليه ذهب أبو حنيفة بناء على ما سبق أن العشر حق الأرض، وأوجبه على المُكَاتب والذمي أيضاً، فليكن قوله: "معيناً حراً مسلماً" مُعَلَّماً جميعها بالحاء، فأما إذا كان الوَاقِف على جماعة معينين فقد كتبناه في "باب الخلْطَة" (¬1). وقوله: "فلا زكاة على الجديد في الزيتون ... " إلى قوله: "والعُصْفر"، لتكن جميعها مُعَلّماً بالحاء، وكذا قوله: "كما لا زكاة في الفواكه لما قدمنا والزيتون" بالميم أيضاً، "والعَسَل" بالألف أيضاً لما مضى. ولك أن تُعَلّم قوله: "على الجديد" بالواو؛ لأنه يقتضي إثبات القولين في الأشياء المذكورة من الزيتون إلى العُصْفُر، وقد ذكرنا في العَسَل طريقة نافية للخلاف، بل حكى القاضي ابن كَجٍّ فيما سوى الزيتون طريقة نافية للخلاف قاطعة بالوجوب، وفي جريان الخلاف في العُصْفُر أيضاً كلام قد تقدم. وقوله: "النِّصاب معتبر"، وتعاد العلامة عليه بالحاء، وقد وقع التعرض له في أول الكلام حيث قال: "وهو مقدار خمسة أَوْسُق" لكن القصد ذكر هذا الموضع، وإن اعترض ذكره ثم؛ لأنه حاول استيعاب الأمور التي عندها يثبت الوجوب. وقوله: "فإن جعلنا هذا تقريباً لا تحديداً" يتضمن بيان الخلاف كما يصرح بتفريع التقريب. قال الغزالي: ثُمَّ هَذِهِ الأَوْسُقُ تُعْتَبَر تَمْراً أَوْ زَبِيباً، وَفِي الحُبُوبِ مُنَقَّى عَنِ القِشْر إلاَّ فِيمَا يَطْحَنُ مَعَ قِشْرِهِ كَالذُّرَةِ، وَمَا لاَ يُتَتَمَّرُ يُوسَقُ رُطباً (و) قال الرافعي: غرض الفصل بيان الحالة الّتي يعتبر فيها بلوغ المعشر خمسة أوسق. فأما في ثمر النَّخيل والكرم فيعتبر بلوغه هذا المقدار تَمْراً وزبيباً لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- ¬
قال: "لَيسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ" (¬1). اعتبر الأوسق من التمر. وعن أحمد رواية أنه يعتبر الأوسق رطباً ويؤخذ عشرة يابساً، والأصح عنه مثل مذهبنا، فإن كان له رطب لا يتخذ منه تمر، ففي كيفية اعتبار النِّصَاب فيه وجهان: أظهرهما: أنه يوسق رطباَ؛ لأنه ليس له حالة جفاف وَرُطُوبته أكمل أحواله فلا ينظر إلا إليها. والثاني: أنه يعتبر حالة الجَفَاف كما في سائر الأنواع، وعلى هذا فالاعتبار بنفسه أم بغيره؟ فيه وجهان: أحدهما: بنفسه، فيعتبر بلوغ يابسه نصاباً، وإن كان حَشَفاً قليل الخير. والثاني: أنه يعتبر بأقرب الأرْطَاب إليه. فيقال: لو كان بدله ذلك النَّوْع الَّذِي تجفف، هل كان يبلغ ثمره نصاباً؟ لأنه لما لم يمكن اعتباره بنفسه اعتبر بغيره كالجناية على الحُرِّ إذا لم يكن لها أَرْشُ مقدر، وهذا إذا كان يجئ منه تمر وإن كان حشفاً رديئاً، فأما إذا كان يفسد بالكُلِيّة لم يجيء فيه الوجه الثاني، ولفظ الكتاب إلى هذا أقرب؛ فإنه قال: "وما لا يتتمر" ولم يقل: وما لا يتمر، وكيف ما كان فقوله: "بوسق رطباً" معلم بالواو والعِنَب الَّذِي لا يتزيب كالرُّطَب الذي لا يتتمّر ولا خلاف في ضم ما لا يجفف منهما إلى ما يجفف في إكمال النِّصَاب. قال في "التهذيب": ثم في أخذ الواجب من الذي لا يجفف إشكال ستعرفه، ووجه الخلاص فيه في مسألة إصابة النخيل العطش إن شاء الله تعالى جده، وأما الحبوب فيعتبر بلوغها نصاباً بعد التصفية من التَّبْن والإخراج من السَّنَابل، ثم قشورها على ثلاثة أضراب: أحدها: قِشْر لا يدْخر الحب فيه ولا يؤكل معه فهو كالتَّبْن المَحْض ولا يدخل في النصاب. والثاني: قِشْر يدخر الحب فيه ويؤكل معه كالذرة تطحن وتؤكل مع قشرها غالباً فيؤخذ ذلك القشر في الحساب فإنه طعام، وإن كان قد يزال تنعُّماً كما تقشر الحِنطة فتجعل حَواري، وهل يدخل في الحساب القشرة السفلى من البَاقِلا، حكوا فيه وجهين: قال في "العدة": المذهب أنه لا تدخل؛ لأنها غليظة غير مقصودة. والثالث: قشر يدخل الحب فيه ولا يؤكل معه فلا يدخل في حساب النصاب ¬
ولكن يؤخذ الواجب فيه، وهذا كما في العَلسْ والأُرْز، أما العَلَسْ فقد قال الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم": إنه بعد الدِّيَاسة يبقى على كل حَبَّتَيْن منه كمام لا يزول إلا بالرَّحَى الخفيفة أو بالمِهْرَاس وادخاره على ما ذكره أهله في ذلك الكِمَامِ أصلح له، وإذا أزيل كان الصَّافي نصف المبلغ فلا يكلف صاحبه إزالة ذلك الكِمَام عنه، ويعتبر بلوغه بعد الدِّيَاس عشرة أوسق، ليكون الصافي منه خمسة أوسق. وأما الأرز فيدخر أيضاً مع قشره، فإنه أبقى له فيعتبر بلوغه مع القشر عشرة أوسق. وعن الشيخ أبي حامد أنه قد يخرج منه الثلث فيعتبر بلوغه قدراً يكون الخارج منه نصاباً. قال الغزالي: وَلا يُكْمَلُ نِصَابُ جِنْس بِجِنْس آخَرَ (م)، وَيُكْمَلُ العَلَسُ بِالحِنْطَةِ فإنَّهُ حِنْطَةٌ حَبتَانِ مِنْهُ فِي كِمَاِمٍ وَاحِدٍ وَالسَّلْتُ قِيلَ: إنَّهُ يُضَمُّ إلَى الشَّعِيرِ لِصُورَتهِ، وَقِيلَ يُضَمُّ إلَى الحِنْطَةِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى طَبْعِهَا، وَقِيل: هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ. قال الرافعي: لا يضم التَّمر إلى الزبيب في تكميل النّصاب، ويضم أنواع التمر بعضها إلى بعض، وكذلك أنواع الزبيب، ولا تضم أيضاً الحِنْطَة إلى الشَّعير ولا سائر أجناس الحبوب بعضها إلى بعض خلافاً لمالك حيث قال: تضم الحِنْطَة إلى الشَّعير، وتضم القُطْنِيَّة بعضها إلى بعض، ولا يُضَمَّان إلى القطْنِية، ولأحمد حيث قال: يُضَم أحدهما إلى الآخر، وَيُضَمَّان إلى القُطْنية أيضاً، والقطنية هي العَدْس والحِمِّص ونحوها، سميت بذلك لقُطُونها في البيوت. لنا أن كل واحد من أصناف الحبوب منفرد باسم خاصٍّ وطبع خاص لا يضم بعضها إلى بعض كما لا يضم الزَّبِيب إلى التمر، ويضم العَلَسْ إلى الحِنْطة فإنه نوع من الحِنْطة، وإذا نحيت الأكْمَة التي يحوي الواحد منها حبتين خرجت الحِنْطة الصافية، وقبل التَّنحية لو كان له وَسْقاً علس وأربعة أوسق من الحِنْطة فقد تم النصاب، ولو كان له ثلاثة أوسق من الحنطة فإنما يتم النصاب بأربعة أوسق من العَلَسْ وعلى هذا القياس. وأما السُّلْت فقد اختلفوا في وصفه أولاً فذكر العراقيون أنه حب يشبه الحِنْطة في اللّون والنُّعُومة والشَّعير في برودة الطَّبع، وتابعهم في "التهذيب" على ما ذكروا، وعكس الصَّيدلاني وآخرون فقالوا: إنه في صورة الشَّعير وطبعه حَارٌّ كالحِنْطَة (¬1)، وهذا ما ذكره ¬
في الكتاب، وكيف ما كان فله شبه من الحِنْطة وشبه من الشعير، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يضم إلى الشَّعير لما له من شبهه، ويحكى هذا عن صاحب "الإفصاح"، وصاحب "التقريب" وبه أجاب أقضى القضاة المَاوِرْدِي في "الأَحْكَام السُّلْطَانية". وثانيها: أنه يضم إلى الحِنْطَة لما له من شبهها. وأظهرها: وهو اخْتيار القَفَّال فيما حكى الصَّيدَلاَنِيّ: أنه أصل بنفسه لا يضم إلى واحد منهما؛ لأنه اكتسب من تركُّب الشبهين طبعاً ينفرد به، وصار أصلاً برأسه، وهذا ما حكاه القاضي أَبو الطَّيِّب عن نصه في البُوِيطي. ولك أن تعلِّم قوله: "يضم إلى الحنطة" لأنه على طبعها بالواو، لأن أبا سعيد المتولي قال: لا خلاف في أنه لا يضم إلى الحِنْطة، والخلاف في أنه أصل بنفسه أو يضم إلى الشعير، وقد وصف واصفون السُّلْت بأن فيه حُمُوضة يسيرة، لكنه ليس بالذي يسمى بالفَارِسِيّة "ترش جو" فإنه شعير على التَّحقيق، ذكره الإمام، قال: وما عندي أن السُّلْت المذكور في الكتب موجود في هذه الديار. قال الغزالي: وَلاَ يُكْمِلُ مِلْكُ رَجُلٍ بمِلْكِ غيْرِهِ إِلاَّ الشَّرِيكَ وَالجَارَ إِذَا جَعَلْنَا لِلخُلْطَةِ فِيهِ أَثَرَاً. قال الرافعي: ذكرنا في "باب الخلطة" الخلاف في أن الخَلْطَة هل تثبت في الثمار والزروع أم لا؟ وإن ثَبَتَتْ فهل تثبت الخلْطَتان أو لا تثبت إلا خلطة الشُّيُوع؟ والظاهر ثبوتهما جميعاً، فإن قلنا: لا تثبتان فلا يكمل مِلْك رجل بِمِلْك غيره في حق النّصاب، وإن قلنا: تثبتان فيكمل ملك الرجل بملك الشريك والجار، ومما يتفرع على هذا الاختلاف: لو مات إنسان وخلف ورثة ونخيلاً مثمرة أو غير مثمرة، وبَدَا الصَّلاحَ في الحالتين في ملك الورثة إن قلنا: لا تثبت الخلطة في الثمار فحكم واحد منهم منقطع من غيره، فمن بلغ نصيبه نصاباً فعليه الزَّكَاة، ومن لم يبلغ نصيبه نصاباً فلا شيء عليه، ولا فرق بين أن يَقْتَسِمُوا أَو لاَ يقتسموا، وإن قلنا: تثبت الخلطة فقد قال الشَّافعي -رضي الله عنه- إن اقتسموا قبل بدو الصلاح سقط حكم الخلطة، وزكوا زكاة الانفراد، فمن لم يبلغ نصيبه نصاباً فلا شيء عليه، وهذا إذا لم تثبت خلطة الجوار أو أثبتناها وكانت متباعدة.
فأما إذا كانت متجاورة وأثبتنا خلطة الجوار فيزكون زكاة الخلطة كما قبل القسمة، وإن اقتسموا بعد بدو الصلاح زكوا زكاة الخلطة؛ لأنهم كانوا شركاء حالة الوجوب وهي بدو الصلاح، وبدُوّ الصلاح في الثمار كمضيّ الحول كله في المَواشي وهاهنا كلامان: أحدهما: اعترض المزني، وقال: القسمة بيع، وبيع الربويات بعضها ببعض جُزَافاً لا يجوز، وبيع الرطب بالرطب على رُؤُوس النّخل بيع جُزَاف وأيضاً فبيع الرُّطَب بالرُّطَب لا يجوز عند الشَّافعي -رضي الله عنه- بحال ولا يندفع هذا الإشكال بأن يقال: الرطب لم يتمحّض عوضاً في واحد من الجَانِبَيْن، بل الجذْع يدخل في القسمة، لأن عند الشافعي -رضي الله عنه- لا يجوز بيع الرَّبَوي وشيء آخر بذلك الرَّبوي وشيء آخر، وأجاب الأصحاب بوجهين: أحدهما: قالوا: الأمر على ما ذكرت إنْ فرعنا على أن القسمة بيع لكن له قول آخر: وهو أَنَّ القسمة إفراز حق، وعلى ذلك القول أجاب هاهنا. والثَّاني: أنا وإن قلنا: إن القسمة بيع فيتصور فرض القسمة هاهنا من وجوه: منها: أن تكون بعض النخيل مثمرة وبعضها غير مثمرة، فيجعل هذا سهماً وذاك سهماً ويقسم قسمة تَعْدِيل، فيكون بيع النَّخْل والرطب بمحض النخل وأنه جائز: ومنها: أن تكون التركة نخلتين والوارث شخصين، فيشتري أحدهما نصيب صاحب من إحدى النخلتين جذعاً ورطباً بعشرة، ويبيع نصيب نفسه من صاحبه من النَّخْلة الأخرى جذعاً ورطباً بعشرة، ويتقاضان الدراهم قال الأئمة: ولا تحتاج إلى شرط القطع، وإن كانت الصفقتان قبل بدوِّ الصَّلاح؛ لأن المبيع جزء شائع من الثمرة والشجرة معاً فصار كما لو باع كلهما صفقة واحدة، وإنما تحتاج إلى شرط القطع حينئذ عند إفراد الثمرة بالبيع، ومنها أن يبيع كل واحد منهما نصيبه من ثمرة إحدى النخلتين نصيب صاحبه في جذعها فيجوز بعد بدوّ الصَّلاحَ ولا يلزم الرِّبَا وقبل بدو الصَّلاحَ لا يجوز إلا بِشَرْط القَطْع؛ لأنه بيع ثمرة تكون للمشتري على جذع البائع، ذكره صاحب "الشَّامل" وغيره، وقد حكى القاضي ابن كج عن بعض الأصحاب أن قسمة الثمار بالخَرْص جائزة على أحد القولين، والذي ذكره هاهنا جواب على ذلك القول، ولك أن تقول: هذا لو دفع إنما يدفع إشكال البيع جزافاً، فلا يدفع إشكال منع بيع الرطب بالرطب. الكلام الثاني: قال أصحابنا العراقيون: تجوز القسمة قبل إخراج الزكاة بناء على أن الزكاة في الذمة، أما إذا قلنا: إنها تتعلق بالعَيْن فلا تصح القِسْمة. واعلم أنه يمكن تصحيح القسمة مع التفريع على قول الْعَيْن بأن يخرص الثِّمَار عليهم ويضمنوا حق المساكين فلهم التَّصرف بعد ذلك، وأيضاً فإنَّا حكينا في البيع قَوْلَين
تفريعاً على التعلق بالعَيْن فكذلك القِسْمَة إذا جعلناها بيعاً، وإن جعلناها إفرازاً فلا منع، وجميع ما ذكرنا من المسألة فيما إذا لم يكن على الميت دين فأما إذا مات وعليه دين وخلف على ورثته نخيلاً مثمرة فبدا الصَّلاَح فيها بعد موته، وقبل أن تباع في الدين - ففي وجوب الزكاة فيها على الورثة قولان حكاهما الشيخ أبو علي: أحدهما: لا يجب؛ لأن ملكهم فيها غير مستقرّ في الحال، إنما يستقر بعد قضاء الدَّيْن من غيره، فأشبه ملك المُكَاتب لما لم يستقر إلاَّ بتقدير أداء النُّجوم لم تجب الزكاة فيه قبل ذلك. وأصحهما: وهو الذي أورده الجمهور: يجب؛ لأنها ملكهم ما لم تبع في الدَّين ألا ترى أن لهم أن يمسكوها ويقضوا الدين من موضع آخر؟ فإذا ملكوا وهم من أهل الزكاة لزمهم الزكاة، فعلى هذا القول في أنهم يزكون زكاة الخلْطَة والانْفِرَاد على ما سبق فيها إذا لم يكن على الميت دين. قال الشيخ: ويمكن بناء القولين على الخلاف في أَنَّ الدين هل يمنع الميراث؟ فيه قولان وغيره يحكيه وجهين: أحدهما: ويروى عن الإصطخري: نعم؛ لأن الله تعالى أثبت الإرث بعد الدَّيْن حيث قال: "مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ (¬1). وأصحهما: لا، لأن الدَّين لا يستحق إلا التعلّق به وطلب الحق منه، فتكون الرَّقبة لهم كالمال المرهون، والعبد الجاني رقبتهما للمالك، فإذا فَرَّعنا على الأصح وهو وجوب الزَّكَاة عليهم، فإن كانوا موسرين أخذت الزكاة منهم، وصرفت النخيل والثمار إلى دين الغرماء، وإن كانوا معسرين فهل تؤخذ الزكاة منهم؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه على الخلاف في أن الزكاة تتعلق بالذمة أو بالعين إن قلنا بالذمة والمال مرهون بها، فيخرج على الأقوال الثلاثة في اجتماع حق الله تعالى وحق الآدميين، فإن سوينا وزعنا المال على الزكاة، وحق الغرماء وإن قلنا: تتعلق بالعَيْن أخذت الزكوة سواء قلنا بتعلق الشركة أو بِمِثْل تعلق الأَرْش. والطريق الثاني: وهو الأصح: أن الزَّكَاة تؤخذ بكل حال؛ لأن حق الزكاة أقوى تعلقاً بالمال من حق الرهن، ألا ترى أن الزكاة تسقط بتلف المال بعد الوجوب، وقبل إمكان الأداء، والدَّين لا يسقط بهلاك الرهن ثم حق المرتهن مقدم على الحق غيره فحق الزكاة أولى أن يكون مقدماً ثم إذا أخذت الزَّكاة من العَيْن ولم يَفِ الباقي بالدين غرم الورثة قدر الزكاة لغرماء الميت إذا أيسروا؛ لأن وجوب الزَّكَاة عليهم وبسببه تلف ذلك القدر على الغرماء. ¬
قال صاحب "التهذيب": هذا إذا قلنا: الزكاة تتعلّق بالذّمة، فإن علقناها بالعَيْن لم يغرموا كما ذكرنا في الرَّهْن، ولو أن إطلاع النَّخِيل كان بعد موته فالثمار محض حقٍّ الورثة، ولا تصرف إلى دين الغرماء إلا إذا قلنا: الدين يمنع الميراث فحكمها حكم ما لو حدثت قبل موته. قال الغزالي: وَلاَ يُضَمُّ حَمْلُ نَخْلَةٍ إلَى حَمْلِهَا الثَّانِي، وَلاَ حَمْلُ نَخْلَةٍ إلَى حَمْلِ أُخْرَى إِذَا تَأَخَّرَ إطْلاعُ الآخَرِ عَنْ جِدَادِ الأُولَى، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْ زَهْوِهَا فَوَجْهَانِ، وَوَقْتُ الجِدَادِ كَالجِدَادِ عَلَى رَأْيِ. قال الرافعي: لا خلاف في أن ثمرة العَام الثَّاني لا تضم إلى ثمرة العام الأول في تكميل النصاب، وإن فرض إطلاع ثمرة العام الثاني قبل جُذَاذ ثمرة العام الأول، ولو كانت له نخيل تثمر في العام الواحد مرتين فلا يضم الحمل الثاني إلى الأول؛ لأن كل حمل كثمرة عام، وفي هذه المسألة كلامان: أحدهما: قال الأصحاب: هذا لا يكاد يقع: لأن النَّخْل والكَرْم اللَّذين يختصان بإيجاب الزَّكَاة في ثمارهما لا يحملان حملين وإنما نفرض ذلك في التِّين، وما لا زكاة فيه، وإنما ذكر الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- المسألة بياناً للحكم بتقدير التصَّور. والثاني: أن القاضي ابن كج فصلّ فقال: إن أطلعت النخل للحمل الثَّاني بعد جُذَاذ الأول فلا ضمَّ وإن أطلعت قبل جُذَاذِه وبعد بُدُوِّ الصلاح فيه خلاف كما سنذكره في حمل نخلتين، وهذا لا يخالف إطلاق الجمهور عدم الضم، فإن السابق إلى الفهم من الحمل الثاني هو الحادث بعد جذاذ الأول، والله أعلم. ولو كانت له نخيل أو كروم يختلف إدراك ثمارها في العام الواحد، إما بحسب اختلاف النوع أو بحسب اخْتِلاَف البلاد حرارة وبرودة، فهل يضم بعض ثمارها إلى بعض؟ نظر إن أطلع ما تبطؤ ثمارها قبل زهُوّ الأول وبدو الصلاح فيه وجب الضم لوجود حمل الثاني يوم وجوب الزكاة في الأول، والأشجار تطلع وتدرك ثمره على تدريج وتفاوت، وإن أطلع الثاني بعد جُذَاذ الأول ففيه وجهان: أحدهما وهو الذي أورده القاضي ابن كج وأصحاب القفال: أنه لا يضم؛ لأن الثاني حدث بعد انْصِرَامِ الأول فأشبه ثمرة عامين، وهذا هو المذكور في الكتاب. والثاني: وهو الذي قاله أصحاب الشيخ أبي حامد: أنه يضم؛ لأنها ثمرة عام واحد، ولهؤلاء أن يحتجوا على ما ذكروه بقول الشافعي -رضي الله عنه- وثمرة النخيل
تختلف فثمر النخل يجزُّ بِتِهَامة، وهو بِنَجْد بِسْرٌ وبَلَح فيضم بعد ذلك إلى بعض؛ لأنها ثمرة عام، وإن كان بينهما الشهر والشهران (¬1). فإن قلنا بالوجه الثاني فلو كان إطلاع الثاني قبد الجُذَاذِ وبعد بُدُوِّ الصَّلاح فهو أَولى بالضم، وإن قلنا بالأول فهاهنا وجهان: أحدهما ويحكى عن أبي إسحاق: أنه لا يضم لحدوث الثاني بعد وجوب الزكاة في الأول فصار كثمرة عامين، وذكر في "التهذيب" أن هذا أصح. والثاني: يضم لاجتماعهما على رأس النخيل كما لو أطلع قبل زُهُوِّ الأول، ثم اختلف الصائرون إلى الوجه المذكور في الكتاب وهو اعتبار الجُذَاذ في أن وقت الجُذَاذ هل يقام مقام الجذاذ؟ على وجهين: أحدهما: لا يقام لاجتماع الثَّمرتين قبل الجُذَاذ على رأس النخيل. وأفقههما وهو الذي ذكره الصيدلاني: أنها تقام مقام الجُذاذ، فإن الثمار بعد دخول الوقت كالمجذوذة، ألا ترى أنه لو أطلعت النخلة العام الثاني، وقد تركت بعض ثمرة العام الأول عليها لا يثبت الضم، فعلى هذا قال إمام الحرمين للجذاذ أول وقت ونهاية ترك الثمار إليها أولى وتلك النهاية أحق بالاعتبار. قال الغزالي: وَلَوْ ضَمَمْنَا نَخْلَةً إلَى أُخْرَى فَجَدَّت الَّتي أَطْلَعَتْ أَوَّلاً ثُمَّ أَطْلَعَتْ ثَانِياً قَبْلَ جَدَادِ الثَّانِيَةِ لَمْ نَضُمَّهَا إلَى الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا ضَمًّا إلَى الأُولَى وَقَدْ أَطْلَعَتْ بَعْدَ جَدَادِهَا وَذَلِكَ يَتَسَلْسَلُ فَلاَ تُضَمُّ إلَى الثَّانِيَةِ. قال الرافعي: أذكر المسألة في قالب المثال الذي ذكره الشافعي -رضي الله عنه- وتابعه الأصحاب فيه، ثم أعود إلى عبارة الكتاب فإن فيها لبساً. اعلم: أن من المواضع التي يختلف إدراك الثمار فيها بحسب اختلاف الأهوية تِهَامة ونَجْد، فتهامة بلاد حارة، ونجد بلاد باردة، وثمر النخيل بتهامة أسرع إدراكاً منها بنَجْد، فإذا كانت للرجل نخيل تِهَامية وأخرى نَجْدية فأطلعت التِّهَامية ثم أطلعت النجدية لَذلك العام، واقتضى الحال ضم ثمرة النجدية إلى ثمرة التهامية على ما فصلناه في الفَصْل السابق فضممناها إليها، ثم أطلعت التهامية مرة أخرى فلا تضم ثمرة هذه المرة إلى ثمرة النجدية، وإن طلعت قبل بدو الصلاح فيها، لأن في ضمها إلى النجدية ضماً إلى ثمرتها المرة الأولى ولا سبيل إليه؛ لأن ثمرتها المرة الثانية إما حمل ثان على تصوير أن تكون تلك التِّهاميات ممَّا تحمل في كل سنة مرتين، وإما حمل سنة ثانية، ¬
وعلى التقديرين فلا ضم على ما سبق، وهذا ما ذكره الأصحاب، ثم قال الصيدلاني وإمام الحرمين: ولو لم تكن ثمرة النَّجْدية مضمومة إلى حمل التِّهامية أوّلاً، بأن أطلعت بعد جُذَاذِ ذلك الحمل لكنا نضم حملها الثَّاني المطلع قبل جذاذ النجدية إليها، إذ لا يلزم هاهنا المحذور الذي ذكرناه، وهذا قد لا يسلمه سائر الأصحاب، لأنهم حكموا بضمِّ ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض وبأن ثمرة عام لا تضم إلى ثمرة عام آخر، ومعلوم أن إدراك ثمار التهامية في كل عام أسرع من إدراك ثمار النجدية، فيكون إطلاع التهامية ثانيًا للعام القابل، وما على النجدية من العام الأول. وأما كلام الكتاب فأما إن أراد به الصورة التي نقلناها عن جمهور الأصحاب، وأما إن أراد به ما يشعر به ظاهر، فإن أراد تلك الصورة وهي التي أوردها في "الوسيط" فاللفظ هاهنا محال عن وجهه تصويراً وتعليلاً. أما التصوير فلأن للجمهور صوروا في إطْلاع النخلة الأولى مرة أخرى، وهو صور في ثلاث نَخلات متغايرة أطلعت الثّالثة بعد جُذَاذ الأولى وقبل جُذاذ الثانية. وأما التعليل فلأن قوله: "لأن فيها ضمًّا" إلى قوله: "وذلك يتسلسل"، يشعر بأن امتناع الضم إلى حمل الثانية لتضمنه الضم إلى حمل الأولى وقد أطلع هذا بعد جذاذه ولا سبيل إلى ضم ما أطلع بعد المجذوذ إليه، ولو جوزنا ذلك للزم ضم نخلة إلى نخلة بلا نهاية، وهذا التعليل غير التعليل الذي سبق، وإن أراد ما يشعر به ظاهر الكلام فعدم الضم مما تنازع فيه كلام الأصحاب الدين قالوا بانضمام ثمار العام الواحد بعضها إلى بعض، ولم يبالوا بإطلاع الآخر بعد جذاذ الأول على ما أسلفناه، وفي ضبطهم بالعام الواحد ما يقطع التسلسل الذي ادعاه، ولا يخفى أن قوله: "لو ضممنا نخلة إلى أخرى" معناه حمل نخلة إلى حمل نخلة أخرى فحذف المضاف. قال الغزالي: وَأَمَّا الذُّرَةُ لَوْ زُرِعَت بَعْدَ حَصْدِ الأُولَى فَعَلَى قَوْلٍ: هُمَا كَحَمْلَيْ شَجَرَةٍ فَلاَ يُضَمُّ، وَعَلَى قَوْلٍ: يُضَمُّ مَهْمَا وَقَعَ الزَّرْعَانِ وَالحَصَادَانِ فِي سَنَةٍ، وَعَلَى قَوْلٍ: يُكْتَفَى في الضَّمِّ بِوُقُوعِ الزَّرْعَيْنِ فِي سَنَةٍ؛ لأنَّهُ الدَّاخِلُ تَحْتَ الاخْتِيَارِ، وَعَلَى قَوْلٍ يُنْظَرُ إلَى اجْتِمَاعِ الحَصَادَيْنِ فَإنَّهُ المَقْصُود، وَعَلَى قَوْلٍ: إنْ وَقَعَ الزَّرْعَانِ وَالحَصَادَانِ أَوْ زَرْعُ الثَّانِي وَحَصَدْ الأَوَّلِ اكْتَفَى بِهِ، وَالزَّرْعُ بَعْدَ اشْتِدَادِ الحَبِّ كَهُوَ بَعْدَ الحَصَادِ عَلَى أَحَدِ الرَّأيَيْن، وَالزَّرْعُ بِتَنَاثُرِ الحَبَّاتِ لِلأوَّلِ وَبِنَقْرِ العَصَافيرِ كَهُوَ بِالاخْتِيَارِ، وَقيلَ: إنَّهُ يُضَمُّ لأنَّهُ تابعٌ، وَلَو أُدْرِكَ أَحَدُ الزَّرْعَيْنِ وَالآخَرُ بَقْلٌ فَالظَّاهِرُ الضَّمُّ، وَقيلَ: يُخَرَّجُ عَلَى الأَقْوَالِ. قال الرافعي: الأصل الذي لا بدَّ من معرفته أولاً أَنَّ زرع عام لا يضم إلى زرع
عام آخر في تكميل النِّصاب (¬1)، واختلاف أَوْقَات الزِّرَاعة لضرورة التَّدريج فيها كالَّذي يبتدئ الزِّراعة ولا يزال يزرع إلى شهر أو شهرين فلا يقدح، بل هي معدودة زرعاً واحداً يضم بعضها إلى بعض عند اتحاد الجنس إذا عرفت ذلك ففي الفصل مسألتان: إحداهما: أن الشَّيء قد يزرع في سنة واحدة مراراً كالذرة تزرع في فصول مختلفة في الخريف والربيع والصيف، ففي ضم البعض إلى البعض أقوال: أحدها: أن المزروع بعد حصل الأولى لا يضم إليه كما لا يضم أحد حملي الشجر إلى الآخر. والثاني: يضم إن وقع الزرعان والحصادان في سنة؛ لأنهما حينئذ بدان زرع سنة واحدة، بأن يكون بين الزَّرع الأول وحصد الثَّاني أقلّ من اثني عشر شهراً عربية، كذا قال صاحب "النهاية" و"التهذيب"، فإن كان بينهما سنة فصاعداً فلا يضم. والثَّالث: أن الاعتبار بوقوع الزَّرْعَين في سنة ولا نظر إلى الحصاد؛ لأن الزرع هو المتعلق بالاختيار، والحصاد لا اختيار في وقته ويختلف باختلاف حال الأرض والهواء، وأيضاً فإنَّ الزرع هو الأَصْلُ والحصاد فرعه وثمرته، فيعتبر ما هو الأصل فعلى هذا يضم وإن كان حصاد الثَّاني خارجاً عن السنة. والرابع: أن المعتبر اجتماع الحَصَادين في سنة فإذا حصل وجب الضَّم، وإن كان زرع الأول خارجاً عن السنة لأن الحصاد هو المقصود، وعنده يستقر الوجوب فاعتباره أولى، وهذه الأقوال الأربعة مدونة في "المختصر". والخامس: ويحكي عن رواية الربيع: أنه إن وقع الزَّرْعَان أو الحصادان أو زرع الثَّاني وحصد الأول في سنة ضم أحدهما إلى الثاني، وهذا بعيد عند الأصحاب، لأنه يوجب ضم زرع السنة إلى زرع السنة الأخرى، فإنَّ العادة ابتداء الزرع الثاني بعد مضي شهر من حصد الأول، هذا بيان الأقوال على الوجه المذكور في الكتاب، واختلفوا في الأظهر منها، وكلام الأكثرين مائل إلى تَرْجِيحِ القول الرابع، ونقل المَسْعُودِي في "الإفصاح" القول الخامس على وجه أخص مما ذكرنا، فقال: الاعتبار بجميع السنة بأحد الطرفين. ¬
إما الزرعين أو الحصادين، ولم يلحق بهما زرع الثَّاني وحصد الأول، والشيخ أبو حامد في طائفة جعلوا الفصل بدلاً عن السنة في حكاية القول الثَّاني والثَّالث والرابع، واعتبروا على القول الثاني أن يكون الزرعان في فصل واحد، وما المعنى بالفصل؟ ذكر القاضي الروياني أن المعنى بالفصل هاهنا أربعة أشهر، والطريقة التي تقدمت أوفق للفظ "المختصر"، وهي التي اعتمدها القاضي ابن كج، ونقلها أصحاب القفَّال وغيرهم، وعن أبي إسحاق أنه خرج قولاً أن ما يعد زرع سنة يضم بعضه إلى بعض، ولا أثر لاختلاف الزرع والحصاد، قال: ولا أعني هاهنا بالسَّنة اثني عشر شهراً، فإن الزرع لا يبقى هذه المدة، وإنما أعني بها ستة أشهر إلى ثمانية، وإذا جمع جامع بين ما نقلناه من الروايات انتظمت في المسألة عشرة أقوال فتأملها، وهذا كله فيما إذا كان زرع الثَّاني بعد حصول الأول ووراء ذلك حالتان: إحداهما: أن يكون زرع الثَّاني بعد اشْتِدَاد حب الأول، فالخلاف فيه مرتب على الخلاف فيما إذا كان زرع الثَّاني بعد حصد الأول، وهاهنا أولى بالضَّم لاجتماعها في النَّبَات في الأرض والحصول فيها. وقوله في الكتاب: "على أحد الرِّوَايتين" المراد منه طريقان يتولدان من هذا الترتيب: أحدهما: القطع بالضَّم. والثّاني: إثبات الخلاف وهو أظهر. والثانية: أن يكون الزَّرعَان معاً أو على التَّوَاصل المعتاد ثم يدرك أحدهما، والثاني بعد بَقْل لم يشتد حَبُّه أصلاً ففيه طريقان: أصحهما: القطع بالضم، لأن ذلك يعد زرعاً واحداً، والثاني -وحكاه الإمام عن أبي إسحاق- أنه على الأقوال (¬1) لاختلافهما في وقت الوجوب بخلاف ما لو تأخر بدو الصَّلاح في بعض الثمار، فإنه يضم إلى ما بدا فيه الصَّلاح لا محالة؛ لأن الثمرة الحَاصِلَة هي متعلق الزَّكَاة بعينها والمنتظر فيها صفة الثمرة، وهاهنا متعلق الواجب الحب ولم يخلق بعد، والموجود حشيش محض. المسألة الثانية: قال الشافعي -رضي الله عنه- الذُّرَة تزرع مرة فتخرج فتحصد، ثم يستخلف في بعض المواضع فتحصد أخرى فهو زرع واحد وإنْ تأخَّرت حصدته الأخرى ¬
اختلف المُفَسِّرون لكلامه في المراد بهذه الصورة على ثلاثة أوجه: أحدها: أن المراد يها ما إذا تَسَنْبَلَت الذُّرة واشتدت فانتثر بعض حَبَّاتها بنفسها أو بنقل العَصَافير أو بهبوب الرياح، فسقى الأرض فنبتت تلك الحبات المنثورة في تلك السّنة مرة أخرى وأدركت ومنهم من قال: المراد بهذا ما إذا نبتت فالتفت وعلا بعض طاقاتها فغطى البعض، وبقي ذلك المغطّى مخضرّاً تحت ما علا فإذا حصد العالي أثرت الشَّمس في المُخْضر فأدرك. ومنهم من قال: المراد بها الذُّرَة الهِنْدِيّة تحصد سنَابِلُهَا ويبقى سَاقُهَا فيخرج سنابل أخرى، ويحكى هذا الوجه الثاني عن ابن سريج، ثم اختلفوا في الصور الثَّلاَث بحسب اختلافهم في المراد من النَّص، واتفاق الجمهور على أن ما ذكره قطع بالضم وليس جواباً على بعض الأقوال التي سبقت، فذكروا في الصورة الأولى طريقين: أحدعما: أنها على الأقوال في الزَّرعَين المختلفي الوقت فإنه زرع مفتتح بعد زرع. والثاني: القطع بالضَّم لأنه تابع للأول غير حاصل بالقصد والاخْتيار، وإيراد الكتاب يشعر بترجيح الأول، وهو قضية ما في "التهذيب"، وذكروا في الصُّورة الثَّانِية طريقين أيضاً: أحداهما: القطع بالضَّم؛ لأنها حصلت دفعة واحدة وإنَّمَا تفاوت الإدراك. والثاني ويحكى عن أبي إسحاق: أنها مخرجة على الأقوال، وذكروا في الثالثة ثلاثة طرق: أحدها: أنها على الخلاف فيما لو حصد زرع ثم زرع آخر. والثاني: لا يضم قولاً واحداً كالنَّخْلة تحمل في السَّنة حملين. والثالث: يضم قولاً واحداً بخلاف الزَّرْع بعد الزَّرع، فإن أحدهما مفصول عن الآخر وهاهنا الزرع واحد وإنما تفرق رِيعُه، وبخلاف حملي النَّخْلة فإنها شجرة لها ثمر بعد ثمر فحملاها في سنة كحملها في سنتين، والذُّرَة زرع لا يبقى فالخارج من ساقها ملحق بالأول كزرع تعجّل إدراك بعضه وتأخّر إدراك بعضه، وهذا أصح عند صاحب "التهذيب" والله أعلم. قال الغزالي: الطَّرَفُ الثَّاني، فِي الوَاجِبِ، وَهوَ العُشْرُ فِيمَا سَقَتِ السَّمَاء، وَنِصْفُ العُشْرِ فِيمَا يُسْقَى بِنَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ، وَالقَنَوَاتُ كَالسَّمَاءِ، وَالنَّاعُورُ الَّذِي يُديرُ المَاءَ بِنَفْسِهِ كَالدَّوَالِيبِ.
قال الرافعي: الأصل في قدر الواجب في هذا النوع ما روى ابن عمر -رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ أَوِ الْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيّاً الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْح نِصْفُ الْعُشْرِ" (¬1). ويروى "وَمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ غَرْبٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ" (¬2). قالَ في "الصِّحاح": العَثَرِيّ بالتحريك: الزرع الذي لا يسقيه إلا ماء المطر. وقال الأزهري: وسقيه بالنّضْح أن يستقي له من ماء النهر أو البِئْر بسانية وغيرها، وتسمى السَّوَاني نواضح الواحدة: سَانيَة والغَرْب الدَّلْو الكبيرة. إذا عرف ذلك فيجب فيما سقي بماء السماء من الثمار والزروع العشر، وكذا البَعل وهو الذي يشرب بعروقه لقربه من الماء، وكذا ما يشرب من ماءٍ ينصب إليه من جبل أو نهر أو عين كبيرة كل ذلك فيه العشر، وما سقى بالنّضح أو بالدِّلاَء أو بالدَّوَالِيب ففيه نصف العشر وكذا ما سقى بالدَّالية. قال في "الصحاح": وهو المَنْجَنُون تديرها البقرة، وما سقي بالنَّاعُور وهو الذي يديره الماء بنسه؛ لأنه تسبب إلى النَّزْح كالاسْتِقَاء بالدلاء والنَّواضِح، والمعنى الكلي الذي يقتضي التَّفَاوت أنَّ أمر الزكاة مبني على الرفق بالمالك والمساكين، فإذا كثرت المؤنة خف الواجب أو سقط كما في المعلوفة، وإذا خفت المؤنة كثر الواجب كما في الرِّكَاز، وأما القَنَوات وفي معناها السَّواقي المَحْفُورة من النهر العظيم إلي حيث يسوق الماء إليه، فالذي ذكره في الكتاب أن السقي منها كالسَّقي بماء السماء، وهذا هو الَّذي أورده طوائف الأصحاب من العراقيين وغيرهم، وعَلَّلوا بأن مؤنة القَنَوات إنما تتحمل لإصلاح الضَّيْعَة، والأنهار تشق لإحياء الأرض فإذا تهيأت وصل الماء إلى الزرع بطبعه مرة بعد أخرى بخلاف السَّقي بالنَّوَاضح ونحوها، فإن المُؤْنَة ثم تتحمل لنفس الزرع. وادعى إمام الحرمين اتفاق الأئمة على هذا، لكن أبا عاصم العبادِيَّ ذكر في "الطَّبَقات" أن أبا سهل الصُّعْلُوكي أفتى بأن الَمسْقِيّ من ماء القَنَاة فيه نصف العشر، لكثرة المُؤْنة، وفصّل صاحب "التهذيب" (¬3) فقال: إن كانت القناة أو العَيْن كثيرة المؤنة بأن كانت لا تزال تنهار وتحتاج إلى اسْتِحْداث حفر فالمسقى بها كالمسقى بالسَّواقي، وإن لم يكن لها مؤنة أكثر من مؤنة الحفر الأول وكَسحها، في بعض الأوقات، ففي السقي بها العشر والمشهور الأول. ¬
نوع: أشار القاضي ابن كَجِّ إلى أنه لو احْتَاج إلى شراء الماء كان الواجب نصْف العشر، ونقله عنه صريحاً صاحب "الرّقم"؛ ولو سقاه بماء مغصوب فكذلك لأن عليه الضمان، وهذا حسن جَارٍ على كل مأخذ، فإنه لا يتعّلق به صلاح الضيعة بخلاف القناة (¬1)، ثم حكى القاضي عن أبي الحُسَيْن وجهين فيما لو وهب منه الماء، ورجح إلحاقه بما لو غصب لما في قبول الهِبَة من المنة العظيمة، فصار كما لو علف ماشيته بِعَلَف موهوب (¬2) والله أعلم. قال الغزالي: وَلَوِ اجْتَمَعَ السَّقْيَان عَلَى تَسَاوٍ وَجَبَ ثَلاثةُ أَرْبَاعِ العُشْرِ فِي كُلِّ نِصْفٍ بِحِسَابِه وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَغْلَبَ اعْتِبَر الأَغْلَبُ فِي قَوْلٍ، وَوُزِّعَ عَلَيْهِمَا فِي القَوْلِ الثَّانِي، وَالأَغْلَبُ يُعْرَفُ بالعَدَدِ فِي وَجْهٍ وَبِزِيادَةِ النُّمُوِّ وَالنَّفْعِ فِي وَجْهٍ، وَإذَا أَشْكَلَ الأَغْلَبُ فَهُوَ كَالاسْتِوَاءِ. قال الرافعي: إذا اجتمع السّقيان في زرع وكان يسقى بماء السَّماء مدة وبالنَّضْح مدة فلا يخلو إما أن يكون الزرع منشأ على هذا القصد، أو بني أمره على أحد الشقين ثم اعترض الآخر واجتمعا. الحالة الأولى: وهي المقصودة في الكتاب أن ينشأ الزرع على قصد السقي بهما جميعاً ففيه قولان كالقولين فيما إذا تنوعت إبله أو غنمه. أظهرهما: أنه يقسط الواجب عليهما لظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم- إذا تنوعت: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ نِصْفُ العُشْرِة". فعلى هذا لو كان ثلثا السّقي بماء السّماء والثّلث بالنّضح وجب خمسة أسداس العشر ثلثا العشر للثلثين، وثلث نصف العشر للثلث، ولو سقى على التَّسَاوي وجب نصف العشر ونصف نصف العشر، وذلك ثلاثة أرباع العشر. والقول الثاني وحكاه في "الشَّامل" عن أبي حنيفة وأحمد-: أن الاعتبار بالأغلب فإن كان السّقي بماء السماء أغلب ففيه العشر، وإن كان السّقي بالنضح أغلب ففيه نصف العشر، لأن النظر إلى أعداد السقي وأزمنته مما يشق ويعسر، فيدار الحكم على الغالب ¬
تخفيفاً، وعلى هذا لو استويا ففيه وجهان حكاهما الإمام: أحدهما: أنه يجب العشر نظراً لِلْمَسَاكين، وهذا هو الَّذِي حكاه المَسْعُودي تفريعاً على القول الثَّاني. وأصحهما: وهو الَّذِي أورده في الكتاب أنا نقسط الواجب عليهما كما ذكرنا على القول الأول لانتفاء الغَلَبة من الجانبين، وعلى هذا فالحكم حالة الاستواء واحد على القولين فينتظم أن يقال: إن استويا وجب ثلاثة أرباع العشر فإن كان أحدهما أغلب فقولان. وهكذا أورد صاحب الكتاب والأكثرون ثم سواء قلنا بالتقسيط أو اعتبرنا الأغلب فالنظر إلى ماذا في معرفة المقادير؟ فيه وجهان: أحدهما: أنَّ النظر إلى عدد السَّقَيات؛ لأن المُؤْنة بحسبها تقلّ وتكثر ولا شك أن الاعتبار بالسّقَيَات المفيدة دون ما لا تفيد أو تضر. وأوفقهما لظاهر نصه: أن الاعتبار بعيش الزَّرع ونمائه أو بأحدهما أكثر أو لا وكذا عيش التَّمْر فإنه المقصود. وقال في "النهاية": وعبر بعضهم عن هذا بعبارة أخرى فقال: النظر إلى النَّفع وقد تكون السّقية الواحدة أنفع من سقيات كثيرة، قال: وهما متقاربان، إلاَّ أن صاحب العبارة الثانية لا ينظر إلي المدة وإنما ينظر إلى النفع الذي يحكم به أهل الخبرة، وصاحب العبارة الأولى يعتبر المدة. واعلم أن اعتبار المدة هو الذي ذكره الأكثرون على الوجه الثاني، وذكروا في المثال أنه لو كانت المدة من يوم الزرع إلى يوم الإدراك ثمانية أشهر، واحتاج في ستَّة أشهر زَمَاني الشّتاء والربيع إلى سَقْيَتَيْن، فسقى بماء السماء وفي شهرين، وهو زمان الصيف إلى ثلاث سقيات فسقى بالنضح، فإن اعتبرنا عدد السقيات فعلى قول التوزيع يجب خمسا العشر وثلاثة أخماس نصف العشر، وذلك ثلاثة أخماس العشر ونصف خمسه، وعلى قول اعتبار الأغلب يجب نصف العشر؛ لأن عدد السقيات بالنضح أكثر، وإن اعتبرنا المدّة فعلى قول التّوزيع يجب ثلاثة أرباع العشر وربع نصف العشر، وعلى قول اعتبار الأغلب يجب العشر؛ لأن مدة السَّقي بماء السماء أطول، ولو سقى الزرع بماء السماء والنضح جميعاً لكن أشكل مقدار كل واحد منهما فعن ابْنِ سُرَيج وتابعه الجمهور: أنه يجب ثلاثة أرباع العشر أخذاً بالاستواء؛ وذكر القاضي ابن كج وجهاً آخر: أن الواجب نصف العشر؛ لأنه اليقين، والأصل براءة ذمته عن الزيادة. وإذا عرفت ما ذكرناه يتبيَّن لك أو الوجهين في قوله: "والأغلب يعرف بزيادة العدد .... " إلى آخره لا يختصان بالأغلب، بل يجريان فيما يعتبر به الاستواء أيضاً.
وقوله: "إذا أشكل الأغلب فهو كالاستواء" إنما صور الإشكال في الأغلب؛ لأنه قصد التفريع على قول اعتبار الأغلب، وإلاّ فلو لم يعرف هل أحدهما أغلب من الآخر كما لو عرف أن أحدهما أغلب، وشك في أنه هذا أم ذاك. والحالة الثانية: أن يبنى الأمر على أحد السّقيين ثم يعرض الآخر فهل يستصحب حكم قصدة أو لا يعتبر الحكم؟ فيه وجهان؟ أصحهما: الثاني، ثم في كيفية اعتبارهما الخلاف الذي ذكرنا. فرع: لو اختلف الساعي والمالك في أنه بماذا سقى؟ فالقول قول المالك؛ لأن الأصل عدم وجوب الزيادة. آخر: لو كان له زرع مسقى بماء السَّماء، وآخر مسقى بالنّضح، ولم يبلغ واحد منهما نصاباً، ضم أحدهما إلى الثاني في حق النصاب، وإن اختلف مقدار الواجب. قال الغزالي: وَيجِبُ أَنْ يُخْرَجُ العُشْرُ مِنْ جِنْسِ المُعَشَّرِ وَنَوْعِهِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ النَّوْعُ فَمِنْ كُلِّ بِقِسْطِهِ، فَإِنْ عَسُرَ فَالوَسَطُ. قال الرافعي: وقوله: "ويجب أن يخرج العشر من جنس المعشر" ولا يجوز أن يعلّم بالحاء؛ لأن أبا حنيفة -رحمه الله- يجوز إخراج القيم في الزكاة، فلا يجب عنده إخراج الجنس. لنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "خُذْ مِنَ الِإِبِلِ الإبِلِ" (¬1) الخبر. وقوله: "ونوعه" ليس مجري على إطلاقه، فإنه لو أخرج الأجود عن الأردأ جاز، إنما الواجب ألا يخرج أردأ مما عنده، وغرضَ الفصل أنه لو كان الجنس الذي يملكه من الثمار والحبوب نوعًا واحداً فيؤخذ منه الزكاة، وإن اختلف أنواعه كما إذا ملك من التَّمر البَرْديّ والكَبِيس وهما نوعان جيّدان والجُعْرُور ومصْرَان الفَأرَة وَعِذْق الجَبِيق، وهي أَنْوَاع رديئة، ومنهم من يجعل الجُعْرُور وسطاً، فإن لم يعبر أخذ الواجب من كل نوع بالحصّة بخلاف نظيره في المَوَاشي حيث ذكرنا فيه خلافاً من قبل والفرق أن التَّشْقِيص في الحيوان محذور بخلاف ما في الثّمار، أَلاَ ترى أن في المواشي وإن قلنا بالتقسيط فإننا نعتبر قيم الأنواع ونأخذ ما يقتضيه التوزيع ونأمره بدفع نوع منها على ما يقتضيه التَّوزيع، ولا يأخذ البَعْض من هذا والبعض من ذاك، وهاهنا بخلافه، وطرد ¬
القاضي ابْن كَجٍّ القولين هاهنا والمشهور الفرق، وإن عسر أخذ الواجب من كل نوع فإن كثرت الأنواع وقل مقدار كل نوع فما الذي يؤخذ. حكي عن صاحب "الإفصاح" فيه ثلاثة أوجه: أصحها: وهو المذكور في الكتاب: أنه لا يكلف بالإِخْرَاج من كل نوع لما فيه من العسر، ولا يكلف بالإخراج من الأجود ولا نرضى بالرديء، بل يؤخذ من الوسط رعاية للجانبين. والثاني: أنه يؤخذ من كل نوع بالقسط كما إذا قلَّت الأنواع. والثالث: أنه يؤخذ من الغالب ويجعل غيره تبعاً له، وروى القاضي ابن كج في المسألة طريقين: أحدهما: القطع يأخذ الوسط. والثانى: أَنَّ فيه قولين: أحدهما: أخذ الوسط. والثاني: أخذ الغالب. إذا عرفت ذلك فأعلم قوله: "فإن عسر فالوسط" بالواو، واعلم أنه ليس المراد وجوب إخراج الوسط حتى لا يجوز أخذ غيره، بل لو تحمل العسر وأخرج من كل نوع بالقسط جاز ووجب على الساعي قبوله، فإذا أراد الساعي أخذ العشر كيل لرب المال تسعة وأخذ الساعي العاشر، وإنما يبدأ بجانب المالك؛ لأن حقه أكثر ولأن حق المساكين إنما يتبين به، ولو بدأ بجانبهم فَرُبَّمَا لا يفي الباقي بحقّه فيحتاج إلى رد ما كِيلَ لهم، وإن كان الواجب نصف العشر كِيلَ لربِّ المال تسعة عشر، وأخذ الساعي العشرين، وإن كان الواجب ثلاثة أرباع العشر كِيلَ لرب المال سبعة وثلاثون، وللمساكين ثلاثة ولا يهز المِكْيَال ولا يزلزل ولا توضع اليد فوقه ولا يمسح؛ لأن ذلك مما يختلف فيه، بل يصب فيه ما يحتمله ثم يفرغ. قال الغزالي: الطَّرَفُ الثَّالِثُ، فِي وَقْتِ الوُجُوبِ وَهُوَ الزَّهْوُ فِي الثِّمَارِ وَالاشْتِدَادُ فِي الحُبُوبِ، فَينْعَقِد سَبَبُ وُجُوبِ إِخْرَاجِ التَّمْرِ وَالحَبِّ عِنْدَ الجَفَافِ وَالتَّنْقِيَةِ، فلَوْ أَخْرَجَ الرُّطَبَ فِي الحَالِ كَانَ بَدَلاً. قال الرافعي: وقت وجوب الصَّدَقَة في النَّخْل والكَرْم والزّهو وهو بدوُّ الصلاح؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ حِينَئِذِ يَبْعَثُ الْخَارِصَ لِلْخَرْصِ" (¬1). ¬
ولو تقدم الوجوب عليه لبعثه قبل ذلك، ولو تأخر عنه لما بعثه إلى ذلك الوقت، ووقت الوجوب في الحبوب اشتدادها؛ لأنها حينئذ تصير طعاماً كما أن حمل النَّخْل والكَرْم عند بدو الصَّلاَح يصير ثمرة كاملة، وهو قبل ذلك بَلْحٌ وحِصْرٌ، هذا هو المشهور. وفي "النهاية" أن صاحب "التقريب" حكى قولاً غريباً أن وقت الوجوب هو الجَفَاف والاشتداد، ولا يتقدمِ الوجوب على الأمر بالأداء، وفي "الشامل" أن الشيخ أبا محمد حكى عن القديم أنه أوْمَأَ إلى أن الزَّكَاة تجب عند فعل الحصاد (¬1)، فيجوز أن يعلم قوله في الكتاب: "وهو الزهو في الثمار والاشتداد في الحبوب" لهذين. والكلام في معنى بدو الصلاح، وأن بدو الصلاح في البعض كبدوه في الكلّ على ما هو مذكور في كتاب البيع (¬2)، ولا يشترط تمام اشتداد الحب، كما لا يشترط تمام الصلاح في الثمار، ويتفرع على المَذهب المشهور أنه لو اشترى نخيلاً مثمرة أو ورثها قبل بدوِّ الصَّلاحَ ثم بدا الصَّلاحَ بعد ذلك فعليه الزَّكَاة، ولو اشترى بشرط الخيار فبدا الصَّلاحَ في زمان الخِيَار، فإن قلنا: الملك للبائع فالزكاة عليه، وإن أمضى البيع، وإن قلنا: للمشتري فالزكاة عليه وإن فسخ البيع، وإن قلنا بالوقف فأمر الزكاة موقوف أيضاً. وفرع ابن الحداد على هذا الأصل أنه لو باع المسلم نخيله المثمرة قبل بدو الصَّلاح من ذمِّي فبدا الصَّلاح في ملكه فلا زكاة على واحد منهما، أما الذِّمي فظاهر، وأما المسلم فلأن الثمرة لم تكن في ملكه وقت الوجوب، ولو عاد إلى ملكه بعد بدو الصلاح ببيع مستأنف أو بهبة أو تقابل أورد بعيب فلا زكاة عليه أيضاً؛ لأنه لم تكن في ملكه حين الوجوب، والبيع من المُكَاتب كالبيع من الذِّمِّي فيما ذكرنا، ولو باع النَّخل من مسلم قبل بدو الصلاح فبدا الصلاح في ملك المشترى ثم وجد بها عيباً، فليس له الرَّدُّ إلا برضا البائع؛ لأنها تعلق بها حق الزكاة فكان كعيب حدث في يده، فإن أخرج المشتري الواجب إما من تلك الثمرة أو من غيرها، فالحكم على ما ذكرنا في زكاة النَّعَم في الشرط الرابع أما إذا باع الثمرة وحدها قبل بدو الصلاح فهذا البيع لا يصحّ إلاَّ بشرط القطع، فإن شرطه ولم يتفق القطع حتى بدا فيها الصَّلاحَ فقد وجب العشر، وينظر فإن رضيا بإبقائها إلى أوان الجُذَاذ جاز والعشر على المشتري، وعن الشيخ أبي حامد أن الشيخ أبا إسحاق حكى قولاً آخر: أنه ينفسخ البيع؛ لأنه لو اتفقا عليه عند البيع لبطل البيع، فإذا وجد هذا الشرط المبطل بعده ينفسخ والصحيح الأول، وإن لم يرضيا ¬
بالإبقاء لم تقطع الثمرة؛ لأن فيه إضراراً بالمساكين (¬1)، ثم فيه قولان: أحدهما: ينفسخ البيع لتعذر إمضائه، فإن البائع يبتغي القَطْع لشرطه وهو ممتنع لما ذكرنا. وأصحهما: أنه لا ينفسخ فإنه عيب حدث بعد البَيْع، لكن إن لم يرض البائع بالإبقاء ينفسخ البيع، وإن رضي البائع بالإبقاء وَأَبَى المشتري إلا القَطع فوجهان: أحدهما: يفسخ أيضاً. وأصحهما: أنه لا يفسخ؛ لأن البائع قد زاده خيراً، والقطع إنما كان لحقه حتى لا تَمْتَصُّ الثمرة ماء الشجرة، فإذا رضي تركت الثمرة بحالها ولو رضي البائع ثم رجع كان له ذلك؛ لأن رضاه إعارة، وحيث قلنا: يفسخ البيع ففسخ فعلى من تجب الصدقة؟ فيه قولان: أحدهما: على البائع؛ لأن الفسخ كان لشرط القطع فاستند إلى أصل العَقْد. وأصحها: أنها على المشتري لأن بدو الصلاح كان في ملكه فأشبه ما لو فسخ بعيب، فعلى هذا لو أخذ السّاعي من غير الثمار رجع البائع على المشتري. وقوله: "فينعقد سبب وجوب إخْراج الثمرة والحَب عند الجَفَاف" معناه إنا وإن قلنا: إن بدو الصلاحّ واشتداد الحب وقت الوجب، فلا نكلفه بالإخراج في الحال، لكن ينعقد حينئذ سبب وجوب إخراج الثمرة والزبيب والحب المصلى، ويصير ذلك مستحقاً للمساكين يدفع إليهم بالأجرة، ولو أخرج الرطب في الحال لم يجز؛ لما روي عن عتَّاب بن أَسِيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فِي زَكَاةِ الْكَرْمِ أَنَّهَا تُخْرَصُ كَمَا تُخْرَصُ النَّخْلُ، ثُمَّ تؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيباً كمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ الرَّطَبِ تَمْراً" (¬2). ولأن المُقَاسَمَة بيع على الصَّحِيح وبيع الرطب بالرطب لا يجوز، فلو أخذ السَّاعي الرطب لم يقع الموقع، ووجب الرد إن كان باقياً، وإن كان تالفاً فوجهان الذي نص عليه وقاله الأكثرون أنه ترد القيمة. والثاني: أنه يرد المثل، والخلاف مبنى على أن الرّطب والعِنَب مِثْلِيّان أم لا، وقد ¬
ذكر الخلاف فيه في الكتاب في "باب الغَصْب" وجعل الأظهر أنهما مِثْليان، فمن قال به حمل النص على ما إذا لم يوجد المثل (¬1). ولو جف عند الساعي نظر إن كان قدر الزكاة أجزأ وإلا رد التَّفَاوت أو أخذ، هكذا قال العراقيون، والأولى وجه آخر ذكره القاضي ابن كَجٍّ وهو أنه لا يجزئ بحال لفساد القبض من أصله. وقوله في الكتاب: "فلو أخذ الرطب في الحال كان بدلاً" أراد به أنه لا يقع الموقع؛ لأن البدل لا يجزئ في الزَّكاة إلا إذا فرضت ضرورة. واعلم أن ما ذكرناه أصلاً وشرحاً في أخذ الرطب مما يجيء منه التّمر والزبيب، فإن لم يكن كذلك فسيأتي. قال الغزالي: وُيسْتَحَبُّ (ح) أَنْ يُخَرّصَ عَلَيْهِ فَيُعْرَفَ مَا يَرْجِعُ إلَيهِ تَمْرًا، وَيَدْخُلُ فِي الخَرْصِ جَمِيعُ النَّخِيل، وَلاَ يُتْرَكُ بَعضُهُ (و) لِمَالِكِ النَّخِيلِ، وَهَلْ يَكْفِي خَارِصٌ وَاحِدٌ كالحَاكِمِ أَوْ لاَ بُدَّ مِنِ اثْنَيْنِ كَالشَّاهِدِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ. قال الرافعي: الأصل في الخَرْص ما روينا من حديث عتاب بن أسيد (¬2). وروي أيضاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "خَرَصَ حَدِيقَةَ امرَأَةٍ بِنَفْسِهِ" (¬3). وإنما يكون ذلك في الثمار دون الزروع؛ لأنه لا يمكن الوقوف عليها لاستتتارها، وأيضاً فإن الزروع لا تؤكل في حال الرّطوبة والثمار تؤكل، فيحتاج المالك إلى أن يخرص عليه، ويمكن من التصرف فيها ووقته بدُّو الصلاح. لما روي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَبعَثُ عَبْدَ اللهِ بنَ رَوَاحَةَ خَارِصاً أَوَّلَ مَا تَطِيبُ الثَّمَرَةُ" (¬4). وكيفيته أن يطوف بالنَّخلة ويرى جميع عَنَاقِيدها ويقول: خرصها كذا رطباً، ويجيء منه من التمر كذا، ثم يأتي نخلة أخرى فيفعل بها مثل ذلك إلى أن يأتي على جميع ما في الحديقة، ولا يقتصر على رؤية البعض وقياس الباقي عليه؛ لأنها تتفاوت، وإنما يخرص كل نَخْلة رطباً ثم تمراً؛ لأن الأَرْطَاب تَتَفَاوت فمنها: ما يكون أكثر نماء وأقل تمراً، ومنها ما يكون بخلاف ذلك، فإن اتَّحَدَ النوع جاز أن يخرص الجميع رطباً ثم تمراً، وفي الفصل بعد هذا مسألتان: ¬
إحداهما: هل تدخل النّخيل كلها في الخرص؟ الصَّحيح المشهور إدخال الكُل لإطلاق النّصوص المقتضية لوجوب العشر. وعن صاحب "التقريب" أن للشافعي -رضي الله عنه- قولاً في القديم أنه يترك للمالك نخلة أو نخلات يأكل منها أهله، ويختلف ذلك باختلاف حال الرجل في قلة عياله وكثرتهم (¬1). قال: وذلك في مقابلة قيامه بتربية الثمار إلى الجُذَاذ وتعبه في التَّجفيف. وقد يحتج له بما روي أن النّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا خَرَصْتُمْ فَاتْرُكُوا لَهُمُ الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَتْرُكُوا الثُّلُثَ، فاتْرُكُوا لَهُمُ الرُّبُعَ" (¬2). ومن قال بالصحيح قال: إما مؤنة الجُذَاذ والتَّجْفِيف فهي من خالص مال المالك، وكذا مؤنة التَّنْقِية في الحُبُوب لما سبق أن المستحق لهم هو اليَابس، وأما الخبر فهو محمول على ترك البعض لربِّ المال عند أخذ الزَّكَاة ليفرقه بنفسه على أقاربه وجيرانه، أي: لا يؤخذ بدفع جميع ما خرص عليه أولاً. الثَّانية: هل يكفي خارص واحد أم لا بدَّ من اثنين؟ فيه طريقان: أظهرهما: أن المسألة على قولين: أحدهما: أنه لا بد من اثنين؛ لأن الخرص تقدير للمال فأشبه التقويم. وأصحهما وبه قال أحمد: أنه يكفي واحد؛ لأنه يجتهد ويعمل على حسب اجتهاده، فهو كالحاكم، وقد روي أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- "بَعَثَ عبد الله بْنَ رَوَاحَةَ خَارِصاً (¬3) "، وروي "أَنَّهُ بَعَثَ مَعَهُ غَيْرَهُ" (¬4). فيجوز أن يكون ذلك في دفعتين، ويجوز أن يكون المبعوث معه معيناً أو كاتباً. وحكى القاضي ابن كج وغيره قولاً ثالثاً: وهو إن كان الخَرْص على صبي أو مَجْنُون أو غائب فلا بد من اثنين وإلاَّ كفى واحداً. والطريق الثاني وبه قال ابن سُرَيج والإصْطَخْري: القطع بأنه يكفي خارص واحد، وسواء أكتفينا بواحد أو اعتبرنا اثنين فلا بد من أَنْ يَكُون الخارص مسلماً عدلاً عالماً بالخَرْص، وهل تعتبر الذُّكُورة والحرية؟ ¬
قال في "العدة": إن اكتفينا بواحد فيعتبران، وإن قلنا: لا بد من اثنين جاز أن يكون أحدهما عبداً أو امرأة، وعن الشَّاشِي حكاية وجهين في اعتبار الذكورة مطلقاً، ولك أن تقول: إن اكتفينا بواحد فسبيله سبيل الحكم فينبغي أن تعتبر الحرية والذكورة، وإن اعتبرنا اثنين فسبيله سبيل الشهادات، فينبغي أن تعتبر الحرية أيضاً، وأن تعتبر الذكورة في أحدهما، وتقام امرأتان مقام الثاني. وأما لفظ الكتاب فقوله: "ويستحب أن يخرص عليه" يجوز أن يُعَلَّم بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة -رحمه الله- في الخَرْص روايتان: إحداهما: أنه لا يجوز أصلاً. والثانية: أنه لا يتعلق به التَّضمين كما هو أحد قولينا، ويجوز إعلامه بالواو أيضاً؛ لأن صاحب "البيان" ذكر أن الصيمري حكى وجهاً أن الخَرْص واجب. وقوله: "فيعرف ما يرجع إليه تمراً" تمثيل لا تخصيص، فإن الكرم أيضاً يخرص فيعرف ما يرجع إليه زبيباً. وقوله: "ولا يترك بعضه لمالك النخيل" مُعَلَّم بالواو؛ لما رواه صاحب "التقريب" وبالألف؛ لأن عند أحمد لا يحسب عليه ما يأكله بالمعروف ولا يطعم جاره وصديقه. وقوله: قبله ويدخل في الخرص جميع النخيل لو اقتصر عليه ولم يذكر "ولا يترك بعضه، لمالك النخيل" لكان بسبيل منه. وقوله: "أَوْ لاَ بُدَّ من اثنين"، يجوز إعلامه بالألف لما سبق. وقوله: "قولان" بالواو للطريقة القاطعة بالاكتفاء بواحد. قال الغزالي: وَمَهْمَا تَلِفَ بِآَفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى المَالِكِ لِفَوَاتِ الإمْكَانِ، وَلَوْ كَانَ بِإِتْلاَفِهِ غُرِّمَ قِيمَةَ عُشْرِ الرُّطَبِ عَلَى قَوْلِنَا: إنَّ الخَرْصَ عِبْرَةٌ، أَوْ قِيمَةُ عُشْرِ التَّمْرِ عَلَى قَوْلنَا: إنَّهُ تَضْمِينٌ، ثُمَّ إِذَا ضَمَّنَّاهُ التَّمْرَ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ فِي الجَمِيعِ، وَإِنْ لَمْ نُضَمِّنَهُ نَفَذَ فِي الأَعْشَارِ التِّسْعَةِ وَلَمْ يَنْفَذْ فِي العُشْرِ إِلاَّ إِذَا قُلْنَا: الزَّكَاة لاَ تَتَعَلَّقُ بِالعَيْنِ. قال الرافعي: حكى الأئمة قولين في أن الخَرْصَ عبرة، أو تضمين. أحدهما: أنه عبرة أي هو لاعتبار المقدار، ولا يصير حق المساكين بجريانه في ذمّة ربّ المال بل يبقى على ما كان؛ لأنه ظنّ وتَخْمِين فلا يؤثر في نقل الحق إلى الذمة. وأصحهما: أنه تضمين أي: حق المساكين ينقطع به عن عين الثمرة وينتقل إلى ذمة رب المال (¬1)، لأن الخَرْص يسلطه على التَّصرف في الجَمِيع على ما سيأتي وذلك ¬
يدل على انْقِطاع حقهم عنها، ولم أر نقل الخلاف في هذا الأصل هكذا إلاَّ لأصحاب القَفّال ومن تابعهم، وإن تعرضوا لإثاره، وجعله القاضي ابن كج وجهين لابن سريج، وذكر أن أبا الحسين قال بالثاني، وإن قلنا: الخرص عبرة فلو ضمن الخارص المالك حق المساكين صريحاً وقبله المالك كان لغواً ويبقى حقهم على ما كان، وقد فسر الإمام قولنا: إنه عبرة بأنه يفيد الإطْلاَع على المقدار ظَنًّا وحسباناً ولا يغير حكماً، وذكر صاحب الكتاب مثله في "الوسيط"، وليس الأمر فيه على هذا الإطلاق؛ لأنه يفيد جواز التصرف على ما سيأتي، ولو أتلف رب المال الثمار أخذت الزكاة منه بحسب ما خرص عليه، ولولا الخرص لكان القول قوله في ذلك، وإن قلنا: إنه تضمين، فهل يقول نفس الخرص تضمين أو لا بد من تصريح الخارص بذلك؟ نقل الإمام فيه وجهين. قال: والذي أراه أنه يكفي تضمين الخارص إن اعتبرناه، ولا حاجة إلى قبول المخروص عليه وما عليه الاعتماد، وأورده المعظم أنه لا بد من التَّصريح بالتضمين وقبول المَخْروص عليه، فإن لم يضمنه الخَارص أو لم يقبله المَخْروص عليه بقي حق المَسَاكين على ما كان. وهل يقوم وقت الخرص مقام الخرص؟ ذكروا فيه وجهين أيضاً (¬1)، وجه قولنا: نعم، أن العُشر لا يجب إلا تمراً، والخرص يظهر المقدار لا أنه يلزم بنفسه شيئاً، وينبغي أن يرتب هذا على المسألة الأولى، إن قلنا: لا بد من التصريح بالتضمين لم يقم وقت الخرص مقامه بحال، وإن أغنينا عنه فحينئذ فيه الخلاف. وقوله في الكتاب: "على قولنا: إنه تضمين" يجوز أن يُعَلَّم بالحاء، لما ذكرنا من الرواية الثانية عن أبي حنيفة -رحمه الله- في الفصل قبل هذا. إذا تقرر هذا الأصل ففيه ثلاث مسائل: إحداها: لو أصابت الثمار آفة سماوية أو سرقة إما من الشجرة أو من الجَرِين قبل الجَفَاف نظر إن أصابت الكل فلا شيء عليه لفوات الإمكان وهذه الحالة هي المرادة في الكتاب، ولا يخفى أن الفرض فيما إذا لم يكن منه تقصير. فأما إذا أمكن الدّفع فأخر أو وضعها في غير الحِرْز ضمن. قال الإمام: وكان يجوز أن يقال تفريعاً على أن الخرص تضمين: أن الضَّمَان يلزم بكل حالٍ ويلزم بالخرص ذمته التمر إلزام قرار، لكن قطع الأصحاب بخلافه، وإن تلف ¬
بعض الثمار دون بعض فإن كان الباقي نصاباً زكاة، وإن كان أقل من نصاب فيبنى على أن الإمكان شرط الوجوب أو الضّمان إن قلنا بالأول فلا شيء عليه، وإن قلنا بالثاني فعليه حصة الباقي. الثانية: لو أتلف المالك الثمرة أو أكلها، نظر إن كان قبل بُدُوّ الصّلاح فلا زكاة عليه، لكنه مكروه إن قصد الفرار من الزَّكَاة وإن قصد الأكل أو التخفيف عن الشجرة أو غرضاً آخر فلا كراهة، وإن كان بعد بدو الصلاح ضمن للمساكين ثم له حالتان: إحداهما وهي المقصودة في الكتاب: أَنْ يَكُونَ ذلك بعد الخَرْص، فإن قلنا: الخَرْص عبرة فيضمن لهم قيمة عشر الرطب أو عشر الرطب فيه وجهان: مبنيان على أن الرطب مثلى أو مُتَقَوّم، والذي أجاب به الأكثرون إيجاب القيمة، وهو المذكور في الكتاب، لكن الثاني هو المطابق لقوله في "الغصب" والأظهر أن الرطب والعنب مِثْلي، وبه أجاب في "الوسيط"، وإن قلنا: الخرص تضمين غرم للمساكين عشر الثمر، فإن ذلك قد ثبت في ذمته بالخرص على التفصيل الذي سبق. إذا عرفت ذلك قوله: "غرم قيمة عشر الرطب" بالواو، واعلم أن الصواب في عبارة الكتاب على القول الثاني أو عشر التمر على قولنا إنه تضمين، وفي أكثر النسخ أو قيمة عشر التمر وهو غلط. والحالة الثانية: أن يكون الأكل والإتْلاَف (¬1) قبل الخَرْص فيتقرر عليه، والواجب عليه ضمان الرطب (¬2)، إن قلنا: لو جرى الخَرْص كان عبرة، وإن قلنا: لو جرى لكان تضميناً فوجهان حكاهما الصيدلاني. أصحهما: أن الواجب عليه ضمان الرّطب أيضاً؛ لأن قبل الخَرْص لا يصير التَّمْر في ذمته. والثاني: عليه عشر التمر؛ لأن الزَّكَاة قد وجبت ببدو الصَّلاح، وإذا أتلف فهو الذي منع الخَرْص فصار كما لو أتلفه بعد الخرص. وحكى القاضي ابن كَجٍّ وجهاً آخر عن أبي إسحاق وابن أبي هريرة في هذه الحالة: أنه يضمن أكثر الأمرين من عشر التمر أو قيمة عشر الرطب. واعلم أن الحالتين جميعاً مفروضتان في الرّطب الذي يجيء منه التمر، والعنب الذي يجيء منه الزّبيب، فإن لم يكن كذلك فالواجب في الحالتين ضمان الرطب بلا خلاف. ¬
ولك أن تقول ينبغي أن يكون الواجب في الرّطب الَّذي يجيء منه التَمر ضَمَان التمر مطلقاً، وإن فرعنا على قول العبرة؛ لأن الواجب عليه ببدو الصلاح التمر أَلاَ تَراه قال في الكتاب: "عند بود الصلاح ينعقد سبب وجوب إخراج التمر" فإذا وجب لهم التمر فلم يصرف إليهم الرطب أو قيمته غايته أن الواجب متعلق به، لكن إتْلاَف متعلّق الحق لا يقتضي انقطاع الحق، وانتقاله إلى غرامة المتعلق، أَلاَ تَرَى أنه لو ملك خمساً من الإبل وأتلفها بعد الحول يلزمه للمساكين شاة دون قيمة الإبل؟ نعم لو قيل: يضمن الرطب ليكون مَرهُوناً بالتَّمْر الواجب إلى أن يخرجه كان ذلك مناسباً، لقولنا: إن الزَّكَاة تتعلَّق بالمَال تعلّق الدين بالرَّهْن. المسألة الثالثة: في تصرف المالك فيما خرص عليه بالبيع والأكل وغيرهما، وهو مبني على قولي التَّضْمين والعبرة، فإن قلنا بالتضمين فله التصرف في الكل بيعاً وأكلاً، وقد روي أن النّبي -صلى الله عليه وسلم- قال في آخر خبر عتَّاب: "ثُمَّ يُخَلَّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ أهْلِهِ" (¬1). وكان من مقاصد الخَرْص وفوائده التَّمكين من التَّصرف شرع ذلك لما في الحجر على أصحاب الثمار إلى وقت الجفاف من الحرج العظيم، وإن قلنا بالعبرة فقد ذكر الأئمة أن تصرفه في قدر الزَّكَاة مبني على الخلاف في تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بالعَيْن أو بالذِّمة كما سبق، وأما فيما عدا قدر الزَّكَاة فينفذ. حكى الإمام قطع الأصحاب (¬2) به ووجهه بأن أَرْباب الثِّمَار يتحملون مؤنة تربيتها إلى الجَفَاف، فجعل تمكينهم من التَّصرف في الأَعشار التسعة في مقابلة ذلك بخلاف المواشي حيث ذكرنا في التَّصرف فيما وراء قدر الزَّكاة منها خلافاً، وإن بقي قدر الزَّكاة وحجة الإسلام تابعه على دعوى القَطْع في "الوسيط"، لكنك إذا راجعت كتب أصحابنا العراقيين ألفيتهم يقولون: لا يجوز الْبَيع ولا سائر التصرفات في شيء مكن الثِّمَار في ذمته بالخَرْص، فإن أرادوا بذلك نفي الإباحة ولم يحكموا بالفساد فذلك، وإلا فدعوى القطع غير مسلمة والله أعلم. وكيف ما كان ظاهر المَذْهب نفوذ التَّصرف في الأَعْشار التسعة، سواء أفردت ¬
بالتَّصرف أو وردت بالتَّصرف على الكُلِّ؛ لأنا وإنْ حكمنا بالفساد في قدر العُشْر فلا نعديه إلى البَاقي على ما سيأتي في باب تَفْرِيق الصَّفقة، فهذا حكم التَّصَرف بعد الخرص، وأما قبله فقد قال في "التهذيب": لا يجوز أن يأكل شيئاً ولا أن يصرف في شيء، فإن لم يبعث الحاكم خارصاً، أو لم يكن حاكم تَحَاكم إلى عَدْلَين يخرصا عليه. واعلم أن مَنْ أَجَاد النظر في قولي العبرة والتضمين وتأمل ما قيل فيهما تَفْسيراً وتوجيها ظهر له أنهما مبنيان على تعلّق الزكاة بالعين، فأما إذا علقناها بالذِّمَّة فكيف نقول بالخَرْص ينقطع حقّهم عن العين ويتعلق بالذمة وكان قبله كذلك. وقوله في الكتاب: "ولم ينفذ في العشر" يجوز إعلامه بالواو، لأنا وإن علقنا الزَّكاة بالعَيْن فقد ينفذ التَّصَرُّف على بعض الأقوال على ما بيناه من قبل. قال الغزالي: وَمَهْمَا ادَّعىَ المَالِكُ جَائحَةً مُمْكنَةً صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَإنِ ادَّعىَ غَلَطَ الخَارِصِ صُدِّقَ أَيْضاً إلاَّ إِذَا ادَّعىَ قَدْراً لاَ يُمْكِنُ الغَلَطُ فِيهِ أَوِ ادَّعَى كَذِبَهُ قَصْداً. قال الرافعي: إذا ادعى المالك هلاك الثِّمَار المخروصة عليه أو هلاك بعضها، نظر إن أسنده إلى سبب يكذبه الحس (¬1) فيه كما لو قال: هلك بحريق وقع في الجَرين، ونحن نعلم أنه لم يقع في الجَرِين حريق أصلاً، قال: فلا يبالي بكلامه، وإن لم يكن كذلك، نظر إن أسنده إلى سبب خفي كالسرقة فلا يكلف بالبينة عليه ويقبل قوله مع اليمين. وهل هي واجبة أو مستحبة؟ فيه وجهان: قال في "العدة" وغيره: أصحهما الثاني، وإن أسند إلى سبب ظاهر كالنّهب والبَرْد والجَرَاد ونزول العسكر، فإن عرف وقوع هذا السبب وعموم أثره صدق ولا حاجة إلى اليمين، فإن اتَّهم في هلاك ثماره بذلك السّبب حلف وإن لم يعرف وقوعه فوجهان: ¬
أظهرهما الَّذي ذكره المعظم: أنه يطالب بالبينة عليه لامكانها ثم القول في حصول الهَلاَك بذلك السَّبَبِ قوله مع اليمين. والثَّاني عن الشيخ أبي محمد: أن القول قوله مع اليَمِين ولا يكلّف البينة؛ لأنه مؤتمن شرعاً فيصدق في الممكن الذي يدعيه كالمودع إذا ادعى الرد، ورأيت في كلام الشيخ أن هذا إذا لم يكن ثقة، فإذا كان ثقة فيغني عن اليَمِينِ أيضاً، وما في الكتاب جواب على الوجه الثاني، فإنه جعل القول قوله مع اليمين ولم يشرط إلا الإمكان فيجب إعلامه بالواو. وحيث قلنا: يحلف ففي كون اليمين واجبة أو مستحَبَّة ما سبق من الوجهين هذا كله إذَا أسند الهلاك إلى سبب فإن اقتصر على دعوى الهلاك، فالمفهوم من كلام الأصحاب قبوله مع اليَمِين حَمْلاً على وجه يغني عن البينة (¬1). وإن ادعى المالك إجْحَافاً في الخَرْص، فإن زعم أن الخَارِص تعمد ذلك لم يلتفت إلى قوله -كما لو ادَّعى الميل على الحَاكِم، والكَذب على الشَّاهد لا يقبل إلا ببينة (¬2)، وإن ادعى أنه غلط فإن لم يبين المقدار لم تسمع أيضاً، ذكره في "التهذيب"، وإنْ بين فإن كان قدراً يحتمل في مثله الغلط كخمسة أوْسق في مائة قُبِل، فإن اتهم حلف وحط، وهذا إذا كان المُدّعى فوق ما يقع، أما لو ادَّعَى بعد الكَيْل غلطاً يسيراً في الخَرْص قدر ما يقع بين الكَيْلَيْن فهل يحط؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، لاحتمال أَنَّ النُّقْصَان وقع في الكيل، ولعله يَفي إذا كِيلَ ثانياً، وصار كَمَا لو اشْتَرى حِنْطَة مُكَايَلَةً وباعها مُكَايَلَةً فانتقض بقدر ما يقع بين الكَيْلَيْن لا يرجع على الأول؛ لأنه كما يجوز أن يكون ذلك لنقصان في الكيل الأول يجوز أن يكون لزيادة في الثاني. وأصحهما: نعم، لأن الكيل يقين والخرص تَخْمين وظن فالإحالة عليه أولى (¬3)، وإن ادْعى نُقْصاناً فاحشاً لاَ يَجُوز لأهل النظر الغلط بمثله فلا يقبل. قوله: في حظ ذلك القدر، وهل يحط القدر المحتمل؟ فيه وجهان: ¬
أحدهما: لا، لأنه ادعى مُحَالاً في العادة فالظاهر كذبه. وأصحهما: نعم، وبه قال القَفَّال استنباطاً مما إذا ادعت ذات الإِقْرَاء انقضاء عدّتها قبل زمان الإمكان وكذبناها فأصرت على دعواها حتى جاء زمان الإمكان فإنا نحكم بانقضاء عدتها عند أول زمان الإمكان. وقوله في الكتاب: "وادَّعى كذبه قصداً" معطوف على قوله: "إلا إذا ادعى قدراً لا يمكن الغلط فيه" وهو مستثنى من دعوى الغلط، لكن استثناء الكذب قصداً من الغلط لا يكاد ينتظم فليُؤَوَّلْ والله أعلم. قال الغزالي: وَمَهْمَا أَصابَ النَّخِيلَ عَطَشٌ يَضُرُّ بِإبْقَاءِ الثِّمَارِ جَازَ للمَالِكِ قَطْعُهُ لِأَنَّ فِي إبْقَاءِ النَّخِيلِ مَنْفَعَةً لِلْمَسَاكِينِ ثُمَّ يُسَلَّمُ إلَى المِسْكينِ عُشْرُ الرُّطَب إِذَا قُلْنَا: القِسْمَةُ إفْرَازُ حَقّ أَوْ ثَمَنُهُ إِذَا مَنَعْنَاهُ القِسْمَةَ، وَقِيلَ: يَتَخَيَّرُ إِذْ لاَ يَبْعَدُ جَوَازُ القِسْمَةِ لِلحَاجَةِ كمَا لاَ يَبْعَدُ أَخْذُ البَدَلِ لِلْحَاجَةِ فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الآخَرِ. قال الرافعي: إذا أصاب النخيل عطش، تركت الثمار عليها إلى وقت الجُذَاذ لأضرت بها لامْتِصَاصها ماءها جاز قطع ما يندفع به الضرر إما كلها أو بعضها؛ لأن إبقاء النَّخِيل أنفع للمالك والمساكين من إبقاء ثمرة العام الوَاحِد وهل يستَقِلُّ المالك بقطعها أو يحتاج إلى اسْتئْذَان الإمام والسّاعي؟ ذكر الصَّيدلاَنِي وصاحب "التهذيب" وطائفة: أنه يستحب الاستئذان، وقضيته جواز الاستقلال، وذكر آخرون: أنه ليس له الاستقلال، ولو قطع من غير اسْتِئْذَان عزِّر إن كان عَالِماً (¬1)، ويجوز أن يكون هذا الخِلاَف مبنياً على الخِلاَف في وجه تعلُّق الزَّكَاة. إذا عَرفت ذلك فلو أعلم السَّاعي به قبل القطع وأراد المُقَاسَمَة بأن يخرص الثِّمار ويعين حق المساكين في نخله، أو نخلات بأعيانها، فقد حكوا في جوازه قولين مَنْصُوصَيْن، وقالوا: أهما مبنيان على أن القسمة إفراز حق أو بيع؟ إن قلنا: إفراز فيجوز للسَّاعي أن يبيع نصيب المَسَاكين من المالك أو غيره، وأن يقطع ويفرق بينهم يفعل ما فيه الحظ لهم، وإن قلنا: إنه بيع فَلاَ يَجُوز، وعلى هذا الخلاف يخرج القسمة بعد قطعها، فإن جعلناها إفرازاً فيجوز، وإن جعلناها بيعاً فقد ذكر الإمام أن قسمتها تخرج على بيع الرّطب الذي لا يُتَتَمَّر بمثله وفيه خلاف يذكر في البيع، فإن جاز جازت القسمة بالكيل وإن لم يجز ففيه وجهان: أحدهما: أن مُقَاسمته للساعي جائزة أيضاً؛ لأنها ليست بمعاوضة وإنما هي استيفاء حق، فلا يراعي فيه تعبدات الرِّبا، وأيضاً فإنها وإن كانت بيعاً فإن الحاجة ماسة إلى تجويزها ¬
فتستثنى عن البياعات الصريحة، ويحكي هذا الوجه عن أبي إسحاق وابْنِ أَبِي هريرة. وأصحهما: عند القاضي أبي الطَّيِّب وابن الصَّبَّاغ والأكثرين: أنها غير جائزة؛ لأنا نفرع على أن القِسْمة بيع وبيع الرطب بالرطب لا يجوز، وعلى هذا فالمفروض طريقان: أحدهما: أخذ قيمة العشر من الثَّمَار المقطوعة، وهي إنْ كَانَتْ بدلاً لكن جوز بعضهم أخذها للحاجة على ما سبق نظيره فيما إذا وجب شقص من حيوان. والثاني: أين يسلم عشرها مشاعاً إلى السَّاعي لتعيين حق المساكين فيه، وطريق تسليم المشاع تسليم الكل، فإذا جرى ذلك فللساعي أن يبيع نصيب المساكين من رَبِّ المال أو غيره أو يبيع مع رب المال الجميع ويقتسما الثّمن، ولا خلاف في أن هذا الطَّرِيق جائز وهو متعين عند من لم يجوز القِسْمة وأخذ القيمة، وخيَّر بعض الأَصْحَاب السَّاعي بين القِسْمة وأخذ القيمة، وقال: كل منهما على خلاف القاعدة الممهّدة، ولا بد من مخالفتها في أحدهما بسبب الحاجة، فيفعل ما فيه الحظ للمساكين، هذا بيان الخلاف في المسألة، وقد اختلفوا بحسبه في تفسير نصه في "المختصر"، ويؤخذ منه ثمن عشرها أو عشرها مقطوعة، فمن جَوَّز القسمة وأخذ القيمة جَمِيعاً حمل اللَّفظ على ظاهر التّخيير، وقال: أراد بالثمن القيمة ومن لم يجوزهما قال: هذا تعليق قول بناء على أن القسمة إفراز أو بيع، فإن قلنا بالأول أخذ عشرها وإن قلنا بالثَّاني بيع الكُل على ما قَدَّمنا واقتسما الثّمن أو باع نَصِيبَ المَسَاكِين من رَبِّ المَال بعد القَبْض وأخذ الثمن. وقوله في الكتاب: "أو ثمنه إذا منعناه القسمة" أي إذا جعلناها بيعاً فإنها حينئذ تمتنع في الرّطب وهو جواب على جواز أخذ القيمة، فيجوز أن يُعَلَّم بالواو للوجه الذَّاهِب إلى امتناعه، وإيراد "التهذيب" يقتضي ترجيح ذلك الوجه، وكان يجوز تأويل قوله: "أو ثمنه" على تقدير البيع كما ذكروا في نَصّ الشَّافعي -رضي الله عنه- إلاَّ أنه صرح بما ذكرنا في "الوسيط". واعلم: أن ما ذكرناه من الخلاف والتَّقْسيم في إخراج الواجب يجري بعينه في إخراج الواجب، وعن الرطب الذي لا يتتمر والعنب الذي لا يَتَزَبَّب، وفي المسألتين مستدرك حسن لإمام الحرمين -رحمه الله- قال: إنما يثور الإشكال على قولنا: إن المسكين شريك في النصاب بقدر الزكاة، وحينئذ ينتظم التَّخْريج على القَوْلَين في القسم، فأما إذا لم نجعله شَرِيكاً، فليس تسليم جزء إلى الساعي قسمة حتى يأتي فيه قولاً القسمة بل هو تَوْفِيَةُ حق على مستحق (¬1). ¬
قال الغزالي: النَّوْعُ الثَّالِثُ فِي زَكَاةِ النَّقْدَيْنِ وَالنَّظَرِ فِي قَدْرِهِ وَجِنْسِهِ (أَمَّا القَدَرُ) فَنِصَابُ الوَرِقِ مَائَتَا دِرْهَمٍ، وَنِصَابُ الذَّهَبِ عِشْرُونَ دِينَاراً، وَفِيهِمَا رُبْعُ العُشْرِ، وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ، وَلاَ وَقْصَ (ح) فِيهِ. قال الرافعي: الكلام في هذا النوع في القدر الواجب فيه، ثم في جنسه. أما الأول فنصاب الورق مائتا درهم، ونصاب الذَّهَبِ عِشْرُون ديناراً، وفيهما رُبُعُ العُشْرِ، وهو خمسة دراهم ونصف دينار، ولا شيء فيما دون ذلك. روي عن أبى سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ" (¬1). والأوقية: أربعون درهماً؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذَا بَلَغَ مَالُ أَحَدِكُمْ خَمْسَ أَوَاقٍ مَائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَفِيهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ" (¬2) ويجب فيما زاد على المائتين والعشرين بالحساب قَلَّ أو كثرَ، ولا وَقْصَ فِيهِ، خِلافاً لأبي حنيفة، حيث قال: لا يجب فيما زاد على المائتين شيء حتى يبلغ أربعين دِرْهماً، ولا فيما زاد على عِشْرين ديناراً حتى يبلغ أربعة دنانير، ففيها ربع العشر، ثم كذلك في كل أربعين درهماً أربعة دنانير. لنا: ما روي عن علي -كرم الله وجهه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هَاتُوا رُبْعَ العُشْرِ مِنَ الْوَرَقِ، وَلاَ شَيْءَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ مَائَةَ دِرْهَمٍ، وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ" (¬3). وروي مثله في الذَّهَبِ وفي النَّقْدَيْنِ جميعاً، لا فرق بين التّمْر والمَضْرُوب، والاعتبار بالوزن اِلذي كَانَ بَمكَّة: لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْمِيزَانُ مِيزَانُ أَهْلِ مَكَّةَ، وَالْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أْهْلِ الْمَدِينَةِ" (¬4) وذلك ظاهر في الدَّنَانِير، وقد ذكر الشَّيْخُ أبو حامد وغيره أن المِثْقَال لم يختلف في جَاهِلِيَّةٍ ولا إسلام، وأما الدراهم فلا شك أنها كانت ¬
مختلفة الأوزان، والذي استقر الأمر عليه في الإسلام أن وزن الدرهم الواحد ستة دوانيق، كل عشرة منها سَبْعَةَ مَثَاقِيلٍ مِنْ ذَهَبٍ، وذكروا في سبب تقديرها بهذا الوزن أموراً. أشهرها: أن غالب ما كانوا يتعاملون به من أنواع الدراهم في عَصْرِ الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- والصَّدْرِ الأول بعده نوعان البغلية والطبرية. والدرهم الواحد من البَغْلِيَّة ثمانية دوانيق، ومن الطَبَرِيَّة أربعة دوانيق فأخذوا واحداً من هذه وواحداً من هذه وقسموهما نصفين، وجعلوا كُلَّ وَاحِدٍ دِرْهماً، يقال: فعل ذلك في زمان بني أمية، وأجمع أهل ذلك العصر على تقدير الدراهم الإسلامية بها، ونسب أقضى القضاء المَّاوَرْدِي ذلك إلى فِعلِ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: ومتى زدت على الدرهم الواحد ثلاثة أسباعه كان مثقالاً، ومتى نقصت من المثقال ثلاثة أعشاره كان درهماً، وكل عَشْرَة دراهم سَبْعَةُ مَثَاقِيلٍ. وكل عشرة مثاقيل أربعة عشر درهماً وسبعان، وحكى المسعودي أنه إنما جعل كل عشرة دراهم بوزن سبعة مثاقيل من الذَّهَبِ؛ لأن الذهب أوزن من الفِضَّة، وكأنهم جربوا قدراً من القصة، ومثله من الذهب فوزنوهما، وكان وزن الذَّهَبِ زائداً على وزن الفِضَّةِ بمثل ثلاثة أسباعها. وروى الشيخ أبو محمد قريباً من هذا عن كلام القَفَّالِ -رحمه الله-. وأما المواضع المستحقة للعلامات من الفصل فقوله: "وما زاد فبحسابه". وقوله: "ولا وقص فيه" مُعَلَّمَان بالحاء؛ لما حكيناه، ويجوز أن يعلم قوله: "عشرون مثقالاً"، وقوله: "مائتا درهم" بالميم والألف لأنهما يحتملان النقصان اليسير. قال الغزالي: وَإِنْ نَقَصَ مِنَ النِّصَابِ حَبَّةٌ فَلاَ زَكاةَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ يَرُوجُ (ح) رَوَاجَ التَّامِّ، وَيُعْتَبَرُ (ح) النِّصَابُ فِي جَمِيعِ الحَوْلِ، وَلاَ يُكْمَلُ (ح) نِصَابُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالآخَرِ وَلَكِنْ يُكَمَّلُ جَيِّدُ النَّقْرَةِ بِرَديئهَا ثُمَّ يُخْرَجُ مِنْ كُلٍّ بِقَدْرِهِ، وَلاَ زَكَاةَ فِي الدَّرَاهِمِ المَغْشُوشَةِ مَا لَمْ يَكُنْ قَدْرُ نُقْرَتِهَا نِصَاباً، وَتَصِحُّ المُعَامَلَةُ مَعَ الجَهْلِ بِقَدْرِ النُّقْرَةِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ كالغَالِيَة وَالمَعْجُونَاتِ. قال الرافعي: في الفصل صور: إحداها: لو نقص عن النِّصَاب شيء فلا زَكَاة وإن قَلَّ كالحبة والحبتين، ولا فرق بين أن يَرُوج رَوَاجَ التَّام، أو يفضل عليه وبين ألا يكون كذلك، وفضله على التام إنما يكون لجودة النوع، ورواجه رواج التام قد يكون للجودة، وقد يكون لندارة القدر الناقص وقوعه في محل المسامحة. وعن مالك: أنه إذا كان الناقص قدر ما يسامح به فيؤخذ بالتام يجب الزكاة. ويروى عنه: أنه إذا نقص حبة أو حبات في جميع الموازين فلا زَكَاة، وإن
نقص في ميزان دون ميزان وجبت. وعن أحمد: أنه لو نقص دانق أو دانقان تجب الزَّكَاة. لنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ" (¬1) وسائر الأخبار. وحكى في "العدة": وجهين فيما لو نقص في بعض الموازين وتَمَّ في بَعضٍ. أصحهما: أنه لا يجب، وهذا هو الذي أورده المُحَامِلِيُّ وقطع به إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بعد ما حكى عن الصيدلاني الوجوب. الثانية: يشترط ملك النصاب بتمامه في جميع الحول خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- حيث قال: "يشترط في أول الحول وآخره ولا يضر نقصان في خلال الحول" وطرد ذلك في المواشي وغيرها، ولم يشترط الإبقاء شيء في النصاب. لنا (¬2) الخبر المشهور: "لاَ زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ" (¬3) والحادث بعد نقصان النِّصَابِ لَمْ يَحُلْ عليه الْحَوْلُ. الثالثة: لا يكمل نصاب أحد النقدين بالآخر، لأنهما جِنْسَان مُخْتَلِفَان؛ كما لا يكمل التمر بالزَّبِيب، وقال مالك وأبو حنيفة: يكمل نصاب أَحدهما بالآخر. وبه قال أَحْمَدُ في أصَحِّ الرَوايتين، ثم عنده وعند مالك الضَّمُ بالأجزاء، فيحسب كَمَّ الذهب من نصابه، وَكَمّ الفِضَّة من نِصَابها، فإذا بَلَغَا نِصاباً وجبت الزَّكَاة. وعند أبي حنيفة: الضم بالقيمة، وبأيهما كمل النصاب وجبت الزَّكاة، وبكمل الجَيِّدُ بِالرَّدِي من الجنس الواحد كأنواع الماشية. وأما الذي يخرج قال في الكتاب: "يخرج من كل واحد بقدره" وهذا إذا لم تكثر الأنواع وهو الغالب في الذهب والفضة، فإن كثرت وشق اعتبار الكل أخرج من الوسط، ذكره صاحب "الشامل" و"التهذيب" وغيرهما. وليس المراد من الجيد والرديء الخالص والمغشوش، وإنَّمَا الْكَلام في مَحْضِ النقرة، وجودته ترجع إلى النعومة والصبر على الضرب، ونحوهما، والرداءة إلى الخشونة، والتَّفَتُّتْ عند الضرب. ولو أخرج الجيد عن الرديء فهو أفضل، وإن أخرج الرديء عن الجَيِّد فالمشهور المنع، وروى الإمام عن الصيدلاني الإجزاء، وَخَطَّأه فيه، ويجوز إخراج الصَّحيح عن المكسر، ولا يجوز عكسه، بل يجمع المستحقين ويصرف إليهم الدينار الصَّحيح، أو يسلِّمه إلى واحد بإذن الباقين، هذا هو المذهب المشهور في المذهب. وحكى أبو العباس الروباني في "المسائل الجرجانيات" عن بعض الأصحاب أنه يجوز أن يصرف إلى كل واحد منهم ما يخصه مُكَسَّراً. وعن بعضهم أنه يجوز ذلك، ولكن مع التفاوت ¬
بين المكسر والصحيح. وعن بعضهم أنه إن لم يكن في المعاملة فرق بين الصحيح والمكسر جاز أداء المكسر عن الصحيح. الرابعة: إذا كانت له دراهم، أو دنانير مَغْشُوشة فلا زكاة فيهما ما لم يبلغ قدر قيمتهما نصاباً، خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- حيث قال: "إن كان العشر أقلّ وجبت فيها الزَّكاة". لنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرَقِ صَدَقَةٌ" (¬1). فإذا بلغت نقرتها نصاباً أخرج قدر الواجب نقرة خَالِصَة، أو أخرج من الْمَغْشُوشِ ما يعلم أنه مشتمل على قدر الواجب، ولو أخرج عن ألف درهم مغشوشة خمسة وعشرين خالصة فى تطوع بالفضل، ولو أخرج عن مائتي درهم خالصة خمسة مغشوشة لم يجز، خلافاً لأبي حنيفة. لنا: القياس على ما لو أخرج مريضة عن الصِّحاح وبل أولى؛ لأن الغش ليس بورق، والمريضة إبل، وإذا لم يجزه فهل له الاسترجاع، حكوا عن ابن سريج فيما فرع على "الجامع الكبير" لمحمد فيه قولين: أحدهما: لا؛ كما لو أعتق رقبة معيبة يكون متطوعاً بها. وأصحهما: نعم؛ كما لو عَجَّل بالزكاة فتلف ماله. قال ابن الصَّباغ: وهذا إذا كان قد بين عند الدفع أنه يخرج عن هذا المال، ثم ذكر الشَّافعي -رضي الله عنه- في هذا الموضع كراهة الدرهم المغشوش، فقال الأصحاب في شروحهم: يكره للإمام ضرب الدراهم المغشوشة (¬2)؛ لئلا يغش بها بعض النَّاس بعضاً، ويكره للرَّعِيَّة ضَرْب الدراهم وإن كانت خالصة، فإنه من شأن الإمام، ثم الدراهم المغشوشة إن كانت مضبوطة العيار صَحَّت المعاملة (¬3) بها إشارة إلى عينها الحاضرة والتزاماً لمقدارِ منها في الذِّمة، وإن كان مقدار النّقرة منها مَجْهُولاً ففي جواز المُعَامَلة بأعيانها وجهان: أصحهما الجواز: لأن المقصود رَوَاجُهَا وهي رائجة بمكان السِّكة، ولأن بيع الغالية والمعجونات جائز، وإن كانت مختلفة المقدار فكذلك هاهنا. والثاني: المنع، وبه أجاب القفال؛ لأنها مقصودة باعتبار ما فيها من النقرة وهي مجهولة القدر، والإشارة إليها لا تفيد الإحاطة بقدر النقرة فأشبه بيع تراب المعدن وتراب الصاغة، فإن قلنا بالأول فلو باع بدراهم مطلقاً ونقد البلد مغشوش صَحَّ العقد ووجب من ذلك النَّقْد، وإن قلنا: بالثاني لم يَصِحّ العقُدُ، ومواضع العلامات من الفَصْل بَيِّنَةٌ. ¬
قال الغزالي: وَلَوْ كَانَ لَهُ ذَهَبٌ مَخْلُوطٌ بِالفَضَّةِ قَدْرُ أَحَدِهِمَا سِتِّمَائَةٍ وَقَدْرُ الآخَرِ أَرْبَعْمَائَةٍ، وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ وَعَسُرَ التَّمْييزُ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ سِتَّمَائَةٍ ذَهَباً وَستِّمَائَةٍ نُقْرَةً لِيَخْرُجَ مِمَّا عَلَيْهِ بِيَقِينٍ. قال الرافعي: لو كان له ذهب مخلوط بفضَّة فإن عرف قدر كل واحد منهما أخرج زكاته، وإن لم يعرف كما لو كان وزن المجمَوع ألفاً وإحداهما ستمائة والآخر أربعمائة وأشكل عليه أن أكثر الذَّهب، أو الفِضَّة فإن أخذ الاحتياط فأخرج زكاة ستمائة من الذَّهَب وستمائة من الفضة فقد خرج عن العُهْدَة بيقين، ولا يكفيه في الاحتياط أن يقدِّر الأكثر ذهباً، فإن الذهب لا يُجْزِئ عن الفِضَّة وإن كان خيراً منها، وإن لم يطب نفساً بالاحتياط فليميز بينهما بِالنَّار (¬1). قال الأئمة: ويقوم مقامه الامتحان بالماء بأن يوضع قدر المخلوط من الذَّهب الخالص في ماء ويعلَّم على الموضع الذي يرتفع إليه الماء، ثم يخرج ويوضع مثله من الفضة الخالصة ويعلَّم على موضع الارتفاع أيضاً، وتكون هذه العلامة فوق الأولى؛ لأن أجزاء الذهب أشد اكتنازاً ثم يوضع فيه المخلوط وينظر إلى ارتفاع الماء به أهو إلى علامة الذَّهَب أقرب، أو إلى علامة الفِضّة، ولو غلب على ظَنِّه أن أكثر الذَّهب، أو الفضة فهل له العمل بمقتضاه؟ قال الشيخ أَبُو حَامِدٍ ومن تابعه: إن كان يخرج الزَّكاة بنفسه فله ذلك، وإن كان يسلم إلى الساعي لا يعمل بظنه بل يأخذ بالاحتياط أو يأمر بالتمييز. وقال الإمام: الذي قطَع به أَئمتنا أنه لا يجوز اعتماد الظَّنِّ فيه، ويحتمل أن يجوز له الأخذ بما شاء من التقديرين وإخراج الواجب على ذلك التقدير؛ لأن اشتغال ذمَّتَه بغير ذلك غير معلوم. وصاحب الكتاب حكى هذا الاحتمال وجهاً في "الوسيط". إذا عرفت ذلك علمت قوله في الكتاب: " (فعليه زكاة ستمائة ذهباً وستمائة نقرة) بالواو"، لهذا الوجه، ولأن على ما ذكره العراقيون قد يجوز الأخذ بِالظَّنِّ فلا يلزم إخراج ستمائة من هذا أو ستمائة من ذلك ثم قوله: "وعسر التمييز فعليه كذا" ليس هذا ¬
على الإطلاق إذ قد يعسر التمييز ويمكن الامتحان بالماء ومعرفة المقدارين فلا يجب ستمائة من هذا وستمائة من ذاك، وعسر التمييز بأن يفقدا الآت السَّبْك، أو يحتاج فيه إلى زمان صالح، فإن الزكاة واجبة على الفور، ولا يجوز تأخيرها مع وجود المُسْتَحِقّينَ، ذكر ذلك في "النهاية"، ولا يبعد أن يجعل السبك أو ما في معناه من شروط الإمكان. قال الغزالي: وَلَوْ مَلَكَ مَائَةً نَقْداً وَمَائَةً مُؤَجَّلاً عَلَى مَلِيِّ وَلَمْ نُوجِبْ عَلَيْهِ تَعْجِيلَ زَكَاةِ المُؤَجَّلِ وَجَبَ إِخْرَاجُ حِصَّةِ النَّقْدِ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ المَيْسُورَ لاَ يَتَأخَّرُ بِالْمَعْسُورِ. قال الرافعي: لو ملك مائة درهم نقد في يده ومائة مؤجلة على مَلِيِّء فكيف يُزَكِّي؟ يبني ذلك على أن الدِّيْن المُؤَجَّل هل تَجِب فيه الزَّكَاة أم لا؟ والصحيح الوُجُوب، وعلى هذا فهل يجب الإخراج في الحال أولاً يجب إلا بعد الاستيفاء؟ فيه وجهان والصحيح الثاني، وقد شرحنا الخلاَفين من قبل، فإن قلنا: لا زكاة في الدَّيْنِ المُؤَجَّل فَلاَ شَيْءٍ عَلَيْهِ في المَسْأَلَةِ، وإن إوجبنا إخراج زَكَاته في الحال فهو كما لو كان في يده جميع المائتين، وإن أوجبنا فيه الزّكاة ولم نوجب أخراجها في الحال وهو المراد من قوله في الكتاب: (ولم نوجب عليه تعجيل الزكاة عن المؤجل)، فهل يَلْزَمَه الإِخْرَاجُ عَمَّا في يَدِه بِالْقِسْطِ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن ما في يَدِهِ نَاقِصٌ عنْ النِّصَابِ، فإذا لم يجب إخْرَاجُ زكاة جميع النِّصَاب لا يجب إخراج شيء. وأصحهما: نعم؛ لأن الميسور لا يتأخر بالمعسور، وبنوا الوجهين على أن الإمكان شرط الوجوب أو شرط الضمان؟ إن قلنا بالأول: فلا يلزمه إخراج شيء في الحال؛ لأنه رُبَّمَا لا يصل إليه الباقي، وبهذا القول أجاب في "المختصر" في هذا الفرع، وإن قلنا بالثاني: أخرج عن الحاضر بالقسط؛ لأن هلاك الباقي لا يسقط زكاة الحاصل في يده ومتى كان في يده بعض النِّصاب، وما يتم به النصاب مغصوب أو دين على غيره، ولم نوجب فيهما الزكاة، فإنما يَبْتَدِيءُ الحَوْلَ من يوم قبض ما يتم به النِّصَاب. قال الغزالي: النَّظَرُ الثَّانِي فِي جِنْسِهِ، وَلاَ زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْ نَفَائِسِ الأمْوَالِ إلاَّ فِي النَّقْدَينِ، وَهُوَ مَنُوطٌ بجَوْهَرِهِمَا عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ، وَفِي الثَّانِي مَنُوطٌ بِالاسْتِغْنَاءِ عَنْ الانْتِفَاعِ بِهِمَا حَتَّى لَوْ اتَّخِذَ مِنْهُ حُلِيٌّ عَلَى قَصْدِ اسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى قَصْدِ اسْتِعمَالٍ مَحْظُورٍ كَمَا لَوْ قَصَدَ الرَّجُلُ بِالسِّوَارِ أَوِ الخُلْخَالِ أَنْ يَلْبَسَهُ أَوْ قَصَدَتِ المَرْأَةُ ذَلِكَ فِي الْمِنطَقَةِ وَالسَّيْفِ لَمْ تَسْقُطِ الزَّكَاةُ، لِأَنَّ المَحْظُورَ شَرْعاً كَالمَعْدُومِ حِسًّا،
بَلْ لاَ يَسْقُطُ إِذَا قَصَدَ أَنْ يَكْنِزَهُمَا حُلِيًّا لِأنَّ الاسْتِعْمَال المُحْتَاجَ إِلَيْهِ لَمْ يَقْصِدْهُ. قال الرافعي: لا زكاة فيما سوى النقدين من الجواهر النفيسة، كاللؤلؤ، والياقوت ونحوهما، ولا في المسك والعنبر، روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "لاَ شَيْءَ فِي الْعَنْبَرِ" (¬1). وعن عائشة -رضي الله عنها-: أنه: "لاَ زَكَاةَ فِي اللُّؤلُؤِ" (¬2). وبما تناط زكاة النقدين أتناط بجوهرهما؟ أم بالاستغناء عن الانتفاع بهما؟ فيه قولان: في قول: يناط بجوهرهما كالربا في قول بالاستغناء عن الانتفاع بهما؛ إذ لا يتعلق بذاتهما غرض، وبقاؤهما في يده يدل على أنه غَنِيّ عن التوسل بهما، ويبنى على العبارتين وجوب الزَّكَاة في الحُلِيّ (¬3) المباح: فعلى الأولى تجب. وبه قال عمر وابن عباس وابن مسعود -رضي الله عنهم- (¬4) وهو مذهب أبي حنيفة -رحمه الله-؛ لما روي: "أَنَّ امْرَأَتَيْنِ أتَتَا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَفي أيْدِيهِمَا سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ أَتُؤَدِّيَانِ زَكَاتَهُ، قالَتَا: لاَ فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم- أَتُحِبَّانِ أَنْ يُسَوِّرَكُمَا اللهُ بِسِوَارَينِ مِنْ نَارٍ، قَالَتَا: لا، قال: فَأَدِّيَا زَكَاتَهُ" (¬5). وعلى العبارة الثانية لا تجب الزكاة فيه. وبه قال ابن عمر، وجابر وعائشة (¬6) -رضي الله عنهم- وهو مذهب مالك وأحمد؛ لما روي: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ زَكَاةَ فِي الحُلِيِّ" (¬7)؛ ولأنه مُعَدٌّ لاستعمال مباح كالعوامل من البقر والإبل، وهذا أظهر القولين. ¬
ولك أن تعلم لما ذكرنا قوله: (منوط بجوهرهما) بالألف والميم، وقوله: (منوط بالاستغناء عن الانتفاع بهما) بالحاء، والقولان في الحلي المباح. أما المحظور فتجب فيه الزَّكاة بالإجماع، وهو على نوعين: محظور لعينه، كالأواني والقصاع، والملاعق، والمجامر الذَّهبية، والفِضِّية. ومحظور باعتبار القصد، كما لو قصد الرجل بحلى النساء الذي اتخذه أو ورثه، أو اشتراه كالسوار والخلخال أن يلبسه، أو يلبسه غلمانه، أو قصدت امرأة بِحُلِيِّ الرِّجَالِ كالسيف، والمنطقة أن تلبسه أو تلبسه جواريها، أو غيرهن من النساء (¬1)، وكذا لو أَعَدَّ الرجل حُلِيَّ الرِّجَالِ لِنِسَائِهِ وجَوَاريه، أو أعدَّت المرأة حلى النساء لِزَوْجهَا وِغِلْمَانِهَا، فكل ذلك مَحْظُورٌ، وعلَّلَ في الكتاب وجوب الزَّكاة في الْحُلِيّ المحظور، بأن المحظور شرعاً كالمعدوم حِسًّا، ولم يرد به إلحاق المحظور بالمعدوم على الإطلاق، لكن المراد أن الحكم المخصوص بضرب من التخفيف، وإطلاق التَّصَرُّف إذا شرطت فيه منفعة، فيشترط كونها مباحة، وإلا فهي كالمعدومة، وهذا كما أنه يشترط في البيع كَوْنُ المَبِيعِ منتفعاً به، فلو كانت فيه منفعة محظورة كما في آلات الملاهي، كان كما لو لم يكن فيه منفعة، ثم التعليل المذكور في المحظور لعينه أظهر منه في المحظور، باعتبار القصد؛ لأن الصَّنْعَةَ في المحظور لعينة لا حرمة لها إذا منعنا اتخاذه فأمَّا المحظور باعتبار القصد لتحريم فيه يرجع إلى الفعل والاستعمال لا إلى نفس الحُلِيّ، والصَّنْعَةُ محترمة غير مكسرة، وإن فسد القصد فَهَلاَّ كان ذلك بمثابة ما لو قصد بالعروض التي عنده استعمالها في وجوه محترمة لا تجب الزَّكَاةُ. قال الإمام- قدَّسَ الله رُوحَه- في دفع هذا الإشكال الزكاة: تجب في عين النقد، وعينه لا تنقلب باتخاذ الحلي منه، فلا يلتحق بالعروض إلا بقصدٍ ينضم إليه، وهذا كما أن العروض لما لم تكن مال الزكاة في أعيانها، لا تصير مال الزكاة إلا بقصد ينضم إلى الشراء وهو قصد التِّجارة، وإذا لم تسقط الزكاة بمحض الصنعة واحتيج إلى قصد ¬
الاستعمال فمتى قصد مُحَرَّماً لغى ولم يؤثر في الإسقاط وإن اتخذ حُلِيّاً، ولم يقصد به استعمالاً مباحاً ولا محذوراً ولكن قصد جعله كنْزاً فالذي ذكره في الكتاب، وأورده الجمهور: أنه لا تسقط الزكاة قولاً واحداً؛ لأنه لم يَصِرْ مُحْتَاجاً إليه، ولا استعماله، بل المكنوز مستغنى عنه، كالدراهم المضروبة، وحكى الإمام فيه خلافاً لقصد الإمساك، وإبطال هيئة الإخراج. وهل يجوز اتخاذ حُلِيّ الذَّهَب للذكور من الأطفال؟ فيه وجهان: ويجئ فيه الوجه الثَّالِثُ الذي ذكرناه في إلباسهم الحرير (¬1). قال الغزالي: وَلَوْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ قَصْدٌ أَصْلاً فَفِي السُّقُوطِ وَجْهَانِ: يُنْظَرُ فِي أَحَدِهِمَا إلَى حُصُول الصِّيَاغَةِ، وَفِي الثَّانِي: إلَى عَدَمِ قَصْدِ الاسْتِعْمَالِ، فَإِنْ قَصَدَ إجَارَتَهمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَالقَصْدُ الطَّارِئ بَعْدَ الصِّيَاغةِ فِي هَذِهِ الأُمُورِ كَالقَصْدِ المُقَارِنِ. قال الرافعي: في الفصل ثلاث صور، تتفرع على أن الزَّكَاة لا تجب في الْحُلِي: إحداهما: لو اتخذ حليّاً مباحاً في عينه ولم يقصد أن يكنزه ولا قصد به استعمالاً مباحاً، ولا محظور فهل تسقط عنه الزكاة؟ فيه وجهان: أحداهما: لا؛ لأن وُجُوبَ الزَّكَاةِ مَنُوطٌ باسم الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، ولا ينصرف إلا بقصد الاستعمال، ولم يوجد. والثاني: نعم؛ لأن الزَّكاة تجب في مَالٍ نَامٍ، والنقد غَيْرُ نَامٍ بنَفْسِهِ إنما يَلْتَحِقُ بالنَّامِيات؛ لكونه مُتَهَيِّئاً للإخراج، وبالصياغة بَطُلَ التَّهَيُّوء. قال: في "العدة": وهذا الثَّانِي ظاهر المذهب. وقوله في الكتاب: (ينظر في أحدهما إلى حصول الصياغة) يقتضي إثبات الخلاف فيما إذا قصد أن يكنزه، وإن لم يذكره؛ لأنه جعل عِلَّة السُّقُوطِ حصولُ الصِّيَاغة وهي موجودة في تلك الصورة، ويجوز أن يكون افتراق الصورتين في الأظهر باعتبار أن نية الكنز صارفة لهيأة الصياغة عن [استعماله] (¬2) ولم يوجد هاهنا نيةٌ صَارِفَةٌ، والظَّاهِرُ كَوْنُ الصِّيَاغَةِ للاسْتِعْمَال وإفْضَاؤُهَا إليه. الثانية: لو اتَّخَذَ الحُلَيَّ ليؤاجره ممن له استعماله، ففيه وجهان: أحدهما: لا تسقط عنه الزَّكاة؛ لأنه معد للنماء، فأشبه ما لو اشترى حُلِيًّا ليَتَّجِرَ فيه. وأصحهما: أنه تسقط كما لو اتخذه ليعيره، ولا اعتبار بالأجرة كأجرة العوامل من ¬
الْمَاشية. وذكر في "الشامل": أن الوجه الأول قول أحمد، والثَّاني: قول مالك. الثالثة: حكم القصد الطارئ في جميع ما ذكرنا بعد الصِّياغة حكم المقارن (¬1). بيانه لو اتخذه على قصد استعمال محظور، ثم غير قصده إلى مباح بَطَل الحول، فلو عَادَ إلى القصد الفاسد ابتدأ حول الزَّكاة، ولو اتخذه على قصد الاستعمال، ثم قصد أن يكنزه جرى في الحول، وعلى هذا قِسْ نظائره. قال الغزالي: وَلَوِ انْكَسَرَ الحُلِيُّ وَاحْتَاجَ إِلَى الإِصْلاَحَ لَمْ يَجْرِ فِي الْحَوْلِ لِأَنَّهُ حُلِيٌّ بَعْدُ. وَقِيلَ: يَجْرِي لِتَعَذُّرِ الاسْتِعْمَالِ، وَقِيلَ: يُنْظَرُ إلَى قَصْدِ المَالِكِ لِلْإِصْلاحَ أَوْ عَدَمِهِ. قال الرافعي: مما يتفرع على نَفْي الزَّكَاة في الحلى القول في انكساره. وله ثلاثة أحوال: إحداهما: أن ينكسر بحيث لا يمنع الاستعمال، وهذا لا تأثير له. والثَّانِية: أن ينكسر بحيث يمنع الاستعمال، ويحوج إلى سَبْكِ وَصَوْغ جديد، فَتَجِبُ فيه الزَّكَاةُ؛ لخروجه عن صلاحية الاستعمال، ويبتدئ الحول من يوم الانكسار. والثالثة: وهي المذكورة في الكتاب: أن ينكسر بحيث يمنع الاستعمال، لكن لا يحوج إلى صَوْغ جديد، بل يقبل الإصْلاَح باللِّحَام، فإن قصد جعله تِبْراً، أو دراهم، أو قصد أن يكنزه انعقد الحول عليه من يوم الانكسار، وإن قصد إصلاحه فوجهان: أظهرهما: أنه لا زكاة وإن تمادت عليه أحوال؛ لدوام صورة الحُلِيّ وقصد الإصلاح. والثاني: يجب؛ لتعذر الاستعمال، وإن لم يقصد لا هذا ولا ذاك ففيه خلاف. منهم من يجعله وجهين ويقول بترتيبهما على الوجهين، فيما إذا قصدا الإصلاح، وهذه الصورة أولى بأن تجري في الحول، ومنهم من يجعله قولين: أحدهما: أنه تَجِبُ الزَّكَاةِ، لأنه غير مستعمل في الْحَال، ولا مُعَدٍّ له، وأظهرهما: المنع؛ لأن الظَّاهِرَ استمراره على ما سبق من قصد الاستعمال، وذكر ¬
في "البيان" أن هذا هو الجديد، والأول القديم، فإذا جمعت بيت الصورتين قلت: في المسألة ثلاثة أوجه كما ذكر في الكتاب: ثالثها -وهو الأظهر-: الفرق بين أن يقصد الإصلاح، وبين ألا يَقْصِد شَيْئاً. وموضع الخلاف عند الجمهور ما إذا لم يقصد جعله تِبْرا، أو دراهم، وإن كان لفظ الكتاب مطلقاً. قال الغزالي: فَإِنْ قِيلَ: مَا الانْتِفَاع المُحَرَّم فِي عَيْنِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ {قُلْنَا}: أَمَّا المُذَهَّبُ فَأصْلُهُ عَلَى التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَعَلَى التَّحْلِيلِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ، وَلاَ يُحِلُّهُ لِلْرِّجَالِ إِلاَّ تَمْوِيهٌ لاَ يَحْصُلُ مِنْهُ الذَّهَبُ أَوِ اتِّخَاذُ أنْفٍ لِمَنْ جُدِعَ أَنْفُهُ. قال الرافعي: جرت عادة الأصحاب بالبحث عما يحل وَيحْرُم من التَحَلِّي بالتبرين؛ ليعلم موضع القطع بوجوب الزَّكَاةَ، وموضع القولين: فأما الذَّهَبَ فَأَصْلُه على التَّحرِيم فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وعلى التحليل في حق النِّساء؛ لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في الذَّهَب والحرير: "هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، حِلٌّ لإنَاثِهِمْ" (¬1) واستثنى في الكتاب عن التَّحرِيم نوعين: أحدهما: التَّمْوِيه الذي يحصل منه شَيْءٌ" وفي جوازه في الخاتم والسيف وغيرهما وَجْهَان سَبَقَ في "الأوَانِي" ذِكْرُهُمَا، وبالتَّحْرِيم أَجَابَ الْعِرَاقِيُّونَ هاهنا، وقد عرفت بما ذكرنا أن قوله: (إلا تمويه) ينبغي أن يُعَلَّمَ بالواو. والثاني: يجوز لمن جُدِعَ أَنْفُهُ اتخاذ أَنْفٍ من ذَهَبٍ وإن أمكن اتخاذه من الفضَّة؛ لأن الذَّهَب لا يَصْدَأ (¬2). وقد روى أنَّ رَجُلِاً قُطِعَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلاَبِ، فَاتَّخَذَ أَنْفَاً مِنْ فِضَّةٍ فَأنْتِنَ عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَنْ يَتَّخِذَ أنْفاً مِنْ ذَهَبٍ" (¬3) وفي معنى الأنف السِّن والأنملة، فيجوز ¬
اتخاذهما من الذَّهَبِ، وكل ما جاز من الذَّهَبِ فهو من القصة أجوز ولا يجوز لمن قطعت يده، أو أُصبعه أن يتخذهما من ذهَبٍ، أوَ فِضَّةٍ؛ لأنها لا تعمل، بخلاف الأنملة يمكن تحريكها، وهل يجوز لِلرَّجُلِ أن يَتَّخِذَ لخاتمه سِنَّا أو أسناناً من الذَّهَبِ. قال الأكثرون: لا، وهو الذي أورده في "التهذيب" ونظم الكتاب يوافقه، فإنه لم يستتن من التَّحْريم إلا التَّمْويه واتخاذ الأنف. وقال الإمام: لا يبعد تشبيه القليل منه بالضَّبَّةِ الصغيرة في الأواني، وبتطريف الثَّوب بالحرير. وللأكثرين أن يقولوا: الخاتم ألزم للشَّخْصِ من الإناء واستعماله أدوم، فجاز الفرق بين أسنانه وبين الضَّبَّة، وأما التَّطْرِيفَ بالحرير فأما الحرير أَهْوَن؛ لأن الخُيَلاَء فيه أدنى. واعلم أن كل حلي يحرم لبسه على الرجال يحرم لبسه على الخنثى؛ لجواز كونه رَجُلاً، وهَلْ عليه زَكَاتُه الأظهر: أَنَّها تجب؛ لكونه حراماً. وبه أجاب أبو العَبَّاس الرّوَيانِي في "المسائل الجرجانيات" وقيل: هو على القولين في الْحُلِي المباح، وأشار في "التتمة" إلى أن له لبس حلى الرجال والنساء جميعاً؛ لأنه كان له لبسهما في الصِّغر، فيستصحب إلى زوال الإشْكَال. قال الغزالي: وَأَمَّا الفضَّةُ فَحَلاَلٌ لِلنِّسَاءِ، وَلاَ يَحِلُّ لِلرِّجَالِ إلاَّ التَخَتُّمُ بِهِ، وَتَحْلِيَةُ آلاَتِ الحَرْبِ كَالسيْفِ وَالْمِنْطَقَةِ، وَفِي السَّرْجِ وَاللِّجَامِ وَجْهَانِ، وَيَحْرُمُ علَى المَرْأَةِ آلاتُ الحَرْبِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالرِّجَالِ. قال الرافعي: يجوز للرجل التختم بالفِضَّة؛ لما روي: أنه -صلى الله عليه وسلم-: "اتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ الفِضَّةِ" (¬1) وهل له لبس ما سوى الخاتم من حلي القصة كالسوار والدملج والطرق؟ لفظ الكتاب يقتضي المنع حيث قال: (ولا يحل للرجل إلا التختم به) وبه قال الجمهور. وقال أبو سعيد المتولي: إذا جَازَ التختم بالفِضَّة فلا فرق بين الأصابع وسائر الأعضاء كَحُلِيِّ الذَّهَب في حَقِّ النِّسَاءِ، فيجوز له لبس الدملج في العضد، والطرق، في العنق، والسّوار في اليد وغيرها، وبهذا أجاب المصنف في "الفتاوى" وقال: "لم يثبت في الفضة إلا تحريم الأواني وتحريم التَّحَلِّي على وجه، يَتَضَمَّن التشبه بالنساء"، فأعلم لهذا قوله: (ولا يحل للرجل إلا التختم به) ويجوز للرجل تحلية آلات الحرب بالفضة، كالسيف، والرمح، وأطر اف السهام، والدرع والمنطقة، والرانين، والخف وغيرها؛ لأنه ¬
يغيط الكفار، وقد ثبت: أَنَّ قَبِيعَةَ سَيْفِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَتْ مِنْ الْفِضَّةِ" (¬1). وفي تحلية السرج واللجام والثغر وَجْهان: أحدهما: وبه قال ابن سَلَمَةَ: يجوز كالسيف، والمنطقة. وأصحهما: المنع كالأاني بِخِلاَفِ آلاَتِ الْحَرْبِ الْمَلْبُوسَة، ويروى هذا عن نَصِّه في رواية البويطي، والربيع، وموسى بن أبي الجارود، وأجرى هذا الخلاف في الركاب، وفي برة الناقة من الفِضَّة. ورأيت كثيراً من الأئمة قَطَعُوا في تَصَانيفهم بتحريم القلادة للدَّابة، ولا يجوز تحلية شيء مما ذكرنا بالذَّهَبِ؛ لعموم المنع فيه. ويحرم على النِّسَاءِ تَحْلِيَةُ آلات الحرب بالذَّهَب وَالفِضَّة جميعاً؛ في استعمالِهِنَّ لها تَشَبهاً بِالرِّجَالِ، وليس لهن التَّشَبُّه بالرِّجَال، وهكَذا ذَكَرَه الجَمْهُورُ، واعترض عليه صاحب "المعتمد" بأن آلات الحرب من غير أن تكون محلاة، إما أن يجوز للنساء لبسها واستعمالها، أو لا يجوز. والثاني: باطل؛ لأن كونه من ملابس الرجال [إنما] يقتضي الكراهية [دون التحريم]. ألا ترى أنه قال في الأم: "ولا أكره للرَّجُلِ لبس اللؤلؤ إِلاَّ للأدب، وأنه من زِيِّ النِّسَاء، لا للتحريم" فلم يحرِّم زِيّ النساء على الرجال، وإنما كرهه، فكذلك حكم العكس، وقد ذكرت نحواً من هذا في "صَلاَة الْعِيد" وأيضاً فإن الحراب جائز للنِّسَاء في الجملة، وفي تجويز الحراب تجويز استعمال آلات الحرب، وإذا ثَبَت جواز استعمالها وهي غير مُحَلاَّة، فيجوز استعمالها وهي محلاة؛ لأن التَّحَلِّي لَهُنَّ أجوز مِنْهُ لِلرِّجَال، وهذا هو الحق -إن شاء الله تعالى (¬2) -، وبتقدير ألا يجوز لَهُنَّ استعمالها وهي غير مُحَلاَّة، فلا يكون التَّحْرِيم ناشئاً من التَّحْلِيَة، فلا يحسن تعليقه بِهَا. ويجوز للنِّسَاء لبس أنواع الحُلِيّ من الذَّهَبِ، والفِضَّة، كالقُرْط، والطَّوْقِ، والخاتم، والخُلْخَال، والسّوَار، والتعاويذ، وفي اتخاذهم النِّعال من الذَّهَبِ والفضة وجهان: أحدهما -ويحكى عن الماوردي-: أنه لا يجوز؛ لما فيه من الإسراف. ¬
وأصحهما -ويحكى عن القاضي حسين-: أنه يجوز كسائر الملبوسات، وأما التَّاج فقد ذكروا أنه إن جرت عادة النِّسَاء يلبسه كانَ مُبَاحاً، إلا فَهُو مما يلبسه عُظَمَاءُ الْفُرْس فَيَحْرُمُ، وكان هذا إشارة إلى اختلاف الحكم بحسب اختلاف النَّواحي فَحَيْثُ جرت عادة النساء بلبسه جاز لبسه، وحيث لم تَجْرِ، لا يجوز تَحَرُّزاً عن التَّشَبُّهِ بالرِّجَالِ، وفي الدراهم والدنانير التي تثقب وتجعل في القلادة وجهان حَكَاهما القاضي الرّوَيانِي: أظهرهما: المنع؛ لأنها لم تخرج بالصَّوْغِ عن النَّقْدِية، وفي لبس الثياب المنسوجة بالذَّهَبِ والفِضَّة وجهان: أصحهما: الجواز، وذكر ابن عَبْدَان أنه ليس لهن اتخاذ زر القميص، والجبة، والفرجية منهما، ولعَلَّ هذا جواب على الوجه الثاني. وكل حلي أبيح للنساء فذلك إذا لم يكن فيه سرف، فإن كان كخلخال وزنه مائتا [دينار] (¬1) ففيه وجهان: الذي ذكره معظم العراقيين المنع، وأوجبوا فيه الزكاة قولاً واحداً، وفي معناه إسراف الرجل في تَحْلِيَة آلات الحرب ولو اتخذ الرجل خواتيم كثيرة، أو المرأة خَلاَخِلَ كثيرة ليلبس الواحد منهما بعد الواحد فلا يمتنع، وليس كالواحد الثَّقِيل، وطرد ابْنُ عَبْدَان فيه الوجهين، وهذا كُلّه فيما يُتَحَلَّى بِهِ لِبْساً. قال الغزالي: فَأمَّا فِي غَيْرِ التَّحَلِّي فَقَدْ حَرَّمَ الشَّرْعُ اتِّخَاذَ الأَوَاني مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَفِي المُكْحُلَةِ الصَّغِيرَةِ تَرَدُّدٌ، وَفِي تَحْلِيَةِ السِّكِّينِ لِلْمِهْنَةِ بِالْفِضَّةِ إِلْحَاقاً لَهَا بِآلاَتِ الحَرْبِ خِلاَفٌ. قال الرافعي: في الفصل مسألتان: إحداهما: استعمال أواني الذَّهَبِ والفِضَّة حرام على الرِّجَال والنِّسَاء كما بَيَّنَّا في "كتاب الطَّهَارَةِ" وفي اتخاذها خلاف، وجواب الكتاب هاهنا وفي الطهارة التحريم، ويجوز إعلام قوله: "اتخاذ الأواني" بالواو؛ للخلاف الذي شرحناه في الطهارة [ومثله] (¬2) المكحلة، وقد ذكرها مَرَّة هناك، ونقل الإمام التَّردد فيها عن صاحب "التقريب"، وقيد بما إذا كانت من فِضَّة، وفيه كلام ذكرناه في شرحها ثم. الثانية: في تحلية سكاكين المهنة، وسكاكين المقلمة بالفِضَّة، وجهان: أحدهما: الجواز إلحاقاً لَهَا بآلات الحرب. وأصَحُّهُمَا: المنع؛ لأنها لاَ تُرَاد لِلْحَرْب. قال الإمام: وهذا الخلاف في استعمالها للرجال، ويثور منه اختلافٌ في حق النساء إَن ألحقناها بآلات الحرب، فليس للنِّسْوَة استعمالها، إلا ففيه احتمال. ¬
قال الغزالي: وَفِي تَحْلِيَةِ المُصْحَفِ بِالفِضَّةِ وَجْهَانِ لِلْحَمْلِ عَلَى الإكْرَامِ، وَفِي تَحْلِيَتِهِ بِالذَّهَبِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ، يُفَرَّقُ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَتَحْلِيَةُ غيْرِ المُصْحَفِ مِنَ الكُتبِ لاَ يَجُوزُ أَصْلاً كَتَحْلِيَةِ الدَّوَاةِ وَالسَّهْمِ وَالسَّرِيرِ وَالمَقْلَمَةِ، وَقِيلَ بِجَوَازِ تَحْلِيَةِ الدَّوَاةِ بِالفِضَّةِ، وَيَلْزَمُ علَى قيَاسِهِ المَقْلَمَةُ وَالكُتُبُ، وَتَحْلِيَةُ الكَعْبَةِ وَالمَسَاجِدِ بِالقَنَادِيلِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّة قِيلَ: إنَّهُ مَمْنُوعٌ وَلاَ يَبْعَدُ تَجْوِيزُهُ إِكْرَاماً كَمَا فِي المُصْحَفِ. قال الرافعي: هَلْ يَجُوز تحلية المُصْحَف بالفِضَّة؟ فيه وجهان: أحدهما: كالأواني. وأظهرهما: نعم، وبه قال أبو حنيفة -رضي الله عنه- إكراماً لِلْمُصْحَفِ، وجعل أبو القاسم الكرخيّ هذا الخلاف قولين، وقال في "سير الوَاقدي" ما يدل على حَظْرِها، وفي القديم والجديد، وحرمله ما يدل على الجواز، وفي تحليته بالذَّهَبِ ثلاثة أوجه: أحدها -وبه أجاب الشيخ أبو محمد في "مختصر المختصر"-: الجواز إكراماً، وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-. والثاني: المنع إذ ورد في الخبر ذَمُّها. والثالث: الفرق بين أن يكون للمرأة فيجوز، وبين أن يكون للرِّجَال فلا يجوز، طَرْداً للمنع من الذَّهَبِ في حق الرِّجَال، وكلام الصَّيْدَلاَنِيِّ والأكثرين إلى هذا أَمْيَلُ. وذكر بعضهم: أنه يجوز تحلية نفس المصحف دون غلافة المنفصل عنه، والأَظْهَرُ التَّسْوِية، وأما سائر الكتب فقال في الكتاب: إن تحليتها لم تجز أصلاً، وذلك لأن الأئمة لم يحكوا فيها خلافاً؛ بل قاسوا وجه المنع في المُصْحَف على سَائِرِ الكتب إشعاراً بالاتفاق فيها، وذَكَرُوا وجهين في تحلية الدواة، والمرآة، والمقلمة، والمقراض بالفِضَّة. أصَحُّهُمَا: المنع كالأواني. والثاني: الجواز كالسيف، والسكين، وبه أجاب في "مختصر المختصر"، وأراد صاحب الكتاب بقوله: (وقيل: يجوز تحلية الدواة بالدواة بالفِضَّة) حكاية وجه، وقاس عليه المقلمة وسائر الكتب، وفي تحلية الكعبة وسائر المَسَاجِد بالذَّهَبِ، والفِضَّة، وتعليق قناديلها فيها وجهان مرويان في "الحاوي" وغيره. أحدهما: الجواز تعظيماً كما في الْمُصْحَف، وكما يجوز ستر الكعبة بالدّيبَاجِ. وأظهرهما: المنع، ويحكى ذلك عن أبي إسحاق، إذ لم ينقل ذلك عن فعل السَّلَف، وحكم الزَّكَاة مبني على الوجهين: نعم، لو جعل المتخذ وقفا فلا زكاة فيه بحال. وقد تعرض في الكتاب للوجهين معاً حيث قال: (قيل: إنه ممنوع) ولا يبعد
[باب زكاة التجارة]
تجويزه إكراماً، لكن حَكَى المنع نقلاً، والتجويز احتمالاً لا تَأَسِيّاً بالإمام -رحمه الله- فإنه هكذا فعل. خاتمه: إذا أوجبنا الزَّكَاةَ في الحُلِيَّ المباح، فلو اختلف وزن الحلي وقيمته كما لو كانت لها خَلاَخِل وزنها مَائَتَا دِرْهَم، وقيمتها ثلثمائة، أو فرض مثله في المناطق المحلاَّة للرِّجَال، فالاعتبار في الزَّكَاة بوزنها، أو قيمتها فيه وجهان: أحدهما -وبه قال الماوردي-: أن الاعتبار بالوزن لا بالقيمة؛ لأنها زكاة عين، فلا ينظر فيها إلى القيمة كما في المواشي، ولهذا لو كان وزن الحُلِيّ مائة درهم قيمته بسبب الصنعة مائتان، لا تجب فيها الزَّكَاة. وأصحهما: عند ابن سريج وعامة العراقيين: أنه نعتبر الصَّنْعَة؛ لأنها صِفَةٌ في العين، فيلزمه إخراج زَكَاة العَيْنِ على تلك الصِّفَة، كما يلزم إخراج المضروب عن المضروب فعلى هذا يتخير بين أن يخرج ربع عشر الحُلِيّ مُشَاعاً، ثم يبيعه السَّاعِي ويفرق الثَّمَنَ على المساكين، وبين أن يخرح خمسة دراهم مصنوعة قيمتها سَبْعَة ونصف، ولا يجوز أن يكسره ويخرج خَمْسَةً مكسورة؛ لأن فيه ضرراً عليه وعلى المساكين، ولو أخرج من الذَّهَبِ ما قيمته سبعة دراهم ونصف، فهو جائز عند ابن سريج لِلْحَاجَةِ ممتنع عند الأكثرين لإمكان تسليم رُبع العشر مُشَاعاً، وبيعه بالذهب بعد ذلك. ولو كانت له آنية وزنها مائتان، ويرغب فيها بثلاثمائة؛ فيبنى حكم زكاتها على الخلاف في جواز الاتخاذ إن جوزناه، فالحكم على ما ذكرناه في الحُلِي، وإن لم نُجَوِّزْ فلا قيمة للصَّنْعَة شَرْعاً، فله إخراج خمسة من غيره، وله كسره وإخراج خَمْسَة منه، وله إخراج أربع عشرة مشاعاً، ولا سبيل إلى إخراج الذَّهب بدلاً. وكل حلي لا يحل لأحد من النَّاسِ فحكم صنعته حكم صَنْعَة الإناء، ففي ضمانها على كَاسِرهِ وجهان. وما يحل لبعض الناس، فعلى كاسره ضمانها، وما يكره من التحلي فلا يحرم، كالضَّبَّة الصغيرة على الإناء للزينة، ألحقوه بالمحظور في وجوب الزَّكاة. وقال صاحب "التهذيب": من عند نفسه الأولى أن يكون كالمباح (¬1). [باب زكاة التجارة]: قال الغزالي: {النَّوْعُ الرَّابعُ} زَكاةُ التِّجَارَةِ، وَمَالُ التِّجَارَةِ كُلُّ مَا قُصِدَ الاتِّجَارُ فِيهِ عِنْدَ اكْتِسَابِ المِلْكِ بِالمُعَاوَضَةِ المَحْضَةِ وَلاَ يَكْفِي مُجَرَّدُ النِّيَة دُونَ الشِّرَاءِ، وَلاَ عِنْدَ الاتِّهَابِ أَوِ الرُّجُوعِ بِالعَيْبِ وَهَلْ يَكْفِي عِنْدَ الخُلْعِ وَالنِّكَاحِ؟ فِبهِ وجْهَان، وَلَوِ اشْتَرَى عَبْداً ¬
عَلَى نِيَّةِ التِّجَارَةِ بِثَوْبِ قَنِيَّةٍ فَرُدَّ عَلَيْهِ بِالعَيْبِ انْقَطَعَ حَوْلُهُ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ ثَوْبَ تِجَارَةٍ بِعَبْدٍ لِلْقَنْيَةِ ثُمَّ قَيْنَةٍ. قال الرافعي: زكاة التجارة واجبة عند جمهور العلماء، وفيهم الشافعي -رضي الله عنه-، قَطَعَ به في قَوْلِهِ في الجديد، وحكى عنه في القديم تَرْديد قول. فمنهم من قال: له في القديم قولان، ومنهم من لم يثبت خلاف الجديد شيئاً، وذَكَرَ في "النهاية" أن نفي وجوبها يُعْزَى إِلَى مَالِكٍ، ولا يكاد يثبت ذلك عنه، إنّما المشهور عنه أنها لا تجب إلا بعد النضوض حتى لو نض بعد ما اتجر سنين كثيرة لا تجب إلا زكاة سنة واحدة. والأصل في الباب: ما روي عن أبي ذر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "فِي الْإبل صَدَقَتُهَا، وَفِي الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهُ" (¬1). ومعلوَمَ أَنه ليس في البر زكاة العين، فيكون الواجب زكاة التِّجَارة. وعن سمرة بن جندب قال: "كَانَ النِّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرْنَا أَنْ نُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِمَّا نُعِدُّهُ لِلْبَيْعِ" (¬2) واعتمد الشافعي -رضي الله عنه- فيه بما روى عن أبي عمرو بن حماس أن أباه حماساً قال: "مَرَرْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- وَعَلَى عُنقِي أَدَمَةٌ أَحْمِلُهَا، فَقَالَ: أَلاَ تُؤَدِّي زَكَاتَكَ يَا حِمَاسُ؟ فَقُلتُ: مَالِي غَيْرُ الَّتِي عَلَى ظَهْرِي وَأُهُب فِي الْقَرَظِ، قَالَ: ذَلِكَ مَالٌ فَضَعْ. قَالَ: فَوَضَعْتُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَحَسَبُهَا، فَوَجَدْتُ قَد وَجَبَ فِيهَا الزَّكَاة فَأَخَذَ مِنْهَا الزَّكَاةَ" (¬3). إذا تقرر ذلك، فأول ما بدا به في الكتاب بيان أن مال التِّجَارة ماذا؟ فقال: (ومال التجارة كل ما قصد الاتجار فيه عند اكتساب الملك بالمعاوضة المحضة)، وفي هذا الضباط أمور قد فصلها بصور: فمنها: أن مجرد نية التجارة لا تجعل المال مال التجارة، حتى لو كان له عَرَضٌ لِلقِنْيَةَ مَلَكَهُ بِشِرَاءٍ وغيره، ثم جعله للتجارة لَمْ يَصِرْ للتجارة، ولم ينعقد الحول عليه خلافاً لِلْكَرَابِيسِي من أصحابنا (¬4)، حيث قال: "يصير مال تجارة بمجرد النِّية"، وبه قال أحمد في إحدى الروايتين: لما روينا من خبر سمرة، وكما لو كان عنده عرض التجارة ¬
فنوى أنه للقِنْيَة يصير للقنية وينقطع حول التجارة. لنا: أن ما لا يثبت له حُكْمُ الحول بدخوله في ملكه لا يثبت بمجرد النية، كما لو نوى بالمَعْلُوفة السَّوْمَ، ويخالف عَرَضَ التجارة تصير للقنية بمجرد النية من وجهين: أحدهما: أنه ليس للاقتناء، معنى إلا الحبس والإمساك للانتفاع فإذا أمسك ونوى الاقتناء فقد قرن النية بصورة الاقتناء؛ لأنه جردها. والثاني: أن الأصل في العروض الاقتناء، والتجارة عارضة، فبمجرد النية يعود حكم الأصل، وإذا ثبت حكم الأصل فبمجرد النية يزول، وهذا كما أن المسافر يصيرُ مُقيماً بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَالمُقِيمُ لاَ يَصِيرُ مُسَافِراً بِمُجَرَّدِ النية. ومنها: لو اقترنت نية التجارة بالشِّراء كان الشراء مال تجارة، ودخل في الحَوْل لانضمام قَصْدِ التجارة إلى فعلها، كما لو نوى المشتري وَسَافر يصير مُسَافِراً، ولا فرق بين أن يكون الشراء بِعَرَضٍ أو نَقْدٍ، أو دَيْنٍ، ولا بين أن يكون حالاًّ، أو مُؤَجَلاًّ. وإذا ثبت حكم التجارة لا يحتاج لكل معاملة إلى نية جديدة، وفي معنى الشراء ما لو صَالَح عن دَيْنٍ لَهُ في ذِمَّة إنسان على عرض بِنِيَّةِ التِّجَارة، فيصير لِلتِّجَارَةِ، سواء كان الدَّيْنُ قَرْضاً أو ثمن مبيع، أو ضمان مُتْلَفٍ، وكذلك الاتهاب بشرط الثَّوَاب إذا نوى به التِّجَارة، وأما الْهبة المُحْضَة والاحتشاش، والاحتطاب، والاصطياد والإرث فليست مَعْدُودَة من أسباب التجارة، فلا أثر لاقتران النِّيَّةِ بها، وكذا الرَّدُّ بِالْعَيْبِ والاسترداد، حتى لو باع عَرَضاً لِلْقِنْيَة بعرض للقنية، ثُمَّ وجد بما أخذه عيباً، فرده واسترد الأول على قصد التِّجَارة، أو وجد صاحبه بما أخذ عيباً فَرَدَّه وقصد المردود عليه بأخذه التجارة لم يَصِرْ مَالَ تِجَارَةِ. ولو كان عنده ثوب للقنية فاشترى به عبداً للتجارة، ثم رد عليه الثَّوب بعيْبٍ انقطع حولُ التِّجَارَةِ، ولم يكن الثَّوْبُ المردود مَالَ تِجَارة؛ لأن الثوب لم يكن عنده على حكم التجارة، حتى يقال: ينقطع البيع، ويعود إلى ما كان قبله، بخلاف ما لو كان الثَّوْبُ للتجارة، أيضاً، فإنه يبقى حكم التجارة فيه بعد حول البيع، وكذا لو تبايع التَّاجِرَان ثم تقابلا يستمر حكم التجارة في المالين، ولو كان عنده ثوب تجارة فباعه بعبدٍ للقنية، فرد عليه الثَّوب بالعيب، لم يعد على حكم التجارة؛ لأن قصد القنية قطع حول التجارة، والرد والاسترداد بعد ذلك ليسا من التِّجارة في شيء، فصار كما لو قَصَد القنية؟ بمال التِّجَارة الذي عنده ثم نوى جعله للتِّجَارة ثَانِياً لا يؤثر حتى يقرن النية بتجارة جديدة. ولو خالع الرجل امرأته وقصد التجارة في عِوَض الخُلْعِ، أو زوج السيد أمته، أو نكحت الحرة أو نويا التجارة في الصَّدَاق، ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يكون مَالَ تِجَارة؛ لأن الخلع والنكاح ليسا من عقود التجارات والمعاوضات المحضة؛ ولأنه ليس المملوك بهما مملوكاً بعين مال.
وأظهرهما -ولم يذكر أكثر العراقيين سواه-: أنه يكون مالَ تجارة، لأنه مال مَلَكَهُ بِمُعَاوَضَة؛ ولهذا ثبتت الشُّفعَة فيما ملك بهما، وأجرى الوجهان في المال المصالح عليه عن الدَّم، والذي أَجَّرَ بِهِ نَفْسَه، أو ماله إذا نوى بهما التجارة، وفيما إذا كان تَصَرُّفُه في المَنَافع بأن كان يستأجر المستغلات ويؤاجرها على قَصْدِ التِّجَارة. قال الغزالي: وَالنِّصَابُ مُعْتَبَرٌ فِي أَوَّلِ الحَوْلِ وَآخِرِهِ دُونَ الوَسَطِ عَلَى قَوْلٍ وَفي جَمِيعِ الحَوْلِ عَلَى قَوْلٍ، وَفي آخِرِ الحَوْلِ فَقَطْ عَلَى قَوْلٍ لِأَنَّ انْخِفَاضَ السِّعْرِ لاَ يَنْضَبِطُ، فَلَو صَارَ النُّقْصَانُ مَحْسُوساً بِالتَّنْضِيضِ فَفِي انْقِطَاعِ الحَوْلِ عَلَى هَذَا القَوْلِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: لا خلاف في اعتبار الحول في زكاة التجارة، ويدل عليه مطلق قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُوَلَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ" (¬1). والنِّصَاب معتبرٌ أيضاً لكن في وقت اعتباره ثلاثة أقوال على ما ذكر صاحب الكتاب، والإمام. أحدها: أنه يعتبر في أول الحول، وآخره، أما في الأول فليجر في الحول، وأما في الآخر فلأنه وَقْتُ الوجوب ولا يعتبر فيما بينهما لِعُسْرِ مُرَاعَاة النِّصَاب بالقيمة؛ فإن الأسعار تضطرب انخفاضاً وارتفاعاً. وثانيها: أنها تعتبر في جميع الحول، كما في المواشي، فعلى هذا لو نقصت القيمة عن النِّصَاب في لحظة، انقطع الحول، فإن كمل بعد ذلك استأنف الحول. وأصحها: أنه لا يعتبر إلاَّ في آخر الحَوْلِ، أما أنه لا يعتبر في أثنائه فلما سبق، وأما أنه لا يعتبر في أوله فكالزيادة على النِّصَاب؛ لما لم يشترط وجودها في أثناء الحول؛ لوجوب زكاتها لم يشترط وجودها في أول الحول، فعلى هذا لو اشترى عرضاً للتجارة بشيء يسير انعقد الحول عليه، ووجبت الزَّكاة فِيهِ إِذَا بلغت قيمته نِصَاباً في آخر الحول، واحتج لهذا القول بحديث حماس، فإنه لم ينظر إلى القيمة إلا في الحال، ولم يبحث عما تقدَّم، ليس هذا الاحتجاج كما ينبغي، وعبر الأكثرون عن الخلاف في المسألة بالوجوه دون الأقوال، وسبب اختلاف العبارة أنها جميعاً ليست مَنْصُوصَة، وإنما المنصوص منها الثَّالِثُ، والأَوَّلاَن خَرَّجهما شيوخ الأصحاب، هكذا حكى الشيخ أبو علي، والمذاهب المخرجة يعبر عنها بالوجوه تارة، وبالأقوال أخرى وبالقول الثاني قال ابن سُرَيْج، ونسبه ابْنُ عَبْدَان إليه الأول -والله أعلم-. ويجوز أن يعلم الأول بالميم، والألف، والثاني بالميم والحاء، والثالث بالحاء والألف؛ لأن مذهب أبي حنيفة -رحمه الله- مثل القَوْلِ الأَوَّلِ، ومذهب أحمد مثل الثاني، ومذهب مالك مثل الثَّالِث، ¬
ثم إذا احتملنا نُقْصَان النِّصَاب في غير الآخر فذلك في حق من تَرَبَّصَ لِسلْعَته حتى تم الحول، وهي نصاب بالقيمة، فأما لو باعها بسلعة أخرى في أَثْنَاء الحَوْل فقّد حكى الإمام وجهين فيه: أحدهما: أن الحول ينقطع، ويبتدئ حَوْلَ السّلعة الأُخْرَى مِنْ يَوْمِ مَلَكَها. وأصحهما: أن الحكم كما لو تَرَبَّصَ بِسِلْعَته، ولا أثر للمبادلة في أحوال التّجارة. ولو باعها في أثناء الحول بالنقد، وهو ناقص عن النصاب، ثم أشترى به سلعة، فتم الحول وهي تبلغ نصاباً بالقيمة، ففيه وجهان لتحقق النقصان حِسًّا. قال الإمام -رحمه الله-: والخلاف في هذه الصُّورة أَمْثَلُ منه في الأَّول، ورأيت المتأخرين يَمِيلون إلى انقطاع الْحَوْل -والله أعلم-. وهذه الصورة الأخيرة هي المذكورة في الكتاب. واعرف من اللفظ شيئين: أحدهما: أن قوله: (فلو صار النقصان محسوساً بالتنضيض) ليس المراد منه مُطْلَق التنضيض؛ فإنه لو باع بالدَّراهم والحال تقتضي التَّقْوِيم بالدَّنانير على ما سيأتي فهو كبيع السِّلْعة بالسِّلْعَة. والثاني: أن قوله: (على هذا القول) يوهم تخصيص الوجهين بالقول الثالث، وهما جاريان على القول الأَوَّلِ أيضاً ولا فرق. فرع: لو تم الحول وقيمة سلعته دون النِّصَاب، فهل يبتدئ حول ثان؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: نعم، ويسقط حكم الحَوْل الأول. وقال ابن أبي هريرة: لا، بل متى بلغت القيمة نصاباً تجب الزَّكَاة، ثم يبدأ حولٌ ثَانٍ (¬1)، والأول أصَحَّ عند صاحب "التهذيب" وغيره. قال الغزالي: وَابْتِدَاءُ حَوْلِ التِّجَارَةِ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ بنِيَّةِ التِّجَارَةِ إنْ كَانَ المُشْتَرَي بِهِ عَرَضًا مَاشِيَة كَانَتْ أَوْ لَمْ تَكُنْ، وإِنْ كَانَ المُشْتَرَى بِهِ نَقْداً فَمِنْ وَقْتِ النَّقْدِ نِصَابًا كَانَ أَوْ لَمْ يكُنْ إنْ قُلْنَا: إِنَّ النِّصَابَ لاَ يُعْتَبَرُ فِي ابْتِدَاء الحَوْلِ، وَبِالجُمْلَةِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ وَالنَّقْدَينِ يُبْتَنَي حَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حَوْلِ صَاحِبِهِ لاتِّحَادِ المُتَعَلَّقِ وَمِقْدَارِ الوَاجِبِ. ¬
قال الرافعي: غرض الفصل: الكلام في بيان ابتداء الحَوْلِ. وجملته أن مال التجارة لا يخلو: إما أن يملكه بأحد النَّقْدَين، أو بغيرهما. فإن ملكه بأحد النقدين (¬1)، نظر أن كان نصاباً، أما لو اشترى بعشرين ديناراً، أو بمائتي درهم، فابتداء الحول من يوم ملك ذلك النَّقْد، ويبنى حول التجارة على حوله، ووجهوا ذلك بشيئين: أحدهما: أن قَدْرَ الوَاجِبِ فيهما وَاحِدٌ، وكذلك متعلقه، فإن الزكاة واجبة في عَيْنِ النَّقْد، وفي قيمة السِّلْعة، وهي من جنس النقد الذي كان رأس المال، بل هي نفس تلك الدَّرَاهم، إلا أنها صارت مُبْهَمة بعد ما كانت مُعَيَّنة، فصار كما لو ملك مائتي درهم ستة أشهر، ثم أقرضها مَلِيئًا تلزمه الزَّكَاة بعد سِتَّةِ أشْهُر من يوم القَرْض. والثاني: أن النَّقْدَ أصْلٌ، وعَرَضُ التِّجَارَةِ تَبَعٌ لَهُ، وفرع عليه، ألا ترى أن التقويم به يقع فبنى حَوْلَهُ عليه. وخرجوا على التوجهين ما إذا بَادَلَ الدَّرَاهِمَ بالدَّرَاهِم، حيث ينقطع الحَوْلُ ولا يَبْنِي، أما على الأول فلأن زكاة النَّقْدِ في الْعَيْنِ، ولكل واحد من عين الدراهم الأولى، وعين الثانية حكم نفسها، وأما على الثاني، فلأن الثانية لا تقوم بالأولى، وليست إحداهما أَصْلاً، والأخرى فَرْعاً لَهَا، وهذا فيما إذا كان الشِّرَاء بعين النِّصَاب، أما إذا اشترى بِنِصَابٍ من أحد النَّقْدَين في الذمة، وله مَائِتا دِرْهَم وعشرون ديناراً فَنَقْدُهَا في ثمنه ينقطع حول النَّقْد، ويبتدئ حول التِّجَارة من يوم الشراء، هذا لفظ صاحب "التهذيب" وعلَّلَ بأن هذه الدراهم والدنانير لم تتعين للتصرف فيه، -والله أعلم-. وإن كان النقد الذي هو رأس المال دون النِّصَاب، فليس له حول حتى يبنى عليه، فيكون ابتداء الحول من يوم مَلَكَ عَرَضَ التِّجَارة هذا إذا ملك بأحد النَّقْدَين، ولو ملك بغيرهما فله حالتان: إحداهما: أن يكون ذلك الغير مما، لا تَجِب الزَّكَاة فيه، كالثياب والعبيد، فابتداء الحول من يوم المِلْكِ، لأن ما ملكه قبله لم يكن مالَ زَكَاةِ. والثانية: أن يكون مما تَجِب فيه الزَّكَاة، كما لو ملكهِ بِنِصَابٍ مِنَ السَّائِمَة، فظاهر المَذْهَبِ أن حول السَّائِمَة ينقطع وَيبْتَدِىَء حَوْلَ التِّجَارَةَ مِنْ يَوْمِ الْمِلْكِ، ولا يبنى؛ لاختلافَ الزَّكاة قَدْراً ومتعلَّقاً. وقال الإصْطَخْري: يبنى حوله على حول السَّائِمَة، كما لو ملكه بِنِصَابِ مِنَ ¬
النَّقْدِ، واحتج بقوله في "المختصر": ولو اشترى عَرَضاً لِلتِّجَارة بدراهم، أو بدنانير، أو بشيء تجب فيه الصَّدقة من المَاشِيَة، وكان أفاد ما اشترى به ذلك العرض من يومه، لم يقوم العرض، حتى يحول الحول من يوم افاد الثمن، وحمل المُزَنِيُّ هذا النَّص على ما رآه الاصطخري، ثم اعترض عليه، وصار إلى عَدَمِ البناء. وعامة الأصْحَابِ نفوا ذهاب الشافعي -رضي الله عنه- إلى البناء فتكلموا على هذا النَّصِّ من وجوه: أحدها: قال ابن سريج وأبو إسحاق وغيرهما: إن مسألة "المختصر" مفروضة فيما إذا استفاد ثمن العرض يوم الشراء، وحينَئِذٍ لا فرق بين أن يقال: يعتبر الحَوْل من يوم الشِّراء، وبين أن يقال؛ يعتبر من يوم ملك الثَّمَن. والثَّاني: أن الشَّافِعِي -رضي الله عنه- جمع بين ثلاث صور: الشِّراء بالدراهم، والشِّراء بالدَّنانير، والشراء بالماشية، ثم أجاب في الصّورتين الأوليين دون الآخرة، وقد يقع مثل ذلك في كلامه، واحتجوا لهذا بأنه قال: (من يوم إفاد الثمن) ولفظ يقع على النقدين دون الماشية. واعلم أن في حقيقة الثمن خلافاً سنذكره في "كِتَاب الْبَيْعِ" -إن شاء الله تعالى- جدُّه، وهذا الوجه يتفرع على أن الثمن هو الذَّهَب وَالْفِضّة لا غير، ومن قال بالتَّأوِيلِ الأول أطلق لفظ الثمن على الماشية أيضاً. والثالث: تغليط المزني في النقل، وإلى هَذَا مال إمام الْحَرَمَيْن، ورأى التَّأْوِيلَ تَكَلُّفاً. ولنتكلم في ما يتعلق بلفظ الكتاب خاصة. وقوله: (من وقت الشراء بنية التجارة) ليس لتخصيص الحكم بالشراء؛ بل هو مذكورٌ تمثيلاً وسائر الاكْتِسَابات المُلْحَقَة في معناه، ويجوز إعلامه بالواو؛ لأن اللَّفْظَ مُطْلَقٌ لا يفرق بين أن يكون قيمة ما اشتراه للتِّجَارَةِ نِصَابًا، أو لا يكون، وهو مُجْرَى على إِطْلاَقه إذا فَرَّعْنا على أن النِّصَاب لا يعتبر إلا في آخر الحول، وهو الصَّحيح، فأما إذا اعتبرناه في جميع الحول، أو في طرفيه، ولم يبلغ قيمة المشترى نِصَاباً، فليس ابتداء الحول من يوم الشِّرَاء؛ بل هو وقت بلوغ قيمته نصاباً. وقوله: (ماشية كانت) معلم بالواو؛ لما حكيناه عن الإصْطَخْرِي وقوله: (وإن كان المشتري به نقداً فمن وقت النقد) أي: من وقت ملك النَّقْدِ، ثم قوله: (نصاباً كان، أو لم يكن) إن قلنا إن النصاب لا يعتبر في ابتداء الحَوْل، هو موضع نظر وتأمل؛ لأنه إما أن يريد به نِصَاباً كان المال المشترى أو لم يكن إن يريد به نصاباً كان النّقد، أو لم يكن، وهو الأسبق إلى الفهم، فإن أراد الثاني فقد صَرَّحَ باحتساب الحَوْلِ من وقت مِلْكِ النَّقْدِ مع نقصانه عن النِّصَاب، وإن أراد به الأول فقد حكم بالاحتساب من وقت ملك النقد مُطْلَقاً، وليس كذلك، بل يشترط فيه كون ذلك النقد نصاباً، نصَّ عليه الشافعي -
رضي الله عنه- وَقَطَعَ به الأَصْحَاب مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أن يعتبر النِّصَاب في جميع الحول، أو لا يعتبر؛ لأن النقد النَّاقِصَ ليس مال زكاة حتى يفرض جريانه في الحول. وقوله: (زكاة التِّجَارة والنقدين يبتنى حول كل واحد منهما على صاحبه) ويبين أنه لو باع مال تجارة بنقد بنية القنية يبنى حول النقد على حول مال التِّجَارة، كما يبنى حول مَال التِّجارة على حَوْلِ النقد. وقوله: (لاتحاد المتعلق ومقدار الواجب) إشارة إلى التوجيه الأول وقد بيناه. قال الغزالي: وَكُلُّ زِيَادَةٍ حَصَلَتْ بِارْتفَاعِ القِيمَةِ وَجَبَ الزَّكَاةُ فيهَا بِحَوْلِ رَأسِ المَالِ كَالنِّتَاجِ، فَإِنْ رُدَّ إلَى أَصْلِ النُّضُوضِ فَقَدْرُ الرِّبْحِ مِنَ النَّاضِّ لاَ يُضَمُّ إلَى حَوْلِ الأَصْلِ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ كِيس المُشْتَرِي لاَ مِنْ عَيْنِ المَالِ. قال الرافعي: ربح مال التجارة ينقسم إلى حاصل من غير نضوض (¬1) المال، إلى حاصل مع نضوضه، وأما القسم الأول فهو مضموم إلى الأصل في الحَوْلِ كالنتاج؛ لأن المُحَافَظَة على حول كل زيادة مع اضطراب الأسْوَاقِ وَتَدَرُّجها انخفاضا وارتفاعاً في غاية العسر. قال في "النهاية": وقد حكى الأئمة القطع بذلك، لكن من يعتبر النصاب في جميع الحول كما في زَكَاة الأعيان قَدْ لا يسلم وجوب الزَّكَاةِ في الربح في آخر الحول. وقضية قياسة أن نقول: ظهور الربح في أثناء الحول بمثابة نضوضه، وسيأتي الخلاف فيه في القسم الثاني. قال: وهذا لا بد منه، والأئمة قد يذكرون القول الضَّعِيفَ مع الصَّحِيح، ثم إذا تَوَسَّطُوا التَّفْرِيعَ تَرَكُوا الضَّعِيفَ جَانِباً، وهذا الكلام يقتضي إعلام قوله في الكتاب: (بحول رأس المال) بالواو، فعلى المشهور الصحيح لو اشترى عَرَضاً للتجارة بمائتي دِرْهم، فَصَارت قيمُتُه فِي خلال الحَوْلِ ثلاثمائة، زكي الثلثمائة عند تمام الحول وإن كان ارتفاع القيمة قبيل الحول بلحظة، ولو ارتفعت بعد الحول فالربح مضموم إلى الأصل في الحول الثاني كما في النتاج. وأما القسم الثاني: وهو الحاصل مع النضوض، فينظر فيه إن صار نَاضاً من غير جنس رأس المال، فهو كما لو بدل عَرَضَا برَضٍ، لأن التقويم لا يقع به، وحكى الشَّيْخُ أَبُو عَلِي عن بعض الأصحاب؛ أنه على الخلاف الذي نَذْكُره فيما إِذَا صَارَ نَاضاً من جنس رأس المال، وإن صار نَاضاً من جنسه فأما أن يفرض ذلك في خلال الحول، أو بعده، ¬
وعلى التقدير الأول فإما أن يمسك النَّاض إلى أن يتم الحول، أو يشتري به سلعة. الحالة الأولى: أن يمسك النَّاض إلى تمام الحول، كما إذا اشترى عَرَضًا بمائتي دِرْهَمٍ، وباعه في خلال الحول بثلاثمائة، ويتم الحول وهو في يده، فقد قال الشَّافِعِيُّ - رضي الله عنه- في "باب زكاة التجارة": إنهُ يِزَكِّي المائتين، وَيُفْرِدُ مَائَةَ الرِّبْحِ بِحَوْلٍ، وقال في "باب زكاة مال الْقَرَاضِ" إذا دفع ألف درهم إلى رَجُلِ قراضاً على النِّصْفِ فاشترى بها سلعة وحال الحول عليها وهي تساوي ألفين. ففيها قولان: أحدهما: أنه يُزَكِّي الكُلَّ. والثَّانِي: إن رَبَّ المال يُزَكِّي ألْفاً وَخُمْسائة، فأوجب زَكَاةَ جَمِيعِ الرِّبح، أو نصفه عند تَمَامِ الْحَوْلِ، ولم يفرده بحول، واختلف الأصحاب على طريقين: أظهرهما: وبه قال أبو إسحاق، والأكثرون إن الْمَسْألة على قَوْلَيْن: أحدهما -وهو اختيار المزني-: أنه يُزَكِّي الرِّبْحِ بِحَوْلِ الأَصْلِ؛ لأنه فائدته، ونماؤه، فأشبه ما إذا لم يرد إلى النضوض، ونتاج الماشية. وأصحهما: أنه يفرد الرِّبحَ بِحَوْلٍ؛ لظاهر قَوْلِهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ زَكَاةَ فِي مَالٍ، حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ" (¬1). ويخالف ما إذا لم ينض؛ لأن الربح ثمة كامن وغير متميز عن الأصل، ومتعلق الزَّكَاة واحد، وهو القيمة، ويخالف النّتاج، فإنه متولد من أصل المال، والربح هاهنا غير متولد من غير المال، بل هو مستفاد بالتَّصَرفِ مِنْ كِيسِ المُشْتَرِي، ولهذا لو غَصَبَ مَاشِيَةً فتوالدت، وجب رد النتاج مع الأصل، ولو غصب دراهم فتصرف فيها وربح كان الربح له في أظهر القولين. والطريق الثاني: وبه قال ابن سريج: القطع بإفراد الرِّبْحِ بِحَوْلٍ، وحمل كلامه في القراض على ما إذا اشْتَرى السلعة بألف، وهي تساوي ألفين، فليس فيها زيادة بعد الشِّراءِ، فلذلك أوجب الزَّكَاة في الرِّبْحِ مَعَ الأَصْلِ. قال هؤلاء: وهكذا صَوَّرَ الْمَسْألَةَ فِي "الأم"، لكن المُزَنِيّ لم ينقلها عى وَجْهِهَا. ومنهم من قال: قَصْدُه بما ذَكَر في "مَالِ القَرَاض" بَيَان أن زكاة جميع الرّبح قبل المُقَاسَمة على رب المال أم يتقسط عليه وعلى العامل، فأما أن حول الربح هَلْ هُوَ حول الأَصْل أَمْ لاَ؟ فهذا مما لم يقع مقصداً عنه، ولا يوجه الكلام نحوه، فلا احتجاج فيه على أنه ليس في اللفظ تصوير للرد إلى النضوض، فيجوز حمله على ارتفاع القيمة من غير نضوض. ¬
وإذَا فرعنا على أن الربح يفرد بحول، فابتداؤه من يوم الظُّهُور أم من يوم نَضَّ وباع؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال ابن سريجَ: أنه من يوم الظُّهور؛ لأن الربح لم يحصل بالبيع، وإنما حصل بارتفاع قيمة السلعة. والثاني: أنه من يوم البيع والنضوض؛ لأن الزيادة به تستقر، وقبله قد يتوهم زيادة، فيتبين خلافه لاضطراب السوق. قال القَّاضِي الرّوُيَانِي وغيره: وهذا ظاهر المذهب. الحالة الثَّانية: أَنْ يَشْتَرِي بها سِلْعَةً قبل تمام الحول فطريقان: أحدهما: القطع بأنه يزكي عن الجميع؛ لأن ما في يده في آخر الحول عرض. وأصحهما: أن الحكم كما لو أمسك النّاض إلى تمام الحول؛ لأن الربح بالنضوض بمثابة فائدة استفادها، فلا يختلف حكمها بين أن يشتري بها سلعة أو لا يشتري، وهذا كُلُّه فيما إذا باع ونض في خلال الحول، فأما إذا باع وَنَضَّ بعد تمامه، فقد قال الشيخ أبو عَلِي: ينظر إن ظهرت الزيادة قبل تمام الحول فلا خلاف في أنه يزكي الكُلّ بحول الأَصْلِ، وإن ظهرت بعد تمامه فوجهان: أحدهما: هكذا. وأظهرهما: أنه يستأنف لِلرِّبْحِ حَوْلاً، وجميع ما ذكرناه فيما إذا اشترى العَرَضَ بِنِصَابٍ مِنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ، أَو اشْتَرَاهُ بِغَيْرِهِمَا، وَهُوَ يُسَاوِي نِصَاباً. أما لو اشترى بمائة درهم مثلاً وباعه بعد سِتَّة أشهر بمائتي درهم، وبقيت عنده إلى آخر الحول من يوم الشِّراء، فإن قلنا: بظاهر المذهب، وهو أن النِّصَاب لا يشترط إلا في آخر الحول، تَفَرَّعت المسألة على قولين في أن الرِّبْحَ مِنَ النَّاض هل يضم إلى الأصل في الحول؟ إن قلنا: نعم، فعليه زَكَاة المائتين، وإن قلنا: لا، لم يُزَكِّ مائة الربح إلا بعد سِتَّةِ أَشْهُرٍ أُخْرَى، وإن قلنا: إن النِّصَاب يشترط في جميع الحول أو في طرفيه، فابتداء حوله من يوم باع ونَض، فإذا تَمَّ زكى عن المائتين. واعلم أن مسألة الكتاب فيما إذا رَدَّ إلى النضوض في خلال الحول ثم اللفظ من جهة إطلاقه يشمل ما إذا أمسك النَّاض حتى تم الحول، وما إذا اشترى به سلعة أجرى، ويشمل أيضاً ما إذا كان نِصَاباً في أول الحول، أو ناقصاً عنه، وإجراؤه على إطْلاَقِهِ فيهما صَحِيح مستمر.
وقوله: (لا يضم) معلم بالزَّاي لما قدمناه. وقوله على أحد القولين بالواو للطريقة القاطعة بعدم الضم. ثم نوضح الفصل بفرعين: أحدهما: من مولدات ابن الحداد، وهي ما لو ملك الرَّجُلُ عشرين ديناراً؛ فاشترى بها عرضاً للتجارة ثم باعه بعد ستة أشهر من ابتداء الحول بأربعين ديناراً، واشترى بها سلعة أخرى ثم باعها بعد تمام الحول بمائة، كيف يُزَكى؟ أما إذا قلنا: إن الرِّبْحَ من الناض لا يفرد بحول، فعليه زكاة جميع المائة. وأما إذا قلنا: يفرد؛ فعليه زكاة خَمْسين دِيناراً، لأنه اشترى السِّلْعَة الثَّانية بأربعين: عشرون منها رأس مَالِه الَّذِي مَضَى عليه ستة أشهر، وعشرون ربح استفادة يوم باع الأول واشترى الثاني، فإذا مضت ستة أشهر، فقد تَمَّ الحول على نِصْفِ السّلعة، فيزكيه بزيادته، وزيادته ثلاثون دِينَاراً؛ لأنه ربح على العشرينتين وكان ذلك كَامِناً وقت تمام الحول، ثم إذا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُر أُخْرَى فعليه زكاة العشرين الثَّانية، فإن حولها حينئذ يتم، ولا يضم إليها ربحها؛ لأنه صار ناضاً قبل تمام حَوْلها، فإذا مَضَت سِتَّةُ أشْهُرٍ أخرى، فعليه زَكاة رِبْحِهَا وهو الثلاثون الباقية، فإن كانت الخمسون التي أخرج زكاتها في الحول الأول باقية عنده، فعليه إخراج زكاتها ثانياً مع الثلاثين، هذا جواب ابن الحداد تفريعاً على أن الربح الناض لا يفرد بحول (¬1). وحكى الشيخ أبو علي فيه وجهين آخرين ضعيفين: أحدهما: أنه عند البيع الثَّانِي يخرج زكاة عِشْرين، فإذا مضت ستة أشهر أخرى؛ أخرج زكاة عشرين أخرى وهي التي كانت ربحاً في الحول الأوَّلِ، فإذا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أخرى أخرج زَكَاة السِّتين البَاقِيَة؛ لأنها إنما استقرت عند البيع الثاني، فمنه يبتدئ حولها. والثاني: أنه عند البيع الثاني يخرج زكاة عشرين، ثم إذا مَضَت ستة أشْهُرِ زكى عن الثمانين الباقية؛ لأن الستين التي هي الربح حَصَلَتْ في حول العشرين الَّتِي هِيَ الربح الأول، فَيُضَمَّ إليها في الحول. ولو كان الفرع بحاله لكنه لم يبع السلعة الثانية، فيزكى عند تمام الحول الأول خمسين، كما ذكرنا. وعند تمام الحول الثَّاني الخمسين الثانية؛ لأن الربح الآخر ما صار ناضاً. الفرع الثاني: اشترى بمائتي دِرْهَم عرضًا لِلتِّجَارة فباعه بعد سِتَّة أَشْهُرٍ بثلاثمائة واشترى بها عرضاً وباعه بعد تمام الحول بستمائة، فإن لم يفرد الرّبح بحول أخرج زكاة ¬
الستمائة، وإن أفردناه أخرج زكاة أربعمائة، فإذا مضت سِتَّة أشْهُرٍ أخرج زكى مائة، فإذا مضت ستة أشهر أخرى. أخرج زَكَاة المَائَة الباقية، هذا على جواب ابن الحداد (¬1). وأما على الوجهين الآخرين، فيخرج عند البيع الثاني زكاة مائتين، ثم على الوجه الأول إذا مضت سِتَّة أشْهُرَ أخرج زَكَاة مَائَة، وإذا مضت ستة أشهر أخرى أخرج زكاة ثلثمائة، وعلى الوجه الثاني إذا مضت ستة أشهر من يوم البيع الثاني أخرج زكاة الأربعمائة الباقية. ولو لم يبع العرض الثاني أخرج زكاة أربعمائة عند تمام الحول، وزكاة الباقي بعد سِتَّة أَشْهُرٍ، هذا هو الحكم، فإن أردت التوجيه فَخَرَّجْهُ عَلَى مَا سَبَقَ. قال الغزالي: فَإِنْ نَتَجَ مَالُ التِّجَارَةِ كَانَ النِّتَاجُ مَالَ تِجَارَةٍ أَيْضًا عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَيُجْبَرُ بِهِ نُقْصَانُ الوِلاَدَةِ فِي نِصَابِ مَالِ التِّجَارَةِ وَجْهاً وَاحِداً، ثُمَّ حَوْلُهُ حَوْلُ الأَصْلِ عَلَى الأَصَحِّ. قال الرافعي: مال التجارة إذا كان حيواناً فلا يخلو: إما أن تجب فيه زكاة العين كنصاب السائمة من الغنم، فالكلام فيه وفي نتاجه سيأتي مِنْ بعد. أولاً تجب كالخيل، والجواري، والمَعْلُوفة من النَّعَم، فَهَلْ يكون نَتَاجها مالَ تِجَارة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن النَّمَاء الذي تفيده العين لا يناسب الاستنماء بطريق التجارة، فلا يجعل مال تجارة، ويروى هنا عن ابن سُرَيْجٍ. وأصحهما: نعم؛ لأن الولد جزء من الأم، فله حكمها، وزوائد مال التِّجارة من فوائد التِّجارة عند أهلها، والوجهان فيما إذا لم تنقص قيمة الأُمّ بالولادة، فإن نقصت كما إذا كانت قيمة الجارية ألفاً، فعادت بالولادة إلى ثمانمائة، وقيمة الولد مائتان، فيجرِ نُقْصَانُ الأُمِّ، بقيمته، وعليه زكاة الألف ولو عادت قيمتها إلى تسعمائة جبرنا نقصان المائة من الولد؛ لأن سبب النقصان انفصال الولد، وهو عتيد حاضر، فيجعل كأنه لا نقصان، كذا حكي عن ابْنِ سُرَيجٍ وغيره. وقال الإمام: وفيه احتمال ظاهر، وقضية قولنا: إنه ليس مال تجارة أن لا تجبر به نقصان الجارية كالمستفاد لسبب آخر. وقوله في الكتاب: (في نصاب مال التجارة) لفظ (النصاب) حشو في هذا الموضع. وقوله: "وجهاً واحداً" أي: من جهة النَّقْد، وما ذكره الإمام إنما أبداه على سبيل الاحتمال. وثمار أشجار التِّجارة بمثابة أولاد حيوان التِّجارة، ففي كونها مال تجارة ما ذكرنا من الوجهين، ثم إن لم نجعل الأولاد والثمار مال تِجَارة، فكيف القول في زكاتها في السَّنة الثَّانِيَةَ وَمَا بَعْدَهَا؟ أنخرجها من حساب التجارة ¬
كما لو ورث عبداً أم كيف الوجه؟ قال إمام الحرمين: الظاهر أنا لا نوجب الزكاة، فإنه فيما نختاره الآن منفصلاً عن تبعية الأُمّ، وليس أصلاً في التجارة، وإن فرعنا على أنها مال تجارة وضممناها إلى الأصل ففي حولها وجهان: أحدهما: أنها على القولين في ربح الناض؛ لأنها زيادة مستقرة من مال التجارة، فعلى أحد القولين ابتداء الحول من انفصال الولد، وظهور الثمار. وأصحهما: أن حولها حول الأصل، كالزيادات المنفصلة، كالنتاج في الزكاة العينية، -والله أعلم-. قال الغزالي: (وَأَمَّا المُخْرَجُ) فَهُوَ رُبْعُ عُشْر القِيمَةِ مِنَ النَّقْدِ الذِي كَانَ رَأسُ المَالِ نِصَاباً كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَإنْ كَانَ اشْتَراهُ بِعَرَضِ قَنْيَةِ قُوِّمِ بِالنَّقْدِ الغَالِبِ، فَإنْ غَلَبَ نَقْدَانِ فَلَمْ يَبْلُغْ نِصَاباً إلاَّ بِأَحَدِهِمَا قُوِّمَ بِهِ، وَإِنْ بَلَغَ بهمَا نِصَاباً يُخَيَّرُ المَالِكُ عَلَى وَجْهٍ وَرُوعي غِبْطَةُ المَسَاكِينَ عَلَى وَجْهٍ، وَتَتَعَيَّنُ الدَّرَاهِمُ عَلَى وَجْهٍ لِأنَّهُ أَرْفَقُ، ويُعْتَبَرُ بِالنَّقْدِ الغَالِبِ فِي أقْرَبِ البِلاَدِ عَلَى وَجْهٍ. قال الرافعي: لا خلاف في أن قدر زكاة التجارة رُبْع العُشْرِ كما في النقدين ومم تخرج؟ قطع في الجديد (¬1): بأنها تخرج من القيمة، ولا يَجُوز أن تخرج من عَيْنِ ما في يده. وبه قال مالك، لأن مُتَعَلَّق الزَّكاة هو القِيمَة. وحكي عن القديم قولان: أحدهما: مثل هذا. والثاني: أنه يخرج رُبُعَ عُشْرِ مَا فِي يَدِهِ؛ لأنه الذي يملكه، والقيمة تقدير، واختلفوا في هذا [القول] (¬2): منهم من قال إنه ترخيص وتجويز لإخراج العين باعتبار القيمة، ولو أخرج ربع عشر القيمة جَازَ. ومن قال بهذا قال في المسألة قولان: تعيين القيمة، والتخيير بين العَيْنِ وَالقِيمَة. وبه قال أبو إسحاق. ومنهم من قال: ما ذكره في القديم أراد تعيين العين للإخراج، ومن قال بهذا قال في المسألة قولان: تعيين العين وتعيين القيمة، وحكى ابْنُ عَبْدَانَ هذا عن أبي هريرة. ومن الأصحاب من استوعب، وجعل المسألة على ثلاثة أقوال: أصحهما: تعيين العين. والثاني: تعيين القيمة. والثالث: التخيير بينهما، وتحكى هذه الطريقة عن ابنِ سُرَيْجٍ، وعليها جرى ¬
صَاحِبُ "التقريب"، ثم الفتوى والتفريع على الجديد، وهو الذي ذكره في الكتاب، لكنا نورد صورة لإيضاح هذا الخلاف فنقول: إذا ملك مائة درهم، فاشترى بها مائتي قِفَيزِ (¬1) من الحِنْطَة، فحال الحول وهي تساوي مائتين، فتجب عليه الزكاة تفريعاً على أن النِّصَاب لا يُعْتَبِر إِلاَّ في آخر الحَوْلِ، فَعَلَى الأصَحِّ يخرج خمسة دراهم، وعلى الثاني خمسة أقفزة، وعلى الثالث: يتخير بينهما ولو أخر إخراج الزَّكاة حتى تَرَاجَعَ السُّوقُ ونَقَصت القِيمَةُ، نظر: إن كان ذلك قبل إمكان الأداء فإن قلنا: الإمكان شرط الوجوب، سقطت الزَّكَاة وإن قلنا: شرط الضَّمَان وعادت القيمة إلى مائة فَعَلَى الأَصَحُّ يخرج درهمين ونصفاً، وعلى الثاني: يخرج خمسة أَقْفِزَة، وعلى الثالث: يتخير بينهما. وإن كان بعد الإمكان، فعلى الأَصَحِّ يخرج خمسة دراهم؛ لأن النُّقْصَان من ضمانه، وعلى الثاني يخرج خمسة أقفزة، ولا يضمن نقصان القيمة مع بقاء الْعَيْنِ كالْغَاصِب، وعلى الثالث: يتخير بينهما، وإن أخر فزادت القيمة وبلغت أربعمائة، فإن كان ذلكَ قبل الإمكان وقلنا: إنه شرط الوجوب، فعلى الأصَحِّ يخرج عشرة دراهم، وعلى الثاني خمسة أقفزة قيمتها عشرة دراهم؛ لأن هذه الزيادة في ماله ومال الْمَسَاكِين، وعن ابن أبي هريرة: أنه يكفي على هذا القول خمسة أقفزة قيمتها خمسة دراهم؛ لأن هذه الزيادة حدثت بعد وجوب الزكاة، وهي محتسبة في الحول الثاني. وعلى الثالث: يتخير بين الأمرين. ولو أتلف الحنطة بعد وُجُوبِ الزَّكَاة وقيمتها مائتا دِرْهم، ثم ارتفعت قيمتها فصارت أربعمائة فعلى الأصَحِّ يخرج خمسة دراهم، فإنها القيمة يوم الإتلاف. وعلى الثاني: يخرج خمسة أَقْفِزَة قيمتها عَشْرَة دراهم. وعلى الثالث: يتخير بينهما. إذا عرفت ذلك فالكلام بعده فيما يُقَوّم به العَرَض، ولا يخلو الحال أول ما ملك مال التجارة إما أن يملكه بالنَّقْدِ، أو بغير النقد، أو بهما. القسم الأول: أن يملكه بالنقد فإما أن يملكه بأحد النقدين، أو بهما. فإن ملكه بأحد النقدين فإما أن يكون نصاباً أو لا يكون. فإن كان نصاباً كما لو اشتراه بمائتي دِرْهَمٍ، أو عشرين ديناراً، فَيُقَوَّم في آخر الحَوْلِ بذلك النَّقْدَينِ؛ لأن الحول مبني على حوله، والزَّكاة وَاجِبَةٌ فيه فإن بلغ نصاباً بذاك النَّقْد أخرج زَكَاته، وإلا فَلاَ وإن كان الباقي غَالِبَ نَقْدِ البَلَدِ، وَلَوْ قُوِّمَ بِهِ لَبَلَغَ نِصَاباً، بل لو اشترى بمائتي درهم ¬
عَرَضاً، وباعه وبعشرين ديناراً، وقصد التجارة مستمراً فَتَمَّ الحول والدنانير في يده ولا تبلغ قيمتها مائتي درهم، فلا زكاة فيها، هذا ظاهر المذهب (¬1). وعن صاحب "التقريب" حكاية قول: أن التقويم أبداً يقع بغالب نَقْدِ البلد، ومنه يخرج الواجب، سواء كان رأس المَالِ نقداً أو غيره؛ لأنه أرفق بالمستحقين، لسهولة التعامل به وحكى الْقَاضِي الرّوَيَانِي هذا عن ابن الْحَداد. وقال أبو حنيفة (¬2) وأحمد: يعتبر الأحَظُّ لِلْمَسَاكِين، فَنُقَوِّمْ بِهِ ولا عبرة بما ملك به. وإن كان دون النصاب ففيه وجهان: أحدهما -وبه قال أبو إسحاق-: أنه يقَوَّم بِغَالب نَقْدِ البلد، كما لو اشترى بِعَرَضٍ؛ لأنه لا زَكاة فيه، كما لا زكاة في العَرَض. وأصحهما -وهو المذكور في الكتاب، وبه قال ابن أبي هريرة-: أنَّه يُقَوَّم بذلك النَّقْد أيْضاً؛ لأنه أصْلُ مَا فِي يَدِهِ، وأقرب إليه من نقد البلد، وموضع الوجهين ما إذا لم يَمْلِكْ مِنْ جِنْسِ النَّقْدِ الَّذِي مَلَكَ بهِ مَا يتم به النِّصاب، فإن ملك ما يتم به النصاب كما لو اشترى بمائة درهم عرضاً لِلتِّجَارة، وهو يملك مائة أخرى فلا خلاف في أن التقويم بجنس ما ملك به؛ لأنه اشترى ببعض ما انعقد عليه الحول، وابتدأ الحول من يوم ملك الدراهم (¬3). وإن ملك بالنقدين جميعاً فله ثلاثة أحوال؛ لأنه إما أن يكون كل واحد منهما نصاباً، أو لا يكون واحد منهما نصاباً أو يكون أحدهما نصاباً دون الآخر. وأما في الحالة الأولى فيقوَّم بِهِمَا على نسبة التَّقْسيط يَوْم الملك، وطريقه: تقوم أحد النقدين بالآخر يومئذ؛ بأنه اشترى بمائتي درهم وعشرين ديناراً عُرُوضاً لِلتِّجَارَةِ، فينظر إن كانت قيمة المائتين درهم عشرين ديناراً فقد علمنا أن نِصْف العُرُوضِ مشترى بالدراهم، ونصفها بالدنانير، وإن كانت قيمتها عشرة دنانير فثلثها مشترى بالدراهم، وثلثاها بالدنانير، فهكذا تقوّم في آخر الحول، ولا يضم أحدهما إلى الآخر حتى لا تجب الزَّكاة، إذا لم يبلغ واحدٌ مِنْهُمَا نِصَاباً، وإن كان بحيث لو قُوِّم الجميع بأحد النَّقْدَيْنِ؛ لبلغ نِصَاباً، وحول كل واحد من المبلغين من يوم ملك ذلك النقد. وأما في الحالة الثانية: فإن قلنا: ما دون النِّصاب كالعروض قوم الجميع بنقد ¬
البلد. وإن قلنا: إنه كالنصاب (¬1) قوم ما ملكه بالدَّرَاهِم بالدراهم، وما ملكه بالدنانير بالدنانير (¬2). وأما في الحالة الثَّالِثَة: فيقوَّم ما ملكه بالنَّقدِ الذي هو نصاب بذلك النقد، وَمَا ملكه بالنَّقْدِ الثَّانِي، فعلى الوجهين (¬3) وكل واحد من المبلغين يُقَوَّم به في آخر حوله، وحول المملوك بِقَدْرِ النِّصَاب مِنْ يَوْمِ مَلَكَ ذَلِك النَّقْد، وَحَوْل المملوك بالآخر من يوم العرض، وإذا اختلف جنس القوم به فلا ضَمَّ كما سبق. القسم الثاني: أن يملكه بغير النَّقْد كما لو ملك بعرض للقنية، فيقوم في آخر الحول بآخر نَقْدِ الْبَلَد من دراهم، أو دنانير، إن بَلَغَ به نِصَاباً أخرج زَكَاتَه، وإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وإن كان يبلغ بغيره نِصَاباً، فإن كان يجري في البلد النقدان وأحدهما أغلب، فالتقويم به، وإن استويا نظر إن بلغ بأحدهما نصاباً دون الآخر قُوِّمَ بِهِ، وإن بَلَغَ بِهِمَا، ففيه وجوه أربعة: أحدها: أن المالك يتميز، فيقوم بأيهما شاء، ويخرج الزّكاة، ويحكى هذا عن أبي إسحاق. والثاني: أنه يراعى الأَغْبَط لِلْمَساكين. والثالث: أنه يتعين التَّقويم بالدراهم؛ لأنها أَرْفَق وأَصْلَح لشراء المُحَقَّرَات (¬4). قال الرُّويَانِي: وهذا اختيار ابن أبي هريرة. والرابع: أنه يعتبر بالنقد الغالب في أقرب البلاد إليه، لاستوائهما في ذلك البلد، فصار كما لو لم يكن فيه نقد، فهذا التَّرتيب المذكور في الكتاب، وكذا أَوْرَدَهُ العِرَاقِيُّون، والقاضي الرّويَانِي، وحكموا بأن الوجه الأول أصَحّ. وإيراد الإمام وصاحب التَّهْذِيب يقتضي ترجيح الوجه الثاني؛ لأنهما قالا: إذا استويا ولم يغلب أحدهما يُقَوَّم بالأنفع لِلْمَسَاكين، فإن استويا فيه، فحينئذ فيه الوجوه ¬
الثلاثة الباقية، وما ذكراه يعتضد بأن الأظهر في اجتماع الحقاق، وبنات اللبون ورعاية الأَغْبَط، وما ذكره غيرهما يَعْتَضِد؛ لأن الأظْهَر في الجَبْرَان أن الْخِيَار في تعيين الشَّاتَينِ والدَّرَاهم إلى المُعْطِي، ويدخل في هذا القسم المملوك بالخُلْع والنّكاح على قصد التِّجَارة، إذا قلنا: إنه مال تجارة. القسم الثالث: أنه يملك بالنقد، وغيره معاً كما لو اشترى بمائتي درهم وعرض قنية، فما يقابل الدراهم يُقَوم بالدراهم، وما يقابل العَرَض يقوّم بنقد البلد، فإن كان النَّقْد دون النِّصَاب عَادَ الوجهان، وكما يجزئ التقسيط عند اختلاف الجنس يجزئ عند اختلاف الصِّفَة، كما لو اشترى بِنِصَابٍ من الدَّنَانِير بَعْضُهَا صَحِيح، وبعضها مكسر، وبينهما تفاوت يقوم ما يخص الصّحاح بالصّحاح، وما يخص المكسر بالمنكسر. ولا يخفى عليك بعد هذا الشَّرح أن لفظ (القيمة) من قوله في الكتاب: (فهو ربع عشر القيمة) فينبغي أن يكون مُعَلَّماً بالواو، وقوله: (من النقد الذي كان رأس المال) بالحاء، والألف، وقوله: (أو لم يكن) بالواو، وقوله: (فإن غلب نقدان) أي: على التساوي، -والله أعلم-. قال الغزالي: وَلاَ يُمْتَنَعُ عَلَى التَّاجِرِ التِّجَارَةُ لِعَدَمِ إِخْرَاجِ الزَّكاةِ، وَأَمَّا الإِعْتَاقُ وَالهِبَةُ فَهُوَ كَبَيْعِ المَوَاشِي بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا. قال الرافعي: هل ينفذ بيع التَّاجر مال التجارة بعد تمام الْحَوْل ووجوب الزَّكَاة فيها؟ ذكر بعض الأصحاب، أنه على الخِلاَف في بَيْع سَائِرِ الأمْوَالِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا، وروى في "النهاية" عن بعضهم أنا إن قلنا: إِنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ تُؤَدِّي مِنْ عَيْنَ العُرُوض، فهو على ذلك الخِلاَف. وإن قلنا: تُؤَدَّى من القيمة فالحكم فيه كالحكم في ما لو وجبت شاة في خَمْسٍ من الإبِلِ فباعها؛ لأن القيمة ليست من جِنْسِ العَرَض، كالشَّاةِ لَيْسَتْ من جِنْسِ الإبِل. والذي قطع به الجمهور، وأورده في الكتاب، أنه يَجُوز البَيْعُ، ولا يخرج على ذلَك الخلاف؛ لأن متعلق هذه الزَّكاة المالية والقيمة وهي لا تفوت بالبيع، ولا فرق بين أن يَبِيعَ على قَصْدِ التِّجَارَةِ وهو الذي يتناوله لفظ الكتاب، أو على قَصْدِ اقتناء العَرَض، فإن متعلق الزَّكَاة الواجبة لا يبطل، وإن صار مال قنية، فهو كما لو نوى الاقتناء مِنْ غَيْرِ بَيْعٍ، ولو أعتق عبد التجارة، أو وهب مال التجارة، فحكمه حكم ما لو باع المواشي بعد وجوب الزَّكَاة فيها؛ لأن الإعتاق والهبة يبطلان متعلق زكاة التجارة، كما أن البيع يبطل متعلق زكاة العَيْنِ، ولو بَاعَ مَالَ التِّجارة بمحاباة فقدر المحاباة كالموهوب، فإن لم تصحح الهِبَة وَجب أن تبطل في ذلك القدر، ويخرج في الباقي على تفريق الصَّفْقَة، -والله أعلم-.
قال الغزالي: {قَاعِدَةٌ} يَجِبُ إِخْرَاجُ الفِطْرَةِ (ح) عَنْ عَبْدِ التِّجَارَةِ مَعَ زَكَاةِ التِّجَارَةِ وَإِنْ كَانَ مَالُ التِّجَارَةِ نِصَابًا مِنَ السَّائِمَة غُلَّبَ زَكَاةُ العَيْنِ فِي قَوْلِ لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَغُلِّبَ زَكَاةُ التِّجَارَةِ فِي قَوْلٍ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِالمَسَاكينِ لِعُمُومِهِ، فَإنْ غَلَّبْنَا الزَّكَاةَ وَلَمْ يَكُنِ المَالُ نِصَاباً بِاعْتِبَارِهِ عَدَلْنَا إلَى الزَّكَاةِ الأخْرَى فِي أَظْهُرِ الوَجْهَيْنِ، وَلَوِ اشْتَرَى مَعْلُوفَةً لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ أَسَامَهَا وَقُلْنَا: المُغَلَّبُ زَكَاةُ العَيْنِ فَالأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجِبُ فِي السَّنَةِ الأُولَى زَكَاةُ التِّجَارَةِ كَيْلاَ يُحْبِط بَعْضَ حَوْلِ التِّجَارَةِ. قال الرافعي: غرض القاعدة الكلام فيما لو كان مال التجارة مما يجب في عينه الزَّكَاة، وافتتحها باجتماع الفطرة وزكاة التجارة، فعندنا: تجب فطرة عبيد التِّجَارة مع إخراج الزَّكَاةَ عن قيمتهم، وبه قال مالكٌ خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- حيث قال: "لا تجب الفطرة به". لنا: أنهما حقان يجبان لسببين مختلفين، فلا يَتَداخلان كالجَزَاء مع القِيمَة (¬1) في العبد المَمْلُوك، ولو كان مَالُ التِّجَارَةِ نِصَاباً من السائِمَة فلا تجب فيه زكاة العين، والتِّجَارة جميعاً، وفيما تُقَدَّم مِنْهُمَا؟ قولان: الجديد -وبه قال مالك-: أنه تُقَدَّمُ زَكَاةُ الْعَيْن؛ لأنها أقوى من جِهَة أنها مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا. وفي زكاة التجارة نزاع لبعض أهل الظاهر، وقد حكينا فيها عن القديم شيئاً ضعيفاً أيضاً. والقديم -وبه قال أبو حنيفة وأحمد -رحمهما الله-: أنه تُقَدَّم زَكَاة التِّجَارَةِ؛ لأنها أنفع للمساكين من حيث إنها تعم وتشمل أصنَاف الأموال، وتزيد بزيادة القِيمة. وذكر القَفَّال في "شرح التلخيص" أن له في القديم قولين: أحدهما: كالجديد. والثاني: تغليب زَكَاة التِّجَارة ورأيت لابْنِ الصَّبَاغِ من العراقيين رواية مثل ذلك. فإن قلنا: بالأصح، وهو تقديم زكاة العين أخرج السِّنَّ الوَاجِبَةَ مِنَ السَّائِمَةِ، والسُّخَال تُضَمُّ إلى الأمهات، وإن قدمنا زكاة التّجَارة فقد قال في "التهذيب": تقوم مع درِّها، وَنَسْلِهَا، ؤصُوفِهَا، وما اتخذ من لَبَنِهَا، وهذا جواب في النّتاج على أنه مال تِجَارة، وقد أَسْلَفْنَا فيه خلافاً، ولا عبرة بنقصان النِّصاب في أثناء الحول تفريعاً على الصَّحيح في وقت اعتبار نِصَاب التِّجَارة، ولو اشترى نِصَاباً مِنَ السَّائِمَة لِلتِّجَارة، ثم اشترى بها عرضاً بعد سِتَّةِ أَشْهُرٍ مَثَلاً، فعلى القول الثاني: لا ينقطع الحول، وعلى ¬
الأول: ينقطع، ويبتدئ حول زكاة التجارة من يوم شِرَاء العَرَض، ثم القولان فيما إذا كَمُلَ نصاب الزَّكَاتَيْنِ واتفق الحولان، أما إذا لم يَكْمُلْ نصاب إحداهما كما إذا كان مَالُ تِجَارَتِهِ أربعين من الغَنَم السائمة، ولم تبلغ قيمتها نصاباً عند تمام الحول، أو تسعاً وثلاثين فما دونها وبلغت قيمتها نصاباً فعليه زَكَاةُ الَّتِي كَمُلَ نِصَابُهَا دون الأخرى قولاً واحداً، هكذا ذكر العراقيون والقَفَّالُ وَاَلْجَمْهُورُ، وما في الكتاب يقتضي إثبات الخلاف فيه فإنه قال: (فإن غَلَّبْنَا زكاة، ولم يكن المال نصاباً باعتباره، عدلنا إلى الزكاة الأخرى في أظهر الوجهين) وكلام الإمام يوافق ما ذكره، فإنه روى وجهين في وجوب زكاة العين إذا رَأَيْنَا تقديم زَكَاة التِّجَارة، وكان مال تجارته أربعين من الغَنَم، ولم يبلغ قيمتها نصاباً في آخر الحول، وعلى عكسه كما لو رأينا تقديم زكاة العين، وقد اشترى أربعين فنقص العدد، وقيمة الباقي نصاب من النقد، روى وَجْهَيْن في وجُوب "زَكَاة التِّجارة" وَسَاعَدَهُمَا صَاحِبُ "التهذيب" في حكاية الخلاف في الصُّورة الأولى دون الثَّانِيَة، وسواء ثبت الخلاف أم لا، فالجواب في المسألة العدولُ إلى الزَّكَاة الأُخْرَى لانقطاع زحمة الأولى، وإذا غَلَّبْنَا زَكَاةَ الْعَيْن في نصاب السَّائِمَة، وانتقصت في خلال السَّنَةِ عن النِّصَاب، ونقلناه إلى زكاة التِّجارة، فهل يبنى حَوْلَ زكاة التجارة عَلَى حَوْلِ زَكَاةِ الْعَيْنِ أم يستأنف لَهَا حَوْلاً؟ فيه وجهان: حكاهما القَفَّالُ فِي "الشَّرْح" قال: وهما كالوجهين فيما لو مَلَك نِصَاباً من السَّائِمَةِ لاَ لِلتِّجَارَةِ، واشترى به سِلْعَةً لِلتِّجَارَةِ، هل يَبْنَى حَوْلَ السِّلعة عَلَى حَوْلِ المَاشِيَة؟ وإذا أوجبنا زكاة التجارة لِنقْصَان الْمَاشِيَة المشتراه للتجارة عن قدر النِّصَاب، ثُمَّ بَلَغَتْ بالنَّتَاجِ في أَثْنَاءِ الحَوْلِ نِصَاباً ولم تبلغ بالقيمة نِصَاباً في آخِر الحَوْلِ فقد حكى صاحبُ "التهذيب" عن بعض الأصحاب أنه لا زكاة عليه؛ لأن الحَوْلَ انعقد على زَكَاة التِّجَارة، فلا يتبدل. وعن بعضهم: أنه ينتقل إلى زكاة العين، فعلى هذا يعتبر الحَوْلُ من تمام النِّصَاب بالنَّتَاج، أو من وقت نقصان القيمة عن النِّصاب؟ فيه وجهان (¬1): وأما إذا كَمُلَ نِصَابُ الزَّكَاتَيْن وَلَمْ يتفق الحَوْلاَن، وهذا في السَّوائم إنما يكون بسبب حول زكاة التِّجارة بأن يشتري بمتاع تجارتة بعد سِتَّةِ أَشْهُر نِصَاباً من السَّائِمَة، أو يشتري مَعْلُوفَةٌ للتجارة ثم يُسِيمُهَا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، ولا يتصور سَبْق حول زكاة العين فيها، لأَنَّ حَولَهَا ينقطع بالمبادلة، فإذا تصور ذلك؛ ففيه طريقان: أظهرهما -وبه قال القاضي أبو حامد-: أنه على القولين في أنه يُقَدِّم هَذِه الزَّكَاةِ، أم هذه الزكاة؟ ¬
والثَّانِي -وبه قال أبو إسحاق واختاره القاضي أبو الطيب (¬1) -: أن القولين مَخْصُوصان بها إذا اتفق الحولان، وذلك بأن يشتري بعروض القَنْيَة نِصَاباً مِنَ السَّائِمَة لِلتِّجَارَة. فأما إذا لم يتفقا فلا جريان للقولين، وعلى هذا فما الحكم؟ نَقَلَ الإِمَامُ -رضي الله عنه- فيه طريقين: أحدهما: أن المتأخر يرفع المُتَقَدِّم، وَيتَجَرَّدُ قولاً وَاحِداً. والثَّاني: أن المُتَقَدِّم يرفع المتأخر، وعليه زكاة التّجارة في الصُّورَةِ المَفْرُوضة قولاً واحداً: لأن التي تَمَّ حَوْلُهَا خَالِية عن زحمة الغير فتجب، وهذا هو الأشهر الذي نَقَله المعظم تفريعاً على طريقة أبي إسحاق، وإذا طردنا القولين فيما إذا تَقَدَّم حول التِّجَارة، فإن غَلَّبْنَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ فَلاَ كَلاَمَ، وإن غَلَّبْنَا زَكَاةُ الْعَيْنِ فوجهان: أحدهما: أنها تَجِب عند تمام حولها، وما سبق من حول التجارة على حول زَكَاة العَيْنِ يَتَعَطَّل (¬2). وأظهرهما: أنه يجب عليه زكاة التجارة عند تمام حولها لئلا يحبط بعض حولها، ثم يستفتح حول زكاة العين من منقرض حولها، وتجب هي في سَائِرِ الأحوال. وقوله: (وقلنا: المغلب زكاة العين) جواب على طريقة طرد القولين مع اختلاف الحولين، ولك أن تُعَلِّمَهُ بالواو، وتشير به إلى الطريقة الثَّانية لِلْخِلاَف، هذا تمام القَوْلِ فيما إذا كَانَ مَالَ التِّجَارَة نِصَاباً من السَّائِمَة -والله أعلم-. قال الغزالي: وَلَوِ اشْتَرَى حَدِيقَة لِلتِّجَارَة فَأثْمَرَتْ وَقُلْنَا: الثَّمرَةُ مَالُ التِّجَارَة، أَوْ اشْتَرَى الثِّمَارَ قَبْلَ الصَّلاحِ فَبَدَا الصَّلاحُ فِي يَدِهِ وَغَلَّبْنَا زَكاةَ العَيْنِ فَالعُشْرُ المُخْرَجُ لاَ يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِ حَوْلِ التِّجَارَةِ عَلَى الثِّمَارَ بَعْدَ القِطَافِ، وَهَلَ نُسْقِطُ زَكَاةَ التِّجَارَةِ عَنِ الأَشْجَارِ وَالأَرَاضِي؟ فِيهِ ثَلاَثةُ أَوْجُهٍ مَنْشُؤُهَا التَّرَدُّدُ فِي التَّبَعِيَّةِ، وَفِي الثَّالِثِ يُتْبَعُ الشَّجَرَةُ دُونَ الأَرْضِ، وَلَوِ اشْتَرَى أَرْضًا لِلتَّجَارَةِ وَزَرَعَهَا بِبَذْرِ القَنْيَةِ فَحَقُّ الزَّرْع العُشْرُ، وَلاَ تَسْقُطُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ عَنِ الأَرْضِ، لِأَنَّ التِّجَارَةَ لَمْ تُوجَدْ فِي مُتَعَلَّقِ العُشْرِ حَتَّى يُسْتَتْبَعْ غيْرُهُ. قال الرافعي: الفصل ينظم صورتين: أحدها: لو اشترى حديقة، أو نخيلاً لِلتِّجَارَة فأثمرت أو أرضاً مزروعة للتجارة ¬
فأدرك الزَّرع، وبلغ الحاصل نِصَاباً؛ فالقولان في أن الواجب زكاة العين، أو زكاة التجارة مطردان، فإن لم يكمل أحد النِّصَابين، أو كَمُلاَ ولم يتفق الحولان استمر التفصيل الذي سبق، وهاهنا كما يتصور سبق حول التجارة يتصور سبق زكاة العين بأن يبدو الصلاح في الثمار قبل تمام حول التّجارة، ثم هذا الذي ذكرناه فيما إذا كانت الثَّمَرة حَاصِلَة عند الشِّراء، وبُدُوِّ الصَّلاَح فِي يده، أما إذا طلعت بعد الشِّرَاء، فيزداد هذا النظر إلى شيء آخر. وهو أن الثمرة الحادثة من أشجار التجارة هل تكون مال التِّجَارة؟ وفيه وجهان أسلفنا ذكرهما (¬1). فإن قلنا: نعم فهي كما لو كانت حاصلة عند الشراء، وتنزل منزلة زيادة متصلة، أو أرباح مُتَجَدِّدة في قِيمَة العُروضِ، ولا تنزَّل منزلة ربح ينضّ حتى يكون حولها على الخلاف الذي سبق فيه. وإن قلنا: إنها لَيْسَت مَالَ تِجَارَةٍ فقضيته وجوب زكاة العين فيها بلا خلاف، وتخصيص زَكَاةِ التِّجارة بالأرض والأشجار. التفريع: إن غلبنا زكاة العين أخرج العُشْرَ، أو نِصْفَ العُشْرِ من الثِّمار أو الزروع. وهل تسقط به زكاة التجارة عن قيمة جذع النخيل؟ وتبن الزرع؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن المقصود الثمار والزروع، وقد أخذنا زكاتها. وأظهرهما: لا؛ لأنه ليس فيها زكاة العين، فلا تسقط عنهما زكاة التجارة، ويحكى الوجه الثاني عن ابن سُرَيْج، وأبي إسحاق، وفي أرض الحديقة، وأرض الزرع طريقان: أحدهما: أن في زَكَاة التِّجارة فِي قِيمَتِهَا وَجْهَيْنِ كما في الجذع، والتبن. والثاني: القطع بالوجوب. والفرق بُعْدُ الأراضي عن التبعية، فإنَّ الثِّمَار والْحُبُوبَ خَارِجَةٌ عن عين الشَّجَرَةِ، والتبن، وهمَا خَارِجَتَان مما أودع في الأرض لا من نفس الأرض. قال الإمام، وَينْبَغِي أن يعتبرِ ذلك بِمَا يدْخَل مِنَ الأَرَاضِي المتخللة بين النَّخيل في المُسَاقَاة وما لا يدخل فما لا يدخل تَجِبْ فيه زَكَاة التِّجَارَةِ قَطْعاً، وما يدخل فهو على الخِلافَ -والله أعلم-. فإن أوجبنا زَكَاة التِّجَارة في هذه الأَشْيَاء فَلَمْ تبلغ قيمتها نِصَاباً، فهل تُضَمّ قِيمَة التَّمَرَةِ وَالْحَبِّ إِلَيْهَا لِتَكْمِيل النِّصَابِ؟ نقلوا فيه وجهين (¬2). وعلى هذا القول لا يَسْقُط اعتبار التِّجَارة فِي المُسْتَقْبَل بالكُلِّية، بل تَجِبُ زَكَاةُ ¬
التِّجَارَةِ فِي الأَحْوَالِ الآتية، ويكون افتتاح حَوْلِ التِّجَارة مِنْ وَقْتِ إِخْرَاج العُشْرِ لا من وَقْتِ بُدُوِّ الصَّلاحَ، وإن كان ذلك وَقْتَ الوُجُوبِ؛ لأن عليه بعد بُدُوِّ الصَّلاح تربية الثِّمار للمساكين، فلا يجوز أن يكون زمان التَّربِيَة محسوباً عليه، ذَكَره في "النهاية" وإن غَلَّبنَا زكاة التِّجَارة قُوِّمَتْ الثَّمرة والجذع، وفي الزرع الحبُّ والتِّبْنُ، وتُقَوَّمُ الأَرْضُ أيضاً، في صُورة الحَدِيقة، وفيما إذَا اشْتَرَى الأَرْضَ مَزْرُوعة لِلتِّجَارة، ولا فِرقِ بين أن يشتريها مزروعة للتِّجَارة وبين أن يَشْتَرِي أَرْضاً للتِّجَارَةِ وَبِذْرًا لِلتِّجَارَةِ وَيزْرَعُهَا بِهِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، ولو اشترى الثِّمَار وَحْدَها وبَدَا الصَّلاح فِي يَدِهِ، جَرَى القَوْلاَن فِي أنَّهُ يُخْرِجُ العُشْرَ أم زكاة التِّجارة. والثانية: لو اشترى أرضاً لِلتِّجارة، وَزَرَعَهَا بِبِذْرِ للقنية، فعليه العُشْرُ في الزرع وزكاة التِّجارة في الأرض بلا خلاف، ولا تَسْقُطُ زَكَاة التِّجَارَةِ عَنِ الأَرْضِ بأداء العُشْرِ قولاً وَاحِداً؛ لأن التِّجَارة لم توجد في مُتَعَلّق العُشْرِ، حتى يستتبع غيره. وأما لَفْظُ الكتاب: فقوله: في صورة شراء الحديقة (وقلنا: الثمرة مال تجارة) أشار به إلى الوجهين، في أن ثِمَار أَشْجَار التِّجَارَة، هَل تَكُون مَالَ تِجَارةٍ؟ وإنما يقطع النظر إليهما إذا حدثت الثمار بعد الشراء على ما بَيَّنَّاهُ. وقوله: (أو اشْتَرى الثِّمَار) هُوَ صورة شراء الثمار وَحْدَها، وإنما يعتبر بُدُوُّ الصَّلاحَ فِي يَدِهِ، لأنه وَقْتُ وجُوب العُشْرِ، وبتقدير تقدمه على الشراء فالواجب زَكَاة التِّجارة قولاً وَاحِداً. وقوله: (فالعشرَ المخرج لا يمنع من انعقاد حَوْل التجارة على الثِّمار بعد القِطاف) معناه ما ذكرناه أنه لا يسقط على قولٍ تقديم زَكَاة العَيْنِ اعتبار التِّجارة في الأحوال المستقبلة. وقوله: (وهل تسقط زكاة التجارة عن الأشجار والأرض) يرجع إلى صورة الحديقة دون الصورة الثانية شراء مُجَرَّدِ الثِّمار. وقوله: (فيه ثلاثة أوجه) يجوز أن يعلم بالواو؛ لأن إثبات الوجوه الثلاثة إنما ينتظم على قول من أْثبَت الخِلاَف في الأراضي، وقد نقلنا طريقة قاطعة بأنَّها لا تتبع. قال الغزالي: {فَصْلٌ} إِذَا قُلنَا: العَامِلُ لاَ يَمْلِكُ الرِّبْحَ بِالظُّهُورِ وَجَبَ زَكَاةُ الجَمِيعِ (و) عَلَى المَالِكِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ وَجَبَ عَلَى العَامِلِ فِي حِصَّتِهِ بِحَوْلِ الأَصْلِ عَلَى وَجْهٍ لِأنَّهُ رُبْحٌ وَبِحَوْلٍ مُسْتَفْتَحٍ مِنْ وَقْتِ الظُّهُورِ عَلَى وَجْهٍ لِأنَّهُ فِي حَقِّهِ أَصْلٌ، وَفِيهٍ وَجْهٌ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لاَ يَسْتَقِلُّ بِالتَّصَرُّفِ فَأَشْبَهَ المَغْصُوبَ، ثُمَّ إِنْ قُلْنَا: يَجِبُ فَهَلْ يَسْتبِدُّ بِإخْرَاجِهِ فِيهِ خِلاَفٌ يُلْتَفَتُ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ كالْمُؤَنِ، أَوْ كَاسْتِرْدَادِ طَائِفَةٍ مِنَ المَالِ وَعَلَيهِ ينْبَني أَنَّ مَا يُخْرِجُهُ المَالِكُ مِنَ الزَّكَاةِ يُحْتَسِبُ مِنَ الرِّبْحِ أَوْ مِنْ رَأسِ المَالِ. قال الرافعي: بناء الفصل على أن عامل القَراض هَل يَمْلُكُ القَدْرَ المَشْرُوط لَهُ مِنَ
الرِّبْحِ بمجرد الظُّهُور أو لا يملك إِلاَّ بِالْقِسْمَة؟ وفيه قولان: أصحهما: الثاني، وسيأتي شرحهما في "كِتَاب القَرَاض" -إن شاء الله تعالى-. إذا عَرَفْتَ ذلك، فالرَّجُل إذَا دَفَع إلَى غَيْرِهِ نَقْداً قراضاً وحال الحول وفيه ربح فلا يخلو إما أن لا يكون واحد مِنْهُمَا مِنْ أهْلِ وجُوبِ الزَّكَاة، كالذِّمِّي والمُكَاتَب، أو يكونَا جميعاً مِنْ أهله، أو يكون أحدهما من أهله دون الثاني. أما الحالة الأولى: فلا يخفى حكمها. وأما الثانية: فكلام الكتاب مقصور عليها، فإن قلنا: العامل لا يملك الربح بالظُّهور فَزَكَاةَ رأس المَالِ والربح كله على المَالِكِ، لأن الكُلَّ مِلْكُه، هَكَذا قاله الجمهور. ورأى الإمام تخريج الوجوب في نصيب العامل على الخلاف في المغصوب والمَجْحُود والأمْلاَك الضَّعِيفة، لتأكُّدِ حَقِّ العَامِلِ فِي حِصَّتِهِ، وتَعَذُّرِ إِبْطَالِهِ عَلَى الْمَالِكِ، وحَوْلُ الرِّبْحِ مبنِيُّ على حَوْلِ الأَصْلِ، إلا إذا رُدَّ إلى النضوض ففيه الخلاف الذي تَقَدَّم ثم إن أخرج الزكاة من مال آخر فَذَاك، وإن أُخْرِجَ مِنْ هَذَا الْمَالِ ففي حكم المُخْرَج وجهان: أحدهما: أنه محسوب من الرِّبْح كالمُؤَنِ الَّتِي تَلْزَمُ المَالَ مِنْ أُجْرَةِ الدَّلاَّلِ وَالْكَيَّالِ، وكما أن فُطْرَة عبيد التِّجَارَةَ تُحْسَبُ مِنَ الرِّبْحِ، وَكَذَا أَرْشٌ جَنَايَتِهِمْ، وَهَذَا أَظْهَرُ عَندَ الأكثرين ويحكى عن نَصِّهِ في "الأم". والثاني: أنه كَطَائِفَة مِنَ المَالِ يَسْتَرِدُّهَا الْمَالِكُ؛ لأنَّهُ مَصْرُوفٌ إلى حَقٍّ لَزمهُ، فعلى هذا يكون المُخْرَجُ من رَأسِ الْمَالِ وَالرِّبْح جَمِيعاً على قضية التقسيط. مثاله: رأس المال مَائَة والرِّبْحُ خَمْسُون، يكون ثُلُثَا المُخْرَجِ مِنْ رَأسِ الْمَالِ، وَثُلُثُه مِنَ الرِّبْحِ. قال في "التهذيب": والوجهان مَبْنِيَّانِ على أن الزَّكَاة تَتَعلَّق بِالْعَيْنِ أو بالذِّمَة؟ إن قلنا: بالأول فهو كالمُؤَن، إلا فكاسترداد طائفة من المال، وروى الإمام هذا البناء عن بعضهم، لكن مع ترتيب، إن قلنا بتعلقها بِالْعَيْنِ فَهُوَ كَالْمُؤَنِ بِلاَ خِلاَف، وإلا ففيه الخِلاَف، ثم إنه لم يَرْتَضِ هَذَا البنَاءَ، ولم يستبعد طرد الوجهين تَعلَّقت الزَّكاة بالعَيْنِ أو بالذِّمة. وفي المسألة وجه ثالث: أن المخرج من رأس المال خَاصَّة؛ لأن الوَاجِب لزمه خَاصَّة، وهذا أظْهَرُ عند القاضي الرّوَيانِي وقَوْم -رحمهم الله-، وإن قلنا: العامل يملك الرّبْحَ بالظُّهُورِ فعلى المالك زَكَاةُ رأسِ الْمَالِ ونصيبه مِنَ الرِّبْحِ، وهَلْ على العَامِل زَكَاةُ نَصِيبِهِ؟ فيه طرق: أحدها -ويحكى عن صاحب "التقريب"-: أنه على القولين في المغصوب
ونظائره؛ لأنه لا يتمكن من التَّصَرُّف على حسب مشيئته. والثَّاني: القطع بالوجوب؛ لأنه مُتَمَكِّن مِنَ التَّوَصُّلِ إِلَيْهِ متى شَاء بالاسْتِقْسَام، فأشبه الدَّيْنَ الحَالَّ عَلَى الْمَلِيءِ. والثالث -ويحكى عن القفال-: القطع بالمنع؛ لأن ملكه غير مستقر من حيث إنه وقاية لرأس المال عن الخُسْران، فصار كملك المُكَاتب، فإن أوجبناه وهو الظَّاهر - سواء أثبتنا الخلاف أم لا، فالكلام في أمور: أحدها: حول حِصَّتِهِ من الرِّبْحِ هل هو حول رأس المال؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كحصة المالك منه؛ لأنهما جميعاً مستفيدان للرِّبْح مِنْ رَأسِ الْمَال. وأصحهما: لا؛ لأنه في حَقِّه أَصْلٌ وَاقِع في مقابلة عمله، ولا عهد بضم مِلْك الْغَيْرِ إِلَى الْغَيْرِ فِي الْحَوْلِ، وعلى هذا فَمِنْ مَتَى يبتدأ الحول؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحها: وهو نصه في "المختصر": أنه من يوم الظُّهور لِثُبُوتِ مِلْكِهِ من يَؤْمَئِذٍ. والثاني: من يوم يقوَّم المالُ على المالك لأخذ الزكاة. والثالث: من يوم القسمة؛ لأن مِلْكِه حينئذ يستقر. الثاني: إذا تَمَّ حوله، ونصيبه لا يبلغ نصاباً، ومجموع المال نِصَاب فإن أثبتنا الخُلْطَة في النَّقْدَيْنِ فعليه الزَّكَاة، وإلاَّ فلا إلا أن يكون له من جنسه ما يتم به النِّصَاب، وهذا إذا لم نجعل ابتداء الحول من يوم المُقَاسَمة، فإن حسبناه من المقاسمة سَقَطَ النَّظَر إلى قَوْلَى الخُلْطَة. الثالث: لا يلزمه إخراج الزَّكَاةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ؛ لأنه لا يعلم سَلاَمَةِ نَصِيبِهِ له إلا إذا تَقَاسما وحينئذ يُزَكِّيه لما مضى، كالدَّيْنِ إذا اسْتَوْفَاهُ، هذا هو الأظْهَر، ونفى ابْنُ عَبْدَانَ الخلاف فيه. وفيه وجه آخر: أنه يجب الإخْرَاج في الْحَال لتمكنه من الاستقسام، فأشبه الوَدِيعة عِنْدَ الْغَيْرِ، ويحكى هذا عن صَاحِب "التَّقْرِيب". والرابع: إن أخرج الزَّكَاةِ مِنْ مَوْضِعٍ آخر فذاك، وإن أراد إِخْرَاجَهَا مِنْ مَالِ الْقَرَاضِ، فهل يَسْتَبِد به أم لِلْمَالك منعه؟ فيه وجهان: أظهرهما: أنه يستبد، وذكر الرّوَياني أنه المنصوص. والثاني -ولم يورد الصيدلاني غيره-: أنه لا يستبد بِهِ وللمالك منعه؛ لأن الربح وقايةٌ لِرَأْسِ المال عن الخُسْران، فله أن يمنعه من التَّصَرُّفِ فيه حتى يسلم إليه رأس المال. قال الإمام: ويمكن تخريجها على ما ذكرنا من أن الزَّكَاة مؤنة أو استرداد طائفة؟
إن قلنا بالأول فله إِخْرَاجُها منه استبداداً. وإن قلنا بالثاني، فَلاَ، ولك أن تقول إنما أن يحْسُن أخْذُ الوجهين من هذا المأْخَذِ، إذا أثبتنا الخلاف في كون الزَّكاة مُؤْنَةً أو استرداد طائفة على الإِطْلاَق، لكن أومأ الصيدلاني إلى تخصيص ذلك الخلاف بزكاة جَمِيع الْمَال، إذا أخرجها المالك تفريعاً على القول الأول، فأما ما يخرجه من المَالِ لِزَكاة رأس المال من نَصِيبه من الرِّبْح فهو كاسترداد طائفة، ولا يتجه فيه الوجهان؛ لأن العامل قد اختص بالتزام ما يخصه، فكيف يحسب من الرّبح ما يخص المالك، وقد صرح الإمام بهذا الذي أومأ إليه الشيخ الصَّيْدَلاَنِيّ فكان من حقه أن يقول بأحد الوجهين من المأخذ المذكور، أو لا يقول بتخصيص الوجهين بالقَوْل الأول -والله أعلم-. الحالة الثالثة: أن يكون أحدُهُمَا مِنْ أَهْلِ وُجُوب الزَّكَاة دون الآخر، فإن كان الذي هو من أهل الوجوب منهما المالك وفَرَّعْنَا على أنَ الكُلَّ لَهُ مَا لَمْ يُقْسَمْ فعليه زكاة لكُلِّ، وإن فَرَّعْنَا على القول الآخر فَعَلَيْهِ زَكَاةُ رأسِ المالِ ونصيبهِ من الرَّبْحِ، ولا شيءَ على العَامِلِ، ولا يكمل مال المالك إن لم يبلغ نصاباً، بنصيب العامل، وإن كان العاملُ من أهلِ الوُجوبِ دُونَ المَالِك. فإن قلنا: كل المال للمالك قبل القِسْمَة فلا زَكَاة، وإن قلنا: لِلْعَامل حِصَّتُهُ مِنَ الرِّبْحِ فَفِي الزَّكَاةِ عليه الْخِلاَفُ الَّذِي سَبَقَ في الْحَالَة الأولى، فإن أوجبنا الزَّكَاة فذلك إذا بلغت حِصَّتُهُ نِصَاباً، أو كان له ما يتم به النِّصَاب ولا تثبت (¬1) الخُلْطَة هاهنا بلاَ خِلاَف، ولا يجيء في اعتبار ابتداء الحول هاهنا إلا الوجه الأول والثَّالِث، ويسقط الثاني؛ لأنه لا تقويم على من لا زكاة عليه، وليس له إخراج الزَّكَاةَ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ هاهنا بلا خلاف؛ لأن المالك لم يدخل في العَقْد على أن يُخْرج من المَالِ الزَّكاة، هكذا ذَكَرُوهُ ولمانع أن يمنع ذلك؛ لأنه عامل من عَلَيه الزَّكاة. وَعُدْ بعد هذا إلى لفظ الكتاب، وأعلم قوله: (لا يملك الربح بالظهور) بالحاء؛ لأن مذهبا أبي حنيفة -رحمه الله- مثل القول الثاني. وقوله: (وجب زكاة الجَمِيع على المالك) بالواو؛ لما حكيناه عن الإمام -قدس الله روحه-. وقوله بعد ذلك: (يملك) بالزاي؛ مذهب المزني -رحمه الله-، مثل القول الأول، ولا يخفي عليك أن قوله: (لا يملك الربح بالظهور) أراد به حِصَّته من الرِّبح، ففيه الخلاف. ولك أن تعلم قوله: (من وقت الظهور) بالواو، إشارة إلى وجهين ذَكَرْنَاهُمَا في ابتداء الحَوْلِ فإنهما لا يَعْتَبِران وَقْتَ الظُّهُورِ، وإن ساعد هذا الوجه على ¬
زكاة المعادن والركاز
اعتبار حول مستفتح. وقوله: (وفيه وجه أنه لا زكاة عليه) هو مقابل لقوله أولاً: (وجب على العامل في حِصَّته ثم الحكم المذكور في هذا الوجه ليس له تَعَرُّضْ لِلْخِلاَف لكن التعليل والتشبيه بالمغضوب بَيِّنٌ أَنَّهُ قَصَد به حكاية طريقة القولين فكأنه قال: وفيه وجه: أنه لا زَكَاةَ عليه على أَحَدِ القَوْلَيْنِ، وقد تُسَمَّى طُرَق الأَصْحَاب وُجوهاً: وقوله: (يلتفت إلى أن الزكاة كالمؤن ...) إلى آخره اتباع منه للمأخذ الذي ذَكَرَهُ الإمَامُ. وقوله: (وعليه ينبني أن ما يخرجه المَالِكَ من الزَّكَاةِ ...) إلى آخره يقتضي إطلاقه إثبات الخلاف فيما يخرجه المالك على القولين، لسكن ما نقلنا عن الصَّيْدَلاَنِي والإمام ينازع فيه، وتَخْصِيصُ الْخِلاَف بالقول الأول. وقوله: (أو من رأس المال) لم يعن به الاحتساب من رأس المال فحسب وإن نقلها من قبل وَجهاً أنه كذلك يحتسب، وإنما أراد من رأس المال والرِّبْح جميعاً؛ لأنه بني هذا الْخِلاَفِ على الخِلاَف في أنها كالمؤن، أو كاسترداد طائفة من المال واسترداد طائفة من المال يتوزع على رأس المال والرِّبْح ولا يختص برأس المال. زكاة المعادن والركاز: قال الغزالي: (النَّوْعُ الخَامِسُ) زَكَاةُ المَعَادِنَ والرِّكَازِ، وَفِيهِ فَصْلاَنِ (الأَوَّلُ فِي المَعَادِنِ) وَكُلُّ حُرٌ مُسْلِم نَالَ نِصَاباً مِنَ النَّقْدَيْنِ (ح و) مِنَ المَعَادِنَ فَفِيهِ رُبْعُ العُشْرِ عَلَى قَوْلٍ، وَالخُمْسُ فِي قَوْلٍ تَشْبِيهاً بِالرِّكَازِ، وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ: يَلْزَمة الخُمْسُ إِنْ كَانَ مَا نَالَهُ كَثِيراً بِالاِضَافَةِ إِلَى عَمَلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكْثُرُ فَرُبْعُ العُشْر، وَفِيهِ قَوْلٌ: إِنَّ النِّصَابَ لاَ يُعْتَبَرُ (م). وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَولَ لاَ يُعْتَبَرُ. قال الرافعي: من أنواع الزكاة ما يخرج من الأموال الكامنة في الأرض إذا نالها الإنسان. وعده في أنواع الزَّكَاة يتفرع على المَذْهَب في أن مَصْرَفَهُ مَصْرَفُ سائر الزَّكَوات، وفيه وجه يأتي في مَوْضِعه أن مَصْرَفه مَصْرَفُ الفَيْءِ، فعلى ذلك الوجه لا يَتَّضِح عَدُّه من الزكوات، ثم الأموال الكامنة في الأرض أما مَخْلُوقَة فيها وهي المعدن (¬1)، والفَصْل الأوَّلُ معقود له، وإما مدفونة فيها وهي الرِّكَاز (¬2)، والفصل الثاني ¬
معقود له. والأصل في زكاة المعدن بعد الإجماع (¬1) قولُه تعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (¬2) ومما أُخْرِج لنا من الأرض المَعَادِنَ. وروي أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَقْطَعَ بِلاَلَ بْنَ الْحَارِثَ الْمُزَنِي الْمَعَادِنَ القَبِلِيَّةَ وَأَخَذَ مِنْهَا الزَّكَاةُ" (¬3). وفقه الفصل الذي أخذنا في شرحه مسائل: إحداها: لا زكاة في المُسْتَخرَج من المعادن إلا في الذَّهَبِ وَالْفِضَّة، خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- حيث أوجب في كل جوهر ينطبع ويصير عَلى المطرقة كالحديد والنُّحَاس دون ما لا يَنْطَبع كالكحل والفيروزج والياقوت، ولأحمد حيث قال: "يجب في كُلِّ مستفَادٍ من المعدن منطبعاً كان أو غير منطبع"، وحكى الشَّيْخُ أَبُو عَلِيّ في "شرح التلخيص" وجهاً مثله عن بعض الأصحاب. لنا مع أبي حنيفة: القياس على غير المنطبعات، ومع أحمد على الطِّين الأحمر، وأيضاً فقد روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ زَكَاةَ فِي حَجَرٍ" (¬4). الثانية: في واجب النَّقْدَين المستخرجين من المعدن ثلاثة أقوال: أصحها: أن الواجب فيها ربع العشر، وبه قال أحمد، لمُطْلَق قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فِي الرِّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ" (¬5). وروى -صلى الله عليه وسلم- قال: "فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ وَفِي الْمَعْدِنِ الصَّدَقَةُ" (¬6). والثاني: وبه قال أبو حنيفة ويحكى عن المزني أيضاً: أن الواجب الخمس؛ لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَفِي الرِّكَاز الْخُمُسُ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الرِّكَازُ؟ قَالَ: هُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ المَخْلُوقَانِ فِي الأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ" (¬7). ¬
والثالث: أن ما ناله من غير تَعَبٍ وَمُؤْنَةٍ فيه الخُمُس؛ وما ناله بالتَّعَبِ وَالْمُؤْنَةِ ففيه رُبُع العُشْرِ؛ جمعاً بين الأَخْبَار، وأيضاً فإن الواجب يزداد بقِلَّة المُؤْنَة، وينقص بكثرتها، ألا ترى أن الأمر كذلك في الْمَسْقِيّ بِمَاءِ السَّمَاءِ والمَسْقِي بالنَّضح، وعن مالك روايتان: إحداهما: كالقول الأول. وأشهرهما: كالثالث، ثم الذي اعتمده الأكثرون في ضبط الفرق على هذا القول النظر إلى الْحَاجة إلى الطَّحْنِ والمُعَالَجَةِ بالنَّار والاستغناء عنهما فما يحتاج إلى الطَّحن والمعالجة، ففيه ربع العشر، وما يستغنى عنهما، ويؤخذ مجموعاً خَالِصاً ففيه الخُمُس، ولم ينظروا إلى قِلَّةِ الموجُودِ وَكَثْرَتِهِ، وحكى الإمام مع هذا طريقة أخرى وهي عد الاحتفار من جملة العمل المُعْتَبَر، والنظر إلى نسبة النَّيْلِ إلى العمل، أيُّ عَمَلٍ كان من الحُفْر والطَّحْن وغيرهما، فإن لم يعد كثيراً بالإضافة إلى العمل أو مقتصداً، ففيه ربع العشر، وإن عُدَّ كثيراً ففيه الخُمُس. وأوضحهما بالتَّصْوير فقال: لو استفاد إلى قريب من آخر النَّهَار ديناراً، وبِعَمَلٍ قليل في بقية النهار دِينَاراً ففي الأوَّلِ رُبُع العُشْرِ وَفِي الثَّانِي الخُمُس، ولو عمل طُول الْيَوْم ولم يجد شَيْئاً ثم وجد في آخر النهار دِينارين وكان المعتاد المقتصد في اليوم ديناراً، فينبغي أن يحط ديناراً، فنوجب فيه رُبُع العُشْرِ، وفي الزِّيَادة الخُمُس، ويحتمل أن يقال: فيهما الخمس، والزمان الأول قد حبط، والاحتمال الأول هو الذي أورده المصنف في "الوسيط"، وأستحسن القَفَّالُ ألا يطلق في المسألة ثلاثة أقوال بل يرتب فيقال ما استخرج بتعب ومَؤْنَةٍ فواجبه الخُمُس، أو رُبُع العُشْرِ. إن قلنا: بالثاني ففيما وجد من غير تَعَبٍ أولى. وإن قلنا: بالأول ففيه قولان: والفرق ما قد تبين. الثالثة: يتفرع على الخلاف في قدر الواجب اعتبار النِّصَاب والحول، فإن أوجبنا ربع العشر فلا بد من النِّصَاب كالنَّقْدَين من غَيرِ الْمَعَادِن، وفي الحول قولان: أصحهما: أنه لاَ يشترط، بل تجب الزَّكاة في الْحَال، كالثِّمَار والزُّرُوع، وبهذا قال مَالِكٌ وأبو حنيفة وأحمد -رحمهم الله- وهو المنصوص عليه في أكثر كُتُبِ الشَّافِعِيّ -رضي الله عنه- قديمها وَحَدِيثها. والثاني: أنه يشترط ولا يجب شيء حَتَّى يتم عليه الحول، كما في النقدين من غير الْمَعَادِن، وهذا القول ينقل عن "مختصر البويطي" إيماء ورواه المزني في "المختصر" عمن يثق به عن الشافعي -رضي الله عنه- واختاره، وذكر بعض الشارحين أن أخته روت له ذلك عن الشَّافعي -رضي الله عنه- فلم يحب تسميتها، وإن أوجبنا الخمس فلا يعتبر الحَوْل، وفي النِّصَاب قولان:
أحدهما: لا يعتبر، وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-؛ لأنه مالٌ يجب تَخْمِيسُه فلا يعتبر فيه نصاب كالفئ والغنيمة. والثاني: يعتبر؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي الذَّهَب شَيْءٌ حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِينَ مِثْقَالاً" (¬1) وكيفما كان فالظَّاهِرُ من المَذْهَب اعْتِبَار النِّصَاب وَعَدَم اعتبار الحول، والمعنى فيه أن النصاب إنما اعتبر لَيَبْلَغَ الْمَالُ مَبْلَغًا يحتمل المُوَاساة، والحول إنما اعتبر ليتمكن من تنمية المال وتسييره والمستخرج من المعدن نما في نفسه، ولهذا اعتبرنا النصاب في الثمار والزروع، ولم نعتبر الحول -والله أعلم-. وقوله في الكتاب: (كل حر، مسلم) التعرض للحرية والإسلام، كالمفروغ هاهنا؛ لأنا عرفنا اعتبار الصفتين من المالك في جميع الزَّكَوات، والاكتفاء بهما للوجوب بما ذكره في أركان الوجوب وإن كان في ترتيب الكتاب اضطراب على ما بينته في أول: "كتاب الزكاة" ويجيء مثل هذا الكلام في قوله في أول زكاة المُعَشَّرَات: (إذا كان مالكه حُرّاً مسلماً) وقوله: (من النقدين) قصد به الاحتراز عن المستخرج من المعادن، مِمّا سِوَى النقدين، فليكن مُعَلَّماً بالحاء والألف والواو لما سبق. وقوله: (ربع العشر) معلم بالحاء والزّاي. وقوله: (الخمس) بالألف والميم لما سبق. وقوله: (وفيه قول أن النصاب لا يعتبر) ينبغي أن يُعَلّم كلمة: (لا يعتبر) بالميم والألف؛ لأنهما يعتبران النصَاب كما هو الأصح عِندنا. وقوله: (والصحيح أن الحول لا يعتبر) يجوز أن يُعَلَّم بالواو؛ لأنه إثبات لِلْخِلاَف فيه كما نقلناه، لكن ابْنَ عَبْدَانَ حكى طريقة أخرى قاطعة بعدم الاعتبار، ولم يثبت ما رواه المزني لإرساله، ولو أَعْلَمْتَ قوله: (لا يعتبر) بالزاي لما ذكرنا من اختيار المزني لجاز. قال الغزالي: ثُمَّ عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ مَا يَجِدُّ شَيْئاً فَشَيْئًا يُضَمُّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ كَمَا يتلاحَقُ مِنَ الثَّمَارِ، وَلَكِنَّ الجَامِعَ هَهُنَا اتِّصَالُ العَمَلِ فَإِنْ أَعْرَضَ لإصْلاحَ آلتِهِ لَمْ يَنْقَطِعْ، وإنْ كَانَ الانْتِقَالُ إلَى حِرْفَةٍ أُخْرَى انْقَطَعَ، وإنْ كَانَ لِمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ فَوَجْهَانِ، وَكذَلِكَ يَكْمُلُ النّيل (و) بِمَا يَمْلِكُهُ مِنَ النَّقْدَينِ لاَ مِنْ جِهَةِ المَعَادِنِ، وَبِمَا يَمْلِكُهُ مِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَة حَتَّى تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي قَدْرِ النَّيْل بِحِسَابِهِ وإِنْ لَمْ تَجِبْ فِيمَا كَمُلَ بِهِ لِعَدَمِ الحَوْلِ فِيهِ فَإِنَّ زَكَاةَ المَعْدِنِ وَالنَّقْدَينِ وَالتِّجَارَةِ مُتَشَابِهَةٌ في اتِّحَادِ المُتَعَلَّقِ فَيَكْمُلُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. ¬
قال الرافعي: مضمون الفصل مسألتان مفرعتان على اشتراط النِّصَاب: إحداهما: ليس من الشَّرْط أن ينال في الدفعة الواحدة نِصَاباً بَلْ مَا نَالَهُ بدفعات يُضَمُّ بعضها إلى بعض في الجملة؛ لأن المُسْتَخْرَج من المعدن، هكذا ينال غالباً، فأشبه تلاحق الثمار لكن الضابط في ضَمِّ الثِّمار بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ كونها ثِمَارَ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وهاهنا ينظر إلى العمل والنَّيْل، فإن تتابع العمل وَتَوَاصَل النَّيْلُ ثَبَتَ الضَّمُّ. قال في "التهذيب": ولا يشترط بقاء ما استخرج في ملكه فإن تتابع العَمَل ولكن لم يتواصل النيل بل حفر المعدن زماناً ثم عاد النَّيْلُ، فإن كان زمان الانقطاع يسيراً لم يقدح في الضَّم. وإن طال فقد قال في "النهاية": في الضم وجهان: وقال الجمهور: فيه قولان: الجديد: الضَّم؛ لأن المَعْدن كثيراً ما يعرض له ذلك، فلو لم يُضَمّ بطلت زكاة المعدن في كثير من الأحوال: والقديم -وبه قال مالك-: أه لا يُضَمُّ كما لو قطع العَمَل، وكحِمْلَيْ سَنَتَيْنِ، وإن قطع العمل مع تَوَاصُلِ النَّيْل ثُمَّ عاد إليه نظر إن كان القطع بغير عذر عَارِض فلا ضَمَّ، طال الزَّمَنُ أَوْ قَصُر؛ لأنه أعرض عن هذا النَّوْع من الاكتساب واشتغل بِحِرْفَةٍ أخرى فما يناله بعد العود شيء جديد. وإن قَطَعَ لِعُذْرٍ فَالضَّمُّ ثَابِتٌ إن قَصُرَ الزَّمَانُ، وإن طَالَ فكذلك عند الأكثرين؛ لأنه عَاكِفٌ على العَمَلِ متى ارتفع العُذْرُ، وَحَكَى الصَّيْدَلاَنيّ وغيره وَجْهاً أنه لا ضَمَّ عِنْدَ طُولِ الزَّمَان، وفي حَدِّ الطُّولِ وَجْهان نقلهما القاضي الرُّوياني: أحدهما: أنه ثلاثة أيام. والثاني: يوم كامل؛ لأن العادة العمل كل يوم، وتَرْكُ نوبةٍ كاملةٍ (¬1) فَصْلٌ طَوِيلٌ. والأصَحُّ فيه، وفي نظائره تحكيم العرف، ثم إِصْلاحَ الآلات وهَرَبُ العبيد والأُجَراء من الأعذار بلا خلاف، وفي المرض والسفر وجهان: أحدهما: أنهما يمنعان الضَّمّ بحصول صورة الانقطاع مع أنهما قد يَمْتَدَّانِ. وأصحهما: أنهما لا يمنعان كسَائِرِ الأَعْذَار، وهذا ما نَصَّ عليه في المرض، ولم يذكر الأكْثَرُونَ غَيْرَه، وينبغي أن يكون السَّفَرُ مرتباً على المَرَضِ، ومتى حكمنا بعَدَمِ الضَّمِّ فذلك على معنى أن الأول لا يضم إلى الثَّانِي في وُجوبِ حَقِّ المَعْدَنِ، فأما الثَّاني ¬
فيكمل بالأول كما يكمل بما يملكه لا من جهة المعادن على ما سيأتي بيانه. وقوله في الكتاب: "ولكن الجامع هاهنا اتصال العَمَلِ" قَصْر النَّظَرِ عَلَى العَمَلِ، وإعراض عن تواصل النَّيْلِ، وإنما يستمر ذلك جواباً على الجديد وهو أن انقطاع النَّيْلِ لا أثر له مع اتصال الْعَمَلِ، فيجوز أن يُعَلَّم بالميم والواو إشارة إلى القديم ومذهب مَالِك. الثانية: إذا نال من المَعْدن ما دون النِّصَاب، وهو يملك من جنْسِه نِصَاباً أو زائداً عليه، فإمَّا أن يناله في آخر جزء من حَوْلِ ما عنده، أو بعد تمام حَوْلِهَ أو قبله. فأما في الحالتين الأوليين فيصير النَّيْلُ مضموماً إلى ما عِنْدَه، وعليه في ذلك النَّقْدِ حَقَّه وفيما ناله حقه على اختلاف الأحوال فيه؛ لأنهما من جنس واحد، والوجوب ثَابِتٌ فيهما جميعاً. وأما إذا ناله قبل تمام الحول فلا شيء فيما عنده حتى يتم حوله، وفي وجوب حَقّ المعدن فيما ناله وَجْهَان: أصحهما -وبه أجاب ابن الحداد واختاره القاضي أبو الطَّيِّب، وهو ظاهر نصه في "الأم"-: أنه يجب؛ لأن زكاة النَّقْدَيْنِ لا من جهة المعادن مع زكاتهما من جهة المعادن متشابهتان في اتحاد المتعلق على ما سبق ذكر نظيره في "زَكَاة التجارة". والثاني: وبه قال الشَّيْخُ أبو حامد-: أنه لا يجب؛ لأنه لا زكاة فيما عنده حتى يصلح لاستتباع غيره، فعلى هذا يجب فيما عنده ربع العشر عند تمام حوله، وفيما ناله ربع العشر عند تمام حوله. وإن كان يملك من جنسه دون النّصاب، كما لو كان يَمْلِك مَائَةِ دِرْهَم، فنال من المعدن مائة، نظر إن نال بعد تمام حول على ما عنده، ففي وجوب حَقِّ الْمَعْدن فيما ناله الوجهان؛ لأنه لا زكاة فيما عنده لنقصانه عن النِّصَاب؛ فعلى الأول يجب فيما عنده رُبُعُ العُشْرِ إذا مَضَى حَوْلٌ من يوم كَمَلَ النِّصَاب بالنَّيْلِ، وعلى الثَّانِي لا يجب شيء حتى يمضي حولٌ من يوم النَّيْلِ، فيجب في الجميع رُبُع العُشْر. وعن صاحب "الإفصاح" وجه: أنه يجب فيما نَالَه حَقه وفيما كان عنده رُبُعُ العُشْرِ فِي الْحَالِ؛ لأنه كَمُلَ بالنَّيْلِ، والحول قد مضى عليه، والنَّيْلُ بمثابة ما حال عليه الحول من الأَمْوَال؛ وإن ناله قبلَ أن يَمْضِيَ حَوْلٌ على المائة فلا مساغ لوجه (¬1) صَاحِب ¬
"الإفصاح"، ويجئ الوجهان الأولان، وهذا التَّفْصِيلُ مذكور في بعض طرق العِرَاقيين، وقد نَقَل مُعْظَمه الشَّيْخُ أبُو عَلِي، ورأيت الإمام نسبه إلى السَّهُوِ فيه، وقال: إذا كان يملكه دون النِّصَاب فلا ينعقد عَلَيْهِ حول؛ حتى يفرض له وسط آخر، ويحكم بوجوب الزَّكَاة فيه يوم النِّيْلِ، ولا شَكَّ في بعد القول بوجوب الزَّكَاة فيه يوم النَّيْل؛ لكن الشَّيْخَ لم يتفرد بهذا النَّقْل ولا صار إليه حتى يعترض عليه، وإنما نقله متعجباً منه مُنْكِراً، ولو كان ما عنده مالَ تِجَارة انتظمت فيه الأحوال الثّلاث، وإن كان دُونَ النِّصَاب فلا إِشْكَال؛ لأن الْحَوْلَ ينعقد عَلَيه، ولا يعتبر النِّصَاب إلا في آخر الحَولِ على الصَّحِيح. فإن نال من المَعْدِن في آخر حول التِّجارة ففيه حق المعدن، وفي مال التجارة زكاة التجارة إن كان قدر النِّصَاب، وكذلك إن كان دونه، واكتفينا بالنصاب في آخر الحول. وإن نال قبل تَمَام الحول، ففي وجوب حق المعدن الوجهان السَّابقان، وإن نال بعد تمام الحول، نظر: إن كان مال التجارة نِصَاباً في آخر الحول، ففي النَّيْلِ حَقُّ المعدن؛ لانضمامه إلى ما وجب فيه الزَّكاة، وإن لم يكن نِصَاباً، ونال بعد ما مضى شهر من الحول الثَّاني مثلاً فيبنى ذلك على الخِلاَف في أن سلعة التِّجارة إذا قُوِّمَت في آخر الحَوْل، ولم تبلغ نصاباً، ثم ارتفعت القِيمَةُ بَعْدَ شَهْرٍ هل يجب فيها الزكاة أم ترتقب آخر الحول الثاني؟ إن قلنا بالأول: فتجب زكاة التجارة في مال التِّجارة، وحينئذ يجب حَقّ المعدن في النَّيْل بِلاَ خلاف. وإن قلنا بالثاني: ففي وجوب حق المعدن الوجهان. واعلم: أن جميع ما ذكرناه مُفَرَّعُ على الصَّحِيحِ في أن الحول ليس بِشَرْطٍ في زكاة الْمَعْدن، فإن شَرَطْنَاه انعقد الحَوْلُ عَلَيْهِ مِنْ يَوْمِ وَجَدَهُ. وقوله في الكتاب: (حَتَّى تَجِبَ الزَّكاة في قدر النَّيْل) مُعَلَّم بالواو للوجه المنسوب إلى الشَّيْخِ أَيِ حَامِدٍ، وشهره الإمامُ برواية الشَّيْخِ أَبِي عَلِيّ. وقوله: (لعدم الحول) فيه تمثيل، وفي معناه ما إذا كان الذي عنده دون النِّصَاب، فإنه لا تجب فيه الزَّكاة إلا على ما حكى عن صاحب "الإفصاح". وقوله: قبل ذلك "بما يملكه من النقدين" لا من جهة المعادن الحكم غير مخصوص بما إذا كان يملكه لا من جِهَة المعادن، بل لو نال من المعدن ما دون النّصاب وحدث ما يمنع الضَّم، ثم نال قدراً آخر يبلغ مع الأول نِصَاباً كان حكمه حكم ما لو كان الأَوَّل لا من جهة المعادن، فيجب في الآخر حَقّ المعدن على الأصَح، ولا يجب في الأول، لكن ينعقد الحول عليه من يَوْم النِّصَاب لِلْمُسْتَقبل إِلاَّ أن ينقص المبلغ عن النِّصَاب بإخراج حَقِّ الْمَعْدن، -والله أعلم-. قال الغزالي: وَللْمُسْلِمِ أَنْ يُزْعِجَ الذِّمِّيِّ مِنْ مَعَادِنِ الإسْلاَمِ، وَلَكِنَّ مَا نَالَهُ قَبْلَ
الانْزِعَاجِ يَمْلِكُهُ وَلاَ زَكَاة عَلَيْهِ إلاَّ إِذَا قُلْنَا عَلَى وَجْهٍ بَعِيدٍ إِنَّ مَصْرِفَهُ الفَيْءُ عَلَى قَوْلِنَا وَاجِبُهُ الخُمْسُ، فَإذَا ذَاكَ يُؤْخَذُ مِنَ الذَّمِّيِّ. قال الرافعي: الذمي لا يمكَّن من احتفار معادن دار الإسلام، والأخذ منها كما لا يمكَّن من الإحياء في دار الإسلام، لأن الدَّار للمُسْلمين وهو دَخِيلٌ فِيهَا. لكن ما أخذه قبل الإزْعَاج يَمْلِكُهُ، كما لو استولى على الحَطَب والْحَشِيش، وهل عليه حق المعدن؟ ينبني عَلى أن مَصْرف حَقّ المعدن مَاذَا؟ ولا شك أن مصرفه مَصْرف الزَّكَاة إن أوجبنا فيه رُبُعَ العُشْرِ، وإن أوجبنا فيه الخُمُسِ فطريقان حكاهما الشَّيْخُ أَبُو عَلِيّ وغيره: أحدهما: أن في مَصْرفه قَوْلَيْن: أحدهما: مصرفه مصرف خُمُسُ الفَيْءِ والغنيمة؛ لأنه مَالٌ مُخَمَّسْ مِثْلهما، وبهذا قَالَ أبو حنيفة. وأصحهما: أن مصرفه مصرف الزَّكَوَاتِ؛ لأنه حَقٌّ وَجَبَ فِي مستفاد من الأرض، فأشبه حَقَّ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ. والثاني -وبه قال الأكثرون-: أن مصرفه مصرف الزَّكوات قولاً واحداً بخلاف الرِّكاز؛ لأنه مال جَاهِلِي، والظاهر: أنه كان للكفار، وكان شبيهًا بالفَيْءِ، والمعادنُ بخلافه. وصاحب "التلخيص" قد ذكر الطَّريق الأول في بَابِ "زَكاة المَعْدن" في "التلخيص"، والطريق الثاني في باب بعده. فإن قلنا: مصرفه مصرف الزَّكَواتِ لم يؤخذ من الذِّمِّي شَيْءٌ، وإن قلنا: [مصرفه] (¬1) مصرف الفئ أخذ الخُمُس، وعلى هذا لا يشترط فيه النِّيَّة، وعلى الأول يُشْتَرط، ولو كان المستخرج من المعدن المكاتب فلا زَكَاة عَلَيْهِ فيما استخرجه كالذِّمِّي، لكنه غير ممنوع من الأخذ بِخلاف الذِّمِّي. ولو نَالَ الْعَبْدُ من المعدن شيئاً فهو لسيده، وعليه واجبه، فإن أمره السّيد بذلك ليكون النَّيْل له، فقد بناه صاحب "الشامل" على القولين في أن العبد هل يملك مَا مَلَّكَهُ السَّيد أم لا؟ وحظ الزكاة من القولين، وقد قدَّمناه. ولو استخرج اثنان من المعدن نصابًا، فوجوب الزكاة يبنى على القولين في أن الخُلطَة هل تَثْبُتُ فِي غَيْرِ المَوَاشِي؟ وقوله في الكتاب: (وللمسلم إزعاج الذمي) لك أن تبحث عنه، وتقول: أثبت ¬
الإزعَاجِ لِكُلِّ مُسْلِم أَمْ هُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَاكِمِ؟. والجواب أن كلام الأئمة بالثاني أظهر إشعاراً، والأول مُنْقَدِحٌ أيضاً، فإنَّ كُلَّ واحدٍ منهم صاحب حق فيه، فكان له أن يمنعه. وقوله: (ولا زكاة عليه إلا إذا قلنا ...) فيه استثناء الخمس على قولنا: أن مصرفه مصرف الفئ عن نفي الزكاة، وذلك يستدعي كون الخُمُس زكاة، لكن من أوجب الخمس فلا يكاد يسميه زكاة، ولهذا قال الشَّافعي -رضي الله عنه- في "المختصر": وَذَهَبَ بَعْضُ أهل نَاحِيَتِنَا -يعني- مالكاً إلى أن في المعادن الزَّكَاة، وذهب غيرهم -يعني- أبا حنيفة إلى أنَّ فيها الخُمُس، فلم يعد الخُمُس زَكَاةً. وقوله: (على وجه بعيد) عبر عن ذلك المذهب بالوجه، والأكْثَرُون سَمُّوه قَوْلاً، وكأنه مستخرج من مِثْلِهِ في الرِّكَاز، فيجوز كل واحد من الإطلاقين. واعلم: أنا إذا فرعنا على ظاهر المذهب، وهو أن الحول لا يعتبر، فوقت وجوب حَقّ المعدن حصول النَّيْل في يده، ووقت الإخراج، التّخليص والتنقية، كما أن وقت وجوب الزَّكاة في الزروع اشتداد الحَبِّ، ووقت الإخْرَاج التَّنْقِية، فلو أخرج قبل التَّمييز والتنقية عن التراب والحجر لم يجز، ويكون مضموماً على السَّاعي يلزمه رده، فلو اختلفا في قدره بعد التلف، أو قبله، فالقول قول السّاعي مع يمينه. ومؤنة التخليص والتنقية على المالك كمؤنة الحصاد والدياس، فلو تلف بَعْضُه قبل التمييز فهو كَتَلف بَعْضِ المَالِ قبل الإمكان -والله أعلم (¬1) -. قال الغزالي: الفَصْلُ الثَّانِي فِي الرِّكَاز وَفِيهِ الخُمْسُ مَصْرُوفاً إِلَى مَصَارِف الصَّدَقَاتِ (ح ز و)، وَلاَ يَشْتَرِطُ الحَوْلُ، وَيُشْتَرَطُ النِّصَابُ (م ح) وَكَوْنُهُ مِنْ جَوْهَرِ النَّقْدَينِ عَلَى الجَدِيدِ. قال الرافعي: في الفصل مَسَائِلُ: إحداها: قدر الواجب في الرِّكَاز الخُمُس، لما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ" (¬2). الثانية: في مصرفه قولان: أصحهما -وهو المذكور في الكتاب-: أن مصرفه مصرف الزَّكَواتِ؛ لأنه حَقٌّ وَاجِبٌ في المستفاد من الأرْضِ، فأشبه الواجب في الزُّروع والثِّمَار. ¬
والثاني: وبه قال المزني وابن الوكيل الباب شامي، وأبو جعفر التّرمذي -رحمهم الله- أنه يُصْرَف إلى أهل الخُمُس المذكورين في آية الفَيْءِ؛ بأنه مَالٌ جَاهِلِيُّ حصل الظَّفْرُ بِهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَافِ خَيْلٍ، وَلاَ رِكَابٍ، فَكَانَ كَالْفَيءِ. ومنهم من لا يطلق قولين، بل يقطع للشافعي -رضي الله عنه- بالأول؛ وينقل الثاني وجهاً ضَعِيفاً. الثالثة: لا يُشْتَرط الحول فيه؛ لأن الحول للاستنماء، وهو نماء كُلُّه، ولا يجيء فيه الخلاف المذكور في المعدن؛ لأنه يلحق مَشَقَّةَ فِي تحصيل التبر ثُمَّ يحتاج إلى الطَّبْخِ والمعالجة، والرَّكَازُ بِخِلاَفِهِ. الرابعة: هَلْ يشترط فيه النِّصَاب؟ وهل يختص الوجوب بالذَّهب، والفضة؟ نصّ الشافعي -رضي الله عنه- في مواضع على [عدم] (¬1) الاشتراط والاختصاص. وقال في موضع: "لو كنت أنا الواجد لخَمَّسْتُ القليلَ والكثير، والذَّهب والفِضَّة، وغيرهما"، واختلف الأصحاب -رضي الله عنهم- على طريقين: أظهرهما: أن المسألتين على قولين. أظهرهما -وينسب إلى الجديد-: أنه يُشْتَرط النصاب، ويختص بالنقدين. أما الأول: فلظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ شَيْءَ فِي الذَّهَبِ حَتَّى يَبْلُغُ عِشْرِينَ مِثْقَالاً" (¬2). وأما الثَّاني: فكما لو اكتسب لا من جهة الرَّكَازِ. والثاني: وينسب إلى القديم: أنه لا اشتراط، ولا اختصاص؛ لمطلق قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فِي الرِّكَازِ الخُمُسُ" (¬3)، ولأنه مال مُخَمَّسٌ فأشبه الغَنِيمة. والطريق الثَّاني: القطع بالقَوْلِ الأَوَّل وحمل النَّص الثَّاني على الاحتياط للخروج من الْخِلاَف، كقوله في "باب صلاة المسافر": أما أنا فلا أقْصُرُ في أقل من ثلاثة أيام، وليس ذلك قولاً آخر له في مسافة القصر. وقوله في الكتاب: (مصروفاً إلى مصارف الصدقات) معلَّم بالواو الزاي وبالحاء؛ لأن عنده أيضاً يصرف إلى مصارف الفَيْءِ، وبالألف؛ لأن إحدى الروايتين عن أحمد مثله. وقوله: (ويشترط النصاب) مُعَلَّمٌ بالحاء والألف والميم؛ لأن عند أبي حنيفة وأحمد لا يشترط النصاب، وهو أصح الروايتين عن مالك، وكذلك قوله: (وكونه من جوهر النقدين) مُعَلَّمٌ بهذه العلامات؛ لأن قولهم فيه كقولهم في النّصاب. ¬
ويجوز أن يُعَلَّم قوله: (على الجديد) بالواو إشَارة إلى الطريقة النافية للخلاف. وقوله: (ويشترط النصاب) منقطع عما قبله لا مجال للخلاف المذكور في الحول وإنما قال: (من جوهر النقدين) ليشمل الحلى والأواني. قال الغزالي: ويُشْتَرَطُ كَوْنُهُ عَلَى ضَرْبِ الجَاهِلِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى ضَرْبِ الإسْلاَمِ فَلُقَطَةٌ، وَقِيلَ: مَالٌ ضَائِعٌ يَحْفَظُهُ الإمَامُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَثَرٌ كَالأَوَانِي وَالْحُلِيِّ فَهُوَ رِكَازٌ عَلَى وَجْهٍ وَلُقَطَةٌ عَلَى وَجْهٍ. قال الرافعي: فقه الفصل مسألتان: الأولى: لو كان الرَّكَازُ الموجود على ضَرْب الإسْلاَم بأن كان عليه شيْءُ من القُرْآن، أو اسم ملك من ملوك الإسلام، لم يملكه الواجد بالَوجدان، لأن مال المسلم لا يملك بالاستيلاء عليه، بل يجب رَدُّه إِلَى مَالِكِهِ إن علم مالكه، وإن لم يعلم ففيه وجهان: قال الجمهور: هو لُقَطَةٌ كما لو وجده على وجه الأرض، وقضية ما ذكروه صريحاً ودلالة أنه يُعَرَّفُ سَنَةٌ، ثُمَّ لِلْوَاجِدِ أن يَمْلِكَهُ إنْ لَمْ يَظْهَرْ مَالِكُهُ على ما هو سبيل كل لُقَطَةٍ. وقال الشَّيْخُ أَبُو عَلِيّ: هو مَالٌ ضَائِعٌ يَمْسِكُهُ الأَخَذ لِلْمَالِكِ أبَداً، أو يحفظه الإِمَامُ لَه فِي بَيْتِ المَالِ، ولا يُمْلَكُ بحَالٍ، كما لو ألقت الرِّيحُ ثَوبًا فِي حجره، أو مات مورثه عن وَدَائِعَ، وهو لا يعرف مَالِكَهَا، وإنما يُمْلَكُ بالتعريف ما ضاع عن المارَّة دون ما حصّنه المالك بالدَّفْنِ واتفق العثور عليه بالاحتفار. ونقل صاحب "التهذيب" قريباً من هذا الكلام عن الْقَفَّالِ، والمَذْهَبُ الأَوَّلُ. قال الإمام -رحمه الله- ولو انكشفت الأَرْضُ عَنْ كَنْزٍ بِسَيْلٍ جَارِفٍ، ونحوه، فلا أدري ما قول الشَّيْخِ فِيهِ، والمال البارز ضَائِعٌ، قال: واللائق بقياسه ألا يثبت حَقّ التملك اعتباراً بأصل الوضع. الثانية: لو لم يَعْرِف أن المَوْجُودَ مِنْ ضرب الجَاهِلِيَّةِ، أو الإسلام بأن كَانَ مِمَّا يُضْرَبُ مِثْلُهُ في الجَاهِلِيَّةِ وَالإسْلاَم، أو كان ممَّا لا أثر عليه كالتَّبْر، وَالْحُلِيّ، والأواني، فالمنقول عن نَصّه: أنه ليسَ برِكَازٍ؛ لأنه يحتمل أن يكون مَالَ مُسْلِمٍ، فَيُغَلَّبُ حُكْمُ الإِسْلاَمِ، وفيه وجه: أنه رَكازٌ؛ لأن المَوْضِعَ الْمَدْفُونَ فِيهِ يَشْهَد لَهُ. فإن قلنا: بالأول فقضية كلام الجمهور في الصُّورَةِ السَّابِقَةِ لا يخفى، وأما الشَّيْخُ أَبُو عَلِيّ فرأيت له في "شرح التلخيص" مساعدة الجمهور في هذه الصُّورة، فإنه قال: يُعَرَّفُ سَنَةً، فإن لم يظهر مالكها فعل بِهَا مَا يُفْعَلْ بسَائِرِ اللُّقَطَاتِ. وذكر الإمام أن الشيخ حَكَى في التَّمَلُّكِ في هذه الصُّورة وجهين؛ لضعفَ أثر الإِسْلاَم.
واعلم: أنا إذا قلنا: إن المَوْجُودَ فِي صورة التَّرَدُّدِ رَكَازٌ فَلاَ يُشْتَرِط كَوْنُ الْمَوْجُودِ عَلَى ضَرْب الجَاهِلِيَّةِ، بل الشَّرْطُ أَلاَّ يُعْلَم كَوْنُهُ عَلَى ضَرْبِ الإسْلاَم، فإذاً قوله في الكتاب: (وَيشترط كَوْنُه عَلَى ضرْبِ الجَاهِلِيَّةِ) إنما يكون مُجْرى على ظَاهِرِهِ، إذا قلنا: الموجود في صورة التَّرَدد لَيْسَ بِرَكَاَزٍ. وقوله في المسألة الأولى: (وقيل: مال ضائع يحفظه الإمام) يُشْعِرُ بأنه لا يَبْقَى فِي يَدِ الوَاجِدِ، بل يأخُذه الإمَامُ، وَيَحْفَظُهُ. وكلام الشَّيْخ أَبِي عَلِيٍّ ما حكيته من قبل يُنَازَعُ فِيهِ، وَيَقْتَضِي تَمَكُّنَ الْوَاجدِ مِنَ الإِمْسَاكِ لَهُ، وإطلاقه الوجهين في المَسْألَةِ الثَّانيَةِ اتباع لما حكاه الإمام فيها والأكْثَرُون لَمْ يُطْلِقُوا الوجهين، وإنما حَكُوا النَّص ووجهاً، لِبَعْضِ الأَصْحَاب كما قدَّمْنَاه، وَحَكَى صَاحِبُ "الشَّامِل" عن نَصَّه أنَّهُ يُخَمَّسُ، وَهَذَا حُكْمٌ بأنه رَكَازٌ، فَعَلَى هَذَا في المسألة قَوْلاَن: واعلم أَنه يلزم من كون الرَّكَازِ عَلَى ضَرْب الإِسْلاَم كَوْنُهُ مَدفُونًا فِي الإسْلاَمِ، ولا يلزم من كَوْنِهِ على ضرب الجَاِهِلِيَّةِ كَونُهُ مَدْفُوناً فِي الْجَاهَلِيَّةِ، لجواز أن يظفر بعض المسلمين بِكَنْزٍ جَاهِلِيٍّ، ويكنزه ثَانِياً على هيئته فيظفر به اليوم أحدٌ، فالحكم مُدَارٌ على كَوْنهِ مِن دَفْنِ الجَاهِلِيَّةِ لاَ عَلَى كَوْنه مِنْ ضَرْبِ الجَاهِلِيَّةِ. قال الغزالي: وَيُشْتَرِطُ أَنْ يُوجَدَ فِي مَوْضِعِ مُشْتَرَكِ كَمَوَاتٍ أَوْ شَارعِ، وَمَا يُوجَدُ فِي دَارِ الحَرْبِ فَغَنِيمَةٌ أَو فَيْءٌ وَمَا يَجِدُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ الَّذي أَحْيَاهُ يَمْلِكُهُ وَعَلَيْهِ الخُمْسُ، وهَلْ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِمُجَرَّدِ الإحْيَاءِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلَوِ اشْتَرَاهُ ثُمَّ وَجَدَ فِيهِ رِكَازاً يَجِبُ طَلَبُ المُحْيِى فَإِنَّهُ أَوْلَى بِهِ. قال الرافعي: روى أن رجلاً وجد كَنزاً فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنْ وَجَدْتَهُ فِي قَرْيَةٍ مَسْكُونَةِ، أَوْ طَرِيق مِينَاءٍ فَعَرَّفْه، وإنْ وَجَدْتَهُ فِي خَرِبَةٍ جَاهِلِيَّةِ، أَوْ قَرْيَةٍ غَيْرِ مَسْكُونَةٍ فَفِيهِ، وَفِي الرِّكَازِ الخُمُسُ" (¬1). الكنز بالصفة التي تقدم ذكرها، إما أن يوجد في دَارِ الإسْلاَم، أو في دَارِ الْحَرْبِ، فإن وُجِدَ فِي دَارِ الإسْلاَم، نُظِر إن وجد في مَوْضِع لَمْ يَعْمُرْهُ مُسْلِم، ولا ذُو عَهْدٍ، فَهُو رَكَازٌ، سواء كان مواتاً أو كان من القلاع العَادِية التي عمرت في الْجَاهِلِيَّةِ؛ لقوله في الحديث: "أَوْ خَرِبَةٍ جَاهِلِيَّةٍ" وإن وجد في طريق شارع، فقد ذكر صاحب الكتاب أنه ¬
رَكَازٌ، ولم يجزم الإمام به هكذا، ولكن أشار إلى خلاف فيه، والذي ذكره القَفَّالُ والعراقيون، أن ما يوجد فيه لَيْسَ بِرَكَازٍ، وإنما هو لُقَطَةٌ، والحديث الذي رويناه صريح فيه. وما يوجد في المسجد، ذكر في "التهذيب" أنه لُقَطَة كالموجود في الطَّرِيق، وقياس المذكور في الكتاب أن يكون رَكَازاً. وما عدا هذه المَوَاضِع يُنْقَسِم إلى مَمْلُوك، ومَوْقُوفِ. والمملوك إما أن يكون له، أو لغيره، فَإِنْ كان لغيره ووجد فيه كَنْزٌ لم يملكه الواجد، بل إن ادعاه مالكه فهو فله بلا يمين، كالأمتعة في الدَّارِ وإلاّ فهو لمن تلقى صاحب الأرض منه وهكذا إلى أن ينتهي إلى الذي أحيا الأرض، فيكون له، وإن لم يَدَّعِهِ؛ لأنه بالإحياء مَلَكَ ما في الأرض، وبالبيع لم يزل ملكه عنه، فإنه مدفون منقول، فإن كان المحيى، أو من تلقى الملك عنه هالكاً فَوَرَثَتُهُ قَائِمُونَ مَقَامَه، فإن قال بعض ورثته من تَلَقَّى المِلْك عنه هو لمورثنا، وأياه بعضُهم سُلِّم نَصِيبُ المُدَّعِي إليه، وسلك بالباقي ما ذكرنا هذا كله كلام الأئمة -رحمهم الله- صريحاً وإشارةً، ومن المصرحين بملك الركاز بإحياء الأرض القَفَّالُ، ذكره في "شرح التلخيص"، ورأى الإمام تخريج ملك الكَنْز بإحياء الأرض على ما لو دخلت ظبية دارًا بالإحياء، فأغلق صاحبها الباب وِفَاقاً لا على قَصْدِ ضبطها قال: وفيه وجهان: أظهرهما: أنه لا يملكها لِعَدَمِ الْقَصْدِ، ولكن يصير أولى بها، كذلك المحيي يصير أولى بالكَنْز، ثم قال: إنه يملك الكَنْزَ بِالإحْيَاءِ، وزالت رَقَبَةُ الأَرْضِ عَنْ مِلْكِهِ فلا بد مِنْ طَلَبِهِ، وَرَدِّه إليه. وإن قلنا: إنه لا يَمْلِكه ولَكِن يَصِيرُ أَوْلَى بهِ، فَلاَ يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا زَالَ مِلْكُه عَنْ رَقَبَةِ الأَرْضِ بَطَلَ اخْتِصَاصُهُ، كما أن في مسألةَ الظبية إذا قلنا: إنه لا يَمْلِكهَا، فلو فَتَحَ الباب وأفَلتت يَمْلِكُها من اصْطَادَهَا، إذا عرفت ذَلِك وأردت التَّفْريع فلك أن تَقُول: إن قلنَا: المُحْيي لاَ يَمْلِكُهُ بِالإحْيَاء، فَإذَا دَخَلَ فِي مِلْكِهِ أَخْرَجَ الخُمُس، وَإنْ قُلنَا: يَمْلِكُهُ بِالإحْيَاء فَإذَا احْتَوَتْ يَدُه عَلَى الْكَنزِ نَفْسِهِ وَقَدْ مَضَى سِنُون فَلاَ بُدَّ مِنْ إِخْرَاج الخُمُس الَّذِي لَزِمَه يَوْمَ مَلَكَهُ وَفِيمَا مَضَى من السِّنين يَبْنِي وُجُوب ربع العُشر في الأَخْمَاس الأَرْبَعة عَلَى الخِلاَف في الضَّالِ والمغصُوب، وفي الخمس كذلك إن قلنا: لا تتعلق الزَّكَاةُ بِالْعَيْن وَإِنْ قُلْنَا: تتعلق فعلى ما ذَكَرْنَا فَيما إِذَا لَمْ يَمْلِكْ إِلاَّ نِصَاباً وتَكَرَّرَ الْحَوْلُ عَلَيْهِ -وَالله أعلم-. وَإِنْ كان الوضع للواجد نظر، إن كان قد أحياه فَالَّذِي وَجَدِه رَكَاز وَعَلَيْه خُمُسُهُ، وَفِي وَقْتِ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ مَا سَبَق، وقد حكى في الْكِتَاب فِي هَذِهِ الحَالَةِ وجهين على مَا ذَكَرَهُ الإمَامُ، وإن انْتَقَلَ إليه من غيره لم يَحِل له أخْذُه، بل عليه عرضه على من يَمْلِكه، وهَكَذا حَتَّى يَنْتَهِي الْمِلْكُ إِلَى المُحْيِي كَمَا سَبَقَ، وإن كان المَوْضِع موقوفاً
فالْكَنْزُ لِمَنْ فِي يَدِهِ الأرض، قاله في "التهذيب"، هَذَا إِذَا وُجِدَ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ، وإنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإمَّا أن يوجد في مَوَاتٍ أو غيره. إن وجد في مَوات نُظِر إنْ كَانوا لاَ يَذُبُّونَ عنه فهو كموات دَارِ الإِسْلام، وَالْمَوْجُودُ فِيهِ رِكَازٌ، وإن كَانُوا يَذُبُّونَ عَنْهُ ذَبِّهُمْ عن العمران ففيه وَجْهَان: قال الشَّيْخُ أبُو عَلِيِّ هو كما لو جد في عمرانهم وقال الأكثرون: حُكْمُهُ حُكْمُ مَوَاتِهِمْ الَّذِي لاَ يَذُبُّونَ عَنْهُ. وعن أبي حَنِيفة أن ما يوجد في موات دار الحرب فهو غَنِيمَةٌ لاَ رَكَازٌ، حَكَاهُ فِي "الشَّامِلِ"، وإن وجد في مَوْضِع مَمْلُوكٍ لَهُمْ فينظر إن أخِذَ بقَهرٍ وَقِتَالٍ فَهُوَ غَنِيمَةٌ، كَأَخْذِ مَتَاعِهِمْ مِنْ بَيْتِهِمْ، ونقودِهِم من خَزَائِنِهم، فيكون خُمُسُهُ لِأَهْل الخُمُسِ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِمَنْ وَجَدَهُ. وَإِنْ أُخِذَ من غير قَهْرٍ وقتالٍ فَهُو فَيْءٌ ومستحقةَ أهْلُ الفَيْءِ، هَكَذَا قَالَهُ فِي "النِّهَاية" وَهُوَ مَحْمُول عَلَى مَا إِذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْب مِنْ غَيْرِ أَمَانٍ؛ لأنه إن دَخَلَ بِأَمَانٍ لم يكن له أَخْذُ كَنْزِهِمْ، لاَ بِقِتَالٍ وَلاَ بِغَيْرِ قِتَالٍ، كَمَاَ ليس له أن يخونهم في أَمْتِعَةِ بُيُوتِهِمْ، عليه الرَّدُّ إن أخذه، وَقَد نَصَّ على هذا الشَّيْخُ أَبُو عَلِيّ. ثم في كَوْنِهِ فَيْئاً إِشْكَالٌ؛ لأن لك أن تقول: مَنْ دَخَلَ بِغَيْرِ أَمَان وَأَخَذَ مَالَهُمْ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، فإما أن يأخذه فِي خِفْية فَيَكُونُ سَارِقاً، أَوْ جِهَاراً فَيَكُونُ مُخْتَلِساً، وقد ذكر في الكتاب في "السِّيَر"، أَنَّ مَا يُخْتَلَسَ وُيسْرَق مِنْهُمْ، فَهُوَ خَالِصٌ مِلْكُ المُخْتَلِسِ وَالسَّارِقِ، ويشبه أن يكون الفيء هُوَ أَمْوَالُهُمْ الَّتِي تَحْصُلُ فِي قَبْضَةِ الإمَامِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ كَالْجِزْيَةِ وَنَحْوِهَا، دُونَ مَا يَأخُذُهُ الآحَادُ، وَرُبَّمَا أيَّدتُ هَذَا الاِشْكَالِ بَأَنَّ كَثِيراً مِنَ الأَئِمَّةِ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِكَوْنِهِ غَنِيمَةٍ، مِنْهُمْ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَالصَّيْدَلاَنِيّ. وَأَعُودُ بَعْدَ هَذَا إِلَى لفظ الْكِتَابِ فَأَقُولُ: قوله: ويشرط أن يوجد في موضع مشترك كَمَوَاتٍ وشارع. فيه كلامان: أحدهما: أنه قد يعني بكون الموت مُشْتَركاً كونه بسبيل يتمكن كُلُّ وَاحِدٍ من إحيائه وتملكه، وبكون الشَّارع مُشْتَركاً بأن لِكُلّ أَحَدٍ فِيهِ حَقّ الطرُوفِ ولا يحسن حَمْلُ الاشْتِرَاكِ فِي لَفْظِ الْكِتَاب عَلَيْهِمَا؛ لأن كُلَّ وَاحدٍ مِنَ الْمَعنِيَيْنِ يُخْتَصُّ بِأحَدِ المَوْضِعَيْنِ، وقد وَصَفَهُمَا جَمِيعاً بِالاشْتِرَاكِ بِلَفظٍ وَاحِدٍ فَالأَحْسَنُ تَفْسيرُهُ بِمَعنَىً شَامِلٍ، كالانْفِكَاكِ عَنِ المِلْكِ وَنَحْوه. والثَّانيِ: أن لِمُنَازع أَنْ يُنَازعَ في اشتراط الوُجُودِ فِي مَوْضِعٍ مُشْتَرِكٍ، لأن إذا أَحْيَا أَرْضاً وَتَمَلَّكَهَا، ثُمَّ وَجَدَّ فِيهَا كَنْزاً كَانَ ذَلِكَ رَكَازاً، وإن لم يوجد فِي مَوْضِعٍ مُشْتَرَكٍ،
إِلاَّ أَنْ يُقَالَ: المراد بالوجدان الدخول تحت اليد والتسلط عليه ثم قوله: (كموات) يجوز أن يكون مُعَلَّماً بالْوَاوِ؛ لِأنَّهُ مُطْلَقٌ قد حَكَيْنَا وَجْهاً فِي مَوَاتِ دَارِ الْحَرْبِ الَّذِي يَذُبُّونَ عَنْهُ، وبالْحَاء أَيْضَاً لِمَا سَبَقَ. وقوله: (وشارع) بالواو؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ مَصِير الأكْثَرِينَ إِلَى أنَّهُ لُقَطَةٌ. وقوله: (وما يوجد فِي دَارِ الْحَرْب فَغَنِيمَةٌ أَوْ فَيْءٌ) أي: على اختلاف الحَالِ في الْقَهْرِ وَعَدَمِهِ، ثم هو مُحْتَاج إلى التَّأْوِيلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أن الموجود في مواتِ دار الحرب ليس كذلك فَهُو مَحْمُولٌ على عمرانَ دَارِ الْحَرْبِ. والثَّاني: أَنَّهُ لو دَخَلَ بِأمَانٍ فَلَيسَ حُكمُ المَأخُوذِ مَا ذَكَرَهُ؛ فَإذاً هُوَ مَحمُولٌ عَلَى مَا إِذَا دَخَلَ بِغَيْرِ أَمَانٍ. وقوله: (مِلْكَه وعليه الخُمُس) الأحسن أن يقرأ مِلْكَيهِ، وَعَليه الخمس لا (ملكه) لأن قَوْلَنا: مِلْك، يُشْعَر بابْتِدَاء ثُبُوتِ المِلْك، فيقتضي أن يَكُون ابْتِدَاؤه عِنْدَ الوجدان، لكنه غير مجزوم به، بل فيه الوجهان المَذْكُوران عُقَيْبَ هَذَا الْكَلاَمَ. أما الحكم بأنه ملكه فهو مُسْتَمِرُّ عَلَى الوجهين جَمِيعاً. وقوله: (يجب طلب المجبى) مُعَلَّمٌ بالواو؛ لما سبق. وقوله: (فإنه أَوْلَى به) يجوز أن يكون جواباً على قولنا: "أنه لا يملكه بالإحياء المجرد"، ويجوز أن يحمل على غير ذلك، -والله أَعْلَمُ-. قال الغزالي: وَلاَ خُمْسَ علَى الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ. قال الرافعي: حكم الذِّمي في الرَّكَازِ حُكْمُهُ في المَعْدَنِ، فلا يمكنُ من أَخْذِهِ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ، وإن وجده ملكه. قال الإمام -رحمه الله-: وفيه احْتِمَالٌ عِنْدِي، فِي الرَّكَازِ؛ لأنه كَالْحَاصِلِ في قَبْضَةِ المُسْلِمِينَ، وهو في حكم مال ضل عنهم، وإذا حكمنا بالمشهور وهو أنه يَمْلِكُهُ، فَفِي أَخذِ حَقِّ الرَّكَازِ مِنْهُ الخِلاَف السَّابِقِ فِي الْمَعْدن (¬1)، وقد تَعَرَّضَ لَهُ صَاحِبُ الْكِتَابِ ¬
هُنَاكَ، وَقَد اقْتَصَرَ، هاهنا عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، فأعْلِمْ قَوْلَهُ: (ولا خمس) بالواو. واعْلَم: أنه لو قدم هذه المسألة على الفَصْل السَّابق على هذا أو أَخَّرَها عَنِ الْفَصْل التالي له لكان أَلْيَقَ لتنظم المَسَائِلُ المتعلِّقَةُ بِمَكَانِ الرَّكَازِ فِي سِلْكٍ وَاحِدِ، وَلاَ يَدْخُلُ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا -والله أعلم-. قال الغزالي: وَلَوْ تَنَازَعَ البَائِعُ وَالْمُشْتَرِيَ وَالمُعِيرُ وَالمُسْتعِيرُ وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا دَفَنْتُ الرّكَازَ فَالّقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ اليَدِ، فَلَوْ قَالَ المُكْرِي بَعْدَ رُجُوعِ الدَّارِ إلَيْهِ: كُنْتُ دَفَنْتُهُ قَبْلَ الإِجَارَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ المُسْتَأجِر عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُمَا تَوَافَقَا عَلَى أنَّهُ كَانَ فِي يده. قال الرافعي: إذا تَنَازَعَ بَائِعُ الدَّارِ وَمُشْتَرِيهَا فِي الرَّكَازِ الَّذِي وُجِدَ فِيهَا، فقال المُشْتَرِي: هُوَ لِي وَأَنَا دَفَنْتُهُ، وَقَالَ البَائِعُ مَثَلَ ذَلِكَ، أو قال مَلكْتُهُ بالإحْيَاءِ أو تنازع المُعِيرُ وَالمُسْتَعِيرُ أو المُكْتَرِي وَالْمُكْرِي، هَكَذَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ المُشْتَرِي، وَالمُسْتَعِيرِ وَالْمُكْتَرِي مَعَ أَيْمَانِهِم، لأن اليَدَ لَهُمْ فَصَارَ كَمَا لَوْ وَقَعَ النِّزَاعُ فِي مَتَاعِ الدَّارِ، وهَذَا إِذَا احتمل أنْ يَكوَن صَاحِبُ اليَدِ صَادِقاً فِيمَا يَقُول، ولو عَلَى بُعْدٍ. فأما إِذَا انتفى الاحْتِمَالُ لَأَنَّ مِثْلَهُ لاَ يُمْكَن دَفْنُهُ فِي مُدَّة يَدِهِ فَلاَ يُصَدَّق صَاحِبُ اليَدِ، ولو فُرِضَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْمُكْرِي وَالمُكْتَرِي أَوِ الْمُعِيرِ وَالْمُسْتَعِيرِ بَعْدَ رُجُوعِ الدَّارِ إِلَى يَدِ الْمَالِكِ فَإِنْ قَالَ المُكْرِي أَوِ الْمُعِيرُ: أَنَا دَفَنْتُهُ بَعْدَ مَا رَجَعَتِ الدَّارُ إلى يَدي، فَالْقَوْلُ قوله بِشَرْطِ الإِمْكَانِ، ولو قال: دَفَنْتُهُ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّارِ عَنْ يَدِي ففيه وجهان لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: أحدهما: أن القولَ قَوْلُه أيضاً؛ لأنه صَاحِبُ الدَّارِ الآن. وأظهرهما: عند الإمَام أنَّ القَوْلَ قَوْلُ المُكْتَرِي وَالْمُسْتَعِيرِ؛ لأن المالك قد سلم له اليد، وحصول الكَنْزِ فِي يَدِهِ، وَبيَدُهُ تَنْسَخُ اليَدَ السَّابِقَةَ؛ ولهذا لو تَنَازَعَ قبل الرُّجوع، كَانَ القَوْلُ قَولَه: وقوله في الكتاب: (فالقول قَولُ صَاحِب اليَدِ) مُعَلَّم بِالزَّايِ؛ لأن الشَّيْخَ أَبَا عَلِيّ وآخرين نَقَلُوا عَنِ المُزَنِي أن القولَ قولُ المَالِكِ اتباعاً لِمَا فِي الأَرْضِ. وقوله: (فالقولُ قولُ المُسْتأْجِرِ) معلم به أيضاً. قال الغزالي: فَرْعٌ إِذَا وَجَدَ مَائَةَ دِرْهَمٍ وَفِي مِلْكِهِ نِصَابٌ مِنَ النَّقْدِ تَمَّ عَلَيْهِ الحَوْلُ وَجَبَ خُمْس الرَّكَازِ إذَا كمُلَ بِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مَا فِي مِلْكِهِ دُونَ النّصَابِ أَوْ قَبْلَ تَمَامِ الحَوْلِ فَفِي التَّكْمِيلِ خِلاَفٌ.
القول في زكاة الفطر
قال الرافعي: هذا مفرع على اعْتِبَار النِّصَاب فِي الرَّكَازِ والفَرْضُ أَنَّا وإن اعتَبَرنَاهُ، فَلاَ نَشْتَرِط أن يكونَ الموجودُ نِصَاباً، بل يكمل ذَلِكَ بِمَا يَمْلِكُهُ مِنْ جِنْسِ النَّقْدِ المَوْجُودِ، وفيه من التَّفْصِيلِ والخِلاَفِ مَا سَبَقَ فِي المَعْدِنِ، فَلاَ حَاجَةَ إِلَى الإِعَادَةِ، وقد نَصَّ حَجَّة الإِسْلاَم -رحمه الله- على حِكَايَة الْخِلاَف هاهنا، وجَمَعَ بين مَا إِذَا لَمْ تَجِب الزَّكَاةُ فيما عِنْدَه لِعَدَم تَمَام الحَوْلِ وَمَا إِذَا لَمْ تَجِب لِعَدَم بُلُوغِهِ نَصاباً، وهناك اقْتَصَرَ عَلَى ظَاهِرِ المَذْهَبِ وَاَلصُّورَةِ الأُولَى. القَوْلُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ: قال الغزالي: النَّوْعُ السَّادِسُ زَكَاةُ الفِطْرِ، وَتَجِبُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ لَيلَة العِيدِ فِي قَوْلٍ، وَبِطُلُوعِ الفَجْرِ يَوْمَ العِيدِ فِي قَوْلٍ، وَبِمَجْمُوعِ الوَقْتَيْنِ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ، وَعَلَى الثَّالِثِ لَوْ زَالَ المِلْكُ فِي وَسَطِ اللَّيلِ وَعَادَ فِي اللَّيلِ فَفِي الفِطْرَةِ وَجْهَانِ، وَعَلَى الأَوَّلِ إِذَا مَلَكَ عَبْداً أَوْ وُلِدَ لَهُ بَعدَ الغُرُوبِ بِلَحْظَةٍ أَوْ مَاتَ قَبْلَ الغُرُوبِ بِلَحْظَةٍ فَلاَ زَكَاةَ. قال الرافعي: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "فَرَضَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ، عَلَى النَّاسِ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (¬1). وعن ابن عَبَّاس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ، طهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطَعْمَةً لِلْمَسَاكِينَ" (¬2). اعلم أن زكاة الفِطْر وَاجِبَةٌ، وقال بعضُ النَّاسِ: إِنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وبه قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بنُ اللَّبَّانِ الفرضي من أصحابنا (¬3) فيما رواه صاحِبُ "الشَّامِلِ"، ولا فرق عندنا بين الواجب والفريضة. وقال أبو حَنِيفة -رحمه الله- هي وَاجِبَةٌ، وليست بِفَرِيضَةٍ. وفي وقت وجوبها ثلاثة أقوال: أصحها -وهو الجديد، وبه قَالَ أَحْمَد-: أن وقتها غروب الشَّمْسِ لَيْلَةَ الْعِيدِ. واحتَجُّوا له بأَنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى الفِطْرِ، وقد قال ابن عمر -رضي الله عنهما- زَكَاةُ الفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وحينئذٍ يكُون الفِطْرُ مِنْ رَمَضَانَ. ¬
والثاني -وهو القديم، وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-: أن وقتَها طلوعُ الفَجْرِ يومَ العِيدِ؛ لأنَّهَا قُرْبة مُتَعَلَّقَةٌ بِالْعِيدِ فلا يتقدم وَقْتُهَا عَلَى الْعِيدِ كَالأُضْحِيَةِ (¬1). وعن مالك روايتان كالقولين: والثَّالِثُ: أنها تجب بمجموع الوقتين لِتَعَلُّقِهَا بِالْفِطْرِ والعِيْدِ جَمِيعاً (¬2). قال الصَّيْدَلاِنِي: وهذا القولُ خَرَّجَهُ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ، واسْتَنْكَرَهُ الأَصْحَابُ. التفريع: لو نَكَحَ امْرَأَة أو مَلَكَ عَبْدًا أو أَسْلَمَ عَبْدُهُ الْكَافِرُ، أو وُلِدَ لَهُ وَلدٌ فِي لَيْلَةِ الْعِيدِ لَمْ تَجِبْ فطرتُهُمْ عَلَى الْجَدِيدِ ولا على الْقَولْ الثَّالِثِ. وتجب على القديم، ولو مات عَبده أو وَلَدُه أو زَوْجَتُهُ لَيْلَةَ العِيدِ، أو بَتَّ طَلاَقَهَا أو ارتد عَبْدُهُ لَمْ تَجِب فطرتهم على القديم، وَلاَ عَلَى القَوْلِ الثَّالِثِ، وتجب على الجديد، وكذا الحكم لو أسلم كَافِرُ قَبْلَ الغُرُوبِ وَمَاتَ بَعْدَه [وجبت فطرتهم (¬3) على الجديد ولا تجب على القديم ولا على القول الثاَلث] وَلَو طَرَأَتِ الأحْوَالُ المَذْكُورَة بَعْدَ الْغُرُوبِ وزَالَتْ قبل طُلُوعِ الفَجْرِ فَلاَ فطرة على الأَقْوَالِ كُلِّها. وَلَو زال المِلْكُ عَنِ الْعَبْدِ بَعْدَ الغُرُوبِ ثُمَّ عاد قبل طُلُوعِ الفَجْرِ وَجَبَتْ الفَطْرَةُ عَلَى الجَديد والقَدِيم. وأما عَلى القَوْلِ الثَّالِثِ ففيه وجهان حَكَاهما في "النِّهَايَةِ" وقال: هما ملتفتان على أن الوَاهِب هَلْ يَرْجَعُ فِيمَا زَالَ مِلْكُ الْمُتَّهِب عنه ثم عاد، وَلَهُ نَظَائِرُ نَذْكُرهَا فِي مَوَاضِعِهَا، ونَشْرَح فِيهَا الوجهين، ولو بَاعَ بَعْدَ اَلغُرُوب عَبْدَة واسْتَمَر مِلْكُ المُشْتَرِي فِيهِ فَالْفِطْرَةُ عَلَى الجَدِيدِ عَلَى البَائِعِ، وعلى القديم عَلَىَ المُشْتَرِي، وعلى الثَّالِثِ لا تَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ منهما. وَلَوْ مَاتَ مَالك العَبْدِ لَيْلَة العِيدِ، فَالْفِطْرَةُ وَاجِبَةٌ فِي تَرِكَتِهِ عَلَى الجديد، وهي على الوارث على الْقَدِيم، وعلى الثَّالِثِ لاَ تَجِبْ أَصْلاً، وذكر في "النِّهَايَةِ" أن الشَّيْخَ أَبَا عَلِيِّ حَكَى وَجْهاً فِي وُجُوبِهَا عَلَى الوَارِثِ، تَفْريعاً عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ، بِنَاءً عَلَى القَدِيمِ فِي أَنَّ حَوْلَ الوَارِثِ يُبْنَى عَلَى حَوْلِ المُورَثِ. ¬
وقوله في الكتاب: (وعلى الأولِ إذَا ملك ...) إلى آخره، ينبغي أن يعلم فيه أن نفي الزكاة في صورة الموت ليس تفريعاً على هذا القول خَاصَّة، بل هو لازم على الأقوال كُلِّها، ومواضع العلامات عِنْدَ ذِكْرَ الأَقوَالِ لاَ تَخْفَى -والله أعلم-. قال الغزالي: وَالنَّظَرُ فِي ثَلاثةِ أَطْرَافٍ: الطَّرَفُ الأَوَّل فِي المُؤَدَّى عَنْهُ، وَكُلُّ مَن وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ تَجِبُ عَلَى المُنْفِقِ فِطْرَتُهُ مِنَ الزَّوْجَةِ (ح) وَالْمَمْلُوكِ وَالقَرِيب. قال الرافعي: الكلام في زَكَاةِ الفطر في أنها مَتَى تُؤَدَّى وَعَمَّنْ تُؤَدَّى، وَمَنِ الَّذِي يُؤَدِّي وَمَا المُؤَدَّى، وَإِلَى مَن تُؤَدَّى. أما الأخير من هذه الأمور فموضعه كتاب: "قَسْم الصَّدَقَاتِ". وأما الأوَّلُ: فيحتاج فيه إلى مَعْرِفَةِ وَقْتِ الْوُجُوب، وقد فَرَغْنَا منه الآن، ويجوز التقديم عليه على الضَّبْطِ المذكُورِ في مَسَائِل التَّعْجِيلِ. وأما إذا لم يعجل، فالمستحب ألاَّ يؤخر أداءَهَا عن صَلاَةِ العِيدِ؛ لِما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم-: "فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ" (¬1) فلا يجوز تَأخِيرُهَا عَنْ يَوْمِ العِيدِ؛ لِما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ" (¬2) فلو أَخَّرَ عَصَى وقَضَى، بقي هاهنا النظر في الأطراف الثلاثة الباقية: الأول: في المُؤَدَّى عَنْهُ. اعلم: أن الفطرة قد يُؤَدِّيهَا الإِنْسَانُ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَد يُؤَدِّيَهَا عَنْهُ غَيْرُهُ. والأصل فيه قولُه -صلى الله عليه وسلم-: "أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَمَّنْ تَمُونُونَ" (¬3) والجهات التي يَصِيرُ بِهَا الشَّخْصُ فِي نَفَقَةِ الْغَيْرِ وَمَؤْنَتِهِ ثَلاَثٌ: النِّكَاح، والمِلْكُ، وَالْقَرَابَةُ، وكُلَّها تقتضي لزوم الفِطْرَةِ أَيْضًا فِي الجُمْلَةِ. ثم القول في شرائط الوجوب ومواضع الاستثناء عَنْ هَذَا الأَصْلِ سَيَظْهَرُ مِنْ بَعْد؟ وليكن قوله: (تجب على المُنْفِق فِطْرَتُه) وكذا قوله: (من الزوجة) مُعَلَّمَيْنِ بِالحَاء. أما الثاني: فلأن عِنْدَه لاَ تَجب فِطْرَة الزَّوْجَة عَلَى الزَّوْجِ، وإنما هي عَلَيْهَا وحكى ذلك عن اختيار ابْنِ المُنْذِرِ مِنْ أَصْحَابِنَا ¬
وَأَمَّا الأَوَّلُ: فَلأُمُور: منها: مسألة الزَّوْجة. ومنها: أن عِنْده لاَ يَجِبُ عَلَى الوَلَدِ فِطْرَةُ الأَبِ وَإِنْ وَجَبْت نفقته. ومنها: أن عنده لا تَجِب عَلَى الجَدِّ فِطْرَةُ وَلَدِ الوَلَدِ. لنا ما رُوِي عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنه- أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ مِمَّنْ تَمُونُونَ" (¬1). قال الغزالي: وَلاَ تُفَارِقُ الفِطْرَةُ النَّفَقَة إِلاَّ فِي مَسَائِلَ: إِحْدَاهَا الابْنُ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ زَوْجَةِ أَبِيهِ، وَفِي فِطْرَتِهَا وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: الوُجُوبُ (ح). قال الرافعي: يستثنى عن قولنا: من وجبت نَفَقَتُهُ وجب عَلى المُنْفِقِ فِطْرَتُهُ مسائل: منها: ما هي مستثنا بلا خلاف. ومنها: ما في استثنائها اختلاف قَوْل أَوْ وجه. فمنها: أن الابن تلزمه نفقة زوجة أبيه تفريعاً على الصحيح في وجوب (¬2) ¬
الإِعْفَاف، وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ الْخِلاَفِ وموضع الإعْفَافِ فِي بَابِه -إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى،- وَهَلْ يَلزَمُهُ فِطْرَتُهَا؟ فيه وجهان: أصَّحُهُمَا: عِنْدَ المصنف في طَائِفَةَ أنها تلزمه؛ لأنها مِمَّن يمونه الابْنُ وصار كالأَب لَمَّا لَزِمتُهُ نَفَقَتُهُ لَزَمتهُ فِطْرَتُهُ، وعلى هذا فَهَذِه الصورة غَيْرُ مُسْتَثنَاةٍ عَنِ الأَصْلِ المُمَهَّدِ. والثاني -وهو الأصح عند صاحبي "التهذيب" و"العدة" وغيرهما-: أنها لا تلزم؛ لأن الأَصْلَ فِي القيام بأمْرِهَا هُو الأبُ، والابْنُ مُتَحَمِّلٌ عَنْهُ الفِطْرَةُ غَيْرُ لاَزِمَةٍ عَلَى الأب بِسَبَب الإعْسَارَ، فلا يَتَحَمَّلُهَا الابْنُ، بِخِلاَفِ النَّفَقَةِ فَإِنَّهَا لاَزِمَةٌ مَعَ الإعْسَارِ فيتحملها، وأيضاً فَلِأَنَّ فَقْدَ النَّفَقةِ يمكنها من الفُسْخِ، وإذا فسخت احْتَاجَ الابْنُ إِلَى تَزْويجه وَفقْدُ الفطرة بِخَلافه، وَيجْرِي الوَجْهَانِ فِي فطرة مُسْتَولَدَتِهِ. ولك أن تُعَلِّم قوله: (تلزمه نفقة زوجة أبيه) بالواو إذ قد عرفت أنه مبنى على وُجُوبِ الإِعْفَافِ، وفيه خلاف وبالحاء والزَّاي؛ لأن عندهما لا يجب الإِعْفَاف. ويجوز إعلام لفظ: (الوجوب) من قوله: (الأصح الوجوب) بالحاء؛ لأن عنده لاَ تجب على الابْنِ فِطرَة الوَالِدِ، فما ظَنُّكَ بِفِطرَةِ زَوجَتِهِ -والله أعلم-. قال الغزالي: الثَّانِيَةُ الابْنُ الكَبِيرُ الَّذِي هُوَ فِي نَفَقَةِ أَبِيهِ إِذَا وَجَدَ قَدْرَ قُوتهِ لَيْلَةَ العِيدِ فَلاَ فِطْرَةَ عَلَى أَبِيهِ لِسُقُوطِ النَّفَقَةِ وَلاَ عَلَيْهِ لِعِجْزِهِ، وَلَوْ كَانَ صَغِيراً وَالمَسْألة بِحَالِهَا فَفَيهِ خِلاَفٌ (و) فَإِنَّ حَقَّ الصَّغِيرِ آكَدُ. قال الرافعي: غير الأصول والفروع من الأقارب، كالإخوة والأعمام لا تجب فِطْرتُهم، كما لا تَجِب نفقتهم. وأما الأصول والفروع، فإن كَانُوا مُوسِرينَ فَلاَ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ، وإن كَانُوا مُعْسرينَ وإلاَّ فَكُلَّ من جمع منهم إلى الإِعْسار الصِّغَر والجنُون أو الزّمانَة، وَجَبَتْ نفقته، ومن تجرد في حَقِّه الإعْسَار ففي نفقته قولان، ومنهم من قَطَع بِالْوُجُوبِ في حق الأُصُولِ. وحكم الفِطْرة حكم النفقة وفاقاً خلافاً.
إذا عرفت ذلك، فلو أنَّ الولَد الكَبِيرَ كَانَ فِي نَفَقَةِ أبيه إِمَّا بِمُجَرَّدِ الإعْسَار إن اكتفينا بِهِ أو مَعَ الزّمَانَة إِنْ لَمْ نَكْتَفِ بهِ فوجد قَدْرَ قُوتِه ليلةَ العِيدِ وَيوْمه سَقطت فِطْرَتُه عَنِ الأَبِ لِسُقوطِ نَفَقَتِهِ، وكونها تَابِعَة لَهُ، ولا تَجِب عَلَيْهِ لِعَجْزِه وإعْسَار. وإن كَانَ الوَلَدُ صَغِيراً، وَالْمَسْألة بِحَالِهَا فَفِي سقُوطِ الْفِطْرَة وَجْهَان: قال الصَّيْدَلاَنِيّ: لا تسقط. والفَرق أن نَفَقة الكَبِير لاَ تثبت في الذِّمة بِحَال، وإنَّما هي لكفاية الوقت، ونفقة الصغير قد ثَبتت، ألا ترى أن للأم أن تستقرض عَلى الأب الغَائِب لَنفقة الصَّغِير فكانت نفقته آكد فأشبهت نفقة الأب نفسه وفطرته. وقال الشَّيخ أبو محمد تسقط كما تسقط النَّفَقة، وتردد فيما ذَكَره من جواز الاستقراض، وقال: الأظهر منعه إلا إذا أَذِن السُّلْطان، ومثله يقرض في حق الكبير أيضاً، وما ذكره الشَّيْخُ أَظْهَرُ عِنْدَ الإِمَام وغيره. واعلم: أن مسألة الكبير جارية على الأَصْلِ المُمَهَّدِ، وكذلك مسألة الصَّغِير على قول الشَّيْخِ أبِي مُحَمَّدٍ، وإنما الاستثناء على قول الصَّيْدَلاَنِيّ. قال الغزالي: الثَّالِثَةُ الزَّوْجُ إِنْ كَانَ مُعْسِراً لَمْ تَسْتَقِرَّ فِطْرَتُهَا فِي ذِمَّتِهِ وَإِنْ اسْتَقَرَّتِ النَّفَقَةُ، وَلاَ تَجِبُ عَلَيهَا فِطْرَةُ نَفْسِهَا وَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَة نَصَّ عَلَيْهِ وَنَصَّ فِي الأَمَةِ المُزَوَّجَةِ مِنَ المُعْسِرِ أَنَّ الفِطْرَةَ تَجِبُ عَلَى سَيِّدِهَا، فَقِيلَ قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ وَقِيلَ: الفَرْقُ أَنَّ سَلْطَنَةُ السَّيِّدِ آكَدُ مِنْ سَلْطَنَةِ الحُرَّةِ، وَلَوْ أَخْرَجَتِ الزَّوْجَةُ فِطْرَةَ نَفْسِهَا مَعَ يَسَارِ الزَّوْجِ دُونَ إِذْنِهِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى أَحَد الوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الزَّوْجِ أَصْلٌ لاَ مُتَحَمَّلٌ. قال الرافعي: من أصول البَاب الذي يُحتاج إلى مَعْرِفته فِي هذه المَسْأَلة وغيرها أن الفِطْرة الواجبة على الغير تلاقي الَمؤدي عنه، ثم يتحمل عنه المؤدِّي أمْ تَجِبْ على المُؤَدِّي ابتداء؟ وفيه خلاف يعبر عنه تَارةً بقولين مخرجين من معاني كلام الشَّافعي -رضي الله عنه- وتارةً بوجهين: أحدهما: أن الوجوب يُلاقي المؤدي عنه، ثم يتحمل عنه المؤدي، لقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي سبق: "عَلَى كُلِّ حِرٍّ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنَ المُسْلِمِينَ". والثاني: أنها تَجِب على المُؤَدي ابتداء، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِم فِي عَبْدِهِ، وَلاَ فَرَسِهِ، صَدَقَةٌ إِلاَّ صَدَقَةُ الْفِطْر عَنْهُ" (¬1) قال القاضي الرُّوَيانِي وغيره: ظاهر المَذْهب هو الأوَّل، ثم الأكثرون منهم الشَّيْخُ أَبُو عَلِي طردوا الخلاف في كل من يؤدي صَدَقة ¬
الفِطْر (¬1) عن غيره من الزَّوْجِ وَالسَّيِّد والقريب. قَالَ الإِمَام: وذكر طوائف من المحققين أن هذا الخلاف في فطرة الزَّوجة فقط فأما فطرة المملوك والقريب فتجب على المؤدِّي ابتداء بلا خلاف؛ لأَنَّ المملوك لا يقدر على شيء، والقريب المُعْسِر لو لم يجد من يقوم بالإنفاق عليه لا يلزمه شيء فكيف يقال: بأن الوُجُوب يلاقيه ثم حَيْث فُرِضَ الخِلاَفُ وقلنا: بالتحمل، فَهُو كَالضَّمَان أو كَالحوالة حكى أبو العبَّاس الرَّوَيانِي فِي "المَسَائِلِ الجرجانيات" فيه قولين (¬2): إذا تقرر ذلك ففي المسألة صورتان: أحدهما: الزَّوْجُ المُعْسِر لا تستقر الفِطْرة فِي ذمته وإن استقرت النَّفقة؛ لأن النفقة عوض، والفِطْرة عِبَادة مَشْرُوطة باليَسَارِ، ثُمَّ إن كانت مُوسِرة، فَهَلْ عَلَيْهَا فِطْرَةُ نَفْسِهَا؟ قال في "المختصر": لا أُرَخِّصْ لَهُ فِي تَرْكَها، ولا يتبَيَّن لي إن أْوجب عليها، ونَصَّ فيه أيضاً على أنه لَوْ زَوَّجَ، أَمَتَة مِنْ مُعْسِر تجب الفِطْرَةَ عَلَى سَيِّدِهَا، واختلف الأَصْحَاب على طريقين: أصَحّهمَا: عند الشيخ أبي عَلِيّ وغيره: أن المسألتين على قولين مبنيين على الأَصْلِ المَذْكُورِ. إن قلنا: الوجوب يلاقي المؤدي عنه أولاً وجبت الفِطْرة على المرأة الحرّة في الصُّورة الأُولى، وعلى سَيِّد الأمة في الثَّانية. وإن قلنا الوجوب على المؤدي ابتداء فلا يجب. والثاني: تقرير النَّصَّيْنِ، وبه قال أبو إسْحَاق. والفرق: أن الحُرَّة بعقد النكاح تفسير مُسَلَّمَة إلى الزَّوْجِ حتى لا يجوز لها المسافرة والامتناع من الزَّوْجِ بعد أخذ المَهْرِ والنفقة بحال، والأمة بالتزويج غير مُسَلَّمة بالكلية، بل هي في قبضة السّيد، ألا ترى أن له أن يستخدمها وأن يُسَافِر بِهَا، وهذا معنى قوله في الكتاب: (سلطنة السَّيد آكد، مِنْ سلطنة الحرة) أي: على نفسها، ثم التقريب من وجهين: أحدهما: أن الحرة لما كانت مُسَلَّمة بالكلية كانت كالأمة المُسَلَّمة إلى المُشْتري بِعَقْدِ الشراء، فتنتقل الفِطرة إليه، والأمة لما كانت في قبضة السّيد، لم تكن الفطرة ¬
متحولة عنه، وإنما الزَّوج كالضَّامن لها، فإذا لم يقدر على الأداء بقي الوجوب على السَّيد، كما كان. والثَّاني: أن الأمة إذا لَمْ تكن واجبة التَّسليم، كان السيد مُتَبَرِّعاً بتسليمها، فلا يسقط عنه بتبرعه ما كان يلزمه لَوْلاَ التَبرّع. ولو نَشَرَت المرأة وسقطت فطرتها عن الزَّوْجِ لسقوط النفقة، فقد قال الإمام: الوجه عندي القطع بإيجاب الفِطْرَة عَلَيها، وإن حكمنا بأنَّ الوُجُوبَ لا يلاقيها؛ لأنها بالنشوز أخرجت نَفْسَها عَنْ إِمْكَانِ التَّحَمُّلِ. فرعان: أحدهما: زوج الأمَةِ إن كانَ موسراً فحكم فطرتها حُكْم نَفَقَتِهَا، وسيظهر ذلك في موضعه -إن شاء الله تعالى-. والثاني: أن خادمة الزَّوْجة إن كانت مُسْتَأْجِرَةً، لم يجب على الزَّوْج فِطْرَتُهَا، وإن كانت من إمائه وجبت؛ لأنها مملوكته، وإن كانت من إماء الزَّوْجة، والزوَج ينفق عليها ففطرتها وَاجِبَةٌ عليه نظراً إلى أنه يَمُونَها، نَصَّ عليه في "المختصر". وقال الإمام: الأصح عندي أنها لا تَجِب؛ لأن نفقة الخَادِمة غير مُسْتَقِلة، إذ يمكلنه تَحْصِيل الغَرَضِ بِمُتَبَرِّعَةٍ أَوْ مُسْتَأجَرَةٍ. الصُّورة الثانية: لو أخرجت الزَّوجَة زَكَاةَ نَفْسِهَا مَعَ يَسَارِ الزَّوْجِ دُون إِذْنِهِ ففي إجزائه وَجْهَان: إن قلنا: الزَّوْجُ مُتَحَمِّلٌ أَجْزَأ وإلاَّ فَلاَ، ويجري الوجهان فيما لو تَكَلَّف مِنْ فِطْرته على قَرِيبه باستقراضٍ وغيره، وأَخْرَجَ مِنْ غَيْرِ إذنه، والوَجْهُ الأَوَّلُ هو المنصوص عليه في "المختصر". ولو أخرجت الزَّوجَة أو القريب بإذْنِ مَن عَلَيْهِ جَازَ، بِلاَ خِلاَف، بل لو قال الرجل لغيره: أدِّعني فِطْرتي ففعل جَاز، كما لَوَ قال: أَقْضِ دَيْنِي، ذكره في "التهذيب". وقوله في الكتاب: (لأن الزوج أصل لا متحمل) ليس تعليلاً لِوَجْهِ المنع بشيء يساعد عليه، بل الغرض منه التَّنْبِيه عَلَى مَبْنَى الوَجْهَيْنِ. واعلم: أن الصُّورة الثَّانية، ليس لها كَثِير تَعَلُّقِ بالأصْلِ المستثنى منه، وإنَّمَا المتعلق به الأولى، فإن الفِطْرَة فارقت النَّفقة حَيْثُ لم تَلْزُم الزَّوْجَ المُعْسِر، والنَّفقة لازمة مستقرة. قال الغزالي: الرَّابِعَةُ البَائِنُ الحَامِلُ تَسْتَحِقُّ الفِطْرَةَ، وَقِيلَ: إِذَا قُلْنَا: إِنَّ النَّفَقَةَ لَلْحَمْلِ فَلاَ تُسْتَحَقُّ. قال الرافعي: يجب فطرة الرجعية كنفقتها، وأما البَائِنة: فإن كانت حَائِلاً، فلا نَفَقَةَ ولا فِطْرَة، وإن كَانَتْ حَامِلاً، ففي فطرتها طريقان:
أحدهما: أنها تجَب اتباعاً لِلْفِطْرَة النفقة. والثاني: أن وُجوبَهَا مَبْنِيٌّ على الخِلاَف في أنَّ النفقَةِ لِلْحَملِ أو لِلْحَامِلِ إن قلنا: بالثَّانِي فَيَجِب، وإن قُلْنَا بالأَوَّلِ فَلاَ؛ لأَنَّ فِطْرَة الجنين لا تَجِب، وهذا الطريق الثاني هو الذي أورده الأَكْثَرُون. وكلامُ صَاحِبِ الْكِتَاب يُشْعِرُ بِتَرْجِيح الأَوَّلِ وبه قال الإمام والشَّيْخُ أَبُو عَلِيّ. قال الشيخ: لأنها المستحقة، سواء قلنا: النفقة لِلْحَمْلِ أَوْ لِلْحَامِلِ، ولها أن تأخذها وتنفقها على نَفْسِها بِلاَ خِلاَف، وقولنا: إنها للحمل على قول -، نعني به-: أنه سبب الوجوب، وذلك لا يُنَافي كَوْنها المُسْتَحِقة هذا إذا كانت الزوجة حُرَّة، فإن كانت أمة ففطرتها بالاتفاق ناظرة إلى ذَلِك الخِلاَف، فإن قلنا النفقة للحمل فلا نفقة ولا فِطرة؛ لأن الحَمْل لو كان ظَاهِراً لم يكن عليه أن يمون ملك الغير، وإن قلنا: للْحَامِل وَجَبَتَا، وسواء رَجَّحْنَا الطريقة الأولى أو الثانية فالأصح اسْتِحقاق الفطرة؛ لأن الأَصَح أن النفقة لِلْحَامل، وعلى هذا فالمسألة غَيْر مستثناه عن الأَصْل السَّابق أما إذا قلنا: النفقة وَاجِبَةٌ لِلْحَمْل فَلاَ فِطْرَة، فالحمل شخص تجب نفقته، ولا تجب فِطرته فينتظم استثناؤه -والله أعلم-. قال الغزالي: الخَامِسَةُ لاَ فِطْرَةَ عَلَى المُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ الكَافِرِ وَتَجِبُ عَلَيْهِ فِي نِصْفِ العَبْدِ المُشْتَرَكِ أَوْ فِي العَبْدِ الَّذِي نِصْفُهُ حَرٌّ، وَلَوْ جَرَتْ مُهَايَأَةٌ فَوَقَعَ الهِلاَلُ فِي نَوْبَةِ أَحَدِهِمَا فَفِي اخْتِصَاصِهِ بِالفِطْرَةِ وَجْهَانِ لِأنَّهُ خَرَجَ نَادِراً. قال الرافعي: في المسألة صورتان: أحدهما: لا يجب على المُسْلِم فِطْرَةَ عَبْدِهِ الكَافِرِ وبه قال مَالِك وأحمد، خلافاً لأبي حنيفة. لنا: لتقييد في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- حيث قال: "مِنَ المُسْلِمِينَ" وأيضاً فإن الفطرة شرعت تطهيراً والكافر ليس أهلاً للتطهير، وحكم الزَّوْجَةُ الذِّمية، والقريب الكافر حكم العبد الْكَافِرِ، فلا تجب فطرتهم وإن وجبت نفقتهم. الثانية: تجب فطرة العبد المُشْتَرك على الشَّريكين، وفطرة العبد الذي بَعْضُه حُرٌّ عليه وعلى السَّيد، خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- حيث قال: "لا تجب" ولمالك حيث قال في الصورة الثانية في إحدى الروايتين: "تجب على السيد حِصَّته ولا شيء على العبد" والرواية الثانية مثل مَذْهبنا. لنا: ما سبق أن الفِطْرَة تَتْبع النَّفقة، وَهِيَ مُشْتَركة فَكَذَلِكَ الفطرة ثم الوُجُوب عليهما إذا لم تكن مهايأة بَيْنَ الشَّرِيكَينِ، أَوْ بين المَالِكِ وَالْعَبْدِ، فَهَلْ تَخْتَصُّ الفطرة بمن وقع زمان الوُجوب في نوبته أم هي على الشَّركة؟ يبنى ذلك على أن الفطرة من المؤن النَّادرة أو من المؤن الدَّائرة، وبتقدير أن تكون من النَّادرة
فَهَل تَدْخُل في المهايأة أم لا؟. أما المقام الأول، فقد حكى الإمام فيه وجهين: أحدهما: أنها من المؤن الدَّائِرَة؛ لأنها معلومة القدر والوقت، معدودة من وظائف السنة. وأصحهما: ولم يذكر الجمهور غيره: أنَّها مِنَ المؤن النَّادِرَة؛ لأن يوم العيد لا يتعين في السَّنة لاختلاف الأهلة، وبتقدير التعين فالشيء الذي لا يتفق في السَّنَةِ إِلاَّ مرة نَادِر، وأما الثَّاني فَفِيه وَجْهان مَشْهُوران: أظهرهما: أنها تَدْخُل فِي المهايأة؛ لأن مَقْصُود المُهَاياة التَّفَاضَل والتمايز فليختص كل واحد منهما بما يتفق في نَوْبته مِنَ الْغُنْمِ وَالْغُرْمِ. والثَّاني: لا تدخل؛ لأن النَّوادر مجهولة ربما لا تَخْطُر بالْبَالِ عِندِ التهايؤ فَلاَ ضرورة إلى إدخالها فيه، والوجهان جَارِيَانِ فِي الأكساب النَّادِرَةَ كصيد يصطاده العبد الذي ليس بُصَيَّاد، وكقبول هِبَةٍ وَوَصِيَّةٍ ونحوها فإن قلنا: بالأول فَجَمِيعُ الفِطْرَة عَلَى مَنْ وَقَع الهِلاَلُ فِي نَوْبَتِهِ. وإن قلنا: بالثاني فهي مُشْتَركة بِحَسَبِ المِلْكِ أَبَداً ثم الْمُعْتَبَرُ فِي يَسَارِهِ أن يفضل الواجب، سواء كَانَ تَمَامَ الصَّاع أو بعضه عن قوت يومه وليلته إن لم يكن بَيْنَهُمَا مهايأة، وإن كَانَ بينهما مهايأة فَعَنِ القَدْرَ الذي يلزمه من قوت نفسه لا من الكُلِّ. وليكن قوله في الكتاب: (وتجب عليه في نِصفِ العيد المشترك) معلَّماً باَلْحَاء وَالْمِيم لما ذكرناه ولو قال: وتجب فطرة العبد المشترك بدل ما ذكره لكان أحْسَنَ، ولا يستغنى عن التعرض للنّصف. وقوله: (فوقع الهلال) جواب على أَصَحِّ الأَقْوَالِ وهو أن وقت الوجوب الاستهلال. وقوله: (لأف خرج نادراً) جوابٌ على الأصح في عدها من النَّوادر، وليكن مُعَلَّماً بِالوَاوِ لِلْوَجْهِ السَّابِق، ولا يخفى حاجة الصورة الأولى إلى الاستثناء. وأما الثانية: فإنما يَصِح استثناؤها عَلَى قولنا: إن الفطرة لا تدخل في المهايأة، لأنهما حينئذٍ يَشْتَرِكَانِ في الفِطْرَة دون النَّفَقَةِ فتفارق الفطرة النفقة. قال الغزالي: السَّادِسةُ العَبْدُ المَرْهُونُ تَجِبُ فِطْرَتُهُ عَلَى سَيِّدِهِ، وَفِي المَغْصُوبِ وَالضَّال والآبِقِ طَرِيقَانِ قِيلَ: تَجِبُ وَقِيلَ قَوْلاَنِ كَسَائِرِ الزَّكَواتِ، وَلَوِ انْقَطَعَ خَبَرُ العَبْدِ الغَائِبِ نَصَّ عَلَى وُجُوبِ فِطْرَتِهِ وعَلَى أَنَّ عَتْقَهُ لاَ يُجْزِئُ عَنِ الكَفَّارَةِ، وَقِيلَ قَوْلاَنِ فِي المَسْئلَتَينِ لِتَقَابُلِ الأَصْلَيْنِ، وَقِيلَ بِتَقْرِيرِ النَّصَّينِ مَيْلاً إلَى الاحْتِيَاطِ فِيهِمَا. قال الرافعي: المُدَبَّرُ والمُعَلَّق عِتْقُه بِصِفَةٍ، وأم الولد كالقِنِّ في وجوب الفطرة، وتجب فِطْرة العَبْدِ المَرْهُون، والجَانِي والمُسْتَأْجِر لِوُجُودِ المِلْكِ، وَوُجُوبِ النَّفقة.
قال الإمام والمصنِّف في "الوسيط": هكذا أطلقوا القول في المَرْهُون، ويحتمل أن يجري فيهَ الخلاف المذكور فِي زكاة المال المرهون. واعلم: أن الخِلاف في زَكَاةِ المَالِ المرهون لم نَلْقَه إِلاَّ فِي حِكَايَةِ هَذَيْنِ الإِمَامَيْنِ، والجُمْهُورُ أَطْلَقُوا الوُجُوبَ ثُمَّ أَيْضًا. وأما المَغْصُوبُ والضَّالُّ فَفِي فِطْرَتِهِ طريقان: أحدهما: أَنَّه على القَوْلَيْنِ فِي زَكَاةِ المَالِ المَغْصُوبِ. وَطَرَدَ ابنُ عَبْدَانَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الخِلاَفَ فِيمَا إِذَا حِيلَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ عِنْدَ الاسْتِهْلاَلِ. وَأَصَحُّهُمَا: القَطْعُ بِالْوُجُوب اتباعاً لِلفِطْرَة النفقة، ويخالف زَكَاة المال، فإنَّ المَالِيَّة مُعْتَبرةٌ فِيهَا، وهي غير معتبرة هاهنا، ألا تَرَى أنه تَجِب فِطْرَة الزَّوجَةِ، والقَرِيب مع انتفاء المالية، فلأن تَجِب عِنْدَ ضَعْفِهَا كان أَوْلَى، ولهذا وَجَبَتْ فِي المستولدة. وأما العبد الغَائِب، فَإنْ علم حياته، وكان في طَاعَتِهِ، وجبت فِطْرَتُه، وإن كَانَ آبقاً فَفِيه الطريقان في المَغْصُوب، وللخلاف فيه مأخذٌ آخر حَكَاه الإِمَامُ، وهو أن إباق العَبْدِ هَلْ يَسْقُطُ نفقته كَنُشُوزِ الزَّوْجَةِ أَمْ لاَ؟ وفيه خِلاَف، فَإِن أسقطها أسقط الفِطْرة أيضاً، وإن لم يعلم حياته، وانقطع خَبَرُهُ مَعَ تَوَاصُلِ الرِّفاق ففي فطرته طريقان: أحدهما: أَنَّهَا تَجِب بلا خلاف، وبه قال أبو إسحاق. والثاني: أنه على القَوْلَين، وفي كَيْفِيَّتِهَا طَرِيقان: أحدهما: أنهما قَوْلاَن مَنْصْوصَانِ، وذكل أن المُزَنِي روى في "المختصر" أنه قال: ويزكي عن عبيده الحضور، والغُيَّب، وإن لم تُرْجَ رَجْعَتُهم؛ إذَا عَلِم حَيَاتَهُم، قال: وقال في موضع آخر، وإن لم يعلم حياتهم، فَشَرَطَ العِلْمَ بالَحَيَاة فِي قول، وأطلق الوُجُوبَ فِي قَول، عَلِمَ أَوَ لَمْ يَعْلَم. والثاني -وهو المذكور في الكتاب-: أن سَبَبَ خُرُوجِ القَوْلَين أَنَّه نص هاهنا على لزوم الفِطْرة، وفي الكفارة على أن إعتاق مِثْل هذا العبد لا يجزئ فنقل الجواب من كل مسألة إلى الأُخْرَى، وَجَعَلْنَا على قولين بالنَّقْلِ والتخريج وجه وجوب الفِطْرَة والإجزاء عَنِ الكَفَّارة، أن الأصلَ بَقَاؤُه. وَوَجه عدمِ وُجُوبِهَا وعدم الإجزاء أن الأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ عن واجب الفِطْرَة واستمرار شغلها بواجب الكفارة إلى يقين الإِعْتَاق قال القاطعون بالوجوب؛ أما منقول المُزَنِي فلا اخْتِلاَف فيه، إلا أنه أجاب في النَّصِّ الأول في إِحْدَى المسأَلَتَيْن دون الأُخْرَى، والاحتجاج بالمفهوم ضَعِيف؛ وَأَمَّا فصل الكفارة فالنصان مقرران.
والفرق: الأخذ بالاحتياط في الطَّرفين بتقديره حياً بالإضافة إلى الفِطْرَة وميتاً بالإضافة إلى الكَفَّارة، ليأتي بيقين الإعْتَاق، وكيفما قدر فالأظهر وجوب الفِطْرة، وعدم الإجزاء في الكَفَّارة، وإذا أوجبنا الفِطْرة في هذه الصورة، فهل نوجب إخراجَها في الحَالِ، أم يجوز التَّأْخير إلى عود العَبْد كَمَا في زَكَاةِ المَالِ؟ في نظائرها المذهب الأول؛ لأن المُهْلَة شُرِعَت ثَمَّ لِمَعْنَى النَّمَاء وهو غير معتبر هاهنا. وروى ابنُ الصَّبَاغ عن الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: أن الشَّافعي -رضي الله عنه- نَصَّ في "الإملاء" على قولين في ذَلك، قال: وهَذَا بَعِيدٌ؛ لأن إمكان الأَدَاء شَرْطُ الضَّمَانِ فِي زَكَاةِ المَالِ، والمَالُ الغَائِبُ يَتَعَذَّرُ الأَدَاء مِنْهُ، وليس كَذَلِكَ الفِطْرَة، هكذا ذَكَره، لكن قال صاحب "التهذيب": لو دخل الوقت، ومات المُؤَدّى عنه قبل إمكان الأَدَاء فَفِي سقوط الفِطْرَة وُجْهَان: فألحقهما في أحد الوَجْهَيْنِ بِزَكَاةِ المَالِ في اعتبار الإمْكَان، وحكى الإمام هَذَا الخِلاَفَ أَيضاً -والله أعلم-. قال الغزالي: (السَّابِعَةُ) نَفَقَةُ زَوْجَةِ العَبْدِ فِي كَسْبِه وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِطْرَتُهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلاً لِزَكَاةِ نَفْسِهِ فَلاَ يَتَحَمَّلُ عَنْ غَيْرِهِ. قال الرافعي: العبد ينفق على زوجته من كَسْبهِ، ولا يخرج الفطرة عنها حُرَّةٌ كانت، أو أَمَةً؛ لأنه ليس أهلاً لزكاة نَفْسِهِ، فكيف يُتَحَمَّلُ عَنْ غَيْرِهِ. أما النفقة فَلاَ بُدَّ مِنْهَا، وأقرب موضع يؤدي منه كسبه، ثم إذا كَانَت الزَّوْجَة حُرَّةٌ مُوسِرَةٌ، فَهَلْ عَلَيها فِطْرَةُ نَفْسِهَا؟ منهم من قال: هو على القَوْلَين المَذْكُورين فيما: إذا كانت تَحْتَ زَوْجٍ مُعْسِرٍ. ومنهم: من قال: عليها فِطْرَتُهَا بلاَ خِلاَفٍ؛ لأن العَبْدَ لَيْس أهلاً لِلْخِطَابِ بالفِطْرَةَ، وإن كانت أَمَةً فهل على سَيِّدِهَا فِطْرتها؟ فيه هذان الطَّريقان: والثاني: أظهر في الصُّورتين، ولو مُلَّك السَّيدُ عَبْدَه شيئاً، وقلنا: إنه يملكه، لم يكن له إخراج فطرة زوجته عنه استقلالاً؛ لأنه مِلْك ضعف، ولو صَرَّح بِالإذْنِ فِي الصَّرف إِلَى هَذِهِ الجهة، ففيه وجهان للشَّيْخ أَبِي مُحَمَّدٍ إن قلنا: له ذلك، فليس للسَّيد الرجوع عن الإِذْن بعد استهلال الْهِلاَل؛ لأن الاستحقاق إِذَا ثَبَتَ؛ فَلاَ مَدْفَعَ لَهُ. خاتمه: قوله في أول المسائل السبع: (ولا تفارق الفطرة النفقة إلا في كذا) لا شك أنه لم يعن به مطلق المُفَارقةِ؛ لأن مفارقتهما لا تنحصر فيما استثناه؛ بل هما مفترقان في القدر والوَقْت؛ وأمور أخر لا تُحْصَى كثرة، وإنما عني المفارقة في ثبوت النفقة وانتقاء الفطرة، لكن هذه المفارقة غير منحصرة أيضاً فيما استثناه لمسائل: منها: إذا كان لِلْكَافر عَبْدٌ مُسْلِمٌ، ففي فطرته وجهان سنذكرهما، والنفقة واجبة. ومنها: إذا أوْصَى بِرَقَبَةِ عَبْدِ لرجل، وبمنفعته لآخر قال ابْن عَبْدَان: فطرته على
المُوصَى لَهُ بالرقبة بلا خِلاَفٍ، وَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، أو على الموصى له بالمنفعة، أو في بيت المال، فيه ثلاثة أوجه: فعلى غير الوَجْهِ الأَوَّلِ المسألة من مَسَائِلِ المفارقة. ومنها: عَبْدُ بَيْتِ الْمَالِ، والعبد المَوْقُوف على المَسْجِد في فطرتهما وجهان حُكِيا عن "البحر". الأظهر: وبه أجاب في "التهذيب": أنها لا تجب. والعبد المَوْقُوف على رجل معين، ذكر في "العدة": أن فطرته تبنى على أن الملك فيه. إن قلنا: إن الملك للموقوف عليه؛ فَعَلَيْهِ فِطْرته. وإن قلنا: لله تعالى فوجهان ونفى صاحب "التهذيب" في "باب الوقف" وجوب فِطْرَتِهِ على الأقوال كُلَّها؛ لأنه ليس فيه ملك محقق، والأول أشهر، ونفقة هؤلاء وَاجِبَةٌ لاَ مَحَالَةَ. قال الغزالي: (الطَّرَفُ الثَّاني) فِي صِفَاتِ المُؤَدِّي، وَهِيَ الإِسْلاَمُ وَالحُرِيَّةُ وَاليَسَارُ، فَلاَ زَكَاةَ علَى كَافِرٍ إلاَّ فِي عَبْدِهِ (ح) المُسْلِمِ علَى قَوْلنَا: إِنَّ المُؤَدَّى عَنْهُ أَصْلٌ وَالمُؤَدِّي مُتَحَمِّلٌ عَنْهُ، وَلاَ زَكَاةَ عَلَى رَقِيق وَلاَ مُكَاتَبٍ (و) فِي نَفْسِهِ وَزَوْجَتِهِ وَلاَ يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاةُ المُكاتَبِ لِسُقُوطِ نَفَقَتِهِ، وَقِيلَ: تَجِبُ عَلَيْهِ، تَجِبُ فِي مَالِ المُكَاتَبِ، وَمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ وَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ صَاعٍ. قال الرافعي: اعتبر في مؤدى الفطرة ثلاثة أمور: الأول: الإسْلاَم. فلا فطرة على كافر عن نفسه؛ لأنه ليس له أهلية التَّطْهِير، ولا أهْلِيَّة إقامة العِبَادَات ولا عن غيره إلا إذا ملك الكافر عبداً مُسْلِماً، أو كان لَهُ قَرِيبٌ مُسْلِم، ففيه وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أن من يؤدي عنه الفطرة أصيل، يتحمل عنه، أو الوجوب المؤدي ابتداء. إحداهما -وبه قَالَ أَبُو حَنيفَةَ -رحمه الله-: أنها لا تَجِب. والثاني -وبه قال أحْمَدُ-: تجب، ويتصور ملك الكافر العبد المسلم، بأن يسلم العبد في يَدِهِ، أو يرثه أو يَشْتَريه عَلَى قَوْلِ صِحَّةِ الشِّرَاءِ ويهل شوال هلاله قَبْلَ أَنْ نُزِيلَ المِلْكَ عَنْه. ومستولدته التي أسْلَمَت فِيهَا الوَجْهَان فإن قلنا: بالوجوب فقد قَالَ الإمَام: صَائِرٌ إلى أن المَتَحَمل عنه يَنْوي، والكافر لا تصح منه النية، وذلك يدل على استقلال الزَّكاة بِمَعْنَى المُوَاسَاة، ولو أسلمت ذِمِّيَّةٌ تحت ذِمِّي، واستهل الهِلاَل فِي تَخَلُّف الزَّوْجِ، أَسْلَمَ قَبْلَ انقضاءِ العِدَّة ففي وجوب نَفَقَتِهَا مُدَّة التَّخَلُّف؛ خلافٌ يأتي في مَوْضِعِهِ، فإن لم نُوجِبْهَا لَمْ نُوجب الفِطْرة وإن أوجبناها فَالْفِطْرَة عَلَى الخِلاَفِ المَذْكُورِ فِي وُجُوبِ فِطْرَةِ عَبْدِهِ المُسْلِمِ. وقوله في الكتاب: (إلا في عبده المسلم)، ليكُنْ مُعَلَّماً بالحاء؛ لما نقلناه عن مذهب أبي حنيفة، ثم ظاهره يقتضي الجزم ينفي الوجوب في القريب المسلم، وفي مسألة إسْلاَم الذِّمِّيَّةِ؛ لأنه حصر الاستثناء في العبد، وكل ذلك على الخلاف، نَصَّ عليه الشَّيْخُ أَبُو عَلِيِّ وَغَيْرُهُ.
الثاني: الحُرِّية، وفيه صُوَر: منها: لا يجب على الرَّقيق فِطْرة نفسه، ولا فطرة زَوْجَتِهِ؛ لأنه لا يَمْلِك شَيْئاً، فَإِنْ مَلَّكَهُ السَّيْد مالاً فقد ذَكَرْنَاه، وإن ملَّكه عَبْداً، وقلنا إِنَّهُ يَمْلك سَقَطَتْ فِطْرَتُهُ عَنِ السَّيِّدِ، لَزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ، ولم تَجِب عَلَى المتملك لضَعْفِ ملكه. ومنها: هَلْ تَجِبَ عَلَى المُكَاتَبِ فِطْرَة نفسه؟ المشهور: أنها لاَ تَجِب، كما لا تجب عَلَيْهِ زَكاة مَالِهِ لِضَعْفِ مِلْكِهِ. وقيل: إِنَّهَا تَجِب عَلَيْهِ فِي كَسْبِهِ، كنفقته؛ وبه قال أحمد، وهذا الاختلاف على ما ذكره الإمام. قولان: الأول: منهما منصوص. والثاني: مُخَرَّجٌ، ذَكَرَه ابْنُ سُرَيْجٍ، وعلى ما رواه في "التهذيب" وَجْهَان وأَطْلَقَهُمَا الصَّيْدَلاَنِيُّ قولين من غير التَعَرُّض لِلنَّصَ والتخريج، والأَمْرُ فيهِ سَهْلٌ. وإذا قلنا: بالمشهور، وهو أنه لا فِطْرَة عليه، فَهَلْ هِيَ عَلَى سَيِّدِهِ. والظَّاهِرِ: أَنَّهَا لَيْسَت عَلَيْه؛ لسقوط نفقته عنه، ونزوله مع السَّيِّد منزلة الأَجْنَبِي، ألا ترى أنه يبيع منه وَيشْتَرِي. وروى أبو ثور عن القديم أنها تَجب على السَّيد؛ لأنه عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وأنكر الشَّيْخُ أَبُو عَلِيِّ أن يكون هذا قولاً للشَّافعي -رضي الله عنه- وقال: إنه مذهب أَبِي ثَوْرٍ نفسه. والخلاف في أن المكاتب هل عليه فطرة نفسه؟ يجري في أَنَّه هل عليه فِطْرة زوجته وعبيده بلا فرق. واعلم: أن قوله فيِ الكتاب: (ولا زَكَاة على رَقِيقِ، ولا مُكَاتَب في نفسه، وزوجته) الكلام في الرَّقيق قَدْ صَارَ مذكوراً مَرَّة في المسألة السَّابِقَة، وإنما كَرَّره؛ لأَنَّهُ احتاج إلَى إدراجه في صُوَرِ الاستثناء أولاً، وإلى التَعَرُّضِ لَهُ فِي صِفَاتِ المُؤَدي ثَانِياً. وقوله: (وقيل: نجب عليه) أي: على السيد وهو القول الذي حَكَاه أَبُو ثَوْرٍ. ومنها: حكم الْمُسْتَولَدَةِ، والمُدَبَّرِ حُكْمُ القِنِّ على ما سبق. والكلام فيمن نِصْفُه حر قد ذكره مرة، وإنما أعاده هاهنا ليبين أن الحرية التي اعتبرها ليست حرية للكل، وإنَّما هي الحرية يحسب القدر المؤدي من الفطرة. قال الغزالي: وَالمُعْسِرُ لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنْ لَمْ يَفْضُل عَنْ مَسْكَنِهِ وَعَبْدِهِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى خِدْمَتِهِ وَدِسْتِ ثَوْبٍ يَلْبَسُهُ صَاعٌ مِنَ الطَّعَامِ فَلَوْ أَيْسَرَ بَعْدَ الهِلاَلِ لَمْ يَتَجَدَّدِ الوُجُوبُ بِخِلاَفِ الكَفَّارَاتِ.
قال الرافعي: الأمر الثالث: فالمعسر لا زكاة عليه، وكل من لم يفضل عن قوته، وقوت من في نفقته ليلة العيد ويومه ما يخرجه في الفطرة فَهُوَ مُعْسِرٌ، وَمَنْ فَضُلَ عَنْهُ ما يُخرِجُهُ فِي الفطرة من أي جنس كان من المال فهو مُوسِر، ولم يُصَرِّح الشافعي -رضي الله عنه- وأكثر الأصحاب في ضبط اليسار والإِعْسَار إِلاَّ بهذا القدر، وزاد الإمام فاعتبر في اليسار أن يكون قَدْرُ الصَّاعِ فاضلاً عن مَسْكَنِه، وعبده الذي يَحْتَاج إليه في خِدْمته، وقال: لا يحسب عليه في هذا الباب ما لا يحسب في الكَفَّارة، وتابعهُ المصنف فِيمَا ذَكرَهُ، وأنت إذا فحصت عن كُتُبِ الأَصْحَاب وجدت أَكْثَرَهُمْ سَاكِتين عَنْ ذَلِك، وقد يغلب على ظَنِّك أَنَّهُ لا خِلاَف في الْمسْألة، وَالَّذِي ذكره كالبيان والاسْتِدرَاك لِمَا أهْمَلَهُ الأَوَّلُونَ، وَرُبَّمَا استشهدت عليه بأنهم لم يتعرضوا أيضاً لدست ثوب يلبسه، ولا شَكَّ في أنه مبقى عليه، فإن الفِطْرة ليست بأَشَد من الدَّيْنِ، وأنه مبقى عليه في الدّيون، لكن الخلاف ثابت، فإن الشَّيْخ أَبَا عَلِيّ حكى وجهاً أن عبد الخِدْمَة لا يُبَاعُ فِي الفِطْرَة، كما لاَ يُبَاعُ فِي الكَفَّارَةِ، ثم أنكر عليه، وقال: لا يشترط في صَدَقَةِ الفِطْرِ أن يكون فَاضِلاً عن كفايته، بل المعتبر قوت يومه، ويفارق الكَفَّارة؛ لأن لها بدلاً ينتقل إليه، فخفف الأمر فيها، ولا بدل للفطرة فمتى قدر عليه بوجه ما، لزمه القضاء كقضاء الدَّيْنِ، وذكر في "التهذيب" أيضاً ما يوجب إثبات وجهين في المَسْألة، والأصَحُّ عِنْدَهُ الأَوَّلُ كما في الكتاب، وقد احتج له بقول الشافعي -رضي الله عنه- أن الابن الصغير إذا كان له عبد يحتاج إلى خدمته فعلى الأب أن يُخْرِجَ فِطْرَتَهُ، كما يخرج فِطْرَة الابن، ولولا أن العبد غير مَحْسُوب لسقط بِسَبَبِه نَفَقَةُ الابْنِ أيضاً، ثم ذكر الإمام -رحمه الله- شيئين: أحدهما: أن كَوْنَ المُخْرَجِ فاضلاً عن العَبْدِ والمَسْكَنِ، وإن شرطناه في ابتداء الثبوت، فلا نشترطه في الدَّوَام، بل إذا ثَبَتَتْ الفِطْرَة في ذِمَّةِ إِنْسَانٍ بِعْنَا عَبْدَهُ وَمَسْكَنَهُ فيها؛ لأنها بَعْدَ الثُّبُوتِ التَحَقَتْ بِالدُّيُونِ. والثاني: أن ديون الآدميين تَمْنَع وجوبَ الفِطْرَة وِفَاقاً؛ كما أن الحاجَة إلى صَرْفِهِ إِلَى نفقةِ الأقَارِب تَمْنَعُهُ، قال: ولو ظَنَّ ظان أن دين الآدمي لاَ يَمْنَعه على قَوْلٍ، كما لا يمنع وُجوب الزَّكاة كان مُبْعَداً، هذا لَفْظُهُ وفيه شيءٌ آخر نذكره في أواخر صَدَقه الفِطْرِ -إن شاء الله تَعَالى جَدُّه-. فعلى هذا يُشْتَرَطُ مع كون المُخْرَج فَاضِلاً عما سبق كَوْنُه فاضلاً عن قدر ما عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، ولم يتعرض له في الكِتَاَب، بل ليتعرض لِمَا اتفقت الكلمة على اعتباره وهو كَوْنُه فَاضِلاً عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ مَنْ يَمُونُه إِلاَّ أن يقال: إنه تعرض له على سبيل الإشَارة، فإنه إذا اعتبر كَوْنه فَاضِلاً عن العبد والمَسْكَن، فأولى أن يَكُونَ فَاضِلاً عنه. وقولَه: (صاع من الطَّعَام) لا يخفى أنه غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وإنما المراد قدر صاع من أي جنس كان من المال.
قال أبو حنيفة -رحمه الله-: اليسار المعتبر في الباب أن يكون مالكاً لِنِصَابٍ زَكَوِي، ومالك وأحمد وافقنا على عَدَم اعتباره؛ لأن الحَقَّ المَاليَّ الذي لا يزيد بزيادة المال لا يعتبر فيه وجود النِّصاب، كالكَفَّارَاتِ، ثُمَّ الْيَسار إِنَّمَا يُعْتَبَرُ وقت الوجوب، فلو كان معشراً عِنْدَه، ثم أيسر فلا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لأن وُجُودَ الشَّرْطِ بَعْدَ فَوَاتِ الوَقْتِ لا يغني، ولو وَجَدَ بَعْضَ أَسْبَاب الكَفَّارات من الشَّخْصِ، وَهُوَ عَاجِزٌ عن جميع خِصَالِهَا، ثم قدر فعليه أن يُكَفِّر؛ لأن الَوُجُوبَ قد ثبت ثُمَّ والَأداء موقوف على القدرة، وفيه خلاف يذكر في موضعه. وقوله: (فلو أَيْسَرَ بَعْدَ الْهِلاَلِ) هذا التَّصْوِير مُفَرَّعٌ على قولنا أن وقت الوجوب الاستهلال، وقد سبق لَهُ نَظِير. وقوله: (لم يتجدد الوجوب) فيه ضرب من التَّوَسُّعِ، إذ لم يكن في الابتداء وجوب، حتى يفرض تَجَدّده، أو عَدَم تجدده والمراد منه لم يثبت الوجوب، وليكن مُعَلَّماً بالميم؛ لأن القاضي الرَوَيانِي، وصاحب "البيان" رويا عن مَالِك أنه إن أيْسر يوم الفطر، وجب عليه الفِطْرة. وقوله: (بخلاف الكفارات) أي: على ظاهر المَذْهَب، وهو أن الوجوب ثَابِت إذا قدر بعد الْعَجْزِ عَنْ جَمِيعِ الخِصَالِ، وإلاَّ فَهُمَا مُتَّفِقَانِ فِي الْحُكْمِ. قال الغزالي: وَلَوْ كَانَ الفَاضِلُ نِصْفَ صَاع وَجَبَ إِخْرَاحُهُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الفَاضِلُ صاعاً وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ وَأَقَارِبُهُ أَخْرَجَ عَنْ نَفْسِهِ عَلَى الأَصَحِّ، وَقِيلَ: عَنْ زَوْجَتِهِ لِأنَّ فِطْرَتَهَا دَيْنٌ وَالدَّيْنُ يَمْنَعُ وُجُوبَ هَذِهِ الزَّكَاةِ، وَقِيلَ: يَتَخَيَّرُ إِنْ شَاءَ أَخْرَجَ عَنْ وَاحِدٍ وَإِنْ شَاءَ وَزَّعَ، وَقِيلَ: لاَ يَجُوزُ التَّوْزِيعُ وَلَكِنْ يُخْرِجُ عَمَّنْ شَاءَ، وَلَوْ كَانَ الفَاضِلُ صَاعاً وَلَهُ عَبْدٌ أَخْرَجَ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَلْ يَلزَمه بَيْعُ جُزْءٍ مِنَ العَبْدِ فِي زَكَاةِ نَفْسِ العَبْدِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ، وَلَو فَضُلَ صَاعٌ عَنْ زَكاتِهِ وَنَفَقَتِهِ وَلَهُ أَقَارِبُ قَدَّمَ مَنْ يُقَدِّمُ نَفَقَتَهُ، فَإِنْ اسْتَوَوا فَيَتَخَيَّرُ أَوْ يُقَسِّطُ فِيهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: في الفصل فروع: أحدها: لو فضل معه عما لا يجب عليه بعض صَاعٍ من نصف وثلث وغيرهما فهل يلزمه إخراجه؟ فيه وجهان مَرْوِيَّانِ عن أبي إِسْحَاق: أحدهما: لا، كما إذا لم يجد إِلاَّ نِصْفَ رَقَبَةٍ، لا يجب إعتاقه في الكُفَّارة، وكذا لو لم يقدر إلاَّ على إطعام خَمْسَة مَسَاكِين، أو كسوتهم. وأصحهما: نعم؛ محافظةً على الواجب بقدر الإمكان، ويخالف الكفارة من وجهين: أحدهما: أن الكَفَّارة لا تتبعض؛ والفِطْرَة تتبعض في الجملة، ألا ترى أنه لو مَلَكَ نِصْفَ عَبْدٍ يَلْزَمِه نِصْفُ صَاعٍ.
والثاني: أن الكفارة لها بدل والفِطْرة لاَ بَدَلَ لَهَا، فصار كما لَوْ وَجَدَ مَا يَسْتُرُ بِهِ بَعْضَ العَوْرَة يلزمه التَسَتَّر بِهِ حتى لو انتهى في الكَفَّارة إلى المرتبة الأخيرة، وهي الإطعام، ولم يجد إطعام ثَلاَثين. قال الإمام: يتعين عندي إطعامهم قَطْعاً. والثاني: لو فضل صاع وهو يحتاج إلى إخراج فِطْرة نَفْسِهِ، وله زوجة وأقارب ففيه وجوه: أصحها: أنه يلزمه تقديم نفسه، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ابْدَأ بِنَفْسِكَ، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ" (¬1). والثاني: أنه يلزمه تَقْديم زوجتهِ، لتأكد حَقِّها، وثبوتِهِ بالعِوَض، ولهذا تستقر نفقتها في الذِّمَّة بخلاف نَفَقة غيرها. واحتج في الكتاب لهذا الوجه بأن فِطْرَتَها دَيْنٌ، والدَّيْنُ يمنع وجوب هذه الزَّكَاة، أما كَوْنُه الدَّين مَانِعاً لهذه الزَّكاة. فوجهه: ما سبق في الفَصْلِ الَّذِي قبل هذا. وأما المُقَدِّمة الأولى، فَلِصَاحِب الوَجْهِ الأَوَّلِ أن يقول إن ادعيت أن فطرتها دين، والحالة هذه فهو مَمْنُوع بل عِنْدِي لا يُلْزَم فِطْرَتَها، إِلاَّ إِذَا فضل عن فطرة نَفْسِهِ شيء، وإن لم يَتعرض فهذه الحالة، فكما أن فطرتها دين في الجملة، ففطرة نفسه وأقاربه دين في الجُمْلة، فلم تمنع فِطْرتها وجوبَ فِطْرَةِ غَيْرِهَا، ولا ينعكس. والثالث: أنه يَتَخَيَّر إِنْ شاء أخرج عَنْ نَفْسِهِ، وإن شاء أخرج عَنْ غَيْرِهِ لاستواء الكُلِّ في الوجوب، ويحتج لهذا الوجه بقوله في "المختصر": "فإن لم يكن عنه بعض القوت ليوم إلاَّ ما يؤدي عن بعضهم أدى عن بعضهم"، أطلق الأداء عن البعض إِطْلاَقاً، وهذا الوجه أرجح عند القَاضِي الرّويَانِي، وإذا قلنا: به فلو أراد أن يوزع الصَّاع، هل له ذلك؟ نقل في "النهاية" فيه وجهين: وجه الجواز؛ صيانةً للبعض عن الحرمان، ووجه المنع، وهو الأصح نقصان المخرج عن قدر الوَاجِب في حَقِّ الكُلِّ، مع أنه لا ضرورة إليه، والوَجْهَان عَلَى قَوْلِنَا أن من لم يجد إلاَّ بعضَ صَاعٍ يلزمه إِخْرَاجُهُ، فَإِنْ لم يلزمه لم يجز التوزيع جَزْماً، وأورد المَسْعُودي وَجْهَ التَّوْزِيع إيراداً يُشْعِر بأنه يتعين ذلك، محافظةً على الجوانب -والله أعلم-. الثالث: لو فضل صَاعٌ، وله عبد صَرَفَه إلَى نَفْسِهِ، وينظر في العبد، إن كان محتاجاً إلى خِدْمَتِهِ، فَهَل عليه أن يَبِيع جزءاً منه في فِطْرَتِهِ؟ فيه وجهان موجهان بطريقين: أحدهما: توجيه إلزام البيع بأنه مَبِيعٌ فِي الدَّيْنِ، فكذلك هاهنا بخلاف الكَفَّارة، ¬
فَإِنَّ لَهَا بَدَلاَ. وتوجيه الآخر بأن تكليفه إزالة الملك عنه مع أنه محتاج إليه إضرار به، وهذا ما أورده في "التهذيب". والثَّانِي: توجيه الإلْزَام بالقياس على سائر الأموال المَبيعة في الفِطْرة، وتوجيه الآخر بأن الفَاضِلَ ينبغي أَن يكون غير ما عنه يخرج، وهذا ما أَشار إِلَيْه الإمام، ويحسن أن يرتب فيقال: إن قلنا: الفطرة يجب أن تفضل عن عبد الخِدْمة فلا يباع شيء منه، وإن قلنا: لا يجب ذلك، فوجهان للمأخذ الثاني، وإن كان العبد مستغنى عنه جَرَى الخِلاَف بالنَّظر إلى المأخذ الثاني. وإذا وقع السُّؤالُ عن مطلق العبد حَصَل في الجواب ثلاثة أوجه، وهكذا أورد الإمام -رحمه الله-. ثالثها: الفرق بين عبد الخِدْمة، والعبد المستغنى عنه وهو الأظهر. وصوّر صاحب الكتاب المسألة في "الوسيط" فيما إذا كان العَبْد مُسْتغنى عنه، وربما أَوْهَم ذلك تقييد الخلاف به، ولا شَكَّ في أنه لا يتَقَيَّد، إِنَّمَا الكَلاَم في أنه هَلْ يُجْزِئ فيه؟ الرابع: لو فضل صَاعَان عَنْ قَدْرِ الحَاجَةِ، وفي نفقته جَمَاعة فَهَلْ يُقَدِّم نفسه بواحد أم يتخير؟ فيه وجهان لا يخفى خروجهما مما سبق، الأصح أنه يُقَدَّم نفسه، ثُمَّ فِي الصاَّعِ الثَّانِي، ينظر إن كان من في نفقته أقارب، فيقدم منهم من يُقدم في النفقة، والقول في مراتبهم خلافاً ووفاقاً موضعه "كِتَابُ النَّفَقَاتِ" فإن استووا فيتخير أم يُقَسِّط؟ فيه وجهان وتوجيههما مَا سَبَقَ، ويتأيد وجه التَّقْسِيط بِالنَّفَقَة، فَإِنَّهَا تُوَزَّع فِي مثل هَذِه الحَالَةِ، ولم يَتَعَرَضُوا لِلإقْرَاعِ هاهنا، وله مجال في نظائره (¬1). وقوله في الكتاب: (ولو فضل صَاعٍ عن زكاته ونفقته) أي: ونفقة من في نَفَقته، وأراد ما إذا فَصل صَاعَانِ على مَا أَوْضَحْنَاه لكن فرع في التَّصْوِيرِ عَلَى الأَصَحِّ، وهو أنه يقدم نَفْسِهِ بِصَاعٍ، فإن اجتمعت الزوجة مع الأقارب ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: تقديم القَرِيب؛ لأن عُلْقَتَهُ لاَ تَنْقَطِعُ، وَعُلْقَه الزوجية يعرض لها الانقطاع، ويحكى هذا عن ابن أبي هريرة -رحمه الله-. وأصَحُّهُمَا: تقديم الزَّوْجَةِ: لأن نفقتها آكد ألا ترى أنها لا تَسْقُطُ بِمضِيِّ الزَّمَانِ. وثالثها: التخير، وعلى الأَصَحِّ فلو فضل صَاعُ ثَالِثٌ، فإخراجه عن أقاربه على مَا سَبَقَ فِيمَا إِذَا تَمَحَّضُوا، وظاهر المذهب من الخِلاَف الذي ذَكَرْنَاه، وبما أَخَّرْنَاه إلى النفقات أنه يقدم نفسه، ثم زوجته، ثم ولده الصَّغير، ثم الأب، ثم الأم، ثم ولده الكبير، -والله أعلم-. ¬
قال الغزالي: (الطَّرَف الثَّالِثُ) فِي الوَاجِبِ وَهُوَ صَاعٌ مِمَّا يُقْتَاتُ، وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ (ح) وَالْمُدُّ رَطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْبَغْدَادِيِّ. قال الرافعي: الواجب في الفطرة من كُلِّ جنْسٍ يخرجُه صَاعٌ، وبه قالَ مَالِك وأحمدُ خلافاً لأبي حنيفة -رحمهم الله- إذ قال: "يكفي من الحنطة نصف صاع"، وعنه: في الزبيب روايتان. لنا: ما روي عن أبي سَعِيدٍ الخدريّ -رضي الله عنه- قال: "كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ، إذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، صَاعاً مِنْ طَعَام، أَوْ صَاعاً مِنْ تَمرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرِ، أوْ صَاعاً مِنْ زَبيبٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ أقِطٍ، فَلاَ أزَالُ أُخْرِجُهُ، كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ مَا عِشْتُ" (¬1). والصَّاع أربعة أَمْدَاد، والمُدَّ رَطلٌ وَثُلُثٌ فيكون الصَّاع بالأرطال خمسةً وثلثاً. وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: الصاع ثمانية أرطال، أربعة أمداد. لنا: نقل أهل المدينة خلفاً عن سَلَفٍ، ولمالك مع أبي يوسف -رحمهما الله- فيه قصَّة مشهورة (¬2)، وجملة الصَّاعِ بالوزن ستمائة دِرْهم، وثلاثة وتسعونُ درهماً وثلث درهم (¬3)، قال ابن الصَّبَّاغِ وغيره: والأصل فيه الكَيْل، وإنما قدره العلماء بالوزن استظهاراً (¬4). وقوله في الكتاب: (مما يقتات) غير مجرى على ظَاهِرة، لا في شمول الحكم لكل مقتات، ولا في قصره عليه، أما الأول فلان الأقوات النَّادِرَة كالغث وحَبِّ الحَنْظَل وغيرهما لا يجري نص عليه، وقد بين في الكتاب ذَلِكَ بقوله من بعد: "والقوت كل ما يجب فيه العُشْر" أي: معنى بالقوت هاهنا ذلك، وأما الثَّاني فلما سَيَأْتي في الأقط، ويجوز إعلام قوله: (مما يقتات) بالواو لما سيأتي. ¬
قال الغزالي: وَالقُوتُ كُلُّ مَا يَجِبُ فِيهِ العُشْرُ، وَفي الأَقِطِ قَوْلاَنِ لِلتَّردُّدِ فِي صِحَّة حَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ، فَإِنْ صَحَّ فاللبن وَالجُبْنُ فِي مَعْنَاهُ دُونَ المَخِيض وَالسَّمْنُ، ثُمَّ لاَ يُجْزِئُ المُسَوِّسُ وَالمَعِيبُ وَلاَ الدَّقيقُ، فَإنَّهُ بَدَلٌ، وَقِيلَ: إنَّهُ أَصْلٌ. قال الرافعي: غرض الفصل الكلام في جنس المخرج، والذي سبق كان في قدره، وكل ما يجب فيه العشر فهو صَالِحٌ لإخراج الفِطْرَة منه، فمن أنواعه ما هو مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ في الخبر، ومنها ما هو مقيس عليه، وذكر الموفق ابْنُ طَاهِر أن صاحب "الإفصاح"، حكى عن القَدِيم قولاً أنه لا يجزئ إخراج العَدَسِ والحُمّصِ فِي الفِطْرَةِ؛ لأنهما أدمان، والمذهب الأول، وفي الأقط طريقان: أظهرهما -وهو المذكور في الكتاب-: أنه على قولين: أحدهما: أنه لا يجوز إخراجه؛ لأنه إما غير مُقْتَاتٍ، أو مُقْتَاتٍ لاَ عُشْرَ فِيهِ، فأشبه الفث، وما إذا اقتاتوا ثمرة لا عُشْرَ فِيهَا، وبهذا قَالَ أبو حَنِيفة إلا أن يخرجه بدلاً بالقيمة. والثاني -وبه قال مَالِكٌ وأحمد -رحمهما الله-: يجوز؛ لحديث أبي سعيد (¬1) وكلام الإمام يقْتَضِي تَرْجِيح القول الأَوَّلِ، وصغو الأكثرين إلى ترجيح الثَّانِي، ويحكى ذلك عنَ القاضي أَبِي حَامِدٍ، وبه أجاب مَنْصُورُ التَّمِيمِيّ في المُسْتَعْمَل. والطريق الثَّاني -وبه قال أبو إسحاق-: القطع بالجواز، وإنما علق القول فيه حين لم يصح الخبر عنده، فلما صَحَّ جزم (¬2) به، فإن جوزنا فقد ذَكَر في الْكِتَاب أن الجبن واللبن في معناه، وهذا أظهر الوَجْهَيْن، وفيه وجه أن الإخراج منهما لا يجزئ؛ لأن الخبر لم يرد بهما، ويشبه أن يكون هذا الخلاف جارياً في إخراج من قوته الأقط واللبن والجبن لما بينهما من التَّقَارب، كأنهما جنس واحد، وفي إخراج من قوته اللبن اللبن. أما الأول: فلأن أصحابنا العراقيين حكوا عن القاضي أَبِي الطَّيِّبِ جواز إخراج اللبن مع وجود الأقط؛ لأنه يَصْلُح للأقط وغيره. ¬
وعن الشَّيْخ أَبِي حَامِدٍ: أنه لا يجزئ اللَّبن مع وجود الأقط؛ لأنه يصلح للادخار واللبن لا يصلح لَه، ففرض الخلاف في حالة وجود الأقط يَدُلُّ على ما ذَكَرْنَاه. أما الثاني: فلأن صاحب "التهذيب" حكى في الدين قوتهم اللبن أنَّ في إخراجهم اللّبن وجهين على قولنا يَجُوزُ إخراج الأَقَط، واتفقوا عى أن أخراج المخيض والمصل والسمن لا يجزئ؛ لأن الاقتيات إنما يحصل عند اجتماع جزئي اللّبن، وهذه الأشياء لا تصلح للاقتيات، حتى لو كان الجبن منزوع الزبد لم يكن مجزئاً أيضاً. ثُمَّ في الفَصْلِ مَسْألتان: إحداهما: لا يجزئ المسوس والمَعِيب (¬1) من هذه الأجناس كما لا يجزئ المعيب في سَائِر الزَّكَوَاتِ وإذا جَوَّزْنَا الأقط لم يجز أخراج المملح الذي أفسد كثرةُ الملح جَوْهَرَهِ؛ لأنه معيب وإن لم يفسد جوهره لكن كان الملحُ ظَاهِراً عليه فالملح غير محسوب، والشرط أن يخرج قدر ما يكون محض الأقط منه صاعاً. ويجزئ الحب القديم وإن قَلَّت قيمته بسبب القدم إذا لم يتغير طَعْمُه وَلَوْنُه. الثَّانية: لا يجزئ الدَّقيق ولا السويق (¬2) ولا الخبز؛ لأن النص ورد بالحب وأنه يصلح لما لا تصلح له هذه الأشياء، فوجب اتباع مورد النص، ولهذا منعنا إخراج القيمة. وقال الأَنْمَاطِيُّ (¬3): يجزئ الدقيق. قال ابْنُ عَبْدَانَ: ويقتضي قوله إجزاء السَّويق، وقياسه تجويز الخبز أيضاً، قال: وهذا هو الصَّحِيح؛ لأن المقصود إشباع المساكين في هذا اليوم. لنتكلم فيما يتعلق بلفظ الكتاب خَاصَّة. قوله: (والقوت كل ما يجب فيه العشر) ليس المراد منه أن القوت هذا على الإطلاق؛ فإن لفظ القوت يقع على غيره، ألا ترى أن الشَّافِعِيَّ -رضي الله عنه- سمى ¬
القَثَّ قوتاً وإن لم يجب فيه العشر، وإنما المراد منه أن لفظ القوت إذا استعملناه في هذا الباب عنينا به ما يجب فيه العشر، ثم نظم الكتاب يقتضي حَصْرَ الإجزاء فيما يجب في العشر؛ لأنه قال: "الواجب صاع مما يقتات"، ثم قال: "والقوت ما يجب فيه العُشْر"، وإنما يثبت الحضر إذا لم يحكمن بأجزاء الأقط، وهو الأظهر عند الإمام، فلعَلَّ حجة الإسلام -رحمه الله- نجا نحوه، لكن صغو الأكثرين إلى إجزائه كما بَيَّنَاه. وقوله: (في الأقط قولان) مُعَلَّم بالواو للطريقة المعزية إلى أبي إسحاق. وقوله: (للتردد في صحة حديث ورد فيه) أراد فيه ما ذكره الإمام أنه روى في بعض الرويات "أَوْ صَاعاً مِنْ أقط" وليست هذه الرواية على الحد المرتضى عند الشافعي -رضي الله عنه- وليست على حَدّ التزييف عنده فتردد لذلك قوله. وقوله: (فإن صح فاللبن والجبن في معناه) أي: في ثبوت حكم الإجزاء وإلا فمطلق كونه في معناه غير مشروط بالصِّحَّة؛ بل إن صح فيشتركان في الإجزاء وإن لم يصح ففي عدم الإجزاء ثم هو مُعَلَّمٌ بالواو لما سبق. وقوله: (ولا الدقيق) بالحاء والألف، وكذا قوله: (أنه بدل) فإن عندهما هو مجزئ، وهو أصل وأشار بقوله: (فإنه بدل) إلى أن الأبدال غير مجزئه في الزكاة على أصلنا، وهذا من جملتها؛ لأنه غير المنصوص عليه. وقوله: (وقيل: إنه أصل) هو الذي حكيناه عن الأَنْمَاطِيّ، ونقل الإمام الخلاف في الدَّقيق، قولين عن رواية العراقيين، وذكر أنه مأخوذ من الأقط المضاف إلى اللبن. قال الغزالي: ثُمَّ يَتَعَيَّنُ مِنَ الأَقْوَاتِ القُوتُ الغَالِبُ يَومَ الفِطْرِ فِي قَوْلٍ، وَجِنْسُ قُوتِهِ عَلَى الخُصُوصِ فِي قَوُلٍ، وَقِيلَ: يَتَخَيَّرُ فِي الأَقْوَاتِ، وَإذَا تَعَيَّنَ فَلَوْ أَبْدَلَ بالأَشْرَفِ، جَازَ كَإبْدَالِ الشَّعِيرِ بِالبُرِّ، وَلَوْ كَانَ اللاَّئِقُ بِحَالِهِ الشَّعِيرُ فَأَكَلَ البُرَّ أَوْ بِالْعَكْسِ جَازَ أَخْذُ مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ، وَلَوِ اخْتَلَفَ قُوتُ مَالِكِي عَبْدٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ بِاخْتِلاَفِ النَّوْعَيْنِ بَأْسٌ، وَقِبيلِ: يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الأرْدِ مُوَافَقَةُ صَاحِبِ الأَشْرَفِ حَذَراً مِنَ التَّنْوِيعِ. قال الرافعي: هل يتخير مخرج الفطرة بين الأجناس المجزئة؟ قال العراقيون والشيخ أبُو عَلِيّ: فيه وجهان: وقال المَسْعُودِي وطائفة: قولان: أحدهما: أنه يتخير؛ لظاهر قوله في الخَبَر: "صَاعاً مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ" (¬1) ¬
وبهذا قال أبو حنيفة -رحمه الله-، وهو الأَصَحُّ عند القاضي الطَّبري فيما حكى القاضي الرَّوَياني. وأصحهما: عند الجمهور: أنه لا يتخير، وكلمة (أو) محمولة على بيان الأنواع، كما في قوله تعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ} (¬1) فإنه ليس للتخير، وإنما هو لبيان أنواع العقوبة المختلفة بحسب اختلاف الجريمة، وعلى هذا فوجهان: أصحهما -وبه. قال ابن سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاق-: أن المعتبر غالب قوت البلد، فإن كان بالحجاز أَخْرَج التمر، وإن كان ببلاد العراق، أو خراسان فالحنطة، وإن كان بطبرستان أو جيلان فالأرز، ووجهه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اغْنُوهُم عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ" (¬2) ولو صرف إليه غير القوت الغالب لما كان مغني عن الطَّلَبِ، فإنَ الظاهر أنه يطَلب القوت الغالب في البلد، وبهذا قال مالك. والوجه الثاني: وبه قال أَبُو عُبَيْد بنُ حَرْبَوَيْهِ: أن المعتبر قوته على الخُصُوصِ، كما أن في الزكاة يعتبر نوع ماله لا الغالب. قال ابْنُ عَبْدَان: وهذا هو الصَّحِيح عِنْدِي. ويتعلق بهذا الاختلاف فروع: أحدها: إذا تَعَيَّن جنس إما لكونه غَالِبَ قُوتِ البلد، أو لكونه غَالِبَ قُوتِه، فليس المراد منه أنه لا يجوز العُدول عنه بحال، بل المراد أنه لا يجوز العُدُول عنه إلى ما هو أدنى منه، أما لو عدل إلى الأَعْلَى فَهُوَ جَائِز بالاتفاق. فإن قيل: إذا عيّنا جنساً فَهَلاً امتنع العدول إلى غيره، وإن كان أعلا: كما أن الفِضَّة إِذَا تعينت في الزكاة امتنع العدولُ إلى الذَّهَب، وكذلك يمتنع العدولُ من الغَنَمِ إلى الإبِلِ، فيجوز أن يقال في الجواب: الزَّكَوَات الَمالِيَّةُ مُتَعَلِّقَة بالمال فأمر بأنه واسى الفقير مما واساه الله تعالى، والفطرة زكاة البدن فوقع النظر فيها إلى ما هو غذاء البَدَنِ، وبه قوامه والأقوات متشاركة في هذا الغَرَضِ، وتعيين شيء منها رفق وترفيه، فإذا عدل إلى الأعلى كاْن في غَرَضِ هَذِهِ الزَّكاة كما لو أخرج كرَائِمَ ماشيته. وفيما يعتبر به الأدنى ولأعلى؟ وجهان: أحدهما: أن النظر إلى القيمة [لأن] (¬3) ما كان أكثر قيمة، كان أرفق بالمَسَاكين وأشق على المالك، وبهذا قَالَ أحمد فيما حكاه القَاضِي الرّويَاني. وأظهرهما: أن النظر إلى زيادة صَلاَحية الاقتيات فعلى الأول يختلف الحالُ باخْتِلاَف البِلاَدِ وَالأَوْقَاتِ إلا أن يعتبر زِيادة القيمة في الأكثر، وعلى الثَّاني البرُّ خَيْرٌ مِنَ التَّمْرِ والأرز، ورجح في "التهذيب" الشَّعِير أيضاً على التَّمْرِ، وعن الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ - ¬
رحمه الله-: أن التمر خير منه، وله في الزبيب والشَّعير، وفي التمر، والزَّبيب تردد. قال الإمام والأشبه تقديم التَّمْرِ على الزبيب. الثاني: إذا قلنا إن المعتبر قوت كل شخص بنفسه وكان يليق بحاله البر وهو يقتات الشِّعِير بُخْلاً لَزِمَهُ البُرُّ. ولو كان يليق بحاله الشعير لكنه كان يتنعم باقتيات البُر، فهل يجزئه الشَّعِير؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ نظراً إلى عادته. وأصحهما: نعم؛ نظراً إلى اللائق بأمثاله، ويشبه أن يرجع هذا الخلاف إلى اختلاف عبارتين للأصحاب في حكاية وجه ابن حَرْبَوَيهِ، فحكي بعضهم أن المعتبر قوت الشخص في نفسه. وحكى آخرون أن المعتبر القوت اللائق بأمثاله، فعلى الثانية يجزئ الشعير، وعلى الأولى لا يجزئ. والثانية: هي التي أوردها الصيدلاني وجمع صاحب "التهذيب" بينهما ورجح الثانية. الثالث: قد يخرج الواحد الفطرة عن شخصين من جنسين فيجزئه كما إذا أخرج عن أحد عبدَيْه أو قريبية من غلب قوت البلد، إن اعتبرناه أو من غالب قوته إن اعتبرناه، وعن الآخر من جنس أعلى منه، وكذا لو ملك نِصْفَيْنِ مِنْ عَبْدَيْنِ فأخرج نصف صَاعٍ عن أحد النِّصْفَين من الواجب، ونصفاً عن الثَّاني من جنس أعلى منه، وإذا خَبَّرنا بين الأجناس فله إخراجهما من جنسين بِكُلِّ حَالٍ. ولا يجوز أن يخرج الواحد عن الواحد الفِطْرَة مِنْ جِنْسَيْنِ وإن كان أحدهما أعلى من الواجب كما إذا وَجب الشَّعير فأخرج نِصْفَ صَاعٍ منه ونصفاً من الحنطة، ورأيت لبعض المتأخرين تجويزه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد. لنا: ظاهر الحديث: "فَرَضَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ" (¬1) وإذا بعض لم يخرج صاعاً من تمر، ولا صاعاً من شعير، وأيضاً فإنها واجب واحد فلا يجوز تَبْعيضه، كما لا يجوز في كَفَّارة اليمين أن يُطْعِمَ خَمْسَةَ، ويكسو خَمْسة. ولو ملك رجلانِ عَبْدًا فإن خيرنا بين الأجناس أخرجَا ما شاء بشرط اتحاد الجنس، وإن أوجبنا غالب قوت البلد وكانا في بلد واحدٍ أخرجا من ذلك بحسب الملك صاعاً منه، هكذا أطلقوه، وهو محمول على ما إذا كان العَبْدُ عندهما أيضاً؛ لأنه إذا كان غائباً وجب النظر في أن الفطرة تجب على السَّيد ابتداء أم هو متحمل لما سنرويه عن الشَّيْخِ أَبِي عَلِيّ، ولأن صاحب "المهذب" حكى أنه لو كان له عبد غائب، وقوت ¬
بلده يخالف قوت بلد العبد فالواجب قوت بلده أو قوت بلد العبد، يخرج على الأصل المذكور، وإن كان السَّيِّدانِ في بلدين مختلفي القوت، اعتبرنا قوت الشَّخص بنفسه واختلف قوتهما ففيه وجهان: أظهرهما -وبه قال أبو إسحاق وابن الحداد-: أنه يجوز أن يخرج كل واحد منهما قدر ما يلزمه من قوته أو قوت بلده؛ لأنهما إذا أخرجا هذا أخرج كُلُّ واحد منهما جميع ما لزمه من جنس واحد، وشبه ذلك بما إذا قتل ثلاثة من المُحْرِمين ظبية، فذبح أحدهم ثلث شاة وأطعم الثَّاني بقيمة ثلث شاة وصام الثَّالث عدل ذلك يجزئهم. والثاني -وبه قال ابن سريج-: لا يجوز ذلك؛ لأن المخرج عنه واحد فلا يتبعض واجبه على هذا فوجهان: أحدهما: وهو الذي أورده الإمام والمصنف-: أن على صاحب الارداء موافقة صاحب الإشراف احترازاً من التفريق، ومحافظة على جانب المساكين. والثاني: أن صاحب الإشراف ينزل ويوافق صاحب الإرداء دفعاً للضرر عنه، وهذا حَكَاه القَاضِي الرّويَانِي وغيره، عن ابن سُرَيْجٍ. قال الشَّيْخُ أَبُو عَلِيِّ: الوجهان عندي في الأَصْلِ مُخَرَّجَان على أن فِطْرَة العَبْدِ تَجِبُ عَلى السَّيِّدِ ابتداءً أو هو متحمل؟ إن قلنا بالأول جاز التبعيض، وإن قلنا بالثَّاني فلا؛ لأن العبد واحد لا يلزمه الفِطرة من جنسين، والشيء لا يتحمل ضَماناً إلا كما وجب. ذكر الشَّيْخُ هَذَا فيما إذا اعتبرنا قوت الشَّخص في نفسه، واختلف قوتهما ولقائس أن يخرج الوجهين فيما إذا اعتبرنا قوت البلد وكانا مختلفي القوت على هذا الأصل أيضاً، ثم إن كان العبد في بلدِ أحدِهِمَا فعلى التقدير الثاني يلزمهما صاعٌ من قوتِ ذلك البلد وإن كانَا في بلدِ ثالث يلزمهما صاعٌ من قوت ذلك البلد الثالث، وهذا وجه قد رواه صاحب "الشامل" وآخرون مُرْسَلاً، قالوا: يخرجان صاعاً من قوت بَلَدِ العَبْدِ ولو كان الأب فِي نفقة ولدين فالقول في إخراجهما الفطرة عنه كالقول في السَّيدين، وكذا من نَصْفُهُ حر وَنِصْفُه رقيق إذا أوجبنا عليه نصف الفِطْرة على التَّفْصِيل الَّذِي سبق فيه، فعند ابن الحَدَّادِ يَجُوز أنْ يُخْرِجَا مِنْ جنسين، وعند ابْنِ سُرَيجٍ: لا يجوز. الرابع: إن أوجبنا غالب قوت البلد، وكانوا يقتاتون أصنافاً مختلفة وليس بعضها أغلب من بعض فله أن يخرج ما شاء، والأفضل أن يخرج من الأشرف. ونعود بعد هذا إلى ما يتعلق بلفظ الكتاب: أما قوله: (ثم يتعين من الأقوات القوتُ الغالبُ) معلم بالحاء. وقوله: (وجنس قوته) بالحاء والميم. وقوله: (يتخير) بالميم؛ لما رويناه.
ويجوز إعلامها جميعاً بالألف، وكذا إعلام قوله قبل هذا الفصل: (مما يقتات) لأن ابن الصَّبَّاغِ روى عن أحمد أنه لا يجوز أن يخرج إلا من الأجناس الخمسة المنصوص عليها أي: في حديث أَبِي سَعِيدٍ. وقوله: (القوت الغالب يوم الفطر) التقييد بـ (يوم الفطر) لم أظفر له في كلام غيره، وبين لفظه هاهنا، ولفظه في "الوسيط" بعض المباينة؛ لأنه قال فيه: (المعتبر: غالب قوت البلد، في وقت وجوب الفطرة لا في جميع السنة). وقوله: (وجنس قوته على الخصوص) ظاهره يشعر بالعبارة الأولى من العبارتين الحَاكيتين لوجوه ابن حَرْبَوَيِه، وتسمية الأول والثاني قولين لا تكاد توجد لغيره، وإنما حَكَاهُمَا الجُمْهُور وَجْهَيْنِ: وأما قوله: (وقيل: يتخير) فمنهم من حكاه قولاً على ما سبق. وقوله: (ولو كان اللائق بحالة الشعير) يفرع على اعتبار قوت الشخص دون اعتبار القوت الغالب وإن كان معطوفاً على ما يتفرع عليهما جميعاً. وقوله: (أخذ ما يليق بحاله) يجوز إعلامه بالوَاوِ لأن أحد الوجهين في الصورة الأولى أنه يتعين إخراج البر. وقوله: (ولو اختلف قوت مالكي عبد) تفريع للمسألة على اعتبار قوت الشَّخص، وهو صحيح، لكنها لا تختص، بل تتفرع على أن المعتبر غالب قوت البلد أيضاً على الوجه الذي تقدَّم، وإطلاق النوع في المسألة تَوَسُّعٌ والمراد الجنس. خاتمة: في باب الفطرة مسائل ذات وقع منصوص عليها في "المختصر" أهملها المصنف، ونحن لم نُؤْثِر الإعراضَ عَنْهَا: إحداها: إذا باع عبدًا بشرط الخِيَار فوقع وقت الوُجوب في زَمَان الخِيَار، إن قلنا: الملك في زَمَانِ الخِيَار للبائع فعليه فِطْرَته وإن أمضى البيع. وإن قلنا: إنه للمشتري فعليه فطرته وإن فسخ البيع، وإن توقفنا فإن تم البيع فعلى المشتري، وإلا فعلى البَائِع. وإن تبايعا ووقع وقت الوجوب في مجلس الخيار، كان كما لو وقع في زمان الخيار المشروط. الثانية: لو مات عن رقيق ثُمَّ أَهَلَّ شَوَّالُ، فإن لم يكن عليه دَيْنٌ أخرج ورثته الفِطْرَة عن الرَّقِيق، كُلٌّ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، وإن كان عَلَيْهِ دَيْنٌ يستغرق الترّكَةَ، فالذي نقله المزني أن عليهم الفطرة من غير فَرْقٍ بين أن يُبَاع فِي الدَّينِ أو لاَ يُبَاع. وعن الربيع عن الشافعي -رضي الله عنه- أن عليهم إِخْرَاج الفِطْرة إن بقي الرقيق لهم فجعلوا المسألة على قولين إذا بِيعَ فِي الدَّيْنِ.
وَجْهُ الوجوب أنه ملكهم إلا أنه غير مستقر، وذلك لا يمنع وجوب الفِطْرة فَإنَّهَا تجب مع انتفاء الملك أصلاً وَرَأساً فأولى أن تجب مع ضَعْفِ المِلْكِ. ووجه المنع أن إيجاب الفِطْرَة مع نقصان الملك وكونه بَعرض الزَّوال إجْحَاف بهم، وبنى الأكثرون المسألة أولاً على أصل، وهو أن الدَّيْنَ هل يمنع انتفاء الملك في التركة إلى الورثة؟ فظاهر المذهب، وهو نصّه هاهنا أنه لا يمنع؛ لأنه ليس فيه أكْثَرُ مِنْ تعلق الدَّيْنِ بِهِ، وذلك لا يمنع المِلْك كَمَا في المَرْهُونِ والعَبْدِ الجَانِي، وقال الإصطخري يمنع، وربما جَعَلَ هَذَا قولاً ضَعِيفاً لِلشَّافعي -رضي الله عنه- ووجهه أن الله تعالى جَدُّه قَدَّمَ الدَّيْنَ عَلَى المِيرَاثِ حيث قال: "مَنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ" (¬1). فإن قلنا بالأول فعليهم فِطْرَتُه بِيعَ فِي الدَّيْنِ أو لم يُبَع، وفهمت من كلام الإمام أنه يجئ فيه الخلاف المذكور في المَرْهُون والمَغْصُوب، وإن قلنا بالثاني، فإن بيعَ في الدَّيْنِ فلا شَيْءٍ عليه، وإلا فَعَلَيْهِمْ الفِطْرَة وفي "الشامل" حكاية وجه مطلق أنه لا شيء عليهم، ويشبه أن يكون مأخذهما ما حكاه الإمام أن أكثر المفرعين على المَذْهَب المنسوب إلى الإصطخري يقولون بالتوقف، إِنْ صُرِف العَبْدُ إلى الدّين بَانَ أنهم لَمْ يَمْلِكُوهَا، وإن أبرأ أصْحَاب الديون أو قضاها الورثة من غير التركة بَانَ أنهم مَلَكوها، وأن بعضهم قال بثبوت الملك للورثة عند زوال الدّيون ابتداء من غير إسناد وتبين. وعن القاضي أبي الطيب: أن فطرته تجب في تركة السَّيد على أحد القولين كالعبد الموصى بخدمته. هذا إذا مات السيد قبل استهلال الهلال، وإن مات بعده ففطرة العبد واجبة عليه كفطرة نفسه، وتقدم على الوَصَايَا والمِيرَاث، وفي تقديمها على الدّيون طريقان: أظهرهما: أنه على ثلاثة أقوال على ما قَدَّمْنَاها في زَكَاة المَالِ. والثاني: القطع بتقديم الفطرة؛ لأنها متعلقة بالعبد واجبة بسببه فصار كأرش جنايته. وأما فطرة نفسه فهي على الأقوال، وحكى القَاضِي الرّويَانِي طريقة أخرى قاطعة بتقديم فطرة نفسه أيضاً لقلتها في الغَالِب، وسواء أثبتنا الخلاف أم لا، فالمنصوص عليه في "المختصر" تقديم الفِطْرَة على الدَّيْنِ، وذلك أنه قال ولو مات بعد ما أهل شوال، وله رقيق فزكاة الفطر عنه وعنهم في ماله مبداة على الديون ولك أن تحتج بهذا النص على خلاف ما قاله الإمام، وتابعه المصنف؛ لأن سياقه يفهم أن المراد ما إذا طرأت الفطرة على الدَّيْنِ الوَاجِب، وإذا كان كَذَلِكَ لم يكن الدَّيْنُ مَانِعاً مِنْهَا، وبتقدير ألا يكون هو المراد لكن اللفظ مطلق يَشْمَل ما إذا طَرأت الفِطْرَة عَلَى الدَّيْنِ، وبالعكس، فاقتضى ذلك ألا يكون الدَّيْن مَانِعاً. ¬
الثالثة: أوصى لإنسان بعبد ومات المُوصِي بعد مضي وقت الوجوب فالفطرة في تَرِكَتِهِ، وإن مات قَبْلَهُ وَقَبِلَ المُوصَى لَهُ الوصية قَبْلَ الهِلاَلِ فالفطرة عليه، وإن لم يقبل حتى دَخَلَ وقت الوجوب فعلى من الفطرة؟ يبني على أن الموصي له متى يملك الوصية؟ من قلنا: يملكها بموت الموصي، فإن قَبِلَ فعليه الفِطْرَة بِلاَ شَكٍّ، وإن رد ففيه وجهان حكاهما الشَّيْخُ أبُو عَلِيٌ. أصحهما: الوجوب؛ لأنه كان مَالِكاً لِلْعبْدِ إلى أن رَدَّ. والثاني: لا؛ لعدم استقرار ملكه؛ وإن قلنا: إنها تُمْلَك بالقبول، فيبنى على أن المِلك قَبْلَ القبول لمن يكون؟ وفيه وجهان: أصحهما: أنه للورثة، فعلى هذا فَفِي الفِطْرَة وجهان: أصحهما: أنها عليهم. والثاني: لا؛ لأنا تبَيَّنَّا بالقبول أن ملكهم لم يستقر عليه. والوجه الثاني: أنه باقٍ على مِلْكِ المَيِّتِ، فعلى هذا لا تَجِبُ فِطْرَتُهُ على أحد؛ لأن إيجابَها عَلَى المَيِّتِ ابتداء بَعِيدٌ. وعند مالك، وفي "التهذيب" حكاية وجه آخر أنها تجب في تركته، وإن قلنا: بالتوقف فإن قبل فلعيه الفِطْرة، إلا فعلى الورثة؟ هذا كله إِذَا قَبِلَ المُوصَى لَهُ ولو مات قَبل القَبُول وبعد وقت الوُجوب فقبول وَارِثه يقوم مَقَامَ قَبُولِهِ، والملك يقع له، فحيث أوجبنا عليه الفِطْرة لو قبلها بنفسه فهي في تركته إذا قبل وَارِثهُ، فإن لم يكن له سوى العبد تركة ففي بيع جزء منه للفِطْرة ما سبق، ولو مات بعد وقت الوُجوب أو معه فالصدقة على الورثة إِذَا قَبِلُوا؛ لأن وقت الوجوب كان في مِلْك الوَرَثَةِ -والله أعلم-. واعلم أن حجة الإسْلام -رحمه الله- وإن أهمل هذه المسألة الثالثة في هذا الموضع إلا أنه أشار إليها إشارة خفيفة في آخر الباب الأولِ مِنْ "كِتَابِ الوَصَايَا" وَفِقْهُهَا على الاختصار ما أَتيتُ بِهِ (¬1) -والله أعلم-. ¬
كتاب الصيام
كِتَابُ الصِّيَامِ قال الغزالي: وَالنَّظَرُ فِي الصَّوْمِ وَالفِطْرِ (أَمَّا الصَّوْمُ) فَالنَّظَرُ فِي سَبَبِهِ وَرُكْنِهِ وَشَرْطِهِ وَسُنَنِهِ (أَمَّا السَّبَبُ) فَرُؤْيَةُ الهِلاَلِ وَيَثْبُتُ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ وَإِنْ كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةَ وَيَثْبُتُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ عَلَى قَوْلِ احْتِيَاطاً لِلْعِبَادَةِ بِخِلاَف هِلاَلِ شَوَّالٍ، وَيثْبُتُ بِمَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ عَلَى قَوْلٍ سُلُوكاً بِهِ مَسْلَكَ الأَخْبَارِ، فَإِنْ صُمْنَا بِقَوْلِ وَاحِدٍ وَلَمْ نَرَ هِلاَلَ شَوَّالٍ بَعْدَ ثَلاَثِينَ لَمْ نُفْطِر بِقَوْلهِ السَّابِقِ، وَقِبلَ: نَفْطِرُ لِأَنَّ الأخِيرَ يَثْبُتُ ضِمْنًا لِثُبُوتِ الأَوَّلِ لاَ قَصْداً بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ. قال الرافعي: قال الله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (¬1) الآيات، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ" (¬2) الحديث، وذكر للأعرابي الذي سأله عن الإسلام: "صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ فَقَالَ: لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ" (¬3). وقوله: في صدر الكتاب: (والنظر في الصوم والفطر) لم يعن به مطلق الصَّوْمِ والفِطْر، وإنما عني بهِ صَوْمَ رَمَضَان، والفطر الواقع فيه، ألا ترى أنه قال في آخر الكتاب: (أما صَوْمُ التطوع فكذا) أشار إلى أن ما سبق كلام في الصَّوم المفروض، وأيضاً فإنه قال: (والنظر في سببه) ومعلوم أن المذكور سَبَبُ صَوْمِ رَمَضَان لا سبب مطلق صَوْمِ الفَرْضِ وهو أعم منه، وهو الصوم. وأيضاً فإن القسم الثاني معقود في مبيحات الإفْطَار وموجباته، وهي مخصوصة ¬
بِصَوْمِ رَمَضَانَ، إلا أن معظم الكلام المذكور في نَظَرِي الركن، والشرط لا اختصاص له بصومَ رمضان، وكان الأحسن في الترتيب أن يبين صفة الصَّوْم مُطْلَقاً ثم يذكر رُكْنَيهِ وَشُرُوطَهُ ثم يتكلم فيما يخص كل واحد من نوعي الفرض والنفل. وفقه الفصل: أن صوم رمضان يجب بأحد أمرين: إما استكمال شعبان ثلاثين، أو رؤية الهلال؛ لما روى عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر رمضان فقال: "لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ" (¬1). أما استكمال شُعْبَان فظاهر. وأما رؤية الهِلاَل فالنَّاسُ ضربان: من رأى الهلالَ فيلزمه الصَّوْمُ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ" (¬2) ومن لم يَرَهُ فِيمَ تَثْبُتُ الرُّؤْيَةُ فِي حَقِّه؟ إن شهد عَدْلاَنِ تثبت، وإن شهد واحد فقولان: أحدهما -وبه قال مَالِك وهو رواية البويطي-: أنها لا تثبت؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلاَثِيْنَ يَومًا إِلاَّ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ" (¬3) ولأنه لا يحكم في هلال شَوَّال إلاَّ بقول عَدْلَيْن فكذلك في هِلاَلِ رَمَضَان. وأصحهما -وهو الذي نَصَّ عليه في أكثر كتبه، وبه قال أحمد في الرواية الصحيحة عنه-: أنها تَثْبُت؛ لما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن أعرابياً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنِّي رَأَيْتُ الْهِلاَلَ فَقَالَ أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهَ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أن مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَأذِّن فِي النَّاسِ يَا بلاَلُ فَلْيَصُومُوا غَداً" (¬4). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلاَلَ، فأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَام" (¬5). والمعنى فيه الاحتياط لأمر الصّومِ، قال عَلِي -رضي الله عنه-: "لأن أصومَ يَوْماً مِنْ شَعْبَانَ أَحَبَّ إِلَّيَ مِنْ أن أفطر يوماً مِنْ ¬
رَمَضان" (¬1). ونقل الشَّيخ أبو مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي إِسحَاقَ طريقةً قاطعة بقبول قول الواحد، والمشهور طريقة القولين: التفريع: إن قلنا: لا بد من اثنين فلا مدخل لِشَهادة النِّساء فيه، ولا اعتبار بقول العبيد، ولا بد من لفظ الشهادة، وتختص بِمَجْلس القَضَاء، لكنها شهادة حسبة (¬2) لا ارتباط لها بالدَّعاوي، كذلك حَكَاهُ الإمام. وإن قبلنا قول واحد فهل هو على طريق الشَّهَادة أم على طريق الرواية (¬3)؟ فيه وجهان: ¬
أصحهما: أنه شهادة إلا أن العَدَد سُومِحَ بِهِ، والبينات مختلفة المراتب. والثاني -وبه قال أبو إسحاق-: أنه رواية، لأن الشَّهادة ما يكون الشَّاهِد فيها بَرِيئاً، وهذا خبر عما يستوي فيه المخبر وغير المُخْبِرِ، فأشبه رواية الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. فعلى الأول لا يقبل فيه قَوْلُ المرأة والعَبْدِ، ويحكى ذلك عن نصه في "الأم"، وعلى الثاني يُقْبل. وهل يشترط لَفْظُ الشَّهادة (¬1)؟. قال الشَّيْخُ أَبُو عَلِيّ وَغَيْرُهُ: هو على الوجهين، ومنهم من قدر اشتراطه متفقاً عليه. واحتج به الوجه الأول، وهل يقبل قول الصّبي المميز الموثوق به على الوَجْهِ الثاني؟ قال الإمام فيه وجهان مبنيان على قبول رواية الصِّبيان، وجَزَمَ في "التهذيب" بعدم القبول مع حكاية الخلاف في روايته، وهو المشهور، وذكر الإمام وابن الصَّبَّاغ تفريعاً على الوَجْهِ الثَّانِي أنه إذا أخبره مَوْثُوقٌ بِهِ عن رؤية الهِلاَل لزم اتباع قوله وإن لمَ يذكر بين يدي القاضي. وقالت طائفة: يجب الصَّوْمُ بِذَلِكَ إذا اعتقد المخبَر صَادِقاً، ولم يفرعوه على شيء، ومن هؤلاء ابْنُ عَبْدَانَ وَصَاحِبُ "التهذيب" وكذلك ذكره المصنف في "الإحياء" -والله أعلم-. وعلى القولين جميعاً لا يقبل قول الفاسق، لكن إن اعتبرنا العدد اعتبرنا العَدَالَة البَاطِنَة، وهي التي يرجع فيها إلى أقوال المُزَكِّيين. ¬
وإن لم نعتبر العدد، ففي اعتبار العدالة الباطنة وجهان جَارِيان في قبول رواية المَسْتُور. قال الإمام: وأطلق بعض المصنفين الاكتفاء بالعَدَالَة الظَّاهِرَة، وهو بعيد. نعم، قد نقول يأمر القَاضِي بالصَّوْمِ بمظاهر العَدَالَة كَيْ لاَ يفوت الصَّوْمُ ثم نبحث بعد ذلك، ولا فرق على القولين بين أن تكون السَّمَاءُ مصحية أو متغيمة (¬1). وعند أبي حنيفة: يثبت هلالُ رمضانَ في الغَيْم بِوَاحِدِ وفي الصَّحْوِ يعتبر الاستفاضة والاشتهار، ويختلف ذلك باختلاف صِغَرِ الْبَلْدَةِ وَكِبَرِهَا. قال الرُّوَيانِي: وربما قالوا: يعتبر عدد "القسامة" خَمْسُون رجلاً. وإذا صمنا بقول واحد تفريعاً على أصَحِّ القولين ولم نَرَ الهِلاَلَ بَعْدَ ثَلاَثِينَ فهل نفطر؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنا لو أَفْطَرنَا لَكُنَّا مفطرين بقول وَاحِدٍ، والإفطار بقول واحد لا يَجُوزُ، ألا ترى أنه لو شَهِدَ على هِلاَلِ شوال ابتداء لم نفطر بقوله: والثاني: يفطر؛ لأن الشَّهْرَ يتم بمضي ثلاثين، وقد ثبت أوله بقول الواحد، ويجوز أن يثبت الشيء ضِمْنًا بما لا يثبت به أصْلاً ومقصوداً، ألا ترى أن النَّسَبَ والمِيرَاثَ لا يثبتان بِشَهَادَةِ النِّسَاء، ويثبتان ضِمْناً لِلْوِلاَدَةِ إذا شَهِدْنَ عَلَيْهَا. واعترض الإمام عليه، بأن قال النسب لا يثبت بقولهن، لكن إذا ثبتت الولادة ثبت النسب بحكم الفِراش القائم، وهاهنا بخلافه. وللمحتج أن يقول: لا معنى للثّبوت الضمني إلا هذا، وخذ مني مثله هاهنا عندي لا نفطر بقوله، لكن إذا ثبت أول الشَّهْر انتهى بمعنى ثلاثين يوماً وجاء العيد ولا صَوْمَ يَوْمَ العِيدِ. وما موضع الوجهين؟ نقل في "التهذيب" فيه طريقين: أحدهما: أن الوجهين فيما إذا كانت السَّمَاءُ مصحيةً، إما إذا كانت متغمية فنفطر بلا خلاف، وهذا ما أورده صَاحِب "العدة"، وأوفقهما لكلام صاحب الكتاب، والأكثرين أن الوجهين شَامِلاَن للحالتين، ثم إيراد الكتاب يقتضي ترجيح الوَجْهِ الأَوَّلِ، لكن المعظم رَجَّحُوا الثَّانِي، وحكوه عن نصه في "الأم" وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-. ولو صُمْنَا بقول عَدْلَيْنِ، ولم نَرَ الهِلاَل بَعْدَ ثلاثين فإن كانت السماء متغيمة أَفْطَرْنا وَعَيَّدْنَا؛ وإن كانت مصحية فكذلك عند عامة الأصْحَاب، وحكاه في "الشامل" عن نَصِّه في "الأم" وحرملة؛ لأن العدلين لو شهدَا ابتداء على هلال شَوَّال لقبلنا شهادتهما وأفطرنا؛ فلأن نفطر بناء على ما أثبتناه بقولهما أولاً أَوْلَى، وقال ابن الحَدَّادِ: لا نفطر، ¬
وينسب إلى ابْنِ سُرَيجٍ أيضاً، وبه قال مالك؛ لأنا إنما تتبع قولهما، بناء على الظَّنَّ وقد تَيَقَّنَا خِلاَفه، وقد عرفت بما ذكرنا أن في الصُّورتين وجهين إلا أن الإفطار في الثَّانِيَة أظهر منه في الأولى، وفرَّع بعضهم على قول ابن الحدَّادِ فقال: لو شهد اثنان على هِلاَل شَوَّال، ثم لم ير الهِلاَل والسَّماء مصحية بعد ثلاثين قَضَيْنَا صَوْمَ أَوَّلِ يَوْمٍ أفطرنَا فِيهِ؛ لأنه كان كَوْنُه لأنه بَانَ كَونُه من رمضان، لكن لا كفارةَ على من جَامَع؛ لأن الكفارة تَسْقُط بِالشُّبْهَةِ، وعلى ظَاهِر المَذْهب لاَ قَضَاءَ ولا كَفَّارة. ويتعلَّق بالقولين في اعتبار العَدَدِ مسألة أخرى، وهي: أن الْهِلاَل هل يثبُتُ بالشَّهَادة عَلَى الشَّهَادَة (¬1)؟ وقد حكى الشَّيْخُ أبو عَلِي فيه طريقين: أحدهما: أنه على القَوْلَين في أن حدودَ اللهِ تعالى هَل تَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادة. وأصَحُّهُمَا: القَطْع بثبوتِه كالزَّكاة، وإتْلاَفَ بواري المَسْجِدِ، والخلاف في الحُدُودِ المبنية على الدفع والدرء. وعلى هذا فعدد الفُروع مَبْنِيٌّ على القول في الأُصُول إن اعتبرنا العَدَدَ في الأصُولِ فحكم الفُرُوع هاهنا حكمهم في سائر الشَّهَادَات (¬2)، ولا مَدْخَل فيه لِشَهَادَةِ النِّسَاء والعَبِيدِ. وإن لَم نعتبر العدد فإن قلنا: إن طريقه طريق الرواية فوجهان: أحدهما: أنه يَكْفِي واحد كرواية الأخبار. والثاني: لا بُدَّ من اثنين. ¬
قال في "التهذيب" وهو الأصح؛ لأنه لَيْسَ بخبر من كُلِّ وجه بدليل أنه لا يَكْفِي أن يقول: أَخْبَرَنِي فلانٌ عن فلانٍ أنه رأى الهلاَل، وعلى هذا فهل يشترط إخبار حُرَّيْنِ ذكرين أم يكفي امرأتان وعبدان؟ فيه وجهان: أظهرهما: الأول. ونازع الإمامُ في أنه لا يَكْفِي قوله: أخبرني فلان عن فلان على قولنا أنه رواية. وإن قلنا: إن طريقه طَرِيقُ الشَّهادة، فهل يكفي واحد أم لا بد من اثنين؟ فيه وجهان، المذكور في "التهذيب" منهما هو الثاني. ولنعد إلى ما في لفظ الكتاب. قوله: (أما السبب فرؤية الهلال) يشعر ظاهره بالحصر، لكن الحصر غير مراد منه بل استكمال شعبان في معنى رؤية الهلال على ما بَيّناه، والتحقيق أن السَّبب شهود الشهر لا هَذَا ولا ذَاك، ولكنهما طَرِيقان لمعرفة شهود الشَّهْرِ ولا يلحق بهما ما يقتضيه حساب المنجم، فلا يلزمه به شَيْءٌ لا عليه وَعَلَى غَيْرِه. قال القاضي الرّويَانِي: وكذا من عَرَفَ مَنَازِلَ القمر لا يلزمه الصَّوْمُ بِهِ في أصح الوجهين. وأما الجواز فقد قال في "التهذيب": لا يجوز تقليد المنجم في حِسَابه لا في الصوم ولا في الإفْطَار. وهل يجوز له أن يعمل بحساب نفسه؟ فيه وجهان: وفرض الرُّويَانِي الوجهين، فيما إذا عرف نازل القمر، وعلم به أن الْهِلاَل قد أَهَلَّ وذكر أن الجواز اختيار ابْنِ سُرَيْج والقَفَّالِ وَالْقَاضِي الطَّبَرِي، قال: ولو عرفه بالنُّجُوم لم يجز أن يَصُومَ بهِ قولاً وَاحِداً. ورأيت في بعض المُسْوَدَّاتِ تعديَةَ الْخِلاَف في جَوَازِ العَمَل بهِ إلى غَيرِ المنجم، -والله أعلم-. وسنذكر فائدة الجواز حيث حكمنا به من بعد. وقوله: (وإن كانت السماء مَصْحِيَّة) مُعَلَّم بالحاء. وقوله: (يَثْبُتُ بشَهَادَةِ وَاحِدٍ) بالميم. وكذا قوله: (ويثبت بمن تقبل روايته) بما سبق والأغلب على الظَن أنه قصد أن يورد الخلاف في المسألة كما أورده في "الوسيط" وهو حكاية ثلاثة أقوال في قبول قَوْلِ الواحد: أحدها: أنه لا يقبل. والثاني: بِشَرْطِ أن يكون من أهْلِ الشَّهَادة. والثَّالث: يُقْبَلُ إذا كان من أهل الرواية، ثم إنه أغفل الأول وأرد الأخيرين، وهما مفرعان على قبول قَوْل الواحد، ولو أعلما بالواو لمكان الأول جاز، ثم الجمهور أوردهما وجهين لا قولين نعم ذكر الصَّيْدَلاَنِي أنهما قولان عن تخريج ابْن سُرَيْج، فيجوز تنزيلهما عليه.
وقوله: (بخلاف هلال شَوَّال) يجوز أن يُعَلَّم بالواو؛ لأن أبا ثور قال بثبوته بقول واحد، فإن له مذهباً تفرد به، ولكن لأنه حكى عن صاحب "التقريب" أنه ميل القول فيه. وقال بعد رواية مذهب أبي ثور: وهذا لو قلت به أكُنْ مبعداً. ووجهه أنه إخبار عن خروج وقت العبادة فَيُقْبَلُ فيه قول الواحد كالإخبار عن دخول وقتها. وقوله: (لم نفطر) مُعَلَّم بالحاء؛ لما سبق، ويجوز أن يُعَلَّم قوله: (فنفطر) في الوجه الثاني بالميم؛ لأن مالكاً منع من الإفطار إلا إذا صُمْنَا بقول عَدْلَين، ولم نَرَ الهِلاَل، فأولى أن تمنع إذا صُمْنَا بقول وَاحِدٍ وَلم نره. واعلم أن صاحب "التهذيب" -رحمه الله-، ذكر تفريعاً على الحكم بقبول قول الواحد أنا لا نوقع به العِتْقَ والطَّلاق المُعَلَّقَينِ بِهِلاَلِ رَمَضَانَ، ولا نحكم بِحُلُولِ الدَّيْنِ المُؤَجَّل بهِ، ولو قال قَائِلٌ: هَلاَّ ثبت ذلك ضمنًا كَمَا سَبَقَ نَظيرِه لَأَحْوَجَ إِلَى الفَرْقِ -والله أعلم-. قال الغزالي: فَإذَا رُؤيَ الهِلاَلُ في مَوْضِعٍ لَمْ يَلزَمِ الصَّوْمُ فِي مَوضِع آخَرَ بَيْنَهُمَا مَسَافَةُ القَصْرِ إِذَا لَمْ يُرَ فِيهِ، وَقِيلَ: يَعُمُّ حُكْمُهُ سائِرَ البِلاَدِ، فَعَلَى الأَوَّلِ لَوْ سافَرَ الصَّائِمُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ لَمْ يُرَ فِيهِ الهِلاَلُ بَعْد ثَلاِثينَ صَامَ مَعَهُمْ بِحُكْمُ الحَالِ، وَلَوْ كَانَ أَصْبَحَ مُعَيِّداً وَسَارَت بِهِ السَّفِينَةُ إِلَى حَيْثُ لَمْ ير الهِلاَلَ كَانَ الأَوْلَى أَن يُمْسِكَ بَقِيَّةَ النَّهَارِ وَيَبْعُد إِجَابُهُ فَإِنَّ فِيهِ تَجزِئَةِ اليَوْمِ، فَإذَا هِلاَلُ شَوَّالِ قَبلَ الزَّوَالِ لَمْ يَجُزْ (ح) الإفْطَارُ إِلاَّ بَعْدَ الغُرُوبِ. قال الرافعي: في الفَصلِ مسألتان: إحداهما: إذا رُئي الهلالُ فِي بَلْدَة ولم يُرَ في أخرى نظر: إن تقاربت البَلْدَتَانِ فحُكْمُهُمَا حُكْمُ البَلْدَةِ الوَاحِدَةِ، وإن تَبَاعَدَتَا فوجهان: أظهرهما -وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله- وهو اختيار الشَّيخ أبي حامد-: أنه لا يجب الصَّوْم على أهْلِ البلدة الأخْرَى؛ لما روي عن كريب قال: "رَأَيْنَا الْهِلاَلَ بِالشَّام لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: مَتَى رَأَيْتُمْ الْهِلاَلَ؟ قُلْتُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَ قُلْتُ: نَعَمْ وَرَاهُ النَّاسُ، وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: لَكِنَّا رَأَينَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ. فَلاَ تَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ الْعَدَدَ أَوْ نَرَاهُ، قُلْتُ أَوْ لاَ تَكْتفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوَيةَ؟ قَالَ: هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-" (¬1). ¬
والثاني: يجب (¬1) وهو اختيار القاضي أبِي الطَّيِّبِ، ويروى عن أحمد؛ لأن الأرض مسطحة، فإذا رؤي في بعض البلاد عرفنا أن المانع في غيرِه شَيْءٌ عَارِض؛ لأن الهِلاَلَ ليس بِمِحَلِّ الرُّؤْيَةِ. وبم يضبط تباعد البلدتين؟ اعتبر في الكتاب مَسَافة القَصْرِ، وكذلك نقله الإمامُ وصَاحِب "التهذيب". قال الإمام: ولو اعتبروا مسافة يظهر في مثلها تفاوت في المناظر لكان متجهاً في المعنى، وقد يوجد التفاوت مع قصور المسافة عن مسافة القصر للارتفاع والانخفاض، وقد لا يوجد مع مجاوزتها لها، ولكن لا قائل به، هكذا ذكره، لكن العراقيين والصَّيْدَلاَنِي وغيرهم اعتبروا ما قلناه، وضبطوا التَّبَاعُدَ بِأَنْ يكون حَيْثُ تختلف المَطَالِعُ كـ"العراق" و"الحجاز" و"خراسان" والتَّقارب بأن لا تختلف كـ"بغداد" و"الكوفة" و"الري" و"قزوين"، ومنهم من اعتبر اتحاد الإقليم واختِلاَفه (¬2). ويتفرَّعُ على الوَجْهين فرعان: أحدهما: لو شرع في الصَّوْم فِي بلدٍ ثُمَّ سَافَرَ إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ لم ير الهِلاَل فيه في يَوْمِهِ الأول فإن قلنا: لكل بَلْدَةٍ حكمها فهل يلزمه أن يصوم معهم أم يفطر؟ فيه وجهان: أظهرهما: وبه قال القَفَّال وهو المذكور في الكتاب: أنه يَصُومَ مَعَهُمْ؛ لأنه بالانتقال إلى بلدتهم أخذ حكمهم وصار من جملتهم، وقد روي أن ابن عباس -رضي الله عنهما- أمر كريباً بأن يقتدى بأهل المدينة" (¬3). والثاني: أنه يفطر؛ لأنه التزم حكم البلدة الأُولى، فَيَسْتَمِر عليه، وشبه ذلك بمن ¬
اكترى دَابَّةَ يجب الكِرَاء بِنَقْد البلد المُنْتَقَلِ عَنْهُ وأوهم في "التهذيب" ترجيح هذا الوجه. وإن عممنا الحكم سائر البلاد فعلى أهل البلدة المنتقل إليها موافقته إن ثبت عندهم حال البَلْدَة المنقل عنها إما بقوله لَعَدَالَتِهِ أو بطريق آخر، وعليهم قَضَاءُ اليَوْم الأول، ولك أن تقول، قياساً على هذا: لو سَافر من البلدة التي رُئي فِيهَا الهِلاَلُ ليلةً الجُمُعَةِ إلى التي رُؤي فيها الهِلاَلُ لَيْلَةَ السَّبْتِ ورؤي هِلاَلُ شَوَّالٍ ليلة السَّبْت، فعليهم التعبد معه وإن لم يصوموا إلا ثَمَانيَةَ وَعِشْرِينَ يوماً ويقضُونَ يوماً. وعلى قياس الوجه الأول لا يلتفتون إلى قوله: رأيت الهلال، وإن قبلنا في الهلال قول عَدْل وعلى عكسه لو سافر من حيث لم يُرَ فيه الهلال إلى حيث رُوئيَ فعيدوا اليوم التاسع والعشرين من صومه فإن عممنا أو قلنا له حكم البلد المنتقل عنه فليس له أن يفطر. الثاني: رُوئي الهلالُ في بَلَدِ فأصبح الشَّخْصَ معيداً، وسارت به السَّفينة، وانتهى إلى بلدةٍ على حد البُعْدِ فصادف أهلَها صائمين، فعن الشيخ أبي محمد أنه يلزمه إمْسَاك بقية اليوم إذا قلنا: إن لكل بلدة حكمها. واستبعده (¬1) الإمام من حيث أنه لم يرد فيه أكثر، ويجزئه اليوم الواحد وإيجاب إمساك بعضه بعيد، وتابعه صاحب الكتاب فقال: "ويبعد إيجابه ... " إلى آخره وللشيخ أن يقول: لم لا يجوز أن يجب إمساك بَعض اليوم، ألا ترى أن من أصبح يوم الثلاثين من شعبان مفطراً ثم قامت البينة على رؤية الهلال يجب عليه إمساك بَقِيَّة النَّهَار. وقوله: (الأولى إمساك بقية النهار) إنما حسن منه، لأنه نفى الوجوب، أما من يوجبه فلا يقول: للمحتوم أنه أولى، فيجوز أن يُعَلَّم بالواو لقوله. واعلم أن هذه المسألة يمكن تصويرها على وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك اليوم يوم الثَّلاثين مِنْ صَوْمِ أهل البَلْدَتَينِ، لكن أهل البلدة المنتقل إليها لَمْ يروا الْهِلاَل. والثاني: أن يكون اليوم التاسع والعشرين لأهل البلدة المنتقل إليها لتأخر ابتداء صومهم بيوم وإمساك بَقِيَّة اليوم في الصُّورتين إن لم تعمم الحكم على ما ذَكَرْنَا. وجواب الشيخ أبي محمد كما هو مبني على أن لكل بلدةٍ حكمها، فهو مبني أيضاً على أن للمنتقل حكم المنتقل إليه، وإن عممنا الحكم فأهل البَلَدِ المنتقل إليه إذا كانوا ¬
يعرفون في أثناء اليوم أنه يوم العيد فهو شبيه بما إذا شَهِد الشهود على رؤية الهلال يوَمَ الثَّلاثين، وقد سَبَقَ بَيَانُهُ في "صلاة العيد" وإن اتفق هذا السفر لعدلين وقد رَاييَا الهلالَ بِنَفْسَيْهِمَا وَشَهِدَا في البلدة للمنتقل إليها فهذا عين الشَّهادة برؤية الهلال في يوم الثَّلاثين في التصوير الأول. وأما في التصوير الثاني، فإن عَمَّمْنَا الحكم جميع البلاد لم يبعد أن يكون الإصغاء إلى كلامهما على ذلك التفصيل أيضاً، فإن قبلوا قضوا يوماً، وإن لم نعمم الحكم لم يلتفت إلى قولهما. ولو كان الأمر بالعكس فأصبح الرجل صائماً وسارت به السَّفينة إلى حيث عبدوا فإن عممنا الحكم أو قلنا: له حكم البلدة المنتقل إليها أفطرا وإلا لم يفطر، وقضى يوماً إذ لم يصم إلا ثمانيةً وعشرين يوماً. المسألة الثانية: إذا رُئي الهلالُ بالنَّهار يوم الثلاثين فهو لليلة المستقبلة، سواء رُئي قبل الزوال أو بعده (¬1)، فإن كان هلال رمضان لم يلزمهم إمْسَاك ذلك اليوم. وإن كان هلال شَوّال، وهو المذكور في الكتاب لم يكن لهم الإفطار حتى تَغْرُبَ الشمس. وعند أبي يوسف: إن رُئي قبل الزوال فهو لليلة المَاضِية. وبه قال أحمد فيما إذا كان المَرْئِي هِلاَلَ رَمَضَان، وإن كان المَرّئِيُّ هِلال شوال فعنه روايتان. لنا: ما روي عن [شقيق] بن سلمة -رضي الله عنه- قال: "جَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ بْن الخَطَّابِ -رَضِيَ الله عَنْهُ- وَنَحْنُ بِخَانِقِينَ أَنْ الأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، فَإذَا رَأَيْتُمُ الْهِلاَلَ نَهَاراً فَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تُمْسُوا" (¬2). وفي رواية: "فَإِذَا رَأَيْتُم الْهِلاَلَ مِنْ أَوَّلَ النَّهَارِ فَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ بِالأَمْسِ" (¬3). إذا عرفت ذلك لم يخف عليك أن قوله: (قبل الزوال) ليس لتخصيص الحكم به، لكنه موضع الشَّبهة والخلاف، فلذلك خَصه بالذَّكْرِ فأما بَعْدَ الزَّوَال، فهو متفق عليه، وقد أعلم في النُّسخ قوله: (لم يجز الإفطار) بالحاء؛ لأن الإمام والمصنف في "الوسيط" نسبا قول أبي يوسف إلى أبي حنيفة -رحمهم الله- وهو غير ثابت، نعم يجوز إعلامه بالألف لأحدى الروايتين عن أحمد -والله أعلم-. قال الغزالي: القَوْلُ في رُكْنِ الصَّوْمِ وَهُوَ النِّيَّةُ والإمْسَاكُ، أَمَّا النِّيَّةُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ لِكُلِّ يَوْمٍ (م) نِيَّةً مُعَيَّنَةَ (ح و) مُبَيَّتةٌ (ح) جَازِمَةً، وَالتَّعْيينُ أَنْ يَنْوِيَ أَدَاءَ فَرْضِ رَمَضَانَ غداً، وقِيلَ: لاَ يتعَرَّضُ لِلْفَرِيضَةِ، وَقِيلَ: يتعَرَّضُ لِرَمَضَانِ هذِهِ السَّنَةِ. ¬
قال الرافعي: ذكرنا اختلاف الأصحاب في أن النية ركن في الصَّلاة أم شرط، ولم يوردوا الخلاف هاهنا والأليق بمن اختار كونها هناك شرطاً أن يقول بمثله، ومنهم صاحب الكتاب، وحينئذ يتمحض نفس الصَّوم كفئاً. إذا عرفت ذلك، فقوله: (أن ينوي لكل يوم نية معينة مبيتة جازمة) ضابط أدرج فيه أموراً: أحدها: قوله: (أن ينوي) فالنية واجبة في الصَّومُ إذ لا عمل إلا بالنية، ومحلُّها القلب، ولا يشترط النّطق في الصوم بِلاَ خِلاَف. والثاني: قوله: (لكل يوم) فلا يكفي فيه صوم الشَّهْرِ كله في أوله خلافاً لمالك. وبه قال أحمد في إحدى الروايتين. لنا: أن صوم كل يوم عبادة برأسها ألا ترى أنه يتخلل اليومين ما يُنَاقِضُ الصوم، وإذاكان كذلك وَجَبَ إفرادُ كُلِّ وَاحِدٍ بنيةٍ كالصَّلوات. وإذا نَوَى صوم جميع الشهر هل يصح صوم اليوم الأول بهذه النية؟ فيه تردُّدٌ لِلشَّيْخ أبي محمد، ورأيت أبا الفَضْلِ بنَ عَبْدَان أجاب بصحته، وهو الأظهر. الثالث: التعيين وهو واجب في صَوْم الفرض، وبه قال مَالِك وأحمد في أصَحِّ الروايتين، خِلافاً لأبي حنيفة حيث قال: لا يشترط التعيين في النذر المعين، ولا في صَوْمِ رَمَضَانَ، بل لو نوى صَوم الغد مطلقاً في رمضان، أو نوى النفل أو النذر أو القضاء أو الكفارة وقع عن رمضان إن كان مقيماً، وإن كان مسافراً فكذلك إن أطلق النفل، وإن نوى النذر أو الفضاء أو الكفارة وقع عما نَوَى، وإن نوى النَّغل فروايتان. لنا: القياس على الكفارة والقضاء، وتعينه شرعاً لا يغني عن تجديد المكلف قَصْده إلى ما كُلِّف به، وكمال التعيين في رمضانَ أن ينوي صَوْمَ الغَدِ عن أداء فَرْضِ رَمَضَانَ هذه السنة لله تعالى. أما الصوم والتعرض لكونه من رمضان، فلا خلاف في اعتبارهما. وأما الأداء والفرضية والإضافة إلى الله تعالى، ففيها الخلاف المذكور في الصَّلاة، وقد أعاد ذكر الخلاف في الفريضة هاهنا. وأما رمضان هذه السنة فقد حكى الإمام وجهاً أنه لا بد من اعتباره وتابعه المصنف، ويقرب منه حكاية صاحب "التهذيب" وجهين في أنه هل يجب أن يقول: من فَرْضِ هَذَا الشَّهْرِ أَم يكفي أن يقول: من فرض رمضان؟ وقال: الأصح الأول، والإمام زيفه بأن معنى الأداء هو القصد، فإذا خطر الأداءُ بالبَالِ فقد خطر التعرض لِلْوَقْتِ المعين، وقد يزيف أيضاً بأن التعرض لليوم المعين لاَ بُد منه، وأنه يغني عن كونه من هذاس الشَّهر، وهذه السنة فإن هذا اليوم لا يكون إلا كذلك، بل إذا وقع التعرض لليوم المعين لم يَضُر الخَطَأُ في أوصافه. قال الرّويَانِي في "التجربة" لو نوى لَيْلَةَ الثلاثاء صَوْمَ
الغَدِ، وهو يعتقده يوم الاثنين أو نوى رَمَضَان السنة التي هو فيها وهو يعتقدها سنة ثلاث فكانت سنة اثنتين صح صومه، بخلافِ ما إذا نَوى صَوْمَ يوم الثلاثاء ليلةَ الاثنين، أو رمضان سنة ثلاث في سنة اثنتين لا يصح، لأنه لم يعين الوَقْت. واعلم: أن لفظ الغد قد اشتهر في كلام الأصحاب في تفسير التعيين، وكيفيته وهو في الحقيقة ليس من حد التعيين، وإنما وقع ذلك من نظرهم إلى التبييت، ولا يخفى مما ذكرناه قياس التعيين في القضاء والنَّذْرِ والكفارة. وأما صوم التطوع فيصح بنية مُطْلَق الصَّوْمِ كما في الصَّلاة. فرع: قال القاضي أبو المكارم في "العدة": لو قال أتسحر لأقوى على الصَوْم لم يَكْف هذا في النية، ونقل بعضهم "عن نوادر الأحكام" لأبي العباس الروياني أنه لو تسحر للصَّوْم أو شَرِبَ لدفع العطش نهاراً أو امتنع من الأكل والشُّرب والجماع مخافة الفجر كان ذلك نيةً للصوم، وهذا هو الحقُ إن خطر بباله الصوم بالصفات التي يشترط التعرض لها؛ لأنه إذا تسحر ليصوم صوم كذا، فقد قصده والله أعلم. وقوله في الكتاب: (معينة) يجوز أن تقرأ بكسر الياء؛ لأنها تعين الصوم ويجوز أن تقرأ بالفتح كان الناوي يعينها، ويخرجها عن التَّعَلقِ بمُطْلق الصَّوْمِ، ويجوز إعْلاَم هذه اللفظة مع الحاء بالواوْ؛ لأن صاحب "التتمة" حكى عن الحليمي أنه قال: يَصِحّ صوم رمضان بنية مطلقة وبالألف لأن عن أحمد رواية مثله. قال الغزالي: وَمَعْنَى التَّبِيْيتِ أَنْ يَنْوِيَ لَيْلاً، وَلاَ بالنِّصْفِ الأَخيرِ (و)، وَلاَ يَجِبُ تَجْدِيدُهَا (و) بَعْدَ الأَكْلِ وَلاَ بَعْدَ التَّنَبُّه مِنَ النَّوْمِ، وَيَجُوزُ نِيَّةُ التَّطَوُّعِ قَبْلَ الزَّوَالِ (م ز)، وَبَعْدَهُ قَوْلاَنِ، وهَذَا بِشَرْطِ خُلُوِّ أَوَّلِ اليَوْمِ مِنَ الأكْلِ، وَفِي اشْتِرَاطِ خُلُوِّ أَوَّلِ اليَوْمِ عَنِ الكُفْرِ وَالجُنُونِ وَالحَيْضِ خِلاَفٌ. قال الرافعي: الرابع: التبييت وهو شرط في صوم الفرض (¬1). وبه قال مالك وأحمد، خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- حيث قال: "لا يجب التبييت في صَوْمِ رمضان والنَّذْرِ المُعَيَّنِ، بل يَصِحَّان بنية قبل الزوال". لنا: ما روي عن حفص أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الفَجْرِ فَلاَ ¬
صِيَامَ لَهُ" (¬1). ويروي: "مَن لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ". ولو نوى مع طلوع الفجر، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز لاقتران النية بأول العبادة، وبهذا أجاب ابْنُ عَبْدَانَ. وأصحهما: المنع؛ لظاهر الحديث، وهذا هو قضية قوله في الكتاب: (أن ينوي ليلاً) ويتبين به أيضاً أن نية صوم الغد قبل طلوع الشمس لا تصح، وهل تختص النية بالنِّصْفِ الأخير من الليل؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ: نعم، كما يختص رمي جمرة العقبة ليلة النحر بالنصف الأخير، والمعنى فيه تقريب النية من العِبَادة. وأصحهما: لا؛ لإطْلاَقِ الخَبَرِ، وهذا هو المذكور في الكتاب صَرِيحاً، ودلالة. أما الصَّريح فظاهر. وأما الدلالة فقوله: (أن ينوي لَيْلاً) وإذا نوى ثم أكل أو جامع (¬2) هَلْ تَبْطُلُ نيته، حتى يَحْتَاجَ إلى تجديدها؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن الأصل اقتران النِّية بالعبادة، فإذا تَعَذَّر اشتراطه فلا أقل من أن يحترز عن تخلل المناقض الذي لا ضرورة إليه بينهما. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب: أنه لا حاجة إلى التجديد؛ لأن الله تعالى أَباحَ الأكْلَ والشَّرَاب إلى طلوع الفجر، ولو أبطل الأكل النيةَ لامْتَنَعَ إلى طلوع الفجر، وينسب الوجه الأول إلى أبي إسحاق، وفيه كلامان: أحدهما: أن الإمام حكى أن أبا إسحاق رجع عن هذا عام حَجَّ، وأشهد على نفسه (¬3). والثاني: أن ابنَ الصَّبَّاغ قال: هذه النسبة لا تثبت عنه، ولم يذكر ذلك في الشَّرح. فإن لم يتنقل الوجه إلا عنه، وثبت أحد هذين الكلامين، فلا خلاف في المسألة. ¬
ولو نوى ونام وَتَنَّبَه من نومه، واللَّيْلُ بَاقٍ هل عليه تجديد النية؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم تقريباً للنية من العِبَادة بقدر الوسع؛ ونسب ابْنُ عَبْدَانَ وغيره هذا إلى الشيخ أَبِي إِسْحَاقَ أيضاً. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب: أنه لا حاجة إلى الجديد، لما سبق. قال الإمام: وفي كلام العراقيين تردد في أن الغفلة هَلْ هِيَ كالنوم؟ وكل ذلك مطرح. هذا حكم صوم الفرض في التبييت. أمّا التطوع؛ فتصح نيته من النَّهَار. وبه قال أحمد، خلافاً لمالك والمزني، وأبي يحيى البَلَخِي. لنا أنه -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يُدْخُلُ عَلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ فَيَقُول "هَلْ مِنْ غِذَاءِ فَإنْ قَالَتْ لاَ قَالَ إِنِّي صَائِمٌ وَيُرْوَى: إِنِّي إِذًا أَصُومُ" (¬1). وهذا إذا كانت النِّية قبل الزَّوَال (¬2)، فإن كانت بعده ففيه قولان: أحدهما: وهو رواية حَرْمَلَة: أنه يصح (¬3)؛ تسويةً بين أجزاء النَّهَار، كما أن أجزاء الليل مستوية في محلية نية. وأَصَحَّهُمَا: وهو نَصُّهُ في عامة كُتُبِهِ، أَنَّهُ لاَ يَصِحّ، وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-؛ لأن النقلَ لاَ يَنْبغِي أن يُخَالِفَ الفَرْضَ، كما في سائِرِ العِبَادَاتِ، إلا أَنا جَوَّزْنَا التَّأْخِيرَ بِشَرْطِ أن يَتَقَدَّمَ عَلَى الزَّوَالِ لِلْحَدِيث، فإنه وَرَدَ في النية قبل الزَّوَالِ، ألا ترى أنه يطلب الغذاء وفرقوا بين ما قبل الزوال وما بعده بأن النية إذا نشأت بعد الزوال فقد فات مُعْظَم النَّهَار، وإذا نشأت قَبْلَهُ فَقَد أَدْركت معظمه، وللمعظمَ تأثِيرٌ إدراكاً وفواتاً كما في إدراك المسبوق الرَّكعَة، وهذا الفرق إنَّما ينتظم ممن يجعله صائماً من أول النَّهَار، أما من يَجْعَله صَائِماً عن وَقْتِ النِّيَّةِ فالنِّيَّةُ عنده مَوْجُودَةٌ فِي جَمِيع العِبَادَةِ، فَاتَه مُعْظَمُ النَّهَارِ، أو لِم يَفُتْ، وفيه شيْءٌ آخر ذكره الإمام وهو: أن النَّهَار إذا حُسِبَ مِنْ شُرُوقِ الشَّمْسِ فالزَّوَال مُنْتَصفه، فتكون النِّية المتقدِّمَة عليه مدركَةُ مُعْظَمَةُ، لكن النَّهَار الشَّرْعِي مَحْسُوبٌ مِنْ طُلُوع الفَجرِ، فيتقدَّم متتصفه على الزَّوَالِ وَلاَ يَلْزَم مِنْ مُجَرَّد التَّقَدُّم عَلَى الزَّوالِ وُجُود النية في المُعْظَم، ثم إذا نوى قبل الزَّوالِ أو بعده، وجَوَّزنَاه فَهُوَ صَائِمٌ من أول النَّهَارِ حتى يَنَال ثَوَاب صَوْمِ الكُلِّ أَوْ مِنْ وَقْتِ النية، فيه وجهان: ¬
أظهرهما: عند الأكثرين أنه صَائِمٌ من أول النَّهَار فَإنَّ صَوْمَ الْيَوْم الواحد لاَ يَنْبَغي، وشبه ذلك بما إذا أدرك الإمَامَ في الرَّكوع يكون مدركاً لثوَاب جَمِيع الرَّكْعةِ. والثاني: وبه قال أبو إِسْحَاقَ أَنَّهُ صَائِمٌ من وقت النية؛ لأن النية لاَ تَنْعَطف على مَا مَضَى، ولا عَمَلَ إِلاَّ بِالنية، ويقال: إن هذا هو اختيار القَفَّالِ. فإن قُلنا بالوجه الأوَّلِ فلا بُدَّ من الإِمْسَاك واجتماع شَرَائط الصَّوْمِ في أول النَّهَار. وإن قلنا: بالثاني، فَفِي اشْتِرَاط خُلُوِّ الأَوَّلِ عن الأَكْلِ وَالجِمَاعِ وَجْهَان: أحدهما: لا يشترط؛ لأن الصَّوْمَ إذا كان مَحْسوباً مِنْ وقت النِّية، كَانَ بِمَثَابَةِ جُزْءٍ من اللَّيْلِ وُينْسَبُ هَذَا إِلَى ابْنِ سُرَيجٍ، وأَبِي زَيْدٍ، وزاد في "العدة" محمد بن جرير الطبري. وأصَحُّهُمَا: وهو المذكور في الكتابَ: أنه يُشْتَرط وإلاَّ بَطَلَ مَقْصودُ الصَّوْم، ويجوز أن يتقدمَ شْرطُ الشَّيءِ عليه، ألا ترى أنه يُشْتَرط تقدّم الخُطْبَة على صَلاة الجُمُعَةِ، وهل يشترط خُلُو أَوَّلِهِ عَنِ الْكُفرِ وَالْحَيْضِ وَاَلْجُنُونِ أم يجوز أن يَصْومَ الكَافِرُ إِذَا أسلم اليوم الذي أَسْلَم فيه ضُحَى، والحَائِضُ في اليوم الذي طَهُرت، والجنونُ في اليوم الذي أفاق؟ فيه وجهان: أصحهما: المنع أيضاً لكون النية مسبوقة في اليَوْمِ بما يُنَاقِضُ الصَّوْم، ويجوز أن يُرَتّب الخِلاَف في اشتراط الخُلُوّ عن هذه المعاني على الْخِلافَ في اشتراط الخُلُوِّ عن الأَكْلِ، فإن لم يشترط تَرْكُ الأكْلِ فهذَا أوْلَى، وإنْ شَرَطْنَاه فَوَجْهَانِ والفرق اخلالُ الأكْلِ بِمَقْصُودِ الصَّوْمِ، وهو كسر النَّفس بالتَّجْوِيعِ. قال الغزالي: وَالمَعْنيُّ بِالجَازِمَةِ أَنَّ مَن نَوَى ليْلَةَ الشَّكّ صَوْم غَدانْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يَجُزْ (ح ز) لأَنَّهَا غَيْر جَازِمةٍ، نَعَمْ لاَ يَضُرُّ التَّرَدُّدُ بَعْدَ حُصُولِ الظَّنِّ بشَهَادةٍ أَو اسْتِصْحَاب كمَا في آخِرِ رَمَضَانَ، أَوِ اجْتِهَادٍ في حَقِّ المَحْبُوسِ في المَطْمُورَة، ثُمَّ إِنْ غَلِطَ المَحْبُوسُ بالتَّأخِيْرِ لَمْ يَلْزَمْهُ القَضَاءُ، وَإن غَلِطَ بِالتَّقْدِيمِ وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ لَزَمَهُ القَضَاءُ، وَإنْ لَمْ يتبَينَّ إِلاَّ بَعْدَ رَمَضَانَ لمْ يَلْزمْهُ القَضَاءُ على أَحَدِ القَوْلَيْنِ، وَكَانَ الشَّهْرُ بَدَلاً في حَقِّهِ لِلضَّرُورَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ الشَّهْرُ تِسْعاً وعِشْرِينَ كَفَاهُ وإنْ كَانَ رَمَضَانُ ثَلاَثِينَ قال الرافعي: الخامس: كَوْنُ النية جَازِمةً. ويتعلق بهذا القيد مَسَائِلُ: منها: إذَا نَوَى لَيْلَة الثلاثين من شَعْبَان أن يَصُوم غداً مِنْ رَمضَان لم يخْلُ إما أن يَعْتَقِدَ كَوْنَهُ مِنْ رَمَضَان أو لاَ يَعتقده، فإن لم يعتقده نظر إن ردَّد نيته فقال: أصومُ عَنْ رمضان إِنْ كانَ مِنْهُ وإلا فأنا مفطره أو أنا مُتَطَوِّعٌ لم يقع صَومُه عَنْ رَمَضان إذا بَان أنه مِنْه؛ لأنه لم يَصُمْهُ على أنه فَرْضٌ وإنما صَامَ عَلَى الشَّك.
وقال أَبو حنيفة، والمُزنَي: يقع عن رَمَضَان إِذَا بَانَ الْيوم منه، كما لو قال: هَذَا زَكَاةُ مَالِي الغَائِب، إِنْ كَانَ سَالِماً، إلا فَهُوَ تَطَوُّعٌ، فبَانَ سَالِماً يُجْزئه. قال الأَصحَاب: الفرق أن الأصْلَ هُنَاكَ سَلاَمَة المَالِ، فَلَهُ اسْتِصْحَابُ ذَلِكَ الأَصْلِ وهاهنا الأَصْلُ بَقَاءُ شَعبَان، ونَظِير مسألة الزَّكاة مما نحن فيه أن ينوي ليلة الثَّلاثين من رمضان صوم الغَدِ، إن كان من رَمضَان، إلا فهو مفطر، فيجزئه، لأن الأصْلَ بَقَاءَ رَمَضَان. ولو قال: أصوم غداً مِنْ رمضان، أو تطوعاً أو قال: أصوم أو أفطر، لَمْ يصح صَوْمه، لا في الأول ولا في الآخر، كما إذا قال: أصوم أولاً أصوم، وإن لم يُرَدِّدْ نِيَّتَه وجزم بالصَّوْم عن رمضان [لم يصح أيضاً] فإنه إذا لم يعتقد كَونَه مِنْ رَمضَان لمَ يتَأت مِنْهُ الجزمُ بالصَّوْم عن رمضان حقيقة، وما يعرض حَدِيث نَفْس لا اعتبار به. وعن صاحب "التقريب" حكاية وجه: أنه يَصِح صَومُه، هذا إذا لم يعتقد كَونَه من رمضان. وإن اعتقد كونه من رمضان نظر: إن لم يستند عَقْدُه إلى ما يُثير ظناً فَلاَ عِبْرَة به، وإن استند إلى ما يثير ظنًا كما إذا اعتمد على قول من يثق به من حُرٍّ أو عبد أو أمرأَة أو حبيبين ذَوِي رُشْدٍ، ونوى صومه عن رمضان أجزأَهُ إذا بَانَ أنه من رمضان (¬1)؛ لأن غلبة الظَّن في مِثْلِ هذا لَهُ حكم اليَقِين، كما في أوقات الصلاة، وكما إذا رأى الهلالَ بنَفْسه، وإن قال في نيته والحالة هذه: أصوم عن رمضان، فإن لم يكن من رمضان فهو تَطَوُّع، فقد قال الإمام: ظاهر النَّصِّ أنه لا يعتد بِصَوْمه، إذا بَانَ اليوم من رمضان لمكان التَّردُّدِ، قال: وفيه وجه آخر وبه قال المُزَنِي: أنه يصح لاستناده إلى أَصْلٍ ثم رأى طَرْدَ الخِلاَف فيما إذَا جَزَمَ أيضاً، ويدخل في قسم استناد الاعتقاد إلى ما يثير ظنًا بناء الأمر على الحِسَاب، حيث جوزناه على التَّفصيل الذي سبق -والله أعلم-. ومنها إذا حكم القَاضِي بشهادة عدلين أو وَاحدٍ إذا جَوَّزنَاهُ وَجَبَ الصَّوْمُ، ولم يقدح ما عساه يبقى من التردد والارتياب. ومنها: المحبوس في المطمورة إذا - اشتبه عليه شَهْرُ رمضان اجتهد وصامَ شهراً بالاجتهاد، كما يجتهد لِلصَّلاة في القبلة والوقت (¬2)، ولا يغنيه أن يصوم شهراً من غير اجتهاد إن وافق رمضان (¬3). ¬
ثم إذا اجتهد وصَام شهراً نظر: إن وافق رمضانَ فَذَاك، وإن غلط بالتأخير أجزأه ذلك، ولم يلزم القَضَاء، ولا يضر كونه مأنباً به على نِيِّة الأداء، كما إذا صَلَّى الظهر بنية الأداء على ظَنِّ بقاء وقتها، ثم تبين أن صَلاَته، وقعت في وقت العصر، لا قضاء عليه، وهل يكون صومه المأتى به قَضَاءً أو أداء؟ فيه وجهان: أظهرهما: أنه قضاء لوقوعه بعد الوقت. والثاني: أنه أداء؛ لمكان العذر، والعذر قد يجعل غير الوقت وقتاً، كما في الجمع بين الصَّلاتين. ويتفرع على الوجهين، ما لو كان ذلك الشَّهْرُ نَاقِصاً وكان رمضانُ تاماً. إن قلنا: إنه قضاء لزمه يوم آخر، وإن قلنا: أداء فلا، كما لو كان رمضانَ نَاقِصاً، وإن كان الأمر بالعكس فإن قلنا: إنه قضاء فله إفطار اليوم الأخير إذا عرف الحال، وإن قلنا: أداء فلا، وإن وافق صَوْمُه شَوَّال فالصحيح منه تسعة وعشرون إن كان كاملاً، وثمانية وعشرون إن كان ناقصاً، فإن جعلناه قضاء وكان رمضان ناقصاً، فلا شيء عليه على التقدير الأول ويقضى يوماً على التقدير الثاني وإن كان كاملاً قَضَى يوماً على التقدير الأَوَّل، وَيوْمَيْنِ على التَّقدِير الثَّاني، وإن جعلناه أداءً فعليه قضاء يَوْمٍ بكل حَالِ. وإن وافق ذا الحجة، فالصحيح منه سِتَّة وعشرون يوماً إن كان كاملاً، وخمسة وعشرون يوماً إن كان ناقصًا، فإن جعلناه قضاءً، وكان رمضان ناقصًا قَضَى ثلاثة أَيَّام على التقدير الأوَّلِ، وَيوْمَيْنِ عَلَى التقدير الثَّاني، وإن كان كاملاً قضى أَرْبَعَة أَيَّامٍ على التَّقْدِير الأول، وثَلاَثةً على الثاني، وإن جعلناه أداءً قضى أَرْبَعة أَيَّامٍ بكل حالٍ، وهذا مبني على ظاهر المَذْهَب في أن صوم أيَّامِ التَّشْرِيق غير صحيح بحَالٍ، فإن صححناه على أن للمتمتع أن يَصُومها وأن من له سبب في صومها بمثابة الَمُتَمَتِّع، فذوا الحجة كـ"شوال" ذكر هذا المستدرك ابْنُ عَبدَانَ -رحمه الله-، وإن غلط بالتقديم على رَمَضَان نظر إن أدرك رمَضَان عند تَبَيُّنِ الحَالِ لهُ فعليه أن يَصُومَه بِلاَ خِلاَفٍ، وإن لم يتبين له الحال إلا بعد مُضِيِّ رمضان فقولان: القديم: أنه لا يقضى، كالحجيج إذا أخطأوا فَوقَفوا اليومَ العَاشِرَ يجزئهم. والجديد: وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد -رحمهم الله-: أنه يقضى؛ لأنه أتى بالعبادة قَبْلَ وقتها، فلا يجزئه كالصَّلاة، وبنى القفال وأخرون القولين على أنه لو وَافق شَهْراً بَعْدَ رَمَضَانَ وإنَ قَضاءَ أو أداء، إن قلنا: بالأول فعليه القَضَاءِ، لأن القَضَاء لا يسبق الوقت، وإن قلنا بالثاني فلا قضاء؛ لأن ما بعد الوقت إن جاز أن يجعل وقتاً للعذر،
فكذلك ما قبل الوقت يجوز أن يجعل وقتاً للعذر، كما في الجمع بين الصلاتين وعن أبي إسحاق طريقة أخرى قاطعة بوجوب القضاء وإن تبين بعد مُضِيِّ بَعْضُ رمضان، فقد حكى في "النهاية" طريقين: أحدهما: طرد القولين في إجزاء ما مضى. والثاني: القطع بوجوب الاستدراك إذا أدرك شيئاً من الشَّهر والأول أظهر والطريقان للقائلين بالقولين في الصورة الأولى، فأما أبو إسحاق فَلاَ يفرق بينهما. إذا عرفت ما ذكرناه فارجع إلى لفظ الكِتَاب. وأعْلَمْ أَنَّ قوله: والمعنى بالجازمة ... الخ) أراد به أنه المقصد من التقييد بهذا القيد، تَفْسِير اللفظ، وأن قوله: (لم يجز) معلم بالحاء والزاي. وأن قوله: (نعم لا يضر التردد بعد حُصولِ الظَّن)، إشارة إلى أن القادح هو التردد الذي لا يستند احتمال الرمضانية فيه إلى دليل، ولا يترجح في ظَنِّه فأما التَّجْويز الذي يجامع الظَّن بكونه من رمضان فلا عبرة به. وقوله: "لم يلزمه القضاء" مُعَلَّمٌ بالحاء، والميم، والألف. وقوله: (على أحد القولين) بالواو، لطريقة أبي إسحاق. وقوله: (كان الشهر بدلاً في حقه) أراد به المنقول عن القَفَّال معناه أن الشهر المأتى بصومه على هذا القول، إذا أقيم مقام رَمضَان وليس المراد منه أنه قضاء يصير بدلاً عن الفائت؛ لأنا إذا فرعنا عليه، لا نقول بأنه يكفيه شَهْرَه النَّاقص إذَا كَمُلَ رمضان. ومن المَسَائِلِ المُتَعَلِّقَة بِقَيْد الجزم ما إِذَا نوت الحائض صَوْمَ الغد قبل أن ينقطع دَمُهَا، ثم انقطع بالليل هل يَصِح صومُها؟ إن كانت مبتدأة يتم لها بالليل أكثر الحيض أو معتادة عادتها أكثر الحيض، وهو يتم بالليل صح إذا كانت معتادة عادة دون أكثر، وكانت تُتِم يالليل فوجهان: أظهرهما: أنه يَصِحّ؛ لأن الظَّاهِرَ استمرار عَادتها. والثاني: لا؛ لأنها قد تَخْتَلِف. وإن لم يكن لها عادة وكان لا يتم أكثر الحَيْضِ بالليل، أو كان لها عادات مختلفة، لم يصح الصَّوم. وأعلم أن ركن النّية، وإن كان لا يختص بصوم الفرض، إلا أن المذكور من مسائلة في الكتاب مخصوص به، لأنه قال: (أما النية فعليه أن ينوي لكل يوم ...) إلى آخره ومعلوم أن النية بالقيود المذكورة مخصوصة بالفرض. فرعان:
أحدهما: لو نوى الانتقال من صوم إلى صوم (¬1)، لم ينتقل إليه، وهل يبطل ما هو فيه، أم يبقى نفلاً؟ على وجهين، وكذا لَو رفض نية الفَرْض عن الصَّوْم الذي هو فيه (¬2). الثاني: لو قال إذَا جاء فُلاَنٌ خرجت من صَوْمِي فهل هو خَارجٌ عن الصَّوْم عند مجيئه؟. فيه وجهان فإن قلنا: نعم، فهل يخرج في الحَال؟ فيه وجهان وكل ذلك كما في الصَّلاة، أورده في "التهذيب" وغيره. قال الغزالي: الرُّكْنُ الثَّانِي الإمْسَاكُ عَنِ المُفَطِّرَاتِ، وَهِيَ الجِمَاعُ وَالاسْتِمْنَاءُ وَالاسْتِقَاءُ. قال الرافعي: لا بد للصًائِمِ مِنَ الإمسَاكِ عَنِ المُفْطِرَاتِ، وهي أنواع: منها: الجماعُ وهو مبطلٌ للصَّومِ بالإِجْمَاع. ومنها: الاسْتِمنَاء (¬3)، وسيأتي الكلام فيه. ومنها: الاسْتِقاءة فمن تَقَيَّأَ عامداً أَفْطَر، ومن ذَرَعَهُ الفَيْءُ لَمْ يُفْطِر. روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن ذَرَعَهُ الفَيْءُ وَهُوَ صَائِمٌ فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَلْيُقْضِ" (¬4). وربما روي ذلك عن ابن عمر -رضي الله عنهما- موقوفاً (¬5). وعن أبي الدَّرْدَاء -رضي الله عنه- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قَاءَ فَأفْطَرَ أَي: اسْتَقَاءَ، ¬
قَالَ ثَوْبَانُ: صَدَقَ أَنَا صَبَبْتُ لَهُ الْوُضُوءَ" (¬1). واختلفوا في أنه لِمَ أفطر عِنْد التقيء عمْداً. قال بعض الأصحاب: إنما أفطر؛ لأنه إذا تقيأ رجع شَيْءٌ مما خرج وإن قَلَّ، فذلك هو الذي أوجب الفطر، إلا لما أفطر؛ لما روي عن ابن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: "أَنَّ الفِطرَ مِمَّا دَخَلَ وَالْوُضُوءَ مِمَّا خَرَجَ" (¬2). ومنهم من قَالَ إن عينه مفطر كالإنزال تحويلاً على ظاهر الخَبَرِ. قال في "العدة": وهذا أصح، وعليه يتفرع، عد صاحب الكتاب الاسْتِقَاء مفطرة بِرأْسِهَا (¬3)، وإلا فَلَوْ كانت مفطرة من جهة تضمنها رجوع شيء، لكانت من قبيل دخول الدَّاخل؛ وعلى الوجهين يبنى ما إذا تقيأ مَنْكُوساً، أو تحفظ حتى استيقن أنه لم يرجع منه شيء إلى جَوْفِهِ هل يفطر؟ قال الإمام: ولو استقاء عمداً، أو تحفظ جُهْدَه فَغَلَبهُ القيء ورجع شيء، فإن قلنا: الاستقاءة مفطرة وإن لم يرجع منه شيء فهاهنا أولى، وإن قلنا لا يفطر إذا لم يرجع شَيْء، فهو كما في صُورَةِ المبالَغَةِ في المضمضة إذا سَبَقَ الماء إلى جَوْفِه. ويجوز أن يعلم قوله: (والاستقاءة) بالحاء، لأن عنده الاستقاءة بإطلاقها لا تفطر بل يُشْتَرط أن يكون الخارج مِلْءِ الفَمِ. قال الغزالي: وَدُخُولُ دَاخِلٍ، وَحَدُّ الدُّخُولِ أَنَّ كُلَّ عَيْنٍ وَصَلَ مِنَ الظَّاهِرِ إِلَى البَاطِنِ فِي مَنْفَذٍ مَفْتُوحٍ عَنْ قَصْدٍ مَعَ ذِكْرِ الصَّوْمِ فَهُوَ مُفَطِّرٌ، أَمَّا البَاطِنُ، فَهُوَ كُلُّ جَوْفٍ فِيهِ قُوَّةٌ مُحِيلَةٌ كَبَاطِنِ الدِّمَاغِ وَالبَطْنِ وَالأَمْعَاءِ وَالمَثَانَةِ فَيُفْطِرُ بِالْحُقْنَةِ وَالسَّعُوطِ، وَلاَ يُفْطِرُ بِالاكْتِحَالِ (م) وَالتَّقطِيرِ (م ح و) فِي الأُذُنَيْنِ، وَفِيمَا يَصِلُ إلَى الإِحْلِيلِ وَجْهَانِ، وَلاَ يُقْطِرُ بالفَصْدِ والحِجَامَةِ. قال الرافعي: من أسباب الفطر دخول الشَّيءِ جَوْفَه، وقد ضَبَطُوا الدَّاخِلَ الذي ¬
يفطر بالعَيْنِ الوَاصِلِ مِنَ الظَّاهِرِ إِلَى البَاطِنِ فِي مَنْفَذٍ مَفْتُوحٍ عَنْ قَصْدٍ مَعَ ذِكْرِ الصَّوْم، وفيه قيود: منها: البَاطِنُ الوَاصِلُ إِلَيْهِ، وفيما يُعْتَبر فيه وجَهان: مَفْهُومانِ، مِنْ كَلَاَمِ الأَئِمَّة -رحمهم الله- تغريضاً وتصريحاً. أحدهما: أن المُعْتَبر ما يقع عليه اسْم الجَوْف. والثاني: يُعْتَبر مَعَهُ أن يكون فيه قوة تحيل الوَاصِل إليه من غذاء، أو دَوَاءٍ، وهذا هو الذي أوردَهُ في الكتاب، ولكن الموافق لتفريع الأكْثَرِين هو الأول على ما سيأتي، ويدُلُّ عليه أنهم جَعَلوا الحَلْقَ كالجَوْفِ في بُطْلاَنِ الصَّوْمِ بوصول الوَاصِلِ، ذكره في "التهذيب" وحكاه الحَنَّاطِيُّ عن ابن القاص وأورده الإمَام أيضاً أنه إذا جاوز الشَيْءَ الحلقوم أفطر، ومن المعلوم أنه ليس في الحلق قوة الإحالة، وعلى الوجهين معاً باطن الدماغ والبَطْن والأَمْعَاء والمثانة مما يفطر الوَاصِلُ إِلَيْهِ، حتى لَوْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ "مَأمُومَةٌ" أو على بطنه "جَائِفَة" (¬1) فَوَضَعَ عَلَيْهَا دَوَاءً فوصل إلى جَوْفِهِ، أو إلى خَرِيطَةِ دِمَاغِهِ بَطَلَ صَوْمُه. قال الإمام وصاحب "التهذيب"؛ وإن لم يصل إلى باطن الأمعاء وإلى بَاطِنِ الخَرِيطَةِ، ولا فرق بين أن يكون الدَّوَاءُ رَطِباً، أو يَابِساً. وعند أبي حنيفة -رحمه الله- لا يبطل باليَابِسِ، ولم يجعل المثانة مما يفطر الوَاصِل إِلَيْهِ، وفي: "المعتمد" حكاية وجه يوافق في المثانة. لنا مطلق مَا رُوِي: "أنَّ الْفِطرَ مِمَّا دَخَلَ". وقياس المثانة على سَائِرِ الأَجْوَافِ، وفيها قوة إِحَالَةِ الدَّوَاءِ. ثم في الفَصْلِ صُوَرُ: إحداها: الحقنة مُبْطِلَة لِلصَّوْمِ؛ لحصول الوُصْولِ إلى الجَوْفِ المُعْتَبَرِ. وعن القاضي الحُسَيْنِ: أنها لا تُبْطِلُهُ وهو غريب، وفيها اختلاف رواية عن مالك. الثانية: السَّعُوطُ مُبطِلٌ لِلصَّوْمِ أَيْضًا، إِذَا وَصَلَ إِلَى الدِّمَاغ. وعند مالك: لا يبطل إلاَّ إِذَا نَزَلَ إِلَى الحَلْقِ مِنْهُ شَيْءٌ، واعلم أن ما جاوز الخَيْشُومَ في الاستعاط، فقد حَصَل فِي حَدِّ البَاطِنِ، ودَاخِلُ الفَم وَالأَنْفِ إِلَى مُنْتَهَى الخَيْشُوم، والْغَلْصَةِ (¬2) له حُكْمُ الظَّاهِرِ مِنْ بَعْضِ الوُجُوهِ، حتى لوَ خرج إليه القَيْء أو ابتلَعَ مِنْهُ نُخَامَةً، بَطَلَ صَوْمُهُ، وَلَوْ أَمْسَكَ فِيهِ شَيْئاً لم يَبْطُل، ولو نجس وجب غسله، وله حكم البَاطِن مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لو ابتلع منه الرِّيق لا يَبْطُلُ صَومُه، ولا يجب غسله على ¬
الجُنُب. الثالثة: لا بَأْسَ لِلصَّائِم بالاكتحال (¬1) إذ ليست العَيْنُ مِنَ الأَجْوَافِ، وقد روي أن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "اكْتَحَلَ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ" (¬2) ولا فرق بين أن يجد في الحَلْقِ مِنْهُ طَعْماً، أو لا يجد، فإنه لا منفذ من العَيْنِ إلى الحَلْق، وما يَصِل إليه يَصِلُ مِنَ المَسَامِ. وعن مالك وأحمد أنه إذا وجد في الحَلْقِ طَعْماً مِنْهُ أَفْطَرَ. الرَّابِعَةُ: في بُطْلاَنِ الصَّوْمِ بالتَّقْطِيرِ فِي الأُذُنِ، بحيث يَصِل إلى البَاطِن فيه وجهان: أحَدهما: وبه قَالَ الشَّيْخَ أبُو مُحَمَّدٍ: أنه يَبْطُلُ كَالسّعُوطِ. والثاني: لاَ يَبْطُل؛ لأنه لا منفذ من الأُذُنِ إِلَى الدِّمَاغ، وما يصلُ يصل من المَسَام فأشبه الإكْتِحَال، ويروي هذا الوجه عن الشَّيْخِ أَبِي عَلِيّ، والفَورَانِيّ والقاضي الْحُسَيْنِ، وهو الذَي أورده صاحب الكتاب، لكن الأول أظهر عند أكثر الأصْحَاب، ولهم أن يقولوا: هَبْ أَنَّ الأذُنَ لاَ مَنْفَذَ مِنْهَا إِلَى دَاخِلِ الدِّمَاغ، لكنه نافذ إلى دَاخِلِ قحف الرَّأسِ لا مَحَالَة، والوصول إليه كَافٍ فِي البُطْلاَن، وبَنَى الإمَام هذا الخِلاَف على الوَجْهَيْنِ السَّابقين فيما يعتبر في البَاطِن الذي يصل إليه الشيءَ فإن دَاخِل الأُذُنِ جَوْفٌ لكن ليس فيه قوة الإحالة، وعلى الوجهين تتفرع الصُّورة الخَامِسَة، وهي ما إذا قطر في إحليلة شيئاً، ولم يَصِلْ إلى المثانة، ففي وَجْهٍ يبطل صَوْمُه، وهو الأظْهَرُ، كما لَوْ وَصَلَ إِلَى حَلْقِهِ، ولم يَصِل إلى المعدة. وفي وجه، لا يَبْطُل كَمَا لو وضع فِي فمه شَيْئاً، وبهذا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وهو اختيارُ ¬
القَفَّالِ -رحمهما الله- وتَوَسَّطَ بَعْضُ مُتَأخِّرِي الأَصْحَاب، فقال: إن وَصَلَ إلى ما وَرَاء الحَشَفَةِ أفْطَر، وإلا لم يفطر تشبيهاً بِالفَمِ والحَلْقِ. السَّادِسَة: لا يفسد الصَّومُ بِالْفَصْدِ وَالْحِجَامة، لكن يكره خِيفَة الضَّعْفِ. وقال أحمد: يفسد بالحِجَامة. وبه قال ابن المنذر وابْن خُزَيمَة مِنْ أَصْحَابِنَا. لَنَا: ما روي: "أنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- احْتَجَمَ، وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ" (¬1). وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثَلاَثْ لاَ يُفْطِرنَ الصَّائِمَ القَيْءُ وَالْحَجَامَةُ وَالاحْتِلاَمَ" (¬2). وأما لفظ الكتاب، فقوله: (وهو الداخل) هو المستقيم وفي كثير من النسخ (وحد الدخول)، وذلك يحوج إلى إلحاق وإضْمَار. وقوله: (فيه قوة محيلة) يجوز إعْلاَمُه بالواو، إشارةً إلى الوجه المكتفي يكون البَاطِن الوَاصِل إليه جوفاً، حتى لو داوى خراجه على لَحْمِ السَّاقِ، والفخذ فأوصل الدَّواء إلى دَاخِلِ اللَّحْمِ، أو غرز فيه حديدة لا يبطل صومه؛ لأنه ليس بجوف، وكذا لو انتهى طرف السِّكين إلىَ مَكَانِ المُخّ، فإنه لا يعد عضواً مجوفاً. وقوله: و (المثانة) مُعَلَّمٌ بِالحَاءِ، والْوَاوِ، و (الحقنة، والسعوط) والاكتحال بالميم والألف، و (التقطير في الأذن) بالواو و (الحجامة) بالألف، والواو، وقد بَيَّنَّا وجه ذلك كله، -والله تعالى أعلم-. قال الغزالي: وَلاَ بَتَشَرُّبِ الدِّمَاغِ الدُّهْنِ (ح) بِالمَسَامّ، وَيُفْطِرُ إِذَا وُجِئَ بَطْنُهُ بِالسِّكِّينِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ السِّكّينِ خَارِجاً. قال الرافعي: من القيود المذكورة في الضَّابِط كون الوَاصِل، وَاصلاً من منفذ مفتوح، والقصد به الاحتراز عما إذا طلى رأسه، أو بطنه بالدّهن فوصل إلى جَوْفِهِ بتشرب المسام، فإن ذلك لا يبطل الصَّوم؛ لأنه لم يَصِل من مَنفَذٍ مَفْتُوحٍ، كما لا يبطله الاغتسال والانغماس في الماء، وإن وجد له أثر في بَاطِنِهِ، ولو وجأ نفسه، فَوَصَل السِّكين إلَى جَوْفِهِ، أو وَجَأَه غَيْرُه بِإِذْنِهِ أَفطر، سواء كان بعض السكين خارجاً، أو لم يكن، وكذا لو ابتلع طرف خَيْطٍ، وطرفه الآخر بَارِز يفطر بوصول الطَّرف لوَاصِل، ولا يعتبر الانفصال من الظَّاهِرِ بِالكُلِّيَّةِ. ¬
وخالف أَبو حَنِيفَةَ فِي الْمَسْألَتَيْنِ وَنَظَائِرِهَا، ورأيت الحَنَّاطِي حَكَى وجهين فيمن أَدْخَل طَرَفَ خَيْطٍ في دُبُرِهِ أو في جَوْفِهِ، وبعضه خَارجٌ، فعل يفطر، فيجوز أن يعلم لهذا قوله: (وإن كان بعض السكين خارجاً) مع الحاء بـ (الواو). فرع: لو ابتلع طرف خيط باللَّيْلِ وطرفه الآخر خارج وأصبح كذلك فإن تركه لم تَصِحّ صَلاتُه، وإن نزعه أو ابتلعه لم يصح صَوْمُه، فينبغي أن يبادر غيره إلى نَزْعَةِ وَهوَ غَافِلٌ، فَإِنْ لَمْ يتفق فالمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلاَةِ، بنزعه، أوِ ابْتِلاعِهِ أولى (¬1)؛ لأن الصَّوْمِ يُتْرَك بِالْعُذْرِ، وَيُقْضَى بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ، وذكر في "التتمة" وجهاً آخر، وهو أن الأولى: أن يتركة كذلك، ويصلِّي على حسب حاله؛ لأنه شَارعٌ فِي الصَّوْمِ، فلا ينبغي أن يفسده. قال الغزالي: (أَمَّا القَصْدُ) فَنَعْنِي بِهِ أنَّهُ لَو طَارَت ذُبَابَةٌ إِلَى جَوْفِهِ أَوْ وَصَلَ غُبَارُ الطَّرِيقِ إِلَى بَاطِنِهِ أَوْ أُوجِرَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلاَ يُفْطِرُ إِلاَّ أَنْ يُوجَرَ المُغْمَى عَلَيْهِ مُعَالَجَةَ فَفِيهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: ومن القيود كَوْنُ الوُصول عن قصد منه، فلو طَارَت ذُبَابَةٌ أو بَعُوضَةٌ إِلَىِ حَلْقِهِ، أو وَصَلَ غُبَارُ الطَّرِيقَ، وَغَرْبَلَةَ (¬2) الدَّقِيقِ إِلَى جَوْفِهِ، وغير ذلك لم يكن مُفْطِراً، وإن كان إطباق الفَمِ، واجتناب المطروق، ومفارقةُ مَوْضِع الطَّرِيقِ مُمْكِناً، لكن تكليف الصَّائِم الاحتراز عن الأفعال المعتادة التي يحتاج إليها يَجُرُّ عُسْراً شَدِيداً، بل لو أفتح فاه حتى وَصَلَ الغُبَار إِلَى جَوْفِهِ، فقد قال في "التهذيب": أصَحُّ الوَجْهَيْن أنه يقع عفواً، وشَبَّهُوا هَذَا الخِلاَف بالخلاف فيما إذا قَتَلَ البَرَاغِيث عَمْداً، وَتَلَوَّثَتْ يَدُهُ أَنَّهَا هَلْ يَقَعْ عَفواً، ولو ربطت المرأة ووطئت أو أوجر بِالسِّكِّينِ، أو وجئ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلاَ إِفْطَارَ، ونقل الْحَنَّاطِي، وجهين فيما لو أوجر بِغَيْرِ اختياره وهو غَرِيبٌ بمرة. نعم، لو كان مغمى عليه، فأوجر مُعَالجةً وإصْلاَحاً ففيه وجهان، وفي "النهاية" قولان: أحدهما: أنه يفطر؛ لأن هذا الإيجار لمصلحته فكأنه بإذنه واختياره. ¬
وأصحهما: أنه لا يفطر كإيجار غيره بغير اختياره. واعلم أن هذا الخِلاَف مُفَرَّعٌ على أَنَّ الصَّوْمَ لاَ يبطل بمطلق الإغْمَاء، إلا فَالإِيجَاء مَسْبُوق بالبُطْلاَن، وهذَا الخِلاَف كالخلاف في المغمى عليه المحرم إذا عُولج بدواءٍ فيه طِيبٌ، هَل تلزمه الفِدْية. قال الغزالي: وَلَو ابْتَلَعَ دَمًا خَرَجَ مِنْ سِنِّهِ أَوْ سِتاً أَفْطَرَ بِخِلاَفِ الرِّيق إِلاَّ أَنْ يَجْتَمِعَ الرِّيقُ بِالعَلَكِ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَلَو رَدَّ النُّخَامَةَ إلَى أَقْصَى الفَمِ ثُمَّ ابْتَلَعَ أَفْطَرَ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى قَطْعِهِ مِنْ مَجْرَاهُ فَتَرَكَ حَتَّى جَرَى بنَفْسِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَلَوْ سَبَقَ المَاءُ فِي المَضْمَضَةِ إِلَى بَاطِنِهِ فَقَوْلاَنِ، وَإِنْ بَالَغَ فَقَوْلاَنِ مُرَتَّبَانِ، وَأَوْلَى بِالإِفْطَارِ، وإنْ جَرَى الرِّيقُ بِبَقِيَّةِ طَعَامِ فِي خِلاَلِ الأَسنَانِ فَإِنْ قَصَّرَ فِي تَخْلِيلِ الأَسْنَانِ فَهُوَ فِي صُورَةِ المُبَالَغَةِ، وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ فَهُوَ كَغُبَارِ الطَّرِيقِ، وَالمَنِيُّ إِنْ خَرَجَ بِالاسْتِمْنَاءِ أَفْطَرَ، وَإِنْ خَرَجَ بِمُجَرَّدِ الفِكْرِ وَالنَّظَرِ فَلاَ، وَإنْ خَرَجَ بِالقُبْلَةِ وَالمُعَانَقَةِ مَعَ حَائِلٍ فَهُوَ كَالمَضْمَضَةِ، وَالمُضَاجَعَةِ مُتَجَرِّداً كَالْمُبَالَغَةِ، وَتُكْرَهُ القُبْلَةُ لِلشَّابِّ الَّذي لاَ يَمْلِكُ إرْبَهُ، وَخُرُوجُ القَيْءِ كَالْمَنِيِّ، وَلَوِ اقْتَلَعَ نُخَامَةً مِنْ مَخْرَجِ الحَاءِ فَفِي إِلْحَاقِهِ بِالاسْتِقَاءِ وَجْهَانِ، وَمَخْرَجُ الخَاءِ مِنَ الظَّاهِرِ، وَفِي إِفْسَادِ القَصْدِ شَرْعاً بِالِإكْرَاهِ قَوْلاَنِ: أصحهما: أَنَّهُ يُفْطِرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَائِمِ. قال الرافعي: الفصل يجمع مسائل: إحداها: ابتلاع الريق لا يفطر؛ لأنه لا يمكن الاحتراز عنه، وبه يحيى الإنسان، وعليه حمل بَعْضُ المُفَسِّرِين قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (¬1) وَإنَّمَا لاَ يفطر بِشُرُوطٍ: أحدها: أن يكون الرِّيق صرفاً، أما لو كان مخلوطاً بغيره مُتَغَيِّراً فإنه يفطر بابتلاعه، سواء كان ذلك الغير طاهراً، كما لو كان يَقْتل خيطاً مصبوغاً، فتغير ريقه، أو نجساً كما لو دميت لثته (¬2) وتغير ريقه، فلو أبيض، ولم يبق تغيره، فهل يفطر بابتلاعه؟ فيه وجهان: أظهرهما: عند الحَنَّاطِي، والقَاضِي الرّوَيانِي لا؛ لأن ابتلاع الرِّيق مباحٌ، وليس فيه عين آخر، وإن كان نَجِساً حكماً. ¬
والثاني: وهو الأظهر عند الأكثرين، أنه يفطر؛ لأنه لا يَجُوزُ لَهُ ابْتِلاَعُه، وَإِنَّمَا يَجُوز لَهُ ابتلاع الطَّاهِرِ. مِنْهُ، وعلى هذا لو تناول باللَّيْلِ شَيْئاً نَجِساً ولم يغسل فَمَهُ حَتَّى أَصْبَح فابتلع الرِّيق بطل صَوْمُهُ. الثاني: أن يبتلعه مِنْ معدنه، فلو خرج إلى ظَاهِرِ فمه ثُمَّ رده بِلِسَانِهِ، أو غَيْرِ لِسانِهِ، وابتلعه بَطَل صَوْمُه. ولو أخرج لِسَانه وعليه الرّيق ثم رده وابتلع ما عليه ففيه وجهان: أظهرهما -وهو المذكور في "النهاية"-: أنه لا يبطل صَوْمُه، لأَنَّ اللِّسَانَ كيفما تَقلَّبَ معدودٌ مِنْ دَاخِل الفم، فلم يفارق ما عليه معدته، ولو بَلَّ الخَيَّاطُ الخَيْطَ بالريق ثم رده إلى الفم على ما يعتاد عند الفتل فإن لم يكن عليه رطوبة تنفصل، فلا بأس (¬1)، وإن كانت وابتلعها ففيه وجهان: عن الشَّيْخِ أبي محمد: أَنه لا يَضُرّ؛ لأن ذلك القدر أقل مما يبقى من المَاءِ في الفم بعد المضمضة. وقال الأَكثَرونَ: إنه يَبْطُلُ الصَّوْم؛ لأنه لا ضرورة إليه، وقد ابتلعه بعد مفارقة المَعْدة، وخص في "التتمة" الوجهين بما إذا كان جَاهِلاً بأن ذلك لاَ يَجُوز، فأما إِذَا كَانَ عَالِماً يَبْطُلُ صَوْمُه بِلاَ خِلاَف. الثالث: أن يبتلعه، وهو على هيئته المعتادة، أما لو جَمَعَه ثم ابتلعه، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يبطل صَوْمُه، لأن الاحتراز عنه هين. وأصحهما: أنه لا يَبْطُل، وبه قال أبُو حنيفة -رحمه الله- لأنه مِمَّا يَجُوزُ ابتلاعه ولم يخرج من مَعْدته فأشبه ما لو ابتلعه متفرقاً. فإن قلت: هذان الوَجْهَان إِنْ جَرَيَا في مُطْلِق الجَمْعِ، فَلِمَ قال: إلا أن يجمع الريق بالعلك، وإن اختصا بالجمع بالعلك فلم أطلقتم نقلهما؟ فالجواب: أنهما جاريان في مطلق الجَمْع نقلاً، وتوجيهاً، ولَعَلَّه إنما تعرض للعلك؛ لأن الإمام قد ذكر أن الوجهين في سورة الجمع نَاشِئان مِنْ لفظ الشَّافِعيّ -رضي الله عنه- حيث قال: "وأكره العلك؛ لأنه يحلب الفم"، وكأنه حاذر اجتماع الريق على خلاف العادة، وهذا شيء قد قاله بعض الشَّارِحِين. وقال آخرون: أراد بقوله: (يحلب الفم أنه يطيب النَّكْهَة، ويزيل الخَلُوف؛ فَلِذَلِكَ كَرِهَهُ، ولو كان العلك جديداً مفتتاً فَوَصَلَ مِنْهُ شَيْءٌ إلى الجوف بطل صَوْمُه، كما لو ¬
وضع سُكَّرَةً فِي فِيه وابتلع الرِّيق بعد مَا ذَابَتْ فيه، وما قدَّمْنَاه فيما إذا كان مغسولاً مستعملاً، أو صلباً لا ينفصل منه شيء. وقوله: (ولو ابتلع دماً خرج من سنه، أو سناً أفطر) ظاهرٌ، وفيه إشارة إلى أن دَاخِل الفم له حكم الظَّاهِر في هذا، وأن احتمال ابتلاع الريق ليس لمجرد ابتلاعه من الفم، بل لدعاء الضرورة إليه. المسألة الثانية: النخامة (¬1) إن لم تحصل في حد الظَّاهِرِ (¬2) من الفم فلا مبالاة بها، وإن حصلت فيه بانصبابها من الدِّمَاغ في الثُّقْبَةِ النَّافِذَةِ منه إِلَى أقْصَى الفَم فوق الحُلْقُوم نظر إن لم يقدر على صرفه ومَجَّهُ حتى نزل إلى الجَوْفِ لم يضره، وإن رَدَّه إلى قَضَاءِ الفَمِ، أو ارتد إليه ثم ابتلعه أفطر (¬3)، وإن قدر على قطعة من مجراه وَمَجَّه فتركه حتى جرى بنفسه ففيه وجهان حَكَاهُمَا الإِمَام: أحدهما: أنه لا مُؤَاخَذَةَ؛ لأنه لم يفعل شيئاً، وَإنَّمَا أَمْسَكَ عَنِ الفِعْلِ وأوفقهما لكلام الأئمة إن تركه في مَجْرَاه مَعَ القُدْرَةِ عَلَى مَجِّهِ لتقصيره فيفطر. ونقل عن "الحاوي" وجه مطلق في الإفطار بالنُّخَامة، والوجه تنزيلهما على الحَالَةِ التي حَكَى الإمامُ الخِلاَفَ فِيهَا. الثالثة: إذا تَمَضْمَضَ فسبق المَاءُ إلى جَوْفِهِ، أو استنشق فَوَصَلَ المَاءُ إِلَى دِمَاغِهِ فقد نَقَلَ المُزَنِيّ أَنَّه يفطر، وقال في اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى -رحمهما الله- أنه لا يفطر إلا أن يتعمد الأزدراد، وللأصحاب فيه طريقان: أصحّهما: أن المسألة على قولين: أحدهما: وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والمزني -رحمهم الله-: أنه يفطر؛ لأنه وَصَلَ الماء إلى جَوْفِهِ بِفِعْلِهِ، فإنه الذي أدخل الماء فيه وَأَنْفه. والثاني: وبه قال أحمد وهو اختيار الربيع -رحمهما الله-: أنَّه لا يفطر؛ لأنه وصل بغير اختياره، فأشبه غبار الطَّرِيق. والثاني: القَطْع بأنه لا يفطر، حكاه المسعودي وغيره ثم من القائلين به من حمل منقول المزني على ما إذا تَعَمَّد الازدراد، ومنهم منَ حَمَلهُ على ما إذَا بَالَغ، وحمل النَّصّ الثَّاني على ما إذا لم يبالغ، ونفى الخِلاف في الحالتين، وإذا قَلنا بطريقة القولين فما محلهما؟ فيه ثلاثة طرق. ¬
أصحها: أن القولين فِيمَا إِذَا لم يبالغ في المضمضة والاستنشاق فأما إذا لم يبالغ أفطر بلا خلاف. وثانيها: أن القَوْلَينِ فيما إذا بالغ، أما إذا لم يبالغ فلا يفطر بلا خلاف. والفرق على الطَّرِيقين أن المُبَالَغَةَ مَنْهِيٌ عَنْهَا، وأصْلُ المَضْمَضَةِ والاسْتِنْشَاق مَحْثُوثٌ عَلَيْهِ، فلا يحسن مؤاخذته بما يتولد منه بغير اختياره. والثالث: طرد القولين في الحالتين، فإذا مَيَّزنَا حَالَةَ المُبَالَغَةِ عن حالة الاقتصار على أصل المَضْمَضَةِ والاستشاق حَصَلَ عِنْدَ المُبَالَغَةِ قولان مُرَتَّبَانِ كما ذكر في الكتاب، وظَاهِرُ المَذْهَب ما ذكرنا عند المُبَالِغَةِ الإفطارُ، وعند عَدَمِ المُبَالَغَةِ الصِّحَةُ، ولا يخفى أن مَحَل الكلام فيما إذا كَانَ ذاكر للصَّوْمِ، أما إذا كان ناسياً، فلا يفطر بحال، وسَبْقُ المَاءِ عند غسل الفَم لنجاسة، كسبقة المضَمضة، والمُبَالَغَة هَاهُنَا لِلْحَاجَةِ ينبغي أن تكون كالسَّبق في المَضْمَضَةِ بِلاَ مُبَالَغَةٍ، ولو سبق الماء من غسله تَبَرُّداً، أو مِنَ المَضْمَضَةِ في الكَرَّةِ الرابعة فقد قال في "التهذيب": إن بالغ بَطَلَ صَوْمُه، وإلا فهو مُرَتَّبٌ على المَضْمَضَةِ، وأولى بالإفطار، لأنه غير مأمور به (¬1). الرابعة: لو بقي طعام في خَلَلِ أَسْنَانِهِ فابتلعه عمداً، أفطر خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- فيما إذَا كانَ يسيراً، وربما قدر بـ"الحمصة"، وإن جرى به الريق من غير قصد منه فمنقول المزني أنه لا يفطر، ومنقول الربيع أنه يفطر، واختلف الأصْحَاب فمنهم من قال: فيه قولان كما في سورة المَضْمَضَة؛ لأن الطَّعَام حصل في فمه بسبب غير مكره، وهو الأكل باللَّيل فأشبه المضمضة، ومنهم من نفى كون المسألة على قولين، وهو الأَصَح، ثم مِنْ هَؤُلاَءِ من حمل النص على حالين، حيث قال: لا يفطر أراد به ما إذا لم يقدر على تمييزه، ومَجّه، وحيث قال: يفطر أراد ما إذا قدر عليه، فابتلعه، وَتَوَسَّط الإمام من وجه آخر وتابعه صاحب الكتاب، فقال: "إن لم يتعهد تنقية الأسنان، ولم يُخَلّل، فهو كصورة المُبَالَغَةِ في المَضْمَضَةِ"، لأن الغالب في مثله الوُصول إلى الجَوْف، وإن نقاها على الاعتياد في مثله فهو كغبار الطريق، ولك أن تقول: تَركُ التَّخْلِيل إِمَّا أن يكون مَكْرُوها أو لا يكون، وإن لم يكن مكروها فلا يتوجه ¬
إلحاقة بصورة المبالغة، لأن الوصولِ هناك تَوَلَّدَ مِنْ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ، وإن كان مكروهاً فالفرق ثابت أيضاً لأن ما بين الأسنان أقْرَبُ إلى الظَّاهِرِ من الماءِ عند المُبَالَغَةِ، وربما يثبت في خلالها فلا ينفصل، وبتقدير أن ينفصل فالتمكن من أخذه ومَجِّه مما لا يبعد، والماء سَيَّالٌ إِذَا وَجَدَ مُنْحَدَراً أَسْرَع في النفوذ، فكان وصوله إلى الجوف أقرب. وليكن قوله: (فهو كصورة المبالغة) مُعلماً بالحاء، لأنهما مفترقان عنده فيفطر في صورة المبالغة، ولا يفطر هاهنا. الخامسة: المَنِي إنْ خَرَج بالاستمناء أفطر؛ لأن الإِيلاَجَ من غَيْرِ إنزال مُبْطِل، فالإنزال بَنَوْع شَهْوَةٍ أولى أن يكون مُفْطِراً، وإن خَرَج بمجرد الفكر (¬1) والنظر لشهوة لم يكن مفطراً خَلافًا لمالك في النَّظَرِ، وعن أصْحَابِهِ في الفِكْر اختلاف، ولأحمد حيث قال: إن كَرَّرَ النظر حتى أنزل أَفْطَر. لنا: أنه إنزال من غير مُبَاشَرة، فأشبه الاحتلام، وإن خَرَجَ بمباشرةٍ فيما دُونَ الفَرْجِ أو لمس، أو قبلةٍ أفطر، لأنه أنزل بمباشرة، هذا ما ذكره الجُمهُور، وذكر الإمام أن شَيْخَهُ حكى وجهين فيما إذا ضَمَّ امرأة إلى نفسه وبينهما حائل، قال: "وهو عندي كسبق الماء في سورة المضمضة، وإن ضاجعها متجرداً فالتقت البشرتان، فهي كَصُورة المبالغة في المَضْمَضة واقتدى صاحب الكتاب به، فأورد هذا الترتيب. وتكره القُبْلَةُ للشباب الذي تحرك القبلة شهوته، ولا يأمن على نفسه، ولا تكره لِغَيْره وإن كان الأولى الاحتراز "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ" (¬2) وعن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ، وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لإرْبِهِ (¬3)، ومن كرهنا له القبلة فهل ذلك على سبيل التحريم (¬4) أو التنزيه؟ حكى في "التتمة" فيه وجهان، والأول هو المذكور في "التهذيب" وقوله: (وخروج القيء كالمني)، إشارة إلى ما قدمنا أنه لو ¬
استقاء أفطر، وإن خرج بغير اختياره فلا، ولو اقتلع نخامه من بَاطِنِهِ ولفظها، فقد حكى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فيه وجهين: أحدهما: أنه يفطر به، إلحاقاً له بالاستقاءة. والثاني: لا، لأن الحَاجَة إليه مما تَكْثُر، فَلْيُرَخَّص فِيهِ، وَبِهَذَا أجاب الحَنَّاطِيّ، وكثير من الأَئِمَّة ولم يذكروا غيره، ثم ذكر صاحب الكتاب أن مخرج "الحاء" من البَاطِن، ومخرج "الخَاءِ" من الظَّاهِر، ووجهه لاَئِح، فإن "الحاء" تَخْرُج من الحَلْقِ، والحَلْقُ من الباطن، و"الخاء" تخرج مما قبل الغَلْصَمه إلا أن المقصد في مثل هذا المقام الضابط الفارق بين الحدَّيْنِ، ويشبه أن يكون قدر مما بعد مخرج الخاء من الظَّاهرِ أيضاً، والله أعلم. السادسة: ذكرنا من قبل أنه لو أُوجِرَ مكرهاً لَمْ يفطر، فلو أكره حَتَّى أكل بنفسه ففيه قولان. أحدهما: وبه قال أحمد: لا يفطر، لأن حكم اختياره ساقط، وأكله ليس منهياً عنه، فأشبه النَّاس. والثاني: وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-: أنه يفطر، لأنه أتى بضد الصَّوْم ذَاكِراً له، غايته أنه أتى به لدفع الضَّرر عن نفسه، لكنه لا أثر له في دفع الفِطْر، كما لو أَكلَ أو شرب لدفع الجوع، أو العَطَشِ، وهذا أَصَحُّ عِنْد صَاحِب الْكِتَابِ، ويجري القَوْلاَن فيما لو أكرهت المرأة حتى مكنت، وكذلك فيما إذا أُكْرِه الرَّجُل حَتَّى وَطِئ. إن قلنا بتصور الإكراه على الوطء. نعم، لا تجب الكفارة، وإن حَكَمْنَا بالإفْطَار للشُّبْهَة. وإن قلنا: لا يتصور الإكراه على الوطء بَطَلَ صَومه، ولَزِمَه الكَفَّارة. وعثد أحمد: يحصل الإفطار بالوَطْءِ مكرهاً، بخلاف مَا قَال في الأكل. وقوله: (وفي فساد القصد شرعاً) أشار به إلى أن قيد القصد لا بد منه على ما ذكرناه في الضابط والقصد من حيث الحس موجودٌ في حَقِّ المُكْرَه، ولكن في إِلْحَاقِهِ بالعَدَمِ شَرْعاً، وإفساده الخلاف المَذْكُور. وقوله: (لأنه ليس بصائم) معناه أن الإكراه إنما يؤثر في دَفْع الإثم على ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رُفِعَ عَنْ أمَّتِي الْخَطَأ، والنِّسْيَانُ" (¬1) الخبر، وحصول الفِطْر لا يتعلق به إثم. ¬
واعلم أن هذا التوجيه يتركَّب على مُقَدِمتين. إحداهما: أن الإِكْرَاه إنما يُؤَثِّر في دَفْعِ المأثم. والثانية: أن هذا ليس بمأثم، واقتصر هاهنا على ذكر الثانية، وفي "الوسيط" على ذكر الأولى -والله تعالى أعلم-. قال الغزالي: فَأمَّا ذِكْرُ الصَّوْم احْتَرَزْنَا بِهِ عَنِ النَّاسِي لِلصَّوْمِ فَإنَّهُ لاَ يُفطِرُ بأكْلٍ وَلاَ جِمَاعٍ (م و)، وَالغَالِطُ الَّذِي يَظُنُّ عَدَمِ طُلُوعِ الفَجْرِ أَوْ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَفْطَرَ وَيَلْزَمُهُ القَضَاءُ في الآخِرِ. قال الرافعي: ومن القيود المُدْرَجَة في الضَّابِطِ الَّذِي سَبَقَ كَونُ الوصولِ مع ذِكْرِ الصَّوم، فأما إذا أكل ناسياً نظر إن قَلَّ أكله لم يفطر خلافاً لمالك. لنا: ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ، أَوْ شَرِبَ فَليُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ" (¬1). وإن كَثُر ففيه وجهان كالوَجْهِيْنِ في بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالْكَلاَمِ الكَثِير، وَإِنْ أَكَلَ جَاهِلاً بِكَوْنِهِ مُفْطِراً، وكان قريب العَهْدِ بالإسْلاَمِ، أو نشأ ببادية، وكان يجهل مثل ذلك، لم يبطل صَوْمُهُ، إلا فَيَبْطُلُ، ولو جَامَع نَاسياً للصَّومِ فقد نقل المُزَني أن صَوْمَه لاَ يَبْطُلُ، وللأصْحَابِ فيه طريقان: أصَحُّهُمَا: القطع بأنه لا يَبْطُلُ، كما نقله اعتبار بالأكل (¬2). والثاني: أنه يخرج على قولين كما في جماع المُحْرِمِ نَاسِياً، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا أنكر مَا نَقَلَهُ المُزَنِي، وقال: لا نَصَّ لِلشَّافِعِيّ -رضي الله عنه- فيه. ولو أكل على ظَنِّ أن الصُّبْحَ لَمْ يطلع بَعْدُ، أو إن الشَّمْسَ قد غَرُبَتْ، وكَانِ غَالِطاً، فقد روى المُزَنِي أنه لا يجوز صَوْمُه، ووافقه الأصْحَابُ على رِوَايَتِهِ في الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وأما في الأولى فَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ما رواه، وقال: لاَ يُوجَدُ ذَلِكَ في كُتُب الشَّافِعِيّ -رضي الله عنه- ومذهبه: أنه لاَ، يَبْطُلُ الصَّوْمُ إِذَا ظَنَّ أن الصُّبْحَ لَمْ يَطْلُعَ بعد؛ لأن الأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ، وهو معذورٌ في بِنَاء الأَمْرِ عليه، بخلاف مَا في آخر النَّهَار فإن الأَصْلَ بقاء النَّهار، فالغالطِ فيهِ غَيْرُ مَعْذُور. ومنهم من صحح ما رواه، وقال: لعلهُ نقله سَمَاعاً، ووجهه بأنه تحقق خلاف ما ظنه، واليقين مُقَدَّمٌ عَلَى، الظَّنِّ، ولا يبعد استواء حكم الغَلَطِ في دخول الوَقْتِ وخروجه ¬
كما في الجُمُعة، وهذا هو الأَصَح [والأشهر] (¬1) في المذهب. قال الإمام: فإن قيل: هَلاَّ خرج ذلك على القولين في خطأ القبلة. قلنا: المخطئ آخراً لا يَكَادُ يُصَادِفُ أمارةً ظَاهِرَةٌ في هُجُوم اللَّيْلِ، واسْتِصْحَابِ النَّهَارِ في معارضة ما يَعِن لَهُ، وهو مع ذلك مُتَمَكِّنٌ مِنَ الصَّبْر إلى درك اليقين، فاقتضى ذلك الفرق بين البابين. إذا عرفت ذلك وَعُدت إلى لفظ الكتاب فأعْلِمْ قوله: (فإنه لا يفطر) بالميم، وقوله: (ولا جماع) بالألف، لأن عند أحمد جماع النَّاسِي يُفْسِدُ الصَّوْمَ وبالواو، إشارةً إلى طريقة القَوْلَيْنِ، فقد تعرض لِلْخُلاَف فيه في الكتاب في "فَصْلِ الكَفَّارَةِ" وإن لم يذكره في هذا الموضع، ولو جعلت "الواو" على قوله: (لا يفطر) ليشمل الأكل أيضاً لم يبعد، لأنه أطلق القول بأنه لا يفطر النَّاسِي به، وفي الكثير منه الخِلاَف الذي سبق. وقوله في مسألة الغالط: (فمفطر)، يجوز أن يُعَلَّم بالزَّاي والواو. أما الزاي فلأن أبا سعيد المتولي حكى ذهاب المزني إلى أنه لا يفطر في الصُّورة الأُولَى، ومنهم من نقل ذِهَابَهُ إِلَيْهِ في الصُّورتين. وأما بالواو فلأمرين: أحدهما: ما حَكَيْنَا عن بعض الأصحاب في الصُّورة الأولى. والثاني: أن الموفق بن طَاهِرَ حَكَى عَنْ مُحَمَّدٍ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ أنه يجزئه الصَّوم في الطَّرفين. وقوله: فمفطر، "ويلزمه القضاء" الجمع بينهما ضرب تأكيد، ولا ضرورة إليه، ثم لا يخفى أن الحكم بلزوم القضاء في الصَّوْمِ الواجب، أما في التطوع فيفطر ولا قَضَاء. قال الغزالي: وَلاَ يَنْبَغِي أنْ يَأكُلَ في آخِرِ النَّهَار إِلاَّ بِيَقِينٍ، فَأمَّا بِالاجْتِهَادِ فَفِيهِ خِلاَفٌ وَفِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَجُوزُ بِالاجْتِهَادِ، وَلَوْ هَجَمَ وَلَمْ يَتَبَيَّنِ الخَطَأ لَزِمَهُ القَضَاءُ في الآخِرِ وَلَمْ يَلْزَمْ في الأَوَّلِ. قال الرافعي: لما تَكَلَّم في الغالط الذي أَكلَ، ثم تَبَيَّن خلاف ما ظَنَّه أراد أن يبين أن الأكْلَ ثم يجوز. أما في آخر النَّهار بالأحوط ألا يَأْكُلُ إلاَّ بِتَيَقُّنِ غروب الشَّمْسِ، لأن الأصْلَ بقاء النَّهَار، فيستصحب إلى أن يستيقن خِلافَه، ولو اجتهد وغلب على ظَنِّه دخولُ اللَّيْلِ بِوِرْدٍ وغيره ففي جواز الأكْلِ وَجْهَان: أحدهما: وبه قال الأستاذ أبو إِسحَاقَ الإِسْفَرايني: أنه لا يجوزِ، لقدرته على دَرْكِ اليَقِين بالصَّير. ¬
وأصحهما: الجواز؛ لما روي "أَنَّ النَّاسَ أَفْطَرُوا فِي زَمَانِ عُمَرَ -رضي الله عنه- ثُمَّ انْكَشَفَ السَّحَابُ، وَظَهَرَتِ الشَّمْسُ". وأما في أول النَّهار، فيجوز الأَكْل بالظَّنَّ والاجتهاد؛ لأن الأصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ، ولو هجم وأكل من غير يقين ولا اجتهاد نظر إن تبين الخَطَأ فالحكم ما ذكرنا في الفَصْلِ السَّابق، وإن تبين الصَّواب فقد استمر الصوم على الصِّحة وليس لأحَدٍ أن يقول إذا أكل شَاكّاً في الغروب، وتبين الغروب، وجب ألا يَصِح صَوْمُه كما لو صَلَّى شاكاً في الوقت، أو في القبلة من غير اجتهاد، وتبين له الصَّواب لا تصح صلاتهُ، لأن هناك ابتداء العبادة وقع في حال الشك فصنع الانعقاد، وهاهنا انعقدت العبادة على الصِّحة، وشك في أنه هل أتى بما يفسدها ثم تبين عدمه ذكر هذا الفرق صَاحِبا "التتمة" و"المعتمد"، وإن لم يتبين الخَطَأ، ولا الصواب، واستمر الإشْكَال، فينظر: إن اتفق ذَلِكَ في آخرِ النَّهَار وَجَبَ القَضَاء؛ لأن الأصْلَ بقاؤه، ولم يبن الأكل على أمر يعارضه، وإن اتفق في أوه فلا قَضَاءِ، لأن الأصْلَ بقاء اللَّيْلِ وجوازُ الأَكْلِ. وروى بعض أصحابنا عن مالك وجوبَ القَضَاءِ في هَذِه الصُّورة، وتردد ابن الصَّبَّاغ في ثبوتها عنه، ولو أكل في آخر النهار بالاجتهاد وقلنا لا يجوز الأكل بالاجتهاد كما لو أكل من غير يقين ولا اجتهاد (¬1). قال الغزالي: وَلَوْ طَلَعَ الصُّبْحُ وَهُوَ مُجَامِعٌ فَنَزَعَ انْعَقَدَ (ز) الصَّوْمُ وَلَوِ اسْتَمَرَّ فَسَدَ. قال الرافعي: إذا طلع الصُّبْحُ وفي فِيهِ طَعَامٌ بأكله فليلفُظُه، فَإِن ابتَلعه فَسَدَ صَوْمُه، ولو لفظها في الحال لكن سبق مِنْه شَيْءٌ إِلَى جوفه بغير اختياره فقد نُقِل عن ¬
"الحاوي" فيه وجهان مخرجان من سَبْق المَاءِ في المَضْمَضةِ (¬1). ولو طَلَعَ الصُّبْحُ، وهو مجامع فنزع في الحال صومه، نَصّ عليه في "المختصر"، والمسألة تصور على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يحس وهو مجامع بتباشير الصبح، فينزع بحيث يوافق آخر النَّزْعِ ابتداءَ الطُلُوعِ. والثاني: أن يطلع الصُّبْحُ، وهو مجَامِعٌ ويعلم بالطُّلُوع كما طَلَع وينزع كما علم. والثالث: أن يمضي زمان بَعْدَ الطُّلُوعِ، ثم يعلم به. أما هذه الصُّورة الثَّالِثة، فَلَيْسَتْ مُرَادَةً بِالنصّ، بل الصَّوم فيها بَاطِل، وإن نزع كما علم؛ لأن بعض النَّهار قد مضى وهو مشغول بالجماع، فأشبه الغَالِط بالأكل هذا ظَاهِر المَذْهَب، والخلاف الذي مر فيما إذا أكل على ظن أن الصبح لم يطلع بعد فبَانَ خلافِه عَائِد هَاهنا بلا فرق، وعلى الصَّحيح لو مكث في هذه الصورة فلا كَفَارَةَ عَلَيهِ، لأن مُكْثَهُ مَسْبُوقٌ بِبُطْلاَنِ الصَّوْمِ. وأما الصورتان الأوليان، فقد حكى الموفق بن طَاهِر أن أبا إِسْحَاقَ قال "النص محمول على الصُّورة الأولى، إما إذا طلع، وأخرج فَسَد صومه"، ولا شَكَّ في صِحَّة الصَّوْم في الصُّورة الأُولَى، لكِن حمل النَّصِ عَلَيْهَا، والحُكْمَ بِالْفَسَادِ فِي الثَّانِيَةِ مُسْتَبْعَدٌ لاَ مُبَاَلاةَ بهِ؛ بل قضية كلام الأئمة نقلاً وتوجيهاً، أن المراد من مسألة النَّص الصُّورة الثَّانية، وحكوا فيها خلاف مالكٍ وأحمد، والمزني -رحمهم الله- واحتجوا عليهم أن النزع ترك الجماع، فلا يتعلق به ما يتعلق بالجماع، كما لو حلف ألا يلبس ثوباً هُوَ لابسه فانتزعه في الحال لا يحنث. وقوله: في الكتاب: (انعقد صومه) أُعْلِمَ بالميم والألف والزَّاي، إشارة إلى مذاهبهم، ويجوز أن يُعَلَّمَ "بالواو" أيضاً للمنقول عن أَبي إسْحَاقَ، وقد روى الحَنَّاطِي أيضاً وجهاً في المَسْألة، ولو طلع الفَجْر، وعلم به كما طَلعَ ومكث ولم ينزع فَسَدَ صَوْمُه، وهل عليه؟ الكفارة؟ نَصَّ في "المختصر" على أنَّهَا تَجِب، وأشار فيما إذا قال لامرأته: إن وَطَأْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثلاثاً فَغَيَّبَ الحَشَفَة، وطلقت، ومكث إلى أنه لاَ يَجِب المَهْرُ واختلف الأصحاب على طريقين: أحدهما: أن فيها قولين نقلاً وتخريجاً. أحدهما: وجوب الكفارة هاهنا، والمهر، ثم كما لو نزع وأولج ثانياً. ¬
القول في شروط الصوم
والثاني: لا يجب وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لأن ابتداء الفِعْلِ كَانَ مُبَاحاً. وأصحهما: القطع بوجوب الكفارة، ونفي المهر. والفرق: أن ابتداء الفعل لم تتعلق به الكفارة، فتتعلق بانتهائه حتى لا يخلو الجماعُ في نَهَارِ رَمَضَانَ عمداً عن الكَفَّارة والوَطْءِ، ثم عير خَالٍ عن المقابلة بالمَهْرِ؛ لأن المَهْرَ في النِّكَاحِ يقابل جميع الوَطْئَات، وعند أبي حنيفة لا تَجِب الكَفَّارة بالمُكْثِ، واختاره المزني وساعدنا مالك وأحمد على الوجوب، والخلاف جَارٍ فيما إذا جَامَعَ نَاسِيًا ثُمَّ تذكر الصَّوْم واستدَام، ثم تكلم الأئمة في هذه المَسَائِلِ، في أن أول الفجر كيف يدرك وَيُحَس، ومتى عرف المترصد الطلوع كان الطلوع الحقيقي متقدماً عليه فكيف ليستمر فَرْضُ العِلْمِ بِهِ، كما طلع، وللشيخ أبي محمد في الجواب عنه مَسْلَكَانِ حَكَاهُمَا الإمَام عَنْهُ. أحدهما: أن المسألة موضوعة على التَّقْدِير كدأب الفُقَهَاءِ في أمْثَالِهَا. والثاني: أنا تَعَبَّدْنَا بِمَا نطلع عليه، ولا معنى للصّبح إلا ظهور الضوء للنَّاظرِ، وما قبله لا حكم له، فإذا كان الشَّخْصُ عَارِفاً بالأوقات ومنازل القمر وكان بحيث لا حائل بينه وبين المطلع وترصد فمتى أدرك فهو أول الصُّبح المعتبر. قال الغزالي: القَوْلُ في شَرَائِطِ الصَّوْمِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: ثَلاَثةٌ في الصَّائِم وَهِيِ النَّقَاة عَن الحَيْض والإِسْلاَم وَالَعقْلُ في جَمِيعِ النَّهَار، وَزَوَال العَقْلِ بالجُنُونِ مُفسِدٌ وَلَوْ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، وَاسْتِتَارُه بِالنَّوْمِ لَيْسَ بِمُفْسِد وَلَوْ في كُلِّ النَّهَارِ (و)، وَانْغِمَارُهُ بالإِغْمَارِ فِيهِ أَقْوالٌ أنَّهُ كالنَّوْمِ أَوْ كالْجُنُونِ، وَأَصَحَّ الأَقْوَالِ أنَّهُ إنْ أَفَاقَ في أَوَّلِ النَّهَارِ لَمْ يَضُرَّهُ بَعْدَهُ الإِغْمَاءُ. القول في شروط الصوم: قال الرافعي: يشترط في الصَّائِمِ ثلاثة أمور. أحدها: النَّقعاءُ من الحَيْضِ والنّفَاسِ، فلا يصح صوم الحائض والنفساء على ما قدمناه في الحَيْض. والثاني: الإسْلاَم، فلا يصح صَوْمُ الكَافِرِ أصلياً كان أو مرتداً، كما لا يصح مِنْهُ سائر العِبَادات، وهذان الشَّرْطَان معتبران في جميع النَّهَار، وحتى لو طَرَأَ حيض، أو ردة في آخِرِ النَّهَار بَطَلَ الصَّومُ. والثالث: العقل، فلا يصح صوم المجنون، ولو جُنَّ في أثناء النَّهَارِ فَظَاهِرُ
المَذهب بُطْلاَنُ صَوْمِهِ، كما لو جُنَّ في خِلاَل صَلاَتِهِ تَبْطُلُ صَلاتُه. وفيه وجه: أن عُروضَ الجُنُون كَعروضِ الإغْمَاء، وسيأتي حُكْمُه، وعَبَّر الشَّيْخُ أبُو إِسْحَاقَ عَنْ هَذَا الخِلاَفِ في "المهذب" بقولين: الأول: الجديد. والثاني: القديم. ولو نوى من الليل، ونام جَمِيعَ النهار صَحَّ (¬1) صومه وعن أبي الطيب بْنِ سلمة، والإصْطَخْري: أنه لا يصح، كما لو مغمى عليه جميع النَّهار، واحتجا على ذلك بقوله في "المختصر: فإن أفاق في بَعْضِ النَّهَارِ، فَهُوَ صَائِمُ يعني المغمى عليه، ثم قال: وكذلك إِنْ أَصْبَحَ رَاقِداً، ثم استيقظ، فأشعر كلامه باشتراط الاستيقاظ في بَعْضِ النهار، والمَذْهَبُ الأَول. والفرق بين النَّوْم والإغْمَاء إن سلمنا أن مستغرقه مُبْطِل وأن الإغماء يخرجه عن أهْلِيَّة الخِطَاب، ويلحقه بالمَجْنُون، والنَّائِم إذا نبه تنبه، ولهذا لا يسقُط قَضَاءُ الصَّلوَاتِ بِالنَّوْمِ، ويسقط بالإغْمَاء، ولو نوى من الَليل ثم عرض له الاغْماء، فقد نَصَّ في "المختصر" في "باب الصَّوْم" أنه إذا كان مَفِيقاً في جزء من النَّهَار صَحَّ صومُه، وفي "باب الظّهار" أنه إن كان مفيقاً في أول النَّهار صَحَّ صومُه (¬2)، ويحكى مثله عن البويطي، وفي بعض كتبه أن المرأة إذا كانت صَائِمَةً فحاضت، أو أغمي عليها بَطَل صَوْمُهَا، وذلك يقتضي اشتراط الإفاقة في جميع النَّهَار. وقال المُزَنِي: إذا نوى من اللَّيْلِ صَحَّ صومُه، وإن استغرق الإغماء جميع النَّهار كالنوم، وخرّج ابْن سُرَيْجٍ من نَصِّه في الظهار أنه يشترط الإفافة في طَرَفَي النَّهار، وقت طلوعِ الفَجرِ، ووقت غُروبِ الشَّمْسِ، وللأصحَاب في المسألة طَرِيقان، إثبات الخِلاَف ونفيه. أما المُثْبِتُون لِلْخِلاَف فَلهُمْ طرق: أظهرها: أن المسألة على ثلاثة أقوال: أصحها: نصه في "المختصر" في "باب الصوم" وبه قال أحمد، ووجهه الإمام بأن ¬
الدَّليلَ يقتضي اشتراط النِّيَّة، مقرونةً بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ العِبَادَةِ، إلاَّ أن الشَّرْع لَمْ يشترط ذَلِكَ، واكتفى بتقديم العَزْم دَفْعاً لِلْعُسْرِ، فلا بد من أن يقع المعزومُ عليه بحيث يتصور القَصْد إليه، وإمسَاك المَغمى عليه لا يقع مقصوداً، فإذا استغرق الإغماءُ امتنع التَّصحيح، وإذا وجدت الإفاقة في لَحْظة أَتْبَعْنَا زمان الإغماء، زمان الإفاقة. والثاني: اشراط الإفاقة في أول النَّهار. وبه قال مالك -رحمه الله- ووجهه: أنه حالة الشُّروع في الصَّوْم، فينبغي أن تجتمع فيه صفات الكمال، ولهذا خُصَّ أول الصَّلاَة باشتراط النِّية فيه. والثالث: اشتراط الإفاقة في جَمِيع النَّهار كالإفاقة عن الجُنون، والنّقاء عن الحيض. والطريق الثاني: أنه ليس في المَسْألَةِ إلا قَوْلاَن الأول والثاني. وأما نصه الثَّالث فهو محمولٌ على ما إذا كان الإغماءُ مستغرقاً، أو على إغماء الجُنون، أو على أن جوابه رَجَع إلى الحَيْض دون الإغْمَاء، وقد يقع مثل ذَلِك في كلام الشَّافعي -رضي الله عنه- حَكَى هذا الطريق والذي قَبْلَه الشَّيخ وأبو حَامِدٍ وغيره. والثالث: أن المسألة عَلَى خمسة أقوال، هذه الثَّلاثة المَنْصُوصة، وقولان آخران مُخَرَّجَانِ. أحدهما: ما ذكره المُزَنِيّ جعله بعض الأصحاب قولاً مخرجاً من النَّوْمِ، وبه قال أبُو حَنِيفة. والثَّاني: ما ذكره ابْنُ سُرَيْجٍ، ووجهه بأن الصَّلاَة لما اعتبرت النية فِيهَا ولم تعتبر في جَمِيعِهَا اعتبرت في طرفيها، كذلك حُكْمُ الإفاقة في الصَّوْمِ، واستضعفت الأئمة هذا القول حتى غلط صَاحِب "الحاوي" ابْنُ سُرَيجٍ في تخريجه، وقال: لا يعرف للشَّافِعِي -رضي الله عنه- ما يَدُلُّ عَلَيْهِ. وأما النَّافون للخلاف فلهم طريقان: أحدهما: أن المَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وهو اشتراط الإفاقة في أول النَّهَار، وما ذكره في الصَّوْمِ مُطْلَقٌ مَحْمُولٌ على مَا بَيَّنَهُ فِي الظّهَارِ. وأظهرهما: أن المسأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وهو اشتراط الإفاقة في جُزْءِ مِن النَّهَارِ، وَتَعيْين أَوَّل النَّهَارِ فِي نَصِّه في الظِّهار وقع على سبيل الاتفاق. وأما النَّصُ الثَّالِثُ فقد قدَّمنا تأويله. ولو نوى باللَّيل، ثُمَّ شَرِبَ دَوَاءً فَزَالَ عقْلُهُ نَهَاراً فقد قال في "التهذيب" يُرَتَّبُ على ذلك الإغماء. إن قلنا: لا يَصِح الصَّوم في الإِغْمَاء فهاهنا أولى وإن قلنا: يصح فوجهان: والأصح: أن عليه القَضَاءِ؛ لأنه كان بِصُنْعِهِ، ولو شرب المُسْكِر لَيْلاً، وبقي سُكُرهُ فِي جَمِيع النَّهَار، فعليه القَضَاء، وَإِنْ بَقِيَ النَّهَارِ، ثُمَّ صَحَا فَهُوَ كَالإغْمَاءِ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، قاله في "التتمة". وأما لفظ الكِتَاب فمسألتا الجُنون، والنَّوْمُ معَلَّمَتَانِ بالواو؛ لما حكينا من الوجهين.
وقوله: (في الإغماء أقوال) يجوز إعلامه "بالواو" للطريقة النافية للخِلاَف، وما أَطْلَقه من الأقْوَال محمولٌ على طَريقة إِثْبَات الأَقْوَال الخَمْسَة، لكنه ذكر منها ثلاثة: أحدها: المُخَرَّج الَّذِي اختاره المُزَنِي، وهو قوله: "كالنوم". والثَّاني: منصوصة في بعض كتبه، وهو قوله: (كالجنون). والثَّالث: منصوصه في "باب الظِّهَار". وأما القولان الباقيان فلم يذكرهما، ولو حملنا ما أطلقه على الأقوال الثَّلاثة التي ذكرها وقدرنا حصره خلاف المسألة فيها لكان صَاحب الكتابِ منفرداً بنقل هذه الطريقة. وقوله: (كالنوم أو كالجنون) التشبيه بهما مَبنِيٌّ عَلى ظَاهِرِ المَذْهَبِ فِيهِمَا، وجعله القول الثالث أصح الأقوال خلاف ما ذَكَرَهُ الجُمْهُورُ، وإنما الأَصَح عِنْدَهُمْ ما قدَّمْنَا ذِكْره، وما أطلقه من عبارات الزَّوال والانغمار والاستتار فإنما أخذه من الإمام حيث جعل لاختلال العقل مراتب: أحدها: الجنون، وهو يسلب خواص الإنسان، ويكاد يلحقه بالبَهَائم. والثانية: الأغماء، وهو يُغْشِي العقل، ويغلُب عليه حتى لا يبقى في دفعه اختيار. والثالثة: النوم وهو مزيل للتمييز، لكنه سَهْلُ الإزَالَةِ، والعقل معه كالشَّيْءِ المَسْتُور الَّذِي يَسْهُلُ الكَشْفُ عنه، قال: ودونها مرتبة رابعةٌ وهي الغَفْلَة، ولا أثر لَهَا فِي الصَّوْمِ وِفَاقاً. قال الغزالي: الرَّابعُ الوَقْتُ القَابِلُ لِلصَّومِ وَهُوَ جَمِيعُ الأَيَّامِ إلاَّ يَوْمِ العِيدَيْنِ (ح) وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ (و) وَلاَ يصحُّ صَوْمُ المُتَمَتَّع فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقَ عَلَى الجَدِيدِ، وَصَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ صَحِيحٌ إنْ وَافَقَ نَذْراً أَوْ قَضَاءاً أَوْ وِرْداً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبَبٌ فَهُوَ مَنهِيٌّ (م ح) وَفِي صحَّتِهِ وَجْهَانِ كَالصَّلاَةِ فِي الأَوْقَاتِ المَكْرُوهَةِ، وَيوْمُ الشَّكِّ أَنْ يَتَحَدَّث بِرُؤْيَةِ الهِلاَلِ مَن لاَ يَثْبُتُ الهِلاَلُ بِشِهَادَتِهِ كَالعَبِيدِ وَالفُسَّاقِ. قال الرافعي: أيام السَّنَةِ تنقسم إلى الشَّك وغيره، وغيره ينقسم إلى يَوْمَي العِيد، وأيَّام التَّشْرِيق، وغيرها. فأما غيرها من الأيام فهو قابلٌ للصوم بلا استثناء. وأما يومَا العيد فلا يقبلانه خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله-؛ لأن عنده لو نَذَرَ صومهما كان له أن صَوْمَ فيهما. لنا: أنه روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ: يَومِ
الأَضْحَى، وَيوْمِ الْفِطْرِ" (¬1). وأما أيَّام التَّشْرِيق فهل يجوز للمتمتع العَادِم لِلْهَدْيِ أن يصومها عن الثَّلاثَةِ أيام اللاَّزِمة في الحج؟ فيه قولان: القديم -وبه قال مَالِك-: أنه يجوز؛ لما روى عن عائشة -رضي الله عنها- أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "أرْخَص للْمُتَمَتِّع إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ، وَلَمْ يَصُمِ الثَّلاثَةَ فِي الْعَشْرِ أَنْ صَوْمَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ" (¬2). وإلى هذا ميل الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ. والجديد: أنه لا يجوز، بل هما في عدم قبول الصَّوْمِ كالعبدين؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تَصُومُوا فِي هَذِهِ الأيَّام فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلِ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ" (¬3) فإن فرعنا على القديم، فهل يجوز لغير المتمتع صَوْمُهَا؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: نعم؛ لأن تجويز صَوْمِهَا للمتمتع إنما كان لأنه صَوْمٌ لَهُ سَبَبٌ، فيجوز مِثْلُ هذا الصَّوْمِ لكل أَحَدٍ دون التَّطوعات المحضة. وقال الأكثرون: لا يجوز؛ لأن النَّهْيَ عَامٌّ، والرُّخْصَةُ وَرَدَتْ في حق المتمتع خَاصَّة (¬4)، وذكر الإمام أن القاضي الحُسَيْنَ سلك مسلكاً يفضي إلى تنزيل يوم العيد مُنْزَلة يَوْمِ الشَّكِ، قال: وما تراه قاله عن عقد. وأما يوم الشَّكِّ (¬5) فقد روي عن عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ -رضي الله عنه- أنه قال: "مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكَّ فِيهِ، فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ" (¬6) فلا يصح صَوْمُه عَنْ رَمَضَانَ خلافاً ¬
لأحمد، حيث قال في رواية: إن كانت السماء مصحية كُرِه صَوْمُهُ، وإلا وَجَبَ صَوْمَهُ عَنْ رَمَضَانَ. وفي رواية: إن صام الإمام صَامُوا، وإلا أفطروا، وعنه: رواية أخرى مثل مَذْهَبِنَا. لنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ، وَلاَ تَسْتَقْبِلُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ مِنْ شَعبَانَ" (¬1). ويجوز صَوْمُه عن قَضَاءٍ وَنُذُورٍ وكَفَّارَةٍ (¬2)، وكذا إذا وافق وِردَهُ فِي التَّطوُّعِ بلا كراهية. روي عن أبي هريرة: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لاَ تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ بِيَومٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ إلا أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صِيَاماً كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ" (¬3). وعن القاضي أَبِي الطَّيِّبِ، أنه يكره صَوْمُه عَمَّا عَلَيْهِ مِنْ فَرْضٍ. قال ابْنُ الصَّباَّغِ: وهذا خلاف القياس؛ لأنه إذا لم يكره منه مالَه سَبَبٌ من التَّطوع، فلأن لا يكرهَ فيه الفرض كَانَ أولى، ولا يجوز أن يصوم فيه التَّطوع الذي لا سبب له خلافاً لأبي حنيفة، ومالك -رحمهما الله- حيث قالا: "لا كراهية في ذلك". لنا حديث عمار وأيضاً فقد روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نَهَى عَنْ صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَحَدُهَا الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ" (¬4). وهل يَصِحّ هذا الصَّوْم؟ فيه وجهان كَالْوَجْهَيْنِ فِي الصَّلاَةِ، وَفِي الأَوْقَاتِ المَكْرُوهَةِ. أصحهما: لا؛ لأنه مَنْهِيٌّ عَنْهُ، كَيَوْمِ العِيدِ. والثَّاني: نعم؛ لأنه قَابل للصَّومِ فِي الجُمْلَةِ. ولو نذر صومه فهو عى هَذينِ الوَجهَينِ؛ فإن قلنا: يصح فليصم يوماً آخر، ولو صَامَه خَرَجَ عَنْ نَذْرِهِ، قاله في "التهذيب" ولا يخفى أن اليوم الموصوف بكونه يوم الشك هو الثلاثون من شَعْبَان، ومتى يَتَّصِفْ بهذه الصِّفَة؟ إن طبق الغيم ليلته فهو من شعبان، وليس بيوم شك لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ" (¬5) ولا أثر لِظَنِّنَا الرُّؤْيَةَ لَوْلاَ السَّحَاب لِبُعْد الهلال عن الشَّمْسِ، وإن كانت السَّمَاءُ مصحية وتراءى النَّاسُ الهِلاَلَ فلم يَرَوْهُ، فليس بيوم شكٍّ بطريق الأَوْلى إن لم يتحدث برؤية الهِلاَل أَحَدٌ، وإن وقع في ألْسِنَة النَّاس أنه رؤي، ولم يقل عدل: أنا رأيته، أو قاله عدل، وفرعنا على أنه لا يَثْبُت بِقَوْلِ وَاحِدٍ، أو ¬
قاله عَدَدٌ من النسوة، أو العبيد، أو الفُسَّاق، وَظُنَّ صِدْقُهُمْ، فَهُوَ يَوْمُ شَكٍّ (¬1)، وحكى الموفق بْنُ طَاهِرِ عن أبي مُحَمَّد الباقي، أنه إذا كانت السَّمَاء مصحية ولم ير الهلال فهو يَوْم شَكٍّ، وعن الأستاذ أَبي طَاهِرٍ، أن يوم الشَّكِّ ما تردد بين الجائزين، من غير ترجيح، فإذا شهدت امْرَأَةُ، أو عبد، أَوْ صِبِيّ فقد تَرَجَّحَ أَحَدُ الجَانِبَيْنِ، وخرج اليوم عن كونه يَوْمَ شَكٍّ، والمشهور ما تقدم. ولو كان في السماء قِطَعُ سَحَابٍ يمكن أن يرى الهلالُ مِنْ خِلاَلِهَا، وأن يخفى تَحْتَهَا، فقد قال الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ: إنه يَوْمُ الشَّكِّ، وقال غيره: إنما يكون كَذَلِكَ بِشَرْطِ التَّحَدُّثِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَتَوَسَّطَ الإمَام بينهما، فقال: إن كان في بَلَد يستقل أهلها بطَلَبِ الهلال، فلم يتحدثوا برؤيته، فالوجه أن لا يُجعل الغَدُ يومَ شَكٍّ، وإن كان في سَفَرٍ، ولم يبعد رؤية أهل القُرَى فيحتمل أن يجعل الغَدُ يَومَ شَكٍّ، -والله أعلم-. إذا عرفت ذلك فارجع إلى لفظ الكتاب، وأعلم قوله: (إلا يوم العيدين، وأيام التَّشريق) بالحاء و"الميم" و"الألف". أما "بالحاء" فلأن عنده صَوْمَها صَحِيحٌ عند النذر، فتكون قَابلَة للصَّوْمِ. وأما بالميم؛ فلأن عنده يجوز للمتمتع صَوْم أيام التَّشريق، وهو رواية عن أحمد. وقوله: (ولا يصح صوم المتمتع في أيام التشريق) إن قرئ "بالواو" كان مقطوعاً عَمَّا سبق، وأحوج إلى إعلام ما سبق بالواو للقول القديم، فإنها قابلةٌ للصَّوْمِ على ذلك القول، وإن قُرِئَ فلا يصح بالْفَاء ترتيباً له على ما سبق، كان أحسن، وأغنى عن الإعلام بالواو، ويجوز أن يُعَلَّم قوله: (على الجديد) بالواو، ولأنه يقتضي إثبات خلاف في المسألة، وقد ذكر المُزَنِيُّ أن القول القديم في المسألة مَرْجُوعٌ عَنْه، فلم يثبت بَعْضُ الأَصْحَاب فيها خِلافاً. وقوله: (فَهُوَ مُنْهِيٌّ) معلم بالميم والحاء. وقوله: (أن يتحدث برؤية الهِلاَل) يجوز إعلامه بالواو. أما لما روينا عن الشيخ فإنه لا يعتبر التحدث في تفسير يوم الشَّك، أو عن الأُسْتَاذِ، فإنه يجعل خبر العبيد ونحوهم مخرجاً له عن كونه يَومَ شَكٍّ. قال الغزالي: القَوْلُ فِي السُّنَنِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ: تَعْجِيلُ الفِطْر بَعْدَ تَيَقُّنِ الغُرُوبِ بِتَمْرٍ أَوْ مَاءٍ، وَالوِصَالُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَتَأخِيرُ السُّحُورِ مُسْتَحَبٌّ، وَكَذَا إِكْثَارُ الصَّدَقَاتِ وَكَثْرَةُ تِلاَوَةِ ¬
الْقُرْآنِ، وَالاعْتِكَافُ لاَ سِيَّمَا فِي العَشْرِ الأَخِيرِ لِطَلَبِ لَيْلَةِ القَدْرِ، وَكَفُّ اللِّسَانِ عَنِ الهَذَيَانِ، وَكَذَا كَفُّ النَّفْسِ عَنْ جَمِيعِ الشَّهَوَاتِ وَهُوَ سِرُّ الصَّوْمِ، وَتَرْكُ السِّوَاكِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَتَقْدِيمُ غُسْلِ الجَنَابَةِ علَى الصُّبْحِ. قال الرافعي: من سنن الصَّوْمِ تَعْجِيلُ الفِطْر، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ" (¬1). وإنما يستحب التعجيل بعد تَيَقُّنِ غُروبِ الشَّمْسِ، والسنة أَن يفطر على تَمْرٍ، فإن لم يجد فَعَلَى "ماء"، روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ وَجَدَ التَّمْرَ فَلْيُفْطِرْ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدِ التَّمْرَ فَلْيُفْطِرْ عَلَى الْمَاءِ، فَإِنَّهُ طَهُورٌ" (¬2). وذكر القاضي الرّوَيانِي أنه يفطر على التَّمْرِ، فإن لم يجد فَعَلَى حَلاَوةٍ أُخرَى، فإن لم يجد فَعَلَى المَاءِ، وعن القاضي حُسَيْن أن الأولى في زَمَاننا أن يفطر على "مَاءٍ" يأخذه بكَفِّهِ مِنَ النَّهْرِ ليكون أَبْعَدَ عَنِ الشُّبْهَةِ. وقوله في الكتاب: (على تمر أَوْ ماء) ليس لَلتخيير، بل الأمر فيه على الترتيب كما بيناه. ومنها: التَّسحر فهو مَنْدُوبٌ إليه، قال -صلى الله عليه وسلم-: "تَسَحَّرُوا فَإِنَّ في السُّحُورِ بَرَكَةٌ" (¬3). ويستحب تأخيره ما لم يقع في مَظنة الشَّك. روي: "أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ تَسَحُّرِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَدُخُولِهِ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ قَدْرُ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً" (¬4). ومنها: تَرْكُ الوِصَالِ فهو مكروهٌ لِغَيْرِ النبي -صلى الله عليه وسلم- روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "نَهَى عَنِ الْوِصَالِ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ تُوَاصِلُ، فَقَالَ: إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى" (¬5). قال المَسْعُودِيُّ: أَصَحُّ ما قيل في معناه أني أعطى قوة الطاعِمِ وَالشَّارِبِ. والوِصَالُ أن يصوم يَوْمَيْنِ فَصَاعِداً، ولا يتناول باللَّيْلِ شَيْئاً، وكَرَاهِيَةُ الوِصَالِ كَرَاهِيَةُ تَحْرِيمٍ أو تنزيه؟ حكى عن صاحب "المهذب" وغيره فيه وجهين: ¬
أحدهما: أنها كراهية تَحْرِيم؛ لظاهر النَّهْيِ، ومبالغة النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فِي مَنْعِ مَنْ وَاصَلَ. والثاني: أَنَّهَا كَرَاهِيَةُ تَنْزِيه؛ لأن النَّهْيَ إِنَّمَا وَرَدَ مَخَافَة الضَّعْفِ، وهو أمر غَيْرُ متحقق وظاهر كلام الشافعي -رضي الله عنه- هو الأَوَّلُ، فإنه بعد ما روى خبر الوصال قال: "وفرق الله -تعالى- بين رسوله وبين خلقه، في أمور أباحها له، وحظرها عليهم"، فأشعر ذلك بِكَوْنِه مَحْظوراً، وأطلق في "التهذيب" أن المواصل يَعْصى، وذلك يُشْعِرُ بالحظر أيضاً. ومنها: الجود والإفْضَال، فهو مندوب إليه في جميع الأوقات، وفي شهر رمضان آكد استحباباً اَقتداءً بِرَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه: "كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ بالْخَيْرِ، وَكَانَ أجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ" (¬1). والمعنى في تخصيص رمضانَ بِزِيادة الجُود، وإكثار الصَّدقات تَفْرِيغ الصَّائمين، والقائمين للعبادة بدفع حَاجَاتِهِمْ. ومنها: كثرة تِلاَوَةَ القُرآنِ والمُدَارَسَةِ بهِ، وهو أن يقرأ على غيره، ويقرأ عليه غيره: "كَانَ جِبْرِيلُ عليه السلام يَلْقَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانِ فَيَتَدَارَسَانِ الْقُرْآنِ" (¬2). ومنها: الاعْتِكَافَ، لا سِيَّمَا في العُشْر الأخير من رمضان لطلب ليلةِ القدر: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُوَاظِبُ عَلَيْهِ" (¬3). ومِنْها: أَنْ يصَوْمَ الصَّائِم لِسَانَهُ عَنِ الكَذِب، والغِيبَةِ، والمُشَاتَمَةِ، ونحوها، ويكف نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ بِكَفِّ الجَوَارِحِ، فَهُو سِرُّ الصَّوْمِ، والمقصود الأَعْظَمُ مِنْهُ، روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلِ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ، وَشَرَابَهُ" (¬4). وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِماً، فَلاَ يَرْفَثْ، وَلاَ يَجْهَلْ، فَإنْ امْرؤٌ قَاتَلَهُ، أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ" (¬5) قال الأئمة: معناه فَلْيقل في نفسه ولينزَجر. ومنها: ترك السِّوَاكِ بَعْدَ الزَّوَالِ، لما ذكرنا في "سُنَنِ الوضوء" وأيضاً فقد روي عن خباب -رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا صُمْتُمْ فَاسْتَاكُوا بِالْغَدَاةِ، وَلاَ تَسْتَاكُوا بِالْعَشِيِّ، فَإنَّهُ لَيْسَ مِنْ صَائِمٍ تَيْبَسُ شَفَتَاهُ بِالعشي إِلاَّ كَانَتَا نُوراً بَيْنَ عَيْنَيْهِ يَومَ ¬
الْقِيَامَةِ" (¬1). وإذا استاك فَلاَ فرق بين الرطب واليابس بشرط أن يحترز عن ابتلاع شظية وتجرع رطوبة، وقد روي عَنْ عَلِي، وابْنِ عمر -رضي الله عنهم-: "أَنَّهُ لاَ بَأْسِ بالسِّوَاكِ الرَّطْب" (¬2). وقوله في الكتاب: (ترك السِّواك) معلم بالميم والحاء؛ لأنهما لا يكرهانه بعد الزَّوال، وبالألف؛ لأن المسعودي في آخرين حكوا عن أحمد أنه لا يُكْرَه بعد الزَّوال في النَّفْلِ ليكون أَبْعَدَ عَنِ الرِّيَاءِ فِي الفَرْضِ وبالواو؛ لأن صاحب المعتمد حكى عن القَاضي حسين مِثْلَ مذهب أحمد. ومنها: يستحب تقديم غسل الجَنَابة عَنِ الجِمَاع، والاحتلام عَلَى الصُّبْحِ، ولو أَخَّرَهُ عَن الطُّلُوعِ لَمْ يفسد صومه: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصْبحُ جُنُباً مِنْ جِمَاع أهْلِهِ، ثُمَّ يَصُومُ" (¬3) وما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن أَصْبَحَ جُنُباً فَلاَ صَوْمٌ لَهُ" (¬4) محمول عَند الأئَمِة على ما إذا أَصْبَحَ مُجَامِعاً واسْتِدَامَهُ، ولو طَهُرَت الحَائِضُ لَيْلاً، وَنَوَتْ الصَّوْمَ، ثم اغتسلت بعد طُلُوعِ الفَجْرِ صَحَّ صَوْمُهَا أيضاً. هذا شَرْحُ السُّنَنِ الثَّمَانِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْكِتَابِ، ولا يخفى أن منها ما يعم الصَّوْم، وَمِنْهَا مَا يَخُصُّ صَوْمَ رَمَضَانَ، وِللصَّوْمِ وَرَاءَهَا سُنَنٌ. منها: أن يقول عند الفِطرِ مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ -رضي الله عنه- قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِذَا أَفْطَرَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ، وَعَلَى رِزْقِكِ أَفْطَرْتُ" (¬5). ومنها: أن يُفَطِّرَ الصَّائِمِينَ مَعَهُ، فَإِنْ عَجَزَ عن عَشَائِهِمْ أَعْطَاهم ما يفطرون به مِنْ شربه، أو تمره، أو غيرهما. ومنها: الاحتراز عن الحِجَامة، والقُبْلَة، والمُعَانقة، والعِلْك، وقد سبق ذِكْرُها، وكذا الاحتراز عن ذَوْقِ الشيء ومَضْغِ الطَّعَامِ للطِّفْلِ، وإن كان لا يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِذَلِكَ. قال الغزالي: القِسْمُ الثَّانِي فِي مُبِيحَاتِ الإِفْطَارِ وَمُوجِبَاتِهِ، أَمَّا المُبِيحُ فَهُوَ المَرَض ¬
وَالسَّفَرُ الطَّوِيلُ، وَطَارِئُ المَرَضِ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ مُبِيحُ، وَطَارِئُ السَّفَر لاَ يُبِيحُ، وَإذَا زَالاَ وَهُوَ غيْرِ مُفْطِرٍ لَمْ يُبَحِ الإفْطَار، وَالمُسَافرُ إِذَا أَصْبَحَ عَلَى نِيَّةِ الصَّوْمِ فَلَهُ الإفْطَارُ، وَالصَّومُ أَحَبُّ مِنَ الفِطْرِ فِي السَّفَرِ لِتَبْرِئَةِ الذِّمَّة إلاَّ إِذَا كَانَ يَتَضَرَرُ بِهِ. قال الرافعي: كلام هذا القسم في مُبِيحَاتِ الإِفْطَار، ثُمَّ في أحكامه. أما المبيح فالمرض والسفر مبيحان بالإجماع، والنص، قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (¬1) الآية، وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قَالَ: "إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنِ المُسَافِرِ الصَّوْمِ، وَشَطْرَ الصَّلاَةِ" (¬2). وَشَرْطُ كَونِ المَرَضِ مُبيحاً، أن يجهده الصَّوْم مَعَه، ويلحقه ضَرَرٌ بشق احتماله على ما عَدَدْنَا وجوه المَضَار في التَّيَمُّم، ثم المرض إن كان مُطْبِقاَ فَلَهُ تَرْكُ النِّية باللَّيْلِ، وإن كان يُحَم وتنقطع نظر إن كان مَحْمُوماً وَقْتَ الشّروع، فله تَرْكُ النية، وإلا فَعَلَيِه أَنْ يَنْوِيَ مِنَ اللَّيْلِ، ثم إنْ عَاد واحتاج إلَى الإفْطَار أفطر، وشرط كُوْنِ السَّفَرِ مُبِيحاً أَنْ يَكُونَ طَوِيلاً مباحاً كما سبق في القَصْر. ثم في الفَصْل مسائل: إحداها: لو أَصْبَح صَائِماً وهو صَحِيح، فمرض في أَثْنَاء النَّهَارِ، كان له أن يفطر لوجود المعنى المُحْوِج إلَى الإفْطَارِ مِنْ غَيْرِ اختياره، ولو أصبح صَائِماً مقيماً، ثُمَّ سَافَر لم يَجُزْ لَهُ أن يفطر في ذَلَكَ اليَوْمِ خلافاً لأحمد في رواية، وللمزني. لنا: أن الصَّوْمَ عِبَادة تَخْتَلِفُ بالسَّفَرِ والحَضَرِ، فإذا أنشأَها فِي الحَضَر، ثم سافر غَلَب حكم الحضر، كالصلاة، واحتج المزني بأن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صَامَ فِي مَخْرَجِهِ إلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، حَتَّى بَلَغ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، ثُمَّ أَفْطَرَ" (¬3). وبنى هذا الاحتجاج على ظنه أن ذلك كان في يَوْمٍ وَاحِدٍ. قال الأصحاب: وهو وَهْمٌ فإن بين المدينة وكراع الغميم مَسِيرةَ ثَمَانِيَة أَيَّام، والمراد من الحَدِيث أَنَّهُ صَامَ أَيَّاماً فِي سَفَرِهِ، ثم أفطر، وقد قيل: إن المزني تَبَيَّن لَهُ ذَلِكَ، ثم رجع عن هَذَا الاحْتِجَاجِّ، وإن لم يرجع عن مذهبه. وقوله في الكتاب: (وطارئ السفر لا يبيح)، يجوز أن يُعَلَّم مَعَ الألف والزاي بالوَاوِ؛ لأن الحَنَّاطِيَّ حَكَى طريقاً أن المَسْأَلة عَلَى وَجْهَيْنِ، وأيضاً فإن الموفق ابن طاهر زعم أن ابن خَيْرَانَ أشار إليه، وعلى المذهب الصَّحيح لو أفطر بالجِمَاعِ لزمه الكفارة ¬
خلافاً لِأَبِي حَنِيفة، ومالك ولأحمد في إحدى الروايتين. ولو نوى المقيم بالليل، ثم سَافَرَ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَإِنْ فَارَقَ العُمْرَان قَبْلَ الطُّلُوعِ فَلَهُ أن يفطر، وإن فارقة بعد الطُّلُوعِ فَلاَ، لأن ابتداء صَوْمِهِ وَقَعَ في الحَضَرِ. الثَّانِية: لَوْ أصْبَحَ المُسَافِرِ صَائِماً، ثُمَّ أَقَام في خِلاَلِ النَّهَار، فهل له أن يفطر؟ ظاهر المذهب وبه قال أبُو إسْحَاق أَنَّهُ لَمْسَ لَهُ ذَلِك، كما لو افتتح الصَّلاَة في السَّفَرِ، ثم نوى الإِقَامة في أَثّنَائِهَا، أَوْ سَارَت بهِ السَّفِينة فَدَخَل البَلد، وهذا هو الَّذِي ذَكَرَه في الْكِتَاب، وعن ابْنِ أبي هُرَيْرَة أن له الفِطْر لأن الفطر مُبَاحٌ لَهُ في أَوَّلِ النَّهَارِ مع العلم بحال اليوم، فكذلك في آخره، كما لو استدام السَّفر. ونقل عن "الحاوي" أن هذا هو المنصوص في حرملة. ولو أصبح المريض صائماً ثم برأ في خلال النهار، فقد قطع كثيرون بأنه لا يجوز له الإِفْطَار، وطرد صاحب "المهذب" حكاية الوجهين فيه ولعله الأولى. الثالثة: المسافر إذا أَصْبَح على نِيَّةِ الصَّوْمِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ الفطر جاز له أن يفطر لدوام العذر، وقد روي أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَفْطَرَ بَعْدَ الْعَصْرِ بِكُرَاعِ الْغَمِيمِ بِقَدَح مَاءٍ، لَمَّا قِيلَ لَهُ: إنَّ النَّاسَ يَشُقُّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ" (¬1). وأبدى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحاق، والإمام في المسألة احْتِمَالاً، وَوَجْهاً. بأنه شَرَعَ في فرض المقيمين فَلْيَلْزَمه، كَمَا لَوْ شَرَعَ في الصَّلاَةِ مُتِماً ثم أراد القَصْرَ، وإذا قلنا: بالمُشْهُور، فهل يكره له الإفطار؟ فيه وجهان عن القاضي الحُسَيْنِ. الرابعة: لِلْمُسَافِر أنْ يَصُوم، وله أن يفطر لِما روي عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "غَزَوْنَا مَعَ رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لِسِتَّ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ فَمِنَّا مَن صَامَ، وَمِنَّا مَن أَفْطَرَ، فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلاَ المفْطر عَلَى الصَّائِمِ" (¬2). وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لحمزة بن عمرو الأسْلَمِي -رضي الله عنه-: "إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ" (¬3). وأيهما أفْضَلُ؟ إن كَانَ لاَ يَتَضَّررُ بِالصَّومِ، فالصَّوْمُ أَفْضَلُ. وبه قال مالك وأبو حنيفة، وقد ذكرنا وَجْهِه، وما يُحْكَى فِيهِ من الخِلاف في صلاة المُسَافِرين، وإن كَانَ يتضرر بالصَّوْم فالْفِطرُ أَفْضَلُ لَه، لِما روي عن جَابِرِ -رضي الله عنه- قال: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- زَمَاَنَ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَمَرَّ بِرَجُلٍ في ظِلِّ شَجَرَةٍ، يُرَشُّ الْمَاءُ عَلَيْهِ، فَقَالَ مَا بَالُ هَذا؟ قَالُوا: صَائِمٌ، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي ¬
السَّفَرِ" (¬1). وذكر في "التتمة" أنه لو لم يتضرر في الحَالِ لكنه كان يخاف الضَّعْفَ لو صام، وكان السَّفرُ سفرَ حَجٍّ، أو غَزْوٍ فالأولى أَنْ يفطر أيضاً، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر النَّاس بالفِطْرِ عام الفَتْحِ، وقال: "تَقْوُوا لِعَدُوَّكُمْ" (¬2). وقوله: (إلا إذا كان يتضرر) ضبط الإمام التّضرر بخوف المرض، ولا شك أن خَوْفَ الهَلاَك في معناه. واعلم: أن أصل المسأَلة قَدْ ذَكَرَة مَرَّة في صَلاَة المُسَافِرِينَ، لكن زاد هنا شيئين: أحدهما: بيان علة أَفْضَلِية الصَّوْمِ. والثاني: استثناء حَالَة التضرر ولو لم يذكرها، واقتصر على ما أورده في هذا الموضع لَكَفى. وقوله: في أول الفصل: أما المبيح فهو المرض والسّفر يشعر ظاهره بحصر المبيح فيهما، لكن من غلبه العَطَشُ حَتَّى خَافَ الهَلاَك فَلَهُ الفِطْر، وإنْ كَانَ مُقِيماً صَحِيحَ البَدَنِ (¬3). قال الغزالي: أمَّا مُوجِبَاتُ الإِفْطَارِ فَأَرْبَعَةٌ الأَوَّلُ القَضَاءُ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَي كُلِّ تَارِكٍ برْدَةٍ (ح) أَوْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ إغْمَاءٍ أَوْ حَيْضٍ، وَلاَ يَجِب عَلَى مَنْ تَرَكَ بِجُنُونٍ أَوْ صِباً أَوْ كُفْرٍ أَصْلِيٍّ، وَمَا فَاتَ مِنْ بَعْضِ الشَّهْرِ في أَيَّامِ الجُنُونِ لاَ يُقْضَى (ح)، وَلَوْ أَفَاقَ في أَثْنَاءِ النَّهَارِ فَفِي قَضَاءِ ذلكَ اليَوْمِ وَجْهَانِ، وَلاَ يَجِبُ التَّتَابُع في قَضَاءِ رَمَضَانَ. قال الرافعي: مقصود الفَصْلِ الكَلاَمُ فِيمَنْ يَلْزَمه قَضَاءُ صَوْمِ رَمَضَانَ، ولاَ شَكَّ أَنَّ مَنْ تَرَكَ النِّية الوَاجبةَ عمداً، أو سهواً فَعَلْيهِ القَضَاءُ، وكذلك كلُّ مَنْ أَفْطَرَ نعم، لو كان إفطاره بحيث يوجب الكفارة، ففي القضاء خلاف سيأتي ذِكْرُه مِنْ بعد، وما فات بسبب الكُفْر لاَ يَجِبْ قَضَاؤه عَلَى الكَافِرِ الأَصْلِي، قال الله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (¬4) الآية، ويجب على المرتد خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- على ما مَرَّ في الصَّلاَة والمُسَافِر والمريض إذا أَفْطَرا قَضَيَا، قال الله ¬
تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬1). وما فَاتَ بَالإغْمَاء يَجِبُ قَضَاؤُه، سواء استغرق جَمِيعَ الشَّهْرِ، أو لم يستغرق، لأنه نَوْع مرض يَغْشَى العَقْلَ بخلاف المجنون، ولهذا يَجُوزُ الإِغْمَاء عَلَى الأنبياء عليه السلام ولا يجوزُ الجُنُون عَلَيْهم، ويخالف الصَّلاةَ حيث يُسْقِطُ الإغْمَاءُ قَضَاَءَهَا؛ لأن الصَّلاَة تَتَكَرَّرُ، والإِغْمَاء قد يَمْتَّدُّ وَيَتكَرَّر، فوجوب القَضَاء يَجْرُّ عُسْراً وَحَرَجاً، ونقل صاحب "التهذيب" و"التتمة" عن ابْنِ سُرَيْجٍ أن الإغْمَاء إذا استغرق أَسْقَطَ القَضَاءَ، ويجب على الحَائِضِ قَضَاءُ أَيَّام الحَيْضِ، كما مَرَّ في الحَيْضِ، ولا يجب الصَّوْمُ عَلَى الصَّبِي، والمَجْنُونَ، ولاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمَا، ولا فرق في إسْقاط الجُنُونِ، القضاءَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَغْرِقَ النَّهار، أو لا يستغرقه، ولا بَيْنَ أن يستغرق الشَّهر، أو لا يستغرقه. وقال مَالِكٌ: الجنُونُ لا يسقط القَضَاء كالإغماء، وهو إحدى الرِّوايتين عن أَحْمَد، فَلْيَكُنْ قَوْلُه (بجنون) مُعَلَّماً بالميم والألف وبالحاء أيضاً، لأن اللَّفظ يشمل ما إذا ترك بِالْجُنون جَمِيعَ أَيَّامِ الشَّهْرِ، وما إذَا تَرَكَ بَعْضَهَا. وَعِندَ أبي حنيفة -رحمه الله- إذا أفاق المَجْنُونُ فهي أثِناء الشَّهْر، فعليه قضاءُ مَا مَضَى مِنَ الشَّهْرِ (¬2). ¬
ويجوز أن يُعَلَّم بِالْوَاو أَيحضّ لِأُمورٍ ثَلاثَةٍ: أحَدهَا: أن فيما علق عن الشَّيْخِ أَبِي محمد رحمه الله حكاية قول مثل مذهب مالك. والثاني: أن المُحَامِلِي ذكر أن المُزَنِي نَقَل في "المنثور" عن الشافعي -رضي الله عنه- مِثْل قول أبي حنيفة. والثالث: أن المُحَامِلِيّ في آخرين حَكَوا عَنِ ابْنِ سُرَيجٍ مثل مَذْهَبِ مَالِكٍ، وهذا ينافي ما نقل عنه في الإغْمَاء، ويشبه أن يكون أَحَدُهُمَا غَلَطاً، وهذا أقرب إليهِ، لأن كل من نقله ضَعَّفَه. وقوله: (وما فات من بعض الشهر في أيام الجنون لا يقضى) جَارٍ مَجْرَى التوكيد، والإِيضَاح، وإلا فقوله (على من ترك بجنون) يتناوله بإطلاقه، ولو أعدت العلامات على قولِهِ (لا يقضى) لأصبت. أما علامة أبي حنيفة فظاهرة وأما غيرها فلأن من يأمر بالقضاء إذا استغرق الجُنون الشَّهْر أولى أن يأمر به عِنْدَ عَدَم الاسْتِغْرَاق، وما ذكرنا كله في الجُنُونِ الذِى لَمْ يَتَّصِلْ بسبب يَقْتَضِي القَضَاء، فأما إِذَا ارتَدَّ ثُمَّ جُنَّ، أو سكر، ثم جُنَّ، فقد روى الحَنَّاطِيّ فيه وجهين في لزوم القَضَاء، ولَعَلَّ الظَّاهِرَ الفرق بين اتصاله بالرِّدَّةِ واتصاله بالسُّكْرِ كَمَا مَرَّ في الصَّلاة. وقوله: (ولو أفاق في أَثْنَاء النَّهَارِ ففي قضاء ذلك اليَوْمِ وَجْهَانِ) هذه الصُّورة معادة في درج زوال سَائِرِ الأعذار في أَثْنَاءَ النَّهَارِ، حيث قال: (وفي وجوب قضاء هذا اليوم تردد). وسنشرحه. ولا يجب التَّتابِع في قضاء رمضان، لما روي أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "سُئِلَ عَنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ فقال: "إِنْ شَاءَ فرَّقَهُ، وإنْ شَاءَ تَابَعَهُ" (¬1) ويستحب ذلك، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: قال "مَنْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمٌ مِنْ رَمَضَانَ فَلْيَسْرُدْهُ وَلاَ يَقْطَعْهُ" (¬2). واعلم قوله: (ولا يجب) بالميم، لأن الإِمام نقل عن مالك -رحمهما الله- إيجاب التَّتابع فيه، وتابعه المُصَنِّف، لكَن الذي رَوَاه الأكْثَرُونَ عن مالك: أنه لا يجب التَّتابع فيه، وإنما حكوا هَذَا المَذْهَب عَنْ دَاودَ، وبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهر، وذكروا أنهم وإن أوجبوه لَمْ يشرطوه للصِّحَّة. ¬
قال الغزالي: الثَّانِي: الإمْسَاكُ تَشبهاً بالصَّائِمينَ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُتَعَدِّ بالإِفْطَارِ في شَهْرِ رَمَضَانَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى مَنْ أُبِيحَ لَهُ الفِطْرُ إِبَاحَةً حَقِيقِيَّةً كالمُسَافرِ (ح) والمَرِيضِ (ح) بَعْدَ القُدُومِ وَالبُرْءِ في بَقِيَّةِ النَّهارِ، وَبجِبُ عَلَى مَنْ أَصْبَحَ يَوْمَ الشَّكِّ مُفْطِراً إِذَا بَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى الصَّحِيحِ. قال الرافعي: الإمساكُ تشبيهاً بالصَّائِمِينَ مِنْ خَوَاصِّ رَمَضَانَ، كالكفارة، فلا إمساك على من تَعَدَّى بِالإفْطَارِ في نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ. قال الإمام: والأمر بالأمساك مشبه بالتَّغْلِيظ وطرف من العقوبة، ومضادة القَصْد، ثم الممسك متشبه وليس في عبادة بخلاف المُحْرِم إذا أَفْسَد إِحْرَامَه، ويظهر أثره في أن المُحْرِم بَعْدَ فَسَادِ إِحْرَامه لَو ارْتَكَب مَحْظوراً لزمته الفدية، والممسك لو ارتكب محظوراً لا يلزمه شَيْءٌ سوى الإِثم، وفي الفصل صور. إحداها: يجب الإمساك على كل من تَعَدَّى بالإِفْطَار في رَمضَان، وكذا لو ارتد أو نوى الخُروجَ مِنَ الصَّوْمِ. إن قلنا إنه يبطل بنية الخروج، ويجب أيضاً على من نَسِي النِّيَّة من اللَّيْل، وكان نسيانه يُشْعِرُ بِتَرْكِ الاهتمام بأمْرِ العِبَادَةِ، فهو ضَرْبُ تَقْصِيرٍ، ويجوز أن يوجه الَأمر بالأمساك بأن الأكل في نَهَارِ رمضان حَرَام على غير المعذور، فإن فاته الصَّوْم بتقصير أو غير تقصير لَمْ يرتفع التحريم. الثانية: لو أقام المسافر أَوْ بَرَأَ المريضُ اللَّذان يباح لَهُمَا الإِفْطَار في أثناء النَّهار، فلهما ثلاث أحوال: إحداها: أن يُصْبِحَا صَائِمَيْن، وداما عليه إلى زَوَال العُذْرِ، فقد ذَكَرْنَا المَذْهَب، وخلاف ابن أبِي هُرَيْرَة فيه. والثانية: أن يزول عُذْرُهُمَا بَعْدَمَا أَفْطَرَ، فيستحب لَهُمَا الإِمْسَاكُ لِحُرمةِ الوَقْتِ، ولا يجب. وبه قال مَالِكٌ خلافاً لِأَبي حنِيفَة -رحمه الله- حيث أوجبه. وبه قال أحمد في أصح الروايتين. لنا أن زَوَالَ العُذْرِ بَعْدَ التَّرَخُّصِ، لا يؤَثِّر كما لو قَصَر المُسَافِرُ، ثم أقام والوقت بَاقٍ، وإذا أكلا فَلْيُخْفِيَاه كَيْلاَ يَتَعَرَّضَا لِلتُّهْمَة، وَعُقُوبَةِ السُّلْطَانِ، وَلَهُمَا الجِمَاع بعد زَوال العُذْرِ إذا لم تكن المرأةِ صَائِمةً بأن كانت صَغِيرةً، أو طهرت من الحَيْضِ ذَلِك اليَوْم. والثالثة: أن يُصْبِحَا غَيْر نَاوِيَيْن، وَيزولُ العُذْرُ قَبْل أن يأْكُلاَ، فَهَل يَلْزَمُهُمَا الإِمْسَاكُ؟ فيه وجهان: أَحَدُهُمَا: نعم، كما لو يصل المُسَافِرُ حَتَّى أَقامَ، لاَ يَجُوزُ لَهُ القَصْرُ. وأصحهما: أنه لا يَلْزِمَهُ، لأن من أَصْبَحَ تَارِكاً للِنِّية فَقَدْ أَصْبَحَ مُفْطِراً، وكان كما
لو أكَلَ، والوَجْهَانِ مُفَرَّعَانِ ظَاهِر المَذْهَب في المَذْهَب في الحَالَةِ الأُولَى، فأمَّا مَن جَوَّزَ لَهُ الأكْلَ ثُمَّ فهاهنا أولى أَنْ يَجُوز. الصُّورة الثَّالثة: إِذَاَ أَصبَحَ يَوْمَ الشَّكِّ مُفْطِراً، ثم ثبت أنه من رمضانَ فلاَ يخفى أنه يلزمه قَضَاؤهُ، وَهَلْ يجب عليه إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ؟ فيه قَوْلاَن: أصحهما: نعم؛ لأن الصَّوْمَ واجِبٌ عليه إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَعْرِفُه، فَإِذَا بَانَ لَزِمَهُ الإمْسَاك. قال الإمامُ -رحمه الله- وتخريجه على القَاعِدة التي ذَكَرنا أن الأَمْر بالإمْسَاك تغليظ وعقوبة، أنا قد ننزل المُخْطِئ منزلة العَامِد؛ لانتسابه إلى تَرْكِ التَّحَفُّظِ، ألَا ترى أنا نحكم بحرمان القَاتِل خَطَأ عن المِيرَاث. والثاني: قاله في البويطي: لاَ، لأنه أفْطرَ بعذر فلم يلزمه إمساك بقية النَّهَارِ كَالمُسَافِرِ إِذَا قدم بعد الإفطار، وفرض أبو سَعْد المُتَولِّي هذين القولين فيما إذا بَانَ أنه من رَمَضَانَ، قَبْل أن يأكل شيئاً، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهِ ما إذا بَانَ بَعْدَ الأكْلِ، فَقَالَ إن لم نوجب الإِمْسَاك ثم فهاهنا أولى، وإلا فوجهان. أَظْهَرْهُمَا: الوُجُوب أيضاً. ولنعد إلى ما يتعلق بلفظ الكتاب. قوله: (في شهر رمضان) ينبه على ما قَدَّمنا أن وجوب الإمساك من خَوَاصِّ رمضان. وقوله: (غير واجب على ما أبيح له الفطر) مُعَلَّمٌ بالْحَاء، والألف، ثم اللفظ متناول للحالة الثَّانية، والثَّالثة من أَحْوَال مَسْألة المُسَافِرِ والمريض على ما فَصَّلْنَا، فيجوز أن يُعَلَّم "بالواو" أيضاً للخلاف في الحالة الثالثة، وأيضاً فإنه حكى عن "الحاوي" وجهاً في أن المريض إذا أفطر ثم بَرَأَ هَل يلزمه إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ؟ وذكر أن الوُجُوبَ طريقه أصحابنا البغداديين، والمَنْع طريقة البصريين. والفرق بين المَرِيضِ والمُسَافِرِ أَنَّ المَرِيضَ إِنَّمَا يفطر لِلْعَجْزِ، فإذا قدر وجب أَنْ يُمْسِك، والمُسَافِر يَفْطر رُخْصَة؛ وإن أطاق الصَّوْم. وقوله: (إباحة حقيقية) فيه إشارة إلى الفَرْق بين صُورَةِ المَرِيضِ وَالمُسَافِرِ، وصورة يوما الشَّكِّ فإن أصح القولين وجوب الإمْسَاكَ يَومَ الشَّكِّ، وذلك لأن المُسَافِرِ والمريض يُبَاح لَهُمَا الأكْلُ مع العِلْمِ بِحَالِ اليَوْمِ، وَكَونه مِنْ رَمضَانَ حقيقة، وفي يوم الشَّكِّ إِنَّما أُبِيحَ الأَكْلُ، لأنه لم يتحقق كَوْنه من رمضان، فإذا تَحَقَّق لَزِمَه الإمْسَاك. وقوله: (بعد القدوم) لا يخفى رجوعه إلى المُسَافر، وإن تَخَلَّلَ بينهما ذكر المريض، ثم هو في أكثر النُّسَخِ بَعْدَ القُدُوم وقبله، وطرح بعضهم قبله، لأنه أوضح من أن يَحْتَاج إلَى ذكره، والممكنَ فيه أن يقال: إنما ذكره كيلا يتوهم أن المُسَافِرَ إذا أَكَلَ وتقوى يلزمه الاقتصار عليه تقديراً لِلأكْلِ بِقَدْرِ الحَاجَةِ، وثبت أن بعض المعتنين بهذا الكتاب جعل مكانه "والبرء" وَهُو حَسَنٌ. قال الغزالي: أَمَّا الصِّبَا وَالجُنُونُ وَالكُفْرُ إِذَا زَالَ لَمْ يَجِبِ الإمْسَاكُ عَلَى وَجْهٍ،
ويجِبُ في وَجْهٍ، وَيجِبُ عَلَى الكَافِرِ دُونَهُمَا في وَجْهٍ، وَبَجَبُ عَلى الصَّبيِّ وَالكافِرِ دُونَ المَجْنونِ في وَجْهٍ لأنَّهُمَا مَأْمُورَانِ عَلَى الجُمْلَةِ، وَفي وُجُوبِ قَضَاءِ هَذَا اليَوْمِ أَيْضاً تَرَدُّدٌ. قال الرافعي: إذا بلغ الصَّبِيُّ، أَو أَفَاقَ المجنونُ، أو أسلم الكَافِرُ في أَثْنَاء يَوْمٍ -مِنْ رمضانَ، فَهَلْ- يَلْزَمُهُم إمْسَاكُ بقية اليَوْم؟ فيه أربعة أوجه: أصحهما: لا؛ لأنهم لم يدركوا وقتاً يَسَعُ الصَّوم، ولا أمروا به، والإمساك تَبَعٌ لِلصَّوْمِ، ولأنهم أفطروا بِعُذْرٍ فأشبهوا المُسَافِر والمريض. والثاني: نعم؛ لأنهم أَدْرَكُوا وَقْتَ الإِمْسَاك وإن لم يدركوا وَقْتَ الصَّوْمِ. والثالث: أنه يجب على الكافر دون الصَبِيِّ والمجنُونِ، فَإنَّهُمَا مَعْذُورَانِ، لَيْسَ إِلَيْهِمَا إِزَالة مَا بِهِمَا، والكافر مأمورٌ بِتَركِ الكُفْرِ، والإتْيَانِ بِالصَّوْمِ. والرَّابعُ: أنه يجب عَلَى الصَّبِيِّ، والكَافِر دُونَ المَجْنُون. أما الكَافِرُ فَلِمَا ذكر. وأما الصَّبِيّ، فلأنه مُتَمَكِّن مِن الإِتْيَان بالصَّوْمِ، مَأمُور به أمر تدريب على مَا مَرَّ في الصَّلاة بخلاف المَجْنُون. وقوله في الكتاب: (لم يجب الإِمسَاك) مُعَلَّم بالْحَاء، لأن مذهب أَبِي حنيفة -رحمه الله- مثل الوَجْهِ الثَّانِي بِالأَلِفِ؛ لأنه أَصَحّ الرِوَاَيَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وقوله: (ويجب) بالميم؛ لأن مذهب مالك كَالْوَجهِ الأول. وإذا فهمت هذه الوجوه عرفت أن الكافر أولاهم بالوُجُوب والمَجْنُونُ أَوْلاَهُم بِالمَنْعِ، والصَّبِيّ بَيْنَهُمَا، ذلك أن ترتب فتقول، في وجوب الَإمْسَاك على الكَافِرِ وَجْهَان: إن أوجبنا فَفِي الصَّبي وجهان: إن أوجبنا ففي المجنون وجهان، ولك أن تعكس، فتقول: في وجوبه على المجنون وجْهَان. إن لم يَجِبْ ففي الصَّبِيِّ وجْهان. وإن لم يَجِبْ فَفِي الكَافِرِ وجْهَان، ولهذا الترتيب نَقَلَ صَاحِبُ "المُعْتَمد" طريقةً قاطعةً بالوُجُوب عَلَى الكَافِرِ. هذا بَيَانُ الخلاف في وُجوب الإمْسَاك، وهل عليهم قَضَاءُ اليَوْمِ الَّذِي زَالَ العُذْرُ في خِلاَلِهِ؟ أما الصَّبِيّ إذا بلغ في حِلاَل النَّهَارِ، فينظر إن كان نَاوياً من اللَّيْلِ صَائِماً فظاهر المَذْهَبِ أنه لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَيلزَمه الإِتْمَام. ولو جَامَعَ بَعْدَ البُلُوغِ فِيه فعليه الكَفَّارة، وفيه وجه: أنه يُسْتَحب الإِتْمَام ويلزمه القَضَاء؛ لأنه لم ينو الفَرْض، ويحكى هذا عن ابْنِ سُرَيْجٍ، وإن أصبح مُفْطِراً فَفِيه وَجْهَان: وقال في "التهذيب" قولان: أحدهما: أنه يَلْزَمُه القَضَاءُ كما إِذَا أدْركَ شيئاً مِنَ الوَقْتِ يَلْزِمَهُ الصَّلاة. وأَصَّحهما: وبه قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ -رحمه الله-: لا يَلْزَم، وَقَدْ ذَكَرنَا الفَرْق بين
الصَّوْمِ والصَّلاَةِ، في "كِتَاب الصَّلاَةِ" مَعَ طرف من فِقْهِ الْمَسْألَةِ وهذا الخِلاَفُ مُفَّرعٌ عَلَى ظَاهِرِ المَذْهَبِ في أنه إذا بَلَغ صَائِماً فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ فأما من يُوجِب القَضَاء ثُمَّ فهاهنا أوْلَى بِأَنْ يُوجِب. وأما إذا أفاق المَجْنُون أو أَسْلَم الكَافِرُ فَفِيهمَا طَرِيقَانِ. أحدُهما: طَرْدُ الخِلاَفِ، وهذا أَظْهَرُ عِنْدَ الأكْثَرِينَ، والأَظْهَرُ مِنَ الخِلاَفِ أنه لاَ قضاء ويحكى ذَلِكَ فِي الكَافِرِ عَنْ نَصِّه في القَدِيم، "والأم"، والبويطي. والثاني: القطع بالمنع في حق المَجْنُونِ، لأنه لم يكن مأموراً بالصَّوْمِ في أول النَّهَار، وبالإيجَابِ في حق الْكَافِرِ، لأنه مُتَعَدّ بِتَرْكِ الصَّوْمِ، وَهَذَا أَصَحُّ عَنْدَ صَاحِبِ "التهذيب". ويجوز أن يُعَلَّم قوله فيما سبق، (ولو أفاق في أثناء النهار، ففي وجوب قضَاء هذا اليوم وجهان) بالواو إشارة إلى الطَّرِيقة القَاطِعةِ بالمَنْعِ، وكذلك قوله هاهنا (تردد) لهذه الطريقة، والطَّريقة الجازمة بالإيجَاب في الكَافِرِ، فإنه أَجَابَ عَنْ طَرِيقَة طَرْدِ الخِلاَفِ في الصُّوَرِ إلا أن يفسر التردد الذي أَبْهَمَهُ بتردد الطَّريق في بَعْضِ الصّور، والقول أو الوجه في بَعْضِهَا، وهل لِلْخِلاَف في القضَاءِ تَعَلُّق بالْخِلاَف فهي الإمْسَاك تَشَبُّهاً؟ نقل الإمام عن الصَّيْدَلاَنِيّ أن من يوجب التَّشَبه يعتكف به، ولا يُوجِب القَضَاء، ومن يُوجِب القَضَاء لاَ يُوجِبُ التَّشَبّه. وعن غيره من الاصحاب أن الأمر بالقَضَاء فرع الأمر بالإِمْسَاك، فمن التزم الإِمْسَاك التزم القَضَاء، ومن لاَ فلاَ، وبنى صاحب "التهذيب"، وغيره الخلاف في وجوب الإمساك على الخِلاَفِ في وجوب القضاء إن أوجبنا القَضَاءَ أَوْجَبْنَاهُ، وإلاَّ فَلاَ، فهذه ثَلاثةُ طُرُقٍ، وهي على اختلافها متفقة على تعلق أحد الخِلاَفين بالآخر، والطَّريق الثَّانِي والثَّالِث يشكلان بالحَائِض والنّفَسَاء إذا طُهَرنَا في خِلاَل النَّهَار، فَإِنَّ القضاء واجبٌ عَلَيْهِمَا لاَ مَحَالَةَ؛ لأن مستغرق الحيض لا يسقط القضاء فمتقطعه أولىَ، والإمساك غَيْرُ وَاجب عَلَيْهِمَا إما بلا خلاف على ما رواه الإمام. وإما على الأظهر، لأن صاحب "المعتمد" حكى طرد الخِلاَف فيهما، وإذا كان كذلك لم يستمر قولنا بأن القَضَاء فرع الإمْسَاك، ولا بأن الأمْسَاك فرع القَضَاء، والطَّريق الأول يشكل بصورة يوم الشَّكِّ، والمتعدي الإِفْطَار فَإِنَّ القَضَاء لاَزِمٌ مع التَّشَبه والله أَعْلَم. قال الغزالي: وَمَنْ نَوىَ التَّطَوُّعَ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَنْعَقِدْ وَإِنْ كَانَ مُسَافِرِ لِتَعَيُّنِ الوَقْتِ. قال الرافعي: أيام رَمَضَانَ مُتَعينة لَصَومَ رَمَضَانَ، فإن كان الشَّخْصُ معذوراً بسفر أو مرض، فإما أن يَتَرَخَّص بالفطر، أو يصوم عن رَمَضَانَ، وليس له أن يصوم عَنْ فَرْضٍ آخر، أو تطوع. وبه قال مَالِكٌ وأحمد. وقال أَبُو حَنِيفَة: للمسافر أن يَصُوم عن القَضَاء، والكَفَّارة.
ولو صام عن تَطَوُّع ففي رواية يقع تطوعاً، وفي رواية يَنْصرف إلى الفرض. وحكى الشيخ أبو محمد تردداً عن أصحابه في المريض الذي له الفِطْر إذا تَحَمَّل المَشَقَّة، وصام عَنْ غَيْرِ رَمَضَانَ، وأعلمت المَسْألة بالواو؛ لأن الإمام حكى خلافاً فِيمَنْ أصبحَ فِي يَوْم رَمَضَانَ غَيْرَ نَاوٍ وَنَوى التَّطوع قَبْلَ الزَّوَالِ فمذهب الجماهير أنه لا يَصِح تطوعه بالصَّوْمِ، وعن أبي إسْحَاق أنه يصح، قال: فعلى قياسه يجوز للمسافر التَّطَوُّع به. قال الغزالي: الثَّالِثُ الكَفَّارَةُ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ أَفْسَدَ صَوْمَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ تَامٍّ أَثِمَ بِهِ لِأَجْلِ الصَّوْمِ (ح) فَلاَ يَجِبُ عَلَى النَّاسِي إِذَا جَامَعَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلاَ عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي غيْرِ رَمَضَانِ. قال الرافعي: الأَصْلُ في كَفَّارَةِ الصَّوْم مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: "أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتُ، قَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: وَاقَعْتُ امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: تَسْتَطِيعُ أَنْ تُعْتِقَ رَقَبَةً، قَالَ: لاَ؛ قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. قَالَ: لاَ قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِيناً. قَالَ: لاَ، قَالَ: اجْلِسْ فَجَلَسَ، فَأُتِيَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ -وَالْعَرَقُ: المِكْتَلُ الضَّخْمُ- فَقَالَ: خُذْ هذَا فَتَصَدَّقُ بهِ قَالَ: أَعْلَى أَفْقَر مِنَّا؟ فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى بَدَت نَوَاجِذُهُ، وَقَالَ: أَطْعِمْهُ عِيَالَكَ" (¬1). والكلام في مُوجِبِ الكَفَّارَةِ، ثُمَّ فِي كَيْفِيَّتهَا. أَما الأَوَّلُ فقد قَالَ: (وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى مَن أَفْسَدَ صوم يوم من رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ تَامٍّ أَثِمَ بِهِ، لِأَجْلِ الصَّوْمِ) وفي الضابط قيود. مِنْهَا: الإفْسَاد، فمن جامع نَاسِياً لاَ يَفسُدُ صَوْمُهُ، عَلَى الصَّحِيحَ، كما قَدَّمْنَاه، فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وإن قُلْنا: يفسد صَوْمُه وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وأحمد، فَهَل تُلْزَمُه الكَفَّارَةُ؟ فيه وجهان: أحدهما -وبه قال أَحْمَدُ-: لانتسابه إلى التَّقْصِير. وأظهرهما -وبه قال مالك-: لا؛ لأنها تتبع الإثم. وإذا عَرفت ذلك وَسَمْتَ قَوْلَ (فلا تجب) بالألف، وقوله: (لم يفطر) به وبالميم، وقوله: (على الصحيح) أي: من الطريقين: ¬
ومنها: كون اليَوْمِ مِنْ رَمَضَانَ فلا كفارة بإفساد التَّطَوّع، والنَّذْرِ، والقَضَاءِ، والكَفَّارَةِ؛ لأن النَّصَّ ورد في رمَضَانَ، وهو مَخْصُوصٌ بِفَضَائِلَ لا يشركه غيره فيها. قال الغزالي: وَلاَ علَى المَرْأَةِ لأنَّهَا أَفْطَرَتْ بِوُصُولِ أَوّلِ جُزْءٍ مِنَ الحَشَفَةِ إلَى بَاطِنِهَا، وَفيهِ قَوْلٌ قَدِيمٌ، ثُمَّ الصَّحِيحُ أَنَّ الوُجُوبَ لاَ يُلاَقِيهَا، وَقِيلَ: يُلاَقِيهَا، وَالزَّوْجُ يَتَحَمَّلُ، وَلاَ يتَحَمَّلُ الزَّانِي، ولاَ الزَّوْجُ المَجْنُونُ وَلاَ المُسَافِرُ إذْ لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا وَلاَ عَنِ المُعْسِرَة فإنَّ وَاجِبَهَا الصَّوْمُ فَلاَ يُقْبِلُ التَّحَمُّلُ، وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ (ح م) بِغَيْرِ جِمَاعٍ مِنَ الأكْلِ وَمُقَدِّمَاتِ الجِمَاعِ، وَيجِبُ بِالزِّنَا وَجِمَاعِ الأَمَةِ وَوَطْءِ البَهِيمَةِ (ح م) وَالإِتْيَانِ فِي غَيْرِ المَأْتَى (و). قال الرافعي: نُوَضِّحُ فِقْهُ الفَصْلِ ثم نبين أنَّ مَسَائله بأيّ قيد تتعلّق. المسألة الأولى: المرأة المَوْطُوءة إِن كانت مُفْطِرَةَ بِحَيضِ، وغيره، أو كانت صَائِمَة، ولم يبطل صومها لِكَوَنهَا نَائِمَةً مثلاً، فلاَ كَفَّارة عَلَيْهَا، وإن مكنت طَائِعة حَتَّى وطئها الزَّوْجُ، فقولان: أحدهما: أنه يَلْزَمُهَا الكَفَّارة، كما يلزم الرّجل؛ لأن الكَفَّارة عَقُوبَة تَتَعَلَّق بِالْوَطْءِ، فيستويان في لُزُومِهَا كَحَدِّ الزِّنَا، وهذا أَصَحُّ الرْوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وبه قَالَ أَبُو حَنِيفة، ويروى مِثلُه عَنْ مَالِكٍ، وَابنِ المُنْذِرِ، وهو اختيار القاضي أَبِي الطَّيِّب. وَأَصَحُّهُمَا: أنه يختص الزَوْج بِلُزُومِ الكَفَّارَة. واحتجوا له بأُمُورٍ: أحدهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر الأَعرَابِيَّ الَّذِي وَاقَعَ إِلاَّ بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ مع مِسَاسِ الَحَاجَةِ إِلَى البَيَانِ. والثَّاني: حكى الكرَابِيسي أنه قال: صَوْم المرأة نَاقِص؛ لأنه يعرض أن يبطل بعروض الحَيْضِ، وإذا كَانَ كَذَلِكَ، لم يكن كَامِلَ الحُرْمَةِ، فَلَمْ تتعَلَّق بِهِ الكَفَّارَةُ. والثالث: ما ذكره في الكتاب، وسنتكلم فيه. التفريع: إن قلنا بالأول: فلو لَمْ تَجِبْ الكَفَّارَةُ عَلَى الزَّوْجِ لِكَوْنِهِ مُفْطِراً، وَجَبَتْ الكَفَّارَةَ عَلَيْهَا، وكذا لو لم يبطل صَوْمُه، بأن كَانَ نَائِماً، فَاسْتَدخَلت ذَكَره، أو كَانَ نَاسِياً، وَهِيَ ذاكرة. ويعتبر في حق كل واحد منهما حاله في اليَسَارِ والإعْسَارِ، وإن قلنا بالقول الأصَحِّ، فالكفارة التي يخرجها الزَّوج تختص به، ولا يلاقيها، أم تقع عنهما جميعاً، وهو يتحمل عنها؟ فيه قولان مُسْتَخْرِجَانِ من كَلاَمِ الشَّافِعِيّ -رضي الله عنه- وقد يعبر عَنْهُمَا بِوَجْهَيْنِ: أحدهما: أنها تختص به، ولا يلاقيها؛ لأنه لَو تَعَلَّق الوَاجِبُ بِهَا لَأُمِرَتْ بِإخْرَاجِهِ.
والثَّاني: أنها يُلاَقِيهَا، وهو متحمل. ووجهه صَاحِبا "التهذيب" و"التتمة" بإلحاق الكَفَّارة بثمن ماء الاغتسال، كأنهما قَدَّرَاه متَفقاً عليه، لكن الحَنَّاطِيَّ حَكَى طريقاً آخر قَاطِعاً بأن ثمن مَاءِ الاغْتِسَال عَلَيْهَا، لا عليه، وأشار إلى تَرْجِيحِهِ، ثم الأَصَح من هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ عند صاحب الكِتَاب هو الأولُ، وبه قال الحَنَّاطِيّ وآخرون، وذكر الامَامُ أن ظاهر المَذْهَبِ هو الثَّاني، وقد يحتج له بقوله في "المختصر": "والكفارة عليه واحدة عنه"، لكن من قال بالأول حمله على أنها تجزئ عن الفعلين جميعاً، ولا يلزمها كفارة خَاصَّة خلاف ما قاله أبو حَنِيفة، ويتفرع على هَذين القَوْلَين صِوَر: إحداها: إذا أفطرت بالزِّنا، أو بالوطء بالشُّبْهَة. فإن قلنا: الوجوب لا يلاقيها، فلا شَيْءَ عَلَيْهَا. وإن قلنا بالثاني؛ فعليها الكَفَّارة؛ لأن رابطة التَّحَمُّل الزَّوجِيَّة، ونقل عن "الحَاوِي" أن القَاضِي أَبا حَامِدٍ قَالَ: تجب الكَفَّارَةُ عَلَيْهَا بِكُلِّ حَالِ. الثَّانية: لو كان الزَّوْجُ مَجْنوناً وقلنا بالأول فلا شيء عليها وإن قلنا بالثاني: فوجهان: أظْهَرهما: وهو المذكور في الكتاب أنه يَلزَمُهَا الكَفَّارَةُ؛ لأن التَّحَمّل لاَ يَلِيقُ بِحَالِهِ، وَلهَذَا لَمْ تَجِبْ عليه الكفارة لِنَفْسِهِ. والثَّاني: أنه يلزمه الكَفَّارة لَهَا: لأن مَالَه يَصْلُح لِلتَّحَمُّل، وإنْ كَانَ مُرَاهِقاً، فهو كَالْمَجْنُونِ؛ لأن المذهب أن فِعْلَه لا يُوجب الكَفَّارة، وخرج بَعْضُ الأَصْحَاب من قولنا: إن عمد الصبي عمد أنه يلزمه الكَفَّارة، فعلى هَذَا هُوَ كَالْبَالِغ، ولو كَانَ الزَّوْجُ نَاسِياً أو نائماً فاسْتَدخَلَت ذَكَرَه، فالحكم كما ذَكَرنا في المَجْنُون. الثالثة: لو كان الزَّوْجُ مسافِراً، والمرأة حَاضِرة، وأفطر بالجِمَاع على قَصْد التَّرَخُّصِ، فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وإن لم يقصد التَّرَخُّص فوجهان في لزوم الكَفَّارة. أصحهما: أنَّهَا لاَ تَلْزَم؛ لأن الإفْطَار مُبَاحٌ له، فيصير شبهه في دَرءِ الكَفَّارَةِ، وهذا حُكُمُ المَرِيضِ، الَّذِي يُبَاحُ لَهُ الفِطْرِ إِذَا أَصْبَحَ صَائِماً، ثُمَّ جَامَعَ، وَالصَّحِيح إذَا مرض في أَثْنَاء النَّهَار، ثُمَّ جامع فحَيْثُ قُلْنَا بِوُجُوب الكَفَّارَةِ، فهو كَغَيْرِه، وحكم التَّحمُّلِ كَمَا سَبَقَ، وَحَيْثُ قُلْنَا: لاَ كَفَّارَةَ فَهُوَ كَالْمَجْنُونِ، وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا العراقيون فيما إذا قَدِم المُسَافِر مفطراً، فأخبرته بأنَّها مفطرة وكانت صَائِمَةٌ أن الكَفَّارة عليها، إذا قلنا: إن الوُجوبَ يُلاَقِيها، لأنها غَرَّته وهو مَعْذُورٌ، ويشبه أن يكون هَذا جواباً على قولنا: إن المَجْنُونَ لاَ يَتَحَمَّل، وإلا فَلَيْسَ العُذْرِ هاهنا أوضح من العُذْرِ في المَجنُون، -والله أعلم-. الرابعة: إذا فرعنا على القول الثاني وهو أن الوجوب يُلاَقيها، وجب اعتبار حَالِهِمَا، ولا يخلو إما أن يُتَّفِق حَالُ الزَّوْجِ والمرأة أو يختلف.
فإن اتفق حَالُهُمَا، نظر إن كَانَا مِنْ أَهْلِ الإعْتَاقِ وَالإطْعَامِ أَجْزَأَ المخرج عَنْهُمَا وإن كانا من أَهْلِ الصِّيَام إِمَّا لِلإعْسَار بالعتق، أو لِكَوْنهِمَا مَمْلوكَينِ، فعلى كُلِّ واحدٍ منهما صَوْم شَهْرَين؛ لأن الصَّومَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، ولا مَدْخَل للتحمل في عِبَادَاتِ الأبدان، وإن اختلف حَالُهُمَا لَمْ يَخُل إما أن يكون الزَّوْجُ أَعْلَى حَالاً مِنها، أو تَكُون هِى أَعْلَى حَالاً مِنْه، فإن كان الزَّوْجُ أَعْلَى حَالاً نُظِر إِنْ كَانَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الإِعْتَاقِ وَهِيَ مِنْ أهْلِ الصِّيَامِ، وَالإِطْعَامِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أظهرهما -ولم يذكر العراقيون غَيْرَه-: أنه يُجْزِئ الإِعْتَاق عَنْهُمَا جَمِيعاً؛ لأن مَنْ فَرْضَه الصِّيَام، أو الإِطْعَام يُجْزِئه التَّكْفِير بِالْعِتْقِ بِطَرِيقِ الأَوْلَى. نعم، لو كانت أمةً فعليها الصَّوم؛ لأن الإعْتاق لاَ يُجْزِئ عَنْهَا. قال في "المهذب": إلاَّ إذا قلنا: إن العبد يَمْلِكُ بالتَّمْلِيكِ، فتكون الأمة كَالحُرَّة المُعْسِرة. والثاني: لا يُجْزِئُ عَنْهَا لاختِلاف جِنْسِ الوَاجِب، وعلى هذا فعليها الصِّيام في الصُّورة الأُولَى وعَلَى مِنَ الإطْعَام فِي الصُّورة الثَّانيَة؟ فيها وجهان: أظهرهما: أنه على الزَّوج، فَإِنْ عَجَزَ فِي الحَالِ ثبت في ذِمَّتِهِ إلى أن يقدر؛ وذلك لأن الكَفَّارة على القَوْلِ الَّذِي عَلَيْهِ نفرع معدودة من مؤنات الزوجة اللاَّزِمَةِ عَلَى الزَّوْجِ. والثاني -ذكره في "التهذيب"-: أنه عليها؛ لأن التَّحمل كالتَّداخُلِ لا يجزئ عِنْدَ اخْتِلاَف الجِنْس، وإن كان هُوَ مِنْ أهْلِ الصِّيَام، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الإِطْعَام فَالَّذِي قَالَه الأَئِمَةُ أَنَّهُ يَصُومُ عَنْ نَفْس، وَيُطْعِمُ عَنْهَا؛ لأن الصَّوم لا يتحمل بهِ، وقضية قَوْلِ مَنْ قَالَ بِإِجْزَاء الإعْتَاقِ عَنِ الصِّيَام فِي الصورة السَّابقة إِجْزَاء للصِّيَامَ عَنِ الإطْعَام؛ لأن مَنْ فَرْضُهُ الإطعَام لَوْ تحمل المَشَقَّة، وَصَامَ أجزأه، والصَّوْم كَمَا لا يتحمل به لا يتحمل وإن كانت الزَّوْجَةُ أَعْلَى حَالاً مِنْه، نظر إِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الإعْتَاقِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَام صَامَ عَنْ نَفْسِهِ، وأعتق عنها إذا قَدِر، وإن كَانَتُ مِنْ أَهلِ الصِّيَامِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الإِطعَامِ صَامَتْ عَنْ نَفْسِهَا، وأطعم الزَّوج عَنْ نَفْسِه. المسألة الثَّانية: إذا أَفْسَدَ صَوْمَه بغير الجماع كالأكل، والشُّرب، والاستمناء، والمُبَاشرات، المفضية إلى الإنزال فلا كَفَّارَةَ عليه؛ لأن النَّص وَرَدَ فِي الجِمَاعِ وَمَا عَدَاهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاه، وَهَلْ يلزمه الفِدْيَة؟ فِيه خِلاَفٌ سَيَأْتِي مِنْ بَعْد. وقال مالك: تجب الكَفَّارة بِكُلِّ إِفْسَاد يعصى به، إِلاَّ الرِّدَّة والاسْتِمنَاء والاستقاءة. وقال أبو حنيفة: تَجِب الكَفَّارَة بتناول مَا يقصد تناوله، وَلاَ تَجِب بابتلاع الحَصَاةِ وَالنَّوَاةِ، وَلاَ بِمُقَدِّمَاتِ الجِمَاعِ.
وقال أحمد: لا تَجِبْ بالأكل والشُّرب، وتَجِب بالمُبَاشَرَاتِ المُفْسِدَةِ لِلصَّوْمِ. الثَّالثة: تجب الكفارة بالزِّنَا وَجِمَاع الأَمَةِ، وكذلك بإتْيَانِ البَهِيمَةِ، والإتيان في غَيْر المأتى، ولا فرق بين أن ينزل أو لاَ يَنْزِل. وذَهَبَ بَعْضُ الأَصْحَابِ إِلَى بناء الكَفَّارة فيها عَلَى الحَدِّ، إن أوجبنا الحَدَّ فيهما أو أوجبنا الكَفَّارة، وإلا فوجهان: وعند أبي حنيفة -رحمه الله- إِتْيَان البَهِيمَةِ إنْ كَانَ بِلاَ إنْزَال لَمْ يتعلق بِهِ الإِفْطَار فَضْلاً عَنِ الكَفَّارَةِ، وإن كانَ مَعَ الإنْزَال أَفْطَرَ وَلاَ كَفَّارَةَ، وَفِي اللّواطِ هَلْ يتوقف الإِفْطَار عَلَى الإِنْزَال؟ فِيهِ رَوَايَتَانِ، وإذا حَصَلَ الإِفْطَار فَفِي الكَفَّارَةِ روايتان. والأظهر: أن الإِفْطَار لاَ يتوقف عَلَى الإنْزَالِ، وأَنَّ الكَفَّارَةَ تَجِب. وعند أحمد تَجِب الكَفَّارَةُ فِي اللَّوَاطِ، وَكذَا فِي إِتْيَانِ البَهِيمَةِ عَلَى أَصَحِّ الرِّوايتين. واعلم أن المَسَائِلَ الثَّلاث في الفَصْل متعلقة بالقَيْدِ الثَّالِثِ في الضابط، وهو كون الإفساد بِجماع تَامّ فيدخل فيه صور المسأَلة الثالثة، ويخرج صور الثّانية، وأما الأولى قَقَدْ قَصَدَ صَاحِبُ الْكِتَاب بِوَصْفِ الجِمَاعِ بِالتَّمَام لِلاحْتِرَازِ عَنْهَا؛ لأن المرأة إِذَا جُومِعَت حَصَلَ فَسَادُ صَوْمِهَا قَبل تَمَام حَدِّ الْجِمَاع بِوُصُولِ أَوَّلِ الحَشَفَةِ إِلَى بَاطِنِهَا، فالجماع يَطْرَأُ عَلَى صَوْمٍ فَاسِدٍ، وَبِهَذَا الَمَعْنَى عَلَّلَ أصح القولين، وهو أن المرأة لا تؤمر بِإخْرَاجِ الكَفَّارة، ويروى هذا التَّعْلِيل عَنِ الأُسْتَاذِ أبِي طَاهِر، وَطَائِفَةٍ، لكن الأكثرين زَيَّفُوه، وقالوا: يتصور فَسَاد صَوْمِهَا بِالْجمَاعِ، بأن يولج وهي نائمةٌ أو نَاسِيَة، أو مكرهة ثم تستيقظ أو تتذكر أو تُطَاوعُ بَعْدَ الإيلاَجِ وتستديمه، والحكم لا يختلف على القولين، فعلى هذا جماع المرأة إذا قلنا: لاَ شَيْءَ عَلَيْهَا والوجوب لا يلاقيها مثنى عن الضابط. وقوله: (وفيه قول قديم) أراد به القول الثاني، وهو أنها تُؤْمَر بإخْرَاجِ الكَفَّارة، كَالرَّجُلِ وهذا قد نقله الإمام وصاحب الكتاب في "الوسيط" عن "الإملاء"، وليس تسميتة قديماً من هذا الوَجْه، فَإِنَّ "الإِمْلاَء" محسوب من الكتب الجَدِيدة، ولكن رأيت بعض الأئمة روايته عن القَديم، و"الإملاء" معاً، ويشبه أن يكون به في القديم قولان: أحدهما: كالجديد؛ لأن المُحَامِلِيّ حَكَى القول الصَّحيح عَنِ الكُتُبِ الجَدِيدَةِ والقَدِيمة جميعاً. وقوله: (ولا يتحمل الزاني) أي على قَوْلِنا: أن الوُجُوبَ يُلاَقِيهَا، والزوج يتحمل. وأما مواضع العَلامات. فقوله: (ولا على المرأة) مَرْقومٌ بالحاء والميم. وقوله: (ولا الزوج المجنون، ولا المسافر) كلاهما بالواو لما قدمنا، وليس قوله: (إذ لا كفارة عليهما) خالياً في حق المسافر عن التفصيل، والخلاف.
وقوله: (ولا عن المُعْسِرة) يشمل ما إذا كَانت معسرةً، وهو قادر على الإعْتَاق، وفي هذه الصُّورة خلاف تقدم، فلا يبعد إعلامه بالواو. وقوله: (ولا كفارة على من أفطر بغير جماع) معلم بالميم، والحاء، والألف، ويجوز أن يُعَلَّم بالواو أيضاً لأمور: أحدها: أنه نقل عن "الحاوي" أن أبا علي بن أبي هريرة قال: "تجب بالأكل والشُّرب كفارة فوق كفارة المُرضع، والحَامِل، دُونَ كَفَّارَةِ المُجَامِعِ. قال: أَقْضَى القُضَاة: وهذا مذهب لا يستند إلى خبر، ولا أثر، ولا قياس. والثاني: أن أبا خلف الطَبَرِي (¬1)، وهو من تلاميذه القَفَّالُ اختار وجوب الكفارة، بكل ما يأثم بالإفطار به. والثالث: أن الحَنَّاطِيّ ذكر أن عبد الحكم روى عنه إيجاب الكَفَّارة فيما إذا جَامع فِيمَا دونَ الفرج، فأنزل. ووطء البهيمة، والإتيان في غير المأتى معلّمان بالحاء والواو. قال الغزالي: وَلاَ تَجِبُ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَن الصَّبْحَ غَيْرُ طَالِعٍ فَجَامَعَ (ح). قال الرافعي: إذا ظَنَّ أنَّ الصُّبْحَ غير طَالِعٍ فَجَامع، ثم تَبَيَّن خلافه، فحكم الإِفْطَار قد مر، ولكن لا كفارة عليه؛ لأنه غير مأثُومٍ بما فعل، فلا يَسْتَحِق التَّغْلِيظ. قال الإمام -رحمه الله-: ومن قال بوجوب الكَفَّارة على النَّاسِي بِالْجِمَاع يقول بمثله هاهنا، لتقصيره بِتَرْكِ البَحثِ، ولو ظَنَّ أن الشَّمْسَ قد غربت فجامع، ثم بأن خلافه، فقد ذكر صاحب "التهذيب" وغيره أنه لا كفارة عليه أيضاً، لأنها تَسْقُط بالشُّبهة، وهذا ينبغي أن يكون مفَرَّعاً عَلَى تجويز الإفطار والحالة هذه، وإلا فتجب الكَفَّارة وفاء بالضَّابِطِ المَذْكُور، ولما يوجب الكفارة. ولو أكل الصَّائِم نَاسِيًا فَظَنَّ بُطْلاَنَ صَومه فَجَامع، فهل يفطر؟ فيه وجْهَان: أحدهما: لا، كما لو سَلَّم عن ركعتين من الظُّهْرِ ناسياً، وتكلم عَامِداً لا تبطل صلاتُه. وأصحهما -ولم يذكر الأكثرون غيره-: أنه يفطر، كما لو جَامَع على ظَنِّ أن الصبح لم يطلع فَبَانَ خِلافُه، وعلى هذا فَلاَ تَجِب الكَفَّارة؛ لأنه وطئ وهو يعتقد أنه غَيْرُ صَائِم. وعن القَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ: أنه يحتمل أن تجب الكفَّارة؛ لأن هذا الظن لا يبيح الوَطْءَ، ولو أفْطر المسافرُ بالزِّنَا مترخصاً فلا كَفَارَةٌ عَلَيْه لأنه وإن أثم بهذا الجِمَاع ¬
لكن لم يأثم به بِسَبَب الصَّوْم، فإن الإفطار جائزٌ له، ولو زنا المقيمُ نَاسياً للصَّوم وقلنا: إن الصوم يفسد بالجَماع نَاسِياً، فلا كَفَّارة عليه أيضاً على الوَجْه الأصح؛ لأنه لم يأثم بسبب الصوم، فإنه كَانَ ناسياً له. وإذا تَأمَّلْتَ هذه الصور عرفت اشتراكها في شيء واحد، وهو أن المجامع فيها مَأْثُوم بالجِمَاع بسبب الصوم، ثم منها ما لا إثم فيه، ومنها ما فيه إثم، ولكن لا بِسَبَب الصوم، وهي متعلّقة بالقيد الذي ذكره آخراً، وهو قوله: (أثم به لأجل الصوم) وهذا يجوز أن يقدر وصفاً واحداً به يحصل الاحتراز عن الصور كلها فحيث لا إثم، لا إثم بسبب الصَّوم، ويجوز أن يقدر وصفين: أحدهما: كونه مأثوماً به. والثاني: كونه مأثومًا به بسبب الصوم، فبالأول يحصل الاحتراز عن الصور التي لا إثم فيها وفيها جِمَاع المُرَاهِقِ والمُسَافر والمَرِيض على قصد الترخص كما سبق، وبالثَّاني يحصل الاحتراز عن الصّور التي يأثم فيها لا بالصّوم. قال الغزالي: وَتَجِبُ عَلَى المُنْفَرِدِ (ح) بِرُؤْيةِ الهِلاَلِ، وَعَلَى مَنْ جَامَعَ مِرَاراً كَفَّارَاتٌ (ح)، وَتَجِبُ عَلَى مَنْ جَامَعَ ثُمَّ أنْشَأَ السَّفَر (ح). وَلَوْ طَرَأَ بَعْدَ الجِمَاعِ مَرَضٌ أَوْ جُنُونٌ أَوْ حَيْضٌ سَقَطَ فِي قَوْلٍ وَلَمْ يَسْقُطْ فِي قَوْلٍ، وَتَسْقُطُ بِالْجُنُونِ وَالْحَيْضِ (م) دُونَ المَرَضِ (ح) فِي قَوْلٍ. قال الرافعي: في الفَصْلِ ثلاث مسائل: إحداها: إذا رأى هلالَ رمضانَ وحده وَجَبَ عليه صَوْمُه، وإذا صامه وأفطر بالجِمَاع فعليه الكَفَّارة. وبه قال مَالِكٌ وأحمد، خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله-. لنا أنه هتك حُرْمَةَ يوم من رمضانَ بإفساد صَوْمِهِ بالجماع، فأشبه سائر الأيام. ولو رأى هلال شَوَّال وحده، وجَبَ عليه أن يفطر ويخفي إفطاره عن النَّاس كيلا يُتَّهم. وعن أبي حنيفة وأحمد: أنه لا يفطر برؤيته وحده. لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيتَهِ" (¬1) وإذا رُؤي رجل يأكل يوم الثَّلاثين من رمضان بلا عذر عزر عليه، فلو شهد أنه رأى الهلال لَمْ يقبل؛ لأنه متهم يريد إِسْقَاط التعزير عن نفسه، بخلاف ما إذا شَهِد أولاً فَرُدَّت شهادة، ثم أكل لا يعزر. الثانية: لو أفطر بالجماع ثم جامع في ذلك اليومِ ثَانياً، فلا كَفَّارة عليه إذ الجماع الثَّاني لم يقع مفسداً، ولو جامع في يومين، أو في رمضانين فعليه كَفَّارَتَان، سواء كَفَّر عن الأول، أو لم يُكَفِّر، وبه قال مالك. قال أبو حنيفة: إذا جامع في يومين، ولم يُكَفِّر عن الأول لم يلزمه إلا كفارةٌ واحدة. وعنه فيما إذا كَفَّر روايتان، ولو جَامَعَ في ¬
رمضانين فالمشهور أنه يلزمه كفارتان بِكُلِّ حال، وعنه رواية أخرى: أنه كاليومين. وقال أحمد: إذا وَطِئَ في يومين فَكَفَّرَ عن الأول فعليه كَفَّارَةُ أخرى؛ وإن لم يُكَفِّر فلأصحابه فيه اختلاف. لنا أن صوم كل يوم عبادة برأسها، فلا تتداخل كفارتاهما كالحجتين إذا جَامَع فيهما. الثالثة: إذا أفسد صومه بِالْجِمَاع ثم أنشأً سَفراً طويلاً في يَومِهِ لم تسقط عنه الكَفَّارة؛ لأن السفر المنشأ في أثناء النَّهار لا يبيح الفطر فيه فعروضه لا يؤثر فيما وَجَب مِن الكَفَّارة، وعن صاحب "التقريب" والحَنَّاطِيِّ أن سقوط الكفارة مُخَرَّجٌ على خِلاَفٍ سنذكره في نَظَائِرِهِ، ويروى عن أبي حنيفة -رحمه الله- في المسألة روايتان: أصحهما: أنها لا تسقط، وصاحب الكتاب لم يرو عنه في "الوسيط" إلا السقوط؛ ولذلك أعلم قوله في الكتاب: (وتجب على من جامع) بالحاء مع الواو. ولو جامع ثم مرض، ففيه طريقان: أحدهما: أنه لا تسقط الكفارة أيضاً كالسفر. أظهرهما: وبه قال مالك وأحمد: أنه لا تَسْقُطِ لأنه هتك حرمة الصَّوم بما فعل. والثاني: تسقط؛ لأن المرض الطَّارئ يبيح الفطر، فيتبين به أن الصَّوم لم يقع مستحقاً، وبهذا قال أبو حنيفة، ولو طرأ بعد الجِمَاع جنون أو حيض فقولان أشار إليهما في "اختلاف العراقيين". أظهرهما: وبه قال أبو حنيفة: أنها تسقط؛ لأن الجنون والحيض يُنَافِيان الصَّوم، فيتبين بعروضهما أنه لم يكن صائماً في ذلك اليوم. والثاني: لا تسقط لَقَصْدِه الهَتْكَ أولاً، والمسألة في الحيض مُفَرَّعةٌ على أن المرأة إذا أفطرت بالجِمَاع تلزمها الكَفَّارة، وعروض الموت كعروض الحَيْضِ والجنون. وإذا جمعت بين المرض والجنون والحيض انتظم فيها ثلاثة أقوال، كما ذكر في الكتاب، فإن ضممت السفر إليها، وتعرضت للطريقة البعيدة، حصلت أربعة أقوال، رابعها أنه يسقط بها دون السفر، والله أعلم. قال الغزالي: ثُمَّ هَذِهِ كَفَّارَة مُرَتَّبَةٌ ككَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَفي وُجُوب القَضَاءِ وَجَوَازِ العُدُولِ مِنَ الصَّوْمِ إِلَى الإِطْعَامِ بِعُذْرِ شِدَّةِ الغُلْمَةِ، وَجَوَازِ تَفْرِيقِ الكَفَّارةِ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالوَلَدِ عِنْدَ الفقْرِ، واسْتقرَار الكَفَّارَة في الذِّمَّةِ عَنْدَ العَجْزِ عَنْ جَمِيع هَذِهِ الخِصَالِ وَقْتَ الجِمَاعِ خِلاَفٌ، فَفِي وَجْهٍ نَمِيلُ إِلَى القِيَاسِ وَنَحْمِلُ هَذِهِ القَضَايَا في حَدِيثِ الأعْرَابِيِّ عَلَى خَاصِّيتهمَا، وَفي وَجْهٍ نَعْمَلُ بِظَاهِرِ الحَدِيثِ.
قال الرافعي: القول في كيفية الكَفَّارة إنما يستقصى في "باب الكَفَّارات" (¬1)، والكلام الجملي أن هذه الكفارة مرتبة كَكَفَّار الظِّهار، فيلزم عتق رقبة، فإن لم يجد فَصِيام شَهْرين، فإن لَمْ يَسْتَطع فإطعام سَتِّين مسكيناً لما ذكرنا في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. وقال مالك: يَتَخَيَّرُ بين الخِصَال الثلاثة، وهو رواية عن أحمد، والأصح عنه مثل مذهبنا. ثم في الفصل صور: إحداها: إذا أفسد صَوْمَه بالوقاع ولزمته الكفارة، هل يلزمه قَضَاء اليوم الذي أفسده معها؟ فيه ثلاثة أوجه، ومنهم من يقول قولان: ووجه للأصحاب، لأنه حكى عن الإمام أنه قال: يحتمل أن يجب القَضَاء، ويحتمل أن يَدْخُل في الكَفَّارة، ولكل وجه. أحدهما: أنه لا يجب القَضَاءِ؛ لأن الخَلَلَ الحَاصِلَ قد انجبر بالكَفَّارة، ولأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر الأعرابي [بالقضاء مع] الكفارة. وأصحهما: أنه يَجِبِ، لأنه روي في بعض الروايات أنه -صلى الله عليه وسلم- قال للرجل:"وَاقْضِ يَوماً مَكَانَهُ" (¬2). وثالثها: أنه إن كفر بالصَّوم دخل فيه القضاء، وإلا فلا لاختلاف الجنس، قال: ولا خلاف في أن المرأة يلزمها القضاء إذا لم تلزمها الكَفَّارة، ولا يتحمل الزَّوج، فإن الكَفَّارة إذا كَانَتْ صوماً لم تتحمل فما ظَنُّك بالقضاء. الثانية: شدة الغلمة هل يكون عذراً في العُدولِ مِنَ الصِّيَامِ إلى الإِطْعَام؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال للأعرابي الذي جاءه، وقد واقع: "صُمْ شَهْرَيْنِ"، قال: هل أتيت إلا من قبل الصوم؟ فقال: "أَطْعِم سِتِّينَ مِسْكِيناً" (¬3). والثاني: لا، لِمكان القدرة على الصَّوْمِ، وسنذكر ما الأظهر منهما. الثالثة: لو كان من لزمته الكَفَّارة فقيراً، فهل له صَرْفُ الكَفَّارةَ إِلى أَهْلِهِ وأولاده؟ فيه وجهان. أحدها: نعم لقوله -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي "أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ وَعِيَالَكَ" (¬4). ¬
وأصحهما: لا، كالزَّكَوات، وَسَائِرِ الكَفَّارَاتِ. وأما الحديث فلا نسلم أن الَّذِي أمره بصَرْفِهِ إلى الأَهْلِ والعِيَال كَانَ كَفَّارة، وهذا لأنه يحتمل أنه لم يملكه ذلك، وإنما أراد أن يملكه لِيُكَفِّر، فلما أخبره بحاجته صَرَفَهُ إليه صدقة، ويحتمل أنه مَلَّكَهُ وأمره بالتَّصَدُّق به، فلما أخبره بحاجته أَذِنَ في أَكْلِهِ وإطعامه عِيَاله ليبين أن الكفارة إنما تجب إذا فضل عن الكفاية، وإن سلمنا أنه كان كفارة ولكن يحتمل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تَطَوَّع بالتكفير عنه، فسوغ له صرفه إلى الأهْلِ والعيال، فيكون فائدة الخبر أنه يجوز للغيفر التَّطَوع بالكَفَّارة عن الغير بإذنه، وأنه يجوز للمتطوع صَرْفُه إلى أَهْلِ المكفر عنه وَعِيَاله، وهذه الاحتمالات بأسرها منقوله عن "الأم". الرابعة: إذا عجز عن جميع الخِصَال فهل تستقر الكفارة في ذمته؟ قال الأصحاب: الحقوق المالية الواجبة لِلَّه تنقسم إلى مَا تَجِب لاَ بِسَبَبٍ يباشره العبد، وإلى ما تجب بسبب يباشره، فالأول كزكاة الفِطْر إن كان قادراً وَقْتَ وُجُوبِهَا وجبت، وإلا لم تستقر في ذمته إلى أن يقدر. والثاني: على ضربين: ما يجب على وجه البَدَل، كجزاء الصَّيد فإن كان قادراً عليه فذاك، وإلاّ ثبت في ذِمَّتِهِ إلى أن يقدر تَغْلِيباً لمعنى الغرامة، وما يجب لا على وَجْهِ البَدَل ككفارة الوقَاع واليَمِين والقَتْلِ والظِّهار ففيها قولان: أحدهما: أنها تَسْقُط عند العَجْزِ، كَزَكَاةِ الفِطْرِ، وبه قال أحمد: وأصحهما: أنها لا تسقط كَجَزاء الصَّيْدِ، فعلى هذا مَتَى قدر على إحدَى الخِصَال لزمته. واحتج للقول الأول بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- "لَمَّا أَمَرَ الأَعْرَابِيَّ بِأَنْ يُطْعِمَهُ أَهْلَهُ وَعِيَالَهُ لَمْ يَأمُرُهُ بِالإخْرَاجِ فِي ثَانِي الْحَالِ" (¬1)، ولو وجب ذلك لأشبه أن يبين له. ولمن رجح الثاني أن يقول: لم قلت: إن المصرف إلى الأهل والعِيال لم يقع تَكْفِيراً، فإنا روينا وجهاً مجوزاً له عِنْدَ الفقر إن سلمنا ذلك، ولكن يحتمل أن يكون الغرض باقياً في ذمته ولم يبين له ذلك؛ لأن حاجته إلى معرفة الوُجوب إنما تمس عند القدرة، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة، وهذا الذي ذَكَرْنَاه يوقفك على أنه لا يمكن الاستدلال بخبر الأعرابي في هذه الصورة، والتي قبلها على الجَمْعِ، وإنما يمكن الاستدلال به في إحداهما؛ لأن المأمور بصرفه إلى الأهل والعيال إما أن يكون كفارة أو لا يكون. إن كان لم يصح الاستدلال به في هذه الصورة. وإن لم يكن لم يصح في الصورة السابقة. ¬
وأعرف بعد هذا في لفظ الكتاب شيئين: أحدهما: أنه أطلق ذكْر الخِلاَف في الصور الأربع وفَسَّره بوجهين، وهو مسلم في الصورة الثانية والثالثة. وأما الأولى فقد ذكرنا أن من الأصحاب من يجعل الخِلاَف فيها قولاً، وكذا ذكره القفال في "شرح التلخيص". وأما الرابعة فالجمهور حكوا الخلاف فيها قولين، وإنما أطلق صاحب الكتاب فيها الوجهين تقليداً للإمام. والثاني: أنه بين أن أحد طرفي الخلاف في الصّور جميعاً يوجه بالقياس. والثاني: بظاهر الخبر وإذا جرينا على القياس حملنا قِصَّة الأَعْرَابِي عَلَى خاصيته، وخاصية أهله. قال الإمام: وكثيراً ما كان يفعل ذَلِك رسول -صلى الله عليه وسلم- كما في الأضحية، وإرْضَاع الكَبير ونحوهما، وهذا وإن كان على بُعدٍ فهو أهْوَن من تشويش أصول الشَّرِيعة. واعلم أن مثل هذا التأويل إنما يصار إليه عند الاضطرار، ولنا عنه مندوحة أما في غير الصّورة الثانية فقد بَيّنَّاه، وأما في الثَّانية فإنما يحتاج إلى تأويل الخبر، فيهما من يجعل الأظهر امتناع العدول إلى الإطعام بعذر شدة الغلمة، ومنهم صاحب الكتاب، فإنه أعاد المسألة في آخر "كتاب الكَفَّارات" وَرجَّحَ وجه الامتناع، وقضية كَلاَمِ الأكثرين التجويز، ولم يورد صاحب "التهذيب" غيره، فإذا صِرْنَا إليه عملنا بِظَاهِرِ الخَبَرِ، واستغنينا عن التأويل. قال الغزالي: الرَّابعُ: الفِدْيَةُ وَهِيَ مُدٌّ مِنَ الطَّعَامِ مَصْرِفُهَا مَصْرِفُ الصَّدَقَاتِ. قال الرافعي: الأصل في الفِدْية الخبر والأثر على ما سيأتي ذكرهما (وهي مُدٌّ مِنَ الطَّعام) لكل يوم من أيام رَمَضَان، وجنسه جنس زكاة الفِطْر، فيعتبر على الأصح غالب قُوتِ البَلَدِ، ولا يجزئ الدقيق والسويق كَمَا مَرَّ. وقوله: (مصرفها مصرف الصدقات) ليس المراد من الصّدقات هاهنا الزكوات، فلا تصرف الفدية إلى الأصناف الثمانية، وإنما المراد التَّطوعات، وهي في الغالب مصروفه إلى الفُقَراء والمَسَاكِين، وكلُ مدٍّ بمثابة كَفَّارة تامة، فيجوز صَرْفُ عَدَدٍ منها إلى مسكين واحد، بخلاف أمداد الكَفَّارة الواحدة، يجب صرف كل واحد مِنْها إلى مسكين، كما سيأتي في موضعه، ويجوز أن يعلم قوله: (مد) بالحاء والألف؛ لأنه روي عن أبي حنيفة -رحمه الله- أنها مُدٌّ من بُرٍّ أو صاعٌ مِنْ تَمْرٍ. وعن أحمد -رحمه الله- أنها "مدّ" مِنْ بِرٍّ أو نصف صَاعٍ من تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ.
قال الغزالي: تَجِبُ بِثَلاثةِ طُرُقٍ: (أَحَدُهَا) فَوَاتُ نَفْسٍ الصَّوْمِ فِيمَنْ تَعَدَّى بِتَرْكِهِ وَمَاتَ قَبْلَ القَضَاءِ فَيَخْرُجُ مِنْ تُركتِهِ مُدٌّ، وقَالَ في القَدِيم: يَصُومُ عَنْهُ وَليُّه، وَلاَ يَجِبُ عَلَى مَن فَاتَة بالمِرَضِ، وَيجِبُ عَلَى الشَّيْخِ الهَرِمِ عَلَى الصَّحِيح. قال الرافعي: فقه الفصل مسألتان: إحداهما: إذا فاته صوم يوم أو أيام من رمضان ومات قَبْلَ القضاء فله حالتان: إحداهما: أن يكون موته بعد التمكن من القَضَاء، فلا بد من تَدَارُكِهِ بعد موته، وما طريقه؟ فيه قولان: الجديد: وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد -رحمهم الله-: أن طريقه أن يطعم من تركته لكل يَومِ مُدّ؛ لما روي مرفوعاً وموقوفاً على ابن عمر -رضي الله عنهما- "أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوُمٌ، فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ" (¬1)، ولا سبيل إلى الصوم عنه، لأن الصوم عبادة لا تدخلها النِّيَابة في الحَيَاة، فكذلك بَعْدَ المَوْتِ كالصَّلاة. والقديم: وبه قال أحمد: أنه يجوز لِوَلِيِّه أن يصوم عنه؛ لما روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَومٌ صَامَ عَنْهُ وَليُّهُ" (¬2) وإذا فرعنا على القديم فلو أمر الولي أجنبياً بأن يصوم عنه بأجرة أو بغير أجرة جاز، كما في الحج، ولو استقل به الأجنبي ففي إجزائه وجهان: أظهرهما: المنع، والمعتبر على هذا القول الوِلاَية، على مَا وَرَدَ في لفظ الخَبَرِ، أو مطلق القَرَابة، أو بشرط العصُوبة، أو الإِرثْ توقف الإمام -رحمه الله- فيه، وقال: لاَ نَقْلَ عِنْدي في ذَلك، وأنت إذا فحصت عن نظائره وجدت الأشبه اعتبار الإرْث (¬3)، والله أعلم. ولو مات وعليه صَلاَة، أو اعتكاف لم يقض عنه وَلِيُّه، ولا (¬4) يسقط عَنْهُ الفِدْية، وعن البويطي: أن الشافعي -رضي الله عنه- قال في الاعتكاف: يعتكف عَنْهُ ¬
وليه. وفي رواية: يطعم عنه وليه قال صاحب "التهذيب": ولا يبعد تخريج هذا في الصَّلاة؛ فيطعم عن كل صَلاَةٍ مُدّاً، وإذا قلنا بالإطعام في الاعتكاف فالقدر المقابل بالمد اعتكاف يَوْمٍ بليلته، هكذا حَكاه الإمام عن رواية شيخه قال: وهو مشكل، فإن اعتكاف لحظة عبادة تَامة، وإن قيس على الصوم، فالليل ثم خارج عن الاعتبار (¬1). الحالة الثانية: أن يكون موته قبل التمكن من القضاء، بأن لا يزال مريضاً من استهلال شول إلى أن يموت، فلا شيء في تركته ولا على ورثته (¬2)، كما لو تلف ماله بعد الحَوْل وقبل التَّمَكُّن من الأدَاء لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. المسألة الثانية: الشَّيْخ الهَرِم الذي لا يَطِيق الصوم أو يلحقه مشقه شديدة فلاَ صَوْمَ عليه، وفي الفدية قولان: أحدهما: ويحكى عن رواية البويطي وحرملة: أنها لا تجب عليه. وبه قال مالك، كالمريض الذي يرجى زوال مرضه إذا اتصل مرضه بالموت، وأيضاً فإنه سقط فرض الصوم عنه فأشبه الصَّبِيَّ والمجنون. وأصحهما: وبه قال أبو حنيفة وأحمد: أنها تَجِب، ويروى ذلك عن ابن عمرو ابن عباس وأنس وأبي هريرة -رضي الله عنهم- وقرأ ابن عباس "وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِديِةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ" (¬3)، ومعناهُ: يُكَلَّفُونَ الصَّوْم فلا يطيقونه، والقولان جَارِيان في المريض الذي لا يرجى برؤه. ¬
وحكم صَوْم الكفارة والنذر حُكْمُ صَوْمِ رَمَضَانَ، ولو نذر (¬1) في حال العجز صَوْماً، ففي انعقاده وجهان، وإذا أوجبنا الفدية على الشَّيخ، فلو كان معسراً هل تلزمه إذا قَدِر؟ فيه قولان كما ذَكَرنا في الكَفَّارة، ولو كان رقيقاً فعتق ترتب الخلاف على الخلاف في زوال الإِعْسَار، وأولى بأن لا يجب، لأنه لم يكن من أهل الفدية عند الإفطار. ولو قدر الشيخ بعدما أفطر على الصَّوْم هل يلزمه الصوم قضاء؟ نقل صاحب "التهذيب" أنه لا يلزمه، لأنه لم يكن مخاطباً بالصَّوْمِ، بل كان مخاطباً بالفِدْية، بخلاف المَعْضُوب إذا أَحَجَّ الغيرَ عَنْه، ثم قد يلزمه الحَجُّ في قولٍ، لأنه كان مخاطباً، بالحَجِّ ثم قال من عند نفسه: إذا قدر قبل أن يفدى عليه أن يصوم، وإن قدر بعد الفدية، فيحتمل أن يكون كالحج، لأنه كان مخاطباً بالفدية على توهم أن عذره غَيْر زَائِلِ، وقد بانَ خِلافُه. واعلم: أن في كون الشَّيْخِ مخاطباً بالفِدْيَة دون الصوم كَلاماً، فإن صاحب "التتمة" في آخرين نقلوا خلافاً، في أن الشيخ هل يتوجه عليه الخطاب بالصَّوم ثم ينتقل للعجز إلى الفدية أم يخاطب بالفِدَاء ابتداء (¬2)؟ وبنوا عليه الوجهين في انعقاد نذره. وإذا كان كذلك فلصاحب "التهذيب" أن يمنع قول من قال إنه لم يكن مُخَاطباً بالصَّوْمِ. وأما لفظ الكتاب فقوله: (فوات نفس الصوم) إنما أطلق اللفظ هكذا ليشمل القَضَاء، والأداء، فإن الفدية قد تجب مع القَضَاء على ما سيأتي، ثم ليس الفَوَات موجباً للفِدْية على الإطْلاَق بدليلِ الصَّبي، والمجنون، ومن لم يتمكن مِنَ القضاء؛ بل في بعض المواضعَ، وهو ما إذا أخر القضاء مع الإمكان، وفي حَقِّ الشيخ الهرم، فلذلك قال فوات نفس الصوم فيمن تعدى بتركه، ثم قوله فيمن تعدى بتركه ينبغي أن يحمل على تَرْك الصَّوم نفسه، لا على ترك الأداء؛ والتعدي بترك نَفْسِ الصَّوم بعد ترك الأداء، إنما يكون بالتعدي في ترك القَضَاء، وقد يسبق إلى الفهم من لفظ صَاحِب الكِتَاب هاهنا، وفي "الوسيط" أن المراد التعدي بترك الأداء لكن القولين المَذْكُورين في أنه يصام عنه أو يطعم غير مخصوص به، بل الأكثرون من أصحابنا العراقيين إنما نقلوا القولين في المعذور بترك الأداء إذا تمَكَّن من القضاء، ولم يقض. وقوله: (يصوم عنه وليه) في الحكاية عن القديم، ليس المراد منه أنه يلزمه ذلك، وإنما القول القديم أنه يجوز له ذلك إن أراده، هكذا، أورده في "التهذيب"، وحكاه ¬
الإمام عن الشيخ أبي محمد، وهو كالمتردد فيه. ثم قوله: (يصوم) مُعَلَّمٌ بالحاء والميم لِمَا سبق، وبالألف أيضاً، لأن عند أحمد لا يَصُوم عنه في قضاء رمضان، وفيه كلام الكتاب، ولكن لو كان عليه صَوْم نذر، صَامَ عنه وَليّه، وعندنا لا فرق على القولين. وقوله: (ولا يجب على من فاته بالمرض) المراد منه الحالة الثانية، وهي أن يستمر المرض، ويمنعه من القَضَاء، ولو أفطر بعذر السَّفر ودام السَّفَر إلى الموت فلا شيء عليه أيضاً. قال الغزالي: الثَّاني: مَا يَجِبُ بِفَضِيلَةِ الوَقْتِ، وَهِيَ في حَقِّ الحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ فَإذَا أَفْطَرَنَا خَوْفًا عَلَى وَلَدَيْهِمَا قَضَتَا وَافْتَدَتَا عَنْ كُلِّ يَوْم مُدّاً، وفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: أنَّهُ لاَ يَجِبُ كالمَرِيضِ، وَهَلْ يُلْحَقُ بهمَا الإِفْطَارُ بِالعُدْوَانِ؟ وَمَنْ أَنْقَذَ غَيْرَهُ مِنَ الهَلاَكِ وَافْتَقَرَ إلَى الإفْطَارِ فِيهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: الحامل والمرضع إن خَافتا على أنفسهما أَفْطَرَتَا (¬1) وقَضَتَا ولا فدية عليهما كالمريض، وإن لم يَخَفَا من الصَّوم إلا على الولد فَلَهُمَا الإِفْطَار وعليهما القَضَاء. وفي الفدية ثلاثة أقوال: أصحها: وبه قال أحمد: أنها تجب؛ لما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} (¬2) أنه منسوخ الحكم إلا في حق الحامل والمرضع، وعن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في الحامل والمرضع: "إذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا أَفْطَرَتَا وَافْتَدَتَا" (¬3). والثاني: أنه تستحب لهما الفدية، ولا تجب، وبه قال أبو حنيفة، والمزني، واختاره القاضي الرّوَيَانِي في "الحلية"، ووجهه تشبيه الحامل بالمريض لأن الضرر الذي يصيب الولد يتأدى إليها، وتشبيه المرضع بالمسافر لأنهما يفطران، لئلا يمنعهما الصَّوْم عما هما بصدده وهو الإرضاع في حَقِّ هذه، والسَّفَرُ في حق ذاك، وقد يشبهان معاً بالمريض والمسافر من حيث إن الإفطار مَانِعٌ لما والقضاء يكفي تداركاً. والثالث: وبه قال مالك: أنها تجب على المُرْضع دونَ الحَامِلِ، لأن المرضع لا تخاف على نفسها والحامل تخاف بتوسط الخوف على الولد، فكانت كالمريض، ¬
ويحكى القول الأول عن "الأم"، والقديم، والثاني عن رواية حرملة، والثالث عن البويطي، وإذا فَرَّعْنَا على الأصح فلا تتعدد الفدية بتعدد الأولاد في أصح الوجهين، وهو الذي أورده في "التهذيب". وهل يفترق الحال بين أن ترضع ولدها، أو غيره بإجارة أوغيرها (¬1)؟ نفى صاحب "التتمة" الفرق، وقال: تفطر المستأجرة وتفدى؛ كما أن السفر لما أفاد جواز الإفطار لا يفترق الحال فيه بين أن يكون لِغَرض نَفْسِهِ أو غرض غيره (¬2). وأجاب صاحب الكتاب في "الفتاوى" بأن المستأجرة لا تفطر بِخِلاَف الأم، لأنها متعينة طبعاً، وإذا لم تفطر فلا خيار لأهل الصبي، ولو كانت الحامل أو المرضع مُسَافِرة أو مريضة فأفطرت على قصد الترخص بالمرض والسفر فلا فدية عليها، وإن لم تقصد الترخص ففي لزوم الفدية وجهان كالوجهين السابقين في المسافر إذا أفطر بالجماع. ثم في الفصل مسألتان: إحداهما: إذا أفطر بغير الجماع عمداً في نهار رمضان هل تلزمه الفدية مع القضاء فيه وجهان: أحدهما: نعم، لأنها واجبة على الحامل، والمرضع مع قيام العذر، والترخيص في الإفطار، فلأن تجب عليه، مع أنه غير معذور كان أولى. وأظهرهما: لا، لأنه لم يرد فيه توقيف، وحيث وَجَبَت الفدية إنما وجبت جابرة، وهي لا تجبر ما تعدى، ولا يليق بعظم جريمته، ويخالف الحامل والمرضع، لأن هناك ارتفق بالإفطار شخصان فجاز أن يتعلق بهما بدلان وهما القضاء والفدية كالجماع، لما ارتفق به الرجل والمرأة تَعَيَّن القضاء والكفارة العظمى، وهاهنا بخلافه، وقَرَّب الإمام الوَجْهين في المسألة بالوجهين في أن من تعمد بترك الأبعاض هل يَسْجُد للسَّهْو؟ الثانية: لو رأى مشرفاً على الهُلاَك بغرق وغيره وهو بسبيل من تخليصه ولكن ¬
افتقر في تخليصه إلى الإفطار فله ذلك (¬1) ويقضي، وهل تلزمه الفدية فيه وجهان: أظهرهما: وبه قال القفال: نعم لأنه فِطْرٌ ارتفق بهِ شَخْصَان، كما في حق المرضع. والحامل. والثاني: لا، لأن إِيجَاب الفدية مع القضاء بعيد عن القياس، والتعويل في حق المرضع والحامل على التوقيف، والوجهان فيما ذكر الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ مبنيان على الخلاف في وجوب الفدية على الحامل والمرضع إن أوجبناها فكذلك، هاهنا، وإلا فلا، وأشار مُشِيرُون إلى تخريج الخلاف هاهنا مع التفريع على وجوب الفِدْيَة ثُمَّ وفرقوا بأن الإفطار ثم لإحياء نَفْسٍ عاجزة عن الصَّوْم خِلْقة، فأشبه إفطار الشَّيْخ الهرم، وهاهنا الغريق غير عاجز عن الصَّوم، -والله أعلم-. وقوله في الكتاب: (ما تجب بفصيلة الوقت) معناه: أن الفدية قد تَجِبْ جَبْراً، لفوات فضيلة الوقت من تدارك أصل الصَّوْمِ بالقضاء، وليس ذلك مُوجِباً على الإِطْلاق بدليل المسافر والمريض، وإنما تجب في المواضع التي عدها، فلذلك قال: وهو في حق الحامل ... " إلى آخره وقوله: و (افتدتا) معلم بالحاء والزاي، ويجوز أن يعلم بالميم أيضاً، وكذا قوله: (لا يجب عليهما)، لأن مالكاً يُفَصِّل، فلا يقول بوجوبها عليهما ولا بنفيها عنهما. قال الغزالي: الثَّالِثُ: مَا يَجِبُ لِتَأْخِيرِ القَضَاءِ فَلِكُلِّ يَوْمٍ أُخِّرَ قَضَاؤُهُ عَنِ السَّنَةِ الأوُلَى مَعَ الإِمْكَانِ مُدٌّ، وَإِنْ تَكَرَّرتِ السِّنُونَ فَفِي تَكَرُّرِهَا وَجْهَانِ. قال الرافعي: من عليه قضاء رمضان وأَخَّرَهُ حتى دَخَل رمضان السَّنةِ القَابِلة، نظر أن كان مسافراً أو مريضاً فلا شيء عليه بالتّأخير، فإن تأخير الأداء بهذا العذر جَائِز فتأخير القضاء أولى بالجواز، وإن لم يكن وهو المراد من قوله: (مع الإمكان) فعليه مع القَضَاء لِكُل يَومٍ مُدّ. وبه قال مالك وأحمد خلافاً لأبي حنيفة، والمزني. لنا الأثر عن ابن عمر، وابن عباس -رضي الله عنهم- وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ لِمَرَضٍ، ثُمَّ صَحَّ، وَلَم يَقْضِهِ حَتَّى أَدْرَكَ رَمَضَانَ آخَرَ، صَامَ الَّذِي أَدْرَكَ، ثُمَّ يَقْضِي مَا عَلَيْهِ، ثُمَّ يُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِيناً" (¬2). ولو أخر حَتَّى مضى رمضانَانِ فَصَاعداً، ففي تكرر الفِدْية وجهان: ¬
أحدهما: أنها لا تتكرر، "بل تتداخل كالحدود؛ لأن الفدية إنما وجبت في السَّنَةِ الأولى، لأنه أخرج القضاء عن وقته وهو ما بين الرمضانين وهذا لا يتكرر. والثاني: أنها تتكرر. قال في "النهاية" وهو الأصح، لأنه يجب عليه فدية لتأخير سنة، فيجب فديتان لتأخير سنتين، والحقوق المالية لا تَتَداخل، ولو كان قَدْ أفطر عدواناً، وعلقنا به الفدية فأخر القضاء فعليه لِكُلِّ يَوْمٍ فديتان واحدة للإفطار وأخرى للتأخير ولا تداخل لاختلاف الموجب، ورأيت فيما علق عن إبراهيم (المروروزي) ترتيبه على ما لو أخر القضاء حتى مضى رمضانان إن عددنا الفدية ثم فهاهنا أولى، وإلاّ فوجهان لاختلاف جنس الموجب، وإذا أخر القَضَاء مع الإمْكان ومات قبل أن يقضي وقلنا؟ الميت يُطْعَمُ عنه، فوجهان: أصحهما: أنه يخرج من تركته لكل يوم "مُدَّان" أحدهما لتأخير القَضَاء، والآخر لفوات أصْلِ الصوم. والثاني: ويحكى عن ابْنِ سُرَيْجٍ أنه يكفي مُدّ. وأما إذا قلنا: إن المَيِّت صَام عنه فصوم الولي يَحْصُلُ به تدارك أصل الصَّوْم، ويفدى عنه للتأخير، وإذا فَرَّعْنَا على الأصح وهو إخراج "مُدَّين" فلو كان عليه قضاء عشرة أيام فمات قبل أن يَقْضِي ولم يبق من شَعْبَانَ إلاَّ خمسة أيام أخرج من تركته خمسة عشر مُداً، عشرة لأصل الصَّوْمُّ، وخمسة للتَّأْخِيرِ؛ لأنه لو عاش لم يمكنه إلا قَضَاء خمسة؛ ولو أفطر بغير عذر أوجبنا به الفدية وأخر حتى دخل رمضان السنَةِ الثانية ومات قبل أن يقضي فالظاهر وجوب ثلاثة أمدادٍ لكل يومٍ، فإن تكررت السّنون زادت الأمداد، وإذا لم يبق بينه وبين رمضان السَّنة الثانية ما يتأتى فيه قضاء الفَائِتِ فهل يلزمه في الحال الفِدْية عما لا يسع الوقت أم لا يلزم إلا بعد مَجِيء رمضان؟ فيه وجهان مشبهان لما إذا حلف لَيَشْرَبَنَّ ماء هذا الكوز غداً فانصب قبل الغد يحنث في الحال أو بعد مجيء الغد؟ ولو أراد تعجيل فدية التأخير قبل مجيء رمضان السنة القابلة ليؤخر القضاء مع الإمْكَان، ففي جوازه وجهان كالوجهين في جواز تعجيل الكَفَّارة عن الحِنْث المحظور (¬1)، فهذا ¬
القول في صوم التطوع
شرح الطّرق الثلاثة الموجبة للفدية على ما فيها من الخِلاَف، وإذا أردت حَصْرَها فقل: لا شك أن الفدية إنما تجب عِنْدَ فوات الأداء وإذا فات الأداء فإما أن نوجب القضاء أيضاً، وهو في حَقِّ من مات قبل القَضَاء، وفي الشيخ الهرم أولاً يفوت، فإما أن يقع مؤخراً عن رمضان السَّنة القابلة وهو الطريق الثَّالث، أو لا يقع، فتجب لفضيلة الوقت في المواضع المذكورة في الطَّرِيق الثَّانِي. قال الغزالي: فَأمَّا صَومُ التَّطوعِ فَلاَ يَلْزَمُ (م ح) بِالشُّرُوعِ، وَكَذَا القَضَاءُ (م ح) إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الفَوْرِ. " القول في صوم التطوع": قال الرافعي: من شَرَع في صَوْمِ تطوع أو في صَلاَة تطوع لم يلزمه الإتمام (¬1) ولا قضاء عليه لو خرج من صومه، وصلاته، وبه قال أحمد. وعند أبي حنيفة -رحمه الله-: لا يجوز الإفطار بِغَيْر عذر، ويجب القضاء، سواء أفطر بعذر أو بغير عذر. وقال مالك: إن خرج بغير عذر لزمه القضاء، وإلا فلا. لنا: ما روي عن عائشة -رضي الله عنها- "دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: إِنَّا خَبَّأْنَا لَكِ حيساً، قَالَ: "أَمَّا أَنا كُنْتْ أُرِيدُ الصَّوْمَ، وَلَكِنْ قَرِّبِيه" (¬2). وعن أم هانئ - رضي الله عنه- قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا صَائِمَةٌ؛ فَنَاوَلَنِي فَضْلَ شَرَابِهِ، فَشَرِبْتُ فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ صَائِمَةً، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَرُدَّ سُؤْرَكَ، فَقَالَ: "إِن كَانَ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ فَصُومِي يَوْماً مَكَانَهُ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعاً، فَإِنْ شِئْتِ فَاقْضِيهِ، وَإِنْ شِئْتِ فَلاَ تَقْضِيهِ" (¬3). وعندنا يستحب الإتمام، وإن لم يجب، ولو أفطر فيستحب القضاء؛ ولا يكره الخروج منه بعذر، وإن كان بغير عذر فوجهان: أظهرهما: أنه يكره. ومن الأعْذَار أن يَعزّ على من أضَافه امتناعه من الأكل، ولو شرع في صوم القضاء، هل له الخُروجُ مِنْه؟ نظر إن كان على الفور فلا، وإن كان على التَّراخي ففيه ¬
وجهان: أحدهما: ويحكى عن القفَّال: أنه يجوز، لأنه متبرع بالشروع فيه، فأشبه المسافر يشرع في الصوم، ثم يريد الخروج منه. والثاني: لا يجوز، لأنه صار متلبساً بالفَرْضِ، ولا عذرَ بهِ، فيلزمه إتمامه كما لو شرع في الصَّلاة في أول الوقت، والأول هو الذي أورده المصنف، وصاحب "التهذيب"، وطَائِفَةٌ، وقضية كلام الأكثرين ترجيح الثاني، وبه أجاب الرّويَانِي في "الحلية"، وحكاه صاحب "المعتمد" عن نصه في "الأم" وصوم الكفارة اللاّزمة بسبب حرام كالقضاء الذي هو على الفور، وما لزم بسبب غير مُحَرَّم كالقتل الخطأ فهو كالقضاء الذي هو على التَّراخي، وكذا النذر المطلق، وهذا كله مبنى على انقسام القضاء إلى ما هو على الفور، إلى ما هو على التراخي، وهو الأشهر، فالأول ما تعدى فيه بالإفطار لا يجوز تأخير قضائه؛ لأن جواز التأخير ترفيه لا يليق بحاله. قال في "التهذيب" وليس له الحالة هذه التأخير بعذر السَّفر. والثاني: ما لم يتعد به، كما في حق الحائض، والإفطار بعذر السَّفر، والمرض، فقضاؤه على التَّرَاخِي ما لم يدخل رَمَضانُ السَّنَةِ القابلة، وفي كلام بَعْضِ أصحابنا العراقيين ما يرفع هذا الفَرْق المُحَامِلِي يقول في "التجريد"، ومن أفطر في رمضان بعذر أو بغير عذر فطراً لا تجب به كفارة فالقضاء يلزمه، ووقته موسع إلى شَهْرِ رمضانَ الثَّاني، ويمكن تأييد ما ذكروه بأنه قال في "المختصر": "ومن صام متفرقاً أجزأه، ومتتابعاً أحب إلي" والاستدلال أنه أطلق القول باستحباب التتابع في القَضَاء، ولو كان أحد نوعيه على الفَوْرِ لكان التّتابع فيه وَاجِباً لا محبوباً. وقوله في الكتاب: (وكذا القضاء إذا لم يكن على الفور). قد عرفت مما سبق أنه يجب إعلامه بالواو، ثم فيه شَيْءٌ من جهة اللفظ وهو أن هذا الكلام معطوف على قوله: (أما صوم التطوع فلا يلزم بالشروع)، فيكون أن القضاء إذا لم يكن على الفور لا يلزم بالشروع أيضاً، وإنما كان يحسن هَذَا أن لو كان ما هو على الفور يلزم بالشروع، وليس كذلك؛ بل هو لازم من ابتدائه إلى انتهائه. قال الغزالي: وَصَوْمُ التَّطُوُّع في السَّنَةِ صَوْمُ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ وَتَاسُوعَاء وسِتَّةِ أَيَّامٍ بَعْدَ عِيدِ رَمَضَانَ، وَفي الشَّهْرِ الأَيَّام البيض وَفِي الأُسْبُوعِ الاثْنِيْنَ وَالخَمِيس، وَعَلَى الجُمْلَةِ صَوْمُ الدَّهْرِ مَسْنُونٌ بِشَرْطِ الإِفْطَارِ يَومَ العِيدَيْنِ وَأَيَّام التَّشْرِيق. قال الرافعي: الأيام التي يستحب التطوع بصومها تنقسم إلى: ما يتكرر بتكرر السِّنين، إلى ما يتكرر بتكرر المشهور، وإلى ما يتكرر بتَكّرر الأسابيع. أما القسم الأول: فمنه يَوْمُ عرفة، روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَفَّارَةُ
سَنَتَيْنِ" (¬1). وهذا الاستحباب في حق غير الحجيج. فأما الحجيج فينبغي لهم أَلاَّ يَصُوموا، كي لا يَضْعُفُوا عن الدُّعاء وأعمالِ الحج، ولم يصمه النبي -صلى الله عليه وسلم- "عرفة"، وأطلق كَثِيرٌ من الأئمة كونه مكروهاً؛ لما روي: أنه -صلى الله عليه وسلم- "نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْم عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ" (¬2). فإن كان الشخص بحيث لا يضعف بسبب الصَّوْمِ فقد قال أبو سَعْدٍ المتولي الأول: أن يصوم حيازة للفَضِيلَتَينِ، ونسب غيره هذا إلى مذهَب أبي حنيفة -رحمه الله- وقال: الأولى عندنا ألا يَصُومَ بِحَالِ (¬3). ومنه يوم عَاشُوراء روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَة" (¬4). ويوم عَاشُوراء هو العاشر من المحرم، وَيُسْتَحب أن يَصُومَ معه تَاسُوعاء، وهو التاسع منه، لِما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَنْ عِشْتُ إِلَى قَابِلٍ، لأَصُومَنَّ الْيَوْمَ التَّاسِعَ" (¬5). وفيه معنيان منقولان عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. أحدهما: الاحتياط فإنه ربما يقع في الهِلاَل غلط (¬6)، فيظن العَاشِر التَّاسع. والثاني: مخالفة اليهود، فإنهم لا يصومون إلا يوماً واحداً، فعلى هذا لَوْ لَمْ يصم التاسع معه استحب أن يصوم الحَادِي عشر. ومنه ستة أيام مِنْ شَوَّالٍ، يستحب صَوْمُها. وبه قال أبو حنيفة، وأحمد -رحمهما الله-؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّال، فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ" (¬7). وعن مالك: أن صومَها مكروهٌ، والأفضل أن يصومها متتابعةً وعلى الاتصال، ليوم العيد مبادرة إلى العبادة، وإياه عني بقوله: (بعد عيد رمضان). وعن أبي حنيفة -رحمه الله- أن الأفضل أن يفرقها في الشَّهر. وأما القسم الثاني فمنه أيام البيض، وهي الثَّالِث عشر، والرابع عشر والخامس ¬
عشر (¬1) لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "أوْصَى أَبَا ذَرَ رضِيَ الله عَنْهُ بِصِيَامِهَا" (¬2) وإنما يقال أيام البيض على الإضافة، لأن المعنى أيام الليالي البيض. وأما القِسْم الثَّالث فمنه يوم الاثنين والخميس، روى أنه -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يَتَحَرَّى صَوْمُهَما" (¬3). وروي أنه قال: "تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاثنين وَالْخَمِيس، وَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وأَنَا صَائِمٌ" (¬4). ويكره (¬5) إفراد يوم الجمعة بالصَّوْمِ، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَصُومَنَّ أحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلاَّ أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ" (¬6). وكذا إفراد يوم السَّبْتِ، فإنه يوم اليَهُودِ، وقد روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلاَّ فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ" (¬7). وأما قوله: (على الجملة صوم الدهر مسنون). فاعلم أن المسنون يطلق لمعنيين. أحدهما: ما واظب عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا شك أن صَوْمَ الدَّهْرِ ليس مسنوناً بهذا المعنى. ¬
والثاني: الندوب، وفي كون صَوْمِ الدَّهْرِ بهذه الصفة كَلاَم أيضاً، فإن صاحب "التهذيب" -رحمه الله- في آخرين أطلقوا القول بِكَوْنِهِ مكروهاً، واحتجوا بما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لعبد الله بْنِ عمر -رضي الله عنهما- "وَلاَ صَامَ مَنْ صام الدَّهْرَ، صَوْمُ ثَلاثةِ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ" (¬1). وبما روي أَنَّه "نَهَى عَنِ صِيَامِ الدَّهْرِ" (¬2). وفصَّل الأكثرون فقالوا: إن كان يخاف منه ضرراً أو يُفَوِّتُ به حقاً فيكره وإلا فَلاَ، وحملوا النَّهْيَ عَلَى الحالة الأولى، أو على ما إذا لم يفطر العيدين وأيام التشريق. وقوله: شرط الإفطار يوم العيدين وأيام التشريق ليس المراد منه حقيقة الاشتراط، لأن إفطار هذه الأيام يخرج الموجود عن أن يكون صَوْم الدَّهر، وإذا كان كذلك لم يكن شرطاً لاستثنائه، فإن استنان صوم الدهر يستدعي تحققه، وإنما المراد منه أن صوم سوى هذه الأيام مسنون، -والله أعلم-. ولو نذر صوم الدهر لزم، وكانت الأعياد وأيام التشريق مستثناة عنه، وكذلك شَهْر رمضَان، وقضاؤه إذا فرض فواته بعذر أو بغير عذر، وهل تجب الفدية لما أخل به من النذر بسبب القضاء؟ حكى أبو القَاسِم الكَرَخِي فيه جهين، والذي أجاب به صاحب "التهذيب" أنه لا فدية، ولو نذر صوماً آخر بعد هذا النَّذْرِ لم ينعقد، ولو لزمه صَوْم كفارة صام عنها، وفدى عن النَّذر، ولو أفطر يوماً من الدَّهْرِ فَلاَ سَبِيلَ إلى القَضَاءِ، ولا فدية إن كان بعذر وإلاّ فتجب الفدية. ولو نذرت المرأة صوم الدهر، فللزوج مَنْعها، ولا قضاء ولا فدية، وإن أذن أو مات فلم تصم؛ لزمها الفدية (¬3)، -والله أعلم-. ¬
كتاب الاعتكاف
كِتَابُ الاعْتِكَافِ قال الغزالي: الاعْتِكَاف سُنَّةٌ مؤَكَّدَة لاَ سِيَّمَا في العُشْرِ الأخِير مِنْ رَمَضَانَ لِطَلَبِ لَيْلةِ القَدْرِ، وَهِيَ في أَوْتَارِ العَشْرِ الأخَيرِ، وَمَيْلُ الشَّافِعِيِّ إلَى الحَادِي والعِشْرِينَ، وَقِيلَ: إنَّهَا في جَمِيعِ الشَّهرِ، وَقِيلَ: في جَمِيع السَّنَة، وَلَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ في مُنْتَصَفِ رَمَضَانَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَيلَةَ القَدْرِ لَمْ تُطَلَّق إلاَّ إِذَا مَضَتْ سَنَةٌ لِأَنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَقَع بِالشَّكِّ، ويُحْتَمَل أَنْ تَكُونَ في النَصِّفِ الأَوَّلِ. قال الرافعي: الأصل في الاعتكاف الإجماع، والكتاب، والأخبار. أما الإجماع فَظَاهِر. وأما الكتاب، فقوله تعالى: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} (¬1). وقال الله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬2). وأما الأخبار فسيأتي طرف منها، واَستفتح الكتاب بذكر شيئين: أحدهما: بيان استحباب الاعتكاف، وموضع تأكده. والثاني: الكلام في لَيْلَة القَدْرِ. أما الأول فالاعتكاف من الشرائع القديمة، وهوِ مستحب في جميع الأوقات، روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن اعْتَكَفَ فَوَاقَ نَاقَةٍ، فَكَأنَّمَا أَعْتَقَ نَسَمَة" (¬3) وهو في العَشْر الأواخر من رمضَان آكد استحباباً؛ اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطَلباً لِلَيْلَةِ القَدْرِ. "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَعْتَكِف الْعَشْرَ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمضَانَ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ تَعَالَى" (¬4). واعلم أن استحباب الاعتكاف العشر الأخير مكرر، قد ذكره مرة في "سُنَنِ الصوم". ومن رغب في المحافظة على هذه السِنة فينبغي أن يدخل المسجد قبل غروب ¬
الشَّمْسِ يوم العشرين، حتى لا يفوته شيء من ليلة الحَادِي والعِشرِين، ويخرج بعد غروب الشمس ليلة العيد، ولو مكث ليلة العيد فيه إلى أن يصلّى فيه العيد، أو يخرج منه إلى المُصَلَّى كان أولى. وأما الثَّاني. فاعلم أن ليلة القدر أفضل ليالي السَّنة، خَصَّ الله تعالى بها هذه الأمة، وهي باقية إلى يوم القيامة، وجمهور العُلَماء وفيهم الشَّافعي -رضي الله عنهم- على أنها في العشر الأخير من رمضان، وهي في أوتارها أرْجَى، لِما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوَتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ" (¬1) ومَيْلُ الشَّافعي -رضي الله عنه- إلى أنها ليلة الحادي والعشرين؛ لما روي عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْوُسْطَى مِنْ رَمَضَانَ فَاعْتَكَفَ عَاماً، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْرُجُ فِي صَيَحَتِهَا مِنِ اعْتِكَافِهِ، قَالَ: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفْ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، قَالَ: قَدْ رَأَيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَرَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي صَبيحَتِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وَتْرٍ، فَأَفْطَرَتِ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ، فَوِّكَفَ الْمَسْجِدُ"، قال أبو سعيد: فَأَبْصَرَت عَينَايَ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- انْصَرَفَ إِلَيْنَا، وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صَبِيحَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ" (¬2). وأبدى في بعض المواضع الميل إلى ليلة الثَّالث والعشرينِ، لما روي عن عبد الله بن أنيس -رضي الله عنه- أنه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إِنِّي أَكُونَ بِبَادِيَتِي، وإِنِّي أُصَلِّي بِهِمْ، فَمُرْنِي بِلَيْلَةٍ مِنْ هذَا الشَّهْرِ، أَنْزِلُهَا الْمَسْجِدَ فَأُصَلِّيَ فِيهِ، فَقَالَ: انْزِلْ فِي لَيْلَةِ ثَلاَثِ وَعِشْرِينَ" (¬3). وجمع بين الليلتين في "المختصر"، فقال: ويشبه أن يكون في ليلة إحدى وعشرين، أو ثَلاث وعشرين، والمعنى في إخفاء الله تعالى هذه الليلة، حَمْل النَّاس على إحياء جَمِيع ليالي العشر بالعبادة، رجاء إصابتهما، وعلامة هذه اللَّيلة أنها طلقة لاَ حَارة، ولا بَارِدَة، وأن الشَّمس في صبيحتها تطلع بيضاء ليس لها كثير شُعَاعٍ (¬4)، ويستحب أن يُكْثِرَ فيها من قول "اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي" (¬5). ¬
وعند مالك: هي في العشر، ولا ترجيح لِبَعْضِ اللَّيالي على البعض. وعند أبي حنيفة وأحمد -رحمهما الله- هي ليلة السَّابعِ والعِشْرِين، وهذا الذي ذكروه لا ينافي قوله في الكتاب: (وهي في أوتار العشر الأخير) فلا نعلمه بعلاماتهم، ولكن يجوز أن نعلمه بالحاء، لأنه روي عنه أنها محتملة في جَمِيع السَّنة، وروي في جميع الشّهر، والروايتان مستنبطتان مما نقل عنه أنه لو قال لزوجته: "أول يوم من رمضان أنت قال ليلة القدر" لا تطلق إلا مثل ذلك اليوم من السَّنة الأخرى. وعن ابن خزيمة من أصحابنا: أن ليلة القَدْرِ منقولةٌ في ليالي العَشْرِ تُنْقَلُ في كل سنة إلى ليلة جمعاً بين الأخبار، وقوله: (وقيل: إنها في جميع الشهر) يشعر بأنه وجه للأصحاب، وقوله: (ولذلك لو قال لزوجته في منتصف شهر رمضان أنت طالق ليلة القدر لم تطلق إلا إذا مضت سنة) يشعر بأن المسألة مجزوم بها موجهة للوجه المنقول، وقد حكى في "الوسيط" المسألة هكذا عن نَصِّ الشافعي -رضي الله عنه- وكل واحد من نقل الوجه وتوجيهه محل التَّوقف. أما النقل فلأنك لا تكاد تجد رواية احتمالها في جميع ليالي الشَّهر، عن الأصحاب في شيء من كتب المذهب (¬1). وأما التوجيه، فلأن ما أجاب به في مسألة الطَّلاق يخالف ما نقله الأئمة، فإنهم قالوا: إذا قال لامرأته: أنت طالق ليلةَ القَدْرِ فإن قاله قبل شَهْرِ رمضان، أو في رمضان قبل مُضِىِّ شَيْءٍ من ليالي العشر طلقت بانقضاء الليالي العشر، وإن قاله بعد مُضِيّ بعض لياليها لم تطلق إلى مُضِيِّ سنة، هكذا نقل الشَّيخ أبو إِسْحَاق في "المهذب"، والإمام وغيرهما، ولم تر اعتبار مضي سنة في المسألة المذكورة إلا في كتب صاحب الكتاب. وقوله: (إن الطلاق لا يقع بالشك، لكنه يقع بالظن الغالب). قال إمام الحرمين: الشافعي -رضي الله عنه- متردد في ليالي العَشْرِ، ويميل إلى بعضها ميلاً ضَعِيفاً، وانحصارها في العشر ثابت عنده بالظَّنِّ القَوِيِّ، وإن لم يكن مقطوعاً به، والطَّلاق يناط وقوعه بالمَذاهب المَظْنُونَةِ. -والله أعلم-. ¬
الفصل الأول في أركانه
قال الغزالي: وَفي الْكِتَاب ثَلاَثَةُ فُصُولٍ. الفَصْلُ الأَوَّلُ فِي أَرْكَانِهِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ الأَوَّلُ: الاعْتِكافُ وَهُوَ عَبَارَةٌ عَنِ اللُّبْثِ فِي المَسْجِدِ سَاعَةً مَعَ الكَفِّ عَنِ الجِمَاعِ، وهَلْ يُشْتَرَطُ الكَفُّ عَنْ مُقَدِّمَاتِ الجِمَاعِ؟ فِيه قَوْلاَن، وَلاَ يُشْتَرَطُ (ح وم) اللُّبْثُ يَوْماً وَلاَ يَكْفِي العُبُورُ. قال الرافعي: مقصود الفَصْل الأول: الكلام في أركان الاعتكاف، وهي فيما عدها أربعة: الاعتكاف، والنية، والمعتكِف، والمعتَكف. الأول: الاعتكاف: وهو عبارة عن المقام في اللّغة، يقال عكف واعتكف، أي: أقام. وأما في الشريعة: فقد فسره في الكتاب باللُّبْثِ في المَسْجِد ساعة مع الكَفِّ عن الجِمَاع، وفيه اعتبار أمور: أحدها: اللُّبْث وقد حكى الإمام -رحمه الله- في اعتباره وجهين: أظهرهما -وهو المذكور في الكتاب-: أنه لا بُدَّ منه؛ لأن لفظ العكوف مشعر به. والثاني: أنه يكفي مجرد الحُضُور، كما يكفي الحضور بعرفة في تحقيق ركن الحَجّ. ثم فرع على الوجهين فقال: إن اكتفينا بالحضور حصل الاعتكاف بالعُبُورِ حتى لو دخل من باب وخرج من باب ونوى فقد اعتكف، وإن اعتبرنا اللُّبْثَ لم يكف ما يكفي في الطمأنينة في أركان الصَّلاة، بل لا بد وأن يزيد عليه بما يسمى إقامةً وعكوفاً، ولا يعتبر السّكون، بل يصح اعتكافه قاعداً، وقائماً ومتردداً في أرْجَاء المسجد، ولا يقدر اللُّبْثُ بزمان، حتى لو نذر اعتكاف سَاعَةً انعقد، ولو نقدر اعتكافاً مطلقاً خرج عن عهدة النذر بأن يعتكف لَحْظَة، واستحب الشافعي -رضي الله عنه- أن يعتكف يوماً، وذلك للخروج من الخلاف، فإن مالكاً وأبا حنيفة -رحمه الله- لا يجوزان اعتكاف أقلّ مِنْ يوم، ونقل الصَّيْدَلاَنِي وَجْهاً: أنه لا بد من مُكْثٍ يَوْماً، أو ما يدنو من يوم (¬1)؛ لأن ما دون ذلك معتاد في الحاجات التي تعنُّ في المَسَاجد، فلا تَصْلَح للقربة، وقد عرفت مما ذكرنا أن قوله: (ولا يشترط اللُّبْث يوماً) ينبغي أن يرقم بالميم والحاء والواو. وقوله: (ولا يكفي العبور) بالواو، ويجوز أن يرقم به لفظ "اللُّبْث" أيضاً في قوله: (وهو عبارة عن اللبث) ولا يخفى أن قوله: (ساعة) ليس المراد منه الواحدة من السَّاعات التي يقسم اليوم والليلة عَلَيْهَا، ولا سبيل إلى حملة على اللّحظة وإن لطفت؛ لما ذكر الأئمة أنه لا بُد وأن يزيد على زَمَانِ الطمأنينة، ولأنه لو حمل على هذا المعنى ¬
لضاع، وأغنى لفظ (اللبث) عنه، فإذاً هُوَ محمولٌ على القدر الذي يثبت اسم العكوف والإقامة فيه. والثاني: كونه في المسجد، وهذا سيأتي شرحه في الركن الرابع. والثالث: الكَفّ عَنِ الجِمَاع، فلا يجوز للمعتكف الجِمَاع، ولا سائر المباشرات بالشَّهْوَة، ولقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬1). ولو جامع بَطَل اعْتِكَافه، سَواءٌ جامع في المِسْجد أو جامع حين خرج لقضاء الحاجة (¬2) إذا كان ذاكراً للاعتكاف عالماً بتحريم الجِمَاع، وهذا هو المراد من لفظ الكتاب، وإن أطلق الكف عن الجماع، فأما إذا جامع ناسياً للاعتكاف، أو جاهلاً بالتحريم، فهو كنظيره في الصَّوْمِ. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد -رحمهم الله- يفسد الاعتكاف بجماع النَّاسِي، ولا فرق بين جِمَاعٍ وَجِمَاعٍ، وروى المُزَنِي عن نَصِّه في بعض المواضع: أنه لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلا ما يوجب الحَدّ، فقال الإمام: قضية هذا ألاَّ يفسد بإتيان البهيمة، إذا لم توجب به الحَدَّ، وكذلك بالإتيان في غَيْرِ المأتى، والمذهب الأول (¬3). ولو لمس أو قبل بشهوة أو باشر فيما دُوَنَ الفرج مُتَعَمِّداً، فهل يفسد اعتكافه؟ فيه طريقان: أظهرهما: أن المسألة على قولين: أحدهما: ويروى عن "الإملاء": أنها تفسده؛ لأنها مباشرة محرمة في الاعتكاف، فأشبهت الجِمَاع. والثَّانِي: ويروي عن "الأم" أنها لا تفسده؛ لأنها مباشرة لا تبطل الحَج، فلا تبطل الاعتكاف كالقبلة بغير شهوة. والثاني: القطع بأنها لا تفسد، حكاه الشَّيْخَان أبُو مُحَمَّد، والمَسْعُودِي، والمشهور طريقة القولين، وما موضعهما؟ فيه ثلاثة طرق: أحدها: أن القولين فيما إذا أنزل، فأما إذا لم ينزل لم يَبْطل الاعتكاف بلا خلاف كَالصَّوْمِ. وثانيها: أن القولين فيما إِذَا لَمْ يُنْزِلَ، أما إذا أَنْزَلَ بَطَلَ اعتكافه بلا خِلاف، لخروجه عن أهلية الاعتكاف بالجنابة. ¬
وثالثها -وهو الأظهر-: طرد القولين في الحالين، والفرق على أحد القولين فيما أذا لم ينزل بين الاعتكاف والصَّوم، أن هذه الاستمتاعات في الاعتكاف محرمة لعينها، وفي الصَّوم ليست محرمة لعينها، بل لخوف الإنزال، ولهذا يرخص فيها لمن لا تحرك القِبْلَة شَهْوَته. وإذا اختصرت الخلاف في المسألة قُلْت فيها ثلاثة أقوال أو وجوه: أحدها: أنها لا تُفْسِد الاعتكاف، أنزل أو لم ينزل. والثَّاني: تفسده، أنزل أو لم ينزل، وبه قال مالك. والثَّالث -وبه قال أبو حنيفة والمزني وأصحاب أحمد-: أن ما أنزل منها أفسد الاعتكاف، وما لا فَلاَ، والمفهوم من كلام الأصْحَاب بعد الفَحْصِ أن هذا القول أرجح، وإليه مَيْلُ أَبِي إِسْحَاقَ المَرُوزِي، وإن استبعده صاَحب "المهذب" ومن تابعه. أما القول بالفساد عند الانزال فقد أطبق الجمهور على أنه أصَح. وأما المنع عند عدم الإِنْزَال فقد نَصَّ على ترجيحه المُحَامِلِيّ، والشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، والقاضي الرّوَيانِي، وغيرهم -رحمهم الله- وإيانا، والاستمناء باليد مرتب على ما إذا لَمَسَ فأنزل. إن قلنا: إنه لا يبطل الاعتكاف، فهذا أولى وإن قلنا يبطله، ففيه وَجْهَان، والفرق كمال الاستمتاع والالتذاذ، ثم باصطكاك البشرتين. ولا بأس للمعتكف بأن يُقَبِّلْ على سبيل الشَّفَقَةِ والإكْرَام، ولا بأن يلمس بغير شهوة: "وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُدْنِي رَأسَهُ لِتُرَجِّلَهُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وَهُوَ مُعْتَكِفٌ" (¬1). قال الغزالي: وَلاَ يُشْتَرِطُ تَرْكُ التَّطَّيُّبِ وَتَرْكُ البَيْعِ وَالشِّرَاءِ (م و) وَتَرْكُ الأكْلِ (م ح) بَلْ يَصَحُّ الاعْتِكافُ مِنْ غَيْرَ صَوْم، فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَائِماً لَزَمه كِلاَهُمَا، وَفِي لُزُومِ الجَمْع قَوْلاَنَ، وَلَو نَذَرَ أَنْ يُعْتَكِفَ مُصَلِّياً أَوْ يَصُومَ مُعْتَكِفاً لَمْ يَلْزَمِ الْجَمْعِ. قال الرافعي: تَرْكُ التطيب لَيْسَ بِشَرْط في الاعتكاف، بل للمعتكف أن يتطيب كما له أن يرجل الرأس، ويتزوج، وَيُزَوِّج بخلاف المُحْرِم، وله أن يتزين يلبس الثِّيَاب إذ لم ينقل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- غَيَّر ثيابه للاعْتِكَاف. وعن أحمد أنه يستحب تَرْكُ التطيب، والتزين بِرَفِيع الثِّيَاب، ويجوز له أن يأمر بإصلاح مَعَاشه، وتعهد ضياعه، وأن يبيع ويَشْتَري، ويخيط وَيكْتُب، وما أشبه ذلك، ولا يكره شيء من هذه الأعمال إذا لم تكثر سِيَّمَا إذا وقع في مَحَلِّ الحاجة، وإن أكثر أو قعد يحترف بالخياطة ونحوها كُرِه، ولكن لا يبطل ¬
اعتكافه. وعن مالك أنه إذا قعد فيه واشتغل بحرفته يبطل اعتكافه، ونقل عن القديم قول مثله في الاعتكاف المنذور ورواه بعضهم في مطلق الاعتكاف، والمذهب مَا سَبَق؛ لأن ما لا يبطل قليله الاعتكاف لا يبطله كثيره، كَسَائِرِ الأَفْعَال (¬1)، ولو كان يشتغل بقراءة القرآن ودراسة العلم فهو زيادة خَيْرٍ. وعن أحمد أنه لا يستحب له إلا ذكر الله -تعالى- والصَّلاة، ويجوز له أن يأكل في المَسْجِد، والأولى أن يبسط سفرة ونحوها، لأنه أبلغ في تنظيف المسجد، وله أن يَغْسِل اليد، والأولى غَسْلُهَا في طِسْتٍ. ونحوها، حتى لا يبتل المسجد فيمنع غيره من الصلاة والجلوس فيه، ولأنه قد يستقذر، فَيُصَان المسجد عنه، ولذا قال في "التهذيب": ويجوز نضح المسجد بالماء المطلق ولا يجوز نضحه بالماء المُسْتَعْمَل (¬2)، وإن كَانَ طاهِراً، لأن النفس قد تعافه، ويجوز الفَصْدُ والحِجَامة (¬3) فِي المَسْجِد بشرط أن يأمن التلويث، والأولى الاحتراز عنه، وفي البول في الطِّست احتملان، ذكرهما ابن الصَّبَّاغ، والأظهر: المنع، وهو الذي أورده صاحب "التتمة"؛ لأنه قبيح، واللائق بتعظيم المسجد تنزيهه عنه، بخلاف الفَصْدِ وَالْحِجَامة؛ ولهذا لا يمنع من استقبال القبلة، واستدبارها عند الفَصْدِ، ويمنع عِنْدَ قضاء الحَاجَةِ، وليس من شرط الاعتكاف الصّوم بل يصح الاعتكاف في اللَّيل وحده، وفي العيد، وأيام التشريق خلافاً لأبي ¬
حنيفة، ومالك -رحمهما الله- حيث قالا: الصوم شرط فيه، ولا يَصِحّ في العِيد، وأيام التَّشْرِيق، ولا في الليالي المُجَرَّدَة، وعن أحمد رِوَايَتَانِ: أصحهما: مثل مذهبنا. لنا ما روي أن عمر -رضي الله عنه- سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: أَوْفِ بِنَذْرِكَ" (¬1). ولو لم يصح الاعتكاف في الليلة المفردة، لما أمره بالوفاء بنَذْرِهِ، ويجوز أن يعلم قوله: (بل يصح الاعتكاف من غير صوم) مع علامات هؤلاء بالواو؛ لأن الشيخ أَبَا محمد وغيره نقلوا عن القديم قولاً مثل مذهبهم. إذا عرفت ذلك فلو نذر أن يَعْتَكف يوماً هو فيه صَائِم، أو أياماً هو فيها صَائِم لزمه الاعتكاف في أيام الصوم؛ لأن الاعتكاف بالصَّوْمِ أفضل، وإن لم يكن مشروطاً به، فإذا التزمه بالنذر لزمه، كما لو التزم التتابع فيه، وليس له في هذه الصورة إفراد أحدهما عن الآخر بِلاَ خِلاَف، وليست هذه مسألة الكتاب. ولو اعتكف في رمضان أجزأه؛ لأنه لم يلتزم بهذا النَّذْرِ صوماً، وإنما نذر الاعتكاف على صِفَة، وقد وجدت، ولو نذر أن يَعْتَكِف صائماً، أو يعتكف بصوم لزمه الاعتكاف والصوم جميعاً بِهَذَا النذر، وهل يلزمه الجَمْعُ بينهما؟ فيه وجهان: أحدهما -وبه قال أَبُو عَلِيٍّ الطبَرِيّ-: لا، لأنهما عبادتان مختلفتان، فأشبه مَا إِذَا نذر أن يُصَلّيَ صَائِماً. وأصحهما -ويحكى عن نَصِّه في "الأم" نعم؛ لما ذكرنا في المسألة السابقة، فلو شرع في الاعتكاف صَائِماً، ثم أفطر لزمه استئناف الصَّوْمِ والاعتكاف على الوجه الثاني، ويكفيه استئناف الصوم على الوجه الأول، ولو نذر اعتكاف أَيامٍ وليالٍ متتابعة صَائماً وجامع ليلًا ففيه هذان الوجهان ولو اعتكف عن نذرة في رمضان أجزأه عن الاعتكاف في الوجه الأول، وعليه الصَّوْم، وعلى الثاني لا يُجْزئه عن الاعتكاف أيضاً، ولو نذر أن يَصُوم معتكفاً ففيه طريقان: أظهرهما: طرد الوجهين. والثاني: وبه قال الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّد: القطع بأنه لا يَجِب الجمع، والفرق أن الاعتكاف لا يصلح وَصْفًا لِلصَّوْم، والصَّوْم يَصْلُحُ وَصْفاً للاعتكاف، فإنه من مَنْدُوباته، ولو نذر أن يَعْتَكِفَ مُصَلِّياً، أو يُصَلِّي معتكفَاً لزمه الصَّلاة والاعتكاف، وفي لزوم الجَمْعِ طريقان: ¬
الثاني: النية
أحدهما: طرد الوجهين. وأصحهما: القطع بأن لا يجب، والفرق أن الصَّوْم والاعْتِكَاف متقاربان فإن كل وَاحِدٍ منهما كَفٌّ وِإمْسَاك، والصَّلاة أفعال مباشرة لا مناسبة بينها وبين الاعتكاف، ويخرج على هذين الطريقين ما لو نذر أن يَعْتَكِف مُحْرِماً، فإن لم نوجب الجمع بين الاعتكاف، والصَّلاة، فالقدر الذي يلزمه من الصَّلاة هو القدر الذي يلزمه لو أفرد الصَّلاة بالنذر، وإن أوجبنا الجَمْعَ لزمه ذلك القَدْر فِي يَوْم اعتكافه، ولا يلزمه استيعاب اليوم بالصَّلاة فإن كان نَذَرَ اعتكاف أيام مُصَلِّياً لزمه ذلك الْقَدْرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، هكذا أورده صاحب "التهذيب" وغيره، وأنت بسبيل من أن تقول: ظاهر اللفظ يقتضي الاستيعاب فإنه جعل كونه مصلياً صِفَةً لاعتكافه، وإذا تركنا هَذَا الظَّاهِرِ، فلم نعتبر تكرير القدر الواجب من الصَّلاة في كل يوم، وهلا اكتفى به في جميع المُدَّة، ولو نذر أن يُصَلِّي صلاة يقرأ فيها سُورَة كذا، فعن القَفَّال: أن وجوب الجَمْعِ عَلَى الخِلاَف، في وجوب الجَمْعِ بين الصَّوْمِ والاعتكاف، ووجه لائح. وقوله: (وفي لزوم الجمع قولان) التعبير عن الخلاف في المسألة بالقولين خلاف إيراد الجمهور. نعم، ردد الإمام الرواية بين القولين والوجهين. وقوله: (لم يلزمه الجمع) لا بد من وَسْمِهِ بالواو؛ لما ذكرنا من الخِلاَف في الصُّورتين، والذي أجاب به صاحب الكتاب موافق لما اختراه معظم الأئمة فيما إذا نذر أن يعتكف مُصَلِّياً، ومخالفاَ له فيما إذا نذر أن يصوم معتكفاً، سواء قدرنا جريانه عَلَى طريقة نفي الخلاف، أو اختياره نفي اللزوم مع تسليم الخلاف، فإن الأكثرين طردوا فيها الوجهين، وقالوا: الأظهر لزوم الجَمْعِ. قال الغزالي: الثَّانِي: النِّيَّةُ وَلاَ بُدَّ مِنْهَا فِي الابْتِدَاءِ وَيَسْتَمِرُّ حُكْمُهَا وَإِنْ دَامَ اعْتِكَافُهُ سَنَةً، فَإنْ خَرَجَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ أَوْ لِغَيْرِهِ فَإِذَا عَادَ لَزَمَهُ اسْتِئنَافُ النِّيَّةِ، أَمَّا إِذَا قَدَّرَ زَمَاناً فِي نِيَّتِهِ كَمَا لَوْ نَوَى أَنْ يَعْتَكِفَ شَهْراً لَمْ يَلْزَمْهُ إِذَا خَرَجَ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ فِي قَوْلٍ، وَلَزَمَهُ إِنْ طَالَتْ مُدَّةُ الخُرُوجِ فِي قَوْلٍ، وَلَزَمَ بِالْخُرُوجِ لِغَيْرِ قَضَاءِ الحَاجَةِ قَرُبَ الزَّمَانُ أَوْ طَالَ فِي قَوْلٍ، وَنيَّةُ الخُرُوجِ عَنِ الاعْتِكَافِ كَنِيَّة الخُرُوجِ عَنْ الصَّوْمِ. قال الرافعي: لا بد من النية في ابتداء الاعتكاف كما في الصَّلاة، ويجب التَّعَرُّض في المنذور منه للفرضية؛ ليمتاز عن التَّطوع (¬1)، ثم في الرُّكْنِ مسألتان: ¬
إحداهما: إذا نَوى الاعْتِكَاف لم يخل إما أن يُطْلِق، أو يعين بنيته زماناً، فإن أطلق كفاهُ ذَلِكَ وإن طال عكوفه، لكن لو خرج من المسجد، ثم عاد لزمه استئناف النية، سَواء خرج لِقَضَاءِ الحَاجَةِ أو لِغَيْرِهِ، فإن مَا مضى عبادةٌ تامة. والثاني: اعتكاف جديد. وقال في "التتمة": فلو أنه عزم عند خروجه أن يقضي حاجته ويعود كانت هذه العزيمة قائمة مقام النية، ولك أن تقول: اقتران النية بأول العبادة شرط فكيف يحصل الاكتفاء بالعزيمة السَّابقة على العود؟ (¬1) وإن عين زماناً، كما إذا نوى اعتكاف يومٍ أو شهر فهل يحتاج إلى تَجْدِيد النِّية إذا خرج وعاد؟ نقل في الكتاب فيه ثلاثة أقوال، وسماها في "الوسيط" وجوهاً، وهو الموافق لإيراد الأئمة -رحمهم الله- وهي حاصل ما ذكروه في الطرق. أحدها: أنه لا حاجة إلى تجديد النية؛ لأن النية شَمَلت جميع المدة بالتعيين. والثاني: أنه إن لم تطل مُدَّة الخروج فلا حاجة إلى التَّجْدِيد، وإن طالت فلا بد منه؛ لتعذر البناء، ولا فرق على هذا بين أن يكون الخروجُ لِقَضَاءِ الحَاجَةِ أو لغيره. والثالث: أنه إن أخرج لقضاء الحاجة لم يجب التَّجديد؛ لأنه لا بد مِنْهُ فهو كالمستثنى عن النية، وإن خرج لَغَرَضٍ آخر فلا بد من التَّجْدِيدِ لِقَطْعِهِ الاعتكاف، ولا فرق على هذا بين أن يطول الزمان، أو لا يطول. وهذا الثالث أظهر الوجوه، وزاد صاحب "التهذيب" في التفصيل فقال: إن خرج لأمر يقطع التتابع في الاعتكاف المتتابع فلا بد من تجديد النية، وإن خرج لِأَمْرٍ لا يقطعه نظر إن لم يكن مِنْهُ بُدٌّ كقضاء الحاجة والاغتسال عند الاحتلام فلا حاجة إلى التَّجْدِيد، وإن كان منه بُدٌّ أَوْ طال الزَّمان ففي التجديد وجهان، وهذه الاختلافات مضطردة فيما إذا نوى مدة لتطوع الاعتكاف، وفيما إذا نذر أياماً ولم يشترط فيها التتابع ثم دخل المعتكف على قصد الوَفَاء بالنذر أما إذا شرط التّتابع، أو كانت المُدَّة المَنْذُورَة متَوَاصِلة في نَفْسِها فسيأتي حكم التجديد فيها. الثانية: لَوْ نَوَى الخُروجَ مِنَ الاعْتِكَافِ ففي بُطْلاَنِ الاعتكاف الخلاف المذكور في بطلان الصّوم بنية الخروج، والأظهر: أنه لا يبطل، وأفتى بعض المتأخرين ببطلان الاعتكاف؛ لأن مصلحته تعظيم الله تعالى كالصلاة وهي تختل بنقض النِّية، ومصلحة الصَّوْمِ قهر النَّفس وهي لا تفوت بنية الخروج. ¬
الثالث: المعتكف
قال الغزالي: الثَّالِثُ: المُعْتَكِفُ وَهُوَ كُلُّ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ لَيْسَ بِجُنُبٍ وَلاَ حَائِضِ فَيَصِحُّ اعْتِكَافُ الصَّبِيّ وَالرَّقِيقِ، وَالسُّكْرُ وَالرِّدَّةُ إِذَا قَارَنَا الابْتِدَاءَ مَنَعَا الصِّحَّةَ، وَإِنْ طَرَأَ فالرِّدَّةُ تُفْسِدُ وَالسُّكْرُ لاَ يُفْسِدُ كَالإغْمَاءِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا يُفْسِدَانِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا لاَ يُفْسِدَانِ، وَالْحَيْضُ مَهْمَا طَرَأَ قَطَعَ، وَالجَنَابَةُ إِنْ طَرَأَتْ بِاحْتِلاَمٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى الغُسْلِ وَلاَ يَلْزَمُهُ الغُسْلُ فِي المَسْجِدِ وَإِنْ أَمْكَنَ. قال الرافعي: شرط في المعتكف أن يكون مُسْلِماً عاقلاً نَقِيًّا عَنِ الْجَنَابَةِ، وَالْحَيْضِ. والكلام فيمن يدخل في هذا الضبط ومن يخرج عنه. فمن الداخلين فيه الصّبي، والرقيق، والمرأة المزوّجة، فيصح اعتكافهم، كما يصح صَوْمُهُم وصلاتهم، لكن لا يجوز للعبد أن يعتكفُ بغير إذن سيدهِ (¬1)، لأن منفعته مستحقة للسَّيد، ولا المرأة المزوجة أن تعتكف بغير إذن زوجها؛ لأن الزوج يستحق الاستمتاع بها، وإن اعتكفا بغير إذنٍ، كان للسيد إخراج العبد، وللزَّوْجِ إخراج الزَّوجة، وكذلك لو اعتكفا بإذنهما تطوعاً فإنه لا يلزم بالشروع. وقال مالك ليس لهما الإخراج إذا أَذِنا، وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله- في الزوج، وساعدنا في السَّيد، ولو نذرا اعتكافاً، نظر إن نذراه بغير إذن فلهما المنع من الشروع فيه، فإن أذِنَا في الشُّروع وكان الزمان مُتَعَيَّناً أو غير متعين ولكن شرطَا التتابع لم يجز لهما الرجوع، وإن لم يشرطا التتابع فلهما الرجوع في أظهر الوجهين. وإن نذرا بالإذن، نظر إن تعلق بزمان مُعَيَّن فلهما الشروع فيه بغير إذن، وإلا لم يشرعا فيه إلا بإذن، وإذا شَرَعَا بالإذن لم يكن لهما المَنْعُ من الإتمام، هكذا أورده أئمتنا العراقيون، وهو مبني على أن النذر المُعَلَّق إذا شرع فيه لَزِمَ إتمامه، وفيه خلاف قَدَّمْنَاه، ¬
ويستوي في جميع ما ذكرناه القِنّ، والمُدَبَّر، وأمّ الوَلَدِ. وأما المكاتب فله أن يعتكف بغير إذن السَّيد على أصح الوجهين، ومَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ ونصفه رقيق كالرقيق إن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة، وإن كانت فهو في نوبة نفسه كالحر، وفي نوبة السيد كالرقيق، وأما من يخرج عنه فباعتبار الإسلام والعقل يخرج الكافر والمجنون، والسكران، والمغمى عليه، فلا يصح منهم الاعتكاف إذ لا نية لهم. ولو ارتد في أثناء اعتكافِهِ، فالمنقول عن نَصِّه في "الأم" أنه لا يبطل اعتكافه، بل يبنى إِذا عَادَ إِلَى الإسْلاَم، ونَصَّ أنه لو سكر في اعتكافه، ثم أفاق يستأنف، وهذا حكم بِبُطْلاَن الاعتكاف، وللأصحاب فيهما طريقان: أحدهما: تقرير النَّصَّيْنِ. والفرق أن السَّكْرَان مَمْنُوعٌ مِنَ المَسْجِدِ، قال الله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (¬1) أي: موضع الصلاة، فإذا شرب المُسْكِر، وَسَكِر، فقد أخرج نفسه عن أَهْلِيَّةِ اللُّبْثِ في المسجد، فنزل ذلك منزلة خروجه منه، والمُرْتَدْ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنَ المَسْجِد؛ بل يجوز استتابته فيه، وتمكينه من الدخول لاستماع القرآن ونحوه، فلم يجعل الارتداد متضمناً بطلان الاعتكاف، واختار أصْحَاب الشَّيْخِ أبي حَامِدٍ هذا الطَّرِيق، وذكروا أنه المذهب، وسلم غيرهم ذلك في السَّكْرَان، ونازعوهم في عدم تَأْثِير الرِّدَّة على ما سيأتي. وأصحهما: التَّسْوِية بين الرِّدَّة والسُّكْرِ، وفي كيفيتها طريقان: أحدهما: أنهما على قولين: أحدهما: أنهما لا يُبْطِلاَنِ الاعْتِكَافِ. أما الرِّدَّة فلما سبق. وأما السُّكْرُ، فلأنه ليس فيه إلا تناول مُحَرَّم، وذلك لا ينافي الإعتكاف. والثاني: أنهما يبطلان الإعتكاف أما السكر فلما سبق، وأما الردة فلخروج المُرْتَدّ عن أهلية العِبَادة. وأصحهما: الجَزْمُ فِي الصورتين، وفي كيفته طرق. أحدها: أنه لا يبطل الإعتكاف بواحدٍ مِنْهُمَا، وكلامه في السَّكْرَانِ محمول على مَا إِذا خرج من المَسْجِدِ، أو أخرج لاقامة الحَدّ عليه. ¬
وثانيها: أن السكر يبطله لامتداد زمانه، والرِّدَّة كذلك إن طال زَمَانُهَا، وإلا فيبنى، وكلامه في الردة محمول على حالة طُولِ الزمان. وثالثها: ولم يورده إلا لإمام، وصَاحب الكتاب رحمهما الله أن الرِّدة تُبْطِلُ، لِأنها تفوت شرط العبادة، والسكر لا يبطل، كالنوم والإغماء، وهو خلاف النَّصين. ورابعها: وهو الأصَح، ويحكى ذلك عن الرّبيع: أنهما جميعاً مُبْطِلان، فإن كل واحد منها أَشَد من الخروج من المسجد، فإذا كان ذلك مبطلاً للإعتكاف فهما أولى، وَنُّصه في الرِّدة مفروض فيما إذا لم يكن اعتكافه متتابعاً، وإذا عاد إلى الإسلام يبنى على ما مضى، لأن الردة لا تحبط العِبَادات السَّابقة عندنا، ونصه في السكر مفروض في الإعتكاف المتتابع، والله أعلم. وأعرف في لفظ الكتاب شيئين: أحدهما: أنه يشعر بأن الخلاف في أن الرِّدَّة والسُّكْر هَلْ يخلان بالإعتكاف أم يستمر معهما بحالة؟ فإنه جعلهما مانعين من الصِّحة إبتداه، وفرض الخلاف في الفساد بعروضهما، وكلام الإمام كالمصرح بمثل ذلك، وليس هو بِمُسَاعَدٍ عليه، بل الأصحاب جعلوا الخَلاَف في أنه هل يبقى ما تَقَدَّم على الردة والسكر معتداً بِهِ حتى يبنى عليه، أمْ يَبْطُل حَتَّى يحتاجَ إِلىَ الاسْتِئنَافِ إذا كان الإعتكاف متتابعاً؟ فأما زمان الردة والسكر فالمفهوم من نَصّ الشافعي -رضي الله عنه- أنه لا اعتكاف فيه، فإن الكلام في أنه يبنى أو يستأنف إنما ينتظم عند حُصُولِ الاختِلال فِي الحَالِ، وقد نَصَّ أبو علي وغيره، على أن أيام الرِّدَّة غير محسوبة من الإعتكاف بلاَ شَك، إذ ليس للمرتد أهلية العبادة، ونقل صاحب "التهذيب" في احتساب زمان السُّكَرِ وجهين، وقال: المذهب المنع. والثَّاني: أن إيراد الكتاب يقتضي تَرْجِيح الطريق الذي عَزَيْنَاه إلى رواية الإمام، وصاحب الكتاب، وقد صرح به في "الوسيط" ولم ير لغيرهما نقله فضلاً عن ترجيحه، ولو جُنَّ أو أغمى في عليه في خِلاَل الإعتكاف، فإن لم يخرج من المَسْجِدِ لم يبطل اعتكافهُ، لأنه معذور فيما عرض، وإن أخرج نظر إن لم يمكن حفظه في المسجد فكذلك، لِأنه لم يحصل الخروج باختياره، فأشبه ما لو حمل العَاقِلُ، وأُخْرِجَ مَكْرَهاً، وإن أمكن ولكن شق ففيه الخلاف الذي نذكره في المريض إذا خرج، قال في "التتمة": ولا يحسب زمان المجنون من الاعتكافِ، لأن العبادات البدنية لا تَصِح من المُجْنُون، وزمان الإغماء يحسب على المَذْهب، وفيه خلاف تحرجاً مما لو أغْمي عَلَى الصَّائِم. وأما اعتبار النقاء من الجنابة والحيض فيخرج منه الحَائِض والجُنُب، فلا يصح منهما الإعتكاف، ومتى طرأ الحيض على المعتكفة فعليها الخُروجُ مِنَ المسْجِدِ، ولو مَكثَت لم يحسب من الإعتكاف، وهل يبطل ما سبق أم يجوز البَنَاء عليه في الإعتكاف المتتابع؟ وقد ذكره في الفصل الثالث.
الرابع المعتكف فيه
ولو طرأت الجنابة نظر إن طرأت بِمَا يبطل الاعتكاف فلا يخفى الحكم، وإن طرأت بما لا يبطله كالاحتلام وبالجماع ناسياً والإنزال بالمباشرة فيما دون -الفرج، إذا قلنا: إنها لا تبطلُ فعليه أن يبادر إلى الغسلِ، كيلا يبطل تتابع اعتكافهِ، ثم إن لم يمكنه الغسل في المسجد فهو مضطر إلى الخروج، وإن أمكنه فيعذر في الخروج أيضاً، ولا يكلف الغسل في المسجد، فإن الخروج أقرب إلى المرؤة وصيانة حرمة المسجد. وقوله: (والحيض مهما طرأ قطع) ليس المراد منه قطع التتابع، فالكلام فيه سيأتي، وإنما المراد أنه يقطع الاعتكاف في الحَال، وإذا كان كذلك فانقطاع الاعتكاف في الحال غير مخصوص بالحَيْض، بل زمان الجنابة أيضاً لا يحسب من الاعتكاف على الصَّحيح، فيه وجه حكاه صَاحِب "التهذيب" وضعفه، فلو قال: والحيض والجنابة إذا طَرَآ قطعاً، ثم ذكر حكم الاحتلام كان أحسن. قال الغزالي: (الرَّابعُ المُعْتَكَفُ فِيهِ) وَهُوَ المَسْجِدُ وَيَسْتَوي فِيهِ سَائِرُ المَسَاجِدِ، وَالجَامِعُ أَوْلَي بِهِ، وَلاَ يَصِحُّ اعْتِكَافُ المَرْأة فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا عَلَى الجَدِيدِ. قال الرَّافِعِيُّ: الإعتكاف يختص بالمَسَاجد (¬1)، ويستوى في الجواز جميعها كاستوائها في تحريم المُكْثِ الْمِجُنُب، وسائر الأحكام، ويدل عليه إطلاق قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬2) وعَند أحمد: لا يصح الإعتكاف إلا في مَسْجِدِ تقام فيه الجَمَاعة، فأعلم قوله: (ويستوى فيه جميع المسجاد) بالألف، ويجوز أن يُعَلِّمَهُ بالواو أيضاً؛ لأن صاحب "المعتمد" ذكر أن الشَّيْخَ أَبا حَامِدِ حكى أن الشَّافِعِيَّ -رضي الله عنه- أو ما في القديم إلى مثل مذهب الزّهرى، وهو إختصاص الإعتكاف بالمجسد الجامع، والمشهور الأول، والجامع أولى بالإعتكاف للخروج من الخلاف، ولكثرة الجماعة، ولئلا يحتاج إلى الخروج لِصَلاة الجمعة، وهذا أظهر المعاني عند الشَّافعي -رضي الله عنه- أو لا بد منه في ثبوت الأولوية؛ لأنه نص على أن المرأة والعَبد والمسافِرَ، يعتكفون حيث شاؤا أي: من المساجد؛ لأنه جمعة عليهم. ولو إعتكف المرأة في مسجد بيتها، وهو المعتزل المهيأ للصلاة هل يصح؟ فيه قولان: الجديد وبه قال مالك وأحمد: لا؛ لأن ذلك الموضع ليس بمسجد في الحقيقة، فأشبه سائر المواضع، ويدل عليه "أَنَّ نِسَاءَ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُنَّ يَعْتَكِفْنِ فِي الْمَسْجِدِ (¬3) "، ولو جاز اعتكافهنِ في البيوت لأشبه ¬
أن يلازمنها والقديم وبه قال أبو حنيفة: نعم، لِأنه مكان صلاتها كما أن المسجد مكان صلاة الرجال، وعلى هذا ففي جواز الاعتكاف فيه للرجل وجهان: وهو أولى بالمنع، ووجه الجواز أن نفل الرجل في البيت أفضل، والإعتكاف ملحق بالنوافل، وإذا قلنا بالجديد فكل امرأة يُكْرَه لها حضور الجماعات، يكره لها الخروج للإعتكاف، والتي لا يكره لها ذَاكَ لا يكره لَهَا هذا (¬1). قال الغزالي: (وَلَوْ عَيَّنَ مسْجِداً بِنذْرِهِ، فالصَّحِيحُ أَنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ يَتَعَيَّنُ، وَسَائِرَ المَسَاجِدِ لاَ تَتَعَيَّنُ، وَفِي المَسْجِدِ الأَقْصَي وَمَسْجِدِ المَدِينةِ قَوْلاَنِ، وقيل: إِنَّ الكُلَّ لاَ يَتَعَيَّنُ، وَقِيلَ: إِنَّ الكُلَّ يَتَعَيَّنُ، وَأَمَّا الزَّمَانُ فَالمَذْهَبُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ (و) كَمَا فِي الصَّوْمِ ثُمَّ يَقْضِي (و) عِنْدَ الفَوَاتِ. قال الرَّافِعِيُّ: مقصود الفصل في تعيين مكان الاعتكاف وزمانه بالنذر. أما المكان فإن عَيَّن المسجدَ الحرام، تعين لمزيد فضله، وتعاق النسك. وأن عين مسجد المدينة، أو المسجد الأقصى فهل يتعين فيه قولان. أظهرهما: وبه وقال: أحمد، نعم؛ لأنهما مسجدان ورد الشرع بشد الرحال إليهما، المَسْجِد الحرام. والثاني: لا؛ لأنه لا يتعلق بهما نسك، فأشبها سائر المساجد، وذكر الإمامُ أن من الأصْحَابِ من خرج تعيين المَسْجِد الحَرامِ على هذين القولين. وإن عين المَساجِدَ الثلاثة ففي التعيين وجهان. وقال الكَرَخِي: قولان عن ابن سريج. أظهرهما: أنه لا يتعين كما لو عَيَّنَهُ لِلصَّلاة. والثاني: أنه يتعين؛ لأن الإعتكاف يختص بالمسجد بخلاف الصلاة لا تختص بالمَسْجِد فلا يتعين لها المسج. واحتج لهذا الوجه بأن الشافعي -رضي الله عنه- قال: لو أوجب على نفسه اعتكافاً في مسجدٍ فانهدم إعتكف في موضع منه، فإن لم يقدر خرج، فإذا بُنِيَ المسجدُ رَجَع وبنى على اعتكافه. ومن قال بالأول حمله على ما إذا كان المعينُ أحدَ المَسَاجِدِ الثلاثة، أو ما إذا لم يكن في تلك القربة مَسْجدٌ آخر، ومنهم من قطع بأن غير المَسَاجِد الثلاثة لا يتعين، ونفى الخلاف فيه. وإذا عرفت ما ذكرناه تبين لك أن في تعيين الجميع ¬
الفصل الثاني في حكم النذر
خلافاً كما ذكره في الكتاب، وليس قوله: (وقيل الكل لا يتعين) محمولاً على طريقةٍ قاطعةٍ بنفسي التعين في الكُلِّ، فإنه لاصَائِرَ إليه في المسجد الحَرَام. ولا قوله: (وقيل الكل يتعين) محمولاً على طريقة قاطعة بالتعيين في الُكلِّ، فإنه لم ينقلها أحد في غير المساجد الثلاثة، ولكن الطريقة المذكورة أولاً قاطعة بالتعين في المَسْجِد الحرام، وبعدم التعين فيما سوى المَسَاجِدِ الثلاثة، فالغرض من قوله (قيل وقيل) بيان أن كل واحد من القطعين قد نازع فيه بعض الأصحاب، ومتى حكمنا بالتعيين فإذا عَيَّنَ المسجد الحرام لم يقم غيره مقامة، وإن عَيَّن مَسْجِدَ المدينة لم يقم غيره مقامه إلا المسجد الحرام، وإن عين المسجد الأقصى لم يقم غيره مقامَة، إلا المسجد الحَرَام، ومسجد المدينة، وإن حكمنا بِعَدَمِ التعين، فليس له الخُروُج بعد الشروع لينتقل إلى مسجدٍ آخر، لكن وكان ينقل في خروجه لقضاء الحاجة إلى مسجد آخر على مثل تلك المسافة، أو أقرب كان له ذلك في أصَحِّ الوجهين. وأما الزمان ففي تعيينه بالتعيين وجهان: أحدهما: وهو المذهب: أنه يتعين حتى لا يجوز التقديم عليه، ولو تأخر كان ذلك قضاء الفائت. والثاني: لا يتعين كما لا يتعين في نذر الطَّلاة والصدقة، والوجهان جَارِيان بِعَيْنِهما، فيما إذا عين زمان الصوم، وقد ذكرهما في الكتاب في النذور، وسيأتي شَرْحُه عليهما -إن شاء الله- وهذا الكلام يعرفك أن قوله: (فالمذهب أنه يتعين كما في الصوم) ليس كقياس التعين في الوجه الذي هو المذهب على التعين في الصَّوْمِ، فإن الخلاف فيهما وَاحدِ، وإنما الغرض تشبيه الخِلاَفِ بالخِلاَفِ. قال الغزالي: (الفَصْلُ الثَّانيِ فِي حُكْمِ النَّذْرِ) وَالنَّظَرُ فِي ثَلاَثةِ أمُور: (الأَوَّلُ) فِي التَّتَابعُ فَإذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهراً يَلْزَمْهُ (و) التَّتابع إِلاَّ إِذَا شَرَطَ، وَلَوْ قَالَ: يَوْماً لم يَخُزْ تَفْريِقُ السَّاعَاتِ عَلَى الأَيَّامِ فِي أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ، واِذَا قَالَ: أَعْتَكِفُ هَذَا الشَّهْرَ لَمْ يَفْسَدْ أَوَّلُهُ بِفَسَادِ أخِرِهِ، وَلاَ يِلْزَمُ التَّتَابعُ فِي قَضَائِهِ، لأنَّ التَّتَابُعَ وَقَعَ ضَرُوَرةَ لاَ بِقَصْدِهِ، بِل لَوْ صَرَّحَ وَقَالَ: أَعْتَكِفُ هَذَا الشَّهْرِ مُتَتَابِعاً لَمْ يَلْزَمِ التَّتَابُع فِي القَضَاءِ عَلَى أَحِد الوَجْهَين إِذِ التَّتَابُعُ وَقَعَ ضَرورَةٌ فَلاَ أَثَرَ لِلَفْظِهِ. قال الرَّافِعيُّ: الاعتكاف المنذور يمتاز عن غير المنذور منه بأمورٍ رَاجِعَةٍ إلى كيفية لفظ الناذر والتزامه، ومقصود الفَصْلِ الثَّانِي الكلام في ثلاثة أمور منها. أحدهما: في التَّتَابع.
من نذر اعتكافا لم يخل إما أن يطلق أو يقدر مُدَّة، فإن أطلق فقد ذكرنا ما يلزمه. وما يستحب له، وإن قَدَّرَ مُدَّة فأما أن يُطْلِقَهَا أَو يُعَيِّنُهَا. الحالة الأولى: أن يطلقها فينظر إن آشترط التتابع لزمه، كما اشترط التتابع في الصَّوم، وإن لم يشترطه بل قال: على شهر أو عشرة أيام لم يلزمه التتابع كما في نظره من الصَّوُمِ، وخرج ابن سُرَيْجٍ قولاً: أنه يلزم، وبه قال مالك، وأبو حنيفه، وأحمد -رحمهم الله- كما لو حلف ألا يكلم زيداً شهراً يكون متتابعاً، وظاهر المذهب الأولى وهو المذكور في الكتاب، ولكن يستحب رعاية التتابع، وعلى هذا فلو لم يتعرض له لفظاً، ولكن نواة بقلبه فهل يلزمه؟ فيه وجهان: قال صاحب "التهذيب" وغيره: أصحهما: أنه لا يَلْزمه، كما لو نذر أصل الإعتكاف بقلبه، ولو شرط التفرق فهل يخرج عن العهدة بالمتتابع؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم؛ لأنه أفضل كما لو عَيَّن غير المسجد الحَرَام، ويخرج عن العهدة بالإعتكاف في المسجد الحرام، ولو نذر اعتكاف يَوْمِ فهل يجوز تفريق السَّاعات على الأيام؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، تِنزيلاً للساعات من اليوم منزلة الأيَّامِ مِنَ الشَّهر. أصحهما: وبه قال أبو إسْحَاقَ والأكثرون: لا، لأنَّ المفهومَ مِنْ لفظ اليْوم المتصل، وقد حُكِي عن الخَلِيلِ أن اليوم اسم لما بين طلوع الفجر وغروب الشمس. ولو دخل المجسد في أثناء النهار وخرج بعد الغروب ثم عاد قبيل طلوع الفجر ومكث إلى مثل ذلك الوقت فهو على هذين الوجهين ولو لم يخرج بالليل فجواب الأكثرين أنه يجزئه، سواء جوزنا التفريق أو منعناه، لحصول التواصل بالبيتوته في المسجد. وعن أبي إِسْحَاق أنه لا يجزئه تفريعاً على الوجه الثاني؛ لأنه لم بات بَيْوم متواصل الساعات الليلة ليست من اليوم، فلا فرق بين أن يخرج منها عن المَسْجِد أولاً يخرج، وهذا هو الوجه. ولو قال في أثناء النهار: لله على أن أعتكف يوماً من هذا الوقت فقد أطبق حماة المذهب على أنه يلزمه دخول المعتكف من ذلك الوَقْت إلى مثله من اليوم الثاني، ولا يجوز أن يخرج بالليل ليتحقق التتابع، وفيه توقف من جهة المعنى؛ لأن الملتزم يوم، والبَعْضَان يوم وليلة، والليلة المتخللة ليست من اليوم، فلا تمنع التتابع بينهما، كما أنها لا تمنع وصف اليومين الكَامِلَيْنِ بالتتابع، والقِيَاس أن يجعل فائدة التقيد في هذه الصُّورة القَطْع يجواز التَّفْرِيق لا غير، ثم حكى الإمامُ تَفريعاً على جَوازِ تفريق السَّاعاتِ عن الأصحاب أنه يكفيه سَاعَات أقصر الأيام؛ لأنه لو اعتكف أقصر الأيام جاز، ثم قال: إن فرق على ساعات أقصر الأيام في سنين فالأمر كذلك، وإن اعتكف في أَيَّامٍ متباينة في الطُّول والقصر فينبغي أن ينسب اعتكافه في كل يوم
الثاني في استتباع الليالي
بالجزئية إليه إن كان ثُلُثًا فقد خرج عن ثُلُثِ ما عليه، وعلى هذا القياس، نظراً إلى اليوم الذي يوقع فيه الإعتكاف، ولهذا لو اعتكف بقدر سَاعَات أقصر الأيام من يوم طَويِل لَم يْكفِه، وهذ الذي ذكره مُسْتَدْرَكٌ حسَنٌ، وقد أجاب عنه بما لا يشفى والله أعلم. الحالة الثانية: أن يعين المدة المقدرة، كما لو نذر أن يعتكف عَشْرَة أيام من الآن، أو هذه العشرة أو شهر رمضان، أو هذا الشَّهر فعلية الوَفَاء، ولو أفْسدَ آخره بالخروج بغير عُذْرٍ أو بسبب آخر لم يلزمه الاستئناف، ولو فاته الجميع لم يلزمه التتابع في القَضَاء، لأن التتابع فيه كان خمن حَقّ الوَقْتِ، وضروراته لا أنه وقع مقصوداً فأشبه التتابع في صَوْمِ رمضان، وهذا إذا لم يتعرض للتتابع، أما إذا صَرَّح به فقال: أعتكف هذه العشرة، أو هذا الشَّهر متتابعاً، فهل يلزمه الاستئناف إذا أفسد آخره؟ وهل يجب التتابع في قضائه عند الفوات؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، لِأن التَّتَابع وَاقِعٌ ضرورة فَلاَ أثر لِلَفْظِه وتصريحه. وأصحهما: نعم؛ لأن تَصْرِيحَهُ بِهِ يَدُلُّ على قصْدِه إياه، ويجوز أن يكون ذلك مقصوراً من تعيين الزَّمان. وأعلم قوله: في الكتاب: (لم يفسد أوله آخره) بالألفِ، لأن في رواية عن أحمد يفسد وَيجِب الاسُتِئْنَافُ. قال الغزالي: (الثَّانِي فِي اسْتِتْبَاعِ اللَّيَالِي) فَإِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ دَخَلَتِ اللَّيَالِي فِيهِ وَيَكْفِيهِ شَهْرٌ بالأَهِلَّةِ، وَلَو نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ لَمْ تَدْخُلِ اللَّيْلَةُ، وَلَوْ نَذَرَ عَشَرَةَ أَيَّام فَفِي اللَّيَالِي المُتَخَللةَ ثَلاَثة أَوْجُهٍ، وَفِي الثالِثِ تَدْخُلُ إِنْ نَذَرَ التَّتَابُع وإِلاَّ فَلاَ، وإِذَا نَذَرَ العُشْرَ الأَخَيَر فَنَقَصَ الهَلاَلُ كَفَاهُ التِّسْعَ. قال الرَّافِعِيُّ: مقصود هذا النظر بيان أن الليالي متى تلزم إذا ينص عليها، ويقاس به الأيام إذا لم ينص عليها، وفيه صور. إحدهما: لو نذر اعْتِكَافَ شَهْرٍ لزمه الأيام والليالي؛ لأن الشَّهْرَ عبارةٌ عن الجَمِيع إلا أن يقول أيَّام شَهْرٍ، أو نهار هذا الشهر، فلا تلزمة الليالي، وكذا لو قال: ليالي هذا الشهر لا تلزم الأيام، ولو لم يتلفظ بتقييد ولا آستثناء، ولكن نوى بقلبه ففيه وجهان: أصحهما: وبه قبل أبو حنيفة: أنه لا يؤثر، ذكره في "التهذيب"، ثم إذا أطلق الشَّهر فدخل المسجد قبل الاستهلاك كفاه ذلك الشَّهر خرج ناقصاً أو كاملا، وإن دخل في أثناء الشهر استكمل بالعدد. الثانية: لو نذر اعتكافَ يَوْمٍ لم يلزمه ضَمُّ الليلة إليه إلا أن ينوي، فحينئذ يلزمه؛
لأن اليوم قد يطلق ويراد به اليوم بليلته، وحكى الحَنَّاطي قولاً أنه يدخل اللَّيْل في هذَا النَّذْرِ إلا أن ينوي يوماً بلا ليلة، فيجوز أن يرقم قوله في الكتاب: (لم تدخل الليلة) بالواو لذلك، ولو نذر اعتكاف يومين ففي لزوم اللَّيلَة معهما ثلاثة أوجه. أحدهما: لا تلزم إلا إذا نَوَاها لِمَا سبق أن اليوم عِبَارة عَمَا بين طُلوع الفَجْرِ وغُروبِ الشَّمْسِ. والثاني: تلزم إلا أن يريد بَيَاضَ النَّهار؛ لأنها ليلة تتخلل نهار الاعتكاف فأشبه ما لو نذر اعتكاف العشر. والثالث: إن نوى التّتابع أو قيد به لفظاً لزمت ليحصل التواصل، وإلا فلا، وهذا أرجع عند الأكْثَرِين، بل لم يذكروا خلافاً في لزومها إذا قيد بالتتابع، وذكر صاحب "المهذب" وآخرون أن الأول أَظْهَر، والوجه التَّوسط إن كان المراد من التتابع تَوَالِي اليومين فالحقُّ ما ذكره صاحب "المهذب" وإن كان المراد تواصل الإعتكاف فالحق ما ذكره الأكثرون، ولو نذر اعتكاف ليلتين ففي النهار المتخلل بينها هذا الخلاف، ولو نذر أيام ثلاثة أيام أو عشرة أو ثلاثين يوماً، ففي لزوم الليالي المتخللة الوجوه الثلاثة. وأشار الشيخ أبُو مُحمد وطائفة إلى طريقة قاطعة بأن نذر اليومين لا يستتبع شيئاً من الليَّالي، والخلاق في الثَّلاثة فصاعداً، وحكى عن القفَّالِ في توجيهه أن العرب إذا أطلقت اليومين عنت مجرد النَّهَار، وإذا أطلقت الأيام عنتها بلياليها، وهذا الفرق غَيْر معلوم من أهل اللّسان والله أعلم. وإنما قال (ففي الليالي المتخللة بينها) على أن الخلاق مخصوص بما بين الأيام المنذورة من الليالي، وهي تنقص عن عدد الأيام بواحد أبداً، ولا خلاق في أن الليالي لا تلزم بعدد الأيام، فإذا نذر يومين لم يلزم ليلتان بِحَالٍ، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة -رحمهم الله-: يلزم ليلتان، وقياس ما نقله الحَنَّاطى في اليوم الواحد مثله فعرفه. الثالثة: لو نذر العشر الأخير من بعض الشّهور دخل فيه الأيام واليالي، وتكون الَّليالي هاهنا بعدد الأيام كما في نذر الشَّهر، وقد مر في اعتكاف العَشْرِ الأواخر من رمضان أنه متى يدخل المسجد ويخرج عن العهدة؟ إذا استهل الهلال كان الشهر كاملاً أو ناقصا؛ لأن الاسم يقع على ما بين العشرين إلى آخر الشهر، ولو نذر أن يعتكف عشرة من آخر الشهر ودخل المسجد آخر اليوم العشرين، أو قبيل الحادي والعشرين فنقص الشهر لزمه قضاء يوم، لأنه جرد القصد إلى العشرة، وفي دخول الليالي ما حكيناه من الخلاف. فرع: إذا نذر أن يعتكف اليوم الذي يقدم فيه فلان فَقَدِمَ لَيْلاً لم يلزمه شيء، وإن قدم نَهَاراً لزمه اعتكاف بقية النَّهَار، وهل عليه قضاء ما مضى منه؟ فيه قولان أصحهما
الثالث في الاستثناء
وهو ظاهر نَصّه في "المختصر": لا؛ لأن الوُجوبَ ثبت من حين القدوم. والثاني: نعم؛ لأنا نتبين بقدومه أن ذلك اليوم من أوله يوم القدوم وبهذا قال المزنى، وابن الحداد، وعلى هذا فيعتكف بَقِيَّة اليوم، ويقضي بِقَدْرِ مَا مَضى من يوم آخر، ولا يخلى الوقت عن العِبَادة بقدر الإمْكَان. وقال المُزِنَى؛ الأولى أن أن يستأنف اعتكاف يوم ليكون اعتكافه موصولاً، ولو كان النَّاذِرُ وقت القُدُوم مريضاً، أو محبومساً قضى عند زوال العذر أما ما بقى من النهار أو يوماً كاملاً على اختلاف القولين، وعن القاضي أبي حامد وصاحب "الإفصاح" أنه لا شيء عليه؛ لعجزه وقت الوُجوبِ كما لو نذرت المرأة صَومَ يوم بعينه فحاضت فيه. قال الغزالي: (الثَّالِثُ فِي الاسْتِثْنَاءِ) فَإذَا قَالَ: أَعْتَكِفُ شَهْراً مُتَتَابِعاً أَخْرُجُ إِلاَّ لِعيِادَةِ زَيْدٍ لم يَجُزِ الخُروُجُ لَغْيِرِهَ، وَلَوْ قَالَ: لا أَخْرُجُ إِلاَّ لشُغْلِ يَعِنُّ لِي جَازَ (م و) الخُروُجُ لِكُلِّ شُغْلِ دِينَيِّ أَوْ دُنْيَوِي لاَ كَالنَّظَّارَةِ وَالتَّنَزُّهِ، وَلَوْ قَالَ: أتَصَدَّقُ بِهَذِهِ الدَّرِاهِمِ إِلاَّ أَنْ أحْتَاجَ إِليْها، فالأَظْهَرُ صِحَّةُ الشَّرْطِ، وَلَوْ قَالَ: إِلاَّ أَنْ يَبْدُوَ لي فَالأَظْهَرُ فَسَادُ الشَّرْطِ. قال الرَّافِعِيُّ: إذا نذر بصفة التتابع شرط الخروج منه إن عرض عارضٌ صح شرطهِ، لأن الإعتكاف إنما يلزمة بالْتِزَامه، فيجب بِحَسَبِ الالْتِزَام، وعن صاحب "التقريب" والحناطي حكاية قول آخر: أنه لا يصح؛ لأنه شرط يخالف مقتضى الإعتكاف المتتابع فيلغى كما لو شرط المعتكف أن يخرج للجماع، وفيما علق عن الشَّيْخِ أبي محمد أن بالأول قال أبو حنيفة، وبالثَّانى قال مالك، وعن أحمد روايتان كالقولين فإن قلنا بالأول وهو الصَّحِيح المشهور، فينظر أن عين نوعًا فقال؛ لا أخرج إلا لعيادة المرضى، أو عين ما هو أخص منه فقال: لا أخرج إلا لعيادة زيد، أو لتشييع جنَازَتِهِ إن مات خَرَج لِمَا عَيَّنَهُ دون غيره من الأَشْغَال، وإن كان أهَمَّ مِنْهُ وإن أطلق وقال: لا أخرج إِلاَّ لِشُغْل يَعِنُّ لِي أو لعارض كَانَ لَهُ أن يخرج لِكُلِّ شُغْلٍ ديني كَحُضُورِ الجُمُعَةِ، وعيادة المَرْضَى، وصلاة الجَنَازة، أو دنيوي كلقاء السُّلطان، واقتضاء الغَرِيم، ولا يبطل التَّتَابع بشيء من ذلك، ويشترط في الشُّغْلِ الدُّنيوي أن يكون مباحاً، ونقل وجه عن "الحاوي" أنه لا يشترط، ولا عبرة بالنظارة والنزهة، فإن ذلك لا يعد من الأَشغال ولا يغتنى به، ولو قال: إن عرض عَارِض قطعت الاعتكاف فالحكم كما لو شرط الخروج، إلا أن في شرط الخروج يلزمه العود عند قضاء تِلْكَ الحَاجَةِ، وفيما إذا قصد القَطْع لا يلزمه ذلك، وكذا لو قال: على أن أعتكف رَمَضَان إلا أن أمرض أو
أسُافِر، فإذا مرض أو سافر فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ ولو نذر صَلاةً وشرط الخروج منها إن عَرَضَ عَارِضٌ أو صوماً وشرط الخروج منه إن جَاعَ، أو أُضِيف ففيه وجهان: أحدهما: وبه أجاب الأكثرونَ: أنه يِصَح هذا الشَّرط كما في الإعتكاف. والثاني: لا يصح، ولا ينعقد النّذر ويخالف الإعتكاف؛ لأن ما يتقدم منه على الخروج عبادة، وبعض الصَّلاة، والصَّوم ليس بعبادة. ولو فرض ذلك في الحَجّ انعقد النذر كما الإحرام المَشْروط، ولكن في جواز الخُروج القولان المَذْكُوران في كتاب "الحَجِّ" و"الصوم" و"الصلاة" أولى الخروج منهما عند أئمتنا العراقيين؛ لأنهما لا يلزمان بالشروع والالتزام مشروط، فإذا وجد العارض فلا يلزم، والحج يلزم بالشروع، وجعل الشَّيخ أبو محمد الحَجَّ أولى بجواز الخروج منه؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- "أَمَرَ ضباعَةَ بِالإهْلاَلِ بِشَرْطِ التَّحلُل (¬1)، ولو نذر التَّصَدُّق بعشرة دراهم، أو بهذه الدارهم إلا إن تعرض حاجة ونحوها فعلى الوجهين، والأظهر صِحَّةُ الشَّرَطِ فإذا احتاج فلا شيء عليه، ولو قال في هذه القربات كلها إلا أن يبدو لي فوجهان. أحدهما: أنه يصح الشَّرَط فلا شيء إذا بَدَا له كَشَرْطِ سَائِرِ العَوَارِضِ. وأظهرهما: وبه قال الشيخ أبو محمدَ لا يصح؛ لأنه تعليق الأمر بمجرد الخيرة، وذلك يُنَاقِض معنى الالتزام. فإن قلت: إِذَا لَمْ يَصِح يبطل الالتزام مِنْ أَصْلِهِ، أو يلغى الشرط ويصح الالتزام. فالجواب: أن صاحب "التهذيب" حكم بعدم انعقاد النذر على قولنا: لا يصح شرط الخروج في الصَّوْمِ والصلاة، وروى الإمام وجهين في صورة تقارب هذه وهي ما إذا نذر اعتكافاً متتابعاً، وشرط الخروج مهما أَرَاد، قال هذا ضد التتابع فكأنه التزم التتابع ثم نفاه، ففي وجه يبطل الالتزام التتابع، وفي وجه يَلْزَم التتابع ويبطل الاستثناء، وشبه ذلك بشرائط فَاسِدة تقرن بالوقوف فإنا في مَسْلَك يبطل الشَّرط، وينفذ الوقف من أصله وفي مسلك يبطل الوقف من أصله والله أعلم. قال الغزالي: ثُمَّ الزَّمَانُ المَصْرُوفُ إلَى غَرَضِ المُسْتَثْنِى يَجِبُ قَضَاؤُهُ إِلاَّ أَنْ يُعَيِّنَ الشَهْرَ فَيُحْمَلُ اسْتِثْنَاؤُهُ عَلَى نُقْصَانِ الوَقْتِ لاَ عَلَى قَطْعِ التَّتَابُعِ فَقَطْ. قال الرافعي: إذا شرط الخروج لغرض وصَّحَّحْنَاه فخرج لذلك الغرض هل يجب ¬
الفصل الثالث في قواطع التتابع
تدارك الزمان المصروف إليه؟ بنظر إن نذر مُدَّة غيرَ معينة كَشَهْرٍ مُطْلَق، أو عشرة مُطْلَقَة فيجب التَّدارك ليتم المدة المنذورة، وتكون فائدة الشرط تنزيل ذلك الغرض مَنْزلة قَضَاء الحاجة في أن التتابع لا ينقطع به، وإن عين المدة فنذر اعتكاف هذه العشرة أو شهر رمضان فلا يجب التّدارك، لأنه لم ينذر إلا اعتكاف ما عدا ذلك الزَّمان من العشرة. وقوله في (إلاَّ أن يعين الشهر) لا يخفى أن ذكر الشهر جرى على سبيل ضَرْب المثال للمدة المعينة، وقوله: (فيحتمل استثناؤه على نقصان الوقت لا على قطع التتابع فقط) معناه لا على نفي قَطْعِ التتابع فَحَذَفَ المُضَافَ وهو النفي هذا لا بد منه وهو مبين في "الوسيط" ثم الكلام بعد ذلك يحتمل من حيث اللفظ محملين. أحدهما: أن الاستثناء محمول فيما إذا كانت المدة مطلقة على نَفْي قَطْعِ التتابع فقط، إذ لا ضرورة إلى حمله على نقصان المُدَّةِ كما سبق، وهو يقول: إذا كانت المدة معينة يحمل الاستثناء على نقصان الوقت لا على ما حمل عليه عند الإطلاق، وهو نفي قطع التتابع فقط. والثاني: أن يقال: أراد به أنه لا يحمل عند التعيين على نَفْي قَطْعِ التَّتَابُعِ فقط بل عليه وعلى نُقْصَانِ الوَقْتِ، والوجه حمله على الأول، لأن الثاني يَقْتَضِي إفَادَته نفي قطع التَّتابع، وإنما يفيده أن لو كان التَّتابع مَرْعِيَّاً فيه ليقع الاستثناء صَائِناً له عن الانقطاع، وقد قدمنا أن التتابع غير مرعى عِنْدَ تَعَيّنِ الزَّمان، نعم لو فرض التعرض للتتابع مع تعيين الزَّمان، وفرعنا على أن التتابع حينئذ يكون مَرْعِيَّاً فينتظم المحمل الثاني أيضاً -والله أعلم-. قال الغزالي: الفَصْلُ الثَّالِث في قَوَاطِعِ التَّتَابُعِ وَهُوَ انْقِطَاع شُرُوطِ الاعْتِكَافِ وَالخُرُوجُ بِكُلِّ البَدَن عَنْ كُلِّ المَسْجِدِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، فَلَوْ أَخْرَجَ رَأْسَهُ أَوْ رِجْلَهُ لَمْ يَضُرَّ، وَلَوْ أَذَّنَ عَلَى المَنَارَةِ وَبَابُهَا في المَسْجِدِ لَمْ يَضُرَّ، وَإِنْ كَانَ بابها خَارجَ المَسْجِدِ وهَيَ مُلْتِصِقَةٌ بِحَريمِ المَسْجِدِ فَثَلاَثةُ أَوْجُهٍ، يفَرَّقُ في الثَّالِثِ بعُذْرِ المُؤَذِّنِ الرَّاتِبِ دُونَ غَيْرِهِ. قال الرافعي: الفصل معقود لبيان ما يقطع التتابع في الاعتكاف المتتابع ويخرج إلى الاستئناف وهو فيما ذكره حُجَّةُ الإِسْلاَم -رحمه الله- أمران. أحدهما: انقطاع شروط الاعتكاف، والمفهوم من شروط الاعتكاف الأمور التي لا بد منها فيه كَكَفِّ النفس عن الجِمَاع، وعن مقدماته في قول، لكن فيه كلامان: أحدهما: أنه غير مجري على إطلاقهِ، لأن من شروط الاعتكاف النقاء عن الحيض، والجنابة، ومعلوم أن انقطاع هذا الشَّرْط بعروض الحيض والاحتلام لا يقطع التتابع. والثاني: أن اللبث في المَسْجِدِ من الأمور التي لا بد منها في الاعتكاف، وإذا
خرج من المَسْجِدِ انقطع هذا الشَّرْط، فإذاً الخروج من المسجد داخل في انقطاع شُروط الاعتكاف، وقضية العَطْفِ ألا يدخل أحدهما في الآخر. الأمر الثاني: الخروج بِكُلِّ البَدَنِ عَنْ كُلِّ المَسْجِدِ بغير عُذْرٍ، وفيه ثلاثة قيود: أحدها: كَوْنُ الخُرُوجِ بكل البَدَنِ والقصد به الاحتراز عما إذا أخرج يده، أو رأسه فلا يبطل اعتكافه؛ واحتجوا له بما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يُدْنِي رَأْسَهُ إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا فَتُرَجّلَهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ وَهُوَ فَي المَسْجِدِ" (¬1). ولو أخرج إحدى رِجْلَيْهِ أو كِليْهِمَا وهو قاعدها مادَّهما فكذلك، وإن اعتمد عليهما فهو خارج. الثاني: كون الخروج عَنْ كُلِّ المسجد والقصد به الاحتراز عما إذا صعد المنار للأذان وللمنارة حالتان: إحداهما: أن يكون بابها في المَسْجِد، أو في رحبته المتصلة به فلا بأس بِصُعُودِهَا للأذان وغيره كصعود سطح المسجد ودخول بيت منه؛ ولا فرق بين أن يكون في نَفْسِ المَسْجِدِ أو الرحبة؛ وبين أن تكون خارجة عن السمت البِنَاء وتربيعه، وأبدى الإمام -رحمه الله- احْتِمَالاً فيما إذا كانت خارجةً عن السمت قال: لأنها حينئذ لا تُعَدُّ مِنَ المَسْجِدِ، ولا يصح الاعتكاف فيها، وكلام الأئمة يُنَازع فيما وجه به الاحتمال. والثانية: إلاَّ يكون بابها في المَسْجِدِ ولا في رحبته المُتَّصِلة به فهل يبطل اعتكاف المؤذن الرَّاتب بصعودها للأذان؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، لأنه لا ضرورة إليه لإمكان الأذان على سَطْح المَسْجِدِ، فصار كما لو صعدها لغير الأذان، أو خرج إلى الأمير أو غيره ليعلمه بالصَّلاَةَ. والثاني: لا؛ لمعنيين. أحدهما: أنها مبنيةٌ لِلْمَسْجِد معدودةٌ من توابعه. والثاني: أنه قد اعتاد صعودها للأذان والناس اسْتَأنَسُوا بصوته فيعذر فيه، ويجعل زمان الأذان مَسْتَثنىً عن اعتكافه، وهذا أوضح المعنيين؛ لأن المنارة وإن كانت معدودة من توابع المسجد فهو إلى أن يصل إليها مُنْفَصِل عن المسجد، ولو خرج إليها غير المؤذن الرَّاتب للأذان رتب حكمه على الرَّاتب إن أبطلنا اعتكافه به فهاهنا أولى، وإلا فيبنى على المعنيين. إن قلنا بالثَّاني بطل وإن قلنا بالأول فلا، وإذا تركت الترتيب أطلقت ثلاثة أوجه كما في الكتاب. ¬
الثالث: الفرق بين الرَّاتِبِ وَغَيْرهِ، قاله صاحب "التهذيب" وغيره: وهو الأَصَح. وقوله: (ولو أذن على المنارة) التصوير في التأذين ينبه على أن الخروج إِلَيْهَا، وهي خارجةٌ عن المَسْجِدِ لغير الأَذَان لا يجوز بحال، لكنها إذا كَانت في المَسْجِدِ فلا فرق بين أن يَصْعَدَهَا للأذان أو غيره. وقوله: (وإن كان بابها خارج المسجد، وهي ملتصقة بِحَرِيم المسجد ففيه ثلاثة أوجه) يشعر بتقييد الخلاف بما إذا كانت مُلْتَصِقَةً بِحَرِيمِ المَسْجِد، وفنَائِهِ، لكن الأكثرين لم يَشْتَرِطوا في صُورَةِ الخِلاَفِ سِوَى أن يكون بَابُها خَارجَ المَسْجِدِ كما قدمناه وزاد أبو القاسم الكَرَخِي فنقل الخلاف فيما إذا كانت في رحبة منفصلة عن المَسْجِد بينها وبين المسجد طريق. واعلم: أنه لو اقتصر في الضابط المذكور على الخروج عن المسجد، وحذف لفظتي "الكل" لكان الغرض حَاصِلاً، فإن من أخرج بَعْضَ بدنه لا يسمى خَارجاً، ألا ترى أنه لو حلف أن لا يخرج من الدَّار فأخرج رأسه أو رجليه غير معتمد عليهما لَمْ يحنث، وكذا لا يقال: خرج من المسجد إلا إذا انفصل عن كله. قال الغزالي: وَأَمَّا العُذْرُ فَعَلَى مَرَاتِبَ: (الأُولى) الخُرُوجُ لِقَضَاءِ الحَاجَةِ وَهُوَ لاَ يَضُرُّ، وَلاَ يَجِبُ قَضَاءُ تِلْكَ الأوْقَاتِ وَلاَ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ عِنْدَ العَوْدِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ قُرْب الدَّارِ وَبُعْدِها (و) وَبَيْنَ أَنْ يَكْثُرَ الخُرُوجُ (و) لِقَضَاءِ الحاجة أو يَقِلَّ، وَلاَ بَأْسَ بِعِيَادَةِ المَرِيضِ فِي الطَّريِقِ مَنْ غَيِرْ تَعْرِيجٍ، وَلاَ بَأْسَ بِصَلاَةِ الجَنَازَةِ مِنْ غَيْرِ ازْوَارَ عَنِ الطَّرِيقِ، وَكَذَا كُلُّ وَقْفَةٍ في حَدِّ صَلاَةِ الجَنَازَةِ، وَإِنْ جَامَعَ في وَقْتِ قَضَاءِ الحَاجَةِ انْقَطَعَ التَّتَابُعُ (و). قال الرافعي: القيد الثالث كون الخروج بِغَيْرِ عُذْرٍ، وقد رتب العذر على مراتب: إحداها: الخروج لقضاء الحاجة، فهو محتمل، روي عن عائشة -رضي الله عنها- "أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ لاَ يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلاَّ لِحَاجَةِ الإنْسَانِ" (¬1) وفي معناه الخروج للاغتسال عند الاحتلام، وقد تقدم ذِكْرُه. وهل يجوزُ الخروجُ لِلأْكْلِ؛ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال ابْنُ سُرَيْجٍ: لا، لأن الأكل في المسجد ممكن. والثاني: وبه قال أبو إسْحَاق: نعم؛ لأنه قد يستحيي منه، ويشق عليه، والأول أظهر عند الإمام وصاحب "التهذيب". ¬
والثاني: أظهر عند الأكثرين، وحكاه الرَّويَانِي عن نَصِّه في "الإملاء" وفي عبارة "المختصر" ما يدل عليه، ولو عطش ولم يجد الماء في المَسْجِد فهو مَعْذُور في الخُرُوجِ، وإن وجده فَهَلْ له الخروج لِلشُّرْبِ؟ فيه وجهان: أصحهما: لا، فإنه لا يستحي منه، ولا يعد تركه من المروءة بخلاف الأكْلِ، وقد أطلق في "التَّنْبِيهِ" القول بأن الخروج للأكل والشرب لا يَضُر، والوَجْهُ تأويله، ثم في الفَصْلِ مسَائِل: إحداها: أوقات الخروج لقضاء الحَاجَةِ لا يجب تَدَاركُها، وله مَأْخَذَانِ. أحدهما: أن الاعتكاف مستمر في أوقات الخروج لقضاء الحاجة، ولذلك لو جَامَعَ في ذلك الوَقْتِ بطل اعتكافه على الصَّحِيح. والثاني: أن زمان الخروج لقضاء الحَاجَةِ جُعِلَ كالمستثنى لفظاً عن المدة المنذورة، لأنه لا بُدَّ منه، وإذا فرغ وَعَادَ لم يحتج إلى تجديد النِّية أما على المأخذ الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن اشتراط التتابع في الابتداء رابطة تجمع ما سوى تلك الأوقات، ومنهم من قال: إن طال الزمان ففي لزوم التَّجْدِيدِ وَجْهَان، كما لو أراد البناء على الوُضوء بعد التفريق الكَثِير، ويجوز أن يعلم لهذا قوله: (ولا يجب تجديد النية) بالواو، فإنه أطْلَق الكلامَ إِطْلاَقاً. الثانية: لو كان في المسجد سقاية لم يكلف قضاء الحاجة فيها، لما فيه من المَشَقَّة وسقوط المُرُوءة، وكذا لو كان في جِوَار المَسْجِدِ صديق له وأمكنه دخول داره، فإن فيه مع ذلك قبول منه، بل له الخروج إلى دَارِه إن كانت قريبةً أو بعيدةً غير متفاحشة البعد، فإن تفاحش بعدها فَفِيه وَجْهَان: أحدهما: يجوز أيضاً لما سبق، ولفظ الكتاب يوافق هذا الوَجْهَ لإِطْلاَقِهِ القول بأنه لا فرق بين قُرْبِ الدَّارِ وَبَعْدِهَا. والثاني: المنع؛ لأنه قد يأْتيه البَوْلُ إلى أن يرجع فيبقى طول يومه في الذِّهاب، والمجيء إلا أن لاَ يَجِد في الطَّريق موضعاً لِلْفَراغ، أو كان لا يليق بحاله أن يدخل لِقَضَاء الحَاجَة غير دَارِه، ونقل الإمام فيما إذا كَثُر خروجه لعارض يقتضيه الوجهين أيضاً، وقال: من أئمتنا من نظر إلى جنس قضاء الحَاجَة، ومنهم من خصص عدم تأثيره بما إذا قرب الزَّمان وقصر، وبالأول أجاب صَاحِبَ الكِتَاب، وهو قضية إطلاق المعظم لكن فيما إذا تفاحش البعد وجه المنع أظهر عند أئمتنا العراقيين. وذكر الرّويَانِي في "التجربة" أنه المذهب، ولو كانت له داران كل واحدة منهما بحيث يجوز الخروج إليها لو انفردت، وإحداهما أقرب، ففي جواز الخروج إلى الأخرى وَجْهَان:
أحدهما: وبه قال ابن أبي هريرة: يجوز كما لو انفردت. وأصحهما: لا يجوز للاستغناء عنه، ولا يشترط لجواز الخُروج إرْهَاق الطبيعة، وشدة الحَاجَة، وإذا خرج لم يكلف الإسراع، بل يمشي على سَجِيَّتِهِ المَعْهُودة (¬1). الثَّالثة: لا يجوز الخروج لعيادة المريض، ولا لصلاة الجنازة (¬2)، ولو خرج لِقَضَاءِ الحَاجَةِ فعاد في الطريق مَرِيضاً نظر إن لم يقف ولا ازَّوَرَّ عن الطريق، بل اقتصر على السَّلاَم والسؤال فلا بأس، والوقف وأطال بطل اعْتكَافُه، وإن لم يطلُ ففيه وجهان مَنْقُولاَنِ في "التتمة" و"العدة"، والأصح أنه لا بأس به، وادعى الإمام إجماع الأصْحَاب عليه، ولو ازور عن الطريق قليلاً فعاده فقد جعلاه على هذين الوجهين، والأصح المَنْعُ لما فيه من إنشاء سَيْرٍ لُغَيْرِ قَضَاءِ الحَاجَةِ، وقد روي "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ لاَ يَسْأَلُ عَلَى الْمَرِيضِ إِلاَّ مَارّاً في اعْتِكَافِهِ، وَلاَ تُعَرِّجُ عليه" (¬3) وإذا كان المريض فِي بَيْتٍ من الدَّارِ التي يدخلها لقضاء الحاجة فالعدول لعيادته قليل، وإن كان في دار أخرى فكثير، ولو خرج لقضاء الحَاجة فَصَلَّى في الطريق على جنازة فلا بأس إذا لم ينتظرها ولا ازور عن الطريق، وحكى صاحب "التتمة" فيه الوجهين؛ لأن في صَلاَة الجنازة يفتقر إلى الوَقْفَة. وقال في "التهذيب": إن كانت متعينة فلا بأس، إلا فوجهان، والأظهر الأَوَّلُ، وجعل الإمام قَدْرَ صَلاَةِ الجنازة حَدَّ الوقفة اليسيرة، وتابعه المُصَنِّف واحتملاه لجميع الأغراض. منها: أن يأكل لُقَماً إذا فرعنا على أنه لا يجوز الخُروجُ لِلأَكْلِ، لكن لو جامع في مروره بأن كان في هَوْدَج أو فرض ذلك في وقفة يسيرة ففي بطلان اعتكافه وجهان: أصحهما: وهو المذكور في الكتابَ: أنه يبطل، أما إذا قلنا باستمرار الاعتكاف في أوقات الخروج لقضاء الحاجة فظاهر، وأما إذا لم نقل به فلأن الجماع عظيم الوقع، فالاشتغال به أشد إعْرَاضَاً عَنِ العِبَادَةِ من إطالة الوقفة في عيادة مريض. والثاني: أنه لا يبطل، لأنه غير مُعْتَكِفٍ في تلك الحالة ولم يصرف إليه زماناً، وإذا فرغ من قضاء الحَاجَةِ واستنجى لم يلزمه نَقْل الوضوء إلى المَسْجِدِ، بل يقع ذلك تابعاً، بخلاف ما إذا احْتَاج إلى الوضوء من غير قضاء الحاجة، كما لو قام من النَّوْمِ لا ¬
يجوز له الخروج ليتوضأ في أظهَر الوجهين إذا أمكن الوضوء في المَسْجدُ. وإذا وقفت على ما ذكرنا أعلمت قوله (من غير تَعْرِيج) بالواو والتعريج هو الوقوف، وكذا قوله: (ولا بأس بصلاة الجنازة) وقوله: (وكذا كل وقفة) وقوله: في مسألة الجماع: (انقطع التتابع). قال الغزالي: (الرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ) الخُرُوجُ بِعُذْرِ الحَيْضِ غَيْرُ قَاطِعٍ للتَّتَابُعِ إِلاَّ إِذَا قَصُرَتْ مُدَّةُ الاعْتِكَافِ وَأَمْكَنَ إيدَاعُهَا في أَيَّامِ الطُّهْرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: إذا حاضت المعتكفة لَزِمَهَا الخُروجُ، وهل ينقطع تَتَابع اعتكافها؟ من كانت المُدَّة المنذورة طويلة لا تخلو عن الحَيْضِ غَالِباً، فلا ينقطع، بل تبنى إِذَا طهرت كما لو حاضت في صَوْمِ الشَّهْرَينِ عن الكفارة، وإن كانت بحيث تخلو عن الحَيْضِ فقد قال الإمام وصاحب الكتاب: فيه وجهان، وقال آخرون قولان: أحدهما: أنه لا ينقطع به التَّتابع، لأن جنس الحَيْضِ متكرر بالجبلة، فلا يؤثر في التَّتابع كقضاء الحاجة. وأظهرهما: ينقطع، لأنها بسبيل من أن تشرع كما طهرت، وتودع الاعتكاف زمان الظهر، واستبعد بعض الشارحين عبارة الوجهين من صاحب الكتاب، لأنه ذكر في صورة الرتبة الثالثة قولين مرتبين على الحَيْضِ، ولا ينتظم ترتيب القولين على الوجهين، ولا شك أنه لو أطلق عبارة القولين لكان أحسن، لكن ينبغي أن يعلم أن الأمر فيه هَيِّنٌ من جهة المعنى من وجهين: أحدهما: أن الذي يستحق الاستبعاد ترتيب القولين المَنْصُوصَيْنِ على وَجْهَي الأَصْحَابِ، والقولان في تلك الصورة ليسا منصوصين، بل هما حَاصِلان من تَصَرُّف الأَصْحَاب كما سَتَعْرِفه، والوجهان في الحَيْضِ ليسا على معنى افتراق الأَصْحَابِ واختلافهم، وإنما هما مأخوذان من القولين في أَنه هل يبطل التّتابع بالحَيْضِ في صَوْمِ كَفَّارَةِ اليَمِينِ إذا شرطنا فيه التتابع؟ ومثل هذا الخلاف قد يسمى قولاً، ويسمى وَجْهاً، فالحاصل ترتيب قولين من تصرف الأصحاب على قولين مثلهما. والثاني: أن الذي يُسْتَبْعَدُ هو بناء القولين على الوجهين، فإن المبنى عليه ينبغي أن يكون أَقْدَمَ من المبنى، أما الترتيب فلا يعني به إلا أن أحد طَرَفِي الخِلاَفِ في صورةٍ أولى منه في صُورَةٍ أخرى، ولا بعد في أن يكون قول الانقطاع في تلك الصورة أولى من وجه الانقطاع في سورة الحَيْضِ، والمذكور في الكتاب هو الترتيب دُونَ البِنَاء. قال الغزالي: (الرّتْبَةُ الثَّالِثَةُ الخُرُوجِ بالمَرَضِ أَوْ بِالنِّسْيَانِ أَوْ بِالإكْرَاهِ أَوْ لأَدَاءِ شَهَادَةٍ مُتَعَيِّنَةِ أَوْ تَمْكِينٍ مِنْ حَدٍّ أَوْ عِدَّةٍ فَفِيهِ قَوْلان مُرَتَبَان على الحَيْضِ، وَأَوْلى بِأنْ يَنْقَطِعَ التَّتابُعُ. قال الرافعي: في هذه الرتبة صور.
إحداها: المرض العارض للمعتكف على ثلاثة أضرب: أحدها: المرض الخَفِيف الذي لا يشق معه المُقَامُ في المَسْجِد، كالصُّداع، والحُمَّى الخفيفة، فلا يجوز الخروج مِنَ المَسْجِد ولو خرج انقطع التتابع. الثاني: المرض الذي يشق معه المقام في المَسْجد لحاجته إلى الفراش والخَادِم، وتردد الطَّبيبُ يُبِيح الخُروجَ، وإذا خرج فهل ينقطع التتابع؟ فيه قولان: أظهرهما: لا، لِدعاء الحَاجَةِ إليه، كالخروج لقضاء الحاجة. والثاني: نعم، لأن المرض لا يغلب عروضه بخلاف قَضَاء الحَاجَةِ والحيض، فإنه يتكررَ غالِباً، فيجعل كالمستثنى لَفْظاً، والقول الأَوَّلُ منصوصٌ عليه في "المختصر"، والثاني مُخَرَّج، خَرَّجُوِه من أحد القولين، في أن المَرَضَ يقطع تتابع الصَّوْمِ في الكَفَّارة. الثالث: المرض الذي يخاف منه تَلْوَيث المَسْجِد، كانطلاق البَطْن، وإدْرَارِ البَوْلِ، والجرح السَّائِلِ، فالمشهور أن الخروج لَهُ لا يقطع التَّتَابع لاضطراره إليه، كالخروج لِلْحَيْضِ، وحكى الإمام عن بعض الأصْحَاب طرد القولين فيه. وإذا تأملت ذلك عرفت أن لفظ الكتاب وإن كان مطلقاً في حكاية الخلاف، فالضَّرْب الأول غَيْر مُراد منه، والثاني: مراد، وفي الثَّالِث الطَّرِيقان فهو على المَشْهُور غير مُرَاد أيضاً. (الثانية): لو خرج ناسياً هَلْ ينقطع تَتَابُعُه؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، لأن اللبس مأمور به، والنِّسيان ليس بعذر في تَرْكِ المَأْمُورَاتِ. وأصحهما: لا، كما لا ينقطع بالجِمَاع نَاسِيًا، وكما لاَ يَبْطُل الصَّوْمُ بالأَكْلِ والجِمَاعِ نَاسِياً، واقتصر كثيرٌ من الأئمة على إيراد هذا الثَّاني، ومن أورد خلافاً عَبَّر عنه بالوجهين، ولفظ القولين في هذه الصُّورة مَحْمُول على أن الخِلاَف مُخَرَّجُ من الخِلاَف في المرض، ومثل ذلك قد يسمى قولاً على ما سبق، وفي عبارة الإمام ما يبين ذَلِكَ فإن قلنا بالوجه الثاني، فَذَلِكَ فيما إذَا تَذَكَّرَ عَلَى القُرْب، أما إذا طَالَ الزَّمَانُ، فقد قالَ في "التتمة": فيه وجهان كالوجهين في بُطْلاَن الصَّوْمِ بالأكْلِ الكَثيرِ نَاسِياً. الثالثة: لو أكره حتى خرج ففيه قَوْلاَن كالقَوْلَيْنِ فِيمَا لَوْ أكره وَهُوَ صَائِم، والذي أجاب به الجُمْهُور أنه لا ينقطع التتابع، ولو أخرجه السُّلْطَان ظُلْمًا في مصَادَرَةٍ وغيرها، أو خاف من ظَالِم فخرج واستتر فعلى القولين، لأنه لم يخرج بِدَاعية نَفْسِهِ، ولو أخرج لَحَقِّ توجه عليه وهو يماطل به بطل اعتكافه؛ لأن التَّقْصِير منه، ولو أخرج لإقامة حَدٍّ عليه فسيأتي، ولو حمل فأخرج لم يبطل اعتكافه؛ كما لو أوجر الصَّائم الطعام لا يَبْطُل صَوْمُه، ورأى الإمَامُ تَخْرِيجَه عَلَى الخلاف لحصول المفارقة عَنِ المَسْجِدِ بِعَارِضِ غير غالب.
الرَّابعة: إذا دُعيِ لأداء شَهَادَةِ فَخَرجَ لَهَا، نظر إن لم يكن متعيناً لأدائها انقطع تتابع اعتكافه، سواء كان مُتَعَيِّناً عند التَّحَمُّل، أو لم يكن، لأنه ليس له الخروج والحالة هذه لحصول الاستغناء عنه، وإن كان متعيناً لم يخل إما أن يكون متبرعاً عند التحمل أو يكون متعيناً، فإن كان متبرعاً فقد نَصَّ في "المختصر" على أنه ينقطع اعتكافه، وفي المَرْأَة إذا خَرَجَتْ لِلْعَدَّة أنه لا ينقطع بل تبنى، واختلف الأصحاب على طريقين. أحدهما: وبه قال ابن سَريج: أنهما على قولين بالنقل والتخريج، ولا يخفى تَوجِيههما مِمَّا سَبَقَ في الصوّر، وبعضهم يُطْلِقُ في المَسْألةِ وجهين بدَلاً عن القولين، والثاني وبه قال أبو إِسْحَاقَ: تقرير النَّصَّيْنِ. والفرق أن التَّحَمُّل إنما يكون للأداء، فإذا تحمل باختياره فَقَدْ ألجأ نفسه إلى الأداء، والنكاح لا يتأثر للعِدَّة على أن المرأة إلى النِّكَاحِ أَحْوَج منه إلى التَّحَمُّل، لتعلق مَصَالِحَها به، وظاهر المَذْهَبِ في كُلِّ واحدة من الصورتين ما نَصَّ عليه، وإن كَانَ متعيناً عند التحمل أيضاً فهو مرتب على مَا إِذَا لم يكن متعيناً، إن قلنا: لا ينقطع ثم هاهنا أولى، وإن قلنا: ينقطع فهاهنا وجهان، والفرق أنه لم يتحمل بِدَاعِيَتِهِ واختياره. الخامسة: لو أخرج لإقامة حد عليه، نظر إن ثبت بإقراره انقطع اعتكافه، وإن ثبت ببينه فحاصل ما ذكره الأئمة فيه طَرِيقان كالطريقين فيما لو خَرَجَ لأداء الشَّهَادَةِ، إلا أن المنقول عن النَّصِّ هاهنا أنه لا ينقطع، واقتصر على الجَواب عليه كثير من أَئِمتنا العراقيين، والفرق بينه وبين مسألة الشَّهَادة أن الشهادة إنما تتحمل لتؤدي، فاختياره للتَّحمل اختيار للأداء، والجريمة الموجبة للحد لا يرتكبها المُجْرِم ليقام عليه الحد، فلم يجعل اختياره للسبب اختيارًا له، السادسة: لو لزم المعتكفة في خلال اعتكافها عدة بطلاق، أو وفاة فعليها الخروج لتعتد في مَسْكَنِهَا، وإذا خرجت فيبطل اعتكافها، أم تبنى بعد انقضاء العدة؟ فيه الطريقان المذكوران في مسألة الشهادة، والأَصحُّ البِنَاء. وإن كان اعتكافها بإذن الزَّوج، وقد عَيَّنَ مُدَّةً فهل يلزمها العَوْدُ إلى المَسْكَنِ عِنْدَ الطَّلاَقِ، أو في الوفاة قبل اسْتِكْمَالِهَا؟ فيه قولان يذكران في العدة فإن قلنا: لا، فخرجت بَطَل اعتكافها بِلاَ خِلاَف، هذا بيان الصور التي نظمها في سْلِك الواحد، ويجوز أن يعلم قوله: (فقولان) بالواو؛ لأنه أجاب فيهما جميعاً على طريقة طرد الخلاف، وفي الصور الثلاث الأخيرة طريقة نافية للخلاف على ما بَيَّنَاهَا. وأما ما ذكر من ترتيب الخِلاَف في هذه الصُّورة على الخِلاَف في الحَيْض، أولوية الانقطاع فوجهه أن الحَيْضَ متكرر بحكم الجبلة شبيه بِقَضَاء الحَاجَةِ، وهذه الأُمُورُ عَارِضَةٌ لا تنتظم، ورتب الإمام مع ذلك بعض هذه الصور على بعض، فجعل صورة
الشَّهادة مرتبة على المرض، وهي أولى بالانقطاع لسبق التَّحَمُّل منه، وصورة الإخراج للحد مُرَتَّبَةٌ على الشَّهادة، وهي أولى بالانقطاع لِكَوْنِ السَّبَبِ الجَالِبِ للإخراج مَعْصِية -والله أعلم-. ويقرب من هذه المَسَائِل صورتان. إحداهما: يجب الخُروُج لِصَلاَةِ الجُمُعَة وإذا خرج هل يبطل اعتكافه؟ في قولان: ويقال وجهان: إحداهما: وبه قال أبو حنيفة: لا، لأنه لاَ بُدَّ من ذلك كَقَضَاءِ الحَاجَةِ. وأصَحُّهُمَا: وبه قال مالك: نَعْم، لسهولة الاحتراز عن هذا الخروج بأن يعتكف في الجَامِع، وعلى هذا لو كان اعتكافه المنذور أقل من أسبوع ابتداء من أول الأسبوع أَيْنَ شاء من المَسَاجِدِ، أو في الجامع متى شاء، وإن كان أكثر من أسبوع، فيجب أن يبتدئ به في الجَامِع، حتى لا يحتاج إلى الخروج للجُمُعَةِ، فإن كان قد عين غير الجامع، وقلنا بالتعين فلا يخرج عن نَذْرِهِ إلا أن يمرض فتسقط عنه الجمعة، أو بأن يتركها عاصياً ويدوم على اعتكافه. الثانية: إذا أحرم المعتكف نظر أن أمكنه إتمام الاعتكاف ثم الخروج لزمه ذلك، وإن خاف فوت الحَجِّ خرج إلى الحَجِّ وبطل اعتِكَافهُ، فإذا فرغ استأنف ووجهه بين. قال الغزالي: ثُمَّ مَهْمَا لَمْ يَنقَطِعْ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الأَوْقَاتِ المَصْرُوفةِ إِلَى هَذِهِ الأَعْذَارِ، وفي لُزُومِ تَجْدِيد النِّيَّةِ عنْدَ العَوْدِ خِلاَفٌ. قال الرافعي: كل ما يقطع التَّتابع يجوج إلى الاستئناف بنية مجددة، وكل عذر لم نجعله قَاطِعاً فكما فرغ منه يجب عليه أن يعود ويبنى، فلو أخر انقطع التتابع وَتَعذَّرَ البِنَاء، ولا بد من قَضَاءِ الأَوقَات المَصْرُوفة إلى ما عَدَا قضَاءِ الحَاجَةِ من الأَعْذَارِ فإنه غير معتكف فيها، وإنما لم يجب قضاء أوقات قضاء الحَاجَةِ لما قدمناه، وهل يجب تجديد النية عند العود. أما إذا خرج لقضاء حاجة، فقد مَرَّ وفي معناه ما لا بُدَّ منه كالخروج للاغتسال، وألحق به الأذان إذا جَوَّزنا الخُرُوجَ لَهُ أمَّاله مِنْهُ بُدُّ ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب، لأنه خرج عن العبادة بما عرض. وأظهرهما: لا؛ لشمول النيّة جَمِيع المُدَّة. وأجرى الشَّيْخُ أَبُو عَلِيّ الخلاف فيما إذا خَرَج لغرض استثناه ثم عاد. ولو عين مدة ولم يتعرض للتتابع ثم جَامَعَ أو خرج من غير عُذْرٍ فسد اعتكافه ثم عاد ليتم الباقي، فقد أجرى الخِلاف في وجوب التِّجْدِيد.
قال الإمام: لكن المذهب هاهنا وجوب التَّجْدِيدِ (¬1)، لأن هذه عبادة مستقلة مُنْفَصِلة عما مضى، فإن خطر ببالك أن القول في تجديد النّية قد تعرض له هاهنا وفي ركن النية، وذكره في الرتبة الأولى أيضاً، وتوهمت في كلامه تِكْرارٌ فنذكر ما بينا أنه أراد بما ذكره في ركن النية الكلام في الاعتكاف المتطوع به، واعرف أن المذكور هاهنا مخصوص بأعْذَارِ الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ في الاعْتِكَافِ المَنْذُورِ بِشَرْطِ التَّتَابُع، وَالْمَذْكُورُ فِي الرتبة الأولى مَخْصُوصٌ بقضاء الحَاجَةِ في هذا النَّوعِ من الاعْتِكَافِ، فإذاً لا تِكْرَار. نعم، لو ذكرها مجموعة في موضع وَاحدٍ لاستفاد به اختصاراً، وكان الذِّهْنُ أضبط لها -والله أعلم-. ¬
كتاب الحج
كِتَابُ الْحَجِّ (¬1) قال الغزالي: وَلاَ يَجِبُ فِي العُمْرِ إلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالنَّظَرُ فِي المُقَدِّمَاتِ وَالمَقَاصِدِ وَاللَّوَاحِقِ القِسْمُ الأَوَّلُ فِي المُقَدِّمَاتِ وَهِيَ الشَّرَائِطُ وَالمَوَاقِيتُ. قال الرافعي: قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬2) وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بَنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ" (¬3) الحديث. ولا يجب الحَجُّ بأصل الشّرْع في العمر إلا مرة واحدة؛ لما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه- قال: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ الحَجّ"، فَقَامَ الأَقْرعُ بْنُ حَابِس فَقَالَ: أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: "لَوْ قُلْتَهَا لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَعْلَمُوا بِهَا، الْحَجُّ مَرَّةٌ فَمَنْ زَادَ فَتَطَوّعٌ" (¬4). وقد يجب أكثر من مرة واحدة بعارض كالنَّذْر والقضاء؛ وكما أنا نوجب على قول: الإحرام بحج أو عمرة لدخول مكَة على ما سيأتي. وليس من العوارض الموجبة الرّدة، والإسلام بعدها، فمن حَجَّ ثم ارْتَدَّ ثم عاد إلى الإسلام لم يلزمه الحج، خلافاً ¬
لأبي حنيفة. ومأخذ الخلاف أن الرِّدَّة عنده مُحْبِطَةٌ لِلْعمل، وعندنا إنما تحبطه بِشَرط أن يموت عَلَيْها، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} (¬1) الآية. وساعد أحمد أبا حنيفة -رحمه الله- في المسألة، ولكن لا من جهة هذا المأخذ، ثم إن المصنف حصر مقصود الكتاب في ثلاثة أقسام: أولها: المقدمات. وثانيها: المقاصد. وثالثها: اللّواحق والخواتم. وفي القسم الأول مقدمتان: إحداهما: في الشَّرَائط والأخرى في المَوَاقيت. واعلم أنه جعل الميقات على قسمين زَمَاني، ومكاني، ولا شَكَّ أن الميقات الزماني من شرائط صحَّة الحج، فالوجه حمل الشرائط وإن أطلقها على ما سوى الوَقْت، لِئَلاَّ يدخل شيء من أحدى المقدمتين في الأخرى -والله أعلم-. قال الغزالي: القول الأول: الشَّرَائِط وَلاَ يُشْتَرطُ لِصِحَّةِ الحَجِّ إِلاَّ الْإِسْلاَمُ، إِذْ يَجُوزِ لِلْوَليِّ أَنْ يَحْرِمَ (ح) عَنِ الصَّبِيِّ وَيحِجَّ بِهِ وَلاَ يُشْتَرطُ لِصِحَّةِ المُبَاشَرَةِ إِلاَّ الإسْلاَمُ والتَّمْيِيزُ، فَإِنَّ المُمَيِّز لَوْ حَج بِإذْنِ الوَليِّ جَازَ، وَكَذَا العَبْدُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ لِوُقُوعِهِ عَنْ حَجَّةِ الإسْلاَمِ إِلاَّ الْإِسْلاَمُ وَالحُرِّيَّةُ وَالتَّكْلِيفُ، وَيَشْتَرِطُ لِوُجُوبِ حَجِّ الإسْلاَمِ هَذِهِ الشَّرَائِطُ مَعَ الْإِسْتِطَاعَةِ. قال الرافعي: الشَّخْص إما أن يجب عليه الحَجُّ، أو لا يجب. ومن يجب عليه إما يجزئه المَأتِيُّ به عن حَجَّة الإسلام، حتى لا يجب عليه بعد ذَلِك بحَالٍ أو لا يجزئه. ومن لا يجزئه إما أن تَصِح مباشرته للحَجِّ أو لا تَصِح. ومن لا تَصِح مباشرته إما أن يَصِح له الحج أو لا يصح. فهاهنا أربعة أحكام: أحدها: مطلق صِحَّة الحَجِّ له. وثانيها: صِحَّتُهُ له مباشرة. وثالثها: وقوعه عن حَجَة الإسلام. ورابعها: وجوب حَجَّة الإسلام. ¬
وشروط هذه الأحكام مختلفة أما: الصحّة المطلقة فلها شَوْطٌ واحد وهو الإسلام. فلا يصح الحج للكافر، كالصوم والصَّلاة وغيرهما. ولا يشترط فيها التكليف؛ بل يجوز للولي أن يُحْرِمَ عن الصَّبِيّ الذي لا يُميِّز (¬1)، وعن المجنون وأعلم قوله: (إذ يجوز للولي) بالحاء؛ لأن أبا حنيفة -رحمه الله- لا يُجَوِّزُه. وكذا قوله: (إلا الإسلام) لأنه لا يَصِح الحَجَّ لصبي، وسيأتي جميع ذلك في الفَصْل الحادي عشر من باب أعمال الحج وأما: صِحَّة المباشرة فلها شَرْطٌ زائد على الإسلام وهو التَّمْييز، فلا يَصِحّ مباشرةُ المجنون والصَّبِيّ الذي لا يُمَيِّز، كَسَائِر العبادات. ويصح من الصبي المميز أن يحرم ويحج، ثم القول في أنه يستقل به أو يفتقر إلى إِذْن الولي موضعه الفصل المحال عليه. وقوله: (بإذن الولي) هذا التقييد دخيل في هذا الموضع فإن المقصود هاهنا صحة مباشرته في الجملة. ولا يشترط فيها الحرية، بل يَصِح من العبد مباشرة الحج كسائر العبادات. وأما وقوعه عن حجة الإسلام فله شَرْطان زائدان: أحدهما: البلوغ. والثاني: الجريمة، والدليل على اعتبارهما، ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ، ثُمَّ بَلَغَ، فَعَلَيْهِ حَجَّة الْإِسْلاَمِ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ ثُمَّ عَتَقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الإسْلاَمِ" (¬2). والمعنى فيه أن الحَجَّ عبادة عُمْرٍ لا تتكرر، فاعتبر وقوعها في حال الكمال. وإذا جمعت شرائط هذا الحكم قلت: هي أربع: الإسلام. والتمييز. والبلوغ. والحرية. فإن اختصرت قلت هي ثلاث: الإسلام والتكليف والحرية. على ما ذكر في الكتاب. ولو تكلف الفقير الحَجَّ وقع حَجُّه عن الفرض كما لو تحمل الغني خطر ¬
الطريق وحج. وكما لو تحمل المريض المشقة وحضر الجمعة. وأما وجوب حجة الإسلام فيعتبر فيه هذه الشرائط، فلا يخاطب بالحَجِّ كافرٌ في كُفْرِهِ وَلاَ عَبْدٌ، ولا صَبِيُّ، ولا مجنون. وله شرط زائد وهو الاستطاعة، قال الله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، وكلام الكتاب من هذا الموضع إلى رأس المقدمة الثانية في المواقيت يتعلق بهذا الشَّرْط. قال الغزالي: وَالاستطاعة نَوْعَانِ: الأَوَّلُ المُبَاشَرَةُ وَالقُدْرَةُ عَلَيْهَا تَتَعَلَّقُ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَالطَّرِيقِ وَالْبَدَنِ (أَمَا الرَّاحِلَةُ) فَلاَ بُدَّ مِنْهَا وَلاَ يَجِبُ (ح م) الحَجُّ عَلَى القَوِيِّ عَلَى المَشَي إِلاَّ فِيمَا دُونَ مَسَافَةِ القَصْرِ، وَلاَ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَمْسِكْ عَلَى الرَّاحِلَةِ مَا لَمْ يَجِدْ مَحْمَلاً أَوْ شِقَّ مَحْمَلٍ مَعَ شَرِيكٍ، فَإنْ لَمْ يَجِدِ الشَّرِيكَ لَمْ يَلْزَمْهُ. قال الرافعي: استطاعة الحج نوعان: استطاعة مباشرته بنفسه، واستطاعة تحصيله بغيره. النوع الأول: استطاعة المباشرة، وتتعلق بأمور أربعة: أحدها: الراحلة (¬1)، والنَّاس قسمان: أحدهما: من بينه وبين مكَّة مسافة القصر فلا يلزمه الحَجّ، إلا إذا وجد رَاحِلَةً، سواء كان قادراً على المَشْي أو لم يكن، لكن القادر على المَشْي يُسْتَحِبُّ له أن لا يترك الحَجَّ، وفي كون الحج راكَباً أو ماشياً أفضل اختلاف قول قد تعرض له صاحب الكتاب في النذور (¬2). وقال مالك: القادر على المَشْي يَحُجُّ مَاشِياً لنا ما روي: "أَنَّهُ سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ تَفْسيِرِ السَّبيلِ فَقَالَ: زَادٌ وَرَاحِلَةٌ" (¬3)، إذا عُرِف ذلك فينظر إن كان يَسْتَمْسك عَلى الرَّاحِلة من غير مَحْمَلِ ولا يلحقه ضَرَرٌ ولا مشَقَّة شديدة، فلا يعتبر في حقه إلا وُجْدَان الراحلة، وإلا فيعتبر مع وجدان الرَّاحِلة وُجدان المَحْمَل أيضاً. قال في "الشامل" وعلى هذا لو كان يلحقه مشقة غَلِيظَة في ركوب المحمل اعتبر في حقه الكنيسة (¬4)، وذكر المُحَامِلِيُّ وغيره من العراقيين: أن في حق المرأة يعتبر ¬
المحمل، وأطلقوا القول فيه؛ لأنه أسْتَر لها، وأليق بحالها، ثم العادة جارية بركوب اثنين في المحمل، فإن وجد مؤنة مَحْمل أو شِقّ محمل وَوَجَدَ شَرِيكاً يجلس في الجانب الآخر لَزِمه الحَجّ، وإن لم يجد الشَّرِيك فلا. أما إذا لم يجد إلا مؤنة فظاهر، وأما إذا وجد مؤنة المحمل بتمامه فقد علله في "الوسيط" بأن بذل الزيادة خسران لا مقابل له، أي هو مؤنة مُجْحِفة يَعْسُر احتمالها وكان لا يبعد تخريجه على الخلاف في لزوم أجرة البَذْرَقة (¬1)، وفي كلام الإمام إشارة إليه. والقسم الثاني: من ليس بينه وبين مُكَّة مسافة القَصْر، بأن كان من أهل مكة، أو كان بينه وبينها دون مَسَافَةِ القَصْر، فإن كان قَوِيّاً على المشي لَزِمه الحَجُّ، ولم يعتبر في حقه وجدان الرَّاحِلَة. وإن كان ضعيفاً لا يقوى على المشي أو يناله منه ضَرَرٌ ظاهر فَلاَ بُدَّ من الرَّاحِلَة، ومن المحمل أيضاً إن لم يمكنه الركوب دونه، كما في حَقِّ البعيد. ووجدتُ لبعض المتأخرين من أئمة طبرستان تَخْرِيجَ وَجْهٍ في أن القريب كالبعيد مُطْلقاً، والمشهور الفرق، ولا يؤمر بالزَّحْفِ بحَالٍ وإن أمكن، وحيث اعتبرنا وجدان الراحلة والمحمل فالمراد منه أن يملكهما، أوَ يَتَمَكَّن من تحصيلهما مِلْكاً أو استئجاراً بثمن المثل، أو أُجْرَة المِثْلِ. واعلم: أنه يشترط أن يكون ما يصرفه إلى الراحلة مع المَحْمَل أو دونه فَاضِلاً عما يشترط كون الزَّادِ فاضلاً عنه، وسيأتي ذلك. وقوله: (أما الراحلة فلا بد منها) قد عرفت أنه غير مُجْرى على إطلاقه لوجوب الحج على القريب المتمكن من المشي. وقوله: (ولا على من لا يستمسك على الراحلة) أي من غير محمل ونحوه لا مطلقاً، بخلاف قوله بعد هذا: (أما البدن فلا يعتبر فيه إلا قوة يستمسك بها على الراحلة) فإن المراد هناك الاسْتِمْسَاك عليها مُطْلقاً. وقوله: (ما لم يجد محملاً، أو شِقّ محمل مع شريك) الوجه صرف قوله: (مع شريك) إلى حالتي وجدان المَحْمَل ووجدان الشّق؛ لأنه لو خصص بما إذا وجد الشق لكان ذلك حكماً باللزوم فيما إذا وجد مَؤْنَة المحمل مطلقاً، وهو خلاف ما نقلناه في "الوسيط". قال الغزالي: (وَأَمَّا الزَّادُ) فَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ مَا يَبْلِغُهُ إلَى الحَجِّ فَاضِلاً عَنْ حَاجَتِهِ اعني بِهِ المَسْكَنَ وَالَعَبْدَ الَّذِي يَخْدُمُهُ وَدَسْتَ ثَوْبِهِ وَنَفَقَةَ أَهْلِهِ إِلَى الإِيَابِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْلٌ وَلاَ مَسْكَنٌ فَفِي اشْتِرَاطِ نَفَقَةِ الإِيَابِ إِلَى الوَطَنِ وَجْهَانِ، وَلَوِ احْتَاجَ إِلَى نِكَاح لِخَوْفِ العَنَتِ فَصَرْفُ المَالِ إِلَيْهِ أَهَمُّ، وَفِي صَرْفِ رَأْسٍ مَالِهِ الَّذِي لاَ يَقْدِرُ عَلَى التِّجَارَةِ إِلاَّ بِهِ ¬
إِلَى الحَجِّ وَجْهَانِ، وَمَنْ لاَ نَفَقَةَ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ وَقَدَرَ عَلَى الكَسْبِ لَمْ يَلْزِمْهُ الخُرُوجُ لِلْمَشَقَّةِ فِي الجَمْعِ بَيْنَ الكَسْبِ وَالسَّفَرِ. قال الرافعي: المتعلق الثاني: الزاد. ويشترط لوجوب الحج أن يجد الزَّادَ وأوعيَته، وما يحتاج إليه في السَّفَرِ إن كان له أهلٌ وعشيرة في مدة ذهابه وإيابه إلى بلدة لأن لم يكونوا ففي اشتراطه لمدة الإيَاب وجهان: أحدهما: لا يشترط؛ لأن البلاد في حق مثل هذا الشَّخْصِ متقاربة. وأصحهما: أنه يشترط؛ لما في الغربة من الوَحْشة ونزاع النفوس إلى الأوطان، ويجري الوجهان في اعتبار الرَّاحِلة للإياب، وهل يخصص الوجهان بما إذا لم يملك ببلدته مَسْكَناً أم لا؟ أبدى الإمام -رحمه الله- فيه احتمالين ورأى الأظهر التَّخْصِيص. وأغرب أبو عبد الله الحَنَّاطِيَّ فنقل وجهاً في أن مدة الإياب لا تعتبر في حَقِّ ذِي الأَهْلِ والعَشِيرَة أيضاً. ثُمَّ في الفَصْلِ مَسَائِل: إحداها: يشترط أن يكون الزَّاد والراحلةُ فاضلاً عن نفقة من تلزمه نفقتهم وكسوتُهم مدةَ ذَهَابِهِ ورجوعه. الثانية: في اشتراط كونهما فاضلين عن المَسْكَن والعبد لمن يحتاج إلى خدمته لَزَمَانَتِهِ، أو لمنصبه، وجهان: أظهرهما -عند الأكثرين وهو المذكور في الكتاب-: الاشتراط، فيبقى عليه مسكنه وعبده كما يبقيان عليه في الكفارة (¬1)، ولأنه متعلّق حاجته المهمة، فأشبه دست (¬2) ثوب يليق بمنصبه، وعلى هذا لو كان معه نقد جاز صرفه إليهما. ¬
والثاني -وبه قال مالك-: لا يشترط، بل عليه بيع المسكن والخادم، والاكتفاء بالاكتراء؛ لأن الاستطاعة مفسرة في الخبر بالزَّادِ والرَّاحِلَة، وهو واجدٌ لهما، وهذا الوجه أصَحُّ عند صاحب "التتمة"، وبه أجاب أبو القاسم الكَرَخِي، وحكاه عن نصّه في "الأم" ومن قال به فرق بين الحَجّ والكفارة بأن العتق في الكفارة له بَدَلٌ معدولٌ إليه، والحَجُّ بخلافه، وهذا الخلاف كالخلاف في اعتبارهما في صدقة الفطر وقد مرّ. فإن قلنا بالوجه الأول فذلك فيما إذا كانت الدَّارُ مستغرقةً بحاجته وكانت سكنى مثله والعبدُ عبدٌ مثله، فأما إذا أمكن بيع بعض الدار وَوفَّى ثمنه بمؤنة الحَجّ، أو كانا نفيسين لا يليقان بمثله ولو أبدلهما لَوَفَّى التفاوت بمؤنة الحج لزمه ذلك، هكذا أطلقوه هاهنا، لكن في لزوم بيع الدار والعبد النفيسين المألوفين في الكفارة وجهان، وقد أوردهما في الكتاب، ولا بد من عودهما -والله أعلم (¬1) -. الثالثة: لو كان له رأس مال يَتِّجِر فيه وينفق من ربحه، ولو نَقَص لبطلت تجارتُه أو كان له مُسْتغلاتٌ ترتفعُ منها نفقتُه، فهل يكلفُ بيعُها؟ فيه وجهان: أحدهما -وبه قال أحمد وابن سُرَيْج-: لا، واختاره القاضي أَبُو الطَّيِّبِ لئلا ينسلخ من ذات يده ولا يلتحق بالمساكين. وأصحهما: وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-: نعم، كما يكلف بيعُها في الدَّيْنِ، لأنه فَسَّر الاستطاعة في الخَبِر بالزَادِ، والرَاحِلة، وهو واجدٌ لهما. ويفارق العبد والمَسْكَن لأنه محتاجٌ إليهما في الحال، وليس كذلك ما نحن فيه وإنما يتخذه ذَخِيرةً لِلْمُسْتَقْبَلِ. الرابعة: إذا ملك مالاً فاضلاً عن الوجوه المذكورة لكنه كَانَ محتاجاً إلى أن ينكح خائفاً عن العَنَتِ، فَصَرْفُ المَالِ إلى مُؤَنِ النِّكاح أَهَمُّ مِنْ صَرفِه إلى الحَجِّ، هذه عبارة الجمهور وعلّلُوه بأن حاجة النِّكَاح ناجزة، والحج على التَّراخي، والأسبق إلى الفهم من التقديم الذي أطلقوه أنه لا يجب الحَجَّ والحالة هذه، فيصرف ما يملكه إلى مؤونات النِّكَاح، وقد صَرَّح الإمام بهذا المفهوم، لكن كثيراً من العراقيين وغيرهم قالوا: يجب الحَجُّ على من أراد التَّزَوُّجَ، لكن له أن يؤخره لوجوبه على التَّرَاخِي ثُمَّ إن لم يَخَفِ العَنَتَ، فتقديم الحَجِّ أَفْضَلُ، وإن خافه فَتَقْدِيمُ النكاح أولى (¬2). الخامسة: لو لم يجد مالاً يصرفه إلى الزَّاد لكنه كان كَسُوباً يكتسب مَا يكفيه، وقد ¬
ادخرِ لِأَهْلِهِ النفقةَ فَهَلْ يلزمه الحج تعويلاً على الكسب حكى الإمام عن أصحابنا العراقيين أنه إن كان السَّفَرُ طَوِيلاً لم يلزمه ذلك؛ لأنه قد ينقطع عن الكَسْبِ لِعَارِضٍ، وبتقدير أن لا ينقطع فالجمع بين تَعَبِ الكَسْبِ والسفر تعظم فيه المَشَقَّة. وإن كان قصيراً، نظر إن كان يكتسب في كُلِّ يوم ما يَكْفِيه ولا يفضل عنه لم يلزمه؛ لأنه ينقطع عن كسبه في أيام الحَجِّ فيتضرر وإن كان كسبه في يوم يكفيه لأيام لَزِمه الخروج، قال الإمام: وفيه احتمال كما أن القدرة على الكسب فِي يَوْمِ الفطر لا تجعل كحصول الصاع في مِلْكِه. وقوله في الكتاب: (لم يلزمه الخروج) مُعَلَّمٌ؛ لأن عند مالك يلزمه ذلك، وهكذا قال فيمن أمكنه الحَجّ بالسُّؤَالِ في الطريق، ثم لفظ الكتاب مطلق، وقضية ما نقلناه التقييد. وقوله في أول الفصل: (وأما الزاد فهو أن يملك ما يبلغه إلى الحج) فيه إضمار؛ لأن كونه مالكاً لما يبلغه لا يَصْلُحَ تفسيراً لِلزَّادِ، والمعنى أن القدرة على الزَّادِ هي أن يملك ما يبلغه. وقوله: (نفقة أهله إلى الإياب) أي إن كان له أَهْلٌ، والمراد من الأهْلِ هاهنا من يلزمه نفقته لا غير، وفي قوله: (فإن لم يكن له أهل) لا يمكن الحمل على هؤلاء فَحَسْبِ، إذ ليس ذلك موضع الوجهين، وإنما الوجهان فيما إذا لم يكن لَهُ عشيرة أصلاً كذا ذَكره الصَّيْدَلاَنِيُّ وغيره؛ لأنه يعظم على الإنسان مفارقة العَشَائر، فلا بد من اعتبار الإياب إذا كان الرَّجُلُ ذَا عِشِيرة. قال الإمام: ولم يتعرض أحد من الأصحاب للمعارف والأصدقاء؛ لأن الاستبدال بهم متيسر. وقوله: (ومسكن) يشعر باعتبار فقدان المَسْكَن في حُصولِ الوَجْهَيْنِ، وهو جواب على أظهر الاحتماليِن عند الإمام، كما مَرّ. واعرف في نظام الكتاب شيئين: أحدهما: أنه لم يصرح باعتبار كونه فاضلاً عن نفقته في نفسه، لكنه مفهوم من كلامه في مَوَاضِعَ. منها: اعتبار كونه فاضلاً عن نفقة الأهل فإنه يفهم اعتبار كونه فاضلاً عن نفقته بطريق الأولى. ومنها: قوله: (ففي اشتراط نفقة الإياب وجهان) ومعلوم أنه في نفقة نفسه لا في نفقة الأَهْلِ، فإنها مجزوم باشتراطها إلى الإِيَاب. والثاني: أنه لم يعتبر كونه فاضلاً عن الدَّيْنِ، ولا بُدَّ منه، أما إذا كان حالاًّ فلأنه نَاجِز والحج عَلَى التَّرَاخِي، وأما إذا كان مؤجلاً فلأنه إذا صرف ما معه إلى الحَجّ، فقد يحل الأجل ولا يجد ما يقضي به الدَّين، وقد تَحْتَرمه المَنِيَّة فتبقى ذمته مرتهنة. وفيه وجه أن المدة إن كانت بحيث تنقضي بعد رجوعه من الحج لزمه الحج، ولو كان مَالُه ديناً في ذمة إنسان نظر إن تيسر تحصيله في الحال بأن كان حالاً ومن عليه
مَلِيءُ مقِر، أو عليه بَيِّنَة فهو كالحَاصِل في يده، وإن لم يتيسر بأن كان من عليه منكراً ولا بينة أو كان مؤجلاً فهو كالمعدوم، وقد يتوصل المحتال بهذا إلى دفع الحَجِّ فيبيع ماله نسيئة إذا قرب وقت الخروج، فإن المال إنما يعتبر وَقْتَ خروج النَّاس. قال الغزالي: (وأمّا الطَّرِيقُ) فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ آمِنًا عَمَّا يَخَافُ فِي النَّفْسِ وَالبُضْعِ وَالمَالِ، فَلَوْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ بَحْرٌ لَزَمَ الرُّكُوبُ عَلَى قَوْلٍ لِغَلَبَةِ السَّلاَمَةَ؛ وَلَمْ يَلْزَمْ فِي قَوْلٍ لِلْخَطَرِ، وَلَزَمَ عَلَى غَيْرِ المُسْتَشْعِرِ فِي قَوْلٍ دُونَ الجَبَانِ، وإذَا لَمْ نُوجِبْ فَلَوْ تَوَسَّطَ البَحْرَ وَاسْتَوَتِ الجِهَاتُ فِي التَّوَجُّهِ إِلَى مَكَّةَ وَالانْصِرَافِ عَنْهَا فَفِي الوُجُوبِ الآنَ وَجْهَانِ، وَاسْتِطَاعَةُ المَرْأَةِ كَاَسْتِطَاعَةِ الرَّجُلِ لَكِنْ إِذَا وَجَدَتْ مَحْرَماً أَوْ نِسْوَةً (ح و) ثَقَاتٍ مَعَ أَمْنِ الطَّرِيقِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى المَرَاصِدِ مَنْ يَطْلُبُ المَالَ لَمْ يَلْزمه الحَجُّ، وَفِي لُزُومِ أَجْرَةِ البذرقةِ وَجْهَانِ، وإذَا لَمْ يَخْرُجُ مَحْرَمُ الْمَرْأَةِ إلاَّ بِأُجْرَةٍ لَزِمَ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْن. قال الرافعي: المتعلق الثالث: الطريق، ويشترط فيه الأمْنُ في ثَلاثَةِ أشياء، قال الإمام: وليس الأمن الذي نذكره قطعيّاً، ولا يشترط أيضاً الأمن الذي يغلب في الحَضَر، بل الأمن في كل مَكَانٍ بحسب مَا يَلِيقُ به. فأحد الأشياء الثَّلاثة: النفس، فلو خاف على نَفْسِهِ مِنْ سَبْعٍ، أو عَدُوٍّ في الطريق لم يلزمه الحج؛ ولهذا جاز التَّحَلُّل عن الإحْرام بمثل ذلك، على ما سيأتي في باب الإحْصَار، وهذا إذا لم يجد طريقاً سواه، فإن وجد طريقاً آخر آمناً لزمه سلوكه، أما إذا كاَن مثل مسألة الأول فظاهر، وأما إذا كان أبعد فكذلك إذا وجد ما يَقْطَعه به كما لو لم يجد طريقاً سواه، وذكر في "التتمة" وجهاً أنه لا يلزمه كما لو احتاج إلى بذل مؤنَةٍ زائدة في ذلك الطَّريق. ولو كان في الطريق بَحْر لَمْ يَخْل إما أن يكون له في البَرِّ طريق أيضاً أو لا يكون، إن كان لزوم الحج، إلا فَقَدْ قَالَ في "المُخْتصر": ولم يبين لي أن أوجب ركوب البحر لِلْحَجِّ ونص في "الأم" على أنه لا يجب، وفي "الإملاء" على أنه إن كان أكثر عيشه في البحر وَجَب، والأصحاب منقسمون إلى مثبتين لِلْخِلاف في المَسْأَلة، وإلى نافين له، وللمثبتين طريقان: أحدهما: أن المسألة على قَوْلَيْنِ مُطلِقاً، حكاه الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُه. أحدهما: أنه يلزم ركوبه للظَّواهِرِ المُطْلَقَةِ في الحَجِّ. والثاني: لا؛ لما فيه من الخَوْفِ والخَطَرِ. وأظهرهما: أنه إن كان الغَالِب منه الهَلاَك إما باعتبار خصوص ذلك البحر، أو
لَهَيَجَانِ الأمواج في بَعضِ الأحوال لم يلزم الرُّكوب، وإن كان الغالب السلامة ففيه قولان: أظهرهما: اللزوم كسلوك طريق البَرِّ عند غلبة السَّلامة. والثاني: المَنْعُ؛ لأن عوارض البَحْرِ عَسِرَةُ الدَّفْعِ، وعلى هذا لو اعتدل الاحتمال فيلحق بِغَلَبَةِ السَّلامة، أو بغلبة الهَلاَكِ تردد كلام الأئمة فيه وأما النافون لِلْخِلاَف فلهم طرق: أحدها: القطع بعَدَم اللزوم، وحمل نصه في "الإملاء" على ما إذا ركبه لِبَعْضِ الأغراض فصار أقرب إلى الشَّطِّ الذي يَلِي مَكَّةَ. والثاني: القطع باللزوم، وهذا قد أشار إليه الحَنَّاطِيُّ وغيره. والثالث: وبه قال أبو إسحاق الإصْطَخْرِي أنه إن كان الغَالِب الهَلاَك لم يلزمه، وإن كان الغَالِب السَّلامة لَزِم، واختلاف النَّص محمول على الحالين، وبهذا قال أَبُو حَنِيفة وأحمد -رحمهما الله-. والرَّابع: تنزيل النَّصَّينِ على حالتين مِنْ وَجْهٍ آخر إن كان الرَّجُل مِمَّنْ اعتاد ركوب البَحْرِ كالمَلاحِين وأهل الجَزَائِرِ لزمه وإلا فلاَ لصعوبته عليه، حكى الطريقة هكذا على هذا العراقيون وطائفة، ونقل الإمَامُ عن بعض الأَصْحَابِ اللزوم عند جُزْأة الراكب وعدَمَه عِنْدَ اسْتِشْعَارِ، وهذا قريب من الطَّريقة الأخيرة، ويشبه أن يكون هُوَ هِيَ، وإنما الاختلاف في العبارة، ثم ذكر أن من الأصحاب من نزل النَّصَّيْنِ على الحَالَتَيْنِ من غير تَرْدِيدِ قَوْلٍ. ومنهم: من قال: "لا يجب على المستشعر"، وفي غيره قولان: ومنهم: من قال: يجب على غير المستشعر وفيه قولان، والصائرون إلى هذين الطريقين من المثبتين للخلاف. واتبع حجة الإسلام -رحمه الله- منقول الإمام -قدَّس الله رُوحَه- واستخرج من الطُّرق التي نقلها ثلاثة أقوال: اللزوم مطلقاً، والمَنْع مطلقاً. والفرق بين الجَبَانِ وغيره، والمستشعر والجبان هاهنا مطلقان بمعنى وَاحِد، ولو قال: على غير المستشعر دون المستشعر أو على غير الجبان دون الجبان لكان أحْسَن وأقربَ إلى الأَفْهَام، وفي لفظ الكتاب ما ينبئك أن الخلاف مخصوص بما إذا كان الغَالِب السَّلامة حيث قال: (لغلبة السلامة) فإن كان الغالبُ الهَلاكَ فالظاهر الجزم بالمنع على ما مر. التفريع إذا قلنا: لا يجب ركوبه فهل يستحب؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لما فيه من التغرير بِالنَّفْسِ. وأظهرهما: نعم كما يستحب ركوبه للغَزْوِ، وقد روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَرْكَبَنَّ
أَحَدٌ البحر إِلاَّ غَازِياً أَوْ مُعْتَمِراً أَوْ حَاجاً" (¬1) والوجهان فيما إذا كان الغالب السَّلامة. أما إذا كان الغالب الهلاكَ فَيَحْرُمُ الركوب، هكذا نَقَله الإمام، وحكى تردداً للأصحاب فيما إذا اعتدل الاحتمال وإذا لم نوجب الركوب، فلو توسط البحر هل له الانصراف أم عليه التمادي؟ فيه وجهان، وقيل: قولان، وهما مبنيان عند الأئمة على القولين في المُحْصَر إذا أحاط العَدُوُّ بهِ من الجَوَانِب هل له التحلل؟ إن قلنا: له التحلل فله الانصراف، وإن قلنا: لا، فلا؛ لَأنه لم يستفد بَه الخَلاَص فليس له الانصراف. قال في "التتمة" وهو المذهب. وموضع الوجهين ما إذا استوى ما بين يديه وما خلفه في غالب الظَّن، فإن كان ما بين يديه أكثر لم يلزمه التَّمَادِي بلا خلاف على القول الذي عليه تفرع، وإن كان أقل لَزِم، وموضعهما عند التَّساوي ما إذا كان له في المنصرف طريق غير البحر، فإن لم يكن فَلَهُ الانصراف بلا خلاف كَيْلاَ يحتاج إلى تحمل زيادة الأخطار، وجميع ما ذكرناه في حَقَّ الرجل. أما المرأة ففيها خلاف مرتب على الرَّجل، وأولى بعدم الوجوب، لأنها أشد تأثراً بالأَهْوَال، ولأنها عورة وربما تَنْكَشِف لِلرِّجَالِ لضيق المكان. وإذا قلنا: بعدم الوجوب فنقول بعدم الاستحباب أيضاً، ومنهم من طرد الخِلاَف، وليست الأنهار العظيمة كجيحون في معنى البحر؛ لأن المقام فيها لا يطول، والخطر فيها لا يعظم، وفيه وجه غريب. والثاني: البضع. والغرض من ذكره بيان حكم المرأة في الطَّريق، قال في الكتاب: (واستطاعة المرأة كاستطاعة الرجل، ولكن إذا وجدت مُحْرَماً إلى آخره) يسوي بين استطاعة الرجل واستطاعة المرأة إلا فيما يَتَعَلَّق بالمَحْرَم، وليس الأمر على هذا الإطلاق لِمَا مَرَّ من قول من اعتبر المَحْمَل فِي حَقِّها مطلقاً، وأيضاً فلما ذكرناه الآن في رُكوب البَحْرِ. وأما ما يتعلق بالمَحْرَم فاعلم أنه: لا يجب عليها الحَجُّ حتى تأمن على نَفْسِها، فإن خرج معها زَوجٌ أو مَحْرَمٌ إما بنسب أو بغيره فذاك، وإلا فننظر إن وجدت نِسْوَةً ثِقَاتٍ يَخْرُجْنَ فعليها أن تَحُجَّ مَعَهُنَّ (¬2)، وهل يشترط أن يكون مع واحدة منهن محرم؟ فيه وجهان: ¬
أحدهما -وبه قال القفال-: نعم، ليكلم الرجال عنهن، ولتستعن التي معها محرم إذا ابتلين بنائبة. وأصحهما: لا؛ لأن النساء إذا كثرن انقطعت الأطماع عنهن وكفين أمرهن، وإن لم تجد نسوة ثِقَاتٍ لم يلزمها الحَجّ، هذا ظاهر المَذْهَبِ، ووراءه قولان: أحدهما: أن عليها أن تخرج مع المرأة الواحدة، يحكى هذا عن "الإملاء". والثاني -واختاره جماعة من الأئمة-: أن عَلَيْهَا أن تخرج وحدها إذا كان الطَّرِيق مَسْلُوكاً ويحكى هذا عن رواية الكَرَابِيسِي. واحتج له بما روى عن عَدِيّ بْنِ حَاتِم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَا عَدِيُّ إِنْ طَالَتْ بِكَ الْحَيَاةُ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بالْكَعْبَةِ لاَ تَخَافُ إِلاَّ اللهَ، قَالَ عَدِيُّ: فَرَأَيْتُ ذَلِكَ" (¬1). وأيضاً بأن المرأة لو أسلمت في دَارِ الكُفْرِ لَزِمَهَا الخُروجُ إِلَى دَارِ الإسْلاَمِ، وَإِنْ كَانَتْ وَحْدَهَا، ولمن ذهب إلى الأول أن يقول: أما الحديث: فليس فيه ما يقتضي الوجوب. وأما التي أسلمت: فخوفها لو أقامت هُنَاك أكثر من خَوْفِ الطَّريق، هذا حكم الحَجِّ الفَرْض، وهل لها الخروج إلى سائر الأسْفَار مع النساء الخُلَّص؟ فيه وجهان؛ لأنه لا ضرورة إليها. والأصح عند القاضي الرّويَانِي المَنْع، وليعلّم قوله في الكتاب: (ولكن إذا وجدت مَحْرَماً) بالواو؛ للقول الصَّائِرِ إلى أنها تخرج وَحْدَها، وقوله: (أو نسوة ثقات) أيضاً بالواو؛ لأمرين. أحدهما: القول المكتفي بالواحدة. وثانيهما: الوجه الشارط لأن يكون مع بَعْضِهِنَّ مَحْرَمٌ وبالحاء؛ لأن عنده إذا لم يكن محرم وزوج فلا يجوز لها الخروج إلا أن تكون المَسَافة بينها وبين مكَّة دون ثلاثة أيام، ويروى عن أحمد مثله. وفي كون المحرم أو الزوج شرط الوجوب أو التمكن اختلاف رواية عنهما، قال الموفق بْنُ طاهر: ولأصحابنا مثل هذا التَّردد في النِّسْوةَ الثِّقَاتِ، ولم يتعرض في الكِتَاب للزَّوْج، واقتصر على اشتراط المحرم أو النسوة الثقات لكنه كالمحرم بالاتفاق. ¬
وقوله: (مع أمن الطريق) مما يذكر لاستظهار والإيضاح، إلا فقد سبق ما تعرف به اشتراطه. والثالث: المال، فلو كان يخاف على ماله في الطريق من عدو أو رصدي (¬1) لم يلزم الحج وإن كان الرصدي يرضى بشيء يسير إذا تعين ذلك الطَّريق، ولا فرق بين أن يكون الَّذين يخاف منهم مسلمين أو كفاراً، لكن إذا كانوا كفاراً أو أطاقوا مقاومتهم فيستحب لهم أن يخرجُوا ويقاتلوا لينَالُوا ثواب الحج والجِهَادِ جميعاً، وإن كانوا مسلمين لم يستحب الخروج والقتال، ويكره بَذْلُ المال للرصديين، لأنهم يحرضون بذلك على التعرض للناس، ولو بعثوا بأمان الحجيج وكان أمانهم موثوقاً به أو ضمن لهم أمير ما يطلبونه وأمن الحجيج لزمهم الخروج، ولو وجدوا من يبذرقهم بأجرة ولو استاجروه لأمنوا في غَالِب الظَّنِّ فهل يلزمهم استأجاره؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه خسران لدفع الظُّلم فأشبه التَّسْلِيم إلى الظالم. والثاني: نعم؛ لأنه بذل الأجرة بذل مال بحق والمبذرق أهبة من أُهِبَ الطَّرِيق كالرَّالَةِ وغيرها، وهذا أظهر عند الإمام، ورتب عليه لزوم استئجار المَحْرَمِ على المرأة إذا لم يُسَاعدها إِلاَّ بأجرة، وجعل اللّزوم هاهنا أظهر؛ لأن الداعي إلى التزام هذه المؤنة معنى فيها فأشبه زيادة مؤنة المَحْمَل في حق ما يحتاج إليه. ويشترط لوجوب الحج وجود الزاد والماء في المواضع التي جَرَت العادة بحمل الزَّاد والماء منها، فإن كان العام عام جدب وخلا بعض تلك المنازل عَنْ أَهْلِها أو انقطعت المياه لم يلزمه الحج؛ لأنه إن لم يحمل مَعَه خاف على نفسه، وإن حمله لحقته مؤنة عَظِيمة، وكذلك الحكم لو كان يوجد فيها الزاد والماء ولكن بأكثر من ثَمَنِ المِثْلِ وهو القدر اللائق به في ذلك المَكَان والزَّمان، وإن وجدهما بثمن المثل لزم التَّحْصِيل سواء كانت الأسعار غاليه أو راخصة إذا وَفَّى ماله ويحتمل حملهما قدر ما جرت العادة به في طريق مكَّة حرصها الله لحمل الزَّادِ من الكوفة إلى مكَّة، وحمل الماء مرحلتين أو ثلاثاً إذا قدر عليه ووجد آلات الحمل، وأما عَلَف الدابة فيشترط وجوده في كل مرحلة؛ لأن المؤنة تعظم في حَمْلِهِ لكثرته، ذكره صاحب "التهذيب" "والتتمة" وغيرهما (¬2). ¬
قال الغزالي: (وَأَمَّا البَدَنُ) فلاَ يُعْتبَرُ فِيهِ إلاَّ قُوَّةٌ يَسْتَمْسِكُ بِهَا علَى الرَّاحِلَةِ، وَيجِبُ عَلَى الأَعْمَى إِذَا قَدَرَ عَلَى قَائِدٍ، وَيَجِبُ عَلَى المَحْجُورِ وَالمُبَذِّر، وَعَلَى الوَليِّ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَيُنْصِّبَ عَلَيْهِ قَوَّاماً. قال الرافعي: المتعلق الرابع: البدن، ويشترط فيه لاستطاعة المباشرة قوة يستمسك بها على الرَّاحلة، والمراد أن يثبت على الرَّاحِلَةِ من غير أن يلحقه مشقة شديدة، فأما إذا لم يثبت أصلاً، أو كان يثبت ولكن بمشقةٍ شديدةٍ فليس له استطاعة المباشرة، سواء فرض ذلك لمرض أو غيره، روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ لَمْ يَحْبِسْهُ مَرَضٌ أَوْ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أَو سُلْطَانٌ جَائِزٌ فَلَم يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيّاً وإنْ شَاءَ نَصْرَانيّاً (¬1). والقول في أنه متى يستتيب؟ ومتى لا يستتيب؟ سيأتي من بعد، ثم في الفصل مسألتان: إحداهما: الأعمى إذا وجد مع الزَّادِ والرَّاحِلَةِ قَائِداً يلزمه الحج بنفسه؛ لأنه مستطيع لَهُ والقائد في حقه كالمَحْرَمِ في حَقِّ المرأة، وبه قال أحمد، وعن أبي حنيفة -رحمهما الله- اختلاف رواية فروى عنه: أنه لا حَجَّ عليه، وهذه عبارة الكَرَخِي في "مختصره"، وروى أنه لا يلزمه الخروج بنفسه ولكن يستتيب. الثانية: المحجور عليه بالسَّفه كغيره في وجوب الحَجِّ عليه إلا أنه لا يدفع المال إليه لتبذيره بل يخرج الوَلِي معه لينفق عليه في الطَّرِيق بالْمَعْرُوفِ ويكون قَوَّاماً عليه، وبفارق الصَّبي والمجنون إذا أحرم الوَلِي عَنْهُما، فإن في إنفاقه ما زاد بسبب الحجر من مالهما خِلافاً سنذكره؛ لأنه لا وجوب عليهما، وإذا زال ما بهما لزمهما حَجَّة الإسلام، وذكر في "التهذيب": أنه إذا شرع السفيه في حج الفرض أو في حجٍّ نَذَرَهُ قَبْلَ الحَجْرِ بغير إذن الولي لم يكن له أن يحلله فيلزمه أن ينفق عليه إلى أن يفرغ، وإن شَرَعَ في حَجِّ تطوع ثم حُجِرَ عليه فكذلك، ولو شرع فيه بعد الحَجْر كان للولي أن يحلله إن كان مَا يحتاج إليه لِلْحِجِّ يزيد على نفقته المعهودة ولم يكن له كسب وإن لم يزد، أو كان له كسب يَفِي مع قدر النفقة لِلْحَجِّ وجب إتمامه، ولم يكن للولي أن يحلله. وقوله في الكتاب: (وعلى الولي أن ينفق عليه) أي من مال المحجور. وقوله: (وينصب عليه قوّاماً) أي إن لم يتول ذلك بنفسه. ¬
وأعلم أن الأئمة شرطوا في وُجُوبِ الحج أمرين آخرين لم يصرح بهما في الكتاب. أحدهما: إمكان المَسِير وهو أن يبقى من الزَّمان عند وجدان الزَّاد والرَّاحِلة ما يمكنه المسير فيه إلى الحَجِّ السير المعهود (¬1). أما إذا احتاج إلى أن يقطع في كل يوم أو في بعض الأيام أكثر من مَرْحَلَةٍ لم يلزمه الحَجّ. والثاني: قال صاحب "التهذيب" وغيره: يشترط أن يجد رفقة يخرج معهم في الوَقْتِ الذي جرت عَادَةُ أهْلُ بَلدِه بالخُروج فيه، فإن خرجُوا قَبْلَه لم يلزمه الخُروجُ مَعَهم، وإن أخَّرُوا الخروج بحيث لا يبلغون إلا بأن يقطعوا أكثر من مرحلة لم يلزمه أيضاً، وفي قوله بعد هذا الفصل (وله أن يتخلف عن أول قافلة) ما يشعر باعتبار وجدان القافلة، ومن أطلق القول باعتباره من الأصحاب فكلامه على غالب الحال، فإن كانت الطرق بحيث لا يخاف الواحد فيها فلا حاجة إلى الرّفقة والقَافِلة، ذكره في "التتمة"، وبهذا الفقه يتبين دخول هذا الشَّرْط تحت اعتبارِ أمْنِ الطَّرِيق، وعن أحمد أن أمن الطَّريق وإمكان السير من شَرَائِطِ الأَدَاءِ دُونَ الوُجوب حتى لو استطاع والطَّريق مخوف أو الوَقْتُ ضَيقٌ استقر الوُجُوب عَلَيْهِ، وروي عن أصحَاب أبي حنيفة -رحمه الله- اختلاف في أن أمْنَ الطَّرِيقِ مِنْ شَرَائِطِ الوجُوب أو الأَداءِ. قال الغزالي: وَمَهْمَا تَمّت الاسْتِطَاعَةُ وَجَبَ الحَجُّ عَلَى التَّراخِي (م ح ز) وَلَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ أَوَّل قَافِلَةٍ، فَإنْ مَاتَ قَبْلَ حَجِّ النَّاسِ تَبَيَّن عَدَمَ الاسْتِطَاعَةِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الحَجِّ فَلاَ، وَإِنْ هَلَكَ مَالُهُ بَعْدَ الحَجِّ وَقَبْلَ إيَابِ النَّاسِ تَبَيَّنَ أَنْ لا اسْتِطَاعَةَ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الإيابِ شَرْطٌ في الحَجِّ، فَإنْ دَامَتْ الاسْتِطَاعَةُ إلَى إيَابِ النَّاسِ ثُمَّ مَاتَ أَوْ طَرَأَ العَضبُ ¬
لَقِيَ الله عَزَّ وَجَلَّ عصِياً عَلَى الأَظْهَرِ، وَتَضِيقُ عَلَيْهِ الاسْتنَابَةُ إِذَا طَرَأَ العَضْبُ بَعْدَ الوُجُوبِ، فَإِنْ امْتَنَعَ فَفي إِجْبَارِ القَاضِي إِيَّاهُ عَلَى الاسْتِنَابَةِ وَجْهَان. قال الرافعي: ذكر في "الوسيط": أن المسائل المذكورة إلى هذا الموضع كَلاَمٌ في أرْكَانِ الاستطاعة، ومن هاهنا إلى رأس النوع الثاني كلام في أحْكَامها، ولك أن تقول: الاستطاعة إحدى شرائط وجوب الحَجِّ كَمَا مَرَّ، وقد توجد الاستطاعة مسبوقة بسائر الشُّروطِ، وقد يوجد غيرها مسبوقاً بها فلم كانت هذه المسائل أحكام الاستطاعة دون غيرها؟ وبتقدير أن تكون أحكام الاستطاعة فهي أحكام مطلق الاستطاعة كما ستعرفه لا أحكام النَّوْع الأولِ مِنْهَا، وكان ذكرها بعد النَّوعَينِ أحسنَ والحَقُّ أنها ليست بأحكام الاستطاعة ولا سائر الشّروط، لكن مسائل هذا الفَصْلِ تتعلق بكيفية ثبوت الوُجوب بعد استجماع الشَّرَائِطِ وأنه مَتَى تَسْتَقِر؟ ومسائل الفَصْلِ الثَّانِي لا تَعَلَّق لها بالوجوب أيضاً، ومقصود الفَصْلِ أن الحَجَّ يجب على التَّرَاخِي وهو في العُمر كالصَّلاةِ بالإضافة إلى وَقْتِها. وقال مالك وأحمد والمزنى -رحمهم الله-: إنه على الفَوْرِ، ويروى مثله عن أبي حنيفة -رحمه الله-. لنا أن فريضة الحَجِّ نزلت سنة خَمْس من الهِجْرَةِ، وأخَّرَه النبي -صلى الله عليه وسلم- مِنْ غير مَانِعٍ، فإنه خرج إلى مَكَّة سَنةَ سَبْع لقضاء العُمْرَةِ وَلَمْ يَحُج، وفتح مكَّة سنة ثَمَانٍ، وبعث أبا بكر -رضي الله عنه- أميراً على الحج سنة تِسْعٍ، وحَجَّ هُوَ سنَةَ عَشْرٍ وَعَاشَ بعدها ثَمَانين يوماً ثم قُبِضَ إلى -رحمة الله تعالى-. إذا تقرر ذلك فلمن وجب عليه الحجّ بنفسه أو غيره أن يُؤَخِّرَهُ عَنْ أَوَّلِ سنة الإِمْكَانِ. نعم، لو خشي العضب (¬1) وقد وجب عَلَيْهِ الحَجّ بنفسه ففي جواز التأخير وجهان: أظهرهما: المنع، وإذا تَخَلَّف فمات قبل حَجِّ النَّاسِ تبين عَدَم الوُجُوب لتبين عدم الاستطاعة والامكان، وعن أَبِي يَحْيَى البلخِي أنه يَسْتَقِر عَلَيْهِ، وذكر في "المذهب": أن أبا إسحاق أخرج عليه نَصَّ الشافعي -رضي الله عنه- فرجع عنه، فلا يُعَلَّم قوله: (تبين عدم الاستطاعة) بالواو، وكذلك وإن مات بعد ما حَجَّ النَّاسُ استقرَّ الوجوبُ عليه ولَزِم الإحْجَاج مِنْ تَرِكَتِهِ. ¬
قال في "التهذيب": ورجوع القافلة لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لو مات بعد انتصاف ليلة النَّحْرِ، ومضى إمكان المَسِير إلى منَى والرّمي بها، وإلى مكَّةَ والطّواف بها استقر الفَرْضُ عليه، وإن مَاتَ أو جنَّ قبل انتصاف ليلة النحر لم يستقر، وإن هَلَك مالُه بعد إِيَابِ النَّاسَ أو مضى إمكان الإياب استقر الحَجّ، وإن هلك بعد حَجِّهم وقبل الإياب وإمكانه فوجهان: أحدهما: الاستقرار كما في صُورة المَوْتِ. وأصحهما: وهو المذكور في الكتابَ: أنه لاَ يَسْتَقِر بِخِلاَفِ صُورِ المَوْتِ، لأنه إذا مات استغنى عن المال للرّجُوعِ، وهاهنا نفقة الرّجوع لاَ بُدَّ مِنْها، وهذا حيث نشترط نفقة الإيَاب فإن لم نشترطها تعين الوَجْهُ الأول، وإن أحصر الدين تَمَكَّن من الخروج معهم فتحللوا لم يستقر الفَرْضُ عَلَيْهِ، وإن سلكوا طريقاً آخَرَ فَحَجُّوا استقر، وكذا إذا حَجَّوا في السَّنة التي بَعْدَها إذا عاش وبقي ماله. وإذا دامت الاستطاعة وتحقق الإمكان ولم يحج حتى مات فهل يَعْصى؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال أبو إسحاق لا؛ لأنا جَوَّزْنَا له التأخير. وأظهرهما: نعم وإلا ارتفع الحكم بالوجوب، والمجوز هو التأخير دون التَّفْوِيت، والوجهان كالوجهين فيما إذا مَاتَ في وسط الوقت قبل أداء الصَّلاة، لكن الأظهر هُنَاك أنه لا يَمُوت عَاصِياً، وسبب الفرق قد مَرَّ هُنَاك، وبه قال ابْنُ سُرَيج، وفَصَّلَ بَعْضَ الأَصْحَاب فقال: إن كان شيخاً مات عاصياً، وإن كان شاباً فلا، والخلاف جارٍ فيما إذا كان صَحِيحَ البَدَنِ مستطيعاً فلم يحج حتى صَار زَمِناً، والأظهر التَّعْصِيَةُ أيضاً، ولا نظر إلى إمكان الاستنابة فإنها في حكم بدل، والأصل المُبَاشَرة، ولا يجوز تَرْكُ الأصل مع القُدْرَة عليه، ويتفرع على الحكم بالتعصية فرعان. أحدهما: في تضيق الاستنابة عليه في صورة عُروض الزّمانة وجهان حكاهما الإمام -رحمه الله-. أظهرهما: عنده وبه أجاب صاحب الكتاب -رحمه الله-: أنَّهَا تتضيق لِخُروجِهِ بتقصيره عند استحقاق التَّرْفِيه. والثاني: له التأخير، كما لو بلغ معضوباً عليه الاستنابة على التراخي، ولك أن تشبه هذيْنِ الوجهين بوجهين قد مَرَّ ذكرهما في قضاء الصَّوْم إذا تعدى بتفويته، وهل يَكُونُ علي الفَوْرِ؟ وإذا قلنا بالوَجْهِ الأول فلو امتنع وأَخَّر هَل يجبره القَاضِي على الاستنابة ويستأجر عليه؟ فيه وجهان:
أظهرهما: عند الإمام -رحمه الله تعالى-: لا؛ لأن الحُدودَ هي التي تتعلق بِتَصَرُّفِ الإِمَامِ. والثاني: نَعَمْ؛ تشبيهاً له بزكاة الممتنع، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منهما تَدْخُلُه النيابة. الثانية: إذا قلنا: يموت عاصياً فمن أي وقت نحكم بعصيانه؟ فيه وجهان: أحدهما: من أول سَنَةِ الإِمْكَانِ لاستقرار الفَرْضِ عليه يومئذ. وأظهرهما: وبه قال أبو إسحاق: من آخر سَنَةِ الإمْكَان بجواز التأخير إليها، وفيه وجه ثالث أنا نحكم بموته عاصياً من غير أن نسنده إلى وَقْت معين. ومن فوائد الحكم بموته عاصياً أنه لو كان قد شهد عند القاضي ولم يقض بشهادته حتى مات فلا يَقْضِ كما لو بأن له فِسْقُه، ولو قضى بشهادته بين الأولى من سني الإمكان وأخراها فإن عصيناه من أخراها لم ينقض ذلك الحكم بحال، وإن عصيناه من أولاها ففي نقضه القولان، فيما إذا بأن الشُّهُودُ فَسَقَه، وقوله في الكتاب (ومهما تمت الاستطاعة) أي مَعَ سَائِرِ الشَّرائط. وقوله: (أو طُرأ العضب) أصْلُ العضب القطع يقال: عضبت الشيء أعضبته إذا قطعته، سمي معضوباً لأن الزمانة التي عرضت له قطعت حركة أعضائه، وقيل: هو معصوب -بالصاد المهملة- كأنه ضُرِب على عصبه فانعزلت أعضاؤه عن عملها -والله أعلم-. قال الغزالي: وَلاَ بُدَّ مِنَ التَّرْتِيبِ (م ح) في الحَجِّ فَيَبْدَأُ بِحَجَّةِ الإِسْلاَمِ ثُمَّ بالقَضَاءِ (و) ثُمَّ بالنَّذْرِ ثُمَّ بالتَّطَوُّعِ فَلَوْ غَيَّرَ هَذَا التَّرْتِيبَ وَقَعَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيب وَلَغَتْ نيَّتُهُ، وَإِذَا حَجَّ عَنِ المُسْتَأْجِرِ وَهُوَ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ وَقَعَ عَنْهُ دُونَ المُسْتَأْجِرِ (م ح). قال الرافعي: حُجَّةُ الإسْلاَم في حق من يَتَأَهَّل لَهَا تقدم على حَجَّةِ القَضَاءِ، وصورة اجتماعهما أن يفسد الرقيق حَجَّة ثم يعتق فعليه القضاء، ولا يجزئه عن حَجَّة الإسلام فإن القضاء يتلو تلو الأَدَاء؛ وكذا حجة الإسلام على حَجَّة النذر، ولو اجتمعنا معِ حجَّة الإسلام قدمت هي، ثم القضاء الواجب يأصْلِ الشّرع، ثم المنذورة تقديماً للأهَمِّ فالأهَمِّ. ومن عليه حجة الإسلام ليس له أن يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ، وكذا من عليه حجة نذر أو قضاء. قال أبو حنيفة ومالك -رحمهما الله- يجوز التطوع بالحج قبل أداء الفَرْضِ، ويجوز لِمَن عَلَيْهِ الحَجُّ أن يَحُجَّ عن غيره، وأظهر ما روي عن أحمد -رحمه الله- مثل مذهبنا. لنا: ما روى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- سَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَن شُبْرُمَةَ؟ قَالَ: أَخِي أَوْ قَرِيبٌ لِي فَقَالَ
أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ عَنْ شُبْرُمَةَ -وَفِي رِوَايَةٍ- هَذِهِ عَنْكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ" (¬1). دل الحديث على أنه لا بد من تقديم فرضِهِ نفسه على ما لو استؤجر له، وفهم منه أنه لا بُدَّ من تقديم فَرْض على ما يُتَطَوَّع به، والعمرة إذا أوجبناها كَالْحَجِّ في جميع ذلك. وقوله في الكتاب: (ثم بالقضاء ثم بالنذر) اعْلِمَ بالواو؛ لأن الإمام -رحمه الله- أشار إلى تردد في تقديم القَضَاء على النَّذْرِ، وتابعه المصنف في "الوسيط". والصَّحيح: ما ذكره في، الكتاب. إذا تقرر ذلك فلو أنه غَيَّرَ الترتيبَ المَذْكُورَ فقدم ما يجِبُ تأخيرُه لَغَتْ نَيَّتُه، ووقع على الترتيب المَذْكُور. ولو استأجر المعضوب من يحج عن نذره وعليه حَجَّة الإسلام فنوى الأجير النذر وقع عن حجَّة الإِسْلام. ولو استأجر من لم يحج عن نفسه وهو الذي يسمى ضرورة ليحج عن المستأجر فنوى الحَجَّ عنه لغت إضافته ووقع عن الأجير. وينبغي أن يُعَلَّم قوله في الكتاب: (وقع عنه دون المستأجر) بالألف، لأن عن أحمد -رحمه الله- رواية أنه لا يقع عنه ولا عن المستأجر، بل يلغى، ولو نذر ضرورة أن يَحُجّ في هذه السَّنة ففعل وقع عن حَجَّةِ الإِسْلاَم وخرج عن نذره، وليس في نذره إلا تعجيل ما كان له أن يؤخره. ولو استأجره لِلضَّرورةِ لِلْحَجِّ في الذِّمة جَاز، والطريق أن يَحُجَّ عن نفسه ثُمَّ عن المستأجر في سُنَةٍ بَعْدَهَا، وإجارة العين تفسد لأَنَّه يتعين لها السَّنة الأولى، فإن إجازة السنة القابلة لاَ تَجُوز. وإذا فسدت الإجازة نظر إن ظنه قد حَجَّ فبان ضرورة لم يستحق أجرة لتغريره، وإن علم أنه ضرورة وقال: يجوز في اعتقادي أن يحج الضرورة عن غيره فَحَجَّ الأجير يقع عن نفسه كما تقدَّم، ولكن في استحقاقه أجرة المثل قولان أو وجهان سيأتي ¬
نظائرهما. ولو استأجر للحج من يحج ولم يعتمر أو للعمرة من اعتمر ولم يحج فقرن الأجير وأحرم بالنسكين جميعاً عن المستأجر أو أحرم بما استؤجر له عن المستأجر وبالآخر عن نفسه فقد حكى صاحب "التهذيب" وغيره فيه قولين: الجديد: هما يقعان عن الأجير؛ لأن نسكي القَرَآن لا يتفرقان لاتحاد الإِحْرَام، ولا يمكن صَرْفُ ما لم يَأْمُر به المُسْتأجِر إليه. والثاني: أن ما استؤجر له يقع عن المستأجر والآخر عن الأَجِير، وعلى القولين لو استأجر رجلان من حج واعتمر أحدهما ليحج عنه، والآخر ليعتمر عنه فقرن عنهما، فعلى الأول يقعان عن الأجير، وعلى الثاني يقع عن كُلِّ واحدٍ منهما ما استأجره له. ولو استأجر المعضوب رجلين ليُحجَّا عنه في سنة واحدة أحدهما حُجَّة الإسلام والآخر حجَّة قضاء أو نذر، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن حجة الإسلام لا تتقدم على غَيْرِها. وأظهرهما: ويحكى عن نصه في "الأم" الجواز؛ لأن غيرها لا يتقدم عليها، وهذا القدر هو المرعي، فعلى الأول إن أحرم الأجيران معا يُصْرَف إحرامهما إلى نَفْسيهِمَا، وإن سبق إحرام أحدهما وقع ذلك عن حُجَّةِ الإِسْلاَم عن المستأجر، وانصرف إحرام الآخر إلى نَفْسِه. ولو أحرم الأجير عن المستأجر ثم نذر حَجّاً نُظِر إن نذر بعد الوقوف لم ينصرف حَجُّه إليه، ووقع عن المُسْتَأجر، وإن نذر قبله فوجهان: أظهرهما: انصرافه إلى الأجير. ولو أحرم الرجل بحج تطوعاً ثم نذر حجاً بعد الوقوف لم ينصرف إلى النَّذر وإن كان قبله فعلى الوجهين، -والله أعلم-. وقد ذكرنا في خلال الكلام ما يتعلق بلفظ الكتاب وبالقيد الذي أوردناه في أول الفَصْلِ يعرف أن قوله: (ولا بد من الترتيب في الحج إلخ) محمول على عن يصح منه حَجَّة الإسلام وإلاَّ فالصبي والعَبْد إذا حَجَّا فقد تقدم في حَقِّهِمَا غير حجة الإسلام على حَجَّة الإسلام. ولو استأجر المعضوب من يحج عن تلك السنة فأحرم الأجير عن نفسه تطوعاً فقد روى الإمام عن شيخه أن إحرامه ينصرف إلى المستأجر؛ لأن حَجَّة الإجارة في هذه السَّنة مستحقة عليه، والمستحق في الحَجِّ مقدم على غيره، وعن سائر الأصحاب أنه لا ينصرف؛ لأن استحقاقها ليس عن حكم وجوب يؤول، إلى الحَجِّ وإنما يتقدم وَاجِبُ الحَجِّ على تطوعه إذا رجَعَ الوجوب إلى نَفْسِ الحَجّ. قال الغزالي: النَّوْعُ الثَّانِي: اسْتِطَاعَةُ الاسْتِنَابَة، وَالنَّظَرُ في ثَلاَثة أطْرَافٍ: الطَّرْفُ
الأَوَّلُ جَوَازُ الاسْتتَابَةِ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ لِلْعَاجِزِ عَنِ المُبَاشَرَة بالمَوْتِ أَوْ بِزَمَانَةٍ (م) لاَ يُرْجَى زَوَالُهَا، وَإنَّمَا يَجُوزُ في حَجَّة الإسْلاَمِ إذَا وَجَبَ بالاسْتِطَاعَةَ أَوْ مَاتَ قَبْلَ الوُجُوبِ أَو امْتَنَعَ الوُجُوبُ لِعَدَمِ الاسْتِطَاعَةِ، وَفِي الاسْتِئْجَار لِلتَّطَوُعِ قَوْلاَن. قال الرافعي: قد مر أن الاستطاعة نوعان: استطاعةُ مُبَاشَرة، واستطاعة استنابة، وحصل الفراغ عن أولهما وأما الثاني: فتمس الحاجة فيه إلى بيان أنه متى تجوز الاستنابة؟ ومتى تجب؟ ثم هي قد تكون بطريق الاستئجار، وقد تكون بغيره، فهذه أربعة أطراف، وقد تكلم فيها جميعاً لكن اختصر على ترجمة ثلاثة منها الجواز والوجوب والاستئجار. وأما الاستنابة بغير طريق الاستئجار فقد أدرج مَسَائِلَها في الطرف الثاني. الأول: في حال جواز الاستنابة. لا يخفى أن العبادات بعيدة عن قبول النيابة، لكن احتمل في الحج أن يحج الشَّخْصُ عن غيره إذا كان المحجوج عنه عاجزاً عن الحَجِّ بنفسه إما بسبب الموتَ وإمَّا بكبر أو زَمَانَة أو مَرَض لا يُرْجَى زوالةُ. أما بسب الموت فلما روى عن بريدة قال "أَتَتْ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ، فَقَالَ حجِّي عَنْ أُمِّك" (¬1). وأما بالكِبَر ونحوه فلما روى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخاً كَبِيراً لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفأَحجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ" (¬2). ويروي "كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ" (¬3). والمعتبر أن لا يثبت على الرَّاحِلَةِ أصْلاً أو لا يثبت إلا بمَشَقَّةِ شَدِيدَةٍ، فالمقطوع اليدين أو الرجلين إذا أمكنه الثبوت على الرَّاحِلَة من غير مَشَقَّةِ شديدةٍ لا تجوز النيابة عنه، وكذا لا تجوز النيابة عمن لا يثبت على الرَّاحِلَة لمرض يَرْجُو زوالَه فإنه يتوقع مباشرتُه له، وكذا من وَجَبَ عليه الحَجُّ ثم جُنَّ لم يكن للولي أن ينيب عنه؛ لأنه رُبَّما يفيق فَيَحُجُّ بنفسه، فإن أنساب عنه ومات ولم يفق ففي إجزائه قولان كما لو استناب من يرجو زوال مرضه فَلَمْ يَزُل، وهذا كلّه في حَجَّة الإسْلام، وفي معناها حجة النَّذْرِ، حكى ذلك عن نصه، ويلحق بهما القضاء. ¬
وأما حجَّة التطوع فهل يجوز استنابة المَعْضُوب فيها واستنابة الوارث للميت؟ فيها قولان: أحدهما: لا، لبعد العبادات البدنية عن قَبولِ النِّيابة، وإنما جوزنا في الفَرْضِ للضرورة. وأصحهما: وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد -رحمهم الله- نعم؛ لأنها عبادة تدخل النيابة في فرضها فتدخل في نفلها كأَداءِ الزَّكاة، ولو لم يكن الميت قد حَجَّ ولا وجب عليه لعدم الاستطاعة ففي جواز الإِحْجَاج عنه طريقان نقلهما الإمام. أحدهما: طرد القولين؛ لأنه لا ضرورة إليه. والثاني: القطع بالجَوازِ لوقوعه عن حَجَّةِ الإسلام. فإن جوزنا الاستئجار للتطوع فللأجير الأجرة المسماة، ويجوز أن يكون الأجير عبداً أو صبياً بخلاف حُجَّة الإسْلاَمِ لا يجوز استئجارهما فيها؛ لأنهما لَيْسَا مِنْ أَهْلِهَا، وفي المنذورة الخِلاَفُ المشهور في أنه يسلك بالنذر مسلك الوَاجِبَات أم لا، وإن لم نجوز الاستئجار للتطوع وقع الحجُّ عَن الأَجِير ولم يستحق المسمى، وفي أجرة المثل قولان مَرْوِيان عن "الأم": أحدهما: أنه لا يستحق أيضاً لوقوع الحَجّ عنه. وأظهرهما: عند المُحَامِلِي وغيره أنه يستحقها؛ لأنه دخل في العَقْدِ طَامِعاً في الأجرة وتلفت منفعته عليه، وإن لم ينتفع بها المستأجر فَصَار كما لو اسْتُؤجِرَ لِحَمْلِ طَعَامٍ مَغْصُوبٍ فحمل يستحق الأُجْرَة (¬1). وأما لفظ الكتاب فقوله: (وإنما يجوز للعاجز عن المباشرة) ليست اللام في قوله (للعاجز) لإضافة فعل الاستنابة إليه؛ لأن العاجز بالموت لا يتصور منه الاستنابة وإنما المراد كون الاستنابة للعاجز، ثم هي قد تصدر منه وقد تصدر من غيره، ويجوز أن يرقم بالحاء والألف؛ لأن عند أبي حنيفة وأحمد تجوز الاستنابة للصَّحِيح أيضاً في حَجَّةِ التَّطَوع. وقوله: (أو بزمانة) معلم بالميم؛ لأن عند مالك لا تجوز النِّيَابة عَنِ الحَيِّ وإنما تجوز عن الميت. ¬
وقوله: (وإنما تجوز في حَجَّة الإسلام) يفهم الحَصْرُ فيها، لكن النَّذر والقَضَاء في معناه كما سبق، ولإفهامه العصر أعلم بالميم والحاء والألف إشارة إلى أنهم يجوزونها في حجة التطوع أيضاً. وقوله: (أو مات قبل الوجوب إذا امتنع الوُجوب لعدم الاستطاعة) جواب على طريقة نَفْي الخِلاَف في المَسْألة أو على أظهر القولين على الطَّريقة الأخرى فَلْيُعَلَّم بالواو. واحتج في الجواز بما روى: "أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِنَّ فَرِيضَةَ الحَجَّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخاً كبِيراً لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحِجَّ أَفَأحجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ" (¬1). وليس هذا الاحتجاج بقوي؛ لأن هذا الحديث هو حديث الخَثْعَمِيَّة واللفظ المشهور في حديثها: "لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ" (¬2). وذلك يَدُلُّ على أن اللَّفظة التي نقلها -أن يثبت- محمولة على نفي استطاعة المباشرة وذلك لا ينفي وجوب الحَجِّ، والمسألة فيمن لا وجوبَ عليه، ويجوز أن يحتج له بحديث بُرَيْدَة فإن المرأة قالت: إن أمي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجّ، ولم يفصل الجواب -والله أعلم-. قال الغزالي: وَإذَا اسْتَأجَرَ المَعْضُوبَ حَيْثُ لاَ يُرجَى زَوَالِهِ فَمَاتَ أَوْ حَيْثُ لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ فَشُفِيَ فَفِي وُقُوعِ الحَجِّ مَوْقِعَة قَوْلاَنِ يُنْظَرُ فِي أَحدِهِمَا إلَى الحَالِ وَفِي الآخِرَ اِلى المَآل، إنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لاَ يَقَعُ عَنْهُ فَالصَّحِيحُ أنَّهُ يَقَعُ عَنْ تَطَوُّعِهِ وَيَكُونُ هَذَا عُذْراً فِي تَقْدِيمِ التَّطَوُّعِ كَالصِّبَا والرِّقِّ، ثُمَّ يَسْتَحِقُّ الأَجِيرُ الأُجْرَةَ وَلاَ يَجُوز الحَجُّ عنِ المَعْضُوبِ لِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَيَجُوزُ عنِ المَيْتِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ (م ح) وَيَسْتَوِي فِيهِ الوَارِثُ والأجْنَبيُّ. قال الرافعي: المعلول الذي يرجى زوال علته ليس له أن يَحُجَّ عن نفسه كما مَرَّ فإن أحج نظر إن شفي لم يجزئهُ ذلك قولاً واحداً، وإن مات ففيه قولان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة -يجزئه؛ لأنه تبين أنها كانت غير مرجوة الزَّوال. الثاني: لا يجزئه؛ استنابة لم تكن جائزة له حينئذ قال الأئمة وهذا أظهر، وعلى عكسه لو كانت غير مرجوة الزَّوال فأحج عن نفسه ثم شفي فطريقان: أظهرهما: وهو المذكور في الكتاب طرد القولين، وبالثاني قَلَ أَبُو حَنِيفة، ويروي الأول عن مَالِك وأحمد -رحمهما الله-. والثَّاني: القطع بأنه لا يُجْزئه. ¬
والفرق أن الخطأ في الصُّورة الأولى غير مستيقن؛ لجواز أن لا يكون المَرَضُ بحَيْثُ يوجب اليَأْسَ ثم يزداد فيوجبه فيجعل الحكم للمال، وهاهنا الخطأ مستيقن إذ لا يَجوز أن يكون اليَأْسُ حَاصِلاً ثم يزول، والطاردون للقولين في الصُّورتين قالوا: مأخذهما فيهما أن النظر إلى الحال أو إلى المآل إن نظرنا إلى الحال لم يجزه في الصورة الأولى، وأجزأ في الثَّانيَةِ، وإن نظرنا إلى المآل عكسنا الحكم فيهما، وربما شبه القولان بالقولين فيما إذا رأوا سواداً فظنوه عَدُوّاً فَصَلُّوا صلاة الخَوْفِ ثم تبين خِلافَهُ هل تجزئهم الصَّلاة؟ والأظهر عَدَمُ الإِجْزَاء؛ وقد عرفت مما ذكرنا أنه يجوز أن يكون قوله في الكتاب: (قولان) معلَّمان بالواو للطريق الثاني في الصورة الثانية. التفريع: إن قلنا إن الحجة المأتيَّ بها تُجْزِئه استحق الأُجرة المسماة لا مَحَالة. وإن قلنا: إنها لا تجزئه فهل تقع عن تطوعه أم لا تقع عنه أصلاً؟ فيه وجهان: أحدهما: حكى الإمام عن شيخه عن القفَّال أن من أئمتنا من قال: إنه يقع عن تَطَوُّعِهِ ويكون العضب النَاجِز بمثابة الرِّق والصِّبَا في كونه عذراً لتقديم التطوع على حَجَّة الإِسْلاَم. والثاني: أنها لا تقع عنه أصلاً كما لو استأجر ضرورة ليحج عنه وذكر صاحب الكتاب أن الأول هو الصحيح، لكن الإمام والجمهور استبعدوه، فإن قلنا: لا يقع عنه أصلاً فهل يستحق الأجير الأجرة؟ فيه قولان: أحدهما: نعم؛ لأنه عمل له في اعتقاده. وأصحهما: لا، لأن المستأجر لم ينتفع به، فإن قلنا: بالأول: فماذا يستحق الأجير الأجرة المسماة أم أجرة المثل؟ فيه وجهان مأخذهما أنا هل نتبين فساد الاستئجار أم لا؟ وإن قلنا: إنه يقع عن تطوعه فالأجير يستحق الأجرة، وماذا يستحقه المسمى أو أجرة المثل؟ عن الشيخ أبي محمد أنه لا يمتنع تخريجه على الوجهين؛ لأن الحَاصِلَ غير ما ابتغاه. الثانية: لا يجزئ الحَجّ عن المَعْضُوب بغير إذنه بخِلاَف قضاء الدَّيْنِ عن الغير؛ لأن الحَجَّ يفتقر إلى النية وهو أهل للإذن وللنية وإن لم يَكن أهلاً للمباشرة، وروي في "التتمة" عن أبي حامد المرورزي -رحمه الله- جواز الحج بغير إذنه، ويجوز الحَجُّ عَنِ المَيِّتِ، بل يجب عند استقراره عليه، سواء أوصى به أو لم يُوصِ خلافاً لأبي حنيفة ومالك حيث قالا: إن لم يوص لم يحج عنه ويسقط فرضه بالموت. لنا: ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحجَّ وَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَحَجَّ أَفَأحَجُّ عَنْهَا فَقَالَ: لَوْ
كَانَ عَلَى أُخْتِكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قاضيه؟ قال: نعم، قَالَ: فَاقْضُوا حَقَّ اللهِ -تَعَالَى- فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ" (¬1). ويستوي في الحَجِّ عن الميت الوارث والأَجْنَبِي تشبيهاً بقضاء الدَّيْنِ. قال الغزالي: الطَّرَفُ الثَّانِي فِي وُجُوب الاسْتِنَابةِ وَذَلِكَ عِنْدَ القُدْرَةِ عَلَيْهَا مِنَ المُكَلَّفِ الحُرِّ بِمَالِ يَمْلكُهُ فَاضِلاً عَنْ حَاجَتِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَافِيًا بِأُجْرَةِ الأجِيرِ رَاكباً، فَإنْ لَمْ يَجِدْ إلاَّ مَاشِياً لَمْ يَلْزَمْهُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنَ الخَطَرِ عَلَى المَال. قال الرافعي: قصد بهذا الطرف بيان أن الاستنابة متى تجب على المَعْضُوب. فأما وجُوبُ الإِحْجَاج عن الميت الذي وجب عليه الحَجُّ فقد تَعَرَّضَ له في كتاب الوصية، والمعضوب تلزمه الاستنابة في الجُمْلَةِ، ولا فرق بين أن يطرأ العَضَبُ بعد الوُجوبِ وبين أن يبلغ معضوباً واجداً لِلْمَال، وبه قال أحمد. وعند مالك لا استنابة على المعْضُوب بِحَالٍ، لأنه لا نيابة عن الحَيِّ عنده، ولا حج على من لا يستطيعه بنفسه. وعن أبي حنيفة: أنه لا حَجّ على المعضوب ابتداء لكن لو طَرَأَ العَضَبُ بعد الوُجوبِ لم يَسْقُط، وعليه أن ينفق عَلَى مَن يَحُجَّ عنه. إذا تقرر ذلك فلوجوب الاستنابة عن المعضوب طريقان يشتمل هذا الفَصْلُ على أَحَدِهِمَا وهو أن يجد مالاً يستأجر به من يَحُجَّ، والشرط أن يكون فاضلاً عن الحَاجَاتِ المذكورة فِيمَا لَوْ كَانَ يحج بِنَفْسِهِ إلا أنا اعتبرنا ثَمَّ أن يكون المَصْرُوف إلى الزَّادِ والرَّاحِلَةِ فاضلاً عن نفقة عِيَالِهِ إلى الإِيَابِ، وهاهنا يعتبر أن يكون فاضلاً عن نفقتهم وكسوتهم يوم الاستئجار، ولا يعتبر بعد فَرَاغِ الأَجِير من الحَجِّ إلى إيابه، وهل تعتبر مُدَّةُ الذِّهَابِ حكى صاحب "التهذيب" -رحمه الله- فيه وجهين: أصحهما: إنها لا تُعْتَبر. بِخِلافَ ما لو كان يَحُجُّ بنفسه فإنه إذا لم يفارق أهله يمكنه تحصيل نفقتهم. قال الإمام: وهو كما في الفطرة لا يعتبر فيها إلا نفقة اليَوْم، وكذلك في الكَفَّارَات المُرَتَّبَةِ إذا لم نشترط تَخْلِيف رأس المَالِ، ثم إن وَفَّى ما يجده بأجْرَة أَجِيرٍ رَاكبٍ فذاك، وإن لم يَجِدْ إلا أجرة مَاشٍ ففي لزوم الاستئجار وجهان: أصحهما: يلزم بخلاف ما لو كان يَحُجُّ بنَفْسِهِ، لا يكلف المشي؛ لما فيه من المَشَقَّة ولا مشقة عليه في المشي الذي تَحَمَّلَهُ الأَجِيرُ. ¬
والثَّاني -ويحكى عن اختيار القَفَّالِ-: أنه لاَ يلزم؛ لأن المَاشِي عَلَى خَطَرٍ، وفي بذل المَالِ في أجرته تَغْرِيرٌ به، ولو طلب الأَجِيرُ أكثرَ مِنْ أُجْرَةِ المثل لم يلزم الاستئجار، وإن رَضِيَ بأقل منها لَزِمَه، وإذا امتنع من الاستئجار فهل يستأجر عليه الحاكم؟ فيه وجهان: أشبههما: أنه لا يستأجر، وقوله في الكتاب: (من المكلف الحُر) كالمستغنى عنه في هذا المَوْضِع؛ لأنه قد سَبَقَ بَيَانُ اشْتِرَاط التَّكليف والحُرِّيَةِ فِي وجُوب الحَجِّ، وكلامنا الآن في شَرْطِ الاسْتِطَاعَة، وإذا كُنَّا فِي ذكر أَحَدِ شروط الشَّيْءِ لم نَحتج إلى التَّعرض فيه لِسَائِرِ الشّروط وإلا لا نجر بنا الأمر إلى ذِكرِ كُلِّ شَرْطٍ في كُلِّ شرط -والله أعلم-. قال الغزالي: وإنْ قَدَرَ بِبَذْلِ الأجْنَبِيِّ مَالاً لَمْ يَلْزَمْهُ القَبُولُ لِلْمِنَّةِ، وإنْ بَذَلَ ابْنُهُ الطَّاعَةَ فِي الحَجِّ عَنْهُ وَجَبَ القَبُولُ (ح)، وَإِنْ بَذَلَ الأَجْنَبِيُّ الطَّاعَةَ أَوْ الابْن المَالَ فَوَجْهَانِ، وَإِنْ كَانَ الابْنُ مَاشِياً فَفِي لُزُوم القَبُولِ وَجْهَانِ، وَإن كَانَ مُعَوَّلاً فِي زَادِهِ عَلَى الكَسْبِ أَوْ عَلَى السُّؤَالِ فَخِلاَف مُرَتَّبٌ، وَأَوْلَى بِأَنْ لاَ يَجِبَ. قال الرافعي: الطريق الثاني: ألا يجد المالَ ولكن يَجِد مَنْ يحصل له الحَجَّ، وفيه صور: إحداها: أن يبذل الأَجْنَبِي مَالاً لِيَسْتأجر به، وفي لزوم قَبُولِهِ وَجْهَانِ حكاهما الحَنَّاطِيُّ وغيره. أحدهما: يلزم؛ لحصول الاستطاعة بما يبذله. وأصحهما -وهو المذكور في الكتاب-: أنه لاَ يُلْزَم؛ لما فيه من المِنَّةِ الثَّقِيلَةِ. والثانية: أن يبذل واحداً مِنْ بَنِيهِ وَبَنَاتِهِ وأولادِهم الطَّاعة في الحَجِّ، فيلزمه القبول والحَجّ (¬1) خلافاً لأبي حنيفة وأحمد -رحمهما الله-. لنا أن وجوب الحَجِّ مُعَلَّقٌ في نَصِّ القرآن بوجود الاستطاعة، وإنَّهَا تارة تكون بالنَّفْس، وتارة بالأعوان والأنْصَار، ألا ترى أنه يصدق ممن لا يحسن البناء أن يقول: أنا مُسْتَطِيعٌ لبناء دَارٍ إذا تمكن منه بالأسباب والأعوان. إذا تقرر ذلك فيشترط فيه أن لا يكون المُطِيعُ ضرورة ولا معضوباً وأن يكون ¬
موثوقاً بِصِدْقِهِ، وإذا توسم أثر الطَّاعة فَهَلْ يلزمه الأمر؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن الظَّنَّ قَدْ يُخْطِئ. وأظهرهما: نعم إذا وثق بالإجابة؛ الحصول لاستطاعة، وهذا ما اعتمده أصْحَاب الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وحكوه عن نَصِّ الشافعي -رضي الله عنه-. ولو بذل المطيع الطاعة فلم يأذن المُطاع فهل ينوب الحاكم عنه؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأن مبنى الحَجِّ على التَّراخِي، وإذا اجتمعت الشَّرَائِطُ ومات المطيع قبل أن يأذن فإن مضى وقت إمكان الحَجِّ استقر في ذِمَّتِهِ وإلاَّ فَلاَ، ولو كان له من يطيع ولم يعلم بطاعته فهو كما لَوْ كان له مَالٌ موروثٌ ولم يَعْلَمْ بِهِ، وشبه ابْنُ الصَّبَّاغ ذَلِكَ بما إذا نَسِيَ المَاء فِي رَحْلِهِ ففي سقوط الفرض قولان، وشبهه صاحب "المعتمد" بالضَّال والمَغْصُوبِ وفي وجوب الزَّكاة فيهما خلاف قد مَرَّ. ولك أن تفرق بين الحَجِّ وغيره فتقول: وجب أن لا يلزم الحج بحالٍ؛ لأنه مُعَلَّق بالاسْتِطَاعة ولا استطاعة عِنْدَ عدم الشُّعور بِالمَالِ والطَّاعَة. وإذا بذل الوِلد الطَّاعة ثم أراد الرجوع فإن كان بَعْدَ الإحْرَامِ لَمْ يَجِدْ إِلَيهِ سَبِيلاً، وإن كان قَبْلَه رجع على أَظْهَر الوَجْهَيْنِ (¬1). والثالثة: أن يبذل الأجنبيُّ الطَّاعةَ ففي لزوم القبول وَجْهَان. أصحهما: وهو ظَاهِر نصه في "المختصر"، أنه يلزم لِحُصُولِ الاسْتِطَاعَة كما لو كان البَاذِلُ الوَلَدَ. والثاني: لا يلزم؛ لأن الوَلَد بِضْعَةٌ مِنْهُ فنفسه كنفسه بخلاف غيره، والأخ والأب في بَذْل الطَّاعَةِ كالأجْنَبِيّ؛ لأن اسْتِخْدَامَهُمَا ثَقِيلٌ، وفي بعض تعاليق الطبرية حكاية وجه أن الأب كالابن، كما أنهما يستويان في وجوب النفقة وغيره. الرابعة: أن يبذل الولدُ المالَ ففي لزوم قبوله وَجْهَان: أحدهما: يلزم كما لو بَذَلَ الطَّاعة. وأصحهما -وبه قال ابنُ سُرَيْج-: لا يلزم؛ لأن المِنَّة في قبول المال أَعْظَم، ألا ترى أن الإنسان يستنكف عن الاستعانة بمالِ الغَيْرِ، ولا يستنكف عن الاستعانة ببدنه في ¬
الأشْغَال، والوجهان صَادِران من القائلين بعدم وُجوب القَبُول من الأجْنَبي، فإن أوجبناه فهاهنا أولى. وبذل الأب المال للابن كبذل الابْنِ المال للأب أو كبذل الأجنبي؟ ذكر الإمام -قدس الله روحه- فيه احتمالين: أظهرهما: الأول. فرع: جميع ما ذكرنا في بذل الطاعة مفروض فيما إذا كان رَاكباَ، أما إذا بذل الابن الطاعة على أن يحج عنه ماشياً ففي لزوم القبول وجهان: أحدهما: لا يلزم كما لا يلزم الحج ماشياً. والثاني: يلزم إذا كان قوياً فإن المشقة لا تناله، وهذان الوجهان مرتبان عند الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ على الوجهين في لزوم استئجار الْمَاشِي قال: وهذه الصُّورة أولى بالمنع؛ لأنه يعز عليه مشي ولده، وفي معناه ما إذا كان المطيعُ الوَالِدَ وأوجبنا القبول، ولا يجيء التَّرتيبُ فِيمَا إِذَا كان المطيعُ الأجنبيَّ، وإذا أوجبنا القبولَ والمطيع ماشٍ فهو فيما إذا كان مَالِكاً للزَّادِ، فإن عوّل على الكَسْبِ في الطريق ففي وجوب القبول وجهان، وأولى بالمنع؛ لأن المكاسب قد تنقطع في الأسفار، فإن لم يكن كسوباً أيضاً وعول على السُّؤَال فأولى بالمنع؛ لأن السَّائِل قد بُرَدّ، فإن كان يركب مفازة لا يجدي فيها كسب ولا سؤال لم يجب القَبُول بلا خلاف إذ يحرم عليه التغرير بالنَّفْس (¬1). قال الغزالي: وَمَهْمَا تَحَقَّقَ وُجُوبُ الحَجِّ فَالْعُمْرَةُ تَجِبُ (م ح) عَلَى الجَدِيدِ. قال الرافعي: في كون العمرة من فَرائض الإسْلام قولان: أصحهما -وبه قال أحمد-: أنها من فرائضه كالحَجِّ، روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أَنَّهُ كَقَرِينَتِهَا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةِ لِلَّهِ" (¬2). وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ" (¬3). ¬
والثاني: وبه قال مالك وأبو حنيفة -رحمهما الله- أنها سُنَّة؛ لما روي عن جابر -رضي الله عنه-: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ: لاَ وَإِنْ تَعْتَمِرُوا فَهُوَ أَفْضَلُ" (¬1). والأول هو قوله في الجديد، والثاني القديم. وأشار بعضهم إلى ترديد القول فيه جديداً وقديماً. وإذا قُلْنَا بالوجوب فهي من شَرَائط مطلق الصِّحة، وصحة المباشرة والوجوب والإجزاء عن عمرة الإسلام على ما ذكرنا في الحَجْ، وفي قوله: (ومهما تحقق وجوب الحج) إشارة إلى أن شرائط وجوب العمرة كشرائط وجوب الحَجِّ، وإن الاسْتِطَاعَة الوَاحِدَة كَافِيَةٌ لهما جميعاً. قال الغزالي: الطَّرَف الثَّالِثُ فِي الاسْتِئْجَارِ وَالنَّظَرِ فِي شَرَاِئطِهِ وَأَحْكَامِهِ، فَأَمَّا شُرُوطُهُ فَمَذْكُورَةٌ فِي الْإِجَارَةِ، وَلتُرَاعَ هَهُنَا أَرْبَعَةُ أُمُورٍ: الأَوَّل أَنْ يَكُونَ الأَجِيرُ قَادِراً فَإِنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفاً أَوْ طَالَتِ المَسَافَةُ مَعَ ضِيقِ الوَقْتِ لَمْ يصحَّ، وَلاَ بَأْسَ بِهِ فِي وَقْتِ الأنْدَاءِ وَالثُّلُوجِ فَإِنْ ذَلِكَ يَزُولُ، ثمَّ لُيُبَادِرِ الأجِيرُ مَعَ أَوَّلِ رُفْقَةٍ وَلاَ يُلْزَمُهُ المُبَادَرَةَ وَحْدَهُ الثَّاني أَنْ لاَ يُضِيفَ لحَجَّ إِلَى السَّنَةِ القَابِلَةِ (ح) إلاَّ إِذَا كانَتِ المَسَافَةُ بِحَيْثُ لاَ تُقْطَعُ فِي سَنَةٍ أَوْ كَانَتِ الإِجَارَة عَلَى الذِّمَّةِ. قال الرافعي: لك أن تعلم لفظ: (الاستئجار) بالحاء والألف، لأن عندهما لا يجوز الاستئجار على الحَجِّ كما في سائر العبادات ولكن يُرْزَق عليه، ولو استاجر كان ثواب النفقة للآمر، وسقط عنه الخطاب بالحج، ويقع الحَجّ عن الحَاجِّ. لنا: أنه عمل تَدْخُله النيابة فيجزئ فيه الاستئجار كتفريق الزَّكَاة، وعندنا يجوز الحَجُّ بالرزق (¬2) كما يجوز بالإجارة، وذلك بأن يقول: حج عني وأعطيك نفقتك، ذكره في "العدة"، وإذا استأجره بالنفقة لم يصح؛ لأنها مجهولة والأجرة لاَ بُدَّ أن تكون معلومةٌ. واعلم أن الاستئجار في جميع الأعمال على ضربين. استئجار عين الشَّخْصِ. ¬
وإلزام ذمته العمل. فنظير الأول: من الحَجِّ أن يقول المعضوب: استأجرتك لِتَحُجَّ عَني، أو يقول الوارث: لِتَحُجَّ عَنْ مَيِّتِي. ونظير الثاني: أن يقول: ألزمت ذِمَّتُكَ تَحْصِيلَ الحَجِّ. والضربان يفترقان في أمور ستعرفها. ثم للاستئجار شروط لا بد منها لِيَصِح، وإذا صَحَّ فله آثار وأحكامٌ وموضع ذكر ما يتعلق منها بمطلق الاستئجار "كتاب الإجارة" وفَصَّل هاهنا ما يتعلق بخصوص الحَجِّ فذكر أنه يراعي في الشّروط أربعة أمور، وهذا الفصل يشتمل على اثنين منها. وشرحها أن كل واحد من ضربي الإجارة إما أن يعين زمان العَمَلِ فيه، أو لا يعين، وإن عين فأما أن يعين السَّنَة الأولى أو غيرها. فأما في إجارة العين إن عينا السَّنة الأولى جاز بشرط أن يكون الخُروجُ والحجُ فيما بقي منها مقدوراً للأجير، فلو كان مريضاً لا يمكنه الخروج أو كان الطريق مخوفاً أو كانت المسافة بحيث لا تقطع في بقية السّنة لم يصح العقد؛ لأن المنفعة غير مقدور عليها، وإن عينا غير السنة الأولى بطل العَقْدُ كاستئجار الدَّارِ الشهر القابل. نعم، لو كانت المسافة شَاسِعة لا يمكن قطعها في سَنَةٍ لم يضر التأخير، والمعتبر السَّنة الأولى من سِنِيِّ إمكان الحَجِّ من ذلك البلد. وإن أطلقا ولم يعينا الزَّمان فهو محمول على السَّنَةِ الأُولَى فيعتبر فيها ما ذكرنا. وأما في الإجارة الواردة على الذِّمَّةِ فيجوز تعين السَّنَةِ الأُولَى وغيرها، وهو بمثابة الدَّيْنِ في الذِّمَّة قد يكون حالاًّ وقد يكون مُؤَجَّلاً، وإن أطلقا فهو كما لو عينا السنة الأولى (¬1). إذا عرفت ذلك عرفت أن الأمرين المذكورين في الفَصْلِ لَيْسَا وَلاَ وَاحِدٍ منهما شَرْطاً في مُطْلَق الإِجَارَة. أما الثاني: فلا مجال له في الضَّرْبِ الثَّانِي مِنْهَا، ولا هو بمضطرد في الأول كَمَا صَرَّحَ بِهِ في الكِتَاب. ¬
وأما الأول: وهو قدرة الأجير فلأنه لو كانت الإجارة على الذِّمَّة لم يقدح كَونُه مريضاً بحال؛ لإمكان الاستنابة، ولا يقدح خَوْفُ الطَّريق ولا ضيق الوقت أيضاً إنْ عَيَّنَ غَيْرَ السَّنَةِ الأُولَى. وأما قوله: (ثم ليبادر الأجير مع أول رفقة) فاعلم أن قضية كلام المُصَنف والإمام تجويز تقديم الإجارة على خروج النَّاس وأن له انتظار خروجهم، ولا يلزمه المبادرة وحده، والذي ذكره جمهور الأصحاب على طبقاتهم ينازع فيه ويقتضي اشتراط وقوع العُقْدِ في زمان خُروجِ النَّاسِ من ذلك البَلد، حتى قال: صاحب "التهذيب": لا يصح استئجار العين إلاَّ في وَقْتِ خروج القَافِلَةِ من ذلك البَلَدِ بحيث يشتغل عُقَيْبَ العَقْدِ بالخُروج أو بأسبابه من شراء الزاد ونحوه، فإن كان قبله لم تصح؛ لأن إجارةَ الزَّمَانِ المُسْتَقبَلِ لا تجوز، وبنوا على ذلك أنه لو كان الاستئجار بمكَّة لم يجز إلا في أشْهُرِ الحَجِّ ليمكنه الاشتغال بالعمل عُقَيْبَ العَقْدِ، وعلى ما أورده المصنف فلو جرى العقد في وقت تراكم الثُّلوج والأنداء فقد حكى الإمام فيه وجهين روى عن شيخه أنه يجوز؛ لأن توقع زَوَالِهَا مَضْبُوط، وعن غيره أنه لا يجوز لتعذر الاشتغال بالعمل في الحال بخلاف انتظار الرفقة فإن خروجها في الحال غير متعذر، والأول هو الذي أورده في الكتاب، وهذا كله في إجارة العين. فأما الاجارة الواردة على الذِّمَّة فيجوز تقديمها على الخُروج لا محالة (¬1). واعلم: أن الكلام في أن الأجير يبادر مع أول رفقة ولا يبادر وحده عند من لا يشترط وقوع العَقْدِ في زمان خُروج النَّاس بتعلق بأحكام العقد وآثاره لاَ بشَرَائِطِهِ، وكان من حق الترتيب أن يؤخره ولا يخلطه بالشَّرَائِطِ. فرع: ليس للأجير في إجارة العين أن يُنِيب غيْرَه؛ لأن الفعل مُضَافٌ إِلَيْهِ، فإن قال: لتحج عَنِّي بنفسك فهو أوضح، وأما في الإجارة على الذِّمةِ ففي "التهذيب" وغيره أنه إن قال: ألزمت ذمتك لتحصل لي حَجَّةً جاز أن يُنيب غَيْرَه. وإن قال: لتحج بِنَفْسِك لم يجز؛ لأن الأَعْرَاض تَخْتلف باخْتِلاف أَعْيَان الأُجَرَاءِ ¬
وهذا قد حكاه الإمام عن الصَّيْدَلاَنِيِّ وَخَطَّاَهُ فِيهِ، وقال: ببُطْلاَنِ الإجَارَةِ في الصُّورة الثانية؛ لأن الدَّيْنِيَّة مع الرَّبْطِ بمعين يتناقضان فصار كما لو أسلم في ثمرة بستان بعينه، وهذا إشكال قَوِيّ. قال الغزالي: الثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُ الحَجِّ مَعْلُومَةً لِلأَجِيرِ، وَفِي اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ المِيقَاتِ قَوْلاَنِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِهِ مِيقَاتٌ وَاحِدٌ تَعَيَّنَ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُفْضِي إِلَى مِيقَاتَيْنِ وَجَبَ التَّعيِينُ. قال الرافعي: أعمال الحج معروفة مضبوطة فإن علماها عند العَقْدِ فذاك، وإن جَهِلاَها أو أحدهما فلا بد من الإعلام. وهل يشترط تعيين الميقات الذي يحرم منه الأجير؟ قال في "المختصر": نعم وعن "الإملاء" وغيره أنه لا يشترط، وللأصحاب فيه طريقان: أظهرهما: أن المسألة على قولين، ويحكى ذلك عن ابْنِ سُرَيْج وأبي إسحاق. أحدهما: يشترط لاختلاف المواقيت قرباً وبعداً، واخْتِلاَف الأغراض باختلافها. والثاني: لا يشترط ويتعين ميقات تلك البلدة على العادة الغَارِمة، وبهذا أجاب المُحَامِلِيّ في "المقنع" وذكر ابن عَيْدَان أنه الصَّحِيح، وشبهوا هذا الخِلاَفَ بِالْخلاَفِ في التعرض لمكان التّسليم في المسلم والمَعَالِيقِ في إجارةِ الدَّابة. والثاني: تنزيل النَّصَّيْنِ على حالين، ولمن قال به طريقان: أظهرهما: حمل النَّصِّ الأول على ما إذا كان للبلد طريقان مختلفَا الميقات، أو كان يفضي طريقها إلى ميقاتين كالعقيق وذات عرق، وحمل الثاني على ما إذا كان لها طريق واحدٌ له ميقات واحد. والثاني: ويحكى عن ابن خَيْرَان أمن حمل الأول على ما إذا استأجر حيّاً والثاني على إذا ما كان الاستئجار لميت، والفرق أن الحي له غرض واختيار، والميت لا اختيار له، والمقصود تبرئة ذمته، وهي تحصل بالإحرام من أي ميقات كان، فإن شرطنا تعيين الميقات فَسَدَت الإجارة بإهْمَاله، لكن يقع الحَجُّ عن المستأجر؛ لوجود الإذن، ويلزمه أَجْرَةُ المِثْلِ، وإذا كانت الاجَارة لِلْحَجِّ والعمرة فلا بد من بيان أنه يفرد، أو يقرن، أو يتمتع؛ لاختلاف الأغراض بها. قال الغزالي: الرَّابعُ أَنْ لاَ يَعْقِدَ بِصِيغَةِ الجَعَالَةِ، فَلَوْ قَالَ: مَن حَجَّ عَنِّي فَلَهُ مَائَةٌ فَحَجَّ عَنْهُ إِنْسَانٌ نَقَلَ المُزَنِيُّ صِحَّتَهُ، وَطَرَدَهُ الأَصْحَابُ فِي كُلِّ إِجَارَةٍ بِلَفْظِ الجَعَالَةِ، وَالأَقْيَسُ فَسَادُ المُسَمَّى وَالرُّجُوعُ إِلى أُجْرَةِ المِثْلِ لِصِحَّةِ الإِذْنِ.
قال الرافعي: حكى الأئمة أن المزني -رحمه الله- نقل في المَنْثُور عن نَصِّه أنه لو قال المعضوب: من حَجَّ عني فله مائة درهم فَحَجَّ عنه إنسان استحق المَائِة، واختلاف الأصحاب فيه على وجهين: أحدهما: وبه قال أبو إسحاق: أن هذا النَّص مقرر وتجوز الجُعَالة على كُلِّ عَمَلٍ يصح إيراد الإِجَارَةِ عَلَيْهِ؛ لأن الجعالَة جَائِزَةٌ مع كون العَمَلِ مَجْهُولاً فأولى أن تجوز مع العِلْمِ به. والثاني -وبه قال المزني-: أن النَّص مخالفٌ مُؤَوَّل ولا تجوز الجعالة على ما تجوز الإجارة عليه؛ لأن العمل غير معين فيها، فإنما يعدل إليها عند تَعَذُّرِ الإجارة للضَّرُورة، وعلى هذا فلو حَجَّ عنه إنْسَان فالمُسَمَّى سَاقِطٌ لِفِسَادِ العَقْدِ ولكن الحج يقع عن المَعْضُوب، وللعامل أُجْرَةُ المِثْلِ لوجود الإِذْنِ وإن فسد العقد، وكذا الحكم فيما لو قال: من خَاطَ ثَوْبِي فله كَذَا فخاطه إنسان وفيه وجه أنه يفسد الإذن؛ لأنه ليس موجهاً نحو معين. كما لو قال: وَكَّلْتُ من أراد بِبَيْع دَارِي لا يصح التَّوكيل، فإذا تقرر ذلك فلفظ الكتاب هاهنا يرجح الوجه الصَّائر إلى عدم صِحَّة الجعالة فإنه سماه الأقيس، وجعل عدم العقد بصيغة الجَعَالة من الأمور المَرْعِية، لكنه قد أعاد هذه المَسْألة في باب الجعالة، وإيراده هناك يقتضي ترجيح وجه الصِّحة وكلام الأكثرين إليه أميل. وقوله: (ألاَّ يعقد بصيغة الجعالة) إن كان المراد منه أن لا يعقد الإجَارة بصيغة الجَعَالة فهذا يوهمِ رجوع المنع إلى الصيغة، وكون الجعالة إِجارةً وليس كذلك بل هما عقدان مُخْتَلِفا الأرْكَانِ وإن كان المراد أنه لا يَعْقِدُ عَلَى الحَجِّ الجعالة ذِهَاباً إلى الوجه الثَّاني فَعَدُّه من شروط الإجارة بَعِيدٌ عن الاصْطِلاحَ؛ لأن الامتناع عن العقد الذي لا يجوز إيراده على الشَّيْءِ لا يعد شرطاً في ما يجوز إيراده عليه، وإلا فليكن الامتناع عن البيع وسائر ما لا يقبله الحَجْ شرطاً في الإجارة. قال الغزالي: أمَّا أحكامُهُ فَتَظْهِرُ بِأحْوَالِ الأَجِيرِ وَهِيَ سَبْعَةٌ الأُولَى إِذَا لَمْ يَحُجَّ فِي السَّنَةِ الأوُلَى أَنْافَسَخَتِ الإِجَارَةُ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ عَلَى الذِّمَّةِ فَلِلْمُستَأْجِرِ الخِيَارُ كَإِفْلاَسِ المُشْتَرِي وَقِيلَ: تَنْفَسِخُ فِي قَوْلٍ كَاَنْقِطَاعِ المُسْلِمِ فِيهِ، فَإِنْ حَكَمْنَا بِالخِيَارِ فَكَانَ المُسْتَأجِرُ مَيِّتاً فَلَيْسَ لِلْوَارِثِ فَسْخُ الإِجَارَة فَإنَّهُ يَجِبُ صَرْفُهُ إِلَى أَجِيرٍ آخَرَ فَأَجيرُ المَيِّت أَوْلَى. قال الرافعي: أحكام مطلق الإجارة تذكر في بابها والتي يختص بالاستئجار على الحَجِّ مثبتة على اختلاف حال الأَجِير في عدم الوَفَاء بالملتزم، وهي فيما ذكر سَبْع أحوالٍ. ووجه حصرها أن عدم الوفاء إما أن يكون بعدم اشتغاله به في السَّنة الأولى، وهو الحالة الأولى، أو بغير هذا الطريق، وهو إما بالشروع فيه على خلاف قضية
الإجارة أو بعدم الاستمرار عليها بعد الشروع على وفاقها، والأول إما بالمخالفة في المِيقَات وهو الحالة الثانية، أو في الأفعال وهو الثالثة. والثاني: وهو إما أن يكون بتقصير منه أولاً، والأول إما بالإفساد وهو الرّابعة، أو بتغيير النية وهو الخامسة. والثَّالث: إما بالموت وهو السادسة، أو بالإحصار وهو السابعة. وفقه الحالة الأولى أنه إذا لم يخرج إلى الحَجِّ في السنة الأولى إِمَّا بِعُذْرٍ أو بغير عذر فينظر إن كانت الإجارة على العَيْنِ انْفَسَخَتْ، وإن كانت في الذِّمة فينظر إن لم يعينَا سَنَةَ فقد قدَّمْنَا أن الحكم كما لو عَيَّنَا السَّنَةَ الأولى، وذكر في "التهذيب" أنه يجوز التأخير عن السَّنَةِ الأولى والحالة هذه لكن يثبت به الخيار للمستأجر. وإن عينا سنة إما الأولى أو غيرها فأخر عنها هل تنفسخ الإجارة؟ حكى الإمام -رحمه الله- فيه طريقين. أظهرهما: أنه على قولين كالقولين فيما لو حل السَّلَم والمُسْلَم فِيهِ منقطع. أحدهما: ينفسخ لفوات مقصود العقد. وأصحهما: لا ينفسخ كما لو أَخَّرَ أداء الدَّيْنِ عن محله لا ينقطع. والثاني: القطع بالقَوْلِ الثَّاني. وإذا قلنا بعدم الانفساخ فينظر إن صدر الاستئجار من المعضوب لنفسِهِ فله الخِيَار لتعوق المقصود -كما لو أفلس المشتري بالثمن- فإن شاء أجاز ليحج في السَّنة الأخرى، وإن شاء فسخ واسترد الأجرة وارتفق بها إلى أن يستأجر غيره؛ وإن كان الاستئجار لميت في ماله وقد ذكر أصحابنا العراقيون أنه لا خيار لمن استأجر في فسخ العقد؛ لأن الأجرة متعينة لتحصيل الحَجِّ فلا انتفاع باستردادها، وتوقف الإمام فيما ذكروه؛ لأن الورثة يستفيدون باسترداد الأجرة صَرْفَهَا إلى من هو أحرى بتحصيل المقصود، وأيضاً فلأنهم إذا استردوها تمكنوا من إِبْدَالِهَا بِغَيْرِهَا، وأورد صاحب "التهذيب" وغيره أن على الولي مراعاة النظر للميت، فإن كانت المصلحة في فسخ العقد لخوف إفلاس الأجير أو هَرَبهِ فلم يفعل ضمن، وهذا هو الأظهر، ويجوز أن يحمل المنسوب إلى العراقيين على أحد أمرين رأيتهما للأئمة. الأول: صور بعضهم المَنْع فيما إذا كان الميت قد أوصى بأن يحج عنه إنسان بمائة مَثَلاً ووجهه بأن الوصية مستحقة الصَّرف إلى المعين. الثاني: حكى الحَنَّاطِيُّ: أن أبا إسحاق ذكر في الشَّرْحِ أن المستأجر للميت أن يرفع الأمر إلى القاضي ليفسخ العقد إن كانت المَصْلَحَةُ تقِّضيه وإن لم يستقل به فإذا نزل
مَا ذَكَرُوه على التأويل الأول ارتفع الخلاف، وإن نزل على الثَّاني هَانَ أمرُه. ولو استأجر إنسان للميت من مال نفسه تطوعاً عليه فهذا كاستئجار المعْضُوب لنفسه فله الخيار، ولو قدَّم الأَجِيرُ الحَجَّ على السنة المعينة جاز وقد زَادَ خَيْراً. ولنعد إلى ما يتعلق بلفظ الكتاب. قوله: (إن لم يحج في السنة الأولى) أي بأن لم يشرع في أعماله وإلا فيدخل فيه ما إذا مات في أثناء الحج، وما إذا أحصر، وما إذا فاته بعد الشُّرُوع فيه، وهذه الصّورة بأحكامها مذكورة من بعد. وقوله: (إلا إذا كانت على الذِّمَّة فللمستأجر الخِيار) غير مجرى على إطْلاقةِ؛ لأنه لو عَيَّنَ غير السنة الأولى لم يؤثر تأخيره على السَّنَةِ الأولى. وقوله: (فللمستأجر الخيار كإفلاس المشتري) جواب على الطريقة الجَازِمةَ بعَدَمِ الانفساخ؛ لقوله بعده: (وقيل: ينفسخ في قول). وأما قوله: (فإن حكمنا بالخيار وكان المستأجر ميتاً فليس للوارث فسخ الإجارة) فاعلم أنا حكينا فيما إذا كان الاستئجار لميت الوجه المنقول عن العِرَاقيين، والذي يقابله، ووراءه صورة أخرى وهي أن يستأجر المَعْضُوبُ لِنَفْسِهِ ثم يموت وُيؤخِّرُ الأجير الحَجَّ عن السنة الأولى هل يثبت الخيار للوارث؟ ولفظ الكتاب مشعر بهذه الصُّورة بعيد عن الأولى تصويراً وتوجيهاً فإنها فيما إذا كان الاستئجار لميت لا فيما إذا كان المستأجر ميتاً والأولى هي التي تكلم الأئمة فِيهَا وأما الثانية فلم نَلْقَها مَسْطُورة، فإن حمل كلام الكتاب على الأولى وجعل ما ذكره جواباً على ما نقل عن العراقيين فهو بعيد، من جهة اللَّفْظِ، ثم ليكن مُعَلَّمَا بالواو الموجه المقابل له وقد ذكرنا أنه الأظهر، وإن حمل على الثَّانية فالحكم بأن الوارث لا خيار له بعيد من جِهَةِ المَعْنَى والقياس ثبوت الخيار للوارث كما في خِيَارِ العَيْبِ ونحوه. قال الغزالي: الثانية إِذَا خَالَفَ فِي المِيقَاتِ فأحْرَمَ بِعُمْرَةٍ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ أَحْرَمَ بحَجِّ المُسْتأجِرِ في مَكَّة، فَفِي قَوْلِ لاَ تُحْسَبُ المَسَافَةُ لَهُ لأَنَّهُ صَرَفَهُ إِلَيَ نَفْسِهِ فَيَحُطُّ مِنْ أُجْرَتِهِ بِمِقْدَارِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ حَجِّه مِنْ بَلَدِهِ وَبَيْنَ حَجِّه مِنْ مَكَّةَ فَيَكْثُرَ المَحْطُوطُ، وَعَلَى قَوْلٍ: تُحْسَبُ المَسَافَةُ فَلاَ يُحَطُّ إلاَّ مِقْدَارُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ حَجِّ مِنَ المِيقَاتِ وَحَجّ مِنْ مَكَّةَ فَيَقِلُّ المَحْطُوطُ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَمِر عَنْ نَفْسِهِ وَأَحْرَم مِنْ مَكَّةَ فَعَلَيْهِ دَمُ الإِسَاءَة، وَهَلْ يَنْجَبِرُ بِهِ حَتَّى لاَ يُحَطَّ شَيْءٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: لاَ ينْجَبِرُ فَفِي احْتِسَابِ المَسَافةِ فِي بَيَانِ القَدْر المَحْطُوطِ وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ، وَأَوْلَى بِأَنْ يُحْتَسَبَ لِأنَّهُ لَمْ يُصْرَفْ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ عَيَّنَ لَهُ
الكُوفَةَ فَهَلْ يَلزَمُهُ الدَّمُ فِي مُجَاوَزتِهَا إلْحَاقاً لَهَا بالمِيقَاتِ الشَّرْعِيِّ؟ فَعَلَى وَجْهَيْنِ، وَلَو ارْتَكَبَ مَحْظُوراً لَزِمَهُ الدَّمُ وَلاَ حَطَّ لِأَنَّهُ أتَى بتَمَامِ العَمَلِ. قال الرافعي: في الفصل صورتان: إحداهما: الأجير للحج إذا انتهى إلى الميقات المعين من المواقيت إما بتعينهما إن اعتبرناه أو بتعيين الشَّرْع فلم يحرم بالحَجِّ عن المُسْتَأجر ولكن أحرم بِعُمْرَة عن نفسه ثم لَمَّا فرغ منها أحرم بالحَجِّ عن المستأجر لم يخل إما أن يحرم به من غَيْرِ أن يعود إلى الميقات أو يعود إلى الميقات فيحرم منه. الحالة الأولى: أن لا يعود إليه؛ كما إذا أحرم من جوفَ مَكَّةَ فَيَصِحُّ الحَجُّ عن المُسْتَأْجِرِ بحكم الإِذْنِ ويحط شيء من الأجرة المُسَمَّاة؛ لأنه لم يحج من الميقات وكان هو الواجب عليه، وفي قدر المحطوط اختلاف يتعلق بأصْلٍ وهو أنه إذا سار الأجير من بلدة الأجيرة وحَجَّ فالأجرة تقع في مقابلة أعمال الحَجِّ وحدَها أو تتوزع على السَّيْر والأعمال؟ وسيأتي شرحه من بعد فإن أوقَعْنَاها في مقابلة أَعْمَالِ الحَجِّ وحدها وُزِّعَتْ الأجرة المُسَمَّاة على حُجَّةٍ من المِيقَاتِ وحُجَّةٍ من جَوْفَ مَكَّة؛ لأن المقابل بالأجرة المُسَمَّاة على هذا هو الحَجُّ من الميقات فإذا كانت أجْرَة حَجَّة منشأة من الميقات خَمْسة، وأجْرَة حَجَّة منشأَة من جوف مكَّة ديناران فالتفاوت بثلاثة أخماس فيحط من الأجرة المُسَمَّاة ثلاثة أخماسها، وإن وَزَّعنَا الأجرةَ على السَّيْرِ والأَعْمَالِ جميعاً وهو الأظهر فقولان: أحدهما: أن المسافة لا تحتسب له هاهنا؛ لأنه صرفه إلى غرض نفسه حيث أحرم بالعمرة من الميقات، ومن عمل لنفسه لم يستحق أجرة على غيره؛ فعلى هذا توزع الأجرة المسماة على حجة تنشأ من بَلْدَةِ الإجَارَةِ ويقع الإحرام بِهَا مِنَ المِيقَات، وعلى حَجَّةٍ تنشأ من جَوْفِ مَكَّة فيحط بنسبة التفاوت من الأجرة المُسَمَّاة فإذا كانت أجرة الحَجَّة المنشأة من بلدة الإجارة مائة وأجرة الحجة المنشأة من مكَّة عشرة حُط من الأجرة المَسَمَّاة تِسْعَةُ أَعْشَارِهَا. وأصحهما: أنه يحتسب قطع المسافة إلى الميقات لجواز أن يكون قَصْدُه منه تحصيل الحَجِّ إلا أنه أراد رِبْحَ عُمْرَةٍ في أثناء سَفَرِهِ، فعلى هذا توزع الأجرة المسماة على حجة منشأة من بلدة الإجارة إحرامها من الميقات، وعلى حجة منشأة منها إحرامها من مكَّة، فإذا كانت أجرة الأولى مائة وأجرة الثانية تِسْعِين حَطَطْنَا من المسمى عشرة، وإذا وقفت على ما ذكرنا تَحَصَّلْتَ على ثَلاثَةِ أقوالٍ، والثاني والثَّالث هما اللَّذَان أوردهما الأكثرون منهم صاحب "التهذيب" و"التتمة" وحكاهما ابْنُ الصَّبَّاغِ وجهين مفرعين على توزيع الأجرة على السَّيْرِ والعَمَلِ. وإما القولان المَذْكُوران في الكتاب فالأول منهما هو الثَّاني في الترتيب الذي ذكرناه.
والثاني: منهما يمكن تنزيله على الثَّالث ليوافق إيراد الأكثرين، وعلى هذا فقوله: (وعلى قول: تحتسب المسافة) أي في الصّورة التي نحن فيها، وقوله: (فلا يحط إلا مقدار التفاوت بين حج من الميقات وحَجّ من مكَّة) أي إحرامه من الميقات أو مكَّة وإنشاؤهما من بَلْدَةِ الإِجَارَة، ذلك إنما أراد القول الذي ذكرناه أولاً وهو واضح من كلامه في "الوسيط"، وكذلك أورده الإمام -رحمه الله- في "النهاية" وعلى هذا فظاهر المذهب غَيْرُ القولين المذكورين في الكتاب. وقوله: (وعلى قول تحتسب المسافة) أي في الجملة لا في هذه الصّورة، واعرف بعد هَذَا شيئين: أحدهما: أن الحكم بوقوع الحَجِّ الذي أحرم به من مكَّة عن المستأجر ليس صَافِياً عن الإشكال؛ لأن المأمور به حجة يحرم بها من المِيقَات، وهذا الخصوص متعلق الغرض فلا يتناول الإذن غيره، ولهذا لو أمره بالبيع على وجه خاص مقصود لا يملك البيع على غير ذلك الوجه. الثاني: أن الأجير في المسألة التي نحن فيها يلزمه دم لإحرامه بالحَجِّ بعد مجاوزة الميقات، وسنذكر خلافاً في غير صورة الاعتمار أن إساءة المجاوزة هل تنجبر بإخراج الدَّم حتى لا يحط شيئاً من الأُجْرَة أم لا؟ وذلك الخلاف عائد هَاهنا، نَصَّ عليه ابْنُ عَبْدَانَ وغيره، فإذًا الخلاف في قدر المحطوط مفرع على القول بأصل الحَطِّ، ويجوز أن نفرق بين الصورتين ونقطع بعدم الانجبار هَاهُنَا؛ لأنه ارتفق بالمجاوزة حيث أحرم بالعُمْرَة لنفسه. الحالة الثانية: ولم يذكرها في الكِتَاب أن يعود إلى الميقات بعد الفراغ من العُمْرَة ويحرم بالحج منه فَهَلْ يحط شَيْءٌ من الأجرة؟ يبنى على الخلاف في الحالة الأولى. إن قلنا: الأجرة مُوَزَّعَةٌ على السَّيْرِ والعَمَل ولم يحسب السير هاهنا لانصرافه على العمرة فتوزع الأجْرَةُ المسماة على حَجَّةٍ منشأة من بلدة الإجارة إحرامها من الميقات، وعلى حجة من منشأة الميقات، من غير قطع مسافة، فإذا كانت أجرة الأولى عشرين مثلاً، وأجرة الثانية خَمْسَة حططنا من المسمى ثلاثة أرْبَاعه. وإن قلنا: الأجرة في مقابلة العمل وحده أو وَزَّعْنَا عليه وعلى السَّير واحتسبنا قطع المسافة هاهنا فلا حَطَّ وتجب الأجرة بتمامها، وهذا هو الأَظْهَرُ ولم يذكر كثيرون غيره. الصُّورة الثانية: إذا شرطا في الإجارة ميقاتاً من المواقيت الشَّرعية أو قلنا: إنه يتعين ميقات بلده فجاوزه غير معتمر ثم أحرم بالحج عن المُسْتأجر نظر إن عاد إليه وأحرم منه فَلاَ دَمَ عَلَيْهِ، ولا يُحَطّ من الأجرة شَيْءٌ، وإن أحرم من جوف مكة أو بين
الميقات ومكَّة ولم يعد لزمه دم الإسَاءة بالمجاوزة، وهل ينجبر به الخلل حتى لا يُحَط شيء من الأُجْرَة؟ نص في "المختصر" على أنه لا ينجبر بل يرد من الأجرة بقدر ما ترك، ونقل عن القديم أنه يلزمه دم وحجته تَامَّة ولم يتعرض للأجرة، واختلفوا على طريقين. أظهرهما: أن المسألة على قولين: أحدهما: أن الدَّم يجبر الإساءة الحَاصِلَةَ ويصير كأن لا مخالفة ويستحق تمامَ الأُجْرَةِ. وأظهرهما: أنه يحط؛ لأنه استأجره لِعَمَل وقد نقص منه فصار كما لو استأجره لبناء أذرع فَنَقَصَ منها، والدم إنما وَجَبَ لِحَقِّ الله تَعَالى فلا ينجبر بها حق الآدمي، كما لو حنى المُحْرِمُ على صَيْدٍ مَمْلُوكٍ يلزمه الضَّمان مع الجزاء. والثاني: وبه قال أبو إسحاق القطع بالقول الثَّاني إلا أنه سكت عن حكم الأُجْرةَ في القَدِيم. فإن قلنا: بحصول الانجبار فهل ننظر إلى قيمة الدَّمِ ونقابلها بقدر تفاوت الأجرة؟ حكى الإمام فيه وجهين: أحداهما: وبه قال ابْنُ سُرَيج نعم حتى لا ينجبر ما زَادَ على قِيمَةِ الدَّمِ. وأظهرهما: لا؛ لأن المعوّل في هذا القَوْل على انجبار الخَلَل، والشَّرع قد حكم به من غير نظر إلى القِيمَة وإن قلنا بعدم الانجبار وحَطَطْنَا شَيْئاً ففي القدر المَحْطُوطِ وَجْهَانِ مَبْنيَّانِ على الأصْلِ الذي سبقت الإشارة إليه وهو أن الأجْرَة في مقابلة ماذا؟ إِنْ أوقعناها في مقابلة الأعمال وحدها وَزَّعْنا المسمى على حَجَّةٍ من الميقات وحَجَّةٍ من حيث أحرم. وإن وَزَّعناها على السير والعمل جميعاً -وهو الأظهر- وزعنا المُسَمَّى على حَجَّة مِنْ بلدةِ الإجازة يكون إحرامها من الميقات، وعلى حجة منها يكون إحرامها من حيث أحرم، وعلى هذا يقل المحطوط بخلاف ما لو وَزَّعْنَا على السير والعَمَلِ جَمِيعاَ ثم لم نحتسب بقطع المَسَافة في الصُّورة الأولى فَإنه يُكْثرُ المحطوط، وإذا نسبت هذه الصّورة إلى الأولى ترتب الخلاف في إِدْخَال المَسَافَةِ في الاعْتبار على الخلاف في الأولى، كما ذكره في الكتاب، وهذه أولى بالاعتبار؛ لأنه لم يصرف إلى نفسه، ثم حكى الشيخ أبو محمد -رحمه الله- وجهين في أن النَّظر إلى الفَرَاسِخِ وحدها أم يعتبر مع ذلك السهولة والحزونة؟ والأصح الثاني. واعلم أن الجمهور أوردوا في مسألة الانجبار على طريقة إثبات الخلاف قولين،
وصاحب الكتاب أطلق وجهين لكن الأمر فيه هَيِّن فإنهما لَيْسَا بمنصوصين، ويجوز أن يعلم قوله: (وجهان) بالواو بطريقةُ نفِي الخِلاَف. ولو عدل الأجير عن طريق الميقات المتعين إلى طريق آخر ميقاته مثل ذلك الميقات أو أبعد فالمذهب أنه لا شيء عَلَيْهِ، هذا كله في الميقات الشرعي. أما إذا عينا موضعاً آخر نظر إن كان أقرب إلى مكة من الميقات الشرعي فهذا الشَّرْطُ فاسد مُفْسِدٌ للإجارة إذ ليس لِمَنْ يريد النسك أن يمر على الميقات غير محرم. وأن كان أبعد كما لو عينا الكوفة فهل يجب على الأجير الدّم في مجاوزتها غير محرم؟ فيه وجهان قد حكاهما المَسْعُودِي وغيره -رحمهم الله-. أحدهما: لا يجب؛ لأن الدم منوط بالميقات المحترم شرعاً فلا يلحق به غيره، ولأن الدَّم يجب حقّاً لله تعالى، والميقات المشروط إنما يتعين حقاً للمستأجر، والذم لا يجبر حق الآدمي. وأظهرهما: وهو نصه في "المختصر": أنه يلزمه؛ لأن تعينه وإن كان لحق الآدمي فالشَّارع هو الذي حَكَمَ بِهِ وتَعَلَّق بِهِ حَقَّه. فإن قلنا: بالأول حط قسط من الأجْرَة لاَ مَحَالَة. وإن قلنا: بالثاني ففي حصول الانجبار الوجهان، وكذلك لو لزمه الدّم بسبب ترك مَأمُور كَالرَّمْي والمبيت، وإن لزمه بسبب ارتكاب محظور كاللبس والقَلْمِ لم يحط شيء من الأُجْرَة؛ لأنه لم ينقص من العَمَلِ. ولو شرط على الأجير أن يحرم في أول شوال فأخَّرَه لَزِمَهُ الدّم، وفي الانجبار الخلاف المذكور، وكذا لو شرط أن يحج ماشياً فحج راكباً؛ لأنه ترك شيئاً مقصوداً، حكى الفرعان عن القاضي الحسين، ويشبه أن يكونَا مفرعين على أن الميقات الشرطي كالميقات الشَّرْعِي وإلا فلا يلزم الدّم كما في مسألة تعيين الكُوفة -والله أعلم-. قال الغزالي: الثَّالثَةُ إِذَا أمِرَ بِالقِرَانِ فَأَفْرَدَ فَقَدْ زَادَ خَيْراً، وَإِن قرَنَ فَدَمُ القِرَانِ عَلَى المُسْتَأجِرِ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَين وَلَو أُمِرَ بالإِفْرَادِ فَقَرَنَ فَالدَّمُ عَلَى الأَجِيرِ، وَبَرِئَتْ ذِمَّةُ المُسْتَأجِرِ عَنِ الحَجّ بِالعُمْرَةِ، لِأَنَّ القِرَانَ كالإِفْرَادِ شَرْعاً وَفي حَطِّ شَيْءٍ مِنَ الأُجْرَةِ مَعَ جَبْرِهِ بالدَّمِ الخِلاَفُ السَّابقُ، وَإِنْ أُمِرَ بِالْقِرَانِ فَتَمَتَّعَ كانَ كَالقِرَانِ عَلَى وَجْهٍ، وَفِي وَجْهٍ جُعِلَ مُخَالِفاً لَه وَعَلَيهِ الدَّمُ، وَيَعُودُ الخِلاَفُ في حَطِّ شَيْءٍ مِنَ الأُجْرَةِ. قال الرافعي: قد أمر الاستئجار إذا كان لِكِلاَ النسكين فلا بُدَّ من التعرض لجهة أدائهما، ويترتب عليه مسائل ذكر بَعْضَهَا في الكِتَاب وأعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ، ونحن نذكرها
على الاختصار، وإن تغير ترتيب ما في الكتاب منها فليحتمل فإن الشَّرح، قد يدعو إليه. المسألة الأولى: إذا أمره بالقران لم يخل إما أن يمتثل أو يعدل إلى جهة أخرى، فأن امتثل وجب دم القران، وعلى من يجب فيه وجهان، وقال في "التهذيب" قولان: أصحهما: على المستأجر؛ لأنه مقتضى الإحرام الذي أمر به وكأنه القارنُ بنفسه. والثاني: على الأجير؛ لأنه قد التزم القران والدم من تتمته فكلف به، فعلى الأول لو شرطا أن يكون على الأجير فَسَدت الإجَارة؛ لأنه جمع بين الإجارة وبيع المجهول كأنه يشتري الشَّاة منه وهي غَيْرُ معينة ولا مَوْصُوفَة، والجمع بين الإِجَارة وبيع المجهول فاسد، ولو كان المستأجر معسراً فالصَّوْم يكون على الأَجِير؛ لأن بعَضَ الصَّوْم ينبغي أن يكون في الحَجِّ، والذي في الحَجِّ منهما هو الأَجِير، هكذا ذكره في "التهذيب". وقال في "التتمة": هو كما لو عجز عن الهَدْي والصَّوْمِ معًا، وعلى الوجهين يستحق الأجرة بتمامها. وإن عدل إلى جهة أخرى نظر إن عدل إلى الإفراد فحج ثم اعتمر فقد نقل عن نَصّه في "الكبير" أنه يلزمه أن يرد من الأجرة ما يخص العمرة، وهذا محمول على ما إذا كانت الإِجَارةُ عَلى العين، فإنه لا يجوز تأخير العمل فيها عن الوقت المعين، وإن كانت في الذِّمة نظر إن عاد إلى الميقات لِلْعُمْرَةَ فلا شيء عليه، وقد زادَ خيراً، ولا شيء على المستأجر أَيضاً؛ لأنه لم يقرن، وإن لم يعد فَعَلى الأَجِيرِ دَمٌ لمجاوزته الميقات لِلْعُمْرَةِ، وهل يَحُطّ شيئاً من الأجرة أم تنجبر الإساءَةُ بِالدَّم؟ فيه الخلاف السَّابق، وإن عدل إلى التمتع فقد أشار أَبُو سَعِيدٍ المتولى إلى أنه إِنْ كانت الإجارةُ إجارةَ عَيْنِ لم يقع الحج عن المُسْتَأجر لوقوعه في غير الوَقْتِ المعين، وهذا هو قياس ما تقدَّم، وإن كانت الإِجَارة على الذِّمة فينظر إن عاد إلى الميقات للحَجِّ فلا دم عَلَيْهِ ولا على المسْتَأجر، وإن لم يعد ففيه وجهان: أحدهما: لا يجعل مخالفاً لتقارب الجهتين، فإن في القرآن نُقْصَاناً في الأَفْعَال وإحراماً من الميقات، وفي التمتع كمَالاً في الأفعال، ونقصاناً في الإِحْرَام لوقوعه بعد مجاوزة الميقات، فعلى هذا الحكم كما لو امتثل، وفي كون الدَم على الأجير أو المستأجر الوجهان: وأظهرهما: أنه يجعل مخالفاً؛ لأنه مأمور بالإحْرَام بالنُّسُكَيْنِ مِنَ المِيقَاتِ، وقد تَرَكَ الإحْرَام بالحَجِّ مِنْهُ، فعلى هذا يَجِب عَلَى الأَجير الدّم لإساءته، وفي حَطِّ شَيْءٍ، من الأجْرَة الخِلافُ السَّابِق، وذكر أصحاب الشيخ أَبِي حَامِدٍ أنه يجب على الأَجِير دَمٌ
لِتَرْكِهِ الإِحرَامَ من الميقَاتِ، وعلى المستأجر دَمٌ آخر؛ لأن القرآن الذي أمر به يتضمنه، واستبعده ابْنُ الصَّبَّاح وغيره. المسألة الثانية: إذا أمره بالتمتع فامتثل فالحكم كما لو أمره بالقران فامتثل، وإن أفرد نظر أن قدم العُمْرَة وعاد للحج إلى الميقات فقد زاد خيراً، وإن أخرَّ العُمْرة فإن كانت الاجارة إجارة عَيْنٍ انفسخت فيها لفوات الوقت المُعَيَّنِ للعمرة فيود حصتَهَا مِنَ المسمى، وإن كانت الإجارةُ عَلَى الذِّمَّةِ وعاد للعمرة إلى الميقات لم يلزمه شَيْءٌ، وإن لم يعد فعليه دَمٌ لترك الإحرام بالعمرة من الميقات، وفي حَطِّ شَيْءٍ من الأجرة الخلاف السَّابق، وإن قرن فالمنقول عن النصِّ أنه قد زاد خيراً لأنه أحرم بالنُّسُكَينِ من الميقات وكان مأموراً بأن يحرم بالعُمْرَةِ مِنْهُ وَبَالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، ثم إن عَدَّد الأفعال فَلاَ شَيْء عَلَيْهِ، وإلا فَقَدْ نَقَلُوا وَجْهَيْنِ في أنه هَلْ يَحُطُّ شيئاً من الأُجْرَة للاختصار في الأفعال، وفي أن الدم على المستأجر لأمره بما يتضمن الدّم أم على الأَجير لنُقْصَانِ الأفعال؟ وكل ذلك مُخَرَّجٌ على الخلاف المُقَدَّمِ في عكسه وهو ما إذا تَمتَّع الَمأَمور بالقَرَانِ. المسألة الثالثة: لو أمره بالإِفْرَاد وامتثل فذاك وإن قَرَن نظر إن كانت الإجارةُ عَلَى العَيْنِ فالعمرة واقعة لاَ فِي وَقْتِهَا فهو كما لو استأجره للحج وحده فَقَرن، وإن كانت في الذِّمة وقعَا عن المستأجر؛ لأن القران كالإفراد شرعاً في أخراج النَّفْسِ عَنِ العَهْدَ، ويجب على الأَجِير الدم، وهل يحط شيئاً من الأُجرة أم ينجبر الخَلَلُ بالدَّمِ؟ فيه الخلاف السَّابق. وإن تمتع فإن كانت الإجارة على العَيْنِ وقد أمره بتأخير العُمْرةَ فقد وقعت في غَيْر وَقْتِهَا فيرد ما يخصها من الأجرة، وإن أمره بتقديمها أو كانت الإجارةُ على الذِّمة وقعَا عن المُسْتَأْجِرِ، وعلى الأَجِير دَمٌ إن لم يعد للحج إلى الميقات، وفي حَطِّ شَيْءٍ من الأجرة الخِلاَف السَّابق. وقوله في الكتاب (وفي حظ شيء من الأجرة مع جبره بالدم) ظاهره يقتضي كَوْنَ الجبر مجزوماً به، وليس كذلك بل التردد في الحَطِّ تردد في أن خلل المُخَالَفَةِ هل ينجبر بالدَّمِ أم لا على ما تَقَرَّرَ وَتَكَرَّرَ. واعلم: أن المسائل مشتركة في أن العُدُولَ عن الجِهَةِ المأمور بها إلى غيرها غَيْر قَادِحٍ في وُقُوع النُّسُكَيْنِ عن المستأجر، وفيه إشكال؛ لأن ما يراعى الإذن في أصْلِهِ يُراعَى فِي تَفَاصِيلِهِ المقصود، فإذا خالف كان المَأْتِيُّ بِهِ غَيْرَ المأذونِ فِيهِ. وأجاب الإمام -رحمه الله- عنه بأن مُخَالَفَةَ المُسْتَأْجِرِ مشبهة بمخالفة الشَّرْع في ترك المأمورات وارتكاب المَحْظُورَاتِ التي لا تفسد وهي لا تمنع الاعتداد بأصْلِ النُّسُكَيْنِ، وهذا لأن المستأجر لا يحصل الحَجَّ لنفسه، وإنما يحصله ليقع للهِ تَعَالى، فجعلت مخالفته كمخالفة الشَّرع.
ولك أن تقول: لم تشبه مخالفة المستأجر بمخالفة الشّرع، ولا نسلم أن المستأجر لا يحصله لنفسه، بل يحصله ليخرج النفس عن عهدة الواجب، وللفعل المخرج كيفيات مخصوصة بعضها أفضل من بعض، فاليراع غرضه فيه، ثم الفارق أن مخالفةَ الشَّرْع فيما لا يفسد يستحيل أن يؤثر في الإفساد، وإذا صَحَّ فمحال أن يصح لغيره، وقد أتَى به لنفسه. وأما النسك الذي خالف فيه المستأجر فلا ضرورة في وقوعه عنه، بل أمكن صرفه إلى الْمُبَاشَرَةِ على المعهود في نظائرة، -والله أعلم-. قال الغزالي: الرَّابِعَةُ إِذَا جَامَعَ الأَجِيرُ فَسَدَ حَجُّهُ وانفَسَخَتِ الإِجَارَةُ إِنْ وَرَدَتْ عَلَى عَينِهِ وَلَزَمَهُ القَضَاءُ لنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى ذِمَّتِهِ لم تَنفَسِخْ، وَهِلْ يَقَعُ قَضَاؤُهُ عَنِ المُسْتَأجِرِ أَوْ تَجِبُ حَجَّةٌ أُخرى سَوى القَضَاءِ لَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. قال الرافعي: إذا جامع الأجير فَسَد حَجُّه. وانقلب إلى الأجير فيلزمه الكَفَّارة، والمضي في الفَاسِدِ وَالْقَضَاءِ، ووجهه أنه أتى بغير ما أُمِر بِهِ، فإن المأمورَ بِهِ الحَجُّ الصَّحِيح، والمأتى بهِ الحَجُّ الفَاسِدُ، فينصرف إِلَيْهِ كما لو أمره بشراء شَيْء بصفة فاشترى على غير تلك الصِّفة يقع عن المأمور، وقد ينقلب الحجُّ عن الحالة التي انعقد عليها إلى غيرها ألا ترى أن حج الصَّبِيّ ينعقد نَفْلاً، ثم إذا بلغ قبل الوقوف ينقلب فرضاً. فإن قيل: إنه موقوفٌ في الابتداء. قلنا: بمثله هاهنا: وروى صاحب "التهذيب" -رضي الله عنه- عن المزني -رحمه الله- إنه لا يَنْقَلِبُ إلى الأَجِيرِ، بَلْ يَقَعُ الفَاسِدُ والقَضَاءُ جَمِيعاً عن المُسْتأْجِرِ، وفي هذا تسليم لوجوب القَضَاء، لكن لرواية المَشْهُورة عنه أنه لا انقلاب ولا قَضَاء أما أنه لا انقلاب، فلأن الإحرام قد انعقد عن المستأجر فلا ينقلب إلى غيره، وأما أنه لا قضاء فلأن من له الحَجُّ لم يفسده فلا يؤثر فِعْل غيره فيه، ولم يعز الحَنّاطِي هذا المذهب إلى المزني لكن قال: إنه حَكَاه قولاً، وإذا قلنا بظاهر المذهب فإن كانت الإجارةُ على العَيْنِ انفسخت، والقضاء الذي يأتي به الأجير يقع عنه، وإن كانت في الذمة لم تنفسخ وعمن يقع القَضَاء؟ فيه وجهان، وقيل: قولان: أحدهما: عن المستأجرِ، لأنه قضاء الأول، وَلوْلا فسادة ولوقع عنه. وأصحهما: عن الأجير، القضاء يحكى الأداء، والأداء وَاقِعٌ عن الأجير، فعلى هذا يلزمه سوى القضاء حجَةٌ أخرى للمُسْتَأجِرِ، فيقضى عَنْ نَفْسِهِ ثم عن المُسْتَأجر في سَنَةٍ أَخْرَى، أو ينيسب من يحج عنه في تِلْكَ السَّنَة، وحيث لا تنفسخ الإجارة، فللمستأجر خِيَار الفَسْخ، لتأخر المقصود وفرق أصحابنا العراقيون بين أن يَسْتَاجِر
المَعْضُوب وبين أن تكون الإجارة لمَيُتٍ في ثبوت الخِيَار وقد سبق نظيرة والكلام عليه والمواضع المحتاجة إلى العلامة بالزَّاي تثبته. قال الغزالي: الخَامِسَةُ لَوْ أَحْرَمَ عَنْهُ ثُمَّ نَوىَ الصَّرْفَ نَفَسِهَ لَمْ يَنْصَرفْ إلَيْهِ وَسَقَطَ أُجْرَتُهُ عَلىَ أَحَد القَوْلَيْنِ؛ لأَنَّهُ أَعْرِضَ عَنْهَا. قال الرافعي: إذا أحرم الأجير عن المستأجرِ، ثُمَّ صَرَفَ إلى نفسه ظَنَّا منه بأنه يَنْصرف وأَتَمَّ الحج على هذا الظَّنَ فالحج للمُسْتَأْجِرِ، وفي اسْتِحقَاقِ الأَجِير الأُجْرَة قولان. أحدهما: أنه لا يستحق، لأنه أعرض عنها، حيث قصد بالحجِّ نَفْسَه. وأصحهما: أنه يستحق لِصِحة العَقْدِ في الإبتداء، وحصول غرض المستأجر، وهذا الخِلافَ مجرى، فيما إِذَا دَفَعَ ثَوْبًا إلى صَبَّاغٍ ليصبغه فأمسكه وجحدةُ وصبغه لنفسه، ثم رَدَّه هل يستحق الأجرة؟ وقس على هذا نظائرة، وإذا قلنا بإستحقاق الأجرة؟ فالمستحق المسمى أو أجرةُ المثل، حكى صاحب "التتمة" فيه وجهين. أصحهما: الأول. قال الغزالي: السَّادِسةُ مَنْ مَاتَ في أَثْنَاءِ الحَجِّ فَهَلْ لِلْوَارِثِ أَنْ يَسْتأْجِرَ أجِيراً لِيَبْنَى عَلَى حَجِّه؟ فِيهِ قَوْلاَن، فَإِنْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ فَإنْ مَاتَ بَيْنَ التَّحلُّلَيْنِ أَحْرَمَ الأَجِيرُ إحْرَاماً حُكمُهُ أَنْ لاَ يُحْرِّمَ اللُّبْسَ وَالقَلْمَ لأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى مَا سَبَقَ فَهُوَ كَالدَّوَامه، فَعَلى هَذَا إذَا مَاتَ الأَجِيرُ في أَثْنَاءِ الحَجِّ آسْتَحَق قِسْطاً مِنَ الأُجْرَةِ، لأَنَّ مَا سَبَقَ لَمْ يُحْبَط، وَإِنْ قُلْنَا: لاَ يَمْكُنُ البِنَاءُ فَقَدْ حِبَطَ حَقُّ المُسْتَأْجِرِ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ شَيْئاً وَجهَانِ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلِ الإِحْرَامِ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ قِسْطاً لِسَفَرِهِ وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ، وَأَوْلَى بِأَنْ لاَ يَسْتَحِقَّ لأَنَّ السَّفَرَ لَمْ يَتَّصِلْ بالمَقْصُودِ. قال الرافعي: غرض الفصل بالكلام فيما إذا مات في أَثْنَاءِ الحَجِّ، وقد قدم عليه مقدمة وهي أن الحَاجّ لِنَفْسِهِ إذا مات في أثناء الحَجِّ هل يجوز البنَاء على حَجِّه؟ وفيه قولان: شبهوهما، بالقولين في جواز البناء على الأذان والَخُطْبَة، وفي جواز الاستخلاف، وإن اختلفت الصور في الأظهر منها. الجديد: الصحيح أنه لا يجوز البناء، على الحَجِّ؛ لأنه عبادة يفسد أوَّلُهَا بِفَسَادِ آخِرِهَا فأشبهت الصَّوْمَ، والصَّلاة، ولأنه لو أُحْصِر، فتحلل ثم زَالَ الحَصْرُ، فأراد البِنَاءَ عليه لاَ يَجُوز، فإذا لم يجز له البنَاء على فِعلِ نَفْسِهِ فأولى أن لا يجوز لِغَيْرِه البِنَاءُ عَلَى فِعْلِهِ. والقديم: الجواز؛ لأن النيَابة جاريةٌ، في جميع أفعال الحَجِّ فتجري في بعضها كتفرقة الزَّكَاة.
التفريع: إن لم نجوز البِنَاء حبط المأتى بهِ إلاَّ في حَقِّ الثواب ووجب الإِحْجَاجُ مِنْ تَرِكتِهِ إِذَا كَانَ مستقراً في ذمته، وإن جوزنا الَبناء فإما أن يتفق المَوْت وقد بقى وَقْتُ الإحرام بِالحَجِّ، أو حين لم يبق وقته. فأما في الحالة الأولى: فيحرم النَّائِبُ بِالحَجِّ، ويقف بعرفة، إن لم يقف الأَصْل ولا يقف إن وقف، ويأتي ببقية الأَعمال ولا بأس بوقوع إحرام النائب وراء الميقات، فإنه مبني على إحرام أُنْشِئَ مِنْه. وأما في الحالة الثَّانية: فيم يحرم؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال أبو إسحاق أنه يحرم، بعمرةٍ لفوات وقت الإحرام بالحَجِّ، ثم يطوف وَيَسْعَى، فيجزانه عن طَوَافِ الحَجِّ، وِسَعْيهِ ولا يبيت ولا يرمى فإنهما ليسا من أعمال العُمْرَةِ، ولكنهما يُجْبَرَانِ بالدَّمِ. وأصحهما: أنه يحرم بالحج أيضاً، ويأتى ببقية الأعمال لأنه لو أحرم بالعُمْرَة، للزمه أفعال العُمْرة، ولما انصرف إلى الحج والإحرام، ابتداء هو الذي يمتنع تأخيره عن أَشهُرِ الحَجِّ، وهذا ليس إحرامًا مبتدأَ، وإنما هو مَبنيٌّ على ما سبق، وعلى هذا فلو مات، بين التَّحَلُّلَينِ، أحرم النَّائِب إحْرامًا لاَ يُحَرِّم اللبس والقلم وإنما يُحَرِّم النِّساء؛ لأن إحرام الأصل لو بقي لكان بهذه الصِّفَة. واعلم: إن الإمام -رحمه الله- حكى الوجه الأول عن العِرَاقيين، ونسب الثَّانِي إلى المَرَاوزة، ولعل أن نسبته الثاني إلى المراوزة، بمعنى أنه الذي أورده ولا يستمر نسبته إليهم بمعنى أنهم أبدعوه، ولا نسبه الأول إلى العراقيين، يعني أنهم اختاروه، ولا أنهم اقتصروا على ذِكْرِهِ، لأن كتبهم مَشْحُونَةٌ بحكاية الوجهين، ونَاصّة على تَرْجِيحِ الثَّانِي مِنْهُمَا. وجميع ما ذَكرْنَا فيما إذا مَاتَ قَبْلَ حُصُولِ التَّحَلُّلَيْنِ، فأما إذا مات بعد حصولهما فقد قطع صاحب "التهذيب"، وغيره بأنه لا يجوز البِنَاء والحالة هذه إذ لا ضرورة إليه، لإمكان جبر مَا بَقِيَ مِنَ الأَعْمَالِ بالدَّمِ، وأوهم بَعْضُهُم إِجْرَاء الخلاف -والله أعلم-. إذا عرفت هذه المُقَدَّمة، فنقول: لموت الأَجير أحوال. إحداها: أن يكون بعد الشُّروعِ في الأَرْكَانِ وقبل الفَرَاغِ مِنْها فهل يستحق شيئاً من الأجرة فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأنه لم يسقط الفرض عن المُسْتَأجِرِ، وهو المقصود فَأَشْبَهَ مَا لَوِ الْتَزَمَ له مالاً ليرد عبده الآَبق إليه فَرَدَّهُ إلى بَعْضِ الطَّرِيق ثُمَّ هرَبَ. والثاني: نعم؛ لأنه عمل بعض ما استؤجر له، فاستحق بقسطه من الأجرة، كما
لو استأجره لِخِيَاطَةِ ثَوْب فخاط بعضه، ثم اختلفوا فصار صَائرُون إلى أن القَوْلَيْنِ مَبْنِيَّاً على أن البِنَاء على الحَجِّ هل يجوز أم لا إن مَنَعْنَاه لم يلزم شيء من الأجرةَ، لأن المستأجر لم ينتفع بما فعله، وإن جَوَّزُنَاه لَزِم، وفي كلام أصْحَابنا العراقيين ما ينفي هذا البناء لأمرين: أحدهما: أن ابْن عَبْدَان ذَكر أن الجديد استحقاق الأجرة، والقديم خلافه، وذلك على عكس المنقول في جَوازِ البِنَاء. والثاني: أن كلمة الأصحاب متفقة على تَرْجِيحِ قَوْلِ المَنْع مِنْ قَوْلي البِنَاءِ؛ وقد حكم كَثِيرٌ منهم بترجيح قول الاستحقاق إما صريحاً فقد ذكره الكرَخِي وغيره. وأما دلالة فلأنهم أشاروا إلى أن مأخذ القولين أن هذا العقد يلحق بالإجارات أو بالجَعَالات من حيث إن المقصود عاقبة الأمر وقطع المسافة ليس بمقصود، ولا بد منه ثم إنهم استبعدوا الحاقه بالجَعَالاَت، وعدوه إجارة، ومعلوم أن في الإِجَارة يستحق بعض الأجرة بِبَعْضِ العَمَلِ، وأوْرَدَ الإِمَامُ -رضي الله عنه- طريقة متوسطة بينهما، وتابعه صاحب الكتاب فقالا: إن جوزنا البناء؛ استحق قِسْطاً من الأُجْرَةِ، لا محالة؛ لأن المستأجر بسبيل من إتمامه، وإن لم تجوزه ففي الاستحقاق الخِلاَف، ووجه عدم الاستحقاق أن ما عمله قد حَبِطَ، ولم ينتفع المستأجر به، ووجه الاستحقاق: أنه ينفعه في الثَّوَاب وإن لم ينفعه في الإجزاء؛ وقد أتى الأَجِيرُ بِمَا عَلَيْهِ، والموت ليس إليه والمَشْهُورُ مِنَ الخِلاَف القولان، وصاحب الكِتَاب نقلهما وَجْهَيْنُ. فإن قلنا: إنه لا يستحق شيئاً فذلك فيما إذا مَاتَ قَبْلَ الوُقُوفِ بعرفة، فإن مات بعده فقد حكى الحَنَّاطِي فيه وجهين، والأظهر أنَّهُ لا فَرق. وإن قلنا: إنه يستحق شيئاً فالأجرةُ تُقَسَّطُ عَلَى الأَعْمَال وَحْدَها، أم عليها مع السَّيْرِ فيه طريقان، قال الأكثرون هُوَ على قولين: أحدهما: أنها تقسط على الأعْمَالِ وَحْدَها؛ لأن الأُجْرَة تقابل المَقْصُود، والسَّيْرِ تسبب إليه وليس من المقصود في شيء. وأظهرهما: أنها تُقَسَّطُ عَلَى العَمَلِ وَالسَّيْرِ جميعاً، لأن للوسائل حكم المقاصد، وتعب الأجير في السَّير أكثر، فيبعد أن لا يقابل بشيءٍ؛ وقال ابنُ سُرَيْج -رحمه الله- إن قال: استئجرتك لتحج عني، فالتوزيع على الأَعْمَالِ وَحْدَها. وإن قال: لتحج من بلد كَذَا، فالتوزيع على السَّيْرِ والأعمال جميعاً، ونزل النَّصَّيْنِ على الحَالَيْنِ، ثم هل يبنى على ما فَعَلَه الأَجِير؟ ينظر كانت الإجَارة على العَيْنِ انفسخت، ولا بناء لورثة الأَجِير، أما لم يكن لَهُ أن ينيب بِنَفْسِهِ، وَهل لِلْمُسْتَأْجِرِ أن
يستأجر من يتمه؟ فيبنى على القولين في جواز البناء، إن جَوَّزْنَاه فله ذلك، وإلا فَلاَ، وإن كانت الاجَارة على الذِّمِّة. فإن قلنا: لاَ يَجُوز البِنَاء، فَلِوَرثَةِ الأَجِير أن يستأجروا من يَحُجُّ عَمَّنِ استؤجر له، فإن أمكنهم الإحجاج عنه في تلك السنة لبقاء الوقت فذاك، وإن تأخر إلى السَّنَةِ الأُخْرَى ثبت الخيار، كما سبق، وإن جوزنا البناء فلورثة الأجير أن يتموا الحَجِّ، ثم القول في أن النَّائِبَ بِمَ يَحُرم وفي حكم إحرامه بين التحللين على ما سبق. الحالة الثانية: أن يكون بَعْدَ الأخذ في السَّيْرِ، وقبل الإحْرَام، فالمنقول عن نَصِّه في عامة كتبه أنه لا يستحق شيئاً من الأُجْرَةِ، لأنه بسبب لا يَتَّصِل بِالْمَقْصُودِ، فصار كما لو قرب الأجير على البِنَاء الآلات من موضع البنَاء ولم يبن لم يستحق شيئاً، وعن أبي بكر الصَّيْرَفِيّ والإصْطَخْرِي: أنه يستحق قِسْطَاً من الأجرة؛ لأنهما أفتيا سنة حصر القرامطة (¬1)، الحجيج بالكوفة، بأن الأجَرَاء يستحقون من الأُجْرَةِ بِقَدْرِ ما عملوا. ووجهه أن الأجرة تَقَعُ في مقابلة السَّيْرِ وَالْعَمَلِ جميعاً ألا ترى أنها تَخْتَلِف باختلاف المسافة طولاً، وقِصَراً، وفصَّل ابن عبدان المسَألة فقال: إن قال: استأجرتك لتحج من بَلَدِ كَذَا، فالجواب على ما قَالاَه، وإن قال على أن تَحُج، فالجواب على مَا هُوَ المَشْهُور، وهذا كالتَّفْصِيل الذِي مَرَّ عَنِ ابْن سُرَيْج. والحالة الثالثة: ولم يذكرها في الكتاب: أن يكون موتهُ بعد إتمام الأرْكَان، وقبل الفَرَاغِ مِنْ سَائِرِ الأَعْمَالِ، فينظر إن فات وقتها أو لم يفت، ولكن لم نجوز البناء فيجبر بالدَّمِ مِنْ مَالِ الأَجِيرِ، وفي رَدِّ شيء من الأجرة الخلاف السابق، وإن جوزنا البناء فإن كانت الإجارة على العين انفسخت، ووجب رَدّ قسطها من الأجرة، واستأجر المستأجر من يَرْمي ويبيت، ولا دَمَ عَلَى الأَجِير، وإن كانت على الذمة استأجروا وارث الأجير مَنْ يَرْمِي ويبيت، ولا حاجة إلى الإحْرَامِ، لأنهما عملان يؤتى بهما بعد التحللين، ولا يلزم الدّم ولا رد شيء من الأجرة ذكره في "التتمة". قال الغزالي: السَّابِعَةُ لَوْ أحصرَ فَهُوَ كَمَا لَوْ مَاتَ، وَلَوْ فَاتَ الحَجُّ فَهُوَ كَالإِفْسَادِ لأنَّهُ يُوجِبُ القَضَاءَ وَلاَ يَسْتَحقُّ شيئاً. قال الرافعي: لو أحْصِر الأَجِيرُ فله التَّحلُل، كما لو أحْصِر الحاجُّ لنفسه فإن تحلل فعن من يقع ما أتى به؟ فيه وجهان: أصحهما: عن المستأجر كما لو مات، إذ لم يوجد من الأجير تقصير. والثاني: عن الأجير كما لو أفسده؛ لأنه لم يحصل غرضه، فعلى هذا دم ¬
الإحصار عَلَى الأَجِير، وعلى الأول هو على المستأجر، وفي استحقاقه شيئاً من الأُجْرة الخلاف المَذْكُور في الموت، وإن لم يتحلل وأقام على الإحْرَام حتى فاته الحَجّ انقلب الحَجُّ إليه، كما في صورة الإفْسَاد، ثم يتحلل بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، وعليه دم الفَوَات، ولو فرض الفوات بنوم أو تأخر عَن القَاِفلة وغيرهما من غير إحصار انقلب المأتى به إلى الأجير أيضاً كما في الإفساد؛ لاشْتِراكهما في إيجاب القَضَاء؛ ولا شَيْءَ لِلأَجِير ومن الأصحاب من أجرى فيه الخِلاَف المذكور في الموت، ولا يخفى بعد الوُقوف على ما ذَكَرْنَا، أن قوله: (لو أحصر فهو كما لو مات) أراد به مَا إِذَا أحصر وتَحَلَّل، وأنه يجوز أن يعلم قوله: (كما لو مات) بالواو لأنا حكينا وجهاً أنه إذا تَحَلَّل وقع المأتى به عن الأجِير، وذلك الوَجْه غير جارٍ في الموت، فلا يكون الإحْصَار كالموت على ذلك الوَجْه، وأنه لو أعلم قوله: (فهو كالإفساد) بالواو، وكذا قوله: (يستحق شيئاً) جَارٍ مجرى التوكيد والإيضَاح، وإلا ففي التَّشْبِيه بالإفْسَاد ما يغني عنه، والله أعلم هذا تمام الكَلاَم في المقدّمة الأولى. قال الغزالي: المُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: المَوَاقِيتُ، وَالمِيقَاتُ الزَّمَانِيُّ لِلْحَجِّ شَهْرُ شَوَّالٍ (ح) وَذُو القِعْدَةِ وتِسعٌ مِنْ ذي الحِجَّة، وَفي لَيْلَةِ العِيدِ إِلَى طُلُوعِ الفَجْرِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: ميقات الحج والعُمْرة ينقسم إلى زماني ومكاني. أما الزماني (¬1) فالكلام فيه في الحَجِّ، ثم في العمرة. أما الحج فوقت الإحْرَام به شَوَّال، وذو القعدة، وتسع لَيالٍ بأيامها من ذِي الحَجَّة، وفي ليلة النَّحْرِ وجهان حكاهما: الإمام وصاحب الكتاب. أصحهما: ولم يورد الجمهور سواه: أنها وقت له أيضاً؛ لأنها وقت للوُقُوفِ بعرفة، ويجوز أن يكون الوجه الآخر صادراً ممن يقول، أنها ليست وقتاً له، وسيأتي بيان ذلك الخِلاَف في موضعه. ¬
واعلم أن لفظ الشافعي -رضي الله عنه- في "المختصر" وأشهر الحَجِّ شوال وذو القعدة، وتسع من ذي الحَجَّة، وهو يوم عرفة فمن لم يدركه إلى الفَجْرِ من يوم النحر فقد فاته الحَجِّ، وفيه مباحثتان. إحداهما: قوله "وهو يوم عرفة" قال المسعودي مَعْنَاه والتاسع يوم عرفة، وفيه معظم الحَجِّ. وقوله: "فمن لم يدركه" اختلفوا في تفسير، فقال الأكثرون: أراد من لم يدرك الإحرام بالحَجَّ، إلى الفجر من يوم النحر. وقال المسعودي: أراد من لم يدرك الوُقُوفَ بِعَرَفة. الثانية: اعترض ابن داود، فقال قوله: (وتسع من ذي الحَجَّة) إما أن يريد به الأيام أو الليالي، إن أراد الأيام فاللفظ مُخْتَل؛ لأن جمع المذكر في العَدَدِ بالهاء؛ كما قال الله تعالى: {وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ}. وإن أراد الليالي فالمعنى مختل؛ لأن الليالي عنده عشر لا تسع، قال: الأصحاب هاهنا قسم آخر وهو أنه يريد الأيام والليالي جميعاً، والعرب تقلب التأنيث في العدد، ولذلك قال: الله تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬1). وقال -صلى الله عليه وسلم- "وَاشتَرِطِ الْخِيَارَ ثَلاَثاً" (¬2). والمراد الأيام والليالي، ثم هب أن المُرَاد الليالي، ولكن أفردها بالذكر؛ لأن أيامها ملحقة بها فأما الليلة العاشرة، فنهارها لا يتبعها فأفردها بالذِّكْرِ، حيث قال: (فمن لم يدركه إلى الفجر من يوم النحر) وهذا على تفسير الأكثرين. وأما على تفسير المسعودي، فلم يمنع إنشاء الإحْرام ليلة النحر، أن يتمسك بِظَاهر قوله: وتسع من ذي الحَجَّة، ولا يلزمه إشكال ابن داود. وأعلم قوله في الكتاب: (وتسع من ذي الحجة) بالحاء والألف؛ لأنهما يقولان وعشر من ذي الحَجَّة بأيامها، وبالميم؛ لأنه يقول وذي الحَجَّة كله، قال جماعة من الأصْحَاب: وهذا اختلاف لا يتعلق به حكم، وعن القَفَّال أن فائدة الخلاف مع مالك كراهة العمرة في ذي الحَجَّة فإن عنده تكره العمرة في أشهر الحج، ثم اتفق مالك وأبو حنيفة وأحمد -رحمهم الله- على أن الإحْرَام بالحَجِّ ينعقد، في غير أشهره إلا أنه مكروه، ويجوز أن يعلم قوله: (وتسع ذي الحَجّة) بالواو أيضاً؛ لأن المُحَامِلِي حكى في "الأوسط" قولاً، عن "الإملاء" كمذهب مالك. ¬
وقوله: (والميقات الزماني للحج) أي للإحرام به، فأما الأفعال فسيأتي بيان أوقاتها. قال الغزالي: وَأَمَّا العُمْرَةُ فَجَمِيعُ السَّنَةِ وَقْتُهَا، وَلاَ تُكْرَهُ فِي وَقْتٍ أصْلاً إِلاَّ لِلحَاجِّ العَاكفِ بمنىً في شُغُل الرَّمْي وَالمَبِيتِ لاَ تَنْعَقِدُ عُمْرَتُهُ لِعَجْزِهِ عَنِ التَّشَاغُلِ بِهِ في الحَالة، وَلَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ أَشْهُرِ الحَجِّ بِحَجِّ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ وَيَتَحَلَّلُ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، وَهَلْ يَقَعُ عَنْ عُمْرَةِ الإِسْلامِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ. قال الرافعي: السَّنَةُ كلها وقتٌ للاحرام بالعُمْرَة، ولا يختص بأشهر الحج، وروى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حُجَّةً" (¬1). "وَاعْتَمَرَت عَائِشَةُ -رضي الله عنها- مِنَ التَّنْعِيم لَيْلَةَ المُحَصَّبِ" (¬2) وهي الليلة التي يرجعون فيها من مَنَىً إلى مكَّة، ولا يكره في وقت منها، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة يكره في خمسة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، وقد قدمنا عن مالك كراهيته في أشهر الحَجِّ، وتَوَقَّفَ الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ في ثبوته عنه. لنا، أن كل وقت لا يُكْرَه فيه القران بين النسكين لا يكره الإفراد بأحدهما. أما على أبي حنيفة فكما قيل: يوم عرفة. وأما على مالك فكالإفراد بالنّسك الآخر، ولا يكره أن يعتمر في السّنة مراراً بل يستحب الإكثار منها، وعن مالك أنه لا يعتمر في السَّنة إلا مرّة. لنا ما روي "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- أَعْمَدَ عَائِشَةَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ مَرَّتَيْنِ" (¬3). وقد يمتنع الإحْرام بالعُمْرة لا باعتبار الوقت بل باعتبار عارض كمن كان محرماً بالحج لا يجوز له إدخال العمرة على أظهر القولين كما سنشرحه. وإذا تَحَلَّل عنه التحللين، وعكف بمنىً لشغل المبيت والرمي، لم ينعقد إحرامه بالعمرة، لعجزه عن التشاغل بأعمالها في الحَالِ، نص عليه، قال: الإمام: وكان منَ حقِّ تِلْكَ المنَاسِك، أن لا تقع إلا في زَمَانِ التَّحَلّلِ، فإن نفر النفر الأول فله الإحْرَام ¬
بها، لسقوط بقية الرَّمْي عنه، ثم في الفَصْل مسألة تتعلق بِوَقْتِ الإحْرَامِ بالحَجِّ، وهي أنه لو أحرم بالحج في غير أشهره ما حكمه؟ لاَ شَكَّ في أنه لا ينعقد إحْرَامه بالحَجِّ، ثم أنه نَصَّ في "المختصر" على أنه يكونُ عُمْرَة، وفي موضع آخر على أنه يتحلَّلَ بِعَمَلِ عُمْرَة، وللأصْحَاب فيه طريقان: أظهرهما: أن المسألة على قولين: أصحهما: أن إحرامه ينعقد بعمرة؛ لأن الإحْرَام شديد التَشبُّث واللُّزُوم، فإذا لم يقبل الوقت، ما أحرم به انْصَرف إلى ما يقبله. والثاني: أنه لا ينعقد بعُمْرَة، ولكن يتحلل بِعَمَلِ عمرة كما لو فات حجة، لأن كل واحد من الزمانين ليس وَقتًا للحج، فعلى الأول إذا أتى بأَعْمَال العُمْرَة سقطت عنه عُمْرَة الإسْلاَم، إذا قلنا بافتراضها وعلى الثاني لا تسقط، وشبهوا القولين بالقولين في التَّحَرُّم بالصَّلاَةَ قبل وَقْتِها هل تنعقد نَافِلَة؟ لكن الأظهر هناك أنه إن كان عالماً بالحال لم تنعقد نافلة، وهاهنا الأظهر انعقاد عمرة بكل حال لقوة الإحرام، ولهذا ينعقد مع السَّبب المفسد له بأن أحرم مجامعاً. والطريق الثاني ففي القولين وله طريقان: أشهرهما: القطع بأنه يتحلل بِعَمَلِ عُمْرَةِ، ولا ينعقد إحرامه عمرة؛ لأنه لم يَنْوِها. والثاني: حكى الإمام قدس الله روحه عن بعض التَّصَانِيف أن إحرامه ينعقد بهما إن صرفه إلى العمرة كان عمرة صحيحة وإلا تحلل بعمل عمرة، والنصان ينزلان على هذين الحالين. وقد عرفت من هذا أن المذكور في الكتاب طريق القولين، ولما كانَا متفقين على انعقاد الإحرَام، وعلى أنه لا بد من عَمَلِ عُمْرةَ، وإذا أتى به تحلل لا جرم جزم بانعقاد الإحرام وحصول التحلل، ورد القولين إلى الاحتساب به عن عُمْرَة الإسْلاَم. ولك إعلام قوله: (قولان) بالواو للطريق الثاني، ولو أحرم قبل أشْهُرِ الحَجِّ إحراماً مطلقاً، فإن الشَّيْخَ أبا على خرجه على وجهين يأتي ذكرهما فيما إذا أحرم بالعُمْرةَ قبل أشْهُرِ الحَجِّ ثم أَدْخَل عليه الحَجَّ في أشهره هل يجوز. إن قلنا: يجوز انعقد إحرامه بِهِمَا، فإذا دَخَل أشهر الحَجِّ فهو بالخيار في جعله حَجّاً أو عمرة أو قراناً، ويحكى هذا عن الخضري. وإن قلنا: لا يجوز انعقد إحْرَامُه بعمرة، وهذا هو جواب الجمهور في هذه المسألة، والقاطعون بأنه يتحلل بِعَمَلِ عُمْرَةَ في الصورة الأولى، نزلوا نصه في "المختصر" على هذه الصورة -والله أعلم-.
قال الغزالي: أَمَّا المِيقَاتُ المَكَانِيُّ فَهُوَ فِي حَقِّ المُقِيمِ بِمَكَّةَ خُطَّةُ مَكَّةَ عَلَى رَأْيٍ وَخُطَّةُ الحَرَمِ عَلَى رَأي، وَالأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ بَابِ دَارِهِ، فَإِنْ أَحْرَمَ خَارجَ الحَرَمِ فَهُوَ مُسِيئٌ. قال الرافعي: تكلم في الميقات المكاني في الحَجِّ، ثم في العمرة، وفي الحج في حق المقيم بمكَّة وغيره (¬1). أما المقيم بمكَّة إذا أراد الحَجَّ مكياً كان أو غيره فإنه يحرم منها، وميقاته نفس مَكَّة أو خطة الحرم كُلّها فيه وجهان، وقال الإمام: قولان: أصحهما: نَفْسُ مَكَّة كما سيأتي من خبر ابن عباس -رضي الله عنهما- في المواقيت. ¬
فعلى هذا لو فارق البنيان وأحْرَمَ فِي حَدِّ الحَرَمِ فهو مُسيئ يَلْزُمه أن يريق دماً إن لم يعد كما لو جاوز خطة قرية هي ميقات ثم أحرم. والثاني: أن ميقاته خطة الحرم؛ لاستؤاء مكَّة وما وراءها من الحَرَم في الحرمة، ولهذا لا يكتفي للمكّي إذا أراد أن يُحْرِم بالعُمْرَة أن يخرج عن خطة مكَّة، بل يحتاج إلى الخُروجِ عَنِ الحَرَمِ، فعلى هذا إحْرَامُهُ فِي الحَرَمِ بَعْدَ مجاوزة العُمْرَان ليس بإساءة. أما إذا أحرم بعد مجاوزة الحَرَم فقد أساء وعليه الدم إلا أن يعود قبل الوقوف بعرفة أما إلى مكَّة على الوجه الأول، أو إلى الحَرَم على الثَّاني، فيكون حينئذ كمن قدم الإحرام على الميقات. وقوله في الكتاب: (على رأي) مفسر بالقولين على ما رواه الإمام -رحمه الله- وبالوجهين على ما رواه المصنف في "الوسيط"، وصاحبا "التتمة" و"المعتمد" ثم من أي موضع أحرم من عمران مَكَّة جاز، وما الأفضل؟ فيه قولان. أحدهما: أن الأفضل أن يتهيأ للإحرام ويحرم في المسجد قريباً من البيت. وأظهرهما: أن الأفضل أن يحرم من بَابِ دَارِه، ويأتي المسجد مُحرِماً، وهذا هو الذي أجاب به في الكتاب، ويدُلُّ عليه ما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ أَفْضَلَ حَجٍّ أَنْ تُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ" (¬1) (¬2). قال الغزالي: أَمَّا الآفّاقِيُّ فَمِيقَات مَنْ يَتَوَجَّهُ مِنْ جَانِبِ المَدِينَةِ ذُو الحُلِيفَةِ، وَمِنَ الشَّامِ الجُحْفَةُ، وَمِنَ اليَمَنِ يَلَمْلَمُ، وَمِنْ نَجْدٍ اليَمَنُ، وَنَجْدِ الحِجَاز قَرْنٌ، وَمِنْ جِهَةِ المَشْرِق ذَاتُ عِرْقٍ، وَهِذهِ المَوَاقِيتُ لِأهْلِهَا وَلَكُلِّ مَنْ مَرَّ بِهَا، وَالَّذِي مَسْكَنُهُ بَيْنَ المِيقَاتِ وَبَيْنَ مَكَّةَ فَمِيقَاتُهُ مِنْ مَسْكَنِهِ، وَالَّذِي جَاوَزَ المِيقَاتَ لاَ عَلَى قَصْد النُّسُكِ فَإذَا عَنَّ لَهُ النُّسُكُ فَمِيقَاتُةُ مِنْ حَيْثُ عَنَّ لَهُ. قال الرافعي: غير المقيم إما أن يكون مسكنه وراء المواقيت الشَّرْعِية وهو الأفاقي، أو بينها وبين مَكَّة والأول إذا انتهى إِلَى الميقات فأما أن يكون مريداً للنُّسك أو لا يكون، فهؤلاء ثلاثة أصناف. ولا بد أولاً من بيان المواقيتِ الشَّرْعِية. ¬
وهي في حق المتوجهين من المدينة ذُو الحُليْفَةَ (¬1)، وهو على عشر مراحل، من مكة وعلى ميل من المدينة، وفي حق المتوجهين من الشَّام (¬2) ومصر (¬3) والمغرب الجُحْفَة (¬4) وهي على خمسين فرسخاً من مكَّة، وفي حق المتوجهين من تُهامة اليمن (¬5) يَلَمْلم، وقد يسمى أَلَمْلَم، وفي حق المتوجهين من نجد اليمن، ونجد (¬6) الحجاز ¬
قرْن (¬1) وفي حق المتوجهين من جهة المَشْرق والعِرَاق وخراسان ذَاتُ عِرْقٍ، وكل واحد من هذه الثلاثة من مكَّة على مرحلتين، وقد ذكر الأئمة أن اليمن يشتمل على نَجْد وتهامة وكذلك الحِجَاز، وإذا أطلق ذكر نجد كان المراد منه نجد الحجاز، وميقات النجدين جميعاً قَرْن. وإذا قلنا: إن ميقات اليمن يَلَمْلم أراد به تهامتها لا كل اليمن. وأعلم: أن ما عدا ذاتِ عِرْقٍ من هذه المواقيت منصوص عليه، روي في الصَّحيح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لِأَهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّام الجُحْفَةَ، ولِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْن، المَنَازِلِ، ولِأَهْلِ اليَمَنِ يلملم وقال هُنَّ لَهُنَّ وَلمَنْ أْتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ (¬2)، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكَّة من مكَّة واختلفوا في ذَاتِ عِرْق على وجهين: أحدهما: أن توقيته مأخوذ من الاجتهاد؛ لما روى عن طاووس أنه قال: "لَمْ يُوَقِّتْ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتِ عِرْقٍ، وَلَمْ يَكُنْ حِيْنِئذٍ أَهْلُ المَشْرِقِ أَي: مُسْلَمِينَ" (¬3). وفي الصَّحيح عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "لَمَّا فُتِحَ هَذانِ المِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ -رَضِيَ الله عَنْهُ- فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرَناً، وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَريقِنَا، وإِنَّا إِنْ أَرَدْنَاهُ شَقَّ عَلَيْنَا، قَالَ: فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ" (¬4). والثَّاني: وإليه صَغْوُ الأكثرين: أنه منصوص عليه، روي عن عائشة -رضي الله عنها-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَّتَ لِأَهْلِ المَشْرِقِ ذَاتَ عِرْقٍ" (¬5) ولا يبعد أن ينص عليه والقوم ¬
مشركون يَومئذٍ إذا علم إسلامهم، ويحتمل أن النصوص لم تبلغ عُمَرَ -رضي الله عنه- والذين أتوه فاجتهدوا فوافق اجتهادهم النص، ولو أحرم أهل المَشْرِق من العقيق كان أفضل، وهو واد وراء ذات عِرْق مِمَّا يلي المشرق بقرب منها، لما روى عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ" (¬1). ولأن ذات عِرْق مؤقتة بالاجتهاد على أحد الرأيين، فالإحرام مما فوقها أحوط، وقد يخطر ببالك إذا انتهيت إلى هذا المقام البحث عن قَرْن من وجهين: أحدهما: أنه بتحريك الراء أو تسكينها، وإن كان الأول فهل هو الذي ينسب إليه أويس -رضي الله عنه- أم لا؟ والثاني: أنه قال في الخبر: قَرْن المَنَازِل فما هذه الإضَافة؟ وهل هو للتمييز عن قرن آخر أم لا؟ والجواب: أما الأول فالسماع المعتمد فيه عن المتقنين التسكين، ورأيته منقولاً عن أبي عبيد وغيره، ورواه صاحب الصِّحاح بالتحريك، وادعى أن أويساً منسوب إليه. وأما الثاني: فقد ذكر بعض الشَّارِحين للمختصر أن القرن اثنان: أحدهما: في هبوط يقال له: قرن المَنَازِل، والآخر: على ارتفاع يقرب منه، وهي القرية، وكلاهما ميقات -والله أعلم-. إذا عرفت ذلك فالصنف الأول الأفاقي الذي انتهى إلى الميقات وهو يريد النُّسُك فليس له مجاوزته غير مُحْرِم، سواء أراد الحَجَّ أو العمرة أو القران، فإن جاوزه فقد أساء، وسيأتي حكمه، ولا فرق بين أن يكون من أهل تلك الناحية أو من غيرها، كالمشرقي إذا جاء من المدينة، والشَّامي إذا جاء من نَجْد؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ". الثاني: الأفاقي الذي انتهى إلى الميقات وهو غير مريد للنُّسك، فننظر إن لم يكن على قَصْدِ التَّوَجُّه إلى مكَّة، ثم عَنَّ له قصد النُّسُك بعد مجاوزته، فميقاته من حَيْثُ عَنَّ له هذا القَصْد، ولا يلزمه الرُّجُوع إلى الميقات، وقد أشار إليه في الخبر الذي سبق، حيث قال: فإن كان يريد الحج والعمرة، وإن كان على قَصْدِ التوجه إلى مكة لحاجة غير النُّسُك، ثم عَنَّ له قصد النسك عند المجاوزة، فينبئ هذا على أن من أراد دخول ¬
مكة هل يلزمُهُ الإحْرَامُ بِنُسُكٍ؟ وفيه خلاف مَذْكُورٌ فِي الكِتَاب في فَصْلِ سُنَنِ دُخُولِ مَكَّة، فإن ألزمناه فعليه إنشاؤه من المِيقَات، فيأثم بمجاوزته غير محرم كما إذا جاوزه على قَصْدِ النُّسُك غير محرم، وإن لم يلزمه الإحرام فهو كمن جاوزه غير قاصد للتوجه إلى مكَّة. الثالث: الذي مسكنه بين أَحَدِ المواقيت وبين مكَّة فميقاته مَسْكَنُه، يعني: القرية التي يسكنها والحلة التي ينزلها البَدَوِيّ؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- بعد الذكر المواقيت: "فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمَهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ" وقوله في الكتاب: (والذي جاوز الميقات لا على قصد النسك إلخ) قد أطلق الكلام فيه إطلاقاً، ولا بد من التفصيل الذي ذكرناه، ويجوز أن يعلم قوله: (فميقاته حيث عنّ له) بالألف؛ لأن عند أحمد أنه إذا جاوز غير قاصد لدخول مَكَّة، ثم عَنَّ له قصد النسك يلزمه العود إلى الميقات، فإن لم يعد فعليه دم. قال الغزالي: والأَحَبُّ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ المِيقَاتِ، وَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ آخِرِهِ فَلاَ بَأْسِ، وَلَوْ حَاذَى مِيقاتاً فَمِيقَاتُهُ عِنْدَ المُحَاذَاةِ إِذ المَقْصُودُ مِقْدَارُ البُعْدِ عَنْ مَكَّةِ، وَإِنْ جَاءَ مِنْ نَاحِيَةً لَمْ تُحَاذ مِيقَاتاً وَلاَ مَرَّ بِهِ أَحْرَمَ مِنْ مَرْحَلَتَينِ، فَإِنَّهُ أَقَلُّ المَوَاقِيتِ وَهُوَ ذَاتُ عِرْقٍ. قال الرافعي: في الفصل صور: إحداهَا: يستحب لمن يحرم من بعض المَوَاقِيت الشَّرْعِية، أن يحرم من أول جزء ينتهي إليه، وهو الطرف الأبعد من مكَّة، ليقطع الباقي مُحْرِماً، ولو أحرم من آخره جاز؛ لوقوع الاسم عليه، ويستحب لمن ميقاته حلته أو قريته أيضاً أن يحرم من الطَّرف الأبعد، والاعتبار في المواقيت الشرعية بتلك المواضع لا بالقرى والأبنية، حتى لا يتغير الحكم لو خرب بعضها فنقلت العمارة إلى موضع آخر قريبٍ منه، وسُمِّي بذلك الاسم. الثانية: إذا سلك البحر أو طريقاً في البر لا ينتهي إلى واحد من المواقيت المُعَيَّنة فميقاته الموضع الذي يُحَاذِي الميقات المعين، فإن اشتبه عليه فليتأخ، وطريق الاحتياط لا يَخْفَى. ولو حاذى ميقاتين يتوسطهما طريقه نظر إن تساويا في المسافة إلى مَكَّة وإلى طريقه جميعاً، أو في المسافة إلى مكَّة وحدها فميقاته الموضع الذي يُحَاذِيها، وإن تساويا في المسافة إلى طريقه، وتفاوتا في المسافة إلى مَكَّة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يتخير إن شاء أحرم من الموضع المحَاذِي لَأَبْعَدِ الميقاتين، وإن شاء أحرم من الموضع المحاذي لأقربهما. وأظهرهما -وبه قال القفال-: أنه يحرم من الموضع المحاذي لأبعدهما، وليس
له انتظار الوصول إلى محاذاة الأقرب، كما ليس للآتي من المدينة أن يجاوز ذَا الحُلَيْفَة، ليحرم من الجُحْفَة، وقد تَصَوَّر في هذا القِسْمِ محاذاة الميقاتين دفعة واحدة، وذلك بانحراف أحد الطريقين والْتِوَائِهِ لَوعُورَةٍ وغيرها فلا كلام في أنه يحرم من موضع المحاذاة، وحكى الإمام: وجهين في أنه منسوب إلى أَبْعَدِ الميقاتين أو أقربهما. قال: وفائدتهما تظهر فيما إذا جاوز مَوْضِع المحاذاة وانتهى إلى حَيْثُ يفضي إليه طريقاً الميقاتين، وأراد العَوْد لدفع الإساءة، ولم يعرف مَوْضِع المحاذاة أيرجع إلى هذا الميقات أم إلى ذلك؟ وتابعه المصنف على رواية الوجهين في "الوسيط" وكلاهما لا يصرح بالتَّصْوِيرِ في الصُّورة التي ذكرتها كل التصريح، لكنه المفهوم مما ساقاه ولا أعرف غيره -والله أعلم-. وإن تفاوت الميقاتان في المسافة إلى مكَّة وإلى طريقه فاعتِبَار بالقُرْب إليه أو إلى مكَّة، فيه وجهان: أولهما: أظهرهما، واعلم أن الأئمة فرضوا جميع هذه الأقسام فيما إذا توسط بين طريقين يفضي كل واحد منهما إلى ميقات، ويمكن تصوير القِسْم الثَّالِث والرَّابع في ميقاتين على يمينه أو شماله كَذِي الحُلَيْفَة والجُحْفَة، فإن أحدهما بين يدي الآخر، فيجوز فَرْضُهُمَا على اليمين أو الشّمال، وتساوي قربهما إلى طريقه وتفاوته. الثالثة: لو جاء من ناحيةٍ لا يحاذي في طريقهما ميقاتاً ولا يَمُرُّ به، فعليه أن يحرم إذا لم يبق بينه وبين مكَّة إلا مرحلتان، إذ ليس شيء من المواقيت أقل مَسَافة من هذا القدر. وقوله في الكتاب: (فإنه أقل المواقيت وهو ذات عرق) إنما كان يحسن أن لو كانت ذات عرق أقل مسافة مِنْ كُلِّ ما سواها من المواقيت لكن قد مَرَّ أن ذَات عِرْقٍ مع يَلَمْلَمَ وَقَرْن متساوية في المَسَافة. قال الغزالي: وَمَهْمَا جَاوَزَ مِيقَاتاً غيرَ مُحْرِمِ فَهُوَ مُسِيءٌ وَعَلَيْهِ الدَّمُ، وَيسْقُطُ عَنْهُ بِأَنْ يَعُودَ إلَى المِيقَاتِ قَبلَ أَنْ يَبْعُدْ عَنْهُ بِمَسَافَةِ القَصْرِ، وإنْ عَادَ بُعْدَ دُخولِ مَكَّةَ لَمْ يَسْقُطْ، وإنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَوَجْهَانِ، ثمَّ يَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ أَوَّلاً ثُمَّ يُحْرِمَ مِنَ المِيقَاتِ، فَإِنْ أَحْرَمَ ثُمَّ عَادَ مُحْرِماً فَفِي سُقُوطِ الدَّمِ وَجْهَانِ، وَلَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ المِيقَاتِ كَانَ أَحَبَّ. قال الرافعي: الفَصْل يشتمل على مسألتين: إحْدَاهُما: إذا جاوز المَوْضِع الذي لزمه الأَحْرَام مثه غير محرم أثِم، وعيه العَوْدُ إليه والإحْرَامُ مِنْهُ إن لم يكن له عذر، وإن كان كما لو خاف الانقطاع من الرِّفْقَة، أو كان الطَّريقِ مخوفاً، أو الوقت ضيقاً أحرم وَمَضَى على وجهه، ثم إذا لم يَعدْ فعليه دَمٌ،
لما روي عن ابن عَبَّاس -رضي الله عنهما- موقوفاً ومرفوعاً: "أَنَّ مَنْ تَرَكَ نُسُكاً فَعَلَيْهِ دَمٌ" (¬1). وإن عاد فلا يخلو إما أن يعود وينشئ الإحْرَام منه، أو يعود إليه بعد ما أحْرَم. فأما في الحَالَةِ الأولَى: فالذي نقله الإمام وصاحب الكتاب -رحمهما الله- أنه إن عاد قبل أن يبعد عن المِيقَاتِ بِمَسَافَةِ القَصْر فلا دم عليه؛ لأنه حَافظ على الوَاجِب في تَعَبٍ تَحَمَّلَهُ، وإن عاد بعد ما دَخَلَ مكة لم يَسْقُط عنه الدم؛ لوقوع المحذور، وهو دُخُولُ مَكَّةَ غَيْرَ مُحْرِمِ مع كونه عَلَى قَصْدِ النُّسُكِ، وإن عاد بعد ما بَعُدَ عن الميقات بمسافة القصر فَوَجْهَان: أظهرهما: أنه يسقط كما لو عاد بعد البعد عنه بهذه المسافة. والثاني: لا يسقط لتأكد الإسَاءة بانقطاعه عن الميقات حَدّ السَّفَرِ الطَّوِيل، هذا ما ذكراه. والجمهور قضوا بأنه لو عَادَ وأنشأ الإحْرَام منه فلا دم عليه، ولم يفصلوا بَيْنَ أن يبعد أو لا يبعد، ولا بين أن يدخل مَكَّة أو لا يدخلها، فعليك إعلام قوله: (وإن عاد بعد دخول مكة لم يسقط) بالواو، ومعرفة ما فيه. وأما الحالة الثَّانية: وهي أن يحرم ثم يعود إلى الميقات محرماً فقد أطلق صاحب الكتاب وطائفة في سقوط الدم فيها وجهين، ورواهما القَاضِي أبُو الطَّيِّبِ قولين: وجه عدم السقوط، وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله- تأكد الإسَاءَة بإنشاء الإحرام من غير موضعه، وراعى الإمام -رحمه الله- من ذلك ترتيب هذه الحالة على التَّفْصِيل المذكور في الأولى فقال: إن قصرت المسافة ففي السّقوط الخِلاَف، وإن طَالَتْ فَالخِلاَفُ مرتب وأولى بألا يَسْقُط، فإن دخل مَكَّة فأولى بعدم السِّقوط من الحَالَةِ الأولى. وظاهر المَذهب عند الأكثرين أن يفصل فيقال: إن عاد قبل أن يلتبس بنسك سَقَط عنه الدَّم؛ لقطعه المسافة من الميقات محرماً وأداء المَناسِكِ بعده، وإن عاد بعد ما تلبس بِنُسُكٍ لم يسقط لِتَأْدِّيهِ بإحرامٍ نَاقص، ولا فرق بين أن يكون ذلك النُّسك ركناً كالوقوف بعرفة، أو سنة كطواف القُدُوم، ومنهم من لم يجعل للتلبس بالسنة تَأثِيراً، وقال أبو حنيفة -رحمه الله- إذا أحرم بعد مجاوزة الميقات، وعاد قبل أن يتلبس بنُسُكٍ، وَلَبَّى سقط عنه الدّم، وإن عاد ولم يُلَبِّ لم يسقط. وقوله في أول الفَصْل: (ومهما جاوز ميقاتاً غير محرم فهو مسيئ وعليه الدَّم) ¬
يدخل فيه ما إذا جاوز عَالِماً، وما إذا جاوز جاهلاً أو ناسياً والأمر على هذا الإطلاق فيما يرجع إلى لزوم الدم؛ لأنه مأمور بالإحْرَام من الميقات، والنسيان ليس عذراً في ترك المأمورات، كالنية في الصَّوْمِ والصلاة، بخلاف ما إذا تَطَيَّب أو لبس ناسياً فإنهما من المَحْظُورَات، والنسيان عذر فيهما كما في الأكل في الصَّوْم والكلام في الصَّلاة. وأما الإساءة فهي ثابتة على الإطلاق أيضاً إن أراد بكونه مسيئاً كونه مقصراً، وإن أراد الإثم فَلاَ إِثْمَ عِنْدَ الجَهْلِ والنسيان. ويجوز أن يعلم قوله: (وعليه الدم) بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة -رحمه الله- الجائي من طريق المدينة إذا لم يكن مدنياً لو جاوز ذا الحُلَيْفَة وأحرم من الجُحْفَة لم يلزمه دَم، ويروى ذلك في حق المدني وغيره. المسألة الثانية: الإحرام من الميقات أَفْضَل أو مما فوقه؟ روى البويطي والمزني في الجامع الكبير أنه من الميقات أَفْضَل، وبه قال مَالِكٌ وأحمد. وقال في "الإملاء": الأحب أن يحرم من دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وبه قال أَبُو حَنِيفة، وللأصحاب طريقان: أظهرهما: أن المسألة على قولين: أحدهما: أنه لا يستحب الإحْرَام مما فوقه: "لَأنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يُحْرِمْ إِلاَّ مِنَ الْمِيقَاتِ" (¬1) ومعلوم أنه يحافظ على ما هو الأفضل، ولأنَّ في الإحْرَام فوق الميقات تغريراً بالعباد؛ لما في مصابرته والمحافظة على واجباته من العسر ولهذا المعنى أطلق مطلقون لفظ الكراهة عالى تقديم الإحرام عليه. أظهرهما: أن الأحب أن يحرم من دؤيرة أهله لأن عمر وعليا رضي الله عنهما فسرا الإتمام في قوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله بذلك) (¬2). وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَحْرَمَ مِنَ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامَ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ" (¬3). ¬
والطريق الثاني: القطع بالقول، وحمل الأول على التزيي بِزِيّ المحرمين من غير إحْرَام على ما يعتاده الشِّيعة. ويخرج من فحوى كلام الأئمة طريقة ثالثة، وهي حمل الأوَّل على إذا لم يَأْمن على نَفْسِهِ من ارتكاب مَحْظُوراتِ الإِحْرَام، وتنزيل الثاني على ما إذا أمن عليها. وقوله في الكتاب: (ولو أحرم قبل الميقات كان أحب) يجوز أن يكون جواباً على أظهر القولين، على الطريقة الأولى، ويجوز أن يكون ذهاباً إلى الثانية، وهو الذي قصده المصنف على ما أورده في "الوسيط" فإنه نسب استحباب التقديم إلى القديم، وكراهيته إلى الجديد، وذكر أن الجديد مؤول، وكيفما كان فليكن قوله: (أحب) معلماً بالواو مع الميم والألف. واعلم أن تسمية أحد القولين قديماً والآخر جديداً لم أره إلا له، والكتب التي عزى النصان إليها بأسرها معدودة من الجديد. قال الغزالي: أَمَّا العُمْرَةُ فَمِيقَاتُهَا مِيقَاتُ الحَجِّ إلاَّ فِي حَقِّ المَكِّيِّ وَالمُقِيِم بِهَا، فَإِنَّ عَلَيْهِمُ الخُرُوجِ إلَى طَرَفِ الحِلِّ وَلَوْ بِخُطْوَةِ فِي ابْتِدَاءِ الإِحْرَامِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يُعْتَدَّ بِعُمْرَتهِ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الحِلِّ وَالحَرَمِ، وَالحَاجُّ بِوقُوفِ عَرَفَةَ جَامِعٌ بَيْنَهُمَا، وَأَفْضَلُ البِقَاعِ لإحْرَامِ العُمْرَةِ الجُعْرَانَةُ ثُمَّ التَّنْعِيمُ ثُمَّ الحُدَيْبِيَةُ. قال الرافعي: لما فرغ من الكلام في الميقات المكاني في الحجّ اشتغل بالكلام فيه في العمرة. والمعتمر إما أن يكون خارج الحرم أو فيه، فإن كان خَارِجَ الحَرَمِ فموضع إحْرَامِهِ بالعمرة هُوَ موضع إحرامه بالحَجّ بلا فرق. وإن كان في الحرم سواء كان مكياً أو مقيماً بمكة فالكلام في ميقاته الواجب، ثم في الأَفْضَل. أما الواجب: فهو أن يخرج إلى أدنى الحِلّ ولو بخطوة من أي جانب شاء: "لَأَنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ الله عَنْهَا- لَمَّا أَرَادَتْ أَنْ تَعْتَمِرَ بَعْدَ التَحَلُّلِ، أَمَرَهَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بِأَنْ تَخْرُجَ إِلَى الْحَلِّ فَتُحْرِمَ" (¬1). فإن خالف وأحرم بها في الحَرَم، انعقد إحرامه، ثم له حالتان: إحداهما: أن لا يخرج إلى الحِلِّ، بل يطوف وَيَسْعَى وَيَحْلِق، فهل يجزئه ذلك ¬
عن عمرته؟ فيه قولان محكيان عن نصه في "الأم". أصحهما: نعم، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن إحْرَامه قد انعقد، وأتى بعده بالأعمال الواجبة، لكن يلزمه دَمُ؛ لتركه الإحْرَام من المِيقَات. والثاني: أنه لا يجزئه ما أتى به؛ لأن العُمْرَة أحدُ النُّسُكَين، فيشترط فيه الجَمْعُ بين الحِلِّ والحَرَمِ، كما في الحج، فإن الحَاجَّ لاَ بُدَّ له من الوُقُوفِ بعرَفَة، وأنها من الحِلِّ. التفريع: إن قلنا بالأول فلو وطئ بعد الحَلْقِ لم يلزمه شَيْءٌ، لوقوعه بعد التَّحَلُّل، وإن قلنا بالثاني فالوطء وَاقِعٌ قَبْلَ التحللُ، لكنه يعتقد كونه بعد التحلل، فهو بمثابة وَطْءِ النَّاسي، وفي كونه مفسداً قولان سيأتي ذكرهما، فإن جعلناه مفسداً فعليه المُضِي في الفَاسِد، بأن يخرج إلى الحِلّ ويعود فيطوف ويسعى ويحلق، ويلزمه القضاء وكفارة الإِفْسَاد، ويلزمه دَمٌ لِلْحَلْقِ أيضاً؛ لوقوعه قبل التحلل. والحالة الثانية: أن يخرج إلى الحِلِّ ثم يعود فيطوف ويسعى، فيعتد بما أتى به لا مَحَالة، وهل يسقط عنه دم الإِسَاءة؟ حكى الإمام -رحمه الله- فيه طريقين: أحدهما: تخريجه على الخِلاَف المذكور في عَوْدِ من جاوز المِيقَات إليه غير محرم. والثاني: القطع بالسقوط، فإن المُسِيئَ هو الذي ينتهي إلى الميقات على قَصْدِ النُّسُكِ، ثم يجاوزه، وهذا المعنى لم يوجد هَاهُنا، بل هو شبيه بمن أحرم قبل الميقات، وهذا هو الذي أورده الأكْثَرون، فعلى هذا الواجب هو خروجه إلى الحِلِّ قبل الأعمال، إما في ابتداء الإحرام أو بعده. وإن قلنا: لا يسقط الدم، فالواجب هو الخروج في ابتداء الإحْرَام، وقد أشار إليه في "الوسيط" فقال: ولو بخطوة في ابتداءِ الإحرام أو دوامه على رأى، وإذا كان كذلك فَلْيُعَلَّم قوله: (في ابتداء الإحرام) بالواو، ثم قوله: (فإن لم يفعل لم يعتد بعمرته على أحد القولين)، ظاهر اللفظ يقتضي كون الاعتداد بأفعال العمرة على القولين إذا لم يخرج إلى الحِلِّ في ابتداء الإحْرَام، وليس كذلك، بل موضع القولين ما إذا لم يخرج لا في الابتداء ولا بعده، حتى أتى بالأعْمَال فَلْيُؤَوَّل. وقوله: (لم يعتد)، معلم بالحاء لما قدمنا. وقوله أولاً: (إلا في حق المكي والمقيم بها) لا شك أن المراد من المكي الحاضر بمكة، فلو اقتصر على قوله: (في حق المقيم بمكة) لأغناه، ودخل فيه ذلك المكِّي.
وأما الأفضل: فأحب البقاع في أطراف الحِلِّ لإحرام العمرة الْجُعْرَانَة فإن لم يتفق فمن التَّنْعِيم، فإن لم يتفق فمن الحُدَيْبِيَة، وليس النظر فيها إلى المَسَافة، ولكن المتبع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬1) وقد نقلوا: "أَنَّهُ اعْتَمَرَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، سَنَةَ سَبْعٍ، وَمَرَّةَ عُمْرَةِ هَوَازِنَ (¬2) وَلَمَّا أَرَادَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنْ تُعْتَمِرَ أَمَرَ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمنِ أَنْ يُعَمِّرَهَا مِنَ التَّنْعِيم، فَأَعْمَرَهَا مِنْهُ" (¬3) وصلى بالحديبية عام الحديبية، وأراد الدخول منها للعُمْرة، فَصَدَّهُ اَلمُشْرِكون عنها (¬4) فقدم الشافعي -رضي الله عنه- ما فعله، ثم ما أمر به، ثم ما هم به. والجُعْرَانة على ستة فَرَاسِخ من مكة. والحديبية كذلك، وهي بين طريق جِدَّة وطريق المدينة في منعطفٍ بين جبلين، وبها مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-. والتنعيم على فرسخ من مكَّة، وهو على طريق المَدِينة، وفيه مَسْجِدُ عائشة -رضي الله عنها-، هذا تمام الكلام في القسم الأول من كتاب الحَجِّ. ¬
القسم الثاني من الكتاب في المقاصد
القِسْمُ الثَّانِي مِنَ الكِتَابِ في المَقَاصِدِ وَفِيهِ ثَلاَثةُ أَبْوَابٍ الْبَابُ الأَوَّلُ قال الغزالي: فِي وُجُوهِ أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ، وَهُوَ ثَلاثَةٌ: (الأَوَّلُ) الإفْرَادُ وَهُوَ أَنْ يَأْتِي بِالْحَجِّ مُفْرِداً مِنْ مِيقَاتِهِ وَبِالْعُمْرَةِ مُفْرِدَةَ مِنْ مِيقَاتِهَا. قال الرافعي: من أحرم بنسكٍ لزمه فِعْلُ أمورٍ وتركُ أمورٍ، والنظر في الأمور المفعولة من وجهين: أحدهما: في كيفية أفعالهما. والثاني: في كيفية أدائهما، باعتبار القرآن بينهما وعدمه، فلا جرم حصر كلام هذا القسم في ثلاثة أبواب: أولها: في وجوه أداء النُّسْكَيْنِ. وثانيها: في صِفَةِ الحَجِّ ويتبين فيه صفة العُمْرة أيضاً. وثالثها: في مَحْظُورات الحَجِّ والعمرة، وإنما انقسم أدعاء النسكين إلى الوجوه الثلاثة، لأنه إما أن يقرن بينهما وهو المسمى قراناً أو لا يقرن، فإما أن يقدم الحج على العُمْرَةَ وهو الإفراد، أو يقدم العمرة على الحج وهو التمتع، وفيه شروط ستظهر من بعد، فإذا تخلف بعضُها، فربما عدت الصّورة من الإفراد، والوجوه جميعاً جائزة بالاتفاق. وقد روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَمِنَّا مَنْ أَهْلَّ بِالْعُمْرَةِ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحجِّ وَالْعَمْرَةِ" (¬1). وأما الأفضل منها، فإن قول الشافعي -رضي الله عنه- لا يختلف في تأخير القرآن ¬
عن الإفراد والتمتع؛ لأن أفعال النُّسُكَيْنِ فيهما أكمل منها في القرآن. وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: القرآن أَفْضَلُ مِنْهُمَا، ويحكى ذلك عن اختيار المُزَنِيّ، وابْنِ المُنْذِرِ، وأَبِي إِسْحَاقَ المَرْوَزِي؛ لما روى عن عائشة قالت: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَصْرُخُ بِهِمَا صُرَاخاً، يَقُولُ: لَبَّيْكَ بِحَجِّ وَعُمْرَةٍ" (¬1). لكن هذه الرواية معارضة بروايات أخر راجحة على ما سيأتي. واختلف قوله في الإفراد والتمتع أيهما أفضل؟ قال في اختلاف الحديث: التمتع أفضل، وبه قال أحمد، وأبو حنيفة -رحمهما الله-؛ لما روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَوِ اسْتَقبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدى وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً" (¬2). والاستدلال أنه -صلى الله عليه وسلم- تمنى تقديم العمرة، ولولا أنه أفضل لما تَمَنَّاه. وقال في عامة كتبه: الإفراد أفضل، وهو الأصح، وبه قال مالك؛ لما روى عن جابر -رضي الله عنه-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَفْرَدَ" (¬3) وروى مثله ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ -رضي الله عنهم (¬4) - ورجح الشافعي -رضي الله عنه- رواية جابر على رواية رواة القرآن والتمتع بأن جابراً أقدم صحبة وأشد عناية بضبط المَنَاسِك وأفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- من لَدُن خروجه من المدينة إلى أن تَحَلَّل. وأما قوله: (لو اسْتَقبَلتُ مِنْ أَمْرِي" الخبر فإنما ذكر تطييباً لقلوب أصْحَابه واعتذاراً إليهم، وتمام الخبر ما روى عن جابر: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَحْرَمَ إِحْرَاماً مُبْهماً وَكَانَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ فِي اخْتِيَارِ أَحَدِ الْوُجُوهِ الثَّلاثَةِ، فَنَزَلَ الْوَحْيُ بِأَنَّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلْيَجْعَلهُ حَجّاً، وَمَن لَمْ يَسُقْ فَلْيَجْعَلْهُ عُمْرَةً، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَطَلْحَةُ قَد سَاقَا الْهَدْيَ دُونَ غَيْرِهِمَا، فَأمَرَهُمْ بِأَنْ يَجْعَلُوا إحْرَامَهُمْ عُمْرَةً، وَيتَمَتِّعُوا، وَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِحْرَامَهُ حَجّاً فَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ لِأنَّهُمْ كَانُوا يعتَقدون من قبل أن العمرة في أشهر الحج من أكبر الكبائر، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك، وأظهر الرَّغْبَة في موافقتهم، لَوْ لَمْ أَسُقْ الْهَدْيِ" (¬5) فإن الموافقة الجَالِبة للقلوب أهم بالتَّحْصِيل من فَصِيلة وقربة، واتفق الأصْحَاب عَلى القولين، على أَنَّ النَّبِيَّ ¬
-صلى الله عليه وسلم- كَانَ مُفْرِداً عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ"، وحكى الإمام -رحمه الله- عن ابْنِ سُرَيْج أنه كان متمتعاً ونقل عن بعض التصانيف شيئاً آخر في الفصْلِ واستبعده وهو أن الإفراد مُقَدَّمٌ على القرَان والتمتع جَزْماً، والقولان في التمتع والقران أيّهما أفضل؟ واعلم أن تقديم الإفراد على التمتع والقران مَشْرُوط بأن يعتمر في تلك السنة. أما لو أخر فكل واحد من التمتع والقران أَفْضَل منه؛ لأن تأخير العمرة عن سنة الحج مكروه. وقوله في الكتاب: (وهو أن يأتي بالحجِّ مفرداً من ميقاته وبالعمرة مفردة من ميقاتها)، أراد من ميقاتها في حَقِّ الحَاضِرِ بمكة، ولا يلزمه العَوْدُ إلى ميقاتِ بلدِهِ، وفيما علق عن الشَّيْخ أَبِي مُحَمَّدٍ أن أبا حَنِيفَةَ -رحمه الله- يأمره بالعود ويوجب دَمَ الإِسَاءَةِ إن لم يَعُدْ، -والله أعلم-. ثم الإفراد لا ينحصر في الصورة بل يلتحق بها من صور تختلف شروط التمتع صوراً سينتهي إليها. قال الغزالي: (الثَّانِي) القِرَان وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا جَمِيعاً فَيَتّضحِدَ المِيقَاتُ وَالفِعْلُ (ح) وَتَنْدَرجَ العُمْرَةُ تَحْتَ الحَجِّ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ الحَجَّ عَلَيْهِ قَبْلَ الطَّوَافِ كَانَ قَارِناً، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَغَا إدْخَالهُ، وَلَوْ أَدْخَلَ العُمْرَةَ عَلَى الحَجِّ لَمْ يَصِحَّ فِي أَحَدِ القَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لاَ يَتَغَيَّرُ الإحْرَامُ بَعْدَ انْعِقَادِهِ. قال الرافعي: الصورة الأصْلِيَّة للقران أن يحرم بالحَجِّ والعمرة معاً، فتندرج العمرةُ تحت الحَجِّ، ويتحد الميقاتُ والفِعْل، ويجوز أن يعلم قوله: (والفعل) بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة -رحمه الله- يأتي بطوافيين وسعيين أحدهما لِلْحَجِّ والآخر للعُمْرَة. لنا: ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة -رضي الله عنها-: "وَطَوَافُكِ بِالْبَيْتِ وَسَعْيُكِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، يَكْفِيكِ لِحَجَّتِكِ وَعُمْرَتِكِ" (¬1) وأيضاً فقد سلم الاكتفاء بإحرام وَاحِدٍ، وحلقِ وَاحِدٍ، فنقيس السَّعي والطَّواف عليهما، ثم في الفَصْلِ مسألتان: إحداهما: لو أحرم بالعُمْرَة أولاً ثم أدخل عليها الحَجِّ نظر إن أدخله عليها في غير أشهر الحج، لفي ولم يتغير إحرامه بالعمرة، وإن أَدْخَلَه عليها في أَشْهُر الحَجِّ نظر إن أحرم بالعمرة في غير أشْهُر الحَجِّ، فهذه الصورة قد ذكرها في الكتاب في أول البَابِ الثَّاني، وستجدها عند الوُصُولِ إليها مشروحة -إن شاء الله تَعَالى-. ¬
"وإن أحرم بالعُمْرَة في أُشْهُر الحَجِّ، وأدخل عليها الحَجَّ في أشهره، وهو المقصود في هذا المَوْضِع، فينظر إن لم يشرع في الطَّوَاف جَازَ وصار قَارناً؛ لأَنَّ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَحْرَمَتْ بالْعُمْرَةِ لِمَّا خَرَجَتْ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَحَاضَتْ وَلَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تَطُوفَ لِلْعُمْرَةِ، وَخَافَتْ فَوَاتَ الْحجِّ لَوْ أَخّضرَتهُ إِلَى أَنْ تَطْهُرَ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَ: مَا لَكِ أَنُفِسَتِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: ذَلِكَ شَيْءٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، أُهِلِّي بِالْحجِّ وَاصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَلاَّ تَطُوفِي بالُبَيْتِ وَطَوَافُكِ يَكْفَيكِ لِحَجَّكِ وَعُمْرَتِكِ" (¬1) فأمرها -صلى الله عليه وسلم- بإدخال الحَجِّ على العمرة؛ لتصير قارنةٌ حتى لا يفوتها الحَجُّ، فإذا طهرت طَافَتْ للنسكَيْنِ معاً وإن شرع في الطَّواف أو أتمه لم يجز إدْخَالُ الحَجِّ عليها ولم لا يجوز؟ ذكروا في تعليله أربعة معان: أحدها: أنه اشتغل بعمَلٍ من أعْمَالِ العُمْرَة، واتصل الإحرام بمقصوده، فيقع ذلك العملُ عن العمرةِ، ولا ينصرف بعده إلى القُرَان. والثاني: أنه أتى بفَرْضٍ من فُروضِ العُمْرَة، فإن الفرائض هِيَ المعينة، وما عداها لاَ يَضُرُّ انْصرافِها إلَى القران. والثالث: أنه أتى بمعظم أفعال العُمْرة، فإن الطَّواف هو المعظم في العُمْرةَ، فإذا وقع عن العمرة لم ينصرف إلى غَيْرِهَا. والرابع: أنه آخذ في التحلل في العُمْرَةِ، وحينئذ لاَ يَلِيقُ به إدخالُ إحرامٍ عليه؛ لأنه يقتضي قوة الإحرام وكماله، والمتحلل جَارٍ في نقصان الإحْرَام، وشبه الشيخ أبُو عَلِيٍّ ذلك بما لو ارتدت الرَّجْعِيَّةُ فراجَعَهَا الزَّوج في الرِّدَّة، فإن الشَّافعي -رضي الله عنه - نُصَّ على أنه لا يجوز؛ لأن الرجعة استباحة فلا تصح، والمرأة جارية إلى تَحْرِيمٍ، وهذا المعنى الرابع هو الذي أورده أَبُو بَكْرٍ الفَارِسِيّ في "العيون" وحيث جوّزنا إدخالَ الحَجِّ على العُمْرَة، فذلك إذا كانت الْعُمَرةُ صحيحةً، فإن أفسدها ثم أدخل عليها الحَجِّ ففيه خلافٌ سَنُورِدُهُ من بعد إن شاء الله تعالى. المسألة الثانية: لو أحرم بالحَجِّ في وقته أولاً ثم أدخل عليه العمرة ففي جوازه قولان: القديم: وبه قال أبوحنيفة: أنه يجوز، كما يجوز إدخال الحَجِّ على العمرة، والجامع أنهما نسكان يجوز الجَمْعُ بينهما. والجديد: وبه قال أحمد -رحمه الله-: أنه لا يجوز؛ لأن الحَجِّ أقوى وآكِدٌ من ¬
العُمْرَة، لاختصاصه بالوقُوف والرَّمْي والمَبِيت، والضعيف لا يَدْخُلُ عَلَى القَويِّ وإن كان القويُّ يدخل على الضَّعِيف، ألا ترى أن فرَاش ملك النكاح لما كان أقوى من فراش مَلْك اليمين لاختصاصه بإفادة قوة حقوق نحو الطَّلاق، والظِّهار، والإِيلاَءِ، والمِيرَاث، لم يجز إدخال فراش ملك اليمين على فراش مِلْك النِّكَاحِ، حتى لو اشترى أختَ منكوحته لم يجز له وَطْؤُها، ويجوز إدخال فراش النكاحُ على فراش مِلْكِ اليمين، حتى لو نكح أختُ أمَتِهِ، أو أخت أُمِّ وَلَدِهِ حَلَّ له وطؤها، وأيضاً فإنه إذا أدخل الحَجِّ على العمرة زاد بإدخاله أشياءَ لم تكن عَلَيْهِ، وإذا أدخل العُمْرَة على الحَجِّ، لم يزد شيئاً على ما عليه، فلو جوزناه لأسقطنا العُمْرَة عنه بالدَّمِ وحده، وذلك مما لا وجه له، وإلى هذا المعنى أشار في الكتاب بقوله: (لأنه لم يتغير الإحرامُ به بعد انعقاده) فإن لم نجوز إدخال العمرة على الحَجِّ فذاك، وإن جوزناه فإلى متى تجوز؟ فيه وجوه مفرعة على المعاني الأربعة في المسألة السابقة: أحدها: أنه يجوز قَبْلَ طوافِ القُدُومِ، ولا يجوز بعد اشتغاله به؛ لإتيانه بَعَمَلٍ من أعمالِ الحَجِّ، وذكر في "التهذيب" أن هذا أصَح. والثاني: ويحكى عن الخضري: أنه يجوز بعد طَوَافِ القُدومِ مَا لَمْ يَسْع، وما لم يَأْتِ بفرضٍ من فُروضِ الحَجِّ، فإن اشتغل بشيء منها فَلاَ. والثالث: يجوز، وإن اشتغل بِفَرْضٍ ما لم يقف بعرفة، فإذا وَقَفَ فَلاَ، لأنه مُعْظَمُ أعمالِ الحَجِّ، وعلى هذا لو كان قد سَعَى فعليه إعادة السَّعي ليقع عن التسكين جميعاً، كذا قاله الشَّيْخُ في معظم الفروع. والرابع: يجوز وإن وقف ما لم يشتغل بِشَيْءٍ من أسباب التحلل من الرَّمْي وَغَيْرِه، فإن اشتغل فَلاَ، وعلى هذا لو كان قد سعى ما ذَكَرَهُ الشَّيْخُ وجوبُ إِعَادَتِهِ، وحكى الإمام فيه وجهين، وقال: المذهب أنه لا يجب، ويجب على القارن دَمٌ؛ لما روي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أَهْدَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَزْوَاجِهِ بَقَرَةً وَنَحْنُ قَارِنَاتٌ" (¬1) ولأن: الدم واجب على المتمتع بِنَصِّ القُران، وأفعال المتمتع أكثر من أفعال القَارِن، فإذا وجب عليه الدم فلأن يجب على القارن كَانَ أولى، وصفةٌ دَم القَرَانِ كَصِفَةِ دَمِ التَّمَتُّعِ، وكذا بدله، وعن مالكٍ أن على القارن بدنة، وحكى الحنَّاطِيُّ عن القديم مثله. لنا أن المتمتع أكثر ترفيهاً، لاستمتاعه بمحظورات الإحْرَام بين النسكين، فإذا اكتفى منه بشاة فلأن يكتفي بها من القارن كان أولى، -والله أعلم-. ¬
قال الغزالي: الثَّالِثُ: التَّمَتّعُ وَهُوَ أَنْ يُفْرِدَ العُمْرَةَ ثمَّ الْحَجَّ وَلَكِن يَتَّحِدُ المِيقَاتُ إِذَا تَحَرَّمَ بالحَجِّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ، وَلَهُ سِتَّةُ شُرُوطٍ: الأَوَّلُ أَنْ لاَ يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ فإِنْ الحَاضِرَ مِيقَاتُهُ نَفْسُ مَكَّة فلاَ يَكُونُ قَدْ رَبِحَ مِيقَاتًا، وَكُلُّ مَنْ مَسْكنُهُ دُونَ مَسَافَةِ القَصْرِ حَوَالَيْ مَكَّةَ فَهُوَ مِنَ الحَاضِرِينَ، وَالآفَّاقِيُّ إِذَا جَاوَزَ المِيقَاتِ غَيْرَ مُرِيدٍ نُسكْاً فكمَا دَخَلَ مَكَّة اعْتَمَر ثُمَّ حَجَّ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتعاً إِذْ صَارَ مِنَ الحَاضِرِينَ، إذْ لَيْسَ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَصْدُ الإِقَامَة، الثَّاني أَنْ يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ في أَشْهُرِ الحَجِّ فَلَوْ تَقَدَّمَ تَحَلَّلَهَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعاً إِذْ لَمْ يَزْحَم الحَجِّ بالعُمْرَةِ في مظَنَتِهِ، وَلَو تَقَدَّمَ إِحْرَامُهَا دُونَ التَّحَلُّلِ فَفِيهِ خِلاَفٌ، فإذَا لَمْ يَكُن مُتَمَتِّعاً فَفِي لُزُومِ دَمِ الإسَاءَة لِأَجْلِ أَنَّهُ أَحْرَمَ بالحَجِّ مِنْ مَكَّة لاَ مِن المِيقَاتِ وَجْهَانِ، الثَّالِثُ: أَنْ يَقَعَ الحَجُّ وَالعُمْرَةُ في سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، الرَّابعُ: أَنْ لاَ يَعُودَ إلَى مِيقَاتِ الحَجِّ فَلَوْ عَادَ إِلَيْهِ أَوْ إلَى مِثْلِ مَسَافَتِهِ كَانَ مُفْرِدًا، وَلَوْ عَادَ إلَى مِيقَاتٍ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ ذَلِكَ المِيقَاتِ فَوَجْهَانِ، الخامِسُ: أَنْ يَقَعَ النُّسُكَانِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَلَوِ اعْتَمَرَ عَنْ نَفسِهِ ثُمَّ حَجَّ عَنِ المُسْتَأْجِرِ فَلاَ يُمْنَعُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهِيْنِ، السَّادِسُ: نِيَّةُ التَّمَتُّع عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ تَشْبِيهًا لَهُ بالجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتيْنِ، والأَصَحُّ: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ كمَّا في القِرَانِ. قال الرافعي: التمتع هو أن يحرم بالعمرة من ميقاتِ بَلَدِهِ، وَيدْخُلُ مكة ويأتي بأعمالِ العُمْرَة، ثم ينشئ الحَجَّ من مكة، وسمي تمتعاً لاستمتاعه بمحضورات الإحرام بينهما، أو تمكنه من الاستمتاع لحصول التحلل. وعند أبي حنيفة -رحمه الله- إن كان قد سَاقَ الهَدْيَ لم يتحلل بفراغه من العُمْرةَ، بل يحرم بالحج فإذا فرغ منه حَلَّ منهما جميعاً، وإن لم يَسُق الهَدْى تحلل عند فراغِهِ من العُمْرةَ. لنا أنه متمتع ما أكمل أفعال عمرته فأشبه، ما إذا لَمْ يُسُقِ الهَدْيَ. وقوله: (أن يفرد العمرة ثم الحج) فيه إشارة إلى أن أفعالهما لا تتداخل، بل يأتي بهما على الكَمَالِ، بخلاف ما في القَرَان. وقوله: (لكن يتحد الميقات إذ يحرم بالحج من جوف مَكَّة)، معناه: إنه يالتمتع من العُمْرَة إلى الحج يربح ميقاتاً، لأنه لَوْ أحرم من ميقات بَلَدِهِ لكان يحتاج بعد فراغه من الحَجِّ إلى أن يخرج من أدنى الحلِّ، فيحرم بالعُمْرَة منه، وإذا تمتع استغنى عن الخُروج؛ لأنه يُحْرِمُ بالحجِّ من جَوْفِ مَكَّةَ، فكان رابحاً أحد الميقاتين. ويجب على المتمتع دَمٌ، قال الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.
وإنما تجب بشروط: أحدها: ألا يكون من حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَام قال الله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬1) والمعنى فيه: أن الحاضر بمكة ميقاته لِلْحَجِّ نفس مكة، فلا يكون بصورة التمتع رابحاً ميقاتاً، وكل من مسكنه دون مسافة القصر فهو من حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَام، فإن زادت المسافة فَلاَ، وبه قال أحمد، وعند أبي حنيفة -رحمه الله- حاضرو المَسْجِدَ أَهْلُ المَوَاقِيتِ والحَرَمِ وما بينهما. وقال مالك: هم أهْلُ مَكَّة وذي طُوَى، وربما روي عنه أنهم أهل الحَرَمِ. لنا أن من قرب من الشَّيْءِ ودنا منه كان حاضراً إيَّاه، يقال: حضر فلانٌ فلاناً إذا دنا منه، ومن كان مسكنه دون مسافة القصر فهو قريب نازل منزلة المقيم في نفس مَكَّة، ولهذا لا يجوز للخارج إليه الترخص بالفِطْرِ والقَصْرِ ونحوهما، على أن في مذهب أبي حنيفة بُعْداً فإنه يؤدي إلى إخْرَاج القَرِيب من الحَاضِرِين، وإدخال البعيد فيهم؛ لتفاوت مسَافَاتِ المَوَاقِيت، ثم المسافة التي ذكَرْناها مَرْعِيَّةٌ مِنْ نَفْسِ مَكَّة أو من الحرم؟ حكى إبْرَاهِيمُ المرووزي فيه وجهين: والثاني هو الدائر في عبارات أصحابنا العراقيين، ويَدُلُّ عليه أن المَسْجِدَ الحرام عبارة عن جَمِيع الحَرَمِ؛ لقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬2) ولو كان له مسَكنان: أحدهما: في حد القُرْب من الحرم والآخر في حَدِّ البُعْدِ، فإن كان مقامه بالبعيد أكثر فهو آفاقي، وإن كان بالقرَيب أكثر فهو من الحَاضِرِين، وإن استوى مقامه بهما نظر إلى ماله وأهله فإن اختص بأحدهما أو كان في أحدهما أكثر فالحكم له، وإن استويا في ذلك أيضاً اعتبر حاله بِعَزْمِهِ، فأيهما عزم على الرُّجُوعِ إليه فَهُوَ من أهْلِهِ، فإن لم يكن لَهُ عَزْمٌ فالاعتبار بالذي خرج منه. ولو استوطن غريب بمكة فهو من الحاضرين، ولو استوطن مَكِيُّ بالعِرَاقِ فليس له حُكْمُ الحَاضِرِين، والاعتبار بما آل إليه الأمْرُ. ولو قصد الغريب مكة ودخلها متمتعاً ناوياً الإقامة بها بعد الفراغ من النسكين، أو مِنَ العُمْرَةِ أو نوى الإقامة بها بعد ما اعتمر لم يكن من الحَاضِرِين، وَلم يسقط عنه دَمُ التمتعَ فَإِنَّ الإقامة لا تحصل بمجرد النِّية، وذكر حجة الإسلام -رحمه الله- في هذا الشَّرْطِ صورة هي من مواضع التوقف، ولم أجدها لِغَيْرِهِ بَعْدَ البَحْثِ، وهي أنه قال: (والآفاقي إذا جاوز الميقات غير مريد نسكاً فلما دخل مكة اعتمر ثم حج لم يكن متمتعاً إذ صار من الحَاضِرين، إذ ليس يشترط فيه قَصْدُ الإقامة) وهذه الصورة متعلقة أولاً ¬
بالخلاف في أن من قَصَدَ مكةَ هل يلزمه الإِحْرَام بِحَجٍّ أو عمرة أم لا؟ ثم ما ذكره من عدم اشتراط الإقامة مما تنازع فيه كلام عامة الأصحاب ونقلهم عن نَصِّه في "الإملاء" والقديم، فإنه ظَاهِرٌ في اعتبار الإقامة بل في اعتبار الاستيطان، -والله أعلم-. وفي "النهاية" و"الوسيط" حكاية وجهين: في سورة تُدَانِي هذه وهي أنه: لو جاوز الغَرِيبُ الميقاتَ وهو لا يريدُ نسكًا ولا دخولَ الحَرَمِ، ثم بَدَا له قريباَ من مَكَّة أن يَعْتَمِرَ فاعتمر منه وحَجَّ بعدها على سورة التمتع هل يلزمه الدَّم. أحد الوجهين: أنه لا يلزمه؛ لأنه لم يلتزم الإحْرَامَ وهو على مسافة بعيدة، وحين خطر له ذلك كان على مَسَافة الحَاضِرِين. وأصحهما: يلزم؛ لأنه وجد صورة التمتع وهو غير معدود من الحَاضِرِين، فذكر في "الوسيط" في توجيه هذا الوجه أن اسم الحاضرين لا يتناوله إلا إذا كان في نفس مكة أو كان متوطناً حَوْلَهَا، فلم يعتبر التوطن فيمن هو بمكة واعتبره فيمن هو حَوَاليها، والنفس لا تنقاد لِهَذا الفَرْق، ثم كما لا يَجِب الدَّمُ على المَكِّي إذا أتى بصورة التمتع لا يجب عليه إذا قَرَن وبأن الأصل دَم التمتع المنصوص عليه في الكتاب، فإذا لم يجب ذلك على المَكِّي لم يجب دم القَرَان، وروى الحَنَّاطِيُّ وجهاً أن عليه دَمُ القَرَانِ، ويشبه أن يكون هذا الاختلاف مبنياً على وجهين نقلهما صاحب "العدة" في أن دَمُ القَرَانِ دَمُ جَبْرٍ أَوْ دَمُ نُسُكٍ، والمشهور أنه دَمُ جَبْرٍ، وهل يجب على المَكِّي إذا قَرَن إِنْشَاءُ الإحْرَامِ من أدنى الحِل كما لو أفرد العمرة أم يجوز أن يحرم من جوف مَكَّة إدراجاً للعمرةَ تحت الحج؟ فيه وجهان: أصحهما الثاني: ويجريان في الافاقي إذا كان بمكة وأراد القرآن. الشرط الثاني: أن يحرم بالعمرة في أَشْهُرِ الحَجِّ فلو أحرم وَفَرَعَ مِنْ أَعْمَالِهَا قَبْلَ أَشْهُرِ الحَجِّ ثم حج لم يلزمه الدم؛ لأنه يجمع بين الحَجِّ والعمرة في وَقْتِ الحَجِّ، فأشبه المفرد لمَّا لَمْ يجمع بينهما لم يلزمه دم، وقد ذَكَرَ الأئمة أن دَمَ التَّمَتُّعِ مَنُوطٌ مِنْ جهة المعنى بأمرين: أحدهما: ربح ميقات كَمَا سَبَقَ. والثاني: وقوع العُمْرةَ في أَشْهُرِ الحَجِّ، وكانوا لا يزحمون الحَجِّ بالعُمْرَةِ في مظنته ووقت إمكانه، ويستنكرون ذلك، فورد التمتع رخصةٍ وتخفيفاً، إذ الغريب قد يرد قبل عَرَفَةَ بأيام ويشق عليه استدامة الإحرام لو أحرم من الميقات، ولا سبيل إلى مجاوزته، فجوز له أن يعتمر ويتحلل. ولو أحرم بها قبل أشْهُرِ الحَجِّ، وأتى بجميع أفْعَالِهَا في أشْهُرِهِ، ففيه قولان:
أحدهما: يلزمُه الدَّمُ، قال في القديم "والإملاء": لأنه حصلت المُزَاحمة في الأفعال وهي المقصودة والإحرام كالتمهيد لها. وأصحهما: لا يلزمه قاله في "الأم" وبه قاله أحمد -رحمه الله- بأنه لم يجمع بين النسكين في أَشْهُرِ الحَجِّ؛ لتقدم أحَدِ أركانِ العُمْرَةِ عَلَيْهَا، وعن. ابنِ سُرَيْجٍ -رحمه الله- أن النصين محمولان على حالين، وليست المسألة على قولين، إن أقام بالميقات بعد إحرامه بالعمرة حتى دخل أشهر الحج أو عاد إليه مُحْرِماً بها في الأشهر لَزِمَهُ الدَّمُ، وإن جاوزه قَبْلَ الأشهر ولم يعد إليه لم يلزمه، والفرق حصوله بالميقاتِ محرماً في الأَشْهُرِ مع التمكن من الإحْرَام بالحَجِّ، وإن سبق الأحرامُ مَع بعضِ الأعمال أشهر الحج فالخلاف فيه مُرَتَّبٌ، إن لم نوجب الدم إذا سَبَقَ الإحرامُ وحده فهاهنا أولى. أوجبناه فوجهان، والظاهر: أنه لا يَجِب أيضاً. وعن مالك -رحمه الله- أنه مهما حَصَل التحلل في أشهر الحَجِّ وجب الدم، وعند أبي حنيفة إذا أتى بأكثر أَفْعَالِ العُمْرَة في الأَشْهُرِ كان متمتعاً، وإذا لم نوجب دم التمتع في هذه الصورة، ففي وجوب دم الإسَاءة وجهان: أحدهما: يجب، وبه قال الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ -رحمه الله- لأنه أحرم بالحج من مَكَّة دون الميقات. وأصحهما: لا يجب؛ لأن المسيء من ينتهي إلى الميقات على قَصْد النُّسك، ويجاوزه غير محرم، وهاهنا قد أحرم بنسك وحافظ على حرمة البقعة. وقوله في الكتاب: (ولو تقدم إِحْرَامُهَا دون التحلل) يمكن تنزيله على تقدم مجرد الإحرام. وقوله: (دون التحلل) أي: دون الأعمال إذ التحلل بها يحصل، ويمكن تنزيله على ما تشترك فيه هذه الصّورة وصورة تقدُّمِ بَعْضِ الأعمال، وعلى التقديرين فتفسير الخلاف الذي أبهمه بين ما ذكرنا والإمام -رحمه الله- أورد بدل القولين وجهين، وهو خلاف رواية الجمهور. ويجوز إعلام لفظ (الخلاف) بالواو لما مَرَّ عن ابْنِ سُرَيْجٍ. الثالث: أن يقع الحَجُّ والعمرةُ في سَنَةٍ واحدة، فلو اعتمر ثم حج في السنة القابلة فلا دم عليه، سواء أقام بمكة إلى أن حَجَّ؛ أو رجع وعاد؛ لأن الدم إِنَّمَا يَجِب إِذَا زاحم بالعُمْرَةِ حُجَّتَهُ في وَقْتِها، وترك الإحرام بحجته من الميقات مع حصوله بها في وقت الإمكان ولم يوجد وقد روي عن سَعِيدِ بنِ المُسَيّبِ قال: "كَانَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَعْتَمِرُونَ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ فَإذَا لَمْ يَحُجُّوا فِي عَامِهِمْ ذَلكَ لَمْ يُهْدُوا" (¬1). ¬
ويمكن رد هذا الشرط والشرط الثاني إلى شَيْءٍ وَاحِدٍ وهو وقوع العمرة في أشهر الحَجِّ التي حَجَّ فيها. والرابع: ألا يعود إلى الميقات كما إذا أحرم بالحَجِّ من جَوْفِ مَكَّة واستمر عليه، فإن عاد إلى ميقاته الذي أنشأ العمرة منه وأحرم بالحَجِّ فلا دم عليه؛ لأنه لم يَرْبَح مِيقاتاً، ولو رجع إلى مثل مَسَافَةِ ذَلِكَ المِيقَاتِ وأحرم منه فكذلك لا دم عليه؛ لأن المقصودَ قَطْعُ تِلْكَ المَسَافَة مُحْرماً. ذكره الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُه، ولو أحرم من جَوْفِ مَكَّة ثم عَادَ إِلَى الميقات مُحْرِماً ففي سقوط الدَّمِ مِثلِ الخِلاَفِ المَذْكُورِ فيما إذا جاوز الميقات غير محرم وعاد إليه مُحْرِما، ولو عاد إلى مِيقَاتٍ أقرب إلى مكَّة من ذلك الميقات وأحرم منه كما إذا كان ميقاته الجُحْفَةَ فعاد إلى ذَاتِ عِرْقٍ، فهل هو كالعَوْدِ إلى ذلك الميقات؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، وعليه الدَّم، إذ لم يَعُدْ إلى ميقاته، ولا إلى مثل مسافته. والثاني: نعم؛ لأنه أَحْرَم مِنْ مَوْضِع ليس ساكنوه من حَاضِري المَسْجِدِ الحَرَامِ، وهذا هو المَحْكِيّ عن اخْتِيَارِ القَفَّالِ والمعتبرين، أبدوه بأن دم التمتع خارج عن القِيَاس لإحيائه كل ميقات بُنُسُكٍ فإذا أحرم بالحَجِّ من مسافة القَصْرِ بطل تمتعه وترفهه، فلا يقدح إيجابُ الدَّمِ عليه بِحَالٍ، ولو دخل القارنُ مَكَّةَ قبل يَوْمِ عرفة ثم عاد إلى المِيقَات للحَجِّ هَل يَلْزَمُهُ الدَّمُ؟ ذكر الإمام -رحمه الله- أنه مرتب على المتمتع إذا أحرم ثم عاد إليه إن لم يَسْقُط الدم ثُمَّ فهاهنا أولى، وإن أسقطنا فوجهان، والفرق أن اسم القَرَانِ لا يزول بالعود إلى الميقات بخلاف التمتع. قال الحَنَّاطِيُّ: والأصح أنه لا يَجِب أيضاً، وقد نَصَّ على في "الإملاء". وقوله في الكتاب: (أن لا يعود إلى ميقات الحج) أراد إلى الميقات لِلْحَجِّ، وإلا فلا يحسن حَمْلُه على مُطْلَقِ الحَجِّ فإن المواقيتَ لا اخْتِصَاصَ لها، بالحَجِّ، بل هي للنسكين سَوَاء، ولا على حجة خاصة فإنه ميقات عمرة المتمتع لا ميقات حجة. وقوله: (كان مُفْرِداً) معلم بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة -رحمه الله- لا يكون مفرداً، ولا يسقط عنه دم التمتع حتى يعود إلى بلده ويلم بأهله. الخامس: اختلفوا في أنه هَلْ يشترط وقوع النسكين عن شَخْصٍ واحدٍ أم لا؟ فعن الخُضَرِي: أنه يشترط كما يشترط وقوعهما في سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وقال الجُمْهُورُ: لا يشترط لأن زحمة الحَجِّ وترك الميقات لا يختلف. إذا عرفت ذلك فهذا الأمر المختلف في اشتراطه يفرض فواته في ثلاثِ صُوَر: أحدها: أن يكون أجيراً مِنْ قِبَلِ شَخْصَيْنِ استأجره أحدهما للحَجِّ والآخر للعمرة.
والثانية: أن يكون أجيراً للعمرة فيعتمر للمستأجر ثم يَحُجُّ عَنْ نَفْسِهِ. والثالثة: أن يكون أجيراً للحجِّ فيعتمر لنفسه، ثم يحج عن المستأجر، وهذه الثلاثة هي التي أوردها في الكتاب، وقد ذكرها في صَدْرِ الحَالَةِ الثانية من أحوالِ الأَجِيرِ قبل هذا البيان حكمها فيما يتعلق باحتساب المسافة وحَطِّ الأجرة. فإن قلنا بمذهب الجمهور فقد ذكروا أن نِصْفَ دَمِ التمتع على من يقع له الحَجِّ، ونصفه على من تقع له العُمْرَة، وليس هذا الكلام على هذا الإِطْلاَق، بل هو محمول على تَفْصِيل ذكره صاحب "التهذيب" -رحمه الله-. أما في الصورة الأولى فقد قال: إن أذنا في التمتع فالدم عليهما نِصْفَان، وإن لم يأذنا فَهُوَ على الأَجِير، وعلى قياسه إن أذن أحدهما دُونَ الآخر، فالنِّصْفُ على الآذن والنصف على الأَجِيرِ، وأما في الصورتين الآخرتين فقد قال: إن أذن له المستأجر في التمتع بالدَّمِ عليهما نصفان، إلا فَالْكُلُّ على الأَجِيرِ ولننتبه هَاهُنَا لِأُمُورٍ: أحدها: إيجاب الدَّمِ على المُسْتَأْجِرَيْنِ أو أحدهما، مفرع على الأَصَحِّ في أن دَمَ القَرَانِ والتمتع على المُسْتَأجر، وإلا فهو على الأجير بكل حالٍ. الثاني: إذا لم يأذن المستأجِرَيْنِ أو أحدهما في الصورة الأولى، أو المستأجر في الصورة الثالثة وكان ميقات البلدِ معيناً في الإجازة أو نزلنا المطلق عليه، فلزمه مع دم التمتع دَمُ الإِسَاءَةِ لمن جاوز ميقات نسكه. والثالث: إذا أوجبنا الدَّمَ على المُسْتَأجِرَيْنِ، فلو كانا مُعْسِرَيْنِ فعلى كُلُّ وَاحِدٍ منهما خَمْسَةُ أَيَّامٍ، لكن صوم التمتع بعضه في الحَجِّ وبعضه بعد الرُّجوع، وهما لم يباشرَا حَجاً، فعلى قياس ما ذكره صاحب "التهذيب" تفريعاً على قولنا: إن دم القَرَان والتمتع على المُسْتَأجِرِ يكون الصَّوْمُ على الأَجِيرِ، على قياس ما ذكره صَاحِب "التتمة" ثم هو كما لو عجز المتمتع عن الصَّوْمِ والهَدْي جميعاً، ويجوز أن يكون الحكم على ما سيأتي في التمتع إذا لم يصم في الحج كيف يقضي؟ فإذا أوجبنا التفريق أَفْضَى تفريق الخمسة بنسبة الثلاثة والسَّبْعَة إلى تبعيض القسمين فيكملان ويصوم كل واحد منهما ستة أيام، وقِسْ على هذا ما أوجبنا الدم في الصورتين الآخيرتين على الأجير والمُسْتَأْجِرِ، وإن فرعنا على الوجه المعزى إلى الخُضَرِي فإذا اعتمر عن المستأجر ثم حج عن نفسه ففي كونه مسيئاً الخلافُ الَّذِي مَرَّ فيهما إذا اعتمر قبل أشْهُرِ الحَجِّ ثُمَّ حَجَّ مِنْ مكة، لكن الأصح هَاهُنَا أنه مُسِيئٌ لإمكان الإحْرَامِ بالحَجِّ حِينَ حَضَرَ المِيقَات. قال الإمام: فإن لم يلزمه الدَّم، ففوات هذا الشرط لا يؤثر إلا في فوات فَضِيلَةِ التمتع على قولنا: أنه أفضل من الإفراد، وإن ألزمناه الدَّم فله أثران، هذا أحدهما:
والثاني: أن المتمتع لا يجب عليه العود إلى الميقات، وإذا عاد وأحرم منه سقط عنه الدَّمُ بِلاَ خِلاَف، والمسيء يلزمه العَوْدُ ففي سقوط الدم عنه خلاف، وأيضاً فإن الدَّمين يتفاوتان في البدل. السادس: في اشتراط نية التمتع وجهان: أصحهما: لا يشترط كما لا تشترط نية القران، وهذا لأن الدَّمَ مَنُوطٌ بِزَحْمَةِ الحَجِّ، وَرِبْحِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ، وذلك لا يختلف بالنية وعَدَمِهَا. والثاني: يشترط لأنه جمع بين عبادتين في وقت إِحْدَاهُما، فأشبه الجمع بين الصَّلاتَيْنِ، لكن الفرق ظَاهِر، فإن أشْهُرَ الحَجِّ كما هي وقت الحَجِّ فهي وقت العمرة بخلاف وقت الصَّلاة، فإن قلنا باشتراطها ففي وقتها ثلاثة أوجه مأخوذة من الخِلاَف في وقت نية الجَمْعّة بَيْنَ الصلاتين: أحدها: أن وقتها حالة الإحرام بالعُمْرَة. والثاني: ما لم يفرغ من العُمْرَة. والثالث: ما لم يشرع في الحَجِّ. قال الإمام -رحمه الله- واعتبار ما نحن فيه بنية الجمع بين الصَّلاتين في نِهَايَةِ الضَّعْفِ، لكن لو قيل: إنما يلزم الدَّم إذا كان على قَصْدِ الحَجِّ عند الانتهاء إلى الميقات وأتى بالعمرة فإنه قَدِم أدنى النسكين من أطول المِيقَاتَيْن، أما إذا لم يكن على قصد الحَجِّ أو كان على قَصْدِ الاقتصار على العُمْرة ثم اتفق الحَجِّ فلا دم عليه قياساً على من جاوز الميقات، لا على قصد النّسك، لكان هذا قريباً من مأخذ المناسك، -والله أعلم-. فهذا شَرْح الشُّروط المذكورة في الكتاب وورائها شرطان: أحدهما: أن يحرَم بالعمرة مِنَ المِيقَاتِ، فلو جاوزه مريداً للنسك ثم أحرم بها فالمنقول عن نصه أنه ليسَ عليه دَمُ التَّمتُّعِ، ولكن يلزمه دَمُ الإِسَاءَةِ، وقد أخذ بإطلاقه آخذون، وقال الأكثرون: هذا إذا كان الباقي بينه وبين مكَّة دون مسافة القصر فإن بقيت مسافه القصر، فعليه الدَّمانِ مَعًا. والثاني: حكى ابْنُ خَيْرَانَ اشتراط وقوع النسكين في شهرٍ واحد، وأباه عامة الأصحاب. واعلم أن الشروط المذكورة معتبرة في لزوم الدَّمِ لا محالة على ما فيها من الوِفَاقِ والخلاف، وهل هي معتبرة في نفس التمتع؟ منهم: من يطلق اعتبارها بعينها، حتى إذا انخرم شَرْطٌ مِنَ كانت الصورةُ صورةَ الإفْرَادِ، وعلى هذا قال في مَوَاضِعَ من الفَصْل: لم يكن متمتعاً، وهو ظاهر قوله في
أوله: (وله ستة شروط) ومنهم من لا يعتبرها في نفس التمتع وهذا أشهر، ولذلك رسموا صِحَّةَ التمتع من المَكِّي مسألة خلافية، فقالوا: يَصِحَّ عِنْدَنَا التمتع والقران من المَكِّي، وبه قال مالك -رحمه الله-. وعند أبي حنيفة -رحمه الله- لا يَصِح منه قران ولا تمتع، وإذا أحرم بهما ارتفضت عمرته، وإن أحرم بالحَجِّ بعدما أتى بِشَوْطٍ من الطواف للعمرة ارتفض حَجّه في قول أبي حنيفة، وعمرته في قول أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله-، وإن أحرم به بعدما أتى بأكثر الطواف مضى فيهما وأراق دماً. قال الغزالي: وَإِذَا وُجِدَتِ الشَّرَاِئطُ فَمَكَّةُ مِيقَاتُ المُتَمَتِّعِ كَمَا أَنَّها مِيقَاتُ المَكْيِّ، فَلَوْ جَاوَزَهَا فِي الإِحْرَامِ لَزِمَهُ دَمُ الإسَاءَةِ مَعَ عَدَمِ التَّمَتُّعِ. قال الرافعي: إذا اعتمر ولم يرد العود إلى الميقات فعليه أن يحرم من مَكَّة "أمَرَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَصْحَابَهُ رَضِي اللهُ عَنْهُمْ أن يُحْرَمُوا مِنْ مَكَّةَ، وَكَانُوا مُتَمَتِعينِ" (¬1) وهي في حَقه كهي في حق المَكي، والكلام في الموضع الذي هو أولى لإحرامه، وفيما إذا خالف وأحرم خَارجَ مكة، إما في حد الحرم أو بعد مجاوزته إذ لم يعد إلى الميقات ولا إلى مساقته على ما ذكرنا في المكي، وإذا اقتضى الحال وجوب دم الإساءة لزم مضموماً إلى دَمَ التَّمتع. واعترض صَاحِبُ الشَّامِلِ عليه فقال: دم التَّمَتُّعِ لا يجب إلا لِتَرْكِ المِيقَاتِ، فكيف يجب لذلك دم آخر. أجابوا عنه: بأنا لا نسلم أنه يَجِبْ لهَذَا القدر بل يجب لربح أَحَدِ المِيقَاتَيْنِ، وزحمة الحَجِّ بالعمرة على مَا مَرَّ، ويدل على تغاير سببهما تغايرهما في كيفية البَدَلِ، وبتقدير أن لا يجب دم التمتع إلا لتَرْكِ الميقات فإنما يَجِب ذلك لتركه الإحرام من ميقات بلده، وهذا الدم إنما يجب لتركه الإحرام مما صار مِيقاتاً له ثانياً وهو مكة. وقوله في الكتاب: (فلو جاوزها في الإحرام لزمه دم الإساءة) مطلق لكن المراد منه ما إذا لم يعد إلى المِيقَات، ولا إلى مسافته على ما تبين من قبل، ووجوب دم التمتع والحالة هذه يبين أن الشرط في التمتع أن لا يعود إلى الميقات لإِحْرَام الحَجِّ، لا أن يحرم من مكة ومن قال الشرط أن يحرم من مَكَّة فهو غالط في العبارة. قال الغزالي: وَإِنَّمَا يَجِب دَمُ التَمَتُّعِ بِإحْرَامِ الحَجِّ، وَهَلْ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ بَعْدَ العُمْرَةِ ¬
عَلَى الحَجِّ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ لِلتَّرَدُّد فِي تَشْبِيهِ العُمْرَةِ بِاليَمِينِ مَعَ الحِنْثِ فَإنَّهُ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ. قال الرافعي: لما فرغ من القول في تصوير التمتع والشَّرائط المرعية فيه، أراد أن يتكلم في وَقْتِ وجوب الدَّم، وفي بدله وما يتعلق بهما، والمتمتع يَلْزُمُهُ دَمْ شَاةٍ إذا وجب، وبه فسر قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬1). وصفته صِفَة شَاةِ الأضْحِيَةِ، ويقوم مقامه السُّبُعُ مِنَ البَدَنَةِ والبَقَرَةِ، ووقت وجوبه الإحرام بالحَجِّ، وبه قال أبُو حَنِيفة -رحمه الله-؛ لأنه حينئذٍ يصير متمتعاً بالعُمْرة إلى الحَجِّ. وعن مالك -رضي الله عنه-: أنه لا يجب حتى يرمي جَمرَةَ العَقَبَةِ فيتم الحَجَّ، وإذا وَجَبَ جاز إراقته، ولم يتأقت بوقتٍ كسائر دِمَاءِ الجبرانات إلا أن الأفضل إراقته يوم النحر. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد -رحمهم الله-: لا يجوز إراقته إلاَّ يَومَ النَّحْرِ، وهل يجوز إراقته قَبْلَ الإحْرَامِ وبعد التَّحَلُّلِ مِنَ العُمْرةِ؟ فيه قولان، وقيل: وجهان: أحدهما: لا يجوز، كما لا يجوز الصَّوْمُ في هذه الحالة، وهذا لأن الهدي يتعلق به عمل البدن، وهي تفرقة اللَّحْمِ، والعبادات البدنية لا تقدم على وقت وجوبها. وأصحها: الجواز؛ لأنه حَقٌّ مَالي تعلق بسببين وهما: الفراغ من العمرة والشروع في الحج، فماذا وجد أحدهما جاز إِخْرَاجُهُ كَالزَّكَاةِ والكَفَّارَةِ. وقوله: (للتردد في تشبيه العمرة باليمين مع الحنث بها أحد السببين. معناه: أن أحد القولين مُوَجَّهٌ بتشبيه الفَرَاغِ من العُمْرَةِ، والشّروع في الحَجِّ باليمين مع الحنث، ومن نصر القول الثاني ينازع في هذا التشبيه، ويقول: الكفارة متعلقة باليمين منسوبة إليها، والدم ليس متعلقاً بالعُمْرَة وإنما هو متعلق بالتَّمَتُّعِ مِنَ العُسْرَة إلى الحَجِّ، وهو خَصْلَة واحدة، فإن فرعنا على جَوَازِ التقدم على الإحْرَامِ بالْحَج، فهل يجوز التقديم على التَّحَلُّلِ من العمرة؟ فيه وجهان: أصحهما: المنع؛ لأن العُمْرة أحد السببين فلا بد من تمامه كما لا بد من تمام النِّصَاب في تعجيل الزَّكَاةِ، ومنهم من قطع بهذا ونَفَى الخلاف، ولا خلاف في أنه لا يجوز اَلتقديم على الشُّروعِ فِي العُمْرَة. قال الغزالي: وَأَمَّا المُعْسِرُ فَعَلَيهِ صِيَامُ عَشَرَةٍ أَيَّامٍ، ثَلاَثةٌ فِي الْحَجِّ بَعْدَ الإحْرَامِ وَقَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَلاَ تُقَدَّمُ (ح) عَلَى الحَجِّ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، وَلاَ يَجُوزُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ¬
عَلَى الجَدِبدِ، وَإذَا تَأَخَّرَ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ صَارَ فَائِتًا وَلَزِمَ القَضَاء (ح)، وَأَمَّا السَّبْعَةُ فَأوَّلُ وَقْتِهَا بِالرُّجُوعِ إلَى الوَطَنِ، وَهَلْ يَجُوزُ فِي الطَّرِيقِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَقِيلَ: المُرَادُ بِهِ الرُّجُوعُ إلَى مَكَّةَ، وَقِيلَ: الْفَرَاغُ عن الحج. قال الرافعي: قوله: (وأما المعسر): ربما يوهم أن الصَّوْمَ إنما يعدل إليه المتمتع إذا لم يملك الهدي ولا ما يشتريه به، وليس كذلك، بل له العدول إلى الصَّوْم وإن قدر على الهَدْي في بلده إذا عجز عنه في موضعه، لأن في بدله وهو الصوم تأقيتاً بكونه في الحَجِّ، فلا نظر إلى غير موضعه بخلاف الكفارات فإنه يعتبر فيها العَدَم المطلق إذ لا تأقيت فيها. إذا عرفت ذلك فإن المتمتع العَادِمَ للهدي يلزمه صَوْمُ عَشْرَةِ أيامٍ بِنَصِّ القُرْآنِ، ويجعلها قسمين: ثلاثةً وسبعاً. أما الثَّلاثة فيصومها في الحَجِّ، ولا يجوز تقديمها على الإحْرَام بالحَجِّ؛ خلافاً لأبي حنيفة، حيث قال: يجوز بعد الإحْرَامِ بالعُمْرَةِ، ولأحمد حيث قال: في رواية بقول أبِي حَنيفَة، وقال في رواية: يجوز بَعْدَ التَّحَلُّلِ من العمرة. لنا أن الصَّوْمَ عِبَادَةٌ بدنية فلا تقدم عَلَى وَقْتِهَا كالصَّلاَةِ وَسَائِرِ العِبَادَاتِ الوَاجِبَةِ، ولا يجوز أن يَصُومَ شَيْئاً مِنْهَا في يَوْمِ النَّحْرِ، وفي جواز إيقاعها في أيَّامِ التشريق قولان قدمنا ذكرهما في كِتَابِ الصَّوْمِ، والمَستحب أن يَصُومَ الأيام الثَلاثة قَبْلَ يَوْم عَرَفَة، فإن الأحَبَّ لِلْحَاجِّ يوم عرفة أن يكون مفطراً على ما مَرَّ، وإنما يمكنه ذلك إذا تَقَدَّمَ إِحْرَامُه بِالْحَجِّ، بحيث يقع بين إحرامه ويوم عرفة ثلاثة أيام، قال الأصحاب -رحمهم الله- وهذا هو المستحب للمتمتع الذي هو من أهْلِ الصَّوْمِ يحرم قبل اليوم السادس من ذِي الحَجَّةِ، ليصوم الثَّلاثة ويفطر يَوْمَ عَرَفَةَ، ونقل الحَنَّاطِيُّ عن شَرْحِ أَبِي إسْحَاق وَجْهاً أنه إذَا لَمْ يؤمل هَدْياً يجب عليه تقديم الإحْرَامِ، بحيث يمكنه صَوْمُ الَأيام الثَّلاثَةَ قَبْلِ النَّحْرِ، وأما الوَاجِدُ للهَدْيِ فالمستحب له أن يَصُومَ يوم التَّرْوِيَةِ بعد الزوال متوجهاً إلى مِنًى؛ لما روي عن جابر -رضي الله عنه-: "أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا تَوَجَّهْتُمْ إِلَى مِنًى فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ" (¬1). فإذا فاته صَوْمُ الأيام الثَّلاثة فِي الحَجِّ لزمه القضاءُ خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: "يسقط الصوم ويستقر الهدي عليه" وعن ابن سُرَيْج وأبي إسحاق -رحمهما الله- تخريج قول مثله، والمذهب الأول؛ لأنه صَوْمٌ واجبٌ فلَا يسقط لفوات وَقْتِهِ كَصَوْمِ رَمَضان، وإذا قضاها لم يلزمه دَمٌ خِلافًا لأحمد -رحمه الله-. ¬
وأما السبعة فهي مقيدة بالرجوع، قال الله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (¬1) وما المراد من الرُّجُوعِ؟ فيه قولان: أصحهما: وهو نصه في "المختصر" وحرملة؛ أن المراد منه الرجوع إلى الأَهْلِ والوَطَنِ؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال للمتمتعين: "مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَليُهْدِ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ" (¬2). وعن ابْنِ عباس -رضي الله عنه- أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثَلاثَةٌ فِي أيَّامِ الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى أَمْصَارِكُمْ" (¬3). والثاني: أن المراد منه الفَرَاغ، وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد -رحمهما الله-؛ لأن قوله: "وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ" مسبوق بقوله: "ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ" فينصرف إليه، وكأنه بالفراغ رَجَعَ عمَّا كَانَ مُقْبلاً عَلَيْهِ مِنَ الأَعْمَالِ. فإن قلنا بالأول فلو تَوَطَّنَ مَكَّة بعد فَرَاغِهِ مِنَ الحَجِّ صَامَ بِهَا، وإنَ لم يتوطنها لَمْ يَجُزْ صَومُه بِهَا، وهل يجوز في الطَّرِيق إذا توجه وطنه روى الصَّيْدَلانِيُّ وغَيْرُهُ فيه وجهين: أحدهما: نعم؛ لأن ابْتِدَاء السَّيْرِ أول الرّجوع. وأصحهما: لا؛ لأنه تَقْدِيم العِبَادة البَدَنِيَّةِ عَلَى وَقْتِهَا، وبهذا قَطَعَ أَصْحَابُنَا العِرَاقِيُّونَ تفريعاً على القول الأصح، وجعلوا الوَجْهَ الأول قولاً برأسه حملاً للرجوع في الآية على الانصراف من مكَّة، والوجه ما فعلوه، فإنا إذا جَوَّزنَا الصومَ في الطريق فقد تركنا التوقيت بالعَوْدِ إِلَى الوَطَنِ، وإذا فرعنا على أن المراد الفراغ من الحَجِّ والانصراف من مكّة فلو آخره حتى يرجع إلى وَطَنِهِ جَازَ، وهل هو أَفْضَلُ أم التقديم أفضل مبادرة إلى العبادة؟ حكى العِرَاقِيونَ فيه قولين: أصحهما: وبه قال مالك: أن التأخير أفضل تحرزاً عَنِ الخِلاَف، وسواء قلنا: إن الرجوعَ هو الرجوعُ إلى الوطن، أو الفراغ من الحَجِّ، فلو أراد أن يوقع بعض الأيام السَّبْعَة في أيام التشريق لمْ يَجُز، وإن حكمنا بأنها قَابلَةٌ لِلصَّوْمِ، أما على القول الأول فَظَاهِرٌ، وأما عَلَى الثاني فلأنه يُعَدُّ فِي أَشْغَالِ الحَجِّ وَأن حَصَل التحلل، ونقل بعضُهم عن الشَّافعي -رضي الله عنه-: أن المرادَ من الرّجوع هو الرَّجوع من مِنَى إلى مكَّة، والإمام وصاحب الكتاب عدا هذا قولاً وراء قَولِ الرجوع إلى الوَطَنِ، وقول الفراغ من الحَجِّ، لكن قضية كلام كثير من الأئمة أنه وقول الفَرَاغِ مِنَ الحَجِّ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وأن ¬
الغرض منه بيان ما ينزل عليه لفظ الرجوع في الآية وهو الأشبه، وبتقدير أن يكون قولاً برأسه فعلى ذلك القول لو رجع من مِنَى إلى مكَّة صَحَّ صومه وإن تأخر طَوافُه للوداع، - والله أعلم-. ولنتكلم فيما يتعلق بلفظ الكتاب على الخصوص سوى ما اندرج في أثناء الكلام. أما قوله: (ثلاثة في الحج بعد الإحرام) أي بالحج وهُو معَلَّمٌ بالحاء والألف لما قدمنا. وقوله: (وقبل يوم النحر) جواب علي الجديد في أنه لا يجوز للمتمتع صَوْمُ أيام التَّشْرِيق، فيجوز أن يُعَلَّم بالواو. وقوله: (ولا يقدم على الحج) كالمكرر؛ لأن في قوله: (بعد الإحرام) ما يفيده، ولعله إنما إعاده ليعلق به العِلَّة وهي قوله: (لأنها عبادة بدنية). وقوله: (ولا يجوز في أيام التشريق على الجديد) مكرر، قد ذكره مرة في الصَّوْمِ ثم هو مَرْقُومٌ بالميم والألف لما كتبناه ثُمَّ. وقوله: (فإذا تأخر عن أيام التشريق صار فائتاً) معناه: أن الفوات حَاصِلٌ عند مُضِيِّ أيام التشريق لاَ مَحَالة، فأما أنه بم يحصل إن لم نجعل أيام التشريق قَابِلَة للصَّوْمِ فإنه يحصل بمضي يَوْم عَرَفَةِ، وأما إذا جَعَلْنَاهَا غير قابلة فإنه يحصل بمضيها، ويمكن أن يتأخر طواف الزِّيَارَةِ عن أيَّامِ التَّشْرِيقِ إِذْ لاَ أَمَدَ لَهُ مِنْ جِهَةِ التأخر، فيكون بعد في الحج لبقاء بَعْض الأَرْكانِ عليه، لكن صَوْمُ الثلاثة بعد أيام التشريق لا يكون أداءً وإن بقي الطواف؛ لأن تأخره عن أَيَّام التشريق مما يبعد ويَنْدُر، فلا يقع مراداً من قوله تعالى: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (¬1)، بل هو مَحْمُول على الغَالِب المُعْتَاد. هكذا حكاه الإمام وغيره، وفي "التهذيب" وجه ضعيف ينازع في ذلك. وقوله: (بالرجوع إلى الوطن) مُعَلَّمٌ -بالميم والحاء والألف- لما تَقَدَّم، وقوله بعد ذلئه: (وقيل: قولان) لا وجهان وقد مَرَّ مَا فِيهِمَا. قال الغزالي: ثُمَّ إِذَا فَاتَ الثَّلاثَةُ قَضَى عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَيفَرَّقُ بَيْنَ الثَّلاثَةِ وَالسَّبْعَةِ بِمِقْدَارِ مَا يَقَع الفُرْقَةُ فِي الأَدَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَفِي صِحَّةِ اليَوْمِ الرَّابعِ عَنْ هَذِهِ الجِهَة قَوْلاَنِ، فَإنْ قُلْنَا: لاَ يَصِحُّ (و) صَحَّ مَا بَعْدَهُ، وَجُعِلَ اليَوْمُ الرَّابعُ كَالإِفْطَارِ المُتَخَلِّلِ. قال الرافعي: إذا لم يَصُم الثلاثة في الحَجِّ حتى فرغ وَرَجَعَ لزمه صَوْمُ العَشَرَةِ، وقد حكينا خِلاَف أبي حنيفة وقولاً يوافقه فيه، فإذا قلنا: بالمَذْهَب فهل يَجِب التَّفْرِيق فِي القَضَاءِ بين الثَّلاثَةِ والسَّبْعَةِ؟ فيه قولان في رواية الحَنَّاطِيّ والشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ -رحمهما الله-، ووجهان في رواية غيرهما. ¬
أحدهما -وبه قال أحمد-: أنه لا يجب؛ لأن التفريقَ في الأَدَاءِ يتعلق بالوَقْتِ، فلا يبقى حكمهُ في القضاء كالتفريق في الصلوات المؤدَّاة، وهذا أصح عند الإمام وطائفة. والثاني -وهو الأصح عند الأكثرين-: أنه يجب التفريق كما في الأداء، ويفارق تفريق الصَّلَوَاتِ، فإن ذلك التفريق يتعلق بالوقت، وهذا يتعلق بالفعل وهو الحَجِّ والرُّجُوعُ، فعلى هذا هَلْ يجب التفريق بمثل ما يقع التفريق في الأداء؟ فيه قولان: أحدهما: لا، بل يكفي التفريق بيوم، لأن المقصود انفصال أحد قسمي الصوم عن الآخر، وهذا حَاصِلٌ باليوم الوَاحِدِ، ويحكي هذا عن نصه في "الإملاء". وأصحهما: أنه يجب التفريق في القَضَاءِ بمقدار ما يقع به التَّفْرِيق في الأداء، لتتم محاكاة القَضَاءِ للأدَاءِ، وفيما يقع به التفريق في الأداء أقوال أربعة تتولد من أصْلَيْنِ سَبَقاً. أحدهما: أن المتمتع هل له صَوْمُ أيام التَّشْرِيق؟ والثاني: أن الرجوعُ إلَى مَاذَا؟ فإن قلنا: ليس للمتمتع صَوْمُ أيامِ التَّشْرِيق وفَسَّرْنَا الرجوعُ بالرجوعِ إلى الوَطَنِ، فالتفريق بأربعة أيام، ومدة إمكان مسيره إلى أهله على العادة الغالبة. وإن قلنا: ليس له صَوْمُها، وفَسَّرْنَا الرجوعَ بالفَرَاغ من الحَجِّ، فالتفريق بأربعة أيام لا غَيْرَ لتمكنه من الابتداء بِصَوْمِ السَّبْعَةِ كَمَا مَضَتْ أيَّامُ التَّشْرِيقِ. وإن قلنا: للمتمتع صَوْمُهَا، وَفَسَّرْنَا الرُّجوعَ بالرجوع إلى الوَطَن فالتفريق لمدة إمكان مسيره إلى أهله. وإن قلنا: له صومها وَفَسَّرنَا الرُّجُوعَ بالفراغِ من الحَجِّ فوجهان: أصحهما: بأنه لا يجب التفريق، لأنَّهُ يمكنه في الأَدَاء على هذا أن يصوم أيام التَّشْرِيق عن الثَّلاثة ويصل بها صَوْمَ السَّبْعةِ. والثاني: لا بد من التَّفْرِيقِ بِيَوْمٍ، لأن الغَالِب أن يفطر يَومَ الرُّجوع إلى مَكَّة، وأيضاً فإن الثلاثة تنفصل في الأداء عن السَّبْعَةِ بحالتين متغايرتين لوقوع أحَدِهِمَا في الحَجِّ والآخر بعده، فينبغي أن يقيم في القضاء مقام ذلك التفريق بإفْطَار يَوْمٍ، -والله أعلم-. فإن أردت حَصْرَ الأقوالِ التي تَجِيءُ فيمن لم يَصُمْ الثلاثة في الحَجِّ مختصراً. قلت: فيه ستة أقوال: لا صوم عليه، بل ينتقل إلى الهَدْيِ. عليه صوم عشرة مُتَفَرِّقًا أو متتابعًا.
صَوْمُ عَشْرَةِ بِشَرْطِ التفريق بِيَوْمٍ فَصَاعِدًا. بشرط التفريق بأربعة أيام ومدة إمكان المَسِير إلى الأهلِ (¬1). بِشَرْطِ التَّفْرِيقِ بأربعةِ أَيَّام فَحَسَبْ. بشرط التفريق بمدة إِمْكَانٍ المسير فَحَسب. ولو صَامَ عَشْرة أيام وَلاَءً، والتفريع على ظَاِهرِ المذهب، وهو لزوم القَضَاء، أجزأه إِنْ لَمْ نَشْتَرِط التَّفْرِيقَ، فإن شَرَطْنَا التفريقَ واكتفينَا بِيَومٍ لم يعتد باليوم الرَّابع، ويعتد بما بعده، ويجعل ذَلِكَ اليَوم كالإفْطَار إِذَا لَمْ يَقَعْ عَنْ هَذِهِ الجهة، ولهذا لو نوى فيه تطوعاً أو قضاءً يُجْزِئه، فعلى هذاَ يَصُومُ يوماً آخر، وقد خرج عن العهدة وعن صاحب "التقريب" حكاية وجه ضعيف أنه لا يعتد بِشَيْءٍ مما بعد اليومِ الرَّابعِ. وحكى الحَنَّاطِيُّ عن الإصطخري: وجهاً أضعف من هذا وهو: أنه لا يعتد بالثَّلاثَةِ أيضاً إذا نَوَى التَّتَابُعَ، وإن شرطنا التفريق بأكثر من يَوْمٍ لم يعتد بذلك القدر، ويقاس ما قبله وما بعده بما ذَكَرْنَا. وأما لفظ الكتاب فقوله: (قضى عشرة أيام) لا يمكن حمله على القَضَاءِ المُقَابِلِ للأَدَاء، فإن العشرة لا تكون قضاءً بهذا المعنى، لكون السَّبْعَةِ مؤداةً فِيهَا، ولكن المراد قَضَاؤهَا في عَشْرَةِ أيام، أو المراد صَامَ عشرة أيام معبراً بلفظ القضاء على ما يشترك فيه القَضَاء والأداء، ويجَوز أن يُعَلَّم بالحاء والواو لما أعلم بهما قوله من قبل: (ولزم القضاء). وقوله: (ويفرق بين الثلاثة والسبعة بمقدار ما يقع التفرقة في الأداء) لا يمكن من جهة النظم حمله على شَرَائِط التفريق هكذا، وإن كان هو ظاهر المَذْهَبِ عند عامة الأصْحَاب؛ لأنه لو كان هذا حكماً باشتراطه لم يَصِح أن يقول بعده: فإن لم يفعل ففي صِحَّة اليوَم الرَّابع قولان، وأيضاً فإنه حكم بِصِحَّة مَا بُعْدَ اليَوْم الرَّابع إن لم يصح اليومُ الرَّابعُ، ومن شَرْطَ التفريق بِذَلِكَ المقدار لا يكتفي بِيَوْمٍ، فكأنه أرادَ به هكذا ينبغي أن يفعل تحرزا عن الخِلاَف فإن لم يفعل فَفِيه الخِلاَفُ. وقوله: (فإن لم يفعل فَفِي صِحَّة اليوم الرابع عن هذه الجهة قولان). فيه إضْمَار معناه: فإن لم يفعل وَوَالَى بَيْنَ العَشْرَةِ وإلاَّ فَلاَ يُلْزَم مِنْ أَنْ لاَ يُفَرِّق بين الثَّلاثَةِ والسَّبْعَةِ بمقدار ما يَقَعْ عَلَيْهِ التفرقة في الأدَء الموالاة لجواز التفريق بمقدار بخالف ذَلكِ المِقْدَار وحينئذ لا يلزم أن يكون صائماً اليومَ الرَّابعَ حتى يقال: هَلْ يعتد به ¬
أم لا؟ ثم لا يخفى أن هذا الخِلاَف هُوَ الخُلاَفُ في أن التفريق هَلْ هُوَ شَرْطٌ أم لا؟ كَمَا مَرَّ ثم يتعين اليَوْم الرَّابع، والحكم بأنه إِنْ لَمْ يَصِحّ صَحَّ ما بعده ذهاب إلى الاكتفاء في التَّفْرِيقِ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ، والظَّاهر خلافه على ما أوضحناه فيجب إعلام قوله: (صح ما بعده) بالواو لذلك، ثم للوجه المنقول عن صَاحِب التقريب. فرع: كل واحد من صَوْمِ الثلاثة في الحَجِّ والسَّبْعَةِ بعده يستحب فيه التَّتَابع وَلاَ يَجِب (¬1)، وروى صاحب "المعتمد" تخريج قَوْلٍ في كفارة اليمين أنه يجب فيهما التتابع. قال الغزالي: وَإِنْ وُجِدَ الهَدْيُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَوْ وُجِدَ قَبْلَ الشُّروعِ وَبَعْدَ الإِحْرَامِ بِالحَجِّ يَبْنِي عَلَى أَنَّ العِبْرَةَ فِي الكَفَّارَاتِ بِحَالَةِ الأَدَاءِ أَوْ بِحَالَةِ الوُجُوبِ. قال الرافعي: إذا شرع في الصَّوْمِ ثم وجد الهَدْيَ استحب له أن يهدي، ولا يلزمه سواء شرع في صَوْمِ الثَّلاتة أوْ فِي صَوْمِ السبعة، وبه قَال مَالِكٌ، وكذا أَحْمَدٌ -رحمهما الله- في رواية خلافاً للمزني في الحالتين، ولأبي حنيفة -رحمه الله- فيما إذا شَرَع في صَوْمِ الثَّلاثة، ولو فرغ من صَوْم الثَّلاثةَ وَوَجَدَ الهَدْيَ قبل يوم النَّحْرِ يلزمه الهدي أيضاً عنده، وإن وجد بعده فَلاَ، والخَلاف في المَسْألة شبيه بالخِلاَف في القدرة على العِتْقِ بعد الشّروع في صوم الشَّهْرين وفي وجدان المَاءِ بعد الشُّروعِ فِي الصَّلاة بالتيمم. ولو أحرم بالحجِّ ولا هَدْيَ ثم وجده قبل الشُّروع في الصَّوْم فيبني ذلك على أن الاعتبار في الكَفَّارَاتِ بحالة الوجوب أو بحالة الأداء أو يعتبر أغْلَظَ الحَالتين، والخلاف فيه يذكر في موضعه -إنْ شَاءَ الله تعالى- فإن اعتبرنا حالة الوجوب أجزأه الصَّوْم، وإن اعتبرنا حالة الأداء أو أغلظ الحالتين لزمه الهَدْي، وهو المنقول عن نَصِّه في هذه المسألة (¬2). قال الغزالي: وَلَوْ مَاتَ المتَمَتِّعُ قَبْلَ الفَرَاغِ مِنَ اَلْحَجِّ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ نَظَراً إلى الآخَرِ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ الفَرَاغِ أَخْرَجَ مِنْ تَرِكَتِهِ فَإِنْ مَاتَ مُعْسِراً صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ فَدَى كُلَّ يَوْمٍ بِمُدٍّ كَمَا فِي رَمَضَانَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُرْجِعُ هَاهُنَا إِلَى الأَصْلِ وَهُوَ الدَّمُ. قال الرافعي: المتمتع الواجد لِلْهَدْيِ إذا مات قبل الفراغ من الحَجِّ هل يسقط عنه الدَّم؟ حكى صاحب "النهاية" وغيره فيه قولين: ¬
أحدهما: نعم؛ لأن الكَفَّارَةَ إنما تَجِب عند تَمَامِ النُّسُكَيْنِ على سبيل الرَّفَاهِيَة، وربح أَحَدِ السَّفَرَيْنِ، وإذا مات قبل الفَرَاغ لم يحصل هذا الغَرَض. وأصحها: أنه لا يسقط بل يخرج من تركته؛ لأنه وَجَبَ بِالإحْرَام بالحَجِّ والتمتع بالعمرة إلى الحج، وأنه موجود، ولو مات بعد الفراغ من الحج فلَا خلاف في أنه يخرج من تركته. وأما الصَّومَ فإن مات قبل التمكن منه: ففيه قولان: أحدهما: أنه يهدي عنه؛ لأن الصَّوْمَ قد وجب بالشُّروع في الحَجِّ فلا يسقط من غير بدل، وهذا مصور فيما إذا لم يَجِد الهَديَ في موضعه وله ببلده مَالٌ، وفيما إذا كَانَ يُبَاعُ بِثَمَنٍ غَالٍ. والثاني: أنه يسقط؛ لأنه صَوْمٌ لم يتمكن من الإتْيَانِ بِهِ، فأشبه صَوْمَ رَمَضَانَ، وهذا أصح قاله ابْنُ الصَّبَّاغِ، وصاحب "التهذيب" وإن تمكن من الصَّوْمِ فلم يصم حتى مَاتَ فَهَلْ هو كصوم رمضان؟ فيه طريقان: أصحهما: نعم؛ لأنه صَوْمٌ مفروضٌ فاته بعد القدرة عليه فعلى هذا يصوم عنه وَلِيُّه في القول القديم، وفي الجديد يطعم عنه من تركته لِكُلِّ يَوْمٍ مُدَّ، فإن تمكن من جَمْعِ العشرة فعشرة أَمْدَادٍ، إلا فَبِالقِسْطِ، وهل يجب صَرْفُهُ إلى فقراء الحَرَمِ أم يجوز صرفه إلى غيرهم؟ فيه قولان: أشبههما: الثاني. والثاني: أنه لا ينزلَ منزلة صوم رَمَضَانَ، وتجعل الفدية من خواص رمضان كالكفارة العُظْمَى، وعلى هذا: فقولان: أصحهما: أن الرُّجُوعَ إِلَى الدَّمِ، لأنه أقرب إلى هذا الصَّوْمِ من الأمداد، فيجب في فَوَاتِ ثلاثة أيام إلى العَشْرَةَ شَاةٌ، وفي يَوْمٍ وَاحِدٍ ثُلُثُ شَاةٍ، ويومين ثُلُثَا شَاةٍ، وعن أبي إسحاق إشارة إلى أن اليوم واليومين كإتلاف الشعرة والشعرتين من المحرم، وفيما يقابل به الشعرة الواحدة أقوال: أحدها: مُدٌّ من طعام. والثاني: دِرْهم. والثالث: ثلث شاة. والثَّاني: نقله الإمام والمصنف في "الوسيط" عن رواية صَاحِبِ التقريب أنه لا يَجِبْ شَيْءٌ أصلاً. فإن قلت: قد عرفت حكم ما إذا تمكن من الصوم وما إذا لم يتمكن فما التمكن؟
الباب الثاني في أعمال الحج
قلنا: أما الثَّلاثة فالتمكن من صَوْمِهَا بأن يحرم بالحج لزمان يَسَع صَوْمَهَا قبل الفراغ ولا يكون به مَرَضٌ مَانِع، وذكر الإمام -رحمه الله- أنه لا يجب شيء في تركته ما لم ينته إلى الوطن؛ لأن دوام السَّفَرِ كدوام المَرَضِ، وَصَوْم الأيام الثلاثة وإن كان ثابتاً على الغرباء فلا يزيد تأكده على تكد صَوْمِ رمضان أداء واستدراكاً، وهذا غير مُتَّضِح لأن صَوْمَ الثلاثة بتعين إيقاعه في الحَجِّ وإن كانوا غرباء مُسَافِرين بالنَّصِ، فكيف ينهض السَّفر عذراً فيه؟ وكيف يُقَاسُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ؟ وأما السبعة فإن فَسَّرْنَا الرجوع بالرجوع إلى الوَطَنِ فله التَّأْخِير إلى الوُصول إليه، وكأنه لا يمكن قبله وإن فَسَّرْنَاه بالفراغ من الحَجِّ فكذلك، ثم دوام السَّيْرِ عذر على ما ذكره الإمام -رحمه الله-. وعن القاضي الحُسَيْنِ -رحمه الله- أنا إذا استحببنا التأخير إلى أن يصل إلى الوطن تفريعاً على أن الرجوع هو الفراغ من الحَجِّ فهل يفدي عنه إذا مات في الطريق؟ فيه وجهان تخريجاً من الوجهين فيما إذا ظَفَرَ بالمَسَاكين، ولم يدفع الزَّكاة إليهم ليدفعها إلى الإمام فَتَلَفَ المَالُ، هل يضمن؟ ولا يخفى بعد ما ذَكَرْنَاه أن قوله: (صام عنه وليه أو فدى كل يوم بمد) ليس المراد منه التخيير، وإنما هو إشارة إلى القولين القديم والجديد المذكورين في صيام رمضان، وأن قوله: (وقيل: إنه يرجع هاهنا إلى الأصل) قول لا وجه، وأن المراد من قوله: (فإن مات معسراً إلى آخره) ما إذا مات بعد التَّمَكُّنِ، وإن كان اللفظ مطلقاً، ويجوز أن يعلم قوله: (صام عنه وليه أو فدى كل يوم بمد) كلاهما بالحاء. أما الأول: فلأن أبا حنيفة -رحمه الله- لا يقول بصوم الولي. وأما الثاني: فلما قدمنا أنه إذا لم يَصُم الثَّلاثة في الحَجِّ سقط الصوم واستقر الهَدْيُ، ولفظ الكتاب مطلق، ويجوز أن يُعَلَّم الأول وبالميم والألف أيضاً. الْبَابُ الثَّانِي فِي أَعْمَالِ الحَجِّ وَفِيهِ أَحَدَ عَشَرَ فَصْلاً الفَصْلُ الأوَّلُ فِي الإحْرَامِ قال الغزالي: وَيَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ (ح) مِنْ غَيْرِ تَلْبِيَةٍ، وَإِنْ ارَمَ مُطْلَقاً ثُمَّ عَيَّنَ بِحَجٍّ أَوْ عُمرَةٍ أَوْ قِرَانٍ فَلَهُ ذَلِكَ، إلاَّ أَنْ يُحْرِمَ قَبْلَ أَشْهُرِ الحَجِّ يُعَيِّنَ لِلْحَجِّ أَوْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ الحَجُّ بَعْدَ الأَشْهُرِ فَإنَّهُ لاَ يَجُوزُ (و).
قال الرافعي: فوصل الباب تفصيل ترجمته الجملية غير الفصل الأخير، فإنه لا اختصاص له بهذا البَابِ، ولعَلَّ غيره أليقُ به، ومقصودُ الفَصْلِ الأول الكلام فيما ينعقد به الإحْرَام، وفي كيفية انعقاده (¬1)، وينبغي للمحرم أن ينوي وَيُلَبِّي، فإن لم يَنوِ وَلَبَّى فقد حكى عن رواية الربيع أنه يلزمه مَا لَبَّى به، وقال في "المختصر": وإن لم يرد حجاً ولا عمرةً فليس بِشَيْءٍ، واختلف الأصْحَاب على طريقين: أضعفهما: أن المسألة على قولين: أصحهما: أن إحْرَامُهُ لا ينعقد على ما ذَكَرَهُ في "المختصر" لأن الأعمال بالنيات. والثاني: أنه يلزمه ما سَمَّى؛ لأنه التزمه بقوله، وعلى هذا لو أطلق التَّلْبِيَة انعقد له إحرام مطلق يَصْرِفه إلى ما شَاءَ من كلا النُّسُكَيْنِ أو أَحدهما. وأصحهما: القطع بِعَدَم الانعقاد وحمل منقول الربيع على ما إذا تلفظ بأحد النُّسُكَيْنِ على التعيين ولم يَنْوِه ولكن نوى الإحرام المطلق فيجعل لفظه تفسيراً وتعييناً للإحرام المطلق (¬2). واعرف هنا شيئين: أحدهما: أن تنزيل لفظ "المختصر" على صورة المسألة يفتقر إلى إضْمَار؛ لأنه قد لا يريد حجاً ولا عمرة، ولكن يريد نَفْس الإحرام، فالمعنى حجاً ولا عمرةَ ولا أصْلَ الإِحْرَام. والثاني: أن جعل اللفظ المجرد تفسيراً في صورة التأويل، مشكل كجعله إحراماً في الابتداء، والظاهر أنه على تجرده لا يجعل تفسيراً على ما سيأتي، ولو نوى انعقد إحْرَامه، وإن لم يُلَبِّ، وبه قَالَ مالك وأحمد -رحمهما الله- لأنه عبادة ليس في آخرها ولا في أثنائها نُطْقٌ وَاجِبٌ، فكذلك في ابتدائها كالطهارة والصوم، وعن أبي عَلِيٍّ بْنِ خَيْرَانَ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وأَبِي عَبْدِ اللهِ الزُّبَيْرَي -رحمهم الله- أن التلبية شرط لانعقاد الأحرام لإطباق النَّاسِ على الاعتناء به عِنْدَ الإحْرَامِ، وبه قال أبو حنيفة إلا أن عنده ¬
سَوْقَ الهَدْي وَتقْليدَه والتوجه معه يقوم مقامَ التلبية، وحكى الشَّيْخُ ابُو مُحَمَّدٍ وغيره قولاً للشافعي -رضي الله عنه- مثل مذهبه وحكى الحَنَّاطِيُّ هذا القول في الوجوب دون الاشتراط، وذكر تفريعاً عليه أنه لو ترك التلبية لزمه دَمٌ، وإذا عرفت أن النِّية هِيَ المُعْتَبَرةَ دون التلبية، فيترتب عليه أنه لو لَبَّى بالعمرة ونَوَى الحَجَّ فهو حَاجٌّ، ولو كان بالعَكْسِ فهو مُعتَمِرٌ ولو تلفظ بأحدهما ونوى القَرَان فَقَارِن، ولو تَلَّفظ بالقران ونوى أحدهما فهو مُحْرِمٌ بِمَا نَوَى واعلم أن الإحرام تَارةٌ ينعقد معيناً بأن ينوي أحدَ النُّسُكَيْنِ عَلَى التعيين أو كليهما، ولو أحرم بحجتين أو بعمرتين لم يلزمه إلا وَاحِدَة، خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- حيث قال: يلزمانه فيشتغل بِوَاحِدَةٍ، وتكون الأخرى في ذِمَّتِهِ، وتارة ينعقد مطلقاً بأن ينوي نفسَ الإِحْرَام ولا يقصد القران، ولا أحد النسكين فهو جائز، لما روي "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- أَحْرَمُ مُطْلَقًا وَانْتَظَرَ الْوَحْيَ" (¬1) ويفارق الصَّلاة فإنه لا يجوز الإحْرَام بها والتعيين بعد؛ لأن التعيين لَيْسَ بِشَرْطٍ في انعقاد الحَجِّ، ولهذا لو أُحرم الضرورة عن غيره انصرف إليه ولو أحرم بالنفل قبل الفرض انصرف إلى الفَرْض، وإذا أحرم مطلقاً فينظر إن أحْرَمَ في أَشْهُرِ فله أن يصرفه إلى ما شَاء من الحج والعمرة والقَرَان، والتعيين بالنِّية لا باللفظ، ولا يجزئ العَمَلُ قبل التعيين، ذَكَرَهُ الشيخ أَبُو عَلِيِّ وغيره، وإن أحرم قبل الأشْهُرِ، فإن صَرَفَهُ إلى العُمْرَةِ صَحَّ، وإن صرفه إلى الحَجِّ بعد دخول الأشهر هل يجوز؟ بَنَاهُ الشيخ أبو علي على مسألةٍ أخرى وهي ما لو أحرم بالعُمْرَة قبل أشهر الحج ثم أراد إدْخَال الحج عليها في الأَشْهُرِ ليكونَ قَارِناً، وفي جوازه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه إنما يصير داخلاً في الحَجِّ من وقت إحْرَامه به، ووقت إحرامه به صَالِحٌ للحج. والثاني: لا يجوز لأن ابتداء إحْرَامِهِ وقع قبل الأَشْهُرِ، والقارن في حُكْمِ مُلاَبِس بإحرام واحدٍ، ألا ترى أنه لو ارتكب محظوراً لم يلزمه إلا فِدْيَة واحدةٌ، فلو انعقد الحج وابتداء الإحرام سابق على الأشهر لانعقد الإحرام بالحَجِّ قبل الأَشْهُر. فإن قلنا بالوجه الأول فإذا أحرم مطلقاً ثم دخلت الأشهر فله أن يجعله حجاً وأن يجعله قراناً ويحكى هذا عن الحصري. وإن قلنا: بالثاني حكمنا بانعقاد الإحرام المطلق عُمْرَةَ، لأنه لا يحتمل أن ينصرف إلى غيرها، وعلى الأول ينعقد على الإبهام، ثم لو صَرَفَهُ إلى الحَجِّ قبل دخول الأَشْهُرِ كان كما لو أحرم بالحَجِّ قبل الأشهر، وقد مضى الكلام فيه. واعلم أن الصورتين معاً المبنية والمبني عليها مذكورتان في الكتاب. ¬
وقوله (إلا أن يحرم قبل أشهر الحج ثم يعين للحج) أراد به ما إذا أحرم مطلقاً قبل الأشهر ثم صرفه إلى الحَجِّ في الأشهر. وقوله: (أو يدخل عليه الحج بعد الأشهر) أراد به ما إذا أحرم بالعمرة في غير الأَشْهُرِ، ثم أدخل الحَجَّ عليها في الأشْهُرِ، وإن لم يكن في اللفظ إنباء عنه، وقد أجاب فيهما جميعاً بالمنع وهو ظاهر المذهب في الصورة الأولى. وأما في الثانية وهي صورة الإدخال فكأنه تابع فيه الشَّيْخَ أَبَا عَلِيّ: فإنه اختاره وحكاه عن عامة الأصحاب، لكن القَفَّالَ اختار الجواز وبه أجاب صَاحِبُ "الشَّامِلِ" وغيره ثم فيما ذكره من جهة اللفظ استدراك، فإنه استثنى الصورتين مما إذا أحرم مُطْلَقًا والصورة الثانية غير داخلة فيه حتى تستثنى، وما الأفضل من إطلاق الإحْرَام وتعيينه؟ فيه قولان: قال في "الإملاء": الإطلاق أفضل، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "أَحْرَمَ مُطْلَقَاً" (¬1) وأيضاً فقد يعرض ما يمنعه من أحد النسكين، فإذا أطلق أمكن صَرْفُه إلى الآخر. وقال في "الأم" وهو الأصح: التعيين أفضل، وبه قال أبو حنيفة: -رضي الله عنه- لأنه أقرب إلى الإِخْلاَص، وقد روى عن جابر -رحمه الله- قال: "قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ نَقُولُ لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ" (¬2) وعلى هذا فهل يستحب التلفظ بما عَيَّنَهُ؟ فيه وجهان: أصحهما: وهو المنصوص: لا بل يقتصر على النية؛ لأن إخفاء العبادة أفضل. والثاني: وبه قال أبو حنيفة: نعم لخبر جابر -رضي الله عنه-، ولأنه يكون أبعد عن النسيان -والله أعلم-. قال الغزالي: وَلَوْ أَهَلَّ عَمْرو بإهْلاَلٍ كَإهْلاَلِ زَيْدٍ صَحَّ، فَإِنْ كَانَ إِحْرَامُ زَيْدٍ مُفَصَّلاً أَوْ مُطْلقًا كَانَ إِحْرَامُ عَمْروٍ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ زَيْدٌ أَطْلَقَ أَوَّلاً ثم فَصّله قَبْلَ إِحْرَامِ عَمْروٍ نُزَّلَ إِحْرَام عَمْروٍ عَلَى المُطْلَق نَظَرًا إلَى الأَوَّلِ أَوْ عَلَى المُفَصَّل نَظَرًا اِلي الآخَرِ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلَو لَمْ يَكُنْ زَيْدٌ مُحْرمًا بَقِيَ إحْرَامُهُ مُطْلَقاً إلاَّ إِذَا عُرِفَ أنَّهُ غَيْرُ مُحْرِمِ، فَإِنْ عُرَفَ مَوْتُهُ انْعَقَدَ لِعَمْروٍ إِحْرَامٌ مُطْلَقاً عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ وَلُغَتِ الإِضَافَةُ فَإنَّهُ نَصَّ في "الأُمِّ" أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ عَنْ مُسْتَأْجِرَيْنِ تَعَارضَنَا وَانْعَقَدَ عَنِ الأَجِيرِ، وَكَذَا لَوْ أَحْرَمَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ المُسْتَأجِرِ تَسَاقَطَتِ الإِضَافَتَانِ وَبَقِيَ الإحْرَامُ عَنِ الأَجِيرِ. قال الرافعي: إذا أَهَلَّ عمرو بما أَهلَّ به زَيْدٌ جَاز لما روي "أَنَّ عَلِيًّا وَأَبَا مُوسَى - ¬
رضي الله عنهما- قَدِمَا مِنَ اليَمَنِ مُهِلِّينَ بمَا أَهَلَّ بهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا" (¬1) ثم فيه ثلاث مسائل لأن زيداً إما أن يكون محرمًا، أو لا يكون، وإن كان محرماً فإما أن يمكن الوقوف على ما أحرم به أو لا يمكن، والفَصْلُ مشتمل على مسألتين من الثَّلاَثِ. أحدهما: أن يكون زيدٌ محرماً ويمكن الوقوف على ما أحرم به، فينعقد لعمرو مثل إحْرَامه، وإن كان محرماً بِحَجٍّ فعمِرو أيضاً حَاج، وإن كان معتمراً فمعتمر، وإن كان قارناً فقارِن، وإن كان إحرامه مطلقاً انعقد لعمرو إحرامٌ مطلقٌ أيضاً، ويتخير كما يتخير زَيْد، ولا يلزمه صَرْفُ إحْرَامِهِ إلى ما يصرف إليه زَيْد، وفي "المعتمد" نقل وجه أنه يلزمه، والمشهور الأول، قال في "التهذيب": إلا إذا أراد إحراماً كإحرام زيد بعد تعيينه. وإن كان إحرام زيد فاسداً فإحرام عمرو ينعقد مطلقاً. أو لا ينعقد أصلاً؟ عن القاضي أبي الطيب، حكاية وجهين فيه (¬2). ولو أن زيداً كان قد أبهم إحْرَامه أولاً ثم فَصَّلَهُ قبل إحرام عمرو ففيه وجهان: أْشبههما: أن إحرامه ينعقد مبهماَ نظراً إلى أوَّلِ إحرامِ زَيْدٍ. والثاني: ينعقد مُفَصَّلاً نظرًا إلى آخره، والوجهان جاريان فيما لو كان زيدٌ قد أحرم بِعُمْرَةٍ ثم أدخل عليها الحَجّ فعلى الأول لا يلزمه إلا العُمْرَة، وعلى الثَّانِي يكونُ قَارِنًا. وموضع الوجهين ما إذا لم يخطر له التشبيه بآخر إحْرَامِ زَيْدٍ في الحَالِ، وإلا فالاعتبار بالآخر بِلاَ خِلاَف، وما إذا لم يخطر له التشبيه بابتداء إحرامه، وإلا فالاعتبار بالأول بلا خِلاَف، ولو أخبره زَيْدٌ عما أحرم به ووقع في نفسه خِلاَفه فيعمل بما أخبره عنه، أو بما وقع في نَفْسِهِ. فيه وجهان: وإذا أخبره عن إحرامه بالعمرة وجرى على قوله ثم بأن أنه كان محرماً بالحج، فقد بأن أن إحْرَام عمرو كان منعقداً بالحج، فإن فات الوقت تحلل من إحْرَامه للفوات وأراقَ دماً، وهو في ماله أو مال زيد للتغرير؟ فيه وجهان أورد المسألتين صاحب "المعتمد" وغيره. الثانية: أن لا يكون محرماً أصلاً فينظر إن كان عمرو جاهلاً به انعقد إحْرَامُه ¬
مطلقاً؛ لأنه جزم بالإحْرَامِ، وجعل له كيفية خَاصَّة فيبقى أصل الإحرام وإن بطلت تلك الكيفية، وإن كان عالمًا بأنه غير محرم فوجهان: أحدهما: أنه لا ينعقد إحرامه أصلاً كما إذا قال: إن كان فلانٌ محرماً فقد أحْرمَت فلم يكن محرماً. وأصحهما: ولم يذكر الجمهور غيره: أنه ينعقد إحرامه مطلقاً؛ لما ذكرنا في صُورَةِ الجَهْلِ، ويخالف ما إذا قال إن كان محرماً قد أحرمت، فإن هناك علق أصْل إحرامه لإحرامه فلا جرم إن كان محرماً فهو محرم، وإلا فلا وهاهنا الأصْلُ مجزوم به. واستشهد في الكتاب لهذا الوجه بصورتين نَصَّ عليها في "الأم": أحدهما: لو استأجره رجلانِ ليحج عنهما فأحرم عَنْهُمَا لم ينعقد الإحْرَام عن واحد مِنْهُمَا، لأن الجمع غير ممكن، وليس أحدهما أولى بَصَرْفِ الإحْرَامِ إليه، فلغت الإضافتان ووقع الحَجُّ عن الأَجِيرِ، والتصوير في الإجارة على الذِّمة بَيِّنٌ، وقد تصور في إجارة العين أيضاً وإن كانت إحدى الإجارتين فَاسِدَةٌ؛ لأن الإحْرَام عن الغير لا يتوقف على صِحَّة الإجَارَة. والثانية: لو استأجره رجلٌ ليحج عنه، فأحرم عن نفسه وعن المستأجر، لغت الإضافتان وتساقطتا وبقي الأحرام عن الإجِير، فلما لغت الإضافة في الصورتين وبقي أصل الإحْرَام جاز أن يَلْغُو هنا التشبيه في الكيفية، ويبقى أصْلُ الإحْرَامِ. ويحوز أن يعلم قول في الكتاب: (وانعقد عن الأجير) بالحاء، لأن عند أبي حنيفة، إن كان المستأجران أبوي الأجير وأحرم عنهما، أو أحرم عنهما من غير إجارة انعقد الإحرام عن أحدهما، وله صرفه إلى أيهما شاء، وعنه في المستأجرين لأجنبيين روايتان: أظهرهما: مثل مذهبنا. وقوله: (بأن عرف موته) إشارة به إلى ما ذكره الإمَامُ من أن العلم بأنه غير محرم لا يكاد يتحقق، فإن الاعتبار بالنية ولا يطلع عليها غير الله تَعَالى، وإنما يظهر التصوير إذا شَبَّه إحرامه بإحرام زَيْدٍ وهو يعرف أنه ميت. والعم أن المسألتين والثالثة التي سنذكرها مفروضات فيما إذا أحرم في الحال بإحرام كإحرام الغير، أما لو عَلَّق بإحرامه في المستقبل فقال: إذا أحرم فأنا مُحْرِمٌ لَمْ يَصِح كما إذا قال: إذا جاء رأس الشَّهْرِ فإنا مُحْرِمٌ لا يصير محرماً بمجيئه؛ لأن العبادات لا تعلق بالأخطار، كذا أورده صاحب "التهذيب" وغيره، ونقل في المعتمد وجهين في صحة الإحرام المعلق بِطُلُوع الشَّمْسِ ونحوه، وقياس تجويز تعليق أصْلِ الإحرام بإحرام الغير تجويز، هذا لأن التعليق موجود في الحالين، إلا أن هذا تعليق بمستقبل، وذاك
تعليق بِحَاضِرِ، وما يقبل التعليق من العقود يقبلها جميعاً -والله أعلم-. قال الغزالي: وَلَوْ مَاتَ لو مات زَيْدٌ بَعْدَ الإحرام أو عَسُرَ مُرَاجَعَته فهوَ كمُا لَوْ أَحْرَمَ مُفَصَّلاً ثُمَّ نَسِيَ مَا أَحْرَمَ بِهِ، وَالقَوْلُ الجَدِيد أنَّهُ لاَ يُؤْخَذُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ اجْتِهَادًا لَكِنْ يَبْنِي عَلَى اليَقِينَ فَيَجْعَلُ نَفْسُهُ قَارِنًا فَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ عَنِ الحَجِّ بِيَقِينٍ، وَكَذَا عَنِ العُمْرَةِ إِلاَّ إِذَا قُلْنَا: لاَ يَجُوزُ إِدْخَالُ العُمْرَةِ عَلَى الحَجِّ، فإنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَقَعَ الآنَ كَذَلِكَ، وَقِيلَ: النِّسْيَانُ عُذْرٌ في جَوَاز إِدْخَالِ العُمْرَةِ عَلَى الحَجِّ، فَإِنْ قُلْنَا: يَبْرَأُ عَنِ العُمْرةِ فَعَلَيْهِ دَمُ القِرَانِ وإلاَّ فَلاَ، وَإِنْ طَافَ أَوَّلاً ثُمَّ شَكَّ فَيَمْتَنِعُ إِدْخَالُ الحَجِّ لَوْ كانَ مُعْتَمِراً فَطَريقُهُ أَنْ يَسْعَى وَيَحْلَق وَيَبْتَدِئَ إِحْرَامُهُ بِالحَجِّ وَيتِمَّهُ فَيَبْرأَ عَنِ الحَجِّ بِيَقِين؛ لِأَنَّهُ إِنْ كانَ حَاجاً فَغَايَتُهُ حَلْقٌ في غيْرِ أَوَانِهِ وَفِيهِ دَمٌ، وَإِنْ كانَ مُعْتَمراً فَقَدْ تَحَلَّلَ ثُمَّ حَجَّ وَعَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ، فَالدَّمُ لاَزِمٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَلاَ يَضُرُّهُ الشَّكُّ في الجِهَةِ فإِنَّ التَّعْيِينَ لَيْسَ بِشَرْط في نِيَّةِ الكَفَّاراتِ. قال الرافعي: المسألة الثالثة: أن يكون زيدٌ محرماً لكن يتعذر مراجعته بجنون أو غيبة أو موت بعد الإحْرَام وقد شبهها في الكتاب بمسألة طويلة الفقه فنشرحها ثم نعود إلى هذه فنقول: إذا أحرم بنسك معين من النسكين ثم نسيه قال في القديم: أحب أن يقرن وإن تَحَرَّى رجوت أن يجزئه ونص في الجديد على أنه قارن، ونقل الشَّيْخُ أَبُو عَلِي فيها طريقين: أحدهما: نفي الخلاف في جواز التحري، ونص في الجديد على ما إذا شك، فلم يدر أنه أحرم بأحد النُّسُكَيْنِ أو قرن وأصحهما وهو رواية المعظم: أن المسألة على قولين. القديم: أنه يتحرى ويعمل بظنه؛ لإمكان إدراك المقصود بالتَّحَرِّي كما في القِبْلَة والأواني. والجديد: أنه لا يتحرى؛ لأنه تلبس بالإحْرَام يقيناً ولا يتحلل إلا إذا أتى بأعمال المشروع فيه، فالطريق أن يقرن ويأتي بأعْمَال النسكين، وهذا كما لو شَكَّ في صلاته في عدد الركعات يبني على اليَقِينِ، ليتحقق الخروج عما شرع فيه، ويفارق التحري في القِبْلة والأواني، لأن لها علاماتٍ تدل عَلَيْهَا، ولا دلالة هَاهُنَا واعلم أن هذا الفرق مبني على أن الاجتهاد يعتمد النظر في العلامات، وقد ذكرنا في كتاب الطَّهَارَةِ خلافاً فيه، وبتقدير أن يعتمده فناصر القول الأول قد لا يسلم انتفاء الأمارات هاهنا، وبنى الشيخ أبو محمد -رحمه الله- على هذين القولين اختلاف أصحابنا فيما إذا اجتهد جَمْعٌ في أوانٍ منها اثنان فصاعداً بِصِفَةِ الطَّهَارَة، وغلب على ظَنِّ كُلِّ واحد طهارة واحد هل يجوز اقتداء بعضهم ببعض؟ وقال هذا خلاف في أن الاقتداء هل يجوز بالتَّحَري والاجتهاد؟ التفريع إن قلنا: بالقديم فما غلب على ظنه أنه المشروع فيه من النّسكين
مضى فيه وأجزأه، كما لو اجتهد في الثوب والقِبْلة وصَلَّى على مقتضى اجتهاده، وفي "شرح الفروع" ذكر وجه ضعيف أنه لا يجزئه الشَّك. وفائدة التحري الخلاص من الإحرام. وإن قلنا: بالجديد فللشَّكِ حالتان. إحداهما: أن يعرض قبل الإتيان بشيء من الأعمال، فلفظ النَّص أنه قَارِنِ، قال الأصْحَابُ معناه أنه ينوي القَرَان ويجعل نفسه قارنًا لا أنه يحكم بكونه قارنًا لحصول الشَّك، وأغرب أبو عبد الله الحَنَّاطِيُّ رحمه الله - فحكى قولاً أنه يصير قارنًا من غير نية ثم إذا نوى القرآن وأتى بالأعْمَالِ تحلل، وبرئت ذمته عن الحَجِّ بيقين، وأجزأته عن حَجَّةِ الإسْلاَمِ لأنه إن كان محرماً بالحَجِّ لم يضر تجديد الإحرام به وإدخال العمرة عليه لا يقدح فيه جَوَّزْنَاهُ أم لاَ، وإن كان محرماً بالعمرة فإدخال الحَجِّ عليه جائز قبل الاشتغال بالأعمال. وأما العمرة فهل تجزئه عن عمرة الإسلام إن فرضناها؟ يبني على أن العمرة هل يجوز إدخالها على الحَجِّ أم لا؟ إن جوزناه أجزأته أيضاً؛ لأنه إن كان محرماً بها فَذَاك، وإلا فقد أدخلها على الحَجِّ، وإن لم نجوز إدْخَالَ العمرة على الحج ففيه وجهان: أصحهما: لا تجزئه، لاحتمال أنه كان محرماً بالحَجِّ، وامتناع إدخال العمرة عليه، والعمرة وَاجِبةٌ عليه فلا تسقط بالشَّكِ. والثاني: ويحكى عن أبي إسْحَاقَ: أنها تجزئه ويجعل الاشتباه عذراً في جواز الإدْخَال، فإن حكمنا بإجزائهما جميعاً لزم دَمُ القَرَانِ، فإن لم يجد صَامَ عشرة أيام، ثَلاَثةٌ في الحَجِّ، وسبعةٌ إذَا رَجَعَ. وإن قلنا: يجزئه الحُج دون العمرة، ففي لزوم الدَّمِ وجهان: أصحهما: أنه لا يجب؛ لأنا لم نحكم بإجزاء العُمْرَة فلا يلزمه الدَّمُ بالشَّكِ، وهذا هو الذي أورده في الكتاب. والثاني: يجب؛ لأنه قد نوى القَرَان، وصحة نسمكيه محتملة، فكما لا تحسب العمرة احتياطاً لا يسقط الدّم احتياطاً. الحالة الثانية: أن يعرض الشَّك بعد الإتيان بِشَيْءٍ من الأعمال وله حالات: إحداها: أن يعرض بعد الوقوف بعرفة وقبل الطواف، فيجزئه الحَجَّ؛ لأنه إن كان محرماً به فذاك، وإن كان محرماً بالعمرة فقد أدخل الحج عليها قبل الطَّواف حيث نوى القَرَان، وذلك جائز، ولا تجزئه العُمْرة؛ لاحتمال أنه كان محرماً بالحَجّ فليس له إدخالُ العمرة عليه بعد الوُقوفِ، هكذا أورده أبو القَاسِم الكَرَخِي، وصَاحِبُ "التهذيب" وهو
جواب أولاً على أن العمرة لا تدخل على الحَجِّ بعد الوقوف، وقد قدمنا وجهاً آخر: أنها تدخل عليه ما لم يأخذ في أسْبَابِ التحلل. ثم هو مفروض فيما إذا كان وقت الوقوف باقياً، فوقف ثانياً، وإلا فمن الجائز أنه كان محرماً بالعمرة، فلا يجزئه ذلك الوقوفُ عن الحَجِّ. الثانية: أن يعرض بعد الطَّواف وقبل الوقوف، فإذا نوى القَرَان وأتى بأعمال القرآن لم يجزئه حَجُّه؛ لاحتمال أنه كان محرمًا بالعمرة، فيمتنع إدْخَالُ الحَجِّ عليها بعد الطواف. وأما العمرة فهل تجزئه؟ يبني على أن إدخال العمرة على أن إدخال العمرة على الحَجِّ هل يجوز؟ وبتقدير أن يجوز، هل يجوز بعد الطواف. وأما العمرة فهل تجزئه؟ يبني على أن إدخال العُمْرةَ على الحَّجِّ هل يجوز؟ وبتقدير أن يجوز فهل يجوز بعد الطَّواف أم لا؟ إن قلنا: نَعَم أجزأته، وإلا فلا؛ لجواز أنه كان محرماً بالحج وقد طاف، وهذا هو الأصَحّ؛ لأنه شاك في عين ما أحرم به، وفيما أدخله عليه، فأشبه ما لو فاته ظُهْرٌ وعصر، وصلى إحداهما وَشَكَّ فيما صَلَّى يلزمه إعادتهما جميعاً، وذكر ابْنُ الحَدَّادِ في هذه الصورة: أنه يتم أعمال العمرة بأن يركع ركعتي الطواف، ويسعى، ويحلق أو يقصر، ثم يحرم بالحج، ويأتي بأعماله، وإذا فعل ذلك صَحَّ حَجُّه؛ لأنه إن كان محرماً بالحَجِّ لم يضر تجديد الأحرام، وإن كان محرماً بالعمرة، فقد تَمَتَّعُ ولا تصح عمرتُه؛ لاحتمال أنه كان محرماً بالحجّ ولم تدخل العمرة عليه إن لم ينو القَرَان. قال الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ وَصَاحِبُ التَّقْرِيبِ والأكثرون: إن فعل ذلك فالجواب ما ذَكَره لكن لو استفتانا لم نفت به؛ لجواز أنه كان محرمًا بالحَجِّ، وأن هذا الحلق وقع في غير أوانه، وحينئذ يكون الحلقُ محظوراً، وهذا كما لو ابتلعت دجاجةُ إنسانٍ لؤلؤةَ غَيْره لا نفتي لصاحب اللؤلؤة بِذَبْحِها وإخراج اللؤلؤة، لكن لو فعل ذلك لم يلزمه إلا قدر التفاوت بين قيمتها حيةَ ومَذْبُوحة، وكذا لو استقبلت دابتان لشخصين على شَاهِقٍ، وتعذر مرورهما لا نفتي لأحدهما بِإهْلاَكِ دابة الآخر، لكن لو فعل خلص دابته، ولم يغرم إلا قيمة دابة الآخر، وسواء أفتينا له بذلك على ما ذكره ابْنُ الحَدَّادِ، أو لم نفت، فلو فعل لزمه دم؛ لأنه إن كان محرماً بالحج فقد حلق في غير أوانه، وإن كان محرماً بالعمرة فقد تمتع، فيريق دماً عن الواجب عليه، ولا يعين الجِهَة، كما إذا كانت عليه كفارة قتل أو ظهار فأعتق ونوى عما عليه تُجْزِئه؛ لأن التعيين في الكَفَّارات لَيْسَ بِشَرْطٍ، فإن كان معسراً لا يجد دماً ولا طعاماً صام عشرَة أيامٍ كما يصوم المتمتع فإن كان اللاَّزِم دم التمتع فَذَاك، وإن كان دم الحلق أجزأه ثلاثة أيام والباقي تطوع، ولا يعين الجهَة في صَومِ الثَّلاثَةِ، ويجوز تعيين التمتع في صَوْمِ السَّبْعَةِ، ولو اقتصر على صوم ثلاثةِ أَيامٍ هل
تبرأ ذمته؟ قضية ما ذكره الشَّيْخُ أَبو عَلِي أنها لا تبرأ؛ لأن شغل الذمة بالدم معلوم، فلا بد من تعيين البَرَاءة. قال الإمام -رحمه الله- ويحتمل أن تبرأ؛ لأن الأصْلَ براءة الذمة، والشغل غير معلوم، وأطلق المصنف -رحمه الله- في "الوسيط" وجهين، تعبيراً عن هذين الكلامين، ويجزِئه الصَّوْمُ مع وجدان الطَّعَامِ؛ لأن الطَّعَام لا مدخل له في دَم التَّمتع، وفدية الحلق على التخيير قال الله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (¬1)، ولو أطعم هل تبرأ ذمته أم لا؟ لاحتمال أن اللازم دم التمتع؟ فيه كلام للشيخ والإمام -رحمهما الله- وهذا كله فيما إذا استجمع الرجل شرائط لزوم الدمِ للتمتع، فإن لم يكن مستجمعاً كما لو كان مَكيًّا لم يلزم الدّم؛ لأن شرط التمتع مفقود، ولزوم دَم الحَالِق مشكوكٌ فيه، وإذا جوز أن يكون إحرامه أولاً بالقَرَان فهل يلزمه دم آخر مع الدَّم الذي وصفناه؟ فيه الوجهان السَّابقان. الثالثة: أن يعرض الشَّكُّ بعد الطواف والوقوف فإن أتى ببقية أعمال الحَجِّ لم يجزئه حَجُّهُ ولا عمرته. أما الحَجِّ فالجواز أنه كان محرماً بالعمرة فلا ينفع فيه الوقوف. وأما العمرة: فلجواز أنه كان محرماً بالحَجِّ، ولم يدخل عليه العمرة، فإن نَوَى القَرَان وأتى بأعمال القَارِن، فإجزاء العُمْرَة يبنى على أن العمرةَ هل تدخل على الحِجِّ بعد الوقوف؟ وقياس المَذْكُورِ في الحالة السَّابقَةِ وإن لم يتعرضوا له هَاهُنَا أنه لو أتم أعْمَالَ العمرةِ وأحرم بالحَجِّ وأتى بأعماله مع الَوقوف أجزأه الحَجُّ وعليه دم كما سَبَقَ، ولو أتم أعمال الحج، ثم أحرم بعمرة وأتى بأعمالها أجزأته العمرة، -والله أعلم-. وفي المولدات وشروحها فرعان شبيهان بالمسألة نُرْدِفُها بِهما: أحدهما: لو تمتع بالعُمْرَة إلى الحَجِّ، وطَافَ للحج طواف الإفاضة ثم بان له أنه كان محدثاً في طواف العُمْرَة لم يصح طوافة ذلك ولا سعيه بعده؛ لأن شرط صِحَّة السعي تقدُّمُ طوافٍ عليه، وبان أن حلقه كان في غير الوقت، ويصير بإحرامه بالحج مدخلاً للحج على العمرة قبل الطَّواف فيصير قارناً، ويجزئه طوافه وسعيه في الحَجِّ عن الحج والعمرة جميعاً، وعليه دمان، دم للقران، ودم لِلْحَلْقِ في غير وقته، وإن بان أنه كان محدثاً في طواف الحج تطهر وأعاد الطواف والسعي، وليس عليه إلا دَمُ التمتع إذا اجتمعت شروطه، وإن شك فلم يدر أنه في أي طوافيه كان محدثاً فعليه أن يعيد الطواف ¬
والسعي، وإذا أعادهما صح حجه وعمرته؛ لأنه إن كان حدثُه في طواف العُمْرَةِ، فقد صار قارناً بإحرام الحَجِّ، فيجزئه طوافه وسعيه المعادان عن النسكين جميعاً، وإن كان في طَوَافِ الحَجِّ فعمرته صَحِيحة، وكذا أعْمَالُ الحَجِّ سوى الطَّوافِ وَالسَّعْي، وقد أعادهما، وعليه دم؛ لأنه إما قارنٌ أو متمتع، وينوي بإراقته الواجب عليه، ولا يعين الجِهَة، وكذا لو لم يجد الدَّم فصام، والاحتياط أن يريق دماً آخر؛ لاحتمال أنه حالق قبل الوقت. نعم، لو لم يحلق في العُمْرةَ على قولنا إن الحلق استباحةُ مَحْظُورٍ فَلاَ حاجة إليه، وكذا لا يلزمه عند تبين الحَدَثِ في طواف العمرة إلا دمٌ واحد. والثاني: لو كانت المسألة بحالها إلا أنه جامع بعد أعمال العمرة ثم أحْرَم بالحج، وهذا الفرع ينظر إلى الأصلين: أحدهما: أن جماع النَّاسِ هل يُفْسِد النُّسُك فيوجب البَدَنة كجماع العَامِدِ أم لا؟ وفيه قولان سيأتي ذكرهما. والثاني: أنه إذا فسد العمرة بالجماع ثم أدخل عليها، هل يدخل ويصير محرماً بالحج؟ فيه وجهان: أظهرهما: عند الشيخ أبي محمد -رحمه الله- وبه أجاب ابْنُ الحَدَّادِ: لا؛ لأن الإحرام بالفَسَادِ في حكم المَنْحَل، وإذا انْحَلَّ إحرام العمرة لم يدخل الحَجَّ عليها، كما لو أدخل الحَجَّ عليها بعد الطواف. والثاني: نعم، وإليه ميل الأكثرين، وبه قال الشَّيْخُ أَبُو زيْدٍ، وحكاه عن ابْنِ سُرَيْجٍ؛ لأنه محرم بالعمرة، ولم يأت بشيء من أعمالها، فأشبهت الصَّحِيحة، ولا أثر لكونهَا فَاسِدة، كما لا أثر لاقتران المفسد بالإحرام، فعلى هذا هل يكون الحج صحيحاً مجزئاً؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن المفسد متقدِّم عليه، فلا يؤثر فيه. وأصحهما: لا؛ لأن الإحْرَام واحد وَهُوَ فَاسِد، ومحال أن يؤدى بالإحرام الفَاسِد نُسكٌ صَحِيحٌ، فعلى هذا ينعقد فاسداً أو صحيحاً ثم يفسد؟ فيه وجهان ذكروا نظيرهما فيما إذا أصبح في رمضان مجامعاً فطلع الفجر واستدام: أحدهما: أنه ينعقد صحيحاً ثم يفسد، كما لو أحرم مجامعاً انعقد صحيحاً ثم فسد. وأصحهما: أنه ينعقد فاسداً إذا لو انعقد صحيحاً لما فسد؛ لأنه لم يوجد بعد انعقاد مفسد. فإن قلنا: ينعقد فاسداً أو صحيحاً ويفسد مضى في النسكين وقضاهما وإن قلنا:
ينعقد صحيحاً ولا يفسد، قضى العمرة دون الحَجِّ، وعلي الوجوه الثلاثة يلزمه دَمُ القَرَانِ، ولا يجب عليه إلا بَدَنةٌ واحدة؛ لأن الإحْرَام وَاحِد، هكذا قاله الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، وحكى الإمام وجهين آخرين إذا حكمنا بانعقاد حَجِّه على الفَسَاد. أحدهما: أنه يلزمه بَدَنَة أخرى لإفساده الحَجِّ بإدخاله على العُمْرَةِ الفَاسِدة. والثاني: أنه يلزمه بدنة لإفْسَادِ العُمْرةَ وشاة لإدْخَال الحَجِّ عليها. كما لو فسد نُسُكُه بِالْجِمَاع، ثم جامع ثَانِياً، يجب عليه للجِمَاع الثَّانِي شَاةٌ في وجه. إذا وقفت على الأصلين فانظر أن قال: كان الحدث في طَوافِ العُمْرَة، فالطَّواف والسَّعْيُ بعده فَاسِدَان، والجماعُ وَاقِعٌ قبل التَّحَلُّلِ، وفيه طريقان: أحدهما: وبه أجاب الشَّيْخُ: أنه كجماع النَّاسِي، ففي إفسادهِ القولاَن، إذ لا فرق بين أن ينسى فيجامع، وبين أن يجامع وعنده أنه قد تحلل، كما لا فرق بين أن يتكلم في الصَّلاة نَاسياً، وبين أن يتكلم وعنده أنه قد تحلل. والثاني: أنه لا ينزل منزلة النَّاسِي، قال الإمَامُ -رحمه الله-: وهذا كالخلاف فيما جَامَعَ على ظُنِّ أن الصُّبْحَ غَيْرَ طَالعٍ فبان خِلاَفه، هل يفسد الصَّوم أم يجعل الغَالِط كالنَّاسِي، فإن لم تفسد العُمْرَة به صارَ قَارِناً بإحْرَامِهِ بِالحَجِّ، وعليه دَمَانِ: أحدهما: لِلْقَرَانِ. والآخر: لِلْحَلْقِ قبل وقته إلا إذا لم يحلق كما سبق، وإن أفسدنَا العمرة به وبه أجاب ابْنُ الحَدَّادِ، فعليه بدنة للإفساد ودَمٌ للحلق قبل وقته، وإذا أحرم بالحَجِّ فقد أدخله على عُمْرَةٍ فَاسِدَةٍ، فإن لم يدخل فَهُو فِي عُمْرَتِهِ كما كان، فيتحلل منها ويقضيها، وإن دخل وقلنا: بفساد الحَجِّ فعليه بدنةٌ لِلإفْسَاد، وَدَمٌ للقران، ودمٌ للحلق قبل وقته، ويمضي في الفاسدين ثم يقضيهما وإن قالَ: كان الحدث في طواف الحج فعليه إعادة الطواف والسَّعْي، وقد صح نُسُكَاهُ وليس عليه إلا دَمُ التمتع، وإن قال: لا أدري أنه في أي الطوافين كاَن، أخذ في كلّ حكم بيقين، فلا يتحلل ما لم يعد الطَّواف والسعي؛ لاحتمال أن حدثه كان في طواف الحج، وهذا حكمه، ولا يخرج عن عهدة الحج والعمرة إن كانا لاَزِمَيْنِ عليه لاحتمال كونه محدثاً في طواف العمرة، وتأثير الجِمَاع في إفساد النُّسُكَينِ على ظاهر المَذْهَب، فلا تبرأ ذمته بالشَّك، فإن كان متطوعاً فلا قضاء لاحتمال الإفساد وعليه دَمٌ. أما للتمتع إن كان الحدث في طَوَافِ الحَجِّ أو للحلاق قبل الوَقْتِ إن كان في طواف العُمْرَة، ولا تلزمه البدنة؛ لاحتمال أنه لم تفسد العُمْرة، ولكن الاحتياط ذَبْحٌ بدنةٍ، وذَبْحُ شاةٍ أخرى، إذا جوزنا إدخال الحج على العمرة الفَاسِدة، لاحتمال أنه صَارَ قَارِناً بذلك، -والله أعلم-.
إذا عرفت هذا كله، وعدت إلى المسألة الثالثة من مسائل الإحرام المشبه بإحرام الغير، وهي أن يتعذر الوقوف على إحرام ذلك الغير، فاعلم أنها ما حكاه صاحب الكتاب وطائفة بمثابة نسيان ما أحرم به، ففيها القولان القديم والجديد، وقال الأكثرون: لا يَتَحَرَّى بحالِ بل ينوي القَرَان، وحكوه عن نَصِّه في القديم، والفرق في مسألة النسيان حَصَلَ الشَّكُ فِي فِعْلِهِ فله سَبيلٌ إلى التحري والتذكير، وفي المسألة الأخرى الشَّك فِي فِعْلِ الغَيْرِ، ولا سبيل إلى الاطلاع على نيته والتحري في فعله، فأعلم لهذا قوله: في الكتاب: (فو كما لو أحرم مفصلاً) بالواو، ويجوز أن يعلم قوله: (فالقول الجديد) بالواو؛ لما حكينا من الطريقة النَّافِيَة للخلاف عن الشَّيْخِ أَبِي عَلِي. وقوله: (ولكن يبني على اليقين، فيجعل نفسه قارناً) مشعر بما هو المشهور، وهو أنه يصير قارناً بأن ينويه خلافاً لما حكاه الحَنَّاطِي: أنه يصير قارناً من غير نية، ويجوز أن يعلم بالواو لِذَلك، وأعلم بالألف أيضاً؛ لأن عند أحمد يتخير بين أن يجعله حجّاً أو عمرة، لأن عنده فسخ الحَجِّ إلى العمرة جَائِز، لكن هذا الإعلام إنما كان يحسن أن لو ألزمناه جَعْلَ نَفْسِه قارناً وهو غير لازم، وقد أوضح إمام الحرمين -رحمه الله- ذلك، فقال: لم يذكر الشافعي -رضي الله عنه- القرآن على معنى أنه لا بد منه، لكن ذكره ليستفيد الشَّاك به التحلل مع براءة الذِّمَّة عن النُّسُكَيْنِ، فلو اقتصر بعد النِّسيان على الإحرام بالحَجِّ، وأتى بأعْمَالِهِ حصل التَّحَلّل لا محالة، وتبرأ ذمته عن الحَجِّ؛ لأنه إن كان محرماً بالحَجِّ فذاك، وإن كان محرماً بالعُمْرَة فقد أدخل الحَجِّ عليها ولا تبرأ ذمته عن العُمْرَة؛ لجواز أنه كان من الابتداء محرماً بالحَجِّ، وعلى هذا القياس لو اقتصر على الإحْرَام بالعمرة، وأتى بأعمال القرانِ حَصَلَ التحلل، وبرئت ذِمَّتُهُ عن العُمْرَةِ، إن جَوَّزْنَا إدْخَالَ العمرة على الحَجِّ؛ لأنه إما محرمٌ بِهَا في الابتداء، أو مُدْخِلٌ لَهَا عَلَى الحَجِّ، ولا تبرأ عن الحَجِّ، لجواز أنه كان من الابتداء محرماً بالعمرة ولم يحرم بغيرها، ولو لم يجدد إحراماً بعد النسيان واقتصر على الإتيان بأعمال الحَجِّ يحصل التحلل أيضاً، ولكن لا تبرأ ذمته عن أحد النُّسُكَينِ؛ لشكه فيما أتى به، وإن اقتصر على أعمال العُمْرَةِ، فلا يحصل التَّحَلُّل، لجواز أنه مُحْرِمٌ يحرم بالحج، ولم يتم أعماله. واختلفت رواية أصحابنا عن أبي حنيفة في المسألة، فنقل ناقلون عنه موافقة الجديد، منهم صاحب "الشامل"، وناقلون موافقة القديم، ومنهم صاحب "التهذيب". والرواية الثانية تقتضي إعلام قوله: (لا يأخذ بغلبة الظن) بالحاء، وقوله فيما إذا شك بعد الطواف: (فطريقة أن يسعى ويحلق إلى آخره) مشعر بالترخص فيه، والأمر به كما قدمناه عن ابْنِ الحَدَّادِ، وقد صرح باختيار ذلك في "الوسيط". ووجهه الشيخ أَبُو عَلِيٍّ بأن الحلق في غير وقته قد يباح بالعذر، كما إذا كان به أذىً من رأسه، وضرر الاشتباه لو لم يحلق أكثر لفوات الحَجِّ، لكن الأظهر عند الأكثرين: أنه لا يؤمر به على
الفصل الثاني في سنن الإحرام
ما مر فليعلم قوله: (فطريقه) بالواو لذلك، وقوله: (ويبتدئ إحرامه بالحج ويتمه) أي: عند الإمكان، وهو ما إذا بقي وقت الوقوف، وبالله التوفيق. الفَصْلُ الثَّانِي فِي سُنَنِ الإِحْرَامِ قال الغزالي: وَهِيَ خَمْسَةٌ الأُولَى الغُسْلُ تَنَظُّفاً حَتَّى يُسَنَّ لِلحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، ويغْتَسِلُ الحَاجُّ لِسَبْعَةِ مَوَاطِنَ، لِلإحْرَامِ، وَدُخُولِ مَكَّةَ، وَالوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَبِمُزْدَلِفَةَ، وَلرَمْيِ الجَمَرَاتِ الثَّلاَثِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ فِي هَذِهِ الأَوْقَاتِ. قال الرافعي: من سنن الإحرام أن يغتسل إذا أراده روى: "أَنَّهُ صَلَّى -صلى الله عليه وسلم- تَجَرَّدَ لإهْلاَلِهِ وَاغْتَسَلَ" (¬1). ويستوي في استحبابه الرجل والصبيّ والمرأة وإن كانت حائضاً أو نفساءَ، لأن مقصود هذا الغسل التنظيف، وقطع الرائحة الكريهة، ودفع أذاها عن الناسِ عند اجتماعهم وقد روى: "أَنَّ أَسْمَاءِ بِنْتَ عُمَيْسٍ امْرَأَةَ أَبِي بَكْرٍ نَفَسَتْ بذِي الْحُلَيفَةِ، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ تَغْتَسِلَ لِلإحْرَامِ". ولو كانت يمكنها القيام بالميقات حتى تطهر، فالأولى أن أن تؤخر الإحْرَام حَتى تطهر وتغتسل (¬2)، ليقع إحرامُها في أكْمَلِ حَاليْهَا. وإذا لم يجد المحرم ماءً أو لم يقدر على استعماله تَيَمَّم، لأن التيمم يَنُوب عن الغُسلِ الواجب، فعن المندوب أولى، نص عليه في "الأم"، وبقد ذكرنا في غسل الجمعة أن الإمام أبدى احتمالاً في أنه هل يتيمم إذا لم يَجِد المَاء؟ وجعله صاحب الكتاب وجهاً، واختار أنه لا يتيمم، وذلك الاحتمال عَائِدٌ هاهنا بلا شك، وإن لم يجد من الماء ما يكفيه للغُسْلِ توضأ، قاله في "التهذيب" (¬3). وقوله في الكتاب: (حتى يسن للحائض والنفساء) يجوز إعلامه بالواو؛ لأن إبراهيم المروروذي -رحمه الله- حكى قولاً في أنه لا يسن لهما ذلك، وإذا اغتسلتا فهل تنويان؟ فيه نظر لإمام الحرمين- قَدَّس الله روحه-، والظاهر: أنهما تنويان، لأنهما تقيمان مسنوناً. ¬
واعلم: أن الحَاجَّ يسن له الغُسْلُ في مواطن قد عدَّها في هذا الموضع، ومرة أخرى في كتاب صلاة الجُمُعَةِ مع زيادة طواف الوَدَاعِ، وكنا أخرنا شرح تلك الأغسال إلى هذا الموضع، فنقول: أحدها: الغسل عن الإحرام، وقد عرفته. والثاني: "الغُسْلُ لِدُخُولِ مَكَّةَ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ فِعْلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- " (¬1). والثالث: الغسل للوقوف بِعَرَفةَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ. والرابع: الغسل للوقوف بِمُزْدَلَفَةَ غداة يوم النحر. والخامس، والسادس، والسابع: ثلاثة أغْسَال لرمي الجَمَرَاتِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ وسببها: أن هذه مواطن يجتمع لها النَّاس فاستحب فيها الاغتسال قطَعاً للروائح الكَرِيهة. واغتسال يوم التشريق في حق من لم ينفر في النَّفْرِ الأول، فإن نفر سقط عنه غُسْلُ اليَومِ الثَّالِثِ، وهذه الأغسال قد نص عليها الشافعي -رضي الله عنه- قديماً وجديداً، ويستوي في استحبابها الرَّجل والمرأة، وحكم الحائض ومن لم يجد الماء فيها على ما ذَكَرْنَا في الغُسْلِ للإحرام، وزَادَ في القديم غسلين آخرين: أحدهما: لطو اف الإفاضة. والثاني: لطواف الوداع؛ لأن النَّاسَ يجتمعون لهما، ولم يستحبهما في الجديد؛ لأن وقتها مُتَسَعٌ فلا تغلب الزَّحْمَة فيهما كغلبتها في سَائِرِ المَوَاطِنِ، وعن القاضي أبي الطَّيِّبِ -رحمه الله- حكاية غسل آخر عن القديم، وهو عند الحَلْقِ، فتصير أغسال الحج على هذا عَشْرة. قال الأئمة -رحمهم الله- ولم يستحب الشافعي -رضي الله عنه- الغسل لرمي جمرة العقبة يَوْم النَّحْرِ لأمرين: أحدهما: اتساع وقته، فإن وقته من انتصاف ليلة النَّحْرِ إلى الزَّوَالِ، ووقت رمي الجمرات من الزَّوَالِ إلى الغُرُوبِ، والتقريب بعد هذا من وجهين: أحدهما: أن اتساع الوقت مما يقلل الزحمة. والثاني: أن ما بعد الزوال وقت شدة الحر وانصباب العرق، فتكون الحاجة إلى دفع ما يؤذي الغير أكثر. والثاني: أن في غسل العيد يوم النحر والوقوف بعرفَة غنية عن الغُسْلِ رمي جمرة العقبة، لقرب وقتها منه (¬2) -والله أعلم-. ¬
قال الغزالي: الثَّانِيَةُ التَّطَيّبُ لِلإحْرَامِ وَلاَ بَأْسَ بِطِيبِ لَهُ جَرْمٌ (ح). وَفِي تَطْيِيبِ ثَوْبِ الإحْرَامِ قَصْداً لَهُ خِلاَفٌ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَنْزِعُ فَيَكُون عِنْدَ اللّبْسِ كَالْمُسْتَأْنِفِ، فَإِنْ اتَّفَقَ ذَلِكَ فَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَجْهَانِ، وَيُسْتَحَبُّ خِضَابُ المَرْأَةِ تَعْمِيماً لِليَدِ لاَ تَظْرِيفاً. قال الرافعي: يستحب أن يتطيب لإحرامه، لما روي عن عَائِشَة -رضي الله عنها- قالت: "كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لإحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلحَلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ" (¬1). ولا فرق بين ما يبقى له أثر وَجُرْمٌ بعد الإحْرَام وبين مَا لاَ يبقى. قالت عائشة -رضي الله عنها-: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ مِنْ مَفَارِقِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُحْرِمٌ" (¬2). ويجوز أن يعلم قوله في الكتاب: (الثانية التطيب للإحرام) بالواو؛ لأن من الأصْحَاب من روى وجهاً: أنه ليس من السُّنَنِ والمحبوبات، وإنما هو مُبَاح، وأيضاً فإن اللفظ مُطْلَقٌ لا يفرق بين الرِّجَال والنساء، والاستحباب شامل للمصنفين في ظَاهِر المذهب، وحكى في "المعتمد" قولاً عن نقل الدَّاركي: أنه لا يستحب لهن التطيب بِحَالٍ، ووجهًا: أنه لا يجوز لهن التطيبِ بطيبٍ تَبْقَى عَيْنُه، أعلم قوله: (ولا بأس بطيب له جرم) -بالحاء وبالميم-. وأما بالحاء فلأن شِرْذِمَةٌ روت عن أبي حنيفة -رحمه الله- المنع من ذلك، ومنهم المصنف، ذكره في "الوسيط"، لكن الثابت عنه مثل مذهبنا. وأما بالميم فلأن عند مالك يكره له التطيب بما تبقى رَائِحَتُه بَعْدَ الإِحْرَامِ، ويروى عنه مَنْعُ التطيب مطلقاً ثم إذَا تطيب لإحرامه فلَه أن يستديم بعد الإحْرَام ما تطيب له، بخلاف ما إذا تَطَيَّبَتِ المَرْأَةُ ثم لزمتها العِدَّة يلزمها إزالته فِي وَجْهٍ؛ لأن في العِدَّة حق الآدمي فتكون المضايقة فيها أكثر، ولو أخذه من مَوْضِعِهِ بعد الإحرام ورده إليه أو إلى موضع آخَر لزمته الفدية، وروى الحَنَّاطِيُّ -رحمه الله- فيه قولين، ولو انتقل من موضعٍ إلى موضع بإسالة العَرَق إياه فوجهان: ¬
أصحهما: أنه لا يلزمه شيء، لتولده عن مَنْدُوبٍ إليه مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ منه. والثَّانِي: أن عليه الفدية إذا تركه، كما لو أصابه من مَوْضِعٍ آخر، لأن في الحالتين أصاب الطِّيب بعدم الإحرام موضعًا لم يكن عليه طِيب، هذا كله في البَدَنِ، وفي تطييب إزار الإحْرَام وردائه وجْهَانِ: أحدهما: لا يجوز؛ لأن الثَّوْبَ يُنْزَعُ وَيُلْبَسُ، وإذا نزعه ثم أعاده كان كما لو استأنف لِبْسَ ثَوْبٍ مُطَيَّبٍ. وأصحهما: أنه يجوز، كما يجوز تطييب البَدَن، وبعضهم يَنْقُل هذا الخِلاَف قولين، والمشهور الأول، وفي "النهاية" وجه ثالث، وهو الفرق بين أن يبقى عليه عين بعد الإحْرَام فلا يجوز، وبين أن لا يبقى فيجوز، كما لو شد مسكًا في ثوبه واستدامه. قال الإمام: والخلاف فيما إذا قَصَد تطييب الثوب. أما إذا طيب بدنه فتعطر ثوبه تبعاً فلا حرج بِلاَ خِلاَف، وإلى هذا أشار في الكتاب حيث قال: (قصداً إليه) فإن جوزنا تطييب الثَّوْب للإحْرَامِ فلا بأس باستدامة ما عليه بعد الإحْرَام كما في البدن، لكن لو نزعه ثم لبسه ففي الفدية وجهان: أحدهما: لا يلزمه؛ لأن العادة في الثَّوْبِ أن ينزع ويعاد فجعل عفواً. وأصحهما: أنها تلزم كما لو أخذ الطَّيب من بَدَنِهِ ثم رَدَّهُ إليه، وكما لو ابتدأ لبس ثوب مطيب بعد الإحْرَام، وفي الفصل مسألة أخرى وهي: أن المرأة يستحب لها أن تخضب بالحِنَّاء يديها إلى الكُوعَيْنِ قَبلَ الإِحْرَامِ. وروى: "أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تَمْسَحَ الْمَرْأَةُ يَدَيْهَا لِلإحْرَام بالْحِنَّاءِ، وَتَمْسَحَ وَجْهَهَا أَيضاً بِشَيْءٍ مِنَ الْحِنَاءِ" (¬1). لأنا نأمرها في الإحْرَامِ بنوع تكشف، فلتستر لَونَ البشرَةِ بلون الحِنَّاء، ولا يختص أصْلُ الاستحباب بحَالَةِ الإحرام، بل هو محبوب في غيرها من الأحوال: "رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةَ بَايَعَت رسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْرَجَت يَدَهَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَين الْحِنَّاءُ" (¬2) نعم في حالة الإحْرَامِ، ولا فرق بين ذات الزوج والخَلِيَّة، وفي سائر الأحوال يكره الخِضَاب للخلية، قاله في "الشامل" وحيث يستحب فإنما يستحب تعميم اليَد بالخِضَابِ دون التنقيش، ¬
والتَّسْوِيد، والتطريف، فقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نَهَى عَنِ التَّطْرِيفِ" (¬1) وهو أن تخضب أطراف الأصابع، ويكره لها أن تختضب بعدم الإحرام لما فيه من الزّينة وإزالة الشِّعث، ولو فعلت ففيه كلام نذكره في الباب الثَّالِثِ عند ذكر خضاب الرجل شعر لِحْيَتِهِ ورأسه -إن شاء الله تعالى (¬2) -. قال الغزالي: الثَّالِثَةُ أَنْ يَتَجَرَّدَ عَنِ المَحِيْطِ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ أَبْيَضَيْنِ وَنَعْلَيْنِ. قال الرافعي: إذا أراد الإحرام تَجَرَّدَ عن محيط ثيابه، إذ ليس للمحرم لِبْس المخيط على ما سيأتي، ويلبس إزارَاً ورداءً ونعلين. روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إِزَار وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ" (¬3) ويستحب أن يكون الإزار والرداء أبيضين: "فَإِنَّ أَحَبَّ الثِّيَابِ إِلَى اللهِ -تَعَالى- الْبِيضُ" وليكونا جديدين، فإن لم يَجِدْ فليكونَا غَسِيلين، ويكره المَصْبوغ؛ لما روي عن عمر: "أَنَّهُ رَأَىَ عَلَى طَلْحَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- ثَوْبَيْنِ مَصْبُوغَيْنِ وَهُوَ حَرَامٌ، فَقَالَ: أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّكُمْ أَئِمَّة يُهْتَدَى بِكُمْ فَلاَ يَلْبِسْ أَحَدُكُمْ مِنْ هذِهِ الثِّيَابِ الْمُصْبَغَةِ فِي الإحْرَامِ شَيْئاً" (¬4). وقوله في الكتاب: (أن يتجرد عن المخيط في إزار إلى آخره) ينبغي أن يعلم فيه أن المعدود من السّنن التجرد بالصفة المذكورة. فأما مجرد التجرد فلا يمكن عَدُّه من السُّنَنِ؛ لأن ترك لبس المَخِيط في الإحْرَامِ لاَزِمٌ، ومن ضرورة لزومه لزوم التجرد قبل الإحْرَام، وبالله التوفيق. قال الغزالي: الرَّابِعَةُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتيِ الإحْرَامِ ثُمَّ يُلَبِّيَ حَيْثُ تَنْبَعِثُ بِهِ دَابَّتُهُ، وَفي القَدِيمِ بِحَيْثُ يَتَحَلَّلُ عَنِ الصَّلاةِ. قال الرافعي: يستحب أن يُصَلِّي قبل الإحرام ركعتين؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "صَلَّى بِذِيِ الْحَلْيِفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَحْرَمَ" (¬5). ¬
وإنما يستحب ذلك في غَيْرِ وقتِ الكراهية. أما في أوقات الكراهية فأصَحُّ الوجهين الكَرَاهَة على ما مر في فَصْلِ الأوقات المكروهة (¬1). ولو كان إحرامه في وقت فريضة وَصَلاَّهَا أغنته ذلك عن ركعتي الإحْرَام، ثم إذا صَلَّى نوى وَلَبَّى، وفي الأفضل قولان: أصحهما: أن الأفضل أن ينوي ويلبي حين تنبعث به دابته إن كان راكبًا، وحين يتوجه إلى الطَّريق إن كان ماشياً، لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَمْ يُهِلَّ حَتَّى انْبَعَثَتْ بهِ دَابَتَهُ" (¬2). قال الإمام -رحمه الله- وليس المراد من انبعاث الدابة فورانها، بل المراد استواؤها في صَوْبِ مَكَّة. والثاني: أن الأفْضَل أن ينوي وَيُلَبِّي كما تحلل من الصَّلاَةِ وهو قَاعِد، ثم يأخذ في السَّيْرِ، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد؛ لما روي عن ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَهَلَّ حِينئَذٍ" (¬3). ويشتهر القول الأول: بالجديد. والثاني: بالقديم. ويروى أيضاً عن المَنَاسِك الصغير من "الأم" واختاره طَائِفَةٌ من الأَصْحَابِ، وحملوا اختلاف الرواية على: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَعَادَ التَّلْبيَةَ عِنْدَ انْبعَاثِ الدَّابَّةِ، فَظَنَّ مَنْ سَمِعَ أَنَّهُ حِينئذٍ لَبَّى، والأكْثَرُونَ على ترجيح الأول. قال الغزالي: الخَامِسَةُ أَنْ يُلَبِّيَ عِنْدَ النِّيَّةِ وَيُجَدِّدَهَا عِنْدَ كُلِّ صُعُودٍ وَهُبُوطٍ وَحُدُوثِ حَادِثٍ وَفِي مَسْجِدِ مَكَّة وَمِنًى وَعَرَفَاتٍ، وَفِيمَا عَدَاهَا مِنَ المَسَاجِدِ قَوْلاَنِ، وَفِي حَالِ الطَّوافِ وَيُسْتَحَبُّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِهَا إلاَّ لِلنِّسَاءِ. قال الرافعي: لك أن تعلم قوله: (وأن يلبي عند النية) بالواو؛ لوجهٍ قدمناه في أن ¬
التَّلْبيَة من وَاجِبَاتِ الإحْرَام لاَ مِنْ سننه، ثم تكثير التلبية في دوام الإحْرَام مستحبٌ قائماً كانَ أو قاعداً، راكبًا كان أو ماشياً، حتى في حالة الجنابة والحَيْضِ، وأنه ذِكْرٌ لا إِعْجَازَ فِيهِ فأشبه التسبيح، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها- حين حاضت: "افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ" (¬1). وتجديدُها أفضلُ في كل صُعودٍ وهُبُوطٍ، وحدُوثِ حادثٍ من ركوب أو نزول، أو انضمام رفاق، أو فراغ من صلاة، وعند إقْبَالِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ، ووقت السَّحَرِ. روى عن جابر -رضي الله عنه-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُلَبِّي فِي حِجَّتِهِ إِذَا لَقِيَ رَكْباً أَوْ عَلَى أكَمَةٌ، أَوْ هَبَطَ وَادِياً، وَفِي أَدْبَارِ الْمَكْتُوبَةِ، وَمِنْ آخِرِ اللَّيْلِ" (¬2). ويستحب الإتيان بها في مَسجَد مكة، وهو المَسْجُد الحَرَامُ، ومَسْجِدُ الخِيِفِ بِمِنًى، ومسجد إبراهيم عليه السلام بعَرَفَةَ، فإنها مَوَاضِعُ النسك، وفي سائر المَسَاجِدِ قولان: القديم: أنه لا يلبي فيها حذراً من التشويش على المتعبدين والمُصَلِّين، بخلاف المساجد الثَّلاثة، فإن التلبية معهودة فيها، ويروى هذا عن مالك -رحمه الله-. والجديد: أنه يلبي فيها كَسَائِرِ المَسَاجِدِ، ويدل عليه إطلاق الأخبار الواردة في التَّلْبِيَة، فإنها لا تفرق بين مَوْضِعٍ ومَوْضِعٍ، وهذا الخلاف على ما أورده الأكثرون في أصْلَ التلبية، فإن استحببناه استحببنا رَفْعَ الصوت، وإلا فلا، وهو قضية نَظْمِ الكِتَاب. وجعل إمام الحَرَمَيْن الخلافَ في أنه هل يستحبُ فيها أن يرفع الصوت بالتلبية؟ ثم قال: إن لم نؤثر رفع الصوت بالتلبية في سَائِرِ المَسَاجِدِ، ففي الرفع في المَسَاجِدِ الثلاثة وجهان، وهل تستحب التَّلبِيَة في طَوَافِ القُدومِ والسَّعْيِ بعده؟ فيه قولان: الجديد: أنه لا يستحب؛ لأن فيها أدْعِيَةً وأذكاراً خاصة فصار كطواف الإفَاضَةِ والوداع، وقد روى عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "لاَ يُلَبِّي الطَّائِفُ". والقديم: أنه يستحب ولكن لا يَجْهَر بها، بخلاف طَوَافِ الإفاضة فإن هناك شرع في أسباب التَّحَلُّلِ، فانقطعت التلبيه، وهذا التوجيه يعرفك أن قوله في الكتاب: (وفي حالة الطواف قولان) محمول على طواف القُدُومِ، وإن كان اللفظ مُطْلقاً، وفي غيره من أنراع الطَّوَاف لا يُلَبِّي بِلاَ خِلافِ. ويستحب رَفْعُ الصوت بالتَّلبِيَةِ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَني أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ ¬
يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ" (¬1). وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ" (¬2). والعج: هو رَفْعُ الصَّوْتِ، وإنما يستحب الرفع في حَقِّ الرجل، ولا يرفع بحيث يجهده ويقطع صَوْتَه، والنساء يَقْتَصِرْنَ على إِسْمَاع أنفسهِنَّ، ولا يَجْهَرْن كما لا يجهرن بالقراءة في الصَّلاَةِ. قال القَاضِي الرّوَيانِي: ولو رَفعت صوتها بالتلبية لم يحرم؛ لأن صَوْتَها ليس بعَوْرَةِ خلافاً لبعض أصحابنا. والأحب أن لا يزيد في التلبية على تلبية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل يُكَرِّرُهَا، وبه قال أحمد، وعن أصحاب أبي حنيفة -رحمهم الله- أن الأحب الزيادة فيها، وتلبيته: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعمَةَ لَكَ وَالْمَلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ" (¬3). وقوله: (إن قد تكسر) على تقدير الابتداء، وقد تفتح على معنى لأن الحمد (¬4). فإن رأى شيئاً يعجبه قال: لَبَّيْكَ إِنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرَةِ، ثبت ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬5) وروى في بعض الرِّوايات أنه قال في تلبيته: "لَبَّيْكَ حَقًّا حقًّا تَعَبُّداً وَرِقّاً" (¬6). ولو زاد على تلبية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما نقل بأنه مكروه روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان يزيد فيها: "لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بيَدَيْكَ، وَالرَّهْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ". ويستحب إذا فرغ من التلبية أن يُصَلِّي على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن يسأل الله رِضْوَانُهُ والجَنَّة، ويستعيذ به من النَّارِ، يقول: أَسْألُكِ رِضَاكَ وَأَسْأَلُكَ الجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ فِي حَجٍّ أو عُمرَةٍ سَألَ اللهَ رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ، وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنَ النَّارِ" (¬7). ¬
الفصل الثالث في سنن دخول مكة
ثم يدعو بما أحب، ولا يتكلم في أثناء التلبية بأَمر ونَهْيٍ وغيرهما، لكن لو سُلِّمَ عليه رد (¬1)، نص عليه (¬2)، ومن لم يحسن التلبية بالعربية لَبَّى بلسانه، واعلم أنه يستحب الإتيان بالسُّنَنِ الخمس على التَّرْتِيبِ المَذْكُورِ في الكِتَابِ. نعم، لم أرَ ما يقتضي ترتيباً بين التطييب والتجرد. ويستحب أيضاً للمحرم أن يتأهب للإحرام بحلق الشَّعْرِ، وتقليم الظفر، وقصّ الشَّارب، وقد روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ غَسَلَ رَأْسَهُ بِأَشْنَانِ وَخَطْمِيِّ (¬3) " وبالله التوفيق. الفَصْلُ الثَّالِثُ فَي سُنَنِ دُخُولِ مَكَّةِ قال الغزالي: وَهِيَ أَنْ يغْتَسِلَ بِذِي طُوًى، وَيَدْخُلَ مَكَّة مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءِ، وَيَخْرُجَ مِنْ ثنِيَّةِ كُدَىٍّ وَإذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الكَعْبَةَ قَالَ: اللهمَّ زِدْ هَذَا البَيّتَ تَشْرِيفاً وَتَعْظِيماً وَتَكْرِيماً وَمَهَابَةً وَبِرّاً وَزِدْ مِنْ شَرَفِهِ وَعَظَمِهِ مِمَّنْ حَجَّهُ وَاعْتَمَرهُ تَشْرِيفاً وَتَعْظِيماً وَتَكْرِيماً وَمَهَابَةَ وَبِرْاً، ثُمَّ يَدْخُلَ البَيْتَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيبَةَ فيَؤُمَّ الرُّكْنَ الأَسْوَدَ، وَيبْتَدِئَ طَوَافَ القُدُومِ. قال الرافعي: المحرم بالحج قد يقرب من مكّة (¬4) ووقت الوقوف ضَيِّق، فيعدل عن الجَادة إلَى عَرَفَةَ، فَإِذَا وقف دَخَلَهَا، وهكذا يفعل الحَجِيج الآن غالباً، وقد يتسع ¬
الوقت فيدخلونها، "ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهَا إِلَى عَرَفَةَ، وَهكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-" (¬1). وفي الفَصْلِ وما بعده ما هو مبني على التَّصْوِير الثاني، وهكذا هو في مصنفات عامة الأصحاب -رحمهم الله-، ونحن ننبه على ما يفترق فيه التَّصْوِيران في مواضع الحاجة -إن شاء الله تعالى-. إذا عرفت ذلك فلدخول مكة سُنَن. منها أن يغتسل بِذِي طُوَى وهو من سواد مكَّة قريب منها. روى عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أَنَّهُ كَانَ لاَ يَقْدُمُ مَكَّةَ إلاَّ بَاتَ بذِي طُوىً، حَتَّى يُصْبحَ وَيغْتَسِلَ، ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ، وَيذْكُرُ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ فَعَلَهُ" (¬2). واعلم أن القصد بقوله: (أن يغتسل بذي طوى) بيان استحباب موضع الغسل؛ فأما كون الغسل للدخول مستحبّاً، فقد ذكره مرة في الفَصْل الثاني من هذا الباب ومرة قبل ذلك في كتاب الجُمَعَةِ. ومنها: أن يدخل من ثنية كَدَاء -بفتح الكاف والمد- وهو من أعلى مكَّة وإذا خرج خرج من ثنية كُدَى -بضم الكاف- وهو على ما يشعر به كلام الأكثرين بالمد أيضاً، ويدل عليه أنهم كتبوه بالألف ومنهم من قال: إنه بالياء (¬3) وروى فيه شعراً وهو من أسفل مكة. وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يَدْخُلُ مَكَّةَ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا، وَيَخْرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى" (¬4). قال الأصحاب وهذه السُّنَّة في حق مَنْ جَاءَ من طريق المدينة والشَّام، وأما الجاءون من سائر الأقطار فلا يؤمرون بأن يدوروا حول مَكَّة، ليدخلوا من ثنية كَدَاء، وكذلك القول في إيقاع الغسل بِذِي طُوَى، وقالوا: إنما دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- من تلك الثنية اتفاقاً لا قصداً؛ لأنها على طريق المدينة، وهاهنا شيئان: أحدهما: أن قضية هذا الكلام أن لا يتعلق بنسك واستحباب بالدخول من تلك الثنية في حق الجائين من طريق المدينة أيضاً، وهكذا أطلق الإمام نقله عن الصَّيْدَلاَنِيّ. ¬
والثاني: أن الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدٍ نازع فيما ذكره من موضع الثنية، وقال: ليست هي على طريق المدينة بل هي في جِهَة المعَلاَّ، وهو في أعلى مكة، والمرور فيه يفضي إلى باب بَني شَيْبَةَ، ورأس الردم، وطريق المدينة يفضي إلى باب إبْرَاهِيمَ عليه السلام. ثم ذهب الشَّيْخُ إلى استحباب الدُّخولِ منها، لكُل جَاءٍ تأسياً برسول الله -صلى الله عليه وسلم- والإمام سَاعَد الجمهور في الحكم الذي ذكروه، وشهد للشيخ بأن الحق في موضع الثنية ما ذكره. ومنها: إذا وقع بَصَرُهُ على البَيْتِ قال ما روى في الخبر: وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ إِذَا رَأَى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ اللَّهُمَّ زِدْ هذَا البَيْتَ تَشْرِيفاً، وَتَعْظِيماً وَتكْرِيماً وَمَهَابَةً وَزِدْ مَنْ شَرفَه، وعظمه ممَّنْ حَجَّهُ أو اعْتَمَرَهُ تَشْرِيفاً وَتَكْرِيماً وَتَعْظِيماً وَبِرّاً" (¬1). ويستحب أن يضاف إليه "اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَم فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلاَمِ" يروى ذلك عن عمر -رضي الله عنه (¬2) -، ويؤثر أيضاً أن يقول: "اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَحِلُّ عُقْدَةً، وَنَشُدُ أُخْرَى وَنَهْبِطُ وَادِياً وَنَعْلُو آخَرَ حَتَّى أتَيْنَاكَ غَيْرَ مَحْجُوبِ أنْتَ عَنَّا، إِلَيْكَ خَرَجْنا وَبَيْتَكَ حَجَجْنَا، فَارْحَمْ مَلْقَى رِجَالِنا بِفَنَاءِ بَيْتِكَ" (¬3). ويدعو بما أحب من مهمات الدنيا والآخرة وأهمها سؤال المَغْفِرة، واعلم أن بناء البيت رفيع يرى قبل دخول المَسْجِدِ في موضع يقال له رأس الردم، إذا دخل الداخل من أعلى مكة، وحينئذٍ يقف ويدعو بما ذكرنا. ومنها أن يقصد المَسْجِدَ إذا فرغ من الدعاء ويدخله من باب بَنِي شَيْبَةُ، وقد أطبقوا على استحبابه لكل قادم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬4) دَخَلَ الْمَسْجِدَ مِنْهُ قَصْداً لا اتِّفَاقاً، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى طَرِيقهِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى طَرِيقِهِ بَابُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام" والدوران حول المسجد لا يشق بخلاف الدوران حول البلد، وكان المعنى فيه: أن ذلك البَاب في جهة بَابِ الكَعْبَةِ، والرُّكْن الأسْوَدِ وإن كان في زاوية المسجد، ويبتدئ عند دخوله بطواف القدوم. روي أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- "حَجَّ فَأوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ" (¬5) أو يؤخر تغيير ثيابه واكتراء منزله إلى أن يفرغ منه، نعم لو كان الناس في ¬
المكتوبة حين دَخَل صَلاَّهَا معهم أولاً، وكذا لو أقيمت الجَمَاعَةُ وهو في أثناء الطواف قَدَّمَ الصَّلاة، وكذا لو خاف فوت فريضة أو سنة مؤكدة. ولو قدمت المرأة نهاراً وهي ذات جَمَالٍ أو شريفة لا تبرز للرِّجَالِ أخرت الطَّوافُ إِلَى اللَّيْلِ، وليس في حق من قدم الوقوف على دخول مكة طواف قدوم، وإنما هو في حَقِّ من دخلها أولاً لِسَعَةِ الوَقْتِ، ويسمى أيضاً طواف الوُرودِ وطواف التَّحِيَّة، لأنه تحية البُقْعَة يأتى به من دَخَلَهَا، سواء كان تاجراً أو حاجاً، أو دخلها لأمرٍ آخرَ. ولو كان معتمرًا فطاف للعمرةِ أجزأه ذلك عن طوافِ القُدُومِ، كما أن الفريضة عند دخول المسجد تُجْزِئُ عَن التَّحِيَّة، -والله أعلم-. ولعلك تنظر في لفظ الكتاب في الدعاء عند رؤية البيت فتقول: إنه جمع أولاً بين المَهَابَةِ والبر، ولم يرووا في الخبر إلا المَهَابة، وذكر أخيراً البر دون المَهَابة، كذا رويتموه في الخبر ونقل المُزَنِي في "المختصر: المَهَابة دون البر، فما الحال فيهما؟ فاعلم أن الجمع بين المَهَابة والبر لم نره إلا لِصَاحِب الكتاب، ولا ذكر له في الخبر، ولا في كُتُبِ الأصحاب، بل البيت لا يتصور منه بِر، فلا يصح إطلاق هذا اللفظ إلا أن يعني البر إليه. وأما الثاني فالثابت في الخَبَرِ الاقتصار على البر كما أورده، ولم يثبت الأئمة ما نقله المزني. وقوله: (فيؤم الركن الأسود) كالمستغنى عنه في هذا الوضع، إذ لا بد لكل طَائِفٍ أن يؤم الركن الأسود، ويبتدئ به على ما سيأتي في واجبات الطَّوَافِ، فلو لم يتعرض له هَاهُنَا كما لم يتعرض لسائر وَاجِبَاتِ الطَّوَافِ لما ضَرَّه. وقوله: ويبتدئ بِطَوَافِ القُدومِ مُطْلَقٌ، لكنه محمول على ما سِوَى المَوَاضِعِ الَّتي بَيَّنَّاهَا. واختلفوا في أن دخول مكَّة رَاكِبا أولى أم دخولها ماشياً على وجهين، وإن دخلها ماشياً فقد قيل: الأولى أن يكون حَافِياً (¬1). لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "قَدْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ سَبْعُون نَبِيّاً كُلُّهُمْ خَلَعُوا نِعَالَهُمْ مِنْ ذِي طُوى تَعْظيماً لِلْحَرَمِ" (¬2). ¬
قال الغزالي: وكُلُّ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ غَيْرَ مُرِيدٍ نُسُكاً لَمْ يَلْزَمْهُ (ح) الإحْرَامُ عَلَى أَظْهَرِ القَوْلَيْنِ وَلَكِنَّهُ يُسْتَحَبُّ كَتَحِيَّةِ المَسْجِدِ. قال الرافعي: من قصد دخول مكة لا لنسك له حالتان: إحداهما: أن لا يكون ممن يتكرر دخوله كالذي يدخلها لِزِيَارَةٍ أو تجارة أو رسَالَةٍ، وكالمكي إذا دَخَلاِ عَائِداً مِنْ سَفَرِه، فهل يلزمه أن يحرم بالحج أو العمرة؟ فيه طريقان: أصحهما: وهو المذكور في الكتاب: أنه على قولين: أحدهما: ويحكى عن مالك وأحمد: أنه يلزمه الإحْرَام بحجٍ أو عمرة؛ لإطباق النَّاسِ عَلَيْهِ، والسُّنن يندر يها الاتفاق العملي. وعن ابْنِ عَبَّاسِ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ قال: لاَ يَدْخُلُ أَحَدٌ مَكَّةَ إِلاَّ مُحْرِماً" (¬1). والثَّاني: أنه لا يلزمه ذلك، ولكن يستحب كَتَحِيَّةِ المَسْجِدِ، وما الأظهر منهما؟ ذكر صاحب الكتاب: أن هذا القول الثَّاني أظهر، وبه قال الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ، إليه مَيْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ ومن تابعه، ورجح المسعودي وصاحب "التهذيب" في آخرين قولُ الوُجُوبِ، وبه أجاب صَاحِب "التلخيص" ولا فرق على القولين بين أن تكون دَارُه فوق المِيقَات أو دونه، وعند أبي حنيفة إن كان داره فوق الميقات لَزِمَه، وإلاَّ فَلاَ. والطَّرِيق الثَّاني: القطع بالاستحباب، ويحكى هذا عن صاحب التقريب. والحالة الثانية: أن يكون ممن يتكرر دخوله كالحُطَّابينَ والصَّيَّادِينَ ونحوهم، فإن قطعنا بِنَفْي الوُجوبِ في الحالة الأولى فهاهنا أولى، وإنَ سَلَكْنَا طريقة القولين فهاهنا طريقان: أحدهما: طرد القولين. وأصَحُّهُمَا: القطع بِنَفْي الوُجُوبِ، وبه أجاب في "التلخيص". والفرق أن هؤلاء إن امتنعوا من الدخول انقطعوا عن مَعَايِشِهِمْ، ويتضرر به الناس، وأن دخلوا وأحرموا كل مرة شَقَّ عليهم، وفيه وجه ضعيف: أنه يلزمهم الإحْرَام في كُلِّ سَنَةٍ مَرَّة. التفريع إن قلنا بالوجوب فلذلك شروط: أحدها: أن يجيء الدَّاخِلُ من خَارجِ الحَرَمِ، فأما أهل الحرم فَلاَ إحرَام عليهم بِلاَ خِلاف. ¬
والثاني: أن لا يدخلها لِقِتَالٍ ولا خائفاً، فإن دخلها لقتالِ بَاغٍ، أو قاطع طريقٍ، أو غيرهما، أو خائفاً منه، أو خائفاً مِنْ ظَالمٍ، أو غريمٍ يحبسه وهو مُعْسِرٌ لا يمكنه أن يطهر لأداء النسك لم يلزمه الإحْرَام بحال: "دَخَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ غَيْرَ مُحْرِم (¬1)، لأنَّهُ كَانَ مُتَرَصِّداً لِلْقِتَالِ، خَائِفاً غَدْر الْكُفَّارِ". والثالث: أن يكون حُرّاً، أما العبيد فلا إحرامُ عليهم بِحَالٍ؛ لأن منافعهم مستحقة للسَّادة، ولا فرق بين أن يأذنوا بالدخول أو لا يأذنوا؛ لأن الإذن في الدخول لا يتضمن الإذن في الإحْرَام، رواه الإمام عن اتفاق الأصْحَابِ، ومن يلزم الإحرام بالدّخول لا يبعد منه المنازعة في هذا التوجيه. وإن أذن السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ في الدخول محرماً فهل يكون حينئذٍ كالأحرار؟ فيه وجهان: أقيسهما: لا؛ لأنه ليس من أهْلِ فَرْضِ النُّسُكِ، فصار كلما لو أذن لَهُ في حُضُورِ الجُمُعَةِ. وإذا اجتمعت شرائط الوجوب ودخلها غير محرم فهل عليه القضاء؟ قال الإمام: فيه قولان، وقال غيرهما: وجهان: أحدهما: نعم، تداركاً لِلْوَاجِبِ، وسبيله على هذا أن يخرج ويعود محرماً، ولا نقول إن عوده يقتضي إحراماً آخر، كما لو دخلها على قصد النُّسُك يكفيه إحرامهُ بِذَلِكَ النُّسُك، ولا يلزمه بالدُّخُولِ إِحْرَام آخر، وكان الغرض أن لا يعرى دخوله عن الإحْرَامِ لِحُرْمَةِ البُقْعَةِ. وأصحهما: وهو الذي أورده الأكثرون: أنه لا يجب وله علتان. إحداهما: أنه لا يمكن القَضَاء؛ لأن دخوله الثَّاني يقتضى إحراماً آخر، وإذا لم يمكن القضاء لم كُمَنْ نذر صَوْمَ الدَّهْرِ وأفطر. وفرع صاحب "التلخيص" على هذه العلة فقال: "لو لم يكن ممن يتكرر دخوله كالحطابين ثم صار منهم قضى بحصول الإمكان" وربما نقل عنه أنه يجب عليه أن يجعل نفسه منهم. وأصحهما: وبه قال العِرَاقيونَ والقَفَّال: أنه تَحِية البقعة، فلا يقضي كتحية المَسْجدِ، وزَيَّفُوا العِلَّة الأولى بمَا سَبَقَ في تَوْجِيهِ القَوْلِ الأوَّلِ. وذكر القَاضِي ابْنُ كِجٍّ تفريعاً على القول بالوجوب: أنَّه إذا انتهى إلى الميقات عَلَى قَصْدِ دخولِ مكة يلزمه أن يُحْرِمَ مِنَ المِيقَاتِ، ولو أحْرَمَ بعد مجاوزته فعليه دَمٌ، بخلاف ما إذا ترك الإحرامُ أصلاً ورأساً؛ لأن نفس العِبَادَةِ لا تجبر بالدَّمِ. ¬
الفصل الرابع في الطواف
وهل ينزل دخول الحرم منزله دخول مكة فيما ذكرناه؟ قال بعض الشَّارِحين: نعم، والمراد بدخول مكة فيما نحن فيه: دخول الحرم، ولا يبعد تخريجه على خلاف سبق في نظائره (¬1). وقوله في الكتاب: (وكل من دخل مكة غير مريدٍ نسكاً) فيه إشارة إلى أنه لو كان مريداً نسكاً يلزمه أن يدخلها محرماً على الوجه الذي مُرَّ في موضعه، وليس ذلك موضع الخلاف، ثم لفظ الكتاب وإن كان مطلقاً في حكاية الخلاف، فالمراد ما إذا اجتمعت الشُّرُوط المَذْكُورة. ثم قوله: (لم يلزمه) معلم بالحاء والميم والألف، ويجوز أن يعلم قوله: (على أظهر القولين) بالواو للطريقة النافية للخلاف. واعلم أن هذا الفَصْلَ لما كان مترجماً بسنن دخول مكة، وكان الإحرام عند الدُّخولِ في حق من لا يقصد النُّسُكِ معدوداً من المستحبات على ما اختاره صَاحِب الكِتَاب إستحسن إيراد المَسْألَة في هذا الفَصْلِ. قال الغزالي: الفَصْلُ الرَّابعُ في الطَّوَافِ وَوَاجِبَاُتهُ سِتَّة: الأَوَّلُ شَرَائِطُ الصَّلاَةِ مِنْ طَهَارَةِ الحَدَثِ وَالخَبَثِ وَسَتْرِ العَوْرَة إلاَّ أنَّهُ يُبَاحُ فِيهِ الكَلاَمُ. قال الرافعي: للطوافْ بأنواعه وظائف واجبه وأخرى مسنونة: القسم الأول: الواجبات وقد عدَّها في الكتاب سبعة: أحدها: الطهارة عن الحدث والخبث. وستر العورة؛ كما في الصَّلاة، وبه قال مالك، لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال "الطَّوَافُ بالبَيْتِ مِثْلُ الصَّلاَةِ إِلاَّ أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فَلاَ يَتَكَلَّمُ إِلاَّ بِخَيْرٍ" (¬2). فلو طاف جُنباً أو محدثاً أو عارياً أو طافت المرأة حائضاً أو طاف وعلى ثوبه أو بدنه نجاسة لم يعتد بِطَوَافِهِ وكذا لو كان يطأ في مطافه النَّجَاسَاتِ، ولم أَرَ للأئمة رحمهم الله تشبيه مكان الطَّوَاف بِالطَّرِيقِ في حق المتنقل ماشياً أو راكباً، وهو تشبيه لا بأسَ بِهِ، ولو أحدث الطَّائِف في خلال طوافه نظر إن تعمد الحَدَث فقولان في أنه يبني أو يستأنف إذا توضأ، ويقال: وجهان: ¬
أحدهما: يستأنف كما في الصَّلاة. وأصحهما: أنه يَبْنِي ويحتمل في الطواف ما لا يحتمل في الصَّلاَة، كالفعل الكثير والكَلاَم، وإن سبقه الحَدَث رتب على حالة التعمد إن قلنا: يبني عند التعمد، فهاهنا أولى، وإن قلنا: يستأنف فهاهنا قولان أو وجهان: والأصح البناء، وهذا كله فيما إذا لم يَطُل الفَصْل، فإن طَالَ فسيأتي حكمه، وحيث لا يجب الاستئناف فلا شك في استحبابه. وقوله: (شرائط الصلاة) غير مجرى على ظَاهِره، فإن المعتبر في الطواف بَعْضها وهو الطَّهارة، وسترُ العورة، ولا يعتبر فيه استقبال القبلة، وتَرْكُ الكلام، وترك الأفعال الكثيرة، وترك الأكل. وأعلم قوله: (من طهارة الحدث والخبث وستر العورة) بالحاء؛ لأن عنده لو طاف جنباً أو محدثاً أو عارياً أو طافت المرأة حائضاً لزمت الإعادة ما لم يفارق مكَّة، فإن فارقها أجزأه دَمُ شَاةٍ إن طَافَ مع الحَدَثِ، وبدنه إِنْ طَافَ مع الجَنَابَةِ، وبالألف، لأن عند أحمد رواية مثله، إلا أن الإعلام بهما إنما يَصِح إذا كان المراد من وجوب شرائط الصَّلاَةِ في الطواف: اشتراطها فيه دون الوجوب المشترك بين الشرائط وغيره، فإنا قد نوجب الشَّيْءَ ولا نشترطه، كركعتي الطَّوافِ في الطَّوَافِ على أحد القولين، والذي حكيناه عن أبي حنيفة -رحمه الله- ينافي الاشتراط دون الوجوب المشترك، -والله أعلم-. قال الغزالي: الثَّانِي التَّرْتِيبُ (ح) وَهوَ أَنْ يَجْعَلَ البَيْتَ عَلَى يَسَارِهِ وَيَبْتَدِئَ بالحَجَر الأَسْوَدِ، وَلَو جَعَلَهُ عَلَى يَمِينِهِ لَمْ يَصِحَّ، وَلَو اسْتَقْبَلَهُ بِوَجْهِهِ فِيهِ تَرَدُّدٌ، وَلَو ابْتَدَأَ بِغَيْرِ الحَجَرِ لَمْ يُعْتَدَّ بِذَلِكَ الشَّوْطِ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ اِلى أَوَّلِ الحَجَرِ فَمِنْهُ يَبْدَأ الاحْتِسَابَ، وَلَوْ حَاذَى آخِرَ الحَجَرِ بِبَعْضِ بَدَنِهِ في ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ فِيهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: هذا الواجب وما بعده قد يحوج إلى معرفة هيئة البيت، فنقدم في وَضْعِ البيت وما لحقه من التغايير مقدمة مختصرة. ونقول: لبيت الله تعالى أربعة أرْكَان: ركنان يمانيان، وركنان شَامِيانِ، وكان لاصقاً بالأرض، وله بابان: شرقي وغربي، وذكر أن السَّيْلَ هَدَمَهُ قبل مبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِعَشْرِ سنين، وأعادت قريش عمارته على الهَيْئَةِ التي هُوَ عليها اليوم، ولم يجدوا من النذور والهدايا والأموال الطيبة ما يفي بالنفقة، فتركوا من جَانِب الحِجْرِ بَعْضَ البَيْتِ، وخلفوا الركنين الشاميين عن قواعد إبراهيم عليه السلام، وضيقوا عرض الجدار من الركن الأسود إلى الشَّامي الذي يليه، فبقي من الأساس شبه الدكان مرتفعاً، وهو الذي يسمى
الشَّاذْرَوَانُ، وقد روى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة -رضي الله عنها-: "لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالشَّرْكِ لَهَدَمْتُ الْبَيْتَ، وَلَبَنَيْتُهُ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، فَألْصَقْتُهُ بِالأَرْضِ، وَجعْلْتُ لَهُ بَابَيْنِ شَرْقِياً (¬1) وَغَرْبياً" ثم إن ابْنَ الزبير -رضي الله عنهما- هدمه أيام وِلاَيَتهِ، وبناه على قَوَاعِدِ إبراهيم عليه السلام، كما تمناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم لما اسْتَولى عليه الحَجَّاجُ هدمه وأعاده على الصُّورة التي هو عليها اليوم، وهي بناء قريش، والركن الأسود والباب في صَوْبِ الشَّرْقِ، والأسود هو أحد الرُّكْنَيْنِ اليمانيين، والباب بينه وبين أحد الشَّاميين، وهو الذي يسمى عِرَاقيّاً أيضاً، والباب إلى الأسود أقرب منه إليه، ويليه الركن الآخر الشَّامي، والحَجْر بينهما، وسنصفه من بعد، والمِيزَابُ بينهما، ويلي هذا الركن اليماني الآخر الذي هو عن يمين الأسود. إذا عرفت ذلك فاعلم أن مما يعتبر في الطواف شيئان قد يعبر عنهما معاً بالترتيب، وقد يعبر به عن أحَدِهما. والأول قضية لفظ الكتاب. أحدهما: أن يجعل البيت عَلَى يَسَارِه. والثاني: أن يبتدئ بالحَجَرِ الأسود، فيحاذيه بجميع بدنه في مروره، وإنما اعتبرا؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كذلك طَافَ وقال: "خُذُوا عَني مَنَاسِكَكُمْ" (¬2). فلو جعل البَيْتَ على يمينه كما إذا ابتدأ من الحجر الأسود ومَرّ على وجهه نحو الركن اليمانى، لم يعتد بِطَوَافِهِ، وقال أبو حنيفة -رحمه الله- يُعيدُ الطَّوَافَ ما دام بمَكَّةَ فإن فَارَقَهَا أجْزَأَهُ دَمُ شَاةٍ، ولو لم يجعله على يمينه ولكن استقبله بوجهه وطاف معترضاً، فعن القَفَّال فيه وجهان: أحدهما: الجواز، لحصول الطَّوَافِ في يَسَارِ البَيْت. والثاني: المنع؛ لأنه لم يُولِّ الكعبة شِقَّة الأَيْسَر، والخلاف جَارِ فيما لَوْ ولاَّهَا شِقَّة الأيمن، ومَرَّ القَهْقَريّ نحو الباب، والقياس: جريانه فيما لو استدبرها ومر مُعْتَرضاً، وما الأظهر من هذا الخلاف الذي أورده صاحب التهذيب وغيره؟ في الصورة الثانية أنه يجوز ويكره، وقال الإمام: والأصح: المنع كما أن المصلي لما أمر بأن يولي الكعبة صَدْرَه ووجهه لم يجزه أن يوليها شقه وهذا أوفق لعبارة الأكثرين، فإنهم قالوا: يجب أن يجعل البيت عَلَى يَسَارِه، ولم يوجد ذلك في هذه الصورة، وقالوا: لو جعله ¬
على يمينه لَمْ يَصِحِ، وقد وجد ذلك في صورة الرجوع القهقري، ومن صَحَّح الطواف في هذه الصُورة، فالمعتبر عنده أن يكون تحرك الطائف ودورانه في يَسَارِ البَيْتِ لاَ غَيْرَ، -والله أعلم-. ولو ابتدأ الطَّائِفُ من غير الحَجَرِ الأَسْوَدِ لم يعتد بما يفعله حتى ينتهي إلى الحَجَرِ الأسْوَدِ فيكون منه ابتداء طوافه، كما لو قدم المتوضئ على غسل الوجه غسل عضوٍ آخر، فإنا نجعل غسل الوَجْهِ ابتداء وضوءه، وينبغي أن يمر عند الابتداء بجميع بَدَنِهِ على الجَحَرِ الأَسْوَدِ، وذلك بأن لا يقدم جُزْءاً من بدنه على جُزْءٍ من الحَجَرِ، فلو حاذاه ببعض بدنه وكان بعضه مجاوزاً إلى جانب البَابِ ففيه قولان: الجديد: أنه لا يعتد بتلك الطوفة. والقديم: أنه يعتد بها، وتكفي المُحَاذَاة بِبَعْضِ البدن، وهذا الخلاف كالخلاف فيما إذا استقبل الكعبة ببَعْضِ بَدَنِهِ وَصَلَّى: هل تَصِحّ صَلاتُه؟ وفيما علق عن الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وغيره أن الخلاف ثُمَّ مُخَّرَجٌ مِنَ الخِلاَفِ في الطَّوَافِ، وعكس الإمام ذلك، فأشار إلى تَخْرِيج هَذَا من ذاك، ولو حَاذَى بجميع البَدَنِ بعضُ الحَجَرِ دون البعض أجزأه، كما يجزئه أن يستقبل بجميع بدنه بَعْضَ الكَعْبَةِ، ذكره أصحابنا العِرَاقيون. وقوله في الكتاب: (لم يعتد بذلك الشوط)، الشوط هو الطوفة الواحدة، وكَرِهَ الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- هذا اللفظ فاستحب أن يقال: طواف وطوافان. وقوله: (ولو حاذى آخر الحجر) أراد بآخر الحجر البعض الذي يَلِي البَابَ، ولا حاجة إلى هذا التقييد، بل الخِلاَفَ جَارٍ فيما إذا حَاذَى جميع الحَجَرِ ببعض بدنه. وقوله: (وجهان) اقتدى فيه بإمام الحرمين -رحمهما الله-، ومعظم الأصْحَابِ حكوا قولين منصوصين كما قَدَّمْنَا. قال الغزالي: الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ خَارِجاً عَنِ البَيْتِ فَلاَ يَمْشِي عَلَى شَاذَرْوَانِ البَيْتِ وَلاَ في دَاخِلِ مَحُوطِ الحَجَرِ، فَإِنَّ سِتَّةَ أَذْرُعِ مِنْهُ مِنَ البَيْتِ، وَلَوْ كَانَ يَمَسُّ الجِدَارَ بيَدِهِ في مُوَازَاةِ الشَّاذَرْوَانِ صَحَّ (ح)؛ لأَنَّ مُعْظَمَ بَدَنِهِ خَارجٌ. قال الرافعي: الطَّوَاف المأمور به هو الطَّواف بالبيت قال الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬1) وإنما يكون طائفاً به إذا كان خارجاً عنه، وإلا فهو طَائِفٌ في البَيْتِ، إذا تقرر ذلك فَفِي الفَصْلِ صُوَرٌ: ¬
إحداها: لو مشى على شَاذْرَوَانِ البَيْتِ لم يصح طَوَافُه؛ لما ذكرنا أنه من البيت، وعن المُزَنَي: أنه سماه تأزير البيت، أي: هو كالإِزَارِ له، وقد يقال: له التأزيز -بزائين وهو التأسيس. الثانية: ينبغي أن يدور في طَوَافِهِ حول الحجَرِ الذي ذكرنا أنه بين الرُّكْنَيْنِ الشَّاميين، وهو موضع حُوّطَ عليه بجدار قَصِيرٍ، بينه وبين كل واحد من الرّكنين فتحة، وكلام جماعة من الأصحاب يقتضي كون جميعُه من البيت، وهو ظاهر لفظه في "المختصر"، لكن الصحيح أنه ليس كذلك، بل الذي هو من البيت منه قدر ستة أذرع تتصل بالبيت، روي أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "نَذَرْتُ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي الْبَيْتِ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- صلي فِي الْحَجرِ فَإِنَّ سِتَّةَ أَذْرُع مِنْهُ مِنَ الْبَيْتِ" (¬1). ومنهم من يقول: ستة أذرع أو سبعة كان الأمر فيه على التَّقْرِيب، ولفظ "المختصر" محمول على هذا القدر، فلو دخل إحدى الفتحتين وخرج من الأخرى فَهُوَ مَاشٍ في البيت، لا يحسب له ذلك، ولا طوفه بعده، حتى ينتهي إلى الفَتْحة التي دخل منها، ولو خلف القدر الذي هو من البيت، ثم اقتحم الجدار، وتخطى الحجر على السّمت، صَحَّ طوافه (¬2). الثالثة: لو كان يطوف، ويمس الجِدَارَ بيده في موازاة الشاذروان، أو أدخل يده في موازاة ما هو من البيت من الحِجْرِ، ففي صحة طوافه وجهان: أحدهما: وبه أجاب في الكتاب: أنه يَصِح؛ لأن معظم بَدَنِهِ خَارجٌ، وحينئذ يصدق أن يقال: إنه طَائِفٌ بالبيت. وأصحهما: باتفاق فرق الأصحاب وفيهم الإمام: أنه لا يَصِح؛ لأن بعض بَدَنِهِ في البيت، كما لو كان يضع إِحْدَى رِجْلَيْهِ أحياناً على الشاذروانِ ويقفز بالأخرى. وقوله في الكتاب: (أن يكون بجميع بدنه خارج البيت) لفظ الجميع كالمستغنى عنه، فإنه لو اقتصر على قوله: (أن يكون ببدنه) كان المفهوم منه الجميع، وإذا تعرض له فَلاَ شَكَّ أن مثل هذا إنما يذكر تأكيداً ومبالغة في أنه لا يتحمل خروج البَعْضِ، وهذا ¬
لا يليق به الجواب بِالصِّحة، فيما إذا كان يمس الجِدارَ بيديه في مُوَازَاةِ الشاذروان. وقوله (ولا في داخل محوط الحِجْر) مطلق، ولكن تعقيبه بقوله: (فإن ستة أذرع منه من البيت) يبين الحد الممنوع عن المَشْي فيه. قال الغزالي: الرَّابعُ: أَنْ يَطُوفَ دَاخِلَ المَسْجِدِ وَلَوْ في أَخْريَاتِهَا وَعَلَى سُطُوحِهَا وأَرْوقِتهَا فَلَوْ طَافَ بِالمَسْجِدِ لَمْ يَجُزِ. قال الرافعي: يَجِب ألا يوقع الطَّوافَ خَارجُ المسْجِدِ، كما يجب أن لا يوقعه خَارجَ مَكَّةَ وَالحَرَم، ولا بأس بالحائل بين الطائف والبيت، كالسِّقَايَةِ والسَّوَارِي، ولا بكونه في أخريات المَسْجِدِ وَتَحْتَ السَّقْفِ، وعلى الأرْوِقَةِ والسُّطُوحِ، إذا كان البيت أرفع بِنَاءً على مَا هُوَ اليومَ، فإن جعل سَقْفَ المَسْجِدِ أَعْلَى فقد ذكر في "العدة" أنه لا يجوز الطواف على سَطْحهِ، ولو صَح هذا لزم أن يقال: إذا انهدمت الكعبة والعياذ باللهِ لم يصح الطواف حول عرصتها، وهو بعيد، ولو اتسعت خطة المسجد اتسع المَطَاف، وقد جعلته العباسية أوسع مما كان في عَصْرِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬1). قال الغزالي: الخَامِسُ رِعَايَةُ العَدَدِ فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى سِتَّةِ أَشْوَاطٍ لَمْ يَصِحَّ (ح). قال الرافعي: تجب رعاية العَدَدِ في الطواف، وهو أن يطوف سبعاً، قلو اقتصر على ستة أشواط لم يجزئه (¬2)، وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله-، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- طاف سبعاً، وقد قال: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" (¬3). وعند أبي حنيفة -رحمه الله- لو اقتصر على أكثر الطواف وأراق عن الباقي دماً أجزأه، وبنى على ذلك أنه لو كان يدخل في الأشْوَاطِ كُلِّهَا من إحدى فَتْحَتَي الحِجْرِ ويخرج من الأخرى كفاه أن يمشي وراء الحِجْرِ سَبْعَ مَرَّاتٍ أو يريق دماً، وتدَواره بما وراء الحجرِ يكون معتداً بِهِ في الأَشْوَاطِ كُلَّهَا. ¬
قال الغزالي: السَّادِسُ رَكْعَتَانِ عَقِيبَ الطَّوَافِ مَشْرُوعَتَانِ وَلَيْسَتَا مِنَ الأَرْكَانِ وَفِي وُجُويهما قَوْلاَنِ، وَلَيْسَ لِتَرْكِهِمَا جُبْرَانٌ؛ لِأَنَّهُ لاَ يَفُوتُ إِذْ المُوَالاةُ لَيْسَ بِشَرْطِ فِي إجْزَاءِ الطَّوَافِ علَى الصَّحِيحِ. قال الرافعي: إِذَا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافَاتِ السَّبْعِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ: "رُوِيَ عَنِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ" (¬1) وهما واجبتان أو مسنونتان؟ فيه قولان: أحدهما: واجبتان، وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما صَلاَّهُمَا تلا قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬2). فأفهم أن الآية أمْرٌ بهذه الصَّلاَة والأمر للوجوب. وأصحهما: مسنونتان، وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله-؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث الأعرابي: "لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ" (¬3). واحتج الشَّيْخُ أَبُو عَلِيّ لهذا القول بشيئين: أحدهما: أنها لو وجبت لَلَزِم شَيْءٌ لِتَرْكِهَا كَالرَّمْيِ، وَلاَ يَلْزَمُ. والثاني: أنها لو وجبت لاختص فعلها بمكَّة، ولا يختص، بل يجوز في بلده، وأي موضع شَاءَ، ولك أن تقول: أما الأول: فيشكل بالأركان، فإنها وَاجِبَةٌ وَلاَ تُجْبَرُ بِشَيْءٍ، وقد تعد هذه الصَّلاة منها على ما سيأتي، ثم الجبر بالدَّمِ إنما يكون عند فوات المجبور، وهذه الصَّلاةَ لا تفوت إلا بأن يموت، وحينئذ لا يمتنع جَبْرُهَا بالدَّمِ، قاله الإمام وغيره. وأما الثاني: فلم لا يجوز أن تكون واجبات الحَجِّ وأعماله منقسمة إلى ما يختص بِمَكَّة وإلى مَا لاَ يَخْتَص؟ ألا ترى أن الإحْرَام أحد الواجبات، ولا اختصاص له بمكّة. والمستحب أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} كَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- (¬4). وأن يُصَلِّيهمَا خلف المقام (¬5)، فإن لم يفعل فَفِي الحِجْرِ، فإن لم يفعل ففي ¬
المَسْجِدِ، فإن لم يفعل ففي أي موضع شاء من الحَرَمِ وغيره، ويجهر بالقِرَاءَةِ فيهما لَيْلاً، ويسر نهاراً. وإذا لم نحكم بوجوبهما فَلَوْ صَلَّى فريضة بعد الطّواف حسبت عن ركعتي الطَّوافِ اعتباراً بتحية المسجد. حكى ذلك عن نَصِّه في القديم، والإمام حكاه عن الصَّيْدَلاَنِيِّ نفسِه، واستبعده، وتختص هذه الصَّلاة من بين سائر الصلوات بشيء وهو جريان النيابة فيها، إذ يؤديها عَنْهُ المستأجر. وقوله في الكتاب: (ركعتان عقيب الطواف مشروعتان) أراد به التَّعَرَضِ لِمَا يشترك فيه القولان، وهو أصْلُ الشَّرْعِيَّة، ثم بين الاختلاف في الوجوب. وقوله: (وليستا من الأركان) أراد به أن الاعتداد بالطَّوَافِ لا يتوقف عليهما أو شيئاً هذا شأنه، وقد ذكره الإمام أيضاً لكن في طرق الأئمة ما ينازع فيه؛ لأنهم ذكروا القولين في طواف الفَرْضِ، ثم قالوا: إن كان الطواف تطوعاً ففيه طريقان: أحدهما: القطع بعدم الوجوب، وبه قال أبُو زَيْدٍ؛ لأن الأصل الطَّواف لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فكيف يكون تابعه وَاجِباً. والثاني: وبه قال ابْنُ الحَدَّادِ: طرد القولين، ولا يبعد اشتراك الفرض والنفل في الشَّرَائط، كاشتراط صلاة الفَرْضِ والتطوع في الطَّهارة، وستر العورة، وغيرهما، وكذا اشتراكهما في الأركان كالركوع، والسجود، وغيرهما، ومعلوم أن هذا التوجيه ذهاب السهونهما رُكناً أو شرطاً في الصَّلاَةِ، وعلى التقديرين فالاعتداد يتوقف عليهما. وقوله: (في وجوبهما قولان) يجوز إعلامه بالواو؛ لأنه إن أراد مطلق الطَّوَافِ ففي النفل منه طريقة قاطعة بنفي الوجوب كما عرفتها، وإن أراد الفرض منه ففيه طريقة قاطعة بالوجوب حكاها الشيخ أَبُو عَلِيّ. وقوله: (وليس لتركهما جبران لأنه لا يفوت) معناه ما مر من أنه يحتمل تأخيرهما، ويجوز فعلهما في أي مَوْضِعٍ شاء، ولكن حكى صاحب "التتمة" عن نص الشافعي -رضي الله عنه- أنه إذا أخر يستحب له إراقة دم. وقوله: (إذ المولاة ليست بِشَرْطِ في أجزاء الطواف) فيه أولاً تعرض لمسألة مقصودة وهي: أن الطائف ينبغي أَن يوالي بين أشواط الطواف وأبْعَاضِه، فلو خالف وفَرِّق هل يجوز البِنَاءُ على ما أتى به؟ فيه قولان: أصحهما: الجواز، وهما كالقولين في جواز تفريق الوُضُوءِ، لأن كل واحد منها عبادة يجوز أن يتخللها ما لَيْسَ مِنْهَا، بخِلاَف الصَّلاَةِ، والقولان في التفريق الكثير بلا عُذْرٍ، فأما إذا فرق يسير أو كثراً بالعُذْرِ، فالحكم على ما بَيَّنَّ في الوُضُوءِ. قال الإمام: والتفريق الكثير هو الذي يغلب على الظَّنِّ تركه الطَّواف.
أما بالإضراب عنه أو لظنه أنه أنْهَاه نِهَايَتَهُ. ولو أقيمت المكتوبة في أثناء الطواف فتخليلها بينها تَفْرِيقُ بِالْعُذْرِ. وقطع الطَّواف المفروضِ بِصَلاةِ الجَنَازَةِ والرَّواتِبِ مَكْرُوهٌ، إذ لا يحسن تَرْكُ فَرْضِ لعَيْنِ بِالتَّطَوُّعِ أو فرضِ الكفَايَةِ. إذا وقفت على المسألة فقوله: (لا يفوت، إذ الموالاة ليست بِشَرْطٍ في أجزاء الطَّواف) ليس تسليماً لكون الركعتين من أجزاء الطواف فإن ذلك يناقض قوله من قبل: (إنهما ليستا من الأركان) ولكن المعنى: أن الموالاة إذا لم تشترط في أجزائه فأولى أن لا تشترط بينه ويين ما هو من توابعه، وهذا شَرْحُ واجبات الطواف، وفي وجوب النية (¬1) فيه خِلاَفٌ نذكره من بعد. قال الغزالي: أَمَّا سُنَنُ الطَّوَافِ فَهِيَ خَمْسٌ: الأُولَى أَنْ يَطُوفَ مَاشِياً لاَ رَاكِباً، وَإِنَّمَا رَكَبَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لِيَظْهَرَ لِيُسْتَفْتَى. قال الرافعي: القسم الثاني: من وظائف الطَّوَافِ السُّنَن. فمنها: أن يطوف ماشياً ولا يركب إلا بعذر مرض ونحوه كيلا يؤذي النَّاس، ولا يلوث المسجد: "وَقَدْ طَافَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الأَكْثَرِ مَاشِياً، وَإِنَّمَا رَكِبَ فِي حَجَّةِ (¬2) الوَدَاعِ لِيَرَاهُ النَّاسُ فَيَسْتَفْتِيَ المُفْتُونَ". فإن كان الطائف مترشحاً للفتوى فله أن يتأسى بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فَيَرْكَب، ولو رَكِبَ مِنْ غير عُذْرٍ أجزأه ولا كراهة، هكذا قاله الأصْحَاب. وقال الإمام: وفي القلب من إدْخَالِ البَهِيمَةِ المَسْجِد، ولا يؤمن تَلْوِيثها بشيء فإن أمكن الاستيثاق فذاك، وإلا فإدْخَال البهائم في المسْجِدِ مَكْرُوهٌ. ويجوز أن يعلم قوله: (أن يطوف ماشياً) بالميم والحاء؛ لأن عندهما ليس ذلك مِنَ السُّنَنِ، بل يجب أن يطوف ماشياً إن لم يكن له عذر، فإن ركب فعليه دم، وبالألف لأنه يروي عن أحمد مثله. قال الغزالي: الثَّانِيَةُ تَقْبِيلُ الحَجَرِ الأَسْوَدِ، وَمَسُّ الرُّكْنِ اليَمَاني بِاليَدِ، فَإِنْ مَنَعَتِ ¬
الزَّحْمَةُ عَنِ التَّقْبِيلِ اقْتَصَرَ علَى المَسِّ أَو الإشارةِ، وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ في آخِرِ كُلِّ شَوْطٍ، وَفي الأَوْتَارِ آكَدُ. قال الرافعي: ومن السنن أن يستلم الحجر بيده في ابتداء الطَّوَافِ، لما روى عن جابر -رضي الله عنه- أن النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "بَدَأَ بِالْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ وَفَاضَتْ عَينَاهُ مِنَ الْبُكَاءِ" (¬1). وَيُقَبِّلُهُ؛ لما روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال وهو يَطُوف بالركن: "إِنَّمَا أَنْتَ حَجَرٌ وَلَولاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّلُكَ لَمَا قَبَّلْتُكَ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَقَبَّلَهُ" (¬2). ويضع جبهته عَلَيْهِ؛ لما روى عن ابْنِ عَبَّاس -رضي الله عنهما-: "أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُ الْحَجَرُ الأَسْوَدَ وَيَسْجُدُ عَلَيْهِ بِجَبْهَتِهِ" فإن منعته الزَّحْمَةُ من التقبيل اقتصر على الإسْتلاَم فإن لم يمكن اقتصر على الإشارة باليد، ولا يشير بالفَم إلى التقبيل، ولا يقبل الركنين الشَّاميين ولا يستلمهما، ولا يقبل الركن اليَمَانِي، ولكن يستلمه باليد، وروي عن أحمد أنه يُقَبِّلُهُ، وعند أبي حنيفة -رحمه الله- لا يستلمه ولا يُقَبِّلُه. لنا ما روى عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِي وَالأَسْوَدَ فِي كُلِّ طَوْفَةٍ، وَلاَ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحَجَرَ" (¬3). قال الأئمة: ولعل الفَرْقَ ما تقدم أن اليمانيين على قواعد إبراهيم عليه السلام دون الشَّامِيين. ثم حكى الإمام أنه يتخير حين يستلم الركن اليماني بين أن يُقَبِّل يده ثم يَمَس الرُّكْنَ كالذي ينقل خِدْمَة إليه، وبين أن يمسّه ثم يقبل اليد كالذي ينقل يُمْناً إلى نَفْسِهِ، وهكذا يتخير بين الوجهين إذا مَنَعَتْهُ الزحمة من تقبيل الحَجَرِ، ولم يورد المعظم في الصُّورتين سِوَى الوَجْهِ الثَّاني. وقال مالك -رضي الله عنه- لا يُقَبِّلُ يَدَهُ فيهما، ولكنه بعد الاستلام يضع يدَهُ عَلَى فيهِ. ولو لم يستلم الركن باليد، ولكنه وضع خشبة عليه ثم قَبَّلَ طَرَفَهَا جَازَ أيضاً (¬4)، روى عن أبي الطُّفَيلِ قال: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَطُوفُ بالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنِ بِمحْجَنٍ وُيقَبِّلُ الْمحْجَنَ" (¬5). ¬
ويستحب تقبيل الحجر واستلامه واستلام الركن اليماني عند محاذاتهما في كُلِّ طوفة، وهو في الأوتار آكد؛ لأنها أفضل (¬1). وقوله في الكتاب: (اقْتَصر على المَسِّ أو الإِشَارَةَ) ليس تخييراً، ولكنه يمسه وإن لم يمكنه اقتصر على الإشَارَةَ كَمَا مَرَّ. قال الغزالي: الثَّالِثَةُ: الدُّعَاءُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ: بِسْمِ اللهِ وَبِاللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ إِيماناً بِكَ وَتَصْدِيقاً بِكِتَابَكَ وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ وَاتِّبَاعاً لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ وَعَلَى آلهِ السَّلاَمُ. قال الرافعي: يستحب للطائف أن يقول في ابتداء طوافه: "بِسْمِ اللهِ وَبِاللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ إِيْماناً بِكَ، وَتَصْدِيقاً بِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ، وَاتِّبَاعاً لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-" روى ذلك عن عَبْد الله بن السَّائِبِ -رحمه الله- عن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- (¬2) ويقول بين الرُّكنين اليَمَانِيين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (¬3). وقد أورد الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ أنه يستحب له إذا انتهى إلى محاذاة البَاب وعلى يمينه مَقامُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام أن يقول: "اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا الْبَيْتَ بَيْتُكَ وَالْحَرَمَ حَرَمُكَ وَالأَمْنَ أَمْنُكَ وَهَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ النَّارِ" ويشير إلى مقام إبراهيم عليه السلام وإذا انتهى إلى الرُّكْنِ العِرَاقي أن يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّكِ وَالشِّرْكِ، وَالنِّفَاقِ وَالشِّقَاقِ وَسُوءِ الأَخْلاَقِ، وَسُوءِ المَنْظَرِ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ"، وإذا انتهى إلى ما تحت المِيزَاب من الحِجْرِ أن يقول: "اللَّهُمَّ أَظَلَّنِّي بِظِلَّكَ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلا ظِلُّكَ، وَاسقني بِكَأْسِ مُحَمَّدٍ شَرَاباً هَنِيّاً لا أَظْمَأُ بَعْدَهُ أَبَداً يَا ذَا الجَلاَلِ وَالإكْرَامِ". وإذا صار بين الرُّكْنِ الشَّامي واليماني أن يقول: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجّاً مَبْرُوراً، وَسَعْياً مَشْكُوراً، وَعَمَلاً مَقْبُولاً، وَتِجَارَة لَنْ تَبُورَ، يَا عَزِيزُ يا غَفُورُ" (¬4). ¬
وإذا صار بين الركنين اليمانيين أن يقول: ما سبق، وذكر غيره أنه يقول عند الفراغ من ركعتي الطواف خلف المقام: "اللَّهُمَّ هذَا بَلَدُكَ، وَمَسْجِدُكَ الْحَرَامُ، وَبَيْتُكَ الْحَرَامُ، أَنَا عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ أَتَيْتُكَ بِذُنُوب كَثِيرَةٍ وَخَطَايَا جَمَّةٍ وَأَعْمَالٍ سَيِّئةٍ، وَهَذَا مَقَامُ الْعَائِذُ بِكَ مِنَ النَّارِ فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، اللَّهُمَّ إنَّكَ دَعَوْتَ عِبَادَكَ إِلى بَيْتِكَ الْحَرَامِ، وَقَدْ جِئْتُ إِلَيْكَ طَالِبًا رَحْمَتَكَ، مُبْتَغِيًا مَرْضَاتِكَ، وَأَنْتَ مَنَنْتَ عَلَيَّ بِذَلِكَ فَاغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ. وعند محاذاة المِيزَاب: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الرَّاحَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَفْوَ عِنْدَ الْحِسَاب". ويدعو في طوافه بما شاء، ولا بأس بقراءة القُرْآن في الطَّوَافِ، بل هي أفضل من الدّعاء الذي لم يؤثر (¬1)، والدعاء المَسْنُون أَفْضَلُ مِنْهَا، تَأسِّياً برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونقل في "العدة" وجهاً آخر: أنها أفْضَلُ مِنْهُ أيضاً. قال الغزالي: الرَّابِعَةُ الرَّمَلُ فِي الأَشْوَاطِ الثَّلاَثةِ الأُوَلِ وَالهِيْنَةُ فِي الأَخِيرَةِ، وَذَلِكَ فِي طَوَافِ القُدُومِ فَقَطْ عَلَى قَوْلٍ، وَفِي طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ فَقَطْ عَلَى قَوْلٍ، وإنْ تَرَكَ الرَّمَلَ أَوَّلاَ لَمْ يَقْضِهِ آخِراً إِذْ تَفُوتُ بِهِ السَّكِينَةُ، وَلَوْ تَعَذَّرَ الرَّمَلُ مَعَ القُرْبِ لِلزَّحْمَةِ فَالبُعْدِ أَوْلَى، وَلَوْ تَعَذَّرَ لِزَحْمَةِ النِّسَاءِ فَالسِّكِينَةُ أَوْلَى، وَلْيَقُلْ فِي الرَّمَلِ: اللَّهُمَّ اجْعَلهُ حَجّاً مَبْرُوراً وَذَنْباً مَغْفُوراً وَسَعْياً مَشْكُوراً. قال الرافعي: والأصْلُ في الرَّمْلِ والاضطباع،، ما روي عن ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ لِعُمْرَةِ الزِّيَارَةِ قَالَتْ قُرَيْشُ: إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ قَدْ أَوْهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالرَّمَلِ وَالاضْطِبَاع لِيُرَى الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُم فَفَعَلُوا" (¬2). ثم إن ذلك بقي سنة متبعة وإن زال السَّبَب، روى عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "فِيمَا الرَّمَلُ وَقَدْ نَفَى الله الشِّرْكُ وَأَهْلَهُ وَأَعَزَّ الإسْلاَمَ إِلاَّ إني لاَ أُحِبُّ أَنْ أَدَعَ شَيْئاً كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-". والرَّمْلُ هو: الإسراع في المشي مع تقارب الخُطَى، دون الوُثوب والعَدْوِ، ويقال: إنه الخَبَبَ، وغلط الأئمة من ظن كونه دون الخبب. ¬
إذا تمهد ذلك فنورد مَسَائِلُ الفَصْلِ وما ينضم إليها من صور: إحداها: حيثُ يُسَنُّ الرَّمَل، فإنما يسن في الأشْوَاطِ الثلاثة الأولى فأما الأربعة الأخيرة فالسنة فيها الهينة. روي عن جابر: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى الْحَجَر فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ مَشى عَلَى يَمِينِهِ فَرَمَلَ ثَلاَثاً وَمَشى أَرْبَعاً" (¬1) أو هل يستوعب الثلاثة الأولى بالرَّمَلِ؟ فيه قولان حكاهما الإمام: أصحهما: وهو المشهور: نعم؛ لما روى: "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- رَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ ثَلاَثاً وَمَشى أَرْبَعًا" (¬2). والثاني: لا، بل يترك الرَّملَ في كل طَوْفَةٍ بين الركنين اليمانيين، لما روي: "أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانُوا يَتَّئِدُونَ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمُ عَامَ الصَّدِّ أَنْ يَنْخلَّوا عَنْ بَطْحَاءِ مَكَّةَ إِذَا عَادَ لِقَضَاءِ الْعُمْرةِ" فلما عاد وفارقوا قعيقعان وهو: جبل في مقابلة الحجْر والمِيزَاب، وكانوا يظهرون القُوة والجلادَة حيث تقع أبصارُهم عَلَيْهِم، فإذا صَارُوا بين الركنين اليمَانيين كَانَ البَيْتُ حَائِلاً بينهم وبين أبْصَارِ الكُفَّارِ (¬3). الثَّانية: لا خلاف في أن الرَّمَلَ لا يُسَنُّ في كل طَوَافٍ، وفيم يسن؟ فيه قولان: أحدهما: قال في "التهذيب"، هو الأصح: الجديد: يسن في طواف القدوم والابتداء؛ لأنه أولُ العَهْدِ بالبيت، فيليق به النِّشاط والاهتزاز. والثاني: إنما يُسَنُّ في طوافٍ يَسْتَعْقِبُ السَّعْي؛ لانتهائه إلى تَوَاصُلِ الحركات بين الجبلين، وهذا أظهر عند الأكْثرين ولم يتعرضوا لتاريخ القولين، ويشهد للأول ما روي: "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَرْمَلْ فِي طَوَافِهِ بَعْدَ مَا أَفَاضَ" (¬4). ¬
وللثاني: "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- رَمَلَ فِي طَوَافِ عمرِهِ كُلَّهَا (¬1) وَفِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الطَّوَافِ فِي الْحَجِّ". والذي يشتركان فيه استعقاب السَّعْيِ فعلى القولين لا رَمَلَ في طَوَافِ الوَدَاعِ؛ لأنه ليس للقُدُوم، ولا يستعقب السعي، ويرمل من قدم مكَّة معتمراً؛ لوقوع طوافه عن القُدُومِ واستعقابه السعي، ويرمل أيضاً الأفاقي الحَاجّ إذا دَخَلَ مكة بعد الوقوف، وإن دخلها قبل الوُقوف فهل يَرْمُل في طَواف القُدومِ؟ ينظر إن كان لا يسعى عقيبه ويؤخره إلى إثر طواف الافاضة فعلى القول الأول يَرْمُل، وعلى الثاني لا، وإنما يرمل في طواف الإفاضة وإن كَانَ يَسْعَى عقيبه، فيرمل فيه على القوالين، وإذا رمل فيه وَسَعَى بعده بلا يرمل في طواف الإفاضة إن لم يُرِد السَّعْيَ عُقَيْبَه، وإن أراده فكذلك في أصحِّ القولين، وإذاطَافَ للقدوم وسعى بعده ولم يرمل فَهَلْ يَقْضِيهِ فِي طَوَافِ الإفَاضَةِ؟ فيه وجهان، ويقال: قولان: أظهرهما: لا، كما لو ترك الرَّمَلَ في الثَّلاثةِ الأُولَى لا يقضيه في الأَرْبَعَةِ الأَخِيرَةِ، وإن طاف ورملَ ولم يسع فجواب الأكثرين: أنه يرمل في طَوَافِ الإفَاضَةِ هَاهُنَا؛ لبقاء السَّعْي عَلَيْهِ، وكون هيئة الرَّمل مع الاضطباع مرعية فيه، والسَّعْي تَبَعٌ للطواف، فلا يزيد في الهَيْئَةِ عَلَى الأَصْلِ. وهذا الجواب في غالب الظَّنِّ منهم مَبْنِيٌّ على القَوْلِ الثَّانِي، وإلا فلا اعتبار باستعقاب السَّعْي، وهل يرمل المكي المنشئ حَجَّه مِنْ مَكَّةَ فِي طوافه؟ إن قلنا: بالقول الأول فلاَ، إذْ لَيْسَ له طواف قدوم ودخول. وإن قلنا: بالثاني فنعم؛ لاستعقابه السَّعْي. الثالثة: لو ترك الرَّمَلَ فِي الأشواط الأولى لم يَقْضِهِ في الأخيرة؛ لأن الهينة والسكينة مسنونةٌ فيها استنان الرَّمَلِ في الأولى، فلو قضاه لَفَوَّتَ سنةً حَاضِرَةً، وهذا كما لو تَرَكَ الجَهْرَ في الركعتين الأولتين لا يقضيه في الآخرتين، ويخالف ما لو ترك سُورَة "الجُمُعَةِ" في الرَّكْعَةِ الأولى يَقْرَأُهَا مَعَ "المُنَافِقينَ" في الثانية؛ لأن الجمع ممكن هناك. الرابعة: القرب من البيت مستحب للطائف تَبَرُّكاً بِهِ، ولا نظر إلى كَثْرَةِ الخُطَى لَوْ تَبَاعَدَ، فلو تَعَذَّرَ الرَّمَلُ مع القُرْب لِزَحْمَةِ النَّاسِ فينظر إن كان يَجِدُ فُرْجَة لو توقف توقف ليجدها فيرمل فيها، وإن كان لاَ يَرْجُو ذَلِكَ وهو المراد مما أطلقه في الكتاب فالبعد عن الميت والمحافظة على الرَّمَلِ أَوْلَى، لأن القُرْبَ فضيلةٌ تتعلق بموضع العِبَادة، والرمل فَضِيلَةٌ تتعلق بِنَفْسِ العِبَادَةِ، والفضيلة المتعلقة بِنَفْسِ العِبَادَةِ أولى بالرِّعَايَةِ، ألا ترى أن الصَّلاةَ بالجَمَاعَةِ في البَيْتِ أَفْضَلُ من الانفراد بِهَا فِي المَسْجِدِ. ¬
وإن كان في حَاشِيَةِ المطاف نِسَاء ولم يأمن مُصَادَمَتَهُنَّ لو تباعد، فالقرب من البَيْتِ والسَّكِينَةِ أولى من البُعْدِ والرَّمْلِ، تحرزاً عن مُصَادَمَتِهِنَّ وَمُلاَمَسَتِهِنَّ. وقوله في الكتاب: (ولو تعذر لزحمة النساء ... إلى آخره) المراد منه هذه الصورة على ما دل عليه عبارة "الوسيط"، والمعنى: فإن تعذر البُعْدُ لِزَحْمَةِ النساء، ويجوز أن يحمل على ما إذا كان بالقرب أيضاً نساء وتعذر الرَّمَلُ في جميع المَطَافِ لخوفُ مَصَادَمَتِهِنَ، فإن الأَوْلَى والحالة هَذِه تَرْكُ الرمل. الخامسة: ليكن من دعائه في الرمل (¬1): "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجّاً مَبْرُوراً وَذَنْباً مَغْفُوراً وَسَعْياً مَشْكُوراً". روي ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬2). ومتى تَعَذَّرَ الرَّمَلُ على الطَّائِفِ فينبغي أن يَتَحَرَّك فِي مِشْيِه، ويرى من نفسه أنه لو أمكنه الرَّمَلُ لَرَمَلَ. وإن طافَ رَاكِباً أو محمولاً ففيه قولان: أصحهما: أنه يَرْمُلُ به الحَامِل ويُحَرّك هو الدّابة. ومنهم: من خص القولين بالبَالِغ المحمول، وقطع في الصبي المحمول بأنه يرمل به حَامِلُه، -والله أعلم-. قال الغزالي: الخَامِسَةُ الاضْطِبَاعُ فِي كُلِّ طَوَافٍ فِيهِ رَمَل وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ وَسَطَ إِزَارِهِ فِي إِبِطِهِ اليُمْنى، وَيَجْمَعَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقِهِ الأَيْسَرِ ثُمَّ يُدِيمَهُ إِلَى آخِرِ الطَّوَافِ فِي قَوْلٍ وإلَى آخر السَّعْي فِي قَوْلٍ. قال الرافعي: الاضطباع في كل طوافٍ فيه رَمَلٌ، وهو افتعال من الضَّبْع وهو العضد. ومعناه: أن يجعل وَسَطَ رِدَائِهِ تَحْتَ منكبه الأيمن، وطرفيه على عَاتِقِهِ الأيْسَر، ويبقى منكبه الأيْمنُ مكشوفاً كَدَأْب أَهْلِ الشَّطَارَةِ، وكل طَوَافٍ لا يُسَنُّ فِيهِ الرَّمَلُ لاَ يُسَنَّ فِيهِ الاضطباع، وما يسن فيه الرَّمل يسن فيه الاضطباع، لكن الرملَ مخصوصٌ بالأشواط الثلاثة الأول والاضطباع يعم جميعها، ويسن في السَّعْي بين الجبلين بعدها أيضاً، على المشهور، ويخرج من منقول المَسْعُودي وغيره وجه أنه لا يسن، ويروى ذلك عن أحمد -رحمه الله-. ¬
وهل يُسَنُّ في ركعتي الطَّوَافِ؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما في سائر أعمال الطواف. وأصحهما: لا؛ لكراهية الاضطباع في الصَّلاَةِ، والخلاف فيهما متولد من اختلاف الأصْحَاب في لفظ الشافعي -رحمه الله- في "المختصر" وهو أنه قال: ويضطبع حتى يَكْمُلَ سَعْيُه. فمنهم من نقله هكذا. ومنهم: من نقل حتى يكمل سَبْعَة، وهذا الاختلاف عند بعض الشارحين متولد من اختلاف النسخ، وعند بعضهم من اختلاف القِرَاءة، لتقاربهما في الخَطِّ، فمن نقل سَعْيَه حكم بإدامة الاضطباع في الصَّلاَةِ والسَّعْيِ، ومن قال سبعة قال: لا يضطبع بعد الأشْوَاطِ السَّبْعَةِ، وظاهر المذهب ويحكي عن نصه: أنه إذا فرغ من الأشْوَاط ترك الاضطباع حتى يُصَلِّيَ الركعتين، فإذا فرغ منها أعاد الاضطباع وخرج لِلسَّعْيِ، وهذا يحوج إلى تأويل لفظ "المختصر" على التقديرين، فتأويله على التقدير الأول أنه يضطبع مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وعلى التقدير الثاني أنه يديم اضطباعه الأول إلى تَمَام الأَشْوَاطِ، ثم اللفظ ساكت عن أنه يعيده أو لا يعيده؟. وليس في حَقِّ النساء رَمَلٌ ولا اضطباع حتى لا ينكشفن، ولا تبدوا أعضاؤهن، وحكى القاضي ابْنُ كَجٍّ -رحمة الله عليه- وَجْهَيْنِ في أن الصَّبِيَّ هَلْ يضطبع؟ لأنه ليس فيه نصرة ولا جلادة كالنِّسوة، والظاهر أنه يضطبع. وقوله في الكتاب: (أن يجعل وسط إزاره) ذكر الرداء في هذا الموضع أليق، وكذلك قاله الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- وعامة الأصْحَابِ -رحمهم الله-. وقوله: (إلى آخر الطواف في قول إلى آخر السَّعْي في قول) إطلاق القولين فيه غَرِيب، والذين رووا الخِلاَف فيه رووهما وجهين، إلا أن حُجَّةَ الإِسْلاَم -رحمه الله- نظر إلى استناد الخلاف إلى ما قَدَّمْنَا من قَوْلِ الشافعي -رضي الله عنه-، ثم عبارة الكتاب في القول الثاني تقتضي استحباب الاضطباع في ركعتي الطَّوَافِ أيضاً، وفيه ما ذكرناه. قال الغزالي: فَرْعٌ لَوْ طَافَ المُحْرِمُ بِالصَّبِيِّ الَّذي أَحْرَمَ عَنْهُ أَجْزَأَ عَنِ الصَّبِيَّ إِلاَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ طَاف عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ الحَامِلَ أَوْلَى بِهِ، فَيَنْصَرِفَ إِلَيْهِ وَلاَ يَكْفِيهِمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ بِخِلاَف مَا إِذَا حَمَلَ صَبِيَّيْنِ وَطَافَ بِهِمَا فإنَّهُ يُكْفِي الصَّبِيَّيْنِ طَوَافٌ وَاحِدٌ كَرَاكِبَيْنِ عَلَى دَابَّةٍ. قال الرافعي: هذا الفرع لا اختصاص له بالصبي وإن صوَّره فيه، ولو اختص به لكان موضعه الفَصْلُ الأَخِيرُ مِنْ الباب المعقود في حُكْمِ الصَّبِيِّ، ثم هو ناظر إلى مسألةٍ نذكرها أولاً، وهي أن الطَّوافَ هَلْ يَجِبُ فِيهِ النية؟ وفيه وجهان:
أحدهما: تجب؛ لأنه عبادة برأسه. وأصحهما: لا تجب؛ لأنه في الحَجِّ والعمرة أحد الأَعْمَال، فيكفي فيه نية النُّسُكِ في الابتداء، على هذا فهل يُشْتَرَطُ أن لاَ يصرفه إلى عَرَضٍ آخر من طَلَب غَرِيمٍ ونحوه؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم، وهما كالوجهين فيما إذا قصد في أثناء وضوءه لغسل باقي الأعضاء تبرداً ونحوه. إذا عرفت ذلك فلو أن الرجل حَمَل محرماً من صبي أو مريض أو غيرهما وطاف به، نظر إن كان الحاملُ حلالاً أو كان قد طافَ عن نفسه حُسِبَ الطواف للمحمول بَشَرْطِهِ، وإن كان محرماً ولم يَطُفْ عَنْ نَفْسِهِ نظر إن قصد الطَّوَاف عَنِ المَحْمُولِ ففيه ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه يقع للمحمول دون الحَامل، وينزل الحَامِلُ منزلَة الدَّابَّةِ، وهذا يخرج على قولنا: أنه يشترط أن لا يصرف طوافه إلى غرضٍ آخر. والثَّاني: أنه يقع عن الحَامِل دون المحمول، وهذا يخرج على قولنا: أنه لا يشترط ذلك، فإن الطواف حينئذٍ يكون محسوباً له، وإذا حسب له لم ينصرف إلَى غَيْرِهِ، بخلاف ما إذا حمل مُحْرِمَيْنِ وطاف بهما وهو حَلاَلٌ أَوْ مُحْرِمٌ، وقد طاف حيث يجزئهما جميعاً، فإن الطَّواف ثم غير محسوب لِلْحَامِلِ، والمحمولان كراكبي دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ، وربما يوجه هذا الوجه بالتشبيه بما إذا أحرم عن غيره، وعليه فَرْضُه. والثالث: أنه يحسب لهما جميعاً؛ لأن أحدهما قد دَارَ والآخر دِيرَ بهِ. وإن قصد الطَّواف عَنْ نَفْسِهِ وقع عنه، وهل يحسب عن المحمول؟ قال الإمام: لا، وحكى وفاق الأصْحَاب فيه، وبمثله أجاب فيما إذا قصد الطَّوَافِ لِنَفْسِهِ وَللْمَحْمُولَ، وصاحب "التهذيب" حكى في حصوله للمحمول مع الحُصُولِ لِلْحَامِلِ وجهين؛ لأنه دَار به، ولو طاف به ولم يقصد واحداً من الأقسام الثلاثة فهو كما لو قَصَدَ نَفْسَهُ أو كِلَيْهِمَا. وقوله في الكتاب: (لو طاف المحرم بالصبي الذي أحرم عنه) قد ذكرنا أن المسألة غير مخصوصة بما إذا كان المحمول صبيّاً، والأولى أن يقرأ قوله (أُحْرِمَ بهِ) على المجهول، إذ لا فرق بين أن يكون الحَامِلُ إليه الذي أحرم به أو غيره، ثم لفظ الكتاب يقتضى عدم إجزائه لِلصَّبِيِّ فيما إذا لم يَطُف الحَامل مطلقاً، لأنه أطلق الاستثناء، لكن فيه التّفصيل، والخلاف الذي كتبته، والظاهر فيما إذا قَصَد الطَّوافِ للمحمول إجزاؤه للمحمول على ما تقرر، فإذًا لفظ الكتاب محمول على ما إذا لم يقصد ذلك، وفي "الوسيط" ما يشير إليه.
الفصل الخامس في السعي
وقوله: (ولا يكفيهما طواف واحد) معلم بالواو؛ لما مَرَّ من الوجه الثالث، وبالحاء؛ لأن صاحب "التتمة" حكى عن أبي حنيفة -رحمه الله- مثله. قال الغزالي: الفَصْلُ الخَامِس في السَّعْي: وَمَنْ فرَغَ مِنَ الطَّوَافِ اسْتَلَمَ الحَجَرَ وَخَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا وَرَقَى عَلَى الصَّفَا مِقْدَارَ قَامَةٍ حَتَّى يَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الكَعْبَةِ وَيدْعُوَ ثُمَّ يَمْشِي إِلَى المَرْوَةَ وَيَرْقَأَ فِيهِ وَيَدْعُوَ، وَيُسْرِعُ في المَشْيِءِ إِذَا بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المَيْلِ الأَخْضَرِ المُعَلَّق بِفِنَاءِ المَسْجِدِ نَحْوَ سِتَّةِ أَذْرُعِ إِلَى أَنْ يُحَاذِيَ المِيلَيْنِ الأَخْضَرَيْن ثُمَّ يَعُودُ إلَى الهَيْنَّةِ. قال الرافعي: إذا فرغ من الطواف وركعتيه فينبغي أن يعود إلى الحَجَرِ الأسْوَدِ ويستلمه، ليكون آخر عَهْدِهِ بالاستلام، كما افتتح طوافه به، ثم يخرج من باب الصَّفَا وهو في محاذاة الصلع بين الركنين اليمانيين؛ ليسعى بين الصَّفَا والمَرْوَة، "وَيبْدَأُ بِالصَّفَا؛ لأَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- "بَدَأَ بِهِ، وَقَالَ: ابْدَأُوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ" (¬1). ويرقى على الصفَا بقدر قَامَةِ رَجُلٍ، حتى يتراءى له البَيْتُ، ويقع بَصَرُهُ عليه، فإذا رقى عليه استقبل البيتَ وهلَّلَ وكَبَّر وقال: "اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبُرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، اللهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا، وَالْحَمدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلانَا، لاَ إله إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لاَ إِلهَ إِلاَّ الله، وَحْدَه لاَ شَريكَ لَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، وَلاَ نَعْبُدُ إلاَّ إِيَّاهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ". ثم يدعو بما أحَبَّ من أَمْرِ الدِّينِ والدُّنْيا، ثم يعود إلى الذِّكْرِ المذكُورِ ثَانَيًا، ثم يدعو ثم يعود إليه ثالثاً، ولا يدعو (¬2)، وينزل من الصَّفَا ويمشي إلى المَرْوَةِ ويرقى عليها أيضاً بقدر قامة رجل، ويأتي بِالذِّكْرِ والدُّعَاءِ كما فعل على الصَّفَا. ثم أن المسافة بين الجبلين يقطع بعضها مشيًا وبعضَها عَدْواً. وبَيَّنَ الشافعي -رضي الله عنه- عنه ذلك فقال: "ينزل من الصَّفا ويمشي على سَجِيَّةِ مَشْيهِ حتى يبقى بينه وبين المَيْلَ الأَخْضَرِ المعلق بفناء المسجد وركنه قَدْرُ ستة ¬
أَذْرُع، فحينئذ يسرع في المَشْي، ويسعى سَعْياً شديداً، وكان ذلك الميل موضوعاً على متن الطريق في الموضع الذي منه يبتدأ السَّعي إعلاماً، وكان السَّيْلُ يهدمه، فرفعوه إلى أعلى ركن المسجد، ولذلك سمي مُعَلَّقاً، فوقع متاخراَ عن مبتدأ السعي بستة أذرع، لأنه لم يكن موضع أليق منه على الأعلى، ويديم السَّعْيَ حتى يتوسط بين المِيَليْنِ الأخضرين اللذين أحدهما يتصل بفناء المسجد عن يسار السَّاعى، والثاني متصل بدار العَبَّاسِ فإذا حاذاهما عاد إلى سَجِيَّةِ المَشْيِ، حتى ينتهي إلى المَرْوَة. قال القاضي الرّوَيانِي وغيره: هذه الأساس كانت في زمان الشافعي -رضي الله عنه- وليس هناك اليوم دار تعرف بِدَار العبَّاس، ولا ميل أضخر وتغيرت الأسامي. وإذا عاد من المروة إلى الصَّفَا سعى في موضع سَعْيِهِ أولاً، ومشى في مَوْضِع مَشْيهِ، وليقل في سعيه "رَبِّ اغْفرْ وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمْ إنَّكَ أَنْتَ الأَعَزُّ الأكْرَمُ" (¬1) وليكَن من دعائه على الجبلين ما يؤثر عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي بِدِينِكَ وَطَاعَتِكَ وَطَوَعِيَةِ رَسُولِكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِمَّنْ يُحِبُّكَ وَيُحِبُّ مَلاَئِكَتِكَ وُرُسُلكَ وعبَادِكَ الصّالِحِين، اللَّهُمَّ آتِنِي مِنْ خَيْرِ مَا تؤتي عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الأَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ، واجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَاغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ" (¬2) وجميع ما ذكرناه من وَظَائِفِ السعي قولاً وفِعلاً مشهور في الأَخْبَارِ. قال الغزالي: وَالتَّرَقِّي وَالدُّعَاءُ وَسُرْعَةُ المَشْي سُنَنٌ، وَلَكِنَّ وُقُوعَ السَّعْي بَعْدَ طواف ما شَرْطٌ، فَلاَ يَصِحُّ الابْتِدَاءُ بِهِ، فَإِنْ نَسِيَ بَعْدَ طَوَاف القُدُومِ لاَ يُسْتَحَبُّ الإعَادَةُ بَعْدَهُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الطَّهَارَةُ وَشُرُوطُ الصَّلاَةِ بِخِلاَف الطَّوَاف. قال الرافعي: "لِما تكلم في وظائف السَّعْي مخلوطةً واجباتها بسننها، أراد الآن أن يميز بينهما، فمن السنن: الرُّقِي (¬3) على الصَّفَا والمَرْوة، والواجب هو السَّعْيُ بينهما، وقد يتأتى ذلك من غير رُقِي بأن يلصق العقب بأصل ما يسير منه، ويلصق رؤوس أصابع رِجْلَيْهِ بما يسير إليه من الجَبَلَيْنِ. ¬
وعن أبي حَفْصِ بْنِ الوَكِيلِ: أنه يجب الرُّقِيُّ عليهما بقدر قامَةِ رَجُلٍ. لنا: اشتهار السعي من غير رُقِيٍّ عن عثمان وغيره من الصَّحابة -رضي الله عنهم- من غير إنكار. ومنها: الذِّكْر والدّعَاء، فليس في تركهما إلا تَرْك فَضِيلَةٍ وَثَوَابٍ. ومنها: سرعة المشي في المَوْضِعِ المَذْكُورِ، والهينة في البَاقِي كَالرَّمُلِ، والهينة في الطَّوَافِ بالبيت ومنها: المُوَالاةُ فِي مَرَّات السعي، وبين الطواف والسعي، ولا يشترط الموالاة بين الطواف والسعي، بل لو تَخَلَّل بينهما فصلٌ طويلُ لم يقدح، قاله القَفَّالُ وغيره. نعم، لا يجوز أن يتخلل بينهما ركن بأن يطوف لِلْقُدُومِ، ثم يقف بعرفة ثم يَسْعَى، بل عليه إعادة السَّعْي بعد طَوَافِ الإفَاضَةِ، وذكر في "التتمة" أنه إذا طال الفَصْلُ بين مَرَّاتِ السَّعْي، أو بين الطَّوَافِ والسَّعْي ففي إِجْزَاءِ السَّعْي قولان، وإن لم يتخلل بينهما ركن والظاهر: ما سبق. وأما الواجبات فمنها وقوعُ السَّعْي بَعْدَ الطواف، فلو سعى قبل أن يطوف لم يُحْسَب، إذ لم ينقل عن فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَمَنْ بَعْدَه السعي إلا مرتباً على الطَّوَافِ ترتيب السُّجودِ على الرّكُوع، ولا يشترط وقوعه بعد طَوَافِ الرُّكْن، بل لو سعى عقيب طواف القدوم أجزأه، ولا يستحب أن يعيده بَعْدَ طواف الإفَاضَةِ؛ لأن السَّعْي ليس قربة في نفسه كالوقوف، بخلاف الطَّوَافِ، فإنه عبادة يتقرب بِهَا وَحْدَها. وعن الشَّيْخ أَبِي مُحَمَّدٍ: أنه يكره إعادته فضلاً عن عدم الاستحباب. ومنها: الترتيب وهو الابتداء بالصَّفَا لقوله -صلى الله عليه وسلم- "ابْدَأوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ" (¬1) فإن بدأ بالمَرْوَةِ لم يحسب مروره مِنْهَا إِلَى الصَّفَا (¬2). وعن أبي حنيفة أنَّه لا يجب الترتيب فيجوز الابتداء بالمروة. ومنها: العدد، فلا بد من أن يَسْعَى بين الجَبَلَيْنِ سَبْعاً، ويحسب الذِّهَابُ مِنَ الصَّفَا إِلَى المَرْوَةِ مَرَّة، والعَوْدُ مِنْهَا إلى الصَّفَا أخرى، فيكون الابتداء بالصَّفا والخَتْم بالمروة، وذهب أَبُو بَكْر الصَّيْرَفِيُّ إلى أن الذهاب والعود يحسب مرة واحدة؛ لينتهي إلى ما منه بدأ، كالطواف بالبيت، وكما أن في مَسْحِ الرأس يذهب باليدين إلى القَفَا ويردهما ويكون ذلك مرة واحدة، ويروى هذا عن أَبي عبد الرحمن بن بنت الشافعي -رضي الله عنه- وابن الوكيل. لنا: إطباق الحَجِيج على ما ذكرنا من عصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا. ¬
الفصل السادس في الوقوف بعرفة
ولو شك في العدد أخذ بالأقل، وكذلك يفعل بالطّواف، ولو طاف أو سَعَى وعنده أنه أتم العدد وأخبره غيره عَنْ بَقَاءِ شَيْءٍ فالأحب أن يرجع إلى قوله؛ لأن الزيادة لاَ تُبْطِلُهَا، ولو جرى على ما هو جَازِمٌ بِه جَازَ. ولا يشترط فيه الطَّهارة، وستر العورة، وسائر شروط الصلاة كما في الوقوف وغيره من أعْمَالِ الحَجِّ، بخلاف الطواف فإنه صَلاةٌ بالخَبَرِ. ويجوز أن يسعى راكباً كما يجوز أن يطوف راكباً، والأحب الترجل، والنساء لا يسعين السَّعْيَ الشديد، كما لا يَرْمُلْنَ (¬1). وقوله في الكتاب: (ولكن وقوع السعي بعد طواف ما شرط)، لفظ شامل لأنواع الطواف، غير أنه لا يتصور وقوع السَّعْي بعد طَوَافِ الوَدَاعِ، فإن طواف الوداع هو الوَاقِعُ بعد أعمال المَنَاسِك، فإذا بقي السَّعْيُ عليه لم يكن المأتى به طواف الوَدَاع. واعلم أن السَّعْي ركن في الحَجِّ والعمرة، لا يحصل التحلل دُونَه (¬2)، ولا يُجْبَرُ بِالدَّمِ، وبه قال مَالِك. وعند أبي حنيفة -رحمه الله- يُنْجَبِرُ. وعن أحمد روايتان؛ أصحهما: مثل مذهبنا. قال الغزالي: الفَصْلُ السَّادِسُ في الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ: وَالمُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْطُبَ الإمَامُ اليَوْمَ السَّابعَ مِنْ ذي الحِجَّةِ بِمَكَّةَ بَعْدَ الظُّهْرِ خُطْبَةُ وَاحِدَةً ويَأْمْرَهُم بالغُدُوِّ إِلَى مِنىً وَيُخْبِرَهُم بَمَناسِكِهِم وَيَخْرُجَ اليَوْمَ الثَّامِنَ وَيَبيتَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ بِمنىً ثُمَّ يَخْطُبَ بَعْدَ الزَّوَال بِعَرَفَةَ خُطْبَةً خَفِيفَةً وَيَجْلِسَ ثُمَّ يَقُومَ إِلَى الثَّانِيَة، وَيَبْدَأَ المُؤَذِّنُ بِالأَذَانِ حَتَّى يَكُونَ فَرَاغُ الإمَامِ مَعَ فَرَاغِ المُؤَذِّنِ، ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهرَ وَالعَصْرَ جَمِيعاً. قال الرافعي: نفتتح الفصل بذكر شيئين: أحدهما: أن الإمام إن لم يحضر بنفسه، فالمستحب أن لا يخلي الحجيج عن منصب يكون أميراً عليهم؟ ليقفوا دُونَ رَأيهِ، ويطيعوه فيما يَنُوبُهُمْ، وَقَدْ بَعَثَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَبَا بَكْرٍ -رضي الله عنه- أَمِيراً عَلَى الحَجِيجِ، فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ مِنَ الهِجْرةِ" (¬3). ¬
والثاني: أن الحجيج إن سَارُوا من المِيقَات إلى المَوْقِفِ قبل أن يدخلوا مَكَّة كما يفعلونه اليوم فاتتهم خُطْبةُ اليومِ السَّابعِ، والترتيب الذي ذكره في الفَصْل مصوّر في حَقِّ من يدخل مَكَّة قبل الوقوف. إذا عرفت ذلك فنقول: مَن كَانَ مِنَ الدَّاخِلِينَ قبل الوقوف مُفْرِداً بالحج، أو قارناً بين النسكين، أقام بعد طَوَافِ القدوم إلى أن يخرج إلى عَرَفَةَ، ومن كان متمتعاً طَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ وَتَحَلَّلَ مِنْ عُمْرَتِهِ، ثم يحرم بالحَجِّ من مكَّة، ويخرج على مَا مَرَّ في صورة التمتع، وكذلك يفعل المقيمون بمكة، ويستحبُّ للإمام أو لمنصوبه أن يَخْطُبَ بِمَكَّةَ في اليوم السابع من ذِي الحَجَّة بعد صَلاَةِ الظُّهْر خطبةً وَاحِدَةً، يأمر الإمام النَّاس فيها بالغُدُوِّ إلى مِنىً، ويخبرهم بما بين أيديهم من المَنَاسِكِ (¬1). وعن أحمد أنه لا يخطب اليوم السَّابع. لنا ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "خَطَبَ النَّاسَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْويَّةِ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ، وَأَخْبَرَهُمْ بِمَنَاسِكَهُمْ" (¬2). وينبغي أن يأمر في خطبته المتمتعين بأن يطوفوا قبل الخُروج لِلْوَدَاعِ، فلو وافق اليَوْمُ السَّابعُ يومَ الجُمُعَةِ خطب للجمعة وَصَلاَّهَا، ثم خَطَبَ هذه الخُطْبَة، فإن السُّنة فيها التأخير عن الصَّلاة، ثم يخرج بهم اليوم الثامن وهو يوم التَّرْوَية إلى مِنىً، ومتى يخرج؟ المشهور أنه يخرج بهم بَعْدَ صلاةِ الصُّبْحِ بحيث يوافون الظهر بمِنَى. وحكى القَاضِي ابْنُ كِجٍّ أن أَبَا إِسْحَاقَ ذكر قولاً أنهم يصلون الظُّهرَ بِمَكَّةَ، ثم ¬
يخرجون وإذا خرجوا إلى مِنَى باتوا بها لَيْلَةَ عرفَةَ، وصلُّوا مع الإمام بِهَا الظُّهْرَ، والعَصْرَ والمغرَب، والعِشَاء، والصُّبْحَ يَوْمَ عَرَفَةَ على المَشْهُورِ، وعلى ما ذكره أبو إسْحَاقَ يصلون بها ما سوى الظهر، والمبيت ليلة عرفة بِمِنىً هيئة وليس بِنُسُكٍ يُجْبَرُ بالدَّمِ، والغرض منه الاستراحة للسَّيْرِ من الغد إلى عرفَةَ من غَيْرِ تَعَبٍ، وما ذكرناه من الخُروجِ بعد صَلاَة الصُّبح أو التَّرْوِيَةِ فذلك في غَيْرِ يوم الجُمُعَةِ، فأَما إذا كان يوم التَّرْوِيةِ يوَم الجُمْعَةِ فالمستحب الخروجُ قَبْلَ طلوع الفَجْرِ؛ لأن الخروجَ إلى السفر يَومَ الجمعة إلى حيث لا تُصَلِّى الجمعة حَرَام أو مكروهٌ على مَا مَرَّ في موضعه، وهم لا يُصَلّونَ الجُمُعَةَ بِمِنىً، وكذا لا يصلونها بِعَرَفةَ لو كان يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمَ الجُمُعَةِ؛ لأن الجُمُعَةَ إنما تقام في دَارِ الإِقَامَةِ. قال الشافعي: -رضي الله عنه- "فإن بني بها قَرْيَةٌ واستوطنها أَرْبَعُونَ من أَهْلِ الكَمَال أقاموا الجُمُعَةَ والنَّاس معهم". ثم إذا طَلَعت الشَّمْس يوم عرفة عَلَى شِبْر سَاروا إلى عرفات، فإذا انتهوا إلى نَمِرَة ضُرِبَت قُبَّةٌ للإمام بِهَا، روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "مَكَثَ بمنىً حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ رَكَبَ وَأَمَرَ بَقِبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ أَنْ تُضْرَبَ لَهُ بِنَمِرَةٍ فَنَزَلَ بِهَا" (¬1) فإذا زالت الشَّمْسُ خطب الإمام خُطْبَتَيْنِ، يُبَيِّنُ لَهُمْ في الأولى مَا بَيْنَ أيديهم من المَنَاسِك، وُيحَرِّضُهُمْ على إكثار الدّعَاء والتَّهْلِيلِ بالمَوْقِفِ، فإذا فرغ منها جَلَسَ بقدر سُورة الإِخْلاَص، ثم يقوم إلى الخطبة الثانية، والمؤذن يأخذ في الأذان، ويخفف الخُطْبَة بحيث يفرغ منها، مع فراغ المؤذن من الإقامة، على ما رواه الإمام وغيره، ومن الأَذان على ما رواه صاحب "التهذيب" وغيره، قال هؤلاء: ثم ينزل فيقيم المؤذن وَيُصَلِّي بالنَّاسِ الظُّهْرَ، ثم يقيمون فَيُصَلِّي بهم العَصْر، على سبيل الجَمْعِ، هكذا فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حَجَّة الوَدَاعِ (¬2). وعند أبي حنيفة -رحمه الله- لا إقامة لِلْعَصْرِ ويجعل الأذان قبل الخُطْبَةِ الأُولَى كما في الجُمُعَةِ وإذا كان الإمام مسافراً فالسنة له القَصْر، والمَكّيُون والمقيمون حَوَاليها لا يَقْصِرُونَ خلافاً لِمَالِكِ. وليقل الإمام إذا سلم "أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ، فَإنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ"، كما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬3) والقول في أن الجمع يختص بالمُسَافِرين من الحَجِيج أو لاَ يختص قدَّمْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ. ¬
فإن قلت: نمرة التي ذكرتم النزول بها هل هي من حَدِّ عَرَفَة أَمْ لا؟ وهل الخطبتان والصَّلاتَانِ بها أم بموضع آخر؟ قلنا: أما الأول: فإن صَاحِب "الشامل" وطائفة قالوا بأن نَمِرَةَ (¬1) موضعٌ من عَرَفَاتٍ، لكن الأكثرين نَفوا كونها من عَرَفَاتٍ. ومنهم أبُو القَاسِم الكَرَخِي، والقَاضِي الرّوَياني، وصاحب "التهذيب" وقالوا: إنها موضعٌ قريبٌ مِنْ عَرَفَةَ. وأما الثَّانِي فإيراد موردين يشعر بأن الخطبتين والصلاتين بها، لكن رواية الجمهور أنهم ينزلون بها حَتَّى تَزُولُ الشَّمْسُ، فإذا زالت ذَهَبَ الإِمَامُ بهم إلى مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وخَطَبَ وَصلَّى فيه، ثم بعد الفراغ من الصّلاة يتوجهون إلى الموقف، وهل المَسْجِدُ مِنْ عَرَفَةَ؟ سنذكره من بعد. وإذا لم تُعَدّ البقعة من عرفة فحيث أطلقنا أنهم يجمعون بين الصَّلاتَين بعرفة عَنَيْنَا به المَوْضِعَ القَرِيبَ مِنْهَا. واعلم أنه يسن في الحَجِّ أربع خطب: إحداها: بمكة في المَسْجِدِ الحرام اليوم السَّابع من ذِي الحَجّة. والثانية: بعرفة، وقد ذكرناهما. والثالثة: يوم النحر. والرابعة: يوم النَّفْرِ الأَوَّل، ويخبرهم في كل خطبة عما بين أيديهم من المَنَاسِكِ وأحكامها إلى الخُطْبَة الأُخْرَى، وَكُلُّهَا أَفْرَاد، وبعد الصلاة إلا يَوْمَ عَرَفَةَ، فإنه يخطب خُطْبَتَيْنِ قَبْلَ الصَّلاَةِ. وقوله في الكتاب: (ويبيت ليلة عرفة بمنىً، ثم يخطب بعد الزوال لعرفة) معناه: أنه يغدو منها إلى عَرَفاتٍ ويخطب، ولفظ الكتاب يقتضي كون الموضع الذي يخطب فيه من عَرَفَة، وفيه ما قد عرفته. وقوله: (خطبة خفيفة) إنما ذكر ذلك لأن المستحب فيها الخِفَّة أيضاً، وإن لم تبلِغ خفتها خِفَّة الثَّانِية؛ لما روي أن سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ قَالَ للحجاج: "وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُصِيبَ السُّنَّةَ فَاقْتَصِرْ الخُطْبَةَ وَعَجِّلْ الْوُقُوفَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا صَدَقَ" (¬2). ¬
وقوله: (ويجلس) أي: بعدها. وقوله: (ثم يقوم إلى الثانية ويبدأ المؤذن بالأذان). وأعلم: قوله (ويبدأ) بالحاء؛ لما ذكرنا أن عنده يُقَدَّمُ الأَذَان. قال الغزالي: ثُمَّ يُقْبِلُونَ عَلَى الدُّعَاءِ إلَى وَقْتِ الغرُوبِ وَيُفِيضُونَ بَعْدَ الغُرُوب إلَى مُزْدَلِفَة يُصَلُّونَ بِهَا المَغْرِبَ وَالعِشَاءَ. قال الرافعي: السنة لِلْحَجِيج بَعْدَ الصَّلاَتيْنِ أن يَقِفُوا عند الصَّخَرَاتِ ويستقبلوا القِبْلَة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- "وَقَفَ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ إِلَى الصَّخْرَاتِ" (¬1). وهل الوقوفُ رَاكِباَ أَفْضَلُ؟ فيه قولان: أحدهما: لا، بل سواء، قاله في "الأم". وأظهرهما: وبه قال أحمد: "أَنَّ الْوُقُوفَ رَاكِبًا أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-" (¬2). وليكون أقوى الدُّعاء، قاله في "الإملاء" والذين. ويذكرون الله تعالى ويدعونه إِلَى غروب الشمس، ويكثرون من التهْلِيلِ، روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُهُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحْدُهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ" (¬3). وأضيف إليه (¬4) "لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُوراً، وَفِي سَمْعِي نُوراً، وَفِي بَصَرِي نُوراً، اللَّهُمَّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي"، فإذا غربت الشَّمْس دفعوا من عَرَفَات منصرفين إلى مُزْدَلِفَةَ، وَيُؤَخِّرُونَ المَغْرِبَ إلى أن يصلوها مع العِشَاء بمزدلفة، وليكن عليهم في الدَّفْع السكينة والوَقَار؛ لكيلاَ يتأذى البعض بمصادمة البعض، فإن وجد بعضهم فرجة أسْرع، وروى أنه -صلى الله عليه وسلم- "كانَ يَسِيرُ حِينَ دَفع فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الْعَنَقَ فَإذَا وَجَدَ فَجْوَةً (¬5) " نَصَّ (¬6). فإذا حصلوا بمزدلفة، جمع الإمام بهم بين المَغْربِ والعِشَاءِ، وحكم الأذان والإقامة لَهُمَا قَدْ مَرَّ في موضعه. ¬
ولو انفرد بعضهم بالجَمْعِ بعرفة أو بمزدلفة أو صَلى إحدى الصَّلاتين مع الإمام والأخرى وَحْدَهُ جَازَ، ويجوز أن يُصَلِّيَ المغربَ بعرفة أو في الطريق. وقال أبو حنيفة: لا يجوز، ويجب الجَمْعُ بمزدلفة، وذكر الشَّافِعِي -رضي الله عنه- أنهم لا يتنفلون بين الصَّلاتين إذا جَمَعُوا ولا على إثْرِهما، أما بينهما فَلِرِعَايَةِ الموالاة، وأما على إثْرِهِمَا فقد قال القاضي ابْنُ كِجٍّ في الشرح: لا يتنفل الإمام؛ لأنه متبوع فلو اشتغل بالنوافل لاقتدى به الناس وانقطعوا عن المَنَاسك، فليشتغل بِجَمْعِ الحَصَا وغيره من المَنَاسِك. وأما المأموم ففيه وجهان: أحدهما: لا يتنفل أيضاً كالإمام. والثاني: أن الأمر وَاسِعٌ له؛ لأنه ليس بمتبوع، وهذا في النوافل المطلقة دون الرَّوَاتِبِ، والله أعلم. ثم أكثر الأصحاب أطلقوا القول بأنه يؤخرهما إلى أن يأتي المُزْدَلِفَة، ومنهم من قال ذلك ما لم يَخْشَ فَوَاتَ وَقْتِ اخْتِيَار العِشَاء فإن خَافَ لمكثهم في الطريق بِصَدّ أو غيره لَمْ يُؤَخِّرْ، وجمع بالنَّاسِ في الطَّرِيقِ، والمستحب أَنْ يَنْصَرِفُوا مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمزْدَلِفَةِ فِي طَرِيقِ الْمَأزَمَيْنِ، وهو الطريق بين الجبلين، اقتداءَ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬1) والصَّحابة -رضي الله عنهم-. واعلم أن من مكَّة إلى مِنىً فَرْسَخَانِ، ومن مِنىً إلى عَرَفَاتٍ فَرسَخَانِ، ومزدلفة مُتَوَسِّطَةُ بين مِنىً وَعَرَفَاتٍ، منها إلى كل واحدة منهما فرسخاً، ولا يقفون بها في مسيرهم مِنْ منىً إلى عَرَفَات. وقوله في الكتاب: (ثم يقبلون على الدعاء إلى وقت الغروب)، ليس لإخراج وَقْتِ الغروب عن الحَدِّ، بل يَدْعُونَ عِنْدَه أيضاً. قال الغزالي: وَالوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيهِ اسْمُ الحُضُورِ في جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ عَرَفَةَ وَلَوْ في النَّوْمِ (و) وإنْ سَارَتْ بِهِ دَابَّتُهُ، وَلاَ يَكْفِي حُضُورُ المُغْمَى عَلَيْهِ. وَوَقْتُ الوُقُوفِ مِنْ زَوَالِ يَوم عَرَفَةَ إِلَى طُلُوعِ الفَجْرِ مِنْ يَوْم العِيدِ، وَلَوْ أَنْشَأَ الإِحْرَامَ لَيْلَةَ العِيدِ جَازَ (و)؛ لأَنَّ الحَجَّ عَرَفَةُ وَوَقْتُهُ بَاقٍ، وَقِيلَ: لاَ يَجُوز إِلاَّ بِالنَّهَارِ، وَلَو فَارَقَ عَرَفَةَ نَهَاراً وَلَمْ يَكُنْ حَاضِراً عِنْدَ الغُرُوبِ وَلاَ عَادَ بِاللَّيْلِ تَدَاركُاً فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ قَوْلاَن: حَاصِلهُمَا ¬
أَنَّ الجَمْعَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ، وَلَوْ وَقَفُوا اليَوْمَ العَاشِرَ غَلَطًا في الهِلاَلِ فَلاَ قَضَاءَ، وَلَو وَقَفُوا اليَوْمَ الثَّامِنَ فَوَجْهَانِ؛ لِأنَّ هَذَا الغَلَطَ نَادِرٌ. قال الرافعي: الغرض الآن الكلام في كيفية الوُقوف ومكانِه وَزَمَانِه. أما الكيفية بالمعتبر الحُضُور بشرط أن يكون أهلاً للعبادة، وفيه صور: الأولى: لا فرق بين أن يحضرها ويقف وبين أن يَمُرّ بِهَا؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- "الْحَجُّ عَرَفَةُ، فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الحَجِّ" (¬1). وذكر القَاضِي ابْنُ كِجٍّ -رحمه الله- أن ابْنَ القَطَّانِ -رحمه الله- جعل الاكتفاء بالمرور المجرد على وجهين. الثانية: لا فرق بين أن يحضر وهو يعلم أنها عَرَفَة، وبين أن لا يعلم، وعن ابْنِ الوَكِيلِ أنه إذا لم يعلم لم يجزه. الثالثة: لو أحضرها نَائِماً، أو دخلها قَبْلَ وقت الوُقوف وَنَامَ حتى خرج الوقت أجزأه، كما لو بقي نَائِماً طول نَهَارِهِ أجزأه الصَّوْمُ عَلَى المَذْهَبِ، وفيه وجه: أنه لا يجزئه، كما لو وقف مغمىً عليه، قال في "التتمة": والخلاف في هذه الصورة والتي قبلها مبني على أن كُلَّ رُكْنٍ من أركان الحج هل يجب إفراده بنيته لانفصال بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ أم يكفيها النية السَّابقَة؟ ولو فرض في أشواط الطواف أو بعضها النَّوْم لي هيئة لا تنقض الوضوءَ فقد قال الإمام: هذا يقرب من الخلاف في صَرْفِ الطَّوَافِ إلى غير جِهَةِ النُّسُكِ، ويجوز أن يقطع بوقوعه موقعه. الرابعة: لو حضر وهو مغمىً عليه لم يجزه؛ لفوات أهلية العبادة؛ ولهذا لا يجزئه الصَّوْم إذا كان مغمى عليه طول نهاره، وفيه وجه: أنه يجزئه اكتفاءً بالحُضُورِ، والسكران كالمغمى عليه، ولو حضر وهو مجنون لم يجزه، قاله في "التتمة"، لكن يقع نَفْلاً كحج الصّبي الذي لا تمييز له، ومنهم من طرد في الجُنونِ الوجهَ المنقول في الإِغْمَاء. الخامسة: لو حضر بعرفَةَ في طَلَبِ غَرِيمٍ أو دابة نَادَّةٍ (¬2) كَفَاه، قال الإمام: ولم ¬
يذكروا هاهنا الخلاف الذي سبق في صَرْفِ الطواف عن النُّسكِ إلى جِهَة أخْرَى، ولعل الفرق أن الطَّواف قربةٌ برأسها بخلاف الوُقُوفِ، قال: ولا يمتنع طرد الخلاف فيه. وأما المكان ففي أي مَوْضِعٍ وقف من عَرَفَة أجزأه، روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "كُلُّ عَرَفَةٍ مَوْقِفٌ" (¬1). وبين الشافعي -رضي الله عنه- حَدَّ عرفة فقال: "هي ما جاوز وَادِي عَرَنَةَ إلى الجِبَالِ القَابِلَةِ مما يلي بساتين بَنِي عامر" وليس وادي عرنة من عرفة وهو على منقطع عرفة مما يلي منى وصوب مكة، روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ "وَارْتَفِعُوا عَنْ وَادِي عُرَنَة" (¬2). ومسجد إبراهيبم عليه السلام صَدْرَه من عرنة، وآخره من عَرَفَاتٍ، وبميز بينهما بِصَخَرَاتٍ كبار فُرِشَتْ هُنَاكَ، فمن وقف في صَدْرِه فَلَيْسَ واقفاً بعرفة، قال في "التهذيب": وثم يقف الإمام للخطبة والصَّلاة وجبل الرحمة في وسط عرصة عَرَفَاتٍ، وموقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنده معْرُوف. وأما الزمان ففيه مسألتان: إحداهما: وقت الوقوف يدخل بزوال الشَّمْسِ يَوْمَ عَرَفَةَ، ويمتد إلى طُلُوعِ الفَجْرِ يوم النَّحْرِ، وقال أحمد: يدخل وقته بطلوع الفجر يَوْم عَرَفَة؛ لما روى عن عروة بن مضرس الطَّائي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ صَلَّى مَعَنَا هذِهِ الصلاة يَعْنِي الصُّبْحَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَتَى عَرَفَاتٍ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ" (¬3). لنا: اتفاق المسلمين من عصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ" (¬4)، ولو جاز قبله لما اتفقوا على تَرْكِهِ، وبهذا يستدل على أن المراد من الخَبَرِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ. إذا تقرر ذلك فلو اقتصر على الوقوف ليلًا كان مدركاً للحج على المَذْهَب المَشْهُورِ. ¬
ونقل الإمام -رحمه الله- عن بعض التَّصَانِيفِ فيه قولين واستبعده. وعن شيخه أن الخِلاَفَ فيه مخصوصٌ بما إذا أنشأَ الإحرام ليلة النحر، فإذا لخص ذلك خرج منه ثلاثة أوجه كما ذكر في "الوسيط". أصحها: أن المقتصر على الوقوف ليلاً مدركٌ، سواء أنشأَ الإحرام قبل لَيْلَةِ العيدِ أَوْ فِيهَا، وكلاهما جائز. والثاني: أنه ليس بُمْدرِكٍ على التقديرين. والثالث: أنه مُدْرِكٌ بشرط تقديم الإحْرَامِ عَلَيْهَا، ولو اقتصر على الوقوف نهاراً وأفاض قبل الغُروب كان مدركاً وإن لم يجمع بين الليل والنَّهار في الوقوف، وقال مالك: لا يكون مدركاً. لنا: خبر عُرْوَة الطَّائِي، وأيضاً فإنه لو اقتصر على الوقوف ليلاً كان مدركاً، فكذلك هَاهُنا، وهل يُؤْمَرُ بإراقة دَمٍ؟ نظر إن عاد قبل الغُرُوب، وكان حاضراً بها حين غربت الشَّمْسُ فَلاَ، وإن لم يَعُدْ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ فَنَعَمْ، وهل هو واجب أو مستحب؟ أشار في "المختصر" و"الأم" إلى وجوبه، ونص في "الإملاء" على الاستحباب. وللأصحاب ثلاثة طرق رَوَاها القَاضِي ابْنُ كَجٍّ. أصحها: أن المسألة على قولين: أحدهما -وبه قال أبو حنيفة وأحمد -رحمهما الله-: وجوبُ الدَّمِ؛ لأنه ترك نسكاً (¬1)، وقد روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ تَرَكَ نُسْكاً فَعَلَيْهِ دَمٌ" (¬2). والثاني: أنه مستحب، قوله -صلى الله عليه وسلم- في خبر عروة: "فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ" ولأنه أدرك من الوُقُوفِ ما أجزأه، فلم يجب الدَّم، كما لو وقف لَيْلاً، وهذا أصَحُّ القولين، قاله المَحَامِلِيُّ والرّويَانِي -رحمهما الله- وغيرهما، وفي "التهذيب" أنه القولُ القَدِيمُ، فإن ثبتت المقدِّمَتَانِ فالمسألة مما يُفْتَى فيها على القولِ القديم، لكن أبو القَاسِم الكَرَخِيّ -رحمه الله- ذكر أن الوجوب هو القديم، -والله أعلم-. والطريق الثاني: عن أبي إسحاق أنه إن أفاض مع الإمام فهو مَعْذُور، لأنه تابع، وإن انفرد بالإفاضة ففيه قولان: ¬
والثالث: نفي الوجوب والجزم بالاستحباب مطلقاً. وإذا قلنا: بالوجوب فلو عاد ليلًا فوجهان: أظهرهما: أنه لا شَيْءَ عليه، كما لو عاد قَبْلَ الغُرُوبِ وصَبَرَ حتى غَرَبَتِ الشَّمْسُ. والثاني: يجب، ويحكى هذا عن أَبِي حَنِيفَةَ وأحمد -رحمهما الله- لأن النُّسُكَ هو الجمع بين آخر النَّهَارِ وأول اللَّيْلِ بِعَرَفَةَ. المسألة الثانية: إذا غلط الحَجِيج فوقفوا غير يوم عرفة: فإما أن يغلطوا بالتأخير أو بالتقديم. الحالة الأولى: أن يغلطوا بالتأخير بأن وقفوا اليوم التَّاسِع بعد كمال ذِي القِعْدَة ثلاثين، ثم بان لهم أن الهِلاَل كان قد أهل ليلة الثلاثين، وأن وقوفهم وقع في اليوم العَاشِرِ، فيصح الحَجِّ، ولا يلزمهم القضاء، لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "حَجُّكُمْ يَوْمَ تَحِجُّونَ" (¬1). وروى أيضاً أنه قال: "يَوْمُ عَرَفَةَ الْيَوْمُ الَّذِي تُعْرِّفُ فِيهِ النَّاسُ" (¬2)، ولأنهم لو تكلفوا القضاء لم يأمنوا مثله في القَضَاءِ، ولأن في إلزام القضاء مَشَقَّةَ عَظِيمَة؛ لما فيه من إحباط قَطْع المسَافَاتِ الطَّويلة، وإنفاق الأموال الكَثِيرة، وهذا إذ كان في الحَجِيج كثرة على المعتاد، فإن قَلُّوا على خلاف العادة أو لحقت شِرْذِمَةٌ يوم النحر فظنت أنه يوم عرفة، وأن النَّاس قد أفاضوا فوجهان: أحدهما: أنه لا قضاء عليهم أيضاً؛ هم لا يأمنون مثله في القضاء. وأصحهما: يجب؛ إذ ليس فيه مَشَقَّةٌ عَامة، وإذا لم يجب القَضَاء فلا فرق بين أن يتبين الحال بعد يوم الوقوف، أو في ذلك اليوم، وهم وقوفٌ بعد الزَّوَالِ، وإن تبين قبل الزَّوَالِ فوقفوا بعده، فقد قال في "التهذيب" المذهب أنه لا يُجْزِئُهُمُ، لأنهم وقفوا على يقين الفوات وهذا غير مُسَلَّم؛ لأن عامة الأصحاب ذكروا أنه لو قامت البينة على رؤية الهِلاَل ليلةَ العَاشِرِ وهم بمكة لا يتمكنون من حُضُورِ الموقف باللَّيْلِ يقفون من الغَدِ ويحتسب لهم، كما لو قامت البينة بعد غروب اليوم الثلاثين من رَمَضَانَ على رؤية الهلال يوم الثلاثين نَصّ أنهم يصلون من الغد للعيد، فإذا لم نحكم بالفوات لقيام الشَّهَادَةِ ليلة العَاشِر لزم مثله في اليوم العاشر، ولو شهد واحدٌ أو عدد برؤية هِلاَل ذِي ¬
الحَجَّة وردت شهادتهم، لزمهم الوقوف اليوم التاسع عندهم، وإن كان النَّاس يقفون في اليوم بعده كمن شهد برؤية هلال رمضان فردت شهادته يلزمه الصَّوْمُ. ولو وقفوا اليوم الحادي عشر لم يصح حَجُّهُمْ بِحَالٍ. الحالة الثانية: أن يغلطوا بالتقديم ويقفوا اليوم الثَّامن، فينظر أن تبين لهم الحال قبل فوات وَقْتِ الوقوف لزمهم الوقوف في وقته، وإن تبين بعده فوجهان: أحدهما: أنه لا قضاء كما في الغَلَطِ في التأخير. وأصحهما: عند الأكثرين: وجوب القضاء، وفرقوا من وجهين: أحدهما: أن تأخير العِبَادَةِ عن الوقت أقرب إلى الاحتساب من تقديمها عَلَى الوقت. والثَّانِي: أن الغلط بالتقديم يمكن الاحتراز عنه، فإنه إنما يقع الغلط في الحساب أو الخَلَل في الشّهود الذين شهدوا بتقديم الهِلاَل والغلط بالتأخير قد يكون للتغيم المانع من رؤية الهِلاَل، ومثل ذلك لا يمكن الاحتراز عنه، ولو غلطوا في المَكَانِ فوقفوا بِغَيْرِ عرفَةَ لم يصح حُجُّهُمْ بِحَالٍ. ونتكلم بعد هذا في لفظ الكتاب خاصة. قوله: (والواجب من ذلك ما ينطلق عليه اسم الحضور في جزء من أجزاء عرفة) فيمن تعرض للفعلين الأولين كبقية الوقوف ومكانه. وقوله: (ولو في النوم) معلم بالواو، وكذا قوله: (وإن سارت به دابته). وقوله: (ولا يكفي حضور المغمى عليه) لما مر. وقوله: (من الزَّوَال) مُعَلَّمٌ بالألف؛ لما حكيناه عن أحمد، وبالواو؛ لأن القاضي ابْنُ كَجٍّ روى عن أبِي الحُسَيْنِ وجهاً أنه لو وقف في أول الزوال وانصرف. لم يجزئه بل يجب أن يكون الوقوف بعد مُضِيِّ زَمَانِ إمكان صَلاَةِ الظُّهْرِ من أول الزَّوَالِ. وقوله: (ولو أنشأ إحْرَامَهُ لَيْلَةَ العِيدِ جاز) والمسألة مكررة قد ذكرها مرة في فَصْلِ الميقات الزَّمَانِي، واقتصر هَاهُنَا على ذكر الوَجْهِ الأَصَحّ، وهو الجواز. وقوله: (وقيل: لا يجوز إلا بالنهار) يعني: الوقوف، وكأنه فرع جواز إنشاء الإحْرَام ليلة العِيد على امتداد وَقْتِ الوقوف إلى طُلُوعِ الفَجْرِ، ثم ذكر الوَجْه البعِيدَ وهو أنه لا يمتد، وليست الليلة وقتاً له، ولو حمل قوله: (وقيل: لا يجوز) على أنه لا يجوز إنشاء الإحرام فيها لكان تَعَسُّفاً؛ لأنه قال: (إلا بالنهار) والإحرام لا تعلق له بالنَّهار، وأيضاً فإن ذلك الوجه قد صار مذكوراً في فَصْلِ المواقيت، فالحمل على فائدة جديدة أولى. وقوله: (ولا عاد بالليل تداركاً) فيه تقييد للقولين بما إذا لم يعد بالليل إشارة إلى أنه لو عاد لم يجب الدمُ جزماً، وهو الوجه الأصَحِّ، ويجوز أن يُعَلَّم بالواو؛ للوجه
الفصل السابع في أسباب التحلل
الثاني، وبالحاء والألف أيضاً، لما سبق، ويجوز إعلام قوله: (قولان) بالواو، للطريقين المانعين من إطلاق الخلاف. وقوله: (حاصلهما أن الجمع بين الليل والنهار هل هو واجب؟) أراد به ما ذكره الإمام أن القولين في وجوب الدَّمِ يلزم منهما حصول قولين في وجوب الجمع بين الليل والنهار في الوقوف؛ لأن ما يَجِب جَهْرُهُ من أعمال الحَجِّ لا بد وأن يكون وَاجباً، لكن في كلام الأصحاب ما ينازع فيه؛ لأنَّ منهم من وجه قول عدم وجوب الدَّم بأن الجمع ليس بِوَاجِبٍ، فلا يجب بِتَرْكِهِ الدَّمُ، فقدر عدم وجوب الجمع متفق عليه. الفَصْلُ السَّابعُ فِي أَسْبَابِ التَّحَلّلِ قال الغزالي: فَإذَا جَمَعَ الحَجِيجُ بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ بَاتُوا بِهَا، ثُمَّ ارْتَحَلُوا عِنْدَ الفَجْرِ، فَإذَا انْتَهُوا إلَى المَشْعَرِ الحَرَامِ وَقَفُوا وَدَعَوْا، وَهِذِهِ سُنَّةٌ، ثُمَّ يَتَجَاوَزُونَهُ إلَى وَادِي مُحَسِّرِ فَيُسْرِعُونَ بِالمَشْيِ فَإذَا وَافَوْا مِنىً بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ رَمَوْا سَبْعَ حَصَيَاتٍ إلَى الجَمرَةِ الثَّالِثَةِ كَبَّرُوا مَعَ كُلِّ حَصَاةِ بَدَلاً عَنِ التَّلْبِيَةِ، ثُمَّ يَحْلِقُونَ وَينْحَرُونَ وَيَعُودُونَ إلَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الرُّكْنِ، ثُمَّ يَعُودُونَ إلَى مِنىً لِلرَّمْيِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. قال الرافعي: الحجيج يفيضون بعد غروب الشَّمْسِ يوم عَرَفَةَ إلى مُزْدَلِفَةَ، فإذا انتهوا إليها جمعوا بين الصَّلاتين، وباتوا بها، وليس هذا المبيت بِرُكْنٍ، خلافاً لأبي عَبْدِ الرحمنِ ابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه- وأَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ من أصحابنا -رحمهم الله-؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ تَرَكَ المبيت بِمُزْدَلِفَةَ فَلاَ حَجَّ لَهُ" (¬1). لنا ما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْحَجُّ عَرَفَةَ، فَمَنْ أَدْرَكَهَا فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ" (¬2). ثم هو نسكٌ مجبورٌ بِالدَّمِ في الجُمْلَةِ، وتفصيله أنه إن دفع منها ليلًا، نظر إن كان بعد انتصاف اللَّيْلِ فلا شيء عليه معذوراً كان أو غير معذور: "لأَنَّ سَوَدَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ أَفَاضَتَا فِي النِّصْفِ الأَخيرِ بِإِذْنِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَأْمُرْهُمَا بِدَمٍ وَلاَ النَّفَرَ الَّذِينَ نَفَرُوا مَعَهُمَا" (¬3). ¬
وعن أبي حنيفة: أن غير المعذور يلزمه الدَّم إن لم يعد ولم يقف بعد طُلُوعِ الفَجْرِ، وإن دفع قبل انتصاف الليل وعاد قبل طلوع الفجر فلا شيء عليه أيضاً، كما لوَ دفع من عرفة قبل الغروب وعاد، وإن لم يعد أو ترك المبيت أصلاً أراق دماً، (1) وهل هو واجب أو مستحب؟ فيه طرق: أظهرها: أنه على قولين كما ذكرنا في الإفاضة من عَرَفَة قبل غروب الشمس. وعن أحمد: روايتان كالقولين، وعن مالك هو وَاجِبٌ. وقال أبو حنيفة -رحمه الله- لا اعتبار بالمبيت، وإنما الاعتبار بالوقوف بالمزدلفَةَ بَعْدَ طلوعِ الفَجْرِ، فإذا تركه لَزِمَهُ دَمٌ. والطريق الثاني: القَطْعَ بالاسْتِحْبَابِ. والثالث: القَطْعُ بالإِيجَاب، وحمل نصه على الاستحباب على ما إذا وقع بعد انتصاف الليل. يحكى هذا عن القاضي أبي حامد (¬2). والأولى تقديم النِّساء والضَّعَفَةِ بعد انتصاف الليل إلى منى، روى عن ابْنِ عباس -رضي الله عنهما- قال: "كُنْتُ فِيمَنْ قَدَّمَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ ضَعَفَةِ أَهْلِهِ إِلَى مِنى مِنَ المُزْدَلِفَةِ" (¬3). وغير الضعفة يلبثون حتى يُصَلُّوا الصُّبْحَ بِهَا، ويغلسون بالصَّلاة، والتغليس هاهنا أشد استحباياً، وينبغي أن يأخذوا مِن المُزْدَلِفَة الحَصَى لِلرَّمْي؛ لأن بها جبلاً في أحجاره رخاوة، وليكونوا متأهبين للرمي، فإن السُّنَّة أن لا يَشْتَغِلُوا عَنه بشيء إذا انتهوا إلى مِنًى، ولو أخذوا من مَوْضِعٍ آخر جَازَ، لكن يكره أخذُهُ مِنَ المَسْجِدِ، لأنه فرشه، ومن الحش لنجاسته، وعن المرمى لما قيل:"إِنَّ مَن يُقْبَلُ حَجُّهُ يُرْفَعُ حَجَرُهُ وَمَا يَبْقَى فَهُوَ مَردُودٌ". وكم يأخذون منها؟ قال في "المفتاح": سبعين حَصَاة، ليرمي يوم النَّحْرِ وأيامَ التَّشْرِيقِ على ما سَنُفَصِّلْهُ، وهذا ظَاهِرُ لَفْظِ "المختصر"، وقال الأكثرون: سَبْع حَصَيَاتٍ، ليرمى يوم النَّحْرِ، وحكوه عن نصه في موضع آخر، وجعلوه بيانًا لما أطلقه في "المختصر"، وعلى هذا فيأخذ لرمي أيام التَّشْرِيقِ مِنْ وَادِي مُحَسِّر أو غيره، وجمع بعضهم بينهما فقالوا: يستحب الأخذ من المُزْدَلَفَةِ لجميع الرَّمْيِ، لكنه لرمي أيام النحر أَحَب، ثم الجمهور قالوا: يتزود بالحَصَا ليلاً قبل أن يُصَلِّيَ الصُّبْحَ، وفي "التهذيب" أخر أخذها عن الصَّلاَةِ، ثم يدفعون إلى مِنًى، فإذا انتهوا إلى المَشْعَرِ الحَرَامِ وقفوا على قزح، وهو ¬
جَبَلٌ من المَشْعَرِ الحَرَامِ ويقال: هو المشعر، والمشعر من المزدلفة فإن المزدلفة ما بين مأزمي عرفة ووادي مُحَسَّر، ويذكرون الله -تعالى- ويدعون إلى الإسْفَارِ قال الله -تعالى -: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} (¬1)، والأحب أن يكونُوا مُسْتَقْبلِي القبلةُ، ولو وقفوا في مَوْضِعٍ آخر من المُزْدَلفَةِ تأدَي أصْلُ السنة، لكنه عند المَشْعَرَ أفضل (¬2)، ولا يجبر فوات هذه السُّنة بالدَّمِ كسائر الهَيْآتِ، فإذا أسفروا سَارُوا وعليهم السَّكِينة، ومن وجد فرجةً أسرع كما في الدَّفْع من عرفة، فإذا انتهوا إلى وَادِي مُحَسَّر فالمستحب للرَّاكِبينَ أَنْ يُحَرِّكُوا دَوَابَّهُم، وَللْمَاشِينَ أَنْ يُسْرِعُوا قَدْرَ رَمْيَةٍ بحَجَرٍ" يروى ذلك عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬3). وقد قيل: إن النَّصَارَى كانت تقف ثَمَّ، فأمرنا بِمُخَالَفَتِهِم، ثم يسيرون على السكينة، فيوافون مِنَى بعد طُلُوعِ الشَّمْسِ، فيرمون سَبْعَ حصياتٍ إلى جَمْرَةِ العَقَبَةِ، وهي في حضيض الجَبَلِ مترقبة عن الجَادَّةِ على يمين السَّائِرِ إلى مكة، "وَلاَ يَنْزِلُ الرَّاكِبُونَ حَتَّى يَرْمُوا كمَا فَعَلَ رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-" (¬4) والسنة أن يكبروا مع كل حَصَاةٍ، ويقطعوا التلبية إذا ابتدأوا بالرَّمْيِ. روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قَطَعَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ حَصَاةٍ رَمَاهَا" (¬5). والمعنى فيه: أن التلبية شِعَارُ الإحْرَام، والرمي أخذٌ في التحلل، وعن القَفذَالِ: أنهم إذا رَحَلُوا من مزدلفة مزجوا التلبية بالتكبير في مَمَرِّهِم، فإذا انتهوا إلى الجمرة وافتتحوا الرمي مَحَّضُوا التكبير. قال الإمام: ولم أر هذا لِغَيْرِهِ، ثم إذا رموا جَمْرَةَ العَقَبَةِ نَحَرُوا إنْ كَانَ مَعَهُمْ هَدْيٌ، فذلك سُنّة، ثم بعد ذَبْحِ الهَدْي يَحْلِقُونَ أو يُقَصِّرُونَ، وإذا فرغوا منه عادوا إلى مَكَّة، وطافوا طَوافَ الرُّكْنِ، ويسعون بَعده إن لم يَطُوفُوا لِلْقُدُوم، أو لم يسعوا بعده، ثم يعودون إلى مِنَى للمبيتِ بِهَا، والرَّمْيِ أيام التَّشْرِيقِ، وليعودوا إلَيها قَبْلَ أن يصلوا الظُّهرَ، ¬
وهذه ترجمة جملية لهذه الوَظَائِفِ ومسائلها على التَّفْصِيلِ بين يَدَيْكَ. وقوله في الكتاب: (وهذه سنة) مُعَلَّم بالميم، إن ثبت ما رواه بعض أصحابنا عن مالك أن الوقوف بالمَشْعَرِ الحَرَامِ وَاجِبٌ. وقوله: (فيسرعون بالمشي) يجوز أن يعلم بالواو؛ لأني رأيت في بَعْضِ الشروح أن الراكب يُحَرِّك دابته، أما الماشي فَلاَ يعدو وَلاَ يرمل. وقوله: (إلى الجمرة الثَّالِثَةِ) المراد منها: جمرة العقبة وإنما تسمى الثَّالثة؛ لأن السائرين من مني إلى مَكَّة يتعدون جمرتين قَبْلَهَا، ثم ينتهون إلَيْهَا، فهي الثالثة بالإِضَافَةِ إلى مِنَى، وقد ذكرنا أنها منحرفة عن مَتْنِ الطَّرِيقِ، والجمرتان قبلها على متنه. وقوله: (ثم يحلقون وينحرون) قدم ذكر الحلق؛ لكن المستحب أن يكون النَّحْرُ مقدماً على الحَلْقِ كما سَيَأْتِي -إن شاء الله تعالى-. قال الغزالي: وَللْحَجِّ تَحَلُّلاَنِ يَحْصُلُ أَحَدُهُمَا بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ وَالآخَرُ بِالرَّمْيِ، وَأَيُّهُمَا قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ فَلاَ بَأْسَ، وَيحِلُّ بَيْنَ التَّحَلُّلَينِ اللُّبْسُ وَالْقَلَمُ، وَلاَ يَحِلُّ الجِمَاعُ، وَفِي التَّطَيُّبِ وَالنِّكَاح وَاللَّمْسِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ قَوْلاَنِ، وإن جَعَلْنَا الحَلْقِ نُسُكاً صَارَتِ الأَسْبَابُ ثَلاثةً فَلاَ يَحْصُلْ أَحَدُ التَّحَلُّلَيْنِ إِلاَّ بِاثْنَيْنِ أَيِّ اثْنَيْنِ كَانَا، وَيَدْخُلُ وَقْتُ التَّحَلُّلِ بِانْتِصَافِ (ح م) لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَوَقْتُ فَضِيلَتِهِ بِطُلُوعِ الفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَفِي كَوْنِ الحَلْقِ نُسُكًا قَوْلاَنِ، وَلاَ خِلاَفَ أنَّهُ مُسْتَحَبٌّ يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ، فَإِنْ جُعِلَ نُسُكاً جَازَ (م ح) البَدَاءَةُ بِهِ فِي أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ، وَفَسَدَتِ العُمْرَةُ بِالجِمَاعِ قَبْلَ الحَلْقِ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ لَمْ يَتِمَّ دُونَهُ، وَإذَا تَرَكهُ لَمْ يَنْجَبِرْ بِالدَّمِ لِأَنَّ تَدَارُكَهُ مُمْكِنٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى رَأْسِهِ شَعَرٌ فَيُسْتَحَبُّ (ح) إِمْرَارُ المُوسَى عَلَى الرَّأس، وَلاَ يَتِمُّ هَذَا النُّسُكُ بِأَقَلَّ مِنْ حَلْقِ ثَلاَثِ (م ح) شَعَرَاتٍ مِنَ الرَّأْس، وَيقُومُ التَّقْصِيرُ وَالنَّتْفُ وَالإحْرَاقُ مَقَامَ الحَلْقِ إِلاَّ إِذَا نَذَرَ الحَلْقَ، وَلاَ حَلْقَ عَلَى المَرْأَةِ، وُيسْتَحَبُّ لَهَا التَّقْصِيرُ. قال الرافعي: لو ذهبت أراعي في الفَصْل ترتيب الكتاب، لم نظفر بالكَشْفِ الذي نَنْعَتُه، فاحتمل التقديم والتأخير، واعرف ثلاثة أَصول: أحدها: أن قول الشَّافِعي -رضي الله عنه- اختلف في أن الحَلْقَ في وقته هل هو نُسُكٌ أمْ لاَ؟ فأحد القَوْلَيْنِ أنه لَيْسَ بِنُسُكٍ، وإنما هو استباحة مَحْظُورِ؟ لأن كل ما لو فعله قبل وقته لزمته الفدية، فإذا فعله في وقته كان استباحة كالطِّيب واللبس، وهذا لأنه يريد أن يتحلل فيتناول بعض ما حُظر عليه كما يتطيب.
وأصحهما: وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد -رحمهم الله- أنه نُسُكٌ مُثَابٌ عَلَيْهِ؛ لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا رَمَيْتُمُ وَحَلَقْتُمْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ النِّسَاءِ" (¬1). علق الحِلّ بالحَلْقِ كما عَلَّقَهُ بِالرَّمْيِ، وأيضاً فإن الحَلْقِ أفضل من التقصير، لما سيأتي، والتفضيل إنما يقع في العِبَادَاتِ دون المُبَاحَاتِ، والقولان جاريان في العمرة، ووقته في العُمْرَة يدخل بِالْفَرَاغِ مِنَ السَّعْيِ، فعلى القَوْلِ الأصح هوَ مِنْ أَعمَالِ النُّسكَيْنِ، وليس هو بمثابة الرَّمْيِ والمبيت، بل هو مَعدُودٌ من الأركان، ولهذا لا يُجْبَرُ بِالدَّمِ، ولا تقام الفِدْيَةُ مَقَامُهُ حتى لو كانت برأسه علية لا يتأتى مَعَها التعرض للشَّعْرِ، فإنه يصبر إلى الإمكان ولا يفتدى، ويخالف ما إذا لم يكن على رأسه شَعْر، لا يُؤْمر بالْحَلْقِ بعد النّيَاتِ، لأن النسك حَلْقُ شَعرٍ يشتمل الإحرام عليه، فإذا لم يكن شَعْرٌ لَم يؤمر بهذا النُّسُكِ. ولو جامع المعتمر بعد السَّعْيِ وقبل الحلق فَسَدَتْ عُمْرَتُه؛ لوقوع جِمَاعِهِ قَبْلَ التَّحَلل، والنّساء لا يُؤْمَرْنَ بِالْحَلْقِ؛ لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَيْسَ عَلَي النِّسَاءِ حَلْقٌ وَإنَّمَا يُقَصِّرْنَ" (¬2). والمستحب لهن في التقصير أن يأخذن من طَرَفِ شُعُورِهِنَّ بقدر أنملة من جميع الجَوَانِب، وللرجال أيضاً إقامة التقصير مقام الحلق؛ لما روى عن جابر -رضي الله عنه-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْلِقُوا أَوْ يُقَصِّرُوا" (¬3). والأفضل لَهُم الحَلْقُ؛ لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "رَحِمَ اللهُ المُحَلِّقِينَ، قِيلَ: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: رَحِمَ اللهُ الْمُحَلِّقِينَ، قِيلَ: وَالْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: رَحِمَ اللهُ الْمُحَلِّقِينَ؛ قِيلَ: وَالْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ وَالْمُقَصِّرِينَ" (¬4). وكل وَاحِدٍ من الحَلْقِ والتَّقْصِيرِ يختص بِشِعْرِ الرَّأْسِ، ولا يحصل النُّسُكُ بحَلْقِ شَعْرٍ آخر، أو تقصيره، وإن اسْتَوى الكُلُّ في وجوب الفدية إذا أخذ قَبْلَ الوَقْتِ؛ لأن الأَمْرَ وردَ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ، وإذا حلق فالمستحب أن يبدأ بالشِّقِّ الأَيْمَنِ (¬5) ثم بالأَيْسَرِ، ¬
وأن يكون مستقبلَ القِبْلَةِ، وأن يُكَبِّرَ بَعْدَ الفَرَاغ، وأن يَدْفِنَ شَعْرَهُ، والأفضل إن حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ، وإن قَصَّرَ فأن يُقَصِّرَ الجَمِيعَ، أقل ما يُجْزِئُ حَلْقُ ثَلاَثِ شَعَرَاتٍ أو تَقْصِيرُهَا، وفيها تكمل الفدية، في الحَلْقِ المَحْظُور. ولنا في تكميل الفِدْيَة في الشعرة الواحدة رَأَيٌ بَعِيدٌ، وهو عَائِدٌ فِي حُصُولِ النُّسُكِ بِحَلْقِهَا، ولو حَلَقَ ثَلاَثَ شَعَرَاتٍ في دفعات، أو أخذ من شَعْرَةٍ شَيْئاً، وعاد ثَانِياً، فأخذ مِنْهَا شَيْئاً، وعاد ثالثاً، وأخذ، فإن كملنا الفدية لو كان محظوراً قلنا بحصول النُّسُكِ بِهِ. ولا فرق إذا قَصَّر بين أن يكون المأخوذ مِمَّا يحاذي الرأس أو من المُسْتَرْسِلِ، وفي وجه: لا يغني الأخذ من المُسْتَرْسِل اعتباراً بِالْمَسْحِ. وقاله أبو حنيفة -رحمه الله-: أَقَلَّ مِنْ حَلْقِ رُبُعِ الرَّأْس. وقال مالك: لاَ بُدَّ مِنْ حَلْقِ الأكْثَرِ، ولا يتعين لِلْحَلق والتقصير آلة، بل حكم النَّتْفِ والإحراق والإزَالة بالموسى والنورة والقَصّ وَاحدِ. ومن لا شعر على رأسه يستحب له إمرار المُوسى على الرأس تَشَبُّهاً بالحالقين. قال الشَّافعي -رضي الله عنه-: ولو أخذ من شَارِبِه أو شعر لحْيَتِهِ شيئاً كان أحب إليّ لئلا يخلو من أخذ الشعر وعند أبي حنيفة -رحمه الله- يجب إمرار الموسى على الرَّأسِ. لنا: أن العبادة إذا تَعَلَّقَتْ بِجُزْءٍ من البَدَنِ سقطت بفواته كغسل الأعضاء في الوُضُوءِ. وجميع ما ذكرنا فيما إذا لم يلتزم الحلق أما إذا التزمه فنذر الحلق في وقته تَعَيَّن، ولم يقم التقصير مقامه، ولا النَّتْف، ولا الإحراق، وفي استئصال الشعر بالمقص وإمرار الموسى من غير استئصال تردد للإمام، والظاهر المنع لفوات اسم الحلق. ولو نذر استيعاب الرأس بالحلق ففيه تردد عن القَفَّال، ولها أخوات تذكر في النذور، ولو لبد رأسه في الإحْرَام فهل هو كالنذر؟ لأن ذلك لا يفعله إلا العَازِم على الحَلْق؟ فيه قولان: الجديد: لا، وهما كالقولين في أن التَّقْلِيد والإشْعَار هل ينزل منزلة قوله جَعَلْتُهَا ضَحِيَّة؟ -والله أعلم-. والأصل الثاني: أن أعمال الحَجِّ يوم النحر إلى أن يعود إلى مِنّى أربعة على ما أسلفنا ذِكْرَهَا: رمي جمرة العقبة، والذبح، والحَلْق والتَّقصير، والطَّوَاف، وهذا الطواف يسمى طَوَافُ الرُّكْنِ، لأنه لا بد منه في حُصُولِ الحَجِّ، ويسمى طَوَافُ الإِفَاضَةِ للإتْيَانِ بِهِ عُقَيْبَ الإفَاضَةِ مِنْ منًى، وطواف الزِّيارة؛ لأنهم يأتون من مِنًى زائرين لِلْبَيْتِ، ويعودون فيَ الحَالِ، وربما سُمِّي طواف الصَّدْرِ أيضاً. والأشهر: أن طواف الصدر هو طواف الوَدَاع، والترتيب في الأعمال الأربعة على النَّسَقِ المذكور مَسْنُونٌ، وليس بواجب.
أما: أنه مسنون فُلأَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَذلِكَ فَعَلَهَا" (¬1). وأما أنه ليس بواجب فلما روى عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "وَقَفَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاع بِمِنًى لِلنَّاس يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: ارْمِ ولاَ حَرَجَ، وَأَتَاهُ آخَرُ فَقَالَ: إِنِّي أَفَضْتُ إِلَى الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، فَقَالَ: ارْمِ وَلاَ حَرَجَ، وَأتَاهُ آخَرُ وَقَالَ: إِنِّي ذَبَحْتُ قَبْلَ أن أَرْمِيَ، فَقَالَ: ارْمِ وَلاَ حَرَجَ، فَمَا سُئِل عَنْ شَيْءٍ قَدَّمَ أَو أخَّرَ ألاَّ قَالَ افْعَلْ وَلاَ حَرَج" (¬2). فلو ترك المبيت بمزدلفة، وأفاض إلى مَكَّةَ وطاف قبل أن يَرْمِيَ وَيَحْلِقَ، أو ذبح قَبْلَ أن يرمي ويحلق، أو ذبح قبل إن يرمي، فلا بأس ولاَ فِدْية، ولو حلق قبل أن يرمي وقبل أن يطوف فإن جعلنا الحلق نُسكاً فلا بأس، وإن جعلناه استباحة محظورٍ فعليه الفدية؛ لوقوع الحَلْقِ قبل التحلل. وروى القاضي ابْنُ كَجٍّ أن أبا إسْحَاقَ وَابْنَ القَطَّانِ -رحمهم الله- ألزماه الفدية وإن جعلنا الحَلْقَ نُسكاً، والحديث حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا، ومؤيد القول الأَصَح وهو أن الحَلْقَ نُسُكٌ. وعن مالك وأبي حنيفة وأحمد -رحمهم الله- أن الترتيب بينهما وَاجِبٌ، ولو تركه فَعَلَيْهِ دَمٌ على تفصيل يذكرونه. واعلم أن ما قدمناه من قَطْعِ الحَاجِّ التلبية إذا أخذ في الرَّمْي مصور فيما إذا جرى على الترتيب المسنون، فإن بدأ بالطواف أو بالحلق إن جوزناه فيقطع التلبية حِينئذٍ، نظراً إلى أنه أخذ في أسْبَابِ التَّحَلُّلِ، وكذلك نقول: المعتمر يقطع التلبية إذا افتتح الطَّوَاف. والأصل الثالث: أن المستحب أن يرمي بعد طُلوع الشَّمْسِ ثم يأتي بِبَاقِي الأَعْمَالِ، فيقع الطَّوَاف فِي ضَحْوَةِ النَّهَارِ، ويدخل وَقْتُهَا جَمِيعاً بانتصاف لَيْلَةِ النَّحْرِ، وبه قال أحمد. وعن أبي حنيفة ومالك: أن شيئاً منها لا يجوز قبل طُلوعِ الفَجْرِ. لنا: ما روي أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أمر أم سلمة ليلة النحر فَرَمَتْ جمرة العَقَبَةِ قَبْلَ الفَجْرِ، ثم مضت، ثم أَفَاضَتْ، وكان ذلك يومها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬3). ومتى يخرج وَقْتُهَا؟ أما الرمي: فيمتد وقته إلى غروب الشمس يوم النحر، وهل يمتد تلك الليلة؟ فيه وجهان: أصحهما: لا. ¬
وأما الذَّبْحُ: فَالْهَدْيُ لا يختص بزمان، ولكن يختص بالحرم، بخلاف الضَّحَايَا، تختص بالعيدِ وأيام التشريق، ولا تختص بالحَرَمِ. وأما الحلق والطواف فلا يتأقت آخرهما، لكن لا ينبغي أن يخرج من مَكَّةَ حتى يطوف، فَإِنْ طاف لِلْوِدَاعِ وخرج وَقَعَ عَنِ الزِّيَارَةِ، وإن خرج وَلَمْ يَطُفْ أصْلاً لم تحل له النِّسَاء، وإن طال الزمان، وقضية قولهم لا يتأقت الطَّواف من الطَّرَفِ الآخر أن لا يصير قضاءً، لكن في "التتمة": أنه إذا تأخر عن أيام التَّشْرِيقِ صَارَ قَضَاءً. وعن أبي حنيفة -رحمه الله- أخر وقت الطَّواف آخر اليوم الثاني من أيام التشريق. إذا عرفت هذه الأصول فنقول: للحج تَحَلُّلاَنِ، وللعُمْرَةِ تَحَلُّلٌ وَاحِدٌ. قال الأئمة -رضي الله عنهم-: وذلك لأن الحَجَّ يطول زَمَانُه، وتكثر أَعْمَالُه بِخِلاَفِ العُمْرَةِ، فأبيح بعض محظوراته دفعة واحدة، وبعضها أخرى وهذا كالحيض والجنابة لما طال زَمَانُ الحَيْضِ جعل لارتفاع محظوراته محلان: انقطاع الدم، والاغتسال، والجنابة لما قَصُرَ زَمَانُهَا جُعِلَ لارتفاع محظوراتها محل واحد. ثم الكلام في فصلين: أحدهما: فيما يحصل به التحلل. أما الحَجَّ: فأسباب تحلله غير خارجة عن الأعْمَال الأَرْبَعَةِ، والذَّبْحُ غَيْرُ معْدُودٍ مِنْهَا؛ لأنه لا يتوقف التحلل عليه. بقي الرمي والحلق والطواف، فإن لم نجعل الحَلْقَ نسكاً، فللتحلل سببان: الرمي والطواف، فإذا أتى بأحدهما يَحْصُل التحلل الأول، وإذا أتى بالثَّاني حصل الثَّانِي، ولا بد من السَّعْي بعد الطواف إن لم يَسْعَ مِنْ قَبْلِ، لكنهم لم يفردوه وَعَدُّوهُ مَعَ الطَّوَافِ سبباً وَاحِداً، وإن جَعَلْنَا الحَلقَ نسكاً فالثلاثة أسباب التحلل، فإذا أتى باثنين منها إما الرمي والحَلْق، أو الرمي والطواف أو الحلق والطَّواف حصل التحلل الأول، وإذا أتى بالثَّالِثِ حَصَلَ الثَّانِي، قال الإمام وشيخه: وكأنا نبغي التنصيف، لكن ليس للثلاثة نصف صحيح، فنزلنا الأمر على اثنين كما صنعنا في تمليك العبد طلقتين ونظائره. هذا ما أورده عامة الأصْحَاب، واتفقوا عليه، ووراءه وجوه مَهْجُورة: أحدها: عن أبي سَعِيد الإصْطَخْرِيِّ: أن دخول وقت الرمي بمثابة نفس الرمي في إفادة التحلل. الثاني: عن أَبِي قَاسِم الدَّارِكِيِّ: أنا إن جعلنا الحلقَ نسكاً حصل التَّحَلُّلاَنِ معاً بالحَلْقِ والطَّوَافِ، وبالرَّمْي والطَّوَافِ، ولا يحصل بالحَلْقِ والرَّمْي إلا أحدُهُمَا.
والفرق: أن الطواف ركنٌ فما انضم إليه يقوى به، بخلاف الرَّمْي والحَلْقِ، وهذا نزاع فيما سبق أن الحَلْقَ ركن على هذا القول. والثالث عن أبي إسحاق عن بعض الأصحاب: أنا وإن جعلنا الحَلْق نسكاً فإن أحد التحللين يحصل بالرمي وَحْدَه وبالطواف وحده. ومن فاته الرَّمْيُ ولزمه بدله فهل يتوقف التحلل على الإتْيَانِ ببَدَلِهِ؟ فيه أوجه: أشبهها: نعم، تنزيلاً للبَدَلِ منزلة المُبْدَل. والثالث: إن افتدى بالدّم توقف، وإن افتدى بالصَّوْمِ فلا، لطول زَمَانِهِ. وأما العمرة: فتحللها بالطَّوَافِ والسَّعْي لا غير إن لم نجعل الحَلقَ نسكاً، وبهما مع الحَلْقِ إن جَعَلنَاهُ نُسُكاً، ولست أدرى لِمَ عَدُّوا السعي من أسباب التحلل في العُمْرَة دون الحَجِّ؟ ولم لم يعدوا أفعال الحَجِّ كلها أسباب التحلل كما فعلوا في العمرة؟ ولو اصطلحوا عليه لقالوا: التحلل الأول يحصل بها سِوَى الوَاحِدِ الأخير، والثاني بذلك الأخير. ويمكن تفسير أسباب التحلل في العمرة بأركانها الفعلية، وأيضاً بالأفعال التي يتوقف عليها تحللها، ولا يمكن التفسير في الحَجِّ بواحد منهما. أما الأول: فلإخراجهم الوقوف عنها. وأما الثاني: فلإدخالهم الرمي فيها، مع أن التحلل لا يتوقف عليه ولا على بدله على رَأْي، وعلى كل حالٍ فإطلاق اسم السَّبب على كل واحدٍ من أسباب التحلل ليس على معنى استقلاله، بل هو كقولنا: اليمين والحِنْث سَببَاً الكفارة، والنصاب والحول سببا الزكاة. والفصل الثاني فيما يحلل بالتحلل الأول ولا خلاف في أن الوطء لا يَحِل ما لم يوجد التحللان، لكن المستحب أن لا يطأ حتى يَرْمِيَ في أيام التَّشْرِيق، ويحل اللّبس والقَلْم وستر الرأس والحلق إذا لم نجعله نسكاً بالتحلل الأول، روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ الطِّيبُ وَاللِّبَاسُ وَكُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ النِّسَاءَ" (¬1). وفي عقد النكاح والمباشرة فيما دون الفَرجِ كالقُبْلَة والملامسة وقَتْلِ الصَّيْدِ قولان: أحدهما: أنها تحل أما في غير الصيد فلأنهما مَحْظُوران لِلإحْرَام لا يفسدانه، فأشبها الحلق والقَلْم. وأما في الصيد فلأنه لم يستثن في الخبر المذكور إلا النساء. والثاني: لا يحل أما في غير الصيد فلتعلقها بالنساء، وقد روينا أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِلاَّ ¬
النِّسَاءَ" (¬1). وأما في الصَّيْدِ فلقوله -تعالى-: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬2). والإحْرَامُ بَاقٍ، ثم اتفقوا في مسألة الصَّيْدِ على أن قول الحل أصح، واختلفوا في النكاح والمباشرة، فذكر صاحب "التهذيب" وطائفة: أن الأصح فيها: الحل، وقال آخرون بَل الأصح: المنح، ومنهم المَسْعُودي، وصاحب "التهذيب" وهؤلاء أكثر عدداً، وقولهم أوفق لظاهر النص في "المختصر". وفي التطيب طريقان: أشهرهما: أنه على القولين، وهذا ما أورده في الكتاب. والثاني: القطع بالحلِّ، وسواء أثبتنا الخلاف أو لم نثبته فالمذهب أنه يحل، بل يستحب أنه يتطيب لحله بين التحللين قالت عائشة -رضي الله عنها- "طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لإحْرَامِهِ قَبلَ أَنْ يُحْرِمَ، ولحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ" (¬3). هذا شَرْحُ مَسَائِلِ الفَصْلِ على الاختصار. وأما لفظ الكتاب فقوله: (يحصل أحدهما بطواف الزيارة، والآخر بالرمي) جواب على قولنا: أن الحلق ليس بنسك. ثم فرع من بعد على القول الآخر حيث قال: (وإن جعلنا الحلق نسكاً صارت الأسباب ثلاثة) غير أنه أدخل بينهما القول فيما يحل بين التحللين، ولو لم يخلل بينهما شيئاً لكان أحسن. ثم لا يخفى أن المراد من قوله: (بالرمي) رمي جمرة العقبة يوم العيد، ويحوز إعلامه بالواو؛ للوجه المنسوب إلى الإصْطَخْرِي. وقوله: (فلا بأس) مَرْقُومٌ بالميم والحاء والألف. وقوله: (إلا باثنين) للوجه المروي عن أبي إسحاق. وقوله: (ويدخل وقت التحلل بانتصاف ليلة النحر) شبيه ما مر أن أسباب التحلل إنما يدخل وَقْتُهَا عند إنتصاف لَيْلَةِ النَّحْرِ، لكن اللفظ يفتقر إلى تأويل؛ لأن وقت التّحلل لا يدخل بمجرد إنتصافها، بل لا بد مع ذلك من زَمَانٍ يسع الإتيان بأسباب التحلل ليترتب عليها. ¬
الفصل الثامن في المبيت
ثم قوله: (بانتصاف ليلة النحر) مُعَلَّم بالحَاءِ والميم؛ لما تقدم. وقوله: (ولا خلاف في أنه مستحب، ويلزم بالنذر)، ليس صافياً عن الإشكال؛ لأن التوجيه الذي مَرَّ يقتضي كونه من المباحات على قولنا: إنه ليس بنسك، وقد ذكر غيره أنه إنما يلزم بالنذر على قولنا: إنه نسك. وقوله: (فيستحب إمرار الموسى) مُعَلَّم بالحاء. وقوله: (ولا يتم هذا النسك إلى آخره) بالواو، ولا نُعَلِّمه بالحاء والميم؛ لأنهما لا يخالفان في عدم الاكتفاء بأقل من ثلاث، بل لا يكتفيان بالثَّلاث أيضاً، -والله أعلم-. قال الغزالي: الفَصْلُ الثَّامِنُ في المَبِيْتِ وَالمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ العِيدَ وبمنىً ثَلاَثَ لَيَالٍ بَعْدَهُ نُسُكٌ، وَفِي وُجُوبِهِ قَوْلاَنِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ وَاجِبٌ فَيُجْبَرُ بِالدَّمِ (ح)، وَفِي قَدْرِ الدَّمِ قَوْلاَنِ: أَحدهُمَا: دَمٌ وَاحِدٌ لِلْجمِيعِ. وَالثَّاني: دَمٌ لِمُزْدَلِفَةَ وَدَمٌ لِلَيَالي مِنىً. قال الرافعي: مبيتُ أرْبَع ليالٍ نُسُكٌ في الحَجِّ: ليلة النحر بمزدلفة، وليالي أَيَّام التَّشْرِيِق بِمِنىً، لكن مبيت الليلة الثالثة منها ليس نسكاً على الإطْلاَق، بل في حق من لم ينفر اَليوم الثاني من أيام التشريق، على ما سيأتي في الفَصْلِ التاسع، ولفظ الكتاب محمول عليه وإن كان مطلقاً. وفي الحد المعتبر للمبيت قولان حكاهما الإِمَامُ عن نَقْلِ شَيْخِهِ وصَاحِبَ "التقريب". أظهرهما: أن المعتبر كونه بموضع المبيت في مُعْظَمِ اللَّيْلِ. والثاني: أن الاعتبار بِحَالِ طُلُوعِ الفَجرِ، قال الإمام: وطردهما على هذا النَّسَق في مُزْدَلِفَةُ مُحَال (¬1)؛ لأنا جوزنا الخُروجَ مِنْهَا بَعْدَ انْتِصَافِ اللَّيْلِ، ولا ينتهون إليها إلاَّ بَعْدَ غيبوبة الشَّفَقِ غَالِباً، ومن انتهى إليها والحالة هذه وخرج بعد انتصاف الليل لم يكن بها حال طُلُوع الفَجْرِ، ولا فِي مُعْظَم اللَّيْلِ، فلا يتجه فيها إذًا الاعتبار حالة الانتصاف، ولك أن تقول: هذه الاستحالة واضحة إن قيل بوجوب المبيت، لكنه مستحبٌ على قول، وليس بواجب، فعلى ذلك القول لا يستحيل الندب إلى الكون بها في معظم الليل، أو حالة الطّلوع، وتجويز خلافه. ثم هذا النُّسُك مجبورٌ بِالدَّمِ، وهل هُوَ وَاجِبٌ أو مستحب؟ أما في ليلة مزدلفة فقد مَرَّ. وأما غيرها ففيه قولان: ¬
أحدهما: وَاجِبٌ؛ لِما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ تَرَكَ نُسْكاً فَعَلَيْهِ دَمٌ" (¬1). والثاني: مستحب؛ لأنه غير لاَزِمٌ على المعذور كما سيأتي، ولو وجب الدَّمُ لما سَقَطَ بِالْعُذْرِ كالحَلْقِ وَاللَّبْسِ. وروى القَاضِي ابْنُ كَجٍّ: طريقة أخرى قَاطِعةً بالاسْتِحْبَاب، والمشهور طريقة القولين (¬2). ثم منهم من بناهما على قولين في أن المبيتَ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أم لا؟ في قول: نوجبه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- "قَدْ أَتَى بِهِ وَقَدْ قَالَ خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" (¬3). وفي قول: لا، كالمبيت ليلة عَرَفَةَ، وأشار الإمام إلى أن القولين في وجوب المبيت مُتَولِّدَانِ من القولين في وجوب الدَّمِ. وما الأظهر منهما؟ اتفقوا على تشبيههما بالقولين في أن الدَّم على المفيض من عَرَفَةَ قبل الغُروب وَاجِبٌ أو مستحب، وقد أريناك ترجيح قول الاستحباب ثم، فيشبه أن يكونَ هَاهُنَا مثلهَ. وقد صَرَّحَ بِذَلِكَ القَاضِي ابْنُ كِجٍّ وغيره، وكلام كَثِيرين: يميل إلى تَرْجِيح الإِيْجَابِ، -والله أعلم-. وقوله في الكتاب: (وفي وجوبه قولان) فإن قلنا: إنه واجب فيجبر بالدَّمِ، أراد فيجبر بالدَّمِ وجوباً، وإلا فأصْلُ الجَبْرِ لا يتفرع على قولنا بوجوب المَبِيت خَاصة. ثم هو بناء لِلْخُلاَفِ في وُجوب الدَّم على الخِلاَفِ في وجوب المبيت على ما نقلناه عن جَمَاعَةٍ مِنَ الأَصْحَاب، بقَي الكَلام في أن الدَّمَ متى يكمل وهل يزيد على الواحد أم لا؟ إن ترك مبيت ليلة النحر وحدها أراق دماً، وإن ترك مبيت اللَّيَالِي الثلاث فكذلك على المَشْهُور؛ لأن مبيتهما جِنْسٌ واحد متوزع عليهما توزع الرمي على الجَمَرَاتِ الثلاث. وعن صاحب "التقريب" رواية قول: إن في كل ليلة دماً كما أن في رمي كل يوم دماً، وإن ترك ليلة منها فبم يجبر؟ فيه ثلاثة أقوال: أظهرها: بمد. والثاني: بدرهم. والثالث: بثلث دَمٍ، وهي كالأقوال في حَلْقِ شعرة واحدة، وسنذكرها بتوجيهها. وإن ترك ليلتين فعلى هذا القياس وإن ترك مبيت الليالي الأربع فَقَوْلاَن: ¬
أحدهما: أن الجبر بدَمٍ واحد؛ لأن المبيت جنس واحد. وأظهر هما: بدَمَيْنِ. أحدهما: لليلة مزدلفة. والآخر: لليالي مِنَى؛ لاختلافهما في الموضع وتفاوتهما في الأحْكَام. قال الإمام: وهذا في حَقِّ من يقيد الليلة الثالثة بإن كان بمنىً وَقْتَ الغُروب؛ فإن لم يكن بها حِينَئذٍ، ولم يبت، وأفردنا ليلة مزدلفة بدم فوجهان؛ لأنه لم يترك مبيت النسك إلا ليلتين: أحدهما: عليه مُدَّانِ أو دِرْهَمَانِ أو ثلثَا دَمٍ. والثاني: عليه دَمٌ كَامِلٌ؛ لتركه جنس المبيت بمنى، قال: وهذا أفقه، ولا بد من عوده فيما إذا ترك ليلتين من الثلاث دون ليلة مزدلفة إذا لم تقيد الثَّالِثَة. وعند أبي حنيفة -رحمه الله- لا يَجِبْ الدّم بترك المبيت بمنى، وهو رواية عن أحمد -رحمه الله-. واعلم أن جميع ما ذكرناه في حلق غير المعذور. أما إذا ترك المبيت لعُذْرِ فهو مذكور في آخر الفَصْلِ. قال الغزالي: وَالرّمْي وَمُجَاوَزَةُ المِيقَاتِ مَجْبُورَانِ بالدّمِ قَوْلاً وَاحِداً وَالطَّوافُ وَالسَّعْي وَالوُقُوفُ وَالحَلْقُ لاَ تُجْبَرُ بالدَّمِ قَوْلاً وَاحِداً فَإِنَّهَا أَرْكَانٌ، وَالمَبِيتُ وَطَوَافُ الوَدَاعِ وَالجَمْعُ بَينَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارِ بِعَرَفَةَ فِيهَا قَوْلاَنِ. قال الرافعي: لما ذكر الخلاف في أن المبيت إذا ترك هل يجب جَبْرُهِ بالدَّم؟ وقدم نظيره في الجَمْعِ بين اللَّيْلِ والنَّهَارِ بِعَرَفَةَ، أراد أن يجمع قولاً فيما يجبر من الَمَنَاسِكِ بالدَّمِ وما لا يجبر وِفَاقاً، وما هو على الِخلاَف، ويتضح ذلك بتقسيم أعْمَالِ الحَجِّ وهي ثلاثة أقسام: أركان، وأبعاض، وهيآت، وسبيل الحَصْرِ أن كُلَّ عَمَلِ يعرض فإما أن يتوقف التَّحَلّل عليه فَهُوَ رُكْنٌ، أو لا يتوقف، فإما أن يجبر بالدَّمِ فهو بَعْضٌ، أو لا يجبر فهو هَيْئَة. والأركان خمسة: الإحرام، والوقوف، والطواف والسعي، والحلق أو التقصير تفريعاً على قَوْلِنَا: إنه نُسُكٌ فَإنْ لم نَقُلْ بِهِ عادت إلى أربعة، وَمَا سِوَى الوقوفِ أركان في العُمْرَة أيضاً، ولا مَدْخَلَ للجُبْرَانِ فِيهَا بِحَالٍ. واعلم أن الترتيب معتبر في أركان الحج؛ لأن ما عَدا الإحْرَام لاَ بُدَّ وأن يكون مؤخراً عنه، وأن الحَلْقَ والطوافَ لا بُدَّ وأن يكونَا مؤخرين عن الَوُقُوفِ، والسَّعْيُ لا بد وأن يكون مؤخراً عن طَوَافٍ، وإذا كان كذلك جاز أن نَعُدَّه مِنْ الأرْكَان، كما عدوا
التَّرْتِيبَ مِنْ أَرْكَانِ الوضوء والصَّلاَةِ. ولا يقدح في ذلك عدم الترتيب بين الحَلْقِ والطَّوَافِ، كما لا يقدح عدم اعتبار الترتيب بين القيام والقراءة في الصَّلاَةِ. وأما الأبْعَاضُ فمجاوزة المِيقَاتِ والرَّمْيُ مَجْبورَانِ بالدَّم وِفَاقاً. أما الأول فقد مَرَّ وأما الثاني فسيأتي، واختلف القول في خبر الجَمْعِ بين اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بعرفة، وفي المبيت، وقد ذَكَرْنَاهُمَا في طَوَافِ الوَدَاعِ، وسنذكره، فما جبر فهو من الأبعاض، وما لا فمن الهيآت، وفي طواف القدوم أيضاً وجه بعيد، سنذكره إن شاء الله تعالى. قال الغزالي: وَلاَ دم عَلَى مَن تَرَكَ المَبِيتَ بِعُذْرٍ كَرُعَاةِ الإِبْلِ وَأَهْلِ سِقَايَةِ العَبَّاسِ وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ عَرَفَةَ إلاَّ لَيلَةَ النَّحْرِ، وَفِي إلْحَاقِ غيْرِ هَذِهِ الأَعْذَارِ بِهَا وجْهان. قال الرافعي: التاركون للمبيت بِمِنى أو مزدلفة بالعُذْرِ لاَ دَمَ عَلَيْهِمْ، وهم أصناف: فمنهم رُعَاةُ الإِبلِ ومنهم أهل سِقَايَةِ العَبَّاسِ، فلهؤلاء إذا رَمُوا جَمْرة العَقَبَةَ يَوْمَ النَّحْرِ أن يَنْفرُوا وَيَدَعُوا المَبيتَ بِمِنىً لَيَالِي التَّشْرِيق؛ لما روى عن ابْنِ عُمَر أن العَبَّاسِ رَضِي الله عنه "اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أنْ يَبِيتَ بمَكَّةَ لَيَالِي مِنىً مِنْ أَجْلِ السِّقَايَةِ، فَأَذِنَ لَهُ" (¬1). وعن عاصم بن عدي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "رَخَّصَ لِلرُّعَاةِ أن يَتْرُكُوا الْمَبِيتَ بِمِنىً، وَيَرْمُوا يَوْمَ النَّحْرِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ يَرْمُوا يَوْمَ النَّفْرِ الْأوَّلِ" (¬2). وللصنفين جميعاً أن يَدَعُوا رمي يوم ويقضوه في اليَوْمِ الَّذِي يليه قَبْلَ رمي ذلك اليوم، وليس لهم أن يَدَعُوا رَمْيَ يومين عَلَى التَّوَالِي، فَإِنْ تركوا رَمْيَ اليَوْمِ الثَّانِى، بأن نفروا اليَوْمَ الأول بَعْدَ الرَّمْي، عادوا في اليَوْم الثَّالِثِ، وإن تَرَكُوا رَمْيَ اليَوْمِ الأول، بأن نفرُوا يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الرَّمْي، عَادُوا في اليَوُمَ الثَّاني، ثم لهم أن يَنْفُروا مَعَ النَّاسِ، وعن أبي الحُسَيْنِ وجه آخر: أنه لَيْسَ لَهُم ذَلِكَ. وَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ والرُّعَاةُ بِمِنىً فعليهم أن يبيتوا تلك الليلة ويرموا من الغَدِ، ولأهل السِّقَايَةِ أن ينفروا بَعْدَ غُروبِ الشَّمْسِ. والفرق أن الإِبل لا ترعى باللَّيْلِ والماءُ يجمع وتتعهد السِّقَايَةُ باللَّيْلِ. وَأَغْرَبَ أبو عبد الله الحَنَّاطِيُّ فحكى وَجْهاً: أن أهل السِّقَايَةِ أيضاً لا ينفرون بَعْدَ الغُرُوبِ، ثم رخصة أهل السِّقَايَة لا تختص بالعَبَّاسَّيِةِ؛ لأن المعنى يَعُمُّهُم وغيرَهم. ¬
الفصل التاسع في الرمي
وعن مالك وأبي حنيفة: أنها تختص بأوْلاَدِ العَبَّاسِ -رضي الله عنهم-، وهو وجه لأصحابنا، ومنهم من ينقل الاختصاص ببني هَاشِمٍ. ولو استحدثت صقاية للحاج فللمقيم بشأنها ترك المبيت أيضاً، قاله في "التهذيب"، وذكر القَاضِي ابْنُ كِجٍّ وغيره أنه ليس له ذَلِكَ، ومن المعذورين الذين ينتهون إلى عَرَفَةَ لَيْلَة النَّحْرِ ويشغلهم الوُقوفُ عَنِ المبيت بِمُزْدَلِفَةَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمْ، وإنَّمَا يُؤْمَرُ بَالمَبِيتِ المُتَفَرِّغُونَ لَهُ. ولو أفاض الحَاجُّ مِنْ عَرَفَةَ إلى مكَّة، وطاف للإفَاضَةِ بعد نصف اللَّيْلِ، ففاته المبيت لِذَلك فَعَنِ القَفَّالِ: أنه لا يلزمه شيء تنزيلا لاشْتِغَالِهِ بالطَّوَافِ منزله اشْتِغَالِهِ بالوُقُوفِ. قال إمام الحَرَمَيْنِ: وفيه احتمال؛ لأن من ينتهي إلى عَرَفَة لَيلاً مضطر إلى ترك المبيت، بخلاف المُفِيض إلى مكَّة. ومن المَعْذُورينَ من له مَالٌ يخاف ضَيَاعه لو اشتغل بالمَبِيت، أو مريضٌ يحتاج إلى تَعَهّدِهِ، أو كان يَطْلُبُ عبدًا آبقاً، أو يشتغل بأمر آخر يخاف فوته، ففي هؤلاء وجهان: أصحهما: ويحكى عن نصه: أنه لا شَيْءَ عليهم بترك المبيت كالرّعَاةِ، وأهل السِّقَايَةِ، وعلى هذا فلهم أن يَنْفرُوا بعد الغُرُوبِ. والثاني: أنهم لا يلحقون بالرُّعَاةِ وأهل السِّقَايَةِ؛ لأن شُغْلَهُم يَنْفَعُ الحَجِيجَ عَامَّة، وأعذار هؤلاء تَخْصُّهُمْ، والله أعلم. قال الغزالي: الفَصْلُ التَّاسِعُ في الرَّمْي وَهُوَ مِنَ الأَبْعَاضِ المَجْبُورَةِ بالدَّمِ وَهُوَ رَمْيُ سَبْعِينَ حَصَاة، سَبْعَةَ يَوْمَ النَّحْرِ إلَى جَمْرَةِ العَقَبَةِ، وَإحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاةً في كُلِّ يَوْم مِنْ أَيَّام التَّشْرِيقِ إلَى ثَلاَثِ جَمَرَاتٍ، وَمَن نَفَرَ في النَّفْرِ الأَوَّلِ سَقَطَ عَنْهُ رَمْيُ اليَوْمِ الأَخِيرِ وَمَبِيتُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَإِنْ غَرُبَتِ الشمس عَلَيهِ بمنىً لَزَمَهُ المَبِيتُ وَالرَّمْيُ، وَوَقْتُ الرَّمْي في أَيَّامِ التَّشْريقِ بَيْنَ الزَّوَالِ وَالغُرُوبِ، وَهَلْ يَتَمَادَىَ إلَى الفَجْرِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: إذا فَرَغَ الحَجِيجُ من طواف الإِفَاضَةِ عادوا إلى مِنىً، وَصَلُّوا بها الظُّهْرَ، وَيَخْطُبُ الإمامُ بِهِم بَعْدَ الظهرِ، ويعلمهم فيها سُنَّة الرَّمْي، والنحر، والإفاضة، ليتدارك من أخلَّ بشيء منها، ويعلِّمهم رمي أيام التَّشْرِيق، وحكم المبيت، والرّخصة للمعذورين. ونقل الحَنَّاطِي وَجْهاً: أن مَوْضِعَ هذه الخُطْبَة مكة، ويستحب أن يَخْطُبَ بهم اليَوْمِ الثَّانِي من أيام التَّشْرِيقِ، ويعلّمهم جواز النَّفْرِ فيه، ويودعهم ويأمرهم بختم الحَجِّ بطاعة الله تعالى. وعند أبي حنيفة: لا تُسَنُّ هذه الخطبة، ولا خطبة يَوْمَ النَّحْرِ، ولكن يخطب بهم في اليَوْمِ الأول من أَيَّامِ التَّشْرِيق.
ثُمَّ في الفصل مسائل: إحداها: أن الرَّمْيَ معدودٌ من الأَبْعَاضِ، مجبورٌ بالدَّمِ وِفَاقاً. والثانية: جملة ما يرمى في الحَجِّ سبعون حَصَاةَ، ترمى إلى جَمْرَةِ العقبة يوم النَّحْرِ سبع حَصَيَات، وإحدى وعشرون في كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إلى الجَمَرَاتِ الثلاث إلى كل وَاحِدَةٍ سبع تَوَاتر النَّقْلُ بِهِ قولاً وَفِعْلاً. والثالثة: الحجيج يبيتون بمنى الليلتين الأولتين من لَيَالِي التَّشْرِيق، فإذا رموا اليَوْمَ الثَّانِي فمن أَرَادَ مِنْهُمْ أن يَنْفرَ قَبْلَ غُروب الشَّمْسِ فَلَه ذَلِكَ، ويسقط عَنْه مبيت اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، والرَّمْيُ مِنَ الغَدِ، ولاَ دَمَ عَلَيْهِ والَأصل فيه قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (¬1). ومن لم ينفر حتى غربت الشمس فعليه أن يبيت الليلة الثَّالثة، ويرمى يومها، وبه قال مَالِكٌ وأحمد. وعند أبي حنيفة: -رحمه الله- يسوغ النفر مَا لَمْ يطلع الفَجْرُ. لنا: ما روى عَنْ عُمَرَ -رضي الله عنه- أنه قال: "مَن أَدْرَكَهُ الْمَسَاء فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَلْيَقُمْ إِلَى الْغَدِ حَتَّى يَنْفِرَ مَعَ النَّاسِ" (¬2). وإذا ارتحل فغربت الشَّمس قبل أن ينفصل عن مِنىً كان له أن يَنْفر كَيْلاَ يحتاجَ إِلَى الحَطِّ بَعْدَ التِّرْحَالِ. ولو غربت الشمس وهو في شغل الارتحال، فهل له أن ينفر؟ فيه وجهان: أصحهما: لا. ولو نفر قبل الغروب، وعاد لشغل إما بعد الغُروب أو قبله، هل له أن ينفر؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم، ومن نفر وكان قد تزود الحصيات للأيام الثَّلاثة طرح ما بقي عنده، أو دفعهن إلى غَيْرِه، قال الأئمة: ولم يؤثر شيء فيما يعتاده النَّاس من دَفْنِهَا. واعلم أن اليَوْمَ الثَّانِي من أَيَّامِ التَّشْريقِ يسمى يوم النَّفْرِ الأول، والثالث منها النَّفر الثاني للسبب الذي قد عرفته. ¬
وأما الأول فيسمى يَوْمُ القَرِّ، لأن الناس فيه قارونِ بمنىً. وقوله في الكتاب: (لزمه المبيت والرمي) معلم بالحاء، وقد أكثر إطلاق لفظ اللزوم ونحوه في المَبِيت على ما ذكرناه في وجوبه من الخِلاَف. والرابعة: وقت رَمْي يَوْم النَّحْرِ قد أسلفنا ذكره، ورمي أيام التشريق يَدْخُل وقته بالزَّوَالِ، ويبقى إلى غُروبِ الشَّمْسِ. وروى عن جابر -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "رَمَي الجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحىً، ثُمَّ لَمْ، يَرْمِ فِي سَائِرِ الأيَّامِ حَتَّى زَالَتْ الشَّمْسُ" (¬1). وبهذا قال مالك وأحمد -رحمهما الله-. وعند أبي حنيفة -رحمه الله- يجوز الرَّمْيُ في اليَوْمِ الثَّالِثِ قبل الزَّوَالِ. وهل يمتد وقتها إلى طُلوعِ الفَجْرِ؟ أما في اليَوْم الثَّالِثِ فلا لانقضاء أيَّامِ المَنَاسِكِ، وأما في اليومين الأولين فوجهان كما في رَمْي يَوْمِ النَّحْرِ. أصحهما: أنه لا يمتد، ووجه الثَّانِي التشبيه بالوقوف بِعَرَفَةَ، وفي المسألة بقايا سَنُورِدُهَا إن شاء الله تعالى. قال الغزالي: وَلاَ يُجْزِئُ إِلاَّ رَمْيُ الحَجَرِ، فَأَمَّا رَمي الزِّرْنيخ وَالإِثْمِدِ وَالجَوَاهِرِ المُنْطَبِعَة فَلاَ، وَفِي الفَيْرُوزَجِ وَاليَاقُوتِ خِلاَفٌ. قال الرافعي: غرض الفَصْل بيان ما يرمي، ولا بد أن يكونَ حجراً، وبه قال مالك وأحمد؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "رَمَى بِالأَحْجَارِ، وَقَالَ بِمِثْلِ هذَا فَارْمُوا" (¬2). وأيضاً روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "عَلَيْكُمْ بِحَصَا الْخَذَفِ" (¬3). فيجزئ المرمر والبرام والكذّان وسائر أنواع الحجر، ومنها حجر النُّورة قبل أن يطبخ ويصير نورة، وعن الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ تردد في حَجَرِ الحَدِيدِ، والظاهر إجزاؤه فإنه حَجَرٌ في الحال إلا أن فيه حديداً كَامِناً يستخرج بالعِلاجَ، وفيما يتخذ من الفصوص كالفيروزج والياقوت والعقيق والزمرد والبلور والزبرجد وجهان: ¬
أصحهما: الإجزاء؛ لأنها أحْجَارٌ. والثاني: المنع؛ لأن السَّابِق إلى الفَهْمِ من لفظ الحَصَا غيرها، ولا يجزئ اللؤلؤ وما ليس بِحَجَرٍ من طبقات الأرض كالزَّرنيخ والنورة والإثمد والمدر والجص والجواهر المنطبعة كالنَّيرين وغيرهما. وقال أبو حنيفة -رحمه الله- يجزئ الرمي بما لا ينطبع من طبقات الأرض كالزرنيخ والنورة ونحوهما. والسّنة أن يرمي بمثل حَصَا الخَذْفِ، وهو دون الأنملة طولاً. وعرضاً في قدر البَاقلاء، ويضعه على بَطْنِ الإبهام ويرميه برأس السبابة، ولو رمي بأصغر من ذلك أو أكبر كُرِهَ وأجزأه، ويستحب أن يكون طاهراً (¬1). قال الغزالي: وَيُتْبَعُ اسْمُ الرَّمْي فلاَ يَكْفِي الوَضْعُ، وَلَو انْصَدَمَ بِمَحَلٍّ في الطَّرِيق فلاَ بَأْس، وَلَوْ وَقَعَ في المَحْمَلِ فَنَفَضَهُ صَاحِبُهُ فلاَ يُجْزِئُ، وَلَوْ رَميَ حَجَرَيْنِ مَعاً فَرَمْيَهُ وَاحِدَةٌ وَإِنْ تَلاَحَقَا في الوُقُوعِ، وَلَوْ أَتْبعَ الحَجَرَ الحَجَرَ فَرَمْيَتَانِ وإنْ تَسَاوَيَا (و) في الوُقُوعِ، وَالعَاجِزُ يَسْتَنِيبُ في الرَّمْي إِذَا كانَ لاَ يَزُولُ عَجْزْهُ وَقْتَ الرَّمْي، فَلَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ لَمْ يَنْعَزِل نَائِبُهُ؛ لأَنَّهُ زِيَادَةٌ في العَجْزِ. قال الرافعي: في الفَصْلِ مَسَائِلُ: إحداها: الذي ورد في الفَصْلِ من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعله إنما هو الرَّمْيُ فيتبع هذا الاسم حتى لو وضع الحَجَرُ في المَرْمَى لم يعتد به، وفي شَرْحِ القاضي ابْنِ كِجٍّ: ونهاية الإمام: حكاية وجه أنه يعتد به اكتفاءً بالحصول في المرمى، ولا بد مَعَ الرَّمْىِ مِنَ القَصْدِ إلى المَرْمَى حتى لو رمى في الهَوَاء ووقع في المرمى لَمْ يعتد بِهِ، ولا يشترط بقاء الحَجَرِ في المَرْمَى فلا يضر تدحرجه وخروجه بعد الوقوع، لكن ينبغي أن يحصل فيه، فإن تردد في حصوله فيه فقد نقلوا فيه قولين: الجديد: عدم الإجزاء، ولا يشترط كون الرامي خارج الجَمْرَة بل لو وقف في طرف منها ورمي إلى طَرَفٍ جَازَ. ولو انصدمت الحصاة المرمية بالأرض خارج الجمرة أو بمحملٍ في الطريق أو عنق بعير أو ثوب إنسان ثم ارتدت ووقعت في المَرْمَى اعتد بها لحصولها في المرمى ¬
بفعله من غير معاونة أحد، ويفارق ما لو انصدم السَّهمُ بالأرض ثم أصاب الغَرَض لا يحسب به في المُسَابَقَةِ على أحد القولين؛ لأن المَقْصُودَ هاهنا إصابة المَرْمَى بفعله، وليس المقصود مجرد إصابة الغرض بل على وجه يعرف منه حذق الرامي وجودة رميه، ولو حرك صاحب المحمِل المحمَل فنفضها أو صاحب الثوَّبَ الثَّوْبَ أو تحرك البعير فدفعها ووقعت في المرمى لم يعتد بها؛ لإنها ما حصلت في المرمى بِفِعْلِهِ. وعن أحمد: أنه يعتد بها، ولو وقعت الحَصَاة على المحمل أو عُنُقِ البَعِيرِ ثم تدحرجت إلى المَرْمَى ففي الاعتداد بها وجهان، ولعل الأشبه المنع؛ لجواز تأثرها بتحرك البعير أو صاحب المَحْمَل، ولو وقعت في غير المَرْمَى ثم تدحرجت إلى المَرْمَى وردتها الرِّيح إليه فوجهان. قال في "التهذيب": الأصح: الإجزاء؛ لأنها حصلت فيه لا بفعل الغَيْرِ، ولا يجزئ الرمي عن القوس والدفع بالرِّجْلِ قاله في "العدة". الثانية: يشترط أن يرمي الحصيات في صَبْعِ دفعات؛ لأن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "كَذَلِكَ رَمَاهَا، وَقَالَ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" (¬1)، ولو رمى حصاتين معاً نظر إن وقعتَا معاً فالمحسوب رميةٌ واحدةٌ، وكذا لو رمى سبعاً دفعة واحدةً ووقعت دفعة واحدة أو مرتباً في الوقوع فرمية لاتحاد الرمي، أو رميتين لتعدد الوقوع؟ فيه وجهان: أصحهما: أولهما، وهو المذكور في الكتاب، ويروى الثاني عن أبي حنيفة -رحمه الله- ولو أتبع الحجَرَ الحَجَرَ ووقعت الأولى قبل الثانية فهما رميتان، وإن تساويتا في الوقوع ففيه الوجهان. والأصح: وهو المذكور في الكتاب: أنهما رميتان، وأجروا الوجهين فيما لَوْ وقعت الثَّانِيةَ قَبْلَ الأولَى. ولو رمى حَجَراً قَد رَمَى مَرَّة نظر إن رماه غيره أو رماه هو إلى جمرة أخرى أو إلى تلك الجمرة في يوم آخر جَاز، ويمكن أن يتأدى جميع الرَّميات بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وإن رماه هو إلى تلك الجمرة في ذلك اليوم فوجهان. قال في "التهذيب": أظهرهما: الجواز كما لو دفع إلى مِسْكِينٍ مُدّاً في كفارة ثم اشتراه ودفعه إلى آخر، وعلى هذا قد يتأدى جميع الرَّميات بِحَصَاةٍ وَاحِدَةٍ. الثالثة: العَاجِز عن الرمي بنفسه لمرض أو حبس ينيب غيره ليرمي عنه؛ لأن الإِنَابة جائزة في أصْلِ الحَجِّ فكذلك في أبعاضه، ويستحب أن يناول النَّائِب الحَصَى إن ¬
قدر عليه ويكبر هو، وكما أن الإنابة في أَصْلِ الحَجِّ إنما تجوز عند العلّة التي لا يرجى زَوَالُهَا فكذلك الإِنَابَة في الرَّمْي لكن النظر هَاهُنَا إلى دَوَامِهَا إلى آخر وَقْتِ الرمي، ولا ينفع الزوال بعده، وكما أن النَّائِبَ في أصْلِ الحَجِّ لا يَحُجُّ عَنِ المُنِيبِ إلا بعد حَجَّهِ عَنْه نَفْسِهِ، فالنَّائب في الرَّمي لا يرمي عن المُنِيب إلا بَعْدَ أن يرمي عَنْ نَفْسِهِ، ولو فعل وقع عن نفسه، ولو أغمي عليه ولم يأذن لغيره في الرَّمْي عنه لم يجز الرَّمي عنه، وإن أذن فللمأذون الرَّمي عنه في أَصَحِّ الوجهين، ولا يبطل هَذَا الإِذْن بالإغماء؛ لأنه وَاجِبٌ كما لا تبطل الاستنابة في الحَجِّ بالموت بِخِلاَفِ سَائِرِ الوَكَالاَتِ. وإذا رَمَى النَّائِبُ ثُمَّ زَالَ عُذر المُنِيبُ والوقتُ بَاقٍ هَلْ عليه إعادة الرمي؟ قال الأكثرون لاَ، وقد سقط الرمي عنه برمي النائب، وفي "التهذيب" أنه على القولين فيما إذا أَحَجَّ المريض عنه نَفْسِهِ ثم برأ. وقوله في الكتاب: (لم ينعزل نائبه) معلم بالواو، وقوله: (لأنه زيادة في العجز) معناه أن الدَّاعِيَ إلى هذه الإِنَابَةِ عَجْزُ الحَاجِّ عَنِ القِيَامِ بِهَذَا النُّسُك، فإذا طَرَأَ الإغْمَاءِ عَلَى المَرَضِ، ازداد العَجْز وتأكد الدَّاعي، فكيف نقول بانقطاع النيابة؟! -والله أعلم-. قال الغزالي: وَلَوْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ فَفِي تَدَارُكِهَا بَقِيَّةِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ قَوْلاَنِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَتَدَارَكُ فَفِي كَوْنِهِ أَدَاءً قَوْلاَنِ، فَإِنْ قُلْنَا: أَدَاءً تَأَقَّتْ بِمَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَكَانَ التَّوْزِيعُ عَلَى الأَيَّامِ مُسْتَحَبّاً، وَلاَ بُدَّ فِي التَّدَارُكِ مِنْ رِعَايَةِ التَّرْتِيبِ فِي المَكَانِ، فَلَوْ ابْتَدَأَ بِالْجَمْرَةِ الأَخِيرَةِ لَمْ يُجْزِهِ بَلْ يَبْدَأُ بِالْجَمْرَةِ الأولَى وَيَخْتِمُ بِجَمْرَةِ العَقبةِ، وَفِي وُجُوب تَقْدِيم القَضَاءِ عَلَى الأَدَاءِ قَوْلاَنِ، وَمَهْمَا تَرَكَ الجَمِيعَ يَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ فِي قَوْلٍ، وَيلْزَمُهُ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ فِي قوْلٍ لِوَظِيفَةِ كُلِّ يَوْمٍ دَمٌ، وَفِي قَوْلِ دَمَانِ: دَمٌ لِجَمْرَةِ العَقَبَةِ وَدَمٌ لِأَيَّامِ مِنًى، وَفِي أَقَلِّ مَا يُكْمَلُ بِهِ الدَّمُ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: وَظِيفَةُ يَوْمٍ، وَالثَّانِي: وَظِيفَةُ جَمْرَةٍ، وَالْثَّالِثُ ثَلاَثُ حَصَيَاتٍ. قال الرافعي: هذه البقية تنظم مسائل: إحداها: إذا ترك رَمْيُ يَوْمِ القَرّ عمداً أو سهواً هل يتداركه في اليوم الثاني أو الثَّالث؟ أو ترك رمي اليومِ الثَّانِيَ أو رَمْي اليومين الأولين هل يتداركه في الثالث؟ فيه قولان: أصحهما: نعم قاله في "المختصر" وغيره وبه قال أَبُو حَنِيفة كالرعاة وأهل السقاية. والثاني: لا كما لا يتدارك بَعْدَ أيام التَّشْرِيق. التفريع إن قلنا: بأنه لا يتدارك في بقية الأيام فهل يتدارك رمي اليَوْم في اللَّيْلَةِ التي تَقَعْ بَعْدَه من لَيَالِي التَّشْرِيق؟ فيه وجهان، وهما مفرعان على الصَّحيحَ في أن وقته لا
يمتد الليلة على ما سبق. إن قلنا: بالتدارك فتدارك هو قضاء أو أداء؟ فيه قولان: أحدهما: أنه قضاء؛ لمجاوزته الوَقْتَ المَضْرُوب له. وأظهرهما: أنه أداء، ولولاه لما كان للتدارك فيه مدخل كما لا يتدارك الوقوف بعد فواته. التفريع إن قلنا: أداء فجملة أيام مِنَى في حكم الوَقْتِ الوَاحِدِ، وكل يوم للقدر المأمور به فيه وقت اختيار كأوقات الاختيار للصَّلَوَاتِ، ويجوز تقديم رمي يوم التَّدارك على الزَّوَالِ. ونقل الإمام -رحمه الله- أن على هذا القولِ لا يمتنع تقديم رَمْي يَوْمٍ إِلَى يَوْمٍ لكن يجوز أن يقال: أن وقته يتسع من جهة الآخر دون الأول، فلا يجوز التَّقْدِيم (¬1). وإن قلنا: إنه قضاء فتوزيع الأقدار المعينة على الأيام مستحق، ولا سبيل إلى تقديم رَمْيِ يَوْمٍ إلى يَوْمٍ ولا إلى تَقْدِيمِهِ على الزَّوَالِ، وهل يجوز بالليل؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم؛ لأن القضاءَ لا يَتَأَقَّتُ. والثاني: لا؛ لأن الرمي عبادة النَّهَارِ كالصوم، وهل يجب الترتيب بين الرَّمْيِ المتروك ورمىِ يوم التدارك؟ فيه قولان: ويقال وجهان: أصحهما: نعم، كما يجب الترتيب في المكان على ما سيأتي. والثاني: لا، لأن الترتيب لِحَقِّ الوقت فيسقط بخروج الوقت والوجهان عند الأئمة -رحمهم الله- مبنيان على أن المفعول تداركاً قضاء أم أَدَاءٌ، إن قلنا: أداء اعتبرنا الترتيب، وإن قلنا: قضاء فلا ترتيب كترتيب قضاء الصلوات الفائتة. التفريع: إن لم نوجب الترتيب فَهل يَجِب على أصْحَاب الأعْذَارِ كالرعاة؟ فيه وجهان، قال في "التتمة" ونظيره أن من فاته الظُّهْرَ لا يجب عليه الترتيب بينه وبين العصر، ولو أخر الظُّهْرِ بِسَبَبٍ يجوز الجمع ففي الترتيب وجهان: ولو رمى إلى الجمرات كلها عن اليوم قبل أن يرمي إليها عن أمْسِه أجزأه، إن لم نوجب الترتيب؛ وإن أوجبناه فوجهان: أصحهما: أنه يجزئه ويقع عَنِ القَضَاءِ؛ لأن مَبْنَى الحَجِّ على تقديم الأولى فالأولى. والثاني: لا يجزئه أصلاً وزاد الإمام -رحمه الله- فقال: لو صرف الرمي في قصده إلى غير النُّسُكِ، كما لو رمى إلى شَخْصٍ أو دابة في الجمرة، وفي انصرافه عن النُّسك الخلاف المذكور في الطواف فإن لم ينصرف وقع عن أمسه ولغى قصده، وإن ¬
انصرف فإن شرطنا الترتيب لم يجزه أصْلاً، وإن لم نشترطه أجزأه عن يومه. ولو رمى إلى كل جمرة أربعة عشرة حَصَاة سبعاً عن أمسه وسبعاً عن يَوْمِهِ جَازَ، إن لم نعتبر الترتيب وإن اعتبرناه فَلاَ يَجُوز، وهو نصه في "المختصر" هذا كُلُّه في رمي اليوم الأول والثاني من أيام التشريق. أما إذا ترك رَمْيِ يَوْم النَّحْرِ ففي تداركه في أيَّامِ التشريق طريقان: أصحهما: أنه على القولين. والثاني: القطع بأنه لا تدارك لمغايرة ذلك الرمي رمي أَيَّامِ التشريق في العدد، والوقت والحكم فإن ذلك الرمي يؤثر في التَّحلل دون هذا الرَّمْيِ. الثانية: يشترط في رمي أيام التشريق الترتيب في المكان وهو أن يرمي أولاً إلى الجمرة التي تلي مسجد الخِيف، وهي أقرب الجمرات من مِنَى وأبعدها من مكة، ثم إلى الجَمْرَةِ الوُسْطَى، ثم إلى القصوى وهي جمرة العقبة، فلا يعتد برمي الثانية قبل تمام الأولى ولا بالثَّالِثَةِ قَبْلَ تَمَامِ الأوليين. وعن أبي حنيفة -رحمه الله- لو نكسها أعاد فإن لم يفعل أجزأه. لنا أنه -صلى الله عليه وسلم-: "رَتَّبَهَا وَقَدْ قَالَ": خُذُوا عَنِّي مَنَاسكَكُمْ" (¬1) ولأنه نسكٌ مُتَكَرِّرٌ فيشترط فيه التَّرْتِيب كما في السَّعْي فلو ترك حصاةٌ ولم يدر من أين تركها أخذ بأنه تركَهَا مِنَ الجَمْرَةِ الأُولَى، ويرمي إليها وَاحِدَةٌ ويعيد رمي الأخرتين، وفي اشتراط الموالاة بين رَمْيِ الجمرات ورَمَيَاتِ الجمرة الواحدة الخلاف المذكور في الطَّوَافِ. والسنة أن يرفع اليَدَ عند الرمي فهو أَهْوَنُ عليه، وأن يرمي أيام التشريق مستقبل القِبلَة، وفي يوم النَّحْرَ مستدبرها، هكذا ورد الخبر (¬2)، وأن يكون نازلاً في رَمْي اليومين الأولين ورَاكِباً في اليوم الأخير يرمي ويسعى عقيبه، كما أنه يَوْم النحر يرمي ثم ينزل، هكذا أورده الجمهور، ونقلوه عن نصه في "الإملاء"، وفي "التتمة"؛ أن الصَّحيح ترك الركوب في الأَيَّام الثلاثة (¬3). والسنة إذا رمى الجَمْرَةَ الأُولَى أن يتقدم قليلاً قدر ما لا يبلغه حَصَيَاتُ الرامين، ويقف مستقبل القبلةَ ويدعو وَيذْكُرُ الله تَعَالى طَوِيلاً بقدر قِرَاءَةِ ¬
سُورَةِ البَقَرَةِ. وإذا رمى إلى الثَّانية فعل مثل ذلك، ولا يَقِفْ إذا رمى إِلَى الثَّالِثَةِ. وقوله في الكتاب: (ولا بد في التدارك من رعاية الترتيب في المكان) قد يوهم اختصاص هذا الترتيب بالتَّدارك، لكنه لا يختص، والترتيب شرط في الابتداء والتدارك على نَسَقٍ وَاحِدٍ. الثالثة: إذا ترك رمي بَعْضِ الأيام وقلنا بأنه يتدارك في بقية الأيام فَتَدَارك فلا دَمَ عَلَيْهِ، وقد حصل الانجبار، وفيه قول أنه يلزمه الدّم مع التدارك كما لو أَخَّر قضاء رَمَضَانَ حتى أدركه رَمَضَانُ آخر يقضي ويُفْدِي، وُيعْزَى هذا إلى تخريج ابْنِ سُرَيْجٍ -رحمه الله-. ولو نَفَر يوم النحر أو يوم القَرِّ قبل أن يرمي ثُمَّ عَادَ ورمى قبل الغُروبِ وَقَع الموقع ولا دَمَ عَلَيْهِ، ولو فرض ذلك في النَّفر الأول فكمثله في أصَحِّ الوجهين: والثاني: أنه يلزمه الدم؛ لأن النَّفْرَ في هذا اليوم سَائِغٌ في الجملة، فإذا نفر فيه خرج عن الحَجِّ فلا يسقط الدَّمُ بعوده ولو لم يتدارك ما تركه، أو قلنا: لا يمكن التَّدَارك لزم الدَّم لا محالة، وكم يجب يختلف ذلك بحسب قدر المتروك وفيه صُوَرٌ: إحداها: إذا ترك رمي أَيَّامِ التشريق والتَّصْوِير فِيمَا إذا تَوَجَّهَ عليه رمي اليوم الثَّالِث أيضاً قولان: أحدهما: يلزمه ثلاثة دِمَاء؛ لأن رَمْيِ كُلِّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ برأسها. والثاني: لا يجب أكثر من دَمٍ كما لا يجب لترك الجمرات الثلاث أكثر من دَمٍ، ولو ترك معها رمي يوم النحر أيضاً فإن قلنا: بالأول فعليه أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ، وإن قلنا: بالثَّانِي فوجهان: أحدهما: أنه لا يلزمه أكثر من دم لاتحاد جنس الرمي. وأصحهما: أنه يلزمه دَمَانِ، أحدهما أن ليوم النَّحْرِ، والثاني لأيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ لاختلاف الرميين في الحُكْمِ، وإذا ضممت هَذَا الخلافَ بعضَه إلى بَعْضٍ، والسؤال عن تَرْكِ رمي الأيام الأربعة فَقُل: فيه ثلاثة أقوال كما في الكتاب: دم، دمان أربعة دماء. والأصح منها على ما ذكره في "التهذيب" إيجاب أربعة دِمَاء، لكن الجمهور بنوا الأقوال الثلاثة على الأَصْلِ السَّابِقِ فيما يتدارك مِنْ رَمْي هَذِهِ الأَيَّامِ، فإن قلنا: يتدارك رمي بعضها في البَاقي اكتفيِنا بِدَمٍ؛ لأنا جعلنا الرَّمْيَ كَالشَّيْءِ الوَاحِدِ، وإن قلنا: رمي يوم النحر لا يتدارك ورمي غيره يتدارك فقد جعلناها نَوْعَيْنِ مختلفين، فيلزمه دَمَان، وإن قلنا: إن شيئاً مِنْهَا لا يتدارك فعليه أربعةُ دِمَاءٍ؛ لأن رمي كل يوم على هذا يفوت بغروب شَمْسِهِ، ويستقر في الذِّمَّةِ بدله، فإن لم نر ترجيح القول الموجب لأربعة دِمَاءٍ، لأمر من خارج فقضية هذا البناء ترجيح القول المكتفي بِدَمٍ وَاحِدٍ، لاتفاقهم على أن الأَصَحَّ
التَّدارك كَمَا مَرَّ. الثانية: لو ترك رَمْيَ يَوْمِ النَّحْرِ أو رَمْيَ وَاحِدٍ من أيام التشريقِ بأسْرِهِ يَلْزَمُهُ دَمٌ، وإن ترك رمي بعض اليوم نُظِر إن كان مِنْ وَاحِدٍ مِنْ أيام التَّشْرِيق فقد جمع الإمام فيه طُرُقاً: أحدها: أن الجمرات الثَّلاث كالشَّعَرَاتِ الثَّلاَثِ، فلا يكمل الدَّمُ فِي بَعْضِهَا، فإن تَرَكَ جمرةً ففيما يلزمه؟ الأقوال التي يأتي ذكرها في حَلْق شَعْره. أصحها: مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ. والثاني: دِرْهَمٌ. والثَّالِثُ: دَمٌ وإن ترك جمرتين فعلى هذا الْقِيَاس، وعلى هذا لو تَرَكَ حَصَاةً مِنْ جَمْرَةٍ فعن صاحب "التقريب": أن على قولنا: في الجمرة الواحدة ثُلُثُ دَمٍ يجب في حَصَاةٍ وَاحِدَةٍ جُزْءٌ مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ جُزءاً مِنْ دَمٍ رعاية للتبعيض، وعلى قولنا: إن فيها مُدّاً، أو درهماً يحتمل أن نُوجِبَ سُبُعَ مُدًّ أو سُبع دِرْهَمٍ، ويحتمل أن لا نبعضهما. والطريق الثاني: أن الدَّمَ يكمل في وَظِيفَةِ الجَمْرَةِ الوَاحِدَةِ، كما يكمل في وظيفة جَمْرَة يوم النَّحْرِ، وفي الحَصَاة والحصاتين الأقوال الثلاثة: والثالث -وهو الأظهر-: أن الدَّمَ يكمل بتَرْكِ ثَلاَثِ حَصَيَاتٍ، كما يكمل بِحَلْقِ ثَلاَثِ شعَرَاتٍ، وفي الحَصَاةِ وَالْحَصَاتَيْنِ الأقوالُ الثَّلاَث. واعلم أن الخلافَ المذكورَ ليس في تَرْكِ الحَصَاةِ والحصاتين مطلقاً ولكن إن ترك حصاة الجمرة الأخيرة من آخر أيام التَّشْرِيقِ ففيه الخِلاَف، وإن تركها من الجَمْرَةَ الأخيرة مِنْ يوم القَرِّ أو النَّفْرِ الأول، ولم ينفر، فإن قلنا: الترتيب غيرُ وَاجِبٍ بين التدارك ورمي الوقت صَحَّ رَمْيُه، لكنه تَرَكَ رَمْى حَصَاةٍ وَاحِدَةٍ ففيه الخلاف، وإنَ أوجبنا التَّرتِيب فهو على الخلاف السَّابق في أن الرمي بنية اليوم هَلْ يقع عن الماضي؟ إن قلنا: نعم، تم المتروكُ بما أتى به في اليَوْمِ الذي بعده، لكنه يكون تاركاً لرمي الجَمرَةِ الأولى، والثَّانِيَة في ذلك اليوم فعليه دَمٌ، وإن قلنا: لا كان تاركاً رمي حصاة ووظيفة يوم فعليه دَمٌ، إن لم نفرد كلَّ يَوْمٍ بِدَمٍ، وإن أَفردنا فعليه دَمٌ لوظيفة اليوم، وفيما يجب لترك الحَصَاةِ الخلاف المذكور. وإن تركها من إِحْدَى الجمرتين الأوليين في أي يوم كان فعليه دم؛ لأن ما بعدها غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لوجوب الترتيب في المَكَانَ، فهذا إذا ترك بعض رمي من أيام التشريق، وإن ترك بَعْضَ رَمْي مِنْ يَوم النَّحْرِ فقد ألحقه في "التهذيب" بما إذا ترك من الجمرة الأخيرة في الْيَوْمِ الأَخِير. وقال في "التتمة": يلزمه دم وإن ترك حصاة؛ لأنها من أَسْبَابِ التحلل فإذا ترك
شيئًا منها لم يتحلل إلا بِبَدَلٍ كَامِلٍ -والله أعلم-. وعن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه إِنْ ترك من يَومِ النَّحْرِ أَرْبَعَ حَصَيَاتٍ فعليه دَمٌ، وإن ترك ثَلاثاَ فَلاَ وفي سَائِرِ الأيام إن ترك إحدى عشرة حصاة فَعَلَيْهِ دَمٌ، لأن ترك عَشْراً أو أقل فَلاَ اكتفاءَ بالأكثر، وهذا يخالف الوجوه الثَّلاثة المذكورة في الكتاب فيما يكمل به الدَّم كلها، فلذلك أعلمت بالحاء، وحكى في "النّهاية" وجهاً آخر غريباً وهو: أن الدَّمَ يكمل في حَصَاةٍ وَاحِدَةٍ. فرع: قال أَبُو سَعِيدٍ المتولي: لو ترك ثَلاَثَ حَصَيَاتٍ من جملة الأيام ولم يَدْرِ موضعها أخذ بالأسوأ وهو أنه ترك واحدة من يَوْمِ النَّحْرِ وأخرى من الجَمْرَةِ الأولَى يوم القَرِّ وأخرى من الجَمْرَةِ الثانية يوم النَّفْرِ الأَوَّلِ. ثم طَوَّلَ الكلام فيما يحصل له من ذَلِك، واختصاره: أنا إن لم نحسب ما يرميه بنية وظيفة اليَوْم عن الغائب فالحَاصِلُ سِتُّ حَصَيَاتٍ مِنْ رَمْي يَوْمِ النَّحْرِ لاَ غَيْرَ سواء شرطنا الترتيب بين التَّدَارُكِ ورمي الوقت أم لا، فإن حسبناه فَالحاصل رَمْيُ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَحَدُ أَيَّامِ التَّشريق لا غَيْر، سواء شرطنا الترتيب أم لا، وسببه لا يخفى على من أمعن النَّظر في الأصول السابقة. واعلم أن الحَاجَّ إذا فرغ مِنْ رَمْي اليَّوْم الثَّالِثِ من أيام التَّشْرِيقِ فيستحب له أن يأتي المحصب، وينزل به ليلة الرابع عشَر ويُصَلِّي به الظُّهْرَ والعصر والمغربَ والعِشَاءَ، روى أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صَلَّى الظُّهْرَ وَالعَصْرَ وَالمَغْرَبَ وَالْعِشَاءَ بِالْبَطْحَاءِ ثُمَّ هَجَعَ بِهِمَا هَجْعَةُ ثُمْ دَخَل مَكَّةَ" (¬1). ولو ترك النزول به لم يلزمه شَيْءٌ، وروى عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "نَزَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- المحصب وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ فَمَنْ شَاءَ نَزَلَهُ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَنْزِلْهُ" (¬2). وحد المحصب من الأبطح ما بين الجبلين إلى المقبرة سمى به لاجتماع الحصباء فيه يحمل السيل فإنه موضع منهبط. ¬
الفصل العاشر في طواف الوداع
الفَصْلُ العَاشِرُ فِي طَوَافِ الوَدَاعِ قال الغزالي: وَهُوَ مَشْرُوعٌ إِذَا لَمْ يَبْقَ شُغْلٌ وَتَمَّ التَّحَلُّلُ، فَلَوْ عَرَّجَ بَعْدَهُ عَلَى شُغْل بَطُلَ إلاَّ فِي شَدِّ الرِّحَالِ، فَفِيهِ تَرَدُّدٌ، وَفِي كَونهِ مَجْبُوراً بِالدَّمِ قَوْلاَنِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى غيْرِ الحَاجِّ، وَمَهْمَا انْصَرَفَ قَبْلَ مُجَاوَزَةِ مَسَافَةِ القَصْرِ وَتَدَارَكَ جَازَ، وَالحَائِضُ لاَ يَلْزَمُهَا الدَّمُ بِتَرْكِ طَوَاف الوَدَاعِ، فَإِنْ طَهُرَت قبْلَ مَسَافَةِ القَصْرِ لَمْ يَلْزَمْهَا العَوْدُ بِخِلاَفِ المُقَصِرِ بَالتَّرْكِ، وَقِيلَ فِي المَسْأَلَةِ قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ حَاصِلُهُمَا: أَنَّ الوَدَاعَ يَفُوتُ بِمُجَاوَزَةِ الحَرَمِ أَوْ مُجَاَوَزَةِ مَسَافةِ القَصْرِ. قال الرافعي: طَوَافُ الوَدَاعِ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِعْلًا وَقَولاً (¬1). أما الفعل فَظَاهِرٌ، وأما القول فنحو ما روي عن ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَتَفَرَّقْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ إِلاَّ أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْحَائِضِ" (¬2). ومضمون الفصل صور نشرحها ونضيف إليها مَا لا غنًى عنه. إحْدَاها: ذكر الإمام في "النهاية" أن طواف الوداع من مَنَاسِكِ الحَجِّ وليس على الخارج من مَكَّة وداعٌ لخروجِهِ مِنْهَا، وتابعه صَاحِبُ الكِتَاب لأنه قال: وهو مشروع إذا لم يَبْقَ شُغْلٌ وتم التحلل، فخَصَّهُ بِحَالِ تمام التَّحَلُّلِ، وذلك إنما يكون في حَقِّ الخارج وأيضًا فقد صَرَّحَ مِنْ بعد وقال: ولا يجب على غَيْرِ الخَارج لكن صَاحِبَا "التهذيب" و"التتمة" وغيرهما أوردوا أن طَوَاف الوَدَاعِ ليس من جملة المَنَاسِكِ حتى يؤمر به من أراد مفارقة مَكَّة إِلَى مسافة القَصْرِ، سواء كان مَكِّياً يريد سفراً أو آفاقياً يريد الرجوع إلى أَهْلِهِ، وهذا أقرب تعظيماً للحرم وتشبيهاً لاقتضاء خروجه للوداع باقتضاء دخوله الإحرام، ولأنهم اتفقوا على أنه المَكِّيَ إذا حَجَّ وهو عازم على أن يقيم بوطنه لا يؤمر بطَوَافِ الوَدَاع، وكذا الآفاقي إذا حَجَّ وأراد المقام بها، ولو كان من جُمْلَةِ المَنَاسِكِ لَأشبه أن يعمَ الحَجيج. وعن أبي حنيفة -رحمه أن- أن الأفاقي إن نوى الإِقَامة بعد أن حَلَّ له النَّفْرُ لم يسقط عنه الوداع. ¬
الثانية: طواف الوَدَاع ينبغي أن يقع بعد جَمِيع الأَشْغَالِ ويعقبه الخروج من غَيْرِ مُكْثٍ، فَإِنْ مَكَثَ نظر إن كَان لِغَيْرِ عُذر أو اشتغل بِغَيْرِ أسباب الخُروج من شراء مَتَاعٍ أو قَضَاءِ دَيْنِ أو زيارة صَدِيقٍ أو عيادَةِ مَرِيضٍ فعليه إِعَادة الطَّوَافِ خلافاً لَأبي حنيفة -رحمه الله- حيث قال: لا حاجة إلى الإِعَادة، وإن أقام بها شهراً أو أكثر، وإن اشتغل بأسباب الخروج من شراء الزَّادِ وَشَدِّ الرَّحْلِ ونحوهما فقد نقل الإمام فيه وجهين: أحدهما: أنه يحتاج إلى الإِعَادة ليكون آخر عَهْدِهِ بالبيت. وأصحهما: وبه أجاب المعظم أنه لا يحتاج؛ لأن المشغول بأسْبَابِ الخُرُوجِ مَشْغُولٌ بالخُروجِ غَيْر مُقِيم. الثالثة: طواف الوَدَاع واجبٌ (¬1) مَجْبُورٌ بِالدَّمِ أو مستحب غَيْر مَجْبُورٍ؟ فيه قولان كالقولين في الجَمْع بين اللَّيْلِ والنَّهَارِ بعرفة وأخوات تلك المَسْألَة ووجه الوجوب، وبه قال أبو حنيفة وأحمد لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَنْصَرِفَنَّ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْت" (¬2) وهذا أصح على ما قاله صاحب "التهذيب" و"العدة". ووجه المنع وبه قال مالك أنه لو كان واجباً لوجب على الحائض جبره بالدم؛ لأن المعذور يَفتدى عن الوَاجِبَاتِ، واحتج لهذا القول أيضاً بأن طواف القدوم لا يجب جَبْرُه بالدَّم، فكذلك طَواف الوَدَاعِ لكن عن صاحب "التقريب" إلحاق طواف القدوم بطواف الوَدَاع في وجوب الجَبْرِ، وعلى التسليم بالفَرْقِ أن طواف القُدومِ تحية البقعة وليس مقصوداً في نفسه. ألا ترى أنه يدخل في طَوافِ العُمْرَةِ وطواف الوَدَاعِ مقصود في نفسه ولذلك لا يدخل تحت طواف آخر. وقوله في الكتاب: (وفي كونه مجبوراً بالدم قولان، أي على سبيل الوجوب، إذ لا خلاف في أصْلِ الجبر، فإته مستحب إن لَمْ يَكُنْ وَاجِباً، ويجوز إعلامه بالواو، لأن القاضي ابْنَ كَجٍّ روى طريقة قاطعة بنفي الوجوب. الرابعة: إذا خرج من غير وَدَاعٍ وقلنا: بوجوب الدم ثم عَادَ وَطَافَ فلا يخلو إما أن يعود قبل الانتهاء إلى مسافة القصر أو بعده، فأما في الحالة الأولى فيسقط عنه الدَّم، كما لو جاوز الميقات غير محرم ثم عاد إليه، وفي الحالة الثَّانِيَةِ وَجْهَانِ. أصحهما: أنه لا يسقط استقراره بالسَّفَرِ الطَّوِيلِ ووقوع الطَّوَافِ بَعْدَ العَود حَقّاً للخُرُوج الثَّانِي. ¬
والثاني: يسقط كما لو عاد قبل الانتهاء إليها ولا يجب العود في الحالة الثَّانِيَة، وأما في الأولى فسيأتي. الخامسة: ليس على الحائض طواف الوداع: "لأَنَّ صَفِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- حَاضَتْ فَأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي أَنْ تَنْصَرِفَ بِلاَ وَدَاعٍ" (¬1). ثم إذا طهرت قبل مفارقة خطة مكة لزمها العَوْدُ والطَّوَافُ، وإن جاوزته وانتهت إلى مسافة القَصْرِ لم يلزمها، وإن لم تنته إلَى مسافة القصر فالنص أنه لا يلزمها العود، ونص في المقصر بالترك أنه يلزمه العَوْدُ فمنهم من قرر النَّصَّيْنِ وَهُوَ الأَصَحُّ. والفرق أن الحائض مأذونة في الانصراف من غير وَدَاعٍ والمقصر غير مأذون فيه. ومنهم من قال: في الصورتين قولان: بالنقل والتخريج. أحدهما: أنه يلزمه العود فيهما؛ لأنه بعد في حَدِّ حَاضِري المَسْجِدِ الحرام. والثاني: لا يلزمه؛ لأن الوداع يتعلق بِمَكَّة، فإذا فارقها لم يفترق الحال بين أن يبعد عنها أو لا يبعد، فإن قلنا: بالثاني فالنظر إلى نَفْسِ مَكَّة أو إلى الحَرَمِ؟ فيه وَجْهَان: أولهما: أظهرهما، وقد تَقَدَّمَ نَظِيرُهُمَا فِي المَوَاقِيتِ. وقوله: (حاصلهما أن الوداع يفوت بمجاوزة الحرم أو مجاوزة مسافة القصر) معناه أنا إذا أوجبنا العَدَدَ قبل مسافة القصر فَإِنَّمَا يَحْصُلُ الفَوَاتُ بالانتهاء إلى مسافة القَصْرِ، وإذا لم نوجبه فإنه يحصل الفوات بمجاوزة الحَرَمِ، وفيه كلامان: أحدهما: أن الفوات إنما يظهر على تقدير عدم تأدي الوَاجِب بالطَّوَافِ بعد العَوْدِ، لكنا قد بينا تأدي الواجب به وسُقُوط الدم. أما إذا فرض قبل الانتهاء إلى مسألة القَصْرِ فلا خلاف. وأما إذا فرض بعده فعلى أحد الوجهين: والثاني: أن تعليق الفوات بمجاوزة الحرم على القول الثاني تفريعٌ على أن المعتبر مجاوزة الحرم لكنا ذكرنا وَجْهاً آخر أن الاعتبار بنفس مكة، فعلى ذلك الوجه الفوات لو كان، ربما كان بمجاوزة مَكَّة وإن لم يجاوز الحرم، ثم إذا أوجبنا العود فعاد وطاف سَقَطَ الدَّمُ، وإن لم يعد لم يسقط، وإن لم نوجبه ولم يعد فلا دَمَ عَلَى الحَائِضِ، ويجب على المُقَصِّرِ بالترك. واعلم: أن طواف الوداع حكمه حكم سائر أنواع الطواف في الأركان ¬
والشَّرائط (¬1)، وعن أبي يعقوب الأبيوردي (¬2) أن طواف الوداع يصح من غير طهارة وتجبر الطَّهَارَةُ بِالدَّمِ، واستحب الشافعي -رضي الله عنه- للحاج إذا طَافَ لِلْوَدَاع أن يقف بحد الملتزم بين الركن والباب ويقول. اللَّهُمَّ الْبَيْتُ بَيْتُكَ وَالْعَبْدُ عَبْدُكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، حَمَلَتْنِي عَلَى مَا سَخَّرْتَ لِيَ مِنْ خَلْفِكَ حَتَّى سَيَّرْتَنِي فِي بِلاَدِكَ وَبَلَّغْتَنِي بنَعِيمِكَ حَتَّى أَعَنْتَنِي عَلَى قَضَاءِ مَنَاسِكِكَ فَإِنْ كُنْتَ رَضِيتَ عَنِّي فَازْدَدْ عَنِّي رِضًا، وإِلاَّ فَلأنَ قَبْلَ أَنْ نَنأَى عَنْ بَيْتِكَ دَارِي، هَذَا أَوَانُ انْصِرَافِي إِنْ أَذِنْتَ لِي غَيْرَ مُسْتَبْدِلِ بِكَ، وَلاَ بِنَبِيِّكَ، وَلاَ رَاغِبٍ عَنْكَ، وَلاَ عَنْ بَيْتِكَ اللَّهُمَّ أَصْحِبْنِي الْعَافِيَةَ فِي دِينِي، وَأَحْسِنْ مُنْقَلَبِي وَارْزُقْنِي طَاعَتِكَ مَا أَبْقَيْتَنِي". قال وما زاد فحسن، وزيد فيهِ: "وَاجْمَعْ لِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إِنَّكَ قَادِرٌ عَلَى ذلِكَ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَينْصَرِفُ" (¬3). وينبغي أن يتبع نظره البيت ما أمكنه ويستحب أن يشرب مِنْ مَاءِ زمزم (¬4)، وأن يزور بعد الفراغ من الحَجِّ قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد روى عنه أنه قال: "مَنْ زَارَني بَعْدَ مَوْتَى فَكَأنَّمَا زَارَني فِي حَيَاتِي" (¬5) "وَمَنْ زَارَ قَبْرِي فَلَهُ الْجَنَّةُ" (¬6) (¬7). ¬
الفصل الحادي عشر في حكم الصبي
الفَصْلُ الحَادِي عَشَرَ فِي حُكْمِ الصَّبِيَّ قال الغزالي: وَللْوَلِيِّ أَنْ يُحْرِمَ عَنِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يُمَيِّزْ (ح) وَيُحْضِرَهُ المَوَاقِفَ فَيَحْصُلُ الحَجُّ لِلصَّبِيِّ نَفْلاً، وَلِلأُمِّ ذَلِكَ أَيْضاً وَفِي اَلقَيِّمِ وَجْهَانِ، وَهَلْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُحْرِمَ عَنِ المُمَيِّزِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَالمُمَيِّزُ يُحْرِمُ بِإذْنِ الوَليِّ، وَلَوِ اسْتَقَل لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، أَمَّا المُمَيَّزُ فَيَتَعَاطَى الأَعْمَالَ بِنَفْسِهِ. قال الرافعي: حج الصبي صحيح لما روي عن ابْنِ عَباسٍ -رضي الله عنهما-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِامْرَأَةٍ وَهِي فِي مَحَفَّتِهَا، فَأَخَذَتْ بِعَضُدِ صَبِيٍّ كَانَ مَعَهَا، فَقَالَتْ: أَلِهذَا حَجٌّ، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: نَعَمْ وَلَكِ أجْرٌ" (¬1). وعن جابر -رضي الله عنه- قال: "حَجَجْنا مع رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَمَعَنَا النِّسَاءُ والصِّبْيَانُ فَلَبَّيْنَا عن الصِّبْيَانِ وَرَمَيْنَا عَنْهُمْ" (¬2). والمنقول عن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه لا ينعقد إِحْرَام الصَّبِيِّ لنفسه، ولا إحرام الولي له، وربما يقولون: أنه ينعقد ليتدرب ولا يعتد به، ولا يؤاخذ بمقتضيات الإِحْرَامِ. إذا عرفت ذلك فإن حَجَّه يختص بأحْكَامٍ يَرْجِعُ بَعْضُهَا إِلَى الإحْرَام وَبعْضُهَا إِلَى الإِحْرَام وَبَعْضُهَا إِلَى الأَفْعَالِ، وبعضها إلى المؤنات، ولوازم المحَظورات، فأراد أن يبين في هذا الفَصْلِ تِلْكَ الأَحْكَامِ. أما الإحرام فينظر إن كان الصبي مميزاً أحرم بإذن الوَلي، وفي استقلاله وجهان: أحدهما: وبه قال أبو إسحاق يستقل، لأنه عبادة كما يستقل بالصوم والصلاة. وأظهرهما: لا يستقل؛ لأنه يفتقر إلى المالِ، وهو محجور عليه في المَالِ، فإن ¬
قلنا بالأول، فللولي تَحْلِيلُه كما سيأتي، وليس له أن يُحْرِمَ عنه، وإن قلنا بالثاني فهل لِلْوَليِّ أن يحرم عنه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، للاستغناء بعبارته. والثاني: نعم؛ لأنه مُوَلَّى عليه بدليل عدم الاستقلال، قال الإمام -رحمه الله- وهذا ظَاهِرُ المَذْهَبِ. وإن لم يكن مميزاً أحرم عنه وَلَيُّه، سواء كان مُحِلاًّ أَوْ مُحرِماً، وسواء حَجَّ عن نفسه أم لا، ولا يشترط حضور الصبي ومواجهته في أصح الوجهين، والمجنون كالصَّبِيِّ الذي لا يميز يحرم عنه وليه، وذكر القَاضِي ابْنُ كِجٍّ والحَنَّاطِي -رحمهم الله-، أنه لا يجوز الإحْرَامُ عَنْهُ، إذ ليس له أَهْلِيَّةُ العِبَادَاتِ، والمغمى عليه لا يحرم عنه غيره؛ لأنه لَيْسَ بِزَائِلِ العَقْلِ، وبروءه مرجو على القُرْبِ. وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: إذا أغمي عَلَيْهِ في الطريق أَحْرَمَ عَنْهُ رُفَقَاؤُهُ. فإن قلت: ومن الولي الذي يحرم عن الصَّبِيِّ أو يأذن له؟ قلنا: الأب يتولى ذلك، وكذا الجد وإن علا عِنْد عَدَمِ الأب، ولا يتولاه عند وجوده وفيه وجه تخريجاً مما إذا أسلم الجد والأَب كافر يتبعه الطِّفل عَلَى رأي وفي الوصي والقَيِّمِ وجهان: أحدهما: إنهما لا يتوليانه؛ لأنه تصرف في نَفْسِهِ كما لا يليان النِّكَاحِ. والثاني: أنهما يتوليانه كالأَب والجد؛ لأنهم جميعاً يتصرفون في المَالِ ويراعون مصالحه، والأول أَرْجَح عِنْدَ الإمَامَ، لكن العراقيين من أصْحَابِنَا أجابوا بالثَّانِي، وذكروا وجهين في الأخِ والعَمِّ إذا لم يكَن لَهُمَا وصايا وإذن من الحَاكِم. أظهرهما: المنع، وفي "الأم" طريقان. أحدهما: أن إحرامها عن الصَّبِيَّ مبنيٌّ على ولايتها التصرف في مَالِهِ، وفيه اختلاف قال الإصْطَخْرِيُّ: تليه، وقال عامة الأصحاب لاَ تَلِيه. والطريق الثاني: القطع بأنها تحرم، واحتجوا له بخبر ابن عباس -رضي الله عنهما- الذي رويناه في أول الفصل، وقالوا: الظاهر أنها كَانَت تحرم عن الذي رفعته من المحفة وبهذا الطريق أجاب صَاحِب الكتاب، والأول أشْبَهُ بكلام الأكْثَرِين. وأما الأفعال فَمَتَى صَارَ مُحْرِماً بإحرامه أو بإحرام الوَلِي أتى بِمَا يَقْدِرُ عَلَيهِ بنفسه، ويفعل به الولي ما يَعْجَزُ عنه، فإن قدر على الطَّواف عُلِّم حتى يطوف، وإلا طِيفَ بِهِ عَلَى مَا سَبَقَ، والسَّعْيُ كالطَّوَافِ، ويصلي عنه الولي ركعتي الطواف إذا لم يكن مميزاً،
وإن كان مميزاً صلاهما بنفسه، وحكى القاضي ابْنُ كِجٍّ وجهاً: أنه لاَ بُدَّ وأن يفعلها الوَليُّ بِكُلِّ حَالٍ، واشترط إحضاره بعرفة ولا يكفي حضور غيره عنه، وكذا يحضر بالمزدلفة والمواقف ويناول الأحْجار حتى يرميها إن قدر عليه، وإلا رمى عنه من لاَ رَمْيَ عَلَيْهِ، ويستحب أن يَضَعَها فِي يده أولاً ثم يأخذ ويرمي. وقوله في الكتاب: (للولي أن يحرم عن الصبي)، وقوله: (والمميز يحرم) معلمان بالحاء لما سبق. وقوله: (فيحصل الحج للصبي نفلاً) كالمكرر في هذا الموضع لِمَا سَبَق، أن التكليف شرط في الوقوع عن حجة الإسْلاَم. وقوله: (وفي القيم وجهان) يجوز إعلامه بالواو؛ لأن عن الدَّارِكِيّ طريقةً قاطعةً بنفي الجواز للقيِّم ونحوه. وقوله: (وأما المميز فيتعاطى الأفعال) إنما تحسم هذه اللفطة لو كان الكلام قبَلها في غير المميز لكن الكلام في المميز من قوله: (وهل للولي أن يحرم عن الصبي المميز). قال الغزالي: وَمَا يَزِيدُ مِنْ نَفَقَةِ السَّفَرِ عَلَى الوَلِيِّ أَوِ الصَّبِيِّ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلَوَازِمُ المَحْظورَاتِ لَمْ تَجِبْ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ نَظَرًا لَهُ فَإِنْ أَوْجَبَ فَعَلَى الوَليِّ أَوِ الصَّبِيِّ فِيهِ وَجْهَانِ، ويفسُد حَجُّهُ بِالجِمَاعِ، وَفِي لُزُومِ القَضَاءِ خِلاَفٌ مُرَتَّبٌ عَلَى البَدَنِيَّةِ وَأَوْلَى بِأَنْ لاَ يَجِبَ، لأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَإِنْ أَوْجَبَ لَمْ يَصِحَّ مِنَ الصَّبيِّ عَلَى أحدِ الوَجْهَيْنِ لِكَوْنِهِ فَرْضاً، فإذا بَلَغَ لَزِمَهُ القَضَاءُ بَعْدَ الفَرَاغِ عَنْ فَرْضِ الإسْلاَمِ. قال الرافعي: الغرض الآن الكلام في المؤنات وَفِدْيَةِ المَحْظُورَاتِ، وفيه صور. إحْدَاها: القدر الزائد في النفقة بسبب السَّفَرِ في مَالِ الصبي، أو على الوَلِيِّ؟ فيه وجهان، ويقال: قولان: إحداهما: أنه في مَالِ الصَّبِيِّ؛ لأن الحَجِّ يحصل له كما لو قبل له نكاحاً يكون المهر عليه؛ لأن النِّكَاحَ يحصل له. وأصحهما: أنه على الوَلِيِّ وبه قال مالك وأحمد؛ لأنه الذي أدخله وَوَرَّطَه فيه، ويخالف النِّكَاح فَإِنَّ المنكوحة قد تفوت والحج يمكن تأخيره إلى أن يبلغ؛ فعلى هذا لو أحرم الصَّبِيُّ بِغَيْرِ إِذِنِهِ وجَوّزناه حَلَّلَهُ فإن لم يفعل أَنْفَقَ عليه. الثانية: يُمْنَع الصَّبِيُّ المُحْرِم من مَحْظُورَاتِ الإِحْرَامِ فلو تطيب أو لَبِسَ نَاسِياً فلا فدية كالبالغ النَّاسِي، وإن تَعَمَّدَ فَقَدْ بَنُوهُ عَلَى أَصْلٍ يذكر في الجِنَايات وهو أن عَمْدَ الصَّبِيِّ عَمْدٌ أَوْ خَطَأ؟ إن قلنا: إنه خَطَأ فلا فدية.
وإن قلنا: عمد، وجبت وهو الأصَح. قال الإمام: المحققون قطعوا به؛ لأن عمده في العبادات كعَمْدِ البَالِغِ؛ ألا ترى أنه إذا تَعَمَّدَ الكَلاَمَ بَطَلَتْ صَلاتُه، أو الأكلُ بَطَلَ صَوْمُه. وعن الدَّارِكِي نقل قول فارق بين أن يكون الصبي ممن يلتذ بالطيب واللّباس، أو ممن لا يلتذ بذَلِكَ، ولو حلق أو قلم أو قتل صَيْدًا، وقلنا: عَمْدُ هذه الأفعالِ وَسَهْوِهَا سواء على ما سيأتي وَجَبَتِ الفِدْيَة. وإن قلنا: يختلف حكم عَمْدِهَا وسهوها فهي كالطِّيبِ واللِّباس، ومتى وجبت الفدية فَهِيَ على الوَليِّ أو في مَالِ الصَّبِيِّ؟ فيه قولان: أحدهما: في مال الصبي؛ لأن الوُجوبَ بسبب ما ارتكبه. وأصحهما: في مال الولي، وبه قال مالك: لأنه الذي أوقعه فيه وغرر بماله، وهذا إذا أحرم بِإذْنِهِ فإن أحرم بغير إذن الوَلِيّ وجوزناه فالفدية في مال الصَّبِيَّ بلاَ خِلاَفٍ ذكره في "التتمة" ومتى وجبت الفدية في مال الصبي فإن كانت مرتبة فحكمَها حكم كَفَّارَةِ القَتْلِ، وإلا فَهَلْ يجزي أن يبتدئ بالصوم في الصِّغَرِ؟ فيه وجهان: مبنيان على خِلاَفٍ سنذكره إن شاء الله تعالى في أنه إذا أفسد الحَجِّ هل يجزئه قضاؤه في الصغر؟ وليس للولي والحالة هذه أن يفدي عنه بالمَالِ؛ لأنه غير متعين، وعن أبي الحُسَيْنِ حكاية وجه أنه إن أحرم به الأب أو الجد فالفِدْيَة في مَالِ الصَّبي، وإن أَحرَمَ بهِ غَيْرُه فَهِيَ عَلَيْهِ. الثالثة: إذا جامع ناسياً أو عامداً، وقلنا: إن عمده خَطَأٌ ففي فَسَادِ حَجَّه قولان: كالبالغ إذا جَامَعَ نَاسِياً والأظهر أنه لا يفسد، وإن قلنا: إن عمده عَمْد فسد حَجُّه، وإذا فَسَدَ هَلْ عَلَيهِ القَضَاءُ، فيه قولان: أحدهما: لا، لأنه ليس أهْلاً لوجوب العِبَادَاتِ البَدَنِيَّةِ. وأصحهما: نعم، لأنه إحْرَامٌ صَحِيحٌ فيوجب إِفْسَادُه القَضَاءَ كَحَجِّ التَّطُوُّعِ، وعلى هذا فَهَلْ يجزئه القَضَاءُ في الصَّبِي؟ فيه قولان، ويقال: وجهان: أصحهما: نعم، إعتباراً بالأَدَاءِ. والثَّاني: لا، وبه قال مَالِكٌ وَأَحْمَد لأنه فَرْضٌ، وهو ليس أَهلاً لآداء فَرْضِ الحَجِّ بدليل حجَّةِ الإِسْلاَمِ. وإذا قلنا: بهذا، ولم يَقْضِ حتى بلغ، نظر فيما أفسدها إن كانت بحيث لو سلمت عن الفَسَادِ لأجزائه عن حَجَّة الإِسْلاَم بأن بَلَغَ قَبل فوات الوُقوفِ تأدّت حَجَّة الإسْلاَم بالقضاء وإن كانت لا تجزئه وإن سلمت عن الفَسَاد لم تتأد، وعليه أن يبدأ بحَجَّةِ
الإسْلاَم، ثم يقضي، فإن نَوَى القَضَاء أَوَّلاً انصرف إلى حجَّةِ الإسْلاَمِ، وإن جوزنا القضاء في الصِّغَرِ فشرع في القَضَاء وبلغ قبل الوُقوفِ انصرف إلى حجَّةِ الإسْلاَم وعليه القضاء. ومهما فسد حجة ووجبنا القضاء وَجَبَتِ الكَفَّارة أيضاً، وإن لم نوجب القَضَاءَ ففي الكفارة وجهان. والأصح: الوجوب، وقد يعكس هذا الترتيب فيقال: إن لم تلزمه الْفِديَة ففي القَضَاءِ خِلاَفُ والفرق أن القَضَاءَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وحال الصبي أبعد عنها، وهذا الترتيب هو الذي ذكره في الكتاب، فقال: وفي لزوم القَضَاء خِلاَفٌ مُرَتَّبٌ على الفِدْيَةِ، وإذا وَجَبَتِ الكَفَّارة فهي على الوَلِيّ أو في مال الصبي؟ فيه الخلاف السَّابق. وقوله: (ولوازم المحظورات لا تجب على أحد الوجهين) هذا الوجه هو الذي يتخرج على قولنا: عمد الصَّبِيِّ خَطَأٌ، وإنما نجعل عمدَهُ خَطَأً؛ لأن حاله يناسب التخفيف، وإليه أشار بقوله: (نظراً له) وقوله: (يفسد حجه بالجماع) جوابٌ على الأَصَحِّ من الخِلاَف المذكور فيه. وقوله: (فإذا بلغ لزمه القَضَاءُ بعد الفَراغَ عن فرض الإسلام) مُتَعَلِّقٌ بقوله: (لم يصح من الصبي على أحد الوجهين) ومفرع عليه. واعلم أن حكم المَجْنُونِ حكم الصَّبِيِّ الذي لا يميز في جميع ذلك. ولو خرج الوَلِيّ بالمجنون بعدمَا استقر فَرْضُ الحج عليه وأنفق عليه من ماله نظر أن لم يفق حَتَّى فات الوقوف غرم له الولي زِيادَةَ نَفَقَةِ السَّفَرِ، وإن أفاق وأحرم وَحَجَّ فلا غرم عليه، لأنه قضى ما وجب عليه، ويشترط إِفاقتُه عِنْدَ الإحْرَام والوقوف والطواف والسَّعْي، ولم يتعرضوا لحالة الطواف وقياس كونه نسكاً اشتراط الإفاقة فيه كسائر الأَرْكَانِ. قال الغزالي: وَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ في حَجِّهِ قَبْلَ الوُقُوفِ (ح) وَقَعَ عَنْ حجَّةِ الإسْلاَمِ فَإِنْ كَانَ قَد سَعَى قَبْلَهُ لَزِمَهُ الإعَادَةُ في أصَحِّ الوَجْهَيْنِ، وَهِلْ يَلْزَمُهُ دَمٌ بِنُقْصَانِ إِحْرَامِهِ إِذَا وَقَعَ في الصِّبَا؟ فِيهِ قَوْلاَنِ، وَعتْقُ العَبْدِ في الحَجِّ كَبُلُوغِ الصَّبِيِّ، وَلَوْ أَطْيَّبَ الوَلِيُّ الصَّبِي فَالفِدْيَةُ عَلَى الوَلِيِّ، إِلاَّ إِذَا قَصَدَ المدَاوَاةَ فَيَكُونُ كَاسْتِعْمَالِ الصَّبِيِّ عَلَى أَحَدِ الوَجْهِيْنِ. قال الرافعي: الفَصْلُ يشتمل على مسألتين: الأولى: لو بَلَغَ الصبيُّ في أثناء الحَجِّ نظر أن بَلَغَ بعد الوُقُوفِ بعرَفَة لم يجزئه عن حَجَّةِ الإسْلاَم، ولا فرق بين أن يكون وَقْتُ الوُقوفِ بَاقِياً أو فائتاً لكنه لم يَعُدْ إلى الوقوفَ لِمَضيِّ مُعْظَم العِبَادَةِ في حَالِ النُّقْصَانِ، ويخالف الصَّلاة حيث تجزئه إذا بَلَغ في أثنائها أو بعدها؛ لأن الصَّلاةَ عَبادُةُ تكرر، والحج عِبَادَةُ العُمْرِ فيعتبر وقوعها أو وقوع مُعْظَمِهَا في حَالِ الكَمَالِ.
وعن ابْنِ سُرَيْجٍ -رحمه الله- أنه إِذَا بَلَغَ ووقت الوُقُوفَ بَاقٍ يُجْزِئُهُ عن حَجَّةِ الإسْلاَم وإن لم يعد إلى الموقف، وإن بلغ قبل الوقوف أو بلغ وهو واقف وقعت حجته عن حَجَّةِ الإسْلاَم، خلافاً لمالك حيث شرط فيه وقوع جميع الحَجِّ في حالة التكليف ولأبي حنيفة فإنهَ لا يعتد بإحرام الصَّبِي على مَا سُبَقَ. وهل يجب إعادة السَّعْي لو كان قَدْ سَعَى عُقَيْبَ طَوَافِ القُدُومِ قبل البلوغ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، ولا بأس بتقدم السَّعْي كتقدم الإحْرَام. وأصحهما: نعم، لوقوعه في حالة النقص، ويخالف الإحْرَام فإنه مُسْتَدَامٌ بعد البُلوغِ والسَّعْي، لاستدامته له، وقد بنوا الوجهين على أنه إذا وقع عن حجَّةِ الإسْلاَم كيف تقديراً إحرامه أنقول بأنه يتعين انعقاده في الأصل فرضاً، أو نقول بأنه انقعد نفلاً ثم انقلب فرضاً؟ فإن قلنا: بالأول فلا حَاجَةٍ إِلى الإعَادَةِ، وإن قلنا: بالثاني فَلاَ بُدَّ منها وإِذَا وَقَعَ حَجُّه عَنْ حَجَّةِ الإِسْلاَمِ فهل يلزمه دم؟ فيه طريقان: أظهرهما: وهو المذكور في الكِتَابِ أنه على قولين: أحدهما: نعم؛ لأن إحْرَام مِنَ المِيقَاتِ نَاقِصٌ لأنه ليس بفرضٍ. وأصحهما: لا؛ لأنه أَتى بما فِي وُسْعِهِ، ولم تصدر منه إساءَةٌ. وبنى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَبْرُهُ القولين على الأَصْلِ المذكور: إن قلنا، بالتعيين فلا دم عليه، وإن قلنا بانعقاده نفلاً لزم. والطريق الثاني: القطع بأنه لاَ دَمَ عليه، وبه قال الإصْطَخْرِيُّ وَابْنُ سَلَمَة، وهذا الخلاف فيما إذا لم يَعُدْ بعَدَ البلوغِ إلى الميقَاتِ، فإن عاد إليه لم يلزمه الدَّمُ بِحَالٍ؛ لأنه أتى بالممكن أولاً وآخراً، وبذل ما في وسعه، وفيه وجه بعيد. والطَّواف في العمرة كالوقوف في الحَجِّ، فلو بلغ قبله أجزأته عمرتُه عن عمرةِ الإسْلاَمِ. وعتق العبد في أثناء الحَجِّ والعمرة كبلوغ الصَّبِيِّ في أثنائهما. ولو أن ذِمِّياً أتى الميقات مريداً للنسك فأحرم منه لم ينعقد إحرامه؛ لأنه ليس أهلاً لَلعبادات البَدَنِية، فإن أسلم قبل فوات الوُقوفِ ولزمه الحَجُّ فله أن يَحُجَّ مِنْ سنته، وأن يؤخر فإن الحَجَّ على التَّرَاخِي، فإن حَجَّ من سنته فعاد إلى المِيقَاتِ فأحرم منه أو أحرم من موضعه وعاد إِلْيهِ محرماً فلا شَيْءَ عليه، وإن لم يعد لَزِمَهُ الدَّمُ، كالمسلم إذا جاوَزَهُ عَلَى قَصْدِ النُّسُكِ، ولا يجئ فيه الخلاف المذكور في الصَّبِي إذا وقعت حَجَّتُهُ عَنْ حَجَّةِ الإسلام؛ لأنه حين مر بالميقات كان بسبيل من أن يسلم ويحرم بخلاف الصبي. وقال أبو حنيفة رحمه الله والمُزَنِي: لا دم عليه، وعن أحمد روايتان: المسألة الأخرى: ذكرنا الخلاف في وجوب الفِدية إِذَا بَاشَرَ الصبي محظوراً وأنها إِذَا وجبت على من تجب.
الباب الثالث في محظورات الحج والعمرة
فأما إذا باشره الولي بأن طَيَّبَهُ أو أَلْبَسَهُ أو حَلَقَ رَأْسَهُ فينظر إنْ فَعَل ذَلِكَ لِجَاجَةٍ الصَّبِيِّ كما لو طيبه تَدَاوِياً، فهل هو كمباشرة الصَّبِيِّ فيه وجهان: أحدهما: لا، بل الفِدْيَةُ على الوَلِيّ بلا خِلاَفٍ تقديماً للمباشرة. وأصحهما: أنه كمباشرة الصبي، لأنه وليه، وإنما فعل ما فعل لِمَصْلَحَتِهِ، وقد قيل: أَن مأخذ الوجهين أن الشَّافعي -رضي الله عنه- قال: "وتجب الفدية على المداوي" فقرأه بعضهم بكسر الواو حملاً على الولي وبعضهم بفتحها حملاً على الصبي، والوجهان شبيهان بالوجهين فيما إذا أُوجِزَ المُغْمَى عليه معالجة له في باب الصوم. ولو طيب الصبي لا لحاجة فالفدية عليه، وكذا لو طيبه أجنبي، وهل يكون الصبي طريقاً؟ فيه وجهان. الْبَابُ الثَّالِثُ في مَحْظُورَاتِ الحَجِّ والعُمْرَةِ وَهِيَ سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ قال الغزالي: النَّوْعُ الأوَّلُ: اللُّبْسُ وَيَحْرُمُ عَلَى المُحْرِمِ أَنْ يَسْتُرَ رَأْسِهُ بِمَا يُعَدُّ سَاتِراً مِنْ خِرْقَةٍ أَوْ إزَارٍ أَوْ عِمَامَةٍ، وَلَو تَوَسَّدَ بِوِسَادةٍ أَو اسْتَظَلَّ بَالمَحْمَلِ أَوِ انْغَمَسَ في مَاءٍ فَلاَ بَأْس، وَلَو وَضعَ زنْبِيلاً عَلَى رَأْسهِ أَوْ حملاً فَفِيهِ قَوْلاَنِ، وَلَوْ طَيّن رَأَسَهُ فَفِيهِ احْتِمَالٌ، وَلَوْ شَدَّ خَيْطاً عَلَى رَأْسِهِ لَمْ يَضُرَّ بِخِلاَفِ العِصَابَةِ، وَأَقَلُّ مَا يَلْزَم الفِدْيَةَ أَنْ يَسْتُرَ مِقْدَاراً سِتْره لِعَرْضِ شَحّةٍ أَوْ غَيْرِهَا. قال الرافعي: مقصود الباب بيان ما يَحْرُمُ بسبب الإِحْرَامِ بالحج أو العمرة وهي في تعديد صَاحِب الكتاب سبعة أنواع. أحدهما: اللِّبْسُ، والكلام في حق غير المعذور ثم في المعذور. أما في حق غير المعذور، فالنظر في الرَّجل، ثم في المرأة، ومن الرجل في الرَّأْسِ، ثم في سَائِر البدن. أما الرأس ففيه فَصْلان. أحدهما: في السَّاتِرَ. ولا يجوز للرجل أن يستر رأسه، قال -صلى الله عليه وسلم- في المحرم الذي خَرَّ مِنْ بَعِيرِهَ "لا
تُخَمَّرُوا رَأْسَهُ فَإنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِيّاً" (¬1). ولا فرق بين أن يستر بمخيط كالقلنسوة، أو بغير مخيط كالعمامة والإزار والخرقة، وكل ما يعد سَاتِراً وإذا ستر لزمه الفدية، لأنه باشر محظوراً كما لو حَلَق. ولو توسد بوسادة فلا بأس وكذا لو توسد بعمامة مكورة، لأن المتوسد يُعَدّ في العُرْفِ حَاسِر الرأس. ولو استظلَ بِمَحْمَلِ أو هودج فلا فدية عليه أيضاً، لأنه لا يعد ذلك سترًا للرأس، كما لو استظل ببناء، وكذلك لو انغمس في مَاءٍ فاستوى الماء على رأسه، وخصص صاحب "التتمة" نفي الفدية في سورة الاستظلال بما إذا لم تمس المظلة رأسه، وحكم بوجوبها إذا كانت تَمَسُّه، وهذا التفصييل لم أره لغيره، وإن لم يكن بُدٌّ منه فالوجه إِلحاقه بوضع الزمبيل (¬2) على الرأس. والأصح فيه أن فديه كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وعن مَالِكٍ وأحمد -رحمهما الله-: أنه إذا استظل بالمحمل رَاكِبًا افتدى، وإن استظل به نازلاً راجلاً فلا، وروى الإمام عن مالك الخلاف في سورة الانغماس أيضاً. لنا: في الاستظلال ما روي عن أم الحصين قالت: "حَجَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- حجَّةَ الْوَدَاعِ فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلاَلاً أَحَدُهُمَا آخِذٌ بحِطَام نَاقَتِهِ، وِالآخَرُ رَافِعاً ثَوْبَهُ يَسْتُرَهُ مِنَ الْحَرِّ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ" (¬3). ولو وضع زنبيلاً على رأسه أو حملاً فقد ذكر أن الشافعي -رضي الله عنه- حكى عن عَطَاء: أنه لا بأس به (¬4)، ولم يعترض عليه، وذلك يشعر بأنه ارتضاه فإنَّ من عادته الرَّد عَلَى المَذْهَبِ الذي لاَ يَرْتَضِيه، وعن ابنِ المُنْذِرِ والشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أنه نَصَّ في بعض كتبه على وجوب الفِدْية، فمن الأصحاب من قطع بالأولَ ولم يثبت الثَّاني، ومنهم من أطلق قولين، وهو ما أورده في الكتاب، ووجه الوجوب ما يروى عن أبي حنيفة إن غطىَ رأْسَه فأشبه ما لو غطاه بشَيْء آخر، ووجه عَدَمِ الوجُوب أن مقصوده نَقْل المتاع لا تغطية الرَّأسِ، على أن المحرمَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ من التَّغْطِيَةِ بما لاَ يقصد السَّتْر بِهِ ألا ترى إلى ¬
ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "احْتَجَمَ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ" (¬1). وأيضاً فلو وضع يده على رأسه لم يضر، وسواء ثبت الخِلاَف أَمْ لاَ، فظاهر المَذْهَبِ أنه لاَ فَدْيَة. ولو طَيَّن رَأسه ففي وجوب الفدية وجهان، كالوجهين فيما إذا صَلَى بالطِّين عَوْرَتَهُ وَصَلَّى هَلْ يجزئه. والمذهب هَاهنا وجوب الفدية، وفي تلك الصورة صِحَّة الصَّلاة لوجود السَّتْرِ والتغطية، وهذا إذا كان ثَخِيناً سَاتِراً أما المائع الذي لا يَسْتُر فلا عبرة به، وعلى هذا التفصيل حكم الحِنَّاء والمَرَاهِمِ ونحوها. الفصل الثاني في القدر الذي يقتضي سَتْرُهُ الفِديَة، ولا يشترط لوجوب الفدية استيعاب الرأس بالسَّتْرِ كما لا يشترط فِي فِدْيَةِ الحَلْقِ الاستيعاب، بل تجب الفدية بِسَتْرِ بَعْضِ الرَّأسِ، وضبطه أن يكون المستور قدراً يقصد ستره لَغَرَضٍ من الأغراض كَشَدِّ عِصَابَةٍ، وإلْصَاقِ لُصُوق لِشَجَّةٍ ونحوها، هكذا ضبطه المصنف والإمام، فقد نَفَلاَ وغيرهما أنه لو شَدَّ خيطاً على رأسه لم يَضُر، ولم تجب الفدية؛ لأن ذلك لا يمنع من تَسْمِيَتِهِ حَاسِرَ الرَّأسِ، وهذا ينقض الضابط المذكور؛ لأن ستر المقدار الذي يحويه شد هذا الخيط قد يقصد أيضاً لغرض منع الشّعر من الانتشار وغيره، فالوجه النظر إلى تسميته حاسر الرأس ومستور جميع الرأس أو بعضه (¬2) -والله أعلم-. وقوله في الكتاب: (أن يستر مقدارًا يقصد ستره إلى آخره) مُعَلَّمْ بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة -رحمه الله- لا تكمل الفدية إلا إِذَا ستر رُبُعَ الرأس فصاعداً فإن ستر أقل من ذلك فعليه صدقة -والله أعلم-. قال الغزالي: أَمَّا سَائرُ البَدَنِ فَلَهُ سَتْرُهُ لَكِنْ لاَ يَلْبَسُ المَخِيطَ الَّذِي أَحَاطَتْهُ الخِيَاطَةُ كَالقَمِيصِ، أَوِ النَّسْجَ كَالدِّرْعِ، أَوِ العِقْدَ كجُبَّة الِلِّبْدِ، وَلَو ارْتَدَى بِقَمِيصٍ أَوْ جُبَّةِ فَلاَ بَأْسَ وَكَذَا إِذَا الْتَحَفَ نَائِماً، وَلَوْ لَبِسَ القُبَّاء لَزِمَهُ الفِدْيَةُ وإنْ لَمْ يُدْخِلُ اليَدَ في الكُمِّ وَلاَ بأْس بِعَقْدِ الإِزَارِ بِتِكَّةٍ تَدْخُلُ في حُجْزةٍ، وَلاَ بالهِمْيَانِ وَالمِنْطَقَةِ، وَلاَ بِلَفِّ الإِزَارِ عَلَى السَّاقِ. قال الرافعي: ما سوى الرأس من البَدَنِ يجوزِ للْمُحْرِمِ سَتْرُه، ولكن لا يجوز له ¬
لبس الَقَمِيص والسَّرَاوِيلِ والتِبَّان والخف، روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئِل عما يلبس المحرم من الثِّيَاب فقال: "لاَ يَلْبُسُ الْقَمِيصَ وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ وَلاَ الْعَمَائم وَلاَ الْبَرَانِسَ وَلاَ الْخِفَافَ إِلاَّ أَحَدٌ لاَ يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبس خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ" (¬1). ولو لبس شيئاً من ذلك مختاراً لزمه الفدية، سواء طَالَ زَمَانُ اللبس أَوْ قَصُر. وقال أبو حنيفة: إنما تلزم الفدية التامة إذا استدام اللبس يوماً كَامِلاً فإن كان أقل فَعَلَيْهِ صَدَقَة. لنا: أنه بَاشَرَ مَحْظُورَ الإِحرَامِ فتلزمه الفِدْيَة كما لَوْ حَلَق. ولو لبس القباء تلزمه الفِدية سواء أدخل يَدَيْهِ في الكمين واْخرجهما منهما أم لا، وبه قال مَالِكٌ وأحمد -رحمهما الله- خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- في الحالة الثانية. لنا: أنه لبس مخيطاً على وجهٍ معتادٍ فتلزمه الفِدْيَة كما لو لَبِسَ القَمِيصَ، وهذا لأن لابس القباء قد يدخل كتفه فيه ويتركه كذلك. ولو ألقى على نفسه قباء أو فرجياً وهو مضطجع، قال الإمام: إن أخذ من بدنه حتى ما إذا أقام عد لاَبِساً فعليه الفِدْيَة، وإن كان بحيث لو قام أو قعد لم يستمسك عليه إلا بمزيد أَمْرٍ فلا. وقوله في الكتاب: (وإن لم يدخل اليد في الكم) يجوز أن يُعَلَّم مع الحاء بالواو؛ لأنه نقل عن "الحَاوِي" أنه إن كان من أقبية خراسان قصير الذَّيْلِ ضيق الاكمام لَزِمَت الفدية وإن لم يدخل اليَدِ في الكُمِّ، وإن كان من أقبية العِرَاق طويل الذيل واسع الأَكِمَّة فلا فدية حتى يدخل يديه في كُمَّيْهِ. واعلم أن قولنا: لا يلبس المخيط، ترجمة لها جزآن لبسٌ ومخيط. فأما اللبس فهو مرعي في وجوب الفِدْية على ما يعتاد في كل ملبوس، إذ به يحصل التَّرَفُّهُ والتَّنَعُّمُ فلو ارتدى بِقَمِيص أو قباء، أو التحف فيهما أو اتزر بِسَرَاوِيل فلا فدية عليه، كما لو اتزر بإزار خيط عليه رقاع. وأما المَخِيط فخصوص الخياطة غير معتبر، بل لا فرق بين المخيط وبين المنسوج كالدَّرْعِ، والمعقود كجبة اللبد، والملفق بعضه ببعض قياساً لغير المخيط على المخيط (¬2) ¬
وقد جمعها في الكتاب بقوله: (لا يلبس المخيط الذي أحاطته بالخياطة إلى آخره). والمتخذ من القطن والجلد وغيرهما سواء، ويجوز أن يعقد الإزار ويشد عليه خيطاً ليثبت، وأن يجعل له مثل الحجزة ويدخل فيها التِّكَّة إِحْكَاماً وأن يشد طرف إزاره في طرف ردائه، ولا يعقد رداءه، وله أن يغرزه في طَرَفِ إِزَارِهِ، ولو اتخذ لردائه شَرَحاً وعرى وربط الشرج بالعرى فأصح الوجهين أنه تجب الفِدْية؛ لأن هذه الإحاطة قريبة من الخِيَاطة (¬1). ولو شَقَّ الإزار نصفين وَلَفَّ كُلَّ نِصْفٍ على سَاقٍ وَعَقَدَهُ، فالذي نقله الأصحاب وجوب الفدية؛ لأنه حينئذ كالسراويل، ورأى الإمام أنها لا تجب بمجرد اللَّفِ والعَقْدِ، وإنما تجب إذا فرضت خياطة أو شرج وعرى. وقوله في الكتاب: (ولا يلف الإزار على الساق) إن أراد به هذه الصورة فهو اتباع لرأي الإمام فليكن مُعَلَّماً بالواو، وليُعْلَم أن الظاهر خِلافُهُ، ويحوز أن يحمل على اللَّف من غير أن يشق، ويجعل له ذيْلاَنِ، وعلى هذا فلا إعلام؛ إذ لا خِلاَفَ في أن للمحرم أَنْ يشتمل بالرداء والإزار طاقتين وثلاثاً ولا بأس بتقلد المُصْحَفِ والسَّيْفِ. "قَدِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ مُتَقَلِّدِينَ سُيُوفَهُمْ عَامَ عُمْرَةِ الْقِضَاءِ" (¬2) ولا بأس أيضاً بشد الهِمْيَان والمنطقة على الوسط لحاجة النفقة ونحوها، وقد روى الترخيص فيه عن عائشة (¬3) واَبن عباس (¬4) -رضي الله عنهما،- وروي عن مالك المنع، من شَدِّ الهِمْيَان والمنطقة لكن لم يثبت المتقنون في النقل الرواية عنه. وقوله في أول الفصل: (أما سائر البدن فله سَتْرُه) يجوز أن يُعَلَّم بالحَاءِ لأن عند أبي حنيفة -رحمه الله- يجب عليه كشف الوَجْهِ مع الرأس، وأيهما ستره فعليه الفدية. لنا: ما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في المحرم الذي خَرَّ عن بعيره ومات "خَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلاَ ¬
تخَمِّرُوا رَأْسَهُ" (¬1) الخبر. قال الغزالي: أَمَّا المَرْأَة فإِحْرَامُهَا عَلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا فَقَطْ، وَلَهَا أَنْ تَسْتَتِرَ بِثَوْبٍ مُتَجَافٍ عَنِ الوَجْهِ وَاقِعٍ بِإزَائهِ، هَذَا في غيْرِ المَعْذُورِ. قال الرافعي: ذكرنا حكم الستر واللبس في حَقِّ الرجل المُحْرِمِ. أما المرأة فالوجه في حقها كالرأس في حق الرجل، ويعبر عن ذلك بأن إحرام الرَّجُلِ في رأسه، وإحرام المرأة في وَجْهِهَا، والأصل فيه ما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تَنْتَقِبُ الْمرْأَة وَلاَ تَلْبَسُ القُفَّازَيْنِ" (¬2). وروى أنه -صلى الله عليه وسلم- "نَهَى النِّسَاءَ فِي إِحْرَامِهِنَّ عَنِ النِّقَابِ" (¬3). وتستر الرأس وسائر البدن والقدر اليسير من الوَجْهِ الذي يلي الرأس لها ستره، إذ لا يمكن استيعاب الرأس بالسَّتْرِ إلا بِسَتْرِهِ. فإن قيل هلا قلتم: تكشف جميع الوجه، ويعفى عن كَشْفِ الجُزْءِ الذي يليه من الرأس. قيل: الستر أحوط من الكشف، وأيضاً فالمقصود إظْهار شعار الإِحْرَام بالاحتراز عن التَّنْقِيبِ، وستر الجزء المذكور لا يقدح فيه، والرأس عَوْرَةٌ كلهُ فَيُسْتَرُ. ويجوز لها أن تسدل ثوباً على وجهها متجافياً عنه بخشبة وغيرها، كما يجوز للرَّجُلِ الاستظلال بالمَحْمَلِ والمظلة، ولا فرق بين أن يفعل ذلك لحاجة من دفع حر أو برد أو فتنة أو لغير حاجة، فإن وقعت الخشبة فأصاب الثوب وَجْهَهَا من غير اختيارها ورفعته في الحال فلا فدية، وإن كان عمداً أو استدامته وجبت الفِدْية. ويجوز للمرأة لبس المخيط من القميص والسَّرَاوِيل والخُفِّ وغيرها، رِوي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَ مِنْ أَلْوَانِ، الثِّيَاب مُعَصْفَراً، أَوْ خَزّاً، أو حُلِيّاً، أَوْ سَرَاوِيلَ، أَوْ قَمِيصًا، أَوْ خُفّاً" (¬4) وإذا ستر الخنثىَ المشكل رأسه أو وجهه فلا فدية لاحتمال أنه امرأة في الصورة الأولى، ورجل في الثانية، وإن سترهما جميعاً وجبت. وقوله في الكتاب: (أما فإحرامها في وجهها فقط) أعلم بالواو، لأن منهم من ضَمَّ الكَفَّيْنِ كما ستعرفه في مسألة القفازين. ¬
قال الغزالي: أَمَّا المَعْذُورُ بِحَرٍّ أَوْ بَرْدٍّ فَلَهُ اللُّبْسُ وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ الفِدْيَةُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ سَرَاوِيلَ وَلَوْ فَتَقَهُ لَمْ يَتَأَتَّ مِنْهُ إِزَارٌ فَلْيَلْبَس وَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ لِلْخَبَرِ، وَكَذَا إِذَا قُطِعَ الخُفُّ أَسْفَلَ الكَعْبَيْنِ، وَاسْتِتَارُ ظَهرِ القَدَمِ بِهِ كَاسْتِتَارِهِ بِشِرَاكِ النَّعْلِ. قال الرافعي: قد عرفت حكم غير المعذور. وأما المعذور ففيه صور: أحدها: لو احتاج الرجل إلى سَتْرِ الرأس أو لبس المخيط بِعُذْرٍ حَرٍّ أو بَرْدٍ أو مداواةٍ جاز له ذلك، وكذا المرأة لو احتاجت إلى ستر الوجه، ولكن تجب الفدية كما إذا احتاج إلى الحَلْقِ بسبب الأَذَى جاز الحلق ولزمت الفِدْيَة على ما نَصَّ عليه القرآن. الثانية: لباس المحرم الرِّدَاء والإزار والنّعْلاَن على ما مُرّ، فلو لم يجد الرداء لم يجز له لِبْسُ القَمِيص، بل يرتدي ويتوشح به، ولو لم يجد الإزَار ووجد السَّرَاوِيل نُظِر، إن لم يتأت اتخاذ إزار منه إما لصغره أو لفقد آلات الخِيَاطَة أو لخوف التَّخَلُّفِ عن القافلة فله لبسه؛ لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من لَمْ يَجِدِ الإزَارَ فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ" (¬1) وإذا لبسه فَلاَ فِديَةَ عَلَيْهِ. وقال أبو حنيفة ومالك: تجب الفدية. وإن تَأَتَّى اتخاذ إزارٍ منه فلبسه على هيئته فهل تلزمه الفدية؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما لو لبس الخف قبل أن يقطعه. والثاني: لا، لإطلاق الخبر، وفي الخُفِّ أمر بالقطع على ما روينا في خبر ابن عمر -رضي الله عنهما-، وبالوجه الأول أجاب الإمام، وتابعه المصنف حيث قيد فقال: (ولو فتقه لم يتأت منه إزار فلا فدية) ولكن الأصح عند الأكثرين: إنما هو الوجه الثاني، وإذا لبس السراويل لفقد الإزار ثم وجده فعليه النزع، ولو لم يفعل فعليه الفِدْيَة. وقوله في الكتاب: (فلا فدية للخبر) المراد من الخبر ما رويناه، وما الاستدلال به على نَفْي الفِدْيَةِ من جهة أنه يقتضي تجويز اللّبس عند فقد الإزار، والأصل في مباشرة الجَائِزَاتَ نَفْي المؤاخذة. الثالثة: إذا لم يجد النعلين لبس المكعب أو قطع الخُفَّ أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبِ ولبسه، وهل يجوز لبس الخف المقطوع والمكعب مع وجود النعلين؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لشبهه بالنَّعْلِ ألا ترى أنه لا يجوز المَسْحُ عَلَيْهِ. وأصحهما: لا؛ لأن الإذن في الخَبَرِ بقيد شرط: أن لا يجد النَّعْلَيْنِ، وعلى هذا ¬
لو لبس الخف المقطوع لفقد النعلين ثم وجد النعلين نزع الخف، فلو لم يفعل افتدى، وإذا جاز لبس الخف المقطوع لم يضر استتار ظهر القدم مما بقي منه لحاجة الاستمساك، كما لا يضر استتاره بشراك النعل. فإن قلت: ما معنى عدم وجدان الإزار والنَّعْلِ. قلنا: المراد منه أن لا يقدر على تحصيله، إما لفقده في ذلك المَوْضِع، أو لعدم بذل المَالِك إيَّاه، أو لعجزه عن الثَّمَنِ إن باعه أو للأجرة إن اجره ولو بيع بغبن أو نسيئةٍ لم يلزمه شِرَاؤُه، ولو أعير منه وجب قبوله، ولو وهب لم يجب، ذكر هذه الصورة القاضي ابْنُ كِجٍّ وقد كتبنا نظائرها في المَاءِ للطَّهَارَةِ والثوب لستر العورة وبالله التوفيق. قال الغزالي: وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ لُبْسُ القُفَّازَيْنِ فِي اليَدَيْنِ، وَللْمَرْأَةِ ذَلِكَ فِي أَصَحِّ القَوْلَيْنِ، وإن اتَّخَذَ لِلِحْيَتِهِ خَرِيطَة فَفِي إِلْحَاقِهِ بَالقُفَّازَينِ تَرَدُّدٌ. قال الرافعي: ليس للرجل لبس القفازين كما ليس له لبس الخفين، وهل للمرأة ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: قال: في "الأم" و"الإملاء" لا، وبه قال مالك وأحمد -رضي الله عنهما-؛ لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم-: "نَهَى النِّسَاءَ فِي إِحْرَامِهِنَّ عَنْ لِبْسِ القُفَّازَيْنِ" (¬1) وأيضاً فإن اليد عضو لا يجب على المرأة ستره في الصَّلاة، فلا يجوز لها سَتْرُه في الإِحْرَامِ كالوجه. والثاني: وهو منقول المزني نَعَم، وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا" (¬2) فخص الوجه بالحكم، وذكر في الكتاب أن هذا أصح القولين، لكن أكثر النقلة على ترجيح الأول، منهم صاحب "التهذيب" والقاضي الرّوَيانِي، فإن جوزنا لَهَا لِبْسَهُمَا فلا فدية إذا لَبِسَتْ، وإلا وجبت الفدية ولو اختضبت بالحِنَّاء وألقت على يدها خِرْقَة فوقه أو ألقتها على اليَدِ مِنْ غَيْرِ حِنَّاءٍ، فعن الشيخ أَبِي مُحَمَّدٍ أنها إن لم تشد الخرقة فلا فدية، وإن شدته فعلى قولي القفازين، ورتب الأكثرون فقالوا: إن قلنا: لها لبس القفازين فَلاَ فِدْيَةَ عليها، وإن منعنا ففي وجوب الفدية هاهنا قولان: أحدهما: تجب، ويروى عن "الأم". والثاني: لا تَجِب، ويروى عن "الإملاء" والقولان على ما ذكر القاضي أَبُو الطَّيِّبِ ¬
النوع الثاني: التطيب
وغيره مبنيان على المعنى المحرم للبس القفازين، وفيه قولان مستخرجان: أحدهما: أن المحرم تعلق الإحرام بيدها تعلقه بوجهها؛ لأن واحداً منهما ليس بعورة، وإنما جاز الستر بالكُمَّيْنِ للضرورة، فعلى هذا تَجِب الفدية في صُورَةِ الخِرْقَة. والثاني: أن المُحَرَّم كون القفازين ملبوسين معمولين لِمَا لبس بعورة من الأعضاء فَأُلْحِقَا بالخفين في حَقِّ الرجل، فعلى هذا لا فدية في الخِرْقة، وهذا أصَحُّ القولين، وإذا أوجبنا الفِدْيَةَ تعليلاً بالمعنى الأول فهل تجب الفدية بمجرد الحِنَّاءِ؟ فيه ما سبق في الرجل إذا أخضب رأسه بالحِنَّاء، ولو اتخذ الرجل لساعده أو لعضو أخر شيئاً مخيطاً أو لِلِحْيَتِهِ خريطة يعلقها إذا اختضب فهل تلتحق بالقفازين؟ فيه تردد عن الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ. الأصح: الالتحاق، وبه أجاب كثيرون، ووجه المنع أن المقصود الاجتناب عن الملابس المعتادة وهذا لَيْسَ بِمُعْتَادٍ. قال الغزالي: النَّوْعُ الثَّاني: التَّطيّبُ وَتَجِبُ الفِدْيَةُ بِاسْتِعْمَالِ الطِّيْبِ قَصْدًا، وَالطِّيْبُ كُلُّ مَا يُقْصَدُ بِهِ رَائِحَةٌ كَالزَّعْفَرَانِ وَالوَرْسِ وَالوَرْدِ وَالنَّرْجِس وَالبَنَفْسَجِ وَالرَّيْحَانِ الفَارِسِيَ، دُونَ الفَوَاكهِ كَالأتْرُجّ وَالسَّفَرْجَلِ وَالأَدْوِيَةِ كَالقُرُنْفُلِ وَالدَّارِ صِينِيِّ وَأَزْهَارِ البَوَادِي كَالْقَيْصُومِ، وَفي دُهْنِ الوَرْدِ وَالبَنَفْسَجِ وَجْهَانِ، وَالبَانُ وَدَهْنُهُ لَيْسَ بِطِيبٍ، وَإذَا تَنَاوَلَ الخَبِيصَ المُزَعْفَرَ فَانْصَبَغَ لِسَانُهُ لَزِمَتْ الفِدْيَةُ بِدَلالَةِ اللَّوْنِ عَلَى نَقَاءِ الرَّائِحَةِ، وإذَا بَطُلَ رَائِحَةُ الطِّيبِ فَلاَ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ جِرْمُهُ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَاءِ وَرْدٍ إِذَا وَقَعَ فِي مَاءٍ وَاَنْمَحَقَ. قال الرافعي: استعمال الطِّيب من جملة مَحْظُورَاتِ الإِحْرَامِ؛ لما روي عن ابْنِ عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: في المحرم: "لاَ يَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ شَيْئاً فِيهِ زَعْفَرَانُ وَلاَ وَرَسٌ" (¬1). ويتعلق به الفدية كسائر المحظورات، وقد ضبط في الكتاب مناط الفدية فقال: (وتجب الفدية باستعمال الطيب قَصْداً) وهذا الضابط يتركب عن ثلاثة أمور: الطيب، والاستعمال، والقَصْد. أما الطيب، فالمعتبر فيه أن يكون معظم الغرض منه التطيب واتخاذ الطِّيب منه، أو يظهر فيه هذا الغرض فالمسك، والعود، والعنبر، والكافور، والصندل، طيب لا مَحَالة، ثم ما له رَائِحَة طيبة من نَبَاتِ الأَرْضِ أنواع: منها: ما يطلب للتطيب واتخاذ الطيب منه، كالورد، والياسمين، والخيرى، وكذا ¬
الزَّعْفَرَان وإن كان يطلب للصَّبْغِ والتداوي أيضاً، والورس وهو فيما يقال أشْهَرُ طِيبٍ فِي بِلاَدِ اليَمَنِ. ومنها: ما يطلب للأكل والتداوي غالباً فلا تتعلق به الفدية كالقرنفل، والدَّار صيني، والسّنبل، وسائر الأبازير الطيبة، وكذا السفرجل، والتفاح، والبطيخ، والأترج والنَّارِنْج. قال الإمام: وفي النفس من الأترج والنارنج شيء فإن قصد الأكل والتَّدَاوي فيهما ليس بأغلب من قَصْدِ التطيب لكن ما وجدته في الطرق إلحاقهما بالفواكه، وقد يتجه معنى تزيين المجالس فيهما، -والله أعلم-. ومنها: ما يتطَّيب به ولا يتخذ منه الطّيبِ كالنرجس والريحان الفَارِسي، وهو الضُّيمُران والمرزنجوشي (¬1) ونحوهما، ففيه قولان: القديم: أنه لا تتعلق بها الفِدْيَة؛ لأن هذه الأشياء لا تَبقَى لَهَا رَائِحَةٌ إذا جَفَّتْ، وقد روي أن عثمان -رضي الله عنه-: "سُئْلَ عَنِ الْمَحْرِم، هَلْ يدخلُ البُسْتَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ ويشم الرْيحَانَ" (¬2). والجديد: التعلق لظهور قَصْدِ التطيب منها، كالوَرْدِ والزعفران، وهذا ما أورده في الكتاب. وأما البنفسج فالمنقول عن نَصّه أنه ليس بِطِيبٍ، واختلف الأصْحَاب فيه، فَمِنْ ذَاهِبٍ إلى ظَاهِرِ النص، يزعم أن الغرض منه التَّدَاوي دون التطيب، ومن طارد فيه قولي الريحان يدعي أن المنقول عنه جواب على أحد القولين، ومن قاطع بأنه طِيب كالورد والياسمين وهذا أصح الطرق. واختلف الصَّائِرُونَ إليه في تأويل النَّص، فقيل: أراد به البنفسج الجَاف، فإنه بعد الجَفَافِ لا يصلح إلا لِلتَّدَاوِي، وقيل: أراد به بنفسج الشَّام والعراق، فإنه لا يتطيب به، وقيل: أراد به المربى والسكر المستهلك فيه، وفي اللينوفر قولاً النرجس والريحان، ومنهم من قطع بأنه طيب. ومنها: ما ينبت بنفسه ولا يستنبت كالشَّيح، والقيصوم، والشقائق، فلا تتعلق بها الفدية، لأنها لا تُعَدُّ طيباً ولو عدت طيباً لاستنبتت وتعهدت كالوَرْدِ. وأنوار الأشجار المثمرة، كالتفاح والكمثري، وغيرها لا تتعلق بها الفدية أيضاً، وكذا العُصْفُر، وبه قال أحمد وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: تتعلق بها الفدية. ¬
لنا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ذَكَرَ فِيمَا رُوِي عَنْهُ الْمُعَصْفَرُ جملة الثِّيَابِ الّتِي يَلْبُسُهَا الْمُحْرِمُ" (¬1). والحِنَّاء ليس بطيب، فإن أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كُنَّ يَخْتَضِبْنَ بهِ وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ" (¬2). وقال أبو حنيفة: هو طيب. واعرف: وراء ما ذكرناه شيئين غريبين. أحدهما: نقل الحَنَّاطِي عن بعض الأصحاب وجهين: في الورد والياسمين والخيري (¬3)، ولك أن تعلم قوله في الكتاب: (والورد) بالواو لذلك. والثاني: ذكر الإمام عن بعض المصنفين أن من أصحابنا من يعتبر عادة كل ناحية فيما يتخذ طِيباً، قال: وهذا فاسد يشوش القَوَاعِد. ثم في الفصل مسائل: إحداها: الأدهان ضربان: دهن ليس بطيب كالزيت والشيرج، وسيأتي القول فيه في النوع الثَّالث، ودهن هو طيب، فمنه دهن الورد، وقد حكى الإمام وصاحب الكتاب فيه وجهين: أحدهما: أنه لا تتعلق به الفدية؛ لأنه لا يقصد للتطيب. وأصحهما: ولم يورد الأكثرون سِوَاه، أنه تَتَلق به الفدية، كما تتعلق بالورد نفسه، ومنه دِهْنُ البَنَفْسِج، والوجه ترتيبه على البَنَفْسِجِ، إن لم تتعلق الفدية بنفس البنفسج فبدهنه أَوْلَى، وإن علقَناها بنفس البنفسج، ففي دِهنه الخِلاَف المَذْكُور في دهن الوَرْدِ، ويجوز إعلام قوله في الكتاب: (وجهان) بالواو. وأما: في دهن الوَرْدِ، فلأن الإمام -رحمه الله- نقل عن شيخه طريقة قاطعة بأنه طِيب. ورد التردد إلى دهن البنفسج. وأما في دهن البنفسج فلأنا قدمنا طريقة قاطعةً في البَنَفْسِجِ بأنه ليس بطيب، وهي عائدة في الدّهن بطريق الأولى، ثم لم يختلفوا في أن ما طرح فيه الورد والبنفسج دهن الورد والبنفسج، فأما إذا طرحا على السمسم حتى أخذ رائحة ثم استخرج من الدهن، فجواب المعظم أنه لا تتعلق به الفدية، لأنه رِيحُ مُجَاوَرَةٍ. ¬
وعن الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: أنه أشرف وألطف مما يغلي فيه الورد والبنفسج، لتشرب السمسم ما بينهما وهي الطيبة المقصودة منهما. ومنه: دهن ألبان، نقل الإمام عن نص الشافعي -رضي الله عنه- أنه ليس بطيب، وكذا البان نفسه، وهذا ما أورده المصنف، وأطلق الأكثرون القَوْلَ، بأن كل واحد منهما طِيب، ويشبه أن لا يكون هذا خلافاً محققاً، بل الكلامان محمولان على توسط، حكاه صاحب "المهذب" و"التهذيب" وهو أن دهن البان المنشوش وهو المغلي في الطيب طِيبٌ، وغير المنشوش ليس بطيب (¬1). الثانية: لو أكل طعاماً فيه زعفران أو طيبٌ آخر، واستعمل مخلوطاً بالطْيب لا بجهة الأكل، نظر إن استهلك الطيب فيه، فلم يبق له ريحٌ ولا طعم ولا لون لم تجب الفدية، وإن ظهرت هذه الأوصاف فيه وجبت الفِدْية، وإن بقيت الرَّائِحَةُ وحدها فكذلك، لأنها الغرض الأعظم من الطِّيبِ، وإن بقي اللون وحده فطريقان: أظهرهما: وبه قال ابْنُ سُرَيْجٍ، وابْنُ سَلَمَةَ أن المسألة على قولين: أحدهما -وهو ظاهر ما نَقَلَهُ المزني-: أن الفدية تجب؛ لبقاء بعض الأوصاف كما لو بقي الرِّيح. وأصحهما: عند المعظم أنها لا تَجِب؛ لأن اللَّوْنَ ليس بالمقصود الأصلي منه، بل هو زينة، وأيضاً فإن مجرد اللون لو اقتضى الفِدْيَة لوجبت الفدية في المعصفر. والطريق الثاني -وبه قال أبو إسْحَاق-: القطع بالقَوْلِ الثَّانِي، والصائرون إليه انقسموا إلى مغلط للمزني، وإلى حامل لما نقله على ما إذا بقي الريح مع اللون. ولو بقي الطعم وحده فطريقان: أظهرهما -وبه قال القَفَّالُ-: أنه كالريح. والثاني -وبه قال الشيخ أَبُو مُحَمَّد-: أنه كاللون فيجيء فيه الطريقان. ولو أكل الخلنجين، فينظر في استهلاك الورد فيه وعدمه، ويخرج على هذا التَّفْصِيل. فإن قلت: قد عرفت ما حكيته، لكني إذا نظرت في حكم المصنف بلزوم الفدية في تناول الخبيص المزعفر سبق إلى فهمي أنه اكتفى ببقاء اللون المجرد للزوم الفدية على خلاف ما ذكرت أنه الأصَح، فهل هو كذلك أم لا؟ ¬
فأقول: ليس في لفظ الكتاب ما يقتضي التصوير في بقاء اللون وحده، بل يتناول الخبيص المزعفر وانْصِبَاغ اللِّسَان به يشتمل ما إذا بقيت الرَّائِحَةُ مع اللون، وما إذا لم يبق، فيحمل اللفظ على الحالة الأولى، لئلا يخالف جوابه الأصح عند الجمهور وفيهم الإمام، ويؤيده أنه قال عقيبه: لدلالة اللون على بقاء الرائحة، ولو كان التصوير في بقاء اللون وحده لما انتظم دعوى دلالته على بقاء الرائحة، وعلى كل حال فقوله: (لزمته الفدية) مُعَلَّمٌ بالحاء، لأن أبا حنيفة -رحمه الله- لا يوجب الفدية بأكل الطيب أصلاً. الثالثة: لو خفيت رائحة الطِّيب، أو الثوب المطيب بمرور الزمان عليها أو بغبار وغيره، نظر إن كان بحيث لو أصابه الماء فاحت الرّائحة منه لم يجز اسْتِعْمَالُه، فإن بقي اللون فقد قال الإمام -رحمه الله-: فيه وَجْهَانِ مبنيان على الخِلاَف المذكور في أن مجرد اللون هل يعتبر، والصحيح أنه لا يعتبر، وحكى أيضاً تردداً للأصْحَاب فيما إذا انغمر قدر من الطيب، في الكثير مما ليس بِطِيبٍ كماء ورد انمحق في ماءٍ كثير. منهم: من قال: تجب الفدية باستعماله لاستيقان اتصال الطيب به، وكون الرائحة مغمورة لا زائلة. ومنهم من قال -وهو الأصح-. لا تجب الفدية لِفَقْدِ الرائحة وَفَوَاتِ مَقْصُودِ التَّطَيُّبِ، فلو انغمرت الرائحة ولكن بقي الطَّعْمُ أو اللون ففيه الخِلاَف السَّابق. قال الغزالي: وَمَعْنَى الاسْتِعْمَالِ إلْصَاقُ الطِّيبِ بالبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ، فَإِنْ عَبِقَ بِهِ الرِّيحُ دُونَ العَيْنِ بِجُلُوسِهِ فِي حَانُوتِ عَطَّار أَوْ فِي بَيْتٍ يُجْمِرُ سَاكِنُوهُ فَلاَ فِدْيَةَ، وَلَوِ احْتَوَى عَلَى مَجْمَرَةِ لَزِمَتِ الفِدْيَةُ، وَلَو مَسَّ جَرْمَ العُودِ فَإِنْ عَبِقَ بِهِ رَاِئحَتُهُ فَقَوْلاَنِ، وَلَوْ حَمَلَ مِسْكاً فِي قَارُورَة مُصَمَّمَةِ الرَّأْسِ فَلاَ فِدْيَةَ، وَإِنْ حَمَلَهُ فِي فَأْرَةٍ غيْرَ مَشْقُوقَةٍ فَوَجْهَانِ، وَلَوْ طَيَّبَ فِرَاشَهُ وَنَامَ عَلَيْهِ حَرُمَ. قال الرافعي: الأمر الثَّانِي: الاستعمال، وهو أن يلصق الطِّيب ببدنه، أو ملبوسه على الوَجْهِ المعتاد في ذلك الطِّيب، فلو طيب جزءاً من بدنه بغالية، أو مسك مسحوق أو ماء ورد لزمته الفدية. وعن أبي حنيفة -رحمه الله-: أن الفدية التَّامة إنما تلزم إذا طَيَّبَ عضواً، أو رُبُعَ عُضْوٍ فإن طيّب أقل منه لم يلزمه، ولا فرق بين أن يتفق الإلصاق بظَاهِرِ البَدَنِ، أو باطنه كما لو أكله أو احتقن به أو استعط، وقيل: لا تجب الفدية في الحُقْنَة والسَّعُوطِ، ثم في الفصل صور: إحداها: لو عَبَقَ بِهِ الريح دون العَيْنِ بأن جلس في حَانُوتِ عَطَّارٍ، أو عند الكعبة
وهي تخمر (¬1) أو في بيت يخمر ساكنوه فلا فدية، لأن ذلك لا يسمى تطيباً، ثم إن قصد الموضع لا لاشتمام الرائحة لم يُكْرَه، وإن قصده لاشتمامها كره على أصح القولين. وعن القاضي حسين -رحمه الله- أن الكراهة ثابتة لا محالة، والخلاف في وجوب الفدية. ولو احتوى على مجمرة فَتَبَخَّرَ بالعُودِ بَدَنَهُ، أو ثيابُه لزمته الفِدْيَةُ، لأن هذا طريق التطيب منه، وعن أبي حنيفة أنه لا فدية فيه. ولو مَسَّ طِيباً فلم يعلق بيده شَيْءٌ من عينه، ولكن عبقت به الرَّائحة، فهل تلزمه الفدية؟ فيه قولان: أحدهما: لا، وهو منقول المُزَنِي؛ لأن الرائحة قد تحصل بالمُجَاورة من غير مُمَاسة، فلا اعتبارَ بِهَا. والثاني: ويروى عن "الإملاء"، نعم؛ لأن المقصودَ الرائحةُ وقد عبقت به، وذكر صاحب العدة وغيره، أن هذا أصح القولين، وكلام الأكثرين يميل إلى الأَوَّلِ. الثانية: لو شَدَّ المِسْك أو العنبر أو الكافور في طرف ثوبه أو وضعته المرأة في جيبها أو لبست الحُلِيّ المحشو بشيءٍ مِنْهَا وجبتِ الفِدْيَةَ، فإن ذلك طريق استعمالها، ولو شَمَّ الوردَ فقد تطيب به، ولو شم ماء الورد فَلاَ، بل الطريق فيه أن يَصُبَّهُ على بدنه، أو ثيابه، ولو حمل مِسْكاً أو طيباً آخر في كِيسٍ، أو خرقة مشدودةٍ، أو قارورةٍ مصممة الرأس، أو حمل الورد في ظرف فلا فدية، لأنه لم يستعمل الطَّيب، حكى ذلك عن نصه في "الأم" وحكى الرّوَيانِي وغيره فيه وجهاً، أنه إن كان يشم قصداً لزمه الفِدْيَة وإن حمل مِسْكاً في كيس أو خرقة غير مشقوقة فوجهان: أحدهما -وبه قال القَفَّالُ-: تَجِب الفدية وحمل الفأرة تطيب. وأصحهما: وبه قال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لا تجب: نفس الفأرة، لَيْسَ بِطِيبٍ، وإنما الطيب المسك، وبينه وبينه حَائِل، فأشبه سورة القارورة أي المصممة. ولو كانت الفأرة مشقوقة، أو القارورة مفتوحة الرَّأْسِ، فقد قالوا بوجوب الفِدْية، وليس ذلك واضحاً مِن جِهَةِ المَعْنَى، فإنه لا يُعَد ذَلِك تَطَيُّباً. الثالثة: لو جلس على فِرَاشٍ مطيب، أو أَرْضٍ مطيبة ونام عليهما مُفْضِياً ببدنه أو ملبوسه إليهما لزمته الفدية، وجعل ملاقاته بمثابة لبسَ الثَّوْبِ المُطَيِّبِ، كما تجعل ملاقاة الشَّيْءِ النَّجس بمثابة لبس الثوب النجس، فلو فرش فوقه ثوباً ثم جَلَس، أو نام لم تجب الفدية، لكن لو كان الثوب رقيقاً كره، ولو داس بنعله طيباً لزمته الفدية لأنها ملبوسة له. ¬
قال الغزالي: وَأَمَّا القَصْدُ فَالاحْتِرَازُ بِهِ عَنِ النَّاسِي إِذْ لاَ فِديَةَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إِذَا جَهِلَ كَوْنَ الطِّيبِ مُحَرَّماً، وَلَو علِمَ أنَّهُ طِيبٌ وَلَمْ يَعْلَمْ أنَّهُ يَعْبَقُ بِهِ لَزِمَتِ الفِدْيَةُ، وَلَوْ أَلْقَى عَلَيْهِ الرِّيحُ طِيبًا فَلْيُبَادِر إِلَى غَسْلِهِ فَإِنْ تَوَانِىَ لَزِمَتْهُ الفِدْيَةُ. قال الرافعي: الأمر الثالث كون الاستعمال عن قَصْدٍ، فلو تطيب ناسياً لإحرامه أو جاهلاً بتحريم الطّيب لم تلزمه الفدية، وعذر، كما لو تكلم ناسياً في الصَّلاة، أو أكل ناسياً في الصَّوْمِ، وقد روى: "أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه جُبَّةٌ وهو متضمخ بالخلوق، فقال: إني أحرمت بالعمرة وهذه عليَّ فقال -صلى الله عليه وسلم- ما كنت تصنع في حَجَّتِك، قال: كنت أنزع هذه، وأَغْسِل هذا الخلوق، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا كُنْتُ صَانِعاً فِي حَجّكَ فَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ" (¬1). ولم يوجب عليه الفدية لِجَهْلِهِ، وعند مالك وأبي حنيفة والمزني -رحمهم الله- تَجِب الفديةُ عَلَى النَّاسِي والجَاهِلِ. وعن أحمد -رحمه الله- روايتان. وإن علم تحريم الاستعمال وجهل وجوب الفدية لزمته الفدية، فإنه إذا عَلِم بالتحريم فحقه الامتناع. ولو علم تَحْرِيمَ الطِّيب، وجهل كَوْنَ المَمْسُوسِ طِيباً، فجواب الأكثرين أنه لا فدية؛ لأنه إذا جهل كون ذلكَ الشَّيْءِ طيباً فقد جَهِلَ تحريم استعماله، وحكى الإمام مع ذلك وجهاً آخر أنها تجب. ولو مسَّ طيباً رطباً وهو يظن أنه يابس لا يعلق به شيء منه، ففي وجوب الفدية قولان: أحدهما: تجب؛ لأنه قصد التطيب مع العلم بِكَوْنِهِ طيباً. والثاني: لا تجب لِجَهْلِهِ بكونه طِيباً، كم لو جَهِلَ كونه طيباً، وبالقول الأول أجاب صَاحِبُ الكتاب، ورَجَّحَهُ الإمَامُ -رحمه الله- وغيره، ولكن طَائِفَة من الأَصْحَابِ رَجَّحُوا الثَّانِي. وذكر صاحب "التهذَيب" أنه القول الجَدِيد، -والله أعلم-. ومتى لصق الطِّيب ببدنه أو ثَوْبِهِ على وجه لا يوجب الفدية بأن كان نَاسِياً، أو ألقته الرِّيحُ عَلَيْهِ، فعليه أن يُبَادِرَ إلىَ غُسْلِهِ وتنحيته، أو معالجته بما يقطع رائحته، والأوْلَى أن يأمر غيره به، وإن باشره بنفسه لَمْ يَضُرْ (¬2)؛ لأن قصده الإزالة، فإنْ توانى ¬
النوع الثالث ترجيل شعر الرأس واللحية بالدهن
فيه، ولم يزله مع الإمكان فعليه الفدية، فإن كَانَ زَمِناً لا يقدر على الإزالة فلا فدية عليه، كما لو أكره على التطيب، قاله في "التهذيب" (¬1) -والله أعلم-. قال الغزالي: النَّوْعُ الثَّالِثُ تَرْجِيلُ شَعَرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ بالدُّهْنِ مُوجِبٌ لِلْفِدْيَةَ وَلَوْ دَهَنَ الأَصْلَعُ رَأْسَهُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كانَ الشَّعْرُ مَحْلُوقاً فَوَجْهَانِ. قال الرافعي: حكم الدهن المطيب قَدْ مَرّ. وأما غير المطيب: كالشيرج، ودهن الجوز، واللوز وفي معناها السمن والزبد فلا يجوز استعماله في الرأس واللِّحْيَةِ، لما فيه من ترجيل الشَّعْرِ وتزيينه، والمحرم منعوت بالشَّعثِ الذي يُضَاد ذَلِك. ولو كان أقرع أو أصلع فدهن رأسه أو أَمْرَد فدهن ذقنه فلا فدية عليه، إذ ليس فيه تزيين شَعْرٍ. وإن كان محلوقَ الرَّأسِ فوجهان: أحدهما: ويروى عن المزني: أنه لا فدية إِذْ لاَ شَعرِ. وأصحهما: الوجوب، لتأثيره في تَحْسِين الشعر الذي ينبت بَعْده. ويجوز تَدْهِينُ سَائِرِ البَدَنِ شَعْرُه، وَبَشَرَتُهُ فإنه لا يقصد تحسينه وتزيينه، ولا فرق بين أن يستعمل الدّهن في ظاهر البَدَنِ، أو باطنه. ولو كان على رأسه شجة فجعل الدهن في داخلها، فلا شيء عليه. وعن مالك أنه إذا استعمل الدهن في ظاهر بدنه فعليه الفدية. وعند أبي حنيفة إذا استعمل الزّيت والشيرج وجبت الفدية، سواء استعمل في رأسه أو في لحيته، أو في سائر بدنه إلا أن يداوي به جُرْحَه، أو شقوقَ رِجْلَيْهِ، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد. والثانية: وهي الأصَحّ: أن استعمالها لا يوجب الفِدْية، وإن كان في شعر الرأس واللِّحية فيجوز أن يعلم قوله في الكتاب: (يوجب الفدية) بالألف لهذه الرواية. وقوله: (ترجيل شَعْرِ الرأس واللِّحْيَةِ) يشعر بتخصيص المنع بتدهين الشَّعْرِ حتى لا ¬
يمنع من تدهين المواضع التي لا شَعْرَ عليها من الرَّأْسِ، وقد صَرَّحَ المزني في "المختصر" بهذا المفهوم، لكن قال المَسْعُودِي في الشَّرْحِ: ليس الأمر على ما قاله المُزَنِي، بل هو منهي عن استعمال الدهن في الرأس والوجه كله، وإن لم يكن عليه شَعْر؛ لأنه موضع الشَّعْرِ، لكن بشكل هذا بما سبق في الأَقْرَع والأَمْرَد. قال الغزالي: وَلاَ يُكْرَهُ فِي الجَدِيدِ الغَسْلُ وَلاَ غَسْلُ الشَّعَرِ بالسِّدْرِ وَالخَطْمِيِّ، وَلاَ بَأْسَ بِالاكْتِحَالِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ، وَفِي إلْحَاقِ الخِضَابِ لِلشَّعَرِ بِالتَّرْجِيلِ تَرَدُّدٌ. قال الرافعي: في الفصل صور: إحداها: يجوز للمُحْرِمِ أن يَغْتَسِلَ، ويدخل الحَمَّام ويزيل الدَّرن عن نَفْسِهِ، لما روى عن أبي أَيُّوب -رضي الله عنه-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَغْتَسِلُ، وَهُوَ مُحْرَمٌ" (¬1) "وَدَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- حَمَّامَ الْجُحْفَةِ مُحْرِماً، وَقَالَ: إِنَّ اللهُ -تَعَالَى- لاَ يَعْبَأُ بِأوْسَاخِكُمْ شَيْئاً" (¬2). هل يكره ذلك؟ المشهور: أنه لا يُكْرَه. وحكى الحَنَّاطِيُّ والإِمَام: قَوْلاً عن القديم: أَنَّهُ يُكْرَه. الثانية: يستحب أن لا يُغْسِل رأسَه بالسَّدْرِ والخطمي؛ لما فيه من التزيين، لكنه جائز لا فدية فيه بخلاف التدهين، فإنه يؤثر في التنمية مع التزيين. وإذا غسل رأسه فينبغي أن يرفق في الدَّلْكِ حتى لا ينتفق شَعْره، ولم يذكر الإمام ولا المصنف في "الوسيط" خلافاً في كراهة غسله بالسِّدْرِ والخطمي، لكن الحنَّاطِيَّ حكى القول القديم فيه أيضاً، فيجوز أن يعلق قوله: (ولا يكره في الجديد) بالمسألتين إتياناً للخِلاَفِ فيهما. الثالثة: لا يجوز أن يَكْتَحِل بِكُحْلٍ فِيهِ طيب. وعن أبي حنيفة -رحمه الله- جوازه، وما لا طِيبَ فيه يجوز الاكْتِحَال به، ثم منقول المزني أنه لا بَأسَ بهِ، وعن "الإملاء" أنه يُكْرَه، وتوسط المتوسطون فقالوا: إن لم يكن فيه زينة كالتوتيا الأبيض لم يكره الاكْتِحَال به، وإن كان فيه زينه كالإثمد فيكره إلا لِحَاجة الرمد، ونحوه. الرابعة: روى الإمام عن الشَّافِعِىّ -رضي الله عنه- اختلاف قولٍ في وجوب الفدية إذا خضب الرجل لِحْيَتَه. وعن الأصحاب طُرُقاً في مأخذه. أحدها: التردد في أن الحِنَّاء هل هو طيب، وهذا غريب، والأصحاب قاطعون بأنه ليس بِطِيبٍ على ما مَرّ. ¬
النوع الرابع التنظف بالحلق
والثاني: أن من يختضب قد يتخذ لموضع الخضاب غلافاً يحيط به، فهل يلحق ذلك بالمَلْبُوسِ المعتاد؟ وقد سبق الخلاف فيه. والثالث: هو الأظهر: أن الخِضَاب تزيين للشَّعْرِ، فتردد القول في التحاقه بالترجيل بالدهن، والظاهر أنه لا يلتحق به، ولا تجب الفِدْيَة في خِضَاب اللِّحْيَةِ، ثم قال الإمام على المأخذ الأول: لا شيء على المرأة إذَا خضبت يَدَهَا بَعْدَ الإِحْرَامِ، وعلى الثَّاني والثالث يجري التردد أما على الثَّانِي فظاهر. وأما على الثَّالِث فأشبه الغلاف بالقُفَّازَيْنُ، وقد عرفت من قبل خضابها يَدَيْهَا، وخضاب الرَّجُلِ شَعْرَ الرَّأْسِ. ويجوز للمحرم أن يفتصد، ويُحْتَجِم ما لم يقطع شَعْراً ولا بأس بنظره في المرآة. وعن الشافعي -رضي الله عنه- أنه كرهه في بعض كتبه (¬1). قال الغزالي: النَّوْعُ الرَّابعُ التَّنَظُّفُ بِالحَلقْ، وَفِي مَعْنَاهُ القَلْمُ، وَتَجِبُ به الفِدْيَةُ سوَاءٌ أَبانَ الشَّعَر بإحْرَاقٍ أَوْ نَتْفٍ أَوْ غيْرِهِ مِنْ رَأْسِهِ أَوْ مِنَ البَدَنِ، وَلَوْ قَطَعَ يَدَ نَفْسِهِ وَعَلَيْهِ شَعَرَاتٌ فَلاَ فِدْيَةَ، ولو امْتَشَطَ لحْيَتَهُ فأنْتُتفَتْ شَعَرَاتٌ لَزِمَتِ الفِدْيَةُ، وَإِنْ شَكَّ في أَنَّهُ كَانَ مُنْسَلاً فَانْفَصَلَ أَو انْتُتِفَ بَالمُشْطِ فَفِي الفدْيَةِ قَوْلاَنِ لِمُعَارَضَةِ السَّبَبِ الظَّاهِرِ أَصْلَ الْبَرَاءَةِ. قال الرافعي: حلق الشَّعْرِ قبل أَوانِ التحلل مَحْظُور، قال الله تَعَالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} (¬2) الآية، وتتعلق به الفدية، فإن الله تَعَالَى أوجب الفِدْيَة على المَعْذُورِ في الحَلْقِ حيث قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} (¬3) الآية، وإذا وجبت الفِدْيَةُ على المعْذُورِ فعلى غَيْرِ المَعْذُورِ أَوْلى (¬4)، ولا فرق بين شَعْرِ الرَّأْسِ وَالبَدَنِ. أما شَعْرُ الرَّأْسِ فَمَنْصُوصٌ عَلَيْهِ. وأما غيره فالتنظيف والتّرَفه في إزالته أكْثَر. وَذَكَر المُحَامِلِيّ أن في رواية عن مالك ¬
لا تتعلق الفِدْيَة بشعر البَدَنِ. والتقصير كالحَلْقِ، كما أنه في معناه عند التَّحَلُّلِ وقَلْم الأظفار كَحَلْقِ الشَّعْرِ، فإنها تزال للتنظيف والترفه، وليس الحكم في الشَّعْرِ منوطاً بخصوص الحَلْقِ، بل بالإزَالَةِ والإبَانَةِ فيلحق به النَّتْفُ والإحْرَاقُ وغيرهما، وكذلك يلحق بالقَلْمِ الكَسْرُ والقَلْعُ. ولو قطع يَدَهُ أو بعض أصابَعِهِ وعليها الشَّعْرُ والظّفْرُ فلا فِدْيَةُ عَلَيْهِ، لأن الشَّعْر وَالظُّفْرَ تَابِعَانِ هاهنا غير مقصودين بالإبَانَةِ، وعلى هذا القياس لو كشط جلدةُ الرَّأْسِ فَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ، والشَّعْرُ تَابعُ وشَبَّه ذلك بمَا لو كانت تحته امرأتان صغيرة وكبيرة فأرضعت الكبيرة الصَّغِيرة يبطل النِّكَاح، ويجب المَهْر (¬1) ولو قتلتها لا يجب المهر؛ لأن البضع تَابعٌ عند القتل غير مقصود، ولو امتشط لحيته فانتتفت شعيرات فعليه الفِدْيَة، وإن شَكَّ في أنه كان منسلاً فانفصل أو انتتفت بالمَشْط، فقد حكى الإمام وصاحب الكتاب في وجوب الفدية قولان، وقال الأكثرون: فيه وَجْهَان: أحدهما: أنها تجب؛ لأن الأَصْلَ بقاؤه ثَابِتاً إلى وقت الامتشاط، ولأنه سَبَبٌ ظَاهِرٌ فِي حُصُولِ الإبانة، فيضاف إليه كما أن الإجهاض يضاف إلى الضرب. وأصحهما: أنها لا تجب؛ لأن النتف لم يتحقق، والأصل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ عَنِ الفِدْيَةِ. قال الغزالي: وَيَكْمُلُ الدَّمُ في ثَلاَثِ شَعَرَاتٍ، وَفِي الوَاحِدَةِ مُدٌّ في قَوْلٍ، ودَرْهَمٌ فِي قَوْلٍ، وَثُلْثُ دَمٍ في قَوْلٍ، وَدَمٌ كَامِلٌ في قَوْلٍ. قال الرافعي: ستعرف في باب الدِّمَاءِ فدية الحَلْقِ، وأن إراقة الدِّمَاءِ إحدى خصالها، ولا يعتبر في وُجُوبِهَا تامة حلق جَمِيعِ الرَّأْسِ، ولا قلم جَمِيع الأظفار بالإجْمَاع، ولكن يكمل الدم في حَلْق ثلاثة شَعَرَات، وقلم ثَلاثةِ أَظْفَار مِنْ أظفَارِ اليَّدِ والرِّجْلِ، سواء كانت من طَرَفٍ وَاحِدٍ، أو من طرفين خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- حيث قال: لا يكمل الدّمُ حتى يَحْلِقَ ربع الرأْس، أو يقلم خَمْسَةَ أَظْفَار من طَرَفٍ وَاحِدٍ، ولمالك -رضي الله عنه- حيث قال: لا يكمل بحلق ثَلاَثِ شَعَرَاتٍ، وإنما يكمل إذا حَلَقَ من رأسه القدر الذي يحصل به إماطة الأَذَى، ولأحمد -رحمه الله- حيث قدر في رواية بأربع شَعَرَات، والرواية الثانية عنه مثل مَذْهَبِنَا. لنا أن المفسرين ذكروا في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} (¬2) أن المعنى فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ. ¬
ومن حلق ثَلاَثَ شَعَرَاتٍ فقد حَلَقَ، وهذا إذا حَلَقَهَا دفعةً وَاحِدَةً في مكانٍ وَاحِدٍ، فإن فَرَّقَ زَمَاناً، أو مكاناً فسيأتي في النَّوْعِ السَّادِسِ حُكْمُه. وإن اقتصر على حلق شَعْرَةٍ وَاحِدةٍ أو شعرتين ففيه أقوال: أظهرها: وهو الذي ذكره في أكثر كتبه أن في شعرة مداً من طَعَام، وفي شعرتين مُدَّيْن (¬1)؛ لأن تبعيضَ الدَّمِ عسر، والشَّرْعُ قد عدل الحيوان بالطَّعَام في جَزَاءِ الصَّيْد وغيره، والشَّعْرَةُ الوَاحِدَةُ هِيَ النِّهَاية فِي القِلَّة، والمد أقل ما وجب في الكَفَّارَاتِ فقوبلت به. والثاني: في شعرة دِرْهَم، وفي شعرتين دِرْهَمَيْنِ؛ لأن تبعيض الدَّمِ عَسِير، وكان الشَّاة تُقَوَّم في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بثلاثة دراهم تقريباً، فاعتبرت تلك القيمة عند الحَاجَةِ إلى التَّوْزِيعِ. والثالث: رواه الحميدي عن الشَّافِعِي: في شَعْرَة ثُلُثُ دَمٍ، وفي شعرتين ثُلُثَا دَمٍ، تقسيطاً للواجب في الشَّعَرَاتِ الثَّلاَثِ على الآحاد، وقد ذكر أن هذا القول منقول في تَرْكِ الحَصَاةِ والحَصَاتين، فخرج هاهنا، وذكر في القَوْلِ الثَّانِي مِثْلُه. الرابع: حكاه صاحب "التقريب" وغيره أن الشَّعْرةَ الوَاحِدَة تقابل بدَمٍ كَامِلٍ، وهو اختيار الأستاذ أبي طاهر، ووجهه بأن محظورات الإحرام لا تختلف بالقِلَّةِ والكثرة، كما ¬
في الطّيبِ واللِّبَاسِ، فإذا عرفت ما ذكرناه أعملت قوله: (في ثلاث شعرات) بالحاء والميم والألف، ولك أن تُعَلِّم الحكم في الأحوال الأربعة بالحاء؛ لأنه لا يوجب فيما دون الرُّبع شَيئاً مقدراً، وإنما يوجب صدقة، وأن تُعَلِّم قوله: (ودرهم في قول) بالواو؛ لأن من الأصحاب من لم يثبته قولاً للشافعي، وادعى أنه ذكره حكاية عن مذهب عطاء، والخلاف في الشَّعْرَة والشعرتين جَارٍ في الظُّفْرِ والظُّفْرَينِ. ولو قلم دون القدر المعتاد كان كما لو قصر الشعر. ولو أخذ من بعض جوانبه ولم يأت على رأس الظهر فقد قال الإمام: إن قلنا: يَجِب في الظفر الواحد ثلث دم، أو درهم، فالواجب فيه ما يقتضيه الحِسَاب، وإن قلنا: يجب فيه مُدٌّ فلا سبيل إلى تبعيضه -والله أعلم-. قال الغزالي: وَإِنْ حَلَقَ بِسَبَبِ الأَذَى جَازَ وَلَزِمَ الفِدْيَة، وَإِنْ نبَتَتْ شَعْرَةٌ في دَاخِلِ الجَفْنِ فلاَ فِدْيَةَ في نَتْفِهَا؛ لِأَنَّهُ مُؤذٍ بِنَفْسِهِ كَالصَّيْدِ الصَّائِلِ، وَالنِّسْيَانُ لاَ يَكُونُ عُذْراً فِي الحَلْقِ وَالإتْلافاتِ عَلَى أَظْهَرِ القَوْلَيْن. قال الرافعي: مقصود الفصل حكم المَعْذُورِ في الحَلْق، والذي سبق كان مع غير المَعْذُورِ، ونعم صور العذر أنه لا يأتم بالحَلْقِ، وفي الفِدْيَة صور: إحداها: لو كثرت الهَوَامْ في رَأسِهِ، أو كانت به جراحة وأحوجه إذا هام إلى الحلق فله ذلك، وعليه الفدية. كان كَعبُ بْنُ عجرَة يوقد تحت قدره، والهوام تنتثر من رأسه فمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَاحْلِقْ وَانْسُكْ بِدَمٍ أَوْ صُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ تَصَدَّق بفَرَقٍ مِنَ الطَّعَامِ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ" (¬1) والفَرَقُ: ثلاثة آَصع، وكذا الحكم لو كَانَ كثيرَ الشَّعْرِ، وكان يتأذى بالحَرِّ. الثانية: لو نبتت شعرة، أو شعرات في دَاخِلِ الْجِفْنِ، وكان يتأذى بِهَا فله قَلْعُهَا، ولا فدية عليه؛ لأن التأذي هاهنا من نفس الشعر فهي كالصَّيْدِ الصَّائلِ على المُحْرِمِ بخلاف الصُّورة الأُولَى. وعن الشَّيْخُ أَبِي عَلِيِّ طريقة أخرى في المسألة، وهي تخريج الضَّمَان على وجهين بناء على القولين فيما إذا عمت الجراد المَسَالك، واضطر إلى وطئها وإتْلاَفِهَا. ولو طال شَعْرُ حَاجِبِهِ ورأْسه وَغَطَّى عَيْنَه قطع القدر المُغَطّي، ولا فدية عليه. ¬
وكذا لو انكسر ظفره وتأذى به قطعة، ولا يقطع معه من الصحيح شيئاً. الثالثة: ذكرنا أن النسيان يُسْقِطُ الفِدْيَة في الطِّيب وَاللِّبَاسِ، وكذلك الحكم فيما عَدَا الوَطْءِ من الاستمتاعات، كالقُبْلَةِ واللَّمْسِ بالشَّهْوَةِ، ولو وَطِئَ نَاسِياً ففيه خلافٌ سيأتي، وهل يسقط الفِدْيَةُ في الحَلْقِ، والقَلْم؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما في الاستمتاعات. وأصحهما: لا، لأن الإتْلاَفات لا فَرْقَ فيها بين العَمْدِ والخَطَأ، كما في ضَمَانِ الأَمْوَالِ، وهذا منصوص، والأول مُخَرَّجٌ من أحد قوليه فيما إذا حَلَقَ المُغْمَى عَلَيْهِ، فإنه نَصَّ ثم على قوله، ومنهم من قطع بما نص عليه، وامتنع من التخريج، وفرق بأن النَّاسِي يعقل ما يتعطاه بِخِلاَفِ المُغْمَى عَلَيْهِ، والمجنونُ والصَّبِيُّ الذي لا يُمَيَّز كالمُغْمَى عَلَيْهِ. ويجوز إعلام قوله: (على أظهر القولين) بالواو، لأنه أجاب بالطريقة المبينة للخلاف. وقوله: (في الحلق والإتلافات) يدخل فيه قتل الصيد، ويقتضي كونه على الخلاف، وهكذا قال الأكثرون، وأشار مشيرون إلى تخصيص الخِلاَفِ بِالْحَلْقِ، والقَلْمِ والقَطْعِ بأنه لا أثر له في قتل الصَّيد. قوله: (والنسيان لا يكون عذراً) أراد في إِسْقَاطِ الفدْيَةِ، فأما الإثم فالنسيان بسقطه كما في سَائِرِ المَحْظُورَاتِ. قال الغزالي: وَلَوْ حَلَقَ الحَلاَلُ شَعَرَ الحَرَامِ بِإذْنِهِ فَالفِدْيَةُ عَلَى الحَرَامِ، وَإِنْ كَانَ مُكْرَهاً وإن (ج) فَعَلَى الحَلاَلِ، وَإِنْ كَانَ سَاكِتاً فَقَوْلاَنِ. قال الرافعي: إذا حلق شعر غيره فإما أن يكون الحَالِقُ حَرَاماً والمَحْلُوق حَلاَلاً، أو بِالْعَكْسِ، أو يكونا حَرَامَيْنِ، أو حَلاَلَيْنِ. أما الحَالَة الأخيرة فلا يخفى حكمها. وأما الأولى فلا مَنْعَ مِنْهَا، ولا يجب على الحَالِق شَيْءُ، وبه قال مالك، وأحمد خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- حيث قال: ليس لِلْمُحْرِمِ أن يحلق شَعْرَ غَيْرِهِ، ولو فعل فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ. لنا أن هذا الشَّعْرَ ليس له حُرْمَة الإِحْرَامِ، فجاز له حلقه كَشَعْرِ البَهِيمَةِ. وأما: إذا حلق الحلاَلُ أو الحَرَامُ شَعْرَ الحَرَامِ فقد أساء، ثم ينظر إن حلق بأمره فالفدية على المَحْلُوقِ، لأن فِعْلَ الحَالِقِ بأمره مُضَافٌ إليه، ألا تَرَى أنه لو حلف أن لا يَحْلِقَ رَأسه فأمر غَيْرَه فَحلقَ حنث في يمينه، ولأن يَدَه ثابتةٌ عَلَى الشَّعْرِ، وهو مأمور بحفظه. إما على سَبِيلِ الوَدِيعَةِ أو العَارَيةِ كما سيأتي، وكلاهما إذا تَلَف فِي يَدِهِ بأمره يَضْمَن. إن حلق لا بَأمره، فينظر إن كَانَ نائماً أو مكرهاً أو مُغْمَى عَلَيْهِ، ففيه قولان:
أصحهما: أن الفدية على الحَالِقِ، وبه قال مَالِكٌ وأحْمَدُ -رحمهما الله- لأنه المُقَصِّر، ولا تقصير من المَحْلُوقِ، وهذا ما أورده في الكِتَابِ. والثاني: وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-: أنها على المحلوق واختاره المُزَنِيُّ - رحمه الله-: لأنه المرتفق به، وقد ذكر المُزَنِيُّ أن الشَّافِعِيَّ -رضي الله عنه- قد خط على هذا القول، لكن الأصحاب نقلوه عن البويطي، ووجدوه غير مخطوط عليه، وبنوا القولين على أن استحفاظ الشَّعْرِ في يد المحرم جَارٍ مجرى الوَدِيعَةِ، لأ مَجْرَى العَارَيةِ وفيه جوابان. إن قلنا بالأول فالفدية على الحَالِقِ، كما أن ضمان الوَدِيعَةِ عَلَى المُتْلِفِ دُونَ المودع. وإن قلنا بالثاني، وجبت على المَحْلُوقِ وجوب الضَّمَانِ عَلَى المُسْتَعِير قالوا: والأول أظْهَر؛ لأن العَارِيةَ هي التي يمسكها لمنفعة نفسه، وقد يريد المحرم الإزالة دون الإِمْسَاكِ، وأيضاً فإنه لو احترق شَعْرُه بتطاير الشَّرَرِ، ولم يقدر على التطفية لا فدية عليه، ولو كان كالمستعير لوجبت عليه الفِدْيَة. التفريع: إن قلنا: الفدية على الحَالِقِ، نظر إن فدى فَذَاك، وإن امتنع مع القدرة فهل للمحلوق مطالبته بِإِخْرَاجِهَا؟ فيه وجهان، وجواب الأكثرين أن له ذلك بناء على أن المُحْرِمَ كالمُودِعِ، والمودع خَصْم فِيمَا يُؤْخَذ منه، ويتلف في يديه. ولو أخرج المحلوق الفدية بإذن الحالق جاز، أو بِغَيْرِ إِذْنِهِ لاَ يَجُوزُ في أَصَحِّ الوجهين، وبه قال ابْنُ القَطَّانِ وَأَبُو عَلِيّ الطَّبَرِي: كما لو أخرجها أَجْنَبِيّ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وإن قلنا: إن الفِدْيَةَ على المَحْلوقِ، فينظر إن فدى بالهَدْي أو الإطْعَام رَجَعَ بأقَلّ الأَمْرَيْنِ من الطَعَامِ، أو قيمة الشَّاة على الحَالِقِ، وَلاَ يرجع بِمَا زَاد؛ لأن الفِدْيَة علىَ التَّخْيِيرِ، وهو مُتَطَوُعٌ بالزِّيَادَةِ، وإن فدى بالصَّوْمِ فَهَلْ يَرْجِع؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا، وعلى الثَّاني بم يرجع؟ فيه وجهان. أظهرهما: بثلاثة أَمْدَادٍ مِنْ طَعَامِ، لأن صَوْمَ كُلِّ يَوْمٍ مُقَابِلٍ بمد. الثاني: بما يرجع به، لو فدى بالهُدْي أَو الإِطْعَامِ، ثم إِذَا رجع فَإِنَّمَا يرجع بعد الإِخْرَاجِ في أصَحِّ الوَجْهَيْنِ. والثاني: له أن يأخذ منه، ثم يخرج، وهل لِلْحَالِقِ أن يفدي على هَذَا القَوْلِ. أما بالصوم فَلاَ، لأنه متحمل، والصوم لا يتحمل. وأما بِغَيْرِهِ فَنَعَمْ، ولكن بِإذْنِ المَحْلُوقِ؛ لأن في الفِدْيَةِ معنى القُرْبَى، فلا بد من نيَّةِ مَنْ لاَقاهُ الوُجُوبُ. وإن لم يكن نائماً ولا مُغْمَى عَلَيْهِ، ولا مكرهاَ لكنه سكت عن الحَلْقِ، ولم يمنع منه فقد قال في الكتاب فيه قولان، وقال المعظم: وجهان:
النوع الخامس: الجماع
أحدهما: أن الحُكْمَ كما لو كَانَ نَائِماً؛ لأن السُّكوتَ لَيْسَ بِأَمْرٍ، ألا ترى أن السُّكُوت عَلَى إِتْلاَفِ المَالِ لا يكون أمْراً بالإِتْلاَفِ. وأصحهما: أنه كما لو حلق بأمره؛ لأن الشَّعَرَ عِندَه إِمَّا كَالوَدِيعَة، أو كالعارية، وعلى التقديرين يَجِبُ الدَّفْعُ عَنْهُ. ولو أمر حَلالٌ حَلاَلاً بحلق شعر حرام، وهو نائم فالفِدْيَة على الآمر إن لم يعرف الحَالِقُ الحَالَ، وإن عرف فعليه في أصح الوجهين. قال الغزالي: النَّوْعُ الخامِسُ: الجِمَاعُ وَنَتِيْجَتُهُ الفَسَادُ وَالقَضَاءُ وَالكَفَّارَةُ، وَإِنَّمَا يَفْسَدُ بِالجِمَاعِ قَبْلَ التَّحَلُّليْنِ (ح) وَفيمَا بَيْنَهُمَا فلاَ، وَفِي العُمْرَةِ قبْلَ السَّعْي إِلاَّ إِذَا قُلْنَا: الحَلْقُ نُسُكٌ فَيَفْسَدُ قَبْلَ الحَلْقِ، وَلَيْسَ لِلعُمْرَةِ إِلاَّ تَحَلُّلٌ وَاحِدٌ. قال الرافعي: قال الله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (¬1) أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا، والرَّفَثُ مفسر بالجماع، فالجماع في الحَجِّ والعمرةُ نَتَائِج، فَمِنْهَا فساد النُّسُكِ، يروى ذلك عن عمر (¬2) وعلي (¬3) وابْنِ عباس (¬4) وأبي هريرة (¬5) وغيرهم من الصَّحَابَةِ -رضي الله عنهم- أجْمَعِين. واتفق الفقهاء عليه بعدهم، وإنما يفسد الحج بالجِمَاعِ إذا وَقَعَ قَبْلَ التحللين لِقُوَّةِ الإِحْرَامِ، ولا فرق بين أن يقع قبل الوُقُوفِ بعَرَفَةَ أو بَعْدَه خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- حيث قال: لا يفسد بِالْجِمَاعِ بَعْدَ الوقوف، وَلكن تلزمِ بِهِ الفدْيَة. وأما الجماع بين التحللين فلا أَثَرَ لَهُ فِي الفَسَادِ. وعن مالك وأحمد -رحمهما الله- أنه يفسد ما بقي من إحْرَامِهِ ويقرب منه ما ذَكَرَهُ القَاضِي ابْنُ كِجٍّ أن أبا القَاسِم الدركي، وأبا عَلِي الطَّبَرِيّ حَكَيَا قولاً عن القديم أنه يخرج إلى أدنى الحِلِّ، ويجدد منه إحْرَاماً ويأتي بِعَمَلِ عُمْرَةٍ. وأطلق الإمام نقل وجه أنه مفسد كما قبل التَّحلل، وتَفْسُدُ العمرة أيضاً بالجِمَاع قبل حُصولِ التَّحَلُّلِ، ووقت التحلل مِنْهَا مَبْنِيٌّ عَلَى الخِلاَفِ السَّابقِ في الحَلْقِ، فإن لم نجعله نسكاً فإنما يفسد بالجِمَاعِ قَبْلَ السَّعْي، وإن جعلناه نُسُكاً فيفسد أيضاً بالجِمَاعِ قَبْلَ ¬
الحَلْقِ. وقال أَبُو حَنِيفةَ -رحمه الله-: إنما يفسد إذا جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ أَرْبَعَةَ أشْوَاطٍ، وأما بعد ذلك فَلاَ. ويجوز أن يُعَلَّم لذلك قوله في الكتاب: (قبل السعي) وقوله: (قبل الحلق) كلاهما بالحاء. واعلم أن التفصيل الذي ذكره في أن الجِمَاعَ يفسدها قَبْلَ الحَلْقِ أو لا يُفْسِدُهَا إلا إذا وقع قَبْلَ السَّعْي مبنياً على الحَلْقِ، هل هو نُسُك ضرب من البَسْطِ والإيضَاحِ، إلا فَإذَا عرفنا في هذا الموضوع أن الجِمَاعَ قبل التَّحَلُّلِ مفسد، وعرفنا من قبلَ الخلاف فِي أن الحَلْقَ هل هو نُسُكٌ أَم لاَ، لا يشتبه علينا التفصيل المذكور. واللواط، وإتيان البهيمة في الإفساد كالوَطْءِ في الفَرْجِ، وبه قال أحمد خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- فيهما ولمالك -رحمه الله- في إِتْيَانِ البَهِيمَةِ، وروى ابْنُ كِجٍّ وَجْهاً كمذهب مالك. قال الغزالي: ثُمَّ يَجِبُ المُضِيُّ في فاسِدِهَا بَإِتْمَامِ مَا كَانَ تَتِمَّةً لَوْلاَ الإفْسَادُ، ثُمَّ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ إن أَفْسَدَ، وَإِنْ كانَ بَيْنَ التَّحَلُّلَيْنِ فَشَاةٌ وَقِيلَ: بَدَنَةٌ، وَقِيلَ: لاَ يَجِبُ شَيْءٌ، وَالجِمَاعُ الثَّاني بَعْدَ الإفْسَادِ فِيهِ شَاةٌ، وَقِيلَ: بَدَنَةٌ، وَقِيلَ: لاَ شَيْءَ بَلْ يَتَدَاخَلُ. قال الرافعي: سائر العِبَادَاتِ لا حرمة لَهَا بَعْدَ الفَسَادِ، ويصير الشَّخْصُ خَارِجاً مِنْهَا لكن الحَجِّ والعُمْرَة وإن فسدا يجب المُضِيُّ فِيهِمَا، وذلك بإتمام ما كان يفعله، لولا عروض الفَسَادِ، وروى عن عمر (¬1) وعلي (¬2) وابْنُ عَبَّاسٍ (¬3) وأبي هريرة (¬4) -رضي الله عنهم- أنهم قالوا: "مَنْ فَسَدَ حَجُّهُ مَضَى فِي فَاسِدِهِ، وَقَضَى مِنْ قَابِلٍ". ومن نتائج الفَسَادِ الكفارة، وهي بدنة، والقول في كيفية وجوبها، وما يقوم مقامها مذكور في بَابِ الدِّمَاءِ. وعند أبي حنيفة -رحمه الله- إِنْ جامع قبل الوقوف لا تجب الفِدْيَة، وإنما يجب فيه دم شَاةٍ، وهذا مع تسليمه حصول الفَسَادِ، والحالة هَذِه، ولذلك أعلم قوله: (وعليه بدنه إن أفسد) بالحاء، والعمرة كالحَجِّ في وُجُوبِ البَدَنَةِ. وعن أبي إسحاق: أن بعض أصْحَابِنَا ذهب إلى أن لا يَجِب فِي إِفْسَادِهَا إِلاَّ شاة، لانخفاض رتبتها عَنْ رُتْبَةِ الحَجِّ، ثم في الفَصْلِ مَسْأَلَتَانِ: إحداهما: لو جامع بين التحللين وفرعنا على الصَّحِيحِ، وهو أن لا يُفْسِد ففيما يجب؟ فيه قولان: أظهرهما: شاة، لأنه لا يتعلق فَسَاد الحَجِّ بِهِ، فأشبه المُباشَرة فيما دُونَ الفَرْجِ. ¬
واختار المزني هذا القول، وأشار في "المختصر" إلى تخريجه للشافعي -رضي الله عنه-، وقيار: إنه حَكَاهُ فِي غير "المختصر" عن نصه. والثاني: أن الواجب بدنهُ، لأنه وَطْءٌ محظورٌ في الحَجِّ، فأشبه الوَطْءَ قَبْلَ التحلل، وبهذا قال مَالِك وأحمد، ونقل الإمام بدل القولين وجهين، ووجهًا ثَالِثاً، وهو أنه لاَ يَجِب فيه شَيْءٌ أَصْلاً، وهو ضَعِيف؛ لأن الوطء لا ينقص عن سَائِرِ محظورات الإحْرَامِ، وهي بين التحللين موجبة للفدية على ظَاهِرِ المَذْهَب، وإذَا عرفت ذلك عَلَّمْتَ قوله: (فشاه) وقوله: (لا يجب شيء) بالميم والألف، وقولهَ: (بدنه) وقوله: (لا يجب شيء) بالزاي. الثانية: إذا فسد حَجُّه بالجِمَاعِ ثم جامع ثانياً، فينظر إن لم يفد عن الأول ففي وجُوبِ شَيْءٍ للثَّانِي قولان: أحدهما: لا يجب، بل يتدخلان كما لو جَامَع في الصَّوْمِ مرتين لا تَجِب إلاَ كَفَّارةٌ وَاحِدَةٌ. وأصحهما: أنه لا تداخل لبقاء الإحْرَامِ، ووجوب الفدية بارتكاب سَائِرِ المَحْظُورَاتِ بِخِلاَفِ الصَّوْمِ، فإنه بالجماع الأول قد خرج عنه، وإن فدى عن الأول فلا تَدَاخل على المَشْهُورِ، ومنهم من طرد القولين، وبعضهم خصص القولين في الحالين بما إذا طَالَ الزَّمَانُ بَيْنَ الجِمَاعَيْنِ، واختلف المجلس، وقطع بالتداخل فيما إذا لم يكن كذلك، وحيث قلنا: بعدم التَّدَاخُلِ ففيما يَجِب بالجِمَاعِ الثَّانِي قولان: أحدهما: بدنه كما في الجِمَاعِ الأول. وأظهرهما: شاة؛ لأنه محظور لا يتعلق به فساد النُّسُكِ، فأشبه سائر المحظورات، وإذا اختصرت هذه الاختلافات قلت في المسألة ثلاثة أقوال على ما ذكره في الكتاب: أظهرها: أن الجِمَاعَ الثاني يوجب شَاةً، وبه قال أَبُو حَنِيفَةَ -رحمه الله-. والثاني: أنه يوجب بَدَنه. والثالث: أنه لا يوجب شيئاً وبه قال مالك. وعند أحمد -رحمه الله- إن كَفَّرَ عن الأوَّلِ وجب للثاني بَدَنَةٌ، ويجوز أن يُعَلَّم لهذه المذاهب قوله: (فيه شاة) بالميم، والألف، وقوله: (بدنة) بالميم والحاء، وقوله: (لا شيء) بالحاء والألف. قال الغزالي: ثُمَّ إِذَا أَتَمَّ الفَاسِدَ يَلْزَمُهُ القَضَاءُ، وَيتَأَدَّى بِالقَضَاءِ مَا كَانَ يَتَأَدَّى
بِالأَدَاءِ مِنْ فَرْضِ إسْلاَمٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ كانَ تَطَوُّعاً فَيَجِبُ القَضَاءُ وَلاَ يَتَأدَّى بِهِ غَيْرُ التَّطَوُّعِ، وَفِي وُجُوبِ القَضَاءِ عَلَى الفَوْرِ وَجْهَانِ، وَكَذَا في الكَفَّارة وَقَضَاءِ الصَّوْمِ إِذَا وَجَبَا بعُدْوَانٍ، وَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ فَلاَ يَضِيقُ، وَقَضَاءُ الصَّلاَةِ المَتْرُوكَةِ عَمْداً عَلَى الفَوْرِ لِتَعَلُّقِ القَتْلِ بِهِ، وَإذَا أَحْرَمَ مِنْ مَكَانٍ لَزِمَهُ في القَضَاءِ أَنْ يُحْرَمِ مِنْ ذَلِكَ المَكَانِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُحْرِمَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بَلْ لَهُ التَّأْخِيرُ. قال الرافعي: إفساد الحَجِّ يقتضي القضاء بالاتفاق، وقد روينا عن كِبَارِ الصَّحَابَةِ -رضي الله عنه- أنهم قالوا: "وَقَضَى مِنْ قَابِل"، ولا فرق في وجوب القَضَاءِ بين حَجِّ الفَرْضِ، وحَجِّ التَّطَوُّع، فإن التطوع يصير بالشُّروعِ فَرْضاً أيضاً، وقضاء كُلِّ حَجَّةٍ يجزئ عَمَّا كان يُجْزِئ آداؤها لَوْلاَ الفَسَاد فَلاَ يتأدى بالفَرْضِ غيره، ولا بالتطوع غيره. ولو أفسد القضاء بالجماع لزمته الكَفَّارة، ولم يلزمه إلا قَضَاء واحد؛ لأن المقضي وَاحِدٌ، ويتصور القَضَاء في عَامِ الإفْسَادِ بأن يحصر بعد الإفساد، ويتعذر عليه المضي في الفَاسِدِ فيتحلل، ثم يتفق زوال الحَصْر، والوقت باقٍ فيشتغل بالقضاء. هذا أصْلُ الفَصْلِ، ويتعلق به صور: إحداها: في كيفية وجوب القضاء وجهان: أحدهما: أنه على التَّرَاخِي، كما كان الأداء عَلَى التَّرَاخِي. وأصحهما: أنه على الفَوْرِ؛ لأنه لزم، وتضيق بالشّرُوع، ويدل عليه ظَاهِر قول الصَّحَابَةِ -رحمه الله عنهم- أنه يقضي من قَابِل، وعن القَفَّالَ: إجراء هذا الخلاف في كل كَفَّارَةٍ وجبت بعْدوَان؛ لأن الكَفَّارَةَ فِي وَضْعِ الشَّرْعِ على التَّرَاخِي كَالْحَجِّ. وأما الكفارة الواجبة من غير عدوان فَهِى عَلَى التَّرَاخِي لاَ مَحَالَة، وأجرى الإمامُ - رحمه الله- الخلاف في المتعدي بترك الصَّوْمِ أيْضاً، والكلام في انقسام قضاء الصَّوْمِ إلى الفَوْرِ والتَّرَاخِي، والخلاف فيه قد مَرَّ في كِتَابِ الْصَّوْمِ. قال الإمام: والمتعدي بترك الصَّلاة يلزمه قَضَاؤُهَا على الفَوْرِ بِلاَ خِلاَفٍ عَلَى المَذْهَبِ؛ لأن المصمم على ترك القَضَاءِ مَقْتُول عِنْدَنَا، ولا يتحقق هَذَا إلاَّ مَعَ توجه الخِطَاب بمبادرة القَضَاءِ وهذا ما أورده المُصَنِّف حُكْماً وتوجيهاً، وفي التوجيه وقفة؛ لأن أكثرَ الأَصْحَاب لم يعتبروا فيما يناط به القتل ترك القَضَاءِ على ما عرفت في باب تَارِكِ الصَّلاَةِ. وأما الحكم فاعلم أن في وجوب الفور وجهين في حَقِّ المتعدي. أحدهما -وبه أجاب في الكتاب-: أنه يجب، لأَنَّ جواز التأْخِيرِ نوع تَرْفِيهٍ
وتخفيف، والمُتَعَدِّي لا يستحق ذَلِك، ويحكى هذا عن أبي إسحاق وهو الأشبه على ما ذكرنا في ترك الصَّوْم. والثاني: أنه لا يجب إذ الوقت قد فات واستوت بعده الأوقات، وربما رجح العراقيون هذا الوجه. وأما غير المتعدي فالمَشْهُورُ أنه لا يلزمه الفَوْر في القَضَاءِ، روي أن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "فَاتَتْه صَلاة الصُّبْحِ فَلَم يُصَلِّهَا حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْوَادِي" (¬1). ونقل في "التهذيب" وجهاً أنه يلزمه لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا" (¬2). الثانية: إن كان قد أحرم في الأَدَاءِ قبل الميقات مثل إن أحرم من الكوفة أو من دوَيْرَةِ أَهْلِهِ لزمه أن يخرج في القَضَاءِ من ذلك المَوْضِعِ، لأن ما بين ذلك الموضع مسافة لزمه قطعها مُحْرِماً في الأَدَاءِ، فيلزمه في القَضَاءِ كما بين الميقات ومكَّة، ولو جاوزه أراقَ دَماً كما لو جاوز المِيقَات الشَّرْعِي. وإن كان قد أحرم بَعْدَ مجاوزة المِيقَاتِ نظر إن جاوزه مسيئاً لزمه في القضاء أن يحرم من الميقات الشَّرْعِي، وليس له أن يُسِيءَ ثَانِياً، وهذا معنى قول الأصحاب يحرم في القضاء من أغلظ الموضعين عليه من الميقات، أو من حيث أحرم في الأَدَاءِ، وإن جاوزه غير مُسِيئٍ بأن لم يرد النُّسُك، ثم بَدَا لَهُ فأحرم، ثم أفسد فقد حكى الشيخ أَبُو عَلِيٍّ فيه وجهين: أحدهما -وهو الذي أورده صاحب "التهذيب"-: أن عليه أن يحرم في القَضَاءِ من المِيقَاتِ الشَّرْعِي، لأنه الوَاجِب فِي الأَصْلِ. وأصحهما: عند الشيخ أَبِي عَلِيٍّ: أنه لا يلزمه ذلك، بل له أن يحرم من ذلك الموضع سُلُوكاً بالقضاء مَسْلَك الأَدَاءِ، وهذا لو اعتمر المتمتع من الميقات ثم أحرم بالحَجِّ من مَكَّة وأفسده لا يلزمه في القَضَاءِ أن يحرم من المِيقَاتِ، بل يكفي أن يُحْرِمُ مِنْ جَوْفِ مَكَّة. ولو أفرد الحَجَّ ثم أحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ من أدْنَى الحِلِّ ثم أفسدها يكفيه أن يحرم في قَضَائِهَا مِنْ أدْنَى الحِلِّ، والوجهان مفروضان فيما إذا لم يرجع إلى المِيقَات فما فوقه. أما إذا رجع ثم عاد فَلاَ بُدَّ مِنَ الإحْرَامِ مِنَ المِيقَاتِ. واعلم قوله في الكتاب: (لزمه في القضاء أن يحرم من ذلك المكان) بالميم والحاء؛ لأن مالكاً وأبا حنيفة -رحمهما الله- قالا: يحرم في قَضَاءِ الحَجِّ من الميقات، وفي قضاء العُمْرَةِ مِن التَّنْعِيمِ. ولا يجب أن يحرم بالقَضَاءِ في الزمان الذي أحرم فيه ¬
بالأَدَاءِ، بل له التَّأْخِير عنه مئل أن يُحْرِم بالأَدَاءِ فِي شَوَّال، له أن يُحْرِمَ بالقَضَاءِ فِي ذِي القِعْدَةِ، وفرقوا بَيْنَ الزَّمَانِ والمكان بأن اعتناء الشرع بالميقات المَكَاني أَكْمَل، ألا ترى أن مَكَانَ الإِحْرَام يتعين بالنَّذْرِ، وزمانه لا يتعين حتى لو نذر الإحْرَامَ بِالْحجِّ في شَوَّالٍ له أن يُؤَخِّره، وظني أن هذا الاستشهاد لا يسلم عن النِّزَاعِ. الثالثة -ولم يذكرها في الكتاب-: لو كانت المَرْأَةُ مُحْرِمَةٌ أيضاً نظر إن جَامَعَهَا وهي نائمةٌ أو مُكْرَهَةٌ لم يفسد حَجُّهَا، وإلا فَسَدَ، وحينئذ يَجِبْ عَلَى كُلِّ وَاحدٍ منهما بَدَنة أو لا يجب إلا بدنة واحدة؟ فيه قولان: والأصح الثَّانِي. ثم تلك البدنة تختص بالرّجُل، أن يُلاَقِيها وهو متحمل عنها؟ فيه قولان كما سبق في الصَّوْمِ، وقطع قاطعون بلزوم البَدَنَةِ عليها بِخِلاَف الصَّوْمِ؛ لأن هناك يَحْصُل الفِطْرُ قَبْلَ تمام حقيقة الجِمَاعِ، وغير الجماع لا يوجب الكَفَّارة. وإذا خرجت الزوجة لِلْقَضَاءِ فهل يَجِب على الزَّوْجِ ما زاد من النفقة بِسَبَبِ السَّفَرِ؟ فيه وجهان: قال في "العدة": ظاهر المذهب منهما الوجُوبِ. وإذا خَرَجَا معاً للقضاء فليفترقا في المَوْضِع الذي اتفقت الإِصَابة فيه كَيْلاَ تدعوه الشَّهْوَةُ إِلَى المُعَاوَدَةِ، فإن معهد الوصال مشوق، وهَلْ يَجِب؟ فيه قولان: القديم: نعم، وبه قال أحمد؛ لما روى عن ابْنِ عَبَّاس -رضي الله عنهما- أنه قال: "فَإذَا أتَيَا الْمَكَانَ الذِي أَصَابَا فِيهِ مَا أَصَابَا تَفَرَّقَا" (¬1). والجديد: لا، وبه قال أَبُو حَنِيفَةَ، كما لا يجب في سَائِرِ المَنَازِلِ، ويستحب أن يَتَفَرَّقَا مِنْ حِينَ الإحْرَامِ، وذهب مالك إلى وجوبه. قال الغزالي: وَلَو أَفْسَدَ القَارِنُ فَفِي لُزُومِ دَمِ القِرَانِ وَجْهَانِ، وَتَفُوتُ العُمْرَةُ بفساد القِرَانِ، وَهَل تَفُوتُ بِفَوَاتِ الحَجِّ فِي القِرَانِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَوَجْهُ الفَرْقِ أن التَّحَلُّلَ عَنِ الفَائِتِ بِأعْمَالِ العُمْرَةِ. قال الرافعي: يجوز للمفرد بأحد النسكين إذا فسده أن يقضيه مع الآخر قَارِناً، وأن يتمتع بالعُمْرَةَ إلَى الحَجِّ، ويجوز للمتمتع والقَارِنِ القَضاء عَلَى سَبِيلِ الإفْرَادِ، ولا يسقط دَمُ القَرَانِ بالقَضَاءِ عَلَى سَبِيلِ الإِفْرَادِ خلافاً لأحمد -رحمه الله-. إذا عرفت ذلك فَفِي الفَصْل مسألتان: ¬
إحداهما: إذا جامع القَارِن لم يخل إما أن يُجَامع قبل التَّحَلُّلِ الأَوَّل أو بعده. الحالة الأولى: أن يجامع قبله فيفسد نسكاه، ويجب عليه بدنة واحدة لاتحاد الإحْرَام، وهل يلزم دَمُ القَرَانِ معَ البَدَنَة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه لم يتمتع بِقَرَانِه، وقد ذَاقَ وَبَالَ الإِفْسَادِ فيكتفي به. وأظهرهما: ولم يورد المعظم سواه؛ نعم؛ لأنه لزم بالشّروع فلا يسقط بالإِفْسَادِ. وعن أبي حنيفة -رحمه الله- لا بدنة إلا مَعَ الإِفْسَاد كما سبق، ويلزمه شَاتَانِ لأنهما نُسُكَانِ، ثم إذا اشتغل بقضائهما فإن قرن، أو تمتع فَعَلَيْهِ دَمٌ آخر، وإلا فقد أشار الشَّيْخُ أَبُو عَلِي -رحمه الله تَعَالى- إِلَى خلاَفٍ فيه (¬1)، ومال مالك إلى أنه لا يَجِب شَيْءٍ آخر. الثانية: أن يجامع بعد التَّحَلُّلِ الأَوَّلِ فَلاَ يفسد واحد من نُسُكَيْهِ، واحتج له بأن عروض المفسد بعد التحلل من العبادة لا يُؤَثِّر، ألا ترى أنه إذَا سلم التسليمة الأولى من الصَّلاَةِ، ثم أتى بِمُفْسِدٍ لم تفسد صَلاتُه، ولا فرق بين أن يكَون قد أَتَى بأعْمَالِ العُمْرَةِ، أو لم يَأْتِ بهَا، وعن الأودني أنه إذا لم يأت بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ العُمْرَةِ تَفسد العُمْرَة، والمذهب الأَوَّل؛ لأن العُمْرَة في القَرَانِ تتبع الحَجِّ فِي الحُكْم، ولهذا يَحِلُّ لِلْقَارِنِ معظم محظورات الإحرام بعد التحلل الأَوَّلِ وإن لم يأت بأعْمَالِ العُمْرَةِ. ولو قدم القارن مَكَّة وَطَافَ وَسَعَى، ثم جامع بَطَل نُسُكَاهُ جَمِيعاً، وإن كان ذلك بَعْدَ أَعْمَالِ العُمْرَةِ. ثم الواجب في هذه الحالة بدنة أو شاة؟ فيه قولان قد سَبَقَا. المسألة الثانية: القارن إذا فاته الحَجُّ لفوات الوُقوفِ، هل يقضي بفوات عمرته؟ فيه قولان: وقال الإمام وصاحب الكتاب وَجْهَان: أظهرهما: نعم، اتباعاً العمرة للحج كما تفسد بِفَسَادِهِ، وَتَصِحَّ بِصِحَّتِهِ. والثاني: لا، لأن وَقْتَهَا مُوَسَّعٌ، ويخالف الفساد؛ لأن من فاته الحَجّ يتحلل بعمل عمرة فلا معنى لتفويت عمرته مع إتيانه بِهَا، واتساع وقتها، وإذا قُلْنَا: بفواتهما فعليه دَمٌ وَاحِدٌ للفوات، ولا يسقط عنه دَمُ القَرَانِ، وإذا قَضَاهُمَا فالحكم على ما ذكرناه في قضائهما عند الإِفْسَادِ، وإن قرن أو تمتع فعليه دَمٌ ثَالِثٌ، وإلا فَعَلَى الخلاف. ¬
قال الغزالي: وَالجِمَاع دَاِئرٌ بَيْنَ الاسْتِمْتَاعَاتِ وَالاسْتِهْلاَكَاتِ، فَإِنْ أُلْحِقَ بِالاسْتِمْتَاعِ كَانَ النِّسْيَانُ عُذْراً فِيهِ. قال الرافعي: جميع ما ذكرنا في جماع العامد العالم بالتحريم فأما إذا جامع ناسياً، أو جَاهِلاً بالتحريم ففي فساد حجه قولان: القديم -وبه قال أبو حنيفة، ومالك المزني -رحمه الله-: أنه يفسد؛ لأن سبب مُعَلَّقٌ بِه وجوب القَضَاءِ، فأشبه الفوات في استواء عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ. والجديد: أنه لا يفسد إلا أن يُعَلَّم فيدوم عليه، ووجهه أن الحَجّ عبادة تتعلق الكَفَّارَةِ بإفْسَادِهَا، فيختلف حكمها بالعَمْدِ والسَّهْوِ، كالصوم وفارق الفوات؛ لأن الفوات يتعلق بارتكابِ مَحْظُورٍ، ولا يخفى افتراق الطرفين في الأُصُولِ. وقوله: (والجماع دَائِرٌ بين الاستمتاعات والاستهلاكات إلى آخره)، أشار به إلى ما ذَكَرَهُ الأئمة أن معنى الاستمتاع بَيِّنٌ في الجِمَاع، وفيه مشابهة الاستهلاك، ولهذا يضمن به المهر بالقولان مبنيان على أن أي المعنيين يرجح إن رجحنا معنى الاستمتاع فرقنا بينهما كما في الطّيبِ وَاللِّبَاسِ، وهو الأصَح. وقوله: (كان النسيان عذراً فيه) مُعَلَّمٌ بالحاء والميم والزاي، لما عرفته من مذهبهم، ولو أكره على الوَطْءِ، فمنهم من جعل الفساد على وجهين بناء على القولين في النَّاسِي، وعن أبي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رحمه الله- القطع بالفساد ذهاباً إلى أن إكراه الرجل على الوطء ممتنع ولو أحْرَمَ عَاقِلاً، ثم جن فجامع ففيه القولان في جِمَاعِ النَّاسِي (¬1) -والله أعلم-. قال الغزالي: وَيفْسَدُ الحَجُّ بِالرِّدَّةِ طَالَتْ أَوْ قَصُرَتْ، فَلَوْ عَادَ إلى الإسْلاَمِ لَمْ يَلْزَمِ المُضِيُّ فِي الفَاسِدِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الرِّدَّةِ مُحْبِطَةٌ. قال الرافعي: لما تكلم فيما يفسد الحج، وهو الجماع أراد أن يبين أن المُفْسِدَ هل هوَ مُخْتَصِرٌ فيه أم لا؟ وفقه الفَصْل أن الأصحاب اختلفوا في أن عروض الرِّدَّةِ في الحَجِّ والعمرة يفسدهما على وجهين: أحدهما: أنها لا تُفْسِدُهُمَا، لكي لا يعتد بالمأتي به في زمان الرِّدَّة على ما مَرَّ نظيره في الوُضُوءِ والأذان. ¬
النوع السادس مقدمات الجماع كالقبلة والمماسة
وأصحهما -وهو المذكور في الكتاب-: أنها تفسدهما كما تُفْسِدُ الصَّوْمَ والصَّلاةَ، ولا فرق على الوجهين بين أن يطول زَمَانُهَا أو يقصر، وإذا قلنا: بالفساد فوجهان: أظهرهما: أنه يبطل النُّسُكُ بالكُلِّيَّةِ، حتى لا يمضي فيه لاَ فِي الردة ولا إذا عَادَ إلى الإِسْلاَمِ، لأن الرِّدَّةَ محبطَةٌ لِلْعِبَادَةِ. والثاني: أن سَبِيلَ الفَسَادِ هَاهُنَا كَسَبِيلِهِ عند الجماع، فيمضي فيه لَوْ عَادَ إلى الإسْلاَم، لكن لا تجب الكَفَّارة كما أن إفساد الصَّوْمِ بالردة لا تتعلق به الكفارة، ومن قال بالأول فرق بينها وبين الجماع بمعنى الإحْبَاطِ، وأيضاً فإن ابتداء الإحْرَامِ لا ينعقد مع الرِّدَّةِ بِحَالٍ، وفي انعقاده مع الجِمَاعِ ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ينعقد على الصِّحَّة، فإن نزع في الحَالِ فذاك، إلا فَسَدَ نُسُكُه، وعليه البَدَنَةُ والقَضَاءُ، والمُضِيُّ فِي الفَاسِدِ. والثاني: أنه ينعقد فاسداً، وعليه القضاء، والمُضِيَّ فيه مكث أو نزع، ولا تَجِب الفِدْيَةُ إِنْ نَزَعَ في الحَالِ، وإن مكث وجبت، وَهَلْ هِيَ بَدَنَةٌ أو شَاةٌ؟ يخرج على القولين في نَظَائِرِ هَذِهِ الصُّورَةِ. الثالث: أنه لا ينعقد أصْلاً كما لا تنعقد الصَّلاة مع الحَدَثِ. قال الغزالي: النَّوْعُ السَّادِسُ مُقَدِّمَاتُ الجِمَاعِ كَالقُبْلَةَ وَالمُمَاسَّةِ، وَكُلُّ مَا يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ مِنْهَا يُوجِبُ الفِدْيَةَ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِل (م)، وَلاَ تَجِبُ البَدَنَةُ إِلاَّ بِالجِمَاعِ، وَأَمَّا النِّكَاحُ وَالإنْكَاحُ لاَ يَنْعَقِدَانِ مِنَ المُحْرِمِ (ح) وَلاَ فِدْيَةَ فِيهِ. قال الرافعي: مقصود الفصل مَسْألَتَانِ: إحداهما: ليس للمُحْرِم التقبيل بالشَّهْوَةِ وَلاَ المباشَرَةِ فيما دُون الفَرْجِ، كالمفاخَذَةِ واللمس بالشَّهْوَةِ قبل التَّحَلُّل الأَوَّلِ، فإن الاعتكاف يحرم جميع ذلك ومعلوم أن الإحرام أولى بِتَحْرِيمِهِ فِيهِ، وَفي حِلِّهَا بعد التحلل الأول مَا مَرَّ مِنَ الخِلاَفِ، وحيث ثبت التَّحْرِيمُ وَبَاشَرَ شيئاً مِنْها عَمْداً وجبت عَلَيْهِ الفِدْية، روي عن علي (¬1) وابْنِ عَبَّاسٍ (¬2) -رضي الله عنهما-: "أَنَّهُمَا أَوْجَبَا بِالْقُبْلَةِ شَاةً" وإن كان ناسياً لم يلزمه شَيْءٌ بِلاَ خِلاَف؛ لأنه استمتاعٌ مَحْضٌ، ولا يُفْسِد شَيْءٌ مِنْهَا الحَجِّ، ولا يوجب البَدَنة بِحَالٍ سواء، أنزل أو لَمْ يَنْزِل، وبه قَالَ أَبُو حَنيفَة. ¬
وعند مالك: يفسد الحَجِّ إذا أنزل، وهو أظهر الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. لنا أنه اسْتِمْتَاعٌ لا يتعلق به الحد فلا يفسد الحج كما لو لم ينزل، وليكن قوله: (ولا تلزم البدنة إلا بالجماع) معلماً بالميم والألف لما روينا عنهما، وأيضاً فلأن عند أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ في أنه تَجِبَ بَدَنَةٌ أو شاةٌ تفريعاً على عَدَم الفَسَادِ في صورة الإنزال، وأيضاً فلأنه روى عنه هذا الخِلاَف في صُورَةِ عَدَم الإِنْزَالِ، وقد نَجِد فِي النُّسُخِ إعلام قوله: (أو لم ينزل) بالميم، لأن صَاحِبَ الكِتَاب حَكى في "الوسيط" عن مذهب مالك أنه لا يَجِبُ الدَّمُ عند الإنزال، والأغلب على الظَّنِّ أنه وَهِمَ فيه: فرعان: الأول: الاستمناء باليَدِ يُوجِبُ الفدية في أَصَحِّ الوَجْهَيْن. الثاني: لو بَاشَرَ دُونَ الفَرْج، ثم جامع هَلْ تدخلُ الشَّاةُ فِي البَدَنَةِ أو يجبان جميعاً؟ فيه وجهان: المسألة الثانية: لا ينعقد نِكَاحُ المُحْرِمِ، ولا إنكاحه ولا نِكَاح المحرمة، ولا يستحب خِطْبَةُ المُحْرِمِ، وَخِطْبَةُ الْمُحْرِمَةِ، والقول في هذه المَسْألة، والخِلاَف فيها وتفاريعها يأتي في كِتَابِ النِّكَاحِ -إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى-. قال الغزالي: فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ بَاشَرَ هَذِهِ المَحْظُورَاتِ كُلَّهَا فَهَلْ يَتَدَاخَلُ الوَاجِبُ؟ قُلْنَا: إِنِ اخْتَلَفَ الجِنْسُ كَالاسْتِهْلاَكِ وَالاسْتِمْتَاعِ لَمْ يَتَدَاخَلْ، وإِنِ اخْتَلَفَ النَّوْعُ فِي الاسْتِهْلاَكِ كَالقَلْمِ وَالْحَلْقِ لَمْ يَتَدَاخَل أَيْضاً، وَجَزَاءُ الصُّيُودِ لاَ يَتَدَاخَلُ، وَإِنْ اتَّحَدَ النَّوْعُ وَالزَّمَان فِي الاسْتِمْتَاعِ تَدَاخَلَ، كمَا إِذَا لَبِسَ العِمَامَةَ وَالسَّرَاوِيل وَالخُفَّ عَلَى التَّوَاتُرِ المُعْتَادِ فَيَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ، وإن تَخَلَّلَهُ زَمَانٌ فاصِلٌ فَقَوْلاَنِ فِي الاتِّحَادِ، وَمَهْمَا تَخَلَّلَ التَّكْفِيرُ تَعَدَّدَ، وَانِ اخْتَلَفَ النَّوْعُ فِي الاسْتِمْتَاعِ كَالتَّطَيُّبِ وَاللُّبْسِ، فَالأَصَحُّ التَّعَدُّدُ، وَإِنْ كَانَ العُذْرُ شَامِلاً كَمَا إِذَا حَلَقَ وَتَطَيَّبَ بِسَبَبِ شَجَّةٍ أَوْ تَطَيَّبَ مِرَاراً بِسَبَبِ مَرَضٍ وَاحِدٍ فَفِي التَّداخلِ وَجْهَانِ، وَلَوْ حَلَقَ ثَلاَثَ شَعَرَاتٍ فِي ثَلاثةِ أَوْقَاتٍ وَقُلْنَا: لاَ أَثَرَ لِتَفْرِيقِ الزَّمَانِ فَالوَاجِبُ دَمٌ وَإِلاَّ فَثَلاثَةُ دَرَاهِمِ عَلَى قَوْلٍ، أَوْ ثَلاثَةُ أَمْدَادٍ عَلَى قَوْلٍ. قال الرافعي: الغرض الآن الكلام فيما إذا وجد من المحرم من مَحْظُورَاتِ الإحْرَام شيئان فَصَاعِداً، وبيان أنه متى تتعدد الفِدْيَة، ومتى تَتَدَاخَل، ولو أَخَّرَ هَذَا الفَصْلَ أن يذكر النَّوع السَّابعَ أَيْضاً لكان أحْسَنَ فِي التَّرْتِيب. وجملة القول فيه أن المَحْظُورَاتِ تنقسم إلى اسْتِهْلاَك كَالْحَلْقِ، واستمتاع كالتطيب وإذا بَاشَرَ محظورين، فأما أن يكون أحدُهُمَا مِنْ قِسْمِ الاسْتِهْلاَكِ، والآخر من
الاستمتاع، أو يكونا معاً من قِسْمِ الاسْتِهْلاَكِ، أو من قِسْمِ الاسْتِمْتَاعِ. الحالة الأولى: أن يكون أحدهما من هذا، والآخر من ذاك، فينظر إن لم يستند إلى سَبَبٍ وَاحِدٍ، كَحَلْقِ الرَّأْسِ ولبس القميص تعددت الفِدْيَة ولا تداخل؛ لأن السَّبَبَ مُخْتَلِفٌ، ولا تداخل عند اخْتِلاَفِ السَّبَبِ، كما في الحدود، وإن استند إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ، كَمَا إِذَا أصاب رَأْسَهُ شَجَّةٌ، واحتاج إلَى حَلْق جَوَانِبِهَا وسترها بضماد فيه طيب فوجهان: أصحهما: أنه لا تداخل أيضاً؛ لاخْتِلاَفِ أَسْبَابِ الفدْيَةِ. والثاني: أنها تتداخل؛ لأن الدَّاعِيَ إلى جَمِيعِهَا شَيْءٌ وَاحِد. الحالة الثانية: أن يكون كِلاَهُمَا مِنْ قِسْمِ الاسْتِهْلاَكِ، فلا يخلو إما أن يكونوا مما لا يقابل بالمثل، أو بما يقابل به، أو أحدهماَ مِنْ هَذَا، والآخر مِنْ ذَاكَ، فأما الضَّرْبُ الأَوَّلُ، فينظر إن اختلف نَوْعُه كَالْحَلْقِ، والْقَلْم، فَلاَ تَدَاخل، ويجب لِكُلِّ واحدٍ فِدْيَة، سواء وجد علي سبيل التفرق أو التوالي في مَكَانٍ وَاحِدٍ، أو مكانين كالحدود لا تتداخل إذا اختلفت أسبابها، ولا فرق بين أن يوجد النوعان بفعلين أو في ضمن فعل واحد، كما لو لبس ثوباً مُطَيَّباً بلزمه فِدْيَتَانِ. وفيه وجه أنه لاَ يَجِب إلاَّ فِدْيَة وَاحِدَة. وإن اختلف النوع كما إذا كَانَ الموجودُ مِنْهُ الحَلْق لا غير فقد سَبَقَ أن حُكْمَ ثلاث شعرات يقابل بِدَمٍ وَاحِدٍ، ولو حلق جميع الرأس دفعة واحدة في مَكَانٍ وَاحِدٍ لم يلزمه إلاَّ فِدْيَة واحدة؛ لأنه يُعَدَّ فعلاً واحداً. وكذا لو حلق شَعْرَ رَأْسِهِ وبدنه على التَّوَاصُلِ. وعن الأنماطي: أنه يلزمه فِديَةٌ لِشَعْرِ الرَّأْسِ، وَفِدْيَةُ لِشَعْرِ البَدَنِ. ولو حَلَقَ شَعْرَ رَأْسِهِ في مكانين أَوْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، ولكن في زمانين متفرقين فَفِي التَّدَاخُلِ طريقان: أحدهما -وبه قال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: أنه كما لو اتحد نوع الاستمتاع، واختلف المكان والزمان وستعرفه. وأصحهما -وبه قال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: القَطْعُ بِعَدَم التَّدَاخُلِ، لأنه إتْلاَف، فيضمن كل واحد ببدله كما في قَتْلِ الصّيودِ، ويخالف ما إِذَا حَلق شَعْره، أو قلم أظافره دفعةً وَاحِدَةً، فإن وجوب الفدية الواحدة لَيْسَ عَلَى سَبِيل التداخل، بل لأن الموجودَ فِعْلٌ واحِدٌ. ولو حلق ثَلاَثَ شَعَرَاتٍ في ثلاثة أمكنة أَوْ ثَلاثَةِ أوقاتٍ مُتَفَرِّقَةِ. فإنْ قلنا: إنَّ كُلَّ شَعْرَةٍ تقابل بثلث فلا فرق بين أَخْذِهَا دفعة واحدة، أو في دفعات. وإن قلنا: إن الشَّعرَةَ الوَاحِدَةَ تقابل بِمُدٍّ أو دِرْهَمٍ، والشَّعرَتَيْنِ بِمُدَّينِ أو درهمين، فينبني على الخِلاَف الَّذِي ذَكَرْنَاهُ الآن، وإن لم نعدد الفِدْيَة فيما إذا حَلَقَ الرأس في دفعتين، أو دفعات، ولم نجعل لتفريق الزَّمَانِ أثراً فالواجب فِيهَا دَمٌ، كما لو
أخذَهَا دفعةً وَاحِدَةً، وإن عددناها وجعلنا التَّفْرِيقَ مؤثراً قَطَعْنَا حُكْمَ كُلِّ شَعْرَةٍ عَنِ الآخرين، وأوجبنا فيها ثلاثة دَرَاهِم على قَوْلٍ، وثلاثة أمْدَادٍ عَلَى قَوْلٍ. والضَّرْبُ الثَّانِي: ما يقابل بمثله، وهو إتْلاَف الصّيُودِ، فتتعدد فديتها، سواء فدى عن الأول، أو لم يفد، اتحد المكان أو اختلف، وإلَى أو فَرَّق؛ لأن سَبِيلَهَا سَبِيلُ ضَمَانِ المُتْلَفَاتِ، وحكم الضَّرْبِ الثَّالِثِ حُكْمُ الضَّرْبِ الثَّانِي بِلاَ فَرْقٍ. الحالة الثالِثة: أن يكون كِلاَهُمَا مِنْ قِسْمِ الاستمتاع فلا يخلو إما أن يَتَّحِدَ النَّوْع أو يختلف. القسم الأول: أن يتحد كَمَا لَوْ تَطَيَّبَ بأنْوَاعٍ مِنَ الطِّيب، أو لبس أنواعاً مِنَ المَخِيطِ كَالعَمَامَةِ، والقميص، والسَّرَاوِيلِ، والخُفّ، أو نوعًا وَاحداً مَرَّةً بعد أخرى، فينظر إن فَعَل ذَلِك في مَكَانٍ وَاحِدٍ على التوالي فَلاَ تعدد؛ لأن جَمِيعَهُ يعد خُطَّة وَاحِدَة. قال الإمام: ولا يقدح في التوالي طول الزَّمَان في مضاعفة القميص، وتكوير العمامة، ويشبه هذا بالرضعة الوَاحِدَة في الرَّضَاعَةِ، والأكلة الواحدة في اليَمِين، وهذا ما أشَارَ إليهِ صَاحِبُ الكِتَابِ بقوله: (على التتابع المعتاد). وإن فعل ذلك في مكانين أو مَكَانٍ وَاحِدٍ، ولكن تخلل زَمَانٌ فَاصِل، فينظر إن لم يتخلل التَّكْفِير بينهما فقولان: الجديد -وبه قال أبو حنيفة-: أنه يَجِب للثَّانِي فدية أخرى، كما في الإتْلاَفِ. والقديم: أنه لا يجب، وتتداخل؛ لأن الفِدْيَةَ تَجِب لِحَقِّ اللهِ تَعَالَى، ويفرق فيها بين العَامِدِ، والنَّاسِي فأشبهت الجِنَايَاتِ المُوجِبَةِ لِلْحُدُودِ. فَإِنْ قُلْنَا: بالأَّوَّلِ فذلك إِذَا لم يجمعها سبب واحد. أما إذا تطيب أو لبس مراراً لِمَرَض وَاحِدٍ: فوجهان: كما ذكرنا في الحَالَةِ الأُولَى: وأصحهما: التعدد أيضاً. وإن تخلل بينهما تكفير فلا خِلاَفَ فِي وُجُوبِ فِدْيَة أُخْرَى، كَمَا فِي بَابِ الحدود. وإن كان قد نوى بما أخرجه المَاضِي، والمستقبل جَمِيعاً فيبنى على أن تقديم الكفارة على الجنب المَحْظُورِ، هَلْ يَجُوزُ أم لا؟ من قلنا: لا: فلا أثر لِهَذِهِ النِّية. وإن قلنا: نعم: فوجهان: أحدهما: أن الفديةَ ملحقَةٌ بِالْكَفَّارَة في جواز التَّقْدِيمِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ للثَّاني شَيْءٌ.
النوع السابع إتلاف الصيد
والثاني: المنع: كما لا يجوز للصَّائِم أن يُكَفِّرَ قَبْلَ الإِفْطَارِ. والقِسْمُ الثَّانِي: أن يَخْتَلِفَ النوع، كما إذَا لَبِسَ وَتَطَيَّبَ، فوجهان فِي تعدد الفِدْيَة، وإن اتحد المَكَانُ، وتواصَلَ الزَّمَانُ. أحدهما: أنها لا تتعدد؛ لأن المَقْصد وَاحد. وهو الاستمتاع، ويحكى هذا عن ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةٍ. وأصحهما: التَّعَدُّد؛ لتباين السَّبَبِ، ومنهم من نظر إلى اتحاد السَّبَبِ، وتعدده، كما قدمنا نظيره، وما ذكرنا كله في غَيْرِ الجِمَاع، أما إذا تكرر مِنْهُ الجِمَاعَ فقد ذكرنا حكمه من قبل. هذا شَرْحُ الفَصْلِ، ولا تلمني على ما لحق مسائله من التقديم والتَّأخِير، فالَّذِي أوردته أحسن ما حَضَرَنِي مِنْ طُرُقِ الشَّرْحِ، وَفَوقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. ويجوز أن يُعَلَّم قوله: (وجزاء الصيود لا يتداخل أيضاً)، بالحاء، لأن عند أبي حنيفة -رحمه الله- أنها لا تتداخل إذَا قتلها، إلا عَلَى قَصْدِ رَفْضِ الإِحْرَامِ. فأما إذا قَتَلَهَا قَاصِداً رفض الإِحْرَام لَمْ يَجِبِ إِلاَّ جَزَاءٌ وَاحِدٌ. قال الغزالي: النَّوْعُ السَّابعُ إتْلاَفُ الصَّيْدِ، وَيَحْرُمُ بِالْحَرَمِ وَالإِحْرَامِ كُلُّ صَيْدِ مَأْكُولٍ لَيْسَ مَائِيّاً مِنْ غَيْرِ فَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأنَسَاً (م) أَوْ وَحْشِيًّا مَمْلُوكَاً أو مُبَاحاً (م)، وَيَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لِأَجْزَائِهِ وَلبَيْضِهِ، وَمَا لَيْسَ مَأْكُولاً فلاَ جَزَاءَ فِيهِ (ح) إلاَّ إِذَا كَانَ تَوَلَّدَ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ، وَصَيْدُ البَحْر حَلاَلٌ. قال الرافعي: من محظورات الإحرام الاصطياد. قال الله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬1) وقال الله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬2) (¬3). ¬
ولا يختص تحريمُه بِالإحْرَامِ، بل سَبَبٌ آخر، وهو كونه في الحَرَم، ولما اشترك السببان فيما يقتضيانه من التحَريم والجزاء، ومعظم المَسَائِلِ جَرَتْ العادةَ بخلط أحَدِهِمَا بِالآخر، وذكر ما يَشْتَرِكَانِ فيه، وما يختص به كُلُّ وَاحِدٍ منهما في هَذَا المَوْضِعِ، فقد جعل صاحب الكتاب الكلام في السَّبَبِ الأول في نظرين: أحدهما: في الصيد المحرم، وفيما يجب به ضمانه. والثاني: في أن الضَّمَانَ مَاذَا؟ أما الأول فالصَّيْدُ المُحَرَّمُ كل مأكول متوحش لَيْس مَائِياً، هذه عبارة صَاحِبِ الكِتَاب في "الوَسِيط"، واستغنى هاهنا بلفظ الصيد عن المتوحش، فإنه لا يقع عن الحَيَوَانَاتِ إلا نسية، وبين ما يدخل في الضَّابِطِ المَذْكُورِ، ويخرج عنه بصور: إحداها: لا فرق بين المستأنس والوَحْشِي؛ لأنه وإن استأنس لا يبطل حكم توحشه الأصلي، كما أنه لو توحش إنسي لا يحرم التَّعرض لَهُ إِبقَاءٌ لِحُكْمِهِ الأَصْلِي. وقال مالك: لا جزاء في المستأنس، ولا فرق في وجوب الجزائين بين أن يكون الصَّيْدُ مملوكاً لإنسان، أو مباحاً، نعم يجب في المملوك مع الجَزَاء، ما بين قِيمَتِهِ حَياً ومذبوحاَ لِحَقِّ المَالِكِ (¬1) وعن المزني: أنه لا جزاء في الصيد المملوك. لنا ظَاهِرُ القُرْآنِ. الثَّانِية: كما يحرم التعرض للصَّيْدِ، يحرم التعرض لأجزائه بالجرح والقَطْع؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في الحرم: "لاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا" (¬2). ومعلوم أن القطع والجرح أعْظَم من التنفير، وإذا جرحه ونقصت الجِرَاحَةُ مِنْ قِيمَتِهِ، فسيأتي القول فيما يجب عليه في النَّظَرِ الثَّانِي، وإن بَرِئ ولم يبق نقصان ولا أثر، فهل يلزمه شَيْءٌ؟ فيه وجهان: هذا كالخلاف فيما إذا جرحه فانْدَمَلَت الجِرَاحَةُ، ولم يبق نَقْصٌ وَلاَ شَيْنٌ، هل ¬
يجب شَيْءٌ؟ فيجري الخِلاَف فِيمَا نُتِفَ رِيشُهُ فَعَادَ كَمَا كَانَ. الثالثة: بَيْضُ الطَّائِرِ المأكول مضمون بقيمته، خلافاً لمالك حيث قال: فيه عشر قيمة البائض، وللمزني حيث قال: لا يضمن أصْلاً، لنا: ما روي عن كعب بن عجرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-"قَضَىَ فِي بَيْضِ نَعَامٍ أَصَابَة الْمُحْرِمُ بِقِيمَتِهِ" (¬1). فإن كانت مَذِرَةً، فلا شَيْءَ عليه بِكَسْرِهَا (¬2)؛ كما لو قدّ صيداً ميتاً إلا في بيض النعامة ففيها قيمتها؛ لأن قِشْرَهَا مُنْتَفَعٌ بِهِ. قاله في الشَّامِلِ. ولو نفر طَائِراً عن بيضته التي احتضنها ففسدت فعليهِ القيمة. ولو أخذ بَيْضَ دَجَاجَةً فأحضنها صيداً فَفَسَدَ بَيْضُه، أو لم يحضنه ضمنه؛ لأن الظَّاهِرَ أن الفَسَادَ نَشَأَ مِنْ ضَمِّ بَيْضِ الدَّجَاجَةِ إلَى بَيْضِهِ. ولو أخذ بَيْضَةَ صَيْدِ، وأحضنها دجاجة فهو في ضمانها إلى أن يخرج الفَرْخُ، ويصير ممتنعاً، حتى لو خَرَجَ، ومات قبل الامتناع، لزمه مثله من النَّعَم، ولو كَسَرَ بَيْضَةً، وفيها فَرْخٌ ذو رُوحٍ فَطَارَ وسلم، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وإن مات، فعليه مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ. ولو حَلَبَ لَبَنَ صَيْدٍ، فقد قَالَ كثير من أئمتنا مِنَ العِرَاقيين وغيرهم: إنه يضمن، وحكوا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ -رحمه الله- أنه إنْ نقص الصَّيْدُ بِهِ ضَمِنَهُ وإِلاَّ فَلاَ، واحتجوا عليه بأنه مأكول انفصل من الصَّيْدِ فأشبه البَيْضَ، وذكر القَاضِي الرّويَانِي في التَّجْرِبَةِ أنه لا ضَمَانَ في اللَّبَنِ، بِخِلاَفِ البَيْضِ، فإنه بعرض أن يخلق مِنْهُ مثله. الرابعة: مَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ مِنَ الدَّوَابِّ والطيور صنفان: مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ مَأْكُولٌ، وما أَحَدُ أَصْلِيْةِ مَأْكْولٌ. أما الصِّنْفُ الأول فلا يحرم التعرض له للإحْرَام، ولو قتله المُحْرمُ، لم يلزمه الجَزَاء، وبه قال أحْمَدُ، وروى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَقْتُلُ الْمَحْرِمُ السَّبُعَ الْعَادِيَ" (¬3). ومعلوم أن الأَسَدُ والنِّمْرَ والفَهْدَ سِبَاعٌ عَادِيَةٌ. ¬
وقال أَبُو حنيفة -رحمه الله- يجب الجَزَاءُ بِقَتْلِ غَيْرِ المَمْلُوكِ مِنَ الصَّيْدِ، إِلاَّ الذِّئب، والفَوَاسِق الخَمْسِ، وقال مالك: -رحمه الله- ما لا يهتدي بالإيزاء، يجب الجزاء فيه كالصَّقْرِ والبَازِي. ثم الحيوانات الدَّاخِلة فِي هذا الصنف عَلَى أَضْرُب: منها: ما يستحب قَتْلُها لِلْمُحْرِمِ، وغيره، وهي المؤذيات بطبعها، نحو الفواسق الخمس، روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "خَمْسُ فَوَاسِقَ يَقْتُلْنَ فِي الْحَرَم، الْغُرَابُ وَالْحِدْأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ" (¬1). وروى أنه قال: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ، فَذَكَرَهُنَّ" (¬2). وفي معناها الحيَّة، والذئب، والنسر، والعقاب، والبق، والبرغوث، والزنبور (¬3). ولو ظهر القمل على بَدَنِ المُحْرِمِ أو ثيابه لم يكره تنحيته، ولو قتله لم يلزمه شيء. ويكره له أن يفلي رَأْسَه وَلحْيَته وإن فعل فأخرج مِنْهَا قَمْلَةً فقتلها تَصَدَّقَ، وَلَوْ بِلُقْمَةٍ، نَصَّ عليه، وهو عند الأكثرين محمول على الاستحباب، ومنهم من قال: إنه يجب ذَلِكَ لِمَا فيه من إِزَالَةِ الأَذَى عَنِ الرَّأْسِ. ومنها: الحيوانات الَّتِي فيها منفعة وَمَضرَّة، كالفَهْدِ، والصفر، والبازي، فلا يستحب قتلها لما يتوقع من المنفعة، ولا يكره لما يخاف منْ المَضرَّةِ. ومنها: التي لا تظهر فيها منفعة، ولا مَضَرة، كالخنافس، والجعلان، والسرطان، والرحمة، والكلب الذي ليس بعقور، فيكره قتلها (¬4). ولا يَجْوزُ قَتْلُ النَّحْلِ، والنمل، والخطاف، والضفدع (¬5)، لورود النَّهْي ¬
عن (¬1) قتلها، وفي وجوب الجَزاء بَقَتْلِ الهُدْهُدِ، والصرد، خلاف، مبني على الخلاف في جَوَازِ أَكْلِهَا. والصِّنف الثَّانِي: ما أحد أصلية مأكول، كالمتولد بين الذِّئْب، والضبع، وبين حمار الوحش، وحِمَار الأَهْلِ، فيحرم التعرض له، ويجب الجزاء فَيه احتياطاً (¬2)، كما يحرم أكْلُهُ احْتِيَاطاً. واعلم أن الصنف الأول يخرج عن الضَّابِطِ المذكور، بقيد المأكول، لكن الصِّنْف الثاني يدخل فيه، ويخرم الضبط، والوجه أن يزاد فيه فيقال: كل صيد هو مأكول، أو في أصله مأكول. الخامسة: الحيوانات الإنسية كالنَّعَمِ، والخَيْلِ والدَّجَاجِ، يجوز للمُحْرِم ذَبْحُهَا، ولا جَزَاءَ عَلَيْهِ، وأما ما يتولد من الوَحْشِي، والإنْسِي، كالمتولد من اليَعْقُوبِ، والدجاجة، أو الظبي، والشَّاةِ فيجب في ذبحه الجَزَاء احتياطاً كما في المتولد من المأكول وغير المأكول وطريق إدْرَاجِهِ في الضَّابِطِ يُقَاسُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِيهِ. السادسة: إنما يحرم صَيْدُ البَرِّ على المُحْرِمِ دُونَ صَيْدِ البَحْرِ، قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} (¬3) الآية، قال الأصحاب: وصيد الحبر الذي لا يعيش إِلاَّ فِي البَحْرِ، أما ما يَعِيشُ فِي البَرِّ، وَالبَحْرِ، فهو كالبَرِّ، والطيور المَائِية التي تغوص في المَاء وتخرج من صُيودِ البَرِّ، لأنها لو تركت في المَاءِ لهلكت، والجراد من صَيْدِ البَرِّ، يجب الجزاء بِقَتْلِهِ، وبه قال عمر (¬4)، وابْنُ عَبَّاسٍ (¬5) -رضي الله عنهما-؛ وحكى الموفق ابْنُ طَاهِرٍ، وغيرُه قولاً غريباً: أنه من صُيودِ البَحْرِ، لأنه يَتَوَلَّدُ من روث السَّمَكِ -والله أعلم-. ¬
قال الغزالي: وَيُضْمَنُ هَذَا الصَّيْدُ بالمُبَاشَرَةِ وَالسَّبَبِ وَاليَدِ، وَالسَّبَبُ كَنَصْب شَبَكَةٍ أَوْ إِرْسَالِ كَلْبٍ أَوْ انْحِلاَلِ رِبَاطِهِ بنوع تَقْصِيرِ في رَبْطِهِ أَوْ تَنْفِيرِ صَيْدِ حَتَّى يَتَعَثَّرَ قَبْلَ سُكُونِ نِفَارِه، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ الضَّمَانَ إِذَا أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ، وَلَوْ حَفَرَ المُحْرِمُ بِئْراً فِي مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَن ما يَتَرَدَّى فِيهِ، وَلَوْ حَفَرَ في الحَرَمِ فَوَجْهَانِ، وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا حَيْثُ لاَ صَيْدَ فَعَرَضَ صَيْدٌ فَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: قد عرفت أن الصيد المحرم أي: صَيْدٍ هُوَ، والغرض الآن بيان الجِهَات التي يضمن بها ذَلِك الصَّيد، وهي ثلاثة: الأولى: مباشرة الإتْلاف (¬1)، وهي ثلاثة: والثانية: التسبب إليه، وموضع تفسيره وضبطه كتاب الجنايات، وتكلم هَاهُنَا في صور: إحداها: لو نصب شَبَكَةَ في الحَرَم أو نصب المُحْرِمُ شَبَكَةَ، فتعقل بِهَا صَيْدٌ وَهَلَكَ، فَعليْهِ الضَّمَانُ، سواء نَصَبَها فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، أو ملك غيره، لأن نصب الشبكة يقصد بها الاصْطِيَادُ، فهو بمثابة الأَخذِ باليَدِ (¬2). الثانية: لو أرسل كلباً فأتلف صَيْداً، وجب عليه الضَّمَانْ (¬3) لأن إرسَالَ الكَلْبِ يسبب إِلَى الهَلاَكِ ولو كان الكلب مربوطاً فحل رباطه فَكَذَلِك، لأن السبع شَدِيدُ الضَّرَاوَةِ بالصَّيْدِ، فيكفي في قَصْدِ الصَّيْدِ حَلُّ الرِّبَاطِ، وإن كان الإصطياد لا يتم إلا بالإغْرَاء. ولو انحل الرباط لتقصيره في الرَّبْطِ نزل ذلك منزلة الحَلّ، وحَكى الإمام -رحمه الله- في هذه الصورة تردد الأئمة، فليكن قوله: (أو انحلال رباطه) معلماً بالوَاوِ لذلك، وحيث أوجبنا الضَّمانَ في هذه المسائل، فذلك إذا كان ثمَّ صيدٌ، فإن لم يكن فأرسل الكلب أو حل رباطه فظهر صيْدُ فوجهان: ¬
أحدهما: أنه لا يضمن، إذا لم يوجد منه قَصْدُ الصَّيْدِ. وأرجحهما: على ما رَوَاة الإِمَام: أنه يضمن لِحُصول التَّلَفِ بسبب فعله، وجهله لا يقدح فيه، كما سنذكره في حَفْر البِئر (¬1). الثالثة: لو نفر المُحْرِمُ صيداً فتعثَّر فَهَلَكَ، أو أخذهُ سَبْعٌ أو انصدم بِشَجَرٍ، أو جبل وجب عليه الضَّمان، سواء قصد تنفيره أو لم يقصد، ويكون في عهدة المنفر إلى أن يعود الصَّيْد إلى طبيعة السُّكُون والاستقرار، فلو هلك بعد ذلك فلا شيء عليه، ولو هلك قبل السكون النفار، ولكن بآفة سماوية، ففي الضَّمَانِ وجهان: أحدهما: يجب، ويكون دوام أثر النفار كاليد المضمنة. وأشبههما: أنه لا يجب، لأنه لم يهلك بسببٍ من جِهَةِ المُحْرِمِ، وَلاَ تَحْتَ يده. الرّابعة: لو حفر المُحْرم، أو حفر في الحرم بئراَ في محل عدوان، فتردى فيها صَيْدٌ وهلك، فعليه الضَّمَان ولو حفره في ملكه أو في مَوَاتٍ، فأما في حق المحرم، فظاهر المَذْهَب أنه: لا ضمان: كما لو تردت فِيهَا بَهِيمة، أو آدمي، ونقل صاحب "التتمة" وجهاً غريباً: أنه يجب الضمان. وأما في الحَرَمِ، فوجهان مشهوران: أحدهما: أنه لا ضمان، كَمَا لو حَفَر المُحْرِمُ في مِلْكِهِ. والثاني: يجب؛ لأن حُرْمَةَ الحَرَمِ لا تَخْتَلِف، وصار كما لو نصب شَبَكَةٌ في الحَرَمِ في ملكه، وأومأ صاحب "التهذيب" -رحمه الله- إلى تَرْجِيحِ الوَجْهِ الأول، لكن الثَّانِي أشْبَه، ويحكى ذلك عن الربيع وصاحب "التلخيص"، ولم يورد في "التتمة" غيره (¬2). قال الغزالي: وَلَوْ دَلَّ حَلاَلاً عَلَى صَيْدٍ عَصَى وَلاَ جَزَاءَ عَلَيْه، وَفي تَحْرِيمِ الأَكْلِ عَلَيْهِ مِنْهُ قَوْلاَنِ، وَمَا ذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ فَأكلَهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَهَلْ هُوَ مَيتَةٌ في حَقِّ غَيْرِهِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ، وَكَذَا صَيْدُ الحَرَمِ. قال الرافعي: في الفصل مسألتان: إحداهما: لو دَلَّ الحلالُ محرماً على صَيْدٍ فقتله وجب الجَزَاءُ على المُحْرِمِ وَلاَ ¬
شَيْءَ عَلَى الحَلاَلِ، سواء كان الصَّيْدُ فِي يَدِهِ، أو لم يكن. نعم، هو مُسيءٌ بالإعَانة على المعصية، ولو دل المُحْرِم حلالاً على صَيْدٍ فقتله نظر إن كان الصَّيْدُ بيَدِ المُحْرِمِ وجب عليه الجزاء؛ لأن حِفْظَهُ واجب عليه، ومن يلزمه الحِفْظ يلزمه الضَّمَان إذا ترك الحفظ كما لو دَلَّ المودع السَّارق على الوَدِيعَة، وإن لم يكن في يده وهو مسألة الكتاب فلا جزاء عَلَى الدَّالِ، ولا على القاتل، أما القاتل فلأنه حَلاَل، وأما الدَّال فكما لو دَلَّ رجلاً على قَتْلِ إِنْسَانٍ لا كفارة على الدَّالِ، وساعدنا مالك -رحمه الله- على ذلك. وقال أبو حنيفة -رحمه الله- إن كانت الدَّلالَةُ ظَاهِرةٌ فلا جَزَاءَ عَلَيْهِ، وإن كانت خفية ولولاَها لما رأى الحَلاَلُ الصيدَ يَجِب الجزاء، وسلَّم في صَيْدِ الحرم أنه لا جَزَاءَ عَلَى الدَّالِ. وعن أحمد: أن الجزاء يَلْزَم الدَّالَ، والقَاتِلَ بينهما. وقوله في الكتاب: (وفي تحريم الأكل منه عليه قولان) صريح في إثبات الخلاف في أن المحرم هل يجوز له أن يأكل من الصَّيْدِ الذي دل عليه الحَلاَل حتى قتله؟ لكن الوجه أن تغير هذه اللفظة، ويجوز أن يجعل مكانها: وفي وجوب الجزاء عليه عند الأكل منه قولان، أما التغيير فلأنك إذا بحثت لم تر نقل الخلاف في جواز الأكْلِ للمحرم، والصورة هذه لا لغير صاحب الكتاب، ولا له في "الوسيط" وغيره، بل وجدتهم جازمين بِحُرْمَةِ الأَكْلِ على المُحْرِمِ مما صيد له أو بإعانته بسلاح وغيره، أو بإشارته ودلالته محتجين عليه بما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَحْمُ صَيْدِ الْبَرِّ حَلاَلٌ لَكُمْ فِي الإِحْرَامِ مَا لَمْ تَصْطَادُوهُ، أَوْ لَمْ يُصْطَدْ لكم" (¬1). وبما روي أن أبا قتادة -رضي الله عنه- خرج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فتخلف عن بعض أصحابه وهو حلال وهم محرمون فرأوا حُمُرَ وَحْشٍ فاسْتوَى على فرسه ثم سأل أصحابه أن يناولوه سوطاً فأبوا، فسألهم رُمْحَه فابوا فأخذه وحمل على الحمر فعقر منها أَتَانَاً، فأكل منها بعضُهمِ وأَبَى بَعْضُهُم فلما أتو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألوه فقال "هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا، قَالُوا: لاَ، قَالَ فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا" (¬2). ¬
أشعر ذلك بالتحريم إذا كان الاصْطِيَاد بإعانته، أو دلالته، أو له، وعجيب أن يكون نَقْلُ القَوْلَيْنِ صَوَاباً ثم يغفل عَنْهُ كل من عَداهُ مِنَ الأَصْحَابِ، وهو أيضاً في غير هذا الكتاب. وأما جواز التبديل بما ذكرت فلأن القَوْلَيْنِ في أنَ ما صيد للمحرم أو بدلالته أو بإعانته لو كل منه هل يلزمه جزاؤه؟ مشهوران. أحد القولين وهو القديم وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله-: أنه يَلْزَمُهُ القِيمَةِ بِقَدْرِ مَا أَكَلَ؛ لأن الأكْلَ فعل محرم في الصيد فيتعلق به الجزاء كَالقَتْلِ، ويخالف ما لو ذَبَحَه، وأكله حيث لا يلزم بالأكل جزاء؛ لأن وجوبه بالذَّبْحِ أغنى عن جَزَاءٍ آخر. والجديد: أنه لا يلزم؛ لأنه ليس بِنَامٍ بعد الذبح، ولا يؤول إلى النماء، فلا يتعلق بإتلافه الجَزَاء، كما لو أتلف بيضة مذرة. واعلم أن هذه المسألة مذكورة في الكتاب من بعد، وتبديل اللفظ بها يفضي إلى التكرار، لكني لا أدري على ماذا يحمل إن لم يحتمل التكرار؟ ولو أمسك محرمٌ صيداً حتى قَتَلَهُ غيره، نظر إن كان حلالاً فيجب الجَزَاء على المُحْرِمِ لِتَعَدِّيهِ بالإمساك والتعريض لِلْقَتْلِ، وهل يرجع بهِ على الخِلاَف؟ قال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لا؛ لأنه غير ممنوع من التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدَ. وقال القاضي أَبُو الطَّيبِ: نعم. هذا ما أورده في "التهذيب" وشبهه بما إذا غصب شيئاً فأتلفه متلف في يده يضمن الغاصب، ويرجع على المتلف، وإن كان محرماً أيضاً فوجهان: أظهرهما: أن الجزاء كله على القاتل؛ لأنه مباشرٌ، ولا أثر للإِمْسَاكِ مع المبَاشَرَةِ. والثاني: أن لكل واحد من الفعلين مدخلاً في الهَلاَك، فيكون الجزاء بينهما نصفين، وقال في "العدة": الصحيح أن الممسك يضمنه باليد، والقاتل يضمنه بالإتْلاَف، فإن أخرج الممسك الضَّمان رجع به على المتلف، وإن أخرج المتلف لم يرجع على المُمْسِك (¬1). ¬
المسألة الثانية: إذا ذبح المُحْرِمُ صَيْداً لم يحل له الأكل منه، وهل يحل الأكل منه لغيره؟ فيه قولان: الجديد: وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد -رحمهم الله-: أنه ميتة، لأنه ممنوع من الذبح لمعنى فيه فصار كذبيحة المجوسي، فعلى هذا لو كان مملوكاً وجب مع الجَزَاءِ القِيمَةُ لِلْمَالِكِ. والقديم: أنه لا يكون ميتة، ويحل لغيره الأكل منه، لأن من يَحِل بذبحه الحيوان الإنسي يحل بذبحه الصَّيْد كَالْحَلاَلِ، فعلى هذا لو كان الصيد مملوكاً فعليه مع الجَزَاءِ ما بين قيمته حياً ومذبوحاً لِلْمَالِكِ، وهل يحل له بعد زوال الإحرام؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا، وفي صَيْدِ الحَرَمِ إذا ذبح طريقان: أظهرهما: طرد القولين، والآخر: القَطْعُ بِالمَنْعِ. والفرق أن صَيْدَ الحَرَم منع منه جميع النَّاسِ في جَمِيعِ الأحْوَالِ فكان آكد تحريماً، وليكن قوله: (وكذا صَيْدُ الحَرم) مُعَلَّماً بالواو لمكان الطَّرِيقة الأُخُرى. قال الغزالي: وَإِثْبَاتُ اليَدِ عَلَيْهِ سَبَبُ الضَّمَانِ، إلاَّ إِذَا كَانَ في يَدِهِ فَأَحْرَمَ، فَفِي لُزُومِ رَفْع اليَدِ قَوْلاَنِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَلزَمُ فَفِي زَوَالِ مِلْكِهِ قَوْلاَنِ، وَإِنْ قُلْنَا: لاَ يَلْزَمُ فَلَوْ قَتَلَهُ ضَمِنَ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ إِتْلاَفٍ، وَلَو اشْتَرَي صَيْداً وَقُلْنَا: إِنَّ الإِحرَامَ لاَ يَقْطَعُ دَوَامَ المِلْكِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ كَمَا في العَبْدِ المُسْلِمِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَرِثُ ثُمَّ يَزُولُ مِلْكُهُ. قال الرافعي: الثالثة من جهات الضمان إثبات اليَدِ. ويد المُحْرم على الصيد إما أن يقع ابتداؤها في حَالِ الإحْرَام، أو يكون ابتداؤها سَابِقاً على الإحْرَامِ. أما إثبات اليد عليه ابتداء في حال الإحرام فهو حرام غير مُفِيدٍ لِلْمِلْكِ، فإذا أخذ صيداً ضمنه كما يضمن الغاصب ما يتلف في يده، بل لو تولد تَلَف الصيد بما في يده لَزِمَهُ الضَّمان كما لو كان راكب دابة فأتلفت صيداً بِعَضِّهَا، أو رَفْسِهَا، وكذا لو بَالَتْ في الطَّريق فزلق به صَيْد، وهلك كما لو زلق به آدمي، أو بهيمة.
أما لو انفلت بعيره فأصاب الصَّيد، فلا شيء عليه، نص على ذلك كله. وأما إذا تقدم ابتداء اليَد على الإِحْرَام، فإن كان في يَدِهِ صَيْدٌ مملوك له ثم أحرم فهل يلزمه رفع اليد عنه؟ فيه قولان: أحدُهما: لا، كما لا يلزمه تَسْرِيحُ زَوْجَتِهِ وإن حرم ابتداء النكاح عليه. والثاني: نعم؛ لأن الصَّيْدَ لا يراد للدَّوَام، فتحرم استدامته كالطَّيب واللَّبَاسِ، ويحرم عليه النِّكَاح فإنه يقصد للدوام، وهذا أَصحُّ القولين على ما ذكرهَ المُحَامِلِي، والكرخِي، وغيرهما من العِرَاقِيينَ. واعلم: أنا نعني برفع اليَدِ الإِرْسَال، والإطْلاَق الكُلِّي. وقال مالك وأبو حنيفة، وأحمد -رحمهم الله- يجب رفع اليد المتأبدة عنه، ولا يجب رفع اليد الحُكُمِيَّة، والإرسال المُطْلَق. التفريع: إن لم نوجب الإرْسَال فهو على مِلْكه، له بيعه وهبته، لكن لا يجوز له قتله، ولو قتله يجب الجزاء كما لو قَتَلَ عبدَه يلزَمُه الكَفَّارة، ولو أرسله غيره لزمه القيمة للمالك، وإن قتله فكذلك فإن كان محرماً لزمه الجَزَاءُ أيضاً، ولا شَيْءَ على المَالِك كَمَا لو مات. وإن أوجبنا الإرْسَال فهل يزول مِلْكُه عنه؟ فيه قولان: أحدهما: وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد -رحمهم الله-: لا، كما لا يبين زوجته. والثاني: نعم، كما يزول حِلّ الطِّيب، واللباس، وهذا أصحِ عند العراقيين، وعكس بعض الأصحاب الترتيب فوضع القولين في زَوَالِ الملك أولاً، ثم قال إن قلنا: لا يزول الملك ففي وجوب الإرْسَال قولان، والأمر فيه قريب التفريع إن قلنا يزول ملكه فأرسله غيره، أو قتله فلا شيءَ عليه، ولو أرسله المُحْرِم فأخذه غيره ملكه، ولو لم يرسله حتى تحلل فَهَلْ عليه إرْسَالُه؟ فيه وَجْهَان: أحدهما: وهو المنصوص نعم، لأنه كان مستحق الإرْسَال فلا يرتفع هذا الاستحقاق بتعديه بالإمساك. والثاني: ويحكى عن أبي إسحاق: أنه لا يجب، ويعود ملكاً له كالعصير إذا تَخَمَّر، ثم تَخَلَّل، وحكى الإمام -رحمه الله- على هذا القول وجهين في أنه يزول بِنَفْسِ الإحْرَام، أو الإحرام يوجب عليه الإرْسَال، فإذا أرسل حينئذ يَزُول، والأول أشْبَهُ بِكَلاَم الجُمْهُور. وإن قلنا: لا يزول ملكه عنه فليس لغيره أخذه، ولو أخذه لَمْ يَمْلِكْهُ، ولو قَتله ضَمِنَه، وهو بمثابة المتفلت من يده، وعلى القولين جميعاً لو مات الصَّيْد في يده بعد إمكان الإرْسَال لزمه الجزاء؛ لأنهما مفرعان على وجوب الإرْسَال، وهو مقصر
بالإِمْسَاك. ولو مات الصَّيْدُ قبل إِمْكَانِ الإِرْسَال فقد حكم الإمام -رحمه الله- وجهين في وجوب الضَّمَان، وقال: المذهب وجوبه، ولا خلاف في أنه لا يَجِب تقديم الإرْسَالِ على الإحْرَام. قوله في الكتاب: (ففي لزوم رفع اليد قولان) يجوز أنَ يُعَلَّم لفظ القولين بالواو، لأن القاضي ابْنَ كِجٍّ روى عن أبي إسحاق طريقة قاطعة بأنه لا لزوم، وحيث قال بالإرسال أراد به الاستحباب. وقوله: (لأنه ابتداء إتلاف) أراد به أنا على هذا القول، وإن جوزنا استدامة اليد، والملك، فلا يجوز الإتْلاف؛ لأن الإتْلاَفَ ليس باسْتِدَامَةٍ، وإنما هو ابتداء فِعْلٍ، وكان الأحسن في التعبير عن هذا الغَرَضِ أن يقول؛ لأن الإتْلاَفَ ابتداء، ثم في الفصل مسألتان: إحداهما: لو اشترى المُحْرِمُ صَيْداً، أو اتهبه أو أُوصي له فَقَبِلَ يفرع ذلك على الخلاف الذي سبق. إن قلنا: إن الملك يزول عن الصَّيْدِ بالإحْرَامِ لا يملكه بهذه الأَسْبَاب؛ لأن من مُنِع من إدامة الملك فهو أولى بالمَنْعِ من ابتدائه. وإن قلنا: لا يزول ففي صِحَّة الشراء والهبة قولان بناء على القولين فيما إذا اشترى الكَافِرُ عبدًا مسلمًا، ويدل على المنع ما روى أَنَّ الصَّعْبَ بنَ جُثَامَةَ. أَهْدَى لِرَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- حِمَاراً وَحْشِيّاً فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: "إِنَّا لَمْ نَرُدَّ عَلَيْكَ إِلاَّ أَنَّا حُرُمٌ" (¬1) فإن صححنا هذه العقود فذاك، وإلا فليس له القبض، فإن قبض فهلك في يده فعليه الجزاء لِلَّه تعالى، والقيمة للبائع، وإن رده عليه سَقَطَتِ القِيمَةُ، ولا يسقط ضَمَانُ الجَزَاء إلا بالإرْسَالِ؛ وإذا أرسل كان كما إذا اشترى عبداً مرتداً فقتل في يده، وفي أنه من ضمان من يتلف؟ خلاف سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى" (¬2). الثانية: إذا مات له قريب، وفي مِلْكِهِ صَيْدٌ هَلْ يَرِثُهُ؟ إن جوْزنا الشِّراء وغيره من الأسباب الاختيارية نعم، وإلا فَوَجْهَان، والأظهر ثبوته؛ لأن لا اختيار فيه، وعلى هذا فقد ذكر الإمام وصاحب الكتاب أنه يزول مِلْكُه عقيب ثُبُوتِه بناء على أن المِلْكَ يزول عن الصَّيْدِ بالإحْرَام، وفي "التهذيب" وغيره ما ينازع في زواله عقيب ثبوته؛ لأنهم ¬
قالوا: إذا ورثه فعليه إرْسَاله، فإن بَاعَهُ صَحَّ، ولا يسقط عنه ضمان الجَزَاءِ حتى لو مات في يَدِ المُشْتَرِي يجب الجَزَاءُ على البَائِعِ، وإنما يسقط عنه إذا أرسله المشتري. وإن قلنا بأنه لا يرث فالملك في الصَّيْدِ لسائر الورقة، وإحرامه بالإضافة إلى الصَّيْدِ مانع من مَوَانِعِ الميراث. كذا أورده أبو سَعِيد المتولي، وذكر أبو القَاسِم الكَرْخُي على هذا الوجه أنهُ أحق به، فيوقف حتى يتحلل فيتملكه (¬1). ولو اشترى صيداً من إِنْسَانٍ ووجد به عيباً وقد أحرم البَائِع، فإن قلنا: يملك الصيد بالإرْثِ يُرَدُّ عليه، وإلا فوجهان؛ لأن منعَ الردِ إضرارٌ بالمشتري. ولو باعَ صَيْداً وهو حَلالٌ، وأحرم ثم أفلس المشتري بالثمن لم يكن له الرُّجوعُ على الأَصَحِّ؛ كالشراء والاتّهاب بخلاف الإِرْث، فإنه قهري. ولو ستعار المحرم صيداً أو أودع عنده كان مضموناً بالجزاء عليه، وليس له التعرض له، فإن أرسله سقط عنه الجَزَاءُ، وضمن القيمة للمالك، وإن رَدَّهُ إلى المالك لم يسقط عنه ضَمَانُ الجزاء ما لم يرسله المالك (¬2) وحيث صار الصيد مضموناً على المحرم بالجزاء، فإن قَتَلَهُ حَلاَلٌ في يده فالجزاء على المحرم، وإن قتله محرم آخر، فهل الجزاء عليهما أو على القاتل، ومن في يده طريق؟ فيه وجهان (¬3). قال الغزالي: وإنْ أخَذَ صَيْداً لِيُدَاوِيَهُ كَانَ وَدِيعَةً (ح)، وَالنَّاسِي كَالعَامِدِ فِي الجَزَاءِ لاَ في الإِثْمِ، وَلَوْ صَالَ عَلَيْهِ صَيْدٌ فَلاَ ضَمَانَ في دَفْعه، وَلَوْ أَكَلَهُ في مَخْمَصَةٍ ضَمِنَ، وَلَوْ عَمَّتِ الجَرَادُ المَسَالِك فَتَخَطَّاهُ المُحْرِمُ فَفِيهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: في هذه البقية صور: إحداها: لو خلَّص المحرم صيداً من فَمِ هِرَّةٍ أو سبع، أو مِن شِقِّ جِدَارٍ أو أخذه ¬
ليداويه ويتعهده فمات في يده، هل يضمن؟ فيه قولان كما لو أخذ المَغْصُوبَ مِنَ الغَاصِبِ ليرده على المالك فهلك في يده. أحدهما: وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله- يضمن؛ لأن المستحق لم يرض بيده، فتكون يَدُه يَدَ ضَمَانٍ. والثاني: لا يضمن، لأنه قصد المَصْلَحة، فتجعل يَدُه ودَيِعَة، والقولان معاً منصوصان في عيون المسائل، وإيراده يقتضي تَرجِيح الثَّانِي مِنْهُمَا، وهو المذكور في الكِتَاب. الثانية: الناسي كَالْعَامِد في وجوب الجَزَاءِ (¬1)، في الإثم، أما افتراقهما في الإثم فلما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ" (¬2) الخبر. وأما استواؤهما في وجوب الجزاء، فلأن الإتْلاَف يوجب الضَّمَان على العَامِدِ والخَاطِئِ على نسق واحد، بدليل الضَّمَانات الواجبة للآدميين، وخرج بعض الأصحاب في وجوب الضَّمان على النَّاسي قولين؛ لأنه حكى عن نَصِّه قولان فيما إذا أحرم ثُمَّ جُنَّ، وقتل صيداً. أحدهما: وجوب الضمان لما ذكرنا. والثاني: المنع؛ لأن الصَّيْدَ على الإباحة، وإنما يخاطب بترك التعرض له من هو أهل للتكليف والخِطَاب. وقد ذكرنا هذا الخِلاَف مرة في النوع الرَّابع من المَحْظُورَاتِ. وقوله في الكتاب (والناسي كالعامد) يجوز إعلامه بالواو لذلك، وبالألف أيضاً، لأن أبا نَصْر بنَ الصَّبَّاغِ ذكر أن في رواية عن أحمد لا جزاء على المُخْطِئِ بِحَالٍ. الثالثة: لو صال الصيد على محرم، أو في الحرم فقتله دفعاً فلا ضمان عليه؛ لأنه بالصيال التحق بالمُؤْذِيَاتِ. وعن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه يجب، ولو ركب إنسانُ صيداً وصالَ على مُحْرِم ولم يمكن دفعه إلا بقتل الصيد فقتله، فالذي أورده الأكثرون أنه يجب عليه الضَّمَان؛ لأن الأذى هَاهُنا ليس من الصَّيْدِ. وحكى الإمام أن القَفَّالَ -رحمه الله- ذكر فيه قولين: ¬
أحدهما: أن الضمان على الراكب، ولا يطالب به المحرم. والثاني؟ أنه يطالب المحرم ويرجع بما غرم على الرَّاكِبِ. وإن ذبح صَيْداً في مخمصة أوكله ضمن؛ لأنه أهلكه لمنفعةِ نَفْسِهِ مِن غير إِيذَاءٍ من الصَّيْدِ. ولو أكره مُحْرِم أو محل في الحرم على قتل صَيْدٍ فقتله فوجهان: أحدهما: أنا الجزاء على المُكْرِه. والثاني: على المُكْرِهَ، ثم يرجع على المُكْره، وعن أبي حنيفة: أن الجزاء في صيد الحرم على المكره، وفي الإحرام على المكره (¬1). الرابعة: ذكرنا أن الجراد مما يضمن بالقيمة وبيضه مضمون بالقيمة كأصله، فلو وطئها عَامِداً، أو جاهلاً ضمن، ولو عمت المسالك ولم يجد بداً من وَطْئِها فوطئها فَفِي الجَزَاء قولان، وقال الإمام وصاحب الكتاب وجهان: أحدهما: يجب لأنه قَتَلَها لِمَنْفَعَةِ نَفسِهِ فصار كما لو قتل صيداً في المَخْمَصَةِ. وأظهرهما: لا يجب؛ لأنها ألجأته إليه، فأشبه صُورةَ الصِّيَالِ. وحكى الشَّيْخ أبو محمد -رحمه الله- طريقة أخرى قاطعة بأنه لا جَزَاء، فيجوز أن يُعَلَّم قوله: (وجهان) بالواو لذلك. ولو باض صيد في فراشه، ولم يمكنه رفعه إلا بالتعرض للبَيْضِ ففسد بذلك ففيه هذا الخلاف. قال الغزالي: النَّظَرُ الثَّانِي في الجَزَاءِ فَالَوَاجِبُ في الصَّيْدِ مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ (ح) أَوْ طَعَامٌ بمِثْلِ قِيمَةِ النَّعَمِ، أَوْ صِيَامٌ يَعْدِلُ الطَّعَامَ كُلَّ يَوْمٍ مُدٌّ، فَإِنَّ انْكرَ مدًا كَمَّلَ وَهُوَ عَلَى التَّخْيِيرِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيّاً كَالْعَصَافِيرِ وَغَيْرِهَا فَقَدْرُ قِيمَتِهِ طَعَامًا أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً، وَالعِبْرَةُ في قِيمَةِ الصَّيْدِ بِمَحَلِّ الإِتلاَفِ، وَفِي قِيمةِ النَّعَمِ بَمَحَلِّ مَكَّةَ؛ لأَنَّهُ مَحَلُّ ذَبْحِهِ. قال الرافعي: الصيد ينقسم إلى مِثْلِي ونعثي به ماله مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ، وإلى ما ليس بِمِثْلِي. أما الأول فجزاؤه على التخيير والتعديل، فيتخير بين أن يذبح مِثْلَه فيتصدق به على مَسَاكِينِ الحَرَمِ، إما بأن يفرق اللَّحم أو يملك جملته إياهم مذبوحاً، ولا يجوز أن يخرجه حياً، وبين أن يقوم المثل دراهم، ثم لا يجوز أن يتصدق بالدراهم، ولكن إن شاء اشترى بها طَعَاماً وتصدق به على مَسَاكِينِ الحَرَم، وإن شاء صام عَنْ كُلِّ مُدٍّ من الطَعَامِ يوماً، حيث كان قال الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ ¬
مِنْكُمْ} (¬1). إلى قوله (صياماً). أما الثاني: وهو ما ليس بمثلي كَالْعَصَافِيرِ وغيرها من الطيور على ما ستعرف ضروبها ففيه قيمته، ولا يتصدق بِهَا، بل يجعلها طَعَاماً، ثم إن شاء تصدق بها، وإن شاء صَامَ عَنْ كُلِّ مُدّ يوماً، فإن انكسر مد في القسمين صَامَ يوماً، لأن الصَّوْمَ لا يتبعض، وإذا تأملت هذا التفصيل عرفت أن للجزاء ثلاثة أركان في القِسْمِ الأول، الحيوان والطعام، والصيام وركنين في الثَّاني، وهما الطعام والصيام وهي أو هما على التخيير في ظاهر المذهب، وعن رواية أبي ثَوْر قول أنها على الترتيب، وهو أضعف الروايتين عن أحْمَدَ، وقال مالك -رحمه الله- إن لم يخرج المثل عن المِثْلِي يقوم الصيد لا المثل. وقال أبو حنيفة -رحمه الله- لا يجب المِثْلُ، بل عليه قيمة الصَّيْدِ، فإن شاء تَصَدَّق بها، وإن شاء اشترى بها شيئاً من النَّعَمِ التي تجزئ في الأضحية فذبح، وإن شاء صَرَفَهَا إلى الطَّعَامِ، فأعطى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أو صاعاً من غيره، أو صام عَنْ كُلِّ نَصْفِ صَاعٍ من بر أو صاعٍ مِنْ غَيْرِهِ يوماً. وعن أحمد أنه لا يخرج الطعام، وإنما التقويم بالطَّعام لمعرفة قَدْرِ الصِّيَام، وحكاية هذه المذاهب تنبئك أن قوله: في الكتاب (مثله من النعم) ينبغي أن يكون مُعَلَّماً بالحاء. وقوله: (أو طعام) بالألف. وقوله: (مثل قيمة النعم) بالميم. وقوله: (لكل مد يوم) بالحاء. وقوله: (على التخيير) بالألف والواو، وإذا لم يكن الصيد مثلياً فالعبرة في قيمته بمَحَلِّ الإتلاف، وإن كان مثلياً وأراد تقويم مِثْله من النَّعَم ليرجع إلى الإطْعَام، أو الصيامَ فالعبرة في قيمته بمكة يومئذ. هذا نَصُّه، ونقل بعض الشَّارِحِينَ فيه طريقين: أصحهما: الجريان على ظَاهِر النصين. أما اعتبار قيمة محل الإتْلاَفِ في الحالة الأولى فقياساً على كل مُتلف متقوم. وأما اعتبار قيمة مكَّة في الأخرى، فلأن مَحَلَّ ذبح المثلَ مكَّةُ لو كان يذبح، فإذا عدل عنه عدل بقيمته في مَحَلِّ الذبح. ¬
والطريق الثاني: أنهما على قولين، وحيث اعتبرنا قيمة محل الإتلاف فقد ذكر الإمام احتمالين في أن المعتبر في الصرف إلى الطَّعَامِ سعر الطَّعَامِ في ذلك المكان أيضاً، أو سعر الطَّعَامِ بمكة، والظاهر منهما الثاني. قال الغزالي: وَالمِثْلِيُّ كَالنَّعَامَةِ فَفِيهِ بَدَنَةٌ، وَفِي حِمَارِ الوَحْشِ بَقَرَةٌ، وفي الضِّبُعِ كبْشٌ، وَفِي الأَرْنَبِ عنَاقٌ، وَفي الظَّبْي عَنْزٌ، وَفِي اليَرْبُوعِ جَفْرةٌ، وَفِي الصَّغِيرِ صَغِيرٌ، وَيَحْكُمُ بالمُمَاثَلَةِ عَدْلاَنِ، فَإنْ كَانَ القَاتِلُ أَحَدَهُمَا وَهُوَ مُخْطِئٌ غَيْرُ فَاسِقٍ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ، وَفِي الحَمَامِ شَاةٌ، وَفِي مَعْنَاهُ القُمْرِيُّ وَالفَوَاخِتُ وَكُلُّ مَا عَبَّ وَهَدَرَ، وَمَا دُونَهُ فِيهِ القِيمَةُ، وَمَا فَوْقَهُ فِيهِ قَوْلاَنِ، أَحَدُهُمَا القِيمَةُ قِيَاساً، وَالثَّاني: إِلْحَاقُهُ بِالحَمَامِ. قال الرافعي: من المهم في الباب معرفة أن المثل ليس معتبراً على التَّحْقِيق، وإنما هو معتبر على التَّقْرِيب، وليس معتبراً في القيمة، بل في الصورة والخلقة؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- حكموا في النَّوْعِ الواحد من الصيد بالنواع الواحد من النَّعَمِ مع اختلاف البِلاَد، وتفاوت الأزمان واختلاف القِيَم بحسب اختلافها، فعلم أنهم اعتبروا الخِلْقَة والصُّورة. إذا تقرر ذلك فالكلام في الدَّواب، ثم في الطيور أما الدواب فما ورد فيه نَصٌّ، فهو متبع، وكذلك كل ما حكم فيه عَدْلاَن من الصَّحَابَةِ أو التابعين، أو من أهْلِ عصر آخر من النَّعَمِ أنه مثل للصيد المقتول يتبع حكمهم، ولا حاجة إلى تحكيم غيرهم. قال الله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬1) وقد حَكَمَا. وعن مَالِكٍ أنه لا بد من تحكيم عَدْلَيْنِ من أهْلِ العَصْرِ، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أَنَّهُ قُضَىَ فِي الضَّبعِ (¬2) بِكَبْشٍ" (¬3) وعن الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم قضوا في النَّعَامَةِ ببدنة، وفي حمار الوَحْشِ وبقر الوحش بِبَقَرَةٍ، وفي الغَزَالِ بعَنزٍ، وفي الأرْنب بعناق، وفي اليربوع بجفرة، وعن عثمان (¬4) -رضي الله عنه- أنه حكم في أم حُبَيْنٍ ¬
بُحلاَّنٍ، وعن عطاء (¬1) ومجاهد (¬2) أنهما حكمًا في الوبر بِشَاةٍ. قال الشافعي -رضي الله عنه- إن كانت العرب تأكله ففيه جفرة، لأنه ليس بأكبر بدلاً منها، وعن عطاء (¬3) أن في الثَّعْلَبَ شَاة، وعن عمر -رضي الله عنه- (¬4) أن في الضب جدياً، وعن بعضهم أن في الإبل بقرة. واعرف هاهنا شيئين: أحدهما: تفسير ما يشكل من هذه الألفاظ. أما العناق: فهو اسم الأنثى من ولد المعز. قال أهل اللغة: وهي عناق من حين تولد إلى أن ترعى، والجفرة هي: الأنثى من ولد المعز، تفطم، وتفصل عن أمها، وتأخذ في الرعي، وذلك بعد أربعة أَشْهُر، والذَّكَرْ جفر، هذا معناهما في اللغة، ويجب أن يكون المراد من الجفرة هاهنا ما دُونَ العِنَاق، فإن الأرنب خير من اليربوع. وأم جبين دابة على خلقة الحرباء عظيمة البَطْن، ومنه ما روي "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ مُمَازِحًا لِبِلاَلٍ -رضي الله عنه- وَقَدْ تَدَحْرَجَ بَطْنَهُ: أُمَّ حُبَيْنٍ" (¬5). قال الشيخ أبو محمد: وأرى هذا الحيوان من صغار الضَبِّ حتى يفرض مأكولاً. واعلم أن في حِلٍّ أم حبين تردداً نذكره في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى، والقول يوجوب الجَزَاءِ مُفَرَّعٌ على الحِلِّ. وأما الحُلاَّن فمنهم من فسره بالحمل، ومنهم من فسره بالجدي، والحُلاَّم كالحلان. والوبر دابة كالجَرَادِ، إلا أنها أنبل وأكرم منها، وهي كحلاء من جنس بنات عرس تكون في الفلوات، وربما أكلها البدويون، والأنثى وبرة. الثاني: قد نجد في كتب بعض الأصحاب أن في الظبي كَبْشاً، وفي الغزال عَنْزاً، وهكذا أورد أَبُو القَاسِمِ الكَرَخِي، وزعم أن الظبي ذَكَرُ الغزَالِ، وأن الغَزَال الأُنثى، قال الإمام: والذي ذكره هؤلاء وَهْمٌ بل الصَّحِيح أن في الظَّبْي عنزاً، وهو شديد الشَّبَه به، فإنه أجرد الشَّعْرِ، متقلص الذَّنَب وأما الغزالَ فهو وَلَدُ الظَّبْيِ، فيجب فيه ما يَجِبْ فِي الصِّغَار، فهذا هو القول فيما وردَ فِيه نَقْلٌ. ¬
وأما ما لم ينقل فيه عن السلف شيء فيرجع فيه إلى قَوْلِ عَدْلَيْنِ (¬1)، قال الله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬2) وليكونا فقيهين كَيِّسَيْنِ، وهل يجوز أن يكونَ قَاتِلُ الصيد أحَدَ الَحَكَمَيْنِ؟ أو يكونا قَاتِلا الصَّيْدِ الحَكَمَيْنِ؟ إن كان القتل عمداً عدواناً فَلاَ؛ لأنه يورث الفِسْق، والحكم لا بد وأن يكون عدلاً وإن كان خطأ أو كان مضطراً إليه فوجهان: أحدهما: وبه قال مالك: أنه لا يجوز، كما لا يجوز أن يكون المُتْلِف أحد المُقَوِّمَيْنِ. وأصحهما: أنه يجوز: لما روي "أَنَّ رَجُلاً قَتَلَ ضُبّاً فَسَأَلَ عَنْهُ عُمَرَ -رضي الله عنه- فَقَالَ: احْكُمْ فِيهِ، فَقَالَ؛ أَنْتَ خَيْرٌ منِّي وَأَعْلَمُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: أَنَا أَمُرْتُكَ أَنْ تَحْكُمَ فِيهِ، وَلَمْ آمُرْكَ أَنْ تُزَكِّيَنِي، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَرَى فِيهِ جَدْياً، قَالَ عُمَرُ -رضي الله عنه- فَذَلِكَ (¬3) فِيهِ". وأيضاً فإنه حق الله تعالى، فيجوز أن يكون المؤمن عليه أميناً فيه، كما أن رب المال أمين في الزكاة. ولو حكم عدلان بأن له مثلاً وآخران بأنه لا مثل له، فالأخذ بقول الأولين أَوْلى، قاله في "العدة" (¬4). وأما الطيور فتنقسم إلى حمام وغيره، أما الحمام ففيه شَاة، روي ذلك عن (¬5) عمر، وعثمان (¬6)، وعلي (¬7)، وابن عمر (¬8)، وابن عباس (¬9) وعاصم بن عمر (¬10)، ¬
وعطاء (¬1)، وابن المسيب (¬2)، وغيرهم، -رضي الله عنهم- وعلام بُنِي ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: أن إيجابها لما بَيْنَهُمَا مِنَ الشَّبَهِ، فإن كل واحد منهما يألف البيوت، ويأنس بالناس. وأصحهما: أن مستنده توقيفُ بَلَغَهُمْ فِيهِ. وأما غيره، فإن كان أصغر من الحمام في الجنة كالزُّرزور، والصَّعْوَة، والبلبل، والصَنبرة (¬3)، والوَطْوَاط، فالواجب فيه القيمة قياساً (¬4) وقد روى عن الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم حكموا في الجراد بالقيمة ولم يقدروا. وأن كَانَ أكبرُ مِنَ الحَمَامِ، أو مِثْلاً لَهُ ففيهما قولان: أحدهما: أن الوَاجِبَ شَاةٌ، لأنها لما وجبت في الحَمَام، فلأن تجب فيما هو أكبر منه كان أولى. والثاني: وهو الجديد وأحد قوليه في القديم: أن الواجب القيمة، قياساً، كما لو كان أصغر. وعن الشيخ أبي محمد: أن بناء القولين على المأخذين السَّابقَيْنِ، إن قلنا: وجوب الشاة توقيف صرف، ففي الأكبر أيضاً شاة استدلالاً، وإن قلنا: إنه مأخوذ من المُشَابَهَةِ بِينهما فَلاَ، وقوله في الكتاب: (ففيها بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، إلى آخرها) يجوز إعلامها بالحَاءِ، لأن أبا حنيفة -رحمه الله- لا يوجب المثل في شَيْءٍ من الصيود. وقوله: (وفي الصغير صغير) أراد به أن كل جنس من الصيود المثلية، يعتبر فيما يجب فيه من النَّعَمِ المماثلة في الصِّغَرِ والكِبَرِ، ففي الصَّغِيرِ صَغِيرٌ، وفي الكبير ¬
كبير، لظاهر قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (¬1)، والكلمة مُعَلَّمة بالميم، لأن عند مالك الوَاجِبُ الكَبِير، وإن كان الصَّيْدُ صغيراً، وقوله: (وهو مخطئ غير فاسق) قد عرفت مما مرّ أنه لم يذكره. وقوله: (وفي الحمام شاة) معلم بالميم؛ لأن مالكاً إنما يُوجِبُ الشَّاة في حمامة الحَرَمِ، وأما حمامة الحِلَّ، إذا قتلها المُحْرِم فالواجب عنده فيها القيمة. وقوله: (وفي القمري والفواخت وكل ما عب وهدر) ظاهره يقتضي خروج هذه الطيور عن تَفْسِيرِ الحمام، وإلحاقها به في الحكم لكن المشهور، أن اسم الحمام يقع على كل ما عب وهدر فمنه صِغَارٌ وَكِبَارٌ، ويدخل فيه اليَمَام، وهي التي تألف البيوت، والقمري، والفاختة، والداس، والفاس، والقطا. والعب هو: شرب الماء جرعاً، وغير الحمام من الطيور تشربه قطرة قطرة، والهدير هو ترجيعه صوته وتغريده، والأشبه: أن ما له عب فله هدير، ولو اقتصروا في تفسير الحمام على العب لكفاهم ذلك. يدل عليه نَصُّ الشافعي -رضي الله عنه- في "عيون المسائل"، قال: و"ما عب في الماء عباً فهو حمام، وما شرب قطرة قطرة كالدجاج، فليس بحمام". قال الغزالي: فُرُوعٌ يَجُوزُ مُقَابَلَةُ المَرِيضِ بالمَرِيضِ، وَفِي مُقَابَلَةِ الذَّكَرِ بالأنْثَىَ مَعَ التَّسَاوِي في اللَّحْمِ وَالقِيمَةِ ثَلاَثةُ أقْوَالٍ، في الثَّالِثِ تُؤْخَذُ الأُنْثَى عَنِ الذَّكَرِ كَمَا في الزَّكاةِ بِخِلاَفِ عَكْسِهِ. قال الرافعي: رسم المسائل المذكورة في هذا الموضع إلى رأس السَّبَبِ الثَّانِي فروعاً، ونحن نشرحها واحداً واحداً. أحدها: المريض من الصّيود يقابل بالعوراء، وإن اختلف الجنس فلا، كالعوراء بالجرباء، وإن كان عور أحدهما باليمين، وعور الأخرى باليسار ففي الإجزاء وَجْهَان: أصحهما: ولم يورد العراقيون غيره: الإجْزَاء لتقارب الأمْرِ فيه، ولو قابل المَرِيض بالصَّحيح، أو المعيب بالسَّليم، فقد زادَ خَيْراً. وقال مالك: إن ذلك وَاجِب، ويفدى الذَّكر بالذَّكَر، والأنثى بالأنثى، وهل يفدى الذَّكر بالأُنْثَى وبالعكس؟ أما فداء الذَّكَرِ بالأُنْثَى فقد ذَكَرُوا أن إشارة النَّصِّ مختلفة فيه، وللأصْحَابِ فيه طريقان: أظهرهما: أن المسألة على قولين: ¬
أحدهما: المنع، لأنهما مُخْتَلِفَان في الخِلْقَة، وذلك مما يقدح في المِثْلِيَّةِ. وأصحهما: الجواز، كما في الزَّكاة، ولأن هذا اختلاف لا يقدح في المقصود الأصلي، فأشبه الاختلاف في اللَّون. والطريق الثاني: تنزيل النصين على حالين إن أراد الذبح لم يجز؛ لأن لحم الذَّكر أطيب، وإن أراد التقويم جَازَ؛ لأن قيمة الأنثى أكثر. وقيل: إن لم تلد الأنثى جاز، وإن ولدت فَلا، لأن الولادة تُفْسِدُ اللَّحْم، وإذا جوزنا ذَبْحَ الأنثى عن الذَّكَرِ، فهل هو أولى؟ قال بعضهم: نعم؟ لأن لحم الأُنْثَى أَرْطَب، وقال القَاضِي أَبُو حَامِدٍ: لا؛ لأن لَحْمَ الذكَرِ أَطْيَبُ. وأما فداء الأنثى بالذَّكَرِ ففي جوازه وَجْهَان، ويقال: قولان كما سبق، وحكى الإمام طريقة أخرى أن فداء الذكر بالأنثى جَائِزٌ، لاَ محالة كما في الزَّكَاةِ، وإنما التردد في عَكْسِهِ، وإذا اختصرت هذه الاختلافات خرج منها ثلاثة أقوال كما ذكر في الكِتَاب، وإذا تأملت ما حكيناه من كلام الأصحاب وجدتهم طاردين للخِلاَف مَعَ نقصان اللَّحْمِ. وقال الإمام -رحمه الله-: إن كان ما يخرجه ناقصًا في طِيب اللَّحْمِ، أو في القيمة لم يجزه بلا خِلاَف، والخلافُ مخصوصٌ بما إذا لم يكن فيه واحَد من النقصانين، وإلى هذا أشار صاحب الكتاب بقوله: (مع تساوي اللحم والقيمة). قال الغزالي: وَلَوْ قَتَلَ ظَبْيَةَ حَامِلاً أَخْرَجَ طَعَاماً بِقِيمَةِ شَاةٍ حَامِلٍ حَتَّي لاَ تَفُوتَ فَضِيلَةُ الحَمْلِ بالذَّبْحِ، وَقِيلَ: يَذْبَحُ شَاةً حَائِلاً بِقِيمَةِ الحَامِلِ، وَإِنْ أَلْقَتِ الظَّبْيَةُ جَنِيناً مَيِّتاً فَلَيْسَ فِيهِ إلاَّ مَا يَنْقُصُ مِنَ الأُمِّ، وَإِنِ انْفَصَلَ حَياً ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ. قال الرافعي: الفرع الثاني: إذا قتل صيداً حاملاً من ظبية وغيرها، قابلناه بمثله من النَّعَم حَامِلاً، لأن الحمل فضيلة مقصودة فلا سبيل إلى إهمالها، لكن لا تذبح الحَامِل؛ لأن فضيلة الحَامِل بالقيمة لتوقع الولد (¬1)، وإلا فلحم الحَائِلِ خَيْرٌ من لَحمِهِ، فإذا ذبح فاتت فضيلته من غير فائدة تحصل للمساكين، فيقوم المثل حاملاً، ويتصدق بقيمته طعاماً، وفي وجه يجوز أن يذبح حائلاً نفيساً بقيمة حَامِلٍ وسط، ويجعل التفاوت بينهما كالتفاوت بين الذَّكَرِ والأُنْثَى. ولو ضرب بَطْنَ صَيْدٍ حَامِل فألقى جنيناً ميتاً، نظر إن ماتت الأم أيضاً فهو كما لو ¬
قتل حَامِلاً (¬1)، وإن عاشت ضمن النقص الذي دَخَلَ على الأُم، ولا يضمن الجنين بخلاف جنين الأَمَة يضمن بقمية عُشْرِ الأم؛ لأن الحمل يزيد في البهائم فيمكن إيجاب ما بين قيمتها حائلاً وحاملاً، وينقص في قيمة الآدميات فلا يمكن اعتبار ذلك، وإن ألقت جنيناً حياً، ثم ماتا ضمن كل واحد منهما بانفراده، وإن مات الولد وعاشت الأم ضمن الولد بانفراده، وضمن النقص الذي دخل على الأم. قال الغزالي: وَإِنْ جَرَحَ ظَبْياً فَنَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ العُشْرُ فَعَلَيْهِ الطَّعَامُ بِعُشْرِ ثَمَنِ شَاةٍ كَيْلاَ يَحْتَاجَ إلَى التَّجْزِئَةِ وَقِيلَ: عُشْرُ شَاةٍ. قال الرافعي: الفرع الثالث: قال الشافعي -رضي الله عنه- في "المختصر". إن جرح ظبياً فنقص من قميته العشر، فعليه عشر من ثمن شَاة، وقال المُزَنِي تخريجاً عليه عُشْرُ شَاةٍ. واختلف الأصْحَاب في ذلك فقال الأكثرون: الأمر على ما قاله المُزَنِي، لأن كل الظبية مُقَابَل بالشَّاةِ، فيقابل بعضها ببعضها تحقيقاً للمماثلة، وهؤلاء رفعوا الخلاف وقالوا: إنما ذكر الشافعي -رضي الله عنه- القيمة، لأنه قد لاَ يَجِدْ شريكاً في ذَبْحِ شَاةٍ، ويتعذر عليه إخراج العشر بقسطه من الحَيَوَان، فأرشده إلى ما هو الأَسْهل، فإن جزاء الصيد على التخيير، فعلى هذا هو مخير بين إخْرَاجِ العُشْرِ، وبين أن يصرف قيمته إلى الطَّعَام ويتصدق به، وبين أن يصوم عن كل مُدٍّ يوماً، ومنهم من جَرَى على ظَاهِرِ النَّصِّ، وقال: الواجب عشر القيمة، وأثبت في المسألة قولين المنصوص وما أخرجه المزني -رحمه الله- وهذا ما أوْرَدَهُ في الكتاب. أما وجه التخريج فقد، عرفته. وأما وجه المنصوص فهو أنَّا لو أوجبنا العُشْرُ لاحتاج إلى التجزئة والتَّقْسِيط، وفيه حرج وعسر، فوجب أن نعدل إلى غَيْرِهِ كما عدلنا عن إيجاب جُزْءٍ من بعير في خَمْسٍ من الإبِلِ إلى شَاةٍ، ولا يلزم من مقابلة الجملة بالمثل مقابلة الجزء بجزء من المثل، ألا ترى أَنه لو أتلف حنطةً على إنسان لَزِمَة مِثْلُهَا، ولو بَلَّها ونقص قيمتها لا يجب عليه إلا مَا نقص، فعلى هذا لو لم يرد الإطْعَام ولا الصِّيَام، ما الذي يخرج؟ حكى القاضي ابْنُ كِجٍّ: عن بعضهم أنه إن وجد شريكاً أخرجه ولم يخرج الدراهم وإلا فعليه إخْرَاجُهَا. وعن أبي هريرة أن له إِخْرَاجها وإن وَجَدَ شَرِيكاً. ¬
وعن أبي إسْحَاقَ: أنه مخير بين إخْرَاجِ العُشْرِ، وبيى إخراج الدَّرَاهِمِ فهذه ثلاثة أوجه. ونقل أبو القَاسِم الكَرَخِي وغيره: أنه لا يجزئه إخْرَاجُ عُشْرِ الْمِثل، وقال في "التهذيب": لا يتصدق بالدَّرَاهم، ولكن يصرفها إلى الطَّعَام ويتصدق به، أَو يصوم عن كل مُدٍّ يوماً. وهذا ما أشار إليه في الكتاب، حيث قال: (فعليه الطعام بعشر ثمن المثل) والأشبه من هذا كله تفريعاً على المنصوص إن أثبتنا الخلاف تعين الدراهم، -والله أعلم-. وقوله: (بعشر ثمن شاة) أراد بالثمن القيمة كما في لفظ الشافعي -رضي الله عنه-. واعلم: أن جميع ما ذَكَرْنَاهُ فيما إذا كان الصَّيْدُ مثلياً، فأما إذا جَنَى عَلَى صَيْدٍ غير مثلي فلا كلام في أن الواجب ما نقص من القيمة -والله أعلم-. قال الغزالي: وَلَوْ أَزْمَنَ صَيْدا فَتَمَامُ جَزَائِهِ، فَإِنْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ مَعِيباً، وَلَوْ أبْطَلَ قُوَّةَ المَشْي وَالطيَّرَانِ مِنَ النَّعَامَةِ فَفي تَعَدُّدِ الجَزَاءِ وَجْهَانِ: قال الرافعي: ما ذكرنا في الفرع الثالث مصور فيما إذا اندمل الجُرْح وبقي الصيد ممتنعاً إما بعدوه كالغَزَالِ، أو بطيرانه كالحَمَامِ، فأما إذا اندمل الجرح وصار الصيد زمناً فهذا هو الفرع الرابع، وفيما يلزم به وجهان: أصحهما: وهو المذكور في الكتاب وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-: أنه يلزم به جَزَاءٌ كَامِلٌ، لأنه بالأزمان صَارَ كالمُتْلف، ولهذا لو أزمن عبداً يلزمه تمام قيمته. الثاني: ويحكى عن ابْنِ سُرَيجٍ: أنه يجب عليه قدر النّقْصَان؛ لأنه لم يهلك بالكلية، ألا ترى أن الباقي مَضْمُون لو قتله محرم آخر، فعلى هذا يجب قِسْطٌ مِنَ المِثْلِ، أو من قيمة المِثْل فيه الكلام السابق. ولو جاء محرم آخر وقتله إما بعد الانْدِمَال أو قبله فعليه جزاؤه زمناً لما ذكرنا أن المعيب يقابل بمثله، ويبقى الجزاء على الأول بحاله، ومنهم من قال: إن أوجبنا جزاءاً كاملاً عاد هَاهُنَا إلى قدر النقصان؛ لأنه يبعد إيجاب جزاءين لمتلف واحد، ولو عاد المزمن وقتله نظر إن قتله قبل الاندمال فليس عليه إلا جَزَاءٌ واحد، كما لو قطع يَدَيْ رَجُلٍ ثم حزّ رقبته قبل الاندمال لا يلزمه إلا دِيَة واحدة، وخرج ابْنُ سُرَيْجٍ -رحمه الله- ثمّ أن أرش الطرف ينفرد عن دِيَةِ النفس، فيجيء مثله هاهنا. وإن قتله بعد الاندمال، أفرد كل واحد منهما بحكمه، ففي القتل جزاؤه زمناً، وفيما يجب بالإزمان؟ الخلاف السابق، وإذا أوجبنا بالإزمان جزاءاً كاملاً، فلو كان للصيد امتناعان كالنعامة بها امتناع بشدة العدو، وامتناع في الجناح فأبطل أحد امتناعيه ففيما يلزمه؟ وجهان: أحدهما: أنه يتعدد الجزاء لتعدد الامتناع. وأصحهما: أنه لا يتعدد؛ لاتحاد المنع، وعلى هذا فَمَا الَّذِي يجب؟ قال الإمام:
الغالِبُ على الظَّنِ أنه يعتبر ما نَقَص، لأن امتناع النعامة في الحقيقهّ واحد إلا أنه يتعلق بالرِّجل، والجناح فالزائل بعض الامتناع. ولو جرح صيداً فَغَابَ، ثم وجد ميتاً ولم يدرِ أنه مات بجراحته، أو بِسَبَب حَادِثٍ فالواجب جَزَاءٌ كَامِلٌ أو ضمان الجُرْحِ فقط، كما لو علم أنه مات بسبب آخر؟ فيه قولان (¬1) -والله أعلم-. قال الغزالي: وَإذَا أَكَلَ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ ذَبَحَهُ غَيْرُهُ حَلَّ لَهُ إلاَّ إِذَا صِيدَ لَهُ (ح) أَوْ صيدَ بِدَلاَلتِهِ فلاَ يَحِلُّ لَهُ الأَكْلُ مِنْهُ، فَإِنْ أَكَلَ فَفِي وُجُوبِ الجَزَاءِ قَوْلاَنِ، وَلَوْ أَكَلَ مِنْ صَيْدٍ ذَبَحَهُ لَمْ يَتَكَرَّرِ الجَزَاءِ (ح) بِالأَكْلِ. قال الرافعي: الفرع الخامس: قد مر أن المُحْرِم يحرم عليه الاصطياد والأكل من صيد ذبحه، وأنه يحرم عليه الأكل أيضاً مما اصطاد له حَلاَلٌ، أو بإعانته، أو بدلالته، فأما ما ذبحه حلالٌ من غير إعانته ودلالته فلا يحرم الأكْلُ منه، لما روينا من حديث أبي قتادة (¬2) وغيره، وقوله في الكتاب: (إذا صيد له) مُعَلَّمٌ بالحَاءِ، لأن عند أبي حنيفة إذا لم يعِن، ولم يأمر به لم يحرم عليه؛ ولا عبرة بالاصطياد له من غير أمره، ولم يحك حجة الإسلام -رحمه الله- هاهنا خلافاً في حل ما صيد بدلالته، وحكي قَبْلُ في هذا قولين، والحق ما فعله هاهنا، وتكلمنا على المَذْكُور من قبل، وشرحنا في أثناء الكَلاَمِ المسألة التي أوردها هاهنا، وهي قوله: (فإن أكل) أي مما صِيدَ لَهُ، أو بدلالته ففي وجوب الجزاء قولان: ولو أكل المحرم من صيد ذبحه بنفسه لم يلزمه الأكل شيء آخر، وقال أبو حنيفة -رحمه الله- يلزمه القيمة بقدر ما أكل، وسلم في صيد الحرم أنه لا يلزم في أكْلِه بعد الذَّبْحِ شيء آخر. لنا: قياس الأول على الثاني. قال الغزالي: وَلَوِ اشْتَرَكَ المُحْرِمُونَ في قَتْلِ صَيْدٍ وَاحِدٍ أَوْ قَتَلَ القَارِنُ صيداً أوْ قَتَلَ المُحْرِمُ صَيْداً حَرَمِيّاً اتحد (ح) اتحد الجَزَاءُ لاِتِّحَادِ المُتْلَف. قال الرافعي: الفرع السادس: إذا اشترك محرمان، أومحرمون في قَتْلِ صَيْدٍ لم يلزمهم إلاَّ جزاء وَاحد، وبه قال أَحْمد خلافاً لأبي حنيفة ومالك -رحمهما الله- حيث قَالاً: يجب على كل واحد جزاءٌ كَامِلٌ. لنا أن المقتول واحد فيتحد جزاؤه كما لو اشتركوا في قَتْلِ صَيْدٍ حَرَمِيٍّ، ويفارق ما إذا اشترك جماعة في قتل آدمي حيث يجب على كل واحد منهم كفارة كاملة على ¬
الصَّحيح؛ لأن كفارة الصَّيْدِ تتجزأ، ألا ترى أنها تختلف بصغر المَقْتُولِ وكبره، ويجب إِذَا جرح الصيد بقدر النقصان، وكفارة الآدمي لا تختلف بِصِغَرِ المقتول وكبره، ولا تَجِب في الأَطْرَافِ. ولو اشترك محل ومحرم في قتل صيد، فعلى المحرم نصف الجزاء، ولا شيء على المُحِل. ولو قتل المحرم القارنُ صيداً لم يلزمه إلا جزاء واحد، وكذا لو باشر غيره من مَحْظُورَاتِ الإحْرَام، وبه قال مالك وكذا أحمد في أظهر الروايتين خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: يلزمه جزاآن. لنا ما سبق في الصُّورة الأُولَى. ولو قتل المحرم صيداً حرمياً لم يلزمه إلا جَزَاء واحد لاتحاد المتلف، وهذا كما أن الدية لا تتغلظ مراراً باجتماع أسباب التغليظ. قال الغزالي: السَّبَبُ الثَّانِي للتَّحْرِيم: الحَرَمُ وَجَزَاؤُهُ كَجَزَاءِ الإحْرَامِ (ح)، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ رَمىَ مِنَ الحِلِّ إلَى الحَرَمِ أَوْ بِالعَكْسِ، وَلَوْ قَطَعَ السَّهْمُ في مُرُورِهِ هَوَاءَ طَرَفِ الحَرَمِ فَوَجْهَانِ، وَلَو تَخَطَّى الكَلْبُ طَرَفَ الحَرَم فَلاَ جزَاءَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ سِوَاهُ، وَلَوْ أَخَذَ حَمَامَةٌ فِي الحِلِّ فَهَلَكَ فَرْخُهَا فِي الحَرَم أَوْ بِالعَكسِ ضَمِنَ الفَرْخَ. قال الرافعي: صيد حَرَم مَكَّةَ حرامٌ على المُحِل والمُحْرِم روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ، لاَ يُخْتَلَى خلاَهَا وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، قَالَ الْعَبَّاسُ: إِلاَّ الإِذْخَرُ يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّهُ لبِيُوتِنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ: إِلاَّ الإذْخَرُ" (¬1). والقول في الصَّيْدِ المحرم، وفيما يجب به الجزاء، وفي أن الجزاء مَاذَا يُقَاسُ بِمَا سَبَقَ فِي الإحْرَام إلا أن المحرم لَيْسَ له ذبح الصيد الذي يملكه، وفي وجوب إرْسَاله إذا أحرم الخِلاَف الذي مَرّ، ولو أدخل المحرم صيداً مملوكاً له كان له أن يمسكه ويذبحه كيف شاء كالنعم؛ لأنه صيد الحَلِّ دون الحرم. وقال أبو حنية وأحمد -رحمهما الله- ليس له ذَبْحُه، ولو ذبح. فعليه الجَزَاءُ. واعلم قوله في الكتاب: (وجزاؤه كجزاء الإحرام) بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة لا مدخل للصيام في جَزَاءِ صَيْدِ الحَرَم. لنا أنه صيد مضمونٌ بالجَزَاءِ، فكان جزاؤه كجزاء الصَّيْدِ في حق المُحْرِم. ثم في الفصل مسألتان: إحداهما: لو رَمىَ مِنَ الحِلِّ إلى صَيْدِ في الحَرَمِ فقتله فعليه الضَّمَان؛ لأنه أصاب الصيد في موضع آمن، ولو رمى من الحَرَمِ إلى صَيْدٍ في الحل فقتله فعليه الضمان ¬
أيضاً؛ لأن الصَّيْدَ مُحَرَّمٌ على من في الحَرَمِ، وكذا الحكم في إرْسَالِ الكَلْبِ. وكذا لو رمى حَلاَلٌ إلى صَيْدٍ فأحرم قبل أن يُصِيبَه، أو رمي مُحْرِمٌ إلى صَيْدٍ فتحلل قبل أن يَصِيدَه، وجب الضَّمَانُ في الحالتين. ولو رمى إلى صَيْدٍ بعضه في الحل، وبعضه في الحَرَم، وجب الضَّمَانُ أيضاً تغليباً للحُرْمَة، والاعتبار بالقوائم، ولا نظر إلى الرأس، ولو رمى من الحل إلى صيد في الحِلِّ ولكن قطع السهم في مروره هواء الحرم، ففي وجوب الضَّمَانِ وجهان: أحدهما: لا يجب لوقوع الطرفين في الحِلِّ، فصار كما لو أرسل كلباً في الحِلِّ إلى صَيْدٍ في الحِلِّ فتخطى طرف الحرم. والثاني: يجب، لأنه أوصل السَّهْم إليه في الحَرَم، ويخالف مسألة الكَلْبِ؛ لأن للكلب فِعْلاً واختياراً، والسَّهم لا اختيار له، ولهذا قالوا: لو رمى إلى صَيْدٍ في الحل فعدَا الصَّيْدُ ودخل الحرم فأصابه السَّهم وجب الضَّمان، وبمثله لو أرسل كلباً لا يَجِب، ولو رمى إلى صَيْدٍ في الحِلِّ فلم يصبه، وأصاب صيداً في الحَرَم وجب الضَّمَان، وبمثله لو أرسل كلباً لا يجب فدل على الفرق، ويشبه أن يكون هذا أَظْهر الوَجْهَيْنِ، ولم يورد صاحب "العدة" غيره. ثم في مسألة إرْسَالِ الكَلْبِ وتخطيه طَرَفِ الحرم إنما لا يجب الضَّمَان إذا كان للصَّيْدِ مَفَرٌ آخر، فأما إذا تعين دُخُوله الحَرَم عندَ الهرب، فالضَّمَانُ واجب لا محالة، سواء كان المُرْسِل عالماً بالحال أو جاهلاً، غير أنه لا يأثم إذا كان جاهلاً. الثانية: لو أخذ حمامة في الحِلِّ، أو قتلها فهلك فرخها في الحرم، ضمن الفَرْخَ؛ لأنه أهلكه بَقَطْع من يَتَعَهَّده عنه، فأشبه ما لو رَمَى من الحِلِّ إلى الحَرِم، ولا يضمن الحَمَامة؛ لأنها مَأخوذة الحِلِّ، وعلى عكسه لو أخذ الحمامة من الحرم أو قتلها فهلك فَرْخها في الحِلِّ ضمن الحمامة والفَرْخَ جَمِيعاً، أما الحمامة فلأنها مأخوذة من الحَرَمِ وأما الفرخ فكما لو رمى من الحرم إلى الحِلِّ، ولما جَمَعَ صَاحِبُ الكِتَاب بين الطرفين اقتصر في الحكم على ما يشتركان فيه وهو ضمان الفرخ، وسكت عن ضَمَانِ الحمامة. ولو نفر صيداً حرمياً قاصداً أو غير قَاصِدٍ تعرض للضَّمَانِ، حتى لو مات بسبب التنفير بصَدْمة أو أخذ سبع لَزِمَهُ الضَّمان، ولو دخل الحل فقتله حلال فعلى المنفر الضَّمان أيضاً، قاله في "التهذيب" بخلاف ما لو قتله مُحْرِمٌ يكون الجزاء عليه تقديماً للمباشرة. فرع: لو دخل الكافرُ الحَرم وقتل صيداً وجب عليه الضَّمَان؛ لأن هذا ضَمَان يتعلق بالإتلاف فأشبه ضَمَان الأَمْوال. وقال الشَّيْخُ أَبُو إسْحَاقَ الشِّيرَازِي: يحتمل عندي أن لا يجب، لأنه غير ملتزم حرمة الحرم.
قال الغزالي: وَنَبَاتُ الحَرَمِ أَيْضًا يَحْرُمُ قَطْعُهُ أَعْني مَا يَنْبُتُ بنَفْسِهِ دُونَ مَا يُسْتَنْبَتُ، وَيُسْتَثنَى عَنْهُ الإِذْخِر لِحَاجَةِ السُّقُوفِ، وَلَو اخْتَلَى الحَشِيشُ لِلْبَهَائِمِ جَازَ (ح) عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، كمَا لَوْ سَرَّحَهَا فِيهِ، وَلَوِ اسْتَنْبَتَ مَا يَنْبُتُ أَوْ نَبَتَ مَا يُسْتَنبَتُ كَانَ النَّظَرُ إِلَى الجِنْسِ (و) لاَ إِلَى الحَالِ حَتَّى لَوْ نَقَلَ أَراكَاً حَرَمِيّاً وَغَرَسَهُ في الحِلِّ لَمْ يَنْقَطِع حُكْمُ الحَرَمِ، ثُمَّ في قَطْعِ الشَّجَرَةِ الكَبِيرَةِ بَقَرَةٌ (م ح) وفي الصغيرة شاة (م ح)، وَفِيمَا دُونَهُمَا القِيمَةُ كَمَا في الصَّيْدِ، وَفي القَديمِ لاَ يَجِبُ (ح) في النَّبَاتِ ضَمَانٌ. قال الرافعي: قطع نبات الحرم حرام كاصطياد صيده للخبر الذي قدمناه، وهل يتعلق به الضمان؟ فيه قولان: أصحهما: وبه قال أبو حنيفة وأحمد -رحمهما الله-: نعم؛ لأنه ممنوع من إتلافه لِحُرْمَةِ الحُرَمِ، فيجب به الضَّمَانُ كَالصَّيْدِ. والثاني: ويحكي عن القديم: لا، وبه قال مَالِك، لأن الإحْرَام لا يوجب ضمان الشَّجرة فكذلك الحرم. إذا عرفت ذلك فنفصِّل ونقول: النبات شجر وغيره؛ أما الشجر فيحرم التعرض بالقطع، والقلع لِكُلِّ شجر رطبٍ غير مُؤذٍ حَرَمِي، فيخرج بقيد الرطب الشّجر اليابس فلا شيء في قطعه، كما لو قدّ صيداً ميتاً نصفين، وبقيد غير المؤذي العَوْسَج، وكل شجرة ذَات شَوْكٍ فإنها بمثابة الفواسق وسائر المؤذيات فلا يتعلق بقطعها ضَمَان. هذا هو المشهور، ونقل صاحب "التتمة" وجهاً آخر أنها مضمونة، وزعم أنه الصَّحِيح لإطْلاَقِ الخَبَرِ، ويفارق الحيوانات، فإنها تقصد بالأذية ويخرج بقيد الحرمي أشْجَار الحِل، ولا يجوز أن يقطع شجرة من أشْجَارِ الحَرَمِ، وينقلها إلى الحِلِّ محافظة على حرمتها، ولو نقل فعليه الرَّدُّ بخلاف ما لو نقل من بقعة من الحرم إلى أخرى لا يؤمر بالرد، وسواء نقل أشجار الحرم وأغصانها إلى الحِلِّ أو الحرم، فينظر إن لم ينبت فعليه الجَزَاء، وإن نبت في الموضع المنقول إليه فلا جَزَاءَ عَلَيْهِ، ولو قلعها قَالِعٌ لزمه الجَزَاءُ استبقاءً لِحُرْمَةِ الحرم، وعلى عكسه لو قَلَعَ شجرةً من الحِلِّ وغرسها في الحَرَمِ فنبتت فلا يثبت لها حُكْمُ الحَرَمِ، بخلاف الصَّيْدِ يدخل الحرم، فَيَجبُ الجَزَاءُ بالتَّعَرُّضِ لَهُ؛ لأن الصَّيْدَ ليس بأصل ثَابتٍ، فالوجه اعتبار مكانه، والشَّجَر أَصْل ثابت فله حكم منبته، حتى لو كان أصْلُ الشَّجَرَةِ في الحَرَمِ وأغصانها في الحل فقطع من أغصانها شيئاً فعليه ضَمَانُ الغُصْنِ، ولو كان عليه صيد فأخذه فلا جزاء عليه، وعلى عكسه لو كان أصلها في الحل، وأغصانها في الحَرَم، وقطع غصناً منها فَلاَ شَيْءَ، ولو كان عليه صيد فأخذه فعليه الجَزَاء.
وإذا قطع غصناً من شَجَرة حَرَمِيَّةٍ، ولم يخلف فعليه ضَمَانُ النُّقْصَان، وسبيله سبيل جرح الصّيد، وإن أخلف في تلك السنة لكون الغصن لطيفاً كالسِّواك وغيره فلا ضمان، وإذا وجب الضمان فلو نبت مكان المقطوع مثله ففي سقوط الضَّمان قولان كالقولين في السِّنِّ إذا نبت بعد القلع. ويجوز أخذ أوراق الأشْجَار، لكنها لا تهش حذراً من أن يصيب لحاها. وأما الشجرة التامة فتضمن ببقرة إن كَانَتْ كبيرة، وبِشَاةٍ إن كانت دونها، يروى ذلك عن ابْنِ الزُّبَيْرِ (¬1)، وَابْنِ عَبَّاسٍ (¬2) -رضي الله عنهم- وغيرهما، ومثل هذا لا يطلق إلا عن توقيف. قال الإمام: ولا شك فإن البدنة في معنى البَقَرة، وأقرب قولٍ في ضبط الشجرة المضمونة بالشَّاة أن تقع قريبة من سبع الكبيرة، إن الشَّاة من البقرة سبعاً، فإن صغرت جداً فالواجب القيمة. والأمر في ذلك كله على التعديل، والتخيير كما في الصَّيْدِ، وهل يعم التحريم والضمان ما ينبت بنفسه من الأشْجَار، وما يستنبت أم يختص بالدرب الأول؟ ذكروا فيه قولين: أحدهما: التعميم، لأن لفظ الخَبَر مطلق. والثاني: وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله- التخصيص بالدّرب الأول تشبيهاً للمستنبتات بالحيوانات الإنسية وبالزرع والأول أصح عند أئمتنا العراقيين، وتابعهم الأكثرون، ومنهم من قطع به لكن الإمام، وصاحب الكتاب أجابا بالثَّانِي، وإذا قلنا: به زاد في الضَّابِطِ قيداً آخر، وهو كون الشجر مما ينبت بنفسه، وعلى هذا يحرم قطع الطرفاء والأراك والعضَاة وغيرها من أشجار البَوَادي، وأدرك في "النهاية" العوسج فيها، لكنه ذُو شَوْكٍ، وفيه ما كتبناه، ولا تحرم المستنبتات مثمرة كانت كالنخل والكرم، أو غير مثمرة كالصنوبر، والخلاف، ومما يتفرع على هذا القول، أنه لو استنبت بعض ما ينبت بنفسه على خلاف الغالب، أو نبت بعض ما يستنبت الأم ننظر، حكى الإمام عن الجمهور أن النظر إلى الجنس والأصل فيجب الضمان في الصُّورةَ الأولى، ولا يجب في الثَّانية، وعن صاحب "التلخيص" أن النظر إلى القصد والحال فيعكس الحكم فيهما، والأول هو الذي أورده في الكتاب. وأما غير الأشجار فإن حشيش الحرم لا يجوز قطعه للخبر، ولو قطعه فعليه قيمتُه إن لم يَخْلُف، وإن أخلف فَلاَ، ولا يخرج على الخلاف المذكور في الشَّجَرَة، فإن الغالب هاهنا الإخلاف فأشبه سِنَّ الصبي. ولو كان يابساً فلا شيء في قطعه كما ذكرنا في الشَّجَرِ، لكن لو قطعه فعليه ¬
الضَّمَان؛ لأنه لو لم يقطع لنبت ثانياً، ذكره في "التهذيب"، ويجوز تسريح البهائم في حشيشه لترعى خلافاً لأبي حنيفة وأحمد -رحمهما الله-. لنا: أن الهَدَايا كانت تساق في عَصْرِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- وما كانت تشد أفواهها في الحَرَمِ. ولو اختلى الحشيش ليعلفه البهائم ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا" (¬1). وأظهرهما: الجواز، كما لو سَرَّحَهَا فيه، ويستثنى عن المنع الإذخر لحاجة السقوف كما ورد في الخَبَر، ولو احتيج إلى شيء من نبات الحرم للدَّواء فهل يجوز قطعه؟ وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه ليس في الخبر إلا استثناء الإذخر. وأصحهما: الجواز؛ لأن هذه الحَاجَة أهم من الحَاجَة إلى الإذخر-والله أعلم-. وليهن عليك ما لحق مسائل الكتاب من تغيير الترتيب فقد أعلمتك مراراً أن الشرح قد يحوج إليه، وقوله: (دون ما يستنبت) مُعَلَّم بالواو للقول الأصَحِّ عند الأكثرين، وبالألف لأن مذهب أحمد على ما رواه أصحابنا مثل ذلك القول. وقوله: (كما لو سرحها فيها) بالحاء والألف، وقوله: (كان النظر إلى الجنس) بالواو، وقوله: (حتى لو نقل أراكًا حرميًا، وغرسه في الحل لم ينقطع حكم الحرم) ليس مذكوراً على سبيل الاحتجاج للوجه النّاظر إلى اعتبار الجنس، والأصل، فإن هذه الصورة لا تسلم عن نزاع من ينازع في اعتباره. وقال الإمام -رحمه الله-: إذا كان صاحب "التلخيص" يعتبر القصد فلا تثبت الحرمة لهذه الشجرة إذا غرست في الحرم، فما ظنك إذا غرست في الحِلِّ، فلعله ذكره تفريعاً على ذلك الوجه. وقوله: (ثم في قطع الشجرة الكبيرة بقرة) لفظ البقرة والشَّاة معلمان بالحَاءِ، لأن عنده الواجب القيمة دون الحيوان كما ذكر في الصيد، وبالميم؛ لأن عنده لا جزاء في الشَّجَرِ، وكذلك لفظ القيمة، وقوله: (فيما دونها القيمة) يبين أنه أراد بالصغيرة المتوسطة، وإلا فاسم الصغيرة يتناول ما ليست بكبيرة كيف كانت. فرع: يكره نقل تراب الحرم وأحجاره إلى سَائِر البقاع (¬2)، والبرام يجلب من حد ¬
الحل، ولا يكره نقل ماء زمزم، كانت عائشة -رضي الله عنها- تنقله، وقد روى أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اسْتَهْدَاهُ مِنْ سَهْلِ بْنِ عَمْروٍ عَامَ الحُدَيْبِيَةِ" (¬1) قال الشَّيْخُ أَبُو الفَضْلِ بْنِ عُبْدَانَ: لا يجوز قطع شيء من ستر الكعبة ونقله وبيعه وشراؤه، خلاف ما يفعله العَامّة يشترونه من بَنِي شَيْبَةَ، وربما وضعوه في أوراق المصاحف، ومن حمل منه شيئاً فعليه رده. قال الغزالي: وَيُلْحَقُ حَرَمُ المَدِينَةِ بِمَكَّة في التَّحْرِيمِ، وَفي الضَّمَانِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا لا، إِذْ وَرَدَ فِيهِ سَلْبُ ثِيابِ الصَّائِدِ فَهُوَ جَزَاوُهُ، ثُمَّ السَّلْبُ للسَّالِبِ، وَقِيلَ: أَنَّهُ لِبَيْتِ المَالِ، وَقِيلَ: أنَّهُ يُفَرَّقُ عَلَى مَحَاوِيجِ المَدِينَةِ، وَإنَّمَا يَسْتَحِقُّ السَّلْبَ إِذَا اصْطَادَ أَوْ أَتْلَفَ (و)، وَالشَّجَرُ وَالصَّيْدُ فِي السَّلْب سَوَاءٌ. قال الرافعي: لا يباح التعرض لصيد حرم المدينة وأشْجَارِه، وهو مكروه أو محرم؟ نقل في "التتمة" تردد قول، وحكى بعضهم فيه وجهين، والصَّحيح وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله-: أنه مُحَرَّم لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ مِثْلَ مَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ لاَ يُنْفَرُ صَيْدُهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا" (¬2). وروي أنه قال: "إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْ الْمَدِينَةِ أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا، أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُها" (¬3). ويجوز إعلام قوله في الكتاب: (التحريم) بالواو لمكان الوجه الآخر، وبالحاء أيضاً؛ لأن عند أبي حنيفة أنه لا يحرم. وإذا قلنا: بالتحريم، ففي ضمان صيدها ونباتها قولان: ¬
الجديد وبه قال مالك: لا يضمن؛ لأنه ليس بمحل النّسك فأشبه مواضع الحِمَى، وإنما أثبتنا التحريم للنصوص. والقديم وبه قال أحمد: أنه يضمن، وعلى هذا فما جزاؤه؟ فيه وجهان: أحدهما: أن جزاءه كجزاء حرم مكة لاستوائهما في التحريم. وأظهرهما: وبه قال أحمد: أن جزاءه أخذ سلب الصائد، وقَاطِع الشَّجر، لما روى أن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: "أَخَذَ سَلْبَ رَجُلٍ قَتَلَ صَيْداً في الْمَدِينَةِ، وَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ رَأَى رَجُلاً يَصْطَادُ بِالْمَدِينَةِ فَالْيَسْلِبْهُ" (¬1). وعلى هذا ففيما يسلب؟ وجهان الذي أورده الأكثرون أنه يسلب منه ما يسلبه القاتل من قتيل الكفار. والثاني: أنه لا ينحى بهذا نحو سلب القتيل في الجِهَاد، وإنما المراد من السلب هاهنا الثِّياب فحسب، وهذا ما أورده الإمام وتابعه المصنف فقال: (إذ ورد فيه سلب ثياب الصائد) فقيد بالثياب، وعلى الوجهين ففي مصرفه وجْهَان مشهوران: أظهرهما: أنه للسالب كسلب القتيل، وقد روي أنهم كلموا سَعْداً في هذا السَّلب فقال: "مَا كُنْتُ لِأَرُدَّ طُعْمَةً أَطْعَمَنِيهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-" (¬2). والثاني: أنه لمحاويج المدينة وفقرائها كما أن جزاء صيد مكة لِفُقَرَائِهَا، ووجه ثَالِثٌ حكاه الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عن الأستاذ أَبِي إِسْحَاقَ، والقَفَّالِ: أنه يوضع في بَيْتِ المال، وسبيله سبيل السَّهْمِ المترصد للمصَالِح. وقوله في الكتاب: (ففي الضمان وجهان) اقتدى فيه بالإمام، والمشهور في المسألة قولان: وقوله: (إذ ورد فيه سلب ثياب الصائد في الصيد) معناه أن واجب هذه الجناية هو السلب الذي ورد في الجزاء، إذ لو وجب الجزاء لوقع الاكتفاء به، كما في صيد مكَّة، وعنى بالضمان الجزاء دون المُشْتَرك بينه وبين السَّلْب، فاعرف ذلك. وقوله: (وإنما يستحق السلب إذا اصطاد، أو أتلف) قصد به التعرض لما ذكره الإمام، حيث قال: غالب ظني أن الذي يهم بالصيد لا يسلب حتى يصطاد، ولست أدْرِي أيسلب إذا أرسل الصيد أم ذلك إذا أتلف الصَّيد (¬3)؟ ولفظ "الوسيط" لا يسلب إلا ¬
إذا اصطاد، أو أرسل الكَلْب، ويحتمل التأخير إلى الإتلاف. واعلم أن السَّابِق إلى الفهم من الخبر، وكلام الأئمة أنه يسلب إذا اصطاد، ولا يشترط الإتلاف. وأما قوله: (والشجرة والصيد في السلب سواء)، فهو بين -والله أعلم-. قال الغزالي: وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْ صَيْدِ وَجِّ الطَّائِفِ وَنَبَاتِهَا، وَهُوَ نَهْيُ كَرَاهِيَةِ يُوجِبُ تَأْدِيباً لاَ ضَمَاناً. قال الرافعي: وج الطائف واد بصحراء الطائف، وليس المراد منه نفس البلدة قال الشافعي -رضي الله عنه- أكره صيده، وعن الشَّيْخِ أبي علي حكاية تردد في أنه تحريم، أو مجرد كَرَاهِية، ولفظ الكتاب كالصريح في الثاني، لكن الصَّحيح عند عامة الأصْحَابِ الأول؛ لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم-. قال: "صَيْدُ وَجِّ الطَّائِفِ مُحَرَّمٌ للهِ" (¬1). وعلى هذا فهل يتعلق به ضمانه؟ منهم من قال: نعم، وحكمه حكم حرم المدينة، وقال- صاحب "التلخيص" والأكثرون: لا، إذ لم يرد في الضَّمَانِ نقل، لكن يؤدب. فرع: "النَّقِيعُ لَيْسَ يُحَرَّمُ، لَكِنْ حَمَاهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لإبِلِ الصَّدَقَةِ" وَنَعَمِ الْجِزْيَةِ" (¬2)، فلا تملك أشجاره وحشيشه، وفي وجوب كل الضّمان على من أتلفها وجهان: أحدهما: لا يجب، كما لا يجب في صيده شئ، وأظهرهما: يجب؛ لأنه ممنوعٌ مِنْهَا، وكانت مضمونه عليه بخلاف الصَّيْدِ، فإن الاصطياد فيه جائز، وعلى هذا فضمانها القيمة، ومصرفها مَصْرف نعم الصَّدقة والجزية (¬3). ¬
القسم الثالث من كتاب الحج في اللواحق
القِسْمُ الثَّالثُ مِنْ كِتَابِ الحَجِّ فِي اللَّوَاحِقِ وَفِيهِ بَابَانِ الأَوَّلُ فِي مَوَانِعِ الحَجِّ قال الغزالي: وَهِيَ سِتَّةٌ: الأَوَّلُ: الإحْصَارُ وَهُوَ مُبِيحٌ للتَّحَلُّلِ مَهْمَا احْتَاجَ فِي الدَّفْعِ إِلَى قِتَالٍ أَوْ بَذلِ مَالٍ، وَإِنْ كَانُوا كُفَّاراً وَجَبَ القِتَالُ إِلاَّ إِذَا زَادُوا علَى الضِّعْفِ، وَلَوْ أَحَاطَ العَدُوُّ مِنَ الجَوَانِبِ لَمْ يَتَحَلَّلْ عَلَى قَوْلٍ لِأَنَّهُ لاَ يُرِيحُ مِنْهُ التَّحَلُّلُ كَمَا لاَ يَتَحَلَّلُ بالمَرَضِ (ح)، وَلَوْ شَرَطَ التَّحَلُّلَ عِنْدَ المَرَضِ فَفِي جَوَازِ التَّحَلُّل قَوْلان. قال الرافعي: كان حجة الإسلام -رحمه الله- قد قسم كتاب الحَجِّ إِلَى ثَلاثَة أقسام: المقدمات، والمقاصد وقد حصل الفراغ منهما. والثالث: اللواحق، وفيه بابان ترجم أولهما بموانع الحج، ولم يرد بها موانع وجوبه أو الشروع فيه، وإنما أراد العَوَارِض التي تعرض بعد الشروع فيه وتمنع من إتمامه، وهي فيما عدّها ستة أنواع: أحدها: الإحْصَار (¬1)، فإذا أَحْصَر العَدُو المُحْرِمين عن المُضِي في الحج من جميع الطرق كان لهم أن يتحلَّلُوا؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أُحْصِرَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬2). والمعنى: فإن أَحْصِرتم فتحللتم، أو أردتم التَّحَلُّل فما استيسر من الهدى، فإن ¬
نفس الإحصار لا يوجب هَدْياً، والأولى أن لا يعجل التَّحلُّل إن وسع الوقت، فربما يزول المنع فَيُتمُّونَ النّسك، وإن كان ضيقاً فالأولى التعجيل كي لا يفوت الحج، ويجوز للمحرم بالعمرة التحلل أيضاً عند الإحصار (¬1)، وعن مالك: أنه لا يجوز التَّحلُّل في العمرة؛ لأنه لا يخاف فواتها. أما أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- "تَحَلَّلَ بِالإحْصَارِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ مُحْرِماً بَالْعُمْرَةِ" (¬2). إذا عرفت ذلك ففي الفصل مسائل: إحداهما: لو منعوا ولم يتمكَّنُوا من المسير إلاَّ بِبَذْل مال، فلهم أن يتحلَّلُوا ولا يبذلوا المال، وإن قل إذ لا يجب احتمال الظلم في أداء الحج بل يكره البذل، إن كان الطالبون كفاراً لما فيه من الصَّغَار، وإن احتاجوا إلى قتال ليسيروا، نظر إن كان المانعون مسلمين فلهم التَّحلل ولا يلزمهم القتال، وإن قدروا عليه لما فيه من التَّغْرير بالنَّفس، وإن كانوا كفاراً فقد حكم صاحب الكتاب بوجوب القتال، إذا لم يزد عدد الكفار على الضعف، وهكذا حكى الإمام -رحمه الله- عن بعض المصنفين، ولم يرتضه على هذا الإطلاق، بل شرط فيه وِجْدَانهم السّلاح وأُهْبة القتال، وقال: إذا وجدوا الأهبة وقد صدتهم الكفار، فلا فرار ولا سبيل إلى التحلل. وأنت إذا فَحَصْت عن كتب الأكثرين وجدتهم يقولون: لا يجب القِتَال على الحجيج، وإن كان العدو كفاراً وكان في مقابلة كل مسلم أقل من مشركين غير أنهم إن كانوا كفاراً وكان بالمسلمين قوة فالأولى: أن يقاتلوا ويمضوا نُصْرَةً للإسلام وإتْماماً للحج، وإن كان بالمسلمين ضعف أو كان العدو مسلمين، فالأولى: أن يتحلَّلُوا، ويتحَرَّزُوا عن قتال تحرُّزاً عن سفك دماء المسلمين، ولهؤلاء أن يقولوا للإمام: لا نزاع في أنهم لو قاتلوا المُسْلمين والصورة ما ذكرت لم يكن لهم الفرار، لكن يجوز أن ¬
يمنعوهم من الحج ولا يقاتلوهم لو تركوا الحج، كل يلزمهم ابتداء القتال ليمضوا؟ هذا موضع الكلام، وعلى كل حال فلو قاتلوهم كان لهم أن يلبسوا الدروع والمغافر، ثم يفدون كما إذا لبس المحرم المَخِيطَ لدفع حر أو برد. الثانية: ما ذكرنا من جَواز التَّحلل مفروض فيما إذا مَنَعُوا من المضي دون الرجوع والسير في صوب آخر. فأما إذا أحاط العدو بهم من الجوانب كلها ففيه وجهان كذا نقل المعظم، وقال الإمام والمصنف قولان: أحدهما: ليس لَهُمَا التَّحلل، لأنه لا يربحهم، والحالة هذه ولا يستفيدون به أمناً، وصار كالمريض ليس له التحلل. وأصحهما: أن لهم التحلل؛ لأنهم يستفيدون به الأمن من العدو الذي بين أيديهم. الثالثة: ليس للمحرم التّحلّل بعذر المرض، وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله- يصبر حتى يَبْرَأ، فإن كان محرماً بِعُمرة أتمَّها، وإن كان محرماً بحج وفاته تَحَلَّل بعمل عُمْرة؛ لأنه لا يستفيد بالتَّحلُّل زوال المرض. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: (أنه لا حَصْرَ إلاّ حصر العدو)، وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: يجوز التَّحلل بالمرض، وهذا إذا لم يشترط التَّحلل عند المرض. أما إذا شرط أنه إذا مرض تحلل، نقد نص في القديم على صحة هذا الشرط، وعلق القول في الجديد بصحة حديث ضبَاعَة بنت الزبير -رضي الله عنهما- وهو ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها: "أَمَا تُريدِينَ الْحَجَّ، فَقَالَتْ: أَنَا شَاكِيَةٌ فَقَالَ: حُجِّي وَاشْتَرِطِي أَنْ تَحِلِّيَ حَيْثُ حُبِسْتِي" (¬1): وللأصحاب فيه طريقان: أثبت عامتهم فيه خلافاً، وقالوا: إنه صحيح في القديم، وفي الجديد قولان: أظهرهما: الصحة للحديث، وبه قال أحمد. والثاني: المنع، وبه قال مالك وأبو حنيفة -رحمهما الله- لأنه عبادة لا ليجوز الخروج منها بغير عذر، فلا يجوز بالشرط كالصَّلاَة المفروضة، وعن الشيخ أبي حامد وغيره: أنه صحيح جزماً بصحة الحديث ولو شرط التحلل لغرض آخر كضلال الطريق ونفاذ النفقة والخطأ في العدد، فهو كما لو شرط التَّحلل عند المرض، وعن الشيخ أبي محمد: أنه لغو لا محالة، والخلاف مخصوص بالمرض لورود الخبر فيه. ¬
التفريع: إنْ صححنا الشرط، فهل يلزمه الهَدْي للتحلل إن كان قد شَرط التحلل بالهدي؟ فنعم، وإن كان قد شرط التَّحلل بلا هدي، فلا، وإن أطلق فوجهان: أظهرهما: وبه قال أبو إسحاق والدَّارِكِيُّ: أنه لا يلزم أيضاً لمكان الشرط، ولو شرط أن يقلب حجهَ عمرة عند المرض، فهو أولى بالصِّحَّة من شرط التَّحلل رواه القاضي ابن كَجٍّ عن نصه. ولو قال: إذا مرضت فأنا حلال فيصير حلالاً بنفس المرض، أم لا بد من التَّحلل؟ فيه وجهان، والمنصوص منهما الأول، -والله أعلم-. قال الغزالي: وَتَحَلُّلُ المُحْصِر هَلْ يَقِفُ عَلَى إِرَاقَةِ دَمِ الإحْصَارِ؟ (ح) فِيهِ قَوْلاَنِ، فَإنْ كَانَ مُعْسِراً وَقُلْنَا: إِنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ ففي تَوَقُّفِهِ القَوْلاَنِ المُرَتَّبَانِ، وَأَوْلَى بِأَنْ لاَ يَتَوَقَّفَ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ طَوِيلٌ، وَلاَ يُشْتَرَطُ (ح) بَعْثُ الدَّمِ إلَى الحَرَمِ، وَإذَا قُلْنَا: لاَ يَتَوَقَّفُ فَيَتَحَلَّلُ بِالحَلْقِ أَوْ بنيَّةِ التَّحلُّلِ، وَلاَ قَضَاءَ (ح) عَلَى المُحْصِرِ. قال الرافعي: مقصود الفصل ثلاث مَسَائِلَ: إحداها: في أن تحلُّل المُحْصر بِمَ يحصل؟ وهذه المسألة تحوج إلى معرفة أصلين: الأول: أنه يجب على المُحْصر إذا تحلَّل دَمُ شاة، وبه قال أبو حنيفة وأحمد -رحمهما الله-، وقال مالك: يتحلل، ولا دم عليه. لنا قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}، وهذا إذا لم يَجْرِ من المحرم شرط سابق. فأما إذا كان قد شرط عند إحرامه أنه يتحلل إذا أحصر ففي تأثير هذا الشرط في إسقاط الدم طريقان، منهم من خرجه على وجهين، كما إذا شرط التَّحلل عند المرض وتحلل بالشرط وقد ذكرناه. والأصح: القطع بأنه لا يؤثر؛ لأن التَّحلل بالإِحْصار جائز، وإن لم يشترط فالشرط لاَغٍ بخلاف التَّحلل بالمرض. والأصل الثاني: أنَّ القول قد اختلف في أن دم الإحصار هل له بدل أم لا؟ وبتقدير أن يكون له بدل، فكيف سبيله وهو على التَّرتيب أو التَّخيير، وهذا ستعرفه حق المعرفة في الياب الثاني إن شاء الله تعالى. إذا تقرر ذلك، فنقول: إن قلنا: إن دَمَ الإِحْصَار لاَ بَدَل له، وكان واجداً للدم فيذبح وَينْوى التَّحلل عنده، وإنما اعتبرت نِيَّة التّحلل؛ لأن الذبح قد يكون للتَّحَلل،
وقد يكون لغيره فلا بد من قصد صارف، وإن لم يجد الهدي إما لإعساره أو غير ذلك، فهل يتوقف التَّحلل على وجدانه؟ فيه قولان: أحدهما: نعم، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن الهدي أقيم مقام الأعمال، ولو قدر على الأعمال لم يتحلل إلا بها، فإذا عجز لا يتحلل إلا ببدلها. وأصحهما: لا، بل له التَّحلل في الحال؛ لأن التحلل إنما أبيح تخفيفاً ورفقاً حتى لا يتضرر بالمقام على الإحرام، ولو أمرناه بالصبر إلى أن يجد الهدي لتضرر، وعلى التقديرين فلا بد من نية التحلل، وهل يجب الحَلْق؟ بناه الأئمة على الأصل الَّذي سبق، وهو أَنّ الحَلْق نُسُك أم لا؟ إن قلنا: نسك، فنعم. وإن قلنا: استباحة محظور فلا، فيخرج من هذا. أما إذا اعتبرنا الذَّبْح والحَلْق مع النِيَّة والتحلل، يحصل بثلاثتها، وإنْ أخرجنا الذَّبْح عن الاعتبار فالتَّحلُّل يحصل بالحَلْق مع النِيَّة أو بمجرد النية فيه وجهان، وهذا ما أراده المصنف بقوله: وإذا قلنا: لا يتوقف فيتحلل بالحَلْق أو بنية فالتحلل أي؟ فيه وجهان: وإن قلنا: إنَّ دَمَ الإِحْصَار له بدل، فإن كان يَطعم فتوقف التحلل عليه كتوقفه على الذبح، وإن كان يصوم فكذلك مع ترتب الخلاف، ومنع التوقف هاهنا أولى؛ لأن الصوم يفتقر إلى زمان طويل فتكون المَشَقَّة في الصَّبر على الإحرام أعظم. المسألة الثانية: لا يشترط بعث دم الإحصار إلى الحرم بل يذبحه حيث أحصر ويتحلل، وبه قال أحمد: وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: يجب أن يبعث به إلى مكَّة ويوكل إنساناً ليذبحه يوم النَّحْر إن كان حاجّاً وأي يوم شاء إنْ كان مُعْتَمِراً ثم يتحلل. لنا: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أُحْصِرَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَذَبَحَ بِهَا، وَهِيَ مِنَ الْحَلِّ" (¬1). ولأنه موضع التَّحلل فكان موضعاً لذبح الهدي. كالحرم، وكما يذبح دم الإحصار حيث أحصر فكذلك ما لزمه من دماء المَحْظُورات قبل الإِحْصَار، وما حمله معه من هدي، ويفرق لحومها على مساكين ذلك الموضع، وهذَا كله إذا كان مصدوداً عن الحرم، فأما إذا كان مصدوداً عن البيت دون أطراف الحرم، فهل له أن يذبح في الحلّ؟ ذكروا فيه وجهين: ¬
والأصح: أنّ له ذلك. الثالثة: في أنه هل يجب القَضَاءُ على المُحْصر وهذه المسألة بشرحها مع المسائل الَّلائقة بها مجموعة في آخر الباب -إن شاء الله تعالى-. قال الغزالي: الثَّانِي لَوْ حَبَسَ السُّلْطَانُ شَخْصًا أَوْ شِرْذَمَةً مِنَ الحَجِيجِ فَهُوَ كَالإحْصَارِ العَامِّ، وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلاَنِ، وَقِيلَ يَجُوزُ التَّحَلُّلُ وَالقَوْلاَنِ في وُجُوبِ القَضَاءِ. قال الرافعي: قد تكلمنا في الحصر العام الذي يشمل الرفقة. وأما الحصر الخَاصّ الذي يتفق لأحد أو شرذمة من الرّفْقَة فينظر فيه، إن لم يكن المحرم معذوراً فيه كما إذا حبس بسبب دين وهو متمكّن من أدائه فليس له التحلل بل عليه أن يؤديه ويمضي في حجه، فإن فاته الحَجُّ في الحبس فعليه أنْ يسير إلى مكة ويتحلل بعمل عمرة، وإن كان معذوراً فيه كما إذا حبسه السُّلْطَان ظُلْماً أو بِدَيْن وهو لا يتمكن من أدائه، وهذا هو المقصود في الكتاب، ففيه طريقان: أحدهما: وهو ما أورده المَرَاوزة أن في جوازِ التَّحَلُّل به قولين: أحدهما: لا يجوز كما في المرض وخطأ الطَّريق، وأصحهما: أنه يجوز؛ لأن الاحصار سبب يبيح التَّحَلل للكل فيبيح للبعض كإتمام الأعمال. وأظهرهما وهو ما أورده العراقيون: القطع بالجواز كما في الحصر العام؛ لأن مشقة كل أحد لا تختلف بين يتحمل أن غيره مثلها أَوْ لا يتحمل، وهؤلاء ردوا الخلاف إلى أنه هل يجب القضاء إذا تحلَّلَ بالحَصْر الخَاصِّ؟ وسيأتي ذلك. واعلم أَنَّ لَفْظَ الكتاب آخراً يتعرَّض لهاتين الطَّريقَتَيْن. وقوله أولاً: "فهو كالإحصار العام"، يشعر بطريقة ثالثة تقطع بجواز التحلل وعدم القضاء كما في الإِحْصَار العَام ولم أَرَ نقلها لغيره -والله أعلم-. قال الغزالي: الثَّالِثُ الرِّقُّ فللسيد مَنْعُ عَبْدِهِ إنْ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إِذنِهِ، وَإذَا مَنَعَ تَحَلَّلَ كَالمُحْصِرِ. قال الرافعي: إحْرام العبد ينعقد سواء كان بإذن السَّيِّد أو دون إذنه ثم إن أحرم بإذنه لم يكن له تَحْليله سواء بقي نُسُكه صحيحاً أو أفسده، ولو باعه -والحالة هذه- من غيره لم يكن للمشتري تحليله لَكِنْ له الخِيَار إن كان جاهلاً بإحرامه، وإن أحرم بغير إذنه فالأولى أن يأذن له في إتمام النسك، ولو حلَّلَه جاز؛ لأن تقريره على الحج يعطل منافعه عليه. وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: له تحليله سواء أحرم بإذنه أو بغير إذنه، وإذا أذن
له في الإِحْرام فله الرجوع قبل أن يحرم، فإن رجع ولم يعلم العبد به فأحرم فله تَحْلِيله، في أصح الوجهين، وهما مبنيان على الخلاف في نفوذ تصرفات الوَكِيل بعد العَزْل وقبل العلم. وَلَو أَذِن له في العُمرة فأحرم بالحج فله تَحْليله، ولو كان بالعكس لم يكن له تحليله؛ لأن العمرة دون الحج والحج فوقها. قال في "التهذيب": وظني أنه لا يسلم عن النزاع والخلاف (¬1). ولو أذن له في التمتع، فله منعه من الحج بعدما تحلل عن العمرة، وليس له تحليله عن العمرة ولا عن الحج بعد الشروع. ولو أذن له في الحج أو في التمتع، فقرن لم يجز تحليله. ولو أذن له أن يحرم في ذي القعدة فأحرم في شوال فله تحليله قبل ذي القعدة وبعد دخوله لا، وإذا أفسد العبد حجه بالجماع فعليه القضاء؛ لأنه مكلف بخلاف الصَّبِي على أحد القولين وهل يجب قضاؤه في الرِّقِّ عن الواجب؟ فيه قولان كما ذكرنا في الصَّبي إذا قضى في الصبي، فإن احتسبناه لم يجب على السَّيِّد أن يأذن له في القضاء، إن كان إحرامه الأول بغير إذنه، وكذلك إن كان بإذنه، في أصح الوجهين، وكل دم يلزمه بسبب ارتكاب المَحْظُورات كالطيب واللِّبَاس وقتل الصيد والفوات، فلا يجب على السيد سواء أحرم بإذنه أو بغير إذنه. وأما العَبْد فلا ملك له حتى يذبح، لكن لو ملكه السيد فعلى القديم: يملك ويلزمه إخراجه، وعلى الجديد لا يملك، وإذا لم يملك، ففرضه الصوم، وللسيد منعه منه في حال الرق إن كان إحرامه بغير إذنه، وكذلك إن كان بإذنه على أصح الوجهين؛ لأنه لم يأذن في موجبه، ولو قرن أَو تَمَتَّع بغير إذن السّيد فدم القرَان، أو التمتع حكمه حكم دِمَاء المَحْظُورَات، أما إذا قَرَنَ أَو تمتَّع بالإذن، فهل يجب الدَّمُ على السيد. الجديد: أنه لا يجب، وفي القديم قولان بخلاف ما لو إذن لعبده في النِّكَاح فنكح يكون السيد ضَامِناً للمهر، في القديم قولاَ واحداً؛ لأنه لا بدل للمهر، وللدم بدل وهو الصوم، والعبد من أهله، وعلى هذا لو أحرم يإذن السَّيد فأحصر فتحلل. فإن قلنا: لا بدل لدم الإحصار فالسَّيد ضامناً له في القديم قولاً واحداً. وإن قلنا: له بدل ففي صَيْرُورته ضامناً له قولان في القديم، وإذا لم توجب الدَّم ¬
على السيد فالواجب على العَبْد الصوم، وليس للسَّيد المنع منه في أصح الوجهين لإذنه في سببه. ولو ملكه السَّيد هَدْياً، وقلنا: إنه يملك إراقة، وإلا لم تجز إراقته، ولو أراقه السَّيِّد عنه بإذنه، فهو على هَذَيْنِ القولين، وَلَوْ أراق عنه بعد موته جاز قولاً واحداً؛ لأنه قد حصل اليَأْسُ عن تكفيره، والتَّمليك بعد الموت ليس بشرط، ولهذا لو تصدق عن ميت جاز. وقد "أَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- سَعْداً -رضي الله عنه-، أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ أُمِّهِ بَعْدَ مَوْتِهَا" (¬1)، ولو عتق العبد قبل الصوم وجد الهَدْي فعليه الهدي، إن اعتبرنا في الكفَّارات حالة الأداء أو الأغلظ، وإن اعتبرنا حالة الوجوب فله الصَّوم، وهل له الهَدْي؟ فيه قولان. وينعقد نذر الحج من العبد، وإن لم يأذن له السيد في أصح الوجهين ويكون في ذمته، فلو أتى به حال الرِّقِّ هل يجزئه؟ فيه وجهان: إذا عرفت هذ المسائل، فحيث جوزنا للسيد التَّحليل أردنا به أنه يأمره بالتَّحَلُّل؛ لأنه يستقل بما يحصل به التَّحلل، وغايته أن يستخدمه ويمنعه من المضي، ويأمره بارْتِكَاب محظورات الإحرام أو يفعلها به، ولا يرتفع الإحرام بشيء من ذلك، خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- حيث قال: إذا أمره باستعمال المحظورات أو ألبسه المخيط أو طيبه أو كانت أَمَةً فوطئها حصل التحلل، وإذا جَازَ لِلسَّيِّد التَّحليل جاز لِلْعَبْد التَّحلل؛ لأن المحصر بغير حق يجوز له التحلل، فللمحصر بالحق أولى؛ وبم يتحلل إن ملكه السيد هدياً؟ وقلنا: إنه يملك فيذبح وينوي التَّحلل، وإلاَّ فهل هو كالحُر؟ فيه طريقان: أحدهما: نعم، حتى يتوقَّف تحلّله على وجدان الهدي. إن قلنا: إن دم الإِحْصَار لا بَدَلَ له، وذلك يفتقر إلى العتق هاهنا، وعلى الصوم إن قلنا: إن دم الإحصار له بدل كل ذلك على أحد القولين: وعلى أصحهما: لا توقف، ويكفيه نية التَّحلل. وأصحهما: القَطْع بهذا القول الثاني، ويه قال أبو إسحاق: لعظم المشقَّةِ في ¬
انْتِظَار العِتْقِ، ولأن منافعه مستحقة للسيد، وقد يريد استعماله فيما يمنع منه المحرم كالاصطياد وإصلاح الطّيب، فيتضرر ببقاء الإحرام، وحكم أم الولد والمُدَبّر والمعلق عتقه بصفة، وَمَنْ نصفه حُرّ حُكْم القِنِّ المَحْض، ولو أحرم المُكَاتب بغير إذن المولى، فمنهم من جعل جواز تحليله على قولين بناء على القولين في سَفَرِ التجارة، وهل يمنعه السَّيد منه؟ ومنهم من قطع بجواز التحليل؛ لأنه لا منفعة للسَّيِّد في سفر الحج، وله منفعة في سفر التجارة، وقوله في الكتاب: "فللسيد منع عبده"، أي من إتمام الحج ويجوز أن يُعَلَّم بالواو؛ لأن ابن كج حكى وجهاً غريباً: أنه ليس للسيد ذلك لتعينه بالشروع تخريجاً من أحد القولين في الزَّوجة إذا أحرمت بالتطوع، وأن يُعَلَّم قوله: "بغير إذنه" بالحاء. لأن أبا حنيفة -رحمه الله- يُجَوز المنع على الإطلاق؛ فلا حاجة عنده إلى التقييد، وقوله: تحلل كالمحصر إن أراد التشبه في جواز التحلل فذاك، وإلاَّ ففي الكيفية تفاوت لا يخفي ما قدمناه. قال الغزالي: الرَّابِعُ الزَّوْجِيَّةُ، وَفِي مَنْعِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ مِنْ فَرْضِ الحَجِّ (م ح) قَوْلاَنِ، فَإذَا أَحْرَمَتْ فَفِي المَنْع قَوْلاَنِ مُرَتَّبَانِ، وَكَذَا إنْ أَحْرَمَت بِالتَّطَوُّعِ، فَإِنْ مُنِعَتْ تَحلَّلَتْ كَالمُحْصِرِ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَلِلزَّوْجِ مُبَاشَرَتُهَا وَالإِثْمُ عَلَيْهَا. قال الرافعي: المستحب للمرأة أن لا تحرم دون إذن زَوْجِها وللزوج أن يحج بها، فإذا أرادت أداء فرض الحج عليها، فهل للزوج أن يمنعها منه؟ فيه قولان: أحدهما: لا، ولها أن تحرم بغير إذنه؛ لأنه عبادة مفروضة فأشبهت الصوم والصلاة المفروضين، ويحكى هذا عن كتاب اختلاف الحديث، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد -رحمهم الله-. وأصحهما: أن له المنع، لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "فِي امْرَأَةِ لَهَا زَوْجٌ، وَلَهَا مَالٌ، وَلاَ يَأْذَنُ لَهَا زَوْجُهَا فِي الْحَجِ، لَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْطَلِقَ إِلاَّ بإذْنِ زَوْجِهَا" (¬1). ولأن الحج على التَّراخي، وحق الزوج على الفور فكان أولى بالتَّقديم ويخالف الصوم والصلاة؛ لأن مدتهما لا تطول، فلا يلحق الزوج كثير ضرر. وحكى بعضهم طريقة قاطعة بالقول الأول، والمشهور الأول، فإن قلنا: ليس له منعها، فلو أحرمت بغير إذنه فليس له أن يحللها بطريق الأولى لتضيقه بالشروع. وإن قلنا: له منعها في الابتداء، ففي التحليل قولان: ¬
أظهرهما: أَنَّ له ذلك كما له تحليل العَبْد إذا أحرم بغير إذنه. والثاني: لا لنضيقه وخروجه عن احْتمال التَّرَاخي بالشروع. وأما حجة التَّطوع فله أن يمنعها منها في الابتداء، وإن أحرمت بغير إذنه فطريقان: إن جوزنا التَّحليل في الفرض فهاهنا أولى وإنْ لم نجوز ثم فهاهنا قولان: أحدهما: ليس له تحليلها، لالْتحاقها بالفرائض بالشروع. وأصحهما: أن له التحليل كما له التَّحليل من صوم التطوع وصلاة التَّطوع، وإنما يصير الحج فرضاً بالشروع، إذا كان الشروع مسوغاً. وقوله في الكتاب: (وكذا إِنْ أحرمت بالتَّطوع) أراد به أنَّ الخلاف في هذه المسألة، وفي تحليل المحرمة بالفرض كل واحد منهما مرتب على الخِلاَف في جواز منعها من حج الفرض ابتداء؛ لأن الترتيب كالترتيب، فإن مسألة التَّطوع أولى بالجواز والمسألة الأخرى أولى بالمنع. وحيث قلنا بجواز التحليل، فمعناه الأمر بالتَّحَلُّل كما ذكرنا في العبد، وتحللها كتحلل الحُرِّ المحصر بلا فرق، فلو لم تتحلل فللزوج أن يستمتع بها، والإثم عليها، هكذا حكاه الإمام عن الصيدلاني ثم توقف فيه؛ لأن المحرمة لحقِّ الله تعالى كالمرتدة فيحتمل أن يمنع الزوج من الاستمتاع إلى أن تتحلل فرعان: أحدهما: قال القاضي ابن كج: لو كانت مطلَّقة، فعليه حبسها للعدة، وليس لها التحلل إلا أن تكون رجعية، فيراجعها ويحللها. الثاني: الأمة المزدوجة، لا يجوز لها الإحرام إلا بإذن الزوج والسَّيد جميعاً. قال الغزالي: الخَامِسْ للأَبَوَيْنِ مَنْعُ الوَلَدَ مِنَ التَّطَوُّعِ بالْحَجِّ، وَمِنَ الفَرْضِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ. قال الرافعي: من له أَبوان أو أحدهما، فالمستحب له أن لا يحج دون إذنهما أو إذنه، ولك واحد منهما منعه من حج التطوع في الابتداء؛ "لأَنَّ رَجُلاً اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في الْجِهَادِ فَقَالَ: أَلَكَ أبَوَانِ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: اسْتَأَذَنتَهُمَا فَقَالَ: لاَ قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ" (¬1). اعتبر استئذانهما في الجهاد مع أنه من فروض الكفايات، فلأن يعتبر في التطوع كان ذلك أولى، ولو أحرم بها فهل لهما المنع؛ فيه قولان سبق نظيرهما وتوجيههما، وحكى القاضي ابن كَجٍّ وجهاً ضعيفاً: أنه ليس لهما المنع في الابتداء أيضاً، وأما حج ¬
الفرض، فقد حكى القاضي: ابن كج وجهاً ضعيفاً أنه ليس لهما المنع وفي الابتداء طريقان: أحدهما: تخريجه على قولين كما في منع الزوج والزوجة. وأصحهما: ولم يورد الجمهور غيره أن لا منع لهما وليس له طاعتهما في ترك الفرض، ولو أحرم به بغير إذنهما فلا منع بحال، ونقل فيه وجه ضعيف أيضاً، إذا عرفت ذلك فقوله: للأبوين منع الولد من التَّطوع بالحج، يجوز حمله على المَنْع في الابتداء، ويجوز حَمْله على التَّحليل يعد الإحرام، وعلى التقديرين فليكن مُعَلَّماً بالواو. وأما إثباته الخلاف في المَنْع من حج الفرض فهو خلاف المشهور سواء حمل على ابتداء المنع أو على التحليل ولم أجد حكاية الخلاف فيها لغير صاحب الكتاب، إلا للقاضي ابن كج، وصاحبه الكتاب قد أعاد المسألة في كتاب السير ولم يتعرض للخلاف -والله أعلم-. قال الغزالي: السَّادِسُ لَمُسْتَحِقِّ الدَّيْنِ مَنْعُ المُحْرِمِ المُوسِرِ مِنَ الخُرُوجِ، وَلَيْسَ لَهُ التَّحَلُّلُ بَلْ عَلَيْهِ الأَدَاءُ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِراً أَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلاً لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الخُرُوجِ. قال الرافعي: إذا كان عليه دَيْن وهو موسر، فلمستحق الدين أن يمنعه من الخروج، لا لأن حقه في منعه من الحج ولكن يحبسه ليستوفي حقه منه، فإن كان قد أحرم، فقد ذكرنا أنه ليس له التَّحْليل والحالة هذه، بل عليه أن يقضي دينه ويمضي، وإن كان معسراً فلا مطالبة ولا منع؛ لأنه منظر إلى مَيْسَرة، وكذا لو كان الدَّين مؤجَّلاً لا منع إذ ليس عليه تسليم في الحال ولا يتوجه للمستحق مطالبة، والأولى أن لا يخرج، حتى يوكل من يقضي الدين عليه عند حلول الأجل. واعلم: أَنَّ الكلام في أن مستحق الدين متى يمنع ومتى لا يمنع لا يختص بسفر الحج، بل يعم. الأسفار كلها، وقد ذكره المصنف عاماً في كتاب التَّفْليس على ما سيأتي فلو طرحه هاهنا لما ضَرَّ. قال الغزالي: فَأمَّا مَنْ فَاتَهُ الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ بِنَوْمٍ أَوْ سَبَبٍ فَعَلَيْهِ أنْ يَتَحَلَّلُ بأَفْعَالِ العُمْرَةِ، وَيَلْزَمُهُ القَضَاءُ وَدَمُ الفَوَاتِ، بِخِلاَفِ المُحْصَرِ فَإنَّهُ مَعْذُورٌ. قال الرافعي: مضمون الفصل قول وجيز في حكم فوات الحج وفواته بفوات الوقوف، روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الحَجُّ عَرَفَةُ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعُ الْفَجْرُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ" (¬1). وإذا ¬
حصل الفوات فله التَّحلل كما في الإحْصَار؛ لأن في بقائه محرماً حرجاً شديداً يعسر احْتِمَاله وبم يتحلل؟ قال في "المختصر" وغيره: يطوف ويسعى ويحلق، وقال في "الإملاء": يطوف ويحلق، ولم يتعرض للسعي، واتفق الأصحاب على أن الأمر بالحَلْق مبني على أنه نسك، وعلى أن الطواف لا بد منه، واختلفوا في السّعي على طريقين: أشبههما: أنه على قولين: أحدهما: أنه لا يجب السعي؛ لأن السعي ليس من أسباب التَّحلل، أَلاَ تَرَى أنه لو سعى عُقَيْبَ طواف القدوم بجزئه، ولو كان من أسباب التحلل لما جاز تقديمه على الوقوف. وأصحهما: أنه يجب السعي مع الطواف. لما روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: لأبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- وقد فاته الحج، "اصْنَعْ مَا يَصْنَعُ الْمُعتَمِرُ، وَقَدْ حَلَلْتَ، فَإِنْ أَدْرَكَكَ الْحَجُّ قَابِلاً فَحُجَّ، وَاهَدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي" (¬1). والطريق الثاني: القطع بالقول الثَّاني، وحمل ما في "الإملاء" على الاختصار وإلا يجاز، فإن السعي كالتَّابع للطواف فاكتفي بذكر الأصل أو حمله على ما إذا كان قد سَعَى عُقَيْبَ طواف القدوم لا يلزمه الإعادة ولا يجب عليه الرَّمْي، والمبيت بمنى، وإن أدرك وفيه مع الأعمال المذكورة خلاف للمزني -رحمه الله- وذكر أن الإصطخري مال إليه. لنا: ما رويناه عن عمر -رضي الله عنه-، وقد اشتهر ذلك في الصحابة -رضوان الله عليهم- ولم ينكر عليه منكر، ويخالف ما إذا أفسد الحج، فإن هناك هو مأمور بالوقوف، والرمي والمبيت من توابع الوقوف، فأمر بهما وهاهنا بخلافه، وليس أمرنا إياه بالطواف، وسائر أعمال العمرة لانقلاب إحرامه بفوات الحج عمرة، ولا نقول باحتسابها عن عمرة الإسلام، وعن أحمد: أنه ينقلب إحرامه عمرة، وعن الشيخين أبي محمد وأبي علي: رواية وجه ضعيف مثل مذهبه. لنا أن إحرامه انعقد بأحد النُّسُكَيْن فلا ينصرف إلى الآخر كما لو أحرم بالعمرة لا ينصرف إلى الحج. ثم من فاته الحج إن كان حجَه فرضاً فهو في ذمته كما كان، وإن كان تطوعاً فعليه قضاؤه كما لو أفسده، وعن أحمد رواية: انه لا قضاء عليه. ¬
لنا حديث عمر -رضي الله عنه- ويخالف الإحصار، فإنه معذور فيه، والفوات لا يخلو عن ضرب تقصير، وفي لزوم الفور في القضاء الخلاف الذي سبق مثله في الإفساد، ولا يلزم قضاء العمرة مع قضاء الحج خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: يلزمه قضاؤهما، أَمَّا الحج فلأنه تَلَبَّسَ به وما أتمه، وأما العمرة فلأنه أتى بأعمالها ولم تحسب له. لنا: أنه أحرم بأحد النسكين ولم يتممه فلا يلزمه قضاء الآخر كما لو أحرم بالعمرة وأفسدها أو بالحَجّ وأفسده، ويجب على مَنْ فات حجه مع القضاء دم للفوات خلافاً لأبي حنيفة. لنا حديث عمر -رضي الله عنه-؛ ولأن الفوات سبب يجب القضاء. فيلزم به الهدي كالإفساد، ولا يلزم أكثر من دم واحد، وعن صاحب "التقريب" رواية قول مخرج: أنه يلزم وإن: أحدهما للفوات. والثاني: لأنه في قضائه كالمتمتع من حيث أنه تحلل عن الأول وشرع في الثاني، وتمكن بينهما من الاستمتاع. وقوله في الكتاب: (فأما من فاته الوقُوف بعرفة) فمن فاته الحج كذلك، وفي ذكر اليوم إشارة إلى أنه لا فرق بين أن يكون سبب الفوات سبباً فيه نوع عذر أو شيئاً هو تقصير صرف. وقوله: (فعليه أن يتحلل بأعمال العمرة)، يجوز إعلامه بالواو للقول الذاهب إلى أنه لا حاجة إلى السعي، فعلى ذلك القول جميع أعمال العمرة غير لازم، وبالزاي لأن على مذهبه لا يكفي أعمال العمرة بل يجب معها الرمي والمبيت. ؤقوله: (ويلزمه القضاء) بالألف، وقوله (ودم الفوات) بالحاء لما مر. وقوله: "بخلاف المحصر فإنه معذور"، أراد به الإشارة إلى الفرق في القضاء، فإن الدم لازم فيهما جميعاً -والله أعلم-. قال الغزالي: فَلَوْ أُحْصِرَ فَاخْتَارَ طَرِيقًا أَطْوَلَ فَفَاتَهُ، أَوْ صَابَرَ الإِحْرَامَ عَلَى مَكَانِهِ تَوَقُّعاً لِزَوَالِ الإحْصَارِ فَفَاتَهُ فَفِي القَضَاءِ قوْلاَنِ لِتَرَكُّبِ السَّبَبِ مِنَ الإِحْصَارِ وَالفَوَاتِ، وَلَوْ صُدَّ بَعْدَ الوُقُوفِ عَنْ لِقَاءِ البَيْتِ لَمْ يَجِبِ القَضَاءُ عَلَى الصَّحِيحِ (و) كَمَا قَبْلَ الوُقُوفِ، وَالمُتَمَكِّنُ مِنْ لِقَاءِ البَيْتِ إذَا صُدَّ مِنْ عَرَفَةَ فَفِي وُجُوبِ القَضَاءِ عَلَيْهِ قَوْلاَنِ. قال الرافعي: كنت أخرت الكلام في أن المحصر هل يقضي؟ وهذا موضع ذكره، فإنه كالقاعدة التي عليها بناء هذه المسائل، فنقول: إذا حصر فتحلل نظر إن كان نسكه
تطوعاً، فلا قضاء عليه، وبه قال مالك وأحمد، خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله-. لنا: "إِنَّ الَّذِينَ صَدُّوا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِالْحُدَيْبيَةِ، كَانُوا أَلْفاً وَأَرْبَعْمَائة، وَالَّذِينَ اعْتَمَرُوا مَعَهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، كَانُوا نَفَراً يَسِيراً، وَلَمْ يَأْمُرْ الْبَاقِينَ بِالْقَضَاءِ" (¬1). وإن لم يكن نسكه تطوعاً، نظر إن لم يكن مستقرّاً عليه الحجة الإسلام في السّنة الأولى من سني الإمكان فلا حج عليه إلا عند اجتماع الشروط بعد ذلك، وإن كان مستقراً عليه كحجة الإسلام فيما بعد السنة الأولى، من سنين الإمكان وكالنذر والقضاء، فهو باق في ذمته كما كان لو شرع في صلاة ولم يتمها تبقى في ذمته، إذا تقرر ذلك فهاهنا مسائل: إحداها: لو صُدَّ عن طريق، وهناك طريق آخر نظر إن تمكن من سلوكه بأن وجد شرائط الاستطاعة فيه لزمه سلوكه ولم يكن له التَّحلل سواء كان ذلك الطريق قصيراً أو طويلاً، وسواء كان يرجو الإدراك أو يخاف الفوات أو يتيقنه كما لو أحرم في أول في ذي الحِجّة وهو بالعراق مثلاً يجب عليه المضي والتحلل بعمل عمرة ولا يجوز التحلل في الحال؛ وإذا سلكه كما أمرناه به ففاته الحج تحلل بعمل عمرة، وهل يلزمه القضاء؟ فيه قولان: أحدهما: نعم، كما لو سلك هذا الطريق ابتداء ففاته بضلال الطريق وغيره. وأظهرهما: لا؛ لأنه بذل ما في وسعه فأشبه ما إذا صُدّ مطلقاً؛ ولأن هذا الفوات نشأ من الإِحْصَار، فإن المسألة مصورة فيما إذا اختصَّ الطريق الآخر بطول أو حُزُونَة وغيرهما، وكان الفوات لذلك حتى لو استويا من كل وجه، فيجب القضاء لا محالة؛ لأن الموجود فوات محض، قاله الإمام وغيره، وإن لم يتمكن من سلوك الطريق الآخر فهو كالصَدِّ المطلق. الثانية: وقد تعرض لها في الكتاب قبل هذا الفصل: أنَّ ما ذكرنا من نَفْي القَضَاء هو حكم الإِحْصَار العام. فأما في الإحصار الخامس قولان: أو وجهان: أحدهما وبه قال أبو الحسين والدَّارِكي: أنه يجب القضاء كما لو منعه المرض عن إتمام النسك يلزمه القضاء. وأظهرهما: وبه قال القاضي أبو حامد وأبو علي الطبري: أنه لا قضاء، كما في الإحصار العام؛ لأن مشقة المصابرة على الإحرام لا تختلف في حق صاحب الواقعة ولا ¬
تشبه المرض؛ لأنه يبيح التَّحلل على ما سبق بخلاف المرض. الثالثة: لو أحصر فلم يتحلل بل صَابَرَ الإِحْرَام متوقعاً زواله ففاته الحج، والإحصار دائم، فلا بد من التحلل بعمل عمرة، وفي القضاء طريقان: أظهرهما: وهو الذي أورده في الكتاب: طرد القولين المذكورين في المسألة الأولى. والثاني: القطع بوجوب القضاء لتسببه بالمصابرة إلى الفوات، فإنه لو تحلل لما تصور الفوات. وقوله في الكتاب: (لتركب السبب من الفوات) والإحصار معناه: أن سبب التحلل ليس هو الفوات المَحْض حتى يجزم بوجوب القضاء ولا الإحصار المحض حتى يجزم بسقوطه، بل التحلل بمجموع الأمرين فاختلف القول فيه، ثم يجوز أن يقدر هذا الكلام إشارة إلى توجيه الوجهين، ويجوز أن يقدر توجيهاً لقول الوجوب وحده إذا اجتمع الموجب والمسقط وجب أن يثبت الوجوب احتياطاً. الرابعة: لا فرق في جواز التحلل بالإحصار بين أن يتَّفق قبل الوقوف أو بعده، ولا بين أن يحصر عن البيت خاصة أو عن الموقف خاصة أو عنهما جميعاً خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: إذا أحصر بعد الوقوف لا يجوز له التّحلل، ولا يجوز التحلل حتى يحصر عن البيت والموقف جميعاً. لنا أنه مصدود عن إتمام نسكه بغير حق فكان له التَّحلل كما في سورة النزاع. ثم إن كان الإحصار قبل الوقوف وأقام على إحرامه حتى فاته الحج نظر إن زال الحصر، وأمكنه التَّحلل، بالطواف والسعي يلزمه ذلك وعليه القضاء والهدي للفوات، وإن لم يزل الحصر تحلل بالهدي، وعليه مع القضاء هديان. أحدهما: للفوات. والثاني: للتحلل. وإن كان الإحصار بعد الوقوف فإن تحلل فذاك، وهل يجوز البناء عليه لو انكشف العذر؟ فيه الخلاف الذي مَرَّ فِي مَوْضعه. فعلى الجديد: لا يجوز. وعلى القديم: يجوز، فيحرم إحراماً ناقصاً، ويأتي ببقية الأعمال، وعلى هذا فلو لم يبن مع الإمكان، فهل عليه القضاء؟ نقل الإمام -رحمه الله- فيه وجهين، وإن لم يتحلل حتى فاته الرمي والمبيت، فهو فيما يرجع إلى وجوب الدَّم بفواتهما كغير المحصر وبم يتحلل؟ يبنى على أصلين. أحدهما: أَنَّ الحَلُق نسك أم لا؟
الباب الثاني في الدماء
والثاني: أَنَّ زمان الرمي هل يقام مقام الرمي؟ وقد سبق القول في كليهما. وقد سبق القول في كليهما. فإن قلنا: الحلق نسك، حلق وتحلل التحلل الأول. وإن قلنا: إنه ليس بنسك حصل التحلل الأول بمضي زمان الرمي، وعلى التقديرين فالطواف باق عليه؛ فمتى أمكنه أن يطوف طاف وقد تم حجه، ثم إذَا تَحَلَّلَ بالإحصار الواقع بعد الوقوف، فهل يلزمه القضاء؟ ذكر الإمام -رحمه الله- أن "صاحب التقريب" حكى فيه قولين، وطردهما في كل صورة أتى بها بعدم الإحرام بنسك لتأكد الإحرام بذلك النسك، فإن العراقيين جزموا بنفي القضاء، قال: وهذا أمثل، فإنه تحلل بالحصر المحض وسواء ثبت الخلاف أم لا، فظاهر المذهب أنه لا قضاء. وقوله في الكتاب: (على الصحيح) يجوز حمله على الصحيح من القولين جواباً على طريقة إثبات الخلاف؛ ويجوز أن يحمل على الصحيح عن الطريقين، ولو صد عن عرفة ولم يصد عن مكة فيدخل مكة ويتحلل بعمل عمرة، في وجوب القضاء قولان؛ لأنه محصر تحلل بعمل عمرة كمن صد عن طريق وسلك غيره ففاته الحج، وقد قدمنا ذلك؛ - وبالله التوفيق-. الْبابُ الثَّانِي في الدِّمَاءِ وَفِيهِ فَصْلاَن الفَصْلُ الأَوَّلُ قال الغزالي: فِي أَبْدَالِهَا وَهِيَ أَنْوَاعٌ: الأَوَّلُ: دَمُ التَّمَتُّعِ وَهُوَ دَمُ تَرْتِيبٍ وَتَقْدِيرٍ كَمَا في القُرْآنِ، وَفي مَعْنَاهُ دَمُ الفَوَاتِ وَالقِرَانِ. الثَّانِي: جَزَاءُ الصَّيْدِ وَهُوَ دمُ تَعْديلٍ وَتَخْيِيرٍ (و) فِي نَصِّ القُرْآنِ. الثَّالِثُ: دَمُ الحَلْقِ وَهُوَ دَمُ تَخْيِيرٍ وَتَقْدِيرٍ إِذْ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ شَاةٍ وَثَلاَثَةِ آصُع مِنْ طَعَام كُلُّ صَاعٍ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ يُطْعِمُه سِتَّةَ. مَسَاكِينَ، وَبَيْنَ صِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَهَذِهِ الثَّلاَثُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا. قال الرافعي: الدِّمَاء الواجبة في المَنَاسك (¬1) سواء تعلقت بترك مأمور أو ارتكاب ¬
منهى إذا أطلقناها أردنا دم شاة، فإن كان الواجب غيرها كالبدنة في الجماع فيقع النَّص عليه، ولا يجزئ فيها جميعاً إِلاَّ ما يجزئ في الأضحية، إلاَّ في جزاء الصَّيْد فيجب المثل في الصغير صغير، وفي الكبير كبير، وكل من لزمه شاة جاز له أنْ يذبح مكانها بقرة أو بدنة إلا في جزاء الصيد، وإذا ذبح بدنة أو بَقَرَةً مكان الشاة فالكل فرض حتى لا يجوز أكل شيء منها، أو الفرض السبع حتى يجوز له أكل الباقي فيه وجهان. ولو ذبح بَدَنَةً ونوى التَّصدق بسبعها عن الشاة الواجبة عليه وأكل الباقي جاز له ذلك، وله أن ينحر البَدَنَة عن سبع شياه لزمته. ولو اشترك جماعة في ذبح بقرة أو بدنة، وأراد بعضهم الهدي والبعض الأضحية والبعض اللَّحم جاز خلافاً لأبي حنيفة، حيث قال: لا يجوز إلاَّ أن يريد جميعهم القربة ولمالك حيث قال: لا يجوز إلاَّ أَنْ يكونوا أهل بيت واحد. ولا يجوز أن يشترك اثنان في شاتين لإمكان انفراد كل واحد بواحدة. إذا عرفت ذلك فاعلم أن كلام الباب يقع في فصلين: أحدهما: في كيفية وجوبها، وما يقوم مقامها. والثاني: في مكانها وزمانها، والبحث في الأول من وجهين: أحدهما: النظر في أنَّ أي دم يجب على الترتيب، وأي دم يجب على التَّخْيِير، وهاتان الصِّفَتان متقابلتان. فمعنى الترتيب: أنه يتعين عليه الذبح، ولا يجوز العدول عنه إلى غيره إلا إذا عجز عنه، ومعنى التخيير: أنه يفوض الأمر إلى خبرته، فله العدول إلى غيره مع القدرة عليه. والثاني: النظر في أن أي دم يجب على سبيل التَّقدير، وأي دم يجب على سبيل التعديل، وهاتان الصفتان متقابلتان، فمعنى التقدير: أن الشَّرع قدر البَدَلَ المعدول إليه ترتيباً أو تخييراً بقدر لا يزيد ولا ينقص، ومعنى التعديل: أنه أمر فيه بالتقويم، والعدول إلى الغير بحسب القيمة، وهذا اللفظ مأخوذ من قوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} (¬1). وكل دم يُحسب الصفات المذكورة لا يخلو عن أربعة أوجه: أحدها: الترتيب والتقدير. ¬
وثانيها: الترتيب والتعديل. وثالثها: التخيير والتقدير. ورابعها: التَّخيير والتَّعديل. وأما تفصيلها فهي على ما ذكر في الكتاب ثمانية أنواع: أحدها: دم التمتع، وهو دم ترتيب وتقدير على ما ورد في نص الكتاب. قال الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬1) الآية، وقد بينا شرح القول، وبينا فيه أنَّ دَمَ القران في معناه، وفي دم الفوات قولان نقلهما القاضي ابن كج. أصحهما: ولم يورد الأكثرون غيره أنه كدم التَّمتع في الترتيب والتقدير وسائر الأحكام؛ لأن دم التمتع إنما وجب لترك الإحرام من الميقات، والنسك المتروك في صورة الفوات أعظم. وقد روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه أمر الَّذِينَ فاتهم الحج بالقضاء من قَابِلٍ، ثم قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (¬2). والثاني: أنه كدم الجِمَاع في الأحكام، إلاَّ أن ذلك بَدَنة، وهذا شاة، ووجه الشبه. اشتراك الصورتين في التفريط المُحْوج إلى القضاء. الثاني: جزاء الصيد: وهو دم تخيير وتعديل. وقال الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (¬3) الآية، وما فيه التخيير يختلف يكون الصيد مثلياً أو غير مِثْلى على ما سبق في موضعه، وجزاء شَجَرِ الحَرَمِ كجزاء الصيد. الثالث: دم الحلق وفديته وهو دم تخيير وتقدير، فإذا حلق جميع شعره أو ثلاث شعرات تخير بين أن يذبح شاة، وبين أن يتصدق بعرق من طعامه على ستة مساكين، وبين أن يصوم ثلاثة أيام، والعِرْق ثلاثة آصع، وكل صاع أربعة أَمْدَاد، فتكون الآصع الثلاثة اثني عشر مُدّاً، نصيب كل مسكين مُدَّان، وفي سائر الكَفَّارات لا يزاد لكل مسكين على مد، هذا هو المشهور. وحكى في "العدة" وجهاً آخر أنه لا يتقدر ما يصرف إلى كل مسكين، وإنما أخذ التَّخيير في هذا الدَّم من نص الكتاب. ¬
قال الله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (¬1). وأما التَّقْدِير فهو مأخوذ من حديث كعب بن عجرة، وقد رويناه في باب المَحْظُورَات. وقوله في الكتاب: (دم الفوات) يجوز إعلامه بالواو لما رويناه من القول الثاني. وقوله: (وتخيير في جزاء الصيد) بالواو، لقول حكيناه عن رواية أبي ثور من قبل أنه على الترتيب. وقوله: (فهذه الثلاث منصوص عليها) أي ورد نص الكتاب أو الخبر في كيفية وجوبها وما عداها مقيس بها. قال الغزالي: الوَاجِبَاتُ المَجْبُورَةُ بِالدَّم فِيهَا دَمُ تَعْدِيلٍ وَتَرْتِيبٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَدَمِ التَّمَتُّعِ في التَّقْدِيرِ أَيْضاً. قال الرافعي: الدَّم المَنوُط بترك المأمورات كالإحرام من المِيْقَات والرمي والمبيت بِمُزْدَلَفَة ليلة العيد، وبمنى ليالي التَّشريق، والدفع من عرفة قبل غروب الشمس، وطواف الوداع فيه وجهان: أحدهما: أنه دم ترتيب وتعديل. أما الترتيب فإلحاقاً له بدم التَّمتْع لما في التَّمَتُّع من ترك الإحرام من الميقات. وأما التَّعْديل فجرياً على القِياس، والتقدير لا يعرف إلا بتوقيف، فعلى هذا يلزمه ذبح شاة، فإن عجز قوم الشاة دراهم، واشترى بها طعاماً يتصدق به، فإن عجز صام عن كل مُدٍّ يوماً، وإذا ترك رمى حصاة، فقد ذكرنا أقوالاً في أن الواجب مد أو درهم أو ثلث شاة، فإن عجز فالطعام والصوم على ما يقتضيه التعديل بالقيمة. والوجه الثاني: أنه يلحق بدم التمتع في التقدير، كما ألحق به في الترتيب، ويكون الواجب دم ترتيب وتقدير، فإن عجز عن الدم صام ثلاثة في الحج وسبعة بعد الرجوع، وفي تعليق بعض المَرَاوِزَة وجه آخر -تفريعاً على الوجه الثاني-: وهو أن الصَّوم المعدول إليه هو صوم فدية الأذى دون العشرة وما الأظهر من الوَجْهَيْن؟ إيراد الكتاب يشعر بترجيح الوجه الأول، وبه قال القاضي ابن كج والإمام وغيرهما، الثاني أظهر في المذهب، ولم يورد العراقيون وكثير من سائر الطبقات غيره، وحكى القَاضِي ابْنُ كَجٍّ وَجْهاً ثالثاً ضعيفاً أنه دم تخيير وتعديل كجزاء الصَّيْد. ¬
قال الغزالي: الخَامِسُ: الاسْتِمْتَاعَاتُ كَالطِّيبِ وَاللُّبْسِ وَمُقَدِّمَاتِ الجِمَاعِ فِيهِ دَمُ تَرْتِيبٍ وَتَعْدِيلٍ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُ دَمُ تَخْيِيرٍ تَشْبِيهاً بِالحَلْقِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ دَمُ تَقْدِيرٍ أَيْضاً إِتْمَاماً لِلتَّشْبِيهِ، وَأَمَّا القَلْمُ فَفِي مَعْنَى الحَلْقِ. قال الرافعي: دم التَّطيّب والتَّدهُّن واللِّباس ومقدمات الجماع دم ترتيب أو تخيير فيه قولان أو وجهان: أحدهما: أنه دم ترتيب كدم التمتع؛ لأنه مُتَرفه بهذه الاستمتاعات كما أن المتمتع مُتَرفه بالتَّمتع. وأظهرهما وبه قال أبو إسحاق: أنه دم تخيير تشبيهاً بفدية الحَلْق لاشتراكهما جميعاً في التِّرفه وإلحاقها بالحلق أولى منه بالتمتع، فإن الدم ثُمَّ إنما وجب لترك الإحرام من الميقات. فإن قلنا بالأول، ففي كونه دم تقدير أو تعديل وجهان: أحدهما: أنه دم تقدير إتماماً للتَّشْبيه بدم التَّمتع. وأظهرهما: أنه دم تعديل كجزاء الصَّيْد؛ لأن التقدير إنما يؤخذ من التَّوقيف. إن قلنا: بالثاني، ففي كونه دم تقدير أو تعديل أيضاً وجهان: أظهرهما: أنه دم تقدير إتماماً لِلتَّشْبيه بالحَلْق، والحاصل من هذه الاختلافات أربعة أوجه: أحدها: الترتيب والتعديل، وثانيها: التخيير والتعديل، وثالثها: التخيير والتقدير، وهذه الثلاثة هي المذكورة في الكتاب. ورابعها: الترتيب والتقدير، وأظهر الوجوه: الثالث، وإيراد الكتاب يشعر بترجيح الأول، وبه قال صاحب "التهذيب"، وهذا الاختلاف لا يجئ في قَلْم الأظفار بل هو مُلْحق بالحَلْق بلا خلاف لاشتراكهما في معنى التَّرفه والاستهلاك جميعاً، -والله أعلم-. قال الغزالي: السَّادِسُ: دَمُ الجِمَاعِ، وَفِيهِ بَدَنَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ سَبْعٌ مِنَ الغَنَمِ فَإِنْ عَجَزَ قَوَّمَ البَدَنَةَ دَرَاهِمَ وَالدَّرَاهِمَ طَعَاماً وَالطَّعَامَ صيَاماً، فَهُوَ دَمُ تَعْدِيلٍ وَتَرْتِيبٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ دَمُ تَخْيِيرٍ كَالْحَلْقِ، وَقِيلَ: بَيْنَ البَدَنَةِ وَالبَقَرَةِ وَالشَّاةِ أَيْضًا تَرْتِيبٌ. قال الرافعي: في خصال فدية الجماع وجهان: أصحهما: أنها خمس: ذبح بَدَنة، وذبح بقرة وذبح سبع من الغنم، والإطعام بقدر قيمة البدنة على ما عرفت من سبيل التعديل، والصيام عن كل مُدٍّ يوماً.
والثاني: حكاه القاضي ابن كج: أن خصالها الثلاث الأول، فإن عجز عنها فالهدي في ذِمَّته إلى أَنْ يجد تخريجاً من أحد القولين في دم الإحْصَار وسنذكره، فإن جرينا على الصحيح، وهو إثبات الخصال الخمس، فهذا الدم دم تعديل لا محالة، لأنا في الجملة نقوّم البَدَنَة، وهل هو دم ترتيب أو تخيير؟ فيه قولان، ومنهم من يقول وجهان: أصحهما: أنه دم ترتيب، فعليه بَدَنة إن وجدها، وإلاَّ فبقرة، وإلا فسبع من الغنم، وإلا قَوّم البدنة دراهم، والدراهم طعاماً، ثم فيه وجهان: أحدهما: أنه يصوم عن كل مُدٍّ يوماً، فإن عجز عن الصيام أطعم كما في كفارة الظهار والقتل. وأصحهما: ولم يورد الجمهور غير أن الترتيب على العكس، ويتقدم الطعام على الصيام، لأنّا لم نجد في المناسك تقديم الصيام على الإطعام في غير هذا الدم فكذلك هاهنا. وإنما قدمت البدنة على البقرة وإن قامت مقامها في الضحايا لأن الصحابة -رضي الله عنهم- نصُّوا على البدنة، وذلك يقتضي تعيينها، وبينها وبين البقرة بعض التفاوت، أَلاَ تَرَى إلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً" (¬1). وإنّما أُقِيم الإطعام والصِّيَام مقامها تشبيهاً بجزاء الصيد، إلاَّ أَنَّ الأمر ثَمَّ على التَّخيير، وهاهنا على التَّرْتِيب؛ لأنه يشبه الفَوَات في إيجاب القضاء، وموجب الفوات مرتب. والقول الثاني: أنه دم تخيير؛ لأنه سبب تجب به البدنة، فيكون على التخيير كقتل النّعَامة، وأيضاً فإن الجِمَاع ملحق بالاسْتِهْلاكات على ما سبق، فتكون فديته على التخيير كفدية الحَلْق، وعلى هذا ففيم يثبت التخيير وجهان: أظهرهما: أنه يتخير بين البَدَنَة والبقرة والسبع من الغنم، كما لو لزمه سبعة دماء. وَأَمَّا الإطعام والصيام فهما على التَّرْتِيب ولا عدول إليهما، إِلاَّ إذا عجز عن الذَّبْح. والثاني: أنه يتخير بين الكُلِّ كما في قتل النَّعَامة، وكما أن في فدية الحَلْق يتخير بين الصِّيَام والصّدقة والنُّسك، وقد ذكر القَفَّال وآخرون: أن القَوْلين في أنَّ دم الجماع دم ترتيب أو تخيير مبني على أن الجماع استهلاك أو استمتاع، إن جعلناه استهلاكاً فهو ¬
على التخيير، كفدية الحَلْق والقَلْم، وإن جعلناه استمتاعاً فهو على الترتيب كفدية الطِّيب واللِّباس والتمتع. واعلم أن هذا التَّشبيه في الطِّيب واللِّباس كلام مَنْ يجعل الأمر ثم على الترتيب، وقد سبق ما فيه من الخلاف. وقوله في الكتاب: (قَوَّمَ البَدَنَةَ دراهم)، يجوز إعلامه بالواو، للوجه المنسوب إلى حكاية ابن كج. وقوله: (والدَّرَاهم طعاماً والطعام صياماً) باقي الكلام محذوف، والمعنى: وأطعم فإن عجز صام، ثم إيراد الكتاب قد يوهم ترجيح قول التخيير بين البدنة والبقرة والشاة على الترتيب، لكن الأظهر عند الأكثرين الترتيب فيها أيضاً، وإيراد "الوسيط" يوافقه. قال الغزالي: السَّابعُ: الجِمَاعُ الثَّانِي أَوْ بَيْنَ التَّحَلُّلَيْنِ إِنْ قُلْنَا: فِيهِ شَاةٌ فَهُوَ كَالقُبْلَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: بَدَنَةٌ فَكَالجِمَاعِ الأَوَّلِ. قال الرافعي: قد سبق الخلاف في أن الجماع الثَّانِي يوجب البَدَنَة أو الشاة، وكذا الجماع بين التَّحللين، فإن أوجبنا البدنة فهي في الكيفية كالجماع الأول قبل التحللين، وإن أوجبنا الشَّاة فهي كفدية القُبْلة وسائر مقدمات الجِمَاع، وهذا ظاهر. قال الغزالي: الثَّامِنُ: دَمُ التَّحَلُّلِ بِالإِحْصَارِ وَهُوَ شَاةٌ فَإِنْ عَجَزَ فَلاَ بَدَلَ لَهُ فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ: بَدَلَهُ كَدَمِ التَّمَتُّعِ، وَفِي قَوْلٍ: كَدَمِ الحَلْقِ، وَفِي قَوْلٍ: كَدَمِ الوَاجِبَاتِ المَجْبُورَةِ. قال الرافعي: على المحصر دم شاة للتحلل، ولا معدل عنه إن وجد الشاة، وإلاَّ فهل لهذا الدم من بدل؟ فيه قولان: أصحهما وبه قال أحمد: نعم، كسائر الدماء الواجبة على المحرم. والثانيِ: وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-: لا، لأن الله تعالى لم يذكر لدم الإحصار بدلاً، ولو كان له بدل لأشبه أن يذكره كما ذكر بدل غيره. التفريع: إن قلنا: له بدل، فما ذلك البدل؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: الصوم، وبه قال أحمد -رحمه الله- كدم التَّمتع؛ لأن التَّحلل والتمتع جميعاً مشروعان تخفيفاً وترفيهاً وفيهما جميعاً ترك بعض النسك، فيلحق أحدهما بالآخر. والثاني: الإطعام، لأن قيمة الهَدْي أقرب إليه من الصيام، وإذا لم يرد نص فالرجوع إلى الأقرب أَوْلَى. والثالث: لكل واحد منهما مدخلاً في البداية كفدية الحلق، ووجه الشبه بينهما أنَّ المحصر دفع أذى العدو والإحرام عن نفسه، أما أن الحالق يبغي دفع أذى الشّعر.
التفريع: إن قلنا: إنَّ بَدَلَهُ الصوم فما ذلك الصوم؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: وبه قال أحمد -رحمه الله-: صوم المتمتع عشرة أيام. والثَّاني: صوم فدية الأَذَى ثلاثة أيام. والثالث: ما يقتضيه التَّعديل، وإنما يدخل الطعام في الاعتبار على هذا القول ليعرف به قدر الصوم لا ليطعم. وإن قلنا: إن بدله الإطعام، ففيه وجهان: أحدهما: أنه مقدر كَفِدْية الأذى، وهو إطعام ثلاثة آصع ستة مساكين. الثاني: أنه يطعم ما يقتضيه التعديل. وإن قلنا: لكل واحد مدخلاً فيه فهل بينهما ترتيب؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، كما في فدية الحَلْق. وأصحهما: نعم كالترتيب بين الهَدْي وبدله، فعلى الأول قدر الطّعام والصِّيام كقدرهما في الحَلْق، وعلى الثَّاني الطريق بينهما التَّعْدِيل. إذا عرفت ذلك فانظر في لفظ الكِتَاب، وأعلم قوله: (ولا بدل له في قول) بالألف، ويقابله أن له بدلاً، وما هو؟ ذكر فيه أقوالاً ثلاثة: أحدها: أن بدله كبدل دم التمتع، وهذا مختصر قولنا: إن بدله الصَّوم، وإن ذلك الصوم صوم التمتع. والثَّاني: أن بدله كبدل دم الحلق، وهذ، مختصر قولنا: إن للإطعام والصيام معاً مدخلاً في البدلية، وإن الأمر فيهما على التخيير والتقدير. والثالث: أن بدله كبدل دم الواجبات المَجْبورَة، وهذا مختصر قولنا: لكل واحد منهما مدخل فيه، والأمر فيهما على الترتيب والتعديل، فعلى الأول هو دم ترتيب وتقدير. وعلى الثاني دم تخيير وتقدير وعلى الثَّالِثِ دم تَرْتِيب وتعديل، وهذا حكم دِمَاء الواجبات المَجْبُورة على الأَرْجَح عند صاحب الكتاب على ما مر، فإن لم نقل بذلك لم يستمر هذا التشبيه، والأصح في المسألة الَّتِي نحن فيها: الترتيب والتَّعديل، قاله القاضي الروياني وصاحب "التهذيب"، وغيرهما -رحمهم الله- وهو اختيار الْمَزنِيّ -رضي الله عنه -والله أعلم-.
الفصل الثاني في مكان إراقة الدماء وزمانها
الفَصْلُ الثَّانِي في مَكَانِ إِرَاقَةِ الدَّمَاءِ وَزَمَانِها قال الغزالي: وَلاَ تَخْتَصُّ دِمَاءُ المَحْظُورَاتِ وَالْجُبْرَانَاتِ بِزَمَانٍ بَعْدَ جَريانِ سَبَبِهَا بِخِلاَفِ دَمِ الضَّحَايَا، وَدَمُ الفَوَاتِ يُرَاقُ في الحَجَّةِ الفَائِتَةِ، أَوْ في الحَجَّةِ المَقْضِيَّةِ فِيهِ قَوْلاَنِ. قال الرافعي: مقصود الفصل بيان زمان إراقة الدماء ومكانها. أما الزمان: فالدماء الواجبة في الإحرام إما لارتكاب محظورات أو جبراً لترك مأمور لا اختصاص لها بزمان، بل يجوز في يوم النحر وغيره، وإنما الضحايا هي التي تختص بيوم النحر وأيام التَّشْريق. وعن أبي حنيفة -رحمه الله- أن دم القَران والتَّمتع لا يجوز ذبحه قبل يوم النَّحر. لنا القياس على جزاء الصيد ودم التَّطيّب والحَلْق. ثم ما عدا دم الفوات يُرَاق في النُّسك الذي هو فيه. وأما دم الفوات فيجوز تأخيره إلى سنة القضاء، وهل يجوز إراقته في سنة الفوات؟ فيه قولان: أحدهما: وهو نصه في "الإملاء": أنه يجوز كدم الإِفْسَاد يُرَاقُ في الحجة الفاسدة. وأصحهما: أنه لا يجوز ويجب تأخيره إلى سنة القَضَاء لظاهر خبر عمر -رضي الله عنه- حيث قال: "حج من قابل وأهد ما استيسر من الهَدْي" (¬1). فإن قلنا بالأول فوقت وجوبه سنة الفوات، وكان الفوات أوجب شيئين: الدم والقضاء، فله تعجيل أحد الواجبين وتأخير الثَّاني. وإن قلنا بالثاني ففي وقت الوجوب وجهان: أصحهما: أن الوجوب مَنُوط بالتَّحرم بالقضاء، كما أن دم التمتع منوط بالتحرم بالحج، ووجه الشبه أن مَنْ فات حجه يتحلل من نسك ويتحرم بآخر كالمتمتع، إلا أنَّ نسكي المتمتع يقعان في سنة واحدة، والقضاء يقع في سنة أخرى ولما بينهما من الشبه، فنقول: لو ذبح قبل التَّحلل عن الفائت لم يجزه على الأصح كما لو ذبح المتمتع قبل ¬
الفراغ من العمرة، هذا إذا كفر بالدم، أما إِذَا كان بصوم، فإن قلنا: إن الكفارة تجب بالتحرم بالقضاء فصيام الأيام الثلاثة لا يتقدم على القضاء لا محالة؛ لأن العبادة البدنية لا تقدم على وقتها، ويصوم السبعة بعد الرجوع، وإن قلنا: إنها تجب بالفوات، فقد حكى الإمام -رحمه الله- في جواز صوم الأيام الثلاثة في الحجة الفائتة وجهين: وجه المنع: أنه في إحرام ناقص، والذي عهدناه إيقاع الثَّلاَثة في نسك كامل. قال الغزالي: وَأَمَّا المَكَانُ فَيَخْتَصُّ (ح) جَوَاز الإِرَاقَةِ بِالحَرَمِ، وَالأَفْضَلُ فِي الحَجِّ مِنّي، وَفِي العُمْرَةِ عِنْدَ المَرْوَةِ؛ لِأَنَّهُمَا مَحَلُّ تَحَلُّلُهمَا، وَقِيلَ: لَوْ ذَبَحَ عَلَى طَرَفِ الحَرَمِ جَازَ، وَقِيلَ: مَا لَزِمَ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ لاَ يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ. قال الرافعي: الدماء الواجبة على المحرم تنقسم إِلَى دَمِ الإحْصَار، وما لزم المحصر من دماء المَحْظُورات، وإلى سائر الدِّمَاء. أما القسم الأول: فقد ذكرنا حكمه في فَصْلِ الإحصار. وأما الثاني وهو المقصود في الكتاب: وإن كان اللفظ مطلقاً فيتقيد بالحرم، ويجب تخصيص لحومها بمساكين الحرم، ويجوز صرفها إلى القَاطِنِين والغرباء الطارئين، لكن الصرف إلى القَاطِنِين أَوْلَى. وهل يختص ذبحها بالحرم؟ فيه قولان: أصحهما: نعم، وبه قال أبو حنيفة، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أَشَارَ إِلَى مَوْضِعِ النَّحْرِ مِنْ مِنًى، وَقَالَ: هذَا النَّحْرُ وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ" (¬1). ولأن الذبح حق متعلق بالهَدْي، فيختص بالحرم كالتصدق. والثاني: لا يختص؛ لأن المقصود هو اللحم، فإذا وقعت تفرقته في الحرم وانصرف إلى مساكينه حصل الغَرَضُ. فعلى الأول: لو ذبح خارج الحرم لم يعتد به، وعلى الثَّاني: لو ذبح خارج الحرم ونقل إليه وفرقه جاز، لكن يشترط أن يكون النَّقْل والتفريق قبل تغيير اللحم، وإلى هذا أشار في الكتاب في العبارة عن هذا القول، حيث قال: (وقيل: لو ذبح على طرف الحرم جاز) ولا فرق فيما ذكرناه بين دم التَّمتع والقِرَان وسائر الدّماء الواجبة بسبب منشأ في الحرم، وبين الدماء الواجبة بسبب منشأ في الحل. وفي القديم قول إن ما أنشئ سببه في الحل يجوز ذبحه وتفريقه في الحل كدم الإحصار وبه قال أحمد والمذهب الأول، واحتج له بقوله تعالى في جزاء الصيد: ¬
{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (¬1) أطلق ولم يفصل بين أن يقتل الصّيد في الحل أو الحرم، ولا فَرْقَ أيضاً بين أن يكون السبب الموجب الدم مباحاً أو بعذر كالحَلْق للأذى، أو مطلقاً كالتَّمتع والقرن بين أن يكون محرماً، وذكر الإمام أن صاحب "التقريب" حكى وجهاً: أن ما لزم بسبب مباح لا يختص ذبحه ولا تفرقة لحمه بمكان، وأن شيخه حكى وجهاً: أنه لو حلق قبل الانتهاء إلى الحرم ذبح وفرق حيث حلق وهما ضعيفان، وصاحب الكتاب أورد الأول منهما، ثم أفضل مواضع الحرم للذبح في حق الحاج مِنًى، وفي المعتمر المَرْوَة، لأنهما محل تحللهما، وكذلك حكم ما يسوقانه من الهدي (¬2)، ولو كان يتصدق بالإطعام بدلاً عن الذبح فيجب تخصيصه بمساكين الحرم، بخلاف الصوم فإنه يأتي به حيث يشاء؛ لأنه لا غرض فيه للمساكين (¬3)، وعند أبي حنيفة يجوز صرف اللحم والطعام إلى غير مساكين الحرم، وإنما الذي يختص بالحرم الذبح، وإذا ذبح الهَدْي في الحرم ففرق منه لم يجزه عما في ذمته، وعليه إعادة الذبح، أو شرى اللحم والتصدق به، وفيه وجه: أنه يكفيه التَّصدق بالقيمة، وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: لا شيء عليه. قال الغزالي: وَاخْتِتَامُ الكِتَابِ بِمَعْنَى الأَيَّامِ المَعْلُومَاتِ وَهِيَ العَشْرُ الأُوَلُ مِنْ ذِي الحَجَّةِ وَفِيهَا المَنَاسِكُ، وَالمَعْدُودَاتُ فَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَفِيهَا الهَدَايَا وَالضَّحَايَا، -والله أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ-. قال الرافعي: ختم الكتاب بذكر معنى الأيَّام المعلومات والأيام المعدودات، قد ذكرهما الله تعالى في آيتين من كتابه، فالمعلومات هي العشر الأول من ذي الحجة آخرها يوم النحر، وبه قال أحمد -رحمه الله- في رواية، ويروى عنه مثل ما روي عن مالك، وهو أنها يوم النَّحْر ويومان بعده، وعند أبي حنيفة -رحمه الله- المعلومات: ¬
ثلاثة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، واليوم الأول من أيام التشريق، فعنده اليوم الأول داخل في المَعْدُودَات والمَعْلُومَات معاً، وعند مالك -رحمه الله- الأول والثاني من أيام التشريق داخلان فيها. لنا: التَّفْسير عن ابن عَبَّاس -رضي الله عنهما- والأخذ به أولى؛ لأن الأشبه تغير المسمَّيَات عند تغاير الأسماء. وأما المَعْدُودَات: فهي أيام التشريق بلا خلاف. وقوله في الكتاب: (وفيها المناسك) أراد به أصول المناسك، فإن تَوَابِعَها قد يتأَخَّر بعضها إلى أيام التَّشْريق، وقوله: (وفيها الهدايا والضحايا)، لك أن تبحث فيه، فتقول: هذا يقتضي تخصيص الهدايا بهذه الأيام، وقد ذكر من قبل أن دماء الجُبْرَانَات والمَحْظُورات، لا تختص بزمان، واسم الهدي يقع عليها كما يقع على ما يسوقه المحرم، فإن أراد هاهنا ما يسوقه المحرم فهل يختص ذبحه بهذه الأيام على ما هو قضية اللفظ أم لا؟ فاعلم أن المراد في هذا الموضع بالهدايا ما يسوقها المحرم، وفي اختصاصها بيوم النحر وأيام التشريق وجهان: أحدهما: وهو الذي أورده في "التهذيب": أنها لا تختص كدماء المحظورات. وأظهرهما هو الذي أورده صاحب الكتاب والعراقيون: أنها تختص كالأضحية، فعلى هذا لو أخر الذَّبْح حتى مضت هذه الأيام، نظر إنْ كان هدياً واجباً ذبح قضاء، وإن كان تطوعاً فقد فات، وإن ذبح فقد قال الشَّافعي -رضي الله عنه-: هي شاة لحم، ولا يخفى أن لفظ الكتاب يحتاج إلى تأويل، فإن الذي جرى ذكره أيام التَّشْرِيق لا غير، والذَّبح لا يخْتَصّ بها، بل يوم النَّحْر في معناها لا محالة -والله أعلم-. واعلم أن في "المختصر" باباً في آخر كتاب الحَجِّ ترجمه بنذر الهدي، وعلى ذلك جرى الأصحاب فذكروا هاهنا فروعاً ومسائل كثيرة، لكن صاحب الكتاب أخر إيراده منها إلى كتابي الأُضْحِيَة والنَّذْر اقتداء بالإمام -رحمه الله- ونحن نشرح ما ذكره ونضم إليه ما يحسن إيراده -إن شاء الله تعالى-، لكن نذكر نبذاً لا بد من معرفتها فنقول: من قصد مَكَّة لحج أو عمرة، فيستحب له أن يهدي إليها شيئاً من النّعم "أَهْدَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِائَةَ بَدَنَةً (¬1) ولا يلزم ذلك إلاَّ بالنَّذْر، وإذا ساق هدياً تطوعاً، أو نذراً نظر، إن ساق بدنة أو بقرة فيستحب أن يقلدها نعلين، وليكن لهما قيمة ليتصدق بها، وأن يُشْعِرها أيضاً، والإِشْعَار الإعلام، والمراد هاهنا أن يضرب صفحة سَنَامِهَا اليُمْنَى بحديدة وهي مستقبلة للقبلة فيدميها ويلطخها بالدم ليعلم من رآها أَنَّها هدي، فلا يستجيز التعرض لها. وقال أبو حنيفة: لا إشعار، ومالك وأحمد استحبَّا الإِشْعَار، ولكن قالا: يشعرها من الجانب الأيسر. ¬
لنا ما روى عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "صَلَّى الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ دَعَا بِبَدَنَةٍ فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الأَيْمَنُ" (¬1) وإن ساق غنماً استحب تقليدها، ولكن بِخُرُبِ القربَ، وهي عُرَاهَا وأَذَانها لا بالنّعل؛ لأنها ضعيفة يثقل عليها حمل النعال (¬2). وقال مالك وأبو حنيفة: لا يستحب تقليد الغنم. لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "أَهْدَى مَرَّةً مُقَلَّدَةً" (¬3) ولا يستحب إِشْعَارها لأنها ضعيفة، ولأن شعرها يمنع من ظهور الدم، ثم إذا قَلَّد النّعم وأشعرها لم تصر بذلك هَدْيَاً واجباً على أصح القولين، كما لو كتب الوقف على باب داره لا تفسير وقفاً. وإذا عطب الهَدْي الذي ساقه في الطريق، ينظر إن كان تطوعاً فهو ماله يفعل به ما يشاء من بيع وأكل وغيرهما، وإن كان واجباً فعليه ذبحه، فلو تركه حتى هلك ضمنه، وإذا ذبحه غمس النعل الذي قَلَّدَه في دَمِه، وضرب بها صَفْحَة سَنَامها، وتركه ليعلم من مرّ به أنه هَدْي فيأكل منه، وهل تتوقف الإباحة على أن يقول: أبحته لمن يأكل منه، فيه قولان: أصحهما عند صاحب "التهذيب": أنه لا حاجة إليه؛ لأنه بالنذر زال ملكه عنه، وصار للنَّاس، ولا يجوز للمُهدي ولا لأغنياء الرفقة الأكل منه، وفي فقرائها وجهان: أصحهما: أنه ليس لَهُمُ الأكل أيضاً لما روي أَنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال فيه: "لاَ تَأْكُلُ مِنْهَا أَنْتَ وَلاَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رِفْقَتِكَ" (¬4) -والله ولي التوفيق- (¬5). تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع، وأوليه: "كتاب البيع" ¬
العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير تأليف الإمام أبي القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الرافعي القزويني الشافعي المتوفي سنة 623 هـ تحقيق وتعليق الشيخ علي محمد معوض ... الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الجزء الرابع يحتوي على الكتب التالية: البَيْع - السَّلَم والقَرض - الرَّهن دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
جميع الحقوق محفوظة جميع حقوق الملكية الادبية والفنية محفوظة لدار الكتب العلمية بيروت - لبنان ويحظر طبع أو تصوير أو ترجمة أو إعادة تنضيد الكتاب كاملاً أو مجزأً أو تسجيله على أشرطة كاسيت أو إدخاله على الكمبيوتر أو برمجته على اسطوانات ضوئية إلا بموافقة الناشر خطيًا. الطبعة الأولى 1417 هـ - 1997 م دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
كتاب البيع
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ البَيْعِ وَالنَّظْرُ في خَمْسَةِ أَطْرَافٍ الأَوَّلُ في صِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ الْبَابُ الأَوَّلُ في أَرْكَانِهِ قال الغزالي: وَهِيَ ثَلاَثَةٌ: الأَوَّلُ: الصَّيغَةُ وَهُوَ الإيجَاب وَالقَبُولُ، اعْتُبِرَ لِلدَّلالَةِ عَلَى الرِّضَا البَاطِنِ، وَلاَ تَكْفِي المُعَاطَاةُ (م ح و) أَصْلاً، وَلاَ الاسْتِيجَابُ (م) وَالإِيْجَابُ وَهُوَ قَوْلُهُ: بِعْنِي بَدَلَ قَوْله: اشْتَرَيْتُ علَى أَصَحَّ الوَجْهَيْنِ، بِخِلاَفِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لاَ يَجْرِي مُغَافَصَةً، وَيَنْعَقِدُ البَيْعُ بِالكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةَ عَلَى الأَصَحِّ كَالكِتَابَةِ وَالخُلْعِ، بِخِلاَفِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِقَيْدِ الشَّهَادَةِ. قال الرافعي: الأصل في البيع (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الإجماع (¬1)، وآيات الكتاب نحو قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (¬2) (¬3) وقوله تعالى: ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬1) (¬2) والأخبار نحو ما روي عن رافع بن خديج ¬
أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- "سُئِلَ عَنْ أَطيَبِ الْكَسْبِ، فَقَالَ: عَمَل الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيعٍ مَبْرُورٌ" (¬1). ولفقه هذا الكتاب أبواب مُنتَشرة ومسائل كثيرة جمعها المصنف في خمسة أطراف، وسبيل ضبطها أن البيع إما صحيح أو فاسد، وبتقدير الصحة فهو إما جائز أو لازم، وعلى التقديرين فإما أن يقترن به القبض أو لا يقترن، وعلى التقديرين فالألفاظ المستعملة فيه إما التي تتأثَّرُ بقرائن عُرْفِيَّة تقتضي زيادة على موجب اللُّغة أو نقصاناً، وإمَّا غيرها، وعلى التقديرين فالمتبايعان قد يكونا حُرّين، وقد يكون أحدهما رقيقاً، وباعتبار آخر قد يعرض لهما الاختلاف في كيفية البيع وقد لا يعرض، والأحكام تختلف بحسب هذه الأحوال، فالطَّرف الأول في الصِّحَّة والفساد. والثاني: في الجواز واللزوم. والثالث: في حكم البيع قبل القبض وبعده. والرابع: في الألفاظ المُتَأثِّرَة بالقرائن. والخامس: في مُدَاينة العَبِيد واختلاف المُتَبايعين. والطرف الأول في صحة البيع (¬2) وفساده: وفيه أبواب: ¬
أحدها: في أركانه وهي ثلاثة ترجمها في "الوسيط" فقال: هي العاقد، والمعقود عليه، وصيغة العقد، فلا بد منها لوجود صورة العقد هذا لفظه. ولك أَنْ تبحث فتقول: إنْ كان المراد أنه لا بد من وجودها لتدخل صورة البيع في الوجود، فالزَّمان والمَكَان وكثير من الأمور بهذه المثابة فوجب أن تعد أركاناً، وإن كان المراد أنه لا بد من حضورها في الذهن ليتصور البيع، فلا نسلم أن العاقد والمعقود عليه بهذه المثابة، وهذا لأن البيع فعل من الأفعال، والبائع لا يدخل في حقيقة الفعل، ألا ترى أنا إذا عددنا أركان الصلاة والحج، لم نعد المصلي والحاج في جملتها، وكذلك مورد الفِعْل، بل الأشبة أن الصِّيغَة أيضاً ليست جزءاً من حقيقة فعل البيع، أَلاَ تَرَى أنه ينتظم أن يقال: هل المعاطاة بيع أم لا؟ ويجيب عنه مسؤول بلا، وآخر بنعم. والوجه أن يقال: البيع مقابلة مال بمال، وما أشبه ذلك فيعتبر في صحته أمور. منها: الصيغة. ومنها: كون العاقد بصفة كيت وكيت. ومنها: كون المعقود عليه كذا وكذا. ثم أحد الأركان على ما ذكره الصِّيغة، وهي الإيجاب من جهة البائع، بأن يقول: بعت أو اشتريت، أو "ملكتك"، وفي "ملكت" وجه منقول عن "الحَاوِي"، والقبول من جهة المشتري بأن يقول: قبلت، ويقوم مقامه "ابتعت" و"اشتريت" و"تملكت"، ويجري في "تملكت" مثل ذلك الوجه. وإنما جعلنا قوله: "ابْتَعت" وما بعده قائماً مقام القبول، ولم نجعله قبولاً لما ذكره إمام الحرمين، من أن القبول على الحَقِيقَة ما لا يتأتى الابتداء به.
فأما إذا أتى بما يتأتى الابتداء به، فقد أتى بأحد شِقّي العقد، ولا فرق بين أن يتقدم قول البائع: "بعت" على قول المشتري: "اشتريت"، وبين أن يتقدم قول المشتري: "اشتريت" فيصح البيع في الحالتان، ولا يشترط اتفاق اللَّفظين، بل لو قال البائع: اشتريت فقال المشتري: "تملكت" أو "ابتعت"، أو قال البائع: "ملكت"، فقال المشتري: "اشتريت" صح؛ لأن المعنى واحد. وقوله: "اعتبر للدلالة على الرّضا" يريد به أن المقصود الأصلي هو التَّرَاضي لئلا يكون واحد منهما آكلاً مال الآخر بالباطل، بل يكونا تاجرين عن تَرَاض، على ما قاله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬1) الآية إلا أن الرِّضا يعتبر أمر باطن، يعسر الوقوف علية، فنِيطَ الحكم باللفظ الظاهر، ثم في بعض النسخ "على الرِّضَا الباطن"، وفي بعضها "على الرِّضا في الباطن " وهما صحيحان، ويتعلق بهذه القاعدة مسائل ثلاث: إحداها: المُعَاطاة ليست بيعاً على المذهب المشهور؛ لأن الأفعال لا دلالة لها بالوضع، وقصود الناس فيها تختلف. وعن ابن سريج فيها تخريج قول الشَّافِعِي -رضي الله عنه- أنه يكتفي بها في المُحقرات؛ لأن المقصود الرِّضَا، (وبالقرائن) يعرف حصوله، وبهذا أفتى القاضي الروياني (وغيره) وذكروا المستند التخريج صوراً: منها: لو عَطِبَ الهَدْي في الطريق فغمس النَّعل الذي قَلَّده بها في الدَّم وضرب بها صَفْحَة سَنَامه، هل يجوز لِلمَارّين الأكل منه؟ ذكرنا فيه قولين وخلافاً سيأتي في موضعه -إن شاء الله تعالى-. ومنها: لو قال لزوجته: إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق، فوضعت الألف بين يديه ولم تتلفَّظ بشيء يملكه ويقع الطَّلاَق، وفي الاستشهاد بهذه الصورة نظر. ومنها: لو قال لغيره: اغسل هذا الثَّوْب فغسله وهو ممن يعتاد الغسل بالأجرة، هل يستحق الأجر فيه؟ خلاف سيأتي ذكره في موضعه، ثم مَثَّلُوا المُحقِّرات بالتّافة من البَقْل، والرَّطل من الخبز، وهل من ضابط؟ سمعت والدي -رحمه الله تعالى- وغيره يحكي ضابطها بما دون نِصَاب السَّرقة، والأشبه الرجوع فيه إلى العادة، فما يعتاد فيه الاقتصار على المُعَاطاة بيعاً ففيه التَّخريج، ولهذا قال صاحب "التَّتمة" مُعَبراً عن التَّخريج: ما جرت العادة فيه بالمعاطاة فهي بيع ¬
فيه، وما لا كَالدَّوَاب والجَوَاري والعَقَار فلا. وإذا قلنا بظاهر المذهب، فما حكم الذي جرت العادة من الأخذ والعطاء؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه إباحة، وبه أجاب القاضي أبو الطيب -رحمه الله تعالى- حين سأله ابن الصَّبَّاغ عنه، قال: فقلت له: لو أخذ بقطعة ذهب شيئاً فأكله ثم عاد يطالبه بالقطعة، هل له ذلك؟ قال: لا، قلت: فلو كان إباحة لكان له ذلك، قال إِنَّما أَباح كل واحد منهما بسبب إباحة الآخر له. قلت: فهو إذاً معاوضة، وأصحهما: أن حكمه حكم المقبوض بسائر العقود الفاسدة، فلكل واحد منهما مطالبة الآخر بما سلمه إليه ما دام باقياً، ويضمانه إن كان تالفاً فلو كان الثَّمن الذي قبضه البَائع مثل القِيْمة، فقد قال المصنف في "الإحياء": هذا مستحق ظَفَرَ بمثل حقه والمالك راض، فله تملكه لا محالة. وعن الشيخ أبي حامد: أنه لا مطالبة لواحد منهما على الآخر، وتبرَّأَ ذمتهما بِالتَّرَاضي، وهذا يشكل بسائر العقود الفاسدة فإنه لا بَرَاءَة، وإن وجد الرِّضَا. وقوله: "فلا تكفي المُعَاطَاة أصلاً" مُعَلَّم بالواو والحاء والميم، لأن أبا حنيفة يجعلها بيعاً في المُحَقرات الَّتِي جرت العَادَةُ فيها بِالاكْتِفَاء بالأَخْذِ والعَطَاء. وقال مالك: ينعقد البَيْع بكل ما يعده النَّاس بيعاً، واستحسنه ابْنُ الصَّبَّاغ. المسألة الثّانية: لو قال: "بعني"، فقال البائع: "بعتك"، نظر إن قال بعد ذلك: اشتريت، أو قبلت انعقد البيع لا محالة، وإلاَّ فوجهان في رواية بعضهم، وكذلك أورده المصنف هنا وقولان في رواية آخرين، وكذلك أورده في "النِّكاح". أحدهما: أنه لا ينعقد، وبه قال أبو حنيفة والمُزَنِيّ؛ لأنه يحتمل أن يكون غرضه اسْتِبَانة رغبة البائع في البيع. والثاني: ينعقد وبه قال مالك لأن المقصود وجود لفظ دال على الرضا بموجب العقد، والاستدعاء الجازم دليل عليه، والكلام فيما إذا وجد ذلك. وعن أحد روايتان كالقولين، وفي نظير المسألة من النِّكَاح طريقان مذكوران في مَوْضِعهما، والأصح فيه الانقعاد باتفاق الأئمة. وأما هاهنا فادعى صاحب الكتاب أن الأصح المنع، وفرق بينها بأنَّ النِّكَاح لا يجري معاوضة في الغالب، فتكون الرَّغْبة معلومة من قبل، ويعتبر قوله: زوجني اسْتِدعاء جزماً، والبيع كثير ما يقع معاوضة، لكن الذي عليه الجمهور وترجيح الانعقاد هاهنا أيضاً، ولم تتعرض طائفة لحكاية الخلاف فيه. ولو قال البائع: "اشْتر مِنِّي كذا"، فقال المشتري: "اشْتَرَيت"، فقد سَوَّى بينهما
في "التَّهْذِيب" بين هذه الصورة والصورة السَّابقة، وأورد بعضهم: أنه لا ينعقد البيع، والفرق بينهما بأن قول المشتري "يعني" موضوع للطلب، ويعتبر من جهة الطالب مبتدئاً، أو القبول مجيباً، وقول البائع اشتريت كذا، لم يوضع للبدء ولا للإيجاب، فلا بُدَّ من جهته من بذل أو إيجاب، وبني على هذا أنهما لو تَبَايعا عَبْداً بِعَبْد، وعقدا البيع بلفظ الأمر، فأيهما جعل نفسه باللفظ بائعاً، أو مشترياً لزمه حكمه، حتى لو قال الآمر: "بِعْني عبدك هذا صح لتنزيله نفسه منزلة المشتري ولو قال: اشتر منى عبدي لم يصح لتنزيله نفسه منزلة البائع، ولو قال المشتري تبعني عبدك بكذا أو قال: بعتني بكذا، فقال: بعت لم ينعقد البيع، حتى يقول بعده: اشتريت، وكذا لو قال البائع. "اشْتَرِ داري بكذا"، أو "اشتريت منى داري" فقال: "اشتريت" لا ينعقد، حتى يقول بعده: بِعْتُ. المسألة الثالثة: قال الأئمة: كل تصرف يستقل به الشَّخص، كالطَّلاق والعِتْق والإِبْرَاء فينعقد بالكِنَايات مع النِيَّة انعقاده بالصَّريح، وما لا يستقلُّ به الشخص، بل يفتقر إلى الإِيْجَاب والقبول فهو على ضربين: أحدهما: ما يفتقر إلى الإشهاد، كالنكاح وكبيع الوكيل إذا شرط الموكل عليه الإشهاد، فهذا لا ينعقد بالكناية؛ لأن الشهود لا يطلعون على المقصود والنيات والإشهاد على العقد لا بد منه، وقد يتوقف في هذا التوجيه؛ لأن القرائن بما تتوفر، فيبعد الاطّلاع على ما في باطن الغير. والثاني: ما لا يفتقر إليه فهو أيضاً على ضربين: أحدهما: ما يقبل (مقصودة) التعليق بالغرر كالكتابة والخُلْع، فينعقد بالكناية مع النية. قال الشَّافعي -رضي الله عنه- لو قال لامرأته: أنت بائن يألْفٍ، فقالت: قبلت ونويا صَحَّ الخُلْع. والثَّاني: ما لا يقبل كالبَيْع والإجَارَة وغيرهما، وفي انعقاد هذه التصرفات بالكناية مع النية وجهان: أحدهما: لا ينعقد؛ لأن المخاطب لا يدري بِمَ خوطب؟ وأظهرهما: أنه ينعقد كما في الكِتَابة والخُلْع. ومثال الكناية في البَيْع؛ أن يقول خذه، أو تسلمه منى بألف أو أدخله في مِلْكك أو جعلته لك بكذا ملكاً، وما أشبه ذلك، ولو قال: سلطتك عليه بألف، فهل هو من الكنايات أم لا؟ كما لو قال: أبَحْتُه لك بألف اختلفوا فيه، ولو كتب إلى غائب بالبيع ونحوه ترتب ذلك على أن الطَّلاق هل يقع بالكتابة؟ إن قلنا: لا يقع، فهذه العقود أولى بأن لا تنعقد.
وإن قلنا: نعم، فوجهان في انعقادها بالكنايات. فإن قلنا: تنعقد، فالشرط أن يقبل المكتوب إليه، كما اطَّلع على الكتاب على الأصح ليقترن القبول بالإيجاب بحسب الإمكان، ولو تبايع حاضران بالكتابة ترتب ذلك على حال النية، إن منعنا فهاهنا أولى، وإلاَّ فوجهان، وحكم الكِتَابَةِ على القِرْطَاس والرّقِّ واللَّوْح والأَرْض والنَّقْش على الحَجَرِ والخَشَبِ واحد، ولا عبرة بِرَسْمِ الأحرف على الماء، وألَّفُوا في مُسْوَدَّات بعض أئمة طَبَرَسْتَانَ تفريقاً على انعقاد البيع بالكتابة، أنه لو قال: بعت من فلان وهو غائب، فلما بلغه الخبر قال: قلت ينعقد البيع، لأن النطق أقوى من الكتابة. وقال أبو حنيفة: لا ينعقد، نعم لو قال: بعت من فلان، وأرسل إليه رسولاً بذلك فأخبره فقيل: انعقد كما لو كاتبه. قال الإمام: والخلاف في البيع ونحوه هل ينعقد بالكتابة مع النية مفروض فيما إذا انعدمت قرائن الأحوال. فأمَّا إذا توفَّرَتْ وأفادت التفاهم فيجب القطع بالصحة، نعم النِّكاح لا يصح بالكتابة، وإن توفرت القرائن لأمرين: أحدهما: أن الإثبات عند الجحود من مقاصد الإِشْهَاد، وقرائن الحال لا تنفع فيه. والثاني: أن النكاح مخصوص بضرب من التَّعبد والاحتياط لحرمة الأَبْضَاع، وفي البيع المقيد بالإشهاد، وذكر في "الوسيط" أن الظاهر انعقاده عند توفُّر القرائن، وهذا نظر منه في النكاح إلى معنى التعبد دون وقع الجحود. وقوله في الكتاب: "الصِّيْغَة وهي الإيجاب والقبول" يقتضي اعتبار الصيغتين فيما إذا باع الرجل مال ولده من نفسه، أو بالعكس، نظراً إلى إطلاق اللفظ، وفيه وجهان توجيههما في غير هذا الموضع، فإن اكتفينا بصيغة واحدة، فالمراد ما عدا هذه الصُّورَة، ويتعلق بالصيغة مسائل أخر سكت عنها في الكتاب. إحداها: يشترط أن لا يطول الفصل بين الإيجاب والقبول، ولا يتخللهما كلام أجنبي عن العقد، فإن طال أو تخلل لم ينعقد، سواء تفرَّقَا عن المجلس أم لا، ولو مات المشتري بعد الإيجاب وقبل القبول ووارثه حاضر فوجهان عن الدَّاركيّ: أنه يصح، والأصح: المنع. الثانية: يشترط أن يكون القبول على وفق الإيْجَاب حتى لو قال: "بعت بألف صحيحة" فقال: "قبلت بألف قراضاً" أو بالعكس، أو قال: "بعت جميع كذا بألف" فقال: "قبلت نصفه بخمسمائة" لم يصح.
ولو قال: "بعتك هذا بألف" فقال: "قبلت نصفه بخمسمائة ونصفه بخمسمائة" فقد قال في "التتمة": يصح؛ لأن هذا تصريح بمقتضى الإطلاق ولا مخالفة، ولك أن تقول إشكالاً سيأتي القول في أن تفصيل الثمن من موجبات تعدد الصفقة، وإذا كان كذلك فالبائع هاهنا أوجب بَيْعَةً واحدة، والقابل قبل بيعتين لم يوجبهما البائع، ولا يخفى ما فيه من المخالفة. وفي "فتاوى القَفَّال" أنه لو قال: بعتك بألف درهم، فقال: "اشتريت بألف وخمسمائة" يصح البيع وهو غريب. الثالثة: لو قال المتوسط للبائع: "بعت بكذا"، فقال: "نعم" أو بعت، وقال للمشتري: "اشتريت بكذا"، فقال: "نعم"، أو "اشتريت"، هل ينعقد البيع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، لأن واحداً منهما لم يخاطب الآخر. وأظهرهما: ما دَلَّ عليه إيراد صاحب "التهذيب" والرُّويَاني: الانعقاد لوجود الصيغة والتراضي. الرابعة: لو قال: "بعت منك هذا بألف"، فقال: قبلت صح البيع بخلاف النكاح يشترط فيه على رأي أن يقول: "قبلت نكاحها" احتياطاً للأَيْضَاع. الخامسة: لو قال: "بعت هذا بألف إن شئت" فقال: "اشتريت" فوجهان: أحدهما: أنه لا ينعقد لما فيه من التَّعْليق، كما لو قال: "إن دخلت الدَّار". وأظهرهما: أنه ينعقد، لأن هذه صفة يقتضيها إطلاق العقد، فإنه لو لم يشأ لم يَتَيَسَّر. السادسة: يصح بيع الأَخْرَس وشراؤه بالإشارة والكتابة، وهذا يبيّن أن الصيغة بخصوصها ليست داخلة في البيع نفسه. واعلم: أن جميع ما ذكرناه فيما ليس بِضِمْني من المُبَايَعات، فأما البيع الضِّمْني فيما إذا قال: أعتق عبدك عني علي بألف فلا يعتبر فيه الصيغ التي قدمناها، ويكفي فيه الالتماس، والجواب لا محالة -وبالله التوفيق-. قال الغزالي: الرُّكْنُ الثَّانِي العَاقِدُ وَشَرْطُهُ التَّكْلِيفُ فَلاَ عِبَارَةَ لِصَبِيِّ (ح م) وَلاَ مَجْنُونِ بِإذْنِ الوَلِيِّ وَدُونَ إِذْنِهِ، وَكَذَلِكَ لاَ يُفِيدُ قَبْضُهُمَا المِلْكَ في الهِبَةِ، وَلاَ تَعَيُّنَ الحَقِّ في اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ وَيُعْتَمَدُ إِخْبَارُهُ عَنِ الإِذّنِ عِنْدَ فَتْحِ البَابِ، وَالمِلْكِ عِنْدَ إِيصَالِ الهَدِيَّةِ عَلَى الأَصَحِّ. قال الرافعي: لفظ العاقد بنظم البائع والمشتري، ويعتبر فيهما لصحَّة البيع
التكليف (¬1)، فلا ينعقد البيع بعبارة الصَّبي والمجنون لا لنفسهما ولا لغيرهما، سواء كان الصبي مميزاً أو غير مميز، سواء باشر بإذن الولي أو دون إذنه، ولا فرق بين بيع الاختبار وغيره على ظاهر المذهب، وبيع الاختبار هو الذي يمتحنه الولي ليستبين رشده عند مُنَاهَزَة الحلم، ولكن يفوض إليه الاستيام وتدبير العقد، فإذا انتهى الأمر إلى اللفظ أتى به الولي. وعن بعض أصحابنا: تصحيح بيع الاختبار. وقال أبو حنيفة: إن كان مميزاً وباع أو اشترى بغير إذن الولي انعقد موقوفاً على إجازته، وإن باع بإذنه نفذ، ويكون دالاًّ على أن الولي أذن له في التصرف في ماله، ومتصرفاً لنفسه إن أذن له في التَّصرف في مال نفسه، حتى لو أذن له في بيع ماله بالغَبْن فَبَاعَ نفذ، وإن كان لا ينفذ من الولي، ووافقه أحمد على أنه ينفذ إذا كان بإذن الولي، لنا أنه غير مكلف فلا ينعقد بيعه وشراؤه كالمجنون وغير المميز. إذا عرفت ذلك فلو اشترى الصبي شيئاً وقبض المبيع فتلف في يده، أو أتلفه لا ضَمَان عليه في الحال ولا بعد البلوغ، وكذا لو استقرض مالاً؛ لأن المالك هو المضيع بالتسليم إليه، وما داما باقيين فللمالك الاسترداد، ولو سلم ثمن ما اشتراه فعلى الولي استرداده، والبائع يرده على الولي، فإن رده على الصبي لم يبرأ عن الضمان، وهذا كما لو عرض الصبي ديناراً على صَرَّاف ليَنْقُدَهُ أو متاعاً على مُقوِّم ليقوِّمه، فإذا أخذه لم يجز له رده على الصَّبي، بل يرده على وليه إن كان للصبي، وعلى مالكه إن كان له مالك، فلو أمره ولي الصبي بدفعه إليه، فدفعه سقط عنه الضمان إن كان المِلْك للولي، وإن كان للصبي فلا كما لو أمره بإلقاء مال الصبي في البحرِ ففعل يلزمه الضَّمَان. ¬
ولو تبايع صِبيَّان وتقابضا، فأتلف كل واحد منهما ما قبضه نظر، إن جرى ذلك بإذن الوليين فالضمان عليهما، وإلاَّ فلا ضمان عليهما، وعلى الصبيينِّ الضمان؛ لأن تسليمهما لا يعدُّ تسليطاً وتضييعاً، ثم في الفصل مسألتان: إحداهما: كما لا ينفذ بيع الصبي وشراؤه، لا ينفذ نكاحه وسائر تصرفاته، نعم في تَدْبير المميّز ووصيته خلاف مذكور في "الوَصَايا"، وإذا فتح الباب وأخبر عن إذن أهل الدار في الدخول، أو أوصل هدية إلى إنسان وأخبر عن إهداء مهديها، فهل يجوز الاعتماد عليه؟ نظر إن انضمت إليه قرائن أورثت العلم بحقيقة الحال، جاز الدخول والقبول، وهو في الحقيقة عمل بالعلم لا يقوله وإن لم تنضم، نظر إن كان كلاماً غير مأمون القول فلا يعتمد، وإلا فطريقان: أحدهما: تخريجه على وجهين ذكراً في قبول روايته. وأصحهما: القطع بالاعتماد تمسكاً بعادة السلف، فإنهم كانوا يعتمدون أمثال ذلك ولا يضيقون فيها. وقوله في الكتاب: "على الأصح في هاتين الصورتين" يجوز أن يريد به من الوجهين جواباً على الطريق الأول، ويجوز أن يريد من الطريقين ذهاباً إلى الثاني. الثانية: كما لا تصح تصرُّفَاته اللَّفظية لا يصح قبضه في تلك التصرفات، فإن للقبض من التأثير ما ليس للعقد، فلا يفيد قبضة الموهوب الملك له، وإن اتّهب له الولي ولا لغيره إذا أمره الموهوب منه بالقبض له، ولو قال مستحق الدين لمن عليه الدين: "سلّمْ حقّي إلى هذا الصبي" فسلم قدر حقه لم يبرأ عن الدَّين، وكان ما سلمه باقياً على ملكه، حتى لو ضاع منه فلا ضمان على الصَّبي، لأن المالك ضيَّعه حيث سلمه إليه، وإنما بقي الدَّين بحاله؛ لأن الدَّين مرسل في الذِّمة لا يتعيَّن إلا بقبض صحيح، فإذا لم يصح القبض لم يزل الحق المطلق عن الذمة، كما إذا قال لمن عليه الدَّين: "أَلْقِ حقي في البحر" فألقى قدر حقه لا يبرأ، ويخالف ما إذا قال مالك الوديعة للمودع: "سلّم مالي إلى هذا الصبي" فسلم خرج عن العهدة؛ لأنه امتثل أمره في حقه المتعيّن، كما لو قال: "أَلْقِها في البحر" فامتثل، ولو كانت الوديعة لصبي فسلَّمها إليه ضمن سواء كان بإذن الولي أو دون إذنه، إذ ليس له تضييعُها وإن أمره الولِيُّ به. قال الغزالي: أَمَّا إِسْلاَم العَاقِدِ فَلاَ يُشْتَرَط إِلاَّ إِسْلاَمُ المُشْتَرِي في شِرَاءِ العَبْدِ المُسْلِمِ وَالمُصْحَفِ (ح) عَلَى أَصَحِّ القَوْلَيْنِ دَفعاً لِلذُّلِّ، وَيَصِحُّ شِرَاءُ الكَافِرِ أَبَاهُ المُسْلمَ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شِرَاءٍ يَسْتَعْقِبُ العِتَاقَةَ، وَيَصِحُّ اسْتِئْجَارُهُ وَارْتِهَانهُ لِلعَبْدِ المُسْلِمِ عَلَى أَقْيَسِ الوَجْهَيْنِ، لِأَنَّهُ لاَ مِلْكَ فِيهِ كَالإِعَارَةِ وَالإِيدَاعِ عِنْدَهُ، وَلاَ يَمْنَعُ مِنَ الرَّدِّ
بالعَيْبِ، وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ انْقِلاَبَ العَبْدِ المُسْلِمِ إِلَى الكَافِرِ عَلَى أَظْهَرِ المَذْهَبَيْنِ؛ لِأَنَّ المِلْك فِيهِ قَهْرِيٌّ كَمَا في الإِرْثِ. قال الرافعي: إسلام البائع والمشتري ليس بشرط في صحة مطلق البيع والشراء، لكن لو اشترى الكافر عبداً مسلماً ففي صحَّته قولان: أصحهما: وبه قال أحمد وهو نصه في "الإملاء": أنه لا يصح، لأن الرِّقَّ ذل، فلا يصح إثباته للكافر على المسلم كما لا ينكح الكافر المسلمة. والثاني: وبه قال أبو حنيفة: أنه يصح؛ لأنه طريق من طرق المِلْك، فيملك به الكافر على المسلم كالإرْث. والقولان جاريان فيما لو وهب منه عبد مسلم فقبل، أو وصى له بعبد مسلم، قال في "التَّتمة": هذا إذا قلنا: الملك في الوصية يحصل بالقبول. فإن قلنا: يحصل بالموت ثبت بلا خلاف كالإرث، ولو اشترى مصحفاً أو شيئاً من أخبار الرسول -صلى الله عليه وسلم- ففيه طريقان: أحدهما: وبه أجاب في الكتاب: طرد القولين: وأظهرهما: القطع بالبطلان، والفرق أن العبد يمكنه الاستغاثة ودفع الذل عن نفسه. قال العراقيون: والكتب التي فيها آثار السَّلف -رضي الله عنهم- كالمصحف في طرد الخلاف، ولا منع من بيع كتب أبي حنيفة من الكافر لخلوها من الآثار والأخبار. وأما كتب أصحابه -رضي الله عنهم- فمشحونة بها فحكمها حكم سائر الكتب المشتملة عليها، وامتنع المَاوِرْدِيُّ في "الحَاوِي" من إلحاق كتب الحديث والفقه بالمصحف، وقال: إن بيعها منه صحيح لا محالة. وهل يؤمر بإزالة الملك عنها؟ فيه وجهان (¬1): التفريع: إن قلنا: لا يصح شراء الكافر العبد المسلم، فلو اشترى قريبه الَّذي يعتق عليه كأبيه وابنه ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح أيضاً، لما فيه من ثبوت الملك للكافر على المسلم. وأصحهما: الصحة، لأن الملك المستعقب للعِتْق شاء المالك أو أبى ليس بإذلال، أَلاَ تَرَى أن للمسلم شراء قريبه المسلم، ولو كان ذلك إذلالاً لما جاز له إذلال ¬
ابنه، والخلاف جَارٍ في كل شيء يستعقب العتق، كما إذا قال الكافر لمسلم: "أعتق عبدك المسلم عني بعوض أو بغير عوض فأجابه إليه، وكما إذا أقر بحريّة عبد مسلم في يد غيره ثم اشتراه، ورتب الإمام الخلاف في هاتين الصورتين على الخلاف في شراء القريب، وقال الأول منهما أولى بالصحة؛ لأن الملك فيها ضِمْني، والثانية أولى بالمنع؛ لأن العتق وإن حكم به فهو ظاهر غير محقق بخلاف صورة القريب، فإن العتق لا يحصل عقب الشراء، وإنما يزول الملك بإزالته، ومنهم من جعله على وجهي شراء القريب، ويجوز أن يستأجر الكافر المسلم على عمل في الذمة، لأنه كدين في ذمته، وهو بسبيل من تحصيله بغيره، وإن كانت الاجارة على العين، ففيه وجهان حرّاً كان الأجير أو عبداً. أحدهما لا تصح، لأنها لو صحت لاستحق استعماله، وفيه إذلال له فصار كالشراء على القول الذي عليه التَّفْرِيع. وأظهرهما: الصحة؛ لأن الإجارة لا تفيد ملك الرَّقَبة، ولا تسلطاً تامّاً، وهو في يد نفسه إن كان حرّاً، وفي يد مولاه إن كان عبداً، وإنما استوفى منفعته بعوض. وعلى هذا فهل يؤمر بإزالة ملكه عن المنافع بأن يؤجره من مسلم؟ فيه وجهان: جواب الشيخ أبي حامد منهما: أنه يؤمر (¬1). وذكر في صحة ارتهان الكافر العبد المسلم وجهين، وأعادهما مع زيادة في "كتاب الرهن"، ونوجههما ثم إن شاء الله تعالى، ولا خلاف في جواز إعارته منه وإيداعه، لأنه ليس فيهما ملك رقبة ولا منفعة ولا حق لازم (¬2). وإذا باع الكافر عبداً مسلماً كان قد أسلم في يده أو ورثه بثوب، ثم وجد بالثوب عيباً فهل له أن يرده ويسترد العبد؟ حكى الإمام فيهما وجهين، وتابعه المصنف في "الوسيط". والحق أن له رد الثوب لا محالة، والوجهان في استرداد العبد، وهكذا نقله صاحب "التهذيب" وغيره. أحدهما: أنه ليس له استرداده، وإلا كان متملكاً للمسلم بسبب اختياري، فعلى هذا يسترد القيمة ويجعل العبد كالهالك. وأظهرهما: على ما ذكره صاحب الكتاب أن له ذلك، لأن الاختيار في الرد. أما عود العوض إليه فهو قهري كما في الإرث هكذا وجهه في "الوسيط" وفيه إشكال لأنا لا نَفْهَم من الملك القهري سوى الذي يتعلق سببه بالاختيار، ومن الاختياري ¬
سوى الذي يتعلق سببه بالاختيار، وإلا فنفس الملك بعد تمام السبب قهري أبداً، ومعلوم أن عود الملك بهذا التفسير اختياري لا قهري، والأصوب في توجيهه ما قيل أن الفسخ بالعيب يقطع العقد، ويجعل الأمر كما كان وليس كإنشاء العقود، ولهذا لا تثبت به المنفعة، فإذا كان الأمر كذلك كان نازلاً منزلة استدامة الملك، ولو وجد المشتري بالعبد عيباً والتصوير كما ذكرنا، فأراد رده واسترداد الثوب، فقد حكى الإمام عن شيخه طرد الخلاف؛ لأنه كما لا يجوز للكافر تملك المسلم لا يجوز للمسلم تَمْلِيك المسلم إِيَّاه، وعن غيره القطع بالجواز، إذ لا اختبار للكافر هاهنا في التملك بحال. وقوله في الكتاب: "ولا يمنع من الرد بالعيب" إلى آخره، ينظم الصورتين اللتين ذكرناهما، لكن التوجيه المذكور في الثانية أظهر. ولو باع الكافر العبد المسلم ثم تقابلا، ففيه الوجهان، إن قلنا: الإقالة فسخ، وإن قلنا: إنها بيع لم ينفذ، ولو وكل كافر مسلماً ليشتري له عبداً مسلماً لم يصح، لأن العقد يقع للوكيل أوّلاً، وينتقل إليه آخراً، ولو وكل مسلم كافراً ليشتري له عبداً مسلماً، فإن سمي الموكّل في الشراء صح، وإلاّ فإن قلنا: يقع الملك للوكيل أولاً لم يصح، وإن قلنا: يقع للموكل صح، وهل يجوز أن يشتري الكافر العبد المرتد؟ فيه وجهان لِبقاء علقة الإسلام، وهذا كالخلاف في أن المرتد هل يقتل بالذمي؟ وإذا اشترى الكافر عبداً كافراً فأسلم قبل القبض، هل يبطل البيع؟ كما لو اشترى عصيراً فتخمر قبل القبض أَوْلاً يبطل كما إذا اشترى عبداً فأبق قبل القبض؟ فيه وجهان؟ وإن قلنا: لا يبطل فهل يقبضه المشتري؟ أو ينصب الحاكم من يقبض عنه، ثم يأمره بإزالة الملك فيه وجهان: جواب القفال منهما في "فتاويه": أنه لا يبطل ويقبضه الحاكم وهو الأظهر، هذا كله تفريع على قول المنع. أما إذا صححنا شراء الكافر العبد المسلم، نظر إن علم الحاكم به قبل القبض فيمكِّنه من القبض، أو ينصب مسلماً يقبض عنه فيه وجهان، ثم إذا حصل القبض أو علم به بعد القبض أمره بإزالة الملك على الوجه الذي في الفصل التالي لهذا الفصل -إن شاء الله تعالى-. قال الغزالي: وَلَوْ أَسْلَمَ عَبْدٌ لكَافِرٍ طُولِبَ بِبَيْعِهِ، فَإِنْ أَعْتَقَ أَوْ أَزَالَ المِلْكَ عَنْهُ بِجِهَةٍ كَفَى، وَتَكْفِي الكِتَابَةُ عَلَى أَسَدِّ الوَجْهَيْنِ، وَلاَ تكْفِي الحَيْلُولَةُ والإِجَارَةُ وِفاقاً إِلاَّ في المُسْتَوْلَدَة لأَنَّ الإعْتَاقَ تَخْسِيرٌ وَالبَيْعِ مُمْتَنِعٌ (و)، ثُمَّ يَسْتَكْسِبُ بَعْدَ الحَيْلُولَةِ لِأَجْلِهِ، وَلَوْ مَاتَ الكَافِرُ قَبْلَ البَيْعِ بِيعَ عَلَى وَارِثهِ.
قال الرافعي: إذا كان في ملك الكافر عبد كافر وأسلم لم يقر في يده دفعاً للذل عن المسلم، وقطعاً لسلطنة الكافر عنه. قال الله عز وجل: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (¬1) ولا يحكم بزوال ملكه، بخلاف ما إذا أسلمت المرأة تحت الكافر؛ لأن ملك النَكاح لا يقبل النقل من شخص إلى شخص فتعين البطلان، وملك الثمن يقبل النقل، وبه يحصل دفع الذل فيصار إليه، ويؤمر بإزالة ملكه عنه ببيع أو عتق أو هبة أو غيرها، فأي جهة أزال الملك حصل الغرض، ولا يكفي الرهن والتزويج والإجارة والحَيْلولة، وهل تكفى الكتابة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، لاستمرار الملك على رقبة المُكَاتب. وأظهرهما: نعم، لأن الكتابة تفيد الاستقلال، ويقطع حكم السَّيد عنه. فإن قلنا بهذا فالكتابة صحيحة، وإن قلنا بالأول فوجهان: أحدهما: أنها فاسدة ويباع العبد. والثاني: أنها صحيحة إن جوزنا بيع المكاتَب بيع مكاتَباً، وإلا فسخت الكتابة وبيع، فإن امتنع الكافر من إزالة المِلْك عنه باعه الحاكم عليه بثمن المثل، كما يبيع مال الممتنع من أداء، الحق، فإن لم يتفق الظّفر لمن يبتاعه بِثَمَن المثل فلا بد من الصبر، ويحال بينه وبين الكافر إلى الظهر ويتكسب له وتؤخذ نفقته منه. هذا كله في المملوك القِنّ. أما إذا أسلمت مُسْتولدة الكافر فلا سبيل إلى نقلها إلى الغير بالبيع والهبة ونحوهما على المذهب الصحيح، وهل يجبر على إعتاقها؟ فيه وجهان: احدهما: نعم لأنها مستحقة العِتَاقَة، فلا يبعد أن يؤثر عُرُوض الإسلام في تقديمها. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب: لا لما فيه من التخيير، فعلى هذا يحال بينهما وينفق عليها وتتكسب له في يد غيره. ولو مات الكافر الذي أسلم العبد في يده صار العبد إلى وارثه ويؤمر بما كان يؤمر به المورث، فإن امتثل فذاك وإلاّ بيع عليه كما ذكرنا في المورث (¬2)، وليس قوله في ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الكتاب: "بيع على وارثه" تخصيصاً للبيع القهري بالوارث فاعرف ذلك. وقوله: "والحيلولة وفاقاً"، لفظ الوفاق لا يتعلق به كثير غرض. قال الغزالي: الرُّكْنُ الثَّالِثُ المَعْقُودُ عَلَيْهِ وَشَرَائِطُهُ خَمْسَةٌ، أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، مُنْتَفِعاً بِهِ، مَمْلُوكاً لِلعَاقِدِ، مَقْدُوراً عَلَى تَسْلِيمِهِ، مَعْلُوماً الأَوَّلُ الطَّهَارَةُ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ السِّرْجَيْنِ (م ح) وَالكلْبِ (م ح) وَالخِنْزِيرِ وَالأَعْيَانِ النَّجِسَةِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الخَمْرِ وَالعَذِرَة وَالجِيفَةِ وِفَاقًا وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ، وَالدُّهْنُ إِذَا نَجُسَ بِمُلاقَاةِ النَّجَاسَةِ صَحَّ بَيْعُهُ (م) وَجَازَ اسْتِصْبَاحُهُ عَلَى أَظْهَرِ القَوْلَيْنِ. قال الرافعي: يعتبر في المبيع ليصح بيعه شروط: أحدها: الطَّهارة، فالشيء النجس ينقسم إلى ما هو نجس العين، وإلى ما هو نجس بعارض. فأما القسم الأول فلا يصح بيعه، فمنه الكلب والخنزير، وما تولد منهما أو من أحدهما. رُوِي عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَّهُ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ" (¬1). وروى جابر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللهَ عَزَّ وجلَّ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخَنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ" (¬2) ولا فرق بين أن يكون الكلب معلماً أو غير معلّم وبهذا قال أحمد. وعن أبي حنيفة -رضي الله عنه- يجوز بيع الكلب إلا أن يكون عقوراً ففيه روايتان. وعن أصحاب مالك اختلاف فيه منهم من لم يجوزه، ومنهم من جوز بيع الكلب المأذون في إمساكه. ومنه: السِّرْجِين (¬3) والبَوْل لا يجوز بيعهما، كما لا يجوز بيع الميتة والعَذِرَة، والجامع نجاسة العين، وساعدنا أحمد فيما نذهب إلى نجاسته منهما. وقال أبو حنيفة: يجوز بيع السِّرْجين (¬4). ¬
وقوله في الكتاب: "كما لا يجوز بيع الخمر والعَذِرَة والجِيفَة وفاقاً وإن كان فيها منفعة"، أشار به إلى الجواب عن عذر يبديه أصحاب أبي حنيفة إذا احتججنا عليهم في المنع من بيع الكلب والسرجين بالقياس على بيع الخمر والعذرة والجيفة، فإنها لما كانت نجسة العين امتنع بيعها بالاتفاق، قال: ليس لزاعم منهم أن يزعم أن المنع من البيع في صورة الوفاق، إنما كان لخلوهما عن المنفعة؛ لأن كل واحد منهما لا يخلو عن ضرب منفعة. أما الخمر فبغرض أن تصير فلا تكون عارية عن المنفعة في الحال، ألا ترى أن الصغير اليوم منتفع به لما يتوقع حال كبره، وأما العَذِرَة فإنها يسمدُ بها الأرض، وأما الجيفة فتطعم منها جوارح الصيد، ثم المنع من بيع الجيفة ليس متفقاً عليه في جميع أجزائها؛ لأن الحكاية عن أبي حنيفة تجويز بيع جلدها قبل الدِّبَاغ، وإنما المتفق عليه اللحم، ويجوز بيع الفَيْلَج (¬1) وفي باطنه الدود الميتة؛ لأن إبقاءها فيه من مصالحها، كالحيوان يصح بيعه والنجاسة في باطنه، وفي بيع بَزْر القز وَفَأْرَةِ المِسْك خلاف مبني على الخلاف السابق في طهارتها وأما القسم الثاني وهو: ما نجس بعارض فهو على ضربين: أحدهما: النجس الذي يمكن تطهيره كالثوب النجس والخشبة النجسة والآجر النجس بملاقاة النجاسة، فيجوز بيعها؛ لأن جوهرها طاهر، وازالة النجاسة عنه هَيِّنة، نعم ما استتر بالنجاسة التي وردت عليها يخرج بيعه على بيع الغائب. والثاني: ما لا يمكن تطهيره كالخَلِّ، واللَّبن والدَّبْس إذا تنجَّست لا يجوز بيعها (¬2) كما لا يجوز بيع الخَمْر والبَوْل والدُّهْن (¬3) النَّجِس، إن كان نجس العين فلا سبيل إلى بيعه بحال، وذلك كدهن الميتة، وإن نجس يعارض ففي بيعه خلاف مبني على أنه هل يمكن تطهيره؟ ¬
فعن ابن سريج وأبي إسحاق: يمكن تطهيره، وعن صاحب "الإيضاح" وغيره: أنه لا يمكن، وهو الأظهر فعلى هذا لا يجوز بيعه، وعلى الأول فيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز كالثوب النجس، ويُحْكى عن ابن أبي هريرة. وأصحهما: وبه قال أبو إسحاق: لا يجوز، لما روي "أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْفَأْرَةِ تَمُوتِ في السَّمْنِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ جَامِداً فَألْقُوهَا، وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ ذَائِباً فَأَرِيقُوهُ" (¬1). ولو كان جائزاً لما أمرنا بإراقته، وهذا أجود ما يحتج به على امتناع التطهير. وخرجوا على هذين الوجهين بيع الماء النجس؛ لأن تطهيره بالمكاثرة ممكن، وأشار بعضهم إلى الجزم بالمنع، وقال: إنه ليس بتطهير، ولكنه يستحيل ببلوغه قلتين من صفة النجاسة إلى الطهارة كالخمر يتخلل. واعلم: أن هذا الخلاف صادر ممن يجوز بيع الماء في الجملة. أما من منع بيعه مطلقاً على ما ستعرفه فلا فرق عنده بين الطاهر والنجس منه. وذكر الإمام بناء مسألة الدُّهن على وجه آخر فقال: إن قلنا: يمكن تطهيره جاز بيعه، وإلا ففيه قولان (¬2) مبنيان على جواز الاستصباح. واعلم: أن مسألة كون الاستصباح مكروهاً قد مرت بشرحها، مرة في آخر "صلاة الخوف". وقوله: "إذا نجس بِمُلاَقاة النجاسة". التقييد يكون نجاسته بالملاقاة محتاج إليه ليجيء القولان في البيع وغير محتاج إليه ليجيء القولان في الاستصباح لما سبق. وقوله: "على أظهر القولين" غير مساعد عليه في البيع، بل الظاهر عند الأصحاب منعه وبه قال مالك وأحمد خلافاً لأبي حنيفة، ويجوز نقل الدهن النجس إلى الغير عند الأصحاب إلى الغير بالوصية كما تجوز الوصيّة بالكلب. وأما هبته والصدقة به فعن القاضي أبي الطيب: منعهما (¬3)، ويشبه أن يكون فيهما ما في هِبَة الكلب من الخلاف. ¬
قال الغزالي: الثَّاني: المَنْفَعَةُ وَبيْعُ مَا لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لِقِلَّتِهِ كَالحَبَّةِ مِنَ الحِنْطَةِ، أَوْ لِخِسَّتِهِ كَالخَنَافِسِ وَالحَشَرَاتِ وَالسِّبَاعِ (و) الّتي لاَ تَصِيدُ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ مَا أَسْقَطَ الشَّرْعُ مَنْفَعَتَهُ كَآلاتِ المَلاَهِي (و)، وَيصِحُّ بَيْعُ الفِيل وَالفَهْدِ وَالهِرَّةِ، وَكَذا المَاءُ (و) وَالتُّرَابُ وَالحِجَارَةُ وَإِنْ كَثُرَ وُجُودُهَا لِتَحَقُّقِ المَنْفَعَةِ، وَيَجُوزُ بَيْعُ (م ح) لَبَنِ الآدَمِيَّاتِ؛ لأَنَّهُ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ. قال الرافعي: الشرط الثاني: كون المبيع منتفعاً به، وإلاَّ لم يكن مالاً وكان أخذ المال مقابلته قريباً من أكل المال بالباطل، ولخلوّ الشي عن المنفعة سببان: أحدهما: القلَّة كالحبة من الحِنْطَة والحبتين والزَّبِيْبَة وغيرهما فإن ذلك القدر لا يعد مالاً، ولا يبذل في مقابلته المال، ولا ينظر إلى ظهور الانتفاع إذا ضمَّ هذا القدر إلى أمثاله، ولا إلى ما يفرض من وضع الحَبَّة الواحدة في الفَخِّ، ولا فرق في ذلك بين زمان الرّخص والغَلاَء، ومع هذا فلا يجوز أخذ الحَبَّة والجَبَّتَيْن من صُبرة الغير، إذ لو جوزناه لا نجر ذلك إلى أخذ الكثير. ولو أخذ الحبة ونحوها، فعليه الرد، فإن تلفت فلا ضمان، إذ لا مالية لها، وعن القفال: أنه يضمن مثلها. والثاني: الخِسَّة كالحشرات (¬1)، واعلم: أن الحيوانات الطاهرة على ضربين: أحدهما: ما ينتفع به فيجوز بيعه كالغنم والبِغَال والحَمِير، ومن الصُّيُود كالظِّبَاء (¬2) ¬
والغِزْلاَن (¬1)، ومن الجوارح كالصُّقُور (¬2) والبُزَاة والفُهُود، ومن الطيور كالحَمَام والعَصَافير والعُقَاب (¬3) ومنه ما ينتفع بلونه أو صوته كالطاوس والزَّرْزُور (¬4) وكذا الفيل ¬
والهِرَّة، وكذا القِرْد، فإنه يتعلّم الأشياء فيعلم، ويجوز أيضاً بيع دود القَزِّ لما فيه من المنفعة، وبيع النَّخْل في الكِوَارَةِ صحيح، إن كان قد شاهد جميعها، وإلاَّ فهو من صورة بيع الغائب، وإن باعها وهي طائرة من الكِوَارَة، فمنهم من صحح البيع كبيع النَّعم المُسَيَّبة في الصَّحْراء، وهذا ما أورده في "التَّتِمة"، ومنهم من منعه إذ لا قدرة على التَّسْليم في الحال، والعود غير موثوق، وهذا ما أورده في "التهذيب" (¬1). والضرب الثاني: ما لا يُنْتَفع به فلا يجوز بيعه، كالخَنَافِس والعَقَارب والحَيَّات وكالفَأْرَة والنَّمْل ونحوها، ولا نظر إلى منافعها المعدودة في الخواص؛ فإن تلك المنافع لا تلحقها بما يبعد في العادة مالاً، وفي معناها السِّبَاع التي لا تصلح للاصْطِياد والقتال عليها الأَسَد والذِّئْب وَالنَّمِر ولا نظر إلى اقتناء الملوك للهَيْبَة والسياسة، فليست هي من المنافع المعتبرة، ونقل أبو الحسن العبادي وجهاً: أنه يجوز بيع النمل؛ بـ"عسكر مُكرَم" (¬2)، لأنه يعالج به السكر، وبـ"نصيبين" (¬3) لأنه تعالج به العَقَارب الطيَّارة. ¬
وعن القاضي حسين حكاية وجه في صحة بيعها لأنها طاهرة، والانتفاع بجلودها متوقع في المآل، ولا يجوز بيع الحِدَأة (¬1) والرّخَمَة (¬2) والغُرَاب، فإن كان في أجنحة بعضهما فائدة جاء فيها الوجه الذي حكاه القاضي، هكذا قاله الإمام، لكن بينهما فرق؛ لأن الجلود تدبغ فتطهر، ولا سبيل إلى تطهير الأجنحة (¬3)، وفي بيع العَلَق وجهان: أظهرهما: الجواز لمنفعة امتصاص الدَّم والسُّم إن كان يقتل بالكثرة، وينتفع بقليله كالسُّقمونيا والأَفْيُون جاز بيعه، وإن قتل كثيره وقليله، فجواب الجمهور فيه المَنْع، ومال الإمام وشيخه إلى الجواز، ليدسَّ في طعام الكافر، وفي بيع الحِمَار الزَّمِن الذي لا منفعة فيه وجهان: ¬
أظهرهما: المنع، بخلاف العبد الزَّمِن فإنه يتقرب بإعتاقه. والثاني: الجواز لغرض الجلد في المآل. وقوله في الكتاب: "باطل" يجوز أن يعلّم بالواو للوجه الذي ذكرنا في الأَسَد ونحوه، وأيضاً فإن صاحب "التتمة" نقل في بيع ما لا منفعة فيه لقلته وجهين، ثم في الفصل صور: إحداها: آلات المَلاَهي كالمزامِير والطَّنَابير وغيرهما، فإن كانت بحيث لا تعدُّ بعد الرَّضِّ والحلّ مالاً، فلا يجوز بيعهما، والمنفعة التي فيها لما كانت محظورة شرعاً كانت ملحقة بالمنافع المعدومة حسّاً، وإن كان الرّضَاض يعد مالاً، ففي جواز بيعها قبل الرَّضِّ وجهان: أحدهما: الجواز، لما فيه من المنفعة المتوقعة. وأظهرهما: المنع؛ لأنهما على هيئة آلة الفَسْق ولا يقصد بها غيره، وتوسط الإمام بين الوجهين فذكر وجهاً ثالثاً وهو: أنها إن اتخذت من جواهر نفيسة صح بيعها؛ لأنها مقصودة في نفسها وإن اتخذت من خشب ونحوه فلا، وهذا أظهر عنده وتابعه المصنف في "الوسيط"، لكن جواب عامة الأصحاب المنع المطلق، وهو ظاهر لفظه هاهنا، ويدل عليه خبر جابر المَرْوِيّ في أول الركن. فرع: الجارية المغنِّية إذا اشتراها بألفين، ولولا الغناء لكانت لا تطلب إلا بألف حكى الشيخ أبو علي المحمودي: أفتى ببطلان البيع، لأنه بذل مال في مَعْصية وعن الشيخ أبي زيد: أنه إن قصد الغناء بطل، وإلا فلا. وعن الأَوْدَنِيّ: أن كل ذلك استحسان، والقياس الصحة (¬1). الثانية: بيع المياه المملوكة صحيح؛ لأنه طاهر منتفع به. وفيه وجه: أنه لا سبيل إلى بيعه، ولا نبسط القول في المسألة بذكرها في "إحياء الموات" إن شاء الله تعالى فإن أقسام المياه من المملوك وغير مذكورة ثم وصحة البيع من تفاريع الملك. الثالثة: إذا جوزنا بيع الماء، ففي بيعه على (¬2) شطِّ النهر، وبيع التراب في ¬
الصحراء، وبيع الحجارة فيما بين الشِّعَاب الكثيرة الأحجار وجهان نقلهما في "التَّتمة". أحدهما: لا يجوز أنه بذل المال لتحصيله مع وجدان مثله بلا مُؤْنَة وتعب نفسه. وأصحهما وهو المذكور في الكتاب: أنه يجوز؛ لأن المنفعة فيها يَسِيْرة ظاهرة، وإمكان تحصيلها من مثله لا يَقْدَح في صحته. الرابعة: بيع لَبْن الآدَمِيَّات صحيح، خلافاً لأبي حنيفة ومالك، ولأحمد -رضي الله عنه- أيضاً في إحدى الرّوايتين، لنا أنه مال طاهر منتفع به فأشبه لَبَنَ الشَّاة. قال الغزالي: الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكاً لِمَنْ وَقَعَ العَقْدُ لَهُ، فَبَيْعُ الفُضُولِيِّ مَالَ الغَيْرِ لاَ يَقِفُ (ح) عَلَى إِجَازتهِ عَلَى المَذْهَبِ الجَدِيد، وَكذَلِكَ بَيْعُ الغَاصِبِ وَإِنْ كَثُرَتْ تَصَرُّفَاتُهُ في أَثْمَانِ المَغْصُوبَات عَلَى أَقْيَسِ الوَجْهَيْنِ فَيُحْكَمُ بِبُطْلاَنِ الكُلِّ، وَلَوْ بَاعَ مَالَ أَبِيهِ عَلَى ظَنِّ أنَّهُ حَيٌّ فإذَا هُوَ مَيِّتٌ وَالمَبِيعُ مِلْكُ البَائِعِ حُكِمَ بِصحَّةِ البَيْعِ عَلَى أَسَدِّ القَوْلَيْنِ. قال الرافعي: الشرط الثالث في المبيع: كونه ملكاً لمن يقع العقد له إن كان يباشره لنفسه، فينبغي أن يكون له، فإن كان يباشره لغيره بِولاَيَة أو وِكَالَة، فينبغي أن يكون لذلك الغير. وقوله هنا "لا لمن وقع العقد له"، يبين أن المراد من قوله: مسلوكاً للعاقد في أول الركن ما أوضحه هاهنا. واعلم: أن اعتبار هذا الشرط ليس متفقاً عليه، ولكنه مفرع على الأصح كما ستعرفه -إن شاء الله تعالى- هذا الفصل ثلاث: أحدها: إذا باع مال الغير بغير إذن ولا ولاية ففيه قولان: الجديد: أنه لاغٍ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لحكيم بن حزام: "لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ" (¬1). وأيضاً فإن بيع الآبِق غير صحيح مع كونه مملوكاً له، لعدم القدرة على التسليم، فبيع ما لا يملك ولا قدرة على تسليمه أولى. والقديم: أنه ينعقد موقوفاً على إجازة المالك إن أجاز نفذ، وإلا لَغَا لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "دَفَعَ دِينَاراً إِلَى عُرْوَةَ البَارِقِيّ لِيَشْتَرِيَ بِهِ شَاةً فَاشْتَرَى بِهِ شَاتَيْنِ، وَبَاعَ إحْدَاهُمَا ¬
بدِينَارٍ، وَجَاءَ بشَاةٍ وَدِينَارٍ، فَقَال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: بَارَكَ اللهُ فِي صَفْقَةِ يَمِينِكَ" (¬1) والاستدلال أَنه باع الشَّاة الثانية من غير إذن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ثم انه أجازه، ولأنه عقد له تَنْجِيز في الحال فينعقد موقوفاً كالوصية، والقولان جاريان فيما لو زوج أمه الغير أو ابنته أو طلق منكوحته أو عتق عبده أو أجَّر داره أو وهبها بغير إذنه، ولو اشترى الفُضُولي لغيره شيئاً، نظر إن اشترى بغيره ما له ففيه قولان، وإن اشترى في الذمة، نظر إن أطلق ونوى كونه للغير، فعلى الجديد يقع عن المباشر، وعلى القديم يتوقف على الإجازة، فإن رد نفذ في حقه، ولو قال: اشتريت لفلان بألف في ذمتي، فالحكم كما لو اشترى بعين ماله، ولو اقتصر على قوله: "اشتريت لفلان بألف"، ولم يضف الثمن إلى ذمته، فعلى الجديد فيه وجهان: أحدها: يلغو العقد وتَلْغُو التَّسمية والثاني يقع العقد عن المباشر (¬2) وعلى القديم: يتوقَّف على إجازة ذلك الغير، فإن رد ففيه وجهان، ولو اشترى شيئاً لغيره بمال نفسه، نظر إن لم يسمه وقع العقد عن المباشر سواء أذن ذلك الغير أم لا، وإن سماه نظر إن لم يأذن له لَغَت التَّسمية، وهل يقع عنه أم يبطل من أصله؟ فيه وجهان، وإن أذن له، فهل تلغو التسمية؟ فيه وجهان، إن قلنا: نعم، فيبطل من أصله أو يقع عن العاقد فيه وجهان، وإن قلنا: لا وقع عن الآذن، والثمن المدفوع يكون قرضاً أو هبة فيه وجهان. ويجوز أن يعلّم قوله في الكتاب: "لا يقف على إجازته" بالميم والألف والحاء. أما الميم؛ فلأن مذهب مالك كالقول القديم، وأما الألف فلأن عن أحمد روايتين كالقولين. أما الحاء؛ فلأن مذهب أبي حنيفة كالقول القديم في البيع والنكاح. وأما في الشراء فقد قال في صورة شراء المطلق: يقع عن جهة العاقد ولا ينعقد موقوفاً، وعن أصحابه، اختلاف فيما إذا سمي الغير، وشرط الوقف عند أبي حنيفة أن يكون للعقد تَنْجِيز في الحال مالكاً كان أو غير مالك حتى لو أعتق عبد الطفل أو طلق امرأته لا يتوقف على إجازته بعد البُلُوغ، والمعتبر إجازة من يملك التَّصرف عند العقد، حتى لو باع مال الطِّفْل فبلغ وأجاز لم ينفذ، وكذا لو باع مال الغير ثم ملكه وأجاز. قال الشيخ أبو محمد: ولا نخالف في ذلك أبا حنيفة إذا فرعنا على القديم. وذكر إمام الحرمين: أن العراقيين لم يعرفوا القول القديم في المسألة وقطعوا بالبطلان وهذا إن استمر اقتضى إعلام قوله "على المذهب الجديد" بالواو، وإنما أتوقف ¬
فيه، لأن الذي أَلفته في كتب العراقيين الاقتصار على ذكر البطلان (¬1) لا نفي الخلاف المذكور والمفهوم من إطلاق لفظ القطع في مثل هذا المقام، وفرق بين أن لا يذكر الخلاف وبين أن لا يبقى. المسألة الثانية: لو غصب أموالاً وباعها وتصرَّف في أثمانها مرة بعد أخرى ففيه قولان: أصحهما: البطلان (¬2). والثاني: للمالك أن يجيزها ويأخذ الحاصل منها، وصورة المسألة وما فيها من القولين قريبة من الأولى، ويزاد فيها عُسْر تتبع العقود الكثيرة بالنقض والإبطال ورعاية مصلحة المالك، وعلى هذا الخلاف يبنى الخلاف في أن الغاصب إذا ربح في المال المغصوب يكون الربح له أو للمالك على ما سيأتي في "باب القراض" وغيره -إن شاء الله تعالى-. الثالثة: لو باع مال أبيه على ظن أنه حيٌّ وهو فُضُولي فَبَانَ أنه كان ميتاً يومئذ، وأن المبيع ملك للعاقد ففيه قولان: أصحهما: أن البيع صحيح لصدوره من المالك، ويخالف ما لو أخرج دراهم، وقال: إن مات مورثي فهذا زكاة ما ورثته، وكان قد ورث لا يجزئه؛ لأن النِّيَّة لا بد منها في الزكاة، ولم تُبْنَ نيته على أصل، وفي البيع لا حاجة إلى النية. الثاني: أنه باطل؛ لأن هذا العقد وإن كان منجزاً في الصورة فهو في المعنى معلق، والتقدير: إن مات مورثي فقد بعتك، وأيضاً فإنه كالعَابِث عند مباشرة العقد لاعتقاده أن المبيع لغيره، ولا يبعد تشبيه هذا الخلاف بالخلاف في أن بيع الهازل هل ينعقد؟ وفيه وجهان، والخلاف في بيع التَّلْجِئَة وصورته: أن يخاف غصب ماله أو الإكراه على بيعه فيبيعه من إنسان بيعاً مطلقاً، ولكن توافقاً قبله على أنه لدفع الشر لا على حقيقة البَيْع، وظاهر الذهب: انعقاده، وفيه وجه، ويجري الخلاف فيما إذا باع العبد على ظنه أنه آبِق أو مُكَاتب، فإذا هو قد رجع أو فسخ الكتابة، ويجري أيضاً فيما ¬
إذا زوج أمة أبيه على ظنِّ أنه حي ثم بَانَ موته، هل يصح النكاح؟ فإن صح فقد نقلوا وجهين فيما إذا قال: إن مات أبي فقد زوجتك هذه الجارية، وبهذا يضعف توجيه قول البطلان بأنه وإن كان منجزاً في الصورة فهو معلّق في المعنى، لأنا لا نجعل هذا التَّعليق مفسداً، وإن صرح به على رأي فما ظنك بتقديره. واعلم: أن القولين في المسائل الثلاث يعبَّر عنهما بقولي وقف العقود، وحيث قال المصنف في الكتاب: "ففيه قولاً وقف العقود" أراد به هذين القولين، وإن لم يذكر هذا اللقب هاهنا وإنما سمّيا بالوقف؛ لأن الخلاف آيل إلى أَنَّ العقد هل ينعقد على الوقف أم لا؟ فعلى قول: ينعقد في المسألتين موقوفاً على الإجازة أو الرد وفي الثانية: موقوفاً تبين على الموت أو الحياة، وعلى. قول: لا ينعقد موقوفاً بل يبطل، ثم ذكر الإمام أنَّ الصحة ناجزة على قول الوقف، لكن الملك لا يحصل إلا عند الإجازة، وأن الوقف يطّرد في كل عقد يقبل الاستنابة كالمُبَايعات والإِجَارات والهِبَات والعِتْق، والطَّلاَقَ والنِّكَاح وغيرها. قال الغزالي: الرَّابع أَنْ يَكُونَ مَقْدُوراً عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ الآبِقِ والضَّالُ وَالمَغْصُوبِ، وَإِنْ قَدَر المُشْتَرِي علَى انْتِزَاعِهِ مِنْ يَدِ الغَاصِبِ دُونَ البَائِعِ صَحَّ عَلَى أَسَدِّ الوَجْهَيْنِ، ثُمَّ لَهُ الخِيَارُ إِن عَجَزَ، وَبيْعُ حَمَامِ البُرْجِ نَهَاراً اعْتِمَاداً عَلَى العَوْدِ لَيْلاً لاَ يَصِحُّ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ. قال الرافعي: الشرط الرابع: القدرة على التسليم (¬1)، ولا بد منها ليخرج العقد عن أن يكون بيع غَرَر ويوثق بحصول العوض، ثم فوات القدرة على التسليم قد يكون من حيث الحس، وقد يكون من حيث الشرع، وصور هذا الفصل من الضرب الأول وهي ثلاث: أحدها: بيع الضَّال والآبق (¬2) باطل عرف موضعه أو لم يعرف؛ لأنه غير مقدور ¬
على تسليمه في الحال هذا هو المشهور، قال الأئمة: ولا يشترط في الحكم بِالبُطْلان اليأس من التَّسليم، بل يكفي ظهور التَّعذر، وأحسن بعض الأصحاب فقال: إذا عرف مكانه وعلم أنه يصل إليه إذا رام الوصول فليس له حكم الآبق. الثانية: إذا باع الملك ماله المغصوب نظر إن كان يقدر على استرداده وتسليمه صح البيع، كما يصح بيع الوَدِيعة والعَارِيَة وإن لم يقدر نظر إن باعه ممن لا يقدر على انتزاعه من يد الغاصب لم يصح لما سبق (¬1) وإن باعه ممن يقدر على انتزاعه منه ففي صحة البيع وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأن البائع يجب عليه التسليم وهو عاجز. وأصحُّهما: الصحة؛ لأن المقصود وصول المشتري إلى المبيع، وعلى هذا إن علم المشتري حقيقة الحال فلا خيار له، ولكن لو عجز عن الانتزاع لضعف عرض له أو قوة عرضت لِلْغَاصب فله الخيار (¬2)، وفيه وجه آخر أشار إليه الإمام، وإن كان جاهلاً عند العقد فله الخيار؛ لأن البيع لا يلزمه كُلْفة الانتزاع. وقوله في الكتاب: "ثم له الخيار إن عجز" المراد منه حالة العلم؛ لأن عند الجهل لا يشترط العجز في ثبوت الخيار، ويجوز أن يعلّم بالواو للوجه المشار إليه. ولو باع الآبق ممن يسهل عليه رده، ففيه الوجهان المذكوران في المغصوب، ويجوز تزويج الآَبِقَة والمَغْصُوبة وإعتاقُهُمَا، وذكر في البيان: أنه لا يجوز كتابة المغصوب؛ لأن الكتابة تقتضي مُكْنة التصرف وهو ممنوع منه. ¬
الثالثة: لا يجوز بيع السَّمَك في الماء والطير في الهواء، وإن كان مملوكاً له لما فيه من الغَرَر، ولو باع السمك في بركة لا يمكنها الخروج منها، نظر إن كانت صغيرة يمكن أخذها من غير تعب ومشقة صح بيعها لحصول القدرة، وإن كانت كبيرة لا يمكن أخذها إلاَّ باحتمال تعب شديد، ففيه وجهان أوردهما ابْنُ سُرَيج فيما رأيت له من جوابات "جامعه الصّغير" وغيره: أظهرهما: المنع، وبه قال أبو حنيفة كبيع الآبق، ويدل عليه ما روى عن ابن مسعود أنه قال: "لاَ يَشْتَرِي السَّمَكَةَ فِي الْمَاءِ، فَإِنَّهُ غَرَرَّ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الْغَررِ". وهذا كله فيما إذا لم يمنع الماء رؤية السمك فإن منع الرؤية لكدورته فهو على قولي بيع الغائب، إلاَّ أن لا يعلم قلّة السمك وكثرتها وشيئاً من صفاتها فيبطل لا محالة، وبيع الحَمَام في البُرْج على التفصيل المذكور في البِرْكة، ولو باعها وهي طائرة اعتماداً على عادة عودها باللَّيل، ففيه وجهان كما ذكرنا في النَّحل: أصحهما على ما ذكره في الكتاب: المنع، وبه قال الأكثرون إذ لا قدرة في الحال، وعودها غير موثوق به إذ ليس لها عَقْلٌ باعث (¬1). قال الغزالي: وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ نِصْفٍ مِنْ سَيْفٍ أَوْ نَصْلٍ قَبْلَ التَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّ التَّفْصِيلَ يَنْقصُهُ وَالبَيْعُ لاَ يُوجبُ نُقْصَانَ غَيْرِ المبيعِ، وَيَصِحُّ بَيْعُ ذِرَاعٍ مِنْ كِرْبَاسٍ لاَ يُنْقَضُ بالفَصْلِ عَلَى الأَصَحِّ، وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ مَا عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ شَرْعاً وَهوَ المَرْهُونُ، وَإذَا جَنَى العَبْدُ جنَايَة تَقْتَضِي تَعَلُّقَ الأَرْش بِرَقَبَتهِ صَحَّ بِيْعُهُ عَلَى أَقْوَى القَوْلَيْنِ وَكَانَ الْتِزَاماً لِلْفِدَاءِ لأَنَّهُ لَمْ يَحْجُزْ عَلَى نَفْسِهِ فَيَقْدِرُ عَلَى مَا لاَ يُفَوِّتُ حَقَّ المَجْنِيِّ عَلَيْهِ ثُمَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ خِيَارُ الفَسْخِ إِنْ عَجَزَ عَنْ أَخْذِ الفِدَاءِ. قال الرافعي: في الفصل ثلاث مسائل: إحداها: لو باع نصفاً أو ربعاً أو جزءاً آخر شائعاً من سيف أو إناء أو نحوهما فهو صحيح، وذلك الشيء مشترك بينهما. ¬
ولو عيَّن نصفاً أو ربعاً وباعه لم يصح؛ لأن التسليم لا يمكن إلا بالقَطْع والكسر، وفيه نقص وتضييع للمال، ولو باع ذراعاً فصاعداً من ثوب نظر إن لم يعيّن الذّراع فسنذكره من بعد -إن شاء الله تعالى-، وإن عيّن نظر إن كان الثوب نفيساً ينقص ثمنه بالقطع، فهل يصح البيع؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصَّبَّاغ وغيره: أحدهما: نعم -وبه قال صاحب "التقريب"- كما لو باع ذراعاً معيناً من أرض أو دار. وأظهرهما: وهو الذي أورده الشيخ أبو حامد وحكاه صاحب "التلخيص" عن نصه: لا؛ لأنه لا يمكن التسليم إلا باحتمال النُّقْصَان والضَّرر، وفرقوا بينه وبين الأرض بأن التَّمييز في الأرض يحصل بالعلامة بين النَّصِيبَيْن من غير ضرر، ولمن نصر الأول أن يقول: قد تتضيّق مَرَافق البُقْعَة بالعلامة وتنقص القيمة، فوجب أن يكون الحكم في الأرض على التَّفْصيل أيضاً. واعترض ابن الصَّبَّاغ على معنى الضَّرَر بأنهما إذا رضيا به واحتملاه وجب أن يصحّ البيع، كما يصح بيع أحد زوجي الخُفِّ وإن نقص تفريقهما من قيمتهما، والقياس طرد الوجهين في صورة السَّيف والإناء؛ لأن المعنى لا يختلف، وإن كان الثوب مما لا ينقص بالفصل والقطع كالكِرْبَاسِ الصَّفِيق، فقد حكى صاحب الكتاب وشيخه فيه وجهين: أصحهما: وهو الذي أورده الجمهور: أنه يصح، لزوال المعنى المذكور. والثاني: المنع؛ لأن التفصيل لا يَخْلُو عن تغيير لغير المبيع، وهذا فيما أورده الإمام، واختيار صاحب "التلخيص"، وكان سببه إطلاق لفظه في "التلخيص" بعد ذكر لو باع ذراعاً من الأرض قال: ولو قال ذلك في الثوب، لم يجز قاله نصا، وأيضاً قال في "المفتاح" من ثوب ذراعاً على أن يقطعه لم يَجُزْ بحال، إلاَّ أنَّ الأكثرين حملوا كلامه على الثوب الذي ينقص بالفصل، ولو باع جزءاً معيناً من جدار أو أُسْطُوَانة، نظر إن كان فوقه شيء لم يجز؛ لأنه لا يمكن تسليمه إلا بهدم ما فوقه، وإن لم يكن نظر إن كان قطعة واحدة من طين أو خشب أو غيرهما لم يجز، وإن كان من لَبِن أو آجُرِّ هكذا أطلق في "التلخيص"، وهو محمول عند الأئمة على ما لو جعل في النهاية شق نصف من الآجُرِّ واللَّبِن دون أن يجعل المقطع نصف سمكها، وفي تجويز البيع إذا كان من لَبِن أو آجُرِّ إشكال، وإن جُعل النهاية ما ذكروه من وجهين: أحدهما: أن موضع الشَّق قطعة واحدة من طين أو غيره، فالفصل الوارد عليه وارد على ما هو قطعة واحدة.
والثاني: هَبْ أنه ليس كذلك لكن رفع بعض الجدار ينقص قيمة الباقي، وإن لم يكن قطعة واحدة فليفسد البيع، ولهذا قالوا: لو باع جذعاً في بناءٍ لم يصح؛ لأن الهدم يوجب النقصان، فأي فرق بين الجِذْع والآجُرِّ، وكذا لو باع فَصّاً في خَاتَم، وذكر بعض الشارحين لـ"المفتاح" في تفاريع هذه المسألة: أنه لو باع داراً إلاَّ بيتاً في صدرها لا يَلِي شارعاً ولا ملكاً له على أنه لا ممرَّ له في المبيع لا يصح البيع، وهذا باب في فتحه بعد، ويتأكد بمثله المَيْل إلى الوجه الذي نصره ابن الصباغ. المسألة الثانية: لا يصح بيع المَرْهُون بعد الإقباض وقَبل الانفِكَاك (¬1) لأنه عاجز عن تسليمه شرعاً لما فيه من تفويت حق المُرْتهن. الثالثة: الجناية الصادرة من العبد قد تقتضي المال، إما متعلقاً برقبته أو بذمته، وقد تقتضي القصاص، وموضع تفصيله غير هذا، فإن أوجبت المال متعلقاً بذمته لم يقدح ذلك في البيع بحال، وإن أوجبته متعلقاً برقبته، فهل صح بيعه؟ نظر إنْ باعه بعد اختيار الفداء فنعم، هكذا أطلقه في "التهذيب" (¬2) وإتباعه قبله وهو معسر فَلاَ لما فيه من إبطال حتى المَجْنِي عليه، ومنهم من طرد الخلاف الذي نذكره في المُوْسِر، وحَكَم بثبوت الخِيَار للمجني عليه إن صح، وإن كان موسراً فطريقان: أصحهما: أن المسألة على قولين: أصحهما: أنه لا يصح البيع؛ لأن حق المجني عليه متعلّق به فمنع صحة بيعه كحق المرتهن في المرهون بل أولى، لأن حق المجني عليه أقوى، ألا ترى أنه إذا جنى العبد المرهون تقدم حق المجني عليه على حق المرتهن. ¬
والثاني وبه قال أبو حنيفة وأحمد والمُزني: أنه يصح لأن هذا الحق تعلق به من غير اختيار المالك، فلا يمنع صحة البيع كحق الزكاة ويخالف المرهون، لأنه بالرهن منع نفسه من التصرف وهاهنا لم يعقد عقداً، ولم يحجز نفسه عن التصرف، وفي "التتمة" أن بعض أصحابنا خرج قولاً ثالثاً وهو أن البيع موقوف، فإن فداه نفذ وإلا فلا. والطريق الثاني: القطع بالمنع كما في المرهون. التفريع: إن لم نصحح البيع فالسَّيد على خيرته، إن شاء فداه، وإلا سلمه ليباع في الجناية، وإن صححنا فالسيد مختار للفداء ببيعه مع العلم بجنايته فيجبر على تسليمه، لأنه بالبيع فوت محل حقه فأشبه ما لو أعتقه أو قتله، وبهذا قال أبو حنيفة. وفيه وجه: أنه ليس مختاراً للفداء، بل هو على خيرته إن أفدى أمضى البيع وإلاَّ فسخ، وعلى الأول وهو المذهب لو تعذر تحصيل الفداء، أو تأخر لإفلاسه أو غيبته، أو صبره على الحَبْس فسخ البيع، وبيع في الجناية لأن حق المجني عليه أقدم من حق المشتري، هذا إذا أوجبت الجناية المال بأن كانت خطأ أو شبه عمد، أو كانت واردة على الأموال، وكذا الحكم لو أوجبت القِصَاص، لكن المستحق عَفَا على مال ثم فرض البيع. فأما إذا أوجبت القِصَاص ولا عفو فطريقان: أحدهما: طرد القولين وبه قال ابْنُ خَيْرَان، ومن القائلين بهذه الطريقة من بني القولين على أن موجب العمد ماذا؟ إن قلنا: موجبه القود المحض صح بيعه كبيع المرتد، وإن قلنا: موجبه أحد الأمرين فهو كبيع المرهون. وأصحهما: القطع بالصحة لبقاء المالية بحالها، وتوقع الهَلاَك كتوقع موت المَرِيض المشرف على المَوْت، وإذا وقع السؤال عن بيع العَبْدِ الجَانِي مطلقاً، فالجواب فيه ثلاث طرق: أحدها: أنه إن كانت الجِنَايَة موجبة للقصَاص فهو صحيح، وإن كانت موجبة للمال فقولان: والثاني: إن كانت موجبة للمال فهو غير صحيح، وإن كانت موجبة للقصاص فقولان: والثالث: طرد القولين في الحالتين، ولو أعتق السيد العبد الجاني، نظر إن كان معسراً فأصح القولين: أنه لا ينفذ، وإن كان موسراً ففي نفوذه ثلاثة أقوال: أصحهما: النفوذ. وثانيها: أنه موقوف إن فداه نفذ، وإلاّ فلا. ومنهم من قطع بالنفوذ إذا كان
موسراً، وبعدم النُّفُوذ إذا كان معسراً بخلاف المرهون والفرق أما عند اليسار فلأنه بسبيل من نقل حق المجني عليه إلى ذمته باختيار الفداء، فإذا أعتق انتقل الحق إلى ذمته، وفي الرهن بخلافه. وأما عند الإعسار فلأن حق المجني عليه متعلق بالرقبة، ولا تعلق له بذمة السيد، وفي حق المرتهن متعلّق بهما جميعاً، فنفوذ الإعتاق هاهنا يبطل الحق بالكلية، وفي الرهن غايته قطع أحد التَّعْلقين واسْتِيلاد الجانية كإعتاقها، ومتى فدا السيد العبد الجاني يفديه بأقل الأمرين من الأَرْش، وقيمة العبد أو بالأرض بالغاً ما بلغ فيه خلاف يأتي في موضعه -إن شاء الله تعالى- والأصح الأول (¬1). وأما لفظ الكتاب فقد عرفت بما ألقيت عليك من الشرح أن قوله: "ولا يصح بيع نصف من سيف" معناه: بيع نصف معين، وكذا قوله: "بيع ذراع من كِرْبَاس"، ولفظ النَّصْل لا يختص بالسَّهم، أَلاَ ترى أن صاحب "الصحاح" يقول في تعريفه: والنَّصْل نصل السَّهم والسَّيف والسِّكين والرُّمح. وقوله: "الفَصْل ينقصه والبيع لا يوجب نقصان غير المبيع، أراد به أن التسليم لا يحصل إلاَّ بالتفصيل والقطع والتسليم لا بد منه، فلو صححنا البيع، وألزمناه القطع كان هذا إلزام تنقيص فيما ليس مبيعاً، وهذه عبارة صاحب "النهاية"، ثم نظم الكتاب قد يوهم خروج هذه المسألة عن صور العجز الشرعي، بل حصر العجز الشّرعي في المرهون؛ لأنه ذكر المسألة، ثم قال: ولا يصح بيع ما عجز عن تسليمه شرعا وهو المرهون، لكنه عدها في "الوسيط" من صورة، وقال: البيع لا يلزم تنقيص عن المبيع، والشرع قد يمنعه منه إذا كان فيه إِسْرَاف. وقوله: "جناية تعلق الأرض برقبته"، يجوز أن يقرأ تعلق -بفتح التاء واللام- ويجوز أن يقرأ "تعلق" على إيقاع فعل التعليق على الجناية. وقوله: "صح بيعه على أقوى القولين" ترجيج لقول الصحة، لكن الشافعي -رضي الله عنه- نص على القولين في "المختصر"، وصرح باختيار المنع، وبه قال طبقات الأصحاب، ثم يجوز أن يعلّم ذكر الخلاف بالواو للطريقة القاطعة بالمنع، وكذا قوله: "وكان التزاماً للفداء للوجه الذي سبق ذكره. ¬
وقوله: "لأنه لم يحجر على نفسه ... " إلى آخره إشارة إلى الفرق بينه وبين المرهون. قال الغزالي: الخَامِسُ: العِلْمُ وَلْيَكُنْ المَبِيْعُ مَعْلُومَ العَيْن، وَالقدْرِ، وَالصِّفَةِ، أَمَّا العَيْنُ فَالجَهْلُ به مُبْطِلٌ، وَنَعْني بِهِ أنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ عَبْداً مِنَ العَبيدِ (ح) أَوْ شَاةً مِنَ القَطِيع بَطُلَ (ح)، وَلَوْ قَالَ: بِعْتُ صاعاً مِنْ هَذِه الصُّبْرةِ وَكَانَتْ مَعْلُومَةَ الصِّيعَانِ صَحَّ وَنَزَلَ عَلَى الإِشَاعَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةَ الصِّيعَانِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى اخْتِيَارِ القَفَّالِ لِتَعَذُّرِ الإشَاعَةِ وَوُجُودِ الإِبْهَامِ، وَإبْهَامُ مَمَرِّ الأَرْضِ المَبِيعَةِ كَإِبْهَامِ نَفْسِ المَبِيع، وَبَيْعُ بَيْتٍ مِنْ دَارٍ دُونَ حَقِّ المَمَرِّ جَائِزٌ عَلَى الأَصَحِّ. قال الرافعي: الشرط الخامس: كون المبيع معلوماً (¬1) ليعرف أنه ما الَّذِي ملك بإزاء ما بذل فينفي الغَرَر، ولا شك أنه لا يشترط العلم به من كل وجه، فبين ما يعتبر العلم به وهو ثلاثة أشياء: عَيْن المبيع، وقدره، وصفته. أما العين: فالقصد به أنه لو قال: "بعت عبداً من العبيد، أو أحد عبدي، أو عبيدي هؤلاء أو شاة من هذا القطيع" فهو باطل، هكذا لو قال: بعتهم إلا واحداً ولم يعين المستثنى، لأن المبيع غير معلوم، ولا فرق بين أن تتقارب قيم العبيد، والشياه أو تتباعد، ولا بين عدد من العبيد وعدد، ولا بين أن يقول على أن تختار أيهم شئت، أولاً يقول، ولا إذا قال: ذلك بين أن يقدر زمان الاختيار أو لا يقدر. وعن أبي حنيفة: أنه إذا قال: بعتك أحد عبدي أو عبيدي الثلاثة على أن تختار من شئت في ثلاثة أيام أو دونها صح العقد، وأغرب المُتَوَلِّي فحكى عن القديم قولاً مثله، ووجهه بأن الشرع ¬
أثبت الخيار في هذه المدة بين العوضين ليختار هذا الفسخ أو هذا الإمضاء، فجاز أن يثبت له الخيار بين عبدين، وكما تتقدر نهاية الاختيار بثلاث تتقدر نهاية ما يتخير به من الأعيان بثلاثة، ولا يخفى ضعف هذا التوجيه، ووجه المذهب القياس على ما إذا زاد العَبِيد على ثلاثة، ولم يجعل له الاختيار لو زاده على الثلاث، أو فرض ذلك في الثِّيَاب والدَّواب وغير العبيد من الأعيان وعلى النكاح فإنه لو قال: أنكحتك إحدى ابنتي أو يناتي لا يصح النِّكَاح، ولو لم يكن له إلاَّ عبد واحد فحضر في جماعة من العبيد، وقال السيد: بعتك عبدي من هؤلاء والمشتري يراهم، ولا يعرف عين عبده فحكمه حكم بيع الغائب قال في "التتمة". وقال صاحب "التهذيب": عندي هذا البيع باطل، لأن المبيع غير متعيّن وهو الصحيح، ثم قال في الفصل مسألتان: إحداهما: في بيع صاع من الصُّبْرَة، والرأي أن يقدم عليهما فصلان: أحدهما: أن بيع الجزء الشَّائع من كل جملة معلومة (¬1) من أرض ودار وعبد وصُبْرَة وثمرة وغيرها صحيح، نعم لو باع جزءاً شائعاً من شيء بمثله من ذلك الشيء، كما إذا كان بينهما نصفين فباع هذا نصفه بنصف ذاك فوجهان: أحدهما: أنه لا يصح البيع، لأنه لا فائدة فيه. وأصحهما: الصحة لاجتماع الشرائط المرعيَّةِ في العقد، وله فوائد: منها: لو ملكا أو أحدهما نصيبه بالهِبَة من أبيه انقطع ولأبيه الرجوع. ومنها: لو ملكه الشراء ثم اطَّلَع بعد هذا التَّصرف على عيب لم يملك الرد على بائعه. ومنها: لو ملَّكْته صداقاً، وطلَّقها الزَّوج قبل الدخول لم يمكن له الرجوع فيه. (¬2) ولو باع الجملة واستثنى منها جزءاً شائعاً فهو صحيح. أيضاً. مثاله: أن يقول: بِعْتُك ثمرة هذا الحائط إلا ربعها أو قدر الزكاة منها، ولو قال: بعتك ثمرة هذا الحائط بثلاثة آلاف درهم إلاَّ ما يخص ألفاً، فإن أراد ما يخصه إذا وزع عن الثمرة على المبلغ المذكور صح، وكان استثناء للثلث، وإن أراد ما يساوي ألفاً عند التقويم فلا لأنه مجهول. ¬
الفصل الثاني: لو باع ذراعاً من أرض أو دار أو ثوب ينظر إن كانا يعلمان جملة ذرعانها، كما إذا باع ذراعاً، والجملة عشرة فالبيع صحيح، وكأنه قال: بعت العشر قال الإمام: إلا إن يقين يعني فيفسد كقوله: شاة من القطيع، ولو اختلفا فقال المُشْتري: أردت الإِشَاعَة فالعقد صحيح، وقال البائع: بل أردت معيناً ففيمن يصدق؟ احتمالات (¬1) وذكر أيضاً تخريج وجه في فساد العقد، وإن لم نعنِ بالذِّرَاع معيناً، وستعرف كيفيته -إن شاء الله تعالى- وإن كانا لا يعلمان أو أحدهما ذُرعان الدار والثوب لم يصح البيع؛ لأن أجزاء الأرض والثوب تتفاوت غالباً في المنفعة والقيمة والإشاعة متعذرة. وعن أبي حنيفة: أنه لا يصح. البيع سواء كانت الذّرْعَان معلومة أو مجهولة ذهاباً إلى أنَّ الذِّراع اسم بقعة مخصوصة فيكون البيع مبهماً، ولو وقف على طرف الأرض وقال: بعتك كذا أذراعاً من موقفي هذا في جميع العرض إلى حيث ينتهي في الطول صح البيع في أحد الوجهين. إذا عرفت الفصلين فنقول: إذا قال: بعتك صاعاً من هذه الصُّبْرَة بكذا فله حالتان: إحداهما: أن يعلما مبلغ صِيْعَان الصُّبْرَة فالعقد صحيح، ونقل إمام الحرمين في تنزيله خلافاً للأصحاب، منهم من قال: المبيع صاع من الجملة مشاع، أي صاع كان، لأن المقصود لا يختلف، فعلى هذا يبقي المبيع ما بقي صاع، وإذا تلف بعض الصُّبْرَة لم يتقسط على المبيع وغيره. ومنهم من نزل الأمر على الإِشَاعَة وقال: إذا كانت الصُّبْرَة مائة صاع فالمبيع عشر العشر، وعلى هذا لو تلف بعض الصُّبْرَة تلف بقدره من المَبِيع، هذا ما أورده الجمهور في هذه الحالة ومنهم صاحب الكتاب. والثانية: أن لا يعلما أو أحدهما مبلغ صِيْعَانها، ففي صحة البيع وجهان: أحدهما: وهو اختيار القفال: أنه لا يصح؛ لأن المبيع غير معيّن ولا موصوف فأشبه ما لو باع ذِراعاً من أرض أو ثوب وجملة الذّرْعَان مجهولة، أو باع صاعاً من ثمرة النَّخْل. والثاني: هو للحكاية عن نصه: أنَّهُ صحيح والمبيع صاع منها أي صاع كان حتى لو تلف جميعها سوى صاع واحد تعين العقد فيه، والبائع بالخيار بين أن يسلم من أعلى الصُّبْرَة أو من أسفلها، وإن لم يكن الأسفل مرئياً؛ لأن رؤية ظاهر الصُّبْرَة كرؤية ¬
كلها (¬1)، ويفارق صورة الاستشهاد؛ لأن أجزاء الصبرة الواحدة لا تختلف غالباً بخلاف تلك الصورة. قال المعتبرون: والوجه الثاني أظهر في المذهب، ولكن القياس الأول؛ لأنه لو فرق صِيْعَان الصُبرة وقال: بعتك واحداً منها لم يصح، فما الفرق بين أن تكون متفرقة أو مجتمعة، وأيضاً لأنه لو قال: بعتك هذه الصبرة إلاَّ صاعاً منها لا يصح العقد، إلاَّ أن تكون الصَّيْعَان معلومة، ولا فرق بين استثناء المعلوم من المجهول واستثناء المجهول من المعلوم في كون الباقي مجهولاً، وفيما جُمِعَ من فتاوى القفال: أنه كان إذا سُئِلَ عن هذه المسألة يفتي بالوجه الثاني مع ذهابه إلى الأول، ويقول المستفتي يستفتي عن مذهب الشافعي -رضي الله عنه- لا عما عندي، ثم ذكر الأئمة للخلاف في المسألة مأخذين. أحدهما: حكوا خلافاً في أن علّة بطلان البيع فيما إذا قال: بعت عبداً من العبيد ماذا؟ فمن قائل: علَّته الغَرَر مع سهولة الاجتناب عنه، ومن قائل: علته أنه لا بد للعقد من مورد يتأثر به كما في النِّكَاح، قالوا: والخلاف الذي نحن فيه مبني عليه، فعلى الثاني لا يصح وعلى الأول يصح، إذ لا غَرَر لتساوي أجزاء الصُّبْرَة والثاني: قال الإمام: هو مبني على الخلاف في تنزيل العقد عند العلم بالصِّيْعَان، إن قلنا: المبيع ثم مشاع في الجملة فالبيع باطل لتعذُّر الإشاعة. وإن قلنا: المبيع صَاعٌ غير مشاع فهو صحيح هاهنا أيضاً، وهذا البناء لا يسلم عن النزاع لما ذكرنا أن الجمهور نزلوه في صورة العلم على الإشاعة مع جعلهم الأظهر هاهنا الصحة فكأنهم نزلوه على الإشاعة إن أمكن، وإلاَّ قالوا: المبيع صاع أي صاع كان لاستواء الغرض. ثم ادَّعى الإمام أن من لا يرعى الجزئية والإشاعة يحكم ببطلان البيع فيما إذا باع ذراعاً من أرض معلومة الذّرْعَان، وهذا هو الوجه الذي سبقت الإشارة إليه، ولم أر له ذكراً إلاَّ في كتابه. المسألة الثانية: قوله: وإبهام ممرّ الأرض المبيعة كإِبْهَام نفس المبيع، صورتها أن يبيع أرضاً محفوفة بملكه من جميع الجهات، وشرط أن للمشتري حقّ الممر إليها من جانب ولم يعين، فالبيع باطل؛ لأن الأغراض تتفاوت باختلاف الجوانب، ولا يؤمن إفضاء الأمر إلى المنازعة، فجعلت الجهالة في الحقوق كالجهالة في المعقود عليه. أما إذا عين الممرّ من جانب فيصح البيع، وكذا لو قال: بعتكها بحقوقها، وثبت ¬
للمشتري حق الممر من جميع الجوانب، كما كان ثابتاً للبائع قبل البيع، وإن أطلق البيع ولم يتعرض للممر ففي المسألة وجهان: أظهرهما: أن مطلق البيع يقتضي حق الممر لتوقُّف حق الانْتِفَاع عليه، فعلى هذا البيع صحيح، كما لو قال: بعتكها بحقوقها. والثاني: أنه لا يقتضيه، لأنه لم يتعرض له، فعلى هذا هو كما لو نفى الممر وفيه وجهان: أحدهما: أنَّ البيع صحيح لإمكان التَّدرج إلى الانتفاع بتحيصيله ممرّاً. وأصحهما عند الإمام وغيره: البطلان لتعذر الانتفاع بها في الحال، ولو أن الأرض المبيعة كانت ملاصقة للشَّارع، فليس للمشتري طروق ملك البائع، فإنّ العادة في مثلها الدخول من الشارع فينزل الأمر عليها، ولو كانت ملاصقة لملك المشتري فلا يتمكن من المرور فيما أبقاه البائع لنفسه بل يدخل فيه من ملكه القديم، وأبدى الإمام احتمالاً قال: وهذا إذا أطلق البيع، أما إذا قال: "بحقوقها" فله المرور في ملك البائع، وصاحب الكتاب رجح من وجهي مسألة نفي الممر وجه الصحة، لكن الأكثرين على ترجيح مقابله، وتوسّط في "التهذيب" فقال: إن أمكن اتخاذ ممرٍّ من جانب صح البيع، وإلاّ فلا، ولو بَاعَ داراً، واستثنى لنفسه بيتاً فله الممر، وإن نفى الممر نظر إن أمكن اتخاذ ممر آخر صح، وإن لم يمكن فوجهان، ووجه المنع ما قدمناه عن شارح "المفتاح". (¬1) قال الغزالي: أَمَّا القَدْرُ فَالْجَهْلُ بهِ فيمَا في الذِّمَّةِ ثَمَناً أَوْ مُثَمَّناً مُبْطِلٌ كَقَوْلِهِ: بِعْتُ بِزِنَةِ هَدِهِ الصَّنْجَةِ، وَلَوْ قَالَ: بعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلُّ صَاعٍ بدِرْهَمٍ صَحَّ (ح)، وَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةَ الصِّيْعَانِ، لِأَنَّ تَفْصِيلَ الثَّمَنِ مَعْلُومٌ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ جُمْلَتَهُ وَالغَرَرُ يَنْتَفِي بِهِ، فَإِنْ كَانَ مُعَيّنًا فَالوَزْنُ غَيْرُ مَشْرُوطٍ بَلْ يَكْفِي عِيَانُ صُبْرَةِ الحِنْطَةِ وَالدَّرَاهِم، فَإِنْ كَانَ تَحْتَهَا دِكَّةٌ تَمْنَعُ تَخْمِينَ القَدْرِ فَيُخَرَّجُ عَلَى قَوْلَيْ بَيْعِ الغَائِبِ لاسْتِوَاءِ الغَرَرِ، وَقَطَعَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ بِالبُطْلاَنِ لِعُسْرِ إِثْبَاتِ الخِيَارِ مَعَ جَرَيَانِ الرُّؤْيَةِ. قال الرافعي: المبيع قد يكون في الذمة وقد يكون معيناً، والأول: هو السَّلم (¬2)، والثاني: وهو المشهور باسم البيع، والثمن فيهما جميعاً قد يكون في الذمة، وإن كان ¬
يشترط في السَّلم التَّسليم في مجلس العقد، وقد يكون معيناً، فما كان في الذمة من العوضين، فلا بد وأن يكون معلوم القدر حتى لو قال: بعتك ملء هذا البيت (¬1) حِنطة "أو بزِنَةِ هذه الصّنْجَة ذهباً" لم يصح البيع، وكذا لو قال: "بعت هذا بما باع به فلان فرسهَ أو ثوبه" وهما لا يعلمانه أو أحدهما، لأنه غرر يسهل الاجْتناب عنه. وحكى وجه أنه يصح لإمكان الاسْتكشاف وإزالة الجهالة، فصار كما إذا قال: بعتك هذه الصُّبْرَة كل صاع منها بدرهم يصح البيع، وإن كانت الجملة مجهولة في الحال نقله في "التَّتمة". وذكر بعضهم: أنه إذا حصل العلم قبل التَّفرق صح البيع، ولو قال: بعتك بمائة دينار إلاَّ عشرة دراهم لم يصح، إلاَّ أن يعلما قيمة الدينار بالدراهم (¬2). ولو قال: بعتك بألف من الدَّراهم والدنانير لم يصح؛ لأن قدر كل واحد منهما مجهول، وعن أبي حنيفة: أنه يصح. وإذا باع بدراهم أو دنانير فلا بد من العلم بنوعهما، فإن كان في البلد نقد واحد أو نقود، ولكن الغالب التعامل بواحد منها انصرف العقد إلى المَعْهُود، وإن كان فلوساً (¬3) إلاَّ أنْ يعين غيره، وإن كان نقد البلد مَغْشُوشاً فقد ذكرنا وجهين في صحة التعامل به في "كتاب الزكاة" إلاَّ أنا خصصنا الوجهين بما إذا كان مقدار النُّقْرة مجهولاً، وربما نقل العراقيون الوجهين على الإطلاق، ووجهوا المنع بأن المقصود غير مميز عما ليس بمقصود، فأشبه ما لو ثيب اللّبن بالماء وبيع فإنه لا يصح، وكيف ما كان فالأصح الصحة، وإذا فرعنا عليه انْصَرَف العقد عند الإطلاق إليه، وحكى صاحب "التَّتمة" وجهاً ثالثاً في التَّعامل بالدَّراهم المغشوشة وهو: أنه إن كان الغش غالباً لم يجز، وإن كان مغلوباً فيجوز، وادعى أن هذا مذهب أبي حنيفة واختيار القاضي الحسين، ولو باع شيئاً بدراهم مغشوشة ثم بَانَ أن نقرتها يسيرة جدّاً فله الرد، وعن أبي الفَيَّاض تخريج وجهين فيه، وإن كان في البلد نَقْدَان أو نُقُود مختلفة، وليس بعضها أغلب من بعض فالبيع ¬
باطل حتى يعين، وتقويم المُتْلفات يكون بغالب نقد البلد، فإن كان في البلد نقدان فصاعداً ولا غالب عين القاضي واحداً للتَّقويم. ولو غلب من جنس العرض نوع، فهل ينصرف الذكر إليه عند الإطلاق؟ فيه وجهان: المحكي عن أبي إسحاق: أنه ينصرف كما ذكرنا في العَقْد .. قال في "التَّتمة" وهو المذهب: ومن صوره أن يبيع صاعاً من الحِنْطَة بصاع منها، أو بِشَعِيرِ في الذِّمة ثم أحضر قبل التفرق. وكما ينصرف العقد إلى النَّقد الغالب ينصرف في الصِّفَات إليه أيضاً حتى لو باع بدينار أو بعشرة، والمعهود في البلد الصِّحَاح انصرف العقد إليه، وإن كان المعهود المُكَسرة فكذلك. قال في "البيان": إلاَّ أن تتفاوت قِيَم المُكَسرة فلا يصح، وعلى هذا القياس لو كان المعهود أن يوجد نصف الثمن من هذا والنّصف من ذاك، أو أن يوجد على نسبة أخرى فالبيع صحيح محمول عليه. وإن كان يعهد التَّعَامل بهذا مرَّة وبهذا مرة ولم يكن بينهما تفاوت صح البيع، ويسلم ما شاء منهما، وإن كان بينهما تفاوت بطل البيع، كما لو كان في البلد نَقْدَان غالبان وأطلق. ولو قال: بعت بألف صِحَاح ومكسرة فوجهان: أظهرهما: أنه يبطل، لأنه لم يبّين قدر كلّ واحد منهما. والثّاني: يصح ويحمل على التَّنصيف، ويشبه أن يكون هذا الوجه جارياً فيما إذا قال بألف ذهباً وفضة (¬1) ولو قال: بعت بدينار صحيح فجاء بصحيحين وزنهما مثقال فعليه القبول؛ لأن الغرض لا يختلف بذلك، ولو جاء بصحيح وزنه مثقال ونصف قال في "التتمة": عليه قبوله والزيادة أمانة في يده، والحق أنه لا يلزمه القبول لما في الشّركة من الضرر. وقد ذكر صاحب "البيان" نحواً من هذا، ولكن إن تراضيا عليه جاز، وحينئذ لو أراد أحدهما كسره وامتنع الآخر لم يجبر عليه لما في هذه القسمة من الضرر. ولو باع نصف دينار صحيح وشرط أن يكون مدوّراً جاز إن كان يعم وجوده، وإن لم يشرط فعليه شقّ وزنُه نصف مثقال، فإن سلم إليه صحيحاً أكثر من نصف مثقال وتراضياً على الشّركة فيه جاز. ولو باعه شيئاً بنصف دينار صحيح ثم باعه شيئاً آخر بنصف دينار صحيح، فإن ¬
سلّم صحيحاً عنهما فقد زاده خيراً، وإن سلم قطعتين وزن كل واحدة نصف دينار جاز، وإن شرط في العقد الثاني تسليم صحيح عنهما فالعقد الثَّاني فاسد والأَوَّل ماض على الصِّحة، إن جرى الثاني بعد لزومه، وإلاَّ فهو إلحاق شرط فاسد بالعقد في زمان الخِيَار، وسيأتي حكمه. ولو باع بنقد قد انقطع عن أيدي الناس فهو باطل لعدم القدرة على التَّسليم، وإن كان لا يوجد في تلك البلدة ويوجد في غيرها، فإن كان الثمن حالاً أو مؤجلاً إلى مدة لا يمكن نقله فهو باطل أيضاً، وإن كان مؤجلاً إلى مدة يمكن نقله صح، ثم إن حلّ الأجل وقد أحضره فذاك، وإلاّ فيبنى على أن الاسْتِبْدَال عن الثمن هل يجوز؟ إن قلنا: لا فهو كما لو انقطع المسلم فيه. وإن قلناة نعم فيستدل ولا يفسخ العقد. وفيه وجه: أنه يفسخ، وإن كان يوجد في البلد إلا أنه عزيز. فإن قلنا: يجوز الاسْتِبْدَال عن الثَّمن صحَّ العقد، فإن وجد فذاك وإلاَّ تبادلا وإن قلنا: لا لم يصح. ولو كان القدر الذي جرى به التَّعامل موجوداً ثم انقطع، إن جوزنا الاستبدال تبادلاً، وإلاَّ فهو كانقطاع المسلم فيه. ولو باع شيئاً بنَقْد معيّن أو مطلقاً، وحملناه على نقد البلد، فأبطل السلطان ذلك النقد لم يكن للبائع إلاّ ذلك النقد، كما لو أسلم في حنطته فرخصت ليس له غيرها. وفيه وجه آخر: أنه مخير إنْ شَاء، أجاز العقد بذلك النَّقْد، وإن شاء فسخه، كما لو تعيب المبيع قبل القبض، وعن أحمد: أنه يجب تسليم النقد الجديد بالقيمة. وإذا وقفت على هذه المسائل فاعلم: أن صاحب الكتاب لما ذكر أن العلم بقدر العوض لا بد منه إذا كان في الذمة احتاج إلى بيان مسألة هي كالمستثناة عن هذه القاعدة، وهي أنه لو قال: بعتك هذه الصُّبْرَة كل صاع بدرهم يصح العقد، وإن كانت الصُّبْرَة مجهولة الصِّيْعَان وقدر الثمن مجهولاً، وبه قال مالك وأحمد، وكذا الحكم لو قال: بعتك هذه الأرض أو هذا الثوب، كل ذراع بدرهم أو هذه الأغنام، كل واحدة بدينار. وقال أبو حنيفة: إذا كانت الجملة مجهولة صح البيع في مسألة الصُّبْرَة، وفي قَفِيزٍ واحد دون الباقي. وفي مسألة الأرض والثوب لا يصح في شيء، وهذا ما حكاه القاضي ابن كَجٍّ عن أبي الحسين في الصور كلها، وجه الصحة: أنَّ الصُّبْرَةَ مشاهدة، والمشاهدة كافية في الصحة على ما سنذكره، ولا يضر الجهل بمبلغ الثمن؛ لأن تفصيله معلوم، والغَرَرُ
يرتفع به، فإنه يعلم أقصى ما تنتهي إليه الصُّبْرَة، وقد رغب فيها على شرط مقابلة كل صَاعٍ بدرهم كما كانت. ولو قال: بعتك عشرة من هؤلاء الأغنام بكذا لم يصح، وإن علم عدد الجملة بخلاف مثله في الصُّبْرَة والأرض والثوب؛ لأن قيمة الشاة تختلف، فلا يدرى كَم العَشْرَة من الجملة؟ كذا ذكره في "التهذيب" وقياس ما قدمناه من عدم الصحة، فيما إذَا باع ذراعاً من ثوب أو من أرض مجهولة الذّرْعَان تعليلاً بأن أجزاء الأرض والثوب تختلف، أو يكون قوله: بعتك كذا ذراعاً من الأرض وهي معلومة الذّرْعَان، كقوله: بعتك كذا عدداً من هذه الأغنام وهي معلومة العدد فليسوِّ بينهما في الصحة أو عدمها. ولو قال: بعتك من هذه الصُّبْرَة كل صاع بدرهم لم يصح؛ لأنه لم يبع جميع الصُّبْرَة، ولا بين المبيع منها، وعن ابن سُرَيجٍ: أنه يصح في صاع واحد، كما لو قال: بعتك قَفِيزاً من الصُّبْرَة بدرهم، ولو قال: بعتك هذه الصبرة بعشرة دراهم كل صاع بدرهم، أو قال مثله في الثوب والأرض، نظر إن خرج كما ذكر صح البيع، وإن خرج زائداً أو ناقصاً فقولان: قال في "التهذيب": أصحهما: أنه لا يصح البيع، لأنه باع جملة الصُّبْرَة بالعشرة بشرط مقابلة كل صاع منها بدرهم، والجمع بين هذين الأمرين عند الزيادة والنقصان محال. والثاني: أنه يصح لإشارته إلى الصُّبْرَة ويلغى الوصف، وعلى هذا إن خرج ناقصاً فللمشتري الخيار، فإن أجاز فيجيز بجميع الثمن لمقابلة الصبرة به أو بالقسط لمقابلة صبرة كل صاع بدرهم، فيه وجهان، وإن خرج زائداً فلمن تكون الزيادة؟ فيه وجهان: أظهرهما: أنها للمشتري، لأن جملة الصُّبْرَة مبيعة منه، فعلى هذا لاَ خِيَار له، وفي البائع وجهان: أصحهما: أنه لا خيار له أيضاً؛ لأنه رضي ببيع جميعها. والثاني: أنَّ الزيادة للبائع، وعلى هذا لا خيار له، وفي المشتري وجهان: أصحهما: ثبوت الخيار إذا لم يسلم له جميع الصبرة. هذا ما نذكره الآن في أحد القسمين، وهو أن يكون العِوَض في الذمة، فأما إذا كان معيناً فلا يشترط معرفة قدره بالوزن والكَيْل حتى لو قال: بعتك هذه الدَّراهم أو هذه الصُّبْرَة صح، ويكفي عِيَانُ الدَّرَاهم والصبرة ربطاً للعقد بالمشاهدة، نعم حكوا قولين في أنه هل يكره بيع الصبرة جُزافاً (¬1). ¬
وعن مالك: إن علم البائع قدر كَيلها لم يصح البيع حتى يبينه، وحكى إمام الحرمين عنه أنه لا بد من معرفة المقدار، فلا يصح بيع الصبرة جزافاً ولا بالدراهم جزافاً، ولو كانت الصبرة على موضع من الأرض فيه ارتفاع وانخفاض، أو باع السَّمْن ونحوه في طرف مختلف الأجزاء دقة وغلظاً، فقد حكى المصنف في "الوسيط" ثلاث طرق، وقضية إيراد الإمام الاقتصار على الأول والثالث. أظهرهما: وبه قال الشيخ أبو محمد: أن في صحة البيع قولي بيع الغائب؛ لأن انخفاض الأرض وارتفاعها وغلظ الطّرف ودقته يمنع تَخْمين القدر، وإذا لم يفد العِبَيان إِحَاطة كان كعدم العِيَان في احتمال الغَرَر. والثاني: القطع بالبطلان؛ لأنا إذا صححنا بيع الغَائِب أثبتنا فيه الخِيَار عند الرّؤية، والرؤية حاصلة هاهنا فيبعد إثبات الخيار معها، ولا سبيل إلى نفيه لمكان الجَهَالة، وهذان الطريقان هما المذكوران في الكتاب، والطريقة الثانية ضعيفة، وإن نسبت إلى المحققين؛ لأن الصِّفَة والمقدار مجهولان في بَيْع الغائب، ومع ذلك خرجناه على قولين، فكيف نقطع بالبطلان هاهنا مع معرفة بعض الصِّفَات بالرّؤية؟ فإن قلنا بالصحة فوقت إثبات الخيار هاهنا معرفة مقدار الصُّبْرَة أو التَّمكن من تَخْمِينه برؤية ما تحتها. والطَّريق الثالث: نقله الإمام عن رواية الشيخ أبي علي في "مهذبه الكبير": القطع بالصحة، ذهاباً إلى أن جهالة المقدار غير جائزة بعد المُشَاهدة، فإن فرعنا على البطلان فلو باع الصُّبْرَة والمشتري يظن أنها على اسْتِوَاء الأرض ثم بَانَ تَحْتَها دكة، هل يَتَبَيْن بطلان العقد؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم وبه قال الشَّيخ أبو محمد لأنا تبيَّنا بالآخرة أن العِيَان لم يفد علماً. وأظهرهما: لا، ولكن للمشتري الخيار تنزيلاً لما ظهر منزلة الغيب والتَّدْليس، -هذا ما أورده صاحب "الشَّامل" وغيره- ولو قال: بعتك هذه الصُّبْرَة إلاَّ صاعاً، فإن كانت معلومة الصِّيْعَان صح، وإِلاَّ فلا وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: يصح، وإن كانت مجهولة الصِّيْعَان، واحتجوا للمذهب بما روي "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَن الثّنيا في الْبَيْعِ" (¬1). ثم اختلفوا في وجه الاحتجاج، فذكر المَاوْردي في "الحاوي": أن المراد من الخبر: الصورة التي نحن فيها. ¬
وقال قائلون: الخبر ينفي احتمال الاستثناء مطلقاً، فإن ترك العمل به في موضع وجب ألاّ يترك هاهنا -والله أعلم-. قال الغزالي: أَمَّا الصِّفَةُ فَفِي اشْتِرَاطِ مَعْرِفَتِهَا بِالعِيَانِ قَوْلاَنِ، اخْتَارَ المُزَنِيُّ الاشْتِرَاطَ وَأَبْطَلَ بَيْعَ (ح م) مَا لَمْ يَرَهُ وَشِرَاءَهُ وَلَعَلَّهُ أَصَحُّ القَوْلَيْنِ، وَفي الهِبَةِ قَوْلاَنِ مُرَتَّبَانِ، وَأَوْلَى بِالصِّحَّةِ، وَعَلَى القَوْلَيْنِ يُخَرَّجُ شِرَاءُ الأَعْمَى؛ لأنَّهُ يُقَدَّرُ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالرُّؤْيَةِ وَالفسْخِ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ، وَيصِحُّ سَلَمُ الأَعْمَى اعْتِمَاداً عَلَى الوَصْفِ، وَكَذَلِكَ الأكْمَةَ إلاَّ عَلَى رَأْي المُزَنِيِّ فَإنَّهُ أَوَّلَ كَلاَمُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى غيْرِ الأكْمَهِ. قال الرافعي: في الفصل مسائل: إحداها: في بيع الأعيان الغائبة والحاضرة التي لم تر قولان، قال في القديم وفي "الإملاء" والصَّرْف من الجديد: إنه صحيح، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنِ اشْتَرَى شيئاً لَمْ يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إِذَا رَآهُ" (¬1) ومعلوم أن الخِيَار إنما يثبت في العقود الصحيحة؛ ولأنه عقد مُعَاوضة فلم يكن من شرطه رؤية المعقود عليه كالنِّكاح. وقال في "الأم" والبُويطِيّ: لا يصح، وهو اختيار المزني، ووجهه أنه بيع غَرَر، وقد "نَهَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ" (¬2). ولأنه بَيْعٌ مجهول الصِّفة عند العاقد حال العقد فلم يصح بيعه، كما لو أسلم في شيء ولم يصفه، واشتهر القول الأول بالقديم والثاني بالجديد، واختلفوا في محلّهما على طريقين: أصحهما: عند ابن الصِّبَّاغ وصاحب "التتمة" وغيرهما: أن القولين مُطَّردان في المبيع الذي لم يره المتبايعان كلاهما، وفيما لم يكره أحدهما. والثاني: أن القولين فيما إذا شاهده البائع دون المشتري، أما إذا لم يشاهده البائع فالبيع باطل قولاً واحداً؛ لأن الاجتناب عن هذا الغَرَر سهل على البائع، فإنه المالك والمتصرّف في المبيع، ومنهم من جعل البيع أوْلى بالصِّحة؛ لأن البائع معرض عن الملك والمشتري محصل له فهو أجدر بالاحْتِياط، وهذا يوجب خروج طريقة ثالثة وهي: القطع بالصحة إذا رآه المشتري، وتخصيص الخلاف فيما إذا لم يكره، وفي ¬
"البيان" إشارة إلى هذه الطريقة الثالثة، والقولان في شراء الغائب وبيعه يجريان في إجارته، وفيما إذا أجّر بعين غائبة أو صالح عليها، أو جعلها رأس مال السَّلم في مجلس العقد، ولو أصدقها عيناً غائبة أو خالعها عليها أو عفا عن القِصَاص على عَيْنٍ غائبة صحَّ النِّكَاح، وحصلت البَيْنُونَة وسقط القصاص، وفي صحة المسمى القولان، فإن لم يصح وجب مهر المِثْل على الرجل في النكاح وعلى المرأة في الخُلْع، ووجبت الدِّيَة على المعفو عنه، ويجريان أيضاً في هبة الغائب ورهنه، وهما أولى بالصّحة؛ لأنهما ليسا من عقود المُغَابَنَات، بل الرَّاهن والواهب مَغْبُونَان لا محالة، والمُرْتَهن والمُتَّهب مرتفقان لا محالة، ولهذا قيل: إنا إذا صححناهما فلا خيار عند الرؤية إذ لا حاجة إليه. الثانية: إذا لم نجوز شراء الغَائب وبيعه لم يجز بيع الأعمى وشراؤه، وإن جوّزناه فوجهان: أظهرهما: أنه لا يجوز أيضاً، والفرق أنا إذا جوزنا شراء الغائب ثبت فيه خيار الرّؤية، وهاهنا لا سبيل إلى إثبات خيار الرؤية إذ لا رؤية، فيكون كبيع الغائب على شَرْط أن لا خيار. والثَّاني: أنه يجوز، ويقام وصف غيره له مقام رؤيته، كما تقام الإِشَارة مقام النُّطْق في حق الأَخْرَس وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وقد يعبر عما ذكرنا بأن يقال في بيعه وشرائه طريقان: أحدهما: أنه على قولي شراء الغائب. والثاني: القطع بالمنع، وبنى يَانُون هذين الطريقين على أنه هل يجوز للبصير إذا صححنا منه شراء الغائب أن يوكل غيره بالرؤية وبالفسخ، أو الإِجَازة على ما يستصوبه؟ وفيه وجهان. أظهرهما: أنه يجوز كالتوكيل في خيار العَيْب وخيار الحَلف. والثَّاني: لا يجوز؛ لأن هذا الخيار مربوط بإرادة من له الخيار، ولا تعلُّق له بعرض ولا وصف ظاهر، فأشبه ما لو أسلم الكافر على عشر نسوة ليس له أن يوكّل بالاختيار، فإن صححنا التّوكيل خرج بيعه وشراؤه على قولي شراء الغائب، وإلاَّ قطعنا بالفساد؛ لأنه لو صح لتمكن منه جَهَالة لا نزول، ولما أفضى الأمر إلى قرار، وإذا قلنا: لا يصح بيع الأعمى وشراؤه، فلا يصح منه الإجَارة والرّهن والهِبَة أيضاً، وهل له أن يكاتب عبده؟ قال في التهذيب: لا. وقال في التتمة: المذهب أن له ذلك تغليباً للعتق، ويجوز له أن يؤجِّر نفسه وللعبد الأعمى أن يشتري نفسه وأن يقبل الكتابة على نفسه؛ لأنه لا يجهل نفسه ويجوز
له أن ينكح وأن يزوج موليته تفريعاً على أن العَمَى غير قَادِح في الوِلاية، والصداق عين مال لم يثبت المسمّى، وكذلك لو خالع الأعمى على مال، وأما إذا أسلم في شيء أو باع سَلماً إليه فينظر إن عمي بعد ما بلغ سن التَّمييز، فهو صحيح، لأن السلم يعتمد الأوصاف، وهو -والحالة هذه- مميز بين الألوان ويعرف الأوصاف، ثم يوكل من يقبض عنه على الوصف المشروط، وهل يصح قبضه بنفسه؟ فيه وجهان: أصَحُّهما: لا، لأنه لا يميز بين المستحق وغيره، وإن كان أَكْمَه أو عَمِيَ قبل ما بلغ سن التَّمييز فوجهان: أحدهما: أنه لا يصح سلمه، لأنه لا يعرف الألوان ولا يميز بينها، وبهذا قال المُزَنِيّ، ويحكى عن ابن سريج وابن خَيْرَان وابن أبي هريرة أيضاً، واختاره صاحب "التهذيب". وأصحهما عند العراقيين وغيرهم ويحكى عن أبي إسحاق المروزي، وبه أجاب في الكتاب: أنه يصح؛ لأنه يعرف الصفات والألوان بالسَّماع، ويتخيل فرقاً بينهما، فعلى هذا إنما يصح إذا كان رأس المال موصوفاً غير معين في المجلس. أما إذا كان معيناً فهو كبيع العَيْن الغائبة. وكل ما لا نصححه من الأعمى من التصرفات فسبيله أن يوكل عنه، ويحتمل ذلك للضرروة (¬1) -والله أعلم-. ولترجع إلى ما يتعلّق بلفظ الكتاب من الفوائد. قوله: "الصفة ... " إلى قوله: "فأبطل بيع ما لم ير وشراءه"، جواب على طريقة طَرْد القولين في البيع والشراء وهو الأشهر. قوله: "ولعله أصح القولين" إنما فرض القول فيه، لأن طائفة من أصحابنا مالوا إلى قول التصحيح وأفتوا به، وقد تابعهم صاحب "التهذيب" والروياني عليه. وعن الخُضَرِيّ: أنه كان لا يجزم بالفساد إذا سئل عن بيع الغائب، بل يقول: إن لم يصح الخبر فالقياس فساده. وقوله: "على القولين": يخرج شراء الأعمى مصيراً إلى طرد القولين في شراء الأعمى، وليكن معلّماً بالواو للطريقة القاطعة بالمنع، وإليها ذهب الأكثرون وقوله: "إنه يقدر على التَّوْكيل" إشارة إلى ما سبق من مضي الطَّرِيقين، وجعله الصِّحَّة أصح الوجهين غير منازع فيه، لكن ذهاب الأكثرين إلى القطع بالمنع يُشَوِّشُ ذلك البناء، لأن قياس ترجيح وجه الصِّحة يرجح طريقة القولين. ¬
وقوله: "فإنه أول كلام الشَّافعي -رضي الله عنه- على غير الأَكْمَه" أراد به أن الشَّافعي -رضي الله عنه- أطلق القول في جواز سلم الأعمى، فقال المُزنِيُّ في "مختصر سننه": أن يكون أراد الشافعي -رضي الله عنه- لمعرفتي بلفظ الأعمى الذي عرف الألوان قبل أن يعمى، وأَمَّا من خُلِقَ أعمى فإنه لا معرفة له بالأَلْوَان وحكم بفساد سلمه. قال الغزالي: التَّفْرِيعُ: إِنْ شَرَطْنَا الرُّؤْيةَ فَالرُّؤْيَةُ السَّابِقَةُ كَالمقَارَنَةِ (و) فِيمَا لاَ يَتَغَيَّرُ غَالِباً، وَلَيْسَ اسْتِقْصَاء الوَصْفِ كَالرُّؤْيَةِ عَلَى الأظْهَرِ، وَرُؤْيَة بَعْضِ المَبِيعِ كَافِيَةٌ إِنْ دَلَّ عَلَى البَاقِي لِكَوْنهِ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ كَانَ صُوَاناً لَهُ خِلْقَةٌ كَقِشْرِ الرُّمَّانِ وَالبَيْضِ. قال الرافعي: لما فرغ من ذكر القولين في شراء الغائِب والصّور المُلْحقة به أراد أن يفرع عليها، فعد في هذا الفصل فروعاً على قولنا باشتراط الرُّؤْية، وفي الفصل الذي يليه فروعاً على القول المقابل له. فأما فروع هذا الفصل الذي ذكرها فهي ثلاثة: أحدها: لو اشترى غائباً رآه قبل العقد نظر إن كان ممَّا لا يتغير غالباً كالأَرَاضي والأَوَاني والحَدِيد والنَّحَاس، ونحوها، أو كان لا يتغير في المدة المتخلّلة بين الرّؤية والشِّراء صح العقد لحصول العلم الذي هو المقصود (¬1). ¬
وقال الأَنْمَاطِيُّ: لا يصح، لأن ما كان شرطاً في العقد ينبغي أن يوجد عنده كالقدرة على التسليم في البيع والشهادة في النكاح، والمذهب الأول. واحتج الإِصْطَخْرِي على الذَّاب عن الأَنْمَاطِي في المسألة، فقال: أرأيت لو كان في يده خاتم فأراه غيره حتى نظر إلى جميعه ثم غطاه بكفه ثم باعه منه هل يصح؟ قال: لا، قال: أرأيت لو دخل داراً، ونظر إلى جميع بيوتها، وعلا إليها ثم خرج منها واشتراها هل يصح؟ قال: لا، قال: أرأيت لو دخل أرضاً ونظر إلى جميعها، ثم وقف في ناحية منها واشتراها، هل يصح؟ فتوقف فيه، ولو ارتكبه لكان مانعاً بيع الأراضي والضِّيَاع التي لا تشاهد دفعة واحدة فإنه خلاف الإجماع. ثم إذا صَحَّحنا الشراء، فإن وجده كما رآه أوَّلاً فلا خيار له، وإن وجده متغيراً فقد حكى المصنف: فيه وجهين في "الوسيط". أحدهما: أنه يَتبيَّن بطلان العَقْد لتبين انتفاء المعرفة. وأصحهما: وهو الذي أورده الجمهور: أنه لا يتبين ذلك لبناء العقد في الأصل على ظَنّ غالب ولكن له الخيار. قال الإمام: وليس المعنى بتغيره تعيبه، فإن خيار العيب لا يختص بهذه الصورة، ولكن الرؤية بمثابة الشَّرط في الصِّفات الكائنة عند الرؤية، وكل ما فات منها فهو بمثابة ما لو تبيَّن الخلف في الشرط. وإن كان المبيع ممَّا يتغير في مثل تلك المدّة غالباً، كما إذا رأى ما يتسارع إليه الفساد من الأطعمة، ثم اشتراه بعد مدة صالحة فالبيع باطل، وإن مضت مدة يحتمل أن يتغير فيها ويحتمل ألاّ يتغير أو كان المبيع حيواناً ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يصح البيع لما فيه من الغَرَر، ويحكى هذا عن المزني. وعن ابن أبي هريرة. وأصحهما: الصحة، لأن الظَّاهر بقاؤه بحاله، فإن وجده متغيراً فله الخيار، وإذا اختلفا فقال البائع: هو بحاله، وقال المشتري: بل تغير، فوجهان: أحدهما: أن القول قول البائع؛ لأن الأصل عدم التغير واستمرار العَقْد. وأظهرهما: وهو المحكى عن نصه في "الصرف": أن القول قول المشتري مع يمينه؛ لأن البائع يدعى عليه الاطِّلاع على المبيع على هذه الصفة، والرِّضَا به وهو ينكره، فأشبه ما إذا ادَّعَى عليه الاطِّلاعَ على العَيْب وأنكر المشتري. والثَّاني: اسْتِقْصَاء الأَوْصاف على الحد المعتبر في السَّلم، هل يقوم مقام الرُّؤْية؟ وكذا سماع وصفه بطريق التَّوَاتر فيه وجهان:
أحدهما: نعم، لأن ثمرة الرُّؤْية المعرفة وهما يفيدانها، فعلى هذا يصح البيع على القولين ولا خيار. وأصحهما: لا، لأن الرؤية تطلع على أمور تضيق عنها العبارة. ثم الصائرون إلى هذا الوجه ومنهم أصحابنا العراقيون اختلفوا في أن استقصاء الوصف هل يشترط على قولنا بصحة بيع الغائب على ما ستعرفه -إن شاء الله تعالى-. الثالث: إذا رأى بعض الشَّيء دون بعض، نظر إن كان ممّا يستدل برؤية بعضه على الباقي صح البيع كما إذا رأى ظاهر الصُّبْرَة من الحِنْطَة والشَّعِير؛ لأن الغالب أن أجزاءها لا تختلف، وتعرف جملتها برؤية ظاهرها، ثم لا خيار له إذا رأى باطنه، إلاَّ إذا خالف باطنه ظاهره. وفي "التَّتمة": أن أبا سهل الصُّعْلُوكِي حكى قولاً عن الشافعي -رضي الله عنه- لا تكفي رؤية ظاهر الصُّبْرَة بل لا بد من تقليبها ليعرف حال باطنها أيضاً، وهكذا حكاه أبو الحسن العبادي عن الصُّعْلُوكي نفسه. وقال: إنما ألجأه إليه ضرورة نظر المبيع، والمذهب المشهور هو الأول. وفي معنى الحِنْطَة والشَّعِير، صُبْرة الجوز واللّوز والدَّقيق؛ لأن الظاهر استواء ظاهرها وباطنها، ولو كان شيء منها في وِعَاء فرأى أعلاه، أو رأى أعلا السَّمْن والخَلِّ وسائر المائعات في ظروفها كفى، ولو كانت الحنْطَة في بيت وهو مَمْلُوء منها، فرأى بعضها من الكُوَّة أو الباب كفى إن عرف سعة البيت وعمقه، وإلاَّ فلا. وكذا حكم الجمد في المُجَمَّدة، ولا يكفي رؤية صُبْرَة البَطِّيخِ والرُّمَّان والسَّفَرجَل؛ لأنها تباع في العَادَة عَدداً وتختلف اختلافاً بَيّنا فلا بد من رؤية واحد واحد، وكذا لا يكفي في شراء السّلة من العِنَب والخوخِ ونحوهما رؤية الأعلى لكثرة الاختلاف فيها، بخلاف صُبْرَة الحُبُوب والتَّمر إن لم تَلْتَزِق حباته، فَصُبْرَته كصُبْرَة الجُوز واللّوز، وإن التزقت كالقوْصَرَّة (¬1) فيكفي رؤية أعلاها على الصحيح. وعن الصَّيْمَرِيّ حكاية خلاف في القُطْن في العِدْل: أنه هل يكفي رؤية أعلاه أم لا بد من رؤية جميعه؟ قال: والأشبه عندي أنه كَقَوْصَرَّةِ التَّمْرِ. ¬
ولو رأى أنموذجاً وبنى أمر البَيْع عليه نظر إن قال: بعتك من هذا النوع كذا فهو باطل؛ لأنه لم يعيّن مالاً ولا راعي شرط السَّلم، ولا يقوم ذلك مقام الوصف في السَّلم على الصَّحيح؛ لأن الوصف اللفظ يمكن الرجوع إليه عند الإِشْكَال. ولو قال: بعتك الحِنْطَة الَّتي في هذا البيت، وهذا الأنموذج منها، نظر إن لم يدخل الأنمُوذَج في البيع ففيه وجهان: أحدهما: صحة البيع، تنزيلاً له منزلة اسْتِقْصَاء الوصف. وأصحهما: المنع؛ لأن المبيع غير مرئي، ولا يشبه استقصاء الوصف لما ذكرنا في السَّلم، وإن أدخله في البيع فعن القَفَّال وغيره: القَطْع بالصِّحّة كَمَا لَوْ رأى بعض الصُّبْرَة. وعن بعض الأئمة القطع بالمنع قال إمام الحرمين: والقياس ما قاله القَفَّال، ولا يخفى أن مسألة الأنموذج إنما تفرض في المُتَمَاثِلاَت (¬1). وإن كان ذلك الشَّيء مما لا يستدلُّ برؤية بعضه على البَاقي، نظر إن كان المرئي صُوَاناً للباقي كقشر الرُّمَّان والبَيْض كفى رؤيته، وإن كان معظم المقصود مستوراً؛ لأن صلاحه في إبقائه فيه. وكذا لو اشترى الجُوز واللّوز في القِشْرة السُّفلى، ولا يصح بيع اللّبِّ وحده فيها، لا على القول الذي يفرع عليه ولا على القول الآخر؛ لأن تسليمه لا يمكن إلا بكسر القشر، وفيه تغيير عين المبيع. ولو رأى المبيع من وراء قَارُورَةٍ هو فيها لم يكف؛ لأن المعرفة التَّامَّة لا تحصل به، ولا يتعلّق صلاح بكونه فيها، بخلاف السَّمك يراه في الماء الصَّافي يجوز بيعه، وكذا الأرض يعلوها ماء صاف، لأن الماء من صلاحها ولا يمنع معرفتها، وإن لم يكن كذلك لم تكف رؤية البعض على هذا القول وأَمَّا على القول الآخر ففيه كلام موضعه الفَصْل الذي يلي هذا الفصل. واعلم أن الرؤية كل شيء على حسب ما يليق به، ففي شراء الدّار لا بد من رؤية البيوت والسُّقُوف والسُّطُوح والجُدْرَان داخلاً وخارجاً، ومن رؤية المُسْتَحم والبَالُوعة، وفي البُسْتَان من رؤية الأشجار والجُدْرَان ومسايل الماء، ولا حاجة إلى رؤية أساس البُنْيَان وغيره من الأشجار ونحوه. ¬
وفي "الجُرْجَانِيَّات" لأبي العباس الرُّويَانِيّ ذكر وجهين في اشتراط رؤية طريق الدار، ومجرى الماء الذي تدور به الرَّحى وفي شراء العبد لا بد من رؤية الوَجْه والأَطْراف، ولا يجوز رؤية العَوْرَة، وفي باقي البدن وجهان: أظهرهما: وهو المذكور في "التهذيب": أنه لا بد من رؤيته، وفي الجارية وجوه: أحدما: يُعْتبر رؤية ما يُرى من العَبْد. والثانى: رؤية ما يبدو عند المِهْنة. والثالث: يكفي رؤية الوَجْه والكَعْبَيْن، وفي رؤية الشعر وَجْهَان في "التهذيب": أصحهما: اشتراطها، ولا يشترط رؤية الأَسْنَان واللِّسَان في أصح الوجهين. وفي الدَّواب لا بد من رؤية مَقْدمها ومُؤَخّرها وقَوَائِمها، ويجب رفع السَّرْجِ والإكَافِ والجُلِّ وعن بعض الأصحاب: أنه لا بد من أن يجري الفَرَسْ بين يديه ليعرف سَيْرَه. والثوب المطوي لا بد من نشره. قال الإمام: ويحتمل عندي أن نصحح بيع الثياب التي لا تُنْشَر بالكليّة إلا عند القطع لما في نشر ها من التَّنْقيص (¬1)، وتلحق بالجُوز واللّوز لا يعتبر كَسْرُها لرؤية اللُّبُوب مع أنها معظم المقصود، ثم إذا نشرت فما كان صفيقاً كالدِّيْبَاج المقش فلا بد من رؤية كلا وجهيه، وفي معناه البُسُطُ والزَّلاَلِيُّ (¬2)، وما كان رقيقاً لا يختلف وجهاه كالكِرْبَاس يكفي رؤية أحد وجهيه في أصح الوجهين. ولا يصح بيع الثياب التَّوَّزِيَّة (¬3) في المُسُوح على هذا القول. قال الإمام: وَعُمُوم عرف الزمان محمول على المُحَافظة على المالية والأعراض عن رعاية حدود الشرع. وفي شرى المصحف والكتب لا بد من تَقْليب الأوراق ورؤية جميعها، وفي البياض لا بد من رؤية جميع الطَّاقات. وذكر أبو الحسن العبادي: أن القُفَّاع يفتح رأسه، وينظر فيه بقدر الإمكان حتى يصح بيعه، وصاحب الكتاب أطلق المُسامَحَة في "الإحياء" فيما أظن (¬4) -والله أعلم-. ¬
قال الغزالي: وَإِنْ لَمْ تُشْتَرَطِ الرُّؤْيَةُ فَبَيْع اللَّبَنِ في الضِّرْعِ بَاطِلٌ (م) لِتَوَقُّعِ اخْتِلاَطِهِ بِغَيْرِ المَبِيعِ وَعُسْرِ التَّسْلِيمِ، وَلَوِ اشْتَرَى ثَوْباً نِصْفُهُ في صُنْدُوقِ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ باطلٌ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ سَبَبُ اللُّزُومِ وَعَدَمُهَا سَبَبُ الجَوَازِ فَيَتَنَاقَضَانِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ لاَ يَتَبَعَّضُ، وَلَوْ قالَ: بِعْتُ مَا فِي كُمِّي لَمْ يَصِحَّ (و) مَا لَمْ يَذْكُرِ الجِنْسَ، وَمَهْمَا رَأى المَبِيعَ فَلَهُ الخِيَارُ، وَلَهُ الفَسْخُ قَبْلَ الرُّؤيَةِ دُونَ الإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ الرِّضَا قَبْلَ حَقِيقَةِ المَعْرِفَةِ لاَ يُتَصَوَّرُ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ. قال الرافعي: أمهات مسائل الفصل أربع: إحداها: بيع اللَّبَن في الضَّرع باطل، وعن مالك -رضي الله عنه-: أنه إذا عرف قدر حِلاَبها في كل دفعة صح وإن باعه أيَّاماً. لنا ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نَهَى أَنْ يُبَاعَ صُوْفٌ عَلَى ظَهْرٍ، أَوْ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ" (¬1). ولأنه مجهول القدر لتفاوت حسن الضُّرُوع، ولأنه يزداد شيئاً فشيئاً لا سيما إذا أخذ في الحلب وما يحدث ليس من المبيع، فلا يتأتى التَّمييز والتَّسْليم، ولو قال: بعتك من اللَّبن الذي في ضَرْع هذه البقرة كذا لم يجز أيضاً على الصحيح؛ لأن وجود القدر المذكور في الضَّرع لا يستيقن. وفيه وجه: أنه يجوز كما لو باع قدراً من اللَّبن في الظَّرْف فيجي فيه قولاً بيع الغائب. ولو حَلَبَ شَيْئاً من اللَّبن فأراه ثم باعه رطلاً في الضَّرع، فقد نقلوا فيه وجهين كما في مسألة الأنْمُوذَج. قال الإمام: وهذا لا يَنْقَدِح إذا كان المبيعِ قدراً لا يتأتى حَلْبه إلاَّ ويتزايد اللبن فإن المانع قائم، والحالة هذه فلا ينفع إِبْدَاء الأُنْمُوذج، نعم لو كان المبيع يَسِيراً وابتدر إلى الحلب فلا يفرض، والحالة هذه ازدياد شيء به مبالاة فيحتمل التَّجْوِيز، لكن إذا صورنا الأمر هكذا، فلا حاجة إلى إبداء الأُنمُوذج في التَّخريج على الخلاف بل صار صائرون إلى إلحاقه ببيع الغائب، وآخرون خَتَمُوا الباب وألحقوا القليل بالكثير، وصاحب الكتاب في "الوسيط" حكى الخلاف في سورة أخرى تناسب هذه، وهي أن يقبض على قدر من الضَّرع ويحكم سنده ويبيع ما فيه. وقوله في الكتاب: "وإن لم نشترط الرؤية فبيع اللبن في الضرع باطل لا يخفى أن هذا ليس تفريعاً على هذا القول خاصة، بل هو على قول اشْتراط الرّؤية أولى بأن يبطل، ¬
وإنما ذكره عند التفريع على هذا القول ليعرف أنه وإن صحَّ شراء ما لم ير، لم يصح بيع اللَّبن في الضَّرْع لمعنى الاخْتِلاَط. ونختم المسألة بصور تشبهها: إحداها: لا يجوز بيع الصُّوف على ظهر الغنم لما مر من الخبر، ولأن مطلق اللفظ يتناول جميع ما على ظاهر الجلد، ولا يمكن استيعابه إلا بإيْلاَم الحيوان، وإن شرط الجَزّ فالعادة في المِقْدار المَجْزُوز تختلف، وبيع المجهول لا يجوز. وعن مالك -رضي الله عنه-: أنه يجوز لشرط الجَزّ. وحكاه القاضي ابن كَجٍّ وجهاً لبعض الأصحاب، ويجوز بيع الصوف على ظهر الحيوان بعد الذَّكَاة، إذ ليس في اسْتِيفَاء جميعه إِيْلاَم. وتجوز الوَصِيَّة باللَّبن في الضرع، وبالصُّوف على ظهر الغنم بخلاف البيع. الثانية: بيع الشَّاة المَذْبُوحَة قبل السَّلْخ باطل، سواء بِيع اللَّحم وحده أوالجِلْد وحده، أو بِيعا معاً، لأن المقصود اللحم وهو مجهول، ولا يجوز بيع الأَكارع والرّوس قبل الإبَانَة، وفي الأَكَارع وجه مذكور في "التَّتمة"، ويجوز بيعها بعد الإِبَانَة نيئةً وَمَشْوِيَّة، ولا اعتبار بما عليها من الجِلْدِ فإنها مأكولة، وكذا المَسْمُوط يجوز بيعه نَيّاً ومَشْويّاً، وفي النَّيِّ احتمال عند الإمام. الثالثة: بيع الِمسْكِ في الفَأْرة باطل، سواء بيع معها أو دونها كاللحم في الجلد، ولا فرق بين أن يكون رَأْسُ الفأرة مفتوحاً أو لا يكون للجهل بالمقصود، وفصّل في "التتمة" إذا كانت مفتوحة فقال: إن لم تتفاوت ثَخَانَتُها، وشاهد الِمسْك فيه صح البيع، وإلاّ فلا. وعن ابن سريج: أنه يجوز بيعه مع الفَأْرَةِ تشبيهاً لها بالجُوز واللّوز. ولو رأى المِسْك خارج الفأرة ثم اشتراه بعد الرَّد إليها صَحّ، فإن كان رَأْسُهَا مفتوحًا فرأى أعلاه فيجوز، وإِلاَّ فعلى قولي بيع الغائب (¬1). ¬
المسألة الثَّانية: لو رأى بعض الثّوب المبيع، وبعضه الآخر في صندوق أو جراب لم يكره. فقد حكى المزني عن نصه أن البيع باطل، ورأى كونه مقطوعاً به واحتج به لاختياره بطلان بيع الغائب، وقال: إذا بطل بيع ما لم ير بعضه، فلأن يبطل بيع ما لم ير كله كان أَوْلَى. وللأصحاب في المَسْأَلَةِ طريقان: فقال قائلون منهم أبو إسحاق: المسألة على قولين، كَما لو لم يَرَ شَيْئاً منه، وحيث أجاب الشافعي -رضي الله عنه- بالبطلان، أجاب على أحد القولين في بيع الغائب، والاقتضاء على أحد القولين في بعض الصور لا يستبدع، ألا ترى أنه اقتصر على قول التصحيح في كثير من المواضع؟ وسلم آخرون منهم صاحب "الإفصاح" أبو علي ما قرره المُزَنِيُّ من الجَزْمِ بالبطلان، وفرقوا بوجهين: أحدهما: أنَّ ما نظر إلى بعضه بسهل النَّظَر إلى باقيه بخلاف الغَائِب فقد يعسر إحضاره وتدعو الحاجة إلى بيعه. والثَّاني: أَنَّ الرؤية فيما يراه سبب اللُّزُوم وعدمها فيما لم ير سبب الجواز والعقد واحد، لا يتصور إثبات الجواز واللزوم فيه مَعَاً ولا يمكن تبعيض المعقود عليه في الحكمين. قال جمهور الأئمة: والصحيح الطريقة الأولى والفرقان فاسدان، أما الأول فلأنا على قول تجويز بيع الغَائِب نجوِّز بيع ما في الكم مع سهولة إخراجه، وأما الثَّاني فلأن وجود سبب الرَّدِّ في البعضَ يكفي في رَدِّ الكل كما إذا وجد ببعض المبيع عيباً. وإذا عرفت ما ذكرناه عرفت أن ما اقتصر على ذكره في الكتاب تفريعاً على هذا القول غير ما هو الصحيح عند الجمهور. هذا أكله فيما إذا كان المبيع شيئاً واحداً، أما إذا كان المَبِيعُ شيئين، ورأى أحدهما دون الآخر، فإن أبطلنا شراء الغَائب، لم يصحَّ المبيع فيما لم يره، وفيما رآه قولاً تفريق الصَّفقة، فإن صححنا شراء الغائب ففي صحّة العقد فيهما قولان؛ لأنه جمع في صفقة واحدة بين مختلفي الحكم، لأن ما رآه لا خيار فيه، وما لم يره يثبت فيه الخيار، فإن صححنا فله رد ما لم يكره وإِمْسَاك ما رآه. المسألة الثالثة: إذا لم نشترط الرُّؤية فلا بد من ذكر جِنْسِ المبيع بأن يقول: بعتك عبدي أو فرسي ولا يكفي قوله: بعتك ما في كُمِّي أو كَفِّي أَو خزَانَتِي أو ما ورثته من أبي إذا لم يعرفه المشتري هذا ظاهر المذهب. وحكى الإمام وجهاً: أنه يصح وإن لم يذكر الجنس؛ لأن المَرْعى على القول الذي عليه يفرع أن يكون المبيع معيناً، والجَهَالَة لا تزول بذكر الجِنْس فلا معنى لاشتراطه، فعلى هذا لا يشترط ذكر النوع بطريق الأولى.
وعلى قولنا: إنه يشترط ذكر الجنس، فالظاهر أنه لا بد من ذكر النوع أيضاً، بأن يقول: عبدي التُّركي، أو فرسي العَرَبِيّ. وأوهم الإمام خلافاً فيه، فقال: لم يشترط أصحاب القفال ذلك واشترطه العراقيون، وربما أشعر قوله في الكتاب: "ما لم يذكر الجنس" بالاكْتِفاء بذكر الجنس والاسْتِغْنَاء عن ذكر النوع أيضاً، وإذا جرينا على الظاهر، فلو كان له عبدان من النوع المذكور فلا بد من أن يزيد ما يقع به التمييز من التعرض للسِّن أو غيرها، وإن لم يكن إلا واحد فوجهان: أصحهما وبه قال أبو حنيفة، ويحكى عن نصه في "الإملاء" والقديم: أنه يكفي ذكر الجنس والنوع، ولا يجب التعرض للصفات، لأن الخيار ثابت والاستدراك حاصل به، فلا حاجة إلى الوصف. والثاني: وبه قال مالك: أنه لا بد من التعرض إلى الصفات، وعلى هذا فوجهان: أحدهما وبه قال أبو علي الطَّبَرِيّ: أنه يشترط ذكر صفات السّلم، لأنه مبيع غير مشاهد فاعتبر فيه التعرض للصفات كالمسلم فيه، وهذا مذهب أحمد. وأقربهما وبه قال القاضي أبو حامد: أنه يكفي التَّعرض لمعظم الصِّفات، وضبط ذلك بما يوصف المُدّعي به عند القاضي. المسألة الرابعة إذا قلنا: لا بد من الوصف فوصف، نظر إنْ وجده على ما وصفه ففي ثبوت الخيار وجهان: أحدهما: لا يثبت، وبه قال أحمد بسلامة المَعْقُود عليه بصفاته، ويحكى هذا عن القاضي الحُسَيْن. وأصحهما وبه قطع قاطعون: أنه يثبت لما سبق من الخير. وإن وجده دونما وصفه فله الخيار لا محالة، وإن قلنا: لا حاجة إلى الوضف فللمشتري الخيار عند الرؤية سواء شرطه أو لم يشرطه وفي كتاب القاضي ابن كَجٍّ أن أبا الحُسَيْنِ حكى عن بعض أصحابنا: أنه لا بد من اشْتِرَاط خيار الرُّؤْية حتى يثبت، وهل له الخيار قبل الرؤية؟ أما الإِجَازة فظاهر المذهب أنها لا تنفذ؛ لأن الإجازة رضاً بالعقد وإلزام له، وذلك يستدعي العلم بالمعقود عليه وأنه جاهل بحاله، ولو كفى قوله: أجزت مع الجهل لأغنى قوله في الابتداء: اشتريت. وحكى في "التتمة" وجهاً: أنه ينفذ تخريجاً من تصحيح الشَّرط، إذا اشترى بشرط أن لا خيار وأما الفسخ، فإن نفذنا الإِجازة فالفسخ أولى، وإن لم ننفذ الإجارة، ففي الفسخ وجهان:
أحدهما: أنه لا ينفذ أيضاً؛ لأن الخيار في الخبر منوط بالرؤية. وأصحهما: أنه ينفذ؛ لأن حتى الفسخ ثابت له عند الرؤية مغْبُوطاً كان أو مَغْبُوناً، فلا معنى لاشتراط الرؤية في نفوذه، وإذا كان البائع قد رأى المَبيع، فهل يثبت له الخِيَار كما يثبت للمشتري؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كخِيَار المَجْلس يشتركان فيه. وأصحهما: لا، وهو نصه في الصَّرف، ولأنه أحد المُتَبَايعين، فلا يثبت له الخيار مع تقدم الرؤية كالمشتري. ولو باع ما لم يكره وصححنا العقد، فهل يثبت الخيار له؟ فيه وجهان: أصحهما: عند المَرَاوِزَة وبه قال أبو حنيفة: لا، لأن جانب البائع بعيد عن الخِيَار بخلاف جانب المُشْتَري، ولهذا لو باع شيئاً على أنه معيب، فَبَانَ صحيحاً لا خيار له، ولو اشتراه عَلَى أنه صحيح فَبَانَ معيبًا له الخِيَار. والثاني: يثبت، لأنه جاهل بالمَعْقُود عليه فأشبه المشتري، وهذا هو الذي أورده الشَّيْخ أَبُو حامد ومن تابعه، قالوا: والخيار كما يثبت للمشتري عند النُّقْصَان يثبت للبائع عند الزيادة، أَلاَ تَرَى أنه لو باع ثَوْباً على أنه عشرة أَذْرع فَبَانَ أَحَد عشر ذراعاً يثبت للبائع الخيار؟ ثم خيار الرؤية على الفور أو يمتد امتداد مجلس الرؤية، فيه وجهان: أحدهما وبه قال ابن أبي هريرة: أنه على الفور، لأنه خيار تعلّق بالاطِّلاع على حال المبيع فأشبه الرد بالعيب. والثاني: وبه قال أَبُو إِسْحَاق: أنه يمتد امتداد مَجْلِسِ الرُّؤية؛ لأنه خِيَار ثبت قضية للعقد، فتعلّق بالمجلس كخِيَار المجلس. قال صاحب "التهذيب": وهذا أصح، والوجهان عند الشيخ أبي محمد مبنيان على مسألة أخرى، وهي أنه هل يثبت خيار المجلس مع خيار الرؤية؟ وفيه وجهان: أحدهما: أنه يثبت كما يثبت في شراء الأعيان الحاضرة. والثاني: لا يثبت الاستغناء بخيار الرؤية عنه، فعلى الأول خيار الرؤية على الفور، وإلا لأثبتنا خيار مجلسين، وعلى الثاني يمتد امتداد مجلس الرؤية. وزاد الإمام ترتيباً فقال: إن أثبتنا خيار المجلس، فهذا الخيار على الفور، وإلا فوجهان. وقوله في الكتاب: "لأفيه وجه آخر" أراد الوجه الصائر إلى نفوذ الإجازة على ما أوضحه في "الوسيط" لا الوجه الصائر إلى نفوذ الفسخ، وإن كان اللفظ يحتملها فرعان: أحدهما: لو تلف المبيع في يد المشتري قبل الرؤية، ففي انفساخ البيع وجهان
كنظيره في خيار الشرط، ولو باعه قبل الرؤية لم يصح، بخلاف ما لو باع في زمن خيار الشرط يجوز على الأصح، لأنه يصير مجيزاً للعقد، وهاهنا لاَ إِجازة قبل الرُّؤية لما سبق. الثاني: نقل القَاضِي الرُّويَانِي وصاحب "التَّتمة" وجهاً: أنه يعتبر على قول اشْتِرَاط الرُّؤية الذَّوق في الخَلّ ونحوه، والشَّم في المِسْك ونحوه، واللَّمس في الثياب ونحوها، فإن كيفياتها المقصودة بهذه الطرق تعرف، والمشهور أنها لا تعتبر، وإنما هي ضرب انتفاع واستعمال. فرع ثالث: ذكر بعضهم: أنه لا بد من ذكر موضع المبيع، فلو كان في غير بلد التبايع وجب تسليمه في ذلك البلد، ولا يجوز شرط تسليمه في بلد التبايع، بخلاف السلم فإنه مضمون في الذِّمّة، والعَيْن الغائبة غير مضمونة في الذمة، فاشتراط نقلها يكون بَيْعاً وشَرْطاً. فرع رابع: قال حجة الإسلام في "الوسيط": ووقع في الفتاوى: أنه رأى رجل ثوبين ثم سرق أحدهما فاشترى الرجل الثوب الباقي وهو لا يدري المسروق أيهما، فقلت: إن تساوت صفة الثوبين وقدرهما وقيمتهما كنصفي كِرْبَاس واحد صح العقد، فإنه اشترى مُعَيناً مرئياً مَعْلوماً، وإن اختلفا في شَيْء من ذلك، خرج على قولي بيع الغائب، لأنه ليس يدري أن المشتري منهما الطويل أو القصير مثلاً، فلم تفد الرؤية السَّابقة العلم بحال المَبِيْع عند العَقْد فلا تغنى، وهذا الذي ذكره يتأيد بأحد الرأيين فيما إذا لم يملك إلا عبداً واحداً فحضر في نفر من العبيد، فقال سَيِّده: بعتك عبدي من هؤلاء، والمشتري يراهم وهو لا يعرف عين ذلك العبد. فرع خامس: إذا لم نَشْتَرط الرُّؤية واختلفا، فقال البائع للمشتري: قد رأيت المبيع، وقال المشتري: ما رأيته، ففيه وجهان: أحدهما: أن القول قول البائع، لأنه اختلاف في سبب الخيار، فأشبه ما لو اختلفا في قدم العيب. وأظهرهما: عند أبي الحسن العبادي: أن القول قول المشتري، كما لو اختلفا في اطلاعه على العيب. هذا إذا لم نشترط الرؤية، فإن شرطناها وفرض هذا الاختلاف، فقد ذكر المصنف في فتاويه: أن القول قول البائع؛ لأن للمشتري أهْلِيّة الشراء وقد أقدم عليه، فكان ذلك اعترافاً منه بصحة العقد، ولا ينفك هذا عن الخلاف -والله أعلم-. (¬1) ¬
الباب الثاني في الفساد بجهة الربا
الْبَابُ الثَّانِي في الفَسَادِ بِجِهَةِ الرِّبَا " القول في باب الربا" قال الغزالي: قالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَالوَرِقَ بِالوَرِقِ وَالبُرَّ بالبُرِّ وَالتَّمْرَ بِالتَّمْرِ وَالشَّعِيرَ بالشَّعيرِ وَالمِلْحَ بِالمِلْحِ إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ يَداً بِيَدٍ (¬1)، فَمَنْ بَاعَ شَيْئاً مِنْ هَذِهِ المَطْعُومَاتِ بِجِنْسِهِ فَلْيَرْعَ المُمَاثَلَةَ بِمِعْيَارِ الشَّرْعِ وَالحُلُولِ أعْنِي ضِدَّ النَّسِيئَةِ وَالتَّقَابُضِ (ح) فِي المَجْلِسِ فَإنْ بَاعَ بِغَيْرِ جنْسِهِ لَمْ يَسْقُطْ إِلاَّ رِعَايَةُ المُمَاثَلَةِ فِي القَدْرِ، وَفِي مَعْنَى المَطْعُومَاتِ كُلُّ مَا يَظْهَرُ فِيهِ قَصْدُ الطَّعْمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّراً حَتَّى السَّفَرجَلُ (و) وَالزَّعْفَرَانُ (م) وَالطِّيْنُ الأَزمَنِيٌّ (م)؛ لأَنَّ عِلَّةَ رِبَا الفَضْلِ فِيهِ الطُّعْمُ (م ح) ولكنْ فِي المُتَجَانِسَيْن، وعِلَّةُ تَحْرِيمِ النَّسَإ وَوُجُوبِ التَّقَابُضِ الطَّعْمُ (م ح) فَقَطْ، وَإذَا بِيعَ مَطْعُومٌ بِمَطْعُومِ فهُو في مَحَلِّ الحُكْم بتَحْرِيمِ النسَإِ ووَجُوبِ التَّقَابُضِ، وِعِلَّةُ الرِّبَا في النَّقْدَينِ كَوْنُهُمَا جَوْهَريُّ الأَثْمَانِ (ح) فَتَجْرِي في الحُليِّ وَالَأوَانِي المُتَّخَذَةِ مِنْهُمَا، وَلاَ يَجُوزُ سَلَمُ شَيْءٍ في غَيْرِهِ إِذَا كَانَا مُشْتَرِكَيْنِ في عِلَّةِ النَّقْدِيَّةِ أَوْ في الطُّعْمِ. قال الرافعي: لما كان الطَّرف الأول من الكتاب معقوداً في صحَّة البيع وفساده، وقد تكلم في الباب الأول في الأركان وشروطها، وجب النَّظر في أسباب الفَسَاد، وتارة يكون لاختلال في الأركان أو في بعض شروطها، وإذا عرفت اعتبارها عرفت أن فقدها مفسد، وتارة يكون لغيره من الأسباب، فجعل بقية أبواب الطَّرف في بيانها، فمنها الرِّبا (¬2). ¬
........................
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬1). وِقال عز وجل: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬2). وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَّهُ لَعَنَ آَكِلَ الرِّبَا وَمُوَكِّلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَهُ" (¬3). والحديث الذي صدر به الباب بعض ما رواه الشافعي -رضي الله عنه- "المختصر". قال: أخبرنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن مسلم بن يسار ورجل آخر، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنهم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلاَ الْوَرِقَ بالوَرِقِ، وَلاَ البُرَّ بِالْبُرِّ وَلاَ الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ، وَلاَ التَّمْرَ بالتَّمْرِ، وَلاَ الْمِلْحَ بِالْمِلحِ، إلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، عَيْناً بِعَيْنٍ يَدًا بيَدٍ، وَلَكِنْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرَقِ، وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ، وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ، والشعير بالبر وَالتَّمْرَ بِالْمِلْحِ، وَالْمِلْحَ بِالتَّمْرِ، كَيْفَ شِئْتُمْ، يَداً بِيَدٍ" قَال: "وَنَقَصَ أَحَدُهُمَا التَّمْرُ أَوِ الْمِلْحُ، وَزَادَ الآخَرُ فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى" (¬4). ذكر بعض الشارحين: أن الرجل الآخر الذي أبهم ذكره هو: عبد الله بن عبيد الله المعروف بابن هُرْمز. وقوله: "وَنَقَصَ أَحَدُهُمَا التَّمْرُ أَوِ الْمِلْحُ "، يعني: أحد الرجلين، ولم يبين الَّذِي نقص منهما كأنه شك فيه، وشك أيضاً في أن ما نقصه التَّمْر أو المِلْح. وقوله: وزاد الآخر يعني الذي لم ينقص. واختلفوا في قوله: "فمن زاد أو استزاد" فمنهم من قال: هذا شك آخر من الشَّافعي -رضي الله عنه-، ومنهم من قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد يلفظ بهما جميعاً، وأراد بقوله: "زاد" أعطى الزيادة، وبقوله: "أو استزاد" أخذ الزيادة أو طلبها. وشبه ذلك بما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي النَّارِ" (¬5). واعلم أن الربا ثلاثة أنواع: ربا الفضل: وهو زيادة أحد العِوَضَيْن على الآخر في القدر. وربا النَّساء وهو أن يبيع مالاً بمال نَسِيئَة، سمي به لاختصاص أحد العِوَضَيْن بزيادة الحُلُول. وربا اليَدِ؛ وهو أن يَقْبِض أحد العِوَضين دون الآخر، وفي الخبر ذكر ستة أشياء وهي: النَقْدَان، والمَطْعُومَات الأربعة، والحكم غير مقصور عليها باتفاق ¬
جمهور العلماء، لكن الربا ثبت فيها لمعنى، فيلحق بها ما يُشَارِكُهَا فيه. فأما الأشياء الأربعة، فللشافعي -رضي الله عنه- قولان في علْة الرِّبا فيها: الجديدة: أن العلَّة هو الطعم (¬1)، لما روى معمر بن عبد الله قال: كنت أسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلٌ بِمِثْلِ" (¬2) علّق الحكم باسم الطعام، والحكم المعلّق بالاسم المشتق معلَّل بما منه الاشتقاق، كالقطعِ المعلّق باسم السارق، والجَلْد المعلق باسم الزَّاني. والقديم: أن العلة فيها الطعم، مع الكيل والوزن. واحتجوا له بما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الذَّهَبُ بالذَّهَبِ وَزْنًا بوَزْنٍ، وَالبُرُّ بالبُرِّ كَيْلاً بِكَيْلِ" (¬3). فعلى هذا يثبت الربا في كل مطعوم مَكِيل أو موزون، دون ما ليس بمكيل ولا موزون كالسَّفَرْجَلِ، والرُّمَّانِ والبَيْضِ والجُوزِ والأتْرُجِّ والنَّارِنْجِ. وعن الأَوْدَنِيِّ من أصحابنا: أنه تابع ابْنَ سِيْرينَ في أن العلّة الجنسية، حتى لا يجوز بيع مال بجنسه متفاضلاً. وقال مالك: العلة الاقْتيات، فكل ما هو قُوْت أو يستصلح به القوت يجري فيه الربا، وقصد بالقيد الثاني إدراج الملح. وقال أبو حنيفة: العلَّة الكَيْلُ حتى يثبت الرِّبَا في الجَصِّ والنُّورَةِ وسائر المكيلات. وعن أحمد روايتان: إحداهما: كقول أبي حنيفة. والأخرى: كقول الشافعي -رضي الله عنه- الجديد. وإذا علّلنا بالطعم، إما مع انضمام التقدير إليه أو دونه تعدي الحكم إلى كل ما يقصد ويعد للطعم غالباً إما تَقَوُّتا أو تأدُّماً، أو تَفَكُّهاَ أو غيرها، فيدخل فيه الحُبُوب والفَوَاكِه، والبقول والتوابل وغيرها، ولا فرق بين ما تؤكل نادراً كالبَلُّوط والطَّرْثُوث (¬4) أو غالباً، ولا بين أن يؤكل وحده أو مع غيره، وفي الزَّعْفَران وجهان: أصحهما: أنه يجري فيه الربا، لأن المقصود الأظهر منه الأكل تَنَعُّماً أو تَدَاوِيَا إلاَّ أنه يخلط بغيره. ¬
والثَّاني: لا يجري؛ لأنه يقصد منه الصّبْغ واللّون غالباً، وبهذا قال القاضي أبو حامد فيما حكاه ابن كَجٍّ، وأبو حيان التَّوحيدي في بعض "رسائله" ولا فرق بين ما يؤكل لِلتَّدَاوي كالإهليلج (¬1) والبليلج (¬2) والسَّقْمُونيا (¬3) وغيرهما، وبين ما يؤكل لسائر الأغراض على المَذْهَبِ. وفي "التَّتمة" حكاية وجه: أن ما يهلك كثيره، ويستعمل قليله في الأدوية كالسَّقْمُونيَا، لا يجري فيه الرِّبا. وأما الطين، فالخَرْسَانِيِّ منه ليس بربوي، لأنه لا يعد مأكولاً ويسفه آكله، وعن الشيخ أبي محمد: الميل إلى أنه رَبَوِيّ. والأَرْمَنِيّ دواء فهو كالإهليلج، وفيه وجه آخر: أنه لا ربا فيه كسائر أنواع الطين، وإلى هذا ذهب القاضي ابن كج. وفي دهن البَنَفْسَجِ والورد، واللِّبان، وجهان: أصحهما: أن فيها الربا، فإنها متخذة من السِّمْسِم المكتسب رائحة من غيره، وإنما لا تؤكل في العادة ضَنّة بها، وفي دهن الكِتَّان وجهان: أظهرهما: أنه ليس مال الربا لأنه لا يعد للأكل، ودهن السَّمك كذلك، لأنه يعد للاسْتِصْباح وتدهين السُّفن. قال الإمام: وهذا يظهر جعله مال الربا، فإنه جزء من السمك. ونقل صاحب "البيان" وجهين في حب الكِتَّان والزَّنْجَبيل، ووجهين عن الصَّيمَرِي في ماء الوَرْد، وذكر أنه لا ربا في العُود والمَصْطَكِيّ، والأَشبه أن ما سوى العُود كله ربوي (¬4)، وفي كون الماء ربوياً إذا فرعنا على صحة بيعه، وثبوت الملك فيه وجهان: ¬
أصحهما: أنه ربوي. قال الشيخ أبو حامد: ومن لا يجعله ربوياً يقول: العلّة في الربويات أنها مأكولة، ومن يجعله ربوياً، يقول: العلة إنها مطعومة. والثاني أعم؛ لأن المأكولية لا تطلق في الماء والمَطْعُومِيّة تطلق. قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} (¬1). ولا ربا في الحَيَوان؛ لأنه لا يؤكل على هَيْئَتِهِ، نعم ما يُبَاح أكله على هيئته كالسَّمَك الصَّغير على وجه يجري فيه الربا، هكذا قاله في "التَّتمة". وحكى الإمام عن شيخه وعن صاحب "التقريب" تردداً فيه وقطع بالمنع؛ لأنه لا يعد للأكل، وأما النّقْدان فعن بعض الأصحاب: أن الربا فيهما لعينهما لا لعلة، والمشهور أن العلّة فيها صلاح التَّنمية الغالبة، وإن شئت قلت: جوهرية الأَثْمَان غالباً، والعبارتان تشملان التِّبر والمَضْرُوب والحُليّ والأواني المُتَّخذة منهما، وفي تعدّي الحكم إلى الفلوس إذا راجت حكاية وجه لحصول معنى التنمية، والأصح خلافه لانتفاء التنمية الغالبة. وقال أبو حنيفة وأحمد: العلة فيهما الوزن، فيتعدى الحكم إلى كل موزون كالحَدِيد، والرّصاص والقطن. لنا أنه لو كانت العلّة الوزن لتعدي الحكم إلى المعمول من الحديد والنّحاس، كما تعدى إلى المعمول من الذهب والفضة وقد سلموا أنه لا يتعدى. ولو باع التِّبْر أو المَضْرُوب بالحُلِيّ من جِنْسه وجب رعاية التَّماثل. وعن مالك -رضي الله عنه- أنه يجوز أن يزيد ما يقابل الحُلِيّ بقدر قيمة الصّنْعة. إذا تقررت هذه الأصول فنقول: إذا بيع مال بمال لم يخل، إما أن لا يكونا ربويين أو يكونا ربويين. فَأمَّا في الحالة الأولى وهي تتضمَّن ما إذا لم يكن واحد منهما ربوياً، وما إذا كان ¬
أحدهما ربوياً فلا تجب رعاية التَّمَاثل ولا الحلُول [ولا التَّقَابض] (¬1)، ولا فرق في ذلك بين أن يتَّفق الجنس أو يختلف، حتى لو أسلم ثوباً في ثوب أو ثوبين، أو باع حيواناً بحيوانين من جنسه جاز. ¬
لما روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: "أَمَرَنِي رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أَشْتَرِيَ بَعِيراً بِبَعِيرَيْنِ إلَى أَجَلِ" (¬1). وعند أبي حنيفة: لا يجوز إسلام الشيء في جنسه. وعن مالك: يجوز عند التَّسَاوي، ولا يجوز عند التَّفاضل. وأما في الحالة الثانية: فينظر هذا ربويٌّ بِعِلّة، وذاك ربوي بعلة، أو هما ربويان بعلة واحدة. فإن اختلفت العلة لم تجب رعاية التَّمَاثل ولا الحُلُول ولا التَّقابض، ومن صور هذا القسم أن يسلم أحد النَّقْدين في البُرِّ أو يبيع الشَّعِير بالذَّهَب نقداً أو نَسِيئة. وإن اتَّفقت العلِّة، فينظر إن اتَّحد الجِنْس كما لو باع الذَّهب بالذّهب والبُرَّ بالبُرِّ، ثبت فيه أنواع الربا الثلاثة، فيجب رعاية التّماثل والحلول والتقابض في المجلس، وإن اختلف الجنس لم يثبت النوع الأول، ويثبت النوعان الباقيان. مثاله: إذا باع ذهباً بفضة أو بُراً بشعير لم تجب رعاية المماثلة، ولكن يجب رعاية الحلول والتقابض قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آخر خبر عبادة: "فَبيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، يَداً بِيَدٍ" (¬2). أباح التفاضل بقوله: "كَيْفَ شِئْتُمْ" واعتبر التقابض بقوله: "يَدًا بيَدٍ"، وإذا كان التقابض معتبراً، كان الحلول معتبراً، فإنه لو جاز التأجيل لجاز تأخير التسَليم إلى مضي المدة. وعند أبي حنيفة: لا يشترط التقابض إلا في الصّرف، وهو بيع النّقد بالنّقد، وبه قال أحمد في رواية. لنا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر النقدين وغيرهما في حديث "عبادة" في قرن واحد، ثم قال: "إِلاَّ يَداً بِيَدٍ" (¬3). فسوى في اعتبار التَّقابض بين الذهب بالذهب والبر بالبر -والله أعلم-. ولنعد إلى لفظ الكتاب. قوله: "فمن باع شيئاً من هذه المَطْعُومات بجنسه ... " إلى آخره شروع منه في ¬
بيان الحكم في أحد صنفي الأموال المذكورة في الخبر وهو المَطْعُومات، ثم ما يجب رعايته في هذه المَطْعُومات يجب رعايته في سائر المطعومات كما بينه بقوله: "وفي معنى هذه المطعومات" وكذلك في النقدين. وقوله: "بِمِعْيار الشرع"، يعني الكيل والوزن على ما سيأتي ذكره في موضعه -إن شاء الله تعالى-. قوله: "والتقابض في المجلس" معلم بالحاء والألف لما سبق أنهما لا يعتبر أنه في المَطْعُومات، ويجوز أَنْ يعلّم بهما أيضاً. قوله: "لم يسقط إلا رعاية المُمَاثلة في القدر" وقوله: "وإن لم يكن مقدراً" قصد به التَّعرض للقول القديم، وليكن معلّماً بالواو لذلك القول، وكذلك السَّفَرْجَل، وكذا الزَّعفران، والطين الأَرْمَنِي لما حكينا فيهما. وقوله: "لأن علة ربا الفضل فيه"، أي في المَطْعُومات المذكورة في الخبر وغيرها. وقوله: "الطّعم" مُعَلّم بالميم والحاء والألف، لما سمعنا من مذاهبهم. وقوله: "ولكن في المتجانسين"، معناه أن الطّعم لا يوجب تحريم ربا الفضل على الإطلاق، ولكن بشرط تجانس العِوَضَيْن، واختلفوا في أن الجِنْسية هل هي وصف من العلة أم لا؟ فذهب الشيخ أبو حامد وطبقته إلى أنها وصف من العلة، وقالوا: العلة على القديم مركبة من ثلاثة أوصاف. وعلى الجديد من وصفين، واحترز المَرَاوِزَة من هذا الإِطْلاق. وقالوا: الجنسية شرط، ومنهم من قال: هي محل عَملِ العِلّة كالإِحْصَان بالإضافة إلى الزنا، وبهذا يشعر قوله في الكتاب: "ولكن في المتجانسين". واحتج هؤلاء بأنها لو كانت وصفاً لأفادت تحريم النسأ بمجرّدها كما أفاد الوصف الآخر وهو الطّعم تحريم النسأ بمجرده وليس كذلك، فإن الجنس بانفراده لا يحرم النسأ. وللأولين أن يمنعوا إفادة ما هو وصف، لعلّة ربا الفضل تحريم النسأ، ويقولوا: قد يفيده وقد لا يفيده، وليس تحت هذا الاختلاف كثير طائل. وقوله: "وعلة تحريم النَّسأ ووجوب التقابض الطعم فقط"، أي من غير اشتراط التَّجانس، ووجوب التقابض يتلازمان، وينحى بكل واحد منهما نحو الآخر، وقد نرى الأئمة لما بينهما من التَّقَارب يستغنون بذكر أحدهما عن الآخر. وقوله: "فإذا بِيْع مَطْعُوم بمطعوم، فهو في محل الحكم بتحريم النسأ ووجوب
التقابض" أي سواء تجانسا أم لا، وهو مذكور للتَّأْكيد والإيضاح، وإلاَّ ففي قوله: "وعلة تحريم النسأ ... " إلى آخره ما يفيده. وقوله: "وعلة الربا في النّقْدين كونهما جوهري الأثمان" معلّم بالحاء والألف والواو أيضاً للوجه الصائر إلى أن الحكم فيهما غير معلل، ثم لا بُدَّ من إفادتها حرمة التَّفَاضل من الجنسية، إمَّا شرطاً أو وصفاً كما سبق، ومجرد النَّقْدية في إفادة تحريم النَّسأ ووجوب التَّقابض كمجرد الطّعم، فلذلك قال: "ولا يجوز سلم شيء في غيره إذا كانا مشتركين في علة النّقْدية أو الطعم"، فإن في السّلم يفقد التقابض وكذا الحلول غالباً. وقوله: "أو الطعم" مكرر ذكره مرة في قوله: "وعلة تحريم النَّسأ ... " إلى آخره، وأخرى في قوله: "فإذا بِيْعَ مطعوم بمطعوم ... ، إلى آخره وهذه مرة ثالثة، وقد تورث المبالغة في الإيضاح إشكالاً. فرع: حيث اعتبر التَّقَابض فلو تفرقا قبل التقابض بطل العقد، ولو تقابضا بعض كل واحد من العِوَضين ثم تفرقا بطل في غير المقبوض، وفي المقبوض قولاً تفريق الصَّفقة. والتَّخَاير في المجلس قبل التَّقَابض بمثابة التَّفرق يبطل العقد خلافاً لابن سريج. ولو وكّل أحدهما وكيلاً بالقبض، وقبض قبل مفارقة الموكّل مجلس العقد جاز وإن قبض بعده فلا. آخر: بيع مال الرِّبا بجنسه مع زيادة لا يجوز إلا بتوسُّط عقد آخر. مثاله: إذا أراد بيع دراهم أو دنانير صِحاحاً بمكسرة أكثر من وزنها يبيع الدراهم بالدنانير والدنانير بالدراهم أو بعرض، ثم إذا تقابضا وتفرقا أو تخايرا اشترى بالدراهم، أو بذلك العرض المكسرة. كما أَمَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "عَامِلَ خَيْبَرَ أَنْ يَبِيعَ الجَمْعَ بالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ يَبْتَاعَ بِهَا جَنِيباً" (¬1). والجنيب هو أجود التمر، والجمع كل لون من التَّمر لا يعرف له اسم، ولا فرق بين أن يتخذ ذلك عادة أو لا يتخذه عادة، خلافاً لمالك حيث قال: يجوز مرة واحدة، ولا يجوز أن يتخذه عادة. ولو اشترى المكسّرة بعَرْض ماله قبل أن يقبضه لم يجز، وإن اشتراها به بعد قبضه وقبل التفرق والتّخاير. قال ابن سريج وغيره: يجوز، وهو الأصح بخلاف ما لو باعه من غير بائعه قبل التفرق والتخاير، حيث لا يجوز لما فيه من إسقاط خيار العاقد الآخر، وهاهنا يحصل بما يجري بينهما إجازة العقد الأول. ¬
وعن صاحب "التَّقْرِيب" أنه مبني على الخلاف في المِلْك في زمن الخِيَار. فإن قلنا: إنه يمنع انتقال الملك لم يجز؛ لأنه باع ما لم يملكه. فهذا وجه من الحيلة. ووجه ثان: وهو أن يقرض الصحاح من الآخر ويستقرض منه المكسرة، ثم يبرئ كل واحد منهما صاحبه. ووجه ثالث: وهو أن يهب كل واحد منهما ماله من الآخر. ووجه رابع: وهو أن يبيع الصحاح بمثل وزنها من المكسرة، ويهب صاحب المكسرة الزيادة منه، فيجوز جميع ذلك إذا لم نشرط في إقراضه وهبته وبيعه ما يفعل الآخر (¬1). ولو باع النصف الشائع من دينار قيمته عشرة دراهم بخمسة جاز، ويسلم إليه الكل ليحصل تسليم النصف، ويكون النصف الآخر أمانة في يده بخلاف ما لو كان له عشرة على غيره فأعطاه عشرة عدداً فوزنت فكانت إحدى عشر ديناراً كان الدِّينار الفاضل للمقبوض منه على الإِشَاعة، ويكون مضموناً عليه؛ لأنه قبض لنفسه. ثم إذا سلم الدَّراهم الخمسة فله أن يستقرضها ويشتري بها النصف الآخر، فيكون جميع الدينار له، وعليه خمسة دراهم. ولو باع الكل بعشرة وليس مع المشتري إلاَّ خمسة فدفعها إليه، واستقرض منه خمسة أخرى وردها إليه عن الثمن جاز، ولو استقرض الخمسة المدفوعة فوجهان: أصحهما: الجواز (¬2). قال الغزالي: ثُمَّ النَّظَرُ في ثَلاَثةِ أَطْرَافٍ، أَوَّلُهَا طَرَفُ المُمَاثَلَةِ، فَمَا كانَ مَكِيلاً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلاَ يَجُوزُ فِيِه إِلاَّ الكَيْلُ، وَمَا كَانَ مَوْزُوناَ فَبِالْوَزْنِ، وَمَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ نَقْلٌ فَالَوزْنُ فِيهِ أَحْصَرُ (ح)، وَقِيلَ: الكَيْلُ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ أَعَمُّ، وَقِيلَ: يُنْظَرُ إِلَى عَادَةِ الوَقْتِ (و)، وَمَا لا يُقَدَّرُ كَالبطِّيخِ (و) فَلاَ خَلاَصَ فِيهِ عَنِ الرِّبَا إلاَّ مَالَهُ حَالَةٌ جَفَافٍ وَهُوَ حَالَةُ كمَالِهِ فَيُوزَنُ، وَالجَهلُ حَالَ العَقدِ بالممَاثلَةِ كَحَقِيقَةِ المُفَاضَلَةِ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ صُبْرَةِ بصُبْرَة جُزَافاً وَإِنْ خَرَجَتَا مُتَمَاثِلَتَيْنِ. ¬
قال الرافعي: قد مرَّ في الفصل السابق أن المماثلة بمعيار الشرع مرعية، وأن الحكم يختلف بين أن يكون الرَّبويان متجانسين وبين إلاَّ يكونا متجانسين، وذلك يحوج إلى بيان مِعْيار الشّرع، وإلى بيان أنها في أي حالة تعتبر، وإلى معرفة التّجانس في مظانِّ الأشكال فعقد فيها ثلاثة أطراف من الكلام: أحدها: في طريق المماثلة. اعلم أن معيار الشرع الذي تراعى به المماثلة هو الكَيْل والوزن، فالمكيل لا يجوز بيع بعضه ببعض وزناً، ولا يضر مع الاسْتِوَاء في الكيل التفاوت في الوزن. والموزون لا يجوز ببيع بعضه ببعض كَيْلاً، ولا يضرُّ مع الاسْتواء في الوزن التَّفاوت في الكيل روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الذَّهَبُ بالذَّهَبِ وَزْنًا بوَزْنٍ، وَالحِنْطَةُ بالْحِنْطَةِ كَيْلاً بِكَيْلٍ" (¬1). والنقدان من الأشياء السِّتة المذكورة في خَبَرِ "عُبَادة" موزونان، والأربعة المطعومة مكيلة. نعم لو كان الملح قِطَعاً كِبَاراً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يُسْتحق ويباع كَيْلاً فإنه الأصل فيه. وأظهرهما: أنه يباع وزناً نظراً إلى ما له من الهيئة في الحال، وكذا كل شيء يتجافى في الكَيْل يباع بعضه ببعض وزناً. وكل ما كان مكيلاً بالحِجَاز على عهد رسول اللهَ -صلى الله عليه وسلم- فالمعتبر فيه الكيل، وكل ما كان موزوناً فالمعتبر فيه الوزن، ولو أحدث النَّاس خلاف ذلك فلا اعتبار به. وعن أبي حنيفة: أنه يعتبر فيه غالب عادات البلدان، رواه صاحب "التهذيب". وما لم يكن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو كان، لا يعلم أنه كان يكال أو يوزن، أو علم أنه يكال مرة ويوزن أخرى، ولم يكن أحدهما أغلب. فقد ذكر المُتَوَلِّي أنه إنْ كان أكبر جِزماً من التَّمر فالاعتبار فيه بالوزن، لأنه لم يعهد الكيل بالحجاز فيما هو أكبر من التمر، وإن كان مثله أو أصغر منه ففيه وجوه: أحدها: أن المعتبر فيه الوزن؛ لأنه أخصر وأقلّ تفاوتاً. والثاني: الكيل؛ لأنه أعم فإن أكثر الأشياء الستة المذكورة في الحديث مكيل، وأيضاً فإن أغلب المطعومات في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت مكيلاً. ¬
والثالث وهو الأشبه: أنه ينظر إلى عادة الوقت؛ لأن الشيء إذا لم يكن محدوداً في الشَّرع كان الرجوع فيه إلى عادة النَّاس كما في القبض والحِرْز، وعلى هذا فالمعتبر آية بلدة؟ عن الشيخ أبي حامد، وغيره؛ أن المعتبر عادة أكثر البلاد فإن اختلفت عاداتها ولا غالب اعتبر ذلك الشيء بأشبه الأشياء به. وذكر صاحب "المهذب" و"التهذيب" أن النظر إلى عادة بلد البيع هو الأحسن. والوجه الرابع: أنه يعتبر بأقرب الأشياء شبهاً به، كما إذا شككنا في الحيوان أنه مُسْتَطَاب أو مستخبث نلحقه بأقرب الأشياء شبهاً به. والخامس: حكاه الإمام عن شيخه: أنه تثبت الخيرة بين الكيل والوزن. ثم منهم من خَصَّص هذا الخلاف بما إذا لم يكن لِلشيء أصل معلوم المِعْيَار، أما إذا استخرج من أصل هذا حاله فهو معتبر بأصله، ومنهم من أطلق. ومما أفاده الإمام في هذا الموضع أنه لا فرق بين المِكْيال المعتاد في عصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسائر المَكَاييل المحدثة بعده، كما أنا إذا عرفنا التَّسَاوي بالتَّعْديل في كفتي الميزان نكتفي به، وإن لم نعرف قدر ما في كل كَفَّة. وفي الكيل بالقَصْعة ونحوها مما لا يعتاد الكيل به حكاية تردد عن القَفْال، والظاهر الجواز والوزن بالطّيار والقَرْسَطُون وزن. وقد يتأتى الوزن بالماء بأن يوضع الشَّيء في ظَرْف ويلقى على الماء، وينظر إلى مقدار غوصه لكنه ليس وزناً شرعياً، ولا عرفياً. والظاهر: أنه لا يجوز التَّعويل في الربويات عليه (¬1) -والله أعلم-. هذا كله في الشَّيء المقدر يباع بجنسه. فأما ما لا يقدر بكيل ووزن كالبَطِّيخ والقِثَّاء والرُّمان والسَّفَرْجَل. فإن قلنا مثل هذا لاربا فيه جاز بيع بعضه ببعض، كيف شاء. حتى قال القَفَّال لو جُفف شيء منها، وكان يوزن في جفافه لم يجر، فيه الربا أيضاً؛ لأن أكمل أحواله حال الرطوبة، وهو ليس مال ربا في تلك الحالة. قال الإمام: والظاهر خلاف هذا، فإنه في حال الجَفَاف مطعوم مقدر. وإن قلنا: فيه الربا وهو القول الجديد وكلام الكتاب مفرع عليه فيجوز بيعه بغير ¬
جنسه كيف شاء. وأما بجنسه، فينظر فإن كان مما يجفف كالبَطِّيخ الذي تفلق وحبّ الرُّمَّان الحامض فلا يجوز بيع بعضه ببعض في حال الرُّطُوبة كبيع الرُّطَب بالرُّطَب، ويجوز في حالة الجَفَافِ بشرط التَّسَاوي، وهذا حكم كل ما يُجَفَّف من الثِّمَار، وإن كان مقدراً كالمشمِش والخَوخ والكُمْشَري الذي يفلق. وحكى الإمام وجهاً: أنه لا يجوز بيعها في حالة الجَفَاف أيضاً بجنسها إذ ليس يتقرر لها حالة كمال. وإن كان مما لا يجفف كالقِثَّاء ونحوه، فهل يجوز بيع بعضها ببعض في حال الرطوبة؟ فيه قولان: وكذا في المقدرات التيَ لا تجفف كالرُّطَب الذي لا يتمر، والعنب الذي لا يتزبب. أصحهما: المنع، كبيع الرطب بالرطب. والثاني: الجواز، لأن معظم منافع هذه الأشياء في رطوبتها فبيع بعضها ببعض كبيع اللَّبن باللبن، فعلى هذا إن لم يمكن كيله كالبَطِّيخ والقِثَّاء بيع وزناً، وإن أمكن كالتُفَّاح والتِّيْن فيباع وَزْناً أو كَيْلاً وجهان: أصحهما: أولهما، لأن الوزن أخصر، ولا بأس على الوجهين بتفاوت العدد. إذا عرفت طريق المماثلة في الباب فمن فروعه أن يريد شريكان في شيء من مال الرِّبَا قسمته بينهما، فهو مبني على أن القسمة بيع أو إفراز فإن قلنا بالأول وهو الأصح فلا يجوز قسمة المكيل بالوزن، ولا قسمة الموزون بالكيل. وما لا يباع بعضه ببعض كالعِنَبِ والرُّطَب فلا يقسم أيضاً. وإن قلنا بالثاني جاز قسمة المكيل بالوزن وبالعكس، ويجوز قسمة الرطب ونحوه بالوزن. لا يجوز قسمة الثِّمَار بالخَرْص على رُؤوس الأشجار. إن قلنا: إنها بيع. وإن قلنا: إفراز فقد حكى الشيخ أبو حامد عن نصه: الجواز في الرطب والعنب؛ لأن لِلْخَرْص مدخلاً فيهما دون سائر الثمار، ومنهم من أطلق المنع. ومن فروعه أنه لا يجوز بيع مال الربا بجنسه جُزَافاً، ولا بالتَّخْمين والتَّحري خلافاً لمالك حيث اكتفى في المكيلات بالتَّحري إذا كانا في بادية. فلو باع صُبْرَة من الحِنْطة بِصُبْرَة أو دراهم بدراهم جُزافاً، أو بالتخمين لم يجز، سواء خرجتا متماثلتين أم لا، أما إذا ظهر التَّفَاضُل فظاهر. وأما إذا لم يظهر فاحتجوا له بأن التساوي شرط، وشرط العقد يعتبر العلم به عند العقد. ألا ترى أنه لو نكح امرأة لا يدري أهي معتدة أم لا، أو هي أخته من الرضاع أم لا، لا يصح النكاح؟
ولا فرق بين أن يجهل كلتا الصُّبْرَتين أو إحديهما. روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نهَى عَنْ بَيعِ الصُّبْرَةِ مِنَ التَّمْرِ لاَ يَعْلَمُ مَكِيلَهَا بِالْكَيلِ المُسَمَّى مِنَ التَّمْرِ" (¬1). ولو قال: بعتك هذه الصُّبْرَة بتلك الصُّبْرَة مكايلة أو كيلاً بكيل، أو هذه الدراهم بتلك موازنة، أو وزناً بوزن، فإن كَالاً أَوْ وَزَنَا وخرجتا متساويتين صح العقد، وإلا فقولان. قال في "التهذيب": أصحهما: البطلان، لأنه قابل الجملة بالجملة، وهما متفاوتتان. والثاني: أنه يصح في الكبيرة بقدر ما يقابل الصَّغِيرة لمقابلته صَاعاً بِصَاع، ولمشتريها الخيار إذا لم يسلم له جميعها، وحيث قلنا بالصحة فلو تفرقا بعد تقابض الجملتين وقبل الكيل والوزن فهل يبطل العقد؟ فيه وجهان: أصحهما: لا، لوجود التَّقَابض في المجلس والثاني: نعم، لبقاء العلقة بينهما. ولو قال: بعتك هذه الصُّبْرَة بكَيْلها من صُبْرتك وصُبْرته صغيرة وصُبْرة المخاطب كبيرة صح لحصول المماثلة بين العِوَضين، ثم إنْ كَالاَ في المجلس وتقابضا تَمَّ العقد، وما زاد من الكبيرة لصاحبها، وإن تَقَابضا الجُمْلَتَيْن وتفرَّقا قبل الكيل فعلى ما سبق من الوجهين. ولو باع صُبْرَة حِنْطة بصبرة شعير جُزافاً جاز، ولو باعها بها صَاعاً بصاع أو بصاعين فالحكم كما لو كانتا من جنس واحد. وقوله في الكتاب: "وما لم يثبت فيه نقل فالوزن أَخْصَر" أي: فيتعين ذلك وإيراد الكتاب يقتضي ترجيح هذا الوجه. وقوله: "وقيل: الكيل جائز" ظاهره يقتضي تجويز الكَيْل مع تجويز الوزن، وحينئذ يكون هذا الوجه وجه التخيير لكنه لم يرد ذلك، وإنما أراد وجه تَعْيين الكيل، وذلك بين من التَّوْجيه (¬2). وقوله: "وما لا يُقَدَّرُ كالبَطِّيخ فلا خلاص فيه عن الرِّبَا ... " إلى آخره جواب على ¬
القول المانع من بيع بعضه ببعض في حالة الرطوبة، وليكن معلماً بالواو؛ للقول الآخر. وقوله: "فيوزن" يجوز إعلامه بالواو؛ لأن المعنى فيباع وَزْناً. وقد حكينا وجهاً: أنه لا يباع في حالة الجَفَاف أيضاً. قال الغزالي: وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ الهَرَوِيّ (ح) بالهَرَوِيّ، وَلاَ بِأحَدِ التِّبْرَيْنِ عَلَى الخُلُوصِ، وَلاَ بَيْعُ مُدٍّ وَدِرهَمٍ (ح) بِمُدٍّ وَدِرهَمٍ لِأَنَّ حَقِيقَةَ المُمَاثَلَةِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، وَلَوْ رَاطَلَ مِائَتَي دِينَارٍ وَسَطٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ عِتْقٍ وَمِائَةِ دِينَارٍ رَدِيْءٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ مَا فِي أَحَدِ الجَانِبَيْنِ إِذَا وُزِّعَ عَلَى مَا فِي الجَانِبِ الثَّانِي بِاعْتِبَارِ القِيمَةِ أَفْضَى إلَى المُفَاضَلَةِ إِذْ لاَ تُعْلَمُ المفَاضَلَةُ إلاَّ بِتَقْدِيرِ القِيمَةِ، وَالتَّقْوِيمُ تَخْمِينٌ وَجَهْلٌ لاَ يُفِيدُ مَعْرِفَةً في الرِّبَا، فَمَهْمَا اشْتَمَلَتِ الصَّفْقَةُ عَلَى مَالِ الرِّبَا مِنَ الجَانِبَيْنِ وَاخْتَلَفَ الجِنْسُ فِي أَحَدِ الجَانِبَيْنِ، أَوْ فِي كِلاً الجَانِبَيْنِ، أَوِ اخْتَلَفَ النَّوْعُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ (ح). قال الرَّافِعِيّ: مقصود الفصل بيان القاعدة المعروفة بـ "مُدّ عَجْوَة" ثم يتصل بها ما يناسبها والقدر الذي تشترك فيه مسائل الفصل أن تَشْتَمل الصَّفقة على مال الرِّبَا من الجانبين، ويختلف مع ذلك أحد العِوَضَين أو كلاهما جنساً أو نوعاً أو صفة، ثم لا يخلو إما أن يكون مال الربا من الجانبين من جنس واحد أو من جنسين. القسم الأول: أن يكون مال الربا من الجانبين من جنس واحد، وفيه تقع القاعدة المقصودة. فمن صوره أن يختلف الجنس من الطرفين، أو من أحدهما كما إذا باع مُدّ عَجْوة ودرهماً بمُدّ عَجْوة، ودرهمْ أو بمُدَّي عَجْوة، أو بدرهمين، أو باع صاع حِنْطة وصاع شعير بصاع حِنْطة وصاع شعير أو بِصَاعَي حِنْطَة، أو صاعي شعير. ومن صوره أن يختلف النَّوع والصِّفة من الطريقين أو أحدهما كما إذا باع مُدّ عَجْوة ومُدّ صَيْحَانِيّ (¬1) بمدي عجوة أو بمدي صَيْحَانِيّ، أو بمدي عجوة أو بمدي صيحاني، أو باع مائة دينار جيد ومائة دينار رديء، بمائتي دينار جيد أو رديء أو وسط أو مائة جيدة ومائة رديئة، فلا يصح البيع في شيء من هذه الصور ونظائرها. لما روي عن فضالة بن عبيد قال: "أُتِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ بِخَيْبَرَ بِقِلاَدَةٍ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ تُبَاعُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلاَدَةِ فَنُزعَ وَحْدَهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الذَّهَبِ وَزْناً بِوَزْنٍ. ¬
ويروى أنه قال: "لاَ يُبَاعُ مِثْلُ هذَا حَتَّى يُفْصَلَ وَيُمَيَّزَ" (¬1). والمعنى: أن قضية العقد إذا اشتمل أحد طرفيه على ماليين مختلفين وزع مال الطرف الآخر عليهما باعتبار القيمة، وذلك يوجب المفاضلة أو الجهل بالمماثلة. أما إن قضيته ما ذكرنا فلأنه لو باع شِقْصاً من عقار وسيفاً بألف، وزع عليهما الألف باعتبار القيمة حتى إذا كانت قيمة الشّقص مائة، وقيمة السيف خمسين يأخذ الشَّفيع الشّقْص بثلثي الألف، وأيضاً فلو اشترى شيئين بألف فوجد بأحدهما عيباً، وأراد رده وحده بالعيب يرده بما يخصه من الألف إذا وزع عليهما باعتبار قيمتها، وكذلك لو خرج أحدهما مستحقّاً وأجاز المبيع في الآخر يجيزه بما يخصُّه من الألف باعتبار القيمة. وأما أنه يلزم منه أحد الأمرين، فلأنه إذا باع مداً ودرهماً بمدّين، فإما أَنْ تكون قيمة المدّ الذي هو مع الدرهم أكثر من درهم أو أقل أو درهماً، فإن كان أكثر مثل أن يكون قيمته درهمين، فيكون المد ثلثي ما في هذا الطرف، فيقابله ثلثا المدين من الطَّرف الآخر، فيصير كأنه قابل مدّاً بمدّ وثلث، وإن كان أقل مثل أن يكون قيمته نصف درهم، فيكون المدّ ثلث ما في هذا الطرف، فيقابله ثلث المُدَّين من الطرف الآخر، فيصير كأنه قابل مداً بثلثي مدّ. وإن كان قيمته درهماً فلا تظهر المُفَاضلة، والحالة هذه لكن المماثلة فيها تستند إلى التَّقْويم، والتقويم تَخْمين قد يكون صواباً وقد يكون خطأ، والمماثلة المعتبرة في الربا هي المماثلة الحقيقية، وهذه الطريقة مطردة فيما إذا باع مداً ودرهماً بمد ودرهم، لأن المدين من الجانبين إن اختلفت قيمتهما مثل إِن كان مد زيدٍ يساوي درهمين ومد عَمْروٍ يساوي درهماً، فمد زَيْد ثلثا ما في هذا الطرف يقابله من الطرف الآخر ثلثا مدّ وثلثا درهم، ويبقى ثلث مد وثلث درهم في مقابلة درهم، فإذا وزعنا صار ثلث مد في مقابلة نصف درهم، لأن قيمة مد عَمْرو درهم، وثلث درهم في مقابلة نصف درهم، فتظهر المفاضلة. وإن لم تختلف قيمتها لم تظهر المفاضلة، لكن المماثلة تخمين على ما مَرَّ. واعترض الإمام على هذه الطريقة بأن العَقْد لا يقتضي في وضعه توزيعاً مفصلاً، بل مقتضاه مقابلة الجُمْلة بالجملة، أو مقابلة الجزء الشَّائع ممَّا في أحد الشِّقَّين بمثله مما في الشق الآخر بأن يقابل ثلث المد، وثلث الدرهم بما يقابل ثلث المدين، يعني إذا باع مداً ودرهماً بمدين، ولا ضرورة إلى تَكَلُّف توزيع يؤدي إلى التفاضل، وإنما يصار إلى التوزيع المفصل في مسألة الشُّفْعة لضرورة الشُّفْعة. ¬
قال: والمعتمد عني في التَّعليل أنا تعبَّدنا بالمماثلة تحقيقاً. وإذا باع مدّاً ودرهماً بمدين، لم تتحقق المماثلة فيفسد العقد. ولناصريها أن يقولوا: أليس قد ثَبَتَ التوزيع المفصل في مسألة الشفعة؟ ولولا كونه قضية للعقد لكان ضم السَّيف إلى الشِّقْص من الأسباب الدَّافِعَة للشُّفْعة، فإنها قَدْ تندفع بأسباب وعوارض. وأما قوله: "إنا تعبدنا بتحقيق المماثلة". فللخصم أن يقول: تعبدنا بتحقيق المماثلة، فيما إذا تمحضت مقابلة شيء منها بجنسه أو على الإطلاق، إن قلت بالثاني فممنوع، وإن قلت بالأول فسلم، لكنه ليس صورة المسألة، فهذا نقل المذهب المشهور وتوجيهه. ومن الأصحاب من صحَّح العقد فيما إذا باع مد عجوة ودرهماً بمد عجوة ودرهم، والدِّرهمان من ضَرْب واحد، والمدان من شَجَرة واحدة، وفيما إذا باع صاع حِنْطة وصاعَ شعير بمثلهما وصاعا الحِنطة من صُبْرَة واحدة، وصاعا الشعير كذلك مع العلم باتحاد القيمة. ويحكى هذا عن القَاضِي أبي الطَّيِّب الطَّبَرِي والقاضي الحسين وذكر الرُّوياني في "البحر": أنه المذهب وغلط من قال غيره. ومن صور هذا الأصل: أن يبيع ديناراً صحيحاً وديناراً مكسوراً بدينار صحيح وآخر مكسَّر أو بصحيحين أو بمكسَّرين، إذا كانت قيمة المكسَّر دون قيمة الصحيح. وعن صاحب "التقريب" حكاية وجه: أن صفة الصِّحَّة في محل المُسَامحة، ثم الأئمة أطلقوا القول بالبطلان في حكايتهم عن المذهب المشهور. وذكر أبو سعيد المُتَوَلِّي: أنه إذا باع مدّاً ودرهماً بمدين، يبطل العقد في المدّ المضموم إلى الدرهم، وفيما يقابله من المدَّين، وهل يبطل في الدرهم وما يقابله من المدَّين؟ فيه قَوْلاَ تَفْرِيقِ الصَّفقة، وعلى هذا قياس ما لو باعهما بدرهمين، أو باع صاع حِنْطة وصاع شعير بصاعي حِنْطَة أو صاعي شعير، ويمكن أن يكون كلام من أطلق محمولاً على ما فصّله. ولو كان الجيد مخلوطاً بالرديء، فباع صاعاً منه بمثله أو بِجَيِّد أو رديء جاز لأن التوزيع إنما يكون عند تمييز أحد العوضين بالآخر. أما إذا لم يتميز فهو كما لو باع صاعاً وسطاً بِجَيِّد أو رديء. واعلم: أن صورة البطلان مفروضة فيما إذا قابل جملة ما في أحد الطرفين بجملة ما في الطرف الآخر.
وأما عند التفصيل كما إذا تبايعا مدّ عَجْوة ودرهماً بمد ودرهم، وجعلا المدّ في مقابلة المدّ والدِّرهم في مقابلة الدِّرهم أو جعلا المدَّ في مقابلة الدرهم والدرهم في مقابلة المدّ، فيجوز ذلك بمثابة صنفين متباينين. القسم الثاني ولم يذكره في الكتاب: أن يكون مال الربا من الطرفين من جنسين، وفي الطرفين أو أحدهما شيئاً آخر، فينظر إن اختلف العِوَضَان في علة الربا، فيجوز كما إذا باع ديناراً أو درهماً، بصاع حِنْطة أو صاع شَعِير. وإن اتفقا، فإن كان التَّقَابض شرطاً في جميع العوض جاز أيضاً، كما لو باع صَاعَ حِنْطَة وصاع شعير بصاعي تمر أو صاع تمر وصاع ملح، وإن كان التَّقابض شرطاً في البعض كما لو باع صاع حِنْطة ودرهماً بصاعي شعير، ففيه قولاً الجمع بين مختلفي الحكم؛ لأن ما يقابل الدرهم من الشعير لا يشترط فيه التقابض، وما يقابل الحِنْطة منه يشترط فيه التقابض. وأما لفظ الكتاب فقوله: "ولا يصح بيع الهَرَوِيّ بالهَرَوِيّ"، الهرويّ: نقد فيه ذهب وفضة، فيبيع بعضه ببعض بيع ذهب وفضة بذهب وفضة. وقوله: "لأن حقيقة المماثلة غير معلومة" وجهه ما ذكرناه في "المُرَاطَلَة" من بعد. وقوله: "ولو راطل مائتي" لفظ الشافعي -رضي الله عنه- فمعناه إذاً قوله: "ولا يصح بيع الهَرَوِيّ" معلّم بالحاء، وكذا قوله في مسألة المُرَاطَلَة لم يجز؛ لأن عند أبي حنيفة يصح البيع فيهما، وفي جميع الصور التي ذكرناها، حتى قال: لو باع قرطاساً وديناراً فيه بمائة دينار يصح، وقوله: "لم يجز" معلم بالألف أيضاً، لأن عند أحمد لا يضر اختلاف النوع والصفة بعد اتحاد الجنس، وبالواو لأن صاحب "البيان" حكى عن بعض أصحابنا مثله، وأيضاً فإن الإمام رأى الصِّحَّة في مسألة المُرَاطَلَة. هذا مع تنصيصه على أنه رَأْيٌ رآه خارج عن مذهب الشافعي -رضي الله عنه- وأصحابه. وقوله: "تخمين وجهل" أراد بالجهل هاهنا عدم العلم، وإلا فالجهل معناه المشهور هو الجزم، يكون الشيء على خلاف ما هو عليه ضد الظَّن والتَّخمين، فلا يكون الشيء تخميناً وجهلاً بذلك المعنى: وقوله: "فمهما اشتملت الصفقة ... " إلى آخره محمول على الجنس الواحد، وتقديره مهما اشتملت الصفقة على الجنس واحد من أقوال الربا، وإلا انتقض الضَّابط بما إذا باع ذهباً وفضة بحِنْطة أو بحنطة وشعير، وبما إذا باع حنطة وشعيراً بتمر أو بتمر ومِلْح.
ثم لنختم الفصل بِسَرْد صور فنقول إذا باع صاع حِنْطَة بصاع حِنْطة، وفيهما أو في أحدهما فصل وهو عقد التَّبْن أو زُوَان؛ وهو حب أسودُ رَقِيقٌ يكون في الحِنْطة، لم يجز؛ لأنه يأخذ شيئاً في المكيال، فإن كان في أحدهما لزم التَّفاضل، وإن كان فيهما لزم الجهل بالتماثل، وكذا لو كان فيهما أو في أحدهما مَدَراً وحبات شعير. وضبط الإمام المنع بأن يكون الخَلِيطُ قدراً، لو "ميَّز بَانَ على المِكْيال". فأما ما لا يبين على المكيال إذا مُيز، فلا مبالاة به. وإن كان فيهما أو في أحدهما دِقَاق تبن أو قليل تُرَاب لم يضر؛ لأن ذلك لم يدخل في تَضَاعف الحِنْطة ولا يظهر في المكيال، بخلاف ما إذا باع موزوناً بجنسه، وفيهما أو في أحدهما قليل تراب حيث لا يجوز؛ لأنه يؤثر في الوزن كم كان. ولو باع حنطة بشعير، وفي كل واحد منهما أو أحدهما حبَّات من الآخر يَسِيرة صح البيع؛ وإن كثرت فلا. قال الإمام: وليس المعتبر كونه بحيث يؤثر في المكيال ولا كونه متمولاً. أما التأثير في المِكيال، فلأن المماثلة غير مرعية عند اختلاف الجنس، وأما التمول، فلأنه مفرداً غير مقصود، فالمعتبر أن يكون الشعير الذي خالطته الحنطة قدراً يقصد تمييزه ليستعمل شعيراً وكذا بالعكس. ولو باع داراً بذهب فظهر فيها معدن الذهب، فهل يصح البيع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، كبيع دار مُوِّهت بالذهب تمويهاً يحصل منه شيء بذهب. وأصحهما: نعم؛ لأنه بائع بالإضافة إلى مقصود الدار. ولو باع داراً فيها بئر ماء [بدار فيها بئر] ماء، وفرعنا على أن الماء ربوي، ففي صحة البيع وجهان: أصحهما: الصحة لما ذكرنا من معنى التبعية (¬1). قال الغزالي: الطَّرَفُ الثَّانِي في الحَالَةِ الَّتِي تُعْتَبَرُ المُمَاثَلَة فِيهَا، وَقَدْ سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بالتَّمْرِ فَقَالَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ فَقِيلَ: نَعَمْ فَقَالَ: فَلاَ إِذًا، فَنَبَّهُ عَلَى أَنَّ المُمَاثَلَةَ تُرَاعَى حَالَةَ الجَفَافِ وَهُوَ حَالُ كَمَالِ الشَّيْءِ، وَلاَ خَلاَص فِي المُمَاثَلَةِ قَبْلَهُ فَلاَ يَجْوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بالرُّطَبِ (م ح ز) وَلاَ بَالتَّمْرِ، وَكَذَا العِنَبُ (ح)، وَكُلُّ فَاكِهَةٍ (و) كَمَالُهَا فِي جَفَافِهَا وَهُوَ حَالَة الادْخَارِ. ¬
قال الرافعي: أموال الربا تنقسم إلى ما يتغير من حال إلى حال وإلى ما لا يتغير، والَّتِي تتغيَّر منها تعتبر المماثلة في بيع الجنس بالجنس منها في أكمل أحوالها، فمن المتغيرات الفواكه، فتعتبر المماثلة في المُتَجَانسين منها حالة الجَفَاف، ولا يغني التَّمَاثل في غير تلك الحالة. روي عن سعد بن أبي وقاص أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عن بيع الرُّطَب بالتمر فقال: "أَيَنقُصُ الرُّطَبُ إذَا يَبَسَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَلاَ إِذاً" (¬1). ويروى "فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ"، أشار النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "أَيْنَقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبَسَ؟ " إلى أن المماثلة عند الجفاف تعتبر، ونبَّه به على علة فساد بيع الرطب بالتمر، وإلا فنقصان الرطب إذا جف أوضح من أن يبحث أو يسأل عنه. إذا تقرر ذلك فلا يجوز بيع الرُّطَب بالتَّمْر ولا بالرطب. أما بالتمر فليقين التفاوت عند الجفاف. وأما بالرطب فللجهل بالمماثلة؛ لأنه لا يعرف قدر النُّقصان منهما، وقد يكون قدر الناقص من أحدهما أكثر من الآخر، وكذا لا يجوز العِنَبِ بالعنب وبالزبيب، وكذا كل ثمرة لها حالة الجَفَاف كالتِّين والمِشْمش والخوخ والبَطِّيخُ والكُمَّثْرَى الذين يفلقان والإجاصُ والرُّمَّان الحَامِض، لا يباع رطبها برطبها ولا بيابسها، ويجوز بيع الحديث بالَعَتِيق، إلاَّ أن تبقى النَّدَاوة في الجديد، بحيث يظهر أثر زوالها في المكيال. وأما ما ليس له حالة جفاف كالعنب الذي لا يتزبب، والرطب الذي لا يتتمَّر، والبطيخ والكمثري الذين لا يفلقان والرُّمَّان الحلو والبَاذِنْجَان والقَرْع والبُقُول، ففي بيع بعضها ببعض قولان ذكرناهما من قبل. وعند أبي حنيفة: يجوز بيع الرطب بالتمر وبالرطب وكذا في نظائره، وساعدنا مالك وأحمد على منع بيع الرطب بالتمر، وساعدا أبا حنيفة على تجويز بيع الرُّطَب بالرُّطب وبه قال المُزَنِّي. ويستثنى عن بيع الرطب بالتمر صورة العَرَايا، وهي مذكورة من بعد. قوله: "وكذا كل فاكهة كمالها بعد جفافها"، يجوز إعلامه بالواو؛ لأن الإمام حكى وَجْهاً في المشْمِش والخوخ، وما لا يعم تجفيفه عموم تجفيف الرطب؛ أنه يجوز بيع بعضها ببعض في حال الرطوبة، لأن رطوبتها أكمل أحوالها، والتَّجْفيف في حكم النادر. ¬
وأما ما أجراه من لفظ "الادِّخَار فإن طائفة من الأصحاب ذكروه وآخرون أعرضوا عنه، ولا شك أنه غير معتبر لحالة التماثل في جميع الربويات، ألا ترى أن اللبن لا يدخر، ويباع بعضه ببعض؟ فمن أعرض عنه فذاك، ومن أطلقه أراد اعتباره في الفَوَاكِه والحبوب لا في جميع الربويات فاعرف ذلك. قال الغزالي: وَادِّخَارُ الحَبِّ إِذَا بَقِيَ حَبًّا فَلاَ يُدَّخَرُ الدَّقِيقُ (ح وم) وَمَا يُتَّخَذُ مِنْهُ، وَلاَ الحِنْطَةُ المَقْلِيَّةُ وَالمَبْلُولَةُ، وَيُدَّخَرُ السَّمْسِمُ وَالدُّهْنُ وَالزَّبِيبُ وَالخَلُّ، وَكَمَالُ مَنْفَعَةِ اللَّبَنِ أَنْ يَكُونَ لَبَناً أَوْ سَمْناً أَوْ مَخِيضاً دُونَ مَا عَدَاهُ مِنْ سَائِرِ أَحْوالِهِ، وَكَذَا كُلُّ مَعْرُوضٍ علَى النَّارِ مِنْ دبْسِ أَوْ لَحْمِ فَلاَ كَمَالَ فِيهِ، وَمَا عُرِضَ لِلتَّمْييز كَالعَسَلِ فَهُوَ علَى الكَمَالِ، وَإذَا نُزِعَ النَّوَى مِنَ التَّمْرِ بَطُلَ (و) كَمَالُهُ، بِخِلاَفِ العَظْمِ إِذَا نُزِعَ مِنَ اللَّحْمِ إِذْ لَيْسَ في إِبْقَائِهِ صَلاحٌ لاِدْخَارِهِ. قال الرافعي: في الفصل مسائل: إحداها: لِلْحِنْطة ونحوها من الحبوب حالتان: إحداهما: مَا قبل التنقية من القِشْر والتِّبْن، وسيأتي حكم بيعها فيهما -إن شاء الله تعالى-. والثانية: ما بعدها فيجوز بيع بعضها ببعض ما بقيت على هيئتها بشرط تَنَاهي جَفَافها، فإذا بطلت تلك الهيئة فقد خرجت عن حالة الكمال، فلا يجوز بيع الحِنْطة بشيء مما يتخذ منها من المَطْعُومات كالدَّقِيق والسُّوَيْق والخُبز والنِّشَا، ولا بما فيه شيء مما يتخذ من الحِنْطة كالمصل ففيه الدَّقيق والفَالُوذَج ففيه النِّشَا. وكذا لا يجوز بيع هذه الأشياء بعضها ببعض لخروجها عن حالة الكمال، وعدم العلم بالمماثلة، ولو كان العوضان على حالة الكمال هذا ما يفتى به من المذهب. ونقل الحسين وهو المعروف بـ"الكَرَابِيِسيّ" عن أبي عبد الله: تَجْوِيز بيع الحِنْطَة بالدَّقيق، فمنهم من جعله قولاً آخر للشَّافعي -رضي الله عنه-، وبه قال أبو الطَّيب بن سلمة، ووجهه بأن الدقيق نفس الحنطة، إلاَّ أَنَّ أجزاءها قد تفرقت، فأشبه بيع حِنْطَة صغيرة الحَبَّات بحِنْطَة كبيرة الحَبّات، وعلى هذا فالمِعْيار الكيل. ومنهم من لم يثبته قولاً، وقال: أراد بأبي عبد الله مالكاً -رضي الله عنه- وأحمد. وجعل الإمام منقول الكَرَابِيسيّ شيئاً آخر: وهو أن الدقيق مع الحِنْطَة جنسان، حتى يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً، ويشبه أن يكون هو منفرداً بهذه الرواية. وحكى البُوَيطي والمُزَنِي في "المنثور" قولاً: أنه يجوز بيع الدقيق بالدقيق، وإن
امتنع بيعه بالحنطة، كما يجوز بيع الدهن بالدهن، وإن امتنع بيعه بالسِّمسم. وفي بيع الخبز الجاف المدقوق بمثله قول: أنه يجوز لإمكان كيله والأَمْن من التفاضل فيه وهذا رواه الشيخ أبو حامد والعراقيون عن رواية حرملة، والشيخ أبو عاصم العبادي وآخرون عن رواية ابن مِقْلاَص. ورد الإمام رواية ابن مِقْلاَص إلى شيء آخر، وهو تجويز بيع الْحِنطة بالسُّوَيق، وجعلهما جنسين: وقال مالك -رضي الله عنه-: يجوز بيع الحنطة بالدقيق، وبه قال أحمد في أظهر الرِّوايتين، إلاَّ أن مالكاً يعتبر الكيل، وأحمد يجوز الكيل والوزن. وقال أبو حنيفة: يجوز بيع الدقيق بالدقيق بشرط تساويهما في النُّعومة والخشونة، ولا يجوز بيع الحنطة المَقْلِية بالمَقْلِية ولا بغيرها لتغيرها عن هيئتها واختلاف الحبات في التأثر بالنار، ولا بيع الحِنْطة المبلولة بالمَبْلُولة ولا بغيرها لما في المَبْلُولة من الانْتِفاخ والتَّجافي، فإن جفت لم يجز أيضاً لتفاوت جنسها عند الجفاف، وإذا منع مجرد البل بيع البعض بالبعض، فالتي نُحِّيت قشرتها بعد البَلِّ بالتَّبريس أولى أن لا يباع بعضها ببعض. قال الإمام: في الجَارُوسِ عندي احتمال إذا نجيت قِشْرَتها، وكما أن المَبْلُولة مجاوزة حالة الكمال، فالتي لم يتم جفافها غير واصلة إلى حالة الكمال، وإن أفركت وأخرجت من السَّنابل. ويجوز بيع الحِنْطة وَمَا يتخذ منها من المَطْعُومات بالنّخَالة، لأنها ليست مال الربا، وكذا بيع المُسَوَّسة بالمُسَوسة إذا لم يبق فيهما شيء من اللّب قاله في "النهاية". الثانية: السِّمْسم وغيره من الحبوب الَّتِي يتخذ منها الأدهان على حالة الكمال ما دامت على هيئتها كالأقوات فلا يجوز بيع طَحينها بِطَحْينها كبيع الدَّقيق بالدقيق. والدهن المستخرج منها على حالة الكمال أيضاً، حتى يجوز بيع بعضها ببعض متماثلاً. وفيه وجه: أن بيع الدُّهن بالدُّهن لا يجوز؛ لأن الدهن لا يستخرج إلا بعد طرح حلاوة أو ملح على الطّحين، فيلتحق بصورة مدّ عَجْوة، والمذهب الأول. ويجوز أن يكون للشيء حالتا كمال، أَلاَ ترى أن الزَّبيب والخَلَّ كلاهما على حالة الكمال مع أن أصلهما العنب؟ وكذلك العصير على حالة الكمال في أصح الوجهين، حتى يجوز بيع عصير العنب بعصير العنب، وعصير الرطب بعصير الرطب، والمعيار فيه، وفي الدهن الكيل. ويجوز بيع الكُسْب بالكُسْب أيضاً إن لم يكن فيه خلط، فإن كان فيه خلط لم
يَجُز، والأدهان المطيبة كدهن الوَرْد والبَنَفْسج والنيلوفر كلها مستخرجة من السِّمسم، فإذا فرعنا على جريان الربا فيها جاز بيع بعضها ببعض، إن ربَّى السمسم فيها ثم استخرج دهنه، وإن استخرج الدهن ثم طرح أوراقها فيه لم يجز، لأن اختلاطها به يمنع معرفة التماثل. وعصير الرُّمان والتُّفاح وسائر الأثمار كعصير الرطب والعنب، وكذا عصير قَصَبِ السكر، ويجوز بيع خَلِّ الرُّطَب بَخلِّ الرطب وخل العنب بخَل العنب، لأنه على هيئة الادِّخار، والمعيار فيه الكيل، ولا يجوز بيع خَلِّ الزَّبيب بمثله ولا بيع خل التمر بمثله، لما فيهما من الماء، وأنه يمنع معرفة التماثل بين الخلين. وكذا لا يجوز بيع خل العنب بخل الزبيب، ولا خل الرطب بخل التمر؛ لأن في أحد الطرفين ماء فيلزم التفاضل بين الخلين. ولا يجوز أيضاً بيع خل الزبيب بخل التمر، إذا فرعنا على أن الماء ربوي، لأن في الطرفين ماء، والمماثلة بين الجانبين غير معلومة (¬1). ويجوز بيع خَلِّ الزبيب بخل الرطب، وخل التمر بخلِّ العنب، لأن الماء في أحد الطرفين، والمماثلة بين الخَلَّين غير معتبرة تفريعاً على الصحيح، في أنهما جنسان. الثالثة: اللَّبن حالة الكمال يباع بعضه ببعض بخلاف الرطب، لأن اللبن يؤكل على هَيْئَته في الأكثر، ومعظم منافعه تفوت بِفَوات تلك الهيئة. وأما الرطب فما يؤكل منه في الحال يعد عجالة تَفَكُّه، والمقصود الأعظم اقتناؤه قوتاً، فجعل حال كمال كل واحد منهما ما يليق به، وحكم الرَّائِبِ والحامض والخَاثِرِ منه ما لم يكن مَغْلياً حكم الحَلِيب في الحال حتى يباع البعض منهما بالبعض أو بالحَلِيب، ولا نظر إلى أن الشَّيء إذا خَثَر كان أَثْقَل، وما يحويه المكيال من الخاثِر يزيد في الوزن على الرَّقيق من جنسه؛ لأن المعيار في اللَّبن الكيل نص عليه الجمهور. وإذا حصل الاستواء في الكيل فلا مبالاة بتفاوت الوزن، كما في الحِنْطة الصلبة مع الرخوة، وفي كلام الإمام ما يقتضي تجويز الكيل والوزن جميعاً. ويجوز بيع السَّمن بالسَّمن أيضاً؛ لأنه يدّخر ولا يتأثّر بالنَّار تأثر انعقاد ونقصان، وإنما يعرض على النَّار لِلتَّصْفية، فالمعيار فيه الكَيْل إن كان ذائباً والوزن إن كان جامداً، ¬
قاله في "التهذيب"، وهو متوسط بين وجهين أطلقهما العراقيون. فحكوا عن المنصوص: أنه يوزن، وعن أبي إسحاق: أنه يكال، ويجوز بيع المَخيض بالمَخِيض إذا لم يكن فيهما ماء، ومال المُتَوَلِّي إلى المنع، لأنه ليس على حالة الادخار، ولا على حال كمال المنفعة، فليكن كبيع الدقيق بالدقيق، ولا يجوز بيع الأَقِط بالأَقِط والمَصْل بالمَصْل والجُبْن بالجُبْن لتأثرها بالنَّار ولأنها لا تخلو عن مخالطة شيء، فالملح خليط الأقط، والدقيق خليط المصل، والانْفَحَة خليط الجبن، وهل يجوز بيع الزُّبْد بالزُّبْد؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كبيع السَّمن بالسَّمن. وأصحهما: لا، لأن الزُّبد لا يخلو عن قليل مَخِيض، وأنه يمنع معرفة المُمَاثلة، وعلى هذا لا يجوز بيعه بالسَّمْن لتحقُّق المفاضلة، ولا يجوز بيع اللَّبَن بكل ما يتخذ منه من السَّمن والمَخِيض وغيرهما كبيع الحِنْطة بما يتخذ منها. وقوله في الكتاب: "وكمال منفعة اللبن أن يكون لبناً أو سمناً أو مخيضاً، لا يمكن إجراؤه على ظاهره، لأنه ليس كونه لبناً كمال منفعته، وإنما هو حال منفعته، ولو طرح لفظ "المنفعة" وقال: حال كمال اللبن: أن يكون لبناً أو مخيضاً أو سمناً لكان أولى، ويجوز إعلام قوله: "دون ما عداه من أحواله" بالواو للوجه المذكور في الزبد. الرابعة: المعروض من مال الرِّبا على النَّار ضربان: أحدهما: المعروض للعقد والطَّبخ كالدِّبْس واللَّحم المَشْوِي، وفي جواز بيع الدِّبْس بمثله وجهان: أحدهما: يجوز، لإمكان ادِّخاره، ولتأثير النار فيه غاية يعرفها أهل البَصَر. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب: أنه لا يجوز، لأن النار تأخذ بعض العصير فيصير دِبْساً، وقدر المأخوذ منه يختلف اختلافاً بيناً، فلا ندري المُمَاثلة بين أجزاء العَصِير، وفي بيع السكر بالسكر، والفاسد بالفاسد، واللَّباء باللَّباء وجهان كما في الدِّبْس. ولا يجوز بيع قصب السكر بقصب السكر ولا بالسكر كبيع الرطب بالرطب والتمر بالتمر. وأَمَّا اللحم إذا بيع بجنسه، فإن كانا طَرِبين أو أحدهما لم يجز، لأن معظم منافع اللحم تنتفي بعد التقديد فهو كالرطب والعنب. وعن ابن سُرَيج: أنه يجوز كبيع اللبن باللبن، وإن كانا مُقَددين جاز، إلا أن يكون فيهما أو في أحدهما من المِلْح ما يظهر في الوزن. قال الأئمة: ويشترط أن يتناهى جَفَافه بخلاف التمر يباع الحديث منه بالحديث وبالعَتِيق؛ لأنه مكيل وأثر الرُّطُوبة الباقية لا تظهر في المِكْيال، واللحم موزون وأثر
الرُّطُوبة يظهر في المِيْزَان، هذا إذا لم يكن اللَّحْم مطبوخاً أو مشوياً. أما المَطْبُوخ والمَشْوِي فلا يجوز بيعها بمثلها ولا بالنَّي لما ذكرنا من اختلاف تأثير النار. وعن أَبِي حَنيفَة: يجوز بيع المَطْبُوخ بالنَّي متماثلاً. وعن مالك: تجويزه متماثلاً ومتفاضلاً. الضَّرب الثاني: المعروض للتمييز والتنقية فهو على حالة الكمال يجوز بيع بعضه ببعض كالسمن على ما مر، وكالذهب والفضة يعرضان على النار لتمييز الغِشّ، وفي العسل المصفَّى بالنار وجهان: أحدهما: أنه خارج عن الكمال، لأن النَّار قد تعقد أجزاءه. وأظهرهما وهو المذكور في الكتاب: أنه على الكمال؛ لأن المقصود من عرضه تمييز الشَّمع عنه، ونار التمييز لينة لا تؤثر في التَّعقيد أشبه المصفَّى بالمشمش، ولا يجوز بيع الشُّهْد بالشُّهْد؛ لأن الشَّمع يمنع معرفة التَّماثل بين العَسَلَين، ولا بالعسل لظهور التَّفاضل، ويجوز بيع الشَّمع بالعَسَل وبالشّهد بلا حجر؛ لأن الشمع ليس من أموال الربا، ومعيار السَاوي في العَسَل على ما ذكرناه في السَّمْن. الخامسة: التَّمْر إذا نزع منه النَّوَى بطل كماله لأنه يبطل ادِّخَاره، ويتسارع إليه الفساد فلا يجوز بيع منزوع النَّوَى بمثله ولا بغير المَنْزُوع، وقيل: يجوز بيع المنزوع بمثله، لأن النَّوَى ليس من جنس التَّمر فلا يضر فصله عنه، وإنما لم يشترط ذلك لما فيه من المَشَقة. وحكى الإمام الخلاف في بيع المنزوع بالمنزوع أيضاً ومفلَّق المِشمش والخُوخ ونحوهما لا يبطل كمالها بننرع النَّوَى في أصح الوَجْهين؛ لأن الغالب في تَجْفِيفها نزع النَّوى، ولا يبطل كمال اللَّحم بنزع العَظْم، لأنه لا يتعلَّق صلاح ببقائه، وهل يشترط النزع في جواز بيع بعضه ببعض؟ فيه وجهان: أظهرهما عند الأكثرين: نعم، وبه قال أبو إسحاق. والثاني ويحكى عن الإِصْطَخْري: أنه يسامح به، وعلى هذا يجوز بيع لَحْم الفَخِذ بالجَنب، ولا نظر إلى تفاوت أقدار العظام كتفاوت النَّوَى. هذا شرح مسائل الفصل وما يناسبها، وإذا نظرت في هذا الطرف عرفت أن النظر في حالة الكمال إلى أمرين في الأكثر: أحدهما: كون الشيء بحيث يتهيَّأ لأكثر الانتفاعات المطلوبة منه. والثاني: كونه على هيئة الادِّخار لكنهما لا يعتبران جميعاً، فإن اللبن ليس بمدخر، والسمن ليس بمتهيء الانْتِفَاعات المَطْلُوبة من اللبن، وكل واحد من المعنيين غير مكتفى به أيضاً، لأن الثمار التي لا تدخر تتهيَّأ لأكثر الانْتِفَاعات المطلوبة منها، والدقيق مدَّخر وليس على حالة الكمال على ما سبق، ولا تساعدني عبارة ضابطة، كما
أحب في تفسير الكمال، فإن ظفرت بها ألحقتها بهذا الموضع وبالله التوفيق. قال الغزالي: الطَّرَفُ الثَّالِثُ في مَعْنَى الجِنْسِيَّةِ، وَالأَدِقَّةُ وَالأَلْبَانُ وَالخُلُولُ وَالأَدْهَانُ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلاَفِ أُصُولها، وفي لُحْومِ الحَيَوَانَاتِ قَوْلاَنِ: أَصَحُّهُمَا: أَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ لِتَفَاوُتِ المَعْنى وَإِنْ اتَّفَقَ الاسْمُ، وَأَعْضَاءُ الحَيَوانِ الوَاحِدِ كَالكِرْشِ وَالكَبِدِ وَالشَّحْمِ أَجْنَاسٌ عَلَى الأَظْهَرِ إِنْ جَعَلْنَا اللَّحْمَ أَجْنَاساً، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ (ح و) اللَّحْمِ بِالحَيَوَانِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ علَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ لِلْنَّهِي عَنْهُ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ دُهْنِ السِّمْسِمِ بالسِّمْسِمِ، وَلاَ بَيْعُ السَّمْنِ بِاللَّبَنِ وَإِنْ جَازَ بَيْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجِنْسِهِ. قال الرافعي: عرفت في صدر الباب أن بيع المال الربوي بجنسه مشروط برعاية المُمَاثلة وبغير جنسه غير مشروط بها، والتجانس والاخْتِلاَف قد يظهر، فلا يحتاج إلى التَّنْصيص عليه، وقد يقع في محل الإِشْكال والاشتباه، وموضوع الطرف بيان مواضع الاشتباه، وفيه مسألتان: إحداهما: اختلف قول الشافعي -رضي الله عنه- في أن لحوم الحَيَوَان جنس أو جنسان: فأحد القولين: أنها جنس واحد؛ لأنها مشتركة في الاسم الذي لا يقع بعده التَّمييز إلاَّ بالإضافة، فأشبهت أنواع الرُّطَب والعنب، وتخالف الثمار المختلفة، فإنها وإن اشتركت في اسم الثَّمرة لكنها تمتاز بأسمائها الخاصة. وأصحهما وبه قال أبو حنيفة والمزني: أنها أجناس مختلفة لأنها فروع أصول مختلفة، فأشبهت الأدقّة والأَخْبَاز. وعن مالك: أن اللحوم ثلاثة أجناس: الطُّيور، والدَّوابُ أهَلِيّها وَوَحْشِيّها، والبَحْريات. وبه قال أحمد في أحد الروايتين وعنه روايتان أخرتان كالقولين. التفريع: إن جعلناها جنساً واحداً، فلا فرق بين لحوم الحيوانات البَريّة أهليها ووحشيها، وكذا لحوم البحريات جنس واحد، وفي لحوم البَرِيّات مع البَحْرِيّات وجهان: أحدهما: وبه قال أبو علي الطَّبَرِي والشيخ أبو حامد: أنهما جنسان، وكذلك لو حَلَفَ أن لا يأكل اللَّحم لا يَحْنَث بلحوم الحِيْتان. والثاني: أنهما جنس واحد لشمول الاسم. قال الله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} (¬1)، وهذا هو اختيار القاضي أبي ¬
الطَّيب ابن الصَّبَّاغ، وهو الذي أورده في "التهذيب". وإن جعلناها أجناساً، فحيوان البَرِّ مَعَ حيوان البَحْرِ جنسان، ثم الأَهْلِيَّات من حيوان البَرِّ جنس، والوَحْشِيَّات جنس، ثم لكل واحد من القسمين أجناس، فلحوم الإبل على اختلاف أنواعها جنس واحد، ولحوم البقر والجَوامِيس وغيرها جنس واحد، ولحوم الغنم ضَأْنُها ومَعِزُها جنس، والبقر الوَحْشِي جنس، والظِّبَاء جنس، وفي الظِّبَاء مع الإبل تردد للشيخ أبي محمد واستقرار جوابه على أنهما كالضَّأْن والمعز، وأما الطُّيور والعَصَافير على اختلاف أنواعها جنس، والبطوط جنس، وعن الربيع أن الحمام بالمعنى المتقدم في الحج وهو ما عب، وهدر جنس، فيدخل فيه القُمْرِيُّ والدّبْسِيّ والفَاخِتَة، وهذا اختيار جماعة منهم الإمام وصاحب "التهذيب"، واستبعده أصحابنا العراقيون، وجعلوا كل واحد منهما جنساً برأسه، والسُّمُوك من حيوان البحر جنس، وفي غَنم الماء وَبَقرِه وغيرهما مع السُّمُوك، وكذا في بعضها مع بعض قولان: أصحهما: أنها أجناس كَحَيَوانات البر، وهل الجراد من جنس اللحوم؟ فيه وجهان: إن قلنا: نعم، فهو من البَرِّيات أو البَحْرِيات فيه وجهان (¬1). وفي أعضاء الحيوان الواحد كالكِرْشِ والكَبِدِ والطّحَال والقَلْب، والرِّئَةُ طريقان: أشهرهما: أنا إن قلنا: إن اللحوم أجناس، فهذه أولى لاختلاف أسمائها وصفاتها. وإن قلنا: إنها جنس واحد ففيها وجهان، لأن من حلف أن لا يأكل اللحم، لا يَحْنَث يأكل هذه الأشياء على الصحيح، وهذا كالخلاف في أن لحم السمك جنس برأسه أو هو من جنس سائر اللحوم؛ لأن من حَلَفَ أن لا يأكل اللحم لا يَحْنَث بأكل السَّمك. والثاني عن القَفَّال: أنا إنْ جعلناها جنساً واحداً فهذه الأشياء مجانسة لها، وإن جعلناها أجناساً فوجهان لاتِّحاد الحيوان، وصار كلحم الطَير وشحمه. وقوله في الكتاب: "أجناس على الأظهر"، إن جعلنا اللحوم أجناساً إلى هذه الطَّريقة أقرب، ولو قال: "وإن لم نجعل اللحوم أجناساً"، لكان ذلك للطّريقة الأولى، وكيف ما قدرت التَّرتيب فظاهر المذهب أنها أجناس، والمخ جنس آخر، وكذلك الجِلْد (¬2) وشَحْم الظَّهر مع شَحْم البَطْن جنسان، وسِنَام البعير معهما جنس آخر، والرَّأْس والأَكَارع من جنس اللحم، وفي الأَكَارع احتمال عند الإمام. ¬
وأما الأَدِقّة والخُلُول والأَدْهَان فهي أجناس مختلفة على المَشْهور؛ لأنها أصول فروع مختلفة وهي من أموال الربا، فأجرى عليها حكم أصولها بخلاف اللحم فإن أصولها وهي الحيوانات ليست رَبَوية، وكذا عصير العِنَب مع عصير الرُّطَب جنسان وَدِبْسَهُما كذلك، وفي الأَدِقَّة حكاية قول عن "أمالي حرملة". أنها جنس واحد، وأبعد منه وجه ذكروه في الخُلُول والأَدْهَان، ويجري مثله في عصير العنب مع عصير الرطب. وأما الألبان ففيها طريقان: أظهرهما: عند الأكثرين: أنها على قولين كما في اللَّحمين، فعلى الأصح يجوز بَيْعُ لبن الغَنَمِ بلبن البقر متفاضلاً، وبيع أحدهما بما يتخذ من الآخر، ولبن الضَّأن والمعز جنس واحد، ولبن الوَعْلِ مع المعز الأهلي جنسان اعتباراً بالأصول. والطريق الثاني: وهو قضية إيراد الكتاب: القطع بأنها أجناس مختلفة، والفرق أن الأصول التي حصل اللَّبن منها باقية بحالها وهي مختلفة، فيدام حكمها على الفُروع بخلاف أصول اللَّحم. وَبُيُوض الطُّيور أجناس إن جعلنا اللَّحوم أجناساً، وإن جعلناها جنساً واحداً، فهي أجناس أيضاً على أصح الوجهين. والزَّيت المعروف مع زَيْت الفِجْل جنسان، وهو دهن يتخذ من بزْرِ الفِجْل، يسمى زَيْتَاً لأنه يصلح لبعض ما يصلح له الزَّيت المعروف. ومنهم من قال: حكمهما حكم اللَّحمين، والتمر المعروف مع الهِنْدي جنسان. وعن ابن القَطَّان وجه: أنهما جنس واحد. وفي البَطِّيخ المعروف مع الهِنْدي وجهان أيضاً، وكذا في القِثَّاء مع الخِيَار (¬1). والبُقُول كالهِنْدِبا والنّعنَع وغيرهما أجناس، إذا قلنا: بِجَرَيان الربا فيها، ودهن السِّمْسم وكُسْبه جنسان، كالمخيض والسَّمن، وفي عصير العنب مع خلِّه وجهان: أظهرهما: أنهما جنسان لإفراط التَّفاوت في الاسم والصِّفة والمقصود، وفي السكر والفَانِيذ وجهان أيضاً: أظهرهما: أنهما جنسان لاختلاف قصبهما، والسكر والنبات والطَّبْرزد جنس واحد، والسكر الأحمر وهو القَوَالِبُ عكر الأبيض ومن قصبه، وسع ذلك ففي التجانس تردد للأئمة لمخالفتهما في الصفة. قال الإمام: ولعل الأظهر: أنه جنس من السُّكر. ¬
المسألة الثانية: بيع اللحم بالحيوان المأكول من جنسه باطل وهو قول مالك وأحمد خلافاً لأبي حنيفة والمُزنِيّ. لنا ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ" (¬1). وإن باعه بحيوان مأكول لا من جنسه، كما لو باع لحم الشَّاة بالبقرة، فيبنى على أن اللحمين جنس أو أجناس. إن قلنا: إنهما جنس فهو باطل أيضاً. وإن قلنا: أجناس، فقولان: أحدهما: وبه قال مالك وأحمد: أنه صحيح، كما لو باع اللَّحم باللَّحم. وأصحهما: أنه باطل لعموم الخبر. روي أن جَزُوراً نحرت على عهد أبي بكر -رضي الله عنه- فجاء رجل بعِنَاق وقال: اعْطُوني جزءاً بهذه العِنَاق، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: لا يصلح هذا. وإن باعه بحيوان غير مأكول كعبد أو حمار ففيه قولان: أصحهما عند القَفَّال: المنع لظاهر الخبر. والثاني: الجواز؛ لأن سبب المنع بيع مال الربا بأصله المشتمل عليه، ولم يوجد ذلك هاهنا وفي بيع الشَّحْم والألْيَة والطّحَال والقَلْب والكِلْية والرِّئة بالحيوان وجهان، وكذا في بيع السّنَام بالأبل. أحدهما: يجوز؛ لأن النَّهي ورد في بيع اللَّحم بالحيوان. وأصحهما: المنع، لأنه في معناه، وعلى هذا الخلاف بيع الجِلْد بالحيوان إن لم يكن مَدْبوغاً، وإن كان مدبوغاً فلا منع، وعلى الوجهين أيضاً بيع لحم السَّمك بالشَّاة، ولا يجوز بيع دُهْن السِّمْسم ولا كُسْبه بالسمسم، ولا ببيع دهن الجُوز بلب الجُوز، ولا بيع السَّمن باللَّبن، كما لا يجوز بيع اللحم بالحيوان، وبيع دقيق الحِنْطة بالحنطة. وذكر الإمام هاهنا إشكالاً وطريق حله. أما الإشكال، فهو: أن السِّمْسم جنس في نفسه لا أنه دُهن وكُسْب، واللبن جنس في نفسه لا أنه سمن ومَخِيض، ولهذا جاز بيع السِّمْسم بالسِّمْسم، واللبن باللبن، وإن كان لا يجوز بيع الدهن والكسب بالدهن والكسب، وبيع السمن والمَخِيض بالسَّمن ¬
والمخيض، وإذا كان جنساً برأسه وجب أن يجوز بيع السمسم بالدهن، كما جاز بيع السِّمْسم بالسِّمسم. وأما الحل: هو أنه إذا قُوبل السِّمسم بالسِّمْسم، واللّبن باللبن، فالعِوَضَان متجانسان في صفتهما الناجزة، فلا ضرورة إلى تفريق الأجزاء وتصوير ما يكون حينئذ، وإذا قوبل السِّمْسم بالدهن، فلا يمكننا جعل السِّمْسم مخالفاً للدهن، مع اشتمال السِّمسم على الدُّهن، وإذا ارتفعت المُخَالفة جاءت المُجَانسة، ولا شك أن مجانستهما في الدُّهْنِية فنضطر إلى اعتبارها، وإذا اعتبرناها كان ذلك بيع دهن وكسب بدهن. قوله في الكتاب: "إن جاز بيع كل واحد منهما بجنسه"، إشارة إلى هذا الإِشْكَال، ويجوز بيع الجُوز بالجُوز واللُّوز باللُّوز، ولا بأس بما عليهما من القِشْر؛ لأن الصلاح يتعلق به، ثم المعيار في الجُوز الوَزْن، لأنه أكبر من التَّمر، وفي اللوز الكيل، ويجوز أيضاً بيع لُب الجوز ولب اللوز بلب اللّوز لأنه أكبر. وفيه وجه: أنه لا يجوز بيع اللّب باللّب. لخروجه عن حالة الادِّخار، وبهذا أجاب في "التتمة". وحكى القاضي ابن كَجٍّ عن نص الشافعي -رضي الله عنه-: أنه لا يجوز بيع الجُوز بالجوز، واللوز باللوز، مع القِشْر، وبيع البيض بالبيض، كبيع الجوز بالجوز، فيجوز على الظاهر، وإن كان في القِشْر، والمعيار فيه الوزن، ويجوز بيع لبن الشَّاة بغير اللّبُون من الشَّاة، وكذا باللّبُون إذا لم يكن في ضَرْعها لبن، إن جرى البَيع عقيب الحلب، وإن كان في ضَرْعها لبن لم يجز؛ لأن اللبن في الضرع يأخذ قِسْطاً من الثمن، ألا ترى أنه وجب التمر في مقابلته في المصَرَّاة؟ وكذا لو باع شاة في ضَرْعها لبن بشاة في ضَرْعها لبن كما لو باع حيواناً ولبناً بحيوان ولبن. وعن أبي الطَّيِّب ابن سَلَمة: أنه يجوز كبيع السِّمْسم بالسِّمسم، وبيع البيض بالدَّجَاجة كبيع اللبن بالشَّاة، ولو باع لبن الشاة ببقرة في ضَرْعها لبن. فإن قلنا: الألبان جنس واحد لم يجز. وإن قلنا: إنها أجناس فقولان للجمع بين مختلفي الحكم، فإن ما يقابل اللبن من اللبن يشترط فيه التَّقابض، وما يقابله من الحَيَوان لا يشترط فيه التقابض -والله أعلم-. فرع: الربا يجري في دار الحرب جريانه في دار الإسلام؛ لأن النصوص الواردة فيه مطلقة. وبه قال مالك وأحمد. وعن أبي حنيفة: أن الربا في دار الحرب إنما يجري بين المسلمين المهاجرين،
الباب الثالث في الفساد من جهة النهي
فأما بين حَرْبِيين وبين مسلمين لم يهاجرا أو أحدهما، فلا ربا -والله أعلم-. الْبَابُ الثَّالِثُ في الفَسَادِ مِنْ جِهَةِ النَّهْي قال الغزالي: وَالمَنَاهِي قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ العَقْدِ وَذَلِكَ كَنَهْيهِ عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بالحَيَوَانِ (ح) وَبَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَبَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُجْرِيَ فِيهِ الصِّيعَانُ، وَبيْعِ الكَاليءِ بالكَاليءِ، وَبَيْعِ الغَرَرِ، وَبَيْعِ الكَلْبِ وَالخِنْزِيرِ، وَبَيْعِ عَسَبِ الفَحْلِ وَهُوَ نُطْفَتُهُ. قال الرافعي: مقصود الباب عدد البياعات التي ورد فيها نهي خاص، والتَّرجمة تقتضي انقسام الفساد إلى ما يكون للنهي وإلى ما يكون لغيره، لكن يمكن أن يقال: لإفساد إلا للنَّهي، فإن الربا الذي أفرده بالذّكر منهى عنه أيضاً، وكذا تفريق الصَّفقة إذا منعنا عنه، وكل فاسد منهى عنه إِمَّا نهي خاص وإما نهي عام. ثم ما ورد فيه النهي من البيوع قد يحكم بفساده قضية للنهي وهو الأغلب وقد لا يحكم، وهو حيث يقارن البيع ما يعرف عود النهي إليه كالمنع عن البيع حالة النّدَاء، فإنا نعلم أن المنع غير متوجّه نحو خصوص البيع، وإنما هو متوجّه نحو ترك الجمعة حتى لو تركها بسبب آخر فقد ارتكب المنهي، ولو باع في غير تلك الحالة لم يُصَادِفْه نَهْي. القسم الأول: ما حكم فيه بالفساد وهو أنواع: فمنها: بيع اللَّحم بالحَيَوان وقد مر. ومنها: بيع ما لم يقبض وبيع الطعام حتى يجري فيه الصَّاعان، وبيع الكَالئ بالكالئ وسنشرحها من بعد -إن شاء الله تعالى-. ومنها: بيع الغَرَر (¬1). فمنه بيع ما لم يقدرعلى تسليمه وقد سبق. ومنه أن يبيع مال الغير. "ومنْهُ أَنْ يَبِيعَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، رُوِي أَنَّ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْهُ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ" (¬2). وله تفسيران: أحدهما: أن يبيع ما هو غائب عنه. ¬
والثاني: أن يبيع ما لا يملكه ليشتريه فيسلِّمه. ومنها: بيع الكلب والخِنْزِيرِ، وقد تقدم ذكره في شرط طهارة المبيع. ومنها ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "نَهَى عَنْ بَيْعِ عَسْبِ الْفَحْلِ" (¬1). وروي أنه "نَهَى عَنْ ثَمَنِ عَسْبِ الْفِحْلِ" (¬2). وهذه رواية الشافعي -رضي الله عنه- في "المختصر"، قال في "الصحاح": العَسْب: الذي يؤخذ على ضِرَاب الفَحْل (¬3) وعَسب الفَحْل أيضاً: ضِرَابه، ويقال: ماؤه، فهذه ثلاثة مَعَان. والثَّالث: هو الَّذي أطلقه في الكتاب. والثَّاني: هو المشهور في الفِقْهيات، ثم ليس المراد من الخبر في الرواية الأولى الضِّرَاب، فإن نفس الضِّرَاب لا يتعلَّق به نهي ولا منع من الإيذاء أيضاً، بل الإعارة للضراب محبوبة، ولكن الثمن المذكور في الرواية الثانية مُضْمَر فيه هكذا قالوه. ويجوز أن يحمل العَسْب على الكِرَاء على ما هو أحد المعاني، فيكون نهياً عن إِجَارَة الفَحْل للضِّراب، ويستغنى عن الإِضْمَار وأما على الرواية الثانية فالمفسّرون للعَسْب بالضِّرَاب ذكروا أنَّ المراد من الثَّمن الكِرَاء، وقد يسمى الكِرَا ثَمَناً مجازاً، ويجوز أن يفسر العَسْب بالماء، ويقال: هذا نهي عن بيعه، والحاصل: أن بَذْل المال للضِّرَاب ممتنع بطريق البيع؛ لأن ماءه غير متقوم، ولا معلوم، ولا مقدور على تسليمه. وأما بطريق الاستئجار: ففيه وجهان قد ذكرهما في الكتاب في "باب الإجارة". أصحهما: المنع (¬4) أيضاً وبه قال أبو حنيفة وأحمد لأن فعل الضّرَاب غير مقدور عليه للمالك بل يتعلق باختيار الفَعْل. والثَّاني وبه قال ابن أبي هريرة ويحكى عن مالك: أنه يجوز كالاسْتِئْجَار لِتَلْقِيح ¬
النَّخل، ويجوز أن يعطي صاحب الأُنْثَى صاحب الفحل شيئاً، على سبيل الهدية خلافاً لأحمد -والله أعلم-. قال الغزالي: وَحَبَلِ الحَبَلَةِ وَهُوَ نِتَاجُ النِّتَاجِ، وَالمَلاَقِيح وَهِيَ مَا فِي بُطُونِ الأُمَّهاتِ، وَالمَضَامِين وَهِيَ مَا فِي أَصْلاَبِ الفُحُولِ. قال الرافعي: ما روي عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ" (¬1) وحبل (¬2) الحبلة هو نِتَاج النِّتَاج، ثم ذكروا للخبر تفسيرين: أحدهما: أن يبيع الشيء إلى أن ينتج نِتَاج هذه الدَّابة. والثاني: أن يبيع نِتَاج النِّتاج نفسه. والأول: هو تفسير ابن عمر، وبه أخذ الشَّافعي -رضي الله عنه-. والثاني: تفسير أبي عبيد وأهل اللُّغَة، وكلا البيعين باطل. أما الأول: فلأنه بيع إلى أجل مجهول. وأما الثاني: فلأنه بيع ما ليس بمملوك ولا معلوم ولا مقدور على تَسْلِيمه. ومنها: ما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَلاَقيحِ وَالْمَضَامِينِ" (¬3). فالملاقيح: ما في بُطُون الأُمّهَات من الأجِنّة، الواحدة ملقوحة من قولهم: لُقحت، كالمَجْنون من جُنَّ، والمَحْمُوم من حُمَّ، والمَضَامِينُ: ما في أَصْلاَب الفُحُول، سمي بذلك لأن الله -تعالى- ضَمَّنها فيها، وكانوا في الجَاهِلية يبيعون ما في بطن النَّاقة، وما يحصل من ضِرَاب الفَحْل في عام أو أعوام، وسبب بطلانهما من جهة المعنى بين (¬4) ... ¬
قال الغزالي: وَبَيْعِ المُلاَمَسَةِ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ اللَّمْسَ بَيْعاً، وَالمُنَابَذَة بِأَنْ يَجْعَلَ النَّبْذَ بَيْعاً، وَرَمْي الحَصَاةِ وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ لِلبَيْعِ مَا تَقَعُ الحَصَاةُ عَلَيْهِ، وَبَيْعَتَيْنِ في بَيْعَةٍ فَيَقُولُ: بِعْتُ بِأَلْفَيْنِ نَسِيئَةً أَوْ بِأَلْفٍ نَقْداً فخُذْ بأيِّهِما شِئْتَ. قال الرافعي: ومنها: ما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النّبي -صلى الله عليه وسلم-: "نَهَى عَنْ بَيْعِ المُلاَمَسَةِ، وَالْمُنَاَبَذَة" (¬1). وللملامسة تأويلان: أحدهما: إنْ أتي بثوب مَطْوي أو في ظلمة فيلمسه المُسْتام، فيقول صاحب الثوب: بِعْتك هذا بكذا، بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك، ولا خيار لك إذا رأيته، وهو تأويل الشَّافعي -رضي الله عنه- في "المختصر"، وهذا البيع باطل. أما إذا أبطلنا بيع الغائب فظاهر. وأما إذا صححناه فلاشْتِرَاط قيام اللَّمْس مقام النَّظر. قال الإمام: ويتطرّق إلى هذا احتمال من جهة أن من اشترى شيئاً على شرط نفي خيار الرؤية، ففي صحة الشرط خلاف فلا يمتنع أن يكون هذا على ذلك الخلاف، وبهذا الاحتمال أجاب أبو سعد المُتَوَلِّي في كتابه. الثاني: وهو المذكور في الكتاب: أن يجعل نفس اللَّمْس بيعاً، ومثَّله الإمام بأن يقول صاحب الثوب لطالبه: إذا لمست ثوبي فهو مبيع منك بكذا، وهو باطل لما فيه من التَّعْليق والعُدُول عن الصِّيغة الشَّرْعية، وذكر في "التتمة": أن هذا في حكم المعاطاة. والثَّالث: أن يبيعه شيئاً على أنه متى لمسه فقد وجب البيع وسقط خيار المجلس وغيره، وهو فاسد للشرط الفاسد. وأما بيع المُنَابَذَة فله تَأْويلات: أحدها: أن يجعل النَّبذ بيعاً، فيقول أحدهما للآخر: أَنْبذ إليك ثوبي، وتنبذ إليّ ثوبك على أن كل واحد مبيع بالآخر، أو يقول: أَنْبذ إليك ثوبي بعَشْرة، وتَنْبذ إليَّ ثوبك فيكون النَّبْذ بيعاً، وهذا تأويل الشافعي -رضي الله عنه- في "المختصر"، وهو المذكور في الكتاب، ووجه بطلان العقد: اختلال الصيغة. قال الأئمة: ويجيء فيه الخلاف المذكور في المُعَاطاة؛ فإن المنابذة مع قرينة البيع هي المُعَاطاة بعينها. والثاني: أن يقول: بِعْتُك هذا بكذا على أني إذا نَبَذْتُه إليك فقد وجب البيع، وحكمه ما مر في الملامسة. ¬
والثالث: أن المراد منه نبذ الحَصَاة، وسنفسره. ومنها: ما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نهى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ" (¬1). وله تأويلات: أحدها: أن يقول: بعتك ثوباً من هذه الأثواب وارْمِ بهذه الحَصَاة فعلى أيهما وقعت فهو المبيع، أو يقول: ارْمِ بهذه الحَصَاة، فعلى أي موضع بَلَغَت من الأرض يكون مبيحاً منك. والثاني: أن يقول: بعتك هذا بكذا على أنك بالخِيَار إلى أن أرمي بهذه الحَصَاة. والثالث: أن يجعلا نفس الرَّمي بيعاً، فيقول البائع: إذا رميت بهذه الحَصَاة فهذا الثوب مبيع منك بعشرة، والبيع باطل في الصور الثلاث. أما في الأولى فللجهل بالمبيع. وأما في الثانية فلكون الخِيَار مجهولاً. وأما في الثالثة فلاختلال الصِّيغة. ومنها ما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أيضاً أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ (¬2) ". وله تأويلان مذكوران في "المختصر": أحدهما: وهو المذكور في الكتاب: أن يقول: بعتك هذا العبد بألف نقداً أو بألفين إلى نسيئة، فخُذ بأيهما شئت أو شئت أنا، فهذا العقد باطل للجهل بالعوض، كما لو قال: بعتك هذا العبد أو هذه الجَارِية بكذا، ولو قال: بعتك بألف أو بألفين إلى سنة، أو قال: بعتك نصف هذا العبد بألف ونصفه بألفين صح البيع، ولو قال: بعتك هذا العبد بألف نصفه بستمائة لم يصح؛ لأن ابتداء السلام يقتضي توزيع الثَّمن على المُثَمَّن بِالسَّوِية وآخره يناقضه، هكذا نقله صاحب "التهذيب" حكماً وتعليلاً. والثَّاني: أن يقول: بعتك هذا العبد بألف على أن تبيعني دارك بكذا، أو اشْتَرِ مني داري بكذا فهو باطل؛ لأنه بيع وشرط، هذا وسنذكر المعنى في بطلانه على الأثر -إن شاء الله تعالى-. ¬
قال الغزالي: وَعَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ، فَلَوْ بَاعَ بشَرْطِ قَرْضٍ، أَوْ بِشَرْطِ بَيْعٍ أخر، أَوْ شَرَطَ عَلَى بَائِعِ الزَّرْعِ أَنْ يَحْصُدَهُ (و)، أَوْ كَانَ مِمَّا يَبْقَى عُلْقَةً بَعْدَ العَقْدِ يَثْبُتُ نِزَاعٌ بِسَبَبِهَا لَمْ يَجُزْ. قال الرافعي: ومن البيوع التي ورد النَّهي عنها البَيْع المشروط. روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ" (¬1). قال حجَّة الإِسْلام: مطلق الخبر يقتضي امتناع كل شرط في البيع لكن المفهوم من تعليله أنه إذا انضمَّ الشرط إلى البيع بقيت علقته بعد العقد. يثور بسببها منازعة، وقد يفضي ذلك إلى فوات مقصود العقد، فحيث تفقد هذه العلّة تستثنيه عن الخبر، ولذلك يتثنى عنه شروطاً ورد في تصحيحها نصوص. اعلم: أن الشرط في العقد ينقسم إلى فَاسِدٍ وَإِلى صحيح، فالفاسد منه يفسد العقد أيضاً على المذهب، وفيه شيء سنورده من بعد -إن شاء الله تعالى-، والفصل يشتمل على أمثلة من الشروط الفاسدة، ثم يليه بيان الشروط الصحيحة. فمن الشروط الفاسدة: إذا باع عبده بألف بشرط أن يبيعه داره أو يشتري منه داره، أو بشرط أن يقرضه عشرة لم يصح، لأنه جعل الألف ورفق العقد الثاني ثمناً، واشتراط العقد الثاني ثمناً، واشتراط العقد الثاني فاسد فبطل بعض الثمن، وليس له قيمة معلومة حتى يفرض التوزيع عليه وعلى الباقي، وإذا أتيا بالبيع الثاني نظر إِنْ كانا يعلمان بطلان الأول صح وإلاَّ فلا لأنهما يأتيان به على حكم الشرط الفاسد، هكذا نقله صاحب "التهذيب" وغيره والقياس صحته، وبه قطع الإمام، وحكاه عن شيخه في "كتاب الرهن" (¬2). ولو اشترى زرعاً واشترط على بائعه أن يحصِدُه، ففيه ثلاث طرق: أحدها: وبه قال أبو إسحاق: أن هذا التَّصرف شراء للزرع، واستئجار للبائع على الحصاد، فيجيء فيه القولان فيما لو جمع بين صَفْقَتَين مختلفي الحكم؛ وهذا هو اختيار ابن الصَّبَّاغ. والثاني: أن شرط الحَصَاد باطل قولاً واحداً؛ لأنه شرط عملاً فيما لم يملكه، ¬
فأشبه ما لو استأجره لِخِيَاطة ثوب لم يملكه، وفي صحة البيع قَوْلاً تفريق الصفقة. والثالث وهو الأصح: أنهما باطلان. أما شرط العمل فلما ذكرنا، وأيضاً فلأنه شرط ينافي قضية العقد؛ لأن قضية العقد كون القطع على المشتري. وأما البيع فلأن الشرط إذا فسد فسد البيع، وكذا الحكم لو أفرد الشراء بعوض والاستئجار بعوض، فقال: اشْتَريتُ هذا الزرع بعشرة على أن تُحصده بدرهم؛ لأنه جعل الإجارة شرطاً في البيع، فهو في معنى بيعتين في بيعة وفي التأويل. الثاني ولو قال: اشتريت هذا الزرع واستأجرتك على حصاده بعشرة، فقال: بعت، وأجرت ففيه طريقان: أحدهما: أنهما على القولين في الجمع بين مختلفي الحكم. والثاني: أن الإِجَارة باطلة قولاً واحداً. ثم إذا فسدت الإجارة، ففي فساد البيع قولاً تفريق الصفقة. ولو قال: اشتريت هذا الزرع بعشرة واستأجرتك لتحصده بدرهم صح الشراء، ولا تصح الإجارة؛ لأنه استأجره على العمل فيما لم يملكه، ونظائر مسألة الزرع يقاس بها، كما إذا اشترى ثوباً، وشرط عليه صبغه أو خياطته، أو لبناً وشرط عليه طَبْخه، أو نعلاً على أن ينعل به دابته، أو عبداً رضيعاً على أن يتم إِرضاعه، أو متاعاً على أن يحمله إلى بيت والبائع يعرف بيته، فإن لم يعرف بطل البيع لا محالة، ولو اشترى حطباً على ظهر بهيمة مطلقاً فيصح العقد، ويسلمه إليه في موضعه أم لا يصح حتى يشترط تسليمه إليه في موضعه؛ لأن العادة قد تقتضي حمله إلى داره؟ حكى صاحب "التتمة" فيه وجهين (¬1) -والله أعلم-. قال الغزالي: إِلاَّ فِي مَوَاضِعَ عِدَّةٍ اسْتُثْنِيَتْ بِالنُّصُوصِ (أَحَدُهَا) شَرْطُ الأَجَلِ المَعْلُومِ وَالثَّانِي شَرْطُ الخِيَارِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَالثَّالِثُ شَرْطُ وَثيقَةِ الثَّمَنِ بالرَّهْنِ بَعْدَ تَعْيين المَرْهُونِ، وَبالكَفِيلِ بَعْدَ تَعْيينِهِ، وَبالشَّهَادَةِ وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّعْيينُ، وَمَهْمَا تَعَذَّر الوَفَاءُ بالرَّهْنِ المَشْرُوطِ أَوْ وَجَهٍ بِهِ عَيْبًا فَلَهُ فَسْخُ العَقْدِ. قال الرافعي: من الشروط الصحيحة في البيع شرط الأجل المعلوم في الثمن. ¬
قال الله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}. (¬1) وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: أَمَرَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْروٍ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشاً وَأَمَرَهُ أَنْ يَبْتَاعَ ظَهْراً إِلَى خُرُوجِ الْمُصَّدَّقِ" (¬2) وإن كان مجهولاً، كقدوم زيد أو مجيء المطر، وإقباض المبيع فهو فاسد. وذكر القاضي الرُّويانِيُّ: أنه لو أجل الثمن إلى ألف سنة بطل العقد للعلم بأنه لا يبقى إلى هذه المدة، ويسقط الأجل بالموت كما لو أجَّر ثوباً ألف سنة لا يصح، فعلى هذا يشترط في صحة الأجل مع كونه معلوماً احتمال بقائه إلى المدة المضروبة (¬3). ثم موضع الأجل ما إذا كان العوض في الذِّمة، فأما ما ذكره في المبيع أو في الثمن المعين، مثل أن يقول: اشتريت بهذه الدنانير على أن أسلمها في وقت كذا فهذا فاسد؛ لأن الأجل رفق أثبت لتحصيل الحق في المدة والمعين حاصل، ولو حلَّ الأجل فأجَّل البائع المشتري مدة، أو زاد في الأَجَل قبل حُلُول الأجل المَضْروب أولاً، فهو وعد لا يلزم خلافاً لأبي حنيفة فيهما، وساعدنا على أن بدل الإِتْلاف لا يتأجل وإن أجله، وقال مالك -رحمه الله -تعالى: يتأَجَّل. لو أوصى من له دَيْن حال على إنسان بإمهاله مدة، فعلى ورثته إمهاله تلك المدة، لأن التبرعات بعد الموت (¬4) تلزم، قاله في "التتمة". وحكى هو وصاحب "التهذيب" وجهين فيما لو أسقط من عليه الدَّين المؤجل الأجل فهل يسقط حتى يتمكَّن المستحقّ من مطالبته في الحال؟ أصحهما: أنه لا يسقط؛ لأن الأجل صفة تابعة، والصفة لا تفرد بالإسقاط، أَلاَ تَرَى أن مستحق الحِنْطة الجيدة أو الدنانير الصِّحاح لو أسقط صفة الجودة أوالصحة لا تسقط؟ ومنها: شرط الخِيَار ثلاثة أيام على ما سيأتي - إن شاء الله تعالى -. ومنها: شرط وَثيقة الثمن بالرَّهْن والكفيل والشهادة فيصح البيع بشرط أن يرهن ¬
المُشْتَري بالثَّمن، أو يتكفل به كفيل أو يشهد عليه، سواء كان الثَّمن حالاً أو مؤجلاً ولا يخفى وجه الحاجة إلى التوفيق بهذه الجهات. وقد قال تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}. وقال: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (¬1). وكذلك يجوز أن يشرط المشتري على البائع كفيلاً بالعُهْدة، ولا بد من تعيين الرهن والكفيل والمعتبر في الرَّهن المشاهدة أو الصفة، كما يوصف المسلم فيه، وفي الكفيل المشاهدة أو المعرفة بالاسم والنسب، ولا يكفي الوصف بأن يقول رجل موسر ثقة، هذا هو النقل [عن الأصحاب]. ولو قال قائل: الاكتفاء بالصِّفة أولى من الاكتفاء بمشاهدة من لا يعرف حاله لم يكن ببعيد، وهل يشترط التعيين في شرط الإشْهاد؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما في الرَّهن والكفيل. وأصحهما: لا، وهو المذكور في الكتاب؛ لأن المطلوب في الشُّهُود العدالة لإثبات الحق عند الحاجة بخلاف الرهن والكفيل، فإن الأغراض فيهما تتفاوت، ولصاحب الوجه الأول أن يقول: وقد يكون بعض العدول أوجه، وقوله: "أسرع قبولاً فيتفاوت الغرض في أعيانهم أيضاً" وادعى الإمام القطع بالوجه الثاني، ورد الخلاف إلى أنه لو عين الشّهود هل يتعيَّنون أم لا؟ وهل يجب التعرض لكون المرهون عند المرتهن أو عند عدل؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا، بل إن اتفقا على يد المُرْتَهِن أو يبد عدل فذاك، وإلاَّ جعله الحاكم في يد عدل، وليكن المشروط رهنه عند غير المبيع. أما إذا شرط أن يكون المبيع نفسه رهناً بالثمن لم يصح الرهن؛ لأن المرهون غير مملوك له بَعْدَ وَلاَ المبيع، هكذا أطلقه الجمهور، وأورد الإمام فيه تفصيلاً كما سيأتي، والمطلقون وجهوه بأمور. منها: أن الثمن إمَّا مؤجل يجوز حبس المبيع لاستيفائه، أو حال فله حبسه لاستيفائه، فلا معنى للحبس بحكم الرهن. ومنها: تَنَاقُض الأحكام، فإن قضية الرهن كون المال أمانة، وأن يسلم الدَّيْن أوّلاً، وقضية البيع بخلافه. ¬
ومنها: أن فيه استِثْناء منفعة الاسْتِيثَاق، ولا يجوز أن يستثني البائع بعض منافع المبيع لنفسه. ومنها: قال بعض المتأخرين: المشتري لا يملك رَهْن المبيع، إلاَّ بعد صحة المبيع، فلا تتوقف عليه صحة البيع، كيلا يؤدي إلى الدور، وللنزاع مجال في هذه التوجيهات. أما الأول: فإن كان الثمن مؤجلاً، لا يجوز حبس المبيع إذا لم يَجْرِ رهن، فإن جرى رهن فهو موضع الكلام، وإن كان حالاً فيجوز أن يتقوى أحد الجنسين بالآخر. وأما الثاني: فبتقدير الصِّحة يبقى المال مضموناً بحكم البيع استيفاءً لما كان، ويسلم الدين أوَّلاً لإقدامه على الرهن. وأما الثالث: ففي جواز اسْتِثْنَاء بعض المنافع تفصيل سَنَذكره -إن شاء الله تعالى. وأما الرابع: فمسلم أنه لا يتوقف صحة البيع على الرهن لكن لا كلام فيه، وإنما الكلام في أنه هل يمنع صحة البيع؟ فهذا كلام المطلقين. وأما التفصيل: فإن الإمام ذكر أن المسألة مبنية على البَدَاءَة في التسليم بمن. فإن قلنا: البَدَاءة بالبائع، أو قلنا: يُخَيِّران معاً، أو قلنا لا اختيار ما لم يبتدأ أحدهما فسد البيع؛ لأنه شرط يبطل مقتضى البيع لتضمنه حبس المبيع إلى اسْتِيْفَاء الثمن. وإن قلنا: البَدَاءَة بالمشتري فوجهان: أحدهما: أنه يصحُّ هذا الشرط لموافقته مقتضى العقد. والثاني: لا يصحُّ ويفسد البيع لما سبق من تناقض الأحكام، والأظهر عند صاحب الكتاب هو الوجه الأول، وأنت إذا تَنَبَّهت إلى الأصل المبني عليه عرفت حال هذا البناء قوة وضعفاً. ولو شرط أن يرهنه بالثمن بعد القبض، ويرده إليه فالبيع باطل أيضاً لبعض المعاني المذكورة. ولو رهنه بالثمن من غير شرط صح إن كان بعد القبض، وإن كان قبله فلا إن كان الثمن حالاً، لأن الحبس ثابت له، وإن كان مؤجلاً فهو كما لو رهن المبيع قبل القبض بدين آخر، ثم إذا لم يَرْهَن المشتري ما شرطه، أو لم يتكفل الذي عينه فلا إِجْبَار، لكن للبائع الخيار، ولا يقوم رَهْن وكفيل آخر مقام المعين، فإن فسخ فذاك، وإن أجاز فلا خيار للمشتري. ولو عيَّن شاهدين فامتنعا من تحمل الشَّهادة. فإن قلنا: لا بد من تعيين الشَّاهدين، فللبائع الخيار أيضاً. وإن قلنا: لا حاجة إليه أيضاً، فلا. ولو باع بشرط الرهن فهلك الرهن قبل القبض أو تعيَّب أو وجد به عيباً قديماً، فله الخيار في البيع، وإن تعيب قبل القبض، فلا خيار.
ولو ادَّعى الراهن أنه حدث بعد القبض، وقال المُرْتهن: بل قبله، فالقول قول الراهن اسْتِدَامة للبيع، ولو هلك الرَّهن بعد القَبْضِ أَوْ تعيَّب ثم اطَّلَع على عيب قديم به فلا أَرْش له، وهل له فسخ البيع؟ فيه وجهان: أصحُّهما: لا؛ لأن الفسخ إنما يثبت إذا أمكنه رَدُّ الرهن كما أخذ. وأما لفظ الكتاب فقوله: "شرط وَثِيقة الثَّمن" لفظ الثمن وإن كان مطلقاً، ولكن المراد منه [ما] إذا كان في الذِّمَّة، فإن الأعيان لا يرهن بها، وفي ضَمَانها تفصيل طويل يذكر في موضعه -إن شاء الله تعالى-، وهذا كما ذكرناه في الأجل. وقوله: "بعد تعيين المَرْهُون" يجوز إعلامه بالميم والحاء. أما الميم، فلأن عند مالك -رضي الله عنه- لا يشترط تعيين المرهون بل ينزل المطلق على ما يصلح أن يكون رهناً لمثل ذلك الثمن في العادة. وأما بالحاء، فلأن عند أبي حنيفة لو قال: رهنتك أحد هذين العَبْدَين جاز، كما ذكره في البيع. وقوله: "وبالكفيل بعد تعيينه"، يجوز إعلامه بالواو، لأن في كتاب القاضي ابن كَجٍّ: أنه لا حاجة إلى تَعْيِين الكَفيل، وإذا أطلق أقام من شاء ضميناً -والله أعلم-. قال الغزالي: وَالرَّابعُ شَرْطُ عِتْقِ العَبْدِ احتُمِلَ لِحَدِيثِ بُرَيْرَةَ، وَالقِيَاسُ إِبْطَالُ الشَّرْطِ، وَقَدْ قِيلَ بِهِ، ثُمَّ لِلبَائِعِ المُطَالَبَةُ بِالعِتْقِ علَى الأَصَحِّ، فَإِنْ أَبى المُشْتَرِي أُجْبِر عَلَيْهِ (و)، وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الوَلاَء لَهُ صَحَّ الشَّرْطُ (و) لِدَلالَةِ الخَبَرِ. قال الرافعي: في بيع الرقيق بشرط العتق قولان: أحدهما: أنه لا يصح كما لو باعه بشرط أن يبيعه أو يهبه، وبهذا قال أبو حنيفة. وأصحهما: أنه يصح، وعلى هذا ففي صحة الشرط قولان: أحدهما وهو ما حكاه العراقيون عن رواية أبي ثور: أنه باطل. لظاهر ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَاب اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بَاطِلٌ" (¬1). وأصحهما: وبه قال مالك وأحمد في أصح الروايتين: أنه صحيح. لما روي "أَنَّ عَائِشَةَ -رضي الله عَنْهَا- اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ وَشَرَطَ مَوَالِيَها أَنْ تُعْتِقَهَا، ويكَونَ وَلاَؤُهَا لَهُمْ؛ فَلَمْ يُنْكِرْ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ شَرْطَ الْوَلَاء وَقَالَ: شَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، وَقَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ، وَالْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" (¬2). ¬
وقوله: "والقياس إبطال الشرط"، أراد مع تصحيح، العقد على ما دل عليه كلامه في "الوسيط". قال: لأن المصير إلى إبطال العقد مع الحديث لا وجه له، وإن قال قائلون به، وتأويل إذنه في الشرط أنه كان يثق بعائشة -رضي الله عنها- أنها تفي به تَكَرُّما لا أنه لازم. التفريع: إن صححنا شرط العِتْق فذلك إذا أطلق أو قال: بشرط أن تعتقه عن نفسك. أما إذا قال: بشرط أن تعتقه عني فهو لاغ (¬1)، ثم العتق المشروط حق من؟ فيه وجهان: أظهرهما: أنه حق الله عز وجل كالملتزم بالنَّذر. والثاني: أنه حق البائع، لأن اشتراطه يدل على تعلق غرضه، به والظاهر أنه تسامح في الثمن إذا شرط العتق. فإن قلنا: إنه حق البائع فله المطالبة به لا محالة. وإن قلنا: إنه حق الله -تعالى- فوجهان: أحدهما: أنه ليس له المطالبة به، إذ لا ولاية له في حقوق الله عز وجل. وأصحهما: أنه ليس له ذلك؛ لأنه ثبت بشرطه وله غرض في تحصيله، وإذا أعتقه المشتري، فقد وفَّي بما الْتَزَم والولاء له. وإن قلنا: العِتق حق البائع؛ لأنه صدر عن مِلْكه وإن امتنع، فهل يجبر عليه؟ فيه وجهان، وقيل: قولان: أصحهما عند المصنف: أنه يجبر عليه. والثاني: لا، ولكن للبائع الخيار في فسخ البيع، وهما مبنيان على أن العتق حق من؟ ¬
إن قلنا: إنه حق الله عز وجل فيجبر عليه. وإن قلنا: إنه حق البائع، فلا يجبر كما في شرط الرهن والكفيل. وإذا قلنا: بالإجبار، فهل يخرج على الخلاف في المولى إذا امتنع من الطلاق حتى يعتق القاضي على رأي، أو يحبسه حتى يعتق على رأي أو لا طريق سوى الحبس حتى يعتق؟ أبدى الإمام فيه احتمالين: والأول: هو المذكور في "التتمة". قال الإمام: والخلاف في الإجبار لا يبعد طَرْده في شرط الرَّهْن والكفيل من جهة القياس، لكن لم يطرده. وإذا قلنا: العتق حق للبائع، فلو أسقطه سقط كما لو شرط رهناً أو كفيلاً ثم عفا عنه. وعن أبي محمد: أن شرط الرهن والكفيل أيضاً لا يفرد بالإِسْقَاط كحق الأجل. وهل يجوز إِعْتَاق هذا العبد عن الكَفَّارة؟ إن قلنا: إن العتق حق الله عزَّ وجلَّ فلا، كإعتاق المنذور عتقه عن الكفارة. وإن قلنا: إنه حق البائع فكذلك إن لم يسقط حقه، وإن أسقطه جاز على أصح الوجهين. والثاني: لا يجوز، لأن البيع بشرط العِتْق لا يخلو عن مُحَاباة، فكأنه أخذ على العِتْق عوضاً، ويجوز له الاستخدام والوَطْء، والأكساب الحاصلة (¬1) له، ولو قتل كانت القيمة له، ولا يكلف صَرْفها إلى عبد آخر ليعتقه، وليس له أن يبيعه من غيره، ويشترط العِتْق عليه في أصح الوجهين؛ لأن العِتْق مستحق عليه فليس له نقله إلى غيره، هل يجزي إِيْلاَد الجَارِية عن الإعتاق؟ فيه وجهان: أصحهما: لا، بل عليه أن يعتقها. ولو مات العبد قبل أن يعتقه ففيه أوجه: أظهرها: أنه ليس عليه إلا الثّمن المسمى؛ لأنه لم يلتزم غيره. والثاني: أن عليه مع ذلك قدر التَّفاوت بين ثمن مثله مشتري مطلقاً، وثمن مثله ¬
مشتري بشرط العتق، ومنهم من زَادَ في هذا الوجه أنه يعرف قدر التَّفَاوت هكذا، ويجب عليه مثل نسيته من الثَّمن المسمى. والثالث: أنَّ البائع بالخيار إن شاء أجاز العَقْد ولا شيء له، وإن شاء فسخ البيع ورد ما أخذ من الثمن، ويرجع بقيمة العقد عليه. وحكى بعضهم بدل هذا الوجه: أنه ينفسخ العقد لتعذُّر إِمْضَائه، إذ لا سبيل إلى إيجاب شيء على المُشْتَري من غير تَفْويت ولا إلزام ولا إلى الاكتفاء بالمسمى، فإن البائع لم يَرْضَ به إلاَّ بشرط العتق، وهذه الوجوه مُفَرَّعة على أن العِتْق للبائع، أو هي مطردة، سواء قلنا: إنه للبائع أو لله تعالى -فيه رأيان [للإمام]: أظهرهما: الثاني (¬1). ولو اشترى عبداً بشرط أن يدبره أو يُكَاتبه أو يعتقه بعد شهر أو سنة، أو داراً بشرط أن يجعلها وقفاً، ففي هذه الشروط وجهان: أصحهما: أنها ليست كشرط العِتْق بل يبطل البيع بها، وجميع ما ذكرناه في شرط العِتْق مفروض فيما إذا لم يتعرض للولاء، فأما إذا شرط مع العتق كون الوَلاَء للبائع ففيه وجهان: أحدهما: أنه يبطل البيع، لأن شرط الولاء تغيير ظاهر لِمُقْتَضَى العقد لتضمنه نقل الملك إلى البائع، وارتفاع العقد. والثاني: أنه يصح لحديث بريرة، فإن عائشة -رضي الله عنها- أخبرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن مواليها لا يبيعونها إلا بشرط أن يكون الولاء (¬2) لهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اشْتَرِي وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاَءَ"، أَذِنَ في الشِّراء بهذا الشرط، وهو لا يأذن في باطل، وعلى هذا ففي صحة الشرط قولان نقلهما الإمام: أحدهما: أنه لا يصح. لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "خَطَبَ بعَدَ ذَلِكَ وَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَام يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَاب اللهِ عَزَّ وَجَلَّ كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَاب اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بَاطِلٌ، شَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، وَقَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ، وَالْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" (¬3). والثاني: أنه يصح؛ لأنه إذن في اشتراط الوَلاَء، وهو لا يأذن في باطل، وهذا هو الذي أورده صاحب الكتاب. ¬
واعلم: أنه خلاف ما اتَّفَق عليه جمهور الأَصْحَاب، فإنهم أَطْبَقوا على أن شرط الوَلاَء يفسد البيع، وحكوا قولاً ضعيفاً على خلافه عن رواية الِإصْطَخري أو تخريجه، ثم على ذلك القول الضعيف قضوا بفساد الشرط، وقصروا الصِّحة على العقد، ولا تكاد تجد حكاية الخلاف في صحّة الشَّرط بعد تصحيح العقد، إلاَّ للإمام -رحمه الله تعالى- وفي حديث بريرة إِشْكال أفسدنا العقد أو صححناه، وأفسدنا الشرط أو صححناه. أما إذا أفسدنا العقد أو الشرط فلإذنه في الشراء واشتراط الولاء، وأما إذا صححناهما فلخطبته بعد ذلك وإنكاره على هذا الشرط. وكيف يجوز أن يأذن في شراء الشيء ثم ينكر عليه ويبطله، إلاَّ أن الصَّائرين إلى الفساد لم يثبتوا الإذن في شرط الولاء، وقالوا: إن هشاماً تفرَّد به ولم يتابعه سائر الرواة عليه، فيحمل على وهم وقع له، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يأذن فيما لا يجوز، وبتقدير الثبوت فقد تكلموا عليه مِنْ وجوه لا نطول بذكرها. وأما من صححهما قال: إنه نهَاهم عن الإِتْيان بمثل هذه الشروط، ولما جرت أنكر عليهم لارتكابهم ما نهاهم عنه، لكنه صححه وقد ينهي عن الشيء ثم يصححه. ولو جرى البيع بشرط الولاء دون شرط العتق بأن قال: بعتكه بشرط أن يكون الولاء إلي إن أعتقته يوماً من الدهر. فقد ذكر في "التتمة": أن العقد هاهنا باطل بلا خلاف، إذ لم يشترط العتق حتى يحصل الولاء تبعاً له. ولو اشترى أَبَاهْ أو ابنه بشرط أن يعتقه. فعن القاضي حسين: أن العقد باطل لتعذر الوفاء بهذا الشرط، فإنه يعتق عليه قبل أن يعتقه (¬1) -والله أعلم-. قال الغزالي: الخَامِسُ أَنْ يَشْتَرِط مَا لاَ يَبْقَى عُلْقة كَكُلِّ شَرْطٍ يُوَافِقُ العَقْدَ مِنَ القَبْضِ وَجَوَازَ الانْتِفَاعِ، أَوْ مَا لاَ يَتَعَلَّقُ به غَرَضٌ كَشَرْطِهِ أَنْ لاَ يَأْكُلُ إِلاَّ الهَرِيسَةَ، وَهَذَا اسْتُثْنِي بِالقِيَاسِ، وَكَذَلِكَ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ خَبَّازاً أَوْ كَاتِباً وَكُلُّ وَصْفٍ مَقْصُودٍ. قال الرافعي: غرض الفصل التَّعرض لأقسام الشُّروط الَّتِي لا تفسد العقد بعد ما ¬
تقدم ذكره، والأصحاب قد ضبطوا صحيح الشروط وفاسدها في تفسير هو كالترجمة، والتفاصيل مذكورة في مواضعها، قالوا: الشرط ينقسم إلى ما يقتضيه مطلق العقد، إلى ما لا يقتضيه، فالأول كالقبض وجواز الانتفاع والرد بالعيب ونحوها، فلا يضر التعرُّض لها ولا ينفع. والثاني: ينقسم إلى ما يتعلّق بمصلحة العَقْد وإلى ما لا يَتَعَلَّق، فالأول قد يتعلق بالثمن كَشَرْط الرَّهْن والكفيل، وقد يتعلّق بالمثمن كشرط أن يكون العبد خَبَّازاً أو كاتباً، وقد يتعلّق بالطَّرفين كشرط الخَباز، فهذه الشُّروط لا تفسد العَقْد وتصح في نفسها. والثاني: ينقسم إلى ما لا يتعلّق به غرض يورث تنافساً وتنازعاً، وإلى ما لا يتعلق، فالأول كشرط أن لا يأكل إلا الهَرِيسَة (¬1)، أَوْ لا يلبس إلا الخَزَّ وما أشبه ذلك، هذا لا يفسد العقد وَيَلْغُو في نفسه، هكذا قاله صاحب الكتاب وشيخه. لكن في "التتمة": أنه لو شرط ما يقتضي إلزام ما ليس بلازم، كما لو باع بشرط أن يصلِّي النوافل، أو يصوم شهراً غير رمضان، أو يصلي الفرائض في أول أوقاتها يفسد العقد؛ لأنه أوجب ما ليس بواجب، وقضية هذا فساد العقد في مسألة الهَرِيسَة والخَزِّ أيضاً. والثاني: كشرطه أن لا يقبض ما اشتراه، ولا يتصرف فيه بالبيع والوَطْءِ ونحوهما، وكشرط بيع آخر أو قرض وكشرطه أن لا خسارة عليه في ثمنه، يعني لو باعه وخسر في ¬
ثمنه ضمن له النُّقْصان، فهذه الشَّرَائط وأشباهها فاسدة مفسدة للبيع، إلاَّ شرط العِتْق كما مر. وقوله في الكتاب: "وهذا استثنى بالقياس"، أراد به ما سبق أن المفهوم من نهيه عن بيع وشرط دفع محذور المُنَازعة الثائرة من الاشْتِراط والعلقة الباقية بينهما بسببه، وهذا المعنى مقصود في هذه الصورة. وأما ما يوافق مقتضى العَقْد فهو ثابت، ذكر أو لم يذكر. وأما ما لا يتعلق به غرض فلا يتنازعان في مثله غالباً. وأما شرط الكتابة والخبر وسائر الأوصاف المقصودة، فإنها لا تتعلق بإنشاء أمر في المستقبل، بل هي أمور حاضرة ناجزة، والظاهر أن الشَّارط لا يلتزمها إلاَّ وهي حاصلة، فإذًا هذه الشرائط وإن كانت مستثناة عن صورة اللفظ لكنها منطبقة على المَعْنَى المفهوم منه. قال الغزالي: فَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ حَامِلاً فَقَوْلاَنِ، وَلَوْ شَرَطَ أَنْ تَكُونَ لَبُوناً، فَالأَصَحُّ أَنَّهُ كَشَرْطِ الكِتَابَه. قال الرافعي: إِحْدَى مَسْألتي الفصل: أن يبيع جارية أو دابة بشرط أن تكون حاملاً، وتقدم عليها أن بيع الحمل لا يجوز لا من مالك الأم ولا من غيره لما مر في النهي عن بيع المَلاَقِيح، فإنه غير معلوم ولا مَقْدور. ولو باع حاملاً مطلقاً دخل الحمل (¬1) في البيع تبعاً، وهل يقابله قسط من الثمن؟ فيه خلاف نذكره في موضعه -إن شاء الله تعالى-. ولو باع الحامل واستثنى حملها، ففي صحة البيع وجهان منقولان في "النهاية": أحدهما: أنه يصح، كما لو باع الشَّجَرة، واستثنى الثَّمرة قبل بُدُوِّ الصَّلاحَ. وأصحهما: وبه أجاب الجمهور: أنه لا يصح؛ لأن الحمل لا يجوز إفراده بالعقد، فلا يجوز استثناؤه كأعضاء الحيوان، ولو كانت الأم لواحد والحمل لآخر، فهل لمالك الأم بيعها من مالك الحمل أو غيره؟ فيه وجهان، وكذا لو باع جارية حاملاً بِحُرٍّ. الذي ذكره المعظم: أنه لا يصح؛ لأن الحمل لا يدخل في البيع، فكأنه استثناه. والثَّاني وهو اختيار الإمام وصاحب الكتاب: أنه يصح، ويكون الحمل مُسْتَثْنى شرعاً. ¬
إذا تقرر ذلك فلو باع جارية أو دابة بشرط أنها حامل، ففي صحة البيع قولان، ويقال: وجهان مبنيان على أن الحمل هل يعلم أم لا؟ فإن قلنا: لا، لم يصح شرطه. وإن قلنا: نعم، صح، وهو الأصح، وخص بعضهم الخلاف بغير الآدَمِي، وقطع بالصِّحة في الجواري لأن الحمل في الجَواري عَيْب، فاشتراط الحمل إعلام بالعَيْب، فتصير كما لو باعها على أنها آبِقَة أو سَارِقة، ولو قال: بعتك هذه الدَّابة وحملها، ففي صحة العقد وجهان. عن أبي زيد: أنه يصح؛ لأنه داخل في العقد عند الإطلاق، فلا يضر التَّنصيص عليه، كما لو قال: بعتك هذا الجِدَار وأَسَاسَه. والأصح: وبه قال ابن الحَدَّاد والشيخ أبو علي: أنه لا يصح؛ لأنه جعل المَجْهول مبيعاً مع العلوم، وما لا يجوز بيعه وحده لا يجوز بيعه مقصوداً مع غيره بخلاف ما إذا باع بشرط أنها حامل، فإنه جعل الحَامِلية وصفاً تَابِعَاً، وهذا الخلاف يجري فيما إذا قال: بعتك هذه الشَّاة وما في ضرعها من اللبن. وفي قوله: بعتك هذه الجُبَّة وحَشْوَهَا طريقان (¬1): منهم من طرد الخلاف، ومنهم من قطع بالجَوَاز؛ لأن الحَشْوَ داخل في الجُبَّةَ مسمى فذكره ذِكْرُ ما دخل في اللفظ، فلا يدل التنصيص عليه، والحمل غير داخل في مسمى الشاة فَذِكْرُه ذِكْرُ الشيء المجهول مع المعلوم. وإذا قلنا بالبطلان في هذه الصورة، فقد قال الشيخ أبو علي في بيع الظّهَارة والبِطَانَة: في صورة الجُبَّةَ قَوْلاً تفريق الصَّفقة، وفي صورة الدابة يبطل البيع في الكُل. والفرق أن الحشو يمكن معرفة قيمته عند العقد، والحمل واللبن لا يمكن معرفتهما حينئذ فيتعذر التوزيع. قال الإمام: وهذا حسن؛ لكننا نُجْرِي قَوْلَي التَّفريق حيث يتعذَّر التوزيع، كما لو باع شاة وخنزيراً، أو باع حاملاً وشرط وضعها لرأس الشَّهر ونحوه لم يصح البَيْع قولاً واحداً، لأنه غير مقدور عليه قاله في "الشامل". ¬
وبيض الطير كحمل الجارية والدابة في جميع ذلك. والمسألة الثانية: لو باع شاة بشرط أنها لَبُون، ففيه طريقان: أحدهما: أنها على الخلاف في البيع بشرط الحَمْل. والثاني: القطع بصحة البيع. والفرق أن شرط الحمل يقتضي وجود الحمل عند العقد وهو غير معلوم، وشرط كونها لَبُوناً لا يقتضي وجود اللبن حينئذ، وإنما هو اشتراط صفة فيها، فكان بمثابة شرط الكتابة والخبر في العقد حتى لو شرط كون اللبن في الضرع كان بمثابة شرط الحمل، وطريقة طرد الخلاف أظهر، لأنه نص في "الأمّ" على قولين في السّلم في الشَّاة اللَّبون، إلاَّ أن قول الصحة هاهنا أَظْهَر منه في المَسْأَلة الأولى. قوله في الكتاب: "فالأصح أنه كشرط الكتابة"، يجوز أن يريد من الطريقين. والأولى: أن يريد من القولين جواباً على الطريقة الأولى. واعلم أن قوله: "كشرط الكتابة" بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة: لا يصح البيع بهذا الشرط، ولذا قال في شرط الحمل: "ولو شرط أنها تدر كل يوم كذا رطلاً من اللبن لم يصح البيع"؛ لأن ذلك لا ينضبط ولا يقدر عليه، فصار كما لو شرط في العبد أنه يكتب كل يوم عشرة أوراق. ولو باع شاة لبوناً واستثنى لبنها، ففي صحة العقد وجهان: أصحهما: أنه لا يصح، كما لو استثنى الحَمْل في بيع الجَارِية، والكُسْب في بيع السِّمْسم، والحَبّ في بيع القُطْن -والله أعلم-. وفي الشروط الصحيحة باتفاق أو على اختلاف مسائل أخر نشير إلى بعضها في هذا الموضع على الاختصار: منها: البيع بشرط البَرَاءة من العيوب. ومنها: بيع الثِّمَار بشرط القَطْع، وسنشرحهما -إن شاء الله تعالى-. ومنها: ما لو باع مَكيلاً أو موزوناً أَو مَذْرُوعاً، بشرط أَنْ يُكَالَ في مِكْيال معين، أو يوزن بميزان معين، أو يُذرع بذراع معين، أو شرط ذلك في الثمن، ففيه خلاف ونورده في السلم -إن شاء الله تعالى- وفي معناه تعيين رجل يتولّى الكيل والوزن. ومنها: لو باع داراً واستثنى لنفسه سكناها، أو دابة واستثنى ظهرها، نظر إن لم يبيّن مدّة لم يصح العقد، وإن بين ففيه خلاف مذكور في الكتاب في آخر الإِجَارة. والأصح: أنه يبطل العقد، وذهب أحمد إلى صحته.
ومنها: لو شرط أن لا يسلم المبيع حتى يستوفي الثمن، نظر إن كان مؤجلاً بطل العقد، وإن كان حالاً بني على أن البَدَاءَة في التسليم بمن، فإن جعلنا ذلك من قضايا العقد لم يضر ذكره، وإلاَّ فسد العقد. ومنها: لو قال: بعتك هذه الصُّبْرَة كل صاع بدرهم على أن أزيدك صَاعاً، فإن أراد هبة صاع أو بيعه من مَوْضِعٍ آخر فهو باطل؛ لأنه شرط عقد في عقد، وإن أراد أنها إن خرجت عشرة آصُعٍ أخذت تسعة دراهم فإن كانت الصيعان مجهولة لم يصح، لأنه لا يدري حصة كل صاع، وإن كانت معلومة صح، فإن كانت عشرة فقد باع صاعاً وتُسعاً بدرهم ولو قال: بعتك هذه الصُّبْرَة كل صاع بدرهم على أن أنقصك صاعاً، فإن أراد رد صاع إليه فهو فاسد؛ لأنه شرط عقد في عقد، وإن أراد أنها إن خرجت تسعة آصع أخذت عشرة دراهم، فإن كانت الصِّيْعَان مجهولة لم يصح، وإن كانت معلومة صح، وإذا كانت تسعة آصُعٍ فيكون كل صاع بدرهم وتسع. وعن صاحب "التقريب": أنه لا يصح في صورة العلم أيضاً، لأن العبارة لا تُنْبئ عن المجمل المذكور، ولو قال: بعتك هذه الصُّبْرَة كل صاع بدرهم، على أن أنقصك صاعاً أو أزيدك صاعاً، ولم يبيّن إحدى الجهتين فهو باطل. ومنها: لو باع قطعة أرض على أنها مائة ذراع، فخرجت دون المائة ففيه قولان: أحدهما: بطلان البيع؛ لأن قضية قوله: بعتك هذه الأرض أن لا يكون غيرها مبيعاً، وقضية الشرط أن لا تدخل بالزيادة في البيع، فوقع التضاد وتعذّر التصحيح. وأظهرهما وقطع به قاطعون: أنه صحيح تغليباً للإشارة وتنزيلاً لخلف الشرط في المقدار منزلة خلفه في الصِّفات، وبهذا قال أبو حنيفة، فعلى هذا للمشتري الخيار بين الفسخ والإِجَازة، ولا يسقط خياره بأن يحطّ البائع من الثمن قدر النقصان، وإذا أجاز فيجيز بجميع الثمن قدر النقصان أو بالقسط، فيه قولان كما في تفريق الصفقة، لكن الأظهر هاهنا، أنه يجيز بجميعه؛ لأن المتناول بالإشارة تلك القِطْعَة لا غير، ولو كانت المَسْألة بحالها، وخرجت القطعة أكثر من المائة، ففي صحة البيع قولان أيضاً إن صححناه. فالمشهور: أن للبائع الخيار، فإن أجاز كانت كلها للمشتري ولا يطالبه للزيادة بشيء. وفيه وجه آخر اختاره صاحب "التهذيب": أنه لا خيار للبائع، ويصح البيع في الكُلِّ بالثمن المسمى، وينزل شرطه منزلة ما لو شرط كون المبيع مَعِيباً فخرج سليماً لا خيار له. فعلى المَشْهور لو قال المشتري: لا نفسخ فإني أقنع بالقدر المشروط سابقاً والزيادة لك، فهل يسقط خيار البائع؟ فيه قولان عن رواية صاحب "التقريب" وغيره:
أحدهما: نعم لزوال الغبنة عن البائع. والثاني: لا، لأن ثبوت حق المشتري على الشُّيُوع يَجُرًّ ضَرراً، وهذا أظهر، وبه قال الإمام. ورجع ابن سُرَيجٍ الأول في جوابات الجامع الصغير" لمحمد -رحمهما الله تعالى- ولو قال: لا نفسخ حتى أزيدك في الثَّمن لما زاد لم يكن له ذلك، ولم يسقط به خيار البائع بلا خلاف، ويقاس بهذه المسألة ما إذا باع الثوب على أنه عشرة أذرع، أو القطيع على أنه عشرون رأساً، أو الصُّبْرَة على أنها ثلاثون صاعاً، وفرض نقصاناً أو زيادة. وفرق صاحب "الشامل" بين الصُّبْرَة وغيرها، فروى أن الصُّبْرَة إذا زادت على القدر المشروط يرد الفضل، وإن نقصت وأجاز المشتري يُجيز بالحصة وفيما عداها يُجِيز بجميع الثمن، لأن أجزائها تتساوى فلا يَجُزُّ التوزيع جهالة. ومنها: لو قال لغيره: مع عبدك من زيد بألف على أن عليَّ خمسمائة، فباعه على هذا الشرط هل يصح البيع؟ فيه قولان لابن سُرَيج: أظهرهما: لا، لأن الثَّمَن يجب جميعه على المشتري، وهاهنا جعل بعضه على غيره. والثاني: نعم، ويجب على زيد ألف وعلى الآخر خمسمائة، كما لو قال: ألق متاعك في البَحْر على أن عليّ كذا. قال الغزالي: وَمَهْمَا فَسَدَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ فَسَدَ بفَسَادِهَا العَقْدُ، وَالأَصَحُّ أَنَّ شَرْطَ نَفْي خِيَارِ المَجْلِسِ وَالرُّؤْيَةِ فَاسِدٌ. قال الرافعي: ما يصح من البَيْوع لولا الشرط إذا ضم إليه شرط لم يخل ذلك الشرط، إِمَّا أن يكون صحيحاً أو فاسداً، فإن كان صحيحاً فالعقد صحيح لا محالة، وإن كان فاسدا فلا يخلو، إما أن يكون شيئاً لا يفرد بالعقد، وإما أن يكون شيئاً يفرد بالعقد، فإن كان الأول نظر إن لم يتعلق به غرض يورث تنافساً وتنازعاً، فلا يؤثر ذلك في العقد على ما سبق. قال الإمام: ومن هذا القبيل ما إذا عين الشُّهود لتوثيق الثمن، وقلنا: إنهم لا يتعينون فلا يفسد به العقد؛ لأنا إذا ألغينا تَعْيين الشُّهود فقد أخرجناه، عن أن يكون من مقاصد العقد، وإن تعلّق به غرض فسد العقد بفساده للنهي عن بيع وشرط (¬1)، ولأنه يفضي إلى المُنَازعة، ولأنه يوجب الجَهْل بالعِوَض، وكل ذلك قد تقدم. ¬
وعن أبي ثَوْرٍ رواية قول: أن فساد الشرط لا يتعدى إلى فساد العقد بحال، لقصّة بريرة، فإنه -صلى الله عليه وسلم- أنكر على الشرط وأبطله ولم يفسد العقد. وإن كان مما يفرد بعقد كالرهن والكفيل، فهل يفسد البيع بشرطهما على نعت الفساد؟ فيه قولان: أظهرهما: وبه قال أبو حنيفة: نعم كسائر الشروط الفاسدة. والثاني: وبه قال المُزَنِيُّ: لا؛ لأنه يجوز إفراده عن البيع، فلا يوجب فساده فساد البيع كالصداق في النِّكَاح لا يوجب فساده فساد النكاح. إذا عرفت ما ذكرناه عرفت أن قوله في الكتاب: "ومهما فسدت هذه الشرائط فسد بفسادها العقد" غير مجرى على إطلاقه. وأما قوله: "والأصح أن شرط نفي خيار المجلس والرؤية فاسد"، فلا يخفى أنه ليس له كبير تعلّق بهذا الموضع. ثم فقهه أنه إذا باع شيئاً بشرط نفي خيار المجلس وقبله المشتري، هل يصح هذا الشرط؟ فيه طريقان: أظهرهما: أن المسألة على قولين: أحدهما: أنه يصح لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "المُتَبَايعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ" (¬1). وأراد البيع الذي يغني عنه الخيار، واستثناه من قوله: "الخيار". وأصحهما: أنَّه لا يَصِحُّ. لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "المُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَتَخَايَرا" (¬2). وهذا ما نص عليه في البُوِيطي والقديم. وقوله: "إلاَّ بيع الخيار" المراد منه أن يقطعا الخيار بعد العقد وهو التَّخاير، وقيل: أراد إلاَّ بيعاً شرط فيه الخيار، فإن الخيار في ذلك البيع يبقى بعد التفرق، والاستثناء على هذا راجع إلى قوله: "ما لم يتفرقا". والطريق الثاني: القطع بالقول الثاني، إليه ذهب أبو إسحاق بعدما كان يقول بطريقة القولين. فإن صححنا الشرط صح البيع ولزم، وإن أفسدنا الشرط، فهل يفسد البيع؟ فيه وجهان: ¬
أصحهما: نعم؛ لأنه شرط يُنَافي مقتضى العقد، فأشبه ما إِذَا قال: بِعْتُك بشرط أن لا أسلمه، وإذا سلكت سبيل الاختصار قلت في المسألة ثلاثة أقوال أو وجوه: أصحهما: فساد الشرط والعقد جميعاً. ولو شرط نفي خِيَار الرُّؤية على قول صحَّة بيع الغائب، فقد طرد الإمام وصاحب الكتاب فيه الخلاف، والأكثرون قطعوا بأنه فاسد مفسد. والفرق أنه لم ير المبيع ولا عرف حاله، فنفي الخيار فيه يؤكد الغَرَر، ونفي خيار المجلس لا يمكن غَرَراً بل هو مُخِلٌّ لمقصود العقد، وإنما أثبته الشَّرْع على سبيل التَّخْفيف رفقاً بالمتعاقدين، فجاز أن لا يقدح نفيه. وقوله في الكتاب: "والأصح أن نفي خيار المجلس" أراد الأصح من الوجوه جواباً على طريقة إِثْبَات الخلاف في الصُّورتين، وهذا الخلاف شبيه بالخلاف في البيع، بشرط البَرَاءة من العيوب وسيأتي من بعد. ويتفرَّع على هذا الخلاف ما إذا قال لعبده: إذا بعتك فأنت حُرٌّ ثُمَّ باعه بشرط نفي الخيار. فإن قلنا: البيع باطل أو قلنا: الشرط أيضاً صحيح لم يعتق. أما على التقدير الأول، فلأن اسم المبيع يقع على الصحيح ولم يوجد. وأما على الثاني، فلأن ملكه قد زال والعقد قد لزم، ولا سبيل إلى إعتاق ملك الغير. وإن قلنا: إن العقد صحيح والشرط فاسد عتق لبقاء الخِيَار ونفوذ العِتْق من البائع في زمن الخيار. وعند أَبِي حَنِيفة، ومالك؛ لا يعتق إلاّ أن يبيع بشرط الخيار، لأن خيار المجلس غير ثابت عندهما. قال الغزالي: وَالعَقْدُ الفَاسِدُ لاَ يُفِيدُ المِلْكَ (ح) وَإِنْ اتَّصَلَ القَبْضُ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةٌ فَوَطِئَهَا وَجَبَ المَهْرُ وَثَبَتَ النَّسَبُ لِلشُّبْهَةِ، وَالوَلَدُ حُرٌّ. قال الرافعي: إذا اشترى شيئاً شراء فاسداً بشرط فاسد أو بسبب آخر، ثم قبضه لم يملكه بالقبض، ولا ينفذ تصرفه فيه، وبه قال أحمد ومالك. وقال أبو حنيفة: إن اشترى مَا لاَ قيمة له كالدّم والمَيْتة فالحكم كذلك، فإن اشتراه بشرط فاسد، وبما له قيمة في الجملة كالخَمْر والخِنْزِير، ثم قبض المبيع بإذن البائع ملكه ونفذ تصرفه فيه، لكن للبائع أن يستردّه بجميع زوائده، ولو تلف في يده أو زال ملكه عنه ببيع أو هِبَة أو إِعْتَاق فعليه قيمته، إلاَّ أن يشتري عبداً بشرط العتق، فإنه قال: يفسد العقد، وإذا تلف في يده فعليه الثمن.
لنا أنه بيع مسترد بزوائده المُتَّصلة والمُنْفصِلة فلا يثبت الملك فيه للمشتري، كما لو أشترى بدم أو ميتة. إذ تَقَرَّرَ ذلك فعلى المُشْتَرِي رَدُّ المقبوض بالبيع الفاسد ومؤنة رده كالمَغْصُوب، ولا يجوز حبسه لاسترداد الثمن، ولا يتقدم به على الغُرَمَاء خلافاً لأبي حنيفة في المسألتين. وحكى القاضي ابن كَجٍّ مثله وجهاً عن الإصْطَخْري، ونقل القاضي حسين عن نَصِّ الشَّافعي -رضي الله عنه- جواز الحبس، والَظاهر الأول، ويلزمه أُجْرة المِثْل للمدة التي كان في يد سواء استوفى المنفعة أو تلفت تحت يده أو بقيت في يده، فعليه أَرْشُ النُّقْصان، وإن تلف فعليه قيمته أكثر ما كانت من يوم القبض إلى يوم التَّلف كالمغصوب؛ لأنه مخاطب كل لحظة من جهة الشرع برده. وفيه وجه آخر: أنه تعتبر قيمته يوم التَّلَف كالعَارِيَة. وعن الصَّيْدَلاَنِيّ، وغيره حكاية وجه ثالث: أنه يعتبر قيمته يوم القبض، وقد يعبر عن هذا الخلاف بالأقوال. وما حدث في يده من الزوائد المُنْفصلة كالولد والثَّمرة، والمُتّصلة كتعلّم الحِرْفة، والسِّمن مضمون عليه كزوائد المغصوب وفيه وجه: أنه لا يضمن الزيادة عند التلف. ولو أَنْفق على العبد المبيع مدة لم يرجع بها على البائع، إن كان عالماً بفساد البيع، فإن كان جاهلاً فعن الصَّبْعَرِي أنه على وجهين: ولو كان المبيع جَارِية فَوَطِئَهَا المشتري، فإن كانا جاهلين فلا حَدَّ ويجب المَهْر، وإن كانا عالمين وجب الحَدّ. وإن اشتراها بميتة أو دم أو خمر أو بشرط فاسد لم يجب لاختلاف العلماء كالوَطْءِ في النِّكَاح بلا ولي ونحوه. قال الإمام: ويجوز أن يقال: يجب الحد، لأن أبا حنيفة لا يبيح الوطء، وإن كان يثبت الملك بخلاف الوَطْء في النكاح بلا ولي. وإذا لم يجب الحَدّ يجب المَهْر، ولا عبرة بالإذن الذي يتضمنه التمليك الفاسد، وإن كانت بِكراً وجب مع مهر البِكْر أرْش البكارة. أما: مَهْر البكر فللاستمتاع بها. وأما الأَرْش فَلإتْلاف ذلك الجزء. ولو استولدها فالولد حُرٌّ للشُّبْهَة، وعليه قيمته إن خرج حيّاً باعتبار يوم الوضع، وتستقر القيمة عليه بخلاف ما لو اشترى جارية واستولدها، فخرجت مستحقّة يغرم قيمة
الولد ويرجع على البائع لأنه غره، ثم الجارية لا تصير أم ولد في الحال، فإن ملكها يوماً من الدهر ففيه قولان: وإن دخل على الأم نقض بالحمل، أو الوضع وجب الأرش، وإن خرج الولد ميتاً فلا قيمة، لكن إن سقط بجناية جان وجبت الغرّة على عَاقِلَةِ الجَانِي، وعلى المشتري أقلّ الأمرين من قيمة الولد يوم الولادة والغُرّة، ويطالب به المالك من شاء من الجاني والمشتري، ولو ماتت في الطَّلْق لزمه قيمتها، وكذلك لو وطئ أَمَةَ الغَيْر بالشُّبهة فأحبلها فماتت في الطَّلْق، وهذه الصورة وأخواتها مذكورة في "باب الرَّهْن" في الكتاب، وسنقف على شرحها إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى. ولو اشترى شيئاً فاسداً ثم باعه من آخر، فهو كالغاصب يبيع المغصوب، فإن حصل في يد الثاني فعليه رده إلى المالك، فإن تلف في يده نظر إن كانت قيمته في يديهما سواء، أو كانت في الثاني أكثر رجع المالك بالجميع على من شاء منهما، والقرار على الثاني لحصول التلف في يده، وإن كانت القيمة في يد الأول أكثر، فضمان النقصان على الأول، يرجع به على أيهما شاء، والقرار على الثَّاني لحصول التَّلَفِ في يده، وكل نقص حدث في يد الأوَّل لا يكون الثَّاني مطالباً به، وكل نقص حدث في يد الثَّاني يكون الأول مطالباً به ويرجع على الثاني، وكذلك حكم أُجْرة المِثْل والله أعلم هنا. قال الغزالي: وَلاَ يَنْقَلِبُ العَقْدُ صَحِيحاً، بِخِلاَفِ الشَّرْطِ وإنْ كَانَ فِي المَجْلِسِ (ح)، وَلاَ يَصِحُّ شَرْطُ أَجَلٍ (ح) وَخِيَارٍ وَزِيَادةِ ثَمَنٍ (ح) وَمثَمَّنٍ بَعْدَ لُزُومِ العَقْدِ، وَالأقْيَسُ مَنْعُهُ أَيْضاً في حَالَةِ الجَوَازِ. قال الرافعي: هذه البقية تشتمل على مسألتين: إحداهما: لو فسد البَيْع بشرط فاسد ثم حذفا الشرط لم ينقلب العقد صحيحاً، سواء كان الحَذْف في المجلس أو بعده. وعن أبي حنيفة أنه إن كان الحَذْف في المجلس انعقد صحيحاً، ولنا مثله وجه نذكره بما فيه في "كتاب السّلم" -إن شاء الله تعالى-. واحتج الأصحاب بأن العَقْد الفاسد لا عبرة به، فلا يكون لمجلسه حكم بخلاف العقد الصحيح. الثانية: لو زاد في الثَّمن أو المثمن، أو زاد شرط الخيار أو الأجل، أو قدرهما نظر إن كان ذلك بعد لزوم العقد لم يلتحق بالعقد؛ لأن زيادة الثَّمن لو التحقت بالعقد، لوجبت على الشَّفيع كأصل الثَّمن ولا يجب، وكذا الحكم عندنا في رأس المَال السلم والمسلم فيه والصَّداق وغيرها، وكذا الحَطُّ عندنا لا يلتحق بالعَقْد، حتى يأخذ الشفيع
بما سمى في العقد لا بما بقي بعد الحَطْ. وعند أبي حنيفة: الزيادة في المثمّن والصَّدَاق ورأس المال السّلم تلزم، وكذا في الثَّمن إن كان باقياً، وإن كان تالفاً فله مع أصحابه اختلاف فيه، ولا يثبت في المسلم فيه على المشهور، وشرط الأجل يلتحق بالعَقْد في الثمن والأجرة والصداق وسائر الأعواض، قال: وأما الحطُّ فإن الحط نقص يلتحق بالعقد دون حَطِّ الكل. وإن كانت هذه الإِلْحَاقات قبل لزوم العقد، فإن كانت في مجلس العقد أوْ فِي زمان الخيار المشروط ففيه أوجه: أحدها: أنها لا تلتحق لتمام العقد كما بعد اللّزوم، وهذا أقيس عند صاحب الكتاب، وفي "التتمة" أنه الصحيح. والثاني عن أبي زيد والقَفَّال: أنها تلتحق في خيار المجلس دون خيار الشَّرْط؛ لأن مجلس العقد كنفس العقد، ألا ترى أنه يصلح لتعيين رأس مال السلم والعوض في عقد الصرف بخلاف زمان الخيار المشروط؟ وأصحهما عند الأكثرين: أنها تلتحق إمَّا في مجلس العقد فلما ذكرنا، وإمَّا في زمان الخيار المشروط فلأنه في معناه من حيث إن العقد غير مستقر بعد، والزيادة قد يحتاج إليها لتقرير العَقْد، فإن زيادة العوض من أحدهما، تدعو الآخر إلى إمضاء العقد، ويؤيد هذا الوجه أن الشافعي -رضي الله عنه- نص في كتاب "السلم"؛ أنه لو أطلق السلم ثم ذكر الأجل قبل التَّفريق صح ولزم، ثم هذا الجواب مطلق أم هو مخصوص ببعض الأقوال في الملك في زمن الخيار؟ اختار العراقيون أنه مطلق، وحكوا عن أبي علي الطَّبَرِي أنه مفرع على قولنا: إن الملك في زمان الخِيَار للبائع. فأما إذا قلنا: إنه للمشتري، أو قلنا: إنه موقوف وأمضينا العقد لم يلتحق بما بعد اللزوم. وإن قلنا: إنه موقوف واتفق الفسخ فَلْيَلْتَحِقْ ويرتفع بارتفاع العقد، وهذا ما اختاره الشَّيْخ أبو علي، ووجهه بأنَّا إذا قلنا: إن الملك للمشتري فالزيادة في الثمن لا يقابلها شيء من المثمن، وكذا الأجل والخيار لا يقابلهما شيء من العوض، وحينئذ يمتنع الحكم بلزومهما وهو تابعه صاحب "التهذيب" وغيره على ما اختاره. وإذا قلنا: إنها تلتحق، فالزيادة تجب على الشَّفيع كما تجب على المشتري، وفي الحطِّ قبل اللزوم مثل هذا الخلاف، فإن التحق بالعقد انحطَّ عن الشفيع أيضاً، وعلى هذا الوجه ما يلتحق بالعقد من الشروط الفاسدة قبل انقضاء الخيار بمثابة ما لو اقترنت
بالعقد في إفساده، وإن حطّ جميع الثمن كان كما لو باع بلا ثمن -والله أعلم-. قال الغزالي: القِسْمُ الثَّانِي مِنَ المَنَاهِي مَا لاَ يدُلُّ عَلَى الفَسَادِ وَهُوَ كُلُّ مَا نُهِيَ عَنْهُ لِمجَاوَرَةِ ضَرَرِ إيَّاهُ دُونَ خَلَلِ فِي نَفْسه، وَمِنْهُ النَّهْيُ عَنِ الاحْتِكَارِ، (¬1) وَالتَّسْعِيرِ. قال الرافعي: أما ترجمة القسم فقد مرَّ ما فيها في أول الباب. وأما: فِقْهُ الفَصْل فمسألتان: إحداهما: الاحتكار مَنْهِيٌّ عنه ثم هو مكروه أو محرَّم. قال بعض الأصحاب: إنه مكروه. والأصح: التحريم؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطئٌ" (¬2) أَيْ: آثِمٌ. وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الجَالِبُ مَرْزَوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ" (¬3). وروي أيضاً "مَنِ احْتَكَرَ الطَّعَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللهِ وَبَرِئَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ" (¬4). والاحتكار: أن يشتري ذو الثروة الطعام في وقت الغلاء، ولا يدعه للضُّعَفاء ويحبسه ليبيعه منهم بأكثر عند اشْتِدَاد حاجاتهم. ولا بَأْس بالشِّرَاء في وقت الرُّخص ليبيع في وقت الغلاء ولا أن يشتري في وقت الغلاء لنفقة نفسه وعياله، ثم لو فضل شيء فيبيعه في وقت الغلاء، ولا بأن يمسك غَلَّة ضَيْعَته ليبيع في وقت الغلاء، ولكن الأولى أن يبيع ما فضل عن كفايته، وهل يكون إمساكه مكروهاً؟ ذكروا فيه وجهين، وتحريم الاحتكار يختص بالأَقْوات، ومنها التَّمر والزَّبيب ولا يعم جميع الأطعمة. ¬
الثانية: لا ينبغي للإمام أن يُسَعِّر "رُوِيَ أَنَّ السِّعْرَ غَلاَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ: سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ المُسَعِّرُ الْقَابضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ ألْقَى رَبِّي، وَلَيْسَ أحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلمَةٍ بدَمٍ وَلاَ مَالٍ". وهل يجوز ذلك؟ إنْ كان في وقت الرُّخص فلا، وإن كان في وقت الغلاء فوجهان؟ أحدهما، وبه قال مالك: يجوز رِفْقاً بالضُّعفاء. وأصحهما: أنه لا يجوز تَمْكيناً للنَّاس من التَّصرف في أموالهم؛ ولأنهم قد يمتنعون بسبب ذلك عن البيع فيشتد الأمر. وعن أبي إسحاق: أنه لو كان يجلب الطَّعَام إلى البَلَدِ فالتَّسعير حرام، وإن كان يزرع بها وهو عند الغلاء فيها فلا يحرم. وحيث جوزنا التَّسْعير فذلك في الأَطْعمة، ويلتحق بها عَلَف الدَّوَاب في أظهر القولين. وإذا سَعَّر الإمام عليه فخالف استحق التَّعْزِير، وفي صحة البيع وجهان منقولان في "التتمة". قال الغزالي: وإنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَهُوَ أَنْ يَتَرَبَّصَ بِسِلْعَتِهِ اِلَي أَنْ يُغَالَي في ثَمَنِهَا فَيَفُوتَ الرِّزقُ وَالرِّبْحُ عَلَى النَّاسِ. قال الرافعي: عن جابر وأبي هريرة -رضي الله عنهما- أن النّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يَبعِ حاضِرٌ لِبَادٍ" (¬1). وصورته: أن يحمل البَدَوِي (¬2) أو القُرَوِيّ متاعه إلى البلد، ويريد بيعه بسعر اليوم ليرجع إلى موضعه، ولا يلتزم مُؤْنَة الإقامة، فيأتيه البلدي ويقول: ضع متاعك عندي وارجع لأبيعه لك على التَّدريج بأغلى من هذا السعر. وهو مأثوم به بشروط: أحدها: أن يكون عالماً بورود النَّهْي فيه، وهذا شرط يعم جميع المَنَاهي. ¬
وثانيها: أن يظهر من ذلك المتاع سعة في البلد، فإن لم يظهر إما لكبر البلد وقلة ذلك الطعام، أو لعموم وجوده أو رخص السعر فيه، ففيه وجهان: أوفقهما لمطلق الخبر: أنه يحرم. والثَّاني: لا؛ لأن المَعْنَى المُحَرَّم تفويت الرّفق والرِّبْح على النَّاس، وهذا المعنى لم يوجد هاهنا. وثالثها: أن يكون المَتَاع المَجْلُوب مما تعمّ الحاجة إليه كالقُوت والأَقِط وسائر أطعمة القُرئ. فأما ما لا يحتاج إليه إلا نادراً فلا يدخل تحت النهي، قاله في "التهذيب". ورابعها: أن يعرض الحَضَرِي ذلك على البَدَوِي ويدعوه إليه. فأما إذا الْتَمس البدوي منه بيعه تدريجاً، أو قصد الإقامة في البلد ليبيعه كذلك، فسأل البدوي تفويضه إليه فلا بأس به؛ لأنه لم يضر بالناس، ولاسبيل إلى مَنْعِ المالك عنه، لما فيه من الإضرار به. ولو أن البَدَوِي اسْتَشَار الحَضَري فيما فيه حظه، فهل يرشده إلى الادِّخار والبيع على التدريج؟ حكى القاضي ابن كَجٍّ عن أبي الطيب بن سلمة، وأبي إسحاق المَرُوزِيّ: أنه يجب عليه إرشاده إليه بذلاً للنصيحة. وعن أبي حَفْص بْنِ الوَكِيل: أنه لا يرشده إليه توسيعاً على الناس. ثم لو باع الحَضَرِي لِلْبَدَوِي عند اجتماع شرائط التحريم صح البيع وإن أثم، واحتج الشَّافعي -رضي الله عنه- بما روي في بعض الروايات أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في آخر الخبر: "دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللهُ عزَّ وَجَلَّ بَعْضُهْمْ مِنْ بَعْضٍ". ولولا صحة البيع، لما كان في فعله تفويت على الناس. قال الغزالي: وإنْ يَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ وَيَكْذِبَ في سِعْرِ سِلْعَتِهِمْ فَيَشْتَرِيَهَا رَخِيصاً فَلِلْبَائِعِ الخِيَارُ إِذَا عَرَفَ كَذِبَهُ؛ لأَنَّهُ تَغرِيرٌ. قال الرافعي: روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ لِلْبَيْعِ"، وفي رواية "فَمَنْ تَلَقَّاهَا فَصَاحِبُ السِّلْعَةِ بِالْخِيَارِ بَعْدَ أَنْ يَقْدُمَ السُّوقَ" (¬1). ¬
وصورته أن يتلقى الإنسان طائفة (¬1) يحملون متاعاً إلى البلد فيشتريه منهم قبل قدوم البلد ومعرفة سعره، فيأثم إن كان عارفاً بالخبر قاصداً لتلقي الرُّكْبَان، لكن البيع صحيح، ولا خيار لهم قبل أن يقدموا ويعرفوا السِّعْر، وبعده يثبت الخِيَار إن كان الشِّرَاء بأرخص من سعر البلد، سواء أخبر كاذباً أو لم يخبر، وإن كان الشِّرَاء بسعر البلد، أو أكثر ففي ثبوت الخِيَار وجهان: أحدهما: يثبت وبه قال الإصْطَخري وابن الوَكِيل لظاهر الخبر. وأصحهما: لا يثبت؛ لأنه لم يوجد تَغْرِيرٌ وَخِيَانَة، وأجرى الوجهان فيما إذا ابتدأ الباعة والتمسوا منه الشراء عن علم منهم بسعر البلد أو غير علم. ولو لم يقصد التَّلقي، بل خرج لشغل آخر من اصْطياد وغيره، فرآهم مقبلين فاشترى منهم شيئاً، فهل يعصى؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه لم يَتَلَقَّ. وأظهرهما عند الأكثرين: نعم لشمول المعنى فعلى الأول لا خيار لهم وإن كانوا مَغْبُونِين. وقيل: إن أخبر عن السِّعر كاذباً ثبت الخيار، وحيث ثَبَتَ الخِيَار في هذه الصورة، فهو على الفور كخيار العيب أو يمتد ثلاثة أيام، فيه وجهان كما في خيار التَّصْرِية. أصحهما: أولهما. ولو تلقى الرُّكْبَان، وباع منهم ما يقصدون شراءه في البلد، فهل هو كالتّلقي للشراء؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن النَّهي إِنَّما ورد عن الشِّرَاء. والثَّاني: نعم؛ لما فيه من الاسْتِبْداد بالرِّفق الحاصل منهم. وعن مالك: أن البَيْع باطل في صورة تَلَقِّي الرُّكبان، وكذلك بيع الحَاضر للبادي. فيجوز أنْ يعلّم الفصلان بالميم إشارة إليه، وبمثله قال أحمد في بيع الحاضر للبادي. وإذا تأملت ما أوردناه عرفت أن قوله في الكتاب: "ويكذب في سعر سلعتهم" ليس بشرط في ثبوت الخيار. -والله أعلم-. قال الغزالي: وَنَهيٌ عَنِ السَّوْمِ عَلَى السَّوْمِ، وَهُوَ بَعْدَ قَرَارِ الثَّمَنِ وَقَبْلَ العَقْدِ، وَنَهْيٌ ¬
عَنِ البَيْعِ عَلَى البَيْعِ، وَهُوَ بَعْدَ العَقْدِ وَقَبْلَ اللُّزوُمِ، وَنَهْيٌ عَنِ النَّجَشِ، وَهُوَ أَنْ يَرْفَع قِيمَةَ السِّلْعَةِ وَهُوَ غَيْرُ رَاغِبٍ فِيهَا لِيَخْدَع المُشْتَرِيَ بالتَّرْغِيبِ. قال الرافعي: مقصود الفصل الكلام في ثلاثة من المَنَاهي في البيع: أحدها: روي عن ابْن عمر وأبي هريرة -رضي الله عنهم- أن النّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَسُومُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ" (¬1). وصورته: أن يأخذ شيئاً ليشتريه، فيجيء غيره إليه ويقول: ردَّه حتى أبيع منك خيراً منه بأرخص، أو يقول لمالكه: استرده لأشتريه منك بأكثر، وإنما يحرم ذلك بعد استقرار الثمن. فأما ما يطاف به فيمن يزيد وطلبه طالب، فلغيره الدخول عليه والزيادة في الثمن. روي "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَادَى عَلَى قَدَحٍ، وَجَلَسَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ: هُمَا عَلَيَّ بِدِرْهَم، ثُمَّ قَالَ آخَرُهُمَا عَلَيَّ بِدِرْهَمَيْنِ فَقَالَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "هُمَا لَكَ بِدِرْهَمَيْنِ" (¬2). وإنما يحرم إذا حصل التَّرَاضي صريحاً، فإن جرى ما يدل على الرِّضَا، ففي تحريم السَّوْم على سَوْم الغَيْرِ وجهان كالقولين في تحريم الخِطْبة في نظيره. والجديد: أنه لا يحرم. وهل السكوت من أدلة الرِّضا إذا لم يقترن به ما يشعر بالإنكار. فأما في الخطبة فنعم. وأما هاهنا قال الأكثرون: لا. بل هو كالتَّصريح بالرد، وعن بعضهم: أنه كما في الخِطْبة حتى يخرج علي الخلاف. وثانيها: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يَبعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ" (¬3). وصورته: أن يشتري الرجل شيئاً، فيدعوه غيره إلى الفَسْخ ليبيعه خيراً منه ¬
بأرخص، وفي معناه الشراء على الشراء، وهو أن يدعو البائع إلى الفسخ ليشتريه منه بأكثر. ولا شك أن ذلك إنَّمَا يكون عند إمكان الفسخ. ثم الشافعي -رضي الله عنه- صوره فيما إذا كان المُتَبَايعان في مجلس العقد بعد، وعليه جرى كثير من الشارحين، ونقلوا عن أبي حنيفة أن المراد من البيع على البيع هو السَّوْم؛ لأن عنده خيار المجلس لا يثبت، فلا يتصور البيع على البيع. وقال قائلون: مُدَّة الخِيَار المشروط كزمان المجلس، وهذا هو الوجه. وقوله في الكتاب: "وقيل: اللزوم" يبطل الخيارين جميعاً. وشرط القاضي ابن كَجٍّ لتحريم البيع على البيع شرطاً، وهو أن لا يكون المشتري مَغْبُوناً غبناً مفرطاً، فإن كان فله أن يعرفه ويبيع على بيعه، لأنه ضرب من النَّصيحة. قالوا: ولو أَذِنَ البائع في البيع على بيعه، ارتفع التحريم خلافاً لبعض الأصحاب. وثالثها: عن ابن عمر "أَنْ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ النَّجَشِ" (¬1). وصورته: أن يزيد في ثمن السِّلْعة المعروضة للبيع وهو غير راغب فيها ليخدع الناس ويرغبهم فيها فهو محرم؛ لما فيه من الخديعة، لكن لو انخدع إنسان واشتراها صح العقد، ولا خيار له إن لم يكن ما فعله النَّاجش عن مُوَاطَاَة البائع، وإن كان عن مواطأته فوجهان: أحدهما، وبه قال أبو إسحاق: أنه يثبت الخيار لِلتَّدْلِيس كما في التَّصْرَية. وأشبههما عند الأئمة، وبه قال ابن أبي هريرة: أنه لا خيار؛ لأن التفريط من جهته حيث اغتَرَّ بقوله ولم يحتط بالبحث عن ثقات أهل الخبرة، وتخالف سورة التَّصرية إذ لا تفريط من المشتري. وقد حكى صاحب الكتاب هذين الوجهين في فصول خيار النَّقيصة، وجعل وجه ثبوت الخيار أقيس. ولو قال البائع: أعطيْتُ بهذه السِّلْعة كذا، فصدّقه المشتري واشتراه ثم بَانَ خلافه، فإن ابن الصَّبَّاغ خَرَّج ثبوت الخيار له على هذين الوجهين. وعن مالك: أن شراء المُنْخَدع في صورة النَّجَش غير صحيح، وهو رواية عن أحمد ضعيفة. واعلم: أن الشافعي -رضي الله عنه- أطلق القول في "المختصر" بَتَعْصِية ¬
الناجش، وشرط في تَعْصية من باع على بيع أخيه أن يكون عالماً بالحديث الوارد فيه. قال الشارحون: السبب فيه أن النجش خديعة، وتحريم الخديعة واضح لكل أَحَدٍ، ومعلوم من الألفاظ العامة، وإن لم يكن يعلم هذا الخبر بخصومه، والبيع على بيع الأخ إنما عرف تحريمه من الخبر الوارد فيه، فلا يعرفه مَنْ لا يعرف الخبر (¬1). وذكر بعضهم: أن تحريم الخِدَاع يعرف بالعَقْل وإن لم يرد شَرْع. ولك أن تقول: كما أن النَّجَش خديعة فالبيع على بيع الأخ إضرار، وكما أن تحريم النَّجَش يعرف من الأَلفاظ العامة في تحريم الخِدَاع، فكذلك تحريم البَيْع على البَيْع يعرف من الألفاظ العامة في تحريم الإضرار، وإن لم يعلم الخبر الوارد فيه بخصومه. وأما الكلام الثاني فليس معتقدنا، ومن قال به فقد يَطْرُدُه في الإِضْرار. والوجه: توقيف المَعْصِية على مطلق معرفة الحُرْمة، إمَّا من عموم أو من خصوص. قال الغزالي: وَنَهْيٌ أَنْ تُولَهَ وَالدَةٌ بِوَلَدِهَا وَذَلِكَ فِي الصَّغِيرِ، فَإِنْ فُرِّق بَيْنَهُمَا بِالبَيْعِ فَفِي فَسَادِ الَبيْعِ قَوْلاَنِ، لأَنَّ التَّسْلَيمَ تَفْرِيقٌ مُحَرَّمٌ فَكَأنَّهُ مُتَعَذِّرٌ. قال الرافعي: عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لاَ تُولَهُ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا" (¬2). وعن أبي أيوب -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَولَدهَا فَرَّقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (¬3). وعن عبادة بن الصَّامت -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الأُمِّ وَوَلَدِهَا، قِيلَ إِلَى مَتَى؟ قَالَ: حَتَّى يَبْلُغَ الْغُلاَمُ وَتَحِيضَ الْجَارِيَةُ" (¬4). فهذه الأخبار ونحوها عَرَّفتنا تحريم التفريق بين الجارية وولدها الصغير بالبيع ¬
والقِسْمة والهِبَة وغيرها، ولا يحرم التّفريق في الْعِتق، ولا في الوصية، فلعل الموت يكون بعد انْقضاء زمان التحريم. وفي الرد بالعيب اختلاف للأصحاب، وعن الشيخ أبي إسحاق الشِّيْرَازِيّ: أنه لو اشترى جَارِيَة وولدها الصغير، ثم تَفَاسخا البيع في أحدهما جاز، وحكم التّفريق في الرهن مذكور في "كتاب الرَّهْن" (¬1). وإذا فرق بينهما بالبيع والهِبَة ففي الصحة قولان: أحدهما: يصح، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن النهي لما فيه من الإضرار لا يحلل في نفس البيع. وأصحهما: المنع؛ لما روي عن علي -رضي الله عنه- أنه "فَرَّق بَيْنَ جَارِيَةٍ وَوَلَدِهَا فَنَهَاهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلكَ وَرَدَّ الْبَيْعَ (¬2) ". ولأن التسليم تفريق محرم فيكون كالمتعذر، لما مر أن العجز قد يكون حِسِّياً وقد يكون شَرْعياً. وحكى أبو الفرج البَزَّازُ أن القولين فيما إذا كان التفريق بعد سقي الأم ولدها اللّباء، فأما قبله فلا صحة جزماً؛ لأنه تسبب إلى هلاك الولد، إلى متى يَمْتدُّ تحريم التفريق؟ فيه قولان: أحدهما: إلى البلوغ، وبه قال أبو حنيفة لخبر عبادة. وأظهرهما: وهو الذي نقله المزني: أنه إلى سنِّ التَّمْيِيز، وهو سبع أو ثمان على التَّقريب، لأنه حينئذ يستغنى عن التَّعَهُّد والحَضَانة، ويقرب من هذا مذهب مالك، فإن عنده يمتد التحريم إلى وقت سقوط الأسنان. وقوله في الكتاب: "وذلك في الصغر" يوافق القول الأول لفظاً، ويكره التفريق بعد البلوغ، ولكن لو فرق بالبيع أو الهبة صح خلافاً لأحمد. ولو كانت الأم رقيقة والولد حُرّاً، وبالعكس فلا مَنْعَ من بَيْعِ الرَّقيق ذكره في "التَّتمة"، والتَّفْريق بين البَهِيمة وولدها بعد استغنائه عن اللّبن جائز. وعن الصَّيْمَرِي حكاية وجه آخر (¬3). وهل الجدّة والأب وسائر المحارم كالأم في تحريم التَّفْريق؟ هذه الصُّورة مذكورة ¬
في كتاب السِّير وسنأتي في الشرح عليها -إن شاء الله تعالى - والآن نختم الباب بذكر أنواع أخر ورد النهي عنها. منها: ما هو مِنَ القسم الأول. ومنها: ما هو من القسم الثاني، فما هو من القبيل الأول بيع المُحَاقَلَة والمُزَايَنَة وسنذكرهما. ومنها: ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَجَرِ" (¬1). وفسره أبو عبيدة بما في الرحم. وقيل: وهو الزِّنَا. وقيل: للحاملة والزَّان. ومنها: ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعُرْيَانِ" (¬2) ويقال له: العَرْبُون أيضاً، وصورته: أن يشتري سلعة من غيره، ويدفع إليه دراهم على أنه إن أخذ السّلْعة فهي من الثمن، وإلاَّ فهي للمدفوع إليه مجاناً، وتفسر أيضاً بأن تدفع الدراهم إلى صانع ليعمل له ما يريده من خاتم يصوغه، أو خف يخرزه أو ثوب ينسجه على أنه إن رضيه فالمَدْفُوع من الثمن، وإلاَّ لم يسترده منه وهما متقاربان. ومنها: ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ" (¬3). وله تفسيران: أحدهما: أن يبيع ثمرة النَّخْل سِنين. والثَّاني: أن يقول: بعتك هذه السنة على أنه إذا انقضت السَّنة فلا بيع بيننا، فأردُّ أنا الثمن، وترد أنت المبيع. ومنها: ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ" (¬4). وهو البيع بشرط القرض وقد مر. ومنها: ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "نَهَى عَنْ ثَمَنِ الهِرَّةِ" (¬5). قال القفال: أراد الهِرّة الوَحْشِيّة، إذ ليس فيها منفعة اسْتِئنَاس ولا غيره. ومنها: بيع السِّلاح من أهل الحرب لا يصح، لأنه لاَ يُرَاد إلا للقتال، فيكون بيعه منهم تقوية لهم على قتال المسلمين، ويجوز بيع الحديد منهم؛ لأنه لا يتعين لِلسِّلاح. ومنها: ما روي "أنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يُفْرَكَ" (¬6). "وَرُوِيَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ"، "وَعَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَنْجُوَ مِنَ ¬
الْعَاهَةِ" (¬1). وسيأتي القول فيها -إن شاء الله تعالى- ومما هو من قبيل القسم الثَّاني بيع الرطب والعنب ممن يتوهم أنه يتخذ منهما النَّبيذ والخمر مكروه (¬2)، وإن تحقَّق فمنهم من قال: مكروه ومنهم من قال: حرام، وعلى التقديرين فلو باع صح (¬3)، خلافاً لمالك، وكذا بيع السِّلاحَ من البُغَاة وقُطَّاع الطريق مكروه لكنه صحيح، ويكره مبايعة من اشتملت يده على الحلال والحرام، سواء كان الحلال أكثر أو بالعكس، ولو بايعه لم يحكم بالفساد (¬4). وعن مالك أن مبايعة من أكثر ماله حرام باطل. وليس من المَنَاهي بيع العِيْنَة (¬5)، وهي أن يبيع شيئاً من غيره بثمن مؤجل ويسلمه ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إلى المشتري، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بأقل من ذلك نقداً، وكذا يجوز أن يبيع بثمن نقداً ويشتري بأكثر منه إلى أجل، سواء قبض الثمن الأول أو لم يقبضه. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد -رضي الله عنهم-: لا يجوز أنْ يشتري بأقل من ذلك الثَّمن قبل قبضه، وجَوَّز أبو حنيفة أن يشتري بسلعة قيمتها أقل من قدر الثمن. لنا أنه ثمن يجوز بيع السلعة به من غير بائعها، فيجوز من بائعها كما لو اشتراه بسلعة أو بمثل ذلك الثمن أو أكثر، ولا فرق بين أن يصير بيع العِيْنَة عادة غالبة في البلد، أو لا يصير على المشهور. وأفتى الأستاذ أبو إسحاق والشيخ أبو محمد بأنه: إذا صار عادة صار البيع الثاني كالمشروط في الأول، فيبطلان جميعاً، ولهذا نظائر سنُذْكرها في مواضعها -إن شاء الله تعالى- وليس من المناهي بَيْعُ رِبَاعِ مَكَّة حرسها الله تعالى بل هو جائز. وعن مالك وأبي حنيفة: أنه لا يجوز. لنا اتفاق الصحابة فمن بعدهم -رضي الله عنهم- عليه، وليس من المَنَاهي أيضاً بيع المصحف وكتب الحديث. وعن الصَّيْمَرِي: أن بيع المُصْحَف مكروه قال: وقد قيل إن الثمن يتوجه إلى الدَّقَّتَيْن، لأن كلام الله عز وجل لا يباع، وقيل: إنه بدل من أُجْرَة النَّسْع (¬1). ¬
الباب الرابع في الفساد من جهة تفريق الصفقة
الْبَابُ الرَّابعُ في الفَسَادِ مِنْ جِهَة تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ قال الغزالي: وَمَهْمَا بَاعَ الرَّجُلُ مِلْكَ نَفْسِهِ وَمِلْكَ غَيْرِهِ فَفِي صِحَّةِ بَيْعِهِ في مِلْكِهِ قَوْلاَنِ، وَلَوْ كَانَ مَا بَطُلَ البَيْعُ فِيهِ حُرّاً أَو خَمْراً أَوْ خِنْزِيراً أَوْ مَا لاَ قِيمَةَ لَهُ فَقَوْلاَنِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْليَ باِلبُطْلاَنِ، وَللْبُطْلاَنِ عِلَّتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنَّ الصِّيْغَةَ مُتَّحِدَةٌ فإذَا فَسَدَتْ فِي بَعْضِ المُقْتَضَيَاتِ لَمْ تَقْبَلِ التَّجَزِّيَ وَالأُخْرَي أَنَّ الثَّمَنِ فِيمَا يَصِحُّ يَصِيرُ مَجْهُولاً، وَعَلَى هَذِهِ العِلَّةِ لاَ يَمْتَنِعُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ في الرَّهْنِ وَالهِبةَ إِذْ لاَ عِوَضَ فِيهِمَا، وَلاَ في النِّكَاحِ فَإنَّهُ لا يَفْسَدُ بالجَهْلِ بالعِوَضِ. قال الرافعي: هذا باب التفريع، كثير التَّرَدُّد في قواعد الفقه ولطول تفاريعه لم ير المُزَنِيّ إيداع مسائله في "المختصر"، وبيض ورقة أو ورقتين ليلخصها، أو يقتصر على ذكر أوضح القولين فيها، ثم لم يتفق له ذلك فبقي في النسخ القديمة بعض البَيَاض. وللقفال وأصحابه تقسيم حَاضر لمسائل الباب في نهاية الحسن، إلاَّ أن إيراد الكتاب لا ينطبق عليه كل الانطباق، والتقسيم المناسب له أن يقال: إذ أجمع بين شَيْئين في صفقة واحدة لم يخل إما أن يجمع بينهما في عقد واحد، أو في عَقْدَيْن مختلفي الحكم. القسم الأول: أن يجمع بينهما في عقد واحد، فله حالتان: إحداهما: أن يقع التفريق في الابتداء. والأخرى: أن تقع في الانتهاء. فأما في الحالة الأولى: فينظر، إن جمع بين شيئين يمتنع الجمع بينهما من حيث هو جمع فلا يخفى بطلان العقد في الكل كما لو جمع بين أختين في النِّكاح، أو بين
خمس نسوة (¬1) وإن لم يكن كذلك، فإما أن يجمع بين شيئين كل واحد منهما قابل لما أورده عليه من العقد، وإما أن لا يكون كذلك، فَإِنْ كان الأول كما لو جمع بين عَيْنَيْن في البيع يصح العقد فيهما، ثم إنْ كان من جنسين كعبد وثوب، أو من جنس واحد، لكنهما مختلفا القيمة كَعَبْدَين وزِّع الثّمن عليهما باعتبار القيمة، وإن كانا مِنْ جنس واحد، وكانا مُتَّفقي القِيمة كَقَفِيزي حِنْطَة واحدة يوزع عليهما باعتبار الأجزاء، وإن كان الثاني: فإما أَنْ لا يكون واحد منهما قابلاً لذلك العقد، كما لو باع خمراً وميتة فلا يخفى حكمه. وإما أنْ يكون أحدهما قابلاً، فالذي هو غير قابل ضربان: أحدهما: أن يكون متقوّماً، كما لو باع عبده وعبد غيره صفقة واحدة، ففي صحة البيع في عبده قولان: أصحهما (¬2): وهو اختيار المُزَنِيّ أنه يصح، لأنه باع شيئين مختلفي الحكم، فيأخذ كل واحد منهما حكم نفسه كما لو باع شِقْصاً مشفوعاً وثوباً؛ ثبتت الشّفْعة في الشّقْص دون الثوب، وأيضاً فإن الصَّفْقة إذا اشتملت على صحيح وفاسد، فالعقد صحيح في الصحيح، وقصر الفساد على الفاسد، ومثلوا ذلك بما إذا شهد عَدْل وفاسق، لا يقضي برد الشهادتين ولا بقبولهما، بل تلك مقبولة وهذه مردودة. ولو قال قائل: قدم زيد وعمرو، وكان قدم زيد دون عمرو لا يقضي بالصدق ¬
فيهما ولا بالكذب فيهما، بل ذلك صدق وهذا كذب. والثاني: لا يصح لأحد معنيين. الأول: أن اللَّفْظَة واحدة فلا يتأتَّى تبعيضها، فإما أن يغلب حكم الحرام على الحلال أو بالعكس. والأول أولى، لأن تصحيح العقد في الحرام يمتنع، وإبطاله في الحلال غير ممتنع. والثاني: أنَّ الثَّمن المسمى يتوزَّع عليهما باعتبار القيمة، ولا يدرى حصة كل واحد منهما عند العقد، فيكون الثمن مجهولاً، وصار كما لو قال: بعتك عبدي هذا بما يقابله من الألف إذا وزع عليه، وعلى عبد فلان فإنه لا يصح، وهاتان العِلّتَان على ما حكاه أكثر النَّاقلين منسوبة إلى الأَصْحَاب، ولهم خلاف في أَنَّ العلة أيهما ورواهما القاضي ابن كَجّ عن الشَّافعي -رضي الله عنه-، وقال: له قولان في أن العِلَّة هذه أم هذه. والضرب الثاني: أَلاَّ يكون متقوماً، وهو على نوعين: أحدهما: أن يتأتى تقدير التَّقْويم فيه من غير فرض تغيير في الخِلْقة، كما لو باع حرّاً وعبداً، فإن الحر غير متقوم، لكن يمكن تقدير القيمة فيه من غير تغيير في الخِلقة، ففي صحة البيع في العبد طريقان: أحدهما: القَطْعُ بالفساد؛ لأن المضموم إلى العَبْد ليس من جنس المَبِيْعَات، ولأنا سنذكر في التَّفريع الحاجة إلى التوزيع، والتوزيع هاهنا يحوج إلى تقدير شيء في الموزع عليه، وهو غير موجود فيه. وأصحهما: طرد القولين. قال الإمام: ولو قلنا: في صحة البيع قولان مرتبان على ما إذا باع عبداً مملوكاً والآخر مغصوباً لأفاد ما ذكرنا من نقل الطَّريقتين، وهكذا كل ترتيب، ونقل عن شيخه أن القولين على الطريقة الثانية فيما إذا كان المشتري جاهلاً بحقيقة الحال، فإن كان عالماً فالوجه القطع بالبطلان، كما لو قال: بعتك عبدي بما يخصُّه من الألف إذا وزع عليه وعلى عبد فلان، ولو باع عبده ومكاتبه أو أمته أو أم ولده فليس ذلك كما لو باع عبداً وحرّاً بل هو من صور الضَّرب الأول؛ لأن المُكَاتب وأم الولد مُتَقومان بالإتْلاف. والنوع الثاني أن لا يتأتى تقدير التقويم فيه من غير فرض تغيير في الخِلْقة، كما لو باع خلاًّ وخمرة، أو مُذَكاَّة وميتة، أو شَاة وخِنْزِيراً، ففي صحة البيع في الخَلِّ والمذكاة والشاة خلاف مرتَّب على الخلاف في العَبْد والحر، والفساد هاهنا أولى لأن تقدير
القِيْمَة غير ممكن هاهنا إلاَّ بفرض تغيير الخلقة، وحينئذ لا يكون المقوّم هو المذكور في العقد. وقال أبو حنيفة: العقد فاسد في الكل في الضرب الثاني، وأما في الضرب الأول فيصح في الحلال ويتوقف في المَضْمُوم إليه على الإجازة. وصحح مالك البيع في الحلال في الضَّرْبَيْن جميعاً، وعن أحمد روايتان كقولي الشَّافعي -رضي الله عنه-. ولو رهن عبده وعبد غيره من إنسان، أو وهبهما منه، أو رهن عبداً أو حراً، أو وهبهما هل يصح الرهن والهبة في المملوك؟ يترتب ذلك على البيع إن صححنا ثمَّ، فكذلك هاهنا إلا ففيه قولان مبنيان على العِلَّتَين إنْ علَّلنا بامتناع تَجْزئة العَقْد الواحد فلا يصح وإنْ عَلَّلنا بِجَهَالة العوض يصح، إذ لا عوض هاهنا حتى يفرض الجهل فيه، وعلى هذا الترتيب ما إذا زوج منه مسلمة ومجوسية، أو أخته وأجنبيته، لأن جهالة العِوَض لا تمنع صِحَّة النكاح. وقوله في الكتاب أحدهما: "أن الصفقة مُتَّحدة"، وفي بعض النسخ "أن الصيغة متحدة" وكلاهما مستقيم، وزاد الإمام في هذه العلّة قَيْداً، فقال: العقد مُتَّحد في نفسه، فإذا تَطَرَّق الفساد إليه، وجب أن لا ينقسم، إذ لم يبين على الغَلَبة والسَّرَيان، وقصد به الاحتراز عن العِتْق والطَّلاَق وما في معناهما. قال الغزالي: وَلَوِ اشْتَرى عَبْدَيْنِ وَانْفَسَخَ العَقْدُ فِي أحدِهِمَا بالتَّلَفِ قَبْلَ القَبْضِ أَوْ بِسَبَبِ يُوجِبُ الفَسْخَ فَفِي الانْفِسَاخِ في البَاقِي قَوْلاً تَفْرِيق الصَّفْقَةِ، وَأَوْلَى بِأَن لاَ يَنْفَسِخَ في البَاقِي. قال الرافعي: الحالة الثَّانية: أن يقع التفريق في الانتهاء وهو على ضربين: أحدهما: أن لا يكون اختيارياً، كما لو اشترى عبدين ثم قَبْلَ أن يقبضهما تلف أحدهما، فإن العقد ينفسخ فيه، وهل ينفسخ في الثاني؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه على القولين فيما لو جمع بين مملوك وغير مملوك تسوية بين الفساد المقرون بالعقد والفساد الطارئ قبل القبض، كما يسوّى في العَيْبِ بين المَقْرُون بالعقد وبين الطَّارئ قبل القبض، وهذا قد حكاه القَاضِي عن أبي إِسْحاقَ المَرُوزِي. وأصحهما: القطع بعدم الانْفِسَاخ في الثَّاني؛ لأن الانفساخ طرأ بعد العقد فلا يتأثر به الآخر، كما لو نكح أختين دفعة واحدة، ثم ارتفع نكاح إحداهما بِرِدَّة أوْ رِضَاع لا يرتفع نكاح الأخرى، وأيضاً فإن علة الفساد إما الجمع بين الحلال والحرام، وإما
جَهَالة الثمن، ولم يوجد الجمع بين الحلال والحرام، والثمن ثابت كلّه في الابتداء، والسقوط الطارئ لا يؤثر في الانفساخ، كما لو خرج المبيع معيباً وتعذّر الرد لبعض الأسباب والثمن غير مقبوض، فيسقط بعضه على سبيل الأرش، ولا يلزم منه فساد العقد، والطريقان جاريان فيما إذا تفرَّقا في السّلم، وبعض رأس المال غير مقبوض أو في الصّرف، وبعض العِوض غير مقبوض وانفسخ العقد في غير المقبوض، هل ينفسخ في الباقي؟ هذا إذا تلف أحدهما في يد البائع قبل أن يقبضهما، فإما إذا قبض أحدهما وتلف الآخر في يد البائع، ترتب الخلاف في انْفِسَاخ العقد في المقبوض على الصُّورة السَّابقة، وهذه أولى بعدم الانفساخ لتأكُّد العقد في المقبوض بانتقال الضَّمَان فيه إلى المشتري، هذا إذا كان المقبوض باقياً في يد المشتري، فإن تلف في يده ثم تلف الآخر في يد البائع، فالقول بالانفساخ أَضْعَف لتلف المقبوض على ضمانه، وإذا قلنا بعدم الانفساخ فهل له الفسخ؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم. وترد قيمته. والثاني: لا، وعليه حصَّته من الثَّمن، ولو اكْتَرى داراً مدَّة وسكنها بعض المدة، ثم انْهَدَمَت الدَّار انفسخ العَقْد في المستقبل، وهل ينفسخ في الماضي؟ يخرج على الخلاف في المقبوض التالف في يد المشتري. فإن قلنا: لا ينفسخ، فهل له الفسخ؟ فيه الوجهان: فإن قلنا: ليس له ذلك فعليه من المسمى ما يقابل الماضي. وإن قلنا: له الفسخ فعليه أجرة المِثْل للماضي، ولو انقطع بعض المسلم فيه عند المحل، والباقي مقبوض أو غير مقبوض، وقلنا: لو انقطع الكُلّ ينفسخ العقد فيه انفسخ في المنقطع، وفي الباقي الخلاف المذكور فيما إذا تلف أحد الشَّيئين قبل قَبْضهما، وإذا قلنا: لا ينفسخ فله الفسخ، فإن أجاز فعليه حِصَّتُه مِنْ رأس المال لا غير. وإن قلنا: لو انْقطع الكُل لم ينفسخ العقد، فالمسلم بالخيار إن شاء فسخ العقد في الكل، وَإِنْ شَاءَ أَجَازه في الكُلِّ، وهل له الفسخ في القدر المنقطع والإجازة في الباقي؟ فيه قولان بناء على الخلاف الذي سنذكره في الضرب الثاني. الضرب الثاني: أَنْ يكون اختيارياً، كما لو اشترى عبدين صفقة واحدة، ثم وجد بأحدهما عيباً فهل له إفراده بالرَّد؟ جزم الشَّيخ أبو حامد في "التَّعليق" بأنه ليس له ذلك.
والمشهور: أنه على قولين وبنوهما على جواز تفريق الصَّفقة إن جوزنا تجويز الإفراد وإلا فلا، وقياس هذا البناء أن يكون قول التَّجويز أظهر، ولكن صرح كثير من الصَّائرين إلى جواز التفريق بأن منع الإقرار أصح، واحْتَجّوا له بأن الصَّفقة وقعت مجتمعة ولا ضرورة إلى تفريقها فلا تفرق، والقولان مفروضان في العبدين، وفي كل شيئين لا يتَّصل منفعة أحدهما بالآخر، فأما في زوجي الخُفِّ ومِصْرَاعَي الباب، فلا سبيل إلى إفراد المعيب بالرد بحال، وارتكب بعضهم طرد القولين فيه، ولا فرق على القولين (¬1) بين أن ينفق ذلك بعد القبض أو قبله. وعن أبي حنيفة: أنه لا يجوز إفراد المَعِيب بالرَّد قبل القبض ويجوز بعده إِلاَّ أنْ تتصل منفعة أحدهما بالآخر، فإن لم نُجَوِّز الإفراد، فلو قال: رددت المعيب هل يكون هذا ردّاً لها؟ عن الشَّيخ أبي علي رواية وجهين فيه: أصحهما: لا، بل هو لغو (¬2)، ولو رضي البائع بإفراده جاز في أصح الوجهين وإن جَوَّزنا الإفراد، فإن ردَّه استرد قسطه من الثَّمن، ولا يسترد الجميع إذ لو صرنا إليه لأخلينا بعض المَبِيع عن المقابل، وعلى هذا القول لو أراد رد السّليم والمعيب معه فله ذلك أيضاً. وفيه وجه ضعيف، ولو وجد العيب بالعبدين معاد وأراد إفراد أحدهما بالرد جرى القولان. ولو تلف أحد العبدين أو باعه ووجد في الباقي عيباً، ففي إفراده قولان مرتبان، وهذه الصورة أولى بالجَوَاز لتعذر رَدُّهما جميعاً (¬3). فإن قلنا: يجوز الإفراد رد الباقي واستردّ من الثمن حصّته، وسبيل التَّوْزيع تقدير ¬
العبدين سليمين وتقويمهما، ويقسط الثمن المسمى على القيمتين، فلو اختلفا في قيمة التَّالف فادعى المشتري ما يقتضي زيادة الواجب على ما اعترف به البائع فقولان: أصحهما: وقد نص عليه في "اختلاف العراقيين": أنَّ القول قول البائع مع يمينه؛ لأنه ملك جميع الثمن بالبيع، فلا رجوع عليه إِلاَّ بما اعترف به. والثاني: أن القول قول المشتري؛ لأنه تلف في يده، فأشبه الغاصب مع المالك إذا اختلفا في القيمة؛ لأن القول قول الغاصب الذي حصل الهلاك في يده. وإن قلنا: لا يجوز الإفراد فوجهان، ويقال: قولان: أحدهما: أنه يضم قيمة التالف إلى الباقي ويردهما ويفسخ العقد، وهذا اختيار القاضي أبي الطيب، واحتج له بأن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- "أمَرَ في المُصَرَّاةِ برَدِّ الشَّاةِ، وَبَدَلِ اللَّبَنِ الْهَالِكِ" (¬1). فعلى هذا لو اختلفا في قيمة التالف، فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه حصل التلف في يده وهو الغارم. وروي في "التتمة" وجهاً آخر: أن القول قول البائع، لأن المشتري يريد إزالة ملكه عن الثمن المملوك. وأصحهما: أنه لا يصح له، ولكنه يرجع بأَرْش العيب، لأن الهلاك أعظم من العيب، ولو حدث عنده عيب ولم يتمكّن من الرد، فعلى هذا لو اختلفا في قيمة التَّالف عاد القولان السابقان؛ لأنه في الصُّورتين يرد بعض الثَّمن، إلاَّ أنه على ذلك القول يرد حصّة الباقي، وعلى هذا القول يرد أَرْش العيب، والنظر في قيمة التَّالف إلى يوم العقد، أو يوم القَبْض فيه مثل الخِلاَف الَّذِي سيأتي في اعتبار القيمة لمعرفة أَرْش العيب القديم. وإذا عرفت ما ذكرنا لم يخف عليك أن قوله في الكتاب: "ولو اشترى عبدين وانفسخ العقد في أحدهما بالتلف قبل القبض" إشارة إلى الحالة الأولى. قوله: "أو بسبب يوجب الفسخ" يمكن حمله على الحالة الثانية، وهو الأقرب إلى اللفظ، ويمكن حمله على سائر الصور المذكورة في الحالة الأولى نحو الصرف والسلم، وتأول لفظ الفسخ والله أعلم. قال الغزالي: وَالأَصَحُّ أَنَّ الفَسَادَ مَقْصُورٌ عَلَى الفَاسِدِ إِلاَّ إِذَا صَارَ ثَمَنُ مَا يَصِحُّ العَقْدُ عَلَيْهِ مَجْهولاً حَتَّى لَوْ بَاعَ عَبْداً لَه نِصْفهُ صَحَّ في نَصِيبِهِ إِذْ حِصَّتُهُ نِصْفُ الثَّمَنِ، ¬
وَكَذا بَيْعُ جُمْلَةِ الثِّمَارِ وَفيهَا عُشْرُ الصَّدَقَةِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ بَاعَ أَرْبَعِينَ شَاةٌ وَفِيهَا الزَّكَاةُ إِذْ حِصَّةُ البَاقِي مَجْهُولَةٌ. قال الرافعي: أدرج في الفصل صوراً تتفرع على عِلَّتي قول الفساد من قولي التَّفْريق: منها: لو باع شيئاً يتوزع الثَّمَن على أجزائه بعضه له وبعضه لغيره، كما لو باع عبداً له نصفه، أو صاع حِنْطَة له نصفه، أو صاعي حنطة أحدهما له، والآخر لغيره صفقة واحدة، ترتب ذلك على ما لو باع عبدين أحدهما له والآخر لغيره، إن صححنا فيما يملكه فكذلك هاهنا، وإلا فقولان: إن علَّلنا بالجمع بين الحلال والحرام لم يصح، وإنْ علَّلنا بجهالة الثَّمَن صح؛ لأن حِصَّة المملوك هَاهُنَا معلومة. ومنها: لو باع جملة الثِّمَار وفيها عُشر الصدقة، فهل يصح البيع في قدر الزكاة؟ قد بينه في "باب الزكاة". فإن قلنا: لا يصح، فالترتيب في الباقي، كما ذكرنا. فيما لو باع عبداً له نصفه؛ لأن توزيع الثَّمن على ما له بيعه وما ليس له معلوم على التفصيل. ومنها: لو باع أربعين شاة وفيها قدر الزكاة، وفرعنا على امتناع البيع في قدر الزكاة، فالترتيب في الباقي كما مر فيما لو باع عبده وعبد غيره. ومما يتفرع على هاتين العلَّتين لو ملك زيد عبداً، وعمرو عبداً، فباعهما صفقة واحدة بثمن واحد، ففي صحة العقد قولان، وكذا لو باع من رجلين عبدين له هذا من هذا، وهذا من هذا بثمن واحد، إن عللنا بالجمع بين الحلال والحرام صح، وإن علَّلنا بِجَهَالة العوض لم يصح؛ لأن حصَّة كل واحد منهما مجهولة (¬1). ومنها: قال في "التتمة": لو باع عبده وعبد غيره، وسمى لكل واحد منهما ثمناً، فقال بعتك هذا بمائة وهذا بخمسين، إن عللنا باجتماع الحلال والحرام فسد العقد، وإن عللنا بجهالة الثمن صح في عبده. ¬
ولكن أن تقول: سنذكر أن تفصيل الثَّمَن مِنْ أسباب تعدد العقد، وإذا تعدد وجب القضاء بالصحة على التعليلين. إذا تقرر ذلك فاعْلَم: أنَّ قوله: "والأصح أن الفساد مقصور على الفاسد ... " إلى آخره توسط بين القولين، وترجيح لقول الصحة في المملوك إذا كان المبيع ممَّا يتوزع الثمن على أجزائه، ولقول الفساد فيما إذا كان المبيع مما يتوزع الثمن على قيمته، وهذا قد اختاره صاحب الكتاب في آخرين، لكن الأكثرين لم يفرقوا بين الحالتين ورجحوا الصحة على الإطلاق -والله أعلم-. قال الغزالي: ثُمَّ مَهْمَا قَضَيْنَا بِالصِّحَّةِ فَلِلْمُشْتَرِي الخِيَارُ إِذْ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ جَمِيعَ مَا اشْتَرَاهُ، وَيَأْخُذُ البَاقِي إِنْ أَجَازَ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ عَلَى أَصَحِّ القَوْلَيْنِ لاَ بِكُلِّ الثَّمَنِ. قال الرافعي: مقصود الفصل: التفريع على قولي تفريق الصَّفقة من أصلهما، والرأي أن نفرد كل مرتبة بالذكر، فنقول: إذا باع ماله ومال غيره صفقة واحدة وصححنا البيع في ماله نظر، إن كان المشتري جاهلاً بالحال فله الخيار؛ لأنه دخل في العقد على أن يسلم له كل المبيع ولم يسلم، فإن أجاز فكم يلزمه من الثمن؟ فيه قولان: أحدهما: جميعه. لأنه لَغَا ذكر المضموم إلى ماله، فيقع جميع الثمن في مقابلة ما صح العقد فيه. وأصحهما وبه قال أبو حنيفة: أنه لا يلزم إِلاَّ حصَّة المملوك من الثمن إذا وزع على القيمتين؛ لأنه أوقع الثَّمَن في مقابلتهما جميعاً، فلا يلزم في مقابلة أحدهما إلا قسطه، وما موضع القولين؟ قال قائلون: موضعهما أن يكون المبيع مما يتقسَّط الثَّمَن على قيمته، فإن كان مما يتقسط على أجزائه على ما مر نظائره، فالواجب قسط المملوك من الثمن قولاً واحداً، والفرق أن المصير إلى التقسيط هاهنا لا يورث جهالة في الثمن عند العقد وثَمَّ بخلافه، ومنهم من طرد القولين وهو الأظهر، لأن الشافعي -رضي الله عنه- نصّ على قولين فيما إذا باع الثِّمَار بعد وجوب العشر فيها، وأفسدنا البيع في قدر الزكاة دون غيره، أن الواجب جميع الثمن أو حصته. فإن قلنا: الواجب جميع الثمن فلا خيار للبائع إذا ظفر بما ابتغاه. وإن قلنا: الواجب القسط فوجهان: أحدهما: أن له الخيار إذا لم يسلم له جميع الثمن. وأصحهما: أنه لا خيار له؛ لأن التفريط من حيث باع ما لا يملكه وطمع في
ثمنه، وإن كان المشتري عالماً بِالحَالِ فلا خيار له، أما لو إشترى معيباً وهو عالم بعيبه، وكم يلزمه من الثَّمَن فيه القولان كما لو كان جاهلاً وأجاز، وقطع قاطعون بوجوب الجميع هاهنا؛ لأنه التزمه عالماً بأن بعض المذكور لا يقبل العقد. ولو باع عبداً وحرّاً أو خلاًّ وخمراً أو مُذَكَّاة وَمَيْتَة، أو شاة وخنزيراً وصححنا العقد فيما يقبله، وكان المشتري جاهلاً بالحال وأجاز، أو عالماً ففيما يلزمه من الثمن طريقان: أحدهما: القطع بوجوب جميع الثَّمن، لأن ما لا قيمة له لا يمكن التوزيع على قيمته، ويحكى هذا عن صاحب "التلخيص". وأصحهما: طرد القولين. فإن قلنا: الواجب قسط من الثمن فكيف تعتبر هذه الأشياء في التوزيع، فيه وجهان: أصحهما: عند المصنف أنه ينظر إلى قيمتها عند من يرى لها قيمة. والثاني: أنه يقدر الخمر خلاً، ويوزع عليهما باعتبار الأجزاء، وتقدر المَيْتَة مُذَكَّاة، والخنزير شاة، وتوزَّع عليهما باعتبار القيمة. ومنهم من قال: يقدر الخمر عصيراً، والخنزير بقرة (¬1). ولو نكح مُسْلمة ومَجُوسِيّة في عقد واحد وصححنا نكاح المسلمة. فالصحيح المشهور: أنه لا يلزم جميع المسمى للمسلمة بلا خلاف، لأنا إذا أثبتنا الجميع في البيع أثبتنا الخِيَار أيضاً وهاهنا لا خيار، فإيجاب الجميع إجحاف ولا مدفع له. وعن رواية الشيخ أبي علي قول: أنه يلزم لها جميع المسمى، لكن له الخيار في رد المسمى والرجوع إلى مهر المِثْل. قال الإمام: وهذا لا يدفع الضرر، فإن مهر المِثْل قد يكون مثل المسمى أو أكثر، وما الذي يلزم إذا قلنا بالصحيح؟ فيه قولان: أظهرهما: مَهْر المِثل. وثانيهما: قِسْطُها من المسمى إذا وزع على مهر مثلها ومهر مثل المَجُوسِية. ¬
فصل
ولو اشترى عبدين وتلف أحدهما قبل القبض وانفسخ العقد فيه، وقلنا: لا ينفسخ في الباقي فله الخيار فيه فإن أجاز فالواجب قسطه من الثمن؛ لأن الثمن وجب في مقابلتهما في الابتداء، فلا ينصرف إلى أحدهما في الدوام. وعن أبي إسحاق المَرُوزِي طرد القولين فيه. فرع: لو باع شيئاً من مال الرِّبا بجنسه، ثم خرج بعض أحد العِوَضين مستحقّاً، وصححنا العقد في الباقي وأجاز، فالواجب حِصَّته بلا خلاف؛ لأن الفصل بينهما حرام. لو باع معلوماً ومجهولاً لم يصح البيع في المجهول، وفي المعلوم يبنى على ما لو كانا معلومين وأحدهما لغيره. وإن قلنا: لا يصح فيما له لم يصح هاهنا في المعلوم. وإن قلنا: يصح ففيه قولان مبنيان على أنه كم يلزمه من الثمن؟ ثم إن قلنا: الجميع صح، ولزمه هاهنا أيضاً جميع الثَّمن. وإن قلنا: حصَّته من الثمن لم يصح هاهنا لتعذُّر التوزيع. ومنهم من حكى قولاً: أنه يصح وله الخيار، فإنْ أجاز لزمه جميع الثمن، واعلم: أن لصاحب "التَّلْخيص" والشارحين لكلامه تخريج مسائل دَوْرية على القول تفريق الصفقة، لم أوثر إخلاء هذا المجموع عن طرف منها فعقدت له فصلاً. " فصل" قال صاحب "التلخيص" في "التلخيص" في القول الذي يرى تفريق الصَّفْقَة: يقع للشَّافعي -رضي الله عنه- مسائل من الدور، من ذلك: لوْ باع مريض قَفِيزَ حِنْطَة بقفيز حنطة، وكان قفيز المريض يساوي عشرين، وقفيز الصَّحيح يساوي عشرة، ومات المريض ولا مال له غيره، ففيها قولان: أحدهما: أن البَيْع باطل. والآخر: أن البَيْع جائز في ثلثي قفيز بثلثي قفيز ويبطل في الثُّلث، ولكل واحد منهما الخِيَار في إبطال البَيْع. وفيه قول آخر: أنه لا خيار لهما فيه، هذا لفظه. وإنما صور في الجنس الواحد من مال الرِّبَا لتجتمع أشكال الدّور والرِّبَا. وأول ما يجب معرفته في المسألة وأخواتها أن مُحَابَاة المريض مرض الموت في البيع والشراء نازلة منزلة هِبَتِه وسائر تَبَرُّعَاته في الاعتبار من الثلث، فإن زادت على
الثُّلث ولم تجز الورثة ما زاد، كما لو باع عبداً يساوي ثلاثين بعشرة، ولا مال له غيره يرتدُّ البيع في بعض المَبِيع، وما الحُكْم في الباقي؟ فيه طريقان: أحدهما: القطع بصحَّة البيع فيه؛ لأنه نفذ في الكل ظاهر، والرد في البعض تَدَارُكٌ حادث، وهذا أصح عند صاحب "التهذيب"، ووجهه بأن المُحَابَاة في المَرَض وصية، والوصية تقبل من الغَرَر ما لا يقبله غيرها. وأظهرهما عند أكثرهم: أنه على قولي تفريق الصَّفْقة. وإذ قلنا بصحة البيع في الباقي، ففي كيفيتها قولان: ويقال وجهان: أحدهما: أن البيع يصحُّ في القدر الذي يحتمله الثُّلث، والقدر الذي يوازي الثَّمن بجميع الثَّمن ويبطل في الباقي؛ لأنه اجتمع للمشتري معاوضة ومحاباة فوجب أن يجمع بينهما، فعلى هذا يصح العقد في ثلثي العبد بالعشرة، ويبقى مع الورثة ثلث العبد وقيمته والثمن وهو عشرة، وذلك مثل المُحَاباة وهي عشرة، ولا تدور المسألة على هذا القول. والثَّاني: أنه إذا ارتدَّ البيع في بعض المَبِيع، وجب أن يرتد إلى المُشْتري ما يقابله من الثمن. فعلى هذا تدور المَسْألة؛ لأن ما ينفذ فيه البَيْع يخرج من التَّركة، وما يقابله من الثمن يدخل فيها، ومعلوم أنَّ ما ينفذ فيه البيع يزيد بزيادة التَّركة وينقص بنقصانها، فيزيد المبيع بحسب زيادة التركة، وتزيد التركة بحسب زيادة المقابل الداخل، ويزيد المقابل الداخل بحسب زيادة المبيع وهذا دور، ويتوصل إلى معرفة المقصود بطرق: منها: أن ينظر إلى ثلث المال وينسبه إلى قدر المُحَابَاة، ويجيز البيع في المبيع بمثل نسبة الثلث من المحاباة فنقول في هذه الصور: ثلث المال عشرة، والمحاباة عشرون، والعشرة نصف العشرين، فيصح البيع في نصف العبد، وقيمته خمسة عشر بنصف الثمن وهو خمسة، كأنه اشْتَرى سدسه بخمسة، وثلثه وصية له تبقى مع الورثة نصف العبد وهو خمسة عشر، والثَّمنُ خمسة فالمبلغ عشرون، وذلك مثل المحاباة، وتحكى هذه الطريقة عن محمد بن الحسن. ومنها: طريقة الجبر يقول: صح البيع في شَيْءٍ من العبد، وقابله من الثمن مثل ثلث ذلك الشيء، لأن الثّمن مثل ثلث العبد، وبقي في يد الورثة عبد إلا شيء، لكن بعض النقصان انجبر بثلث الشيء العائد، فالباقي عندهم عبد إلا ثلثي شيء، وثلثا شيء قدر المحاباة، وعبد إلاَّ ثلثي شيء، مثل وإذا كان عبد إلاَّ ثلثي شيء مثلي ثلثي شيء، وكان عديلاً لشيء وثلث شيء، فإذا أجبرنا العبد بثلثي شيء، وزدنا علي عديله مثل ذلك كان العبد عديلاً لِلشَّيئين، فعرفنا أن الشيء الَّذِي نفذ فيه البيع نصف العبد، ولا أطنب لإيراد سائر الطرق كطريقة الخطأ بين الدينار والدرهم وغيرهما في هذا الموضع.
فإن قلت: ما حال الخلاف الذي ذكرتم أنهما قولان لِلشَّافعي -رضي الله عنه- أو وجهان للأصحاب وأيهما كان؟ فما الأظهر منهما؟ الجواب: أما الأول فإنَّ الإِمَام قال: ما أراهما منصوصين، ولكنهما مستخرجان من معاني كلام الشافعي -رضي الله عنه- لكن القَفَّال والأستاذ أبا منصور البغدادي وغيرهما ذكروا أنَّ الأول منصوص عليه، والثَّاني مخرج لابن سريج. وأما الثَّاني: فإن إيراد كثيرين يميل إلى ترجيح القول الأول وبه قال ابْنُ الحَدَّاد لكن الثَّاني أقوى في المعنى، وهو اختيار أكثر الحساب، وبه قال ابن القاص وابن اللَّبَّان، وتابعهم إمام الحرمين وادَّعى أنه اختيار ابن سريج، لكن في هذه الدَّعْوَى نظر، فإن الأستاذ أبا منصور وغيره نسبوا القول الأول إلى اختيار ابن سريج، -والله أعلم-. إذا تقرر ذلك عدنا إلى مسألة "التَّلْخيص". إن قلنا: بالأول فالبيع باطل فيها بلا خلاف؛ لأن مقتضاه صِحَّة البيع في قدر ثلث وهو ستة وثلثان، وفي القدر الذي يقابل من قَفِيزِه قفيز الصحيح وهو نصفه، فيكون خمسة أسداس قفيز في مقابلة قفيز، وذلك ربا. وإن قلنا: بالثاني صح البيع في ثلثي قفيز المريض بثلثي الصحيح وبطل في الباقي، وقطع قاطعون هاهنا بهذا القول الثاني، كي لا يبطل غرض الميت في الوصية. قال في "التهذيب": وهو الأصح ووجهه إما على طريقة النِّسْبة، فلأن ثلث مال المريض ستة وثلثان، والمحاباة عشرة، وستة وثلثان ثلثا عشرة، فقلنا بنفوذ البيع في ثلثي القفيز. وإمَّا على طريق الجبر، فلأن البيع نفذ في شيء وقابله من الثمن مثل نصفه، فإن قفيز الصحيح نصف قفيز المريض وبقي في يد الوَرثة قفيز إلاَّ شيء، لكن يحصل لهم نِصْفُ شَيْء، والباقي عندهم قَفِيز إلاَّ نصف شيء، فنصف شيء هو المُحَاباة، وما في يدهم وهو قَفِيزٌ ناقص بنصف شيء مثلاه، والهاء كناية عن النِّصف، وإذا كان قَفِيزٌ ناقص بنصف شيء مثلي نصف شيء كان عديلاً للشيء الكامل، فإذا جبرنا وقابلنا صار قفيز كامل عديل شيء ونصف شيء، فعرف أن الشيء ثلثا قفيز، وقد عرفت بما ذكرنا أَنَّ القول الثَّاني من القولين اللَّذَيْن أطلقهما صاحب "التلخيص" علام ينبني. وأما الأول فخرجه على قولنا: إن البيع يصح في قدر الثلث، وما يوازي الثمن بجميع الثمن ظاهر لما فيه من الرّبا، ويجوز أن يكون مبنياً على قولنا: إن الصَّفقة لا تفرق جواباً على طريقة طرد القولين في صور المُحَاباة وأما قوله: "ولكل واحد منهما الخِيَار في إبطال البَيْع" فهو خطأ في جانب ورثة
المريض باتفاق الأصحاب؛ لأنا لو أثبتنا لهم الخِيَار لأبطلوا المُحَاباة أصلاً ورأساً بفسخ البيع، ولا سبيل إليه لتسليط الشَّرْع إياه على ثلث ماله، وكذا خطاه في قوله: "وفيه قول آخر: أنه لا خيار لهما في جانب المشتري"، لأن تبعيض الصَّفقة على المشتري من موجبات الخيار بكل حال، ولو كانت المسألة بحالها لكن قَفِيز المريض يساوي ثلاثين، وقلنا: بتقسيط الثَّمن صحَّ البَيْع في نصف قَفِيز بنِصف القفيز، ولو كانت بحالها لكن قفيز المريض يساوي أربعين صحَّ البيع في أَرْبَعة أَتْسَاع القفيز، وعليك تخريج الفتوى على الطريقتين، ثم قال صاحب "التلخيص": ولو كان المريض قد أكل القَفِيز الذي أخذ استوت المسائل كلها، فيجوز بيع ثلث قَفِيز بثلث قفيز. قال الشارحون لكتابه: إذا أَتْلَفَ المريض المحابي القفيز الذي أخذه ثم مات، وفَرَّعنا على القول الذي يجيء عليه الدّور صح البيع في ثلثه بثلث قفيز صاحبه، سواء كانت قيمة قفيز المريض عشرين أو ثلاثين أو أكثر؛ لأن ما أتلفه قد نقص من ماله. أما ما صَحَّ فيه البَيْع فهو ملكه وقد أتلفه، وأما ما بطل فيه البيع فعليه ضمانه، فينتقص قدر الغُرْم من ماله، ومتى كثرت القيمة كان المصروف إلى الغرم أقل والمحاباة أكثر، ومتى قلت كان المصروف إلى الغرم أكثر والمحاباة أقل، ولنوضح ذلك في صورتين: إحداهما: إذا كانت قيمة قَفِيز المَرِيض عشرين، وقيمة قفيز الصحيح عشرة، وقد أتلفه المريض فنقول على طريقة النِّسْبة مال المريض عشرون، وقد أتلف عشرة يحطُّها من ماله، فبقي عشرة كأنها كل ماله والمحاباة عشرة، فثلث ماله هو ثلث المحاباة، فيصح البيع في ثلث القَفِيز على القياس الذي مر، وعلى طريقة الجَبْر صح البيع في شيء من قفيز المريض، ورجع إليه مثل نصفه فعند ورثته عشرون إلا نصف شيء، لكنه قد أتلف عشرة فالباقي في أيديهم عشرة إِلاَّ نصف شيء، وذلك مثل نصف شيء فيكون مثل شيء، فإذا جبرنا وقابلنا كانت عشرة مثل شيء ونصف شيء، فالعشرة نصف القفيز فيكون القفيز الكامل مثل ثلاثة أشياء، فالشَّيء ثلث القفيز وامتحانه أَنَّ ثلث قَفِيز المريض ستة وثلثان، وثلث قفيز الصحيح في مقابلته ثلاثة وثلث، فتكون المحاباة بثلاثة وثلث، وقد بقي في يَدِ الوَرَثَةِ ثلثا قفيز، وهو ثلاثة عشر وثلث يؤدِّي منه قيمة ثلثي قفيز الصحيح، وهو ستة وثلثان يبقى في أيديهم ستة وثلثان وهي مثل المُحَاباة. الثانية: قَفِيز المريض يساوي ثلاثين وباقي المسألة بحالها، فعلى طريقة النسبة نقول: مال المريض ثلاثون وقد أتلف عشرة بحطها من ماله يبقى عشرون كأن كل ماله والمُحَاباة عشرون؛ وثلث ماله هو ثلث المحاباة فيصح البيع في ثلث القَفِيز. وعلى طريقة الجَبْر نقول: صح البيع في شيء من قفيز المريض، ورجع إليه مثل
ثلثه، والباقي ثلاثون إلا ثلثي شيء، لكنه أتلف عشرة، فالباقي عشرون إلا ثلثي شيء، وذلك مثل ثلثي شيء فيكون مثل شيء وثلث شيء، فإذا جبرنا وقابلنا كان عشرون مثل شيئين، فعرفنا أن الشيء عشرة وهي ثلث الثلاثين، وامتحانه أن ثلث قفيز المريض عشرة، وثلث قفيز الصَّحيح في مقابلة ثلاثة وثلث، فالمحابة بستة وثلثي، وقد بقي في يد الورثة ثلثا قفيز، وهو عشرون يؤدي منه قيمة ثلثي قفيز الصحيح، وهو ستة وثلثان، يبقى في أيديهم ثلاثة عشرة وثلث وهي مثل المحاباة، هذا كله فيما إذا أتلف صاحب القفيز الجيد ما أخذه. أما إذا أتلف صاحب القَفِيز الرديء ما أخذه ولا مال له سوى قَفِيزه، ففي الصورة الأولى وهي ما إذا كانت قيمة قَفِيزه عشرين، وقيمة قفيز الآخر عشرة يصح البيع في الحال في نصف القَفِيز الجيد وقيمته عشرة، ويحصل للورثة في مقابلته نصف القفيز الرديء وقيمته خمسة، فتبقى المحاباة بخمسة، ولهم نصف الآخر غرامة لما أتلف عليهم، فتحصل لهم عشرة، وهي مثل المحاباة، والباقي في ذمة مُتْلف القَفِيز الجيد، ولا تجوز المُحَاباة في شيء إلاَّ بعد أن يحصل للورثة مثلاه. وفي الصورة الثانية: وهي ما إذا كانت قيمة قفيزه ثلاثين. قال الأستاذ أبو منصور: يصح البيع في نصف القفيز الجيد وهي خمسة عشر، والمحاباة ثلثه وهو خمسة، وقد حصل للورثة القفيز الرديء وقيمته عشرة وهي ضعف المحاباة، ويبقى في ذمة المشتري خمسة عشرة، كلما حصل منها شيء جَازَتْ المُحَاباة في مثل ثلثه. وغلطه إمام الحرمين فيما ذكره من وجهة أنا إذا صححنا البيع في نصف الجيد، فإنما نصححه بنصف الرَّديء وهو خمسة، فتكون المُحَاباة بعشرة لا بخمسة، وإذا كانت المُحَاباة بعشرة فالواجب أن يكون في يد الورثة عشرون، وليس في يدهم إلا عشرة. فالصواب: أَنْ يقال: يصح البيع في ربع القفيز الجيد، وهو سبعة ونصف بربع الرديء، وهو درهمان ونصف فتكون المُحَاباة بخمسة، وفي أيدي الورثة ضعفها عشرة. قال صاحب "التلخيص": فإن كانت المسألتان بحالهما، وكانا جميعاً مريضين والقفيزان بحالهما لم يؤكل منهما شيء فاستقالا، فأقال كل واحد منهما صاحبه، فمن أبطل البيع أبطله ومن أجاز البيع أجاز في المسألة الأولى في سبعة أثمان قفيز، وأبطله في ثمن وأجاز الإقالة خمسة أثمان، وأبطلها في ثمنين وفي المسألة الثانية، أجاز البيع في خمسة أثمان، وأبطله في ثلاثة أثمان وأجاز الإقالة في ثلاثة أثمان، وأبطلها في ثمنين. وقوله: "فإن كانت المسألتان"، أراد بإحدى المسألتين ما إذا كانت قيمة القفيز الجيد عشرين، وبالأخرى ما إذا كانت قيمته ثلاثين، وقيمة الرديء عشرة، والذي ينبغي
أن يعرف في مقدمة هذه الصورة أنه كما تعتبر محاباة المريض في البيع من الثلث، كذلك تعتبر مُحَابَاته الإِقَالَة من الثلث، سواء قدرت الإِقَالة فسخاً أو بيعاً جديداً. إذا عرفت ذلك فنقول: إذا باع مريض قفيز حنطة يساوي عشرين من مريض بقفيز حنطة يساوي عشرة، ثم تقايلا وماتا من مرضهما، والقفيزان بحالهما، ولا مال لهما سواهما، ولم تجز الورثة ما زاد من مُحَاباتهما على الثلث، فإن منعنا تفريق الصفقة، وقلنا بالتصحيح بجميع الثمن، فلا بيع ولا إقالة. وإن قلنا: بالتَّصحيح بالقسط، فيدور كل واحد مما نفذ فيه البيع والإقالة على الآخر؛ لأن البيع لا ينفذ إلاَّ في الثلث، والإقالة تزيد ماله، فيزيد ما نفذ فيه البيع، وإذا زاد ذلك زاد مال الثَّاني، فيزيد ما نفذ فيه الإقالة. فالطريق أن يقال: صح البيع في شيء من القفيز الجيد، ورجع إليه من الثمن نصف ذلك الشَّيء فبقي في يده عشرون إلاَّ نصف شيء، وفي يد الآخر عشرة ونصف شيء، ثم إذا تقايلا فالإقالة إنما تصح في ثلث مال المقيل، فيأخذ ثلاثة عشر وثلث نصف شيء، وهو ثلاثة وثلث وسدس شيء فيضمه إلى مال الأول، وهو عشرون إلاَّ نصف شيء يصير ثلاثة وعشرين وثلثا إلاَّ ثلث شيء وهذا يجب أن يكون مثلي المُحَاباة أولاً، وهو نصف شيء، فيكون ذلك كله مثل شيء، فإذا جبرنا وقابلنا كان ثلاثة وعشرون وثلث مثل شيء وثلث شيء يبسط الشيء، والثلث أثلاثاً يكون أربعة، والشيء ثلاثة أرباعه، فإذا أردنا أن نعرف كم الشيء من ثلاثة وعشرين وثلث انكسر، فسبيلنا أن نصحح السِّهَام بأن نجعل كل عشرة ثلاثة؛ لأن الزائد على العشرين ثلاثة وثلث، وهو ثلث العشرة، وإذا جعلنا كل عشرة ثلاثة أسهم صاروا ثلاثة وثلث سبعة أسهم، فتزيد قسمتها على الأَرْبَعَة، والسبعة لا تنقسم على الأربعة، فنضرب سبعة في أربعة، فيكون ثمانية وعشرين، فالشيء ثلاثة أرباعها وهي إحدى وعشرون، فلما عرفنا ذلك رجعنا إلى الأصل وقلنا: العشرون التي كانت قيمة القفيز صارت أربعة وعشرين؛ لأنا ضَرَبْنَا كل ثلاثة وهي سهام العشرة في أربعة، فصارت اثني عشر، تكون العشرون أربعة وعشرين، وقد صح البيع منهم في إحدى وعشرين، وذلك سبعة أثمان أربعة وعشرون، وإذا عرفنا ذلك وأردنا التصحيح من غير كسر، جعلنا القفيز الجيد ستة عشرة، والقفيز الرديء ثمانية، وقلنا: صح البيع في سَبْعَةِ أثمان الجيد، وهي أربعة عشر بسبعة أثمان الرَّديء وهو سبعة، فتكون المُحَاباة بسبعة، ويبقى في يد بائع الجيد تسعة: سهمان بقيا عنده، وسبعة أخذها عِوَضاً، ويجعل في يد الآخر خمسة عشر؛ لأنه أخذ أربعة عشر، وكان قد بقي في يده سهم، فلما تقابلا نفذت الإقالة في عشرة، وهي خمسة أثمان القَفِيز الجيد بخمسة أثمان القفيز الرديء وهي خمسة، فقد أعطى عشرة وأخذ خمسة،
فالمُحَاباة بخمسة، والحاصل من ذلك كله: المستقر في يد الأول أربعة عشر مثلاً محاباة سبعة، وفي يد الثاني عشرة مثلاً محاباة خمسة، ولو كانت المَسْألة بحالها والقَفِيز الجيد يساوي ثلاثين فنقول: صَحَّ البيع في شيء منه، ورجع إليه من الثمن مثل ثلث ذلك الشيء، فبقي في يده ثلاثون إلاَّ ثلثي شيء، وفي يد الآخر عشرة وثلثا شيء، فإذا تقايلا أخذنا ثلاثة عشر وثلثي شيء، وذلك ثلاثة دراهم وثلث وتسعا شيء يضم إلى مال الأول، فيصير ثلاثة وثلاثين وثلثا إلاَّ أربعة أتساع شيء، وهو مثلا المُحَاباة وهي ثلثا شيء، فيكون مثل شيء وثلث شيء، فإذا جبرنا وقابلنا صار ثلاثة وثلاثون وثلث مثل شيء، وسبعة أتساع شيء، فعلمنا أَنَّ ثلاثة وثلاثين يجب أن تقسم على شيء وسبعة أتساع شيء، فيبسط هذا المبلغ أتساعاً، يكون ستَّة عشر يكون الشيء منه تسعة، والعدد المذكور لا ينقسم على ستة عشر، فنصحح السِّهَام بأن نجعل كل عشرة ثلاثة؛ لأن الزَّائد على الثلاثين، ثلاثة وثلث وذلك ثلث العشرة، وإذا فعلنا ذلك صارت ثلاثة وثلاثون وثلث عشرة أسهم يحتاج إلى قسمتها على ستة عشر، وعشرة لا تنقسم على ستة عشر، لكن بينهما موافقة بالنصف، فنضرب جميع أحدهما في نصف الآخر تكون ثمانين، فنرجع إلى الأصل ونقول: الثلاثون التي كانت قيمة القَفِير صارت اثنين وسبعين، لأَنَّا ضربنا كُلَّ ثلاثة وهي سهام العشرة في ثمانية، فصارت أربعة وعشرين، فتكون الثَّلاَثون اثنين وسبعين، والشيء كان تسعة من ستة عشر صار مضروباً في نصف العشرة وهي خمسة فيكون خمسة وأربعين، وذلك خمسة أثمان اثنين وسبعين، فعرفنا صحة البيع في خمسة أثمان القفيز الجيد. فإن أردنا التَّصْحيح على الاختصار من غير كسر جعلنا القفيز الجيد أربعة وعشرين ليكون القفيز الرديء هو ثلاثة وثمن صحيح، وقلنا: صح البيع في خمسة أثمان الجيد، وهي خمسة عشر بخمسة أثمان الرديء، وهي خمسة تكون المحاباة بعشرة، ويبقى في يد بائع الجيد أربعة عشر، تسعة بقيت عنده، وخمسة أخذها عوضاً، ويجعل في يد الآخر ثمانية عشر؛ لأنه أخذ خمسة عشر، وكان قد بقي عنده ثلاثة، فلما تقايلا نفذت الإقالة في تسعة، وهي ثلاثة أثمان الجيد بثلاثة أثمان الرديء وهي ثلاثة، فقد أعطى تسعة وأخذ ثلاثة تكون المُحَاباة بستة، فيستقر في يد الأول عشرون؛ تسعة أخذها بحكم الإقالة، وأحد عشر هي بقية الثمن، وقد بقيت عنده من أربعة عشر بعد رد الثلاثة، وذلك مثلاً محاباته بستة -والله أعلم-. وحكى إمام الحرمين عن بعض مَنْ لقيه من أفاضل الحُسَّاب في الصورتين وأخواتهما تمهيد طريقة مبنية على أصول سهلة المأخذ. منها: أنَّ القَفِيز الجيد في هذه المسائل يعتبر بالأثمان فيقدر ثمانية أسهم، وينسب الرديء إليه باعتبار الأثمان.
ومنها: أن محاباة صاحب الجَيّد لا تبلغ أربعة أثمان قَطُّ، ولا تنقص عن ثلاثة أثمان قط، بل تكون بينهما، فإذا أردت أن تعرف قدرها، فانسب القفيز الرديء إلى الجيد، وخذ مثل تلك النسبة من الثمن الرابع، وإذا أردت أن تعرف ما يصح البيع فيه من القفيز، فانسب الرديء فيه إلى المحاباة في الأصل، وزد مثل تلك النسبة على التبرع، فالمبلغ هو الذي يصح فيه البيع، وإذا أردت أن تعرف ما يصحُّ فيه تبرع المقيل فانظر إلى تبرع بائع الجيد، واضربه في ثلاثة أبدا، وقابل الحاصل من الضَّرب بالقَفِيز الجيد، فما زاد على القفيز فهو تبرعه، فإن أَرَدْتَ أن تعرف ما صحَّت فيه الإِقَالة، فزد على تبرعه بمثل نسبة زيادتك على تَبَرُّع صاحبه، فالمبلغ هو الذي صحت الإقالة فيه. مثاله في الصورة الأولى: نقول: القَفِيز الجَيَّد ثمانية والرديء أربعة، فالرديء نصف الجيد، فالتبرع في ثلاثة أثمان ونصف ثمن، وإذا نسبنا الرَّديء إِلَى أصل المُحَاباة وجدناه مثله، لأن المحاباة عشرة من عشرين، فنزيد على التبرع مثله يبلغ سبعة أثمان، فهو الذي صح البيع فيه، وإذا أردنا أن نعرف تبرع المقيل ضربنا تبرع الأول في ثلاثة تكون عشرة ونصفاً، وزيادة هذا المبلغ على الثَّمَانية اثنان ونصف، فعرفنا أن تَبَرّعه في ثمنين ونصف، فإن أردنا أن نعرف ما تصحُّ فيه الإقالة زدنا على الثمنين والنصف مثله تكون خمسة أثمان، ولا يخفى تخريج الصورة الأخرى ونحوها على هذه الطَّريقة -والله الموفق. قال الغزالي: وَأَصَحُّ القَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَو جَمَعَ بَيْنَ عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ في صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ كَالإِجَارَةِ وَالسَّلَمِ، أَوِ الأِجَارَةِ وَالبَيْعِ، أَوِ النِّكَاحِ وَالبَيْعِ، مِثْلُ أَنْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ جَارِيتِي وَبِعْتُكَ عَبْدِي بدينار، فَالعَقْدُ صَحْيحٌ وَإِن اخْتَلَفَتْ في الدَّوَامِ أَحْكامُهُمَا. قال الرافعي: ذكرنا في أول الباب: أن الجمع في صَفْقَة واحدة بين شيئين؛ إما أن يكون في عقد واحد، أو في عقدين مختلفي الحكم، وقد فرغنا من القسم الأول. وأما القسم الثاني: فإذا جمع في صفقة واحدة بين الإِجَارَة والسّلم، أو الإجارة والبيع، ففيه قولان (¬1): ¬
أحدهما: أنه لا يصح واحد من العقدين، لأنهما مختلفا الحكم، إذ الإجارة والسلم يختلفان في أسباب الفسخ والانفساخ، وكذا الإجارة والبيع يختلفان في الحكم، فإن التَّأقيت شرط في الإِجَارة ومبطل للبيع، وكمال القبض في الإجارة لا يتحقَّق إلا بانقضاء المدة، لأنه قبل ذلك يعرض الانفساخ بخلاف البيع، وإذا اختلفت الأحكام فربما يعرض ما يوجب فسخ أحدهما، فيحتاج إلى التوزيع وتلزم الجَهَالة. وأصحهما: أنهما جميعاً صحيحان؛ لأن كل واحد منهما قابل للعقد الذي أورده عليه على الانفراد، فالجمع بينهما لا يضر، واختلاف الحكم لا أثر له، ألا ترى أنه لو باع شِقْصاً من دار وثوباً يجوز، وإن اختلفا في حكم الشّفْعة واحتجنا إلى التوزيع بسببه؟. وصورة الإجارة والسلم: أن يقول: أجرتك هذه الدار سنة، وبعتك كذا سلماً بكذا. وصورة الإجارة والبيع: أن يقول: بعتك عبدي هذا، وأجرتك داري سنة بكذا، وعلى القولين ما إذا جمع بين بَيْع عين وسلم، أو بيع وصرف وغيره، بأن باع ديناراً أو ثوباً بدراهم لاختلاف الحكم، فإنّ قبض رأس المال شرط في السلم، والتقابض شرط في الصرف، ولا يشترط ذلك في سائر البيوع.
ولو جمع بين البَيْع والنِّكاح، بأن قال: زوجتك جاريتي هذه، وبعتك عبدي هذا بكذا، والمخاطب ممن يحل له نكاح الأمة، أو قال: زوجتك ابنتي وبعتك عبدها، وهي صغيرة أو كبيرة وكَّلته بالبيع صح النكاح بلا خلاف، وفي البيع والمسمى في النكاح القولان، إن صححنا وزع المسمى على قيمة المبيع ومهر مثل المرأة، وإلاَّ وجب في النكاح مهر المثل. ولو جمع بين البيع والكتابة، بأن قال لعبده: كاتبتك على نجمين وبعتك عبدي، هذا جميعاً بألف، فإن حكمنا بالبطلان في الصورة السابقة فهاهنا أولى، وإلاَّ فالبيع باطل، إذ ليس للسيد البيع منه قبل أداء النجوم، وفي الكتابة قولان. واعلم: أن من الأصحاب من لا يعد هذا الفصل من صور تفريق الصفقة، لأنا في قول نبطل العقدين جميعاً، وفي قول نصححهما جميعاً، فلا تفريق -والله أعلم-. قال الغزالي: وَتتعَدَّدُ الصَّفْقَةُ بتَعَدُّدِ البَائِعِ، وَبِتَفْصِيلِ الثَّمَنِ مثل أَنْ يَقُولَ: بِعْتُ هَذَا بِدِرْهَمٍ وَهَذَا بِدِينَارٍ، وَهَلْ تَتَعَدَّدُ بَتعَدُّدِ المُشْتَرِي؟ فِيهِ قَوْلاَنِ. قال الرافعي: لما كان محل القولين في مسائل الباب ما إذا اتحدت الصَّفقة دون ما إذا تعددت، حتى لو باع ماله في صفقة واحدة ومال غيره في صفقة أخرى صحت الأولى بلا خلاف، وجب النظر في أنها متى تتحدد؟ ومتى تتعدد؟ فإذا سمى لكل واحد من الشيئين ثمناً مفصلاً، فقال: بعتك هذا بكذا وهذا بكذا، وقبل المشتري كذلك على التفصيل، فهما عقدان متعددان، ولو جمع المشتري في القبول فقال: قبلت فيهما فكذلك على المذهب؛ لأن القبول يترتب على الإيجاب، فإذا وقع ذلك مفرقاً فكذلك القبول. وقيل: إن لم نجوز تفريق الصفقة لم يجز الجمع في القبول. وتتعدد الصَّفقة أيضاً بتعدُّد البَائع، وإن اتَّحد المشتري والمعقود عليه كما إذا باع رجلان عبداً من رجل صفقة واحدة، وهل تتعدد بتعدد المشتري، مثل أن يشتري رجلان عبداً من واحد؟ فيه قولان: أصحهما: نعم، كما في طرف البائع. والثاني: لا؛ لأن المشتري يبني على الإيجاب السابق، فالنظر إلى من صدر منه الإيجاب، والقولان على ما ذكر الإمام مأخوذان من قولين يأتي ذكرهما في أن المُشْتريين إذا وجدا بالعبد عيباً، وأراد أحدهما إفراد نصيبه بالرد، هل له ذلك؟ إن قلنا: نعم، عددنا الصفقة، وإلاّ فلا، وللتعدد والاتحاد وراء ما نحن فيه آثار أخر. منها: أنا إذا حكمنا بالتعدد، فوفى أحد المشتريين نصيبه من الثمن، وجب على البائع تسليم قسطه من المبيع كما يسلم المشاع، وإنْ حكمنا بالاتِّحاد لم يجب تسليم شيء إلى أحدهما، وإن وفي جميع ما عليه حتى يوفى الآخر لثبوت حَقِّ الجنس للبائع،
كما لو اتَّحد المشتري ووفى بعض الثمن لا يسلم إليه قسط من المبيع، على أن فيه وجهاً: أن يسلم إليه القسط إذا كان المبيع مما يقبل القسمة ومنها: أنا إذا قلنا: بالتَّعدد، فلو خاطب واحد رجلين فقال: بعت منكما هذا العَبْدَ بألف، وقبل أحدهما نصفه بخمسمائةِ، ففي صحته وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنه في حكم صَفْقَتَين. وأصحهما: أنه لا يصح؛ لأن الإيجاب وقع جملة، وأنه يقتضي جوابهما جميعاً. ويجري الوجهان فيما لو قال مالكاً عبد لرجل: بِعْنَا منك هذا العبد بألف، فقبل نصيب أحدهما يعينه بخمسمائة، وقد يعرض للناظر تخريج خلاف في تعدد الصَّفقة بتعدد البائع من وجهين ذكروهما، فيما إذا باع رجلان عبداً مشتركاً بينهما من إنسان، هل لأحدهما أن ينفرد بأخذ شيء من الثمن؟ أحدهما وبه قال المُزَنِي: أنه لا ينفرد، ولعلنا نذكرهما بتوجيههما في غير هذا الموضع -إن شاء الله تعالى-. قال الغزالي: وَاِذا جَرَى العَقْدُ بِوَكَالَةٍ فَالأَصَحُّ أَنَّ الاعْتِمَادَ علَى المُوَكِّلِ في تَعَدُّدِهِ وَاتِّحَادِهِ. قال الرافعي: إذا وكَّل رجلان رجلاً بالبيع أو الشراء، وقلنا: إنَّ الصَّفقة تتعدَّد بتعدد المشتري، أو وكل رجل رجلين بالبيع أو الشراء، فالاعتبار في تعدد العقد واتِّحَاده بالعاقد أو المعقود له فيه وجوه: أحدها وبه أجاب ابن الحَدَّاد: أن الاعتبار بالعاقد؛ لأن الأحكام تتعلق به، ألا ترى أن المعتبر رؤيته دون رؤية الموكل، وخيار المجلس يتعلق به دون الموكل؟ والثَّاني وبه قال أبو زيد والخضري: أن الاعتبار بالمعقود له؛ لأنّ الملك يثبت له وهذا أصح عند صاحب الكتاب، والأول أصح عند الشَّيخ أبي علي والأكثرين. والثَّالث ويحكى عن أبي إسحاق: أن الاعتبار في طرف البيع بالمعقود له، وفي طرف الشراء بالعاقد، والفرق أن العقد يتم في جانب المشراي بالمباشر دون المعقود له، ألا ترى أن المعقود له لو أنكر كون المباشر مأذوناً وقع العقد عن المباشر، وفي جانب البيع لا يتم بالمباشر، حتى لو جحد المعقود له الإذن بطلا البيع. قال الإمام: وهذا الفرق فيما إذا كان التوكيل بالشِّرَاء في الذِّمة. فإما إذ وكله بشراء عبد بثوب له معين، فهو كالتَّوكيل بالبيع. والرابع: ذكره في "التتمة": أن الاعتبار في جانب الشراء بالموكل، وفي البيع بهما جميعاً، فأيهما تعدد، تعدد العقد، ووجه أن العقد يتعدد بتعدد الموكل في حق الشفيع، ولا يتعدد بتعدد الوكيل، حتى لو اشترى الواحد شِقْصاً لاثنين، كان للشفيع أن يأخذ
الثاني في لزوم اتحاد العقد وجوازه
حِصَّة أحدهما، وبالعكس لو اشترى وكيلان شِقْصاً لواحد لم يَجُزْ للشفيع أخذ بعضه، وفي جانب البيع حكم تعدُّد الوكيل والموكل واحد، حتى لو باع وكيل رجلين شِقْصاً من رجل ليس لِلشّفيع أخذ بعضه، وإذا ثبت ما ذكرناه في حكم الشّفعة فكذلك في سائر الأحكام، ويتفرع على هذه الوجوه فروع: إحداها: لو اشترى شيئاً بوكالة رجلين فخرج معيباً، وقلنا: الاعتبار بالعاقد، فليس لأحد الموكلين إفراد نصيبه بالرد، كما لو اشترى ومات عن ابنين وخرج معيباً، لم يكن لأحدهما إفراد نصيبه بالرد، وهل لأحد الموكلين والابنين أخذ الأَرْش إن وقع اليأس عن رد الآخر بأن رضي به فنعم، وإن لم يقع فكذلك في أصَحِّ الوجهين. الثاني: لو وكل رجلان رجلاً بِبَيْع عَبْدٍ لهما، أو وكل أَحَدُ الشَّرِيكين صاحبه، فباع الكل ثم خرج معيباً، فعلى الوجه الأول لا يجوز لِلْمُشْتَرِي ردّ نصيب أحدهما، وعلى الوجه الآخر يجوز. ولو وكل رجل رجلين ببيع عبده فباعاه من رجل، فعلى الأَوَّل يجوز للمشتري رد نصيب أحدهما، وعلى الوجوه الأخرى لا يجوز. ولو وكَّل رجلان رجلاً بشراء عبد أو وكَّل رجل رجلان بشراء عبد له ولنفسه ففعل، وخرج العبد معيباً فعلى الوجه الأول والثّالث ليس لأحد الموكلين إفراد نصيبه بالرد، وعلى الثاني والرابع يجوز. وعن القَفَّال: أنه إن علم البائع أنه يشتري لاثنين، فلأحدهما رد نصيبه لرضا البائع بالتَّشْقِيض، وإن جهله البائع فلا. الثالث: لو وكَّل رجلان رجلاً ببيع عبد، ورجلان رجلاً بشرائه، فتبايع الوكيلان وخرج معيباً. فعلى الوجه الأول لا يجوز التفريق. وعلى الوجوه الأخر يجوز. ولو وكل رجل رجلين ببيع عبد ورجلين آخرين بشرائه، فتبايع الوكلاء. فعلى الوجه الأول يجوز التفريق. وعلى الوجوه الأخر لا يجوز -والله أعلم-. قال الغزالي: النَّظَرُ الثَّانِي، (فِي لُزُومِ اتِّحَادِ العَقْدِ وجَوَازِهِ) وَالأَصْلُ في البَيْعِ اللُّزُومُ وَالخِيَارُ عَارِضٌ، ثُمَّ يَنْقَسِم الخِيَارُ إلَى خِيَارِ التَّروِّي، وَإِلَى خِيَارِ النَّقِيصَةِ، وَخِيَارُ التَّروِّي مَا لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى فَوَاتِ وصَفٍ، وَلَهُ سَبَبَانِ: (أحَدُهُمَا): المَجْلِسُ فَيَثْبُتُ (م ح) خِيَارُ المَجْلِسِ في كُلِّ مُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ مِنْ بَيْعٍ وَسَلَمٍ وَصَرْفٍ وَإِجَارَةٍ (ح) إِلاَّ فِيمَا يُسْتَعْقَبُ عِتَاقَةَ كَشِرَاءِ القَرِيبِ وَشِرَاءِ العَبْدِ نَفْسَهُ (و)، وَلاَ يَثْبُتُ فِيمَا لاَ يُسَمَّى بَيْعاً لِأَنَّ مُسْتَنَدَهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: "المُتَبَايعَان بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا". قال الرافعي: ذكرنا في أول البيع: أنه أدرج كلام الكتاب في خمسة أطراف،
وهذا أَوَانُ الفراغ من الطرف الأول، والشُّروع في الطرف الثاني، وهو الكلام في لزوم العقد وجوازه، ولا نناقش في إبداله لفظ الطرف هاهنا وبعده بالنظر، فالأمر فيه سهل. وقوله: "الأصل في البيع اللُّزُوم، والخِيَار (¬1) عارض" ليس المراد منه عروض ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الجواز على اللزوم بعد ثبوت اللزوم، لكن المواد منه أحد أمرين: أولهما: أنَّ البيع من العقود التي يقتضي وضعها اللُّزُوم ليتمكن كل واحد من المُتَعَاقدين من التصرف فيما أخذه آمنا من نقض صاحبه عليه. والثَّاني: أن الغالب من حالات البيع اللزوم، والجواز لا يثبت إلاَّ في الأقل، ومن البينات أن المراد من اللُّزوم انفكاكه عن الخيار، ومن الجواز كونه بحال ثبوت الخيار، ثم الخيار على قسمين؛ لأنه إمَّا أن لا يتوقف على فوات شيء بل يتعلق بمجرد التَّشهي، وهذا ما عبر عنه بخيار التَّروي، وإما أن يتوقف على فوات شيء مظنون الحصول، وهذا ما عبر عنه بخيار النَّقِيصة. أما القسم الأول فقد ذكر في الكتاب أن له سببين، وهو مفرع على قولنا: إن بيع الغائب لا يصح، فإن صححناه أثبتنا خيار الرؤية، ومعلوم أنه لا يتوقَّف على فوات شيء فتصير الأسباب ثلاثة: السبب الأول: كونهما مجتمعين في مجلس العقد، ولكل واحد من المُتَابعين فسخ البيع ما لم يتفرَّقا أو يتخايرا على ما سنفصله، وبه قال أحمد. وقال مالك وأبو حنيفة: لا خيار بالمجلس.
لنا ما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْمُتَابِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ". (¬1) ولنفصل القول فيما يثبت فيه خِيَار المَجْلس من العقود وما لا يثبت، والعقود ضربان: أحدهما: العُقُود الجائزة، إمَّا من الجانبين كالشّركة، والوِكَالَة والقِرَاض والوَدِيعة والعَارِية، أو من أحدهما كالضَّمان والكِتَابة، فلا خِيَار فيهما. أمَّا الجائزة من الجَانِبين فلأنهما بالخيار فيها أبداً، فلا معنى لخيار المجلس. وأمَّا الجائزة من أحد الجانبين، فلمثل هذا المعنى في حقِّ مَنْ هي جائزة في حقه، والآخر دخل فيهما موطِّناً نفسه على الغَبْن، ومقصود الخِيَار: أنْ ينظر وَيتروّى ليدفع الغَبْن عن نفسه، وكذا الحكم في الرهن، نعم لو كان الرهن مشروطاً في بيع وأقبض قبل التفريق أمكن فسخ الرهن بأن يفسخ البيع حتى ينفسخ الرهن تبعاً. وحكى القاضي ابن كج عن بعض الأصحاب وجهاً: أنه يثبت الخيار في الكتابة. وعن ابن خيران: أنه يثبت في الضَّمَان وهما غريبان. والضَّربْ الثَّانِي: العقود اللاَّزِمة وهي نوعان: العقود الواردة على العَيْن، والعقود الواردة على المَنْفَعَة. أما النَّوع الأول: فمنه أنواع البيع كالصَّرف وبيع الطَّعَام بالطَّعَام والسّلم والتَّوْلِية والتَّشْريك وصلح المُعَاوَضَة، فيثبت فيها خِيَار المَجْلس جميعاً لظاهر الخبر، ويستثنى صور: إحداها: إذا باع مال نفسه من ولده أو بالعكس، ففي ثبوت خيار المَجْلِسِ وجهان: أحدهما: لا يثبت؛ لأن الذي ورد في الخبر لفظ "المتبايعين"، وليس هاهنا متبايعان. وأصحهما: يثبت؛ لأنه أقيم مقام الشخصين في صحة العقد فكذلك في الخيار، ولفظ الخبر ورد على الغالب، فعلى هذا يثبت للمولى خيار وللطفل خيار، والولي نائب عنه، فإن ألزم لنفسه وللطفل لزم، وإن ألزم لنفسه بقي الخِيَار للطِّفْل، فإذا فارق المَجْلس لزم العَقْد في أصَحِّ الوجهين. والثَّاني: لا يلزم إلا بالإلزام؛ لأنه لا يفارق نفسه، وإن فارق المجلس. ¬
الثَّانية: لو اشترى من يعتق عليه كأبيه وابنه فَالَّذِي ذكره في الكتاب: أنه لا يثبت فيه خِيَارَ المَجلِس واتبع فيه الإمام، حيث نقل أنْ لا خيار فيه على المَشْهُور؛ لأنه ليس عقد مُغَابَنَة من جهة المشتري؛ لأنه وطن نفسه على الغَبْن المالي. وأمَّا من جهة البائع فهو وإنْ كان عقد مُغَابَنَة لكن النظر السهونه عتاقة. ثم حكى الأَوْدنِيّ: أنه يثبت تمسكاً بظاهر قوله: "لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ، إِلاَّ بِأَنْ يَجِدَهُ مَمْلوكاً فَيَشْتَرَيهُ فَيَعْتِقَهُ" (¬1). فإنه يقتضي إنشاء إعتاق بعد العقد، والأكثرون بَنَوْا ثبوت الخِيَار في المَسْأَلة على الخِلاَف في أقوال الملك في زمن الخيار فإن قلنا إنه للبائع، فلهما الخيار ولا نحكم بالعتق، حتى يمضي زمان الخيار. وإن قلنا: إنه موقوف فلهم الخِيَار أيضاً، فإذا أمضينا العَقْد تبيَّن أنه عتق بالشراء. وإن قلنا: إنَّ الملك للمشتري فلا خيار له ويثبت للبائع، ومتى يعتق؟ فيه وجهان: أظهرهما: أنه لا يحكم بالعِتْق حتى يمضي زمان الخِيَار، ثم يحكم حينئذ بعتقه من يوم الشراء. والثاني: أنه يعتق في الحال، وعلى هذا هل يبطل خيار البائع؟ فيه وجهان كالوجهين فيما إذا أعتق المُشْتَرِي العبد الأجنبي في زمان الخيار على قولنا: إِنّ الملك له. قال صاحب "التهذيب": ويحتمل أن يحكم بثبوت الخيار للمشتري أيضاً تفريعاً على أن الملك في زمان الخِيَار له، وأنَّ العبد لا يعتق في الحال؛ لأنه لم يوجد منه الرّضا إلا بأصل العقد، فإذا ما في الكتاب يخالف مقالة الأكثرين؛ لأن الصحيح من أقوال الخيار قول التَّوقف، أو قول انتقال الملك إلى المشتري على ما سيأتي، -إن شاء الله تعالى- وعلى التقدير الأول: يثبت الخيار لهما. وعلى الثاني: يثبت للبائع، والمذكور في الكتاب نفيه على الإطلاق. الثالثة: الصّحيح: أن بيع العبد من نفسه جائز، وعلى هذا فهل فيه خيار المجلس؟ ¬
قال في الكتاب: لا، وبمثله أجاب في "التتمة"، حيث نزله منزلة الكتابة (¬1). وذكر أبو الحسن العبادي مع هذا وجهاً آخر: أنه يثبت فيه الخيار، ومال إلى ترجيحه. الرابعة: ذكروا وجهين في ثبوت الخيار في شراء الجَمْد في شِدَّة الحَرّ، لأنه يتلف بمضي الزمان (¬2). الخامسة: إنْ صححنا بيع الغائب، ولم نثبت خيار المجلس مع خيار الرؤية فهذا البيع من صور الاستثناء، وكذا البيع بشرط نفي خيار المجلس إن صححنا البيع والشرط، وقد مرت المسألتان. هذا هو الكلام في البيع بأنواعه، ولا يثبت خيار المجلس في صلح الحِطَيطَة والإِبْرَاء؛ لأنه شرع فيهما على يقين بأن لا حظَّ له فيهما، ولا في الإِقَالة. إن قلنا: إنها فسخ. وإن قلنا: إنها بيع ففيها الخيار، ولا يثبت أيضاً في الحِوَالة إن لم نجعلها معاوضة، وإن جعلناها معاوضة فكذلك في أظهر الوجهين؛ لأنها ليست على قواعد المعاوضات، إذ لو كانت كذلك لبطلت، لأن بيع الدَّيْن بالدَّيْن لا يجوز، ولا يثبت أيضاً في الشُّفْعَة للمشتري، وفي ثبوته للشفيع وجهان: وجه الثبوت: أن سبل الأخذ بالشفعة سبل المعاوضات، أَلاَ تَرَى أنه يثبت فيه الرد بالعيب، والرجوع بالعهدة؟ ووجه المنع: أن المشتري لا خِيَار له، وتخصيص خيار المجلس بأحد الجانبين بعيد، فإن أثبتناه فعن بعضهم أن معناه: أنه بالخِيَار بين الأخذ والتَّرك ما دام في المَجْلس، هذا مع تفريعنا على قول الفور. وغلّط إمام الحرمين ذلك القائل. وقال الصحيح: أنه على الفور، ثم له الخيار في نقض الملك ورده، ومن اختار عين ماله المبيع من المفلس لزمه ولا خيار له. وروى القاضي ابنْ كَجٍّ؛ أن أبا حسن حكى وجهاً: أنه بالخِيار ما دام في المجلس، وهذا شبيه بالخلاف في الشَّفيع، ولا خيار في الوَقْف كما في العِتْق ولا في الهِبَة إن لم يكن فيها ثواب، وإن وهب بشرط الثواب أو مطلقاً. ¬
وقلنا: إنه يقتضي الثواب فوجهان: أظهرهما: أنه لا يثبت، لأنه لا يسمى بَيْعاً والخبر ورد في المُتَبَايعين، ويثبت الخيار في القسمة إن كان فيها رد، وإلاَّ فإن جرت بالإجبار فلا خيار فيها، وإن جرت بالتَّراضي فينبني على أنها بيع إو إفراز حق. إن قلنا: إفراز حتى لم يثبت. وإن قلنا: بيع، فكذلك في أصح الوجهين. وأما النوع الثاني، وهو العقد الوارد على المنفعة: فمنه النكاح، فلا يثبت فيه خيار المجلس للاستغناء عنه بسبق التَّأمل غالباً، ولا يثبت في الصَّدَاق المسمى أيضاً على أصح الوَجْهَيْن؛ لأن المال تبع في النكاح. والثَّاني: يثبت، فإنَّ الصَّدَاق عقد مستقل، فعلى هذا إن فسخ وجب مَهْر المِثْل، وعلى هذين الوجهين ثبوت خيار المجلس في عوض الخُلْع، ولا مدفع للفُرْقَة بحال. ومنه: الإِجَارة، وفي ثبوت خيار المجلس فيها وجهان: أحدهما وبه قال الإِصْطَخْري وصاحب "التلخيص": يثبت؛ لأنها مُعَاوَضَة لازمة كالبيع، بل هي ضرب من البيع. والثاني وبه قال أبو إِسْحَاق وابْنُ خَيْرَان: لا يثبت؛ لأن عقد الإِجَارة مشتمل على الغَرَر؛ لأنه عقد على معدوم والخيار غرر، فلا يضم غَرَر إلى غَرَر، وبالوجه الأول أجاب صاحب الكتاب، ورجحه صاحب "المهذب" وشيخه الكَرْخِيّ. وذكر الإمام وصاحب "التهذيب" والأكثرون: أن الأصح هو الثاني. وعن القَفَّال في طائفة: أن الخلاف في إجارة العَيْن. أما الإجارة على الذمة فيثبت فيها خيار المجلس لا محالة، بناء على أنها مُلْحَقَةٌ بالسلم، حتى أنه يجب فيها قبض البَدَل في المَجْلس. فإن قلنا بثبوت الخيار في إجارة العين فابتداء المدة يحسب من وقت انقضاء الخِيَار بالتفرق، أَمْ من وقت العقد؟ حكى الإمَامُ فيه خلافاً. قيل: يحسب من وقت انقضاء الخيار؛ لأن الاحتساب من وقت العقد يعطل المنافع على المُكْتَرِي أو المكري، وعلى هذا لو أراد المكري أن يكريه من غيره في مدة الخيار، قال: لا مجيز له فيما أظن، وإن كان محتملاً في القياس. والصحيح: أنه يحسب من وقت العَقْد، إذ لو حسب من وقت انقضاء الخيار
لتأخَّر ابتداء مدة الإِجَارة عن العقد، فيكون كإجارة الدَّار السنة القابلة وهي باطلة، وعلى هذا فعلى من تحسب مدة الخيار؟ إن كان قبل تسليم العَيْن إلى المستأجر فهي محسوبة على المكري. وإن كان بعد التسليم، فوجهان مبنيان على أن المبيع إذا هلك في يد المشتري في زمان الخيار، من ضمان من يكون؟ أصحهما: أنه من ضَمَان المشتري، فعلى هذا هى محسوبة على المُسْتَأجر، وعليه تمام الأجرة. والثَّاني: أنها من ضَمَان البائع، فعلى هذا يحسب على المكري، ويحطّ من الأُجْرة بقدر ما يقابل تلك المدة. وأما المساقاة ففي ثبوت خيار المجلس فيها طريقان: أظهرهما: أنه على الخِلاَف المذكور في الإِجَارة. والثَّاني: القطع بالمنع، لأن الغَرَر فيه أعظم؛ لأن كل واحد من المتعاقدين لا يدري ما يحصل له، فلا يضم إليه غرر آخر. والمسابقة كالإِجَارة، إن قلنا: إنها لازمة وكالعقود الجائزة، إن قلنا: إنها جائزة. وقوله: "ولا يثبت فيما لا يسمَّى بَيْعاً"، يجوز إعلامه بالواو للوجوه الصَّائرة إلى ثبوته في الكتَابة والخُلْع، وسائر ما حكينا الخلاف فيه -والله أعلم-. قال الغزالي: وَيَنْقَطِعَ الخِيَارُ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى اللُّزُومِ وَتَمَام الرِّضَا، وَبِمُفَارَقَةِ المَجْلِسِ بالبَدَنِ، وَهَلْ يَبْطُلُ بالمَوْتِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ، أَصَحُّهُمَا أنَّهُ لاَ يَبْطُلُ كَخِيَارِ الشَّرْطِ (وح) فَيثْبُتُ لِلوَارِثِ، وَلَو فُرِّقَ بَيْنَهُمَا عَلَى إِكْرَاهِ فَفِي بُطْلاَنِ الخِيَار خِلاَفٌ، وَيثْبُتُ عِنْدَ جُنُونِ أَحَدِ المُتَعَاقِدَيْنِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ لِلقَيِّمِ. قال الرافعي: مقصود الفصل الكلام فيما ينقطع به خِيَار المَجْلس وجملته، أن كل عقد ثبت فيه هذا الخيار فإنه ينقطع بالتَّخَاير، وبأن يتفرَّقا بأبدانهما عن مجلس العَقْد. أما التخاير: فهو أن يقولا: تخايرنا أو اخترنا إمضاء العقد أو أمضيناه أو أجزناه، أو ألزمناه وما أشبهها. ولو قال أحدهما: اخترت انقطع خياره، ويبقى خيار الآخر كما في خيار الشَّرْط إذا أسقط أحدهما الخيار. وفي وجه: لا يبقى خيار الآخر أيضاً؛ لأن الخيار لا يتبعَّض في الثبوت، فلا يتبعض في السقوط.
ولو قال أحدهما لصاحبه: اختر أو خيرتك، فقال الآخر: اخترت انقطع خيارهما جميعاً، وإن سكت لم ينقطع خِياره وينقطع خيار الْقَائِل في أَصَحِّ الوَجْهَيْن؛ لأن قوله: اختر رضا منه باللُّزوم، وقد روي في بعض الروايات أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ" (¬1). ولو قال أحدهما: اخترت، وقال الآخر: فسخت، قدم الفسخ على الإجازة. ولو تقابضا في المجلس، وتبايعا العوضين بيعاً ثانياً صح البيع الثَّانِي على المشهور، وهو قول ابْنِ سُرَيْجِ؛ لأن البيع الثاني منهما رضاً بلزوم الأول. وعن صاحب "التقريب": أنه مبني على أن الخيار هل يمنع انتقال الملك؟ إن قلنا: يمنع لم يصح. ولو تقابضا في عقد الصَّرف، ثم أجازا في المجلس، لزم العقد، وإن أجازاه قبل التقابض فوجهان: أحدهما: أن الإجازة لاغية؛ لأن القبض متعلق بالمجلس، وهو باق فبقي حكمه في الخِيَار. والثَّاني: أنه يلزم العقد وعليهما التَّقَابض (¬2)، فإن تفرَّقا قبل القَبْض انفسخ العقد، ولا يعصيان إن تفرقا عن تَرَاضٍ، فإن انفرد أحدهما بالمُفَارَقة عصى. وأما التفرق: فهو أن يتفرَّقا بأبدانهما، فلو أقاما في ذلك المجلس مدة طويلة، أو قاما وتماشياً منازل فهما على خيارهما، هذا هو المذهب (¬3)، ووراءه وجهان: ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أحدهما: قال بعض الأصحاب: لا يزيد الخيار على ثلاثة أيام، لأنها نهاية الخِيَار المشروط شرعاً. والثاني: أنه لو لم يتفرقا، ولكن شرعا في أمر آخر وأعرضا عمَّا يتعلّق بالعقد
وطال الفصل انقطع الخيار، نقلة صاحب "البيان"، ثم الرجوع في التَّفرق إلى العادة، فما يعده الناس تَفَرَّقاً يلزم به العقد، فلو كانا في دار صغيرة، فالتفرق بأن يخرج أحدهما منها أو يصعد السَّطْح، وكذا لو كانا في مَسْجِدٍ صغير أو سَفِينَة صغيرة .. وإن كانت الدَّار كَبِيرة، جعل التَّفرق بأن يخرج أَحَدُهما من البَيْت إلى الصَّحْراء، أو يدخل من الصَّحْن في بيت أو صُفَّة، وإن كانا في صحراء أو سوق فإذا ولى أحدهما ظهره الآخر ومشى قليلاً حصل التفرق، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- "إِذَا ابْتَاعَ شَيْئاً وَأَرَادَ أَنْ يُوجِبَ الْبَيْعَ، قَامَ وَمَشَى قَلِيلاً" (¬1). وعن الإِصْطَخْرِي: أنه يشترط أن يَبْعد بحيث إذا كلم صاحبه على الاعتياد من غير رفع الصَّوْت لم يسمع، ولا يحصل التَّفرق بأن يرخي بينهما ستر أو يشق بينهما نَهْر، وهل يحصل بأن يبني بينهما جدار من طين أو جصّ؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأنه في مجلس العقد، وألحقه الإمام بما إذا حمل أحدهما وأخرج، وسيأتي الكلام فيه -إن شاء الله تعالى-. وصَحْن الدار والبيت الواحد إذا تفاحش اتِّسَاعهما كالصَّحراء، ولو تناديا متباعدين وتبايعا، صح البيع، وما حكم الخيار؟ قال الإمام: يحتمل أن يقال: لا خيار؛ لأن التَّفرق الطَّارئ قاطع للخيار، فالمقارن يمنع ثبوته، ويحتمل أن يقال: يثبت ما داما في مَوْضعهما، وهذا ما أورده المُتَوَلِّي (¬2). ثم إذا فارق أحدهما موضعه وبطل خِيَاره، هل يبطل خِيَارُ الآخر أو يدوم، إلى أن يفارق مكانه؟ فيه احتمالان للإمام (¬3). ثم في الفَصْل ثَلاَثُ مسائل: إحداها: إذا مات أحد المتبايعين في مجلس العقد، فقد نصّ في "المختصر" في البيوع: أن الخيار لوارثه، وفي المكاتب: أنه إذا باع ولم يتفرقا حتى مات المكاتب وجب البيع. ¬
وللأصحاب في النصين ثلاثة طرق: أظهرها: أن في الصُّورتين قولين بالنقل والتخريج وبه قال القاضي أبو حامد وأبو إسحاق: أحدهما: أنه يلزم البَيْع؛ لأنه خيار يسقط بمفارقة المَكَان، فبمفارقة الدُّنْيَا أولى. وأصحهما: أنه لا يلزم، بل يثبت للوارث والسَّيِّد كخِيَار الشرط والعَيْب. والثاني: القطع بثبوت الخِيَار للوارث والسيد. وقوله "في المُكَاتب: وجب البيع"، أراد به أنه لا يبطل بموته كالكتابة. والثَّالث: تقرير النَّصَّين، والفرق أنَّ الوارث خليفة المورث، فيقوم مقامه في الخيار، والسيد ليس خليفة للمُكَاتب، وإنَّمَا يأخذ ما يأخذ بحق الملك، والعبد المَأْذُون إذا باع أو اشترى ومات في المجلس كالمُكَاتب فيجيء فيه هذا الخِلاَف، وكذلك في الوَكِيل بالشِّرَاء إذا مات في المَجْلس، هل للموكل الخِيَار؟ وهذا إذا فرعنا على أن الاعتبار بِمَجْلس الوَكِيلِ في الابْتِدَاء وهو الصحيح، وروى وجه: أن الاعتبار بمجلس الموكل. التفريع: إنْ لم يثبت الخِيَار للوارث فقد انقطع خيار المَيِّت. وأما الحي ففي "التهذيب": أن خِيَاره لا ينقطع حتى يفارق ذلك المجلس. وذكر الإمام تفريعاً على هذا القول: أنه يلزم العَقْد من الجانبين، ويجوز تقدير خلاف فيه لما مر، أن هذا الخيار لا يتبعض في السقوط كما هو في الثبوت (¬1). وإن قلنا: يثبت الخيار للوارث، فإن كان حاضراً في المجلس امتد الخيار بينه وبين العاقد الآخر، حتى يتفرقا أو يتخايرا. وإن كان غائباً فله الخيار، إذا وصل الخبر إليه، ثم هو على الفَوْرِ أو يمتد امتداد مجلس بلوغ الخبر إليه، فيه وجهان: وجه الأول: أنَّ المجلس قد انقضى، وإنما أثبتنا له الخِيَار كيلا يعطل حقّاً كان للمورث. ووجه الثاني: أن الوارث خليفة المورث فليثبت له مثل ما ثبت للمورث، وهذان ¬
الوَجْهَان كالوَجْهَيْن في خِيَار الشرط إذا ورثه الوارث، وكان بلغ الخبر إليه بعد انْقِضاء مدّة الخِيَار، ففي وجه هو على الفور، وفي وجه: يدوم مثل ما كان يدوم للمورث لو لم يمت. هذا ترتيب الأكثرين، وبنى بَانُون ثبوت الخِيَار للوارث على وَجْهَيْن نقلوهما في كيفية ثبوته للعاقد الباقي: أحدهما: أنَّ له الخيار ما دام في مجلس العقد، فإذا فارقه بطل، فعلى هذا يكون خيار الوَارِث في المجلس الذي يشاهد فيه المبيع ليتأمل ويختار ما فيه الحَظّ. والثَّاني: أنَّ خياره يتأخَّر إلى أنْ يجتمع مع الوارث في مجلس واحد، فعلى هذا حينئذ يثبت الخيار للوارث (¬1). فرع: إذا ورثه اثْنَان فصاعداً، وكانوا حضوراً في مجلس العقد، فلهم الخيار إلى أن يفارقوا العاقد الآخر، ولا ينقطع الخيار بمفارقة بعضهم على الأصح. وإن كانوا غائبين عن المَجْلس، ففي "التتمة": أنا إن قلنا في الوارث الواحد: يثبت الخيار في مجلس مشاهدة المبيع، فلهم الخيار إذا اجتمعوا في مجلس واحد. وإن قلنا له الخيار إذا اجتمع مع العاقِد، فكذلك لهم الخيار إذا اجتمعوا معه، ومتى فسخ بعضهم وأجاز بعضهم، ففي وجه لا ينفسخ في شيء. والأصح: أنه ينفسخ في الكُلِّ كالمورث لو فسخ في حياته في البعض، وأجاز في البعض (¬2). المسألة الثانية: إذا حمل أحد المُتَعَاقدين، وأخرج من المجلس مُكرهاً، نظر إن مُنع من الفسخ أيضاً بأن سُدَّ فوه لم ينقطع خياره على أظهر الطَّرِيْقَين (¬3)، إذ لم يوجد منه ما يدل على الرِّضَا باللزوم. ¬
والثاني: أن في انقطاعه وجهان كالقولين في صورة الموت، وهنا أولى ببقاء الخيار؛ لأن إبطال حقه قهراً مع بقائه بعيد، فإن لم يُمنع من الفسخ فطريقان على العكس: أظهرهما: أنه في انقطاع الخِيَار وجهين: أحدهما: وبه قال أبو إسحاق: ينقطع، لأن سُكُوته عن الفَسْخ مع القدرة رضا بالإِمْضَاء. وأصحهما: أنه لا ينقطع؛ لأنه مكره في المفارقة وكأنه لا مفارقة، والسكوت عن الفَسْخ لا يبطل الخياركما في المجلس. الثاني: القطِع بالانقطاع، وهو اختيار الصَّيْدَلاَني، فإن قُلْنَا: ينقطع خياره، انقطع خيار المَاكث أيضاً، وإلا فله التَّصرف بالفَسْخ والإجازة إذا وجد التمكن، وهل هو على الفور؟ فيه ما سبق من الخلاف. فإن قلنا: لا، وكان مستقرّاً حين زايله الإِكْرَاه في مجلس ابتداء الخِيَار امتد الخيار امتداد ذلك المَجْلس، وإن كان مارّاً فإذا فارق في مروره مكان التَّمكن، انقطع خياره وليس عليه الانْقِلاَب إلى مجلس العقد ليجتمع مع العاقد الآخر إن طال الزمان، وإن لم يطل ففيه احتمال عند الإمام. وإذا لم يبطل خيار المُخْرَج لم يبطل خيار المَاكث أيضاً، إن منع من الخروج معه، وإن لم يمنع بطل في أصح الوجهين .. ولو ضربا حتى تفرقا بأنفسهما، ففي انقطاع الخيار قولان كما في حنث المكره. ولو هرب أحدهما لم يتبعه الآخر مع التمكن بطل خيارهما، وإن لم يتمكَّن من متابعته، ففي "التهذيب": أنه يبطل خِيَار الهَارِب دون الآخر (¬1). المسألة الثالثة: إذا جُن أحد المتعاقدين أو أغمي عليه لم ينقطع الخيار، لكن يقوم وَلِّيُه أو الحاكم مقامه، فيفعل ما فيه الحَظِّ من الفسخ والإجازة. وفيه وجه مخرج من الموت، أنه ينقطع، وعلى المذهب: لو فارق المجنون مجلس العقد. قال الإمام: يجوز أن يقال: لا ينقطع الخيار؛ لأن التصرف انقلب إلى القوام عليه، ويعارضه أنه لو كان كذلك لكان المجنون كالموت. ولو خرس أحد المتعاقدين في المجلس، فإن كانت له إشارة مفهومة أو كتابة، فهو على خياره، وإلاَّ نصب الحاكم نائباً عنه. وقوله: "في مسألة الموت": فيه قولان يجوز إعلامه بالواو، للطريقين الآخرين. ¬
وقوله: "كخيار الشرط" معلّم -بالحاء والألف- لأن عند أبي حنيفة وأحمد خِيَار الشَّرط غير موروث، وبالواو أيضاً؛ لأن عن صاحب "التقريب": أن بعض أئمتنا خرج قولاً من خيار المجلس في خيار الشرط: أنه لا يورث. وقوله: "ويثبت عند جنون أحد المتعاقدين"، معلَّم بالواو لما مر. قال الغزالي: وَلَوْ تَنَازَعَا في جَرَيَانِ التَّفَرُّقِ، فَالأَصْلُ عَدَمُهُ، ومَنْ يَدَّعِيهِ يُطَالَبُ بِالبَيِّنَةِ، وَلَوْ تنَازَعَا في الفَسْخِ بَعْدَ الاتِّفَاقِ عَلَى التَّفَرُّقِ، فَالأَصْلُ عَدَمْ الفَسْخِ (و). قال الرافعي: في الفصل صورتان هَيِّنتا الخطب. إحداهما: لو جاء المُتَعَاقِدَان معاً، فقال أحدهما: تفرقنا بعد البيع، وأنه قد لزم، وأنكر الثَّاني التفرق وأراد الفسخ، فالقول قول الثاني مع يمينه؛ لأن الأصل دوام الاجْتِمَاع، وعلى من يدعي خلافه البينة (¬1). ولك أن تقول: هذا بين إن قصرت المُدَّة، ولكنها إن طالت فدوام الاجتماع خلاف الظاهر، وإن كان على وفاق الأصل، فلا يبعد تخريجه على الخلاف المشهور في تعارض الأصل والظاهر، والأصحاب لم يفرقوا بين الحالين. الثَّانية: اتَّفقا على التَّفرق، وقال أحدهما: فسخت قبله وأنكر الآخر، فالقول قول الآخر مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الفسخ، وعلى المدعي البينة، هذا هو الظاهر، وبه أجاب في الكتاب. وعن صاحب "التقريب": أن القول قول من يدعي الفسخ؛ لأنه أعرف بتصرفه. ولو اتفقا على عدم التفرق وتنازعا هكذا. ففي "التهذيب": أن دعوى مدعي الفسخ فسخ. قال الغزالي: السَّبَبُ الثَّانِي: الشَّرْطُ قَالَ عَلَيهِ السَّلاَمُ لِحِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ وَكَانَ يُخْدَعُ في البُيُوعِ: إِذَا بَايَعتَ فَقُلْ لاَ خِلاَبَةَ، وَاشْتِرَاطُ الخِيَارِ ثَلاَثةَ أَيَّامٍ، وَلاَ يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ (م)، وَلاَ التَّقْدِيرُ بِمُدَّةٍ مَجْهُولَةٍ، وَلاَ الإِبْهَامُ في أَحَدِ العَبْدَينِ. قال الرافعي: الأصل في خيار الشَّرْط الإجماع، وما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أَنَّ رَجُلاً ذَكَرَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- "إذَا ¬
بَايَعْتَ فَقُلْ لاَ خِلاَبَةَ" (¬1). وروي أنَّ ذلك الرجل كان حبان بن منقذ (¬2) أصابته أمة في رأسه، فكان يخدع في البيع، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا بَايَعْتَ، فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ، وَجَعَلَ الْخِيَارَ ثَلاَثاً" وفي رواية، "وَجَعَلَ لَهُ بِذَلِكَ الخِيَارَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ". وفي رواية "قُلْ: لاَ خِلاَبَةَ وَلَكَ الْخِيَارُ ثَلاَثاً" (¬3). وهذه الروايات كلها في كتب الفقة، ولا تلقى في مشهورات كتب الحديث سوى الرواية المقتصرة على قوله: "لاَ خِلاَبَةَ". وهذه الكلمة في الشرع عبارة عن اشتراط الخيار ثلاثاً (¬4)، فإذا أطلقاها عالمين ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بمعناها كان كالتَّصْريح بالاشْتراط، وإن كانا جاهلين لم يثبت الخيار، وإن علم البائع دون المشتري، ففيه وجهان عن ابن القَطَّان: أحدهما: لا يثبت لعدم التَّرَاضي. والثاني (¬1) يثبت لظاهر قوله:"قُلْ لاَ خِلاَبَةَ، وَلَكَ الْخُيَارُ ثَلاَثاً". وأما اللفظة المروية في الكتاب، وهي قوله: "وَلِيَ الْخِيَارُ ثَلاتة أَيَّامٍ"، فلا تكاد توجد في كتب الحديث ولا الفقة، نعم في شرح "مختصر الجويني" للموفق بن طاهر "قُلْ: لاَ خِلاَبَةَ وَاشْتَرِطْ الْخِيَارَ ثَلاَثاً"، وهما متقاربان. إذا عرفت ذلك ففي الفصل ثلاث صور: إحداها: لا يجوز شرط الخِيَار أكثر من ثلاثة أيّام ولو زاد فسد العقد؛ لأن الخيار غرر، فلا يزاد على ما ورد به الخبر. وقال مالك: تجوز الزيادة بحسب الحاجة حتى لو اشترى ضَيْعَة يحتاج النَّظر فيها إلى شهر فصاعداً يجوز شرطه. وعن أحمد: تَجْوِيز الزِّيَادة من غير تَحْدِيد، ويجوز شرط ما دون الثَّلاَث بطريق الأَوْلَى، لكن ولو كان المَبِيع مِمَّا يتسارع إليه الفَسَاد فيبطل البيع أو يصح، ويباع عند الإِشْرَاف على الفساد، ويقام ثمنه مقامه. حكى "يحيى اليمن" عن بعض من لقيه فيه وجهين (¬2). وقال مالك: إن كان المبيع مِمَّا يعرف حاله بالنَّظَر ساعة أو يوماً لم تَجُزِ الزيادة، ويشترط أن تكون المُدَّة مُتَّصلة بالعقد حتى لو شرطا خيار ثلاثة، فما دونها من آخر الشهر أو متى شاء، أو شرطا خيار الغد دون اليوم فسد العقد؛ لأنه إذا تراخت المدة عن العقد لزم، وإذا لزم لم يعد جائزاً، ولهذا لو شرطا خيار الثلاثة ثم أسقط اليوم الأول، سقط الكل. الثانية: لا يجوز شرط الخِيَار مطلقاً، ولا تقديره بمدة مجهولة، ويفسد العقد به خلافاً لمالك، حيث قال: يصح، ويحمل على ما تقتضيه العادة فيه، لنا القياس على الأجل. ولو شرطا الخيار إلى وقت طلوع الشمس من الغد جاز، ولو قالا: إلى طلوعها. ¬
فعن الزبيري: أنه لا يجوز؛ لأن السماء قد تكون متغيّمة فلا تطلع وهذا بعيد، فإن التَّغيم إنما يمنع من الإشراق واتِّصال الشعاع لا من الطلوع، وفي الغروب لا فرق بين أن يقولا: إلى الغروب، أو إلى وقت الغروب بالاتفاق (¬1). ولو تبايعا نهاراً بشرط الخِيَار إلى اللَّيل أو بالعكس لم يدخل فيه الليل والنهار، كما لو باع شيئاً إلى رمضان لا يدخل رمضان في الأجل. وقال أبو حنيفة: يدخل اللَّيل والنهار. الثَّالثة: لو باع عبدين بشرط الخِيَار في أحدهما لا على التعيين فسد العقد، كما لو باع أحدهما لا على التعيين. وقال أبو حنيفة -رحمه الله- يجوز في العبدين والثَّوبين والثَّلاثة، ولا يجوز في الأربعة وما زاد، كما قال في البيع، ولو شرطا الخِيَار في أحدهما على التَّعيين، ففيه قولاً الجمع بين مختلفي الحكم، وكذا لو شرطا في أحدهما خيار يوم، وفي الآخر خيار يومين، فإن صحَّحنا البيع ثبت الخيار فيما شرط، وكما لو شرط فيهما ثم أراد الفسخ في أحدهما، فعلى قولي تفريق الصَّفقة في الرد بالعيب. ولو اشترى اثنان شيئاً من واحداً صفقة واحدة بشرط الخيار، فلأحدهما الفسخ في نصيبه، كما في الرَّد بالعيب، ولو شرط لأحدهما الخيار دون الآخر، ففي صحة البيع قولان: الأصح: الصحة. فرع: ابتاع على شرط أنه إن لم ينقده الثمن إلى ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما، أو باع على شرط أنه إن رد الثمن في ثلاثة أيام فلا بيع بينهما فهذا شرط فاسد، كما إذا تبايعا على شرط أنه إنْ قدم زيد اليوم فلا بيع بينهما. وعن أبي إسحاق: أنه يصح العقد، والمذكور في الصورة الأولى شرط الخيار للمشتري، وفي الثانية شرطه للبائع -والله أعلم-. قال الغزالي: وَأَوَّلُ مُدَّتِهِ عِنْدَ الاِطْلاَقِ مِنْ وَقْتِ العَقْدِ لاَ مِنْ وَقْتِ التَّفَرُّقِ عَلَى الأَصَحِّ، وَلاَ يتوَقَّفُ الفَسْخُ بِهِ عَلَى حُضُور (ح) الخَصْمِ وَقَضَاءِ القَاضِي (ح). قال الرافعي: إذا تبايعا بشرط الخِيَار ثلاثة فما دونها، فابتداء المُدَّة مِنْ وَقْت العَقْد أو التفرق فيه وجهان: أصحهما: من وقت العقد، وبه قال ابن الحَدَّاد لأن ثبوته بالشرط، والشرط وجد في العقد. ¬
والثاني: من وقت التَّفرق أوالتَّخاير، ونقل الإمام عمن صار إليه تعليلين: أحدهما: أن الخِيَارين متماثلان، المِثْلان لا يجتمعان. والثاني: أن الظاهر، أن الشَّارط يبغي بالشَّرط إثبات ما لولا الشرط لما ثبت، وخيار المجلس ثابت وإن لم يوجد الشَّرط فيكون المقصود ما بعده. ولك أن تقول: أما الأول فليس الخِيَار إلاَّ واحداً، لكن له جهتان: المجلس والشرط، وذلك لا بعد فيه، كما أنه قد يثبت الخِيَارُ بجهة الخلف والعيب معه. وأما الثَّاني: فتنزيل الشرط على ما ذكره يورث الجَهَالة؛ لأن وقت التَّفرق مجهول. والوجهان على ما روى الشيخ أبو علي وغيره مطَّردان في الأجل لكن بالترتيب، إن جعلنا الخيار من وقت العقد فالأجل أولى، وإلاَّ فوجهان، والفرق أن الأجل لا يثبت إلاَّ بالشَّرط، فالنظر فيه إلى وقت الشَّرْط، والخيار قد يثبت من غير شرط، فمقصود الشَّرْط إثبات ما لولاه لما ثبت، وأيضاً فإنَّ الأجل وإن شارك الخيار في منع المطالبة بالثَّمن لكنه يخالفه من وجوه، واجتماع المختلفين غير مستنكر. التفريع: إن قلنا بالأول، فإذا انقضت المدة وهما مصطحبان بعد، انقطع خيار الشَّرْط، وبقي خِيَار المجلس، وإن تَفَرَّقا والمدة باقية فالحكم بالعكس، ولو أسقطا أحد الخِيَارين لم يسقط الآخر، ولو قالا: ألزمنا العقد وأسقطنا الخيار مطلقاً سقطا، ولو شرطا الاحتساب من وقت التفرق بطل الشرط والعقد؛ لأنه مجهول. وعن رواية صاحب "التقريب" وجه: أنهما صحيحان. وإن قلنا بالوجه الثاني، فإذا تفرقا انقطع خيار المَجْلس، واستؤنف خِيَار الشَّرط، ولو أسقطا الخيار قبل التفرق بطل خيار المجلس، ولا يبطل الآخر في أصح الوجهين؛ لأنه غير ثابت بعد، ولو شرطا الاحتساب من وقت العَقْدِ فوجهان: أصحهما: صحَّة العقد والشَّرط، وبناهما الإمام على التعليلين السابقين، إن علّلنا باجتماع الخِيَارين بطلا، وإلاَّ صحا؛ لأن التَّصريح بالاحتساب من العقد يبين أنه ما أراد بالشرط ما بعد التفرق، ولو شرط الخيار بعد العقد وقبل التفرق، وقلنا بثبوته فالحكم على الوجه الثاني لا يختلف. وعلى الأول فالاحتساب من وقت الشرط لا من وقت العقد ولا من وقت التفرق، هذا شرح إحدى مسألتي الفصل. والثانية: لمن له خيار الشَّرط من المتعاقدين فسخ العقد حضر صاحبه أو غاب، وبه قال مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة -رحمه الله- ليس له الفَسْخ إلاَّ بحضور صاحبه. لنا: أنه أحد طرفي الخِيَار فلا يتوقف على حضور المتعاقدين كالإجازة، وأيضاً فإنه إذا لم يفتقر في رفع العَقْد إلى صاحبه، وجب أن لا يفتقر إلى حضوره، كما لو طلق زوجته ولا يفتقر نفوذ هذا الفَسْخ إلى الحاكم، لأنه فسخ متفق على ثبوته بخلاف الفسخ بالعُنَّة فإنه مختلف فيه -والله أعلم-. قال الغزالي: وَيثْبُتُ خِيَارُ الشَّرْطِ في كُلِّ مُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ مِمَّا هُوَ بَيْعٌ، إِلاَّ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَمَا يَسْتَعقِبُ العِتْقَ مِنَ البُيُوعِ. قال الرافعي: غرض الفصل بيان ما يثبت فيه خيار الشَّرط من العقود وما لا يثبت. والقول الجملي فيه: أنه مع خيار المجلس يتلازمان في الأغلب لكن خيار المجلس أسرع وأولى ثبوتاً من خيار الشرط؛ لأن زمان المجلس أقصر غالباً فربما انفكَّا لذلك، فإن أردت التَّفْصيل فراجع ما سبق في خيار المجلس. واعلم: أنهما متقاربان في صور الخلاف والوفاق، إلا أن البيوع التي يشترط فيها التقابض في المجلس كالصَّرف وبيع الطعام بالطَّعام، أو القبض في أحد العوضين كالسلم لا يجوز شرط الخِيَار فيها، وإن ثَبَتَ خِيَار المجلس؛ لأن ما يشترط فيه القبض لا يحتمل فيه التَّأجيل، والخيار أعظم غَرَراً من الأجل؛ لأنه مانع من الملك أو من لزومه فهو أولى بأن لا يحتمل، وأيضاً فالمقصود من اعتبار القَبْض أن يتفرقا، ولا علقة بينهما تحرزاً من الرِّبا أو من بيع الكَالِئ بالكَالِئ ولو أثبتنا الخيار لبقيت العَلَقة بينهما بعد التَّفرق، إلاَّ أن خيار الشَّرط لا يثبت في الشّفْعة بلا خلاف، وكذا في الحِوَالة على ما حكاه العراقيون مع نقلهم الخلاف في خيار المجلس. قال الإمام: ولا أعرف فرقاً بين الخيارين، إلاَّ أن الوجه الغريب المذكور في خيار المجلس للبائع من المفلس لم يطرد هاهنا، إلاَّ أن في الهِبَة بشرط الثَّوَاب طريقة عن القاضي أبي الطَّيب قاطعة بنفي خِيَار الشرط، وإلاّ أن في الإجارة أيضاً طريقة مثل ذلك. أما في إجارة العين فلما في هذا الخيار من زيادة تعطُّل المنفعة. وأما في الإجارة على الذمة فبناء على تنزيلها منزلة السّلم، وحكم شرط الخيار مذكور في كتاب الصداق. وقوله في الكتاب: "وما يستعقب العتق من البيوع"، لا بد من إعلامه بالواو، والقول فيه على ما ذكرنا في خيار المجلس ولم يستثن في لفظ الكتاب بيع الطعام بالطعام ولا بد منه -والله أعلم-.
قال الغزالي: ثُمَّ إِنْ كَانَ الخِيَارُ لِلبَائِعِ وَحْدَهُ فَالمَبِيعُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ عَلَى الأَصَحِّ، وَإِنْ كَانَ لِلمُشْتَرِي وَحْدَهُ فَالمِلْكُ مُنْتَقلٌ (وح) إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُمَا فَثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: (أَحَدُهَا) أنَّهُ مَوْقُوفٌ فَإنِ اسْتَقَر العَقْدُ تَبَيَّنَ زَوَالَ المِلْكِ بِنَفْسِ العَقْدِ، وَإنْ فُسِخَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَزُلِ المِلْكُ وَلَمْ يَتِمَّ السَّبَبُ، وَالكَسْبُ وَالنِّتَاجُ وَالوَطْءُ وَالاسْتِيلاَدُ وَالعِتْقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الطَّوَارِئِ فُرُوعُ المِلْكِ فَيَنْتَظرُ آخِرُ الأَمْرِ وَمَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ آخِراً يُقَدَّرُ وُجُودُهُ أَوَّلاً (و). قال الرافعي: تقدم على فقه الفصل مقدمة، وهي أن الخيار إما أن يشرط لأحد المتعاقدين أو لكليهما أو لغيرهما، فإن شرط لأحدهما أو لهما فهو جائز. إما للمشتري، فلحديث حِبان. وإما للبائع أولهما. فبالقياس عليه والإجماع، ويجوز أن يشرط لأحدهما خيار يوم، وللآخر خيار يومين أوثلاثة، وإن شرط لغيرهما فذلك الغير إما أجنبي، أو الموكل الذي وقع العقد له، فإن كان أجنبياً فقولان: أحدهما: أنه يفسد العقد والشَّرط، لأنه خيار يتعلَّق بالعقد، فيختص بالمتعاقدين كخيار العَيْب. وأصحهما، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد -رضي الله عنهم- أنهما صحيحان، لأنه خيار يثبت بالشرط للحاجة، وقد تدعو الحاجة إلى شرطه للأجنبي لكونه أعرف بحال المعقود عليه، ويجري القولان في بيع العبد بشرط الخيار للعبد، ولا فرق على القولين بين أن يشرطا أو أحدهما الخيار لشخص واحد، وبين أن يشترط هذا الخيار لواحد، وهذا للآخر. وإذا قلنا: بالأصح، ففي ثبوت الخيار لمن شرط أيضاً قولان أو وجهان: أصحهما، وهو ظاهر نصه في الصرف: أنه لا يثبت اقتصاراً على الشرط، كما إذا شرط لأحدهما لا يثبت للآخر. والثاني: يثبت، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وعللوه بمعنيين: أحدهما: أن شرط الخيار للأجنبي يشعر باستيفاء الشَّارط الخيرة لنفسه لطريق الأولى. والثاني: أنه يستحيل ثبوت الخيار لغير المتعاقدين لا على سبيل النيابة، وخرج الإمام عليهما ما لو شرطا الخيار للأجنبي دونهما، فعلى المعنى الأول يختص بالأجنبي، وعلى الثاني لا يختص ويفسد الشرط، فإن لم يثبت الخيار للعاقد مع الأجنبي، فمات الأجنبي في زمان الخيار، ثبت الآن له في أصَحِّ الوَجْهَيْن [كذا] قاله في "التهذيب". فإن أثبتا الخيار للعاقد مع الأجنبي، فلكل واحد منهما الاستقلال بالفسخ، ولو
فسخ أحدهما وأجاز الآخر فالفسخ أولى، ولو اشترى شيئاً على أن يؤامر فلاناً، فيأتي بما يآمره به من الفسخ والإجازة، فالمنقول عن نَصِّه في "الإملاء" على مسائل مالك: أنه يجوز وليس له الرد حتى يقول: استأمرته فأمرني بالفسخ (¬1)، وتكلموا فيه من وجهين: أحدهما: أنه وإذا شرط أن يقول: استأمرته؟ قال الدين خصُّوا الخيار المشروط للأجنبي به: هذا جواب على المذهب على الذي قلناه ومؤيد له. وقال الآخرون: إنه مذكور احتياطاً. والثاني: أنه أطلق في التصوير شرط المؤامرة، فهل يحتمل ذلك؟ الصحيح: أنه لا يحتمل، واللفظ محمول على ما إذا قيد المؤامرة بالثَّلاث فما دونها. وقيل: يحتمل الإطلاق والزيادة على الثلاث كما في خيار الرؤية. وأما إذا كان ذلك الغير هو الموكل ثبت الخيار للموكل دونه. واعلم: أن الوكيل بالبيع والشراء له شرط الخِيَار للموكل في أظهر الوجهين؛ لأن ذلك لا يضره وطرد الشيخ أبو علي الوجهين في شرط الخِيَار لنفسه أيضاً، وليس للوكيل بالبيع شرط الخيار للمشتري، ولا للوكيل بالشِّراء شرط الخيار للبائع، فإن خالف بطل العقد، وإذا شرط الخِيَار لنفسه وجوزناه أو أذن فيه صريحاً ثبت له الخيار، ولا يفعل إلاَّ ما فيه الحظ للموكل؛ لأنه مؤتمن بخلاف الأجنبي المشروط له الخيار لا يلزمه رعاية الحَظّ هكذا ذكروه، وَلنَاظِرٍ أن يجعل الخيار له ائتماناً، وهو أظهر إذا جعلناه نائباً عن العاقد، ثم هل يثبت الخيار للموكل معه في هذه الصورة؟ فيه الخلاف المذكور فيما إذا شرط للأجنبي، هل يثبت للعاقد؟ وحكى الإمام فيما إذا أطلق الوكيل شرط الخيار بالإذن المطلق من الموكل ثلاثة أوجه: أن الخيار يثبت للوكيل، أو للموكل، أَوْ لَهُما (¬2). ¬
إذا قررت المقدمة فللشافعي -رضي الله عنه- ثلاثة أقوال في أن الملك في البيع في زمان الخيار لمن هو؟ أحدها وبه قال أحمد: أنه للمشتري؛ لأن البيع قد تَمَّ بالإيجاب والقبول، فثبوت الخِيَار فيه لا يمنع الملك كخِيَار العيب، وعلى هذا فالملك في الثَّمَن للبائع. والثاني وبه قال مالك: أنه باق للبائع لنفوذ تصرفاته، وقد روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا". وعلى هذا فالملك في الثمن للمشتري. والثَّالث: أنه موقوف فَإِنْ تم البيع، بَانَ حصول الملك للمشتري من وقت البيع، وإلا بَانَ أن ملك البائع لم يزل وكذا يتوقف في الثمن، ووجهه: أن البَيْع سبب الزوال، إلاَّ أن شرط الخِيَار يشعر بأنه لم يرض بعد بالزَّوَال جزماً، فوجب أن يتربَّص وينتظر عاقبة الأمر، وفي موضع الأقوال طرق: أحدها: أن الخلاف فيما إذا كان الخِيَار لهما، إما بالشرط أو في خيار المجلس. أما إذا كان لأحدهما فهو المالك للمبيع لنفوذ تصرّفه فيه. ويحكى هذا عن صاحب "التقريب"، وهو قريب مما أورده في الكتاب. والثاني: أنه لا خلاف في المسألة، ولكن إن كان الخيار للبائع فالملك له، وإن كان للمشتري فهو له، وإن كان لهما فهو موقوف، وتنزل الأقوال على هذه الأحوال وهو اختيار القاضي الرُّوياني في "الحلية". والثالث: طرد الأقوال في الأحوال، وهو أظهر عند عامة الأصحاب منهم العراقيون والحَلِيمِيّ، وإذا جرت الأقوال فما الأظهر منها؟ قال الشيخ أبو حامد ومن نَحَا نَحْوَه: الأظهر أن الملك للمشتري، وبه قال الإمام. وقال الآخرون: الأظهر: الوقف، وبه قال صاحب "التهذيب"، والأشبه: توسط ذكره جماعة، وهو: أنه إنْ كان الخيار للبائع، فالأظهر: بقاء الملك له، وإن كان للمشتري فالأظهر: انتقاله إليه، وإن كان لهما فالأَظْهَر: الوقف، وعلى هذا تَتَفَاوَتَ الأَحْوال من الأقوال، لا في تخصيص الخلاف ببعضها. وقال أَبو حنيفة: إن كان الخِيَار لهما أو للبائع فالملك للبائع، وإن كان للمشتري زال ملك البائع، ولم يحصل لِلْمُشْتري. التفريع لهذه الأقوال فروع كثيرة الانْشعاب: منها ما يورد في سائر الأبواب، ومنها ما يختص بهذا الموضع، وصاحب الكتاب
أشار إلى بعض صور: منها: كسب العبد والجارية المبيعين في زمان الخيار، فإن تم المبيع بينهما فهو للمشتري، إن قلنا: الملك له أو موقوف. فإن قلنا: الملك للبائع، فوجهان قال الجمهور: الكَسْب له؛ لأنه للمالك حين حصوله. وعن أبي علي الطبري: أنه للمشتري؛ لأن سبب مِلْكه موجود أولاً، وقد استقر عليه آخراً فيكتفي به، وإن فسخ البيع فهو للبائع، إن قلنا: الملك للبائع أو موقوف. لأن قلنا: للمشتري، فوجهان: أصحهما: أنه له، وعن أبي إسحاق: أنه للبائع نظراً إلى المال، وبنى صاحب "التتمة" الوجهين على أن الفسخ رفع للعقد من حينه، أو من أصله. إن قلنا بالأول فهو للمشتري. وإن قلنا بالثاني فللبائع، وفي معنى الكسب اللّبن والبيض والثمرة ومَهْر الجارية إذا وطئت بالشُّبْهِة. ومنها: النِّتاج، فإن فرض حدوث الولد وانفصاله، في زمان الخيار لامتداد " المجلس فهو كالكسب، وإن أو كانت البهيمة أو الجارية حاملاً عند البيع، وولدت في زمان الخيار، فيبنى على أن الحمل هل يأخذ قسطاً من الثمن؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأن الحَمْل كالجزء منها، فأشبه سائر الأعضاء، فعلى هذا. هو كالكسب وبلا فرق. وأصحهما: نعم، كما لو بيع بعد الانفصال مع الأم، فعلى هذا الحمل مع الأم كعينين تباعان معاً، فإن فسخ البيع فهما للبائع، وإلاَّ فللمشتري. ومنها: العتق، وهو مؤخر في لفظ الكتاب لكن تقديمه أليق بالشرح. فنقول: إذا كان المبيع رقيقاً فأعتقه البائع، في زمان الخيار المشروط لهما أو للبائع نفذ إعتاقه على كل حال، أما إذا كان المِلْك له فظاهر، وأما على غير هذا القول؛ فلأنه بسبيل من الفَسْخ، والإعتاق يتضمَّن الفَسْخ فينقل المِلك إليه قبيله وإن أعتقه المشتري. فإن قلنا: الملك للبائع لم ينفذ إن فسخ البيع، وإن تم فكذلك في أصح الوجهين. والثاني: ينفذ اعتباراً بالمال. وإن قلنا بالوقف، فالعتق موقوف أيضاً، إن تم العقد بَانَ وإلاَّ فلا. وإن قلنا: إن الملك للمشتري، ففي نفوذ العِتْق وجهان: أصحهما: وهو ظاهر النص: أنه لا ينفذ، صيانة لحق البائع عن الإبطال. وعن ابن سُرَيْجٍ: أنه ينفذ لمصادفته الملك. ثم اختلفوا فمن مطلق نقل النفوذ عنه، ومن فارق بين أن يكون موسراً فينفذ وبين أن يكون معسراً فلا ينفذ، كما في الرهن.
فإن قلنا: لا ينفذ، فاختار البائع الإجازة، ففي الحكم بنفوذه الآن وجهان: إن قلنا: ينفذ فمن وقت الإجازة أو الإعتاق وجهان: أظهرهما: أولهما. وإن قلنا بوجه ابن سريج ففي بطلان خيار البائع وجهان: أحدهما: يبطل، وليس له إلاَّ الثمن. وأظهرهما: لا يبطل، ولكن لا يرد العِتْق بل وإذا فسخ أخذ قيمة العبد كما في نظيره من الرَّدِّ بالعيب، هذا إذا كان الخِيَار لهما أو للبائع، أمّا إذا كان الخيار للمشتري نفذ إعتاقه على جَمِيعِ الأقوال؛ لأنه إمَّا مصادف لِلْملِك أو إجازة، وليس فيه إبطال حق الغير، وإن أعتقه البائع. فإن قلنا: إن المِلْك للمشتري لم ينفذ تم البيع أو فسخ، ويجيء فيما لو فسخ الوجه الناظر إلى المآل. وإن قلنا بالوقف، لم ينفذ إن تم البيع وإلاَّ نفذ. وإن قلنا: إنه للبائع، فإن اتفق الفسخ فهو نافذ، وإلاَّ فقد أعتق ملكه الذي تعلق به حق لازم، فهو كإعتاق الراهن. ومنها: الوطء، فإن كان الخيَار لهما أو للبائع، فالكلام في وَطْء البَائع ثم في وَطْء المشتري، ومنها وطء البائع، ففي حلِّه طرق: أحدها: أنا إنْ جعلنا المِلْك له فهو حلال، وإلاَّ فوجهان: وجه الحل: أنه يتضمن الفسخ على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى- وفي ذلك عود الملك إليه معه أو قبيله. والثاني: أنا إن لم نجعل الملك له فهو حرام، وإن جعلناه له فوجهان، وجه التحريم ضعف الملك. والثالث: عن الشيخ أبي محمد: القطع بالحل على الإطلاق، والظاهر من هذا أكله: الحل إن جعلنا الملك له، والتحريم إن لم نجعله له، ولا مهر عليه بحال. وأما وطء المشتري فهو حرام، أما إن لم يثبت الملك له فظاهر، وأما إنْ أثبتناه فهو ضعيف كملك المكاتب، ولكن لا حَدَّ عليه على الأقوال لوجود الملك أو لشبهه الملك، وهل يلزمه المهر إن تم البيع بينهما؟ فلا، إن قلنا: الملك للمشتري أو موقوف.
وإن قلنا: إنه للبائع وجب المهر له. وعن أبي إسحاق: أنه لا يجب نظراً إلى المآل، وإن فسخ البيع وجب المهر للبائع. إن قلنا: الملك له أو موقوف. وإن قلنا: إنه للمشتري، فلا مهر عليه في أصح الوجهين. ولو أولدها فالولد حُرّ ونسيب على الأقوال، وهل يثبت الاستيلاد؟ إن قلنا: الملك للبائع فلا، ثم إن تَمَّ البيع أو ملكها بعد ذلك، ففي ثبوته حينئذ قولان كالقولين إذا وطئ جَارِية الغير بالشبهة ثم ملكها، وعلى الوجه الناظر إلى المال إذا تم البيع نفذ الاسْتِيْلاَد بلا خلاف، وعلى قول الوَقْف إن تم البيع بَانَ ثبوت الاستيلاد وإلاَّ فلا، فلو ملكها يوماً عاد القولان: وعلى قولنا: إن الملك للمشتري ففي ثبوت الاستيلاد الخلاف المذكور في العتق، فإن لم يثبت في الحال وتم البيع بَانَ ثبوته. ثم رتب الأئمة الخِلاَف في الاسْتِيلاد على الخلاف في العِتْق، واختلفوا في كيفيته، فَمَنْ صائر إلى أن الاستيلاد أولى بالثبوت، ومن عاكس لذلك، ووجههما مذكور في الكتاب في "الرّهن". قال الإمام: ولا يبعد الحكم باستوائهما لتعارض الجهتين، والقول في وجوب قيمة الولد على المشتري كالقول في المهر. نعم، إن جعلنا الملك للبائع وفرضنا تمام البيع، فللوجه الناظر إلى المآل مأخذ آخر، وهو القول بأن الحمل لا يعرف، أما إذا كان الخيار للمشتري وحده، فحكم حل الوطء كما مر في حل الوطء للبائع إذا كان الخيار له أو لهما، وأما البائع فيحرم عليه الوطء هاهنا، ولو وطئ فالقول في وجوب المهر وثبوت الاسْتِيلاد ووجوب القيمة كما ذكرنا في طرق المشتري إذا كان الخيار لهما أو للبائع، هذا شرح الفروع المذكورة في الكتاب وَقَدَاءَها فروع: أحدها: إذا تلف المَبِيع بآفَةٍ سماوية في زمان الخيار، نظر إن كان قبل القبض انفسخ البيع بلا شك، وإن كان بعده وقلنا: الملك للبائع انفسخ أيضاً؛ لأنا نحكم بالانْفِسَاخ عند بقاء يده، فعند بقاء ملكه أولى فيستردّ الثمن ويغرم للبائع القيمة، ويجيء في القيمة المَعْرُوفَة الخلاف المذكور في كيفية غرامة المُسْتَعِير والمُسْتَام. وإن قلنا إن الملك للمشتري أو موقوف فوجهان أو قولان: أحدهما: أنه ينفسخ أيضاً لحصول الهَلاَك قبل استقرار العَقْد. وأصحهما: أنه لا ينفسخ لدخوله في ضمان المُشْتري بالقبض، ولا أثر لولاية الفسخ كما في خيار العيب.
وإن قلنا بالانفساخ فعلى المشتري القيمة، قال الإمام: وهاهنا يقطع باعتبار قيمة يوم التلف؛ لأن الملك قبل ذلك للمشتري، وإنما يقدر انتقاله إليه قُبَيل التَّلَف، وإن قلنا: بعده الانفساخ، فهل ينقطع الخيار؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما ينقطع خيار الرد بالعيب بتلف المبيع. وأصحهما: لا، كما لا يمتنع التَّحَالُف بتلف المبيع ويخالف الرَّد بالعيب؛ لأن الضَّرَر ثم يندفع بالأرْشِ. فإن قلنا بالأول استقر العَقْد ولزم الثمن. وإن قلنا بالثاني، فإن تَمَّ العقد لزم الثمن، وإلاَّ وجبت القِيْمَة على المشتري. واسترد الثمن، فإنْ تنازعا في تعيين القيمة، فالقول قول المشتري، وعن بعض الأصحاب طريقة أخرى في المَسْأَلة وهي، القطع بعدم الانفساخ. وإن قلنا: إن الملك للبائع وذكروا تفريعاً عليه، أنه لو لم ينفسخ حتى انقضى زمان الخيار، فعلى البائع رد الثمن، وعلى المشتري القيمة؛ لأن المبيع تلف على ملك البائع، فلا يبقى الثمن على ملكه. قال الإمام: وهذا الخليط ظاهر. الثاني: لو قبض المشتري المبيع في زمان الخِيَار، وأْتلفه متلف قبل انقضائه إن قلنا: إنَّ الملك للبائع، انفسخ البيع كما في صورة التَّلف؛ لأن نقل الملك بعد الهَلاَك لا يمكن. فإن قلنا: إنه للمشتري أو موقوف نظر إن أتلفه أجنبي فيبنى على أن لو تلف. إنْ قلنا: ينفسخ العقد ثم، فهذا كإتلاف الأجنبي المَبِيع قبل القبض، وسيأتي حكمه -إن شاء الله تعالى- وإن قلنا: لا ينفسخ، وهو الأصح فكذلك هاهنا، وعلى الأجنبي القيمة والخِيَار بحاله، فإن تَمَّ البيع فهي لِلْمُشْتَري إلاَّ فللبائع، ولو أَتْلفه المشتري استقر الثمن عليه، فإن أتلفه في يد البَائِعِ وجعلنا إتلافه قبضاً، فهو كَمَا لَوْ تلف في يده، وإن أتلفه البائع في يد المشتري. ففي "التتمة": يبنى على أن إتلافه كإتلاف الأجنبي أو كالتلف بآفة سماوية، وستعرف الخلاف فيه. والثالث: لو تلف بعض المبيع في زمان الخِيَار بعد القبض، كما لو اشترى عبدين فمات أحدهما، ففي الانفساخ فيما تلف الخِلاَف السَّابق إن انفسخ جاء في الانفساخ في الباقي قَوْلاً تفريق الصفقة، وإن لم ينفسخ بقي خياره في الباقي إن قلنا: بجواز ردّ أحد العبدين، إذا اشتراهما بشرط الخيار، وإلاَّ ففي بقاء الخِيار في الباقي الوجهان، وإذا بقي الخيار فيه وفسخ رَدَّه مع قيمة الهالك.
فرع: إذَا قبض المبيع في زمان الخِيَار ثم أودعه عند البائع فتلف في يده، كَمَا لَوْ تلف في يد الَمشتري حتى إذا فرعنا على أن الملك للبائع ينفسخ البيع، ويسترد المشتري الثمن ويغرم القيمة، حكاه الإمام عن الصيدلاني؛ ثم أبدى في وجوب القيمة احتمالاً لحصول التلف بعد العود إلى يد المالك. واعلم: أنه لا يجب على البائع تسليم المبيع، ولا على المشتري تسليم الثمن في زمان الخيار، ولو تبرع أحدهما بالتسليم لم يبطل خياره، ولا يجبر الآخر على تسليم ما عنده، وله استرداد المدفوع وقيل ليس لَهُ اسْترداده، وله أخذ ما عند صاحبه دون رضاه، كما لو كان التسليم بعد لزوم المبيع. الرابع: لو اشترى زوجته بشرط الخِيَار ثم خاطبها بالطَّلاق في زمان الخيار؛ فإن تم العقد بينهما وقلنا: إن الملك للمشتري أو موقوف لم يقع الطلاق، وإن قلنا: إنه للبائع وقع. وإن فسخ وقلنا: إنه للبائع أو موقوف وقع. وإن قلنا: للمشترى فوجهان (¬1) عن رواية الصَّيْمَرِي، وليس له الوَطْء في زمان الخِيَار، لأنه لا يدري أَيَطَأُ بالملك أو بالزوجية؟ هكذا حكى عن نصه، وفيه وجه آخر. وأما ما يتعلق بلفظ الكتاب. فقوله: "فالمبيع باق على ملكه معلَّم بالألف". وقوله: "على الأصح" يمكن أن يريد به الأصح من الطريقين ويمكن أن يريد به الأصَحّ من الأقوال، وعلى التقدير الثاني يجوز إِعلامه بالواو للطريقة النافية للخلاف. وقوله: "فالملك منتقل إليه" مُعلّم بالحاء والميم، والواو. وقوله: "فثلاثة أقوال" بالواو. وقوله: "موقوف" بالحاء والميم والألف، ووجه ذلك كله ما مر. وقوله: "فينتظر آخر الأمر ... " إلى آخره عبارة أجراها على قول الوقف، ومعناها أن ما يستقر عليه العقد آخراً من الفسخ والإمضاء يقدر وجوده في الابتداء، فإن فسخ قدرنا أنه لم يجر بينهما عقداً، وإنْ أمضى قدرناه من الابتداء، هذا ما ينطبق اللفظ عليه -والله أعلم-. قال الغزالي: وَيَحْصُلُ الفَسْخُ بِوَطْءِ البَائِعِ (و) وَبَيْعِهِ وَعِتْقِهِ وَهِبَتِهِ مَعَ القَبْضِ وَإِنْ ¬
كَانَ مِنْ وَلَدِهِ، وَلاَ تَحْصُلُ الإجَازَةُ (و) بسُكُوتِهِ علَى وَطْءِ المُشْتَرِي، وَمَا جَعَلْنَاهُ فَسْخاً مِنَ البَائِعِ فَهُوَ إِجَازَةٌ (و) مِنَ المُشْتَرِي إِنْ وُجِدَ، وَكَذَا الإِجَارَة وَالتَّزْوِيجُ في مَعْنَى البَيْعِ (و) مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالعَرْضُ عَلَى البَيْعِ وَالإِذْنُ فِيهِ لاَ يَقْطَعُ خِيَار البَائِعِ. قال الرافعي: لا يخفى فيما تحصل به الإجازة من الألفاظ، وما لا يحصل به الفسخ، كقول البائع: فسخت البيع، واسترجعت المبيع، ورددت الثمن. وعن الصيمري: أن قول البائع في زمان الخيار: لا أبيع حتى يزيد في الثمن، وقول المشتري: لا أفعل اختياراً للفسخ، وكذا قول المشتري: لا أشتري حتى تنقص لي من الثمن، وقول البائع: لا أفعل، وكذا طلب البائع حلول الثمن المؤجل، وطلب المشتري تأجيل الثمن الحال، ثم في الفصل صور. أحدها: إذا كان للبائع خيار فوطئه في زمان الخيار فسخ لإشعاره باختياره الإمساك ويخالف الرَّجْعَة لا تحصل بالوطء؛ لأن الرَّجْعَة لتدارك النِّكاح، وابتداء النكاح لا يحصل بالفعل، فكذا تداركه، والفسخ هاهنا لتدارك مِلْك اليمين، وابتداؤه يحصل تارة بالقول، وأخرى بالفعل، وهو السَّبْي فكذا تَدَارُكه جاز أنْ يحصل بالفعل. وحكى الإمَامُ عَنْ بَعضِ الخلافيين وجهاً: أن وطء البائع ليس بفسخ تخريجاً من الخلاف في أن الوطء هل يكون تعييناً للمملوكة والمنكوحة عند إبهام العتق والطَّلاَق؟ وروى القاضي ابن كج وجهاً: أنه إنما يكون فسخاً إذا نوى به الفسخ، وعلى المذهب لو قَبَّلَ أو باشر فيما دون الفَرْج بِشَهْوة هل يكون فسخاً؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: نعم، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب"، وبمثله أجاب في الاستخدام وركوب الدابة. لكن الأظهر في المذهب: أنهما لا يتضمَّنان الفسخ. الثانية: إعتاق البَائع إن كان له الخيار فسخ بلا خلاف، وفي بيعه وجهان: أحدهما: ليس بفسخ لأن الأصل بقاء العَقْد فيستصحب إلى أن يوجد الفَسْخ صريحاً وإنما جعلنا العِتْق فسخاً لقوته. وأصحهما: أنه فسخ؛ لدلاته على ظهور النَّدم، وعلى هذا ففي صِحَّة البيع المأتي به وجهان: أصحهما: صحّته كالعتق. والثاني: المنع؛ لأن الشيء الواحد لا يحصل به الفسخ. والعقد جميعاً، كما أن التكبيرة الثانية في الصلاة بنية الشروع يخرج بها من الصلاة فلا يشرع بها في الصلاة، ويجري هذا الخلاف في الإجارة والتزويج وكذا في الرَّهْن والهِبَة إن اتَّصَل بهما القبض، ولا فرق بين أنْ يهب ممن لا يتمكَّن من الرُّجُوع في هبته، وَبَيْنَ أَنْ يهب ممن يتمكن
كما لَوْ وهب مِنْ ولده؛ لأن الملك في الصورتين زائل، والرجوع إعادة لما زال، وإن تجرَّدَ الرَّهْن والهِبَة عَنِ القَبْض فالحكم فيه كما في العرض على البيع وسيأتي -إن شاء الله تعالى-. الثَّالِثَةُ: إذا علم البائع أن المشتري يطأ الجارية وسكت عليه هل يكون مجيزاً؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم لإشعاره بالرِّضَا، وأيد ذلك بقوله في "المختصر": ولو عجل المشتري فوطئها وأحبلها قبل التفرق في غفلة من البائع، فاختار البائع الفسخ كان على المشتري مَهْر مثلها قيد بما إذا وطئ في غفلة من البائع. وأصحهما: لا كما لو سكت على بيعه وإجارته، وكما لو سكت على وطء أمته لا يسقط به المهر، وهذا هو المذكور في الكتاب. ولو وطئ بالإذن حصلت الإِجَازة، ولم يجب على المشتري مهر ولا قيمة ولد، وثبت الاسْتِيلاد بلا خلاف، وما مر في الفصل السابق مفروض فيما إذا باع ولم يأذن له البائع في الوطء ولا علم به. الرابعة: وطء المشتري هل يكون إجازة منه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، بل له الفسخ بعد ذلك، كما له الرد بالعيب بعد الوطء. وأصحهما: وبه أجاب في الكتاب: نعم؛ لأن وطء البائع اختيار للمبيع، فكذا وطء المشتري، ويخالف الرد بالعيب لأنه عند الوطء جاهل بالحال، حتى لو كان عالماً يسقط الخيار. ولو أعتق المشتري نظر إن أعتق بإذن البائع نفذ، وحصلت الإجَازَة من الطَّرَفَيْن، وإن أعتق بغير إذنه ففي نفوذه ما سبق، فإن نفذ حصلت الإجَازة، وإلاَّ فوجهان حكاهما الإمام. أظهرهما: الحصول أيضاً لدلالته على اختيار الملك. قال: ويتوجه أن يقال: إن أعتق وهو يعلم عدم نفوذه لم يَكُنْ إجازة بلا خلاف. ولو باع أو وقف أو وهب أو قبض بغير إذن البائع لم ينفذ، ولا يجئ فبها الخلاف المذكور في العِتْق لاختصاصه بمزيد القُوَّة والغلبة، وهل يكون إجازة؟ قال أبو إسحاق: لا؛ لأن الإجازة لو حصلت لحصلت ضمناً للتصرف فإذا لغا التَّصرف فلا إجازة وقال الإصْطَخْري: نعم لدلالته على الرِّضَا والاختيار، وهذا أصَحُّ عند الأصحاب. ولو باشر هذه التَّصرفات بإذن البائع أو باع من البائع نفسه صح التصرف على أصح الوجهين.
قال في "الشامل": وعلى الوجهين جميعاً يلزم البيع، ويسقط الخيار، ولكن قياس ما مر أن يكون سقوط الخيار، إن قلنا: بعدم نفاذها على الوجهين، ولو أذن له البائع في طَحْن الحِنْطة المبيعة فطحنها كان مجيزاً، ومجرد الإذن في هذه التَّصرفات لا يكون إجازة من البائع، حتى لو رجع قبل التصرف كان على خياره، ذكره الصيدلاني وغيره. الخامسة: في العرض على البيع والإذن والتوكيل فيه وجهان، وكذا في الرهن والهبة دون القبض. أحدهما: أن هذه التصرفات فسخ من جهة البائع، وإجازة من جهة المشتري لدلالتها على الاسْتِئْثَار بالبيع، ولهذا يحصل بها الرُّجوع عن الوَصِيّة. وأظهرهما، وهو المذكور في الكتاب: أنها ليست بفسخ ولا إجازة، فإنها لا تقتضي إزالة مِلْك وليست بعقود لازمة، ومن المحتمل صدورها عن تردده في الفَسْخ والإجازة (¬1). ولو باع المبيع في زمان الخِيَار بشرط الخِيَار. قال إمام الحرمين: إن قلنا: لا يزول ملك البائع فهو قريب من الهبة الخالية عن القبض، وإن قلنا: يزول ففيه احتمال أيضاً؛ لأنه أبقى لنفسه مستدركاً. وقوله في الكتاب: "لا يقطع خيار البائع" لا معنى للتخصيص بالبائع فإنه كما لا ¬
يقطع خيار البائع لا يقطع خيار المشتري، ولو أبدل لفظ البائع بالبيع لم يكن به بأس، والمواضع المُحْتَاجة إلى الإعلام من لفظ الكتاب بَيِّنة مِمَّا أوردناه، -والله أعلم-. قال الغزالي: وَلَوِ اشْتَرَى عَبْداً بِجَارِيةٍ وَأَعْتَقَهُمَا مَعاً تَعَيَّنَ العِتْقُ في العَبْدِ عَلَى الأَصَحِّ (ح) تَقْدِيماً لِلإجَازَةِ عَلَى الفَسْخِ. قال الرافعي: إذا اشترى عبداً بجاربة ثم أعتقهما معاً، نظر إن كان الخيار لهما عتقت الجارية، بناء على ما مر أن إعتاق البائع نافذ متضمّن للفسخ، ولا يعتق العبد المشتري، وإن جعلنا الملك فيه لمشتريه لما فيه من إبطال حق صاحبه على الأصح، وعلى الوجه الذي قلنا بنفاذ إعتاق المشتري تفريعاً على أن الملك للمشتري؛ يعتق العبد ولا تعتق الجارية. وإن كان الخِيَار لمشتري العبد وهو المراد من مسألة الكتاب لم يحكم بعتقهما معاً، وعن أبي حنيفة: أنهما يعتقان. لنا: أنه لا ينفذ إعتاقهما على التعاقب فكذلك دفعة واحدة، وفيمن يعتق منهما وجهان: أحدهما، وهو ما أورده ابن الصباغ: أنه يعتق الجارية؛ لأن تنفيذ العتق فيها فسخ وفي العبد إجازة، والفسخ والإجازة إذا اجتمعا نفذ الفسخ، ولهذا لو فسخ أحد المتبايعين وأجاز الآخر قدم الفسخ. وأصحهما، وبه أجاب ابن الحداد: أنه يعتق العبد؛ لأن الإجازة إبقاء للعقد، والأصل فيه الاستمرار. قال الشيخ أبو علي: الوجهان مبنيان على أن الملك في زمان الخيار للبائع أو المشتري. إن قلنا بالأول فالعبد غير مملوك لمشتريه، وإنما ملكه الجارية فينفذ العتق فيها. وإن قلنا بالثاني فملكه العبد فينفذ العتق فيه، ثم حكى وجهاً ثالثاً وهو: أنه لا يعتق واحد منهما؛ لأن عِتْقَ كل واحد منهما يمنع عتق الآخر، وليس أحدهما أولى من الآخر فيتدافعان. وإن كان الخِيَار لبائع العَبْد وحده فالمعتق بالإِضَافة إلى العَبْد مشترٍ، والخيار لصاحبه، وبالإضافة إلى الجَارِية بائع والخيار لصاحبه، وقد سبق الخلاف في إعتاقهما والصورة هذه، والذي يخرج منه الفتوى: أنه لا حكم بنفوذ العِتْق في واحد منهما في الحال، فإن فسخ صاحبه البيع فهو نافذ في الجارية، وإلاَّ ففي العبد. ولو كانت المسألة بحالها وأعتقهما مشتري الجارية، فقس الحكم بما ذكرنا. وقيل: إن كان الخِيَار لهما عتق دون الجَارِيَة على الأصَحّ، وإن كان الخِيَار للمعتق وحده فعلى الوجوه الثلاثة في الأول يعتق العبد، وفي الثاني: تعتق الجارية، ولا يخفى الثالث. قال الغزالي: (القِسْمُ الثَّانِي خِيَارُ النَّقِيصَةِ) وَهُوَ مَا يَثْبُتُ بِفَوَاتِ أَمْرٍ مَظْنُونٍ نَشأ الظَّنُ
فِيهِ مِن الْتِزَام شَرْطِيٍّ، أَوْ قَضَاءٍ عُرْفِيٍّ، أَوْ تَغْرِيرٍ فِعْلِيٍّ أَمَّا الالْتِزَامُ الشَّرْطِيُّ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُ بِشَرْطِ أنَّهُ كَاتِبٌ أَوْ خَبَّازٌ أَوْ مُتَجَعِّدُ الشَّعرِ فَإنْ فُقِدَ فَلِلْمُشْتَرِي الخِيَارُ، وَكَذَلِك كُلُّ وَصْفٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ أَوْ مَالِيَّةٌ. قال الرافعي: لما فرغ عن الأول من قسمي الخيار، وهو خيار التَّرَوِيّ شرع في الثاني، وهو خيار النَّقِيصَة المنوط بفوات شيء في المعقود عليه كأن يتوقع ويظن حصوله، وذلك الظَّن على ما ذكره ينشأ من أحد ثلاثة أمور: أولها: أن يشرط العاقد كَوْنَ المعقود عليه بتلك الصِّفة. وثانيها: اطِّراد العُرْف بحصولها فيه. وثالثها: أنْ يفعل العاقد ما يووث ظَنّ حصولها فالأول مثل قوله: بِعْتُ هذا العبد بشرط أنه كاتب أو خباز. واعلم: أن الصِّفَات الملتزمة بالشرط قسمان: أحدهما: الصِّفَات الَّتِي تتعلّق بها زيادة مالية فيصح التزامها، والخلف فيها يثبت الخيار كالعَيْب. والثَّاني: الصِّفَات الَّتِي لا تتعلّق بها زيادة مالية وهي قسمان: أحدهما: التي يتعلق بها غرض معقول والخلف فيها يثبت الخيار أيضاً وفاقاً أو على اختلاف فيه وذلك بحسب قوة الغَرَض وضعفه. والثاني: التي لا يتعلق بها غرض معقول، فاشتراطها يَلْغُو ولا خِيَار بفقدها، ولنقض الصور على هذه الأقسام: فإذا شرط كون العبد خَبَّازاً أو كاتباً أو صائغاً فهو من القسم الأول، ويكفي أن يوجد من الصفة المشروطة ما ينطلق عليه الاسم، ولا تشترط النهاية فيها ولو شرط إسلام العبد فَبَانَ كافراً، فله الرد لفوات فضيلة الإسلام، وكذا لو شرط تهوّد الجارية أو تنصُّرها فَبَانَت مجوسية، ولو شرط كفر الرَّقيق فَبَانَ مسلماً ثبت الخيار على المذهب، وبه قال أحمد لا لنقيصة ظهرت، ولكن لأن الكافر يشتريه المسلم والكافر، والمسلم لا يشتريه إلاَّ المسلم فقط فتقل فيه الرغبات. وقيل: إن كان قريباً من بلاد الكفر أو في ناحية أغلب أهلها الذِّميون ثبت الخيار وإلا فلا. وقال أبو حنيفة والمزني: لا خيار أصلاً. ولو شرط بكَارة الجارية فَبَانَت ثَيِّباً فله الرد، ولا فرق بين أن تكون الجارية المُشْتَراة بهذا الشرط مزوَّجة أو غير مزوجة.
وعن أبي الحسن: أن أبا إسحاق قال: لا خيار إذا كانت مزوَّجة؛ لأنها وإن كانت بِكْراً فالافتضاض مستحقّ للزوج ولا غرض للمشتري في بكارتها، والمذهب الأول؛ لأن الزوج قد يطلقها فتخلص له، ولو شرط ثِيَابتَها فَبَانَت بِكْراً فوجهان: أحدهما: أنه يثبت الخيار؛ لأنه قد يضعف عن مباشرة البِكْر فيريد الثَّيِّب. وأصحهما: أنه لا خيار؛ لأن البِكْر أفضل وأكثر قيمة فصار كما لو شرط كون العبد أمّياً فَبَانَ كاتباً، أو فاسقاَ فَبَانَ عفيفاً، ولو شرط السُّبُوطَة في الشعر فَبَانَ جَعْداً، فعلى هذين الوجهين؛ لأن السَّبْط قد يكون أشهى إلى بعض الناس، ولو شرط الجُعُودة فَبَانَ سَبْطًا ثبت الخيار. فإن قلت: ذَكَرْتُمُ في بَيْع الأَمَةِ أنَّ رؤية الشعر معتبرة على أصح الوجهين والشعر إذا رؤي عرفت جُعُودته وسَبُوُطَته فكيف تصورون المسألة؟ فالجواب: أن خرجوها على تجويز بيع الغائب وعلى أن رؤية الشَّعر غير معتبرة واضح. وأما على الأصح فإن الشعر قد يرى ولا تعرف جُعُودته وَسُبُوطته لعروض ما يستوي الحالتان عنده من الابْتِلاَل وقرب العهد بالتَّسْريح ونحوهما. ولو لبس تَجْعيد السّبط أو بالعكس فسيأتي ذلك -إن شاء الله تعالى- ولو شرط كون العبد خَصِيّاً فَبَانَ فَحْلاً، أو بالعكس ثبت الرَّد؛ لشدة اختلاف الأغراض. وذكر أبو الحسن العبادي: أنه لا رد في الصورة الأولى؛ لأن الفُحُولة فضيلة ولو شرط كونه مَخْتُوناً فَبَانَ أَقْلَف فله الرد وبالعكس لا يرد. قال في "التتَّمة": إِلاَّ أنْ يكون العبد مَجُوسياً وثَمَّ مجوسيون يشترون الأَقْلفَ بزيادة فله الرد. ولو شرط كونه أحمق أو ناقص الخِلْقَة فهو لغو. واعلم: أن خيار الخلق على الفور، ويبطل بالتأخير على ما سنذكر في المعيب -إن شاء الله تعالى- ولو تعذر الرَّد بهلاك وغيره فله الأَرْش، كما في العيب، ومسائل الفَصْل بأسرها مبنية على أن الخلف في الشرط لا يوجب فساد البيع. وحكى الحَنَّاطِي قولاً غريباً أنه يوجبه -والله أعلم-. قال الغزالي: (وَأَمَّا القَضَاء العُرْفِيُّ) فَهُوَ السَّلاَمَةُ عَنِ العُيُوبِ المَذْمُومَةِ فَمَهْمَا فَاتَتْ ثَبَتَ الخِيَارُ، وَذَلِكَ بِكُلِّ عَيْبٍ يُنْقِصُ القِيمَةَ، وَالخَصِيُّ مَعِيبٌ وَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ، وَاعْتِيَادُ الزِّنَا والسَّرِقَةِ وَالِإبَاقِ وَالبَوْلِ في الفِرَاشِ (ح) عَيْبٌ، وَالبَخَر والصُّنَانُ (ح) الَّذِي لاَ يَقْبَلُ المُعَالَجَةَ وَيُخَالِفُ العَادَةَ عَيْبٌ في العَبِيدِ وَالإِمَاءِ، وَكَوْنُ الضَّيْعَةِ مَنْزِلَ الجُنُود، وَثِقَلُ الخَرَاجِ عَيْبٌ.
قال الرافعي: الثَّاني من أسباب الظَّن اطِّراد العرف فَمَنْ دخل في العَقْد لتحصيل مال كان ظَانّاً صفة السلامة فيه، لأن سلامة الأَشْخَاص والأَعْيان عن العيوب المَذْمُومة هي الغَالبة، والغلبة من موجبات الظن، وحينئذ يكون بذله المال في مقابلة السليم، فإذا تبين العيب وجب أنْ يتمكن من التَّدارك، والأصل فيه من جهة النَّقْل ما روي عن عائشة -رضي الله عنها-: "أَنَّ رَجُلاً اشْتَرَى غُلاَماً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَكَانَ عِنْدَهُ مَا شَاءَ الله تعالى ثم رَدَّهُ مِنْ عَيْبٍ وَجَدُهُ" (¬1). ومن باع عيناً وهو يعلم بها عيباً وجب عليه أن يبينه (¬2) روي أنه-صلى الله عليه وسلم- قال: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّنَا" (¬3). وعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- أن النّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْمُسْلِمُ أَخُ الْمُسْلِم لاَ يَحِلُّ لِمَنْ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا يَعْلَمُ فِيهِ عَيْباً إِلاَّ بَيَّنَهُ لَهُ" (¬4). إذا تقرر ذلك ففي الفصل ذكر عيوب (¬5) معدودة: ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
منها: لو اشترى عبداً فوجده خَصِيّاً (¬1) أو مَجْبُوباً فله الرد؛ لأن الفَحْلَ يصلح لما لا يصلح- له الخَصِيّ، وقد دخل في العقد على ظن الفُحُولة؛ لأن الغالب سلامة الأعضاء، فإذا فات ما هو متعلّق الغرض وجب ثبوت الرَّد، وإن زادت القيمة باعتبار آخر. ومنها: الزّنا (¬2) والسَّرقة عيبان لتأثيرهما في نقصان القيمة. وقال أبو حنيفة: الزِّنَا عيب في الإمَاء دون العَبِيْد، نعم لو ثبت زنا العبد عند الحاكم ولم يقم عليه الحَدّ بعد ثبت الرد. ومنها: الإِبَاق وهو من أَفْحَش عيوب المماليك (¬3). ومنها: البَوْل في الفِراش عيب في العَبِيد والإِمَاء إذا كان في غير أوانه، أما في الصغر فلا. وقدره في "التهذيب" بما دون سبع سنين. ¬
وقال أبو حنيفة: إنه عيب في الإماء دون العبيد. ومنها: البَخَرُ والصّنَان عيبان، خلافاً (¬1) لأبي حنيفة في العَبِيد. لنا أنهما يؤذيان عند الخِدْمة والمُكَالمة وينقصان القيمة، والبَخَرُ الذي نجعله عيباً هو الناشئ من تغيُّر المَعِدَة، دون ما يكون لفَلْجِ (¬2) الأَسْنان، فإن ذلك يزول بتنظيف الفم، والصُّنَان الذي نجعله عيباً هو المستحكم الذي يخالف العادة، دون ما يكون لعارض عرق أو حركة عنيفة أو اجتماع وَسَخٍ. ومنها: كون الضَّيْعَة أو الدَّار منزل الجنود عيب؛ لأنه يقلل الرَّغبات. قال القاضي حسين في "فتاويه": وهذا إذا اختصت- من بين ما حواليها بذلك. فَأمَّا إذا كان ما حواليها من الدُّور بمثابتها فلا رد به، وكونها ثقيلة الخَرَاج عيب أيضاً (¬3)، وإن كُنَّا لا نرى أصل الخراج في تلك البلاد؛ لتفاوت القيمة والرغبات، ونعني بثقل الخراج أن يكون فوق المعتاد في أمثالها، وعن حكاية أبي عاصم العبادي وجه: أنه لا رد بثقل الخراج ولا بكونها منزل الجنود لأنه خلل في نفس المبيع. وألحق في "التتمة" بهاتين الصورتين ما إذا اشترى داراً فوجد بقربها قَصَّارين يؤذون بصوت الدَّق ويزعزعون الأبنية، أو أرْضاً فوجد بقربها خَنَازِير تفسد الزرع. ولو اشترى أرضاً وهو يتوهم ألاَّ خراج عليها فَبَانَ خلافه، نظر إن لم يكن على مثلها خراج فله الرد، وإن كان على مثلها ذلك القدر فلا رد. ¬
وَأَمَّا لفظ الكتاب فقوله: "فمهما فاتت" يعني السَّلامة. وقوله: "وذلك" أي فواتها. وقوله: "بكل عيب ينقص القيمة" لا يصلح للضبط، لمسألة الخَصِيِّ، وريما يذكر في آخر الفصل ما يصلح له. وقوله: "واعتياد الزنا ... " إلى آخره يشعر باعتبار الاعتياد في الأمور المذكورة وليس كذلك. أما في الزِّنا فقد نصوا على أنه لو زنا مَرَّة في يد البائع فللمشتري الرَّد وإنْ تاب وحسنت حاله؛ لأن تهمة الزِّنَا لا تزول عنه أَلاَ ترى أن الحُرَّ إذا زنا لا يجد قاذفه وإن تاب. وأمّا الإِبَاق فعن أبي علي الزّجاجي: "أنه لو أبق في يد البائع فللمشتري الرد به. وإن لم يأبق في يده. وهذا ما اختاره القَاضِي حسين وقال: الفعلة الواحدة في الإباق يجوز أن تعد عيباً أبدياً"، كالوطء في إبطال الحَصَانة، والسرقة قريبة من هذين. وأما البول في الفراش فالأظهر اعتبار الاعتياد فيه، -والله أعلم-. وقوله: "الصُّنَان الذي لا يقبل العلاج" هذا القيد لا حاجة إليه، كما في سائر العلل والأمراض، والإمام لم يذكره هكذا. وإنما قال: إذا كان لا يندفع إلا بعلاج يخالف المعتاد وهو مستقيم، هذا ما يتعلق بفقه الكتاب ولفظه، ونعد بعده عيوباً. فمنها: كون الرَّقيق مجنوناً أو مُخْبلاً أو أبْلَهَ أو أَبْرَص أو مَجْذُوماً أو أشَلّ أَوْ أَقْرَع، أو أَصَمَّ أو أَعْمَى أو أعور أو أخْفَشَ أو أجْهَر أو أغشَى أو أخْشَم أو أبْكَم أو أرثْ لا يفهم، أو فقيد حَاسّة الذوق، أو فقيد إِصْبُع أو أنْمُلَة، أو فقيد الظِّفر والشّعر، كذا قاله في "التتمة". ومنها: كونه ذا إصْبُع زائدة، أو سنّ شَاغِبَة، أو مَقْلُوع بعض الأَسْنان، أو أدْرَدا، وكون البهيمة دَرْدَاء، إلا في السِّن المعتاد، وكونه ذا قُرُوح أو ثَآلِيل كثيرة، أو بَهَق (¬1) قاله الصيمري، وكونه مريضاً مرضاً مخوفاً، وكذا في سائر الحيوانات، كذا قاله في "التتمة"، وكونه أبيض الشعر في غير أوانه، ولا بأس بحمرته، وكونه (¬2) تَماماً أو ¬
سَاحِراً أو قاذفاً للمحصنات، وكونه مقامراً أو تاركاً للصلاة أو شارباً للخَمْر (¬1). وفي "الرقم" للعبادي: أنه لا يَرَدّ بالشرب وترك الصلاة. وكونه خُنْثَى مشكلاً أو غير مشكل، وعن بعض المتأخرين: أنه إنْ كان رجلاً وكان يبول من فرج الرجال فلا رد، وكون العبد مخنثاً أو ممكناً من نفسه، وكون الجارية رَتْقَاء أو قَرْنَاء أو مُسْتَحَاضة أو مُعْتَدَّة أو محرمة، أو مُتَزَوّجة، وكون العبد متزوجاً. وفي "البيان" حكاية وجه في التزوج (¬2). وتعلق الدَّين برقبتهما، ولا رد بما يتعلق بالذمة. وكونهما مُرْتدين. ولو كانا كافرين أصليين فمنهم من قال: لا رد في العَبِيد، ولا في الإماء، سواء كان ذلك الكفر مانعاً من الاستمتاع، كالتَمَجُّس والتنصر والتَّوثُّن، أو لم يكن كالتهوُّد والتنصُّر، هذا ما أورده في "التتمة". والأظهر، وهو المنقول في "التهذيب": أنه لو وجد الجارية مجوسية أو وثنية، فله الرد، ولو وجدها كتابية أو وجد العبد كافراً، أي [كُفْر كان]، فلا رد إن كان قريباً من بلاد الكفر بحيث لا تقل فيه الرغبات، وإنْ كان في بلاد الإسلام بحيث تقل الرَّغبات في الكافر، وتنقص قيمته فله الرَّد، ولو وجد الجَارِية لا تَحِيض وهي صغيرة أوْ آيسة فلا رَدُّ، وإِنْ كانت في سنٍّ تحيض النِّسَاء في مثلها غالباً فله الرد، وكذا إذا تطاول طهرها وجاوز العادات الغالبة فله الرد يكون الجارية حاملاً، ولا رد به في سائر الحيوانات. وقال في "التهذيب": يثبت به الرد. ومنها: كون الدَّابة جَمُوحاً (¬3) أو عضوضاً أو رموحاً (¬4)، وكون الماء المشتري مشمساً، قاله الرُّويَانِيُّ في "التجربة". ¬
والرَّمل تحت الأرض إن كانت مما تطلب للبناء، والأحجار، وإن كانت مما تطلب للزرع والغرس، ولا رد يكون الرقيق رطب الكلام أو غليظ الصَّوت أو سيء الأدب، أو ولد الزنا أو مغنياً، أو حَجَّاما أو أَكُولاً أو زَهِيداً، وتردّ الدّابة بالزّهَادة، ولا بكون الأمة ثَيّباً، إلاَّ إذا كانت صغيرة، وكان المعهود في مثلها البَكَارة ولا بكونها عقيماً، وكون العبد عِنِّيناً، وعن الصيمري إثبات الرد بالعُنَّة، وهو الأظهر عند الإمام ولا يكون الأمة مَخْتُونة أو غير مختونة، وكون العبد مختوناً أو غير مختون، إلاَّ إذا كان كبيراً يخاف عليه من الخِتَان. وقيل: لا تستثنى هذه الحالة أيضاً، ولا يكون الرقيق ممن يعتق على المشتري، ولا بكون الأمة أخته من الرِّضَاع أو النَّسَب أو موطوءة أبيه، أو ابنه، بخلاف المحرمة والمعتدة؛ لأن التحريم ثم علم يقلّل الرغبات، وهاهنا يختص التحريم به. ورأى القاضي ابن كَجٍّ: إلحاق ما نحن فيه بالمحرمة والمعتدة، ولا أثر لكونها صائمة وفيه وجه ضعيف. ولو اشترى شيئاً ثم بَانَ له أن بائعه باعه بوكالة أو وِصَاية أو وِلاَية أو أمانة (¬1) فهل له الرد لخطر فساد النيابة؟ حكى القاضي المَاوِرْدِي فيه وجهين (¬2)، ونقل وجهين أيضاً فيما لو بَانَ كون العبد مبيعاً في جناية عمد وقد تاب عنها، وإن لم يتب فهو عيب، والجناية خطأ ليست بعيب، إلاَّ أنْ تكثر. ومن العيوب: كون المبيع نجساً إذا كان مما ينقص بالغسل، وخشونة مشي الدَّابة بحيث يخاف منها السقوط، وأضرب البهيمة لبن نفسها. وذكر القاضي أبو سعد بن أحمد في "شرح أدب القاضي" لأبي عاصم العبادي فصلاً في عيوب العَبِيد والجَوَاري. ومنها: اصْطِكَاك الكَفَّيْن، وانقلاب القَدَمَيْن (¬3) إلى الوَحْشي والخَبَلاَن الكثيرة، وآثار الشّجَاج والقُرُوح والكَيّ، وسواد الأَسْنَان، وذِهَاب الأَشْفَار، والكَلْفُ المُغَيِّر للبَشَرة، وكون إحدى يدي الجارية أكبر من الأخرى، والحُفَر في الأسنان، وهو تراكم الوسخ الفاحش في أصولهما (¬4)، هذا ما حضر ذكره من العيوب، ولا مطمع في استيعابها، لكن إن أردت ضبطاً فأشدُّ العبارات تلخيصاً ما أشار إليه الإمام -رحمه الله ¬
تعالى-، وهو أن يقال: يثبت الرد بكل ما في المعقود عليه من منقص للقيمة أو العَيْن نقصاناً يفوت به غرض صحيح، بشرط أن يكون الغالب في أمثال المبيع عدمه (¬1). وإنما اعتبرنا نقصان العَيْن لمسألة الخَصِيّ، وإنما لم نكتف بنقصان العَيْن بل شرطنا فوات غرض صحيح به، لأنه لو بَانَ قطع فَلْقة يسيرة من فخذه أو ساقه لا تورث شيئاً ولا تفوِّت غرضاً لا يثبت الرد، ولهذا قال صاحب "التقريب": لو قطع من أذن الشَّاة ما يمنع التَّضحية ثبت الرد وإلاَّ فلا، وإنما اعتبرنا الشرط المذكور؛ لأن الثِّيَابة مثلاً في الإمَاء، معنى ينقص القيمة، لكن لا ردّ بها؛ لأنه لا يمكننا أن نقول: الغالب فيهن عدم الثِّيَابَة، -والله أعلم-. قال الغزالي: وَكُلُّ عَيْبٍ حَدَثَ قَبْلَ القَبْضِ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ البَائِعِ، وَالرَّدُّ يَثْبُتُ بِهِ، وَمَا حَدَثَ بَعْدَهُ فَلاَ خِيَارَ بِهِ (م). وَإنْ اسْتَنَدَ إلَى سَابِقٍ كَالقَطْعِ بِسَرقَةٍ سَابِقَةٍ وَالقَتْلِ بردَّةٍ سَابِقَةٍ وَالافْتِرَاعِ بِنِكَاحٍ سَابِقٍ فَفِيهِ خِلاَفٌ. قال الرافعي: العيب ينقسم إلى ما كان موجوداً قبل البيع فيثبت به الرد، وإلى ما حدث بعده، فينظر إن حدث قبل القبض فكمثل؛ لأن المبيع قبل القبض من ضمان البائع، وإن حدث (¬2) بعده فله حالتان: ¬
إحداهما: أنْ لا يستند إلى سبب سابق على القبض فلا رد به. وقال مالك: عهدة الرَّقيق ثلاثة أيام إلاَّ في المجنون والجُذَام والبرص، فإنها إذا ظهرت إلى سنة ثبت الخيار. لنا القياس على ما بعد الثلاثة. والحالة الثانية: أَنْ يستند إلى سبب سابق على القبض وفيها صور: إحداها: بيع العبد المرتد صحيح على المذهب كبيع العبد المريض المشرف على الهلاك. وحكى الشيخ أبو علي وجهاً: أنه لا يصح تخريجاً من الخلاف في العبد الذي قتل في المُحَاربة، إن تاب قبل الظّفَر به فبيعه كبيع العبد الجاني لسقوط العقوبة المُتَحَتِّمة، وكذا إن تاب بعد الظَّفَر وقلنا بسقوط العقوبة وإلا فثلاثة طرق: أظهرها: عند كثير من الأئمة: أن بيعه كبيع المرتد. والثاني: وهو اختيار أبي حامد وطائفة القطع بمنع بيعه إذ لا منفعة فيه لاستحقاق قتله بخلاف المرتد فإنه ربما يسلم. والثالث: وبه قال القاضي أبو الطيب: أنه كبيع الجاني. إذا عرفت ذلك فإن صححنا البيع في هذه الصور فقتل العبد المرتد أو المُحَارب أو الجاني جناية توجب القِصَاص، نظر إن كان ذلك قبل القبض انفسخ البيع، وإن كان بعده وكان المشتري جاهلاً بحاله ففيه وجهان: أحدهما، وبه قال أحمد وابن سُرَيجٍ وابن أبي هريرة والقاضي أبو الطَّيب: أنه من ضمان المشتري؛ لأن القبض سلطة على التَّصَرُّف فيدخل المَبِيع في ضمانه أيضاً، لكن تعلّق القتل برقبته كعيب من العيوب، فإذا هلك رجع على الباَئع بالأَرْش، وهو نسبة ما بين قيمته مستحق القتل، وغير مستحق القتل من الثمن. وأصحهما، وبه قال أبو حنيفة وابن الحَدَّاد وأبو إسحاق: أنه من ضمان البائع؛ لأن التلف حصل بسبب كان في يده فأشبه ما لو باع عبداً مغصوباً فأخذه المستحق منه، فعلى هذا يرجع المشتري عليه بجميع الثمن، ويخرج على الوجهين مؤنة تجهيزه من الكفن والدَّفن وغيرهما، ففي الأول هي على المشتري، وفي الثانية على البائع. وإن كان المشتري عالماً بالحال عند الشِّراء أو تبيِّن له بعد الشراء ولم يردّ، فعلى الوجه الأول: لا يرجع بشيء كما في سائر العيوب. وعلى الثاني: فيه وجهان:
أحدهما، ويحكى عن أبي إسحاق وهو اختيار أبي حامد: أنه يرجع بجميع الثمن إتماماً لِلتَّشْبيه بالاستحقاق. وأصحهما عند الجمهور وهو قول ابن الحداد: أنه لا يرجع بشيء لدخوله في العقد على بصيرة أو إمساكه مع العلم بحاله (¬1)، وليس هو كظهور الاستحقاق من كل وجه، ولو كان كذلك لمَا صح بيعه أصلاً. الثانية: بيع العبد الذي وجب عليه القطع قصاصاً أو بسرقة صحيح بلا خلاف، فلو قُطع في يد المشتري عاد التَّفْصيل المذكور في الصورة السابقة، فإن كان جاهلاً بحاله حتى قطع، فعلى قول ابن سريج ومن ساعده: ليس له الرد؛ لأن القطع من ضَمَانه ولكن يرجع على البائع بالأَرْش، وهو ما بين قيمته مستحق القَطْع وغير مستحقه من الثمن. وعلى الأصح: له الرد واسترجاع جميع الثمن، كما لو قطع في يد البائع، فلو تعذر الرد بسبب، فالنظر في الأَرْش على هذا الوجه إلى التفاوت بين العبد السَّليم والأقطع، وإن كان المشتري عالماً فليس له الرد ولا الأَرْش. قال الشيخ أبو علي: ولا يجيء هاهنا الوجه المحكي عن أبي إسحاق في القتل؛ لأنه لا يبقى ثم شيء ينصرف العقد إليه وهاهنا بخلافه -والله أعلم-. الثالثة: لو اشترى جارية مزوجة، ولم يعلم بحالها حتى وطئها الزَّوْج بعد القبض، فإن كانت ثيباً فله الرد، وإن كانت بكراً فنقصت بالاقتضاض، فهو من ضمان البائع أو المشتري؟ فيه الوجهان. ¬
إن جعلناه من ضمان البائع فللمشتري الرد بكونها مزوجة، فإن تعذر الرد بسبب رجع بالأَرْش، وهو ما بين قيمتها بِكْراً غير مزوجة ومزوجة مفتضة من الثمن. وإن جعلناه من ضمان المشتري فلا رد له وله الأرْش، وهو ما بين قيمتها بكراً غير مزوجة وبكراً مزوجة من الثمن. وإن كان عالماً بكونها مزوجة، أو علم ورضي فلا رد له، فإن وجد بها عيباً قديماً بعدما اقتضت في يده فله الرد، إن جعلناه من ضمان البائع وإلاَّ يرجع بالأَرْش، وهو ما بين قيمتها مزوجة ثيباً سليمة ومثلها معيبة (¬1). الرابعة: اشترى عبداً مريضاً وتمادى المرض إلى أن مات في يد المشتري، فعن الشيخ أبي محمد فيه طريقان: أحدهما: أنه على الخلاف المذكور في الصورة السابقة، ويحكى هذا عن الحَلِيميّ. وأظهرهما وأشهرهما: القطع بأنه من ضمان المشتري؛ لأن المرض يزداد شيئاً فشيئاً إلى الموت، والرد خصلة واحدة وجدت في يد البائع، فعلى هذا إذا كان جاهلاً رجع بالأرش، وهو ما بين قيمته صحيحاً ومريضاً. وتوسط صاحب "التَّهْذيب" بين الطريقين، فقطع فيما إذا لم يكن المرض مخوفاً بكونه من ضمان المشتري، وجعل المرض المخوف والجرح السَّاري على الوجهين. واعلم: أن هذه الصُّورة والخلاف فيها قد ذكرها في أحكام بيع الثِّمَار وإن لَمْ تكن مذكورة في هذا الموضع، وإذا وقفت على هذا الشرح، عرفت أن الخلاف في قوله في الكتاب: "فيه خلاف" ليس منصوصاً في أنه هل يثبت خيار الرد في جميع الصور المذكورة، لأن في صورة قتل المرتد، إن جعلناه من ضمان المشتري فلا رد لهلاك المبيع، وإنْ جعلناه من ضمان البائع فينفسخ البيع، ويتبيَّن تلفه على ملك البائع، وحينئذ لا معنى لخيار الرد، فإذًا الخلاف في هذه الصورة في أنه من ضمان من؟ على ما تقرَّر في الصورتين الباقيتين يصح في خيار الرَّد بناء على هذا الأصل -والله أعلم-. ¬
قال الغزالي: (وَأَمَّا التَّغْرِيرُ الفِعْلِيُّ) فَهُوَ أَنْ يُصَرِّي ضَرْعَ الشَّاةِ حَتَّى يَجْتَمِعَ اللَّبَنُ وَيُخَيِّلَ غَزَارَةَ اللَّبَنِ فَمَهْمَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَلَوْ بَعْدَ ثَلاثةِ أَيَّام رَدَّها (ح) وَرَدَّ مَعَهَا صَاعاً مِنْ تَمْرٍ بَدَلاً عَنِ اللَّبَنِ الكَائِنِ في الضَّرْعِ الَّذِي تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ لاخْتِلاَطِهِ بِغَيْرِ المَبِيعِ لِوُرُودِ الخَبَرِ، وَلَوْ تَحَفَّلَتِ الشَّاةُ بِنَفْسِهَا، أَوْ صُرِّيَ الأَتَانُ، أَو الجَارِيةُ أَوْ لُطِّخَ الثَّوْبُ بِالمِدَادِ مُخَيِّلاً أَنَّهُ كَاتِبٌ فَلاَ خِيَارَ لَهُ (ح و)؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مَعْنَى النُّصُوص، وَأَحْوَطُ المَذْهَبَيْنِ أَنَّ غَيْرَ التَّمْرِ لاَ يَقُومُ مَقَامَ التَّمْرِ، وَأَنَّ قدْرَ الصَّاعِ لاَ يَنْقُصُ (و) بِقلَّةِ اللَّبَنَ وَلاَ يَزِيدُ بِكَثْرَتِهِ لْلاتِّبَاعِ. قال الرافعي: السبب الثالث مِنْ أسباب الظَّن: الفعل المغرر، والأصل في صورة التَّصْرِية وهي أن يربط أَخْلاَف الناقة (¬1) أو غيرها ويترك حلابها يومين أو أكثر حتى ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يجتمع اللَّبن في ضَرْعها، فيتخَيَّل المُشْتَري غزارة لبنها ويزيد في الثَّمن. واشتقاقها من قولهم: صَرّ الماء في الحوض ونحوه: أي جمعه. وتسمى المُصَرّاة مُحَفَّلة أيضاً، وهو من الحفل، وهو الجمع أيضاً، ومنه قيل للجمع: محفل. وهذا الفعل حرام لما فيه من التَّدْلِيس (¬1)، ويثبت به الخيار للمشتري، وبه قال مالك وأحمد خلافاً لأبي حنيفة. لنا ما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تُصِرُّوا في الإبِلِ وَالْغَنَمِ لِلْبَيْعِ، فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ للنَّظَرَيْنِ مِنْ بَعْدِ أن يَحْلِبَهَا، إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا، وَصَاعاً مِنْ تَمْرٍ". وروي: (بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا ثَلاثاً). وقوله: بعد ذلك: أي بعد هذا النهي. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أيضاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا صَاعاً مِنْ تَمْرٍ لاَ سَمْرَاءَ" (¬2). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ بَاعَ مُحَفّلَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا مِثْلَ لَبَنِهَا قَمْحاً" (¬3) إذا تقرر ذلك، ففي الفصل مسائل: إحداها: كيف يثبت خيار التَّصرية؟ فيه وجهان: ¬
أحدهما، وبه قال أبو حامد المَرُوزي: أنه يمتد ثلاثة أيام لظاهر الخبر. والثاني: وهو الأصح، وبه قال ابن أبي هريرة: أنه على الفور كخيار العيب، وما ذكره في الخبر بناء على الغالب، إذ التَّصْرِية لا تتبين فيما دون الثلاثة غالباً؛ لأنه يحمل النقصان على اختلاف العلف وتبدل الأيدي وغيرهما، وللوجهين فروع: أحدها: لو عرف التَّصْرية قبل ثلاثة أيام بإقرار البائع، أو بشهادة الشهود ثبت له الخيار على الفور في الوجه الثاني. وعلى الأول يمتد إلى آخر الثَّلاَثة، وابتداؤها من وقت العقد أو من وقت التَّفرق، يعود فيه الوجهان المذكوران في خيار الشرط. والثاني: لو عرف التَّصْرِية في آخر الثَّلاَثة أو بعدها ذكر في "الحاوي": أن على الوجه الأول: لا خيار له لامتناع مجاوزة الثلاث كما في خيار الشرط. وعلى الثاني يثبت، وعلى هذا فهو على الفور بلا خلاف. والثالث: لو اشترى وهو عالم بكونها مُصُرَّاة، فعلى الأول: له الخيار أخذاً بظاهر الخبر. وعلى الثاني لا خيار كسائر العيوب. الثانية: ظهور التَّصْرية إن كان قبل الحلب رده ولا شيء عليه، وإن كان بعده فاللَّبن إما أن يكون باقياً أو تالفاً، إن كان باقياً فلا يكلف المشتري رده مع المصراة؛ لأن ما حدث بعد البيع ملك له، وقد اختلط بالمبيع وتعذر التمييز، وإذا أمسكه كان بمثابة ما لو تلف، وإن أراد رده فهل يجب على البائع أخذه؟ فيه وجهان. أحدهما: نعم؛ لأنه أقرب إلى استحقاقه من بدله. وأصحهما: لا، لذهاب طَرَاوَتِه بِمُضِي الزَّمان، ولا خلاف في أنه لو حمض وتغير لم يكلَّف أخذه، وإن كان اللبن تالفاً رد مع المُصَراة صاعاً من تمر، ولا يخرج ردها على الخلاف في تفريق الصَّفقة لتلف بعض المبيع وهو اللبن اتِّباعاً للأخبار الواردة في الباب على أن اللّبن في رأي لا يقابله قسط من الثمن، وهل يتعيَّن للضم إليها جنس التمر وقدر الصَّاع؟ أما الجنس، ففيه وجهان: أصحهما: عند الشيخ أبي محمد وغيره: أنه يتعيَّن التمر [ولا يعدل عنه، لقوله -صلى الله عليه وسلم- (صاعاً مِنْ تَمْرٍ لا سَمْراء). ويحكى هذا عن أبي إسحاق، وعلى هذا لو أعوز التمر قال الماوردي: يرد قيمته بالمدينة. والثَّاني: لا يتعين، وعلى هذا فوجهان: أصحهما: أن القائم مقامه الأقوات كما في صدقة الفطر. قال الإمام: لكن لا يتعدى هاهنا إلى الأقط بخلاف ما في صدقة الفطر للخبر، وعلى هذا فوجهان:
أحدهما: أنه يخير بين الأقوات، لأن في بعض الروايات ذكر التَّمْر، وفي بعضها ذكر القمح فأشعر بالتخيير، ويحكى هذا عن ابن أبي هريرة. وأصحهما: أن الاعتبار بغالب قوت البلد كما في صدقة الفطر، ويحكى هذا عن مالك والإِصْطَخْري وتخريج ابن سريج. والوجه الثاني حكاه الشيخ أبو محمد: أنه يقوم مقامه غير الأقوات، حتى لو عدل إلى مثل اللّبن، أو إلى قيمته عند إعواز المِثْل أجبر البائع على القبول اعتباراً بسائر المُتْلَفَات، وهذا كله فيما إذا لم يَرْضَ البائع. فأما إذا تراضيا على غير التَّمْر من قوت أو غيره، أو على رد اللبن المحلوب عند بقائه جاز بلا خلاف، كذا قاله صاحب "التهذيب" وغيره، ورأيت القاضي ابن كج حكى وجهين في جواز إبدال التمر بالبُرّ عند اتفاقهما عليه. وأما القدر: ففيه وجهان أيضاً: أصحهما: أن الواجب صاع قلّ اللبن أو كثر، لظاهر الخبر، والمعنى فيه: أن اللَّبن الموجود عند البيع يختلط بالحادث بعده ويتعذر التمييز، فتولى الشَّارع تعيين بدل له قطعاً للخصومة بينهما، وهذا كإيجاب الغُرَّة في الجنين مع اختلاف الأجِنَّة ذكورة وأنوثة، والأَرْش في الموضحة مع اختلافها صغراً وكبراً. والثاني: أن الواجب يتقدَّر بقدر اللّبن؛ لما سبق من رواية ابن عمر -رضي الله عنهما- وعلى هذا فقد يزداد الواجب على الصَّاع، وقد ينقص، ثم منهم من خصّ هذا الوجه بما إذا زادت قيمة الصَّاع على نصف قيمة الشَّاة، وقطع بوجوب الصَّاع فيما إذا نقصت عن النِّصْف، ومنهم من أطلقه إِطلاقاً، ومتى قلنا بالوجه الثاني فقد قال الإمام تعتبر القيمة الوسط للتمر بالحجاز، وقيمة مثل ذلك الحيوان بالحجاز، فإذا كان اللَّبن عشر الشَّاة مثلاً أوجبنا من الصَّاع عشر قيمة الشاة. فرع: اشترى شاة بصاع تمر فوجدها مُصَرَّاة، فعلى الأصح يردّها ويرد صاعاً، ويسترد الصاع الذي هو ثمن وعلى الثَّاني تقوم مُصَرَّاةً وغير مصرّاة، ويجب بقدر التفاوت من الصاع. فرع: غير المُصَرَّاة إذا حلب لبنها ثم ردها بعيب. قال في "التهذيب": يرد بدل اللبن كما في المُصَرَّاة. وفي تعليق أبي حامد حكاية عن نصه: أنه لا يرد؛ لأنه قليل غير معتنى بجمعه، بخلاف ما في المُصَرَّاة، ورأى الإمام تخريج ذلك على أن اللبن هل يأخذ قسطاً من الثمن أم لا؟ والصحيح الأخذ.
الثالثة: لو لم يقصد البائع التَّصْرِية لكن ترك الحلاب ناسياً أو لشغل عرض، أو تحفَّلت هي بنفسها، فهل يثبت الخيار؟ وجهان: أحدهما: لا، وبه أجاب في الكتاب لعدم التدليس. والثاني: نعم؛ لأن ضرر المشتري لا يختلف، فصار كما لو وجد بالمبيع عيباً لم يعلمه البائع، وهذا أصح عند صاحب "التهذيب". الرابعة: خيار التصرية لا يختصّ بالنعم، بل يعم سائر الحيوانات المأكولة، وفي "الحاوي" ذكر وجه: أنه يختص. ولو اشترى أَتَانا فوجدها مُصَرَّاة، فوجهان أيضاً: أحدهما: أنه لا يرد، إذ لا مبالاة بلبنها. وأصحهما: أنه يثبت الرد؛ لأنه مقصود لتربية الجَحْش، وعلى هذا فالمذهب: أنه لا يرد اللَّبن؛ لأنه نجس. وقال الإصْطَخْري: يرد لذهابه إلى أنه طاهر مشروب. ولو اشترى جارية فوجدها مُصَرَّاة، فوجهان أيضاً: في أحدهما: لا يرد؛ لأنه لا يقصد لبنها، إلاَّ على ندور. وفي أصحهما: يرد؛ لأن غَزارة أَلْبَان الجَوَاري مطلوبة في الحَضَانة مؤثرة في القيمة، فعلى الأول يأخذ الأَرْش، قاله في "التهذيب"، وعلى الثاني: هل يرد معها بدل اللَّبن؟ وجهان: أظهرهما: لا؛ لأن لبن الآدميات لا يعتاض عنه غالباً. الخامسة: هذا الخِيَار غير مَنُوط بخصوص التَّصرية، بل بما فيها من المعنى المشعر بالتَّلْبِيس، فيلحق بها ما يشاركها فيه حتى لو حبس ماء القَنَاة أو الرّحى ثم أرسله عند البيع أوَ الإجارة، فتخيل المشتري كثرته، ثم تبين له الحال فله الخيار، وكذا لو حمَّر وجه الجارية، أو سَوَّد شعرها أو جَعَّده، أو أرسل الزّنْبُور في وجهها حتى ظنها المشتري سَمِينة، ثم بَانَ خلاف المظنون. ولو لطخ ثوب العبد بالمِدَاد، أو ألبسه ثوب الكَتَبَة أو الخَبَّازين، وخيل كونه كاتباً أو خبازاً فَبَانَ خلافه، فوجهان: أحدهما: يثبت الخيار لِلتَّلْبيس. وأصحهما: أنه لا خيار؛ لأن الإنسان قد يلبس ثوب الغير عَارِية، فالذَّنْب للمشتري حيث اغْتَرَّ بما ليس فيه كثير تغرير، ويجري الوجهان فيما لو أكثر عَلَفَ البهيمة
حتى انتفخ بطنها، فتخيل المشتري كونها حاملاً، أو أرسل الزّنْبُور في ضَرْعها حتى انتفخ فظنها لَبُوناً؛ لأن الحمل لا يكاد يلتبس على الخَبِير، ومعرفة اللبن متيسرة بعَصْر الثَّدي بخلاف صورة التَّصْرِية. وأما لفظ الكتاب فقوله: "ولو بعد ثلاثة أيَّام"، يجوز إعلامه بالواو للوجه الذاهب إلى أنه لو تبين التَّصْرِية بعد الثلاثة، لم يثبت الخِيَارِ. قوله: "ردها" بالحاء. وقوله: "بدلاً عن اللبن الكائن في الضرع" أي: عند البيع، وظاهر اللفظ يقتضي ردّ الصَّاع، وإنْ نفى اللبن وهو أصح الوجهين كما مر. وقوله: "لورود الخبر"، تعليل لقوله: "ردها وردّ معها". وقوله: "فلا خيار" معلم بالواو وهو في صورتي الأتان والجارية، جواب على خلاف اختيار الأكثرين. وقوله: "وأحوط المذهبين" أي: الوجهين. وقوله:: "للاتباع"، إشارة إلى ما ذكره الأئمة من أن مأخذ الخلاف في المَسْألتين ونحوهما الاقتصار على مورد الخبر واتباعه أو رعاية المعنى. فرع: لو بَانَت التَّصْرية، ثم درَّ اللبن علي الحد الذي شعرت به التَّصْرية واستمر كذلك، ففي ثبوت الخيار وجهان كالوجهين فيما إذا لم يعرف العيب القَدِيم إلاَّ بعد زواله، وكالقولين فيما إذا أْعتقت الأمة تحت العبد، ولم تعرف عتقها حتى عُتق الزَّوج. فرع: رضي بإمساك المُصَرَّاة، ثم وجد بها عيباً قديماً، نص أنه يردُّها ويرد بدل اللَّبن أيضاً. وعن رواية الشَّيخ أبي علي وجه: أنه كما لو اشترى عبدين، فتلف أحدهما وأراد رد الآخر، فتخرج على تفريق الصفقة -والله أعلم-. قال الغزالي: وَثُبُوتُ الخِيَارِ بالكَذِب في مَسْأَلَةِ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ مِنْ بَابِ التَّغْرِيرِ، وَكَذَلِكَ خِيَارُ النَّجَشِ إِذَا كَانَ عَنِ اتِّفَاقِ مُوَاطأةِ البَائِعِ عَلَى أَقْيَسِ المَذْهَبَيْنِ، وَلاَ يَثْبُتُ (م) بِالغَبْنِ خِيَارٌ إِذَا لَمْ يَسْتَنِدْ إلَى تَغْرِير يُسَاوِي تَغْرِيرَ المُصَرَّاةِ حَتَّى لَوِ اشْتَرَى جَوْهَرَةً رَآهَا فَإذَا هِيَ زُجَاجَةٌ فَلا خِيَارَ. قال الرافعي: الخيار في تلقي الرُّكْبَان (¬1) قد ذكره في المَنَاهي وشرحناه، والغرض ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هاهنا التَّنْبيه على أن مستنده التَّغرير كما في التَّصرية، وكذا خيار النَّجَش (¬1) إن أثبتناه، ¬
وقد تكلمنا فيه من قبل. وأما مسألة الغَبْن (¬1): فاعلم: أن مجرد الغَبْن لا يثبت الخيار وإن تفاحش، خلافاً لمالك حيث قال: إن كان الغبن فوق الثلث ثبت الخيار للمغبون، ونقل بعض أصحاب أحمد مثله، وقدره بعضهم بما فوق السدس. وفي كتب أصحابنا عنه إن كان المغبون ممن لا يعرف المبيع ولا هو ممن لو توقف لعرفه ثبت الخيار. لنا قصة حبان بن مُنْقذ -رضي الله عنه- "فَإِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يُثْبِتْ لَهُ الْخِيَارَ بِالْغَبْنِ، وَلَكِنْ أَرْشَدَهُ إِلَى شَرْطِ الْخِيَارِ، ليَتَدَارَكَ غَبْنَهُ عَنْدَ الْحَاجَةِ" (¬1). إذا تقرَّرَ ذلك فلو اشْتَرى زجاجة وهو يَتَوهّمُها جوهرة بثمن كبير فلا خيار له ولا عبرة بما لحقه من الغَبْن؛ لأن التقصِير من جهته حيث جرى على الوَهْم المجرد، ولم يراجع أهل الخبرة. ونقل المُتَوَلِّي وجهاً: أنه كشراء الغائب، والرؤية التي لا تفيد المعرفة ولا تنفي الغرر كالمعدومة، ولك أن لا تستحسن لفظ الكتاب حيث قال: "ولو اشترى جوهرة رآها"، وتقول: ليس التصوير فيما لو اشترى جوهرة، وإنما التصوير فيما لو اشترى زجاجة توهمها جوهرة، -والله أعلم-. قال الغزالي: هَذِهِ أَسْبَابُ الخِيَارِ وَمُوجِبَاتُهُ (أَمَّا دوَافِعُهُ وَمُسْقِطَاُتُهُ) أَعْنِي في خِيَارِ النَّقْصِيَة فَهِيَ أَرْبَعَةٌ: (الأَوَّلُ) شَرْطُ الْبَرَاءَة مِنَ العَيْبِ صحِيحٌ عَلَى أَقْيَسِ القَوْلَيْنِ، وَيفْسَدُ (ح) العَقْدُ بِهِ عَلَى القَوْلِ الثَّانِي، وَيصِحُّ العَقْدُ وَيلْغُوَ الشَّرْطِ (ح) في قَوْلٍ ثَالِثٍ، وَيصِحُّ في الحَيَوَانِ وَيفْسَدُ في غَيْرِهِ (ح) في قَوْلٍ رَابعٍ. قال الرافعي: إذا باع بشرط أنه بريء من كل عيب بالمبيع، هل يصح هذا ¬
الشرط (¬1)؟ فيه طريقان: ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أشهرهما، وبه قال ابن سريج وابن الوكيل والاِصْطَخْري: أنه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يَبْرأ ولا يرد عليه بحال، وبه قال أبو حنيفة لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤْمِنُون عِنْدَ شُرُوطِهِمْ" (¬1). وأيضا فإن خيار العيب إنما يثبت لاقتضاء مطلق العقد السلامة فإذا صرح بالبراء فقد ارتفع الإِطْلاَق. وثانيها: أنه لا يبرأ عن عيب ما؛ لأنه خيار ثابت بِالشَّرْع فلا ينفى بالشَّرْط كسائر مقتضيات العَقْد، وأيضاً فإن البراءة من جملة المرافق، فلتكن معلومة كالرَّهْن والكَفِيل، والعيوب المطلقة مجهولة، وبهذا القول قال أحمد في رواية، وعنه في رواية أخرى: أنه لا يبرأ عما لا يعلمه دون ما يعلمه. وثالثها، وهو الأصح ويروى عن مالك: أنه لا يبرأ في غير الحَيَوَان بحال، ويبرأ في الحيوان عما لا يعلمه دون ما يعلمه، لما روي: "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- بَاعَ عَبْداً مِنْ زَيْدِ بنِ ثَابِتِ -رضي الله عنه- بِثَمَانِمَائَةِ دِرْهَمٍ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ، فَأصَابَ زَيْدٌ بِهِ عَيْباً، فأَرَادَ رَدَّهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- فَلَمْ يَقْبَلهُ، فَتَرَافَعَا إِلَى عُثْمَانَ -رضي الله عنه- فقَالَ عُثْمَانُ لاِبْنِ عُمَرَ: أَتَحْلِفُ أَنَّكَ لَمْ تَعْلَمْ بِهَذَا الْعَيْبِ؟ فَقَالَ: لاَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَبَاعَهُ ابْنُ عمَرَ -رضي الله عنهما- بِأَلْفِ دِرْهِمٍ" (¬2). فرّق عثمان وزيد -رضي الله عنهما- بين أن يكون العيب معلوماً أو لا يكون، والفرق بينهما من جهة المعنى أن كتمان المعلوم يلتبس، [فلا يبرأ منه] والفرق بين الحيوان وغيره ما ذكره الشافعي -رضي الله عنه- قال: الحيوان يغتذي بالصِّحة والسِّقم ونُحُول طَبَائعه وقل ما يبرأ من عيب يَخْفى أو يظهر. معناه: أنه يغتذي ويأكل في حالتي صحته وسقمه ونحول طبيعته، وقل ما ينفك عن عيب خفي أو ظاهر، فيحتاج البائع إلى هذا الشرط فيه ليثق بلزوم البيع. ¬
والطَّرِيق الثاني، وبه قال ابْنُ خَيْرَان وأَبو إِسْحَاق: القطع بالقول الثالث، ونصه في "المختصر"، واختلاف العراقيين بهذا أشد إِشْعاراً، وزاد القاضي المَاورْدِيّ طريقة ثالثة حكاها عن ابن أبي هريرة، وهي أنه يبرأ في الحيوان من غير المعلوم دون المعلوم، ولا يَبْرَأُ في غير الحيوان من المعلوم، وفي غير المعلوم قولان، ويخرج من منقول الإمام طريقة رابعة، وهي إثبات ثلاثة أقوال في الحيوان وغيره، وثالثها الفرق بين المعلوم وغير المعلوم. ولو قال: بِعْتُك بشرط أَلاَّ ترد بالعيب جرى فيه هذا الاخْتِلاف، وزعم صاحب "التتمة": أنه فاسد قطعاً مفسد للبيع. ولو عين بعض العيوب، وشرط البراءة عنه، نظر إن كان مِمَّا لا يُعاين مثل أن يقول: بشرط براءتي من الزنا والسرقةُ والإباق، برئ منها بلا خلاف؛ لأن ذكرها إعلام واطِّلاع عليها، وإن كان مما يعاين كالبَرَص، فإن أراه قدره وموضعه فكمثل، وإن لم يره فهو كشرط البراءة مطلقاً لتفاوت الأغراض باختلاف قدره وموضعه هكذا فصّلوه، وكأنهم تكلَّموا فيما يعرفه في المبيع من العيوب. فأما ما لا يعرفه ويريد البراءة عنه لو كان فقد حكى الإمام تفريعاً على فساد الشرط فيه، مخرجاً على ما ذكرنا من المعنيين في التَّعليل. التفريع: إن بطل هذا الشرط، ففي العقد وجهان: أحدهما: يبطل كسائر الشُّرُوط الفَاسِدة. وأظهرهما: أنه يصحُّ لاشتهار القِصَّة المذكورة بين الصَّحابة -رضي الله عنهم- وعدم إنكارهم -رضي الله عنهم- وأيضاً فإنه شرط يؤكد العقد، ويوافق ظاهر الحال، وهو السلامة عن العيوب، وإن صح فذلك في العُيُوب الموجودة عند العقد. أما الحادثة بعده وقبل القبض، فيجوز الرَّدُّ بها. ولو شرط البراءة عن العُيُوب الكائنة، والَّتي تحدث ففيه وجهان: أصحهما، ولم يذكر الأكثرون غيره: أنه فاسد، فإن أفرد ما سيحدث بالشَّرط فهو بالفساد أوْلى، وإن فرعنا على القول الثاني، فكما لا يَبْرَأُ عما علمه وكتمه كذلك لا يَبْرَأُ عن العيوب الظَّاهرة من الحيوان لسهولة البحث عنها والوقوف عليها، وإنما يَبْرَأُ من عيوب باطن الحيوان الَّتِي لا يعلمها. ومنهم من اعتبر نفس العلم ولم يفرق بين الظاهر والباطن، وهل يلحق ما مأكوله في جوفه بالحيوان؟ قيل: نعم لعسر الوقوف. وقال الأكثرون: لا لتبدُّل أحوال الحيوان، هذا فقه الفصل. وأما لفظ الكتاب، فاعلم: أنه لما عد أنواع خيار النقيصة، أراد أن يبين ما يسقطه فقال: هذه أسباب الخيار، أما دوافعه ومسقطاته وإنما جمع بين هاتين اللفظتين؛ لأن
منها ما يدفع كشرط البراءة، ومنها ما يسقط بعد الثّبوت كالتقصير، وإنما قال: "أعني في خيار النَّقيصة"؛ لأن هذه الأمور لا تعلّق لها بخيار التَّروي، على أن جميعها لا يشمل أنواع خيار النقيصة أيضاً، فإن شرط البراءة لا مدخل له في خيار الخُلْف، وخيار التَّصْرِية. ثم لا يخفى أن إيراد الكتاب إنما يتمشى على طريقة إثبات الأقوال، وأنه أدرج فيه الخلاف وفي أن فساد الشرط هل يتعدى إلى فساد العقد؟ وقوله: "ويصح في الحيوان ويفسد في غيره"، إنما يخرج على الطريقة التي نقلها الإمام، ومواضع العلامات سهلة المدرك على العارف بما قدمنا -والله أعلم-. قال الغزالي: (الثَّانِي): هَلاَكُ المَعْقُودَةِ عَلَيْهِ، فَلَوِ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبِ العَبْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلاَ رَدَّ إِذْ لاَ مَرْدُودَ، فلَوْ كَانَ العَبْدُ قَائِماً وَالثَّوْبُ الَّذِي هُو عِوَضُهُ تَالِفاً رُدَّ العَبْدُ بِالعَيْب وَرَجَعَ إِلَى قِيمَةِ الثَّوْبِ، وَالعِتْقُ وِالاسْتِيلاَدُ كَالهَلاكِ، وَهَل يَجُوزُ أَخْذُ الأَرْشِ بالتَّراضِي مَعَ إِمْكَانِ الرَّدِّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وإذَا عَجَزَ عَنِ الرَّدِّ فَلَه الأَرْشُ، وَهوَ الرُّجُوعُ إلَى جُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ يُعْرَفُ قَدْرُهُ بِمَعَرِفَةِ نِسْبَةِ قَدْرِ نُقْصَانِ العَيْبِ مِنْ قِيمَةِ المَبِيعِ فَيَرْجِعُ مِنَ الثَّمَنِ بِمثْلِ نِسْبَتِهِ، وَزَوَالُ المِلْكِ عَنِ المَعِيب يَمْنَعُهُ مِنَ الرَّدِّ فِي الحَالِ، وَلاَ يَمْنَعُ طَلَبَ الأَرْشِ فِي الحَالِ لِتَوَقُّعِ عَوْدِ المِلْكِ عَلَى الأًصَحِّ، وَلَوْ عَادَ المِلْكُ إِلَيْهِ ثُمَّ أطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ فلَهُ الرَّدُّ عَلَى الأَصَحِّ، فالزَّائِلُ العَائِدُ كَالَّذِي لَمْ يَزَلْ. قال الرافعي: من موانع الرَّد: أن لا يتمكّن المشتري من رد المبيع، وذلك قد يكون لهلاكه وقد يكون مع بقائه. وعلى التقدير الثاني، فربما كان لخروجه عن قبول النقل من شخص إلى شخص، وإنما كان مع قبوله للنقل. على الثاني فربما كان لزوال ملكه، وربَّمَا كان مع بقائه لتعلق حق مانع. وكلام الكتاب يتعرض أكثر هذه الأحوال، فنشرح ما تعرض له، ونضم الباقي إليه مختصرين، وبِاللَّه التوفيق. الحالة الأولى والثانية: إذا هلك المبيع في يد المشتري، بأن مات العبد أو قتل أو تلف الثوب أو أكل الطعام، أو خرج عن أن يقبل النَّقْل من شخص إلى شخص، كما إذا أعتق العبد أو ولد الجارية أو وقف الضيعة، ثم عرف كونه معيباً فقد تعذَّرَ الرد لفوات المردود، ولكن يرجع على البائع بالأَرْش (¬1)، وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: لا أَرْشَ له إذا هلك بنفسه بالقتل ونحوه. ¬
لنا القياس على العِتْق والموت بجامع أنه عيب اطلع عليه بعد اليأس عن الرد، والأَرْش جزء من الثَّمن نسبته إليه نسبة ما ينقص العيب من قيمة المبيع لو كان سليماً إلى تمام القيمة، وإنما كان الرجوع بجزء من الثمن؛ لأنه لو بقي كلّ المبيع عند البائع، كان مضموناً عليه بالثمن، فإذا احتبس جزء منه كان مضموناً بجزء من الثمن. مثاله: إذا كانت القيمة مائة دون العيب وتسعين مع العيب، فَالتَّفَاوت بالعشر، فيكون الرجوع بعشر الثمن؟ وإن كان مائتين فبعشرين، وإنْ كان خمسين فبخمسة، والاعتبار بأي قيمة؟ نقل عن نصه في موضع أن الاعتبار بقيمة يوم البيع. وعن رواية ابن مِقْلاص: أن الاعتبار بقيمة يوم القبض، فمنهم من جعلهما قولين، وأضاف إليهما ثالثاً وهو أصحها وهو أن الاعتبار بأقل القيمتين منهما. وجه الأول: أن الثمن يومئذ قابل المييع. ووجه الثاني: أنه يوم دخول المبيع في ضمانه. ووجه الثالث: أن القيمة إن كانت يوم البيع أقل، فالزيادة حدثت في ملك المشتري، وإن كانت يوم القبض أقل فما نقص، نقص من ضمان البائع. والأكثرون قطعوا باعتبار أقلّ القيمتين، وحملوا كل نصّ على ما إذا كانت القيمة المذكورة أقل، وإذا ثبت الأَرْش، فإنْ كان الثمن بعد في ذمة المشتري فيبرأ عن قدر الأَرْش بمجرد الاطلاع على العيب أو يتوقف على الطالب، فيه وجهان: أظهرهما: الثاني، وإن كان قد وفاه وهو باق في يد البائع، فيتعيّن لحق المشتري أو يجوز للبائع إبداله؛ لأنه غرامة لحقته، فيه وجهان: أظهرهما: الأول، ولو كان المبيع باقياً والثمن تالفاً جاز الرد ويأخذ مثله إنْ كان مثلياً، وقيمته إن كان متقوماً أقل ما كانت من يوم البيع إلى القبض؛ لأنها إنْ كانت يوم العَقْد أقل فالزيادة حدثت في ملك البائع، وإنْ كانت يوم القبض أقل، فالنقصان من ضمان المشتري، ويشبه أن يجيء فيه الخلاف المذكور في اعتبار الأرْش، ويجوز الاسْتِبْدال عنه كما في القرض، وخروجه عن ملكه بالبيع ونحوه كالتَّلف.
ولو خرج وعاد، فهل يتعيّن لأخذ المشتري أو للبائع إبداله؟ فيه وجهان: أصحهما: أولهما، وإن كان الثمن باقياً بحاله، فإن كان معيناً في العقد أخذه، وإن كان في الذمة وبعده، ففي تعيينه لأخذ المشتري وجهان، وإن كان ناقصاً، نظر إن تلف بعضه أخذ الباقي بدل التالف، وإن رجع النقصان إلى الصفة كالشَّلَل ونحوه لم يغرم الأَرْش في أصح الوجهين، كما لو زاد زيادة متصلة يأخذها مجاناً. فرع: لو لم تَنْقص القيمة بالعيب، كما لو خرج العَبْد خَصِيّاً فلا أرش كما لا رد. فرع آخر: لو اشترى عبداً بشرط العتق، ثم وجد به عيباً بعدما أعتقه. نقل القاضي ابن كج عن أبي الحسين بن القطان: أنه لا أَرْش له هاهنا، لأنه وإنْ لم يكن معيباً لم يمسكه، ونقل عنه وجهين فيما إذا اشترى من يعتق عليه ثم وجد به عيباً، قال: وعندي له الأَرْش في الصورتين. الحالة الثالثة: إذا زال ملكه عن المبيع ثم عرف العيب فلا رد في الحال، وهل يرجع بالأَرْش إن زال الملك بعوض كالهِبَة بشرط الثواب والبيع؟ فقولان: أحدهما: نعم، لتعذر الرد، كما لو مات العبد وأعتقه، وهذا مخرج خرجه ابن سريج، وفي رواية البُويطي ما يقتضيه، وعلى هذا لو أخذ الأَرْش ثم رده عليه مشتريه بالعيب، فهل يرده مع الأرْش ويسترد الثمن؟ فيه وجهان: أصحهما وهو المنصوص: أنه لا يرجع بالأَرْش، ولم لا يرجع؟ قال أبو إسحاق وابن الحداد: لأنه استدرك الظّلاَمة، وروّج المعيب كما رّوج عليه. وقال ابن أبي هريرة؛ لأنه لم ييأس من الرد، فربما يعود إليه ويتمكّن من رده، وهذا أصح المعنيين عند الشيخ أبي حامد والقَاضي أبي الطَّيب، ورأيته منصوصاً عليه في اختلاف العراقيين، وإن زال الملك بغير عوض فعلى تخريج ابْنِ سُرَيج يرجع بالأَرْش، وعلى المنصوص فيه وجهان مبنيان على المعنيين، إنْ علَّلنا بالأول يرجع؛ لأنه لم يستدرك الظُّلاَمة، وإن عللنا بالثاني فلا؛ لأنه ربما يعود إليه. ومنهم من حكى القَطْع بعدم الرجوع هاهنا، وأيد به المعنى الثاني. ولو عاد الملك إليه بعد ما زال، نظر أزال بعوض أولاً بغير عوض. القسم الأول: أن يزول بعوض كما لو باع، فينظر هل عاد بطريق الرد بالعيب أو غيره؟ [وفيه قسمان]: القسم الأول: أن يعود بطريق الرد بالعيب، فله أيضاً رده على بائعه؛ لأنه زال التَّعذر الَّذِي كان وتبين أنه لم يستدرك الظّلاَمة، وليس للمشتري الثَّاني ردّه على البائع
الأول؛ لأنه ما تلقى الملك منه، ولو حدث به عيب في يد المشتري الثاني ثم ظهر عيب قديم، فعلى تخريج ابن سريج: للمشتري الأول أخذ الأَرْشِ من بائعه كما لو لم يحدث عيب، ولا يخفى الحكم بينه وبين المشتري الثَّاني، وعلى الأصح ينظر إنْ قبله المشتري الأول مع العيب الحادث، خير بائعه فإن قبله فذاك، وإلاَّ أخذ الأَرْش منه. وعن أبي الحسين: أنه لا يأخذه واسترداده رضا بالمعيب وإن لم يقبله، وغرم الأرْش للثَّاني ففي رجوعه بالأَرْش على بائعه وجهان: أحدهما: لا يرجع، وبه قال ابن الحَدَّاد؛ لأنه ربما قبله بائعه، لو قبله هو فكان متبرعاً بغرامة الأرش. وأظهرهما: أنه يرجع، لأنه ربما لا يقبله بائعه فيتضرر. قال الشيخ أبو علي: يمكن بناء هذين الوجهين على ما سبق من المعنيين إن عللنا بالأول، فإذا غرم الأرض زال استدراك الظّلامة فيرجع، وإن عللنا بالثاني فلا يرجع؛ لأنه ربما يرتفع العَيْب الحادث فيعود إليه. قال: وعلى الوجهين جميعاً لا يرجع ما لم يغرم للثاني، فإنه ربما لا يطالبه الثَّاني بشيء، فيبقى مستدركاً للظلامة. ولو كانت المسألة بحالها، وتلف المَبِيع في يد المشتري الثَّاني، أو كان عبدًا فأعتقه، ثم ظهر العيب القديم رجع الثَّاني بالأَرْش على الأول، والأول بالأرش على بائعه بلا خلاف لحصول اليأس عن الرد، لكن هل يرجع على بائعه قبل أن يغرم المشتري؟ فيه وجهان مبنيان على المعنيين، وإن عللنا باستدراك الظلامة فلا يرجع ما لم يغرم وإن علّلنا بالثاني يرجع، ويجري الوجهان فيما لو أَبْرأه الثاني هل يرجع هو على بائعه؟ القسم الثاني من الأول: أن يعود إليه لا بطريق الرَّد، كما إذا عاد بِإِرْث أو اتِّهَاب أو قبول وَصِية أَوْ إِقَالة، فهل له رده على بائعه؟ فيه وجهان ذوا مأخذين: أحدهما: البناء على المعنيين السَّابقين، إنْ عللنا بالأول لم يرد، وبه قال ابن الحداد؛ لأن استدراك الظّلاَمة قد حصل بالبيع، ولم يبطل ذلك الاستدراك بخلاف ما لو رد عليه بالعيب. وإن عللنا بالثاني يرد لزوال العذر وحصول القدرة على الرد، كما لو رد عليه بالعيب. والثاني: أن الملك العائد هل ينزل منزلة غير الزائل؟ ففي جواب: نعم؛ لأنه عين ذلك المال وعلى تلك الصفة. وفي جواب: لا؛ لأنه ملك جديد والملك نقص لذلك، وهذا أصل يخرج عليه مسائل: منها: لو أفلس بالثمن وقد زال ملكه عن المَبِيع وعاد، هل للبائع الفسخ؟
ومنها لو زال ملك المرأة عن الصَّدَاق وعاد ثم طلقها قبل المسيسِ، هل يرجع في نصفه أو يبطل حقه من العين كما لو لم يعد؟ ومنها: لو وهب من ولده وزال ملك الولد وعاد، هل للأب الرجوع؟ ولو عاد إليه بطريق الشراء، ثم ظهر عيب قديم كان في يد البائع الأول، فإن عللنا بالمعنى الأول، لم يرد على البائع الأول لحصول الاستدراك ويرد على الثاني، وإن عللنا بالثاني فإن شاء رد على الثاني، وإن شاء رد على الأول، وإذا رد على الثاني فله أنْ يرده عليه، وحينئذ يرد هو على الأول، ويجيء وجه: أنه لا يرد على الأول بناء على أن الزائل العائد كالذي لم يعد، ووجه: أنه لا يرد على الثاني؛ لأنه لو رد عليه لرد هو ثانياً عليه، وسنذكر نظيره. القسم الثَّاني: أن يزول بلا عوض، فينظر إن عاد لا بعوض أيضاً، فجواز الرد مبني على أنه: هل يأخذ الأَرْش لو لم يعد؟ إن قلنا: لا، فله الرد؛ لأن ذلك لتوقع العود. وإنْ قلنا: يأخذ، فهل ينحصر الحق فيه أو يعود إلى الرد عند القدرة؟ فيه وجهان، وإن عاد بعوض كما لو اشتراه، فإن قلنا: لا رد في الحالة الأولى فكذلك هاهنا، ويرد على البائع الأخير. وإنْ قلنا: يرد، فهاهنا يرد على الأول أو على الأخير، أو يتخير فيه ثلاثة أوجه خارجه مما سبق. فرع: باع زيد شيئاً مِنْ عمرو ثم اشتراه منه، وظهر به عيب كان في يد زيد، فإن كانا عالمين بالحال فلا رد، وإن كان زيد عالماً فلا رد له ولا لعمرو أيضاً لزوال ملكه ولا أَرْشَ له على الصحيح لاستدراك الظلامة أو لتوقع العود، فإن تلف في يد زيد، أخذ الأرش على التعليل الثاني، وهكذا الحكم لو باعه من غيره، وإن كان عمرو عالماً فلا رد له ولزيد الرد، وإن كانا جاهلين فلزيد الرد إن اشتراه بغير جنس ما باعه أو بأكثر منه، ثم لعمرو أن يرد عليه وإن اشتراه بمثله فلا رد لزيد في أحد الوجهين؛ لأن عمراً يرده عليه، فلا فائدة فيه، وله ذلك في أصحهما؛ لأنه ربما يرضى به فلا يرد، ولو تلف في يد زيد ثم عرف به عيباً قديماً، فحيث يرد لو بقي يرجع بالأرش، وحيث لا يرد لا يرجع. الحالة الرابعة: إذا تعلَّق به حق كما لو رهنه ثم عرف العيب فلا رد في الحال، وهل يأخذ الأرش؟ إن عللنا باستدراك الظلامة فنعم، وإنْ عللنا بتوقع العود فلا، وعلى هذا فلو تمكَّن من الرَّد رد، ولو حصل اليأس أخذ الأَرْش، ولو كان قد أجر ولم نجوِّز بيع المستأجر فهو كالرَّهْن، وإن جوزناه فإن رضي البائع به مسلوب المنفعة مدة الإِجارة رد عليه، وإلا تعذَّر الرد، وفي الأرش الوجهان، ويجريان فيما لو تعذر الرد بغصب أو
إباق، ولو عرف العيب بعد تَزْوِيج الجارية أو العبد، ولم يرض البائع بالأَخْذ، قطع بعضهم بأن المشتري يأخذ الأرش هاهنا. أما على المعنى الأول فظاهر. وأما على الثاني؛ فلأن النكاح يراد للدوام، فاليأس: حاصل واختار القاضي الرُّويَانِيُّ وصاحب "التتمة" ما ذكروه، ولو عرفه بعد الكتابة، ففي "التتمة" أنه كالتزويج. وذكر الماوردي: أنه لا يأخذ الأرش على المعنيين، بل يصبر؛ لأنه قد استدرك الظلامة بالنجوم، وقد يعود إليه بالعجز فيرده. والأظهر: أنه كالرهن، وأنه لا يحصل استدراك بالنُّجُوم. وقوله في الكتاب: "فله الأَرْش، وهو الرجوع إلى جزء من الثمن" لا يعود وقوله: هو إِلَى الأَرْش، فإن الأرش ليس هو الرجوع إلى الثمن، وإنما هو جزء من الثمن، بل المعنى أن استحقاق الأرش هو الرجوع إليه. وقوله: "ولا يمتنع طلاب الأَرْش في الحال لتوقّع عود الملك"، معناه: أنا لا نقول بامتناع طلب الأَرْش بسبب هذا التوقع، لا أنه تعليل لعدم الامتناع، ثم اعلم: أن طريقة الجمهور بناء طلب الأرش في الحال، والرد عند العود على المعنيين كما حكيناها مهذبة، وصاحب الكتاب وشيخه بنيا الرد عند المآل على أن الزَّائل العائد كالَّذي لم يزل أو كالذي لم يعد، وبنيا أخذ الأرش في الحال على الرد في المآل، إن لم يَجُز الرد في المآل جاز أخذ الأرش في الحال، وإن جاز ففي الأرش في الحالة للحيلولة وجهان كالقولين في شهود المآَل إذا رجعوا، هل يغرمون للحيلولة؟ ومثل هذا التصرف محمود في الفقه، لكن الذهاب إلى أنَّ طلب الأَرْش في الحال جائز خلاف المذهب المشهور. فاعرف ذلك، وقد أجاب صاحب الكتاب فيما إذا وجد بالشِّقْصِ عيباً بعد أخذ الشّفيع بأنه لا أرش له، على خلاف ما رجحه هاهنا والخلاف واحد -والله أعلم-. قال الغزالي: (الثَّالِثُ): القصير بَعْدَ مَعْرِفَةِ العَيْبِ سَبَبُ بُطْلاَنِ الْخِيَارِ وَفَوَاتِ المُطَالَبَةِ بالأَرْشِ لِتَقْصِيرِهِ، وتَرْكُ التَّقْصِيرِ بِأَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فِي الوَقْتِ إِنْ كَانَ حَاضِراً، وَإِنْ كَانَ غَائِباً أَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ حَاضِرَيْنِ فَإنْ لَمْ يَكُنْ حَضَرَ عِنْدَ القَاضِي. قال الرافعي: الرَّد بالعَيْبِ على الفور (¬1)، ويبطل بالتأخير من غير عذر؛ لأن ¬
الأصل في البيع اللزوم، فإذا أمكنه الرَّد وقصّر لزمه حكمه، ولا يتوقف على حضور الخَصْم وقضاء القاضي، وقال أبو حنيفة: إن كان قبل القبض، فلا بد من حضور الخصم ولا يشترط رضاه، وإن كان بعده، فلا بد من رضاه أو قضاء القاضي، لنا ما مر في خيار الشرط. إذا تقرر ذلك فالمبادرة إلى الرد معتبرة بالعادة، فلا يؤمر بالعَدْوِ والرَّكض ليرد، ولو كان مشغولاً بصلاة أو أكل أو قضاء حاجة، فله التأخير إلى أن يفرغ، وكذا لو اطلع حين دخل وقت هذه الأمور فاشتغل بها فلا بأس، وكذا لو لبس ثوباً أو أغلق باباً، ولو وقف عليه ليلًا، فله التأخير إلى أنْ يصبح (¬1). وإذا لم يكن عذر، فقد ذكر حجة الإسلام هاهنا وفي "الوسيط": أنه إن كان البائع حاضراً يرد عليه، وإن كان غائباً تلفَّظ بالرد، وأشهد عليه شاهدين، فإن عجز حضر عند القاضي وأعلمه الرد، ولو رفع إلى القاضي، والمردود عليه حاضر. قال في "الوسيط": هو مقصر، وأشار في "النهاية" إلى خلاف فيه، وقال: هذا ظاهر المذهب، لكنه ذكر في الشّفْعَة: أن الشفيع لو ترك المشتري، وابتدر إلى مجلس الحكم واسْتَعْدَى عليه، فهو فوق مطالبة المشتري؛ لأنه ربما يحوجه آخراً إلى المرافعة، وحكيا معاً وجهين فيما إذا تمكَّن من الإشهاد فتركه، ورفع إلى القاضي، وفي الترتيب المذكور إشكال؛ لأن الحضور في هذا الموضع، إما أن يعني به الاجتماع في المجلس أو السكون في البلدة. فإن كان الأول، فإذا لم يكن البائع عنده، ولا وجد الشهود لم يسع إلى القاضي، ولا يسعى إلى البائع، واللائق بمن يمنع من المبادرة إلى القاضي، إذا وجد البائع أن ¬
يمنع منها إذا أمكنه الوصول إليه. وإن كان الثاني، فأي حاجة إلى أن يقول: شاهدين حاضرين، ومعلوم أنَّ الغائب عن البلد لا يمكن إشهاده على التفسيرين يكون حضور مجلس الحكم مشروطاً بالعجز عن الإشهاد بعيد. أما على الأول: فلأن حضور مجلس الحكم قد يكون أسهل عليه من إحضار من يشهده، أو الحضور عنده. وأما على الثاني: فلأنه لو اطلع على العيب وهو حاضر في مجلس الحكم ينفذ فسخه ولا يحتاج إلى الإشهاد، بل يتعين عليه ذلك إن أراد الفسخ، فظهر أنَّ التَّرتيب الذي يقتضيه ظاهر لفظ الكتاب غير مرعي. واعلم بعد ذلك: أَنَّ القول في كيفية المُبَادرة وما يكون تقصيراً وما لا يكون، إنما يبسط في "كتاب الشفعة"، وأذكر هاهنا ما لا بد منه، فأقول: الذي فهمته من كلام الأصحاب أن البائع إذا كان في البلد رد عليه بنفسه أو بوكيله، وكذا لو كان وكيله حاضراً، ولا حاجة إلى المرافعة، ولو تركه ورفع الأمر إلى مجلس الحكم فهو زيادة توكيد. وحاصل هذا: تخييره بين الأمرين، وإن كان غائباً عن البلد رفع الأمر إلى مجلس الحكم (¬1). قال القاضي الحسين في "فتاويه" يدَّعي شراء ذلك الشيء من فلان الغائب بثمن معلوم، وأنه أقبضه الثمن، ثم ظهر العيب، وأنه فسخ البيع ويقيم البَيِّنة على ذلك في وجه مسَّخر (¬2) ينصبه القاضي، ويحلفه القاضي مع البينة؛ لأنه قضاء على الغائب، ثم يأخذ المبيع منه ويضعه على يدي عدل، والثمن يبقى دَيْنًا على الغائب فيقضيه القاضي من ماله، فإن لم يجد له سوى المبيع باعه فيه، إلى أن ينتهي إلى الخَصْم أو القاضي في الحالتين، لو تمكن من الإشهاد على الفسخ هل يلزمه ذلك؟ فيه وجهان: منقول صاحب "التتمة" وغيره منهما: اللزوم (¬3)، ويجري الخلاف فيما إذا أخر بعذر مرض أو غيره، ولو عجز في الحال عن الإِشْهَاد، فهل عليه التَّلفظ بالفسخ؟ فيه وجهان: ¬
أصحهما: عند الإمام وصاحب "التهذيب": أنه لا حاجة إليه، وإذا لقي البائع فسلم عليه لم يضر، ولو اشتغل بمحادثته بطل حقه، ولو أخر الرد مع العلم بالعيب، ثم قال: أخرت لأني لم أعلم أن لي حق الرد فإن كان قريب العهد بالإسلام، أَوْ نَشَأَ في بادية لا يعرفون الأحكام قتل قوله، ومكن من الرد، وإلاَّ فلا، ولو قال: لم أعلم أنه يبطل بالتأخير قبل قوله؛ لأنه مما يخفى على العَوَام (¬1). وحيث بطل حق الرد بالتقصير يبطل حق الأَرْش أيضاً. وليس لمن له الرد أنْ يمسك المبيع ويطلب الأَرْش خلافاً لأحمد، وليس للبائع أيضاً أن يمنعه من الرد ليغرم له الأَرْش، ولو رضي بترك الرَّد على جزء من الثمن أو على مال آخر، ففي صحة هذه المصالحة وجهان: أحدهما وبه قال أبو حنيفة ومالك وابن سريج: أنها تصح كالصلح عن حق القِصَاص على مال. وأظهرهما: المنع؛ لأنه خيار فسخ فأشبه خيار الشرط والمجلس، وعلى هذا يجب على المشتري رد ما أخذ، وفي بطلان حقه من الرد وجهان: أحدهما: يبطل؛ لأنه أخر الرد مع الإمكان وأسقط حقه. وأصحهما: المنع، لأنه نزل عن حقه على عوض، ولم يسلم له العوض فيبقى على حقه، ولا يخفى أن موضع الوجهين ما إذا كان يظن صحة المصالحة. أما إذا علم فسادها بطل حقه بلا خلاف -والله أعلم-. قال الغزالي: وَيتْرُكُ الانْتِفَاعَ في الحَالِ، وَيَنْزِلُ عَنِ الدَّابَّةِ إِنْ كَانَ رَاكِباً، وَيَضَعُ عَنْهُ إكَافَهُ وَسَرْجَهُ فَإنَّهُ انْتِفَاعٌ، وَلاَ يَحُطُّ عِذَارَهُ فَإِنَّهُ في مَحَلِّ المُسَامَحَةِ إلاَّ أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْهِ القَوْدُ فَيُعْذَرَ في الركُّوبِ إِلَى مُصَادَفَةِ الخَصْمِ أَو القَاضِي. قال الرافعي: كما أن تأخير الرَّد مع الإمكان تقصير، فكذلك الاسْتِعْمال والانتفاع والتَّصرف لإشعارها بالرِّضا والاختيار، فلو كان المبيع رقيقاً فاستخدمه في مدّة طلب الخصم أوالقاضي بطل حقه، وإن كان بشيء خفيف كقوله: اسقني، أو ناولني الثوب، أو أغلق الباب، ففيه وجه: أنه لا أثر له؛ لأن مثل هذا قد يؤمر به غير المملوك، وبهذا ¬
أجاب القاضي الماوردي وغيره، ولكن الأشهر: أنه لا فرق (¬1). ولو ركب الدابة لا للرد بطل حقه، وإن ركبها للرد أو للسقي فوجهان: أظهرهما: البطلان أيضاً؛ لأنه ضرب انتفاع كما لو وقف على عيب الثوب فلبسه للرد. نعم لو كانت جموحاً يعسر قودها وسوقها فيعذر في الركوب. والثَّاني وبه قال أبو حنيفة وابن سُرَيْجٍ في "جوابات الجامع الصَّغير": أنه لا يبطل؛ لأنه أسرع للرد، وعلى الأول لو كان قد ركبها للانتفاع فاطَّلع على عيب بها لم يَجُز استدامته وإن توجه للرد، ولو كان لابساً فاطلع على عيب الثَّوْب في الطريق فتوجَّه للرد ولم ينزع فهو معذور؛ لأن نزع الثوب في الطريق غير معتاد، كذا قاله الماوردي. ولو علف الدابة وسقاها في الطريق لم يضر، وكذا لو حلب لبن البَهِيْمَة في الطريق؛ لأنه مما حدث في ملكه، ولو كان عليها سَرْج أو أَكَاف فتركهما عليها بطل حقه؛ لأنه استعمال وانتفاع (¬2)، ولولا ذلك لاحتاج إلى حمل أو تَحْمِيل (¬3)، ويعذر بترك العِذَار أو اللِّجَام لأنهما خفيفان، ولا يعد تعليقهما على الدَّابة انتفاعاً؛ ولأن القَوْد يعسر دونهما. وسئل الشخ أبو حامد عما لو أنعلها في الطَّريق، فقال: إن كانت تمشي بلا نَعْلٍ بطل حقه، وإلا فلا. ولك أن تعلّم قوله في الكتاب: "ويترك الانتفاع" بالواو، وكذا قوله: "ينزل عن الدابة"، وقوله: "ويضع"؛ لأن القاضي الرُّوياني نقل جواز الانتفاع في الطريق مطلقاً، حتى روي عن أبيه جواز وطء الجارية (¬4) الثيب. وقوله: "إلاَّ أن يعسر عليه القود"، راجع إلى قوله من قبل: "إن كان راكباً" وإن تخلل بينهما كلام آخر، -والله أعلم-. ¬
قال الغزالي: الرَّابِعُ العَيْبُ الحَادِثُ مَانِعٌ مِنَ الرَّدِّ، وَطَرِيقُ دَفْعِ الظُّلاَمَةِ أَنْ يَضُمَّ أَرْشَ الحَادِثِ إلَى المَبِيعِ وَيرُدَّهُ، أَوْ يُغَرِّمَ البَائِعُ لَهُ أَرْشَ العَيْبِ القَدِيم، فَإِنْ تَنَازَعَا فِي تَعْيِينِ أَحَدِ المَسْلَكَيْنِ، فَالأَصَحُّ أَنَّ طَالِبَ أَرْشِ القَدِيمِ أَوْلَى بَالإِجَابَةِ؛ لِأَنَّ أَرْشَ العَيْبِ الحَادِثِ غُرْمٌ دَخِيلٌ لَمْ يَقْتَضِهِ العَقْدُ. قال الرافعي: إذا حدث بالمبيع عيب في يد المشتري بجناية أو آفة، ثم اطَّلع على عيب قديم فلا يمكن الرَّد قهراً (¬1) لما فيه من الإضرار بالبائع، ولا يكلف المشتري القناعة به، لما فيه من الإضرار به، ولكن يعلم المشتري البائع بالحال، فإن رضي به معيباً قيل للمشتري: إما أن ترده، وإما أن تقنع به معيباً ولا شيء، وإن لم يَرْضَ فلا بد من أن يضم المشتري أَرْشَ العيب الحادث إلى المبيع ليرده، أو أن يغرم البائع للمشتري أَرْشَ العيب القديم ليمسكه رعاية للجانبين، فإنْ توافقا على أحد هذين المَسْلَكين فذاك (¬2)، وإن تنازعا فدعا أحدهما إلى الرد مع أَرْش العيب الحادث، ودعا الآخر إلى الإِمْسَاك وغرامة أَرْش العيب القديم، فحاصل ما اشتمل كلام الأصحاب عليه وجوه اختصرها الإمام: أحدها: أن المتبع رأى المشتري، ويجبر البائع على ما يقوله؛ لأن الأصل أن لا يلزمه تمام الثمن إلاَّ بمبيع سليم، فإذا تَعذّر ذلك فوضت الخِيرَةَ إليه، ولأن البائع ملبس بترويج المبيع، فكان رعاية جانب المشتري أولى، ويروى هذا الوجه عن مالك وأحمد، وعن أبي ثور: أنه نَصُّه في القديم. والثاني: أن المتبع رأي البائع؛ لأنه إما غَارِم أو آخِذٌ ما لم يرد العقد عليه. والثالث وهو الأصح: أنَّ المتبع رأى من يدعو إلى الإمساك والرجوع بأرْشِ العيب القديم، سواء كان هو البائع أو المشتري لما فيه من تقرير العقد، وأيضاً فالرجوع بأَرش العيب القديم يستند إلى أصل العقد؛ لأن قضيته إلاَّ يستقرَّ الثمن بكماله إلا في مقابلة السليم، وضم أَرْش العيب الحادث إدخال شيء جديد لم يكن في العقد، فكان الأول أولى، فعلى هذا لو قال البائع: رده مع أَرْش العيب الحادث، فللمشتري أنْ يأتي وَيغْرم ويأخذ أرش العيب القديم ولو أراد المشتري أن يرده مع أرش العيب الحادث ¬
فللبائع أن يأتي ويغرم أرش القديم وما ذكرناه من إعلام المشتري البائع يكون على الفَوْر، حتى لو أخَّره من غير عذر بطل حقُّه من الرَّد والأَرْش، إلاَّ أنْ يكون العيب الحادث قريب الزوال غالباً كالرَّمد والحُمَّى، فلا يعتبر الفور في الإِعْلاَم على أحد القولين، بل له انتظار زواله ليرده سليماً عن العيب الحادث من غير أَرْش، ومهما زال الشَّيء الحادث بعد ما أخذ المشتري أَرْش العيب القديم، فهل له الفسخ ورد الأرش؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، وأخذ الأَرْش إسقاط للرد. والثاني: نعم، والأَرْش للحيلولة ولو لم يأخذه ولكن قضى القاضي بثبوته، فوجهان بالترتيب، وأولى بجواز الفسخ. ولو تراضيا ولا قضاء فَوَجْهَان بالترتيب وأولى بالفسخ، وهو الأصح في هذه الصورة، وأما بعد الأخذ فالأصح المنع، وكذا بعد الحكم عند صاحب "التهذيب". ولو عرف العيب القديم بعد زوال الحادث رد. وفيه وجه ضعيف، ولو زال العيب القديم قبل أخذ أَرْشِه لم يأخذه، وإن زال بعد أخذه ورده، ومنهم من جعله على وجهين، كما لو ثبت سنّ المجنيِّ عليه بعد أخذ الدِّيَة، هل يرد الدِّيَة؟. واعلم: أن كل ما يثبت الرَّد على البائع لو كان في يده يمنع الرد إذا حدث في يد المشتري، وما لا رَدَّ به على البائع لا يمنع الرَّد، إذا حدث في يد المُشْتري، إلاَّ في الأقل، فلو خمس العبد ثم عرف عيبًا قديمًا فلا رَدَّ وإن زادت قيمته، ولو نسي القرآن أو الحرفة ثم عرف به عيباً، فلا رد لِنُقْصَان القيمة، ولو زوجها ثم عرف بها عيباً فكذلك، قال الرُّوْيَاني: إلاَّ أن يقول الزوج: إن ردّك المشتري بعيب فأنت طالق، إن كان ذلك قبل الدخول فله الرد لزوال المانع بالرد. ولو عرف عيب الجارية المشتراة من ابنه أو أبيه بعد ما وطئها وهي ثيب، فله الرد وإنْ حرمت على البائع؛ لأن القيمة لا تنقص بذلك، وكذا لو كانت الجَارِيَة رضيعة، فأرضعتها أُم البائع أو ابنته في يد المشتري ثم عرف بها عيباً، وإقرار الرقيق على نفسه في يد المشتري بدَيْن المعاملة، أو بدَيْن الإتلاف مع تكذيب المولى، لا يمنع من الرد بالعيب القديم، وإن صدقه المولى على دَيْن الإتْلاَف منع، فإن عفا المقرّ له بعد ما أخذ المشتري الأَرْش، هل له الفسخ ورد الأرش؟ فيه وجهان جاريان فيما إذا أخذ الأَرْش لرهنه أو كتابته العبد، أو إباقه أو غصبه، ونحوها إن مكَّناه من ذلك ثم زال المانع من الرد. قال في "التهذيب":
أصحهما: أنه لا فسخ. فرع: حدث في يد المُشْتَرِي نكتة بياض بِعَيْن العبد، ووجد نُكْتة قديمة ثم زالت إحداهما، فقال البائع: الزائلة القديمة فلا رد ولا أَرْش، وقال المشتري: بل الحادثة ولي الرد، يتحالفان على ما لا يقولان، فإن حلف أحدهما دون الآخر قضى بموجب يمنيه، وإن حلفا استفاد البائع بيمينه دفع الرد، واستفاد المشتري بيمينه أخذ الأرش، فإن اختلفا في الأرش فليس له إلاَّ الأقل لأنه المستيقن. وقوله في الكتاب: "فالأصح أن طالب أَرْش القديم" يغني من الأوجه الثلاثة، ويجوز أن يعلّم قوله: "أولى" بالميم والألف، لما حكينا من مذهبهما، -والله أعلم-. قال الغزالي: وَإِنْ كَانَ المَبِيعُ حُلِيًّا وَقَدْ قُوبِلَ بِمِثْلِ وَزْنهِ فَبِضَمِّ الأَرْشِ إِلَيْهِ أَوِ اسْتِرْدَادِ جُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ لِلْعَيْبِ القَدِيمِ يُوقِعُ في الرِّبَا، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يُفْسَخُ العَقْدُ لِتَعَذُّرِ إِمْضَائِهِ وَلاَ يُرَدُّ الحُلِيُّ بَلْ يُغَرَّمُ بالذَّهَبِ إِنْ كَانَ مِنْ فِضَّةٍ، أَوْ عَلَى العَكْسِ حَذَراً مِنْ رِبَا الفَضْلِ وَهُوَ الأَصَحُّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لاَ يُبَالِي بِذَلِكَ إِذ المَحْذُورُ الزِّيَادَةُ في المُقَابَلَةِ في ابْتِدَاء عَقْدِهِ. قال الرافعي: إذا اشترى حُلِيًّا من ذهب أو فضة وزنه مائة مثلاً بمائة من جنسه، ثم اطلع على عيب قديم وقد حدث عنده عيب آخر، ففيه ثلاثة أوجه: أحدهما، وبه قال ابن سريج: أنه لا يرجع بالأَرْش؛ لأنه لو أخذ الأَرْش لنقص الثَّمن عن المائة فتصير المائة مقابلة بما دونها، وذلك رِباً ولا يرده مع أَرْش العيب الحادث؛ لأن المردود حينئذ يزيد على المائة المستردة، وذلك رِباً فيفسخ العقد لتعذُّر مصابه، ولا يرد الحُلِي على البائع لتعذر رده دون الأَرْش ومع الأرش فيجعل بمثابة ما لو تلف، ويغرم المشتري قيمته من غير جنسه معيباً بالعيب القديم سليماً عن العيب الحادث. والثاني، وبه قال الشيخ أبو حامد: أنه يفسخ البيع، ويرد الحُلِي مع أَرْش النُّقْصَان الحادث ولا يلزم الرِّبا، فإن المقابلة بين الحُلِي والثمن وهما متماثلان. والعيب الحادث مضمون عليه كعيب المَأْخُوذ على جهة السَّوم فعليه غرامته. والثالث عن صاحب "التقريب" والدَّارِكِي: أنه يرجع بأَرْش العيب القديم كما في غير هذه الصورة، والمماثلة في مال الرِّبَا إنما تشترط في ابتداء العقد وقد حصلت، والأَرْش حتى ثبت بعد ذلك لا يقدح في العقد السابق. واعلم: أنَّ الوجه الأول والثَّاني متفقان على أنه لا يرجع بِأَرْش العَيْب القديم وأن
يفسخ العقد، وإنما اختلافهما في أنه يرد الحُلِي مع أرش النقص أو يمسكه ويرد قيمته، وأما صاحب الوجه الثالث فقياسه تجويز الرَّدِّ مَعَ الأَرْش أَيضًا، كما في سائر الأموال، وإذا أخذ الإرْش فقد قيل: يجب أَنْ يكون مِنْ غير جنس العوضين، كيلا يلزم ربا الفَضْل. والأظهر: أنه يجوز أَنْ يكون من جنسهما؛ لأن الجنس لو امتنع أخذه لامتنع أخذ غير الجنس، لأنه يكون بيع مال الربا بجنسه مع شيء آخر، وذلك من صور "مُدّ عَجْوة". ثم إن صاحب الكتاب رأى الأصح: الوجه المنسوب إلى ابن سريج، وهو غير مساعد عليه بل اختيار القاضي الطَّبري وصاحب "المهذب" ومعظم العراقيين: إنما هو الثاني، واختيار الإمام وغيره: الثالث. وذكر الإمام: أن أبعد الوجوه ما قاله ابن سريج. وقوله: "فبضم الأَرْش إليه أو استرداد جزء من الثمن يوقع في الربا" قيل ذكر الخلاف، إنما كان يحسن كل الحسن أن لو كان ذلك متفقاً عليه وكان الاختلاف في طريق الخَلاَص وليس كذلك، بل صاحب الوجه الثاني لا يرى ضم الأَرْش إليه موقعًا في الربا، وصاحب الثالث لا يرى الاسترداد موقعًا فيه، والأحسن في النظم أن يذكر قول ابن سريج أولاً، ويعلل تعذر الإِمْضَاء بذلك. وقوله: "وقيل إنه لا يبالي بذلك" يمكن تنزيله على الوجه الثَّاني وعلى الثالث. ولو عرف العيب القديم بعد تلف الحُلِي عنده، فالَّذِي أورده صاحب "الشَّامِل" و"التتَّمة": أنه يفسخ العقد ويسترد الثمن، ويغرم قيمة التالف، ولا يمكن أخذ الأَرْش للربا. وفيه وجه آخر: أنه يجوز أخذ الأَرْش، قال في "التهذيب" وهو الأصح: وعلى هذا ففي اشتراط كونه من غير الجِنْس ما مر، ولا يخفى أَنَّ المَسْأَلة لا تختصّ بالحُلِيّ والنقدين، بل تجري في كل مال من أَموال الربا بيع بجنسه، -والله أعلم-. قال الغزالي: وَإذَا أَنْعَلَ الدَّابَة وَأَرَادَ رَدَّهَا بِالعَيْبِ فَلْيَنْزِعِ النَّعْلَ، وَإِنْ كَانَ نَزْعُ النَّعْل يَعِيبُهَا فَلْيَسْمَحْ بِالنَّعْلِ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَهُ عَلَى البَائِعِ أَرْشٌ وَلاَ قِيمَةُ النَّعْلِ، وَإِنْ صَبَغَ الثَّوْبَ بِمَا زَادَ في قيمَتِهِ فَطَلَبَ قِيمَةَ الصَّبْغِ لَهُ وَجْهٌ، وَلَكِنَّ إِدْخَالَ الصَّبْغِ وَهُوَ دَخِيلٌ في مِلْكِ البَائِعِ كَإدْخَالِ أَرْشِ العَيْبِ الحَادِث. قال الرافعي: في الفصل صورتان: الأولى: إذا أنعل الدَّابة المُشْتَراة، ثم وقف على عيب قديم بها، ينظر إن لم يعبها نَزْع النّعْل فله النزع والرّد وإن لم ينزع والحالة هذه لم يجب على البائع القبول، وإن كان النزع يخرم ثقب المَسَامير، ويتعيَّب الحافر به فنزع بطل حقه من الرد والأَرْش،
وكان تعيُّبه بالاختيار قطعاً للخيار، وفيه احتمال للإمام، ولو ردها مع النَّعْل أجبر البائع على القبول، وليس للمشتري طلب قيمة النَّعل، فإنه حقير في معرض رد الدَّابة، ثم ترك النَّعْل من المشتري [هل هو] تمليك، حتى يكون للبائع لو سقط أو إعراض حتى يكون لِلْمُشْتري؟ فيه وجهان: أشبههما: الثاني. الثانية: لو صَبَغَ الثَّوب بما زاد في قيمته ثم عرف عيبه، فإن رضي بالرَّدِّ من غير أن يطالب بشيء، فعلى البَائِعِ قبوله ويصير الصّبْغ مِلْكاً له، فإنه صفة الثَّوْب لا تزايله وليس كالنَّعْل، هذا لفظ إمام الحرمين قال: ولا صائر إلى أنه يرد الثوب ويبقى شريكًا بالصّبغ، كما يكون مثله في المغصوب، ولاحتمال يتطرق إليه، وإن أراد الرَّدَّ وأخذ قيمة الصّبْغ، ففي وجوب الإجابة على البائع وجهان: أظهرهما: لا تجب لكن يأخذ المشتري الأَرْش. ولو طلب المشتري أَرْش العيب، وقال البائع: رد الثوب لأغرم لك قيمة الصبغ ففيمن يجاب منهما؟ وجهان: الَّذِي أورده ابن الصَّبَّاغ والمَتَوَلِّي: أنَّ المُجَاب البدع، ولا أرش للمشتري. ولما حكى الإمام الخلاف في الطَّرفين ذكر أن الصّبْغ الزائد قد جرى مجرى أَرْش العيب الحادث في طرفي المطالبة، ومعناه: أنه إذا قال البائع: رد مع الإرْش، وقال المشتري: بل أمسك وآخذ الأرش، ففيمن يجاب؟ وجهان. وكذا إذا قال المشتري: أردّه مع الأرش، وقال البائع بل أَغْرم الأرش، وهذا ظاهر للمتأمل في الوجوه الثلاثة المذكورة هناك، إذا أفرد أحد الجانبين بالنظر، ووجه المشابهة بين الصَّبْغ الزَّائد وأَرْش العيب الحادث ما أشار إليه صاحب الكتاب، وهو أن إدخال الصّبْغ في ملك البائع مع أنه دخيل في العقد كإدخال الأَرْش الدخيل، ثم ظاهر لفظ الكتاب يقتضي عود الوجوه الثلاثة هاهنا حتى يقال: المجاب منهما في وجه من يدعو إلى فضل الأمر بالأَرْش القديم، وقد صرح به في "الوسيط"، ولكن رواية الوجه الثَّالث لا تكاد توجد لغيره، وبتقدير ثبوته فقد بيّنا، ثم إن الأصح: الوجه الثالث، وهاهنا قضية إيراد الأئمة: أنه لا يجاب المشتري، إذا طلب الأَرْش كما مر. وقوله: "فطلب قيمة الصَّبْغ له وجه" المعنى الذي ينبغي أن تنزل عليه هذه الكلمة أن طلب قيمة الصبغ ليس كطلب قيمة النَّعل، فإن النَّعْل تابع بالإضافة إلى الدَّابة حقير والصَّبْغ بخلافه، فإن هذا الطلب متجه وذاك مستنكر. ولو قصر الثوب ثم وقف على العيب، فيبنى على أنَّ القَصَارة عين أو أثر؟ إن قلنا بالأول، فهي كالصبغ. وإن قلنا بالثاني رد الثوب ولا شيء له، كالزيادات المُتَّصلة، وعلى هذا فقس نظائره، -والله أعلم-.
قال الغزالي: وَلاَ يُرَدُّ البِطِّيخُ (ح و) وَالْجوزُ وَالبَيْضُ بَعْدَ الكَسْرِ وَإِنْ وَجَدَهُ مَعِيباً بَلْ يَأَخُذُ أَرْشَ العَيْبِ، وَقِيلَ: إِنَّ لَهُ الرَّدَّ (م ح وز) وَضَمَّ أَرْشِ الكَسْر إِلَيْهِ. قال الرافعي: إذا اشترى ما مأكوله في جوفه كالبَطِّيخ والرَّانج والرُّمَّان والجَوْز واللَّوز والبندق (¬1)، والبَيْض فكسره ووجده فاسداً، ينظر إن لم يكن لفاسده قيمة، كالبيضة المَذِرَة التي لا تصلح لشيء، والبطيخة الشَّديدة التَّغير رجع المشتري بجميع الثمن نص عليه، وكيف سبيله؟ قال معظم الأصحاب: يتبين فساد البيع لوروده على غير متقوّم. وعن القفال في طائفة: أنه لا يتبين الفساد، لكنه على سبيل استدراك الظّلاَمة، فكما يرجع بجزء من الثمن عند انتقاص جزء من المبيع يرجع بكله عند فوات كل المَبِيع، وتظهر ثمرة هذا الخِلاَف في أن القُشُور البَاقِية بمن تَخْتَصّ، حتى يكون عليه تطهير الموضع عنها. وإن كان لفاسده قيمة كالرَّانج وبَيْض النَّعَام والبَطِّيخ إذا وجده حَامِضاً أو مدوداً (¬2) بعض الأطراف، فللكسر حالتان. إحداهما: أَنْ لا يوقف على ذلك الفساد، إلاَّ بمثله ففيه قولان: أحدهما، وبه قال أبو حنيفة والمزني: أنه ليس الرد قهراً، كما لو عرف عَيْبَ ¬
الثَّوْب بعد قطعه، وعلى هذا هو كسائر العُيُوب الحَادِثة، فيرجع المشتري بِأرْش العَيْب القديم، أو يضم أَرْش النقصان إليه ويرده كما سبق. وقوله في الكتاب: "بل يأخذ الأَرْش" إن لم يتراضيا على الرد مع الأرش؛ لأنه لا يعدل عنه بحال. والثاني: له ذلك، وبه قال مالك وكذا أحمد في رواية؛ لأنه نقص لا يعرف العيب إِلاَّ به، فلا مينع الرد كالمُصَرَّاة، وإيراد الكتاب: يقتضي ترجيح القول الأول، وبه قال صاحب "التهذيب"، لكن القاضي الماوردي والشيخ أبا حامد ومن تابعه رجحوا الثَّاني، وبه قال القاضي الرُّوياني وغيره. وإذا فرعنا على الثَّاني، فهل يغرم أَرْش الكسر؟ فيه قولان: أحدهما: نعم، وهو الذي أورده في الكتاب، كما يرد المصراة ويغرم. والثاني: لا؛ لأنه لا يعرف العَيْب إلاَّ به فهو معذور فيه، والبائع بالبَيْع كأنه سلَّطه عليه، وهذا أصح عند صاحب "التهذيب" وغيره. فإن قلنا بالأول غرم ما بين قيمته صحيحاً فاسد اللُّب ومكسوراً فاسد اللب، ولا نظر إلى الثمن. الحالة الثانية: أنْ يمكن الوقوف على ذلك الفساد بأقل من ذلك الكَسْر، فلا رد كما في سائر العيوب. وعن أبي إسْحَاق: أن بعض الأصحاب طرد القولين. إذا عرفت ذلك فكسر الجَوْز ونحوه، وثقب الرَّانج من صور الحالة الأولى، وكسر الرَّانج وتَرْضِيض بيض النعام من صور الحالة الثانية، وكذا تقوير البَطِّيخ الحامض إذا أمكن معرفة حموضته بِغَرْز شيء فيه، وكذا التَّقْوير الكبير إذا أمكن معرفتها بالتَّقْوِير الصغير، والتَّدْويد لا يعرف إلا بالتَّقْوير، وقد يحتاج إلى الشَّقِّ ليعرف، وقد يستغنى في معرفة حال البَيْض بالقَلْقَلَة عن الكسر، وليست الحموضة بعيبَ في الرُّمَّان بخلاف البَطَّيخ، فإن شرط في الرمان الحلاوة فَبَانَ حامضا بالغرز رده، وإن بَانَ بالشَّقِّ فلا. فرع: إذا اشْتَرَى ثوباً مطوياً، وهو مِمَّا ينقص بالنَّشْر، فنشره ووقف على عيب به لا يوقف عليه إلا بالنَّشْر وفيه القولان، كذا أطلقه الأصحاب على طَبَقَاتهم، مع جعلهم بيع الثوب المَطْوِي من صور بيع الغائب، ولم يتعرض الأئمة لهذا الإشكال فيما رأيته إِلاَّ من وجهين: أحدهما: ذكر إمام الحرمين: أن هذا الفَرْع مبني على تَصْحِيح بيع الغائب. والثَّاني: قال صاحب "الحاوي" وغيره: إنْ كان مطوياً أكثر من طَاقَيْن لم يصح
البَيْع إِنْ لم نجوِّز خيار الرؤية (¬1)، وإنْ كان مطويّاً على طاقين يصح البيع؛ لأنه يرى ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جميع الثوب من جانبيه وهذا أحسن، لكن المَطْوي على طاقين لا يرى من جانبيه، إلاَّ أحد وجهي الثوب، وفي الاكْتِفَاء به تفصيل وخلاف قد سبق، ووراء ما ذكروه تنزيلان: أحدهما: أن يفرض رؤية الثوب قبل الطَّي، والطي قبل البيع، ويستمر الفَرْع. والثَّاني: أن ما ينتقص بالنَّشْر مرة ينتقص بالنَّشْر مرتين فوق ما ينتقص به مرة واحدة، فلو نشر مرة وبيع وأعيد طَيّه ثم نَشَرَهُ المشتري، وزاد النقصان بذلك انتظم الفرع، -والله أعلم-. قال الغزالي: وَإذَا اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ رَجُلَيْنِ فَلَهُ أَنْ يُفْرِدَ (ح) أحَدُهُمَا بِرَدِّ نَصِيبِهِ،
وَإِذَا اشْتَرَى رَجُلاَنِ عَبْداً مِنْ وَاحِدٍ فَلأَحَدِهِمَا أَنْ يُفْرِدَ نَصِيبَ نَفْسِهِ بالرَّدِّ عَلَى أَصَحِّ القَوْلَيْن. قال الرافعي: المبيع في الصّفْقة الواحدة إمَّا شيء واحد أو شيئان، فإن كان الثَّاني كما لو اشترى عبدين فخرجا مَعِيبَيْن فله ردهما، وكذا لَوْ خرج أحدهما معيباً، وأما إفراد المعيب بالرد فقد ذكرناه في "تفريق الصّفقة". وإن كان الأول كما لو اشترى داراً أو عبداً فخرج معيباً فليس له رد بعضه، إن كان الباقي قائماً في ملكه لما فيه من تَشْقِيص ملك البائع عليه، فإن رَضِيَ البائع جاز في أصح الوجهين، وإن كان الباقي زائلاً كما إذا عرف العيب بعد بيع بعض المبيع، فقد حكى الشيخ أبو علي في رَدِّ البَاقي طريقين: أحدهما: أنه على قولين بناء على تفريق الصَّفْقة. وأصحهما: القطع بالمنع (¬1)، كما لو كان الباقي قائماً في مِلْكه، وعلى هذا فهل يرجع بالأَرْش؟ إما للقدر المبيع فكما ذكرنا فيما إذا باع الكل، وإما للقدر الباقي فوجهان: قال في "التهذيب": أصحهما: أنه يرجع لتعذُّر الرد، ولا ينتظر عود الزَّائل ليرد الكل، كما لا ينتظر زوال العيب الحادث، والوجهان جاريان فيما إذا اشترى عَبْدَين، وباع أحدهما ثم عرف العيب ولم نجوِّز رد الباقي، هل يرجع بالأرش؟ ولو اشترى عبدًا ومات وخلف ابنين فوجد بهما عيباً، فالأصح وهو قول ابن الحَدَّاد: أنه لا ينفرد أحدهما بالرَّد؛ لأن الصَّفقة وقعت مُتّحدة، ولهذا لو سلم أحد الابنين ونصف الثمن لم يلزم البائع تسليم النِّصف إليه. وفيه وجه: أنه ينفرد؛ لأنه رد جميع ما ملك. هذا كله فيما إذا اتَّحَد المُتَعَاقدان. أما إذا اشترى رجل عبداَ من رجلين وخرج معيباً فله أن يفرد نصيب أحدهما بالرد؛ لأن تعدد البائع يوجب تعدُّد العقد، وأيضاً فلا يَتَشَقَّص على المردود عليه ما خرج عن ملكه. ولو اشترى رجلان عبدًا من واحد فقولان: أصحهما: أنَّ لأحدهما أَنْ ينفرد بالرد: لأنه رد جميع ما ملك كما ملك، وبهذا قال أحمد، وكذا مالك في رواية (¬2). ¬
والثَّاني: يحكى عن رواية أبي ثور وبه قال أبو حنيفة: أنه ليس له الانفراد؛ لأن العبد خرج عن ملك البائع كاملاً، والآن يعود إليه بعضه، وبعض الشيء لا يشتري بما يخصه من الثَّمن لو بيع كله. التفريع: إن جوزنا الانفراد فانفرد أحدهما فتبطل الشّركة بينهما، ويخلص للمُمْسك ما أمسك وللراد ما استرد، أو تبقى الشَّركة بينهما فيما أمسكه الممسك واسترده الرَّاد. حكى القاضي الماوردي فيه وجهين: أصحهما: أولهما. وإن منعنا الانفراد فذاك، فيما ينتقص بالتبعيض؟ أما ما لا يَنْتَقص كالحبوب، ففيه وجهان مبنيان على أنَّ المانع ضَرَر التَّبعيض أو اتِّحاد الصَّفقة (¬1). ولو أراد المَمْنوعُ من الرَّد الأَرْش. قال الإمام: إنْ حصل اليأس مِنْ إمكان رد نصيب الآخر بأنْ أعتقه وهو معسر فله أخذ الأَرْش، وإن لم يحصل نظر إن رَضِيَ صاحبه بالعيب فيبنى على أنه لو اشترى نصيب صاحبه وَضَمَّه إلى نصيبه وأراد أن يرد الكل ويرجع بنصف الثمن، هل يجبر على قبوله كما في مسألة النعل؟ وفيه وجهان: إن قلنا: لا، أخذ الأرش. وإن قلنا: نعم، فكذلك في أصح الوجهين، لأنه توقع بعيد، وإن كان صاحبه غائباً لا يعرف الحال، ففي الأرش وجهان من جهة الحَيْلُولة النَّاجِزَة. ولو اشترى رجلان عبداً من رجلين، كان كل واحد منهما مشترياً ربع العبد من كل واحد من البائعين، فلكل واحد ردّ الربع إلى أحدهما. ولو اشترى ثلاثة من ثلاثة كان كل واحد منهم مشترياً تُسع العبد من كل واحد من البائعين. ولو اشترى رجلان عبدين من رجلين، فقد اشترى كل واحد من كل واحد ربع كل واحد فلكل واحد رَدّ جميع ما اشْتَرى من كل واحد عليه. ولو رَدّ ربع أحد العبدين وحده ففيه قولا التَّفْرِيق. ولو اشترى بعض عبد في صفقة وباقيه في صفقة، إمَّا من البائع الأول أو غيره فله ¬
رد أحد البَعْضَيْن خاصّة لتعدّد الصّفقة، ولو علم بالعيب بعد العقد الأول، ولم يمكنه الرد فاشترى الباقي، فليس له رد الباقي وله رد الأول عند الإمكان، -والله أعلم-. قال الغزالي: وَإذَا تَنَازَعَا فِي قدَمِ العَيْبِ وَحُدُوثِهِ فَالقَوْلُ قَوْلُ البَائعِ إِذَ الأَصْلُ لُزُومُ العَقْدِ فَيَحْلِفُ أَنِّي بِعْتُهُ وَأَقْبَضْتُهُ وَمَا بِهِ عَيْبٌ. قال الرافعي: إذا وجد بالمَبِيع عيباً، فقال البائع: إنه حدث عند المشتري، وقال المشتري: بل كان عندك، نظر إنْ كان العيب ممَّا لا يحتمل حدوثه بَعْدَ البَيْع كالإِصْبُع الزائدة، وشَين الشَّجَّة المُتَدمِّلة، والبيع جرى أمس، فالقول قول المُشْتَرِي من غير يمين، وإن لم يحتمل تقدُّمه كالجِرَاحة الطَّريّة، وقد جرى البيع والقبض منذ سنة، فالقول قول البائع من غير يمين، وإنْ كان مِمَّا يحتمل حدوثه، قدمه كالبَرَص وهو المراد من مسألة الكتاب، فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن الأصل لزوم العَقْد واستمراره (¬1)، وكيف يحلف؟ ينظر في جوابه لدعوى المشتري، فإذا ادَّعى المُشْتري بأن بالمبيع عيباً كان قبل البيع أو قبل القبض، وأراد الرَّدّ فقال في الجواب: ليس له الرد علي بالعيب الذي يذكره، أَوْ لا يلزمني قبوله حلف على ذلك، ولا يكلف التَّعَرض لعدم العيب يوم البيع ولا يوم القبض لجواز أنه أقبضه معيباً وهو عالم به، أو أنه رضي به بعد البيع، لأنه لو نطق به لصار مدعياً مطالباً بالبينة، ولو قال في الجواب: ما بعته إلاَّ سليماً أو مَّا أقبضته إلاَّ سليماً، فهل يلزمه أن يحلف كذلك، أو يكفيه الاقْتِصَار على أنه لا يستحق الرَّد، أو لا يلزمني قبوله؟ ففيه وجهان: أحدهما: أنه يكفيه الجواب المُطْلق كما لو اقتصر عليه في الجواب. وأظهرهما: أنه يلزمه التَّعرض لما تعرض له في الجواب لتكون اليمين مطابقة للجواب، ولو كان له غرض في الاقْتِصَار على الجواب المطلق، لوجب الاقتصار عليه في الجواب، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب" وغيره، وهذا التفصيل والخلاف جاريان في جميع الدَّعَاوَى والأجوبة. ¬
إذا تقرَّر ذلك فاعلم: أنَّ لفظ الشَّافعي -رضي الله عنه- في المسألة: أن القول قول البائع مع يمينه على البَتّ لقد باعه بريئاً من هذه العيوب. واعترض المُزَنِيّ فقال: ينبغي أنْ يحلف لقد أقبضته بريئاً من العيب؛ لأن ما يحدث قبل القبض يثبت الرد كالسابق على البَيْع. وتكلَّم الأَصْحاب على اعتراضه بحسب الخِلاَف المذكور، فمن اعتبر كون اليمين على وفق الجواب قال: أراد الشافعي -رضي الله عنه- ما إذا ادعى المشتري عيباً سابقاً على الرد وأراد الرد به، وقال البائع في الجواب: بعته وما به هذا العَيْب فيحلف كذلك. ولو قال المُشْتَري: قبضته معيباً، ونفاه البائع في الجواب حلف كما ذكره المُزَنِيُّ، وإذا اقتصر في الجواب على أنه لا يستحقّ الرد لم يلزمه ذكر هذا ولا ذاك. ومن قال: تكفي اليَمين على نفي الاسْتِحْقاق بكل حال، قال: لم يقصد الشَّافعي -رضي الله عنه- أن الآن على ماذا يحلف ولأي وقت يتعرض، ولكن أراد أن يبين أنه يحلف على البَتِّ، فلا يقول مثلاً: بِعْتُه وما أعلم به عيباً، ولكن يقول: بعته وما به عيب، ويجوز اليمين على البَتِّ إذا اختبر حال العبد، واطَّلع على خفايا أمره، كما يجوز بمثله الشَّهَادة على الإعسار وعدالة الشهود وغيرهما. وعند عدم الاخْتِبار يجوز الاعتماد على ظاهر السَّلاَمة إذا لم يعرف ولا ظَنّ خلافه. وقوله في الكتاب: "بعْتُه وأقبضته، وما به عيب" محمول على ما إذا نفى في جواب المشتري العيب في الحالتين، واعتبرنا موافقة اليَمِين للجواب لفظاَ ومعنى، وَإِلاَّ فَمَدَار الرد التعيُّب عند القبض، حتى لو كان معيباً عند البيع وقد زال العيب، فلا رد له بما كان، بل مهما زال العيب قبل العلم أو بعده وقبل الرد سقط حقّ الرّد. ولو زعم المشتري أن بالمبيع عيباً وأنكره البائع فالقول قوله (¬1)؛ لأن الأصل السلامة ودوام العقد، ولو اختلفا في بعض الصِّفَات أنه هل هو عيب؟ فالقول قول البائع أيضاً مع يمينه، وهذا إذا لم يعرف الحال من غيرهما. وقال في "التهذيب": فإن قال واحد من أهل العلم به: إنه عيب ثبت الرد به. واعتبر صاحب "التتمة" شهادة اثنين، ولو ادعى البائع علم المشتري بالعيب أو تقصيره في الرد، فالقول قول المشتري، -والله أعلم-. قال الغزالي: وَلاَ يَمْتنعُ الرَّدّ بِوَطْءِ الثَّيِّبِ (ح)، وَالاسْتِخْدَامِ، وَلاَ بِالزَّوَائِدِ (ح) ¬
المُنْفَصِلَةِ، بَلْ تُسَلَّمُ (م) الزَّوَائِدُ لِلْمُشْتَرِي إِنْ حَصَلَتْ بَعْدَ القَبْضِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَصَلَتْ قَبْلَ القَبْضِ عَلَى أَقْيَسِ الوَجْهَيْنِ، وَالحَمْلُ المَوْجُودُ عَنْدَ العَقْدِ يُسَلَّمُ أيْضاً لِلمُشْتَرِي عَلَى أَصَحِّ القَوْلَيْنِ. قال الرافعي: أصل مسائل الفصل: أن الفسخ يدفع العقد عن حينه (¬1) لا من أصله؛ لأن العقد لا ينعطف حكمه على ما مضى، فكذلك الفسخ. هذا هو المذهب الصحيح، وفيما إذا انْفَسَخ قبل القَبْض وجه: أنه يرد العقد من أصله لأن العقد ضعيف بعد فإذا فسخ فكأنه لا عقد، وفي "التَّتمة" ذكر وجه: أنه يرفع العقد من أصله مطلقاً تخريجاً من القول بوجوب مَهْرِ المِثْل، إذا فسخ النِّكَاح بعيب حدث بعد المَسِيْس. إذا عرف ذلك فالمَسَائِل ثلاث: إحداها: لا خلاف أنّ الاستخدام لا يمنع من الرد من العيب، وأما الوطء فالجارية إما بكر أو ثيب، فإن كانت ثَيِّباً فوطء المشتري لا يمنع الرَّد بالعيب، وإذا رد لم يضم إليه مهراً وله قال مالك، وهو رواية عن أحمد. وقال أبو حنيفة: يمنع. لنا أنه معنى لا يوجب نقصاً ولا يشعر برضا، فأشبه الاسْتِخْدَام. ووطء البَائِع والأجنبي بالشُّبْهَة كَوَطْء المشتري لا يمنع الرَّد، ووطئهما عن طواعية منها زِنا وذلك عيب حادث (¬2) هذا إذا وطئت بعد القبض، وإن وطئها المُشْتري قبل القبض، لم يمنع الرَّد ولا يصير قابضاً لها، ولا مَهْرَ عليه إنْ سلمت وقبضها، وإنْ تلفت قبل القبض فهل عليه المهر للبائع؟ فيه وجهان مَبْنيان على أنَّ العقد إذا انفسخ بتلف قبل القبض ينفسخ مِنْ أصله أو من حينه، وفيه وجهان: ¬
أصحهما: الثَّانِي، وبه قال ابن سُرَيْجٍ. وإن وطئها أجنبي وهي زانية، فهو عيب حدث قبل القبض (¬1)، وإن كانت مكرهة فَلِلْمُشْتري المهر، ولا خيار له بهذا الوَطْء، ووطء البائع كوطء الأجنبي، لكن لاَ مَهْرَ عليه إن قلنا: إن جناية البائع قبل القبض كالآفَةِ السَّمَاوية. وأما البِكْر، فافْتِضَاضُهَا بعد القبض نقص حادث (¬2)، وقبله جناية على المَبِيع قبل القبض، فَإِن افْتَضَّهَا أجنبي بِغَيْرِ آلة الافْتِضَاض فعليه ما نقص من قيمتها، وإن افْتض بآلته فعليه المَهْر وأَرْش البكَارة، ويدخل فيه أو يفرد؟ فيه وجهان: أصحهما: يدخل، فعليه مَهْرُ مثلها (¬3) بكراً. والثاني: يفرد، فعليه أَرْشُ البكارة، ومهر مثلها ثيباً، ثم المشتري إنْ أجاز العقد، فالكل له، وإلاَّ فقدر أَرْش البكَارة للبائع لعودها إليه ناقصة والباقي للمشتري. وإن افتضها البائع، فإن أجاز المشتري فلا شيء على البائع، إن قلنا: إن جنايته كالآفة السَّمَاوية. وإن قلنا كجناية الأجنبي فالحكم كَمَا فِي الأجْنَبي، وإن فسخ المشتري فليس على البائع أَرْشُ البكارة، وهل عليه مهر مثلها ثيباً إن افتض بآلته؟ يبنى على أن جنايته كالآفة السَّمَاوية أَمْ لا فإن افتضها المُشْتَري استقر عليه من الثمن بقدر ما نقص من قيمتها، فإن سلمت حتى قبضها فعليه الثمن بكماله، وإنْ تلفت قبل القبض فعليه بقدر نقصان الافْتِضَاض من الثمن، وهل عليه مهر مثل ثيّب إن افتضها بآله الافتضاض؟ يبنى إلى أَنَّ العقد ينفسخ من أصله أو من حينه هذا هو الصحيح. وفيه وجه: أن افتضاض المشتري قبل القبض كافْتِضَاضِ الأَجْنَبِيّ. المسألة الثانية: الزِّيَادة في المبيع ضربان: متّصلة ومنفصلة. أما المتصلة كالسَّمن، وتعلّم العبد الحرفة والقرآن، وكبر الشّجرة، فهي تابعة لرد ¬
الأصل ولا شيء على البائع بسببها (¬1). وأما المنفصلة كما إذا أجر المبيع وأخد أُجْرَتَه، وكالولد والثمرة وكسب العبد ومهر الجارية إذا وطئت بالشُّبهة، فإنها لا تمنع الرد بالعيب وتسلّم للمشتري، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: الولد والثمرة يمنعان الرَّد بالعَيْب، والكسب والغَلّة لا يمنعانه، لكن إنْ رَدّ قبل القبض ردهما الأصل، وإن رد بعده بَقِيَا لَهُ. وقال مالك: يرد مع الأصل الزِّيَادة الَّتِي هي مِنْ جنس الأصل وهي الولد، ولايرد ما كان من غير جنسه كالثمرة. لنا ما روي: "أَنَّ مَخْلَدَ بْنَ خفَافٍ ابْتَاعَ غُلاَماً اسْتَغَلَّهُ ثُمَّ أَصَابَ بِهِ عَيْباً، فَقَضَى لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رضي الله عنه- بِرَدِّهِ وَغَلَّتِهِ، فَأَخْبَرَهُ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَضَى فِي مِثْل هَذَا أَنَّ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ، فَرَدَّ عُمَرُ -رضي الله عنه- قَضَاءَهُ، وَقَضَى لِمَخْلَد بِالْخَرَاجِ" (¬2). ومعنى الخبر: أن ما يخرج من المَبِيْع من فائدة وَغلّة، فهو للمشتري في مقابلة أنه لو تلف كان مِنْ ضَمَانه، ولا فرق بين الزَّوَائِدِ الحادثة قبل القبض، والزوائد الحادثة بعده مهما كان الرد بعد القبض، وإن كان الرد قبله ففي الزوائد وجهان بناء على أن الفسخ والحالة هذه رفع للعقد من أصله أو من حينه. والأصح: إنها تسلم للمشتري أيضاً. وقوله في الكتاب: "وكذلك إن حصلت قبل القبض على أقيس الوجهين"، يقتضي كون الزوائد الحاصلة قبل القبض على وجهين، وإِنْ كان الرَّد بعد القبض لكنه ليس كذلك، كذا قاله الإمام وغيره. ومَوْضع الوجهين ما إذا كان الرد قبل القبض. فاعرف ذلك. واعلم أنه لو نقصت البَهِيمة أو الجارية بالولادة امتنع الرَّد لِلنَّقص الحادث، وإن لم يكن الوَلَدُ مانعاً، وتكلموا في إفراد الجارية بالرد، وإن لم تنقص بالولادة من جهة أنه تفريق بين الأم والولد. فقال قائلون: لا يجوز الرد، ويتعين الأَرْش إلاَّ أن يكون الوقوف على العيب بعد بلوغ الولد ستّاً لا يحرم بعده التَّفريق. وقال آخرون: لا يحرم التفريق هاهنا للحاجة، وسنذكر نظيره في "الرَّهْن" -إن شاء الله تعالى-. ¬
المسألة الثالثة: عرفت حكم الولد الحادث بعد البيع. فأما إذا اشترى جارية أو بهيمة حاملاً، ثم وجد بها عيباً، فإن كانت حاملاً بعد ردِّها كذلك، وإن وضعت الحمل ونقصت بالولادة فلا رد، وإنْ لم تنقص ففي رد الولد معها قولان بناء على أَنَّ الحمل هل يعرف ويأخذ قسطاً من الثَّمَن أم لا؟ والأصح نعم، ويخرج على هذا الخلاف: أنه هل للبائع حبس الولد إلى اسْتِيفاء الثمن؟ وأنه لو هلك قبل القبض هل يسقط من الثمن بحصَّته؟ وأنه هل للمشتري بيع الولد قبل القبض؟ فإن قلنا: له قسط من الثمن جاز الحبس وسقط الثمن، ولم يُجزِ البَيْع، وإلاَّ انعكس الحكم. ولو اشترى نَخْلَة وعليها طلع غير مؤبّر، ووجد بها عيباً بعد التَّأبير، ففي الثمرة طريقان: أظهرهما: أنه على القولين في الحَمْل تَشْبيهاً للثمرة في الكِمَام بالحمل في البطن. والثَّاني: القطع بأنها تأخذ قسطاً من الثمن؛ لأنها مشاهدة متيقنة، ولو اشترى جارية أو بَهِيمة حائلاً فحبلت، ثم اطلع على عَيْب، فإن نَقُصَت بالحمل فلا رد إنْ كان الحمل في يد المُشْتَري، وإن لم تَنْقُص أو كان الحملَ في يد البائع فله الرد، وحكم الولد مَبْنِي على الخلاف السابق. إن قلنا: إنَّه يعرف ويأخذ قسطاً من الثّمن يبقى للمشتري، فيأخذه إِذَا انفصل. وحكى القاضي المَاورْدِيُّ وجهاً آخر أنه للبائع لاتصاله بالأم عند الرد. وإن قلنا: إنه لا يعرف ولا يأخذ قسطاً فهو للبائع (¬1)، ويكون تبعاً للأم عند ¬
الفسخ، كما يكون تبعاً لها عند العقد، وأطلق بعضهم القول بأن الحمل الحادث نقص، إما في الجواري فلأنه يؤثر في النشاط والجمال وإما في البَهَائم فلأنه ينقص لحم المأكول، ويخلُّ بالحمل عليها والركوب. ولو اشترى نَخْلَة واطلعت في يده ثم اطَّلع على عَيْب، فلمن الطّلع؟ فيه وجهان (¬1). ولو كان على ظهر الحيوان صوف عند البيع فجَزَّه ثم عرف به عيباً رد الصُّوف معه، فإن استجز ثانياً وجَزّه ثم عرف العيب لم يرد الثَّاني لحدوثه في ملكه، وإنْ لم يُجَزَّ ردّه تبعاً (¬2). ولو اشترى أرضاً فيها أصول الكُرَّات ونحوه، وأدخلناها في البيع فنبتت في يد المشتري، ثم عرف بالأرض عيباً يردُّها، ويبقى النَّابت للمشتري، فإنها ليست تبعاً للأرض، أَلاَ ترى أن الظاهر منها في ابتداء البيع لا يدخل فيه؟ -والله أعلم-. قال الغزالي: وَالإقَالَةُ فَسْخٌ (م) عَلى الجَدِيدِ الصَّحِيحِ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ الرَّدُّ بِالعَيْبِ عَلَى حُضُورِ الخَصْمِ وَقَضَاءِ القَاضِي (ح). قال الرافعي: الإقَالة بعد البيع جائزة، بل إذا ندم أحدهما على الصَّفقة استحب للآخر أن يقيله. روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَقَالَ أَخَاهْ الْمُسْلِمَ صَفْقَةً كَرِهَهَا، أَقَالَ اللهُ عَثْرَتَة يَوْمَ الْقِيَامَةِ". والإقالة: أن يقول المُتَبَايعان: تقايلنا أو تفاسخنا، أو يقول أحدهما: أقلتك فيقول الآخر: قبلت، وما أشبه ذلك، وفي كونها بيعاً أو فسخاً (¬3) قولان: ¬
أحدهما، وبه قال مالك: أنها بيع؛ لأنها نقل ملك بعوض بإيجاب وقبول، فأشبهت التَّولية. وأصحهما: أنها فسخ، إذ لو كانت بيعاً لصحت مع غير البائع، وبغير الثمن. وذهب بعضهم إلى أن القولين في لفظ الإِقَالة. فأمَّا إذا قالا: تفاسخنا، فهو فسخ لا محالة.
واعلم: أن القول الثاني مَنْصُوص في الجديد، وأما الأول فمنهم من حكاه وجهاً، والأكثرون نقلوه عن نَصِّه في القديم، وعن أبي حنيفة: أن الإِقَالة فسخ في حق المُتَعَاقدين بيع في حق غيرهما. التفريع: إن كانت بيعاً تجدّد بها الشّفْعة، وإن كانت فَسْخاً فلا، خلافاً لأبي حنيفة. ولو تقايلا في الصّرف وجب التَّقابض في المجلس، إن كانت بيعاً وإن كانت فسخاً فلا، وتجوز الإقَالة قبل القَبْض المبيع إن كانت فَسْخاً، وإن كانت بيعاً فهي كبيع المبيع من البائع قبل القبض، وتجوز في السّلْم قبل القبض إنْ كانت فَسْخاً، وإن كانت بَيْعاً فلا، ولا تجوز الإِقَالة بعد تَلَفِ المبيع إن كانت بَيْعاً، وإن كانت فسخاً فوجهان: أحدهما: المنع كالرَّد بالعيب. وأصحهما: الجواز، وهو اختيار أبي زيد، كالفسخ بالتحالف، فعلى هذا يرد المشتري على البائع مثل المبيع إن كان مِثْلياً، وقيمته إن كان متقوماً. ولو اشترى عَبْدين وتلف أحدهما، ففي الإِقَالة في الثاني وجهان بالترتيب، إذ القائم تُصَادفه الإِقَالة فيستتبع التَّالف. وإذا تقايلا، والمبيع في يد المشتري بعد، لم ينفذ تصرف البائع فيه إن كانت بيعاً، ونفذ إنْ كانت فسخاً، فإن تلف في يده انفسخت الإِقَالة إن كانت بيعاً وبقي البيع بحاله، وإن كانت فسخاً فعلى المشتري الضَّمان؛ لأنه مقبوض على حكم العوض، كالمأخوذ قَرْضاً أو سَوْماً، والواجب فيه إن كان مُتقوّمًا أقل القَيمَتَيْن من يوم العَقْد والقبض، ولو تعيّب في يده فإن كان بيعًا تخير البائع بين أن يُجيز الإقالة ولا شيء له، وبين أَنْ يفسخ ويأخذ الثمن، فإن كان فسخاً غرم أَرْش العيب، ولو استعمله بعد الإقالة، فإن جعلناها بيعاً فهو كالمبيع يستعمله البائع، وإن جعلناها فسخاً فعليه الأُجْرة، ولو عرف البائع بالمبيع عيباً كان قد حدث في يد المشتري قبل الإقالة فلا رد له إنْ كانت فسخاً، وإن كانت بيعًا فله رده، ويجوز للمشتري حبس المبيع لاسترداد الثمن على القولين. ولا يشترط ذِكْر الثَّمن في الإِقَالة، ولا تصحّ إلاَّ بذلك الثمن، فلو زاد أو نقص فسدت وبقي البيع بحاله حتى لو أقاله على أن ينظر بالثمن، أو على أنْ يأخذ الصِّحاح عن المُكسرة لم يجز، ويجوز لِلْورثة الإقَالة بعد موت المُتَبَايعين، وتجوز الإِقَالة في بعض المبيع كما تجوز في كله. قال الإمام هذا إذا لم تلزم جهالة. أما إذا اشترى عبدين، وتَقَايلا في أحدهما مع بقاء الثاني لم يجز، على قولنا: إنه بيع للجهل بحصة كل واحد منهما.
وتجوز الإقالة في بعض المُسَلّم فيه أيضاً، لكن لَوْ أقاله في البَعْض ليعجل له الباقي، أو عجل المُسَلَّم إليه البعض لِيُقيله في الباقي فهي فاسدة (¬1). وأما قوله: "ولا يتوقَّف الرد بالعيب ... " إلى آخره، فقد ذكرته من قبل. ونختم الباب بفروع: أحدها: الثَّمن المُعين إذا خرج معيباً يرد بالعيب كالمبيع، فإن لم يكن معيباً فيستبدل ولا يفسخ العقد، سواء خرج معيباً بخُشونة أو سواد، أو ظهر أن سَكَّته مخالفة لسَكَّة النَّقْد الذي تناوله العقد أو خرج نحاساً أو رصاصاً. ولو تَصَارفا وتقابضا، ثم وجد أحدهما بما قبض خَلَلاً فله حالتان: إحداهما: أن يَرِدَ العقد على مُعَينين، فإن خرج أحدهما نحاساً فالعقد باطل؛ لأنه بَانَ أنه غير ما عقد عليه. وقيل: إنه صحيح تغليباً للإشارة، وهذا إذا كان له قيمة، فإن لم يكن لم يجِئ فيه هذا الخلاف، وإن خرج بعضه بهذه الصِّفة بطل العقد فيه، وفي الباقي قَوْلا تَفْرِيق الصَّفقة إن لم تبطل فله الخيار، فإن أجاز والجنس مختلف، بأن تبايعا فِضَّةً بذهب، جاء القولان في أن الإِجَازة بجميع الثمن أو بالحِصّة، وإن كان الجنس متفقاً، فالإجازة بالحِصّة لا محالة لامتناع الفَضْل. وإن خرج أحدهما خَشِناً أو أَسْوَدَ، فَلِمَنْ أخذه الخِيَارُ، ولا يجوز الاستبدال، وإن خرج بعضه كذلك فله الخِيَار أيضاً، وهل له الفسخ في المعيب والإجازة في الباقي؟ فيه قَوْلاً التَّفريق، فإن جوزنا فالإجازة بالحِصّة؛ لأن العقد صح في الكُل فإذا ارتفع في البعض كان بالقِسْط. الحالة الثَّانية: أن يرد على ما في الذمة ثم يَحْضُرَا ويتقابضَا فإنْ خرج أحدهما نحاساً وهما في مجلس العقد استبدل، وإنْ تفرقا فالعقد باطل؛ لأن المقبوض غير ما ورد عليه العقد، وإن خرج خَشِناً أو أسود، فإن لم يتفرقا بعد فهو بالخيار بين الرِّضَا به وبين الاستبدال، وإن تفرقا فهل له استبداله؟ فيه قولان: ¬
أحدهما: لا؛ لأنه قبضه بعد التّفرق. وأصحهما: نعم، كالمُسَلَّم فيه إذا خرج معيباً، وهذا لأن القبض الأول صحيح، إذ لو رَضِيَ به جاز، والبدل مأخوذ، فقام مقام الأول، ويجب أخذ البَدَل قبل التّفرق عن مجلس الرَّد. وإن خرج البعض كذلك وقد تفرقا، فإن جوزنا الاسْتِبْدَال استبدله، وإلاَّ فهو بالخِيَار بين فسخ العقد في الكل والإجازة، وهل له الفسخ في ذلك القدر والإجازة في الباقي؟ فيه قولا التفريق. ورأس مال السَّلَم حكمه حكم عوض الصَّرف، ولو وجد أحد المُتَصَارفين بما أخذ عيباً بعد تلفه، أو تبايعا طعاماً بطعام، ثم وجد أحدهما بالمَأْخوذ عيباً بعد تلفه، نظر إنْ ورد العقد على معَينين، أو على ما في الذِّمة وَعُين، وقد تفرقا ولم نُجَوِّز الاستبدال، فإن كان الجنس مختلفاً فهو كبيع العرض بالنّقد، وإن كان متفقاً ففيه الخلاف الذي سبق في مسألة الحُلِيّ، وإنْ ورد على ما في الذِّمة ولم يتفرّقا بعد غُرْم ما تلف عنده ويتسبدل، وكذا إنْ تفرقا وجوزنا الاستبدال. ولو وجد المُسلّم إليه برأس مال السّلم عيباً بعد تَلَفِهِ عنده، فإن كان مُعيناً أو في الذمة وعين وقد تفرّقا ولم نجوّز الاستبدال، فيسقط من المُسلّم فيه بقدر نُقْصان العيب من قيمة رأس المال، وإن كان في الذّمة وهما في المجلس يقوم التالف ويستبدل، وكذا لو كان بعد التَّفرق إذا جوزنا الاستبدال. الثاني: باع عَبْداً بألف وأخذ بالألف ثوباً، ثم وجد المشتري بالعبد عيباً ورده. فعن القاضي أبي الطَّيِّب: أنه يرجع بالثوب؛ لأن الثوب إنما مَلَكه بالثمن، وإذا فسخ البيع سقط الثمن عن ذمة المشتري فيفسخ بيع الثوب به. وقال الأكثرون: يرجع بالأَلْفِ، لأن الثَّوب مملوكٌ بعقد آخر، ولو مات العبد قبل القبض وانفسخ البيع. قال ابن سُرَيجٍ: يرجع بالأَلْف دون الثوب؛ لأن الانْفِسَاخ بالتَّلَف يقطع العقد ولا يرفعه من أصله وهو الأصح. وفيه وجه آخر. الثالث: باع عصيراً حُلْواً فوجد المشتري به عيباً بعد ما تَخَمَّر، فلا سبيل إلى ردِّ الخَمْر، لكن يأخذ الأَرْش فإن تخلَّل فللبائع أنْ يسترده، ولا يدفع الأَرْش. ولو اشترى ذِمِّي خمراً من ذمي ثم أَسْلما، وعرف المشتري بالخَمْر عيباً استرد جزءاً من الثمن على سبيل الأَرْش ولا رد، ولو أسلم البائع وحده فلا رَدَّ أيضاً، ولو أسلم المشتري وحده فله الرد قاله ابْنُ سُرَيجٍ، وعلّله بأن المُسَلّم لا يتملّك الخمر، ولكن يُزيل يده عنه.
الرابع: مُؤْنَة ردّ المَبِيع بعد الفسخ بالعيب على المشتري، ولو هلك في يده ضَمِنَهُ. الخامس: لو اختلفا في الثمن بعد رد المبيع، فعن أبي الحسين أنَّ ابن أبي هريرة قال: أَعْيتني هذه المسألة. والأَوْلى: أن يتحالفا وتبقى السِّلْعة في يد المشتري، وله الأَرْش على البائع، قيل له: إذا لم يتبين الثَّمن، كيف يُعْرف الأَرْش؟ قال: أَحْكُم بالأرش من القدر المتفق عليه، قاله أبو الحسين. وحكى أبو محمد الفارسي عن أبي إسحاق: أن القول قول البائع؛ لأنه الغارم، كما لو اختلفا في الثمن بعد الإقالة، وهذا هو الصحيح. ولو وقعت الحاجة إلى الرّجوع بالأَرْش فاختلفا فِي الثَّمَن، فالقول قول البائع أو المشتري. روى القاضي ابن كَجٍّ فيه قولين، والأصح الأول. السَّادس: أوصى إلى رجل ببيع عبده أو ثوبه وشراء جارية بثمنه وإعتاقها، ففعل الوَصِي ذلك ثم وجد المُشْتري عيباً بالعبد، فله رده على الوَصِي، ومطالبته بالثمن كما يرد على الوكيل والوصي يبيع العَبْد المَردود ويدفع الثمن إلى المشتري، ولو فرض الرد، بالعيب على الوكيل فهل للوكيل بيعه ثانياً؟ فيه وجهان: أحدهما، وبه قال أبو حنيفة: نعم، كالوصي ليتمّ البيع على وجه لا يرد عليه. وأصحهما: لا، لأنه امتثل المَأْمور، وهذا ملك جديد فيحتاج فيه إلى إذْن جَدِيد ويخالف الإِيْصاء، فإنه تَوْلِية وتفويض كُلِّي. ولو وكله بأن يبيع بشرط الخيار للمشتري فامتثل ورد المشتري. فإن قلنا: مِلْك البائع لم يزل فله بيعه ثانياً. وإن قلنا: زال وعاد فهو كالرد بالعَيْب، ثم إذا باعه الوصي ثانياً، نظر إنْ باعه بمثل الثمن الأول فذاك، وإن باعه بأقَلَّ فالنقصان على الوصي، أو في ذمة المُوصي، فيه وجهان: أَصحُّهما: الأول وبه قال ابن الحَدَّاد؛ لأنه إنما أمره بشراء الجارية بثمن العبد لا بالزيادة عليه، وعلى هذا لو مات العبد في يده كما رد غَرِم جميع الثمن. ولو باعه بأكثر من الثمن الأول، فإن كان ذلك لزيادة قيمة أو رَغْبة رَاغبٍ دفع قدر الثمن إلى المشتري والباقي للوارث، وإن لم يكن كذلك، فقد بَانَ أنَّ البيع الأول باطل لِلْغَبْن. ويقع عِتْق الجارية عن الوَصِي بأن اشترى الجارية في الذمة، فإن اشتراها بِعَيْن
الثالث في حكم العقد قبل القبض وبعده
ثمن العبد لم ينفذ الشراء ولا الإِعْتَاق، وعليه شراء جارية أخرى بهذا الثمن، وإعتاقها عن الموصي، هكذا أطلقه الأصحاب، ولاَ بُدَّ فيه من تَقْييدٍ وتأويل، لأن بيعه بالعَيْن وتسليمه عن علم وبصيرَةٍ بالحال خِيَانَةٌ، والأمين ينعزل بالخيانة، فلا يتمكّن من شراء جارية أخرى (¬1)، -والله أعلم-. قال الغزالي: (النَّظَرُ الثَّالِثُ) فِي حُكْمِ العَقْدِ قَبْلَ القَبْضِ وَبَعْدَهُ، وَلاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِ حُكْم وَصُورَتهِ وَوُجُوبِهِ (أَمَّا الحُكُمُ) فَهُوَ انْتِقَالُ الضَّمَانِ إِلَى المُشْتَرِيَ وَالتَّسَلُّطُ عَلَى التَّصَرُّفِ إِذِ المَبِيعُ قَبْلَ القَبْضِ في ضَمَانِ البَائِعِ (م)، وَلَوْ تَلِفَ انْفَسَخَ العَقْدُ، وَإِتْلاَفُ المُشْتَرِي قَبْضٌ مِنْهُ، وإِتْلاَفُ الأجْنَبِيِّ لاَ يُوجِبُ الانْفِسَاخ عَلَى أَصَحِّ القَوْلَيْنِ، وَلَكنْ يَثْبُتُ الخِيَارُ لِلمُشْتَرِي، وَإِتْلاَف البَائِعِ كإِتْلاَفِ الأَجْنَبيِّ عَلَى الأَصَحِّ. قال الرافعي: مقصود هذا النظر بَيَانُ حكم المَبِيع قبل القبض وبعده على ما فَصَّلناه في أول البيع، وتكلم حجة الإسلام -رحمه الله- فيه في ثلاثة أمور: أحدها: حكم القَبْض وثمرته. والثانى: أَنَّ القَبْضَ بِمَ يَحْصُل؟ والثَّالث: وجُوبُهُ والإِجْبَار عليه. أما الأول فَلِلْقبض حكمان: أحدهما: انتقال الضَّمَان إِلَى المُشْتَري، فإن المبيع قبل القبض مِنْ ضمان ¬
البائع (¬1)، ومعناه: أنه لو تلف انفسخ العَقد وسقط الثمن. وعنْ مالك وأحمد فيما رواه ابن الصَّبَّاغ أنه إذا لم يكن المبيع مَكيلاً ولا مَوْزُوناً ولا معدوداً فهو مِنْ ضمان المشتري، ومنهم منْ أطلق رواية الخلاف عنهما. لنا أنه قبض مستحق بالبيع، فإذَا تعذَّر انفسخ البيع كما لو تفرقا في عقد الصَّرف قبل التَّقَابض. إذا تقرَّر ذلك فلو أَبْرأ المشتري البائع عن ضمان المبيع قبل القبض، هل يَبْرَأ حتى لو تلف لا ينفسخ العقد ولا يسقط الثمن. نقل صاحب "التَّهْذيب" فيه قولين: أصحهما: أنه لاَ يَبْرَأُ، وحكم العقد لا يتغير، ثم إذا انفسخ البيع كان المَبِيْعُ هالكاً على ملك البائع، حتى لو كان عبدًا كان مُؤْنَة تجهيزه على البائع، وكيف التقدير؟ أنقول بانتقال الملك إليه قبل الهلاك، أو يرتفع العقد من أصله؟ فيه وجهان أخرجهما ابن سُرَيج: أصحهما، وهو اختياره واختيار ابن الحَدَّاد: أنه لا يرتفع مِنْ أصله، كما في الرد بالعيب والزوائد الحادثة في يد البائع من الولد واللبن والبيض والكسب وغيرهما تخرج ¬
على هذين القولين، وقد ذكرنا نظيرهما في الرد بالعيب قبل القبض، وطردهما طاردون في الإِقالة إذا جعلناها فسخاً، وخرجوا عليهما الزوائد. والأصح: فيها جميعاً: أنها للمشتري، وتكون أمانة في يد البائع، ولو هلكت والأصل باقٍ فالبيع باقٍ بحاله، ولا خيار للمشتري، وفي معنى الزَّوَائِد الرِّكَاز الذي يجده العَبْد، وما وهب منه فقبله وقبضه، وما أَوْصى له فقبله، هذا حكم التالف بالآفة السَّماوية. أما إذا أَتْلَف المبيع قبل القبض، فله ثلاثة أقسام: الأول: أن يُتْلفه المشتري فهو قبض منه على المذهب (¬1)، لأنه أتلف مِلْكه، فأشبه ما إذا أتلف المالك المغصوب في يد الغاصب يَبْرَأَ الغاصب من الضَّمَان، ويصير المالك مستردّاً بالإتلاف. وحكى الشيخ أبو علي وغيره وجهاً: أن إتلافه ليس بقبض، ولكن عليه القيمة للبائع ويسترد الثمن، ويكون التَّلف من ضمان البائع، هذا عند العِلْم. أما إذا كان جاهلاً بأن قدم البائع الطَّعام المبيع إلى المشتري فأكله، هل يُجعل قابضًا؟ قال القاضي حسين -رحمه الله- فيه وجهان تفريعاً على، لقولين، فيما إذا قَدّم الغَاصب الطعام المغصوب إلى المالك فأكله جاهلاً، هل يبرأ الغاصب؟ إن لم نجعله قابضًا، فهو كما لو أتلف البائع. والثاني: أن يُتْلفه أجنبي ففيه طريقان: أظهرهما: أنه على قولين: أحدهما: أنه كالتَّلف بآفة سَمَاوية لتعذُّر التسليم. ¬
وأصحهما، وبه قال أبو حنيفة وأحمد: أنه ليس كذلك ولا ينفسخ البيع (¬1)، لقيام القيمة مقام المبيع، لكن للمشتري الخيار، إنْ شاء فسخ واسترد الثمن ويغرم البائع الأَجنبي، وإنْ شاء أجاز وغرم الأَجنبي. والثاني: القطع بالقول الثاني، ويحكى هذا عن ابن سُرَيْجٍ. وإذا قلنا به، فهل للبائع حبس القيمة لأخذ الثمن؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما يحبس المُرْتَهَن قيمة المرهون. وأظهرهما: لا؛ لأن الحبس غير مقصود بالعقد حتى ينتقل إلى البدل بخلاف الرهن، ولهذا لو أتلف الراهن المرهون غرم القيمة، والمشتري إذا أتلف المبيع لا يغرم القيمة ليحبسها البائع، وعلى الأول لو تلفت القيمة في يده بآفة سَمَاوِية، هل ينفسخ البيع لأنها بدل المبيع؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا. والثالث: أن يتلفه البائع فطريقان: أظهرهما: أنه على قولين. أصحهما: انفساخ البيع كما في الآَفة السماوية؛ لأن المبيع مضمون عليه بالثمن، فإذا أتلفه سقط الثمن، وبهذا قال أبو حنيفة. والثاني: المنع كإتلاف الأجنبي؛ لأنه جنى على ملك غيره، فعلى هذا إِنْ شاء المشتري فسخ البيع وسقط الثمن، وإنْ شَاءَ أجاز وغرم البائع القيمة وأدى الثمن، وقد يقع ذلك في أقْوال النقاص. والثاني: القطع بالقول الأول، فإن لم نحكم بالانفساخ عاد الخلاف في حبس القيمة. وعن الشيخ أبي محمد: القطع بأنه لا حبس هاهنا لتعديه بإتلاف العين. ولو باع شِقْصاً مِنْ عبد، وأَعْتَق باقيه قبل القبض وهو موسر، عتق كله وانفسخ البيع وسقط الثمن، إن جعلنا إِتْلاَف البائع كالآفة السماوية، وإن جعلناه كَإتلاف الأجنبي ¬
فللمشتري الخيار، ولو استعمل البائع المبيع قبل القبض، فلا أجرة عليه إن جعلنا إِتْلافه كالآفة السَّمَاوِية، وإِلاَّ فعليه الأُجْرَة. وَإِتْلاف الأَعْجَمِي والصَّبي الَّذي لا يميز بأمر البائع أو المُشْتري كإتلافهما وَإِتْلاَف المميز بأمرهما كإتلاف الأجنبي. وذكر القَاضِي الحُسين -رحمه الله-: أن إذن المشتري للأجنبي في الإتْلاَف يلغو، وإذا أتلف فله الخيار، وأنه لو أذن البَائِع في الأكل والإِحْرَاف ففعل، كان التَّلف من ضمان البائع بخلاف ما إذا أذن للغاصب ففعل يَبْرَأ، لأن الملك ثم مستقر. ورأيت في "فَتَاوى القَفَّال" أن إتلاف عَبْد البائع كإتلاف الأجنبي، وكذا إِتْلاَف عبد المشتري بغير إذنه، فإن أجاز جعل قابضاً، كما لو أتلفه بنفسه، وإن فسخ اتبع البائعُ الجاني، وأنه لو كان المَبِيع علفاً فاعتلفه حمار المشتري بالنَّهَار ينفسخ البَيْع، وإن اعتلفه باللَّيْل لا يَنْفَسخ وللمشتري الخيار، فَإِنْ أَجَاز فهو قابض، وإلاَّ طالبه البائع بقيمة ما أتلفه حماره، وفي بهيمة البائع أطلق القول بإتلافها كالآفة السماوية، قيل له: هلاَّ فرقت فيها أيضاً بين الليل والنهار؟ فقال: هذا موضع التَّروي. ولو صال العبد المبيع على المشتري في يد البائع فقتله دفعاً، فعن الشيخ أبي علي: أنه لا يستقر الثَّمَن عليه. وعن القاضي: أنه يستقر لأنه أتلفه في غرض نفسه (¬1). ولو أَخَذَ المُشْتَرِي المبيع بغير إذن البائع، فللبائع الاسترداد إذا ثبت له حق الفَسْخ، فإِنْ أتلفه في يد المُشْتَرِي ففيه قولان عن رواية صاحب "التقريب": أحدهما: أن عليه القيمة ولا خيار للمشتري لاستقرار العقد بالقبض، وإنْ كان ظالماً فيه. والثاني: أنّه يجعل مستردّاً بالإتلاف كما أنَّ المشتري قابض بالإتلاف، وعلى هذا فينفسخ البيع أو يثبت الخِيَار للمشتري. قال الإمام -رحمه الله-: الظَّاهر الثاني. واعلم: أن وقوع الدَّرّة في البَحْر قبل القبض بمثابة التلف، يفسخ به البيع، وكذا انفلات الطَّير، والصيد المتوحش، كذا قاله في "التتمة". ولو غرَّق البحر الأرض المشتراة، أو وقع عليها صخور عظيمة من جبل بَجَنْبِها، ¬
أو ركبها رمل فهي بمثابة التَّلف أو أثرها ثبوت الخيار، فيه وجهان: الأَشْبَه الثاني. ولو أبق العبد قبل القبض، أو ضاع في انتهاب العَسْكَر لم ينفسخ البيع لبقاء المالية ورجاء العود. وفيه وجه: أنه ينفسخ كما في التَّلَفِ. ولو غصبه غاصب فليس إلاَّ الخيار، فإن أجاز لم يلزمه تسليم الثمن، وإن سلمه فعن القَفَّال: أنه ليس له الاسترداد لتمكّنه من الفسخ، وإنْ أجاز ثم أراد الفسخ فله ذلك، كما لو انقطع المسلم فيه، فأجاز ثم أراد الفَسْخ؛ لأنه يتضرر كل ساعة، وحكي عن جواب القَفَّال مثله، فيما إذَا أَتْلَفَ الأجنبي المَبِيع قبل القبض، وأجاز المشتري ليتبع الجَاني، ثم أراد الفسخ. وقال القاضي في هذه الصورة: وجب أَنْ لا يمكّن في هذه الصورة من الرجع؛ لأنه رَضِيَ بما في ذمة الأجْنَبِي فأشبه الحِوَالَة. ولو جحد البائع العين قبل القبض، فللمشتري الفَسْخ لحصول التَّعذُّر. وأَمَّا لفظ الكتاب فقوله: "أما الحكم فهو انْتِقَال الضَّمَان إلى المشتري، والتَّسْليط على التصرف" ترجمة لحكمي القبض معاً، وشرح الحكم الثَّاني وتفصيله يبتدئ من قوله، وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما قبل ذلك يتعلّق بالحكم الأول، وقوله: "في ضمان البَائِعَ" معلّم بالميم والألف، وكذا قوله: "انفسخ العقد"، وقوله: "قبض منه" بالواو، وقوله: "على أصح القولين" بالواو للطريقة الجازمة، وقوله: "كإتلاف الأجنبي على الأصح"، جواب على طريقة إِثْبَات القَوْلين، فيجوز إعلام الأصح بالواو، وَإعْلام قوله: "كإتلاف الأجنبي" بالحاء لما سبق، ثم قضية ما ذكروه: أن يكون الأصح في إتلاف البائع ثبوت الخيار لا الانْفِسَاخ؛ لأن الأمر كذلك في إِتْلاَفِ الأجنبي، لكن جمهور الأصحاب -رحمهم الله- على أن الانفساخ أصح، فاعرف ذلك. فرع: منقول عن فتاوى القاضي: باع عبداً من رجل، ثم باعه مِنْ آخر وسلَّمه إليه، وعجز عن انتزاعه وتسليمه إلى الأول، فهذا جناية منه على المبيع، فينزل منزلة الجناية الحِسّية حتى ينفسخ البيع في قول، ويثبت للمشتري الخيار في الثاني، بين أنْ يفسخ وبين أن يجيز ويأخذ القيمة من البائع، ولو أنه طالب البائع بالتسليم وزعم قدرته عليه، وقال البائع: أنا عاجز حلف عليه، فإن نكل حلف المدعي على أنه قادر ثم حبس إلى أن يسلم أو يقيم بَيّنته على عجزه، ولو ادَّعى المشتري الأول على الثاني العلم بالحال فأنكر حلفه، فإن نكل حلف هو، وأخذه منه -والله أعلم-. قال الغزالي: وَإِنْ تَعَيَّبَ المَبِيعُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ قَبْلَ القَبْضِ فَلِلْمُشْتَرِي الخِيَارُ، فَإِنْ
أَجَازَ يُجِيْزُ بِكُلِّ الثَّمَنِ، وَلاَ يُطَالِبُ بالأَرْشِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ التَّعَيُّبُ بِجِنَايَةِ أَجْنَبِيِّ فَيُطَالِبَهُ بِالأَرْشِ، وَكلدَا إِنْ كَانَ بِجَنَايَةِ البَائِعِ عَلَى الأَصَحِّ. قال الرافعي: ذكرنا حكم التَّلَف والإتلاف العاريين قبل القبض، فأما إذا طَرَأَ عيب أو نُقْصَانٌ، نظر إن كان بآفة سماوية، كما إذا عَمِي العبد أو شُلَّت يده أو سقطت، فللمشتري الخيار إن شاء فسخ وإلا أجاز بجميع الثمن، ولا أَرْشَ له مع القدرة على الفسخ، وإن كان بجناية جَانٍ عادت الأقسام الثلاثة: أولها: أن يكون الجاني هو المشتري، فإذا قطع يد العبد مثلاً قبل القبض، فلا خيار له لحصول النقص بفعله، بل يمتنع بسببه الرَّد بسائر العيوب القديمة أيضاً، ويجعل قابضاً لبعض المبيع حتى يستقر عليه ضمانه، وإن مات العبد في يد البائع بعد الانْدِمَال، فلا يضمن اليد المقطوعة بأَرْشها المقدّر، ولا بما نقص من القيمة بالقطع وإنما يضمنها بجزء من الثَّمن كما يضمن الكل بالثمن، وفي مقداره وجهان: أصحهما، وبه قال ابن سُرَيْج وابن الحَدَّاد: أنه يقوم العبد صحيحاً ثم يقوم مقطوعاً ويعرف التفاوت بينهما فيستقر عليه من الثمن بمثل تلك النسبة. بيانه: إذا قوم صحيحاً بثلاثين ومقطوعاً بخمسة عشر، فعليه نصف الثمن، ولو قوم مقطوعاً بعشرين، فعليه ثلث الثمن. والثاني، ويحكى عن القاضي أبي الطَّيب: أنه يستقر مِنَ الثمن بنسبة أَرْش اليد من القيمة وهو النصف، وعلى هذا لو قطع يديه وانْدَمَلَتَا، ثم مات العبد في يد البائع وجب على المشتري تَمَام الثمن، وهذا كله تفريع على المذهب الصحيح، وهو أن إتلاف المشتري قبض منه، وعلى الوجه المنسوب إلى رواية الشيخ أبي علي: أنه لا يجعل قابضاً لشيء من العبد، وعليه ضمان اليد بأرشها المقدر وهو نصف القيمة كالأَجنبي، وقياسه: أن يكون له الخيار. وثانيها: إذا قطع أجنبي يده قبل القبض، فللمشتري الخيار إِنْ شاء فسخ وتبع البائع الجاني، وإن شاء أجاز البيع بجميع الثمن وغرم الجاني. قال القاضي المَاوِرْدِيُّ: وإنما يَغْرَمُه إذا قبض العبد أما قبله فلا، لجواز موت العبد في يد البائع وانفساخ البيع، ثم الغرامة الواجبة على الأجنبي نصف القيمة ما نقص من القيمة بالقطع، فيه قولان جاريان في جِرَاحَ العبد مطلقاً، والأصح: الأول. وثالثها: إذا قطع البائع يد العَبْدِ قبل التسليم، فإن جعلنا جنايته كالآفة السماوية، فللمشتري الخيار وإِنْ شاء فسخ واستردَّ الثمن، وإنْ شاء أجاز بجميع الثمن، وإن جعلناها كجناية الأجنبي فله الخيار أيضاً، إن فسخ فذاك، وإن أجاز رجع بالأَرْش على
البائع وفي قَدْره القولان المذكوران في الأجنبي، وصاحب الكتاب جعل القول الصَّائر إلى أنّ جناية البائع كجناية الأجنبي أصح، لكن معظم الأصحاب على ترجيح القَوْل المقابل له. وقوله: "إلاَّ أن يكون التَّعَيُّب بجناية أجنبي" استثناء منقطع، فإنه لا يدخل فيما قبله حتى يحمل على حقيقة الاسْتِثْنَاء. قال الغزالي: وَتَلَفُ أَحَدِ العَبْدَيْنِ بُوجِبُ الانْفِسَاخِ فِي ذَلِكَ القَدْرِ (و) وَسُقُوطُ قِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَالسَّقْفُ مِنَ الدَّارِ كَأَحَدِ العَبْدَيْنِ، لاَ كَالوَصْفِ عَلَى الأَظْهَرِ. قال الرافعي: إذا اشترى عبدين وتلف أحدهما قبل القبض انفسخ البيع فيه، وفي الثاني قَوْلاً تَفْرِيق الصَّفقة فإن قلنا: لا يفسخ وأجاز، فبكم يجيزه؟ قد ذكرناه في باب التَّفْرِيق، وفيه ما يقتضي إعلام قوله: "قسطه من الثمن" بالواو وقد أورد المسألة في الكتاب، وإنّما أعادها ليبيّن أنَّ المسألة الثانية دائرة بين هذه المسألة وبين صور العيب، فلذلك تردد الأصحاب فيها. وصورتها: أنْ يحترق سقف الدار المبيعة قبل القبض، أو يتلف بعض أَبْنِيَتِهَا، وفيه وجهان: أحدهما: أنه كتعيُّب المبيع، مثل عمى العبد وسقوط يده وما أشبههما. وأظهرهما: أنه كتلف أحد العبدين حتى ينفسخ البيع، وفي الباقي الخلاف؛ لأن السّقف يمكن إفراده بالبيع بتقدير الانفصال بخلاف يد العبد. قوله: "لا كالوصف"، فيه إشارة إلى أنَّ النُّقْصان ينقسم إلى فوات صفة وهو العيب، وإلى فوات جزء، وذلك ينقسم إِلَى ما لا ينفرد بِالقِيْمَة والمالية كيد العَبْد، وهي في معنى الاتباع والأوصاف، وإلى ما يفرد كأحد العبدين وأحد الصَّاعين، وذكر بعض المتأخرين: أنه إذا احترق من الدار ما يفوت الغرض المطلوب منها، ولم يبق الأطراف ينفسخ البيع في الكُل، ويجعل فوات البعض في مثل ذلك كَفَوات الكل. قال الغزالي: وَقدْ نَهَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَلاَ يُقَاسُ عَلَى البَيْعِ العِتْقُ (و) وَالهِبَةُ (و) وَالرَّهْنُ، وَكَذَلِكَ لاَ يُقَاسُ عَلَيْهِ الإجَارَةُ، وَالتَّزْوِيجُ عَلَى الأَصَحِّ. قال الرافعي: الحكم الثَّانِي للقبض التَّسلط على التَّصرف، فلا يجوز بيع المَبِيع قبل القبض عقاراً كان أَوْ منقولاً، لا بإذن البائع ولا دونه، لا قبل أداء الثَّمَن، ولا بعده خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- حيث قال: يجوز بيع العَقَار قبل القبض، ولمالك -رحمه الله- حيث جَوَّزَ بيع غير الطَّعَام قبل القبض، وكذا بيع الطعام إذا اشتراه جزافاً،
ولأحمد -رحمه الله- حيث جوز بيع ما لَيْس بِمَكِيْل، ولا مَوْزون، ولا مَعْدُود، ولا مَذْرُوع قبل القبض، ويروى عن مالك وأحمد -رحمهما الله- ما بينه وبين هذه الرِّوَاية بعض التَّفَاوت. لنا ما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ ابْتَاعَ طَعَاماً، فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ (¬1) ". وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- "أَمَّا الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَهُوَ الطَّعَامُ أَنْ يُبَاعَ حَتَّى يُسْتَوفَى، قَالَ: وَلاَ أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ مِثْلَهُ" (¬2). وروي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَرِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ" (¬3). وَرُوِيَ أنَّهُ لَمَّا بَعَثَ عَتَّاباً إِلَى مَكَّةَ، قَالَ: "انْهَهُمْ عَنْ بَيْعِ مَا يَقْبِضُوا، وَرِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنُوا" (¬4). وذكر الأصحاب عن طريق المَعْنَى سَبَبَيْن: أحدهما: أَن الملك قبل القبض ضعيف، لكون المَبِيع مِنْ ضَمَان البَائع وانفساخ البيع لو تلف، فلا يفيد وِلاَيَة التَّصرف. والثَّاني: أنه لا يتوالى ضماناً عقدين في شيء واحد، ولو نفذنا البيع من المشتري لأفْضَي الأمر إليه، لأن المبيع مضمون على البائع للمشتري، وإذا نفذ منه صار مضموناً عليه للمشتري الثَّاني، فيكون الشَّيء الواحد مضموناً له وعليه في عقدين والاعتماد على الأخيار، وإلاَّ فللمعترض أن يقول: تعنون بضعف المِلْك الانْفِسَاخ لو فرض تلف أو شيئاً آخر، إن عنيتم شيئاً آخر فهو ممنوع، وإن عنيتم الأوَّل فلم قلتم: إنَّ هذا القدر يمنع صحّة البيع؟ وأما الثاني: فلا يعرف، لكون المبيع من ضمانه معنى سوى أنه لو تلف ينفسخ البيع ويسقط الثمن، فلم لا يجوز أن يصح البيع؟ ثم لو تلف في يد البائع ينفسخ البيعان ويسقط الثمنان، ويتبيَّن أنه هلك في يده. إذا تقرر ذلك فهل الإعتاق كالبيع؟ فيه وجهان: أحدهما، ويحكى عن ابن خَيْرَانَ: نعم؛ لأنه إزالة مِلْك كالبيع. ¬
وأصحهما: لا، بل يصح الإِعْتاق ويصير قابضاً به لقوة العتق وغلبته، ولهذا يجوز إعتاق الآبِق دون بيعه، هذا إذا لمَ يكن للبائع حق الحَبْس، بأن كان الثمن مؤجلاً أو حالاً، وقد أداه المشتري، فإذا ثبت حق الحبس. منهم مَنْ يُنْزله منزلة إعتاق الرَّاهن. والصحيح: أنه ينفذ كما في الحالة الأولى بخلاف إِعْتاق الراهن، لأن الراهن حجر على نفسه بالرهن، والرهن أُنْشِئ ليحبسه المرتهن. ولو وقف المبيع قبل القبض، ففي "التتمة": أنه يبنى على أن الوقف هل يفتقر إلى القبول؟ إن قلنا: نعم، فهو كالبيع. وإن قلنا بالثَّاني، فهو كالإِعْتَاق، وبهذا أجاب صاحب "الحاوي" (¬1)، وقال: إنه يصير قابضاً حتى لو لم يرفع البائع يده عنه يصير مضموناً بالقيمة، وكذا قال في إباحة الطَّعَام للفقراء والمَسَاكين، إذا كان قد اشتراه جُزَافاً، وللكتابة كالبيع في أصح الوجهين، إذ ليس له قوة العِتْق وغلبته، والاسْتيلاد كالعِتْق. وفي هبة المَبِيع قبل القبض ورهنه وجهان، ويقال قولان: أحدهما: أنهما صحيحان، لأن التسليم غير لازم فيهما بخلاف البيع، وهذا ما أورده في الكتاب. وأصحهما عند عامة الأصحاب: المنع لضعف المِلْك، فإنه كما يمنع البيع يمنع الهِبَة، أَلاَ تري أنه لا يصح رَهْن المكاتب وهبته؟ كما لا يصح بيعه، وقطع بعضهم بمنع الرهن إذا كان محبوساً بالثَّمن، وإذا صححناهما فنفس العقد ليس بقبض، بل يقبضه المشتري من البائع، ثم يسلمه من المُتّهب، أو المرتهن، ولو أذن للمُتَّهب أو المرتهن حتى قبضه. ففي "التهذيب": أن يكفي ذلك، ويتمّ به البَيْع والهِبَة والرَّهْن بعده. ¬
وقال أقضى القُضَاة المَاوِرْديّ: لا يكفي ذلك للبيع وما بَعْده، ولكن ينظر إن قصد قبضه للمشتري صح قبض البيع، ولا بد من اسْتِئْنَاف قبض لِلْهِبَة، ولا يجوز أن يأذن له في قبضه من نفسه لنفسه، وإن قصد قَبْضَه لنفسه لم يحصل القبض للبيع ولا للهبة، فإن قبضها يجب أن يتأخر عن تَمَام البيع والإقراض والتصدق، كالهِبَة والرَّهْن، ففيهما الخلاف. وفي إِجَارة المبيع قبل قبضه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأن مورد عقد الإجَارة غير مورد عقد البيع، فلا يتوالى ضماناً عقدين من جنس واحد. والثاني: لا يصح، لضعف الملك ولأن التسليم مستحق فيها كما في البيع. والأصح عند المعظم: الثاني، وعند صاحب الكتاب الأول. وفي تزويج المشتري الجَارَية قبل القَبْض مثل هذين الوجهين، لكن الأصح في التَّزْوِيج الصِّحَّة بالاتِّفاق، ومنهم مَنْ أشار إلى وجه ثالث فارق بين أنْ يكون للبائع حق الحبس فلايصح التَّزويج؛ لأنه نقص، وبين أنْ لا يكون فيصح، وطرد مثله في الإِجَارة إذا كانت منقصة، وإذا صححنا التَّزْويج فوطء الزَّوج لا يكون قَبْضاً. وعن أبي حنيفة -رحمه الله-: أنه قبض، وكما لا يجوز بيع المبيع قبل القبض، لا يجوز جعله أُجْرَة في إجارة، وعوضاً في صلح، وكذا لا يجوز السّلم والإِشْرَاك والتَّوْلِية. وعن مالك: أنه يجوز الإِشْرَاك والتَّوْلِية، وحكاه الشَّيْخ أبو عَلِيّ عن بعض الأصحاب. وجميع ما ذكرناه فيما إِذَا تَصَرَّف مع غير البائع. أما إذا باع من البَائع فوجهان: أحدهما: الجواز، كبيع المَغْصُوب من الغاصب. وأصحهما: المنع كالبيع من غيره (¬1). والوجهان فيما إذا باع بغير جنس الثمن، أو بزيادة أو نقصان أو تفاوت صفة، ¬
وإلاّ فهو إقالة بصيغة البيع، كذا قاله في "التتمة" (¬1). ولو وهب منه أو رهن فطريقان: أحدهما: القطع بالمنع، لأنه يجوز أن يكون نائباً عن المشتري في القبض. وأصحهما فيما نقل صاحب "التهذيب": أنه على القولين، فإن جوزنا فإذا أذن له في القبض عن الهِبَة أو الرَّهْن ففعل أجزأ، ولا يزول ضمان البيع في سورة الرَّهْن، بل إذا تلف ينفسخ العقد، ولو رهنه عن البائع بالثمن، فقد مَرَّ حكمه. فرع لابن سُرَيْجٍ: باع عبداً بثوب وقبض الثوب، ولم يسلم العبد له بيع الثوب، وليس للآخر بيع العبد، فلو باع الثَّوب وهلك العبد في يده بطل العقد فيه، ولا يبطل في الثوب ويغرم قيمته لبائعه، ولا فرق بين أن يكون هلاك العبد بعد تسليم الثوب أو قبله، لخروجه عن ملكه بالبيع، ولو تلف العَبْد والثوب في يده، غرم لبائع الثوب القيمة ورد على مشتريه الثَّمن. قال الغزالي: وَبَيْعُ المِيرَاثِ وَالوَصِيَّةُ وَالمِلْكُ العَائِدُ بِالفَسْخِ قَبْلَ القَبْضِ وَالاَسْتِرْدَادِ جَائِزُ، وَإِنَّمَا المَانِعُ يَدٌ تَقْتَضِي ضَمَانَ العَقْدِ، وَلِذَلِكَ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الصَّدَاقِ قَبْلَ القَبْضِ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الزَّوْجِ ضَمَانَ العَقْدِ، وَكَذَلِكَ في بَدَلِ الْخلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ العَمْدِ. قال الرافعي: المال المستحق للإنسان عند غيره قسمان: عَيْن في يده ودَيْن في ذمته. أما الثَّاني: فيأتي في الفصل التَّالي لهذا الفصل -إن شاء الله تعالى-. وأَمَّا القِسْم الأول: فما له في يد الغير إمّا أن يكون أمانة أو مضموناً. الضرب الأول: الأمانات، فيجوز للمالك بيعها لتمام المِلْك عليها، وحصول القدرة على التَّسْليم، وهي كالوَدِيْعَة في يد المودع، ومال الشركة والقرَاض في يد الشَّرِيك والعَامِل، والمال في يد الوكيل بالبيع ونحوه، وفي يد المرتهن بعد انفكاك الرَّهْن، وفي يد المستأجر بعد إنقضاء المُدَّة، والمال في يد القيم بعد بلوغ الصَّبِي رشيداً، وما احتطبه العبد واكتسبه وقبله بالوصيّة، قبل أن يأخذه السيد. ولو ورث مالاً فله بيعه قَبْلَ قبضه، إِلاَّ إذا كان المورث لا يملك بيعه أيضاً، مثل ما اشتراه ولم يقبضه. ¬
ولو اشترى من مُورثه شيئاً ومات المُورث قبل التَّسْليم فله بيعه، سواء كان على المُورث دين أو لم يكن، وحق الغَرِيمِ يتعلق بالثَّمن، فإنْ كان لهُ وَارِث آخر لم ينفذ بيعه في قدر نصيب الآخر حتى يقبضه. ولو أوصى له بمال فقبل الوَصِيّة بعد موت المُوصي، فله بيعه قبل أَخْذِه، ولو باعه بعد الموت وقبل القبول جاز، إنْ قلنا: الوصية تملك بالموت وإن قلنا: تملك بالقبول، أو هو موقوف فلا. الضَّرْب الثَّاني: المضمونات، وهي ضَرْبَان مضمون بالقيمة، ومضمون بعوض في عقد مُعَاوَضَة. الضَّرْب الأول: المضمون بالقيمة: وهذا الضَّمَان يسمى ضمان اليَدِ، فيصحّ بيعه قبل القبض أيضاً لتمام المِلك فيه، فإنه لو تلف تلف على ملكه، ويدخل فيه ما صار مضموناً بالقيمة بعقد مفسوخ وغيره، حتى لو باع عبداً فوجد المشتري به عيباً وفسخ البيع كان للبائع بيع العبد، وإنْ لم يسترده. قال في "التتمة": إلاَّ إذا لم يؤد الثمن، فإن للمشتري حبسه إلى استرجاع الثمن. ولو فسخ السَّلَم لانقطاع المسلّم فيه، فللمسلم بيع رأس المال قبل اسْتِرْداده، وكذا للبائع بيع المبيع إذا فسخ بِإِفْلاَس المشتري ولم يسترده بعد. ويجوز بيع المال في يد المُسْتَعِير والمُسْتَام، في يد المشتري والمتّهب في الشراء والهبة الفاسدين، وكذا بيع المغصوب من الغاصب. الضَّرب الثاني: المضمون بعوض في عقد مُعَاوضة، فلا يصحّ بيعه قَبْل القبض لتوهّم الانفساخ بتلفه، وذلك كالمبيع والأُجْرة، والعوض المصالح عليه عن المال. وفي بيع المرأة الصَّداق قبل القبض، قولان مَبْنِيَّان على أَنَّ الصَّادق مضمون في يد الزوج ضمان اليد أو ضَمَان العَقْد، وموضع بيانهما "كتاب الصداق". والأصح: أنه مَضْمُون ضمان العقد، والقولان جاريان في بيع الزوج بدل الخُلْع قبل القبض، وبيع العَافِي عن القود المال المعقود عليه قبل القبض لمثل هذا المأخذ، -والله أعلم-. ووراء ما ذكرنا صورة أخرى إذا تأملتها لم يخف عليك، أنَّ كل واحدة منها من أي ضرب هي: فمنها: حكى صاحب "التلخيص" عن نص الشافعي -رضي الله عنه- أن الأرزاق التي يخرجها السّلطان للناس، يجوز بيعها قبل القبض. فمن الأصحاب من قال: هذا إذا أفرزه السُّلْطَان، فتكون يد السُّلْطان في الحِفْظِ يد المفرز له، ويكفي ذلك لصحّة البيع. ومنهم من لم يَكْتَفِ بذلك، وحمل النص على ما إذا وكل وكيلاً بقبضه فقبضه
الوكيل، ثم باعه الموكل، وإلاَّ فهو بيع شيء غير مملوك، وهذا ما أورده القَفَّال في الشَّرح (¬1). ومنها: بيع أحد الغَانمين نصيبه على الإشَاعة قبل القبض، صحيح إذا كان معلوماً كما إذا كانوا خمسة، فالخمس لأهل الخمس، والباقي على خمسة أَسْهم، فيكون نَصِيب الواحد أَرْبَعَة من خمسة وعشرين، هذا إذا حكمنا بثبوت الملك في الغنيمة، وفيما تملك به الغَنِيمة خلاف سيذكر في موضعه -إن شاء الله تعالى-. ومنها: إذا رجع فيما وهب لولده له بيعه قبل اسْتِرْداده. وقال القاضي ابن كَجٍّ: ليس له ذلك. ومنها: الشَّفِيع إذا تملّك الشَّقْص. قال في "التهذيب": له بيعه قبل القبض، وقال في "التتمة": ليس له ذلك؛ لأن الأخذ بالشّفْعة معاوضة (¬2). وللموقوف عليه أن يبيع الثمرة الخارجة من الشَّجرة الموقوفة قبل أن يأخذها. ومنها: إذا استأجر صَبَّاغاً ليصبغ له ثوباً وسلَّمه إليه، فليس للمالك بيعه، ما لم يصبغه لأن له أَنْ يحبسه إلى أنْ يعمل ما يستحق به العِوض، وإذا صبغه فله بيعه قبل الاسْتِرْدَاد إن وَفَّى الأجرة، وإلاَّ فلا؛ لأنه يستحق حبسه إلى اسْتيفاء الأجرة. ولو استأجر قصاراً لقصر وسلَّمه إليه، فلا يجوز بيعه ما لم يقصره، وإذا قصره فيبنى على أن القصَارة عين، فتكون كمسألة الصَّبْغ أو أثر فله البيع، إذ ليس للقَصَّار الحبس، وعلى هذا قياس صوغ الذّهب ورياضة الدَّابة ونسج الغَزْل. ومنها: إذا قاسم شريكه فيبيع ما صار له قبل القَبْض من الشريك على أن القسمة بيع أو إفراز. ومنها: إذا أثبت صَيْداً بالرَّمي أو وقع في شبكته، فله بيعه وإنْ لم يأخذه، ذكره صاحب "التلخيص" في هذا الموضع. قال القفال: وليس هو مما نحن فيه فإنه إذا أثبته كان في قبضته حكماً. ¬
فرع: تصرف المشتري في زوائد المَبِيع قبل القبض، مثل الولد والثَّمرة يبنى على أنَّهَا تعود إلى البائع لو عرض انفساخ أو لا تعود إن عادت لم يتصرف فيها كما في الأصل، وإلاَّ تصرف. ولو كانت الجارية حاملاً عند البيع، وولدت قبل القبض، إن قلنا: الحمل يقابله قسط من الثمن لم يتصرف فيه، وإلاَّ فهو كالولد الحادث بعد البيع. قال الغزالي: وَالمَبِيعُ سَوَاءٌ كَانَ مَنْقُولاً أَوْ عَقَاراً (ح) فَيَمْتَنِعُ (م) بَيْعُهُ قَبْلَ القَبْضِ، وَإِنْ كَانَ دَيْناً كَالمُسَلَّم فِيهِ فَكَمِثْلِ (م)، وَكُلُّ دَيْنٍ ثَبَتَ لاَ بِطَرِيقِ المُعَاوَضةِ بَلْ بِقَرْضٍ أَو بإِتْلاَف فَيَجُوزُ الاسْتِبْدَالُ عَنْهُ وَلَكِنْ بِشَرْطِ قَبْضِ البَدَلِ في المَجْلِسِ عَلَى الأَصَحِّ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ علَى الأَصَحِّ، وَالأَظْهَرُ مَنْعُ الحِوَالَةِ بَالمُسَلَّمِ فِيهِ، وَعَلَيْهِ لِأَنَّ فِي الحِوَالَةِ مَعْنَى الاعْتِيَاضِ، وَيَجُوزُ (و) أَنْ يَسْتَبْدِلَ عنِ النَّقْدِ بالنَّقْدِ وَإِنْ كَانَ ثَمَناً (و) لِلْحَدِيثِ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَيَّناً، فَإِنْ عُيِّنَ تَعَيَّنَ (ح)، وَامْتَنَعَ (ح) الاسْتِبْدَالُ عَنْهُ، وَانْفَسَخَ العَقْدُ بِتَلَفِهِ (ح). قال الرافعي: قوله: "والمبيع سواء كان منقولاً أو عقاراً فيمتنع بيعه قبل القبض" كأنه قصد به التَّعرض لمذهب أبي حنيفة -رحمه الله- في العَقَار والتَّدرج به، إلى ذكر ما إذاً كان المَبِيْع دَيْناً، وإلاَّ فقد سبق ما يعرف منه امتناع بيع المبيع قبل القبض. وشرح الفصل يحوج إلى تقديم وتأخير في مسائله، فلا نُبَال بذلك. اعلم أن مِنْ مسائل القسم الأول، وهو أن يكون المستحق عَيْناً في يد الغير، ما إذا باع متاعاً بدراهم أو دنانير معينة، فليس للبائع التَّصرف فيهما قبل القَبْض، وذلك لأن الدَّرَاهم والدنانير متعينان بالتَّعيين كالمبيع، فلا يجوز للمشتري إبدالها بمثلها، ولو تلفت قبل القبض انفسخ البيع، ولو وجد البائع بها عيباً لم يستبدلها، بل يرضى بها أو يفسخ العقد، وبهذا قال أحمد. وقال أبو حنيفة: لا تتعين، ويجوز إبدالها بمثلها، وإذا تلفت قبل القبض لا ينفسخ العقد، وإذا وجد بها عيباً له الاستبدال. لنا القياس على طرف البيع، وأيضاً فإن الدراهم والدنانير يتعينان في الغَصْب والوديعة، فكذلك هاهنا. ولو أبدلها بمثلها أو بغير جنسها برضا البائع، فهو كبيع المبيع من البائع. القسم الثاني: الدَّيْن في ذمة الغير، وهو على ثلاثة أضرب؛ لأنه إمَّا أن يكون مثمناً أو ثمنًا أو لا مثمناً ولا ثمناً.
وقبل الشّروع في هذه الأضرب نذكر أصلاً، وهو: أن الثمن ماذا والمثمن ماذا؟ وجملة ما قيل فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الثمن ما ألصق به الباء، لأن هذه الباء تسمى باع التثمين ويحكى هذا عن القَفَّال. والثاني: أن الثمن: هو النقد؛ لأن أهل العرف لا يطلقون اسم الثمن على غيره، والمثمن ما يقابل ذلك على اختلاف الوجهين: والثالث، وهو الأصح: أن الثمن: هو النقد والمثمن ما يقابله، فإنْ لمْ يكن في العقد نقد، أو كان العوضان نقدين، فالثمن ما ألصق به الباء والمثمن ما يقابله. ولو باع أحد النقدين بالآخر، فعلى الوجه الثاني، لا مثمن فيه، ولو باع عرضاً بعرض فعلى الوجه الثاني لا ثمن فيه، وإنما هو مقابضة. ولو قال: بعتك هذه الدراهم بهذا العبد. فعلى الوجه الأول العبد ثمن، والمثمن الدراهم. وعلى الثاني والثالث في صحة العقد وجهان، كالسّلم في الدراهم والدنانير، لأنه جعل الثمن مثمناً، فإن صححنا فالعبد مثمن. ولو قال: بعتك هذا الثوب بعبد ووصفه صح العقد. فإن قلنا: الثمن ما ألصق به الباء فالعبد ثمن، ولا يجب تسليم الثَّوْب في المجلس، وإن لم نقل بذلك ففي وجوب تسليم الثوب وجهان. في وجه: لا يجب، إذ لم يجر بينهما لفظ السلم. وفي وجه: يجب اعتباراً بالمعنى. إذا عرفت هذه المقدمة. فالضرب الأول: المثمن وهو المسلّم فيه فلا يجوز الاستبدال عنه ولا بيعه (¬1) من غيره. رُوِيَ عَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ، فلاَ يَصْرِفْهُ إِلَى غَيْرِه" (¬2). وأيضاً فإن المبيع مع تعينه لا يجوز بيعه قبل القبض، فالمسلم فيه مع كونه مرسلاً في الذمة أولى، وهل للحِوَالة مدخل في المسلم فيه؟ ¬
إما به، بأن يحيل المسلم إليه بحقه على مَنْ له عليه دين قرض أو إتلاف. وإما عليه، بأن يحيل المسلم من له عليه دين قرض أو إتلاف على المسلم إليه، فيه ثلاثة أوجه: أصحها: لا، لما فيه من تبديل المسلم فيه بغيره. والثاني: نعم، تخريجاً على أن الحِوَالة استيفاء وإيفاء لا اعتياض. والثالث: لا تجوز الحوالة عليه؛ لأنها بيع سلم بدين، وتجوز الحَوَالة به على القرض ونحوه؛ لأن الواجب على المسلم إليه توفير الحق على المسلم، وقد فعل هكذا. حكى الوجه الثالث إمام الحرمين وهو حاصل ما رواه القاضي ابن كج عن أبي علي الطَّبَرِي، وأبي الحسين بعد رواية الوجه الثاني عن ابن الوكيل. وعكس صاحب الكتاب -رحمه الله- الوجه الثالث في "الوسيط" وقال: تجوز الحوالة عليه؛ ولا تجوز به، ولا أخاله (¬1) ثبتاً. الضرب الثاني: الثمن، فإذا باع بدراهم أو دنانير في الذمة، ففي الاستبدال عنها قولان: القديم: أنه لا يجوز، لمطلق النهي عن بيع ما لم يقبض، وأيضاً فإنه عوض في معاوضة، فأشبه المسلم فيه. والجديد: الجواز. لما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كُنْتُ أَبيعُ الإِبِلَ بالْبَقِيع بالدَّنَانِيرِ، وَآخُذُ مَكَانَهَا الْوَرِقَ، وَأَبِيعُ بالْوَرِقِ، وَآخُذُ مَكَانَهَا الدَّنَانِيرَ، فَأتَيْتُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِهِ بِالْقِيَمَةِ". ويروى أنه قال: "لاَ بَأْسَ إِذَا تَفَرَّقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا شَيْءٌ" (¬2). وعن القاضي أبي حامد وأبي الحسين -رحمهما الله-: القطع بالقول الثاني. وإذا باع شيئاً بغير الدراهم والدَّنانير في الذمة، فجواز الاستبدال عنه يبنى على أنَّ الثَّمن ما ألصق به باء التَّثْمين أَوْ غيره. إن قلنا: إنه هو، فيجوز الاسْتِبْدَال عنه كالنقدين، وادعى في "التهذيب": أنه المذهب. وإن لم نَقْل بذلك فلا يجوز، لأن ما ثبت في الذمة مثمناً لا يجوز أن يستبدل ¬
عنه، والأجرة كالثمن والصداق وبدل الخلع، كذلك إن قلنا: إنهما مضمونان ضمان عقد، إلاَّ فهما كبدل الإتلاف التفريع: إن منعنا الاستبدال عن الدراهم، فذاك في استبدال العروض عنها، فأما استبدال نوع منها عن نوع، أو استبدال الدَّنَانير عن الدراهم، ففيه وجهان عن صاحب "التقريب" لاستوائهما في مقصود الرَّواج، وإن جوزنا الاستبدال عنها وهو الصحيح فلا فرق بين بدل وبدل، ثم ينظر إن استبدل عنها ما يوافقها في علة الربا، كما إذا ااستبدل عن الدَّراهم الدَّنانير، فيشترط قبض البلد في المجلس، وكذا إذا استبدل عن الحِنْطة المبيع بها شعيراً، إن جوزنا. ذلك ففي اشتراط تعين البدل عند العقد وجهان: أحدهما: يشترط، وإلاَّ فهو بيع دين بدين. وأصحهما: أنه لا يشترط كما لو تصارفا في الذمة، ثم عَيّنا وتقابضا في المجلس. وإن استبد عنها ما لا يوافقها في علَّة الربا، كما إذا استبدل عن الدَّراهم طعاماً أو ثياباً، نظر إن عين البدل جاز، وهل يشترط قبضه في المجلس؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، وهو اختيار الشَّيخ أبي حامد، ويحكى عن أبي إسحاق؛ لأن أحد العوضين دين فيشترط قبض الثَّاني كرأس مال السلم. وأصحهما عند الإمام وصاحب "التهذيب": أنه لا يشترط، كما لو باع ثوباً بدرهم في الذمة، لا يشترط قبض الثوب في المجلس، ويحكى هذا عن ابن سُرَيج. وإن لم يعين البدل، ولكن كان موصوفاً في الذمة، فعلى ما سبق من الوجهين إن جوزنا فلا بد من التَّعيين في المجلس، وفي اشتراط القبض الوجهان (¬1). الضرب الثالث: ما ليس بثمن ولا مثمن كدين القَرْض والإتْلاف، فيجوز الاستبدال عنه بلا خلاف (¬2)، كما لو كان في يده عين مال بِغْصب أو عَارِية، يجوز بيعه ¬
منه ويفارق المسلم فيه فإنه غير مستقر لجواز أنْ يطرأ ما يقتضي انفساخ السلم، وهذا مستقر. ثم الكلام في اعتبار التَّعيين والقبض على ما سبق. وفي "الشَّامل" أن القرض إنما يستبدل عنه إذا استهلكه، أما إذا بقي في يده فلا، لأنا إنْ قلنا: إن القرض يملك بالقبض فبدله غير مستقر في الذمة؛ لأن للمقرض أن يرجع في عينه، وإن قلنا: يملك بالتصرف، فالمستقرض متسلّط عليه وذلك يوجب ضعف ملك المقرض، فلا يجوز الاعتياض عنه -والله أعلم-. ولا يجوز استبدال المؤجل عن الحال ويجوز العَكْس، وكأن من عليه المؤجل قد عجله. واعلم: أنَّ الاستبدال بيع ممن عليه الدّين وقد تبين حكمه، فأما بيعه من غير ممن عليه كما إذا كان على إنسان مائة، فاشترى من آخر عبدًا بتلك المائة فقولان: أحدهما: أنه يجوز، كبيعه ممن عليه. وأصحهما: المنع لعدم القدرة على التسليم، وعلى الأول يشترط أنْ يقبض مشتري الدَّين الدين ممن عليه، وأن يقبض بائع الدين العوض في المجلس، حتى لو تفرقا قبل قبض أحدهما بطل العقد (¬1). ولو كان له دين على إنسان، ولآخر مثله على ذلك الإنسان، فباع أحدهما ما له عليه بما لصاحبه وقبل الآخر لم يصح، إن اتّفق الجنس أو اختلف. "لِنَهْيِهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بالْكَالِئِ" (¬2). وقوله في الكتاب: "وكل دين ثبت لا بطريق المعاوضة، بل بقرض أو بإتلاف" لا شبهة أن دين الإتلاف ثبت لا بطريق المعاوضة. وأما دين القرض فسيأتي في فصل القرض: -إن شاء الله تعالى- أنه ليس على سبيل المعاوضات أيضاً. وقوله: "ولكن يشترط قبض البدل في المجلس على الأصح" أي: من الوجهين، وترجيح وجه الاشتراط خلاف ما ذكرنا عن اختيار الإمام وصاحب "التهذيب"، لكنه متأيد بظاهر نصه في "المختصر"، وبه قال جماعة من الأصحاب. وقوله: "ويجوز أن يستبدل عن النقد بالنقد وإن كان ثمناً"، أي: استبدال أحد النقدين عن الآخر لا يختص بدين القرض والإتلاف، بل يجري في الثمن أيضاً، وليعلّم قوله: "وإن كان ثمناً" بالواو للقول الآخر، وأراد بالحديث ما رويناه عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. قال الغزالي: أَمَّا صُورَةُ القَبْضِ فَيُحْكَمُ فِيهِ بِالعَادَةِ، فَفِي العَقَارِ يَكْفِي فِيهِ التَّخْلِيَةُ، ¬
وَفي المَنْقُولِ يَكْفِي فِيهِ النَّقْلُ، وَلاَ يَكْفِي التَّخْلِيَةُ (م ح)، وَقَدْ قِيْلَ: يَحْصُلُ انْتِقَالُ الضَّمَانِ بِالتَّخْلِيَةِ، وَمَا يُشْتَرى مُكَايَلَةَ فَتَمَامُ القَبْضِ فِيهِ بِالنَّقْلِ، وَالكَيْلِ، فَإذَا اشْتَرَى مُكايَلَةً وَبَاعَ مُكايَلَةً فَلاَ بُدَّ لِكُلِّ بَيْعٍ (و) مِنْ كَيْلٍ جَدِيد لِيتمَّ القَبْضُ للحَدِيث. قال الرافعي: قد تم بيان الأمر الأول، وهو حكم القبض وثمرته، وهذا أول الشُّروع في الأمر الثاني، وهو أن القبض بم يحصل؟ والقول الجملي فيه: أن الرجوع فيما يكون قبضاً إلى العادة، ويختلف بحسب اختلاف المال. وتفصيله: أن المال إما أن يباع من غير اعتبار تقدير فيه، أو يباع معتبراً فيه تقدير. الحالة الأولى: أن لا يعتبر فيه تقدير، إما لعدم إمكانه أو مع إمكانه، فينظر إنْ كان المبيع ممَّا لا ينقل كالدور والأراض، فقبضه بالتّخلية بينه وبين المشتري، وتمكينه من اليد وَالتَّصرف بتسليم المفتاح إليه، ولا يعتبر دخوله وتصرفه فيه، ويشترط كونه فارغاً عَنْ أمتعة البائع (¬1)، فلو باع داراً فيها أمتعة للبائع توقف التسليم على تفريغها، وكذا لو باع سفينة مَشْحُونة بأمتعة لكون البائع مستعملاً للمبيع منتفعاً به (¬2). ولو جمع البائع متاعه في بيت من الدار، وخلَّى بين المشتري وبين الدار، حصل القبض فيما عدا ذلك البيت. وفي اشتراط حضور المتبايعين عند المبيع ثلاثة أوجه منقولة في "التهذيب". أحدها: يشترط، فإن حضرا عنده، وقال البائع للمشتري: دونك هذا ولا مانع حصل القبض، وإلا فلا. والثاني: أنه يشترط حضور المشتري عنده دون البائع ليتأتى إِثْبَات اليد عليه. والثالث، هو الأظهر: أنه لا يشترط حضور واحد منهما؛ لأن ذلك قد يشق، فإذا خَلَّى بينه وبين المبيع، فقد أتى بما عليه فليتصرف، وعلى هذا فهل يشترط أن يمضي زمان إمكان المضي إليه؟ فيه وجهان: الأصح: الاشْتِرَاط وفي معنى العَقَار الشجر الثَّابت، والتمرة المبيعة على الشجرة قبل أوان الجُذَاذ. وإن كان المبيع من جملة المنقولات، فالمذهب المشهور، وبه قال ¬
أحمد: أنه لا يكفي فيه التَّخلية، بل لا بد من النَّقْل والتَّحْويل. وقال مالك وأبو حنيفة: إنه يكفي التَّخلية كما في العَقَار، وعن رواية حرملة قول مثله، وفيه وجه آخر: أنَّ التَّخلية كافية لنقل الضَّمان إلى المشتري غير كافية للتَّسلط على التصرف؛ لأن البائع أتى بما عليه والمقصر المشتري حيث لم ينقل، فليثبت ما هو حق البائع. وجه ظاهر المذهب ما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كُنَّا نَشْتَرِيَ الطَّعَامَ مِنَ الرُّكْبَانِ جُزَافاً، فَنَهَانَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نَبيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ مِنْ مَكَانه" (¬1). وأيضاً فإن العادة في قبض المنقول النقل، فعلى هذا يأمر العبد بالانتقال من موضعه، ويسوق الدابة أو يقودها (¬2). وإذا كان المبيع في موضع لا يختص بالبائع كَمَوات ومسجد وشارع، أو في موضع يختص بالمشتري، فالنقل من حَيِّز إلى حَيِّز كافٍ. وإن كان في دار البائع أو في بقعة مخصوصة به، فالنقل من زاوية إلى زاوية، أو من بيت إلى داره أو من دار إلى بيت آخر بدون إذن البائع لا يكفي لجواز التصرف، ولكن يكفي لدخوله في ضمانه، وإن نقل بإذنه حصل القبض، وكأنه استعار ما نقل إليه المال. ولو اشترى الدَّار صَحَ أمتعة فيها صفقة واحدة، فخلَّى البائع بينه وبينها حصل القبض في الدار، وفي الأمتعة وجهان: أصحهما: أنه لا بد فيها من النقل أما لو بيعت وحدها. والثاني: أن القبض يحصل فيها أيضاً تبعاً، وبهذا أجاب الماوردي، وزاد فقال: لو اشترى صُبْرَة ولم ينقلها حتى اشترى الأرض الَّتي عليها الصُّبْرة، وخلى البائع بينه وبينها حصل القبض في الصبرة (¬3). ولو لم يتفقا على القبض، ولكن جاء البائع بالمبيع وامتنع المشتري من قبضه أجبره الحاكم عليه، فإن أصر أمر الحاكم من يقبضه عنه، كلما لو كان غائباً (¬4). ولو جاء البائع بالمبيع فقال المشتري: ضعه، فوضعه بين يديه حصل القبض، ¬
وإن وضعه بين يديه ولم يقل المشتري شيئاً أو قال: لا أريده، فوجهان: أحدهما: أنه لا يحصل القبض، كما لا يحصل به الإيداع. وأصحهما: يحصل لوجوب التَّسليم، كما لو وضع الغَاصِب المغصوب بين يدي المَالك يبرأ عن الضمان، فعلى هذا للمشتري التَّصرف فيه، ولو تلف فهو من ضمانه، لكن لو خرج مستحقّاً، ولم يجر إلاَّ وضعه بين يديه، فليس للمستحق مطالبة المشتري بالضمان؛ لأن هذا القدر لا يكفي لضمان الغصب. ولو وضع المديون الدين بين يدي مستحق الدين، ففي حصول التسليم خلاف مرتب على البيع، وهذه الصورة أولى بعدم الحصول لعدم تعيّن الملك. وهل للمشتري الاستقلال بنقل المبيع؟ إنْ كان قد وفَّي الثمن، أوْ كان الثمن مؤجَّلاً فنعم، كما أنَّ للمرأة قبض الصَّداق بدون إذن الزوج إذا سلمت نفسها، وإلاَّ فلا وعليه الرد؛ لأن البائع مستحق الحبس لاسْتيفاء الثمن ولا ينفذ تصرفه فيه، لكن يدخل في ضمانه. فرع: دفع ظرفاً إلى البائع، وقال: اجعل المبيع فيه ففعل لا يحصل التسليم، إذ لم يوجد من المشتري ما هو قبض والظَّرف غير مضمون عليه، لأنه استعمله في ملك المشتري بإذنه، وفي مثله في السَّلم يكون الظرف مضموناً على المسلم إليه؛ لأنه استعمله في مِلْك نفسه. ولو قال للبائع: أَعِرني ظرفك، واجعل المبيع فيه ففعل، لا يصير المشتري قابضاً أيضاً. الحالة الثانية: أن يباع الشيء مع اعتبار تقدير فيه كما إذا اشترى ثوباً، أو أرضاً مُذَارعة، أومتاعاً موازنة، أو صُبْرَة حِنْطَة مُكَايلة، أَوْ معدوداً بالعَدَد فلا يكفي للقبض ما مر في الحالة الأولى، بل لا بُدَّ مع ذلك من الذَّرع أو الوزن أو الكيل أو العد؛ وكذا لو أسلم في آصع أو إِنَاء من طعام، لا بد في قبضه من الكيل أو الوزن، فلو قبض جُزَافاً ما اشتراه مُكَايلة دخل المقبوض في ضمانه، وأما تصرفه فيه بالبيع ونحوه، فإن باع الكل لم يصح؛ لأنه قد يزيد على القدر المستحق. وإنْ باع ما يستيقن أنه له، فوجهان عن أبي إسحاق: أنه يصح. وقال ابن أبي هريرة، وساعده الجمهور: لا يصح لعدم القبض المستحق بالعقد. وقبض ما اشتراه كيلاً بالوزن ووزناً بالكيل كقبضه جُزافاً. ولو قال الدافع: خذه فإنه كذا، فأخذه مصدقاً له، فالقبض فَاسد أيضاً حتى يجري اكتيال صحيح، فإن زاد رد الزيادة، وإن نقص أخذ الباقي.
ولو تلف المقبوض، فزعم الدافع أنه كان قدر حقه أو أكثر؛ وزعم المدفوع إليه أنه كان دون حقه أو قدره، فالقول: قوله. قال الشيخ أبو حامد وغيره: ومعنى التصديق المذكور في صورة المسألة أنْ يحمل خبره على الصدق، ويأخذه بناء عليه، فأما إذا أقر بجريان الكيل لم يسمع منه خلافه، وفسر إمام الحرمينْ البيع مُكَايلة، بأن يقول: بِعْتك هذه الصُّبْرَة كل صاع بدرهم، وهو من صورها. ومنها: أن يقول: بعتكها على أنها عشرة آصع. ومنها: أن يقول: بعتك عشرة آصع منها، وهما يعلمان صيعانها أو لا يعلمان إذا جوزنا ذلك. وإذا اعتبر في المبيع كيل أو وزن، فليس على البائع الرِّضا بكيل المشتري، وعلى المشتري الرِّضَا بكيل البائع، بل يتفقان على كيال، فإن لم يتراضيا نصب الحاكم أميناً يتولاه ذكره في "الحاوي". ولو كان لزيد طعام على رجل سلماً، ولآخر مثله على زيد، فأراد زيد أن يوفي ما عليه مما له على الآخر، فقال: اذهب إلى فلان، واقبض لنفسك مما لي عليه، فقبضه فهو فاسد، وكذا لو قال: احضر معي لأقبضه وأكتاله لك وفعل، لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلاً ومسنداً أنه: "نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ، يَعْنِي صَاعَ البَائِعِ وَصَاعَ الْمُشْتَرِي" (¬1). وعلى هذا الخبر بناء مسائل الباب. وإذا فسد القبض فالمقبوض مضمون على الآخذ، وهل تبرأ ذمة الدافع عن حق زيد؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم، وهما مبنيان على القولين، فيما إذا باع نجوم الكتابة وقبضها المشتري، هل يعتق المكاتب؟ فإن قلنا: لا يبرأ، فعلى القابض رد المقبوض إلى الدافع. ولو قال زيد: اذهب إليه واقبضه لي، ثم اقبضه منى لنفسك بذلك الكيل، أو قال: احضر معي لأقبضه لنفسي، ثم تأخذه أنت بذلك الكيل ففعل، فقبضه لزيد في المسألة الأولى، وقبض زيد لنفسه في الصورة الثانية صحيح، وتبرأ ذمة الدافع عن حقه، والقبض الآخر فاسد، والمقبوض مضمون عليه، وفي قبضه لنفسه في الصورة ¬
الأولى وجه آخر: أنه صحيح، وسنذكره في نظائره، ويؤيده أنه لو كان المبيع في يد المشتري عند البيع صح قبضه لنفسه على تفصيل سيأتي -إن شاء الله تعالى- في "الرهن" فإن حجة الإسلام ذكر طرفاً منه هناك. ولو اكتال زيد وقبضه لنفسه، ثم كاله على مشتريه وأقبضه، فقد جرى الصَّاعَان وصح القبضان، ثم إن كان وقع في الكَيْل الثَّاني زيادة أو نقصان، ينظر إن كان قدر ما يتفق بين الكيلين، فالزيادة لزيد والنقصان عليه ولا رجوع له، وإن كان كثيراً تبيّن أن في الكيل الأول غلطاً أو تغليطاً فيرد زيد الزيادة، ويرجع بالنقصان. ولو أن زيداً لما اكتاله لنفسه لم يخرجه من المكيال وسلّمه كذلك إلى مشتريه فوجهان: أحدهما: أنه لا يصح القبض الثَّاني، حتى يخرجه ويبتدئ كيلاً. وأظهرهما عند الأكثرين: أن استدامته في المكيال كابتداء الكيل، وهذه الصورة كما تجري في دَيْني السلم تجري أيضاً فيما إذا كان أحدهما مستحقاً بالسلم، والآخر بِقَرْض أو إتلاف. ونختم شرح الفصل بكلامين في شرح لفظ الكتاب: أحدهما: قوله: "فتمام القبض فيه بالنقل والكيل"، لفظ التمام إنما كان يحسن أن لو اقتصر على ذكر الكيل ليكون ذلك إشارة إلى النقل الكافي، فما سبق غير كافٍ هاهنا، بل لا بد من تتمة له وهو الكيل، أما إذا وقع التعرض للأمرين جميعاً، فلفظ التمام مستغنى عنه. والثاني: قوله: "فلو اشترى مكايلة وباع مكايلة"، يمكن تنزيله على صورة السلم، ويمكن أن يكون شراء المعين وبيعه مراداً، ولكن البيع حينئذ يقع بعد ما اكتاله لنفسه، وإلاَّ فهو باطل لكونه قبل القبض، وظاهر قوله: "فلا بد من كيل جديد"، يوافق الوجه الذاهب إلى أن استدامته في المكيال غير كافية. وقوله: "ولا تكفي التخلية"، يجوز إعلامه بالحاء والميم والواو لما رواه حرملة. وقوله: "يحصل انتقال الضمان بالتخلية" بالألف. فرع: مؤنة الكيل الذي يفتقر إليه القبض على البائع، كمؤنة إحضار المبيع الغائب، ومؤنة وزن الثمن على المشتري لتوقف التسليم عليه، ومؤنة نقد الثمن هل هي على البائع أو المشتري، وحكى صاحب "الحاوي" فيه وجهين (¬1). ¬
قال الغزالي: وَلَيْسَ لِأَحَدٍ (و) أَنْ يَقْبِضَ لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ فَيَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ، إلاَّ الوَالِدَ يَقْبِضُ لِوَلدِهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَلنَفْسِهِ مِنْ وَلَدِهِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ في طَرَفَي البَيْعِ. قال الرافعي: للمشتري أن يوكل بالقبض، كما له أن يوكل بالعقد، وكذا للبائع أن يوكل بالإقباض، ويعتبر في ذلك أمران: أحدهما: أن لا يوكل المشتري من يده يد البائع كعبده ومُسْتَولدته ولا بأس بتوكيل ابنه وأبيه ومُكَاتبه، وفي توكيل عبده المأذون في التِّجارة وجهان: أصحهما: أنه لا يجوز. ولو قال للبائع: وَكِّل من يقبض لي منك ففعل جاز، ويكون وكيل المشتري، وكذا لو وكل البائع بأن يأمر من يشتري منه للموكل. والثاني: ألاَّ يكون القابض والمُقْبِض واحداً، فلا يجوز أن يوكل البائع رجلاً بالإقْباض وَبِوِكالة المشتري بالقبض كما لا يجوز أن يوكله هذا بالبيع، وذاك بالشراء ليتولى الطرفين. ولو كان عليه طعام أو غيره من سلم أو غيره، فدفع إلى المستحق دراهم، وقال: أشتر بها مثل ما تستحقه واقبضه لي ثم اقبضه لنفسك، ففعل صَحَّ الشراء والقبض للموكل، ولا يصح قبضه لنفسه لاتحاد القابض والمقبض، وامتناع كونه وكيلاً لغيره في حق نفسه، هذا هو المشهور. وحكى المسعودي وجهاً: أنه يصح قبضه لنفسه، وإنما المُمْتنع أن يقبض من نفسه لغيره، ولو قال: اشتر بهذه الدَّراهم لي واقبضه لنفسك، ففعل صحَّ الشراء ولم يصح قبضه لنفسه؛ لأن حق الإنسان لا يتمكن الغير من قبضه لنفسه، ويكون المقبوض مضموناً عليه، وهل تبرأ ذمة الدافع عن حق الموكل، فيه ما مر من الوجهين. ولو قال: اشتر لنفسك، فالتوكيل فاسد، إذ كيف يشتري بمال الغير لنفسه، وتكون الدراهم أمانة في يده؛ لأنه لم يقبضها ليمتلكها، فإن اشترى نظر إن اشترى في الذِّمة وقع عنه، وأذى الثمن من ماله، وإن اشترى بعينها فهو باطل، وذكر ابن سُرَيْجٍ وجهاً: أنه صحيح. ولو أذن لمستحق الحِنْطة أن يكتال من الصُّبْرة حقه، ففيه وجهان: أصحهما: أنه لا يجوز؛ لأن الكيل أحد رُكْني القبض، وقد صار نائباً فيه من جهة البائع متأصلاً لنفسه. والثانى: يجوز؛ لأن المقصود منه معرفة المقدار والمقبض هو البائع. ويستثنى عن الشرط الثاني ما إذا اشترى الأب لابنه الصغير من مال نفسه، أو
لنفسه من مال ابنه الصغير، فإنه يتولى طرفي القبض كما يتولى طرفي البيع، وهل يحتاج إلى النقل والتَّحويل في المنقول؟ روى القاضي الماوردي فيه وجهين: والأظهر: اعتباره كما يعتبر الكيل إذا باع بالكيل. وقوله في الكتاب: "وليس لأحد أن يقبض لنفسه" يجوز إعلامه بالواو لما رواه المسعودي، ثم هذا اللفظ غير مُجْرى على إطلاقه لما ستعرفه -إن شاء الله تعالى- فيما إذا كان المبيع في يد المشتري. وقوله: "إلاَّ الوالد يقبض لولده من نفسه، استثناء منقطع، وإلاَّ فهو غير داخل في قبض الإنسان لنفسه من نفسه، هذا تمام الكلام في صورة القبض. وينبغي أن نتذكر الآن مَا مَرَّ أن إِتْلاف المشتري المبيع (¬1) قبض، وإنْ لم توجد فيه هذه الصورة. وقبض الجزء الشَّائع إنما يحصل بتسليم الجَمِيع، ويكون ما عدا المبيع أمانة في يده (¬2)، ولو طلب القسمة قبل القبض. قال في "التتمة": يجاب إليه. أما إذا جعلنا القِسْمَة إفرازاً فظاهر. أما إذا جعلناها بيعاً، فإن الرِّضا غير معتبر فيه؛ لأن الشَّرِيك يجبر عليه، وإذا لم يعتبر الرِّضا جاز أن لا يعتبر القبض كما في الشّفْعة. -والله أعلم-. قال الغزالي: وَأَمَّا وُجُوبُ التَّسْلِيم يَعُمُّ الطَّرَفَيْنِ وَالبَدَاءَةُ بِالبَائِعِ (ح م) فِي قَوْلٍ، وَبِالمُشْتَرِي في قَوْلٍ، وَيَتَسَاوَيَانِ (م ح) فِي أَعْدَلِ الأَقْوَالِ فمنِ ابْتَدَأَ أَجْبَرَ صَاحِبَهُ، فَإِنْ سَلَّم البَائِعُ طَالَبَ المُشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ مِنْ سَاعَتِهِ، فَإِنْ كَانَ مَالُهُ غَائِباً أَشْهَدَ عَلَى وَقْفِ مَالِهِ أَيْ حَجَرَ عَلَيْهِ (و)، فَإِنْ وَفَّى أَطْلَقَ الوَقْفَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَهُوَ مُفْلِسٌ، وَالبَائِعُ أَحَقُّ (ح) بِمَتَاعهِ هَذَا لَفْظُ الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه-، وَهَذَا حَجْرٌ سَبَبُهُ مَسِيسُ الحَاجَةِ إِلَيْهِ خِيفَةَ فَوَاتِ أَمْوَالِهِ بَتصَرُّفِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ امْتِنَاعِ الفَسْخُ بالفَلْسِ، وَقِيلَ بِإنْكارِ الحَجْرِ لَكنَّهُ خِلاَفُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه-. ¬
قال الرافعي: الأمر الثالث: وجوب لتسليم. لا شك أن على كل واحد من المُتَبايعين تَسْليم العوض الذي استحقه الآخر، لكن لو اختلفا فقال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن، وقال المشتري: لا أؤدي الثَّمن حتى أقبض المبيع، ففيه أربعة أقوال: أحدها: أن الحاكم يجبرهما على التَّسْليم، فيأمر كل واحد منهما بإحضار ما عليه فإذا أحضرا سلم الثمن إلى البائع والمبيع إلى المشتري لا يضره بأيهما بدأ ويأمرهما بالوضع عند عدل ليفعل العدل ذلك، ووجهه أن كل واحد منهما يستحق قبض ما عند الآخر، فلا سبيل إلى تكليف الإِبْقَاء، فيؤمر بِإبْقَائه كما لو كان لكل واحد منهما وَدِيْعَة عند الآخر وتنازعا هكذا. والثاني: أنه لا يجبر واحداً منهما، ولكن يمنعهما من التَّخاصم، فإذا سلم أحدهما ما عليه أجبر الآخر، ووجهه أن على كل واحد إيفاء واسْتِيفاء، ولا سبيل إلى تكليف الإيفاء قبل الاستيفاء. والثالث، وبه قال مالك وأبو حنيفة: أنه يجبر المشتري على تسليم الثمن أَوَّلا؛ لأن حقه متعين في المبيع، وحق البائع غير متعين في الثمن، فيؤمر بِالتَّعيين. والرابع: وبه قال أحمد، وهو الأصح: يُجْبر البائع على تسليم المَبِيع أولاً؛ لأنه لا يخاف هلاك الثمن، فملكه مستقر فيه وتصرفه فيه بالحِوَالة والاعْتِياض نافذ، وملك المشتري في المبيع غير مستقر، فعلى البائع التَّسْليم ليستقر. وفي المسألة طريقة أخرى وهي: القَطْع بالقول الرَّابع، وحمل الأول والثَّاني على حكاية مذهب الغير، وما روي عن نصِّه في "الأم" واستغربه. وأما الثَّالث: فهو من تخريج بعضهم، وليس منصوصاً عليه. واختار الشَّيْخ أبو حامد هذه الطَّريقة، ومنقول المزني في "المختصر" يمكن تنزيله على القول الرابع، وبه قال الأكثرون، ويمكن تنزيله على الأَوَّل وبه قال المسعودي، وهذا كله فيما إذا كان الثَّمن في الذِّمة. فإن كان معيناً سقط القول الثَّالث. سقط القول الثالث (¬1) وإن تبايعا عرضا بعرض سقط القول الرَّابع أيضاً. ¬
وبقي قولان: أحدهما: أنهما يُجْبران. والثاني: لا يُجْبران، ويشبه أن يكون الأول أظهر، وبه قال أحمد، وهو الذي أورده في "الشامل". التفريع: إن قلنا: يجبر البائع على تسليم المبيع أولاً، أو قلنا: لا يجبر، ولكنه تبرع وابتدأ بالتَّسليم أجبر المشتري على تسليم الثَّمن في الحال، إن كان حاضراً في المجلس، وإلاَّ فللمشتري حالتان: إحداهما: أن يكون مُوسِرًا فإن كان ماله في البَلَد يُحجر عليه، إلى أن يسلم الثَّمن (¬1) كيلا يتصرّف في أملاكه بما يفوت حق البائع، وحكى صاحب الكتاب هاهنا وفي "الوسيط" وجهاً: أنه لا يحجر عليه، ويمهل إلى أن يأتي بالثمن، ولم أر لغيره نقل هذا الوجه على هذا الإطلاق. فإن قلنا بالمذهب المشهور، ففيم يحجر عليه؟ قال عامة الأصحاب: يحجر عليه في المبيع وفي سائر أمواله. ومنهم من قال: لا يحجر عليه في سائر أمواله إن كان ماله وافياً بديونه، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب" وعلى هذا فهل يدخل المبيع في الاحتساب؟ فيه وجهان: ¬
أشبههما: أنه يدخل (¬1). وإن كان ماله غائباً عن البلد، فينظر إن كان على مسافة القَصْر، فلا يكلف البائع الصّبر إلى إحضاره، وفيما يفعل؟ وجهان: أحدهما: أنه يباع في حقه، ويؤدي من ثمنه. والأظهر عند الأكثرين: أن له أن يفسخ البيع لتعذُّر تحصيل الثمن كما لو أفلس المشتري بالثمن، فإن فسخ فذاك، وإن صبر إلى الإحضار فالحجر على ما سبق. وحكى الإمام عن ابن سُرَيجٍ: أنه لا فسخ، ولكن يرد المبيع إلى البائع، ويحجر على المشتري ويمهل إلى الإحضار، وادعى في "الوسيط": أنه الصحيح. وإن كان دون مسافة القَصْر، فهو كما لو كان في البلد، أو كما لو كان على مسافة القَصْر فيه وجهان (¬2). الحالة الثانية: أن يكون معسراً، فهو مفلس والبائع أحق (¬3) بمتاعه [هذا هو الصحيح المنصوص]. وفيه وجه: أنه لا فسخ ولكن تباع السِّلْعة ويوفى من ثمنها حق البائع، فإن فضل شيء فهو للمشتري، والمنصوص الأول. وأما لفظ الكتاب: فقوله: "والبداءة بالبائع" معلّم بالميم والحاء، وكذا قوله: "ويتساويان"، وقوله: "وبالمشتري" بالألف، ويجوز أن يعلّم لفظ "الأقوال" بالواو إشْعَاراً بالطريقة النافية للخلاف. وقوله: "هذا لفظ الشافعي" -رضي الله عنه- ليس هو هو لكنه قريب منه، ولفظه في "المختصر"؛ فإن غاب ماله أشهد على وقف ماله، وأضهد على وقف السلعة، فإذا دفع أطلق عنه الوقف، فإن لم يكن له مال فهو مفلس والبائع أحق بسلعته. واعلم: أن هذا النص ظاهر في أنه إذا حجر عليه يحجر في السِّلْعة المبيعة، وفي ¬
سائر الأموال سواء كانت وافية بالدُّيون أو لم تكن، ويمكن الاحتجاج به لما نقله الإمام عن ابن سريج، وهو أنه لا فسخ عند الغيبة، فإنه لم يثبت في الغَيْبة إلا الحجر، وخص أحقيته بالمتاع بحالة الإفلاس. وقوله: "وذلك عند امتناع الفسخ بالفلس"، أراد به أنَّه لا حَجْر عند إمكان الفسخ بالفلس، وادعى في "الوسيط" الوفاق فيه، لكن ذكرنا أن من أثبت الفسخ عند الغيبة قال: إن اختار الصَّبر إلى الإحضار يحجر عليه، وجميع ما ذكرنا من الأقوال، والتفريع جار فيما إذا اختلف المكرى والمكتري في البَدَاءَة بالتسليم بلا فرق، ثم هاهنا أَمْرٌ مُهِمٌ لا بد من ذكره، وهو: أن طّائفة توهَّمت أن الخلاف في البَدَاءة بالتسليم خلاف في أن البائع هل له حق الحبس أم لا؟ إن قلنا: البداءة بالبائع، فليس له حبس المبيع إلى اسْتِيفَاء الثمن وإلا فله ذلك، ونازع الأكثرون فيه، وقالوا: هذا الخلاف مفروض فيما إذا كان نزاعهما في مجرد البَدَاءَة، وكان كل واحد منهما يبذل ما عليه ولا يخاف فوت ما عند صاحبه، فأما إذا لم يبذل البائع المبيع، وأراد حبسه خوفاَ من تعذر تحصيل الثمن فله ذلك بِلاَ خِلاف، وكذلك للمشتري حق حبس الثمن خوفاً من تعذُّر تحصيل المثمن، نص على ذلك الشيخ أبو حامد، وأقضى القضاة الماوردي -رحمهما الله-. والمُثْبِتُون من المتأخرين قالوا: إنما يحبس البائع المبيع إذا كان الثمن حالاً، أما المؤجل فليس له حبسه لاستيفائه لرضاه بتأخيره، ولو لم يتفق التسليم حتى حلّ الأجل فلا حبس أيضاً، ولو تبرع بالتسليم لم يكن له رده إلى حبسه، وكذا لَوْ أعاره من المُشْتَري في أَصَحِّ الوجهين (¬1)، ولو أودعه إياه فله ذلك، ولو صالح من الثمن على مال، لم يسقط حقّ الحَبْس لاستيفاء العوض. ولو اشترى بوكالة اثنين شيئاً، ووفى نصف الثمن عن أحدهما لم يجب على البائع تسليم النصف بناءً على أن الاعتبار بالعاقد. ولو باع بوكالة اثنين، فإذا أخذ نصيب أحدهما من الثمن فعليه تسليم النصف، هكذا ذكره في "التهذيب"، وفيه كلامان: أحدهما: أن العبد المشترك بين الرجلين إذا باعه مالكاه، ففي انفراد أحدهما يأخذ نصيبه من الثمن وجهان، وكان أخذ الوكيل لأحدهما مبنياً على ثبوت الانفراد لو باعا بأنفسهما. الثاني: أنا إذا قلنا: إن الاعتبار في تعدد الصَّفْقة واتحادها بالعاقد، فينبغي أن ¬
يكون تَسْليم النصف على الخلاف فيما إذا أخذ البائع بعض الثمن، هل عليه تسليم قسطه من المبيع؟ وفيه وجهان ذكرناهما في "باب التفريق"، -والله أعلم-. هذا وليعلم المُطَّلع على هذا السِّفْر الجليل أنه ضاق المُقَام في هذا الجزء عن أن ندون به باقْي كتاب البيوع من شرح العزيز على متن "الوجيز" للإمام الأمجد والعلامة الأوحد الإمام الرافعي -رحمه الله رحمة واسعة ولقد ألجأتنا الضَّرورة حتى وقفنا على موقف كان لا يحسن الوقوف عليه، فإلى هنا نختم هذا الجزء، ونفتتح الجزء التالي -إن شاء الله تعالى- بقول المصنف: النظر الرابع في موجب ألفاظ الكتاب المطلقة، وتأثيرها باقتران العرف -والله ولي التوفيق-.
الرابع من الكتاب في موجب الألفاظ المطلقة وتأثيرها باقتران العرف
[النظر الرابع] قال الغزالي: النَّظْرُ الرَّابعُ مِنَ الكِتَابِ فِي مُوجِبِ الأَلْفَاظِ المُطْلَقَةِ وَتَأثِيرِهَا بِاقْتِرَانِ العُرْفِ، وَهِيَ ثَلاثةُ أَقْسَامٍ: الأَوَّلُ: مَا يُطْلَقُ فِي العَقْدِ، فَمَن اشْترَى شَيْئاً بِمَائَةٍ فَقَالَ لِغَيْرِهِ: وَلَّيْتُكَ هَذَا العَقْدَ انْتقلَ اَنتَقَلَ المِلْكُ إِلَيْهِ بِالمَائَةِ، وَسَلَّمَ الزَّوَائِدَ للأَوَّلِ (و)، وَتَتَجَدَّدُ الشُّفْعَةُ بِجَرَيَانِ هَذَا البَيْعِ (و)، وَلَوْ حَطَّ عَنِ المِائَةِ لَحِقَ الحَطُّ (و) المُشْتَرِيَ الثَّانِي؛ لأَنَّهُ فِي حَقِّ الثَّمَنِ كَالبِنَاءِ. قال الرافعي: عرفت في أول البيع أن كلام هذا النظر فيما يقع والألفاظ المتأثرة بالقرائن المنضمة إليها تنقسم إلى: راجعة إلى مطلق العقد، وإلى راجعة إلى الثمن خاصة. أما القسم الأول فمقصوده بيان لفظين يشتمل الفصل على أحدهما، وهي التولية (¬1). والتولية: أن يشتري شيئاً ثم يقول لغيره: ولَّيتك هذا العقد فيجوز، ويشترط قبوله في المجلس على قاعدة التَّخَاطب بأن يقول: قبلت أو تَولَّيت، ويلزمه مثل الثمن الأول جنساً وقدراً ووصفاً، ولا يشترط ذكره إذا علماه؛ فإنْ لم يعلمه المشتري أعلمه أولاً ثم ولاه العقد، وهذا العَقْد بيع يشترط فيه القدرة على التَّسليم والتقابض إذا كان صرفاً، وسائر الشروط، ولا يجوز قبل قبض المبيع على ما مر في النَّظَر الثَّالث. والزوائد المُنْفَصِلة قبل التَّوْلِيَة، تبقى للمولِّي، ولو كان المبيع شِقْصاً مَشْفُوعاً، وعفى الشَّفيع، تجددت الشُّفْعة بالتَّوْليَة. ولو حظ البائع بعد التَّولية بعض الثَّمن، انحط عن المولَّى أيضاً، ولو حط (¬2) الكل فكذلك؛ لأنه وإن كان بيعاً جديداً فخاصيَّته وفائدته التنزيل على الثمن الأول. وعن القاضي حسين: أن الوجه التردد في جميع هذه الأحكام فعلى رأي يجعل ¬
المولي نائباً عن المولى فتكون الزوائد للمولِّي، ولا تتجدد الشُّفْعة ويلحق الحط المولى وعلى رأي تعكس هذه الأَحْكَام، وتقول: هي بيع جديد، وظاهر المَذْهب الفرق بين الزَّوائد والشّفْعَة وبين الحَطّ، وعلى هذا لو حط البعض قبل التَّوْلية لم تَجُز التَّولية إلاَّ بالباقي، ولو حط الكُل لم تصح التَّوْلية. ومن شرط التولية: أن يكون الثمن مثلياً ليأخذ المولى مثل ما بذل، فلو اشتراه بعرض لم يجز فيه التولية. قال في "التتمة": إلاَّ إذا انتقل ذلك العرض من البائع إلى إنسان فولاّه العقد. قال: ولو اشتراه بعرض وقال: قال عليَّ بكذا وقد ولَّيتك العقد بما قام عليَّ، أو أرادت المرأة عقد التَّولية على صَدَاقها بلفظ القيام، أو أراد الرجل التولية على ما أخذه من عوض الخُلُع، ففي جميع ذلك وجهان. ولو أخبر المولِّي عَمَّا اشترى به وكذب، فمنهم من قال: هو كالكذب في عقد المُرَابَحَة (¬1) وسيأتي إن شاء الله ومنهم من قال: يُحطّ قدر الخِيَانة قولاً واحداً. قال الغزالي: ولَوْ قَالَ: أَشْرَكْتُكَ فِي هَذَا العَقْدِ علَى المُنَاصَفَةِ كَانَ توليةً فِي نِصْفِ المَبِيعِ، وَلَو لَمْ يَذْكُرِ المُنَاصَفَةَ فَالأَصَحُّ التَّنْزِيلُ علَى الشَّطْرِ. قال الرافعي: اللفظة الثَّانية: الاشتراك وهو أَنْ يشتري شيئاً ثم يشرك غيره فيه ليصير بعضه له بقسطه من الثَّمَن، ثم إن نص على المُنَاصَفَة أو غيرها فذاك، وإنْ أطلق الاشتراك فوجهان: أحدهما: أنه يفسد العقد للجهل بمقدار العوض كما لو قال: بعتك بمائة ذهباً أو فضة. والثَّاني: يصح ويحمل على المُنَاصَفَة كما لو أقر بشيء لزيد وعمرو يحمل على المناصفة. والأول: هو الذي أورده في "التهذيب" والثاني: أصح عند صاحب الكتاب وهو ما أورده في "التتمة" والإشراك في البعض كالتولية في الكُلِّ في الأحكام التي ذكرناها (¬2). ¬
قال الغزالي: القِسْمُ الثَّانِي مَا يُطْلَقُ في الثَّمَن مِنْ أَلْفَاظِ المُرَابَحَةِ، فَإذَا قَالَ: بِعْتُ بِمَا اشْتَرَيْتُ وَربح ده يازده وَكَانَ قَدْ اشْتَرَى بِمَائَةٍ اسْتَحَقَّ مِائَةً وَعَشَرَةً، وَلَوْ قَال بحط ده يازده وَكَانَ قَدِ اشتَرَى بِمَائَةٍ وَعَشَرَةٍ اسْتَحَقَّ مِائَةٌ (و). قال الرَّافِعِيُّ: بيع المُرَابَحَة جائز من غير كراهة، وهو عقد يبنى الثمن فيه على ثمن المبيع الأول مع زيادة مثل أن يشتري شيئاً بمائة، ثم يقول لغيره: بِعْت هذا بما اشتريته وربح ده يازده أو بربح درهم لكل عشرة، أو في كل عشرة ويجوز أن يَضمَّ إلى رأس المال شيئاً ثم يبيعه مُرَابحة، مثل أن يقول: اشتريته بمائة، وقد بعتكه بمائتين وربح ده يازده وكأنه قال: بعت بمائتين وعشرين. وكما يجوز البيع مرابحة يجوز مُحَاطة مثل أن يقول: بعت ما اشتريت بحطّ ده يازده وفي القدر المَحْطُوط وجهان: أحدهما: أنه يحطّ من كل عشرة واحد [كما زيد في المُرَابحة على كل عشرة واحد] (¬1). وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب أنه يحط من كل أحد عشر واحد؛ لأن الربح في المُرَابحة جزء من أحد عشر، فليكن كذلك الحَطّ في المُحَاطة وليس في حط واحد من العشرة رعاية لنسبة ده يازده. فإذا كان قد اشترى بماءة فالثمن على الوجه الأول تسعون، وعلى الثَّاني تسعون وعشرة أجزاء في أحد عشر جزءاً من درهم حطّا لتسعة من تسعة وتسعين ولجزء من أحد عشر جزءاً من الدرهم الباقي. ولو كان قد اشترى بمائة وعشرة فالثمن الآن على الوجه الأول تسعة وتسعون، وعلى الثَّاني مائة وعلى هذا القِيَاس، وصوَّر كثير من العراقيين وغيرهم المسألة فيما إذا قال: بعت بما اشتريت بحط درهم من كل عشرة وأوردوا فيها الوجهين. قال إمام الحرمين: وهو غلط فإن في هذه الصّيغة تصريحاً بحطّ واحد من كل عشرة فلا مَعْنَى للتَّردد فيه وإنما موضع التردد لفظ ده يازده وهذا اعتراض بَيِّنٌ. وذكر القاضي الماوردي وغيره: أنه إذا قال بحط درهم من كل عشرة فالمَحْطُوط واحد من عشرة، ولو قال بحط درهم لكل عشرة فالمحطوط واحد من أحد عشر. قال الغزالي: وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ بِمَا قَامَ عَلَيَّ اسْتَحَقَّ مَعَ الثَّمَنِ مَا بَذَلَهُ مِنْ أُجْرَةِ ¬
الدَّلاَّلِ وَالكَّيَّالِ وَكِرَاءِ البَيْتِ، وَلاَ يَسْتَحِقُّ مَا أَنْفَقَهُ في عَلَفِ الدَّابَّةِ، وَلاَ أُجْرَةَ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ يَعْمَلُ بِنَفْسِهِ أَوْ كَانَ البَيْتُ مِلْكَهُ لأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ خَرْجِ التِّجَارَةِ. قال الرَّافِعِيُّ: بيع المُرَابحة يفرض بعبارات أكثرها دوراناً على الألسن ثلاث: إحداها: بعت بما اشتريت، أو بما بذلت من الثمن، وربح كذا. والثانية: بعت بما قام عليّ وربح كذا، ويختلف حكم العبارتين في الدَّاخل تحتهما، وفيما يجب الإخبار عنه كما سنفصله من بعد، فإذا قال: بعت بما اشتريت لم يدخل فيه سوى الثمن، وإذا قال: بما قام عليّ، دخل فيه مع الثمن أجرة الكَيّال والدَّلاَّل والجَمَّال والحارس والقَصّار والدّفاء والصَّبَّاغ وقيمة الصَّيغ وأُجْرة الختَان وتَطْبِين الدَّار، وسائر المؤونات التي تلتزم للاسترباح وأُلْحِقَ بها كِرَاءُ البيت الذي فيه المتاع. قال الإمام: لأن التَّربص ركن في التَّخاير وانتظار الأَسْعار. وأما المؤونات التي يقصد بها اسْتبْقاء الملك دون الاسْتِرْباح كنفقة العبد وكسوته وعَلَف الدَّابة فلا تدخل فيه، ويقع في ذلك مقابلة المَنَافِع والفوائد المُسْتَوْفاة من المبيع. وفي "التتمة" حكاية وجه: أنها تدخل أيضاً، والمشهور الأول، نعم العلف الزائد للتَّسمين يدخل فيه ذكره القاضي حسين وغيره، وأُجْرة الطَّبيب إن اشتراه مريضاً كأُجرة القَصَّار ونحوها لزياد قيمته بزوال المرض، فإن حدث المرض في يده فهي كالنَّفقة وفي مُؤْنة السَّائس تردد عند الإمام. والأظهر: إلحاقها بالعَلَف. ولو قصر الثوب بنفسه أو كَالَ أو حَمَلَ أو طَيَّن الدار بنفسه لم تدخل الأُجرة فيه؛ لأن السّلْعة لا تعد قَائمة عليه إلاَّ بما بذل، وكذا لو كان البَيْت ملكه، وكذا لو تطوَّع متطوع بالعمل أو بإعارة البيت فإن أراد استدراك ذلك فسبيله أَنْ يقول: اشتريت، أو قام علي بكذا، وعملت فيه ما أجرته كذا، وقد بعتك بهما وربح كذا. والعبارة الثالثة: أن يقول: بعتك برأس المال وربح كذا، فالمذهب الظَّاهر أنه كما لو قال بما اشتريت، لأن السَّابق إلى الأفهام مِنْ رأس المال الثَّمن، وعن القاضي أبي الطَّيب أنه كما لو قال بعت بما قام عليّ وهو اختيار ابن الصَّبّاغ. وذكر صاحب "التتمة" أن المَكْس (¬1) الذي يأخذه السّلطان يدخل في لفظة القيام، وإن في دخول الفداء إذا جنى العبد ففداه وجهين. ¬
والذي أورده الأكثرون: أنه لا يدخل فداء الجناية، ولا مَا أَعطاه واسترد به المَغْصُوب في شيء من الألفاظ والعبارات الثَّلاث (¬1) تجري في المُحَاطة جريانها في المُرَابحة. قال الغزالي: فَلَوْ كَانَ مِقْدَارُ مَا اشْتَرَى بِهِ أَوْ قَامَ عَلَيْهِ مَجْهُولاً للمُشْتَرِي الثَّانى عِنْدَ العَقْدِ بَطُلَ (و) عَقْدُهُ. قال الرَّافِعِيُّ: ينبغي أن يكون رأس المال أو ما قامت به السِّلعة عليه معلوماً عند المتبايعين في بيع المُرَابحة، فإن تبايعا وأحدهما جاهل به، ففي صحة العقد (¬2) وجهان: أصحهما: وهو المذكور في الكتاب أنه لا يصحُّ للجهل بالثَّمن كما في غير المُرَابحة، وعلى هذا فلو أزيلت الجهالة في المجلس لم ينقلب العقد صحيحاً، وفيه وجه أنه ينقلب صحيحاً، وبه قال أبو حنيفة. والثاني: أنه يصحّ؛ لأن الثَّمن فيه مبني على الثَّمَن في العقد الأول، والرجوع إليه سهل فصار كالشَّفِيع بطلب الشُّفعة قبل الإحَاطة بمبلغ الثَّمَن يجوز لسهولة معرفته، وعلى هذا ففي اشْتراط إزالة الجَهَالة في المجلس وجهان. ومهما كان الثمن دراهم مُعَينة غير معلومة الوزن، ففي جواز بيعه مرابعة الخلاف المذكور. والأصح: المنع حتى يعرف. وإذا تأملت ما ذكرنا تبيَّن لك أن قوله للمشتري الثاني ليس لتخصيص الحكم بالمشتري، بل لو كان مجهولاً للبائع لكان الحكم كذلك. قال الغزالي: وَيَجِبُ (ح) عَلَى البَائِعِ حِفْظُ الأَمَانَةِ بِالصِّدْقِ فِي قَدْرِ مَا اشْتَرِى بِهِ وَبالإخْبَارِ عَمَّا طَرَأَ فِي يَدِهِ مِن عَيْبٍ مُنْقِصٍ أَوْ جِنَايَةٍ (ح)، وَلاَ يَلْزمُ الإِخْبَارُ عَنِ الغَبْنِ (و) فِي العَقْدِ، وَلاَ عَنِ البَائِعِ وَإِنْ كَانَ وَلَدَهُ (ح و)، وَيَجِبُ ذِكْرُ تَأَجِيلِ الثَّمَنِ. قال الرَّافعِيُّ: بيع المُرَابَحَة مبني على الأمانة لاعتماد المُشْترى نظر البائع ¬
واسْتِقْصَاه ورضاه لنفسه ما رضيه البائع مع زيادة يَبْذلها، فعلى البائع الصّدق في الإخبار عما اشترى به وعما قام به عليه إن كان يبيع بلفظ القيام. ولو اشترى بمائة وخرج عن مِلْكه، ثم اشتراه بخمسين فرأس ماله خمسون، ولا يجوز ضَمّ الثمن الأول إليه. ولو اشتراه بمائة وباعه بخمسين، ثم اشتراه ثانياً بمائة فرأس ماله مائة، ولا يجوز أنْ يخبر بمائة وخمسين من قبل خسارته خمسين. ولو اشتراه بمائة وباعه بمائة وخمسين، ثم اشتراه بمائة فإنْ كان يبيعه مُرابحة بلفظ رأس المال، وبلفظ ما اشتريت أخبر بمائة، ولا يلزمه أن يحطّ منه ربح البيع الأول، كما لم يجز في الصورة الأولى ضم الخُسْران إلى المائة، وعن أبي حنيفة وأحمد أنه يجب حط ربح البَيْع الأول، وإن باعه بلفظ "قام عَلَيَّ" فوجهان: أحدهما ويحكى عن ابن سُرَيْجٍ: أنه لا يخبر إلا بخمسين، فإنَّ أهل العرف يعدون السِّلعة والحالة هذه قائمة عليه بذلك. وأصحهما: أنه يخبر بمائة، لأن المِلْك الأخير قائم عليه بمائة. ويكره أن يواطئ وكيله ببيع ما اشتراه منه، ثم يشتريه بأكثر ليخبر به في المُرَابَحَة ولو فعل. قال ابن الصَّبّاغ: يثبت للمشتري الخيار وخالفه غيره. ولو اشترى سلعة ثم قبل لزوم العقد ألحقا بالثمن زيادة أو نُقْصاناً، وصححناه، فالثمن ما استقر عليه العقد، وإن حطّ عنه بعض الثَّمن بعد لزوم العقد وباع بلفظ "ما اشتريت" لم يلزمه حط المحطوط عنه، خلافاً لأبي حنيفة، وإنْ باعه بلفظ "قام عليّ" لم يخبر إلاَّ بالباقي. فإن حط الكل، لم يجز بَيْعه مُرَابَحَة بهذا اللفظ، ولو حط عنه بعض الثمن بعد جريان المُرَابحة لم يلحق الحَطَّ المشترى منه. وعن الشيخ أبي محمد وجه: أنه يلحق كما في التَّوْلِيَة والإِشْرَاك. ولو اشترى شيئاً بعرض وباعه مُرَابَحَة بلفظ الشراء أو بلفظ القيام، ذكر أنه اشتراه بعرض قيمته كذا، ولا يقتصر على ذكر القيمة، لأن البائع بالعرض يشدد فوق ما يشدد البائع بالنَّقْد. ولو اشتراه بدين على البائع، فإن كان مليئاً غير مماطل لم يجب الإخبار عنه وإن كان مماطلاً وجب لأنه يشتريه بالزيادة للتَّخلُّص من التَّقَاضي. ويجوز أن يبيع مُرَابَحَة بعض الشيء الَّذي اشتراه ويذكر قسطه من الثمن، وكذا لو اشترى قَفِيزي حِنْطة ونحوها، وباع إحداهما مُرَابَحَة. ولو اشترى عبدين أو ثوبين وأراد بيع أحدهما مُرَابَحة، فسبيله أن يعرف قيمة كل واحد منهما يوم الشراء، ويوزع الثمن على القيمتين، ثم يبيعه بحصَّته من الثمن.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز بيع أحدهما مُرَابحة؛ لأن التَّوزيع بالقيمة تَخْمين. ثم في الفَصْل صور: إحداهما: يجب الإخبار عن العيوب الطَّارئة في يده (¬1) سواء حدث العيب بآفة سماوية أو بجنايته أو بجناية أجنبي؛ لأن المشتري يبني العقد على العقد الأول، ويتوهم بقاء المبيع على ما كان، ولا فرق بين ما ينقص العَيْن وما ينقص القيمة كما في الرد، وعن أبي حنيفة أنه لا يجب الإخبار عن العَيْب الحادث بالآفة السماوية. ولو اطَّلع على عيب قديم واختار إمساكه ذكره في بيع المُرَابَحَة، ولو تعذَّر رده لعيب حادث وأخذ الأَرْش فإن باعه مُرَابحة بلفظ "قام عليَّ" حطّ الأرش وإنْ باعه بلفظ ما اشتريت ذكر ما جرى به العقد، ويجب أن يذكر أيضاً العيب واسترداد الأرش فإن الأَرْش المستردّ جزء من الثمن. ولو أخذ أَرْش الجناية ثم باعه، فإنْ باع بلفظ "ما اشتريت" ذكر الثمن، وأخبر بالجناية، وإن باع بلفظ "قام عليَّ" فوجهان: أحدهما: أنه نَازِل منزلة الكسب والزيادات والمبيع قائم عليه بِتَمَام الثمن. وأصحهما: أنه يحط الأَرْش من الثمن كَأَرْش العيب، والمراد من الأَرْش هاهنا قدر النُّقْصَان لا المأخوذ بتمامة، فإذا قطعت يد العبد وقيمته مائة، فنقص منها ثلاثون يأخذ خمسين، ويحطّ من الثمن ثلاثين لا خمسين، وحكى الإمام وجهاً آخر: أنه يحط جميع المأخوذ من الثمن. ولو نقص من القيمة أكثر من الأَرْش المقدر حط ما أخذ من الثمن، وأخبر عن قيامه عليه بالباقي، وأنه نقص من قيمته كذا. الثانية: إذا كان قد اشتراه بَغَبْن، فهل يلزمه الإخبار عنه؟ فيه وجهان: أصحهما: عند الإمام وهو المذكور في الكتاب: أنه لا يلزم؛ لأنه باع ما اشترى كما اشترى. والثاني: يلزم، لأن المشتري منه اعتمد على نظره ويعتقد أنه لا يحتمل الغَبْن، فليخبره ليكون على بَصِيْرَة من أمره. وقضية كلام الأكثرين ترجيح هذا الوجه لأمرين: أحدهما: أنهم قالوا: لو اشتراه بَدِيْن من مماطل وجب الإخبار عنه، لأن الغالب ¬
أنه يشتري من مثله بالزيادة، وقد مرّ ذلك. والثَّاني: أنهم قالوا: لو اشترى من ابنه الطّفل وجب الإخبار عنه؛ لأن الغالب في مثله الزِّيادة في الثمن نظراً للطِّفل، واحترازاً عن التُّهْمة، فإذا وجب الإخبار عن ظَن الغَبْن؛ فلأنْ يجب عند تعيينه كان أولى، وإن اشتراه من ولده البالغ أَوْ من أبيه، فأصحّ الوجهين باتِّفاق الأئمة أنه لا يجب الإخبار عنه كما لو اشترى من زوجته أو مكاتبه، وفي "الشامل" ما يقتضي تردداً في المُكَاتب، وعند أبي حنيفة وأحمد إذا اشتراه من ابنه أو أبيه وجب الإخبار عنه. الثالثة: إذا اشتراه بثمن مؤجل وجب الإخبار عنه، لِلتَّفاوت الظاهر بين المؤجّل والمعجّل في المالية، وفي البيان حكاية وجه غريب أنه لا يجب التَّعرض له. الرَّابعة: لا يجب الإخبار عن وَطْء الثَّيِّب، ولا عن مهرها الذي تأخذه، ولا عن الزيادات المنفصلة كالولد واللبن والصّوف والثمرة، ولو كان حاملاً يوم الشراء، أوْ كان ضَرْعِها لبن أو على ظهرها صومه أو على النَّخْلة طلع فاستوفاها حط بقسطها من الثمن، وهذا في الحَمْل مَبْني على أنه يقابله قسط من الثمن. قال الغزالي: فَإِنْ كَذَبَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَفِي اسْتِحْقَاقِ حَطِّ قَدْرِ التَّفَاوُتِ قَوْلاَنِ، فإن قُلْنَا: لاَ يُحَطُّ فَلَهُ الخِيَارُ لِكَوْنِهِ مَظْلُوماً بِالتَّلْبِيسِ إلاَّ إِذَا كَانَ عَالِماً بِكَذِبِهِ، وَالأَصَحُّ أَنْ لاَ خِيَارَ لِلبَائِعِ إِنْ قُلْنَا: يُحَطُّ وَلاَ لِلْمُشْتَرِي. قال الرَّافِعِيُّ: إذا قال: اشتريته بمائة وباعه مُرَابَحَة، ثم بأن أنه اشتراه بتسعين إما وبإقراره أو بالبينة، فالبيع صحيح على المذهب، لأن غاية ما فيه التَّغْرِيرِ والتَّدْلِيس، وذاك لا يمنع صحة البيع كما لو رَوَّجَ عليه مَعِيباً، وعن رواية القاضي أبي حامد وغيره وجه: أنه لا يصح لكون الثمن مجهولاً عند العقد ويحكى هذا عن مالك. وإذا قلنا بظاهر المذهب، فلا يخلو كذبه في هذا الإخبار إما أن يكون خيانة أو غَلَطاً، أما في الحالة الأولى فقولان منصوصان في اخْتلاف العراقيين. أصحهما: وهو المنقول في "المختصر" وبه قال أحمد: أنا نحكم بانْحِطَاط الزيادة، وحصَّتُها من الربح لأنه تمليك باعتبار الثَّمَن الأول، فيحط الزَّائد عليه كما في الشّفعة (¬1). والثاني وبه قال أبو حنيفة: أنا لا نحكم لأنه سمي ثمناً معلوماً وعقد به العقد ¬
فليجب وإن كان مُلبساً. وأما في الحالة الثَّانية فالمنصوص القول الأول والثَّاني مخرج من مثله في الحالة الأولى. التفريع: إنْ حكمنا بالانْحِطَاط فهل للمشتري الخيار؟ نقل المُزَنِيُّ أنه، يثبت، وقال في اختلاف العراقيين: لا يثبت، فمن الأصحاب من قال: في المسألة قولان: أظهرهما: لأنه لا خيار له لأنه قد رضي بأكثر، فَأَوْلى أنْ يرضى بالأقل. والثاني وبه قال أبو حنيفة: أنه يثبت الخيار لأنه إنْ بان كذبه بالإقرار لم يؤمن كذبه ثانياً وثالثاً، وإنْ بان بالبَيِّنة فقد تخالف الظَّاهر والباطن، وأيضاً فقد يكون له غرض في الشِّرَاء بذلك المبلغ لتَحِلَّة قسم وإِنْقَاذ وَصِيّه ونحوهما، ومنهم مَنْ حمل النص الأول على ما إذا تبيَّن كذب البائع بالبَيِّنة، والثاني على ما إذا تبيَّن بإقراره، والفرق أنه إذا ظهر بالبيّنة خيانته لم تؤمن خيانته من وجه آخر، والإِقْرَار يشعر بالأمانة وبذل النُّصْح. والطريقة الأولى أظهر. فإن قلنا: له الخيار فأمسك بما يبقى بعد الحَطّ فهل للبائع الخِيَار فيه وجهان وقيل: قولان: إحداهما: نعم، لأنه لم يسلم له ما سماه في العقد. وأظهرهما: لا، إذ يبعد أن يصيرَ تَلْبِيسه أو غَلطه سباً لثبوت الخيار له. ومنهم من خَصَّ الوجهين بصورة الخيانة، وقطع بثبوت الخيار عند الغَلَط، فإن حكمنا بعدم الانْحِطَاط فللمشتري الخيار، لأن البائع قد غَرَّه إلاَّ أنْ يكون عالماً بكذب البائع، فيكون كما لو اشترى معيباً وهو عالم بعيبه، وإذا أثبت الخيار، فلو قال البائع: لا تفسح فإني أحطّ الزيادة عنك، ففي سقوط خياره وجهان، وجميع ما ذكرناه فيما إذا كان المَبِيع باقياً، أما إذا ظهر الحال بعد هلاك المبيع، فإن القاضي المَاوِرْدِيّ ذكر: أنه تَنْحط الخِيَانة، وحصَّتها من الربح قولاً واحداً، والظاهر جريان القَوْلين في الانحطاط، فإنْ قلنا بالانحطاط، فلا خيار للمشتري؛ لأن البائع قد لا يزيد القيمة، فالفسخ ورد القيمة يضر به. وأما البائع فإنْ لم يثبت له الخيار عند بقاء السِّلْعة، فكذلك هاهنا، وإن أثبتناه ثم ثبت هاهنا، كما لو وجد بالعبد عيباً، والثوب الذي هو عرضه تالف. وإن قُلْنا: بعدم الانْحِطَاط فهل للمشتري الفسخ، فيه وجهان: أظهرهما: كما لو عرف العيب بعد تلف المبيع، ولكن يرجع بقدر التَّفَاوت وحصّته من الرِّبْح، كما يرجع بأرْش العيب، وعن أبي حنيفة أنه لا يفسخ ولا يرجع بشيء.
ولو كان قد اشتراه بثمن مؤجل وحال، فلم يتبيّن كونه مؤجلاً لم يثبت الأجل في حق المشتري الثَّاني، ولكن له الخيار، وكذلك إذا ترك ذكر شيء آخر مِمَّا يجب ذكره. وقوله في الكتاب: فإن كذب في شيء من ذلك ففي استحقاق حَطّ قدر التَّفَاوت قولان، يقتضي إثبات الخلاف فيما إذا أخبر عن سلامة المبيع وكان معيباً أو عن حلول الثمن وكان مؤجلاً، كما لو أخبر عن القدر كاذباً، وقد صرح في "الوسيط" بذلك، فيما إذا لم يخبر عن العَيْب فضلاً عن أن يخبر عن السَّلامة كاذباً، ولكن لم أر لغير المُصَنَّف رحمه الله تعرضاً لذلك، فإن ثبت الخلاف فَالسَّبيل على قول الحَطّ النظر إلى القيمة وتقسيط الثَّمن عليها (¬1) والله أعلم. قال الغزالي: وَلَوْ كَذَبَ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ وَصَدَّقَهُ المُشْتَرِي، فَالأصَحُّ أَنْ لاَ تَلْحَقَهُ الزِّيَادة إِذ العَقْدُ لاَ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَلَكِنْ لِلبَائِعِ الخِيَارُ إِنْ صَدَّقَهُ المُشْتَرِي، وَإِنْ كَذَّبُه فَلاَ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ ودَعْوَاهُ لأَنَّهُ عَلَى نَقِيضِ مَا سَبَقَ مِنْهُ، وَإِنْ ذَكرَ وَجْهاً مُخيّلاً فِي الغَلَطِ فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُ عَلَى رَأَيِ لِبَعْضِ الأَصْحَابِ مُتَّجِه. قال الرَّافِعِيُّ: تكلمنا فيما إذا كذب المُشْتَري في قدر الثَّمن بالزيادة غلطاَ أو خيانةً، أما إذا كذب بالنقصان بأن قال: كان الثمن أو رأس المال، أو ما قامت به السلعة على مائة، وباع مُرَابَحَة ثم عاد، وقال: غلطت، وإنما هو مائة وعشرة، فننظر إن صدقه المشتري، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يصح البيع، كما لو غلط بِالزِّيادة. وأصحّهما عند الإمام وصاحب "التهذيب": أنه لا يصحّ لتعذُّر إمْضَائه، فإنَّ العقد لا يحتمل الزيادة، وأما النقصان فهو معهود بدليل الأَرْش (¬2). فإن قلنا بالأول، فأصح الوجهين أن الزِّيَادة لا تثبت، ولكن للبائع الخِيار. والثاني: أنها تثبت مع ربحها، وللمشتري الخيار. وقوله في الكتاب: (فالأصح أن العقد لا يحتمل الزِّيادة) إلى آخره، أراد به الوجهين الأخيرين المُفرَّعين على وجه الصِّحة، وذلك جواب منه بالصحة، وهو الَّذِي أورده القَاضِي المَاوِرْدِي. وقوله آخِراً: (إن صدقه المشتري) تَكْرار غير محتاج إليه، فإنه قد تبين ذلك في ¬
التَّصوير أولاً، وإن كذبه المشتري فهذا يفرض على وجهين: أحدهما: أن لا يبين للغلط وجهاً محتملاً، فلا يقبل قوله، ولو أقام عليه بَيِّنة لا تسمع دعواه؛ لأن اعترافه بأن الثمن مائة يكذب قوله الثاني وبينته، فلو زعم أن المشتري عارف بصدقه، والتمس تَحْلِيفه على أنه لا يعرف ذلك، فوجهان في أنه هل يجاب؟ أحدهما: لا يجاب، كما لا تسمع بَيِّنته. والثاني: يجاب؛ لأنه ربما يقر عند عرض الثَّمَن عليه (¬1) فعلى هذا إنْ نكل هل ترد اليمين على المدعي؟ فيه وجهان (¬2) بناء على أن اليَمِيْن المردودة بعد نُكُول المدّعى عليه كالإقرار من جهة المدّعى عليه، أو كالبَيِّنة من جهة المدّعي، وهذا أصل يشرح في موضعه إن شاء الله تعالى. فعلى الأول يرد، وعلى الثاني لا، ثم إذا قلنا بتحليف المشتري، فإنما يحلف على نفي العلم، فإن حلف أمضى العقد على ما حلف عليه، وإن نكل ورددنا اليمين فالبائع يحلف على القطع، وإذا حلف فللمشتري الخيار بين إِمْضَاء العقد بما حلف عليه، وبين الفسخ كذا أطلقوه، وقضية تنزيله منزلة إقرار المدّعى عليه أن يعود فيه ما ذكرنا في حالة التَّصْديق. والثاني: أنْ يتبيَّن للغَلَط وجهاً محتملاً مثل أن يقول ما كنت اشتريته بنفسي، وِإنما اشتراه وكيلي وأخبرني أن الثمن مائة فبان خلافه، أو ورد على كتاب منه فَبَان مزوَّراً، أو كتب يقول: راجعت جَرِيدتي فغلطت من ثمن متاع إلى غيره فتسمع دعواه للتَّحْليف؛ لأن بيان هذه الأعذار يحرك ظَنّ صدقه، ومنهم من طرد الخلاف في التَّحْليف. وسماع البَيِّنة يترتب على التَّحْليف إن قلنا: لا تحليف فالبينة أولى أَلاَّ تُسْمع، وإن قلنا: له التحليف ففي البينة وجهان: والأظهر: أنها تسمع أيضاً. وقوله في الكتاب: (فلا تسمع بَيّنته ودعواه) جواب على أنه ليس له التَّحليف، وإلاَّ فَالتَّمْكين من التَّحْليف يتضمَّن سماع البَيّنة والإصغاء إليها، وعلى مقابلته قوله: "فتسمع دعواه على رأي" يشعر بسماع البَيِّنَة وجواز التَّحليف، والله أعلم. فرع: قوله في المرابحة: بعتك بكذا يقتضي أنْ يكون الرِّبْح من جنس الثَّمَن الأول، ولكن يجوز أن يجعل الرَّبْح من غير جنس الأصل، ولو قال: اشتريت بكذا، أو ¬
بعتك به، وربح درهم على كل عشرة، فالربح يكون من نَقْد البلد لإطْلاقه الدرهم، والأصل مثل الثمن سواء كان من نقد البلد أو غيره. فرع: لو اتّهَب بغير عوض لم يجز بيعه مرابحة، إلاَّ أن يبين القيمة ويبيع بها مُرَابَحَة، وإن اتّهب بشرط الثواب ذكره، وباع به مرابحة، وإذا أَجَّر داراً بِعَبْد أو نكحت على عبد، أو خَالَعَ زوجته عليه، أو صالح من الدَّم عليه لم يجز بيع العَبد مُرَابَحَةً بلفظ الشراء، ويجوز بلفظ قام علي ويذكر في الإجارة أجرة مثل الدار، وفي النكاح والخُلْع مَهْر المِثْل، وفي الصُّلْح عن الدم الدِّيَة. واعلم أن الأئمة أطبقوا على تصوير المُرَابَحة فيما إذا قال: بعت بما اشتريت وربح كذا، أو بما قام علي، ولم يذكروا فيه خلافاً، وفيما إذا أَوْصَى لإنسان بنصيب ابنه ذكروا وجهاً: أنه لا يصح إذا قال: بمثل نصيب ابني فَكَأَنهم اقتصروا هاهنا على إيراد ما هو الأصح، وإلاَّ فلا فرق بين البابين (¬1). قال الغزالي: القِسْمُ الثَّالِثُ مَا يُطْلَقُ فِي المَبِيعِ، وَهِيَ سِتَّةُ أَلْفَاظٍ: الأَوَّلُ: لَفْظُ الأَرْضِ وَفِي مَعْنَاهَا العَرْصَةُ وَالسَّاحَةُ وَالبُقْعَةُ، وَلاَ تَنْدَرجُ تَحْتَهَا الأَشْجَارُ وَالبِنَاءُ عَلَى أَصَحِّ القَوْلَيْنِ، إِلا إِذَا قَالَ: بعْتُ الأَرْضَ (و) بِمَا فِيهَا. قال الرَّافِعِيُّ: ذكر في هذا القسم ألفاظاً تمس الحاجة إلى معرفة ما يندرج فيها، وما لا يَنْدرج منها: الأرض والعَرْصَة والسَّاحَة والبُقْعَة، فإذا قال: بعتك هذه الأرض، وكان فيها أبنية وأشجار نظر، إن قال: دون ما فيها من البناء والشجر لم تدخل هي في البيع، وإن قال: بعتكها بما فيها دخلت الأبنية والأشجار، وكذا لو قال: بِعْتُكها بحقوقها على المشهور وحكى الإمام وجهاً: أنها لا تدخل وحقوق الأرض الممر، ومجرى الماء وما أشبههما، وإن أطلق فنصه هاهناه: أنها تدخل، ونص فيما لو رهن الأرض، وأطلق أنها لا تدخل، وللأصحاب فيها طرق: أحدها: أن فيهما قولين بالنَّقْل والتَّخريج: وجه الدخول: أنها للدوام والثبات في الأرض فأشبهت أجزاء الأرض، ولهذا يلحق بها في الأخذ بالشفعة. ووجه المنع: خروجها عن مُسَمى الأرض. والثاني: تقرير النصيبين، والفرق أن البيع قوي لإزالة الملك، فيستتبع الشجر والبناء، والرهن بخلافه، ولهذا يكون النَّمَاء الحادث مِنْ أصل المبيع للمشتري، ولم يكن النَّمَاء الحادث من أصل المَرْهُون مرهوناً، والثالث: ويحكى عن ابن سريج: القطع ¬
بعدم الدّخُول في البَيْع والرهن جميعاً، ونصه هاهنا محمول على ما إذا قال بحقوقها، وكذا الحكم في الرهن ولو قال بحقوقها، وما الأظهر من هذا الخلاف. ذكر صاحب الكتاب أن الأصح منها أنها لا تدخل اقتداء بإمام الحرمين، ولا شك أنه أوضح في المعنى؛ لكن عامة الأصحاب رحمهم الله على أن ظاهر المذهب دخولها، ورأوا أصح الطرق تقرير النصين، والله أعلم. قال الغزالي: وَأُصُولُ البُقُولِ كَالأَشْجَارِ، وَالزُّرُوعِ لاَ تَنْدَرج قُطَعْاً، وَلاَ البَذْرُ وَإِنْ كَانَ كَامِناً، وَالأَصَحُّ أَنَّها لاَ تَمْنَعُ صِحَّةَ بَيْعِ الأَرْضِ كَمَا لَوْ باَع دَاراً مَشْحُونَةَ بِأَمْتِعةٍ، نَعَمْ إِنْ جَهِلَ المُشْتَرِي فَلَهُ الخيَارُ لِتَضَرُّرِهِ بِتَعْطِيلِ المَنْفَعَةِ، وَالأَصَحُّ أنَّهُ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ المُشْتَرِي (ح) وَيَدِهِ بِالتَّسْلِيم إِلَيْهِ وإنْ تَعَذَّر انْتِفَاعُهُ سَبَب الزَّرْعِ. قال الرَّافِعِيُّ: في الفصل مسألتان: إحداهما: الزرع ضربان: الأول: ما لا تؤخذ ثمرته وفائدته مرة بعد أخرى، وإنما يؤخذ دفعة واحدة كالحِنْطة والشعير، فلا يدخل في مطلق بيع الأرض؛ لأنه ليس للثبات والدوام، وكان كنقولات الدار، ويصح بيع الأرض، وإن كانت مزروعة على أصح الطريقين كما لو باع داراً مَشْحُونة بأمتعة، ولا يخرج على الخلاف في بيع الدار المستأجرة؛ لأن يد المستأجر حائلة ثم. ومنهم من خَرَّجه على القولين. قال الجمهور: لو كان في معنى تلك الصُّورة لوجب أن يقطع بالفساد، لأن مدة بقاء الزَّرْع مجهولة، وإذا قلنا بالصحيح فللمشتري الخيار، إن كان جاهلاً بالحال بأن كانت رؤية الأرض سابقة على البيع، وإن كان عالماً فلا خيار له، وهل نحكم بِصَيْرُورة الأرض في يد المشتري، ودخولها في ضمانه إذا خلّى البائع بينه وبينها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنها مشغولة بملك البائع كما ذكرنا فيما إذا كانت الدَّار المبيعة مَشْحُونة بأمتعة البائع فيما قبل. وأظهرهما: نعم، لحصول التسليم في الرَّقبة وهي المبيعة، ويخالف صورة الاستشهاد؛ لأن التفريغ ثم فنأت في الحال، على أنَّ الإمام أورد في تلك الصورة وجهاً أيضاً، وادّعى أنه ظاهر المذهب. وإذا كان في الأرض جَزَر أو فِجْل أو سَلقٌ أو ثَوْم ولو لم يدخل في بيع الأرض، كالحِنْطة والشَّعير، وكل زرع لا يدخل في البيع لا يدخل، وإن قال: بِعْت الأرض بحقوقها، يحكى ذلك عن الشيخ أبي حامد، ورأيته لمنصور التَّميمي في المُسْتعمل
أيضاً، ولا يؤمر البائع بقطع الزرع الذي يَبْقَى له في الحال بل له إبقاؤه إلى أَوَانِ الحَصَاد خلافاً لأبي حنيفة، وعند وقت الحصاد يؤمر بالقَطْع والتفريغ، وعليه تَسْوية الأرض وقلع العروق التي يضر بقاؤها بالأرض كعروق الذُّرة تشبيهاً بما إذا كان في الدَّار أمتعة لا يتسع لها باب الدار ينقض، وعلى البائع ضمانه. الضَّرْب الثَّاني: ما تؤخذ ثمرته وفائدته مرة بعد أخرى في سنتين أَو أكثر، كالكُرْسُف الحِجَازِيّ والنَّرْجس والبَنَفْسَج، فالظَّاهر من ثمارها عند بيع الأرض يبقى للبائع، وفي دخول الأصول الخلاف الذي سبق في الأشجار، وفي النَّرْجس والبَنَفْسَج وجه: أنهما من الضرب الأول. وما يُجَزّ مراراً كالقَتِّ والقَصَبِ والهِنْدِبَاءِ (¬1) وَالنِّعْنَاع والكَرَفْسِ والطَّرْخُونِ (¬2)، تبقى جزّتها الظَّاهرة عند البيع للبائع، وفي دخول الأصول الخلاف. وعن الشيخ أبي محمد القطع بأنها تدخل في بيع الأرض؛ لأنها كَامِنة فيها نازلة منزلة أجزائها بخلاف الأشجار، فيجوز أن نعلّم لذلك قوله في الكتاب: "وأصول البقول كالأشجار" بالواو، وإذا قلنا بدخولها فليشترط على البائع قَطع الجَزّة الظاهرة؛ لأنها تزيد ويشتبه المبيع يغيره ولا فرق بين أن يكون ما ظهر بالغًا أَوَان الجَزّ أو لا يكون. قال في "التتمة": إِلاَّ القَصَبَ فإنه لا يكلف بقطعه، إلاَّ أن يكون ما ظهر قدراً ينتفع به، ولو كان في الأرض أشجار، حلاف ما يقطع من وجه الأرض فهي كالقَصَبِ. الثانية: لو كانت الأرض المبيعة مَبْذُورة، ففي البذر الكامل مثل التَّفْصِيل المذكور في الزروع فالبَذْر الذي لا ثَبَات لنباته، ويؤخذ دفعة واحدة لا يدخل في بيع الأَرْض، ويبقى إلى أَوَانِ الحَصَاد، وللمشتري الخِيار أن كان جاهلاً به، فإن تركه البائع له سقط خياره، وعليه القبول، ولو قال: آخذه وأفرغ الأرض سقط خياره أيضاً، إنْ أمكن ذلك في زمان يسير. والبذْر الذي يدوم نباته كَنَوَى النَّخْل والجَوْز واللَّوْز وبذر الكُرَّات، ونحوه من البقول حَكمه في الدخول تحت بيع الأرض حكم الأشجار، وجميع ما ذكرنا في المسألتين مفروض فيما إذا أطلق بيع الأرض، فأما إذا باعها مع الزرع، أو البذر فإنا نورده في خلال اللفظ السادس، إن شاء الله تعالى. ¬
قال الغزالي: وَالحِجَارَةُ إنْ كَانَتْ مَخْلُوقَةَ فِي الأَرْضِ انْدَرَجَتْ، وَإِنْ كَانَتْ مَدْفُونَةً فَلاَ، وعَلَى البَائِعِ النَّقْلُ وَالتَّفْرِيغُ وَتَسْوِيَةُ الحَفْرِ، فَإِنْ كَانَتْ تتعيب بِهِ الأَرْضُ أَوْ تَتَعَطَّلُ بِهِ مَنْفَعَةٌ في مُدَّةِ النَّقْلِ فَلَهُ الخِيَارُ عِنْدَ الجَهْلِ، فَإِنْ أَجَازَ فَالأَظْهَرُ أَنَّ لَهُ طَلَبَ أُجْرَةِ المنفعةِ فِي هَذِهِ المُدَّةِ، وَفِي مُدَّةِ بَقَاءِ الزَّرْعِ، وَكَذَلِكَ لَهُ طَلَبُ أَرْشِ التَّعَيُّبِ، فَإِنْ تَرَكَ البَائِعُ الحِجَارَةَ بَطُلَ خِيَارُ المُشْتَرِي، لأَنَّهُ غَيْرُ مُتَضَرِّرِ بِالبَقَاءِ، ثُمَّ لاَ يِمْلِكُهُ بِمُجَرَّدِ الأِعْرَاضِ (و) إِلاَّ إِذَا جَرَى لَفْظُ الهِبَةِ وَشَرْطُهَا. قال الرَّافِعِيُّ: الحِجَارة إن كانت مخلوقة في الأَرْض، أو مثبتة دخلت في بيع الأرض. وإن كانت تضر بالزَّرع والغَرْس، فقد ذكرنا في عِدَاد العيوب أنه عيب إذا كانت الأرض مما تقصد لذلك وفيه وجه: أنه ليس بعيب، وإنما هو فَوَات فَضِيلة، وإن كانت مدفونة فيها لم تدخل في البيع كالكنوز والأقمشة في الدار، ثم لا يخلو. إما: أن يكون المشتري عالماً بالحال، أو جاهلاً. فإن كان عالماً فلا خيار له في فسخ العقد، وإنْ تضرَّر بقلع البائع، وله إجبار البائع على القلع والنقل تفريغاً لملكه بخلاف الزَّرْع فإن له أمداً ينتظر، ولا أُجْرة للمشتري في مدة القَلْع والنَّقل، وإن طالت كما لو اشترى داراً فيها أَقْمشة، وهو عالم بها لا أُجْرَة له في مدة النَّقْل والتَّفريغ، ويجب على البائع إذا نقل تسوية الأرض. وإن كان جاهلاً فللحجارة مع الأرض أربعة أحوال: الحالة الأولى: أن لا يكون في قَلْعها ولا في تركها ضرر فأن لم يحوج النَّقل وتسوية الأرض إلى مدّة لمثلها أجرة، ولم تنقص الأرض بها فللبائع النقل، وعليه تسوية الأرض، ولا خيار للمشتري، وله إجبار البَائع على النَّقْل، وحكى الإمام وجهاً: أنه لا يجبر والخِيَرَة للبائع، والمذهب الأول. الحالة الثانية: أن لا يكون في قَلْعِها ضرر ويكون في تركها ضرر، فيؤمر البائع بالنقل، ولا خيار للمشتري كما لو اشترى دارًا فلحق سَقْفها خلل يسير يمكن تداركه في الحال، أو كانت مُنْسدّة البَالُوعَة فقال البائع: أنا أصلحه وأتقنها فلا خيار للمشتري. الثالثة: أنْ يكون القلع والتَّرْك جميعاً مُضِرّين، فللمشتري الخيار سواء جهل أصل الأحجار، أو كون قَلْعها مضرًا، ولا يسقط خياره بأن يترك البائع الأحجار لما في نقلها من الضَّرر وهل يسقط بأن يقول للمشتري: لا تفسخ لأغرم لك أجرة المثل لمدة النقل؟ فيه وجهان عن رواية صاحب "التقريب". أصحهما: لا، كما لو قال البائع: لا نفسخ البيع بالعيب لأغرم لك الأرش ثم إنْ
اختار المشتري البيع فعلى البائع النقل وتسوية الأرض سواء كان النقل قبل القبض أو بعده، وهل تجب أجرة المثل لمدة النقل إن كان النقل قبل القبض فيبني على أن جناية البائع قبل القبض كآفةٍ سماوية أو كجناية الأجنبي. إن قلنا: بالأول لم تجب وإن قلنا بالثاني فهو كما لو نقل بعد القَبْض، وإن كان النَّقْل بعد القبض فوجهان. أصحهما: عند الشيخ أبي حامد: أنها لا تجب؛ لأن إجازته رضا بتلف المَنْفَعة في مدة النَّقْل. وأصحهما: على ما يقتضيه كلام الأكثرين وبه قال أبو إسحاق: أنها تجب كما لو جنى على المبيع بعد القبض عليه ضمانه، وقد يختصر فيقال: في وجوب الأجرة ثلاثة أوجه: ثالثها وهو الأظهر: الفرق بين أن يكون النَّقل قبل القبض فلا تجب، أو بعده فتجب، ويجري مثل هذا الخلاف في وجوب الأَرْش، لو بقي في الأرض بعد التَّسْوية نقصان وعيب وفي مأخذ الخِلاَف في الأَرْش ولزوم التَّسْوية مزيد كلام مذكور في الغَصْب. الرابعة: أن يكون في قَلْعها ضرر، ولا يكون في تركها ضرر، فللمشتري الخيار، فإنْ أجاز ففي الأُجْرة والأَرْش ما مرّ، ولا يسقط خِياره بأن يقول للبائع: اقْلع واغرم الأجرة، أو أرش النقص كذا قاله في "التهذيب"، ويجيء فيه مثل الخلاف المذكور في الحالة الثالثة، ولو رَضِيَ بترك الأحجار في الأرض سقط خيار المشتري إبقاء للعقد، ثم ينظر إن اقتصر على قوله: تركتها إلى المُشْتري فهو تمليك، أو مجرد إعراض لقطع الخُصُومة، فيه وجهان كالوَجْهَين في ترك النَّقْل على الدَّابة المردودة بالعيب. أحدهما: أنه تمليك ليكون سقوط الخيار في مُقابلة ملك حاصل. وأظهرهما: وهو الذي ذكره في الكتاب: أنه قطع للخصومة لا غير. فإن قلنا بالأول: فلو قلعها المشتري يوماً فهي له، ولو أراد البائع الرجوع فيها لم يكن له وإن قلنا بالثاني فهي للبائع، ولو أراد الرجوع قال الأكثرون: له ذلك ويعود خيار المشتري. وقال الإمام: لا رجوع ويلزمه الوفاء بالترك، وإن قال: وهبتها منك، فإن رآها من قبل واجتمعت شرائط الهِبَة حصل الملك، ومنهم من طرد الخلاف؛ لأنه لا يَبْغي حقيقة الهبة وإنما يقصد دفع الفسخ، وإن لم تجتمع شرائط الهبة، ففي صحتها للضرورة وجهان، إن صححناها ففي إفادة المِلْك ما ذكرنا في لفظ الترك. واعلم أن جميع ما ذكرنا فيما إذا كانت الأرض بيضاء، أما إذا كان فيها غِرَاس فينظر إن كانت حاصلة يوم البيع واشتراها مع الأرض، فنقصان الأشجار وتَعيُّبها بالإحجار، كتعيُّب الأرض في إثبات الخيار وسائر الأحكام، وإن أحدثها المشتري بعد
الشراء، فينتظر إنْ أحدثها عالماً بالأحجار فللبائع قَلْعُها، وليس عليه ضمان نقصان الغِرَاس، وإن أحدثها جاهلاً، ففي ثبوت الخيار وجهان: وجه الثبوت أنَّ الضرر ناشئ من إيداعه الأحجار في الأرض. والأصح أنه لا يثبت لرجوع الضَّرر إلى غير المبيع، فإن كانت الأرض تنقص بالأحجار أيضاً نظر إن لم يورث الغَرْس وقلع المغروس نقصاناً في الأرض فله القلع والفسخ، وإن أورث الغراس أو القلع نقصاناً فلا خيار في الفسخ، إذ لا يجوز له رد المبيع ناقصاً ولكن يأخذ الأرض وإذا قلع البائع الأحجار فانتقص الغِراس فعليه أَرْش النقص بلا خلاف، ولو كان فوق الأحجار زرع إمَّا للبائع أو للمشتري، ففي "التهذيب" أنه يترك إلى أَوَانِ الحصاد؛ لأن له غاية منتظرة بخلاف الغِرَاس، ومنهم من سوَّى بينه وبين الغراس (¬1). إذا تقرر فقه الفصل فالحاجة بعده إلى معرفة ما ذكر في الكتاب، وإحلال كل شيء محله. أما قوله: (وعلى البائع النقل والتفريغ وتسوية الحفر) فاعلم أن الجمع بين النقل والتَّفْريغ ضرب إِيْضاح، إلا فنقل الحِجَارة عن الموضع دون التَّفريغ مُحَال، ثم الكلام مجري على إطلاقه في صورة العلم باشتمال الأرض على الأحجار المدفونة، وكذا في صورة الجهل حيث لا يثبت الخيار، وحيث ثبت فكذلك إن أجاز المشتري. وأما إذا فسخ فلا يخفى أنه لا يكلف بالنَّقل وتسوية الحفر، ثم تكلم الإمام في أنهم لِمَ أوجبوا تسوية الحفر على البائع، وعلى الغاصب إذا حفر في الأرض المغصوبة، ولم يوجبوا على من هدم الجدار أن يعيده، وإنما أوجبوا الأَرْش. وأجاب عنه بأن طمّ (¬2) الحفيرة لا يكاد يتفاوت، وهيئات الأبنية تختلف وتتفاوت فيشبه ذلك بذوات الأمثال، وهذا بذوات القيم، حتى لو رفع لِبنَة أو لِبَنَتَيْنِ من رأس الجِدار، وأمكن الرد من غير اختلاف في الهيئة كان ذلك كَطَمّ الحُفَيرة فهذا ما ذكره، وفي وجوب الإعادة على هادم الجِدَار خلاف يذكره في كتاب الصلح إن شاء الله تعالى. وقوله: (فله الخِيَار عند الجَهْل) محمول على الحالة الثالثة والرابعة فأما في الأولى والثانية فقد عرفت أنه لا خيار. ¬
وقوله: (فالأظهر أن له طلب أجرة المنفعة في هذه المدة، وفي مدة بقاء الزرع). أما أجرة مدة النقل فقد تكلمنا فيها، وبيَّنا أن الأظهر الفرق بين أن يكون النقل قبل القبض أو بعده، وأما في مدة بقاء الزَّرع فوجهان عن رواية صاحب "التقريب" الذي أورده المعظم: أنه لا تجب الأُجْرة، وتقع تلك المدة مُسْتَثْناة كما لو باع داراً مشحونة بأقمشة لا يستحق المشتري الأجرة لمدة التفريغ. والثاني: وهو الأظهر عند صاحب الكتاب: أنها تجب، ولفظ المنفعة في قوله: "أجرة المنفعة" في قوله حشو لا يضر إسقاطه إذ ليس الأجرة إلاَّ عوض المنفعة. وقوله: (فإن ترك البائع الحجارة بطل خيار المشتري) مُصور في الحالة الرابعة لا غير؛ لأنه لا خيار للمشتري في الأولى والثانية حتى يفرض سقوطه. وأما في الثالثة، فقد ذكرنا أن ترك الحجارة لا يسقط الخيار. وقوله: (لأنه غير متضرر بالبقاء) فيه إشارة إلى التَّصوير في الحالة المذكورة. وقوله: (ثم لا يملكه بمجرد الإعراض معلّم بالواو). وقوله: (إلاَّ إذا جرى لفظ الهِبَة) استثناء منقطع، ويجوز أن يعلم قوله: (وشرطها) بالواو، للوجه الذي ذكرناه في أنه لا تعتبر اجتماع الشروط. قال الغزالي: اللَّفْظُ الثَّانِي: البَاغُ وَفِي مَعْنَاهُ البُسْتَانُ، وَهوَ مُسْتَتْبعٌ لِلأَشْجَارِ، وَلاَ يَتَنَاوَلُ البِنَاءَ عَلَى الأَظْهَرِ، وَأَمَّا اسْمُ القَرَيةِ وَالدَّسْكَرَةِ (3) يَتَنَاوَلُ البنَاءَ وَالشَّجَر. قال الرَّافِعِيُّ: إذا قال: بعتك هذا الباغ والبُسْتَان دخل في البيع الأرض والأشجار والحائط، وفي دخول البناء الذي فيه ما سبق في دخوله تحت الأرض، وفي العَرِيْش الذي توضع عليه القُضْبَان تردّد للشيخ أبي محمد، والظاهر عند الإمام دخوله، وذكروا أن لفظ الكَرْم كلفظ البُسْتَان، ولكن العادة في نَواحينا إخراج الحائط عن مسمَّى الكرم، وإدخاله في مسمَّى البُسْتَان، ولا يبعد أن يكون الحكم على ما استمر الاصْطِلاح به. ولو قال: هذه الدار بستان دخلت الأبنية والأشجار جميعاً. ولو قال: هذا الحائط بستان، أو هذه المحطوطة دخل الحَائِط المُحِيط وما فيه من الأشجار، وفي البناء الخلاف السابق، هكذا ذكره في "التهذيب"، ولا يتّضح في لفظ المحطوة فرق بين الأبنية والأشجار فليدخلا، أو ليكونا على الخلاف. ولو قال: بعتك هذه القرينة دخل في البيع الأبنية والسَّاحات التي تُحيط بها الصُّور، وفي الأشجار التي وسطها الخلاف، اختيار الإمام وصاحب الكتاب دخولها بخلاف اختيارهما في لفظ الأرض.
وأما المزارع فلا تدخل في البيع، أَلاَ ترى أنه لو حلف لا يدخل القرية لم يَحْنَث بدخوله المزارع؟ ولو قال: بعتكها بحُقُوقها لم تدخل أيضاً، بل لا بد من نَصّ على المزارع، وفي "النهاية" أنها تدخل إذا قال: بحقوقها وهما غريبان. (¬1) قال الغزالي: اللَّفْظُ الثَّالِثُ الدَّارُ وَلاَ يَنْدَرجُ تَحْتَهُ المنْقُولاَت إلاَّ مِفْتَاحَ البَابِ اسْتَثنَاهُ صَاحِبُ "التَّلْخِيصِ"، وَيَنْدَرجُ تَحْتَهُ الثَّوابِتُ وَمَا أُثْبِتَ مِنْ مَرَافِقِ الدَّارِ لِلبَقَاء كَالأبْوَابِ وَالمَغَالِيقِ، وَفِي الأَشْجَارِ وَحَجَرِ الرَّحَا وَالأَجَانَاتِ المُثْبَتَةِ خِلاَفٌ، وَفِي مَعْنَاهَا الرُّفُوفُ، وَالسَّلاَلِيمُ المُثْبَتَة بِالمَسَامِيرِ. قال الرَّافِعِيُّ: إذا قال: بعتك هذه الدار دخل في المبيع الأرض والأبنية على تنوعها حتى يدخل الحَمّام المَعْدُود من مَرَافقها، وحكي عن نصه أن الحمام لا يدخل، وحملوه على حمّامات الحِجَاز، وهي بيوت من خَشَبٍ تنقل، ولو كان في وَسَطِها أشجار ففي دُخولها ما سبق في دخُولها تحت بيع الأرض، ونقل الإمام في دخولها ثلاثة أوجه: ثالثها: الفرق بين أن يكثر بحيث يجوز تسمية الدّار بستاناً فلا يدخل في لفظ الدار وبين أن لا تكون كذلك فتدخل. وأما الآلات في الدَّار فهي على ثلاثة أجزاء: أحدهما: المنقو لات كالدَّلو والبَكَرة والرّشَا والمَجَارِف والسّرُر والرّفُوف الموضوعة على الأوتاد، والسَّلاَلِيم التي لم تسمّر ولم تُطَين، والأَقْفَال والكُنُوز والدّفَايِن، فلا يدخل شيء منها في البيع، نعم في مفتاح المِغْلاَق المثبت وجهان: أحدهما: أنه كسائر المَنْقُولات. وأصحهما: ويحكى عن صاحب "التلخيص": أنه يدخل؛ لأنه من توابع المِغْلاَق المثبت، وفي ألواح الدَّكَاكين مثل هذين الوجهين لأنها أبواب لها، وإن كانت تنقل وتردد في الفَوْقَاني من حجر الرَّحَى مثل هذين الوجهين إن أدخلنا التَّحْتَاني، والأصح: الدخول. والثاني: ما أثبت تتمة للدار ليدوم فيها ويبقى كالسُّقُوف والأبواب المَنْصُوبة، وما عليها من المَغَالِيق والحَلَق والسَّلاَسِل والضَّبَّات تدخل في البَيْع؛ فإنها مَعْدُودة من أجزاء الدَّار. الثَّالث: ما أثبت على غير هذا الوجه كالرُّفُوف والدّنَان والأجَانَات المُثْبتة والسَّلاَلِيم المُسَمَّرة والأَوتَاد المُثَبَّتَة في الأرض والجُدْرَان، والتَّحْتَاني من حجر الرَّحَى، ¬
وخشب القَصّار، ومَعجن الخَبَّاز، ففي جميع ذلك وجهان: أصحهما: أنها تدخل لثباتها واتصالها. والثَّاني: لا تدخل لأنها إنما أثبتت لِسُهُولة الارْتِفَاق بها، كي لا تَتَزَعْزَع وتتحرك عند الاستعمال. وأشار الإمام إلى القطع بدخول الحَجَرَين في بيع الطَّاحونة، وبدخول الأجَانَات المُثَبَّتَة إذا باع باسم المدبغة والمصبغة، وأنَّ الخلاف في دخولها تحت بيع الدَّار وفي "التتمة" أن أصل الخلاف في هذه المسائل الخلاف، في تجويز الصلاة إلى العصا المَغْرُوزَة في سطح الكَعْبة، إن جوزنا فقد عددناها من البناء فتدخل، وإلاَّ فلا، وهذا يقتضي التَّسْوِية بين اسم الدَّار والمدبغة (¬1). قوله في الكتاب: "ويندرج تحته الثوابت، وما أثبت من مرافق الدار" كأنه يعني بالثَّوَابت ما هو ثابت في نفسه من غير إثبات، أو ما هو من ضرورات الدار، وبما أثبت من المرافق ما سواها. فروع: أحدها: لا يدخل مَسِيل الماء في بيع الأرض، وكذا لا يدخل فيه شربها من القَنَاة، أو النَّهْر المملوكين إلاَّ أنْ يشرط أو يقول بحقوقها، وحكى أبو عاصم العبادي وجهاً: أنه يكفي ذكر الحقوق. وإذا كان في الدَّارِ المبيعة بئر ماء دخلت في المبيع، والماء الحاصل في البئر لا يدخل، أما إذا لم نجعله مملوكاً فظاهر وأما إذا جعلناه مملوكاً فلأنه نَمَاء ظاهر، فأشبه الثمار المُؤَبَّرة، وفي "النَّهَاية" حكاية وجه: أنه يدخل إذا جعلناه مملوكاً، وينزل منزلة الثمار التي لم تؤَبَّر؛ لأنه العرف فيه، وإن شرط دخوله في البيع صَحَّ على قولنا: إنَّ الماء مملوك بل لا يصح البيع دون هذا الشرط، وإلاَّ اختلط ماء المُشْتَري بماء البائع وانفسخ البيع (¬2)، وذكر الخلاف في الماء، وتفاريعه مؤخر إلى إحياء الموات. والثاني: لو كان في الأرْض أو الدَّار معدن ظاهر، كالنّفْط والمِلْح والغَازِ والكِبْرِيت فهو كالماء وإن كان باطناً كالذَّهب والفِضَّة دخل في البيع، إلاَّ أنه لا يجوز بيع ما فيه معدن الذَّهَب بالذهب من جهة الرِّبَا، وفي بيعه بالفضة قولان للجمع في الصَّفْقَة الواحدة بين البَيْع والصَّرف. ¬
الثالث: باع داراً في طريق غير نافذ دخل حريمها في البيع، وفي دخول الأشجار الخلاف الذي سبق، وإن كان في طريق نافذ لم يدخل الحَريم، والأَشْجَار في البيع، بل لا حريم لمثل هذه الدَّار، على ما سنذكر في إحياء الموات إن شاء الله تعالى. قال الغزالي: اللَّفْظُ الرَّابعُ: العَبْدُ وَلاَ يَتَنَاوَلُ مَالَ العَبْدِ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يُمْلَكُ بِالتَّمْلِيكِ، وَفِي ثِيَابِه الَّتي عَلَيْهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ، وَفِي الثَّالِثِ يَنْدَرجُ سَاتِرُ العَوْرَةِ دُونَ غَيْرِهِ، وَالوَجْهُ الصَّحِيحُ تَحْكيمُ العُرْفِ. قال الرَّافِعِيُّ: العبد إذا ملَّكَه السيّد، مالاً هل يملكه؟ فيه قولان يذكران بتوجيهما في باب معاملات العَبِيد. إذا عرف ذلك فلو ملكه سيده مالاً ثم باعه، وشرط المال ثم باعه وشرط المال لنفسَه فلا كلام وإن أطلق بيعه لم يتبعه المال أيضاً. أما إذا قلنا: إنه لا يملك فظاهر. وأما إذا قلنا إنه يملك فلأن اللَّفظ لا يتناول المال، وهو بسبيل من الرجوع فيه، وكان ترك التَّعَرُّض للمال رجوعاً. وإن باعه مع المال. فإن قلنا: إنه لا يملك ما ملكه اعتبر فيه شرائط المبيع حتى لو كان مجهولاً أو غائباً لم يصح البيع، وكذا لو كان ديناً، والثمن دين وكذا لو كان ذهباً، والثمن ذهباً، ولو كان ذهباً والثمن فضة أو بالعكس، فعلى قولاً الجمع بين البيع والصَّرف. وإن قلنا: إنه يملك فقد نصّ أن المال ينتقل إلى المشتري مع العبد، وأنه لا بَأْسَ بكونه مجهولاً أو غائباً، ويحتمل ذلك عن أبي سعيد الإصْطَخْري أن المال تابع، وقد يحتمل في التابع ما لا يحتمل في الأصل أَلاَ ترى أن الجهل في الحمل واللّبن التابعين محتمل؟ وكذا الجهل بحقوق الدار. وعن ابن سُرَيْج وأبي إسحاق أنَّ المال ليس بمبيع لا أصلاً ولا تبعاً، ولكن شرطه للمبتاع كتبعية له على العبد كما كان فللمشتري انتزاعه عنه، كما كان للبائع الانتزاع منه فعلى هذا لو كان المال رَبَوِيًا، والثمن من جنسه فلا بأس، وعلى الأول لا يجوز ذلك ولا يحتمل الرِّبَا في التابع كما في الأصل، وأصحّ المعنيين عند الأصحاب الثاني. هذه إحدى مسألتي الفصل. والثانية: الثياب (¬1) التي على العبد، هل تدخل في بيعه؟ فيه وجهان: أحدهما: الاقتصار على اللَّفظ كما أن السَّرْج لا يدخل في بيع الدَّابة. ¬
والثاني: تدخل، وعلى هذا فوجهان: أحدهما: أن ما عليه من الثياب تدخل اعتباراً بالعرف، وبه قال أبو حنيفة. والثاني: يدخل ساتر العَوْرة دون غيره. وقوله في الكتاب: (والوجه الصحيح تحكيم العرف) ربما يشعر بوجه رابع، لكن المنقول ليس إلاَّ الوجوه الثلاثة، فهو إذن ترجيح لوجه دخول ما عليه من الثياب، لكن صاحب "التهذيب" وغيره رجَّحوا الوجه الصَّائر إلى أن شيئاً منها لا يدخل في البيع، وكذا قالوا في عِذَارِ الدَّابة. وأما نعلها فيدخل، وكذا بُرَةُ (¬1) الناقة إلا أن يكون من ذهب أو فضة (¬2). قال الغزالي: اللَّفْظُ الخَامِسُ: الشَّجَرُ وَيَنْدَرج تَحْتَهُ الأَغْصَانُ وَالأَوْرَاقُ حَتَّى وَرَقُ الفِرْصَادِ عَلَى الأَصَحِّ وَكذَا العُرُوقُ، وَيسْتَحِقُّ الإِبْقَاء مَغَرُوساً، وَلاَ يَسْتَحِقُّ المَغْرَسَ عَلَى الأَصَحِّ مِنَ القَوْلَيْن، وَلَكنْ يَسْتَحِقُّ مَنْفَعَتَهَا لِلإِبْقَاءِ. قال الرَّافِعِيُّ: في الفصل مسألتان: إحداهما: أغصان الشجرة تدخل في مطلق بيعها لأنها معدودة من أجزاء الشجرة، نعم لا يدخل الغُصْن اليابس في بيع الشجرة الرطبة؛ لأن العادة فيه القَطْع كما في الثمار. قال في "التهذيب": ويحتمل أن يدخل كالصُّوف على ظهر الغَنم، وتدخل العَروق أيضاً في مطلق بيع الشَّجرة، وكذلك الأوراق إلاَّ أن شجرة الفِرْصَاد (¬3) إذا بيعت في الربيع، وقد خرجت أوراقها ففي دخولها تحت البيع وجهان: أصحهما: انها تدخل كما في غير وقت الربيع وكما في سائر الأشجار. وقال: أبو إسحاق انها لا تدخل لأنها كثمار سائر الأَشْجار، وفي أوراق شجر النَّبق ذكر طريقين في "التتمة" أظهرهما: أنها كأوراق غيرها من الأَشْجَار. والثاني: أنها كأوراق الفِرْصَاد، لأنها تلتقط ليغسل بها الرَّأس. ¬
الثانية: لو باع شجرة يابسة نابتة فعمى المشتري تفريغ الأرض عنها للعادة. قال في "التتمة" فلو شرط إبقاءها فسد البيع، كما لو اشترى الثَّمرة بعد التَّأْبِير وشرط عدم القطع عند الجُذَاذ، ولو باعها بشرط القطع أو القلع جاز، وتدخل العُرُوَق في البيع عند شرط القلع، ولا تدخل عند شرط القطع بل تقطع عن وجه الأرض، وإن كانت الشَّجرة رطبة فباعها بشرط الإِبْقَاء أو شرط القلع اتبع الشَّرط ولو أطلق جاز الإِبْقَاء أيضاً للعادة كما لو اشترى بناء يستحق إبقاءه وهل يدخل المغرس في البيع؟ وجهان. وقال الإمام وصاحب الكتاب رحمهما الله: قولان: أحدهما ويحكى عن أبي حنيفة: نعم؛ لأنه يستحق منفعته لا إلى غاية، وذلك لا يكون إلاَّ على سبيل المِلْك، ولا وجه لتملكه إلاّ دخوله في المبيع. وأصحهما: لا لأن اسم الشجرة لا يتناوله، وقد يستحق غير المالك المنفعة لا إلى غاية كما لو أعار جِدَاره ليضع الجذع عليه، فعلى الوجه الأول لو انْقلعت الشجرة أو قَلْعها المالك، كان له أن يَغْرس بدلها، وله أن يبيع الغرس، وعلى الثاني ليس له ذلك، ويجري الخلاف فيما لو اشترى أرضاً، وشرط البائع لنفسه شجرة منها أن المغرس يبقى له أيضاً أم لا والله أعلم. قال الغزالي: وإنْ كَانَ عَلَيْهَا ثَمَرَةٌ مُؤَبَّرَةٌ لَمْ يَنْدَرجْ تَحْتَهُ، وَغَيْرُ المُؤَبَّرَةِ تَنْدَرجُ (ح)، وَفِي مَعْنَى المُؤَبَّرَةِ كُلُّ ثَمَرَةٍ بَارِزَةٍ ظَهَرَتْ لِلنَّاظِرِينَ، وَإذَا تَأَبَّرَ بَعْضُ الثَّمَارِ حُكِمَ بانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ فِي الكُلِّ نَظَراً إِلَى وَقْتِ التَّأْبِيرِ لِعُسْرِ تَتَبُّعِ العَنَاقِيدِ، هَذَا إِذَا اتَّحَدَ النَّوْعُ وَشَمِلَت الصَّفْقَةُ، فَإِن اخْتَلَفَا أَوْ أَحَدُهُمَا فَفَيهِ خِلاَفٌ. قال الرَّافِعِيُّ: بيان أن الثمرة متى تندرج في بيع الشجرة؟ ومتى لا تندرج؟ والأصل في الباب ما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ بَاعَ نَخْلَةٌ بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا للْبَائِعِ، إلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ" (¬1). وروي أن رجلاً ابتاع نخلاً من آخر، واختلفا: فقال المبتاع: أنا أبَّرته بعدما ابتعت، وقال البائع أنا أبَّرته من قبل البيع فتحاكما إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فقضى بالثَّمرة لمن أبَّر منهما (¬2) وأول ما يحتاج إلى معرفته تفسير التَّأْبير. اعلم أن النخيل فُحُول وإِنَاث، ومعظم المقصود من طلع الفُحُول استصلاح الإناث بها، والذي يبدو منها أولاً أُكَمَة صغيرة، ثم تكبر وتطول حتى تصير كآذان ¬
الحُمُر، فإذا كبرت تشققت فتظهر العَنَاقِيد في أَوْسَاطها، فبذر فيها طلع الفُحُول الحاصل من رطبها أجود، فالتَّشْقيق وذرْ طلع الفُحُول فيها هو التَّأْبير، وقد يسمى تلقيحاً أيضاً، ثم الأكثرون يسمون الكِمَام الخارج أكله طَلْعاً، والإمام خصّ اسم الطَّلْع بما يظهر من النُّور على العنقود عند تشقُّق الكِمَام، ثم المتعهدون للنَّخِيل لا يؤبِّرون جميع الأَكَمَة، ولكن يكتفون بتأبير البعض، والباقي ينشق بنفسه، وينبت ريح الفُحُول إليه، وقيل قد لا يؤبّر في الحائط شيء، وتتشقق الأكمة بنفسها إذ كبرت، إلا أن رطبه لا يجيء جيداً، وكذلك الخارج من الفُحُول ينشق بنفسه ولا يشقق غالباً. إذا تقرر ذلك، فإذا باع نخلة عليها ثمرة، وشرطاها للبائع لم تندرج في بيع النخلة، وإن شرطاها للمشتري اندرجت، وإن أطلقا وهي مسألة الكتاب نظر إنْ كانت مؤبَّرة لم تندرج في البيع، وكذا لو لم تؤبّر وتشقّقت الأَكَمة بنفسها اعتباراً لظهور المقصود، وإن لم تؤَبّر ولا تشققت هي اندرجت في البيع، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: تبقى الثمار للبائع أُبِّرت أو لم تُؤَبَّر. لنا ما سبق من الخبر، وأيضاً فإن لها حالة كُمُون وظهور بأصل الخِلْقة، فيتبع الأصل في حالة الكمون اعتباراً بحال البهيمة والجَارِية، ولو باع الفحول من النّخيل بعد تشقُّق طلعها لم يندرج الطَّلْع في البيع، وإن لم يتشقق فوجهان: أظهرهما: الاندراج كما في طلع الإِنَاث. والثاني: أنه لا يندرج، لأن طلع الفحل يؤكل على هَيْئَتِه، ويطلب لِتَلْقيح الإناث به، وليس له غاية مُنْتظرة بعد ذلك، فكان ظهوره كظهور ثمرة لا قِشْرَ لها، بخلاف طلع الإناث فإنه يعني بثمرته فاعتبر ظهورها. ثم الكلام في أمرين: أحدهما: ما عدا النخيل من الأشجار أقسام: أولها: ما يفصل منه الورق كشجر الفِرْصَاد، وقد ذكرنا حكمه. قال في "البيان" وشجر الحنَّاء ونحوه، يجوز أن تلحق بشجر الفِرْصَاد، ويجوز أن يقال: إذا ظهر ورقه فهي للبائع بلا خلاف؛ لأنه لا ثمرة لها سوى الورق، ولِلْفرْصَاد ثمرة مأكولة. وثانيها: ما يقصد منه الورد، وهو على ضربين: أحدهما: ما يخرج في كِمَام ثم ينفتح كالورد الأحمر، فإذا بيع أصله بعد خروجه وتفتحه فهو للبائع، كطَلْع النخل المتشقق، وإن بيع بعد خروجه وقبل تفتحه، فهو للمشتري كالطَّلْع قبل التشقق، وعن الشيخ أبي حامد أنه يكون للبائع أيضاً.
والثاني: ما يخرج ورده ظاهراً كاليَاسَمِيْن، فإن خرج ورده فهو للبائع وإلا فللمشتري. وثالثها: ما يقصد منه الثمرة، وهو على ضربين: أحدهما: ما تخرج ثمرته بارزة بلا قِشْر ولا كِمَام، كالتِّين فهو كاليَاسَمِين، وألحق العِنَب بالتِّيْن، وإن كان لكل حَبَّة منه قِشْر لطيف، يتشقَّق ويخرج منها نَوْر لطيف؛ لأن مثل ذلك موجود في ثمر النَّخل بعد التَّأْبير، ولا عبرة به. والثاني: ما لا يكون كذلك، وهو على ضربين: أحدهما: ما تخرج ثمرته في نَوْر، ثم يتناثر النَّوْر، فتبرز الثَّمرة بلا حائل كالمِشْمِش (¬1) والتُّفَّاح والكُمِّثْري وما أشبهها، فإن باع الأصل قبل انْعِقَاد الثَّمرة فإنها تنعقد على ملك المشتري وإن كان النَّوْر قد خرج، وإنْ باعه قبل الانعقاد، وتناثر النَّوْر فهي للبائع وإن باعه بعد الانْعِقَاد قبل تَنَاثُر النَّوْر فوجهان: أحدهما: أنها للمشتري تنزيلاً للاستتار بِالنَّوْر منزلة اسْتِتَار ثمر النَّخْل بالكِمَام. والثَّاني: أنها للبائع تنزيلاً لها منزلة استتارها بعد التَّأَبير بالقِشْر الأبيض، وهذا أرجح عند أبي القاسم الكرخي، وصاحب "التهذيب" لكن الأول هو المحكي عن نصه في البُويطي، وعن أبي إسحاق، واختاره ابن الصباغ والقاضي الروياني، والله أعلم. والثاني: ما يبقى له حائل على الثمرة المقصودة، وله ضربان: أحدهما: ما له قِشْرَة واحدة كالرُّمَّان. فإذا بيع أصله، وقد ظهر الرُّمَّان بقشرهِ فهو للبائع، ولا اعتبار بقشرهِ لأن إبقاءه من مصلحته، وإن لم تظهر فالذي يظهر يكون للمشتري. والثَّاني: ما له قشرتان كالجَوْز واللَّوْز والفُسْتُق والرَّانِج، فإنْ باعها قبل خروجها فإنها تخرج على ملك المشتري، وإن باعها بعد الخروج فتبقى على ملك البائع، ولا يعتبر في ذلك تشقُّق القِشْرة العليا، على أصح الوجهين. والثاني: يعتبر، وبه قال الشيخ أبو حامد وطبقته. واعلم أن أشجار الضَّرْبين الأخيرين منها ما يخرج ثمره في قشرهِ من غَيْر نور كالجَوْز والفُسْتُق. ومنها: ما يخرج في نَوْر ثم يَتَنَاثر عنه كالرُّمَّان واللَّوْز، وما ذكرنا من الحكم فيما ¬
إذا بيع الأصل بعد تَنَاثُر النَّوْر عنه، فإن بيع قبله عاد فيه الكلام السابق. فرع: الكُرْسُف وهو القُطْن نوعان: أحدهما: ما له ساقٌ تبقى سنين، وتثمر كل سنة، وهو كُرْسُف الحجاز والبصرة والشَّام، فهو كالنَّخْل إِنْ بيع أصله قبل خروج الجوزق أو بعده وقبل تَشَقُّقه، فالحاصل لِلْمُشْتري وإنْ بيع بعد التَّشقق فهو للبائع. والثاني: ما لا يبقى أكثر من سنة فهو كالزرع، فإن باعه قبل خروج الجوزق أو بعده، وقبل تكامل القطن فلا بد من شرط القطع، ثم إن لم يتفق القطع حتى خرج الجوزق، فهو للمشتري لحدوثه من عين ملكه. في "التهذيب": وإنْ باعه بعد تَكَامُل القطن، فإن تشقق الجوزق صح البيع مطلقاً، ودخل القطن في البيع بخلاف الثمرة المُؤَبَّرة، لا تدخل في بيع الشَّجرة، لأن الشَّجرة مقصودة لثمار سائر الأَعْوام، ولا مقصودها هنا سوى الثَّمرة المَوْجُودة، وإن لم يَتَشَقَّق لم يجز البيع في أصح الوَجْهَين؛ لأن المقصود مستتر بما ليس من صلاحه، بخلاف الجَوْز واللَّوْز في القِشْرة السُّفلى. الأمر الثاني: لا يشترط لبقاء الثَّمرة على ملك البَائِع التَّأْبير في كل كِمَام وعُنْقُود لما في تتبع ذلك من العسر بل إذا باع نخلة أبو بعض طَلْعها بقي الكُل للبائع، وجعل غير المُؤَبّر تابعاً للمؤبر، وذلك أَوْلى من أن يعكس، فيجعل المؤبر تابعاً لغير المُؤَبّر؛ لأن المُؤَبَّر ظاهر وإتباع الباطن الظاهر أولى، كما أنّ باطن الصُّبْرَة تبع لظاهرها في الرؤية، ولأن الباطن سائر إلى الظهور بخلاف العكس. ولو باع نخلات طلع بعضها مُؤِبَّر وطلع البعض غير مؤبر، فلها حالتان: إحداهما: أن يكون في بُسْتَان واحد، فينظر إن اتَّحد النوع، وباعها صفقة واحدة، فالحكم كما في النَّخْلَة الواحدة، إذا أبَّر بعض ثمرها دون بعض، وإن أفرد ما لم يؤبر طلعه فوجهان: أحدهما: أنه يبقى للبائع، وأيضاً لدخول وقت التأبير، والاكتفاء به عن نفس التأبير. وأصحهما: أنه يكون للمشتري، لأنه ليس في المبيع شيء مُؤَبَّر، حتى يجعل غير المؤبر تبعاً له، فيبقى تبعاً للأصل، وإن اختلف النوع فوجهان: أحدهما، وبه قال ابن خيران: أن غير المُؤَبَّر يكون للمشتري والمؤبر للبائع؛ لأن لاختلاف النوع تأثيراً بينا، في اختلاف الأيدي وقت التأبير. وأصحهما: أنّ الكل يبقى للبائع كما لو اتحد النوع دفعاً لضرر اختلاف الأيدي وسوء المشاركة.
الحالة الثانية: أن يكون في بستانين فحيث قلنا في البستان الواحد، إن كل واحد من المُؤَبَّر وغير المؤبر يفرد بحكمه فهاهنا أَوْلى، وحيث قلنا بأن غير المؤبر يتبع المؤبر فهاهنا وجهان: أصحهما: أن كل بستان يفرد بحكمه، والفرق أن لاختلاف البِقَاع تأثيراً في وقت التَّأبير، وأيضاً فإنه يلزم في البُسْتان الواحد ضَرَرُ اختلاف الأيدي، وسوء المُشَاركة، ولأن للخطة الواحدة من التَّأثِير في الجمع ما ليس للخُطَّتَين، أَلاَ تَرَى أن خطة المسجد تجمع بين [الإمام والمأموم] (¬1)، وإن اختلف البناء وتباعدت المَسَافة بينهما، ولا فرق بين أن يكون البستانان متلاصقين أو متباعدين. فروع: أحدهما: إذا باع نخلة وبقيت الثمرة له، ثم خرج طَلْع آخر من تلك النَّخْلة أو من نخلة أخرى، حيث يقتضي الحال اشتراكهما في الحال ففيه وجهان: أصحهما: أن الطَّلْع الجديد للبائع أيضاً، لأنه من ثمرة العام. وقال ابن أبي هريرة: إنه للمشتري، لأنه حدث من ملكه بعد البيع. الثاني: لو جمع في صفقة واحدة بين فحول النخل وإناثها، كما لو جمع بين نوعين من الإناث. الثَّالث: قال في "التهذيب": تشقق بعض الجَوْزَق من الكُرْسُف كتشقق الكل وما تشقق من الورد يبقى للبائع، وما لم يتشقق يكون للمشتري، وإنْ كانا على شجرة واحدة ولا يتبع البعض البعض، بخلاف ثمر النخل، لأن المتشقق لا يقطع بل يترك إلى إدراك الكل، وما تشقق من الورد يُجْتَنى ولا يترك إلى تشقُّق الباقي، وذكر أيضاً أن التِّين والعِنَب إن ظهر بعضه دون بعض، فما ظهر يكون للبائع، وما لم يظهر يكون للمشتري، وهذه الصورة الأخيرة محل التوقف، والله أعلم. وأما لفظ الكتاب فقوله: (وغير المؤبر يندرج) يحتاج إلى قيد آخر، وهو أن لا يتشقق بنفسه إذ لو تشقق لما اندرج، وإن لم يؤبّر على أنّ بعضهم، فسر التَّأَبير بما يدخل فيه التشقيق والتشقق، فعلى ذلك الاصطلاح يستمر الكلام على ظاهره. وقوله: (كل ثمرة بارزة ظهرت للناظرين) أي إما في ابتداء الوجود كالتِّين، أَو بالتَّفتح كالوَرْد، أو بالخروج من النَّوْر على التفصيل السابق. وقوله: (نظراً إلى وقت التأبير) هذا التوجيه يقتضي أن يكون أحد البستانين تابعاً ¬
للآخر لدخول وقت التأبير، لكن الظاهر خلافهُ على ما مَرَّ، فهو إذاً محمول على نخيل البُسْتَان الواحد، وفي قوله: (هذا إذا اتحد النوع، وشملت الصفقة) مثل هذا الكلام المعني وإن اتَّحد البستان، إلاَّ أن يجاب بالوجه الآخر والله أعلم. قال الغزالي: وَلَيْسَ لِمُشْتَرِي الأَشْجَارِ أَنْ يُكَلِّفَ قَطْعَ الثِّمَارِ، بَلْ لَهُ (ح) الإِبْقَاءُ إِلَى أَوَانِ القِطَافِ لِلعُرّفِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَسْقِيَ الأشجار إِذَا كَانَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ يَتَضَرَّرُ صَاحِبُهُ، وإنْ تَقَابَلَ الضَّرَرَانِ فَأيُّهُمَا أَوْلَى بِهِ؟، فِيهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ: أصَحُّهَا: أَنَّ المُشْتَرِيَ أَوْلَى إِذَا الْتَزَمَ البَائِعُ سَلاَمَةَ الأشجار لَهُ، وفِي الثَّالث: يَتَسَاوَيَانِ فَيُفْسَخُ العَقْدُ لِتَعذُّرِ الإِمْضَاءِ إِنْ لَمْ يَصْطَلِحَا، وَمَهْمَا لَمْ يَتَضَرَّرِ الثِّمَارُ بِالسَّقْي وَتَضَرَّرَ الشَّجَرُ بِتَرْكِ السَّقْي فَعَلَى البَائِعِ السَّقْيُ أَو القَطْعُ. قال الرَّافِعِيُّ: في الفصل صور: إحداها: إذا باع الشَّجرة، وبقيت الثَّمرة للبائع، فإن شرط القَطْع في الحال لزمه القطع، وإنْ أطلق فليس للمشتري أنْ يكلفه القطع في الحال، بل له الإبقاء إلى أوان الجُذَاذ في النَّخل، والقِطَاف في العنب، وبه قال مالك وأحمد وقال أبو حنيفة: يلزمه القطع في الحال، ولو شرط الإبقاء فسد. لنا: أن مطلق العقد محمول على المعتاد، والمعتاد في الثمار الإبقاء، حتى لو كانت الثمرة من نوع يعتاد قطعها قبل النضج يكلف القطع، وإذا جاء وقت الجُذَاذ لا يمكن من أنْ يأخذها على التَّدْريج، ولا يؤخر إلى نِهَاية النُّضْج. واعلم: أنه حكي اختلاف القول في جواز إبقاء الثَّمَار في صورتين: إحداهما: لو تعذر السَّقْى لانقطاع الماء، وعظم ضرر النَّخِيل بإبقاء الثمار، ففيه قولان منقولان عن "الأم". قال أبو القاسم الكرخي: أصحهما: أنه له الإبقاء دفعاً للضَّرر عن المشتري. الثانية: لو أصاب الثَّمَار آفة، ولم يكن في إبقائها فائدة، هل له الإبقاء؟ عن رواية صاحب "التقريب" فيه قولان: الصورة الثانية: سقي الثّمار عند الحاجة على البائع، وعلى المشتري تَمْكينه من دخول البُسْتَان ليسقي فإن لم يأتمنه نَصَّب الحاكم أميناً للسَّقي، ومُؤْنَته على البائع، وإذا كان السَّقْي ينفع الثِّمَار والأشجار معاً، فلكل واحد من البَائِع والمشتري السَّقْى، وليس للآخر منعه، وإن كان بضربهما معاً فليس لأحدهما السَّقي، إلاَّ يرضا الآخر (¬1)، وإن أضر بالثمار ونفع الأشجار، فأراد المشتري أن يسقي، ونازعه البائع فوجهان: ¬
قال ابن أبي هريرة: للمشتري السَّقي، ولا يبالي برضا البائع، لأنه قد رضي به حين أقدم على هذا العقد، وقال أبو إسحاق: يفسخ العقد لتعذر إمضائه إلاَّ بإضرار أحدهما، فإن سامح أحدهما الآخر أقر، وهذا أظهر، وإن أضر بالأشجار ونفع الثمار، وتنازعا جرى الوجهان، فعند ابن أبي هريرة للبائع السَّقي. وقول أبي إسحاق لا يختلف فهذا ما نقله الجمهور، واقتصروا عليه. وحكى الإمام وصاحب الكتاب في الصورتين ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يجاب المشتري إلى مطلوبه، لأنه التزم سَلاَمَة الأشجار للبائع. وثانيها: أن يجاب البائع لاستحقاقه إبقاء الثمار. والثالث: يتساويان، وترجيح الوجه الأول مما لم أرَه إلا لصاحب الكتاب. ولو كان السَّقْي يضر بأحدهما، وترك السَّقْي يمنع حصول زيادة في جانب الثاني، ففي الْتِحاقه بتقابل الضَّرر احتمالان عند الإمام. الصورة الثالثة: لو لم يسق البائع، وتضرَّر المشتري ببقاء الثمار لامتصاصها رطوبة الأشجار، أجبر على السقي أو القطع فإن تعذَّر السقي لانقطاع الماء فيه القولان السابقان (¬1). قال الغزالي: اللَّفْظُ السَّادِسُ: بَيْعُ الثِّمَارِ وَمُوجِبُ إِطْلاَقِهِ اسْتِحْقَاقُ الإبْقاءِ إِلَى القِطَاف، فَإنْ كَانَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاحَ صَحَّ بِكُلِّ حَالٍ، وَمُوجِبُ الإِطْلاَقِ التَّبِعِيَّةُ (ح)، وَإنْ كَانَ قَبْلَهُ بَطُلَ (ح) إلاَّ بِشَرْطِ القَطْعِ؛ لأَنَّهَا تَتَعَرَّضُ لِلعَاهَاتِ فَلاَ يُوثَقُ بِالقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ إِلَى القِطَاف، وَقَدْ نَهِى عليه السلام عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَنْجُوَ مِنَ العَاهَةِ، وَلَوِ اشْتَرَاهَا صَاحِبُ الشَّجَرَةِ فَلاَ يَجِبُ شَرْطُ القَطْعِ (و)، وَلَوْ بَاعَ الشَّجَرَةَ وَبَقِيَتِ الثِّمَارُ لَهُ لَمْ يَجِبْ شَرْطُ القَطْعِ؛ لأَنَّ المَبِيع هُوَ الشَّجَرُ وَلاَ خَوْفَ فِيهِ، وَلَوْ بَاعَ الشَّجَرَةَ مَعَ الثَّمَرَةِ فَلاَ يُشْتَرَطُ القَطْعُ لِفَقْدِ العِلَّةِ المَذْكُورَةِ، وَلَوِ اطَّرَدَ عُرْفُ قَوْمٍ بِقَطْعِ الثِّمَارِ فَفِي إِلْحَاقِ العُرْف الخَاصِّ بِالعَامِّ خِلافٌ. قال الرَّافِعِيُّ: قد ذكرنا في اللفظ الخامس حكم بيع الأشجار دون التعرض للثمار، والغرض الآن الكلام في بيع الثمار دون التَّعرض للأشجار، وهي إمَّا أنْ تباع بعد بُدُوِّ الصَّلاحَ، أو قبله. ¬
الحالة الأولى: إذا بيعت بعد بُدُوّ الصَّلاح جاز مطلقاً، وبشرط إبقائها إلى وقت الجُذَاذ، وبشرط القَطْع سواء كانت الأصول للبائع أو للمشتري أو لغيرهما. لما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا" (¬1). والحكم بعد الغاية، يخالف الحُكْم قبلها. ثم عند الإِطْلاق يجوز الإبقاء إلى أوان الجُذَاذ للعرف، وشرط التبعية تصريح بما هو من مقتضياتَ العقد، وساعدنا مالك وأحمد على ما ذكرناه. وعند أبي حنيفة لا يجوز البيع بشرط الإبقاء، ويلزم القطع في الحال في صورة الإطلاق، ولا يجوز أن يبيع الثمار بعد بدون الصلاح مع ما يحدث بعدها خلافاً لمالك. الحالة الثانية: إذا بيعت قبل بُدُوِّ صلاحها فإما أن تُباع مفردة عن الأشجار أو معها. الحالة الأولى: أن تباع مفردة عن الأشجار، فالأشجار تصور على وجهين: أحدهما: أن تكون للبائع أو لغير المتعاقدين، فلا يجوز بَيْع الثمار مطلقاً ولا بشرط الإبقاء، ويجوز بشرط القَطْع. أما الجواز بشرط القطع فمجمع عليه، وأما إنه لا يجوز مطلقاً وبشرط الإبقاء، فلما سبق من الخير، فإن ظاهره يمنع من مطلق البيع، المَشْرُوط بالقَطْع إجماعاً فيعمل به فيما عداه، والمعنى الفارق بين ما بعد بُدُوِّ الصلاح وقبله، أنَّ الثمار بعد بدو الصَّلاَح تَأْمَنُ من العَاهَاتِ والجَوَائِح غالباً لكبرها وغلظ نَوَاها وقبل بدو الصَّلاح تسرع إليها العَاهَات لضعفها، فإذا تلفتَ لم يَبْقَ شيء في مقابلة الثمن، وكان ذلك من قبل أَكْل المال بالبَاطِل وإلى هذا المعنى أشار باللَّفظ المروي في الكتاب، وهو أنه -صلى الله عليه وسلم- "نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَنْجُوَ مِنَ الْعَاهَةِ" (¬2). وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أرأيت إذَا مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ، فَبِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيه" (¬3). فأما إذا شرط القطع، فيتبين أن غرضه هو الحصْرم والبَلَح وأنه حاصل، هذا هو المعنى المشهور، وحكى الإمام مع ذلك معنى آخر عن بعض الأصحاب، وهو أن الثمار قبل بُدُوِّ الصَّلاَح تَكْبُرُ أجزاؤها كبراً ظاهراً، وتلك الأجزاء من أجزاء الشجرة ¬
امتصاصها رطوبتها، فيتعذر الإبقاء لذلك، كما يتعذر البيع بشرط أن يأكل العبد المبيع من مال البائع، وساعدنا مالك وأحمد على قولنا. وقال أبو حنيفة: لا يصح البيع بشرط الإبقاء ويصح مطلقاً، ويؤمر بقطعهِ في الحال وهذا ذهاب إلى أن مقتضى الإطلاق القطع، إذ به يحصل التَّسليم. وعندنا مقتضى الإطلاق الإبقاء بناء على العادة العامة، كما تنزل الدَّرَاهم المطلقة في العقد على النَّقْد الغالب، فالإِجارة المطلقة على المَنَازِل المَعْهُودَة في الطَّرِيق، والتَّسْليم يجب بحسب العَادَة، أَلاَ تَرَى أنه لو باع داراً فيها أمتعة كثيرة لا يلزمه نقلها في جنح الليل، ولا أن يجمع كل حمال في البلد لتعجيل التَّسليم، ولكن ينقل على العادة. ثم هاهنا فروع: أحدها: وقد ذكره في الكتاب لو كان في البلاد الشديدة البرد كُرُوم لا تنتهي ثمارها إلى الحَلاَوة، واعتاد أهلها قطع الحصرم ففي بيعها وجهان عن القفال: أنه يصح من غير شرط القطع تنزيلاً لعادتهم الخاصة منزل العادات العامة، وقد ذكرنا أن العَقْد المطلق محمول على المعتاد، فيكون القَطْع المعهود كالمشروط، وامتنع الأكثرون من ذلك، ولم يروا تواطؤ قوم مخصوصين بمثابة العادات العامة، وهذا الخلاف يجري فيما لو جرت عادة قوم بِانْتِفَاع المرتهن بالمرهون، حتى تنزل عَادتهم على رأي منزلة شرط الانْتِفاع، ويحكم بفساد الرهن، وأشار إِمام الحَرَمين -رحمه الله- إلى تخريج ذلك على مسألة السِّر والعَلاَنية. الثّاني: إذا باع بشرط القَطْع وجب الوفاء به، ولو تَرَاضيا على التّرك فلا بأس، وكان بدو الصلاح ككبر العبد الصَّغير، وعن أحمد أنه يبطل البيع وتعود الثمرة إلى البائع. الثَّالث: قال في "التتمة": إنما يجوز البَيْع بشرط القطع (¬1) إذا كان المقطوع منتفعاً به كالحِصْرِم واللَّوْز ونحوهما. فأما ما لا منفعة فيه كالجَوْز والكُمثري، فلا يجوز بيعه بِشَرْط القطع. الوجه الثاني: أن تكون الأشْجَار للمشتري، مثل أنْ يبيع الشَّجرة من إنسان بعد ظهور الثَّمرة، وتبقى الثمرة له على ما مر، ثم يبيع الثمرة من مالك الشجرة، أو يوصي بالثمرة لإنسان، ثم يبيع المُوصي له الثَّمَرة من الوَارِث، فهل يشترط القطع؟ فيه وجهان: ¬
أصحهما عند الجمهور: نعم لشمول الخبر والمعنى، فإن المبيع هو الثمرة، ولو تلفت لم يَبْقَ في مقابلة الثمر شيء، ولكن يجوز له الإبقاء، ولا يلزمه الوفاء بالشرط هاهنا إذ لا معنى لتكليفه قطع ثماره من أشجاره. والثاني: وهو الذي أورده في الكتاب أنه لا حاجة إلى شَرْط القطع، لأنه يجمعها ملك مالك واحد، فأشبه ما لو اشتراهما معاً، وسيأتي ذلك، ولو باع الشجرة وعليها ثمرة مؤبرة فبقيت للبائع، فلا حاجة إلى شرط القَطْع لأن المبيع هو الشَّجرة، وهي غير متعرّضة للعَاهَات، والثمار مملوكة له بحكم الدوام، ولو كانت الثمرة غير مؤبّرة فاستثناها لنفسه، فهل يجب القطع؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، لأن الثمار والحالة هذه مندرجة لولا الاستثناء، فكان كملك مبتدأ. وأصحهما: أنه لا يجب لأنه في الحقيقة استدامة ملك، فعلى هذا له الإبقاء إلى وقت الجُذَاذ، ولو صرح بشرط الإِبْقَاء جاز، وعلى الأول لا يجوز (¬1). الحالة الثانية: أن تباع الثمار مع الأشجار، فيجوز من غير شرط القَطْع، بل لا يجوز شرط القطع فيه (¬2)، أما إنه يجوز من غير شرط القَطْع فلما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ بَاعَ نَخْلَةً بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ". جواز شرط الثَّمرة للمبتاع مع الأصل مطلقاً. والمعنى فيه أن الثمرة هاهنا تتبع الأصل، والأصل غير متعرّض للعاهة، وقد يحتمل في الشيء إذا كان تابعاً ما لا يحتمل فيه إذا أفرد بالتَّصرف، كالحمل في البطن واللَّبن في الضَّرْع، وأما إنه لا يجوز شرط القطع فيه فَلِمَا فيه من الحجر عليه في ملكه. ¬
ثم نتكلم في عبارات الكتاب. وقوله: "بكل حال" معلّم بالحاء؛ لأنه يتناول البيع بشرط التَّبعية، وقد سبق أن أبا حنيفة لا يجوزه. قوله: (وموجب الإطلاق التبعية) مستغنى عنه لأن في قوله: (وموجب إطلاقه استحقاق الإبقاء على القطَاف) ما يغني عنه، ثم هو مُعَلَّم بالحاء، وكذا قوله: (بطل إلاَّ بشرط القطع) لما مر. وقوله: "لأنها تتعرض للعاهات، فلا يوثق بالقدرة على التسليم إلى القطاف)، أراد به أن تمام التسليم إنما يحصل بالقطَف، وهو يعرض الجَوَائح والآفات قبل ذلك، فالقدرة على التسليم إذًا غير موثوق بها لكن في كون الأمر كذلك مزيد كلام ستعرفه في مسألة الجوائح، وما بعدها إن شاء الله تعالى. وقوله: (لفقد العلة المذكورة) أراد به أن تمام التَّسْليم هاهنا يحصل بالتَّخلية، ولا يتوقف على القطَاف لكون الأُصول مملوكة له. وقوله: (ففي إلحاق العرف الخامس بالعام خلاف) ليس فيه تصريح بحكم المسألة، لكن فيه إشارة إلى مأخذها، معناه في الاستغناء عن شرط القَطْع، خلاف وجه الاستغناء حمل المطلق على القطع المعهود، كما يحمل المطلق على الإبقاء المعهود، ذهاباً إلى أن المعهود بالعرف الخَاصّ كالمعهود العام. قال الغزالي: ثُمَّ اتَّفَقُوا علَى أَنَّ وَقْتَ بُدُوِّ الصَّلاحَ كَافٍ (ح) كَمَا فِي التَّأبِيرِ وَلَكِنْ بِشَرْطِ اتِّحَادِ الجِنْسِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغي أَنْ يَتَّحِدَ النَّوْعُ وَالبُسْتَانُ وَالمِلْكُ، وَالصَّفْقَةُ، فَلَوِ اخْتَلَفَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَفِيهِ خِلاَفٌ، وَصَلاحُ الثِّمَارِ بِأَنْ يَطِيبَ أَكْلُهَا وَيَأْخُذَ النَّاسُ فِي الأَكْلِ وَذَلِكَ بِظُهُورِ مَبَادِي الحَلاَوَةِ. قال الرَّافِعِيُّ: في الفصل قَاعِدَتَان لا بد من معرفتهما في الباب: الأولى: لا يشترط للاستغناء عن شرط القطع بُدُوِّ الصلاح في كل عنقود، بل إذا باع ثمار شجرة بَدَا الصَّلاح في بعضها صح من غير شرط القطع، ولو باع ثمار أشجار بدا الصَّلاحَ في بعضها، نظر إن اختلف الجنس لم يعتبر بدو الصَّلاحَ في أحد الجِنْسَين حكم الجنس الآخر، حتى لو باع الرطب والعنب صفقة واحدة، ولم يَبْدُ الصَّلاح في أحدهما وجب شرط القَطْع فيه، وإن اتَّحد الجِنْس فالنَّظر في اتِّحاد النوع واختلافه، وبتقدير الاتِّحاد فالنظر في اتحاد البُسْتَان وتعدده، وبتقدير الاتحاد فالنظر في بيعها صفقة واحدة، وإفراد ما لم يَبْدُ الصَّلاحَ فيه بالبَيْع وحكم الأَقْسَام على ما مر في البَابَيْن بلا فلاق حتى أن الأصح أنه لا يبيعه عند الإِفْرَاد، وأنه لا أثر لاختلاف النوع، وأنه لا يتبع بُسْتان بستاناً، وبهذا قال أحمد، وعن مالك أنَّ البُسْتَان يتبع البستان إذا تجاورا، وربما نقل عنه الضَّبط ببساتين البلدة الواحدة، هذه إحدى القاعدتين.
بقي قوله: "والملك" اعلم أن المصنف -رحمه الله- حكى خلافاً في اشتراط اتِّحَاد المِلْك، ورُبَّما يشير إليه كلام الإمام ولا بُدَّ من البَحْث عن موضعه وكيفيته، فنقول: إذا بَدَا الصَّلاحَ في ملك غيره، ولم يبد في ملكه لم يخل: إما أن يكونا في بستان واحد، أو في بستانين. فإن كانا في بستان واحد، وباع ملكه فقد ذكرنا وجهين، فيما لو كان الكل ملكه، وأفرد ما لم يبد في الصَّلاحَ بالبيع وهل يعطى له حكم ما بَدَا فيه الصَّلاحَ حتى يستغنى فيه عن شَرْط القَطْع أم لا؟ وهو المراد من الخلاف في اعتبار اتِّحَاد الصَّفقة، فإن ثبت الخِلاَف في اعتبار اتِّحَاد الملك والحالة هذه، فسبيله أن يقال: أحد الوجهين أن الحكم، كما لو كان ما بدا فيه الصلاح ملكه، فيطرد الوجهان. والثاني: القطع بالمنع، وإن كانا في بُسْتَانين فقد نقل الإمام القطع بأنه لا عِبْرَة به، ولا نظر إلى بُدُوِّ الصلاح في بستان غير البائع، لكنا إذا لم نفرق فيما بدا فيه الصَّلاحَ من ذلك البُسْتَان، ولم يدخل في البَيْع بين أنْ يكون ملك البائع أو ملك غيره، فقياسه أن لا يفرق فيما بدا فيه الصَّلاَح في بستان آخر أيضاً إذا لم يشترط اتحاد البستان، والله أعلم. ثم حيث ثبت الخلاف في اعتبار اتِّحاد الملك هاهنا فهو جائز في التَّأْبير أيضاً، وإن لم يجر ذكره ثم، والظاهر أنه غير معتبر في الموضعين. والثانية: بُدُوِّ الصلاح في الثمار بظهور النِّضْج ومبادئ الحلاوة، وزوال (¬1) العُفُوصَة أو الحُمُوضة المُفْرَطين، وذلك فيما لا يتلون بأن يتمَوَّه ويلين وفيما يتلوّن بأن يحمر أو يصفر أو يسود. "نَهَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تَزْهَى، قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا تَزْهَى؟ قال: حتى تَحْمَرَّ أَوْ تَصْفَرَّ" (¬2). واعلم أن هذه الأوصاف، وإن كان يعرف بها بُدُوِّ الصلاح في الثِّمَار، لكنها ليست ولا واحد منها بشرط في تفسير بُدُوِّ الصلاح، لأن القِثَّاء لا يفرض فيه نُضْجٌ ولا حَلاَوَة، وليس فيه عُفُوصَة ولا حُمُوضَة حتى تزول، بل يُسْتَطاب أكله في الصغر كما يستطاب في الكِبَر، ولذلك قال في الكتاب: "بأن يطيب أكلها ويأخذ الناس في الأكل"، فاعتبر مع طيب الأكل أخذ الناس فيه، وذلك في القِثَّاء بأن يكبر بحيث يجتنى في الغالب ويؤكل، وفي الصغر تؤكل على سبيل النُّدُور، وأيضاً فإن بُدُوّ الصَّلاح في الزرع يحصل عند اشْتِدَاد الحَب، ولا يفرض فيه عَفُوصة ولا حموضة، ولا نُضْج وحلاوة على أن اعتبار الأكل غير معتبر في تفسير مطلق بُدُوِّ الصَّلاح أيضاً، لأن صاحب ¬
"التهذيب" ذكر أن بيع أوراق الفِرْصَاد، قبل تناهيها لا يجوز إلاَّ أنْ يشترط القطع وبعده يجوز مطلقاً، ويشترط القطع، فجعل تناهي الورق صلاحاً له وأنه غير مأكول. إذا تقرر ذلك، فلو قال قائل: بدو الصَّلاحَ في هذه الأشياء صَيْرُورَتها إلى الصِّفَة الَّتِي تطلب غالباً لكونها على تلك الصِّفَة لكان قد ذكر عبارة شاملة، والله أعلم. قال الغزالي: وَبَيْعُ البطِّيخِ إِنْ كَانَ مَعَ الأُصُولِ يَتَقَيَّدُ (و) بِشَرْطِ القَطْعِ قَبْلَ الصَّلاَحِ إِلاَّ إِذَا بِيعَ مَع الأَرْضِ، وَبَيْعُ أُصُولِ البَقْلِ لاَ يُتَقَيَّدُ بِهِ إِذْ لاَ يتعَرَّضُ لِلآفَةِ. قال الرَّافِعِيُّ: بيع البطيخ قبل بُدُوِّ صلاحه لا يجوز من غير شَرْط القَطْع، وإنْ بدا الصلاح في كله أو بعضه نظر: إنْ كان يخاف خروج غيره، فلا بد من شَرْط القَطْعِ أيضاً؛ لأنه إذا وجب شرطه خوفاً من الجَائِحَة الَّتِي الغالب فيها العدم، فلأن يجب خوفاً من الاختلاط الذي الغالب فيه الوجود كان أولى، فإن شرط القَطْع ثم لم يتفق حتى خرج غيره، واختلط المبيع بغير المبيع ففي انفساخ البيع قولان نذكرهما في نظائرهما. وإن كان لا يخاف خروج غيره جاز بيعه من غير شرط القَطْع، هذا إذا أفرد البَطِّيخ بالبيع ووراءه حالتان: إحداهما: لو أفرد أصوله بالبيع، ذكر العراقيون وغيرهم أنه يَجُوزُ ولا حاجة إلى شرط القَطْع إذا لم يخف الاختلاط كبيع الزَّرْع الَّذِي اشتاد حَبُّه ثم الحمل الموجود يبقى للبائع، وما يحدث بعده يكون للمشتري، وإن خِيفَ اختلاط الحملين فلا بد من شرط القطع، فإن شرط ولم يتفق القطع حتى وقع الاخْتلاط، ففيه طريقان سنذكرهما في نَظِيْرِهما. ولو باع قبل خروج الحمل، فلا بد من شرط القَطْع أو القَلْع كالزَّرع الأخضر، وإذَا اشترطه ثم اتفق بقاؤه حتى خرج الحمل، فهو للمشتري. الثَّانية: لو باع البَطِّيخ مع أصوله، فجواب الإمام وصاحب الكتاب أنه لا بُدَّ من شرط القَطْع بخلاف ما إذا باع الثَّمرة مع الشَّجرة؛ لأن الشجرة غير متعرّضة للجَائِحَة، والبطيخ مع أصولها متعرّضة لها، فلو باعها مع الأرض استغنى عن شرط القطع، وكأن الأرض هاهنا كالأشجار ثم. وقضية ما نقلناه فِي بَيْع الأُصُول وحدها، إذا لم يَخْف الاختلاط أنه لا حاجة إلى شرط القطع، فليعلّم قوله: (يتقيد (و) بشرط القطع) بالواو لذلك، وقوله: (وبيع أصول البقل) إلى آخره منازع فيه أيضاً، وساذكره في الفصل التالي لهذا والبَاذِنْجَان، وشجرة كالبَطِّيخ في الأحوال الثلاث. فرع لابن الحَدَّاد: لو باع نِصْفَ الثِّمَار على رُؤوس الأَشْجَار مَشَاعاً قبل بُدُوِّ الصلاح، لم يصح وعَلَّلوه بأنَّ البيع والحالة هذه يفتقر إلى شرط القطع، ولا يمكن قطع النّصف إلاَّ بقطع الكُلِّ فتضرر البائع بِنُقْصان غير المبيع أشبه ما إذا باع نصفاً معيناً من
سيف، وما ذكروه من أن قطع النصف لا يمكن إلاَّ بقطع الكُلِّ إنما يَسْتمر بتقدير دوام الإشَاعَة وامتناع القسمة، أما إذا جَوَّزنا قِسْمَة الثِّمَار في حال الرُّطُوبة بناء على أنها إفراز فيَمكن قطع النِّصف من غير قطع الكل، بأن يقسم أو لا فليكن منع البيع بناءاً على القول بامتناع القسمة لا مطلقاً، وعلى هذا يدل كلام ابْنِ الحَدَّاد. قال القَاضي أبو الطَّيب وهو الصَّحيح: ولو باع نصفها مع نصف النَّخل صح، وكانت الثمار تابعة، ولو كانت الشجرة لواحد، والثَّمرة لآخر فباع صاحب الثَّمَرة نصفها من صاحب الشجرة فوجهان بناء على الخلاف في اشتراط القَطْع هاهنا ولو كانت الثِّمَار والأشجار مشتركة بين رجلين، فاشترى أحدهما نصيب [صاحبه من الثمرة لم يجز، ولو اشترى نصيب] (¬1) صاحبه من الثمرة بنصيبه من الشجرة لم يَجُزْ مطلقاً، ويجوز بشرط القَطْع، لأن جملة الثمار تفسير لمشتري الثمرة، وجملة الأشجار للآخر، وعلى مشتري الثمرة قطع الكل؛ لأنه بهذه المُعَاملة التزم قطع النصف المُشْتَرى بِالشَّرط، والتزم تَفْريغ الأَشجار لصاحبه، وبيع الشجرة على أن يفرغها للمشتري جائز، وكذا لو كانت الأَشْجَار لأحدهما والثمرة بينهما، فاشترى صاحب الشجرة نصيب صاحبه من الثمرة بنصف الشجرة على شرط القطع جاز. قال الغزالي: وَلاَ بُدَّ مِنَ الاحْتِيَاطِ فِي أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الثِّمَارُ بَادِيَةً إلاَّ عَلَى قَوْلِ تَجْوِيزِ بَيْعِ الغَائِبِ، أَوْ فِيمَا صَلاَحُهُ فِي إبْقَائِهِ فِي الكِمَامِ كَالرُّمَّانِ، وَفي اسْتِتَارِ الحِنْطَةِ بِالسُّنْبُلَةِ وَالأُرْزَة بِالقِشْرَةِ وَالبَقِلاَّءِ وَالجَوْزِ بالقِشْرَةِ العُلْيَا خِلاَفٌ (م ح) مَنْشَؤُهُ أَنَّ الصَّلاَحَ هَلْ يَتَعَلَّقُ بِبَقائِهِ فِيها؟ قال الرَّافِعِيُّ: لا يجوز بَيْعُ الزَّرْع الأَخْضَر إلاَّ بشرط القَطْع (¬2) لما سبق في الثِّمَار، فإنْ باعه مع الأرض جاز تبعاً، وكذا لا يجوز بيع البُقُول في الأرض دون الأرض إلاَّ بشرط القَطْع أو القَلْع سواء كان مما يُجَزُّ مراراً أَوْ لاَ. يجزّ إلاَّ مرة واحدة، هكذا أورده صاحب "التهذيب" وغيره، وهو خلاف قوله في الكتاب: (وبيع أصول البَقل لا يتقيد به) فاعلمه وأعلمه. ولو باع الزرع بعد اشتداد الحَبِّ، فهو كما لو باع الثِّمار بعد بدو ¬
الصلاح، فلا حاجة إلى شرط القطع، ولكن يشترط ظهور المَقْصُود، فلو باع ثمرة لا كمَام (¬1) لَهُمَا كالتِّيْن والعِنَب والكُمثري جاز، سواء باعها على الشَّجرة أو على وجه الأرض، ولو باع الشَّعِير أو السُّلْت مع السَّنَابِل جاز بعد الحَصَاد وقبله، لأن الحَيَّات ظاهرة في السُّنْبُلة، ولو كان للثمرة أو كِمَام، لا يزال إلاَّ عند الأكل كالرُّمَّان والعَلَس فكمثل، ما له كِمَامَان يزال أحدهما ويبقى الآخر إلى وقت الأكل، كالجَوْز واللَّوْز، والرَّانج يجوز بيعه في القِشْرَة السُّفْلَى، ولا يجوز في العُلْيَا لا على رأس الشجر، ولا على وجه الأرض لتستر المقصود بما ليس من صلاحه، وفيه قول أنه يجوز ما دام رطباً (¬2) في القشرة العليا، وبه قال ابن القَاص والاصْطَخْري لتعلّق الصلاح به من حيث أنه يَصُون القِشْرَة السُّفْلى ويحفظ رُطُوبَة اللُّبِّ، وبيع البَاقِلاّء في القشرة العليا على هذا الخلاف، وادعى الإمام أن الأظهر فيه الصِّحة؛ لأن الشّافعي -رضي الله عنه- أمر بعض أعوانه بأنْ يشتري له البَاقِلاّء الرّطب (¬3). وما لا ترى حَبّاته في السُّنْبُلة كالحِنْطة والعَدَسِ والسِّمْسِم لا يجوز بَيْعُه في السُّنْبُلَة دون السُّنْبُلَة ومعها قولان: والقديم: الجواز لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ" وقد اشتد. والجديد: لتستر المقصود بما لا يتعلق به الصلاح كبيع تراب الصَّاغَة والكُدْس بعد الدِّبَاسَة وقبل التَّنْقِية والأُرْز كالشَّعِير يباع في السَّنَابل -لأنه يدخر في قِشْره وبهذا قال ابن القَاص وأبو علي الطَّبَرِي، ومنهم من قال: هو كالحِنْطَة. ¬
ولا يجوز بيع الجَزر والثَّوم والبَصَل والفِجْل والسَّلْق في الأرض لتستر المقصود، ويجوز بيع أوراقها الظاهرة بشرط القَطْع، وبيع القَنَّبِيْط في الأرض لظهوره، وكذا نوع من السَّلْجَم، يكون ظاهراً ويجوز بيع اللَّوْز في القِشْرَة العُلْيا قبل انعقاد السُّفلى؛ لأنه مأكول كله كالتُّفَّاح، وهو القول بالمَنْعِ في صور الفَصْل مقطوع به أمْ هو مفرج على قول مَنْعِ بيع الغائب. ذكر الإمام أنه مفرع عليه أما إذا جوَّزنا بيع الغائب صَحَّ البَيْعُ فيها جميعاً، وعلى هذا جرى في الكتاب، حيث قال: (إلاَّ على قول تجويز بَيْع الغَائِب) وفي "التهذيب": أن المنع في بيع الجَزَر وما معناه في الأرض ليس مبنياً على بيع الغائب؛ لأنه في بيع الغَائِب يمكن رد المبيع بعد رؤيته بصفته، وهاهنا لا يمكن (¬1)، وعند أبي حنيفة ومالك وأحمد يصح البيع في جميع صورة الفَصْل. وإذا قلنا بالمنع فلو باع الجَوْزَ مثلاً في القِشْرَة العُلْيَا مع الشجرة أو باع الحِنْطَة في سنبلها مع الأرض فطريقان: أحدهما: أن البيع باطل في الجَوْز والحب، وفي الشجرة والأرض قَوْلاً تفريق الصَّفْقة. وأصحهما: القَطْع بالمنع في الكل للجهل بأحد المَقْصُودين وتعذر التوزيع. ولو باع أرضاً مبذورة مع البذر، فقد قيل: يصحُّ البَيْع في البذر تبعاً للأرض، والمذهب بطلان البيع فيه، ثم في الأرض الطريقان، ومن قال بالصحة في الأَرْض لا يذهب إلى التوزيع بل يوجب جميع الثمن بناء على أحد القولين، فيما لو باع ماله ومال غيره، وصححنا البيع في ماله وخيرناه فإنه إذا أجاز يجيز بجميع الثمن، والله أعلم. قال الغزالي: الثَّانِي أَن يَحْذَرَ مِنَ الرِّبَا فلَوْ بَاعَ الحِنْطَةَ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ فَهِيَ المُحَاقَلَةُ (3) (م) المَنْهِيُّ عَنْهَا وَهِيَ رِباً إِذْ لاَ يُمْكِنُ الكَيْلُ فِي السَّنَابِلِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ الرُّطَبَ بِالتَّمْرِ أَيْضًا فَهِيَ المُزَابَنَةُ المَنْهِي عَنْهَا. قال الرَّافِعِيُّ: "نَهَى رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالمُزَابَنَةِ". (¬2) فالمُحَاقَلَةُ هي بيع الحِنْطَة في سُنْبلها بالحِنْطَة الصَّافية على وجه الأرض. والمُزَابَنَة: هي بَيْع الرطب على رأس النَّخْل بالتَّمْر على وجه الأرض. روي عن جابر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نَهَى عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَة". ¬
فالمُحَاقَلَةُ: أن يبيع الرجل الزرع بمائة فرق من الحِنْطة. والمُزَابَنَة أن يبيع التمر على رُؤوس النَّخل بما به فرق من تمر فهذا التَّفْسير إن كان من النبي -صلى الله عليه وسلم- فذاك، وإن كان من الرَّاوي فهو أعرف بتفسير ما رواه (¬1). والمُحَاقَلَة: مأخوذة من الحَقْل، وهي السَّاحَة الَّتي تزرع، سميت مُحَاقَلَة لتعلّقها بزرع في حَقْل. والمُزَابَنَة مأخوذة من الزَّبْن، وهو الدَّفع سميت بذلك؛ لأنها مبنية على التَّخْمِين؛ والغَبْن فيها ممَّا يكثر فيريد المَغْبُون دفعه، والغابن إمضاءه فيتدافعان والمعنى أَنَّ كل واحد منهما يبيع مال الرِّبا بجنسه من غير تَحْقيق المساواة في المِعْيَار الشَّرْعي؛ لأن المعيار فيهما الكيل، ولا يمكن كيل الحِنْطة في السَّنَابل، ولا كيل الرّطب على رؤوس النَّخل، والتخمين بالخَوْص لا يغني، كما لو كان كل واحد منهما على وجه الأرض، وفي المُحَاقَلَة شيئان آخران: أحدهما: أنه يبيع الحِنْطة والتَّبْن بالحِنْطة. والثاني: أن المقصود مُسْتَتر بما ليس من صلاحه، ولو باع الشَّعير في سُنْبُله بالحِنْطَة على وجه الأَرْض، أو الرّطب على رأس النَّخْل بجنس آخر من الثِّمَار على الشجر، أو على وجه الأرض فلا بأس لكن يتقايضان بالتَّسْليم فيما على وجه الأرض، وبالتخلية فيما على الشَّجر، ولو باع الزرع قبل ظُهور الحَبّ بالحب فلا بأس أيضاً، لأن الحَشِيش غير مَطْعُوم. ويجوز أن يُعَلّم قوله: فهي المحاقلة وقوله: فهي المزابنة بالميم لأن عن مالك أن المُحَاقَلَة هي إِكْتراء الأرْض ببعض ما يخرج منها من الثُّلث أو الربع أو غيرهما. والمُزَابَنَة هي ضَمَان الصُّبْرَة بقدر معلوم، بأن يقول أَضْمن لك صُيْرَتك بكذا صَاعاً، إن زاد فلي وإن نقص فعلي، ويستثّنى عن المُزَابَنَة ما نذكره على الأَثَر. قال الغزالي: وَلاَ خَبَرَ فِي التَّخْمِينِ بِالخَرْصِ، إِلاَّ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ (ح) إِذَا بَاعَهَا خَرْصاً بِمَا تَعُوْدُ إِلَيْهِ عَلَى تَقْدِيرِ الجَفَافِ وَهِيَ العَرَايَا (م ح) الَّتِي أَرْخَصَ فِيهَا، وَالأَظْهَرُ: الجَوَازُ فِي قَدْرِ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَمَيْلُ المُزَنِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى تَخْصِيصِ الجَوَازِ بِمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقِ لِتَرَدُّدِ الرَّاوِي فِيهِ، فَلَوْ زَادَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فِي صَفَقَاتٍ جَازَ (ح)، وَكَذَا إِذَا تَعَدَّدَ المُشْتَرِي وَاتَّحدَ البَائِعُ، وَلَوِ اتَّحَدَ المُشْتَرِي وَتَعدَّدَ البَائِعُ فَفِيهِ ¬
خِلاَفٌ، وَوَجْهُ الفَرْقِ النَّظَرُ إلَى جَانِب مَنْ حَصَّلَ الرُّطَبَ فِي مِلْكِهِ؛ لأَنَّ الرُّطَبَ مَحَلُّ الخَرْصِ الَّذِي هُوَ خِلاَفُ القِيَاسِ، هَذَا فِي الرُّطَبِ بالتَّمْرِ، فَأَمَّا فِي الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ فَفِيهِ خِلاَفٌ، وَكَذَا فِي غَيْرِ المَحَاويج إِذَا تَعَاطَوا (ح) العَرَايَا. قال الرَّافِعِيُّ: عن جابر -رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ: بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، إِلاَّ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْعَرُيَّةِ" (¬1). بيع العَرَايا (¬2) جائز، وهو أن يبيع رطب نخلة أو نَخْلَتَيْن باعتبار الخَرص بقدر كيله من التَّمْر سميت عَرِيّة؛ لأنه عرى أي أفرد نخله أو نخلتين ببيع رطبها (¬3)، وذهب مالك وأبو حَنِيفة إلى أنَّ العَرِيّة أن يفرد نَخْلة أو نخلتين، فيهب ثمرتها لرجل حتى تجتنى كل يوم ثُم تَنْثَرم بدخوله حائطه فعند مالك يشتريها منه بخَرْصِها تَمْراً، ولا يجوز ذلك لغير رَبِّ البُسْتَان، وعند أَبِي حَنِيفَة له أن يستردها منه، ولَه أن يُعْطيه بِخَرْصِهَا تمراً، وساعدنا أحمد على تفسير العَرِيّة إِلاَّ أن عنه رواية أن الرّطب يباع بمثله تمراً. لنا ما روي عن بن أبي حثمة -رضي الله عنه- "أَنَّه -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بالتَّمْرِ إِلاَّ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا تَمْراً يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَباً" (¬4). ولا تجوز العَرَايَا من غير خَرْصٍ، وسبيل الخَرْص ما ذكرناه في الزَّكَاة، ويجب التَّقَابُضُ في المَجْلس بتسليم التَّمْر إلى البائع بالكَيْل، وتَخْلِيَة البائع بينه وبين النَّخْلَة، وإن كان التَّمر غائباً عنهما أو كانا غائبين عن النَّخْل فأحضراه أو حضر عندها جاز، ثم إن لم يظهر تَفَاوت بين التَّمْر المجعول عوضاً وبين ما في الرطب من التمر بأن أكيل الرطب في الحال فذاك، وإن ظهر تفاوت، نظر إن كان قدر ما يقع بين الكَيْلَين لم يضر وإن كان أكثر فالعَقْد باطل، وفيه وجه أن يَصحّ في الكثير بقدر القليل، ولمشتري الكثير الخيار إذا لم يسلم له الجَمِيع، ويجوز بيع العَرَايا في العِنَب، كما يجوز في الرُّطب وفي سائر الثِّمار قولان: أصحهما: المنع، لأنها متفرقة مستورة بالأوراق، فلا يتأتَّى الخَرْص فيها، وثمرة ¬
النَّخيل والكُروم متدلّية ظاهرة، ثم في الفصل ثلاث مسائلٍ: إحداها: في القدر الذي يجوز فيه بيع العَرَايا، ويجوز بيع العَرَايا فيما دون خمسة أَوْسُق من التمر، ولا يجوز فيما زاد عليها، وفي الخمسة قولان: أحدهما: وهو منقول المزني أنه يجوز لإِطْلاق خبر سهل بن أبي حثمة (¬1) -رضي الله عنه-. والثَّاني، وهو مختار المزني: المنع؛ لأن النهي عن المُزَابَنَة معلوم مُحَقَّق، والرُّخْصَة في قدر الخمسة مشكوك فيها، وذلك لأن الشافعي -رضي الله عنه- روي عن مالك عِن داود بن الحُصَين عن أبي سفيان مَوْلَى بن أبي أحمد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- "أَنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَرْخَصَ فِي بَيْع الْعَرَايَا، فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ -الشَّكُ مِنْ دَاوُدَ (¬2) - فيستصحب المعلوم المحقق، والقول الأول أظهر عند صاحب الكتاب. والثَّاني أظهر عند صاحب "التهذيب"، والقاضي الرُّوياني وغيرهما، وهو مذهب أحمد، والقدر الذي يمنع من بيع العَرَايَا فيه، إنما يمنع في الصَّفْقَة الواحدة. أما لو باع قدراً كبيراً في صفقات فلا منع، وكذا لو باع صفقة واحدة من رجلين، ما يخص كل واحد منهما القدر الجائز خلافاً لأحمد في المسألتين، ولو باع رجلان من واحد فوجهان: أصحهما: أن الحكم كما لو باع واحد من رجلين؛ لأن تعدد الصَّفقة بتعدد البائع أظهر من تعددها بتعدد المشتري، كما ذكرنا في الرد بالعيب. والثاني، وبه قال صاحب "التلخيص": لا يجوز الزِّيَادة على خمسة أَوْسُقٍ نظراً إلى مشتري الرطب، لأنه محل الخَرْصِ الَّذِي هو خلاف قياس الرَّبويات، فلا ينبغي أن يدخل في مِلْكِهِ أكثر من القدر المحتمل دفعة واحدة، ولو باع رجلان من رجلين صَفْقَةً واحدة لم يجز في أكثر من عشرة أوسق، ويجوز فيما دونها وفي العشرة قولان: الثانية: جميع ما ذكرناه في بيع الرُّطب بالتمر، أما لو باع الرطب على النخل وبالرطب على النخيل] (¬3) خَرْصاً فيهما، أو بالرطب على وجه الأرض كيلاً فيه ففي جوازه أوجه: أصحها، وبه قال الإِصْطَخْري: لا يجوز؛ لأن الرُّخْصَة إنما تثبت للحاجة إلى ¬
تحصيل الرطب، ومالك الرطب مستغنى عنه أو حاجته إليه أدنى فلا يلحق بصورة الرخصة. والثاني وبه قال ابن خَيْرَان: أنه يجوز لأنه ربما يَشْتَهي ما عند غيره. والثالث: أنه إن اختلف النوعان جاز، ويحكى هذا عن أبي إسحاق وحكى الشيخ أبو حامد وآخرون عنه تخصيص هذا التَّفصيل بما إذا كان على النخيل، والمنع فيما إذا كان أحدهما على وجه الأرض، والفرق أنه قد يزيد النَّوْع الذي عند صاحبه ويريد أن يأكله رطباً على التدريج، وما على وجه الأرض لا يمكن أن يؤكل رطباً على التَّدْريج، لأنه يفسد أو يجف، ولو باع الرّطب على وجه الأرض بالرّطب على وجه الأرض لم يَجُز؛ لأنه ليس في معنى صورة الرّخْصة من حيث إنّ أحد المعاني فيها أنْ يأكله طريّاً على التَّدْريج، وهذا لا يتحقّق فيما على وجه الأرض، وذكر القَفَّال في شرح "التلخيص": أنه على الخلاف؛ لأنه إذا جاز البيع، وأحدهما أو كلاهما على رأس النَّخْل خَرْصاً، واحتملت الجَهَالة فلأن يجوز مع تحقّق الكيل في الجانبين كان أولى. الثالثة: فيمن يجوز له بيع العَرَايَا، ويجوز ذلك لِمَحَاوِيج الناس، وفي أغنيائهم قولان: أصحهما: الجواز لإطلاق الألفاظ التي رويناها. والثَّاني: لا يجوز ذكره في اختلاف الحديث، وبه قال أحمد والمزني، لما روي عن زَيْدِ بْنِ ثابت -رضي الله عنه- "أَنَّهُ سَمَّى رجَالاً مُحْتَاجِينَ مِنَ الأَنْصَارِ شَكَوا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ الرُّطَبَ يَأْتِي وَلاَ نَقْدَ بأَيْدِيهِمْ يَبْتَاعُونَ بِهِ رُطَباً يَأْكُلُونَهُ مَعَ النَّاسِ، وَعِنْدَهُم فَضُولُ قُوتِهِمْ مِنَ التَّمْرِ فَرَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَبْتَاعُوا الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ" (¬1). ومن قال بالأول قال: هذه حكمة شرعية، ثم قال: يعم الحكم كما في الرَّمل والاضْطِياع في الطَّوَاف ونظائرهما، ومنهم من بني الخلاف في هذه المَسَائل على أن الخَرْص أصل بنفسه يقام مقام الكيل أو ليس كذلك، ويتبع مورد النص والله أعلم. قال الغزالي: وَإِذَا اجْتَاحَتِ الآفَةُ الثِّمَارَ قَبْلَ القِطَافِ وَبَعْدَ التَّخْلِيَةِ، فَهِيَ مِنْ ضَمَانِ البَائِعِ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ، وَمَيْلُ الجَدِيدِ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَمَانِهِ (م)، وَمَا فَاتَ بآفَةِ السَّرِقَةِ لَيْسَ مِنْ ضَمَانِهِ عَلَى الأَصَحِّ، وَيَجِبُ عَلَى البَائِعِ أَنْ يَسْقِيَ الأَشْجَارَ لِتَرْبيَةِ الثِّمَارِ، فَإِنْ ¬
تَرَكَ السَّقْيَ فَفَسَدَتِ الثِّمَارُ فَهِيَ مِنْ ضَمَانِهِ، فَإِنْ لَمْ تَفْسَد بَلْ فَاتَتْ فَفي انْفِسَاخِ العَقْدِ خِلاَفٌ، كَمَا في مَوْتِ العَبْدِ المَقْبُوضِ بِمَرَضٍ تَقَدَّمَ عَلَى القَبْضِ. قال الرَّافِعِيُّ: الكلام من هذا الموضع إلى رأس النَّظر الخامس في أحكام الثمار المبيعة على رأس الأشجار، وما يعرض لها من العوارض الجَوَائح، كالحَرّ والجَرَاد والحَرِيق ونحوها وقد قدم إمام الحرمين على بيان حكمها أصلين لا غنى عن معرفتهما، وينفعان في أَثْنَاء المسألة. أحدهما: أنَّه إِذا بَاعَ الثِّمَار بعد بُدُوِّ الصَّلاحَ، يلزمه سَقْي الأشجار قبل التَّخْلِية وبعدها قدر ما يَنْمُو به الثمار ويسلم عن التَّلَف والفساد (¬1). واحتج له بأن التَّسْليم واجب عليه، والسَّقْي من تَتِمّة التَّسْليم كالكَيْل في المَكِيْلاَت والوزن في المَوْزُونات، فيكون على البائع فلو شرط كونه على المشتري بطل العقد؛ لأنه على خلاف قضيته. والثَّاني: أنَّ المشتري يَتَسلَّط على التَّصَرُّف في الثِّمَار بَعْد جريان التَّخْلية من كل وجه. إذا تقرر ذلك فَلِلْجَوَائِح حالتان: أحدهما: أن تعرض قبل التَّخْلية فهي مِنْ ضمان البائع فإن تلف جميع الثِّمار انْفسخ العقد، ولو تلف بعضها انفسخ فيه، وفي الباقي قَوْلا التفريق. والثَّانية: أن تعرض بعد التَّخْلية، فينظر إن باعها بعد بدُوِّ الصلاح، ففيه طرق، وأحدها فيه قولان: أحدهما: أن الجَوَائِحَ من ضمان البائع، وبه قال أحمد لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ" (¬2). وأصحهما وهو الجديد، وبه قال أبو حنيفة: أنها من ضَمَان المشتري؛ لأن القَبْض حصل بالتَّخلية، فصار كما لو هلك بعد القِطَاف، والخبر مَحْمُول على الاسْتِحْبَاب، ويشعر به ما روي "أَنَّ رَجُلاً ابْتَاعَ ثَمَرَةً فَأَذْهَبَتْهَا الْجَائِحَةُ، فَسَأَلَهُ أَنْ يَضَعَ عَنْهُ أَنْ لاَ يَفْعَلَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: تَأَلَّى أن لا يفعل خيراً، فَأُخْبِرَ الْبَائِعُ بِمَا ذَكَرَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَسَمَحَ بِهِ لِلْمُبْتَاعِ" (¬3). ¬
وتأيد القول الأول بالأصل الأول، والثَّاني بالثاني، ولا فرق على القولين بين أن يقُلّ أو يكثر. وقال مالك: يوضع الثُّلث فَصَاعِداً، ولا يوضع ما دونه. وإن باع الثِّمَار قبل بُدُوِّ الصلاح بشرط القطع، ولم يقطعها حتى أضاعتها الجائحة، ففيه ثلاثة طرق: أظهرها: أنه على القولين. والثاني: أنها من ضَمَان المُشْتَري قولاً واحداً لتفريطه بترك القطع، وأيضاً فلأنه لا علقة بينهما إذ لا يجب السَّقْي على البَائِع، والحالة هذه، ويحكى هذا عن القَفَّال. والثالث: أنها من ضمان البائع قولاً واحداً؛ لأنه إذا شرط القطع كان القبض فيه بالقطع والنقل. ويتفرَّع على كونها من ضَمَان البَائِع أمور: الأول: أن المحكوم بكونه من ضَمَان البائع ما تلف قبل أوان الجُذَاذ، أما ما تلف بعد أوان الجُذاذ وإمكان النقل ففيه قولان: ويقال وجهان: أحدهما: أَنَّها من ضمان المُشْتَري لتقصيره بالترك. والثاني: من ضمان البائع أيضاً، لأن التَّسليم لا يتم ما دامت الثِّمَار متصلة بملك البائع، ويشبه أن يكون الأول أرجح. قال الإمام: وموضع الخلاف ما إذا لم يَكُن التأخير بحيث يعد تقصيراً وتضييعاً كاليوم، واليومين، فإن كان كذلك فلا مَسَاغَ للخلاف. الثاني: لو تلف بعض الثِّمَار فالحكم على هذا القول كما لو تلف قبل التَّخْلية، ولو عابت الثمار بالجَوَائِح ولم تتلف ثبت الخِيَار على هذا القول كما لو عابت قبل التخلية، وعلى الجديد لا يثبت. الثالث: لو ضاعت الثمار بِغَصْب أو سرقة فوجهان: أحدهما: أنها من ضمان البائع أيضاً بناء علي أن التسليم لا يتم إلاَّ بالتَّخْلية. والثاني: أنها من ضمان المشتري لتمكّنه من الاحتراز عنه بنصب الحافظين، وأيضاً فإنّ الرجوع على الجاني بالضَّمَان مُتَيسر، وهذا أصح عند صاحب الكتاب والأكثرين، فمن يقول به يقطع بأن المَغْصُوب والمسروق من ضمان المشتري، والقائل الأول يجعلهما على القولين وهو ما أورده العِرَاقيون (¬1). ¬
واعلم أن ما ذكرناه من القولين في الآفات السَّمَاوية الَّتِي لا نِسْبَة لها إلى البائع بحال، فأما إذا ترك السَّقي وعرضت في الثمار آفة بسبب العَطَش، فنتكلم أولاً فيما إذا تلفت به ثم فيما إذا تعيّبت، وإن كان ترتيب الكتاب عكسه. أما: إذا تلفت ففيه طريقان: أحدهما: أن في انفساخ البيع قولين أيضاً، يحكى هذا عن أبي علي الطَّبري. وأصحهما: القطع بالانفساخ لاستناد هذه الآفة إلى ترك السَّقْي المستحق بالعقد قبل التَّخلية، وما يستند إلى سبب سابق على القبض، قد ينزل منزلة ما لو سَبَق بنفسه، كما ذكرنا في القتل بالردة السابقة، والقطع بالسرقة السابقة، وموت العبد من المرض المتقدم على القبض. فإن قلنا بعدم الانفساخ فعلى البائع الضمان من القيمة والمِثْل، وإنما يجب ضمان ما تلف ولا ينظر إلى ما كان ينتهي إليه لولا العارض. وأما إذا فسدت بالتَّعيب فللمشتري الخيار، وإن جعلنا الجَوَائِح من ضمانه. قال الإمام: لأن الشرع ألزم البائع بتنمية الثمار بالسقي، فالتَّعيب الحادث بترك السَّقي كالعَيْب المتقدم على القبض، ولو أفضى التَّعيب إلى التَّلف، نظر، إن لم يشعر به المشتري حتى تلف عاد الخلاف في الانفساخ ولزم الضَّمان على البائع، إن قلنا بعدم الانفساخ، ولا خيار بعد التلف هكذا ذكره الإمام، وإن شعر به ولم يفسخ حتى تلفت، فيغرم البائع في وجه لعدوانه ولا يغرم في آخر لتقصير المشتري بترك الفسخ مع القدرة عليه. فرع: لو باع الثمار مع الأشجار، فتلفت الثمار بجَائِحَة قبل التَّخْلية بطل العقد فيها، وفي الأَشْجار قولان: وإن تلفت بعد التَّخْلية فهي من ضمان المشتري قولاً واحداً، لأن العلائق منقطعة هاهنا والثمرة مُتَّصلة بملك المشتري (¬1). فرع: لو اشترى طعاماً مُكَايلة، وقيضه جُزَافاً فهلك في يده، ففي انْفِسَاخ العقد وجهان: لبقاء علقة الكيل بينهما (¬2). قال الغزالي: وَإِن بَاعَ القِثَّاءَ أَوْ مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ التَّلاحُقُ وَعَسُرَ التَّسْلِيمُ بَطُلَ عَلَى الأَصَحِّ، فَإِنْ كَانَ نَادِراً وَاتَّفَقَ ذَلِكَ قَبْلَ القَبْضِ انْفَسَخَ العَقْدُ عَلَى قَوْلٍ، وَلَعَلَّ الأَظْهَرَ أَنَّهُ ¬
يَنْفَسِخُ، وَلَكِنْ لِلْمُشْتَرِي الخِيَارُ (و) إِنْ لَمْ يَهِبِ البَائعُ مَا تَجَدَّدَ مِنْهُ، فَإِنْ وَهَبَ سَقَطَ خِيَارُهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ التخليةِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الجَوَائِحَ مِنْ ضَمَانِهِ فَهُوَ كَمَا قَبْلَ التَّخْلِيَةِ. قال الرَّافِعِيُّ: ومن العوارض اختلاط الثمار المَبِيعة بغيرها لتلاحقها. أما الاختلاط الذي يبقى معه التمييز فلا اعتبار به. وأما غيره فإذا باع الثمرة بعد بُدُوِّ الصلاح والشجر يثمر في السّنة مرتين، فينظر إن كان ذلك مما يغلب التّلاحق فيه وعلم أن الحمل الثاني يختلط بالأول، كالتِّين والبَطِّيخ والقِثَّاء والبَاذِنْجَان لم يصح البَيْع إلاَّ بشرط أن يقطع المشتري ثمرته عند خوف الاختلاط. وفيه قول أو وجه: أنه موقوف إن سمح البائع بما حدث تبين انعقاد البيع، وإلاَّ تبين أنه لم ينعقد من أصله، والأصح الأول لما مر في بيع البَطِّيخ، ثم إذا شرط القَطْع ولم يتفق حتى حصل التَّلاحق والاختلاط، فالحكم كما لو اتفق التَّلاَحق فيما يندر فيه التَّلاَحق، فإنْ كان ما يندر فيه التلاحق، وعلم عدم الاختلاط، أو لم يعلم أنه كيف يكون الحَال فيصح البَيْع مطلقاً، وبشرط القَطْع والتَّبقية، وإن حصل الاخْتِلاط فله حالتان: إحداهما: أنْ يحصل قبل التَّخْلية فقولان: أحدهما: أنه ينفسخ البيع لتعذر تسليم المَبِيع قبل القَبْض. وأظهرهما: على رأي المصنف، وهو اختيار المزني؛ أنه لا ينفسخ لبقاء عين المبيع، وإمكان إمْضَاء البيع، فعلى هذا يثبت للمشتري الخيار؛ لأنه أعظم من إِبَاقِ العبد المبيع. وعن صاحب "التقريب" حكاية قول أنه لا خيار أيضاً، وأن الاختلاط قَبْلَ القبض كالاختلاط بعده، والمذهب الأول، ثم إن قال البائع: أسمح بترك الثمرة الجديدة للمشتري، ففي سقوط خياره وجهان: أحدهما: لا يسقط لما في قوله من المِنَّة. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب: أنه يسقط كما سبق في الإعراض عن نَعْل الدَّابة المردودة بالعَيْب، ولو باع الثمرة قبل بُدُوِّ الصلاح بشرط القَطْع ثم لم يَتَّفق القَطْع حتى حصل الاخْتِلاط جرى القولان في الانفساخ، وهما جاريان فيما إذا باع حِنْطَة فانهال عليها مثلها قبل القبض، وكذا في المَائِعَات ولو اختلط الثوب بأمثاله أو الشاة المَبِيْعة بأمثالها. فقد قال في "التتمة": المذهب هاهنا انفساخ البيع لأنه يورث الاشتباه وأنه مانع من صحَّة البيع لو فرض في الابتداء، وفي الحِنْطَة غاية ما يلزم الإِشَاعة، وإنها غير مانعة.
وفيه وجه: أنه لا ينفسخ لإِمْكَان تسليمه بتسليم الكل ولو باع جَزَّة من القَثِّ بشرط القطع ولم يقطعها حتى طالت، وتعذر التَّمييز جرى القولان ومنهم من قطع بعدم الانفساخ هاهنا تشبيهاً لطولها بكبر الثَّمرة والشجرة وسمن الحيوان وهو ضعيف، لأن البائع يجير على تسليم الأشياء المذكورة بزيادتها، وهاهنا لا يجبر على تسليم ما زاد. والثانية: أنْ يحصل بعد التَّخلْية، ففيه طريقان: أحدهما، وبه قال المزني: القطع بعدم الانفساخ، كما لو كان المبيع حِنطَة فانثالت عليها حِنْطَة أخرى بعد القبض. والثاني: أنه على القولين في الحالة الأولى بخلاف مسألة الحِنْطَة؛ لأن هناك قد تم التَّسْليم وانقطعت العَلاَئِق بينهما، وفي الثمار لم تنقطع العلائق؛ لأن البائع يدخل الحَائِط للسَّقْي، وتعهّد النَّخِيْل وغير ذلك، ويمكن بناء الطَّرِيقَيْن على ما ذكره الإمام وصاحب الكتاب، وهو أنَّ حكم المَسْأَلة مأخوذ من الخلاف في الجَوَائِح، إن جعلناها من ضمان المشتري أجبنا بالطريقة الأولى، وإنْ جعلناها من ضمان البائع أجبنا بالثانية، إلاَّ أن قضية هذا البناء أن يكون القطع بعدم الانْفِسَاخ أظهر، وعامة الأصحاب على تَرْجيح طريقة القولين. وإذا قلنا بعدم الانفساخ، فإنْ تصالحا وتوافقا على شيء فذاك، وإلاَّ فالقول قول صاحب اليد في قدر حق الآخر، ومن صاحب اليد في صورة الثمار فيه وجهان بناء على أن الجوائح من ضمان البائع والمشتري. ووجه ثالث: وهو أنها في يدهما جميعاً، وفي صورة الحِنْطَة صاحب اليد هو المشتري، فالقول قوله في قدر حق البائع، فإن كان المشتري قد أودعه الحِنْطَة بعد القبض ثم حصل الاختلاط، فالقول قول البائع، في قدر حق المشتري، والله أعلم. وإذا تأملت ما ذكرناه علّمت قوله في الكتاب (انفسخ البيع) بالزاي، وقوله: (للمشتري الخيار) بالواو، وكذا قوله: (سقط خياره). ثم هاهنا مسألة أخرى لا بد من ذكرها، وهي أن يبيع شجرة عليها ثمرة تبقى للبائع، وهي مما تثمر في السّنة مرتين ويغلب عليها التلاحق، فلا يصح البيع إلاَّ بشرط أن يقطع البَائِع ثمرته عند خوف الاخْتِلاط، ويجيء فيه الخلاف المذكور فيما إذا كان البيع الثَّمرة، ثم إذا تَبَايعا بهذا الشَّرْط، ولم يَتَّفِقِ القَطْع حتى حصل الاختلاط، أو كانت الشجرة مما يندر فيها التلاحق أو الاختلاط، فاتفق ذلك فقل المزني قولين في الانْفِسَاخ، وللأصحاب طريقان. فعن أبي علي ابن خيْرَان والطَّبَرِي: القطع بعدم الانفساخ، وتخطئة المزني فيما نقل؛ لأن الاختلاط وتعذّر التَّسليم لم يوجد في المبيع ما إِذَا كان المَبِيْع الثِّمار، وأثبت الأكثرون القولين، ونقلوهما عن نصه في "الأم".
وقالوا: الاختلاط وإن لم يوجد في المبيع، لكنه وجد في المقصود بالعقد، وهو الثمرة الحادثة فإنها مقصود المشتري من الشراء، فجاز أن يجعل كالمبيع. فإن قلنا بعدم الانفساخ، نظر إن سمح البائع بترك الثمرة القديمة أُجْبِر المشتري على القبول، [وإن رضي المُشْتري بترك الثمرة الحادثة أُجْبر البائع على القبول] (¬1) وأقر العقد، ويشبه أن يجيء في الإِجْبَار على القبول خلاف، وإن استمرا على النزاع، فالمثبتون للقولين قالوا: انفسخ العقد بينهما، كما لو كان المبيع الثمرة والقاطعون قالوا: لا فسخ؛ بل إن كانت الثمرة والشجرة في يد البائع، فالقول قوله في قدر ما يستحقه المشتري مع يمينه، وإن كانتا في يد المشتري فالقول قوله في قدر ما يستحقه البائع. قال صاحب "التهذيب": وهذا هو القياس، لأن الفسخ لا يفيد رفع النزاع لبقاء الثمرة الحادثة للمشتري، وإن قلنا بالانفساخ استرد المشتري الثمن ورد الشجرة مع جميع الثمار ذكر صاحب "التتمة". ¬
الخامس من كتاب البيع في مداينة العبيد والتحالف
النَّظَرُ الْخَامِسُ مِنْ كتَابِ البَيْع فِي مُدَايَنَةِ العَبِيدِ وَالتَّحالُفِ، وَفِيهِ بَابَانِ الأَوَّلُ فِي مُعَامَلَةِ الْعَبُيدِ قال الغزالي: وَالنَّظَرُ في المَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَة وَغَيْرِهِ أَمَّا المَأْذُونُ فَالنَّظَرُ فِيمَا يَجُوزُ لَهُ وَفِي العُهْدَةِ وَفيمَا يَقْضِي مِنْهُ دُيُونَهُ أَمَّا مَا يَجُوزُ لَهُ فَكُلُّ مَا يَنْدَرجُ تَحْتَ اسْمِ التِّجَارَةِ أَوْ كانَ مِنْ لَوَازِمِهِ فَلا يَنْكِحُ وَلاَ يُؤاجِرُ (ح) نَفْسَهُ، وَلاَ يَتَعَدَّى (ح) النَّوْعَ الَّذِي رُسِمَ لَهُ الإِتِّجَارُ فِيهِ، وَلاَ يَأْذَنُ (ح) لِعَبِيدِهِ فِي التِّجَارَة إلاَّ بِتَوْكيل مُعَيَّنٍ، وَلاَ يَتَّخِذُ (ح) الدَّعْوَةَ لِلمُجَهَّزِينَ، وَلاَ يُعَامِلُ سَيِّدَهُ (ح)، وَلاَ يَتَصَرَّفُ (ح) فِيمَا اكْتَسَبَ بِاحْتِطَابِ وَاصْطِيَاد وَاتِّهَاب، ثُمَّ لاَ يَنْعَزِلُ (ح) بالِإبَاقِ، وَلاَ يَسْتَفِيدُ (ح) الإِذْنَ بِالسُّكُوتِ وَإذَا رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ لَمْ يَزُلْ (ح) مِلْكُ سَيِّدِهِ عَمَّا فِي يَدِهِ، وَيُقْبَل إِقْرَارُهُ (ح) بِالدِّيْنِ لأَبِيهِ وَابْنِهِ. قال الرَّافِعِيُّ: أوضحنا في أول "كتاب البيع" أنَّ كلام هذا النَّظر في مُدَاينة العبيد، واختلاف المتبايعين وفيهما بابان: الأول: في مُداينتهم والمراد من المُدَايَنَة الاسْتِقْرَاض والشراء بالنسيئة، وليس الباب مَقْصوراً على بيان ذلك، بل هو وافٍ بأحكام سائر مُعَامَلاَتِهِمْ لكنهم تَبَّركوا بترجمة الشَّافعي -رضي الله عنه-، والعبد إمَّا مأذون في التجارة أو غيره. القسم الأول: المأذون في التجارة، والكلام فيه يقع في ثلاثة أمور: أحدهما: فيما يجوز له من التصرفات، وما لا يجوز. وثانيها: في أن الطلب في الدُّيون الواجبة بمعاملاته على مَنْ تتوجه. وثالثها: في أنها من أين تُؤَدّى. أما الأول: فاعلم أنه يجوز للسيد أن يأذن لعبده في التِّجارة، وفي سائر التصرفات كالبيع والشراء إجماعاً (¬1)، ولأنه صحيح العبارة، ومنعه من التصرف لحق السيد، فإذا ¬
أمره به فقد ارتفع المانع، ويستفيد المأذون في التجارة بهذا الإذن كل ما يندرج تحت اسم التجارة، أو كان من لوازمها وتوابعها، كالنَّشْر والطَّيّ وحمل المَتَاع إلى الحَانُوت، والرد بالعيب والمُخَاصَمَة في العهدة ونحوها، ولا يستفيد به غير ذلك، وهذا القول الجملي تُقَصِّلُه صور. منها: ليس للمأذون في التجارة أن يُنكح، كما أنه لَيْسَ للمأذون في النكاح أن يتجر، لأن كل واحد منهما غير متناول باسم الآخر. ومنها: ليس له أن يُؤَاجِرَ نفسه؛ لأنه لا يملك التصرف في رقبته، فكذلك في منفعته. وعن الحليمي حكاية وجه: أنه يملك ذلك، وهو قول أبي حنيفة، وهل له إيجار أموال التجارة كالعبيد والدواب؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، كما لا يؤاجر نفسه. وأصحهما: نعم؛ لأن التُّجَّار قد يعتادون ذلك؛ ولأن المنفعة من فوائد المال فيملك العقد عليها، كالصُّوف واللبن. ومنها: لو أذن له السيد في التجارة في نوع من المال لا يصير مأذوناً في سائر الأنواع، وكذا لو أذن في التجارة شهراً أو سنة لم يكن مأذوناً بعد تلك المدة، خلافاً لأبي حنيفة فيهما، وسلم أنه لو دفع إليه ألفاً ليشتري به شيئاً لا يصير مأذوناً في التجارة، ولو دفع إليه ألفاً وقال: اتَّجر فيه فله أن يشتري بعَيْن ما دفع إليه، وبقدره في ذمته ولا يزيد عليه، ولو قال: اجعله رأس مالك وتصرَّف أَو اتجر، فله أن يشتري بأكثر من القدر المدفوع إليه. ومنها: ليس للمأذون في التجارة أن يأذن لعبده في التجارة، خلافاً لأبي حنيفة، ولو أذن له السيد في ذلك ففعل جاز، ثم ينعزل مأذون المأذون بعزل السيد، سواء انتزعه من يد المأذون أو لم ينتزعه خلافاَ لأبي حنيفة فيما إذا لَمْ ينتزعه، وهل له أن يوكْل عبده في آحَادِ التصرفات؟ فيه وجهان: أصحهما: عند الإمام وهو الذي أورده في الكتاب نعم؛ لأنها تصدر عن نظرة، وإنما المُمْتَنِع أن يقيم غيره مَقَام نفسه.
والثاني: لا؛ لأن السَّيد لم يَرْضَ بتصرف غيره، وهذا قضية ما أورده في "التهذيب" (¬1). ومنها: ألاَّ يَتَّخذ الدَّعْوة للمجهزين (¬2)، وَألاَّ يتصدق (¬3)، ولا ينفق على نفسه من مال التجارة؛ لأنه ملك السيد، وعند أبي حنيفة له ذلك. ومنها: لا يعامل سَيّده بيعاً وشراء، لأن تصرفه لسيده بخلاف المكاتب يتصرف لنفسه، وقال أبو حنيفة: له أنْ يعامل سيده، وربما قيد ذلك بما إذا ركبته الدُّيُون. ومنها: ما اكْتَسَبه المَأْذُون من الاحْتِطَاب والاصْطِيَاد والاتِّهَاب وقبول الوصية، والأخذ من المعدن، هل ينضم إلي مال التجارة حتى يتصرف فيه؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو الذي أورده الفَوْرَانِي، والإمام وصاحب الكتاب لا لأنه لم يحصل بجهة التِّجَارة، ولا سلمه السيد إليه ليكون رأس المال. والثاني: نعم، لأنه من جملة أَكْسَابه، وهذا أصح عند صاحب "التهذيب". ومنها: العبد المأذون لا ينعزل بالإباق، بل له التصرف في البلد الذي خرج إليه، إلاَّ إذا خصَّ السَّيد الإذن بهذا البلد (¬4). وقال أبو حنيفة: يصير محجوراً عليه. لنا: أن الإباق عصيان فلا يوجب الحَجْر، كما لو عصى السَّيد من وجه الآخر، ولو أذن لجاريته في التِّجَارة ثم اسْتَوْلَدَها ففيه هذا الخلاف، ولا خلاف في أنَّ له أن يأذن لمستولدته في التِّجَارة. ومنها: إذَا رأى عَبْدَه يَبِيْع ويشتري فسكت عنه لم يَصِرْ مأذوناً له في التجارة، خلافاً لأبي حنيفة. لنا: القياس على ما لو رآه ينكح فسكت عليه لا يكون سكوته إذناً في النِّكَاح. ¬
ومنها: إذا ركبته الدُّيُون لم يزل ملك سيده عما في يده، فلو تصرف فيه يبيع أو هِبَة أو إِعتاف بإذن المأذون والغُرَمَاء جاز، ويكون الدَّين في ذمة العبد، وإن أذن العبد دون الغُرَمَاء لم يَجُزْ وإن أذن الغُرَمَاء دون العَبْد فوجهان (¬1). وعن أبي حنيفة: أنه إذا ركبته الدُّيُون يزول ملك سَيّده عما في يده، ولا يدخل في ملك الغرماء. ومنها: إقرار المأذون بين المعاملة مقبول على ما سيأتي في "باب الإِقْرَار" ولا فرق بين أن يقرّ بها لأجنبي أو لابنه أو ابنته. وقال أبو حنيفة: لا يقبل إقراره لهما، وهذا الخلاف كالخلاف في إقرار المريض لوارثه. وأما إِقْرَار المأذون لغير دين المُعَاملة، وإقرار غير المأذون فالكلام فيهما منه ما هو مذكور في الإقرار، ومنه ما هو مذكور في السَّرِقَة، وسينتهي الشرح إليهما إن شاء الله تعالى. قال الغزالي: وَلاَ يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ: (ح) إِنِّي مَأْذُونٌ، بَلْ لاَ بُدَّ مِنْ سَمَاعٍ مِنَ السَّيِّدِ أَو بَيِّنةٍ عَادِلَةٍ، وَيُكْتَفَى بِالشُّيُوعِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَيُكْتَفَى بِقَوْلِهِ فِي الحَجْر. قال الرَّافِعِيُّ: من عامل المأذون وهو لا يعرف رِقُّه فتصرفه صحيح، ولا يشترط علمه بحاله، ذكره في "النهاية"، ومن عرف رِقَّة لم يَجُز له أن يعامله حتى يعرف إذن السيد، ولا يكفي قول العبد: أنا مأذون؛ لأن الأصل عدم إذن المُسْتحق، فأشبه ما إذا زعم الراهن إذن المرتهن في بيع المرهون. وقال أبو حنيفة: يكفي قول العَبْد كما يكفي قول الوكيل. قال الأصحاب: ليس هما سواء؛ لأن في الوكيل لا حاجة إلى دعوى الوِكَالَة، بل يجوز معاملته بناء على ظاهر الحال، وإن لم يدع شيئاً، وهاهنا بخلافه، وإنما يعرف كونه مأذوناً إمَّا بسماع الإذن من السيد، أو بِبَيِّنَة تقوم عليه، ولو شاع في النَّاس كونه مأذوناً فوجهان: أصحهما: أنه يكتفى به أيْضاً لأن إقامة البَيِّنَة لكل معامل ممَّا يعسر، ولو عرف كونه مأذوناً، ثم قال: حجر عليه السيد لم يعامل فإن قال السيد: لم أحجر عليه فوجهان: أصحهما: أنه لا يعامل أيضاً؛ لأنه العاقد والعقد باطل بزعمه. والثَّاني: وبه قال أبو حنيفة: أنه يجوز معاملته اعْتِمَاداً على قول السَّيد، ولو عامل المأذون من عرف رِقّه ولم يعرف إذنه، ثم بَانَ كونه مأذوناً فهو ملحق عند الأئمة بما إذا باع مال أبيه على ظَنّ أنه حي فإذا هو مَيّت، ويقرب منه قولان حكاهما الحليمي فيما إذا ¬
كذب مدعي الوِكَالة، ثم عامله فظهر صدقه في دعوى الوِكَالة. فرع: لو عرف كونه مأذوناً فعامله، ثم امْتنع من التَّسْليم إلى أن يقع الإِشْهَاد على الإذْن، فله ذلك خوفاً من خَطَرِ إِنكار السَّيد، كما لو صدق مُدَّعي الوِكَالة بقبض الحق، ثم امتنع من التَّسْلِيم حتى يشهد المُوكّل على الوِكَالة. فرع: حكي في "التتمة" قولين في جواز معاملة من لا يعرف رقّه وحريته: أظهرهما: الجواز؛ لأن الأصل والغالب في الناس الحرية. والثاني: المنع؛ لأن الأصل بقاء الحَجْر وما حكيناه عن "النهاية" في صدر الفصل، كأنه جواب على الأظهر والله تعالى أعلم. قال الغزالي: أَما العُهْدَةُ فَهُوَ مُطَالَبٌ (و) بِدُيُونِ معَامَلَتِهِ، وَكَذَا سَيَّدُهُ عَلَى الأظْهَرِ، وَقِيلَ: السَّيِّدُ لاَ يُطَالَبُ أَصْلاً، وَقِيلَ: يُطَالَبُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ العَبْدِ وَفَاءٌ، وَيُطْرَدُ هَذَا الخِلاَفُ فِي عَامِلِ القِرَاضِ مَعَ رَبِّ المَالِ، وَقِيلَ بِطَرْدِهِ أَيْضاً فِي المُوَكِّلِ إِذَّا سَلَّمَ إلَى وَكِيلِهِ أَلفاً مُعَيَّنَةٌ، وَإِنْ عَتَقَ العَبْدَ طُولِبَ بِهِ، فَإِنْ غَرَّمَة فَفِي رُجُوعِهِ عَلَى السَّيِّدِ وَجْهَانِ. قال الرَّافِعِيُّ: القول في لفظ العُهْدة وتفسيرها موضعه غير هذا. وأما فقه الفصل فإذا باع المأذون سِلعة وقبض الثَّمَن فاستحقّت السِّلعة، وقد تلف الثَّمَن في يد العبد فللمشتري الرُّجُوع ببدله على العبد، لأنه المباشر للعقد. وفي وجه: لا رجوع على العبد لأن يده يد السَّيِّد، وعبارته مستعارة في "الوسيط" وفي مطالبة السيد ثلاثة أوجه رتبها الإمام: أصحهما: أنه يطالب أيضاً؛ لأن العقد له، فكأنه البائع والقابض للثمن. والثاني: لا يطالب لأن السيد بالإذن قد أعطاه استقلالاً، فشرط من يعامله قصر الطمع على يده وذمته. والثالث: أنه إنْ كان في يد العَبْد وفاء، فلا يطالب السَّيِّد لحصول غرض المشتري، وإلاَّ فيطالب. وعن ابن سريج: أنه إنْ كان السَّيد قد دفع إليه عَيْن مال، وقال: بِعْها أو خُذْ ثمنها واتَّجر فيه، أو قال: اشْتر هذه السِّلْعَة وبعها واتَّجر في ثمنها ففعل، ثم ظهر الاستحقاق وطالبه المشتري بالثمن، فله أن يطالب السيد بقضاء الدَّين عنه؛ لأنه أوقعه في هذه الغَرَامة، وإن اشترى باختياره سلعة وباعها ثم ظهر الاستحقاق فلا، ولو اشترى المأذون شيئاً للتجارة ففي مطالبة السيد بالثمن الأوجه والوجه الأول والثاني جاريان في عامل القِرَاض مع ربِّ المال لتنزيل رَبِّ المال العهدة على المال المعيّن، ولو أن الرجل
سلم إلى وكيله ألفاً، وقال: اشْتَرِ لي عبداً وَأدِّ هذا في ثمنه، فَاشْتَرى الوَكِيل ففي مطالبته الموكل بالثَّمَنِ طريقان: أحدهما: أنه يطالب، ولا حكم لهذا التَّعْيين مع الوكيل؛ لأن الوَكِيل سفير مَحْض، والمأذون مستخدم يلزمه الامْتِثَال والتزام ما ألزمه السَّيِّد ذمته. وأقيسهما: طَرْدُ الوَجْهَيْنِ فيه وإذا تَوَجَّهت الطَّلبة على العبد لم تندفع بِعَتْقه، لكن في رجوعه بالمَغْرُوم بعد العِتْق وجهان: أحدهما: يرجع لانقطاع اسْتِحْقَاق السَّيِّد بِالعِتْق. وأظهرهما: لا يرجع؛ لأن المؤدى بعد العِتْق كالمستحق بالتَّصرف السابق على الرِّق، وهذا كالخِلاَف في أنَّ السيد إذا أعتق العبد الذي آجره في أثناء مدة الإجارة هل يرجع بأجرة مثله للمدة الواقعة بعد العتق. قال الغزالي: وَلَو سَلَّمَ إِلَى عَبْدِهِ أَلفاً لِيَتَّجِرَ بِهِ فَاشْتَرَى بِعَيْنِهِ شَيْئاً وَتَلَفَ الأَلْفُ انْفَسَخَ العَقْدُ، وَإِن اشْتَرَي فِي الذِّمَّةِ فَثَلاثَةُ أَوْجُهٍ، الثَّالِثُ أَنَّ لِلمَالِكِ الخِيَارَ إِنْ شَاءَ فَسَخَ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ وَأَبْدَلَ الألْفَ. قال الرَّافِعِيُّ: إذا سلم إلى عبده ألفاً ليتّجر به فاشترى بِعَيْنه شيئاً، ثم تلف الألف في يده انفسخ العقد، كما لو تلف المبيع قبل القبض، وإن اشترى فِي الذِّمة على عزم صرف الألف إلى الثَّمن ففي المَسْألة وجهان: أحدهما: أنه ينفسخ أيضاً؛ لأنه حصر إذنه في التَّصَرُّف في ذلك الألف، وقد فات محل الإذن. وأصحهما: أنه لا ينفسخ، وعلى هذا فوجهان: أحدهما: أنه يجب للسَّيد ألْف آخر، لأن العَقْد وقع له والثمن غير متعيّن فعليه الوفاء بإتمامه. والثاني: أنه لا يلزمه ذلك، ولكنه إنْ أخرج ألفاً آخر أمضى العَقْد، وإلاَّ فللبائع فسخ العقد، ويشبه أنْ يكون هذا أظهر، وهو اختيار الشيخ أبي محمد، وإذا ترك التَّرْتيب حصل في المَسْأَلة ثلاثة أوْجُه كما ذكر في الكتاب، ووراءها وجه رابع وهو أنَّ الثمن يكون في كسب العبد، والوجهان في الأصل كالوجهين فيما إذا دفع ألفاً قِرَاضاً إلى رجل، فاشترى شيئاً في الذمة، وتلف الألف عنده، هل على رب المال ألف آخر أو ينقلب العقد إلى العامل؟ إن قلنا بالأول فعلى السيد ألف آخر.
وإن قلنا بالثاني انفسخ العقد، وإذا قلنا على السيد أَلْف آخر فهل يتصرف العبد فيه بالإذن السابق أم لا بد من إذن جديد؟ فيه وجهان وهما كالوجهين، في أنه إذا أخرج ألْفاً آخر في صورة القِرَاض فرأس المال ألْف أو ألفان. إن قلنا: ألف فلا بد من إذن جديد. وإن قلنا: ألفان كفى الإذن السابق قال الإمام: والألف الجديد، إنما يطالب به البائع دون العبد، ولا شك أن العبد لا يمد يده إلى ألف من مال السيد، وأنه لا يتصرف فيما تسلّمه البائع، وإنما تظهر فائدة الخِلاَف فيما إذا ارتفع العَقْد بسبب من الأسباب ورجع الألف (¬1)، والله أعلم. قال الغزالي: أَمَّا قَضَاءُ دُيُونهِ فمِنْ مَالِ التِّجَارَةِ، لاَ مِنْ رَقَبَتِهِ (ح)، وَفِي تَعَلُّقِهِ بِاكْتِسَابِهِ مِنَ الاحْتِطَابِ وَغَيْرِهِ وَجْهَانِ. قال الرَّافِعِيُّ: الأمر الثّالث أن ديون التجارة من أين تؤدى، ولا شك أن دُيُون معاملات المأذون مُؤَدّاة مِمَّا في يده من مال التِّجارة، سواء فيه الأرباح الحاصلة بتجاراته ورأس المال، وهل يؤدّي من اكتسابه بغير طريق التجارة كالاصطياد، والاحتطاب؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، كسائر أموال السيد. وأصحهما: نعم، كما يتعلق به المهر، وثبوت النِّكَاح، ثم ما فضل من ذلك يكون في ذمته إلى أن يعتق، وهل يتعلّق بما يكتسبه بعد الحجر؟ فيه وجهان: قال في التهذيب: أصحهما: أنها لا تتعلق به ولا تتعلق برقبته ولا بِذِمّة السيد. أما أنها لا تتعلّق برقبته، فلأنه دَين لزمه بِرِضاء من له الدَّين فوجب أنْ لا يتعلق برقبته، كما لو استقرض بغير إذن السَّيد، وخالفنا أبو حنيفة فيه. وأما أنه لا يتعلّق بذمة السيد، فلأن ما لزمه بمُعَاوَضَة مقصودة بإذنه وجب أن تكون متعلقة بكسب العبد، كالنَّفقة في النكاح، ولو كان للمأذونة أولاد لم تتعلّق الديون بهم، خلافاً لأبي حنيفة في الَّذين ولدوا بعد الإذن في التجارة، ولو أتلف السيد ما في يد المأذون من أموال التِّجَارة فعليه ما أتلف بقدر الدَّين، ولو أنه قتل المأذون وليس في يده مال لم يلزم قضاء الدَّين. ¬
هذه مسائل الكتاب وما يناسبها، وفي المأذون فروع كثيرة، تذكر في مواضع متفرقة. والذي نورده في هذه الخاتمة أنه لو تَصَرَّف فيما في يد المأذون بِبَيْع أو هِبَة أو إِعْتَاق ولا دَيْن على العبد فهو جائز. وفي وجه: يشترط أن يقدم (¬1) عليه حجراً، وإن كان عليه دَيْن فقد سبق حكم تصرفه. وإذا باع العبد أو أعتقه صار مَحْجُوراً عليه في أصحِّ الوجهين، وفي قضاء ديونه مما يكتسبه في يد المشتري الخلاف المذكور فيما يكتسبه بعد الحَجْر عليه، واعلم أن المَسَائِل الخلافية بيننا وبين أبي حنيفة في المَأْذُون يبنى أكثرها على أنه يتصرف لنفسه أو لسيده، فعنده يتصرف لنفسه وعندنا لسيده، ولذلك نقول: إنه لا يبيع نَسِيئَة ولا بدون ثمن المِثْل، ولا يسافر بمال التجارة إلاَّ بإذن السَّيد، ولا يتمكّن من عزل نفسه بخلاف الوَكِيل. فرع: لو أذن لعبده في التِّجَارة مطلقاً ولم يعين مالاً، فعن أبي طاهر الزِّيَادِيّ أنه لا يصح هذا الإذن، وعن غيره أنه يصح، وله التَّصرف في أنواع الأموال، هذا تمام القسم الأول (¬2). قال الغزالي: وَأَمَّا غَيْرُ المَأذُونِ فَلاَ يَتَصَرَّفُ بِمَا يَضُرُّ سَيِّدَهُ كَالنِّكَاحِ فَإنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ دُونَ إِذْنِهِ، وَالأَقْيَسُ جَوَازُ اتِّهابِهِ، وَقُبولهِ الْوَصِيّةَ فَيَدْخُلُ فِي مِلْكِ سَيِّدِهِ كَمَا يَدْخُل بِاحْتِطَابِهِ، وَيَخْلَع زَوْجَتَهُ، وَلاَ يَصِحُّ (ز) ضَمَانُهُ وَشِرَاؤُهُ عَلَى الأَصَحِّ، لأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الوَفَاءِ بِالمُلْتَزِمِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يصِحُّ كَمَا فِي المُفْلِسِ، وَلاَ يَمْلِكُ العَبْدُ بِتَمْلِيكِ السَّيِّدِ (م) عَلَى القَوْلِ الجَدِيدِ. قال الرَّافِعِيُّ: القسم الثاني غير المأذون في التجارة، وهو قد يكون مأذوناً في غير التجارة، وقد لا يكون مأذوناً أصلاً، والمسائل الدَّاخلة في هذا القِسْم منتشرة في الأبواب، والتي أوردها في هذا الموضع خمس: إحداها: ليس للعبد أن ينكح بغير إذن السيد، لأنه لو جاز نكاحه لكان له أن يَطَأَ متى شاء، وأنه يورث ضعف البِنْيَة ويتضرَّر به السيد، هذا حكم كل تصرف يتعلّق برقبة العبد. ¬
الثانية: الهِبَة من عبد الإنسان والوصية له هبة ووصية للسيد، وفي صحة قبوله فيهما من غير إذن السيد وجهان: أحدهما: وبه قال الإِصْطَخْري: المنع لعدم رضاه بثبوت الملك. وأصحهما: الصحة، لأنه اكتساب لا يعقب عوضاً، فأشبه الاحْتِطَاب والاصْطِيَاد بغير إذنه، وأيضاً فإنَّ العَبْد إذا خالع زوجته صَحَّ وثبت العوض ويدخل في ملك السَّيد قهراً، فكذلك هاهنا، وصورة الوَصِيّة قد ذكرها صاحب الكتاب في الوَصِيّة. الثالثة: في صِحّة ضمانه بغير إذن السَّيد وجهان مُعَادان في كتاب الضَّمَان، وشرحهما بذلك الموضع أليق. الرابعة: هل يَصِحُّ شراؤه دون إذن السَّيد؟ فيه طريقان: أظهرهما: أن فيه وجهين: أحدهما وبه قال ابن أبي هريرة: نعم؛ لأنه يعتمد الذِّمة ولا حجر على ذمَّته. وأصحهما: لا، وبه قال أبو إسحاق والإِصْطَخري، لأنه لو صح فإما أن يثبت الملك له، وليس هو أهلا؛ لأن يملك أو لسيده وذلك إمَّا بعوض يلزمه أو بعوض يكون في ذمة العبد، والأول ما رَضِيَ به السيد. والثاني: ممتنع لما فيه من حصول أحد العوضين لغير من يلتزم الثاني، وبنوا الوجهين على القولين في أن المُفْلس المحجور عليه إذا اشترى شيئاً هل يصح؟ ووجه الشبه أن كل واحد منهما صحيح العبارة، وإنما حجر عليه لحق الغير. والطريق الثاني: القطع بالبطلان، ويفارق المفلس؛ لأنه أهل لِلَّتمليك (¬1). التفريع: إن صححنا شراءه، فمنهم من قال: إِنَّ المِلْك لِلسَّيد، والبَائع إن علم رِقّه لم يطالبه بشيء حتى يعتق، وإن لم يعلم فهو بالخِيَار بين الصَّبْر إلى العِتْق وبين أن يفسخ ويرجع إلى عَيْنِ ماله. ومنهم من قال: الملك للعبد والسَّيد بالخِيَار بَيْن أن يقر عليه، وبين أنْ ينتزعه من يده، وللبائع الرُّجوع إلى عيْنِ المبيع ما دام في يد العبد لتعذُّر تحصيل الثمن كما لو أفلس المُشْتَري بالثمن، وإن تلف في يده فليس له إلاَّ الصَّبر إلى أن يعتق، وإن انتزعه السَّيد فهل للبائع الرجوع؟ فيه وجهان: الذي أورده الأكثرون أنه لا يرجع، كما لو زال يد المشتري عما ¬
اشتراه ثم أفلس بالثمن، وفي "التتمة" أن الصحيح، أنه يرجع أيضاً بناء على أن المِلْك يحصل للسيد ابتداء، لا بالانتزاع وإن أفسدنا شرائه، فللمالك استراداد العَيْن ما دامت باقية سواء كانت في يد العبد، أو في يد السيد، وإن تلفت في يد العبد تَعَلَّق الضَّمَان بذمته، وإن تلفت في يد السَّيد فللبائع مطالبته بالضَّمان، وإلاَّ ليس له مطالبة العبد بعد العتق ولا يجب على السيد الضمان بأن رآه فلم يأخذه من يد العبد ولو أَدَّى الثَّمن من مال السَّيِّد فله استرداده، والاستقراض في جميع ما ذكرناه كالشراء، وللعبد إجارة نفسه بإذن السَّيد، وكذا له بَيْع نفسه ورهنها في أصح الوجهين، ولو اشترى العبد أو باع لغيره وِكَالة بغير إذن السيد ففيه وجهان: ذكر في التتمة أنهما مبنيان على الخلاف فيما لو اشترى لنفسه، والأصح المنع لما فيه من تعلّق العُهْدة بالوكيل. وقوله في الكتاب: "ولا يصح ضمانه وشراؤه" يجوز إعلامه بالحاء؛ لأن أبا حنيفة يصحح شراءه، وإيراد "الوسيط" يدل على أن المراد من قوله: (على الأصح)، الأصح من الطريقين. وقوله في الكتاب: (وقيل: إنه يصح كما في المفلس) إشارة إلى الطَّريق الثاني. المعنى يصح في قول كما في المفلس. وقوله: (لأنه عاجز عن الوفاء بالملتزم) وجهه في الضمان ظاهر، فإن الأداء في الحال متعذّر عليه، وأما في الشراء فهو مبني على أن للسيد أخذ المبيع منه فلا يبقى للثمن متعلّق في الحال. الخامسة: العبد هل يملك بتمليك السَّيد فيه قولان: القديبم: نعم، وبه قال مالك لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ بَاعَ عَبْداً وَلَهُ مَالٌ أَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهِ" (¬1). والجديد: لا، وبه قال أبو حنيفة، كما لا يملك بالإرث وتمليك غير السيد، ولأنه مملوك فأشبه البهيمة، وعن أحمد: روايتان كالقولين. فإنْ قلنا بالقديم فللسيد الرجوع عنه متى شاء، وليس للعبد التصرف فيه إلاَّ بإذن السيد، وله أن يشتري الجارية التي ملكها أباه إن أذن له فيه، وعن الأستاذ أبي إسحاق: منعه لضعف الملك، وإن لم يأذن له في الشراء فليس له ذلك، وفيه وجه، ولو كان له عبدان فملك كل واحد منهما صاحبه، فالحكم لِلتَّمليك الثاني، وهو رجوع عن الأول ¬
الباب الثاني في التحالف
فإنْ وقعا دفعة واحدة من وكيلين تدافعا (¬1) والله أعلم. البَابُ الثَّانِي فِي التَّحالُفِ قال الغزالي: وَالنَّظَر فِي سَبَبه وَكَيفِيَّتِهِ وَحُكْمِهِ، أَمَّا السَّبَبُ فَهُوَ التَّنَازُعُ فِي تَفْصِيلِ العَقْدِ وَكَيْفِيَّتِهِ بَعْدَ الاتَّفَاقِ عَلَى الأَصْلِ، كَالخِلاَفِ فِي قَدْرِ العِوَضِ (ح) وَجِنْسِهِ، وَقَدْرِ الأَجَلِ (ح) وَأَصْلِهِ (ح)، وَشَرْطِ الكَفِيلِ (ح) وَالخِيَارِ (ح) وَالرَّهْنِ (ح) وَغَيْرِهِ، فَمُوجِبُهُ التَّحَالُفُ سَوَاء كَانَتِ السِّلْعَةُ قَائِمَةً أَوْ هَالِكَةً (ح م) جَرَى مَعَ العَاقِدِ، أَوْ مَعَ وَرَثَتِهِ، قَبْلَ القَبْضِ أَوْ بَعدَهُ (ح) لِقَوْلِهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا اخْتَلَفَ المُتبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا". قال الرَّافِعِيُّ: الأصل في الباب ما روي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا اخْتَلَفَ المُتَبَايِعَانِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِع وَالْمُبْتَاعُ بالْخِيَار"، ومعناه أن المبتاع بالخِيَار بين إِمْسَاكه بما حلف عليه البائع، وبين أن يحلف عَلى ما يقوله للراوية الأخرى: "إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا" (¬2). وفي رواية: "إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ، وَلاَ بَيِّنَةَ لأَحَدِهِمَا تَحَالَفَا" (¬3). إذا عرفت ذلك، فكلام الباب يقع في ثلاثة فصول: أحدها: في السَّبب المحوج إلى التَّحالف، ومتى تبايع اثنان ثم وقع بينهما اختلاف، فذلك إما أن يكون مع الاتِّفَاق على عقد صحيح أولاً معه. القسم الأول أن يختلفا مع الاتِّفَاق على عقد صحيح مثل أنْ يختلفا في قدر الثمن، فيقول البَائِع: بعتك هذا بمائة، فيقول المشتري: بخمسين، فينظر إنْ كان لأحدهما بَيِّنة قضى بها، وإن أقام كل واحد منهما بَيّنة على ما يقوله سمعتا من حيث إن ¬
كل واحد منهما مدع ومدعى عليه، ثم إن قلنا بالتَّساقط فكان لا بينة، وإلاَّ توفقنا إلى ظهور الحال، وإنْ لم يكن لواحد منهما بينة فيتحالفان، لأن كل واحد منهما مدّع ومدعى عليه في تمليك السلعة فالبائع مدع زيادة الثمن، ومدعى عليه في تمليك السّلعة بالأقل، والمشتري بالعكس، فإذا لم يكن بَيّنة حلف كل واحد منهما، ولا فَرْقَ في ذلك بين أن تكون السلعة قائمة، أو هالكة. وقال أبو حنيفة: إنما يتحالفان عند قِيَام السّلْعَة، أما إذَا هَلَكَت، فالقول قول المُشْتَرِي مع يمينه. وعن أحمد روايتان كالمذهبين. وعن مالك مثل ذلك، ورواية ثالثة عن ابن المنذر هي أنه إن كان قبل القَبْض تحالفا، وإن كان بعده فالقول قول المشتري، لنا ما سبق من إطلاق الأخبار، وقياس حالة الهلاك على حالة البقاء، لا فرق أيضاً بين أنْ يقع الاخْتِلاَف بين المُتَبَايعين، أو ورثتهما بعدهما. وقال أبو حنيفة: إنْ كان المَبِيع مَقْبُوض تحالفا، وإلاَّ فالقَوْل قول ورثة المبتاع. ولو اختلفا في جنس الثمن، أو بعض صفاته، فهو كالخِلاَف في القدر، وكذا الاختلاف في قدر المَبيْع بأن يقول البائع: بعتك هذا العبد، ويقول المشتري: هذا العبد، وهذا الثوب والاَختلاف في قدر المبيع، والثمن بأن يقول البائع: بِعْتُك هذا العبد بألف، ويقول المشتري: بعتنيه وهذه الجارية بألفين، ولو قال البائع: بعتك هذا العبد، فقال المشتري: بِعْتني هذه الجارية ولم يختلفا في الثمن، نظر إنْ كان الثمن معيناً تحالفا كما لو اختلفا في جنس الثمن، وإنْ كان الثمن في الذمة، فوجهان: أحدهما: أنهما يتحالفان أيضاً كما لو كان معيناً، وبهذا أجاب ابن الحَدَّاد، واختاره القاضي أبو الطَّيب، وابن الصباغ -رحمهم الله-. والثَّاني: أنه لا تحالف؛ لأن المبيع مختلف فيه، والثمن ليس بمعيّن حتى يربط به العقد، ويحكى هذا عن الشيخ أبي حامد، واختاره الإمام وصاحب "التتمة"، ونظير المسألة من الصَّدَاق أن يقول الزوج: أصْدَقتك أباك فقالت: بل أمي، وقد أوردها صاحب الكتاب في آخر "كتاب الصَّدَاق" ورأى الأصح التحالف، فإن قلنا: لا تَحَالُف حلف كل واحد منهما على نفي ما يدعيه صاحبه، ولم يجمع أحدهما في اليَمِين بين النفي والإثبات، ولا يتعلق بينهما فَسْخٌ ولا انفساخ، ولو كانت المَسْألة بحالها، وأقام كل واحد منهما بَيِّنة على ما ذكره سلمت الجارية للمشتري، وأما العبد فقد أقر البائع بيعه، وقامت البَيِّنة عليه، أو لم تقم فإن كان في يد المشتري أقر عنده، وإن كان في يد البائع، فوجهان: أحدهما: أنه يسلم إلى المشتري ويجبر على قبوله.
والثَّاني: لا يجبر لأنه ينكر ملكه فيه، فعلى هذا يقبضه الحاكم وينفق عليه من كَسْبه، فإنْ لم يَكُنْ له كسب، ورأْى الحَظَّ في بيعه وحفظ ثمنه فعل، ولو أنفقا على المبيع والثمن، واختلفا في شرط الخيار أو قدره أو شرط الرهن بالثمن أو الكفيل أو شرط الأجل أو قدره، جرى التحالف أيضاً، خلافاً لأبي حنيفة وأحمد حيث قالا: الاختلاف في شروط العقد لا يقتضي التَّحَالف، ولكن القول قول من منعها (¬1). لنا إطلاق الأخبار السَّابقة، والرِّوَاية المذكورة في الكتاب، ولا تخفى المواضع المستحقة للعلامات من ألفاظ الكتاب. قال الغزالي: وَيَجْرِي فِي كُلِّ مُعَاوَضَة، كَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ العَمْدِ، وَالخُلْعِ، وَالنِّكَاحِ، وَالإِجَارَةِ، وَالمُسَاقَاةِ، وَالقِرَاضِ، وَالجَعَالَةِ، وَلَكِنَّ أَثَرَهُ فِي بَدَلِ الدَّمِ وَالبُضْعِ الرُّجُوعُ إلَى بَدَلِ المِثْلِ لاَ فَسْخُ الخُلْعِ وَالنِّكَاح، وَلَوْ قَالَ: وَهَبْتُ هَذَا مِنِّي فَقَال: لاَ بَلْ بِعْتُهُ فَالقَوْلُ قَوْلُهُ فِي أَنَّهُ مَا وَهَبَ، وَلَمْ يَتَحَالَفَاَ إِذْ لَمْ يتَّفِقَا عَلى عَقْدٍ. قال الرَّافِعِيُّ: في الفصل مسألتان: إحداهما: أن التَّحَالف لا يختص بِالمُبَايعات، بل يجري في سائر عقود المُعَاوضات من السّلم والإِجَارة والمُسَاقَاة والقِرَاض والجَعَالَة والصلح عن الدم والخُلْع والصَّداق والكتابة طرداً للمعنى، ثم في البيع ونحوه يُفسخ العقد بعد التحالف، أو ينفسخ ويترادَّان كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وفي الصُّلْح عن الدَّمِ لا يعود استحقاق، بل إنَّ التحالف في الرجوع إلى الدِّيَة، فكذلك لا يرتدّ البُضع، ولكن في النكاح ترجع المرأة إلى مهر المثل، وفي الخُلْع يرجع إليه الزوج، وسيعود ذكر هذا الكلام في كتابيهما، ثم ذكر الإمام -قدس الله روحه- في هذا الموضع إشكالاً. فقال: أي معنى للتحالف في القِرَاض مع أنه جائز، وكل واحد منهما بسَبِيْل من فسخه بكل حال، وأيد ذلك بأن القاضي الحسين منع من التحَالف في البَيعَ في زمان الخِيَار ومكانه لإمكان الفسخ بسبب الخيار، وأجاب بأن التَّحَالف ما وُضع للفسخ، ولكن عُرضت الأَيْمَان رجاء أن ينكل الكاذب، فيقرر العَقْد بيمين الصَّادق، فإذا لم يتفق ذلك وأصرَّا فُسخ العقد لِلضَّرورة، ونازع القاضي فيما ذكره لإِشْكَالاَت قررها، ثم مال بالآخرة إلى موافقته، ورأى في القِرَاض أن يفصَّل، فيقال: التحالف قبل الخوض في العمل لا معنى له، وأما بعده فالنزاع يؤول إلى مقصود لا خيرة فيه من ربح أو أجر مثل، فيتحالفان والجَعَالَةُ كالقِرَاضِ. ¬
الثانية: لو قال: بِعْتُك هذا بالألْف، فقال: بل وَهَبْتنيه، فلا تحالف إذ لم يتفقا على عقد، ولكن يحلف كل واحد منهما على نفي ما يَدَّعيه صاحبه، فإذا حلفا فعلى مدعي الهِبَة رده بزوائده، هذا هو المَشْهُور ووراءه شيئان. أحدهما: عن صاحب "التقريب" رواية قول أن القول قول مدعي الهِبَة، لأنه مالك باتفاقهما وصاحبه يدعي عليه، والأصل براءة ذمته عنه. والثَّانِي: أطلق في "التتمة" وَجْهًا أنهما يتحالفان، وادَّعى أنه الصحيح، ولو قال: بعتك هذا بِألْف فقال بل وَهَبْتنيه حلف كل واحد منهما على نفي ما يدعيه صاحبه، ورد الألف واسترد العَين، ولو قال: رهنتكه بألف استقرضته، فقال: بل بعتنيه بألف، فالقول قول المالك مع يمينه وترد الألف، ولا يمين على الآخر، ولا يكون رهناً؛ لأنه لا يدعيه قاله في "التهذيب". قال الغزالي: وَلَوْ تَنَازَعَا في شَرْطٍ مُفْسِدٍ فَكَذَلِكَ، وَالأَصَحُّ أَنَّ القَوْلَ قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُ الشَّرْطَ الفَاسِدَ، وَلَو رَدَّ المَبِيعَ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ فَقَالَ: هَذَا لَيْسَ مَا قَبَضْتَهُ مِنِّي فَالقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ جَرَى ذَلِكَ فِي المُسَلَّمِ فِيهِ فَفِيهِ خِلاَفٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ بِقَبْضٍ صحِيحٍ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ رَضِيَ بِهِ لَوَقَعَ عَنْ جِهَةِ الاسْتِحْقَاقِ لِرُجوعِ التَّفَاوُتِ إِلَى الصِّفَةِ فَهُوَ كالمَبِيعِ؛ لأَنَّ القَبْضَ صَحِيحٌ فِيهِ لَوْ رَضِيَ بِهِ. قال الرَّافِعِيُّ: القسم الثَّاني: أن يختلفا من غير الاتِّفَاق على عقد صحيح بأن يدّعي أحدهما صحة العَقْد، والآخر فساده كما إذا قال: بعتك بألف، فقال المشتري: بل بألف وزِقّ خمر أو قال أحدهما: شرطنا في العقد شرطاً مفسداً، وأنكر الآخر فلا تحالف، وفيمن القول قوله وجهان: أصحهما عند صاحب "التهذيب": أَن القول قول من يدعي الفساد مع يمينه" لأن الأصل عدم العقد الصَّحِيح، وبقاء الملك للمالك، وصار كما لو اختلفا في أصل البيع. وأصحهما عند المصنف، وهو اختيار الشيخ أبي حامد، وابن الصباغ: أن القول قول من يدعي الصِّحة؛ لأن الظاهر من العقود الجارية بين المسلمين الصِّحة، واحتج لهذا الوَجْه بنصه في البُويطيّ فيمن أسلم إلى رجل في طعام واختلفا فادعى المُسَلّم إليه أنه شرط فيه الخيار، وأنكره المسلم أن القول قول المسلم مع يمينه، وأيضاً فلو قال: هذا الذي يعتنيه حر الأصل، وقال البائع: بل هو مملوك، فالقول قول البائع وذكر الأئمة تخريج الوجهين على أصلين: أحدهما عن القاضي أبي الطيب: أن أصل الوَجْهَين قولان للشَّافعي -رضي الله عنه- فيمن تكفَّل برجل ثم اختلفا، فقال تَكَفَّلت على أن الخِيَار ثلاثاً، وأنكر المكفول
له أن القول قول الكفيل أو المكفول له. والثَّاني عن القَفَّال أن أصلهما القولان فيمن قال لفلان: عليَّ ألف من ثمن الخمر، هل يوآخذ بأول كلامه أم يقبل قوله من ثمن الخمر؟ إن قلنا بالثاني، فالقول قول من يدّعي الفَسَاد. وَإن قلنا بالأول، فالقول قول من يدعي الصِّحة، ولمخرج أن يخرج الوجهين على قولي تقابل الأصل والظاهر، ولو قال: بعتك بألف، فقال: بل بخمر أو بثمن مجهول. ففي "التهذيب" نقل طريقين. أظهرهما: طَرْدُ الوَجْهَيْن. والثاني: القطع بالفساد؛ لأنه لم يقر بشيء ملزم، وإذا فرعنا علي أن القول قول من يدّعي الصِّحة، فلو قال: بعتك بألف، فقال: بل بخمسمائة وزِقّ خمر، وحلف البائع على نفي سبب الفساد صدق فيه وبقي التنازع في قدر الثمن فيتحالفان. ثم الفصل يشتمل على مسألة أخرى في اخْتلاف المُتَبَايعين من وجه آخر، وهي أن يشتري عبداَ مثلاً ثم يجيء بِعَبْد ويريد ردَّه بعيب فيه فيقول البائع: ليس هذا ما ابتعته وقبضته مِنِّي، فالقول قول البَائع لأن الرَّادَّ يريد الفسخ، والأصل مُضِيُّه على السَّلامة، ولو فرض ذلك في التسلم، أو قال: ليس هذا على الوصف الذي أسلمت إليك فيه، ففيه وجهان: أحدهما: أن القول قول المُسَلم إليه مع يمينه، كما أن القول قول البائع، وبهذا أجاب في "التتمة". وأصحهما: أن القول قول المسلم، لأن اشتغال ذمّته بمال السلم معلوم، والبراءة غير مَعْلُومة، ويفارق صورة البيع؛ لأنهما اتفقا على قبض ما ورد عليه الشِّرَاء، وتنازعا في سَبَبِ الفسخ، والأصل استمرار العقد، والوجهان جاريان في الثمن في الذمة أن القول قول القابض أو الدافع، وعن ابن سُرَيْجٍ وجه ثالث: وهو أنه يفرق بين ما يمنع صحّة القبض وبين العيب الذي يمنعها، فإذا كان الثمن دراهم في الذمة وفرض هذا النزاع، وكان ما أراد البائع رده زُيوفاً ولم يكن وَرِقاً، فالقول قول البائع لإنكار أصل القبض الصحيح، وإن كانت وَرِقاً لكنها رَدِيئةٌ النوع لخشونة أو اضطراب سَكة، فالقول قول المشتري، لأن أصل القبض قد تحقق، ولو رضي به لوقع المقبوض عن الاستحقاق، ولا يخفى التفصيل في المُسَلّم فيه، ولك أنْ تقول: المعنى الفارق في المُسَلَّم فيه ظاهر، فإن الاعتياض عنه غير جائز، ولكن في الثمن لو رضي بالمقبوض لوقع عَنِ الاسْتِحْقَاق، وإن لم يكن ورقاً متى كانت لو قيمة؛ لأن الاستبدال عن الثمن جائز على الصَّحيح.
وقوله في الكتاب: "الرجوع التفاوت إلى الصفة"، أراد صفات الجَوْدَة والرَّدَاوَة، فإن أخذ الرَّدِيء عن الجَيِّدِ جائز، وإنَّما المانع من الأخذ تَغَايُر الجنس، ولو كان الثمن مَعِيباً فهو كالمبيع، فإذا وقع فيه هذا الاختلاف فالقول قول المُشْتري مع يمينه. قال في "التهذيب": لو كان المعين نحاساً لا قيمة له فالقول قول الرَّاد، لأنه يدّعي بقاء مِلْكه وفساد العقد، ولك أنْ تقول ينبغي أن يكون هذا على الخلاف فيما إذا ادَّعى أحدهما صحة العقد والآخر فساده، ولو اشترى طعاماً كيلاً وقبضه بالكيل أو وزناً وقبضه بالوزن، أو أسلم فيه وقبضه، ثم جاء وادعى نقصانًا فيه نظر إِنْ كان قدر ما يقع مثله في الكيل والوزن قُبِلَ، وإلاَّ فقولان عن رواية الربيع. أحدهما: أن القول قول القَابِض مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء حقه، ويحكى هذا عن أبي حنيفة ورجحه صاحب "التهذيب". والثَّاني ويحكى عن مالك: أن القول قول الدَّافع مع يمينه؛ لأنهما اتَّفَقا على القبض والقابض يدّعي الخطأ فيه، فيحتاج إلى البَيِّنَة كما لو اقتسما، ثم جاء أحدهما وادَّعى الخطأ فيه، يحتاج إلى البَيِّنة وهذا أصح عند القاضي أبي الطيب وغيره، ولو اختلف المتبايعان في القَبْض، فالقول قول المُشْتَري ولو باع عَصِيراً وحصل القَبْض فوجد خَمْراً. فقال البائع: تخمر في يدك، وقال المشتري: بل سلمته خمراً، والقبض فاسد وأمكن الأَمْران جميعاً، فقولان: أحدهما: أن القول قول البائع لأن الأصل بقاء الحَلاَوة. والثاني: أنَّ القول قول المشتري، لأن الأصل عدم القبض الصحيح. ولو قال أحدهما: أنه كان خمراً عند البيع، فهذا يدّعي فساد العقد والآخر يدعي صحته وقد سبق حكمه، وبهذا يقاس ما لو باعه لبناً فأخذه المُشْتري في ظرف ثم وجدت فيه فَأْرة، وتنازعا في نَجَاسته عند القبض وعند البيع. ولو قال المشتري: بعت العبد بشرط أنه كاتب، وأنكره البائع فوجهان: أحدهما: أن القول قول البائع كما لو اختلفا في العيْب. والثاني: أنهما يتخالفان كما لو اختلفا في الأجل أو الخيار. قال في "التتمة": وهذا أصح، ولو كان الثمن مؤجلاً، واختلفا في انقضاء الأجل فالأصل بقاؤه. قال الغزالي: أَمَّا كَيْفِيَّةُ اليَمِينِ فَالبَدَاءَةُ (ح) بِالبَائِعِ، وَفِي السَّلَمِ بِالمُسَلَّمِ إِلَيْهِ، وَفِي الكِتَابَةِ بِالسَّيِّدِ؛ لأَنَّهُمَا في رُتْبَةِ البَائِعِ، وَفِي الصَّدَاقِ بِالزَّوْجِ؛ لأَنَّهُ فِي رُتْبَةِ بِائِعِ الصَّدَاقِ،
وَأَثَر التَّحَالُفِ يَظْهَرُ فِيهِ لاَ فِي البُضْعِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُبْدَأُ بِالمُشْتَرِي وَهُوَ مُخَرَّجٌ، وَقِيلَ: يَتَسَاوَيَانِ فَيُقَدَّمُ بِالقُرْعَةِ أَوْ بَرَأْيِ القَاضِي، ثُمَّ يَحْلِفُ البَائع يَمِيناً وَاحِداً وَيَجْمَعُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالإثْبَاتِ، وَيُقَدِّمُ (و) النَّفْيَ فَيَقُولُ: وَاللهِ مَا بِعْتُهُ بِألْفٍ بَلْ بِعْتُهُ بِأَلْفَيْنِ، فَإِنْ حَلَفَ البَائِعُ عَلَيْهِمَا وَنَكَلَ المُشْتَرِي عن أَحَدِهِمَا قَضِيَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ أنَّهُ لاَ يَجْمَعُ فِي يَمِينٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَ النَّفْيِ وَالإِثْبَاتِ بَلْ يَحْلِفُ البَائِعُ عَلَى النَّفْيِ ثُمَّ المُشْتَرِي عَلَى النَّفْيِ، ثُمَّ البَائِعُ عَلى الإِثْبَاتِ ثُمَّ المُشْتَرِي عَلَى الإِثْبَاتِ فَيَتعَدَّدُ اليَمِينُ. قال الرَّافِعِيُّ: الفصل الثاني في كيفية التَّحَالف: وقاعدته أن يحلف كل واحد من المُتَعَاقدين على إثبات ما يقوله، ونفي ما يقوله صاحبه. ثم فيه مسألتان: إحداهما: فيمن يبدأ به من المتعاقدين، وقد نَصَّ في البيع أنه يبدأُ بالبائع، وفي المسلم أنه يبدأ بالمسلم إليه، وفي الكتابة بالسَّيد وهذه النُّصوص متوافقة وفي الصَّدَّاق أنه يبدأ بِالزَّوْج، وظاهره يخالف سائر النُّصُوص؛ لأن الزَّوج شَبِيهٌ بالمشتري، ونَصَّ في الدَّعَاوَى، أنه إن بدأ بيمِين البائع خير المشتري، وإن بدأ بيمين المشتري خير البائع وهذا يشعر بالتَّسوية والتَّخيير، وللأصحاب طريقان: أظهرهما: أن المَسْأَلة على ثلاثة أقوال: أظهرهما: أن البِدَاية بالبائع، وبه قال أحمد، واحتجوا له بأن جانبه أقوى؛ لأن مِلْكه على الثمن يتم بالعقد، ومِلْك المشتري على المبيع لا يتم بالعقد، ولأن المبيع يعود إليه بعد التَّحَالف. والثَّاني: أن البداية بالمشتري، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن البائع يدّعي عليه زيادة الثَّمن، والأصل براءة ذمَّته عنها فيقوى بذلك جانبه. والثالث: أنه لا بداية بل يَتَسَاويان؛ لأن كل واحد منهما مدع عليه فلا ترجيح. وعن الشيخ أبي حامد أنَّ هذا أقيس، وإن كان الأول ظاهر المذهب وعلى هذا فوجهان: أظهرهما: أن الحاكم مخير في ذلك يبدأ بمن اتَّفق. والثَّاني: أنه يقرع بينهما كما يقرع بين المُتَسَاويين إلى مجلسه. والطريق الثاني: القطع بأن البِدَاية بالبائع، ومن قال بهذا قطع بأن البداية في اختلاف الزوجين بالزوج على ما نصّ عليه وقرره من وجهين:
أحدهما: أنَّ أثر تحالف الزوجين، إنما يظهر في الصَّدَاق دون البُضع، والزوج هو الذي ينزل عن الصداق فكان كالبائع له. والثاني: أن تقديم البائع إنما كان لقوة جانبه بحُصُول المبيع له بعد التحالف وفي النِّكَاح يبقى البُضْعُ للزوج. وأما نصه في "كتاب الدَّعَاوَى" فستعرف تأويله إن شاء الله تعالى. إذا قلنا بطريقة إثبات الخلاف، فإن قدمنا البائع لم يخف من ينزل منزلته في سائر العُقُود وفي الصَّدَاق يأتي وجهان: أحدهما: أن البداية بالمرأة لِمَا مَرَّ وَإِنْ قدمنا المشتري، نقله صاحب "التهذيب" وغيره. وأوفقهما للنص: أن البداية بالزوج لِمَا مَرّ، وإنْ قدمنا المشتري فالقِيَاسُ انْعكاس الوجهين والله أعلم. ثم هاهنا أمران: أحدهما: أن جميع ما ذكرناه في الاسْتِحْباب دون الإيجاب، والاشتراط نص عليه الشَّيخ أبو حامد وصاحب "التهذيب" و"التتمة"، وهو أحد ما حمل عليه نصه في الدَّعَاوى. والثَّاني: أنَّ تقديم أحد الجَانِبَيْن مخصوص بِمَّا إذا بَاعَ عرضاً بثمن في الذّمة. فأما إذا تَبادلا عرضاً بعرض فلا تتجه إلاَّ التسوية ذكره الإمام، وينبغي أنْ يخرج ذلك على أنَّ الثَّمَن ماذا؟ وقد سبق الخِلاَف فيه. المسألة الثَّانِية في تعدد اليمين وصفتها: ظاهر نَصّ الشَّافعي -رضي الله عنه- الاكتفاء بِيَمين واحدة من كل واحد من المُتَعَاقدين يجميع فيها بين النَّفْي والإِثْبات، فيقول البائع: ما بعت بخمسمائة وإنما بعت بألف، ويقول المشتري: ما اشتريت بألف وإنَّمَا اشتريتُ بخمسمائة، ولو كان في يد رجلين دَارٌ فادَّعى كل واحد منهما أن جميعها له فالنص أن كل واحد منهما يحلف على مجرد نفي استحقاق صاحبه ما في يده، فلو حلف أحدهما ونكل الآخر فالحالف يحلف يميناً أخرى لِلإِثْبَات، وللأصحاب فيهما طريقان: أصحهما: تقريرُ النَّصَّين، والفرق أن منفي كل واحد منهما في ضِمْن مثبته، لأن العقد واحد بالاتِّفَاق والتَّنَازع في صِفَتِه فكأن الدعوى واحدة فجاز التَّعرض في اليمين الوأحدة للنفي والإثبات، وفي مسألة الدَّار منفى كل واحد منهما ممتاز عن مثبته، فلا معنى لِيَمِيْنِهِ على الإِثْبَات قبل نكول صَاحِبِه. والثاني: التصرف بتخريج قول من مسألة الدار، فيما نحن فيه.
ووجهه الجري على قياس الخصومات، فإنَّ يمين الإثبات لاَ يُبْدأ بها في غير القسَامة، وهل يتصرف بتخريج قول ما نحن فيه في مسألة الدار أيضاً؟ قال الأكثرون: نعم، حتى يكون قولان بالنقل والتخريج. وقال الشيخ أبو حامد والإمام: لا، وهو الحق لأن كل واحد منهما لا يحتاج فيما في يده إلى الإثبات، واليمين على الإِثبات يَمين الرد، فكيف يحْلِف الأول يمين الرد وصاحبه لم ينكل بعد، وكيف يَحْلِفُهاَ الثاني وقد حَلَفَ صاحبه. التفريع: إن اكتفينا بيمين واحدة يجمع فيها بين النفي والإثبات، فإذا حلف أحدهما ونكل عن الثَّاني، قضى لِلْحَالف سواء نكل عن النَّفْي والإِثْبَات جميعاً، أو عن أحدهما، والنكول عن البعض كهو عن الكل وينبغي أن يقدم النَّفي على الإِثبات؛ لأن النفي هو الأصل في الأَيْمَان. وعن الإِصْطَخريّ: أنَّ الإثبات مقدم؛ لأنه المقصود وهذا الخلاف في الاستحباب أو الاستحقاق. والأظهر: الأول، ونقل الإمام الثّاني. وإن قلنا: يَحْلِف أَوَّلاً على مجرد النفي، فلو أضاف إليه الإثبات كان لَغْواً، وإذا حَلَفَ مَنْ وقعت البداية به على النَّفي عرضت اليمين على الثاني، فإن نكل حلف الأول على الإثْبَات وقضى له، وإنْ نكل عن الإثبات لم يقض له لاحتمال صدقه في نفي ما يدعيه صاحبه، وكذبه فيما يدعيه. ثم عن الشيخ أبي محمد أنه كما لو تَحَالفا، لأن المَرْدُودة عليه عن يمين الرِّدِّ نازلة في الدَّعَاوَى منزلة حلف النَّاكِلِ أَوَّلاً، ولو نكل الأول عن اليمين حلف الآخر على النَّفْي والإِثْبات وقَضَى له ولو حلفا على النَّفْي فوجهان: أصحهما وبه قال الشيخ أبو محمد: أنه يكفي ذلك، ولا حاجة بعده إلى يمين الإِثبات؛ لأن المُحوْج إلى الفسخ جَهَالة الثَّمَن وقد حصلت. والثَّاني: أنه تعرض يمين الإِثْبَات عليهما، فإن حلفا تمَّ التَّحالف، وإن نكل أحدهما قضى للحالف، والقول في أنه يقدم يمين النَّفْي أو الإثبات بما ذكرنا على تقدير الاكْتِفَاء بيمين واحدة، ولو عرضت اليَميْنُ عليهما فنكلا جميعاً فيه وجهان للإمام: أحدهما: أن تَنَاكُلهما كتحالفهما، كما أنه إذا تداعى رجلان مولوداً كان ذلك كتحالفهما. والثاني: أنه يوقف الأمر وكأنهما تركا الخصومة (¬1). قوله في الكتاب في المسألة الأولى: (وقيل: إنه يَبْدَأ بالمشتري وهو مخرج) إنما ¬
ذكر ذلك؛ لأنه مأخوذ من نَصِّه في الصَّدَاق، يجوز إعلام قوله، وقيل في الموضعين بالواو للطريق القاطعة بأن البداية بالبائع. وقوله: (فالبداءة بالبائع) مُعَلّم بالحاء. وقوله: (يبدأ بالمشتري) بالألف. قوله: (يتساويان) بهما. وقوله: (فيتقدم بالقُرعة أو برأي القاضي) ليس لِلتَّخْيير، وإنما أراد به الوجهين اللَّذَيْن قدمناهما. وقوله: (ويقدم النَّفي) في المَسْألة الثانية معلّم بالواو. وقوله: (بل يحلف البائع على النفي) إلى آخره مفرع على أن البداية بالبائع. قال الغزالي: أَمَّا حُكْمُ التَّحَالُفِ فَهُوَ إِنْشَاءُ الفَسْخِ إِذَا اسْتَمَرَّا عَلَى النِّزَاعِ، وَفِيهِ قَوْلٌ مُخَرّجٌ أنَّهُ يَنْفَسِخُ، ثُمَّ القَاضِي يَفْسَخُ، أَوْ مَنْ (و) أَرَادَ مِنَ المُتَعَاقِدَيْنِ فِيهِ وَجْهَانِ. قال الرَّافِعِيُّ: الفصل الثالث في حكم التَّحالف وثمرته إذا تحالف المتعاقدان، ففي العقد وجهان: أحدهما: أنه يَنْفسخ كما يَنْفَسخ النِّكَاح بتحالف المُتَلاَعنين؛ ولأن التَّحَالف يحقق ما قالاه، ولو قال البائع: بعت بألف، فقال المشتري: اشتريت بخمسمائة لم ينعقد، فكذلك هاهنا. وأصحهما وهو المنصوص: أنه لا ينفسخ؛ لأن البَينة أقوى من اليمين، ولو أقام كل واحد منهما بينة على ما يقوله لا ينفسخ العقد، فباليمين أَوْلى أن لا ينفسخ. التفريع: إنْ قُلْنَا بالأول فلو تصادقا على أخذ الثمن لم يعد نافذاً، بل لا بد من تجديد عَقْدٍ، وهل يَنْفَسخ في الحال أو نتبين ارتفاعه من أصله؟ فيه وجهان: أظهرهما: أولهما لنفوذ تَصَرُّفَات المُشْتري قبل الاختلاف. ويحكى الثَّاني عن أبي بكر الفارسي. وإن قلنا بالأصح، فالحُكْم يدعوهما بعد التَّحَالف إلى المُوَافَقَة، فينظر هل يعطى المشتري ما يقوله البائع من الثمن؟ فإنْ فعل أجبر البائع عليه وإلاَّ نظر هل يَقنع البائع بما يقوله المشتري؟ فإنْ فعل فذاك وإلاَّ فيحينئذٍ يحتاج إلى فسخ العقد، وَمَنِ الذي يفسخه؟ فيها وجهان: أحدهما: الحاكم الفسخ بالعُنَّة، لأنه فسخ مجتهد فيه. وأظهرهما: أن للمتعاقدين أيضاً أنْ يفسخا، ولأحدهما أن ينفرد به كالفسخ بالعيب. قال الإمام: وإذا قلنا: الحاكم هو الَّذِي يفسخ فذاك إذا استمرَّا على النّزاع ولم يفسخا أو التمسا الفسخ فأمَّا إذا أعرضنا عن الخُصُومة ولم يتوافقا على شيء ولا فسخا ففيه تردد، ثم إذا فسخ العَقْد ارتفع في الظَّاهر، وهل يرتفع في الباطن؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا؛ لأن سبب الفَسْخ تعذُّر إمضائه لعدم الوقوف على الثمن، وإنه أمر
يتعلق بالظَّاهر. والثاني: نعم؛ كالفَسْخِ يتعلّق بالعيب. والثالث: إنْ كان البائع صَادِقاً فنعم لتعذر وصوله إلى حَقّه كما لو فسخ بإفلاس المشتري، وإن كان كاذباً فلا تمكنه من الوصول إلى ما ثبت له، وهل يجري مثل هذا الخلاف إذا فرعنا على انفساخ العقد بنفس التَّحَالف، أم يجزم بالارتفاع باطناً أيضاً؟ اختلفوا فيه، وإذا قلنا بالارتفاع باطناً ترادّا وتصرف كل واحد منهما فيما عاد إليه، وإن منعناه لم يجز لهما التَّصرف، لكن لو كان البائع صادقاً فقد ظَفَرَ بمال من ظلمه لما استرد المبيع فله بيعه، إما بالحاكم في أحد الوجهين أو بنفسه في أصحهما واستيفاء حقه من ثمنه. واعلم أَنَّ جميع ما ذكرناه مفرغ في قالب واحد، وهو أن يكون اختلافهما في قدر الثمن، وللإمام عِبَارة نحو هذه الصُّورة، وسائر صور الاخْتِلاَف، وهي أن الفَسْخ إنْ صدر من المحق فالوجه تنفيذه باطناً، وإن صدر من المبطل فالوجه منعه، وإن صدر منهما جميعاً فَلاَ شَكَّ في الانْفِسَاخ باطناً، وليس ذلك موضع الخِلاَف. قال المصنف في "الوسيط": كما لو تَقَايلا، وإذا صدر من المبطل ولم ينفذه باطناً فطريق الصادق إنشاء الفسخ، وإن أراد الملك فيما عاد إليه، وإِنْ صدر من القاضي فالظَّاهر الانْفِسَاخ باطنًا لينتفع به المحق. قال الغزالي: ثُمَّ يَرُدُّ عَيْنَ المَبِيعِ عِنْدَ التَّفَاسُخِ إِنْ كَانَ قَائِماً وإِلاَّ فَقِيمَتُهُ عِنْدَ التَّلَفِ اعْتِبَاراً بِقيمَتِهِ يَوْمَ التَّلَف عَلَى الأَصَحِّ، وَقِيلَ: يُعْتَبَرَ يَوْمُ القَبْضِ، وَلَوْ كَانَ المَبيعُ عَبْدَيْنِ وَتَلَفَ أَحَدُهُمَا ضُمَّ قِيمَةُ التَّالِفِ إِلَى القَائِمِ، وَلَو كَانَ تَعَيَّبَ فِي يَدِهِ ضُمَّ أَرْشُ العَيْبِ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ آَبِقًا أَوْ مُكَاتَبَ أَوْ مَرْهُوناً أَوْ مُكْرى غُرِّمَ القِيْمَةَ، وَإذَا ارْتَفَعتِ المَوَانِعُ فَفِي رَدِّ العَيْنِ وَاسْتِردَادِ القِيمَة خِلاَفٌ. قال الرَّافِعِيُّ: إذا انفسخ البيع بالتَّحَالُف أو فسخ، فعلى المشتري رد المبيع إن كان قائماً بحالة. لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا" (¬1) ويسلم له الولد والثّمرة والكسب والمَهْر، وإن كان تالفاً فعليه قيمته، سواء كانت أكثر من الثمن الذي يَدَّعيه البائع أو أقل، وفي القمية المعتبرة وجوه. وقال الإمام أقوال: ¬
أصحَّها: عند المصنف: أن الاعتبار بقيمة يوم التلف؛ لأن مورد الفَسْخ العَيْن لو بقيت، والقيمة خلف عنها، فإذا فات الأصل، فحينئذٍ ينظر إليها. والثَّاني: أنه يعتبر قيمة يوم القبض؛ لأنه وقت دخول المبيع في ضَمَانه، ثم ما يعرض من زيادة أو نُقْصان فهو في ملكه، ولم يذكر في الكتاب سوى هذين. والثَّالث: أنه يعتبر أقل القيمتين؛ لأنها إنْ كانت يوم العقد أقل فالزِّيَادة حدثت في ملك المشتري، وإنْ كانت يوم القَبْض أقل فهو يوم دخوله في ضمانه، وقد ذكرنا نَظِيرَ هذه الثَّلاثة في القيمة التي نعتبرها لمعرفة الأَرْش. والرابع وقد أورده مع الأول في "التهذيب": أنَّ الاعتبار بأقصى القيم من يوم القَبْض إلى يوم التَّلف؛ لأن يده يد ضَمَان فتعتبر أعلى القيم. قال الشيخ أبو علي: هذا الخلاف ناظر إلى أن العقد يرتفع من أَصْله أو من حينه. إن قلنا بالأول فالواجب أقصى القيم. وإن قلنا بالثاني اعتبرنا قيمة يوم التلف. ولو اشترى عبدين وتلف أحدهما، ثم اختلفا وتحالفا، هل يرد العبد الباقي؟ فيه الخلاف المذكور في مثله، وإذا وجد الباقي معيباً، إن قلنا: يرد، فيضم قيمة التالف إليه، وفي القمية المعتبرة الأوجه، ولعل باحثاً يقول: لم كان الأصح هاهنا غير الأصح في القيمة المعتبرة لمعرفة الأرش؟ والجواب: يجوز أن يكون السَّبَب فيه ما أشار إليه الإمام، وهو أن النظر إلى القيمة ثَمَّ ليس ليغرم ولكن ليعرف منها الأَرْش الَّذي هو جزء من الثَّمن، وكذلك العِوَض فيما إذا تلف أحد العَبْدَين ووجد عيباً بِالبَاقي وجوزنا إفراده بالرَّد، يوزع الثمن على قيمة التَّالِف والباقي، وهاهنا المغرم القيمة فكان النَّظر إلى حالة الإِتلاف أَلْيق، وإن كان المَبِيع قائماً إلاَّ أنه قد تعيب رده مع الأَرْش، وهو قدر ما نقص من القيمة؛ لأن الكل مضمون على المشتري بالقيمة، فيكون البعض مَضْمُوناً ببعض القِيْمَة، بخلاف ما لو تَعَيَّب المبيع في يد البَائِع وأفضى الأمر إلى الأَرْش يجب جزء مِنَ الثّمن؛ لأن الكل مَضْمُون على البائع بالثمن، فكذلك البعض. قال الشَّيخ أبو علي: وهذا أصل مُطّرد في المَسَائل أن كل موضع لو تلف الكُلّ كان مضموناً على الشَّخْص بالقيمة، فإذا تلف البَعْض كان مضموناً عليه ببعض القيمة كالمغصوب وغيره، إلاَّ في صورة: وهي أنه إذا عجل زكاة ماله، ثم تلف ماله قبل الحول وكان ما عجله تالفاً يغرم المسكين القيمة، ولو كان معيباً ففي الأَرْشِ وجهان، وهذه المسألة قد بيناها في
موضعها، وميل الشيخ إلى طرد الأصل فيها. ثم التلف قد يكون حقيقياً، وقد يكون حكمياً؛ كما لو كان المشتري قد وقف المبيع، أو أعتقه، أو باعه، أو وهبه وأقبضه فتجب القيمة، وهذه التصرفات ماضية على الصِّحة. وعن أبي بكر الفارسي: أنه يَتَبيّن بجريان التَّحَالف فسادها وتردّ العَيْن. والتَّعيُّب أيضاً قد يكون حقيقياً، وقد يكون حكمياً، كما لو زوج الجَارِية المبيعة أو العبد المبيع، فعليه ما بين قيمتها مزوجة وخلية، وتعود إلى البائع والنكاح بحاله، وعن الفارسي: أنه يبطل النكاح أيضاً، ومَهْما اختلفا في قدر القيمة. والأَرْش فالقول قول المشتري؛ لأنه الغارم ولو كان العبد المبيع قد أبق من يد المُشْتَري حين تَحَالفا لم يمتنع الفسخ، لأن الإِبَاق لا يزيد على التَّلف، ويغرم المشتري قيمته لتعذّر الوصول إليه، وكذا لو كاتبه كتابة صحيحة، ولو رهنه فالبائع بالخيار بين أخذ القيمة وبين الصَّبر إلى انفكاك الرهن، ولو أجره فيبني على أن بيع المستأجر هل يجوز؟ إن قلنا: لا، فهو كما لو رهنه. وإن قلنا: نعم، فللبائع أخذه لكنه يترك عند المستأجر إلى انقضاء المدة، والأجرة المُسَمَّاة للمشتري، وعليه للبائع أجرة المِثْل للمدة الباقية. وإن كان قد آجره من البائع فله أخذة لا مَحَالَة، وفي انفساخ الإِجَارَة وجهان كما لو باع الدار المُكْرَاة من المُكْتري. إن قلنا: لا ينفسخ، فعلى البائع المُسَمّى للمشْتري، وعلى المشتري أُجْرَة مثل المدة الباقية للبائع، وإذا غَرَمَ القيمة في هذه الصورة، ثم ارتفع السَّبَبَ الحائل وأمكن الرد، هل تسترد القيمة وترد العين؟ يبنى ذلك على أنه قبل ارتفاع الحائل ملك من؟ أما الآبق ففيه وجهان: أحدهما: أنه يبقى للمشتري والفسخ لا يرد على الآبق كالمبيع، وإنما هو وارد على القيمة. وأصحهما: أنه في إِبَاقِهِ ملك للبائع، والفَسْخ وارد عليه، وإنما وجبت القيمة للحيلولة. وأما المرهون والمكاتب ففيهما طريقان: أحدهما: طرد الوجهين. وأظهرهما، وبه قال الشيخ أبو محمد: القَطْع ببقاء الملك للمشتري، كما أنَّ المشتري إذا أفلس بالثَّمن والعبد آبق يجوز للبائع الفسخ والرجوع إليه، ولو كان مرهوناً أو مُكَاتباً له ذلك، وأما المكري إذا منعنا بيعه فهو كالمرهون، والمكاتب والآبق؛ لأن حق المكري يتعلّق بمورد البَيْع والفسخ، وهو فيه احتمالان للإمام: فإذا قلنا ببقاء الملك للمشتري فالفَسْخُ وارد على القيمة، كما في صورة التَّلَف فلا رد ولا اسْتِرْدَاد، وإن قلنا بانقلابه إلى البائع، ثبت الرد والاسترداد عند ارتفاع الحيلولة، والله أعلم. وتختم الباب بفروع:
أحدها: لو اختلف المُتَبَايِعان، ثم حلف كل واحد منهما بعد التحالف أو قبله بحريّة العبد المبيع إن لم يكن الأمر كما قال، فلا يعتق العبد في الحال؛ لأنه ملك المشتري، وهو صادق بزعمه، ثم إن فسخ العقد أو عاد العبد إلى البائع بسبب آخر عتق عليه، لأن المشتري كاذب بزعمه، والعبد قد عتق عليه، فهو كمن أقرَّ بحريّة العبد ثم اشتراه، ولا يعتّق في الباطن إنْ كان البائع كاذباً، ويعتق على المشتري إن كان صادقاً، وولاء هذا العبد موقوف لا يدعيه البائع ولا المشتري. ولو صدق المشتري البائع حكم يعتقه عليه، ويرد الفسخ إن تفاسخا، كما لورد العبد بعيب، ثم قال: كنت أعتقته يرد الفسخ ويحكم بِعْتِقه، ولو صدق البائع المشتري، نظر إن حلف البائع بالحُرِيّة أوَّلاً ثم المشتري، فإذا صدقه البائع عقب يمينه، ثم عاد العبد إليه لم يعتق؛ لأنه لم يكذب المشتري بعد ما حلف بالحُرِيّة حتى يجعل مقرّاً بعتقه، وإنْ حلف المشتري بحريته أوَّلاً ثم حلف البائع، ثم صدقه عتق إذا عاد إليه، لأن حلفه بعد حلف المشتري تكذيب له وإقرار بالحُرِية عليه. ولو كانت المَسْألة بحالها لكن المبيع بعض العبد، فإذا عاد إِلَى مِلْك البائع عتق ذلك القدر عليه ولم يقوَّم عليه الباقي؛ لأنه لم يحصل العِتْق بمباشرته، بل بإقرار على غيره، فصار كما لو خلف اثنين وعبداً فقال أحدهما: أعتق أبي هذا العبد وأنكره الآخر، يعتق نصيب المُقر ولا يقوّم عليه الباقي، وهذا الفرع من مولدات ابْن الحَدَّاد -رحمه الله-. الثاني: إذا جَرَى البيع بين وكيلين واخْتَلَفا، ففي تحالفهما وجهان: وجه المنع: أن غرض اليمين ليخاف الظالم فيقر، وإقرار الوَكِيل على موكله غير مقبول (¬1). الثالث: لو كان المبيع جارية ووطئها المشتري ثم اختلفا وتحالفا، إن كانت ثيباً فلا شيء عليه مع ردّها، وإن كانت بِكْراً ردها مع أَرْش البكارة؛ لأنه نقصان جزء، وإذا ترافع المتنازعان إلى مجلس الحكم، ولم يتحالفا بعد فهل للمشتري وطء الجارية؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم؛ لبقاء ملكه، وبعد التحالف وقبل الفسخ وجهان مرتبان، وأولى بالتحريم لإشرافه على الزوال. ¬
الرابع: لو تقايلا المتبايعان، أورد المشتري المبيع بِعَيْبٍ بعد قبض البائع الثمن، واختلفا في قدر الثمن، فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن العقد قد ارتفع، والمشتري يدعي زيادة، والأصل عدمها (¬1). ¬
كتاب السلم والقرض، وفيه بابان
كِتَابُ السَّلَم (¬1) وَالقَرْضِ، وَفِيهِ بَابَانِ الأَوَّلُ، فِي شَرَائِطِهِ قال الغزالي: وَالمُتَّفَقُ عَلَيهِ مِنْهَا خَمْسَةٌ: الأَوَّلُ: تَسْلِيمُ رَأْسِ المَالِ فِي المَجْلِسِ جَبْراً لِلغَرَرِ فِي الجَانِبِ الآخَرِ، وَلَوْ كانَ فِي الذِّمَّةِ فَعَيَّنَ فِي المَجْلِسِ فَهُوَ كالتَّعْيِينِ في العَقْدِ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّرْفِ، وَفي مِثْلِ ذَلِكَ فِي بَيْعَ الطَّعَامِ خِلاَفٌ، وَمَهْمَا فُسِخَ السَّلَمُ اسْتُرِدَّ عَيْنُ رَأْسِ المَالِ وَإِنْ كَانَ قَدْ عُيّنَ بَعْدَ العَقْدِ عَلَى الأَصَحِّ. قال الرَّافِعِيُّ: قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} الآية. (¬2) وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ السَّلَم (¬3). وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي التَّمْرِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَرُبَّمَا قَالَ: وَالثَّلاثَ، فَقَالَ: "مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومِ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ" (¬4). وجمع في هذا الكتاب بين السَّلَم والقَرْض لتقاربهما واشتراكهما لفظًا ومعنى. أما اللفظ فلأن كل واحد منهما يسمى سَلَفا. وأما المعنى فلأن كل واحد منهما إثبات مال في الذِّمَّة مبذول في الحال. ¬
وذكروا في تفسير السَّلَم عبارات متقاربة: منها: أنه عقد على موصوف في الذِّمَّة ببدل يعطى عاجلاً. ومنها: أنه اسلاف عوض حاضر في عوض موصوف في الذِّمَّة. ومنها: أنه تسليم عَاجِل في عوض لا يجب تعجيله. واعلم أن السَّلَم بيع على ما مر، وقد سبق القَوْل فيما يعتبر لصِحّة البيع. والسَّلَم يختّصُ بأمور، عقد الباب الأول لبيانها، وإنما قال: والمتفق عليه منها خمسة، لأن معظم الأئمة جعلوا شرائط السَّلَم سبعاً، وضمّوا إلى الخمس العِلْم بقدر رأس المال، وبيان موضع التسليم، وفيهما اختلاف قول كما سيأتي إن شاء الله تعالى وقد أدرجهما حُجّة الإسلام في أثناء الكلام لكن لم يفردهما بالتَّرْجمة، وقد تعمد أكثر من السَّبع، وحقيقة الأمر في مثل ذلك لا تختلف. الشَّرْط الأول: تسليم رأس المَالِ في مَجْلس العقد (¬1)، واحتج لاشتراطه بأن المُسَلّم فيه دَيْن في الذِّمة، فلو أخَّر تسليم رأس المال عن المجلس لكان ذلك في معنى بيع الكَالِي بالكَالِي (¬2)؛ لأن تأخير التسليم نازل منزِلة الدَّيْنيّة في الصَّرف وغيره. وقوله في الكتاب: (جبراً للغَرر في الجانب الآخر) أراد به أن الغَرَر في المُسَلم فيه احتمل للحاجة، فجبر ذلك بتأكيد العِوَض الثاني بالتعجيل كيلا يعظم الغَرَر في الطرفين. إذا تقرر ذلك فلو تفرقا قبل قبض رأس المال بطل العقد، وبه قال أبو حنيفة وأحمد. وقال مالك: إن تأخر التَّسليم مدة يسيرة كاليوم واليومين لم يضر، وإن تأخَّر مدة طويلة بطل العقد، ولو تَفَرَّقا قبل تَسْليم بعضه بطل العَقْد فيما لم يقبض، وسقط بقسطه من المُسَلّم فيه، والحكم في المقبوض كما لو اشترى شَيْئَين فتلف أحدهما قبل القبض (¬3). ويجوز أن يجعل رأس المال مَنْفَعة عبد أو دار مدة معلومة وتسليمها بِتَسْليم العَيْن. ولا يشترط تَعْيين رأس المال عند العقد. ولو قال: أسلمت إليك ديناراً في ذمتي في كذا ثم عَيّن وسَلَّم في المجلس جاز، ¬
وكذلك في الصَّرْف، ولو باع ديناراَ بدينار أو بدراهم في الذمة ثم عين وسلم في المجلس جاز. ولو باع طعاماً بطعام في الذمة ثم عين وسلم في المجلس فوجهان: أحدهما: المنع؛ لأن الوصف فيه يطول بخلاف الصَّرْف، فإِنَّ الأمر في النُّقُود أهون؛ ولهذا يكفي فيها الإطلاق ولا يكفي في العروض. والثاني: الجواز، ويصفه كما يصف السلم فيه، والأشبه بكلام الشيخ أبي علي والأئمة أن هذا أظهر، وظَنِّي أنه تقدم ذكر هذا الخلاف أو نظيره، ولو قبض رأس المال ثم أوْدَعه المُسلم إليه قبل التفرق جاز. ولو رده عليه بِدَيْن كان له عليه. قال أبو العباس الرُّوِيانيُّ: لا يصح؛ لأنه تصرف منه قبل انْبِرام مِلْكِه عليه، فإذا تفرقا، فمن بعض الأصحاب أنه يصح السَّلَم بحصول القبض، وانْبِرَام المِلْك ويستأنف إقباضه للدَّين، ولو كان له في ذِمَّة الغَيْرِ دَرَاهم فقال: أسلمت إليك الدراهم الَّتِي في ذمتك في كذا، نظر إن شرط الأجل فيه فهو باطل؛ لأنه بيع الدَّين بالدَّيْن، وإن كان حالاَ ولم يسلم المسلم فيه قبل التفرق فكمثل، وإن أحضره وسلمه فوجهان: أحدهما: يصح، كما لو صالح من تلك الدراهم على دنانير وسلّمها في المجلس. وأظهرهما: المنع؛ لأن قبض المسلم فيه ليس بشرط وإن كان السلم حالاً فلو وجد لكان متبرعاً به، وأحكام البيع لا تُبْنَى على التَّبرعات، أَلاَ تَرَى أنه لو باع طعاماً بطعام إلى أجل ثم تبرعا بالإحضار لم يجز. وأطلق صاحب "التتمة" الوجهين في أن تسليم المُسَلم فيه في المجلس وهو حال هل يغني عن تسليم رأس المال؟ والأظهر: المنع. ولا يجوز أن يحيل المسلم برأس المال على غيره، وإن قبضه المسلم إليه من المحال عليه في المجالس؛ لأن بالحِوَالَة يتحوَّل الحق إلى ذمة المُحَال عليه، فهو يؤديه من جهة نفسه لا من جهة المُسَلم ولو قبضه المُسَلم وسلمه إلى المسلم إليه جاز، ولو قال للمحال عليه: سلّمته إليه، ففعل لم يَكْفِ لصحة المسلم؛ لأن الإنسان في إزالة ملكه لا يصير وَكِيلاً للغير، لكن يجعل المسلم إليه وكيلاً عن المسلم في قبض ذلك، ثم السَّلَم يقتضي قبضاً ولا يمكنه أن يقبض من نفسه، ولو أحال المسلم إليه برأْس المال الَّذِي على المسلم فتفرقا قبل التسليم فالعقد باطل، وإن جعلنا بالحِوَالة قبضاً؛ لأن المعتبر في السَّلَم القبض الحقيقي، ولو أحضر رأس المال، فقال المسلم إليه: سلمه إليه ففعل صح، ويكون المحتال
وكيلاً عن المسلم إليه في القبض (¬1). ولو كان رَأَسُ المَالِ دراهم في الذِّمَّة فصالح عنها على مال لم يصح، وإنْ قبض ما صالح عليه، ولو كان عبداً فأعتقه المسلم إليه قبل القبض لم يصح، إن لم نصحّح إعتاق المُشْتري قبل القبض، وإن صححناه فوجهان: وجه الفرق: أنه لو نفذ لصار قابضاً من طريق الحكم، وأنه غير كافِ في السَّلَم بدليل الحِوَالة، فعلى (¬2) هذا إن تفرقا قبل قَبْضه بطل العَقْد، وإن تَفَرَّقا بعده صَحَّ، وفي نفوذ العِتْق وجهان. ومتى فسخ السَّلَم بسبب يقتضيه (¬3) وكأن رأس المال معيناً في ابتداء العَقْد وهو باق رجع المسلم إليه، وإن كان تَالِفَاً رجع إلى بَدَله، وهو المِثْل أو القِيمَة، وإن كان رأس المال موصوفاً في الذمة، ثم عجل في المجلس وهو باقٍ فهل له المُطَالبة بعينه أم للمسلم إليه الإتيان ببدله؟ فيه وجهان: الوجه الثَّاني: أن العقد لم يتناول ملك العَيْن ووجه الأول وهو الأصح: أن المُعَيَّن في المجلس كالمُعَيَّن في العقد. فرع: وإذا وجدنا رأس المال في يد المسلم إليه واختلفا، فقال المسلم: أقبضتكه بعد التَّفرق، وقال المسلم إليه: بل قبله وأقام كل واحد منها بَيّنة على ما قاله، فَبَيّنة المُسَلم إليه أَوْلى؛ لأنها نافلة، يحكى ذلك عن ابن سُرَيجٍ. قال الغزالي: وَأصَحُّ القَوْلَيْنِ وَهُوَ اخْتِيَارُ المزَنِيِّ أَنَّ رَأَسَ المَالِ إِذَا كَانَ جُزَافَاً غَيْرَ مُقَدَّرٍ جَازَ العَقْدُ (ح) كَمَّا يَجُوزُ فِي البَيْعِ وَكمَا يَجُوزُ مَعَ الجَهْلِ بِقِيمَتِهِ. قال الرَّافِعِيُّ: عرفت أن رأس المال يجوز أن يكون في الذِّمة ثم يسلم في المجلس، ويجوز أنْ يكون مُعَيَّناً في العقد، فعلى التَّقْدير الأول لا بُدَّ من معرفة قدره وذكر صفاته إذا كان عوضاً وعلى التقدير الثَّاني هل تكفي معاينته؟ فيه قولان: أحدهما: لا، بل لا بد من بيان صِفَاته ومعرفة مقداره بالكَيْلِ في المَكِيلات، والوَزْن في المَوْزُونات، والزَّرع في المزروعات؛ لأنه أحد العوضين في السلم، فلا يجوز أن يكون جُزَافًا كالعِرَض الثاني، وأيضاً فإن السَّلَم لا يتم في الحال، وإنما هو ¬
عقد منتظر تمامه بتسليم المسلم فيه، وربما ينقطع ويكون رأس المال تالفاً، فلا يدري إلى ماذا يقع الرجوع، وبهذا القول قال مالك وأحمد، واختاره أبو إسحاق. وأصحهما وبه قال المزني: أن المُعَايَنَة كافية كما في البيع واحتمال الفَسْخِ ثابت في البيع كما في السَّلَم، هذا في المِثْلِيّات. ولو كان رأس المال متقوماً وضبطت صفاته بالمُعَايَنَة، ففي اشتراط معرفة قيمته طريقان، منهم مَنْ طرد القولين. والأكثرون قطعوا بصحّة السَّلَم، ولا فرق على القولين بين السَّلم الحال والمؤجل. ومنهم من خصص القولين بالسَّلَم المُؤَجّل، وقطع في الحال بأن المُعَاينة كافية كما في البيع، ثم موضع القولين ما إذا تفرقا قبل العلم بالقدر والقيمة. أما إذا علما ثم تفرقا، فلا خلاف في الصِّحَّة، وبنى كثير من الأصحاب على هذين القولين أنه هَلْ يجوز أَنْ يجعل رأس مال السَّلَم ما لا يجوز السلم فيه؟ إن قلنا بالأصح فيجوز، وإلاَّ فلا. قال الإمام: وليس ذلك على هذا الإطلاق، بل الدُّرَّة الثَّمِينة إذا عرفا قيمتها، وبالغا في وَصْفِها، وجب أن يجوز جعلها رأس مال؛ لأن منع السَّلَم فيها من الإعزار في الوصف يشبه عَزَّة الوجود، ولا معنى لاشتراط عموم الوُجُود في رأس المال، وإذا جَوَّزْنا السَّلَم ورأس المال جُزَافٌ ثم اتفق الفسخ وتنازعا في قدره فالقول قول المُسَلّم إليه لأنه غارم (¬1) وقوله في الكتاب: (وأصح القولين) يجوز إعلامه بالواو؛ لأن السلم إما حال أو مؤجل. أما الحال ففيه طريقة قاطعة بالصِّحَّة، وأما المؤجل ففي كتاب القاضي ابن كَجٍّ طريقة قاطعة بالمنع. وقوله: (جاز العقد) مُعَلّم بالميم والأَلف، ويجوز إعلامه بالحاء أيضاً؛ لأن عنده إنْ كان رأس المال مَكِيْلاً أو موزوناً وجب ضبط صفاته، وإن كان مذروعاً أو مَعْدُوداً فلا يجب. قوله: (وكما يجوز مع الجَهْل بقيمته) جواب على طريقة الأكثرين. قال الغزالي: الشَّرْطُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ المُسَلَّمُ فِيهِ دَيْناً، فَلاَ يَنْعَقِدُ فِي عَيْن؛ لأَنَّ لَفْظَ السَّلَم لِلدَّيْنِ، وَهَلْ يَنْعَقِدُ بَيْعاً؟ فيه قَوْلاَن، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: بِعْتُ بِلاَ ثَمَنٍ هَلْ يَنْعَقِدُ هِبَةَ؟ وَالأَصَحُّ الإِبْطَالُ لِتَهَافُتِ اللَّفْظِ، وَلَوْ أَسْلَمَ بِلَفْظِ الشِّرَاءِ انْعَقَدَ، وَهَلْ يَنْعَقِدُ سَلَمًا لِيَجِبَ تَسْلِيمُ رأَسِ المَالِ فِي المَجْلِس؟ فَعلَى وَجْهَيْنِ، مَنْشَؤْهُمَا تَقَابُلُ النَّظَرِ إِلَى اللَّفْظِ وَالمَعْنَى. ¬
قال الرَّافِعِيُّ: يشترط في المسلم فيه أن يكون دَيْناً؟ لأن لفظ السَّلَف والسَّلَم موضوع لِلدَّيْن (¬1)، ولو استعمل لفظ السَّلَم في العَيْن فقال: أسلمت إليك هذا الثوب في هذا العبد فليس ما جاء به سَلَما (¬2)، وفي انعقاده بيعاً قولان: أحدهما: ينعقد نظراً إلى المعنى. وأظهرهما: لا؛ لاختلال اللَّفظ، ولو قال: بعت هذا بلا ثمن أو على أن لا ثمن لي عليك فقال: اشتريت وقبضه، هل يكون هبة؟ فيه مثل هذين القولين عن رواية القاضي. وهل يكون المقبوض مضموناً على القابض؟ فيه وجهان، ولو قال: بعت هذا ولم يتعرض للثمن أصلاً لم يكن ذلك تمليكاً والمقبوض مضمون، ومنهم من طرد فيه الوَجْهَيْن، ولو أسلم بلفظ الشِّرَاء فقال: اشتريت منك ثوباً أو طعاماً صفته كذا بهذه الدراهم، فقال: بعته منك انعقد؛ لأن كل سلم بيع، فإذا استعمل لفظ البيع فيه فقد استعمله في موضعه، بخلاف اسْتِعْمَال لفظ السَّلَم في البيع، إِذ لَيْس كل بيع بسَلم، وإذا انعقد فهو سَلَم اعتباراَ بالمعنى، أو بيع اعتباراً باللفظ، فيه وجهان: الأصح على ما ذكره صاحب "التهذيب" وغيره: أن الاعتبار باللَّفظ، فعلى هذا لا يجب تسليم الدراهم في المجلس. ويثبت فيه خيار الشَّرط، وهل يجوز الاعتياض عن الثوب؟ فيه قولان كما في الثمن. ومنهم من قطع بالمنع؛ لأنه مَقْصُود الجِنْس كالمَبِيع، وفي الأثمان الغالب قصد المَالِيّة لا قصد الجِنْس. وإن قلنا: الاعتبار بالمعنى (¬3) وهو الصحيح عند ابن الصَّبَّاغ، فهو سَلَم حتى يجب ¬
َتسليم الدَّراهم في المَجْلِس، ولا يثبت فيه خِيَار الشَّرْط، ولا يجوز الاعْتِياض عن الثوب، ولو قال: اشتريت ثوباً صفته كذا في ذمتك بعشرة دراهم في ذمتي، فإن جعلناه سلما وجب تَعْيين الدراهم وتسليمها في المجلس، وإن جعلناه بيعاً لم يجب (¬1). قال الغزالي: وَلاَ يُشْتَرَطُ (ح) فِي المُسْلَمِ فِيهِ كَوْنُهُ مُؤَجَّلاً، وَيَصِحُّ سَلَمُ الحَالِّ (ح م) وَلَكِنْ يُصَرِّحُ بِالحُلُولِ، فَإِنْ أَطْلَقَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الأجَلِ لاقْتِضَاءِ العَادةِ الأَجَلَ، فَإِنْ أَطْلَقَ ثُمَّ ذَكَرَ الأَجَلَ قَبْلَ التَّفرُّقِ جَازَ نَصَّ عَلَيْهِ. قال الرَّافِعِيُّ: السَّلَم الحَال صحيح خلافاً لأبي حنيفة ومالك وأحمد. لنا أن في الأجل ضرب من الغَرَر؛ لأنه رُبَّما يقدر في الحال، ويعجز عند المحل، فإذا جاز مؤجلاً فهو حالاً أجوز، وعن الغرر أبعد، إذا عرف ذلك فلو صرح بالحُلُول أو التَّأْجيل فذاك، وإن أطلق فوجهان، وقيل: قولان: أحدهما: أن العقد يبطل؛ لأن مطلق العقود يجمل على المعتاد، والمعتاد في السَّلَم التأجيل، وإذا كان كذلك فيفسد، ويكون كما لو ذكر أجلاً مجهولاً. والثَّاني: يَصحّ ويكون حالاً كالثَّمَن في البَيْعِ المطلق وَبالوجه الأول أجاب صاحب الكِتَاب، لكن الأصح عند الجمهور هو الثَّاني، وبه قال في "الوسيط"، وفي بعض نُسَخ الكتاب بدل قوله: "فهو مجهول على النص" فهو محمول على الأجل، وهما متقاربان في الغرض، وأما النَّص فيمكن تنزيله على ما حكي عن الشَّافِعَي -رضي الله عنه- أنه قال: ويذكره حالاً أو مؤجلاً فاعتبر ذكر الحُلُول كالتَّأْجيل، ولو أطلقا العَقْد ثم ألْحَقَا به أَجلاً في مَجْلس العقد، فالنص لُحُوقه وهو المذهب، ويجيء فيه الخلاف الذي تَقَدَّم في سائر الإِلْحاقات، ولو صرَّحَا بالتَّأْجيل في مَتْن العقد، ثم أسقطاه في المَجْلِس سقط، وصار العقد حالاً، ذكره المسعودي وغيره. واعلم أن في نصه على لحوق الأجل الملحق في المجلس دليلاً ظاهراً على صحة العقد عند الإطلاق، وإلاَّ فالعقد الفاسد كيف ينقلب صحيحاً وكيف يعتبر مجلسه؟ وهذا أصل بني عليه مسألة وهي: أن الشرط الفَاسِد للعقد إذا حذفاه في المجلس هل ينحذف وينقلب العقد صحيحاً أم لا؟ ¬
ظاهر المذهب أنه لا ينحذف ولا ينقلب العقد صحيحاً، وقد ذكرناه من قَبل. وعن صاحب "التقريب" وجهاً: أنهما لو حذفا الأجل المجهول في المجلس انحذف وصار العقد صحيحاً، واختلفوا في جريان هذا الوجه في سائر المُفْسدات كالخيار والرهن الفاسدين وغيرهما، فمنهم من أجراه. قال الإمام: والأصح: تخصيصه بالأجل؛ لأن بين الأجل والمَجْلس مناسبة لا توجد في سَائِرِ الأمور، وفي أنَّ البائع لا يَمْلك مطالبة المُشْتري بالثمن في المجلس، كما لا يملكها في مُدَّة الأجل، فلم يبعد إصلاح الأجل في المجلس، واختلفوا أيضاً في أن زمان الخِيَار المَشْروط هل يلحق بالمجلس في حذف الأجل المجهول تفريعاً على هذا الوجه؟ والأظهر: أنه لا يلحق به. قال الغزالي: ثُمَّ لاَ يَجُوزُ تَأَقِيتُ الأَجَلِ بِالحَصَادِ وَالدِّيَاسِ (م) وَمَا يُخْتَلَفُ وَقْتُهُ، وَيَجُوزُ (وح) بِالنَّيْرُوزِ وَالمَهْرَجَانِ، وَكَذَا بِفصْحِ (و) النَّصَارَى وَفِطْر اليَهُودِ (و) إِنْ كَانَ يَعْلَمُ دُونَ مُرَاجَعَتِهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ: إِلَى نَفَرِ الحَجِيجِ، أَوْ إِلَى جُمَادَى وَجْهَانِ: وَالأَصَحُّ: صِحَّتُهُ، وَالتَّنْزِيلُ عَلَى الأَوَّلِ، وَلَوْ قَالَ: إِلَى ثَلاَثةِ أَشْهُر احْتَسَبَ بِالأَهِلَّةِ (ح) إِلاَّ شَهْراً وَاحِداً انْكَسَرَ فِي الابْتِدَاءِ فَيُكْمَلُ ثَلاَثينَ، وَلَوْ قَالَ: إِلَى الجُمْعَةِ أَوْ رَمَضَانَ جَلَّ بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ، وَلَو قَالَ: فِي الجُمُعَةِ أَوْ في رَمَضَانَ فَهُوَ مَجْهُولٌ لأَنَّهُ جَعَلَهُ ظَرْفاً، وَلَوْ قَالَ: إِلَى أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ إِلَى آخِرِه فَالمَشْهُورُ البُطْلاَنُ لأَنَّهُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ النَّصْفِ الأَوَّلِ وَالنِّصْفِ الأَخِيرِ. قال الرَّافِعِيُّ: غرض الفصل: أنهما إذا ذكرا أجلاً في السَّلَم وجب أنْ يكون معلوماً. قال: "إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ" وفيه صور: إحداها: لا يجوز تَأْقيته بما يختلف وقته كالحَصَاد والدِّياس (¬1) وقدوم الحاج، خلافاً لمالك. لنا أن ذلك يتقدم تَارَةً ويتأخَّر أخرى، فأشبه مجيء المطر. ولو قال: إلى العطاء لم يَجُز إن أراد وصوله، وإن أَرَادَ وقت خروجهن وقد عَيّن ¬
السلطان له وقتاً جاز بخلاف ما إذا قال: إلى وقت الحصاد، إذ ليس له وقت مُعَيّنْ. ولو قال إلى الصَّيف أو إلى الشتاء لم يجز، إلاَّ أن يريد الوقت، ويجوز إعلام قوله في الكتاب: (وما يختلف وقته) بالواو؛ لأن القاضي أبا القاسم ابن كَجٍّ ذكر أن ابن خُزَيْمَةَ يجوز التَّأْقِيت بالميسرة. لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيِّ شَيْئاً إِلَى الْمَيْسَرَةِ" (¬1). الثانية: التَّأْقِيت بشهور الفُرْس والرُّوم جائز كالتَّأَقِيتِ بشهور العَرَب؛ لأنها معلومة (¬2) مضبوطة، وكذا التَّأْقِيت بالنَّيْرُوز (¬3) والمِهْرَجَان (¬4)؛ لأنهما يومان معلومان كالعِيد وعرفة وعاشوراء. وفي "النهاية" نقل وجه: أنه لا يجوز التأقيت بهما، ووجهه الإمام بأن النَّيْرُوزَ والمِهْرَجَانَ يطلقان على الوقتين الذين تنتهي الشَّمْس فيهما إلى أوائل بُرْجَي الحَمَل والمِيْزَان، وقد يَتَّفق ذلك لَيْلاً ثم ينجس مَسِيْرُ الشَّمْس كل سنة بمقدار رُبْع يوم وليلة، ولو وقتا بفُصْح النَّصَارى، نص الشافعي -رضي الله عنه- على أنه لا يجوز، فأخذ بعض الأصحاب بإطلاقه اجتناباً عن التأقيت بمواقيت الكفار، وعامتهم فَصَلُوا فقالوا: إِنِ اختص بمعرفة وقته الكفار فالجواب ما ذكره، لأنه لا اعتماد على قولهم، وإن عرفه المسلمون أيضاً جاز كالنَّيْرُوز والمِهْرَجَان، ثم اعتبر معتبرون فيهما جميعاً معرفة المُتَعَاقدين، والأكثرون اكتفوا بمعرفة الناس، وسواء اعتبر معرفتهما أم لا، فلو عرفا كفى، وفيه وجه: أنه لا بد من معرفة عدلين من المُسْلِمِين سواهما؛ لأنهما قد يختلفان، فلا بد من مَرْجِع، وفي معنى الفُصْحِ (¬5) سائر أعياد أهل المِلَل، كفِطْر اليَهُود ونحوه. ¬
الثَّالثة: لو وقتا بنَفْرِ الحَجِيج (¬1) وقيَّدوا بالأول أو الثاني جاز، وإن أطلقا فوجهان: أحدهما: أن الأجل فاسد؛ لتردد المحل بين النَّفرين. وأصحهما، ويحكى عن نصه: أنه صحيح، ويحمل على النَّفْر الأول؛ لتحقق الاسْم به، وعلى هذا الخِلاَف التَّوقيت بشهر ربيع أو جُمَادى أو بالعِيد. ولا يحتاج إلى تَعْيين السنة إذا حملنا المذكور على الأول، وحكي عن "الحاوي" أن التوقيت بالنَّفْر الأول أو الثاني لأهل مَكَّة جائز؛ لأنه معروف عندهم ولغيرهم وَجْهَان، وأنّ في التَّوْقيت بيوم القرِّ لأهل مَكَّةَ وجهين أيْضاً؛ لأنه لا يعرفه إِلا خواصهم، وهذا غير فقيه؛ لأنا إن اعتبرنا علم المتعاقدين فلا فرق، وإلاَّ فهي مشهورة في كل ناحية عند الفُقَهَاء وغيرهم (¬2). الرَّابعة: لو أجَّلا إلى سنة أو سنين فمطلقه محمول على السِّنِين الهِلاَلِيّة، فإنْ قَيَّدا بالفَارِسِيّة أو الرُّومِيّة أو الشَّمْسِيّة تقيد بالمذكور. ولو قال بالعدد فهي ثلاثمائة وستون يوماً، وكذا مطلق الأَشْهر محمول على المشهور الهِلاَلية، ثم ينظر إنْ جرى العقد في أول الشهر اعتبر الجميع بالأَهِلّة تامة كانت أو ناقصة، وإن جرى بعد مُضِيّ بعض الشَّهر عد الباقي منه بالأيام واعتبرت الشُّهور بعده بالأَهِلَّة ثم يتم المُنْكَسِر بالعدد ثَلاَثِين، وأَنَّمَا كان كذلك لأن الشَّهر الشَّرْعي هو ما بين الهِلاَلَيْن؛ إلاَّ أنَّ فِي الشَّهْر المنكسر لا بد من الرُّجُوع إِلَى العدد كيلا يتأخّر ابتداء الأجل عن العَقْد، وفيه وجه: أنه إذا انْكَسَر الجميع، فيعتبر الكُل بالعدد، ويحكى هذا عن أبي حنيفة، والمَذْهب الأول. وضرب الإمام مثلاً للتّأجيل بثلاثة أَشْهر مع فرض الانْكِسَار فقال: عقدا وقد بقي من صفر، ونقص الرَّبيعان وجُمَادى، فيحسب الرَّبِيعَان بالأَهِلّة ويضم جُمَادى إلى اللَّحظة الباقية من صفر، ويكملان بيوم من جُمَادى الآخرة سوى لَحْظَة، ثم قال: كنت أودُّ في هذه الصُّورة أنْ يكتفي بالأشهر الثّلاثة، فإنها جَرَتْ عَرِبية كَوَامل، وما تمناه هو الذي نقله أبو سعد المُتَوِلِّي وغيره، وقطعوا بحلول الأجَل بانْسِلاخ جُمَادى في الصُّورة ¬
المذكورة، وأن العدد أَنَّما يُرَاعى فيما إذا جرى العقد في غير اليوم الأخير وهو الصواب، والله أعلم. الخامسة: لو قال: إلى الجُمُعَة أو إلى رَمَضَان حلّ بأول جزء منه؛ لتحقق الاسم به، وربما يقال انتهاء يوم الجمعة، وانتهاء شَعْبان والمقصود واحد، ولو قال: محله في الجمعة أوْ فِي رمضان فوجهان عن ابن أبي هريرة: أنه يجوز، ويحمل على الأول، كما لو قال: أنت طالق في يوم كذا. وأصحهما: المنع؛ لأنه جعل اليَوْم أوِ الشهر ظرفاً، فكأنه قال: محله وقت من أَوْقَات يوم كذا (¬1)، وفرقوا بَيْنَه وبَينَ الطَّلاَق، بأن الطلاق يجوز تَعْلِيقُه بالمَجَاهِيل والأَغْرَار، بخلاف السَّلم. قال ابن الصَّبَّاغ نعم، لكن لو كان هذا من ذلك القَبِيْل لوقع في الجزء الأخير دون الأوَّل وهذا أحسن، والفَرْق مُشْكل. ولو قال: إِلَى أول شهر كذا أو أخره، فعن عامة الأصحاب: بُطْلاَنه؛ لأن اسم الأول يقع على جميع النصف فلا بد من البَيَن، وإلاَّ فهو مجهول. وقال الإمام وصاحب "التهذيب": وجب أنْ يصحّ ويحمل على الجزء الأول من كل نصف على قياس مسألة النَّفر، وأيضاً فإنه إذا أجل إلى يوم حمل على أوله وإن كان اسم اليوم عبارة عن جميع الأجزاء، وأيضاً فإن الأمر في الطَّلاَق على ما ذكراه، وأيضاً فإنه لو قال: إلى شهر كذا حمل على أول جزء منه. وقوله: إلى أول شَهْر كذا أقرب إِلَى هذا المَعْنَى ممّا إذا أطلق ذكر الشهر قال الإمام: وقد يحمل النصف الأول على الجزء الأول، والآخر على الجزء الآخر، وسينتهي إلى وجه كما أشار إليه في "الطلاق". فرع: لَوْ أسلم في جِنْس واحد إلى أَجلين أو آجال دفعة واحدة كما لو أسلم في وَقْر حِنْطَة يسلمه بِنَجْمين، أو أسلم في جِنْسَين إلى أجل كما لو أسلم في حِنْطَة وشعير إلى شهر، ففي الصورتين قولان: أحدهما: البطلان؛ لأنه ربما يتعذَّر تسليم بعض النُّجُوم أو بعض الأَجْنَاس، فيرتفع العقد فيه، ويتعدّى إِلَى البَاقي فيصير التَّنْجيم شَرْطاً متضمناً رفع العقد. ¬
وأصحهما: الصحة، كما لو باع بثمن منجم أو بجنسين، والخلاف ناظر إلى أن الصَّفْقة هل تفرق؟ واعلم أن الكلام في أن التَّأْجيل ليس بشرط في السَّلَم، وفي أَنَّ شرط الأجل ماذا؟ لا اختصاص له بهذا الموضع، وربما كان ذكره بعد الفراغ من الشروط كلها أليق والله أعلم. قال الغزالي: الشَّرْطُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ المُسْلَمُ فِيهِ مَقْدُوراً عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَلاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِي مُنْقَطَعِ لَدَى المَحَلِّ، وَلاَ يَضُرُّ الانْقِطَاعُ قَبْلَهُ (ح) وَلاَ بَعْدَهُ، وَلاَ يَكْفِي الوَجُودُ فِي قُطْرٍ آخَرَ لاَ يَعْتَاد نَقْلَهُ إِلَيْهِ فِي غَرَضِ المعَامَلَةِ، وَلَوْ أَسْلَمَ فِي وَقْتِ البَاكُورَةِ فِي قَدْرٍ كَثِيير يَعْسُرُ تَحْصِيلُهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَلَوْ طَرَأَ الانْقِطَاعُ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّلَمِ فَأَصَحُّ القَوْلَيْنِ أنَّهُ لاَ يَنْفَسخُ، بَلْ لَهُ الخِيَارُ كَمَا فِي إبَاقِ العَبْدِ المَبِيعِ، وَلَوْ تَبَيَّنَ العَجْزُ قَبلَ المَحَلِّ فَفِي تَنْجِيزِ الخِيَارِ أَوْ تَأَخُّرِهِ إِلَى المَحلِّ قَوْلاَنِ. قال الرَّافِعِيُّ: هذا الشَّرْط ليس من خَوَاص السَّلَم بل يعم كل بيع على ما مر، وإنما تُعْتَبر القُدْرَة على التسليم عند وجوب التسليم، وذلك في البيع والسَّلَم، الحال في الحال وفي السَّلَم المؤجل عند المحل (¬1) فلو أسلم في منقطع لدى المحل كما لو جعل محل الرُّطب الشتاء لم يصح، وكذا لو أسلم فيما يندر وجوده كَلَحْم الصَّيْد، حيث يعز فيه الصَّيْد، وإن كان يَغْلب على الظَّن وجوده، لكن لا يتوصل إلى تحصيله إلاَّ بمشقة عظيمة كالقدر الكثير من البَاكُوْرَة، ففيه وجهان: أقربهما إلى كلام الأكثرين: البطلان؛ لأنه عقد غرر، فلا يتحمل فيه مُعَاناة المَشَاق العظيمة. وأقيسمهما عند الإمام: الصِّحة؛ لأن التحصيل ممكن، وقد التزمه المُسَلّم إليه، ولو أسلم في شيء ببلد لا يُوجَد مثله فيه ويوجد في غيره. قال في "النهاية": إن كان قريباً منه صح، وإن كان بعيداً لم يصح، قال: ولا تعتبر مَسَافَة القصر هاهنا، وإنما التَّقْريب فيه أَنْ يقال: إن كان يعتاد نقله إليه في غوض المُعَامَلَة لا في معرض لا للتحف والمُصَادَرَات صَحَّ السَّلم، وإلاَّ فلا، ويجيء في آخر الفصل ما ينازع في الإعراض عن مسافة القصر. ولو كان المسلم فيه عام الوجود عند المحل فلا بأس بانقطاعه قبله أو بعده. ¬
وعند أبي حنيفة: يشترط عموم الوجود من وقت العَقْد إلى المحل. واحتج الشَّافعي -رضي الله عنه- بالحديث المذكور في أول الباب، (وهو أنهم كانوا يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَار السَّنَةَ والسَّنَتَيْنِ) والثمار لا تبقى هذه المدة بل تنقطع، وإذا أْسلم فيما يعم وجوده، ثم انقطع عند المحل لِجَائِحَة فقولان: أحدهما: أنه يَنْفَسِخ العقد، كما لو تلف البَيْع قبل القَبْض. وأصحهما وبه قال أَبُو حنيفة: لا يَنْفَسِخ؛ لأن المسلم فيه يتعلّق بالذِّمَّة، فأشبه ما إذا أفلس المُشْتَري بالثمن، لا ينفسخ العَقْد ولكن للبائع الخيار، ولأن هذا العقد ورد على مَقْدُور في الظاهر، فعروض الانقطاع كإباق العبد المبيع، وذلك لا يقتضي إلاَّ الخِيَار، فكذلك هاهنا المسلم يتخيَّر بين أنْ يفسخ العقد، أو يصبر إلى وجود المُسَلم فيه. ولا فرق في جَرَيَان القولين بين ألا يوجد المسلم فيه عند المحل أصلاً، وبين أَنْ يكون مَوْجُوداً، فَيُسَوِّف المسلم إليه حتى ينقطع. وعن بعض الأصحاب أن القولين في الحَالَة الأولى. أما في الثَّانية: فلا يَنْفَسِخ العقد بحَال لوجود المُسَلم فيه، وحصول القدرة، فإن أجاز ثم بَدَالَهُ مُكِّن من الفسخ كزوجة المولى إذا رضيت بالمَقَام، ثم ندمت (¬1). ووجهه الإمام بأن هذه الإجازة إنظار والإنظار تأجيل، والأجل لا يلحق العقد بعد لزومه، وقد يتوقف النَّاظِرُ في كونها إنْظَاراً، ويميل إلى أنها إسقاط حق ورضا بما عرض، كإجازة زوجة العِنِّيْنِ، ويجوز أن يقدر فيه وجهان؛ لأن الإمام حكى وجهين في أنه لو صرح بإسقاط حق الفسخ هل يسقط؟ قال: والصحيح أنه لا يسقط. ولو قال المسلم إليه للمسلم: لا تصبر وَخُذْ رأس مالك، فللمسلم أنْ لا يجيبه. وفيه وجه. ولو حل الأجل بموت المسلم إليه في أثناء المدة والمسلم فيه منقطع جرى القولان، ذكره في "التتمة"، قال: وكذا لو كان موجوداً عند المحل وتأخَّر التَّسْليم لغيبة أحَدِ المُتَعَاقدين، ثم حضر والمُسَلم فيه منقطع، ولو انقطع بعض المُسَلّم فيه فقد ذكرنا حكمه في "تفريق الصَّفْقة"، ولو أسلم في شيء عام الوجود عند المحل ثم عرضت آفة علم بها انقطاع الجِنْس لدى المَحل، فيتنجّز حكم الانقطاع في الحال، أو يتأخر إلى المحل، فيه وجهان: أحدهما: يَتَنَجَّز حتى يَنْفَسخ العقد على قول، ويثبت الخِيَار على الثَّاني لتحقق العَجْز في الحال. ¬
وأظهرهما: لا؛ لأنه لم يَجِئْ وقت وجوب التسليم، وهذا الخلاف مأخوذ من الخِلاَف فيما إذا حلف ليأكلن هذا الطَّعَام غدا، فتلف قبل الغَدِ أنه يَحْنَث في الحال أو يتأخَّر الحنث إلى الغد؟ قوله في الكتاب: "ففي تَنْجِيزِ الخِيَار أو تأخيره" تفريع على أن الثابت بالانقطاع الخيار دون الانْفِسَاخ، وعلى القول الآخر يَتَنَجز الانِفْسَاخ، واللَّفظ العام ما سبق، وإطلاقه القولين في المَسْأَلَة اتباع للإمام، والوجه الحمل على القولين المخرجين، وحينئذٍ لا يبقى بينهما وبين الوجهين كثير فرق. فإن قيل: فيم يحصل الانقطاع؟ قيل: إن لم يوجد المسلم فيه أصلاً، بأنْ كان ذلك الشيء يَنْشَأ في تلك البلدة، وقد اْصابته جَائِحَة مستأصلة، فهذا انقطاع حقيقي، وفي معناه ما لو كان يُوجد في غير تلك البلدة، ولكن لو نقل إليها لفسد، وما إذا لم يوجد إلاَّ عند قوم مَحْصُورين، وامتنعوا من بيعه، ولو كانوا يبيعونه بثمن غَالٍ وجب تحصيله ولم يكن ذلك انقطاعاً، وإنْ أمْكَنَ نقل المسلم فيه من غير تلك البلدة إليها وجب نقله إن كان في حَدّ القرب، وبم يضبط؟ أما صاحب "التهذيب" في آخرين فإنهم نقلوا وجهين: أقربهما: أنه يجب نقله مما دون مَسَافَة القصر. والثاني: من مَسَافة لو خرج إليها بُكْرَة أمكنه الرجوع إلى أهله لَيْلاً. وأما الإمام فإنه جرى على الإعْراض عن مسافة القَصْر، وقال: إن أمْكَن النَّقْل عسر، فالأصح: أنَّ السَّلم لا ينفسخَ قطعاً، ومنهم من طرد فيه القولين. قال الغزالي: وَأَصَحُّ القَوْلَيْنِ: أنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ مَكَانِ التَّسْلِيمِ، بَلْ يَنْزِلُ المُطْلَقُ عَلَى مَكانِ العَقْدِ. قال الرَّافِعِيُّ: السَّلَم إما مؤجل أو حال: أما المُؤَجَّل فقد حكي عن نص الشَّافعي -رضي الله عنه- اختلاف في أنه، هل يجب تعيين مكان التسليم؟ وانقسم الأصحاب إلى نُفَاةٍ للخلاف ومُثْبِتِين. أما النُفَاة: فعن أبي إسحاق المَرُوزِيّ: أنه إن جرى العقد في موضع يصلح للتسليم فلا حاجة إلى التَّعيين، وإنْ جرى في مَوْضِعٍ غير صالح فلا بد من التعيين، وحمل النصين على الحالين. وعن ابْنِ القَاصِ: أنَّ المسلم فيه إن كان لحمله مُؤنَة، وجب التَّعيين، وإلاَّ فلا، وحمل النصين على الحالين، وبهذا قال أبو حنيفة، وهو اختيار القاضي أبي الطَّيب فهذان طريقان.
وأما المُثْبِتُون فلهم طرق: أحدها وبه قال صاحب الإفصاح والقاضي أبو حامد: أنَّ المسألة على قولين مطلقاً. والثَّاني: أنه إنْ لَمْ يَكُنْ الموضع صالحاً وجب التَّعيين لا محالة، وإنْ كان صالحاً فقولان. والثالث: إنْ لم يكن لحمله مُؤَنة فلا حاجة إلَى التَّعيين، وإن كان له مُؤنة فقولان. وهذا أصح عند الإمام. ويروى عن اختيار القَفَّال: ووجه اشتراط التعيين أن الأغراض تتفاوت بتفاوت الأمكنة، فلا بد من التعيين قَطْعاً للنزاع، كما لو باع بِدَرَاهِمَ وفي البلد نقود مختلفة، ووجه عدم الاشتراط وبه قال أحمد: القِيَاس على البيع، فإنه لا حاجة فيه إلى تَعْيين مكان التسليم، ووجه الفرق بين الموضع الصالح وغير الصالح اطِّراد العُرْف بالتَّسْليم في الموضع الصالح، واختلاف الأَغْرَاض في غيره، ووجه الفرق بين مَا لحملهَ مُؤنَة وغيره قريب من ذلك. والفتوى من هذا كله على وجوب التعيين إذا لم يكن الموضع صالحاً، أوْ كان لِحَمْله مُؤنَة، وعدم الاشْتِرَاط فِي غَيْرها تبيّن الحَالتين، ومتى شرطنا التَّعْيين فلو لم يعيّن فسد العقد، وإن لم نشرطه فإن عين تعيّن. وعن أحمد رواية: أنَّ هذا الشرط يفسد السَّلَم، وإن لم يعيّن حمل على مكان العقد. وفي "التتمة": أنه إذا لم يكن لحمله مُؤنَة سلمه في أي موضع صالح شاء، وذكر وجهاً فيما إذا لم يصلح المَوْضع لِلتَّسْلِيم: أنه يحمل على أقرب موضع صالح، ولو عين موضعاً لتسليم، ففيه ثلاثة أوجه ذكرها القاضي ابن كَجٍّ: أحدها: أنه يتعين ذلك الموضع. والثاني: لا، وللمسلم الخِيَار. والثالث: يتعين أقرب موضع صالح. وأما السَّلم الحال فلا حاجة فيه إلى تَعْيِين مكان التَّسْليم كالبيع، ويتعيّن مكان العقد، لكن لو عينا موضعًا آخر جاز بخلاف البيع؛ لأن السَّلَم يقبل التَّأْجيل، فيقبل شَرْطاً يتضمن تأخير التسليم بالإحصار، والأعيان لا تحتمل التَّأجيل، فلا تحتمل شرطاً يتضمن تَأْخِيرِ التَّسْليم، وحكم الثمن في الذِّمة حكم المسلم فيه، وإن كان معيناً فهو كالمبيع قال في "التهذيب": ولا نعني بمكان العَقْد ذلك الموضع بعينه، بل تلك المحلة والله أعلم (¬1). ¬
قال الغزالي: الشَّرْطُ الرَّابعُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ المِقْدَارِا "بِالوَزْنِ أَوِ الكَيْلِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-": مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْل مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، وَلاَ يَكْفِي العَدُّ فِي المَعْدُودَاتِ، بَلْ لاَ بُدَّ مِنْ ذِكْر الوَزْنِ فِي البطِّيخِ وَالبَيْضِ، وَالبَاذِنْجَانِ، وَالرُّمَّانِ، وَكذَا الجَوْزُ، وَاللَّوْزُ إِنْ عُرِفَ نَوْعٌ لاَ يَتَفَاوَتُ فِي القُشُورِ غَالِباً، وَيُجْمَع في اللَّبَنِ بَيْنَ العَدِّ وَالوَزْنِ. قال الرَّافِعِيُّ: يشترط أنْ يكون المسلم فيه معلوم القدر للخبر (¬1)، والإعلام تارة تكون بالكيل، وأخرى بالوَزْن أو العَدَد أو النَّوع. وقوله في الحديث: "في كيل معلوم ووزن معلوم" ينبغي أن يعرف فيه شيئان: أحدهما: أنه ليس أمراً بالجمع بين الكَيْل والوزن، بل الجمع قد يكون مُبْطلاً، كما لو أسلم في ثَوْبٍ ووصفه وقال: وزنه كذا أو أسلم في مائة صَاع حِنْطة على أن يكون وزنها كذا، لا يصح لأنه يورث عزة الوجود. قال الشيخ أبو حامد: لكن لو ذكر وزن الخشب مع الصِّفات المشروطة جاز؛ لأنه لو كان زائداً أمكن نَحْتُه حتى يعود إلى القَدْرِ المَشْرُوط. إذا تقرَّر ذلك فالمُرَادُ من الخبر الأمر بالكَيْلِ في المَكِيلات، والوَزْن في الموزونات. الثَّاني: هذا الأمر ورد على العَادَة الغَالِبَة في النَّوْعين لا لِلتَّعْيِين، فيجوز ذكر الوزن في المَكِيْلات، والكَيْل في الموزونات، الَّتي يتَأتَّى فيها الكَيْل بخلاف الرَّبَوِيَّات؛ لأن المقصود هاهنا معرفة المِقْدَار، وكل واحد منهما مَعْرُوف، وثم نص الشَّارع على طريق المماثلة فوجب الاتِّباع. وعن أبي الحسين ابن القَطَّان: أن بعض الأَصْحَاب منع من السَّلَم كَيْلاً في الموزونات والمَشْهور الأول، لكن إمام الحَرَمَيْن حمل ما أطلقه الأصحاب على ما يعتاد الكَيْل في مثله ضابطاً. أما لو أسلم في فُتَات المِسْك والعَنْبَرِ ونحوهما كيلاً لم يصح؛ لأن للقدر اليَسِير منه مالية كبيرة، والكَيْل لا يعد ضابطاً فيه. ثم في الفصل صورتان: إحداهما: السَّلَم في البَطِّيخ والقِثَّاء والرُّمّان والسَّفَرْجَل، والبَاذِنْجَان والبَيْض جائز، والمعتبر فيها الوَزْن دون الكيل؛ لأنها تَتَجَافَى في المِكْيَال، ودون العدد لكثرة ¬
التفاوت فيه، والناس يكتفون بالعدد تعويلاً على العِيَان وتسامحاً، وكذا لا يجوز السَّلَم في الجَوْز واللَّوْز عدداً ويجوز وزناً، وفي الكيل وجهان نقلهما صاحب "البيان" المذكور: منهما في "الشامل": الجواز، وكذا في الفُسْتُقِ والبندق (¬1). واستدرك الإمام فقال: قشور الجَوْز واللَّوْز أيضاً، وليحمل ما أطلقه الأصْحَاب على النَّوع الَّذي لا تختلف قشوره في الغالب. وعن أبي حنيفة: أنه يجوز السَّلَم عددًا في البَيْض والجَوْز، ولا يجوز السَّلَم في البُقُول جَزْمًا لاختلافهما، وإنما السلم فيها بالوزن، ولا يجوز السّلم في البَطّيخة الواحدة، والسَّفَرْجَلَة الواحدة، ولا في عدد منها؛ لأنه يحتاج إلى ذكر حجمها ووزنها، وذلك يورث عِزّة الوجود. وقوله في الكتاب: (ولا يكفي العد في المعدودات) يجوز إعلامه بالحاء لما حكيناه عنه، ثم هو غير مجري على إطلاقه؛ لأن التَّقْدير في الحَيَوَانَات إنما يكون بالعَدِّ دون الوزن والكيل. وقوله: (بل لا بد من ذكر الوزن) بعد قوله: (ولا يكفي العد) قد يوهم الحاجة إلى ذكر الوَزْن مع العد وليس كذلك، بل هو مفسد كما سبق. والمراد: أن المعتبر الوزن، ولا نظر إلى العد. الثانية: يجمع في اللَّبَن بين العَدِّ والوَزْن، فيقول: كذا لَبَنَة كل واحدة كذا؛ لأنها تضرب عن اختيار، فالجمع فيها بين العَدِّ والوَزْن لا يورث عزة، ثم الأمر فيها على التَّقرِيب دون التَّحْديد (¬2). قال الغزالي: وَلَوْ عَيَّنَ مِكْيَالاً لاَ يُعْتَادُ كَالكُوْزِ فَسَدَ العَقْدُ، وَإِنْ كَانَ يُعْتَادُ فَسَدَ الشَّرْطُ وَصَحَّ العَقْدُ عَلَى الأَصَحِّ لأَنَّهُ لَغُوٌ، وَلَوْ أسْلَم فِي ثَمرَةِ بُسْتَانِ بعيْنهِ بَطُلَ لأَنَّهُ يُنَافِي الدّينيّة، وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى نَاحِيَةٍ كَمَعْقَلَي البَصْرَةِ جَازَ إِذ الغَرَضُ مِنْهُ الوَصْفُ. ¬
قال الرَّافِعِيُّ: في الفصل مسألتان: إحداهما: لو عيّن للكيل مَا لاَ يَعْتَاد الكَيْل به كالكُوز (¬1) فسد السلم؛ لأن مِلْئَه مجهول القدر؛ ولأن فيه غَرَر لا حاجة إلى احْتماله، فإنه قد يتلف قبل المحل، وفي البيع لو قال: بعتك ملء هذا الكُوز من هذه الصُّبْرَة فوجهان بناء على المعنيين. والأصح: الصِّحَّة اعتماداً على المعنى الثاني. ولو عَيَّن في البيع أو السَّلَم مكيالاً معتاداً، فهل يفسد العقد؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم لتعرضه للتلف. وأصحُّهما: لا، ويُلْغَى الشرط كسائر الشُّروط التي لا غرض فيها. والسَّلم الحال كالمُؤَجَّل، أو كالبَيْع فيه وَجْهان: جواب الشيخ أبي حامد منهما: أنه كالمؤجل؛ لأن الشافعي -رضي الله عنه- قال: لو أصدقها (¬2) مِلْءِ هذه الجَرَّة خلاًّ لم يصح، لأنها قد تَنْكسر فلا يمكن التسليم، كذلك هاهنا. ولو قال: أسلمت إليك في ثوب كهذا الثوب أو في مائة صَاعٍ من الحِنْطَة لهذه الحِنْطة، فقد قال العراقيون: لا يصح إِذْ ربما يتلف ذلك المحضر كماَ في مسألة الكُوز. وفي "التهذيب": أنه يصح ويقوم مقام الوَصْف. ولو أسلم في ثَوْب ووصفه ثم أسلم في ثَوب آخر بتلك الصِّفة إنْ كانا ذاكرين لتلك الأوصاف. الثَّانية: لو أسلم في حِنطَة ضَيْعَة بعينها أو ثمرة بُسْتان بِعَيْنه أو قرية صغيرة لَمْ يَجُز وعللوه بشيئين: أحدهما: أنَّ تلك البُقْعَة قد تُصيبها جَائِحَة فتنقطع ثمرته وحِنْطَته، فإذاً في التَّعْيين غَرَرٌ لا ضرورة إلى احتماله. والثَّاني وهو المذكور في الكتاب: أنَّ التَّعْيِين ينافي الدَّينية من حيث إنه يضيق مجال التَّحْصِيل، والمسلم فيه ينبغي أن يكون دَيْناً مرسلاً في الذِّمَّة؛ ليتيسر أداؤه. وإنْ أسلم في ثَمَرةِ ناحية أو قرية كبيرة، نظر إنْ أراد المسلم فيه تَنوّع المسلم فيه كَمَعْقلي البَصْرَة، فإنه مع معقلي بغداد صنف واحد.، لكن كل واحد منهما يمتاز عن ¬
الآخر بصفات وَخَواص، فالإضافة إِليها تفيد فائدة الأوْصَاف، وإنْ لم تُفِد تنويعاً فوجهان: أحدهما: أنه كَتَعْيين المُكْيال لخلوه عن الفائدة. وأصحهما: الصِّحة؛ لأنه لا ينقطع غالباً ولا يتضيَّق به المجال. قال الغزالي: الشَّرْطُ الخَامِسُ مَعْرِفَةُ الأَوْصَافِ، فَلاَ يَصِحُّ السَّلَمُ إلاَّ فِي كُلِّ مَا يَنْضَبِطُ مِنْهُ كُلُّ وَصْفٍ تَخْتَلِفُ بِهِ القِيمَةُ اخْتِلاَفاً ظَاهِراً لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فِي السَّلَمِ، وَلاَ يصحُّ في المُخْتَلطَاتِ المَقْصُودَةِ الأَدْكَانِ كَالمَرَقِ وَالحَلاَوَي وَالمَعْجُونَاتِ، وَالخِفَافِ وَالقِسيِّ وَالنِّبَالِ، وَالأَصَحُّ أنَّهُ يَصِحُّ فِي العتابي وَالخَزِّ وَإِن اختلفت اللُّحْمَةُ وَالسَّدَى لأَنَّهُ فِي حُكْمِ الجِنْسِ الوَاحِدِ كَالشَّهْدِ (و) وَاللَّبَنِ، وَكَذَلِكَ مَا لاَ يَقْصِدُ خَلْطَهُ: كَالخُبْزِ وَفِيهِ المِلْحُ، وَالجُبْنُ وَفِيهِ الإِنْفَحَةُ، وَكذَا دُهْنُ البَنَفْسَجِ وَالبَانِ، وَفِي خلِّ الزَّبِيبِ، وَالتَّمرُ وَفِيهِ المَاءُ تَرَدُّدٌ. قال الرَّافِعِيُّ: أقدم فقه الفصل ثم أتكلم في الضَّبط الَّذي حاوله. أما الفِقْه فهو أن معرفة أوصاف المسلم فيه بذكرها في العَقْد شرط، فلا يصح السَّلَم فيما لا تنضبط أوْصافه، أو تَنْضبط، وأهملا بعض ما يجب ذكره؛ لأن البيع لا يحتمل جَهَالة المعقود عليه وهو عين؛ فلأن لا يحتملها السَّلَم وهو دَيْن كان أوْلى، ولتعذُّر الضبط أسباب: منها: الاختلاط، والمُخْتَلَطَات أربعة أنواع؛ لأن الاخْتِلاَط إمَّا أن يقع بالاختبار أو خِلْقَة والأول إمَّا أنْ يتفق وجميع أخْلاَطِهَا مقصودة، أو يتفق والمقصود واحد، والأول إِمَّا أَنْ يكون بحيث يَتَعَذَّر ضبط اخْلاَطِه أو بحيث لا يَتَعَذَّر. النَّوع الأول: المختلطات المقصودة الأركان التي لا تنضبط أقدار أخلاطها وأوصافها، كالهَرَائِس ومعظم المَرَق والحَلَوى والمَعْجُونَات وَالحَوَارَشَات، والغالية المركبة من المسك والعَنْبَر والعُود والكَافُور، فلا يصح السَّلَم في شَيْءٍ منها للجهل بما هو متعلق الأغراض، وكذا الخِفَاف والنِّعَال لاشتمالها على الظِّهَارة والبِطَانَة والحَشْو؛ لأن العبارة تضيق عن الوَفاءِ بذكر أطرافها وانعطَافَاتها، وفي "البيان" أن الصَّيمري حكى عن ابن سُرَيجٍ جواز السَّلم فيها، وبه قال أبو حنيفة، وكذا القِسِيّ لا يجوز السلم فيها لاشتمالها علىَ الخَشَبِ والعظْم والعَصَبِ. وأما النّبْل فقد نقل فيه اختلاف نص، واتفقوا على أنه لا خلاف فيه، واختلاف النَّص محمول على اخْتلاف أحواله، فلا يجوز السلم فيه بعد التَّخْريط والعمل عليه.
أما إذا كان عليه عَصَبٌ وَرِيشٌ ونَصْلٌ فللمعنيين: أحدهما: أنه من المُخْتَلَطَات. والثاني: اختلاف وَسَطَه وطرفيه دقَّة وغِلَظاً، وتعذّر ضبطه، وأنه من أي موضع يأخذ من الدِّقة في الغِلَظ، أو بالعكس ولم يأخذ، وأما إذا لم يكن فللمعنى الثاني، ويجوز السَّلَم قبل التَّخْرِيط والعمل عليه لتيسر ضبطه، والمَغَازِل كالنِّبَال والتِّرْيَاق المَخْلُوط كالغالية، فإن كان نَبَاتاً واحداً أو حجراً جاز السلم فيه. النوع الثَّاني: المُخْتَلَطَات المقصودة الأركان التي تَنْضبط أقدارها وصفاتها، كالثِّيابِ العتَّابِيَّةِ والخُزُوزِ المُرَكَّبة من الإِبْرَيْسِيم والوَبَر وَفي السلم، فيه وجهان: أحدهما: المنع كالسَّلَم في الغالية والمَعْجُونَات. وأصحهما عند المصنف ومعظم العراقيين: الجَوَاز؛ لأن قدر كل واحد من أَخلاَطِها ممَّا يسهل ضَبْطه، ويحكى هذا عن نص الشافعي -رضي الله عنه- وبه أجاب القاضي ابن كَجٍّ، ويخرج على الوَجْهَين السَّلم في الثوب المعمول عليه بالإِبْرَة بعد النَّسِيج من غير جنس الأصل كالإِبْرَيْسيم على القِطُن أو الكِتَّان، وإن كان تركيبهَا بحيث لا تنضبط أركانها فهي كالمَعْجُونَات. النوع الثالث: المُخْتَلَطَات التي لا يقصد منها إلاَّ الخَلِيط الواحد كالخُبْز وفيه المِلْح، لكنه غير مقصود في نفسه، وإنما يراد منه إصلاح الخبز، وفي السَّلم فيه وجهان: أصحهما عند الإمام: أنه جائز، وبه قال أحمد، وهو الذي أورده في الكتاب؛ لأن المِلْح مستهلك فيه، والخبز في حكم الشَّيء الواحد. والثاني، وهو الأصح عند الأكثرين: المَنْع لوجهين: أحدهما: الاختلاط، واختلاف الغَرض بحسب كثرة المِلْح وقلته وتعذّر الضبط. والثاني: تأثير النَّارِ فيه، وفي السَّلَم في الجُبْن مثل هذين الوجهين، لكن الجُمْهور مطبقون على ترجيح وجه الجواز، كأنهم اعتمدوا في الخُبْز المعنى الثاني، ورأوا أن عمل النَّارِ في الخُبْزِ يختلف، وفي الجُبْن بخلافه، والله أعلم. والوجهان جَارِيَانِ في السَّمك الذي عليه شيء من المِلْح، وفي خَلِّ التَّمْر والزّبِيْب وجهان أيضاً: أحدهما، وإليه ميل الصَّيْمَري والإمام: منع السلم فيهما، لما فيهما من الماء كما لا يجوز السَّلَم في المَخِيض.
وأظهرهما عند الأكثرين: الجواز؛ لأنه لا غنِيَّة به عن الماء، فإنَّ قَوَامَه به، بخلاف المَخِيض إذ لا مَصْلَحَة له في الماء والأَقِطُ كالجبن (¬1) وفي "التتمة": أن المَصْل كالمخيض؛ لما فيه من الدَّقِيق والأدهان المطيبة كدهن البَنَفْسَج والبَانِ والوَرْدِ إنْ خالطها شيء من جِزْمِ الطِّيْبِ لم يَجُزِ السَّلم فيها، وإن تَرَوَّح السِّمْسِمُ بها ثم اعتصر جاز. النوع الرابع: المُخْتَلَطَات خِلْقة، ومثلها الإمام بالشُّهْد واللَّبَن وعد الشهد من المُخْتَلَطَات أظهر من عد اللّبن منها؛ لأن في ركني الشُّهد امتيازاً ظاهراً واللَّبَن شيء واحد، إلاَّ أنه بعرض أن يحصل منه شيئان مختلفان، وفي السَّلَم. في الشُّهْد وجهان: أحدهما: المنع؛ لأن الشَّمْع فيه، قد يقلّ وقد يكثر، فأشبه سائر المُخْتَلطات، وهذا ما رواه القاضي ابن كَجٍّ عن نصه. وأصحُّهما: الجواز؛ لأن اخْتِلاَطه خِلقي فأشبه النَّوَى في التَّمر، وكما يجوز السَّلم في الشُّهْد يجوز في كل واحد من رُكْنيه. وأما اللبن فلا خلاف في جَوَاز السَّلَم فيه. وقوله في أول الفصل: (فلا يصح السلم) إلى قوله: (لا يتغابن الناس بمثله في السَّلم) هكذا هو في بعض النسخ، وفي بعضها ما لا يَتَغَابَن النَّاس بمثله، وهما صحيحان، ومعنى الأول: لا يحتمل الناس إهمال مِثْل ذلك الاختلاف والنُّقْصَان، ومعنى الثَّاني: أنه لا بأس بأن لا تنضبط منه الأَوْصَاف التي لا يبالي بها ويحتمل فواتها. ثم اعلم أن من الأصحاب من يقول: يجب التَّعرض للأوصاف الَّتي يختلف بها الغَرَض، ومنهم من يعتبر الأَوْصاف التي تختلف بها القيمة. ومنهم من يجمع بينهما وليس شيء منها معمولاً بِإِطْلاقه؛ لأن كون العَبْدِ ضعيفاً في العمل وقوياً وكاتباً وأميناً وما أشبه ذلك أوصاف يختلف بها الغَرَض والقيمة، ولا يجب التَّعرض لها ثَمَّ. قوله: (لا يصح السلم إلاَّ في كذا)، يقتضي صحة السلم في كذا؛ لأن الاسْتِثْنَاء من النَّفي إِثبات وليس ذلك على الإِطْلاَق، بل لو انْضَبَط منه كل وصف تختلف به القيمة ولكن كان عزيز الوجود لا يصح السَّلَم فيه. ¬
قال الغزالي: وَأَمَّا ما يَقْبَلُ الوَصْفَ لَكِنْ يُفْضِي الإِطْنَابُ فِيهِ إلَى عِزَّةِ الوُجُودِ كَالَّلآلئِ الكِبَارِ، وَاليَوَاقِيتِ، وَالجَارِيَةِ الحَسْنَاءِ مَعَ وَلَدِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعِزُّ وُجُودُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِب عُسْراً في التَّسْلِيمِ فَلاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ. قال الرَّافِعِيُّ: قد سبق أن السَّلم فيما يندر وجوده لا يجوز؛ لأنه عقد غرر فلا يحتمل إلاَّ فيما يوثق بتسليمه، ثم الشَّيء قد يكون نادر الوُجُود من حيث جنسه كلحم الصَّيْد في موضع العِزّة وقد لا يكون كذلك؛ إلاَّ أنه بحيث إذا ذكرت أوْصافه التي بيّنا أنه يجب التَّعرض لها عز وجوده لندرة اجْتماعها، وفي هذا القسم صورتان: إحْدَاهما: لا يجوز السَّلَم في الَّلالِئ الكِبار واليَوَاقِيت والزَّبَرْجَد والمُرْجَان؛ لأنه لا بد فيها من التَّعرض لِلْحَجْم والشَّكْل والوَزْن والصّفَاء؛ لعظم تَفَاوت القيمة باخْتِلاَف هذه الأوصاف، واجتماع المَذْكُور فيها نادر، ويجوز في الَّلآلِئ الصّغَار إذا عم وجودها كَيْلاً ووزناً (¬1). وبم يضبط النَّوعين قال قائلون: ما يطلب لِلتَّدَاوي فهو صغير، وما يطلب للتَّزَيُّن فهو كبير. وعن الشَّيْخ أبي محمد أن ما وزنه سدس دينار يجوز السَّلم فيه، وإنْ كان يطلب منه التَّزين لعموم وجوده، والوجه أن يكون اعتبار السُّدس بالتقريب. الثانية: لو أَسْلَم في جارية وولدها، أو جارية وأختها، أو عَمَّتها، أو شاة وسَخْلَتِها لم يَجُز؛ لأن اجتماع الجَارِيَة المَوْصُوفة بالصِّفَات المشروطة نادر، هكذا أطلقه الشافعي -رضي الله عنه-، وعامة الأصحاب -رضي الله عنهم- (¬2). وفصّل الإمام فقال: لا يمتنع ذلك في الزِّنْجيّة التي لا تكثر صفاتها، ويمتنع في السّرِيّة التي تكثر صفاتها، إلى هذا التَّفْصيل أشار في الكتاب بقوله: (والجَارِية الحسناء)، وهذا مفرع على أن الصفات التي يجب التعرض لها تختلف باختلاف الجَواري، ولم تفصل الآية القول فيه كما ستعرفه إن شاء الله تعالى لكن في موضع السَّلَم إشكال على الإطلاق؛ لأنهم حكوا عن نصه: أنه لو شرط كون العَبْد كاتباً أَوْ ¬
الجَارِيةَ مَاشِطَة جاز، وَلمدعٍ أنْ يدّعي نُدْرة اجتماع صفة الكِتابة والمَشْط مع الصّفات التي يجب التَّعرض لها، بل قضية ما أَطْلَقُوه تَجْوِيز السَّلَم في عبد وجارية بشرط كون هذا كاتباً وتلك مَاشِطَة، وكما يندر كون أحد الرَّقِيقين ولدا للآخر مع اجتماع الصِّفَات المشروطة فيهما، فكذا يَنْدُرْ كَوْن أحدهما كاتباً والآخر ماشطاً مع اجتماع تلك الصفات، فَلْنُسَوِّي بين الصورتين في المنع والتَّجويز. ولو أسلم في جارية وشرط كونها حاملاً فطريقان: أظهرهما: المنع؛ وعللوه بأن اجتماع الحَمْل مع الصفات المشروطة نادر، وهذا يؤيد الإِشْكَال الذي أوردناه. والثاني وبه قال أبو إسحاق وأبو علي الطَّبَرِي وابن القَطَّان: أنه على قولين بناء على أن الحمل هل له حكم أم لا؟ إن قلنا: نعم، جاز، وإلاَّ فلا، لأنه لا يعرف حصوله، وهما كالقولين في الشِّرَاء بهذا الشرط، ولو شرط كون الشَّاة المُسَلّم فيها لَبُوناً فقولان مَنْصُوصَان، وقد ذهب الشَّيْخ أَبُو حَامِدٍ إلى تَرْجيح قول الجَوَاز كما مر في شراء الجارية بشرط أنها لَبُون، لكن قضية توجيه أظهر الطريقين في صورة الحَمْل تقتضي ترجيح المنع هاهنا أيضاً، وبه أجاب صاحب "التهذيب". قال الغزالي: وَيجُوز السَّلَمُ فِي الحَيَوَان (ح) لِلأَخْبَارِ وَالآثَارِ فِيهِ فَيُتَعَرَّض لِلنَّوْعِ، وَاللَّوْنِ، وَالذُّكُورَة، وَالأُنُوثَةِ وَالسِّنِّ فَيَقُولُ عَبْدٌ تُرْكِيٌّ أَسْمَرُ ابنُ سَبْعٍ طَوِيلْ أَوْ قَصِيرٌ أَوْ رَبْعٌ، ثُمَّ يَنْزِلُ كُلُّ شَيْءٍ عَلَى أَقَلِّ الدَّرجَاتِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ وَصْفُ آحَادِ الأَعْضَاءِ إِذْ يُفْضِي اجْتِمَاعُهَا إلَى عِزَّةِ الوُجُودِ، وَفي الكُحْلِ وَالدَّعَجِ وَتكَلْثُمِ الوَجْهِ وَالسِّمَنِ فِي الجَارَيةِ، وَمَا لاَ يَعِزُّ وُجودُهُ وَلَكِنْ قَد يُعَدُّ اسْتِقْصَاءً فِيهِ تَرَدُّدٌ، وَكَذا في ذِكْرِ المَلاَحَةِ وَيقُولُ في البَعِيرِ: ثَنِيٌّ أَحْمَرُ مِنْ نَعَمِ بَنِي فُلاَنٍ غَيْرُ مَوْدُونٍ أَيْ غَيْرُ نَاقِصِ الخِلْقَةِ، وَيتَعَرَّضُ فِي الخَيْلِ لِلَّوْنِ، وَالسِّنِّ، وَالنَّوْعِ، وَلاَ يَجِبُ التَّعَرّضُ لِلشِّيَاتِ كَالأَغَرِّ وَاللَّطِيمِ، وُيتَعَرَّضُ فِي الطُّيُورِ لِلنَّوْعِ، وَالكبَرِ، وَالصِّغَرِ مِنْ حَيْثُ الجُثَّةُ. قال الرَّافِعِيُّ: يجوز السَّلَم في الحيوان، وبه قال مالك وأحمد خلافاً لأبي حنيفة؛ لما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أَشْتَرِيَ بَعِيراً بِبَعِيرَينِ إِلَى أَجَلٍ" (¬1). ¬
وعن علي -رضي الله عنه-: "أَنَّهُ بَاعَ بَعِيراً لَهُ بِعِشْرِينَ بَعِيراً إِلَى أَجَلٍ" (¬1). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أَنَّهُ اشْتَرَى رَاحِلَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ يُوَفِّيهَا صَاحِبُها بِالرَّبَذَةِ" (¬2). وهذه ونحوها هي الأخبار والآثار التي أجمل ذكرها في الكتاب. ثم الحيوان أنواع: فمنها الرَّقِيق فإذا أسلم فيه وجب التَّعَرض لأمور: أحدها: النوع، فيبين أنه تُرْكيّ أو رُومِي أو هِنْدِي، وهل يجب التعرض لصنف النوع إنْ كان فيه اختلاف؟ فيه قولان: أظهرهما: الوجوب. والثاني: اللَّون. فيبين أنه أبيض أو أسود، ويصف البَيَاض بالسُّمْرة أو الصُّفْرة، والسَّواد بالصَّفاء أو الكُدُورة، وهذا إذا اختلف لون الصنف المذكور، فإنْ لم يقع فيه اختلاف أغنى ذكره عن اللون. والثالث: الذُّكُورة والأُنُوثة. والرابع: السِّن فيقول: محتلم أو ابن ست أو سبع، ثم الأمر في السِّن على التقريب، حتى لو شرط كونه ابن سبع مثلاً بلا زيادة ولا نُقْصان، لم يجز لِنُدْرة الظّفر به، والرجوع في الاحتلام إلى قول العبد، وفي السِّن يُعْتَمد قوله إن كان بالغاً، وقول السيد: إن ولد في الإسلام وإلاَّ فالرجوع إلى النَّخَّاسين (¬3) فتعتبر طنونهم. والخامس: القَدُّ (¬4)، فبين أنه طويل أو قصير أو رَبْع (¬5)؛ لأن القيمة تتفاوت بها تفاوتاً ظاهراً. وأعلم قوله في الكتاب: (طويل أو قصير) بالواو؛ لأن الإمام نقل عن العِرَاقيين أنه لا يعتبر ذكر القَدّ، وتابعه صاحب الكتاب في "الوسيط". لكن كتب العراقيين مَشْحُونة بأنه يجب ذكره، ولم يتعرّضوا لخلاف فيه، والله أعلم. ¬
واعتبروا التعرض لأمرٍ سَادِسٍ، وهو الجَوْدَة، وهذا لا يختص بالرقيق ولا بالحيوان، وستعرف حكمه من بعد إن شاء الله تعالى. وقوله: (ثم ينزل كل شيء على أقل الدرجات) معناه: أنه إذا أتى بما يقع عليه اسم الوصف المشروط كفى ووجب القبول؛ لأن الرتب لا نهاية لها، وهذا كما ذكرنا فيما إذا باع العبد بشرط أنه كاتب أو خبَّاز، والمسألة لا اختصاص لها بهذا الموضع، بل تعمّ كل مسلم فيه، ولا يشترط وصف كل عضو على حِيَاله بأوصافه المقصودة، وإن تفاوت بها الغرض والقيمة؟ لأن ذلك يورث عزة المَوْصُوف، لكن في التعرّض للأوصاف الَّتي يعتني بها أهل البصر وترغب بها في الأَرقّاء كالكُحْل والدَّعَج (¬1) وتَكَلْثُم الوجه وسمن الجارية وما أشبهها وجهان: أحدهما وبه قال الشيخ أبو محمد: أنه يجب؛ لأنها مقصودة ولا يورث ذكرها العزة. وأظهرهما؟ أنه لا يجب؛ لأن الناس يتسامحون بإهمالها، ويعدون ذكرها استقصاء. وعن القَفَّال: تردد رأي في المَلاَحَة بناء على أنها من جملة المعاني، أو المرجع بها إلى ما يميل إليه طبع كل أحد. والأظهر: أنه لا يعتبر. واعلم أن الشافعي -رضي الله عنه- ذكر في السَّلَم في العبد أنه يقول: خماسي أو سداسي وأنه بيصف سنه، واختلفوا في التفسير فمنهم من قال: أراد بالخماسي والسداسي التعرض للقَدّ يعني خمسة أَشْبَار أو ستة أشبار. ومنهم من قال: أراد به السن، يعني ابن خمس أو ست فمن قال بالأول حمل قوله: "يصف سنه" على المعنى الثاني، ومن قال بالثاني حمل قوله: "يصف سنه" على الأسنان المعروفة، وأنه يذكر أنه مُفَلّج الأسنان أو غيره، وذلك من طريق الأولى دون الاشتراط، كالتّعرض لجُعُودَةِ الشَّعر أو سُبُوطَتِهِ. وحكى المسعودي أي الخُمَاسي والسُّدَاسي صنفان من عبيد النوبة معروفان عندهم. فرع: ذكر الشيخ أبو حامد في آخرين: أنه لا يجب ذكر الثّيَابة والبَكَارة في الجارية. وعن الصَّيْمَرِيّ: أنه يجب، وبه أجاب صاحب "المهذب" وهو الأولى. آخر: لو شرط كون العبد يهودياً أو نصرانياً جاز كشرط كونه خبازاً، ولو شرط كونه ذا زوجة، وكون الجارية ذات زوج، فعن الصَّيْمَرِي: أنه جائز (¬2)، وزعم أن ذلك مما لا يندر، وعنه أنه لو شرط كونه سارقاً أو ¬
زانياً أو قاذفاً جاز أيضاً، بخلاف ما لو شرط كون الجارية مغنية أو قوادة، وفرق بأنها صناعة محظورة، وتلك أمور تحدث كالعَمَى والعَوَر وقطع اليد، وهذا فرق لا يقبله ذهنك (¬1). ثالث: لو أسلم جارية صغيرة في كبيرة فعن أبي إِسْحَاقَ: أنه لا يجوز؛ لأنها قد تكبر وهي بالصِّفَة المَشْرُوطة فيسلمها بعد أن يَطَأها، فتكون في معنى اسْتِقْرَاض الجَواري. والصحيح: الجواز، كإسلام صِغَار الإبل في كبارها، وهل يتمكن من تسلمها عما عليه؟ فيه وجهان لاتحاد الثمن والمثمن (¬2): إن قلنا: يتمكّن، فلا مبالاة بالوَطْء كوطء الشيب وردها بالعيب. ومن أنواع الحيوان الإبل، ولا بد من التعرض فيها لأمور: أحدها: الذكورة والأنوثة. وثانيها: السِّن، فيقول ابن مَخَاص أو ابن لَبُون أو ثَنِي. وثالثها: اللّون، فيقول أحمر أو أسود أو أزرق. ورابعها: النوع، مثل أن يقول: من نَعَم بني فلان ونتَاجهم، وهذا فيما إذا كثر عددهم وعرف بهم نِتَاج كَطَيْئ وبني قَيْس، فأما النسبة إلى الطائفة القليلة فهو كتعيين البُسْتَان في الثمار. ولو اختلف نتاج بني فلان، وكان فيها أَرْحَبِيَّة ومُهَرِيّة ومَجِيْدِيّة فأظهر القولين: أنه لا بد من التَّعيين. وأما قوله: غير (مودون) فإن الشافعي -رضي الله عنه- ذكر في "المختصر" أنه يقول في السلم في البعير غير مودون نفي من العيوب سِبْط الخلق، مُحَفّر الجَنْبَيْن، والمودون: غير ناقص الخِلقة، والسّبْطُ: المَدِيدُ القامة، الوافر الأعضاء، ومحفر الجنبين عظيمها وواسعها، واتفق الأصحاب على أن ذكر هذه الأمور ليست بشرط، وإنما هو ضرب من التأكيد. ¬
ومنها: الخَيْل، فيجب التعرض فيها لما يجب التعرض له في الإِبل، ولو ذكر معه الشِيات (¬1) كالأغرّ والمُحَجَّل واللَّطِيم (¬2) كان أولى، ولو أهملهما جاز، وحمل قوله: "أَشْقَر أو أَدْهَم" على البهيم، وكذا القول في البِغَال والحَمِير والبقر والغنم، وما لا يتبيّن نوعه بالإضافة إلى قوم يتبيّن بالإضافة إلى بلد وغيره. ومنها: الطيور، ويجوز السَّلَم فيها كالنَّعَم وغيرها. وقال في "المهذب": لا يجوز؛ لأنه لا يضبط سنها ولا يعرف قدرها بالذراع، فعلى المشهور يوصف منها النَّوع والصِّغَر والكِبَر من حيث الجُثّة، ولا يكاد يعرف سنها، فإن عرف وصف به، ويجوز السَّلَم في السَّمك والجَرَاد حيّاً وميتاً عند عموم الوُجود، ويوصف كل جنس من الحيوان بما يَلِيق به. قال الغزالي: وَيَقُولُ فِي اللَّحْمِ: لَحْمُ بَقَرٍ أَوْ غَنَمِ ضَأْنٍ أَوْ مَعْزٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى خَصِيِّ أَوْ غَيْرِ خَصِيِّ رَضِيعٍ أَوْ فَطِيمٍ مَعْلُوفَةٍ أَوْ رَاعِيَةٍ مِنَ الفَخَذِ أَوْ مِنَ الجَنْبِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ نَزْعُ العَظْمِ. قال الرَّافِعِيُّ: السّلمُ في اللحم جائز خلافاً لأبي حنيفة. لنا أنه يمكن ضبط صفاته فأشبه الثِّمَار، ويجب فيه بيان أمور: أحدها: الجنس، فيقول: لحم إبل أو بقر أو غنم. والثاني: النوع، فيقول: لحم بقر أهْلِيّ أو جَوَامِيْس، ولحم ضَأْن أو مَعِز. الثالث: الذُّكورة والأُنُوثة، وإذا بيّن الذكورة فليبيّن أنه خَصِيٌّ أو غير خَصِيّ. والرابع: السن، فيقول: صَغِير أو كبير، ومن الصغير رَضيع أو فَطِيم، ومن الكَبير جَذَعٌ أو ثَنِيّ. والخامس: يبين أنه من رَاعِيَة أو مَعْلُوفة؛ لأن كل واحد من النوعين مطلوب من وجه. قال الإمام: ولا اكتفاء بالعَلَف بالمخرَّة والمَرَّات حتى ينتهي إلى مبلغ مؤثر في اللحم. فإن قلت: أطلق الأصحاب قولهم باعتبار هذا الأمر ولفظ الشافعي -رضي الله عنه- في "المختصر"، ويقول في لحم البعير خاصة بغير رَاعٍ فكيف الجمع؟ فالجواب: أن النَّص محمول على عادتهم، فإنهم كانوا لا يَعْلفون إلاَّ الإبل، فلم ¬
يفتقروا إلى التَّقييد في غير الإبل، فأما حيث جرت العادة بِعَلَف غيره فَلاَ بُدَّ من بيانه. والسادس: يبين موضعه أَهُوَ من الفَخِذ أو الجَنْب أو الكَتِف لاختلاف الأغراض؟ وفي كتب العراقيين اعتبار أمر شائع، وهو بيان السّمن والهُزَال، ولا يجوز شرط الأَعْجَف؛ لأن العَجَف هُزَالٌ عن علة، وشرط العَيْب مفسد على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ويجوز في اللحم المُمَلَّح والقُدِيد إذا لم يكن عليه عين الملح، فإن كان فقد مر الخلاف في نظيره، ثم إذا أطلق السَّلَم في اللحم وجب قبول ما فيه من العَظْم على العادة، وإن شرط نزع العَظْم جاز ولم يجب قبوله، ويجوز السَّلَم في الشَّحْم والأَلْبَة والكَبِد والطّحال والكُلْية والرِّئَة. وإذا أسلم في لَحْم الصَّيد ذكر ما يجب ذكره في سائر اللحوم، لكن الصيد الذكر لا يكون إلاَّ فَحْلاً وراعياً، فلا حاجة إلى التَّعرض للأمرين. قال الشيخ أبو محمد والمقتدون به: ويبين أنه صيد بأُحْبُولة أو بسَهْم أو بجَارحة، ويبين أنها كلب أو فخذ؛ لأن صيد الكلب أطيب لطيب نَكْهَته، وفي لحم الطير والسَّمك يبين الجنس والنوع والصغر والكبر من حيث الجُثَّة، ولا حاجة إلى ذكر الذُّكُورة والأُنُوثة إلاَّ إذا أمكن التَّمييز وتعلّق به الغرض، ويبين موضع اللّحم إذا كان الطَّير والسَّمك كثيرين، ولا يلزم قبول الرَّأس والرجل من الطير، والذَّنَب من السمك. قال الغزالي: وَلاَ يُسْلَمُ في المَطْبُوخِ وَالمَشْوِيِّ إذَا كَانَ لاَ يُعرَفُ قَدْرُ تَأْثِيرِ النَّارِ فِيهِ بِالعَادَةِ. قال الرَّافِعِيُّ: لا يجوز السَّلَم في اللَّحم المَطْبوخ والمَشْوي لاختلاف الغرض باختلاف تأثير النَّار فيه وتعذر الضّبط، وفي السَّلَم في الخبز وجهان ذكرناهما في فصل المختلطات. وجه الجواز: أن لتأثير النار فيه نهاية مضبوطة كالسَّمن والدّبْس والسُّكَّر والفَانِيْذ كالخبز (¬1) فيجري في مثلها الوجهان، وأشار الإمام إلى طريقة قاطعة بجواز السَّلم في السُّكَّر والفَانِيذ وفي اللّباء الوجهان: ¬
اختيار الشيخ أبي حامد: المنع. واختيار القاضي أبي الطَّيب: الجواز. فأما ما جفف ولم يطبخ فيجوز السَّلَم فيه بلا خلاف، ويقرب من صور الخلاف تردد صاحب "التقريب" في السَّلَم في الماء، ورُدَّ لاختلاف تأثير النار فيما يتصعّد ويُقَطر، واستبعد إمام الحرمين وجه المنع فيها جميعاً، ولا عبرة بتأثير الشمس بل يجوز السَّلَم في العَسَل المُصَفّى بالشمس، وفي العسل المُصَفَّى بالنار والوجهان في الدَّبْسِ ونحوه، ومما يوجه به المنع أن النار تعيبه وتسرع الفساد إليه. قال الغزالي: وَفي السَّلَمِ في الحَيَوَانَاتِ بَعْدَ التَّنْقِيَةِ مِنَ الشُّعُورِ قَوْلاَنِ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الحَيَوَانَاتِ وَالمَعْدُودَاتِ، وَالأَصَحُّ في الأَكَارعِ الجَوَازُ لِقِلَّةِ الاخْتِلاَفِ في أَجْزَائِهِا. قال الرَّافِعِيُّ: في السَّلم في رُؤوس الحيوانات المأكولة قولان: أحدهما: الجواز، وبه قال مالك وأحمد، كالسَّلم في جملة الحيوان، وكالسَّلَم في لحم الفَخِذ وسائر الأعضاء. وأظهرهما: المنع. وبه قال أبو حنيفة؛ لاشتمالها على أَبْعَاض مختلفة كالمَنَاخِرِ والمَشَافِرِ وغيرها، وتعذّر ضبطها، ويخالف السَّلَم في الحيوان، فإن المقصود جملة الحيوان من غير تَجْرِيد النظر إلى آحَادِ الأعضاء، ويخالف السَّلَم في لحوم سائر الأعضاء، فإنَّ لحم سائر الأعضاء أكثر من عظمها والرَّأس على العكس، والأَكارع كالرؤوس (¬1). ورأى صاحب الكتاب، الجواز فيها أصح لأنها أقرب إلى الضَّبط، لكن الجمهور على الأول بل عن القاضي أبي الطَّيب الرمز إلى القطع بالمنع فيها. فإن قلنا: بالجواز فيهما فذلك بشروط: أحدها: أن تكون مُنَقَّاة من الصوف والشَّعر، فأما السَّلَم فيها من غير تنقية فلا يجوز لتستر المقصود بما ليس بمقصود. والثاني: أن توزن، فأما بالعدد فلا لاختلافها في الصغر والكبر. والثالث: أن تكون نَيَّة، فأما المَطْبُوخة والمَشْوِية فلا سَلَم فيها بحال، وفي كتاب القاضي ابن كج اعتبار شرط آخر: وهو أن تكون المَشَافِر والمَنَاخِر مُنَحَّاة عنها، وهذا لا اعتماد عليه. وقوله في الكتاب: (لترددها بين الحيوانات والمعدودات) إشارة إلى توجيه ¬
القولين، فوجه الجواز الشبه بالحيوانات، ووجه المنع أن الوَزْن لا يكفي فيها لكون الكبر مقصوداً منها، فتلحق بالمعدودات، ولا يجوز السَّلَم فيها بالعَدِّ كما سبق، وفي لفظ "المختصر" إِيْمَاء إلى هذا الكلام، فإنه قال: وأرى الناس تركوا وزن الرُّؤوس؛ لما فيها من الصُّوف وأطراف المَشَافِر والمَنَاخِر وما أشبه ذلك؛ لأنه لا يؤكل. قال الغزالي: وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي اللَّبَنِ، والَسَّمْنِ، وَالزُّبْدِ، وَالمَخِيضِ وَالوَبَرِ، وَالصُّوفِ، وَالقُطْنِ، والإِبْرَيْسَم، وَالغَزْلِ المَصْبُوغِ وَغَيْرِ المَصْبُوغِ، وَكَذا فِي الثِّيَابِ بَعْدَ ذِكْرِ النَّوْعِ وَالدِّقَّةِ وَالغِلَظِ وَالطُّولِ وَالعَرْضِ، وَكَذا في الحَطَبِ والخَشَبِ، وَالحَدِيدِ، وَالرَّصَاصِ، وَسَائِرِ أَصْنَافِ الأَمْوَالِ إِذَا اجْتَمَعَتِ الشَّرَائِطُ الَّتِي ذَكْرَنَاهَا. قال الرَّافِعِيُّ: في الفصل صور: إحداها: يجوز السلم في اللَّبن، ويبين فيه ما يبين في اللحم، سوى الأمر الثَّالث والسَّادس، ويبين نوع العلف لاختلاف الغَرض بذلك، ولا حاجة إلى ذكر اللون ولا إلى ذكر الحلاوة، فإن أطلق ينصرف إلى الحُلو، بل لو أْسلم في اللَّبن والحامض لم يجز؛ لأن الحموضة عيب فيه، ولو أسلم في لبن يومين أو ثلاثة فإنما يجوز ذلك إذا بقي حُلواً في تلك المدة، وفي السَّلَم في السمن ما يبين في اللبن، ويذكر أنه أبيض أو أصفر. وهل يحتاج إلى التعرض للحديث والعتيق؟ قال الشيخ أبو حامد: لا، بل العَتيْق معيب لا يصح السَّلم فيه. وقال القاضي أبو الطيب: العَتِيق المتغير هو المعيب لا كل عتيق فيجب البيان، وفي الزُّبْد يذكر مثل ما في السَّمن، ويذكر أنه زبد يومه أو أمسه، ويجوز السلم في اللبن كيلاً ووزناً، لكن لا يكال حتى تسكن الرَّغْوة، ويوزن قبل سكونها، وكذا السَّمْن يكال ويوزن، إلاَّ إذا كان جامداً يتجافى في المكيال فيتعين الوزن، وليس في الزُّبْد إلاَّ الوزن، وكذا في اللّباء المجفف، وقبل الجفاف هو كاللبن، وإذا جوزنا السَّلَم في الجبن وجب بيان نوعه وبلده وأنه رطب أو يابس. وأما قوله: (والمَخِيض) فاعلم أن المَخِيض الذي فيه ماء لا يجوز السلم فيه، نص عليه الشافعي -رضي الله- عنه- وقد أدرجناه في أثناء المُخْتَلطات، فالذي ذكره محمول على ما إذا مخض اللبن من غير ماء وحينئذٍ فوصفه بالحُمُوضة لا يضر؛ لأن الحموضة مقصودة فيه. الثانية: إذا أسلم في الصوف قال: صومه بلد كذا لاختلاف الغَرَض به ويبين لونه وطوله وقصره، وأنه خَرِيفي أو ربيعي، فالخريفي أنظف، وأنه من ذكور أو إناث فصوف الإناث أشد نُعُومة واستغنوا بذلك عن ذكر اللين والخشونة، ولا يقبل إلا نَقِيّاً من الشوك
والبعر، وإن شرط كونه مغسولاً جاز إلاَّ أن يعيبه الغسل والوَبَر والشعر كالصوف والطريق فيهما الوزن. الثَّالثة: يبين في القُطْن بلده ولونه (¬1)، وكثرة لحمه وقلّته، والخُشُونة والنُّعُومة، وكونه عتيقاً أو حديثاً إن اختلف الغرض به، والمطلق يحمل على الجَاف وعلى ما فيه الحب، ويجوز في الحَلِيْج وفي حبّ القُطْن، ولا يجوز في القطن في الجوزق قبل التشقق، وأما بعده ففي "التهذيب": أنه يجوز. وقال في "التَّتمة": ظاهر المذهب أنه لا يجوز لاستتار المقصود بما لا مصلحة فيه، وهذا ما أطلق العراقيون حكاية عن النص. الرابعة: يبين في الاِبْرَ سيم بلده ولونه ودقّته وغلظه، ولا حاجة إلى ذكر الخُشُونة والنعومة، ولا يجوز السلم في القَزّ وفيه الدُّود حية كانت أو ميتة؛ لأنها تمنع معرفة وزن القَزّ بعد خروج الدُّود. وإذا أسلم في الغَزْل ذكر ما ذكر في القُطْن، ويذكر الدّقة والغلظ أيضاً، ويجوز السَّلَم في غزل الكِتَّان أيضاً، ويجوز شرط كونه مَصْبُوغاً، ولا بد من بيان الصَّبْغ. الخامسة: إذا أسلم في الثِّيَاب بين الجنس أنه من إِبْرَيْسم أو كِتّان أو قطن، والنوع والبلد الذي ينسج فيه إن اختلف به الغرض، وقد يغني ذكر النوع عنه، وعن الجنس أيضاً ويبين الطول والعرض والغلظ والدقة والصفاء فيه والرقة والنعومة والخشونة، ويجوز في المقصور والمطلق محمول على الخام، ولا يجوز في اللبيس لأنه لا ينضبط، ويجوز فيما صبغ غزله قبل النّسج، كالبُرُود، والمشهور في كتب الأصحاب أنه لا يجوز في المَصْبُوغ بعد النَّسْج، ووجهوه بشيئين: أحدهما: أن الصّبغ عين مرئية وهو مجهول المقدار، والغرض يختلف باختلاف أَقْدَاره. والثَّاني: أنه يمنع معرفة النُّعُومة والخشونة وسائر صفات الثوب. وحكى الإمام عن طائفة منهم شيخه أنه يجوز، وبه قال صاحب "الحاوي" وهو ¬
القياس، ولو صحِ التوجيهان لما جاز السَّلَم في المنسوج بعد الصبغ أيضاً، وفي الغزل المصبوغ (¬1) أيضاً. وعن الصيمري تجويز السَّلم في القميص والسَّرَاويلات، إذا ضبطت طولاً وعرضاً وضِيْقاً وسِعَة (¬2). السادس: الخشب أنواع منها: الحَطَب، فإذا أسلم فيه ذكر نوعه وغلظه ودقته وأنه من نفس الشجر أو أغصانه ووزنه، ولا يجب التَّعرض للرطوبة والجَفَاف، والمطلق محمول على الجاف، ويجب قبول المُعْوَج والمستقيم. ومنها: ما يطلب للبناء، كالجُذُوع فيبين فيها النوع والطول والغلظ والدقة، ولا حاجة إلى ذكر الوزن خلافاً للشيخ أبي محمد، ولو ذكر جاز بخلاف الثياب. قال الشيخ أبو حامد: لأنه يمكن أن ينحت منها عنه ما يزيد على القدر المشروط، ولا يجوز السَّلَم في المَخْرُوط لاختلاف أعلاه وأسفله (¬3). ومنها: ما يطلب ليغرس فيسلم فيه بالعدد، ويذكر النوع والطول والغلظ. ومنها ما يطلب ليتخذ منه القِسِيّ والسِّهَام، فيذكر فيها النَّوْع والدِّقة والغلظ، وزاد بعضهم التَّعرض لكونه سَهْلِيّاً أو جَبَليّاً؛ لأن الجبلي أصلح لها، ومنهم من اعتبر التَّعرض للوزن أيضاً فيه وفي خشب البناء. السابعة: إذا أسلم في الحديد ذكر نوعه، وأنه ذكر أو أنثى ولونه وخشونته ولينه وفي الرّصَاص يذكر نوعه من قلعي وغيره، وفي الصغر من شبه وغيره ولونهما وخشونتهما ولينهما، ولا بد من الوزن في جميع ذلك، وكل شيء لا يتأتى وزنه بالقَبَّان لكبره يوزن بالعرض على الماء، هذا شرح الصور التي نص عليها صاحب الكتاب، وترد فيها بصور على الاخْتصار، فنقول: العلم في المنافع كتعليم القرآن وغيره جائز، ذكره الروياني، ويجوز السلم في الدراهم والدنانير، على أصح الوجهين؛ لأنه مال يسهل ضبطه. ¬
والثَّاني وبه قال أبو حنيفة: أنه لا يجوز، وعلى الأول يشترط أن يكون رأس المال غير الدَّرَاهم والدنانير (¬1). ويجوز السَّلَم في أنواع العطر العامة الوجود والكافُور ويذكر وزنها ونوعها، فيقول: عَنْبَر أَشْهَب أو غيره، قطاع أو فتات. ويجوز السَّلَم في الزجاج والطين والجِصّ والنُّورة، وحجارة الأرحية والأَبْنية والأواني، ويذكر نوعها وطولها وعرضها وغلظها، ولا حاجة إلى ذكر الوزن (¬2). ولا يجوز في البِرَام (¬3) المعمولة، ولا في الكِيْزَان الحِباب والطوتِ والمَنَائر والقَمَاقِم والطَّنَاجر (¬4) لندرة اجتماع الوزن مع الصِّفات المشروطة، ولتعذّر ضبطها، نعم ما يصب منها في القَالب يجوز السَّلَم فيه؛ لأنه لا يختلف، وكذا في الأَسْطَال المربعة، كما يجوز في مربعات الصّرم وقطع الجلُود وزناً، ولا يجوز في الجلود على هيئتها لتفاوتها دقَّة وغلظا وتعذر ضَبْطَها. ويجوز السَّلَم في الكَاغدِ عدداً ويبين فيه النوع والطول والعرض. وفي اللبن والآجُرّ، وفي الآجُرّ، وجه لتأثير النار فيه، ولا يجوز السَّلَم في العَقَار؛ لأنه يحتاج فيه إلى بيان المَكَان، وإذا بين تعين. ولا يجوز في العَلَس والأرز لاستتارهما بالكِمَام، ويجوز في الدقيق. وعن الدَّارِكِي: أنه لا يجوز، وإذا أسلم في التَّمر بين النوع، فيقول مَعْقليّ أو بَرْنِيّ، والبلد، فيقول: بَغْدَادي أو بَصْرِي، واللون، وصغر الحَبّات وكبرها، وكونه حديثاً أو عتيقاً، ولا يجب تقدير المدة التي مضت عليه، والحِنْطَة وسائر الحبوب كالتمر، وفي الرطب يبين جميع ذلك سوى الحديث والعَتِيق. وفي "الوسيط": أنه يجب التعرض لذلك في الرطب، ولا حاجة إليه في البُرّ والحبوب، وهو خلاف النَّصِّ وما عليه عامة الأصحاب، وفي العَسَل يبين أنه جَبَلِي أو ¬
بَلَدِي، صيفي أو خريفي، أبيض أو أصفر، ولا حاجة إلى ذكر الحديث والعتيق؛ لأنه لا يختلف الغرض به، ويقبل مَا رَقَّ بسبب الجَزّ ولا يقبل مَا رَقّ رقة عيب، والله أعلم. وهذا باب لا ينحصر فاغتن بالمذكور عن المتروك. قال الغزالي: فإن شَرَطَ الجَوْدَة جَازَ، وَنَزَلَ عَلَى أَقَلِّ الدَّرَجَاتِ، وَإِنْ شَرَطَ الأَجْوَدَ لَمْ يَجُزْ إِذْ لاَ يُعْرَفُ أَقْصَاهُ، وَإِنْ شَرَطَ الرَّدَاءَةَ فَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ فَإِنْ شَرَطَ الأرْدَأَ جَازَ عَلَى الأَصَحِّ، لأَنَّ طَلَبَ الأَرْدَإِ عِنَادٌ مَحْضٌ فَلا يَثُورُ بِهِ نِزَاعٌ، وَالوَصْفُ الَّذِي بِهِ التَّعْرِيفُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِلْغَة يَعْرُفِهَا غَيْرُ المُتَعَاقِدَيْنِ. قال الرَّافِعِيُّ: مضمون الفصل مسألتان: إحداهما: ذهب العراقيون من مشايخنا إلى اشتراط التَّعرض للجودة أو لِلرَّداءة، في كل ما يسلم فيه، وعللوه بأن القيمة، والأغراض تختلف بهما وظاهر النص يوافق ما ذكروه، وقال غيرهم: لا حاجة إلى غيره، ويحمل المُطْلق على الجَيْد، وهو الأظهر (¬1)، وإيراد الكتاب يوافقه. وسواء قلنا بالاشتراط أو لم نقل، فإذا شرط الجَوْدة نزل على أقل الدرجات، كما إذا شرط صِفَة أخرى، ولو شرط الأَجْود لم يَجُز؛ لأن أقصاه غير معلوم، فكأنه شرط شيئاً مجهولاً، وأيضاً فإنه ما مِنْ جيد (¬2) يأتي به إلاَّ والمُسَلم يطالبه بما هو أجود منه تمسُّكاً باللفظ فيدوم النِّزَاع بينهما، وإنْ شرط الرَّدَاءة فقد أطلق في الكتاب أنه لا يجوز، وفصّل كثيرون فقالوا: شرط رداءة النوع يجوز لانضباطه، وشرط رداءة العَيْب والصفة لا يجوز؛ لأنها لا تَنْضَبط، وَمَا مِنْ رديء إلاَّ وهناك خير منه، وإنْ كان رديئاً فيفضي إلى النزاع (¬3). واعلم أن المُسَلم فيه لا بُدَّ من التعرض له على ما سبق، وإن لم ينص على النوع، وتعرض للرديء تعريفاً للنوع فذلك محتمل لا محالة، وإن نص على النوع فذكر الرداءة حشو. وأما رداءة الصِّفَة فَالَّذي حكيناه عن العِرَاقيين يقتضي تَجْويز اشتراطه؛ لأنهم ذكروها في مُقَابلة الجودة، ولا شك أنهم لم يريدوا بها جَوْدَة النَّوع، ولهم أن يعترضوا فيقولوا: هب أن رداءة الصفة لا تنضبط، لكن الجودة أيضاً كذلك، وقد نزلناها على أقل الدَّرجات، فلم لا تفعل في الرداءة مثله، وإن شرط الأردأ ففيه قولان، ويقال ¬
الباب الثاني في أداء المسلم فيه والقرض
وجهان: أحدهما، وهو المنصوص في "المختصر": أنه لا يجوز؛ لأنه لا يوقف على أقصاه كما في الأَجْوَد. وأصحهما: الجواز؛ لأنه إذا أتى برديء لم يطالبه المسلم بما هو أردأ منه، وإنْ طالبه به فكان معانداً فيمنع منه، ويجبر على قبوله. ولك أن تُعَلّم قوله في الكتاب: (وإن شرط الجودة لم يجز) بالواو؛ لأن في تعليق الشيخ أبي حامد أن من أصحابنا من خرج قولاً أنه جائز، وكذلك قوله: (فكذلك لا يجوز) لما قدمناه والله أعلم. الثانية: صفات المسلم فيه المذكورة في العقد تنقسم إلى مشهورة عِنْدَ النَّاس وإلى غير مشهورة، وذلك قد يكون لدقة معرفتها كما في الأدوية والعقاقير، وقد يكون لغرابة الألفاظ المستعملة فيها، فلا بد من معرفة المتعاقدين بها، فلو جهلاها أو أحدهما لم يصح العقد، وهل يكفي معرفتها؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا، وهو المنصوص، بل لا بد من أن يعرفها غيرهما ليرجع إليه عند تنازعهما. والثاني: أنه يكفي معرفتهما، والنَّص محمول على الاحتياط، فإن قلنا بالأول فهذا شرط آخر للسَّلَم، وهل تعتبر فيها الاستفاضة أم يكفي معرفة عَدْلين سواهما؟ فيه وجهان: أظهرهما: الثَّاني. ويجري الوجهان فيما إذا لم يعرف المِكْيال إلاَّ عدلان. واعلم أن جميع ما ذكرناه الآن من معرفة المتعاقدين وغيرهما يخالف ما قدمنا في مسألة فُصْح النَّصَارى من بعض الوجوه، ولعل الفرق أن الجهالة هناك راجعة إلى الأجل، وهاهنا راجعة إلى المعقود عليه فجاز أن يحتمل من نيل الجهالة ما لا يحتمل من هذه، والله تعالى أعلم. البَابُ الثَّانِي فِي أَدَاءِ المُسَلَّمِ فِيهِ وَالقَرْضِ قال الغزالي: أَمَّا المُسَلّمُ فِيهِ فَالنَّظَرُ فِي صِفَتِهِ وَزَمَانِهِ وَمَكَانِهِ (أَمَّا صِفَتُهُ) فَإِنْ أَتَى بِغَيْرِ جِنسِهِ لَمْ يُقْبَلْ لأَنَّهُ اعْتِبَاضٌ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزِ في المُسَلَّمِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ وَلَكِنَّهُ أَجْوَدُ وَجَبَ قَبُولُهُ، وَإِنْ كَانَ أَرْدَأَ مِنْهُ جَازَ قَبُولُهُ وَلَمْ يَجِبْ، وَإن أَتَى بِنَوْعٍ آخَرَ
أَسْلَمَ فِي الزَّبِيبِ الأَبْيَضِ فَجَاء بالأَسْوَد، فَفِي جَوَازِ القَبُولِ وَجْهَانِ إِذْ يَكَادُ أَنْ يَكُونَ اعْتِبَاضاً. قال الرَّافِعِيُّ: قوله: "والقرض" معطوف على "الأداء" على المسلم فيه، لأنه لم يقصر الكلام في القرض على أدائه، بل تكلم في فصول منها الأداء. إذا عرفت ذلك، فاعلم أن الاعتياض عن المُسَلّم فيه قبل القبض غير جائز لما مَرّ في النَّظَر الثالث من "كتاب البيع"، فلا يجوز أن يستبدل عنه غير جنسه، وإن لم يختلف الجنسس، فإما أن لا يختلف. الحالة الأولى: أن لا يختلف، فينظر إنْ أتى بالمسلم فيه على الصفة المشروطة وجب قبوله، وإن أتى به على صفة أجود مما شرط جاز قبوله، وفي الوجوب وجهان: أحدهما: لا يجب لما فيه من المِنّة. وأصحهما وهو المذكور في الكتاب: أنه يجب، لأن إتيانه به يشعر بأنه لا يجد سبيلاً إلى إبراء ذمته بغيره، وذلك يهون أمر المنة، وإن أتى به أردأ مِمَّا شرط جاز القبول ولم يجب. الحالة الثانية: أن يختلف كما لو أسلم في التَّمر المَعْقليّ، فجاء بالبَرْنِيّ، أو في الزَّبيب الأبيض فجاء بالأسود، أو في الثوب الهرَوِيّ فجاء بالمَرْوِيّ، فلا يجب على المسَّلم قبوله لاختلاف الأغراض باختلاف الأنواع. ومنهم من حكى وجهاً آخر: أنه تمسكاً بقول الشافعي -رضي الله عنه- وأصل ما يلزم السَّلَف قبوله ما سلف فيه أن يأتيه به من جنسه. فإن قلنا بالأول فهل يجوز قبوله؟ فيه وجهان: أظهرهما وبه قال الشيخ أبو حامد: لا؛ لأنه يشبه الاعتياض، كما لو اختلف الجنس. والثاني: نعم، كما لو اختلفت الصِّفة، وذكروا خلافاً في أن التَّفَاوت بين التَّرْكِيّ والهِنْدِيّ من العبيد تفاوت جنس أو تفاوت نوع. والصحيح: الثاني، وفي أن التفاوت بين الرطب أو التمر، وبين ما يسقى بماء السماء، وما يسقى بغيره تفاوت نوع أو صفة والأشبه الأول. فرع: ما أسلم فيه كيلاً لا يجوز قبضه وزناً وبالعكس، وعند الكيل لا يزلزل المكيال ولا يوضع الكف على جوانبه. آخر: إذا أسلم في الحِنْطة وجب تسليمها نقية من الزّوَان والمَدَر والتُّرَاب، فإن
كان فيها شيء قليل من ذلك، وقد أسلم كيلاً جاز، وإن أسلم وزناً لم يجز (¬1). ويجب تسليم التمر جافَّاً (¬2)، والرطب صحيح غير مشدَّخ (¬3). قال الغزالي: (أَمَّا الزَّمَانُ) فَلاَ يُطَالَبُ بِهِ قَبلَ المَحَلِّ وَلَكِنْ إِنْ جَاءَ بِهِ قَبْلَهُ وَلَه فِي التَّعْجِيلِ غَرَضٌ بِأَنْ كَانَ بِالدَّيْنِ رَهْنٌ أَوْ ضَامِنٌ أَوْ كَانَ يَظْهَرُ (و) خَوْفُ الانْقِطَاع وَجَبَ القَبُولُ، كَمَا يَجِب قَبُولُ النُّجُومِ مِنَ المُكَاتَبِ قَبْلَ المَحَلِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ سِوَى البَرَاءَةِ نُظِرَ فَإنْ كَانَ لِلْمُمْتَنِعِ غرَضٌ بِأَنْ كَانَ فِي زَمَانِ نَهْبٍ أَوْ غَارَةٍ أَوْ كَانَتْ دَابَّةٌ يَحْذَرُ مِنْ عَلْفِهَا فلاَ يُجْبَرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الجَانبيْنِ غرَضٌ فَقَوْلاَنِ في الإِجْبَارِ. قال الرَّافِعِيُّ: السلم إما مؤجل أو حال، فإن كان مؤجلاً فلا يخفى أنه لا يطالبه بالمُسَلّم فيه قبل المحل، وإلاَّ لبطل فائدة التأجيل، ولو أتى المُسَلَّم إليه به قبل المَحل، وامتنع المُسَلّم من قبوله، فترتيب صاحب الكتاب يُخالف ترتيب الجُمْهور، فنذكر ما ذكروه ثم نعود إلى ما أورده. قال الجمهور: إنْ كان له في الامْتِنَاع غرض كما إذا كان وقت نهب، أو كان المُسَلم فيه حَيَوَاناً يحذر من علفه، أو ثمرة أو لحماً يريد أكله عند المحل طريّاً، أو كان مما يَحْتَاج إلى مكان مُؤنَة كالحِنْطَة والقُطْن الكثيرين، فلا يجبر على القبول لتضرره، وإنْ لم يكن به غرض في الامتناع، فإنْ كان للمؤدي غرض في التَّعجيل سوى براءة الذمة كما لو كان به رهن يريد فِكَاكه، أو ضامن يريد براءته يجبر على القبول، كالمُكَاتَب يعجل النُّجُوم ليعتق يجبر السيد على قبولها، وهل يلتحق بهذه الأعذار خوفه من انقطاع الجنس قبل الحلول ففيه وجهان: المذكور منهما في الكتاب: أنه يلحق لما في التأخير من خطر انفساخ العقد، أو ثبوت حق الفسخ، وإن لم يكن للمؤدي غرض سوى البراءة ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يجبر المستحق على القبول؛ لأن التَّعْجيل كالتَّبرع بمزيد، فلا يكلف تقلّد المنة. ¬
وأصحهما وهو المنصوص في "المختصر": أنه يجبر؛ لأن براءة الذمة غرض ظاهر، وليس للمستحق غرض في الامتناع فيمنع من التَّعَنت، وإن تقابل غرض المُمْتنع والمؤدي، فقد حكى الإمام فيه طريقين: أحدهما: أنهما يَتَسَاقَطَان. وأصحهما: أن المَرْعِيّ جانب المستحق، وحكى أيضاً عن بعضهم طرد القولين فيما إذا كان للمعجل غرض في التَّعْجيل، ولم يكن للمتنع غرض في الامتناع، وهو غريب. وأما صاحب الكتاب فإنه راعى جانب المؤدي أولاً فقال: "إن كان له غرض في التَّعجيل يجبر الممتنع على القبول، وإلاَّ فإنْ كان له غرض في الامتناع فلا يجبر، وإلاَّ فقولان"، ولا يخفي مخالفته لطريقة الجمهور، فإن ذكره عن ثبت فهو منفرد بما نقل، وإلا فقد الْتَبَس الأمر عليه. والله أعلم. وحكم سائر الديون المؤجلة فيما ذكرنا حكم المُسَلّم فيه. وأما السَّلَم الحال فالمطالبة فيه متوجّهة في الحال، ولو أتى المسلم إليه بالمسلم فيه، وأبى المسلم قبوله، نظر إنْ كان للمعجل غرض سوى البراءة أجبر على القبول، وإلاَّ فطريقان: أحدهما: أنه على القولين وجه عدم الإجبار أنه يقول: الحق لي فلي أنْ أؤخره إلى أن أشاء. وأصحهما: أنه يجبر على القبول أو الإبراء، وحيث ثبت الإجبار فلو أصر على الامتناع أخذه الحاكم، فروي أن أنساً -رضي الله عنه- كاتب عبداً له على مال، فجاء العبد بالمال، ولم يقبله أنس فأتى العبد عمر -رضي الله عنه- فأخذ المال منه، ووضعه في بيوت المال (¬1). قال الغزالي: (أَمَّا المَكَانُ) فَمَكَانُ العَقْدِ فَلَوْ ظَفِرَ بِهِ في غَيْرِهِ وَكانَ في النَّقْلِ مُؤْنَةٌ لَمْ يُطَالَبْ بِهِ، وَلَكِنْ يُطَالَبُ (و) بِالْقِيمَة لِلْحَيْلُولَةِ، ثُمَّ لاَ يَكُونُ عِوَضاً إِذْ يَبْقَى اسْتِحْقَاقُ الدَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مؤنةً طَالَبَ بِهِ، وَفِي مُطَالَبَةِ الغَاصب بالمِثْلِ في مَوْضِعٍ آخرَ مَعَ لُزُومِ المُؤْنَةِ خِلاَفٌ تَغْلِيظاً عَلَيْهِ. قال الرَّافِعِيُّ: إذا عيّن في السَّلَم مكان التسليم، أو لم يعين وقلنا: يتعين وجب التسليم فيه، فلو ظفر المسلم به في غير ذلك المكان نظر: إن كان لنقله مُؤْنة لم يطالب ¬
باب القرض
به، وهل يطالب بالقيمة لِلْحَيْلُولة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن أخذ العوض عن المسلم فيه قبل القبض غير جائز. والثاني: نعم؛ لوقوع الحيلولة بينه وبين حقه، وهذا ما أورده صاحب الكتاب في هذا الموضع، لكنه أعاد المسألة في "باب الغَصْب"، وذكر فيها الخلاف. والأصح في المذهب هو الوجه الأول، ولم يورد العراقيون، وصاحب "التهذيب" سواه، وإذا فرعنا عليه فللمسلم الفسخ واسترداد رأس المال، كما لو انقطع المسلم فيه، وإن لم يكن لنقله مؤنة كالدراهم والدنانير فله مطالبته به، وأشار الإمام إلى خلاف فيه، ولو ظفر المالك بالغاصب في غير مكان الغصب أو الإتلاف فهل يطالبه بالمثل؟ حكلي فيه خلافاً هاهنا، وذكر في "الغَصْب" أنه لا يطالب إلاَّ بالقيمة، وهو الأظهر. ولنشرح المسألة ثمّ إنْ شاء الله تعالى. وقوله في أول الفصل: (أما المكان فمكان العقد) محمول على ما إذا عينا مكان العقد، أو أطلقا ولم يشترط تعيين المكان. وقوله: (ثم لا يكون عوضاً إذ يبقى استحقاق الدَّين) أراد به أن القيمة المأخوذة لا تكون عوضاً عن المسلم فيه، بل يبقى استحقاق المسلم فيه بحاله حتى إذا عاد إلى مكان التَّسليم يطالبه به، ويرد القيمة، ولمن نصر ظاهر المذهب أن يقول: لو صح هذا الكلام لوجب أن يحكم بمثله في انقطاع المسلم فيه. ولو أتى المسلم إليه بالمسلم فيه في غير مكان التسليم، وأبى المستحق قبوله، فإن كان لنقله مُؤْنة أو كان الموضع مخوفاً لم يجبر، وإلاَّ فوجهان بناء على القولين في التَّعْجيل قبل المحل، فإن رضي وأخذه لم يكن له أن يكلفه مُؤْنَة النقل (¬1). " باب القَرض" قال الغزالي: أَمَّا القَرْضُ فَأدَاؤهُ كالمُسَلَّمِ فِيهِ وَلَكِنْ يَجُوزُ الاعْتِيَاضُ عَنْهُ، وَيَجِبُ المِثْلُ فِي المِثْلِيَّاتِ، وَفِي ذَوَاتِ القِيَمِ وَجْهَانِ أَشْبَهُهُمَا بِالحَدِيثِ أَنَّ الوَاجِبَ المِثْلُ، اسْتَقْرَضَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بَكْراً وَرَدَّ بَازلاً (3) وَالقِيَاسُ القِيمَةُ. قال الرَّافِعِيُّ: الإِقراض مندوب (¬2) إليه فيه من الإِعَانة على البِر وكشف كُرْبَة ¬
المُسْلم، وفي الفصل مسائل: إحداها: أداء القَرْض في الصفة والزمان والمكان، كما ذكرنا في المسلم فيه، نعم لو ظَفَر بالمستقرض في غير مكان الإقراض، وكان المال مما لنقله مؤنة، فلا خلاف في جواز مطالبته بالقيمة، ثم لو إذا أخذها واجتمع في مكان الإِقْرَاض فهل له رد القيمة والمطالبة بالمثل؟ وهل للمستقرض مطالبته برد القيمة؟ فيه وجهان، والقيمة التي يطالبه بها هي قيمة بلد الإقراض يوم المطالبة، وكذا في السَّلْم يطالب بقيمة بلد العقد عند من جوز المطالبة بالقيمة. الثانية: يجوز الاعتياض عن المقرض، وقد ذكر هذه المسألة مَرَّة. الثالثة: ستعرف في "الغَصْب" أن المال ينقسم إلى مِثْلي وإلى مُتَقوم، فإذا استقرض مِثْلياً رد مثله، وإذا استقرض مُتَقّوماً، فوجهان. أقيسهما، واختاره الشيخ أبو حامد: أنه يرد القيمة كما لو أتلف متقوماً على إنسان تلزمه القيمة. وأظهرهما: أنه يرد المثل من حيث الصورة، واختاره الأكثرون؛ لما روي أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- "اسْتَقْرَضَ بَكْراً وَرَدَّ بَازِلاً" (¬1) والبَكْر الفَتِيّ من الإبل والبَازِل الذي له ثمان سنين. وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- "اسْتَسْلَفَ بَكْراً فَأَمَرَ بِرَدِّ مِثْلِهِ" (¬2). فإن قلنا بالأول: فالاعتبار بقيمة يوم القَبْض إن قلنا: يملك القرض في القبض. وإن قلنا: يملك بالتصرف فبالأكثر من يوم القبض إلى يوم التصرف. وفيه وجه: أن الاعتبار بيوم القبض، وإذا اختلفا في قَدْر القيمة أو في صِفَة المِثْل فالقول قول المستقرض. قال الغزالي: ثُمَّ النَّظَرُ فِي رُكْنِ القَرْضِ وَشَرْطِهِ وَحُكْمِهِ (أَمَّا رُكْنُهُ) فَمِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ صِيغَةٌ دَالَّةٌ عَلَيْهِ كَقَوْلهِ: أَقْرَضْتُكَ، وَفِي اشْتِرَاطِ القَبُولِ وَجْهَانِ، وَجْهُ المَنْعِ أَنَّ هَذِهِ إِبَاحَةُ إِتْلاَف بِعِوَضٍ وَهِيَ مُكْرَمَةٌ وَلِذَلِكَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ (م) عَنْهُ في الحَال، وَلاَ يَجُوزُ (م) شَرْطُ الأَجَلِ فِيهِ، وَأَمَّا المُقْرَضُ فَكُلُّ مَا جَازَ السَّلَمُ فِيهِ جَازَ قَرْضُهُ إِلاَّ الجَوَارِي فَفِيهَا قَوْلاَنِ ¬
مَنْصُوصَانِ، وَالقِيَاسُ الجَوَازُ، وَمَا لاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَرُدُّ فِي المُتَقَوَّمَاتِ القِيمَةَ فَيَصِحُّ أَيْضاً إِقْرَاضُهُ. قال الرَّافِعِيُّ: عد حجة الإسلام -رحمه الله -تعالى أركان القرض ثلاثة كما فعل في "البيع"، وهي الصِّيغة، والمُقْرض، والمقرَض، لكن أهمل هاهنا ذكر المقترض لوضوح حاله، والعلم بأنه لا يصح الإقراض إلاَّ من جائز التَّصرف، ويعتبر فيه أهْلِيّة التَّبرع؛ لأن القرض تبرع أو فيه شَائِبَة التَّبرع، (¬1) أَلاَ تَرَى أنه لا يقرض الولي مال اليتيم (¬2) إلاَّ لضرورة؟ ولذلك لا يجوز شرط الأجل؛ لأن المتبرع ينبغي أن يكون بالخيار في تبرعه، وإنما يلزم الأَجل في المُعَاوضات. وأما الصيغة فالإيجاب لا بد منه (¬3)، وهو أن يقول: أَقْرَضتك أو أسلفتك، أو خذه بمثله، أو خذه واصرفه في حَوَائجك ورد بدله، أو ملكتك على أن تردَّ بدله، ولو اقتصر على قوله: "املَّكتكه" كان هبة، فإن اختلفا في ذكر البَدَل فالقول قول المخاطب (¬4). وأما القبول ففي اشتراطه وجهان: أصحهما، ولم يورد المعظم سواه: أنه يشترط كما في البَيْع وسائر التَّمْليكات. والثاني: لا يشترط؛ لأن القرض إِباحة إِتْلاَف على شرط الضَّمَان فلا يستدعي القبول، وادَّعى الإمام أن هذا أظهر (¬5). وقرب هذا الخلاف من الخلاف في أن القرض لم يملك بالقبض أو بالتصرف. ¬
وقوله في الكتاب: "وهي مكرمة" أراد به أن سبيله سبيل الميراث والتبرعات، لا سبيل المعارضات والمعاملات، أو فيه شَائِبَة من هذه وشائبة من هذه، ولهذا لم يجب التقايض فيه إذا كان المقرض ربوياً. واحتج في الكتاب لهذا الأصل بشيئين: أحدهما: أن للمقرض الرجوع عنه في الحال، وهذا سنذكره من بعد. والثاني: أنه لا يجوز شرط الأجل فيه ولا يلزم بحال. وقال مالك: يثبت الأجل في القرض ابْتَداء وانتهاء. إما ابتداء: فبأن يقرضه مؤجلاً. لماما انتهاء: فبأن يقرضه حالاً ثم يؤجله. وأما المُقْرَض فالأموال ضربان: أحدهما: ما يجوز السَّلم فيه، فيجوز إقراضه حيواناً كان أو غيره، نعم في إقراض الجواري قولان: أحدهما، ويحكى عن المزني: أنه جائز، وهو القياس عند الإمام وصاحب الكتاب إلحاقًا للجواري بالعبيد. وأظهرهما: المنع، لنهي السَّلَف عن إقراض الولائد. قال الأصحاب: وهما مبنيان على الخلاف في أن القرض بما يملك، وفي كيفية البناء طريقان. قال قائلون: إن قلنا: يملك بالقبض جاز إقراضها، وإلاَّ فلا، لما في إثبات اليد من غير المالك من خوف الوقوع في الوطء. وعن الشيخ أبي علي أما إن قلنا: يملك بالقبض لم يجز إقراضها؛ لأنه إذا ملكها فربما يطؤها، ثم يستردها المُقْرِض فيكون ذلك في صورة إعارة الجواري للوطء، وإن قلنا: لا يملك بالقبض فيجوز؛ لأنه إذا لم يملكها لم يطأها، وفيما حكي عن نصه في الجديد رمز إلى هذه الطريقة. وقوله: في الكتاب "قولان منصوصان" اقتدى فيه بالإمام، وكلام غيرهما لا يتعرض لكونهما منصوصين، بل العراقيون رووا عن نصه قديماً وجديداً المنع، ونقلوا الجواز عن بعض الأصحاب نقل الوجوه، ويشبه أن يكون مخرجاً على الأصل المذكور، وكيف ما كان فالخلاف مخصوص بالجارية التي تحل للمستقرض.
فأما المحرمة بنَسَبٍ أو رِضَاع أو مُصَاهَرَة فلا خلاف في جواز إقراضها منه (¬1). الضَّرب الثاني: ما لا يجوز السَّلم فيه، كالَّلالئ الكبار وغيرها، فجواز إقراضه مبني على أن الواجب في المتقوّمات المِثْل أو القيمة. إن قلنا بالأول لم يجز، لتعذر ضبطه حتى يوجد مثله. وإن قلنا بالثاني جاز، وفي إقراض الخبز وجهان كما في السلم فيه: أحدهما: لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة، وهو الأصح عند صاحب "التهذيب". والثاني: يجوز؛ به قال أحمد للحاجة العامة، وإطباق الناس عليه، وهذا ما اختاره ابن الصَّبَّاغ وغيره، ولا بأس لو رتب فقيل: إن جوزنا السلم فيه جاز إقراضه، وإلاَّ فوجهان للحاجة وقد أشار صاحب "البيان" إلى هذا الترتيب، ثم ذكر إنْ جوزنا قرضه وجب رد مثله وزناً، إن قلنا: يجب في المتقومات المِثْل من حيث الصُّورة، وإن قلنا: يجب فيها القيمة فالواجب القيمة، فإن شرطنا رد المثل ففي جوازه وجهان (¬2). ويجب أَنْ يكون المقرض معلوم القدر ليتاتى قضاؤه، ويجوز إقراض المكيل وزناً، والموزون كيلاً كما في السَّلم. وعن القفال: أنه لا يجوز إقراض المكيل بالوزن، بخلاف السَّلَم فإنه لا يسوي بين رأس المال والمسلم فيه، وزاد فقال: لو أتلف مائة مَنٍ مِنْ الحِنْطة ضمنها بالكيل، ولو باع شِقْصاً مَشْفُوعاً بمثله بمائة من الحِنْطة، ينظر كما هي بالكيل فيأخذه الشفيع بمثلها كيلاً، والأصح في الكل الجَوَاز هذا إتمام الكلام في أركان القرض. قال الغزالي: أَمَّا شَرْطُهُ فَهُوَ أَنْ لاَ يَجُرَّ القَرْضُ مَنْفَعَةٌ، فلَوْ شَرَطَ زِيادَةَ قَدْرٍ أَوْ صِفَةٍ فَسَدَ وَلَمْ يُفِدْ جَوَازُ التَّصَرُّف، وَلَوْ شَرَطَ رَدَّ المُكَسَّر عَنِ الصَّحِيح، أَوْ تَأَخِيرَ القَضَاءِ (م) لَغَا شَرْطُهُ وَصَحَّ القَرْضُ عَلَى الأَصَحِّ لإِنَّهُ عَلَيْهِ لاَ لَهُ، وَلَوْ شَرَطَ رَهْناً أَوْ كفِيلاً بِهِ جَازَ فَإِنَّهُ إِحْكَامُ عَيْنِهِ، وَلَوْ شَرّطَ رَهْناً بِدَيْنٍ آخَرَ فَسَدَ، وَلَوْ قالَ: أَقْرَضْتُكَ بِشَرْطِ أَنْ ¬
أُقْرِضَكَ غَيْرَهُ صَحَّ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الوَعْدُ، بِخَلاَفِ البَيْعِ فَإنَّهُ يَفْسَدُ بِمِثْلِهِ إِذْ يَصِيرُ ذَلِكَ القَرْضُ جُزْءاً مِنَ العِوَض المَقْصُودِ. قال الرَّافِعِيُّ: عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أنَّه نَهَى عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً". وروي أنه قال: "كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِباً" (¬1). فلا يجوز أن يقرضه بشرط أن يرد الصَّحيح عن المكسر أو الجيد عن الرديء، ولو شرط زيادة في القدر فكذلك إن كان المال ربوياً، وإلاَّ فوجهان: أحدهما: يجوز لما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أجَهِّزَ جَيْشاً فَنَفَذَتِ الإِبِلُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آحُذَ بَعِيراً بِبَعِيرَيْنِ إِلَى أَجَلٍ". وأصحهما: المنع لما سبق، وهذا الحديث محمول على السَّلَم، أَلاَ ترى أنه قال: إلى أجل، والقرض لا يقبل الأجل. ولو شرط رده ببلد آخر لم يجز لما فيه من دفع خطر الطريق. وإذا جرى القرض بشيء من هذه الشروط كان فاسداً للخبر، وكما لو باع بشرط فاسد. وفي "البيان" نقل وجه أنه لا يفيد، لأنه عقد مُسَامحة وإرفاق، ولو أقرض من غير شرط ورد المستقرض ببلد آخر وأجود أو أكثر جاز. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خِيَارُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً". ولا فرق بين الربويات وغيرها، ولا فرق بين أن يكون الرجل مشهوراً برد الزيادة أو لا يكون. وفيه وجه: أنه لا يجوز رد الزيادة في الربويات؛ ووجه: أنه لا يجوز إقراض المشهور برد الزيادة تنزيلاً للمعتاد منزلة المشروطة، ثم في الفصل صور: إحداها: لو اقرضه بشرط أن يرد عليه أرداء أو يرد المكسر عن الصحيح، لَغَا الشرط، وهل يفسد العقد؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه على خلاف قضية العقد كشرط الزيادة. وأصحهما: لا، لأن المنهي عنه جَرَّ المقرض النَّفع إلى نفسه، وهاهنا لا نفع له في الشرط، وإنما النفع للمستقرض، وكأنه زاد في المسامحة ووعده وعداً حسناً، وإيراد بعضهم يشعر بالخلاف في صحة الشرط، ولو شرط تأخير القضاء وضرب له أجلاً، نظر إن لم يكن للمقرض فيه غرض، فهو كشرط ردّ المكسر عن الصَّحيح، وإنْ كان له فيه ¬
غرض بأنْ كان زمان نهب والمقرض مليء، فهو كالتَّأْجيل لغير غرض، أو كشرط رد الصحيح عن المكسر، فيه وجهان: أظهرهما: الثاني. الثانية: يجوز أن يقرضه بشرط الرَّهْن أو الكفيل وكذا بشرط أن يشهد أو يُقرّ بِهِ عند الحاكم؛ لأن هذه التوثيقات لأحكام عين القرض، لا أنها منافع زائدة، ولو شرط رهناً بدين آخر فهو كشرط زيادة الصِّفة، وستعود هذه الصورة مفصلة إن شاء الله تعالى في "كتاب الرهن". الثالثة: لو أقرضه بشرط أن يقرضه مالاً آخر صح ولم يلزمه ما شرط، بل هو وعد وعده، وكذا لو وهب منه ثوباً بشرط أن يهب منه غيره، ويخالف ما إذا باع بشرط قرض أو هبة أو بيع آخر بحيث يفسد البيع، لأنهما جعلا رفق القرض أو الهِبَة أو البيع الآخر مع الشروط المذكورة مثلاً ثمناً، والشرط لغو، فيسقط بسقوطه بعض الثمن ويصير الباقي مجهولاً، وقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ" (¬1) وفسروه بأن يبيع شيئاً بشرط أن يقرضه المشتري، وفي المسألة وجه: أن الإقراض كالبَيْع بشرط الإقراض. وقوله في الكتاب: (فلو شرط زيادة قَدْر أو صفة فسد) يجوز أن يريد به فسد الشرط، ولم يفسد القرض جواز التَّصرف، ويجوز أنْ يريد به فسد القرض ولم يفسد جواز التصرف. وعلى التقديرين: يجوز أنْ يكون مُعَلَّماً بالواو. أما على التقدير الأول فلأنه أطلق الكلام إطلاقاً، وقد حكينا وجهاً في جواز شَرْطِ زيادة القدر في غير الرّبويات. وأما على التَّقدير الثَّاني فللوجه المنقول عن "البَيَان". وقوله: (أو تأخير القضاء لغا شرطه) شَرط تأَخير القضاء هو التأجيل، وقد ذكر مرة أنه لا يجوز شرط الأَجَل فيه إلاَّ أنه أعاده مع نظيره ليقين أنَّ فسادهما لا يفسد القرض. وقوله: "صَحِّ القرض" معلّم بالواو ولما نقلناه آخراً. قال الغزالي: وَأَمَّا حُكْمُهُ فَهُوَ التَّمَلُّكَ وَلَكِنْ بِالقَبْضِ أَوْ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ قَوْلاَنِ: أَقْيَسُهُمَا: أنَّهُ بِالقَبْضِ؛ لأَنَّهُ لاَ يتَقَاعَدُ عَنِ الهِبَةِ، وَللْعِوَضِ فِيهِ مَدْخَلٌ، وَعلَى هَذَا الأَصَحُّ أنَّهُ لَوْ أَرَادَ الرُّجُوعَ فِي عَيْنِهِ جَازَ، لأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى حَقِّهِ مِنْ بَدَلِهِ، وَلَهُ المُطَالَبَةُ بِبدَلِهِ لِلْخَبَرِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ بالتَّصرُّفِ فَقِيلَ: إِنَّهُ كُلُّ تَصَرُّفٍ يُزِيلُ المِلْكَ فَيَخْرُجُ عَنْهُ الرَّهْنُ وَالتَّزْوِيجُ، وَقِيلَ: كُلُّ تَصَرُّفٍ يَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ فَيَخْرُجُ عَنْهُ الإِجَارَةُ، وَقِيل: كُلُّ تَصَرُّفٍ يَسْتَدْعِي نُفُوذُهُ المِلْكَ فَيَخَرجُ عَنْهُ الرهْنُ إِذْ رَهْنُ المُسْتعَارِ جَائِزٌ. ¬
قال الرَّافِعِيُّ: لا شك أن المستقرض يتملك ما استقرضه، ولكن فيما يملك به قولان متفرعان من كلام الشافعي -رضي الله عنهما-. أصحهما: أنه يملك بالقبض؛ لأنه إذا قبضه ملك التَّصرف فيه من جميع الوجوه؛ ولو لم يملكه لما ملك التَّصرف فيه؛ ولأن الملك في الهِبَة يحصل بالقبض، ففي القرض أولى؛ لأنَّ للعوض مدخلاً فيه. والثاني: أنه يملك بالتَّصرف؛ لأنه ليس بتبرع محض، إذ يجب فيه البَدَل، وليس على حقائق المُعَاوَضَات كما سبق، فوجب أن يكون تملكه بعد استقرار بدله. التفريع: إن قلنا: يملك بالقبض فهل للمقرض أنْ يرجع فيه ما دام باقياً في يد المستقرض بحاله؟ فيه وجهان: أحدهما: لا صيانة لملكه، وله أن يؤدي حقه من موضع آخر، وهذا ما ذكره في "التهذيب". وأظهرهما عند الأكثرين: أن له ذلك؛ لأنه يتمكن من تغريمه بدل حَقه عند الفوات، فلأن يتمكن من مطالبته بعينه كان أولى، ولا يبعد أن يرجع فيما ملكه غيره، كما يرجع الواهب في الهبة. وقوله في الكتاب: "وله المطالبة ببدله للخبر" ليس مسألة أخرى، بل المعنى أن له المطالبة ببدل ملكه عند فواته جبراً لحقه، فأولى أن يكون له المطالبة بما كان عين ملكه، وكثيراً ما يقرأون قوله للجبر للخبر، وظني القريب من اليقين أنه خطأ؛ لأنه ليس في كتب المصنف، ولا في كتب غيره ذكر خبر يستدل به على أن للمقرض المطالبة ببدل القرض مع بقاء عينه. وأما للجبر فهو مناسب للمعنى المذكور، وهو الَّذِي أورده الإمام، والمصنف في "الوسيط" وغيره. وعن مالك أنه ليس للمقرِض الرجوع فيما أقرضه حتى يقضي المستقرض وطره منه، أو يمضي مدة زمان يسع لذلك. ولو رد المستقرض عين ما أخذه فعلى المقرض القبول لا محالة. وإن قلنا: إنه يملك بالتصرف فمعناه أنه إذا تصرف تبين لنا ثبوت المِلْك قبله، ثم في ذلك التَّصرف وجوه: أظهرها: أنه كل تصرف يزيل الملك. والثاني: كل تصرف يتعلق بالرقبة. والثالث: كل تصرف يستدعي الملك، فعلى الوجوه يكفي البيع والهبة والإعتاق
والإِتْلاَف ولا يكفي الرهن والتزويج والإجارة وطحن الحِنْطة وخبز الدقيق، وذبح الشاة على الوجه الأول (¬1). ويكفي ما سوى الإجارة على الثاني، وما سوى الرهن على الثالث، لأنه يجوز أنْ يستعير للرهن شيئاً ليرهنه كما سيأتي إن شاء الله تعالى (¬2). وقوله: "رهن المُسْتَعَار جائز" يعني: المُسْتَعار للرهن لا مطلق المُسْتَعار. وعن الشيخ أبي حامد عبارة أخرى، وهي أن التصرف الذي يملك به القَرْض هو الذي يقطع رجوع الواهب، والبائع عند إفلاس المشتري. وإذا فرعنا على الوجه الأول فهل يكفي البيع بشرط الخيار؟ إن قلنا: أنه لا يزيل الملك فلا. وإن قلنا: إنه يزيله فوجهان؛ لأنه لا يزيل صفة اللّزوم. ومن فروع القولين أنه إذا كان المقرض حيواناً وقلنا: إنه يملك بالقبض فنفقته على المستقرض. وإن قلنا: يملك بالتصرف فهي على المقرض إلى أن يتصرف المستقرض، ولو استقرض مَنْ يعتق عليه عتق عليه إذا قبضه على القول الأول، ولم يعتق على الثاني. قال صاحب "التهذيب": ويجوز أن يقال: يعتق، ويحكم بالملك قُبَيله (¬3). ¬
كتاب الرهن
كِتَابُ الرَّهْنِ قال الغزالي: وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ: البَابُ الأَوَّلُ في أَرْكَانِهِ وَهِيَ أَرْبَعَةْ: الرَّاهِنُ وَالمَرْهُونُ وَالمَرْهُونُ بِهِ وَصِيغَةُ الرَّهنِ الرُّكْنُ الأَوَّلُ المَرْهُونُ وَفيهِ ثَلاَثَةُ شَرَائِطَ: الأُوليَ أَنْ يَكُونَ عَيْناً فلاَ يَجُوزُ رَهْنُ الدَّيْنِ، لأَنَّ الرَّهْنِ عِبَارَةٌ عَنْ وَثيقَةِ دَيْنٍ فِي عَيْنٍ، وَإذَا كانَ عَيْناً لَمْ يُشْتَرَطُ (ح) فِيهِ الإِفْرَازُ بَلْ يَصِحُّ رَهْنُ الشَّائِعِ وَيَكُونُ علَى المُهَايَأَةِ كَمَا فِي شُرَكَاءِ المِلْكِ. قال الرَّافِعِيُّ: أصل الرَّهْن (¬1) مجمع عليه، والكتاب والسنة متعرضان له. قال -تعالى-: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬2). "وَرَهَنَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- دِرْعَهُ مِنْ يَهُودِيَّ فَتُوُفَّيَ وَهِيَ مَرْهُونَةٌ عِنْدَهُ" (¬3). ¬
ووجه إدراج حجة الإسلام رحمه الله تعالى كلام الكتاب في الأبواب الأربعة. أن الرَّهن إمَّا صحيح أو فاسد، والصحيح منها إما جائز، أو لازم وكيفما كان فقد يتفق المتعاقدان على كيفية العقد البخاري بينهما، وقد يتنازعان فيه. فالباب الأول: فيما يعتبر في صحته. والثاني: في الرهن الجائز وأحكامه. والثالث: في اللازم وأحكامه. والرابع: في التنازع. وقد عد أركان الرهن أربعة: الراهن، والمرهون به، والصيغة، والعاقد. ولو جمع بين المرهون والمرهون به، وجعل ما يتعلق بالعقد ركناً كما فعل في البيع، وكما جعل من يصدر منه العقد ركناً لجاز، ولو فصل الثمن عن البيع كما فعل هاهنا لجاز، ومثل هذا يرجع إلى مجرد رَسم وترتيب، والمقصود لا يختلف. الأول: المرهون وله شروط: أحدهما: أن يكون عيناً، أما الدَّيْن ففي جواز رهنه وجهان: أحدهما: الجواز تنزيلاً لما في الذمم منزلة الأعيان، ألا ترى أنه يجوز شراء ما في الذمة وبيعه سلماً؟ وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب المنع؛ لأن الدَّيْن غير مقدور على تسليمه، ومنهم من رتب هذا الخلاف على الخلاف في بيع الدَّيْن، والرهن أولى بالمنع، لأنه لا يلزم إلاَّ بالقبض والقبض لا يصادق ما تناوله العَقْد، ولا مستحقّاً بالعقد، والقبض في البيع يصادف مستحقاً بالعقد؛ لأن البيع سبب الاسْتحقاق، ولا يشترط كون المرهون مفروزاً؛ بل يصح المرهون الشائع، سواء رهن من شريكه أو غيره، وسواء كان ذلك مما يقبل القسمة أو لا يقبلها (¬1)، وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله تعالى وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يجوز رهنه من غير الشريك، وفي رهنه من الشريك روايتان. لنا: إلحاق الرهن بالبيع والشائع بالمفروز، ولو رهن نصيبه من بيت معين من الدار المشتركة بإذن الشريك صح، وبغير إذنه وجهان عن ابن سُرَيج. أصحهما: عند الإمام أنه يصحُ كما يصح بيعه (¬2). ¬
والثاني: لا؛ لأنه ربما تتفق القِسْمة ويقع هذا البيت في نصيب صاحبه، فيكون قد رَهَن ملك غيره ويخالف البيع، فإنه إذا باع زال ملكه عن البيت واسْتَحَالت المُقَاسَمَة معه، وهذا أرجح عند صاحب "التهذيب"، وادَّعى أن الحكم في البيع مثله. وإذا قلنا بالوجه الأول، واتفقت القسمة كما قررناه فهو كَتَلَفِ المَرْهُون، أو يغرم قيمته فيه احتمالان للإمام أوجههما: الثَّاني إضافة للفوات إليه، وكيف ينزل منزلة الآفَة السَّمَاوية، وقد حصل له في قطر آخر من الدَّارِ مثل ما كان له في ذلك البيت، وعن الإمام محمد بن يحيى توسط بين الاحتمالين، وهو: أنه إن كان مختاراً في القسمة غرم القيمة، وإن كان مجبراً فهو كالفوات (¬1). ثم القبض في الرَّهْن المشاع بتسليم الكل، فإذا حصل القبض جرت المُهَايَأة بين المُرْتَهن والشَّريك في الرهن جريانها بين الشريكين ولا بأس بِتَبْعِيض اليد بحكم الشيوع، كما لا بأس به لاسْتِيْفَاء الرَّاهن المنافع (¬2) واعلم: أن لفظ العَيْن الذي ترجم به هذا الشرط يطلق بالمعنى المقابل للدين ويطلق بالمعنى المقابل بالمنفعة، وكل واحد من المعنيين معتبر في المرهون، أما بالمعنى الأول فقد عرفته. وأما بالثاني، فقد ذكر ابن الصَّبَّاغ وغيره: أنه لو رهن بالدين سُكْنى دار مدة لم يصح؛ لأنه إن كان مؤجلاً فالمنافع إلى حلول الأجل وإن كان حالاً فبقدر ما يتأخر الدين يتلف جزء من المرهون فلا يحصل الاستيثاق. قال الغزالي: الثَّانِيَةُ أَنْ لاَ يَمْتَنِعَ إِثْبَاتُ يَدِ المُرْتَهنِ عَلَيْهِ كَرَهْنِ المُصْحَفِ (ح) وَالعَبْدِ (ح) المُسْلِمِ مِنَ الكَافِرِ فِيهِ خِلاَفٌ مُرَتَّبٌ عَلَى البَيْعِ، وَكَذَا رَهْنُ الجَارَيةِ الحَسْنَاءِ مِمَّنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَلَكِنْ إنْ جَرَى فَالأَصَحُّ صِحَّتُهُ. قال الرَّافِعِيُّ: فقه الشرط صورتان: ¬
الأولى: في رهن العبد المسلم من الكافر طريقان: أحدهما: وبه قال أبو إسحاق، والقاضي أبو حامد أنه على القولين في بيعه منه إن صححناه جعل في يدي عدل من المسلمين (¬1). والثاني وبه قال صاحب "الإفصاح": القطع بجوازه؛ لأنه لا ملك فيه للكافر، ولا انتفاع، وإنما هو مجرد استيثاق والظاهر جوازه، أثبت الخلاف أم لا، ورهن المُصْحف منه يترتب على رَهْن العبد ورهن السلاح من الحَرْبِي يترتب على بيعه منه. الثانية عن الشيخ أبي علي رواية قول: إن رهن الجارية الحسناء لا يجوز إلاَّ أن تكون محرماً للمرتهن، والمذهب المشهور جواز رهن الجواري مطلقاً ثم إنْ كانت صغيرة لا تشتهى بعد فهي كالعبد وإلاَّ فإن رهنت من محرم أو امرأة فذاك؛ وإنْ رهنت من رجل أجنبي فإن كان ثقة وعنده زوجته أو جاريته أو نسوة يؤمن معهن من الإلمام بها فلا بأس أيضاً، وإلاَّ فلتوضع عند محرم لها أو امرأة ثقة، أو عدل بالصفة المذكورة في المرتهن، فإن شرط وضعها عند غير من ذكرنا، فهو شرط فاسد لما فيه من الخَلْوة بالأجنبية وخوف الفتنة، وألحق الإمام بالصِّغر الحسنة الخسيسة مع دَمَامَة (¬2) الصورة، لكن الفرق بينهما بيّن. ولو كان المرهون خُنْثَى فهو كما لو كان جارية، إلاَّ أنه لا يوضع عند المرأة. وقوله في الكتاب (من ليس بعدل) يشعر بجواز الرَّهْن من العدل بلا كراهة، ولفظ "الوسيط" كالمصرح بذلك، لكن المعظم ما قنعوا بالعدالة، وشرطوا معها أن يكون ذا أهل كما سبق. وإذا عرفت الصُّورتين عرفت أَنَّ اعتبار هذا الشرط مختلف فيه، وفي العبارة المذكورة لترجمته نظر، والله أعلم. قال الغزالي: الثَّالِثَةُ أَنْ تَكُونَ العَيْنُ قَابِلَةَ لِلْبَيعِ عِنْدَ حُلُول الأجَلِ، فَلاَ يَجُوزُ رَهْنُ أُمِّ الوَلَدِ، وَالوَقْفَ، وَسَائِرِ أَرَاضِي العِرَاقِ مِنْ عَبَادَانَ إِلَى المَوْصِلِ طُولاً، وَمِنَ القَادِسِيَّةِ إِلَى حُلْوَانَ عَرْضاً، فَإِنَّهُ وَقْفٌ عَلَى اعْتِقَادِ الشَّافِعِي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقَفَهَا عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَلَى المُسْلِمِينَ بَعْدَ تَملُّكِهَا عَنْوَةً، وَقَال ابْنُ سُرَيجٍ: هِيَ مِلْكٌ. ¬
قال الرَّافِعِيُّ: مقصود الرَّهْن أو من مقاصده استفاء الحق من ثمن المرهون عند الحاجة، فيشترط قبوله للبيع، وما لا يجوز بيعه كالحُرّ، وأم الولد والمكاتب، والوقف لا يجوز رهنه (¬1)، وذكر الشَّافعي -رضي الله عنه- والأصحاب رحمهم الله هاهنا طرفاً ¬
من الكلام في أرض الخراج، ولا شك أنه دخيل في الباب، وفي السير عودة إليه، فنؤخره إليه، إن شاء الله تعالى ونقتصر الآن على حط الرهن منه فنقول: سواد العراق وقف على المسلمين على الأظهر، وكل أرض هي كذلك لا يجوز رهنها كسائر الوقوف وأبنيتها وأشجارها إنْ كانت من تربتها، وغُرُوسها التي كانت قبل الوقف فهي كالأرض، وإن أحدثت فيها من غيرها جاز رهنها، فإن رهنت مع الأرض فهو من صور تفريق الصفقة في الرهن، وكذا رهن الأرض مطلقاً. إن قلنا: إنَّ البناء والغِرَاس يدخلان فيه، وإذا صَحّ الرهن في البناء والغِرَاس، فلا خراج على المرتهن، وإنما هو على الراهن فإنه مضروب على الأرض، فإنْ أداه المرتهن بغير إذنه فهو متبرع، وإن أداه بإذنه وبشرط الرجوع رجع، وإنْ لم يشترط الرجوع فوجهان جاريان في أداء دين الغَيْرِ بإذنه مطلقاً، وظاهر النص الرجوع.
وقوله: (عند حلول الأجل) أي: إذا كان الدَّين مؤجلاً، فإن كان حالاً فالشرط أن يكون قابلاً للبيع في الحال وقوله: (وسائر أراضي العراق) أي: جميعها وقد مر نظيره. قال الغزالي: وَيَجُوزُ رَهْنُ الأُمِّ دُونَ وَلَدِهَا إِذْ لاَ تَفْرِقَةَ فِي الحَالِ، وَعِنْدَ البَيْعِ تُبَاعُ الأُمُّ دُونَ الوَلَدِ عَلَى رَأْيِ، وَيُقَالُ: هَذِهِ تَفْرِقَةٌ ضَرُورِيَّةٌ، وَعَلَى رَأْيِ تُبَاعُ مَعَهُ، ثُمَّ يَخْتَصُّ المُرْتَهِنُ بِقيمَةِ الأُمِّ فَتُقَوَّمُ الأُمُّ مِنْفَرِدَةً فَإذَا هِيَ مِائةٌ وَمَعَ الوَلَدِ فَهِيَ مِائةٌ وعِشْرُونَ فَنَقُولُ: حِصَّةُ الوَلَدِ سُدْسٌ كَيْفَمَا اتَّفَقَ البَيْعُ، وَقِيلَ: إِنَّ الوَلَد أَيْضاً يُقَدَّرُ قِيمَتُهُ مُفْرَداً حَتَّى تَقِلَّ قِيمَتُهُ فَتَكُونَ عَشَرَةٌ مَثَلاً فَيُقَالُ: هُوَ جُزْءٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءاً فَيُقَسَّمُ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ. قال الرَّافِعِيُّ: التَّفريق بين الأم وولدها الصغير ممنوع منه، وفي إِفْسَاده البيع قولان سبقا، ويصح رهن أحدهما دون الآخر. قال الشَّافعي رضي الله عنه: لأن ذلك ليس بتفرقة بينهما. قيل: معناه أن الرهن لا يوجب تفرقة؛ لأن الملك فيهما باقٍ للراهن والمنافع له، فيمكنه أنْ يأمرها بتعهّد الولد وحَضَانَتِهِ، وإذَا كان كذلك وجب تَصْحِيح الرَّهْن، ثم ما يتفق بعده من بَيْع وتفريق فهو من ضرورة إلجاء الرهن إليه. وقيل: معناه أنه لا تفرقة في الحال، وإنما التفرقة تَقَعُ عند البيع، وحينئذ يحذر منها بأن يبيعهما معاً، ومن قال بالأول، لم يبال بإفراد أحدهما عن الآخر بالبيع إذا وقعت الحاجة إلى البيع. والأصح: التَّفْسير الثاني وأنهما يباعان جميعاً، ويوزع الثمن على قيمتهما (¬1) وكيف يوزع قدم الإمام على بيانه مسألة هي مقصودة في نفسها فنأتم به في تقديمها، ثم نعود إلى هذه. أما تلك المسألة فهي ما إذا رهن أرضاً بيضاء، ثم نِبت فيها نخيل. ولها حالتان: إحداهما: أن يرهن الأرض، ثم يدفن فيها النَّوى أو يحملها السَّيْل، أو الطَّيْر إليها ¬
فتنبت فهي للراهن، ولا يجير في الحال على قَلْعها، فلعله يؤدي الدَّيْن من موضع آخر، فإذا مست الحاجة إلى بَيْع الأرض، نظر إنْ وَفى ثمن الأرض لو بيعت وحدها بالدَّيْن بيعت وحدها، ولم تقلع النخيل، وكذا لو لم تَفِ به إلاَّ قيمة الأرض وفيها الأشجار كقيمتها بيضاء، وإن لم تف به ونقصت قيمتها بالأشجار، فللمرتهن قلعها ليبيع الأرض بيضاء، إلاَّ أن يأذن الراهن في بيعها مع الأرض، فيباعان ويوزع الثَّمن عليهما. هذا إذا لم يكن الراهن محجوراً عليه بالإفلاس فإنْ كان كذلك، فلا قلع بحال لتعلق حق الغرماء بها، بل يباعان ويوزع الثمن عليهما فما يقابل الأرض يختص به المرتهن، وما يقابل الأشجار يقسم بين الغرماء فإن انتقصت قيمة الأرض بسبب الأشجار، حسب النقصان على الغرماء؛ لأن حق المرتهن في أَرْض فارغة، وإنما منع من القَلْع لرعاية جانبهم، فلا يهمل جانبه بالكلية. الحالة الثَّانية: أنْ تكون النَّوَى مدفونة في الأرض يوم الرَّهْن، ثم تنبت فإن كان المُرْتَهن جاهلاً بالحال، فله الخيار في فَسْخ البيع الَّذي شرط فيه هذا الرَّهْن، فإن فسخ فذاك، وإلاَّ فهو كما لوم كان عالماً وإن كان عالماً فلا خيار. وإذا بيعت الأرض مع النخيل وزع الثمن عليهما، والمعتبر في الحالة الأولى قيمة أرض فارغة، وفي الثانية قيمة أرض مشغولة؛ لأنها كانت كذلك يوم الرَّهْن. وفي كيفية اعْتباره قيمة الأَشْجَار وجهان نقلهما الإمام في الحالتين: أظهرهما: أن الأَرض تُقَوَّمُ وحدها فإذا قيل: هي مائة قومت مع الأشجار، فإذا هي مائة وعشرون فالزيادة بسبب الأشجار عشرون، وهي سدس المائة والعشرين فيراعى في ثمنها نسبة الأسداس. والثَّاني: أنَّا كما قَوَّمنا الأرض وحدها نقوم الأشجار وحدها ثانية، فإذا قيل: هي خمسون عرفنا أن النسبة بالأثلاث. واعلم أن في المثال المذكور لإيضاح الوجهين تكون قيمة الأرض ناقصة بسبب الاجتماع؛ لأنا فرضنا قيمتها وحدها مائة، وقيمة الأشجار وحدها ثابتة خمسين، وقيمة المجموع مائة وعشرين. عدنا إِلَى مسألة الأم والولد، فإذا بيعا معاً فأردنا التوزيع. قال الإمام: فيه طريقان: أحدهما: أن التوزيع عليهما كالتَّوْزيع على الأرض والأشجار فتعتبر قيمة الأم وحدها، وفي الولد الوجهان. والثاني: أن الأم لا تُقَوَّمُ وحدها بل تقوّمُ مع الولد خاصة؛ لأنها رهنت وهي ذات
ولد، والأرض رهنت بلا أَشْجَار، وهذا ما أورده الأكثرون، نعم لو حدث الولد بعد الرَّهْن والتَّسليم من نكاح أو زنا، وبيعا معاً فللمرتهن قيمة جارية لا ولد لها، وصاحب الكتاب اقتصر على رواية الطريق الأول، لكن نقله الوجه الثاني هاهنا وفي "الوسيط" يخالف منقول الإمام لأنه قال: تقدر قيمة الولد أيضاً مفرداً والوجه ما نقله الإمام كما تقدر قيمة الأشجار ثابتة لا مقلوعة. وقوله: (حتى تقل قيمته) أي: هكذا يكون لكونه ضائعاً، وتمثيله المسألة بما إذا كانت قيمة الولد عشرة، يناسب ما نقله، ومثل في "الوسيط" بما إذا كانت قيمة الولد خمسين، وليس ذلك مع كون قيمتهما مائة وعشرين على ما فرضه الإمام في الوجه الأول، فإذا كانت وحدها مائة وكانت مع الولد مائة وعشرين استحال أن يكون الولد وحده خمسين لضياعه. قال الغزالي: وَرَهْنُ مَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الفَسَادُ بِدَيْنِ مُؤَجَّلِ قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِهِ صَحِيحٌ إِنْ شَرَطَ البَيْعِ وَجَعَلَ الثَّمَنَ رَهْناً، وَإِنْ شَرَطَ مَنْعَهُ فَبَاطِلٌ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَقَوْلانِ، وَلاَ خِلاَفَ أَنَّهُ لَوْ طَرَأَ مَا يُعَرِّضُهُ لِلفَسَادِ يُبَاعُ ويُجْعَلُ بَدَلُهُ رَهْناً. قال الرَّافِعِيُّ: إذا رهن شيئاً رطباً يتسارع إليه الفساد، نظر إن أمكن تجفيفه كالرطب والعنب صح رهنه وجفف (¬1)، وإن لم يمكن كالثمرة التي لا تجفف والمَرقَة والرّيْحَان والجَمد فرهنه، إن كان بدين حال يصح، ثم إنْ بيع في الدين أو قضى الدين من موضع آخر فذاك، وإلاَّ بيع وجعل الثمن رهناً كَيْلاً يضيع ولا تفوت الوثيقة، فلو تركه المرتهن حتى فسد. قال في "التهذيب": إن كان الراهن أذن له في بيعه ضمن وإلاَّ لم يضمن، ويجوز أن يقال: عليه رفع الأمر إلى القاضي ليبيعه (¬2). وإن كان رهنه بمؤجل، فله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يَعْلَم حلول الأجل قبل فساده فهو كرهنه بدين حال. والثانية: أن يعلم عكسه، فإنْ شرط في الرَّهن بيعه عند الإِشْراف على الفساد، ¬
وجعل ثمنه رهناً صح، ولزم الوفاء بالشرط، وإنْ شرط إلاَّ يباع بحال قبل حلول الأجل، فهو فاسد مفسد للرهن لمناقضته مقصود الوثيقة، وإنْ لم يشترط هذا ولا ذاك فقولان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة وأحمد: يصح الرهن ويباع عند تعرضه للفساد كما لو شرطه، لأن الظاهر أنه لا يقصد فساد ماله. والثاني: لا يصح؛ لأنه مرهون لا يمكن استيفاء الحق منه عند المحل، والبيع قبله ليس من مقتضيات الرهن، وهذا أصح عند أصحابنا العراقيين، وميل من سواهم إلى الأول، وهو الموافق لنص الشافعي رضي الله عنه في "المختصر" (¬1). والثالثة: أن لا يعلم واحد من الأمرين وكانا محتملين، ففي جواز الرهن المطلق قولان مرتبان على القولين في القسم الثاني، والصحة هاهنا أظهر. ولو رهن ما لا يتسارع إليه الفساد فطرأ ما عرضه للفساد قبل حلول الأَجل كما إذا ابتلّت الحِنْطة وتعذر التَّجْفيف، فلا يفسخ الرهن بحال، وإنْ منع الصحة في الابتداء على قول، كما أن إِبَاق العبد يمنع صحة العقد، وإذا طرأ لم يوجب الانفساخ، ولو طرأ ذلك قبل المرهون ففي الانفساخ وجهان، كما في عروض المجنون والموت، وإذا لم ينفسخ يباع ويجعل الثمن رهناً مكانه (¬2). قال الغزالي: وَيَجُوزُ رَهْنُ العَبْدِ (ح) المُرْتَدِّ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَرَهْنُ العَبْدِ الجَانِي يَنْبَنِي عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ، وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ علَى أَنَّ رَهْنَ المُدَبّرِ بَاطِلٌ، وَفِيهِ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ مُنْقَاسٌ أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَكَذَا رَهْنُ المُعَلَّقِ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ بَاطِلٌ إِذْ لاَ يَقْوَي الرَّهْنُ عَلَى دَفْعِ عِتْقٍ جَرَى سَبَبُهُ. قال الرَّافِعِيُّ: في الفصل أربع صور: إحداها: رهن العبد المرتد كبيعة وقد مرّ، والمذهب صحتهما، ثم إنْ كان المرتهن عالماً بردته، فلا خيار له في فسخ البيع المشروط فيه الرهن، وإنْ كان جاهلاً فله الخيار، فإنْ قتل قبل القبض فله فسخ البيع، وإنْ قتل بعده فهو من ضمان من؟ فيه وجهان مقرران في البيع، فإنْ جعلناه من ضَمَانِ الرَّاهِن فللمرتهن فسخ البيع، وإنْ جعلناه من ضمان المرتهن فهو كما لو مات في يده، فلا فسخ ولا ¬
أرْش (¬1). ورهن العبد المُحَارب كبيعه. وقوله: (ويجوز رَهْن العبد المرتد كما يجوز بيعه) مُعَلّمان بالواو لما قدمناه وبالزاي؛ لأن الموفق ابن طاهر روى عن المزني المنع منهما. الثانية: رهن العبد الجاني مرتب على بيعه، إنْ لم يصح بيعه فرهنه. أولى، وإنْ صح ففي رهنه قولان، وفرقوا بينهما بأن الجناية العارضة في دوام الرهن تقتضي تقديم حق المجني عليه، فإذا وجدت أَوَّلاً منعت من ثبوت حق المرتهن. التفريع: إنْ لم يصح الرهن ففداه السيد، أو أسقط المجني عليه حقه، فلا بد من استئناف رهن وإن صححناه. فقد قال المَسْعُودي: إنه يكون مختاراً للفداء كما سبق في البيع، وبمثله أجاب الإمام، لكن ابن الصَّبَّاغ قال: لا يلزمه الفداء بخلاف ما في البيع والعتق، لأن محل الجناية باقٍ هاهنا، والجناية لا تُنَافي الرهن (¬2)، أَلاَ ترى أنه لو جنى وهو مرهون تعلقت الجناية به، ولا يبطل الرهن؟ ¬
وإذا صححنا الرهن والواجب القصاص، ومنعناه والواجب المال فرهن والواجب القِصَاص، ثم على المُسْتحق على مال فيبطل الرهن من أصله، أو هو كجناية تصدر من المرهون، حتى يبقى الرهن لو لم يبع في الجناية فيه وجهان: اختار الشيخ أبو محمد أولهما، وإذا قيل به فلو كان قد حفر بئراً في محل عدوان، فَتَرَدَّى فيها بعد مَا رهن، ففي تبين الفساد وجهان، والفرق أنه في الصورة الأولى رهن وهو جان وهاهنا بخلافه. الثالثة: قال الشَّافعي -رضي الله عنه-: ولو دبره ثم رهنه كان الرهن مفسوخاً أي باطلاً، وللأصحاب في رهن المُدَبّر طرق: أحدها، وبه قال ابن سُرَيج: أنه على قولين مبنيين على أنَّ التَّدْبير وصية أو تعليق عتق بصفة. إنْ قلنا: بالأول صح الرهن. وإن قلنا بالثاني لم يصح على الأصح، كما لو رهن المُعلق عتقه بصفة يحتمل أنْ تتقدم على المحل، ويحتمل أنْ تتأخر. والثاني: القطع بالمنع؛ لأن السَّيد قَدْ يموت فَجْأَة، فيبطل مقصود الرهن، ولا يقف على موته ليبيعه قبله، ومن قال بهذا قال: التَّدْبير وإنْ جعل وصية فهو آكد من سائر الوَصَايا بدليل أنه يَتَنَجَّز بالموت، والرهن ليس بصريح في الرجوع فجاز أن يؤثر في سائر الوصايا، ولا يؤثر في التَّدْبير. والثالث: القطع بجواز رَهْنِه كبيعه. التفريع: إن صححنا الرهن بناء على أنه وصية، فيبطل التَّدْبِير ويكون بالرَّهْن راجعاً عنه، وهو اختيار المزني، وإن أبطلناه بناء على أنه تَعْلِيق عتق بصفة، فالتَّدْبير بَاقٍ بحاله، ولا يحصل الرجوع إلاَّ بتصرف مزيل للملك، وكذا الحكم إن قلنا بالطريقة الثانية. وإن قلنا بالثالثة فالتَّدْبِير باقٍ أيضاً، وهو مرهون مدبر، فإن قضى الراهن الدين من غيره فذاك، وإنْ رجع في التَّدْبير وباعه في الدَّيْن بطل التدبير، وإن امتنع من الرجوع فيه ومن بيعه فإنْ كان له مال آخر أُجيرَ على قضائه منه، وإلاَّ فوجهان عن أبي إسحاق. أصحهما: أنه يباع في الدين ويفسخ التدبير. والثاني: أنه يحكم بفساد الرهن، ومن قال بهذا حمل قول الشافعي -رضي الله عنه- وكان الرَّهن مفسوخاً عليه.
بقي الكلام في أن أظهر الطرق ماذا؟ وفي أن الأظهر من صحَّة الرهن وفساده ماذا؟ أما الأول فالحق ما ذكره صاحب "الشامل"، وهو أن الطريق الأول أقرب إلى القياس. والثاني: أقرب إلى النص. والثالث: أبعد الثلاثة. أما كون الأول أقرب إلى القياس فلان في كون التَّدْبير وصية، أو تعليق عِتْق بصفة قولين معروفين، وقضية كونه وَصِيّة صحة الرهن. وأما كون الثَّاني أقرب إلى النص، فلأن كلامه في "الأم" كالصَّريح في القطع بالمنع؛ لأنه قال: "ولو دبره ثم رهنه كان الرَّهْن مفسوخاً"، ولو قال: رجعت عن التدبير، ثم رهنه فقولان، فخص القولين بما بعد الرجوع. وأما الثَّاني فعامة الأصحاب مائلون إلى تَرْجِيح البطلان، كما نص عليه وربما وجهوه بأن العتق مستحق بالتدبير، فلا يقوى الرهن على دفعه، واختار الإمام وصاحب الكتاب ترجيح الصحة. قال الإمام: أما إذا قلنا: إنه وصية فظاهر. وأما إذا قلنا: إنه تعليق عِتْق بصفة؛ فلأنه مع ذلك محسوب من الثلث، بخلاف العتق المعلق النازل في حياة المعلق، والدَّيْن محسوب من رأس المال. ولو مات ولمْ يخلف إلاَّ هذا العبد، والدين مستغرق ولا رهن لصرفناه إلى الدين، ولم نبال ارتفاع العتق، فلا معنى لمنعه من الرهن لغرض العتق. وقوله في الكتاب (وفيه قول مخرج) إنما سماه مخرجاً؛ لأن المنصوص البطلان، وهذا مخرج من أن التدبير وصية، وطريقة القولين هي التي أوردها في الكتاب، ويجوز الإعلام بالواو لغيرهما. الرابعة: الرهن المعلق عتقه بصفة تصوره على وجوه: أحدها: أنْ يرهن بدين حال أو مؤجل يتيقن حلوله قبل وجود الصفة، فهو صحيح ويباع في الدين، فلو لم يتفق بيعه حتى وجدت الصفة، فيبنى على القولين في أنَّ أمر الاعتبار في العِتْق المعلق بحالة التعليق، أم بحالة وجود الصفة؟ من قلنا: بالأول عتق، وللمرتهن فَسْخ البيع المشروط فيه الرَّهْن إن كان جاهلاً (¬1). ¬
وإن قلنا بالثَّاني فهو كإِعتاق المرهون، وسيأتي. والثاني: أن يرهن بدين مؤجل، يتيقن وجود الصِّفَة قبل حلوله، ففيه طريقان: عن صاحب الإفصاح: أنه على القولين في رَهْن ما يتسارع إليه الفساد، فعلى قول: يباع إذا قرب أوان وجود الصفة، ويجعل ثمنه رهناً. قال الإمام: وهذا البناء إنما ينتظم إذا قلنا بنفوذ العِتْق المعلق قَبْل الرهن عند وجود الصِّفَة حالة الرهن. أما إذا لَمْ نقل بذلك فلا نخاف تسارع الفساد إليه، وفوات الوثيقة فيوجه الخلاف بشيء آخر، وهو أن الرهن هل يصلح دافعاً للعِتْق المستحق بالتعليق؟ فتارة نقول: نعم كالبيع وأخرى نقول: لا لضعفه. والطريق الثاني، وهو المشهور: القطع بالمنع لفوات مقصود الرَّهْن قبل المحل، وليس ذلك كرهن ما يستارع إليه الفساد؛ لأن الظَّاهر من حال صاحب الطَّعام الرِّضا بالبيع عند خوف الفساد كيلا يضيع، والظَّاهر من حال المعلق إِمْضَاء العتق. والثالث: أن لا يتيقن واحد من الأمرين، بل يَجُوز تقديم الصِّفَة على حلول الدَّين وبالعكس فقولان: أصحهما: المَنْع لما فيه من الغَرَر. والثاني: وبه قال أبو حنيفة وأحمد: أنه يصح؛ لأن الأصل استمرار الرق. وقال القاضي أبو الطيب: هذا مخرج من تَجْويز رهن المُدَبّر بناء على أن التَّدْبِير تعليق عتق بصفة. وعن صاحب "الإفصاح" طريقة قاطعة بالمنع هاهنا، فهذا كلام الأصحاب في المسألة، وقد عرفت منه فتواهم بالبطلان، وإيراد صاحب الكتاب يقتضي ترجيح الصحة هاهنا، والله أعلم. قال الغزالي: وَيَصِحُّ رَهْنُ الثِّمَارِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ، وَالأَصَحُّ جَوَازُهُ أَيْضاً قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ وإنْ لَمْ يَشْتَرِطِ القَطْعَ، وَلَكِنْ عِنْدَ البَيْعِ يُشْتَرَطُ القَطْعُ، وَقِيلَ: لاَ يَجْوزُ إِلاَّ بالتَّصْرِيحِ بِالإِذْنِ فِي شَرْطِ القَطْعِ عِنْدَ البَيْعِ. قال الرَّافِعِيُّ: إذا رهن الثمار على الأشجار، فأما أن يرهنها مع الأشجار، أو وحدها. الحالة الأولى: أن يرهنها مع الأشجار، فينظر إنْ كانت الثمرة مما يمكن تجفيفها
صح الرهن، سواء بَدَا الصلاح فيها أو لم يَبْدُ، وسواء كان الدين حالاً أو مؤجلاً، وإن كانت مما لا يمكن تجفيفها، ولم نصحح رهن ما يتسارع إليه الفساد فطريقان: أشبههما: أنه لا يصح في الثَّمَار، وفي الأشجار قَوْلاً تفريق الصفقة. والثاني: يصح فيهما قولاً واحداً، وتكون الثمار تابعة للأشجار. الحالة الثانية: أن يرهنها وحدها، فإن لَمْ يمكن تجفيفها، فهو كرهن ما يتسارع إليه الفساد على وجه الأرض، وإنْ أمكن تجفيفها، فأما أن يرهن قبل بُدُوِّ الصلاح أو بعده. القسم الأول: أن يرهن قبل بُدُوِّ الصَّلاَح، فإن رهنها بدين حال، وشرط قطعها وبيعها أو بيعها بشرط القطع جاز، وإن أطلق فقولان: أحدهما: لا يجوز، كما لا يجوز بيعها مطلقاً. وأصحهما: الجواز لأن حق المرتهن لا يبطل باجتياحها، وحق المشترى يبطل، وأيضاً فإن الحلول قرينة نازلة منزلة شرط القطع. وإنْ رهنها بدين مؤجل نظر إنْ كان يحل مع بلوغ الثمار أوان الإدراك أو بعده فهو كما لو كان حالاً، وإنْ كان يحل قبل بلوغها أوان الإدراك، فإن رهنها مطلقاً فقولان: أصحهما: أنه لا يصح؛ لأن العادة في الثمار الإبقاء إلى الإدراك فأشبه ما لو رهن شيئاً على أن لا يبيعه عند المحل إلا بعد أيام. والثاني: يصح؛ لأن مقتضى الرهن البيع عند المحل، فكأنه شرط بيعه عند المحل، وإنْ رهنها بشرط القطع عند المحل فطريقان: منهم: من طرد القولين، ووجه المنع التشبيه بما إذا باع بشرط القَطْع بعد مدة. ومنهم: مَنْ قطع بالجواز، وإليه أشار الشيخ أبو حامد وصاحب "التهذيب". وعن صاحب "التقريب" طريقة قاطعة بالمنع فيما إذا رهنها مطلقاً، كما إذا باعها. والقسم الثَّانِي: أنْ يرهن بعد بدو الصَّلاحَ، فيجوز بشرط القطع ومطلقاً إنْ رهنها بدين حال أو مؤجل هو في معناه، وإنْ رهنها بمؤجل يحل قبل بلوغها أوان الإِدْراك، فعلى ما ذكرنا في القسم الأول. إذا وقفت على هذا التَّفْصِيل، عرفت أنَّ مطلق قوله في الكتاب (ويصح رهن الثَّمَار بعد بُدُوِّ الصلاح) على ماذا يجب تنزيله وقوله: (وقيل) هو القول الثَّانِي، ومتى صح رهن الثمار على الأشجار، فَمُؤْنَةَ السّقي والجُذَاذ والتَّجْفِيف على الراهن دون المرتهن، فإنْ لَمْ يكنْ له شيء لاع الحاكم حزءاً منها وأنفقه عليها، ولو توافق الرَّاهِن
والمرتهن على ترك السَّقْي جاز بخلاف عَلَفِ الحيوان، وحكى الرُّوياني على بعض الأصحاب، أنه يجبر عليه كما يجبر على عَلَفِ الحيوان، وادَّعى أنه الأصح، وإذا أراد أحدهما قَطْع الثمرة قبل أَوَانِ الجُذَاذ فللآخر أن يمتنع منه، وبعد أوان الجُذَاذ ليس له ذلك، بل يباع في الدَّيْن إنْ حلّ وإلاَّ أمسكه رهناً. فرعان: أحدهما: الشجرة الَّتي تثمر في السنة مرتين، يجوز رهن ثمرتها الحاصلة بالدين الحال والمؤجل الذي يحل قبل خروج الثمرة الثانية، وقبل اختلاطها بالأولى، وإلاَّ فإنْ شرط أنْ لا تقطع عند خروج الثَّانية لم يصح، وإنْ شرط قطعها صح، وإنْ أطلق فقولان، فإنْ صححا أو رهن بشرط القَطْع، ثم لم يَتَّفق القَطْع حتى حصل الاخْتِلاَط، ففي بطلان الرَّهن قولان، كالقولين في البيع إذا عرضت هذه الحالة قبل القَبْض والرَّهْن بعد القبض كالبَيْع قبله، لأن المرتهن إنما يتوثق بعد القبض، فهو والمرهون عنده كالبائع والمَبِيْع محبوس عنده. فإنْ قلنا: يبطل الرَّهْن فذاك. وإنْ قلنا: لا يبطل، فلو أنفق قبل القبض بطل، وفيه وجه سيأتي نظيره فيما إذا تَخَمَّر العصير قبل القبض، وإنْ لم يبطل، فإنْ رضي الراهن بأنْ يكون الكُلّ رهناً أو توافقا على أن يكون النِّصف من الجملة مثلاً رهناً فذاك، وإنْ تنازعا في قدر المرهون، فالقول قول الرَّاهن مع يمينه، كما لو اختلطت الحِنْطَة المرهونة بِحِنْطَة أخرى للراهن. وقال المزني: القول قول المرتهن مع يمينه؛ لأن اليد له كما لو تنازعا في ملك. وأجاب الأصحاب بأن اليد تدل على الملك دون الرهن، أَلاَ ترى أنه لو قال: مَنْ في يده المال رهنتنيه، وأنكر المالك كان القول قوله. وذكر الروياني في مسألة الحنطة، إن طرد الخلاف محتمل لتعذُّر الفرق. الثاني: إذا رهن زرعاً بعد اشتداد الحَبّ، نظر إن كان ترى حَبّاته من السُّنْبُلَة صح، وإلاَّ فقولان كما في البيع. والأصح: المنع. ولو رهنه وهو بقل فهو كما لو رهن الثمرة قبل بدو الصلاح. وعن صاحب "التلخيص": أنه لا يجوز إذا كان الدَّيْن مؤجلاً قولاً واحداً، وإنْ صح بشرط القطع عند المحل؛ لأن الزرع لا يجوز بيعه إذا تسنبل، وقد يتفق الحُلُول في تلك الحالة؛ ولأن زيادة الزَّرع بالطول، فهي كثمرة تحدث وتختلط بالمرهون، وزيادة الثمرة بكبر الحَبَّة فهي كالسمن.
قال الغزالي: فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يُشْتَرَط أَنْ يَكُونَ المَرْهُونُ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ؟ قُلْنَا: لاَ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَو اسْتَعَارَ الرَّهْنَ جَازَ، وَفِي تَغْلِيبِ حَقِيقَةِ الضَّمَانِ أَو العَارِيَةِ تَرَدُّدُ قَوْلٍ، وَالأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: هُوَ فِيمَا يَدُورُ الرَّاهِنَ وَالمُرْتَهَنِ رَهْنٌ مَحْضٌ وَفِيمَا بَيْنَ المُعِيرِ والمُسْتَعِيرِ عَارَيةٌ، وَفِيمَا بَيْنَ المُعِيرِ وَالمُرْتَهَنِ حُكْمُ الضَّمَانِ أَغْلَبُ فَيَرْجِعُ فِيهِ مَا دَامَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ، وَلاَ يَرْجِعُ بَعْدَ القَبْضِ عَلَى الأَصَحِّ؛ لأَنَّهُ ضَمنَ لَهُ الدَّيْنَ فِي عَيْنِ مِلْكِهِ وَيقْدِرُ علَى إِجْبَارِ الرَّاهِنِ عَلَى فَكِّهِ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ؛ لأَنَّهُ مُعِيرٌ فِي حَقِّهِ إنْ كَان الدَّيْنُ حَالاً، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلاً فَقَوْلاَنِ، وَلاَ يُبَاعُ فِي حَقِّ المُرْتَهَنِ إِلاَّ إِذَا أَعْسَرَ الرَّاهِنُ، وَلَوْ تَلَفَ فِي يَدِ المُرْتَهَنِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ عَلَى الأَصَحِّ، وَإِنْ تَلَفَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ ضَمِنَ لأنَّهُ مُسْتَعِيرٌ، وَالأَصَحُّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الإِعَارَة ذِكْرُ قَدْرِ الدَّيْنِ وَجِنْسِهِ وَمَن يَرْهَنُ عِنْدَهُ لأَنَّ مَعْنَى الضَّمَانِ ظَاهِرٌ فِيهِ وَالغَرَضُ يَخْتَلِفُ بِهِ. قال الرَّافِعِيُّ: لما كان حجة الإسلام يتكلم في هذا الركن في شرائط المرهون، بحث عن أنه هل يشترط كون المَرهُون مِلْكاً للراهن؟ والجواب الجملي: أنه ليس بشرط على المذهب. والتفصيل: أنه إذا استعار عبد الغير ليرهنه بدينه فرهنه، فسبيل هذا العَقْد سبيل العَارِية أو الضَّمَان فيه قولان: أحدهما: سبيل العَارِية؛ لأنه قبض مال الغير بإذنه لينتفع به ضرب انتفاع فأشبه، ما لو استعاره للخدمة. وأصحهما: أنَّ سبيله سبيل الضَّمَان، ومعناه أنه ضمن دين الغَيْر في رقبة ماله، كما لو أذن لعبده في ضَمَان دين غيره يصح وتكون ذمته فارغة، وكما ملك أن يلزم ذمته دين الغير وجب أنْ يملك التزامه في عين ماله؛ لأن كل واحد منهما محل حقّه وتصرفه، ولو قال المديون لغيره: ارهن عَبْدك بِدَيْني من فلان فهو كما لو قبضه ورهنه. وقوله: في الكتاب (وفي تَغْليب حقيقة الضَّمَان أو العارية تردد) قول أشار به إلى ما ذكره الإمام منْ أنَّ في العقد شبهاً من هذا وشبهاً من ذاك، وليس القولان في أنه يتمحّض عارية أو ضماناً وإنما هما في أن المغلب أيهما. وقوله: (والأولى أن يقال: هو فيما يدور بين الرَّاهِن والمرتهن) ليس للإشعار بتردد في هذه القضية، ولكن أراد أنه لا ينبغي أنْ نحكم بتغليب أحد الطرفين على الإطلاق، بل نفصل التفصيل الذي ساقه. وقوله: (وفيما بين المعير والمستعير) إلى آخره غير مساعد عليه، بل على قول
الضَّمَان المعير ضامن في عين ماله، والمستعير مضمون عنه، وليس ما بين المُعِيْر والمُسْتَعِيْر عارية محضة على ما سنبيّن في التفريع إن شاء الله -تعالى-. وذكر في الوسيط أن القولين مستخرجان من تردُّد الشَّافعي -رضي الله عنه- في أحكام المَسْألة، لكن الشيخ أبا حامد في آخرين نقلوهما عن الرَّهْن الصغير منصوصين، ثم لهما فروع كثيرة ذكر بعضها في الكتاب فنشرحه ونضم إليه ما يتفق. فمنها: أن على القولين جميعاً هذا التصرف جائز، ويخالف ما لو باع مال الغَيْر لنفسه؛ لأن البيع معاوضة فلا يملك الثَّمن من لا يملك المثمن، والرهن اسْتِيثاق يحصل بما لا يملك كما يحصل بالكَفَالة والإِشْهَاد، وعن ابن سُرَيْجٍ أنا إذا جعلناه عارية لم يصح هذا التصرف لأن الرهن ينبغي أنْ يلزم بالقبض، والعارية لا تلزم فعلى هذا يشترط في الرهن كون المرهون ملكاً للراهن. والصَّحيح: الأول الكلام في أن هذه العارية هل تلزم؟ سيأتي إنْ شاء الله -تعالى-. ثم العارية قد تحرم كما إذا أعار بُقْعَة لدفن ميت ودفن فيها. ومنها: لو أذن في رَهْن عبده، ثم رجع عنه قبل الرَّهْن أو بعده، وقبل أن يقبضه المرتهن كان له ذلك. أما على قول العارية فظاهر. وأما على قول الضَّمَان فلأنه بعد لم يلزم ألا ترى أنَّ المستعير مخيَّر في فسخ الرهن قبل القبض؟ وإذا لم يلزم في حقه وهو المديون، فأولى أن لا يلزم في حق غيره. وأما بعد قبض المرتهن فلا رجوع على قول الضَّمَان، وعلى قول العَارِيَةِ وَجْهَان: أحدهما، وبه قطع الشيخ أبو محمد: أن له أن يرجع جرياً على مقتضى العارية. وأظهرهما، وبه قال القاضي: لا يرجع وإلاَّ لمْ يكن لهذا الرهن معنى، ولا يحصل به توثق. وعن صاحب "التقريب": أنه إذا كان الدَّيْن مؤجلاً؛ ففي جواز الرُّجُوع قبل حلول الأجل وجهان لما فيه من الإذن بمدة كما لو أعار للغِرَاس مدة، ومتى حكمنا بالرجوع فرجع، وكان الرهن مشروطاً في بيع، فللمرتهن فسخ البيع إذا كان جاهلاً بالحال والله أعلم. ومنها: هل للمالك إجبار الراهن على فك الرهن؟ أما من قال له أنْ يرجع ويسترد المال متى شاء بناء على قول العارية، فلا حاجة عنده إلى هذا. وأما من لم يقل بذلك فإن قلنا: إنه عارية فله إجباره على الفَكّ. وإنْ قلنا: إنه ضمان، فإنْ كان الدَّيْن حالاً فكذلك لاستخلاص ملكه المشغول بوثيقه الرَّهْن ولا يخرج على الخِلاَف في أنَّ الضَّامن هل يملك إِجْبَار الأصيل على الأداء لتبرئة ذِمَّته بسببها للشّغل الَّذِي أثبته بأداء الدين؟ وإنْ كان مؤجلاً فليس له إجباره
عليه، كمن ضمن ديناً مؤجلاً لا يطالب الأصيل بتعجيله لتبرأ ذمته، ثم إذا حل الأجل وأمهل المرتهن الراهن، فللمالك أن يقول: إما أن ترده إليّ، أو تطالبه بالدين ليؤدي فينفك الرهن، كما إذا ضمن ديناً مؤجلاً ومات الأصل، للضامن أن يقول: إما أن تطالب بحقك من التَّرِكة أو تبرئني. وقوله: في الكتاب: "لأنه معير في حقه، إنْ كان الدين حالاً"، هذا التعليل يقتضي القدرة على الإجبار، سواء كان الدين حالاً أو مؤجلاً، كما عرفته فكان الأحسن أنْ يقدم ويؤخر، فيقول: إنه يقدر عليه إنْ كان الدين حالاً؛ لأنه معير في حقه، وإن كان مؤجلاً فقولان، وإيراد "الوسيط" قريب من ذلك، ثم وجه أحد القولين بأنه معير. والثَّاني: بأن فيه إلزام أداء الدَّيْن قبل لزومه. ومنها: إذا حل أجل الدين أو كان حالاً. قال الإمام: إن قلنا: إنه ضمان، فلا يباع في حق المرتهن إنْ قدر للراهن على أداء الدين، إلاَّ بإذن مجدد، وإنْ كان معسراً فتباع، وإنْ سخط المالك. وإن قلنا: إنه عارية فلا يباع إلاَّ بإذن مجدد، سواء كان الرَّاهِن موسراً أو معسراً، قال: وقياس طريق القاضي حيث حكم بلزوم الرهن على قول العارية تجويز بيعه عند الإِعْسَار من غير مراجعة كما على قول الضمان، وتابعه المصنف على ما ذكره ليعلم قوله: (إلاَّ إذا أعسر الراهن)، لما حكاه علي قول العارية، ولك أن تقول: الرَّهن وإن صدر من المالك، فإنه لا يسلط على البيع إلاَّ بإذن جديد، فإنْ رجع ولم يأذن، فحينئذ يباع عليه على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، فإذاً المراجعة لا بد منها، ثم إذا لم يأذن في البيع، فقياس المذهب أن يقال: إنْ قلنا: إنه عارية فيعود الوجهان في أنه، هل يمكن من الرجوع؟ وإن قلنا: إنه ضمان ولم يؤد اللدين الراهن، فلا يمكن من الإباء ويباع عليه معسراً كان الرَّاهن أو موسراً، كما لو ضمن في ذمته يطالب موسراً كان الأصيل أو معسراً، ثم إذا اتفق بيعه في الدَّين نظر إن بيع بقدر قيمته يرجع المالك على الرَّاهن على القولين، وإن بيع بأقل قدراً تَغَابن الناس بمثله، فعلى قول العارية يرجع بتمام القِيْمَة، وعلى قول الضَّمَان لا يرجع إلاَّ بما بيع؛ لأنه لم يفض الضَّامن من الدين إلا ذلك القدر، وإن بيع بأكثر من القيمة يرجع بما بيع على قول الضمان، وعلى قول العَارِية وجهان: ذهب الأكثرون: إلى أنه لا يرجع إلا بالقيمة؛ لأن العارية بها تضمن. وقال القاضي أبو الطيب: يرجع بما بيع؛ لأنه ثمن ملكه، وقد صرف إلى دين الرَّاهِن وهذا أحسن، واختاره ابن الصَّبَّاغ والإمام والقاضي الروياني. ومنها: لو تلف في يد المرتهن.
إن قلنا: إنه عارية فعلى الراهن الضمان، كما لو تلف في يده. وإنْ قلنا: إنه ضمان فلا شيء؛ لأنه لم يسقط الحق عن ذمته، ولا شيء على المرتهن بحال؛ لأنه يمسكه رهناً لا عارية، وإنْ تلف في يد الرَّاهِنِ فقد أطلق في الكتاب أنه يضمن؛ لأنه مستعير، وفي تعليق الشيخ أبي حامد بناؤه على القولين، كما لو تلف في يد المرتهن. ولو جنى في يد المرتهن فبيع في الجناية. فإن قلنا: إنه عارية فعلى الراهن القيمة. وقال الإمام: هذا إذا قلنا: إن العارية تضمن ضمان المغصوب، وإلاَّ فلا شيء عليه. وإن قلنا: إنه ضمان فلا شيء عليه في هذه الصورة، وأشار في "المختصر" إلى القولين، وإلى ترجيح قول الضمان فقال رضي الله عنه: فلو أذن في الرَّهْن فرهنه فجنى فبيع في الجناية، فأشبه الأمرين أنه غير ضامن. ومنها: إذا قلنا: إنه ضامن وجب بيان جنس الدين وقدره وصفته في الحلول والتأجيل وغيرهما لاختلاف أغراض الضَّمَان بذلك، وذكر أبو علي الزَّجَاجِيُّ (¬1) أنه أجاز في القَدِيم السُّكوت عن ذكر الحلول والتَّأْجيل، وهل يجب بيان من يرهن عنده؟ عن صاحب "التقريب" فيه وجهان: والأصح: الوجوب وعلى القولين إذا عين شيئاً من ذلك لم تَجُزْ مخالفته، نعم لو عين قدراً جاز أن يرهن بما دونه، ولو زاد فمنهم من قال: يبطل في الزائد، وفي المأذون قَوْلاَ تَفْرِيق الصَّفقة، والصحيح البطلان في الكل للمخالفة. كما لو باع الوكيل بالغبن الفَاحش، لا نقول يصح البيع في القدر الذي يساوي الثمن. وإذا قال المستعير: أعرني لأرهنه بألف أو من فلان فأعاره، كان ذلك كتقييد المعير بنفسه على أظهر الوجهين تنزيلاً للإسعاف على الالتماس (¬2). ومنها: لو أعتقه المالك فإن قلنا: إنه ضمان، فقد حكى الإمام عن القاضي أنه ينفذ، وتوقف فيما ذكره وذكر في التهذيب أنه كإعتاق المرهون. ¬
وإنْ قلنا: إنه عارية فعن القاضي أنه على الخلاف من إعتاق المرهون، وهذا بناء على لزوم هذا الرهن على قول العارية. وفي "التهذيب": أنه يصح ويكون رجوعاً، وهو بناء على عدم اللزوم. ومنها: لو قال مالك العبد: ضمنت ما لفلان عليك في رَقَبَةِ عبدي هذا، قال القاضي: يصح ذلك على قول الضمان، ويكون كالإعارة للرهن. قال الإمام: وفيه تردُّد من جهة أنَّ المضمون له لم يقبل، ويجوز أن يعتبر القبول في الضمان المتعلّق بالأعيان تقريباً له بالمرهون. وإن قلنا: إنه لا يعتبر في الضمان المطلق في الذمة. فرع: لو قضى المالك الدَّيْن من مال نفسه انفك الرَّهْن، ثم رجوعه على الراهن يتعلق يكون القضاء بإذن الراهن أو عدمه، وسيأتي ذلك في باب الضَّمان، فإن اختلف في الإِذْن فالقول قول الراهن، ولو شهد المُرْتَهِنُ للمالك قبلت شهادته؛ لأنه لا يجرّ به نفعاً ولا يدفع ضرراً، ولو رهن عبده بدين الغير دون إذنه جاز، ولو بيع فيه فلا رجوع. قال الغزالي: الركُّنُ الثَّانِي المَرْهُونُ بِهِ وَلَهُ ثَلاثَةُ شَرَائِطَ أَنْ يَكُونَ دَيْناً ثَابِتاً لاَزِماً، فَلاَ يُرْهَنُ بِعَيْنٍ، وَلاَ بِدَيْنٍ لَمْ يَثْبُتْ بَعدُ كَقَوْلِهِ: رَهَنْتُكَ بِمَا تَقْرِضُهُ مِنِّي أَوْ بِالثَّمنِ الَّذِي أَلْتَزِمُهُ بِالشِّرَاءِ مِنْكَ، وَلَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ العَبْدَ بِأَلْفٍ وَارْتَهَنْتُ الثَّوْبَ بِهِ، فَقَال: اشْتَرَيْتُ وَرَهَنْتُ جَازَ عَلَى الأَصَحِّ، لأَنَّ شَرْطَ الرَّهْنِ فِي البَيْعِ جَائِزٌ لِلْحَاجَةِ فَمَزْجُهُ بِهِ أَوْلَى وَآكَدُ، وَلَكِنْ لِيَتَقَدَّمْ مِنَ الخَطَّابِينَ وَالجَوَّابِينَ لَفْظُ البَيْعِ، وَلْيَتَأَخَّرْ لَفْظُ الرَّهْنِ حَتَّى يَتَأَخَّرَ تَمَامُ الرَّهْنِ عِنْدَ تَمَامِ البَيْعِ. قال الرَّافِعِيُّ: يشترط في المرهون ثلاثة أمور: أحدها: أن يكون ديناً (¬1)، أما الأعيان المضمونة في يد الغير إما بحكم العقد كالبيع، أو بحكم ضمان اليد كَالمَغْصُوب والمُسْتَعَار والمأخوذ على جهة السّوْم فلا ¬
يصح الرَّهْن بها؛ لأن غرض الرَّهْن بيع المرهون واستيفاء الحق من ثمنه عند الحاجة، ويستحيل اسْتيفاء تلك الأعيان من ثمن المرهون. ونَقَلَ الإمام وجهاً: أنه يجوز الرَّهْن بها بناء على تجويز ضمان الأعيان المضمونة، والفرق على قول المذهب أن الضَّمَان التزام في الذمة، فلو لم تتلف العين المَضْمُونة لم يَجُزِ الالْتِزَام ضررًا، وفي الرَّهْن دوام الحَجْرِ في المرهون يجر ضرراً ظاهراً، وعن مالك أن الرَّهْن بالأعيان المضمونة جائز، وعند أبي حنيفة أنه يجوز بكل عَيْنِ تضمن بالمِثْل أو القِيْمَة. والثانية: كونه ثابتاً. أما الذي لم يثبت بعد فلا يجوز الرَّهْن به، كما إذا رهنه بما يستقرضه منه، أو بثمن ما يشتريه منه، لأنه وثيقة حق فلا تتقدم على الحق كالشَّهَادة، وبهذا قال أحمد، وقال أبو حنيفة ومالك: إنه جائز وحكاه القاضي ابن كجّ وجهاً عن بعض الأصحاب، إذا عيّن ليستقرضه. ومنهم: من قال: لو تراهنا بالثَّمَن، ثم لم يتفرَّقا حتى تبايعا صَحَّ الرَّهْن إلحاقاً للحاصل في المَجْلِس بالمقترن بالإَيجاب والقبول، وعلى المَذْهَب لو ارتهن قبل ثُبُوت الحَقّ وقبضه كان مأخوذاً على جهة سَوْم الرَّهْن، فإذا استقرض أو اشترى لم يصر رهناً إلاَّ بعقد جديد، نص عليه الشيخ أبو حامد وغيره، وفيه وجه: أنه يصير رهناً. ولو امتزج الرَّهْن بسبب ثبوت الدَّيْن بأنْ قال: بعتك هذا العبد بألف، وارتهنت هذا الثوب به. فقال المشتري: اشتريت ورهنت. أو قال: أقرضتك هذه الدَّرَاهم وارتهنت بها عبدك، فقال: استقرضتها ورهنته فوجهان: أصحهما: وهو ظاهر النص: صحة الرَّهْن؛ لأن شرط الرَّهْن في البيع والقرض جائز لحاجة الوثيقة، فكذلك مزجه بهما بل أولى؛ لأن الوثيقة هاهنا آكد، فإن الشرط ربما لا يفي به. والثاني: أنه فاسد، وبه قال أبو إسحاق وهو القياس؛ لأن أحد شِقّي الرَّهْن متقدم على ثبوت الدين. واحتج له بأنه لو قال لعبده: كاتبتك على ألف درهم، وبعت منك هذا الثوب بكذا، فقال: قَبِلْتُ الكتابة والبيع لا يصح البيع، وأجيب عنه بفرقين: أحدهما: أَنَّ العبد لا يصير أهلاً للمعاملة مع مولاه إلا بعد أن تتم الكتابة. الثَّاني: أنَّ الرَّهْن من مصالح البيع، والبيع ليس من مصالح الكتابة.
ولو قال البائع: ارتهنت وبعت، وقال المشتري: اشتريت ورهنت لم يصح، لتقدم أحد شِقّي الرَّهْن على شقي البيع. وكذا لو قال: ارتهنت وبعت، وقال المشتري: رهنتُ واشتريت، لم يصح لتقدم أحد شِقّي الرَّهْن على أحد شقي البيع. وبهذا قال في الكتاب، لكن يتقدم الخِطَابين والجوابين إلى آخر معناه أنَّ شرط الصِّحة تقدم خطاب البيع على خطاب الرَّهْن، وتقدم جواب البيع على جواب الرَّهْن. وإنْ شئت قلت: الشرط أن يقع أحد شقي الرَّهْن بين شقي البيع، والآخر بعد شقي البيع. ولو قال: يعني عبدك بكذا، ورهنت به هذا الثوب، فقال البائع: بعت وارتهنت، فيبنى على الخلاف في مسألة الاستيجاب والإيجاب. ولو قال البائع: بعتك بكذا على أنْ ترهنني دارك به. فقال المشتري: اشتريت ورهنت فوجهان قال بعضهم: يتم العقد بما جرى وذكر في "التتمة" أنه ظاهر النص. وقال القاضي لا يصح، بل يشترط أن يقول بعده: ارتهنت أو قبلت؛ لأن الذي وجد منه شرط إيجاب الرَّهْن لا استيجابه، كما لو قال: أفعل كذا لتبيعني لا يكون مستوجباً للبيع، وهذا أصح عند صاحب "التهذيب"، وللأول أن يقول: الصُّورة المشبه بها لا تناظر هذه؛ لأنه لم يصرح في تلك الصورة بالالتماس، وإنما أخبر عن السَّبب الداعي إلى ذلك الفعل، وهو الرغبة في البيع وهاهنا باع، وشرط عليه الرَّهْن، وهو مشتمل على الالْتماس، أو أبلغ منه ألا ترى أن أبا العباس الرُّويَانِيّ حكى في "الجُرْجَانِيّات" وجهاً أن شرط الرَّهْن في البيع يغني عن استئناف رهن بعد البيع، ويكون الشَّرْط بمنزلة الإيجاب والقبول. ويجوز إعلام قوله في الكتاب: "وليتقدم وليتأخر" بالواو للوجه المنقول عن رواية ابن كَجٍّ، وللوجه القائل بوقوع البيع في مجلس الرَّهْن. قال الغزالي: وَكُلُّ دَيْنٍ لاَ مَصِيرَ لَهُ إِلَى الُّلُزومِ كَنُجُومِ الكِتَابَةِ لاَ يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهِ، وَمَا هُوَ لاَزِمٌ أَوْ مَصِيرُهُ إِلَي الّلُزومِ كَالثَّمَنِ فِي مُدَّةِ الخِيَارِ جَازَ الرَّهْنُ بِهِ، وَمَا أَصْلُهُ عَلَى الجَوَازِ لَكِن قَدْ يَصِيرُ إِلَى الُّلزُوم كَالجَعْلِ فِي الجَعَالَةِ فِيهِ وَجْهَانَ، وَالأَصَحُّ المَنْعُ لأَنَّ سَبَبَ وُجُودِهِ لَمْ يَتِمَّ قَبلَ العَمَلِ فَكَأنَّهُ غَيْرُ ثَابَتٍ. قال الرَّافِعِيُّ: الأمر الثالث: كونه لازماً والديون الثابتة ضربان: أحدهما: ما لا مصير له إلى الُّلزُوم بحال كنجوم الكتابة، فلا يصح الرَّهْن به؛ لأن الرَّهْن لِلتَّوْثيق والمُكَاتَب بسبيل من إسقاط النجوم متى شاء، فلا مَعْنَى لتوثيقها، وعند أبي حنيفة يصحّ الرَّهْن بها.
والثاني: غيره وهو إما لازم في حال الرَّهْن أو غيره. والأول: يصح الرَّهْن به سواء كان موصوفاً بحالة الجواز أو لم يكن، وسواء كان مستقرّاً كَالقَرْض وَأرْش الجِنَاية، أو ثمن المبيع المقبوض أو غير مستقر، كالثمن قبل قبض المبيع والأجرة قبل استيفاء المنفعة، والصداق قبل الدخول. وأما الثَّاني فينظر إنْ كان الأصل في وصفه اللزوم، كالثمن في مدة الخِيَار صحَّ الرَّهْن به أيضاً لقرب حاله من اللُّزُوم وأيضاً فإنَّ شرط الرَّهْن في البَيْع جائز، مع أن الثمن غير ثابت بعد فهاهنا أولى قال الإمام: وهذا يتفرَّع على أنَّ الخِيَار لا يمنع نقل المِلْك في الثمن إلى البائع، وأما إذا جعلناه مانعاً، فالظاهر منع الرَّهْن لوقوعه قبل ثبوت الدَّيْن، ولا شك في أنه لا يباع المرهون في الثمن، ما لم تمض مدة الخِيَار، وإنْ كان الأصل في وصفه الجواز، كالجُعْل في الجعَالَة فوجهان: أحدهما: يصح الرَّهْن به لانتهاء الأمر فيه إلى اللّزوم كالثمن في مدة الخيار. وأصحهما: المنع؛ لأن الموجب للجُعْل هو العمل، وبه يتم الموجب فكأنه، لا ثبوت له قبل العمل، وموضع الوجهين ما بعد الشروع في العمل وقبل تمامه. أما التقييد بما بعد الشروع؛ فلأنه لا ثبوت للجُعْل قبل الشروع بحال، وكيف يتخيل ذلك وليس ثم مستحق معين؟ وأما التَّقييد بما قبل التَّمَام؛ فلان الجُعْل بعده لازم، ثم لبان أن يبني الوجهين على الوجهين في جواز رجوع المالك بعد الشّروع في العمل، ويقول إنْ لم نجوّز الرجوع، فقد لزم الجُعْل من قبله فيصح الرَّهْن به، فإنْ لم يصح الرَّهْن به (¬1)، والرهن يعوض المسابقة ينبني على أنها إجارة أو جعَالة. إن قلنا بالأوَّل فالرَّهْن به كالرَّهْن بالأُجْرة. وإنْ قلنا بالثاني فهو كالرَّهْن بالجُعْل. فرع: يجوز الرَّهْن بالمنافع المستحقْة بالإجارة، إنْ وردت على الذِّمَّة، وتباع عند الحاجة وتحصل المَنْفَعَة من ثمنه، وإن كانت إِجَارة عَيْن، لم يجز لفوات الشَّرْط الأول. فرع: لا يجوز رَهْنُ الملاك بالزَّكَاة، ولا العَاقِلَة بالدِّيَة قبل تمام الحَوْل، لفوات الشَّرْط الثَّاني ويجوز بعده. ¬
واعلم أن التوثيق بالرَّهْن والضَّمَان شديد التَّقَارب، فما يجوز الرَّهْن به يجوز ضمانه، وبالعكس إلاَّ أنَّ ضمان العهدة جائز، ولا يجوز الرَّهْن بها، هذا ظاهر المذهب والفرق ما مرّ ومنهم من سَوَّى بينهما في العهدة أيضاً، ووفى بتمام التلازم، وأما في طرف الإثبات فعن القَفَّال وجه أنه يجوز الرَّهْن بها كالضَّمان (¬1). وأما في طرق النفي فسيأتي في باب الضمان إن شاء الله تعالى. قال الغزالي: وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي الدَّيْنِ أَنْ لاَ يَكُونَ بِهِ رَهْنٌ بَلْ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي قَدْرِ المَرْهُونِ بِدَيْنٍ وَاحِدٍ، وَفِي الزِّيَادَةِ فِي الدَّيْنِ عَلَى مَرْهُونٍ وَاحِدٍ قَوْلاَنِ، وَاخْتِيَارُ المُزَنِيِّ جَوَازُهُ (ح). قال الرَّافِعِيُّ: ليس من شرط الدين المرهون به أنْ لا يكون به رهن، بل يجوز أنْ يرهن بالدَّيْن الواحد رهناً بعد رهن، ثم هو كما لو رهنهما معاً. ولو كان الشيء مرهوناً بعشرة وأقرضه عشرة أخرى، على أن يكون مرهوناً بها أيضاً فقولان: القديم: وبه قال مالك والمُزَنِيّ أنه جائز، كما تجوز الزِّيَادة في الرَّهْن بِدَيْن واحد. والجديد؛ وبه قال أبو حنيفة: أنه لا يجوز كما لا يجوز رهنه عند غير المرتهن، وإن وفي بالدَّيْنَيْن جميعاً، فإنْ أراد توثيقهما فسخا، وليستأنفا رهناً بالعشرين، ويفارق الزِّيَادة في الرَّهْن بِدَيْن واحد؛ لأن الدَّيْن شغل الرَّهْن ولا ينعكس، فالزيادة في الرَّهْن شغل فارغ، والزيادَة في الدَّيْن شغل مشغول. ونقل القاضي ابن كَجٍّ وغيره أَنَّ له في الجديد قولاً آخر كالقديم، وسواء كان كذلك أم لا فالأصح المنع، ولو جنى العَبْد المرهون ففداه المرتهن بإذن الرَّاهِن على أنْ يكون العبد مرهوناً بالفداء، والدين الأول نص في "المختصر" على جوازه، وللأصحاب طريقان: أظهرهما: القطع بالجواز؛ لأنه من مصالح الرَّهْن من حيث أنه يتضمن استيفاؤه. والثاني: أنه على القولين وبناهما بَانُون على أن المشرف على الزوال إذا استدرك وصين عن الزوال، يكون اسْتِدْرَاكه كإزالته وإعادته، أو هو مَحْض اسْتِدَامة وفيه خلاف. ¬
إنْ قلنا بالأول فكأنهما فَكَّا الرِّهان واستأنفا. وإنْ قلنا بالثاني، ففيه القولان، وعلى هذا الأصل خرجوا الخلاف، فيما إذا كان على الشجرة ثمرة غير مُؤَبَّرة، فباعها واستثنى الثِّمَار لنفسه، هل يحتاج إلى شرط القطع وقد سبق؟ ولو اعترف الراهن بأن المرهون مرهون بعشرين، ثم ادَّعى أنه رهن أولاً بعشرة، ثم رهن بعشرة أخرى ونازعه المرتهن، فإن فرعنا على القديم فلا ثمرة لهذا الاختلاف. وإن قلنا بالجديد، فالقول قول المرتهن مع يمينه؛ لأن اعتراف الرَّاهن يقوي جانبه ظاهراً، ولو قال المرتهن في جوابه: فسخنا الرَّهْن الأول واستأنفنا بالعشرين رهناً، فالقول قول المرتهن لاعتضاد جانبه بإقرار صاحبه، أو قول الراهن لأن الأصل عدم الفسخ، فيه وجهان ميل الصَّيْدَلاَني إلى أولهما. والأصح عند صاحب "التهذيب": الثاني، ورتب عليه فقال: لو شهد شاهدان أنه رهن بألف ثم بألفين، فلا يحكم بأنه رهن بألفين، إذ لم يصرح الشُّهود بأنَّ الثَّاني كان بعد فسخ الأول. ولو رهنه بعشرة ثم استقرض عشرة أخرى، ليكون رهناً بهما وأشهد شاهدين أنه مرهون بالعشرين، فإن لم يعلم الشاهدان كيفية الحال، شهدا بما سمعا وحكم الحاكم بأنه مرهون بالعشرين، نعم لو قال عند الإشهاد: كان مرهوناً بعشرة فجعلته رهناً بعشرين، ونقل الشاهدان ما سمعاه، فهل يحكم بكونه رهناً بالعشرين إذا كان الحاكم ممن يذهب إلى القول الجديد؟ حكى الإمام عن صاحب التقريب فيه وجهين. وإنْ عرفا كيفية الحال نظر إنْ كانا يعتقدان جواز الإلحاق، فهل لهما أنْ يشهدا بأنه مرهون بالعِشْرين، أو يشهدان بما عليه الأمر في الباطن؟ فيه وجهان، وإنْ كانا يعتقدان امتناع الإِلْحَاق لم يشهدا إِلاَّ بما جرى في الباطن وفيه شيء بعيد، وهذا التفصيل فيما إذا كانا يشهدان على نفس الرَّهْن، وفيه صوّر الجمهور. أما إذا كانا يشهدان على إقرار الرَّهْن فالوجه تجويزه مطلقاً (¬1). قال الغزالي: الرُّكْنُ الثَّالِثُ الصِّيغَةُ، وَلاَ يَخْفَى اشْتِرَاطُ الإِيجَابِ وَالقَبُولِ فِيهِ، ¬
وَكُلُّ شَرْطٍ قُرِنَ بِهِ مِمَّا يُوَافِقُ مُقْتَضَى مُطْلَقِهِ، أَوْ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ غرَضٌ أَصْلاً فَلاَ يَقْدَحُ، وَمَا بِغَيْرِ مُوجِبِهِ كَشَرْطِ المَنْعِ مِنْ بَيْعِهِ فِي حَقِّهِ فَهُوَ مُفْسِدٌ، وَمَا لاَ يُغَيِّرُ مُطْلَقَهُ وَلَكِنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ غرَضٌ كَقَوْلهِ: بِشَرْطِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ المُرْتَهِنُ فَقَوْلاَنِ فِي فَسَادِ الرَّهْنِ. قال الرَّافِعِيُّ: الإيجاب والقبول مُعْتَبران في الرَّهْن اعتبارهما في البيع، والخلاف في المُعَاطَاةِ (¬1)، والاسْتِيجاب والإيجاب عائد بِرُمَّتِهِ هاهنا. ثم اعلم أن الرَّهْن ينقسم إلى ما شرط في عَقْد كما لو باع، أو أجّر بشرط الرَّهْن بالثمن أو الأجرة، أو أْسلم بشرط الرَّهْن بالمسلم فيه، أو نكح بشرط الرَّهْن بالصَّدَاق، وإلى ما لا يشترط ويسمى رَهْن التَّبرع، والرَّهْن المبتدأ في القِسْمِ الأول إذا قال: بعتك داري بكذا على أن ترهنني به عبدك، فقال: اشتريت ورهنت، فقد قدمنا خلافاً في أنه يتم الرَّهْن أم لا بد، وأن يقول بعد: ارتهنت فعلى الأول يقوم الشرط مقام القبول كما يقوم الاسْتِيْجَاب مقامه. ويجوز أن يعلّم قوله في الكتاب: "اشتراط الإيجاب والقبول" بالواو للخلاف المذكور في المُعَاطَاة، ولما حكيناه عن الجُرْجَانِيَّاتِ أن التشارط يغني عن الإيجاب والقبول، ثم يتعلّق بالصِّيغة مسائل يشتمل الفصل على واحدة منها، وهي أَنَّ الشروط في الرَّهْن على ضربين: أحدهما: ما هو من قضايا الرَّهْن، فلا يضر التعرض له لا في رهن التبرع، ولا في الرَّهْن المشروط في العقد، وإنما هو تصريح بِمُقْتَضَى الرَّهْن، وذلك كقوله: على أن يباع في دينك وقت الحاجة، أو يتقدم به عند تزاحم الغرماء، أو لا أبيعه إلا بإذنك. والثاني: ما ليس من قضاياه، وهو الذي يتعلّق بمصلحة العَقْد كالإشْهَاد، أو الَّذِي لا يتعلق به غرض كقوله: "بشرط أن لا يأكل إلاَّ الهَرِيْسَة"، والحكم فيها على ما سبق في البيع. وأما غيرهما فهو على نوعين: أحدهما: ما ينفع المُرْتهن ويضرّ الراهن، كما إذا رهن عبداً بشرط أن يرهن منه غيره، أو بشرط أنْ لا ينفك الرَّهْن بعد أداء الدَّيْن شهراً، أو يكون منافع المرهون أو زوائده مملوكة للمرتهن فالشرط فاسد، ثم أَنْ كان الرَّهْن رهن تبرع فقولان: أصحهما: أنه فاسد أيضاً، لما فيه من تغيير قضية العقد. والثَّاني، وبه قال أبو حنيفة: أنه لا يفسد؛ لأن الرَّهْن تبرع من الراهن، وهذا ¬
الشرط فيه تبرع آخر، وأحد التبرعين لا يبطل ببطلان الثَّاني، كما لو أقرضه الصِّحَاح بشرط رد المكسرة يلغو الشرط ويصح القرض، وإنْ كان الرَّهْن مشروطاً في بيع، نظر إن لم يجر الشرط جَهَالة الثمن، كما إذا شرط في البيع رهناً عن أنه يبقى محبوساً عنده بعد أداء الثمن شهراً، ففي إفساد الرَّهْن القولان في رهن التَّبَرع، فإنْ فسد ففي فساد البيع القولان، في أنَّ الرَّهْن وسائر العقود المستقلة، إذا شرطت في البيع على نعت الفساد، هل تفسد البيع؟ وقد ذكرناهما في باب البَيَاعات المنهي عنها. فإن قلنا بصحة البيع فللبائع الخيار، صح الرَّهْن أو فسد؛ لأنه إنْ صح لا يسلم له الشرط، وإنْ لم يصح فلا يسلم له أصل الرَّهْن، ولو جرّ الشرط جهالة الثمن، كما إذا شرط في البيع رهناً، وشرط أن يكون منافعه وزوائده للمرتهن فالبيع باطل؛ لأن المشروط استحقاقه يصير من الثمن وهو مجهول، وإذا بطل البيع بطل الرَّهْن والشرط لا محالة، هذا ما نقله الرَّبِيع واتفق عليه الجماهير، ووراءه كلامان: أحدهما: نقل المزني في المسألة: أن للبائع الخيار في فسخ البيع وإثباته، وحسبت أنه ذهب إلى تصحيح العقد، إذا حذف منه الشرط الفاسد، واعترض عليه بأنه خلاف أصله في أن الفاسد لا خيار فيه، والأصحاب خطئوه في نقله وحسبانه. والثَّاني: أن القاضي ابن كَجٍّ حكى طريقة أخرى أنَّ في فساد الرَّهْن قولين، وإن فسد ففي فساد البيع قولان كما سبق، وكلام ثالث حسن استدركه أصحابنا العِرَاقيون: وهو أنَّ الحكم بالبطلان فيما إذا أطلق، وقال: بعتك هذا العبد بِأَلْف لترهن به دارك وتكون منفعتها لي، فأما إذا قيد وقال: تكون منفعتها لي سنة أو شهراً، فهذا جمع بين البيع والإجارة في صَفْقَة واحدة وقد سبق حكمه. النوع الثاني: ما ينفع الراهن ويضر المُرْتَهن، كما لو قال: رهنتك بشرط أنْ لا تبيعه عند المحل، أو لا تبيعه بعد المحل، إلاَّ إذا مضى شهر، أو إلاَّ بما أرضى أو بأكثر، من ثمن المِثْل فهو فاسد مفسد للرهن، وفي كتاب القاضي ابن كَجٍّ أن ابن خَيْرَانَ قال: يجيء في إفساد الرَّهْن القولان المذكوران في النوع الأول، وهو غريب والفرق على المذهب أن ما ينفع المرتهن يزيد في الوثيقة، ويؤكد ما وضع العقد له، وما يضره يجل به، فإنْ كان الرَّهْن مشروطاً في بيع، عاد القول في فساده بفساد الرَّهْن المشروط، فإنْ لم يفسد فللبائع الخيار. قال الغزالي: وَإذَا قَالَ: رَهَنْتُكَ الأشْجَارَ بِشَرْطِ أَنْ تُحْدِثَ الثِّمَارَ مَرْهُونَةً فَفِي صِحَّةِ الشَرْطِ قَوْلاَنِ، وَلَو شُرِطَ عَلَيْهِ رَهْنٌ فِي بَيْعٍ فَاسِدٍ فَظَنَّ لُزُومَ الوَفَاءِ بِهِ فَرَهَنَ فَلَهُ (و)
الرُّجُوعُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ ظَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْناً فَأَدَّاهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ خِلافَهُ. قال الرَّافِعِيُّ: في الفصل مسألتان: الأولى: زوائد المرهون غير مرهونة عند إطلاق الرَّهْن كما سيأتي، لكن لو رهن الشَّجرة بشرط أنْ تحدث الثمرة مرهونة، أو الشاة بشرط أن يحدث النِّتاج مرهوناً، فقولان: قال في القديم: والرهن اللَّطِيف يصح الشرط ويتعدى الرَّهْن إلى الزوائد؛ لأن الرَّهْن عند الإطلاق إنما لا يسرى إلى الزوائد لضعفه، فإذا قوى بالشرط سرى. وقال في الأم: لا يصح، وهو الأصح لأنها معدومة مَجْهُولة، فلا يصح الرَّهْن فيها، ومنهم من قطع بهذا، وأول الأول حكاه القاضي ابن كَجّ رحمه الله. التفريع: إنْ صححناه، ففي اكتساب العبد إذا شرط كونه مرهوناً وجهان للشيخ أبي محمد، والأظهر المنفع، لأنها ليست من أجزاء الأصل، وإنْ أفسدناه ففي صِحَّة الرَّهْن خلاف له مخرجان: أحدهما: القولان في فساد الرَّهْن لفساد الشَّرْط الَّذِي ينفع المرتهن. وثانيهما: أنه جمع في هذا الرَّهْن بين معلوم ومجهول، فيجيء فيه الخِلاَف الَّذِي في تفريق الصَّفْقة، فإنْ كان الرَّهْن بهذا الشَّرط مشروطاً في بيع، فإن صححنا الشرط أن أو أفسدناه وصححنا الرَّهْن صح البيع وللبائع الخيار، ولا ففي البيع القولان في أنَّ إفساد الرَّهْن المشروط في البيع، هل يفسد البيع؟ وإذا اختصرت قلت: في المسألة أربعة أقوال: صحة الشرط والرهن والبيع، وصحة البيع دونهما، وصحتهما دون الشرط، وبطلان الكل، ولو رهن وشرط كون المَنَافع مرهونة، فالشرط باطل، ولا يجري فيها القولان المذكوران في الزوائد. فرع: لو أقرض بشرط أن يرهن به شيئاً، وتكون منافعه مملوكة للمقرض، فالقرض فاسد؛ لأنه جَرَّ منفعة، وإذا بطل الرهنَ، وإن شرط كون المنافع مرهونة أيضاً، فالشرط فاسد والقرض صحيح؛ لأنه لا يجر منفعة، وفي صحة الرَّهْن القولان. المسألة الثانية: لو قال: أقرضتك هذا الألف بشرط أن ترهن به، وبالألف الذي لي عليك كذا، أو بذلك الألف وحده، فالقَرْض فاسد على ما مر في بابه. ولو قال المستقرض: أقرضني ألفاً على أن أرهن به، وبالألف القديم الذي لك عليّ أو بذلك الألف فقط فقد نقل الإمام فيه تردُّداً بناء على أن القبول من المستقرض غير معتبر، والأصح اعتباره، والتَّسوية بين أن يصدر الشرط من المقرض ويقبله المستقرض وبين عكسه، وكذا لو باع بشرط أنْ يرهن بالثمن، والدين القديم أو بذلك الدين رهناً، فالبيع باطل كما تقدم.
إذا تذكرت ذلك فلو رهن المستقرض أو المشترى كما شرط، لم يخل إما أن يعلم فساد ما شرط، أو يظن صحته، فإن علم الفساد فينظر إنْ رهن بالألف القديم صح، وإن رهن بهما لم يصح بالألف الَّذِي فسد قرضه؛ لأنه لم يملكه، وإنما هو مضمون في يده للمقرض، والأعيان لا يرهن بها، وفي صحته بالألف القديم قَوْلاً تفريق الصَّفْقة، فإن صح لم يوزع، بل كان الكل مرهوناً بالألف القديم، لأن وضع الرَّهْن على توثيق كل بعض من أبعاض الدين بجميع المرهون ولو تلف الألْف الَّذِي فسد القرض فيه في يده صار دَيْناً في ذمته، وصح الرَّهْن بالألفين حينئذ. وأما عند ظن الصِّحة فإذا رهن بالألف القديم، فعن القاضي: أنه لا يصح الرَّهْن، كما لو أدى ألْفاً على ظن أنه عليه ثم تبين خلافه، له الاسترداد ويتبيّن بطلان الأداء، وعن الشيخ أبي محمد وغيره صحته بخلاف صورة الاستشهاد؛ لأن أداء الدين يستدعي سبق ثبوته، وصحّة الرَّهْن لا تستدعي سبق الشروط، ولو رهن بالألفين، وقلنا: إِنَّ الصفقة تفرق، فَصِحّته بالألف القديم على هذا الخلاف، وكذا لو باع بشرط بيع آخر فأنشأ البيع الثاني ظانّاً صحة الشرط، وقد ذكرنا هذه الصورة في موضعها، وهذه الصورة والخلاف فيها شبيه بما إذا باع مال أبيه، على ظن أنه حي فكان ميتاً على رأي يجعل ظنه مانعاً صحة الإقدام، لأنه ربما لم يبع لو عرف حقيقة الحال. وقوله في الكتاب: (ولو شرط عليه رهن في بيع فاسد) أراد به صورة خلاف الشيخ، والقاضي على ما بينه في "الوسيط"، لكنه اقتصر هاهنا على جواب القاضي، والمعنى شرط عليه رهن في بيع فاسد بدين قديم. وقوله: فظن لزوم الوفاء به، ليس المراد اللُّزُوم الذي يفيد الإجبار، فإن الرَّهْن المشروط لا يجبر عليه بحال، ولكن المراد صِحّة الشرط ولوازمها. وقوله: (فله الرجوع) يشعر بالصِّحة، وتفويض الأمر فيه إلى خيرة الرَّاهن، وهذا الظاهر غير معمول به، بل أحد القائلين يلغيه، والثَّاني يجعل سبيله سبيل سائر الرّهُون حتى يلزم، ولا يتمكن الراهن من الرجوع عنه. قال الغزالي: وَلَوْ قَالَ: رَهَنْتُكَ الأَرْضَ فَفِي انْدِرَاجِ الأَشْجَارِ تَحْتَهُ، وَكَذَا فِي انْدِرَاجِ الأُسِّ تَحتَ الجِدَارِ، وَفِي انْدِرَاجِ المَغْرَسِ تَحْتَ الشَّجَرِ قَوْلاَنِ، وَكَذَا فِي الثَّمَارِ غَيْرِ المُؤَبَّرَةِ وَفِي الجَنِينِ وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ خِلاَفٌ، وَكَذَا فِي الصُّوفِ المُسْتَجَزِّ عَلَى ظَهْرِ الحَيَوَانِ، وَفِي الأَغْصَانِ الخِلاَفُ، وَوَجْهُ الأَخْرَاجِ مِنَ اللَّفْظِ ضَعْفُ الرَّهْنِ عَنِ الاسْتِتْبَاعِ. قال الرَّافِعِيُّ: نظر الفصل في جملة من الألفاظ المُطْلَقَة في المرهون، وتمس الحاجة إلى البحث عما يدخل فيها ويخرج، وحاصله، صور:
أحدها: في انْدِرَاج الأَبْنِيَة والأشجار الَّتِي في الأرض تَحْتَ رهن الأرض مطلقاً الخلاف الذي ذكرناه في البيع. الثانية: في دخول الغَرْس تحت رهن الشجر خلاف مرتب على الخلاف في البيع، والرهن أولى بالمنع لضعفه، وفي معناه دخول الآس تحت الجدار وتدخل الثمرة المُؤَبَّرَة تحت رهن الشجرة بحال، وفي غير المُؤَبَّرَة قولان. وقال في "الوسيط" وجهان: أحدهما: تدخل كما في البيع. وأصحهما: أنها لا تدخل؛ لأن الثمار الحادثة بعد استقرار العقد لا يثبت فيها حكم الرَّهْن، فالموجودة عند العَقْد أولى، وبهذا يفارق البيع. ومنهم مَنْ قطع بعدم الدخول ونفي الخلاف، وعند أبي حنيفة تدخل الثمار في الرَّهْن بكل حال بناء على أن رهن الشجرة دون الثمرة لا يصح، ويجوز أن يعلم قوله: (وكذا في الثمار غير المؤبرة) بالواو للطريقة المذكورة، بل يجوز إعلام قوله: (قولان) -بالواو- أيضاً؛ لأن منهم من نفى الخلاف في المسائل كلها. أما في اندراج الأشجار تحت رهن الأرض فقد سبق في المبيع. وأما في الآس والمغرس فللطريقة المتولدة من ترتيب الخلاف على الخلاف في البيع، وقد صرح بنقلها المُتَوَلِّي، ولا يدخل البَيَاضُ بين الأشجار تحت رهن الأشجار، إن كان بحيث يمكن إفراده بالانتفاع، وإن لم ينتفع به إلا بتبعية الأشجار، فكذلك على أشهر الطريقين. وعن صاحب "التقريب" والشيخ أبي محمد: أنه على الوجهين في المَغَارس، ويدخل في رَهْنِ الأشجار الأغصان والأوراق، نعم الَّتِي تفصل غالباً كأغصان الخلاف وورق الآس والفِرْصَاد، فيها القولان المذكوران في الثمار التي لم تُؤَبَّر. الثالثة: في انْدِرَاج الجَنِيْن تحت رهن الحيوان الحامل، خلاف نعود لشرحه بعد إن شاء الله تعالى والغَرَض من ذكره هاهنا التنبيه على تقارب مأخذَ الخلاف فيه، والخلاف في الثَّمَار غير المُؤَبَّرَة وأحد الخلافين مرتب على الآخر، والجنين أوّلاً بالاندراج؛ لأنه لا يقبل التصرف على الانفراد، فبالأحرى أنْ يكون تبعاً. وفي اللَّبَن في الضَّرْع طريقان: عن أبي الحسين: القطع بأنه لا يدخل. والمشهور أنه على الخلاف، ثم هو عند بعضهم في مرتبة الجنين، وعند آخرين في مرتبة الثمار لتيقن وجوده، وسواء أثبت الخلاف أم لا، فَالظَّاهر أنه لا يدخل في الرَّهْن، وهو الَّذي أورده في "التَّهْذيب".
وفي الصّوف على ظهر الحيوان طريقان: أحدهما: القطع بدخوله إلحاقاً بالأجزاء والأعضاء، نقله في "التتمة". وأظهرهما: أنه على قولين: أحدهما: الدخول كالأغصان والأوراق في الشجر. وأصحهما: المنع كما في الثمار، لأن العادة فيه الجَزّ، ونقل بعضهم بدل القولين وجهين وزاد وجهاً ثالثاً، وهو: الفَرْق بين الصُّوف القصير الذي لا يعتاد جَزّه، وبين المنتهي إلى حَدّ يجزّ والمُسْتَجِز بكسر الجيم: البالغ أوان الجز. وقوله: (ووجه الإخراج من اللفظ ضعف الرَّهْن عن الاستتباع) أي في كل صورة فاق الرَّهْن فيها البيع. فروع: لو قال: رهنتك هذا الحُقّ بما فيه، أو هذه الخَرِيْطَة بما فيها، وما فيهما غير معلوم مرئي صح الرَّهْن في الظرْف والمَظْرُوف، وإلاَّ لم يصح الرَّهْن في المظروف، وفي الحُقَّ والخَريْطَة قَوْلاَ تفريق الصفقة، وما نص عليه في "المختصر" من الصحة في الحُقِّ وعدمها في الخريطة، فسببه أنه وضع المسألة في حق له قيمة يقصد مثله بالرهن، وفي خَرِيْطَة ليست لها قيمة تقصد بالرهن، وحينئذٍ يكون المقصود ما فيها، وإنْ كان اللَّفْظ مضافاً إليهما جميعاً، وما فيهما بحيث لا يصح الرَّهْن فيه يبطل فيهما جميعاً، وفي وجه يصح الرَّهْن فيهما جميعاً، وإنْ كانت قليلة القيمة اعتباراً باللفظ، ولو عكست التَّصْوير في الحُقِّ والخَرِيطة كان الحكم بالعكس مما نص عليه ولا فرق. ولو قال: رهنتك الظَّرْف دون ما فيه صَحَّ الرَّهْن فيه مهما كانت له قيمة، وإن قلَّتْ، لأنه إذا أفرده فقد وجه الرَّهْن نحوه وجعله المقصود، وإن رهن الظَّرْف ولم يتعرض لما فيه نفياً أو إثباتاً، فإن كان بحيث يقصد بالرَّهْن وحده فهو المرهون لا غير، وإنْ كان لا يقصد منفرداً لكنه متموّل فالمرهون الظَّرْف وحده أو مع المَظْرُوف، فيه وجهان حكاهما الإمام: أصحهما: أولهما: ويجيء على قياسه وجهان، فيما إذا لم يكن متمولاً أن الرَّهْن ينزل على المظروف أو يلغى (¬1). قال الغزالي: الرُّكْنُ الرَّابعُ: العَاقِدُ فَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ البَيْعُ، وَفِيهِ زِيَادَةُ ¬
شَرْطٍ وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، وَلِذَلِكَ لاَ يَصِحُّ لِوَليِّ الطِّفْلِ أَنْ يَرْهَنَ مَالَهُ إِلاَّ لِمَصْلَحَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَاَئةٍ مَا يُسَاوِي مائَتَيْنِ وَلاَ يُسَاوِي المَرْهُونُ أَكْثَر مِنْ مَائَةٍ حَتَّى لَوْ تَلَفَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا لاَ يَجْبُرُهُ المُشْتَرِي، إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي وَقْتٍ يَجُوزُ فِيهِ الإِيدَاعُ خَوْفاً مِنَ النَّهْبِ فَيَجُوزُ الرَّهْنُ، وَكَذا المُكَاتَبُ (و) وَالمَأْذُونُ (و)، وَيَجُوزُ لِلوَلِيِّ الارْتِهَانُ عِنْدَ عُسْرِ اسْتِيفَاءِ الحَقِّ أَوْ تَأَجُّلِهِ مَهْمَا بَاعَ بِنَسِيئَةٍ مَعَ الغِبْطَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْهَنَ عَقَارَهُ لِحَاجَةٍ ظَاهِرَةٍ فِي القُوتِ حَتَّى لاَ يَفْتَقِرَ إِلَى بَيْعِهِ. قال الرَّافِعِيُّ: يعتبر في المتعاقدين التكليف كما في البيع، لكن الرَّهْن تَبَرُّع فإن صدر من أهل التَّبَرُّع في ماله فذاك، وإلاَّ فالشرط وقوعه على وِفْق المَصْلَحَة والاحتياط، إذ مقصود هذه التَّوْطِئَة التدرج إلى الكلام في ثلاثة فصول: أولها: رهن الوَلِيّ مال الصَّبي والمَجْنُون وَالمَحْجُور عليه بالسَّفَهِ، وارتهانه لهم مشترط بالمَصْلَحَة والاحتياط، فمن صوّر الرَّهْن على وجه المَصْلَحَةَ أنْ يشتري للطفل ما يساوي مائتين بمائة نَسِيْئَة، ويرهن به ما يساوي مائة من ماله فيجوز؛ لأنه إذا لم يعرض تلف ففيه غِبْطَة ظاهرة، وإنْ تلف المرهون كان في المشتري ما يجبره، ولو لم يساعد البائع إلاَّ بِرَهْن ما يزيد على مائة أعرض عَنْ هذه المعاملة؛ لأن الرَّهْن يمنع من التَّصَرف، وربّما يتلف فيتضرر به الطِّفْل، نعم لو كان المرهون ما لا يتلف في العادة كالعَقَار، فعن الشيخ أبي محمد الميل إلى تَجْويزه. قال الإمام: وهو منقاس: لكنه خلاف ظاهر المذهب. ومنها: إذا كان الزمان زمان نَهب، أو وقع حَريق وخاف الوَلِيُّ على ماله، فله أن يشتري عَقَاراً، ويرهن بالثمن شيئاً من ماله إذا لم يتهيَّأ أداؤه في الحال، ولم يبع صاحب العقار عقاره إلا بشرط الرَّهْن، وذلك؛ لأن الإيداع المُجَرّد في مثل هذه الحالة جائز ممن لا يمتد النَّهب إلى يده فهذه أولى. ولو استقرض شيئاً والحالة هذه ورهن به لم يجز قاله الصيدلاني؛ لأنه يخاف التلف على ما يقرضه خوفه على ما يرهنه، وأنت بسبيل من أن تقول: إذا لم يجد من يأخذه وديعة، ووجد من يأخذه رَهْناً، وكان المرهون أكثر قيمة من القرض، وجب أن يجوز رهنه. ومنها: أن يستقرض الولي له لحاجته إلى النَّفَقَة أو الكسوة أو تَوْفِيَة ما يلزمه، أوْ لإصْلاح ضِيَاعه ومرمَّتها ارتقاباً لغلّتها أو لحلول ما له من الدَّيْن المؤجل، أو لنَفَاق متاعه الَكَاسِد، فإن لم يرتقب شيئاً من ذلك، فبيع ما تعذَّر رهنه أولى من الاستقراض.
[القول في رهن المكاتب وارتهانه]
وأما الارْتِهَان فمن صور المصلحة، فيه أن يتعذَّر على الولي استيفاء دين الصبي فيرتهن به إلى أن يتيسر الاستيفاء. ومنها: أن يكون دينه مؤجلاً، إما بأن ورثه كذلك، أو باع الولي ماله نَسِيئَة بالغبطة، ولا يجوز الاكتفاء بِيَسَارِ المشتري، بل لا بد من الارْتِهَان بالثمن، وفي "النهاية" رمز إلى خلاف ذلك أخذاً من جواز إبضاع ماله، وإذا ارتهن جاز أن يرتهن بجميع الثمن، وفيه وجه أنه لا بد وأن يستوفي ما يساوي المبيع نقداً، وإنما يرتهن ويؤجل بالإضافة إلى الفاضل (¬1). ومنها: أن يقرض ماله أو يبيعه لضرورة نَهْب، ويرتهن به أو بالثمن، قال الصَّيْدَلاَني: والأولى ألاَّ يرتهن إذا كان المَرْهُون مما يخاف تلفه؛ لأنه قد يتلف ويرفع الأمر إلى حاكم يرى سقوط الدَّيْن بتلف الرَّهْن، وحيث جاز للولي الرَّهْن فالشرط أن يرهن عند أمين يجوز الإيداع منه، ولا فرق في جميع ذلك بين الأب والجد والوصي والحاكم وأمينه، نعم حيث يجوز الرَّهْن أو الارتهان، فللأب والجد أن يعاملا نفسهما، ويتوليا الطرفين وليس لغيرهما ذلك، وإذا تَوَلَّى الأب الطرفين فكيفية القبض سنذكرها إن شاء الله تعالى في رَهْن الوديعة من المودع. [القول في رهن المكاتب وارتهانه] الفصل الثاني: رهن المُكَاتَب وارتهانه جائزان بشرط النظر والمصلحة كما ذكرنا في حق الطفل (¬2). ومنهم: من قال: لا يجوز الرَّهْن استقلالاً، وبإذن السيد قولان بناء على أن الرَّهْن تبرع، وتفصيل صور الارْتِهَان كما في الفصل الأول، وفيه وجه آخر أنه لا يجوز ¬
الباب الثاني: في القبض والطوارئ قبله
له الاسْتِقْلاَل بالبيع نَسِيْئَة بحال، وبإذن السيد يخرج على الخلاف في تبرعاته. الفصل الثالث: في المأذون، فإن دفع إليه السَّيد مالاً ليتَّجر فيه فهو كالمُكَاتب إلاَّ من وجهين: أحدهما: أنَّ رهنه أولى بالمنع مِنْ جهة أنَّ الرَّهْن ليس من عقود التِّجَارات، وشبهه الإمام بإجارة الرِّقَاب، وفي نفوذها منه خلاف سبق في موضعه. والثاني: أن له البيع نَسِيْئَةً بإذن السَّيد بلا خلاف، وإن قال له: اتِّجر بجاهك ولم يدفع إليه مالاً، فله البيع والشراء في الذِّمَّة حالاً ومؤجلاً، وكذا الرَّهْن والارتهان إذ لا ضرر فيه على السَّيد، فإن فضل في يده مال كما لو دفع إليه مالاً (¬1). وقوله في الكتاب: (إلاَّ لمصلحة ظاهرة) يجوز إعلامه بالواو؛ لأن القاضي ابن كَجٍّ حكى وجهاً: أنه لا يجوز رهن مال الطِّفل بحال من الأحوال. وقوله: (إلاَّ إذا كان في وقت يجوز فيه الإيداع)، هذا الاسْتِثْنَاء في نظم الكتاب يرجع إلى اشتراط مساواة قيمة المرهون للدين، فإنه يجوز أنْ يكون في زمان النَّهْب أكثر من الدين، بل هو عُذْرٌ يجوز الرَّهْن على ما نلحظ. وقوله: (وكذا المُكَاتَب والمَأْذُون) مُعَلّمان بالواو. البَابُ الثَّانِي: فِي القَبْضِ وَالطَّوَارِئ قَبْلَهُ قال الغزالي: القَبْضُ رُكْنٌ فِي الرَّهْنِ لاَ يَلْزَمُ (م) إِلاَّ بِهِ، وَكَيْفِيَّتُهُ فِي المَنْقُولِ وَالعَقَارِ مَا ذَكَرَنَا فِي البَيْعِ، وَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ مِنْ مُكَلَّفٍ، ويَجُوزُ لِلْمُرْتَهَنِ أَنْ يُنِيبَ غَيْرَهُ إِلاَّ عَبْدَ الرَّاهِنِ وَمُسْتَوْلَدَتَهُ لأَنَّ يَدَهُمَا يَدُ الرَّاهِنِ، وَيسْتَنِيْبَ مُكَاتِبَ الرَّاهِنِ، وَفِي عَبْدِهِ المَأْذُونِ خِلاَفٌ. قال الرَّافِعِيُّ: كلام الباب يقع في قسمين: أحدهما: بيان اعتبار القبض، وأنه بم يحصل وممن يصح؟ أما الاعتبار الأول فإن القبض ركن في لزوم الرَّهْن (¬2)، فلو رهن ولم يقبض كان ¬
له ذلك، نعم لو كان مشروطاً في بيع فللبائع الخيار. وقال مالك: يلزم الرَّهْن بنفسه، وعن أحمد مثله إلا في المكيلات والموزونات. لنا: أنه عقد إرفاق يحتاج إلى القبول، فلا يلزم إلاَّ بالقبض كالقرض. وأما أنه بم يحصل؟ فسبيله في العَقَار والمنقول ما تقرر في البيع، ويعود الخلاف المذكور في أن التَّخْلِيَة، هل تكفي في المنقول أم لا بد من النقل؟ وعن القاضي القطع بأنه لا يكفي التَّخْلِية في الرَّهْن؛ لأن القبض مستحق في البيع، وهاهنا بخلافه، ويتعلق بهذا الأصل فروع مذكورة في الفصل الَّذِي بعد هذا الفصل. وأما أنه مِمَّن يصح فهو الذي يصح منه العقد، وتجري النيابة في القبض جَرَيَانها في العقد، لكن لا يجوز للراهن إِنَابَة المرتهن؛ لأن الواحد لا يتولَّى طرفي القبض كما بَيَّنا في البيع، وكما لا ينيبه لا ينيب عبده ولا مُدَبّره ولا أم ولده؛ لأن يَدَهُمْ يَدَهُ، ولا بأس وإنابة مُكَاتَبه لاستقلاله باليد والتصرف، وفي عبده المأذون وجهان: أحدهما: الجواز لانفراده باليد والتصرف. وأصحهما: المنع فإنه عبده القِنّ، وهو متمكن من الحجر عليه (¬1)، وهذا كُلّه قد أشرنا إليه في البيع، وعن الشيخ أبي علي حكاية وجه ثالث، وهو أنَّ المأذون إنْ لم تركبه الديون لم يجز إنابته، وإن ركبته جاز لانقطاع سلطة السَّيد عما في يده، ومشابهته المكاتب. قال الغزالي: وَلَوْ رَهَنَ مِنَ المُودِعِ نَصَّ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَي إِذْنِ جَدِيدٍ، وَفِي الهِبَةِ مِنَ المُودِعِ نَصَّ أنَّهُ يَلْزَمُ، فَقِيلَ قَوْلاَنِ بالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ، وَقِيلَ بِالفَرْقِ لِضَعْفِ الرَّهْنِ، ثُمَّ لاَ بُدَّ (و) مِنْ مِضِيِّ زَمَانٍ يُمْكِنُ المَسِيرُ فِيهِ إِلَي البَيْتِ الَّذِي فِيهِ الرَّهْنُ حَتَّى يَلْزَمَ، وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ الله عَنْهُ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ قَبْضاً مَا لَمْ يَصِلْ إِلَي بَيْتِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ التَّرَدُّدِ فِي بَقَائِهِ لِيُتَيَقَّنَ وُجُودُهُ، وَالأَصَحُّ: (و) أَنَّه لَوْ بَاعَ مِنَ المُودِع دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ بِمُجَرَّدِ البَيْعِ. ¬
قال الرَّافِعِيُّ: في الفصل مسألتان: إحداهما: لو أودع مالاً عند إنسان ثم رَهَنَهُ منه، فظاهر نصه أنه لا بد من إِذْن جديد في القبض. ولو وهبه منه فظاهر نَصِّه أنه يحصل القبض من غير إذنْ جديد، وللأصحاب فيهما طريقان مشهوران، وثالث غريب. أظهر المشهورين: أن فيهما قولين: أحدهما: أنه لا حاجة في واحد من العقدين إلى الإذن في القبض، بل إنشاؤهما مع الَّذِي في يده المال، يتضمَّن الإِذْن في القبض. وأصحهما: أنه لا بد منه وبه قال أبو إسحاق ولأنَّ اليد الثابتة كانت غير جهة الرَّهْن، ولم يجر تعرض للقبض بحكم الرَّهْن. والثاني: تقرير النَّصين. والفرق: أن الهِبَةَ عقد تمليك ومقصوده الانتفاع، والانتفاع لا يتم إِلاَّ بالقبض والرهن توثيق، وأنه حاصل دون القبض، ولهذا لو شرط في الرَّهْن كونه في يد ثالث جاز، ولو شرط مثله في الهبة فسد، وكانت الهبة ممن المال في يده رضا بالقبض. والثالث: الغريب الذي حكاه القاضي ابن كَجٍّ عن ابن خَيْرَان القطع باعتبار الإذن الجديد فيهما، ومحاولة تأويل نَصِّه في الهِبَة، وسواء شرط إذن جديد في القبض أو لم يشترط، فلا يلزم العقد ما لم يَمْضِ زمان يتأتى فيه القبض، لكن إذا شرط الإذن فهذا الزمان يعتبر من وقت الإِذْن، فإن لم يشترطه فهو معتبر من وقت العقد، وقال حرملة: لا حاجة إلى مُضِيِّ هذا الزمان ويلزم العقد بنفسه، والمذهب الأول (¬1)؛ لأنا نجعل دوام اليد كابتداء القَبْضِ، فلا أقل من زمان يتصور فيه ابتداء القبض، فعلى هذا لو كان المَرْهون منقولاً غائباً، اعتبر مضى زمان يمكن المَصِير إليه ونقله، وهل يشترط مع ذلك نفس المصير إليه ومشاهدته؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، ليتعين حصولُه وثبوته، وهذا ظاهر النص. وأصحهما: لا، ويكتفي بأن الأصل بقاؤه. ¬
واختلفوا في محل النص، منهم من جعله احتياطاً، ومنهم من حمله على ما إذا كان المرهون ممَّا يتردد في بقائه في يده، بأن كان حيواناً غير مأمون الانقلاب. أما إذا نفيه فلا حاجة إليه، ومن قال بهذا جعله وجهاً ثالثاً فارقاً، فإن شرطنا الحضور والمشاهدة، فهل يشترط النقل؟ أيضاً فيه وجهان: أحدهما: نعم، لأن قبض المنقول يحصل. والثاني: وهو أصحهما وقطع به طوائف من الأصحاب: أنه لا يشترط؛ لأن النقل إنما يعتبر ليخرج من يد المالك وهو خارج هاهنا وإذا شرطنا وراء مضي المدة شيئاً، إما الحضور وحده أو مع النقل، فهل يجوز أن يوكل فيه؟ حكى الإمام فيه وجهين: أصحهما: الجواز كما في ابتداء القبض، ووجه المنع أن ابتداء القبض وهو النقل وحده من المودع، فليصدر بثمنه منه. فرعان: الأول: لو ذهب إلى موضع المرهون فوجده قد خرج من يده، نظر إنْ أذن له في القَبْض بعد العقد، فله أخذه حيث وجده، وإنْ لم يأذن له لم يأخذه، حتى يقبضه الرَّاهن سواء شرطنا الإذن الجديد، أو لم نشرطه، هكذا قاله أبو الفضل بن عبدان، وكأنه صوّر فيما إذا علم بخروجه من يده قبل العقد. أما إذا خرج بعده، ولم يشترط الإذن الجديد فقد جعلنا الرَّهْن مِمَّن في يده إذناً في القبض، فليكن بِمَثَابة ما لو استأنف إذناً. الثاني: إذا رهن الأب مال الطِّفْل من نفسه، أو ماله من الطفل ففي اشتراط مضي زمان يمكن فيه القبض وجهان، كالوجهين في اشتراط لفظي الإيجاب والقبول، وقد ذكرناهما في البَيْع، إن شرطناه فهو كما لو رهن الوَدِيْعَة من المودع، فيعود الاختلاف المذكور، وقصد الآن قبضاً وإقباضاً نازل منزلة الإذن الجديد هناك. المسألة الثَّانية: إذا باع المالك الوَدِيعة أو العَارِيَة مِمَّن في يده، فهل يعتبر زمان إمكان القبض لجواز التَّصَرف وانتقال الضمان؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم، ثم القول في اشتراط المشاهدة، واشتراط النَّقْل كما في الرَّهْن والهبة. والثاني: لا؛ لأن البيع يفيد إلملك في معنى مع اجتماع الملك واليد لاعتبار شيء
آخر، وهل يحتاج إلى الإذن في القبض تفريعاً على الوجه الأول؟ نظر إنْ كان الثمن حالاً ولم يُوَفِّهِ لم يحصل القبض إلاَّ إذا أذن البائع فيه، فإن وَفَّاه أو كان مؤجلاً فعن الشيخ أبي علي رواية طريق أنه كالرَّهْن. والمشهور: أنه لا يحتاج إليه. والفرق أنَّ البيع يوجب القبض، فدوام اليد يقع عن القبض المستحق ولا استحقاق في الرَّهْن. ونعود إلى ما يتعلّق بلفظ الكتاب قوله: (قولان بالنقل والتخريج) المشهور عند مثبتي القولين في العقدين أنهما حاصلان عن ضرب أحد النَّصَّين بالآخر، على ما هو سبيل النَّقْل والتَّخْرِيج، وروى ابْنُ عَبْدَان أنه نص في الهِبَة على قولين، فعلى هذا التصرف مخصوص بالرَّهْن. وقوله: (لضعف الرَّهْن) أراد به ما ذكرناه من تقاعده عن إفادة المِلْك وقوله: (ثم لا بد من مضي زمان) مُعَلّم بالواو لوجه حرملة. وقوله: (يمكن المسير) ولم يسر ينتظم فيهما السين والصاد، ولفظ الشَّافعي -رضي الله عنه- في "المختصر" الصاد. وقوله: (والأصح أنه لو باع من المودع) إلى آخره يمكن حمله على الخلاف المذكور، في أن مضي الزمان هل يعتبر؟ لكن الأقرب أنه أراد الخلاف المذكور في أن الإذن الجديد هل يعتبر؛ لأن إيراده في "الوسيط" مشعر به، وأيضاً فإنه لو حمل على الأول لكان اختياره على خلاف اختيار المُعْظَم لما ذكرنا أنهم اعتبروا الزمان، وعلى هذا فقوله: (مجرد البيع) لم يرد التَّجَرُّد المطلق، وإنما أراد البَيْعَ المجرد عن الإذن الجديد. قال الغزالي: وَلَوْ رَهَنَ مِنَ الغَاصِبِ لَمْ يَبْرَأ (م ح ز) مِنْ ضَمَانِ الغَصْبِ، كمَا لَوْ تَعَدَّى في المَرْهُونِ يَجْتَمِعُ الضَّمَانُ وَالرَّهْنُ، وَلَو أَوْدَعَ مِنَ الغَاصِبِ يَبْرَأُ، وَفِي بَرَاءَتِهِ بِالإِجَارَةِ مِنْهُ وَتَوْكِيلِهِ بِالبَيْعِ وَجْهَانِ، وَكَذَلِكَ فِي بَرَاءَةِ المُسْتَعِيرِ، وَكَذَا لَوْ صَرَّحَ بِإبْرَاءِ الغَاصِبِ مَعَ بَقَائِهِ فِي يَدِهِ. قال الرَّافِعِيُّ: إذا رهن المالك ماله من الغَاصِب أو المُسْتَعِير أو المُسْتَأجر أو الوكيل صح الرَّهْن، والقول في افْتِقَار لزومه إلى مضي زمان يتأتَّى فيه القبض (¬1)، وإلى إذن جديد في القَبْض على ما ذكرنا في رَهْن الوديعة من المودع، ومنهم من قطع في الغَصْب بافتقاره إلى إِذْن جديد؛ لأن يده غير صادرة عن إذن المالك أصلاً، ثم الرَّهْن من الغاصب لا يبرئه عن ضَمَان الغَصْب، وإنْ تَمَّ ولزم خلافاً لأبي حنيفة وهو اختيار ¬
المزني، واحتجَّ الأصحاب: بأن الدوام أقوى من الابتداء، ودوام الرَّهْن لا يمنع ابتداء الضَّمَان، فإن المرتهن إذا تعدى في المرهون يصير ضامناً، ويبقى الرَّهْن بحاله، فلأن لا يرفع ابتداء الرَّهْن دوام الضِّمَان كان أَوْلَى. إذا تقرر ذلك فلو أن المرتهن أراد البراءة عن الضمان، فليرده إلَى الرَّاهن ثم له الاسترداد بحكم الرَّهْن، ولو امتنع الراهن من قبضه فله أن يجبره عليه. قال الإمام: وفي كلام الشيخ أبي علي ما يدل على أن لِلرَّاهن أن يجبره على رده، ثم يرده هو عليه، ولكن القياس، وبه قال القاضي أنه ليس له ذلك، إذ لا غرض له تَبْرئة ذمة المرتهن، ولو أودع الغاصب المال المغصوب فوجهان: أحدهما: أنه لا يبرأ من الضَّمَان كما في الرَّهْن منه. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب أنه يبرأ؛ لأن مقصود الإِيْدَاع الائتمان، والضمان والأمانة لا يجتمعان، ولهذا لو تعدى المودع في الوديعة اَرتفعت الوديعة ويخالف الرَّهْن، لأن الغرض منه التوثيق، إلاَّ أن الأَمَانة من مقتضاه وهو مع الضَّمَان قد يجتمعان على ما بينا، ولو أجَّر العَيْن المَغْصُوبة منه فوجهان مرتبان على الإيداع والإجارة أوْلى بأن لا تفيد البراءة وهو الظاهر، لأنه ليس الغرض منها الائتمان بخلاف الوديعة. ولو وَكّله ببيع العبد المَغْصُوب أو إعتاقه، فوجهان مرتبان على الإجارة وأولى بعدم إفادة البراءة، لأن في عقد الإِجَارة تسليطاً على القَبْض والإِمْسَاك والتوكيل بخلافه، ويجوز أن يعلم قوله في الكتاب (وجهان) في مسألتي الإجارةَ والتوكيل بالواو للطريقة القاطعة بالمنع المتولّدة من ترتيب الخلاف على الخلاف، إليها إشار الأكثرون، وفي معنى الاجَارة والتَّوْكيل ما إذا قارضه على المال المغصوب أو كانت جارية فزوجها منه، ولو صرح بإبراء الغَاصِب عن ضَمَان الغَصْب والمال بَاقٍ في يده، ففي براءته وَصَيْرُورَة يده يد أمانة وجهان مبنيان على القولين في الإبراء عما لم يجب ووجد سبب وجوبه؛ لأن الغَصْب سبب وجوب القيمة عند التلف. والظَّاهر: عدم حصول البراءة (¬1) وربما استشهد من قال بعدم البَرَاءة في الصُّوْرَة السابقة بهذه الصورة، فقال: إنشاء عقود الأمانات ليس بآكد من التَّصْريح بالإبراء، فإذا لم تحصل البراءة به فتلك العقود أولى. وأما قوله: (وكذلك في بَرَاءَة المُسْتَعِير) فصورته ¬
[فصل: في الطوارئ المؤثرة في العقد قبل القبض]
ما إذا رهن المعير العارية من المستعير ولزم الرَّهْن كما سبق، ففي البَرَاءة عن ضمان العارية وجهان عن حكاية صاحب "التقريب". أصحهما: أنه لا يبرأ كما لا يبرأ عن ضَمَان الغَصْب. والثاني: يبرأ؛ لأن ضمان العَارِية أخف أمراً من ضمان الغَصْب؛ لأن اليد فيها مستندة إلى رضي المالك، ورهن المقبوض على سبيل السَّوْم والشراء الفاسد من المُسْتَام والمشتري كرهن العارية من المستعير (¬1). والله أعلم. [فصل: في الطوارئ المؤثرة في العقد قبل القبض] قال الغزالي: أَمَّا الطَّوَارِئُ قَبْلَ القَبْضِ فَكُلُّ مَا يُزِيلُ المِلْكَ فَهُوَ رُجُوعٌ، وَالتَّزويجُ لَيْسَ بِرُجُوعٍ، وَإِجَارَتُهُ رُجُوعٌ إِنْ قُلْنَا: إِنَّها تَمْنَعُ مِنَ البَيْعِ، وَالتَّدْبيرُ رُجُوعٌ عَلَى النَّصِّ، وَعَلَى التَّخْرِيجِ لاَ. قال الرَّافِعِيُّ: القسم الثاني من الباب القول في الطَّوَارئ التي يتأثر العَقْد بطروئها قبل القبض، وهي ثلاثة أنواع: الأول: ما ينشئه الرَّاهِن من التصرفات، وكل ما يزيل المِلْك كالبيع والإعتاق والإصْداق، وجعله أجُرْة في إجارة، فإذا وجد قبل القبض فهو رُجُوع عن الرَّهْن، وفي معناه الرَّهْن والهِبَة من غيره مع القبض، وكتابة العبد وَوَطْء الجارية مع الإحْبَال، ليس برجوع وكذا التزويج، إذ لا تعلق له بمورد الرَّهْن، بل رهن المزوجة ابتداء جائز. وأما الإجارة إن قلنا: إن رهن المكرى وبيعه جائز، فهو كالتزويج وإلاَّ فهي رجوع، وحكى الإمام وجهاً آخر، أنها ليست برجوع بحال، كما لو دَبّر العبد المرهون، وَالنَّص أنه رجوع، وخرج الرَّبيع قولاً، أنه ليس برجوع، ولهذا مأخذان: أحدهما: البناء على النَّص والتخريج في رهن المُدَبّر. والثاني: توجيه التَّخْرِيج بامكان الرُّجُوع عن التَّدْبير، ووجه النَّص وهو الأظهر بمنافاة مقصود التّدْبير لمقصود الرَّهْن وإشعاره بالرجوع (¬2). ¬
ولا يخفى عليك بَعْد مَعْرفة هذه الصور أن قوله في الكتاب: (ما لا يزيل كالتزويج) ليس برجوع غير معمول به على الإطلاق، وأن قوله: (وَإِجَارَته رجوع) بجواز إعلامه بالواو، والله تعالى أعلم. قال الغزالي: وَالنَّصُّ أَنَّهُ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ وَلاَ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ المُرْتَهِنِ، فَقِيلَ قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ لِتَرَدُّدِ الرَّهْنِ بَيْنَ البَيْعِ الجَائِزِ وَالوكَالَةِ، وَقِيلَ بِالفَرْقِ لأنَّ رُكْنَ الرَّهْنِ مِنْ جَانِبِ الرَّاهِنِ العَيْنُ وَهُوَ مُتَعَلِّقُ حَقِّ الوَرَثَةِ وَالغُرَمَاءِ، وَرُكُنُهُ مِنْ جَانِبِ المُرْتَهِنِ دَيْنُهُ وَهُوَ بَاقٍ بِحَالِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَالأَظْهَرُ: أَنَّهُ لاَ يَنْفَسِخُ بِجُنُونِ العَاقِدَيْنِ، وَبِالحَجْرِ عَلَيْهِمَا بِالتَّبْذِيرِ. قال الرَّافِعِيُّ: النوع الثاني: ما يعرض للمتعاقدين من الحالات، وفيه ثلاثة صور: إحداها: نص في "المختصر" أن الرَّهْن لا يبطل بموت المرتهن قبل القبض، ونقل نص أنه يبطل بموت الراهن، وفيهما طرق: أظهرهما: أن في موتهما قولين نقلاً وتخريجاً: أحدهما: أنه يبطل بموت كل واحد منهما؛ لأنه عقد جائز، والعقود الجائزة تَرْتَفِعُ بموت المتعاقدين كالوِكالَة. وأصحهما: أنه لا يبطل؛ لأن مصيره إلى اللُّزُوم فلا يتأثر بموتهما كالبيع في زمان الخِيَار. والثاني: تَقْرِير النَّصّين، وبه قال أبو إسحاق وفرقوا بأن المرهون بعد موت الرَّاهن ملك الورثة، ومتعلق حق الغُرَمَاء إنْ كان له غريم آخر، وفي اسْتِيفَاء الرَّهْن إضرار بهم، وفي صورة موت المرتهن يبقى الدين كما كان وإنما ينتقل الاستحقاق فيه إلى الورثة، وهم مُحْتَاجون إلى الوثيقة حاجة مورثهم. والثالث: القطع بعدم البطلان، سواء مات الرَّاهن أو المرتهن وبه قال القاضي أبو حامد، ومن قال بهذا أول ما نقل في موت الراهن، وإذا أبقينا الرَّهْن قام ورثة الرَّاهن مقامه في الإِقباض، وورثة المرتهن مقامه في القبض، ووراء هذا في المَسْألة شيئان: أحدهما: اختلف المُثْبِتون للقولين في موضعهما، فقال ابْن أبي هريرة: موضع القولين رَهْنُ التبرع. وأما الرَّهْن المَشْرُوط في البيع فإنه لا يبطل بالموت قطعاً لتأكده بالشرط واقترانه بالبيع اللاَّزِم، فلا يبعد أن يكتسب منه صفة اللُّزوم. وقال أبو الطيب بن سلمة: القولان جاريان في النوعين وهو المشهور، وسواء قلنا بالبطلان، أو قلنا: إنه لا يبطل، ولم يتحقق الوفاء بالرهن المشروط، فيثبت الخيار في البيع.
والثاني: لك أنْ تستخرج الخلاف في طرف موت الرَّاهن من أصل سيأتي، إن شاء الله تعالى وهو أنَّ التركة الَّتِي تعلّقت بها الديون حكمها حكم المرهون أم لا؟ إن قلنا: نعم، فقد أخذ جميع التركة حكم المرهون، لغى العقد السابق. وإن قلنا: لا، بقي الرَّهْن لظهور فائدته، ويجوز أن يعكس فيقال: إن قلنا: يأخذ حكم المرهون بقي الرَّهْن لتأكُّده بما عرض. وإن قلنا: لا، لغى العقد السابق كيلا يتضرَّر الورثة. الصُّورة الثَّانية: لو جُنَّ أحد المتعاقدين، أو أُغْمِيَ عليه قبل القبض ترتَّب ذلك على الموت. إنْ قلنا: لا يؤثر الموت، فَالجُنُون أَوْلى. وإنْ قلنا: يؤثر ففي الجُنُون وجهان: فإذا قلنا: لا يبطل الرَّهْن، فإن جُنّ المرتهن، قبض الرَّهْن مَنْ ينصبه القاضي قيماً في ماله، فإنْ لم يقبضه الراهن، وكأن الرَّهْن مشروطاً في بيع، فعل ما فيه الحظ من الفَسْخ والإجازة، وإن جن الراهن، فإن كان الرَّهْن مشروطاً في بيع، وخاف القيم فسخ المرتهن إن لم يسلمه، والحظ في الإمضاء سلمه، وإن لم يخف، أو كان الحظ في الفسخ لم يسلمه، وكذا لو كان الرَّهْن رهن تبرع، هكذا أطلقوه وهو محمول على ما إذا لم تكن ضرورة ولا غبطة؛ لأنهما يجوزان رهن مال المجنون ابتداء فالاستدامة أَولى. الثالثة: لو طرأ الحَجْر على أحدهما لِسَفَهٍ أو فَلَسٍ، فهو لو كما طرأ المجنون، ولكن الخلاف فيه بالترتيب؛ لأن السَّفَهَ لا يوجب سقوط العبارة رأساً والجنون بوجه. قال الغزالي: وَفِي انْفِسَاخِهِ بِانْقِلاَبِ العَصِير خَمْراً، وَبِاباقٍ العَبْدِ وَجِنَايَتِهِ وَجْهَانِ أَيْضاً، وَلاَ يَجُوزُ إِقْبَاضُهُ وَهُوَ خَمْرٌ فَلَوِ انْقَلَبَ خَمْرًا بَعْدَ القَبْضِ خَرَجّ عَنْ كَوْنِهِ مَرْهُوناً، فَإِذَا عَادَ خَلاًّ عَادَ مَرْهُوناً (و). قال الرَّافِعِيُّ: النوع الثالث: ما يعرض في المرهون، وفيه صور: إحداها: أنه لو رهن عصيراً وأقبضه، فانقلب في يد المرتهن خَمْراً، فلا نقول بأنها مرهونة. وللأصحاب عبارتان: قالت شرذمة: يتوقف إنْ عاد خلاًّ بان أن الرَّهْن لم يبطل، وإلا بان أنه يبطل. وقال الجمهور: يبطل الرَّهْن لخروجه عن كونه مالاً، ولا خيار للمرتهن إنْ كان الرَّهْن مشروطاً في بيع لحدوثه في يده، ثم إذا عاد خَلاًّ يعود الرَّهْن كما يعود الملك.
وحكى القاضي ابن كَجٍّ عن أبي الطيب بن سلمة؛ أنه يجيء فيه قول آخر: أنه لا يعود الرَّهْن إلاَّ بعقد جديد، وادَّعى أنه مذهب أبي حنيفة، وكان هذا النقل لم يبلغ القاضي حسين، فقال على سبيل الاحتمال: يجوز أن يجعل هذا على قياس عود الخبث، ويخرج فيه مثل ذلك الخلاف. والمذهب الأول: وهو عود الرَّهْن، وتبين بذلك أنهم لم يريدوا ببطلان الرَّهْن اضْمحلال أثره بالكلية، وإنما أرادوا ارتفاع حكمه ما دامت الخَمْرِيّة. ولو رهن شاة فماتت في يد المرتهن فدبغ جلدها فوجهان: أحدهما: وبه قال ابْنُ خَيْرَان، واختاره القاضي الرُّويَانِي أنه يعود الرَّهْن كما لو انقلبت الخَمْر خَلاًّ. وأظهرهما عند الأكثرين: لا يعود؛ لأن ماليته مَجْلُوبة بالصّنْعَة والمُعَالَجَة، وليس العائد ذلك الملك. ولو انقلب العَصِيرُ المرهون خمراً قبل القبض، ففي بطلان الرَّهْن البطلان الكلي وجهان: أحدهما: نعم، لاختلال المحل في حال ضعف الرَّهْن وجوازه. والثَّاني: لا، كما لو تَخَمَّر بعد القبض وقبضه. وإيراد الأئمة ترجيح هذا الوجه (¬1)؛ لأنهم قَرَنُوا هذا الخلاف من الخلاف في صورة عُرُوض الجُنُون، أو بنوه عليه فقالوا: إنْ ألحقنا الرَّهْن بالوِكَالَة بطل بعروض الجُنُون، وانقلابه خَمْراً قبل القبض، وإنْ ألحقناه بالبيع الجائز لم يبطل، وقد مَرَّ أن الثاني أظهر. قال في "التهذيب": وعلى الوجهين لو كان الرَّهْن مشروطاً في بَيْع ثبت للمرتهن الخيار؛ لأن الخَلَّ أنقص من العصير، ولا يصح الإقباض في حال الشِّدة، ولو فعل وعاد خلاًّ، فعلى الوجه الثَّاني لا بد من استئناف قَبْض، وعلى الأول لا بد من استئناف عقد. ثم القبض فيه على ما ذكرنا في انقلاب العَصِير المرهون خمراً قبل القبض. فرع: إذا انقلب المبيع خمراً قبل القبض، فالكلام في انقطاع البيع وعوده إذا عاد خَلاًّ على ما ذكرنا في انقلاب العصير المرهون خمراً بعد القبض (¬2). ¬
الصورة الثانية: إذا جنى العبد المرهون قبل القبض، وتعلّق الأَرْش بِرَقَبَتِه، وقلنا: رهن الجاني ابتداءاً فاسد. فعن الشيخ أبي علي أن في بطلان الرَّهْن وجهين إلحاقاً للجناية بِتَخْمِير العَصِير، والجامع عروض الحالة المانعة من ابتداء الرَّهْن قبل استحكام العقد، وهذه الصورة أولى بأنه لا يبطل الرَّهْن فيها لدوام المِلْك في الجاني بخلاف الخمر. الثالثة: إذا أبق العبد المرهون قبل القبض. قال الإمام: يلزم على مساق ما سبق تخريج وجهين فيه لانتهاء المرهون إلى حالة يمنع ابتداء الرَّهْن فيها. وقوله في الكتاب (وجنايته وجهان) يجوز إعلامه بالواو، لأن الخلاف في صورة الجناية يتفرع على منع رَهْن الجاني. أما إذا جَوَّزناه لا يأتي هذا الخلاف بحال. وقوله: (عاد مرهوناً) مُعَلَّم بالواو لما قدمناه. قال الغزالي: وَالتَّخْلِيلُ بِإلْقَاءِ المِلْحِ فِيهِ (ح) حَرَامٌ لِحَدِيث أَبِي طَلْحَةَ، وَبِالإمْسَاكِ غَيْر مُحَرَّمٍ، وَكَذَا بِالنَّقْلِ مِنْ ظِلٍّ إلَى شَمْسٍ عَلَى الأَصَحِّ. قال الرَّافِعِيُّ: أشار في "المُخْتَصَر" إلى مَنْعِ التَّخْلِيل في هذا الموضع، وَتَأَسَّى به أكثر الأصحاب فذكروا مسائله هاهنا، وأول ما ينبغي أنْ يعرف أن الخمر قسمان: خمر محترمة: وهي التي اتخذ عصيرها لتصير خَلاًّ، وإنما كانت محترمة؛ لأن اتخاذ الخَلّ جائز بالإجماع، ولن ينقلب العَصِيرُ إلى الحُمُوضة إلاَّ بتوسط الشدة، فلو لم تحترم وَأُرِيْقَت في تلك الحَالة لتعذُّر إيجاد الخَلِّ. وخمرة غير محترمة، وهي الَّتي اتّخذ عصيرها لغرض الخَمْرية، وفي كل واحد من القسمين ثلاث مسائل: إحداها: تَخْلِيل الخمر بطرح العَصِير أو الخَلّ أو الخبز الحَارّ أو غيرها فيها حرام، والخَلّ الحاصل نجس، وبه قال أحمد خلافاً لأبي حنيفة، وعن مالك روايتان: إحداهما: كمذهبنا. والأخرى: أنه يكره ولكن لو فعل جاز. لنا ما روي عن أنس -رضي الله عنه- قال: "سُئِلَ رَسُولُ -صلى الله عليه وسلم- أَنَتَّخِذُ الْخَمْرَ خَلاًّ؟ قَالَ: لاَ" (¬1)، وروى أَنَّ أبا طلحة -رضي الله عنه- "سَأَلَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: عِنْدِي خُمُورٌ لأيْتَامٍ، فَقَالَ: أَرِقْهَا، فَقَالَ: أَفَأُخَلِّلُهَا؟ قَالَ: لاَ" (¬2). ¬
وإذا حرم التَّخْلِيل كان الخُلّ الحاصل نجساً؛ لأن الفعل الحرام لا يستباح به الغير المحظور كاصطياد المحرم، وأيضاً فإن المطروح في الخمر ينجس بملاقاتها، وتستمر نجاسته، إذْ لا مزيل لها ولا ضرورة إِلَى الحكم بانقلابه طاهراً بخلاف آخر الدَّنِّ (¬1)، ولا فرق في هذه المَسْأَلة بين المُحْتَرمة وغيرها. وحكى الإمام عن بعض الأصحاب جواز تَخْلِيل المحترمة؛ لأنها غير مستحقّة للإراقة، والمذهب الأول وفي حديث أبي طلحة -رضي الله عنه- كانت تلك الخمور محترمة؛ لأنها كانت مُبَاحَة مُتَّخذة قبل وُرُودِ التَّحْريم. وهل يفرق بين الطَّرْح بالقصد وبين أن يتفق بغير قصد كطرح ريح؟ فيه اختلاف للأصحاب مبنى على أنّ المعنى تحريم التَّخْليل أو نَجَاسة المطروح فيه. والأظهر أن لا فرق، هذا إذا كان الطرح في حال التَّخْمِير، أما إذا طرح في العَصِير بصلاً أو مِلْحاً واستعجل به الحُمُوضة بعد الاشْتِداد فوجهان: أحدهما: أنه إذا تخلّل كان طاهراً؛ لأن ما لاقاه إنَّما لاقاه قبل التّخْمِير فطهر بطهارته كأجزاء الدَّنِّ. والثاني: لا؛ لأن المَطْرُوح فيه ينجس عند التَّخْمِير، وتستمر نجاسته بخلاف أجزاء الدَّن للضرورة. قال في "التهذيب": وهذا أصح، ولو طرح العصير على الخَلّ وكان العصير غالباً يَنْغَمِرُ الخل فيه عند الاشتداد، فهل يطهر إذا انقلب خلاًّ؟ فيه هذان الوجهان، ولو كان الغالب الخَلّ، وكان يمنع العَصِيْر من الاشْتِدَاد فلا بأس. المسألة الثانية: إمساك الخَمْر المحترمة إلى أنْ تصير خلاًّ جائز، وَالَّتِي لا تحترم تجب إِرَاقَتُها، لكن لو لم يرقها حتى تخلَّلت فهي طاهرة أيضاً؛ لأن النَّجَاسة والتحريم إنما ثبتا للشِّدة وقد زالت، هذا ما به الفتوى، وحكى الإمام -رضي الله عنه- عن بعض الخلافيين: أنه لا يجوز إِمْساك الخمرة المحترمة، بل يعرض عن العصير إلى أنْ يصير خلاًّ، فإن اتفقت رؤيته إياه وهو خمر أرقناه، وذكر الحَنَّاطي وجهاً: أنه لو أمسك التي لا تحترم حتى تَخَلَّلت لم تحل ولم تطهر؛ لأن إمساكها حرام فلا يستفاد به نعمة، ومتى عادت الطَّهَارة بالتَّخَلُّل فتطهر أجزاء الظّرف أيضاً للضرورة، وفي "البيان" أن الدَّارِكي قال: إن كان الظَّرْف بحيث لا يتشرب شيئاً من الخمر كالقَوَارِيرِ طهر، وإن كان مِمَّا يتشرب لم يطهر، والمذهب الأول، وكما يطهر ما يلاقي الخَلَ بعد التخليل يظهر ما ¬
الباب الثالث: في حكم المرهون بعد القبض
فوقه الَّذي أصابته الخَمْر في حالة الغَلَيَان، ذكره القاضي الحسين وأبو الربيع الإِيْلاَفي (¬1). الثالثة: لو كان ينقلها من الظِّلّ إلى الشّمس أو يفتح رأسها ليصيبها الهواء استعجالاً للحموضة فوجهان: أحدهما: لا تطهر كما لو طرح فيها شيئاً، وبهذا قال أبو سهل الصُّعْلُوكي. وأصحهما: أنه يطهر لزوال الشِّدة من غير نجاسة تخلفها، وهذا في غير المحترمة، وفي المحترمة أولى بالجواز. واعلم أنه ليس في لفظ الكتاب تعرض لانقسام الخمر إلى محترمة وغيرها. وقوله: (التَّخْلِيل بِإلْقَاء المِلْح فيه حرام) يمكن إجراؤه فيه على إطلاقه على ما بيناه وإعلامه بالواو للوجه المنقول في المحترمة، وكذا مثله النقل من الظل إلى الشمس يمكن إجراؤه على إطلاقها، وأما قوله (والإمساك غير حرام) فلا يمكن إجراؤه على إطلاقه. لأن الإمساك حرام في غير المحترمة، والإراقة واجبة والكلام في أنه لو اتفق الإمساك وتخلَّلت، هل تطهر؟ هذا هو المشهور، والذي في طريق الصَّيْدَلاَنِي من تجويز الإمساك على قصد أن لا يصير خلاًّ، وعدم وجوب الإرَاقَة فهو مما يستغرب، فإذا هو مخصوص بالمحترمة، لكنه غير مستحسن من جهة النَّظَم؛ لأنه على خلاف ما قبله وما بعده، وليس في اللَّفْظ ما يدل عليه. فرع: عن الشيخ أبي علي ذكر تردد في بيع الخمرة المحترمة بناء على التردد في طهارتها، وقد حكيناه في باب النَّجَاسات، والعناقيد إذا استحالت أجواف حَبَّاتِها خَمْراً، فعن القَاضِي وغيره: ذكر وجهين في جواز بيعها اعتماداً على طهارة ظَاهِرِها في الحال، وتوقع فائدتها في المآل وطرودهما في البَيْضَة المُسْتحيل باطنها دَماً والمذهب المنع. البَابُ الثَّالِثُ: فِي حُكْمِ المَرْهُونِ بَعْدَ القَبْضِ قال الغزالي: وَهُوَ وَثِيقَةٌ المُرْتَهِنِ فِي عَيْنِ الرَّهْنِ تَمْنَعُ الرَّاهِنَ مِنْ كُلِّ مَا يَقْدَحُ فِيهِ وَالنَّظَرُ فِي أَطْرَاف ثَلاثَةٍ: الأَوَّلُ -جَانِب الرَّاهِنِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ كُلِّ تَصَرُّفٍ قَوْلِيِّ يُزِيلُ المِلْكَ كَالبَيْعِ وَالهِبَةِ، أَوْ يُزَاحِمُ حَقَّهُ كَالرَّهْنِ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ يَنْقُصُ كَالتَّزْوِيجِ، أَوْ يُقَلِّلُ ¬
الرَّغْبَةَ كَالإِجَارَةِ الَّتِى لاَ تَنْقَضِي مُدَّتُهَا قَبْلَ حُلُولِ الدَّيْن. قال الرَّافِعِيُّ: صدر الباب يشير إلى مقدمة مرشدة إلى ضبط الأَطْرَاف الَّتي يتضمنها وإلى وجهة اقتضاء الدين لها، وهي أَنَّ الرَّهْن وثيقة لدين المرتهن في غير الرَّهْن أو بدله، وإنَّمَا تحصل الوثيقة بالحَجْر عن الراهن، وقطع سلطنة كانت له ليتحرك للأداء، وتجدد سلطة المرتهن لم يكن ليتوصّل بها إلى الاسْتِيْفَاء، ثم هذه الوثيقة ليست دائمة بل لها غاية ينتهي عندها، وكلام الباب فيما ينقطع من سلطنة الراهن، وفيما يحدث من سلطنة المرتهن، وفي غاية الرَّهْن فهي ثلاثة أطراف، والذي يشتمل عليه الفصل من الطرف الأول أن الراهن يمنع من كل تصرف يزيل الملك، وتنقل لمال الغير كالبيع والهِبَة ونحوهما؛ لأنا لو صَحَّحناها لفاتت الوثيقة، ومنع مِمّا يزاحم المُرْتَهن في مقصود الرَّهْن، وهو الرَّهْن من غيره ومن كل تصرف ينقص المرهون، ويقلل الرغبة فيه كالتزويج، فإنَّ الرغبة في الجَارِية الخَلِيّة فوق الرغبة في المُزَوَّجَة (¬1)، وعند أبي حنيفة: يجوز التَّزْويج. وأما الإجارة فينظر فإنْ كان الدَّين حالاً، أو كان مؤجلاً لكنه يحل قبل انقضاء مدة الإجارة، فعن بعض الأصحاب فيما رواه ابن القَطَّان بناء صِحَّة الإجارة على القولين في جواز بيع المستأجر، إنْ جوزناه صحَّت الإجارة، وإلاَّ فالمشهور بطلانها قطعاً. أما إذا لم نجوز بيع المُسْتَأْجر فظاهر. وأما إذا جوزناه؛ فلأن الإجارة تبقى وإنْ صح البيع، وذلك مما يقلّل الرغبة، ثم القائلون بالمَنْع لم يفصل الجمهور منهم. وقال في "التتمة": يبطل في الأَجَل، وفي الزائد على الأجل قَوْلاَ تَفْرِيق الصَّفْقة، وإنْ كان الأجل يحل مع انقضاء مدة الإجارة أو بعدها صحَّت الإجارة، ثم لو اتفق حُلُول الدَّيْن قبل انقضائها بموت الراهن فوجهان: أحدهما: أن تنفسخ الإجارة رِعَايَةً لحق المرتهن فإنه أسبق ويُضَارِب المستأجر بالأُجْرة المدفوعة مع الغرماء. والثاني: وهو اختيار أبي الحسين: أن المرتهن يصبر إلى انقضاء مدة الإجارة، كما يصبر الغرماء إلى انقضاء العدة لتستوفى المعتدة حق السُّكْنَى جمعاً بين الحَقَّين، وعلى هذا يُضَارب المرتهن بدينه مع الغُرَمَاء في الحال. ¬
ثم إذا انقضت المدة وبيع المرهون قُضِيَ باقي دينه، فإن فَضَلَ شيء فهو للغرماء، هذا كله فيما إذا أجر المرهون من غير المرتهن. أما إذا أجره منه فيجوز، ولا يبطل به الرَّهْن، وكذا لو كان مكري منه، ثم رهنه منه يجوز. فلو كانت الإجارة قبل تسليم الرَّهْن ثم سلمه عنهما جميعاً جاز. ولو سلم عن الرَّهْن وقع عنهما جميعاً؛ لأن القبض في الإِجَارة مستحق، كذا قاله في "التهذيب"، ولو سلمه عن الإجارة لم يحصل قبض الرَّهْن، وعند أبي حنيفة الرَّهْن والإجارة لا يجتمعان، والمتأخر منهما يرفع المتقدم ويبطله. لنا: أن الإعارة من المرتهن لا تبطل الرَّهْن فكذا الإجارة. وقوله في الكتاب: (كل تصرف قولي) أفهم بالقول أن ما يمنع منه الرَّهْن من التصرفات بعضها قَوْلِيّ وبعضها ليس بِقَوْلِيّ، فإنه قدم التصرفات القَوْلِية، ثم تعرض لغيرها كالوَطْءِ، ويجوز إعلام قوله: (كالإجارة التي لا تنقضي مدتها قبل حلول الدين) بالواو للطريقة الَّتِي قدمناها وفي هذه اللَّفظة شيء، فإن الإجَارة الَّتِي لا تنقضي مدتها قبل حلول الدَّين تارة تنقضي مدتها بعد حلول الدين، وتاَرة معه، والثانية صحيحة، فكان الأولى أن يقول: كالإجارة الَّتِي لا تنقضي مدتها بعد حلول الدين. واعلم أن ما قدمناه من منع الراهن من البيع ونحوه من التَّصرفات، والحكم بإبطالها هو المذهب الجديد، وعلى القديم الَّذِي يجوز وقف العقود، تكون هذه التَّصَرفات موقوفة على الانفكاك وعدمه، ومال الإمام إلى شيء آخر، وهو تخريجها على الخلاف في بيع المفلس ماله، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. قال الغزالي: وَفِي الإِعْتَاقِ (ح) ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ يُفَرَّقُ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ المُوسِرِ وَالمُعْسِرِ، فَإِنْ نَفَّذْنَا غَرَّمْنَاهُ، وَإِنْ لَمْ يُنَفِّذْ فَالأَقْيَسُ أَنْ لاَ يَعُودَ العِتْقُ إِنِ اتَّفَقَ فِكَاكُ الرَّهْنِ، وَحُكْمُ التَّعْلِيقِ مَعَ الصِّفَةِ فِي دَوَامِ الرَّهْنِ حُكْمُ الإِنْشَاءِ، فَإِنْ وُجِدَتِ الصِّفَةُ بَعْدَ فِكاكِ الرَّهْنِ نَفَذَ عَلَى الأَصَحِّ. قال الرَّافِعِيُّ: الفصل يتضمَّن مسألتين: مسألة في إِعْتَاق الرَّاهن العبد المرهون منجزاً. ومسألة في تعليق إعتاقه. أما الأُولى فالمنقول عن القديم ومختصر المزني الجزم بأنه لا ينفذ إِنْ كان الراهن معسراً، وقولان إن كان موسراً، وعن الجديد الجزم بنفوذه إن كان موسراً، وإن كان معسراً فقولان، فإذا ضرب البعض بالبعض خرجت ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا ينفذ بحال؛ لأن الرَّهْن عقد لازم حجر به الراهن على نفسه، فلا يتمكن من إبطاله مع بقاء الدين. والثاني: ينفذ؛ لأنه إعتاق صَادَفَ الملْك فأشبه إعتاق المستأجر والزوجة، وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد، إلاَّ أنَّ أبا حنيفة يقول: يستبقى العبد في قيمته إنْ كان الراهن معسراً. والثالث: وهو الأصح، وبه قال مالك: أنه إنْ كان موسراً نفذ، وإلاَّ فلا تشبيهاً لسريان العِتْق إلى حق المرتهن بسريانه من نصيب أحد الشريكين إلى الآخر، والمعنى فيه أن حق الوثيقة لا يتعطّل ولا يتأخر إذا كان موسراً. التفريع: إنْ قلنا: لا ينفذ فالرهن بحاله، فلو انفك بإبراء أَوْ غيره فقولان أو وجهان: أظهرهما: أنه لا يحكم بنفوذه أيضاً؛ لأنه لا يملك إعتاقه فأشبه ما إذا أعتق المَحْجُور عليه بالسَّفَه ثم زال الحَجْر. والثاني: يحكم بنفوذه؛ لأن المانع من النّفوذ في الحال حق المرتهن وقد زال، وقطع قاطعون بالثاني، والخلاف فيه كالخِلاَف فيما إذا أعتق المَحْجور عليه بالفَلَس عبداً ثم انفك الحجر عنه، ولم يتفق بيع ذلك العبد هل يعتق؟ وإنْ بيع في الدين ثم ملكه يوماً لم يحكم بالعِتْق، ومنهم مَنْ طرد فيه الخِلاَف المذكور في الصُّورة الأولى، وعن مالك أنه يحكم بنفوذ العِتْق في الصورتين. وإن قلنا: ينفذ العتق مطلقاً فعلى الراهن قيمته باعتبار يوم الإِعْتَاق، ثم إنْ كان موسراً أخذت منه في الحال وجعلت رهناً مكانه، وإنْ كان معسراً نظَر إلى اليسار، فإذا أَيْسَرَ أخذت منه وجعلت رهنًا إنْ لم يحل الحق بعد، وإنْ حلّ طُوْلِبَ به ولا معنى للرهن، هكذا قاله أصحابنا العراقيون. ولك أن تقول: كما أن ابتداء الرَّهْن قد يكون بالحال وقد يكون بالمؤجل، فكذلك قد تقتضي المَصْلَحة أخذ القيمة رهناً، وإن حل الحق إلى أنْ يتيسر استيفاؤه، وبتقدير صحَّة التَّفصيل الذي ذكروه، وجب أنْ يجري مثله في القيمة التي تؤخذ من المُوسر. ثم قال الإمام: ومهما بدل القيمة على قصد المغرم صارت رهنًا، ولا حاجة إلى عقد مستأنف، والأعيان مقصد المُؤدّى، ومتى كان المُعْتق موسراً أو التفريع على القول الثَّاني أو الثَّالث ففي وقت نفوذ العِتْق طريقان: أحدهما: وهو الذي أورده القاضي ابن كَجٍّ: أنه على الأقوال في وقت نفوذ العِتْق في نَصِيب الشَّرِيك إذا أعتق الشَّريك نصيبه ففي قول: يتعجل، وفي قول: يتأخر إلى أن يغرم القيمة، وفي قول: يتوقف فإذا كرم أنفذنا العِتْق يقيناً.
وأظهرهما: القطع بنفوذه في الحال، والفرق أن العِتْق ثم يسري إلى ملك الغير ولا بُدَّ من تقدير انتقاله إلى المعتق فجاز أن يقول: إنما ينتقل إذا استقر ملك الشريك ويده على العوض، وإعتاق الراهن يصادف ملكه. وأما المسألة الثَّانية: فينظر إنْ علق عتق المرهون بفِكَاك الرَّهْن نفذ عند الفِكَاك؛ لأن مجرد التَّعْليق لا يضرّ بالمرتهن، وحين ينزل العِتْق لا يبقى له حق، وإن علق بصفة أخرى فإنْ وجدت قبل انْفِكَاك الرَّهْن ففيه الأقوال المذكورة في التَّنْجيز، وإن وجدت بعده فوجهان: أصحهما: النفوذ؛ لأنه لا يبطل حق المرتهن. والثاني: لا ينفذ أيضاً لا للتعليق مطلقاً كالتنجيز في قول، والوجهان مشتبهان بالخلاف فيما إذا قال العبد لزوجته: إنْ فعلت كذا فأنت طالق ثلاثاً، ثم عتق ثم فعلته، هل تقع الطلقة الثالثة؟ لكن ذلك الخلاف جارٍ، وإن علق بالعتق فقال: إن عتقت فأنت طالق ثلاثاً، فلا خلاف في تعليق العِتْق بالفِكَاك أنه ينفذ عند الفكاك. قال الإمام: والفارق أنَّ الطلقة الثالثة ليست مملوكة للعبد، ومحل العتق مملوك للراهن، وإنما منع لحق المرتهن ولعلك لا تنقاد لهذا الفرق، وتقول: العتق غير مملوك للراهن، كما أن الطَّلقة الثالثة غير مملوكة لِلْعَبْد، ومحل الطَّلاق مملوك للعبد كما أنَّ محل العِتْق مملوك لِلرَّاهن فلا فرق، والله أعلم. فرعان: أحدهما: لو رهن نصف عبده ثم أعتق نصفه، نظر إنْ أضاف العتق إلى النصف المرهون ففيه الخلاف، وإنْ أضافه إلى النصف الآخر أو أطلق عِتْقَ ما ليس بمرهون، وهل يَسْرِي إلى المرهون؟ إن جوزنا إعتاق المرهون فنعم، وإلاَّ فوجهان: أصحهما: أنه يسرى أيضاً؛ لأن أقصى ما في الباب تنزيل المرهون منزلة ملك الغَيْر، والعِتْق يسري إلى ملك الغير، وعلى هذا هل يفرق بين الموسر والمعسر؟ قال في "النهاية": قال المحققون: نعم، وفي "التتمة" أنه يسري سواء كان له مال آخر أو لم يكن؛ لأنه ملكه (¬1). ¬
الثاني: في وقف المرهون طريقان: أحدهما: أنه كالعِتْق لما فيه من الغَرَر والتَّعليق الذي لا يقبل النَّقض. وأظهرهما: القطع بالمنع، ويفارق العتق لقوة العِتْق بالسّرَاية وغيرها. وقال المتَوَلِّي: إن قلنا: الوقف لا يحتاج إلى القبول فهو كالعتق. وإن قلنا: يحتاج إليه فيقطع بالمنع وهذه طريقة ثالثة، والله أعلم. قال الغزالي: وَيُمْنَعُ مِنَ الوَطْءِ خِيفَةَ الإِحْبَالِ المُنْقِصِ، وَالأَحْوَطُ (و) حَسْمُ البَابِ وإنْ كَانَتْ صَغِيرَةً (و) أَوْ آيسَةً (و) فَإِنْ فَعَلَ فَالوَلَدُ نَسِيبٌ، وَالاسْتِيلاَدُ مُرَتَّبْ (و) عَلَى العِتْقِ وَأَوْلى بِالنُّفُوذِ لأَنَّهُ فِعْلٌ، وَقِيلَ بَنَقِيضِهِ لأَنَّ العِتْقَ مُنَجَّزٌ، ثُمَّ إِذَا انْفَك فَالأَصَحُّ عَوْدُ الاسْتِيلاَدِ. قال الرَّافِعِيُّ: عرفت من قبل أنَّ المذهب الصحيح جواز رهن الجَوَاري على الإطْلاق، وعلى هذا فلو كانت الجَارِية المرهونة بِكْراً فليس للراهن وَطْؤها بحال؛ لأن الاَفْتِضَاض ينقص قيمتها، وإن كانت ثَيِّباً فكذلك إن كانت في سن تحبل، لأنها ربما حبلت فتفوت الوثيقة أو تتعرّض للهلاك في الطَّلق، ولنقصان الولادة فليس له أن يقول أَطَأُ وأَعْزِل؛ لأن الماء قد يسبق، وإنْ كانت في سن لا تحبل لصغر أو إِياس فوجهان. قال أبو إسحاق: له أن يطأها كسائر الانتفاعات التي لا تضر بالمرتهن، وهذا الاختيار للقاضي ابن كَجٍّ، وقال ابن أبي هريرة والأكثرون: يمنع من وطئها احتياطاً لجسم الباب إذ العُلُوق ليس له وقت مَعْلُوم، وهذا كما أن العِدّة تجب على الصَّغِيرة والآَيِسَة، وإن كان القصد الأصلي اسْتِبْراء الرَّحم، ويجري الوجهان فيما إذا كانت حَامِلاً من الزنا؛ لأنه لا يخاف من وطئها الحَبَلُ نعم غَشَيَانُ مثل هذه المَرْأة مكروه على الإطلاق (¬1). فلو خالف ما ذكرناه ووطئ فلا حَدَّ ولا مهر، ولكن عليه أَرْشُ البَكَارة إذا افتض أما أنه لا حَدَّ ولا مهر فلأنه أصاب مِلْكه، ويخالف ما لو وطئ المُكَاتَبة حيث يغرم المَهْر لها؛ لأن المُكَاتبة قد استقلْت واضطرب الملك فيها لو زال، ولهذا لو وطئها أجنبي كان المهر لها، ولو وطئ المرهونة أَجْنَبِيّ كان المهر للسَّيد، وأما وجوب أَرْش البَكَارَة فلأن الافتضاض إتلاف جزء، ثم إنْ شاء جعله رهناً، وإنْ شاء صرفه إلى أداء الدَّين، وإذا أولدها فالولد نَسِيب حُرٌّ، ولا قيمة عليه لأن المرتهن لا حق له في ولد ¬
المرهونة بحال، وهل تفسير أم ولد؟ فيه الأقوال المذكورة في الإعتاق، ثم منهم من جعل الخِلاَف بالترتيب، واختلفوا في كيفيته، فقال أبو إسحاق والأكثرون: الاستيلاد أولى بالنفوذ؛ لأنه فعل والأفعال أشد وأقوى نفوذاً، ولهذا ينفذ استيلاد المجنون والمحجور عليه ولا ينفذ إعتاقهما، وينفذ اسْتِيْلاَد المريض من رأس المال وإعتاقه من الثّلث. وقال آخرون: الاستيلاد أولى بعدم النفوذ؛ لأنه لا يفيد حقيقة العِتْق، وإنما يثبت به حق العتق، وحق العِتْق دون حقيقة العتق المنجزة، فكان العتق أولى بالنفوذ، ومنهم من امتنع من الترتيب وسوى بينهما لتَّعَارض المعنيين، وبه قال الشيخ أبو حامد، ويخرج من هذه الاختلافات ثلاثة طرق كما أفصح بها صاحب "التتمة": أظهرها: طرد الخلاف. والثاني: القطع بنفوذ الاسْتِيْلاَد. والثَّالث: القطع بعدمه. التفريع: إن قلنا: ينفذ الاستيلاد فعليه القِيْمَة، والحكم على ما مَرَّ في العِتْق، وإنْ قلنا: لا ينفذ فالرهن بحاله، فلو حل الحق وهي حامل بعد لم يجز بيعها؛ لأنها حامل بِحُرٍّ، وفيه وجه آخر، وقد ذكرنا ذلك في البيع، فإذا ولدت فلا تُبَاع حتى تسقى ولدها اللَّبأ (¬1)، وإذا سقته ولم يوجد مرضعةً فلا تباع حتى توجد مرضعة خوفاً من أنْ يسافر بها المشتري لو بيعت فيهلك الولد، وإذا وجدت مرضعة فتباع الجارية، ولا يبالي بِالتَّفريق بين الأم والولد للضرورة، فإن الولد حُرٌّ وبيعه ممتنع. ثم إن كان الدَّيْن يستغرق قيمتها بيع كلها، وإلاَّ بيع منها بقدر الدّين، وإن أفضى التَّشْقِيص إلى نقصان رعاية لحق الاسْتِيْلاَد، ويخالف ما إذا اتفق مثل ذلك في العبد القِنّ، بأن كانت قيمته مائة، وهو مرهون بخمسين، وكان لا يشتري نصفه إلاَّ بأربعين، ويشتري الكل بمائة حيث يباع الكل دفعاً للضَّرر عن المالك، وإنْ لم يوجد مَنْ يشتري البعض بيع الكل للضَّرورة. وإذا بيع منها بقدر الدين انفك الرَّهْن عن الباقي واستقرَّ الاستيلاد، وتكون النَّفَقَة على المشتري والمستولد بحسب النَّصِيبين، والكسب بينهما كذلك، ومهما عادت إلى ملكه بعد ما بيعت في الدين فهل يحكم بنفوذ الاستيلاد؟ فيه طريقان: ¬
أظهرهما: أنه على قولين، كما لو استولد جَارِيَةَ الغير بالشُّبهة ثم ملكها اختار المزني أنه لا يحكم به. والمذهب المنصوص: أنه يحكم به، وفي مثل هذه الصورة في الاعتاق ذكرنا أن الأظهر عدم نفوذ العِتْق، والفرق أن الإعتاق قول يقتضي العتق في الحال فإذا رد لغى بالكلية، والاسْتِيْلاَد فعل لا يمكن رده، وإنما منع حكمه في الحال لحق الغُرَمَاء، فإذا زال حق الغيْر عمل عمله. والطَّريق الثَّاني: القطع بنفوذ الاسْتِيْلاَد لنفوذه في المِلْك بخلاف استيلاد جارية الغير بالشبهة. ولو انفك الرَّهْن عنها ولم يتفق بيعها بعد الاستيلاد ومنهم من خرجه على الخلاف المذكور فيما إذا بيعت ثم عادت إليه وعلى الخلاف المذكور في نظيره من الإعتاق. والمذهب الأول، ويفارق ما إذا بيعت وعادت؛ لأن الملك هاهنا هو الملك الَّذِي تصرف فيه، ويفارق الأعتاق لما سبق، وليس لِلرَّاهن أنْ يهب هذه الجَارِية للمرتهن، وإنما تباع في الحق للضرورة، وهذا معنى قول الأئمة: إن الاستيلاد ثابت في حق الراهن والخلاف في أنه هل يثبت في حق المرتهن؟ والله أعلم. وقوله في الكتاب: (مرتب على العتق) يجوز إعلامه بالواو للطريقة الثانية للترتيب وكذا قوله: (والأصح عود الاستيلاد للطريقة النافية للخلاف)، وليس لفظ العود هاهنا مستعملاً في حقيقته فإنه يستدعي ثبوتاً في الابتداء وزوالاً وليس الاستيلاد كذلك. قال الغزالي: وَلَوْ مَاتَتْ بِالطَّلْقِ فَعَلَيْهِ القِيمَةُ لأَنَّهُ مُهْلِكٌ بِالإِحْبَالِ، وَكَذَا إِذَا وَطِئَ أَمَةَ الغَيْرِ بشُبْهَةٍ، وَلاَ يَضْمَنُ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الزَّانِي بِالحُرَّةِ لأَنَّ الاسْتِيْلاَدَ كَأَنَّهُ إِثْبَاتُ يَدٍ وَهَلاَكٌ تَحْتَ اليَدِ المُسْتَوْليَةِ عَلَى الرَّحْمِ وَالحُرَّةُ لاَ تَدْخُلُ تَحْتَ اليَدِ وإلاَّ فَمُجَرَّدُ السَّبَبِ ضَعِيفُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ عَلَى رَأْيٍ يَجِبُ أَقْصَى القِيَمِ مِنْ يَوْمِ الإِحْبَالِ إِلَى المَوْتِ، وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ يَوْمِ الإِحْبَالِ، وَقِيلَ: يَوْمُ (ح) المَوْتِ. قال الرَّافِعِيُّ: إذا ماتت الجارية التي أولدها الرَّاهن بالولادة والتفريع على أن الاستيلاد غير نافذ فعليه قيمتها لتكون رهناً مكانها؛ لأنه تسبب إلى إهلاكها بالإحْبَال لا عن استحقاق، والضَّمَان كما يجب بالمُبَاشرات يجب بالأَسْباب، كحفر البئر ونحوه، وعن أبي علي الطَّبَرِي وغيره وجه: أنه لا تجب عليه القيمة؛ لأن إضافة الهلاك إلى الوطء بعيدة، وإحالته على علل وعوارض تقتضي شدة الطلق أقرب وأظهر، والمذهب المشهور الأول. ولو أولد أَمَةَ الغَيْرِ بالشُّبْهة وماتت بالولادة ففي وجوب القيمة هذا الخلاف.
ولو كانت حُرَّة ففي وجوب الدِّيَة وجهان. قال الإمام: أقيسهما الوجوب؛ لأن طريق وجوب الضَّمَان لا يختلف بالرِّقِّ والحُرِّية. وأشهرهما: المنع؛ لأن الوطء سبب ضعيف، وإنما أوجبنا الضَّمَان في الأمة؛ لأن الوطء استيلاء عليها والعُلُوق من آثاره، فأدمنا به اليد والاستيلاء كما إذا نفر المحرم صيداً فبقى نِفَارُهُ إلى التغير والهلاك، والحُرَّة لا تدخل تحت اليد والاسْتيلاء. ولو أولد امرأة بالزنا وهي مكرهة فماتت بالولادة، فقد روى الشيخ أبو حامد في وجوب الضمان قولين حُرَّة كانت أو أَمَةً. أحدهما: يجب لما سبق. وأصحهما: المنع؛ لأن الولادة في الزِّنَا لا تَنْضَاف إلى وطئه؛ لأن الشرع قطع سبب الولد عنه، ولا خلاف في عدم وجوب الضَّمَان عند موت الزَّوْجة من الولادة لتولُّد عن مستحق، وحيث أوجبنا الضَّمَان في الحُرَّة فهو الدِّيَة مضروبة على العاقلة، وحيث أوجبنا القيمة فالاعتبار بأية قيمة فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بأقصى القيم من يوم الإِحْبَال إلى الموت تنزيلاً له منزلة الاسْتِيْلاَد والغَصْب. وثانيها: وبه قال ابن أبي هريرة: بقيمة يوم الموت؛ لأن التَّلَف حينئذٍ متحقق. وأصحهما: بقيمة يوم الإِحْبَال؛ لأنه سبب التَّلَف فصار كما لو جَرَحَ عبداً قيمته مائة وبقي مثخناً حتى مات وقيمته عشرة، فإنَّ الواجب مائة، ويقال: إن ابن أبي هريرة ألزم هذه المسألة فمنعها وطرد قياسه ولا يخفى بعده. ولو لم تَمُت الجارية ونقصت قيمتها بالولادة فعليه الأَرْش ليكون رهناً معها، وله أن يصرف القيمة أو الأَرْش إلى قضاء الحق ولا يرهن. قال الغزالي: وَلاَ يَمْنَعُ مِنَ الانْتِفَاع (ح) بِسُكْنَى الدَّارِ أَوِ اسْتِكْسَابِ العَبْدِ أَوَ اسْتِخْدَامِهِ أَوْ إنْزَاءِ الفَحْلِ عَلَى الإِنَاثِ إِنْ لَمَ يَنْقُضْ قِيْمَتُهُ. قال الرَّافِعِيُّ: افتتح الكلام في نوع آخر من تصرفات الراهن، وهو ما سوى الوَطْء من الانتفاعات، وجملته أن المنافع الَّتِي لا يضر استيفاؤها بالمرتهن لا تعطل من المرهون، بل هي مُسْتَوْفاة لِلرَّاهن خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: هي معطلة، وروى في "الشامل" عن مالك مثل مذهبنا، وعن أحمد: اختلاف رواية. لنا: ما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الظَّهْرُ يُرْكَبُ إِذَا كَانَ مِرْهُوناً، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُهُ
نَفَقَتُهُ" (¬1). وروي أنه قال: "الرَّاهِنُ مَحْلُوبٌ وَمَرْكُوبٌ" (¬2). وفي الفصل صور: إحداها: يجوز السُّكْنَى في الدار وركوب الدَّابة واسْتِكْسَاب العبد ولبس الثوب المرهونة إلاَّ إذا كان ممَّا ينقص باللبس. الثانية: الفَحْل المرهون يجوز إِنْزَاؤُه على الإناث، كالركوب إِلاَّ إذا أثر ذلك في القيمة، والأُنْثَى يجوز الإنْزَاء عليها كذلك إنْ كان يحل الدَّيْن قبل ظهور الحمل أو تلد قبل حُلُول الدين، فإنْ كان يحل بعد ظهور الحمل وقبل الولادة فإن قلنا: إن الحمل لا يعرف جاز أيضاً؛ لأنها تباع مع الحمل، وإن قلنا: يُعْرَف، وهو الصحيح لم يجز؛ لأنه لا يمكن بيعها دون الحَمْل والحمل غير مرهون. الثالثة: ليس للراهن أَنْ يبني في الأرض المرهونة، ولا أنْ يغرس؛ لأنه ينقص قيمة الأرض. وفي "النهاية" ذكر وجه: أنه يجوز إنْ كان الدين مؤجلاً وزرع ما ينقص قيمة الأرض لاستيفاء قوتها ممنوع، وما لا ينقص إنْ كان بحيث يحصد قبل حلول الأجل فلا منع منه ثم إنْ تأخر الإدراك لعارض ترك إلى الإدراك، وإنْ كان بحيث يحصد بعد الحُلُول أو كان الدَّيْن حالاً منع منه لنُقْصَان الرغبة في الأرض المزروعة، وعن الرَّبِيْع حكاية قول: أنه لا يمنع منه، لكن يُجْبَرُ على القَلْعِ عند الحُلُول إن لم يَفِ بيعها مزروعة دون الزَّرع بالدَّيْن، وفي هذا الْتِفَات إلى أن الأرض المزروعة هل يجوز بيعها أم لا؟ ولو خالف ما ذكرناه فَغَرَس أو زرع حيث منعناه منه فلا يقلع قبل حلول الأجل فلعله يقضي الدَّين من موضع آخر، وفيه وجه أنه يقلعه، وبعد حلول الدَّيْن ومَسَاس الحاجة إلى البَيْع يقلع إنْ كانت قيمة الأرض لا تفي بدينه، وتزداد قيمتها بالقلع، نعم لو صار الراهن محجوراً عليه بالإفلاس ففي القَلْع وجهان، بخلاف ما لو نَبَتَ النَّخْل من النَّوَى في حَمِيل السَّيْل حيث جزمنا بأنه لا يقلع في مثل هذه الحالة؛ لأنا منعناه هاهنا فخالف كذا قاله الإمام. قال الغزالي: وَيُمْنَعُ عَنِ المُسَافَرَةِ بِهِ لِعِظَمِ الحَيْلُولَةِ كَمَا يُمْنَعُ زَوْجُ الأَمَةِ عَنِ السَّفَرِ بِهَا، بِخِلاَفِ الحُرِّ فَإنَّهُ يُسَافِرُ بِزَوْجَتِهِ، وَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِكْسَاب العَبْدِ فِي يَدِهِ لَمْ يُنْتَزَعْ مِنْ يَدِهِ جَمْعاً بَيْنَ الحَقَّيْنِ، وَمَهْمَا انْتَزَعَ فَعَلَيْهِ الإِشْهَادُ، إلاَّ أَنْ يَكُونَ عَدَالَتُهُ ظَاهِرَةً فَفِي تَكْلِيفِهِ ذَلِكَ خِلاَفٌ. ¬
قال الرَّافِعِيُّ: أصل الفصل أن اليد على المرهون مستحقة للمرتهن، فإنها الرُّكْن الأعظم وفي التَّوَثُّق مما لا منفعة به مع بقاء عينه كالنقود والحبوب لا تزال يد المرتهن عنه، وإنْ أَمْكَن تحصيل الغَرَض مع بقائه في يد المُرْتهن يصار إليه جمعاً بين الحَقّين، وإنما تزال يده عند اشتداد الحاجة إليه. إذا عرفت ذلك فإنْ كان العبد محترفاً وتيسر استكسابه هناك، ولم يخرج من يده إِنْ أراد الراهن الاستكساب، وإنْ أراد الاسْتِخْدام أو الركوب أو شيئاً من الانتفاعات التي يحوج استيفاؤها إِلَى إخراجه من يده فعن رواية صاحب "التقريب" قول قديم أنه لا يخرج من يده، ولا نوهن وثيقته، والمشهور أنه يخرج ثم ينظر إن استوفى تلك المنافع بإعارة من عدل أو إجارة بالشرط الذي سبق فله ذلك، وإن أراد استيفاءها بنفسه. قال في "الأم": له ذلك، ومنع منه في القديم، فحمل حاملون الأول على الثقة المأمون جحوده، والثاني على غيره، فأجراهما مُجْرون قولين مطلقين (¬1)، ووجهوا الثَّاني بما يخاف من جُحُوده وخيانته لو سلم إليه، والأول بأن ماله استيفاؤه بغيره له استيفاؤه بنفسه، ويشبه أن يكون هذا أظهر، ويتفرّع عليه ما نقله إمام الحرمين وصاحب الكتاب، وهو أنه وثق المُرْتهن بالتسليم فذاك، وإلاَّ أشهد عليه شَاهِدَيْن أنه يأخذه للانتفاع فإنْ كان مشهور العَدَالة موثوقاً به عند الناس فوجهان: أشبههما: أنه يكتفي بظهور حاله، ولا يكلف الإِشْهَاد في كل أخذة لما فيه من المشقة، ويزداد في أخذ الجَارِيَة للاستخدام نظر آخر، وهو أنَّ الراهن إنما يمكن منه إذا أمن غشيانه إياها بأن كانت محرماً له، أو كان ثقة وله أهل كما تقدم نظيره، ثم إنْ كان إخراج المرهون من يد المرتهن لمنفعة يدام استيفاؤها فذاك، فإن كان لمنفعة تستوفى في بعض الأوقات كالاستخدام والركوب فتستوفى نهاراً وترد إلى المرتهن ليلاً. وليس لِلرَّاهن أنْ يسافر بالمرهون بحال طاهر سفره أم قصر لما فيه من الخَطَر والحَيْلُولة القوية من غير ضرورة، ولمثل هذا منع زوج الأَمَة من المسافرة بها، وإنما جاز لِسَيِّدها أنْ يسافر بها لحقه المتعلّق بالرَّقَبَة، ولئلاَّ يتكاسل في تَزْوِيْجِها، ويجوز لِلْحُرِّ أنْ يسافر بزوجته رعاية لمصالح النِّكَاح التي لها فيها الحظ الوافر. واعلم أن لفظ الكتاب هاهنا وفي "الوسيط" يدل على أنه لا ينزع العبد من يد المرتهن إذا أمكن اسْتِكْسَابه وإن طلب الراهن منه الخدمة، ولم يتعرض الأكثرون لذلك، وقضية كلامهم أن له أن يستخدم مع إمكان الاستكساب (¬2)، والله تعالى أعلم. ¬
فرع: لا تزال يد البائع عن العبد المحبوس بالثمن بسبب للانتفاع؛ لأن ملك المشتري غير مستقر قبل القبض، وملك الراهن مستقر، وهل يستكسب في يده للمشتري أم تعطل منافعه؟ فيه اختلاف للأصحاب (¬1). قال الغزالي: وَكُلُّ مَا مُنْعَ مِنْهُ فَإِذَا أَذِنَ المُرْتَهِنُ جَازَ؛ لأَنَّ الحَقَّ لاَ يَعْدُوهُمَا، ثُمَّ إِذَا أَذِنَهُ فِي العِتْقِ سَقَطَ الغُرْمُ عَنْهُ، وَفِي البَيْعِ قَبلَ حُلُولِ الأَجَلِ يَمْنَعُ (ح) تَعَلُّقَهُ بِالثَّمَنِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ البَيْعِ، وَكَذَا إِذَا أَذِنَ فِي الهِبَةِ وَوَهَبَ وَلَمْ يَقْبِضْ فَلَهُ الرُّجُوعُ، وَلَوْ شَرَطَ فِي الإِذْنِ فِي البَيْعِ جَعَلَ الثَّمَنَ رَهْناً لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي الأَصَحِّ؛ لأِنَّهُ نَقْلٌ لِلوَثِيقَةِ، وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يُعَجِّلَ حَقَّهُ مِنَ الثَّمَنِ فَسَدَ الإِذْنُ (و) لأِنهُ إِذْنٌ بِعِوَضٍ فَاسِدٍ، بِخِلاَف مَا لَوْ شَرَطَ لِوَكِيلِهِ أُجْرَةً مِنْ ثَمَنِ مَا يَبِيعُهُ إِذْ لَيْسَ، العَوضُ هَاهُنا فِي مُقَابَلَةِ الإِذْنِ. قال الرَّافِعِيُّ: الفصل يشتمل على قاعدتين: إحداهما: التصرفات الَّتِي يمنع منها الراهن لحق المرتهن إذا اقترنت بإذن المرتهن نفذت، فإذا أذن له في الوطء حل له الوطء، ثم إنْ وَطئ ولم يُحْبل فالرهن بحاله، وإن أحبل أو أعتق أو باع بالإذن نفذت هذه التَّصرفات وبطل الرَّهْن، ويجوز أن يرجع المرتهن عن الإذن قبل تصرف الراهن كما يجوز للمالك أن يرجع قبل تصرف الوكيل، فإذا رجع فالتَّصرف بعده، كما لو لم يكن إذن ولو أذن في الهِبَة والإقْبَاض ورجع قبل الإقباض صح، وامتنع الإِقْبَاض؛ لأن تمام الهِبَة بالإِقْبَاض، ولو أَذن في البيع فباع الراهن بشرط الخِيَار فرجع المرتهن فوجهان: أحدهما: يصح رجوعه؛ لأن العقد لم يلزم بعد، كالهِبَة قبل الإقباض. وأصحهما: المنع؛ لأن مبنى البيع على اللزوم والخِيَار دخيل، وإنَّما يظهر أثره في حق من له الخيار، وفي الهِبَة الركن الأقوى إنما هو الإقباض، ولو رجع المرتهن ولم يعلم به الراهن فتصرف ففي نفوذه وجهان مبنيان على أنَّ الوكيل هل ينعزل بالعزل قبل بلوغ الخبر؟ الأصح: الانعزال، ومهما أحبل أو أعتق أو باع، وقال: فعلته بالإذن وأنكر المرتهن، فالقول قول مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإذن وبقاء الرَّهْن، فإنْ حلف فهو كما لو تصرف بغير إذنه، وإن نكل فحلف الرَّاهِن فهو كما لو تَصَرَّف بإذنه، فإن نكل فهل يرد اليمين على الجارية أو العبد؟ فيه طريقان: ¬
إحداهما، وبه قال ابن القَطَّان: فيه قولان، كما لو نكل الواوث عن يمين الرَّدِّ هل يحلف الغُرَمَاء؟ وأشبههما، وبه قال أبو إسحاق وأبو حامد: القَطْع بالرد؛ لأن الغرماء يثبتون الحق للميت أولاً، والجارية والعَبْد يثبتان لأنفسهما، ولو وقع هذا الاختلاف بنن المُرْتَهِن وورثة الرَّاهن حلفوا على نفى العلم ولو اختلف المرتهن وورثة الراهن حلفوا يمين الرَّد على البَتّ، وهل يثبت إذن المرتهن برجل وامرأتين؟ حكى القاضي ابن كَجّ فيه وجهين، والقياس المنع، كالوِكَالة والوِصَايَة، ولو حصل عند الجارية المرهونة ولد فقال الراهن: قد وطئتها بإذنك فاتت بهذا الولد منى وهي أم ولد، وقال المرتهن: بل هو من زوج أو زنا، فالقول قول الراهن بعد أنْ يسلم له المرتهن أربعة أمور: أحدها: الإذن في الوطء. والثَّانى: أنه وطء. والثالث: أنها ولدت. والرَّابع: أنه مضى مدة إمكان الولد منه، فإنْ لم يسلم الإذن فقد ذكرنا أن القول قوله، وإنْ لم يسلم أنه وطئ وسلم الإذن فوجهان، الذي ذكره المعظم أن القول قوله أيضاً؛ لأن الأصل عدم الوَطْء وبقاء الرَّهْن. وقال القاضي ابن كَجٍّ والإمام: الأصح أن القول قول الراهن؛ لأنه أخبر عما يقدر على إنشائه، وإنْ سلمهما وقال: ما ولدته ولكن التقطته فالقول قوله، وعلى الراهن البَيِّنة على الولادة أيضاً، ولو سلم الوِلاَدَة وأنكر مضى الإمكان فالقول قوله أيضاً، ومهما سلم الأمور الأربعة فالقول قول الراهن من غير يمين؛ لأنه إذا أقر بأن الولد منه لم يقبل رجوعه فكيف يحلف عليه، ولو لم يتعرض المُرْتَهن لهذه الأمور منعاً وتسليماً، واقتصر على إنكار الاسْتِيْلاَد فالقول قوله أيضاً، وعلى الرَّاهن إثبات هذه الوسائط. الثانية: إذا أعتق أو وهب بإذن المرتهن بطل حقه من الرَّهْن سواء كان الدين حالاً أو مؤجلاً، وليس عليه أنْ يجعل قيمته رهناَ مكانه ولو باع بإذنه، والدَّيْن مؤجل فكذلك، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: يلزمه أن يرهن ثمنه مكانه أو يقضي الدَّيْن. لنا: القياس على الإِعْتَاق والهبة ولو كان الدَّين حالاً قضى حقه من ثمنه وحمل إذنه المطلق على البيع في عرضه، يخطيء وقته، ولو أذن في البيع بشرط أَنْ يجعل الثمن رهناً مكانه فقولان، سواء كان الدين حالاً أو مؤجلاً: أحدهما: يصح الإذن والبيع، وعلى الراهن الوفاء بالشَّرْط، وبهذا قال أبو حنيفة والمزني وأصحاب أحمد؛ لأن الرَّهْن قد ينتقل من العَيْن إلى البَدَل شَرْعاً، كما لو أتلف المَرْهُون فجاز أن ينتقل إليه شرطاً. وأصحهما عند المُحَامِلِيّ وصاحب الكتاب أنها فاسدة.
أما الشرط فلأن الثمن مجهول عند الإذن فأشبه ما إذا أذن بشرط أن يرهن به مالاً آخر مجهولاَ، وإذا بطل الشرط بطل الإذن فإنه وقف الإذن على حصول الوَثِيْقَة في البَدَل، وإذا بطل الإذن بطل البيع، ولو أذن في الإِعْتَاق وشرط جعل القيمة رهناً أو في الوطء بهذا الشرط إنْ أحبل ففيه القولان. ولو أذن في البيع بشرط أن يعجل حقه من ثمنه وهو مؤجل فالمنصوص فساد الإذن والبيع لفساد الشرط. وقال أبو حنيفة والمزني وأصحاب أحمد: يصح الأِذْن والبيع ويجعل الثمن رهناً مكانه، وعن أبي إسحاق تخريج قول من المسألة السَّابقة، واحتج المُزَنِيّ بأن فساد الشَّرْط لا يوجب فساد الإِذْن والبيع، أَلَا ترى أنه لو وكل وكيلاً يبيع عبده على أن له عشر ثمنه يصح الإذن والبيع مع أن الشرط فاسد لكون الأُجْرَة مجهولة، ويرجع الوكيل إلى أجرة المِثْل، وأجاب الأصحاب بأن الموكل لم يجعل لنفسه في مقابلة الإذن شيئاً، وإنما شرط للوكيل جُعْلاً مَجْهُولاً فاقتصر الفساد عليه، فهاهنا المرتهن شرط لنفسه شيئاً في مقابلة إذنه وهو تعجيل الحق فإذا فسد فسد ما يقابله، ولهذا المعنى قدح قادحون في تخربج أبي إسحاق وقالوا: الشَّرط صحيح في المسألة الأولى على قول فصح الإذن المقابل له، وهاهنا المرتهن شرط لنفسه شيئاً في مقابلة إذنه وهو تعجيل الحق، فالشرط فاسد بالاتفاق، فلا يمكن تصحيح ما يقابله، ولو اختلفا فقال المرتهن: أذنت في البيت بشرط أن ترهن الثمن، وقال الراهن: بل أذنت مطلقاً، فالقول قول المرتهن، كما لو اختلفا في أصل الإذن، ثم إنْ كان الاختلاف قبل البيع فليس له البيع، وإنْ كان بعده وحلف المرتهن، فإنْ صححنا الإذن فعلى الراهن رهن الثمن، وإلاَّ فإنْ صدق المُشْتَرِي المرتهن فالبيع مردود وهو مرهون كما كان، وإنْ كذبه نظر إنْ أنكر أصل الرَّهْن حلف وعلى الراهن أنْ يرهن قيمته، وإنْ أقر بكونه مرهوناً، وادَّعى مثل ما ادعاه الراهن فعليه رد المبيع، ويمين المرتهن حجة عليه أيضاً. قال الشيخ أبو حامد: ولو أقام المرتهن بَيّنة على أنه كان مرهوناً فهو كما لو أقر المشتري به، والله أعلم. وقوله في الكتاب: "لأنه نقل للوثيقة" ليس تعليلاً لقول المنع خاصة وإنما أشار به إلى كلام ذكره الإمام وهو أن الخلاف في المسألة يترتب على الخلاف في رهن ما يتسارع إليه الفساد بالدين المؤجل، فإن منعناه بذلك لصرنا إلى امتناع نقل الوثيقة من عين إلى عين، فعلى هذا لا يجوز الإذن بشرط النقل، وإنْ صححناه وقد احتملنا نقل الوثيقة فيجوز شرطه، فهذا ما أراده إلاَّ أنَّ لك أنْ تمنع قوله، إذا منعنا رهنه بالدين المؤجل فذلك لمصيرنا إلى امتناع نقل الوثيقَة من عين إلى عين، وتقول: بل ذلك لامتناع النقل من غير التعرض للنقل، ولهذا يصح رهنه بالدين المؤجل بشرط البيع عند الإشراف على الفساد، وهاهنا وجد التعرض للنقل.
فرع منقول عن "الأم": لو أذن المرتهن لِلرَّاهن في ضرب العَبْد المرهون فهلك في الضرب فلا ضمان عليه لتولده من مأذون فيه، كما لو أذن في الوَطْء وأحبل بخلاف ما إِذا ضرب الزَّوْج زوجته أو الإمام إنساناً تعزيزاً؛ لأن المأذون فيه هناك ليس مطلق الضرب وإنما هو ضرب التَّأْديب وهاهنا أيضاً لو قال: أدبه فضربه حتى هلك فعليه الضَّمَان. قال الغزالي: وَالتَّرِكَةُ إِذَا تَعَلَّقَتِ الدُّيُونُ بِهَا كَالمَرْهُونِ فِي مَنْعِ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَالعَبْدِ الجَانِي، فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ فَظَهَرَ دَيْنٌ بِرَدِّ عِوَضٍ بَعْدَ تَصَرُّفِ الوَرَثَةِ فَفِي تَتَبُّعِهِ بِالنَّقْصِ خِلاَفٌ. قال الرَّافِعِيُّ: لا شَكَّ في أن الدُّيُون على المتوفى تتعلّق بتركته، وفي كون ذلك التَّعلق مانعًا أو أمن الإرث خلاف ذكرناه في الزكاة، وبينا أن الأصح أنه لا يمنع وعلى هذا في كيفيته قولان، ويقال وجهان: أحدهما أنه كتعلُّق الأَرْش برقبة الجاني؛ لأن كل واحد منهما يثبت شرعاً من غير اختيار المالك. والثاني: أنه كتعلّق الدين بالمرهون؛ لأن الشارع إنما أثبت هذا التعلّق نظراً للميت لتبرأ ذمته فاللائق به أَلاَّ يسلط الوارث عليه، وهذا أظهر فيما ذكره الإمام وغيره، فلو أُعتق الوارث أو باع وهو معسر لم يصح، سواء جعلناه كالعَبْد الجاني أو كالمَرْهُون، ويجيء في هذا الإعتاق خلاف، وإنْ كان موسراً نفذ في وجه بناء على أن التعلق كتعلّق الأَرْش، ولم ينفذ في وجه بناء على أَنَّ التَّعَلّق كتعلّق الدَّيْن بالمرهون، وحكى الشيخ أَبُو عَلِيّ وجهاً ثالثاً، وهو أنهما موقوفان إن قضى الوارث الدَّين تبينا النفوذ، وإلاَّ فلا، ولا فرق بين أَنْ يكون الدَّيْن مستغرقاً للتركة أو أقل منها على أظهر الوجهين، كما هو قياس الديون والرهون. والثَّاني: أنه إِنْ كان الدين أقل فقد تصرف الوارث إلى أَنْ لا يبقى إلا قدر الدين؛ لأن الحَجْر في مال كثير بشيء حقير بعيد، وإذا حكمنا ببطلان تصرّف الوارث فلو لم يكن في التَّركة دين ظاهر فتصرف ثم ظهر دين بأن كان قد باع شيئاً وأكل ثمنه فرد بالعيب ولزم رد الثمن أو تردى متردٍ في بئر كان قد احتفرها عدواناً فوجهان: أحدهما: أنه يتبيّن فساد التصرف إلحاقاً لما ظهر من الدين بالدين المقارن لتقدم سببه. وأظهرهما: أنه لا يتبين؛ لأنه كان مسوغاً لهم طاهراً فعلى هذا إنْ أدى الوارث الدين فذاك وإلاَّ فوجهان: أظهرهما: أنه يفسخ ذلك التَّصرُّف ليصل المستحق إلى حقه.
والثاني: لا يفسخ، ولكن يطالب الوارث بالدَّين ويجعل كالضَّامن، وعلى كل حال فللوارث أنْ يمسك عَيْنَ التركة، ويؤدي الدُّيُون من خالص ماله، نعم لو كمن الدين أكثر من التركة فقال الوارث: آخذها بقيمتها، والتمس الغرماء بيعها على توقع زيادة راغب فوجهان بنوهما على أن السيد يَفْدي العبد الجاني بأَرْش الجناية، أو بأقل الأمرين من قيمته وأَرْش الجناية. والأصح: أن المجاب هو الوارث؛ لأن الظاهر أنها لا تشتري بأكثر من القيمة وفي تعلّق حقوق الغرماء بزوائد التركة كالكَسْب والنِّتَاج خلاف يتفرع على ما مر أن الدَّين هل يمنع الميراث إن منعه ثبت التعلّق وإلا فلا (¬1)؟ وقوله في الكتاب: (ففي بيعه بالنقص خلاف) أراد به أَنَّا هل نتبين الفساد على ما هو مبين "الوسيط"، ويمكن حمله على الخلاف في أَنَّا هل نفسخه تفريعاً على الصحة، واللفظ أقرب إليه، ولا يخفى أنه ليس لهذا الفَصْل كبير تعلُّق بباب الرَّهْن ولا شبه منه بهذا الموضع، لكن صاحب الكتاب اقتدى بإمام الحرمين في إبداع هذا الباب إلاَّ أنه رسمه فروعاً في آخره. قال الغزالي: الطَّرَفُ الثَّانِى جَانِبَ المُرْتَهِنِ، وَهُوَ مُسْتَحِقٌ إِدَامَةَ اليَدِ وَلاَ تَزَال يَدُهُ إلاَّ لأَجْلِ الانْتِفَاعِ (ح) نَهَاراً ثُمَّ يُرَدُ عَلَيْهِ لَيْلاً، وَلَوْ شَرَطَ التَّعْدِيلَ عَلَى يَدِ ثَالِثٍ لِيَثِقَ كُلُّ وَاحِدٍ بِهِ جَازَ، ثُمَّ لَيْسَ للِعَدْلِ تَسْلِيمُهُ اِلى أَحَدِهِمَا دُونَ إِذْنِ صَاحِبِه، فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ لِلآخَرِ، وَلَو تَغَيَّرَ حَالَهُ بِالفِسْقِ أَوْ بِالزِّيادَةِ فِيه فَلِكُّلِّ وَاحِدٍ طَلَبُ التَّحْوِيلِ مِنْهُ إلَى عَدْلٍ آخرَ. قال الرَّافِعِيُّ: اليد في الرَّهْن بعد لزومه مستحقة للمرتهن، فإنَّ قوام التوثق بها، ولا تزال يده إلا للانتفاع كما سبق، ثم يرد إليه ليلاً، وإن كان العبد ممن يعمل باللَّيل كالحارس فيرد إليه نهاراً، ولو شرطا في الابتداء وضعه في يد ثالث جاز، فربما لا يثق أحدهما بالآخر ولو شرط وضعه عند اثنين فإنْ نصَّا على أن لكل واحد منهما الانفراد بالحفظ، أو على أن يحفظاه معاً في حِرْز اتبع الشرط، وإنْ أطلقا فوجهان لابن سُرَيْج: أصحهما: أنه ليس لأحدهما أن ينفرد بالحِفْظ، كما لو أوْصَى إلى رجلين، أو وكّل رجلين بشيء لا يستقل أحدهما، فعلى هذا يجعلانه في حِرْز لهما. ¬
والثَّاني: يجوز الانفراد كيلا يشق عليهما، فعلى هذا إن اتفقا على كونه عند أحدهما فذاك، وإنْ تنازعا والرهن مما ينقسم قسم وحفظ كل واحد نصفه، وإن كان مِمَّا لا ينقسم حفظه هذا مدة وهذا مدة. ولو قسماه بالتَّرَاضي والتَّفْريع على الوجه الثَّاني، ثم أراد أحدهما أَنْ يرد ما في يده علي صاحبه ففي جوازه وجهان لابن سُرَيْجٍ (¬1). وجه المنع: أن المشقة قد اندفعت بما جرى، وإذا أراد العَدْل الذي وضع الراهن عنده رده إليهما أو إلى وكيلهما، فإن كان غائبين ولا وكيل فهو كرد الوديعة وسيأتي إن شاء الله تعالى، وليس له دفعه إلى أحدهما دون إذن الآخر، فإنْ فعل ضمن، واسترد منه إن كان باقياً، وإنْ تلف في يد المدفوع له نظر إنْ دفعه إلى الراهن رجع المرتهن بكمال قيمته، وإن زادت على حقه ليكون رهناً مكانه ويغرم من شاء من العَدْل والرَّاهن والقرار على الراهن، فإن غرم العَدْل فله أن يكلف الرَّاهن قضاء الدَّيْن لفك المَأْخُوذ منه، وإن دفعه إلى المُرْتَهِن فلِلرَّاهن أنْ يغرم من شاء من العدل والمرتهن قيمته ليكون رهناً والقرار على المرتهن؛ فإنْ كان الحق حالاً والدين من جنس القيمة وقع الكلام في التَّقاص، ولو غصب المرتهن الرَّهْن من يد العدل ضمن، فلو رده إليه برئ، وحكى الإمام في "النهاية" وجهاً: أنه لا يبرأ إلا بالرَّدِّ إلى المالك أو بإذن جديد للعدل في أخذه والمذهب الأول، وكذلك الجَوَاب لو غصب الوَدِيعة من المودع أو العَيْن المُكْرَاة من المكتري أو الرَّهْن من المرتهن ثم رد إليهم. ولو غصب اللّقَطَة من الملتقط لم يبرأ بالرد إليه، ولو غصب من المستعير أو المُسْتَام ثم رد فوجهان؛ لأنهما مَأْذُونَان من جهة المالك لكنهما ضامنان. ولو اتفق المتراهنان على نقل الرَّهْن إلى يد عدل آخر جاز، فإنْ طلبه أحدهما فلا يجاب إلاَّ أنْ يتغير حاله بفسق أو يضعف عن الحفظ بينه وبين أحدهما عَدَاوَة فيطلب نقله، فحينئذٍ ينقل إلى يد آخر يتفقان عليه، فإنْ تشاحا وضعه الحاكم عند مَنْ يراه، فلو كان من وضعاه عنده فاسقاً في الابتداء فازداد فسقًا فهو كما لو كان عدلاً ففسق، وكذا لو مات وأراد أحدهما إخراجه من يد وارثه، وكذا لو كان في يد المرتهن فتغير حاله أو مات كان للراهن نقله، وفي "النهاية" نقل وجه أنه إذا مات المرتهن لا تزال يد ورثته، ولكم إذا لم يرض الرَّاهن بيدهم ضمَّ القاضي إليهم مشرفاً. وإذا ادَّعى العدل هلاك الرَّهْن في يده أو رده فالقول قوله مع يمينه كالمودع، ولو أتلف الرَّهْن عمداً أخذت منه القيمة، ووضعت عند آخر، ولو أتلفه مخطئاً أو أتلفه غيره ¬
أخذت القيمة ووضعت عنده، هكذا ذكره الأكثرون وفرقوا بينه وبين ما إذا كان مأذوناً في بيعه حيث لا يتمكّن من بيع القيمة المأخوذة بأن المأذون في بيع شيء لا يكون مأذوناً في بيع بدله والمُسْتَحْفِظ في شيء يكون مستحفظاً في بدله، وهذا غير محل السلام ولضعفه ذهب الإمام إلى أنه لا بد من استحفاظ جديد، وقياسه أن يقال: لو كان الرَّهْن في يد المُرْتَهن فأتلف وأخذ بدله كان للراهن إِلاَّ يرضى بيده في البدل. وقوله في الكتاب: (فإن تغير حاله بالفسق) لا يمكن صرف الكناية فيه إلى العدل في قوله: (ثم ليس للعدل تسليمه) لأن العدل لا يكون فاسقاً حتى يتغير حاله بالزيادة فيه، بل هي منصرفة إلى الثالث في قوله على يد ثالث وما أشبه ذلك. قال الغزالي: وَللْمُرتَهِنِ اسْتِحْقَاقُ البَيْعِ تَقَدُّماً بِهِ عَلَى الغُرَمَاءِ عِنْدَ حُلُولِ الدَّيْنِ وَلَكِنْ لاَ يَسْتَقِلُّ بِهِ دُونَ إِذْنِ الرَّاهِنِ، بَلْ يُرفَعُ اِلَي القَاضِي حَتَّى يُطَالِبَ الرَّاهِنَ أَوْ يُكَلِّفَهُ البَيْعَ، وَلَوْ أَذِنَ لِلْعَدْلِ وَقْتَ الرَّهْنِ فِي البَيْعِ لَمْ يَجِبْ مُرَاجَعتُهُ ثَانِياً عَلَى الأَصَحِّ، وَلَوْ ضَاعَ الثَّمنُ فِي يَدِ العَدْلِ فَهُوَ أَمَانَةٌ، فَإنْ سَلَّم إلَى المُرْتَهِنِ بِإذْنِ الرَّاهِنِ وَلَكِنْ أَنْكَرا تَسْلِيمَهُ فَهُو ضَامِنٌ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الرَّاهِنُ فَفِي ضَمَانِهِ لِتَقْصِيرِهِ فِي الإِشْهَادِ خِلاَفٌ، وَلاَ يَبيعُ العَدْلُ إلاَّ بِثَمنِ المِثّلِ، فَإِنْ طَلَبَ بِزِيَادَةٍ فِي مَجْلِسِ العَقْدِ حَوَّلَ العَقْدَ إلَى الطَّالِبِ. قال الرَّافِعِيُّ: المُرْتَهِن يستحق بيع المَرْهُون عند الحاجة، ويتقدم بثمنه على سَائِر الغُرَمَاء، وإنما يبيعه الرَّاهِن أو وكيله بإذن المُرْتَهِن فلو لم يأذن المُرْتَهِن وإن أراد الرَّاهن بيعه وَأَبى المرتهن قال له القَاضي: آئذن في بَيْعِه، وخُذْ حَقَّك من ثمنه أو أبرئه، وإنْ طلب المُرْتَهن البيع وأبى الرَّاهن ولم يقبض الدين أجبره الحاكم على قضائه، أو البيع إما بنفسه أو بوكيله، فإن أصَرَّ باعه الحاكم، وعند أبي حنيفة لا يبيعه، ولكن يحبس الراهن حتى يبيع ولو كان الراهن غائباً أثبت الحال عند الحاكم حتى يبيعه، فإن لم تكن له بيّنة، أو لم يكنْ في البلد حاكم فله بيعه بنفسه، كما أنَّ مَنْ ظفر بغير جنس حقه من مال المديون وهو جاحد ولا بينة له أن يبيع ويأخذ حقه من ثمنه. ثم في الفصل مسائل: إحْدَاها: لو أذن الرَّاهن للمرتهن في بيعه بنفسه فباع في غيبة الراهن فوجهان: أحدهما، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد رحمهم الله تعالى: أنه يصحّ البيع، كما لو أذن له في بيع مال آخر. وأصحهما: المنع؛ لأنه يبيعه لغرض نفسه، فيكون متهمًا في الاسْتِعْجَال وترك النظر، وإنْ باعه بحضوره صَحّ لانقطاع التُّهْمة هذا ظاهر النَّص، حيث قال: ولو شرط لِلْمُرْتَهِن إذا حلّ الحق أنْ يبيعه لم يجز أن يبيع لنفسه، إلاَّ بأن يحضر رب الرَّهْن.
وفيه وجه: أنه لا يصحّ أيضاً؛ لأنه توكيل فيما يتعلق بحقه، فعلى هذا لا يصح توكيله ببيعه أصلاً، ويتفرع عليه أنه لو شرط ذلك في ابتداء الرَّهْن، فإنْ كان الرَّهْن مشروطاً في بيع فالبيع باطل، وإنْ كان رهن تبرع فعلى القَوْلَين في الشروط الفاسدة التابعة للمرتهن أنها هل تبطل الرَّهْن؟ وعلى الأول، وهو المذهب في نَصّ لفظ الرَّهْن في الإذن تفصيل مذكور في الكتاب من بعد. وإذن الوارث لِغُرَمَاء الميت في بيع التركة، كإذن الرَّاهن للمرتهن، وكذا إذن السيد للمجني عليه في بيع العبد الجاني، قاله الشيخ أبو حامد، والله أعلم. واعلم أن صاحب الكتاب قَدّر صحة البيع في المُرْتَهِن مفروغاَ منه متفقًا عليه، وتكلم في أنه لا يستقل به المُرْتَهن، كذلك ساق الإِمَام وأول النص الذي سبق على شيء آخر سنذكره إنْ شاء الله تعالى. الثانية: إذا وضعا الراهن عند عدل بشرط أن يبيعه عند المحل جاز، ثم في اشتراطه مراجعة الراهن، وتجديد إذنه عند البيع وجهان: أحدهما، وبه قال ابن أبي هريرة: يشترط، لأنه قد يكون له غرض في اسْتِبْقَاء المرهون، ويريد قضاء الحق من غيره. وأصحهما: عند الإمام وصاحب الكتاب، وبه قال أبو إسحاق: لا يشترط، لأن الأصل دوام الإذن الأول. وأما المرتهن فجواب العراقيين: أنه لا بد من مراجعته ويحصل إذنه ثانياً، ولم يجروا فيه الخلاف، ووجهوه بأن المرهون إنّما يباع لإيصال حقه إليه، وذلك يستدعي مطالبته بالحق، فيراجع ليعرف أنه مطالب أو ممهل أو مبرأ. وقال الإمام: لا خلاف في أنَّ المرتهن لا يراجع؛ لأن غرضه تَقْوية الحَقّ بخلاف الراهن، فإنه قد يستبقي العين لنفسه، فتأمل بعد إحدى الطرفين عن الأخرى. ولو عزل الرَّاهن العدل قبل البيع انعزل، وبه قال أحمد كسائر الوكلاء في سائر الأَعْمَال. وقال مالك وأبو حنيفة: لا ينعزل ولو عزله المُرْتَهن فوجهان: أحدهما: وهو ظاهر النَّص: أنه ينعزل كما لو عزله الرَّاهن؛ لأنه يتصرف لهما جميعاً. وأظهرهما: وبه قال أبو إسحاق: لا ينعزل؛ لأنه وكيل الراهن، إذ المرهون له، وإذن المرتهن شرط جواز التَّصرف، ولا كلام في أنه لو منعه من البيع لم يبع، وكذلك لو مات أحدهما.
فإذا قلنا: لا ينعزل بعزل المُرْتهن، فلو عاد إلى الإِذْن جاز البيع، ولم يشترط تجديد توكيل من الراهن. قال في "الوسيط": ومساق هذا أنه لو عزله الرَّاهن ثم عاد ووكل افتقر إلى تجديد إذن لِلْمُرْتهن، ويلزم عليه أنْ يقال: لا يعتد بإذن المرتهن قبل توكيل الرَّاهن، ولا بإذن المرأة للوكيل قبل تَوْكيل الوَلِيّ إياه، والكل محتمل. الثَّالثة: إذا باع العدل، وأخذ الثمن فهو أمين، والثمن من ضَمَان الرَّاهِن إلى أنْ يتسلمه المرتهن، وبه قال أحمد خلافاً لأبي حنيفة ومالك، حيث قالا: هو من ضمان المرتهن. لنا: أنَّ الثمن ملك الراهن والعدل أمينه، فما تلف في يده يكون من ضمان المالك، ولو تلف الثَّمَن في يد العَدْل ثم خرج الرَّهْن مستحقّاً، فالمشتري بالخيار بين أنْ يرجع بالثمن على العَدْل، وبَيْنَ أَنْ يرجع على الرَّاهِن، ولو كان العَدْل قد باع بإِذن الحاكم لموت الرَّاهِنِ أو غيبته وتلف الثمن، وخرج المَرْهُون مستحقّاً، فللمشتري الرجوع في مال الراهن، ولا يكون العَدْل طريقاً للضَّمَان في أصَحِّ الوجهين؛ لأنه نائب الحاكم، والحاكم لا يطالب فكذلك نائبه. والثاني: يكون طريقاً الوكيل والوصي. وإذا ادَّعى العدل تلف الثمن في يده، قبل قوله مع يمينه، فإن ادعى تسليمه إلى المرتهن وأنكر المرتهن، فالقول قول المرتهن مع يمينه. وعن أبي حنيفة أنَّ القول قول العدل مع يمينه، وإذا حَلَفَ المرتهن أخذ حقه من الراهن، ويرجع الراهن على العدل، وإنْ كان قد أذن له في التسليم، نعم لو أذن أَوَّلاً وصدقه في التَّسْليم فوجهان: أظهرهما: أنه يضمن أيضاً لتقصيره بترك الإِشْهاد. والثاني: لا، لاعتراف الراهن بأنه امتثل ما أمره به، والمُرْتَهِن ظالم فيما يأخذه، وبهذا قال ابْنُ الوَكِيل، والوجهان فيما إذا أطلق الإذن في التسليم. فأما إذا شرط عليه الإشْهَاد فتركه ضمن بلا خلاف، وإذا ضمن بترك الإِشْهاد، فلو قال: أشهدت، وماتت شهودي وصدقه الرَّاهن فلا ضمان، وإنْ كذبه فوجهان، نشرحهما مَعَ مَا يُنَاسب هذه الصُّورة في الضَّمَان إنْ شاء الله تعالى. الرابعة: إذا جاز لِلْعَدْل البيع لم يبع إلاَّ بثمن المِثْل، أو بما دونه في قدر ما تَتَغَابَن به النَّاس، وليكن ذلك من نَقْد البلد حالاً، فإن أجل بشيء من هذه الشُّرُوط لم يصح البيع، وعن القاضي أبي حامد حكاية وجه: أنه لو باع نَسِيْئَةٍ صَحَّ ولا اعتبار به، ولو سلّم إلى المشتري صار ضامناً. ثم للمبيع حالتان:
إحداهما: أنْ يكون باقياً فيسترد ويجوز لِلْعَدْل بيعه بالإذن السابق، وإنْ صار مضموناً عليه، فإذا باعه وأخذ الثمن لم يكن الثمن مضموناً عليه؛ لأنه لم يتعد فيه. الثانية: أن يهلك في يده، فإن كان قد باع بغير نقد البلد أو نَسِيْئَة، فالرَّاهن بالخِيَار في تَغْرِيم من شاء من العَدْل أو المشتري كمال قيمته، وإنْ باع بدون ثمن المثل فقولان. أصحهما، وبه قال أبو إسحاق: أن الحكم كذلك؛ لأنه أخرجه من يده على وجه غير متبوع. والثاني: أنه إِنْ غرم العدل حطّ النُّقْصان الَّذي كان محتملاً في الابتداء. مثاله: لو كان ثمن مثله عشرة، وكان يتغابن فيه بدرهم فباعه بثمانية يغرمه تسعة، ويأخذ الدرهم الباقي من المشتري، هكذا نقلوه وغالب الظَّن طرد هذا الخِلاَف في البيع بغير نقد البلد والنَّسِيئة، وإن اتَّفق النَّص على القولين في الغَبْن، ويؤيده أنَّ صاحب "التهذيب" في آخرين جعلوا كبقية تغريم الوَكِيْل إذا بَاعَ على أحد هذه الوجوه، وسلم على الخِلاَف، وسووا بين الصُّوَر الثَّلاَث، ومعلوم أَنَّه لا فرق بين العَدْل في الرَّهْن وبين سائر الوكلاء، وعلى كل حال فالقرار على المشتري لحصول الهلاك عنده. فرع: لو قال أحد المرتهنين: بعه بالدّراهم، وقال الآخر: بالدَّنَانير لم يبع بواحد منهما لاختلافهما في الإذن، لكن يرفعان الأمر إلى الحاكم ليبيع بِنَقْدِ البلد، ثم إنْ كان الحَق مِنْ جنس نقد البلد فذاك، وإلاَّ صرف نقد البلد إليه، ولو رأى الحَاكِم أنْ يبيعه بجنس حق المرتهن جاز. الخامسة: إذا باع بثمن المِثْل، ثم زاد راغب قبل التفرق، فليفسخ البيع وليبعه منه، فإنْ لم يفعل فوجهان: أحدهما: أن البيع لا ينفسخ. لأن حصول الزِّيَادة غير موثوق بها. وأصحهما: الانفساخ؛ لأن مجلس العقد كَحَالَة العَقْد، وليس له أن يبيع بثمن المثل. وهناك من يبذل زيادة فعلى هذا. فلو بدا للراغب نظر إنْ كان قبل التمكن من البيع منه، فالبيع الأوّل بحاله، وإنْ كان بعده فقد ارتفع ذلك البيع فلا بد من بيع جديد، وفي طريقة الصيدلاني أنه إذا بدا له بأن البيع بحاله، كما لو بذل الابْن الطَّاعة لأبيه في الحج، وجعلناه مستطيعاً به، ثم رجع عن الطَّاعة قبل أنْ يحج أهل بلده، فإنَّا نتبين عدم الوجوب، ولو لم ينفسخ العَقْد في البيع الأول وباع من الراغب، ففي كونه فسخًا لذلك البيع، ثم في صحته في نفسه خلاف سبق في البيع، وأشار الإمام في المسألة إلى شيء آخر، وهو أنَّ الوكيل بالبَيْع لو باع ثم فسخ البيع هل يتمكن مِنَ البيع مرة أخرى؟ فيه خلاف، والأَمْر بالبيع من الرَّاغب هاهنا جواب على أَنَّهُ يتمكّن منه أَوْ مفروض
فيما إذا صَرَّح بالاذن بذلك، وأكثر هذه المَسَائل يطّرد في جميع الوِكَالاَت (¬1). قال الغزالي: وَعلَى الرَّاهِنِ مَؤُنَةُ المَرْهُونِ، وَأُجْرَةُ الإِصْطَبْلِ، وَعَلَفُ الدَّابَّةِ، وَسَقْيُ الأَشْجَارِ، وَمُؤنَةُ الجِذَاذِ مِنْ خَاصِّ مَالِهِ عَلَى الأَصَحِّ، وَقيلَ: إِنَّهُ يُبَاعُ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ المَرْهُونِ، فَإنْ كَانَ بِحَيْثُ تُهْلِكُهُ النَّفَقَةُ يُبَاعُ كَمَا يَفْعَلُ بِمَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الفَسَادُ، وَلاَ يُمْنَعُ الرَّاهِنُ مِنَ الفَصْدِ وَالَحِجَامَةِ وَالخِتَانِ، وَيُمْنَعُ مِنْ قَطْعٍ سِلْعَةٍ فِيهِ خَطَرٌ. قال الرَّافِعِيُّ: مؤنات الرَّهْن الَّتِي بها يبقى لها الرَّهْن، كنَفَقة العبد وكسوته وعَلَف الدَّابة على الراهن؛ لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يغْلَقُ الرَّهْنُ، مَنْ رَاهَنَهُ عَلَيْهِ غُرْمُه وَلَهُ غُنْمُهُ" (¬2). ¬
قوله: "من راهنه" أي: من ضمان راهنه، وفي معناه سقى الأَشْجَار والكُرُوم ومؤنة الجُذَاذ، وتَجْفيف الثمار، وأُجْرة الإصْطَبل، والبيت الذي يحفظ فيه المتاع المرهون، إذا لم يتبرع به المُرْتَهن أو العَدْل، وأجرة من يرد العبد من الإباق وما أشبه ذلك، ثم حكى الإمام والمُتَولي وجهين في أنَّ المؤنات، هل يجبر الرَّاهِن عليها حتَّى يقوم بها من خالص ماله؟ أصحهما: الإِجْبَار استبقاء لوثيقة المرتهن.
والثاني عن الشيخ أبي محمد وغيره: أنه لا يُجْبَر عند الامتناع، ولكن يبيع القَاضِي جزءاً من المَرْهُون بحسب الحاجة. وقد فرع الإمام على هذا أنَّ النفقة لو كانت تأكل الرَّهْن قبل الأجل ألحق بما يفسد قبل الأَجل فيباع، ويجعل ثمنه رهناً. ولك أنْ تقول: هذا إما أنْ يلحق (¬1) بما لا يتسارع إليه الفساد، ثم عرض ما أفسده، أو بما يتسارع إليه الفساد، لا وجه للأول؛ لأن العارض ثم اتفاقي غير متوقع، والحاجة إلى هذه المُؤنات معلومة محققة، وإنْ كان الثَّاني لزم إثبات الخِلاَف المذكور في رهن ما يتسارع إليه الفَسَاد في رَهْن كل ما يحتاج إلى نفقة، أو مكان يحفظ فيه، وأنه بعيد وبه يظهر ضعف الوجه من أصله، وإذا قلنا بالأصح، فلو لم يكن لِلرَّاهن شيء أو لم يكن حاضراً، باع الحاكم جزءاً من المرهون، واكترى به بيتاً يحفظ فيه الرَّهْن، هكذا قاله الأئمة رحمهم الله تعالى وقد مرّ في مؤنة السَّقْي والجُذَاذ والتَّخفِيف مثله، وأما المُؤْنَات الدَّائِمة فيشبه أن يقال: حكمها حكم ما لو هرب الجِمَال وترك الجِمَال المُكْتَرَاة، أو عجز عن الإِنْفَاق عليها (¬2)، هذه إحدى مسألتي الفصل. والثانية: أنه لا يمنع الرَّاهن منْ أن يفعل بالمرهون ما فيه مصلحته، كفَصْد العبد وحِجَامته، وتَوْدِيج الدَّابة وبَزْغها، والمُعَالَجة بالأدوية والمَرَاهم، لكن لا يجبر عليها بخلاف النفقة، وأجرى صاحب "التتمة" الوجهين في المُدَاوَاة، ثم إنْ كانت المداواة فيما يرجى نفعه ولا يخاف منه غائلة فذاك، وإنْ كان يخاف، فعن أبي إسْحَاق أنَّ للمرتهن المنع منه، وقال أبو علي الطَّبَرِي: لا يمنع (¬3)، ويكتفي بأن الغالب منه السَّلاَمة، واختاره القاضي أبو الطَّيب، ويجري الخلاف في قطع اليد المتآكلة إذا كان في قطعها وتركها خطر، فإنْ كان الخطر في التَّرْك دون القطع فله القطع، وليس له قطع سلعة، وأصبح لا خطر في تركها إذا خيف منه ضرر، فإنْ كان الغالب السَّلاَمة ففيه الخلاف، وله أنْ يختن العبد والأمة في وقت اعتدال الهواء، إن كان يَنْدَمِل قبل حلول الأجل، لأنه أمر لا بد منه والغالب فيه السَّلامة، وإن كان يندمل وكان فيه نقص لم ¬
يجز، وكذلك لو كان به عارض يخاف معه من الخِتَان (¬1). ووراء هذه صورتان: إحداهما: له تَأْبِير النَّخْل المرهونة، ولو ازدحمت. وقال أهل الخبرة (¬2): تحويلها أنفع جاز تحويلها، وكذا لو رأى قطع البعض لصلاح الأكثر، ثم ما يقطع منها لو يجف يبقى مرهوناً، بخلاف ما يحدث من السَّعَف ويجف، فإنَّ الراهن يختص بها، وينزل منزلة الثِّمَار، وما كان ظاهراً منها عند الرَّهْن. قال في "التتمة": فهو مرهون وقال في "الشامل": لا فرق (¬3). الثانية: لا يمنع من رعي المَاشِيَة في وقت الأمن، وتأوي ليلاً إلى يد المُرْتَهِن أو العدل، وإذا أراد الراهن أن يبعد في طلب النُّجْعَة (¬4) وبالقرب ما يبلغ منها مبلغاً، فللمرتهن المنع، وإلاَّ فلا منع، وتَأْوي إلى يد عدل ينفقان عليه، أو ينصبه الحاكم، وإنْ أراد المرتهن ذلك وليس بالقرب ما يكفي فلا منع، وكذا لو أراد نقل المتاع من بيت غير مُحْرز إلى مُحْرز، ولو بيعا بهما المكان، وأرادا الانتقال نظر، إن انتقلا إلى أرض واحدة فلا إشكال، وإلاَّ جعلت الماشية مع الرَّاهن، ويحتاط ليلًا كما سبق. وقوله في الكتاب: (وأجرة الإصْطَبْل) معلم بالحاء لأن عنده مؤنة البيت والإصْطَبْل على المرتهن، إنْ لم يزد الرَّهن على قدر الدَّين، فإنْ زاد فقسط الزيادة على الراَهن، وبمثله أجاب في المُدَاوَاة وأجرة رد الآبِق. وقوله: (على الأصح) يتعلّق به من خالص ماله، لا بأصل لزوم المُؤْنة عليه، فالمقابل للأصح قوله: وقيل: يباع إلى آخره. قال الغزالي: وَالمَرْهُونُ أَمَانَةٌ (ح) فِي يَدِهِ، وَلاَ يَسْقُطُ (ح) بِتَلَفِهِ شَيْءٌ مِنَ الدَّيْنِ، وَلَو أَذِنَ لَهُ فِي الغِرَاسِ بَعْدَ شَهْرٍ فَهُوَ بَعْدَ الغِرَاسِ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ، وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ ¬
مَبِيعاً مِنْهُ بَعْدَ شَهْر بِالدَّيْنِ فَهُوَ بَعْدَ الشَّهْرِ مَضْمُونٌ لأَنَّهُ مبِيعٌ بَيْعاً فَاسِداً، وَلِلْفَسَادِ حُكْمُ الصِّحَّةِ فِي ضَمَانِ العُقُودِ، وَلَو ادَّعَى المُرْتَهِنُ تَلَفاً أَو رَدّاً فَهُوَ كَالمُودِعِ عِنْدَ المَرَاوِزَةِ، وَالقَوْلُ قَوْلُهُ، وَطَرَدُوا ذَلِكَ فِي المُسْتَأْجِرِ، وَكُلُّ يَدٍ هِيَ غَيْرُ مُضْمَنَةٍ، وَقَالَ العِرَاقِيُّونَ: يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالوَدِيعَةِ وَبِالوَكِيلِ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ، وَمِنْ عَدَاهُمَا يُطَالَبُ بِالبَيِّنَةِ قِيَاساً لأَنَّ المُودِعَ وَقَعَ الاعْتِرَافُ بِصِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَالمُرْتَهِنُ مِنَ الغَاصِبِ عِنْدَ المَرَاوِزَةِ كَالمُودِع مِنَ الغَاصِبِ يُطَالَبُ وَلاَ يَسْتَقِر الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَإِنْ تَلَفَ فِي يَدِهِ، وَكَذَا المُسْتَأَجِرُ بِخِلاَفِ المُسْتَعِيرِ وَالمُسْتَامِ، وَعنْدَ العِرَاقِيِّينَ فِي مُطَالَبَتِهِمْ وَجْهَانِ، ثُمَّ فِي قَرَارِ الضَّمَانِ بَعْدَ المُطَالَبَةِ وَجْهَانِ آخَرَان. قال الرَّافِعِيُّ: في الفصل أصْلاَن وفروع: أحد الأصلين: أن المرهون أمانة في يد المرتهن لا يسقط بتلفه شيء من الدين، ولا يلزمه ضمانه إلاَّ إذا تعدى فيه وبهذا قال أحمد. وقال أبو حنيفة: هو مضمون بالأقل من قيمته أو الدَّيْن فإن كانت قيمته أقل سقط بتلفه من الدَّيْن بقدر قيمته، وإلاَّ سقط الدين ولا يضمن الزيادة. وقال مالك: ما يظهر هلاكه كالحيوان والعَقَار والأشجار أمانة، وما يخفى هلاكه كالنُّقُود والعروض مضمون بالدين؛ لأنه يتهم فيه. لنا أن بعض المرهون أمانة، فكذلك كله كالوديعة، وأيضاً فإن الرَّهْن شرع وثيقة لِلدَّين أيضاً في يد المرتهن، ولا يصير مضموناً عليه إلاَّ إذا امتنع من الرد بعد المطالبة. وقال ابن الصباغ: ينبغي أن يكون المرتهن بعد الإبْراء كمن طيرت الرِّيح ثوباً إلى داره حتى يعلم المرتهن به أو يرده؛ لأنه لم يرض بيده إلاَّ على سبيل الوثيقة. والأصل الثاني: أن كل عقد يقتضي صحيحه الضّمان، فكذلك فاسده، وما لا يقتضي صحيحه الضمان، فكذلك فاسده. وأما الطرف الأول؛ فلأن الصحيح إذا أوجب الضَّمان فالفاسد أولى باقتضائه. وأما الثاني؛ فلأن من أثبت اليد أثبته عن إذن المالك، ولم يلزم بالعقد ضَمَانًا، ولا يكاد يوجب التَّسْليم والتسلم إلاَّ من معتقدي الصحة. وأما الفروع فأربعة: أحدها: لو أعار المرهون من المرتهن لينتفع به ضمنه وعند أبي حنيفة يخرج عن كونه مضموناً بناء على أنَّ العارية غير مَضْمُونة. ولو رهنه أرضاَ وأذن له في الغِرَاس بعد شهر، فهي بَعْدَ الشَّهْر عارية وقبله أمانة
حتى لو غرس قبله قَلَعَ ولو غرس بعده فَسَيَأْتي الحكم في العَارِية. وقوله في الكتاب: (وهو بعد الغِرَاس عارية) يجب تأويل؛ لأنه بعد الشَّهْر عَارِيَة غرس أو لم يغرس. وثانيها: لو رهن منه مالاً على أنه إذا حل الأجل فهو مبيع منه، أو على أن يكون مبيعاً منه بعد شهر، فالرَّهْن والبيع فاسدان، أما الرُّهْن فلكونه مؤقتاً. وأما البَيْع فلكونه مشروطاً، ويكون المال أمانة في يده قَبْل دخول وقت البيع وبعده مضمونًا، لأن البَيْع عقد ضمان ونقل وجهاً في "النهاية": أنه إنما يصير مضموناً إذا أمسكه عن جهة البَيْع، أما إذا أمسكه على موجب الرَّهْن فلا، والمذهب الأول، فلو كان أرضاً فغرس فيه المرتهن، أو بني قبل دخول وقت البيع قلع مجاناً، وكذا لو غرس بعده وهو عالم بفساد البيع، وإنْ كان جاهلاً لم يقلع مجاناً لوقوعه بإذن المالك وجهله بعدم الجواز، فيكون الحكم كما لو غَرَسَ من المُسْتَعِير ورجع المعير. وثالثها: إذا ادَّعى المرتهن تلف الرَّهْن في يده قبل قوله: مع يمينه، وعن مالك أنه إنْ أخفى هلاكه لم يقبل، وإن ادَّعى ردّه إلى الرَّاهن: فطريقة العراقيين من أصحابنا أنَّ القول قول الرَّاهن مع يمينه، ولا يقبل قول المرتهن إلاَّ ببيّنة؛ لأنه أخذه لمنفعة نفسه فأشبه المستعير، ويخالف دعوى التَّلف لأنه لا يتعلق بالاختيار، ولا تساعده فيه البَيّنة، قالوا: وكذا الحكم في المستأجر إذا ادَّعى الرَّد، ويقبل قول المودع والوكيل بغير الجُعْل مع اليمين؛ لأنهما أخذا المال بمحض غرض المالك، وقد ائتمنهما فليصدقهما، وفي الوكيل بالجُعْل والمُضَارب، والأجير المشترك إذا لم يضمنه ذكرنا وجهين: أحدهما: أنهم مطالبون بالبينة؛ لأنهم أخذوا لغرض أنفسهم في الأجرة والربح. وأصحهما: أنه يقبل قولهم مع أيمانهم؛ لأنهم أخذوا العيْن لمنفعة المالك، وانتفاعهم بالعمل في العَيْن لا بالعَيْن، بخلاف المُرْتهن والمستأجر، وهذه الطريقة هي الَّتِي سلكها أكثر الأصحاب سيما قدماؤهم، وتابعهم القاضي الرُّوياني، وذهب بعض الخُرَاسَانيين من المَرَاوِزَة وغيرهم: أن كل أمين يصدق في دعوى الرد كالمودع، قالوا: ولا عبرة بمنفعته في الأخذ، كما لا عبرة بها في وجوب الضَّمَان عند التلف بخلاف المستعير والمستام واعرف في لفظ الكتاب من الفرع شيئين: أحدهما: أنه سوى بين التَّلف والرد، وساق الطريقين في دعواهما جميعاً، وليس كذلك بل الكُلّ مطبقون على تَصْدِيقه في دعوى التَّلَف، وإنَّمَا الاختلاف في الرد. واعلم: أن قولنا: يقبل قوله في التلف نريد به القبول في الجملة، وله تفصيل نذكره في كتاب "الوديعة" إن شاء الله تعالى.
والثَّاني: أنه لم يَحْكِ طريقة العراقيين بتمامها، ولم يستوعب مواضع الوِفَاق والخِلاَف بالذَّكْر، ولفظه في تَخْصِيص التَّصْديق بالمودع والوَكِيل بغير جُعْل لا يستمر إلاَّ على أحد الوَجْهَيْن الذين نقلوهما. وقوله: (لأن المودع وقع الاعتراف بصدقه وأمانته) لا يتضح به الفرق، إذ لا بعد في أن يقال: كل أمين يقع الاعتراف بصدقه وأمانته، والَّذي ذكروه في الفرق أن الوَدِيْعة ائتمان محض لا غرض للآخذ فيها كما مرّ. ورابعها: لو رهن الغَاصِب المغصوب من إنسان فتلف في يد المرتهن، فللمالك تَضْمِيْنُ الغاصب، وفي تَضْمِييْن المرتهن طريقان. قاله العراقيون: فيه وجهان لابن سُرَيْج: أحدهما: أنه لا يطالب بالضَّمَان؛ لأن يده يد أمانة. وأصحهما: أنه يطالب لتفرغ يده على يد الغاصب، وعدم ائتمان المالك إياه، وعلى هذا فيستقر الضَّمَان عليه أم يرجع على الغاصب؟ فيه وجهان: أحدهما: يستقر لحصول التلف عنده، فينزل التلف منزلة الإتلاف في المَغْصُوبات. وأظهرهما: أنه يرجع لِتَغْرير الغَاصِب إياه وعدم التَّعدِّي منه، هذه طريقة، وعن المَرَاوزة القَطْعُ بالمُطَالَبَة وعدم الاسْتِقْرَار، والطَّرِيقَان جاريان في المُسْتأْجر من الغَاصِب والمودع منه والَمُضَارب والذي دفع المغصوب إليه ووكّله ببيعه، وكل ذلك فيما إذا جهلوا كونه مغصوباً، فإنْ علموا فهم غاصبون أيضاً، والمُسْتَعْيرِ منه والمُسْتَام فيطالبان، ويستقر عليهما الضمان؛ لأن يد كل واحد منهما يد ضمان، وهذه الصور تعود في الغَصْب إن شاء الله تعالى. وقوله في الكتاب: (وعند العراقيين في مطالبتهم وجهان) يرجع إلى المرتهن والمستأجر والمودع، دون المستعير والمُسْتَام. ومن الفروع التي تندرج في الفصل: أنه لو رهن بشرط أن يكون مضمونًا على المرتهن يفسد الشرط والرهن، ثم لا يكون مضمونًا عليه. ومنها: لو قال: خذ هذا الكيس واسْتَوْفِ حقك منه، فهو أمانة في يده قبل أن يستوفى حقه، فإذا اسْتَوْفَى حَقَّه منه كان مَضْمُوناً عليه، ولو قال: وفيه دراهم خُذْه بدراهمك، وكانت الدراهم التي فيه مَجْهُولة القَدْر، أو كَانَتْ أكثر من دراهمه لم يملكه، ودخل في ضمانه بحكم الشِّرَاء الفاسد وَإِنْ كانت مَعْلُومة، وبقدر حقه ملكها، ولو قال:
خذ هذا العبد بحقك، ولم يكن سليماً فقبل ملكه، وإنْ لم يقبله وأخذه دخل في ضمانه بحكم الشراء الفاسد. قال الغزالي: وَالمُرْتَهِنُ مَمْنُوعٌ مِنْ كُلِّ تَصَرُّفٍ قَوْلاً وَفِعْلاً فَإِنْ وَطِئَ فَهُوَ زَانٍ، وإنْ ظَنَّ الإِتاحَةَ فَوَاطِئٌ بِالشُّبْهِةِ، فَإِنْ أَذِنَ الرَّاهِنُ وَعَلِمَ التَّحْرِيمَ فَزَانٍ، وَقِيلَ: مَذْهَبُ عَطَاءٍ فِي إِبَاحَةِ الجَوَارِي بِالإِذْنِ شُبْهَةٌ، وَإِنْ ظَنَّ حِلاّ فَوَاطِئٌ بِالشُّبْهَةِ، وَفِي وُجُوبِ المَهْرِ عَلَيْهِ وَقِيمَةِ الوَلَدِ عَلَيْهِ وَجْهَان مِنْ حَيْثُ إنّ الإِذْنَ ضَعِيفُ الأثرِ فِي الوَطْءِ بِدَلِيلِ المُفَوِّضَةِ. قال الرَّافِعِيُّ: ليس للمرتهن في المرهون سوى حق الاستيثاق. أما البيع وسائر التصرفات القولية والانتفاعات وسائر التَّصرفات العَقْلية، فهو ممنوع من جميعها، فلو وَطِئَ الجارية المرهونة لم يخل إما أنْ يطأ بدون إذْنِ الراهن أو بإذنه. الحالة الأولى: أن يطأ بدون إذنه، فهو كما لو وطئ غير المرهونة وإن ظنها زوجته أو أمته، فلا حَدَّ وعليه المهر والولد حُرٌّ نسيب، وعليه قيمته للراهن، وإنْ لم يظن ذلك ولم يدع جَهْلاً، فهو زَانٍ يلزمه الحَدِّ كما لو وطئ المستأجر الجارية المُكْراة، ويجب المَهْر إنْ كانت مدكرهة، وإنْ كانت مطاوعة لم يجب على الأصح، وهذا الخلاف بتوجيهه مذكور في الغَصْب. وإن ادَّعى الجهل بالتَّحْريم، لم يقبل إلاَّ أنْ يكون حديث العَهْد بالإِسلام، أو نشأ في بادية بعيدة عن بلاد المُسْلِمِين، فقبل قوله لدفع الحد، وحكى المسعودي في قبوله لثبوت النَّسب خلافاً للأصحاب، وأجرى مسألة في حُرِّيَّة الولد ووجوب المَهْر، والأصح ثبوت الكل؛ لأن الشُّبْهة كما تدرأ الحَدّ تثبت النَّسب والحرية، وإذا سقط الحَدّ وجب المهر. والثانية: أنْ يَطَأَ بإذنه فإنْ علم أنه حرام، فظاهر المذهب أنه يجب عليه الحَدّ، وفيه وجه: أنه لا يجب لاختلاف العلماء، فإن عطاء بن أبي رباح -رضي الله عنه- كان يجوز وطء الجارية بإذن مالكها، وإن ادَّعى الجهل بالتَّحريم، فوجهان: أحدهما: أنه لا يقبل إلاَّ أن يكون حديث العهدب بالإسلام، أو من في معناه كما في الحالة الأولى. وأصحهما، وبه قال القاضي أبو الطيب: أنه يقبل ويرفع الحَدّ، وإنْ نشأ بين المسلمين؛ لآن التحريم بعد الإذْن لما خفى على عَطَاء، مع أنه من علماء التَّابِعِين لا يبعد خفاؤه على العَوَام، وإذا اندَفع الحَدّ فهل يلزمه المَهْر؟
أما إذا كانت مطاوعة فلا، لانضمام إذن المستحق إلى طواعيتها. وأما إذا كانت مُكْرَهة فقولان: أحدهما: أنه لا يجيب أيضاً؛ لأن مستحق الرَّهْن قد أذن، فأشبه ما لو زَنَتِ الحرة. وأصحهما، وبه قال أبو حنيفة: يجب، لأن وجوب المهر حيث لا يجب الحَدّ حق الشرع، فلا يؤثر فيه الإذْن، كما أن المُفَوضة تستحق المَهْر بالدخول مع تفويضها، وإنْ كان قد أَوْلَدها بوطئه فاَلولد حُرٌّ نسيب، وفي وجوب قيمة الولد طريقان: أحدهما: أنه على القولين في المهر. وأصحهما: الوجوب جزماً والفرق أنَّ الإذن في الوطء رضا بِإتْلاَف المنفعة، وليس رِضاً بالإحبال جزماً (¬1) وأيضاً فإِنَّ الإذن لا أثر له في حرية الولد، وإنَّمَا الموجب له ظن الواطئ فحسب، ولا تصير الجَارِية أم ولد للمرتهن بحال، وإنْ ملكها يوماً من الدَّهْر ففيه قولان، إذا كانت الصُّورة صورة ثبوت النَّسب. وقوله في الكتاب: (فهو زان)، يمكن إعلامه بالحاء؛ لأنه لا حَدَّ عليه في رواية عن أبي حنيفة. وقوله: (فإن ظن إباحته، فوطئ بالشبهة) غير مجرى على إطلاقه، بل المراد ما إذا كان حديث العَهْد بالإسلام أو من في معناه. وأما قوله: (وفي وجوب المَهْر وقيمة الوَلَد وجهان) ففيه نظران: أحدهما: أنَّ الخلاف في المهر قولان لا وجهان، وقد نص عليهما في "المختصر". والثاني: أنه أجاب بطريقة إثبات الخلاف في القيمة، والأصح عند الأئمة الطَّريقة النافية للخلاف، ويجوز إعلام "القيمة" بالواو إشارة إليها. فرع: زعم المرتهن بعد الوَطْء أن الراهن قد باعها منه أو وهبها وأقبضها، فأنكر الراهن فالقول قوله مع يمينه، فإنْ حلف فهي والولد رقيقان له، ثم لو ملكها يوماً من الدهر فهي أم ولد له والولد حُرٌّ لإقراره السَّابق، كما لو أقر بحرية عَبْد الغير، ثم اشتراه فإنْ نكل الرَّاهن وحلف المرتهن فالولد حر، وهي أم ولد له. قال الغزالي: وَهَذِهِ الأَحْكَامُ تَثْبُتُ في عَيْنِ الرَّهْنِ وَبَدَلِهِ الوَاجِبِ بِالجِنَايَةِ عَلَى ¬
المَرْهُونِ إِذْ يَسْرِي إِلَيْهِ حَقُّ الرَّهْنِ حَتَّى لاَ يَنْفَذَ إبْرَاءُ الرَّهْنِ اسْتِقْلاَلاً وَلاَ إبْراءُ المُرْتَهِنِ إِذْ لاَ دَيْنَ لَهُ، وَلاَ يَسْرِي إلَى الكَسْبِ وَالعُقْرِ (ح) وَالزِّيَادَاتِ العَينية (ح) كَالَّلبَنِ وَالوَلَدِ (ح) وَالصُّوفِ وَالثَّمَرَةِ (ح)، فَإِنْ كَانَ الوَلَدُ مُجْتنًا حَالَةَ البَيْعِ وَالعَقْدُ كَانَ تَابِعاً، وإِنْ كَانَ مُجتَناً في إحْدَى الحَالَتَيْنِ فَفِي تَبَعِيَّتهِ خِلاَفٌ. قال الرَّافِعِيُّ: مقصود هذه البقية بيان ما يتعلّق به حق الوثيقة، وتثبت فيه أحكامها ولا شك في تعلّقه بِعَيْنِ الرَّهْن، والكلام وراءها في بدل الرَّهْن وزوائد المرهون. الفصل الأول: في بدله، ومهما جنى على المرهون، وأخذ من الجاني الأرْش انتقل حق الرَّهْن إليه كما ينتقل المِلْك لقيامه مقام الأصل، ويجعل في يد مَنْ كان الأصل في يده مِنَ المُرْتَهن أو العَدْل، وإلى أن يؤخذ هل يقال بأنه مرهون؟ قال قائلون: لا؛ لأنه دين والدُّيون لا تكون مرهونة، فإذا تعيّن صار مرهوناً، والحالة المتخلّلة كتخمُّر العَصِير وتخلّله بعده، وقال آخرون: هو مرهون كما كان؛ لأنه مال بخلاف الخمر، ومنعوا خروجه عن كونه مرهوناً بخروجه عن كونه عَنباً، وإنما المُسَلَّم أنه لا يرهن الدَّين ابتداء (¬1)، والخَصْم في بدل المرهون إنما هو الراهن؛ لأنه المالك كما لو جنى على العبد المستأجر أو المودع يكون الخَصْم فيها المالك، فلو قعد عن الخُصُومة فقولان في أن المرتهن هل يخاصم؟ قال في "التهذيب" أصحهما عند الأصحاب، وبه قال القفال: أنه لا يخاصم (¬2) قال: ورأيت بخطّ شيخي أنَّ للمرتهن أنْ يدعي ويخاصم فيه، وكذلك المستأجر إذا دعى العَيْن، وقال لمن في يده: إنها ملك فلان أجرها منى، وإنما لا يدعي المُسْتأجر القيمة؛ لأن حقه لا يتعلّق بها، قال وهو القياس: وإذا خاصم الراهن فللمرتهن أنْ يحضر خصومته، لتعلّق حقه بما يأخذه، ثم إنْ أقر به الجَانِي أو أقام الرَّاهن البَيّنة، أو حلف بعد نُكُول المُدّعي عليه ثبتت الجناية، وإنْ نكل الراهن فهل يحلف المرتهن؟ فيه قولان، كما إذا نكل المُفْلس هل يحلف الغُرَمَاء؟ وإذا ثبتت الجِنَاية فإنْ كانت عمداً فلِلرَّاهن أن يقبض، ويبطل حقّ المبرتهن، وإنْ عَفَا عن القِصَاص مطلقاً ثبت المال، إن قلنا: مطلق العفو يوجب المال، وإلاَّ لم يجب وهو الأصح، هكذا قاله صاحب "التَّهذيب"، وإن عفا على أنْ لا مال. فإن قلنا: إنّ موجب العمد أحد الأمرين لم يصح عفوه عن المال. ¬
وإن قلنا: إنّ موجبه القَوَدُ، فإن قلنا: إن مطلق العَفْو لا يوجب المال، لم يجب شيء. وإن قلنا: يوجبه فوجهان: أحدهما: يجب لِحَقّ المرتهن. وأصحهما: المنع؛ لأن القتل لم يوجبه، وإنما يجب بعفوه المطلق أو بعفوه على المال، وذلك نوع اكْتِسَاب منه وليس عليه الاكْتِسَاب للمرتهن، وإنْ لم يقبض في الحَال ولم يعف، ففي إِجْبَارِهِ على أحدهما طريقان: أحدهما: يجبر ليكون المرتهن على ثبت من أمره. والثَّاني: إن قلنا: موجب العمد أحد الأمرين أجبره. وإن قلنا: موجبه القَوَدُ لم يجبر؛ لأنه يملك إسقاطه فتأخيره أولى بأن يملكه (¬1) وإن كانت الجناية خطأ أو عفا، ووجب المال فعفا عن المال، لم يصح عفوه لحق المرتهن، وفيه قول أنَّ العفو موقوف، ويؤخذ المال في الحال لحق المرتهن، فإن انفك الرَّهْن ردَّ إِلَى الجاني، وبان صحة العَفْو وإلاَّ بان بطلانه، ولو أراد الرَّاهن أنْ يصالح عن الأَرْش الواجب على جِنْس آخر لم يَجُز إلاَّ بإذن المرتهن، فإذا أذن صح وكان المأخوذ مرهوناً، هكذا نقلوه. ولك أن تقول: قد مَرَّ أنه إذا أذن في البيع والدَّين مؤجل فباع، يرتفع الرَّهْن ولا يكون الثَّمن رهناً، وأنه إذا أذن بشرط أنْ يكون الثمن رهناً ففي كونه رهناً قولان، وقياسه أنْ يكون المصالح عليه كذلك؛ لأن الصُّلْح بيع. ولو أَبْرأ المرتهن الجاني لم يصح؛ لأنه ليس بمالك، وهل يسقط حقه عن الوثيقة بهذا الإِبْرَاء؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، ويخلص المأخوذ للراهن كما لو صرح بِإِسْقَاط حقّ الوثيقة. وأصحهما: لا. لأنه لم يصح إبرازه، فلا يصح ما يتضمنه الإبراء، كما لو وهب المرهون من إنسان لم يصح، ولا يبطل الرَّهْن. الفصل الثاني: في زوائد المرهون، وهي إما متصلة كَسِمَنِ العبد وكِبَرِ الشجرة والثّمرة، فتتبع الأصل في الرَّهْن أو منفصلة كالثمرة والولد واللَّبن والبَيْض والصُّوف، فلا يسري إليها الرَّهْن وبه قال أحمد، وعند أبي حنيفة يسري. ¬
وقال مالك: الولد مرهون والثمرة غير مرهونة. لنا القياس على ولد الجارية الجانية، فإن الأرش لا يتعلق به بالاتفاق، وكما أنَّ هذه الزَّوَائد غير مرهونة، فكذلك مَهْرُ الجَارِية إذا وطئت بالشُّبْهة بل أولى، لأنه غير حاصل من نَفْس المرهون، وعند أبي حنيفة هو مرهون أيضاً، ولا خلاف في أن كَسْب العبد ليس بمرهون، هذا في الزوائد الحادثة بعد الرَّهْن. ولو رهن حاملاً، أو مست الحاجة إلى البيع وهي حامل بعد فيباع كذلك في الدين؛ لأنا إنْ قلنا: الحمل يعلم فكأنه صرح برهنها، وإلاَّ فقد رهنها والحمل مَحْض صفة، ولو ولدت قبل البيع فهل الولد رهن؟ فيه قولان مبنيان على أن الحمل هل يعلم؟ إن قلنا: لا، فهو كالحادث بعد العقد. وإن قلنا: نعم، فهو رهن يباع مع الأم كما لو رهن شيئين. وزاد الشيخ أبو محمد فقال: إن قلنا: نعم، ففي كونه مرهوناً قولان لضعف الرَّهْن عن الاسْتِتْبَاع وقد سبق نَظَائِره، فإن قلنا: الولد لا يكون مرهوناً، فلو صرح في العقد وقال: رهنتها مع حملها. قال الإمام: فيه تردد للأصحاب، والظَّاهر أنه لا يكون مرهوناً أيضاً، إذ لو جاز ذلك لجاز إفراده بالرَّهْن، ولو حبلت بعد الرَّهْن وكانت حاملاً عند الحاجة إلى البيع. فإن قلنا: الحمل لا يعلم بيعت حاملاً، وهو كزيادة متصلة. وإنْ قلنا: يعلم لم يكن الولد مرهوناً وتعذر بيعها؛ لأن استثناء الحمل لا يمكن ولا سبيل إلى بيعها حاملاً، ويوزع الثمن على الأم والحمل؛ لأن الحمل لا تعرف قيمته، فلو رهن نخلة فأطلعت فطريقان: أحدهما: أن بيعها مع الطَّلْع على قولين كما في الحمل. والثاني: القطع بأن الطَّلْع غير مرهون؛ لأنه يمكن إفراده بالعقد فلا يجعل بيعاً، فإذا قلنا: إنه غير مرهون تباع النَّخْلة، ويستثنى الطَّلْع بخلاف الجارية الحامل، ولو كانت مطلعة وقت الرَّهْن ففي دخول الطَّلْع ما سبق في الباب الأول، فإن أدخلناه فجاء وقت البيع وهو طلع بعد بيع مع النخيل، ولو أبرت فطريقان: أحدهما: أن الحكم كما إذا ولدت الحامل. والثاني: القطع ببيعه مع النَّخْل؛ لأنه معلوم مشاهد وقت الرَّهْن.
[أسباب انفكاك الرهن]
وقوله في الكتاب: (والزيادات العينية) أراد به الزيادات الحَادِثَة من العين، لا كالكسب والمهر. وقوله: (حالة البيع) (¬1) يقتضي اعتبار نفس العقد في مقارنة الولد وحدوثه بعده، والأمر على ما يدل عليه ظاهره، وكذك القول في سائر الزَّوَائد. وحكى الإمام وجهاً آخر: أن الاعتبار بحالة القبض؛ لأن الرَّهْن به يتم. فرع: أَرْش الجناية على المرهونة، وافتضاض البكر مرهونان؛ لأنهما بدل جزء من المرهون وليسا من الزوائد. فرع: لو ضرب الجَارَيةَ المرهونة ضارب، فألقت جنيناً ميتاً، فعلى الضارب عشر قيمة الأم، ولا يكون مرهونًا؛ لأنه بدل الولد وإن دخلها نقص لم يجب بسببه شيء آخر، ولكن قدر أَرْش النُّقْصَان من العشر يكون رهناً، وإنْ ألقته حيّاً ومات ففيما يجب على الجاني؟ قولان: أصحهما: قيمة الجنين حيّاً وأَرْش نقص الأم إن انتقصت، فعلى هذا القيمة للراهن والأَرْش مرهون. والثاني: أكثر الأمرين من أَرْش النَّقْص أو قيمة الجنين، فعلى هذا إنْ كان الأرش أكثر فالمأخوذ رهن كله، وإنْ كانت القيمة أكثر فقدر الأَرْش من المأخوذ رهن، والبهيمة المرهونة إذا ضربت فألقت جنيناً ميتاً، فلا شيء على الضَّارب سوى أَرْش النُّقْصَان إن نقصت ويكون رهناً. قال الغزالي: الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي فَكِّ الرَّهْنِ وَهُوَ حَاصِلٌ بِالتَّفَاسُخِ، وَفَوَاتِ عَيْنِ المَرْهُونِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَيَلْتَصِقُ بِهِ مَا إِذَا جَنَى العَبْدُ وَبِيعَ فِي الدَّيْنِ فَإِنَّهُ فَاتَ بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَكَمَا يُقَدَّمُ حَقُّ المَجْنِيِّ عَلَيْهِ علَى حَقِّ المَالِكِ يُقَدَّمُ علَى حَقِّ المُرْتَهِنِ. [أسباب انفكاك الرَّهْن] قال الرَّافِعِيُّ: الرَّهْن ينفك بأسباب: أحدها: الفسخ منهما أو من المرتهن وحده، فإن الرَّهْن جائز من جهته. والثاني: تلف المرهون بآفة سَمَاوِية، ولو جنى العبد المرهون لم يبطل الرَّهْن بمجرد الجِنَاية، ولكن ينظر أتتعلق الجناية بأجنبي أم بالسيد؟ ¬
القسم الأول: أن تتعلّق بأجنبي فيقدم حق المجني عليه؛ لأن حقه متعين في الرقبة، وحق المرتهن متعلق بذمة الراهن بالرقبة، وأيضاً فإن حق المجني عليه متقدم على حق المالك، فأولى أن يتقدم على حق المستوثق، ثم إنْ أوجبت الجناية القِصَاص واقتصى المجني عليه بطل الرَّهْن، وإنْ أوجبت المال أو عفا على مال بَيْع العبد في الجِنَاية، وبطل الرَّهْن أيضاً، حتى لو عاد إلى ملك الراهن، لم يكن رهناَ إلاَّ بعقد جديد. ولو كان الواجب دون قيمة العبد بيع منه بقدر الواجب وبقي الباقي رهناً، فإن تعذَّر بيع البعض أو انتقص بالتَّشْقِيص بيع الكُلّ، وما فضل من الثمن عن الأَرْش يكون رهنًا، ولو عفا المجني عليه عن المال أو فداه الرَّاهن بقي العبد رهنًا كما كان، وكذا لو فداه المرتهن، ثم في رجوعه على الرَّاهن ما ذكرناه في رهن أرض الخراج، وعند أبي حنيفة ضمان جناية المرهون على المرتهن بناء على أن المرهون مضمون عليه، فإن فداه المرتهن بقي رهناً ولا رجوع له بالفداء، وإنْ فداه السيد أو بيع في الجناية سقط دين المرتهن، إنْ كان بقدر الفداء أو دونه، وهذا كله فيما إذا جنى العبد بغير إذن السيد، أما إذا أمره السيد بذلك، نظر إنْ لم يكن مُميزاً أو كان أعجمياً يعتقد وجوب طاعة السيد في كل ما يأمره به، فالجاني هو السيد وعليه القِصَاص أو الضَّمَان، وهل يتعلق المال برقبته؟ فيه وجهان يذكران في موضعهما والأظهر المنع. وإذا قلنا يتعلق فبيع في الجناية، فعلى السيد أن يرهن قيمته مكانه، وإذا جنى مثل هذا العبد. فقال السيد: أنا أمرته بذلك، لم يقبل قوله في حق المجني عليه بل يباع العبد فيها، وعلى السيد القيمة لإقراره، وإنْ كان العبد مميزاً يعرف أنه لا يطاع السَّيد فيه بالغاً كان أو غير بالغ، فهو كما لو لم يأذن السَّيد إلاَّ أنه يأثم بما فعل، وإذا عرفت ما ذكرناه لم يخف عليك أن قوله (وبيع في الدين) أراد به دين الجِنَاية فإنَّ الغرض فيما إذا نسبت الجناية إلى السَّيد وإلاَّ فلا يكون الفوات بغير بدل. قال الغزالي: فَإنْ جَنَى عَلَى عَبْدِ السَّيِّدِ أَو السَّيِّدِ نَفْسِهِ فَلَهُ القِصَاصُ كَمَا لِلأَجْنَبِيِّ، وَلَيْسَ لَهُ الأَرْشُ وَالبَيْعُ إِذْ لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئاً عَلَى عَبْدِ نَفْسِهِ، وَلَوْ جَنَى عَلَى عَبْدِ أَبِيهِ وَانْتَقَلَ إِلَيْهِ بِمَوْتهِ فَفِي اسْتحْقَاقِهِ الفَكَّ خِلاَفٌ لأَنَّهُ فِي حُكْمِ الدَّوَامِ، وَإِنْ جَنَى عَلَى عَبْدٍ آخَرَ لَهُ مَرْهُونٍ مِنْ غَيْرِ هَذا المُرْتَهِنِ فَلَهُ قَتْلُهُ، وَإِنْ فَاتَ حَقُّ المُرْتَهِنِ فَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ تَعَلَّقَ حَقُّ مُرْتَهِنِ القَتيلِ بِالعَبْدِ، وَإِنْ عَفَا بِغَيْرِ مَالٍ فَهُوَ كَعَفْوِ المَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَوْجَبَ أَرْشاً
فَلِمرْتَهِنِ القَتِيلِ أَنْ يَطْلُبَ بَيْعَهُ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ القَتِيلُ أَيْضاً مَرْهُونًا عِنْدَهُ فَهُوَ فَوَاتٌ مَحْضٌ فِي حَقِّهِ إلاَّ أَنْ يَكُونَ القَتِيلُ مَرْهُونًا بِدَيْنٍ آخَرَ يُخَالِفُ هَذَا الدَّيْنَ فَلَهُ بَيْعُهُ وَجَعْلُ ثَمَنِهِ رَهْناً بِالدَّيْنِ الآخَرِ. قال الرَّافِعِيُّ: القسم الثاني: أن تتعلق الجناية بالسيد وفيه مسائل: إحداها: إذا جنى العبد المرهون على طرف سيده عمداً فله القِصَاص لِلزّجر والانتقام، وهو أحوج إلى ذلك من الأجانب، فإن اقتص بطل الرَّهْن، وإنْ عفا على مال أو كانت الجناية خطأ، فعن ابن سُرَيْجٍ أنه يثبت المال، ويتوصل الرَّاهن به إلى فك الرَّهْن. والمذهب: أنه لا يثبت؛ لأن السيد لا يثبت له على عبده مال، ويبقى الرَّهْن كما كان، وإن جنى على نفسه عمداً فللوارث القصاص، فإن عفا على مال أو كانت الجناية خطأ، ففي ثبوت المال قولان منقولان عن "الأم". أحدهما: يثبت؛ لأن الجناية هاهنا حصلت في ملك غير الوارث، فجاز أنْ يثبت له المال كما ثبت للأجنبي. وأصحهما: أنه لا يثبت أيضاً؛ لأنه لو ثبت لثبت على مملوكه، والقولان عند ابن أبي هريرة والشيخ أبي حامد مبنيان على أن الدِّيَة تثبت للوارث ابتداء أم يتلقاها الوارث من القتيل؟ إن قلنا بالأول ثبت المال لاستفادته في جناية على الغير. وإنْ قلنا بالثاني لا يثبت؛ لأنه لم يثبت للقتيل حتى يتلقى منه، وأبى الجمهور هذا البناء، وقالوا: قضية القولين أن لا يثبت شيء. أما إذا قلنا بالتلقي فظاهر. وأما إذا قلنا بالقول الآخر؛ فلأنه كما يمنع ابتداء إثبات المال للمالك في ماله دواماً وإنما يمتنع ابتداؤه للمالك ابتداء. الثانية: لو جنى على طرف من يرثه السيد كأبيه وابنه عمداً، فله القصاص وله العفو على مال، ولو جنى خطأ ثبت المال، فإن مات قبل الاستيفاء وورثه السيد فوجهان: أصحهما: عند الصيدلاني والإمام: أنه كما انتقل إليه سقط، ولا يجوز أن يثبت له على عبده اسْتِدامةٌ الدَّيْن، كما لا يجوز له ابتداؤه. والثاني: وهو الَّذِي أورده العراقيون أنه لا يسقط، وله بيعه فيه كما كان للمورث، ويحتملى في الاسْتِدَامة ما لا يحتمل في الابتداء، وشبه الأصحاب الوجهين بالوجهين
فيما إذا ثبت له دَيْن على عبد غيره، ثم ملكه يسقط أو يبقى حتى يتبعه به بعد العِتْق، واستبعد الإمام هذا التشبيه وقال: كيف يكون الاستحقاق الطارئ على الملك بمثابة المِلْك الطَّارئ على الاستحقاق؟ ثم أجاب بأن الدَّيْن إذا ثبت لغيره، فنقله إليه بالإرث إدامة لما كان، كما أن إبقاء الدَّيْن الذي كان له على عبد الغير بعد ما ملكه إدامة لما كان، فانتظم التشبيه من هذا الوجه، وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكتاب بقوله: (لأنه في حكم الدوام). ولو كانت الجناية على نفس مورثه، وكانت عمداً فللسيد الاقتصاص، فإنْ عفا على مال أو كانت خطأ بني ذلك على أن الدية تثبت للوارث ابتداء أم يتلقاها عن المورث؟ إن قلنا بالأول لم يثبت. وإن قلنا بالثاني فعلى الوجهين فيما إذا جنى على طرفه ثم انتقل إليه بالإرث. الثالثة: لو قتل عبداً آخر للراهن نظر إنْ لم يكن المقتول مرهوناً، فهو كما لو جنى على السيد، والحكم في القِنّ والمُدَبّر وأم الولد سواء، وإنْ كان مرهوناً أيضاً فله حالتان: إحداهما: أن يكون مرهوناً عند غير مرتهن القاتل، فإن قتل عمداً فللسيد القصاص ويبطل الرهنان جميعاً، وإنْ عفا على مال أو كان القتل خطأ، وجب المال متعلّقاً برقبة العبد لحق مرتهن القتيل، فإن السيد لو أتلف المرهون لغرم حق المرتهن؛ فلأن يتعلق الغُرْم بعبده كان أولى، وإنْ عفا بغير مال. فإن قلنا: موجب العمد أَحَدُ الأمرين وجب المال، ولم يصح عفوه عنه إلاَّ برضا المرتهن. وإنْ قلنا: موجبه القَود فإنْ قلنا: مطلق العفو لا يوجب المال لم يثبت شيء. وإنْ قلنا: يوجبه، فوجهان: قال في "التهذيب": أصحهما: أنه لا يثبت أيضاً؛ لأن القتل غير موجب على هذا التقدير، فعفوه المطلق أو على مال نوع اكتساب للمرتهن، وإن عفا مطلقاً. فإن قلنا: مطلق العفو يوجب المال يثبت عليه المال كما لو عفا على مال. وإنْ قلنا: لا يوجبه صح العفو وبطل رهن مرتهن القتيل، وبقي القاتل رهناً كما كان. والحكم في عفو المُفْلس المَحْجُور عليه كالحكم في عفو الرَّاهِن، والراهن محجور عليه في المرهون كما أن المفلس محجور عليه في جميع أحواله، ثم مهما
وجب المال نظر إنْ كان الواجب أكثر من قيمة القاتل أو مثلها، فوجهان: أحدهما: أنه ينقل القَاتِل إلى يد مرتهن القَتِيل ولا يباع؛ لأنه لا فائدة فيه. وأظهرهما، وهو اختيار القاضي حسين: أنه يباع ويجعل الثمن في يده؛ لأن حقه في مالية العبد لا في العين، وأيضاً فقد رغب راغب بزيادة، فيتوثق مرتهن القاتل بتلك الزيادة وإن كان أكثر من قيمة القاتل، فعلى الوجه الأول ينقل من القاتل بقدر الواجب إلى مرتهن القتيل، وعلى الثاني يباع منه قدر الواجب ويبقى الباقي رهناً، فإنْ تعذر بيع البعض أو نقص بالتَّشْقِيص بيع الكل، وجعل الزائد على الواجب عند مرتهن القاتل. واعلم: أن الوجهين إنما يظهران فيما إذا طلب الراهن النقل، وطلب مرتهن القتيل البيع، ففي وجه يجاب هذا، وفي وجه يجاب ذلك، أما إذا طلب الراهن البيع ومرتهن القتيل النقل فالمُجَاب الراهن؛ لأنه لا حق لصاحبه في عينه، ولو اتفق الراهن والمرتهنان على أحد الطريقين، فهو المسلوك لا محالة ولو اتفق الراهن ومرتهن القتيل على النقل. قال الإمام: ليس لمرتهن القاتل المنافسة فيه وطلب البيع، وقضية التوجيه الثَّاني لأظهر الوجهين أنَّ له ذلك. الحالة الثَّانية: أن يكون مرهوناً عند مرتهن القاتل أيضاً، فإن كان العبدان مرهونين بدَيْنٍ واحد بعد انتقصت الوثيقة ولا مستدرك، كما لو مات أحدهما، وإنْ كانا مرهونين بدينين نظر في الدَّيْنَيْن أيختلفان حلولاً وتأجيلاً أم لا يختلفان؟ أما في القسم الأول فله أن يتوثق لدين القتيل بالقاتل؛ لأنه إنْ كان الحال دين القاتل، فتحصل الوثيقة بالمؤجل، ويطالب الراهن بالحال في الحال، وإنْ كان الحال دين المقتول، ففائدته استيفاءه من ثمنه في الحال، وكذا الحكم لو كانا مؤجلين، وأحد الأجلين أطول. وأما القسم الثاني فينظر أبين الدينين اختلاف في القدر أم لا؟ إنْ لم يكن بينهما اختلاف في القدر كعشرة وعشرة فإنْ كان العبدان مُخْتلفي القيمة، وكانت قيمة القتيل أكثر لم تنقل الوثيقة، وإنْ كانت قيمة القاتل أكثر نقل منه قدر قيمة القتيل إلى دين القتيل، وبقي الباقي رهناً بما كان، وإنْ كانا متساويين في القيمة بقي القاتل مرهوناً بما كان ولا فائدة في النقل، وإنْ كان بين الدَّيْنين اختلاف كعشرة وخمسة نظر إنْ تساوي العبدان في القيمة، أو كان القتيل أكثرهما قيمة، فإنْ كان المرهون بأكثر الدينين القتيل فله توثيقه بالقاتل، وإن كان المرهون بأقلهما القتيل فلا فائدة في نقل الوثيقة، وإنْ كان القتيل أقلهما قيمة، فإنْ كان مرهوناً بأقل الدينين فلا فائدة في نقل
الوثيقة، وإنْ كان مرهوناَ بأكثرهما نقل من القاتل قدر قيمة القتيل إلى الدَّيْن الآخر، وحيث قلنا بنقل التوثيق فيباع ويقام ثمنه مقام القتيل أَوْ مقام عينه مقامه، فيه الوجهان السابقان. وقوله في الكتاب: (وله بيعه وجعل ثمنه رهنًا بالدين الآخر) يوافق أظهر الوجهين منهما. وقوله: (بدين يخالف هذا الدين) قد يبحث عنه فيقال: ظاهره يقتضي تأثير اختلاف الدينين في الجنس كالاختلاف في القدر، أو في الحلول والتأجيل، وكذلك يقتضي تأثير اختلافهما في الاسْتقرار وعدم الاستقرار، كما إذا كان أحدهما عوض ما يتوقع رده بالعيب، أو صداقاً قبل الدخول، فهل الأمر كذلك أم لا؟ الجواب: أما الأول فإن صاحب الكتاب صرح في "الوسيط" بتأثير اختلاف الجنس، وهو متجه في المعنى، لكن الشَّافعي -رضي الله عنه- نص على خلاف، وبه قال الأصحاب على طبقاتهم، وأما الثاني فإنْ كان القاتل مرهونًا بالدين المستقر فلا معنى لنقل الوثيقة، وإن كان مرهوناً بالآخر ففي "الشامل" أن أبا إسحاق حكى فيه وجهين، والأكثرون لم يعتبروا سوى ما قدمناه من وجوه الاختلاف (¬1) والله أعلم. فرع: لو تساوى الدَّيْنَان في الأوصاف، وحكمنا بأنَّ الوثيقة لا تنقل قال المُرْتَهن: إني لا آمنه وقد جنى فبيعوه وضعوا ثمنه مكانه، هل يجاب إليه؟ روى الإمام فيه وجهين: فرع: لو جنى على مُكَاتب السيد، ثم انتقل الحَقّ إليه بموته، أو عجزه فهو كما لو انتقل من المورث وقد مر. قال الغزالي: وَيَنْفَكُّ الرَّهْنُ أَيْضاً بِقَضَاءِ كُلِّ الدَّيْنِ، فَإِنْ قَضَى بَعْضَهُ بَقِيَ كُلُّ المَرْهُونِ مَرْهُونًا بِبَقِيَّةِ الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ إذَا رَهَنَ عَبْدَيْنِ وَسَلَّمِ أَحَدَهُمَا كَانَ مَرْهُونًا بِجُمْلَةِ الدَّيْنِ (ح)، وَكَذَا لَوْ تَلَفَ أَحَدُهُمَا، إِلاَّ أَنْ يَتَعَدَّدَ العَقْدُ وَالصَّفْقَةُ أَوْ مُسْتَحِقُّ الدَّيْنِ أَو المُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَيَنْفَصِل أَحَدُهُمَا عَنِ الآخَرِ وَلاَ يُنْظَرُ إِلَى تَعَدُّدِ الوَكيلِ وَاتِّحَادِهِ، وَفِي النَّظَرِ إِلَى تَعَدُّدِ المُلْكِ فِي المَرْهُونِ المُسْتَعَارِ مِنْ شَخْصَيْنِ خِلاَفٌ مَهْمَا قَصَدَ بِقَضَائِهِ فَكَّ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، وَإِذَا مَاتَ الرَّاهِنُ فَقَضَى أَحَدُ ابْنَيْهِ نِصْفَ الدَّيْنِ لَمْ يَنْفَكَّ (و) نَصِيبُهُ، ¬
وَلَوْ تَعَلَّقَ دَيْنٌ بِإقْرَارِ الوَرَثَةِ بِالتَّرِكَةِ فَقَضَى وَاحِدٌ نَصِيبَهُ فَفِي انْفِكَاكِ الحِصَّةِ قَوْلاَنِ. قال الرَّافِعِيُّ: الثالث: مِنْ أسباب انفكاك الرَّهْن براءة الذِّمَّة عن الدَّيْن بتمامه، إما بالقَضَاء أو الإِبْرَاء أو الحِوَالة أو الإقَالة المُسْقِطَة للثمن المرهون به، أو المسلم فيه المرهون به، وَلو اعتاض عن الدَّيْن عيناً ارتفع الرَّهْن أيضاً لتحول الحق من الذمة إلى العَيْن، ثم لو تلفت العين قبل التسليم بطل الاعتياض، ويعود الرَّهْن كما عاد الدين قاله في "التتمة"، ولا ينفك بالبراءة عن بعض الدين بعض الرَّهْن، كما أن حق الحبس يبقى ما بقي شيء من الثمن، ولا يعتق شيء من المُكَاتب ما بقي شيء من المال، وهذا لأن الرَّهْن وثيقة لجميع الدين، وكل جزء منه كالشهادة ولو رهن عبدين وسلم أحدهما، كان المسلم مرهوناً بجميع الدين، خلاف لأبي حنيفة -رحمه الله- أنه لو سلمهما ثم تلف أحدهما، كان الباقي رهناً بجميع الدين فيقاس عليه، ولو رهن داراً فانهدمت بعد القبض، فالنقض والعَرَصَة مرهونان بجميع الدين، وإنما الغرض انفكاك الرَّهْن في بعض المرهون دون بعض بأحد أمور: أحدها: تعدد القدر كما إذا رهن أحد نصفي العبد بعشرة في صفقة، ونصفه الآخر في صفقة أخرى. وقوله في الكتاب: (وإِنْ تعدّد العقد والصَّفقة) لفظان مترادفان، وقد يؤكد بمثلهما. والثَّاني: أن يتعدّد المستحق لِلدَّيْن كما إذا رهن رجل من رجلين بدينهما عبداً بينهما صفقة واحدة، ثم برئت ذمته عن دين أحدهما بأداء أو إبراء، ينفك من الرَّهْن بقسط دينه، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: لا ينفك شيء حتى يؤدي دينهما جميعاً، ولا يخفى وجه قولنا في المسألة، ويجوز أن يعلم قوله في الكتاب: (أو مستحق الدين) مع الحاء بالواو، لأن عن صاحب "التقريب" رواية وجه غريب: أنه إذا اتحد جهة الدينين كما لو أتلف عليهما مالاً أو ابتاع منهما لم ينفك شيء بالبراءة عن دين أحدهما، وإنما ينفك إذا اختلفت الجهتان. والثالث: أن يتعدد مَنْ عليه الدين كما لو رهن رجلان من رجل بدينه عليهما، فإذا أدى أحدهما نصيبه، أو برأه المستحق انفك نصيبه. وعن أبي حنيفة فيما رواه الصَّيدلاني وغيره أنه لا ينفك حتى يبرئا عن حقه جميعاً، وجوز هذا الرَّهْن وإنْ لم يجوز رهن المشاع. والرابع: لو وكَّل رجلان رجلاً ليرهن عبدهما من زيد بدينه عليهما، فرهن ثم قضى أحد الموكلين ما عليه، فعن بعض الأصحاب تخريجه على قولين سنذكرهما على
الأثر إن شاء الله تعالى والصحيح الجَزْم بأنه ينفك نصيبه، ولا نظر إلى اتحاد الوكيل وتعدده. قال الإمام: لأن مدار الباب على اتحاد الدين وتعدده، ومهما تعدد المستحق أو المستحق عليه، فقد تعدد الدين، ويخالف ما نحن فيه البيع والشراء، حيث ذكرنا خلافاً في أنَّ الاعتبار في تعدد الصفقة، واتحادها بالمتبابعين أو الوكيل؛ لأن الرَّهْن ليس عقد ضمان حتى ينظر فيه إلى المباشر. الخامس: إذا استعار عبداً من مالكيه لرهنه فرهنه ثم أدى الدَّين، وقصد به الشُّيوع من غير تَخْصِيص بحصّة لم ينفك من الرَّهْن شيء، وإن قصد أداءه عن نصيب أحدهما بعينه لينفك نصيبه فقولان: أحدهما: لا ينفك كما لو استعاره من واحد. والثَّاني: ينفك كما لو رهن رجلان من رجل، ثم أدى أحدهما نصيبه، والمعنى فيه أن النظر إلى تعدد الملك وقطع النظر عن العاقد، وفي عيون المسائل ما يدل على أن هذا أظهر القولين (¬1)، ولو كان لشخصين عبدان متماثلا القيمة فاستعارهما للرهن، فرهنهما ثم قضى نصف الدين ليخرج أحدهما عن الرَّهْن فطريقان: قيل: يخرج لانضمام تعدد المحل إلى تعدد المالك. والأصح: طرد القولين. وإذا قلنا: بالانفكاك فلو كان الرَّهْن مشروطاً في بيع، فهل للمرتهن الخيار إذا كان جاهلاً بأنه لمالكين؟ فيه رأيان نسبهما الأكثرون إلى ابن سريج، وحكاهما أبو بكر الفارسي قولين: أصحهما: أن له الخيار؛ لأن مقتضى الرَّهْن المطلق أن لا ينفك شيء منه إلاَّ بعد أداء جميع الدين ولم يحصل ذلك، ونقل المُحَامليْ وغيره في أصل المسألة قولاً ثالثاً وهو: أن المرتهن إنْ كانا عالماً بأن العبد لمالكين، فللراهن فك نصيبه بأداء نصف الدين، وإنْ كان جاهلاً لم يكن للراهن فكه إلاَّ بأداء الكل. قال الإمام: ولا نعرف لهذا وجهاً، فإن عدم الانفكاك لاتحاد الدين والعاقدين، وهذا لا يختلف بالعلم والجهل، وإنما أثر الجهل الخيار على ما بيناه. ¬
ولو استعار من رجلين ورهن من رجلين، كان نصيب كل واحد من المالكين مرهوناً من الرجلين، فلو أراد فك نصيب أحدهما بقضاء نصف دين كل واحد منهما فعلى القولين، ولو أراد فكَّ نصف العبد بقضاء دَيْن أحدهما، فله ذلك بلا خلاف. ولو استعار اثنان من واحد ورهنا من واحد، ثم قضى أحدهما ما عليه انفك النِّصف لتعدد العاقد، هذا هو المنقول. وقد يخطر بالبال أنه إذا تعدد المالك واتَّحد العاقد ينظر إلى تعدد المالك على رأي، فلم لا ينظر إلى اتحاده إذا اتحد المالك، وتعدد العاقد؟ ويجوز أن يجاب عنه بأنا إنما نلاحظ جانبه بما ينفعه لا بِمَا يَضُرُّه. فرع: قال في "التَّهذيب": لو استعار ليرهن من واحد، فرهن من اثنين أو بالعكس لا يجوز. أما في الصُّورة الأولى فلأنه لم يؤذن. وأما بالعكس؟ فلأنه إذا رهن من اثنين ينفكّ بعض الرَّهْن بأداء دَيْن أحدهما، وإذا رهن من واحد لا ينفك شيء إلاَّ بأداء الجميع، ونقل صاحب "التتمة" وغيره في الطرفين الجو از، والأول أصَحّ. والسادس: لو رهن عبداً بمائة ثم مات عن اثنين، فقضى أحدهما حِصّته من الدين، هل ينفك نصيبه من الرَّهْن؟ عن صاحب "التقريب" أنه على قولين: أحدهما: ينفك كما لو رهن في الابتداء اثنان. وأصحهما؟ وبه قطع قاطعون: أنه لا ينفك، لأن الرَّهْن في الابتداء صدر من واحد، وأنه إنما أثبت وثيقة قضيتها حبس كل المرهون إلى أداء كل الدين، فوجب إدامتها، ولو مات مَنْ عليه الدين وتعلّق الدَّين بتركته، فقضى بعض الورثة نصيبه مِنَ الدين. قال الإمام: لا يبعد أن يخرج انفكاك نصيبه من الرَّهْن على قولين بناء على أن أحد الورثة لو أقر بالدين وأنكر الباقون هل يلزم المقر أداء جميع الدين من حصته من التركة؟ وعلى هذا البناء فالأصح الانفكاك؛ لأن الجديد أنه لا يلزم أداء جميع الدَّين مما في يده من التركة، وأيضاً فإنَّ تعلَّق الدين بالتركة إذا مات الراهن إمَّا أنْ يكون كتعلق الرَّهْن أو كتعلّق الأَرْش بالجاني. إنْ كان الأول فهو كما لو تعدّد الراهن. وإنْ كان الثاني فهو كما لو جنى العبد المشترك، فادى أحد الشَّريكين نصيبه ينقطع التعلّق عنه. واعلم: أن الحكم بانفكاك نصيبه إنما يظهر، إذا كان ابتداء التعلّق مع ابتداء تعلّق الملاك، ولو كان الموت مسبوقاً بالمرض، فيكون التعلّق سابقاً على ملك الورثة، فإن
للدين أثراً بيناً في الحجر على المريض، فيشبه أنْ يكون القول في انفكاك نصيبه كما مر في الصورة السابقة (¬1). وقوله في الكتاب: (بإقرار الورثة) قيد ذكره هاهنا وفي "الوسيط" وصورة المسألة غنية عنه، فإنَّ التعلق لا يختلف بين أنْ يكون ثبوت الدين بالبيِّنة أو بالإِقْرَار، ولم يتعرض صاحب "النهاية" لهذا القيد. قال الغزالي: وَمَهْمَا انْفَكَّ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا فلَهُ أَنْ يَسْتَقْسِمَ المُرْتَهِنَ بَعْدَ إِذْنِ الشَّرِيكِ الرَّاهِنِ بِنَاءً عَلَى الأَصَحِّ فِي أَنَّ حُكْمَ القِسْمَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الحُكْمِ الإِقْرَارُ لاَ حُكْمُ البَيْعِ. قال الرَّافِعِيُّ: إذا كان المرهون لمالكين، وانفك الرَّهْن في نصيب أحدهما بأداء أو إبراء، وأراد الذي انفكَّ نصيبه القسمة، نظر إنْ كان المرهون مما ينقسم بالأجزاء كالمَكيْلات والموزونات. قال الشَّافعي -رضي الله عنه-: كان للذي انفك نصيبه، أنْ يقاسم المُرْتَهن بإذن شريكه، وإنْ كان مِمَّا: لا ينقسم بالأجزاء كالثِّيَاب والعبيد. قال أصحابنا العراقيون: لا يجاب إليه. ومثاله: أن يرهنا عبدين مشتركين مُتَسَاويي القيمة، وانفكَّ الرَّهْن عن نصف كل عبد، فأراد من انفكّ نصيبه أن ينفرد بعبد، وينحصر الرَّهْن في عبد، فإنْ كان المرهون أرضاً مختلفة الأجزاء كالدَّار، وطلب من انفكّ نصيبه القسمة، قالوا: على الشريك أن يساعد، وفي المرتهن وجهان: أظهرهما: أن له أن يمتنع لما في القسمة من التَّشْقِيص وقلّة الرَّغبات، وهذا ما ضمنه العراقيون طرقهم، وزاد آخرون منهم أصحاب القَفَّال فقالوا: تجويز القسمة حيث جوزناه مبني على أنَّ القسمة إفراز حق، فأما إذا جعلناها بيعاً فهي بيع المرهون بغيره، وهو ممتنع ثم إذا جَوَّزنا القسمة فسبيل الطالب أن يراجع الشريك، فإن ساعده فذاك، ¬
وإلاَّ رفع الأمر إلى القاضي ليقسم. ونقل الصَّيْدَلاَنِيّ وجهاً: أنه لا حاجة إلى إذن الشريك في المتماثلات؛ لأن قسمتها قسمة إجبار، والمذهب الأول. فلو قاسم المرتهن وهو مأذون من جهة المالك أو الحاكم عند امتناع المالك جاز، وإلاَّ فلا، وإذا منعناها فلو رضي المرتهن، فالمفهوم من كلام المعظم صحتها. وقال الإمام: لا يصح وإن رضي؛ لأن رضاه إنما يؤثر في فك الرَّهْن، أما في بيع الرَّهْن بما ليس برهن ليصير رهناً فلا، وهذا إشكال قوي (¬1). وقوله في الكتاب: "له أن يستقسم المرتهن بعد إذن الشريك الآخر"، يوافق اللفظة الَّتي نقلناها عن الشَّافعي -رضي الله عنه- والقسمة في الحقيقة إنما تجري مع الشريك، لأنه المالك، لكن لما كان المرهون في يد المرتهن، وكان فصل الأمر معه أهون، حسن القول بأنه يقاسمه بإذن المالك. وقوله: (بناء على الأصح) سيأتي في موضعه في أن حكم القسمة في مثل هذا حكم الإفراز، يعني بقوله في مثل هذا المكيلات والموزونات ونحوهما، وفيه النص الذي نقلناه وقد بين ذلك في "الوسيط"، وكان في خاطره إلاَّ أنه أغفل ذكره، ثم القول بأن الأصح فيها قول الإفراز غير مساعد عليه على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، ثم أطبقوا على تجويز القسمة هاهنا وجعلوا تأثير قولنا: إنها بيع في افتقارها إلى إذن المرتهن، والله أعلم. ولو أراد الراهنان القسمة قبل انفكاك شيء من المرهون، فعلى التفصيل الَّذِي بيناه، ولو رهن واحد من اثنين، وقضى نصيب أحدهما، ثم أراد القسمة ليمتاز ما بقي فيه الرَّهْن، ففي اشتراط رضي الذي بقي رهنه ما ذكرناه، والله أعلم. قال الغزالي: وَلَوْ قَالَ لِلْمُرتَهِنِ بعِ الْمَرْهُونَ لِي وَاسْتَوِفِ الثَّمَنَ لِي ثُمَّ اسْتَوْفِهِ لِنَفْسِكِ فَفِي اسْتِيفَائِهِ لِنَفْسِهِ تَرَدُّدٌ مِنْ حَيْثُ اتِّحَادُ القَابِضِ وَالمُقْبِضَ، وَإِنْ قَالَ: بِعْهُ لِي وَاسْتَوفِ الثَّمَنَ لِنَفْسِكَ فَسَدَ اسْتِيفَاؤُهُ وَكَانَ مَضْمُوناً فِي يَدِهِ، لأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ فَاسِدٌ فَأَشْبَهَ الصَّحِيحَ فِي الضَّمَانِ، وَلَوْ قَالَ: بعْ لِنَفْسِكَ بَطَلُ الإِذْنُ إِذْ كَيَفَ يَبيعُ مِلْكَ غَيْرِهِ لِنفْسِهِ، وَلَوْ قالَ: بعْ مُطْلَقاً فَالأَصَحُّ صِحَّتُهُ وَتَنْزِيلُهُ عَلَى البَيْعِ لِلرَّاهِنِ. قال الرَّافِعِيُّ: وجه انتظام هذه المسائل في هذا الموضع أن الدين تارة يقضي من غير المرهون، وأثره الانفكاك على ما قررناه، وتارة يقضي منه بأن يباع فيه، وقد مرّ ¬
بيان أنه متى يباع ومن يبيعه، وأنه لو أذن الراهن للمرتهن في بيعه ماذا حكمه؟ ونتكلم الآن في صيغة إذنه ببيان صور. أحدها: لو قال للمرتهن: بع المرهون لي واستوف الثمن، ثم استوفه لنفسك صح منه البيع، والاستيفاء للراهن ثم لا يحصل الاستيفاء لنفسه بمجرد إدامة اليد والإمساك؛ لأن قوله: (ثم استوف لنفسك) مشعر بإحداث فعل فيه، فلا بد إذاً من إذن جديد لوكيل جديد على ما هو بيان القبض في المقدرات، ولو كانت الصيغة: ثم أمسكه لنفسك فلا بد من إحداث فعل أيضاً، أم يكفي مجرد الإمساك؟ حكى الإمام فيه وجهين، وقال: أولهما أظهرهما ثم إذا استوفاه لنفسه ففيه وجهان، ذكرناهما في نظائر المسألة في البيع لاتحاد القابض والمقبض، فإنْ صححناه برئت ذمة اراهن عن الدين، والمستوفى من ضمانه، وإنْ أفسدناه وهو الأصح لم يبرأ، ولكن يدخل المستوفى في ضمانه أيضاً، لأن القَبْضَ الفَاسِدَ كالصحيح في اقتضاء الضَّمَان. الثانية: لو قال بعه واستوف الثمن لنفسك صحَّ البيع ولم يصح استيفاء الثمن؛ لأنه ما لم يصح قبض الراهن لا يتصور منه القبض لنفسه، هاهنا كما قبضه يصير مضموناً عليه. الثالثة: لو قال: بعه لنفسك فقولان: أصحهما: أن الإذن باطل، ولا يتمكن من البيع؛ لأنه لا يتصور أن يبيع الإنسان مال غيره لنفسه. والثاني: حكاه صاحب "التقريب": أنه يصح اكتفاء بقوله: بع، وإلغاء لقوله: لنفسك، وأيضاً فإنَّ السابق إلى الفهم منه الأمر بالبيع لغرضه، وهو التوسل به إلى وفاء الدين. الرابعة: لو أطلق وقال: بعه، ولم يقل: لي ولا لنفسك فوجهان: أصحهما: صحة الإذن بالبيع ووقوعه للراهن، كما لو قال لأجنبي: بعه. والثَّانِي: المنع، وعللوه بمعنيين: أحدهما: أَنَّ البيع مستحق للمرتهن بعد حلول الحق والكلام مفروض فيه، وإذا وإن كذلك نقيد الإذن به، وصار كأنه قال: بعه لنفسك. والثاني: أنه متهم في ترك النَّظر استعجالاً للوصول إلى الدين، وعلى التعليلين لو كان الدين مؤجلاً، فقال: بعه صح الإذن لعدم الاستحقاق والتهمة، فإن قال مع ذلك: واستوف حقك مِنْ ثمنه جاءت التهمة، ولو قدر له الثمن لم يصح على التعليل الأول،
الباب الرابع: في النزاع بين المتعاقدين
ويصح على الثَّاني، وكذا لو كانَ الراهن حاضرًا عند البيع. قال الإمام: ومن قال بالمنع أول قوله في "المختصر" ولو شرط للمرتهن إذا حلّ الحق أن يبيعه، لم يجز أنْ يبيع لنفسه، إلاَّ بأن يحضر رب الدين، وقال: معناه إلاَّ أن يحضره الراهن فيبيعه، وهذا ما وعدت أن أذكره من تأويله، والله أعلم. البَابُ الرَّابعُ: فِي النِّزَاعِ بَيْنَ المُتَعَاقِدَيْنِ قال الغزالي: وَهُوَ فِي أَرْبَعَةِ أُمُورِ: الأَوَّلُ فِي العَقْدِ وَمَهْمَا اخْتَلَفَا فِيهِ فَالقَوْل قَوْلُ الرَّاهِنِ إِذِ الأَصْلُ عَدَمُ الرَّهْنِ، فَلَو ادَّعَى المُرْتَهِنُ أَنَّ النَّخِيلَ الَّتِي فِي الأَرْضِ مَرْهُونَةٌ مَعَ الأَرْضِ فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يُنْكِرَ رَهْنَهَا أَوْ وُجُودَهَا وَيَحْلِفَ إِنْ لَمْ يُكَذِّبهُ الحِسُّ فِي إِنْكَارِ الوُجُودِ، فَإِنْ كَذَّبَهُ وَاسْتَمَرَّ عَلَى إِنْكَارِ الحِسِّ جُعِلَ نَاكِلاً عَنِ اليَمِينِ وَرَدَّ عَلَى المُرْتَهِنِ إِلاَّ أَنْ يَعْدِلَ إلَى نَفْيِ الرَّهْنِ فَيَحْلِفَ عَلَيهِ. قال الرَّافِعِيُّ: التنازع في باب الرَّهْن يفرض في أمور: أحدها: أصل العقد، فإذا قال رب الدين: رهنتني كذا، وأنكر المالك أو رهنتني عبدك بكذا فقال: بل ثوبي، فالقول قول الراهن مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الرَّهْن، وكذا لو اختلفا في قدر المرهون به، فقال الراهن: رهنته بألف، وقال المرتهن: بل بألفين، قال أبو حنيفة وأحمد، وعن مالك: أن القول قول من قيمة المرهون أقرب إلى ما يقوله. ولو اختلفا في قدر المرهون، فكذلك القول قول الراهن، ومن صوره أن يرهن أرضاً فيها أشجار، ثم قال الراهن: رهنت الأرض دون ما فيها، وقال المرتهن: بل بما فيها، وكذا لو قال: هذه الأشجار مرهونة منى كالأرض، وأنكر الراهن، ولو قال: رهنتها مع الأرض يوم رهن الأرض، وقال الراهن: إن هذه الأشجار أو بعضها لم تكن يوم رهن الأرض، وإنما أحدثتها بعدها، نظر إن كانت الأشجار بحيث لا يتصور وجودها يوم الرَّهْن فالمرتهن كاذب، والقول قول الراهن بلا يمين، وإن كانت بحيث لا يتصور حدوثها بعده، فالراهن كاذب، ثم إنْ سلم في معارضتها أنه رهن الأرض بما فيها كانت الأشجار مرهونة كما يقول المرتهن، ولا حاجة إلى التحليف فيها، وإنْ زعم رهن الأرض وحدها، أو رهن ما سوى الأشجار المختلف فيها، أو اقتصر على نفي الوجود، فلا يلزم من كذبه في إنكار الوجود. كونها مرهونة فيطالب بجواب دعوى الراهن، إن استمر على إنكار الوجود، واقتصر عليه جعل نَاكِلاً وردت اليمين على المرتهن، وإنْ رجع إلى الاعتراف بالوجود، وأنكر رهنها قبل إنكاره، وعرض عليه اليمين لجواز كونه صادقاً في نفي الرَّهْن، وإنْ كذبه في نفي الوجود، ولو كانت الأشجار بحيث تتحمل الوجود، يوم رهن الأرض والحدوث بعده، فالقول قول الراهن
لما مر، فإذا حلف فهي كالشَّجَرة الحادثة بعد الرَّهْن في القَلْع، وسائر الأحكام وقد بَيَّنَاها مِنْ قبل، وهذا كله تفريع على الاكْتِفَاء منه بإنكار الوجود وهو الصحيح؛ لأن في إنكار الوجود يوم الرَّهْن إنكار ما يدعيه المرتهن، وهو رهنها مع الأرض، وفيه وجه سيأتي في نظائر المسألة في الدَّعاوي إن شاء الله تعالى أنه لا بد من إنكار الرَّهْن صريحاً. واعلم أن الحكم بتصديق الرَّاهن في هذه الصورة مفروض، فيما إذا كان اختلافهما في رهن تبرع. فأما إذا اختلفا فِي رَهْن مشروط في بيع، فالجواب أنهما يتحالفان كما في سائر كيفيات البيع، إذا وقع فيه الاختلاف. وأما لفظ الكتاب فقوله: "فللراهن أن ينكر رهنها أو وجودها"، معناه أنه يقع منه بكل واحد من الإِنْكَارين، ويعتد به جواباَ، ولك أن تُعَلِّم قوله: "أو وجودها" بالواو للوجه الذي حكيناه. وقوله قبله: (فلو ادعي المرتهن أن النَّخل التي في الأرض مرهونة مع الأرض) أي رهنها يوم رهن الأرض وإِلاَّ فلو اقتصر على دعوى رهنها لم يكن إنكار وجودها يوم رهن الأرض يكتفي به في الجواب، إذ لا يلزم أن تكون موجودة يومئذ أنْ لا تكون مرهونة. وقوله: (فإن كذبه واستمر على إنكار الحس) أي اقتصر على كلامه الأول، بعد ما طالبناه بجواب دعوى الرَّهْن، على ما أوضحته. قال الغزالي: وَلَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلَيْنِ رَهْنَ عَبْدِهِمَا عِنْدَهُ فَلأَحَدِهِمَا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الآخَرِ إِذَا انْفَرَدَ بِتَكْذِيبِهِ وَلَو ادَّعَى رَجُلاَنِ عَلَى وَاحِدٍ فَصَدَّقَ أَحَدُهُمَا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ لِلمُكَذِّبِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ يَنْبَنِيَانِ عَلَى أنَّهُ هَلْ يُشَارِكُهُ فِيمَا سَلَّمَ لَهُ لَوْ لَمْ يَشْهَدِ. قال الرَّافِعِيُّ: إحدى صورتي الفصل: أنْ يدّعي رجل على رجلين أنهما رهنا منه عبدهما الفلاني بمائة وأقبضاه، فإن أنكر المدّعى عليهما الرَّهْن، أو الرَّهْن والدَّين جميعاً، فالقول قولهما مع اليمين، فإنْ صدق أحدهما دون الآخر، فنصيب المصدق رهن بخمسين، والقول في نصيب المكذب، قوله مع يمينه. فلو شهد المصدق للمدعي على شريكه المكذب، قبلت شهادته؛ لأنها شهادة على الغير، ليس فيها دَفْع ضرر ولا جَلْب نفع، فإذا شهد معه آخر أو حلف المدعي معه، ثبت الرَّهْن في الكل ولو زعم كل واحد منهما أنه ما رهن نصيبه، وأنَّ شريكه رهن، وشهد عليه فوجهان، ويقال قولان: أحدهما، وبه قال الشيخ أبو حامد: أنه لا تقبل شهادة واحد منهما؛ لأنَّ المدعى يزعم أن كل واحد منهما كاذب ظالم بالجحود، وطعن المشهود له في الشاهد يمنع قبول شهادته له.
والثاني: تقبل، وبه قال الأكثرون؛ لأنهما ربما نسيا وإنْ تعمدا فالكذبة الواحدة لا توجب الفسق، ولهذا لو تخاصم رجلان في شيء، ثم شهدا في حادثة تقبل شهادتهما، وإنْ كان أحدهما كاذباً في ذلك التخاصم (¬1)، فعلى هذا إذا حلف جمع كل واحد منهما، أو أقام شاهداً آخر ثبت رهن الكل، وعن أبي الحسن بن القَطَّان الَّذِي شهد أَوَّلاً تقبل شهادته دون الذي شهد آخراً؛ لأنه انتهض خصماً منتقماً، والله أعلم. الثانية ادَّعى رجلان على واحد أنك رهنتنا عبدك هذا بمائة واقبضناه، فإنْ صدقهما أو كذبهما لم يخف الحكم، وإنْ صدق أحدهما دون الآخر، فنصف العبد مرهون عند المصدق ويحلف الآخر، وهل تقبل شهادة المصدّق على المكذّب للمكذب؟ أطلق مطلقون أنها لا تقبل، وقال القاضي ابن كَجٍّ: تقبل، وحكى الإمام وصاحب الكتاب فيه وجهين؟ بناء على أنَّ الشريكين إذا ادَّعيا حقاً أو ملكاً بابتياع أو غيره، فصدق المدعى عليه أحدهما دون الآخر، يستبد المصدق بالنصف المسلم إليه أو يشاركه الآخر فيه، وفيه وجهان: وإنْ قلنا: إنه يستبد المصدق بالنصف، قبلت شهادته للشريك، وإلاَّ فلا؛ لأنه يدفع بشهادته زحمة الشريك عن نفسه، والكلام في الأصل المبني عليه يذكر في الصُّلْح، إنْ شاء الله تعالى، والذي ينبغي أن يفتي به فيما نحن فيه القبول إنْ كان الحال لا يقتضي الشركة، والمنع إن اقتضت الشركة؛ لأنه دافع وذكر في "التهذيب": أنه إنْ لم ينكر إلاَّ الراهن قبلت شهادته للشريك، وإن أنكر الدين والرهن، فحينئذٍ يفرق بين أن يدعي الإرث أو غيره، ولك أن تقول كما أن الاستحقاق في الدين يثبت بالإِرْث تارة، وبغيره أخرى فكذلك استحقاق الرَّهْن، فليجر التَّفْصيل وإنْ لم ينكر إلاَّ الرَّهْن. فرع: منصوص عليه في رواية الربيع، ادَّعى زيد وعمرو على ابني بكر أنهما رهنا عبدهما المشترك بينهما بمائة، فصدق أحد المدعيين ثبت ما ادَّعاه وكان له على كل واحد منهما ربع المائة، ونصف نصيب كل واحد منهما مرهوناً به، وإنْ صدق أحد الاثنين زيداً، والآخر عمراً ثبت الرَّهْن في نصف العبد لكل واحد من المدّعيين في ربعه بربع المائة؛ لأن كل واحد منهما يدعي على الاثنين نصف العبد، ولم يصدقه إلاَّ أحدهما، ثم لو شهد أحد الاثنين على الآخر قبلت شهادته، ولو شهد أحد المدعيين ¬
للآخر، فعلى ما ذكرناه في الصورة الثانية، والمسألة ظاهرة من جهة المعنى، لكن في فهمها وتصورها تعقيد. حكى الصَّيْدَلاَنِي أن ابن سُرَيْجٍ قال: ما انتهيت إليها إلاَّ احتجت إلى الفكرة في تصورها، حتى أثبتها على حاشية الكتاب. فرع: منصوص عليه في "المختصر": ادعى رجلان على واحد، فقال كل واحد منهما: رهنتني عبدك هذا وأقبضتنيه نظر إن كذبهما جميعاً، فالقول قوله ويحلف لكل واحد منهما يميناً، وإنْ كذب أحدهما وصدق الآخر قضى بالرهن للمصدق، وهل للمكذب تحليفه؟ فيه قولان: أصحهما: لا، قاله في "التهذيب" وهما مبنيان على أنه لو أقرَّ بمال لزيد، ثم أقر به لعمرو، هل يغرم قيمته لعمرو؟ فيه قولان: وكذا لو قال: رهنت هذا من زيد وأقبضته، ثم قال: لا، بل رهنته من عمرو وأقبضته، هل يغرم قيمته للثاني ليكون رهناً عنده؟ إنْ قلنا: يغرم، فله تحليفه، فربما يقر ويأخذ القيمة. وإنْ قلنا: لا يغرم يبنى على أنَّ النكول ورد اليمين بمثابة الإقرار أو البينة. إن قلنا بالأول لم يحلف؛ لأن غايته أن ينكل فيحلف، وذلك مما لا يفيده شيئاً، كما لو أقر. وإن قلنا بالثاني حلفه، فإن نكل فحلف اليمين المردودة ففيما يستفيد به وجهان: أحدهما: يقضي له بالرهن، وينتزع من الأول وفاء بجعله كالبينة. وأصحهما: أنه يأخذ القيمة من المالك لتكون رهناً عنده ولا ينتزع المرهون من الأول؛ لأنا وإنْ جعلناه كالبينة، فإنما نجعل ذلك بالإضافة إلى المتداعيين، ولا نجعله حجّة على غيرهما، وإنْ صدقهما جميعاً، نظر إنْ لم يدعيا السبق، أو ادّعاه كل واحد منهما، وقال المدعى عليه: لا أعرف السابق منكما، وصدقاه فوجهان: أحدهما: أنه يقسم الرَّهْن بينهما، كما لو تنازعا ملكاً في يد ثالث، واعترف صاحب اليد لهما بالمِلْك. وأصحهما: أنه يحكم ببطلان العقد، كما إذا زوج وليَّان من شخصين، ولم يعرف السَّابق منهما، وإن ادَّعى كل واحد منهما السَّبْق، وأنَّ الراهن عالم بصدقه، وأنه بقي علمه بالسبق، فالقول قوله مع يمينه، فإن نكل ردت اليمين إليهما، فإن حلف أحدهما دون الآخر قضى له، وإنْ حلفا أو نكلا تعذر معرفة السابق وعاد الوجهان، وإنْ صدق أحدهما في السَّبْق، وكذب الآخر قضى للمصدق، وهل يحلفه المكذب؟
فيه القولان السابقان، وحيث قلنا: يقضي للمصدق، فذلك إذا لم يكن العبد في يد المكذب، فإنْ كان فقولان: أحدهما: وهو اختيار المزني أخيراً أنَّ يده ترجّح على تصديق الراهن الآخر، وتقتضي له بالراهن. وأصحهما: أن المصدق مقدم؛ لأن اليد لا دلالة لها على الرَّهْن، ألا ترى أنه لا تجوز الشهادة بها على الرَّهْن، ولو كان العبد في أيديهما معاً؟ فالمصدق مقدم في النصف الَّذِي هو في يده، وفي النصف الأخير قولان، والاعتبار في جميع ما ذكرناه بسبق القبض لا بسبق العقد، حتى لو صدق هذا سبق العقد، وهذا سبق القبض، فالمقدم الثاني (¬1). فرع ثالث: دفع متاعاً إلى رجل، وأرسله إلى غيره ليستقرض منه للدافع، ويرهن المتاع به ففعل، ثم اختلفا فقال المرسل إليه: استقرض مائة، ورهن المتاع بها بإذنك، وقال المرسل: لم آذن له إلاَّ في خمسين، نظر إن صدق الرسول المرسل فالمرسل إليه مدّع عليهما على المرسل بالإذن، وعلى الرسول بالأخذ، فالقول قولهما في نفي ما يدعيه، وإنْ صدق المرسل إليه، فالقول في نفي الزيادة قول المرسل، ولا يرجع المرسل إليه على الرسول بالزيادة، إنْ صدقه في الدفع إلى المرسل؛ لأنه مظلوم بقوله، وإنْ لم يصدقه رجع عليه هكذا ذكروه، وفيه إشكال؛ لأن الرسول وكيل المرسل، وقبضه يحصل الملك للموكل حتى يغرم له إنْ تعدى فيه، ويسلمه إليه إن كان باقياً، وإذا كان كذلك فرجوع المرسل إليه إنْ كان بناء على توجه العهدة على الوكيل فليرجع، وإنْ صدقه في دفع المال إلى المرسل كما يطلب البائع الوكيل بالشراء بالثمن، وإن صدقه في تسلم المبيع إلى الموكل، وإنْ كان الرجوع للمقرض أن يرجع في عين القرض، ما دام باقياً. فهذا ليس بتعريض ورجوع مطلق، وإنما يسترد عين المدفوع، فيحتاج إلى إثبات كونه في يده، ولا يكفي فيه عدم التَّصْديق بالدفع إلى المرسل، وإنْ كان غير ذلك فلم يرجع إذا لم يصدقه، ولم يوجد منه تعد عليه ولا على حقه، والله أعلم. ¬
قال الغزالي: الأَمْرُ الثَّانِي فِي القَبْضِ وَالقَوْلُ فِيهِ أَيْضاً قَوْلُ الرَّاهِنِ، وَكَذا إِنْ وَجَدْنَاهُ فِي يدِ المُرْتَهِنِ إِذَا قَالَ الرَّاهِنُ: غَصَبْتُهُ (و)، وَلَوْ قَالَ: أَخَذْتُهُ وَدِيعَةً أَوْ عَارِيَةً أَوْ بِجِهَةٍ أُخْرَى مَعَ الإِذْنِ فَوَجْهَانِ، لأِنَّهُ اعْتَرَفَ بِقَبْضٍ مَأذُونٍ فِيهِ مِنَ الرَّاهِنِ وَأَرَادَ صَرْفَهُ عَنْهُ، فَلَوْ أُقِيمَتِ الحُجَّةُ علَى إِقْرَارِهِ بِقَبْضِ الرَّهْنِ فَقَالَ: كُنْتُ غَلِطْتُ تَعْوِيلاً عَلَى كَتَابِ الوَكِيلِ أَوْ إقَامَةٍ عَلَى رَسْمِ القَبَالَةِ (و) فَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ المُرْتَهِنَ عَلَى نَفْيِهِ، وَإِنْ قَالَ: تَعَمَّدتُّ الكَذِبَ فَلاَ يُسْمَعُ (و) وَلاَ يُمَكَّنُ مِنَ التَّحْلِيفِ. قال الرَّافِعِيُّ: الأمر الثَّاني مما يعرض فيه التَّنَازع في القبض، وفيه مسألتان: إحداهما: إذا تنازعا في قبض المرهون، نظر إنْ كان في يد الراهن وقت النزاع، فالقول قوله مع يمينه كما في أصل الرَّهْن، وإنْ كان في يد المرتهن، وقال: أقبضنيه عن الرَّهْن وأنكر الراهن، نظر إنْ قال: غصبتنيه فالقول قوله أيضاً؛ لأن الأصل عدم لزوم الرَّهْن وعدم إذنه في القبض، وإن ادعى قبضه عن جهة أخرى مأذون فيها سوى الرَّهْن، فإن قال: أوْدَعْتكه أو أَعَرْت أو اكْتَرَيْت أو اكتريته من فلان بإكراه منك فوجهان: أحدهما: أن القول قول المرتهن؛ لأنهما اتفقا على قبض مأذون فيه، وأراد الراهن أنْ يصرفه إلى جهة أخرى، والظاهر خلافه لتقدم العقد المحوج إلى القبض. وأصحهما، وهو المنصوص: أن القول قول الراهن؛ لأن الأصل عدم اللزوم، وعدم إذنه في القبض عن الرَّهْن، وفي "النهاية" حكاية وجه بعيد فيما إذا قال: غصبتنيه أيضاً، أن القول قول المرتهن استدلالاً باليد على الاستحقاق، كما يستدل بها على الملك، ويجري مثل هذا التفصيل، فيما إذا اختلف البائع والمشتري في القبض، حيث كان للبائع حق الحبس، إلاَّ أنّ الأظهر هاهنا الحكم بحصول القبض إذا كان المبيع عند المشتري، وادّعى البائع أنه أعاره أو أودعه لتقوى اليد بالملك، وهذا يتفرع على أنَّ حق الحبس لا يبطل بالإِيْدَاع والإِعَارة عند المشتري، وفيه وجهان، ولو سلم الراهن أنه أذن له في قبضه عن جهة الرَّهْن، ولكن قال: رجعت قبل أن قبضته، وقال المرتهن: لم ترجع فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم الرجوع، ولو قال الراهن: لم تقبضه بعد، وقال المرتهن: قبضته، فقد نقل فيه اختلاف نص عن "الأم"، واتفق الأصحاب على تنزيلهما على حالين، إنْ كان المرهون في يد الراهن فالقول قوله، وإن كان في يد المرتهن فالقول قوله؛ لأن اليد قرينة دالة على صدقه. الثانية: إقرار الراهن بإقباض المرهون مقبول ملزم لكن بشرط الإمكان حتى لو قال: رهنته اليوم داري بِهَمَدان، وأقبضتها إياه وهما بقزوين فهو لاَغٍ، ولو قامت الحجة على إِقْرَاره في محل الإمكان، فقال: لم يكن إقراري على حقيقته، فحلفوه أنه قبض،
نظر إنْ ذكر لإقراره تأويلاً، كما إذا قال: كنت أقبضته بالقول، وظننتُ أنه يكفي قبضاً، أو ألقى إلى كتاب على لسان وكيلي أنه أقبض، ثم خرج مزورًا أو قال: أشهدت على رسم القبَالَة قبل تحقيق القبض فله تحليفه، وإنْ لم يذكر تأويلاً فوجهان: عن أبي إسحاق أنه لا يمكن من التَّحليف، ولا يلتفت إلى قوله الثاني لمناقضته الأول. وقال ابن خَيْرَانَ وغيره: يمكن منه وهو ظاهر النّص: لأنا نعلم أن الوثائق في الغالب يشهد عليها قبل تحقيق ما فيها، فأي حاجة إلى تلفظه بذلك، وهذا أصح عند العراقيين والأول أصحّ عند المَرَاوِزَة، وهذا إذا قامت الحُجَّة على إقراره، أما إذا أقر في مجلس القضاء بعد توجه الدَّعْوى عليه، فعن الشيخ أبي محمد عن القَفّال: أنه لا يمكن من التَّحْليف، وإنْ ذكر لإقراره تأويلاً؛ لأنه لا يكاد يقر عند القاضي، إلاَّ عن تحقيق، وقال غيره: لا فرق لشمول الإِنكار، ولو شهد الشهود على نفس الإقباض، فليس له التَّحْليف بحال، وكذا لو شهدوا على إقراره، فقال: ما أقررت؛ لأنه تكذيب للشهود. ولو كان الرَّهْن مشروطاً في البيع، فقال المشتري: وأقبضت، ثم تلف الرَّهْن، فلا خيار لك في البيع، وأقام على إِقْرَاره بالقبض حجة فأراد المرتهن تحليفه، فهو كما ذكرنا في إِقْرار الرَّاهن وطلبه يمين المُرْتهن، وقس على هذا ما إذا قامت البَيّنة على إقراره لزيد بألف، فقال: إنما أقررت وأشهدت ليقرضني، ثم إنه لم يقرضني فحلفوه وسائر النظائر. وقوله في الكتاب: (فله أن يحلف المرتهن على نفيه)، قد أعلم بالواو؛ لأنه روى في "الوسيط" إذا كذب نفسه في إقراره ثلاثة أوجه: المنع المطلق، وتمكينه من التحليف مطلقاً، والفرق بين أن يذكر سبباً وتأويلاً، وبين أنْ يقول كذبت عمداً ولا يعتذر، لكن المنع المطلق قَلَّ مَنْ رواه. وقوله: (على نفيه) أي على نفي ما يدعيه من التَّأْويل، وليس ذلك على معنى أنه يتعين محلفاً عليه، بل له تحليفه على القبض كما مر، وينبغي أن يكون التَّحْليف على نفي ما يدعيه من التَّأْويل فيما إذا نازعه المرتهن في تأويله ونفاه، أما إذا لم يتعرض له، واقتصر على قوله: قبضت، فيقنع منه بالحلف عليه. وقوله: (فلا يسمع، ولا يمكن من التحليف) يجوز إعلامه بالواو؛ لأنه أراد ما إذا قال: كذبت عمداً ولم يعتذر بشيء، وقد بان الخلاف فيه. قال الغزالي: الأَمْرُ الثَّالِثُ فِي الجِنَايَةِ، فَإذَا اعْتَرَفَ الجَانِي وَصَدَّقَهُ الرَّاهِنُ دُونَ المُرْتَهِنِ أَخَذَ الأَرْشَ وَفَازَ بِهِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ المُرْتَهِنُ أَخَذَ الأَرْشَ وَكَانَ رَهْناً عِنْدَهُ إِلَى قَضَاءِ
الدَّيْنِ، فَإِذَا قَضَى مِنْ مَوْضِعِ آخَرَ فَهُوَ مَالٌ ضَائِع لاَ يَدَّعِيهِ أَحَدٌ، وَإِنْ جَنَى العَبْدُ وَاعْتَرَفَ بِهِ المُرْتَهِنُ فَالقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ، وَلَوْ قَالَ الرَّاهِنُ: أَعْتَقتُهُ أَوْ غَصَبْتُهُ قَبْلَ أَنْ رَهَنْتُ أَوْ كَانَ قَدْ جَنَى وَأَضَافَ إِلَى مُعَيَّنٍ مَجْنِيٍّ عَلَيْهِ فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ، كَمَا فِي تَنْفِيذِ عِتْقِهِ، لأَنَّهُ مَالِكٌ لاَ تُهْمَةَ فِيهِ. فَإِنْ قُلْنَا: لاَ يُقْبَلُ فَيُحَلَّفُ المُرْتَهِنُ عَلَى نَفْيِ العِلْمِ، فَإِنْ حَلَفَ هَلْ يُغَرَّمُ الرَّاهِنِ للْمُقِرِّ لَهُ؟ يُبَتْنِي عَلَى قَوْلِي الغُرْمِ بِالحَيْلُولَةِ، وإِنْ نَكَلَ يُرَدُّ اليَمِينُ عَلَى الرَّاهِنِ أَوْ عَلَى المُقِرِّ لَهُ قَوْلاَنِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ المُرْتَهِنِ وَالمُقِرِّ لَهُ مَهْمَا نَكَلَ فَقَدْ أَبْطَلَ حَقُّ نَفْسِهِ عَنِ الغُرْمِ بِنُكُولِهِ، وَإِنْ رَدَدْنَا عَلَى الرَّاِهنِ فَنَكَلَ فَهَلْ لِلمُقِرِّ لَهُ الحَلِفُ لِكَيْلاَ يَبْطُلَ حَقُّهُ بِنُكُولِ غَيْرِهِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ، وَإِنْ قُلْنَا: يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فَهَلْ لِلمُرْتَهِنِ تَحْلِيفُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، فَإِنْ حَلَّفْنَاهُ فَنَكَلَ وَحَلَفَ المُرْتَهِنُ اليَمِينَ المَرْدُودَةَ فَفَائِدَةُ حَلِفِهِ تَقْرِيرُ العَبْدِ فِي يَدِهِ أَوْ أَنْ يغَرَّمَ الرَّاهِنُ لَهُ قَوْلاَنِ، وَلَوْ كَانَ المُقِرُّ بِهِ الاسْتِيلاَدُ فَيَزِيدُ أَنَّ المُسْتَوْلَدَةَ تَحْلِفُ إِذَا نَكَلَ الرَّاهِنُ وَإِنَّ حُرِّيَّةَ الوَلَدِ وَالنَّسَبَ تَثْبُتُ لاَ مَحَالَةَ. قال الرافِعِي: الثالث: مما يتنازعان فيه الجناية، إما على المرهون أو به. أما القسم الأول: فإذا جنى على العبد المرهون، فجاء إنسان، وأقر بأنه الجاني، فإن صدقه المتراهنان أو كذباه لم يخفف الحكم، وإنْ صدقه الراهن وحده أخذ الأَرْش وفاز به، وليس للمرتهن التوثق به، وإن صدقه المرتهن وحده أخذ الأَرْش وكان مرهوناً، فإن اتفق قضاء الدين من غيره، أو أبرأ المرتهن فوجهان: أصحهما: أنه يرد الأَرْش إلى المقر. والثَّاني: يجعل في بيت المال؛ لأنه مال ضائع لا يدّعيه أحد، إذ المرتهن انقطعت علقته، والراهن ينكر استحقاقه، والمقر معترف بأن أداءه كان واجباً عليه، للصورة أخوات تذكر في مواضعها إِنْ شَاء الله تعالى. والقسم الثاني: الجناية من المرهون، والنزاع في جِنَايته إما أنْ يقع بعد لزوم الرَّهْن أو قبله. الحالة الأولى: أن يتنازعا في جنايته بعد لزوم الرَّهْن، فإذا أقر المرتهن بأنه جنى وساعده العبد أو لم يساعده لم يقبل قوله على الراهن، بل القول قول الراهن مع يمينه؛ لأن المِلْك له وضِرر الجِنَاية يعود إليه، وإذا بيع في دين المرتهن لم يلزمه تسليم الثمن إليه بإقراره السابق، واحتجوا له بأن العبد إنْ لم يكن جانياً فلا حقَّ فيه لغير المرتهن، وإنْ كان جانباً فلا يصح بيعه للمرتهن لتعلق حق المجني عليه به، وإذا لم يصحّ بيعه كان الثَّمن باقياً على ملك المشتري، ولو أقر الراهن بجنايته وأنكر المرتهن فالقول قوله؛
لأن الأصل عدم الجِنَاية وبقاء الرَّهْن، وإذا بيع في الدَّيْن فلا شيء للمقر له على الراهن؛ لأن الراهن لا يغرم جناية المرهون، ولم يتلف بالرَّهْنِ شيئاً لِلمُقرّ لَهُ؛ لكون الرَّهْنِ سَابِقاً على الجِنَايَةِ، وليس كما لو أقرَّ بجناية أُمِّ الوَلَدِ، حيث يغرم للمُقِرّ لَهُ، وإن سبق الاستيلادُ الجِنَايَةَ؛ لأن السَّيِّدَ يغرم جِنَايَةَ أُمِّ الوَلَدِ، وذكر القَاضِي ابْنُ كِجٍّ وجهاً آخر: أنه يقبل إقرار الرَّاهِن، ويباع العَبْدُ في الجناية، ويغرم الرَّاهِنُ للمرتهن. الحالة الثانية: أن يتنازَعا فِي جِنَايَتِه قبل لزوم الرَّهْن، وفيها مسألتان: احدَاهُما: أقر الرَّاهِنُ بأنه كان قد أتلف مالاً، أو جنى على نفس جنايَةَ توجب المَالَ، فينظر إن لم يعين المَجْنِيُّ عَلَيْهِ، أو عينه ولكنه لم يصدقه ولم يدّع ذلك فالرهن مُسْتَمِّرٌ بحاله، وإن عينه وادْعاه المَجْنِيُّ عَلَيْهِ، نظر إن صدقه المُرْتَهنِ بيعَ فِي الجِنَايَةِ، وللمرتهن الخَيارُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ الرَّهْن مشروطاً فِي بَيْع، وإن كذبه فأصّح القولين -وبه قال أبو حنيفة واختاره المزني-: أنه لاَ يُقْبَل قَوْلَه صيانَة لِحَقِّ المُرْتَهِنِ. والثَّاني: يقبل؛ لأنه مالك فيما أقر به، فلا تنقدح تهمة في إقراره، وقال من نصر الأول: بل فيه تهمة ومواطَأة للمقر له، والتدرج إلى دَفْعِ الرَّهْنِ، والقولان كالقولين فيما لو أقر العبد بسرقة مَالٍ ونفذناه فِي القَطْعِ، هل ننفذه في المَالِ؟ لأنه بهذَا الإِقْرَارِ يَضُرُّ بِنَفْسِهِ، فلا يَنْفِي التُّهْمَة. ويجري القَوْلاَن فيما لو قال: كنت غصبته أو اشتريته شراء فَاسِداً أو بعته قبل أن رهنته، أو وهبته وأقبضته، وفيما لو قال: كنت أعتقته، قال الشيخ أبُو حَامِدٍ: ولا حاجة في هذه الصُّورة إلى تصديق العَبْدِ دعواه، بخلاف سائر الصور، وفي الإقرار بالعتق قولٌ ثَالِثٌ: أنه إن كان موسراً نفذ، إلا فلا، تنزيلاً للإقرار بالإعتاق منزلة الإعْتَاقِ، ونقل إمام الحَرَمَيْنِ هذا القول الفارق في الصّور كُلِّهَا، وجعلها على ثَلاثَةِ أقوالٍ، وتابعه المصنف. التفريع: إن قلنا: لا يُقْبَلُ إقْرار الرّاهِنِ فالقول في بقاء الرَّهْنِ قولُ المرتَهِن مَعَ يَمِينه، ويحلف على نَفْي العِلْم بالجِنَاية، وإذا حلف واستمر الرَّهْن فهل يَغْرَم الرَّاهِن للمجني عَلَيْهِ فيه قولان. قال الأئمة: أصحهما: أنه يغرم، وهو اختيار المُزَنِي، كما لو قَتَله؛ لأنه حال بينه وبين حَقِّه. الثاني: لا يغرم؛ لأنه أقر في رَقَبَةِ العَبْدِ بما لم يقبل إقْراره، فكأنه لم يُقِر، والقولان كالقولين فيما إذا أَقَر بالدَّارِ لَزِيْدٍ، ثم أقر بها لعمرو، هل يغرم لِعَمْرو؟ وُيعَبَّر عنهما بقولي الغرم لِلْحَيْلُولة؛ لأنه بالإقرار الأول حَالَ بين من اعترف باستحقاقه ثَانِياً وبين حقه.
فإن قلنا: يغرم، طولب في الحَالِ إن كان موسرًا وإن كان معسرًا فإذا أيسر، وفيما يغرم المَجْنِيُّ عَلَيْهِ؟ طريقان. قال أبو إسحاق وطائقة: أصح القولين أنه يغرم الأقل من قيمته وأرش الجِنَاية. وثانيهما: أنه يغرم الأرْشُ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وقال الأكْثَرُونَ ومنهم أبو الحَسَن: يغرم الأقل بِلاَ خِلاَف، كما أن أُمَّ الولد لا تفدى إلا بالأقل إذا جَنَت؛ لامتناع البيع، بخلاف العبد القِنِّ. وإن قلنا: لا يغرم الرَّاهن، فإن بِيعَ فِي الدَّيْنِ فلا شيء عليه، لكن لو ملكه يوماً فعليه تسليمه في الجِنَاية، وكذا لو انفك الرَّهْن عنه فهذا إذا حَلَف المرتهن، فإن نكل فعلى من تُرَدُّ اليمين؟ فيه قولان، ويقال: وجهان: أحدهما: على الرَّاهِنِ؛ لأنه المَالِكَ لِلْعَبْدِ، والخصومة تجري بينه وبين المرتهن. وأصحهما: على المجني عَلَيْهِ؛ لأن الحق فيما أَقَرّ لَه، والرَّاهِن لا يدعي لِنَفْسِهِ شَيْئاً، وهذا الخِلاَف عن الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ مبني على أنه لو حلف المرتهن هل يغرم الرَّاهِنُ عليه؟ إن قلنا: نعم، يرد على المجنى عليه؛ لأن الرَّاهِنَ لا يستفيد باليَمِينِ المَرْدُودَةِ شَيْئاً والمجنى عليه يستفيد بها إِثْبَاتَ دَعْوَاهُ، وسواء قلنا: ترد اليمين على الرَّاهِن أو المجنى عَلَيْهِ، فإذا حلف المردود عليه بِيعَ العَبدُ في الجِنَايَةِ، ولا خيار للمُرْتَهِن في فَسْخِ البيع إن كان الرَّهْن مشروطاً فِي بَيْعِ؛ لأن إِقرارَ الرَّاهِنِ إذا لم يقبل لا يفوت عليه شيئاً، وإنما يلزم الفوات من النُّكولِ، ثم إن كان الأرش يستغرق قيمة العبد بيع كله، وإلا بيع منه بقدر الأَرْشِ، وهل يكون البَاقِي رَهْناً؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأن اليَمِينَ المردودةَ كالبينة، أو كإقرار المرتهن بأنه كان جَانِياً في الابتداء، فلا يَصِح الرَّهْنُ فِي شَيْءٍ منه وإذا رددنا على الرَّاهِنِ فَنَكل فهل يرد الآَن على المجنى عليه؟ فيه قولان ويقال: وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن الحَقَّ له، فلا ينبغي أن يبطل بنكول غيره. وأشبههما: لا؛ لأن اليَمِينَ لاَ تُرَدُّ مرةً بَعْدَ مَرّةٍ فعلى هذا نكول الراهن كَحَلِفِ المرتهن في تَقْرِيرِ الرَّهْنِ، وهل يغرم الرَّاهِن لِلْمقر لَهُ؟ فيه القولان، وإن رددنا على المَجْنِي عليه فنكل قال الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وغيره: تسقط دعواه وتنتهي الخصومة، وطرد العراقيون في الرَّدِّ منه على الرَّاهِنِ الخلاف المذكور في عكسه، وإذا لم يُرَدّ لم يغرم له الرَّاهن قولاً واحداً، ويحال بالحيلولة على نكوله، هذا تمام التفريع على أحد القَوْلَيْنِ في أصْلِ المسألة، وهو أن الراهن لا يقبل إقراره. أما إذا قلنا: إنه يقبل إقراره فهل يُحْلِف أم يقبل قولُه من غير يَمِين؟ فيه قولان أو وجهان:
أحدهما: أنه لا يحلف وهو اختيار القاضي أَبِي الطَّيِّبِ؛ لأن اليمين للزَّجْرِ والتخويف ليرجع عن قوله إِنْ كان كَاذِباً، وهاهنا لا سبيل له إلى الرّجوع. وأصحهما عند الشيخ أَبِي حَامِدٍ ومن نحا نحوه: أنه يحلف لِحَقِّ المُرْتَهِنِ، وعلى هذا فَيَحْلِفُ على البِّت؛ لأنه يحلف على الإِثْبَات، وسواء قلنا: لا يحلف أو قلنا: يحلف، فيباع العَبْدُ فِي الجِنَايَةِ، إمَّا كله أو بعضه على مَا مَرّ، وللمرتهن الخِيَارُ فِي فَسْخِ البَيْعِ الَّذِي شرط فيه هذا الرَّهْن، فإن نَكَلَ حلف المُرْتَهِن؛ لأنا إنما حلفنا الرَّاهِن لِحَقِّه، فالرَّدُّ يكون عليه، وما فائدة حلفه؟ فيه قولان حكاهما الصَّيْدَلاَنِيُّ وغيره: أصحهما: أن فائدَتَهُ تقريرُ الرَّهْنِ فِي العَبْدِ على ما هو قِيَاسُ الخُصُومَاتِ. والثاني: أن فائدته أن يغرم الرَّاهِن قيمته؛ ليكون رَهْناً مكانه، وَيُبَاعُ العَبْدُ في الجِنَايَةِ بإقرار الرَّاهِنِ، فإن قلنا بالأول فهل يَغْرَمُ الرَّاهِنُ للمقر له؛ لأنه بنكوله حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَقِّهِ؟ فيه ما سبق من القَوْلَيْنِ، وإن قلنا بالثاني فَهَلْ للمُرْتَهِنِ الخِيَارُ فِي فَسْخِ البَيْعِ الذي شرط فيه هذا الرَّهْن؟ فيه وجهان، ينظر في أَحَدِهِمَا إلى حُصُولِ الوَثِيقَةِ والثاني إلى أن غيْرِ المَشْرُوطِ لم يسلم وهو الأَصحَ، وإن نَكَل المُرْتَهِنُ بِيعَ العَبْدُ في الجناية، ولا خيار له في البَيْعِ، ولا غرم على الرَّاهِن. وإذا عرفت تفريع القولين فيما لو أقر بالجناية فَقِسْ به تفريعهما فيما لو أَقَرّ بالبَيْعِ أو الغَصْب ونحوهما قبل الرَّهْن. ولو أقر بالعتق وقلنا: إنه لا يقبل إقراره فالمنصوص: أنه يجعل ذلك كإنْشَاء الإِعْتَاقِ حتى تَعُودَ فِيهِ الأقوالُ؛ لأن من ملك إنْشَاء أَمْرِ قُبِلَ إقراره فيه، ونقل الإمام رحمه الله تعالى في نُفوذِهِ وَجْهَيْنِ، وإن حكمنا بنفوذ الإنشاء؛ لأنه ممنوع من الإنشاء تبرعاً وإن نفذناه إذا فَعَل، وهذا كما أن إقرار السَّفِيه بالطَّلاَق مقبولٌ كإنشائه، ولو أقر بِإتْلاَفِ مَالٍ ففي قبوله وجهان؛ لأنه ممنوع من الإتْلاَفِ شَرْعاً، ففي مسألة الإقْرارِ بالخِيَارِ كَلاَمَانِ: أحدهما: جميع ما ذَكَرْنَاهُ في المسألة مَبْنِيٌّ على أَنَّ رهن الجَانِي لاَ يَجُوز، أما إذا جوزناه فعن بعض الأصحاب: أنه يقبل إقراره لاَ مَحَالة، حتى يغرم لِلمْجنِي عليه، ويستمر الرَّهْن، وقال آخرون: يطرد فيه القَوْلاَن. ووجه عَدَم القبول: أنه يحصل بلزوم الرَّهْنِ؛ لأن المجني عليه يَبيع المَرْهُون لو عَجَزَ عن أخذ الغَرَامَةِ من الرَّاهِنِ. والثاني: أنه لو أقر بجنايةٍ تُوجِبُ القِصَاصَ لم يقبل إقْرَارُهُ على العَبْدِ، ولو قال: ثم غفى على مَالٍ كما لو أقر بما يوجب المال.
المسألة الثانية: رَهْنُ الجَارِية الموطوءة جَائِزٌ، ولا يمنع من التَّصَرُّفِ لاحتمال الحَمْلِ، فإذا رَهَنَ جاريةً فأتت بولد، ينظر إن كان الانفصال لدون سِتَّة أشْهُرٍ من يَوْمِ الوَطْءِ أو لأكثر من أَرْبِع سنين فالرهن بِحَالِهِ، والولد مَمْلُوكٌ له غَيْر لاَحِقٍ به، وإن كان لِسِتَّة أَشْهرٍ فأكثر إلى أرْبَع سنين فقال الرَّاهن: هذا الولد مِنِّي، وكنت وطئتها قبل لزوم الرَّهْنِ، نظر: إن صدقه الَمُرْتَهِن، أو قامت عليه بِهِ بَيِّنَة، فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، والرَّهْنُ بَاطِلٌ، وللمرتهن فَسْخُ البيع الذي شرط فيه رَهْنها، وإن كذبه المرتهن ولا بينة، ففِي قَبُولِ إقْرَارِهِ لثبوت الاستيلاد قَوْلاَن، كما لو أقر بالعِتْقِ ونظائره، والتفريع كما مَرَّ، وعلى كل حال فالولد حُرٌّ ثابت النَّسَبِ عند الإمكان، ولو لم يُصَادِف وَلَدًا في الحَالِ وزعم الراهن أنها ولدت منه قَبْلَ الرَّهْن ففيه هذا التَّفْصِيلِ والخِلاَف. وقوله في الكتاب: (وكل واحد من المرتهن أو المقر له مهما نكل فقد أَبْطَل حتى نفسه عن الغرم بنكوله هذا في حق المقر له) مُفَرَّعٌ على قول التغريم من قولي: الغرم بالحيلولة. أما المرتهن فليس له غرم تفريعاً على قولنا: إنه لاَ يُقْبَل إقْرَارُ الرَّاهِنِ حتى يفرض بطلانه بنكوله، نعم على قولنا: يقبل إقرار الراهن ينتهي التفريع إلى أن يغرم له الرَّاهِنُ القِيمَة على رَأَيٍ كما سبق، وذلك هو الذي يبطل بنكوله، فإذا كان الأحسن أن يذكر هذا بعد التفريع على القولين جميعاً لا في آخر التفريع على الأَوَّلِ. وقوله: (فهل للمرتهن تحليفه وجهان)، ذكرنا أن بعضهم رواهما قولين، وأن قوله: (قولان) في المسألة بعدها يرويهما بعضهم وجهين، والأولى أن يرويهما جميعاً قولين أو وَجْهَيْنِ، أو يروى في الأولى قولين وفي الثَّانية وجهين، فأما تفريع القولين على الوَجْهَيْنِ فمما يستبعد. وقوله: (مريداً أن المستولدة تحلف) أي: إذا فرعنا على أن المجني عليه يحلف في مسألة الجِنَايَة، فهاهنا يحلف المستولدة فإنها تَقَع في رُتْبَتِهِ، وفي العتق يحلف العبد (¬1). فرع: لو أقر بجناية ينقص أَرْشُها عن قيمة العَبْدِ، ومبلغ الدين، فالقول في مقدار الأَرْشِ عَلَى الخِلاَفِ السَّابِقِ، ولا يقبل فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ؛ لظهور التهمة، وقيل: يطرد الخلاف فيه. فرع آخر: لو باع عبداً، ثم أقر بأنه كان قد غَصبه أَوْ بَاعه، أو بأنه اشتراه شراءً فاسداً لم يلفت إلى قوله؛ لأنه إقرارٌ فِي مِلْكِ الغَيْرِ، والإقرار في ملك الغير مردود ¬
ظاهر، ويخالف إقرار الرَّاهن فإنه في ملكه، وعن بعض الأصْحَاب: إجراء الخِلاَفِ فِيهِ، والمَذْهَبُ الأَوَّلُ، وحينئذ يَكُون القَوْلُ قَوْلَ المُشْتَرِي، فإن نكلَ فالرد على المُدَّعِي أو على المقر البَائِع، حكى القاضي ابْنُ كِجٍّ فيه قولين، ولو أَجَّرَ عَبْداً، ثم أقر بأنه كان قد بَاعه أو أَجَّرَهُ أو أعتقه، ففيه الخلاف المذكور في الرَّهْنِ لبقاء المهلْك. ولو كاتبه ثم أَقَرَّ بما لا يَصح معه الكتابة، فإن القاضي ابْنَ كِجٍّ أجرى الخلاف فيه، وقال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ: لا يقبل بِحَالٍ؛ لأن المكاتب بمنزلة من زال الملك عنه، والله أعلم. قال الغزالي: الأَمْرُ الرَّابعُ فِيمَا يَفُكُّ الرَّهْنَ فَلَوْ أَذِنَ المُرْتَهِنُ فِي البَيْعِ ثُمَّ ادَّعَى الرُّجُوعَ قَبْلَ البَيْع فَالقَوْلُ قَوْلُهُ (و) لأَنَّ الأَصْلَ أَنْ لاَ بَيْعَ وَلاَ رُجُوعَ فَيتَعَارَضَانِ وَيَبْقَى أَنَّ الأَصْلَ اسْتِمْرَارُ العَقْدِ، وَلَوْ قَالَ الرَّاهِنُ مَا سَلَّمْتُهُ مِنَ المَالِ كَانَ عَنْ جِهَةِ الدَّيْنِ الَّذِي بِهِ الرّهُنُ فَانْفَّكَ وَادَّعَى المُرْتَهِنُ أنَّهُ عَنْ جِهَةِ غَيْرِهِ فَالقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ، وَكَذَا فِي كُلِّ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ قُصُودِهِ فِي الأَدَاءِ فَإِنَّهُ أَعْرَفُ بِنِيَّةِ نَفْسِهِ، وَلَوْ قَالَ: لَمْ أَنْوِ عِنْدَ التَّسْلِيمِ أَحَدَ الدَّيْنَيْنِ فَعَلَى وَجْهٍ يُوَزَّعُ عَلَى الجِهَتَيْنِ، وَعَلَى وَجْهٍ يُقَالُ لَهُ: اصْرِفِ الآنَ إِلَى مَا شِئْتَ، وَكذَا فِي جَمِيعِ نَظَائِرِهِ. قال الرَّافِعِيُّ: الأمر الرابع: مما يتنازع فيه المتراهنان ما يفك الرَّهْن، وذكر فيه صورتين: إحداهما: إذا أذن المُرْتَهِن في بَيْعِ الرَّهْنِ، فباع الرَّاهِنُ، وَرَجَع المُرْتَهِن عن الإِذْنِ، ثم اختلفا، فقال المُرْتَهِنُ: رجعت قبل البيع فَلَمْ يَصِح بَيْعُك، وبقي المَالُ رهناً كما كان، وقال الرَّاهِن: بل رجعتَ بَعْدَ البَيْعِ، فوجهان: أظهرهما: عند الأكثرين أنَّ القولَ قولُ المرتهن؛ لأن الأصل عدم رجوع المُرْتَهِنِ فِي الوَقْتِ الذي يدعيه الراهن، والأصل عَدَمُ بيع الرَّهْنِ في الوقت الذي يَدَّعِيهِ، فيتعارضان ويبقى أن الأصل استمرار الرَّهْنِ. والثاني: أن القولَ قولُ الرَّاهِنِ؛ لتقوى جانبه بالإذن الذي سَلَّمه المُرْتَهن، وتوسط في "التهذيب" بين الوجهين فقال: "إن قال الرَّاهن أولاً تصرفت بِإذْنِكَ، ثم قال المُرْتَهِن كُنْتُ رجعت قَبْلَه، فالقولُ قول الرَّاهِنِ مع يمينه، وإن قالَ المرتهن أولاً رجعت عما أذنت، فقال الرَّاهِن كنت تَصَّرفْتُ قبل رُجوعِكَ، فالقُول قول المُرْتهن مع يمينه؛ لأن الراهن حين أخبر لم يكن قادراً على الإنشاء، ولو أنكر الرَّاهِنُ أَصْلَ الرجوع فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصْلَ عدم الرجوع. الصورة الثانية: إذا كان عليه دينان بأحدهما رَهْنٌ دُون الآخر، فسلم إليه ألْفاً ثم اختلفا فقال من عليه الدين: سلمته عَمَّا بِهِ الرَّهْن، وقَالَ المستحق بَلْ عَن الآخَرِ،
فالقولُ قولُ الدَّافِعِ مَع يَمِينِهِ؛ لأنه أعرف بقَصْدِهِ وكيفية أدائه، ولا فرق بين أن يَخْتَلِفَا في مُجَرَّدِ النية أو في اللَّفْظِ أَيْضًا (¬1)، بأن يقول: قد ذكرت أنه عن هذا الدَّيْن، وخالفه الآخَرُ، وكذا الحكم لو كانَ بأحدهما كَفِيلٌ، أو كان أحدهما حالاًّ أو ثمن مبيع، وهو مَحْبُوسٌ بِهِ، فقال: سلمته عنه، وأنكر صاحِبُه، قال الأئمة: والاعتبار في أداء الدَّيْنِ بقصد المُؤَدي، حتى لو ظَنَّ المستحق أنه يودعه عنده وظَنَّ من عليه أداء الدَّيْنُ الأداء تبرأ ذِمَّتُهُ، ويصير المُؤَدَّى مِلْكاً للمستحق. فإن كان عليه دَيْنَان فأدى عن أَحَدِهِمَا بعينه وَقَعَ عَنْهُ، وإن أَدَّى عنهما يقسط على الدينين، وإن لم يقصد في الحَالِ شيئاً، فوجهان: أحدهما: وبه قال أبو علي ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أنه يوزع على الدَّينين، إذ ليس أحدهما بأوْلَى من الآخر. وأظهرهما: وبه قال أبو إسْحَاق: أنه يراجع حتى يَصْرِفَهُ إِلَيْهِمَا أَوْ إِلَى أَيِّهِمَا شَاء، كما إِذَا كَانَ له مالان: حَاضِرٌ، وَغَائِبٌ، ودفع دراهم إلى المستحقين زَكاة، وأطْلَقَ له صَرْفُهَا إلى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا. وتردد الصَّيْدَلاَنِيُّ في حكاية الوجه الأول أنه يوزع على قدر الدَّينين، أو على المستحقين بالسَّوِيَّة، وعلى هذا القِيَاس نَظَائِر المَسْأَلة، كما إذا تبايع مشركان دِرْهماً بدرهمين، وسلم الفضل من التزمه، ثم أسْلَمَا إن قصد تسليمه عن الفَضْلِ فعليه الأَصْلُ، وإن قَصَدَ تَسْلِيمَهُ عن الأَصْلِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وإن قصد تسليمه عَنْهُمَا وَزِّعَ عَلَيْهِمَا، وسقط ما بقي من الفَضْلِ، وإن لم يقصد شيئاً ففيه الوجهان. ولو كان لزيد عليه مائة ولعمرو مِثْلها، فَوَكَّلاَ وَكيلاً بالاستيفاء، فدفع المديون إلى الوَكِيل لزيد أو لعمرو فَذَاك، وإن أطلق فَعَلَى الوَجْهَيْنِ، ولو قال: خذه وادفعه إلى فلان ¬
أو إليهما فهذا تَوْكِيلٌ منه بالأداء، وله التغيير ما لم يصل إلى المستحق (¬1)، ولو أبرأ مستحق الدينين المديون عَنْ مائَةٍ وكل واحد منهما مائَةْ، نظر فإن قصد أحدهما أو قصدهما فالأمر على مَا قَصَدَ، وإن أطلق فَعَلَى الوَجْهَيْنِ، ولو اختلفا فقال المبرئ: أبرأت عن الدَّيْن الخَالِي عن الرَّهْنِ والكَفِيل، وقال المديون: بل عن الآخر، فالقولُ قولُ المُبْرِئِ مَعَ يَمِينِهِ، والله أعلم. هذا شرح ما أورده في بَاب النِّزاع، وقد يختلف المُتَرَاهِنَانِ في أمور أخر: منها: ما اندرج فيما قبله من أبْوَابَ الرَّهْنِ. ومنها: ما إذا اختلفَا المُتَرَاهِنَانِ في قَدِمِ عَيْبِ الرَّهْنِ وحدوثه إذا كان مشروطاً بيع، وقد ذكرناه في كِتَابِ البَيْعِ. ومن فروعِ هذاَ البَاب: ما إذا رهنه عصيرًا ثم اختلفا بعد القبض، فقال المرتهن: قبضته وقد تَخَمَّر فلي الخيار فِي فسْخِ البَيْعِ المشروط فيه هذا الرَّهْن، وقال الراهن: بل صار عِنْدَكَ خَمْراً، فقولان: أصحهما: أن القولَ قول الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لأن الأصْلَ بقاء المَبِيع، والمُرْتَهِنَ يتدرج بِمَا يقوله إلى الفَسْخِ. والثاني: وبه قال أبُو حَنِيفَة والمُزَنِيَ: إن القولَ قولُ المرتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لأن الأصل عَدَمُ القَبْضِ الصَّحِيحِ. ولو زعم المرتهن أنه كان خمراً يَوْمَ العَقْدِ، وكان الشَّرْطُ رَهْنِ فَاسِدٍ، فمنهم من طرد القولين، وعن ابن أبي هريرة القَطْعُ بأن القولَ قولُ المرتهن. ومأخذ الطريقين: أن فَسَاد الرَّهْنِ هل يوجب فساد البيع. إن قلنا: لا، خرج على القولين. وإن قلنا: نعم، فالجواب ما قَالَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ لأنه ينكر أَصْلَ البَيْعِ، والأصل عَدَمُه، ويمكن أن يخرج على الخِلاَف. وإن قلنا: إن فَسَادَ الرَّهْن يوجب فَسَادَ البَيْعِ على الخلاف فيما إذا اختلف المتبايعان في شَرْطٍ مُفْسِدٍ وَقَدْ مَرَّ. ثم هاهنا فائدتان: إحداهما: خَرَّجَ مُخَرَّجُونَ القولين على أن المُدَّعيِ من يدعي أَمْراً خَفِيّاً، والمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَدَّعيِ أَمْراً جِليّاً، والمْدَّعِي مَنْ لَوْ سَكت لتِركَ، وَالمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ لَوْ سكت لَمْ يترك، هذا أصْلٌ معروف في موضعه (¬2). ¬
فإن قلنا بالأول فالمُدَّعِي الرَّاهِنُ؛ لأنه قد يَدَّعِي جريان القَبْضُ الصَّحِيح، والأصل عَدَمُه، فيكون القولُ قولَ المُرْتَهِنِ. وإن قلنا بالثاني، فالمُدَّعِي المرتهن؛ لأنه لو سَكَت لترك، والراهن لا يترك لو
سكت، فيكون القولُ قولَ الرَّاهِنِ. والثانية: استنبط القاضي حسين من القولين الجواب في فرعين. أحدهما: سلم العبد المشروط رَهْنَه ملفوفاً في ثَوبٍ، ثم وجد ميتاً، فقال الرَّاهن: مات عندك، وقالَ المرتهن: بل كان عِندك ميتاً، فمن المصدق منهما فيه القولان. الثاني: اشترى مائعاً وجاء بظرف فصيه البائع فيه، فوجدت فيه فأرة ميتة، فقال البائع: إنها كانت في ظرفك، وقال المشتري: بل أقبضتنيه وفي الفأرة، فَمَنْ يُصَدَّق؟ القولان. ولو زعم المشتري أنها كانت فيه يوم البيع، فهذا اختلاف في أن العقد جرى صحيحاً أو فاسداً. خاتمة: ليس للراهن أن يقول: أحضر المرهون وأنا أؤدي دَيْنَكَ من مالي، بل لا يلزمه الإِحْضَار بعد الأداءِ أيضاً، وإنما عليه التمكين كالمودع، والإحْضَار وما يحتاج إليه من مؤنة على رَبِّ المَالِ، ولو احتاج إلى بيعه في الدَّيْنِ لم يكن عليه الإِحْضَار أيضاً، بل يتكلف الرَّاهِن مؤنته ويحضره القَاضِي بنفسه حتى يبيعه (¬1)، والله تعالى أَعْلَم. تم الجزء الرابع، ويليه الجزء الخامس، وأوله: "كتاب التفليس" ¬
العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير تأليف الإمام أبي القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الرافعي القزويني الشافعي المتوفي سنة 623 هـ تحقيق وتعليق الشيخ علي محمد معوض ... الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الجزء الخامس يحتوي على الكتب التالية: التفليس - الحجر - الصلح - الحوالة - الضمان - الشركة - الوكالة - الإقرار - العارية - الغصب - الشفعة دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
جميع الحقوق محفوظة جميع حقوق الملكية الادبية والفنية محفوظة لدار الكتب العلمية بيروت - لبنان ويحظر طبع أو تصوير أو ترجمة أو إعادة تنضيد الكتاب كاملاً أو مجزأً أو تسجيله على أشرطة كاسيت أو إدخاله على الكمبيوتر أو برمجته على اسطوانات ضوئية إلا بموافقة الناشر خطيًا. الطبعة الأولى 1417 هـ - 1997 م دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
كتاب التفليس
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ التَّفْلِيسِ قال الغزالي: الْتِمَاسُ الغُرَمَاءِ الحَجْرَ بِالدُّيُونِ الحَالَّةِ الزَّائِدَةِ عَلَى قدْرِ المَالِ سَبَبٌ لِضَرْبِ الحَجْرِ (ح) عَلَى المُفْلِسِ بِدَلِيلِ الحَدِيثِ، وَفِي الْتِمَاسِ المُفْلِسِ دُونَ الغُرَمَاءِ وَالْتِمَاسِ الغُرَمَاءِ بِدَيْن يُسَاوِي المَالَ أَوْ يَقْرُبُ مِنْهُ خِلاَفٌ، وَالدُّيُونُ المُؤَجَّلَةُ لاَ حَجْرَ بِهَا (و)، وَلاَ يَحِلُّ الأَجِلُ بِالفَلَسِ عَلَى الأَصَحِّ. قال الرَّافِعِي: التفليس: النداء على المُفْلِس وإشهاره بصِفَةِ الإِفْلاَسِ، ولفظ الإفلاس مأخوذ من الفلوس، وقولهم: أفلس الرجُل كقولهم: أَخبث أي صَارَ أصحابه خُبَثَاءَ؛ لأن ماله صار فُلُوساً وزُيُوفاً، ولم يبق ماله خطر، أو كقولهم: أذل الرجل إذا صَارَ إلى حالٍ يُذَلُّ فيها؛ لأنه صار إلى حالة يقال: ليس معه فَلْسٌ، أو يقال فيها: لم يبق معه إلا الفلوس، أو كقولهم: أسْهَل الرجل وأحزن إذا وصل إلى السَّهْل والحزن؛ لأنه انتهى أمره وتصرفه إلى الفلوس، هذا في اللغة. وأما في الشرع: فقد قال الأئمة - رحمهم الله -: المُفْلِسُ من عليه دُيُونَ لا يَفِي بِهَا مَالُه، ومثل هذا الشَّخْصِ يجوز للحَاكِمِ الحَجْرُ عَلَيْهِ بِالشَّرَائِطِ التي نذكرها، وإذا حَجَر عليه ثبت حكمان: أحدهما: تعلق الدَّيْنِ بماله حتى لا ينفذ تصرفها فيه بما يضر الغرماء، ولا تزاحمهم الدّيون الحادثة كما سيأتي إن شاء الله تعالى. والثاني: أن من وجد عند المفلس عين ماله كان أحق به من غيره. ولو مات مفلساً قبل أن يحجر عليه تعلقت الديون بالتركة على ما مَرّ بيانه، ولا فرق بين المُفْلِس وغيره. وأما الحكم الثاني: فإنه يثبت ويكون بموته مُفْلِساً كالحجر عليه. وقال مالك: يحجر عليه ويثبت التعلق والرجوع، ولكنهما لا يثبتان بالمَوْتِ، وحكى أصحابنا عن أحمد -رضي الله عنه- مثل مذهبنا، ورأيت في كُتُبِ بَعْضِ أصحابه
أن مَذْهَبَهُ كمذهب مالك وأما أبو حنيفة فإنه قال: ليس لِلْحَاكِمِ الحَجْرُ عَلَيْهِ، فإن فعل وأمضاه حاكم نفذ في امتناع التصرف عليه، ولكن لا رجوع للبائع في عَيْن متاعه. ووجه المذهب: ما روى عن كعب بن مالك -رضي الله عنه-: "أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ وَبَاعَ عَلَيْهِ مَالَهُ" (¬1) وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا أَفْلَسَ الرَّجُلُ وَوَجَدَ الْبَائِعُ سِلْعَتَهُ بِعَيْنِهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنَ الْغُرَمَاءِ" (¬2) ويروى عنه أنه قال في مفلس أتوه به: هذا الذي قضى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ" (¬3). ومن جهة المعنى: أنه عقد معاوضة، يدخله الفَسْخُ بالإِقَالَةِ، فدخله الفَسْخُ بتعذر العِوَضِ، كما لو تَعَذَّر المسلم فيه، واحترزوا بالوصف عن الحوالة والخُلْعِ، ثم هاهنا مباحثات: إحداها: لا شك أن التعلق المَانِع من التصرف يفتقر ثُبوتُه إِلَى توسط حَجْرِ القَأضِي عَلَيْهِ، وهل الرجوعِ إلى عين المَبِيعٍ كذلك أو هو مستغن عن الحجر؟ إن كان الأول فما وجه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أو أَفْلَسَ"، الحديث (¬4) أثبت الأحقية بمجرد الإِفْلاَس، وإن كان الثاني فلم جعل صَاحِبُ الكتاب الرجوع حُكْماً للحَجْرِ حيث قال: (ثم للحجر أحكام أربعة وهو أحدها)؟ وعلى هذا التقدير يكون الرجوع حكم الإفلاس لاحكماً لِلْحَجْرِ؟ والجواب الذي يدل عليه كلام الأصحاب هاهنا تعريضاً وتصريحاً: افتقار الرجوع إلى توسط الحجر، كافتقار تعلق الديون بالمَالِ، ولفظ الكتاب مطابُقُ له، إلا أن ما حكيناه في تفريع الأَقْوَالِ عند اختلاف المتبايعين في البِدَاية بالتسليم يشعر باستغنائه عن الحَجْر، فراجعه إن لم تتذكر، والمعتمد الأوَّل، والحديث يحتمل وجوهاً من التأويل: منها: أن يريد بالإفْلاَس الحَجْر، فعبر بالسَّبَبِ عن المُسَبَّبِ، فإن الإفْلاَسَ سَبَبُ الحَجْرِ. ومنها: أن يضمر الحجر فيه. ومنها: أن يقال: لفظ الحديث الأحقية، وهذا اللفظ يصدق بالتمكين من الرّجُوع ¬
بسلوك الأَسْبَابِ المفضية إليه، ومن جملتها طَلَبَ الحَجْرِ، فإذا مجرد الإفْلاَس يفيد الأحَقِّية. الثانيهْ: فيما نقلناه عن الأئمة في تَفْسِيرِ المفلس قَيْدَان: أحدهما: المديونية. والآخر: أن يكون ماله قاصراً عن الوفاء بالديون، والقيد الأول لا بد منه لجواز الحَجْرِ، وأما الثاني فيجوز أن يقال: إنه لا حاجة إليه، بل مجرد الدَّيْنِ يكفي لجواز الحجر منعاً له من التصرفات فيما عَسَاهُ يحدث له باصطياد واتهابَ والظفر بِرَكَازٍ وغيرها، فإن كان كذلك فيفسر المُفْلِس بالذي ليس له مَالٌ يَفِي بديونه، لينتظم من لا مَالَ لَهُ أَصْلاً، ومن له مال قاصر، وإنما يراد بالمُفْلِس في المشهور من لا مَالَ له فإنه بمجرده لا يؤثر في هذه الأحْكَامِ بحال. الثالث: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ" (¬1) يقتضي ظاهره ثبوت الرجوع، وإن كان مال الميت وافياً بالديون، فهذا الظاهر هل هو معمول به أم لا؟ الجواب: أثبت الإصْطَخْرِي الرجوع بمجرد الموت أخذاً بهذا الظَّاهِرِ، والمذهب المَنْع؛ لتيسر الرسول إلى الثَّمَنِ، كما في حال الحياة، والخبر محمول على ما إذا مات مُفْلِساً؛ لأنه روى في بعض الروايات أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ المَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَ بِعَيْنِهِ مَا لَمْ يُخْلِفْ وَفَاءً" (¬2). وإذا تقررت هذه التمهيدات فالكلام بعد في أنه مَتَى يُحْجَرُ عَلَيْهِ؟ قال حُجَّةُ الإسْلاَم: التماس الغرماء الحجر بالديون الحالة الزائدة على قدر المال سَبَبٌ لضرب الحَجْرِ عَلَى المُفْلِسِ، وفيه قيود: أولها: الالتماس، ولا بد منه، وليس للقاضي أن يحجر عليه من غير التماس؛ لأن هذا الحَجْرَ لمصلحة الغرماء والمفلس، وهم ناظرون لأنْفُسِهِمْ، فلا يتحكم الحَاكِم عَلَيْهِم. نعم، لو كانت الديون لمجانين أو أطفال أو محجورين بالسَّفَهِ، لولى القاضي الحجر لمصلحتهم من غير التماس، ولا يحجر لِدَيْنِ الغَائِبينَ؛ لأنه لا يستوفى ما لهم في الذَّمَمِ، وإنما تحفظ أعيان أموالهم (¬3). ¬
وثانيها: كون الالتماس من الغرماء، وفيه مسألتان: إحداهما: لو التمس بعضهم دون بَعْضٍ، نظر إن كان دين الملتمس قدراً يجوز الحَجْرُ عليه لذلك القدر أُجِيبُوا، ثم لا يختص الحجر بهم، بل يعم أثره الكُلّ (¬1)، وإن لم يَكُنْ فوجهان: الأظهر: المنع؛ وعن الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: أنه يحجر، ولا يضيع حَقّه بتكاسل غيره. الثانية: لو لم يلتمس أحد منهم والتمسه المفلس فوجهان: أحدهما: لا يجاب إليه؛ لأن الحُرِيَّة والرشد ينافيان الحَجْر، وإنما يصار إليه إذا حقت طلبة الغُرَمَاءِ. وأظهرهما: الإجابة؛ لأنَّ له غرضاً فيه ظاهراً، وقد روى أن الحِجْرَ على معاذ -رضي الله عنه- كان بالتماس منه دون طَلَبِ الغُرَماء (¬2). وثالثها: كون الدُّيُون حَالَّه، فَإنْ كانت مؤجلةً فلا حَجْرَ بِهَا، سواء كان له ما يَفِي بها أو لم يكن؛ لأنه لا مطالبة في اَلحَالِ، وربما يجد الوفاء عند توجه المُطَالَبَةِ، وإن كان البعض حالاًّ والبعض مؤجلاً، نظر إن كان الحال قدراً يجوز الحجر به حُجِر، وإلا فَلاَ، وإذا حُجِرَ عليه، فهل يحل ما عليه من الدُّيونِ المُؤَجَّلة؟ فيه قولان: أحدهما: نعم، وبه قال مَالِك؛ لأن الحجر يُوجِبُ تعلق الدَّيْنِ بالمَالِ، فيسقط الأجل كالموت. وأصحهما: لا؛ لأن المقصود من التأجيل التخفيف ليكتسب في مُدَّةِ الأجل ما يقضي به الدَّيْن، وهذا المقصود غَيْرُ ثَابِتٍ، بخلاف صُوَرةِ المَوْتِ، فإن توقع الاكتساب قَدْ يبطل، وهذا ما اختاره المزني ونقله عن "الإملاء" وعن الشيخ أبي مُحَمَّدٍ: ترتيب هذين القولين على القولين في أن مَنْ عليه الدَّيْنُ المؤجل لو جُنَّ هل يَحِل عليه الأَجَل؟ وأن الحلول في صورة الجُنُونِ أولى؛ لأن المجنونَ لا استقلال له كالميت، وقيمه ينوب عنه كما ينوب الوَارِث عن الميت، ورأى الإمام الترتيب بالعكس أولى؛ لأن قَيِّمَ المجنون له أن يبتاع له بثمن مُؤَجَّلِ عند ظهور المَصْلَحَةِ، فإذا لم يمنع الجُنُونُ التأجيل ابتداء فلان لا يقطع الأجلَ دواماً كان أولى. ¬
التفريع: إذا قلنا بالحلول قسم المال بين أصحاب هذه الدّيُونِ وأصحاب الديون الحالة في الابتداء، كلما لو مات، وإن كان في الدُّيُونِ المؤجلة ما كان ثمن مَتَاعٍ وهو قائم عند المُفْلِس فلأصحابه الرجوع إلى عَيْنِ مَتَاعِهِ كما لو كان حالاً في الابْتِدَاءِ، وعن القاضي أَبِي الطَّيِّبِ: أن أبا إِسحَاقَ قَالَ: فائدة الحلول أن لا يتعلق بذلك المتاع حق غير بائعه، ويكون محفوظاً له إلى مضي المدة، فإن وجد المُفْلِسُ وَفَاءً فذاك، وإلا فحينئذ يفسخ، وقيل: لا فَسْخَ حينئذ أيضاً، بل لو باع بثمن مُؤَجَّلِ وَحَلَّ الأجل ثم أفلس المشتري وحجر عليه فليس للبائع الفَسْخ والرجوع إلى المَبِيع؛ لأن المبيع بالثَّمَنِ المُؤَجَّلِ يقطع حَقَّ البائع عن المبيع بالكلية، ولهذا لا يثبت فيه حق الجنس للبائع، والأصح: الأول. وإن قلنا: بعدم الحُلُولِ، بيع ماله وقُسِّم على أصحاب الدُّيُونِ الحَالَّة، ولا يَدَّخَرُ لأصْحَابِ الديون المؤجلة شيءٌ ولا يدام الحجر بعد القسمة لأصحاب الديون المؤجلة، كما لا يحجر بها ابتداء، وهل يدخل في البيع الأمتعة المؤجلة الأثمان؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم، كسائر أموال المفلس، وليس لبائعها تعلق بها؛ لأنه لا مطالبة في الحَالِ، وعلى هذا فإن لم يتفق بيعها وقسمتها حتى حَلَّ الأجلُ ففي جواز الفسخ الآن وجهان. والثاني: أنها لا تُبَاع، فإنها كالمرهونة بحقوق بَائِعِهَا، بل يتوقف إلى انقضاء الأَجَلِ، فإن انقضى والحجر بَاقٍ ثبت حَقّ الفسخ، وإن أطلق فكذلك، ولا حاجة إلى إعادة الحَجْرِ، بل عزلها وانتظار حلول الأجل كإبقاء الحَجْرِ بالإضافة إلى البَيْعِ، ونقل الإمام وجهاً آخر: أنه لاَ بُدَّ من إعادة الحجْرِ، ليثبت حق الفسخ، وذكر أيضاً تفريعاً على القول الأول وجهين في أنه لو لم يكن عليه إلا ديون مؤجلة وطلب أصحابها الحجر هل يجابون؟ أحدهما: نعم، فإنهم يتوسلون به إلى الحُلُولِ أو المُطَالَبَةِ. وأصحهما: لا؛ لأن طَلَبَ الحَجْر فرع طلب الدين وعسر تخليصه، فلا يتقدم عليه. ويصح إعلام قوله في الكتاب: (والديون المؤجلة لا حجر بها) بالواو؛ للوجه الأول. ورابعها: كون الديون زائدة على قدر أمواله، فإن كانت متساويةً والرَّجُلُ كسوبٌ ينفق مِنْ كَسْبِهِ فَلاَ حَجْرَ، وإن ظهرت أمارات الافلاس بأن لم يكن كسوباً وكان ينفق من ماله أو لم يَفِ كسبُه بنفقته فوجهان:
أحدهما: يحجر عليه كيلا يضيع مَالُه في النفقة، والديون إذا سَاوَت المالَ فستزيد عن قَرِيب. والثاني: أنه لا يحجر؛ لأن الوفاء حَاصِل، وهم متمكنون من المُطَالَبَةِ في الحَالِ، وهذا أصَح عِنْدَ العراقيين، وذكر الإِمام أن المُخْتَار هو الأَوَّل. ويجري الوَجْهَانِ فيما إذا كانت الديون أقل، وكانت بحيث يَغْلُبُ على الظَّنِّ انتهاؤها إلى حَدِّ المساواة، ومنه إلى الزيادة؛ لكثرة النفقة، وهذه الصُّورة أولى بالمَنْعِ، وإذا حجرنا في صُورة المُسَاوَاةِ فهل لمن وجد عين مَالِهِ عند المفلس الرُّجوع؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم؛ لإطلاق الحديث. والثَّانِي: لا؛ لتمكنه من استيفاء الثمن بِكَمَالِهِ، وهل تدخل هذه الأعيان في حِسَابِ أمواله وأثمانِهَا في حِسَابِ دُيُونِهِ؟ فيه وجهان: أصحهما عند العراقيين: الإدْخَال، وذكر في "التتمة" أن الوجهين مبنيان على الوجهين في جواز الرجوع في الصُّورَةِ السَّابقة إن لم يثبت الرجوع، أدخلت رجاء الوفاء وإن أثبتناه فلا، والله أعلم. قال الغزالي: ثُمَّ لِلْحَجْرِ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ: الأَوَّلُ مَنْعُ كُلِّ تَصرُّفٍ مُبتَدَإٍ يُصَادِفُ المَالَ المَوْجُودَ عِنْدَ ضَرْبِ الحَجْرِ كالعِتْقِ، وَالبَيْعِ، وَالرَّهْنِ، وَالكِتَابَةِ، وَلاَ يُخَرَّجُ عِتْقُهُ عَلَى عِتْقِ الرَّاِهنِ؛ لأَنَّ تَنْفِيذَهُ إِبْطَالٌ لِمَا أنْشئَ الْحَجْرُ لَهُ، ثُمَّ لَو فَضَّلَ الْعَبْد الْمُعْتَقَ أَوْ المبيعَ بَعْدَ قَضَاءِ الدّيْنِ فَفِي الْحُكْمِ بِنُفُوذِهِ خِلاَفٌ، فَإِنْ قُلْنَا: يَنْفُذُ فَليَقْضِ الدَّيْنَ من غَيْرِهِ مَا أَمْكنَ، أَمَّا مَا لاَ يُصَادِفُ المَالَ كالنّكَاحِ، وَالخُلعِ، وَاسِتِيفَاءِ القِصَاصِ، وعَفْوِهِ، وَاسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ، وَنَفْيِهِ بِاللِّعَانِ، وَاخْتِطَابهِ، وَاتِّهَابِهِ، وَقَبُويهِ الوَصِيَّةَ فَهِيَ صَحِيحَةٌ، وَكَذَا شِرَاؤُهُ عَلَى الأَصَحِّ، وَكَذَا إِقْرَارُهُ، إلاَّ أَنَّ مَا يَتَعَلَّق مِنْهُ بالْمَالِ يُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ فَكِّ الحَجْرِ وَلاَ يُقْبَلُ عَلَى الغُرَمَاءِ، وَلَوْ أَقَرَّ في عَيْنِ مَالٍ أَنَّهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ أَوْ غَصْبٌ أَوْ عَارِيةٌ فَفيهِ قَوْلاَنِ في القَدِيمِ، وَمِنْهُ خُرِّجَ قَوْلُ أَنَّ الإِقْرَارَ المُرْسَلَ بِالدَّيْنِ أَيْضاً يُوجِبُ قَضَاءَهُ في الحَالِ من مَالِهِ إِذْ لا تُهْمَةَ فِيهِ. قال الرَّافِعِيُّ: عرفت أن من حكم الحجر منع المفلس من التَّصَرُّفِ، والمستحب لِلْحَاكِمِ إِذَا حجر عليه أن يُشْهِدَ عليه؛ ليحذر النَّاس من مُعَامَلَتِهِ، ثم في الضبط الذي ذكره صاحب الكتاب لما يمنع منه قيود: أحدها: كون التصرف مصادفاً لِلْمَالِ والتصرف ضربان: إنشاء، وإقرار. الضرب الأول: الإنشاءات، وهي نوعان:
أحدهما: ما يصادف المَال وينقسم إلى تحصيل كالاحْتِطَاب، والاتهاب، وقبول الوصية، ولا يخفى أنه لا يمنع منه؛ لأنه كَامِلُ الحَالِ، وغرض الحَجْرِ مِمَّا يضر الغُرَمَاءَ لا غير، وإلى تفويت فينظر إن تعلق بما بعد الموت وهو التدبير والوصية صَحَّ، فإن فضل المال نفذ وإلاَّ فلا، وإن كَانَ غير ذلك فإما أن يكون مُوْرِدُهُ عَين المَالِ، أو مَا فِي الذِّمَّة. القسم الأول ما يكون مورده عين المال، كالبيع، والهبة والرهن والإعتاق، والكتابة، وفيها قولان: أحدهما: أنها موقوفة، فإن فضل ما تصرف فيه عن الدَّيْنِ إما لارتفاع القِيمَةِ، أو لإبراء بعض المستحقين نفذناه، وإلا بأن أنه كان لغواً، ووجهه أنه محجور عليه لِحَقِّ الغير، فلا يلغى تصرفه كالمريض وأصحهما وبه قال مَالِكٌ واخْتَارَهُ المُزَنِيُّ: أنه لا يصح شيء منها؛ لتعلق حق الغرماء بتلك الأموال، كتعلق حتى المرتهن، وأيضاً فإنه محجور عليه لِحِكْمِ الحَاكِمِ، فلا يصح تصرفه على مراغمة مَقْصُودِ الحَجْرِ كالسَّفِيهِ، وإن شئت قلت: هذه التصرفات غير نافذة في الحَالِ، فإن فضل ما تصرف فيه وانفك الحَجْر فهل ينفذ حينَئذٍ؟ فيه قولان وإيراد صَاحِب الكِتَابِ يوافق هذه العبارة، وجعل الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الخلافَ في هذه التصرفات علَى التَّرْتِيبِ، فقال: العتق أولى بالنفوذ؛ لقبوله الوَقْف، وتعلقه بِالإقْرَار، وتليه الكتابة؛ لما فيها من المعاوضة، ثم البَيْعُ والهِبَةُ؛ لأنهما لا يقبلان التَّعْلِيق، واختلفوا في محل القولين: فمن قاصرين لهما على ما إذا اقتصر الحَاكِم على الحَجْرِ ولم يجعل ماله لغرمائه حيث وجدوه، فإن فعل ذلك لم ينفذ تصرفه قولاً واحداً، واحتجوا بأن الشَّافعي -رضي الله عنه- قال: "إذا جعل ماله لغرمائه فلا زَكاةَ عليه". ومن طاردين لهما في الحالتين، وهو الأشهر، قال هؤلاء: وتجب الزَّكَاةُ عليه على أظهر القولين ما دام مِلْكُه باقياً، النَّصُّ محمولٌ على ما إذا بَاعَهُ مِنْهُمْ، فإن نفذناه بعد الحَجْرِ وجب تأخير ما تَصَرَّفَ فِيهِ، وقضاء الدَّيْنِ من غيره، فلعله يفضل، فإن لم يفضل نقضنا من تصرفاته الأضعف فالأضعف، والأضعف الرَّهْن والهِبَة؛ لخلوهما عن العِوَض، ثم البيع، ثم الكِتَابة، ثم العِتْق، قال الإمام: فلو لم يوجد رَاغِب في أموال المُفْلِس إلا في العبد المعتق وقال الغرماء: بيعوه ونجزوا حقنا ففيه احتمال، وغالب الظن أنهم يجابون (¬1)، وذكر الشَّيْخُ أبو إسحاق -رحمه الله- أنه يحتمل أن ينقض من ¬
تصرفاته للآخر، كما في تبرعات المريض، إذا زادت على الثُّلُثِ، واعلم أن ما ذكرنا في البَيْعِ مفروض في بَيْعِهِ مِن غير الغرماء، فإن باع مِنْهُم فسيأتي. القسم الثَّاني: ما يرد على ما في الذِّمَّة، كما إذا اشترى بِثَمَنٍ في الذَّمَّة، أو باع طعاماً سلماً، فَيَصِحّ، ويثبت في ذِمَّتِهِ، وسنتكلم في أنه متى يؤدي؟ وكيف يؤدي؟ وروى الإمام قولاً آخر: أنه لا يصح شراؤه كالسَّفِيه، والمَذْهَبُ المَشْهُورُ الأَوَّلُ. النوع الثاني: ما لا يُصَادِف المَال، فلا يمنع منه، وذلك كالنِّكَاحِ، والطَّلاَقِ، والكلام في أن مؤنات نكاحه كيف توفّي؟ نذكر ذلك في موضعه، وإذا صَحَّ مِنْه الطَّلاق مجاناً صح الخُلعُ مِنْهُ بطريق الأَوْلَى، وكذا يصح منه استيقاء القصاص، والعفو عنه، واستلحاق النسب، ونفيه باللعان، والقول في استيفائه القصاص وعفوه عنه مُعَادٌ في كتاب القصاص. الضرب الثَّانِي: الإقرار، فإن أقر بمال لَمْ يَحِل، إما أن يقر بِمَالٍ في الذِّمة أو بعين مال، إن كَانَ الأَوَّل، نظر إن أقر بدين لزمه قبل الحَجْرِ إما عن معاملة، أو دين، أو إِتْلاَف لزمه ما أقر به وفي قبوله في حق الغرماء قولان: وجه: عدم القبول وبه قال مَالِك: أن حقهم تَعَلَّقَ بِمَا له مِن المَالِ، وفي القبول إضرار بهم لمزاحمته إيَّاهُمْ. ووجه: القبول، وهو الأصحّ القياس على مَا إِذَا ثبت بالبَيِّنَةِ، وعلى ما إذا أقر المريض بدَيْنٍ يزاحم المقر له غرماء الصِّحة، وهذا لأن ضرر الإقْرَارِ في حَقِّه أكثر منه في حق الَغُرَمَاءِ فلا تُهْمَةَ فِيهِ، وإن أسنده إلى ما بعد الحَجْرِ، نظر إن قال عن معاملة لم يقبل في حَقِّ الغرماء، وإن قال: عن إتْلاَفٍ، أو عن جناية، فأصح الطريقين أنه كما لو أسند لُزُومَه إلى ما قَبْلَ الحَجْرِ. والثاني: أنه كما لو قال عن معاملة وإن أقر بدين ولم يسنده فقياس المذهب التنزيل على الأقل (¬1)، وجعله كما لو أسند لزومه إلى مَا بعد الحجْرِ (¬2)، وإن أقر بعين ¬
مال لغيره، وقال غَصَبْتُه منه، أو استعرته، أو أخذته سَوْماً فقولان كالقولين فيما لو أقر بِدَيْنٍ أسندَهُ إلى ما قَبْلَ الحَجْرِ، لكن إذا قبلنا ثم فأثره أن يزاحم المقر له الغرماء وهاهنا يسلم المقر له، وعلى الثاني إن فضل سلم إليه، وإلا فالغرم في ذِمَّتِهِ، والفرق بين الإنشاءات حيث رددناها في الحَالِ جَزْماً، وقلنا: الأصح أنه لا يحكم بنفوذها عند انفكاك الحجر أيضاً، وبين الأقارير حيث قبلناها في حَقِّ المفلس جزماً، وفي حق الغرماء أيضاً على أصح القولين أن مقصود الحَجْر منعه من التَّصَرُّفِ فيناسبه إلغاء ما ينشئه، والإقرار إخبار عما مضى والحَجْرُ لا يسلب العبارة عنه. ولو أقر بما يوجب عليه قِصَاصاً أو حداً قبل وأجرى عليه حُكْمُه، فإن كان المقر به سرقه توجب القطع قبل في القَطْع، وفي رَدِّ المسروقِ القولانِ السَّابِقَانِ، والقبول هاهنا أولى لبعد الإقرار عن التُّهْمَةِ، وإذا أقر بما يوجب القِصَاص، فعفا المُسْتَحِق على مال قال في "التهذيب": هو كما لو أقر بدين جناية، وقطع بعض شارحي "المختصر" بالقبول لانتفاء التهمة، وهذا القائل ينبغي أن يطرد كما ذكره في الصُّورة الأولى. فرع: لو ادعى مُدَّعٍ على المفلس ما لا لزمه قَبْلَ الحَجْرِ، وأنكر المفلس ولم يحلف فَحَلَفَ المُدَّعِي. إن قلنا: النكول ورد اليَمِين كالبَيِّنَة، زَاحَمَ الحَالِفُ الغُرَمَاء. وإن قلنا: كالإِقرار فعلى القولين. ولنعد إلى ما يتعلق بلفظ الكتاب. قوله: (ولا يخرج عتقه على عتق الراهن) إلى آخره أراد به أن الخِلاَفَ المَذْكُورَ في نفوذ إعتاق الرَّاهِنِ في الحَالِ لا يجيء هاهنا لأن الحَجْر لم ينشأ إلا لِلْمَنْع من تفويت المَال، والتنفيذ يعكر على مقصود الحجر بالإبْطَالِ، وفي الرَّهْنِ المقصود الأصلي توثيق حَقِّ المُرْتَهِن، فإنه يحصل بِبَذْل المَرْهُونِ كما يُحْصُلُ بِعَيْنِهِ. وقوله: (أما ما لا يصادق المال كالنكاح) إلى أن قال (واحتطابه واتهابه وقبول الوصية) ففيه كلام من جهة أن الاحتطاب والاتهاب وَقبُولِ الوَصِيَّة يصادف المَالَ لا مَحَالَة، وكذا الشراء، وليس تصحيحهما لأنها لا تُصَادف المال، بل لأنها تحصيل للملك لإزالته، وإن قيل: المراد أنها لا تصادف المَالَ الموجودَ عند الحَجْرِ فهذا صَحِيحٌ، ولكن يصادفه المال الموجود عند الحَجْرِ حينئذ يصير قيداً واحداً، وذلك خلاف ما ذكره في "الوسيط" وأورده هاهنا، وقوله في مسألة الإقرار بالعين: ففيه قولان في القديم ومنه خرج قول في أن الإقرار المرسل بالدين أيضاً يوجب قضاؤه في الحال من ماله، إذ لا تُهْمَة فيه أراد به أن القولين جميعاً مذكوران في كتبه القديمة، وإن
الأصحاب خرجوا في الإقْرَار بالدِّين مثل ذلك، إذ لاَ فَرْقَ، وهذا شيء مقلد فيه إمام الحرمين، فإنه كذلك أَوْرَدةُ، ولم ينسب لجمهور القولين في الإقرار بالعين إلى القديم، وأما الحكم بالتخريج في الإقرار بالدين فَعَجِيبٌ مع نصه في "المختصر" على القولين جميعاً، حيث قال: وإن أقر بدين وزعم أنه لزمه قبل الوقت ففيه قولان: أحدهما: أنه جائز كالمريض يدخل على غرمائه وبه أقول. والثاني: أن إقراره لاَزِمٌ لَهُ في مال، إن حدث له أو يفضل عن غرمائه، وقد تَعَرَّضَ للقولين في مسألة أخرى قبل هذه، ومعلوم أن النَّصَّ مُغْنِ عن التخريج. وقوله: (الإقرار المرسل بالدين) أي المطلق لا كالإقرار بالعَيْنِ، فإنه يتعلق بمعين، ولو حذف لفظ: (المرسل) لم يضر. قال الغزالي. وَالْمَالُ الّذِي يَتَجَدَّدُ بَعْدَ الحَجْر هَلْ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْحَجْر؟ فِيه خِلاَفٌ، ومَنْ بَاعَ بَعْدَ الحَجْرِ مِنْهُ شَيْئَاً فَفِي تَعَلُّقِهِ بعَيْنِ مَتَاعِهِ ثَلاثَةُ أَوْجهٍ يُفَرَّقُ في الثَّالِثِ بعيْنَ أنْ يَعْلَمَ إِفْلاَسَهُ أَوْ يَجْهَلَ، فَإِنْ قُلْنَا: لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَيَصْبِرُ عَلَى وَجْهٍ إِلَى أَنْ يَقْضِيَ ثَمَنَة بَعْدَ فَكِّ الحَجْرِ فَإِنَّهُ دَيْنٌ جَدِيدٌ فَلاَ يُقْضَى من المَالِ القَدِيمِ كَمَا يَلْزَمُهُ بِضَمَانٍ أَوْ إِقْرَارِ أَوْ إِتلافِ، وَعَلى وَجْهٍ يُضَارَبُ بِهِ، لأَنَّ ثَمَنَ المبِيعِ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكٍ جَدِيدٍ اسْتفِيدَ مِنْهُ، وَأُجْرَةُ الكيَّالِ وَالحَمَّالِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصْلَحَةِ الحَجْرِ يُقَدَّمُ عَلَى سَائِرِ الدُّيُونِ. قال الرَّافِعِيُّ: القيد الثاني: كونه مصادفاً للمال الموجود عند الحَجْر، أما المتجدد بعد الحَجْرِ باصطياد أو اتهاب، أو قبول وَصِيَّةٍ، ففي تعدي الحَجْر إليه ومنعه من التَّصَرُّفِ وجهان نقلهما القَاضِي ابْنُ كَجٍّ والإمام. أحدهما: لا يتعدى، لأن الحَجْرَ على المفلس لقصر يده عن التصرف فيما عنده، فلا يتعدى إلى غَيْرِهِ كما أن حجر الراهن على نفسه في العين المرهونة لا يتعدى إِلَى غيرها. وأصحهما: التعدي ومقصود الحَجْر إيصال حقوق المستحقين إليهم، وهذا لا يختص بالمَوْجُودِ عِنْدَ الحَجْر، وإذا اشترى شيئاً -وفرعنا على الصَّحيح وهو صحة شرائه- ففيه هَذَا الخِلاَف، وهل لِلْبَائِعِ الخِيَار والتعلق بِغَيْر متاعه فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: نعم لتعذر الوُصُولِ إِلَى الثَّمَنِ. والثَّانِي: لا، أما إذا كان عالماً، فكما لو اشترى سلعة وهو غير عالم بعينها. وأما إذا كان جاهلاً فلتقصيره بترك البَحْثِ مع سهولة الوُقوفِ عَلَيْهِ، فإن الحاكم ليُشْهِر أمر المَحْجُورِ عليه.
وأصحهما: أنه إن كانَ عَالِماً فلا خِيَار له، وإن كان جاهلاً فله الخيار والرجوع إلى عَيْنِ ماله، ويقرب من هذا ما إذا بَاعَ من عَبْدٍ بغير إذن مَوْلاَه، وفرعنا على صِحَّةِ البَيْع من المُفْلِسِ المَحْجُورِ عَلَيْهِ، هل يزاحم الغرماء بالثمن؟ فيه وجهان: فإن الثَّمَنَ يتعلقَ بذمته يُبَاع بِهِ بَعْدَ العِتْق، فإن كان عالماً ففي ثبوت الخيار وجهان وإنْ كان جاهلاً ثبت، وإذا لم يثبت له الرّجُوع في البيع من المفلس المَحْجُورِ عليه فهل يزاحم الغُرَمَاء بالثَّمَن فيه وجهان: أصحهما: لا، لأنه حَادِث بعد الحَجْرِ برضى مستحقه، والدّيُون التي هذا شأنها لا يزاحم مستحقها الغرماء الأولين، فعلى هَذَا يصبر إن فضل منهم شَيْءٌ أخذه، وإلا فإلى أن يجد. والثاني: نعم؛ لأنه وإن كان ديناً جديداً فهو في مقابلة ملك جديد، فلما زاد المال جاز أن يَزِيد الدَّيْن، بخلاف الصَّدَاقِ الذي لزمه بنكاح بعد الفلس ودين ضمنه فإنه لا مقابل له. فائدة: ذكر في "النهاية" و"البسيط" أن البَائِعَ يضارب الغرماء في المبيع المستفاد منه، لا في جميع أمْوَالِ المُفْلِسِ؛ لأن دينه ثبت مع ثبوت المِلْكِ فِيهِ، فلا أقل من المشاركة في هذا القدر. ثم إنه امتزج مقصود الفصل في نظم الكتاب بالكلام في الديون الحادثة، وكيفية أدائها وَهِيَ ثلاثة أقْسَام: أحدها: ما يلزم باختيار مستحقه، فإن كان في مقابلته شَيْءٌ، كثمن المبيع فقد ذكرناه، وإلا فلا خلاف في أن مستحقه لا يُضَارِب الغرماء بَلْ يصير إِلَى انفكاك الحَجرِ. والثاني: ما لزم بغير اختيار المستحق كأرش الجِنَايَةِ وغرامة الإتْلاَف فوجهان: أحدهما: ويحكى عن القَاضِي حسين أنه لا يضارب به لتعلق حقوق الآدميين الأولين بأعيان أمواله، فصار كما لو جَنَى الرَّاهِنُ ولا مال لَهُ غير المَرْهُون، ولا يزاحم المَجْنى عليه المرتهن. وأصحهما: ولم يورد العراقيون غيره: أنه يُضَارِب به؛ لأنه لم يوجد منه تقصير فيبعد تكليفه الانتظار. الثالث: ما يتجدد بسبب مؤنات المال، كأجرة الكَّيالِ والوَّزَانِ والجَمَّالِ والمنادي والدَّلاَّلِ وكرى البيت الذي يوضع فيه المتاع، فهذه المؤمنات مقدمة على ديُونِ الغُرَمَاءِ، لأنها لمصلحة الحَجْرِ، وإيصال حقوق المستحقين إليهم، ولو لم نقدمها لما رغب أَحَدٌ في تلك الأعمال، وهذا إذا لم يوجد متبرع، فإن وجد أو كان في بَيْتِ المَالِ سَعَةٌ لم
يصرف قال المُفْلِسِ إِلَيْهَا (¬1). وقوله في الكتاب: (كما يلزمه بضمان، أو إقرار، أو إتلاف) هذا في الإقرار جوابٌ على عدم القبول في حق الغُرَمَاءِ، وفي الإتْلاَفِ على الأول من الوَجْهَيْنِ المَذْكُورَيْنِ في غرامات المتلفات، وقد مَدَّ أن الأصح عِنْدَ الأكثرين في المَسْأَلتين خِلاَف ما أجاب به، فأعلمهما بالواو واعلم ما فيهما، ثم في إضافة اللزوم إلى الإِقْرَارِ نوع تساهل؛ لأن الإقرار إخْبَار ولا يلزم وإِنَّما يظهر. قال الغزالي: وَلَوِ اشْتَرَى شَيْئاً قَبْلَ الحَجْرِ فَلَهُ رَدُّهُ بِالعَيْبِ عَلَى وَفْقِ الغِبْطَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الغِبْطَةُ في إِبْقَائِهِ فلاَ كَمَا في وَلِيِّ الطِّفْلِ، وَلَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ في مُدَّةِ الخِيَار فَلَهُ التَّصَرُّفِ بِالفَسْخِ وَالإِجَازَةِ في العَقْدِ المُتَقَدِّمِ مِنْ غَيْرِ تَقِيْيدٍ (و) بِشَرْطِ الغِبْطَةِ؟ لأَنَّ الأَمْرَ فِيهِ لمْ يَسْتَقِرَّ بَعْدُ فَلَيْسَ تَصَرُّفاً مُبْتَدَأً. قال الرَّافِعِيُ: القيد الثَّالِثُ كونُ التَّصَرُّفِ مبتدأً، وفيه مسألتان: إحداهما: لو اشترى قبل الحَجْر شيئاً، فوجده بعد الحَجْرِ معيباً فله رَدُّه إذا كانت الغبطَةُ في الرد، وليس ذلك كما لو باع وهو مغبوط؛ لأن الفَسْخَ ليس تصرفاً مبتدأً، وإنما هو من أحكام البيع السَّابِقِ ولواحقه، والحجر لا ينعطف على ما مضى، فإن منع من الرَّدِّ عيب حَادِثٌ لَزِمَ الأَرْشُ، ولم يملك المفلس إسقاطه. وإن كانت الغبطة في إبقائه بأن كان معيباً أكثر قيمة من الثَّمَنِ لم يكن له الرَّد، لما فيه من تفويت المَالِ بغَيْرِ عِوَضِ، ولهذا نَصَّ الشَّافعي -رضي الله عنه- على أنه إذا اشْتَرَى في صحبته شيئاً ثم مرض فوجده معيباً فامسكه والغِبْطَة في رَدِّه كان المقدارُ الَّذِي ينقصه العيب معتبراً من الثُّلُثِ وكذلك وَلِيُّ الطِّفْلِ إذا وجد ما اشتراه لِلِّطْفلِ معيباً لاَ يَرُدُّه إذا كانت الغبطة في إبقائه، ولا يثبت له الأَرْشُ في هذه الصُّورَةِ؛ لأن الرَّدِّ غَيرُ ممتنع في نَفْسِهِ، وإنما المصلحة تقتضي الامتناع منه. الثانية: قَال الشَّافعي -رضي الله عنه-: لو تبايعا بالخِيَارِ ثلاثاً فأفْلَسَا أو أحدهما فَلِكُلِّ واحِدٍ منهما إِجَازَة البَيْعِ ورده دون الغرماء، أي دُونَ رِضَاهُمْ، وللأصحاب ثَلاثَةُ طُرُقٍ: أظهرها: الأخذ بظَاهِرِ النَّصِّ وتجويز الفَسْخِ والإجازة في العقد المتقدم، سواء وقع على وفق الغِبْطَة، أو على خلافها، لأنه ليس بتَصَرُّفٍ مستحدث، وإنما يمنع المفلس من التصرفات المُنْشَأة. ¬
والثاني: أن تجويز كل واحد منهما مقيد بشرط الغِبْطة كما في الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وذكر القَاضِي ابْنُ كِجٍّ والمسعودي أنه تخريج من نَصِّهِ فيمن عَقَدَ بِشَرْطِ الخيار، ثم مرض مَرضاً مخوفاً فأجاز، أو فسخ على خِلاَفِ الغبطة يعتبر ذلك منِ الثُّلُثِ، وإن في تلك الصورة تخريجاً مما نحن فيه أيضاً، وتحكى هذه الطريقة عن أَبِي عَلِيِّ الطَّبَرِيِّ وَابْنِ القَطَّانِ، ومن نصر الأول فرق بين الرد بالعَيْبِ، وبين الفَسْخِ والإجازة، بأن العقد في زمن الخيار متزلزل لاثبات له، فلا يتعلق حَقّ الغُرَمَاءِ بالمال، إذ يضعف تعلقه به، بخلاف ما إذا خرج معيباً وإذا ضعف التعلق، جاز أن لا (¬1) يعتبر شرط الغبطة. والفرق بينه وبين مسألة المريض، أن حجر المريض أقوى، ألا ترى أن إمضاء الورثة تصرف المريض قبل المَوْتِ لا يفيد شيئاً، وإمضاء الغُرَمَاءِ وإذنهم فيما يفعله المفلس يفيده الصّحة والاعتبار. والثالث: أن كلَّ واحدٍ منهما إن وقع على وفق الغبطة فهو صَحِيح، وإلاَّ فالنظر إلى الخِلاَف في المِلْكِ في زمن الخِيَار، وإلى أن الذي أفلس أيهما؟ فإن أفلس المُشْتَرِي وقلنا: الملك لِلْبَائِعِ فللمشتري الاِجَازة والفَسْخ، أما الإجازة فلأنها جَلْبُ مِلْكٍ. وأما الفَسْخُ فلا يمنع دخول شَيْءٍ في مِلْكِهِ، إلاَّ أنه يُزيلُ مِلْكاً. وإن قلنا: الملك لِلْمُشْتَرِي فله الإجَازة؛ لأنه يستديم الشَّيْءَ في مِلْكِهِ، وإن فسخ لم يجز لما فيه من إِزَالَةِ المِلْكِ، فإن أفَلس البائع فإن قلنا: الملك له فله الفسخ؛ لأنه يستديم المِلْك وليس له الإجازة، لأنه يزيله، وإن قلنا: الملك للمشتري فللبائع الفَسْخ والإجازة كما ذكرنا في طَرف المُشْتَرِي. واعلم أنه لو خرج مخرج من نَصَّه في المسألة الثانية خلافاً في المسألة الأولى وقال: لا يتقيد الرد بالعيب بشرط الغِبْطة؛ لأنه ليس بعقد مستحدث لم يكن مبعداً. قال الغزالي: وَإذَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ وَلَهُ شَاهِدٌ وَاحِدق فَيُحَلَّفُ، وَكَذَا إذَا رُدَّتْ عَلَيْهِ اليَمِينُ، فَإِنْ نَكلَ فَالنَّصُّ أَنَّ الغَرِيمَ لاَ يُحَلَّفُ وَالمُفْلِسُ حَيٌّ، فَلَوْ كَانَ مَيَّتاً فَقَوْلاَنِ مَنْصُوصَانِ، فَمِنْهُمْ من سَوَّى وَمِنْهُمْ من فَرَّق بِأَنَّ صَاحِبَ الحَقِّ قَائِمٌ فَنُكولُهُ يُوهِم أَمْراً. قال الرَّافِعِيُّ: من مات وعليه دين فادعى وارثه ديناً له على رَجُلٍ، وأقام عليه شاهداً وحلف معه ثبت الحَقُّ وجعل في سَائِرِ تركاته. وإن لم يحلف معه أو لم يكن شاهداً أو نكل المدعى عليه عن اليمين، ولم يحلف الوارث اليمين المردودة فهل يحلف الغرماء؟ فيه قولان: ¬
القديم: نعم، لأنه ذو حَقِّ في التركة فأشبه الوَارِثَ. والجديد: لا؛ لأن حقه فيما يثبت للميت، أما إثباته للميت فليس إليه، ولهذا لو أوصى لانسان بِشَيْءٍ فمات قبل القَبُولِ، أو لم يقبله وارثه لم يكن للغريم القَبُول. ولو ادعى المفلس المَحْجُور عليه ديناً، والتصوير كما ذكرنا ففي حلف الغرماء طريقان: أحدهما: طرد القولين. والثاني: القَطْعُ بِالْمَنْعِ والفَرْقُ منْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: أن الحَقِّ للمفلس فامتناعه عن اليمين يُورِث ريبة ظَاهِرة، وفي الصُّورة الأولى لم يبق صَاحِب الحَقّ، وإنما يحلف الوَارِث بناء على معرفته بِشَأْنِ المَوْرُوثِ، وقد يكون الغرماء أعرف به. والثَّانِي: أن غرماء الميت آيسون عن حلفه فمكنوا من اليمين كيلا يَضِيع الحَقُّ، وغرماء المفلس غير آيسين عن حَلِفه. قال الإمام: والطريقة الثانية أصح، وحكى عن شيخه طرد الخِلاَف في ابتداء الدَّعْوَى من الغُرَمَاءِ (¬1)، وعن الأكثرين القطع يمنع الدعوى ابتداءً، وتخصيص الخلاف باليمين بعد دعوى الوَارِثِ في الصُّورةِ الأولى والمفلس في الثَّانِية (¬2)، ولا فرق بين أن يكون المدعي عيناً أو ديناً، قاله القاضي ابْنُ كِجٍّ وفرع على قولنا: أن الغرماء يحلفون فرعين. أحدهما: أنه لو حلف بعضُهُمْ دون بعض استحق الحَالِفُون بالقسط كما لو حلف بَعْضُ الورثةِ لِدَيْنِ المَيِّتِ. والثاني: لو حلفوا ثم أبرؤا عن ديونهم فالمحلوف عليه يكون لهم ويلغو الإبراء ويكون لِلْمُفْلِسِ أو يبقى على المدعى عليه، ولا يستوفى أصْلاً؟ فيه ثلاثة أوجه (¬3). ¬
قال الغزالي: وَلَوْ أَرَادَ سَفَراً فَلِمَنْ لَه دَيْنٌ حَالٌّ مَنْعُهُ، وَلَيْسَ لِمَنْ لَهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ مَنْعُهُ، وَلاَ طَلَبُ الكَفِيلِ وَلاَ طَلَبُ الاِشْهَادِ (و). قال الرَّافِعِيُّ: من عليه الدين إذا أراد أن يسافر نظر إن كان الدين حالاً فلصاحبه منعه حتى يقضي حقه (¬1)، قال الأئمة: وليس هذا منعاً من السَّفَرِ، كما يمنع السَّيِّدُ العَبْدَ، والزوُج الزوجَة، ولكن يشغله عن السَّفَرِ برفعه إلى مَجْلِسِ الحكم ومطالبته حتى يوفى الحق، وإن كان مؤجلاً نظر إن لم يكن السفر مخوفاً فلا منع إذ لا مُطَالَبَة، وليس له طلب رَهْنِ ولا كَفِيلِ أيضاً، وهو المضيع لِحَقِّ نَفْسِهِ حيث رَضِيَ بالتَّأْجِيلِ من غير رَهْنِ ولا كَفِيل، وليس له أن يكلفه الإشْهَاد أيضاً، ولا فرق بين أن يكون حلول الأجل قريباً أو بعيداً، فإن أراد أن يسافر معه ليطالبه عند حلوله فله ذلك بشرط أن لا يلازمه ملازمة الرَّقِيبِ. وقال مالك: إذا عَلِم حلولُ الأجَلِ قبل رجوعه فله أن يطالبه بكفيل، وعن صاحب "التقريب" نقل وجه أن له طلب الإشْهَاد؛ لأن المستحق يتوثق به ولا ضَرَر فيه على المَدْيُون، وإن كَانَ السَّفَر مخوفاً كالجهاد وركوب البحر ففيه وجوه: أصحّها: أنه لاَ مَنْعَ أيضاً، إذ لا مطالبة في الحَالِ. والثاني: ويحكى عن أَبِي سُعِيدٍ الإِصْطَخْرِي: أنه يمنعه إلى أن يؤدى الحق، أو يعطى كفيلاً؛ لأنه في هذا السَّفر يعرض نَفْسَهُ لِلْهَلاَكِ فيضيع حقه. والثالث: إن لم يخلف وفاء ما عليه منعه، وإن خلفه فلا، اعتماداً على حُصُولِ الحق منه، وفي سفر الجهاد وجه آخر، أن المديون إن كان من غير المُرْتَزِقَة مُنِع، وإن كان منهم لا يمنع، لأن وجوهَ مَعَايِشِهِمْ وأكسابهم منه. واعلم أن القَاضِي الرّويَانِي اختار مذهب مالك، فقال: له المطالبة بالكفيل في السَّفَرِ المخوف، وفي السَّفَرِ البعيد عند قرب الحُلُولِ في هذا الزَّمَانِ، لفساد الطُّرُق وانقطاع القوافل وعجز الحكام عن استيفاء الحقوق بالكتب الحكمية، وإن شئت فَأَعْلِم قوله: (ولا طلب الكلفيل) مع الميم بالواو. قال الغزالي: الحُكْمُ الثَّانِي بَيْعُ مَالِهِ وَقِسْمَتُهُ وَعَلَى القَاضِي أَنْ يُبَادِرَ إِلَيْهِ كَيْلاَ تَطُولَ مُدَّةُ الحَجْرِ، وَيُقَسَّمُ عَلَى نِسْبَةِ الدُّيُونِ، وَيَبيعُ بِحَضْرَةِ المُفْلِسِ، وَلاَ يُسَلِّمُ مَبِيعاً قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ، وَلاَ يُكلَّفُ الغُرَمَاءُ حُجَّةً عَلَى أَنْ لاَ غَرِيمَ سِوَاهُمْ، وَيُعَوَّلُ عَلَى أنَّهُ لَوْ كَانَ ¬
لَظَهَرَ مَعَ اسْتِفَاضَةِ الحَجْرِ، فَإِنْ ظَهَرَ بَعْدَ القِسْمَةِ فلاَ تُنْقَضُ القِسْمَةُ بَلْ يُرْجَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِحصَّةٍ يَقْتَضِيهَا الحِسَابُ، وَلَوْ خَرَجَ مَبِيعٌ مُسْتَحَقّاً فَكلذَلِكَ يَرْجِعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ بِيعَ في حَالَةِ الفَلَسِ فَيُرَدُّ تَمَامُ الثَّمَنِ، أَوْ يُضَارَبُ فِيهِ خِلاَفٌ، وَوَجْهُ الإِكْمَالِ أَنَّهُ منْ مَصَالِحِ الحَجْرِ. قال الرَّافِعِيُّ: هذا الحكم الثَّاني، وإن كان ثابتاً في حتى المفلس المَحْجُورِ عليه، ولكن لا اختصاص له بالمَحْجُور، بل كما يبيع الحاكم مال المفلس المحجور ويقسمه بَيْنَ الغُرَمَاءِ، فكذلك غيره من المديونين، إذا امتنع من قضاء الدين وبيع المال فيه يبيع الحاكم ماله ويقسمه بين الغُرَمَاءِ. وعند أبي حنيفة لا يبيع الحاكم ماله بل يحبسم حتى يبيع، وسلم أن يصرف أحد النقدين في الآخر. لنا: القياس على ما سلمه، وأيضاً حديث معاذ -رضي الله عنه- الذي قدمناه وروى أن عُمَرَ -رضي الله عنه- خطب النَّاسَ وقال: "ألا إن الأُسَيْفِعَ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ قَدْ رَضِيَ من دِينِهِ وأَمَانَتِهِ أنْ يُقَال: سَبَقَ الحَاجِّ إلا أنه ادَّانَ مُعرِضا فأصبح وَقَدْ رِينَ به فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْه دَيْنٌ فَلْيَحْضُرْ فإنا بايُعُوا مَالِه وَقَاسِمُوهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ، هَذَا رَجُلٌ من جُهَيْنَةَ، ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِي الرَّواحِلَ ويُسْرعُ السَّيْرَ فَيَسْبِقُ الحَاجَّ فَأَفْلَسَ" (¬1). وقوله: "ادّان" أي اسْتَقْرض. وقوله معرضاً: أي اعتراض الناس فاستدان ممن أمكنه. وقوله: "ين" أي: وقع فيما لا يستطيع الخروج منه، قال أَبُو عُبَيْدٍ: كلما غلبك فقد ران بك ورانك. إذا تقرر ذلك، فهذا حجر الحَاكِم على المُفْلِس، فالمستحب أن يبادر إلى بيع مَالِهِ وقسمته حتى لا تطول مُدَّةُ الحَجْرِ، ولا يفرط في الاستعجال كَيْلاَ يطمع فيه بثمن بُخْسٍ، ويستحب أن يبيع بحضرة المُفْلِس أو وكيله؛ لأنه أنس للتهمة وأطيب لقلب المفلس والمشترين، وليخبر بصفات المتاع وأنه بِكَم اشْتَرَاهُ، فتكون الرغبة فيه أكثر، وليطلع على عيب إن كان به ليباع على وَجْهِ لا يرد، وكذلك يفعل إذا بَاعَ المَرْهُون، ويستحب أيضاً إحضار مستحقي الدَّيْنِ، ويقدم بيع المرهون في حَقِّ المرتهن إن كان في ماله مرهون، ويبيع العَبْدُ الجَانِي في حق المَجْنِيِّ عَلَيْهِ ليعجل حقهما، فإن فضل شيء كان مع سائر أمواله للغُرَمَاءِ، وإن بقي من دين المرتهن شيء ضارب به سائر ¬
الغرماء (¬1)، ويبيع من ماله أولاً ما يخاف عليه الفساد، كيلاَ يضيع ثم الحيوان لحاجته إلى النفقة، وكونه عرضة للهلاك ثم سائر المنقولات ثم العقارات، وإنما يؤخرها لأنه لا يخشى عليها الهَلاَك والسَّرِقة، ويشهر بيعها فيظهر الرَّاغِبُون، ويبيع كل شيء في سوقه، فإن طالبيه في سوقه أكثر (¬2). ويجب أن يبيع بثمن المِثْلِ من نَقْدِ البَلَد حالاً، ثم إن كانت الديون من غير جنس ذلك النقد ولم يرض المستحقون إلا بجنس حقوقهم صرفه إلى جِنْسِ حقهم، إلا جاز صَرْفُه إِلَيْهِم إلا أن يكون سلماً. ولا يسلم المبيع قبل قبض الثمن، نَصَّ عليه الشَّافعي -رضي الله عنه- وقد ذكرنا فيما إذا تنازع المتبايعان في البداءة بالتسليم أقوالاً، فعن أبي إسحاق سُرَيْجٍ أن ما ذكره هاهنا جواب على قولنا: أن البداءة للمشتري، ويجيء عند التنازع قول آخر، وهما أنهما يخبران معاً، ولا يجيء قولنا: لا يجير واحد منهما حتى يبدأ أحدهما، فإن الحال لا يحتمل التأخير، ولا قولنا: إن البداءة بالبائع، فإن من يتصرف لِلْغَيْرِ فَلاَ بُدَّ وأن يحتاط، وعن أبي الحسين: أنه تجب البداءة هاهنا بتسليم الثمن بِلاَ خِلاَف، ثم لو خالف الوَاجِب وسلَّم المبيع قبل قَبْضِ الثَّمَنِ ضَمِنَ، وكيف يَضْمُنُ؟ سنذكره إن شاء الله تعالى. وما يقبضه الحاكم من أَثْمَان أمواله على التَّدْريجِ إن كان يسهل قسمته عليهم فالأولى أن لا يؤخره، وإن كان يَعْسُر لِقِلَّتِهِ وكثرة الديون فله أن يؤخر ليجتمع، فإن أبوا التأخير ففي "النهاية" إطلاق القول بأنه يجيبهم، والظاهر خلافه، وإذا تأخرت القسمة فإن وجد من يقترض منه فَعَل، ويشترط فيه الأمانة واليَسَار، وإن لم يجد أودعه عند اْمين ولا يشترط فيه اليسار وليودع عند يرضاه الغرماء، فإن اختلفوا أو عينوا من ليس بعدل فالرأي للحاكم، ولا يقنع بمن لَيْسَ بِعَدْلٍ. ولو تلف شيء من الثمن في يد العَدْلِ فهو من ضمان المفلس، سواء كان في حَيَاةِ المفلس أو عند موته. ¬
وعند أبي حنيفة ما تلف بعد موته فهو من ضَمَانِ الغُرَمَاءِ، والله أعلم. بقي في الفصل مسألتان: إحداهما: لا يكلف عند القسمة الغرماء إقامة البينة على أنه لا غريبم سِوَاهُمْ، ويكتفي بأن الحجر قد استفاض واشتهر، فلو كان ثَمَّ غيرُهم لَظَهَرَ وَطَلَبَ حَقَّه، ويؤيده أن عمر -رضي الله عنه- اكتفى باشتهار أمر الجهني في خطبته، ولم يكلف الغُرَماء البَيِّنَة، هذا ما نقله الإِمَامُ عن صاحب "التقريب" ثم قال: لا فرق عندنا بين القِسْمة على الغرماء والقسمة على الورثة. فإذا قلنا: في القسمة على الورثة لاَ بُدَّ من إقامة الشَّهَادَةِ على أن لا وارث غيرهم كذلك في القِسْمَة على الغُرَمَاءِ، وللفارق أن يفرق بين البائعين بأن الورثة على كل حَالٍ أضبط من الغرماء (¬1)، وهذه شهادة على النَّفْي يعسر مدركها فلا يلزم من اعتبارها حيث كان الضبط أسهل اعتبارها حيث كان الضبط أعسر وإذا جررت القِسْمَةُ ثم ظهر غَرِيم آخر (¬2) فالظاهر أن القِسْمَة لا تنقض، ولكن يشاركهم من ظهر بالحِصَّة؛ لأن المقصود يحصل به، وفيه وجه أنها: تنقض فيسترد المال ممن أخذ ويستأنف القِسْمة، وهذا كما لو اقتسم الورثة التركة ثم ظَهَر دَيْن، ففي نَقْضِ القِسْمَة اختلاف. فإن قلنا: بعدم النقض، فلو قسم ماله وهو خمسة عشر على غريمين لأحدهما عِشْرُون، وللآخر عَشرة، فأخذ الأول عَشَرَة، والثَّانِي خَمْسَة، ثم ظهر غَرِيم ثالث بثلاثين استرد من كل واحد منهما نِصْفَ ما أخَذَ، ولو كَانَ دين كل واحد منهما عَشْرة وقسم المال بينهما نِصْفين ثم ظهر غريمٌ ثَالِثٌ بعشرة رجع على كل واحد منهما بثُلُثِ ما أخذ، فإن أتلف أحدهما ما أخذ وكان معسراً لا يحصل منه شيء فوجهان: أظهرهما: أن الغريم الذي ظهر لا يأخذ من الآخر شِطْر ما أخذه وكأنه كل المال، ثم لو أيسر المُتلِف أخذَ مِنْهُ ثلث ما أخذه وقسماه بينهما. والثاني: أنه لا يأخذ منه إلا ثُلث ما أخذه، وئلث ما أخذه المتلف دين عليه، ولو ¬
أن الغريم الثالث ظهر وقد ظهر لِلْمُفْلِسِ مالٌ قديم أو حادث بعد الحَجْرِ صرف منه إِلَى من ظهر بِقِسْطِ ما أخذه الأوّلاَنِ، فإن فضل شيء فهو مقسوم على الثلاثة بقسطه، هذا أكله إذا كان الغَرِيم الذي ظهر قديماً، فإن كان حادثاً بعد الحَجْرِ فلا يشارك الأولين في المَالِ القَدِيم، وإن ظهر مَالٌ قديمٌ وحدث مالٌ باحتطاب وغيره فالقديم للقدماء خاصة والحادث لِلْكُلِّ. المسألة الثانية: لو خرج شيءٌ مما باعه المفلس قبل الحَجْر مستحقاً والثَّمن غير بَاقٍ فهو كدين ظهر والحكم مَا مَضى، وإن باع الحاكم مَالَه وظهر الاستحقاق بعد قبض الثمن وتلفه فرجوع المشتري في مَالِ المُفْلِسِ ولا يطالب الحاكم به. ولو نَصَب الحَاكِم أميناً حتى باعه ففي كونه طريقاً وجهان كما ذكرنا في العَدْلِ الذي نصبه القاضي لبيع الرَّهْنِ (¬1)، ثم رجوع المشتري في مال المفلس وَرُجُوعِ الأمِين. إن قلنا: إنه طريقٌ للضَّمَانِ وغرم كيف يكون؟ فيه قولان. عن: رواية الربيع وحرملة أنه يضارب مع الغرماء لأنه دين في ذِمَّة المُفْلِس كَسَائِرِ الدُّيُون. والثاني: أنه يتقدم على سَائِرِ الغرماء؛ لأنا لو قلنا بالمضاربة لرغب النَّاس عن شراء مَالِ المُفْلِس، فكان التقديم من مَصَالِحِ الحَجْرِ كأجرة الكَيَّالِ ونحوها من المُؤَنِ، ونسب الأكثرون هذا القول إلى رواية المُزَنِي، لكن منقولة في "المختصر" يشعر بالقولين جميعاً، وذكر المَسْعُودِي أن القولين مأخوذَانِ منه. والثاني: أرجح عند عَامَّة الأَصْحَابِ. ويجوز أن يُعَلَّم قوله في الكتاب: (فيه خلاف) بالواو لأن الإمام حكى طريقة أخرى قاطعة بالتقديم، وأيضاً فإن العراقيين حكوا طريقة أخرى وهي تنزيل الروايتين على حالين كان الرجوع قبل قسمة المال بين الغرماء يقدم، وإن كان بعد القِسْمَة واستئناف الحَجْرِ بسبب مالٍ تَجَدَّدَ فهو أسوة الغرماء. قال الغزالي: ثُمَّ يُتْرَكُ عَلَيْهِ دَسْتُ ثَوْبٍ يَلِيقُ بِحَالِهِ حَتَّى خُفُّهُ وَطَيْلَسَانُهُ إنْ كَانَ حَطُّهُمَا عَنْهُ يُزْرى بِمَنْصِبِهِ، وَلاَ يُتْرِكُ مَسْكَنُهُ وَخَادِمُهُ، بَلْ يَبْقَى لَهُ سُكْنَى يَوْمٍ وَاحِدٍ ونَفَقَةُ زَوْجَتِهِ وَأَوْلاَدِهِ، وَكَذَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مُدَّةَ الحَجْرِ، وَنَصَّ في الكَفَّارَةِ أنَّهُ يَعْدِلُ إِلَى الصِّيَامِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ وَخَادِمٌ فَقِيلَ بِمْثِلِهِ في الدُّيُونِ، وَالفَرْقُ أَنَّ الكَفَّارَةَ لَهَا بَدَلٌ وَحُقُوقُ اللهِ عَلَى المُسَاهَلَةِ. ¬
قال الرَّافِعِيُّ: مقصود الفَصْلِ الكلام فيما يباع على المفلس من أمواله وما يترك له، وفيه مسائل: إحداها: يتفق الحاكم على المُفْلِسِ إلى الفراغ من بيع مَالِهِ وقسمته، وكذا ينفق على من عليه مؤنته من الزَّوْجَاتِ والأقارب؛ لأنه مُوسِرٌ ما لم يزل مِلْكُهُ، وكذا كسوتهم بالمعروف، هذا إذا لم يكن له كَسْبٌ يصرف إلى هذه الجِهَات، وكيف ينفق على زَوْجَتِهِ، قال الإمام: لا شك أن نفقته نفقة المُعْسِرين، وفي "البحر" للقاضي الرّويَانِي أنه ينفق عليهن نفقة الموسرين وهذا قياس الباب، ولو كان ينفق عليهم نفقة المعسرين لما أنفق على الأَقَارِبِ (¬1). الثانية: بيع مسكنه وخادمه، فإن كان محتاجاً إلى من يخدمه لزمانته أو كان منصبه يقتضي خادماً، ونص في الكفارات المرتبة أنه يعدل إلى الصِّيَام، وإن كان له مسكن وخَادِم ولا يلزمه صرفه إلى الإعْتَاقِ، فمنهم من خرج منه قولاً في الديون والمذهب تقرير النصين، والفُرْقُ من وجهين: أحدهما: أن الكَفَّارَةَ لها بدل ينتقل إليه، والدَّيْنُ بخلافه. وثانيهما: أن حقوق الله تعالى مبنية على المُسَاهَلَةِ وحقوق الآدميين على الشُّحِّ والمضايقة، قال الإمام: والمسكن أولى بالإبقاء من الخَادِم فينتظم أن يرتب الخِلاَف ويقال: فيهما ثلاثة أوجه، في الثَّالث يبقى المسكن دون الخادم. فإن قلنا: بالإبقاء فذلك إذا كان الإبقاء لائقاً بالحال دون النفيس الذي لا يليق به، ويشبه أن يكون هذا هو المراد مما نقل عن الإصْطَخْرِي أنه إن كان ثميناً بِيَع وإلاَّ فَلاَ. الثالثة: يترك له دست ثوي يليق بحَالِهِ من قميص وَسَراوِيلَ ومنديل ومكعب (¬2) وإن كان في الشَّتَاءِ زاد جبة، وتترك له العمامة والطيلسان والخف ودراعة يلبسها فوق القَمِيص إن كان اللائق بحاله لبسهما؛ لأن حَطَّهَا عنه يزري بمنصبه، وتوقف الإمام في الخف والطيلسان، وقال: إن تَرْكَهُمَا لا يخرم المروءة، وذكر أن الاعتبار بما يليق بحاله في إفلاسه لا في بسطته وثروته، لكن المفهوم من كلام الأصحاب أنهم لا يُسَاعِدُونَهُ عليه ويمنعونه قوله إن تركهما لا يخرم المروءة، ولو كان يلبس قبل الإِفْلاَس فوق ما يليق بمثله رَدَدْنَاه إلى اللاَّئِقِ بحاله، ولو كان يلبس دون اللائق تقتيراً لم يزد عليه في الإفْلاَسِ ويترك لعياله من الثوب كما يترك له، ولا يترك الفرش والبسط، نعم، يسامح ¬
باللبد والحَصِير القليل القِيمَة. قال الأئمة: والفرق بين الثياب وبين الخادم والمسكن حيث لم يتركا عليه في ظاهر المذهب، أن الخادم عنه غنية. وأما المسكن فإنه يسهل استئجاره، وإن تَعَذَّر سكن الرباط والمسجد والثياب قُلَّمَا تُسْتَأجر. الرابعة: يترك له قُوت يوم القسمة وكذلك لمن عليه نفقته لأنه موسرٌ في أوله ولا يزيد على نفقة ذلك اليوم فإنه لا ضبط بعده، وذكر في الكتاب أنه يبقى له سكنى ذلك اليوم أيضاً، وهذا مستمر على قياس النفقة، وإن لم يتعرض له غيره، وكل ما يترك إذا وجد في مَالِهِ إذَا لَمْ يوجد (¬1). قال الغزالي: ثُمَّ إنْ بَقيَ شَيْءٌ مِنَ الدَّيْنِ فَلاَ يُسْتَكْسَبُ (م)، وَفِي اِجَارَةِ مُسْتَوْلَدَتِهِ وَالضَّيْعَةِ المَوْقُوفَةِ عَلَيْهِ خِلاَفٌ مَأَخَذُهُ أَنَّ المَنْفَعَةَ لَيْسَتْ مَالاً عَتِيداً وإِنَّمَا هُوَ اكْتِسَابٌ. قال الرَّافِعِيُّ: من قواعد الباب: أن المفلس لا يؤمر بِتحْصِيلِ ما ليس بِحَاصِلٍ، وإن لم يمكن من تفويت ما هُوَ حَاصِل، حتى لو جنى على المفلس أو على عبده جَانٍ فله القِصَاص، ولا يلزم العفو على المَالِ، وإن كانت الجناية موجبة للمَالِ فليس له ولا لِوَارِثهِ أن يقبل العفو دون إذْنِ الغُرَمَاء، ولو كان قد أسلم في شَيْءٍ فليس له أن يقبض مسامحاً ببعض الصفات المقصودة المشروطة إلا بإذنهم، ولو كان قد وَهَبَ هِبَةً تقتضي الثَّواب وقلنا: إنها تقدر بما يرضى به الواهب، فله أن يرضى بما شاء، وتكليفه طلب الزيادة تكليف بتحصيل ما ليس بِحَاصِلٍ. وإن قلنا: إنه يتقدر المثل لم يجز الرِّضَا بما دونه، ولو زاد على المِثْلِ لم يجب القبول. إذا تقرر ذلك فليس على المفلس أن يكتسب ويؤاجر نفسه ليصرف الأجْرَة (¬2) والكسب إلى بقية الديون. وقال أحمد -رضي الله عنه-: يلزمه ذلك، ولو امتنع أجيره القَاضِي، وعن مالك أنه إن كان ممن يعتاد إجارة نفسه لزمه. ¬
لنا قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬1) حكم بالإنظار ولم يأمره بالاكتساب، وأيضاً فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- "لَمَّا حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لَمْ يَزِدْ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ" ولو كانت له أم ولد أو ضيعة موقوفة عليه فوجهان: أحدهما: أنهما يؤجران، لأن المنافع أموال كالأعيان فيحصل بَدَلُهَا لِلدَّيْنِ. والثاني: لا، لأن المنافع لا تعد أموالاً حَاضِرة، ولو كان كذلك لوجب إجارة المفلس نفسه ولوجب بها الحج والزكاة. فعلى الأول يؤجر مرة بعد أخرى إلى أن يفنى الدين، لأن المنافعُ لا نِهَايَةَ لَهَا، وقضيته إدامة الحَجْرِ إلى فَنَاء الدَّيْنِ، ولأن هذا كالمستبعد، ومال الإمام إلى ترجيح الوَجْهِ الثَّانِي، لكن في تعاليق العراقيين ما يدل على أن الأول أظهر (¬2). قال الغزالي: ثُمَّ إِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ مَالٌ وَاعْتَرَفَ بِهِ الغُرَمَاءُ فَيُفَكُّ الحَجْرُ، أَمْ يَحْتَاجُ إلَى فَكِّ القَاضِي فِيهِ خِلاَفٌ، وَكَذَا لَوْح تَطَابَقُوا عَلَى رَفْعِ الحَجْرِ لأِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الحَقَّ لاَ يَعْدُوهُمْ وَلَكِن يُحْتَمَلُ أن يَكُونَ وَرَاءَهُمْ غَرِيمٌ، وَالأَظْهَرُ أَنَّ بَيْعَةُ مَالَهُ مِنْ غَيْرِ الغُرَمَاءِ لاَ يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِمْ، وَلَوْ بَاعَ مِنَ الغَرِيمِ بِالدَّيْنِ وَلاَ دَيْنَ سِوَاهُ فَفِيهِ خِلاَفٌ لأنَّ سُقُوطَ الدَّيْنِ يُسْقِطُ الحَجْرَ عَلَى رَأيٍ. قال الرَّافِعِيُّ: إذا قسم الحاكم مالَ المفلس بين الغرماء فينفك الحَجْر أو يحتاج إلى فك القاضي؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه ينفك؛ لأن الحَجْرَ لحفظ المَالِ على الغُرَمَاء، وقد حصل هذا الغرض فيزولُ الحَجْرُ. وأظهرهما: أنه لا بد من فَكِّ القَاضِي؛ لأنه حَجْرٌ لا يثبت إلا بإثبات القَاضِي، ولا يرتفع إلا برفعه كالحجر على السفيه، والمعنى فيه أنه يحتاج إلى نَظَرٍ واجْتِهَادٍ كحجر السَّفِيهِ، هذا إذا اعترف الغرماء بأن لا مال له سواه، أما إذا ادعوا مالاً آخر وأمكن فالجواب ما سيأتي -إن شاء الله تعالى- في الحكم الثالث. ولو اتفق الغرماء على رَفْعِ الحَجْر عنه، فقد حكى الإمام في ارتفاعه مثل هذا الخِلاَف عن الأَصْحَاب. ¬
وجه الارتفاع أن الحَجْرَ لهم، فهم في أمواله كالمرتهن في حَقِّ المَرْهُونِ. ووجه عدم الارتفاع أنه يحتمل أن يكون وراءهم غَرِيمٌ غَائِبٌ، فلا بد فيه من نَظَرِ الحَاكِمِ واجتهاده. ولو باع المفلس ماله من غريمه بدينه ولا يعرف له غريماً سِوَاه، فوجهان: قال صاحب "التلخيص": يصح بيعه، لأن الحَجْرَ عليه لِدَيْنِ ذَلِكَ الغَرِيمِ، فإذا رَضِيَ وبرئت ذمته من الدَّيْنِ وجب أن يَصِح. والأظهر: وبه قال أبو زيد أنه لا يصح من غير مراجعة القَاضِي؛ لأن الحَجْرَ على المُفْلِسِ لا يقتصر على الغَرِيم الملتمس، بل يثبت على العُمُومِ، ومن الجائز أن يكون له غريم آخر، والوجهان مُفَرَّعَانِ على أن بَيْعَ المُفْلِسِ من الأجْنَبِيِّ لاَ يَصِح، فإن صَحَّ فهذا أولى، ولو حجر عليه بديون جماعة وباع أمواله منهم بديونهم فعلى هذا الخِلاَف، ولو باع ماله من غريمه الواحد بعين أو ببعض دينه فهو كما لو باع من الأَجْنَبِي، لأن ذلك لا يتضمن ارتفاع الحَجْرِ، بخلاف ما إذا باع بكل الدين فإنه يُسْقِطُ الدّين، فإذا سقط الدين ارتفع الحجر. ولو باع من أجنبي بإذن الغرماء لم يصح أيضاً، وقال الإمام: يحتمل أن يصح كما يصح بيع المرهون بإذن المُرْتَهن، وأقام صاحب الكتاب ما ذكره وَجْهاً، فقال. والأظهر أن بيع ماله من غير الغرماء أي من الوجهين. وقوله: (لأن سقوط الدين يسقط الحجر على رَأْيٍ) هو الرأي الذَّاهِبُ إلى أنه إذا فرقت أمواله وقبضت الديون ارتفع الحَجْرُ عَنْه، فإذا قلنا: بذلك صَحَّحْنَا البيع من الغريم بالدين لتضمنه البراءة من الدين، ولك أن تقول: وجب أن لا نجزم بصِحَّةِ البَيْعِ، وإن قلنا بأن سقوط الدين يُسْقِط الحَجْرِ، لأن صِحَّة البيع إما أن تفتقر إلىَ تقدم ارتفاع الحَجْرِ أم لا تفتقر؟ فإن افتقرت وجب أن نجزم بعَدَمِ الصِّحِّة للدور، فإنه لا يصح البيع ما لم يرتفع الحَجْر، ولا يرتفع الحَجْرُ ما لم يَسْقُطُ الدَّينُ، ولا يسقط الدين ما لم يَصِح البيع، وإن لم تفتقر فغاية الممكن اقتران صِحّة البيع وارتفاع الحجر، فلتخرج الصحة على الخِلاَف فيما إذا قال: كلما ولدت ولداً فأنت طالق، فولدت ولداً بعد ولد، هل تطلق بالثَّاني؟ وفيما إذا قال العبد لزوجته؛ إن مات سيدي فأنت طالق طلقتين، وقال السيد لعبده: إذا من فأنت حر، ثم مَاتَ السَّيد، فهل له نكاحها قبل زَوْجٍ وإصابة؟ ولهما نظائر. قال الغزالي: الحُكْمُ الثَّالِثُ حَبْسُهُ إِلَى ثُبُوتِ إِعْسَارِهِ، وَلِلْقَاضِي ضَرْبُهُ إنْ ظَهَرَ عِنَادُهُ بِإخْفَاءِ المَالِ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى إِعْسَارِهِ سُمِعَ في الحَالِ (ح م) وَأُنْظِرَ إِلَى مَيْسَرَةٍ،
وَلْيَشْهَدْ من يَخْبَرُ بَاطِنَ حَالِهِ فَإنَّهُ شَهَادَةٌ عَلَى النَّفْي قُبِلَتْ لِلْحَاجَةِ، ثُمَّ لِلْخَصْم أن يُحَلِّفَة مَعَ الشَّهَادةِ، فَإِنْ لَمْ يَطلُبْ فَهَلْ يَجِبُ علَى القَاضِي أَدَباً في قَضَائِهِ فِيهِ خِلاَفٌ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَيَّنَةَ وَقَد عُهِدَ لَهُ مَالٌ فَلاَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْهَدْ فَقِيلَ إِنَّ القَوْلَ قَوْلُهُ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ اليَسَارِ، وَقِيلَ لاَ بلِ الأصْلُ في الحُرِّ الاقْتِدَارُ، وَقِيلَ يِنْظَرُ إنْ لَزِمَهُ الدَّيْنُ بِاخْتِيَارِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ يَلْتَزِمُ إِلاَّ عَنْ قُدْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ يَمِينُهُ فَإِنْ كَانَ غَرِيباً فَلْيُوكِّل القَاضِي بِهِ منْ يَسْأَلُ عَنْ مَنْشَئِهِ وَمُنْقَلَبِهِ حَتَّى يَغْلِبَ علَى ظَنِّهِ إفْلاَسُهُ فَلْيَشْهَدْ كَيْلاَ يَتَخَلَّدَ الحَبْسُ عَلَيْهِ. قال الرَّافِعِيُّ: هذا الحكم أيضاً ليس من آثار الحَجْرِ وخواصه، بل هو في حَقِّ غير المحجور أظهر على ما سنبينه إن شاء الله تعالى. واعلم أن المديون إذا ثبت إعساره لم يَجُزْ حبسه ولا مُلاَزَمَتُه، بل يمهل إلى أن يوسر على ما قال الله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬1). وقال أَبُو حَنِيفَةَ: للغريم ملازمته ولكن لا يمنعه من التكسب، وإن كان له مالٌ فقد ذكرنا أنه يؤمرَ بِبَيْعِ مَالِهِ، وإن امتنع باعه الحَاكِمُ عليه، وهل يحجر عليه؟ فيه وجهان: أظهرهما: أنه يحجر إذا التمسه الغرماء كَيْلاَ يتلف ماله. والثاني: لا؛ لأن عمر -رضي الله عنه- لم يحجر على الجهيني، فإن أخفى ماله حبسه القاضي حتى يظهره، روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ" (¬2). قال المُفَسِّرُونَ: أراد بالعقوبة الحبس والملازمة، فإن لم ينزجر بالحَبْسِ زاد في تعزيره بما يراه من الضَّرْبِ وغيره، وإن كان ماله ظاهراً فهل يحبسه بامتناعه؟ قال في "التتمة": فيه وجهان: الذي عليه عمل القضاة الحبس، ويدل عليه ما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- "حَبَسَ رَجُلاً أَعْتَقَ شِقْصاً لَهُ منْ عَبْدٍ في قِيمَةِ الْبَاقِي" (¬3). وإن ادعى أنه قد تلف ماله وصار معسراً فعليه البينة، ثم إن شهد الشهود على ¬
التَّلَفِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ، ولم يعتبر فيهم الخِبْرَة البَاطِنَة، وإن شهدوا على إعْسَارِه قبلت بشرط خبرتهم الباطنة. قال الصَّيْدَلاَنِيُّ: ويحمل قولهم أنه معسر على أنهم وقفوا على تَلَفِ المَالِ. وإن ادعى المديون أنه معسر لاَ شَيْءَ لَهُ، أو قسم مال المَحْجُورِ على الغرماء وبقي بَعْضُ الدُّيُونِ، وزعم أنه لا يملك شيئاً آخر وأنكر الغُرَمَاءُ، نظر إن لزمه الدَّيْنُ في مقابلة مَالٍ كما إذا ابتاع أو استقرض، أو باع سَلَماً فهو كما لو ادعى هَلاَك المَالِ فعليه البَيِّنَةُ، وإن لزم لاَ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ فثلاثة أوجه: أصحهما: أنه يقبل قَوْلُه مَعَ اليَمِينِ؛ لأن الأَصْلَ العَدَم. والثاني: أنه لا يقبل ويحتاج إلى البَيِّنَةِ؛ لأن الظَّاهِرَ منْ حَالِ الحُرِّ أنه يَمْلِك شَيْئاً قَلَّص أمْ كَثُر. والثَّالِث: أنه إِنْ لزمه باختياره كالصَّدَاقِ والضَّمَانِ لم يقبل قوله وعليه البينة، وإن لزمه لا باختياره كَأَرْشِ الجِنَايَاتِ وغرامة المتلفات قُبِلَ قَوْلُهُ مَعَ اليَمِينِ، والفرق أن الظَّاهِرَ أنه لا يَشْغل ذِمَّتَهُ ولا يلتزم مَا لاَ يَقْدِر عليه، ثم الكلام في فَصْلَيْنِ. أحدهما: في البَيِّنَةِ القَائِمَةِ على الإِعْسَارِ وهي مسموعة وإن تعلقت بالنفي لمكان الحاجة كالبينة على أن لا وَارِثَ سِوَى هؤلاء، وعن مالك أنها لاَ تُسْمَعُ والنَّظَرُ في أنها مَتَى تُسْمَع وَمَا صِفَةُ الشهود وعددهم وصيغة شَهَادَاتِهِمْ؟ أما متى تسمع فهي مسموعة وإن قامت في الحَالِ خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: "لا تسمع إلا بعد مدة"، ثم هي مقدرة في رِوَايَةِ بِشَهْرٍ، وفي أخرى بشهرين وربما ضبطوا بما يغلب على الظَّنِّ في مثلها أنه لو كَاَن لَهُ مَالٌ لأظهره ويختلف ذلك باخْتِلاَفِ أحْوَالِ النَّاسِ وَطِبَاعِهِمْ. وأما: الصِّفَة فما يعتبر في الشُّهود مطلقاً يذكر في الشَّهادات، ويعتبر مع ذلك كَونُ الشُّهُودِ منْ أَهْلِ الخِبْرَةِ البَاطِنَةِ بطول الجِوَارِ وكثرة المُجَالَسَةِ والمُخَالَطَةِ، فإن الأموال تخفى ولا يعرف تَفْصيلها إلا بأمثال ذَلِك، ثم إن عرف القاضي أنهم من أهل الخِبْرَة البَاطِنَةِ فَذَاكَ، وإلا جاز له أن يعتمد على قَوْلِهِمْ أنا بهذه الصفة، ذكره في "النهاية". وأما العَدَدُ فَشَاهِدَانِ كما في سائر الأُمور، وفي كتاب الغوراني والمتولى: أنه لا تقبل هذه الشَّهَادَة إلا من ثَلاثَةٍ، لما روى "أَنَّ رَجُلاً ذَكَرَ لِرَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ جَائِحَةً أَصَابَتْ مَالَهُ وَسَأَلَهُ أن يُعْطِيَهُ مِنَ الصَّدقَةِ، فَقَالَ رسُول الله -صلى الله عليه وسلم- لاَ حَتَّى يَشْهَدُ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى منْ قَوْمِهِ" (¬1). ¬
والمذهب الأول، والحديثُ محمولٌ على الاستظهار والاحتياط. وأما الصيغة فهي أن يقولوا هو معسر لاَ يَمْلِك إلا قوت يَوْمِهِ وثياب بَدَنِهِ، ولو أضافوا إليه وهو ممن تَحِل له الصَّدَقة جَازَ ولا يشترط، قال في "التتمة": ولا يقتصرون على أنه لا ملك له حتى لا تتمحض شهادتهم نَفْياً لفظاً ومعنى، ويحلف المشهود له مع البينة لجواز أن له مالاً في البَاطِنِ، والشهود اعتمدوا الظاهر وغالب الظَّنِّ، وعن أبي حنيفة أنه لا يَحْلِف، وبه قال أحمد، وهذا التَّحْلِيف مستحق أو مستحب؟ فيه قولان: ويقال وجهان: الأصح: الاستحقاق وهو ظاهر نَصّه في "المختصر". وقال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: الأصح الاستحباب وهو ظاهر نصه في حرملة والإملاء، وعلى التقديرين فهل يتوقف على استدعاء الخصم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا كما لو كانت الدعوى على مَيِّتٍ أو غائب، وعلى هذا فهو من أداب القضاة. وأظهرهما: نعم كيمين المُدَّعى عليه. الفصل الثَّانِي: إنا حيث قلنا: يقبل قوله مع يمينه فيقبل في الحَالِ، كما لو أقام البَيِّنَة فتسمع في الحَالِ، قال الإمام: ويحتمل أن يقال: يتأنى القاضي ويبحث عن بَاطِنِ حَالِهِ ولا يقنع بقوله، بخلاف ما إِذَا أقام البَيِّنَة، وحيث قلنا: لا يقبل قَوْلُه إلا بالبَيِّنَةِ، فادعى أن الغرماء يعرفون إعساره فله تحليفهم على نَفْي المَعْرِفَة، فإن نكلوا حَلَف وثبت إِعْسَاره، وإن حلفوا حبس، ومهما ادعى ثانياً وثالثاً أنَّه بان لهم إعساره فله تحليفهم، قال في "التتمة": إلا أن يظهر للقاضي أنه قَصَدَ الإيذاء أو اللجاج، وإذا حبسه فلا يغفل عنه بالكلية، فلو كان غريباً لا يتأتى له إقامة البينة، فينبغي أن يوكل به القَاضِي من يبحث عن منشئة ومنقلبه، ويفحص عن أحواله بحسب الطاقة، وإذا غلب على ظَنِّه إفلاسه شَهِدَ بهِ عِنْدَ القَاضِي، كيلاَ تتخلد عليه عقوبة الحبس، ومتى ثبت الإعْسار وخلاّه الحاكم، فعاد الغرماءُ بعد أيام وادعوا أنه استفاد مالاً وأنكر، فالقول قَوْلُه وعليهم البينة، فإن أتوا بِشَاهِدَيْنِ قالا: رأينا في يده مالاً يتصرف فيه أخذه الغُرماء، فإن قال: أخذته من فلان وديعَةً أو مضاربة وصدَّقَه المقر، ولاَ حَقَّ للغرماء فيه، وهل لهم تحليفه على أنه لم يواطئ المقر له، وأنه أقر عن تحقيق؟ فيه وجهان: أصحهما: المنع؛ لأنه لو رجع عن إقراره لم يقبل، فلا معنى لتحليفه، وإن كَذَّبَهُ المُقِر له صرف إليهم، ولا يلتفت إلى إقراره لإنسان آخر، وإن كان المقر له غائباً وقف حتى يحضر الغَائِب، فإن صدقه أخذه، وإلا أخذه الغُرَماء.
وأما لفظ الكتاب فقدله: (وإن أقام بينة على إعساره سمع) معلم بالميم وقوله: (في الحال) بالحاء لما مر وقوله: (للخصم أن يحلفه مع الشهادة) بالحاء والألف، ثم هو جواب على أن اليمين مستحقة فيصح إعلامه بالواو أيضاً ويوضحه قوله: (فهل يجب على القاضي إذناً في قضائه) فإنه جعل الوجوب معروفًا عنه، ونتكلم في أنه هل يشترط له طَلَبُ الخِصَمْ؟ قال الإمام: والخلاف فيما إذا سكت فأما إذا قال لست أطلب يمينه، ورضيت بإطلاقه فلا خلاف في أنه لا يحلف. قال الغزالي: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُحْبَسُ فِي دَيْنِ وَلَدِهِ لأِنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْبَسْ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَفِرَّ وَيَمْتَنِعَ عَنِ الأدَاءِ وَيَعْجَزَ عَنِ الاسْتِيفَاءِ. قال الرَّافِعِيُّ: في حبس الوالِدَيْن بِدَيْنِ الوَلَدِ وجهان: أصحهما: عند صاحب الكتاب أنه يحبس، وإلا لأقر وامتنع عن الأدَاءِ، وحينئذ يعجز الابْنُ عن استيفاء الدَّيْنِ ويضيع حقه (¬1). والثاني: لا يحبس، لأن الحبس نَوْعُ عُقُوبَةٍ، ولا يُعَاقَبُ الوَالِدُ بِالْوَلَدِ، قال في "التهذيب": وهذا أصح ولمن قال به أن يمنع عجز الابن عن الاستيفاء، بل إذا ثبت له مال عِنْدَ القَاضِي أخذه قهراً وصرفه إلى دَيْنِهِ، وعلى الوجهين لا فرق بين دَيْنِ النفقة وَغَيْرِهَا، ولا بين أن يكون الوَلَدُ صغيراً أو غيره (¬2). ¬
وعن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه لا يحبس إلا في نفقة الوَلَدِ، إذا كان صغيراً أو زَمِناً فيمكن إعلام قوله: (يحبس) بالحاء لذلك. قال الغزالي: الحُكْمُ الرَّابعُ الرُّجُوعُ (ح) إِلَى عَيْنِ المَبِيعِ لِقَوْلِهِ -عليه السلام- أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ المَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ، وَيَتَعَلَّقُ الرُّجُوعُ بِثَلاَثةِ أَرْكَانٍ العَوَضُ وَالمُعَوَّضُ وَالمُعَاوَضَةُ أمَّا العِوَضُ وَهُوَ الثَّمَنُ فَلَهُ شَرْطَانِ الأَوَّلُ: أنْ يَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ بِالإِفْلاَسِ فَلَوْ وَفِى المَالِ بِهِ فَلاَ رُجُوعَ، وَإِنْ قَدَّمَه الغُرمَاءُ فَلَهُ الرُّجُوعُ لأَنَّ فِيهِ مِنَّةً وَغَرَرَ ظُهُورِ غَرِيمٍ آخَرَ، وَلاَ رُجُوع (و) إِذَا تَعَذَّر بِامْتِنَاعِهِ بَلْ يَسْتَوفِيهِ القَاضِي، وَلَو انْقَطَعَ جنْسُهُ وَمَنَعْنَا الاعْتِيَاضَ عَنِ الثَّمَنِ فَلَهُ الفَسْخُ كَمَا فِي انْقِطَاعِ المُسَلَّمِ فِيهِ الثَّانِي: الحُلُولُ وَلاَ رُجُوعَ إِلاَّ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ حَالاًّ وَلاَ يَحِلُّ الأَجَلُ بِالفَلَسِ عَلَى الأَصَحٍّ. قال الرَّافِعِيُّ: من حجر بالإفلاس ووجد من باع منه ولم يقبض الثمن وعين متاعه عنده، فقد ذكرنا أن له أن يَفْسَخَ البَيْعَ ويأخذ عَيْنَ مَالِهِ، وهل يكون هَذَا الخِيَارُ على الفَوْرِ؟ وجهان: أحدهما: لا كخيار الرجوع في الهِبَةِ من الولد. وأصحهما: نعم؛ لأنه خِيَارُ فَسْخٍ ثبت لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فليكن على الفَوْرِ كخيار العَيْبِ وخيار الحَلِفِ. فعلى هذا إذا علم الحجر ولم يفسخ بطل حَقُّه من الرجوع، وعن القاضي حسين أنه لا يمنع تأقيته بِثَلاثَةِ أيام، كما هو أَحَدُ الأقوال في خِيَارِ المعتقة تَحْتَ رقيق وفي الشُّفْعَةِ، وهل يفتقر هَذَا الخِيَار إلى إذن الحَاكِم؟ أم يستبد به الفَاسِخ؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يفتقر إلى إذنه؛ لأنه فسخ مختلف فيه كالفسخ بالإعْسَار. وأشبههما: أنه لا حاجة إليه؛ لأنه ثَابتٌ بالسنة الصَحِيحَة، فصار كَخِيَارِ العتق، ولوضوح الحديث ذهب الإصْطَخْرِي إلى أَنه لو حكم حاكم بالمنع من الفسخ نقض حكمه، ولا يحصل الفَسْخُ ببيع البائع وإعتاقه ووطئه الجارية المبيعة على أَصَحِّ الوجهين، وتلغى هذه التصرفات.
وصيغة الفسخ كقوله: فسخت البيع ونقضته ورفعته لا يُخْفَى. ولو اقتصر على قوله: رددت الثمن أو فسخت البيع، فقد حكى الإمامُ فيه اختلافاً للأصْحَابِ، ووجه المنع بأن حَقَّ الفَسْخِ فيه أن يضاف إلى المُرْسل، ثم إذا انفسخ العقد ثبت مُقْتَضَاهُ، والأصح الاكتفاء به، ثم حق الرّجُوعِ للبائع لا يثبت على الاِطْلاَقِ، بل هو مَشْرُوطٌ بشروط يجب معرفتها، ولا يختص الرجوع بالبَيْعِ، بل يجري في غيره من المُعَاوَضَاتِ ويتبين الغرض بالنَّظَرِ في العوض المتعذر تحصيله، والعوض المُسْتَرجع والمعارضة التي بها انتقل المِلْك إلى المفلس، فلذلك قال: (ويتعلق الرُّجوع بثلاثة أركان العوض والمعوض والمُعَاوضة). قوله: (أما العوض فهو الثمن) يعني في البيع ويقاس عليه العوض في سَائِرِ المُعَاوَضَاتِ، ويعتبر فيه شيئان: أحدهما: أن يتعذر استيفاؤه بسبب الإفْلاَسِ، وفيه صور: أحدها: إذا كان ماله وافياً بالدّيون، وحجر القَاضِي عليه، تفريعاً على جواز ذلك ففي ثبوت الرّجُوعِ وجهان: أحدهما: وهو المذكرر في الكتاب أنه لا يرجع؛ لأنه يَصِلُ إِلَى الثَّمَنِ. والثَّانِي: يرجع؛ لأنه لو رجع لما أمن أن يظهر غريم آخر يزاحمه فيما أخذ. الثانية: لو قال الغرماء: نفسخ لتقدمك بالثمن لم يلزمه الإجَابة، خلافاً لِمَالِكِ، لأن فيه تحمل مِنَّةٍ، وأيضاً فربما يظهر غَرِيمٌ آخر فيزاحمه فِيمَا أَخَذَ، وفيه وجه أنه لا يبقى له الرُّجُوعُ، تخريجاً مما إذا حَجَرَ عَلَيْهِ الحَاكِمُ وفي ماله وَفَاء، ولو قالوا: نؤدي الثَّمَنَ مِنْ خَالِصِ أموالِنَا، أو تبرع به أجنبي فليس عليه الإجابة أيضاً. ولو أجاب ثم ظهر غريم آخر لَوْ يزاحمه في المَأْخُوذ. ولو مات المُشْتَرِي فقال الوارث: لا ترجع حتى أقدمك على الغُرَمَاءِ لم يلزمه القبول أيضاً. ولو قال: أؤدي الثمن من مالي فوجهان: أحدهما: وبه أجاب في "التتمة": أن عليه القبولَ وَتْركَ الفَسْخِ؛ لأن الوارث خليفة المورث فله تخليص المَبِيع. الثالثة: لو امتنع المُشْتَرِي من تَسْلِيمِ الثَّمَنِ مع اليَسَارِ أو هرب أو مات مليئاً وامتنع الوَارِثُ من التسليم فأصح الوجهين: أنه لا فسخ؛ لأنه لم يوجد عَيْبُ الاِفْلاَس، والتوصل إلى الاستيفاء بالسُّلْطَانِ ممكن، فإن فرض عَجْز عن النُّذُور فَذَلِكَ مما لاَ عِبْرَة به.
والثاني: له الفسخ؛ لتعذر الوُصولِ إلى الثمَنِ (¬1). ولو كان قد ضمن الثَّمنَ ضَامِنٌ، فإن ضمن بإذن المشتري فليس له الرجوع على المُشْتَرِي؛ لأنه ليس بمتبرع على المُشْتَرِي، والوصول من يده كالوصول من يَدِ المُشْتَرِي، وإن ضمن بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَوَجْهَانِ: في أحدهما: يرجع كما لو تبرع متبرع بالثَّمَن. وفي الثَّاني: لا؛ لأن الحق قد تقرر في ذِمَّتِهِ، وتوجهت المُطَالَبَةُ عَلَيْهِ، بِخلاف المُتَبَرِّع. ولو أعير من المُشْتَري ما يرهنه بالثَّمَنِ فرهنه فعلى الخِلاَف. وأما قوله: (ولو انقطع جنسه ومنعنا الاعتياض عن الثمن، فله الفسخ، كما في انقطاع المسلم فيه) فاعلم أن هذه المسألة هي كالغربية في الباب، واذكر سبب إيرادها فيه بعد بيان فقهها. إنا ذكرنا قولين في جواز الاستبدال عَنِ الثَّمَنِ في الذمة، فإن مَنَعْنَا الاستبدال عنه وانقطع جِنْسُه، كان كانقطاع المُسَلَّمِ فيه وانقطاع المُسَلَّم فيه، أثره ثبوت حَقّ الفَسْخ في أصح القولين، والانفساخ في الثاني، فكذلك هاهنا، وإن جَوَّزْنَا الاعتياض والاستبدال فلا تعذر في استيفاء عوض عنه. قوله: (فله الفسخ) اقتصار منه على ذكر أصَحّ القَوْلَيْنِ. وأما: سبب الأيراد في هذا المَوْضِعِ فأمران: أحدهما: أنه لما جعل الشرط التعذر بسبب الاِفْلاَسِ، تكلم في التَّعَذُّرِ بِغَيْرِ هَذَا السَّبَبِ، كامتناع المشتري وانقطاع جِنْسِ الثَّمَنِ، وَبيَّنَ حُكْمَ كلِّ قِسْم مِنْهَا. والثَّاني: أن الأصْحَابُ احتجوا على ثبؤت حقِّ الفَسْخِ بالاِفْلاَسِ بالقِيَاسِ على تعذر تحصيل المُسَلِم فِيهِ بالانقطاع، والجامع أنه أخذ عَوَضِ العَقْدِ، فقيل لهم: لو كان الثمن كالمُسَلَّم فيه، لاقتضى انقطاعه ما يقتضي انقطاع المسلّمِ فِيهِ، فأجابوا بما حكيناه: أنه إن جاز الاستبدال فلا تعذر، وإلا فلا فرق. الثاني: كون الثَّمَنِ حَالاً، فلا رجوع إذا كان الثَّمَنُ مُؤَجَّلاَ؛ لأنه لاَ مُطَالَبَةَ في الحَالِ. ¬
وقوله: (ولا يحل الأجل بالفلس على الأصح) مكرر، قد ذكره في أول الباب. وقوله (ولو حل أجله قبل انفكاك الحجر) فقد ذكرناه ثم بيّنا أن مِنَ الأصْحَابِ من قال: "لو حل الأجل وهو محجور عليه لم يكن للبائع الفسخ والرجوع أيضاً" ويجوز أن يُعَلَّم قوله: (ولا رجوع إلا إذا كان الثمن حَالاًّ) بالواو؛ لوجه أثبتناه هناك تفريعاً على أن الديون المؤجلة تَحِل بالفلس. واعلم قَوْله في أول الفصل: (الرجوع إلى عين المبيع) بالحاء؛ لِمَا مَرَّ من مذهب أبي حنيفة. قال الغزالي: وَأَمَّا المُعَاوَضَةُ فَلَهَا شَرْطَانِ: الأَوَّلُ أن يَكُونَ مُعَاوَضَةً مَحْضَةً فَلاَ يَثْبُتُ الفَسْخُ فِي النِّكَاحِ وَالخُلْعِ وَالصُّلْحِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ العِوَضِ، وَيَثْبُتُ فِي الإِجَارَةِ وَالسَّلَم فَيَثْبُتُ الرُّجُوعُ إِلَى رَأْسِ المَالِ عِنْدَ الإِفْلاَسِ إِنْ كَانَ بَاقِياً، وَالمُضَارَبَةِ بِقيمَةِ المُسَلَّمِ فِيهِ إِنْ كَانَ تَالِفاً، ثُمَّ يَشْتَرِي بِقيمَتِهِ جِنْسَ حَقِّهِ، وَلاَ يَجُوزُ الاعْتِيَاضُ عَنِ المُسَلَّمِ فِيهِ، وإذَا أَفْلَسَ المُسْتأَجِرُ بِالأُجْرَةٍ رَجَعَ المُكْريَ إِلَى عَيْنِ الدَّابَةِ أَو الدَّارِ المُكْرَاةِ، فَإِنْ كَانَ في بَادِيَةٍ نَقَلَهُ إِلَى مَأْمَنٍ بِأُجْرَةٍ مِثْلِهِ يُقَدَّمُ بِهَا عَلَى الغُرَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ زَرَعَ الأَرْضَ تَرَكَ زَرْعَهُ بَعْدَ الفَسْخِ بِأجْرَةٍ يُقَدَّمُ بِهَا عَلَى الغُرَمَاءِ إِذْ فِيهِ مَصْلَحَةُ الزَّرْعِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الغُرمَاءِ، وَإِنْ أَفْلَسَ المُكْري بَعْدَ تَعَيُّنِ مَا أَكْرَاهُ فَلاَ فَسْخَ، بَلْ يُقَدَّمُ المُسْتأْجَرُ بِالمَنْفَعَةِ لِتَعَلُّق حَقِّهِ بِعَيْنِ الدَّابَّةِ كَمَا يُقَدَّمُ المُرْتَهِنُ، وإنْ كَانَتِ الإِجَارَةُ وَارِدَةً عَلَى الذِّمَّةِ فَلَهُ الرُّجُوعُ إِلَى الأُجْرَةِ إِذَا بَقِيَتْ بِعَيْنِهَا أَوِ المُضَارَبَةُ بِقِيمَةِ المَنْفَعَةِ لِتَحْصُلَ لَهُ المَنْفَعَةُ. قال الرَّافِعِيُّ: يعتبر في المعاوضة التي يملك بها المُفْلِس شيئان: أحدهما: أن تتمحض معاوضة، وقَصْدُ صَاحِبِ الكتاب بهذا القَيْدِ إخْرَاجُ بَعْضِ التصرفات، وإدْخَالُ بعضها، أما المخرج: فقد قال: (فلا يثبت الفسخ في النكاح، والخلع، والصلح؛ لتعذر استيفاء العوض) وهذا قد يتجاوز عنه، لاعتقاد أنه في غاية الوضوح، لكي فيه وقفة منكرة؛ لأنه إن أراد به أن المرأة لا تفسخ النَّكَاح بتعذر استيفاء الصَّدَاق، ولا الزوج الخلع ولا العافي الصُّلح بتعذر استيفاء العوض فهو مستمر في الصورتين الأخيرتين، لكنه في النِّكَاحِ يبنى على الخلاف في أن الاعْسَارِ بالصَّدَاقِ هل يُثْبِتُ الفَسْخَ؟ والقول في ذلك الخلاف والأصح منه موضعه باب الإعسار. وإن أراد به أن الزوج لا يفسخ النكاح إذا لم تسلم نفسها، وتعذر الوصول إليها، فهذا واضِح، لكن لا يفرض مثله في الخُلْع والعفو، إذ ليس العوض في الخُلْعِ إلا البينونة، وفي العفو إلا براءة الذمة عن القِصَاَص، وهذا لا يتصور فيه التَّعَذُّر مع صِحَّةِ الخلع والعفو.
وأما المدخل فهو السلم والإجارة فإنهما معاوضتان محضتان، أما السَّلَم فإذا أفلس المُسَلَّم إِلَيهِ قيل توفيه المُسَلَّم فِيهِ لم يخل: إما أن يكون رأس المال باقياً، أو تالفاً أو بعضه باقياً، وبعضه تالفاً. الحالة الأولى: أن يكون باقياً، فللمسلم فَسْخ العَقْدِ والرجوع إلى رَأْسِ المَالِ، كما ذكرنا في البَائِعِ، فإن أراد أن يضارب الغُرَمَاءِ بالمُسَلَّمِ فيه ولا يفسخ فسنتكلم في كيفية المضاربة إن شاء الله تَعَالى. الثانية: أن يكون رأسُ المَالِ تَالِفاً فوجهان: أحدهما: ويحكى عن أبي إِسْحَاقَ: أن لِلْمُسَلِّم فَسْخ العقد والمضاربة مع الغُرَماء برأس المال؛ لأنه تعذر عليه الوُصُول إلى تَمَامِ حَقِّه، فليكن من فَسْخ السلم، كما لو انقطع جنس المُسَلَّم فيه، وهذا ما أورده القَاضِي ابْنُ كِجٍّ الصَّيْدَلاَنِيُّ، وعلى هذا فهل يجيء قول حاكم بانفساخ المسَّلَمِ كما في انقطاع المُسَلَّمِ فِيهِ؟ قيل: نعم، إتماماً للتشبيه. وقيل: لا؛ لأنه ربما حصل باستقراض وغيره، بخلاف صورة الانقطاع. وأصحهما: أنه لا ينفسخ، كما لو أفلس المُشْتَرِي بالثمن والمبيع تَالِف، وليس كالانقطاع؛ لأن ثَمَّ إذَا فسخ رَجَعَ رَأْسِ المَالِ بتمامه، وهاهنا إذا فسخ ليس له إلا المضاربة برأس المَالِ، ولو لم يفسخ لضارب المُسَلَّم فِيهِ، فإنه أنفع؛ لأن الغَالِبَ زيادةُ قِيمَةِ المُسَلَّمِ فيه على رَأْسِ المَالِ، فعلى هذا يُقَوَّم الَمُسَلَّم فيه ويضارب المسلم بقيمته مع الغرماء، فإذا عرفت حصته نظر إن كان في المَالِ مِنْ جنس المُسَلَّم فيه صرف إليه، وإلا اشترى بحصته منه وسلم إليه، فإن الاعتياض عن المُسَلَّم فيه ممتنع، هذا إذا كان رأسُ المالِ تالفاً، ولم يكن جنس المسلم فيه منقطعاً، فإن كان تالفاً وانقطع جنس المسلم فيه ففي وجه لَيْسَ للْمُسلِّمِ فَسْخُ العَقْدِ أيْضاً؛ لأنه لاَ بُد من المضاربة فسخ أو لم يفسخ، وإن فسخ فَبِرَأسِ المَالِ، وإلا فبالمُسَلَّمِ فيه، وانما يفسخ بالإفْلاِسِ حتى يتخلص عن المضاربة. والأصح: أنه يثبت حَقَ الفسخ هاهنا؛ لأن الفسخ بالانقطاع يثبت في حق غير المَحْجُورِ عليه، وما يثبت في حَقِّ غيره يثبت في حقه، كالرَّدِ بالعَيْب، وفيه فائدة، فإن ما يخْصه لَوْ فسخ لَصُرِفَ إِلَيْهِ في الحَالِ عن جِهَةِ رَأْسِ المال، وما يخصه لو لم يفسخ لا يُصْرَف إليه، بل يوقف إلى أن يعود المُسَلَّم فيه فيشتري به. ثم هاهنا فرعان: أحدهما: إذا قومنا المُسَلَّم فيه، فوجدنا قيمته عشرين، فأفرزنا من المَالِ للمسلم
عشرة، لكون الدُّيُونِ ضِعْفَ المَالِ، فرخُص السعر قبل الشراء ووجدنا بالعشرة جميع المسلم فيه، فوجهان: أحدهما: وهو ما أورده ابْنُ الصَّبَّاغَ: أنا نرد الموقوف إلى ما يخصه باعتبار قيمته أجزاء، فيصرف إليه خمسة، والخمسة الباقية توزع عليه وعلى سَائِر الغُرَمَاءِ، وذلك لأن الموقوفَ لم يدخل في مِلْكِ المسلم؛ بل هو بَاقٍ على ملك المُفْلِس، وحق المسلم في الحنْطَة لاقى ذَلِك الموقوف، فإذا صَارَت القيمة عَشْرة فليس دينه إِلَّا ذَلِك. والثاني: وهو ما أورده في "التهذيب": أنه يشتري به جميع حقه ويسلم إليه اعتباراً بيوم القسمة، والموقوف فإن لم يملكه المسلم لكنه صار كالمرهون بِحَقِّه، وانقطع حقه عن غيره من الحِصَصِ، حتى لو تَلَفَ قَبْلَ التسليم، لم يتعلق بِشَيْءٍ مِمَّا عِنْدَ الغُرَمَاءِ، وكان حَقُّهِ في ذِمَّةِ المُفْلِسِ، ولا خلاف في أنه لو فضل المَوْقُوف عَنْ جَمِيع حَقِّ المسلم كان الفَاضِل للغُرَمَاءِ، وليس له أن يقول ما زَادَ لِي. ولو وقفنا في الصُّورَةِ المَعْرُوضَةِ عشرة فعلا السِّعْر، ولم نجد القَدْر الذي كنا نتوقعه إلا بأربعين، فعلى الوجه الأول بأن أن الدين أربعون، فيسترجع من سَائرِ الحِصَصِ ما تتم به حِصَصُ الأربعين، وعلى الثاني لا يزاحمهم، وليس له إلا ما وقف له، وقد نسب صاحب "النهاية" الوجه الثاني إلى الجَمَاهِير، والأول إلى القَاضِي حسين، وعكس أبُو سَعِيدٍ المتولي فنسب الثاني إلى القَاضِي، والله أعلم. الثَّاني: لو تَضَارَبُوا وأخذ المسلم ما يخصه قدراً من المسلم فيه، وارتفع الحَجْرُ عنه ثم حدث له مَالٌ وأُعيد الحَجْر، واحتاجوا إلى المُضَارَبَةِ، ثانياً، قَوَّمْنَا المُسَّلَم فِيهِ، فإن وجدنا قيمته كقيمته أولاً فذاك، وإن زادت فالتوزيع الآن يقع باعتبار القِيمَةِ الزَّائِدَةِ، وإن نقصت فالاعتبار بالقيمة الثانية أَمْ الأولى؟ فيه وجهان عن رواية صاحب "التقريب". أصحهما: الأول، قال الإمام: ولا أعرف للثاني وَجْهاً، ولو كان المُسَلَّم فِيهِ ثوباً أو عبداً بحصة المسلم، يشتري منه شقص للضرورة، وإن لم يوجد فللمسلم الفسخ. الحالة الثالثة: أن يكون بَعْضُ رأسِ المَالِ باقياً، وبعضه تالفاً، فهو كما لو تلف بعض المبيع دون بعض، وسنذكره إن شاء الله -تعالى-. وأما الإجَارة: فنتكنم في إفلاس المستأجر، ثم في إفلاس المُكْرِي. القسم الأول: إفلاس المستأجر. والإجارة على نوعين: أحدهما: الإجارة الواردة على العَيْنِ، فإذا أجر أرضاً أو دابةً فأفلس المستأجر قبل
تسليم الأُجْرَة ومضت المدة فللمُكْرِي فَسْخُ الاِجَارَةِ تنزيلاً للمنافع في الإجارة منزلة الأعْيَانِ في البَيْعِ، وذكر الإمام أن صاحب "التقريب" حكى قولاً: أنه لا يثبت الرجوع في المَنَافِع، فتترك منزلة الأعيان القائمة، إذ ليس لها وجود مستقر، والمَذْهَبُ الأول، فإن لم يفسخ واختار مضاربة الغُرَمَاءِ بالأجرة فله ذلك، وحينئذ إنْ كَانَتِ العَيْنُ المستأجرة فَارِغَةً، أجَّرَهَا الحَاكِمُ عَلَى المُفْلِسِ، وصرف الأجرة إلى الغُرَمَاء، ولو كان التَّفْلِيسُ بعد مَضِيِّ بَعْضِ المُدَّةِ، فللمكري فسخ الإجارة في المُدَّة الباقية، والمضاربة مع الغرماء بِقِسْطِ المُدَّة المَاضِية من الأُجْرَةِ المُسَمَّاةِ بناءً على أنه لو باع عبدين فَتَلَفَ أَحُدُهِمَا، ثم أفْلَسَ، يفسخ البيع في البَاقِي، ويضارب بِثَمَنِ التَّالِفِ. وإذا أفلس مُسْتأجِرُ الدَّابَّةِ في خِلاَلِ الطَّرِيقِ، وحجر عليه فَفَسخَ المُكْرِي، لم يكن له ترك مَتَاعِهِ في البَادِية المهلكة، ولكن ينقله إلى مَأْمَن بِأجْرَةٍ مِثْلٍ، يقدم بها على الغُرَماء؛ لأنه لصيانة ماله وإيصاله إلى الغُرَماء، فأشبه أجرة الكَيَّالِ، والحَمَّالِ، وكرى المكان المحفوظ فيه، ثم في المأمن يضعه عِنْدَ الحَاكِمِ، ولو وضعه عند عَدْلٍ من غير إذن الحَاكِم فوجهان مذكوران في نَظَائِرِه. ولو فسخ والأرْضُ المستأجرةُ مشغولةٌ بزرع المُسْتَأْجِرِ، نُظر إن استحصد الزرع فله المُطَالَبة بالحَصَادِ، وتفريغ الأرْضِ، وإلا فإن اتفق المفلس والغُرَماء على قَطْعِهِ قُطِع، وإن اتفقدا على التبقية إلى الإدْرَاكِ فَلَهُمْ ذَلِكَ، بشرط أن يقدموا المكرى بأجرة المثل، لبقية المدة، محافظةً للزرع على الغرماء، وإن اختلفوا فأراد بعضهم القطع والبعض التبقية فعن أبي إسحاق أنه يراعى ما فيه المَصْلَحة. والمذهب: أنه ينظر إن كان له قيمة لو قطع، فيجاب من يريد القطع من المفلس، والغرماء، إذ ليس عليه تَنْمِية مَالِهِ لهم ولا عليهم الصبر إلى أن ينمو ماله. فعلى هذا لو لم يأخذ المكري أجرة المدة المَاضِية فهو أحد الغرماء، فله طَلَبُ القَطْعِ، وإن لم يكن له قيمة لو قطع فيجاب من يريد التبقية، إذ لا فائدة لِطَلَب القَطْعِ فِيهِ، وإذا أبقوا الزرع بالاتفاق أو بطلب بعضهم حيث لم يكن للمقطوع قيمة فَالسَّقْيُ، وسَائِرِ المُؤِنِ، إن تطوع الغُرَمَاء، أو بعضهم أو اتفقوا عليها على أقدار ديونهم فذاك، وإن أنفق عليها بعضهم ليرجع فلا بد من إِذْنِ الحَاكِمِ، أو اتفاق الغرماء والمفلس وإذا حصل الإذْن قدم المنفق بقدر النفقة لأنه لإصلاح الزرع، وكذا لو أنفقوا على قدر الديون ثم ظهر غريم آخر قدم المنفقون بما أنفقوا، وهل يجوز الإنْفَاقُ عليه من مَالِ المُفْلِس؟ فيه وجهان: أظهرهما: الجواز.
ووجه المنع: أن حصول الفائدة مَوْهُومٌ (¬1). والنوع الثَّاني: الإجارة على الذمة، ونزيد فيها النظر إلى أن هذه الإجَارَةِ، هل تعطي حكم السَّلَمِ حتى يجب تسليم رأس المال في المَجْلِسِ أم لا؟ إن قلنا: لا، فهي كالإجارة على العين. وإن قلنا: نعم، فلا أثر للإفلاس بعد التفرق، لصيرورة الأجرةِ مقبوضةً قبل التفرق، ولو فرض التَّفْلِيس في المجلس، فإن أثبتنا خيار المجلس، ففيه غنية عن هذا الخيار، وإلا فهي كما في إجارة العين. القسم الثاني: إفلاس المُكري، والكلام في إجارة العَيْنِ، ثم في الإجارة على الذِّمَّة. أما النوع الأول: فهذا أُجَّرَ دَابَّةً، أو داراً من إنسان، ثم أفلس، فلا فَسْخَ للمستَأْجِرِ؛ لأن المنافع المستحقة له متعلقة بِعَينِ ذَلِك المَالِ، فيقدم بها كما يقدم حتى المُرْتَهِنِ، وكما لو باع شَيئًا ثم أفلس فَإِنَّ المُشْتَرِي أحق بما اثشراه، ثم إذا طَلَبَ الغُرَمَاءُ بَيْعَ العَيْنِ المستأجرة يفرع ذلك على جواز بيع المستأجر أن معناه لم يجبهم، وعليهم الصبر إلى انقضاء المدة، وإن جوزناه أُجِيبُوا، ولا مبالاة بما ينقص من ثمنه بِسَبَبِ الإِجَارَةِ، إذ ليس على الغرماء الصَّبْر إلى أن يزداد مَالُ المُفْلِسِ. وأما النَّوْعُ الثَّانِي: فإذا التزم في ذِمَّتِهِ نقل مَتَاعٍ من بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ ثم أفلس نظر إن كانت الأجرة باقيةً في يَدِ المُفْلِسِ فله فَسْخُ الإِجَارَةِ، والرجوع إلى عَيْنِ مَالِهِ، وإن كانت تَالِفَةً فلا فسخ، كما لا فسخ والحالة هذه عند إفْلاَسِ المسلم إليه على الأصَح، ويضارب المُسْتَأجِرُ الغرماءَ بقيمة المنفعةِ المستحقة، وهي أجرة المثل، كما يضارب المسلم بقيمة المسلم فيه، ثم إن جعلنا هذا النوع من الاجَارة سلماً فما يخصه بالمضاربة من مال المفلس لا يجوز تَسْلِيمه إِلَيْهِ، لامتناع الاعتياض عن المسلم فيه، فينظر إن كانت المنفعة المُسْتَحَقة قابلةً للتبعيض كما إذا كان الملتزم حمل مائَة مَنٍّ (¬2) فينقل بالحِصَّة بعض المائة، وإن لم يقبل التبعيض، كما إذا كان الملتزم قصارة ثوب، أو رياضة دَابة، أو حمل المستأجر إلى بَلَدٍ، ولو نقل إلى نِصْفِ الطَّريق لبقي ضَائِعًا، قال الإمام: للمستأجر الفسخ بهذا السبب، والمضاربة بالأجرة المبذولة، وإن لم يجعل هذا ¬
النَّوْع من الإجارة سلماً سلمت الحِصَّة بعينها إليه؛ لجواز الاعتياض، هذا إذا لم يسلم عيناً لاستيفاء المنفعة الملتزمة منها، فأما إذا التزم في ذمته، ثم سلم إليه دابة لينقل بها ثم أفلس فيبنى على أن الدَّابَّة المسلمة هل تتعين بالتعيين أم لا؟ فيه وجهان يُذْكَرَانِ في الإِجَارَةِ: إن قلنا: تتعين، فلا فسخ، ويقدم المستأجر بمنفعتها، كما لو كانت معينة في العَقْدِ. وإن قلنا: لاتتعين فهوكما لو لم يسلم. وأما لفظ الكتاب فقدله: (فيثبت الرجوع إلى رأس المال) أي في السلم. وقوله: أو المضاربة بقيمة السلم فيه إن كان تالفاً) يجوز إعلامه بالواو للوجه الذَّاهِب إلى ثبوت الفَسْخِ عند التَّلَفِ أيضاً. وقوله: (ثم يشتري بقيمته): أي بحصة المسلم فيه فصار بالقيمة مضارباً بقيمته. وقوله: (رجع المكري) مرقوم بالواو، لما مر. وقوله: (ترك زرعة بعد الفسخ بأجرة) أي: إذا لم يستحصد واتفقوا على إبقائه كما أوضحناه، والمراد من الأجرة أجرة المِثْل. وقوله: (أو المضاربة بقيمة المنفعة لتحصل له المنفعة)، أي: لا يضارب ليأخذ عين ما يخصه، لكن ليصرف ما يخصه إلى المنفعة التي يستحقها، وهذا جوابٌ على تنزيل الإِجَارَةِ في الذَّمَّةِ منزلةَ السَّلَمِ، فإن لم يفعل ذلك لم يحتج إلى تَحْصِيل المَنْفَعَةِ، فيجوز أن يُعَلَّم -بالواو-، لذلك، وقياس مَا مَرَّ في السلم مجيء وجه في ثبوت الفسخ، وإن كانت الأجرة تَالِفةً لتعذر حُصُولِ المستحق بتمامه وإعلام قوله: (أو المضاربة) بالواو. فرع: استقرض مالاً، ثم أَفلسَ وهو بَاقٍ في يَدِهِ، فللمقرض الرُجُوع، أما إذا قلنا: إنه لا يملك بالقبض، فلأنه بسبيل من الرجوع من غير حَجْرٍ وإفلاس، فمعهما أولى. وأما إذا قلنا: إنه يملك، فلأنه مملوكٌ بِبَدَلٍ تعذر تحصيله فأشبه المبيع. فرع: باع مالاً، واستوفى ثَمَنَه، وامتنع من تسليم المبيع، أو هرب، هل للمشتري الفسخ كما لو أبِقَ العَبْدُ المبيع أم لا لأنه لا نقصان في نفس المبيع؟ فيه وجهان منقولان في "التتمة" (¬1). ¬
قال الغزالي: الشَّرْطُ الثَّانِي لِلْمُعَاوَضَةِ أن تكُونَ سَابِقَةً عَلَى الحَجْرِ، احْتَرَزْنَا بِهِ عَمَّا يَجْرِي سَبَبُ لُزُومِهِ بَعْدَ الحَجْرِ كَمَا إِذَا بَاعَ مِنَ المُفْلِسِ المَحْجُورِ عَلَيْهِ هَل تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ مَالِهِ؟ وَقَد ذَكَرْنَاهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَفْلَسَ المُكْرِي وَالدَّارُ فِي يَدِ المُكْتَرِيَ فَانْهَدَمَت ثَبَتَ لَهُ الرُّجُوعُ إِلَى الأُجْرَةِ، وَهَلْ يُزَاحَمُ بِهِ الغُرَمَاءُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ جَارِيَةً لِعبْدٍ فَتَلِفَتِ الجَارَيةُ في يَدِ المُفْلِسِ المَحْجُورِ فَرَدَّ بَائِعُهَا العَبْدَ بِالعَيْبِ فَلَهُ طَلَبُ قِيمَةِ الجَارَيةِ قَطْعاً، وَهَل يَتَقَدَّمُ بِالقِيمَةِ أَوْ يُضَارِبُ بِهَا؟ وَجْهَانِ، وَالأَصَحُّ أَنَّهُ يُضَارِبُ. قال الرَّافِعِيُّ: هذا الشرط مغفول عنه في أكْثَرِ النّسخِ، سيما في القَدِيمَةِ مِنْهَا، لكنه ألحق بالكتاب من "الوسيط"؛ لأنه وَعَدَ بِهِ حيث قال: (أما المعاوضة فلها شرطان) والصواب أن تثبت الملحق بالمَنْن، على ما يناسب نظم الكتاب، ثم نشرحه. أما الملحق فهو قد سبق. الشَّرْط الثاني أن تكون المعاوضة سابقة على الحجر، فلو باع من المفلس المحجور شيئاً فقد ذكرنا الخلاف في تعلقه بين متاعه، ولو أفلس المكري والدار في يَدِ المُشْتَرِي فانهدمت أَفَلَهُ الرجوعُ بالأُجْرَةِ؟ وفي مزاحمته الغرماء بها وَجْهَان. ولو باعَ جارية بِعَبْدٍ فتلفت في يد المُفْلِس ورد بائعها العبد بعيب، فله طلب قيمة الجارية قطعاً، ويتقدم بها أو يضارب؟ فيه وجهان: أصحهما: أن يضارب. وأما الشَّرْحُ فاعلم أن فيه ثلاثَ مَسَائِلَ: الأول: إذَا بَاعَ شيئاً من المفلس المَحْجُورِ، وصححناه، فقد ذكرنا في ثُبُوتِ حَقِّ الفَسْحِ، والرجوع، خلافاً. فإن قلنا: لا رجوع فقد شرطنا فيه سبق المعاوضة على الحَجْرِ. الثانية: إذا أجر داراً، وسَلَّمَهَا إِلَى المُكْتَرِي، وقبض الأجرة ثم أفلس وحجر عليه فقد ذكرنا أن الإجَارَةَ مستمرةٌ: بِحَالِهَا، فإن انهدمت في أثناء المدة انفسخت الإجارة فيما بقي منها، ويضارب المستأجر مع الغُرَمَاءِ، بحصة ما بقي منها إن كانت الانهدام قبل قسمة المال بينهم، وإن كَانَ بَعْدَ الِقْسمَةِ، فوجهان: وجه المَنْعِ: أنه دين حدث بعد القِسْمَة، فصار كَمَا لَو استقرض. ووجه المُضَارَبَةِ: وهو الأصح: أنه دَيْنٌ استند إلى عَقْدِ سبق الحَجْر، وهو الإِجَارة، فصار كما لو انهدمت قبل القسمة.
الثالثة: إذا باع جاريةً بِعَبْدٍ، وتقابضَا، ثم أفلس مشتري الجارية، وحجر عليه، وهلكت الجارية في يده، ثم وجد بائعُها بالعَبْدِ عيباً، ورده فله طلب قيمة الجَارِية لا مَحَالَة، وكيف يطلب؟ فيه وجهان عن القاضي حسين: أصحهما: أنه يضارب كسائر أرْبَابِ الدّيُونِ. والثاني: أنه يتقدم على سَائِرِ الغُرَمَاءِ بقيمتها؛ لأنه أدخل في مقابلتها عَبْداً في مال المُفْلِسِ، وهذان الوَجْهَان في الكيفية يخالفان الوجهين في رجوع من باع منه بعد الحَجْرِ شيئاً بالثَّمَنِ. إذا قلنا: لا يتعلق بعين متاعه فإنا في وَجْهٍ نقول: يضارب، وفي وجه نقول: يصبر إلى أن يستوفي الغُرَمَاء حقوقهم، ولا نقول بالتقدم بِحَالِ، وكان الفرق أن الدَّيْنَ ثَمَّ حادث بعد الحَجْرِ، وهاهنا مستند إلى سَبَبٍ سابق على اَلحَجْرِ، فإذا انضم إليه إدْخَال شَيْءٍ في ملك المفلس، أثر في التَّقْدِيمِ عَلَى رَأَيٍ. قال الغزالي: أَمَّا المُعَوَّضُ فَلَهُ شَرْطَانِ: الأَوَّلُ أن يَكُونَ بَاقِياً في مِلْكهِ، فَلَوْ هَلَكَ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ المُضَارَبَةُ بِالثَّمَنِ، وَكَذا (و) لَوْ زَادَتِ القِيمَةُ عَلَى الثَّمَنِ، وَالخُرُوجُ عَنْ مِلْكِهِ كَالهَلاَكِ، وَتَعَلُّقُ حَقِّ الرَّهْنِ وَالكِتَابَةِ كَزَوَالِ المِلْكِ، وَلَوْ عَادَ إِلَى مِلْكِهِ بَعْدَ الزَّوَالِ رَجَعَ إِلَيْهِ في أَظْهَرِ القَوْلَيْنِ. قال الرَّافِعِيُّ: يعتبر من البيع ليرجع البائع إليه شرطان: أحدهما: بقاؤه في ملك المفلس، فلو هلك لم يرجع قال -صلى الله عليه وسلم-: "فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بعَيْنِهِ" (¬1) جعل وجدانه شَرْطاً في الأحَقِّية، ولا فَرْق بين أن يكون الهلاك بآفة سَمَاوِيَّةٍ، أَو بجناية جَانٍ، ولا بين أن تكون قيمته مِثْلَ الثمن، أو أكثر، وليس لَهُ إلا مضاربة الغُرَمَاءِ بالثَّمَنِ، وعن رواية الشَّيْخِ أَبِي محمد وغيره وجه: أنه إذَا زادت القيمة ضارب بها دون الثَّمَنِ، واستفاد بها زيادة حصته. ولو خرج عن مِلْكِهِ ببيع أو هبة أو إعتاق أو وقف فهو كما لو هَلَكَ، وليس له فسخ هذه التصرفات، بخلاف الشَّفِيعِ له رَدُّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ؛ لأن حق الشفعة كان ثباتاً حين تصرف المُشْتَرِي؛ لأنه يثبت بنفس البَيْعِ، وحق الرجوع لم يكن ثابتاً حين تَصَرَّفَ، لأنه إنما ثبت بالإِفْلاَسِ والحَجْرِ. ولو كاتب العبد، أو اسْتَوْلَدَ الجارية فلا رجُوعَ أيضاً. ولو دبر أو علّق العِتْقَ بصِفَةٍ فله الرجوع، وإن أجره فلا رجوع، إن لم نجوز بيع ¬
المستأجر، وإن جوزناه فإن شاء أخذهُ مسلوب المنفعة لِحَقِّ المستأجر، وإلا ضارب بالثَّمَنِ. ولو رهنه قدم حق المرتهن، ولا رجوع. وكذا لو جنى العبد المبيع، فالمجنى عليه أحق ببيعه، فإن قضى حَقَّ المرتهن، أو المجنى عليه ببيع بعضه فالبائع وَاجِد لِبَاقِي المَبِيع، وسيأتي حكمه. وإن انفك عن الرَّهْن، أو بَرِئَ من الجناية، فَلَهُ الرُّجُوعُ، كما لو اطلع المشتري على عَيْبٍ في المبيع بَعْدَ رَهْنِهِ، ثُمَّ انفك الرَّهْن له الرد. وتزويج الجارية لا يمنع الرجوع، وإحرام البَائِعِ يمنعه إذا كان المبيعُ صَيْداً، ولو حجر عليه بعد ما زال مِلْكُه، ثم عاد نظر إن عاد بِلاَ عِوَضٍ كالهبة والإرث والوصية، ففي الرجوع وجهان: أحدهما: يرجع؛ لأنه وجد متاعه بعينه. والثَّانِي: لا يرجع؛ لأن هَذَا الملك متلقى من غيره، ولأنه تخللت حالة لو صَادَفَهَا الإِفْلاَس، والحَجْرُ، لَمَا رَجَعَ، فليستصحب حُكْمَهَا، وهذا الخِلاَف كما ذكرنا في مِثْلِهِ مِنَ الرَّدَّ بالعَيْبِ، وتعرضنا لهذه الصُّورَة، ونحوها هناك، وفي سلسلة الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ أن الوجهين فيما نحن فيه مبنيان على الوجهين في رجوع الوَاهِب فيما إذَا زَالَ مِلْكُ الوَلَدِ وَعَاد، وأنهما في الهِبَةِ مبنيان على الوجهين فيما إذا زَالَ مِلْكُ المَرْأَةِ وعاد، هل يرجع المُطَلَّق بالنصف، وأن الخِلاَف فيهما جميعاً مبنى على قولين منصوصين فيما إذا قال لعبده: إذا جاء رأس الشَّهر فأنت حر، ثم بَاعَه، واشتراه، فجاء رأس الشهر هل يعتق؟ ولك أن تقول: بناء الوجهين على القولين المنصوصين، واستخراجهما منه منقول قويم وأما بناء صورة من صور الوجهين على أخرى مع استوائهما في المعنى فليس بأولى مِنَ القَلْب وَالْعَكْسِ، وإن عَادَ المِلْكُ إليه بِعوض كما لو اشتراه، نظر إن وفر الثمن على البَائِعَ الأول. فكما لو عاد بلا عوض، وإن لم يوفر وقلنا: بثبوت الرجوع للبائع لو عَاد بِلاَ عوض، فالأول أَوْلَى بِالرُّجُوعِ لِسَبْقِ حقه، أو الثَّانِي لقرب حَقِّه، أو يستويان، ويضارب كل واحد منهم بنصف الثمن؟ فيه ثلاثة أوْجُه (¬1). وعجز المكاتب وعوده إلى الرِّق كانفكاك الرَّهْنِ أو كعود المِلْكِ بعد زَوَالِهِ؟ فيه طريقان: أجاب في البَسِيط منهما بالأَوَّلِ، ووجه الثاني: مشابهة الكتابة بِزَوَالِ المِلْكِ، وإفادتها استقلال المكاتب والتحاقه بالأحْرار (¬2). ¬
وقوله في الكتاب: (في أظهر القولين) غير محمول على قولين منقولين في هذه المسألة بخصوصها؛ لإطباق النَّقَلَة على أن الخِلاَف فِيهَا وَجْهَان، لا قَوْلاَنِ، لكن الأئمة فهموا من اختلاف قوله في نظير المسألة قولين فيما يضبط المَسَائِل، وهو أن الزَّائِلَ العَائِدَ كالذي لم يزل، أو كالذي لَمْ يَعُد، فكأنه أرَادَ بالقولين ذلك، والله أعلم. قال الغزالي: الثَّانِي أَنْ لاَ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا، فَإِنْ تَغَيَّرَ بِطَرَيَانِ عَيْبٍ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا أَنْ يَقْنَعَ أَوْ يُضَارِبَ بِالثَّمَنِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِجِنَايَةِ أَجْنَبِيِّ فَلَهُ المُضَارَبَةُ بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ عَلَى نِسْبَةِ نُقْصَانِ القِيمَةِ لاَ بِأَرْشِ الجِنَايَةِ إِذْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ كُلَّ القِيمَةِ عِنْدَ قَطْعِ اليَدَيْنِ وَذَلِكَ لاَ يُعْتَبَرُ في حَقِّ البَائِعِ، وَجِنَايَةُ المُشْتَرِي كَجِنَايَةِ الأَجْنَبِيِّ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ. قال الرَّافِعِيُّ: إن لم يتغير المبيع عما كان فللبائع الرُّجوعُ لاَ مَحَالَةَ، وإن تغير فربما منع ذلك التغير الرُّجُوعَ، وربما لم يمنع على ما سيتضح تَفْصِيله، ويبين بذلك أنه ليس الشرط انتفاء نفس التغير، بل انتفاء بَعْضِ التغيرات. وبيان التَّفْصيل المشار إليه أن التغير إما أن يكون بالنقصان، أو بالزيادة. القسم الأول: التغير بالنقصان وهو على ضربين: أحدهما: نقصان مَا لاَ يتقسط الثَّمَنُ عَلَيْهِ، ولا يفرد بالعَقْدِ، وهو المراد بالعَيْبِ، وربما عبر عنه بنقصان الصِّفَةِ، فينظر إن حصل ذلك بآفة سَمَاوِيَّةِ فالبائع بالخِيَارِ إن شاء رَجَعَ إليه ناقصاً، وقنع به، وإن شاء ضَارَبَ مَعَ الغُرَمَاءِ بالثَّمَنِ، كما لو تعيب المبيع في يَدِ البَائِعِ يخير المشتري بين أخذه معيباً بجميع الثَّمَنِ، وبين الفَسْخِ والرجوع بالثَّمَنِ، ولا فرق بين أن يكون النقصان حِسِّياً، كسقوط بَعْضِ الأعضاء والعمى، أو غير حسي كنسيان الحِرْفة، والإباق، والزِّنَا، وفي كتاب القاضي ابْنِ كِجٍّ أن من أصحابنا من أثبت قولاً آخر أنه يأخذ المَعِيب، ويضارب مع الغُرَمَاءِ بما نَقَصَ، كما سنذكره في الضَّرْبِ الثَّانِي من النُّقْصَانِ، وَهُوَ غَرِيبٌ. وإن حصل بجناية جانٍ، فذلك الجانب إما أجنبي، أو بالبائع، أو المُشْتَرِي، إن كان الجاني أجنبياً فعليه الأَرْشُ، إما غير مُقَدَّر أو مقدر بناء على أن جرح العبد مقدر وللبائع أن يأخذه معيباً، ويضارب الغُرَماء بِمِثْلِ نِسْبَةِ ما انتقص من القِيمَةِ من الثَّمَنِ، وإنَّمَا ضارب هاهنا بِشَيْءٍ لأن المشتري أخذ بدلاً من النقصان، وكان ذلك مستحقاً لِلْبَائِعِ، ولو بقي فلا يحسن تضييعه عَلَيْهِ، وإنما اعتبرنا في حقه نقصان القيمة دون
التَّقْدِيرِ الشَّرْعِي؛ لأن التقدير إنما أثبته الشرع في الجِنَايَاتِ، والأعواض تتقسط بعضها على بعض باعتبار القيمة. ولو اعتبرنا في حقه المقدر، لزمنا أن نقول: إذا قطع الجاني يديه وغرم تمام القِيمَة يرجع البائعُ إلى العَبْدِ مع تمام القِيمَة، أو تمام الثمن، وهذا محالٌ فننتظر فيما انتقص من قيمته بقطع اليدين، ونقول: يضارب البَائِعُ الغرماءَ بمثل نسبته من الثَّمَنِ، ولو قطع إحدى يَدَيْهِ، وغرم نِصْفَ القِيمَةِ، وكان النَّاقِصُ في السوق ثُلُثُ القيمة، يُضَارِبُ البَائِعُ بثلث الثَّمَنِ، ويأخذه، وعلى هَذَا القِيَاسُ. وإن كان الجَانِي البَائِعُ فهو كما لو كان الجاني أجنبياً، لأن جنايته جناية على ما ليس بِمَمْلُوكَ لَهُ، ولا هو في ضَمَانِهِ. وإن كان الجَانِي المشتري فطريقان: أظهرهما: عند الإمام: أن جنايته كجناية الأجنبي أيضاً، لأن إتْلاَفَ المُشْتَرِي قَبْضٌ، واسْتيقَاءٌ مِنْه على ما مَرَّ في موضعه، وكأنه صرف جزءاً من المَبِيعِ إِلَى غَرَضِهِ. والثَّانِي: أن جناية كَجِنَايَةِ البَائِعِ على المبيع قَبْل القَبْضِ، منْ حيث أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْهُ غير مقر في يَدهِ، فعلى هذا يَحْصُل في جنايته قولان: أحدهما: أنها كجناية الأجنبي. وأصحهما: أنها كالآفة السَّمَاوِيَّةِ، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب" وغيره، ولا يَخْطُر بِالْبَالِ أن حق تشبيه جناية المشتري هاهنا بجناية البَائِع قبل القَبْضِ تشبيه جناية البائع هاهنا بجناية المُشْتَرِي، حتى يقال: كأنه استرجع بَعْض البيع، إذ ليس له الفسخ والاسترجاع إلا بعد حَجْرِ الحَاكِمِ عَلَيْهِ، وليس قبل الحَجْرِ حَقُّ ولا ملك. قال الغزالي: وَإِنْ تَغَيَّر بِفَوَاتِ بَعْضِ المَبِيع كَأَحَدِ العَبْدَيْنِ إِلَى القَائِمِ وَضَارَبَ بِثَمَنِ التَّالِفِ، وَنُقْصَانُ وَزْنِ الزَّيْتِ بالإِغْلاَءِ تَغَيُّرُ صِفَةٍ أُوْ تَلَفُ جُزْءٍ فِيهِ وَجْهَانِ. قال الرَّافِعِىُّ: الضرب الثاني: نقصان ما يقسط الثَّمن عَلَيْهِ، ويصح إفراده بالعَقْدِ، كما لو اشترى عبدين أو ثوبين فتلف أَحَدُهُمَا في يَدِ المُشْتَرِي ثم أفلس، وحجر عليه، فللبائع أن يأخذ البَاقِي بحصَّتِهِ من الثَّمَنِ، ويضارب مع الغُرَمَاء بحِصَّتِهِ عَنِ التَّالِفِ، بل لو بقي جَمِيعُ المَبِيعِ وأراد البائعُ فسخَ البَيْعِ في نصفه مُكِّن منه؛ لأنه أَنْفَعُ لِلْغُرَمَاءِ مِنَ الفَسْخِ في الكُلِّ، فهو كما لو رَجَعَ الأبُ في نصف ما وَهَبَ يجوز، وعن القاضي أَبِي حَامِدٍ، وَأَبِي الحُسَيْنِ أن من الأصحاب من ذكر قولين في أنه إذا أخذ الباقي يأخذه بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، أوَ يأخذه بِجَمِيِع الثَّمَنِ ولا يُضَارِبُ بشَيْءٍ، وذكر الإمام أن أصحاب هذه الطَّرِيقة طردوها في كل مَسْألَةٍ تُضَاهِيهَا، حتى لَوْ بَاعَ سَيْفاً وشقصاً بِمَائَةٍ، يأخذ الشقص بجميع المِائَةِ عَلَى قَوْلٍ، قال: وهذا عِنْدِي قَريبٌ مِن خَرْقِ الإِجمَاعِ.
هذا إذا تلف أحد العبدين ولم يقبض شيئاً من الثمن أما إذا باع عَبْدَيْنِ متساويين في القِيمَةِ بِمِائَة وقبض خمسين، فتلف أَحَدُهُمَا في يَدِ المُشْتَرِي، ثم أفْلَسَ فقولان: القديم: أنه لا رُجوعَ لَهُ إلَى العَيْنِ، بل يضارب بِبَاقِي الثَّمَنِ مع الغُرَمَاء، لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال:"أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعاً فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ، وَلَمْ يَقْبِضِ الْبَائِعُ منْ ثَمَنِهِ شَيْئاً فَوَجَدَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ" (¬1) وإن كان قد اقتضى من ثمنه شيئاً، فهو أسوة الغرماء. والجديد: أنه يرجع، واحتج له بأن الإِفْلاَسَ سَبَبٌ يعود بِهِ كُلُّ العَيْنِ إليه، فجاز أن يعود بعضُه كالفرقة في النِّكَاحِ قَبْلَ الدُّخُولِ يُرَدُّ بِهَا جَمِيعُ الصَّدَاقِ إلى الزَّوْج تَارَةً، وبعضُه أُخْرَى، وأما الحديث فهو مُرْسَل (¬2)، وعلى هذا فيما يرجع؟ نص في "الأَم": أنه يرجع في جَمِيع العَبْدِ البَاقِي بما بَقِيَ مِنَ الثَّمَنِ، وله فيما إذا أصْدَقَهَا أرْبَعِينَ شَاةً، وحَالَ عليها الحَوْلُ، فَأخرجت شَاةً، ثم طلقها قبل الدُّخُولِ قولان: أحدهما: يرجع بأربعينَ شَاةً: وهو قياس نصه هاهنا. والثاني: أنه يأخذ نِصْفَ المَوْجُودِ، وَنِصْفَ قِيمةِ الشَّاةِ المُخْرَجَةِ، واختلفوا هاهنا على طريقين: أحدهما: تخريج القول الثاني، وطرد القولين هاهنا وعلى هذا. أحدهما: فأظهرهما: أنه يأخذ جَمِيعَ العَبْدِ البَاقي بِمَا بَقِيَ مِنَ الثَّمَنِ. ويجعل ما قبضه من الثمن في مقابلة التَّالِف، كما لو رَهَنَ عَبْدَيْنِ بِمِائَةٍ وأخذ خَمْسِين، وتلف أحَدُ العَبْدَيْنِ، كان الآخَرُ مَرْهُوناً بِمَا بَقِيَ مِنَ الدَّيْنِ، والمعنى الجامع: أن له التَّعَلّق بِكُلِّ العَيْنِ إذا بقي كُلُّ الحَقِّ فيثبت له التعلق بِالْبَاقِي مِنَ العَيْنِ للباقي مِنَ الحَقِّ. والثاني: وهو اختيار المُزَنِي: أنه يأخذ نِصْفَ العَبْدِ البَاقِي بنصف البَاقِي من الثَّمَنِ، ويضارب الغرماء بِنِصْفِهِ؛ لأن الثمن يتوزع على المَبِيعِ بالمقبوض، والبَاقِي يتوزع كُلَّ وَاحِدٍ منهما على العَبْدَيْنِ. ¬
والطريق الثاني: القطع بالمَنْصُوصِ، والفرق بينه وبين الصدَّاق أن الزَّوْجَ إذا لم يرجع إِلَى عَيْنِ الصَّدَاقِ أخذ القِيمَةَ بتَمَامِهَا، والبائع هاهنا لا يأخذ الثَّمَن، بل يحتاج إلى المُضَارَبَة، ولو قبض بَعْضَ الثَّمَنِ، ولم يتلف شَيْءٌ من المبيع، ففي الرُّجُوع القَوْلاَنِ: القديم، والجديد، وعلى الجديد: يرجع إلى المَبيع بِقِسْطِ البَاقِي من الثَّمَنِ، فلو قبض نِصْفَ الثمن رجع في نِصْفِ العَبْدِ المبيع، أو العَبْدَيْنِ المَبِيعَيْنِ. فرعان: أحدهما: قد ذكره في الكتاب. إذا أغلى الزيت المبيع حتى ذهب بَعْضُه، ثم أفلس، فَوَجْهَان: أحدهما: أنه كما لو تَعَيَّبَ المبيع، وكان الزَّائِلُ صِفَة التفل، فعلى هذا يرجع إليه ويقنع به. وأصحهما: أنه بمثابة تَلَفِ بَعْضِ المبيع، كما لو أنضب، فعلى هذا لو ذَهَب نِصْفُه أخذه بِنِصْفِ الثَّمن، وضارب مع الغُرَمَاءِ بالنصف، وإن ذهب ثلثه أخذ بِثُلثَيِ الثمن، وضارب مَعَهُمْ بالثُّلُثِ، ومن قال بالوجه الأول فالشَّرْطُ أن يطرده في إغلاء الغَاصِب الزّيْت المَغْصُوب، وليس له ذِكْرٌ هناك، بل لم يتعرض له المعظم هاهنا واقتصروا على الوجه الثاني، نعم، لو كان مكان الزيت العصير، فقد أجابوا هاهنا وفي الغَصْب بوجهين، وَرَجَّحُوا التسوية بينه وبين الزيت، ووجه الفرق أن الذَّاهِبَ من العصير ماء لا مَالِيَّةَ لَهُ، والذَّاهِبُ من الزيت متمول، وإذا قلنا بالتسوية فلو كان العَصِير المبيع أربعَة أَرْطَالٍ، قيمتها ثَلاَثَةُ دَرَاهِم، فأغْلاَها حَتَّى عادت إلى ثلاثة أرْطَالٍ، فيرجع إلى الباقي، ويضارب بِرُبُعِ الثَّمَنِ للذَّاهِبِ، ولا عبرة بِنُقْصَانِ قِيمَةِ المغلي، كما إذا عادت قيمته إلى دِرْهَمَيْنِ، وإن زادت قيمته بأن صارت أربعة فيبنى على أن الزيادة الحَاصِلة بالصفة أثر أم عين. إن قلنا: أثر فَازَ البَائِعُ بِمَا زَادَ: وإن قلنا: عين، فعن القَفَّالِ: أن الجواب كذلك، وعن غيره أن المُفْلِسَ يكونُ شَرِيكاً لَهُ بالدراهم الزائدة وإن بقيت القيمة ثلاثة كما كانت فيكون بقاؤها بِحَالِهَا مع نقصان بعض العين؛ لازدياد البَاقِي بالطَّبْخِ، فإن جعلنا هذه الزِّيَادَةَ أثراً فَازَ البَائِعُ، وإن جعلناها عَيْناً فكذلك عند القَفَّالِ، وقال غيره: يكون المفلس شريكاً بثلاثة أرباع دِرْهَمٍ؛ لأن هذا القَدْرُ هُوَ قِسْطُ الرَّطْلِ الذَّاهِبِ، وهو الذي زَادَ بالطَّبْخِ في البَاقِي، هذا مَا يستمر على القَواعِدِ، ولصاحب "التلخيص" في المسألة كلام غَلَّطُوهُ فيه. الفرع الثاني: لو كان المبيع داراً فانْهَدَمَتْ، ولم يهلك شيء من النقض، فهذا النقصان من قَبِيل الضَّرْبِ الأول كالعمى ونحوه.
ولو هلك بعضه بإحراق أو غيره فهو من الضرب الثاني هكذا أطلقوه، ولك أن تقول: وجب أن يطرد فيه الخِلاَف الذي ذكرناه في تلف سَقْفِ الدَّارِ المَبِيعَةِ قبل القبض، أنه كالتعيب أو تلف أحد العبدين. قال الغزالي: أَمَّا التَّغَيُّرُ بِالزِّيَادَةِ فَالمُتَّصِلَةُ من كُلِّ وَجْهٍ لاَ حُكْمَ لَهَا بَلْ تُسَلَّمُ لِلبَائِعِ مَجَّاناً، وَالمُنْفَصِلَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَالوَلَدِ لاَ يَرْجِعُ فِيهِ وَلَكِنْ إنْ كَانَ صَغِيراً فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْذُلَ قِيمَةَ الوَلَدِ حَذَراً مِنَ التَّفْرِيقِ، فَإِنْ أَبى بَطُلَ حَقُّهُ عَلَى رَأَى مَنْ رَأَيِ الرُّجُوعَ (و)، وَبِيعَتِ الأُمُّ وَالوَلَدُ عَلَى رَأْيِ، وَصُرِفَ إِلَيْهِ نَصِيبُ الأُمِّ عَلَى الخُصُوصِ، وَإذَا تَفَرَّخَ البَيْضُ المُشْتَرَي أَوْ نَبَتَ البِذْرُ بِالزِّرَاعَةِ فَقَدْ فَاتَ المَبِيعُ عَلَى الأظْهَرِ (و) وَهَذَا مَوْجُودٌ جَدِيدٌ. قال الرِّافِعِيُّ: القسم الثاني: التغير بالزِّيَادَةِ، وهي نوعان: أحدهما: الزيادَةُ الحَاصِلَةُ لأمْرٍ خَارِجٍ، وهي على ثلاثة أضرب: أحدها: المُتَّصِلَة منْ كُلِّ وَجْهِ كالسِّمَنْ، وتعلم الحِرْفة، وكِبَرِ الشَّجَرَةِ، فلا عبرة بها، وللبائع الرّجُوع من غير أن يلتزم بالزيادة شيئاً، وعلى هذا حكم هذه الزيادة في جميع الأبْوَاب إلا في الصَّدَاقِ، فإن الزَّوْجَ لا يرجع إذا طَلَّقَ قبل الدُّخُولِ إلى النِّصْفِ الزائد إلا بِرِضَى المَرْأةِ، وسبب مفارقة سَائِرِ الأصُولِ يُذْكَرُ هُنَاكَ. والثَّانِي: الزيادة المنفصلة من كل وَجْهٍ كثمرة الشَّجَرَةِ واللبن والولد، فيرجع في الأَصْلِ، وتسلم الزوائد للمُفْلِس، نعم، لو كان الولدُ صَغِيراً فوجهان: أحدهما: أنه إن بذل قيمة الولد أخذه مع الأم، وإلَّا ضَارَبَ بِالثَّمَنِ، وبطل حَقُّه مِنَ الرُّجُوعِ؛ لامتناع التفريق. وأصحهما: أنه إن بذل قيمتَهُ فَذَاكَ، وإلا بيعَا معاً، وصرف ما يخص الأم إلى البائع، وما يخص الولدَ إِلى المُفْلَس، وهاهنا مباحثة وهي: أنا ذكرنا وجهين فيما إذا وجد الأم مِعَيبة وهناك وَلَدٌ صَغيرٌ، أنه يترك الرّد وينتقل إلى الأرش، ويحتمل التفريق للضَّرورة، وفيما إذا رهن الأم دون الولد أنهما يباعان معاً، ويحرم التَّفْرِيق، ولم يذكروا فيما نحن فيه احتمال التفريق، وإنما احتالوا في دُفْعِهِ، فيجوز أن يقال: يجيء وجه في التفريق هاهنا أيضاً، لكنهم لم يذكروه اقتصاراً على الأَصَحِّ، ويجوز أن يفرق بأن مَالَ المُفْلِسِ كُلَّه مَصْرُوفٌ إلى الغُرَمَاءِ، فلا وجه لاحتمال التفريق مع إمكان المحافظة على جَانِبِ الرَّاجِعِ، وكون ملك المفلس مزالاً من الأَوَّلِ (¬1)، ولو كان المبيع بذراً فزرعه ¬
المشتري ونبت، أو بيضة فتفرخت في يَدِهِ، ثم أفلس فوجهان: أحدهما: أنه ليس له الرُّجوع إِلَيْهِ؛ لأن المبيع قد هَلَكَ، وهذا شَيْءٌ جديد له اسم جديد. والثاني: يرجع؛ لأنه حَدَثَ منْ عَيْنِ مَالِهِ، أو هو عَيْنُ مَالِهِ اكتسب هيئةً أُخْرَى، فصار كالوَدِيّ (¬1) إذا صار نَخْلاً. والوجه الأول هو اختيار صَاحِبِ الكِتَاب، وبه قال القاضيان ابْنُ كِجٍّ، وأبو الطَّيِّب، والأصح عند أصْحَابِنَا العراقيين، وصاحب"التهذيب" الوجه الثاني، وسترى في كتاب الغصب ما يؤيده، ويجري مثل هذا الخِلاَف في العَصِير إِذَا تَخَمَّرَ في يَدِ المُشْتَرِي ثم تَخَلَّل. ولو اشترى زرعاً أخضر مع الأرض ففلس وقد اشتد الحَبُّ فقد قيل: بِطَرْدِ الوَجْهَيْنِ، وقيل: بالقطع بالرجوع. واعلم أنا إذا قلنا: بثبوت الرجوع في هذه الصورة، جعلنا هذه التغييرات من القسم الذي نَحْنُ فيه، وإذا لم نقل بثبوته جعلنا هذه التغييرات خارجةً عن الأقسام المَذْكُورَةِ. والتقسيم الحاوي لها أن يقال: التغيير ينقسم إلى ما يقلب المبيع عما هو عليه ويجدد اسماً ومسمى، وإلى غيره، وفيه تقع الأقسام المَذْكُورة. قال الغزالي: وَإِنْ كَانَتِ الجَارِيَةُ المَبِيعَةُ حَامِلاً فَوَلَدَتْ قَبْلَ الرُّجُوعِ فَفِي تَعَلُّقِ الرُّجُوعِ بِهِ قَوْلاَنِ، وَلَوْ حَبَلَتْ بَعْدَ البَيْعِ فَالصَّحِيحُ تَعَدِّي الرُّجُوعِ إلَى الجَنِينِ، وَحُكْمُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ التَّأَبِيرِ حُكْمُ الجَنِينِ وَأَوْلَى بِالاسْتِقْلاَلِ. قال الرَّافِعِيُّ: الضرب الثالث: الزيادة المتصلة مِنْ وَجْهٍ دون وجه كالحمل، ووجه اتصاله ظاهر، ووجه انفصاله استقلاله وانفراده بالحياة والمَوْتِ، وكثير من الأحكام. وجملة القول فيه: أنه إن حدث الحَمْلُ بعد الشِّرَاء وانفصل قَبْلَ الرجوع، فحكم الولد مَا مَرَّ في الفصل السابق، وإن كانت حاملاً عند الشِّرَاءِ وعند الرجوع جميعاً فَهُوَ كالسِّمَنِ، ويرجع البَائِعُ فيها حَامِلاً، وإن كانت حاملاً عند الشِّرَاء وولدت قَبْلَ الرجوع ففي تعدي الرّجوع إلى الوَلَدِ قولان، بناهما الأصحاب على الخلاف في أن الحَمْلَ هل يُعْرَف أم لا؟ ¬
إن قلنا: نعم، وهو الأصح، رجع كما لو اشترى شيئين. وإن قلنا: لا، بقي الولد للمفلس، وربما وجه قول التعدي بأن الولد كان موجوداً عند العقد، ملكه المشتري بالعقد، فوجب أن يرجع إلى البَائع بالرّجوع، وقول المنع: بأنه ما لم ينفصل تابع ملحق بالأعْضَاءِ، فكذلك تبع في البيع، أما عِنْدَ الرجوع فهو شَخْصٌ مستقل بنفسه فيفرد بالحكم، وكأنه وجد حين استقل، وإن كانت حائِلاً عند الشراء حاملاً عند الرجوع، فقولان مُوَجَّهَانِ بطريقين: أشهرهما: البناء على أن الحَمْلَ هل يعرف؟ إن قلنا: لا، أخذها حاملاً. هان قلنا: نعم، ففي "التهذيب" وجه: أنه لا رجوع له، ويضارب مع الغُرَمَاءِ بالثمن والأصح: أنه له الرجوع في الأم، ولا حق له في الوَلَدِ، كما لو كان منفصلاً. والثاني: توجيه تعدي الرجوع إلى الولد لأن العمل يتبع الجارية حَالَ البَيْعِ، فكذلك في حَالِ الرجوع، وتوجيه المنبع: لأن البائع يرجع إلى مَا كَان عِنْدَ البَيْعِ، أو حدث فيه من الزيادات المُتَّصِلَة، ولم يكن الحَمْلُ موجوداً، ولا سبيل إلى غيره من الزيادات المنفصلة، لاستقلاله وانفراده بكثير من الأحْكَام، ثم قضية المأخذ الأول: أن يكون الأصح اختصاص الرجوع بالأُمّ؛ لأن الأصَحَّ: أنَ الحملَ يُعْرَف، وكذلك ذكر بعض شَارِحي"المفتاح"، إلا أن الأكثرين مَالُوا إلى تَرْجْيحِ القَوْلِ الآخر، كما رُجَّحَهُ صَاحِبُ الكِتَاب، وذكروا أنه المَنْصوص، فليوجه بالمَأْخَذِ الثَّانِي، إذا قلنا باختصاص الرجوع بالأم، فقد ذكر الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ أنه يرجع فيها قبل الوضع، فإذا ولدت فالوَلَدُ لِلْمُفْلِسِ، وقال الصَّيْدَلاَنِيُّ وغَيْرُهُ: يصبر إلى انفصال الولد، ولا يرجع في الحَالِ، ثم الاحتراز عن التفريق بَيْنَ الأم والولد طريقة مَا مر (¬1). واعلم أن استتار الثمرة بالأكمة وظهورها بالتَّأْبِيرِ قريبان من استتار الجنين وظهوره بالانفصال، وفيها الأحوال الأربع المذكورة في الجنين: أولها: أن يشتري نخيلاً عليها ثمرة غير مُؤَبَّرة، وكانت عِنْدَ الرجوع غير مُؤَبَّرَة. ¬
وئانيها: أن يشتريها ولاَ ثِمَارَ عليها غَيْر مؤبرة ثم كانت لها ثمار عِنْدَ الرُّجُوعِ مؤبرة أو مدركة أو مجذوذة، فالحُكْمُ فِيهَا كما ذكرنا في الحَمْلِ. وثالثها: إذا كانت ثَمَرَتْهَا عِنْدَ الشَّرَاءِ غَيْرَ مؤبرة، وعند الرجوع مؤبرة، فطريقان: أحدُهُمَا: أن أَخْذَ البَائِع الثمرة على القولين في أَخْذِ الوَلَدِ إذَا كَانَتْ حَامِلاً عند البَيْعِ ووضعت قبل الرجوع. والثاني: القطع بأنه يأخذ الثمرة؛ لأنها وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَتِرَةً فهي مشاهدة موثوق بها، قابلةٌ للإفراد بالبيع، فكانت أحد مقصودي العقد، فيرجع فيها رجوعه في النخيل، وإن شِئْتَ عَبَّرْتَ عن الطريقين بأنا إن قلنا: يأخذ الولد فالثَّمَرةُ أوْلَى بالإِخْذِ، وإلا فالقَوْلاَنِ. وَرَابِعُهَا: إذا كانت النَّخْلَةُ حَائِلاً عند الشِّراء، فأطلعت عِنْدَ المُشْتَرِي، ثم جاء وَقْتُ الرُّجُوع وهي غير مُوبَّرَةٍ فقولان. رواية الربيع: أنه لا يأخذ الطَّلع؛ لأنه يَصِح إفراده بالبيع، فلا يجعل تَبَعاً كالثمار المُؤَبَّرَةِ. ورواية المُزَنِيّ، وحرملة: أنه يأخذه مع النَّخِيلِ؛ لأنه تبع في البَيْعِ، فكذلك في الفَسْخِ، وفيه طَرِيقَةٌ أُخْرَى قَاطِعَةٌ: بأنه لا يأخذ الطَّلْعُ؛ لما ذكرنا من الوُثوقِ به واستقلاله، قال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وعلى هذا القِيَاس أمر الثَّمرة التي لم تُؤَبَّر، فحيث أزال المِلْك باختياره بعوض استتبع مَا لَمْ يؤبر من الثّمار، وإن زَال قهراً بعِوَضٍ فهو كما في الشفعة، والرَدِّ بالعَيْبِ، فالاستتباع عَلَى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ. وإن زَال لا بعوض اختياراً أو قهراً كما في الرُّجُوعِ في الهِبَةِ، ففيه القَوْلاَنِ. وقوله في الكتاب: (وحكم الثمرة قبل التأبير حكم الجنين وأولى بالاستقلال) يشير إلى طريقة القَطْعِ في الثمار تارة بالإثْبَات، وأخرى بالنَّفْي كما بيناه، وحكم سَائِرِ الثَّمَارِ وما يلتحق مِنْهَا بالمؤبر، وما يَلْتَحِق بغير المُؤَبَّرَةِ قد اتضح في البَيْعِ، ويتفرع على منقول المُزَنِي، وهو الأظْهَر: أنه لو جرى التَّأْبير وفسخ البائع البيع ثم قال البائع: فسخت قبل التأبير والثَّمار لي، وقال المُفْلِسُ: بل بعده، فالقول قول المُفْلِسِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لأن الأَصْلَ عدم الفَسْخ حِينَئِذٍ، وبقاء الثَّمَارِ لَهُ، وعن أبي الحُسَيْنِ: أن بعضهم ذَكَر قولاً آخر: أن القولَ قولُ الَبَائِع؛ لأنه أعرف بتصرفه (¬1)، وقال المَسْعُودِيُّ: يخرج قول أن ¬
المفلس يقبل قوله من غير يمين، بناء على أن النكول ورد اليمين كالإقرار، وأنه لو أَقَرَّ لما قُبِلَ إِقْرَرُةُ، والمذهب الأول، وإنما يحلف على نفي العِلْم بِسَبْقِ الفَسْخِ على التأبير، لا على نفي السَّبْقِ (¬1). فإن حلف بَقِيَت الثَّمارُ لَهُ، وإن نَكَلَ فَهَلْ لِلْغرَمَاءِ أن يُحْلِفُوا، فيه الخلاف المَذْكُور فيما إذا ادعى المفلس ديناً عَلَى غَيْرِهِ وأقام شاهداً ولم يحلف معه هل يحلف الغرماء؟ فإن قلنا: لا يَحْلِفون وهو الأصح أو قلنا: يَحْلِفُون فنكلوا، عرضت اليمين على البَائِع، فإن نَكَل فهو أَحَّقُّ كما لو حلف المُفْلس، وإن حَلَفَ فإن جَعَلْنَا اليمين المَرْدُودَةَ بَعْدَ النُّكُولِ كَالْبَيِّنَةِ، فالثَّمَارُ لَهُ وإن جعلناه كَالإقْرَارِ فيخرج على القَوْلَيْنِ في قبول إقرار المُفْلِس في مزاحمة المقر له للغُرَمَاءِ، فإن لم يقبله صرف الثمار إلى الغُرَمَاءِ كَسَائِرِ الأمْوَالِ، فإن فضل شَيْءٌ أَخَذَهُ البَائِعُ بِحَلِفِهِ. هَذَا إِذَا كَذَّبَ الغُرَمَاءُ البائع كما كذبه المفلس، وإن صَدَّقُوه لم يقبل إقرارهم على المُفْلِسِ، بل إذا حلف بَقِيَتِ الثَّمَارُ لَه وليس لهم المُطَالَبَةُ بقسمتها؛ لأنهم يَزْعَمُونَ أنها ليست مِلْكاً لَهُ، وليس له التَّصَرُّف فِيهَا؛ لمكان الحَجْرِ، واحتمال أن يكون له غَرِيمٌ آخر. نعم، له إجبارهم على أَخْذِهَا إن كانت مِنْ جنس حُقُوقِهِمْ، أو إبراء ذمته عن ذلك القَدْرِ عَلَى ظَاهِرِ المذْهَبِ، كما لو جاء المكاتب بالنجم فقال السيد: إنه مَغْصُوبٌ، فيقال له: خذه أو أبرئه عنه، وفيه وجه أنهم لا يجبرون على أَخْذِهَا، بِخِلاَفِ المُكَاتَب؛ لأنه يَخَافُ العودَ إِلَى الرِّق، لو لم يؤخذ منه، وليس على المفلس كَثِيرُ ضَرَرٍ، فَإذا أجبروا على أَخْذِهَا فأخذوها، فللبائع أخذها منهم لإقرارهم، وإن لم يجبروا وأقسم سَائِر أمواله فله طَلَبُ فَكَّ الحَجْرِ، إذا قلنا: إنه لا يرتفع بنفسه، ولو كانت من غير جِنْس حقوقهم فبيعت وصرف ثمنها إليهم تفريعاً على الإجْبَارِ، لم يتمكن البَائِعُ من أخذه منهم لأنهم لم يُقِرُّوا له بالثَّمَنِ، وعليهم رَدُّهُ عَلَى المُشْتَرِي، فإن لم يأخذه فَهُوَ مَالٌ ضَائِعٌ (¬2)، ولو كان في المصدقين عَدْلاَن شهدَا لِلْبَائِع على صيغة الشَّهَادَةِ وشرطها، أو عدل واحد وحلَفَ البَائِعُ معه قُبِلَت الشَّهَادة، وقضى لهَ، هكذا أَطْلَقَ الشَّافعي -رضي الله عنه- وعامة الأَصْحَاب، وأحسن بعض الشُّيُوخِ الشَّارِحِين "للمختصر" فحمله على ما إذا شهِدَ الشُّهُودُ قَبْلَ تَصْدِيقِ البَائِعِ. ¬
أو بعده، وقلنا: إنهم لا يجبرون على أَخْذِ الثَّمارِ، وإلا فهم يدفعون بالشَّهَادة ضرر أخذها، وضياعها عليهم بِأَخْذِ البَائِعِ. ولو صدَّق بَعْضُ الغرماء البائعَ وكَذَّبَه بعضهم، فللمفلس تخصيص المكذبين بالثَّمَارِ، ولو أراد بعضهم قسمتها على الكُلِّ فوجهان. قال أبو إسحاق -رحمه الله- له ذلك، كما لو صَدَّقُوهُ جَمِيعاً، وقال الأكثرون: لا؛ لأن من صدق البائع يتضرر بالأخْذ؛ لأن البَائِع يتضرر بأخذ ما أخذه منه، والمُفْلِس لا يتضرر بأن لا يصرف إليه لإمكان الصَّرْفِ إلى المكذبين، بخلاف ما إذا صَدَّقَهُ الكُلِّ. وإذا صرف إلى المكذبين ولم يف بحقوقهم، فيضاربون المصدقين في سَائِرِ الأموال ببقية ديونهم، مؤاخذةً لهم بزعمهم، أو بجميع ديونهم؛ لأن زعم المُصَّدِّقين أن سائر ديون المكذبين لم تَتَأَدَّ، وفيه وَجْهَانِ: أظهرهما: وهو المنصوص أولهما، وجميع مَا ذَكَرْنَاه فيما إذا كذَّب المُفْلسُ البَائِعَ، أما إذا صَدَّقه، نظر إن صدقه الغرماء أيضاً قُضِيَ له، وإن كَذَّبُوه وزعموا أنه أقر عن مواطأة جرت بينهما، فعلى القولين فيما إذا أَقَرَّ بعين مال أو بِدَيْنٍ لغيره، وإن قلنا: لا يقبل، فللبائعِ تحليفُ الغرماء، قيل: إنهم لا يعرفون فسخه على التأبير، ومنهم من قال: هو على القولين السَّابقين في أن الغرماء هَلْ يحلفون؟ والأول أصح؛ لأن اليمين هاهنا توجهت عليهم ابتداء، وثم ينوبون عن المُفْلِس، واليمين لا تَجْرِي فيها النِّيابة (¬1). النظر في انْفِصَالِ الجَنِين، وفي ظهور الثَّمَارِ بالتأبير إلى حال الرجوع دُونَ الحَجْرِ؛ لأن ملك المفلس بَاقٍ إلى أن يرجع البائع. قال الغزالي: وَلَوْ بَقِيَتِ الثَّمَرَةُ لِلْمُشْتَرِي فَعَلَى البَائِعِ إِبْقَاؤُهَا إِلى الجِدَادِ، وَكَذَا إِبْقَاءُ زَرْعِهِ مِنْ غَيْر أُجْرَةٍ (و)، وَحَيْثُ يَثْبُتُ الرُّجُوعُ في الثَّمَارِ فَلَو كَانَتْ قَدْ تَلِفَتْ فَرَجَعَ فِي الشَّجَرَةِ فَيُطَالَبُ بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَنِ بِطَرِيقِ المُضَارَبَةِ، وَيُعْرَفُ قَدْرُهُ بِاعْتِبَارِ أَقَلِّ (و) القِيمَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ العَقْدِ إِلَى يَوْم القَبْضِ؛ لأنَّ مَا نَقَصَ قَبْلَ القَبْضِ لَمْ يَدْخُلْ في ضَمَانِ المُشْتَرِي، وَيُعْتَبَرُ لِلشَّجَرَةِ أَكْثَرُ القِيمَتَيْنِ عَلَى الأَظْهَر (و) تَقْلِيلاً لِلْوَاجِبِ عَلَى المُشْتَرِي. قال الرَّافِعِيُّ: في الفَصْلِ مسألتان: إحداهما: مهما رَجَعَ البَائِعُ في الأَشْجَارِ المبيعة، وبقيت الثَّمَارُ للمشتري، إما ¬
لحدوثها بَعْدَ، أو لظهورِهَا قبل الرجوع، أو على أحد القولين في الحَالَةِ الثَّالِثَةِ، والرَّابِعَةِ، فليس له قَطْعُهَا، بل عليه إبقاء الثَّمَرَة إلى الجذاذ، وكذا لو رجع في الأَرْضِ المَبِيعَةِ، وهي مزروعة بزرع المُشْتَرِي ترك الزَّرع إلى الحَصَادِ؛ لأنه لم يتعد بالزَّرْعِ حتى يقلع زرعه، وهذا كما إذا اشْتَرَى أرضاً مزروعة ليس لِلْمُشْتَرِي أن يُكَلِّف البَائِعَ قَلْعَ الزَّرْع، ثم إذا بقي الزَّرْعُ أبقاه بِغَيْرِ أُجْرَةٍ، بخلاف ما إذا اكترى أرضاً وزرع فيها المكتَري، ثم أفلس وفسخ المُكْرِي الإِجَارَةَ، حيث قلنا: يترك الزَّرْع إلى الحصاد بأجْرَةِ المِثْلِ. والفرق مِنْ وَجْهَيْنِ: أشهرهما: أن المستأجر دخل في الإِجَارة على أن يضمن للبائِعِ المنافع، فألزمناه بدلها، والمشتري دَخَل في الشِّرَاء على أن تحصل له المنافع بِلاَ عَوَضٍ، فلم يحسن إِلْزَامه بدلها، (وأوفقههما): أن مورد البيع الرَّقَبة، وأنها يَحْصُل له بالفَسْخِ، وإن لم يأخذ الأُجْرَة، ومورد الإِجَارَة المَنَافِعِ، فإِذا لم يتمكن من استيفائها ولم يمكن من أخذ بدلها خلا الفسخ عن الفَائِدَةِ، ولم يعد إليه حقّه، وعن صاحب "التقريب": أن ابْنَ سُرَيْجٍ خرج قولاً، أن للبائع طلب أجرة المِثْلِ لمدة بقاء الزرع، كما لو بني المشتري أو غرس، كان للبائغ الإبقاء بالأجْرَة كما سيأتي إن شاء الله -تعالى- ثم الكلام فيهما إذا طلب الغرماء أو المُفْلِس القطع قَبْلَ الجذَاذِ، وقبل الحصَادِ، على مَا مَرَّ في فَصْلِ الإجَارَةِ. الثانية: إذا ثبت الرّجوع في الثَّمَار، إما بالتَّصْرِيحِ ببيعها مع الأشْجَارِ، وهي مُؤَبَّرَةٌ على أحد القولين، في الحالة الثالثة، والرابعة، ثم تلفت الثمار بجائحة أو بأكل المشتري ثم أفلس فالبائع يأخذ الأشْجَارَ بحصتها من الثَّمَنِ، ويضارب مع الغرماء بحصة الثمار، وسبيل التوزيع أن تُقَوَّم الأشْجَار وعليها الثّمار، فيقال: قيمتها مائة، وتقوَّم وَحْدَها، فيقال: قيمتها تِسْعُون، فيضارب بِعُشْرِ الثَّمَنِ، فإن اتفق في قيمتها انخفاض وارتفاع فالاعتبار في قِيمَةِ الثَّمَارِ بالأقلِّ من قيمتها يوم العقد ويوم القبض؛ لأنها إن كانت يوم القَبْضِ أقل فما نقص قبله من ضمان البَائِعِ فلا يحسب على المُشْتَرِي، وإن كانت يوم العقد أقلّ فالزيادة حصلت في ملك المُشْتَرِي وتلفت فلا تعلق لِلْبَائِعِ بها. نعم، لو كانت العين باقية رجع فيها متابعة للأَصْلِ، وعن صاحب "التقريب": أن بعضهم قال: باعتبار قيمة يوم القَبْضِ واحتسب الزيادة لِلْبَائِعِ بعد التَّلَفِ كما أنها لو بقيت العين لَحَصَلت له، وهذا ظاهر نصه في "المختصر" إلا أنَ الجمهور حملوه على ما إذا كانت قيمة يوم القَبْضِ أقل، أو لم تختلف القيمة فبنوا إضافتها إلى هذا اليوم، أو إلى هذا اليَوْم. وأما الأَشْجَار ففيها وَجْهان: أظهرهما عند صاحب الكتاب وهو الذي أورده
الصَّيْدَلاَنِيّ، وغيره: أن الاعتبار فيها بأكثر القيمتين؛ لأن المبيع بَيْنَ العقد والقبض من ضَمَانِ البَائِعِ، فنقصانه عليه وزيادته لِلمُشْتَرِي، ففيما يأخذه البَائِع يعتبر الأكثر ليكون النقصان محسوباً عليه، كما أن فيما يبقى للمشتري أو يضارب البائع بثمنه يعتبر الأقل ليكون النقصان محسوباً عليه. والثاني: وهو الذي نقله صاحب "التهذيب"، و"التتمة": أن الاعتبار بقيمة يَوْمِ العَقْدِ، سواء كانت أكثر القيمتين أو أقلهما، أما إذا كانت أكثرهما فكما ذكرنا في الوجه الأول. وأما إذا كانت أقلهما فلأن ما زاد بعد ذلك من جُمْلَة الزِّيَادَاتِ المُتّصِلة، وعين الأشجار بَاقِية، فيفوز بها البَائِع، ولا تحسب عليه، قال الإمام: ولصاحب الوجه الأول أن يقول: نعم البائع يفوز، ولكن يبعد أن يفوز بِهَا، وَهِيَ حادثة في مِلْكِ غَيْرِهِ، ثم لا يحسبها من المَبِيع، فإذا فاز بها فليقدر كلها وجدت يوم البيع، ولنبين اختلاف قيمة الأشْجَارِ والثمار بالتمثيل، فنقول: كانت قيمة الشجرة يوم البيع عشرة، وقيمة الثَّمَرَةِ خمسة، فلو لم تختلف القِيمَة لأخذ الشجرة بثلثي الثمن، وضارب للثمرة بالثلث، ولو زادت قيمة الثمرة فكانت عَشرة يومَ القَبْضِ، فكما لو كانت القيمة بحالها على الشُهُورِ، وعلى الوجه البعيد يُضَارِب بنِصْفِ الثَّمَنِ، ولو نقصت فكانت يوم القبض درهمين ونصفاً يضارب بخمس الثمن، ولو زادت قيمة الشجرة أو نقصت فالحكم على الوجه الثَّاني كما لو بقيت بحالها، وعلى الأول كذلك إن نقصت، وإن زادت فَكَانت خمسة عشر فيضارب بربع الثمن، ثم ذيل الإمام المسألة بكلامين مستفادين: أحدهما: إذا اعتبرنا في الثمار أقل القيمتين، فإن كانَتَا متساويتين، ولكن وقع بينهما نقصان، نظر إن كان بمجرد انخفاض السُّوق فلا عبرة به، وإن كان لعيب طرأ وزال، فكذلك على الظَّاهِرِ، كما أنه يسقط بِزَوَالِهِ حق الرد، وإن لم يزل العَيْب، لكن عادت قيمته إلى ما كان بارتفاع السّوق، قال: والذي أراه أن في هذه الصّورة تعتبر قيمة يوم العيب دون البَيْعِ والقبض؛ لأن النقصانَ الحَاصِل من ضمان البائع والارتفاع بعده في مِلْكِ المُشْتَرِي لا يصلح جابراً له. والثاني: إذا اعتبرنا فيِ الأشْجَارِ أكثر القيمتين فلو كانت قيمة الشجرة يوم العقد مِائَة، ويوم القبض [مائة] خمْسِين ويوم رجوع البَائِع مائتين، فالوجه القطع باعتبار المائتين، ولو كانت قيمتها يوم العقد ويوم القبض ما ذكرنا، ويوم الرجوع مائة اعتبرنا يوم الرجوع على أن ما طرأ من زيادة وزال ليس ثابتاً يوم العَقْدِ حتى نقول إنه وقت المقابلة لا يوم أخذ البائع حتى يحسب عليه، ولك أن تقول: هذا إن استقام في طرف الزيادة تخريجاً على ما سبق أن ما فاز به البائع من الزيادات الحادثة عند المشتري يقدر كالموجود عند البيع، فلا يستقيم في طرف النقصان، لأن النّقصان الحَاصِل في يد
المشتري كعيب حدث في المَبيع، وإذا رجع البائع إلى العَيْنِ المبيعة لزمه القناعة بها، ولا يطالب المُشْتَرِي للعيب بِشَيْءٍ والله تعالى أعلم. وينبغي أن تعرف أن سبيل التوزيع في كل صُورة تلف فيها أحد الشيئين المبيعين، واختلفت القيمة وأراد الرجوع إلى البَاقِي على ما ذكرنا في الأشجار والثِّمَارِ بِلاَ فَرْقٍ. قال الغزالي: أَمَّا الزِّيَادَةُ المُلْتَحَقَةُ بِالمَبِيع من خَارجٍ يُنْظَرُ إنْ كَانَ عَيْناً مَحْضاً كَمَا لَوْ بَنَى المُشْتَرِي أَوْ غَرَسَ فَعَلَى ثَلاَثةِ أَقْوَالٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ فَاقِدُ عَيْنِ مَالِهِ، وَالثَّانِي: أنَّهُ يُبَاعُ الكُلُّ فَيُوَزَّعُ بِهِ عَلَى نِسْبَةِ القِيمَةِ، وَالأَصَحُّ: أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى العَيْنِ وَتَخَيُّرُ فِي الغِرَاسِ بَيْنَ أن يَبْذُلَ قِيمَتَهُ وَبَيْنَ أن يَغْرَمَ أَرْشَ النُّقْصَانِ أَوْ يَبْقَى بأُجْرَةٍ. قال الرَافِعِىُّ: النوع الثاني: من الزِّيادات هي الملتحقة بالمبيع من خارج، وتنقسم إلى عين محضة، وإلى صفة محضة، وإلى ما يتركب منهما. القسم الأول: العين المحضة، ولها ضربان: أحدهما: أن تكون قَابلَةً للتمييز عَنِ المَبِيع، كما إذا اشْتَرى أرْضاً فغرس فِيها أو بني، ثم أفلس قبل تَوْفِيه الثَّمَنِ. واعلم أن منقول المُصنِّف، وشيخه في المسألة يخالف منقول جُمْهُور الأَصْحَاب على طبقاتهم، فنذكر منقولهم الذي عليه الاعتماد، ثم نعود إلى ما نقلاه، قال الأصحاب: إذا اختار البائع الرجوع في الأَرْضِ نظر إن اتفق الغرماء والمُفْلس على القلع وتفريغ الأرْضِ وتسليمها بيضاء رجع فيها، وهم يستقلون بالقلع، وليس له أن يلزمهم أخذ قيمة الغراس، والبناء ليتملكها مع الأَرْض، وإذا قلعوا الغراس والبناء وجب تسوية الحَفْر من مَالِ المفلس، فإن حدث في الأَرْض نقصٌ بالقَلْع وجب أَرْشُ النَّقْص في مَالِه، ويضارب البائع به، أو يقدم على سَائِر الديون. في"المهذب" و"التهذيب": أنه يقدّم؛ لأنه لتخليص مَاله وإصلاحه، وذكر الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: أنه يضارب مع الغُرَماء، وإن قال المُفْلِس: يقلع، وقال الغُرَمَاء: يأخذ القيمة من البَائِع ليتملكه، أو بالعكس أو وقع هذا الاختلاف بين الغرماء. قال القاضي ابْنُ كِجٍّ: يجاب مَنْ فِي قوله المَصْلَحة، وإن امتنعوا جميعاً من القَلْع لم يجبروا عَلَيْهِ، لأنه حين بني وغرس لم يكن متعدياً، وحينئذ ينظر: إن رجع على أنَ يتملك البناء والغِرَاس مع الأرض بقيمتها، أو يقلع وَيَغْرم أَرْشَ النقص فله ذلك؛ لأن الضَّرَرَ يندفع عن الجانبين بِكُلِّ واحدٍ من الطريقين، والاختيار فيهما إليه، ولَيْسَ للمُفلِسِ والغرماء الامتناع من القَبُولِ؛ لأن مال المُفْلِسِ مُعَرَّضٌ للبيع، فلا يختلف غرضهم بين أن يتملكه البائع، أو يشتريه أجْنَبِيٌّ، ويخالف هذا ما إذا زرع المشتري الأرض، وأفلس
ورجع البَائِع في الأَرْضِ حيث لا يتمكن من تملك الزرع بالقيمة، ولا من القلع وغرامة الأَرْشِ، لأن للزَّرْعِ أمداً ينتظر، يسهل انتظاره، والغراس والبناء للتأبيد، وإن أراد الرجوع في الأرض وَحْدَها وإبقاء البناء والغراس للمفلس والغرماء نقل المُزَني أن له الرجوع، وأنه قال في موضع آخر: لا يرجع، وللأصحاب طريقان: أصحهما: وبه قال المُزَنِي وابْنُ سُرَيْجٍ وأبو إسحاق: أن في المَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ: أحدهما: وهو اختيار المُزَنِي أن له أن يرجع كما لو صبغ الثَّوبَ المشتري ثم أفلس يَرْجع البَائِعُ في الثوب، ويكون المُفْلِسُ شريكاً معه بالصَّبْغِ. وأصحهما: المنعِ، لما فيه من الضَّرَرِ، فإن الغِرَاس بِلاَ أَرْضٍ والبناء بِلاَ مقر ولا ممر ناقص القيمة والرجوع إنما يثبت لِدَفْعِ الضَّرَرِ بخلاف مَسْأَلَةِ الصَّبْغِ، فإن الصبغ كالصَّفَة التَّابِعَةِ لِلثَّوْبِ. والثاني: تنزيل النِّصَّيْنِ على حَالَيْنِ، وله طريقان: عن القاضي أَبي حَامِدٍ في آخرين: أنه قال: حيث يرجع أراد أما إذا كانت الأرض كثيرة القيمة، والبناء والغراس مستحقرين بالإضافة إليها، وحيث قال: لا يرجع أراد مَا إِذَا كانت الأرضُ مستحقرة بالإضافة إليهما، والمعنى في الطريقين اتباع الأقل للأكثر، ومنهم من قال: حيث قال: يرجع أراد مَا إِذَا رجع في البَيَاضِ المتخلل بين الأبنية، والأَشْجَار، وضارب للباقي بقسطه من الثمن يمكن منه لأنه ترك بعض حَقِّه في العين، فإذا فرعنا على طريقة القولين، فإن قلنا: ليس له الرجوع في الأَرْضِ، وإبقاء البِنَاءِ والغراس للمفلس، فالبائع يترك الِرجوع وَيُضَارِب مع الغُرَمَاءِ بالثمن، أَو يعود إلىَ بذل قيمتهما، أو قلعهما مع غرامة أرْشِ النقص، وإن مَكَّنَّاهُ منه فوافق البائع الغرماء، وباع الأرض معهم حتى بَاعُوا البناء والغراس فذاك، وطريق التوزيع ما بيناه في الرَّهْنِ، وإن أَبَى فَهَلْ يخير؟ فيه قولان: أحدهما: نعم كما في مسألة الصَّبْغِ. وأصحهما: لا؛ لأن إفراد البِنَاءِ والغِرَاسِ بالبيع مُتَأَتِّ بخلاف الصَّبْغِ، وإذا لم يوافقهم فباعوا البِنَاء والغِرَاس بقي للبائع ولاية التَّمَلُّك بالقيمة، والقلع مع غَرَامَةِ الأَرْشِ، وللمشتري الخيار في البيع إن كان جاهلاً بحال ما اشتراه، ذكره الصَّيْدَلاَنِيُّ وغيره، هذه طريقة الجمهور، وأما الإمام: فإن محصول ما ذكره في المَسْأَلَةِ أربعة أقوال: أحدها: أنه فاقد عَينِ مَالِهِ، ولا رُجوعَ بِحَالٍ؛ لأن الرجوع في الأَرْضِ ينقص قيمة البِنَاء والغِرَاس.
والثاني: أن الأَرضَ والبناء يباعان معاً دفعاً للخُسْرَانِ عن المفلس كما يفعل بالثَّوْبِ المصبوغ. والثالث: أنه يرجع في الأَرْضِ ويتخير بين ثلاث خِصَالٍ، تملك البناء والغِرَاس بالقيمة، أو قلعهما مع غرامة أَرْشِ النقصان أو إبقاؤهما بأجره المثل يأخذها من مِلْكَيْهِمَا، وإذا عين واحدة من هذه الخِصَال فاختار المفلس والغرماء غيرها، أو امتنعوا من الكل فوجهان في أنه يرجع إلى الأَرْضِ ويقلع مجاناً، أو يجبرون على ما عينه؟ والرَّابعُ: حكاه عن رواية العراقيين: أنه إن كانت قيمة البِنَاء أكثر فالبائع فَاقِد عَيْنِ مَالِهِ، وإن كانت قيمة الأرض أكثر فَوَاجدٌ، وتابعه صَاحِبُ الكتاب وغيره من أصْحَابِهِ، واقتصروا على الأقوال الثلاثة الأُولى، وأنت إذا تَأَمَّلْتَ هذا الكلام بعد وقوفك على المذهب المعتمد، وتصفحك عن كتب علمائنا ورأيت ما بَيْنَهُما من المخالفة الصَّريحة قضيت منه العجب، وقلت: ليت شعري من أين أخذت هذه الأقوال؟ ثم حفظت لسانك استعمالاً للأدب. والله أعلم. وبه التوفيق. فرع: اشترى الأرضَ من رَجُلٍ، والغراسَ من آخر، وغرسها فيها ثم أفلس، فلكل واحد منهما الرجوع إلى عَيْنِ ماله، ثم إذا رَجَعَا فإن أراد صاحب الغراس البيع مُكِّن منه، وعليه تسوية الحَفْرِ وأرش نقص الأرض إن نقصت، وإن أراده صَاحِب الأرض فكذلك إن ضَمن أرش النَّقْص، وإلا فوجهان: أحدهما: المنع؛ لأنه غرس بحق فلا يقلع من غير غرامة، كما لو كان للمُفْلِس. والثاني: الجواز؛ لأنه باع الغراس مقلوعاً فيأخذها كذلك. قال الغزالي: فَإِنْ لَمْ تَقْبَلِ الزِّيَادَةُ التَّمْيِيزَ كَمَا لَوْ خَلَطَ مَكِيلَةَ زَيْتٍ بِمَكِيلَةٍ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ أَرْدَأ مِنْهُ رَجَعَ (و) البَائِعُ إلَى مَكِيلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ خَلَطَ بِأَجْوَدَ فَهُوَ فَاقِدٌ عَلَى قَوْلٍ، وَيُبَاعُ عَلَى قَوْلٍ وَيُوَزَّعُ عَلَى نِسْبَةِ القِيمَةِ، وَعَلَى قَوْلٍ يُقَسَّمُ المَكِيلُ عَلَى نِسْبَةِ القِيمَةِ، وَالفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَرْدَإِ أَنَّ مَا حَصَلَ مِنْ نُقْصَانِ الصِّفَةِ يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ عَيْناً فِي حَقِّ البَائِعِ فَيُقَالُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تَقْنَعَ بَالمَبِيعِ بِعَيْبٍ أَوْ تُضَارِبَ، وَتَضْيِيعُ جَانِبِ المُشْتَرِي لاَ وَجْهَ لَهُ هَذَا هُوَ النَّصُّ، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ التَّسْوِيَةُ. قال الرَّافِعِيُّ: الضرب الثاني: ألا تكون الزيادة قابلةً للتمييز كخلط ذوات الأمثال بعضها ببعض، فإذا اشترى صَاعَ حِنْطَةٍ، وخلطه بصاع حنطة، أو مكيلة زَيْتٍ، وخلطه بمكيلة زَيْت، ثم أفلس، نظر إن كان المخلوطُ به مثل المبيع فللبائع الفَسْح، وتملك مكيلته من المخلوط، وطلب القِسْمة، فإن طلب البيع فهل يُجَاب إليه؟ فيه وجهان:
أصحهما: لا، كما لا يتمكن الشُّرَكاء من أن يطالب بَعْضُهُمْ بعضاً بالبيع. والثاني: نعم؛ لأنه لا يصل بالقسمة إلى عين حقه، وبالبيع يصل إلى بَدَلِ حقه، وقد يكون له غرض فيه فيباع الكُلّ، ويصرف نصف الثَّمن إليه، وإن كان المخلوط أردأ من المَبِيع فله الفَسْخُ، والرجوع إلى حَقِّه من المَخْلُوط أيضاً، ولكن في كيفيته وجهان نقلهما العِرَاقيون، وتابعهم صاحب "التهذيب". أحدهما: وبه قال أبو إسحاق: إن المكيلتين تباعان، ويقسم الثَّمن بينهما على قَدْرِ القيمتين؛ لأنه إن أخذ مكيلة منه نَقَص حَقُّه، وإن أخذ أكثر من مَكِيلَةِ لزم الرِّبا، فعلى هذا لو كان المَبِيعُ يساوي دِرْهَمَيْنِ، والمخلوط به دِرْهماً قسم الثَّمن بينهما أثلاثاً. وأصحهما: أنه ليس له إلا أخْذ مكيلة منه، والمضاربة مع الغرماء بالثمن؛ لأنه نقصان حَصَلَ في البيع فأشبة تعيب العبد والثوب. وإن كان المخلوط به أجود فقولان: أحدهما وهو اختيار المزني: أن له الفَسْخَ، والرجوع إلى حَقِّه من المخلوط، كالخلط بالمثل والأردأ، وأيضاً فإنه لو اشترى ثوباً وصبغه، أو سويقاً فَلَتَّةُ لا ينقطع حق الرجوع فكذلك هاهنا. وأصحهما: أنه لا رجوع، وليس له إلا المضاربة بالثمن؛ لأن الرجوع إلى عين المبيع متعذر هاهنا حقيقة وحكماً. أما حقيقة فللاختلاط. وأما حكماً فلأن في هذا الخلط لا يُمكَّن من المطالبة بالقسمة بأخذ مكيلة من المخلوط؛ لما فيه من الإصرار بصاحب الأَجْوَدِ، بخلاف ما إذا كان الخلط بالمثل والأردأ، فإن المطالبة بالقسمة جائزة والمأخوذ بمثابة الأول حكماً. قال الشَّافعي -رضي الله عنه- في تقرير هذا القول: ولا يشبه -يعني ما نحن فيه- الثوب يصبغ ولا السويق يُلَت؛ لأن عين ماله فيه زيادة، والذائب إذا اختلط انقلب حتى لا يوجد عين ماله، ومعناه أن الاختلاط إذا حَصَل لم تكن الإشارة إلى شَيْءٍ من المخلوط، بأنه المبيع، فكأنه هَلَك بخلاف الثَّوْبِ المصبوغ، والسويق المَلْتُوث، ومن هذا الفرق خرج مخرجون في الخَلْطِ بالمثل والأردأ قولاً آخر: أنّه ينقطع به حق الرجوع، وأيد ذلك بأن الحنطة المبيعة لو انهالت عليها حنطة أخرى قبل القَبْضِ ينفسخ العقد على قول، تنزيلاً له منزلة التَّلف، والأظهر: القطع بأن الخَلْط بالمثل والأردأ لا يمنع الرجوع على ما سبق، ويفارق اختلاط المبيع قبل القبض؛ لأن المِلْكَ غير مستقر، فلا يبعد تأثره بما لا يتأثر به الملك المُسْتَقر. وإذا فرعنا في الخلط بالأجود على قول الرجوع ففي كيفيته قولان:
أصحهما: أنه يكون شريكاً كما في صَبْغِ الثوب. والثاني: عن رواية الربيع والبويطي: أن نفس المكيلتين يقسم بينهما باعتبار القِيمة، فإذا كانت المكيلة المبيعة تُسَاوِي درهماً، والمخلُوطُ بها دِرْهَمَيْن أخذ من المكيلتين ثلثي مكيلة وربما يخرج هذا الخِلاَف على أن القسمة بيع أو إفراز حَقٍّ. إن قلنا: بالأول ولم يقسم عين الزَّيْتِ، لما في هذه القسمة من مقابلة مكيلة بثلثي مكيلة. وإن قلنا بالثاني: فيجوز كأنه أخذ بعض حقه وترك بعضه، ومن الأصحاب من ينقل بَدَل القولين الآخرين وجهين، وينسب الأول إلى أبي إسحاق، وإذا ترك الترتيب والتنزيل حصل في الخلط بالأجود ثلاثة أقوال كما ذكر في الكِتَاب. أصحها: أنه فاقد عين ماله. والثاني: أنه يرجع فيباع الكُلّ، ويوزع على نسبة القيمتين. والثالث: أنه يقسم المكيلتان على نسبة القيمتين. وأما قوله: (ونقل عن ابْنِ سُرَيْجٍ التسوية بين الخلط بالأجود والأردأ) فالسابق إلى الفهم من ظاهره التسوية في طرد الأقوال الثلاثة، وليس المراد ذلك، وإنما المُرَاد التسوية في طَرْدِ القولين الآخرين حتى يقول: إذا ساوى المبيع درهمين والمخلوط به درهماً يباعان على قَوْل، ويكون ثلثَا الثمن للبائع والثلث للمفلس، وفي قول: يقسم. عين المخلوط، فيصرف ثلثاه إلى البائع، والثلث إلى المُفْلِس، والأول هو الذي قَدَّمْنَا حكايته عن أَبِي إسْحَاقَ ولا أقول: إن القول بكونه فاقداً عين ماله لا مجال له في الخلط بالأردأ، كيف وقد قدمنا أن بعضهم خَرَّجه، ولكن لا تعلق له بابْنِ سُرَيْجٍ، والمنقول عنه في "النهاية" و"الوسيط" ما بيناه. والفرق بين طرف الأجود حيث نظرنا فيه إلى الفَسْخِ وبين طرف الأَرْدَإِ حيث ألزمناه القناعة بمكيلة من المَخْلُوطِ على ظاهر المَذْهَبِ، واضحٌ في الكتاب ونختم المَسْألة بذكر شيئين: أحدهما: قال الإِمام إذا قلنا: الخلط يلحق المبيع بالمفقود فلو كان أحد الخليطين كثيراً، والآخر قليلاً لا تظهر به زيادة في الحِسِّ، ويقع مثله بين الكيلين فإن كان الكثير للبَائِع، فالوجه لِلْقَطْعِ بكونه واجداً عين ماله، وإن كان الكَثِيرُ للمُشْتَرِي فالظاهر كونه فاقداً. الثاني: ولو كان المخلوط به من غَيْرِ جنس المبيع كالزيت بالشيرج، فلا فسخ، وهو بمثابة ما لو تَلَفَ المَبِيع، قال الإِمام: وفيه احتمال سيما على قولنا: ببيع المخلوط وقسمة الثمن.
قال الغزالي: وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَيْنًا مِنْ وَجْهٍ وَوَصْفاً من وَجْهٍ كَمَا لَوْ صَبَغَ الثَّوْبَ فَإِنْ لَمْ تَزِد قِيمَتُهُ فَلاَ أَثَرَ لَهُ، وَاِن زَادَ فَالمُشْتَرِي شَرِيكٌ (ح) بِذَلِكَ القَدْرِ الَّذِي زَادَ، إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ أَكْثَرَ من قِيمَةِ الصَّبْغِ فَالزِّيّادَةُ عَلَى قِيمَةِ الصَّبْغِ صِفَةٌ مَحْضَةٌ، وَفِي الصِّفة المَحْضَةِ فِي طَحْنِ الحِنْطَةِ وَرِيَاضَةِ الدَّابَّةِ وَقِصَارَةِ الثَّوْبِ وَكُلِّ مَا يُسْتَأْجَرُ عَلَى تَحْصِيلِهِ قَوْلاَنِ، أحَدُهُمَا: أنَّهُ يُسَلَّمُ لِلبَائِعِ فَهُوَ كَالزِّيَادَةِ المُتَّصِلةِ مِنَ السِّمْنِ وَغَيْرِهِ، وَالثَّانِي: أنَّهَا كَالصَّبْغِ، لأَنَّهَا عَمَلٌ مُحْتَرَمٌ مُتَقَوَّمٌ، بِخِلاَف مَا لَوْ صدَرَ مِنَ الغَاصِبِ فإنَّهُ عُدْوَانٌ مَحْضٌ، فَعَلَى هَذَا لِلأَجِيرِ حَقُّ الحَبْسِ، وَلَوْ تَلَفَ الثَّوْبُ في يَدِ القَصَّارِ سَقَطَتْ أُجْرَتُهُ. قال الرَّافِعِيُّ: هذا الفصل يشتمل على القسمين البَاقِيين من أقْسَام النَّوْع الثَّاني من الزيادات، وتقديم المُؤَخَّر منهما في لفظ الكتاب أَلْيَق بالشَّرْحِ فنقدمه ونقول: القسم الثاني: الصفة المَحْضَة، فإذا اشترى حنطة فطحنها، أو ثوباً فقصره، أو خاطه بخيوط من نَفْسِ الثوب، ثم أفلس فللبائع الرُّجُوعُ إلى عَيْنِ مَالِهِ، ثم ينظر إن لم تزد قيمته فلا شركة للمفلس فيه، وإن نقصت قِيمَتُهُ فلا شَيْءَ لِلْبَائِع مَعَه، وإن زادت فَقَوْلاَن: أحدهما واختاره المُزَنِي: أن الزيادة بهذه الأعْمَالِ تَجْرِي مجرى الآثار، ولا شَرِكَةَ لِلمُفْلِسِ فيها؛ لأنها صفات تَابِعة حصلت بفعله، فهي كالسَّمَنِ للدابة بالعلف، وكِبَرِ الوَدْيِ بِالسَّقْيِ والتعهد، وأيضاً فإن القصارة تزيل الوسخ، وتكشف عما فيه من البياض، فلا تقتضي الشَّركة كما لو كان المبيع لوزاً فكسره وكشف اللب وزادت به القيمة. وأصحهما: أنها تجري مَجْرَى الأعيان، ويصير المفلس شريكاً فيها؛ لأنها زيادة حَصَلَتْ بفعل متقوّم مُحْتَرم، فوجب ألا تضيع عليه بخلاف الغَاصِب؛ لأن فعله غير محترم، ويخالف سمن الدَّابة بالعَلَفِ، وكبر الوَدِيِّ بالسقي؛ لأن القصار إذا عمل عمله صَارَ الثوب مقصوراً لا مَحَالة، والسقي والعَلَف يوجدان كثيراً، ولا يحصل السمن والكبر، فكان الأثر فيه غير مَنْسُوب إلى فِعْلِهِ، بل هو محض صُنْعِ الله عَزَّ وَجَلَّ، ولهذا لا يجوز الاستئجار على تَسْمِين الدَّابة، وتكبير الوَدِيِّ، ويجوز الاستئجار على القصارة. ويجري القولان فيما لو اشترى دقيقاً فخبزه، أو لحماً فَسَوَّاه، أو شَاةً فذبحها، أو أرْضاً فضرب من تربتها لبناً، أو عرصة وآلات البِنَاء فبنى فيها داراً، ثم أفلس، وعن أبي إسحاق أن تعليم العبد القرآن، والحرفة، والكتابة، والشِّعْرَ المباح، ورياضة الدابة لا تلحق بها، ولا تجري مجرى الأعيان قَطْعاً؛ لأنه ليس بيد المعلم ولا الرائض إلا التَّعْلِيم، وقد يجتهد فيه ولا يحصل الغرض، فكان كالتسمين ونحوه، ويحكى هذا عن ابنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وابْنِ القَطَّانِ أيضاً.
والأصح وبه قال ابْنُ سُرَيْجٍ، وصاحب "التلخيص"، والقاضي أبُو حَامِدٍ: أنها من صور القولين؛ لأنها أعمال يجوز الاستئجار عليها، ومقابلتها بالعوض، وضبط صور القولين أن يصنع بالمبيع ما يجوز الاستئجار عليه، فيظهر به أثر فيه، وإنما اعتبرنا ظهور الأثر فيه؛ لأن حفظ الدابة وسياستها عمل يجوز الاستئجار عليه، ولا تثبت به الشركة؛ لأنه لا يظهر بسببه أثر على الدَّابة، ثم الأثر تارة يكون صِفَة محسوسة كالطَّحْنِ والقصارة، وتارة يكون من قبيل الأخلاق كالتعليم والرياضة، إذا عرفت القولين ومحلهما. فإن قلنا بالأول: أخذ البائع المبيع وفاز بزيادته. وإن قلنا بالثاني: فيباع، ويكون لِلْمُفْلِس من الثَّمن بنسبة ما زَادَ في قيمته. مثاله: قيمة الثَّوْبِ خمسة وبلغت بالقصارة سِتّة، يكون للمفلس سدس الثَّمن، فلو ارتفعت القيمة بالسّوق أو انخفضت فالزيادة والنقصان بينهما على قَدْرِ هذه النسبة، ولو ارتفعت قيمةُ الثوب دُونَ القصارة بأن صَارَ مثل ذلك الثوب لا يؤخذ غَيْر مقصور إلا بِسِتَّةِ، ويشتري مقصوراً بسبعه فليس للمُفْلِس إلا سُبُع الثَّمن، والزيادة حَصَلت في الثوب، ولو زادت قيمة القصارة دُونَ الثَّوْبِ بأن كان مثل هذا الثوب يشتري مقصوراً بسبعة، ويؤخذ غير مقصور بخمسة فللمفلس سُبْعَان من الثمن، وعلى هذا القياس. ويجوز للبائع أن يمسك المبيع ويمنع من بيعه، ويبذل للمفلس مَا زَادَ بسبب الأعمال، كذا نقل صاحب "التهذيب" وغيره، كما أنه يبذل قيمة الغِرَاس والبناء، ومنع في "التتمة" منه، لأن الصفة لا تقابل بِعِوَضٍ (¬1). وأما قوله: (فعلى هذا للأجير حق الحبس) إلى آخره فهو إشارة إلى فرعين لا تعلق لهما بالمفلس، أحدهما: إذا استأجر للقصارة، أو الطَّحن فعمل الأجير عمله هل له حبس الثوب المقصور والدقيق لاستيفاء الأجرة؟ فإن قلنا: القصارة وما في معناها أثار فلا. وإن قلنا: إنها أعيان فَنَعَمْ، كما أن البائع يحبس المبيع لاستيفاء الثمن، وهذا ما اختاره الأكثرون (¬2). ¬
واحتجوا به للقول الثاني موهمين كونه مجزوماً به. والثَّاني: إذا تمم القصار والطحان العمل وتلف محل العَمَل في يَدِهِ. فإن قلنا: بالأول استحق الأجرة، وكأنه وقع مسلماً بالفراغ. وإن قلنا: بالثاني لم يستحق؛ لأنه تلف قبل التسليم، كما يسقط الثمن بتلف المبيع في يَدِ البَائِعِ، وهذا الفرع قد أعاده في الكتاب في باب الإِجَارَةِ. القسم الثالث: ما هو عَيْنٌ من وَجْهِ وصِفَةٌ مِنْ وَجْهٍ كصبغ الثوب وَلَتِّ السويق وما أشبههما، فإذا اشترى ثوباً وصبغه ثم أفلس، نظر إن لم ترد القيمة بالصبغ أو نقصت، فالحكم على مَا مَرَّ في القِسْمِ الثاني، وإن زادت فإما أن تزيد بقدر قيمة الصبغ أو أقل أو أكثر. الحالة الأولى: أن يزيد بقدر قيمة الصبغ كما إذا كان الثوب يساوي أربعة، والصّبغ درهمين وكانت قيمته مصبوغاً ستة، فللبائع أن يفسخ البيع في الثوب، ويكون المفلس شريكاً بالصّبغ فيباع، ويكون الثمن بينهما أثلاثاً، وكيف تنزل الشّركة بينهما؟ أنقول كل الثوب لِلْبَائع، وكل الصَّبغ للمفلس، كما لو غرس الأرض أو نقول يشتركان فيهما جميعاً بالأثلاث لتعذر التمييز كما في خلط الزيت؟ حكى صاحب "التهذيب" فيه وجهين: الحالة الثانية: أن تكون الزيادة أقل من قيمة الصبغ، كما إذاكانت قيمته مصبوغاً خمسة، فالنقصان محال على الصبغ، لأنه هالك في الثوب والثوبُ قائمٌ بحاله، إذا بيع قُسِّم الثمن بينهما أخماساً، أربعة أخماسٍ للبائع، وخمسُهُ لِلْمُفْلِس. الحالة الثالثة: أن تكون الزيادة أكثر من قيمة الصَّبْغِ، كما إذا كانت قيمته مصبوغاً مائة، فما زاد على قيمتها إنما زاد بصنعة الصَّبْغِ، فيبنى على أن القصارة ونحوها من الأَعْمَالِ آثار أم أعيان؟ إن قلنا: أنها أعيان فالزيادة بالصبغ للمفلس، وذلك مثل قِيمة الثوب، فيجعل الثمن بينهما نصفين. وإن قلنا: إنها آثار، فقد حكى الإمام أن الشيخ أبَا عَلِيّ ذكر في "الشرح" أن البائع يفوز بها على ما هو سبيل الزيادات المتصلة، وحينئذٍ يكون الثَّمَنُ بينهما أرباعاً، ثلاثة أرباع للبائع، والرّبُعُ للمفلس، قال: وكنت أود أن نقص أثر الصفة على الثَّوْبِ والصبغ حتى يجعل الثمن بينهما أثلاثاً، فيكون ثلثاه للبائع، والثُّلُثُ للمفلس؛ لأن الصفة اتصلت بالثوب والصبغ جميعاً، وهذا الذي قلناه هو الذي أورده الشَّيْخُ في "شرح الفروع" وصاحب "التهذيب" والأكثرون، وفي كتاب ابْنِ كِجٍّ نقل الوجهين معاً.
ولو ارتفعت القيمة بعد الصبغ فبلغت سِتَّةَ عشر مثلاً، أو وجد من اشتراه بهذا المبلغ، ففي كيفية القِسْمة هذه الوجوه الثلاثة، والربح بكل حال يقسم بحسب قسمة الأصل. وإذا عرف القدر الذي يستحقه المفلس من الثمن، فإن شاء البائع تسليمه ليخلص له الثوب مصبوغاً فله ذلك، ومنع صاحب "التتمة" منه كما ذكرنا في القسم الثاني هذا كله فيما إذا صبغ الثوب المشتري بصبغ مِنْ عنده، أما إذا اشترى ثوباً وصبغاً من إنسان وصبغه به ثم أفلس فللبائع فسخ البيع والرجوع إليهما، إلا أن تكون القيمةُ بعد الصبغ كقيمة الثوب قبل الصبغ أو دونها، فيكون فاقد للصبغ، وإن زادت القيمة بأن كانت قيمة الثوب أربعة، وقيمة الصبغ درهمين، والثوب مصبوغاً يساوي ثمانية، فعلى الخلاف في أن الصباغات آثار أم أعيان؟ إن قلنا: بالأول أخذهما ولا شركة للمفلس. وإن قلنا: بالثاني فالمفلس شريكٌ بالرُّبُعِ. ولو اشترى الثوب من واحد بأربعة وهي قيمته، والصبغ من آخر بدرهمين وهما قيمته وصبغه به، وأراد البَائِعَانِ الرجوع، فإن كان الثوب مصبوغاً لا يساوي أكثر من أربعة فصاحب الصبغ فاقدُ مَالِهِ، وصاحب الثوب واجد مَالِهِ بِكَمَالِه، إِن لم ينقص عَنْ أربعة، وناقصا إن لم يبلغ. وإن كانت قيمته بعد الصّبغ ثمانية. فإن قلنا: إن الأعمال آثار فالشركة بين البائعين، كما هي بين البائع والمُفْلِس إذا صبغه بصنع نفسه؛ تفريعاً على هذا القول. وإن قلنا: أعيان فنصف الثمن لبائع الثَّوْبِ، وربعه للمفلس. ولو اشترى صبغاً وصبغ به ثوباً كان له، فللبائع الرجوع إن زادت قيمته مصبوغاً على ما كانت قَبْلَ الصّبغ، وإلا فهو فَاقِدٌ، وإذا رجع فالقول في الشركة بينهما على مَا مر (¬1). واعلم أن جميع ما ذكرناه في القسمين مفروض فيما إذا بَاشَرَ المفلس القصارة والصبغ ¬
وما في معناه بنفسه، أو استأجر أجيراً ووفاه الأجرة قبل التفليس، أما إذا حصلها بأجير ولم يوفه أجرَتُه فسنذكر حُكْمَه في الفَصْل الذي يَلِي هذا الفَصْل إن شاء الله تعالى. فرع: حكم صبغ الثَّوْبِ كما في البناء والغِرَاس، ولو قال المفلس والغرماء: نقلعه ونغرم نقصان الثوب، قال القاضي ابْنُ كِجٍّ: لهم ذلك. وقوله في الكتاب عند ذكر الصّبغ: (وإن زاد فالمشتري شريك بذلك القَدْر الذي زاد) يجوز إعلامه بالواو؛ لأن محل القطع بالشركة ما إذا كان الصّبغ مما يمكن فيه التمييز والاستخلاص، أما إذا لم يمكن التمييز وصار مستهلكاً، فعن القاضي أَبِي حَامِدٍ وجه أنه ينزل منزلة القصارة والطَّحْن، حتى يكون للبائع تبعاً للثوب على أحد القولين. قال الغزالي: وَلَوْ كانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ عَشَرَةً وقِيمَةُ القِصَارَةِ خَمْسَةً والأُجْرَةُ دِرْهَمٌ وَأَفْلَسَ قَبْلَ تَوْفِيَةِ الأُجْرَةِ فَيُقَدَّمُ (و) الأَجِيرُ بِدِرْهَم وَالبَائِعُ بعَشَرَةٍ وَأَرْبَعَةٌ لِلغُرَمَاءِ، وَإِنْ كانَتِ الأُجْرَةِ خَمْسَةً وَقِيمَةُ القِصَارَةِ دِرْهَمٌ اخْتَصَّ الأجَيرُ بِالدِّرْهَمِ الزَّائِدِ وَضَارَبَ بِالإِرْبَعَةِ وَيُقَالُ (و) لِلأَجِيرِ: اقْنَعْ بِمَا وَجَدَتَّهُ مِنَ القِصَارَةِ أوْ ضَارِبْ بِكُلِّ الأُجْرَةِ فَإِنَّ القِصَارَةُ وَإِنْ شُبَّهَتْ بِالصَّبْغ فَلَيْسَتْ عَيناً يُمْكِنُ إيرَادُ الفَسْخِ عَلَيْهَا. قال الراَّفِعِيُّ: إذا اشترى ثوباً واستأجر قصاراً فقصره ولم يوفِهِ أجرته حتى أفلس. فإن قلنا: القصارة أثرٌ فليس للأجير إلاَّ المُضَاربة بالأُجْرَة مع الغرماء، وللبائع الرُّجُوع في الثَّوْبِ المَقْصُورِ، ولا شَيْءَ عليه لما زاد، وعن صاحب "التلخيص" أن عليه أجرة القصارة، وكأنه استأجره وغلطه الأصحاب فيه. وإن قلنا: إنها عين نظر إن لم تزد قيمته مقصوراً على ما كان قبل القصارة فهو فاقد عَيْنِ مَالِهِ، وإن زادت فلكل واحد من البَائِع والأجير الرجوع إلى عَيْنِ مَالِه، فإن كانت قيمة الثَّوب عشرة، والأجرة درهماً، والثوب المقصور يساوي خمسة عشر، رجعا وبيع بخمسة عشر، وصرف منها عشرة إلى البائع، ودرهم إلى الأجير، والباقي للغُرَمَاء. ولو كانت الأجرة خَمْسة دراهِم، والثوب بعد القصارة يساوي أحد عَشَر، فإن فسخ الأجير الإجارة فعشرة للبائع، ودرهم للأجير، ويضارب مع الغرماء بأربعة، وإن لم يفسخ فعشرة للبائع، ودِرْهم للمُفْلِس، ويضارب مع الغرماء بخمسة. ولا يخفى من نظم الكتاب أن الجواب في الصورتين مقصور على قَوْلِ العين، وأنهما معطوفتان على قوله من قبل، فعلى هذا للأجير حق الحبس، ولو تلف الثوب في يد القصار سقطت أجرتُه.
وقوله: (ولا يقال للأجير) إلى آخره، إشارةٌ إلى سؤال وجواب مشهورين في هذا المقام. أما: السؤال فهو أنا إذا جعلنا القصارة عيناً فزادت بِفْعلِهِ خمسة، وجب أن يكون الكُلُّ له، كما لو زاد المبيع زيادة متصلة، وإن كانت أجرته خمسةً، ولم يحصل بفعله إلا دِرْهَم وجب ألا يكون له إلا ذلك؛ لأن من وجد عينَ ماله ناقصةً ليس له إلا القناعة بها والمضاربة مع الغرماء. والجواب: أنه لا شك في أن القصارة صفة تابعةٌ للثوب، ولا نعني بقولنا: إن القصارة عين أنها في الحقيقة تفرد بالمبيع والأخذ والرد كما يفعل بِسَائِرِ الأَعْيَانِ، ولو كان كذلك جعلنا الغاصب شريكاً للمالك إذا قصر الثَّوب، كما جعلناه شريكاً إذا صبغه، إنما المراد أنها مشبهة بالأعيان مِنْ بعض الوجوه؛ لأن الزيادة الحاصلةَ بها متقومةٌ مقابلة بالعوض، فكما لا تضيع الأعيان على المُفْلِس لا تضيع الأعمالُ عليه، وأما بالإِضَافة إلى الأجير فليست القصارة مَوْرِدَ الإجَارة، حتى يرجع إليها، بل مورد الإجارة فعله المحصل للقصارة، وذلك الفعل يَستحيل الرُّجُوع إليه، فيجعل الحاصل بفعله لاختصاصه به متعلق حقه كالمَرْهُون في حَقِّ المرتهن، أو نقول: هي مملوكة للمفلس مرهونة بحق الأَجِير، ومعلوم أن الرَّهْنَ إذا زادت قيمتُه على الدَّيْنِ لا يأخذ المرتهن منه إلَّا قدر الدَّيْن، وإذا نقصت لا يتأدى به جميعُ الدَّيْنِ. وأعلم قوله: (يقال للأجير: اقنع) بالواو لأنه حكى في "الوسيط" أن بعض الأصحاب قضى بأنه ليس له إلا القناعة بالقصارة، أو المضاربة على مَا هُو قِيَاسُ الأعيان، ولم أعثر على هذا النَّقْل لغير المصنف، لكن ذكر القاضي ابْنُ كِجٍّ، أن أبا الحُسَيْنِ خرج وجهين: في أنه لو قال الغرماء للقصار: خذ أجرتك ودعنا نكون شركاء، وصاحب هذا الثّوب هل يجبر عليه؟ فإن الأصح الإجبار، وهذا هو القياس على البائع إذا قدمه الغرماء بالثمن، فكان هذا القائل يعطي القصارة حكم الأعيان من كل وجه. ولو كانت قيمة الثوب المشتري عَشْرة، واستأجر صباغاً فصبغه بصبغ قيمته دِرْهم، وصارت قيمته خمسة عشر، فالأربعة الزائدة على القيمتين حاصلة بصنعة الصبغ، فيعود فيه القولان في أنها أثر أم عين؟ فإذا رجع كُلُّ واحدٍ من البائع والصباغ إلى ماله بيع بخمسة عشرة، وقسم على أحَدَ عَشَر، إن جعلناها أثراً فللبائع عشرة، وللصباغ واحد؛ لأن الزيادة تَابِعَةٌ، وهذا الأصح يطبق على قولنا: إن القصارة مرهونة بحقه، إذ ليس للمرتهن التمسك بغير المرهون إذا أدى حقه بوجه طالبها. وإن جعلناها عيناً عشرة منها للبائع، ودرهم للصّباغ، وأربعة للمفلس، يأخذها الغُرَمَاء. ولو كانت المسألة بحالها وبيع بثلاثين لارتفاع السوق، أو للظفر بِرَاغِبٍ، قال ابْنُ الحَدَّادِ: للبائع عشرون، وللصباغ درهمان، وللمفلس ثمانية؛ وقال غيره يقسم الكُلّ
على أحد عشر، عشرة للبائع، وواحد للصباغ، ولا شيء للمشتري، قال الشَّيْخُ أبُو عَلِيّ: الأول جواب على قولنا: أنها عين والثاني: على أنها أثر، وبمثله لو كانت قيمة الثوب عشرة، واستأجر على قصارته بدرهم، وصارت قيمته مقصوراً خمسة عشر، ثم اتفق بيعه بثلاثين، ذكر الشيخان أَبُو مُحَمَّدٍ وَالصَّيْدَلاَنِيُّ وغيرهما تفريعاً على قول العين: أنه يتضاعف حق كل واحد منهم، كما قاله ابْنُ الحَدَّادِ في الصبغ، واستدرك الإمام فقال: ينبغي أن يكون للبائع عشرون، وللمفلس تسعة، وللقصار درهم كما كان، ولا يضعف حقه لما مر أن القصارة غير مستحقة للقصار، وإنما هي مرهونة بحقه، وقد أشار الشَّيْخُ أَبُو عَلِيّ إلى مثل هذا المعنى في مسألة الصَبْغ، واعتذر عنه ابْنُ الصَّبَّاغِ بأنه قال: كأنه باع الصبغ بدرهم، فتوزع الزيادة على الصَّبْغَ والثوب، وهذا العذر قريب وإن لم يكن واضحاً كل الوضوح إذ ليس استئجار الصَّبَّاغِ مجرد شراء الصبغ، فلا مساغ له في القصارة، فأما الاستدراك الذي ذكره الإِمام فيه فقه والله أعلم. فرع: لو أخفى المديون بَعْضَ ماله ونقص الظَّاهِرُ عن قدر الدّيون فحجر الحاكم عليه، ورجع أصحاب الأمتعة إلى أمتعتهم، وقسم الحاكم ما بقي بين الغرماء ثم بان صنيعه لم ينقص شيء من ذلك؛ لأن لِلْقاضي بيع أموال الممتنع وصرف الثمن إلى ديونه والرجوع إلى عين المال بامتناع المشتري من أداء الثمن فمختلف فيه، فَإذا اتصل به حكم حاكم نُفِّذَ قاله في "التتمة": وفيه توقف لأن القاضي ربما لا يعتقد جواز الرجوع بالامتناع، فكيف يجعل حكمه بناء على ظن آخر حكماً بالرجوع بالامتناع. فرع: من له الفسخ بالإِفْلاَس، لو ترك الفسخ على مال لم يثبت المال، وهل يبطل حَقِّه من الفَسْخِ إن كانَ جَاهِلاً بجوازه؟ فيه وجهان كما سبق نظيرهما في الرَّدِّ بالعَيْبِ وبالله التوفيق.
كتاب الحجر
كِتَابُ الحَجْرِ (¬1) قال الغزالي: أَسْبَابُ الحَجْرِ خَمْسَةٌ: الصِّبَا وَالرِّقُّ وَالجُنُونُ وَالفَلَسُ (ح) وَالتَّبْذيرُ (ح)، وَحَجْرُ الصَّبِيِّ يَنْقَطِعُ بِالبُلُوغِ مَعَ الرُّشْدِ. قال الرَّافِعِيُّ: جرت العادة بذكر أصناف المحجورين هاهنا وهو لائق بترجمة الباب، فإن الترجمة مطلق الحجر، وأحسن ترتيب فيه ما ساقه أصحابنا العراقيون ومن تابعهم قالوا: الحجر على الإنسان نوعان: حجر شرع للغير. وحجر شرع لمصلحة نفسه. والنوع الأول خمسة أضرب. أحدها: حجر المفلس لِحَقِّ الغرماء. وثانيها: حجر الرَّاهِن لحق المرتهن. وثالثها: حَجْر المريض لحق الورثة. ورابعها: حَجْرُ العبد لحق السيد، والمكاتب لِحَقِّ السيد وحق الله تعالى. وخامسها: حجر المرتد لحق المسلمين. وهذه الأضرب بأسرها. خاصة لا تعم جميع التصرفات، بل يصح من هؤلاء ¬
المحجورين الإقرار بالعُقُوبات، وكثير من التصرفات، ولها أبواب مفرقة مذكورة في مَوَاضِعِهَا. والنوع الثاني: ثلاثة أضرب: أحدها: حجر الجنون ويثبت بمجرد الجنون، ويرتفع بالإفاقة وتسلب به الولايات واعتبار الأقوال رأساً، ومن عامله أو أقرضه فتلف المال عنده أو أتلفه فالمالك هو الذي ضيعه، وما دام باقياً يجوز له استرداده، قال في "التتمة": من له أدنى تمييز ولم يكمل عقله فهو كالصبي المميز. والثاني: حَجْرُ الصبي، والأصل إلغاء تصرفاته وعباراته، ومنها ما يصح وفاقاً أو خلافاً كعباداته، وإسلامه، وإحرامه، وتدبيره، وعتقه، ووصيته، وإيصاله الهدية، وإذنه في دخول الدار، فمنها مَا مَرَّ بيان حكمه، ومنها ما سيأتي. والثالث: حجر السَّفِيه المبذر، والضرب الأول أعم من الثاني، والثاني أعم مى والثالث، ومقصود الباب الكلام في هذه الأضرب الثلاثة، والثالث معظم المقصود والأصل فيها قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} (¬1) فالسفيه على ما قيل: المُبَذِّر، والضعيف الصبي، والذي لا يستطيع أن يُمِلَّ المغلوب على عَقْلِه، وقال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} (¬2) الآية، وقد روي "أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ جَعْفَر اشْتَرَى أَرْضاً سَبْخَةً بِثَلاِثينَ أَلْفاً، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيّاً -رَضِي الله عَنْهُ- فَعَزَمَ أَنْ يَسْأَلَ عُثْمَانَ الْحَجَرَ عَلَيْهِ، فَجَاء عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَر إِلَى الزُّبَيْرِ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ -رَضِىَ اللهُ عنه-: شَرِيكُك، فَلَمَّا سَألَ عَلِيُّ عُثْمَانَ الْحَجْرَ عَلَى عَبْدِ الله قَالَ عُثْمَانُ: كَيْفَ أحْجُرُ عَلَى مَنْ كَانَ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ" (¬3). دلت القِصَّة على أنهم كانوا متفقين على جَوَازِ الحَجْرِ بالتبذير، وأنه كان مشهوراً فيما بينهم. وقوله في الكتاب: (والفلس والتبذير) معلمان بالحاء. أما: الفلس فلما سبق في التفليس. وأما: التبذير، فلأن عنده لا ينشأ الحَجْر على من بلغ رشيداً ثم صار سفيهاً. وإن بلغ مفسداً لماله لا يسلم المال إليه حتى يكمل خمساً وعشرين سنة، فحينئذٍ يُسَلم. ¬
وقوله: (وحجر الصبي ينقطع بالبلوغ مع الرشد)، هكذا يطلقه بعض الأصْحَاب، ومنهم من يقول: الحجر للصبي ينقطع بمجرد البلوغ، وليس ذلك خلافاً محققاً، بل من قال بالأول أراد الإطلاق الكلي، ومن قال بالثاني أراد الحجر المخصوص بالصَّبي وهذا أولى؛ لأن الصِّبَا سبب مستقلٌ بالحَجْرِ، وكذلك التبذير، وأحكامهما مُتَغَايِرَة، ومن بلغ وهو مُبَذِّر فحكم تصرفه حكم تصرف السَّفِيه، لا حكم تصرف الصَّبي، والقول في أن الإطلاق الكُلِّي متى يحصل إذا بلغ رشيداً أو سفيهاً سيأتي من بعد. قال الغزالي: وَالبُلُوغُ باسْتِكْمَالِ خَمْس عَشَرَةَ سَنَةً (ح م) لِلغُلاَمِ وَالجَارِيَةِ، أَوْ الاحْتِلاَمِ، أَوِ الحَيْضِ لِلْمَرْأَةِ (ح)، أَوْ نَبَاتٍ (ح) العَانَةِ في حَقِّ صِبْيَانِ الكُفَّارِ فَإِنَّهُ أَمَارَةٌ فِيهِمْ (و) لِعُسْرِ الوُقُوفِ عَلَى سِنِّهِمْ، وَفِي صِبْيَانِ المُسْلِمِينَ وَجْهَانِ. قال الرَّافِعِيُّ: للبلوغ أسباب: منها: ما يشترك فيه الرجال والنساء. ومنها: ما يختص بالنساء. أما: القسم الأول فمنه السِّن، فإذا استكمل المولود خمس عشرة سنة قمرية فَقَدْ بَلَغ. روى عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في جَيْشِ يَوْم أُحُدٍ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يَقْبَلْنِي وَلَمْ يَرَنِي بَلَغْتُ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِ منْ قَابِل عَامَ الْخَنْدَقِ، وَأَنا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةَ فَقَبِلَنِي وَرَآنِي بِلَغْتُ" (¬1). وعن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"إِذَا اسْتَكْمَلَ الْمَولُودُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، كُتِبَ مَالَهُ وَمَا عَلَيْهِ، وَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُدُودةُ" (¬2) وفيه وجه: أن البلوغَ يحصل بنفس الطَّعْنِ في السنة الخامسة عشر، وإن لم يستكلمها؛ لأنه حينئذ يسمى ابن خمس عشرة سنة. والمذهب الأول، وهذا التوجيه ممنوع. وقوله: (باستكمال خمس عشرة سنة) لفظ الاستكمال مُعَلَّم بالواو لهذا الوجه. وقوله: (خمس عشرة سنة) بالحاء والميم. أما: الحاء فلأن عنده بلوغ الغلام بثماني عشرة سنة، وفي الجارية روايتان: إحداهما: كذلك. والثانية: بسبع عشرة سنة. وأما: الميم فلأنه يروى عنه أن البُلوغَ لا يحصل بالسِّن، وإنما النظر فيه إلى الاحتلام. ¬
والسبب الثاني: الاحتلام قال الله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} (¬1) روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال:"رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ، عَنِ الصَّبِيَّ حَتَّى يَحْتَلِمَ" (¬2) والحلم لا يتعلق بخصوص الاحتلام؛ بل هو منوط بمجرد خروج المَنِيّ، ويدخل وقت إمكانه باستكمال تسع سنين، ولا عبرة بما ينفصل قبل ذلك، وفيه وجهان آخران، ذكرهما الإمام كل واحد منهما في موضع من كتابه. أحدهما: أنه يدخل بِمُضِيِّ ستة أشهر من السَّنَةِ العَاشِرة. والثاني: أنه إنما يدخل بتمام العَاشِرَة، وهذه الوجوه كالوجوه في أقل سِنِّ الحيض، لكن العاشرة هاهنا بمثابة التاسعة، ثمّ؛ لأن في النساء حدة في الطبيعة وتسارع إلى الأِدْرَاك، وهكذا يكون النبات الضعيف بالإضافة إلى القَوي، والاعتماد فيه على الوجدان بعد البحث كما في الحَيْضٍ، ولا فرق في إفادة خروج المَنِي، البلوغ بين الرجال والنساء كما في السِّن، وفيه وجه: أنه لا يُوجِبُ بلوغهن؛ لأنه نادر فيهن ساقط العبرة، وعلى هذا قال الإمام: الذي يتجه عندي أن لا يلزمها الغَسْل؛ لأنه لو لزم لكان حكماً بأن الخارج مَنِيّ، والجمع بين الحكم بأنه منى وبين الحكم بأنه لا يحصل به البلوغ متناقض. ولك أن تقول: إن كان التناقض مأخوذاً من تعذر التكليف بالغسل مع القول بِعَدَمِ البلوغ، فنحن لا نعني بلزوم الغُسْلِ سوى ما نعنيه بلزوم الوُضُوءِ عَلَى الصَّبِيَّ إذَا أحدث، فبالمعنى الذي أطلقنا ذلك، ولا تكليف نطلق هَذَا، وإن كان غير ذلك فلا بد من بيانه. واعلم: إنا إذا قلنا: إن خروج المَنِي لا يوجب البلوغ في حق النِّساء، صارت أسبابُ البلوغ ثلاثة أقسام: المشتركة بين الرجال والنساء، وما يختص بالرِّجال، وهو خروجُ المَنِيّ [وما يختص بالنساء] والله أعلم. والسبب الثالث: إنبات العانة يقتضي الحكم بالبُلُوغ في حق الكُفَّار، خلافاً لأبي حنيفة. لنا: ما روي "أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ حَكَمَ في بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَتَل مُقَاتِلَتَهُمْ، وسَبَى ذَرَارَيهُمْ، فَكَانَ يُكْشَفُ عَنْ مُؤَتَزِرِ الْمُرَاهِقِينَ، فَمَنْ أَنْبَتَ مِنْهُمْ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ جُعِلَ في الذّرَارِيِ" (¬3) وعن عطية القرظي قال: "عُرِضْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ قُرَيظَةَ، فَكَانَ مَنْ أنْبَتَ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ فَخُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَكُنْتُ فِيمَنْ لَمْ يُنْبِتْ فَخَلَّى ¬
سَبِيلِي" (¬1). ثم هو بلوغ حقيقة، أو هو دليل البُلُوغِ وأمارته فيه قولان: أحدهما: أنه بلوغ حقيقة كسائر الأسْبَاب، وأظهرهما على ما قاله الإمام، وهو الذي أورده صاحب الكتاب أنه أمارة بلوغِ، لأن البلوغ غير مكتسب، وهذا شيء يستعجل بالمعالجة. فإن قلنا: بالأول فهو بلوغ في حَقِّ المسلمين أيضاً كسائر الأسباب، لا فرق فيها بين المسلم والكافر. وإن قلنا: إنه أمارة ففي حق المسلمين وجهان: أظهرهما: أنه لا اعتبار به؛ لأن مراجعة الآباء في حَقِّ المسلمين، والاعتماد على أخبارهم عن تواريخ المواليد سَهْل، بخلاف الكفار فإنهم لا اعتماد على قولهم، ولأن المسلمين رُبَّما استعجلوا بالمعالجة ورفعاً للحجر واستفادة الولايات، والكفار لا يتهمون بمثله، لأنهم حينئذ يقتلون أو تضرب عليهم الجزية. والثاني: وبه قال مالك وأحمدَ: إنه يجعل أمارة في حقهم أيضاً، لأن الإشْكَالَ قد يقع في حق المسلمين أيضاً، ويدل عليه ما روى "أَنَّ غُلاماً مِنَ الأَنْصَارِ شَبَّبَ بِامْرَأَةٍ فِي شِعْرِهِ فَرُفِعَ إِلَى عُمَرَ فَلَمْ يَجِدْهُ أَنْبَتَ، فَقَالَ لَوْ أَنْبَتَّ الشَّعْرَ لَحَدَدْتُكَ" (¬2). ثم العبرة بالشَّعْرِ الخَشِن الذي يحتاج في إزالته إلى الحَلْق. فأما: الزغب والشّعر الضعيف الذي قد يوجد في الصِّغر فلا أثر له. وفي شعر الإبط وجهان: أحدهما: أن إنباته كنبات شَعْرِ العَانَةِ، وبه قال القَاضِي حسين وآخرون، قال الإمام: لأن إنبات العَانة يقع في أول تحرك الطَّبِيعَة في الشَّهْوَة، ونبات الإبط يتراخى عن البُلُوغِ في الغَالِب، فكان أولى بالدّلالة على حُصولِ البلوغ. والثاني: وهو الأصح على ما ذكره صاحب "التتمة": أنه لا أثر له في البلوغ؛ لأنه لو أثر لما كشفوا عن المؤتزر لحصول الغرض من غير كشف العورة. ونبات اللحية والشارب فيهما هذان الوجهان، لكن صاحب "التهذيب" فرق، ¬
فألحق شَعْرِ الإِبِطِ بِشَعْرِ العانة، ولم يلحق به اللَّحْية والشَّارِب، ولا أثر لِثِقَلِ الصَّوْت ونهود الثَّدْي ونتوء طرف الحُلقوم وانفراق الأرنبة، كما لا أثر لاخضرار الشَّارِب، وفي "التتمة" طرد الخِلاَف فيها. وأما القسم الثاني وهو ما يختص بالنساء فشيئان: أحدهما: الحَيْضُ في وقت الإمكان بُلوغٌ، واحتج له بما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لأسماء بنت أبي بكر: "إِنَّ الْمَرْأَة إِذَا بَلَغَتْ الْمَحِيضَ لاَ يَصْلُحُ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَأَشَارَ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ" (¬1) علق وجوب السَّتْر بالمحيض، وذلك نوع تكليف، وبما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال:"لاَ تَقْبَلُ الله صَلاةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ" (¬2). أشعر بأنها بالحَيْضِ كلفت بالصَّلاَةِ. والثاني: الحَبَلُ يوجب البلوغ، لأنه مسبوق بالإِنْزَالِ، لكن الولد لا يستيقن ما لم تَضَع، فإذا وضعت حكمنا بحصول البُلوغ قبل الوَضْعِ بستة أشْهُر وَشَيْءٍ؛ لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فإن كانت مطلقة فأتت بِوَلَدٍ يلَحق الزَّوْجَ حكمنا ببلوغها قبل الطَّلاَق. فرع: الخنثى المشكل إذا خرج من ذَكَرِه ماء وهو على صفة المَنِيّ، ومن فرجه دَمٌ وهو على صفة الحيض، فهل نحكم ببلوغه؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم؛ لأنه إما ذكر وقد أَمْنَى، أو أنثى وقد حاضت. والثاني: لا؛ لتعارض الخارجين وإسقاط كل واحد منهما حكم الآخر، ولهذا لا يحكم والحالة هذه بالذكورة ولا بالأنوثَة هذا ما نسبه القَاضِي ابْنُ كَجٍّ إلى ظاهر نَصِّ الشَّافعي. وإن وجد أحد الأمرين دُونَ الثَّانِي، أو أمنى وَحاضَ مِنَ الفَرْجِ، فجواب عامة الأصحاب أنه لا يحكم ببلوغه لجواز أن يظهر من الفَرْجِ الآخر ما يعارضه، وقال الإمام وهو الحق: ينبغي أن يحكم بالبلوغ بأحدهما، كما يحكم بالذكورة والأنوثة، ثم إن ظهر خِلاَفُه غيرنا الحُكْمَ، وكيف ينتظم منا أن نحكم بأنه ذكر أو أنثى ولا نحكم بأنه قد بلغ. قال الغزالي: وَأَمَّا الرُّشْدُ فَهُوَ أن يَبْلُغَ صَالِحاً في دِينِهِ مُصْلِحاً لِدُنْيَاهُ، فَإِذَا اخْتَلَّ ¬
أَحَدُ الأَمْرَيْنِ اسْتَمَرَّ الحَجْرُ (م ح و)، وَمَهْمَا حَصَلَ انْفَكَّ الحَجْرُ (و)، فَلَوْ عَادَ أَحَدُ المَعْنَيَيْنِ لَمْ يَعُدِ الحَجْرِ؛ لأنَّ الإِطْلاَقَ الثَّابِتَ لاَ يُرْفَعُ إلاَّ بِيَقين كَمَا أَنَّ الحَجْرَ الثَّابِتَ لاَ يُرْفَعُ إلاَّ بِيَقِين، فَلَو عَادَ الفِسْقُ وَالتَّبْذِيرُ جَمِيعاً يَعُودُ الحَجْرُ أَوْ يُعَادُ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَينِ، ثُمَّ يَلِي القَاضِي أَمْرَهُ أَم وَليُّهُ في الصَّبِيِّ؟ فيهِ وَجْهَانِ، وَكَذَا في الجُنُونِ الطَّارِئِ بَعْدَ البُلُوغِ، وَصَرْفُ المَالِ إلَى وُجُوهِ البرِّ لَيْسَ بِتَبْذِيرٍ، فَلاَ سَرَفَ في الخَيْرِ، وَصَرْفهُ إلَى الأَطْعِمَةِ النَّفِيسَةِ الَّتِي لاَ تَلِيقُ بِحَالِهِ تَبْذِيرٌ (و)، فَإِذَا انْضَمّ إِلَيْهِ الفِسْقُ أَوْجَبَ الحَجْرَ. قال الرَّافِعِيُّ: أول ما ينبغي أن يعرف في الفَصْلِ أولاً معنى الرُّشْدِ المذكور في قوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} وقد فَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ بالصَّلاَحِ في الدِّين مع إصْلاحِ المَالِ، ويدل عليه ما روى عن ابن عباس أنه قال: معناه: "رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ صَلاَحاً في دِينِهِمْ وَحِفْظاً لِأَمْوَالِهِمْ" (¬1) وروى مثله عن الحسن (¬2) ومجاهد (¬3)، والمراد من الصَّلاَح في الدين أن لا يرتكب من المُحَرَّمَاتِ ما تسقط به العَدَالَةُ، ومن إصْلاحِ المَالِ أن لا يَكون مبذراً، وصرف المال إلى وجوه الخير في الصَّدَقَاتِ وفك الرقاب وبناء المَسَاجِدِ والمدارس وما أشبهها لَيْسَ بِتَبْذِير، فلا سَرَفَ في الخير، كَمَا لا خَيْرَ في السَّرَفِ، وعن الشَّيْخِ أبي مُحَمَّدٍ: أن الصَّبِيَّ إذا بلغ وهو مفرط في الانْفَاق في هذه الوجوه فهو مُبَذِّرٌ، وإن عرض له ذلك بعد ما بلغ مقتصداً لم نحكم بصيرورته مبذراً. وتضييع المال: بإلقائه في الْبَحرِ، أو باحتمال الغبن الفاحش في المُعَامَلاَتِ ونحوها تبذيرٌ، وكذا الإنفاق في المُحَرَّمَاتِ. وصرفه إلى الأطعمة النفيسة التي لا يليق اتخاذها بِحَالِهِ، هل يكون سفهاً وتبذيراً؟ قال الإِمام وصاحب الكتاب: نِعم لِلْعَادة. وقال: الأكثرون لا؛ لأن المال يطلب لينتفع به ويلتذ به، وكذا القول في التجمل بالثِّيَابِ الفاخرة والإكثار من شِرَاءِ الغانيات والاستمتاع بهن وما أشبه ذلك. وبالجملة فالتبذير على ما نقله معظم الأصحاب محصور في التضيعات والإنفاق في المُحَرَّمَات ولا بد من اختبار الصبي ليعرف حاله في الرُّشْدِ وعدمه، ويختلف ذلك باختلاف طبقات النَّاسِ. ¬
فولد التَّاجر يختبر في البَيْعِ والشراء والمُمَاكَسَة. وولد الزَّارع في أمر الزِّراعة والإنفاق (¬1) على القَوَّام فيها. والمُحْتَرِف فيما يتعلق بحرفته. والمرأة في أمر القطن والغَزْلِ (¬2)، وحفظ الأقمشة، وصون الأطعمة عن الهِرَّة والفأرة، وما أشبهها من مَصَالِحِ البَيْتِ. ولا تكفي المَرَّة الواحدة في الاختبار؛ بل لاَ بُدَّ من مرتين وأكثر على ما يليق بالحال، ويفيد غلبة الظنِّ بكونه رَشِيداً، وفي وقت الاختبار وجهان: أحدهما: ما بعد البلوغ؛ لأن تصرفه في الصِّبَا غيرُ نافذ. وأظهرهما: أنه قَبْلَه؟ لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} (¬3). واسم اليتيم إنما يقع على غير البَالِغِ، وعلى هذا فكيف يختبر؟ فيه وجهان: أصحهما: أنه يدفع إليه قدراً من المَالِ ويمتحنه في المماكسة والمُسَاوَمة، فإذا آل الأمر إلى عَقْدٍ عَقَدَهُ الوَلِيُّ؛ لأن تصرف الصبي لاَ ينفذ. والثَّاني: يصح منه العقد أيضاً في هذا الغَرَض للحاجة وقد أشرنا في أول البيع إلى هذا. ولو تلف المالُ المدفوع إليه للاختبار في يَدِهِ فلا ضمان على الوَلِيّ (¬4) إذا تقرر ذلك فننظر إن بلغ الصَبِيُّ غير رَشِيدٍ إما لاختلاف الصَّلاح في الدِّين، أو إصلاح المَالِ، بقي محجوراً عليه، ولم يدفع إليه المَال، وقال أبو حنيفة: إن بلغ مفسداً للمال مُنِعَ ¬
حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة كما سبق، وإن بلغَ مصلحاً لماله دفع المال إليه، ونفذ تصرفه، وإن كان فاسقاً، وبه قال مالك فيمن بَلَغَ فَاسِقاً، ونقل المتولي مثل مذهبهما عن بعض أصحابنا. وجه الظاهر المذهب أن الآية اعتبرت الرشد والصَّلاح مأخوذ من تَفْسِير الرشد. ثم يتصرف في ماله ويستديم الحَجْرَ عليه من كان يتصرف قبل البلوغ أباً كان، أو جداً، أو وَصِياً، أو حَاكِماً. فإن بَلَغَ رشيداً دفع إليه المال، وينفك الحَجْر عنه بنفس البلوغ والرُّشْد أو يحتاج إلى فَكِ القاضي؟ فيه وجهان: أرجحهما عِنْدَ صَاحِبِ "التهذيب": أنه يحتاج إلى فَكِّ القَاضِي، لأن الرُّشْدَ مما يعرف بالنَّظَرِ والاجْتِهَادِ، ويروى هذا عن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-. والثاني: وبه أجاب صاحب الكتاب وهو الأصح عند الإمام والمتولى، ويحكى عن ابنِ سُرَيْجٍ: أنه ينفك عنه؛ لأنه حجر لم يثبت بالحَاكِم فَلاَ يتوقف زواله على إِزَالَةِ الحَاكِم، كَحَجْرِ المَجْنُونِ يزول بمجرد الإِفَاقة، وهذا أولى، إلا لأَطْبَقَ النَّاسُ عَلَى طَلَبِ الَفَكِّ في أوائل البُلُوغِ، ولا يجدوه أهم مهماتهم. ثم قال المفرعون على الوجه الأول: إنه كما ينفك بفك القَاضِي ينفك بِفَكِّ الأب والجَدّ، وفي الوصي والقَيِّم وَجْهَانِ، وهذا يطعن في توجيههم إياه بالحَاجَةِ إلى النَّظَرِ والاجْتِهَادِ. وإذا قلنا: لا يزول حتى يزال فتصرفه قبل إِزَالَةِ الحَجْرِ كتصرف من أنشأ الحجر عليه بالسَّفَهِ الطَّارِئِ بعد البُلُوغِ، ويجري الخِلاف فيما إذا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيداً، ثُمَّ صَار رَشِيداً وإذا حصل الرُّشْدُ فلا فرق بين الرَّجُل والمَرْأَة، وبين أن تكون المرأة مزوجة أو لا تكون. وقال مالك -رحمه الله-: لا يدفع المالُ إِلَى المرأَةِ حتى تنكح، فإذا نكحت دفع إليها بإذن الزَّوْجِ، ولا ينفذ تَبَرُّعُهَا بِمَا زاد على الثُّلُثِ إلا بِإِذْنِ الزوج ما لم تصر عَجُوزاً. ولو عاد التبذير بعد ما بلغ رشيداً لم يطلق، ولم يمكن من التَّصَرّف، وكيف الحال؟ فيها وجهان: أحدهما: أنه يعود الحَجْر بنفس التبذير، كما لو جُنّ. وأصحهما: أنه لا يعود، ولكن يُعَاد، ومن الذي يُعِيدُه؟ لا خلاف في أن لِلْقاضي أن يُعِيدَه، وعن أبي يحيى البلخي فيما نقل ابْنُ كجٍّ -رحمه الله تعالى-: أنه يعيده الأَبُ والجَدُّ أيضاً، والمشهور تخصيصه بالقَاضِي؛ لأنه في مَحَلِ الاجْتِهَادِ.
ولو عاد الفسق دون الإتْفَاقِ في المعاصي وسائر وجوه التبذير. فإن قلنا: اقتران الفسق بالبلوغ لا يقتضي إدامة الحَجْرِ، وهي الطريقة المنقولة على وفاق أبي حنيفة، ومالك -رحمهما الله- فلا يحجر. وإن قلنا: يقتضيها فوجهان: أحدهما: وبه قال ابْنُ سُرَيْجٍ: أنه يُحْجَرُ عَلَيْهِ، كما يستدام به الحَجْر، وكما لو عَادَ التَّبْذِيرُ. وأصحهما: وبه قال أبو إسْحَاقَ لا يحجر؛ لأن الأولين لم يحجروا على الفَسَقَةِ، ويخالف الاستدامة، لأن الحَجْرَ ثُمَّ كَانَ ثَابتاً، والأصل بقاؤه وهاهنا ثبت الاطْلاَق، والأصل بقاؤه فلا يلزم من الاكتفاء بالفسق للاستصحاب الاكتفاء به لبراءة الأَصْلِ، ويخالف التبذير فإنا نتحقق به تَضْيِيعَ المَالِ، أو بالفسق لا يتحقق، فإنه ربما لا ينفق المال إلا فيما يسوغ هان كان فَاسِقاً، ومقصود هذا الحَجْرِ صيانةُ المَالِ، ولا يجيء في عود الفسق الوجه الذَّاهِب إلى مَصِيره محجوراً بنفس التبذير، قال الإِمام -رحمه الله- فإذا حجر على من طرأ عليه السَّفَه، ثم عادَ رَشِيداً فإن قلنا: الحجر عليه لا يثبت إلا بضرب القَاضِي، فلا يرتفع إلا برفعه. وإن قلنا: يثبت بنفسه ففي زواله الخِلاَف المذكور فيما إذا بَلَغَ رشيداً. ومن الذي يلي أَمْرَ من حَجِرَ عَلَيْهِ بالسَّفَهِ الطارئ. إن قلنا: إنه لاَ بُد من ضَرْبِ القاضي، فهو الذي يليه. وإن قلنا: إنه يصير محجوراً عليه بنفس السَّفه، فوجهان شبيهان بالوجهين فيما إذا طرأ عليه الجُنون بَعْدَ البُلوغِ. أحدهما: أنه يلي أمره الأب، ثم الجَدّ كما في حالة الصِّغَر، وكما إذا بلغ مجنوناً. والثاني: يَلِيه القَاضِي؛ لأن ولاية الأبِ قد زالت فَلاَ تَعودُ، والأول أَصَحُّ في صورة عُروض الجُنُون، والثَّانِي أصح في صُورَةِ عروض السَّفَهِ؛ لأن السَّفَهَ وزوالَه مُجْتَهَدٌ فيه فيحتاج إلى نَظَرِ الحَاكِمِ. ونعود إلى ما يتعلق بألفاظ الكتاب. قوله: (فإن اختل أحد الأمرين استمر الحجر) ينتظم إعلامه بالميم، والحاء، والواو، لما ذكرنا فيما إذا بلغ مصلحاً لماله فاسقاً. وقوله: (مهما حصل) أي: كلاهما (انفك الحجر) معلم بالواو؛ للوجه الصَّائِر إلى أنه لاَ بُدَّ من فَكِّه، وكذا قوله: (لم يعد الحجر) للوجه الذي مَرَّ في عود الحَجْرِ عند عود التبذير وقوله: (لأن الإطلاق الثابت لا يرفع إلا بيقن) ولا يتيقن الرشد مع واحد
من الأمرين، والإطلاق هاهنا متيقن، فلا يعاد الحجر إلَّا بتيقن احتلال الرشد، وذلك يعود للمعنيين جميعاً، وهذا قريبٌ من لفظه في الوَسِيط، وقضية خروج الصَّلاح في الدِّين، وإصلاح المَالِ عن أن يكون حقيقة الرشد، واعتبارها للاستدلال بهما على حصول الرُّشْدِ. واعلم أن كلام المُصَنِّف هاهنا، وفي "الوسيط" مُصَرح بأن عود مجرد الفِسْق والتبذير لا أثر له، وإنما المُؤَثِّر في عود الحَجْرِ، أو إعادته عَوْدُ الفِسْق والتبذير جميعاً، وليس الأمر كَذَلِك، بل الأَصْحَاب -رضي الله عنهم- مطبقون على أن عود التبذيرِ وَحْده كَافٍ في عَوْدِ الحَجْرِ، أو إعادته كما سبق بيانه (¬1). وقوله: (ثم يلي أمره القاضي أو وليد في الصبي، فيه وجهان) موضع الوجهين ما إذا قلنا: إن الحجر يعود بنفسه، أما إذا قلنا: إن القَاضِي هو الذي يعيدهُ، فهو الذي يَلِي أمره بلا خلاف. وقوله: (فصرف المال إلى وجوه البر ليس بتبذير) يمكن إعلامه بالواو للتفصيل المنقول عن الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ. وقوله: في الصرف إلى الأطعمة النفيسة (إنه تبذير) يجب إعلامه بالواو، ومعرفته أن الأظهر عند الأئمة -رحمهم الله- خلاف ما ذكره. وقوله: (فإذا انضم الفسق إليه أوجب الحجر) بناء على ما قدمه من اعتبار اجتماع الأمرين، وقد عرفت أن الصَّحِيحَ المعتمد خلافه. فرع: لو كان يُغْبَن في بعض التصرفات خَاصَة، فهل يحجر عليه حَجْراً خاصاً في ذلك النوع؟ فيه وجهان، لبعد اجتماع الحَجْرِ والإطلاق في الشَّخْصِ الوَاحِدِ. فرع: الشحيح على نفسه جداً مع اليسار، قال في "البيان": فيه وجهان عن الصيمري، والأصح المنع. قال الغزالي: ثُمَّ فَائِدَةُ الحَجْرِ سَلْبُ اسْتِقْلاَلِهِ في التَّصَرُّفَاتِ المَالِيَّةِ كَالبَيْع وَالشِّرَاءِ (و) وَالإِقْرَارِ بِالدِّيْن (م)، وَكَذَا الهِبَةُ، وَفِي سَلْبِ عِبَارَتهِ عِنْدَ التَّوْكِيلِ بِهِ خِلاَفٌ، وَعَلَيْهِ يُبتَنَى صِحَّةُ قَبُولهِ الوَصيَّةَ وَالهِبَةَ، وَلاَ حَجْرَ عَلَيْهِ فِيمَا لاَ يَدْخُلُ تَحْتَ الحَجْرِ كَالطَّلاَقِ وَالظِّهَارِ وَالخُلْعِ وَاسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ وَنَفْيهِ وَالإقْرَارِ بِمُوجِبِ العُقُوَبَاتِ؛ لِأَنَهُ مُكَلَّفٌ وَالوَلِيُّ لاَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ فَلاَ بُدَّ وأَنْ يَتَوَلاَّهُ بِنَفْسِهِ، وَالأَصَحُّ: أنَّهُ لاَ يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِإِتْلاَفِ مَالِ الغَيْرِ كَالصَّبِيِّ، وَيَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِالحَجِّ ثُمَّ يُمْنَعَ الزَّادَ إنْ لَمْ يَكُن فَرْضاً عَلَيْهِ، ثُمَّ حُكْمُهُ حُكْمُ ¬
المُحْصَر أَو المُحْرم المُفْلِسِ حَتَّى لاَ يَتَحَلَّلَ إِلَّا بِلِقَاءِ البَيْتِ فِيهِ خِلاَفٌ. قال الرَّافعِيُّ: الغرض الآن الكلام فيما ينفذ من السَّفِيه المحجور عليه من التَّصَرُّفَاتِ، وما لا ينفذ وفيه مَسَائِل: أحدها: لا يصح، منه العقود التي هي في مظنة الضَّرر المَالِي، كالبيع والشِّراء، والإعتاق (¬1)، والكتابة، والهبة، والنكاح، ولا فرق بين أن يشتري بِعَيْنِ ماله أو في الذمة، وفي شرائه في الذِّمَّةِ وجهٌ ضعيفٌ، تخريجاً من شراء العَبْدِ بغير إذْنِ مَوْلاَه، والمذهب الأول؛ لأن هذا الحَجْرَ إنما يشرع نظراً للمبذر، وذلك يقتضي الرّد حالاً ومالاً، والحجر على العبد لحق المولى، فلا يمتنع التَّصْحِيحِ بحيث لا يضر بالمولى، وإذَا بَاعَ وأقبض استرد من المشتري، فلو تَلَفَ في يَدِهِ ضَمِن، فلو اشترى وقبض واستقرض فتلف المأخوذ في يده أو أتلفه فلا ضَمَان عليه، ومن أقبضه فهو الذي ضَيَّعَه، ولوليه استرداد الثَّمن إن كان قد أَقْبَضَهُ، ولا فرق بين أن يكون من عامله عالماً بحاله أو جاهلاً؛ إذ كان من حقه أن يتجنب ولا يعامل إلا عَنْ بَصِيرَة، وكما لا يجب الضَّمَانُ في الحَالِ لا يجب بعد رفع الحَجْرِ؛ لأن هذا الحَجْرَ لمصلحته فأشبه الصَّبِي، لكن الصبي لا يأثم، والسَّفِيه يأثم؛ لأنه تَكَلُّف، وفيما إذا أتلفه بنفسه وجه أنه يضمن عند رفع الحَجْرِ عنه (¬2)، وهذا كُلُّه فيما إذا استقل بهذه التَّصَرُّفَاتِ، أما إذا أذن له الولي نظر إن أطلق الإذْن فهو لَغْوٌ، وإن عين له تصرفاً أو قدر العوض فوجهان: أصحهما عند المصنف: أنه يَصِح كما لو أذن له في النِّكاح، وهذا لأن المقصود أن لا يضر بنفسه ولأيتلف ماله، فإذَا أذن الولي أمن مِنَ المَحْذُورِ. والثاني: وهو الأصحِ عند صاحب "التهذيب": المنع، كما إذا أَذِن للصَّبِىِّ (¬3)، ويخالف النكاح؛ لأن المَال فيه تبع، ومقصود الحَجْرِ حفظ المالِ عليه، على أنَ الإِمَامَ -رحمه الله- أشار إلى طَرْدِ بعضهم الخِلاَفَ في النِّكَاحِ. ¬
فإن قلنا: لا يصح، فقد سلبنا بالحَجْرِ عبارته. وإن قلنا: يصح، فالمسلوب هو الاستقلال، وعلى الوجهين يخرج ما إذا وكله غيره بِشَيْءٍ من هذه التصرفات، هل يصح عَقْدُه للموكل؟ وفيما إذا اتَهب، أو قبل الوصية لِنَفْسِه (¬1). ولو أودعه إنسانٌ شيئاً فلا ضمان عليه لو تلف عنده، ولو أتلفه فقولان كما لو أودع صبياً. الثانية: لو أقر بدَيْن معاملة لم يقبل، سواء أسنده إلى ما قبل الحَجْرِ أو بَعْدَه كالصَّبِي، وفيما إذا أسنده إلى ما قبل الحَجْرِ، وَجه أنه يقبل تخريجاً من الخِلاَف، في أن المفلس إذا أقر بدين سَابِقٍ على الحَجرِ، هل يزاحم المقر لَهُ الغُرَمَاء؟ ولو أقر بإِتْلاَفِ مالٍ أو جنايةٍ توجب المَالَ فقولان: أحدهما: يقبل؛ لأنه لو أثبتنا الغصب أو الإتلاف يَضْمن، فإذا أَقَرَّ بِهِ يُقْبَل. وأصحهما: الرد كما لو أقر بدَيْنِ مُعَامَلَةٍ، ولا يؤخذ بعد فَكِّ الحَجْرِ عنه بما أقر به ورددناه، ولو أقر بما يوجب عليه حداً أو قصاصاً قُبِلَ؛ لأنه مُكَلَّف، ولا تعلق لهذا الإقرار بالمال متى يتأثر بالحَجْرِ، ولو أقر بِسَرِقَةٍ توجب القَطع قُبِلَ قَوْلُه في القَطْعِ، وفي المَالِ قولان كالعَبْدِ إذا أَقرَّ بِسَرِقَةٍ، هذا إن قلنا: لا يقبل إقراره بدين الإتْلاَف فإن قلنا: فأولى أن يُقْبَل هاهنا. ولو أقر بقصاص، فعفى المُسْتَحِق على مَالٍ فالصحيح يَنُوب المال؛ لأنه يتعلق باختيار الغَيْرِ لا بإقراره، ولو أَقَرَّ بِنَسَبٍ ثبت النَّسَبُ، وينفق على الوَلَدِ الذي استلحقه من بيت المال. ولو ادعى علية دين معامله لزمة قبل الحجر، وأقام عليه بينة سُمِعَت، وإن لم يكن بينة. فإن قلنا: إن النكول ورد اليمين كالبينة سُمِعَت. وإن قلنا: كالإقرار فلا؛ لأن غايته أن يقر، وإقراره، غير مقبول. الثالثة: يصح منه الطَّلاق؛ لأنه لا يدخل تحت حجر الولي وتصرفه، ألا ترى أن الوَلِيَّ لا يطلق أصلاً؟ بل المحجور عليه يطلق بنفسه إذا كان مكلفاً كالعَبْدِ، وأيضاً فإن الحَجْرَ لإبقاء مَالِهِ عليه والبضع ليس بِمَالٍ، ولا هو جَارٍ مجرى الأموالِ، ألا ترى أنه لا ينتقل إلى الوَرَثَةِ، ولا يمنع المَرِيض من إزالة المَالِ عَنْه؟ وإِذَا صَحَّ الطلاق مجاناً فالخُلْعُ أولى بالصَّحَة، وكذلك يَصِحّ منه الظَّهَارُ والرَّجْعَةُ، وَنَفْيُ النَّسَب باللّعَانِ وما أشبهه؛ لأن هذه العقود لاَ تَعَلُّقَ لَهَا بِمَالٍ. ¬
ولو كان السفيه مطلاقاً مع حاجته إلى النّكاح سرى بجارية فإن تبرم منها أُبْدِلَتْ. الرابعة: حكم السفيه في العِبَاداتِ حكم الرَّشِيد، لكنه لا يفرق الزّكاة بِنَفْسِهِ، فلو أحرم بغير إذْنِ الوَلي انعقد إحرامه، ثم ينظر إن أحرم بَحَجِّ التطوع وزاد ما يحتاج إليه للسَّفَرِ على نفقته المعهودة ولم يكن له في الطريق كسْبٌ يفي بتلك الزيادة فللولي منعه، ثم كيف سبيله؟ نقل الإمام -رحمه الله- وجهين: الأصح: الذي أورده أكثرون: أنه كالمُحْصَرِ حتى يتحلل بالصَّوْمِ، إذا جعلنا لِدَمِ الإحْصَارِ بَدَلاً؛ لأنه محجورٌ فِي المَالِ. والثاني: أن عجزه عن النفقة لا يُلْحِقه بِمُحصَرٍ، بل هو كالمُفْلِس الفَاقِدِ للزّادِ والراحلة، لا يتحلل إلا تِلْقَاء البَيْتِ، وإن لم يزد مَا يَحْتَاجُ إليه على النَّفَقَةِ المعهودة، أو كان يكتسب الطَّرِيق ما يفي بالزِّيَادَةِ لم يمنعه الولي، بل ينفق عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، ولا يسلمه إلَيهِ، بل إلى ثِقَةٍ لينفق عليه في الطَّرِيق. وإن أحرم بحجة مفروضةٍ كحجة الإسْلاَم والحجة المنذورة قبل الحَجْرِ، أنفق عليه الوَلِيُّ كما ذَكَرْنَا، قال في "التتمة": والحجة المنذورة بعد الحجر، كالمنذورة قبله إن سلكنا بالنذر مسلك واجب الشَّرْع، وإلا فهي كحجة التطوع. ولو نذر التصدق بعين مالٍ لم ينعقد، وفي الذمة ينعقد. ولو حلف انعقد يمينه، ويكفر عند الحِنْثِ بالصَّوْمِ كالرقيق (¬1). قال الغزالي: وَوَلِيُّ الصَّبيِّ أبُوهُ أَوْ جَدُّهُ وَعِنْدَ عَدَمِهِمَا الوَصِيُّ، فإنْ لَمْ يَكُنْ فَالقَاضِي، وَلاَ وَلاَيَةَ لِلأُمِّ (و)، وَلاَ يَتَصَرَّفُ الوَليُّ إِلاَّ بِالغِبْطَةِ، وَلاَ يَسْتَوْفِي قِصَاصَهُ (ح) وَلاَ يَعْفُو عَنْهُ وَلاَ يَعْتِقُ، وَلاَ يُطْلِقُ بعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ، وَلاَ يَعْفُو عَنْ حَقِّ شُفْعَتِهِ إِلاَّ لِمَصْلَحَتِهِ، فَلَوْ تُرِكَ فَلَيْسَ لَهُ الطَّلَبُ بَعْدَ البُلُوغِ عَلَى الأَصَحِّ (و)، وَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ بِالمَعْرُوفِ من مَالِهِ إِنْ كَانَ فَقِيرًا، وَإِنْ كَان غَنِيًا فَلْيَسْتَعْفِف. ¬
قال الرَّافِعِيُّ: هذه البقية لبيان من يلي أَمْرِ الصبي، وفي معناه المَجْنُون، وأنه كيف يتصرف؟ أما الذي يليه فهو الأب ثُمَّ الجُدُّ، كما في ولاية النِّكاح، فإن لم يكونا فالوصي المنصوب من جهتهما، فإن لم يكن فالولاية لِلْقَاضِي، أو من يُنَصِّبُهُ القاضِي (¬1). وظاهر المذهب: أن لا ولاية لْلأُم، كما ليس لها ولاية النِّكَاحِ، وعن أبي سعيد الإصْطَخْرِي -رحمه الله- أن لها ولاية المَالِ بعد الأبِ والجَدِّ، وتقدم على وصيهما لزيادة شفقتها. وأما كيفية التَّصَرُّفِ، فالقول الجملي فيه اعتبار الغِبْطَة، وكون التَّصَرُّفِ على وجه النَّظَرِ والمَصْلَحَةِ، وفي الفصل صور. منها: يجوز للولي أن يَشْتَرِي لَهُ العقار، بل هو أولى من التِّجَارَةِ لمّا فيها من الأَخْطَارِ، وانحطاط الأَسْعَارِ، فإن لم يكن فيه مصلحة لنقل الخراج، أو جَوْرِ السّلطان، أو إشراف المَوْضِع على البَوَارِ لم يجز، ويجوز أن يبني له الدورَ والمساكِنَ، ويبنى بالآجر (¬2) أو الطين؛ لأنّ الأجر يبقى في العمارة، والطين قليل المؤنة والجص، ولا يبنى باللبن والطين لِقلَّةِ بَقَائِهِ، وذكر القاضي الرّويَانِي -رحمه الله- أن كثيرًا من الأصحاب -رحمهم الله- جوزوا البناء له على عادة البلد كيف كانت، قال: وهو الاختيار (¬3)، ولا يبيع عقاره إلا لِلْحَاجَة، مثل أن لا يكون له ما يصرفه إلى نفقته وكسوته ¬
وقصرت غلته عن الوَفاءِ بهما ولم يجد من يقرضه، أو لم ير المصلحة فيه أو الغبطة، مثل أن يكون ثقيل الخَراج، أو يرغب شَريك، أو جار بأكثر من ثمن المثل، وهو يجد مِثْلَه ببعض ذلك الثَّمَنِ. وله بيع ماله نَسِيئة، وبالعرض إذا رأى المَصْلَحَة فيه، فإذا باع نسيئة زاد على ثمنه نقدًا، وأشهد عليه وارتهن به رهنًا وافيًا، فإن لم يفعل ضَمِن، هكذا قاله المعظم، وروى الإمام وجهًا في صِحَّةِ البَيْعِ، إذا لم يرتهن وكان المشتري مَلِيًّا، وقال: الأصح الصحة، ويشبه أن يذهب القَائِل باَلصِّحَّةِ، إلى أنه لا يضمن، ونجوزه اعتمادًا على ذمة المَلِئ، ولا يحتاج الأَبُ إِذَا بَاعَ مالَ وَلَدِهِ من نَفْسِهِ نسيئة أن يرتهن من نفسه، بل يؤتمن في حَقِّ وَلَدِهِ، وإذا بَاعَ الأبُ والجَدّ عقاره، فيُرْفَعُ الأَمْرُ إلى القَاضِي، سجل على بيعه ولم يكلفه إثبات الحاجة أو الغبطة (¬1)، فإذا بلغ الصبي وادعى على الأب والجَدّ بيع ماله من غير مَصْلَحَةٍ، فالقول قولهما مع اليمين وعليه البينة، وإن ادعاه على الوَصِي أو الأمين، فالقول قوله في العقار، وعليهما البينة، وفي غَيْرِ العَقَارِ وجهان: أظهرهما: أنها كالعقار، والفرق عسر الإشهاد في كل قَلِيلٍ وكثير يبيعه، ومنهم من أطلق وجهين من غير فرق بين وَلِيٍّ وَوَلِيٍّ، وبين العقار وغيره، ودعواه على المشتري من الولي هي على الولي، وليس للوصي والأمين بيع ماله من نفسه ومال نفسه منه، روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يَشْتَرِي الْوَصِيُّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ" (¬2) وللأب والجَدّ ذلك، وبيع مال أَحَدِ الصغيرين من الآخر، وهل يشترط أن يقول: بعت واشتريت كما لو باع من غيره؛ أم يكتفي بأحدهما، فيقوم مقامهما، كما أقيم الشّخص الواحد مقام اثنين؟ فيه وجهان تعرضنا لهما في أول البيع، وإذا اشترى الوَلِي للطِّفْلِ فليشتر من ثقة، وحيث أمر بالارتهان لم يقم أخذ الكفيل مَقَامه. ومنها: لا يستوفى القِصَاص المستحق له، لأنه ربما يرغب في العَفْوِ ولا يعفو، لأنه ربما يختار الاستيفاء تشفيًا، ولا يعتق عبيده لا بعوض، ولا مجانًا، ولا يكاتبهم، ولا يهب أمواله، لا بشرط الثَّواب ولا دونه، إذ لا يقصد بالهِبَةِ العِوَض، ولا يطلق زوجته لا مجانًا ولا بعوض، ولو باع شريكه شقصًا مشفوعًا، فيأخذ ويترك بحسب المصلحة، فإن ترك بحكم المَصْلَحة ثم بلغ الصبي وأراد أخذه فوجهان: أصحهما: أنه لا يمكن كما لو أخذ بِحُكْمِ المَصْلَحة ثم بلغ الصبي وأراد رده. ¬
والثاني: يمكن؛ لأنه لو كان بالغًا لكان له الأخذ، وافق المصلحة أو خالف، والأخذ المخالف للمصلحة لم يدخل تحت ولاية الوَلِي، فلا يفوت عليه في تَصَرُّفِ الولي. ومنها: ليس للولي أخذ أُجْرَة ولا نفقة من مَالِ الصَّبي إن كان غنيًا، وإن كان فقيرًا فإن قطع بسببه عن اكتسابه فله أخذ قدر نفقته، قال الله -تعالى-: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} (¬1) الآية، وفي تعليق الشيخ أَبِي حامِدٍ -رحمه الله- أنه يأخذ أقَلّ الأمرين، من قدر النَّفَقَةِ وأجرَةِ المثل (¬2)، والقول في أنه: هل يستبد بالأخذ؟ يأتي في كتاب النكاح -إن شاء الله تعالى-. وهل عليه الضمان ما أخذ كالمضطر إذا أكل طعام الغير أم لا؟ كالإمام إذا أخذ الرزق من بيت المال؟ فيه قولان (¬3). وللولي أن يخلط مَالَهُ بِمالِ الصّبي ويواكله، قال الله -تعالى-: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} (¬4) وقاس ابْنُ سُرَيْجٍ عليه ما إذا خلط المسافرون أزوادهم وتناهدوا، وقال: لعل هذا أولى بالجَوازِ، وإن تفاوتوا في الأكل؛ لأن كلًّا منهم من أهْلِ المُسامَحَةِ (¬5). هذه صور الكتاب وشرحها. ومنها: يجب عليه أن ينفق عليه ويكسوه بالمُعْرُوف، ويخرج من ماله الزّكاة وأَرْش الجنايات، وإن لم تُطْلَب، ونفقة القريب بعد الطَّلَبِ (¬6). ومنها: إن دعت ضرورة حريق أو نهب إلى المُسَافرة بماله سافر وإلا، فإن كان الطريق مخوفًا لم يُسَافِرْ بِهِ، وإن كان آمنًا فوجهان: ¬
الذي أورده الأصحاب -رحمهم الله- من العراقيين المَنْع، كالمسافرة بالوديعة. والثاني: -وهو الأصح- الجَواز؛ لأن المَصْلَحَةَ تقتضي ذلك، والولي مأمور بالنَّظَرِ بخلاف المودع، وإذا كان له أن يُسَافر كان له أن يبعثه على يَدِ أَمِينٍ (¬1). ومنها: ليس لِغَيْرِ القاضِي إقراض مال الصبي إلا عند ضرورة نهب أو حريق وإذا أراد سفرًا، ويجوز لِلْقَاضِي الإقراض وإن لم يقرض شيءٌ من ذلك لكثرة أشْغَالِهِ، وسوى أبو عبد الله الحَنَّاطِيّ -رحمه الله- بَيْنَ القَاضِي وغيره، ولا يجوز إيداعه مع إمكان الإقراض في أصَحِّ الوجهين، فإن عجز عنه فله الإيداع، ويشترط فيمن يُودع عنده الأمانة، وفيمن يقرضه الأمانة واليسار جميعًا، فإذا أقرض فإن رأى أن يأخذ به رَهْنًا أخذه، وإلا تركه (¬2)، والله أعلم. ¬
كتاب الصلح
كِتَابُ الصُّلْحِ قال الغزالي: وَفِيهِ ثَلاثَةُ فُصُولٍ: الفَصْلُ الأَوَّلُ في أَرْكَانِهِ وَهُوَ مَعَاوَضَةٌ لَهُ حُكْمُ البَيْعِ إِنْ جَرَى عَلَى غَيْرِ المُدَّعَي، فالصُّلْحُ لا يِخَالِفُ البَيْعَ إِلاَّ في ثَلاَثِ مَسَائِلَ: الأُولَى -قالَ صَاحِبُ "التَّلْخِيصِ" يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى أُرُوشِ الجِنَايَاتِ وَلا يَصِحُّ بِلَفْظِ البَيْعِ، وَأَنْكَرَ الشَّيْخُ؛ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ وَقالَ: إِنْ كَانَ مَعْلُومَ القَدْرِ والصِّفَةِ جَازَ بِاللَّفْظَيْنِ وَإِلاَّ امْتَنَعَ (ح) باللَّفْظَيْنِ، وَإِنْ عَلِمَ القَدْرَ دُونَ الوَصْفِ كَإبِلِ الدِّيَةِ فَفِي كِلا اللَّفْظَيْنِ خِلاَفٌ. الثَّانِيَةُ -أَنْ يُصَالِحَ عَنْ بَعْضِ المُدَّعَى فَهُوَ جائِزٌ فَيَكُونُ بِمَعْنَى هِبَةِ البَعْضِ وَلَفْظُ البَيْعِ لا يَنُوبُ مَنابَهُ فِي هَذا المَقَامِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ بِلَفْظِ الصُّلْحِ أَيْضاً لاَ يَصِحُّ. الثَّالِثَةُ -إِذَا قَالَ ابْتِدَاءً لِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ خُصُومَةٍ: صَالِحْنِي مِنْ دَارِكَ هَذِهِ عَلَى أَلْفٍ فَفِيهِ خِلاَفٌ إِذْ لَفْظُ البَيْعِ وَاقِعٌ فِيهِ، وَلا يُطْلَقُ لَفْظُ الصُّلْحِ إِلاَّ فِي الخُصُومَةِ. قال الرَّافِعِيّ: فسر الأئمة -رحمهم الله- الصُّلْحَ (¬1) في الشَّرِيعة بالعقد الذي ينقطع به خُصُومة المتخاصمين، وليس ذلك على سَبِيلِ التحديد (¬2)، ولكنهم أرادوا ضربًا من ¬
التعريف مشيرين إلى أن هذه اللفظة تستعمل عند سبق المُخَاصمة غالبًا، والمخاصمات والمزاحمات المحوجة إلى المُصَالحة تارة تقع في الأَمْلاَك، وتارة في المشتركات كالشوارع وغيرها، والتعامل تَارةً يقع بالصُّلح، وتارة بظهور جانب أحد المتنازعين باختصاصه بما يشعر بالاستحقاق، فلاشتباك هذه الأمور بعضها ببعض، نسلك في الباب في كلام الشَّافعي -رضي الله عنه- للأصحاب -رحمهم الله- مع أحكام الصلح المعقود لها الفصل الأول: بيان المشتركات التي يقع فيها التزاحم صور يترجح فيها جانب أحد المتنازعين، أو يظن رُجْحَانه، وقد عقد صاحب الكتاب لهما الفَصْل الثَّانِي، والثَّالث. والأصل في الصلح: ما روى عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلالًا" ووقفه على عمر -رضي الله عنه- أشْهَر (¬1)، وعن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزنى، عن أبيه عن جَدِّه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْمُؤْمُنِونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلالًا، وَالصّلْحُ جَائِزٌ" (¬2). إذا عرفت ذلك، فالصلح إما أن يجري بَيْنَ المتداعيين، أو بين المُدَّعِي وأجنبي، والقسم الأول على وجهين. أحدهما: صُلْحُ المُعَاوَضَةَ، وهو الذي يجري على غير العين المُدَّعَاة، كما إذا ادعى دارًا فأقر بها المُدَّعَى عَلَيْهِ، وصالحه بِها على عُبْدٍ أو ثوب، وهذا الضّرب حكمه حكم البيع، وإن عقد بلفظ الصُّلْحِ، وتتعلق به جميع أحكام البَيْعِ كالرد بالعَيْبِ، والشفعة، والمنع من التَّصَرُّفِ قبل القَبْضِ، واشتراط القبض إن كان المَصَالح عنه والمصالح عليه متوافقين في علة الرِّبا، واشتراط التساوي في مِعْيَار الشَّرْع إن كانا من جِنْسٍ واحد من أموال الرِّبَا، وجريان التَّخَالف عند الاختلاف ويفسد بالغرر والجَهْلِ، والشروط الفاسدة فَسَاد البَيْعِ، وكذا إذا صالح منها على منفعة غير مَعْلُومَةٍ جاز، وكان هذا الصّلح إجارة، كأنه استأجر الدار أو العبد بالعين المُدَّعاة، فيثبت فيه أحكام الإِجَارَات. ¬
الضرب الثاني: ضرب الحَطِيطة: وهو: الجاري على بعض العين المدعاة، كما إذا صالَحَ من الدَّارِ المدعاة على نصفها أو ثلثها، أو من العبدين على أَحَدِهِمَا، فهذا هبة بَعْض المدعى ممن هُو في يَدِه، فيشترط القبول، ومضى إمكان مُدَّةِ القَبْضِ، وفي اشتراط الإذْن الجديد في القبض الخلاف المذكور في بَابِ الرَّهْنِ، ويصح بلفظ الهِبَة وما في مَعْنَاها، وهل يصح بلفظ الصُّلْحِ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن الصُّلْحَ يتضمن المُعاوَضَة، ومحال أن يعامل الإنسان ملك نفسه ببعضه. وأظهرهما: الصحة؛ لأن الخَاصِّيَّة التي يفتقر إليها لَفْظ الصلح هو سبق الخصومة وقد حصلت، ثم هو منزل في كل موضع ما يقتضيه الحال كَلَفْظِ التَّمْلِيكِ، ولا يصح هذا الضَّرْب بِلَفْظِ البَيْعِ، وهذه إحدى المَسَائِل الثلاث التي ذكر صَاحِبُ الكِتَابِ، أن الصُّلْحَ يخالف البَيْعَ فِيهَا، وذلك على الوَجْهِ الأظْهَرِ. وأما إذا قلنا: إنه لا يصح بلفظ الصُّلْحِ أيضًا، فلا فرق بين اللفظين. المسألة الثانية: ذكر ابْنُ القَاصِّ في "التلخيص": أنه إذا صالَحَهُ مِنْ أَرْشِ المُوَضّحَةِ على شَيْءٍ معلومٍ جَاز إذا عَلِمَا قَدْرَ أَرْشِهَا، ولو باع لَمْ يَجُزْ، وخالفه مُعْظَمُ الأَصْحَابِ في افتراق اللفظين، قالوا: إن كان الأرش مجهولاً كالحكومة التي لم تقدر ولم تضبط لم يجز الصلح عنه، ولا بيعه، وإن كان معلوم القَدْرِ والصفة كالدراهم والدَّنَانِير إذا ضبطت في الحكومة جاز الصُّلْحُ عَنْهَا، وجاز بيعها مِمَّنْ عَلَيْهِ، وإن كان معلوم القدر دُونَ الصِّفَةِ على الحَدِّ المعتبر في السَّلَم كالإبل الواجبة في الدِّيَةِ، ففي جواب الاعتياض عنها بِلَفْظِ الصُّلح، وبلفظ البيع جميعًا وَجْهَانِ، ويقال: قولان: أحدهما: أنه يصح، كما لو اشترى عينًا، ولم يعرف صفاتها، وأظهرهما فيما ذكر الشيخ أَبُو الفَرَجِ السَرْخَسِي (¬1): المنع، كما لو أسلم في شيء ولم يصفه، وهذا في الجراحة التي لا توجب القود، أما في النَّفْسِ أو فيما دونها فالصلح عنها مَبْنِيّ على الخِلاَفِ في أن موجب العَمْدِ ماذا؟ وسيأتي في موضعه -إن شاء الله تعالى-. والمسألة الثالثة: لا شك أنه لو قال -من غير سبق خصومة-: يعني دارك هذه ¬
بكذَا فباع يَصِح، ولو قال -والحالة هذه-: صالحني عن دارِك هَذِهِ بألف، فعن الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ فيه ذكر وجهين. أحدهما: الصحة؛ لأنّ مثل هذا الصُّلح معاوضة، فسواء عقد بهذه اللّفَظَة، أو بِهَذِهِ اللفظة. وأظهرهما: المنع؛ لأنّ مثل هذا الصُّلْح معاوضة لا يطلق ولا يستعمل، إلا إذا سبقت خُصُومة، فعلى هذا يخالف الصُّلْحُ البَيعَ، وكأن هذا الخلاف مفروض فيما إذا استعملا لفظ الصُّلْح ولم ينويا أو أحدهما شيئًا، فأما إذا استعملا ونويا البيع فإنه يكون كِنايةً بِلا شَكٍّ، ويكون على الخلاف المَشْهُورِ في انعقاد البَيْعِ بالكِنَايَاتِ، والقياس عود مَسائِل الاستثناء في الصُّلْحِ الذي ذكرنا أنه إجارة بلا فَرْق. وأعود الآن إلى البَحْثِ عن لفظ الكتاب، ونظمه. قوله: (الفصل الأول في أركانه) أركان الصُّلْح على المعهود من كلام صاحب الكتاب: المتصالحان والمصالح عليه، والمصالح عنه، وليس في الفَصْلِ تعرض لها أو لشروطها، وإنما الذي يتضمنه بَيَان الصَّحِيح من الصُّلْح والفاسد، وأن الصحيح منه من أي قبيل هو؟ فإذن الفصل ببيان الأحكام أشبه مِنْهُ بالأركان، وقوله: (والصلح لا يخالف البيع إلا في ثلاث مسائل). إما أن يحمل على كل صُلْحٍ أو على الصُّلْح المَذْكُورِ قَبْلَ هَذا الكَلاَمِ، وهو الصُّلْحُ الجارِي على غير المُدَّعي، وَظاهر أن الأوّل غَيْرُ مرادٍ لأنواع الصُّلْح التي ليست بنوع ولو أراد ذلك لما احتاج إلى تقييد ما قبله بقوله: (إن جرى على غير المدعي)، والثاني فيه توقف أيضًا لأنّ إحدى المسائل الثلاث ما إذا صالح على بعض المدعي، والصلح على بَعْضِ المدعي لا يندرج في الصُّلْحِ على غير المدعي حتى يستثنى منه إلا أن يراد بالغير كل ما يصدق أن يقال إنه ليس هو دون الخارج عن الذَّاتِ، لكنه بعيد عن الفَهْمِ في مثل هذه المواضع، وربما يوجد في بَعْضِ النُّسَخِ إن جرى عَلَى عَيْنِ المدعي بدل غير المدعي، وهو فاسد؛ لأنّ الصُّلْحَ على كل المدعي لا معنى له، وعلى بعضه لا يكون بيعًا ألبتة ولو كان مكانها إن جرى على العين المدعاة ليكون قسيمًا، لقوله: من بعد (وإن صالح عن الدين) ويتضح استثناء المسألة المذكورة لكان أحسن لكن الصُّلح في مسألة الصُّلْح عن الأَرْشِ صلح عن الدَّيْنِ، فلا يَدْخُلُ حينئذ حتى يستثنى مخالفة الصُّلْح البيع؛ لأنه لا ينحصر في الصور الثلاث، بل من صورها الصُّلْح عن القِصَاص فإنه صَحِيحٌ، ولا مجال للفظ البيع فيه. ومنها: قال صاحب "التلخيص": لو صالحنا أهل الحرب من أموالهم على شيء نأخذه منهم جَازَ، ولا يقوم مقامه البَيْع، واعترض عليه القُفَّالُ، بأن تلك المصالحة
ليست مصالحة عن أموالهم على شَيْءٍ نأخُذُه، وإنما نُصَالِحُهُمْ ونأخذ منهم للكف عن دِمَائِهِمْ وأموالهم، وهذا قويم لكنه لا يخدش مخالفة اللَّفْظَيْنِ؛ لأن لفظ البَيْع لا يجري في أمثال تلك المصالحات وقوله: (فأنكر الشيخ أبو علي) هذا قد ذكره الشَّيْخُ على أحسن وجه، كما هو دأبه، لكنه ليس مبتدئًا بهذا الكَلاَم حتى ينسب إليه، بل الأئمة -رحمهم الله- ذَكَرُوه قَبْلَه، منهم الشيخ القَفَّالُ. قوله: (وإلا امتنع باللفظين) يجوز إعلامه بالحاء؛ لأنّ عند أبي حنيفة يَجُوز الصُّلْح عن المجهول أرشًا كانَ أو غيره، وبه قال أحمد -رحمه الله-. لنا: القياس على المُصَالَحِ عليه، فإنه لا بد وأن يكون معلومًا بالاتفاق. وقوله: (وقيل إنه بلفظ الصُّلْح أيضًا لا يصح) أي: لا بد من لفظ الهبة؛ لأنه غير صحيح أصلًا. قال الغزالي: وَأَمَّا الصُّلْحُ عَنِ الدَّيْنِ فَهُوَ كَبَيْعِ الدَّيْنِ، فَإِنْ صَالَحَ عَلَى بَعْضِهِ فَهُوَ إِبْرَاءٌ (و) عَنِ البَعْضِ، وَلَوْ صَالَحَ مِنْ حَالٍّ عَلَى مُؤَجَّلٍ أَوْ مُؤَجَّلٍ على حَالٍّ أَو صَحيح عَلَى مُكَسَّرِ أَو مُكسَّرٍ عَلَى صحِيحِ فَهُوَ فاسِدٌ لأَنَّهُ وَعْدٌ مِنَ المُسْتَحِقِّ أَو المُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ لاَ يَلْزَمُ الوَفَاءُ بِهِ، وَلَوْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ مُؤَجَّلٍ عَلَى خَمْسِمَاَئَةٍ حَالٍّ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لأنَّهُ نَزَلَ عَنْ القَدْرِ لِلحُصُولِ علَى زِيَادَةِ صِفَةٍ، وَلَوْ صَالَحَ عَنْ أَلْفٍ حَالٍّ علَى خَمِسْمَائَةٍ مُؤَجَّلٍ فَهُوَ إِبْرَاءٌ عَنْ خَمْسِمَائَةٍ وَوَعْدٌ فِي البَاقِي لاَ يَلْزَمُ. قال الرَّافِعِيُّ: النوع الثاني: عن الدَّيْنِ، وله ضربان. أحدهما: صُلْحُ المعاوضة: وهو الجَارِي على عَيْنِ الدَّينِ المُدَّعَى (¬1)، فينظر إن صَالَح على بعض أموال الرِّبَا على ما يوافقه في العِلَّة، فلا بد من قَبْضِ العِوَضِ في المَجْلِسِ، ولا يشترط تعيينه في نَفْسِ الصُّلْحِ على أصَحِّ الوجهين، وإن كانَ ديْنًا صَحَّ الصُّلْحُ في أصح الوجهين لكن يشترط التعيين في المَجْلِس، ولا يشترط القبض بعد التعيين في أصح الوَجْهَيْنِ، وكل هذا ذكرناه مُوَجَّهًا في البَيْعِ للدَّيْنِ مِمَّنْ عليه الدَّين. وقوله في الكتاب: (فهو كبيع الدين) إشارةٌ إلى هذه الجملة. والضرب الثاني: صُلْحُ الحَطِيطَةِ: وهو الجاري على بعض الدَّيْنِ المُدَّعَى، فهو ¬
إبراءٌ عَنْ بَعضِ الدَّيْنِ (¬1)، فإن استعمل لفظ الإبراء أو ما في مَعْنَاه، كما إذا قال: أبرأتك عن خمسمائة من الألْفِ الذي عليك وصالحتك عَنِ الباقِي، برئت ذمته عما أبرأه منه ولم يشترط القبول، وفيه وجه بعيد يشرط في كل إِبْرَاء، ولا يشترط قَبْضُ البَاقِي في المَجْلِسِ، وإن اقتصر على لَفْظِ الصُّلْحِ، فقال: صالحتك عن الألف الذي لِي عَلَيْك على خمسمائة فوجهان، كنظيرهما في صُلْحِ الحَطِيطَةِ في العَيْنِ. والأصح: الصحة، ثم هَلْ يشترط القَبُول؟ فيه وجهان كالوجهين فيما إذا قال لمن عليه الدين: وَهَبْتُهُ مِنْكَ، والأظهر الاشتراط، لأنّ اللفظ بوَضْعِهِ يقتضيه، ولو صالح منه على خمسمائة معينة فالوجهان جاريان، ورأى الإمام وجه الفَسَاد هاهنا أظهر؛ لأنّ تعيين الخمسمائة يقتضي كَوْنُها عِوَضًا، وكون العقد معاوضة فيصير بائعًا لألْفٍ بخمسمائة، ولصاحب الوجه الأول أن يمنعه، ويقول: الصُّلح مِنْهُ على البعض المُعَيَّنِ إِبْرَاءٌ واستيفاءٌ لِلْبَاقِي، ولا يصح هذا الضَّرْبُ بِلَفْظِ البَيْعِ، كما في نَظِيرِهِ مِنَ الصُّلْحِ عَنِ العَيْنِ ولو صالح من أَلْفٍ حَالٍّ عَلَى ألفٍ مُؤَجَّلٍ، أو من أَلْفٍ مُؤَجلٍ على أَلْفٍ حَالٍّ، فهو لاَغٍ؛ لأنه في الصورة الأولى وَعْدٌ من رب المال بإلْحاقِ الأَجَلِ، وفي الثانية من المديون بإسقاط الأجل، والأجل لا يلحق، ولا يسقط، نعم لو عجل من عليه المؤجل، وَقِبَلهُ المستحق سَقَطَ الأجلُ بما جرى من الإِيفاء، والاستيفاء، وكذلك الحكم في الصَّحِيح، والمكسر. ولو صالح من أَلْفٍ مُؤَجَّلٍ على خمسمائة حَالَّة، فهذا الصُّلْحُ فَاسِدٌ؛ لأنه نزل عن بعض المقدار لتحصيل الحُلولِ فِي البَاقِي، والصفة بانفرادها لا تُقَابَلُ بالْعِوَضِ، ثم صِفَةُ الحُلُولِ لا تلتحق بالمَالِ المُؤَجَّلِ، وإذا لم يحصل ما نزل عن القَدْرِ لتحصيله لم يصح النزول، ولو صالح عَنْ أَلْفٍ حَالٍّ على خمسمائة مُؤَجَّلَةٍ، فهذا لَيْسَ فيه شَائِبَةُ المعاوضة، ولكنه مُسَامَحَهُ من وجهين. أحدهما: حَطّ بَعْضِ القَدْرِ. والثاني: إلْحَاق الأَجَلِ بالْبَاقِي، والأوَّلُ سَائِغٌ، فيبرأ عن خمسمائة، والثَّاني وَعْدٌ لا يلزم، فله أن يطالبه بالباقي في الحَالِ. فروع: أحدها: قال أحد الوارِثينَ لِصاحِبِهِ: تركت نصيبي من التركة إليك، فقال: قبلت لَمْ يَصِحْ، ويبقى حقه كَما كانَ؛ لأنها إن كانت أعيانًا فلا بُدَّ فيها من تَمْلِيكٍ وَقَبولٍ، وإن كان فِيهَا دَيْنٌ عليه فلا بُدَّ من إِبْرَاءٍ، ولو قال: صالحتك من نصيبي عَلَى هَذا الثَّوْبِ، ¬
فإن كانت التركة أعيانًا فهو صُلْحٌ عن العَيْنِ، وإن كانت ديونًا عليه فَصُلْحٌ عَنِ الدَّيْنِ، وإن كانَتْ عَلَى سَائِرِ الناس، فهو بَيْعُ الدَّيْنِ من غير مَنْ عليه [وقد سبق حكمه، وإن كان فيها عين ودين على الغير ولم يجوز بيع الدين لغير من عليه] فالصلح بَاطِل في الدين، وفي العَيْنِ قولا تفريق الصَّفقة. الثَّانِي: له في يدِ غَيرِهِ ألفُ دِرْهَمٍ وخمسون دينارًا فصالحه منه على ألفي درهم، لا يجوز، وكذا لو مات عن اثنين والتركة ألفا دِرْهَم ومائة دينارٍ، وهي في يدِ أحدهما فَصالَحَهُ الآخر عن نصيبه على ألفي درهم يجوز (*)، والفرق أنه إذا كان الحَقُّ في الذِّمَّةِ فلا ضَرُورَة إِلَى تقدير المُعاوَضَةِ فيه، فيجعل مستوفيًا لأحد الألفين معتاضًا بالآخر عن الدَّنَانِير، وإذا كان عينًا كان الصُّلْح عنه اعتياضًا وكأنه باع أَلْفَ دِرْهَمٍ وخمسين دينارًا بأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وهو من صور مُدّ عَجْوة، ونقل الإمام عن القَاضِي حسين في صورة الدَّيْنِ أَيضًا المَنْع، تنزيلاً له على المُعَاوَضَة. الثالث: صالحه عن الدَّارِ المُدَّعاة على أن يسكنها سَنَة، فهو إعارة الدَّارِ منه، يرجع عنها مَتَى شَاء، وليس بمعاوضة؛ لأن الرَّقَبَةَ والمنافع مِلْكُه، ومحال أن يعتاض بِمِلْكه عَنْ مِلْكِهِ، وإذا رجع عن الإِعَارَةِ لم يستحق أجرة المدة التي مضت، كما هو قضية العَارَيةِ، ونقل القاضي ابْنُ كَجٍّ وجهًا: أنه يستحق لأنه جعل سكنى الدَّارِ في مقابلة رَفْعِ اليَدِ عَنْهَا، وأنه عوضٌ فَاسِدٌ، فيرجع إلى أُجْرَةِ المِثْلِ، ولو صالحه عنها على أن يَسْكنَها سَنَةً بمنفعة عبده سنة، فهو كما لو أَجَّرَ داره بمنفعة عَبْدِهِ سَنَة. الرابع: صالَحَهُ عن الزَّرْع الأخْضَرِ بشَرْطِ القَطْعِ جاز، دون هذا الشرط لا يَجُوز، ولو كانت المصالحة عن الزَّرْع مع الأَرْضِ فلا حاجة إلى شرط القطع في أَصَحِّ الوجهين، ولو كان التنازع في نِصْفِ الأَرْضِ ثم أقر المدعى عليه وتصالحَا عنه على شَيْءٍ لَمْ يَجُز، وإن شرطًا القطع كما لو بَاعَ نِصْفَ الزَّرْعِ مشَاعًا لا يجوز شَرَطَ القَطْعَ أَوَ لَمْ يَشْتَرِطْ. قال الغزالي: هَذَا كُلُّهِ في الصُّلْحِ عَلَى الإِقْرَار، فَأَمَّا الصُّلْحُ عَلَى الإِنْكَارِ فَلا يَصِحُّ (ح) كَمَا إِذَا قَالَ: صَالِحْنِي عَلَى دَعْوَاكَ الكَاذِبَةِ أَوْ عَنْ دَعْواكَ أَوْ صَالِحْنِي مطْلَقًا، فَإِنْ قَالَ: بِعْنِي الدَّارْ الَّتي تَدَّعِيها فَهُوَ إِقْرَارٌ فَيَصَحُّ، وَإِنْ قَالَ: صَالِحْني عَنِ الدَّارِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِإقْرارٍ، والصُّلْحُ بَاطِلٌ، وَفِي صُلْحِ الحُطَيْطَةِ عَلَى الإِنْكَارِ فِي العَيْنِ وَجْهَانِ؛ لأَنَّهُ فِي حُكْمِ الهِبَةِ للبَعْضِ بِزَعْم اليَدِ، وَكَذا الخِلاَفُ في صُلْحِ الحُطَيْطَةِ في الدَّيْنِ. قال الرَّافِعِيُّ: الوجه الثاني: من وَجْهَي الصُّلْحِ الجاري بين إلمتداعيين هو الصلح الجَارِي على الإِنْكار، فينظر إن جَرَى على غَيْرِ المدعي فهو بَاطِلٌ، خلافًا لأبي حنيفة ومَالك وأحمد. _____ (*) قال معد الكتاب للشاملة: صوابها: لم يجز؛ ويبينه ما بعده، حيث قال: "وإذا كان عينًا كان الصُّلْح عنه اعتياضًا وكأنه باع أَلْفَ دِرْهَمٍ وخمسين دينارًا بأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وهو من صور مُدّ عَجْوة"، والله أعلم.
لنا: القياس على ما إذا أنكر الخُلْعُ والكتابةَ ثم تَصالَحَا عَلَى شَيْءٍ، وصورة الصُّلْحِ على الإنْكَارِ أن يدعي عليه دارًا مثلًا فينكر، ثم يتصالحا على ثَوْبٍ أو دَيْنٍ، ولا يكون طلب الصُّلْحِ منه إقرارٌ؛ لأنه رُبَّمَا يُرِيدُ قَطْعَ الخُصُومَةِ، هذا إذا قال: صَالِحْنِي مُطْلقًا، وكذا لو قال: صَالِحْنِي عن دَعْوَاكَ الكَاذِبَة، أو قال: صالحني عن دَعْوَاك، بل الصُّلْحُ عن الدَّعْوَى لا يصح مع الإقْرَار أيضًا؛ لأنّ مجرد الدَّعْوى لا يعتاض عنها، ولو قال بعد الإنكار: صالِحْنِي عَنِ الدَّارِ التي ادعيتها فوجهان: أحدهما: أنه إقرار؛ لأنه طَلَبَ مِنة التَّمْلِيكَ، وذلك يتضمن الاعتراض بالملك، فصار كما لو قال: ملكني. وأصحهما: أنه ليس بإقرار؛ لأن الصُّلحَ في الوضع هو الرجوع إلى الموافقة وقطع الخُصُومة، فيجوز أن يكون المراد قطع الخصومة في المدعي لا غير، فعلى هذا يكون الصُّلْح بعد هذا الالتماس صلحًا على الإنكار، ولو قال: بعنيها، أو هبها مني، فالمشهور أنه إقرار؛ لأنه صريح في التماس التَّمْليك، وعن الشَّيْخ أَبِي حَامِدٍ: أنه كقوله: صالحني (¬1)، وفي معناه ما إذا كان التنازع في جَارِيةٍ، فقال: زوجنيها، ولو قال: أجرني أو أَعِرْنِي، فأولى أن لا يكون إقرارًا ولو كان النزاع في دين فقال: أبرئني فهو إقرار ولو أبرأ المدعي المدعى عليه. وهو مُنْكِر، وقلنا: لا يفتقر الإبراء إلى القَبُول، صَحَّ الإبْرَاءُ بِخِلاَفِ الصُّلْحِ؛ لأنه مستقل بالإبْرَاءِ، فلا حاجة فيه إلى تَصْديقِ الغَيْرِ، ولهذا لو أبرأه بعد التَّحْلِيفِ صَحَّ، ولو تصالحا بعد التحليف لَمْ يَصحِ. وإن جرى الصلح على الإنكار على بعض العين المدعاة، وهو صلح الحَطِيطة في العَيْنِ فوجهان: أحدهما: وبه قال القَفَّالُ: أنه صحيح؛ لأن المتصالحين متوافقان، على أن النصف مستحق للمدعي، أما المدعي فإنه يزعم استحقاق الكُل، وأما المدعى عليه فإنه يسلم النصف له بحكم هبته منه وتسليمه إليه، فإذن الخلاف بينهما في جهة الاستحقاق. والثاني -وبه قال الأكثرون-: أنه باطلٌ كما لو كان على غَيْرِ المدعي. قالوا: ومهما اختلف القابض والدافع في الجهة، فالقولُ قولُ الدَّافِع، ألا ترى أنه لو دفع إليه دَرَاهِم، وقال: دفعتها عن الدَّيْنِ الذي به الرهن وأنكر القابض، أو دفع إلى زوجته دراهم، وقال: دفعتها عن الصَّدَاق، وقالت: بل هي هدية، فالقول قولُ الدَّافِع، وإذا كان كذلك فالدافع يقول: إنما بذلت النِّصْفَ لِدَفْعِ الأَذَى حتى لا يرفعني إلَى ¬
القاضي، ولا يقيم على بينة زور، وإن كان المدعي دينًا وتصالحا على بعضه على الإنكار نظر إن صالحه عن ألفٍ على خمسمائة مثلًا في الذِّمَّة، لم يصح؛ لأنّ في التصحيح تقدير الهِبَة، وإيراد الهبة على ما في الذمة ممتنع، وإن أحضر خمسمائة وتصالَحا مِنَ المدعى عليها، فهو مُرَتَّبٌ على صلح الحطيطة في العَيْنِ، إن لم يصح ذَلِكَ فَهَذَا أَوْلَى، وإن صَحَّ ففيه وجهان، والفرق أن ما في الذِّمَّة ليس ذلك المحضر المعين، وفي الصُّلْح عليه معنى المعاوضة، ولا يمكن تصحيحه معاوضة مع الإنكار، واتفق الناقلون على أن وجه البُطْلاَنِ هاهنا أَرْجَح. ولو تَصالَحَا ثم اختلفا في أنهما تَصالَحَا على الإنكار أو على الإقرار ذكر القاضي ابْنُ كِجٍّ: أن القولَ قولُ من يدعي الإنكار؛ لأنّ الأصل أن لا عَقْدَ، ولك أن تخرجه على الخِلاَفِ الذي سبق في نزاع المتعاقدين في أن العقد الجاري بينهما كان صحيحًا أو فاسدًا (¬1). قال الغزالي: وَإِنْ جاءَ أَجْنَبِيٌّ وَصَالَحَ مِنْ جِهَةِ المُدَّعَى عَلَيْهِ وَقَالَ: هُوَ مُقِرٌّ صَحَّ نَظَرًا إِلَى تَوَافُقِ المُتَعَاقِدَيْنِ، وَإِنْ قَالَ: هُوَ مُنْكَرٌ وَلَكِنَّهُ مُبْطِلٌ فِي الإِنْكَارِ فالنَّظَرُ إِلَى مُبَاشِرِ العَقْدِ وَهُوَ مُقِرٌّ إِوْ إِلَى مَنْ لَهُ العَقْدُ وَهُوَ مُنْكِرٌ فِيهِ خِلاَفٌ، وَلَوْ صَالَحَ لِنَفْسِهِ وَزَعَمَ أنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الانْتِزَاعِ فَالأَظْهَرُ (و) الصِّحَّةُ. قال الرَّافِعِيُّ: القسم الثاني: من قِسْمَي الصُّلْحِ: ما يجري بين المدعي وبين الأجنبي، وذلك إما أن يكون مع إقرار المُدَّعَى عَلَيْهِ ظَاهرًا أو دونه. الحالة الأولى: أن يكون مع إقراره ظاهرًا، فإما أن يكون المدعي عينًا أو دينًا. إن كان عينًا وقال الأجنبي: إن المدعى عليه وَكَّلَنِي في مصالحتك له على نِصْفِ المدعي، أو على هذا العَبْدِ من ماله فتصالحا عليه، صَحّ الصُّلْحُ، وكذا لو قال: وكلني لمصالحتك عنه على عشرة في ذِمَّتِهِ ثم إن كان صادقًا في الوكالة، صار المدعي [ملكًا] للمدعَى عليه، وإلا فهو شراء الفضولي وقد سبق حكمه وتعريفه. وإن قال: أمرني بالمصالحة له على هذا العبد من ملكي فصالحه عليه فهو كما لو اشترى لغيره بمال نفسه بإذن ذلك الغير، وقد مَرَّ الخلاف في أنه يصح، أو لا يصح، وإن صح فما يعطيه قرض أو هبة. ¬
ولو صالح الأجنبي لنفسه بعين ماله أو بدين في ذِمَّتِهِ صَحَّ، كما لو اشْتراه، وعن الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: أنه على وجهين كما إذا قال ابتداء لغيره من غير سبق دعوى ولا جواب: صالحني من دارك هذه على أَلْفِ؛ لأنه لم يجر مع الأجنبي خصومة فيه، قال: وهذه الصورة أولى بالصِّحة؛ لأن اللفظ يرتب على دَعْوى وَجَواب، فيكتفي به في استعمال لفظ الصُّلح. وإن كان المدعي دينًا، وقال: وكلني المدعى عليه بمصالحتك على نصفه، أو على هذا الثوب من ماله فصالحه صح. ولو قال: على هذا الثوب وهو ملكي، فوجهان: أحدهما: أنه لاَ يصح؛ لأنه يبيع دينًا بعين. والثاني: يصح ويسقط الدين، كما لو ضمن دينًا وأَدَّى عنه عوضًا (¬1). ولو صالح لنفسه على عين أو دين في ذمته فهو ابتياع دَيْنِ في ذِمَّةِ الغَيْرِ، وقد بيَّنَّا حكمه في مَوْضِعِهِ (¬2). والثَّانية: أن يكون إنْكَارهُ ظاهرًا، فإذا جاء الأجنبي وقال: أقر المُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدِي، ووكلني في مصالحتك له إلا أنه لا يظهر إقراره خيفة أن تنتزعه منه فصالحه صَحّ؛ لأن قول الإنسان في دعوى الوكالة مقبولٌ في البَيْع، والشِّرَاءِ، وَسائِرِ المُعَامَلاَتِ، وإن قال الأجنبي: هو منكر، ولكنه مبطل في الإِنْكَارَ، فصالحني له على عَبْدِي هذا لتنقطع الخُصُومة بينكما فَصالَحَهُ فوجهان، أظهرهما على ما قاله الإمام: أنه غير صحيح؛ لأنه صُلْحٌ دَافِع لمنكر. والثاني: يصح؛ لأن المتعاقدين متوافقان، والاعْتِبَارُ في شَرَائِطِ العَقْدِ بمن يباشر العَقْد، هذا إذا كان المدعي عينًا، فإن كان دينًا فطريقان: أحدهما: أنه على الوَجْهين. وأصحهما: القَطْعُ بالصِّحَّة، والفرق أنه لا يمكن تَمْلِيك الغيْرِ عين ماله بغير إذنه، ويمكن قضاء دينه بغير إذنه، وإن قال: هو منكر، وأنا أيضًا لا أعلم صدقك، وَصَالحه مع ذلك لم يصح، سواء كان المُصَالَح عليه لَهُ أو للمُدَّعَى عَلَيْهِ، كما لو جرى الصُّلْحُ مع المدَّعَي وهو منكر وَمُبْطِل في إنكاره ولو قال: فصالحني لِنَفْسِي بِعَبْدِي هَذا أَوْ ¬
بعشرة في ذِمَّتِي، لآخذه منه فإن كان المدعي دينًا، فهو ابتياع دين في ذِمَّةِ الغَيْرِ، وإن كان عينًا فهو شراء غير الغاصِب المَغْصُوب، فينظر في قدرته على الانتزاع وعجزه، وحكم الجانيين مبين في أول البيع، فلو صالَحَهُ وقال: أنا قَادِرٌ على الانتزاع فَوَجْهَانِ: أظهرهما: أنه يصح العقد، اكتفاء بقوله: والثَّانِي: لا؛ لأنّ الملك في الظَّاهِر للمدَّعَى عَلَيْهِ، وهو عَاجِزٌ عن انتزاعه، قال الإمام: والوجه أن يفصل فيقال: إن كان الأجنبي كاذبًا فالعقد باطلٌ باطنًا، وفي مؤاخذته في الظاهر. لالتزامه الوجهان، وإن كان صادقًا حكم بصحة العقد باطنًا، وقطع بمؤاخذته لكن لا يزال يد المدعى عليه إلا لحجَّة، وقوله في الكتاب: (وإن جاء أجنبي، وصالح من جهة المدعى عليه، وقال: هو مقر صح، نظرًا إلى توافق المتعاقدين)، أراد الحالة الثانية وهي أن يكون الصُّلْح مع إنكار المدعى عليه ظَاهرًا، على ما أفصح به في "الوسيط"، ويمكن حمله من جهة اللفظ على الحَالَةِ الأولى أيضًا. وقوله في المسألة بعده: (فيه خلاف) محمول على ما إذا كان المدعى عينًا، وإن أراد تعميم الخِلاَف في العين والدين، كان جوابًا على أَحَدِ الطريقين، ويجوز إعلام قوله: (خلاف) بالواو لما سبق. فرع: جارٍ مجرى المِثَال لما ذكرناه. ادعى مدع على ورثة ميت دارًا من تركته، وزعم أن الميت غَصَبَها مِنْه، وأقروا به جاز لهم مصالحته، فإن دفعوا إلى واحد منهم ثوبًا مشتركًا بينهم ليصالح عليه جاز وكان عاقدًا لنفسه ووكيلاً عن الباقين. ولو قالوا لواحدٍ: صالحه عنا على ثَوْبك، فصالح عنهم فإن لم يُسْمِّهِم في الصُّلْحِ فالصُّلْحُ يَقَعْ عَنْهُ، وإن سَمَّاهم فَوَجْهَانِ في أن التسمية هل تلغى؟ إن لم تلغ فالصُّلْحُ يقع عَنْهُمْ، والثوب هِبَة منهم، أو قَرْضٌ عَلَيْهِم، فيه وَجْهَان، وإن صالحه أَحَدُهُمْ على مال دون إذن الباقين ليملك جميع الدَّار جاز، وإن صالَحَ لِتَكُون الدَّار لَهُ ولهم جميعًا لغى ذكرهم، وعاد الوَجْهَان في أن الكُلَّ يقع له، أو يبطل في نَصِيبهم، ويخرج في نصيبه على الخِلاَف في التفريق والله أعلم. قال الغزالي: وَإِذَا أَسْلَمَ الكَافِرُ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ وَمَاتَ قَبْلَ التَّعِيْين صَحَّ اصْطِلاَحُهُنَّ فِي قِسْمَةِ المِيراثِ مَعَ التَّفَاوُتِ فِي المِقْدَارِ وَكانَ مُسَامَحَةً، وَصحَّ مَعَ الجَهْلِ لِلضَّرُورَةِ، وَلا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى غَيْرِ التَّرِكَةِ؛ لأنَّهُ مُعَاوَضَةٌ مِنْ غَيْرِ ثَبْتٍ في اسْتِحْقَاقِ المُعَوَّضِ. قال الرَّافِعِيُّ: إذا أسلم الكَافِرُ على أكثر من أَرْبَعِ نِسْوَةٍ يختار أربعًا منهن على ما
سيأتي في موضعه -إن شاء الله تعالى-، فإن مات قبل الاختيار والتعيين يوقف الميراث بَيْنَهُنَّ، فإن اصطلحن على الاقتسام على تفاوت أو تَسَاوٍ، مكن منه، واحتج مجوزوا الصُّلْح على الإِنْكَارِ بهذه المَسْألة؛ لأن كُلَّ واحدة منهن تنكر نِكَاح مَنْ سِوَاها، وَسِوَى ثَلاَثٍ مَعَهَا، فالصُّلْحُ الجارِي بينهن صُلْحٌ عَلَى الإِنْكَارِ، قال الأصحاب: هن بين أمرين، إن اعترفن بشمول الإِشْكَالِ فليست واحدة منهم بِمُنكرة لِغَيْرِها، ولا مُدَّعِية لِنَفْسِها في الحَقِيقَةِ، وإنما تَصِحّ القِسْمَة والحالة هذه مع الجَهْلِ بالاسْتِحْقَاقِ للضرورة، وتعذر التوقف لا إلى نهاية، وإن زعمت كُلُّ وَاحِدَةٍ منهن الوقوف على اختيار الزوج إِيَّاهَا، فكل من أخذت شيئًا تقول: الذي أخذته بَعْضُ حَقِّي، وسامحت الباقيات بالباقي وتبرعت، والمالك غَيْرُ ممنوع من التَّبْرُّعِ، وقد ذكرنا فيما إذا ادعى على غيره عَيْنًا فأنكر ثم تصالحَا على حَطِيطَةٍ من قَبْل وَجْهَين، فمن صَحَّحَهُ احتج بهذه المسألة، وقال: إن الاقتسام الجَارِي بينهن صُلْحٌ عَلَى الحَطِيطَةِ، ومن لم يصححه فرق بأن المال في يَدِ المُدَّعَى عَلَيْهِ، وَفَصْلُ الأمر ممكن بتحليفه، وهاهنا استوت الأقْدَام، ولا طريق إلى فَصْلِ الأَمرِ سوى اصطلاحهن، ولو اصطلحن على أن يأخذن ثلاث أو أربع منهن المال الموقوف ويبذلن للباقيات عوضًا من خالصِ مالِهِنّ، لم يَجُز؛ لأنّ الصُّلْحَ هكذا بذل عوض مملوك في مقابلة ما لم يثبت ملكه، ومن أخذ عوضًا في معاوضة لا بُدَّ وأن يكون مستحقًا للمعوض، فإذا لم يكن الاستحقاق معلومًا لم يجز أخذ العِوَضِ عَلَيْهِ، ولا يخفى عليك مما أجريته في المَسْأَلة السبب الداعي إلى إيرادها في هذا الموضع. واعلم أن جميع ما ذكرناه، مبنى على وقف الميراث لَهُنَّ، وفيه كلام آخر مذكور في نِكَاحِ المُشْرِكَاتِ، وفي نَظائِرِ المَسْأَلَةِ ما إذا طلق إحدى امرأتيه، ومات قبل البيان وقفا لهما الرّبع أو الثمن واصطلحتا، وما إذا ادعى اثنان وديعةً في يَدِ الغَيْرِ، وقال المُودع: لا أدري أنه لأيّكما، وما إِذا تَداعَيَا دارًا في يدهما وأقام كُلُّ واحدٍ منهما بينة ثم اصطلحا، أو في يدِ ثَالِثٍ وقلنا: لا تتساقط البينتان بالتعارض فاصطلحا (¬1). ¬
الفصل الثاني: في التزاحم على الحقوق في الطرق والحيطان والسقوف
قال الغزالي: الفَصْلُ الثَّانِي: في التَّزَاحُمِ عَلَى الحُقُوقِ في الطُّرُقِ وَالحِيطَانِ وَالسُّقُوفِ، أَمَّا الطُّرُقُ فَالشَّوَارعُ عَلَى الإِبَاحَةِ كالمَوَاتِ إلاَّ فِيمَا يَمْنَعُ الطُّروُقَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ (ح) أَنْ يَتَصَرَّفَ في هَوَاِئهِ بِمَا لا يَضُرُّ بِالمَارَّةِ وَلاَ يَمْنَعُ الجَمَلَ مَعَ الكَنِيسَةِ، وَكَذَلِكَ يَفْتَحُ إِلَيْهِ الأَبْوَابَ، وَالأَظْهَرُ (و) جَوَازُ غَرْسِ شَجَرَةٍ وَبِنَاءِ دِكَّةٍ إِذَا لَمْ يُضَيِّقِ الطَّرِيقَ أَيْضًا. قال الرَّافِعِيُّ: غرض الفصل الكلام في المزاحمات، والتصرفات الواقِعَة في المُشْتَرَكاتِ، إما اشتراك عموم كالطُّرُقِ، أو خُصُوصٍ كالجُدْرَانِ والسُّقُوفِ. أما الطريق: فينقسم إلى نَافِذٍ وغيره. القسم الأول: النَّافِذ وهو الذي أراده بالتنازع، فالنَّاسُ كلهم يستحقون المُرورَ فيهِ، وليس لأَحَدٍ أن يتصرف فيها بما يبطل المرور، لا أن يشرع (¬1) جناحًا، أو يتخذ على جدرانه ساباطا (¬2) يضر بالمَارة، وإن لم يضر فلا يمنع منه، وبه قال مالك. وقال أبو حَنِيفة: لا اعتبار بالضرر وَعَدَمِهِ، ولكن إن خاصمه إِنسان فيه نزع وإن لم يَضُر، وإلا ترك، وقال أَحْمَد: لا يجوز إشْرَاع الجَنَاحِ بِحَال إلا إذا أَذِنَ فِيهِ الإِمَامُ. ¬
لنا اتفاق الناس على إشراع الأجنحة في جميع الأَعْصَارِ، من غَيْرِ إنكار، وأيضًا "فَإِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَصَبَ بِيَدِهِ مِيزابًا في دارِ العَبَّاسِ -رَضِيَ الله عَنْهُ-" (¬1) فَنِقِيسُ الجناح عليه، ونرجع في الضَّرَرِ وعدمه إلى حَالِ الطَّرِيق، فإن كان ضيقًا لا يمر فيه الفرسان والقَوَافل، فينبغي أن يكون مرتفعًا، بحيث يمر المار تحته منتصبًا، وإن كانوا يمرون فيه فلينته الارتفاع إلى حدّ يَمُرُّ تحت الرَّاكِبُ منتصبًا، بل المحمل مع الكنيسة على رأسه على البَعِير؛ لأنه وإن كان نادرًا فقد يتفق ولا تشترط الزيادة عليه على الصَّحِيح، وقال أبو عُبَيْدِ بنُ حَرْبَوَيْهِ: يشترط أن يكون بحيث يمر الراكب مَنْصُوب الرمح، وضعفه النَّقَلَةُ بِالاتفاق، وقالوا: وضع أطراف الرماح على الأكتاف ليس بِعَسِيرٍ. ويجوز لِكُلِّ أحد أن يفتح إلى الشَّارع من ملكه الأبواب كَيْفَ شَاء. وأما نصب الدِّكة (¬2) وغرس الشَّجرَة، فإن تضيق الطريق به وَضَرَّ بالمارة فهو ممنوع منه، وإلا فوجهان: أحدهما: الجواز كالجناح الذي لا يَضُر بهم. والثاني: المنع؛ لأن المكان المشغول بالبناء والشجر، لا يتأتى فيه الطروق، وقد تزدحم المارة ويعسر عليهم المراقبة فيصطكون بها، وأيضًا فإنه إذا طَالَت المدة، أشبه مكان البِنَاءِ والغِراسِ الأملاك، وانقطع أثر استحقاق الطروق فيه، بخلاف الأَجْنِحَةِ، ويحكى الوجه الأول عن اختيار القاضِي وهو أظهر عند المُصَنِّف، ولم يورد في "التهذيب" سواه، لكن أصحابنا العراقيون والشَّيخَ أَبَا مُحَمَّدٍ بالثَّانِي، وإليه مَالَ الإمام وهو أقوى في المَعْنَى. ولا يجوز أن يُصَالِح عَنْ إشْرَاعِ الجَنَاحِ على شَيْءٍ، أما إذا صالحه الإمام فلأن الهَوَاء لا يفرد بالعَقْدِ، وإنما يتبع القرار كالحمل مع الأُم، وأيضًا فلأنه إن كان مضرًا فما يمنع الضرر لا يجوز بالعوض كالبناء الرفيع في الطَّرِيق، وإن لم يكن مضرًا فهو جائز، وما يستحقه الإنسان في الطريق لا يجوز أن يؤخذ منه عوضٌ كالمرور، وأما إذا صالَحَهُ وَاحِدٌ من الرعية فللمعنى الأوّل، وأيضًا فلأنه ليس بالمستحق، ولا هو نَائِب المستحقين، ولو أشرع جناحًا لا ضرر فيه ثم انهدم أو هدمه فأشرع آخر في محاذاته لا يمكن معه إعادة الأول جَازَ، كما لو قعد في طَريقٍ وَاسِعٍ ثم انتقل عنه يجوز لِغَيْرهِ الارتفاق به، هكذا قَالُوه. ¬
ولك أن تقول: المرتفق بالقعود لمعاملة لا يبطل حقه بمجرد الزَّوَالِ عن ذَلِكَ المَوْضِع، وإنما يبطل بالسَّفَر والإعراض عن الحِرْفَة، كما سيأتي في إحْيَاءِ المَوَاتِ، فقياسه أن لا يبطل حقه بمجرد الانهدام والهدم، بل يعتبر إعراضه عن ذلك الجناح ورغبته عن إعادته (¬1). أما لفظ الكتاب فقوله: (فالشوارع على الإباحة كالموات)، معناه أنها منفكة عن المِلْك، والاختصاص كالمَوَاتِ، والأصْلُ فيها الإِبَاحة وجواز الانتفاع إلا فيما يقدح في مقصودها وهو الطّروق، ويستوى في الحُكْمِ الجواد الممتدة في الصَّحَارِي وَالبِلاَد، قال الإمام: وصيرورة الموضع شارعًا له طريقان: أحدهما: أن يجعل الإنسان ملكه شارعًا وسبيلًا مسبلًا. والثَّاني: أن يحيى جماعة خطة قرية أو بلدة ويتركوا مسلكًا نافذًا بين الدور والمساكن ويفتحوا إليه الأبواب، ثم حكى عن شيخه ما يقتضي طريقًا ثالثًا، وهو أن يصير موضع من الموات جادة ميتًا يطرقها الرّفاق فلا يجوز تغييره، وإنه كان يتردد في بيان الطَّريق التي يعرفها الخواص وَيَسْلُكونها، وَكُلُّ مَواتٍ يجوز استطراقه، ولكن لا يمنع من إحيائه وصرف الممر عنه فليس له حكم الشَّوارع (¬2). وقوله: (بما لا يضر ¬
بالمَارة)، لك فيه مباحثة وهي أن هذه اللفظة، ولفظ عامة الأصحاب تَقْتَضِي المَنْعَ من كل ما يضر بالمُرورِ، ثم الأكثرون في الفرق بين المُضِر وغير المضر لم يتعرضوا إِلاّ للانخفاض والارتفاع، ومعلوم أن جهة الإضْرَار لا تنحصر في الارتفاع والانخفاض، بل منع الضياء وإظلام الموضع يضر بالمرور أيضًا، فهل هو مؤثر أَمْ لاَ؟ والجواب أن طائفة من الأئمة منهم ابْنُ الصَّبَّاغ، ذكروا أنه غير مؤثر، لكن قضية المَعْنَى، وظاهر لفظ الشَّافِعِي -رضي الله عنه- وأكثر الأصْحَاب تأثيره، وقد نَصَّ عليه مَنصُور التَّمِيميُّ في المستعمل، حيث قال: ووجه إضراره -يعني الجناح- شدة تطامنه أو منعه الضّياء، وفي "التتمة": أنه إن انقطع الضوء بالكلية أُثر، وإن انتقص فلا مبالاة به. وقوله: (ولا يمنع الحمل مع الكنيسة) في بعض النسخ الجمل مع الكنيسة، وهو صحيح أيضًا، أي: مع الكنيسة فوق المحمل المحمول على الجمل. قال الغزالي: والسِّكَّةُ المُنْسَدَّةُ الأَسْفَلِ عنْدَ العِراقِيِّينَ كَالشَّوَارِعِ، وَعِنْدَ المَرَاوِزَةِ هِيَ مِلْكٌ مُشْتَرَك بَيْنَ سُكَّانِ السِّكَّةِ، وَشَرِكَةُ كُلِّ سَاكِنٍ هَلْ يَنْحَطُّ مِنْ بَابِ دَارِهِ إِلَى أَسْفَلِ السِّكَّةِ فِيهِ تَرَدُّدٌ، وَلا يَجُوزُ إِشْرَاعُ الجَنَاحِ وَفَتْحُ بَابٍ جَدِيدٍ إِلاَّ بِرِضَاهُمْ، وَرِضَاهُمْ إِعَارَةٌ يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَلَوْ فَتَحَ بَابَ دَارٍ أُخْرَى في دَارِهِ الَّتِي هِيَ في سِكَّةٍ مُنْسَدَّةِ الأَسْفَلِ، أَوْ فَتَحَ مِنْ تِلْكَ الدَّارِ بابًا ثانِيًا في السِّكَّةِ فَوْقَ البَابِ الأَوَّلِ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ لِأَنَّهُ يَكَادُ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى الانْتِفَاعِ المُسْتَحَقِّ، وَأَمَّا فَتْحُ الكُوَّةِ فَلا مَنْعَ مِنْهُ. قال الرَّافِعِيُّ: القسم الثَّاني غير النافذ كالسكة المنسدة الأَسْفل، ونتكلم فيها في ثلاثة أمور: أولها: إشراع الجَناحِ، ولا خلاف في أن إِشْرَاع الجناح إليها. غير جائز لغير أهل السِّكَّة، وفيهم وجهان، قال الشَّيْخُ أَبُو حامِدٍ ومن تابعه: لكل منهم الإشراع إذا لَمْ يضر بالبّاقِين؛ لأنّ كُلاًّ منهم له الارتفاق بِقَرَارِهَا، فليكن له الارتفاق بهوائها كالشَّارعِ، وعلى هذا فلو كان مُضِرًا ورضي أهل السكة جاز؛ لأن الحَقَّ لهم بخلاف مثله في الشَّارع، فإن رضي جميع المسلمين متعذر التَّحْصيل، وذكر الأكثرون منهم القاضي أَبُو حَامِدٍ وَأبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: أنه لا يجوز إلا برضاهم تضرروا أَمْ لاَ؛ لأنّ السكة مخصوصة بهم، فلا يتصرف دون رِضَاهم، وهذا كما أنه لا يجوز إشْرَاع الجَنَاح إلى دَارِ الغَيْرِ بغير رِضَاه وإن لم يتضرر، ويحكى هذا عن أَبِي حنيفة، وعلى الوجهين لا يجوز لهم أن يُصالِحُوه عَلَى شَيْءٍ، لما مر أن الهَواءَ تَابِعٌ، فلا يفرد بالمَالِ صُلْحًا كما لا يفرد به بيعًا، وكذا الحكم في صُلْح مِلْكِ صاحِبِ الدَّارِ عن الجناح المشروع إليها، ونعني بأهل السَّكّةِ كل من له باب نافِذٌ إِلَيْهَا، دون من يُلاَصِق جداره السِّكَّة من غير نُفُوذِ بَابٍ، وهل الاستحقاق في
جميعها لجميعهم، أو شركة كل واحد مختص بما بين رأس السكة وباب دَارِه، ولا يتخطى عَنْه؟ فيه وجهان: أظهرهما: وهو الذي أورده القاضِي ابْنُ كَجٍّ؛ اختصاص كل واحد مِنْهُمَا بِما بَيْنِ رَأْسِ السِّكَةِ وَباب دَارِه؛ لأن ذَلِكَ القدر هو محل تردده ومروره، وما عداه فحكمه فيه حكم غير أهل السّكة. ووجه الثاني: أنهم ربما احتاجوا إلى التردد والارتفاق بجميع الصَّحْنِ، لطرح الأثقال عند الإخراج والإدْخَال، وهذا الخِلاَف يظهر تأثيره على الصَّحِيح في مَنْع إشْرَاعِ الجَنَاح إِلاَّ بِرِضَاهُمْ، فَعَلى القَوْلِ باشتراك الكُلِّ في الكُلِّ، يجوز لِكُلِّ واحد من أهل السِّكَّة المنع، وعلى الوَجْهِ الآخر إنما يجوز المَنْع لمن يوضع الجناح بين بابه ورأس السكة دون من بابه بين موضع الجَنَاحِ ورأس السِّكَّة، ويظهر تأثيره على قول الشَّيْخ أَبِي حامِدٍ أيضًا، في أن الذي يستحق المنع إذا كان الجناح مضرًا مَنْ هُوَ، لكنهم لم يذكروه (¬1). ولو اجتمع المستحقون فَسَدُّوا بابَ السِّكَّة فجواب المعظم لا منع؛ لأنهم يَتَصَرَّفُونَ في مِلْكِهِمْ، وقال أَبُو الحَسَنِ العبادي: يحتمل أن يقال: يمنعون؛ لأن أهل الشَّارعِ يفزعون إليها إذَا عرضت زَحْمَة، وَلا شَكَّ في أنه لو امتنع بَعْضُهُمْ لم يكن لِلْبَاقِينَ السّد، ولو سَدُّوا متوافقين لم يستقل بعضُهم بالفَتْحِ. ولو اتفقوا على قِسْمَةِ صَحْنِ السِّكَّة بينهم جاز، ولو أراد أَهْلُ رأس السِّكَّةِ قسم رأس السكة بينهم مِنِعُوا لِحَقِّ من يليهم، ولو أراد أهلُ الأَسْفَل قِسْمَةَ الأَسْفَلِ فَوَجْهَانِ، بناء على أن أهل الرأس هل يشاركونهم في الأَسْفَل؟ ثم ما ذكرنا من سَدِّ البَابِ وَقِسْمَة الصَّحْنِ مفروض فيما إذا لم يكن في السِّكَّة مَسْجِد، فإن كان فيها مسجد قَدِيمٌ أو حديث، فالمسلمون كُلّهم يستحقون الطّروق إِلَيْهِ فلا يمنعون منه، اسْتَدْرَكَهُ القَاضِي ابْنُ كِجٍّ، وعلى قياسه لا يجوز الإشراع عند الضَّرَر، وإن رضي أهل السكة لحق سائر النَّاسِ. وثانيها: فتح الباب وليس لِمَنْ لاَ بَابَ لَهُ في السِّكَّة إحداث باب إلا برضاء أهْلِ السِّكَّة كلهم لتضررهم أو بمرورهم على الفاتح عليهم فلو قال: افتح إليها بابًا للاستضاءة دون الاستطراق، أو قال: افتحه وأسمره فوجهان: أصحهما: عند أَبِي القاسِمِ الكَرَخِي: أنه يمكن منه؛ لأنه لو رفع جميع الجدار ¬
لتمكن منه، فلأن يمكن من رفع بعضه كَانَ أولى (¬1). والثاني: لا يمكن؛ لأَنَّ البَابَ يشعر بثبوت حق الاسْتِطْرَاق، فعساه يستدل به على الاستحقاق، ولو كان له فيها باب وأراد أن يفتح غيره نظر إن كان ما يفتحه أبعد من رأس السِّكَّة فلمن البّاب المفتوح بين رأس السكة ودَارِه المَنْع، وفيمن داره بين البَابِ ورأس السِّكَّة وَجْهَانِ، بناءً على كيفية الشِّرِكَة لما مر في الجناح، وإن كان ما يفتحه أقرب إلى رأس السكة، فإن سَدَّ الأَوَّل وَجَعَلَ مكانه البَابَ المفتوح فلا منع؛ لأنه ينقص حقه، وإن لم يسد فَعَلَى ما ذَكَرْنا فيما إذا كان المفتوح أَبْعَدَ من رأس السِّكَّة؛ لأنّ البَابَ الثَّانِي إذا انضم إلى الأول أورث زيادة زخمة النَّاس وروث الدواب في السِّكَّة فيتضررُون بِه، وفي "النهاية" ذكر طريقة أخرى جازمة بأنه لا مَنْعَ للذين يَقَع الباب المفتوح بين دارهم وَرَأْس السِّكَّةِ؛ لأن الفاتح لا يمر عليهم، وهَذا ينبغي أن يطرد فيما إذا كان المفتوح أبعد من رَأْسِ السِّكَّة (¬2)، وتحويل المِيزَاب من موضع إلى موضع، كفتح بَابٍ وَسَدِّ بَابٍ. ولو كانت له داران ينفذ باب إحْدَاهُما إلى الشَّارع، وباب الأخرى إلى سِكَّة مُنْسَدَّة، فأراد فتحَ بَابٍ من أَحَدَيْهِمَا إلى الأخرى هَلْ لِأَهْلِ السِّكَّة مَنْعُه؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا؛ لأن المرور مستحق له في السِّكَّة، ورفع الحائل بين الدَّارَيْنِ يصرف مَصارِف الملك فلا يمنع. والثاني: نعم؛ لأنه يثبت للدَّارِ الملاصقة للشَّارعِ مَمَرًّا في السِّكَّة، ويزيد فيما استحقه من الانتفاع، ولو كان باب كل واحد من الدَّارَيْن في سكة غير نافذة وأراد فَتْحَ الباب مِنْ إحداهما إلى الأُخْرَى جرى الوجهان في ثبوت المنع لأهل السكتين، هكذا نقل الإمام. واعلم أن موضع الوجهين ما إذا سد باب إحدى الدَّارَيْنِ، وفتح الباب بينهما لغرض الاستطراق، أما إذا قصد اتساع مِلْكه ونحوه فلا منع (¬3)، وحيث منعنا من فتح ¬
الباب إلى السِّكَّة المُنْسَدَّة فصالحه [أهل السكة] على مَالٍ جاز بخلاف الصُّلْحِ على إشْرَاعِ الجناح؛ لأنه بذل مال في مقابلة الهواء المُجَرَّد، ثم قال في "التتمة": إن قدروا مدة فهو إجارة، وإن أطلقوا أو شرطوا التأييد فهو بيع جزء شائع من السِّكَّة، وتنزيله منزلة أَحَدِهِم، وهو كَمَا لَوْ صَالَحَ غَيْرُه عن إجراء نَهَرٍ في أَرْضِهِ على مال يكون ذلك تمليكًا لِلنَّهْرِ. ولو أراد فتح بابٍ من داره في دَارِ غيره فصالحه عنه مالك الدّار على مال يصح، ويكون ذلك كالصُّلْح عن إجراء الماء على السَّطْحِ، ولا يملك شيئًا من الدَّارِ والسَّطح؛ لأنّ السكة لا تراد إلاَّ للاستطراق، فإثبات الاستطراق فيها يكون نقلاً للملك، والدار والسطح ليس القصد منه الاستطراق، وإجراء الماء (¬1) والله أعلم. وثالثها: فتح المنافذ والكُوّات (¬2) للاستضاءة لا مَنْعَ منه بِحَالٍ، لِمُصَادَقَةِ المِلْك، بل له أن يرفع جداره ويجعل مكانه شباكًا. ولنعد إلى لفظ الكتاب. قوله: (والسكة المسندة الأسفل عند العراقيين كالشوارع إلى آخره) يقتضي إلحاق العراقيين لها بالشَّوارع في الانفكاك عن المِلْكِ، وجواز إشْرَاعِ الجَنَاح، وذهب المراوزة إلى أنها ملك السكان، وليس الأَمْرُ عَلَى الظَّاهِرِ، فإن أئمتنا العراقيين لم يلحقوها بالشَّارع من كل وجه، وكيف وطرقهم ناصة على اختصاصها بالسكان؟ وإنها ملكهم، وعلى أنه يجوز إشْرَاع الجناح المضر إليها بِإذْنِ السكان، والحكم في الشَّارعِ بخلافهم، فإذن هو محمول على تجويزهم إشراع الجناح الذي لا يضر إليها من غير اعتبار الرضا، والمراوزة يمنعون منه، ومع هذا التأويل فليس العِرَاقِيُّون مطبقين على تَجْوِيزه، بل هم منقسمون إلى مجوز ومانِعٍ، ألا ترى أن القَاضِي أَبَا الطَّيِّبِ منعه وَهُوَ عرَاقِي؟ ¬
وقوله: (ولا يجوز إشراع الجَنَاحِ، وفتح باب جديد إلا برضاهم) أي برضا من أثبتنا له الشركة في السِّكَّة، وقصد بهذا الكلام التفريع على رأي الذي نسبه إلى المراوزة على ما بينه في "الوسيط"، لكن لا يخلو إما أن يكون المراد فتح باب من الدَّارِ التي لها باب في هذه السِّكَّة، أو الفتح من الدَّارِ التي لها في السِّكَّة باب قديم، إن كان الثَّاني، فقد ذكره من بعد حيث قال: (أو فتح من تلك الدَّار بابًا ثانيًا في السِّكَّة)، وإن كان الأوّل، فَالْعِرَاقِيُّونَ لا يُخالِفُونَ فيه، حتى يجعل ذلك تفريعًا على أحد الوَجْهَيْنِ، وكذا إشراع الجَناحِ إِنَّمَا يجوز دونه لمن له حق الطّروق في السِّكَّة لا لِغَيْرِه. وقوله: (ورضاهم إعارة يجوز الرجوع عنه)، أراد ما ذَكَرَهُ الإِمَامِ؛ لأنه لو فتح من لا باب له في السِّكَّة بابًا برضا أهلها، كان لأهلها الرجوع مهما شَاؤوا، ولا يلزمون بالرجوع شيئًا، بخلاف ما لو أعار الأرض للبِنَاء، ثم رجع فإنه لا يقلع البناء مجانًا، وهذا لم أجده لغيره، والقياس أن لاَ فَرْق، والله أعلم. وقوله: (فوق الباب الأول) أراد مما يلي رأس السِّكَّة، على ما ذكره في "الوسيط"، وموضع الخلاف فيه، ما إذا لم ينسد البابُ القَدِيم، ويمكن حمله على ما إذا كان فوقه مما يلي آخر السِّكَّةَ على مَا مَرّ. فرع: قال القاضي الرّويَانِي في "التجربة": إذا كان بين داريه طريق نافذ، يحفر تحته سردابًا من أحدهما إلى الأخرى، وأحكم الأزج لم يمنع، قال: وبمثله أجاب الأصْحَاب، فيما إذا لم يكن نافذًا؛ لأن لِكُلِّ واحد دخول هذا الزقاق كطروق الدّرْبِ النَّافِذِ، وغلط من قال بخلافه، وهذا اختيار منه لكونها في معنى الشارع، والظاهر خلافه واعتذر الإمام عن جَوازِ دُخُولِهَا بأنه من قبيل الإِبَاحَاتِ المستفادة من قرائن الأحوال (¬1). قال الغزالي: أَمَّا الجِدَارُ إِنْ كَانَ مِلْكَ أَحَدِهِمَا فَلا يَتَصَرَّفُ الآخَرُ فِيهِ إِلاَّ بِأَمْرِهِ، فَإِنِ اسْتَعارَهُ لِوَضْعِ جِذْعِهِ لا يَلْزَمُهُ (م) الإِجَابَةُ في القَوْلِ الجَدِيدِ، فَإنْ رَضِيَ فَمَهْمَا رَجَعَ كَانَ لَهُ النَّقْضُ بِشَرْطِ أَنْ يُغَرَّمَ النَّقْصَ، وَقِيلَ: فائِدَةُ الرُّجُوعِ المُطالَبَةُ بِالأُجْرَةِ لِلمُسْتَقْبِلِ. ¬
قال الرَّافِعِيُّ: الجدار بين المالكين قد يختص بأحد المالِكَيْنِ، وقد يملكه المَالِكَانِ على الاشتراك. القسم الأول: الجدار المخصوص بأحد المالكين هل للآخر وضع الجُذُوع عليه من غير إذن مالكه؟ فيه قولان: القديم: وبه قال مَالِك وأحمد: نعم يجبر عليه لو امْتَنع؛ لما روى عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يَمْنَعَنَّ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَضَعَ خُشُبَهُ عَلَى جِدَارِهِ، قالَ: فَنَكَّسَ الْقَوْمُ رُؤُوسَهُمْ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ، وَاللهِ لأَرْمِيَنَّها بَيْنَ أَكْتافِكُمْ" (¬1) أي لأضعن هذه السنة بين أَظْهُرِكم. والجديد: وبه قال أَبُو حَنِيفةَ: أنه ليس له ذَلِكَ، ولا يجبر المالِك لو امتنع؛ لأنه انتفاع بِمِلْكِ الغَيْرِ، فأشبه البناء في أَرْضِهِ، والحمل على بهيمته والحديث يحمل على الاستحبابِ، لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ" (¬2). التفريع: الإِجبار (¬3) على القديم مشروط بشروط. إحداها: أن لا يَحْتَاج مالك الجدار إلى وضع الجُذُوع عليه. الثاني: أن لا يزيد الجَار في ارتفاع الجِدَار، ولا يبنى عليه أزجا، ولا يضع عليه ما لا يحتمله الجِدَار، أو يضر به. والثَّالِثُ: أن لا يملك شيئًا من جدران البقعة التي يريد تسقيفها، أو لا يملك جدارًا واحدًا، فإن ملك جدارين فليسقف عليهما، وليس له إجْبَار صَاحِب الجِدَار، وصاحب "النهاية" لم يعتبر هذا الشَّرْط هكذا، ولكن قال: الشرط أن تكون الجَوانب الثلاثة من البيت لِصاحِبِ البيت، وهو يحتاج إلى جَانِبٍ رَابعِ. فأما إذا كان الكُلُّ لِلْغَيْرِ، فإنه لا يضع جذوع عليها قولًا واحدًا، ثم نقل عن بَعْضُ الأَصْحَابِ أنه لم يعتبر هذا الشَّرْط هَكَذَا، واعتبر في "التتمة" مثل ما ذكره الإمام، وحكى الوجهين فيما إذا لم يملك إلا جانبًا أو جانبين أيضًا، والمشهور ما تَقَدَّم، وإن ¬
قلنا: بالجديد فلا بد من رِضَا المالِكِ، وإذا رضى فإما أن يرض من غير عِوضٍ، أو بعوض، إن رضيَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فهو إعارة يتمكن من الرّجُوعِ عنها قبل وَضْعِ الجُذُوعِ. والبناء عليه، وبعده وجهان: أصحهما: أن له الرجوع أيضًا كما في سَائِرِ العوارى، وإذا رجع فلا كلام في أنه لا يمكن من القلع مجانًا، وفائدة رجوعه فيه وجهان مذكوران في الكِتَاب. أظهرهما: أنه يُخَيَّر بين أن يبقى بأُجْرَة، وبين أن يقلع ويضمن أَرْش النُّقْصَان، كما لو أعاره أرضًا للبناء، قال في "التهذيب": إلا أن في إعارة الأرض له خصلة أخرى، وهي تملك البناء بالقيمة، وليس لمالك الجِدَارِ ذلك؛ لأنّ الأَرْضَ أَصْلٌ، فجاز أن يستتبع البناء، والجدار تَابع فلا يستتبع، والذي رواه الإمام عن حكاية القاضي أنه ليس له إِلاَّ الأجرة، ولا يمكن من القَلْعِ أصْلًا؛ لأن ضرورة القَلْعِ تتداعى إلى ما هو خالص مال المُسْتَعِير؛ لأن الجذوعَ إذا ارتفعت أطرافها من جدار لم تستمسك على الجِدَارِ الثَّاني. والوجه الثاني: وبه أجاب العراقيون: أنه ليس له الرجوعُ أصلاً، ولا يستفيد به القَلْع، ولا طلب الأجرة للمستقيل؛ لأن مثل هذه الإِعَارة يراد بها التَّأييد، فأشبه ما إِذَا أَعَارَ لِدَفْنِ ميت لا يُمَكَّن من نبشه، ولا مِنْ طَلَبِ الأُجْرَة، فعلى هذا لو رفع صَاحِب الجذوعِ الجذوع، هل له إعادتها من غيرِ إذْنٍ جَدِيد؟ فيه وجهان نقلهما الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وأصحابه، ولو سقطت بنفسها فكذلك، والأَصَحُّ المَنْعُ، وكذا لو سقط الجِدَار فبناه صاحبه بتلك الآلة؛ لأن الإذْنَ لا يتناول إلا مرة واحدة، وإن بناه بِغَيْرِ تِلْك الآلة، فلا خلاف في أنه لا يعيد إلا بِإذْنٍ جَدِيدٍ؛ لأنه جدار آخر (¬1)، وإن رَضِيَ بِعِوَضٍ فذلك قد يكون على سَبِيلِ البَيْعِ، وقد يكون على سبيل الإِجَارَةِ، وسنتكلم فيهما من بعد. ولو صالحه على مال لم يجز، إن فرعنا على قول الإجبار؛ لأنَّ من ثبت له حق لا يؤخذ منه عوض عليه، وإن فرعنا على القول الآخر صَحّ، وليس ذلك كالصلح عن ¬
إشْرَاعِ الجَنَاحِ؛ لأنه صلح على الهَوَاءِ المجرد. قال الغزالي: وَإِنْ كَانَ مُشْتَرِكًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مَنْعُ صَاحِبِهِ مِنَ الانْتِفَاعِ دُونَ رِضَاهُ، فَلَوْ تَرَاضَيَا عَلَى القِسْمَةَ طُولاً أَوْ عَرْضًا جَازَ، وَلا يُجْبَرُ عَلَى القِسْمَةِ في كُلِّ الطُّولِ وَنِصْفِ العَرْضِ إذْ يَتَعَذَّرُ الانْتِفَاعُ بِوَضْعِ الجُذُوعِ، وَكَذا فِي نِصْفِ الطُّولِ (و) وَكُلِّ العَرْضِ، وَإِذَا جَرَتْ بِالتَّرَاضِي أَقْرَعَ فِي الصُّورَةِ الأَخِيرَةِ، والأَوْلَى التَّخْصِيصُ لِكُلِّ وَجْهٍ بِصَاحِبِهِ فِي الصُّورَةِ الأُولَى حَتَّى لا تَقْضِي القُرْعَةُ بِخِلاَفِهِ، وَلا مانِعَ (و) فِي الأَسَاسِ مِنَ الإِجْبَارِ عَلَى قِسْمَتِهِ. قال الرَّافِعِيُّ: القسم الثاني: الجدار المشترك، والكلام في ثلاثة أمور يَشْتَمل الفصل على اثنين منها: الأول: الانتفاع به، وليس لأحد الشَّرِيكين أن يتد فيه وتدًا، أو يفتح فيه كُوّة، أو يترب الكتاب بترابه دون إذن الشَّرِيكِ كَسَائِرِ الأملاك المُشْتَركة، لا يستقل أحد الشَّريكين بالانتفاع بها، ويستثنى من الانتفاعات ضربان: أحدهما: لو أراد أحدهما -أعني الشريكين- وضع الجذوع عليه، ففي إجبار الآخر الخلاف المذكور في القِسْم الأَوَّلِ بطريق الأولى. والثانية: ما لا يقع فيه المُضَايقة من الانتفاعات لِكُلِّ واحدٍ منهما الاستقلال بِهِ كالاستناد، وإسناد المتاع عَلَيْه، يجوز مثله في الجدارِ الخَالِصِ للجَارِ، وهو كالاستضاءة بسراج الغَيْرِ، والاستظلال بِجِدَارِ الغير، ولو منع أَحدهما الآخر من الاستناد فهل يمتنع؟ عن الأصحاب فيه ترددًا؛ لأنه عناد (¬1)، ومن الضَّربِ الثاني، ما إذا بني في ملكه جدارًا متصلاً للجدار المُشْتَرك، بحيث لا يقع ثقله عليه. الثَّانِي: قسمته إما في كل الطُّول ونصف العرض، أو في نِصْفِ الطول وكل العرض، ولا يفهم من الطُّول ارتفاعه عن الأرض فذلك سُمْك، وإنما طول الجدار امتداده من زاوية البيت إلى الزَّاوية الأخرى مَثَلًا، والعَرْض البُعْدُ الثالث، فإذا كان طوله عشرة أذرع، والعرض ذراعًا فقسمته في كُلِّ الطول ونصف العَرْضِ هكذا؛ ليكون لكل واحدٍ نصف ذراع في طُولِ عَشرة وقسمته بالْعَكْسِ أن يجعل هكذا، ليصير لِكُلِّ واحدٍ خمسة أذرع في عَرْضٍ ذراع، وأي واحد من النوعين تراضيا عليه جَازَ، لكن كيف يُقَسَّم؟ نقل بعض شارحي "المختصر" فيه وجهين: ¬
أحدهما: أنه يُعَلَّم بعلامة، ويخط برسم. والثاني: أنه يشق وينشر بالمَنَاشِيرِ، وينطبق على هذا الثَّانِي ما ذكره العراقيون: أنهما لو طَلَبَا من الحاكم القِسْمة بالنَّوْع الأول، لَمْ يُجِبْهُما إِلَى ذَلِك؛ لأن شَقَّ الجدار في الطول إتلاف لَهُ وتضييع، ولكنهما يباشران القِسْمة بأنفسهما، إن شاءا وهو كما لو هدماه واقتسما النقض. وإن طلب أحدهما القسمة وامتنع الآخر نظر إن طلب النَّوع الأول من القِسْمة فظاهر المذهب أنه لا يُجابُ إِلَيْها، وذكر الإمام وطائفة أن له معنيين. أحدهما: أنا لو أجبرناه لأقْرَعْنَا، والقرعة رُبَّمَا تغير الشِّقَّ الذي يلي دَارَ زَيْدٍ لِعَمْروٍ وبالعكس، فلا يتمكن واحد منهما من الانتفاع بما صار له. والثاني: أنه لا يتأتى فيه فَصْلٌ محقق؛ لأن غايته رسم خَطَّيْنِ بين الشقين، ومع ذلك فإذا بني أحدهما على مَصَارٍ له، تعدى النقل والتحامل إلى الشق الآخر، وضعف الإمام المعنى الثَّاني بما مر أن هذه القسمة جائِزةٌ بالتراضي، وذلك يَدُلُّ على أن رَسْمَ الخَطِّ كَافٍ في القسمة والمفاضلة، وما ذكره توجيهًا واعتراضًا مبنى على الاكتفاء بالعلامة، وترك الشّق والقَطْع، وهو الأول من الوجهين المنقولين في حالة التَّرَاضِي، وعن صاحب "التقريب" وجه أنه يجاب الطَّالِب ويجبر الممتنع، لكن لا يقرع بل يخصص كل واحد بِمَا يليه. وأما النوع الثَّانِي وهو قسمة نِصْف الطُّول في كُلِّ العرض فجائز بالتراضي أيضًا، وفي الإجبار عليه وجهان. أما الذين اعتبروا الشق والقطع فإنهم وجهوا أحدهما بأن القطع يوجب إتلاف بعض الجدار، ولا إجبارَ مع الإضْرَارِ. والثاني: أن الضَّرَرَ والنقصان في هذا النَّوْعِ هَيِّن، فأشبه قِسْمَةَ الثَّوْبِ الصَّفِيق. وأما المكتفون بِرَسْمِ الخَطِّ والعلامة، فبنوهما على المعنيين السَّابقين. إن قلنا: بالأول، جَرَى الإجْبَارُ؛ لأنّ كل واحد منهما يتأتى له الانتفاع بما يصير إليه. وإن قلنا: بالثاني، فلا؛ لتعذر المفاضلة المحققة، والأشبه من الوجهين، كيف فرض التوجيه مع الإجبار، وهو الذي أورده في الكِتَاب. هذا في قِسْمة الجِدَار نفسه. أما: إذا انهدم، وظهرت العرصة أو كان بينهما عرصة جِدَار لم يبن عليها بعد،
فطلب أحدهما قِسْمَتَها في كُلِّ الطُّولِ وَنصْفِ العَرْضِ. فإن قلنا في الجدار: إن الطالب لِمِثْلِ هذه القسمة يجاب ويخصص كُلّ واحد بالشِّقّ الذي يليه من غير قرعه، فكذلك هاهنا وبه قال أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ. وإن قلنا: لاَ يُجَاب، ثم فهاهنا وجهان بنوهما على المعنيين السَّابقين. وإن قلنا بالأول لم يجب. وإن قلنا: بالثاني، أجيب، وإن طلب قسمتها في نِصْفِ الطُّولِ وَكُلِّ العَرْضِ أُجيب، لفقد المعاني المذكورة في الجِدَار، وإذا بَنَى الجِدَار وأرد أن يكون عريضًا زاد فيه من عرض بيته، والله أعلم بالصواب. إذا عرفت ذلك فاعلم قوله في الكتاب: (ولا يجبر على القسمة في كل الطُّول ونصف العرض) بالواو وكذا قوله: (وكذا في نصف الطول وكل العرض). وأما قوله: (وإذا جرت بالتراضي أقرع في الصُّورة الأخيرة، والأولى التخصيص لكل وجه بِصَاحِبه في الصُّورة الأولى)، وفي الصورة الأخيرة القِسْمة في نِصْفِ الطُّولِ وَكُلِّ العَرْضِ، والأولى هي القسمة في كل الطُّولِ وَنصْفِ العَرْضِ، ولا يفهم من قوله: "والأولى" التخصيص بعينه على رأي ذِهَابًا إلى أن المراد من الأولى من خِلاَفٍ في المسألة، فإن أحدًا لم يذكر فيها خلافًا، بل أطلقوا الجواز لِلْقِسْمَةِ عند التراضي، والمعهود في القِسْمَة القُرْعَة، فإن ما أراد الإرشاد إلى أن الشريكين ينبغي أن يصيرا إلى التَّخْصِيص من غَيْرِ قُرْعَةٍ، فبيع كل واحد منهما ماله في الشق الذي يلي صَاحِبَه بما لصاحبه في الشِّقِّ الذي يليه تَحَرُّزًا عَنْ تَضْيِيعِ المالِ. وأما قوله: (ولا مانع في الأساس من الإجبار على قسمته)، فالمراد من الأساس عرضة الجدار، وجوابه وَاضِح في القِسْمَةِ في نِصْفِ الطول وَكُلِّ العَرْضِ، وأما في الطُّولِ وَنصْفِ العَرْضِ، فالذي أجاب به أحد الوجهين، وفيه وجه آخر كما قَدَّمْنَا، والأصح عند العِرَاقيين وغيرهم ما أجاب به، والله أعلم. قال الغزالي: والقَوْلُ الجَدِيدُ: أنَّهُ لا يُجْبَرُ (م ح) عَلَى العِمَارَةِ في الأَمْلاَكِ المُشْتَرَكَةِ؛ لأنَّهُ رُبَّمَا يَتَضَرَّرُ بِتَكْلِيفِهِ العِمَارَةَ، نَعَمْ لَو انْفَرَدَ الشَّرِيكُ الآخَرُ فَلا يَمْنَعُ لأنَّهُ عِنَادٌ مَحْضٌ، ثُمَّ إِنْ أَعَادَ الجِدارَ بِالنَّقْضِ المُشْتَرَكِ عَادَ مِلْكًا مُشْتَرِكًا كَمَا كَانَ، وَلَوْ تَعَاوَنا عَلَى العَمَلِ فَكَمِثْلٍ، وَلَوِ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا وَشَرَطَ لَهُ الآخَرُ أَنْ يَكُونَ ثُلُثا الجِدَار لَهُ صَحَّ، وَكانَ سُدُسُ النَّقْضِ عِوَضًا عَنْ عَمَلِهِ المُصَادِفِ لِملْكِ لِلشَّرِيكِ، وَإِذَا انْهَدَمَ العُلُوُّ والسُّفْلُ وَقُلْنَا: لَيْسَ لصاحِبِ العُلُوِّ إجْبَارُ صَاحِبِ السُّفْلِ عَلَى العِمارَةِ فَلَهُ أَنْ يُعَمِّرَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ عَمَّر
فَلَيْسَ (و) لَه مَنْعُ صَاحِب السُّفْل مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِسُفْلِهِ وَلاَ أنْ يُغَرِّمَهُ (و) قِيْمَة ما بَنَاهُ مِنَ الجِدَارِ والسَّقْفِ، وَمَنْ لَهُ حَقُّ إِجْرَاءِ المَاءِ في مِلْكِ الغَيْرِ فَلا يُجْبَرُ عَلَى العِمارَةِ بِحَالٍ. قال الرَّافِعِيّ: الأمر الثالث: العمارة، فإذا هَدَمَ أحدُ الشَّرِيكين الجِدارَ المشترك من غير إذن صاحبه لاستهدامه، أو من غير استهدامه، ففي "التهذيب" وغيره أن النصَّ إجْبَارُ الهَادِمِ على إعادته، وأن القياس أنه يغرم النّقْصَان، ولا يجبر على البِنَاءِ؛ لأنّ الجِدَارَ ليس بمثلي (¬1)، ولو استهدم الجدار بنفسه أو هدماه معًا، إما لاستهدامه أو لغير استهدامه ثم امتنع أحدهما عن العِمَارة فقولان: القديم: وبه قَالَ مالِكٌ وأحمد في المَشْهُورِ عنهما: أنه يجبر الممتنع على العمارة دفعًا للضرر عن الشُّرَكَاءِ وصيانَةَ للأملاك المُشْتَركة عن التَّعْطِيلَ. والجديد: أنه لا يجبر كما لا يجبر على زراعة الأرْضِ المُشْتَركة وكما أن طالب العمارة قد يتضرر بامتناع الشَّرِيك، فالشَّرِيك يتضرر بتكليف العِمارة، ويجري القَوْلاَنِ في النَّهر المُشْتَرك، والقناة والبئر المشتركين إذا امتنع أحد الشُّرَكاءِ من التنقية والعمارة (¬2)، وهل يجبر؟ وعند أبي حنيفة يُجْبَر في النَّهْر، والقناة، والبئر، ولا يجبر في الجِدَارِ، ولو كان عُلُوُّ الدار لواحِد، وسفلها لآخر، فانهدمت فليس لصاحب السفل إجبار صَاحِب العلو على إعادته، وهل لصاحب العُلُو إجبار صاحب السفل على إعادة السّفل ليبنى عليه؟ فيه القولان، ومنهم من قال القولان فيما إذا انهدم أو هدماه من غير شَرْطٍ، أما إذا استهدم فهدمه صاحب السفل بشرط أن يعيده أجبر عليه قولًا واحدًا، ¬
ويجري الخلاف فيما إذا طلب أحدهما اتخاذ سترة بين سطحيهما، هل يجبر الآخر على مُسَاعَدَتِه؟ (¬1). التفريع: إن قلنا بالقديم وأصَرَّ الممتنع، أَنفق الحاكم عليه من ماله، فإن لم يكن له مَالٌ استقرض عليه، أو أذن للشَّرِيكِ في الإنفاق عليه من ماله، ليرجع على الممتنع إذا وُجِدَ لَهُ مَالٌ، فإن استقل به هَلْ لَهُ الرُّجُوعُ؟ أشار المزني فيه إلى قَوْلَيْنِ وعن الأصحاب فيه طُرُق. أظهرها: وبه قال ابْنُ خَيْرَانَ وابْنُ الوَكِيلِ: القطع بعدم الرّجوع، وحمل نص الرجوع على ما إذا أنفق بالإذن. والثاني: أن القول بِعَدَمِ الرجوع تفريعٌ على الجديد والقول بالرجوع تفريع على القديم الذي عليه نفرع، وبه قَال ابْنُ القَطَّانِ. والثالث: أنا إن قلنا بالقديم رَجَعَ لا مَحَالَةَ. وإن قلنا: بالجديد فقولان، ونقل الإمَامُ وجهًا فَارِقًا بين أن يمكنه عند البناء مراجعة الحَاكِم فلا يرجع، أو لا يمكنه فَيَرْجِع، وإلى هذا منعوه، ثم إذا أعاد الطَّالِبُ البِنَاءَ نظر إن أعاده بالآلة القَدِيمة فالجدار بينهما كما كان في السّفل في الصورة الأخرى، لصاحب السفل كما كان، وليس لصاحب العلو نقضه ولا منعه من الانتفاع بِمِلْكِهِ، وإن بناه بآله من عِنْدِهِ فالبناء له، ويتمكن من نَقْضِهِ، ولو قال الشَّرِيك: لا تنقض وأنا أغرم لك نِصفَ القِيمَةِ لم يجز له النقض؛ لأنا على هذا القول يجبر الممتنع على ابتداء العِمَارة، فلأن نجبره على الاستدامة كَانَ أَوْلَى. وإن قلنا بالجديد فلو أراد الشَّرِيك المطالب الانفراد بالعِمارة نظر إن أراد عِمارَةَ الجِدَارِ بالنقض المُشْتَرك وأراد صاحب العُلُو إعادة السّفل بنقض صَاحِبِ السّفل أو بآلة مشتركة بينهما فللآخر منعه وإن أراد بناءه بآلة من عِنْدِه فله ذَلِك؛ ليصل إلى حَقِّه، كما لو سقطت جذوعه الموضوعة على الجِدَارِ المُشْتَرك ينفرد بإعادتها، ثم المعاد ملكه يَضَعْ عَلَيْهِ مَا شَاءَ، وينقضه إِذَا شَاء، فلو قال شريكه: لا تنقض الجدار لأغرم لك نصف القيمة، أو قال صَاحِب السّفل: لا تنقض لأغرم لك القيمة لم تلزمه إِجابته على هذا القول، كابتداء العِمَارَةِ، ولو قال صَاحِب السفل أنقض ما أعدته لأبنيه بآلة نَفْسِي، فإن كان قد طالبه بالبناء، فَلَمْ يجب لَمْ يجبِ الآن إلى ما يقوله، وإن لم يطالبه وقد بني علوه عليه فكذلك لاَ يُجَاب، ولكن له أن يتملك السفل بالقيمة، ذكره في "المهذب"، ¬
وإن لم يَبْنِ عليه العلو بعد أجيب صاحِبُ السّفل، ومهما بني الثَّاني بآلة نفسه فله منع صاحبه من الانتفاع بالعلو بِفْتح كوة وغرز وَتَدٍ ونحوهما، وليس له منع صاحب السفل من السّكنى، فإن العَرْصَة مِلْكَه، وعن صاحب "التقريب" وجه في المنع من السكنى أيضًا، والمذهب الأول. ولو أنفق على البئر والنهر فليس له مَنْع الشريك من سَقْي الزّرع والانتفاع بالماء، وله منعه من الانتفاع بالدُّولاَبِ، والبَكَرَة المحدثين، ولو كان للَممتنع على الجدار الذي انهدم جذوع وأراد إعادتها بعد ما بناه الطالب بآله نفسه، فعلى الثَّانِي تمكينه، أو نقض ما أَعَاده، يبنى معه الممتنع، ويعيد جُذُوعه والله أعلم. بقي في الفصل صورتان: إحداها: إذا بان أن الجِدارَ المشترك لو انفرد أحدهما بإعادته بالنقض المشترك يعود مشتركًا كما كان، فلو تعاونا على إعادته كان أولى أن يعود مشتركًا، فلو شرطَا مع التعاون زيادة لأحدهما لم يجز؛ لأنه شرط عوض من غير معوض، فإنهما متساويان في العَملِ وفي الجدار وعرصته، وعن صاحب "التقريب" وجه أنه يجوز ذلك لِتَراضيهما، حتى لو باع أحد شريكي الدَّارِ على السواء نصيبه من الدَّارِ بثلث الدَّارِ من نصيب صَاحِبه قال: يصح وتصير الدار بينهما أثلاثًا، واستبعد الإمام مَا ذَكَرَهُ، وقال: لو باع أحدهما نصفه بنصف صاحبه لم يقدر ذلك بيعًا، ولم تُرَتَّبْ عَلَيْهِ أحكام البَيْعِ، وهذه الصورة قد ذكرناها في البيع، وبينا أن الأظْهَر فيها الصِّحة، وقياسه صحة بيع أحدهما نصفه بالثُّلُثِ من نصف الآخر، ولا يلزم منه صِحّة الشرط فيما نحن فيه؛ لأنّ الموجودَ هو البناء بشرط الزِّيَادَةِ لأحدهما، ومجرد الشَّرْطِ والرضى بالتفاوت لا يغير كيفية الشَّركة القديمة، إلا أن البِنَاء بِالإِذْنِ والشرط يقام مقام البيع والإجارة للمسائل المذكورة على الإثر. ولو انفرد أحد الشريكين بالبناء بالنقض المشترك بإذن صاحبه بشرط أن يكون له الثلثان جاز، والسدس الزائد يكون في مقابلة عَمَلِهِ في النِّصْفِ الآخر، هكذا أطلقوه، واستدرك الإمام، فقال: هذا مصور فيما إذا شرط له سدس النقض في الحَالِ، لتكون الأجرة عتيدة. فأما إذا شرط السدس الزائد له بعد البِنَاء لم يَصِح، فإن الأعيان لا تؤجل. ولك أن تزيد فتقول: التصوير وإن وقع فيما ذكره، وجب أن يكون الحُكْمُ فيه كالحكم فيما إذا شرط للمرضع جُزْءًا من الرقيق المرتضع في الحَالِ، ولقاطف الثمار جزءًا من الثِّمَارِ المقطوفةِ في الحالِ ونظائرهما؛ لأنّ عمله يقع على ما هو مشترك بينه وبين غيره، وسيأتي الكلام فيها في الإجارة.
ولو بناه أحدهما بآلة نَفْسِهِ بِإِذْنِ الآخر بشرط أن يكون ثُلُثَا الجدارِ لَهُ، فقد قابل ثلث الآلة المملوكة له وعمله فيه بسدس العرصَة المبنى عَلَيْهَا، وفي صِحَّة هذه المُعَامَلة قَوْلاَن؛ لجمعهما بين مختلفي الحُكْم وهما: البيع والإجارة، ولا يخفى أن شَرْطَ الصِّحَّة العِلْم بالآلات، وبصفات الجِدَار، فإنه يعود فيها النَّظَر إلى شَرْطِ ثُلُثِ النَّقْضِ في الحَالِ، أو بعد البِنَاء. الثانية: إذا كان له حق إجراء الماءِ في مِلْكِ الغَيْرِ، فانهدم ذلك الملك، لم يجب على مستحق الإجْرَاء مشاركته في العِمَارَةِ؛ لأن العِمَارَة تتعلق بتلك الأعْيَانِ وهي لِمالِكِهَا، لا يشترك المستحق الإجراء فيها، وإن كان الانهدام بسبب الماء ففيه احتمال عند الإمام، قال: والظاهر أنه لا عمارةَ عليه أيضًا؛ لأنه ليس بمالك، والانهدام تولد من مستحق. ولنتكلم الآن فيما يحتاج إليه من ألفاظ الكتاب. قوله: (لا يجبر على العمارة في الأملاك المشتركة) يجوز إعلامه بالميم والألف، بل بالحاء أيضًا، لما قدمنا من مذاهبهم. وقوله: (نعم، لو انفرد الشريك الآخر فلا يمنع) يشعر بتمكينه من العِمَارة، سواء عمر بالنقض المشترك، أو بخاص مِلْكه، وقد صَرَّحَ بذلك في "الوسيط"، وكذا الإمام، لكن الظاهر من النَّقْلِ ما قَدَّمْنَاه وهو أنه إن أعاد بآلة نَفْسِهِ فَلا مَنْع، وإن أراد العمارة بالنقض المُشْتَرك، فلصاحبه المنع إذا فَرَّعْنَا على الجَديد، وهو المتوجه من جهة المعنى فإنه المَالك، وقد يريد صَرْفَه إلى غَيْرِ تِلْكَ العِمَارةِ. وقوله: (وشرط له الآخر أن يكون ثلثَا الجِدَار له) ظاهره التصوير فيما إذا شرط السدس الزائد بَعْدَ البِنَاء؛ لأنه حينئذ يسمى جدارًا، لكن عرفت في المباحثة التي مرت أن ذلك غَيْر جَائِز، فلَيؤول اللَّفظ. وقوله: (وإذا انهدم العلو والسفل وقلنا: ليس لصاحب العلو إجبار صاحب السفل) إشارة إلى أن القولين في الإِجْبْار على العِمَارة في الأَمْلاَكِ المشتركة يجريان في أن صاحب السفل هل يجبر على إعادة السّفل الخَالِص له؟ وله: (فله أن يعمر بنفسه) فيه، مثل هذا الكَلاَم الذي ذَكَرْنَاهُ في قوله، (نعم لو انفرد الشريك الآخر فَلا يَمْنع). وقوله: (فليس له صاحب السفل من الانتفاع بسفله) إن حمل على ما إذا أعاد بالنَّقْضِ المُشْتَرَكِ، فذاك، وإن أجرى على إطلاقه فليحمل الانتفاع على السكنى في عرصته، فإن الانتفاع بالجِدارِ غَيرُ سائِغٍ على ما تَقَدَّم، ثم ليعُلَّم بالواو للوجه المحكى عن صاحب "التقريب". وقوله: (ولا أن يغرمه) مفرع في لفظ الكتاب على القول الجديد في مسألة السفل
والعُلُو، والحكم بعدم (¬1) الرجوع على ظَاهِرِ المَذْهَبِ لا يختلف بالقولين. قال الغزالي: أَمَّا السَّقْفُ الحائِلُ بَيْنَ العُلُوِّ والسُّفْلِ يَجُوزُ لِصَاحِبِ العُلُوِّ الجُلُوسُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا لِلضَّرُورَةِ، وَكَذا إِنْ كَانَ مُسْتَخْلَصًا لِصَاحِبِ السُّفْل، وَإِنَّمَا يَتَصَوَّرُ ذَلِكَ بأَنْ يَبِيعَ صَاحِبَ السُّفْل حَقَّ البِنَاءِ عَلَى سَقْفِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَيَصِحُّ (ز) هَذِهِ المُعامَلَةُ وَهِيَ بَيْعٌ فِيهَا مُشَابِهُ الإِجارَةِ، وَلا يَجُوزُ بَيْعُ حَقِّ الهَوَاءِ لإشْرَاعِ جَنَاحٍ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ يَعْتَمِدُهُ البِنَاءُ، وَيَجُوزُ بَيْعُ حَقِّ مَسِيْل المَاءِ وَمَجْرَاهُ، وَحَقِّ المَمَرِّ وَكُلِّ الحُقُوقِ المَقْصُودَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَيَجِبُ أن يُذْكَرَ قَدْرُ البِنَاءِ وَكَيْفِيَّةُ الجِدَارِ لاخْتِلاَفِ الغَرَضِ في تَثَاقُلِهِ، وَلَوْ بَاعَ حَقّ البِنَاءِ عَلَى الأَرْضِ لَمْ يَجِبْ (و) ذِكْرُ ذَلِكَ، وَمَهْمَا هَدَمَ صاحِبُ السُّفْلِ السِّفْلَ لَمْ يَنْفَسِخُ البَيْعُ لأنَّهُ مُخَالِفٌ لِلإِجَارَةِ وَلَكِنْ يُغَرِّمُ لَهُ قِيْمَةَ البِنَاءِ لِلْحَيلُولَةِ، فَإذَا أَعَادَ السُّفْلَ اسْتَرَدَّ القِيْمَةَ. قال الرَّافِعِيُّ: كما أن الجِدَار الحائل بين مالكين تارة يكون مشتركًا بين المالكين، وتارة يكون خالصًا لأحدهما، فكذلك السَّقف الحائل بين العُلُو والسفل المملوك، كل واحد منهما لِوَاحِدٍ قد يكون مشتركًا بينهما، وقد يكون خالصًا لأحدهما، وحكم القسمين في الانتفاع يخالف حكمهما في الجِدَار، فيجوز لصاحب العلو الجلوس ووضع الأثقالِ عليه على الاعتياد، ولصاحب السّفل الاستظلال والاستكنان به؛ لأنا لو لم نجوز ذلك لَعَظُمَ الضَّرَرُ، وتَعَطَّلَت المَنَافِع، وهل لِصاحِبِ السفل تعليق الأمْتِعة فيه؟ أما: ما ليس ثقيلاً يتأثر السَّقْفُ به، كالثوب ونحوه فلا مَنْعَ بِهِ، بل هو كالاستناد إلى الجِدَار. وأما: غيره ففيه وجهان: أحدهما: أنه غَيْرُ جَائِز، إذ لا ضرورة فيه، بخلاف الاستظلال. وأظهرهما: أنه يجوز على الاعتياد تسويةً بين صاحب العُلُو وصاحب السفل في تجويز تثقيل السَّقْفِ، وعلى هذا فوجهان: أحدهما: أن التعليق الجَائز هو الذي لا يحتاج إلى إثبات وَتَد في السَّقْف. وأظهرهما: أنه لا فرق، وقال الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: فإن قلنا: ليس له إثبات الوتد والتعليق منه، فليس لصاحب العُلُو غرز الوَتَدِ في الوَجْهِ الذي يليه، إذ لا ضرورة إليه، وإن جَوَّزْنَاهُ لِصَاحِبِ السفل ففي جوازه لِصاحِب العُلُوّ وَجْهَانِ، لندرة حاجته إليه بخلاف التعليق. ¬
إذا تقرر ذلك فتصوير القسم الأول وهو أن يكون السقف مشتركًا، وأما إذا كان خالصًا لأحدهما، فصورة خلوصه لصاحب العلو أن يكون لِرَجُلٍ جداران متقابلان، فيأذن لِغَيْرِهِ في وضع الجُذُوع عليهما، والبناء على تلك الجذوع بِعِوَضٍ أو غير عوض، فإذا فعل ذلك كان السقف لِصاحِبِ العُلُو، وصورة خلوصه لصاحب السفل، أن يأذن لغيره في البناء على سَقْف ملكه بِعِوَض أو بغير عوض فيبنى عليه، وإلى هذا أشار بقوله: (وإنما يتصور ذلك بأن يبيع صاحب السفل حق البناء على سقفه من غيره)، ولما جرى ذكر هذا التصرف، وهو من المَسائِلِ المقصودة في الباب، اندفع في بيانه وبيان ما يناسبه، ونحن نشرحه في مسألتين، ولا نبالي بما يحتاج إليه من تَقْدِيرِ مُؤَخَّرٍ في سياق الكتاب وتأخيرِ مُقَدَّم. المسألة الأولى: إذن المالك لغيره في البناء على ملكه قد يكون بِغَيْرٍ عوض، وهو الإعارة، وقد يكون بِعِوَضٍ. فمن صورة أن يُكرى أرضه، أو رأسَ جِدَارِهِ، أو سقفه مدةً معلومة، بأجرة معلومة فتجوز، وسبيله سبيل سائِرِ الإِجَارَاتِ. ومنها: أن يأذن فيه بصيغة البَيْعِ ويبين الثَّمن، فهو صحيح خلافًا للمُزَنِي، ولأبي حنيفة أيضًا فيما حَكَاهُ القَاضِي الرّوَيانِي، ثم يتصور ذلك بلفظتين. إحداهما: أن يبيع سَطْحَ البيت أو علوه للبناء عليه بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ. والثانية: أن يبيع حق البناء على مِلْكِهِ، والأولى هي لفظة الشَّافعي وعامة الأصحاب -رحمهم الله- والثانية: لفظة الإمام وصَاحِب الكِتَاب، ويتلخص الغَرَض بمباحثتين: إحداهما: أن المراد من اللفظتين شَيْءٌ وَاحِد، وإن كان ظَاهِرُ اللفظ يُشْعِرُ بالمغايرة؛ لأنّ بيع العُلُوِّ للبناء، إما أن يراد به جملة السقف فَلْيُخَرَّج على التَّفْصِيل الذي مَرَّ في البيع، وأيضًا فإنهم صوروا فيما إذا اشْتُرِيَ ليبنى عليه، ومن اشترى شيئًا انتفع به بِحَسَبِ الإمكان، ولم يحتج إلى التَّعرض للانتفاع به. والثانية: ما حقيقة هذا العقد، أبيعٌ هو أم إجارة؟ إن كان بيعًا فليعد ملك عين كسائر البيوع، فإن كان إجارةً فليشترط التأقيت كسائر الإجارات. والجواب: أن الأصْحَاب اختلفوا فيه، فقال قائل: وهو بيع، ويملك المشتري به مواضع رؤوس الجذوى، وهذا يدفع الإلزام، لكنه مشكل لما ذكرنا في المباحثة الأولى. والصحيح: أنه لا تملك بِهِ عَيْن، وعلى هذا فَوَجْهَان:
أحدهما: أنه إِجَارة وإنما لم يشترط تقدير المدة لأنّ العقد الوَارِدَ عَلَى المنفعة تتبع فيه الحَاجَة، وإذا اقتضت الحاجة التأييد أيد على خلاف سائر الأجارات والتحق بالنكاح، ونسب صاحب "البيان" هذا الوجه إلى ابن الصَّبَّاغِ. وأظهرهما: أنه ليس باجارة مَحْضَة، ولكن فيه شَائِبَة الإجارة وهي أن المستحق به منفعة، وشائبة البيع، وهي أن الاستحقاق فيه على التَّأييد، فكأن الشَّرْعَ نظر إلى أن الحَاجَة تمس إلى ثُبوت الاستحقاق المُؤَبَّدِ في مرافق الأملاك وحقوقها، مساسها إلى ثبوت الاستحقاق المؤبد في الأعيان، فيجوز هذا العقد، وأثبت فيه شبهًا من البيع وشبهًا من الإِجَارَةِ، وهذا معنى قوله في الكتاب: (وهي بيع فيها مشابه الإجارة)، وإذا قلنا: إنه لا تملك به عين، فلو عقد بلفظ الإجارة، ولم يتعرض للمدة فوجهان: أشبههما: أنه ينعقد أيضًا؛ لأنه يخالف البَيْعَ في قَضِيَّةٍ كما يخالف الإجارةُ في أخرى، فإذا انعقد بلفظ البيع لتوافقهما في قضية انعقد بلفظ الإجارة لتوافقهما في أخرى، فإذا جرت هَذهِ المُعَاملَة، وبنى المشترى عليه، لم يكن للبائع أن يكلفه النَّقض، ليغرم له أَرْشَ النقصان، ولو انهدم الجدار والسقف بعد بِنَاءِ المشترى عليه وأعاد مَالِكه، فللمشتري إعادة البناء بتلك الآلات، أو بمثلها، ولو انهدم قبل البناء فللمشتري البناء عليه إذا أعاده، وهل يجبره على إعادته؟ فيه الخِلاَف السَّابق: ولو هَدَمَ صاحب السفل أو غير السفل قبل بناء المشتري فعلى الهادم قيمة حق البناء؛ لأنه حال بينه وبين حَقِّه بالهدم، فإذا أعاد مَالِك السفل استرد الهَادِم القيمة؛ لأن الحيلولة قد ارتفعت، فلا يغرم أجرة البناء لِمُدَّة الحيلولة، ولو كان الهدم بعد البِنَاءِ فالقياس أن يُقال: إن قلنا: إن من هدم جدار الغير يلزمه إعادته، فعليه إعادة السّفل والعُلُو. وإن قلنا: يلزمه أَرْشُ النقص، فعليه أرش نَقْصِ الآلات وقيمة حق البناء للحيلولة، وبالجملة فلا تنفسخ هذه المعاملة بما يعرض من الهَدْم والانهدام من جهة التحاقها بالبيوع، ثم سواء جرى الإذْنُ في البناء بعوض، أو لاَ بِعِوَضٍ، فيجب بيان قدر الموضع المبنى عليه طولاً وعرضًا، ويجب مع ذلك إن كان البناء على الجِدَارِ أو السَّطْحِ بيان سُمْك البناء وطوله وعرضه، وكون الجدران مُنْسَدة، أو خالية الأجَّواف، وكيفية السَّقْف المحمول عليها؛ لأن الغرض يختلف، ولا يحتمل الجدار أو السقف كُلّ شَيْءٍ، وحكى القاضي الرّوَيانِي وجهًا: أنه إذا أطلق ذكر البِنَاء كفى، وحمل على ما يحمله المبنى عليه، ولا يشترط التعرض لِوَزْنِ ما يبنيه عليه؛ لأنّ الإعلام في كل شيء على ما يليق به ويعتاد فيه، وعن الشَّيْخ أَبِي مُحَمَّدٍ أن بعضهم يشترطه، ولو كانت الآلات حاضرة أغنت مُشَاهَدَتُها عَنْ كُلِّ وَصْفٍ وَتَعْرِيفٍ، وإن أذن في البناء على أرضه لم يجب ذكر سُمْك البناء وكيفيته؛ لأنّ الأرض تحمل كُلَّ شَيْءٍ، وفيه وجه آخر يذكر مع
الأول في باب الإجارة أنه يجب؛ لأنّ بتقدير القلع والتفريغ عند انقضاء مدة الإجارة، أو الرجوع عن الإعارة تطول مدة التفريغ وتقصر بحسب كثرة النقض وقلته، ويختلف الغرض بذلك. فرع: ادعى بيتًا في يد غيره، فأقر له به وتصالحَا على أن يبنيَ المقر على سطحه جازَ ذَلِك، وقد أعاره المِقِر لَهُ سطح بيته للبناء، ولو كان تنازعهما في سفله، والعلو مسلم للمدعى عليه، فأقر للمدعي بما ادعى، وتصَالَحا على أن يبني المُدَّعِي عَلَى السّطح، ويكون السفل للمدَّعَى عَلَيْهِ جاز، وذلك بيع السفل بِحَقِّ البِنَاءِ على العُلُو. المسألة الثَّانية: من احتاج إلى إجراءِ مَاءِ المطر من سطحه على سطح غيره، أو إجراء ماء في أرض الغير لم يكن له إجبار صَاحِبِ السَّطْحِ والأَرْضِ عَلَيْهِ، وروى البَنْدَنِيجِي وغيره عن القَدِيم قولاً أنه يجبر، والمَذْهَبُ الأول، فإن أذن فيه بإعارةٍ؛ أو بيعٍ أو إجارة جَاز، ثم في السَّطْح لاَ بُدَّ من بيان الموضع الذي يجري عليه المَاء؛ والسّطوح التي ينحدر مِنْهَا المَاء إليه، ولا بأس بالجَهْلِ بالقدر من مَاءِ المَطَرِ؛ لأنّ ذلك مما لا يمكن مَعْرِفَتهُ، وهذا عَقدٌ جُوِّزَ لِلْحَاجَةِ، وإذا أذن وبين ثم بني على سطحه ما يمنع الماء، فإن كان عارية فهو رجوع، وإن كان بيعًا أو إجارة، فللمشتري أو المستأجر ثَقْب البِنَاء وإجراء المَاءِ فيه، وأما في الأرض فقد قال في "التهذيب": لا حاجة في العَارِية إلى بَيَان؛ لأنه إذا شاء رجع، والأرض تَحْمِل ما يحمل، وإن أجر وَجَب بيان موضع الساقية وطولها وعرضها وعمقها، وتقدير المدة، قال في "الشامل": ولا بد وأن تكون الساقية محفورة، فإن المُسْتَأْجِرَ لا يملك الحَفر، وإن باعَ وجب بَيانُ الطُّولِ والعَرْضِ، وفي العمق وجهان: بناءً على أن المشتري يملك مَوْضعِ الجريان، أو لا يملك إلا حَقّ الإجراء، وإيراد الناقلين يَمِيل إلى تَرْجيحِ الأول، وهذا إذا كان لَفْظُ البيع: بعت مِنْكَ مَسِيلَ المَاءِ فإن قال: حَقَّ مَسِيلِ المَاءِ، فكذلك صور القَفَّالُ، فهو كبيع حَقِّ البناء، ويجيء في حقيقة العَقْدِ ما مَرَّ في بَيْعِ حَق البناء، وفي المواضع كُلّها ليس له دخول الأَرْضِ بغير إِذْنِ مَالِكِهَا، إلا أن يريد تنقية النهر، وعليه أن يخرج من أَرْضِهِ ما يخرج من النَّهْرِ. والمأذون في إجراء ماء المطر ليس له إلقاء الثَّلْجِ، ولا أن يترك الثَّلْجَ حتى يذوبَ وَيسِيلَ إِلَيْهِ، ولا أن يجري فيه مَاء يغسل به ثِيَابه وأوانيه، بل لا يجوز أن يُصَالح على ترك الثُّلُوج على السَّطْح، أو إجراء الغسالات على مَالٍ؛ لأن الحَاجَةَ لا تدعو إلى مِثْلِهِ، وفي الأول ضَرَرٌ ظاهِرٌ. والثَّانِى: مجهول، والمأذون في إلْقَاء الثلج لَيْس له إجراء المَاءِ، وتجوز المُصَالحة على قَضَاءِ الحَاجَةِ في حق الغير على مَالٍ، وبهذا على جَمْعِ الزبالة والقمامة في مِلْكِهِ،
الفصل الثالث في التنازع
وهي إجارة يراعى فيها شرائطها، وكذا المُصَالَحَة عن البيتوتة على سَطْحِ الجَارِ، ثم لو باع مستحق البيتوتة مَنْزِله، فليس للمشتري أن يبيت عَلَيْهِ، بخلاف ما إذا بَاعَ مستحق إجراء الماء على سَطْحِ الغير مدة بقاء دَارِه فإنه يستحق للمشتري الإجراء بقية المدة؛ لأن إجراء الماء مِنْ مرافق الدَّارِ دون البيتوتة. وقوله في الكتاب: (ولا يجوز بيعُ حَقِّ الهَوَاءِ لإِشْرَاعِ جناح) هذه المسألة احتج بها المُزَنِي، للمنع من بَيْعِ حَقِّ البِنَاء، وفرق الأصحاب بأن ذاك اعتياض عن مجرد الهواء، وحق البناء تَعَلَّق بِعَيْنِ المَوْضِعِ المَبْنِي عَلَيْهِ، حتى لو صالحه عن موضع الجذوع المشرعة على جِدَارِهِ صَحّ، ولهذا يجوز إكراء المَالِك للبناء بالاتفاق، ولا يجوز إكراء الهَوَاء، وكل حق يتعلق بغير مجرى الماء والممر، فهو كحق البناء بلا فرق. وقوله: (حتى مسيل الماء ومجراه)؛ اللفظتان متقاربتان، ويمكن حمل المسيل على المُوْضِع الذي ينحدر إليه الماء، ويقف إلى النضوب، والمجرى على الموضع الذي يجري فيه الماء. وقوله: (وكل الحقوق المقصودة على التأييد)، فيه إشعار بأن الحقوق المتعلقة بالأعْيَانِ لما كانت مقصودة على التأييد ألحقت بالأعْيَانِ حتى استغنى العقد الوَارِد عَلَيْهَا عن التأقيت. فرع: لو خرجت أغصان شَجَرَتِهِ إلى هَوَاءِ مِلْكِ الجَارِ، فللجار أن يطالبه بإزالتها، فإن لم يَفْعَل فله تحويلها عن مِلْكِهِ، فإن لم يمكن فَلَهُ قَطْعُهَا، ولا يحتاج فيه إلى إذن القَاضِي، وفيه وجه ضَعِيفٌ، ولو صالحه على إبقائها بِعِوَضٍ لم يجز إن لم يستند الغُصْن إلى شَيْءٍ، لأنه اعتياض عن مُجَرَّدِ الهَوَاءِ، وإن استند إلى جِدَارٍ فإن كان بعد الجفاف جاز، وإن كان رطبا فَلاَ؛ لأنه يزيد ولا يعرف قدر ثقله وَضَرَرِهِ، وعن طَائِفَةٍ من أصحابنا البصريين، أنه يجوز وما ينمو يكون تابعاً، وانتشار العروق كانتشار الأغصان، وكذلك مَيْلُ الجِدَار إلى هواء الجَارِ، قاله الإصْطَخْرِي. قال الغزالي: الفَصْلُ الثَّالِثُ في التَّنَازُع وَفِيْهِ ثَلاَثُ مَسَائِلَ: الأُوْلَى -لَو ادَّعَى رجل عَلى رَجُليْنِ دَاراً وَهِيَ فِي يَدِهِمَا فَكَذَّبَهُ أَحَدُهُمَا وَصَدَّقَهُ الآخَرُ فَصَالَحَ المُصَدِّقُ عَلَى مَالٍ فَأَرَادَ المُكَذِّبُ أَخْدَهُ بِالشُّفْعَةِ إِن ادَّعَى عَلَيْهِمَا عَنْ جِهَتَيْنِ جَازَ، وَإِن ادَّعَى عَنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ إِرْثٍ أَوْ شِرَاءٍ فَلاَ، لِأَنَّهُ كَذَّبَهُ في اسْتِحْقَاقِهِ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ بِقَوْلِهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ. قال الرَّافِعِىُّ: كلام الفَصْلِ في ثَلاثِ مَسَائِلَ:
الأولى: إذا ادَعَى رجلٌ على رَجُلَيْنِ داراً في أيديهما فصدقه أحدهما وكذبه الآخر ثبت له النِّصْف بإقرار المصدق، والقول قول المُكَذِّب في إِنْكَارِه، فلو صَالَحَ المُدَّعِي المقر على مَالٍ، فأراد المكذب أخذه بالشفعة هل له ذلك؟ اختلف طرق الناقلين في الجَوَابِ، قال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَقوْمٌ: إن ملكها في الظَّاهِرِ بسببين مختلفين فله ذلك؛ لأنه لا تعلق لأحد الملكين بالآخر، وإن ملكها بِسَبَبٍ واحِدٍ من إرث أو شِرَاءٍ فوجهان: أحدهما: المنع؛ لأن الدَّارَ يزعم المكذب أنها لَيْسَتْ لِلمُدَّعِي، فإن في ضمن إنكاره تَكْذِيب المدعي في نَصِيب المُقِر أيضاً، وحينئذ يكون الصّلْحُ بَاطِلاً. وأظهرهما: أن له الأخذ لحكمنا في الظَّاهِرِ بصحة الصُّلْح وانتقال المِلْكِ إلى المُقِر، ولا يبعد انتقال نصيب أحَدِهِمَا إلى المُدَّعِي دون الآخر، إن ملكاه بسَبَبٍ وَاحِدٍ، وهذا الطريق هو الذي أورده الإِمَام والمُصَنِّف في "الوسيط" لكنهما جعلا أظْهَرَ الوَجْهَيْنِ المَنْعَ وفي أصل الطريقة إشْكَال؛ لأنا لا نحكم بالملك إلا بِظَاهِرِ اليَدِ، ولا دلالة لِلْيَدِ على اختلاف السَّبَبِ واتحاده فيما يعرف الحاكم الاختلاف والاتحاد، وإلى قول من يرجع ومن الذي يقيم البينة عليه، وقال صَاحِب الكِتَاب هاهنا: إن ادعى عليهما عن جهتين فللمكذب الأخذ بالشفعة، وإن ادعى عن جهة واحدة ففيه الوجهان، وفيه وقفات أيضاً، وقصور عن الوفاء بالجواب؛ لأن المدعي ليس من شرطه التعرض لِسَبَبِ المِلْكِ، وبتقدير تعرضه له فليس من شرط الإنكار نفي السبب بل يكفي نفي الملك وبتقدير تعرضه فلا يلزم من تكذيبه المدعي في قوله: ورثت هذه الدار، زعم أنه لم يرث نِصْفَها، وقال ابْنُ الصَّبَّاغِ: إن اقتصر المكذب على أنه لاَ شَيْءَ لَكَ في يدي أو لا يلزمني تسليم شيء إليك أخذ بالشفعة، وإن قال مع ذلك: وهذه الدَّار ورثناها ففيه الوجهان: وهذا أقرب الطرق على أن قوله: ورثناها لا يقتضي بقاء نَصِيب الشَّرِيكِ فِي مِلْكِهِ، بل يجوز انتقاله إلى المدعي، فليقطع بجواز الأخذ بالشُّفْعة، إلا أن يتعرض لكون الشريك مَالِكاً في الحَال (¬1). هذا إذا ادعى رجلٌ على رَجُلَيْنِ. ولو ادعى رجلانِ داراً في يَدِ رَجُلِ فأقر لِأحَدِهِمَا بِنِصْفِهَا نظر، إن ادعيا أنهما وَرِثَاهَا شَارَكَ المكذب المصدق فيما سَلِّمَهُ المُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لأن الإرْثَ يقتضي شيوع التركة بين الورثة، فيما يخلص يكون بينهما، وصار كما لو تَلَفَ بعض التركة وحصل البعض هذا إذا لم يتعرضَا لِقَبْضِ الدار، أما إذا قَالاَ: قبضناها وورثناها ثم غصبتَها مِنَّا فوجهان: ¬
منهم من قال: يشاركه أيضاً؛ لأن إيجاب الإرْثِ الشّيوعَ لاَ يختلف، ويحكى هذا عن أَبِي حنيفة ومالك -رضي الله عنهما- وقال الأكثرون: لا يشاركهم لأن الشركة إذا حصلت في يَدِ الوَرَثَةِ، صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ منهم قابضاً لِحَقِّهِ، وانقطع حَقُّه عَنْهُ عَمَّا في يد الآخرين، ألا ترى أنه يجوز أن يطرأ الغصب على نَصِيب أَحَدِهِمَا خَاصَّة بأن تزال يده، فإن المَغْصُوبَ لا يكون مشتركاً بينهما، وإن ادعيا الاستحقاق بجهةٍ غير الإرث من شِرَاءٍ وغيره، إن لم يقولا: اشترينا معاً، أو اتهبنا معاً، لم يشارك المُكَذِّب المصدق، بل هو كما لو عين هذا جِهَة وهذا غَيْرَهَا، وإن قالا: اشترينا معاً، أو اتهبنا معاً وقبضنا فوجهان: أظهرهما: وبه قال الشَّيْخُ أبُو حَامِدٍ وأصْحَابُه وتابعهم القَاضِي حسين: أن الحكم كما ذكرنا في الإِرْثِ. والثاني: ويُحْكَى عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالطَّبَرِيِّ، وبه قال القَاضِي ابْنُ كِجٍّ والشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ أنه لا يشركه؛ لأن تعدد المُشْتَرِي يقتضي تعدد العَقْد، فهو كما لو ملكا بعقدين، ولو لم يتعرَضا لسبب الاستحقاق أصلاً فَلاَ شركة بِحَالٍ، نَصَّ عليه في "المختصر"، وحيث قلنا بالشركة في هذه الصورة فلو صالح المُصَدّق المُدَّعَى عَلَيْهِ عن المقر به على مَالٍ نظر إن صالح بإذن الشَّرِيكِ صَحَّ، وإلا بطل في نَصِيب الشَّرِيك، وفي نصيبه قولا تفريق الصفقة، وعن بعض الأصْحَابِ تَصْحِيح الصُّلح في جميع المقر به، لنوافق المتعاقدين وتقاربهما وهو ضعيف. ولو ادعيا داراً في يده فأقر لأحدهما بجميعها فالجواب أنه إن وجد من المقر له في الدعوى ما يتضمن إقراراً لصاحبه بأن قال: الدار بيننا وما أشبه ذلك شاركه صاحبه فيها، وإن لم يوجد بل اقتصر على دَعْوى النصف نظر إن قال بعد إقرار المدعى عليه بالكل: الكل لِي سلم الكُلّ لَهُ، ولا يلزم من ادعائه النصف، أن لا يكون الباقي له لجواز أن لا تساعده البينة في الحال إلا على النصف، أو يخاف الجحود الكُلّي لو ادعى الكل، وإن قال: النصف الآخر لصاحبي سلم إليه، وإن لم يثبته لنفسه ولا لصاحبه فيترك في يد المدَّعَى عَلَيْهِ، أو يحفظه القَاضِي، أو يسلم إلى صاحبه الذي يدعيه؟ فيه أوجه: أصحها: أولها، وهل بتوجيهها تذكر في موضعها. قال الغزالي: الثَّانِيَةُ -تَنَازَعَا جِدَاراً حَائِلاً بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا فَهُوَ في أَيْدِيْهِمَا، فَلَوْ كَانَ وَجْهُ الجِدَارِ أَوِ الطَّاقَاتُ أَوْ مَعَاقِدُ القُمُطِ إِلى أَحَدِهِمَا لَمْ يُجْعَلْ - (م) صَاحِبُ يَدٍ؛ لأَنَّ كَوْنَهُ حَائِلاً بَيْنَهُمَا عَلاَمَةٌ ظَاهِرَةٌ للاشْتِرَاكِ فلاَ يُغَيَّرُ بِمِثْلِهِ، وَكَذَلِكَ (ح) لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا
عَلَيهِ جُذُوعٌ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ شَهِدَتْ بَينَةٌ لِأَحَدِهِمَا بِالمِلْكِ فِي الجِدَارِ يَصِيرُ (و) صَاحِبَ يَدٍ فِي الأُسِّ إِذْ ليْسَ فِيْهِ عَلاَمَةُ الاشْتِرَاكِ، وَكَذَا رَاكِبُ الدَّابَةِ مَعَ المُتَعَلِّقِ بِلِجَامِهَا مُخْتَصٌّ بِاليَدِ إِذْ لَيْسَ ثَمَّة عَلاَمَةٌ قوِيَّةٌ فِي الاشْتِرَاكِ فَالرُّكُوبُ ظَاهِرٌ فِي التَّخْصِيصِ، أَمَّا وَضْعُ الجُذُوعِ فَزِيَادَةُ انْتِفَاع فَهُوَ كَزِيَادَةِ الأَقْمِشَةِ فِي الدَّارِ، وَكَذَلِكَ إِذَا تَنَازَعَ صَاحِبُ العُلُوِّ وَالسُّفْلِ فِي السَّقْفِ فَهُوَ فِي يَدِهِمَا (ح م) إلَّا إِذَا كَانَ بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ بِنَاءِ العُلُوِّ فَيَكُونُ مُتَّصِلاً بِجِدَارِ صَاحِبِ السُّفْلِ اتِّصَالَ تَرْصَيْفٍ وَهُوَ عَلاَمَةُ اليَدِ، وَكَذَا الجِدَارُ المُتَنَازَعُ فِيْهِ إِذَا اَتَّصَلَ بأَحَدِهِمَا اتِّصَالَ تَرْصِيْفٍ كَانَ هُوَ صاحِبَ اليَدِ. قال الرَّافِعِىُّ: في المسألة صورتان: إحداهما: إذا تنازعَا جِدَاراً حَائِلاً بين ملكيهما، فله حالتان: الأولى: أن يكون متصلاً ببناء أَحَدِهِمَا دون الآخر، إتصالاً لا يمكن إحداثه بعد بِنَائِه فيرجح جَانِبه؛ لأن اتصاله به أمارة ظاهرة على يده وتصرفه. وصورته أن يدخل نصف لبنات من الجِدَار المتنازع فيه في جداره الخاص، ونصف من جداره الخَاص في المتنازع فيه، ويتبين ذلك في الزوايا، وكذلك إذا كان لأحدهما أزج لا يتصور إحداثه بعد تَمَامِ الجدار بأن أميل من مبدأ ارتفاعه عن الأرض قليلاً قليلاً، وإذا ترجح جانبه حلف، وحكم بالجدار له إلا أن تقوم بينة على خلافه، ولا يحصل الرّجحَان بأن يوجد الترصيف المذكور في مواضع معدودة من طرف الجدار؛ لإمكان إحداثه بعد بناء الجدار يَنْزع طوبةٍ وإدراج أخرى، ولو كان الجدار المتنازع فيه مبنياً على خشبة طرفها في ملك أحدهما وليس منها في ملك الثاني شيء فالخشبة لمن طرفها في ملكه، والجدار المبني عليها تحت يده ظاهراً، قال الإمام: وليس المسألة خالية عن الاحتمال. والثانية: أن لا يكون متصلاً ببناء أحدهما خاصة، بل يكون متصلاً ببنائهما جميعاً، أو منفصلاً عنهما، فهو في أيديهما، فإن أقام أحدهما بينةً قُضِيَ لَهُ، وإلا حلف كُلُّ واحد منهما لِلآخَرِ، فإن حلفَا أو نكَلا جعل الجدار بينهما بظاهر اليَد، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر قضى للحالف بالكل، وعلى أن يحلف كل واحد منهما على النصف الذي يسلم له، أو على الجميع لأنه ادعى الجميع، فيه وجهان: أظهرهما الأول: وتكلم الشَّافعي -رضي الله عنه- في هذا الموضع في أمرين، عدهما بعضهم من أَسْبَابِ تَرْجْيحِ أَحَدِهِمَا، قال: "ولا نظر إلى من إليه الخوارج
والدَّوَاخِل، ولا أنصاف اللَّبن، ولا معاقد القمط (¬1)، قال المفسرون لكلامه، المراد بالخوارج: الصور والكتابات المتخذة في ظَاهرِ الجِدَار بلبنات تخرج بجص أو آجر بالداخل الطاقات والمحاريب في بَاطِنِ الجدار، وبأنصاف اللبن أن يكون الجدار من لبنات مقطعة، فتجعل الأطراف الصحاح إلى جَانِب، ومواضع الكسر إلى جَانِب، ومعاقد القُمُط يكون في الجدران المتخذة من القصب، أو الحصر، وأغلب ما يكون ذلك في الستور بين السُّطوح، فتشد بحبالٍ أو خيوط، وربما تجعل عليها خَشَبَةٌ معترضة، ويكون العقد من جانب والوجه المستوي من جَانِب، وبه قال أبو حنيفة وأحمد -رحمهما الله-. وقال مالك -رحمه الله-: يثبت الترجيح بالخَوَارجِ والدَّوَاخل، وبأن تلي الأطراف الصحيحة من اللبنات ملكه. وأما في معاقد القمط، فنقل الشيخ الصَّيْدَلاَنِيِّ والمَسْعُودِي عن مذهبه أنه يُرَجَّح جانب من يلي ملكه الوجه المستوي منها؛ لأنه أحسن، وهذا قياس ما ذكرنا من أنصاف اللبنات، ونقل غيرهما أنه يرجح جَانِبُ مَنْ يَلِي معاقدَ القُمُط مِلْكُه، وربما وجهوه بأنه إذا كان المعاقد إليه فالظاهر أنه وقف في ملكه وعقده. لنا أن كونه حائلاً بين الملكين علامةٌ قويةً في الاشتراك فلا تغير بهيئة الأسباب الضعيفة التي معظم القصد منها الزينة كالتجصيص والتزويق. والثاني: لو كان لأحدهما عليه جذوع لم يرجح جانبه به، وبه قال أحمد، خلافاً لأبي حنيفة ومالك. واحتج لهما، فإن الجَارَيْنِ لو تَنَازَعا في الجَدارِ وشهدت بينة لِأَحَدِهمَا وقضى بها يصير المشهود له صَاحِبُ يَدٍ في الأس، فإذا اقتضى الجدار على الأساس الترجيح، في الأساس وجب أن يقتضي الجذوع على الجِدَار الترجيح في الجدار، وأيضاً فإن صَاحِب الجذوع مسؤولٌ عن الجدار يداً وتصرفاً، فرجح جانبه، وإن كان للآخر تعلق به، كما لو تنازعا دابة، وأحدهما رَاكِبُهَا والآخر آخِذٌ بلجامها، أو ثوباً وأحدهما لاَبِسُه والآخر آخذ بِطَرَفِه. لنا: أن وضع الجذوع لا يدل على اليَدِ والملك لوجهين: أحدهما: أن من العلماء من جوز وضع الجذوع على جدار الغير بغير إذن المالك، فلعل مُفْتِياً أفتى به له. ¬
والثاني: أنه لو دَلَّ عليهما لاستوى فيه القليل والكثير، ألا ترى أن كون جميع الثوب في يَدِ الإنسان، وكون طرف منه في يَدِ واحدٍ، وبالعكس، ما لا يَدُلُّ عليهما، يستوى فيه القليل والكثير كالتجصيص والتزويق، وقد سلم أبو حنيفة -رضي الله عنه-، أن الجِذْعَ الوَاحِدَ لا يقتضي التَّرْجِيحَ، وفي الجذعين الخِلاَفُ عَنْهُ. إذا تقرر ذَلِكَ، كان وَضْعُ الجذوعِ زيادةَ انتفاع من أحدهما، كما إذا تنازعا داراً في يدهما وأقمشةً أحدهما فيه أكثر لا يرجح جانبه. وأما: مسألة الأُسّ، فإن الإمام وصاحب الكتاب صوراها كما ذكرنا، ولم ينقلا فيها خلافاً، والعراقيون احتجوا لأبي حنيفة بأنهما إذَا تنازعا في العرصة -يعني بالعرصة هاهنا الأُسِ، وهما متفقان على أن الجِدَارَ لأحدهما، حيث يجعل صَاحِبُ الجِدَارِ صاحب اليَدِ في العُرْصَة، فاعلم أن غرض الاحتجاج حَاصِلٌ بهذا القَدْرِ، وتصور إقامة البَيِّنَة مستغنى عنه، ثم إنهم في الجواب نقلوا في المسألة وجهين للأصحاب، فإن مَنَعْنَا فَذَاكَ، وإن سلمنا -وهو الأظهر- فالفرق من وجهين: أحدهما: أن الجدار على العرصة دليل اليد والملك فيها؛ لأنه لم يجوز أحد البناء في عرْصَةِ الغير، ووضع الجذوع بخلافه على مَا مَرّ. والثاني: أن علامة الاشتراك ظَاهِرةٌ في الجِدَارِ فإنه كالجُزْءِ من كُلِّ وَاحِدٍ من الدَّارَيْنِ، فليس في العرصة علامةُ الاشتراك فإذن مسألة الأس، كما لو تنازعا داراً لا يسكنانها ولأحدهما فيها أمتعة، ومسألة وضع الجذوع كما لو تنازعا داراً يسكنانها ولأحدهما فيها أمتعة زائدة. وأما: مسألة الدّابة فهي ممنوعة، بل هما سواءٌ على قول أَبِي إسحاق، وعلى التسليم وهو المَذْهَب. فالفرق أن الركوب يقتضي اليَدَ والمِلْك، وهو أقوى فاقتضى الترجيح، ووضع الجذوع قد بَيَّنا أنه لا يقتضي اليَد، والأزج المبني على رأس الجدار بعد تمامه على الإمتداد كالسقف لإمكان إحداثه بعد بناء الجدار، فإذا جعلنا الجِدَارَ في أيديهما وحلفَا لم ترفع الجذوع بل تترك بحالها؛ لاحتمال أنها وضعت بِحَقّ. الصورة الثانية: السقف المتوسط بين علو أحدهما وسفل الآخر كالجدار المتوسط بين الملكين، فإذا تداعيا نظر إن لم يمكن إحداثه بعد بِنَاءِ العلو، كالأزج الذي لا يمكن عقده على وسط الجدار بعد امتداده في العُلُو، فيجعل في يَدِ صَاحِب السَّفل، لاتصاله ببنائه على سَبِيلِ التَّرْصِيف، فإن أمكن إحْدَاثُه بعد بِنَاءِ العُلُو، بأن يكون السقف عالياً فيثقب وسُطَ الجِدَار وتوضع رؤوس الجُذُوعِ في الثقب، فيصير البيت بيتين، فهو في
أيديهما؛ لاشتراكهما في الانتفاع به فإنه أرضٌ لصاحب العُلُو وسَمَاءٌ لصاحب السفل وبهذا قال أحْمَدُ. وقال أبو حنيفة: هو لِصَاحِبِ السفل، وبه قال مالك في رواية، والأشهر عنه أنه لِصَاحِبِ العُلُوّ. وأما: لفظ الكتاب، فقوله في أول المسألة: (فهو في أيديهما) يعني إذا لم يتصل بملك أحدهما اتصال ترصيف، وقد استدرك ذلك وبينه في آخر صورة التنازع في السَّقْفِ. وقوله: (لم يجعل صاحب يد) مُعَلَّمٌ بالميم، ويمكن أن يقرأ قوله: (أو معاقد القمط) بالرفع عطفاً على الوَجْهِ، والجر عطفاً على الجِدَارِ، ولا يختلف الحكم عِنْدَنا، لكن إذا حاولنا الإِشارة إلى مذهب مالك، وأخذنا برواية المَسْعُودِي والصَّيْدَلاَنِيِّ، فالوجه أن يقرأَ بالجَرِّ. وقوله: (وكذلك لو كان لأحدهما عليه جذوع) بالحاء. وقوله: (يصير صاحب يد في الأُس)، يجوز إعلامه بالواو؛ لأن الخلاف الذي أورده العراقيون في الصورة التي ذكرناها جار هاهنا بِلاَ فَرْقٍ، وكذلك قوله: (مختص باليد)، للوجه المنقول عن أبي إسحاق. وقوله في مسألة السقف: (فهو في أيديهما) مُعَلَّمٌ بالحاء والميم لما مرّ من مذهبهما. قال الغزالي: الثَّالِثَةُ -عُلُوُّ الخَانِ لِواحِدٍ وَسُفْلُهُ لِآخَر وَتَنَازَعَا فِي العَرْصَةِ، إِنْ كَانَ المَرْقَي فِي أَسْفلِ الخَانِ فَالعَرْصَةُ فِي يَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ فِي دِهْلِيْزِ الخَانِ فَوَجْهَانِ. قال الرَّافِعِىُّ: علو الخان أو الدار لأحدهما والسفل للآخر، وتنازعا في العرصة أو الدهليز لم يخل إما أن يكون المرقى في صَدْرِ الخان أو الدار، أو الدهليز، أو في الوسط، أو خارجه، والخان أو الدار بجانب العرصة، جعلت العرصة والدهليز بينهما؛ لأن لِكُلِّ واحدٍ منهما فيها يداً وتصرفاً من الطروق ووضع الأمتعة وغيرهما، قال الإمام: وكان لا يبعد أن يقال: ليس لصاحب العلو إلا حق الممر، وتجعل الرقية لِصَاحِب السفل، ولكن لم يصر إليه أحد من الأصحاب. وإن كان المرقى في الدهليز أو في الوسط فمن أول الباب إلى المرقى بينهما وفيما وراء ذلك وجهان: أصحهما: أنه يجعل لصاحب السفل لانقطاع الآخر عنه، واختصاصه بصاحب السفل يداً وتصرفاً. والثاني: أنه يجعل بينهما؛ لأنه قد ينتفع به صَاحِبُ العُلُو بإلقاء الأمتعة فيه، وطرح القُمَامَاتِ، وإن كان المرقى خارجاً عن خطة الخان والدَّارِ، فلا تعلق لصاحب العلو بالعرصة بِحَالٍ، ولو كانت المسألة بحالها فتنازعَا في المرقى وهو غير خارج فينظر إن كان منقولاً كالسلم الذي يوضع ويرفع فإن كان في بيتٍ لِصَاحِبِ السفل فهو في يَدِهِ، وإن كان في غرفة لصاحب العُلُو فَهُوَ فِي يَدِهِ، وإن كان منصوباً في مَوْضِع المرقى، فقد
حكى القاضي ابْنُ كِجٍّ أن الأكثرين صَارُوا إلى أنه لِصَاحِبِ العُلُو؛ لعود منفعته إِلَيْهِ، وأن ابْنَ خَيْرَانَ ذهب إلى أنه لِصَاحِب السفل، وهذا هو الوَجْه كسائر منقولات الدَّارِ، وإن ثبت الأول، فليخرج وجه في اندراج السلم الذي لم يسمر تحت تبع الدَّارِ، وإن كان المرقى مثبتاً في موضعه كالسلم المسمر والأخشاب المعقودة فهو لصاحب العُلُو، لعود فائدته إليه، وكذا إذا كان مثبتاً من لبن أو آجر إذا لم يكن تحته شيء، وإن كان تحته بيت، فهو بينهما كَسَائِر السُّقُوفِ، وإن كان تحته موضع حب أو جرة فوجهان. عن أبي إسحاق وابْنِ أبي هُرَيْرَةَ وغيرهما أنه كما لو كان تحته بيت، والأصح أنه يجعل لِصَاحِب العُلُو، لظهور بِنِائِهِ لغرض صَاحِبِ العُلُو، وضعف منفعة صَاحِبِ السُّفْلِ، والله عَزَّ وَجَلَّ أعلم.
كتاب الحوالة
كِتَابُ الحِوَالَةِ (¬1) قال الغزالي: وَهِي مُعَامَلَةٌ صَحِيْحَةٌ لِقَوْلِهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ فَإِذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيِّ فَلْيَحْتَلْ" وَالنَّظَرُ فِي شَرَائِطِهَا وَأَحْكَامِهَا، أَمَّا الشَّرَاِئطُ: فَالأوَّل -رِضَا المُسْتَحِقِّ لِلدَّيْنِ وَالمُسْتَحِقِّ عَلَيْهِ (و) إِيْجَاباً وَقَبُولاً، وَرِضَا المُحَالِ عَلَيْهِ لاَ يُشْتَرطُ (ح)، لِأَنَّهُ مَحَلُّ التَّصَرُّفِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَلَى المُحَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِيْهِ وَجْهَانِ، فَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ فَحَقِيْقَتُهُ تَجْوِيزُ الضَّمَانِ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الأَصِيْلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ رِضَاهُ لاَ مَحَالَةُ. قال الرَّافِعِىُّ: أصل الحوالة مجمع عليه، ويدل عليه من جِهَةِ الخبر، ما روى الشَّافعي -رضي الله عنه- عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ فَإِذَا أُتْبعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِىِّ فلْيَتَّبعْ" (¬2). ويروى "وَإِذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِىِّ فلْيَحْتَلْ" (¬3) وهو معنى اللفظ الأول، قال في الصَّحَاح: ويقول أتبع فلان بفلان، إذا أحيل له عليه، والتبيع الذي لك عليه مال، ثم الأشهر من الرواية "فَإِذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ" بالفاء فعلى التقدير الأول هو مع قوله: "مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ" جملتان لا تعلق للثانية بالأولى لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "العَارِيَةُ مرْدُودَةٌ وَالزَّعِيمُ ¬
الْغَارِمُ" (¬1) وعلى الثاني: يجوز أن يكون المعنى في الترتيب، أنه إذا كان المطل ظلماً من الغنى، فهذا أحيل بدينه فإن الظاهر أنه يحترز عن الظُّلْمِ ولا يمطل، ثم الأمر في قوله: فليتبع أو فليحتل أمر استحباب، وعن أحمد -رضي الله عنه- أنه للوجوب. واعلم أنه إذا كان لزيد عليك عشرة، ولك على عمرو مثلها، فأحلت زيداً على عمروٍ، فأنت مُحِيلٌ، وزيدٌ مُحْتَالٌ، وعمرو مُحَالٌ عَلَيْهِ، وقد كان لِزَيْدِ عليك دَيْنٌ، ولك على عَمْرو دَيْنٌ، وجرت بينك وبين زيد مراضاة بها، انتقل حقُّه إلى عَمْروٍ، فهذه ستة أمور لا بد منها في وجود الحوالة، ويشترط في صحتها أمور: منها: ما يرجع للدينين. ومنها: ما يتعلق بالأشْخَاص الثلاثة، وصاحب الكتاب حَاوَلَ جَمْعَ الشروط، وأعرض عن تفصيل ما يفتقر إليه وجود الحَوَالة لِوُضُوحِهِ، واكتفى بما بينه في سَائِر العقود، وأول ما نذكره أصل شديد التوغل في مسائل الكتاب، وهو أن الحوالة استيفاء حق أو بيع أو اعتياض وفيه وجهان، أو قولان منسوبان إلى ابْنِ سُرَيْج وغيره أحدهما أنها استيفاء حق كأن المحتال استوفى ما كان له على المحيل، وأقرضه المحال عليه، ووجهه أنها لو كانت معاوضة لجاز أن يحيل بالشَّيْءِ على أكثر منه، أو أقل، ولما جاز التفريق قبل القَبْضِ، إذا كانَا طَعَامَيْنِ أو نقدين. وأظهرهما: وقد نَصّ عليه في باب بيع الطعام: أنها بيع؛ لأنها تبديلُ مَالٍ بِمَالٍ، فإن كل واحد من المُحِيل والمُحْتَال، يملك بِهَا مَا لَمْ يملكه، وهذا حقيقة المعاوضة، وليس فيها استيفاء حَقِّ، ولا إقراض محقق فلا يُقَدَّرَانِ، وعلى هذا فهو بيع ماذا بماذا؟ في كتاب القاضي ابْنِ كِجٍّ، أن القاضيَ أَبا حَامِدٍ خرجه على وجهين. أحدهما: أنها بيع عَيْنٍ بِعَيْنِ، وإلا لبطلت "لِلنَّهْي عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ" (¬2) وكأن هذا القائل نزل استحقاق الدين على الشخص منزلة استحقاق منفعة تتعلق بعينه، كالمنافع في إجارات الأعيان. والثاني: وهو المنقول أنها بيع الدَّيْنِ بالدَّيْنِ، فإن حق الدين لا يستوفى من غير الشخص، ولغيره أن يؤديه عنه، واستثنى هذا العقد عن النهي لحاجة النَّاس إليه مسامحة وإرفاقاً، ولهذا المعنى لم يعتبر فيه التقابض، كما في القرض، ولم يجز فيه الزيادة والنقصان؛ لأنه ليس بعقد مماكسة كالقَرْضِ، وقال الإِمَام وشَيْخُه: لا خِلاَفَ في اشتمال ¬
الحوالة على المعنيين الاستيفاء والاعتياض والخلاف في أن أيهما أغلب. إذا عرفت ذلك فشرح الشَّرْطِ الأول أن تقول: لا تصح الحوَالة إلا برضى المستحق للدَّيْنِ، وهو المحتال، وللمستحق عليه وهو المُحِيل. أما: رضي المُحْتَال عَلَيْه فلأن حقّه في ذمة المحيل، فلا ينفك إلا برضاه، كما أن الأعيان المستحقة للشَّخْصِ لا تبدل إلا بِرضَاه. وأما رضي المُحِيل، فلأن له إيفاء الحقّ من حيث شَاء ولا نعين عليه بعض الجِهَات قهراً، وهل يشترط رضي المُحَالِ عليه ينظر إن كان الحوَالة على من عليه دين المُحِيل فوجهان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة: يشترط رضاه؛ لأنه أحدُ أركانِ الحوَالة، فأشبه المُحِيل والمُحْتَال؛ لأن النَّاس يختلفون في الإيفاء والاستيفاء، وبهذا قال الإصْطَخْرِي والزُّبَيْرِيُّ، وعن ابْنِ القَاصّ أنه منصوص عليه في "الأم". وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب وبه قال مَالِكٌ وأحمد: لا حاجة إلى رِضَى المُحالِ عَلَيْهِ؛ لأنه محل الحق والتصرف، فصار كما إذا باع عبداً لا يشترط رِضَاه؛ لأن الحَقَّ للمحيل عليه، فله أن يستوفِيَه بنفسه وبِغَيْرِه، كما لو وَكَّلَ في الاستيفاء وكيلاً، وبنوا الوجهين على أن الحوالة اعتياض أو استيفاء. فإن قلنا: بالأول فلا يشترط؛ لأنه حق المُحِيل فلا يحتاج فيه إلى رِضَى الغَيْرِ. وإن قلنا: بالثاني، فيشترط تَعَذُّر إقراضه من غير رِضَاه، وإن كانت الحوالة على مَنْ لاَ دَيْنَ عليه لم تصح دون رضاه؛ لأنا لو صححناها لألزمناه قضاء دين الغير قهراً، وإن رضي فَفِي صحة الحوالة وَجْهَان بناهما الجُمْهُور عَلَى الأَصْلِ المذكور. وإن قلنا: إنها اعتياض لم تصح؛ لأنه ليس على المُحَال عليه شَيْء حتى نجعله عوضاً عَنْ حق المُحِيل. وإن قلنا: استيفاء فتصح، كأنه أخذ المُحْتال حقه، وأقرضه من المُحال عليه؛ وبهذا قال ابْنُ الحدَّادِ وقال الإمَام: الصحيح: عندي تخريجه على الخِلاَف، في أنه هل يَصِح الضمَّان بشرط براءة الأصِيل؟ بل هذه الصُّورة عين تلك الصُّورة، فإن الحوالةَ تقتضي بَرَاءَةَ المُحِيل، فإذا قَبِل الحوالة فقد التزم على أن يبرئ المُحِيل، وهذا ذهاب منه إلى براءة المُحِيل، وجعلها أصلاً مفروغاً عنه، لكن فيه وجهان نقلهما القاضي ابْنُ كِجٍّ. أحدهما: أنه يبرأ على قِيَاس الحوالاَت، وهذا ما أورده الصَّيْدَلاَنِيُّ، وأخذ به الإمام. والثاني: هو الذي أورده الأكثرون: أنه لا يبرأ، وقبول الحوالة مِمَّنْ لاَ دَيْنَ عليه ضَمَانٌ مجرد، ثم فرعوا فقالوا:
إن قلنا: لا تصح هذه الحوالة فلا شيء على المحال عليه، فإن تَطَوَّع وأدَّاه كان كما لو قَضَى دَيْنَ الغير. وإن قلنا: يصح، فهو كما لو ضَمِن، فيرجع على المُحِيل أن أدى بِإذْنِهِ، وكذلك إن أدى بغير إذْنِهِ على أظهر الوجهين؛ لجريان الحوالة بِإِذنه، وقبل الأداء هَلْ يرجعُ على المُحِيل؟ فيه وجهان، بناء على أن المُحِيلَ هل يبرأ؟ إن قلنا: يبرأ فنعم؛ لانتقال الملك إلى ذمته بمجرد الحوالة. وإن قلنا: لا يبرأ فلا ضَمَان كما أن الضَّامِنَ لا يرجع على المضمونِ عَنْهُ قَبْلَ الأَدَاء، وإن طالبه المحتال بالأداء فله مطالبة المحيل بتخليصه، وهل له ذلك قبل مُطَالبة المُحْتَال؟ فيه وجهان كالوجهين في مطالبة الضَّامن، ولو أبرأ المحتال لم يرجع على المُحِيل بِشَيْءٍ، ولو قبضه المُحْتال ثم وهبه منه ففي الرجوع وَجْهَان (¬1): ينظر في أحدهما إلى أن الغُرْمَ لم يستقر عليه، وفي الثاني إلى أنه عاد إليه بِتَصَرُّف مبتدأ وهما مأخوذان من القولين فيما إذا وهبت منه الصداق بعد القبض ثم طلقها قَبْلَ الدخول، ولو ضمن عنه ضامن لم يرجع على المحيل، حتى يأخذ المُحْتال منه المَال أو من ضَامِنِه، ولو أحال المُحتالُ على غيره نظر إن أحاله على من عليه دَيْن رجع على محيله بنفس الحوالة؛ لحصول الأداء بها، وإن أحال على من لا دَيْنَ عليه لم يرجع ما لم يرجع عليه الذي أحال عليه. وأما لفظ صاحب الكتاب فقوله: (والمستحق عليه) أعلمه بعضهم بالواو، لأنا إذا جوزنا الحوالة على من لا دَيْنَ عليه فلو قال من لا دين عليه للمستحق: أحلتُ بالدَّيْنِ الذي لك على فلان عَلَى نَفْسِي فقبلت صَحَّت الحوالة، فإذن لا يشترط هاهنا رضى المُحِيل، وإنما يشترط رِضَى المُحْتال والمُحَالِ عَلَيْهِ. وقوله: (إيجاباً) أشار به إلى أن المعتبر وإن كان هو الرضى إلا أن طريق الوَقْفِ على تراضيهما إنما هو الإيجاب والقبول على مَا مَرَّ في البيع، ولو قال المحتال: أحلني على فلان، فقال: أحلت، ففيه الخِلاَف المذكور في نَظِيره في بيان الاستحباب والإيجاب في البيع، وفي "جرجانيات" أبي العَبَّاسِ الرّويَانِي طريقةٌ أخرى قاطعةٌ بالانعقاد، لأن الحوالة أجيزت رفقاً بالنَّاس، فيتسامح فيها بما لا يتسامح في غَيْرِها، (ورضا المُحَال عَلَيْهِ لا يشترط) مُعَلَّم بالحاء والواو. وقوله: (فإن لم يشترط فحقيقته تجويز الضمان بشرط براءة الأصيل إلى حقيقة ¬
عدم الاشتراط فلو صرفنا الكتابة إلى هذا العقد، لكان الوجه: أن يقال: فحقيقته الضَّمان بشرط براءة الأصيل؛ لأن حقيقة العقد لا تكون تجويز الضَّمان، بل لو كانت لكانت نَفْس الضَّمان. قال الغزالي: الثَّانِي -أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ لاِزِماً أَوْ مَصِيْرُهُ إِلَى اللُّزُومِ، فَتَصِحُّ (و) الحِوَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ فِي مُدَّةِ الخِيَارِ فَإِنْ فَسَخَ البَيْعَ انْقَطَعَت الحِوَالَةُ، وَفِي نُجُومِ الكِتَابَةِ خِلاَفٌ، قِيْلَ: يُحَالُ بِهَا وَلاَ يُحَالُ عَلَيْهَا. قال الرَّافِعِىُّ: الدَّيْن ينقسم إلى ما ليس بِلاَزِمٍ وإلى ما هو لاَزِمٌ. أما غير اللازم، ففيه مسألتان مذكورتان في الكتاب. إحداهما: الثَّمَنُ في مدة الخِيَار هل تجوز الحوالة به بأن يحيل المُشْتَرِي البائعَ عَلَى رَجُلٍ، وعليه بأن يحيل البائع رجلاً على المشتري؟ فيه وجهان: أحدهما: ويحكى عن القاضي أَبِي حَامِد: أنه لا يجوز لأنه ليس بِلاَزِمٍ. وأصحهما: الجواز؛ لأنه صائِرٌ إلى اللزوم، والخيار عَارِضٌ فيه، فيعطى حُكْمُ اللاّزِمِ، وفي "التتمة" أن هذا الخلاف مبني على أن الحوالة مُعَاوَضة أو استيفاء. إن قلنا: معاوضة، فهي كالتصرف في المَبِيع في زَمَانِ الخِيَارِ، وإن قلنا: استيفاء فتجوز. وإن قلنا: بالمنع، فهل ينقطع به الخيار؟ فيه وجهان نقلهما الشَّيْخُ أَبُو عَلِيِّ في "شرح الفروع". أحدهما: لا؛ لحكمنا بِبُطْلاَنِهِ وبتنزيلنا إياه منزلة العَدَمِ. وثانيهما: نعم؛ لأن التصرف في عوض العقد يتضمن الرِّضَا وإبطال الخيار. وإن قلنا: بالجواز فالذي أورده الإمام وصَاحِبَ الكِتَاب أنه لا يبطل الخِيَار، ولو اتفق فسخ البيع انقطعت الحوالةِ لأنها إنما صحت على تقدير اقتضاء البيع إلى اللّزوم، فهذا لم يقصد إليه ارتدت الحوالة، ومنقول الشَّيْخِ ومختاره بطلان الخِيَارِ؛ لأن قضية الحوالة اللزوم، فلو بقي الخِيارُ لَمَا صادفت الحوالة مُقْتَضَاهَا، وكانت هذه الحوالة كالحوالة على النُّجُوم. واعلم أنا إذا قضينا ببطلان الخيار، ففيما إذا أحال البَائِعُ المشتري على ثَالِثٍ بطَل خيارهما جميعاً لتراضيهما، وفيما إذا أحال البائعُ رجلاً على المشتري لا يبطل خِيَار المشتري إلا إذا فرض منه قول (¬1) وَرِضَى. الثانية: إذا أحال السيد غريماً له على مكاتبه بالنجوم ففيه وجهان: ¬
أحدهما: وبه قال الحليمي: إن الحوالة جَائِزَةٌ؛ لأن النجوم دَيْنٌ ثَابِتٌ على المُكَاتَبِ، فأشبه سَائِر الديون. وأصحهما: المنع؛ لأن النُّجُومَ غير لازمة على المُكَاتَبِ، وله إسقاطها مَتَى شَاء، فلا يمكن إلزامه الدفع إلى المُحْتَالِ، ولو أحال المكاتب السيد على إِنْسَان فجواب الأكثرين صِحّة الحوالة؛ لأن ما أحاله عليه مستقر، والكتابةُ لاَزِمة من جِهَة السيد، فمتى أَدَّى المُحَالُ عَلَيْهِ وجب على السيد القبول، وقيل: بالمنع من هذا الطَّرف أيضاً. إذا جمعت بين الصورتين حصلت ثلاثة أوجه على ما ذكر في الكتاب. أحدها: جواز إحالة المُكَاتَبِ بالنجوم، وإحالة السَّيِد على النّجوم، وهذا منسوب في "النهاية" إلى ابْنِ سُرَيْجٍ. وثانيهما: منعهما جميعاً، وبه قال القَاضِي، ولم يذكر في "التهذيب" غيره. وأظهرهما: جواز إحَالَة المُكَاتَب بِهَا، ومنع إحالة السَّيِّد عليها، ولو كانت للسَّيد على مكاتبه دَيْن معاملة فأحاله عليه. قال في "التتمة": ينبني على أنه لو عجزّ نفسه هل يسقط ذلك الدَّيْن؟ إن قلنا: نعم لم يصح، وإلا صحت، ومما يدخل في هذا القسم الجُعْل في الجَعَالة، والقياس أن يجيء في الحوالة به وعليه، ولا فرق بين أن ينفق الدينان في سَبَب الوُجوب أو يختلفان كما إذا كان أحدهما ثمناً والآخر أجرة أو قرضاً أو بدل مُتْلَف (¬1)، وكلّ دَيْنِ جوزنا الحوالة به وعليه من القسمين فذلك إذا كان مثلياً كالأثمان والحُبوب وإن كان متقوماً كالثياب والعبيد فوجهان: أصحهما: وبه قال ابْنُ سُرَيْجٍ: أنه كالمِثْلي لثبوته في الذِّمة ولزومه والثاني: المنع؛ لأن المقصود من الحوالة إيصال الحق إلى المستحق من غير تفاوت، وهَذَا الغرض لا يتحقق فِيمَا لاَ مِثْلَ له، ولا بد من العِلْم بقدر المُحالِ بِهِ، وعليه وصفتهما، نعم، لو أحال بأقل الدِّية أو عليها وفرعنا على جواز الحوالة في المتقومات فوجهان، أو قولان بناءً على جواز المُصَالحةِ والاعتياض عنها، والأصَحُّ المَنْعُ للجهل بصفاتها. ¬
قال الغزالي: الثَّالِثُ -أَنْ يَكُونَ مَا عَلَى المُحَالِ عَلَيْهِ مُجَانِساً لِمَا عَلَى المَحِيْلِ قَدْراً وَوَصْفاً، فَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ يَفْتَقِرُ فِي أَدَائِهِ عَنْهُ إِلَى المُعَاوَضَةِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ لَمْ يَفْتَقِرْ بَلْ أُجْبِرَ عَلَى قَبُولِهِ كَأَدَاءِ الجَيِّدِ عَنِ الرَّدِيءِ جَازَ (و)، وَإِنِ افْتَقَرَ إِلَى الرِّضَا دُونَ المُعَاوَضَةِ فَفِيْهِ خِلاَفٌ (و). قال الرَّافِعِىُّ: كان الفصل السابق مسوقاً لبيان الصِّفات المشروطة في كل واحد من الدينان، فالغرض الآن بَيَان الشروط بالدَّيْنين وفيه صور: إحداها: يجب أن يكون الدينَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، ولو أحال بالدَّرَاهِمِ على الدنانير أو بالعكس لم يصح. أما إذا جَعَلْنَا الحوالة استيفاءً، فلأن مستحق الدّراهم إذا استوفاها وأقرضها فمحال أن ينتقل حقه إلى الدَّنَانِير. وأما إذا جعلناها مُعَاوضة، فلأنها وإن كانت معاوضة فليس هِيَ على حقيقة المُعَاوضات التي يقصد بها تحصيل ما ليس بحاصل من جنس مَالٍ أو زيادة قَدْرٍ أو صِفَةٍ، وإنما هي معاوضة إرفاق ومسامحة للحاجة، فاشترط فيها التجانس والتساوي في القدر والصِّفَة كما في القرض، قال صاحب "التتمة": ونعني بقولنا: إن هذه الحوالة غَيْرُ صَحِيحة أن الحَقَّ لا يتحول بها من الدنانير إلى الدَّراهم وبالعكس، ولكنها إذا جرت فَهِيَ حوالة عَلَى مَنْ لاَ دَيْنَ عَلَيْهِ، والحُكْمُ فِيهَا مَا مَرَّ. والثانية: يجب أن يتساويا في القَدْرِ فلا يحال بخمسة على عَشْرة ولا بعشرة على خَمْسَةٍ، لما ذكرنا أن هذا العقد لم يوضع لتحصيل زيادة أو حَطِّ شيء، وإنما وضع لِيَصِل كل واحد من المستحقين إلى حقه، وفي الإحالة بالقليل على الكثير وجه أنها جائزة، وكأن المحيل تبرع بالزِّيادة. والثالثة: في اشتراط تساويهما في الحُلُولِ والتأجيل وجهان: أصحهما: الاشتراط إلحاقاً للوَصْفِ بالقدر. والثاني: يجوز أن يُحيِل المُؤَجَّلِ على الحَالِّ، لأن للمحيل أن يعجل ما علَيْهِ، فإذا أحال به على الحَالِّ فقد عَجَّل، ولا يجوز أن يحيل بالحَالِّ على المؤجل؛ لأن حق المُحْتَالِ حَالٌّ، وتأجيل الحَالِّ لا يلزم، ولو كانا متأجلين بأجلين مُخْتلفين، لم تجز الحوالة بينهما على الوجه الأول، وعلى الثاني يجوز أن يحال بالأبعد على الأقرب دون العكس، ولو كان أحدهما صحيحاً والآخر مكسراً فلا حوالة بينهما على الوجه الأول يحال بالمكسر على الصَّحِيح، ويكون المُحِيلُ متبرعاً بِقَيْدِ الصِّحة، ولا يحال بالصحيح على المكسر، وإلا كان المُحْتَالُ تاركاً صفة الصِّحة، رتبوه ليحيله المُحِيل، ويخرج على
هذا حوالة الأردأ على الأجود، وبالعكس في كُلِّ جنس. وقوله في الكتاب: (فلو كان بينهما تفاوت إلى آخره) تفصيل ما أجمله بقوله: (أن يكون ما على المحال عليه مجانساً لما على المحيل قدراً ووصفاً). ومثال ما يفتقر في أدائه عنه إلى المعاوضة: أن يختلف الجِنْس، فيكون على أحدهما دَرَاهم، وعلى الآخر دَنَانير، فإن الاستبدال بأحد الجنسين عن الآخر اعتياضٌ محض. وقوله: (وإن لم يفتقر بل أجبر على قبوله كأداء الجَيِّدِ عن الرديء) فهو مثل أداء الصحيح عن المكسر، وتعجيل المُؤَجَّل، حيث يجبر المستحق على القَبُول، وهذا الكلام يتفرع على الصَّحِيح في أن المديون إذا أتى بِأَجْوَد مما عليه من ذَلِكَ النوع يجبر المستحق على قبوله، وفيه خلاف قَدْ سبق في بَابِ السَّلَمِ. وقوله: (وإن افتقر إلى الرضا دون المعاوضة) فهو كأداء الرديء عن الجَيّد، فإنه يجوز قبوله، ولا يكون ذلك معاوضة هذا بيان مَا ذَكره، وفيه رواية خِلاَف للأصحاب في جواز الحوالة بالجيد على الرديء، والإشارة إلى الجَزْم، تجوز حوالة الرَّدِيء على الجَيِّد وهو يخالف نقل الجمهور في الطرق، وربما تجد في كتاب ما يوافقه. قال الغزالي: أَمَّا حُكْمُهَا فَبَرَاءَةُ المَحِيْلِ (ح) عَنْ دَيْنِ المُحَالِ وَتَحوُّل الحَقّ إِلَى المُحَالِ عَلَيْهِ وَبَرَاءَةُ ذِمَّةِ المُحَالِ عَلَيْهِ من دَيْنِ المُحيلِ، فَلَوْ أَفْلَسَ المُحَالَ (ح) عَلَيْهِ أَوْ جَحَدَ لَمْ يَكُنْ (ح) لِلْمُحْتَالِ الرُّجُوعُ عَلَى المُحِيلِ إِذْ حَصَلَتِ البَرَاءَةُ مُطْلَقَةً، وَلَوْ كَانَ الإِفْلاَسُ مَقْرُوناً بِالحِوَالَةِ وَهُوَ جَاهِلٌ فَالأَظْهَرُ ثُبُوتُ الخِيَارِ. قال الرَّافِعِىُّ: إذا جرت الحوالة بشرطها بَرِئَ المحيل عن دَيْنِ المُحْتَال، وتحول حتى المحتال إلى ذِمَّة المُحِيل عَلَيْهِ، وبرئ المُحَال عَلَيهِ عن دَيْنِ المُحِيل، حتى لو أفلس المُحَال عَلَيْه ومات أو لم يَمُت أو جَحَد وَحَلَف لم يكن للمُحْتَالِ الرُّجُوعُ عَلَى المُحِيل، كما لو أخذ عوضاً عن الديْنِ وتلف فِي يَدِهِ، وبهذا قَالَ مَالِكٌ وأحمد، وذهب أبو حنيفة إلى أنه يرجع فيما إذا مَاتَ مِفْلساً، وفيما إذا جَحَد وحلف. واحتج الشَّافعي -رضي الله عنه- بوجهين: أحدهما: إِنَّ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المروي في أول الباب تعرض للملاءة فقال: "إِذَا أحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِئٍ فَلْيَحْتَلْ" (¬1) ولو تمكن المحتال من الرّجوع لما كان للتعرض للملاءة كبير فائدة. ¬
والثاني: أن الحوالة إما أن يتحول بها الحَقّ على المُحِيل أو لا يَتَحَوَّل، إن تحول فقد بَرِئت ذِمَّته فوجب ألا يعود إليه كما لو أبرأه، وإن لم يتحول فلتدم المطالبة كما في الضَّمَانِ، فلو شرط في الحوالة الرجوع بتقدير الإفلاس والجُحُودِ، ففي صحة الحوالة وَجْهَان، وإن صحت ففي صِحّة الشَّرْطِ وَجْهَان، حكاهما القاضي ابْنِ كَجٍّ. هذا إذا طرأ الإفلاس، أما إذا كان مقروناً بالحوالة وجهله المحتال نظر إن لم تجرِ بَشْرطِ الملاءة، فالمشهور أنه لا رِجوعَ للمحتالِ ولا خِيارَ لَهُ، وما يلحقه من الضَّرَرِ فهو نتيجة ترك التفحيص، فصار كما لو اشترى شيئاً وكان مغبوناً فيه، ونقل الإمام وجهاً أنه يثبت له الخيار تداركاً، لما لحقه من الخُسْرَان، كما لو اشترى شيئاً فَبَانَ معيباً، وبهذا قال مَالِك، وإن شرط ملاءة المُحَالِ عَلَيْهِ فبان مفلساً، فإن قلنا: بثبوت الخيار عند الإطلاق فهاهنا أولى، وإن منعنا ثُمَّ فما الحكم؟ نقل المُزَنِيُّ: أنه لا يرجع فأنكره ابْنُ سُرَيْجٍ من قول الشَّافعي -رضي الله عنه- وقال: يرجع كما لو اشترى عبداً بشرط أنه كاتب فبان خلافه ثبت له الخيار، وعامة الأصحاب على صِحِّة نَقْل المُزَنِي، واختاروا عدم الرجوع؛ لأنه لو ثبت الرجوع بالخلف في شرط اليسار، لثبت الرجوع عند الإطْلاَق؛ لأن الإعسار نقص في الذمة كالعيب في المبيع يثبت الخِيار، سواء شرطت السّلامة عنه أو لم تشترط، ويخالف شَرْط الكتابة، فإن فواتها ليس بنقيصة، وإنما هو عَدَم فضيلة، وإذا جمع بين صورتي الإطْلاَق والاشتراط، حصل في ثبوت الخيار ثلاثة أوجه. ثالثها: الفرق بين الصّورتين، وقد جمع الإمام الوجوه هكذا، وقرب التردد في المسألة من التردد في أن الحوالة استيفاء أو اعتياض، فقولُ صَاحِب الكتاب: (فالأظهر ثبوت الخِيار) أراد من هذه الوجوه على ما هو مبين في "الوسيط"، وترجيح الوَجْه الصَّائر إلى ثبوت الخِيَار يخالف اختيار عامة الأصحاب، سِيَما في حالة الإطْلاَق فاعرف ذلك. فرعان: أحدهما: صَالَح مع أجنبي عَنْ دين علَى عَيْن، ثم جحد الأجنبىُّ وَحَلَفَ، هل يعود إلى من كان عليه الدين؟ قال القَاضِي حسين: نعم، ويفسخ الصُّلْح، وعن حكاية الشيخ أَبي عَاصِمٍ أنه لا يعود (¬1). الثاني: خرج المحال عليه عبداً فإن كان لأجنبي وللمحيل دين في ذمته صحت الحوالة، كما لو أحال على معسر وتبعه المحتال بعد العِتْقِ، وهل له الرجوع على المُحِيل؟ فيه خلاف مرتب على ما إذا بَانَ مُعسراً، وأولى بأن يرجع، وإن كان عبداً ¬
للمُحِيل، فإن كان له في ذِمَّتِهِ دَيْنٌ بأن ثبت قبل أن يملكه وفرعنا على أنه لا يسقط إذا مَلَكه فهو كما لو أن لأَجّنَبِيِّ، وإن لم يكن في ذمته، فالحوالة عليه حوالة على منْ لاَ دَيْنَ عليه، فإن صححناها وقلنا: إنها ضَمَانٌ فهذ ضمان العبد عن سيده بإذنه، وسيأتي حكمه في الضَّمَان، ولا يخفى فيم ذكرنا حكم ما لو كان لِأَجنبي ولم يكن للمحيل عليه دَيْن. قال الغزالي: وَلَو أَحَالَ المُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى إنْسَانٍ فَرَدَّ عَلَيْهِ المَبِيعَ فَفِي انْفِسَاخِ الحِوَالَةِ قَوْلاَنِ: (و) أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهَا تَنْقَطِعُ، فَإنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ قَبْضْ المَبِيعِ فَأَوْلَى بِأَنْ تَنْقَطِعَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ قَبْضِ المُحْتَالِ مَالَ الحِوَالَةِ فَأَوْلَى بِأَنْ لاَ تَنْقَطِعَ، فَلَوْ أَحَالَ البَائِعُ عَلَى المُشْتَرِي فَأَوْلَى بِأَنْ لاَ يَنْقَطِعَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ الحَقُّ بِثَالِثٍ، وَمَنْشَأُ الخِلاَفِ تَرَدُّدَ الحِوَالَةِ بَيْنَ مَشَابِهِ الاسْتِيفَاءِ وَالاعْتِيَاضِ، فَإِنْ قُلْنَا: لاَ ينْفَسِخُ فَلِلمُشْتَرِي (و) مُطَالَبَةُ البَائِعِ بِتَحْصِيلِهِ لِيَغْرَمَ لَهُ بَدَلَهُ، أَوْ بِتَسْلِيم بَدَلِهِ إِلَيْهِ فِي الحَالِ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ قَبَضَ البَائِعُ بَعْدَ مَالَ الحِوَالَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَنْفَسِخُ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ قَبَضَ فَلَيْسَ لَهُ القَبْضُ، فَإِنْ فَعَلَ فالأَصَحُّ (و) أَنهُ لاَ يَقَعُ عَنِ المُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الحِوَالَةَ انْفَسَخَتْ والإِذْنَ الَّذِي كَانَ ضِمْناً لَهُ لاَ يَقُومُ بِنَفْسِهِ. قال الرَّافِعِىُّ: المسائل المذكورة في هذا الموضع، إلى آخر الباب من تخريجات المُزَنِي على أصول الشَّافعي -رضي الله عنه- وتحريه. وصورة مسألة الفصل ما إذا اشترى عبداً بِمِائةٍ مثلاً، وأحال المشتري البائع بالثمن على رَجُلٍ، ثم اطلع على عَيْبٍ قديم بالعبد فَردَّه. قال المزني في "المختصر": تبطل الحوالة، ونقل عنه في "الجامع الكبير" أنها لا تبطل، وللأصحاب ثلاثة طرق: أحدها: أن في بطلان الحوالة قولين: أظهرهما: عند القاضي ابْنِ كجٍّ وصاحب الكتاب وغيرهما: أنها تبطل وتنقطع وهما مبنيان على أن الحوالة استيفاء أو اعتياض. إن قلنا: إنها استيفاء انقطَعَت؛ لأن الحوالة على هذا التقدير نوع إرفاق ومسامحة، فإذا بَطَل الأَصْلُ بطل هبة الإرفاق التَّابعة له، كما لو اشترى شيئاً بدراهم مكسرة وتطوع بأداء الصّحاح ثم رده بالعيب، فإنه يسترد الصّحاح، ولا يقال: يطالب بِمِثْلِ الكسر ليبقى التبرع بصفة الصحة. فإن قلنا: إنها اعتياض لم تبطل (¬1)، كما لو استبدل من الثَّمَنِ ثوباً ثم رد المبيعَ ¬
بالعيبِ فإنه لا يبطل الاستبدال، بل يرجع بمثل الثمن على أن القاضيين أبا الطَّيِّبِ والرّويَانِي منعَا هذه المسألة، وجعلاها كمسألة الحوالَة، وقد تقدَّمَت المسألة في فُصُولِ الرد بالعيب. والطريق الثاني وبه قال أبو إسحاق وابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وأَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ: القطع بالبطلان، وتكلم هؤلاء فيما نقل عن "الجامع الكبير"، فعن القَاضِيَ أَبِي حَامِدٍ أنه قال: نظرت في نسخ منه فلم أجد خلاف ما في "المختصر". والثالث: وبه قال صاحب "الإفصاح": القطع بعدم البُطْلاَن، وربما أوَّلَ أصحاب الطريقين الآخرين، وجمعوا بين نَصَّيِ المزني بوجوه: أحدها: حمل ما في "المختصر" على ما إذا كان العيب بحيث لا يمكن حدوثه في يَدِ المُشْتَرِي، أو كان يمكن حدوثُه إلا أن إلبائع أَقرَّ بِقَدِمِهِ، وحمل ما في "الجَامِع" على ما إذا ثبت قِدَمُه بالبينة وَرَدَّه، والفرق أن في الحالة الأولى اعترف البائع بسقوط الثَّمَنِ عِنْد الفسخ. وأما في الحالة الثانية، فإنه يزعم بقاء حقه واستمرار الحوالة، فلا يمنع من مطالبة المُحَالِ عَلَيْهِ بدعوى المشتري. والثاني: حمل الأولى على ما إذا ذكر للمحال عليه أنه يحيله عن جهة الثمن، وحمل الثاني على ما إذا لم يذكر ذلك، فإنه إذا لم يذكر لا يَنْبَغِي أن يعود إليه؛ لبراءة ذمته عن حقه ظاهراً. والثالث: أن نَصَّ البُطْلاَن مفرع على أن الحوالة تفتقر إلى رضي المُحَالِ عَلَيْهِ، فإن الحوالة له حينئذ تتم بالثَّلاثة، فلا تنقطع بموافقة اثنين. والرَّابع: حَمْلُ نَصِّ البُطْلاَن على ما إذا كانت الحوالة على من لاَ دَيْن عليه، ورضى المُحَال عَلَيْهِ، فإنه إذا سقط الثمن انقطع تطوعه، وسقطت المطالبة عنه، ثم هاهنا نظران: أحدهما: هل تفترق الحال بين ما إذا كان الرد بالعيب بعد قبض المبيع أو قبله؟ حكى صاحب "النهاية" عن بعض الأصْحَاب أن محل الخِلاَف ما إذا كان الرد بعد قبض المبيع فإن كان قبله انقطعت الحوالة بلا خِلاَفٍ، لِكون المبيع معرض للانفساخ وعدم تأكده، ولهذا جعلنا الفَسْخَ قبل القَبْضِ، رداً للعقد من أصله عَلَى رأي، ثم زيف ذلك وقضى بطرد القَوْلَيْنِ في الحالين. وهذا قضية إطلاق عامة الأَصْحَاب، واعلم أن قضية الطريقين معاً تجويز الإحالة بالثمن قبل قبض المبيع لكنه قبل قبض البيع غير مستقر، وقد اشتهر في كتب السَّلَفِ من
أئمتنا أن من شرط الحوالة استقرار ما يحال به ويحال عليه، وللمسعودي إشارة إلى مَنْعِ الحوالة بالثمن قبل قَبْض المبيع؛ لأنه غير مستقر، واستشهد عليه أن المزني تعرض في صورة المسألة للمبيع واشتراطه، وإنما فعل ذلك لِهَذا المعنى والله أعلم. النظر الثاني: هل تفترق الحال بين أن ينفق الرَّد بعد قبض المُحْتَالِ مَالَ الحَوَالَةِ، أو قبله؟ فيه طريقان: أحدهما: أن الحوالة لا تنقطع إذا اتفق الرد بعد القَبْضِ جزماً، والخلاف مخصوص بما إذا كان ذلك قَبْلَ القَبْضِ، والفرق تكد الأمر بالقَبْضِ، فتبرأ ذمة المَحَالِ عَلَيْهِ، وهذا ما أورده أصحابنا العراقيون، والشَيْخُ أَبُو عَلِيّ. والثاني: طرد القولين في الحالين، وهو اختيار صاحبي "التهذيب" و"التتمة" والأكثرين، وهذا كله فيما إذا أحال المُشْترِي البائعَ على رَجُلٍ، ولو أحال البائعُ رجلاً على المُشْتَرِي، فمنهم من طرد القولين، وقطع الجمهور بأنه لا تنقطع الحوالة؛ وسواء قبض المحتال مال الحوالة من المُشْتَرِي أو لم يقبضه، والفرق أن الحوالة هاهنا تعلق بها حق غير المتعاقدين فبعد ارتفاعها يفسخ من المتعاقدين، وصار كلما لو اشترى عبداً بجارية وقبضه وباعه، ثم وجد بائع العبد بالجارية عيباً فردها لا ينفسخ البيع الثاني لأنه تعلق به حق ثالث، فإذن القولان مَخْصُوصَانِ بالصورة السَّابقة، ولنفرع عليهما. إن قلنا: لا تبطل الحوالة، فلا يطالب المُشْتَرِي أن يحال عليه بِحَالٍ، ولكن يرجع على البَائِع فيطالبه إن كان قد قبض مال الحوالة، ولا يتعين حقه فيما أخذ، بل له إبداله لبقاء الحَوالة صحِيحة، وإن لم يقبضه، فله أن يقبضه، وهل للمشتري الرجوع عَلَيْهِ قبل قبضه؟ فيه وَجْهَان: نَعَم؛ لأن الحوالة كالمقبوض، ألا ترى أن المشتري إذا أحال البَائِع بالثمن سقط حق الحبس، والزّوج إذا أحال المرأة بالصَّداق سقط حق حبسها، وأصحهما عند الصَّيْدَلاَنِيِّ وغيره: أنه لا يرجع؛ لأنه لم توجد حقيقة القبض، وإن كان للحوالة حُكْم القبض والغرامة إنما تكون بِحَسَبِ القبض. فإن قلنا: لا يرجع المشتري عليه قبل أن يَقْبِض فله مطالبته بتحصيل مَالِ الحوالة ليرجع عليه؛ لأن البائعَ إنما يملك مُطَالَبَة المُحَالِ عَلَيْهِ من جهةٍ، فكيف يمنعه من المطالبة مطلقاً؟ وفيه وجه بعيد أنه لا يملك المُطَالبة بالتحصيل أيضاً. وإن قلنا: تبطل الحوالة فإن كان قد قبض المالَ من المحالِ عَلَيْهِ فليس له رَدَّهُ عَلَيْهِ؛ لأنه قبض بإذن المُشْتَرِي، ولو رده لم تسقط مُطَالبة المشتري عنه، بل حقه الرد على المُشْتَرِي، ويتعين حقه فيما قبضه فإن كان تالفاً فعليه بدله، وإن لم يكن قبضه
فليس له قَبْضُه؛ لأنه عاد إلى ملك المُشْتَرِي كما كان، ولو خالف وقبض لم يقع عنه، وفي وقوعه عن المشتري وَجْهَانِ عن الشَّيخ أبي مُحَمَّدٍ. أحدهما: يقع؛ لأنه كان مأذوناً في القَبْضِ بجهة، فإن بطلت تِلْك الجهة بقي أصْلُ الإِذْنِ. وأصحهما: المنع؛ لأن الحوالة قد بَطُلت، والوكالة عقد آخر يخالفها، وإذا بطل عقد لم يبطل (¬1) عَقْد آخر، وقرب الشَّيْخُ هَذَا الخِلاَف من الخلاف الذي مَرّ في أن من يحرم بالظُّهْرِ قبل الزوال هل تنعقد صلاته نَفْلاً؟ وأما في صورة إحالة البَائِع على المُشْتَرِي إذا فرعنا على الصَّحِيح وهو أن الحوالة لا تبطل برد المُشْتَرِي المبيع بالعيب، فإن كان المحتال قد قبض الحَقَّ من المُشْتَرِي رجع المشتري على البَائِعِ وإن لم يقبضه يرجع المشتري عليه أم لا يرجع إلا بعد القبض؟ فيه الوَجْهَانِ السَّابِقَانِ. ثم نتكلم فيما نحتاج إليه من ألفاظ الكتاب، قوله في صورة المسألة: (فَرَد عليه المبيع) يشمل الرد بالعيب والمخالف، والاقالة وغيرها وهو مستمر على إِطْلاقِهِ، فلا فرق بين الرَّدِّ بالعيب وَغَيْرِهِ، وقيل (قولان): يجوز إعلامه بالواو للطريقين النافيين للخِلاَف. وقوله: (فأولى بأن لا ينقطع)، أشار بالترتيب المذكور في الصورتين إلى ما شرحنا من الطَّريقين. وقوله: فيما إذا أحال البائع على المشتري: (فأولى بأن لا ينقطع) وهو الظاهر مع قوله (فأولى بأن لا ينقطع) لما قدمنا في مواضع؛ لأن أولوية الترتيب لا تفيد الرُّجْحَان على الإطلاق، وإنما تفيد كون الحكم الموصوف بالأولوية أرجح منه في الصُّورة المرتب عليها. وقوله: (ومنشأ الخلاف تردد الحوالة بين مشابه الاستيفاء والاعتياض) يوافق ما ذكره الإمام: أن فيها شبهاً من كل واحدٍ منهما، والكلام في التَّغْلِيب. وقوله: (فإن قلنا: لا ينفسخ) أي في المسألة الأولى، وهو إحالة المُشْتَرِي البائع بالثمن. وقوله: (فللمشتري مطالبة البائع بتحصيله) إلى آخره يمكن تفسيره (¬2). أن يقال: المعنى أن له أن يطالبه بأحد أمرين: إما التحصيل ليغرم، وإما الغرم في الحَالِ، وهذا يخرج متفقاً عليه من الخلاف الذي رويناه. ¬
فإن قلنا: له الرجوع قبل أن يقبض البَائِع مال الحوالة [ممن له أن يقول: اغرم لي وله، أو يقول تسهيلاً خذه ثم اغرم لي، فإن قلنا: لا رجوع له قبل أن يقبض مال الحوالة فله] (¬1) أن يقول: خذه لتغرم لِي، وإن رضيت بذمته فشأنك، فاغرم لي. والثاني: هو الأشبه أن معناه أن له مطالبته بتحصيله. إن قلنا: لا رجوع عليه قبض أن يقبض. أو يتسلم بَدَله إليه في الحال. إن قلنا: إنه يرجع إليه قبل القبض. وعلى التقديرين فيصح إعلام قوله: (فللمشتري مطالبة البائع) بالواو لما قَدَّمْنَا من الوَجْهِ البعيد. وقوله: (لأن الحوالة انفسخت والإذن الذي كان ضمناً له لا يقوم بنفسه) ظاهر هذا التوجيه ربما يشكل بما إذا فسدت الشَّرِكة، أو الوكالة فالإذن الضمني يبقى، ويصح التصرف على ما سيأتي في موضعه -إن شاء الله تعالى- ويمكن أن يقال: الحوالة تنقل الحَقّ إلى المُحْتَال، فإذا صَارَ الحق له مِلْكاً قبضه لنفسه بالاستحقاق، لا للمحيل بالإذْنِ، وهما عقدان مختلفان فَبُطْلاَن أحدهما لا يفيد حصول الآخر بخلاف الشركة والوكالة فإن التصرف هُنَاك واقع للإِذْنِ، فإن بطل بخصوص الإذْنِ، جاز أن يبقى عُمُومه، وهذا ما سبقت الإِشَارَةُ إليه. فرع: قال ابْنُ الحَدَّادِ في "المولدات": إذا أحال الزوج زوجته على غريمه بالصداق ثم طلق قبل الدُّخُولِ لم تبطل الحَوَالة، وللزوج أخذها بنصف المَهْرِ، قال من شرح كتابه: المسألة تترتب على ما إذا أحال المُشْتَرِي البائع على غريمه. إن قلنا: لا تبطل الحوالة هناك، فهاهنا أولى، وإن قلنا: تبطل، ففي البطلان في نِصْفِ الصداق هاهنا وجهان، والفرق أن الطلاق سبب حادث، ولا استناد له إلى ما تقدم، بخلاف الفَسْخُ والصَّدَاقِ أثبت من غيره، ولهذا لو زاد الصَّدَاقُ زيادةً مُتَّصِلَة لم يرجع في نصفه إلا بِرضَاهَا، بخلاف ما إذا كانت في البيع، ولو أحالها ثم ارتدت قبل الدّخُولِ أو فسخ أحدهما النكاح بعيب آخر ففي بطلان الحوالة هذان الوَجْهَان، والأظهر أنها لا تبطل، ويرجع الزَّوْجُ عليها بنصف الصَّدَاقِ في صورة الطَّلاَقِ، وبجميعه في الردة، والفسخ بالعيب، وإذا قلنا: بالبطلان، فليس لها مطالبة المحال عليه وتطالب الزوج بالنِّصْفِ في الطَّلاق، أي ولا تطالب بشيء في الرّدَّة ولا بالعيب، كذا قاله الشِّيْخُ أَبُو عَلِي، والمسألة جميعها من كلامه. ¬
قال الغزالي: وَلَوْ كَانَ المَبِيعُ عَبْداً فَأُحِيلَ بِالثَّمَنِ عَلَى المُشْتَرِي فَقَالَ العَبْدُ: أَنَا حُرُّ الأَصْلِ وَصَدَّقُوهُ جَمِيعاً بَطُلَتِ الحِوَالَةُ، وَإِنْ صَدَّقَهُ البَائِعُ وَالمُشْتَرِي دُونَ المُحْتَالِ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمَا حُجَّةً عَلَيْهِ فَتَبْقَى الحِوَالَةُ في حَقِّهِ. قال الرَّافِعِىُّ: صورتها: أن يبيع عبداً، ويحيل غريمه بالثمن على المُشْتَرِي، ثم يتصادق المتبايعان على أنه حُرُّ الأَصْلِ، إما ابتداءً أو يزعم العبد أنه حُرٌّ فصدقاه، نظر إن وافقهما المُحْتَال بطلت الحوالة لاتفاقهم على بُطْلاَنِ البَيْعِ وإذا لم يكن بيع لم يكن على المشتري ثَمَنٌ، وإذا بطلت الحوالة رد المحتالُ ما أخذ على المُشْتَرِي، وبقي حقه على البَائِع كَمَا كَانَ، وإن كَذَّبَهُمَا المحتال فأما أن تقوم بينة على الحرية أولاً تَقَوم، فإن قَامَتْ بطلت الحوالَة، كما لو تقارروا، وهذه البينة يتصور أن يقيمها العبد، ويتصور أن تبتدئ الشُّهُود على سبيل الحسبة، قال صاحب "التهذيب": ولا يتصور أن يقيمها المتبايعان؛ لأنهما كذباها بالدّخُولِ في البيع، وكذلك ذكر القَاضِي الرّويَانِي، وإن لم تكن بينة فلهما تَحْلِيف المُحْتَال على نفي العِلْمِ، فإن حلف بقيت الحَوالَة فِي حَقِّه، ولم يكن تصادقهما عليه حجة، فإذا نفيت الحوالة فله أَخْذُ المَالِ من المُشْتَرِي، وهل يَرْجِعُ المُشْتَرِي على البَائِع المُحِيل؟ في "التهذيب" أنه لا يرجع؛ لأنه يقول: ظلمني المُحْتَال بما أخذ، والمَظْلُوم لا يرجع إلَّا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وقال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ والقَاضِي ابْنُ كِجٍّ والشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: يرجع؛ لأنه قضى دَيْنَه بِإِذْنِه، وعلى هذا فيرجع إذا دفع المال إلى المُحْتَالِ، وهل يرجع قبله؟ فيه الوَجْهَان السَّابقان، فإن نكل المحتال حَلَفَ المُشْتَرِي، ثم إن جَعَلْنَا اليمين المردودة كالإقْرَار بطلت الحوالة، وإن جعلناها كالبينة فالحكم كما لو حلف؛ لأنه ليس للمُشْتَرِي إقامة البينة، وما ذكرناه في صورة اقرار المحتال، وقيام البينة من بطلان الحوالة مفروضٌ فِيمَا إذا وقع التعارض لكون الحوالة بالثمن، فإن لم يقع وزعم البائع أن الحوالة بِدَيْنٍ آخر لهَ عَلَى المُشْتَرِي نظر إن أنكر المُشْتَرِي أصل الدَّيْنِ فالقول قوله مع يمينه، وإن سلمه وأنكر الحوالة به فإن لم نعتبر رضي المحال عليه، فلا عبرة بانكاره، وإن اعتبرناه فهل القول من يدعي جريان الحوالة على الصِّحّة، أو قول من يدعي فَسَادَهَا؟ فيه خِلاَفٌ مذكور في نظائره. قال الغزالي: فَرْعٌ -إِذَا جَرَى لَفْظُ الحِوَالَةِ وَتَنَازَعَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَرَدْنَا بِهِ الوَكَالَةَ وَقَالَ الآخَرُ: بَلِ الحِوَالَةَ، فَقَوْلاَنِ فِي أَنَّ القَوْلَ قَوْلُ مَنْ، يُنْظَرُ فِي أَحَدِهِمَا إلَى ظَاهِرِ اللّفْظِ، وَفِي الثَّانِي إِلَى تصْديقِ مَنْ يَدَّعِي إرَادَةَ نَفْسِهِ ونَيَّتَهُ فَإِنَّه أَعْلَمُ بِهَا، وَلَوْ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى جَرَيَانِ لَفْظِ وَلَكِنْ قَالَ مُسْتَحِقُّ الدَّيْنِ: أَحَلْتَنِي وَقَالَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ: وَكَّلْتُكَ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِي مِنْهُ فَالقَوْلُ قَوْلُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فِي نَفْيِ الحِوَالَةِ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قَبَضَ
فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لأنَّهُ انْعَزَلَ بِإِنْكَارِ الوِكَالَةِ وَانْدَفَعَتِ الحِوَالَةُ بِإِنْكَارِ مَن عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَلَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالمَالِ إِذَا انْدَفَعَتِ الحِوَالَةُ حَتَّى لاَ يَضِيعَ حَقُّهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُ لاَ يُطَالَبُ لأِنَّهُ اعْتَرَفَ بِبَرَاءَتِهِ بِدَعْوَى الحِوَالَةِ، أَمَّا إِذَا قَالَ المُسْتَحِقِّ: وَكَّلْتَنِي فَقَالَ: لاَ بَلْ أَحَلْتُكَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قَبَضَ فَقَدِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ القَبْضُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ القَبْضِ فَالصَّحِيحُ (و) أَنَّهُ يَتَمَلَّكُهُ الآنَ وإِن لَمْ يَمْلِكْ عِنْدَ القَبْضِ. قال الرَّافِعِىُّ: إذا كان لزيد عليك مِائَة، ولك عَلَى عَمْروٍ مِثْلها، فوجد زيْدٌ منك ما يمكنه من قبض مَا عَلَى عَمْروٍ، ثم اختلفتما فله صورتان: أحدهما أن تقول لزيد: وكلتك بقبضه لي، وقال زيد: بل أحلتني عليه، فينظر إن اختلفتما في أَصْلِ اللفظ، فزعمت الوكالة بلفظها، وزعم زيد الحوالة بلفظها، فالقول قَوْلُكَ مَعَ يَمِينِكَ؛ لأن الأصْلَ استمرار حَقِّ زَيْدٍ عَلَيْك، وَحقِّكَ عَلَى عَمْروٍ، وإن اتفقتما على جريان لفظ الحوالة، وقلت: أردت به التسليط بالوكالة فوجهان: المنسوب إلى ابْنِ سُرَيْجٍ أن القولَ قولُ زَيْدٍ مع يمينه لشهادة لَفْظِ الحوالة. وقال المُزَنِي -وساعده عليه أكثر الأصْحَاب-: أن القول قَوْلُكَ مَعَ يمِينِكَ، ويحكى هذا عن أَبِي حنيفة، ووجهه ما ذكرناه في الصُّورة الأولى، وأيضاً فإن اللفظ محتمل لما يقوله، وأنت أعرف بنيتك، فأشبه ما إذا قُلْتَ له: اقبض ثم اختلفتما في المُرَادِ، فإن القول قولُك، وعن القَاضِي حسين: القطع بالوجه الأول، وحمل كلام المُزَنِي على ما إذا اختلفتما في أصْلِ اللَّفْظِ، وذكرهما إذا قلت له: اقبض، وفسرته بالوكَالة أنك لا تَحْتَاج إلى اليَمِين؛ لإشْعَارِ اللفظ بالنَّيَابَةِ. قال الأئمة: وموضع الوجهين ما إذا كان اللفظ الجَارِي بينكما: أحلتك بمائة عَلَى عَمْروٍ، فأما إذا قُلْت بالمائة التي لك عليّ بالمائة التي على عمرو، فهذا لا يحتمل إلا حقيقة الحوَالة، فالقول قَوْلُ زَيْدٍ بِلاَ خِلاَفٍ. التفريع: إن جعلنا القولَ قولَ زَيْدٍ، فإذَا حلف ثبتت الحَوالة وبرئت ذمته، وإذا جعلنا القَولَ قولَكَ في الصُّورة الأُولى أو تفريعاً على الوجه الثاني في الصورة الثانية، فحلفت نظر أَقَبِضَ زَيْدٌ مَا عَلَى عَمْروٍ أَمْ لاَ؟ إن قبضه برئت ذمة عمرو، لتسليمه ما عليه إلى الوَكِيل أو المُحْتَالِ، وحكى الإمام وجهاً ضعيفاً عن رواية صاحب "التقريب": أنه لا يبرؤ في صورة اتفاقكما، على جريان لفظ الحوالة، والمشهور الأول، ثم ينظر إن كان المقبوض باقياً فعليه تسليمه إليك، وهل له أن يطالبك بِحَقِّه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ واختاره الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ لاعترافه ببراءتك بدعوى الحوالة.
وأصحهما: عن ابْنِ الصَّبَّاغِ وَصَاحِب "التتمة" وغيرهما، أن له المطالبة؛ لأنه إن كان وكيلاً فحقه بَاقٍ عليه، وإن كان محتالاً فقد استرجعت مالَه ظُلْماً، فلا وجه لتضييع حَقّه، قال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وما ذكرنا من وجوب التسليبم والوجهين في الرّجُوعِ من حيث الظَّاهِرِ، فأما بينه وبين الله -تعالى- فإنه إذا لم يَصِلْ إلى حَقِّه منك فله إمْسَاكُ المَأْخُوذِ؛ لأنه ظفر بجنس حقه من مِلْكِكَ، وأنت ظَالِمٌ لَه، وإن كان المقبوض تالفاً، فنقول الأكثرين: أنه إذا لم يكن التلف بتقصير مِنْكَ لا يضمن؛ لأنه وكيل بقولك، والوكيل أَمِين، وليس له أن يُطَالِبَكَ بحقه؛ لأنه قد استوفاه بزعمه وهلك عنده، وقال في "التهذيب": إنه يضمن؛ لأنه قد ثبتت وكالته، والوكيل إذا أخذ المال لنفسه ضمن، وإن لم يقبض زيد ما على عمرو فليس له القبض بعد حَلفك؛ لأن الجوالة قد اندفعت بيمينك، وصار زيدٌ معزولاً عن الوكالة بإنكاره، ولك أن تطالب عَمْراً بما كان لَكَ عليه، وهل لِزَيْدٍ مطالبتك بِحَقِّه؟ فيه الوجهان المذكوران فيما إذا كان قد قبض وسلم المقبوض إليك، واستدرك صاحب "البيان" فقال: ينبغي أن لا يطالب هنا وجهاً واحداً، لاعترافه بأن حقه على عَمْروٍ، وأن ما تقبضه أَنْتَ مِن عمرو وليس حقاً له بخلاف ما إذا كان قَدْ قبض، فإن حقه قد تعين في المقبوض، فإذًا أخذته أخذتَ ماله. الصورة الثانية: أن تفول لزيد: أحلتُكَ عَلَى عَمْروٍ، ويقول زيد: بل وكلتني بقبض ما عليه وَحَقِّي بَاقٍ عليك، ويظهر تصوير هذا الاختلاف عند إفْلاَسِ عَمْروٍ، فينظر إن اختلفتما في أصل اللفظ، فالقولُ قولُ زيدٍ مع يمينه، وإن اتفقتما على لفظ الحوالة، جرى الوجهان المذكوران في الصّورة الأولى هاهنا على العَكْسِ، فعلى المنسوب إلى ابنِ سُرَيْجٍ: القول قولك مَعَ يمينك، وعلى القول المنسوب إلى المُزَنِي وغيره: القول قَوْلُ زَيْدٍ والتوجيه مَا مَرَّ، فإذا قلنا: إن القولَ قوْلُكَ، فحلفت برئت ذِمَّتُكَ مِنْ دَيْنِ زَيْدٍ، ولزيد مطالبة عمرو إما بالوكالة أو الحَوَالة، وما يأخذه يكون له؛ لأنك تقول: إنه حقه، وعلى زعمه هو لك، وحقه عليك فيأخذه بِحَقه، وحيث قلنا: إن القولَ قولُ زَيْدٍ، فحلف نظر إن لم يكن قبض المال من عَمْروٍ فليس له القبض؛ لأن قول الموكل: ما وكلتك، يتضمن عزله لو كان وَكِيلاً، وله مطالبتك بِحَقِّه، وهل لَكَ الرجوع إلى عمْروٍ؟ فيه وجهان؛ لأنك اعترفت بتحول ما كان عليه إلى زيد، ووجه قولنا: نعم، وهو اختيار القَاضِي ابْنِ كِجٍّ أن زيداً إن كان وكيلاً فإن لم يقبض بقي حقك، وإن كان محتالاً فقد ظلمك بأخذ المال مِنْك، وما على عَمْرو حقه ذلك أن تأخذه عوضاً عما ظلمك به، وإن كان قد قبض المال من عَمْروٍ فقد برئت ذِمَّة عَمْرو، ثم إن كان المقبوض باقياً فقد حكى في "الوسيط" هاهنا وجهين: أحدهما: أنه يطالبك بحقه ورد المقبوض عليك. والثاني -وهو الصحيح-: أنه يملك الآن، وإن لم يملكه عند القبض لأنه حبس
حقه، وصاحبه يزعم أنه ملكه، ويشبه أن لا يكون فيه خِلاَفٌ محقق، بل له أن يرده وُيطالب بحقه، وله أن يأخذه بحقه، وإن كان تلفاً نظر إن كان قد تلف بتفريط منه فلك عليه الضَّمَان ولَهُ عليك حقه، وربما يقع في التقاص، وإن لم يكن منه تقصير فلا ضمان؛ لأنا إذا صَدَّقْنَاهُ في نفي الحوالة كانت يده يد وكالة، والوكيل أمين، وروى الإمام وَجْهاً آخر: أنه يضمن؛ لأن الأصل فيما يتلف في يَدِ الإنسان من ملك غيره الضَّمان، ولا يلزم من تصديقه في نفي الحوالة ليبقى حقه تصديقه في تثبيت الوكالة ليسقط عنه الضمان، وهذا كما أنه إذا اختلف المتبايعان في قدم العيب وحدوثه، وصدقنا البائع بيمينه السَّابقة والله أعلم. وقوله في الكتاب في أول الفرع: (إذا جرى لفظ الحوالة) إلى قوله: (فقولان) يتضمن الصورتين جميعاً فعلى رأي يتبع فيهما ظاهر اللفظ، وعلى رأي يصدق من أخبر عن نيته وإرادته، إما في طرف الإيجاب أو القبول، ويجوز أن يعلم قوله: (فقولان) بالواو كما سبق عن القَاضِي حسين، وقد حكى في الصورة الثانية أيضاً القطع بمقتضى من تمسك بمطابقة اللفظ ثم قوله: (فقولان) أي للأصحاب، وليس للشافعي في المسألتين نص. وقوله في آخره: (أما إذا قال المستحق: وكلتني، فقال: لا، بل أحلتك فإن لم يكن قد قبض) فالقول قول المستحق، ثم في تفريعه أنه إن لم يكن قبض إلى آخره. ونختم الباب بصور وفروع: منها: إذا أحلت زيداً على عَمْروٍ، ثم أحال عمرو زيداً على بَكْرٍ، ثم أحال بكر على آخر، جاز وقد تعدد المُحَالُ عليهم، وزيد المحتال واحد، ولو أحلت زيداً على عمرو، ثم أحال زَيْدٌ بَكراً على عمرو، جاز، والتعدد هاهنا في المحتالين وعمرو المُحَالُ عَلَيْهِ وَاحِد، ولو أحلت زيداً على عمرو، ثم ثبت لعمرو عليك مثل ذلك الدين فأحال زَيْداً عليك جاز. ومنها: لك على رجلين مِائَة على كل واحد خمسون، وكل واحد ضَامِن عن صاحبه فأحالك أحدهما بالمائة على إنسان برئا جميعاً، وإن أحلت على أحدهما بالمائة برئ الثَّانِي؛ لأن الحوالة كالقبض، وإن أحلت عليهما على أن يأخذ المحتال من كل واحدٍ خمسون جَاز، ويبرأ كل واحد مِمَّا ضَمِن، وإن أَحلْتَ عليهما على أن يأخذ المِائَة من أيهما شَاء، فعن ابْنِ سُرَيْجٍ فيه وجهان: وَجْهُ المنع، أنه لم يكن له إلا مطالبة واحد، فلا يستفيد بالحوالة زيادة، كما لا يستفيد بها زيادة قدر وصفة. ومنها: لك على رَجُلٍ دين، فلما طالبته به قال: قد أحلت فلاناً عَلَىَّ، وفلان غائب فأنكرت، فالقول قولُك مع يمينك، فلو أقام بينة سمعت وسقطت مطالبتك عنه، وهل تثبت الحوالة في حق الغائب حتى لا يحتاج إلى إقامة بينة إذا قَدِم؟ فيه وجهان.
كتاب الضمان
كِتَابُ الضَّمَانِ (¬1) قال الغزالي: وَفِيهِ بَابَانِ: البَابُ الأَوَّلُ في أَرْكَانِهِ وَهِيَ خَمْسَةٌ: الأَوَّلُ: المَضْمُون عَنهُ وعلاَ يُشْتَرَطُ رِضَاهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لغَيْرِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ دَيْنَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَيَصُحُّ (ح) الضَّمَانُ عَلَى الميِّتِ المُفْلِسِ، وَأَصَحُّ الوَجْهَيْنِ أنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ مَعْرِفَتُهُ. قال الرَّافِعِىُّ: الإجماع والأخبار متعاضدة على صِحَّة الضمان، روى عن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْعَارِيَةُ مُؤَدَّاةٌ وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ، وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ" (¬2). وعن أبي سعيد الخدري: -رضي الله عنه- قال: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي جَنَازَةٍ، فَلَمَّا وُضِعَتْ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ مِنْ دَيْنٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ دِرْهَمَانِ، قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ -كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ-: هُمَا عَلَىَّ يَا رَسُولَ الله، وَأَنَا لَهُمَا ضَامِنٌ، فَقَامَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: جَزَاكَ اللهُ عَنِ الإسْلاَمِ خَيْراً، وَفَكَّ رِهَانَكَ كَمَا فَكَكْتَ رِهَانَ أَخِيكَ" (¬3). وروى أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِجَنَازَةٍ فَقَالَ: هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ مِنْ دَيْن؟ قَالُوا نَعَمْ دِينَارَانِ، فَقَالَ: أَبُو قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هُمَا عَلَىَّ يَا رَسُولَ اللهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-" (¬4). ¬
ثم نقل العُلَمَاءُ أن هذا كان في أول الإسْلاَم، ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي على من لم يخلف وفاء من المديونين؛ لأن صلاته -صلى الله عليه وسلم- شَفَاعة موجبة للمغفرة، ولم يكن حينئذ في الأموال سعة، فلما فتح الله الفتوح قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ" (¬1). ونقل عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في خطبته: "مَنْ خَلَفَ مَالاً أَوْ حَقّاً فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ خَلَفَ كَلاًّ أَوْ دَيْناً فَكَلُّهُ إِليَّ وَدَيْنُهُ عَلَىَّ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ وَعَلى كُلِّ إِمَامٍ بَعْدَكَ؟ قال: وَعَلَى كُلِّ إِمَامٍ بَعْدِي" (¬2). وقد ضمن حُجَّة الإِسْلام مسائل الضمان في بابين: أحدهما: في أركان صِحّة الضَّمان. والثاني: في أنه إذا صح فما حكمه؟ وهذا ترتيبه في أغلب الأبواب. أما الأركان فأولها: المضمون عنه وهو الأَصِيل، ولا يشترط رضاه لصِحَّة الضَّمان وفاقاً، إذ يجوز أداء دَيْنِ الغير بغير إذنه، فالتزامه في الذمة أولى بالجَواز، ويدل عليه أنه يصح الضَّمَان عن الميت، ومعلوم أنه لا يتصور منه الرّضا، والدليل على صحته ما قدمناه من ضمان عليّ وأبي قتادة -رضي الله عنهما-، ولا فرق بين أن يخلف الميت وفاءً أو لا يخلف، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يبحث عن ذلك، وبهذا قَالَ مالك وأحمد. وعند أبي حنيفة: لا يصح، إلا إذا خَلَف وَفَاءً أو كان به ضَامِن، وساعدنا فيما إذا ضَمِن عنه في حَيَاتِهِ ثم مات وهو مُعْسِر أنه لا يبطل الضَّمَان، وهل يشترط معرفة المضمون عنه لِصِحَّةِ الضمان؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يشترط ليعرف حاله، ولأنه هَلْ يستحق اصطناع المعروف إليه؟ وهذا ما أورده الصَّيْدَلاَنِيُّ. وأصحهما: أنه لا يشترط، كما لا يشترط رِضَاه. واعلم أن الشَّافعي -رضي الله عنه- قال في مسألة ضمان الميت: "ولو ضمن دَيْن مَيِّتٍ بعد ما تعرفه وتعرف لمن هو، فالضَّمان في ذلك لازم"، واختلفوا فيما يعود إليه في قوله: "بعد ما يعرفه"، بحسب اختلافهم في اشتراط معرفة المضمون عنه، فمن شرطها قال: هي عائدة إلى الميت المضمونِ عَنْه، ومن لم يشترطها قال: هي عائدة إلى ¬
الدَّيْنِ، إذ لا بد من معرفة جنسه وقدره وهو الصَّحِيح، ويدل عليه أن أَبَا بَكْرٍ الفَارِسِي نقل هذا النَّص بعينه في عيون المسائل، وأنه قال في توجيهه لأنه عرف ما ضمنه، ولمن ضمنه. قال الغزالي: الرُّكْنُ الثَّانِي: المَضْمُونُ لَهُ وَفِي اشْتِرَاطِ مَعْرِفَتِهِ وَجْهَانِ، فَإِنْ شُرِطَتْ فَفِي اشْتِرَاطِ رِضَاهُ وَجْهَانِ، فَإِنْ شُرِطَ فَفِي اشْتِرَاطِ قَبُولِهِ وَجْهَانِ، وَهَذَا لِأَنَّ الضَّمَانَ تَجْدِيدُ سُلْطَةٍ لَهُ لَمْ تكُنْ فَلَمْ يَجُزْ إِلاَّ بِإذْنِهِ بِخِلاَفِ المَضْمُونِ عَنْهُ. قال الرَّافِعِىُّ: المضمون له هو مستحق الدَّيْنِ، وفي اشتراط معرفته وجهان: أحدهما: أنها لا يشترط، لأنه لم يقع التعرض والبحث عنه في ضَمَانِ عَلِيٍّ وأبِي قَتَادَةَ -رضي الله عنهما-. وأصحهما: أن لا بد وأن يعرف الضَّامِن؛ لأن النَّاس يتفاوتون في الاقتضاء والاستيفاء تشديداً وتسهيلاً، والأغراض تختلف بِذَلِكَ، والضمان مع إهماله غرر وضرر من غير ضرورة، وعلى هذا فَفِي اشتراط رِضَاه وجهان. قال الأكثرون: لا يشترط؛ لأن الضَّمَانَ محض التزام، وليس موضوعاً على قواعد المعاقدات، وقال صاحب "الإفصاح" والقاضي ابْنُ كِجٍّ: يشترط لأن الضمان يجدد له سلطنة وولاية لم تكن، ويبعد أن يتملك بتمليك الغَيْر شيئاً من غير رِضَاه، وبهذا قال أبو حنيفة، إلا أنه قال: لو التمس المريض من الورثة أن يضمنوا دينه فأجابوا صح، وإن لم يرض المَضْمُونُ له وإذا قلنا: باشتراط رِضَاه ففي اشتراط قبوله وَجْهَان: وجه الاشتراط أنه يملك في مقابلة تَمْلِيك الضَّامِنِ فيعتبر فيه القبول كسائر التمليكات والتَّمَلُّكَات. والأصح: أنه لا يشترط، وفرقوا بينه وبين سَائِرِ التملكات بأن الضَّمَان لا يُثْبِت مِلْكَ شَيْءٍ جديد، وإنما يتوثق به الدّين الذي كان مملوكاً، وهذا يشكل بالرَّهن فإنه لا يفيد إلا التوثيق، ويعتبر فيه القبول، وعن الشيخ أَبِي مُحَمَّدٍ تقريب هذا الخِلاَف من الخلاف في اشتراط القبول في الوكالة؛ لأن كل واحدٍ منهما يجدد سلطة لم تكن، فإن شرطنا القبول فليكن بينه وبين الضَّمَان مثل ما بين الإيجاب والقبول في سائر العقود، وإن لم نشترط فيجوز أن يتقدم الرِّضَى على الضَّمَانِ، وإن تأخر عنه فهو إجازة إن جوزنا وقف العقود ذَكَرَهُ الإِمَام، وفرع على قولنا: لا يشترط رِضَاه، فقال إِذا ضمن بغير رِضَاه فينظر إن ضمن بغير إذن المضمون عنه فالمضمون له بالخيار إن شاء طالب الضَّامِن، وإن شاء تركه، وإن كان الضمان بإذنه فحيث قلنا: يرجع الضَّامِن على المضمون عنه يتخير المضمون لَهُ على قَبُولِهِ؛ لأن ما يؤديه في حكم لملك المضمون عَنْه، وحيث
قلنا: لا يرجع، فهو كما لو قال لغيره: أَدِّ ديْنِي ولم يشترط الرجوع وقلنا: إنه يرجع، وهل لمستحق الدين والحالة هذه أن يمتنع من القبول؟ فيه وَجْهَان بناءً على أن المؤدي يقع فِدَاء، أو موهوباً ممن عليه الدين إن قلنا بالثاني، لم يكن له الامتناع وهو الأَشْهَر، هذا بيان الخلاف في اشتراط معرفة المضمون له دون معرفة المضمون عنه؛ لأنه لا معاملة بينه وبين الضَّامِنِ، وزاد الإمام وَجْهاً رَابِعاً، وهو اشتراط معرفة المَضْمُون عَنْهُ دون المضمون له، وفي طريقة الصَّيْدَلاَنِيّ ما يقتضيه وَهُوَ غَرِيبٌ (¬1). قال الغزالي: الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الضَّامِنُ وُيشْتَرَطُ فِيهِ صِحَّةُ العِبَارَةِ وَأَهْلِيَّةُ التَّبرُّعِ، وَيَصِحُّ (م) ضَمَانُ الزَّوْجَةِ دُونَ إِذْنِ الزَّوجِ، وَفي ضَمَانِ الرَّقِيقِ دُونَ إِذْنِ السَّيِّد وَجْهَانِ، فَإِنْ صَحَّ فَيُتْبَعُ بِهِ إِذَا عُتِقَ، فَإِنْ ضُمِنَ بِالأِذْنِ فَيَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ فِي وَجْهٍ، وَلاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ في وَجْهٍ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ المَأْذُونِ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِهِ في وَجْهٍ. قال الرَّافِعِىُّ: ضبط من يصح ضمانه بأن يكون صحيح العبارة أهلاً للتبرع. أما صحة العبارة فيخرج عنه الصَّغِير والمَجْنُون والمُغْمَى عليه والمُبَرْسَم الذي يهذي، فلا يصح ضمانهم كَسَائِرِ التصرفات. ولو ضَمِن ضَامِنٌ، ثم قال: كنت صبياً يوم الضَّمان، وكان محتملاً فالقول قول مع يمينه، وكذا لو قال: كنت مجنوناً وقد عرف له جنون سابق أو أقام عليه بينة، وإلا فالقولُ قولُ المضمونِ لَهُ مع يمينه. وفي ضمان السكران الخلاف المذكور في سائر تصرفاته (¬2) لاَ يَصِح ضَمَانُه، وَالأَخْرَس الذي إشَارَتُه مَفْهُومَةٌ، والأخرس الذي ليست له إشارة مفهومة يَصِح ضَمَانُه بِهَا كبيعه وسائر تصرفاته، وعن أبي الحُسَيْنِ: أن من الأصحَاب من أَبْطَلَه، وقال: لا ضرورة إلى الضَّمَان بخلاف سائر التَّصَرُّفَاتِ، ولو ضمن بالكِتَابَةِ فَوَجْهَانِ، سواء أحسن الإِشَارةَ أَمْ لاَ. أظهرهما: الصِّحة، وذلك عند وجود القرينة المُشْعِرة بالمَقْصُود، ويجري الوَجْهَانِ في النَّاطِقِ وفي سَائِرِ التصرفات. وأما أَهْلِيَّةِ التَّبرُّع فإنه قصد بها التحرز عن المَحْجُورِ عليه بالسَّفَهِ، ونحا: فيه نَحْوَ الإِمَامِ، بحيث قال المحجور عليه وإن كان تصح عبارته عند إذن وليه فَضَمَانُه مَرْدُودٌ، ¬
من قبل أنه تبرع وتبرعات المُبَذِّر مَرْدُودَة، ولا يصح من الولي الإِذْن فيها. واعلم أن القول بِكون الضَّمَانِ تبرعاً إنما يظهر حيث لا يثبت الرُّجُوع، فأما حيث ثبت فهو إقراض لا محض تبرع، وَيَدُلُّ عليه أن القَاضِيَ الرّويَانِي حكى في "البحر" عن نص الشَّافعي -رضي الله عنه-: أنه إذا ضَمن في مَرَضِ المَوْتِ بغَيْرِ إذن من عليه الحق فهو محسوب من ثُلُثِهِ، وإن ضمن بإذنه فهو مَحْسُوبٌ من رأس المال؛ لأن للورثة أن يرجعوا على الأَصِيل، وهو وإن لم يكن تبرعاً فلا يصح من المحجور كالبيع وسائر التصرفات المالية، فإن أذن فِيهِ الوَلِي، فليكن كما لو أذن في البيع (¬1). أما المحجور عليه بالفلس، فضمانه. كشرائه. ثم في الفصل مسألتان: إحداهما: ضمان المرأة صَحِيح خلية كَانَتْ أم مزوجة، ولا حاجة إلى إذْنِ الزوج كما في سَائِرِ تصرفاتها، وعن مالك أنه لاَ بُدَّ من إذنه. الثانية: في ضَمَانِ العَبْدِ بغير إذْنِ سيده مأذوناً كان في التجارة أو لم يكن، وجهان عن ابْنِ سُرَيْج: أحدهما: وبه قال أبو إسحاق: أنه صحيح، ويتبع به بعد العتق؛ لأنه لا ضَرَرَ فيه على السَّيد، فصار كما لو أقَرَّ بِإِتْلاَفِ مَالٍ وكذبه السيد. وأصحهما وبه قال الإصْطِخْرِي: أنه بَاطِلٌ؛ لأنه إثبات مال في الذمة بِعَقْدٍ فأشْبَهَ النِّكَاحَ، وإن ضمن بِإذْنِ سيده صَحَّ، ثم إن قال: اقضه مما تكتسبه أو قال للمأذون: اقضه من المال الذي في يدك قضى منه، وإن عَيَّن مالاً وأمر بالقضاء منه فكمثل، وإن اقتصر على الإذن في الضَّمان، فإن لم يكن العبد مأذوناً له في التِّجَارَةِ فوجهان: أحدهما: أنه يكون في ذِمَّتِهِ إلى أن يعتق؛ لأنه إنما أَذِن في الالتزام دون الأداء. وأظهرهما: أنه يتعلق بما يكتسبه بعد الإذْنِ، كما لو أذن له في النِّكَاحِ يتعلق المهر ¬
باكتسابه، وعن الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ حكاية وَجْه غريب أنه يتعلق برقبته، وإن كان مأذوناً له في التجارة فيتعلق بِذِمَّتِهِ، أم كيف الحال؟ فيه وَجْهَانِ رتبهما الإمام على الوَجْهَيْنِ فِي غَيْرِ المأذون، وأولى بأن لا يحال على الذِّمَة لإشعار ظَاهِرِ الحَالِ بِخِلاَفِهِ، وعلى هذا فيتعلق بما يكتسبه من بعد إِذْنِهِ، وبما في يده من الرِّبحِ الحَاصِلِ أَمْ بَهِمَا، وبرأس المَالِ أيضاً؟ فيه وجوه أشبهها الثَّالِثُ، والوجوه التي أوردها صَاحِب الكتاب فيما إذا ضَمِن بالإذن تخرج من الترتيب الذي أشار إليه الإمام، فَعَلَى رأي إن كان مأذوناً له تعلق بكسبه وإلا لم يتعلق إلا بالذِّمة، وحيث قلنا: يؤدي مما في يده، فلو كان عليه دُيُونٌ ففيه ثلاث أوجه عن ابْنِ سُرَيْجٍ. أحدها: أن المضمون له يشارك الغرماء؛ لأنه دين لزم بإذن المولى، فأشبه سَائِرَ الدُّيون. والثاني: أن الضمان لا يتعلق بما في يده أصْلاً؛ لأنه كالمَرْهُونِ بحقوق الغُرَماء. والثالث: أنه يتعلق بما فضل عن حقوقهم رعاية لِلْجَانَبِيْنِ، وهذا إذا لم يحجر القَاضِي عليه، فإن حجر باستدعاء الغرماء لم يتعلق الضَّمَانُ بما في يده لا محالة، والمدبر وأم الولد كالقِنِّ في الضَّمَانِ، وكذا من بعضه حر وبعضه رقيق، وإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة أو كانت وضمن في نوبة السيد، وإن لم يكن بينهما مهايأة، كما لو اشترى بنفسه شيئاً، ويجوز أن يخرج على الخلاف في المؤن والأكساب النَّادِرَة أنها هل تدخل في المهايأة؟ وضمان المكاتب بغير إذن السيد كضمان القِنِّ وبالإذن قالوا: هو على الخلاف في تبرعاته. فرع: إذا ضمن العبد بإِذْنِ السَّيِّدِ، وأدى مَالَ الضَّمان في رقه فحق الرجوع للسَّيِّدِ، وإن أداه بعد ما عتق فَحَقّ الرجوع للعبد في أَصَحِّ الوجهين، ووجه الثَّانِي أن مَالَ الضَّمَانِ كالمستثنى عن اكتسابه فلا يستحقها بالعتق، ولو ضَمِنَ العَبْدُ شيئاً لسيدِهِ عن أجنبي لَمْ يَصِح لأنه يؤديه من كَسْبِهِ، وكسبُه لِسَيِّدِهِ، فهو كما لو ضَمِن المستحق لِنَفْسِهِ، ولو ضَمِن لأجنبي عن سيده، فهذا لم يأذن السَّيِّد فَهُوَ كَمَا لَوْ ضَمِنَ عَنْ أَجْنَبِي، وإن ضمن بإذنه صَحَّ، ثم إن أدى قَبْلَ العِتْقِ فلا رُجوعَ لَهُ، وإن أَدَّى بَعْدَهُ ففي رجوعه على السَّيِّد وَجْهَانِ بناء على الوَجْهَيْنِ فيما لو أَجَّرَ عبده ثم أعتقه، في أثناء المُدَّة هَلْ يرجع بِأُجْرَةِ المهثْلِ لبقية المدة؟ (¬1). ¬
قال الغزالي: الرُّكْنُ الرَّابعُ المَضْمُونُ بِهِ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ حَقّاً ثَابِتاً (م ح و) لاَزِماً (م ح و) مَعْلُوماً (م ح و) وَاحْتَرَزْنَا بِالثَّابِتِ عَنْ ضَمَانِ دَيْنِ سَيَلْزَمُ بِبَيْع أَوْ قَرْضٍ بَعْدَهُ فَإنَّهُ لاَ يَصِحُّ (م ح) فِي الجِدِيدِ، وَفِي ضَمَانِ مَا سَبَقَ سَبَبُ وُجُوِبهِ وَلَمْ يَجِبْ كَنَفَقَةِ الغَدِ لِلْمَرَأَةِ قَوْلاَنِ فِي الجَدِيدِ، وَضَمَانُ العُهْدَةِ لِلمُشْتَرِي صَحِيحٌ (و) بَعْدَ قَبضِ الثَّمَنِ لِأَجْلِ الحَاجَةِ إِلَى مُعَامَلَةِ الغُرَبَاءِ، وَكَذَلِكَ ضَمَانُ نُقْصَانِ الصَّنْجَةِ وَرَدَاءَةِ الجنْسِ فِي المَبِيعِ، وَفِي صحَّةِ ضَمَانِ عُهْدَةٍ تَلْحَقُ بِالعَيْبِ أَوْ بِالفَسَادِ مِنْ أُخْرَى لاَ بِخِرُوجِهِ مُسْتَحِقّاً وَجْهَانِ، فَإِنْ صَحَّحَ صَرِيحاً ففي انْدِرَاجِهِ تَحْتَ مُطْلَقِ ضَمَانِ العُهْدَةِ وَجْهَانِ. قال الرَّافِعِىُّ: يشترط في الحق المَضْمُونِ ثلاث صفات: كونه ثابتاً، ولازماً ومعلومَ الصِّفَة. الأولى: الثبوت، وفيه مَسَائِل: إحداها: إذا ضمن ديناً لم يجب بعد، وسيجب كقرض أو بيع وما أشبههما، ففيه طريقان حكاهما الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وغيره. وأشهرهما وبه قال ابْنُ سُرَيْجٍ: أنه على قولين: القديم: أنه يَصِح؛ لأنه قد تَمَسّ الحَاجَة إليه، وهذا كما أنه جوز في القديم ضَمَان نفقة يَوْمِ المستقبل، وبهذا قَالَ أبو حنيفة ومالك. والجديد: المنع، وبه قال أحمد؛ لأن الضمان لو تبعه الحق، فلا يسبق وجوب الحق كالشَّهَادَةِ. والثاني: وهو اختيار الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ القطع بالمنع، ويخالف ضَمَان النّفقة؛ لأن النفقة على القديم تجب بالعقد، فضمانها ضَمَان وَاجِبٌ لا غير وَاجِب، والمذكور في الكتاب هو الطريقة الأُولَى، ويجوز إعلام قوله: (في الجديد) بالواو للثانية، وإعلام قوله: (لا يصح) بالحاء والميم لما ذكرنا، وذكر الإمام أموراً مفرعة على القديم. أحدها: إذا قال: ضمنت لك ما تبيع من فلان، فباع الشَّيْءَ بعد الشيء كان ضامناً لِلكُلِّ؛ لأن "ما" من أدوات الشَّرط، فتقتضي التعميم بخلاف ما إذا قال: إذا بعت من فلان فأنا ضَامِنٌ حيث لا يكون ضامناً إلا ثمن مَا بَاعَه أولاً؛ لأن "إذا" ليست من أدوات الشرط. الثاني: إن شرطنا معرفة المضمون له عند ثبوت الدين فهاهنا أولى وإلا فوجهان، وكذا معرفة المَضْمُون عنه. الثالث: لا يطالب الضامن ما لم يلزم الدَّيْن على الأَصِيل، وليس له الرجوع بعد لزومه.
وأما قبله فعن ابْنِ سُرَيْجِ: أن له أن يرجع، وقال غيره: لا؛ لأن وضع الضَّمَانِ على اللزوم. وإذا قلنا بالجديد، فلو قال: أقرض فلاناً كذا وعلى ضمانه فأقرضه قال القَاضِي الرّويَانِي -في المَذْهب-: أنه لا يجوز، وعن ابْنِ سُرَيْجِ تجويزه؛ لأنه ضمان مَقْرُونٌ بالقرض. المسألة الثانية: ضمان نفقة المدة المَاضِية للزَّوْجَةِ صحيحة، سواء كانت نفقة المُوسِرِين أو المعسرين، وكذا ضمان الادام ونفقة الخَادِمة وسائر المُؤَن، ولو ضمن نفقة اليوم فكمثل، لأنها تَجِب بطلوع الشَّمْس، وفي ضمان نفقة الغَد والشَّهْرِ المستقبل. قولان، بناءً على أن النفقة تجب بالعقد أو بالتمكين. إن قلنا: بالأول وهو القديم، صَحّ وإن قلنا: بالثَّانِي فَلاَ، وَهُوَ الأَصح، هكذا نقل عَامَّةُ الَأصْحَابِ، وأشار الإمام إلى أنه على قولين مع تفريعنا على أن ضَمَان مَا لاَ يَجِب بَاطِل؛ لأن سبب وجوب النفقة على تعاقب الأيام نَاجِز وهو النِّكَاح، وهذا ما أورده المصنف، وقال: (وفي ضمان ما سبق سبب وجوبه، ولم يجب) إلى آخره وفيه إشكال؛ لأن سبب وجوب النفقة إما النِّكَاح، أو التمكين في النِّكَاح، إن كان الأول فالنفقة واجبة، فكيف قال: (ولم يجب)، وإن كان الثاني فالسبب غَيْر موجود، ويجوز أن يقال في الجواب: المراد من سبب الوجوب هاهنا ما تقرر به الوجوب، بل المراد منه الأمر الذي إذا وجد، استعقب الوجوب ظاهراً عند وجود أمر آخر. وبيان ذلك بأنهم نقلوا قولين فيما إذا ضَمِن أرش الجنَاية وما يتولد منها، ومعلوم أن الجناية ليست سبباً لما يتولد منها إلا على هذا التفسير، أما عند قولنا: سبب الوجوب النكاح والتمكين، فنعني به ما يقترن به الوُجوب، فهذا جوزنا ضمان نفقة المستقبل، فَلَهُ شَرْطَانِ: أحدهما: أن يقدر مدة، أما إذا أطلق لم يصح فيما بَعْدَ الغَدِ، وفيه وجهان أَخْذاً من الخِلاَفِ فيما إذا قال: أجرتك كل شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ، ولم يقدر هل يصح في الشَّهرِ الأول؟ والثاني: أن يكون المضمون في نفقة المُعْسِرِين، وإن كان المضمون عنه موسراً أو متوسطاً؛ لأنه ربما يعسر، وفي "التتمة" وجه آخر: أنه يجوز ضَمَان نَفَقَةِ المُوسِرِينَ والمُتَوَسِّطِينَ؛ لأن الظاهر استمرار ماله، وضمان نفقة القريب للمدة المستقبلة لاَ يجوز، وفي ضَمَانِ نفقة اليوم وَجْهَان، والفرق أن سبيلَها سبيلُ البِرِّ والصِّلَةِ، لا سبيل للدُّيُون؛ ولهذا تسقط بمضي الزَّمَانِ وضيافة الغَيْرِ.
المسألة الثالثة: من باع شَيْئاً فخرج مستحقاً فعليه رَدُّ الثَّمَنِ ولا حاجة فيه إلى شَرْطٍ والْتِزَامٍ، قال القَفَّالُ: ومن الحماقة اشتراط ذلك في القبالات، وإن ضمن عَنْهُ ضَامِنُ ليرجع المشتري عليه بالثمن لو خرج المبيع مستحقاً فهذا ضمان العُهْدَة ويسمى ضَمَانُ الدرك أيضاً. أما ضمان العهدة فقد قال في "التتمة": إنما سمي به لالتزامه ما في عُهْدَةِ البَائِعِ رده، ويجوز أخذه من شيئين آخرين: أحدهما: قال في "الصحاح": يقال في الأمر عهدة، أي لم يحكم بعد، وفي عقله عهدة أي ضَعْف، فكأن الضَّامِنَ ضمن ضعف العقد والتزم ما يحتاج فِيهِ مِنْ غُرْمٍ. والثَّانِي: قال العهدة الرجعة، يقال: أبيعك الملسى لا عهدة، أي تتملس وينقلب فلا يرجع إلى، فالضامن التزم رجعة المُشْتَرِي عليه عند الحَاجَةِ. وأما الدَّرك فقد قال في "الصحاح": الدرك التبعة تسكن وتحرك، وفي "التتمة": أنه سمي ضمان الدرك لالتزامه الغرامة عند إدراك المستحق من مَالِهِ، وفي صحة هذا الضَّمَان طريقان: أظهرهما: أنها على قولين: أحدهما: خرجه ابْنُ سُرَيْجٍ وغيره: أنه لا يصح؛ لأنه ضمان ما لم يجب؛ ولأنه لا يجوز الرَّهْنُ بِهِ فكذلك الكفيل. وأصحهما: وهو نَصّه في آخر كتاب الإقرار أنه صَحِيح، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد لإطباق النَّاسِ عليه، وإيداعه الصكوك في جميع الأعصار، والمعنى فيه أن الحَاجَة تمس إلى مُعَامَلَةِ من لا يعرف من الغُرَماء، ولا يوثق بيده وملكه ويخاف عدم الظَّفر بِهِ، لو ظهر الاستحقاق فيحتاج إلى التَّوْثِيق. والثاني: القطع بالصِّحة حكاه القَاضِي ابْنُ كِجٍّ عن أبي إسحاق وابْنِ القَطَّانِ، وأجيب عن توجيه قَوْلِ المنع بأنه إذا بان الاستحقاق بَان، إن رد الثمن كان واجباً إلا أنا كنا لا نَعْرِفه. وأما الرهْنُ فالكلام فيه قد مرَّ فِي كتاب الرَّهْنِ. التفريع: إن قلنا: بالصحة فَذَاك إذا ضَمِنَ بعد قبض الثَّمَنِ، أما قبله فَوَجْهَانِ: أحدهما: الصحة؛ لأن الحَاجَةَ تدعو إليه، إذ ربما لا يثق المشتري بتسليم الثَّمَنِ إلا بعد الاستيثاق. وأصحهما: المنع؛ لأن الضامن إنما يضمن ما يدخل في ضمان البائع ويلزمه
رده، وقبل القبض لم يتحقق ذلك، وكما يصِحَ ضَمَن العُهْدَة للمشتري يصح ضمان نقصان الصنّجة (¬1) للبَائِع، بأن جاء المشتري بصنجة ووزن بها الثمن، فاتهمه البائع فيها، فضَمِنَ ضَامِنٌ النقصانَ إن كانت نَاقِصة، وكذا ضمان رداءة الثمن إذا شَكَّ البائع في أن المؤدى هَلْ هو من الضرب الذي يستحقه؟ فهذا خرج ناقصاً أو رديئاً طالب البائع الضامن بالنّقْصَان، وبالضرب المستحق إذا رَدّ المقبوض على المشتري. ولو اختلف البائع والمشتري في نُقْصَان الصنجة صدق البائع بيمينه، فإذا حَلَف طَالَبَ المُشْتَرِي بالنقصان، ولا يطالب الضَّامن على أقيس الوجهين؛ لأن الأصل براءة ذمته، فلا يطالب إلا إذا اعترف بالنقصان، أو قامت بينة عليه، ولو اختلف البَائِعُ والضَّامِنُ في نقصانها فالمصدق الضَّامِنُ على أصَحِّ الوجهين؛ لأن الأصْلَ براءة ذِمَّتِهِ بخلاف المُشْتَرِي، فإن ذمته كانت مَشْغُولةً بحق البائع، والأصل بقاء الشَّغْل. واعلم أن الأئمة صوروا ضَمانَ نقصان الصّنجة والرداءة في الثمن كما أوردناه، قالوا: هذا الضَّمَانُ للبائع كضمان العُهْدَة للمشتري، وحكى هذا صاحب الكتاب في "الوسيط"، فأما هاهنا فإنه قال: (وكذلك ضمان نقصان الصنجة ورداءة الجنس في المبيع)، فصور ضمان الرداءة في المبيع وهذا يمكن فرضه فيما إِذَا بَاعَ وشرطه كونه من نَوْعِ كَذَا، فخرج المبيع من نوع أردأ منه ثبت للمشتري الخِيَار والرجوع بالثَّمن، وإذا ضمن ضامن كان له الرجوع على الضَّامِن أَيضاً، وكذا نقصان الصّنْجَة، يمكن تصوير ضمانه في المبيع، بأن باع بشرط أنه كَذَا منا فإنه إذا خرج دونه يبطل المبيع على قول، ويثبت للمشتري الخيار على قولٍ كَمَا مَرَّ، فإذا ضمنه ضامن رجع بالثمن عليه، وفي الصورتين يكون الضَّمَانُ للمشتري كضمان العهدة، ولو ضمن عهدة الثمن لو خرج المبيع معيباً فرده أو بان فساد المبيع بسبب غير الاستحقاق لتخلف شرط معتبر في المبيع أو اقتران شَرْطٍ فاسد ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يصح. أما في خروجه معيباً فلأن وجوب رَدِّ الثمن على البائع هاهنا بسببٍ حَادِثٍ، وهو الفسخ فالضمان سَابِقٌ عليه، فيكون ضَمَان مَا لَمْ يجب. وأما في ظهور الفساد بغير الاستحقاق فلأن هَذَا الضمان إنما جوِّز للحَاجَةِ، وإنما تظهر الحاجة في الاستحقاق، ولأن التجوز عند ظهور الاستحقاق لا يمكن والتحرز عن سائر أسباب الفساد ممكن ولأن حبس المبيع إلى استرداد الثمن بسائر أسباب الفساد ¬
فصل أول
ممكن بخلاف حالة ظهور الاستحقاق لا يمكن، والتحرز عن سائر أسباب الفساد ممكن. والثاني: يصح؛ لأن الحَاجَة قد تمس إليه أيضاً في معاملة الغرماء ومن لا يوثق بالظفر به كما تمس إلى الضمان بسبب الاستحقاق، وذكر في "التتمة": أن المذهب هو الوَجْه الأَوَّل، لكن أصحابَنَا العراقيين أجابوا بالثَّانِي، ورووه عن ابْنِ سُرَيْجٍ، ونفى صاحب "البيان" الخلاف فيه. فإن قلنا: بالصِّحَّة إذا ضمن ذَلِكَ صَرِيحاً، فقد حكى الإمام وصاحب الكتاب وجهين في اندراجه تحت مطلق ضَمَانِ العُهْدَة، ونحن نجمع ما يطالب به ضَامِن العَهْدَة، في فَصْلٍ محتوش بفصلين، ويضمن ثلاثتهما بقية مسائل الباب. فَصْلٌ أَوَّلُ من ألفاظ هذا الضَّمان، أن تقول للمشتري: ضمنت لك عهدته، أو دركه أو خلاصك منه، ولو قال: ضمنت لك خلاص المَبِيع لَمْ يَصِح؛ لأنه لم يستقل بتخليصه بعد ظهور الاستحقاق، ولو ضمن عهدة الثَّمَنِ وخلاص المبيع معاً، لم يصح ضمان الخلاص، وفي العهدة قولا تفريق الصفقة ولو شرط في المبيع كفيلاً بخلاص المبيع بطل بخلاف ما لو شرط كفيلاً بالثمن. ويشترط أن يكون قدر الثمن معلوماً لِلضَّامِنِ، فإن لم يكن فهو كما لو لم يكن قدر الثمن معلوماً في المرابحة. ويجوز ضَمَانُ المسلم فيه للمسلم إليه، لو خرج رأس المال مستحقاً بعد تسليم المسلم فيه، وقبله لا يجوز في أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ، ولا يجوز ضمانَ رأسِ المَالِ للمسلم لو خرج المسلم فيه مستحقاً؛ لأن المسلم فيه في الذِّمَّة والاستحقاق لا يتصور فيه، وإنما يتصور في المقبوض، وحينئذ يطالب المسلم بمثله لا برأس المال. فَصْلٌ ثانٍ إذا ظهر الاستحقاق، فالمشتري يطالب من شاء من البائع والضامن، ولا فرق في الاستحقاق بين أن يخرج مغصوباً، وبين أن يخرج شقصاً، قد ثبتت فيه الشُّفْعَة ببيع سابق فأخذه الشفيع بِذَلِك المبيع ولو بأن فساد البيع بشرط أو غيره ففي مطالبة الضَّامِنِ وجهان: أحدهما: يطالب كما لو خرج مستحقاً. والثاني: لا؛ للاستغناء عنه بإمكان حبس المبيع إلى استرداد الثَّمَنِ؛ لأن السابق
فصل ثالث
إلى الفَهْمِ من ضمان العهدة هو الرجوع بسبب الاستحقاق، ولو خرج المبيع معيباً فرده المُشْتَرِي، ففي مطالبة الضَّامِنِ بالثمن وَجْهَانِ، وأولى بأن لا يُطَالَب، وبه قال المُزَنِي وَابْنُ سُرَيْجٍ؛ لأن الرَّد هاهنا سبب حادث وهو مختار فيه، فأشبه ما إذَا فسخ بِخِيَارِ شَرْطٍ أو مجلس أو تقابلا، وهذا إذا كان العيب مقروناً بالعَقْدِ، أما إذا حدث في يد البَائِعِ بعد العَقْدِ، ففي "التتمة": أنه لا يطالب الضَّامن بالثَّمَنِ وجهاً وَاحِداً؛ لأنه لم يكن سبب رد الثمن مقروناً بالعقد، ولم يوجد من البَائِعِ تفريط فيه، وفي العيب الموجود عند البيع سَبَب الرَّدِّ مقرونٌ بالعَقْدِ، والبائع مفرط بالإِخْفَاءِ فالتحق بالاستحقاق على رأي (¬1) ولو تلف المبيع قبل القَبْض وبعد قبض الثمن وانفسخ العقد فهل يطالب الضامن بالثَّمن؟ إن قلنا: إنه ينفسخ من أصله، فهو كظهور الفَسَادِ بغير الاستحقاق، وإن قلنا: من حينه كالرد بالعيب ولو خرج بعض المبيع مستحقاً ففي صِحَّةِ البيع في الباقي قولا تفريق الصفقة. إن قلنا: يصح فاختار المشتري إن قلنا: يختر بجميع الثَّمن لم يطالب الضَّامِن بشيء، وإن قلنا: يختر بالحِصَّة طالبهُ بحصة المُسْتَحق من الثَّمَن، وإن فسخ طالب بحصة المستحق من الثَّمن ومطالبته بحصة الباقي من الثمن كمطالبته عند الفسخ بالعيب وإن قلنا: لا يصح ففي مطالبته بالثّمن طريقان: أحدهما: أنه كما لو بأن فساد العَقْدِ بشرط ونحوه. والثاني: القطع بتوجيه المطالبة لاستناد الفساد إلى الاستحقاق، وهذا كله فيما إذا كانت صيغة الضمان شيئاً مما ذكرنا في الفَصْلِ الأول، أما إذا كان قد عيَّن جهة الاستحقاق، فقال: ضمنت لك الثمن متى خرج المبيع مستحقاً لم يطالب بجهة أخرى [وكذا لو عين جهة غير الاستحقاق لم يطالب عند الاستحقاق]. فَصْلٌ ثَالِثٌ اشترى أرضاً وبنى فيها أو غرس، ثم خرجت مستحقة وقلع المستحق البناء والغراس، فهل يجب أرش النقصان على البَائِع، وهو ما بين قيمته قائماً ومقلوعاً؟ فيه خلاف مذكور في الكِتَاب في آخر الغَصْبِ، والظاهر وجوبه، وهو الذي حكاه القاضي أَبُو القَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ عَنِ الشَّافِعِي -رضيَ الله عنه - في "علل الشروط" وحكى عن أبي حنيفة إن كان البائع حاضراً رجع المشتري بقيمة البناء والغراس عليه. ¬
فاتمام المستحق إن شاء أعطى البائع قيمته مقلوعاً وإن شاء أمره بقلعه، وإن كان البائع غائباً قال المستحق للمشتري: إن شئت أعطيتك قيمته مقلوعاً وإلا فاقلعه، فإن قلعه رَجَعَ على المشتري بقيمته على البائع مقلوعاً؛ لأنه سلمه إليه مقلوعاً، وإذا قلنا بوجوب الأرش على البَائِع فلو ضمنه ضَامِن نظر إن كان قبل ظهور الاستحقاق لَمْ يَصِحِ؛ لأنه مجهول ولأنه ضَمَانُ ما ليس بواجب، وإن كان بعد الاستحقاق وقبل القلع فكمثل. وقال أبو حنيفة: يصح في الصورتين وإن ضمنه بعد القلع وكان قدره معلوماً صَحّ. وإن ضمن ضامن عهدة الأرض وأرض نقص البناء والغراس في عقد واحد لم يصح في الأَرْش، وفي العهدة قولا تفريق الصَّفقة، ولو كان البيع بشرط أن يعطيه كفيلاً فهو كما لو شرط في البيع رهناً فاسداً، وذكر جماعة من الأصحاب أن ضَمَان نَقْصِ البناء والغِرَاس، كما لا يصح من غَيْرِ البَائِع، لا يصح من البائع، وهذا إن أريد به أنه لَغْوٌ، كما لو ضَمِن العهدة لوجوب الأَرْشِ عليه من غير إلزام، فهو مُسْتَمِرٌ على ظاهر المذهب، وإلا فهو ذهاب منه إلى أنه لا أرش عليه، والله أعلم. قال الغزالي: وَاحْتَرَزْنَا بِاللاَّزِمِ عَنْ نُجُومِ الكِتَابَةِ فَلاَ يَصِحُّ ضَمَانُهَا، وَيصِحُّ (و) ضَمَانُ الثَّمَنِ فِي مُدَّةِ الخِيَارِ إِذْ مَصِيرُهُ إِلَى اللُّزُومِ، وَفي ضَمَانِ الجُعْلِ فِي الجَعَالَةِ وَجْهَانِ. قال الرَّافِعِىُّ: الصفة الثَّانِية: اللزوم. والديون الثَّابتة ضربان: أحدهما: مَا لاَ مصير له إلى اللُّزومِ بِحَالٍ، مثل نجوم الكِتَابة فلا يَصِح ضَمَانُها، كما لا يصح الرَّهْنُ بِهَا، هذا هو المَشْهُورَ، وفيه وجه أنه يَصِح، وبه قال أَبُو حَنِيفة ولم أجد هذا الوجه عن الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ أن ابن سريج خَرَّجَهُ على ضمان ما لم يجب وَوُجِدَ سَبب وجوبه، وذكر القاضي ابْنُ كِج أنه مأخوذ من تجويز ضمان الجُعْلِ في الجَعالة على أحد الرأيين. ولو ضمن إنسانٌ عن المكاتب عين نُجوم الكِتَابة نظر إن ضمنه لأجنبي صَحَّ، وإذا غرم رجع على المُكَاتَبِ، إذا كان الضَّمَانُ بإذنه، وإن ضمنه لِسَيّده يُبْنَى ذلك على أن الدَّيْنَ هل يسقط بعجزه؟ وهو على وجهين: إن قلنا: نعم، لَمْ يَصِح الضَّمان للنُّجومِ في الأَصَحِّ. والضَّرْبُ الثَّانِي: ما له مَصِير إِلَى اللُّزُوم، فينظر إن كان لازماً في حَالِ الضَّمَانِ صَحَّ ضَمَانُه، سواء كان مستقراً أَو لَمْ يَكُن كالمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ، والثمن قَبْلَ قَبْضِ
المَبِيع لحاجة التوثيق، ولا نظر إلى احتمال سقوطه، كما لا نظر إلى احتمال سقوط المستقر بالإبْرَاء والرد بالعيب وما أشبههما، وإن لم يكن لازماً حَالَ الضَّمَانِ فهو على قِسْمَيْن. أحدهما: ما الأَصْل فِي وضعه اللُّزوم كالثَّمَنِ في مُدَّةِ الخِيَارِ فِي ضَمَانِهِ وَجْهَان: أحدهما: المنع؛ لأنه لَيْسَ بِلاَزِم. وأصحهما: وقد قطع به بَعْضُهم الجَواز؛ لأنه ينتهي إلى اللزوم بنفسه عن قريب فيحتاج فيه إلى التَّوْثِيق ثم فيه نَظَرَان. أحدهما: أن الخِلاَف على ما ذكره صاحب "التتمة" مفروض فيما إذا كان الخيار للمشتري أولهما، أما إذا كان للبائع وحده صَحَّ ضمانُه بلا خِلاَف؛ لأن الدَّيْنَ لازِمِ في حَقِّ مَنْ عليه. والثاني: أشار الإمام إلى أن تَصْحِيح الضَّمَان مفرع على أن الخِيَار لا يمنع نَقْلَ المِلْكِ في الثَّمَنِ إلى البَائِع. أما إذا منعه فهو ضَمَان ما لم يثبت بعد، وقد ذكر مثل هذا الاستدراك في الرَّهْنِ على ما مَرَّ. القسم الثاني: ما الأصل في وضعه الجواز، كالجُعْلِ في الجعالة فيه وجهان كما ذكر في صِحَّة الرَّهْن به، وموضع الوَجْهَيْن بعد الشروع فيه العَمَلِ، وقبل تمامه على ما بيناه ثم، وضمان مال المُسَابقَة يبنى على أنها جَعَالة أو إِجَارة، إن كان إجارة صَحَّ، وإلا فهو كَضَمَانِ الجُعْلِ. قال الغزالي: وَاحْتَرَزْنَا بالمَعْلُومِ عَنْ ضَمَانِ المَجْهُولِ وَهُوَ بَاطِلٌ (ح) عَلَى الجَدِيد، وَكَذَلِكَ الإِبْرَاءُ (ح) عَنِ المَجْهُولِ، وَالصَّحِيحُ: جَوَازُ ضَمَانِ إِبِلِ الدِّيَةِ كَمَا يَجُوزُ الاِبرَاءُ عَنْهَا، وَلَوْ قَالَ: ضَمِنْتُ مِنْ واحِدٍ إِلَى عَشَرَةٍ فَأَشْهَرُ القَوْلَيْنِ الصِّحَّةُ. قال الرَّافِعِىُّ: الصفة الثَّالثة: كونه معلوماً، وفيها صور: إحداها: في ضمان المجهول طريقان كالطريقين المذكورين في ضمان مَا لَمْ يجب، ووجه الجَدِيد أنه إثباتُ مَالٍ في الذِّمَّة بعقد، فأشْبَهَ البَيْعَ وَالإِجَارَةِ. وإذا قلنا: بالقديم وبه قال أبو حنيفة وَمَالِك فالشَّرْطُ أن تتأتى الإحاطَة به، بأن يقول: أنا ضَامِنٌ لثمن مَا بِعْت من فُلاَن، وهو جَاهِلٌ به فإن معرفته مُتَيَسِّرَةٌ. أما إذا قال: ضمنت لك شيئاً مما لك على فُلاَنٍ فهو بَاطِلٌ لا محالة، والقولان في صِحَّة ضمان المجهول جَارِيَان في صِحَّةِ الإبْرَاءِ عَنِ المَجْهُولِ بِطَرِيقِ الأَوْلَى؛ لأن الضَّمَانَ الْتِزَامٌ، والإبراءُ إسْقَاطٌ، وذكروا لِلْخِلاَفِ في الإبراء مَأخَذَيْنِ.
أحدهما: الخلاف في صِحّة شرط البراءة من العيوب، فإن العيوب مجهولة الأنواع والأقْدَار. والثاني: إن الإِبْراء محض إسْقَاط كالإعتاق، أو هو تَمْلِيك للمديون ما في ذمته، ثم إذا ملكه سقط؟ وفيه رأيان: إن قلنا: إسقاط صَحَّ الإبراء عن المجهول، وهو قول أبي حنيفة ومالك. وإن قلنا: تَمْلِيك لَمْ يَصِح، وهو ظَاهِرُ المَذْهَبِ، وخرجوا على هذا الأَصْلِ مسائل. منها: لو عرف المشتري قدر الدَّيْن ولم يعرف المبرأ عنه، وسنذكره في الوِكَالة، فإن في الكِتَاب تعرضاً له هناك. ومنها: لو كان له دَيْن على هذا ودين على هَذَا فقال: أبرأت أحدكما إن قلنا: إنه إسْقَاطٌ صَحَّ، وأخذ بِالْبَيَانِ. وإن قلنا: تمليك لَمْ يَصِح، كما لو كان في يد كل واحد منهما عبد، فقال: ملكت أحدكما العبد الذي في يَدِه. ومنها: لو كان لأبيه دَيْن على إنْسَانٍ فأبرأه هو، ولا يعلم موت مورثه. إن قلنا: إنه إسقاط صَحَّ، كما لو قال لعبد أبيه: أعتقه وهو [لا] يعلم موت الأب. وإن قلنا: تمليك فهو كما لو بَاعَ مَالَ أَبِيه على ظَنِّ أنه حَيّ وهو ميت. ومنها أنه لا يحتاج إلى القَبُول إن جعلناه إسْقَاطاً، وإن جعلناه تمليكاً فنص ابْنُ سُرَيْجٍ أنه لا بد من القَبُول، وظاهر المذهب: أنه لا حَاجَةَ إليه؛ لأنه إن كان تمليكاً فالمقصود منه الإسْقَاط، وقد نَصَّ على هذا في كِتَاب الأَيْمَان، فإن اعتبرنا القبول ارتد بالرد، وإن لم تعتبره ففي ارتداده بالرد وَجْهَان (¬1)، وهذه المسائل مخرجة على المأخذ المذكور، أوردها صاحب "التتمة" مع أخوات لها، واحتج للرأي الذاهب إلى كَوْنِهِ تَمْلِيكاً بأنه لو قال للمديون: ملكتك ما في ذِمَّتِكَ صَحَّ، وبرئت ذمته من غَيْرِ نِيَّةٍ وقرينة، ولولا أنه تمليك لافتقر إلى نِيَّةٍ أو قرينة، كما إذا قال لعبده: ملكتك رقبتك، أو لزوجته ملكتك نَفْسَكِ يحتاج إلى النِّيَّةِ. فرع: لو جاء المغتاب إلى من اغتابه فقال: إني اغتبتك فاجعلني في حل ففعل وهو لا يدري بما اغتابه فوجهان: ¬
أحدهما: أنه يبرأ؛ لأن هذا إسقاط محض، فصار إذا كما عرف أن عبداً قطع عضواً من عبده ولم يعرف عين العضو المقطوع فعفى عن القِصَاص يصح. والثاني: لا؛ لأن المقصود حصول رضاه، والرضَا بمجهول لا يمكن، ويخالف مسألة القِصَاص؛ لأن العَفْوَ على القصاص مبني على التَّغْلِيب والسراية، وإسقاط المَظَالم غَيْر مبني عليه. الصورة الثانية: ضمان أروش الجِنَايَاتِ صَحِيحٌ إن كان دراهم أو دنانير، وفي ضمان إبل الدية إذا لم نجوز ضمان المَجْهُول وجهان ويقال: قولان: أحدهما: المنع؛ لأنها مَجْهُولَةُ الصِّفَةِ وَاللَّوْنِ. والثَّانِي: أنه صحيح أيضاً؛ لأنها معلومة السنن والعدد، والرجوع في اللون والصفة إلى غَالِبِ إِبل البَلَدِ، ولأن الضمان تِلْو الإبراء، والابراء عَنْهَا صَحِيح، هكذا الضَّمَان وهذَا الأَظْهَرُ ومنهم من قَطَعَ به، ثم إذا كان الضَّمَانُ بحيث يقتضي الرّجوع فيرجع بالحَيَوان أو بالقيمة؟ قال الإِمام: لا يمتنع أن يَجْرِي فيه الخِلاَف المَذْكُور في إقراض الحَيَوان، ولا يجوز ضَمَان الدية على العَاقِلة قبل تَمَامِ السَّنَةِ؛ لأنها غَيْرُ ثابتة بعد. الثالثة: إذا منعنا ضَمان المَجْهُول، فلو قال: ضمنت مالك على فُلاَن من درهم إلى عشرة ففيه قولان على ما رواه الغَزَالِي والصَّيْدَلاَنِي، ووجهان على ما رواه الإمام وآخرون. أحدهما: أنه لاَ يَصِح؛ لما فيه من الجَهَالة. وأظهرهما: الصِّحَّة, ولأن المَنْعَ مِنْ ضَمَانِ المَجْهُولِ لما فيه من الغَرَرِ، وإذَا ثبتت الغاية الملتزمة فقد وطن نفسه عَلَيْهَا، وانتفى الغرر. وإذا قلنا: بالصِّحَّة، وكان عليه عشرة أو أكثر، يلزمه عَشْرة إدخالاً للطريقين في الملتزم، أو ثمانية إخْراجاً لهما، أو تسعة إدخالاً للطرف الأَول (¬1)؛ لأنه مبدأ الالتزام فيه ثلاثة أوْجُه، سيعود مثلها في الإقرار، وقال في "التهذيب": والأصَحُّ الأول، ولو قال: ضمنت لك ما بين درهم وعشرة فإن عرف أن دينه لا ينقص عن عشرة صَحَّ، وكان ضامناً لثمانية، وإن لم يعرف ففي صِحَّته في الثَّمَانِية قَوْلاَنِ أَو الوَجْهَان. ولو قال: ضمنت لك الدَّرَاهِم التي لك على فُلاَن وهو لا يعرف مبلغها فهل يصح في ثلاثة لِدُخُولِهَا في اللفظ على كل حال؟ فيه وَجْهَان، كما لو قال: أجرتك كُل شَهْرٍ بدرهم، هل يصح في الشَّهْرِ الأَوَّل، وهذه المسائل بعينها جارية في الإبراء فإذَا عرفت ¬
ما ذكرنا، لم يخف عليك أن قوله في أول الركن: (ثابتاً لازماً معلوماً) ينتظم إعلام ثلاثتها بالحاء والميم والواو، وأنه يدخل في الضَّبْطِ المَذْكُور في الزَّكَاة، فيجوز ضمانها عَمّن هِيَ عَلَيْهِ، وفي تجربة الرّويَانِي ذكر وجه آخر أنه لا يجوز؛ لأنها حَقّ الله -تعالى- فأشبه الكفالة بندب الشَّاهِد لأداء الشَّهادة، وعلى الصَّحِيح هل يعتبر الإذن عَنْدَ الأَداء؟ قال: فيه وجهان: أظهرهما: الاعْتِبَار، ويجوز ضمان المنافع الثابتة في الذِّمم كالأموال. قال الغزالي: وَيَصِحُّ (و) كَفَالَةُ البَدَنِ عَنْ كُلِّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الحُضُورُ بِمَجْلِسِ الحُكْمِ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ عَبْدٍ آبِقٍ أَوْ مَنْ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ لآدَمِيِّ عَلَى الأَظْهَرِ لِأَنَّهُ حَقٌّ كَالدَّيْنِ فَلاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَالاً، وَكَذَلِكَ ضَمَانُ عَيْنِ المَغْصوبِ وَالمَبِيعِ، وَكُلُّ مَا يَجِبُ مُؤْنَةُ تَسْلِيمِهِ دُونَ الوَدِيعَةِ وَالأَمَانَاتِ، وَتَصِحُّ كَفَالَةُ البَدَنِ مِمَّنِ ادَّعى عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تَقُم عَلَيْهِ البَيِّنَةُ بالدَّيْنِ إِذِ الِحُضُورُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَمَعْنَاهَا إِلْزَامُ إِحْضَارِهِ، وَتَصِحُّ الكَفَالَةُ بِبَدَنِ المَيِّتِ إِذْ قَدْ يَسْتَحِقُّ إِحْضَارَهُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى صُورَتِهِ. قال الرَّافِعِىُّ: الكلام في هذا الموضع إلى آخر الرُّكن في كفالة البَدَن، وتسمى كفالة الوَجْه أيضاً، وإنما أوردوها في هذا المَوْضع؛ لاستغنائها عن المَضْمُون فإن الشيء المضمون قد يكون حقاً على الشَّخصِ، وقد يكون نَفْس الشَّخْص، ولفظ الكتاب في أول الباب عند ذكرنا الأركان في بعض النّسَخ وهي ستة، وذلك على عد كفالة البَدن ركناً برأسها، وكذلك أورد في "الوسيط" ركن الصيغة هو الركن السَّادِس، وهو بعض النُّسُخ وهي خَمْسَة، وركن الصِّيغَة هو الركن الخامس، وهذا أحسن. وفِقْهُ الفَصْلِ أن الشافِعي -رضي الله عنه- نص في أكثر المواضع على أن كفالة البَدَنِ صَحِيحة، وبه قال أَبُو حَنِيفة وَمَالِكٌ وأحمد -رحمهم الله- وذكر في الدَّعْوى والبينات أن كَفَالة البَدَنِ ضعيفة، وللأصحاب طريقتان: أشهرهما: وبها قال المُزَنِي وَأَبُو إسحاق: أن فيها قولين: أصحهما: الصِّحة لإطباق النَّاسِ عليها في الأَعْصار، ومساس الحاجة إليها. والثاني: المنع؛ لأنها ضمان ما لا يدخل تَحْتَ اليد، ولا يقدر على تسليمه. والثانية: القَطْع بالصِّحة، وحمل ما ذكره في الدَّعاوى على ضعفها من جهة القياس، ويتفرع على القول بصحتها مسائل وتَفْرِيعَات، يشتمل الفَصْل منها على مسألتين: إحداهما: فيمن يتكفل بِبَدَنِهِ، وتجوز الكفالة ببدن مَنْ عليه مَالٌ، ولا يشترط
العِلْم بمبلغ ذلك المَالِ؛ لأن الكَفَالَةَ بالبَدَنِ لا بِالْمَالِ. وفيه وجه: أنه يشترط بناء على أنه لو مات غرم الكَفِيل مَا عليه، ويشترط أن يكون ذَلك المَالُ بحيث لو ضمنه لَصَحَّ، حتى لو تَكَفَّلَ إنسانٌ ببدن المُكَاتَبِ للنّجُومِ التي عليه لم يصح؛ لأنه لو ضَمِنَ النّجُوم لَمْ يَصِح فالكفالة بالبَدَنِ للنجوم أَوْلَى أَنْ تَصِح، ذكره العِرَاقِيُّونَ وغيرهم. أما إذا كَانَ عليه عقوبة، فينظر إن كانت من حقوق الآدميين كالقِصَاصِ، وَحَدّ القَذْفِ، فقد نَصَّ في اللعَانِ: أنه لا يضمن رَجُلٌ في حَدِّ ولا لِعَان، وعن نقل المُزَنِي في "الجامع الكبير" أنه قال: تجوز الكَفَالَةُ بِمَنْ عليه حَقٌّ أو حدٌّ، واختلف الأصْحَاب فيه على طرق: أظهرها: ويحكى عن ابْنِ سُرَيْجٍ: أنه على قولين: أحدهما: الجَوَاز؛ لأنه حَقٌّ لاَزِمٌ فأشبه المَالَ، ولأن الحضور مُسْتَحق عَلَيْهِ فجاز التزام إحْضَاره. والثاني: المنع؛ لأن العُقُوباتِ مبنية على الدَّفعْ، فتقطع الذَّرائع المؤدية إلى تَوَسّعها، وعن الشَّيخِ أَبِي حَامِدٍ: بناء القولين على أنه إذا مَاتَ المكفول ببدنه هل يغرم الكَفِيل ما عليه من الدين؟ إن قلنا: نعم لم تصح الكفالة هاهنا, لأنه لم يمكن مؤاخذته بما عليه. وإن قلنا: لا، صَحَّت كما لو تكفل بِبَدَنٍ مَنْ عليه مَال، وقضية هذا البناء أن يكون قول التصحيح أظْهَر، وهو اخْتِيَار القَفَّال وَصَاحِبِ الكِتَابِ، وادعى القَاضِي الرّويَانِي أن المَذْهَبَ المَنْع. والطَّرِيق الثَّاني: القطع بالجواز، وحمل ما ذكره في اللّعان على الكَفَالة بِنَفْسِ الحَدّ. والثَّالِثُ: القطع بالمَنْع؛ لأنه لا تجوز الكَفَالة بِمَا عَلَيْهِ، فلا تجوز الكَفَالة بِبَدَنِهِ، رواه القَاضِي الرّوَيانِي في اللّعَانِ، وإن كانت العقوبةُ مِن حُدودِ الله -تعالى- فالمشهور أنه لاَ تَصِح الكَفَالَةُ بِبَدَنِهِ؛ لأنها للتوثيق وحدود الله -تعالى- يسعى في دَفْعِها ما أمكن، وعن أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ وَابْنِ خَيْرَانَ: طرد القولين فيه، والخلاف في هذا الباب شبيه بالخلاف في ثُبوت العقوبات بالشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ، وكتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي، هذا حكم من عليه مال أو عقوبة، وضبط الإمام والمصنف من يكفل بِبَدَنِهِ بما يدخل فيه هذان وغيرهما، فقال: حاصل كفالة البدن التزام إحضار المكفول ببدنه، وبكل من يلزمه حضوره مَجْلِس الحُكْم عند الاستعداء، أو يستحق إحضاره تَجُوز الكفالة ببدنه، ويخرج على هذا الضبط صور:
منها: الكفالة ببدن امرأة يَدَّعِي رجلٌ زوجيتها صحيحة؛ لأن الحضور مستحق عليها، وكذلك الكفالة بها لمن ثبتت زَوْجِيته، وقال في "التتمة": الظاهر أن حكم هذه الكفالة، حكم الكفالة ببدن مَنْ عَلَيْهِ القِصَاص؛ لأن المستحق عليها لا يقبل النيابة. ومنها: لو تكفل ببدن عبد آبق لمالكه عن ابْنِ سُرَيْجٍ أنه يصح، ويلزمه السعي في رده، ويجيء فيه مثل ما حَكَيْنَاه في الزَّوْجَة. ومنها: الميت قد يستحق إحضاره ليقيم الشّهُود الشهادة عَلَى صورتِهِ إذا تحملوها كذلك، ولم يعرفوا اسمه ونسبه، وإذا كان كذلك فتصح الكَفَالة بِبَدَنِهِ، ولو تكفل ببدن حي فمات فسيأتي -إن شاء الله تعالى-. ومنها: الصَّبِّي والمَجْنُون، قد يستحق إِحضارهما؟ لإقامة الشَّهادة على صورتهما في الإتلافات وغيرها، فتجوز الكفالة بها، ثم إن كفل بإذن وليهما فله مُطَالبة الوَلِيّ بِإحْضَارِهِمَا عند الحَاجَةِ، وإن كَفَل بغير إِذْنِهِ فهو كالكفالة بِبَدَنِ العاقل البَالِغ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، ومنها: قال الإمام: لو تكفل رَجُلٌ ببغداد ببدن رَجُلٍ بالبصرة فالكفالة باطلة؛ لأن من بالبصرة لا يلزمه الحُضُور ببغداد في الخُصُومَات، والكفيل فرع المكفول ببدنه، فإذا لم يجب عليه الحُضُور لا يمكن إيجاب الإِحْضَار على الكَفِيل. واعلم أن الحق الذي تجوز بسببه الكفالة، إن ثبت على المكفول ببدنه بإقرار أو بينة فذاك، وإن لم يثبت لكنه ادعى عليه فلم ينكر وسكت صحت الكَفَالَةُ أَيضاً، وإن أنكر فوجهان: أحدهما: أنها لاَ تَصِح؛ لأن الأصْلَ أن لا حق عليه، وقد تأيد ذلك بصريح إنكاره، والكفالة بِبَدَنِ مَنْ لا حق عليه بَاطِلَة. وأصحهما: الجواز؛ لأن الحُضُور مستحق عليه فجاز التزام إحْضَاره، ومعظم الكفالات في الخُصُومات إنما يتفق قَبْلَ ثبوت الحقوق، وتجوز الكفالة ببدن الغائب والمَحْبُوس وإن تعذر تحْصِيل الغَرَضِ فِي الحَالِ كما يجوز للمعسر ضَمَان المَالِ. وقال أَبُو حَنِيفَة: لا يجوز ويجب أن يكون المكفول ببدنه معيناً، فلو قال: كفلت ببدن أحد هذين لَمْ يَصِح كما لو ضمن أحد الدّينين. المسألة الثانية: في ضمان الأعيان. إذا ضمن عيناً لمالكها وهي في يَدِ غَيْرِهِ نظر إن كانت مضمونةً عليه كالمغصوب والمستعَارِ والمستام، والأمانات إذا خان فيها فله تصويران. أحدهما: أن يضمن رد أعْيَانِها. والمشهور: تخريجه على قولي كَفَالَة الأَبْدَان، ومنهم من قطع بالْجَوَازِ مع إِثْبات
الخِلاَف في كفالة الأَبْدَان، والفرق أن حضور الخصم ليس مقصوداً في نفسه وإنَّما هو ذريعة إلى تَحْصِيل المَالِ، فالتزام المقصود أولى بالصِّحَّة من التزام الذَّرِيعَة، وإن جوزنا وبه قال أَبُو حنيفة وأحمد فردّها بَرِئ من الضَّمَانِ، وإن تلفت وتعذر رَدّها فهل عَلَيْهِ قيمتها؟ فيه وجهان كالوجهين في وجوب الغُرْم على الكَفِيل إذا مات المكفول بِبَدنِهِ، فإن أوجبنا فَيَجِبْ في المَغْصُوب أقْصَى القيَم، أم قيمته يوم التَّلَف؛ لأن الكفيل لَم يكن متعدياً؟ حكى الإمام فيه وَجْهَيْنِ (¬1). ولو ضمن تسليم المبيع وهو بعد بيد البَائِع جرى الخِلاَف في الضَّمَانِ إن صححناه، وتلف انفسخ البيع، فإن لم يوف المُشْتَرِي الثَّمن لم يطالب الضَّامِن بِشَيْءٍ، وإن كان قد وفاه، عَادَ الوَجْهَان في أن الضَّامِن هل يَغْرَم؟ فإن غرمناه فيغرم الثَّمن أو أقل الأمْرَيْنِ من الثَّمَنِ وقيمة المبيع؟ فيه وَجْهَانِ أظهرهما: أولهما. والتصوير الثَّانِي: أن يضمن قيمتها لو تلفت، قال في "التهذيب": يبنى ذلك على أن المكفول ببدنه إذا مات هل يغرم الكَفِيل الدَّيْن؟ إن قلنا: نعم صح ضَمَان القِيمَة لو تلفت العَيْن، وإلا لم يَصِح، وَهُو الأَصَحُّ، وأيضاً فإن القيمة قبل تلف العَيْنِ ليست بِوَاجِبَةٍ، فيكون مَا لَمْ يجب، وإن لم تكن العين مضمونة على صَاحِب اليد كالوديعة ومال الشَّركة والمَالِ في يد الوَكِيل والوصي لم يصح ضمانها؛ لأنها غير مضمونة العين، ولا مضمون الرد، وإنما الذي يجب على الأَمين مجرد التخلية. ولو تكفل ببدن العَبْدِ الجَانِي جناية توجب المال فهو كما لو ضمن عيناً من الأعيان. ومنهم: من جَزَمَ بِالمَنْعِ، والفرق أن العَيْنَ المضمونة مستحقة ونفس العبد ليست بمستحقة، وإنما المقصود تحصيل الأَرْش من بدله، وبدله مجهول. ولو باع ثوباً بِشَيْءٍ أو دراهم معينة فضمن ضامن عهدة المبيع حتى إذا خرج مستحقاً رد عليه الثمن، وهو قائم في يد البائع فهذا من صُور ضمان الأعيان، وإن تلف في يَدِ البائع فضمن قيمته، فهو كما لو كان الثّمن في الذِّمة وضمن العُهْدَة. ولو رهن ثوباً من إنسان ولم يقبضه، فضمن رجل تسليمه لَمْ يَصِح؛ لأن ضمانه ضمان ما ليس بلازم. أما لفظ الكتاب فقد وقع في ترتيبه بعض التغيير لا عن غفلة، ولكنه اكتفى بالشرح. وقوله: (ويصح كفالة البدن) مُعلَّم بالواو. وقوله: (عن كل من وجب عليه الحضور بمجلس الحكم) هو الضبط الذي ذَكَرَه ¬
الإمَام، وقوله: (على الأظهر) أي: في من عليه عقوبة لآدمي، ولم يقصد صرف الخلاف إلى الزوجة والعبد الآبق على ما هو واضح في "الوسيط"، كما أسلفنا فيهما ما يقتضي الخِلاَف، فيجوز إعلام الزوجة والعبد بالواو. وقوله: (من عليه عقوبة لآدمي) يصح إعلامه بالألف, لأن أحمد لا يجوز الكفالة ببدنه. وقوله: (فلا يشترط كونه مالاً) ليس مسألة أخرى، بل هو تتمة وإيضاح لما سبق. وقوله: (وكذلك ضمان عين المغصوب) مُعَلَّم بالواو. قال الغزالي: وَيَخْرُجُ الكَفِيلُ عَنِ العُهْدَةِ بتَسْلِيمِهِ فِي المَكَانِ الَّذِي شَرَطَ أَرَادَهُ المُسْتَحِقُّ أَوْ أَبَاهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ دُونَهُ يَدٌ جَلِيلَةٌ مَانَعَةٌ فَلاَ يَكُونُ تَسْلِيماً، وَيَلْزَمُهُ اتِّبَاعُهُ فِي غَيْبَتِهِ إِنْ عُرِفَ مَكَانُهُ، فَإِنْ مَاتَ أَوْ هَرَبَ أَو اخْتَفَى فَالصَّحِيحُ أنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ إِنْ قَامَتْ بِهِ البَيِّنَةُ، فَإِنْ قُلْنَا: لاَ يَلزَمُهُ شَيْءٌ سِوَى الإِحْضَار فَلاَ تَجُوزُ الكَفَالَةُ دُونَ رِضَا المَكْفُولِ بِبَدَنِهِ، وَتَجُوزُ الكَفَالَةُ بِبَدَنِ الكَفِيلِ كَمَا يَجُوزُ ضَمَانُ الضَّامِنِ، فَإذَا مَاتَ المَكْفُولُ لَهُ انْتَقَل الحَقُّ إِلَى وَرَثَتِهِ عَلَى الأَظْهَرِ، وَمَهْمَا حَضَرَ بِنَفْسِهِ بَرِئَ الكَفِيلُ كَمَا لَوْ أَدَّى الأَصِيلُ الدَّيْنَ. قال الرَّافِعِيُّ: في الفَصْلِ مَسَائِل مُفَرَّعة على صِحَّة الكَفَالَة بعضُها مُصَرَّحٌ بِهِ وبعضها مشار إليه: الأولى: إن عَيَّنَ في الكَفَالَةِ مكاناً لِلتَّسْلِيمِ تَعَيَّن، وإن أطلق ففي "التتمة": أنه كما لو أطلق السَّلم ولم يعين مَكَانَ التَّسْلِيم، وقال الإِمَام وغيره: يحمل على مكان الكَفَالَة، ولا يجيء فيه ذلك الخِلاَف، وسواء جاء الخلاف أم لا فالظَّاهِر جوازه، وحمل على ذلك المكان، فلو أَتَى الكَفِيل بالمكفول به في غير المكان المستحق جَازَ قَبُولُه، وله أن يمتنع إن كان له فيه غرض بأن كان قد عَيَّنَ مَجْلِسَ الحُكْم أو بقعة يجد فيها من يعينه على خصمه فَسَلَّمَهُ الكَفِيل في مَكَانٍ آخر، وإن لم يختلف الغرض فالظاهر أنه يلزمه قبوله، فإن امتنع رفعه إلى الحاكم ليستلم عنه، فإن لم يكن حاكم أشهد عليه شَاهِدَيْنِ أنه سَلَّمَهُ إليه. الثَّانِية: يخرج الكفيل عن العُهْدَة بتسليمه في المَكَان الذي وجب فيه التسليم، طَلَبَهُ المُسْتَحِق أو لم يطلبه بل أباه بشرط أن لا يكون هناك حَائِل كَيَدِ سُلْطَانٍ أو متغلب، وحبس بغير حق لينتفع بتسليمه ويطالب الخصم، وحبس الحَاكِم بالحق لا يمنع صِحَّة التسليم، لإمكان إحْضَاره ومطالبته بالحَقّ، ولو حضر المكفول به وقال: سلمت نفسي إليك عن جِهَةِ الكَفِيلِ بَرِئَ الكَفِيلُ كما يبرأ الضَّامِنُ بأداء الأَصِيل الدَّيْن، ولو لم يسلم نفسه عن جِهَة الكَفِيل لم يبرأ الكفيل؛ لأنه لم يسلمه إليه ولا أحداً من جِهَتِهِ حتى قال
القَاضِي حسين لو ظفر به المكفول له في مَجْلِس الحُكْم وادعى عليه لم يبرأ الكفيل وكذا لو سَلَّمه أجنبي لاَ عَنْ جِهَةِ الكَفِيلِ، ولو سَلَّمَهُ عن جهة الكفيل فإن كان بإذنه فهو كما لو سلمه بِنَفْسِهِ، وإن كان بغير إِذْنِهِ فليس على المَكْفُولِ لَهُ القبول، لكن لو قَبِلَ بَرِئَ الكَفِيلُ، ولو كفل برَجُلٍ لرجلين فسلمه إلى أَحَدِهِمَا لم يبرأ عن حَقِّ الآخر كما لو ضَمِن لِشَخْصَيْنِ دينين فأدى دين أحدهما, ولو كفل رَجُلاَن لِرَجُلٍ فجاء به أحدهما وَسلَّمه إلى المكفول له، نقل صاحب "التهذيب" أنهما إن كفلا على الترتيب وقَعَ تسليمه دون صَاحِبه، سواء قال: سلمت عن صاحبي، أو لم يقل، وإن كفلا معاً فوجهان، قال المُزَنِي: يبرأ صاحبه كما يبرأ المسلم، أما إذا أَدَّى أحد الضَّامنين الدَّيْن يبرآن جميعاً، وقال ابْنُ سُرَيْجٍ والأكثرون: لا يبرأ كما لو كان بالدَّيْنِ رهنان فانفك أحدهما لا ينفك الآخر، ويخالف أداء أحدهما الدَّين فإنه يوجب براءة الأَصِيل، وإذا برئ الأصيل بَرِئَ كُلُّ ضَامِنٍ، وإن كانت المسألة بِحَالها وكفل كُلُّ واحدٍ من الكفيلين ببدن صاحبه ثم أحضر أحدهما المكفول به وسلمه فعلى ما ذكره المزني يبرأ كُلُّ واحدٍ منهما عن كَفَالَةِ صَاحِبِهِ، وكفالله الذي كفلا به، وعلى ما ذكره ابْنُ سُرَيْجٍ يبرأ المسلم عن كَفَالَةِ صَاحِبهِ وكفالة الذي كفلا به، وكما يخرج الكفيل عن العُهْدَة بالتسليم يبرأ أيضاً بإبراء المكفولَ له كما يخرج الضامن عن العهدة بأموال المضمون له، وكذا يبرأ بأموال المكفول به. ولو قال المكفول له: لاَ حَقَّ لي قبل المكفول به أو عليه فوجهان عن ابْنِ سُرَيْجٍ. أحدهما: أنه يبرأ الأَصِيل وَالكَفِيل. والثاني: أنه يراجع فإن فسر بنفي الدَّيْنِ فَذَاكَ، وإن فسر بنفي الشَّركة والوديعة ونحوهما، قُبِلَ قوله فإن كذباه حلف. الثالثة: إذا غَابَ المكفول ببدنه نظر إن غاب غيبة منقطعة، والمراد منها أن لا يعرف موضعه وينقطع خَبَرُه، فلا يكلف الكَفِيلُ بإحضاره لِعَدَم الإمكان، وإن عرف موضعه فإن كان دون مسافة القصر فعليه إحضاره لكنه يمهل مدة الذَّهَاب والإِيَاب ليتبعه، فإن مَضَت المُدَّة ولم يحضره حبس حينئذٍ، وإن كان على مَسَافة القَصْرِ فوجهان: أظهرهما: أنه كما لو كان دون مسافة القَصْرِ، وكما لو كان مال المَدْيُون غائباً إلى هذه المسافة يؤمر بإحْضَاره. الثَّانِي: أنه لا يطالب به إلحاقاً لهذه الغيبة بالغيبة المنقطعة، كما أنه لو غاب غيبة منقطعة ولو كان غائباً حين كفل، فالحُكْمُ في إِحْضَاره كما لو غاب بعد الكفالة، وما حَكَيْنَا عَنِ الإِمَامِ في كَفَالَةِ مَنْ بالبصرة جوابٌ على أنه لاَ يَلْزَم الإِحْضَار؛ بأن الكَفَالَةَ حينئذٍ لاَ فَائِدَة فِيها فبطل.
ولو مات المكفول به ففي انقطاع طلب الإحْضَار عن الكَفِيل وجهان: أصحهما: أنه لا ينقطع، بل عليه إحْضَاره ما لم يُدْفَن، إذا أراد المكفول له إقامة الشهادة على صُورَتِهِ كما لو تَكَفَّل ابتداء ببدن الميت. والثاني: ينقطع حملاً للإحْضَار الملتزم على حَالِ الحَيَاةِ فإنه الذي يَخْطُر بالبال غالباً، وهو يُطَالُب الكفِيل بِمَال؟ فيه وجهان: أصحهما: لا، وبه قال أبُو حنيفة -لأنه لم يلتزمه، وهذا كما لو ضمن ضَامِنٌ المُسَلّم فِيهِ فانقطع لا يطالب بِرَدِّ رَأْسِ المَالِ. والثَّاني: وبه قال ابْنُ سُرَيْجٍ ويحكى عن مالك: أنه يطالب؛ لأن الكفالة وَثِيقة فيستوفى الحَقّ منها إذا تَعَذَّر تَحْصَيلُه مِمَّنْ عليه كالرَّهْنِ، وعلى هذا فالمطالبة بالدَّيْنِ أو بالأقل من الدين، ودية المكفول به، فيه وجهان بناء على القولين في أن السيد يفدي العبد الجاني بالأرش أو بالأقل من الأَرْش وَقِيمَة العَبْد (¬1). وإن هرب المكفول به إلى حيث لاَ يَعْلم أو توارى فالخلاف في مطالبة الكفيل بالمال مرتب على حَالِ المَوْت، وأولى بأن لا يطالب إذا لم يحصل اليأْس من إحْضَاره، ولو تكفل ببدن رجل وشرط عليه أنه إذا عجز عن تسليمه غرم الدين، فإن قلنا: إنه يغرم عند الإطْلاق فَلاَ بَأْس، وإلا بَطلت الكَفَالة. الرابعة: ظاهر المَذْهَب أن الكَفَالة بغير رضا المَكْفُول به لاَ تَصِح، ومنهم من قال: تَصِح، والخلاف مَبْنِيٌّ على أن الكَفِيل هل يغرم عند العَجْزِ؟ إن قلنا: لا لم تصح؛ لأنه إذا تكفل بغير إذنه لا يمكنه إحْضَاره؛ إذ لا يلزمه الإجابة فلا تقضي الكفالة إلى مقصودها. وإن قلنا: نعم صحت، ويغرم المَال عند العَجْزِ فتظهر فائدة الكَفَالة، وعن صاحب "التقريب" حكايه وجه: أنها تَصِح. وإن قلنا: إنه لاَ يَغْرَم عِنْدَ العجز -وسنبينه إن شاء الله تعالى في التفريع- وتَصِح الكَفَالَة مِنْ غَيْرِ رِضَا المكفول له، ويجري في ¬
الوجه المذكور في اعتبار رِضَا المضمون له في ضَمَانِ المَالِ، قال الإمام: إذا تقرر ذلك فإن كفل برضا المكفول به، وأراد إحْضَاره بطلب المكفول له، نظر إن قال: أحضر خَضْمِي فللكفيل مطالبته بالحْضُور، وعليه الإِجَابة لا بِسَبَبِ الكفالة، ولكن لأنه قد وكله بِإِحْضَارِه، وإن لم يقل ذلك ولكن قال: اخرج عَنْ حَقِّي فهل له مطالبته المفكول به؟ فيه وجهان عن ابْنِ سُرَيَج: أحدهما: لا، كما لو ضمن بغَيْرِ إِذْنِهِ مالاً، وطلب المضمون له الضَّامِن فإنه لا يطالب الأَصِيل، وذكر على هذا أنه يحبس، واستبعده الأَئِمة؛ لأنه حبس عَلى مَا لاَ يَقْدِر عليه. والثاني: نعم؛ لأن المُطَالبة بالخروج عن العُهْدَة تتضمن التوكيل والإحْضَار، ومن هذا خرج الذي حكاه صاحب "التقريب" فإنه إذا طالب الكفيل المكفول بالحضور فتظهر الفائدة. الخامسة: لو تَكَفَّل ببدن الكَفِيل كفيل جَازَ؛ لأنه تكفل بِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ حَقّ لاِزِم، وكذا لو تكفل بِذَلِكَ الكفيل كفيل آخر، ولا حصر كما في ضَمَانِ المَالِ، ثم مهما بَرِئَ الكَفِيلُ الأَولُ برئ كل من بعده، ولو برئ الآخر لَمْ يبرأ من قبله، ولو برئ بَعْضُ الكفلاء المتوسطين برئ من بعده دون من قبله. السادسة: في مَوْتِ المكفول له ثلاثة أوجه عن ابْنِ سُرَيْجٍ. أظهرها: إبقاء الكفالة، وقيام ورثته مقامه، كما لو ضمن له المال. والثاني: أنها تنقطع؛ لأنها ضَعِيفَة فلا نحكم بثبوتها. والثالث: إن كان له وَصِي أو عليه دَيْنٌ بقيت الكَفَالة؛ لأن الوَصِي نائبه، وتمس حَاجَتُه إلى قضاء الدَّيْنِ، وإن لم يكن وَصِي ولا دين انقطعت. وقوله في الكتاب: (ويلزمه إتباعه في غيبته) يجوز إعلامه بالواو لأحد الوجهين المذكورين فيما إذا كانت الغيبة إلى مَسَافَةِ القَصْرِ وقوله: (لا يلزمه شيء) يجوز إعلامه بالميم، وكذا إعلام قوله: (يلزمه الدين) بالحاء. وقوله: (فإن قلنا: لا يلزمه شيء سوى الإحضار فلا تجوز) بالواو للوجه الذي حكاه صاحب "التقريب" أنها جَائِزةٌ دُونَ رِضَاه وإن قلنا: لا يجب على الكفيل شيء سوى الإِحْضَار. وقوله: (ومهما حضر بنفسه برئ الكَفِيل) يحتاج إلى تقييد معنى حضر وسلم نفسه عن جِهَةِ الكَفِيل.
قال الغزالي: الرُّكْنُ الخَامِسُ: الصِّيغَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: ضَمِنْتُ، وَتَكَفَّلْتُ، وَتَحَمَّلْتُ، وَمَا يُنْبِئُ عَنِ اللُّزُومِ، وَلَوْ قَالَ: أُؤَدِّي أَوْ أُحْضِرُ لَمْ يَكُنْ ضَامِناً، وَلَوْ شَرَطَ الخِيَارَ فِي الضَّمَانِ فَسَدَ، وَلَوْ عَلَّقَهُ بِمَجِيْءِ الشَّهْرِ فَسَدَ (ح)، وَلَوْ عَلَّقَ الكَفَالَةَ بِالبَدَنِ بِمَجِيْءِ الشَّهْرِ أَوْ بِوَقْتِ الحَصَادِ فَفِيهِ خِلاَفٌ لِأَنَّهُ بُنِيَ عَلَى المَصْلَحَةِ، وَلاَ يَجُوزُ تَعْلِيقُ الِإبْرَاءِ كَمَا لاَ يَجُوزُ تَعْلِيقُ ضَمَانِ المَالِ، وَلَوْ نَجَّزَ كَفَالَةَ البَدَنِ وَشَرَطَ التَّأْخِيرَ فِي الإِحْضَارِ شَهْراً جَازَ لِلْحَاجَةِ، وَلَوْ شَرَطَ الأَجَلَ فِي ضَمَانِ المَالِ الحَالِّ فَفِيهِ خِلاَفٌ، وَلَوْ ضَمِنَ المُؤَجَّلَ حَالّاً فَفِي فَسَادِ الشَّرْطِ وَجْهَانِ، فَإِنْ فَسَدَ فَفِي فَسَادِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ، وَلَوْ تَكَفَّلَ بِعُضْوِ مِنْ بَدَنِهِ صَحَّ في الكُلِّ عَلَى وَجْهٍ، وَفَسَدَ عَلَى وَجْهٍ، وَصَحَّ إِنْ كَانَ العُضْوُ لاَ يَبْقَى البَدَنُ دُونَهُ عَلَى وَجْهٍ وإِلاَّ فَلاَ. قال الرَّافِعِىُّ: المقصود، الكلام في صيغة الضَّمَان، وما يقترن بها من الشّروطِ والتعليقات، وفيه مسائر نضرب فيها كلُ واحد من ضَمَان المَال، وكفالة البَدَنِ بِسَهْم. الأولى: لاَ بُدّ من صيغةٍ دَالةٍ على التزام كقوله: ضمنت لَكَ مَا عَلَى فلان، وأنا بهذا المَالِ أو بإِحْضَار هذا الشَّخْص كَفِيل أو ضَامِن أو زَعِيم أو حَمِيل أَوْ قَبِيل، وفي "البيان" وجه في لفظ القبيل أنه لَيْسَ بِصَرِيحٍ، ويطرد في الحَمِيل وما ليس بِمَشْهُورٍ في العقد، ولو قال: خل عن فلان والدَّيْن الذي لَك عندي فهذا لَيْسَ بِصَرِيح في الضّمان خلافاً لأبي حنيفة، فيما رواه صاحب "البيان"، وذكره وجهين فيما إذا قال: دين فلان إليّ (¬1)، ولو قال أؤدي المال أو أحضر الشَّخص فهذا ليس بالتزام، وإنما هو وَعْد، ولو كان قد تكفل بِبَدنِ إنسان فابرأَه المكفول له، ثم وجده ملازماً للخَصْم، فقال: خله، وأنا على ما كُنْتُ عليه من الكَفَالة حكم ابْنُ سُرَيْجٍ بكونه كفيلاً؛ لأنه إما مبتدئ بالكَفَالة بهذا اللَّفظ أو مخبر عن كفالة واقعة بعد البراءة. الثَّانية: لو شرط الضَّامِن الخيار لنفسه لَمْ يَصِح؛ لأنه ينافي مَقصود الضَّمَان، ولا حَاجَةَ إِلَيْهِ، فإن الضَّامن على يقين من الغُرْم، ولو شرط الخِيَار للمضمون له لَمْ يَضُر، لأن الخيرة في الإبراء، والمُطَالبة إليه أبداً، وكذا الحُكْم في الكَفَالَةِ وعن أَبِي حَنِيفَة أن شرط الخِيَار لا يبطلها لكنه يَلْغُو. ولو علق الضَّمان بوقت أو غيره فقال: إذا جاء رأس الشَّهْر فقد ضمنت أو إن لم يؤد مالك غداً، فأنا ضَامِن لَمْ يَصِح؛ لأنه عقد من العقود فلا يقبل التَّعْلِيق كالبيع ¬
ونحوه، وهذا كما أنه لا يقبل التأقيت بأن يقول: أنا ضَامِن إلى شَهْر فإذا مضى ولم أغرم فأَنَا بَرِئ، وعن ابْنِ سُرَيْجٍ أنه إذا جاز على القَدِيم ضمان المَجْهُول، وما لم يَجِب جَازَ التَّعْلِيق؛ لأن من ضرورة الضَّمَان قبل الوُجوب تعليق المَقْصُود بالوُجُوبِ, وبه قال أَبُو حنيفة فيما رواه صاحب "البيان"، قال الإمام: ويجيء في تَعْلِيق الإبراء القَوْلاَن بِطَرِيقِ الأَوْلَى، فإن الإِبْرَاء إسْقَاط، قال: وكان لا يمتنع من جِهَةِ القياس المسامحة به في الجديد أيضاً؛ لأن سبب امتناع التعليق في العقود المشتملة على الإيجاب والقبول خروج الخِطَاب، والجواب بسببه عن النظم اللاَّئِق بهما، فإذا لم يشترط فيه القبول كان بمثابة الطَّلاق والعتاق. فإذا فرعنا على القديم فلو قال: إذا بعت عَبْدَك بألف فأنا ضَامِن للثَّمَنِ، فباعه بَألْفَيْنِ فعن أَبِي يُوسف أنه يصير ضَامِناً لألف؛ لأن مَقْصُود الضَّامِن أن الزِّيَادَةَ على الألف غير مُلْزمة، ولا غَرَضَ له في قَدْرِ الثمن، وجعله صاحب "التقريب" وجهاً لنا، قال ابْنُ سُرَيْجٍ: لا يكون ضامناً لِشَيْء؛ لأن الشَّرْطَ وهو البيع بألف لم يتحقق ولو باعه بخمسمائة ففي كونه ضَامِناً لها الوَجْهَان. ولو قال: إذا أقرضته عَشْرة فإنا ضَامِنٌ لَكَ، فأقرضه خَمْسَةَ عَشَرَ فهو ضَامِنٌ لعشرة على الوجهين؛ لأن من أقرض خَمْسةَ عَشَرَ فقد أقرض عشرة، والبيع بخمسة عشر ليس بيعاً بعشرة، وإن أقرضه خَمْسة فعن ابْنِ سُرَيْجٍ تسليم كونه ضامناً لها، قال الإمام: وهو خلاف قِيَاسه؛ لأن الشَّرْطَ لم يتحقق، ولو علق كفالة البَدَنِ لمجيء الشَّهْرِ فإن جوزنا تعليق ضَمَان المَالِ فهذا أولى، وإن منعنا منه ففيه وجهان كالخلاف في تعليق الوكالة، والفرق أن الكفالة مبنية على المَصْلَحَة والحَاجة، فتتبع فيها الحَاجة، وإن علقها بحصاد الزَّرْعِ فالوجهان بالترتيب، وأولى بالمنع لانضمام الجهالة لوقت حُصُوله إلى التعليق، فإن عَلَّقها بقدوم زيد فالوجهان بالترتيب، وأولى بالمَنْعِ للجهل بأصْلِ حصول القُدُوم، والحصاد يحصد تقدم أو تأخر، فإن جوزنا فإذا وجد الشَّرط المعلق عليه صَارَ كَفِيلاً، وهذنه الصورة وترتيبها عزاها الإمام إلى ابْنِ سُرَيْجٍ. ولو أقت كفالة البَدَن فقال: أنا كفيل به إلى شَهْرٍ، فإذا مضى برأت ففيه وجهان، وفي "التهذيب" قولان: أظهرهما: المنع كما في ضَمَانِ المَالِ، ولو أنجز الكفالة وشرط التَّأْخِير في الإِحْضَار شهراً جَازَ لِلْحَاجة، وكذا في الوكالة وتوقف الإمام فيه من جهة أن المعتمد في الباب الحُضور، والحضور حق نَاجِز، إذ المدعى مهما أراد أحضره، فكان شرط التأخير فيه كَشَرْطِ التَّأجِيل في ضَمَانِ المَالِ الحَالِّ، وسنذكره على الإثر -إن شاء الله تعالى- وسياق المصنف ما رآه وجهاً في "الوسيط"، فأعلم بذلك قوله: هاهنا (جاز للحاجة)
بالواو. وإذا قلنا بظاهر المَذْهب، فلو أحضره قبل مضي المدة وسلمه وامتنع المكفول له من قبوله، فينظر هل له غرض من الامتناع مثل أن تكون بينته غائبة أو دينه مؤجلاً أم لا؟ وحكم القسمين على ما ذكرنا فيما إذا سلمه في غير المَكَان المُعَيَّن، ولو شرط لإِحْضَاره أجلاً مجهولاً كالحصاد، ففي صِحَّة الكفالة وَجْهَان نقلهما العراقيون. وأصحهما: المنع، وبالثاني: قال أبو حنيفة. الثالثة: لو ضمن الدّين الحالّ حالاً، أو أطلق لَزِمَه الدَّيْن حَالاًّ، وإن ضمن الدين المُؤَجَّل مؤجلاً بذلك الأَجل أو أطلق لزمه كذلك، فإن ضمن الحَال مؤجلاً، إلى أجلٍ معلومٍ فوجهان: أحدهما: أنه لا يصح الضمان، لكون الملتزم مخالفاً لما عَلَى الأصِيل. وأصحهما: الصحة؛ لأن الضَّمَان تبرع، فيحتمل فيه اختلاف الدينين في الكيفية لِلْحَاجَةِ، وعلى هذا فالذي يوجد لعامة الأصْحَاب أنه يثبت الأَجَل، ولا يطالب إلا كما ألزم ولا يقول: التحق الأجل بالدَّيْنِ الحَالّ، وإنما يثبت عليه مؤجلاً ابتداء، ولا يبعد الحلول في حق الأَصِيل دُونَ الكَفِيل، كما لو مات الأَصِيل وعليه الدَّيْنُ المؤجل، وادعى الإمام إجماع الأصْحَاب على أن الأَجَلَ لاَ يثبت، وأن في فساد الضَّمَانِ لفساده وجهان: أظهرهما: الفساد، ولو كان الدين مؤجلاً إلى شَهْرٍ، فضمنه مؤجلاً إلى شهرين كما لو ضمن الحَال مؤجلاً، ولو ضمن المؤجل حالا والتزم التبرع بالتعجيل مضموماً إلى التبرع بأَصْلِ الضمان فوجهان، كما في عكسه، والأصح الصِّحّة، وعلى هذا فَهَلْ عليه الوَفَاء بشرط التَّعْجِيل؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم كأصْلِ الضمان. وأشبههما: لا، كما لو التزم الأَصِيل التعجيل، وأيضاً، فإن الضَّامن فرع الأَصِيل، فينبغي أن يكون بالذِّمَّة مضاهياً لما على الأَصِيل، وعلى هذا فالأَجَل يثبت في حَقِّه مقصوداً أم تبعاً لقضاء حق المُشَابَهة، نقل في "النهاية" فيه وجهين، وتظهر فائدتهما فيما لو مات الأَصِيل والحالة هذه، وعكس صاحب "التقريب" فقال: في صحة شَرْط التعجيل وجهان، فإن فسد ففي إفساد الضَّمان وجهان، وهو قريب وله نظائر في الشَّرْطِ الفاسد. ولو ضمن المؤجل إلى شَهْرَيْنِ، مؤجلاً إلى شهر كما لو ضَمِن المؤجل حالاً: وقوله في الكتاب: (ولو شرط الأجل في ضمان المال الحال ففيه خلاف)، أي في إفْسَاده الضمان، هذا إذا راعينا طريقة الأكثرين، وحكى في "الوسيط" وجهين في ثبوت الأجل، ووجهين في فَسَادِ الضمان به إذا لم يثبت الأجل، كما حكاهما الإمام
فيمكن على طريقته أن يريد بقوله: (ففيه خلاف)، أي في ثبوته. الرابعة: لو تكفل ببدن فلان أو نفسه أو جِسْمِه صَحّ، وكذا لو قال: بروحه، ذكره في "التهذيب" ولو تكفل بعضو من أعضائه ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: وبه قال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ والقاضي أَبُو الطَّيِّبِ، واختاره ابْنُ الصَّبَّاغِ: أنه بَاطِلٌ، كما لو أَضاف البيع والإجارة إلى بَعْضِ الأعضاء، ويخالف الطلاق والعتاق لأنهما مبنيان على الغَلَبة والسراية. والثاني: أنه يصح؛ لأنه لا يمكن تسليمه بحاله إلا بتسليم الكل، ويجوز أن يحتمل فيه ما لاَ يحتمل في البيع ونحوه للحَاجَة. وثالثها: إن كان عضواً لا يبقى البَدَن دونه، كالرأس والقلب والكَبِد والدماغ صَحّ، وإن كان مما يبقى البَدَن دونه كاليد والرجل لَمْ يصح، قال في "التهذيب": وهذا أصح. رابعها: إنما يعبر به عن جَمِيع البدن كالرأس والرقبة إذا تكفل به صَحَّ، وما لا يعبر به عن الجميع كاليد والرجل، إذا أضاف به لم يَصِح، أورده القَفَّالُ فِي "شرح التلخيص"، وقال: إنه الأصح، وفي قوله: لا يعبر باليد عن الجملة في أحد الوجهين كما سيأتي في موضعه، والوجه بمثابة سائر الأعضاء فيما أورده المعظم، وفي "النهاية" تصح الإضافة إليه جزماً؛ لشهرة هذا العَقْد بكفالة الوَجْهِ، والجزء الشَّائع كالنصف والثلث كالجزء الذي لا يبقى البَدَن دونه، فيجيء فيه وَجْهَان (¬1) والله أعلم. ونختم الباب بفروع هي من بابه وتُراعي الاختصار. ضمن عن رجل ألفاً، وشرط للمضمون له أن يدفع إليه كل شَهْرهِ درهماً، ولا يحسبه من مَالِ الضَّمَان فالشرط باطلٌ، وفي بطلان الضَّمَان وجهان (¬2) ذكرهما القاضي ابْنُ كِجٍّ. ولو كفل ديناً أو كفل ببدن إنسان ثم ادعى أنه كفل ولا حق على المضمون عنه، أو المكفول به، فالقول قول المكفول له؛ لأن الضَّمان والكفالة لا تكون إلا بَعْدَ ثبوت الحَقِّ، وهل يحلف أم يقبل قوله من غير يمين؟ فيه وجهان عن ابْنِ سُرَيْجٍ، فإن قلنا بالأول نكلَ حَلَفَ الكَفِيلُ وسقطت المطالبة عنه، ولو أقر أَنَّه ضَمِن أوكفل وأنكر ¬
الباب الثاني في حكم الضمان الصحيح
المضمون له الشرط بني ذلك على تَبْعِيض الإِقْرَار. إن قلنا: لا يتبعض، فالقول قول الضَّامِن مع يمينه وإن قلنا: يتبعض فَالقَوْلُ قول المَضْمُونِ له. ولو ادعى الكفيل أن المكفول به بَرِئ من الحَقِّ وارتفعت الكفالة، وأنكره المكفول له فالقول قول المكفول له مع يمينه، فإن نكل وحلف الكفيل بَرِئ، وإن لم يبرأ بيمينه المكفول به. ولو قال: تكفلت ببدن زَيْدٍ فإن جئتك به وإلا فأنا كَفِيل ببدن عمرو، لم يجز، أما كفالة زَيْدٍ فلأنه لم يلتزمها، وكأنه قال: كفلت ببدن هذا أو ذاك، وأما كفالة عمرو، فبناء على أنها مُعَلَّقة. ولو قال قائل للمكفول له: أبرئ الكفيل وأنا كفيل بمن تكفل به فعن ابْنِ سُرَيْجٍ أنه يصح, لأنه نقل الضَّمَان إلى نفسه، كما لو أحال الضَّامن المضمون له على غيره، وقال الأكثرون: لاَ يَصِح, لأنه تكفل بشرط إبراء الكَفِيل وأنه فاسد، والكفالة ببدن الأجير المعين صَحِيحة، ومن كرم الكفيل عند العَجْزِ عن التسليم لم يصححها؛ لأنه إذا مات انفسخ العقد، وسقط الحق قاله في "التتمة" والله أعلم. البَابُ الثَّانِي فِي حُكْمِ الضَّمَانِ الصَّحِيحِ قال الغزالي: وَلَهُ أَحْكَامٌ: الأَوَّلُ -يَجُوزُ (م) مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعِ الطَّلَبَةِ عَنِ المَضْمُونِ عَنْهُ، وَمَهْمَا أُبْرِئَ الأَصِيلُ بِرَئَ الكَفِيلُ، وَإِنْ أُبْرِئَ الكَفِيلُ لَمْ يَبْرَإِ الأَصِيلُ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلاً فَمَاتَ الأَصِيلُ لَمْ يُطَالِبَ الكَفِيلُ لِأَنَّهُ حَيٌّ. قال الرَّافِعِيُّ: مقصود الباب بيان ما يترتب على الضَّمَانِ الصَّحِيح من الآثار والأحكام، فمنها: أنه يتجدد للمَضْمون له جوازُ مطَالبة الضَّامن، ولا تنقطع مطالبته عن المضمون عنه، بل يتخير في مطالبتهما ومطالبة وَاحِدٍ منهما؛ لأن غرض العقد التوثيق. وعن مالك -رضي الله عنه- أنه لا يطالب الضَّامن إلا إذا عَجَزَ عن تَحْصِيلِه من الأصيل، لغيبة أو إعسار، هذا إذا أطلق الضَّامن. أما إذا ضَمِن بشرط براءة الأَصيل ففي صِحَّته وجهان عن ابْنِ سُرَيْج: أشبههما: المنع؛ لأنه قرن به شرطاً يخالف مقتضى الضَّمان. والثاني: يصح، كما روى أنه لما ضمن أبو قتادة -رضي الله عنه- الدينارين عن الميِّت، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "هُمَا عَلَيْكَ حَقُ الْغَرِيمِ وَبَرِئَ الْمَيِّتُ، فَقَالَ: نَعَمْ فَصَلَّى
عَلَيْهِ" (¬1). فإن قلنا: بالصِّحَّة، ففي صِحَّة الشرط وجهان، يشتمل الخلاف في براءة المُحِيل إذا أحال على من لاَ دَيْن عليه، وصَحَّحْنَا هذه الحوالة وقد مَرَّ ذَلِك، وقد يعكس الترتيب فيقال في صِحَّة الشرط: إن فَسَدَ ففي فَسَاد الضَّمَانِ وجهان، وإذا صَحَّحْنَا العقد والشَّرط بَرِئَ الأَصِيل، وكان للضَّامن الرجوع عليه في الحَالِ إن ضمن بإذنه؛ لأنه حصل براءة ذمته كما لو أدى ومهما أبرأ مستحق الدَّيْن الأصيل برئ الضِّامن لسقوط الحق كما لو أدى الأصيل الدين أو أحال الأصيل مستحق الدَّيْن على إنسان أو أحال المستحق غَرِيمه عليه، وكذلك يبرأ ببراءة ضَامِن الضَّامن، ولو أبرأ الضَّامن لم يبرأ الأَصِيل؛ لأن إبراءه إسقاط للوثيقة، وذلك لا يقتضي سُقوط أَصْلِ الدَّيْنِ كَفَكِّ الرَّهْن، ويبرأ بإبراء المَضْمُونِ لَهُ، ولا يبرأ الضَّامن بإبراء ضَامِن الضَّامن، كما ذكرنا في الضَّامن والأَصِيل. ولو ضمن ديناً مؤجلاً فمات الأَصِيل وحلَّ عليه الدَّيْن لم يحل على الضَّامِنِ؛ لأنه حَيٌّ يرتفق بالأَجلِ، وخرج ابْنُ القَطَّانِ: أنه يحل على الضَّامِن أيضاً لأنه فرع الأَصِيل، وعلى المَذْهَب لو أخر المستحق المطالبة كان للضَّامِنِ أن يطالبه بأخذ حقه من تَرِكَةِ الأَصِيل في الحال، أو إبراء ذمته؛ لأنه قد تهلك التركة، فلا يجد مرجعاً إذا غرم، وعن رواية الشيخ أَبِي عَلِيُّ وجه: أنه ليس للضَّامِن هذه المُطَالبة، ولو مات الضَّامن حل عليه الدين، فإن أخذ المستحق المال من تركته لم يكن لورثته الرجوع على المَضْمُون عنه قبل حُلُولِ الأَجل، ونقل القَاضِي ابْنُ كِجٍّ وجهاً آخر أنه لا يَحِل على الضَّامن كما لا يحل على الأَصِيل. قال الغزالي: الثَّانِي: أَنَّ لِلضَّامِنِ إِجْبَارَ الأَصِيلِ عَلَى تَخْلِيصِهِ إِنْ طُولِبَ، وَفِي مُطَالَبَتِهِ بِالتَّخْلِيصِ قَبْلَ أنْ يُطَالَبَ خِلاَفٌ، وَكَذا في قُدْرَتِهِ عَلى المُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ المَالِ اِلَيْهِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ بِنَفْسِهِ فَيَخْرُجَ عَنِ العُهْدَةِ. قال الرَّافِعِيُّ: أصل مسائل الفَصْل وجهان، خرجهما ابْنُ سُرَيْجٍ في أن مجرد الضَّمَان هل يثبت حقاً للضَّامن على الأَصِيل، ويوجب علقة بينهما أم لا؟ ففي وجه يوجب, لأنه اشتغلت ذمته بالحَقِّ كما ضمن، فليثبت له عوضه على الأَصِيل، وفيه وجه لا؛ لأنه لا يفوت عليه قبل الغُرْم شيء، فلا يثبت له شَيْءٌ إلا بالغُرْمِ. إذا عرفت ذلك، فلو طَالَبَ المَضْمُون لَهُ الضَّامِن بأداء المَالِ كان له أن يُطَالِب ¬
الأصيل بتحصيله إن ضَمِن بالإِذْنِ، كما أنه يغرمه إذا غرم، وعن القَفَّالِ وجه: أنه لا يملك مطالبته، والمشهور الأول، وهل يطالبه التخليص قبل أن يُطَالب؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ كما لو استعار عبد الغير للرّهن ورهنه، كان للمالك المطالبة بالفَكِّ. وأصحهما: لا؛ لأنه لم يغرم شيئاً ولا توجهت عليه طلبة، ويخالف الرَّهْن فإنه محبوس بالدَّينِ، وفيه ضَرَرٌ ظَاهِرٌ، ومعنى التخليص أن يؤدي دين المضمون له ليبرأ ببراءته الضَّامن، وفي تمكن الضامن من تغريم الأَصِيل قبل أن يغرم حيث ثبت له الرُّجُوع وجهان ذكرهما الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ والإمام بناء على الأَصْلِ المذكور، إن أثبتنا له حقاً على الأَصِيلِ بمجرد الضَّمَانِ فله أخْذُه، وإلاَّ فَلاَ. وقوله في الكتاب: (وكذا في قدرته على المُطَالبة بتسليم المال إليه، حتى يؤديه بنفسه فيخرج عن العهدة) محمول على هذه الصورة، وأنه يستظهر بالمأخوذ ويؤدي الدَّيْن، إما منه أو من غيره، فيخرج عن العُهْدَة، وظَاهِرُ اللَّفْظِ يشعر بأخذه منه ليباشر أداءه نيابة عنه، ويستفيد بِعَيْنِ البراءة، لكن الحمل عليه بعيد لِبُعْدِ الخِلاَفِ في الإخبار على الإِنَابة، وأيضاً فإنه ليس له ذكر في كُتُبِ الأئمة، ولكن الوَجْهَان في تمكينه من التَّغْرِيم مفرعاً على أن ما يأخذه عوضاً عما يقضي به دَيْن الأَصِيل هل يملكه؟ فيه وَجْهَان بناءً على الأَصُلِ السَّابِقِ، فإن دفعه الأصيل ابتداء من غير إجْبَارٍ ومطالبة، فإن قلنا يملكه فله التَّصرف فيه كالفقير إذا أخذ الزَّكَاة المُعَجَّلة، لكن لا يستقر ملكه عليه إلا بالغُرْم، حتى لو أبرأه المستحق كان عليه رَدُّه ما أخذه، كرد الزَّكَاة المُعَجَّلة إذا هَلَكَ المَالُ قبل الحَوْل فإن قلنا: لا يملكه فعليه رَدُّه ولو هلك عنده ضمن كالمقبوض بالشراء الفاسد، ولو دفعه إليه وقال: اقض به ما ضمنت عنِّي، فهو وكيل الأصِيل والمال أَمَانةٌ في يده، ويخرج على ذَلِك الأَصْل صُوَر أخرى: منها: أن الضَّامن هل يحبس الأَصِيل إذا حبس المَضْمُون لَهُ الضَّامِن؟ إن أثبتنا العلقة بين الضَّامن والأَصِيل، يجوز للضَّامِن حبسه، وبه قال أبُو حَنيفَة، وإلا فَلاَ، وهو الأَصَحّ. ومنها: لو أبرأ الضَّامن الأَصِيل عما سيغرم، إن أثبتنا العُلْقَة في الحال صَحَّ الإبراء، وإلّا خرج على الإبراء عَمَّا لَمْ يَجِب، ووجد سبب وجوبه. ومنها: لو صالح الضَّامن الأَصِيل عن العشرة التي سيغرمها على خَمْسَة إن أثبتناها في الحال صَحَّ الصُّلْحُ, لأنه أخذ عوض بعض الحَقّ، وأبرأ عن البَاقِي وإلا لَمْ يَصِح، ومنها: لو ضمن ضَامِنِ عن الأصيل للضَّامِنِ ففي صحته الوجهان وكذا لو رهن الأصيل عند الضامن شيئاً مِمَّا ضَمِن، والأصَحّ في الكُلِّ المنع، ولو شرط في ابتداء الضمان أن يعطيه الأصيل ضامناً، ففي صحة الشرط الوجهان إن صَحَّ فإن وفّى الأصيل وأعطاه
ضَامِناً فَذَاك، وإلا فله فسخ الضمان، وإن فسد فسد به الضمان على أصح الوجهين. والله أعلم. قال الغزالي: الثَّالِثُ: الرُّجُوعُ وَمَنْ أَدَّى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَرْجِعْ، وَإِنْ أَدَّى بِشَرْطِ الرُّجُوعِ وَإِذْنِهِ رَجَعَ، وَإِنْ أَدَّى بِالإِذْنِ دُونَ شَرْطِ الرُّجُوعِ فَوَجْهَانِ، وَالضَّامِنُ يَرْجِعُ إِنْ ضَمِنَ وَأَدَّى بِالإِذْنِ، وَإِنْ اَسْتَقَلَّ بِهِمَا لَمْ يَرْجِعْ، وَإِنْ ضَمِنَ دُونَ الإِذْنِ وَأَدَّى بِالإِذْنِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ يَرْجِعُ، وَإِنْ ضَمِنَ بِالإِذْنِ وَأَدَّى بِغَيْرِ الإِذْنِ عَنْ مُطَالَبَةٍ فَيَرْجِعُ. قال الرَّافِعِىُّ: الغرض الآن بيان المَوْضع الذي يستحق الضَّامِن الرّجُوع على الأَصِيل بالمَغْرُومِ والذي لا يستحق، وقَدَّم عليه الكلام في أن من أَدَّى دَيْنَ الغَيْرِ من غير ضمان متى يرجع؟ وتفصيله أنه إن أدَّاه بغير إِذْنِ المَدْيُونِ لم يكن له الرّجُوع؛ لأنه مُتَبَرِّع بِمَا فَعَلَ، ويخالف مَا لَوْ أوجر طَعَامَهُ للمضْطَر حيث يَرْجِع عليه، وإن لم يأذن المُضْطَر لأنه ليس متبرعاً، بل يجب عليه إطْعَام المضطر استبقاء لمهجته ويخالف الهبة، فإن في اقتضائها الثَّواب، خلاف يذكر في موضعه, لأن الهِبَةَ متعلقة باختيار المُتَّهِبِ، ولا اختيار للمَدْيُون هاهنا. وعن مالك يثبت له الرّجُوع، إلا إذا أدى العدو دين العدو، فإنه يتخذه ذريعة إلى إيذائه بالمُطَالَبَةِ، وإن أداه بِإِذْنِ المديون، فَإِنْ جَرَى بينهما شَرْط الرجوع ثَبَتَ الرّجُوع، وإلا فَوَجْهَان: أحدهما: لا رجوع؛ لأنه لم يوجد منه إلا الإذْن في الأَدَاء، وليس من ضَرُورة الأداء الرّجوع. وأصحهما: الرجوع؛ بناءً على المُعْتَادِ في مثله من المُعَامَلاَتِ، وأفاد الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ هاهنا كلامين: أحدهما: تقريب هذا الخِلاَف من الخلاف في أن الهبة المُطْلَقة هَلْ تقتضي الثَّوَابَ وترتيبه عليه؟ والحكم بالرجوع أولى من الحُكم بالثواب، ثم لأن الهِبَةَ مصرحة بالتبرع والأداء خلافه، ولأن الواهب مبتدئ بالتبرع، والأداء هاهنا مستوف بالاستدعاء الذي هو كالقرينة المشعرة بالرّجوع. والثاني: أن في الهِبَةِ فَارقاً بين أن يكون الوَاهِبِ ممن يطمع مثله في ثَوابِ مثل الملتهب أو لا يكون، فيخرج وَجْةٌ ثالث مثله هاهنا. وأما الضَّامِن فله أربعة أحوال: أولها: أن يضمن بإذن الأَصِيل ويؤدي بِإِذْنِهِ، فيرجع عليه لأنه صَرْفُ مَاله إلى
منفعة الغَيْرِ بأمره، فأشبه ما إذا قال: اعلف دابتي فأعلفها، وعن أبي حَنِيفة: أنه يرجع، إذا قال: اضمن عني وأدّ عني. أما إذا لم يقل: عَنِّي فلا يرجع، إلا إذا كان بينهما مُخَالَطَةُ شَرِكَةٍ، أو زَوْجِيَّةٍ أو نحوهما, ولا فرق في ثبوت الرّجوع بين أن يشترط الرّجوع أو لا يَشْتَرِط، قال الإمام: ويحتمل في القياس أن ينزل الإذْن في الضَّمَان، والأداء منزلة الإذن في الأداء من غير ضَمَانٍ, حتى يقول: إن شرط الرجوع ثبت، وإلا فَعَلى الخِلاَف، وفي الكلام لصاحب "التقريب" رمز إليه. وثانيها: أن يضمن ويؤدي بغير إذْنِهِ، فلا رجوع له على الأصيل، خلافاً لمالك وأحمد. واحتج الأصحاب بحديث عليّ وأبي قتادة بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- صَلَّى عَلَى المَيِّتِ بَعْدَ ضَمَانِهِمَا, ولو كان لهما الرجوع لما صَلَّى لبقاء الدَّيْنِ، وأيضاً فإنه عليه السلام قال: "الآنَ بَرَدَتْ جِلْدَتُهُ عَنِ النَّارِ" (¬1). ولو بقي الدَّيْن لما حصل التبريد. وثالثها: أن يضمن بغير إذنه ويؤدي بإذنه، ففي وجه يرجع لأنه إسْقَاط الدَّيْنِ عن الأَصِيل بإذنه. والأصح: المنع؛ لأن اللّزُوم بالضَّمَانِ ولم يأذن فيه، ورتب الوَجْهَيْنِ في "النهاية" على الوَجْهَيْن فيما إذا أَدَّى دين الغَيْرِ بإذنه من غير ضَمَانٍ، ومن غير شَرْطِ الرجوع، وقال: هذه الصورة أولى بأن يمتنع الرجوع؛ لأن الإذن في الأداء بعد اللزوم بالضمان في حكم اللغو، وأبدى احتمالين فيما إذا أذن في الأداء بِشَرْطِ الرّجُوعِ والحَالَة هذه. أحدهما: يرجع، كما لو أذن في الأداء بهذا الشَّرْط من غير ضَمَان، ووجه الثَّانِي أن الأداء استحق الضَّمَان، والمستحق بلا عوض لاَ يجُوز أن يقابل بعوض كَسَائِرِ الحُقُوق الواجبة (¬2). والرَّابعة: أن يضمن بالإذْن ويؤدي بغير الإذْن، ففيه وجهان عن ابْنِ سُرَيْجٍ، ووجه ثالث عن أبي إسحاق أحد وجهي ابْنِ سُرَيْجٍ وهو الأصَح المَنْصُوص: أنه يرجع؛ لأن الأصْل في البَابِ الالتزام، وقد صادفه الإذْن فليلتقي به. والثاني: لا يرجع؛ لأن الغرم حَصَل بِغَيْرِ إِذْنِ الأَصِيلِ، وِإنَّما لم يقصد إلا التوثيق بالضَّمَان. ¬
والثالث: وهو الذي ذكره أبو إسحاق أنه إن أدى من غَيْرِ مُطَالَبَةٍ أو عن مُطَالبه ولكن أمكنه مراجعة الأَصِيل واستئذانه فلم يفعل، لمي ثبت له الرجوع؛ لأنه لم يكن مضطراً إلى الأَدَاء، وإن لم يمكن مراجعته لكونه غائباً أو محبوساً، فله الرجوع. وأما ما ذكره في الكتاب: أنه إن كان الأداء عن مطالبته فيرجع، فإن ابتدأ فوجهان، فإن فقهه ما ذكرناه في الوَجْهِ الثالث إلا أنه رَأَى الرّجُوعَ فيما إذا كان الأداء عن مُطَالَبَةٍ كالظاهر المَقْطُوع به، وتخصيص ذكر الخِلاَف بما إذا ابتدأ بالأداء. واعلم أن الفرق غير منوط بمجرد كونه مطالباً أو مبتدئاً، بل المطالب الذي يحضر في المُرَاجعة كالمبتدئ على ما سبق، فليضم في قوله: (عن مطالبة العبد المحتاج إليه). فرع: حوالة الضَّامن رَبّ الدَّيْنِ على إنسان، وقبوله حوالة رَبّ الدَّيْنِ عليه ومصالحتهما عن الدَّيْن على عوض، وصيرورة الدَّيْنِ ميراثاً للضَّامِن، كالأداء في ثبوت الرّجوع وعدمه. قال الغزالي: وَلَوْ صَالَحَ المَأْذُونَ فِي الأَدَاءِ بِشَرْطِ الرُّجُوعِ عَلَى غَيْرِ جِنْسِ الدَّيْنِ رَجَعَ عَلَى الأَصَحِّ، وَلَوْ صَالَحَ الضَّامِنَ عَنْ أَلْفٍ بِعَبْدٍ يُسَاوِي تِسْعِمائةٍ يَرْجِعُ بِتِسْعِمَائَةٍ عَلَى وَجْهٍ، وَعَلَى وَجْهٍ بِالأَلْفِ، لِأَنَّ المُسَامَحَةَ جَرَتْ مَعَهُ، وَلَوْ سُومِحَ الضَّامِنُ بِحَطِّ قَدْرٍ مِنَ الدَّيْنِ أَوْ صَفَتِهِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَّا بِمَا بَذَلَ. قال الرَّافِعِيُّ: قد بان في الفَصْل السابق مَوْضِع أصل الرّجُوع والنظر بعده فيما يرجع به، فإن كان ما دفعه إلى رَبِّ الدَّيْنِ من جِنْسِ الدَّيْنِ، وعلى صفتِه فَرَجَعَ به، وإن اختلف الجنس، فالكلام في المَأْذون في الأَداء من غير ضَمَان ثم في الضامن أما الأول فالمأذون بِشَرْطِ الرجوع أو دونه إذا أثبتنا له الرُّجُوع لو صالح رَبّ المال على غير جِنْسِهِ فهل له الرجوع أو لا؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحها: نعم؛ لأن مقصوده أن يبرئ ذِمَّته، وقد فَعَل. وثانيها: لا؛ لأنه إنما أذن في الأداء دون المُصَالَحَةِ. وثالثها: الفرق بين أن يقول: أَدّ ما عليّ من الدَّنَانِير مثلاً فلا يرجع، وبين أن يقتصر على قوله: أد دَيْنِي، أو ما عليّ فيرجع. فإن قلنا بالرّجوع فيما يرجع حُكْمُه؟ ما يذكر في الضامن. أما الضَّامِن، فلو صَالَحَ على غير الجِنْسِ يرجع بِلاَ خِلاَف؛ لأن بالضَّمَانِ ثبت الحَقّ في ذِمَّتِهِ ثبوته في ذِمَّة الأَصِيلِ، والمصالحة معاملة منية عليه بِخِلاَفِ المأذون مِنْ
غَيْرِ ضَمَانٍ، ثم ينظر إن كانت قيمة المصالح عليه أكثر من قَدْرِ الدَّيْنِ لم يرجع بالزِّيَادَة؛ لأنه متطوع بها، وإن لم تكن أكثر كما لو صَالَح مِنْ أَلْفٍ عَلَى عَبْدٍ يساوي تسعمائة فوجهان، وقيل: قولان. أصحهما: أنه لا يرجع إلا بتسعمائة؛ لأنه لم يغرم سِوَاها. والثاني: يرجع بِالأَلْفِ؛ لأنه قد حَصَّلَ براءة الذِّمَّة بما فَعَل، ومسامحة رَبّ الدّيْنِ جرت معه، ولو أنه باع العَبْدَ بألف وتقاصا فالرّجُوعُ بِأَلْفِ بلا خِلاَف؛ لأنه ثبت في ذِمَّتِهِ أَلْف، ذكره في "التهذيب"، ولو قال للمضمون له، بعت منك هذا العبد بما ضمنته لك عن فُلاَن ففي صِحَّةِ البَيْعِ وَجْهَانِ، حكاهما الأستاذ أَبُو مَنْصُور البُغْدَادِيُّ، فإن صَحَّحْنَا فيرجع بما ضمنه، أم بالإِقل مما ضمنه ومن قِيمَةِ العَبْدِ؟ قال: فيه وجهان (¬1) وأما الصِّفَة، فإن كان المؤدى خيراً كما لو أَدَّى الصِّحَاح عن المكسرة لَمْ يَرْجِع بالصّحَاحِ، وإن كان بالْعَكْس ففيه الخِلاَفُ المَذْكُور فِي خِلاَف الجِنْسِ، وعن الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ القطع: بأنه يرجع بما أَدَّى، وهذا ما يقتضيه نَظْمُ الكِتَابِ، والفرق أن غير الجنس يقع عوضاً والمكسرة لا تقع عوضاً عن الصِّحَاحِ، فلا يبقى إلا رعاية حكم الإيفاء والاستيفاء قاله الإمام، ويتعلق بالرّجُوعِ مَسَائِل أُخَر نوردهَا موجزين: منها لو ضمن عشرة وَأَدَّى خمسة وأبرأه رَبّ الدَّيْن عن البَاقِي لم يرجع إلا بالخَمْسَة المغرومة، وتبقى الخمسة الأُخْرَى عَلَى الأَصِيل؛ لمَا مَرَّ أَنَّ إبْرَاء الضَّامن لا يوجب براءة الأَصِيل، ولو صالحه من العَشْرة عَلَى خمسة فلا يرجع إلا بالخَمْسَة أيضاً، لكن يبرأ الضَّامن والأصيل عن البَاقِي، وإن كان صلح الحَطِيطة أبرأ في الحقيقة؛ لأن لفظ الصُّلْح يشعر بقناعة المستحق بالقليل عن الكَثِير، بخلاف ما إذا صَرَّحَ بِلَفْظِ الإبراء، هكذا أورده الشَّيْخَان الفَرَّاء والمتولى، ولو قال قائل: لفظ الصّلح يتضمن القناعة بالقليل ممن يجري الصُّلْح معه على الإطْلاَق، والثَّاني: ممنوع لم يصحح الجَوَاب. ومنها: ضَمِن ذِمِّيِّ لِذِمي ديناً عن مُسْلِم، ثم تَصَالَحَا على خَمْرٍ فَهَلْ يبرأ المُسْلِم لأن المصالحة بين الذميين أم لا يَبْرأ كما لو دفع الخَمْرَ بنفسه؟ فيه وجهان: إن قلنا: بالأول ففي رُجوعِ الضَّامِنِ عَلَى المُسْلِمِ وجهان، إن اعتبرنا بما أدى لم يرجع بشيء، وإن اعتبرنا بما أسقط رَجَع بالدَّيْنِ. ومنها: ضمن عن الضَّامن ضامن وأدى الثَّاني فرجوعه على الأول كرجوع الضَّامِن على الأَصِيل فيراعى الإذن وعدمه وإذا لم يكن له الرجوع على الأول لم يثبت بادائه ¬
الرجوع للأول على الأصيل لأنه لم يَغْرم، ولو ثبت له الرجوع على الأول فَرَجع رجع الأول على الأَصِيل إذا وجد شَرْطه، فلو أراد الثاني أن يرجع على الأَصيل ويترك الأَوَّل نظر إن كان الأَصِيل قد قال له: اضمن عن ضَامِنِي، ففي رجوعه عليه وَجْهَان، كما لو قال الإنسان: أدِّ ديني فأدى، وليس هذا كما لو قال: اقض دين فلان ففعل حيث لا يرجع على الآمر؛ لأن الحق لم يتعلق بذمته، وإن لم يقل له: اضمن عن ضامني فإن كان الحَالُ بحيث لا يَقْتَضِي رجوع الأول على الأَصِيل لم يَرْجِع الثَّانِي عَلَيْهِ، وإن كان يقتضيه فكذلك في أَصَحِّ الوجهين؛ لأنه لم يَضْمَن عَنِ الأَصِيلِ، ولو أن الثَّانِي ضمن عن الأَصِيل أيضاً فلا رجوع لأحد الضَّمامنين على الآخر، وإنما الرّجوعُ للمؤدى على الأَصِيل، ولو ضمن عن الأول والأصيل جَمِيعاً، فهذا أدى كان له أن يرجع على أيهما شَاءَ، وأن يرجع بالبَعْضِ على هذا وبالبعض على ذَاك تم للأول الرجوع على الأَصِيل بما غرم إذا وجد شَرْطه. ومنها: على زيد عَشرة ضمنها اثنان، كُلّ وَاحِدٍ منهما خمسة وضمن أحدهما عن الآخر، فلرب الدِّيْنِ مطالبة كُلُّ وَاحِدٍ منهما بالعَشْرَة، نصفها على الأَصِيل ونصفها على الضَّامِنِ الآخَرِ، فإنَ أَدَّى أحدُهُمَا جميع العَشرة رجع بالنصف على الأَصيلِ وبالنّصْفِ على صَاحِبِهِ، وهل له الرّجُوعُ بالكُلِّ عَلَى الأَصيلِ إذا كان لِصَاحِبِهِ الرّجوع عليه لو غرم؟ فيه الَوَجْهَان، وإن لم يؤدِ إلا خَمْسَة فينظر إن أداها عن الأَصِيل أو عن صَاحِبهِ أو عنهما ويثبت الرجوع بخمسة: ومنها: ضمن الثّمن فهلك المَبيع قَبْلَ القَبْضِ أو وجد به عيباً فرده، أو ضمن الصَّداق فارتدت المرأة قبل الدّخُولِ، أَو فسخت بِعَيْبٍ، نظر إن كان ذلك قبل أن يؤدي الضَّامن بَرِئَ الضَّامِنُ والأَصِيل، وإن كان بعده فإن كان بحيث يثبت له الرّجوع رجع بالمغروم على الأَصِيل، وضمن رَبّ الدَّيْنِ للأصيل ما أخذ إن كان هَالِكاً، وإن كان باقياً يرد عينه، وهل له إمساكه وَرَدّ بَدَله؟ فيه الخلاف المَذْكُور فيما إذا رَدَّ المَبِيع بِعَيْبٍ وعين دراهمه عِنْدَ البَائِعِ، فأراد إمْسَاكها ورد مِثْلها. والأصح: المنع، وإنما يغرم الأَصِيل دون الضَّامِن؛ لأن في ضمن الأدَاء عنه إقراضه وتمليكه إياه، وإن كان بحيث لا يثبت له الرجوع فلا شَيْءَ للضَّامِن على الأَصِيل، وعلى المَضْمُون له رَدّ ما أخذه، وعلى من يرد هو كما لو تَبَرَّعَ بِالصَّدَاقِ وطلق الزَّوْج قبل الدّخُولِ، وسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى. ومنها: أدى الضَّامِن الدَّيْن، ثم وهبه رَبّ الدين منه، ففي رجوعه على الأَصِيل وَجْهَانِ مبنيان على القَوْلَينِ، فيما لو وَهَبَتِ الصَّداق من الزَّوْجِ، ثم طَلَّقَهَا قَبْلَ
الدّخُولِ (¬1). ومنها: له على رَجُلَيْنِ عشرة، وضمن كل واحدِ منهما للآخر ما عليه، فلا شَكَّ أن رب الدين يطالبهما أو من شاء منهما بالعَشْرة، فإن أَدَّى أحدهما جميع العشرة برئا جميعاً، وللمؤدى الرجوع بالخمسة إن كان التَّصْوِير في حالة ثبوت الرّجُوع، وإن أَدَّى كل واحد منهما خمسة عَمَّا عليه فَلاَ رجوع، وإن أَدَّاها عن الآخر فَلِكُلِّ وَاحِدٍ الرجوع على الآخر، ويجيء خِلاَف التقاص، فإن أَدَّى أحدهما خَمْسة ولم يؤد الآخر شيئاً، فإن أَدَّاهَا عن نفسه برئ المؤدى عَمَا كَانَ عَلَيْهِ وصاحبه عن ضَمَانِهِ، وبقي على صَاحِبِهِ ما كان عَلَيْهِ والمؤدي ضَامِنٌ له، وإن أَدَّاها عن صَاحِبِهِ رَجَعَ عليه بالمَغْرُوم، وبقي عليه مَا كَانَ صاحِبُهُ ضامِناً له، وإن أَدَّاها عنهما فلكل نِصْف حكمه، وإن أَدَّى ولم يقصد شيئاً فيقسط عليهما، أو يقال: اصرفه إلى مَا شِئْت؟ فيه وجهان سبق نظيرهما في آخرِ الرَّهْنِ. ومن فوائد الوجهين أن يكون بنصيب أحدهما رَهْن، فإذا قلنا له: صرفه إلى ما شاء، فصرفه إلى نصيبه انفك الرَّهْن، وإلاَّ لم ينفك، ولو اختلفا فقال المؤدى: أديت عَمَّا عليّ، وقال رَبُّ الدَّيْنِ: بل أديت عَمَّا عَلَى صَاحِبِكِ، فالقولُ قولُ المؤدي مَعَ يَمِينِهِ، فإذا حَلَفَ بَرِئَ عما كان عليه، لكن لِرَبِّ الدين مطالبته بخمسة؛ أنه إما صَادِقٌ فالأصل باق عليه، أو كاذب فالضمان بَاقٍ، وعن بعض الأصحاب: أنه لا مطالبة له، لأنه إما أن يطالب عن جِهَة الأصالة، وقد صَدَق الشرع المؤدى في البَرَاءة عنها أو عن جهة الضّمان، وقد اعترف رب الدين بأنه أدى عنها. هذا حكم الأداء في المسألة، ولو أبرأ رَبّ الدين أحدهما عن جَمِيع العشرة، برئ أصلا وضماناً (¬2) ويبرأ الآخر عن الضَّمان دون الأَصِيلِ، ولو أبرأ أحدهما عن خَمْسَةٍ، نظر إن أبرأه عن الأَصِيلِ برئ عنه، وبرئ صَاحِبُهُ عن ضَمَانِهِ، وبقي عليه ضَمَانُ مَا عَلَى صَاحِبِهِ، وإن أبرأه عن الضَّمَانِ برئ عنه وَبَقِيَ عَلَيْهِ الأَصْلُ، وبقي عَلَى صَاحِبِهِ الأَصْلُ والضَّمَان، وإن أبرأه عن الخَمْسَة عَنِ الجِهَتَيْنِ جميعاً سقط عنه نِصْفُ الأصل ونصف الضَّمان، وعن صاحبه نِصْف الضّمان وبقي عليه الأَصْل ونصف الضَّمان، فيطالبه بسبعةٍ وَنِصْف، ويطالب المبرأ عنه بخمسة، وإن لم ينو عند الإبراء شيئاً فيحمل على النصف أو يخير ليصرف إلى مَا شَاء؟ فيه الوجهان. ولو قال المبرئ: أبرأت عن الضَّمان، وقال المبرأ عنه: بَلْ عن الأصل، فالقول قول المبرئ. ومنها: ادعى على رَجُلٍ أن له عليه وعلى فلان الغَائِب ألف درهم من ¬
ثمن عَبْدٍ باعه منهما وأقبضه أو عن جِهَةٍ أخرى، وأن كل واحد منهما ضَمِنَ عن الآخر ما عليه وأقام على ذلك بينة وأخذ الألف من الحَاضِرِ، قال المُزَنِيُّ في "المختصر": يرجع الحَاضِرُ بنصف الألْفِ عَلَى الغَائِبِ. واعترض عليه بأن البينة إنما تقام عند الإنْكار، وإذا أنكر كان مكذباً للبينة، زاعماً ظلمَ المدعى عليه بما أخذه، وكيف يرجع على الغَائِب بما ظلم به؟ وأجاب الأصحاب عنه، بأن لا نسلم أن البينة إنما تقام عند الإنْكَار، بل يجوز أن يقر الحَاضِر ويقيم المدعي البينة للإثْبَاتِ على الغَائِبِ، ثم هب أنه لم يقر لِكِنَّ البينة لا تستدعي الإنكار بخصوصه، بل للإنكار أو ما يقوم وهو السّكوت، فلعله كان ساكتاً، ثم هب استدعاءها للإنكار لكن لا تستدعي الإنكار منه بخصوصه، بل يكفي صدور الإنْكَار من وكيله في الخصومات، فَلَعَلَّ البينة أُقِيمَتْ في وجه وكيله المُنْكِر، ثم هَبْ أنه أنكر، لكنه رُبَّمَا أنكر الضَّمَان وسلم البَيْع، وهذا الإنْكَار لو كان مانعاً لكان مانعاً للرجوع بجهة غرامة المَضْمُون ومن الجائز أن يكون هذا الرّجوع باعتبار أن المُدَّعى ظلمه، بأخذ ما علي الغَائِبِ منه، والظَّالِم مثل المأخوذ على الغَائِب فيأخذ حَقَّه بما عنده، والذاهبون إلى شَيْءٍ من هذه التأويَلات، سلَّموا أنه لا وجد التكذيب القَاطِع لكل احتمال يمتنع الرّجوع، وهو الأصح على ما ذَكَرَهُ المَسْعُودِيّ والإِمَامُ. ومنهم من قال: لا يمتنع الرّجوع، وإن وجد صَرِيح التكذيب، وبه قال ابْنُ خَيْرَانَ؛ لأن البينة أبطلت حكم إنْكَاره، فكأنه لم يُنْكِر، وهذا كما لو اشترى عبداً فادعى مدع أنه ملكه وأن بائعه غَصَبَهُ، فقال في الجَوَاب: لا، بل كان ملكًا لبائعي، وإنه الآن مِلْكي، فاقامِ المُدَّعي بينة، يرجع المُشْتَرِي على البائع وإن أقر بالملك على أن في هذه الصورة أيضاً خلاف، وسيأتي في موضعه -إن شاء الله تعالى-. قال الغزالي: هَذَا كُلُّهُ إِذَا أَشْهَدَ عَلَى الإِدَاءِ، فَإِنْ قَصَّرَ فِي الإِشْهَادِ وَلَمْ يُصَدِّقْ لاَ يَرْجِعُ، وَإِنْ صَدَّقَهُ المَضْمُونُ عَنْهُ فَلا يَرْجِعُ أَيْضاً في وَجْهٍ؛ لأِنَّهُ لَمْ يَنْفَعْهُ أَدَاؤُهُ، وَإِنْ صَدَّقَهُ المَضْمُونُ لَهُ رَجَعَ فِي أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ أَقْوَى مِنْ البَيِّنَةِ مَعَ إِنْكَارِهِ، وَلَوْ أَشْهَدَ رَجُلاً وَامْرَأَتَيْنِ جَازَ، وَفِي رَجُلٍ وَاحِدٍ لِيَحْلَفَ مَعَهُ خِلاَفٌ خَوْفاً من قَاضٍ حَنَفِيٍّ، وَفِي المَسْتُورِينَ خِلاَفٌ، وَلَو ادَّعىَ مَوْتَ الشُّهُودِ وَأَنْكَرَ المَضْمُونَ عَنْهُ أَصْلَ الإِشْهَادِ فَوَجْهَانِ في أَنَّ القَوْلَ قَوْلُ مَنْ لَتَقَابُلِ القَوْلَيْنِ. قال الرَّافِعِىُّ: كل ما مر من رجوع المأذون في الأداء والضَّامِن على الأَصِيل مفروض فيمَا إذا أشهد على الأداء ولا فرق بين إشهاد رجلين أو رجل وامرأتين ولو أشهد واحداً اعتماداً على أنْ يحلف معه فوجهان:
أصحهما: أنه يكفي؛ لأن الشَّاهِدَ مع اليمين حجة كافية لإثبات الأداء. والثاني: لا؛ لأنهما قد يَتَرَافَعَانِ إلى حَنَفِىٍّ لا يقضي بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، فكان ذلك ضرباً من التَّقْصِيرِ، ولو أشهد مستورين فبانا فَاسِقَيْنِ فوجهان: أحدهما: أنه كَمَا لَوْ لَمْ يَشْهَد؛ لأن الحَقّ لا يثبت بِشَهَادَتِهِمَا، وأولاهما: الاكتفاء؛ لأنه لا اطلاع لَهُ عَلَى البَاطِنِ فكان معذوراً. ولا يكفي إشهاد مَنْ يعرف ظنّه عَنْ قَرِيب؛ لأنه لا يفضي إلى المَقْصُود. أما إذا أدى من غير إشهاد فينظر إن أَدَّى في غيبة الأَصِيل فهو مُقَصِّر بِتَرْكِ الإشْهَاد؛ إذْ كان من حقه الاحتياط وتمهيد طَرِيق الإثبات. ولو جَحَد رَبُّ الدين ولا رجوع له على الأصيل إن كذبه، وإن صَدَّقه فوجهان: أحدهما: وبه قال ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أنه يرجع؛ لاعترافه بأنه أبرأ ذِمَّته بإذنه. وأظهرهما: مَنْعُ الرُّجُوع، وبه قال أبو إسحاق لأنه لَمْ يؤد بِحَيْث ينتفع به الأَصِيلِ، فإن رَبَّ الدَّيْنِ مُنْكِرٌ وطلبت بحالها، وهل يَخْلِف الأَصِيلِ إِذَا كَذَّبه؟ قال في "التتمة": ينبني على أنه لو صدقه، هَلْ يرجع عليه؟ إن قلنا: نعم، حَلَفَ على نَفْي العِلْمِ بالأداء، وإن قلنا: لا، فينبني على أن النُّكُولَ وَرَدَّ اليمين كالإقرار أو كالبينة، إن قلنا: بالأول لم يحلف؛ لأن غايته أن ينكل فيحلف الضَّامن، فيكون كما لو صدقه، وذلك لا يفيد الرجوع. وإن قلنا: بالثَّاني، طَمعاً في أن ينكل وَيَحْلِف، فيكون كما إذا أَقَامَ البينة. ولو كَذَّبَهُ الأَصِيلِ وَصَدَّقَهُ رَبُّ المال، فوجهان: أحدهما: أنه لا رجوع له، ولا ينهض قولُ رَبِّ المال حجةً على الأَصِيل. وأظهرهما: ثبوت الرجوع لسقوط الطلبة بإقْرَارِه، وإقراره أقوى من البَيِّنَةِ مع إِنْكَارِه، فإن أدى في حضور الأَصِيل فقد حكى الشَّيْخُ أبُو حَامِدٍ وَآخَرُونَ وَجْهاً: أنه لا يرجع، كما لو ترك الإشْهَادَ في غيبته، وظاهر المَذْهَبِ المَنْصُوصِ: أنه يرجع؛ لأنه في الغَيْبَةِ مستبد بالأَمْرِ، فعليه الاحتياط والتوثيق، فإذا كان الأصيل حاضراً فهو أولى بالاحتياط، والتقصيرُ وتَرْكُ الإشْهَاد مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ، وإذا توافق الأَصِيل والضَّامِن على أنه أشهد ولكن مَاتَ الشهود أو غَابُوا ثبت له الرجوع؛ لأنه أَتَي بمَا عَلَيْهِ، ونقل الإمام وجهاً بعيداً: أنه لاَ رُجُوعَ إذا لم ينتفع بادائه إذ القولُ قولُ رَبِّ الدَّيْن في نفي الاستيفاء، ولو قال الضَّامِن: أشهدت، وماتوا، فأنكر الأَصِيل الإشْهَاد، ففيه وَجْهَان: أصحهما: أن القولَ قولُ الأَصِيل لأن الأَصْلَ عدم الإِشْهَاد.
والثاني: أن القولَ قولُ الضَّامِنِ؛ لأن الأَصْلَ عدم التَّقْصِير، ولأنه قد يكون صادقاً، وعلى تقدير الصِّدْق يكون مَنْعُه مِنَ الرّجُوعِ إضْرَاراً فليصدق للضرورة كما يُصَدَّق الصبي في دَعْوَى البُلوغِ إذ لا يعرف إلا من جِهَتِهِ. ولو قال: أشهدت فلانًا وفلانًا، فكذباه فهو كما لَوْ لَمْ يُشْهِد ولو قالا: لاَ نَدْرِي وربمَا نَسِينا ففيه ترددٌ لِلإمَام، ومتى لم يقم البينة على الأَدَاءِ وحلف رَبُّ المَالِ بقيت مطالبته بِحَالِهَا، فإن أخذَ المَال من الأَصِيل فَذَاكَ، وإن أَخَذَهُ مِنَ الكَفِيلِ مرة أُخْرَى لم يرجع بهما؛ لأنه مظلوم بِأخْذِها، ولا يرجع إلا على من ظَلَمَه وبم يرجع؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يرجع بِشَيْءٍ، أما المبلغ الأول، فلأنه قَصَّر عِنْدَ أدائه بترك الإشْهَادِ وأما الثَّانِي، فلاعترافه بأنه مَظْلُوم. وأظهرهما: أَنَّهُ يَرْجِعُ؛ لأنه غَرم لإبراء ذِمَّته، فعلى هذا هَلْ يرجع بالأول لأنه المُبْرِئ للذِّمة، أو بالثَّانِي لأنه المُسْقط للمُطَالَبة؟ فيه وجهان (¬1). خاتمة: قال في "التلخيص": لو كان على رجل تسعون درهماً، فجاء مريض فَضَمِنَ عنه بأمره، ولا مَالَ لَهُ غَيْرُه فمات من عَلَيْهِ الحَقُّ ولم يترك إلا خمسةً وأربعينَ درهماً، ومات الضَّامِن وكان لصاحب الحَقِّ بمطالبة ورثة الضَّامن بستين دِرْهَماً، ويرجع ورثة الضَّامِن على المَيِّتِ بثلاثين، ويرجع صَاحِبُ الحق على المَيِّتِ بخمسةَ عشرَ دِرْهَمًا، هذا لفظه. واعلم أن الضَّمَان في مرض الموت إذا كان بحيث يثبت الرّجوع ووجد الضامِنُ مرجعاً فهو محسوب من رَأَسِ المَالِ، وإن كان بحيث لا يثبت الرّجوع أو لم يجد مرجعاً كموت الأصيل معسراً، فهو محسوب من الثُّلُثِ، وهذا قد مَرَّ طرفٌ مِنْهُ في أوائل الضَّمَانِ، وبه تعرف أنه لم يشترط في صُورة المسألة مَوْت الأَصِيل، ومتى وَفَّتْ تركة الأَصِيل بثلثي الدَّيْنِ فلا دور؛ لأن صَاحِبَ الحَقِّ إن أخذ الحَقَّ من تركة الضَّامِن، رجع ورثته بثلثيه في تَرِكة الأَصِيل، وإن أَخَذَ تركة الأَصِيل وَفضل شَيْءٌ أخذه من تركة الضَّامن ويقع تبرعاً؛ لأن ورثة الضَّامِن لا يجحدون مرجعاً، وإن لم تف التركة بالثلثين فقد يتفق الدّور في المسألة كالصورة المنقولة عن "التلخيص" وهي أن يضمن المريض تسعين وَيَمُوت، وليس له إلا تسعون، ويموت الأَصيل وليس له إلا خمسة وأربعون، فصاحب الحَقِّ بالخيار، إن شاء أخذ تركة الأصيل بتمامها، وحينئذِ لا يقع دور أيضاً، وله مطالبة ورثة الضامِن بثلاثين درهماً، ويقع تبرعاً إذا لم يبق للأصيل تركة حتى يفرض ¬
فيها رُجوع، فإن أراد الأخْذَ من تركة الضَّامِنِ لزم الدور؛ لأن ما يغرمه ورثة الضَّامن يرجع إليهم بَعْضُه من جهة أنه يصير المغروم ديناً لهم على الأَصِيلِ، فيضاربون به مع صَاحِب الحَقِّ في تركته، ويلزم من رجوع بعضه زيادة التركة ومن زيادة التركة زِيَادَةِ المَغْرُومَ، ومن زيادة المغروم زيادة الرَّاجِعِ. وطريق استخراجه أن يقال: يأخذ صَاحِب الحَقِّ من ورثة الضَّامِن شيئاً، ويرجع إليهم مِثْل نِصْفِهِ؛ لأن تركة الأَصِيل نصف تركة الضَّامِن، فيبقى عندهم تِسْعُونَ إلاَّ نِصْف شَيْءٍ، وهو يعدل مِثْلِي ما تَلَفَ بالضمان، والتألف نصف شَيْءٍ ومثلا شيء، فإذاً تسعون إلا نِصْف شيء يَعْدِل شيئاً، فإذا اخترنا وقابلنا عدل تسعون شيئاً ونصفاً، فيكون الشيء ستين، فبان لنا أن المأخوذ سِتُّون، وحينئذ تكون الستون دينًا لهم على الأَصِيل، وقد بقي لِصَاحِبِ الحق ثَلاَثُونَ، فيتضاربون في تركته بسهمين وسَهْم، وتركته خَمْسَة وأربعون يأخذ منها للورثة ثلاثين، وصاحب الحق خمسة عشر، ويتعطل بَاقِي دينه وهو خمسة عشر، ويكون الحَاصِل للورثة ستين، ثلاثونُ بقيت عِنْدَهم، وثلاثون أَخَذُوهَا من تَرِكَةِ الأَصِيلِ، وذلك مِثْلاً مَا تَلَفَ ووقع تبرعاً وهو ثلاثون، ولو كان التصوير كما مَرَّ، لكن تركة الأصيل ثلاثون لقلنا: يأخذ صاحب الحقِّ شيئاً، ويرجع إلى وَرَثَةِ الضَّامِنِ مثل ثلثه؛ لأن تركة الأصيل ثلث تركة الضَّامِن، فيبقى عِنْدَهُمْ تِسْعُون نَاقِصَةٌ ثلثي شَيْءِ، يعدل مِثْليَ التالف بالضَّمَان وهو ثُلُثَا شَيْءٍ فمثلاه شَيْءٌ وثلث، فإذن تسعون إلا ثلثي شَيْءٍ، يعدل شيئاً وثلثاً، فإذا جبرنا وقابلنا عدل تِسْعون شيئين، فيكون الشَّيء جميعه خمسة وأربعين، وذلك ما أخذه صَاحِبُ الحَقِّ وصار ديناً لورثة الضَّامِنِ عَلَى الأَصِيل، وبقي لِصَاحِبِ الحَقِّ عليه خمسة وأربعون أيضاً، فيتضاربون في تركته بِسَهْم، وسهم فتجعل بينهما مُنَاصَفة، ولو كان تركة الأَصِيل ستين فَلاَ دور، بل لِصَاحِبِ الحَقِّ أخذ تركة الضَّامِن كُلّها ثم هم يأخذون تركة الأصيل كلها بِحَقِّ الرجوع، ويقع الَبَاقِي تبرعاً؛ ثم قال في "التلخيص": ولو كانت المسألة بِحَالِهَا، وكان قد ضمن أيضاً عن الضَّامِنِ ضَامِنٌ ثَانٍ ومات الضَّامِنُ الثَّانِي ولم يترك إلا ستين درهماً أيضاً كان لصاحب الحق أن يطالب ورثة أيهما شَاء، فإن طالب به ورثة الضَّامِن الأول، كان كالمَسالة الأولى يأخذ منه سِتّين، ومن ورثة مَنْ كان عليه أصل المَالِ خمسةَ عشر، ويرجع وَرثةُ الضَّامِنِ الثَّانِي على ورثة الَّذي كَانِ عَلَيْهِ الحق بِثَلاَثِين، وإن طَالَبَ ورثة الضَّامِن الثَّانِي أخذ منهم سَبْعِينَ دِرْهَماً، ومن ورثة مَنْ كَانَ عَليه الأصْل خَمْسة عَشَر، ويرجع ورثة الضَّامِن الثاني على الضَّامن الأول بأربعين درهماً، ويرجع الضَّامِن الأَول في مَالِ مَنْ عليه أَصْلُ الحَقِّ بثلاثين، أما قوله: (إن طالب ورثة الضَّامن الأول، كان كالمسألة الأولى) معناه: أنه لا يأخذ منهم إلا ستين، ويأخذ من تركة الأَصِيل خمسةَ عَشر كما في الصُّورة السُّابِقة، لكن لا يتلف مِنْ مَالِهِ شَيْءٌ هاهنا، بل يطالب بالباقي وهو خَمْسَة عشر ورثة الضَّامن الثاني.
أما جوابه فيما إذا طالب ورثة الضَّامِن الثَّاني، فقد غلطه الأصْحَاب فيه من جهة أنه أتلف مِنْ مَالِ الثَّانِي ثلاثين؛ لأنه أخذ منهم سَبْعِين، وأثبت لهم الرجوع بِأَرْبَعِين، وكان البَاقِي عندهم عِشْرين، فالمجموع سِتّون، ولم يتلف من مَالِ الأَول إلا عشرة؛ لأنه أخذ منهم أَرْبَعِين، وأثبت لهم الرُّجوع بثلاثين، ومعلوم أن الضَّامن الثاني إنما ضَمِن لهم تسعين عَمَّنْ يملك تسعين، والأول ضمن تسعين عمن يملك خمسةً وأربعين فكيف يؤخذ من الثاني أكثر مما يؤخذ من الأَوَّل؟ ثم اختلفوا في الجواب فقال الأستاذ أَبُو مَنْصُور في "الوصايا" يأخذ صَاحِبُ الحَقِّ من ورثة الضَّامِن الثاني خَمْسَةً وَسَبْعِينَ، ويرجعون بمثلها على وَرَثَةِ الأَوَّلِ، ويرجع ورثةُ الأَوَّلِ عَلَى وَرَثَةِ الأَصِيلِ بِتَرِكَتِهِ وهي خَمْسَةٌ وأربعون، فيكون جملة ما معهم سِتِّين خمسة عشر من الأَصِيل، والباقي من العِوَض، وذلك مثلا الثلاثين التَّالِفة عَلَيْهِم، ولم يثبت لِصَاحِبِ الحَقِّ مطالبة ورثة الثَّانِي بكمال الدَّيْنِ، وقال القَفَّالُ والأكْثَرُونَ: له مطالبة وَرثة الثَّانِي بجميع الدَّينِ، ثم هم يرجعون على ورثة الأَوَّل بخمَسةٍ وسَبْعِينَ يتلف عليهم خَمْسَة عشر للضَّرورة، ويرجع ورثة الأول على ورثة الأَصِيل بتركته، كما ذكره الأُسْتَاذُ، وقال الإمام رحمه الله: كأنَّ الأستاذَ اعتقد أن الضمان الأول لاَ يَصِح إلا في قَدرٍ لو رجع معه في تركة الأصيل لما زاد التَّالِف من تركته على ثُلُثِهَا، وإذا لم يَصِحّ ضَمَانُه فِيمَا زَادَ لَمْ يَصِح ضَمَان الثَّانِي عَنْهُ، والآخرون قالوا: إنما لاَ يؤخذ أكْثَر من الثُّلُثِ بِحَقٌ الورثة، لكنه صَحِيحٌ في الجَمِيع متعلق بذِمَّتِهِ، فيكون ضَمَانُ الثَّانِي عنه فيما زَادَ كَالضَّمَانِ عَنِ المُعْسِر، ويجب أن يكون هَذَا الَخِلاَف جَارياً في مطالبتهم بتتمة التِّسْعِين، إذا طَالَب أولاً ورثة الضَّامِن الأَوَّل، وإن لم يذكر ثَمّ، وإن أخذ المستحق أولاً تركة الأَصِيل بَرِئَ الضَّامِنَانِ عَنْ نِصْفِ الدَّيْنِ، ثم المستحق على جواب الأكثرين إنْ شَاءَ أخذ مِنْ وَرَثَةِ الأَوَّلِ ثَلاَثِينَ، ومن وَرَثَةِ الثَّانِي خَمْسَةَ عَشَرَ، وإن شاء أخذ الكُلَّ من ورثة الأَول ولا رُجوع، وإن شَاء أخذها من وَرَثَة الثَّانِي، وهم يرجعون على ورثة الأول بثلاثين، فَيَصِل إلى تَمَامِ حَقِّه بالطريقين. وعلى جواب الأستاذ: ليس له من الثَّاني إلا ثلاثون، إن شاء أخذها من ورثة الأول ولا رجوع وإن شَاء أَخَذ مِنْ وَرَثَةِ الثَّانِي، وهم يرجعون على وَرَثَةِ الأَوَّلِ.
كتاب الشركة
كِتَابُ الشَّرِكَةِ (¬1) قال الغزالي: شَرِكَةُ العِنَانِ مُعَامَلَةً صَحِيحَةً، وَأَرْكَانُهَا ثَلاَثةٌ: الأَوَّلُ: العَاقِدَانِ وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا إِلَّا أَهْلِيَّةُ التَّوْكِيلِ وَالتَّوَكُّلِ، فإن كُلَّ وَاحِدٍ مُتَصَرِّفٌ فِي مَالِ نَفْسِهِ وَمَالِ صَاحِبِهِ بِإذْنِهِ. قال الرَّافِعِيُّ: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنهِمَا" (¬2) يعني: أن البركة تنزع من مَالَيْهِمَا. وروى "أَنَّ السَّائِبَ -رضي الله عنه- كَانَ شَرِيكَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ الْمَبْعَثِ، وَافْتَخَرَ بِشَرِكَتِهِ بَعْدَ الْمَبْعَثِ، فَلَمْ يُنْكِرْ (¬3) عَلَيْهِ وَأَنَّ البَرَاءَ ابْنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ كَانَا شَرِيكَينِ" (¬4). ¬
واعلم أن كل حق ثابت بين شخصين فَصَاعِداً على الشيوع يقال: إنه مُشْتَركٌ بينهم، وذلك ينقسم إلى ما لا يتعلق، بِمَالِ كالقصاص وَحَدِّ القَذْفِ، وكمنفعة كَلْبِ الصَّيْدِ المتلقى مِنْ مورثهم، وإلى ما يتعلق بِمَالٍ، وذلك إما عَيْنُ مَالٍ ومنفعة، كما لو غنموا مالاً، أو اشتروه، أو ورثوه. وإما مجرد المنفعة كما لو استأجروا عَبْداً، أو وَصَّى لهم بمنفعته. وإما مجرد العين، كما لو ورثوا عبداً موصى بمنافعه. وإما حق يتوصل به إلى مال، كالشفعة الثابتة بِجَمَاعَةٍ. وكل شَرِكَةِ إما أن تحدث بِلا اختِيَارٍ كما في الإِرْثِ أو باخْتِيَارٍ في الشّراء، وليس مقصود الباب الكلام في كُلِّ شَرِكَةٍ، بل في الشَّرِكَةِ التي تحدث باختيار، ولا في كُلِّ ما تحدث بالاختيار، بل في التي تتعلق بالتِّجَارات وتحصيل الفوائد والأرْبَاح، وهي أربعة أنواع: منها: شَرِكَة العنَانِ، ومِمَّا أخذت اللفظة؟ قيل: من عَنَانِ الدَّابة، إما لاستواء الشريكين في ولاية الفَسْخِ والتَّصرف واستحقاق الربح على قُدْرِ رأسِ المَالِ كاستواء طرفي العَنَانِ. وإما أن لكل واحد منهما منع الآخر من التصرف كما يشتهي كما يمنع العنان الدابة، وإما لأن الآخذ بعنان الدَّابة حبس إحْدَى يديه على العنَان ويده الأخرى مطلقة يستعملها كَيْفَ شَاء، كذلك الشَّرِيك منع بالشركة نفسه عن التّصرف في المشترك كما يَشْتَهي، وهو مطلق اليَد والتّصَرُّف في سَائِرِ أمواله. وقيل: هي من قولهم: عَنَّ الشيءُ إذا ظَهر، إما لأنه ظهر لِكُلِّ واحد منهم مالُ صَاحِبهِ، وإما لأنه أظهر وجوه الشَّركة، ولذلك اتفقوا على صحتها، وقيل من المُعَانة (¬1) وهي المُعَاوَضة؛ لأن كُلَّ واحدٍ منهما يخرج مَالَه في معاوضة إخْرَاج الآخَرِ، ثم تكلم صَاحِبُ الكِتَابِ على عَادَتِهِ في أرْكَانِ هَذِهِ الشَّرِكة، ثم في أحْكَامِهَا: أما الأركان فأحدها: المُتَعَاقِدَانِ، والمعتبر فيهما أهْلِيَّةُ التَّوْكِيلِ والتوكل، على ما سيذكر في بَابِ الوَكَالَةِ، فإن كل وَاحدٍ من الشَّريكين يتصرف في جَمِيع المَالِ، في ماله بحق الملك، وفي مَالِ غَيْرِهِ بحَقِّ إذْنِهِ، فهو وكيلٌ عن صاحبه وموكل له بالتصرف، وتكره مُشَارَكة الذمي، ومن لا يحترز عن الرِّبَا. ¬
الثاني: الصيغة
قال الغزالي: الثَّانِي: الصِّيغَةُ وَهِيَ مَا تَدُلُّ عَلَى الإِذْنِ فِي التَّصَرُّفِ، وَالأَظْهَرُ أَنَّه يَكْفِي قَوْلُهُمَا اشْتَرَكْنَا إِذَا كَانَ يَفْهَمُ المَقْصُودَ مِنْهُ عُرْفاً. قال الرَّافِعِيُّ: لا بد من لَفْظٍ يَدُلُّ على الإذن في التَّصرف والتِّجارة، فإن أذن كل واحد منهما لصاحبه صريحاً فذاك، ولو قالا: اشتركنا، واقتصرا عليه فهل يكفي ذلك لتسلطهما على التصرف من الجانبين؟ فيه وَجْهَان: أحدهما: ويحكى عن أَبِي عَلِيِّ الطَّبَرِيِّ نعم، لِفَهْمِ المَقْصُودِ عُرفاً، وبهذا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. والثَّاني: لا؛ لقصور اللفظ عن الإذْنِ، واحتمال كونه إخباراً عن حُصُولِ الشركة في المَالِ، ولا يلزم من حُصُولِ الشركة جواز التصرف، ألا ترى أنهما لو ورثا مالاً، لا يتصرف فيه أحدهما إلا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ؟ والوجه الأول أظهر عند صَاحِبِ الكِتَابِ. والثاني: أَصَحُّ عِنْدَ القَاضِي ابْنِ كِجٍّ وصاحب "التهذيب" والأكثرين. ولو أذن أحدهما للآخر في التصرف في جَمِيع المَالِ ولم يأذن الآخر تصرف المَأْذُون له في جَمِيع المَالِ، ولم يتصرف الآخر إلا في نَصِيبه، وكذا لو أذن لِصَاحِبهِ في التصرف في الجَمِيعَ، وقال: أنا لا أتصرف إلا في نَصِيبي، ولو شرط أحدهما على الآخر أن لا يتصرف في نَصِيبه لَمْ يَصِح العَقْدُ؛ لما فيه من الحَجْرِ على المَالِكِ فِي مِلْكِهِ، ثم ينظر في المَأْذُونِ فيه، إن عَيَّنَ جِنْساً لَمْ يَصِح تصرف المأذون في نَصِيب الآذن مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الجِنْسِ، وإن قال: تصرف واتجر فيما شئت من أجناس الأَمْوَالِ جَازَ، وفيه وجه أنه لاَ يَجُوزُ الإطلاق، بل لاَ بُدَّ من التعيين. والله أعلم. قال الغزالي: الثَّالِثُ: المَالُ وَإِشَارَةُ النَّصِّ إِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَقْداً كَالقِرَاضِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ التِّجَارَةُ، وَالأَقْيَسُ: أَنَّهُ يَجُوزُ في كُلِّ مَالٍ مُشْتَرَكٍ، وَالاشْتِرَاكُ بِالشُّيُوعِ هُوَ الأَصْلُ، وَيقُومُ مَقَامَهُ الخَلْطُ الَّذِي يَعْسُرُ مَعَهُ التَّمِيْيزُ فَإنَّهُ يُوجِبُ الشّيُوعَ، وَلاَ يَكْفِي (ح) خَلْطُ الصَّحِيحِ بِالقِرَاضَةِ، وَلاَ السِّمْسِمِ بِالكِتَّانِ، وَلاَ عِنْدَ (ح) اخْتِلاَفِ السِّكَّةِ، وَكَذَا (ح) كُلُّ اخْتِلاَفٍ يُمْكِنُ مَعَهُ التَّمْييزُ فَإِنَّ الشُّيُوعَ لاَ يَحْصُلُ مَعَهُ، وَلْيتَقَدَّم (ح) الخَلْطُ عَلَى العَقْدِ، فَلَوْ تَرَاخَى فَفِيه خِلاَفٌ، وَلاَ يُشْتَرَطُ (و) تَسَاوِي المَالَيْنِ في القَدْر، وَلاَ العِلْمُ بِالمِقْدَارِ حَالَةَ العَقْدِ. قال الرَّافِعِيُّ: الركن الثَّالِثُ: المال المَعْقُودُ عَلَيْهِ، وفيه مَسَائِل: إحداها: لاَ خِلاَف في جَوَازِ الشَّرِكَةِ في النَّقْدَيْنِ.
وأما سائر الأموال فالمتقومات لا تَجُوز الشَّرِكة عليها، وفي المِثْلِيَّاتِ قولان، وقيل: يقال: وجهان: أحدهما: المنقول عن رواية البويطي وَأَبِي حَنِيفَةَ: أنه لاَ يَجُوز، كما لا يجوز في المُتَقَوِّمَاتِ، وكما لا يجوز القراض إلا في النقدين. وأصحهما: وبه قال ابْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إسْحَاقَ يجوز؛ لأن المِثْلِىَّ إذا اختلط بجنسه ارتفع معه التمييز فأشبه النقدين، وليس المِثْليِّ كالمتقوم؛ لأنه لا يمكن الخلط في المتقومات، وربما يتلف مَالُ أَحَدِهِمَا ويبقى مَالُ الآخر، فلا يمكن الاعتداد بتلفه عنهما، وفي المثليات يكون التَّالِف بعد الخلط تَالِفاً عنهما جميعاً، ولأن قيمتهما ترتفع وتنخفض، وربما تنقص قِيمَةُ مَالِ أَحَدِهِمَا دُونَ الآخر وَتَزِيد، فيؤدي إلى ذِهَابِ الربح في رَأَسِ المَالِ أو دخول بَعْضِ رَأَسِ المَالِ في الرِّبْحِ، ويخالف القَرَاض؛ لأن حَقَّ العَامِلِ مَحْصُورٌ في الرِّبْحِ، فلا بد من تَحْصِيل رَأسِ المَالِ لتوزيع الرِّبْحِ، وفي الشِّرِكة لا حَاجَة بل كُلُّ المَالِ موزع عَلَيْهِمَا عَلى قَدْرِ مَاليْهِمِا. ولفظ النقدين عند إطلاقنا تجوز الشركة فيهما نعني به الدَّراهم والدنانير المَضْرُوبة، وأما غير المضروبة من التَّبْرِ والحُلِيّ والسَّبَائِك، فقد أطلقوا مَنْعَ الشَّركَةِ فِيهَا، وبمثله أجاب القَاضِي الرّويَانِي في الدَّرَاهِمِ المَغْشُوشةِ، وحكى فيها خِلاَفَ أَبِي حَنِيفَةَ، لكن يجوز بنَاءُ الحُكْمِ في التَّبْرِ على أنه مِثْلِيُّ أمْ لاَ؟ وفيه خِلاَفٌ ستعرفه، ومأخذه في كتاب الغَصْب فإن جعل متقوماً لم تَجُز الشَّرِكَة عَلَيْهِ، وإلا ففيه الخِلاَف في المِثْلِيَّاتِ. وأما الدَّرَاهِم اَلمَغْشُوشَة، فقد حَكَى صَاحِبُ "التتمة" في جَوَازِ القَرَاضِ عَلَيْهَا خلافاً مبنياً على جَوَازِ التَّعَامُلِ بِهَا، فقد ألحقنا المغشُوشَ بالخَالِص، فإذا جاء الخِلاَفُ في القرَاضِ ففي الشَّرِكَةِ أَوْلَى، عَلَى أن صاحب "العدة"، ذكرَ أن الفتوى أنه تجوز الشَّركة فيها إذا استمر في البلد رَوَاجُهَا (¬1). واعلم أن ما ذكرنا في المسألة من تجويز الشركة ومنعها، نريد فيما إذا أخرج هذا قدراً من ماله وذاك قدراً، جعلاهما رَأْسَ المَالِ، ويمكن فرض الشركة على غير هَذَا الوَجْهِ في جميع الأموال على مَا سيأتي. المسألة الثانية: إذا خرج رجلانِ كلُّ واحدٍ منهما قدراً من المَالِ الذي تجوز الشَّرِكة فيه، فأرادا الشّركة فلا بد أن يَخْلِطَا المالين خَلْطاً لا يتأتى معه التمييز، وإلا فلو ¬
تَلَفَ مالُ أحدهما قَبْلَ التَّصَرُّفِ، تلف على صَاحِبِهِ، ويقدر إثبات الشَّرِكَة في البَاقِي، فلا تجوز الشَّرِكة عند اختلاف الجِنْسِ، كما أن يكون من أحدهما دَراهم والآخر دنانير، ولا عند اختلاف الصفة كما إذا اختلفت السَّكَّة، أو أخرج أحدهما صِحَاحاً والآخر مكسرة، أو صحاحاً متقومة أو أخرج أحدهما دراهم عتيقة أو بَيْضَاء، والآخر جَدِيدة أو سوداء، وفي البيض والسود وجه عن الإصْطَخْرِي، وإذا جوزنا الشَّرِكة في الْمِثلِيَّاتِ وجب تساويهما جنساً ووصفاً أيضاً، فلا يكفي خلط الحِنْطَة البَيْضَاء بالحَمْرَاءِ لإمكان التمييز وإن عسر، وعن الشَّيخ أَبِي عَلِيُّ أن الأستاذ أبا إسحاق ذكر وجْهاً في الاكتفاء به، لعد النَّاس مثل ذلك خَلْطاً، وينبغي أن يقدم الخَلْط على العَقْدِ والإذن، فإن تأخر فالأظهر المَنْع، إذ لا اشتراك عِنْدَ العَقْد. والثَّانِي: يجوز إذا وقع في مجلس العَقْد, لأن المجلس كنفس العَقْدِ، فإن تأخر لم يجز على الوَجْهَيْنِ، ومال الإمام -رحمه الله- إلى تجويزه؛ لما سبق أن الشَّرِكة توكيلٌ وتوكل، ولو وجد التوكيل والتوكل والملكان متميزان ثم فرض الاختلاط لم تنقطع الوَكَالَة؛ نعم، لو قيد الإذن بالتَّصَرَّفِ في المَالِ المنفرد فلا بُدَّ من تجديد الإذن، ولو ورثوا عروضاً أو واشتروها فقد ملكوها شَائِعَةً، وذلك أبْلَغ من الخَلْطِ، بل الخَلْط إنما اكتفى به لإفادة الشيوع، فإذا انضم إليه الإذن في التَّصَرُّفِ تم العَقْد، ولهذا قال المُزَنِيُّ والأصْحَاب: الحِيْلَةُ في الشَّرِكة في العروض المتقومة، أن يبيعَ كُلّ وَاحِدٍ منهما نصف عَرَضِهِ بنصف عَرَضِ صَاحِبِهِ، تجانس العَرَضَانِ أو اختلفا؛ ليصير كل واحد منهما مشتركاً بينهما فيتقابضان، ويأذن كُلُّ واحد منهما لصاحبه في التَّصَرف، وفي "التتمة": أنه يصير العرضان مشتركين، ويملكان التَّصرف بِحُكْمِ الإِذْنِ، إلا أنه لا تثبت أحكام الشَّرِكة في الثَّمَنِ حتى يستأنفا عقداً وَهُوَ ناضٍ. وقضية إطلاق الجمهور ثبوت الشركة وأحكامها على الإطْلاق وَهُو المذهب. ولو لم يتبايعا العَرَضين، ولكن بَاعَاهما بِعَرَضٍ أو نقد ففي صِحَّةِ البيع قولان قَدْ مَرَّ ذِكْرُهُمَا في تفريق الصّفقة، ويعودان بأكثر من ذلك الشَّرْحِ في الصَّدَاقِ، فإن صَاحِب الكتاب ذكر المسألة هناك، فإن صَحَّحْنَا كان الثَّمَنُ مُشْتَرَكاً بينهما، إما على التَّسَاوِي أو التفاوت بحسب قِيمَةِ العَرَضَيْنِ، فأذن كُلّ واحدٍ منهما للآخر في التَّصرف (¬1). الثَّالِثة: ظاهر المَذْهَبِ أنه لا يشترط تَسَاوِي المَالَيْنِ في القَدْرِ، بل تثبت الشَّرِكَة ¬
مع التفاوت على نِسبَةِ المَالَيْنِ، وعن الأَنْمَاطِيِّ: أنه يشترط التَّسَاوِي؛ لأن الرِّبْحَ يحصل بالمَالِ والعَمَلِ، كما لا يَجُوزُ الاختلاف في الرِّبْحِ مَعَ تَسَاوِي المَالَيْنِ لا يجوز الاختلاف في الرِّبْحِ مَعَ التَّسَاوِي في العَمَلِ، وهل يُشْتَرَطُ العِلْمُ حالة العقد بمقدار النَّصيبين؟ بأن يعرف أن المال بينهما نصفان أوَ على نِسْبَةٍ أخرى؟ فيه الوجهان: أظهرهما: أنه لا يشترط، إذا أمكن معرفته من بعد، وهو المَذْكُور في الكتاب، ومأخذ الخِلاَف: أنه إذا كان بين رَجُلَيْنِ قال مشترك، وكل واحد منهما جَاهِلٌ بقدر حصته، فأذن كُلُّ واحدٍ منهما لِصَاحِبِهِ في التَّصَرُّفِ في جَمِيعِ المَالِ، أو في نصيبه، هَلْ يَصِح الإِذْن؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه لا يَدْرِي فِيمَا يَأْذَن، والمأذون لا يدري مَاذَا يستفيد بالإذْنِ. وأظهرهما: نعم؛ لأن الحَقَّ لا يعدوهما وقد تَرَاضَيَا، وعلى هذا تكون الأثمان بينهما مُبْهَمة كالمثمنات. وأَما لفظ الكتاب فقوله: (وإشارة النّص إلى أنه لا بد وأن يكون نقداً)، يجوز حمله على ما قَدَّمنا ذِكْرَهُ في رِوَايَةِ البويطي -رحمه الله- إلا أن الظَّاهِر، أنه قصد به ما ذَكَرَهُ الإِمَامُ من أن ظاهر منقول المزني المَنْع، والمراد منه -قوله في "المختصر"-: والذي يشبه مذهب الشَّافعي -رضي الله عنه- أن الشَّرِكَةَ لاَ تَصِح في العُرُوضِ، ولا فيما يرجع عند المفاضلة إلى قيمته، وهذا له إشعار بالمَنْعِ، لكن بعضهم حَمَلَ لفظ العروض على المتقومات، وقال هذا الكلام ذِهَابٌ إلى جَوَازِ الشَّرِكَةِ في المِثْلِيَّاتِ؛ لأنه يرجع عند المفاضلة إلى مثله لا إلى القِيمَةِ. وقوله: (والأقيس أنه يَجُوزُ في كُلِّ مَالٍ مشترك) أي عروض كانت أو غيرها، وأراد بالمُشْتَرَكِ ما يثبت فيه الحَقَّان على الشّيُوعِ، وذلك تَارةً يثبت ابتداء كما في الموروث، وتارة بالخَلْطِ الدّافع للتمييز لإيجابه الشّيُوع، ولو كان لهما ثوبان والتبسَا عَلَيْهِمَا لم يَكْفِ ذَلِكَ لِعَقْدِ الشَّرِكَةِ، فإن المَالَيْنِ متميزان، وإنما أبهم الأمر بينهما. وقوله: (فلو تراخى فَفِيه خلاف) والأشبه أنه لم يرد به الوَجْهَيْن، فيما إذا وقع الخَلْط في المَجْلِس، وإنما أراد إقامة وَجْهَيْنِ فيما ذكره المُعْظَم، ومال إليه الإمام -رحمه الله- لأنه لم يتعرض للمَجْلِس هاهنا ولا في "الوسيط" ولا له ذكر في "النهاية". فرع: قال أصْحَابُنا العِرَاقيون وَمَنْ تَابَعَهُمْ: إِذَا جوزنا الشَّرِكَةَ في المثليات، فإن استوت القيمتان، كانَا شريكين على السَّوَاءِ، وإن اختلفا كما إذا كان لأحدهما كر حنطة قيمته مِائَة، والآخر كر قيمته خَمْسون، فَهُمَا شَرِيكان الثلثين والثُّلُثُ، وهذا مبني على قَطْعِ النظر في الْمِثلِيَّاتِ، عَنْ تَسَاوِي الأَجْزَاءِ في القِيمَةِ، وإلا فليس هذا الكَرّ مثلاً،
فذلك الكر والكَلاَّم في الْمِثليات مستوفى في الغَصْبِ. فرع آخر: لأحدهما دَنَانير ولآخر دَرَاهِم، وابتاعا شيئاً بِهِمَا، يقوم ما ليس بنقد البلد منهما بما هو نَقْدُ البَلَدِ، فإن استويا في القِيمَةِ، فالشركة على التَّسَاوِي وإلا فَعَلَى الاختلاف. قال الغزالي: وَلاَ تَصِحُّ شَرِكَةُ الأَبْدَانِ (م ح) وَهِيَ شَرِكَةُ الدَّلاَلِينَ وَالحَمَّالِينَ إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ مُتَمَيَّزٌ بِمِلْكِ مَنْفَعَتِهِ فَاخْتَصَّ بِمِلْكِ بَدَلِهَا، وَلاَ شَرِكةُ المُفَاوَضَةِ (ح م) وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِيمَا يَكْتَسِبَانِ مِنْ مَالٍ وَيَلْتَزِمَانِ مِنْ غُرْم بِغَصْبٍ أَوْ بَيْعَ فَاسِدٍ إِذْ كُلُّ مَنِ اخْتَصَّ بِسَبَبٍ اخْتَصَّ بِحُكْمِهِ غُرْماً وَغُنْماً، وَلاَ شَرِكَةُ الوُجُوهِ (ح) وَهِيَ أنْ يَبِيعَ الوَجِيهُ مَالَ الخَامِلِ بِزَيَادَةِ رِبْحٍ لِيَكُونَ لَهُ بَعْضُهُ، بَلْ كُلُّ الثَّمَنِ لِمَالِكِ المُثَمَّنِ، وَلَهُ أَجْرُ المِثْلِ. قال الرَّافِعِيُّ: غرض الفَصْلِ الكلام فيما سِوَى شركة العِنَانِ من الشِّرَكِ، وهي ثلاثة: أحدها: شركة الأبْدَان، وهي أن يَشْتَرك الدلالان، أو الحمالان، أو غيرهما من المُحْتَرِفة على ما يكتسبان، ليكون بينهما على تَسَاوٍ أو تفاوت، وهي باطلةٌ سواء اتفقا في الصَّنْعَةِ أو اختلفا، كالخَيَّاطِ والنَّجَّارِ؛ لأن كُلَّ وَاحِدٍ منهما مميز ببدنه ومنافعه فيختص بفوائده، وهكذا لو اشتركا في ماشيتهما وهي متميزة؛ ليكون الدرّ والنسل بينهما، فإِنَّهُ لاَ يَصِح. وعند أَبِي حنيفة يصح، اتفقت الصنعتانِ أو اختلفتا (¬1). وعن صاحب "التقريب": أن لبعض الأصْحَابِ وجها كمذهبه. وقال مالك -رحمه الله-: تصح بشرط اتحاد الصَّنْعَةِ. وسلم أبو حنيفة ومَالِك: أنه لا تجوز الشَّرِكة في الاصطياد والاحتطاب، وأحمد جوزهما أيضاً، وإذا قلنا بِظَاهِرِ المَذْهَبِ وهو البُطْلاَن، فإذا اكتسبا شيئاً، نظر إن انفرد عمل أحدهما عن الآخر فلكل وَاحِدٍ منهما كسبه، وإلا فَالْحَاصِلُ مقسوم بينهما على قَدْرِ أُجْرَةِ المِثْلِ، ولا كَمَا شَرَطَا. الثَّانِية: شركة المفاوضة (¬2)، وهي أن يَشْتَرِكَا ليكون بيَنهما ما يكتسبان وَيَرْبَحَانِ، ¬
ويلزمان من غُرْم ويحصل لهما من غُنْم، وهي بَاطِلَة خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- حيث قال: تصح بشرط أن يستعملاَ لفظ المفاوضة، فيقولا: تفاوضنا أو اشتركنا شركة المفاوضة، وإن استويا في الدّينِ والحرفة، فلو كان أحدهما مُسْلماً والآخر ذِمِّيّاً، أو أحدهما حراً والآخر مكاتباً لَمْ يَصِح، وإن استويا في قَدْرِ رأسِ المَالِ، وأن لا يملك واحِدٌ منهما مِنْ جنس رَأْسِ المَالِ إلا ذلك القَدْر، ثم حكمها عِنْده، وأن ما اشتراه أحدهما يقع مشتركاً، إلا ثلاثة أشياء: قوت يومه، وثياب بَدَنِه، وجارية يَتَسَرَّى. بِهَا، وإذا ثبت لِأَحَدِهِمَا شفعة شَارَكَ صَاحَبَه، وما ملكه أحدهما بِإِرْثِ أو هبة لا يُشَارِكُهُ الآخر فيه، فإن كان فِيهِ شَيْءُ من جِنْسِ رَأَسِ المَالِ، فسدت شَرِكةُ المُفَاوَضَةَ وانقلبت إلى شَرِكَةِ العِنَانِ. وما لزم أحدهما بِغَضْبٍ أو بيع فَاسِدٍ، أو إتلاف، كان مشتركاً إلا الجِنَاية على الحُرّ، وكذا بدل الخُلْعِ والصَّداق إذا لزم أحدهما لم يؤاخذ به الآخر، ووجه المَذْهَبِ في المَسْأَلَة ظَاهِرٌ، قال الشَّافِعِيّ -رضي الله عنه- في اختلاف العراقيين: ولا أعرف شيئاً في الدُّنْيَا يَكونُ بَاطِلاً إن لم تكن شركة المفاوضة بَاطِلَة، يعني لما فيها من أنواع الغَرَرِ والجهالة الكثيرة. فرع: لو استعملا لفظة المفاوضة، وأراد شَرِكَةَ العِنَانِ جَازَ، نص عليه، وهذا يقوي تَصْحِيح العقود بالكِنَايَاتِ. الثالثة: شركة الوُجُوهِ، وقد فسرت بمعان: أشهرها: أن صورتها أن يشترك رَجُلاَنِ وجيهان عند النَّاسِ، ليبتاعا في الذمة إلى أَجَل على أن ما يبتاعه كُلُّ واحدٍ منهما يكون بينهما، فيبتعاه ويؤديا الأثمان، فما فضل فَهُوَ بينهما. والثاني: أن يبتاع وَجِيهٌ في الذِّمَّة ويفوض بيعه إلى خَامِلٍ، وشرط أن يكون الربح بينهما. والثَّالِث: أن يشترك وجيهٌ لا مَالَ لَهُ وخَامِلٌ ذِو مَالٍ ليكون العمل من الوَجِيه والمالُ مِنَ الخَامِل، ويكون المَالُ في يده، ولا يسلمه إلى الوَجِيه والرِّبْح بَيْنَهُمَا، وهذا تَفْسِيرُ القَاضِي ابْنِ كِجٍّ والإمام، ويقرب منه ما ذكره صَاحِبُ الكِتَاب وهو: أن يبيع الوَجِيهُ مَالَ الخامل بِزِيَادَةِ رِبْحٍ، ليكون بَعْضُ الرِّبْحِ لَهُ، وهي على المَعَانِي بَاطِلَة، إذ ليس بينهما مَالٌ مشترك يرجع إليه عند المُفَاضَلة، ثم ما يشتريه أحدهما في الصّورة الأولى والثانية فهو له يختص به وربحه وخُسْرَانه، ولا يشاركه فِيهِ الآخر إلا إذا كان قَدْ صَرَّحَ بالإذن في الشَّراء بما هو شرط التوكيل في الشَّراء، وقصد المشتري توكيله.
وعند أبي حنيفة -رحمه الله- يقع المشتري مشتركاً بمجرد الشركة، وإن لم يوجد قَصْد من المُشْتَرِي ولا إذن من صَاحِبهِ. وأما الصورة الثالثة: فهي ليست بِشَرِكَةٍ في الحَقِيقَةِ، وإنما هي قَرَاضٌ فَاسِدٌ لاستبداد المالك باليَدِ، فَإِن لم يكن المالُ نقداً زاد الفسادُ وجهاً آخر. وأما ما أورده في الكتاب فحاصله الإذن في البَيْعِ بِعِوَضٍ فَاسِدٍ، فيصح البَيْعُ من المَأَذُونِ ويكون له أجْرَةُ المِثْلِ، وجميع الثَّمَنِ لِلْمَالِكِ. واعلم أنه إنما عقب أركان شركة العِنَانِ بذكر أنواع الشَّركةِ الفَاسِدَةِ؛ لأنه قد تَبَيَّنَ في خِلاَل الأركان اشتراط شيوع رأس المال وارتفاع التمييز، فأراد الإِشَارَةَ إلى أن فَسَادِ هَذِهِ الأنْوَاع لاختلال هذا الشَّرط، وتميز ما هو رَأس المَالِ فيها أو ما هو في شِبْهِ رَأْسِ المَالِ، ويتعلق بهذه القاعدة صُوَرٌ أُخَر، منصوصة في البويطي: منها: لواحد بَغْلة ولآخر راوية، تشاركَا مع ثالثٍ لِيَسْقي الثَّالِثُ الماء، ويكون الحَاصِلُ بَيْنَهُمْ فهو فَاسِد؛ لأنها منافع أبدان متميزة، فلو جروا عليه وأسْقَى الثالث الماء، فلمن يكون الماء؟ نقل صاحب "التلخيص" وآخرون فيه اختلاف قولٍ ولم يحمد المعظم تِلْكَ الطريقة، وإنما ارتضوا تفصيلاً ذكره ابْنُ سُرَيْجٍ، وهو إن كان الماء مملوكاً للمستقي أو مباحاً لكنه قصد به نَفْسَه فهو له، وعليه لِكُلِّ وَاحِدٍ من صاحبيه أجرة المِثْلِ أيضاً، وإن قصد به الشَّرِكَة، فهو على الخِلاَفِ في جواز النَّيَابَةِ في تملك المُبَاحَاتِ، وسنذكره في الوَكَالَةِ، فإن لم نُجَوز فَهُوَ لِلْمُسْتَقِي، وعليه أجرة المِثْلِ لصاحبه أيضاً، وإن جوزنَا وهو الأَصَح، فالمَاءُ بينهم، وفي كيفية الشَّرِكَة وَجْهَان: أحدهما: أنه يقسم بينهما على نِسْبَةِ أجور أَمْثَالِهِمْ؛ لأنه حَصَلَ بِالْمَنَافِع المختلفة، وهذا ما أورده الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، ويحكى عن نَصِّه في البويطي. وأصحهما: عند الشَّيْخُ أَبِي عَلِيّ ولم يورد القَفَّالُ غيرَه: أنه يقسم بينهم بالسوية إتباعا لِقَصْدِه، فَعَلَى هذا للمستقي أن يطالب كل واحد من صاحبيه بِثُلُثِ أجرة منفعته؛ لأنه لم ينصرف منها إليه إلا الثُّلث، وكذلك يرجع كل واحد من صَاحِبَي البَغْلَة والرَّاوية على كل وَاحِدٍ من الأخير والمستقي بثلث أجرة منفعة مِلْكِهِ، وعلى الوجه الأول لا تراجع بينهم في الأُجْرَة. ولو استأجر رجلٌ راويته من صَاحِبِهَا، والبَغْلَةَ من صَاحِبِهَا والمستقى يحمل الماء وهو مباح، نظر إن انفرد كل واحد بِعَقْدٍ صَحّ، والماء لِلْمُسْتَأْجِر، وإن جمع بين الكُلِّ في عقد واحد ففي صحة الإجارة قولان، كما لو اشترى عَرَضاً لِرَجُلٍ وعرضاً لآخر منهما بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، إن صححنا وُزِّعَتِ الأُجْرَة المسماة على أجُورِ الأَمْثَالِ، وإلا فلكل
واحد أجرة المِثْلِ عليه، ويكون المَاءُ المستقي صَحَّحْنَا الإجارة أو أفسدناها، أما إذا صَحَّحْنَاهَا فَظَاهِر. وأما إذا أَفْسَدْنَاهَا، فلأن منافعهم مضمونة بأُجْرَةِ المِثْلِ، ذكره الإمام، فإن نَوَى المستقي نفسه وفرعنا على فَسَادِ الإِجَارَةِ، فعن الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ: أنها تكون للمُسْتَأجر أيضاً، وتوقف الإمَامُ فيهِ؛ لأن منفعته غير مستحقة للمُسْتَأْجِرينَ، وقد قصد نَفْسَه فليكن الحَاصِلُ لَهُ، وموضع القولين ما إذا وردت الإِجَارة على عَيْنِ المُسْتَقى، والبَغْلَة والرواية. فاما إذا ألزم ذمتهم نقل المَاء، صَحَّتَ الإجارة لاَ مَحَالة، إذ ليست هاهنا أعيان مختلفة يفرض جهالة في أُجُوِرِهَا، وإنما على كُلِّ واحِدٍ منهم ثُلُثُ العَمَلِ. ومنها: لو اشترك أربعة لأحدهم بيت رحا، ولآخر حَجَر رَحَا، ولآخر بَغْلة تديره، والرابع يَعْمَل في الرَّحا، على أن الحَاصِلَ من أجرة الطَّحْنِ بينهم، فهو فَاسِدِ، ثم إن استأجر مالك الحنطة العامل والآلات من مَالِكها، وأفرد كل واحد بِعَقْدٍ لزمه ما سَمّى لكل واحدٍ منهم، وإن جمع بين الكُلِّ في عقد واحد فإن ألزم ذمتهم الطَّحْنَ صَحَّ العقد، وكانت الأجرة بينهم أرباعاً يتراجعون بأجرة المثل؛ لأن المنفعة المملوكة لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم قد استوفى ربعها، حيث أخذ رُبُعُ المُسَمَّى وانصرف ثلاثة أرباعها إلى أصْحَابهِ، فيأخذ مِنْهُم ثلاثة أرباع أجْرَة المِثْلِ، وإن استأجر عَيْن العامل وأعيان الآلات، ففيه الَقَوْلاَن المذكوران في أن الصّورة السَّابقة إن أفسدنا الإجارة، فلكل وَاحِدٍ أجرة مِثْله، وإن صَحَّحْنَاها وزع المُسَمى عليهم، ويكون التَّراجع بينهم على ما سبق، وإن ألزم المَالِكِ للحِنْطَة ذِمَّة العَامِل الطحن لزمه، وعليه إذا استعمل مالأصحابه أجرة المِثْل لهم إلا أن يستاجرها بعقد صحيح فعليه للمسمى. ومنها: لواحد البِذْر، ولآخر آلة الحَرْث، ولآخر الأرض، واشتركوا مع رابع لِيَعْمل، ويكون الزَّرْع بينهم، فالزرْع لِصَاحِبِ البذر، وعليه لِأَصْحَابِهِ أجرة المثل، قال في "التتمة": فلو أصاب الزرع آفة ولم يحصل من الغِلَّةِ شَيْءٌ فلا شيء لهم؛ لأنهم لم يحصلوا له شيئاً ولا يخفى عدول هذا الكلام عن القياس الظَّاهر (¬1). والله أعلم. قال الغزالي: وَحُكْمُ الشَّرِكَةِ تَسْلِيطُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلى التَّصَرُّفِ بِشَرْطِ الغِبْطَةِ مَعَ الجَوَازِ حَتَّى يَقْدِرَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى العَزْلِ، وَتَنْفَسِخُ بِالجُنُونِ وَالمَوْتِ. قال الرَّافِعِيُّ: هذا أول القول في أحكام الشَّرِكة، والفَصْل ينظم حكمين: أحدهما: أن الشركة بالمعنى المَعْقُود لهذا الباب إِذَا تمت ووجد الإِذْن من ¬
الطَّرَفَينِ تسلط كُلُّ وَاحِدٍ من الشريكين عَلَى التصرف، وسبيل تَصَرّف الشَّرِيك كَسَبِيلِ تصرف الوَكِيل، فلا يبيع نِسِيئة، ولا بغير نَقْدِ البَلَدِ، ولا يبيع وَلاَ يَشْتَري بالغبن الفَاحِش إلا إذا أذن الشَّرِيك، فإن خالف وَباعَ بالغَبْنِ الفَاحش لم يَصِح في نصيب الشَّرِيك، وفي نصيبه قولا تفريق الصّفقة، إن لم يفرقها بقي المبيع على ملكهما والشَّركة بحالها، وإن فرقناها انفسخت الشَّركة في المبيع، وصار مشتركاً بين المشتري والشريك الذي بطل في نَصِيبه، وإن اشترى بالغَبْنِ نظر إن اشترى بعين مَالِ الشَّركة، فهو كما لو بَاع، وإن اشترى في الذِّمة لم يقع للشريك وعليه تَوْفِير الثمن من خَالِصِ مَالِهِ. وليس لأحدهما أن يسافر بِمَالِ الشركة، ولا ببعضه بغير إذن صاحبيه، فإن فعل ضمن. الثاني: الشركة جَائِزة، ولكل واحد منهما فسخها مَتَى شَاءَ، لما سبق أن حقيقتها التَّوكيل والتَوكُّل، فلو قال أحدهما للآخر: عزلتك عن التَّصرف، أو لاَ تتصرف في نَصِيبي انعزل المُخَاطَب، ولا ينعزل العَازِلُ عن التصرف في نَصيب المعزول، ولو قال: فَسَخْتُ الشركة انفسخ العقد، قال الإمام: ينعزلان عن التّصرف لارتفاع العقد، وأشار إلى أن ذلك مَجْزُومُ بِهِ، لكن صاحب "التتمة" ذكر وأن انعزالها مَبْنِي على أنه يجوز التَّصَرُّف بمجرد عَقْدِ الشركة أم لا بد من التَّصْرِيحِ بِالإِذْنِ؟ إن قلنا: بالأوَّلِ، فإذا ارتفع العَقْدُ انعزلا، وإن قلنا: بالثَّانِي، وكانا قد صَرَّحَا بَالإِذْنِ فلكل وَاحِدٍ منها التَّصَرُّف، إلى أن يَغْزَلاَ وكيف ما كان فالأئمة متطابقون على تَرْجِيَحِ القَوْلِ بانعزالهما، وأيد به الإمَام الوجه الذَّاهِب إلى أن لفظ الشَّرِكَة بمجرده يسلطهما على التَّصَرف فِيهِ، وكما تنفسخ الشركة بالفسخ تنفسخ بموت أَحَدِ المتعاقدين وجنونه وإغمائه كالوكالة، ثم في صُورة الموت إن لم يكن على الميت دَيْن، ولا هناك وَصِية، فللوارث الخيار بين القِسْمة وتقرير الشَّرِكَة، إن كان بالغاً رشيداً، وإن كان مولياً عليه لصغر أو جنون، فعلى وليه ما فيه الحَظِّ والمصلحة من الأمرين، وإنما يقرر الشّركة بِعَقْدِ مستأنف، وإن كان على المَيِّتِ دَيْنٌ فليس للوارث تقرير الشَّرِكة، إلا إذا قَضَى الدَّيْنَ من موضع آخر، وإن كان هناك وصية، نظر إن كانت الوصية لمعين فهو كاحد الورثة، وإن كانت لِغَيْرِ معين كالفقراء لم يجز تَقْرِير الشَّرِكة، حتى تخرج الوَصِيَّة، ثم هو كما لو لم تكن وصية. قال الغزالي: وَيَتَوَزَّعُ الرِّبْحُ وَالخُسْرَانُ عَلَى قَدْرِ المَالِ، فَلَوْ شَرَطَا تَفَاوُتاً بَطُلَ الشَّرْطُ وَفَسَدَ العَقْدُ، وَمَعْنَى الفَسَادِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِأجْرَةِ عَمَلِهِ فِي مَالِهِ وَلَوْ صَحَّ لَمَا رَجَعَ، وَلَوْ شَرَطَ زِيَادَةَ رِبْحٍ لِمَنِ اخْتَصَّ بِمَزِيدِ عَمَلٍ فَفِي صِحَّةِ الشَّرْطِ خِلاَفٌ. قال الرَّافِعِيُّ: من أحكام الشَّرِكة أن يكون الربح بينهما على قَدْرِ المَالَيْنِ شرطا أو لم يشرطَا، تساويَا في العملِ أو تفاوتَا، فإن شرطَا التَّساوي في الرَّبْحِ مع التفاوت في
المَالِ فهو فَاسِد، وكذا لو شَرَطَا التفاوت في الرِّبْحِ مع التساوي في المَالِ، نعم، لو اختص أحدهما بمزيد عَمَلٍ، وشرط له مزيد ربح، ففيه وجهان: أحدهما: صحة الشركة، ويكون القدر الذي يناسب مِلْكه له بِحَقِّ المِلْك، والزائد يَقَعْ في مقابلة العَمَل، ويتركب العَقْد من الشَّرِكة والقَرَاضِ. وأصحهما: المنع، كما لو شَرَطَا التفاوت في الخُسْرَانِ، فإنه يَلْغُو ويتوزع الخُسْران على المَالِ، ولا يمكن جعله شركة وقراضاً، فإن العَمَلَ في القَرَاضِ بيع مختصٌ بِمَالِ المَالِكِ، وهاهنا يتعلق بِمْلكِهِ وملك صاحبه. وعند أبي حنيفة -رضي الله عنه- يجوز تغيير نسبة الربح بالشَّرطِ، ويكون الشَّرْطُ متبعاً. لنا القياس: على طرود الخُسْرَان، فإنه يسلم توزيعه على قَدْرِ المَالَيْنِ وإن شرط خِلاَفه، وإذا فَسد لم يؤثر ذَلِك في فَسَادِ التصرفات لوجود الإذن، ويكون الربح على نِسْبَةِ المَالَيْنِ، ويرجع كُلُّ وَاحِدٍ منهما على صَاحِبِهِ بأجرة مِثْلِ عَمَلِهِ في ماله، على ما ذكره في الكتاب، وتفصيله أنهما إما أن يكونا متساويين في المَالَيْنِ أو متفاوتين، إن تساويَا فإما أن يتساويَا في العَمَلِ أيضاً، أو يتفاوتا فإن تساويا في العمل أيضاً فنصف عمل كل واحد منهما يقع في مَالِهِ، فلا يستحق به أُجْرة، والنَّصْف الآخر الواقع في مَالِ صاحبه يستحق عليه مِثْل بدله عليه فيقع في التقاص، وإن تفاوتا في العَمَلِ بأن كان عمل أحدهما يساوي مِائَة، وعمل الآخر مائتين، فإن كان عمل المشروط له الزيادة أكثر، فنصف عمله مائة، ونصف عَمَل صَاحِبِه خَمْسُون، فبقي له خمسون بعد التَّقَاص، وإن كان عَمَلُ صَاحِبِهِ أكثر، ففي رُجوعِهِ بِالخَمْسِينَ على المشروط له الزِّيَادَةِ وجهان: أحدهما: الرجوع، وهو ظاهر ما أَجَابَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، كما لو أفسد القَرَاض فيستحق العَامِلُ أجرةَ المِثْلِ. وأصحهما: المنع، ويحكى عَنْ أَبِي حنيفة -رحمه الله- لأنه عمل وجد من أحد الشريكين لم يشترط عليه عوض، والعَمَل في الشَّرِكة لا يقابله عِوَض، بدليل ما إذا كانت الشَّرِكَةُ صَحِيحةً، فزاد عَمَل أحدهما فإنه لا يستحق على الآخر شيئاً، ويجري الوَجْهَان فيما إذا فسدت الشَّركة واختص أحدهما بأصْلِ التصرف والعَمَلِ، هل يرجع بنصف أجرة عَمَلِهِ على الآخر؟ وأما إذا تفاوتا في المَالِ بأن كان لِأَحَدِهِمَا ألف ولآخر ألفان، فإما أن يتفاوتَا في العَمَلِ أيضاً أو يتساويا، فإن تفاوتا بِأن كان عَمَلُ صَاحِب الأكثر أكثر، بان كان عَمَلُه يساوي مِائَتَيْنِ، وعمل الاَخَرِ مِائَة، فثلثا عَمَلِهِ فِي مَالِهِ، وَثلثه في مَالِ صَاحِبِهِ، وعمل صَاحِبِهِ على العَكْسِ، فيكون لِصَاحِب الأكثر ثلث المائتين على صَاحِب الأقَل، ولصاحب الأقل ثلث المائة على صَاحِب الأكثر، وقدرهما واحد، فيقع في التّقاص،
فإن كان عمل صَاحِبِ الأَقل أكثر، والتفاوت كما صورنا، فثلث عمل صاحب الأقل في ماله وثلثاه في مال شريكه وثلثا عمل صاحب الأكثر في ماله وثلثه في مال شريكه فَلِصَاحِب الأَقَلِّ ثلثا المِائَتَيْنِ عَلَى صَاحِب الأَكْثَرِ، وهما مِائَةٌ وإن تَسَاوَيَا في العَمَلِ فَلِصَاحِبِ الأقل ثُلُثَا المِائَة على صاحب الأَكْثَرِ، ولصاحب الأكثر ثُلُثُ المِائَة عليه، فيكون الثلث بالثلث قصاصاً، يبقى لِصَاحِبِ ثُلثِ المِائَةِ ثَلاَثةٌ وثلاثُونَ وَثُلث. وقوله في الكتاب: (فلو شرطا تفاوتا بطل الشرط) مُعَلَّم بالحاء، لما عرفت أن أبا حنيفة -رحمه الله- يصححه. وقوله: (وفسد العقد) هذا هُو المَشْهُور، ونقل الإمام -رحمه الله- اختلافا للأصحاب -رحمهم الله- في أن الشَّرِكَة تفسد بِهَذَا الشَّرط، أو يطرح الشَّرْط، والشركة بحالها لنفوذ التصرفات ويوزع الربح على المَالَيْن، ولم يتعرض غيره لحكاية الخِلاف بل جزموا بنفوذ التَّصرفات، ويوزع الرِّبح على المَالَيْنِ، وبوجوب الأُجْرَة في الجُمْلَةِ. ولَعَلَّ الخلاف رَاجِع إلى الاصطلاح، فبعضهم يطلق لفظ الفَسَاد وبعضهم يمنع منه؛ لبقاء أكثر الأحكام. وقوله: (ومعنى الفساد إلى آخره)، أشار به إلى أن أَثَر الفَسَادِ الرجوع بالأجرة، فإن الشَّرِكَةَ لو كَانَتْ صحيحةً لما ثبت استحقاق الأُجْرَة، ويجوز إعلام قوله: (يرجع بالأجرة) بالحاء، لأن عنده لا رجوع بها لِصِحَّة الشَّرْطِ، وما ذكرنا من معنى الفَسَاد عند تعيين نسبة الرِّبْح، جارِ في سائر أسْبَابِ الشَّرِكَةِ، نعم، قال الإمام -رحمه الله-: لو لم يكن بين المَالَيْنِ شيوع وخلط فلا شركة هاهنا على التحقيق، وثمن كل واحد من المَالَيْنِ يختص بمالكه ولا يقع مشتركاً، والكلام في الصِّحَّةِ والفساد، إنما يكون بعد حُصُولِ تعيين الشَّرِكَةِ، فإن جَرَى توكيل من الجَانِبَيْنِ لم يَخْفَ حُكْمُه، وينبني على الخِلاَف المذكور فيما إذا شرط زِيَادَة رِبْحٍ لمن اختص بميزد عَمَلٍ. فرعان: أحدهما: إذا جوزنا ذلك فلو لم يشترطاه ولا اشترطا توزيع الربح على قَدْرِ المالين بل أطْلقَا فعن صَاحِبِ "التقريب" والشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ ذكر خِلاَف في أن الرَّبْحَ يتوزع على المَالَيْن، وتكون زيادة العمل تبرعاً منه، أو يثبت للزِّيادَةِ أجْرَة تخريجاً على مَا إذا استعمل صانعاً، ولم يذكر له أجرة. الثاني: إذا شرطا زيادة رِبْح لِمَنْ زَادَ عَمَله، ففي اشتراط استبداده باليد وجهان، وكذا لو شرطا انفراد أحدهما بالعَمَلِ في وجه يشترط كما في القَرَاضِ، وفي وَجْهٍ لا جَرْياً على قضية الشَّرِكَةِ، والخِلاَف في جَوَازِ اشتراط زيادة ربح لمن زاد عمله، جاز
فيما إذا اشترطا انفراد أحدهما بالتَّصَرُّف، وجعلا له زيادة رِبْحٍ، وفي وجه يجوز هاهنا، ولا يجوز فيما إذا اشتركا في أَصْلِ العَمَلِ؛ لأنه يدري بِأَيِّ عَمَلٍ حصل فيحال به على المَالِ، أورده في "الوسيط". قال الغزالي: وَمِنْ حُكْمِهَا كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ أَمِيناً القَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ تَلَفٍ وَخُسْرَانٍ، إِلَّا إِذَا ادَّعَى هَلاَكاً بِسَبَبِ ظَاهِرٍ فَعَلَيْهِ إِقَامَةُ البَيِّنَةِ عَلَى السَّبَبِ، ثُمَّ هُوَ مُصَدَّقٌ فِي الهَلاَكِ بِهِ، وَالقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا اشْتَرَاهُ أَقَصَدَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ مَالَ الشَّرِكَةِ، فَإِنْ قَالَ: كَانَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ فُخَلُصَ لِي بِالقِسْمَةِ فَالقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِهِ فِي إِنْكَارِ القِسْمَةِ. قال الرَّافِعِىُّ: في الفَصْلِ مسألتان: إحداهما: من أحكام الشَّرِكَة، أن يَدَ كُلِّ واحد من الشَّريكين يد أمانة كيد المُودع والوَكِيل، ولو ادعى رَدّ المَالِ إلى شَرِيكهِ قَبْلَ قوله كالمودع والوَكِيل بِغَيْرِ جعل، ولو ادعى خسراناً أو تلفاً فكذلك، كالمودع إذا ادعى التَّلَف، وكل واحد من الشَّرِيكَيْنِ، والمودع إذا أسند التَّلَف إلى سَبَبٍ ظاهر طُولِبَ بالبينة عَلَيْهِ، فلو أقامها صدقا في الهَلاَكِ به، وسيأتي ذِكْرُه في الوَدِيعَةِ، فَهذا ادعى أحدُ الشَّرِيكَيْنِ خيانةٌ عَلى الآخَرِ، لم تُسْمَع الدَّعْوَى حتى يبين قَدْرَ مَا خَانَ بِهِ، فإذا تبين سُمِعت والقول قول المُنْكِر مع يمينه. الثانية: في يد أحد الشريكين مالٌ واختلفا فقال من في يده: إنه لي، وقال الآخر: بل هُوَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَة، أو عكسه فالقول قول صاحب اليد وهذا يقع عند ظُهُورِ الرِّبْحِ فِيهِ، أو قال المُشْتَرِي: اشتريته من الشَّرِكَة، وقال الآخر: بل لِنَفْسِك، وهذا يقع عند ظُهور الخُسْرَانِ، فالمصدق المشتري؛ لأنه أعرف بِمَقْصِدِهِ، ولو قال صَاحِبُ اليَدِ: قسمنا مَالَ الشَّرِكةِ، وهذا مُخْتَص بِي، وقال الآخر: لم نقسم بَعْد وهو مشترك، فالقول قول نَافي القِسْمَة؛ لأن الأَصْلَ بقاء الشَّركَة وعلى مُدَّعِي القسمة البَيِّنَة، ولو كَانَ في أيديهما أو في يَدِ أَحَدِهِمَا قال، وَقَالَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: هَذَا نَصِيبي من مَالِ الشَّرِكَةِ، وأنت أخذت نَصِيبك، حَلَفَ كُلُّ وَاحدٍ مِنْهُمَا، وجُعَلَ المَالُ بينهما، فإن حَلَفَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآخر قضى له. والله أعلم. قال الغزالي: وَإِذَا بَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِإذْنِ الآخَرِ عَبْداً مُشْتَرِكاً ثُمَّ أَقَرَّ الَّذهي لَمْ يَبعْ أَنَّ البَائِعَ قَبَضَ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَهُوَ جَاحِدٌ فَالمُشْتَرِي بَرِئٌ مِنْ نَصِيبِ المُقِرِّ لإِقْرَارِهِ، وَلِلْبَائِعِ طَلَبُ نَصِيبِهِ مِنَ المُشْتَرِي، فإن اسْتَحْلَفَهُ المُقِرُّ فَحَلَفَ أنَّهُ لَمْ بَقبِضْ سَلَّمَ لَهُ مَا قَبَضَ، وَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الخَصْمُ وَاسْتَحَقَّ، وَلَوح كَانَتِ المَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَلَكِنْ أَقَرَّ البَائِعُ أَنَّ الَّذِي لَمْ يَبعْ قَبَضَ الثَّمَنَ كُلَّهُ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُ الوَكِيلِ عَلَى المُوَكِّلِ، وَبَرِئَ المُشْتَرِي مِنْ مُطَالَبَةِ
المُقِرِّ بِأَنَّ شَرِيكِي قَبَضَ إِذَا كَانَ شَرِيكُهُ أَيضاً مَأَذُوناً مِنْ جِهَتِهِ، وَلَمْ يَبْرأَ مِنْ مُطَالَبَةِ الجَاحِدِ فَلَهُ أَخْذُ نَصِببِهِ مِنَ المُشْتَرِي. قال الرَّافِعِ: إذا كان بين اثنين عَبْد فباعه أَحَدُهُمَا بِإذْنِ الآخر، وكان البَائِعُ مَأْذُوناً فِي قَبْضِ الثَّمَنِ أيضاً، أو قلنا: إن الوَكِيلَ بالبيع يَمْلِك قَبْضَ الثَّمَنِ، ثم اختلف الشَّريكان في القَبْضِ، فذلك يصور عَلَى وَجْهَيْنِ: أحدهما: أن يقول الشَّرِيك الذي لم يبع لِلَّذي بَاعَ: قبضت الثَّمَنَ كُلَّه، فسلم إليَّ نصيبي، ويساعده المُشْتَرِي على أن البائع قبض وينكر البَائِع، فيبرأ المُشْتَرِي عن نصيب الَّذِي لَمْ يَبعْ لاعترافه بأن البَائِعَ الذي هو وَكَّله بالقبض قَدْ قبض، ثم هاهنا خصومة بين البَائِع والمُشْتَري، وخصومة بين الشَّريكين، وربما تَقدَّمت الأولى على الثَّانِية وَرُبَّما تأخرت، فَإِنْ تَقَدَّمت خصومة البَائِع والمشْتَري فطالب البَائِع المُشْتري بنصيبه من الثَّمَن، وادعى المُشْتَرِي أنه أداه نظر إن قامت للمشتري بينة على الأداء اندفعت المُطَالبة عنه، فإن شَهِد له الشَّرِيك الَّذِي لَمْ يَبع لم تقبل شَهَادَتُه في نَصِيبِهِ؛ لأنه لَوْ ثبت ذلك، لطَالَبَ المشهود عَلَيْهِ بحقه، وذلك جَرَّ نَفْعٍ ظَاهِر، وفي قبولها في نَصِيب الآخر قَوْلاَن، بناءً على أن الشَّهَادَة هَلْ تتبعض؛ كماَ لو شَهِد أنه قذف أُمه وأجنبية، هل تقبل في حَقِّ الأجنبية؟ وإن لم تكن بينة فَالْقولُ قولُ البَائِع مع يمينه أنه لم يقبض، فإن حَلَفَ أخذ نصيبه من المُشْتَرِي، ولا يُشَارِكه الَّذِي لم يبع فيه، لإقراره بأنه أخذ الحَقَّ من قبل، وزعمه أن ما أخذه الآن أخذه ظُلْماً، وإن نَكَل وحلف المشتري انقطعت الطَّلبة عنه، وإن نكل المُشْتَرِي أيضاً فعن ابْنِ القَطَّانِ وجه أنه لا يؤاخذه بِنَصِيبِ البَائِع؛ لأنا لاَ نحكم بالنّكُولِ والمَذْهب خِلاَفُه، وليس هَذَا حكم بالنكول، وأن ما هو مؤاخذة له بإِقْرَارِه بلزوم المَالِ بالشَّرَاءِ ابتداء، ثم إذا انفصلت خصومة البَائِع والمُشْتَري، فلو جاء الشَّرِيك الذي لَمْ يَبع يطالب الذي بَاعَ بحقه بزعمه أنه قبض الثَّمن فعليه البَيِّنَة، ويصدق البَائِع أنه لم يقبض إلا نَصِيبه بعد الخُصُومة الجَارِية بينهما، فإن نَكَلَ البَائِع حلف الذي لَمْ يَبع، وأخذ منه نَصِيبَ نَفْسِهِ، ولا يرجع البَائِع به على المُشْتَرِي؛ لأن بزعمه أن شريكه ظلمه بما فعل، ولا يمنع البَائِع من الحَلِف، ونكوله عن اليَمين في الخُصُومة مع المُشْتَرِي؛ لأنها خصُومة أُخْرَى مَعَ خصم آخر، هذا إذا تَقَدَّمت خُصُومةُ البَائِع والمُشْتَرِي، وتلتها خُصُومه الشَّرِيكَيْنِ، فهذا تَقَدَّمت خصومةُ الشَّريكين، فادعى الَّذِي لَمْ يَبعْ قَبْضَ الثمن على البَائِع وطالبه بحقه، فَعَلَيْهِ البَيِّنَة ولا تقبل شَهَادة المُشْتَرِي لَهُ بحال؛ لأنه يَدْفع عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ له بينة حَلَف البَائع أنه مَا قبض، فإن نكل حَلَف الَّذِي لَمْ يَبع، وأخذ نَصِيبَه من البَائِع، ثم إذا انفصلت خصومة الشريكين، فلو طالب البَائِع المُشْتَرِي بِحَقِّه، وادعى المُشْتَرِي الأداء فَعَلَيْهِ البينة، فإن لم تكن بينة حَلَفَ البَائِعُ وقبض حَقَّه، فإن نَكَل
المُشْتَرِي وَبَرِئَ، ولا يمنع البَائِع مِنْ أَنْ يَحْلِف، ويطلب من المُشْتَرِي حقه نكوله في الخُصومة الأولى مع شِرِيكه، وعن حِكَاية الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ: أنه يمنعه بناءً على أن يمين الرَّدِّ كالبينة، أو كإقرار المُدَّعَى عَلَيْهِ إن كانت كالبينة، فكأنه قامت البَيَّنَةَ عَلَى قَبْضِهِ جميع الثَّمَن، وإن كانت كالإقرار فكأنه أَقَرَّ بِقَبْضِ جَميع الثَّمَنِ، وعلى التَّقْدِيرَينِ يمتنع عليه مُطَالبة المُشْتَرِي، وهذا ضَعيفٌ باتفاق الأئِمة؛ لأن اليمين إِنَّمَا تَجْعل كالبينة، أو كالإِقْرَار له فِي حَقِّ المتخاصمين، وفِيمَا فيه تَخَاصِمهما لا غير، وَمَعْلوم أَنَّ الشريكَ إِنَّما يَحْلِف على أنه قَبَضَ نَصِيبه، فإنه الذي يُطَالب به، فكيف يؤثر يمينه في غَيْرِه وعلى ضَعْفِه؟ فقد قال الإمام -رحمه الله-: القياس طَرْدُه فيما إذَا تَقَدَّمت خُصومةُ البَائِع والمُشْتَرِي، وَنَكَلَ البَائِعُ وَحَلَفَ المُشْتَرِي اليَمِين المَرْدُودَة حتى يقال: تثبت لِلَّذِي لم يبع مُطَالَبة البَائِع بِنَصِيبهِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ خُصومَةٍ، لكون يَمِين الرَّد بمنزلة البينة أو الإقْرَار والله أعلم. فهذا أحد وَجْهَي اختلاف الشَّرِيكين في القَبْضِ. والوجه الثَّاني: أن يقول الشَّرِيك البَائِع لِلَّذي لم يبع: قبضت الثَّمن كلَّه وصدقه المُشْتَري، فأنكر الذي لَمْ يَبع فَلَهُ حَالَتَان: إحداهما: أن يكون الذي لم يبع مأذوناً من جِهَة البَائِعِ في قَبْضِ الثَّمَنِ، فيبرأ المُشْتَرِي عن نَصِيب البَائِع، لاعترافه بأن وكيله قَدْ قبض، ثم تعرض خُصُومتان كَمَا فِي النِّزَاع الأَوّلِ، فَإِنْ تَخَاصَمَا الذي لَمْ يَبعْ والمُشْتَرِي، فالقولُ قولُ الَّذِي لم يبع في نَفْيِ القَبْضَ، فَيَحْلِف ويأخذ نصيبه ويسلم له المأخوذ، وإن تَخَاصَم البَائِع والَّذِي لم يبع حلف الَّذِي لَمْ يَبع، فإن نَكَلَ حَلف البَائِعُ وأخذ منه نَصِيبَه ولا رجوعَ لَهُ عَلى المُشْتَرِي، وكل ذلك كَمَا مَرَّ في النِّزاعِ الأَوَّلِ، ولو شَهِد البَائِع لِلْمُشْتَرِي عَلَى القَبْضِ لم تقبل؛ لأنه يشهد لِنَفْسِهِ على الذي لَمْ يَبع. والحالة الثانية: أن لا يَكُون الَّذِي لم يبع مأذوناً من جِهَةِ البَائِعِ فِي القَبْضِ فلا تبرأ ذِمَّة المُشْتَرِي عَنْ شَيْءٍ من الثَّمَنِ، أما عَن حق الذي لم يبع، فلأنه مُنْكر في القَبْض، ومصدق في إنْكَاره بيمينه، وأما عن الَّذِي بَاعَ فلأنه لم يَعْتَرِف بقَبْضٍ صَحِيحٍ، ثم لا يخلو: إما أن يكون البَائِعُ مأذوناً من جِهَةِ الَّذِي لم يبع في القَبْضِ، أو لا يكون هو مأذوناً أيضاً. القسم الأول: أن يكون مأذوناً فله مُطَالبة المُشْتَري بِنَصِيبِهِ مِنَ الثَّمَنِ، ولا يتمكن من مُطَالَبَتِهِ بنصيب الَّذِي لم يبع؛ لأنه لَمَا أقر بِقَبْضِ الَّذِي لَمْ يَبعْ نَصِيبَه، فَقَدْ صَارَ معزولاً عَنْ وكالته، ثم إذا تَخَاصَم الَّذِي لم يبع والمُشْتَرِي، فعلى المُشْتَري البينة على القَبْضِ، وإن لم تَكُنْ البَيِّنَة، فالقولُ قَوْلُ الذي لَمْ يَبع، فإذا حَلَف ففيمن يَأْخُذ حَقَّه منه؟
وجهان: قال المُزَنِيّ وَابْنُ القَاصّ وآخرون: إن شاء أخذ تَمَام حَقّه من المُشْتَرِي، وإن شَاءَ شارك البَائِع في المَأْخُوذ وأخذ البَاقِي من المُشْتَرِي؛ لأن الصَّفقة واحدة، فَكُلّ جُزْءٍ مِنْ الثَّمَنِ شَائِعٌ بينهما، فإن أخَذَ بِالْحِصَّة الثانية لم يبق مع البَائِعِ إلَّا ربع الثَّمَن، ويفارق هَذَا ما إذا كان الذي لم يبع مأذوناً في القَبْضِ، حيث لا يشاركه البَائِع فيما يأخذه من المُشْتري؛ لأن زعمه أن الذي لَمْ يبع ظَالِمٌ فيما أخذه فلا يُشَارِكه فيما ظلم به، قال ابْنُ سُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ: ليس له إلا أخذ حقه من المُشْتَرِي، ولا يشارك البَائِع فيما أخذه؛ لأن البَائعَ قد انعزل عن الوَكَالَة بإقراره، وأن الَّذي لَمْ يبع قَبْض حَقّه فيما يأخذه بعد الانعزال يأخذه لنفسه خَاصَّة، وهذا كلام استحسنه الشَّيْخُ أبُو حَامِدٍ والشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، لَكِنْ أبو عَلِيّ قال: إنه وإن انعزل فالمسألة تحتمل وجهين؛ بناءً على أن مالكي السَّلْعَة إذا بَاعَاها بصفقة وَاحِدَةٍ هل ينفرد أحدهما بِقَبْضِ حصته من الثَّمنَ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، بل إذا انفرد بأخذ شَيْءٍ شاركه الآخر فيه، كما أن الحَقَّ ثابت لِلْوَرثة، لا ينفرد بعضهم باستيفاء حصته منه، ولو فعل شاركه الآخرون فيه، وكذا لو كاتبا عبدهما صفقة وَاحِدة، لم ينفرد أحدهما بأخذ حَقِّه من النُّجُومِ. والثاني: نعم، كما لَوْ بَاعَ كل واحد منهما نصيبه بعَقْدِ مفرد، ويخالف المِيرَاث والكتابة، فإنهما لا يثبتان في الأَصْلِ بصفة التّجزيء، إذ لا ينفرد بَعْضُ الورثة ببعض أعْيَانِ التركة، ولا تجوز كَتَابَة بَعْضِ العَبْدِ، فلذلك لَمْ يَجُز التجزيء في القبض، ولو شَهِد البَائِع لِلْمُشْتري على أن الذي لم يبع قد قبض الثَّمن، فعلى قول المُزَنِي: لا تقبل شهادته؛ لأنه يدفع بها شركة صَاحِبه فيما أخذه، وَعَلى ما ذكره ابْنُ سُرَيْج تقبل. والقسم الثَّاني: أن لا يكون البائع مأذوناً في القَبْضِ، قال أصْحابنا العراقيون: للبائع مطالبة المُشْتري بحقه هاهنا وما يأخذه يسلم له، وتقبل هاهنا شهادة البَائِع لِلْمُشْتَرِي على الذي لَمْ يَبع، وقياس البِنَاء الذي ذكره الشَّيْخُ أَبُو عَلِيّ عود الخِلاَف في مُشَاركة صَاحِبه، فيما أخذه تَخْرِيج قبول الشَّهَادة على الخِلاَف، ويجوز أن يستفاد من جَوَابهم ترجيح الوجه الصَّائِر إلى الأَصْلِ المبني عليه، أن كُلَّ شَرِيك ينفرد بقبض حِصَّته على أني رأيت في فَتَاوَى الحَنَّاطِي حكاية وجه: أن أحدَ الموارثين أيضاً إذا قبض من الدَّيْنِ قَدْرَ حصته لم يشاركه الآخر، إلا أن يأذن له المَدْيُون في الرّجُوعِ عَلَيْهِ، أو لا يجد مالاً سواه، هذا فقه المسألة. واعلم أن المزني أجاب في الوَجْهِ الثَّانِي من اختلاف الشَّريكين بان المشتري يبرأ من نِصْفِ الثمن بإقرار البَائِع أن شريكه قد قبض؛ لأنه في ذلك أمين، وظاهر هَذَا يشعر بسقوط نصيب الذي لم يبع، كما أن في الوجه الأول من اختلافهما سقط نصيب الذي لم يبع، والأصْحَاب فيما أطلقه فريقان فغلّطه فرقة منها ابْنُ سُرَيْجٍ وَأَبو إسْحَاق وقالت:
إنه نقل هذه المسألة من كتب أهل العراق، فإنهم يقبلون إقرار الوَكِيل على الموكل باستيفاء الثَّمَنِ، والبائع وكيل الذي لم يبع، فيسقط بإقراره أن الموكل قد قَبضَ حَقَّه، فأما على أَصْل الشَّافعي -رضي الله عنه- فإن إقرار الوَكِيل على الموكل غَيْر مَقْبول، فلا يسقط بإقرار البَائِع حَقّ الذي لم يَبع. وفرقه أولت كلامه، ولهم قولان عن ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وغيره: أنه ما أراد بقوله: (برئ المُشْتَرِي من نِصْفِ الثمن) البراءة المطلقة، وانما أراد براءة مُطَالبة البَائِع بالنَّصف؛ لأن زعمه أن شريكَه قد قبض حَقَّه فلا يمكنه المطالبة به. ومنهم من حمله على ما إذا كان الذي لم يبع ماذوناً من جهة البَائِع في القَبْض أيضاً، فإذا أقر البَائع بأن شَرِيكه قبض، وقد أقر بقبض وكيله، فعلى هذا فالنّصف السَّاقِط هو نصيب المُقر، كما في الاختلاف الأول. واعلم أن المَسْأَلة لا اختصاص لها بالشَّركة المعقود لها البَاب، وإنما هِيَ موضوعة في مُطْلَق الشَّرِكة. وقوله في الكتاب: (فإن نكل حلف الخصم واستحق) أي إن نكل البائع وحلف الذي لم يبع، واستحق نصيبه على شريكه. وقوله في الصورة الثانية: (لم يقبل إقرار الوكيل على الموكل)، الوكيل هاهنا الذي بَاع، والموكل الَّذِي لم يبع، وقوله: (وبرئ المشتري من مطالبة المقر، بأن شريكي قبض) إلى آخره قد يوهم مغايرة هذه اللَّفْظَة، لقوله في الصُّورة السَّابِقة: "المشتري يبرأ من نَصِيب المقر لإقراره"، فرق بينهما في هَذَا الحُكْم ولا فرق، وَليس في تَغَاير اللَّفْظَيْن فقه. وقوله: (ولم يبرأ من مطالبة الجَاحِد) كالشرح والإيضاح لِمَا مَرّ، وإلا ففي قوله: (لم يقبل إقرار الوكيل على الموكل) ما يفيده، فإنه إذا لم يقبل إقْرَار البَائِع عليه، ففي حقه ومطالبته بحالهما، ويجوز أن يقال: قوله: (لم يقبل إقرار الوكيل على الموكل) إشارة إلى القَاعِدة الكلِّيَةِ في الوكلاء والمُوَكلين. وقوله: (ولم يبرأ من مطالبة الجَاحِد)، بيان قياس تلك القاعدة وثمرتها فيما نحن فيه. فرع: نتأسى في خَتْمِ الكِتَاب بالمزني والأصْحَاب، وان لم يكن له كبير اختصاص بالبَاب عبد بين رجلين غصب غاصب نصيب أحدهما بأن نزل نفسه منزلته، وأزال يَد صاحبه يَصِح من الذي لم يَغْصب نصيبه بيع نصيبه، ولا يَصِحّ من الآخر بيع نَصِيبه إلا من الغَاصِب، ولو بَاعَ الغَاصِبُ والذي لم يَغْصب نصيبه، جميع العَبْد في عَقْدٍ واحدٍ
بطل في نَصِيب الغَاصِبِ، وصَحَّ في نَصِيب المَالِك، ولا يخرج على الخلاف في تفريق الصفقة، لأن الصفقة تتعدد بتعدد البائع، ومنهم من قال: ينبني القول في نَصِيب المَالِك على أن أحد الشَّرِيكين إذا بَاعَ نِصْفَ العَبْدِ مطلقاً ينصرف إلى نصيبه أم يشيع، وفيه وجهان، وهذه المَسْأَلة مذكورة في الكِتَاب في بَابِ العِتْقِ. فإن قلنا: ينصرف إلى نَصِيبه صَحَّ بيع الماِلك في نصيبه. وإن قلنا: بالشيوع يبطل البيع في ثَلاَثَةِ أَرْبَاع العَبْدِ، وفي رُبُعِهِ قولان، ولا ينظر إلى هَذَا البناء فيما إذا بَاعَ المَالِكَان معاً وأطلقَا، ولاَ يجعل كما إذا أطلق كُلُّ وَاحِدٍ منهما بيع نِصْف العبد؛ لأن هناك تناول العقد الصَّحيح جميع العبد. والله أعلم.
كتاب الوكالة
كِتَابُ الوكَالةِ قال الغزالي وِفَيه ثَلاَثَةُ أَبْوَابِ البَابُ الأَوّلُ في أَركْانهَا قال الرافعي: الحاجة الداعية إلى تجويز الوكالة ظاهرة، وثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه توكل السعاة لأخذ الصَّدَقات (¬1). وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- وَكَّلَ عُرْوَةَ الباَرِقِيَّ -رضي الله عنه- ليشتري له شاة للأضحية (¬2)، وعَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمرِيَّ -رضي الله عنه- لقبول نكاح أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْت أبي سُفْيَانَ (¬3) -رضي الله عنه-، وَأبَا رَافِعٍ لقبول نكاح مَيْمُونَةَ (¬4). وعن جَابِرٍ -رضي الله عنه- قال: أردت الخروج إلى خيبر، فذكرته لرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال إذاً لَقِيتَ وَكِيْلي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَر وَسْقاً فَإن ابْتَغَى مِنْكَ آية فضع يدك على تُرْقوته (¬5) وقد أدرج صاحب الكتاب -رحمه الله تعالى- مسائل الوَكَالة في ثلاثة أبواب: أحدها: في أركانها، وبيّن فيه ما يعتبر في كل واحد منها لصحة العقد، فيعرف بذاك صحيح الوكالة وفاسدها. ¬
والثاني: في أحكام الوكالة الصحيحة فهي فائدة العقد وثمرته. وثالثها: في الاختلاف؛ لأنهما قد يختلفان في أصل العقد وكيفيته وتعرض لسببه أحكام يحتاج إلى الوقوف عليها. أما الأركان فلا يخفى أن التوكيل تفويض، ولا شك أن التفوبض يكون في شيء يصدر من شخص إلى شخص، ويتحصل بشيء، وهذه الأريعة التي ذكرناها، بكن جعلها أركاناً للوَكَالة كجعل البائع والمشتري والمبيع أركاناً للبيع، وفيه كلام قدمناه في البيع. قال الغزالي: وِهَيَ أَرْبَعَةٌ الأَولُ مَا فِيه التَّوْكيِلُ وُشُرُوُطُهُ ثَلاَثَةٌ: (الأَوَّل): أَنْ يَكُونَ مَمْلوكاً لِلمُوَكِّل، فَلَو وُكِّلَ بَطَلاَقِ زَوْجِةٍ سَيَنْكِحُهَا، أَوْ بَيْعِ عَبْدٍ سَيَمْلِكُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ. قال الرافعي: الركن الأول ما فيه التوكيل وله شروط. أحدها: أن يكون ما يوكل فيه مملوكاً له فلو وكل غيره في طلاق امرأة سينكحها أو بيع عبد سيملكه أو إعتاق كل رقيق يملكه فوجهان. أحدهما: أن هذا التوكيل باطل؛ لأنه لا يتمكن من مباشرة ذلك بنفسه، فلا ينتظم منه إنابة غيره فيه. والثاني: صحيح، ويمكن بحصول الملك عند التصرف، فإنه المقصود من التوكيل. ويجري الوجهان فيما إذا وكله بقضاء كل دين سيلزمه، وتزويج ابنته إذا انقضت عدتها أو طلقها زوجها، وما أشبه ذلك (¬1)، وبالوجه الثاني أجاب القَفَّالُ في "الفتاوى"، وهو الذي أورده في "التهذيب"، والأول أصح عند أصحابنا العراقيين، والامام، ولم ينقل صاحب الكتاب غيره، ويجوز أن يقال: الخلاف عائد إلى الاعتبار بحال التوكيل، أو بحال إنشاء التصرف، وله نظائر. قال الغزالي: (الثَّانِي): أَنْ يَكُونَ قَابلاً لِلنِّيَابَةِ كَأَنْوَاعِ البيْع، وَكَالحِوَالَةِ، والضَّماَنِ، وَالكَفَالَةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالوَكَاَلَةِ، وَالمُضَارَبة، وَالجعَالَةِ، وَالمُسَأَقَاة، وَالنِّكَاحِ، وَالطَّلاَقِ، ¬
وَالخُلْعِ، وَالصُّلْحِ، وَسَائرِ العُقُودِ، وَالفُسُوخِ، وَلاَ يَجوزُ التَّوكيلُ في العِبادَاتِ إِلاَّ في الحَج وأَداءِ الزَّكَوَاتِ، وَلاَ يَجوزُ في المَعَاصِي كَالسَّرِقَةِ وَالغَصْبِ وَالقَتْلِ بَلْ أَحكامُهَا تَلْزمُ متعاطيها، وَيلْتحِقُ بِفَنِّ العِبَادَاتِ الأَيْمَانُ وَالشَّهَادَاتُ فإِنّهَا تَتَعلَّقُ بأَلفْاَظٍ وَخَصَائصِ، وَاللِّعَانُ وَالإِيلاَءُ مِنَ الأَيْمَانِ، وَكَذَا الظِّهَار عَلَىَ رَأْيٍ، وَيجوزُ التَّوكْيلُ بقَبْضِ الحُقُوق، وفَي التَّوكْيل بإثْباتِ اليَدِ على المُبَاحَاتِ كَالاصْطيادِ وَالاسْتِقَاءِ خِلاَفٌ، وفي التَّوكْيل بِالإِقْرَارِ خِلاَفٌ لتَردُّدِهِ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالالْتِزامَاتِ، ثُمَّ إِنْ لَم يَصحَّ فَفي جَعْلِهِ مقرَّاً بِنَفْسِ التَّوكْيل بالخُصُومَةِ بِرضَا الخَصْمِ وَغَيْرِ رِضَاهُ (ح)، وَباسْتِيفاءِ العُقوباتِ فيِ حُضُورِ المُسْتَحِقِّ، وفيِ غَيْبَتِهِ طَرِيقَانِ، أَحدُهُمَا المَنْعُ، وَالآخَرُ قَوْلاَنِ، وَقِيل بالَجَوازِ أَيضاً. قال الرافعي: يشترط في الموكل فيه أن يكون قابلاً للنيابة، فإن التوكيل تفويض وإنابة، والذي يفوّض فيه التوكيل أنواع. منها: العبادات، والأصل فيها إمتناع النيابة؛ لأن الإتيان بها مقصود من الشخص عينه ابتلاءً واختباراً، واستئني الحج للأخبار (¬1)، ومن جنس الصلاة ركعتي الطواف (¬2)، على كلام فيهما ياتى في "الوصايا"، وتفريق الزكاة والكفارات والصدقات؛ إلحاقاً لها بسائر الحقوق المالية، وذبح الضحايا والهدايا، فإن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أناب فيه (¬3)، وفي صوم الوليّ عن الميت خَلاَفٌ سبق في موضعه، وألحق بالعبادات الأيمان والشهادات. قال في "الوسيط": لأن الحكم في الأيمان يتعلق بتعظيم اسم الله -تعالى- فامتنعت النيابة فيها كالعبادات، وفي الشهادات علقنا الحكم بخصوص لفظ الشهادة، حتى لم يَقُمْ غيرها مقامها، فكيف يحتمل السكوت عنها بالتوكيل؟ ومن جمله الأيمان الإيلاء، واللعان، والقسَامة، فلا يجوز التوكيل في شيء منها. وفي الظهار وجهان، بناء على أن المغلب فيه معنى اليمين أو الطلاق، والظاهر عند المعظم منع التوكيل فيه، وذكر في "التتمة" أن الظاهر الجواز، وأن المنع مذهب ¬
المُزَنِيِّ، وفي معنى الأيمان النذور، وتعليق الطلاق، والعتق والتدبير. وفي "التتمة" أن الحكم في التدبير يبنى على أنه وصية، أو تعليق عتق بصفة. فإن قلنا بالثاني منعناه. ومنها: المعاملات، فيجوز التوكيل في طرفي البيع بأنواعه. قال الغزالي: من السَّلَمِ والصَّرْف والتَّوليَةِ، وغيرهما، وفي الرهْنِ والهبة والصُّلْحِ والإبَّراءِ وَالحِوَالَةِ وَالضَّمَانِ وَالكَفَالَةِ وَالشَّرِكَةِ والوَكَالَةِ والمُضَارَبِةِ والإِجَارةِ وَالجَعَالَةِ والمُسَاقَاةِ وَالإِيْدَاع والإِعَارةِ والأخذ بالشُّفْعَةِ والوَقْفِ والوصِيَّةِ وقبولها. وعن القَاضي الحُسَيْنِ حكاية وجهٍ: أنه لا يجوز التوكيل في الوصية؛ لأنها قُرْبة، ويجوز التوكيل في طرفي النكاح والخلع، وفي تنجيز الطَّلاَقِ والعِتَاق والكِتَابة ونحوها (¬1)، وفي الرجعة وجهان. أصحهما: الجواز كابتداء النكاح، فإن كل واحد منهما استباحة فرج محرم: والثاني: المنع كما لو أسلم الكافر على أكثر من أربع نسوة، ووكل بالاختيار، وكذا لو طلق إحدى امرأتيه، وأعتق أحد عبديه، ووكل بالتعيين (¬2). وكما يجوز التوكيل في العقود يجوز في الإِقَالَةِ، وسائر الفسوخ، نعم ما هو على الفور، فالتأخير فيه بالتوكيل قد يكون تقصيراً. وفي التوكيل في خيار الرؤية خلاف سبق في موضعه، ويجوز التوكيل في قبض الأموال مضمونة كانت أو غير مضمونة، وفي قبض الديون وإقباضها (¬3). ومنها الجزية، فيجوز التوكيل في قبضها وإقباضها، نعم يمتنع توكيل الذمي المسلم فيه على رأي مذكور في "كتاب الجزية" (¬4). ومنها: المعاصي كَالقَتْلِ والقَذْفِ والسَّرِقَةِ والغَصْبِ، فلا مدخل للتوكيل فيها، بل أحكامها تثبت في حق مرتكبها؛ لأن كل شخص بعينه مقصود بالأمتناع عنها، فإن فعل ¬
أجري حكمها عليه. ثم في الفصل وراء هذه الصور المبتورة مسائل: إحداها: في التوكيل في تملك المباحات، كإحياء المَوَاتِ والاحتطاب والاصطياد والاستقاء وجهان. أصحهما: الجواز حتى يحصل الملك للموكل، إذاً قصده الوكيل؛ لأنه أحد أسباب الملك فأشبه الشراء (¬1). والثاني: المنع كالأغتنام؛ لأن الملك فيها يحصل بالحِيِازَةِ، وقد حدث من التوكيل، فيكون المِلْكُ له، ولو استأجره ليحتطب له، أو يستقي، ففي "التهذيب" أنه على الوجهين، وبالمنع أجاب القاضي ابْنُ كَجٍّ، ورأى الإمام جواز الاستئجار مجزوماً به، فقاس عليه وجه تجوير التوكيل (¬2). الثانية: في التوكيل بالأقرار وجهان، وصورته أن يقول: وكلتك لُتقَّرعني لفلان (¬3): أظهرهما: عند الأكثرين، ويحكى عن ابْنِ سُرَيْجٍ واختيار القَفَّالِ أنه لا يصح؛ لأنه إخبار عن حق، فلا يقبل التوكيل، كالشهادة، وإنما يليق التوكيل بالإنشاءات. الثاني: يصح؛ لأنه قول يلزم به الحق، فأشبه الشراء، وسائر التصرفات، وبهذا قال أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- فعلى الأول، هل يجعل بنفس التوكيل مقرّاً؟ فيه وجهان. أحدهما: نعم، وبه قال ابْنُ القَاص تخريجاً، واختاره الإمام -رحمه الله تعالى- لأن توكيله دليل ثبوت الحق عليه. وأظهرهما: عند صاحب "التهذيب": أنه لا يجعل مقرّاً، كما أن التوكيل بالإبراء لا يجعل إبراء (¬4). ¬
وإذا قلنا بالوجه الثاني، فينبغى أن يبين الوكيل جنس المقرّبه وقدره، فلو قال. أقر عني بشيء لفلان. فأقر أخذ الموكل بتفسيره، ولو اقتصر على قوله: أقر عني لفلان، فوجهان، حكاهما الشيخ أَبُو حَامِدٍ وغيره: أحدهما: أنه كما لو قال: أقر عني بشئ. وأصحهما: أنه لا يلزمه شئ بحال؛ لجواز أن يريد الأقرار بعلمه، أو سماعه لا بالمال (¬1). الثَّالِثَةُ: يجوز لكل واحد من المدعي والمدعى عليه التوكيل بالخصومة رضي صاحبه، أو لم يَرْضَ، وليس لصاحبه الأمتناع من خصومة الوكيل. وقال أبو حنيفة -رحمه الله تعالى-: له الأمتناع إلاَّ أن يريد الموكل سَفَراً، أو يكون مريضاً، أو مخدراً. وقال مالك -رحمه الله تعالى-: له ذلك إلا أن يكون سفيهاً خبيث اللسان، فيعذر الموكل في التوكيل. لنا: أنه توكيل في خالص حقه، فيمكن منه، كالتوكيل باستيفاء الدَّيْنِ من غير رضي مَنْ عليه، ولا فرق في التوكيل في الخصومة بين أن يكون التوكيل المطلوب مالاً، أو عقوبة لا دمى، كالقصاص وحد القذف. فاما حدود -الله تعالى- فلا يجوز التوكيل في إِثباتها؛ لأنها مبنية على الدرء (¬2). الرابعة: يجوز التوكيل في استيفاء حدود -الله تعالى- للأمام وللسيد في حد مملوكه، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- في قصة ماعز: (اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ) (¬3). وقال: "وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امرأَةِ هَذَا فَإنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا (¬4) وأما عقوبات ¬
الآدميين، فكذلك يجوز استيفاؤها بالِوَكَاَلَةِ فيِ حضور المستحق (¬1)، وفي عيبته ثلاث طرق: أشهرها: أنه على قولين: أحدهما: المنع، وهو ظاهر نصه هاهنا؛ لأنا لا نتيقن بقاء الاستحقاق عند الغيبة لاحتمال العفو، وأيضاً فإنه ربما يرقُّ قلبه عند الحضور فيعفو، فليشترط الحضور، وأصحهما الجواز لأنه حق يستوفى بالنيابة في الحضور، فكذلك في الغيبة، كسائر الحقوق واحتمال العفو، كاحتمال رجوع الشهود فيما إذا كانت بالبينة، فإنه لا يمتنع الأستيفاء في غيبته. والثاني: وبه قال أبو إسحاق: القطع بالجواز، وحمل ما ذكره هاهنا على الأحتياط. الثالث: القطع بالمنع لعظم خطر الدم، وبالمنع قال أبو حنيفة -رحمه الله تعالى-. وذكر القاضي الروياني أنه الذي يفتي به (¬2). وإذا عرفت ما ذكرنا لم يَخْفَ عليك أن قوله في الكتاب: "وسائر العقود، والفسوخ"، وإن كان يشعر بالجزم وصحة التوكيل فيها، لكن في العقود ما هو مختلف فيه كالَّرجْعَةِ والوصية، وفي الفسوخ أيضاً طرد الفسخ، وخيار الرؤية، فيجوز إعلامه - بالواو لذلك. وقوله في آخر الفصل: "وقيل بالجواز أيضاً" طريقة ثالثة أوردها بعد الطريقين، وثالثها محفوظة عن الشيخ أَبي حامد ومن تقدم والله أعلم. قال الغزالي: (الشَّرْطُ الثَّالِثُ) أَنْ يكَوُنَ مَا به التَّوكْيِلُ مَعْلُوماً نوعَ عِلْمٍ لاَ يُعَظَّمُ فيِه ¬
الغرَرُ، وَلَوْ قَالَ: وَكّلْتُكَ بِكُلِّ قِلَيلٍ وَكَثِير لِمْ يَجُزْ، وَلَوْ قَالَ: وَكّلْتُكَ بِمَا إلَيّ مِنْ تَطلْيِق زَوْجَاتِي وَعِتْقِ عبِيدي، وَبَيْعِ أَمْلاَكيِ جَازَ، وَلَوْ قَالَ: وَكَّلْتُكَ بِمَا إليّ مِنْ كُلِّ قِلَيلٍ وكثير ففِيِه تَرَدُدٌ، وَلَوْ قَاَلَ: اشْتَرِ عَبْداً لَمْ يَجُزْ (و)، وَلَوْ قَالَ عَبْداً تُرِكّيّاً بمِائة كَفَى، وَلاَ يُشْتَرَطُ أَوْصَافُ السَّلَمِ، وَلَوْ تَرَكَ ذِكْرَ مَبْلَغِ الثَّمَنَ أَوْ ذِكْرَ الثَّمَنَ وَلَمْ يَذْكَرْ نَوعْهُ فَفِيهِ خِلاَفٌ، والتَّوكْيِلُ بِالإِبْرَاءَ يَسْتَدْعي عْلِمَ المُوَكِّلِ بمبْلَغِ الدَّيْنِ المُبْرَإِ عَنْهُ لاَ عِلْمَ الوَكِيلِ، وَلاَ عِلْمَ مَنْ عَلَيْهِ الَحقَّ، وَلَوْ قَالَ: بعْ بِمَا بَاعَ بِهِ فُلاَنٌ فرَسَهُ فُاِلَعلْمُ بَمَبْلَغِ مَا بَاعَ بِهِ فُلاَن فرسه يُشْتَرَطُ فيِ حَقِّ الوِكيِلِ لاَ فْيِ حَقِّ المُوَكِّل، وَلَوْ قَالَ: وَكَّلْتُكَ بُمخَاصَمَةِ خَصْمَايَ فَالأَظْهَرُ جِوِازُهُ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ. قال الرافعي: ولا يشترط في الموكل فيه أن يكن معلوماً من كل وجه، فإن الوكالة إنما جوزناها لعموم الحاجة، وذلك يقتضي المُسَامَحَةَ فيها، ولذلك احتمل تعليقها بالأغرار على رأي، ولم يشترط القبول فيها بالقول، على الفور، ولكن يجب أن يكون معلوماً مبيناً من بعض الوجوه، حتى لا يعظم الغرر، ولا فرق في ذلك بين أن تكون الوكالة عامة، أو خاصة. أما الوكالة العامة فبين ما نقله الإمام وصاحب الكتاب فيها تصويراً وحكماً، وبين ما نقله سائر الأصحاب بعض التفاوت، ونذكر الطريقين. قال الإمام، وصاحب الكتاب: لو قال: وكلتك بكل قليل وكثير، ولم يضف إلى نفسه، فالتوكيل باطل؛ لأنه لفظ مبهم بالغ في الأبهام، ولو ذكر الأمور المتعلقة به الذي تجري فيها النيابة، وفصلها، فقال: وكلتك ببيع أملاكي، وتطليق زوجاتي وإعتاق عبيدي صح التوكيل، فلو قال: وكلتك بكل أمر هو لي مما يناب فيه، ولم يفصل أجناس التصرفات، فوجهان: أحدهما: يبطل، كما لو قال: وكلتك بكل قليل وكثير. والثاني: يصح؛ لأنه أضاف التصرفات إلى نفسه، فلا فرق بين أن يذكرها بلفظ يعمها، وبين أن يفصلها جنساً جنساً، والأول أظهر. وإما سائر الأصحاب، فإنهم قالوا: لو قال: وكلتك بكل قليل وكثير، أو في كل أموري أو في جميع حقوقى، أو بكل قليل وكثير من أموري، أو فوضت إليك جميع الأشياء، أو أنت وكيلي، متصرف في مالي كيف شئت، لم تصح الوكالة. ولو قال: وكلتك ببيع أموالي، واستيفاء ديوني، أو استرداد ودائعى، أو إعتاق عبيدي، صحت الوكالة.
ووجه التفاوت بين الطريقين: أنهما عللا المنع بإرسال لفظ القليل والكثير، وترك إضافتها حتى ذكروا وجهين، فيما إذاً أضافهما إلى نفسه والآخرون سَوَّوا بين ما إذا أرسل، وبين ما إذا أضاف، ولم ينقلوا الخلاف في واحد من القسمين، وعللوا بأن في تجويز هذه الوكالة غرراً وضرراً عظيماً لا حاجة إلى احتماله، وهذه الطريقة أصح نقلاً ومعنى. وأما النقل، فلأن الشَّافعي -رضي الله عنه- في "اختلاف العراقيين": وإذا شهد الرجل لرجل، وإنه وكله بكل قليل وكثير له، فالوكالة غير جائزة، نص على المنع مع وجود الإضافة. وإما المعنى، فلأن الإنسان إنما يوكل فيما يتعلق به، سواء نص على الأضافة إلى نفسه، أو لم يَنُصَّ، ولهذا لو قال وكلتك بشراء هذا لم يحتج إلى أن يقول: لي. وإما الوكالة الخاصة ففيها صور: منها: أن يوكل في بيع جميع أمواله أو قضاء ديونه، أو استيفائها، وقد نقلنا صحته عن الطريقين، وهل يشترط أن تكون أمواله معلومة. قال في"التهذيب": لو قال: وكلتك ببيع جميع مالي، وكان معلوماً، أو قبض جميع ديوني، وهو معلوم، فهذا التفسير يشعر بالاشتراط الأشبه خلافه، فإن معظم الكتب لا تتعرض لهذا الاشتراط. وفي "الفتاوى القَفَّال" أنه لو قال: وكلتك باستيفاء ديوني التي على الناس جاز مجملاً، وإن كان لا يعرف مَنْ عليه الدين أنه واحد أو أشخاص كثيرة، وأي جنس ذلك الدين، وإنما لا يجوز إذاً لم يبين ما يوكل فيه بان يقول: وكلتك في كل قليل وكثير، وما أشبهه، هذا لفظه. في "الرقم" لأبي الحسن العَبَّادِيَّ: أنَّهُ لو قال: بيع جميع أموالي صح؛ لأنه أعلم بالجملة، ولو قال: بيع طائفة من مالي، أو بعضه، أو سهماً منه لم يصح لجهالته بالجملة، فكأن الشرط أن يكون الموكل فيه معلوماً، أو بحيث تسهل معرفته. ولو قال: بع ما شئت من مالي، أو أقبض ما شئت من ديوني، جاز، ذكره صاحب "المهذب" و"التهذيب" (¬1). ¬
وفي "الحلية"، ما ينازع فيه، فإنه قال: لو قال: بع من رأيت من عبيدي، لا يجوز حتى يميز. ومنها: التوكيل بالشراء، فلا يكفي أن يقول اشْتَرِ لي شيئاً أو حيواناً، أو رقيقاً، بل يشترط أن يبين أنه عبد، أو أمة، ويبين النوع من التركي والهندي، وغيرهما (¬1)، والمعنى فيه أن الحاجة لا تكاد تمس إلى عبد مطلق على أي نوع ووصف كان، وفي الابهام غَرُرُ ظاهر، فلا يحتمل. في "النهاية" أن صاحب "التقريب" التوكيل بشراء عبد مطلق وهذا الوجه بعيد هاهنا، وإذا طرد في قوله: اشتر شيئاً كان أبعد حكى وجهاً: أنه يصح، لأنه أبعد في التوكيل بشراء شيء، وهل يشترط مع التعرض للنوع ذكر الثمن؟. فيه وجهان: أصحهما: لا، وبه قال أبو حنيفة، وابْنُ سُرَيْجٍ؛ لأن تعلق الغرض بعبد من ذلك النوع نفيساً كان أو خسيساً ليس ببعيد. والثاني: أنه لا بد من تقدير الثمن، أو بيان غايته بأن يقول: بمائة، أو من مائة إلى ألف لكثرة التفاوت فيه، ولا يشترط استقصاء الأوصاف التي تضبط في السَّلَمِ، ولا ما يقرب منها بالاتفاق، نعم إذا اختلفت الأصناف الداخلة تحت النوع الواحد اختلافاً ظاهراً، فعن الشيخ أبي مُحَمَّدٍ: أنه لا بد من التعرض له إذا فرعنا على المذهب في اعتبار التعرض، للتركي والهندي. وقوله: في الكتاب: أو ذكر الثمن، ولم يذكر نوعه ففيه خلاف أراد به ما هو المفهوم من ظاهره، وهو أن يقول: اشتر لي عبداً بمائة، ولا يتعرض لقوله: تركياً وهندياً وإثبات الخلاف في هذه الصورة بعد الحكم بأنه لا بد من ذكر التركي والهندي مما لا يتعرض له الأئمة، ولا له ذكر في "الوسيط" لصاحب الكتاب، فالوجه تأويله على اصطلاح استعمله الإمام، وذلك أنه سمى (¬2)، التركي والرومي والهندي أجناساً للرقيق في هذا المقام، واتباعاً للعرف، وسمى الأصناف الداخله تحت التركي مثلاً أنواعاً له، فيجوز أن يريد صاحب الكتاب هاهنا بالنوع ذلك، وهو مما شرط التعرض له على ما روينا عن الشيخ أَبي مُحَمَّدٍ، وينتظم إثبات الخلاف فيه، وحينئذ يكون المعنى: أو ذكر الثمن مع كون العبد تركياً أو لم يذكر صفته والله أعلم. ¬
ولو قال: اشتر لي عبداً كما تشاء، فظاهر رأي الشيخ أَبي مُحَمَّدٍ تجويزه؛ لأنه صرح بالتفويض التام، بخلاف ما إذا اقتصر على قوله: اششر لي عبداً، فإنه لم يَأْتِ ببيان معتادٍ، ولا تفويض تام، يكتف الأكثرون بذلك، وفرقوا بينه وبين أن يقول في القِرَاضِ: اشتر مَنْ شئت من العبيد؛ لأن المقصود هناك الربح بنظر العامل، وتصرفه، فيليق به التفويض إليه، وفي التوكيل بشراء الدار يجب التعرض للمحلّة والسّكة (¬1)، وفي الحانوت للسوق، وعلى هذا القياس (¬2). ومنها: لو وكله بالإبراء. قال القاضي الحُسَيْنُ: إذا عرف الموكل مبلغ الدين كفى ذلك، ولم يجب إعلام الوكيل قدر الدَّين وجنسه، وهذا هو الذي أورده في الكتاب. وقال في "المهذب" و"التهذيب": لا بد من أن يبين للوكيل قَدْرَ الدَّين، وجنسه، والأشبه الأول، ويخالف ما إذا قال: بع عبدي بما باع به فلان فرسه، يشترط لصحّة البيع علم الوكيل؛ لأن العهدة تتعلّق به، فلا بُدَّ وَأَنْ يكون على بصيرة من الأمر، ولا عهدة في الإبراء، ولو كان الموكل جاهلاً بقدر ما باع به فلان فرسه لم يضر. وأما قوله في صورة الإبراء: "ولا علم من عليه الحق"، فاعلم أن فيه خلافاً مبنياً على الأَصل الذي مر في "كتاب الضَّمَان" وهو أن الأبراء مَحْضُ إسقاط، أو تمليك، فإن قلنا: إسقاط صح مع جهل مِنْ عليه الحق بمبلغ الحق. وإن قلنا: تمليك، فلا بد من علمه، كما أنه لا بد من علم المهب بما وهب، فإذاً قوله: "ولا علم من عليه الحق" ينبغى أن يعلم -بالواو- وكذلك قوله: علم الوكيل -بما قدمناه. وقوله: " يستدعي علم الموكل " يجوز إعلامه -بالواو- أيضاً؛ لأنا إذا صححنا الإبراء عن المجهول لا نعتير علم الموكل أيضاً، ثم ينظر في صيغة الأبراء، فإن قال: أبرئ فلاناً عن دَيني، أو أبرئه عن الكل. وإن قال: عن شيء منه أو أبرئه عن قليل منه. وإن قال: عما شئت أبرأ عما شاء، وأبقي شيئا (¬3). ¬
ومنها: إذا وكله بالخصومة، فيذكر ما يدخل فيه، ومالا يدخل، والغرض الآن أنه لو أطلق، وقال: وكلتك بِمُخِاصَمَةِ خصماي، هل يصح التوكيل؟. فيه وجهان: أصحهما: نعم، ويصير وكيلاً في جميع الخصومات. والثاني: لا، بل يجب تعيين مَنْ يخاصم معه لأختلاف الغرض به، وهذا الخلاف قريب من الخلاف الذي مر فيما إذاً وَكَّل ببيع أمواله، وهي غير معلومة. قال الغزالي: (الرُّكْنُ الثَّانِي المُوكَلُ) وَشَرطُهُ أَنْ يَمْلِكَ مَبَاشَرَةَ ذَلِكَ التَّصَرّفُ بِمِلْكٍ أوْ وِلاَيَةٍ، فَلاَ يَصِحُّ تَوكْيِلُ الصَّبيِّ (ح) وَالمَجْنُونِ، وَلاَ يَصِحُّ (ح) تَوكْيِلُ المَرْأَةٍ فيِ عَقِدْ النِّكّاَحِ، وَيَجَوُزُ تَوْكيِلْ الأَبِ وَالجَدِّ، وَلاَ يَصِحُّ توِكَيِلِ إِلاَّ إِذا عَرَفَ كَوْنَهُ مَأْذُوناً بِلَفظٍ أَوْ قَرِينَةٍ، وَفي تَوْكِيلِ الَولِيِّ الَّذِي لاَ يُجْبُر تَرَدُّدٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الوَلِيِّ وَالوَكِيلِ. قال الرافعي: يشترط في الموكل أن يتمكن من مُبَاشَرَةِ ما يوكل فيه أما بحق المِلْك لنفسه، أو بحق الولاية على غيره، وفي هذا الضابط قيدان: أحدهما: التمكن من مباشرة ذلك التصرف، فمن لا يتمكن من مباشرة ذلك التصرف، كالصبي، والمجنون، والنائم، والمغمى عليه لا يصح منه التوكيل، والمرأة لا يصح منها التوكيل في النكاح (¬1)، وكذا توكيل الفاسق في تزويج ابنته إذا قلنا: لا يليه، وتوكيل السكَرَانِ حكمه حكم سائر التصرفات. والثاني: كون التمكن بحق المِلْك أو الولاية، فيدخل فيه توكيل الأب والجد في النكاح، والمال، ويخرج عنه توكيل الوكيل، فإنه ليس بمالك، ولا ولي، نعم لو مكنه الموكل من التوكيل لفظاً، أو دلت عليه قرينة نفذ، وتفصيله سيأتي في الباب الثاني، وفي معناه توكيل العبد المأذون، لأنه إنما يتصرف عن الإذن لا بحق الملك، ولا الولاية، وفي توكيل الأخ والعم، ومن لا يجبر في النكاح وجهان، يعزوان في النكاح، لأنه من حيث أنه لا يعزل كالولي، ومن حيث إنه لا يستقل، كالوكيل، والمحجور عليه بالفلس، والسفه والرق يجوز توكيله فيما يستقل به من التصرفات، وفيما لا يستقل لا يجوز إلاَّ بعد إذن الولي والمولى ومن جوز التوكيل بطلاق امرأة سينكحها، أو بيع عبد سيملكه، فقياسه تجويز توكيل المحجور بما سيأذن فيه الولي، ولم يتعرضوا ¬
له (¬1)، ولنعرف في الضابط المذكور أموراً: أحدها: أنه يستثنى عنه بيع الأعمى، وشراؤه، فإنه يصح التوكيل فيه، وإن لم يملكه الأعمى للضرورة (¬2). والثاني: أنه إذا أنفذ توكيل الوكيل على ما سيأتى، فمصوبه وكيل الموكل أو وكيل الوكيل؟ فيه خلاف ستقف عليه، وإذا كان وكيل الوكيل لم يكن من شرط التوكيل كون الموكل مالكاً للتصرف بحق الملك والولاية. وقوله:"ولا يصح توكيل المرأة في عقد النكاح" معلّم -بالحاء- لما اشتهر من مذهبة. قال الغزالي: (الرّكْنُ الثَّالِثُ: الوَكِيلُ) وَيُشْتَرطُ فيه صِحَّةُ الِعَبارة وَذَلِكَ بالتَّكْليِفِ، ¬
وَلاَ يَصِحُّ (ح) تَوِكْيلُ الصَّبيِّ إِلاَّ في الإِذنِ في الدُّخوُلِ وَإِيصَالِ الهَدِيَّةِ عَلَىِ رَأَي، وَلاَ يَصِحُّ تَوِكْيلُ المَرأةِ (ح) وَالمُحْرِمِ (ح) في عَقدِ النَّكَاحِ، وَالأَظْهَر: جَوَازُ تَوَكْيِلِ العَبْدِ وَالفَاسِقِ في إِيجَابِ النَّكاَحِ، وَكَدَا المَحْجوُرُ بِالسَّفَهِ وَالفَلَسِ إِذْ لاَ خَلَلَ في عِبَارتِهِمْ، وَمَنْعِ اسْتِقْلاَلِهِمْ بسَبَبِ أُمُورٍ عَارِضَةٍ. قال الرافعي: كما يشترط في الموكّل التمكّن من مباشرة التصرف للموكل فيه بنفسه، يشترط في الوكيل التمكن من مباشرته بنفسه (¬1)، وذلك أن يكون صحيح العبارة فيه، فلا يصحة توكيل المجنون (¬2)، والصبي في التصرفات، واستثنى في الكتاب الإذن في دخول الدار، والملك عند إيصال الهديّة، ففي اعتبار عبارته في الصورتين وجهان، سبق ذكرهما في "أول البيع" فإن جاز ذلك، فهو وكيل من جهة الإذن والمهدي. واعلم أن تجويزهما إذا كان على سبيل التوكيل، فلو أنه وكل بأن يوكل غيره، فامتياز تخريجه على الخلاف في أن الوكيل، هل يوكل؟ فإِن جاز لزم أن يكون الصبي أهلاً للتوكيل أيضاً. وعند أبى حَنِيْفَةَ وأَحْمَدَ رحمهما الله -تعالى- يصح توكيل الصبي المميز، والمرأة، والمُحرم مَسْلُوبا العبارة في النكاح، فلا يتوكلان فيه، كما لا يوكلان خلافاً لأبي حنيفة ومن توكيل العبد من الشراء ونحوه وجهان سبق ذكرهما في "باب معاملة العبيد" وفي توكيله في قبول النكاح بغير إذن السيد وجهان: أصحهما: الجواز، وإنما لم يَجُزْ قَبُولُهُ لنفسه لما أن يتعلق به المهر ومؤن النكاح (¬3)، وفي توكيله في طرف الإيجاب وجهان. أحدهما: المنع؛ لأنه لا يجوز أن يزوج ابنته، فأولى ألاَّ يزوج ابنة غيره. ¬
فرع
والثاني: الجواز لصحة عبارته في الجملة، وإنما لم يل أمر ابنته؛ لأنه لا يتفرغ للبحث والنظر وهاهنا ثم البحث والنظر من جهة الموكل، وهذا أظهر عند صاحب الكتاب، والأول أظهر عند المعظم، وربما لم يذكروا غيره، وتوكيل المحجور عليه بالسفه في طرفي النكاح، كتوكيل العبد وتوكيل الفاسق في إيجاب النكاح، كتوكيلهما إذا سلبنا الولاية بالفسق، ولا خلاف في جواز قبوله بالوكالة، والمحجور عليه بالفلس يوكل فيما لا يلزم ذمته عهدة، وكذا فيما يلزم عهدة على الأصح من الوجهين، كما أن شراءه صحيح على الصحيح. ويجوز توكيل المرأة في طلاق زوجة الغير على أصح الوجهين، كما يجوز أن يفوض الزوج طلاق نفسها إليها. وذكر في "التتمة" أنه لا يجوز توكيل المطلقة الرجعية في رجعية نفسها، ولا توكيل المرأة امرأة أخرى؛ لأن الفرج لا يستباح بقول النساء، وأنه لا يجوز توكيل المرأة في الاختيار في النكاح، إذا أسلم الكافر على أكثر من أربع نسوة، وفي الاختيار للفراق وجهان. وقوله في الكتاب: "ومنع استقلالهم بأمور عارضة" أي: هم صحيحو العبارة، كاملو الحال، وإنما منعناه لأمور تعرض، فيمنع استقلالهم بالتصرف، لا مطلق التصرف على ما مَرَّ. " فرع" توكيل المرتد في التصرفات المالية يبنى على انقطاع ملكه وبقائه إن قطعناه لم يصح، وإن أبقيناه صح. وإن قلنا: إِنه موقوف، فكذلك التوكيل، ولو وكل، ثم ارتد، ففي ارتفاع التوكيل الأقوال. ولو وكل مرتداً أو ارتد الوكيل لم يقدح في الوكالة لأن التردد في تصرفه لنفسه، لا لغيره، هكذا نقل الأصحاب عن ابْنِ سُرَيْجٍ. وفي "التتمة" أنه يبني على أنه هل يصير محجوراً عليه. إن قلنا: نعم انعزل عن الوكالة، وإلا فلا (¬1). ¬
قال الغزالي: الرّكْنُ الرَّابعُ: الصِّيغَةُ، وَلاَ بُدَّ مِنَ الإِيجَابِ، وَفِي القَبُولِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ، الأعْدَلُ هُوَ الثَّالِثُ وهَوَ أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِصِيغَةِ عَقْدٍ كَقَولِهِ: وَكَّلْتُكَ أَوْ فَوَضْتُ يُشْتَرَطُ القَبُولُ، وَإِنْ قَالَ: بعْ وَاعْتِقْ فَيَكْفِي القَبُولُ بالامْتِثَالِ كَمَا فِي إِبَاحَةِ الطَّعامِ، وَإِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ قَبُولُهُ فَفِي اشْتِرَاطِ عِلْمِهِ مَقْرُونَاً بِالوِكَالَةِ خِلاَفٌ، وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عدم الرَّدِّ مِنْهُ، فَإِنْ رَدَّ انْفَسَخَ لأِنَّهُ جَائِزٌ، وَفِي تَعْلِيقِ الوَكَالَةِ بِالإِغْرَارِ خِلافٌ مَشْهُورٌ، فإِنْ مُنِعَ فَوَجَدَ الشَّرْطَ فَقَدْ قِيلَ: يَجُوزُ التَّصَرُّفُ بِحُكْمِ الإِذْنِ، وَفَائِدَةُ فَسَادِهِ سُقُوطُ الجعْلِ المُسَمَّى وَالرُّجُوعُ إِلَى الأُجْرَةَ، وَلَوْ قَالَ: وَكَلْتُكَ فِي الحَالِ وَلاَ يَتَصَرَّفُ إِلاَّ بَعْدَ شَهْرٍ فَهُوَ جَائِزٌ (و) وَيَلْزَمَهُ الإِمْسَاكُ، وَمَهْمَا صَحَّحْنَا التَّعْليقَ فَقَالَ: مَهْمَا عَزَلْتُكَ فَأَنْتَ وَكِيلِي فَطَرِيقُهُ فِي العَزْلِ أنْ يَقُولَ: ومَهْمَا عُدْتَّ وَكِيلِي فَأَنْتَ مَغْزُولٌ حَتَّى يَتَقَاوَمَا فِي الدُّورِ وَيَبْقَى أَصْلُ الحَجْرِ. قال الرافعي: الفصل يشتمل على مسألتين: إحداهما: لا بد من جهة الموكل من لفظ قال على الرضا بتصرف الغير له، وإلاِّ فكل أحد ممنوع عن التصرف في حق غيره، وذلك مثل أن يقول: وكلتك بكذا، وفوضته إليك، وأنبتك فيه، وما أشبههما. ولو قال بيع وأعتق، ونحوهما حصل الإذن، وهذا لايكاد يسمى إيجاباً، وإنما هو أمر وإذن والإيجاب هو قوله: وكلتك، وما يضاهيه، وعلى هذا فقوله في الكتاب: "ولا بد من الإيجاب" أي: وما يقوم مقامه، وأما القبول، فإِنه مطلق بمعنيين: أحدهما: الرضا والرغبة فيما فوض إليه ونقيضه الرد. والثاني: اللفظ الدال عليه على النحو المعتبر في البيع، وسائر المعاملات، ويعتبر في الوكالة القبول بالمعنى الأول حتى لو رده، وقال: لا أقبله أو لا أفعل بطلت الوكالة، ولو ندم وأراد أن يفعل لا ينفع، بل لا بد من إذن جديد، وذلك لأن الوكالة جائزة ترتفع في الدوام بالفسخ، فلأن ترتد في الابتداء بالرد كان أوجه. وأما بالمعنى الثاني، فقد نقل الإمام طريقين: أحدهما: أن في اشتراطه وجهين: أحدهما المنع؛ لأنه إباحة ورفع حجر، فأشبه إباحة الطعام، ولا يفتقر إلى القبول اللفظي. والثاني: الاشتراط، لأنه إثبات حق التسليط والتصرف للوكيل، فليقبل، كما في سائر التمليكات.
والثانية: عن القاضي الحُسَيْنِ: أن الوجهين فيما إذا أتى بصيغة عقد، بأن قال: وكلتك أو فوضت إليك، فأما في صيغ الأمر، نحو: بعْ واشْتَرِ، فلا يشترط القبول باللفظ جزماً، بل يكفي الامتثال على المعتاد، كما في إباحة الطعام، وإذا اختصرت خرج من الطريقين ثلاثة أوجه، كما ذكر في الكتاب. والطريقة الثانية: هي التي ذكرها في "التتمة"، وجعل قوله: أذنت لك في كذا بمثابة قوله: بع واعتق، لا بمثابة قوله: وكلتك، وإِن كان إذناً كان إذناً على صيغ العقود. قال: والمذهب أنه لا يعتبر في الوكالة القبول لفظاً وهذا ما أجاب به صاحب "التهذيب" وأخرون، وإن مال صاحب الكتاب إلى الوجه الفارق، وسماه أعدل الوجوه. التفريع: إن شرطنا القبول، فهل يجب أن يكون على الفور؟ ظاهر المذهب أنه لا يجب؛ لأنه عقد يحتمل ضرباً من الجهالة، فيحتمل فيه تأخير القبول، كالوصية. وعن القاضي أبِي حَامِدٍ أنَّهُ يجب أن يكون على الفور، كالبيع. وعن القاضي الحُسَيْنِ أنه يكتفي وقوعه في المجلس، هذا في القبول اللفظي فأما بالمعنى الأول، فلا يجب التعجيل بحال، ولو خرج على أن الأمر، هل يقتضي الفور لما بعد؟ وإن لم يشترط القبول، فلو وكله، والوكيل لا يشهر به، هل تثبت وكالته؟ قال في "النهاية" وفيه وجهان يقربان من القولين في أن العزل هل ينفذ قبل بلوغ الخبر الوكيل؟ فالوكالة أولى بألا تثبت، لأنه تسلط على التصرفات، فإن لم يثبتها، فهل نحكم بنفوذها حالة بلوغ الخبر كالعزل أم لا؟. وفيه وجهان عن رواية الشيخ أَبِي مُحَمَّدٍ إن لم نحكم به، فقد شرطنا اقتران علمه بالوكالة. والأظهر ثبوت الوكالة وإن لم يعلم وعلى هذا فلو تصرف الوكيل، وهو غير عالم بالتوكيل، ثم تبين الحال خرج على الخلاف فيما إذا باع مال أبيه على ظن أنه حي، وكان ميتاً. ومن فروع هذا الخلاف أنا حيث لا نشترط القبول نكتفي بالكتابة، والرسالة، ونجعله مأذوناً في التصرف، وحيث اشترطناه، فالحكم كما لو كتب بالبيع الذي أجاب به القاضي الرُّوياني في "الوكالة" بالجواز (¬1) ومنها: إذا اشترطنا القبول في الوكالة، فلو قال: وكلني بكذا، فقال الموكل: ¬
وكلتك، هل يشترط القبول أم يقام مقامه قوله: وكلني؟. فيه خلاف، كما في البيع ونحوه، ثم قيل: الوكالة أحوج للاشتراط، لأنها ضعيفة، ولو عكس موجهاً بأن الوكالة يحتمل فيها ما لا يحتمل في البيع، فكانت أولى بعدم الاشتراط، لكان أقرب. الثانية: إذا علق الوكالة بشرط، فقال: إذا قدم زيد، أو جاء رأس الشهر، فقد وكلتك بكذا، أو أنت وكيلي، ففيه وجهان. أحدهما: ويحكى عن أبي حنيفة، وأحمد: أنها تصح؛ لأنها استنابة في التصرف، فأشبهت عقد الامارة، فإنها تقبل التعليق على ما قال عليه الصلاة والسلام: "فَإِنْ أُصِيْبَ جَعْفَرُ فَزَيْدُ" (¬1). وأظهرهما: المنع، كنا أن الشركة والمضاربة، وسائر العقود لا تقبل التعلبق، وخرج بعضهم الخلاف على أن الوكالة، هل تفتقر إلى القبول؟. إن قلنا: لا تفتقر جاز التعليق، وإلاَّ لم يجز؛ لأن فرض القبول في الحال والوكالة لم تثبت بعد، وتأخرها إلى أن يحصل الشرط مع الفصل الطويل خارج عن قاعدة التخاطب، ولو نجز الوكالة، وضرب للتصرف شرطاً بان قال: وكلتك الآن ببيع عبدي هذا، ولكن لا تبعه حتى يجيء رأس الشهر، صح التوكيل بالإتفاق، ولا يتصرف إلاَّ بعد حصول الشرط، وتصح الوكالة المؤقتة، مثل أن يقول: وكلتك إلى شهر، قاله العَبَّاديُّ في "الرقم (¬2) "، ويتعلق بالخلاف في تعليق الوكالة قاعدتان: إحداهما: إذا أفسدنا الوكالة بالتعليق، فلو تصرف الوكيل بعد حصول الشرط، ففي صحة التصرف وجهان: أصحهما: الصحة، لأن الإذن حاصل، وإِن فسد العقد، فصار كما لو شرط في الوكالة عوضاً مجهولاً، فقال: بع كذا، على أن لك العشر من ثمنه تفسد الوكالة، لكن لو باع صح. والثاني: وبه قال الشيخ أبي مُحَمَّدٍ: أنه لا يصح لفساد العقد ولا اعتبار بالإِذن الذي يتضمّنه العقد الفاسد، ألا ترى أنه لو باع بيعاً فاسداً، وسلم المبيع لا يجوز للمشتري التصرف فيه؟ وإن تضمن البيع، والتسليم الاذن في التصرف، والتسليط عليه. وقال في "التتمة": وأصل المسألة ما إذا كان عنده رهن لدين مؤجل، فأذن المرتهن ¬
في بيعه على أن يعجل حقه من الثمن، وفيه اختلاف قد تقدم، وهذا البناء يقتضي ترجيح الوجه الثاني؛ لأن النص، وظاهر المذهب هناك فساد الإذن والتصرف. فإن قلنا بالصحة فأثر فساد الوكالة أنه يسقط الجُعْل المسمى إنْ كان قد سمى له جُعْلاً، ويرجع إلى أجرة لِمِثْل، وهذا كما أن الشرط الفاسد في النكاح الفاسد يفسد الصداق، ويوجب مهر المِثْل، وإن لم يؤثر في النكاح. الثانية: إذا قال: وكلتك بكذا، ومهما عزلتك، فأنت وكيلي، ففي صحة الوكالة في الحال وجهان: أصحهما: الصحة (¬1)، ووجه المنع اشتمالها على الشرط الفاسد، وهو إلزام العقد الجائر. فإن قلنا: بالصحة: أو كان قوله: مهما عزلتك مفصولاً عن الوكالة، فإذا عزله نظر، إن لم يشعر به الوكيل، واعتبرنا شعوره في نفوذ العزل، فهو على وكالته، وإن لم نعتبره، أو كان شاعراً به، ففي عوده وكيلاً بعد العزل وجهان مبنيان على أن الوكالة هل تقبل التعليق؛ لأنه علق التوكيل ثانياً بالعزل. أظهرهما: المنع. والثاني: وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-: أنه يعود وكيلاً، فعلى هذا ينظر في اللفظة الموصولة بالعزل، إن قال: إذا عزلتك أو مهما أو متى لم يقتض ذلك عود الوكالة إلاَّ مرة واحدة. وإن قال: كلما عزلتك اقتضى العود مرة بعد أُخرى؛ لأن "كلما" تقتضي التكرار، دون غيرها، على ما ستعرفه في "أبواب الطلاق" إن شاء الله -تعالى- فلو أراد ألا يعود وكيلاً، فسبيله أن يوكل غيره بعزله، فينعزل؛ لأن المعلق عليه عزل نفسه، فإن كان قد قال عزلتك أو عزلك أحد من قبلي فالطريق أن يقول كلما عدت وكيلي فأنت معزول فإذا عزله ينعزل لتقادم التوكيل والعزل، واعتماد العزل بالأصل، وهو الحجر في حق ¬
الباب الثاني في حكم الوكالة
الغير قال الإمام -رحمه الله-: وفيه نظر على بعد ملتقى عن استصحاب الوكالة. واعلم أن الخلاف في الوكالة، هل تقبل التعليق جار في أن العزل هل يقبله؟ ولكن بالترتيب، والعزل أولى بقبوله؛ لأنه لا يشترط فيه القبول، واشتراطه في الوكالة مختلف فيه، وتصحيح إرادة الوكالة والعزل جميعاً مبني على قبولهما التعليق، ثم قال الإمام -رحمه الله-: إذاً نفذنا الغزل، وقلنا: تعود الوكالة، فلا شك أن العزل ينفذ في وقت، وإن لطف تصرف الوكيل ذلك الوقت اللطيف، هل ينفذ؟ فيه وجهان للأصحاب، وإنما كان يصح هذا الفرض، والتصوير أن لو وقع بينهما ترتب زماني حتى يتصور وقوع التصرف بينهما، لكن الترتيب في مثل هذا لا يكون إلا عقليَّاً والله اعلم. وقوله في الكتاب: "وفي تعليق الوكالة الإغرار" والإغرار ألاخطار، وإنما يقع هذا اللفظ بالاستحقاق على ما فيه خطر، كقدوم زيد، ومجيء المطر، إن لم يكن في الحكم فرق، فيمن بينه ما يوثق به، كمجيء الشهر. وقوله: "ويلزمه الإمساك" أي: لا يجوز له التصرف في الشهر، لا أنه يجب عليه خارج الشهر، فإن الأمر إلى اختياره. البَابُ الثَّانِي فِي حُكْمِ الوَكَالَةِ قال الغزالي: وَلهَا ثَلاَثَةُ أَحْكَامٍ: الأَوَّلُ: صِحَّةُ معا وَافَقَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَبُطَّلاِنُ مَا خَالَفَ، وتُعرَفُ المُوَافَقَةُ بِاللَّفْظِ مَرَّةً، وبالقرِينَةِ أُخْرى، وَبَيَانُهُ بصُوَرٍ سَبْعٍ: الأُولى إِذَا قَالَ: بعْ مُطَلْقَاً فَلاَ يَبيعُ بِالعَرْضِ (ح) وَلاَ بِالنَّسِيئَةِ (ح) وَلاَ بِمَا دُونَ ثَمنِ المِثْلِ (ح) إِلاَّ قَدْراً يتغابن الناس بِمِثْلِهِ كَالوَاحِدِ في عَشَرَةٍ. قال الرافعي: للوكالة الصحيحة أحكام: منها: صحة تصرف الوكيل إذا وافق إذن الموكل، والموافقة والمخالفة يعرفان بالنظر إلى اللفظ تارة، وبالقرائن التي تنضم إليه أخرى، فإن القرينة قد تقوى، فيكون لها إطلاق اللفظ، ألا ترى أنه إذا أمره في الصيف بشراء الجمد لا يشتريه في الشتاء؟ وقد يتعادل اللفظ والقرينة، وينشأ من تعادلهما خلاف في المسألة، وهذا القول الجملي يوضحه صور ترشد إلى أخواتها: منها: إذا وكله ببيع شيء، وأطلق لم يكن له أن يبيعه بغير نقد البلد من العروض، والنقود، وأن يبيعه بثمن مؤجل، بغبن فاحش (¬1)، ¬
فرع
وبه قال مالك -رحمه الله تعالى- وكذا أحمد في أظهر الروايتين. وقال أبو حنيفة: يجوز له جميع ذلك. لنا القياس على الوصي؛ لأنه لا يبيع له إلاَّ بثمن المِثْلِ من نقد البلد حالاًّ، وأيضاً فإنه وكيل في عقد البيع، فتصرفه بالغبن لا يلزم الموكل، كالوكيل في الشراء، إذا اشترى بغبن فاحش، وأيضاً فإنه إذاً وأطلق كان الثمن حالاًّ، فإذا وكل بالبيع، وأطلق حمل على الثمن الحال. ولنا: قول آخر أَن البيع على الوجه المذكور يصح موقوفاً، على إجازة الموكل، وهذا هو القول المنقول في بيع الفُضُوليِّ، والمذهب الأول، ولو كان في البلد نقدان، أحدهما أغلب، فعليه أن يبيع به، وإن استويا في المعاملة باع بما هو أنفع للموكل، فإن استويا تخير على المشهور. وقال صاحب "التهذيب" بعد نقل التخيير: إذا استويا في المعاملة وجب إلاَّ يصح التوكيل مالم يبين، كما لو باع بدراهم، وفي البلد نقدان متساويان لا يصح حتى يقيد بأحدهما، ووجدت في كلام الشيخ أبِي حَامِدٍ مثل ما ذكره صاحب "التهذيب"، ثم إذا باع الوكيل في أحد الوجوه المذكورة لم يصر ضامناً للمال، مالم يسلمه إلى المشتري، فإن سلم ضمن، ثم القول فيه إذا كان البيع باقياً أو تالفاً في كيفية تغريم الوكيل والمشتري على ما بيناه فيما إذا باع العدل الرَّهْن بالغبن الفاحش، أو بغير نقد البلد أو بالنسيئة. وأما البيع بالغبن اليسير فإنه جائز، واليسير الذي يتغابن الناس بمثله ويحتملونه غالباً، وبيع ما يساوي عشرة بتسعة يحتمل في الغالب، وبيعه بثمانية غير محتمل (¬1). قال الروياني: ويختلف القدر المحتمل باختلاف أجناس الأموال من الثياب والعبيد والعقارات، وغيرها، وكما يجوز أن ينقص الوكيل عن ثمن المثل لا يجوز أن يقتصر عليه، وهناك طلب للزيادة، ولو باع بثمن المثل، ثم ظهر في المجلس طالب يزيد، فالحكم ما مر بيع في عدل الرَّهْن والله اعلم. فرع إذا قال الموكل عند التوكيل: بعه بكم شئت، جاز له البيع بالغبن، ولا يجوز بالنسيئة، ولا بغير نقد البلد. ولو قال: بما شئت، فله البيع بغير نقد البلد، ولا يجوز بالغين والنسيئة فلو قال: ¬
فرع
كيف شئت، فله البيع بالنسيئة، ولا يجوز بالغبن، وبغير نقد البلد. ولكن القاضي الحسين تجويز (¬1) الكل، ولو قال: بيع بما عزّ وهان. قال في "التتمة" هو كما لو قال: بعه بكم شئت. وقال العَبَّادِيُّ: له البيع بالعرض والغبن، ولا يجوز بالنسيئة، وهو الأولى. فرع ذكرنا في "الرَّهْن" و"التفليس" أن الحاكم يبيع المرهون، ومال المفلس بنقد البلد، وأنه لو لم يكن دين المستحقين من ذلك الجنس، أو على تلك الصفة صرفه إلى مثل حقوقهم، وقد يحتاج فيه إلى توسط معاملة أخرى، كما إذاً كان نقد البلد المكسور، وحقهم الصحيح، فلا يمكن تحصيل الصحيح بالمكسّر، إلا ببذل زيادة، وإنه ربا، فيشتري بالمكسّر سلعة، وبالسلعة الصحيح، ولو رأى الحاكم المصلحة في البيع بمثل حقوقهم في الأبتداء، جاز، وقد مر ذلك في "الرَّهْن". قال الَقفَّالُ في "الفتاوي": والمرتهن عند امتناع الراهن عن أداء الحق يبيع الرَّهْن، ويقوم مقام الحاكم في توسط المعاملة الأخرى، وفي بيعه بجنس الدَّين، وعلى صفته. واعلم أن مجرد امتناع الراهن عن أداء ما عليه لا يسلط المرتهن على بيع المرهون، ولكنه قد يتسلط عليه ما مرّ بيانه في "الرَّهْن" إذا ألحق المرتهن حينئذ بالحاكم فيما ذكر أشبه أن يلحق وكيل الراهن بيبع المرهون، وقضاء الحق منه بالمرتهن، بل أولى؛ لأن نيابة المرتهن حينئذ قهرية، والموكل قد رضي تصرفه، ونصبه لهذا الغرض. قال الغزالي: وَبَبِيعُ (ح) عَلَى الأَصَحِّ مِنْ أَقَارِبِهِ الَّذيِنَ تُرَدُّ لَهُ شَهَادَتُهُم، وَلاَ يَبِيعُ من نَفْسِهِ. قال الرافعي: الوكيل بالبيع مطلقاً، هل بيع من ابنه وأبيه، وسائر أصوله وفروعه؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم؛ لأنه باع بالثمن الذي لو باع به من أجنبي صح، فأشبه مالو باع من صديقه، وأيضاً فإنه يجوز للعم أن يزوج وليته من ابنه البالغ، إذا أطلقت الإذن، وقلنا: لا يشترط تعيين الزوج، فكذلك هاهنا. والثاني: وبه قال أبو حنيفة: لا؛ لأنه متهم بالميل إليهم (¬2)، ومن الجائز أن يكون ¬
هناك راغب بأكثر من ذلك الثمن، وأجرى الوجهين في البيع من الزوج والزوجة إذا قلنا: لا نقبل شهادة أحدهما بالآخر، وكذا لو باع لمكاتبه والوجهان في الأصول والفروع المستقلين، أما ابنه الصغير، فلا يبيع منه، وكذلك لا يبيع من نفسه؛ لأنه يستقصي لنفسه وطفله في الاسترخاص، وغرض البائع الاستقصاء في البيع للاكثر وهما غرضان متضادان، فلا يتأتى من الواحد القيام بهما، وأيضاً فإن التوكيل بالبيع مطلقاً يشعر بالبيع من الغير، والألفاظ المطلقة تحمل على المفهوم منها في العرف الغالب، وفي كتاب القاضي ابْنِ كَجٍّ شيئان غريبان في المسألة: أحدهما: أن أَبَا حَامِدٍ القاضي حكى عن الإصْطَخْرِيّ وجهاً: أن للوكيل أن من نفسه. والثاني: أنه حكى وجهين فيما لو وكل أباه بالبيع، هل له أن يبيع من نفسه (¬1). لأن للأب بيع مال ولده من نفسه بالولاية، فكذلك بالوكالة وإذا قلنا بظاهر المذهب، فلو صرح له بالإذن في بيعه من نفسه فوجهان: قال ابْنُ سُرَيْجٍ: يجوز، كما لو أذن له في البيع من أبيه، وابنه البالغ يجوز، وكما لو قال لزوجته: طلقّى نفسك على ألف، ففعلت صح، وتكون نائبة من جهته، قابلة من جهة نفسها. وقال الأكثرون: لا يجوز؛ لما ذكرنا من تضاد الغرضين، ولأن وقوع الإيجاب والقبول من شخص واحد بعيد عن التخاطب ووضع الكلام، وتجويزه في حق الاب كان على خلاف القياس، ولو صرح بالإذن في بيعه من ابنه الصغير، قال في "التتمة": هو على هذا الإختلاف. وقال صاحب "التهذيب": وجب أن يجوز؛ لأن رضي بالنظر للطفل، وترك الاستقصاء، وتولى الطرفين في حق الولد معهود في الجملة، بخلاف ما لو باع من نفسه، ويجري الوجهان فيما لو وكله بالهبة، وأذن له ليهب من نفسه، أو يتزوج ابنته، وأذن له في تزويجها من نفسه، وفي تولي ابن العم طرفي النكا بأن يتزوج ابنة عمه بإذنها، حيث انتهت الولاية إليه، والنكاح أولى بالمنع؛ لما روي موقوفاً ومرفوعاً أنه عليه السلام، قال: لاَ نِكاحَ إِلاَّ بِأَربَعةٍ خَاطِبٍ وَوَلِيِّ وَشَاهِدَيْنِ (¬2). وكذا فيما إذا وَكَّلَ مستحق الدَّين المديون باستيفائه من نفسه، أو وكل مستحق القِصَاصِ الجاني باستيفائه من نفسه. ¬
إما في النفس أو في الطرف، أو وكل الإمام السارق ليقطع يده، وحكى الإمام رحمه الله اجراءه؛ فيما لو وكّل الزاني لجلد نفسه، واستبعده من جهة أنه متهم الأمام، بخلاف القطع إذ لا مدخل للتهمة فيه، وظاهر المذهب في الكل المنع، وفي التوكيل بالخصومة من الجانبين وجهان أيضاً. أحدهما: الجواز لأنه يتمكن من أقامة البنية للمدعي ثم من إقامة البينة الدافعة للمدعى عليه وأصحهما: المنع لما فيه اختلاف غرض كل واحد منهما، فإنه يحتاج إلى التعديل من جانب وإلى الجرح من جانب، وعلى هذا فإليه الخيرة يخاصم أيهما شاء، ولو توكل رجل في طرفي النكاح، أو البيع اطراد الوجهان: ومنهم من قطع بالمنع لو وكل مَنْ عليه الدَّين بإبراء نفسه، ففيه طريقان: أحدهما: التخريج على الوجهين. والثاني: القطع بالجواز وهما مبنيان على أنه هل يفتقر إلى القبول إن قلنا: نعم جرى الوجهان وإن قلنا: لا قطعنا بجواز كما لو وكل من عليه القصاص بالعفو والعبد بإعتاق نفسه، والوكيل بالشراء، كالوكيل بالبيع في أنه لا يشتري من نفسه، ولا من مال ابنه الصغير، ويخرج شراؤه لابنه البالغ على الوجهين في سائر الصور (¬1). وقوله في الكتاب: "أجراه ابْنُ سُرَيجٍ في تولى ابن العم طرفى النكاح" اتبع فيه ما رواه الإمام، فإنه نسب طرد الخلاف فيها إلى ابْنِ سُرَيْجٍ، ورأيت للحناطي نحو ذلك، وعامة الكتب ساكتة عنه. قال الغزالي: فَإِنْ أَذَن لَهُ في البَيْعِ مِنْ نَفْسِهِ فَفِي تَوَليَّهِ الطَّرَفَيْنِ خِلاَفٌ، أَجْرَاهُ ابْنُ سُرَيْجٍ فِي تَوَلِّي ابْنِ العَمِّ لِطَرَفَيِ النِّكَاحِ. وتولّي مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَوِ اَلقْصَاصُ أَوِ الْحَدُّ اسْتيِفَاءَهُ مِنْ نَفْسِهِ بِالوَكَالَةِ، وَيُطْرَدُ فِي الوَكِيِل مِنَ الجَانِبَيْنِ بِالخُصُومَةِ وَمِنَ الجَانِبَيْنِ في عَقْدِ النَّكَاحِ وَالبَيْعِ، كَمَا إِذَا كَانَ وَكيِلاً مِنْ جِهَةِ المُوجب وَالقَابِلِ جَمِيعاً، وإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي البَيْعِ بِالأجَلِ مُقَدَّراً جَازَ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَالأَصَحُّ أَنَّ العُرفَ يُقَيِّدُهُ بِالمصَلَحَةِ، وِقَيل: إِنَّهُ مَجْهوُلٌ. قال الرافعي: إذا أذن للوكيل في البيع إلى أجل، نظر إن قدر الأجل صح التوكيل، وإِن أطلق فوجهان: ¬
أحدهما: أنه لا يصح التوكيل لاختلاف الغرض بتفاوت الأجل طولاً، وقصراً هذا ما أورده "التهذيب". وأصحهما: ما ذكره في الكتاب، واختيار ابْن كَجّ: أنه يصح التوكيل، وعلى ماذا يحمل فيه ثلاثة أوجه: أظهرها: وهو المذكور في الكتاب أنه ينظر إلى المتعارف في مثله، فإن لم يكن فيه عرف راعى الوكيل الأنفع للموكل. والثاني: له التأجيل إلى أية مدة شاء لإطلاق اللفظ. والثالث: يؤجل إلى سنة، ولا يزيد عليها؛ لأن الديون المؤجلة تتقدر بها كالدية والحرية. قال الغزالي: الثَّانِيَةُ: الوَكِيلُ بِالبَيْعِ لاَ يَمْلِكُ تَسْلِيمَ المَبِيعِ قَبْلَ تَوَفُّرِ الثَّمَنِ، وَبَعْدَ التَّوْفِيرِ لاَ المَنُعُ فَإِنَّهُ حَقُّ الغَيْرِ، وَالوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ يَمْلِكُ تَسليم الثمن المسلّم إِلَيْهِ وَيَملِكُ قَبْضَ المُشْتَريَ، وَالوكِيلُ بِالبَيْعِ هَلْ يَمْلِكُ قَبْضَ الثَّمَنِ مِنَ حيث إِنَّهُ مِنْ تَوَابِعِهِ وَمَقَاصِدهِ وإنْ لَمْ يُصرِّحْ بِهِ؟ فِيِهِ خِلاَفٌ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ الخِلاَفُ في أَنَّ الوَكِيلَ بإثباتِ الحَقِّ هِلْ يَسْتوْفِي؟ وَبِاسْتِيفَاءِ الحَقِّ هَلْ يُخَاصِمُ؟ فِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجهٍ، الأَعْدَلُ: أَنَّ الوَكِيلَ بِالإِثْبَاتِ لاَ يَسْتَوْفِي، وَبِالاسْتِيفاءِ يثْبُتُ وَيُخَاصِمُ سَعْيَاً في الآسْتِيفَاءِ. قال الرافعي: أول مذكور في الفصل أن الأصحاب نقلوا وجهين في أن الوكيل بالبيع مطلقاً، هل يملك قبض الثمن؟ وربما نسبوهما إلى ابن سريج: أحدهما: أنه لا يملكه؛ لأنه إنما أذن في البيع، وقبض الثمن أمر وراء البيع، وليس كل من يرضاه للبيع يرضاه لإثبات اليد على الثمن. وأصحهما: أنه يملكه؛ لأنه من توابع البيع، ومقتضياته، والإذن في البيع إذن فيه، وإن لم يصرح به، وهل يملك تسليم المبيع إذا كان مسلماً إليه؟ أشار الأكثرون إلى الجزم بأنه يملكه تعليلاً بأن البيع يقضي إزالة المِلْكِ، ووجوب التسليم (¬1). وقال الشيخ أبُو عَلِيٍّ: الوجهان في أنه هل يملك قبض الثمن؟ يجريان في أنه ¬
يملك تسليم المبيع، وكيف لا وتسليم المبيع دون قبض الثمن فيه خطر ظاهر، ولو كان قد صرح له بهما لم يملك التسليم، مالم يقبض الثمن، وعلى هذا جرى صاحب "التهذيب" وغيره (¬1). ولا خلاف في أن الموكل بعقد الصرف يملك القبض والإقباض؛ لأنه شرط صحة العقد وكذلك في السلم يقبض وكيل المسلم إليه رأس المال ووكيل المسلم يقبضه إياه لا محالة. إذا تقرر ذلك، ينظر إن باع الوكيل بثمن مؤجل، بحيث يجوز له ذلك سلم المبيع، إذ لا ينسب للبائع حق الحبس عند تاجيل الثمن، ويجيء على ما ذكره الشيخ وجه مانع من التسليم، لا لغرض الحبس، لكن لأنه لم يفرضه إليه، ثم إذا أجل الأجل لم يملك الوكيل قبض الثمن، إلاَّ بإذن مستانف، وإن باعه بثمن حالٍّ، وجوزنا القبض، فلا يسلم المبيع حتى يقبض الثمن، كما لو أذن فيهما صريحاً، فله مطالبة المشتري بتسلم الثمن، فإن لم نجوز له القبض لم يكن له المطالبة، وللموكل المطالبة بالثمن على كل حال، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله تعالى، ولو وكله بالبيع، ومنعه من قبض الثمن لم يكن له القبض لا محالة، ولو منعه من تسليم المبيع، فمشكل في جواب الشيخ في شرح الفروع. وقال قائلون: هذا الشرط فاسد، فإن التسليم مستحق بالعقد، ورووا عن إِبي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وغيره وجهين في أن الوكالة، هل تفسد به حتى يسقط الجُعل المسمى ويقع الرجوع إلى أجرة المثل؟ ووجه الإمام رحمه الله تعالى وجه سقوطه، بأن استحقاقه مربوط بالبيع، والامتناع من التسليم، وكان مقابلاً بشيء صحيح، وشيء فاسد، فليفسد المسمى. والحق أن يقال: المسألة مبنية على أن في صورة الإطلاق هل للوكيل التسليم أو لا؟ إن قلنا: لا فعند المنع أولى. وإن قلنا: نعم فكذلك؛ لأنه من توابع العقد وتمامه، كالقبض، لا لأن تسليمه مستحق بالعقد، فإن المستحق هو التسليم [بعينه] والممنوع منه تسليمه، نعم لو قال: أمنع المبيع منه، فهذا الشرط فاسد؛ لأن منع الملك عن المالك، حيث يستحق إثبات اليد عليه غير جائز، وفرق بين أن يقول: لا تسلمه إليه، وبين أن يقول: أمسكه، وامنعه منه. وأما الوكيل بالشراء، فإن لم يسلم الموكل الثمن إليه، فاشترى في الذمة، فسيأتي الكلام في أن المطالبة بالثمن على من تتوجه؟ في الحكم الثاني من الباب إن شاء الله ¬
تعالى وإنْ سلمه إليه، واشترى بعينه، أو في الذمة، فالقول في أنه هل يسلمه؟ وهل يقبض المبيع بمجرد التوكيل في الشراء؟ كالقول في أن وكيل البائع هل يسلم المبيع، ويقبض الثمن بمجرد التوكيل بالبيع؟ وهكذا هو في "التهذيب" و"التتمة" ولفظ الكتاب يشعر بالجزم بتسليمه الثمن، وقبض المبيع. ووجَّهه في "الوسيط" بأن العرف يقتضي ذلك (¬1)، ويدل عليه وأيضاً فإن الملك في الثمن لا يتعين إِلاَّ بالقبض، فيستدعي إذناً جديداً. وأما المبيع فإنه متعين للملك، ولمن طرد الخلاف أن يمنع العرف الفارق بين الطريقين، وأما المعنى الثاني، فلو كان به اعتبار لوجب أن يجزم بقبض وكيل البائع الثمن، إذا كان معيناً، ولم يفرقوا في رواية الوجهين بين أن يبيع بثمن معين، أو في الذمة. وقوله في الكتاب: "وبعد التوفير لا يجوز له المنع، فإنه حق الغير" أراد به ما ذكره الإمام -رحمه الله تعالى- من أن المشتري إذا وفر الثمن على الموكل، أو على الوكيل إذا جوزنا له القبض، فالوكيل يسلمه المبيع، وإن لم يأذن له الموكل في تسليمه، لأن أداء الثمن إذاً وفر صار قبض المبيع مستحقًّا، وللمشتري الانفراد بأخذه، فإن أخذه المشتري، فذاك، وإن سلّمة الوكيل. والأمر محمول على أخذ المشتري، ولا حكم للتسليم، ثم قرب من الخلاف في أن الوكيل بالبيع، هل يقبض الثمن الخلاف في مسألة أخرى؟ وهي أن الوكيل باستيفاء الحق هل يثبته أو بإثباته هل يستوفيه أما أن الوكيل بالاستيفاء وهل يثبت ويقيم البينة عند إنكار من عليه؟ فيه وجهان عن ابْنِ سُرَيْجِ: وأصحهما: لا؛ لأنه لم يوكل إلاَّ بالقبض، وقد يرضى للقبض من لا يرضاه للخصوصة. والثاني: نعم؛ لأنه لا يتمكن من الاستيفاء عند إنكار مِنْ عليه الإثبات، فليمكن مما يتوصل به إلى الاستيفاء، ولا فرق على الوجهين بين أن يكون الموكل باستيفائه عيناً أو ديناً. وقال أبُو حَنِيْفَةَ رحمه الله تعالى: إنْ كان ديناً ملك الإثبات، وإن كان عيناً لم يملكه. وأما إن الوكيل بالإثبات، هل يستوفي بعد الإثبات؟ فيه طريقان: أحدهما: أن فيه وجهين أيضاً، كالوجهين في أن الوكيل بالبيع، هل يملك قبض الثمن، لأنه من توابع الإثبات، ومقاصده، كقبض الثمن بالإضافة إلى البيع؟ ¬
فرع
وأظهرهما: القطع بالمنع؛ لأن الاستيفاء يقع بعد الإثبات فليس ذلك نفس المؤذون ولا واسطه بخلاف العكس وبخلاف مسألة قبض الثمن؛ لأنه إذا وكله بالبيع أقامه مقام نفسه فيه، وأنه عقد يتضمن عهداً منها تسليم المبيع، وقبض الثمن، فجاز أن يكون من قضاياه. وأما الإثبات، فليس فيه ما يتضمن التزاماً. قال في "التتمة": الخلاف الصورة الثانية في الأموال أما القِصَاصُ والحَدُّ فلا يستوفيهما بحال. وحكى القاضي ابْنُ كَجٍّ عن ابن خيْرَانَ أنه على الوجيهن وإذا جمعت بين الأمرين: الاستيفاء والإثبات وقلت: الوكيل بأحدهما، هل يملك الثاني؟ حصل في الجواب ثلاثة أوجه كما ذكر في الكتاب، لكن تسمية الوجه الفارق أعدل الوجوه، ربما أوهم ترجيحه، والظاهر عند الأصحاب أنه لا يفيد واحد منهما الثاني. فرع عرفت أن الوكيل لا يسلم المبيع قبل قبض الثمن، فلو فعل غرم للموكل قيمته، إن كانت القيمة والثمن سواء، أو كان الثمن أكثر وإن كانت القيمة أكثر بأن باعه بغبن محتمل، فيغرمه جميع القيمة، أو يحط عنه قدر الغبن، لصحة البيع بذلك الثمن فيه وجهان. أصحهما: أولهما, ولو باع بغبن فاحش بإذن الموكل، فقياس الوجه الثاني ألا يغرم إلا بقدر الثمن، لا ثم لو قبض الوكيل الثمن بعد ما غرم دفعه إلى الموكل، واسترد المغروم. قال الغزالي الثَّالِثَةُ أَنَّ الوِكيلَ بالشِّراءِ إذا اشتَرى مَعِيباً بثَمنِ مِثْلهِ وَجَهِلَ العَيْبَ وَقَعَ عَنِ المُوَكّلِ، وَإِنْ علمَ فَوَجْهَانِ، وَإِنْ كَانَ بغبْنٍ وَعَلَم لَمْ يَقَعْ عَنِ المُوَكَّلِ، وَإِنْ جَهلَ فَوَجَهْاَنِ، ثُمَّ مَهْمِا جَهِلَ الوَكَيِلُ فَلَهُ الرَّدُّ (و) إِلاَّ إِذاَ كَاَنَ العَبْدُ مُعَيْناً مِنْ جِهَةِ المُوكَلَّ فَوَجَهْاِنِ في الرَّدِّ، وَحَيْثُ يكَوُنُ عَاِلماً فَلاَ رَدّ له، وَفي المُوكِّلِ وَجْهَانِ، إِذْ قَدْ يقومُ عِلْمُ الوكَيلِ مَقَامَ عِلْمِ الموكّل كَماَ في رُؤْيَتِه، وَمَهْمَا ثَبَتَ الخيار لَمْ يَسْقُطْ بِرِضَا الوَكيلِ حَقُّ المُوكل، وَيَسْقُطُ بِرضَا المُوكِّلِ رَدُّ الوَكِيلِ. قال الرافعي: الوكيل بالشراء إما أن يكون وكيلاً، بشراء شيء موصوف، أو بشراء شئ معين الحالة الأولى: أن يكون وكيلاً بشراء موصوف فلا يشتري إلاَّ السليم؛ لأن قضية الإطلاق السلامة، ألا ترى أنه إذا أسلم في شيء موصوف استحق السليم منه، ويخالف عامل القِرَاض، يجوز له شراء المعيب [لأن المقصود هناك الربح، وقد يتوقع الربح في شراح المعيب] وهاهنا المقصود الادخار، إذ يجوز أن يكون الادخار والاقتناء
مقصوداً، وإنما يقتنى السليم دون المعيب. وقال أبو حنيفة -رحمه الله تعالى-: يجوز للوكيل شراء المعيب، فلو خالف ما ذكرناه، واشترى المعيب نظر، إنْ كان مع المعيب يساوي ما اشتراه به، فإن جهل العيب وقع عن الموكل، وإن علمه فثلاثة أوجه: أظهرها: أنه لا يقع عنه لتقييد الإذن بالسليم. الثاني: يقع, لأنه لا نقصان في المالية، والصيغة عامة. الثالث: يفرق بين ما يمنع من الأجزاء في الكفارة إذا كان المبيع عبداً وبينما لا يمنع حملاً؛ لقوله: اشتر لي رقبة على ما حمل عليه قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92]. قال الإمام -رحمه الله تعالى-: وصاحب هذا الوجه، يستثنى الكفر، فإنه يمنع من الأجزاء في الكفارة. ويجوز للوكيل شراء الكافر، وإنْ لا يساوى ما اشتراه به، فإن علم لم يقع عن الموكل، وإن جهل فوجهان: أصحهما: عند الإمام أنه لا يقع أيضاً عنه؛ لأن الغبن يمنع الوقوع عن الموكل سلامة المبيع، وإن لم يعرف الوكيل، فعند العيب أولى وأوفقهما لكلام الأكثرين أنه يقع عنه، كما لو اشترى لنفسه جاهلاً، ويفارق مجرد الغبن، فإنه لا يثبت الخيار، فلو صح البيع، ووقع عن الموكل للزم، ولحقه الضرر، والعيب يثبت الخيار، والحكم بوقوعه عنه لا يورطه في الضرر، وحيث قلنا بوقوعه عن الموكل، فينظر إن كان الوكيل جاهلاً فللموكل الرد إذا أطلع, لأنه المالك. وإما الوكيل، فعن صاحب "التقريب" رواية وجه عن ابْنِ سُرَيْجٍ أنه لا ينفرد بالرد؛ لأنه كان مأذوناً في الشراء، دون الفتح الفسخ، وظاهر المذهب أنه ينفرد به لمعنيين: أحدهما: أنه أقامه مقام نفسه في هذا العقد، ولو لحقه. والثاني: أنه لو لم يكن له الرد إلى استئذان الموكل، فربما لا يرضى الموكل، فيتعذر الرد لكونه على الفور، ويبقى المبيع كلاًّ على الوكيل، وفيه ضرر ظاهر، وهذا هو المعتمد عند الأصحاب، لكن فيه إشكال؛ لأنا لو لم تثبت له الرد لكان كسائر الأجانب عن العقد، فلا أثر لتاخره، وأيضاً فإن مَنْ له الرد قد يعذر في التأخير لأسباب داعية إليه، فهلا كانت مشاورة الموكل عذراً، وأيضاً فإنه وإِنْ تعذر منه الرد، فلا يتعذر بنفس الرد؛ إِذ الموكل يرد إذا كان قد سماه في العقد، أو نواه على أن في كون المبيع للوكيل، وفي الرد منه بتقدير تعذر كونه له خلافاً، وسيأتي جميع ذلك في الفصل، وإن كان الوكيل عالماً، فلا رد له، وفي الموكل وجهان: أحدهما: أنه لا رد له أيضاً؛ لأنه نزّل الوكيل منزلة نفسه في العقد والأخذ،
فيكون اطلاعه على العيب كاطلاع الموكل، كما أن رؤيته كرؤيته وإخراج العقد عن أن يكون على قولي شراء الغائب. أصحهما: أن له الرد, لأن اطلاعه، ورضاه بعد العقد لا يسقط حتى الرد للموكل، فكذلك اطلاعه في الابتداء، وعلى هذا فينتقل الملك إلى الوكيل، أو ينفسخ العقد من أصله؟ حكى الإمام -رحمه الله- فيه وجهين: قال: من قال بالأول كأنه يقول: انعقاد العقد موقوفاً إلى أن يتبين الحال، وإلاَّ فيستحيل ارتداد الملك عن الموكل إلى الوكيل، وهذه الاختلافات مفرعة على وقوع العقد الموكل مع علم الوكيل بالعيب، والمذهب خلافه. الحالة الثانية: أن يكون وكيلاً بشراء شيء معين، فإن لم ينفرد الوكيل في الحالة الأولى بالرد، فهو هاهنا أولى وإن انفرد، فهاهنا وجهان: وجه المنع: أنه ربما يتعلق الغرض بعينه، فينتظر مشاورته. ووجه الجواز، وهو الأصح والمنصوص في "اختلاف العراقيين": أن الظاهر أنه يريده بشرط السلامة، ولم يذكروا في هذه الحالة أنه متى يقع عن الموكل، ومتى لا يقع، والقياس أنه كما سبق الحالة الأولى، نعم لو كان المبيع معيياً يساوي ما اشتراه به، وهو عالم فبإيقاعه عن الموكل هاهنا أولى؛ لجواز تعلق الغرض بعينه، وجميع ما ذكرناه في الحالتين مفروض فيم إذا اشترى بثمن في الذمة، أما إذا كان الشراء بِعَيْن مال الموكل، فحيث قلنا هناك: لا يقع عن الموكل فهاهنا لا يصح أصلاً، وحيث قلنا: يقع فكذلك هاهنا، وهل للوكيل الرد؟ فيه وجهان: وأصحهما: لا ويمكن أن يكون الوجهان مبنيين على المعنيين السابقين إن عللنا انفراده بالرد، فإنه أقامه مقام نفسه في العقد ولو أحقه فكذلك هاهنا، وإن عللنا بإنه لو أخر ربما لزم العقد، فصار المبيع كلاًّ عليه، فلا لأن المشتري بملك الغير لا يقع له بحال. واعلم أنه إذا ثبت الرد للوكيل في صورة الشراء في الذمة، فلو أطلع الموكل على العيب قبل اطلاع الوكيل، أو بعده. ورضية سقط خيار الوكيل، بخلاف الرد فإنه رضي المالك بحظه من الربح ولا يسقط خيار الموكل بتأخير الوكيل وتقصيره، وإذا أخر أو صرح بإلزام العقد، فهل له العود إلى الرد؛ لأن أصل الحق باقٍ بحاله، نائب، أم لا وكأنه بالتأخير أو الإلزام عزل نفسه عن الرد؟ وجهان: أظهرهما: الثاني، وإذا قلنا به أو أثبتنا له العود، ولم يعد فإذا أطلع الموكل عليه،
وأراد الرد فله ذلك إن سماه الوكيل في الشراء، أو نواه وصدقه البائع عليه، وإلاّ فوجهان: أحدهما: وهو المذكور في "التهذيب" و"التتمة": أنه يرده على الوكيل، ويلزم المبيع؛ لأنه اشترى في الذمة ما لم يأذن فيه الموكل، فيصرف إليه. والثاني: وهو الذي نقله الشيخ أبو حامد وأصحابه: أن المبيع يكون للموكل، والرد قد فات لتفريط الوكيل، فيضمن الوكيل، وما الذي يضمن؟ قال أبُو يَحيَى البَلْخِيُّ: قدر نقصان قيمته من الثمن، ولو كانت القيمة تسعين والثمن مائة يرجع بعشرة، ولو تساوياً فلا رجوع. وقال الأكثرون: يرجع بأرش العيب [من الثمن] لأنه فات الرد بغير تقصيره، فكان له الأرش، كما لو تعذر الرد بعيب حادث، إِلاَّ أن هناك يوجد الأرض من البائع لتلبيسه وهاهنا من الوكيل لتقصيره (¬1). ولو أراد الوكيل الرد، فقال البائع أجزه حتى يحضر الموكل لم يلزمه اجابته (¬2)، بل له الرد لئلا يصير المبيع كَلاَّ عليه، أو يلزمه الغرم، ولأن الرد حيث ثبت له، فلا يكلف تأخيره، وإذا رد، ثم حضر الموكل، ورضيه احتاج إلى استئناف شراء، ولو آخره كما التمس البائع، فحضر الموكل، ولم يرض به. قال في "التهذيب": المبيع للوكيل، ولا رد لتأخيره مع الإمكان. وقيل: له الرد؛ لأنه لم يرض بالعيب قال: وهو ضعيف، ولك أن تقول له: أنت وسائر النقلة متفقون على أنه إذا رضي الوكيل بالعيب، ثم حضر الموكل، وأراد الرد، فله ذلك إذا كان الوكيل قد سماه، أو نواه وهاهنا الوكيل والموكل والبائع يتصادفون على أن الشراء للموكل، فلا بد وأن يكون قد سماه، ونواه، ووجب أن يقال: المبيع للموكل، وله الرد ولو أراد الوكيل الرد، فقال البائع: إنه قد عرفه الموكل، ورضي به، وليس لك الرد، نظر إن لم يحتمل بلوغ الخبر إليه لم يلتفت إلى قوله، وإن احتمل، وأنكر الوكيل حلف على نفي العلم برضا الموكل, لأنه لو أقربه الزمه حكم إقراره. وعن إبي حامد القاضي وغيره وجه آخر: أنه لا يحلف، والمذهب الأول. وقوله في "المختصر": "وإنْ وكله بشراء سلعة، فأصاب بها عيباً كان له الرد ¬
فرع
بالعيب، وليس عليه أن يحلفه، أنه ما رضي به الأمر مؤول عند الأصحاب محمول على ما إذاً لم يكن ما يدعيه محتملاً، أو على ما إذا احتمل طلب اليمين منه على البت، أو على ما يجزم بالدعوى، بل قال: أجز فلعله بلغه الخبر، ورضي به. ومنهم من غلط المزُنِيَّ في النقل، وقال: إنه أدخل جواب مسألة في مسألة. إذا عرفت ذلك، فإِذا عرضنا اليمين على الوكيل لم يخل إما أن يحلف أو ينكل، إن حلف رده، فإن حضر الموكل وصدق البائع، فعن ابنِ سُرَيْجٍ أن له استرداد المبيع من البائع لموافقته إياه على الرضا قبل الرد. وفي "التتمة" أن القاضي الحسين قال: لا يسترد وينفذ فسخ الوكيل (¬1). فإن نكل حلف البائع، وسقط رد الوكيل، ثم إذا حضر الموكل، وصدق البائع فذاك، وإن كذبه قال في "التهذيب": لزم العقد للوكيل، ولا رد له لإبطاله الحق بالنكول، وفيه من الإشكال ما قدمناه، هذا كله في طرف الشراء. أما الوكيل بالبيع إذا باع، فوجد المشتري بالمبيع عيباً رده، عليه إن لم يعلمه وإن علمه وكيلاً رده عليه، إِن شاء ثم هو يرد على الموكل، وعلى الوكيل إن شاء، وهل للوكيل حط بعض الثمن للعيب؟ فيه قولان عن ابْنِ سُرَيْجٍ (¬2). ولو زعم الموكل حدوث العيب في يد المشتري، وصدق الوكيل المشتري رد المشتري على الوكيل، ولم يرد الوكيل على الموكل. فرع سيأتي "كتاب في القِرَاضِ" أن الوكيل بالشراء، هل يشتري من يعتق على الموكل؟ إن قلنا: يشتريه، فلو كان معيباً، فللوكيل رده؛ لأنه لا يعتق على الموكل قبل الرضا بالعيب كذا ذكره في "التهذيب". قال الغزالي: الرَّابِعَةُ: الوَكيِلُ بِتَصَرُّفٍ مُعَيَّنِ لاَ يُوَكَّلُ إِذَا أُذِنَ لَهُ وفيه، فلو وُكَّلَ بِتَصَرُّفَاتٍ كَثِيرَةٍ وَأَذِنَ فِي التَّوكْيِلِ وُكِّلَ، وَإِنْ أَطَلْقَ فَثَلاَثةُ أَوْجُهٍ، وَفِي الثَّالِثِ يُوَكَّلُ فِي المِقْدَارِ المَعْجُوزِ عَنْهُ وَيُبَاشِرُ البَاقِي، ثُمَّ لاَ يُوَكّلُ إِلاَّ أَمِيناً رِعَايَةً لِلغبِطَةِ. قال الرافعي: مقصود الفصل الكلام في أن الوكيل، هل يوكل؟ لا يخلو إما أن ¬
يأذن له الموكل في التوكيل صريحاً، أو يسكت عنه، إن سكت عنه، فينظر إن كان أمراً يتأتى له الإتيان به لم يوكل فيه, لأنه لم يرض بتصرف غيره، وإنْ لم يتأَت ذلك منه، إما لأنه لا يحسن، أو لأن الإتيان به لا يليق بمنصبه، فله التوكيل فيه؛ لأن الشخص لا يقصد منه إلا الاستنابة فيه، وفيه وجه أنه لا يوكل لقصور قضية اللفظ، ولو كثرت التصرفات التي وكله بها, ولم يمكنه الإتيان بالكل لكثرتها، ففيه ثلاثة طرق: أصحهما: أنه يوكل فيما يزيد على قدر الإمكان، وفي قدر الإمكان وجهان: أحدهما: يوكل فيه أيضاً؛ لأنه ملك التوكيل في البعض، فيوكل في الكل، [كما لو أذن صريحاً. وأصحهما: أنه لا يوكل في القدر المقدور له, لأنه لا ضرورة إليه. والثانية: أنه لا يوكل] (¬1) في قدر الإمكان، وفيما يزيد عليه وجهان. الثالثة: إطلاق الوجهين في الكل. قال الإمام -رحمه الله تعالى- والخلاف على اختلاف الطرق ناظر إلى اللفظ والقرينة، وفي القرينة تردد في التعميم والتخصيص. أما إذا أذن له في التوكيل، فله أن يوكل، ثم له ثلاث صور؛ لأنه إما أن يقول: وكل عن نفسك أو وكل عني أو يطلق. الصورة الأولى: إذا قال: وكل عن نفسك، ففعل انعزل الثاني بعزل الأول إياه، لأنه نائبة. وفيه وجه أنه لا ينعزل لأن التوكيل فيما لا تعلق بحق الموكل حق الموكل وإن حصله بالإذن فلا يرفعه إلا بالإذن، وأجرى هذا الخلاف في انعزاله بموت الأول وجنونه. والأصح: الانعزال، ولو عزل الموكل الوكيل الأول انعزل، وفي انعزال الثاني بانعزاله هذا الخلاف، ولو عزل الثاني ففي انعزاله وجهان: أحدهما: لا ينعزل؛ لأنه ليس بوكيل من جهته. وأصحهما: أنه ينعزل، كما ينعزل بموته وجنونه، والعبارة المعبرة عن هذا الخلاف أن الثاني وكيل الوكيل، كما صرح به في التوكيل، أو وكيل الأول، ومعنى كلامه: أقم غيرك مقام نفسك. والأصح أنه وكيل الوكيل، لكنه إذا كان وكيل الوكيل كان فرع الفرع، وفرع الفرع فرع الأصل، فينعزل بانعزاله. ¬
فرع
الصورة الثانية: إذا قال: وكل عني، ففعل، فالثاني وكيل الموكل، كالأول، وله عزل أيهما شاء، وليس لواحد منهما عزل الآخر، ولا ينعزل بانعزال الآخر. الثالثة: إذا قال: وكلتك بكذا، وأذنت لك في أن توكل به وكيلاً، ولم يقل: عني، ولا عن نفسك، ففيه وجهان: أحدهما: أن الحكم، كما في الصورة الأولى؛ لأن المقصود في الإذن في التوكيل تسهيل الأمر عليه. وأصحهما: أنه كالصورة الثانية؛ لأن التوكيل تصرف يتولاه بإذن الموكل، فيقع عنه، وإذا جوزنا للوكيل أن يوكل في صورة سكوت الموكل عنه، فينبغي أن يوكل عن موكله، قلو وكله عن نفسه، ففيه وجهان، وهذا لأن القرينة المجوزة للتوكيل، كالإذن في مطلق التوكيل، ويشترط على الوكيل حيث ملك التوكيل أن يوكل أميناً؛ رعاية لمصلحة الموكل، إلاَّ أنْ يعين له من ليس بأمين، ولو وَكَّلَ أميناً، ففسق، فهل له عزله؟ فيه وجهان. فرع إذ وكله بتصرف، وقال له افعل فيه ماشئت، هل يكون ذلك كالإذن في التوكيل؟ فيه وجهان عن ابن سريج: أصحهما: لا، وقوله: افعل ما شئت ينصرف إلى تصرفه بنفسه. وقوله في الكتاب: "الوكيل بتصرف معين لا يوكل إلاَّ إذا أذن له فيه" -غير معمول بظاهره، بل المعنى إلاَّ إذا كان الموكل فيه ما لا يتأتى للوكيل مباشرته، فإن الظاهر جواز التوكيل، والحالة هذه كما تقرر. وقوله "فإن أطلق فثلاثة أوجه" هي حاصل ما يخرج من الطرق الثلاثة التي قدمناها. واعلم أن الصورة المذكورة في أول الباب إلى هذه الغاية موضوعه في التوكيل المطلق، ومن هذا الموضع إلى آخره في التوكيل المقرون بضرب من التقييد. قال الغزالي: الخَامِسَةُ: تَتَبُّعُ مُخَصَّصِاتِ المُوَكِّل، فَلَوْ قَالَ: بعْ من زَيْدٍ لم يبع مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ خَصَّصَ زَمَاناً تَعَيَّنَ، وإن خَصَّصَ سُوقاً يَتَفَاوَتُ بِهَا الفَرَضُ تَعيَّنَ وإِلاَّ فَلاَ، وَإِذَاً صَرَّحَ بِالنَّهْيِ عَنْ غَيْرِ المَخْصُوصِ امْتَنَعَ قَطْعاً، ولو قال بعْ بِمائَةِ يَبِيعُ بِمَا فَوْقَهُ إِلاَّ إِذَا نَهَاهُ عَنْهُ، وَلاَ يَبِيعُ بِمَا دُونَهُ بِحَالٍ، وَلَوْ: اشْتَرِ بِمائَةٍ يَشْتَرِي بِمَا دُوَنَهَا إِلاَّ إِذَا نَهَاهُ، وَلاَ يَشْتَري بِمَا فَوْقَهَا بِحَالٍ، وَلَوْ قَالَ: بعْ بِمائةٍ نَسِبئَةً فباع نقداً أو قال اشتر بمائة نقداً
فاشترى بمائة نسيئة فَوَجَهْانِ لأَنَّ التَّفَاوُتَ فِيهِ يُشْبُه اخْتِلاَفَ الجِنْسِ، وَلاَ خِلاَف أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَ بِأَلْفِ دينار لَمْ يَجُزْ وِفَيهِ احِتْمَالٌ. قال الرافعي: الأصل في هذه الصورة، وما بعدها أنه يجب النظر بتقييدات الموكل في الوِكَالَةِ، ويشترط على الوكيل رعاية المفهوم منها، بحسب العرف، وفي الفصل صور: أحدها: إذا عين الموكل شخصاً بأن قال: بيع من زيد، أو وقتاً بأن قال: بع في يوم كذا لم يَجُزْ أن يبيع من غيره، ولا قبل ذلك الزمان ولا بعده (¬1). أما الأول: فلأن مال (¬2) الشخص المعين قد يكون أقرب إلى الحل، وأبعد عن الشبهة، وربما يريد تخصيصه بذلك المبيع. وأما الثاني: فلأنه ربما يحتاج إلى البيع في ذلك الوقت، ولو عين مكاناً من سوق ونحوها نظر إن كان له في المكان المعيّن غرض بإن كان الراغبون فيه أكثر، أو النقد فيه أجود لم يَجُزْ أن يبيع من غيره، وإن لم يكن غرض ظاهر فوجهان: أحدهما: يجوز، والتعين في مثل ذلك يقع اتفاقاً هذا ما أورده في الكتاب، وبه قال القاضي أَبُو حَامِدٍ، وقطع به الغَزَالِيُّ. والثاني: لا يجوز؛ لأنه ربما يكون له فيه غرض لا يطلع عليه، وهذا أصح عند ابْنِ القَطَّانِ، وصاحب "التهذيب" (¬3). ولو نهاه صريحاً عن البيع في غير ذلك الموضع امتنع بلا خلاف، وذكر القاضي ابْنُ كَجٍّ أن قوله: بع في بلد كذا، كقوله: بع في سوق كذا، حتى لو باعه في بلد آخر، جاء فيه التفصيل المذكور، وهذا صحيح، ولكنه يصير ضامناً للمال، لنقله من ذلك ¬
البلد، لا وكذا الثمن مضموناً في يده، بل لو اطلق التوكيل بالبيع، وهو في بلد، فليبعه في ذلك البلد، ولو نقله صار ضامناً. [المسألة] الثانية: لو قال: بيع بمائة درهم لم يبع بما دونها, وله أن يبيع بما فوقها، والمقصود من التقدير ألا ينقص [ثمنها عن المقدر] (¬1)، نعم لو نهاه صريحاً لم يبع بما فوقها (¬2). وحكى العَبَّادِيُّ أن بعض البصريين من أصحابنا لم يجوز أن يبيع بما فوق المائة، والمشهور الأول، وهل له أن يبيع بمائة، وهناك من يرغب بالزيادة على المائة؟ فيه وجهان (¬3): أحدهما: نعم لموافقة صريح إذنه. والثاني: لا، كما لو أطلق الوكالة، فباع بثمن المثل، وهناك من يرغب بالزيادة. وذكر الأئمة أنه لو كان المشتري معيناً بأن قال: بيع كلا من فلان بمائة، لم يجز أن يبيع بأكثر منها، وكان المعني فيه أنه ربما يقصد إرفاقه. ولو قال: بع كذا, ولا تبعه بأكثر من مائة وبما لم يبيع بالأكثر، ويبيع بها، وربما دونها ما لم ينقص عن ثمن المثل، ولو قال: بعه بائة، ولا تبعه بمائة وخمسين، فله أن يبيع بما فوق المائة، دون المائة والخمسين، ولا يبيع بالمائة والخمسين، وفيما فوق ذلك وجهان عن ابْنِ سُرَيْجٍ: أصحهما: المنع؛ لأنه لما نهى عن زيادة خمسين، فِعَمَّا فوقها أولى، وكذلك في طرف الشراء لو قال: اشتر بمائة له أن يشتري بما دونها، إلاَّ إذا نهاه، ولا يشتري بما فوقها, ولو قال: اشتر بمائة، ولا تشتري بخمسين يجوز أن يشتري بما بين المائة والخمسين ولا يشتري بخمسين وفيما دونها الوجهان: [المسألة] الثالثة: لو قال: بعه إلى أجل، وبين قدره أو قلنا: لا حاجة إلى البيان، وحملناه على المعتاد، فخالف وباع حالاًّ، نظر إن باعه بما يساويه حالاً لم يصح, لأنه يكون ناقصاً عما أمر به، فإن ما يشتري به الشيء نقداً مما يشتري به نسيئة، ولو باعه بما ¬
يساويه إلى ذلك الأجل حالاً، نظر إن كان في وقت لا يؤمن فيه من نَهْبٍ، أو سرقة، أو كان لحفظه مؤنة في الحال لم يصح أيضاً، وإن لم يكن شيء من ذلك، فوجهان: أحدهما: المنع أيضاً، فإنه ربما كان يحتاج إلى الثمن في ذلك الوقت، ويخاف من التعجيل خروجه في نفقة. وأصحهما: على ما ذكره في "التهذيب" الجواز؛ لأنه زاد خيراً، ولا فرق فيما ذكره بين ثمن المثل عند الإطلاق، وبين ما يقدره من الثمن، بأن قال: بع بمائة نسيئة، فباع بمائة نقداً، كما صور في الكتاب، ولو قال: بع بكذا إلى شهرين، فباعه إلى شهر، ففيه وجهان، ولو قال: اشترِ حالاً، فاشتراه مؤجلاً، نظر إن اشتراه بما يرغب به فيه حالاً إلى ذلك الأجل لم يصح الشراء للموكل؛ لأنه يكون أكثر، وإن اشتراه بما يرغب به فيه حالاً إلى ذلك الأجل فوجهان، كما في طرف البيع: وجه الجواز ما مر. ووجه المنع أنه ربما يخاف هلاك المال وبقاء الدين في ذمته. قال أبُو سعِيد المتولي: هذا إذا قلنا إن مستحق الدَّيْنِ المؤجل إذا عجل حقه يلزمه القبول. أما إذا قلنا: لا يلزمه القبول لا يصح الشراء هاهنا للموكل بحال، وذكر هو وغيره تخريجاً على المسألة التي نحن فيها أن الوكيل بالشراء مطلقاً لو اشترى نسيئة بثمن مثله جاز؛ لأنه زاد خيراً، والموكل بسبيل من تفريغ ذمته بالتعجيل (¬1). وقوله في الكتاب. "لأن التفاوت فيه يشبة اختلاف الجنس" أي: في النقد والنسية، إنما يشبهه باختلاف الجنس؛ لما بين الدَّيْنِ والعَيْنِ، أو بين الحالّ والمؤجل من شدة اختلاف الأغراض، وهذا توجيه وجه المنع في صورتي البيع والشراء، ولذلك عقبه بقوله: "ولا خلاف أنه لو قال: بيع بألف درهم، فباع بألف دينار لم يجز"، وإنما كان كذلك؛ لأن المأتيّ به ليس هو المأمور به، ولا هو مشتمل على تحصيل ما أمر بتحصيله، والوكيل متصرف بالإذن فإذا عدل عن المأذون فيه لغا تصرفه. وأما قوله: "وفيه احتمال" -فقد أورد القاضي ابْنُ كَجٍّ نحواً منه، وليس له ذكر في "الوسيط"، ولا في كتاب الإمام رحمه الله تعالى، ويمكن توجيهه بأنا عرفنا بالتوكيل رغبته في البيع، ومن رغب في البيع بالدراهم، فهو في البيع بمثل عددها من الدنانير ارغب هذا هو العرف الغالب، وكما أن البيع بالدنانير غير المأذون فيه، وهو البيع بالدراهم، كذلك البيع بالمائتين، غير المأذون فيه، وهو البيع بالدارهم كذلك البيع ¬
بالمائتين غير المأذون فيه وهو البيع بالمائة، ألا ترى أنه لو قال: بعتك بمائة درهم لم يصح القبول بمائتي درهم، كما لا يصح بمائتي دينار، فهذا صححنا البيع بالمائتين اعتماداً على العرف، فكذلك البيع بالدينار، وعلى هذا الاحتمال، فالبيع بعرض يساوي مائتي دينار يشبه أن يكون كالبيع بمائة دينار. قال الغزالي: وَلَو سَلَّمَ إِلِيْهِ دِينَاراً لِيَشْتَريَ شَاةً فَاشْتَرى شَاتَيْنِ تُسَاوِيْ كلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا دِينَاراً وَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينارٍ وَرَدَّ الدِّينَارَ والشَّاةَ فَقَدْ فَعَلَ هَذا عُرْوَةُ البَارِقِيُّ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا لَهُ فَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى أَسَدِّ القَوْلَيْنِ، وَفِي بَيْعِ الشَّاة خِلافٌ ظَاهِرٌ، وَتَأْوِيلُ الحَدِيثِ أَنَّهُ لَعَلَّهُ كَانَ وَكِيلاً مُطْلَقَاً. قال الرافعي: صور المسألة أن يسلم ديناراً إلى وكيله ليشتري له شاة، ووصفها، فاشترى الوكيل شاتين بتلك الصفة بدينار، فينظر إن لم تساو كل واحدة منهما ديناراً لم يصح الشراء للموكل، وإن زادتا معا على الدينار, لأنه ربما يبغي شاة تساوي ديناراً، وإن كان كل واحدة منهما تساوي ديناراً فقولان: أصحهما: صحة الشراء، وحصول الملك فيهما للموكل, لأنه أذن له في شراء شاة بدينار، فإذا اشترى شاتين، كل واحدة منهما تساوي ديناراً بدينار، فقد زاد خيراً مع تحصيل ما طلبه الموكل، فأشبه ما إذا أمره ببيع شاة بدرهم، فباعها بدرهمين، أو يشتري شاة بدرهم، فاشتراه ابن صف درهم. والثاني: أنه لاتقع الشاتان معاً للموكل؛ لأنه لم يأذن إلاَّ في شراء واحدة، ولكن ينظر إن اشتراها في الذمة، فللموكل واحدة بنصف دينار، والأخرى للوكيل، ويرد على الموكل نصف دينار، وللموكل أن ينزع الثانية منه، ويقرر العقد فيهما, لأنه عقد العقد له، وإن اشتراهما بعين الدينار، فكأنه اشترى واحدة بإذنه، وأخرى بغير اذنه، فينبني على أن العقود، هل تتوقف على الإجازة؟. إن قلنا: لا تتوقف على الإجازة بطل العقد في واحدة وفي الثانية قَوْلاً تفريق الصفقة. وإن قلنا: تتوقف، فإن شاء الموكل أخذهما بالدينار، وإن شاء اقتصر على واحدة، وَرَدَّ الأخرى على المالك، والقول في وضعه مشكل, لأن تعيين واحدة للموكل، أو بطلان العقد فيهما ليس بأولى من تعيين الأخرى، والتخيير مشبه بما إذا باع شاة من شاتين، على أن يتخير المشتري، وهو باطل، ونقل الإِمام -رحمه الله تعالى- فيما إذا اشترى في الذمة قولاً ثالثاً، وهو إن الشراء لا يصح للموكل في واحدة منهما، بل يقعان للوكيل.
وإذا قلنا بصحة الشراء فيهما للموكل، فلو باع الوكيل إحداهما عن غير إذن الموكل، ففي صحة البيع قولان عن ابْنِ سُرَيجٍ. أحدهما: المنع؛ لأنه لم يأذن في البيع فأشبه ما إذا اشترى شاة بدينار، ثم باعها بدينارين. والثاني أنه يصح؛ لأنه إذا جاء بالشاة، فقد حصل مقصود الموكل، فلا فرق فيها زاد بين أن يكون ذهباً، أو غيره، وعلى هذا يخرج ما إذا اشترى شاة بدينار، وباعها بدينارين، ويقال: هذا الخلاف هو بعينه القولان في بيع الفضولي، فعلى القول الجديد يلغو، وعلى القديم ينعقد موقوفاً على إجازة الموكل (¬1). واعلم أن صورة المسألة شراءً وبيعاً قد نقل في حديث عُرْوَةَ البَارَقَيِّ -رضي الله عنه- وهو مذكور في أول البيع في مسألة بيع الفضولي، واحتج بهذا الحديث لكل واحد من القولين في أصل المسألة، إما للقول الأصح، فلأن النبي -صلَّى الله عليه وسلم- قرره على شرائهما، وألزم العقد فيهما. وأما للقول الثاني، فلأن الشاتين لو وقعتا للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما باع إحداهما قبل مراجعته, لأن الإنسان لا يبيع مال الغير كيف وقد سلم وتصرف الفضولي؟ وإن حكم بإنعقاده، فلا كلام في أنه ليس له التسليم قبل مراجعة المالك وإجازته، فلما باع إحداهما دل على أنها دخلت في ملكه، وقد يقال: هب أن واحدة منهما ملكه، لكنها لا تتعين كما لم يختر الموكل واحدة منهما، أو يجري فيهما اصطلاح في ذلك، وإذا لم تكن التي ملكها معينة، فكيف يبيع واحدة منهما على التعيين، ثم القائلون بالقول الأول، والاحتجاج الأول، احتج من ذهب منهم إلى صِحَّة إحدى الشاتين بالحديث، ومن منع حمل القضية على أن عُرْوَةَ كان وكيلاً مطلقاً من جهة النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيع أمواله إذا رأى المصلحة فيه، ولكن في هذا التأويل بحث لأنه إن كان قد وَكَّلَهُ في بيع أمواله لا يدخل فيه ما لم يملكه من بعد، وإن قبل وكله في بيع أمواله وما سيملكه وقع في الخلاف المذكور في التوكيل ببيع ما سيملكه، إلاَّ أن يقال ذلك الخلاف فيما إذا ¬
فرع
خصص بيع ما سيملكه بالتوكيل، أما إذا حصل تابعاً لأمواله الموجودة في الحال، فيجوز، وهذا كما أنه لو قال: وقفت على من سيولد من أولادي لا يجوز، ولو قال: على أولادي، ومن سيولد لي جاز. فرع لو قال: بع عبدي بمائة درهم، فباعه بمائة (¬1)، وعبد أو ثوب يساوي مائة درهم، فعن ابْنِ سُرَيْجٍ أنه على قولين بالترتيب على مسألة الشاتين، وأولى بالمنع, لأنه عدل عن الجنس الذي أمره بالبيع به، إن منع فيمتنع في القدر الذي يقابل غير الجنس، وهو النصف أم في الجميع كيلا تتفرق الصفقة؟ فيه قولان: إن قلنا: في ذلك القدر خاصة ففي "التتمة" أنه لا خيار للبائع, لأنه إذا رضي ببيع الجميع بالمائة كان أرضى ببيع النصف بها، وأما المشتري إن لم يعلم كونه وكيلاً بالبيع بالدراهم، فله الخيار فإن علمه، فوجهان لشروعه في العقد مع العلم بأن بعض المعقود عليه لا يسلم له (¬2). قال الغزالي: السَّادِسَةُ الوَكِيلُ بِالخُصُومَةِ لاَ يقرُّ عَلَى مُوَكِّلِهِ لاَ يُصَالَحُ، وَلاَ يُبْرِيءُ الوَكِيلُ بِالصُّلْحِ عَنْ الدَّمِ عَلَى خَمْرٍ إِذَا فَعَلَ حصل العَفْوُ كَمَا لَوْ فَعَلَهُ المُوَكِّلُ، وَلَوْ صَالَحَ عَلَى خِنْزِيرِ فَفِيهِ تَرَدُدٌ، وَالوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ الفَاسِدِ لاَ يَسْتَفِيدُ بِهِ الصَّحِيحُ فلاَ مَعْنَى لِوِكَالَتِهِ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِالخُصُومَةِ أَنْ يَشْهَدَ لِمُوكِلِهِ إِلا إِذا عُزِلَ قَبْلَ الخَوْضِ في الخُصُومَةِ ثُمَ شَهِدَ، وَإِنْ كانَ قَدْ خَاضَ لَمْ يُقْبَلْ لأنهُ مُتَّهَمٌ بِتَصْدِيقِ نَفْسِهِ، وإِذَا وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بالخُصُومَةِ فَهَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ الاسْتِبْدادُ؟ وَجْهَانِ. قال الرافعي: في أول هذه الصورة، وآخرها مسائل تتعلق بالتوكيل بالخصومة، وفي خلالها ما لا يتعلق بالخصومة، ونحن نستوفي ما يتعلق بالخصومة، ثم نذكر المدرج في مسائلها أما ما يتعلق بالخصومة، فثلاث مسائل. إحداها: الوكيل بالخصومة من جهة المدعي يدعي، ويقيم البينة، ويسعى في تعديلها، ويحلف، ويطلب الحكم والقضاء، ويفعل ما يقع وسيلة إلى الإثبات، والوكيل بالخصومة من جهة المدعى عليه ينكر، ويطعن في الشهود، ويسعى في الدفع بما يمكنه، ولو أقر وكيل المدعي بالقبض، أو الإبراء أو قبول الحوالة، أو المصالحة على ¬
فرع
مال، أو بأن الحق مؤجل، أو أقر وكيل المدعى عليه بالحق المدعي لم يقبل، سواء أقر في مجلس الحكم، أو غيره، وبهذا قال أَحْمَدُ وقال أبُو حَنِيفَةَ: تقبل إذا أقر في مجلس الحكم وسلم أنه لا يقبل في دعوى النكاح، والطلاق، والقصاص، والعفو. القياس على ما سلمه وأيضاً فإنه لا يصالح، ولا يبرئ, لأن اسم الخصومة لا يتناولها، فكذلك الإقرار، ثم وكيل المدعي إذا أقر بالقبض، أو الإبراء انعزل عن الوكالة، وإن لم يلزم إقراره الموكل، وكذلك وكيل المدعى عليه إذا أقر بالحق؛ لأنه بعد الإقرار ظالم في الخصومة بزعمه، وأطلق القاضي ابْنُ كَجٍّ وجهين في أنه هل تبطل وكالته بالإقرار، وهل يشترط في التوكيل بالخصومة بيان ما فيه الخصومة من دم أو مال عين أو دين أرش جناية أو بدل مال، حكى العبادي فيه وجهين كالوجهين في بيان من يخاصم معه (¬1). فرع نقل في "النهاية" أن الوكيل بالخصومة من جهة المدعى عليه لا يقبل منه تعديل بينة المدعي؛ لأنه كالأقرار في كونه قاطعاً للخصومة، وليس للوكيل قطع الخصومة بالاختيار. وقال المصنف في "الوسيط": لا شك أن تعديله وحده لا ينزل منه منزلة قرار الموكل بعد التهم، لكن رده مطلقاً بعيد؛ لأن التعديل غير مستفاد من الوكالة، إلا أن يوجه بأنه بالتعديل مقصر في الوكالة، وتارك حق النصح. الثانية: تقبل شهادة الوكيل على موكله، ولموكله في غير ما هو وكيل فيه، كما لو شهد له بعبد، وقد وكله ببيع دار، وإن شهد فيما هو وكيل فيه، نظر إن كان ذلك قبل العزل لم تقبل؛ لا يثبت لنفسه محل ولاية التصرف، وإن كان بعده، فإن كان قد خاصم فيه لم تقبل أيضاً؛ لأنه متهم بتمشية قوله، واظهار الصدق، وإن لم يخاصم فوجهان: أحدهما: لا يقبل، كما لو شهد قبل العزل. وأصحهما: ويحكى عن أَبِى حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى: أنه تقبل؛ لأنه ما انتصب خصماً، ولا يثبت لنفسه حقَّاً، فأشبه ما لو شهد قبل التوكيل، هذه هي الطريقة المشهورة. وقال الإمام رحمة الله تعالى: قياس المراوزة أنه يعكس، فيقال: إن لم يخاصم ¬
فرع
تقبل شهادته، وإن كان قد خاصم، فوجهان، ورأى هذا التفصيل فيما إذا جرى الأمر على تواصل، فأما إذا طال الفصل، فالوجه القطع بقبول الشهادة مع احتمال فيه، ويجوز أن يعلّم لما ذكرنا قوله في الكتاب: "ثم يشهد" بالواو وكذا قوله: "وإن كان قد خاض ... " إلى آخره في حكم المكرر؛ لإن فيما قبله ما يغني عنه. الثالثة: لو وكل رجلين بالخصومة، ولم يصرح باستقلال كل واحد منهما، فأصح الوجهين: أن كل واحد منهما لا يستقل بها، بل يتساويان ويتناصران، كما لو وكل رجلين ببيع، أو طلاق، أو غيرهما أو وصى إلى رجلين. والثاني: أن لكل واحد منهما الاستقلال لعسر الاجتماع على الخصومة، ويقرب منهما بحفظه، بل يحفظانه في حرز بينهما، وعلى الثاني ينفرد به كل منهما الوجهان فيما إذا وكَّل رجلين بحفظ متاع، فعلى الأصح لا ينفرد واحد منهما فإن قبل القسمة قُسِمَ ليحفظ كل واحد منهما بعضه واعلم أنه إذا ادعى عند القاضي أنه وكيل فلان في خصومة فلان، فإن كان المقصود بالخصومة حاضراً وصدقه ثبتت الوكالة، وله مخاصمته، وإن كذبه، فأقام البينة على الوكالة ولا يحتاج إلى أن يدعي حقَّا لموكله على الخصم، وعند أبي حنيفة لا تسمع البينة على الوكالة حتى يدعي عليه حقَّا لموكله فينكر، وإن كان غائباً، وأقام المدعي البينة على الوكالة سمعها القاضي، واتبعها, ولا يعتبر حضور المقصود بالخصومة في إثبات الوكالة، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله تعالى، حيث قال: لا تسمع البينة، إلاَّ في وجه الخصم. قال الإمام رحمة الله تعالى: هو بناء على امتناع القضاء على الغائب (¬1)، ثم حكى عن القاضي الحُسَيْنِ أنه لا بد وأن ينصب القاضي مسخراً (¬2) ينوب عن الغائب، ليقيم المدعي البينة في وجهه، ثم استبعدوه، وقال: لا أعرف لهذا أصلاً، مع ما فيه من مخالفة الأصحاب، وحكى أيضاً عنه أن القضاة اصطلحوا على أن مَنْ وكل في مجلس القاضي وكيلاً بالخصومة يختص التوكيل بالخصومة في ذلك المجلس. وقال الإمام رحمه الله تعالى: والذي نعرفه للأصحاب بأنه يخاصمه في ذلك المجلس، وبعده، ولا يعرف للقضاة العرف الذي ادعاه. فرع وكل رجلاً عند القاضي بالخصومة عنه، وطلب حقوقه، فللوكيل أن يخاصم عنه ¬
ما دام حاضراً اعتماداً على العيان، فإذا غاب وأراد الوكيل الخصومة عنه، بناء على اسم وسبب يذكره، فلا بد من إقامة البينة، على أن فلان بن فلان وكله أو على أن الذي وكله هو فلان ابن فلان كذا ذكره أصحابنا العراقيون، والشيخ أَبُو عَاصِمٍ العَبَّادِيُّ، وعبارة العَبَّادِيِّ أنه لا بد، وأن يعرف الموكل شاهدان يعرفهما القاضي، ويثق بهما ذكره في مختصر صنعه في "أدب القضاة"، ووراء ذلك شيئان: أحدهما: روى الإمام رحمه الله تعالى عن القاضي الحسين أن الحكام عادتهم التساهل في هذه البينة بالعدالة الظاهرة، وترك البحث والاستزكاء تسهيلاً على الغرماء. والثاني: قال القاضي أبو سعد بن أبي يوسف في شرح "مختصرالعبادي": يمكن أن يكتفي بمعرِّف واحد إذا كان موثوقاً به، كما ذكر الشيخ أَبُو مُحَمَّدٍ أن تعريف المرأة في تحمل الشهادة عليها يحصل بمعِّرف واحد؛ لأنه إخبار وليس بشهادة. (¬1) وأما ما أدرجه في خلال مسائل الخصومة فمسألتان: إحداهما: لو وكله في الصُّلْح عن الدم على خمر، ففعل حصل العفو، كما لو فعله الموكل بنفسه وهذا لأن الصُّلْح على الخمر، وإن كان فاسداً فيما يتعلق بالعوض، ولكنه صحيح فيما يتعلق بالقصاص، فيصح التوكيل فيما لو فعله بنفسه ليصح، لا أن نصحح التوكيل في العقد الفاسد، ولو وكله بالصلح عن القصاص على خمر، فصالح على خنزير، ففيه جوابان عن ابْنِ سُرَيْجٍ: أشبههما: أنه لغو ويبقى القصاص على ما كان؛ لأنه مستبدّ بما فعل غير موافق لأمر الموكل. والثاني: أنه كما لو عفا على خمر, لأن الوكالة بالصلح ثابتة، والخمر لا تثبت، وإن ذكرت، وإِنما تثبت الدية فلا فرق فيما يصح، ويثبت بين أن يذكر الخمر، أو الخنزير، وعلى هذا لو صالح على ما يصلح عوضاً أو على الدية نفسها يجوز، ولا خلاف في أنه لو أجرى هذا الاختلاف بين الموجب والقابل في المصالحة يلغو لعدم انتظام الخطاب والجواب، ولو وكله بأن يخالع زوجته على خمر، فخالع على خمر، أو خنزير، فعلى ما ذكرنا في الصُّلْح عن الدم. ¬
الثانية: لو وكله ببيع أو شراء فاسد، مثل أن يقول: بيع أو اشتر إلى وقت العطاء، أو قدوم زيد لم يملك الوكيل العقد الصحيح؛ لأن الموكل ما أذن فيه، ولا الفاسد لأن الشرع ما أذن فيه. وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه يملك الصحيح والله أعلم. قال الغزالي: السَّابِعَةُ إِذَا سَلَّمَ إِلَيهِ أَلْفَاً وَقَالَ: اشْتَرِ بِعَيْنِهِ شَيْئًا فَاشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَقَعْ عَنِ المُوَكِّلِ، وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ فِي الذِّمَّةِ وَسَلَّم الألْفَ فَاشْتَرَى بِعَيْنِهِ فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: لو سلَّم إليه ألفاً، وقال: اشْتَرِ كذا بعينه، فاشترى في الذمة لينقد ما سلمه إليه في ثمنه، لم يصح الشراء للموكل؛ لأنه أمره بعقد ينفسخ لو تلف ما سلمه إليه، وقد لا يريد لزوم ألف آخر، والوكيل أتى لعقد لا ينفسخ لو تلف ما سلم إليه، ويلزم الرد ولو قال: اشتر في الذمة، وسلم هذا في ثمنه، فاشترى بعينه، فوجهان: أحدهما: أنه يصح للموكل؛ لأنه زاد خيراً حيث عقد على وجه لو تلف المسلم إليه لم يلزمه شي آخر. واصحهما: المنع, لأنه ربما يريد حصول ذلك المبيع لو سلم ما يسلمه إليه أو تلف، ولو سلمه إليه، وقال: اشتر كذا, ولم يقل بعينه، ولا قال: في الذمة فوجهان: أحدهما: أنه كما لو قال: اشتر بعينه, لأن قرينة التسليم تشعر به. وأظهرهما: أن الوكيل يتخير بين أنْ يشتري بعينه، أو في الذمة؛ لأنه على التقديرين يكون إتياناً بالمأمور، ويجوز أن يكون غرضه من تسليمه إليه مجرد انصرافه إلى ثمن ذلك الشيء. (¬1) قال الغزالي: ثُمَّ الوَكِيلُ مَهْمَا خَالَفَ فِي البَيْعِ بَطَلَ تَصَرُّفُهُ، ومَهْمَا خَالَفَ فِي الشِّرَاءِ بِعَينِ مَالِ المُوَكِّلِ فَكَمِثْلِ، فَإِنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ وَقَعَ عَنِ الوَكِيلِ إِلاَّ إِذَا صَرَّحَ بِالإِضَافَةِ إِلِيَ المُوَكِّلِ فَفِي وُقوعِهِ عَنِ الوَكِيلِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: لما تكلم فيما أراد من صور مخالفة الوكيل الموكل، وموافقته بين حكم البيع، والشراء إذا وقعا مخالفين لأمر الموكل. ¬
فرع
أما البيع فهذا قال: بع هذا العبد، فباع عبداً آخر، فهو باطل؛ لأن المالك لم يَرْضَ بإزالة ملكه عنه. وأما الشراء، فإن وقع بعين مال الموكل، فهو كالبيع، أو اشترى في الذمة، نظر إن لم يسم الموكل، فهو واقع عن الوكيل؛ لأن الخطاب صار معه، وإنما ينصرف إلى الموكل بشرط كونه مرافقاً لإذنه وإذا لم يوافق لغت النية، وكان كأجنبي يشتري لغيره في الذمة، وهذا كله جواب على الجديد في منع وقف العقود وإلغاء تصرُّف الفضولي أما على القديم، فسبيل الوكيل فيه سبيل الأجانب ويتوقف الشراء في الذمة على إجازته إن شاء وقع عنه، وإلاَّ فعن الوكيل، وكذا القول في مخالفة الموكل في البيع، على ما ذكرنا في أول البيع وكذا الشراء بعين ماله والبيع ينعقدان موقوفين على ذلك القول، فيجوز أن يعلم قوله: "وقع عن الوكيل" وقوله: "بطل تصرفه" بالواو وكذلك القول، وإن سمي الموكل فوجهان: أحدهما: أنه يبطل العقد رأساً؛ لأنه صرح بإضافته إلى الموكل، وامتنع إيقاعه عنه فيلغو. وأظهرهما: أنه يقع عن الوكيل، وتلغو تسمية الموكل، وهذا لأن تسمية الموكل غير معتبرة في الشراء، فإذا سماه، ولم يمكن صرف العقد إليه، صار كأنه لم يسمه، هذا فيما إذا قال البائع: بعت منك، فقال المشتري: اشتريته لفلان، يعني موكله. فأما إذا قال البائع: بعت من فلان -يعني موكله- وقال المشتري: اشتريته لفلان -يعني موكله- فظاهر المذهب بطلان العقد؛ لأنه لم تجر بينهما مخاطبة، يفارق النكاح، حيث يقع من الزوج، ووكيل الزوج على هذه الصيغة، بل لا يجوز إلا كذلك؛ لأن للبيع أحكاماً تتعلق بمجلس العقد، كالخيار وغيره، وتلك الأحكام إنما يمكن الاعتبار فيها بالمتعاقدين، والنكاح سفارة مخضة. فرع: من فتاوى القَفَّال: إن وكيل المتهب بالقبول يجب أن يسمى موكله، وإلاّ وقع عنه لجريان الخطاب معه، ولا ينصرف بالنية إلى الموكل؛ لأن الواهب قد يقصده بالتبرع بعينه. وما لكل أحد تسمع النفس بالتبرع عليه (¬1)، ويخالف الشراء؛ فإن المقصود فيه حصول العوض، والله أعلم. ¬
قال الغزالي: الحُكْمُ الثَّانِي: للِوَكَالَةِ العهدة فِي حَقِّ الوَكِيلِ، وَيَدُهُ يَدُ أَمَانة فِي حَقِّ المُوَكِّلِ حَتَّى لاَ يَضْمَنَ سَوَاءٌ كَانَ وَكِيلاً بِجُعْلِ أَوْ بِغَيْرِ جُعْلِ، ثُمَّ إِنْ سَلَّمَ إِلَيهِ الثَّمَنَ فَهُوَ مُطَالَبٌ بِهِ مَهْمَا وُكِّلَ بِالشِّراءِ، وإِنْ لَمْ يسَلِّمِ الثَّمَنَ وأَنْكَرَ البَائِعُ كَوْنَهُ وَكِيلاً طَالَبَهُ، وَإِنِ اعْتَرَفَ بِوَكَالَتِهِ فَفِيِهِ ثَلاَثةُ أَوْجُهٍ، وَالظَّاهِرُ: أنَّهُ يُطَالِبُهُ به دُونَ المُوَكِّلِ، وَفِي الثَّانِي: يُطَالَبُ المُوَكِّلُ دُونَهُ، وفِي الثَّالِثِ: يُطَالِبُهُمَا، ثُمَّ إِنْ طُولِبَ الوَكِيلُ، فالصحيح رجوعه على الموكل وَكَذَلِكَ لَوْ تَلِفَ الثَّمَنُ في يَدِهِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مَا اشْتَرَاهُ مُسْتَحِقَّاً، فَالمُسْتَحِقُّ يُطَالِبُ البَائِعَ، وَفِي مُطَالَبَتِهِ الوَكِيلَ وَالمُوَكِّلَ هَذِهِ الأَوْجُهُ، وكَذَا الوَكيلُ بِالبَيْعِ إِذَا قَبَضَ الثَّمَنَ وَتَلَفَ في يَدِهِ فَخَرَجَ المبيع مستحقاً فرجع المُشْتَرِي بالثَّمَنِ عَلَى الوَكِيلِ أَوْ عَلَى المُوَكِّلِ فَفيهِ هَذَا الخِلاَفُ. قال الرافعي: ترجم الحكم بالعهدة، ولكنه قدم على السلام من العهدة أصلاً آخر، جعله من "الوسيط" حكماً برأسه، واشتمل الحكم على مقصودين: أحدهما: أن يد الوكيل يد أمانة، فلو تلف المال من يده من غير تعدّ منه، فلا ضمان عليه، سواء كان وكيلاً بجُعل، أو بغير جعل، وإن تعدى فيه، كأن ركب الدابة أو ليس الثوب ضمن، وهل ينعزل عن الوكالة؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنها أمانة، فترتفع بالتعدي كالوديعة. وأصحهما: لا، وبه قطع بعضهم؛ لأن الوكالة أمانة، وإذن في التصرف والأمانة حكم يترتب عليه، فلا يلزم من ارتفاع هذا الحكم بطلان أصل العقد، وهذا كما أن الرَّهْن لها كان المقصود منه التوثيق، ومن حكمه الأمانة لا يلزم من ارتفاع حكم الأمانة فيه بطلان أصل الرَّهْن، وتخالف الوديعة، فإنها ائتمان محض، فلا تبقى مع التعدي، فعلى هذا يصح تصرفه وإذا باع وسلم زال عنه الضمان؛ لأنه أخرجه من يده بإذن المالك، وهل يزول الضمان بمجرد البيع فيه وجهان: أحدهما نعم لزوال ملك الموكل بالبيع. وأصحهما: لا؛ لأنه ربما يرتفع العقد بتلفه قبل قبض المشتري، فيكون التلف على ملك الموكل، والثمن الذي يقبضه لا يكون مضموناً عليه؛ لأنه لم يتعدَّ فيه، ولو رد المشتري البيع عليه بعيب عاد الضمان، ولو دفع إلى وكيله دراهم ليشتري بها طعاماً مثلاً، فتصرف فيها على أن تكون قرضاً عليه صار ضامناً، وليس له أن يشتري للموكل بدراهم نفسه ولا في الذمة، ولو فعل كان ما اشتراه له دون الموكل. وقال أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- يكون للموكل، ولو عادت الدراهم التي أنفقها
إلى يده، فأراد أن يشتري بها للموكل، فهو على الخلاف المذكور في أن الوكيل هل ينعزل بالتعدي؟. الأصح: أنه لا ينعزل، ولا يكون ما اشتراه مضموناً عليه؛ لأنه لم يتعدَّ فيه، ولو رد ما اشتراه بعينه، واسترد الثمن عاد مضموناً عليه، ومتى طالب الموكل برد ماله، فعليه أن يخلي بينه وبينه، فإن امتنع، صار ضامناً كالمودع المقصود. الثاني: الكلام في العهدة، ونقدم عليه أصلين: أحدهما: أن الوكيل بالشراء إذا اشترى لموكله ما وكله بشرائه، فالمِلْكُ يثبت للوكيل، ثم ينتقل إلى الموكل أم يثبت للموكل ابتداء؟ فيه وجهان لابن سُرَيْجٍ: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- أنه يثبت للوكيل أولاً، ثم ينتقل إلى الموكل؛ لأن الخطاب جرى معه، وأحكام العقد تتعلّق به. وأصحهما: أنه يثبت للموكل ابتداء، كما لو اشترى الأب للطفل يثبت الملك للطفل ابتداء، ولأنه لو ثبت للوكيل لعتق عليه أبواه إذا اشتراه لموكله، ولا يعتق. الأصل الثاني: أن أحكام العقد في البيع والشراء تتعلق بالوكيل، دون الموكل حيث يعتبر رؤية الوكيل دون الموكل، ويلزم بمفارقة الوكيل مجلس العقد، ولا يلزم بمفارقة الموكل، إن كان حاضرًا، وتسليم رأس المال في السلم والتقابض، حيث يشترط التقابض يعتبران قبل مفارقة الوكيل، والفسخ بخيار المجلس، وخيار الرؤية إن أثبتناه ثبت للوكيل دون الموكل، حتى لو أراد الموكل الإجازة كان للوكيل أن يفسخ، كذا ذكره في "التتمة"، وفرق بينه وبين خيار العيب، حيث قلنا: لا رد للوكيل إذا رضي الموكل بما لا يكاد تسكن النفس إليه. إذا تقرر ذلك، في الفصل مسائل: إحداها: إذا اشترى الوكيل بثمن معين نظر إن كان في يده طالبه البائع به، وإلاَّ فلا، وإذا اشترى في الذمة، فإن كان للموكل قد سلم إليه ما يصرفه إلى الثمن طالبه البائع، وإن لم يسلم، نظر إن انكر كونه وكيلاً، أو قال: لا أدري، هل هو وكيل طالبه به، وإن اعترف بوكالته فمن الذي يطالبه البائع بالثمن؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن المطالب الوكيل لا غير؛ لأن أحكام العقد تتعلق به والإلتزام وجد منه. والثاني: أن المطالب الموكل لا غير؛ لأن العقد له والوكيل سفير ومعبر. والثالث: أنه يطالب من شاء منهما نظراً إن المعينين، وهذا أظهر عند صاحب "التهذيب"، والإمام وغيرهما، وإن يرجح صاحب الكتاب الأول.
التفريع: إن قلنا بالأول، فهل للوكيل مطالبة الموكل قبل أن يغرم؟ فيه وجهان، لأن بعضهم قال يثيبت الثمن للبائع على الوكيل، وللوكيل مثله على الموكل بناء على أن الوكيل يثبت له الملك، ثم ينتقل إلى الموكل، فعلى هذا للوكيل مطالبته بما ثبت له، وإن لم يؤدّ ما عليه. وقال آخرون: ينزل الوكيل منزلة المحال عليه، الذي لا دين عليه، فعلى هذا ففي رجوعه قبل الغرم وجهان كالمحال عليه والأصح المنع، وإِذا غرم الوكيل للبائع، فقياس تنزيله منزلة المحال عليه الذي لا دين عليه، خلاف المذكور هناك في أنه هل يشترط في الرجوع كون الأداء بالإذن وشرط الرجوع؟ وذكر في "النهاية" أن المذهب القطع بالرجوع وإلاَّ لخرج المبيع عن أن يكون مملوكاً للموكل بالعوض، وفي ذلك تغيير لوضع العقد. وإن قلنا بالوجه الثالث، فالوكيل كالضمامن، والموكل كالمضمون عنه فيرجع الوكيل إذا غرم، والقول في اعتبار شرط الرجوع، وفي أنه هل يطالبه بتخليصه قبل الغرم، كما سبق في "الضمان". وحكى الإمام أن ابن سُرَيْجٍ فرع على الخلاف في المسألة، فقال: لو سلم دراهم إلى الوكيل ليصرفها إلى الثمن الملتزم في الذمة ففعل ثم ردها البائع عليه بعيب. فإن قلنا بالوجه الثاني والثالث، فعلى الوكيل رد تلك الدراهم بأعيانها إلى الموكل، وليس له إمساكها وإبدالها. وإن قلنا بالوجه الأول، فله ذلك؛ لأن ما دفعه إليه على هذا الوجه، كأنه أقرضه منه لتبرأ ذمته، فإذا عاد إليه، فهو ملكه، وللمستقرض إمساك ما استقرضه، ورد مثله فهو ملكه، ولك أن تقول: لا خلاف أن للوكيل أن يرجع على الموكل في الجملة، وإنما الكلام في أنه متى يرجع؟ وبأي شيء يرجع؟ وإذا كان كذلك، فيتجه أن يكون تسليم الدراهم دفعاً له، وبه التراجع لا إقراضاً. المسألة الثانية: للوكيل بالبيع إذا قبض الثمن، إِما بإذن صريح، أو بالإذن في البيع على رأي، وتلف المقبوض في يده، وخرج المبيع مستحقّاً، والمشتري معترفٌ بالوكالة، فحق رجوعه بالثمن يكون على الوكيل؛ لأنه الذي يتولى القبض، وحصل التلف في يده، أو على الموكل؛ لأن الوكيل سفير، ويده يده أو على من شاء منهما فيه الأوجه الثلاثة السابقة. فإن قلنا: حق الرجوع على الموكل، فإذا غرم لم يرجع على الوكيل، وكذا إذا جعلناه على الوكيل، فغرم لا يرجع على الموكل قاله الإمام.
وإن قلنا: يرجع على مَنْ شاء منهما فثلاثة أوجه: أشهرها: أنه إن غرم الموكل لم يرجع على الوكيل، وإن غرم الوكيل رجع على الموكل, لأن الموكل قد غر الوكيل، والمغرور يرجع على الغَارّ دون العكس. والثاني: أن واحداً منهما لا يرجع على الآخر، أما الموكل فلأنه غارم، وأما الوكيل فلحصول التلف في يده. الثالث: أن الموكل يرجع على الوكيل، دون العكس لحصول التلف في يد الوكيل، والذي يعني به من هذه الأختلافات أن المشتري يغرم من شاء منهما، والقرار على الموكل، ولذلك اقتصرنا على هذا الجواب في عزل الراهن، وإن كان يطرد فيه الخلاف. الثالثة: وهي مقدمة على الثانية في الكتاب: الوكيل بالشراء إذا قبض المبيع، وتلف في يده، ثم تبين أنه كان مستحقاً لغير البائع، فللمستحق مطالبة البائع بقيمة المبيع، أو مثله لأنه غاصب، ومن يده خرج المال، وفي مطالبة الوكيل، والموكل الأوجه الثلاثة. قال الإمام رحمه الله تعالى: وألا قيس في المسألتين أنه لا رجوع له إِلا على الوكيل لحصول التلف عنده، ولأنه إذا ظهر الاستحقاق بانَ فساد العقد، وصار الوكيل قابضاً ملك الغير، بغير حق، ويجرى الخلاف في القرار في هذه الصورة أيضاً. الرابعة: ولم يذكرها في الكتاب: الوكيل بالبيع إذا باع بثمن في الذمة، واستوفاه ودفعه إلى الموكل، فخرج مستحقّاً أو معيباً، ورده فللموكل أن يطالب المشتري بالثمن، وله أن يغرم الوكيل, لأنه مسلماً للمبيع قبل أخذ عوضه، وفيما يغرمه وجهان. أحدهما: قيمة العين؛ لأنه فوت عليه العين. والثاني: لأن حقه انتقل من العين إلى الثمن بالبيع، فإن قلنا بالأول، فإذا أخذ منه القيمة طالب الوكيل المشتري بالثمن، فإذا أخذه دفعه إلى الموكل، واسترد القيمة والله أعلم. الخامسة: دفع إليه دراهم ليشتري له بعينها عبداً، ففعل، وتلف في يده قبل التسليم انفسخ البيع، ولا شئ على الوكيل، وإِن تلف قبل الشراء ارتفعت الوكالة، ولو قال: اشتر في الذمة، واصرفها إلى الثمن الملتزم، فتلف في يد الوكيل بعد الشراء لم ينفسخ العقد، لكنه ينقلب إلى الوكيل، ويلزمه الثمن، أو يبقى للموكل، وعليه أن يأتى بمثلها فيه وجهان: قال القَفَّالُ: ووجه ثالث يحتمل، وهو أن يعرض الحال على الموكل، فإن رغب
فرع
فيه، وأتى بمثل تلك الدراهم، فالشراء له، وإِلاَّ وقع للوكيل، وعليه الثمن، ولو تلف قبل الشراء لم ينعزل، فإن اشترى للموكل فهل يقع له أم للوكيل؟ فيه الوجهان: (¬1) وقوله في الكتاب: "فالصيحح رجوعه به على الموكل" ليس الوجه الآخر أنه لا يرجع أصلاً، وإنما الخلاف في أنه هل يشترط الرجوع بشرط الرجوع، وكون الأداء بالإذن كما تَقَدّم؟ وقوله: "لو تلف الثمن في يده بعد أن خرج ما اشتراه" الجمع بين اللفظين موحش، فالوجه أن تطرح لفظة "ما اشتراه". فرع إذا اشترى الوكيل شراءً فاسداً وقبض وتلف المبيع، إما في يده، أو بعد تسليمه إلى الموكل فلمالك مطالبته بالضمان، ثم هو يرجع على الموكل، ولو أرسل رسولاً ليستقرض له فاستقرض، فهو وكيل كوكيل، وفي مطالبته المشتري ما في مطالبة وكيل المشترى بالثمن، والظاهر أنه يطالب، ثم إذا غرم رجع على الموكل. قال الغزالي: الحُكْمُ الثَّاِلثُ: للوَكَاَلةِ الجَوَازُ مِنَ الجَاِنبَيْن فَيَنْعَزِلُ بِعَزْلِ المُوَكّل إيَّاهُ فيِ حَضْرَتِهِ، وَكَذَا فيِ غَيْبَتِهِ (ح) قَبْلَ بُلُوغِ الخَبَرِ فيِ أَقْيَسِ القَوْلَيْنِ، كَمَا يَنْعَزِلُ بِبيعِ المُوكَلِّ وَإِعْتَاقِهِ، وَيَنْعَزِلُ بَعْزلِ نَفْسِهِ، وَبَردَّهِ الوَكَالَةَ، وَجُحُودُهُ مَعَ العِلْم رَدٌّ لَهَا، وَمَعَ الجَهْلِ أَوْ لِغَرضَ فيِ الإِخْفَاءِ لَيْسَ بَرِدٍّ، وَينْعزِلُ بِخُرُوجِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّصَرّفُ كَالَموْتِ والجُنُونِ، وَكَذَا الإغْمَاءُ عَلَى الأَظْهَرِ، وَفيِ انْعِزَالِ العِبْدِ بِالَعتْقِ وَالكتَابَةِ وَالَبَيْعِ خِلاَفٌ، لِخُرُوجِهِ عَنْ أَهْلِيَّةِ الإسْتِخْدامِ، وَالأَمْرُ فيِ حَقِّهِ مِنَزَّلٌ عَلَى الخِدْمَةِ. قال الرافعي: الوكالة جائزة من جانب الموكل والوكيل جميعاً؛ لأنها إذن وإنابة، وقد يبدو للموكل في الأمر الذي أناب فيه، أو في نيابة ذلك الشخص، وقد لا يتفرغ له الوكيل، فالإلزام يصير بهما جميعاً، ولارتفاعهما أسباب. فمنها: أن يعزله الموكل في حضرته، إما بلفظ العزل، أو بأن يقول: رفعت الوكالة أو فسختها وأبطلتها، أو أخرجته عنها فينعزل سواء ابتدأ بالتوكيل، أو وكل بمسألة الخصم، كما إذا سألت المرأة زوجها أن يوكل بالطلاق، أو الخلع، أو المرتهن ¬
الراهن أن يوكل ببيع الرَّهْن، أو الخصم الخصم أن يوكل في الخصومة، ففعل المسؤول التوكيل. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: إذا كان التوكيل بمسألة الخصم لم ينعزل، وإن عزله في غيبته، ففي انعزاله قبل بلوغ الخبر إليه قولان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: أنه لا ينعزل، كما أن القاضي لا ينعزل ما لم يبلغه الخبر، وحكم الفسخ لا يلزم المكلفين قبل بلوغ الخبر، ولأن تنفيذ العزل قبل بلوغ الخبر إليه يسقط الثقة بتصرفه. وأصحهما: الإنعزالِ؛ لأنه رفع عقد لا يحتاج فيه إلى الرضا، فلا يحتاج إلى العلم كالطلاق، ولأنه لو جن الموكل إنعزل الوكيل، وإن لم يبلغه الخبر، وكذا لو وكله ببيع عبد، أو إعتاقه، ثم باعه الموكل، أو أعتقه نفذ تصرفه، وانعزل الوكيل، وإن لم يشعر بالحال ضمناً لنفوذ تصرنه وإذا لم يعتبر بلوغ الخبر في العزل الضمني، ففي صريح العزل أولى. وأما انعزال القاضي، فمنهم من طرد الخلاف فيه، وعلى التسليم، وهو الظاهر، فالفرق تعلق المصالح الكلية بعمله. وأما الفسخ، فلا فرق بينه وبين ما نحن فيه؛ لأن حكم الفسخ، إما إيجاب امتثال الأمر الثاني، وإما إخراج الأول عن الاعتداد به، فيما يرجع إلى الإيجاب والإلزام، ولا يثبت قبل العلم لاستحالة التكليف بغير المعلوم، وهذا النوع لا يثبت في الوكالة أصلاً ورأساً؛ لأن أمر الموكل غير واجب الامتثال. وأما النوع الثاني، فهو ثابت هناك أيضاً قبل العلم حتى يلزمه القضاء، ولا تبرأ ذمته بالأول. وعن أحْمَدَ روايتان كالقولين. وعن أصحاب مالك اختلاف في المسألة. فإن قلنا: لا ينعزل قبل بلوغ الخبر إليه، فالمعتبر أخبار مَنْ تُقْبَلُ روايته، دون الصبي والفاسق. وإذا قلنا بالانعزال أن يشهد الموكل على العزل؛ لأن قوله بعد تصرف الوكيل: كنت قد عزلته غير مقبول. ومنها: إذا قال الوكيل: عزلت نفسى أو أخرجتها عن الوكالة أو رددت الوكالة انعزل. وقال بعض المتأخرين: إن كانت صيغة التوكيل "بع" أو "أعتق" ونحوهما من صيغ الأمر لم ينعزل برد الوكالة، وعزله نفسه؛ لأن ذلك إذن وإباحة، فأشبه ما إذا أباح الطعام لغيره لا يرتد برد المباح له. وقد أورد الإمام -رحمه الله تعالى- هذا الكلام على سبيل الاحتمال، ولا يشترط
في انعزال الوكيل بعزله نفسه حضور الموكل، خلافاً لأبي حنيفة. ومنها: ينعزل الوكيل بخروجه، أو خروج الموكل عن أهليّة تملك التصرفات بالموت، أو بالجنون، وفي الجنون الذي يطرأُ أَو يزول عن قرب حكاية تردد عن صاحب "التقريب"، وضبط الإمام موضع التردد، بألاَّ يكون امتداده، بحيث تعطل المهمات ويحوج إلى نصب قوام، فليلتحق حينئذ بالإغماء، وفي الإغماء وجهان: أظهرهما: وبه قال في الكتاب: أنه كالجنون في اقتضاء الانعزال. والثاني: وهو الأظهر عند الإمام -رحمه الله تعالى- وبه قال في "الوسيط": أنه لا يقتضي الانعزال، واحتج له بأن المغمى عليه لا يلتحق بمن تولى عليه، والمعتبر في الانعزال التحاق الوكيل، أو الموكل بمن يولى عليه، وفي معنى الجنون الحجر بالسفه، أو الفلس في كل تصرف لا ينفذ من السفيه والمفلس، وكذا لو طرأ الرِّقُّ بأن وَكَّلَ حربياً فاسترق. ومنها: خروج محل التصرف عن ملك الموكل (¬1)، كما إذا باع العبد الذي وكله ببيعه، وقد مر ذلك وإن وكَّلَهُ ببيع شيء آخر، ثم أجره. قال في "التتمة": ينعزل الوكيل, لأن الإجارة إن منعت البيع لم يبق مالكاً للتصرف، وإن لم تمنعه، فهو علامة الندم؛ لأن من يريد البيع لا يؤاجر لقّلة الرغبات بسبب الإجارة، وكذا تزويج الجارية، وفي طحن الحِنْطَةِ الموكل ببيعها وجهان: وجه اقتضائه الانعزال بطلان اسم الحِنْطةِ وإشعاره بالإمساك، والعرض على البيع، وتوكيل وكيل آخر لا يقتضي الانعزال. ومنها: لو وكل السيد عبده ببيع أو تصرف آخر، ثم أعتقه أو باعه، ففي انعزاله وجهان عن ابْنِ سُرَيْجٍ مبنيان على أنه توكيل محقق، أو استخدام وأمر: إن قلنا بالأول ففي الإذن بحاله؛ لأنه صار أكمل حالاً مما كان. وإن قلنا بالثاني ارتفع الإذن لزوال الملك، وعلى الثاني فلو قال العبد عزلت نفسي، فهو لغو. وفصّل بعضهم، وقال: إنْ كانت الصيغة: وكلتك بكذا، بقي الإذن وإن أمره به ارتفع الإذن بالعتق، والبيع، وإن حكمنا ببقاء الإذن في صورة البيع، فعليه استئذان المشتري؛ لأن منافعه صارت مستحقة له، والكتابة كالبيع والإعتاق في جريان الوجهين، ¬
ولو وكل عبد غيره بإذن المالك للعبد، فباعه مالكه، ففي ارتفاع الوكالة وجهان أيضاً. وجه الارتفاع بطلان إذنه ملكه، وعلى الثاني يلزمه استئذان المشتري، ولو لم يستأذن في الصورتين بعد تصرفه لدوام الإذن، نفذ وإن ترك واجباً. قال الإمام رحمه الله تعالى: وفيه احتمال (¬1). بقي علينا مما في متن الكتاب مسألة غفلنا عنها إلى الآن، وهي أن الوكيل لو جحد الوكالة، وأنكرها هل يكون ذلك رداً للوكالة؟ روى في "الوسيط" فيها أوجها: أصحها، وهو المذكور في الكتاب: أنه إن كان لنسيان، أو غرض في الإخفاء لم يكن رداً وإن تعمد ولا غرض من الإخفاء فهو رد، ولم أعثر على المسألة في "النهاية"، ولكنه أورد قريباً من هذه الأَوجه في إنكار الموكل التوكيل هل يكون عزلاً أوْ لاَ (¬2). اعلم أن قولنا: إن الجواز من أحكام الوكالة يراد به الوكالة الخالية عن الجُعْل، فأما إذا شرط فيها جُعْلاً معلوماً، واجتمع شرائط الإجارة، وعقد العقد بصيغة الإجارة، فهو لازم، وإِن عقد بصيغة الوكالة، فيمكن تخريجه على أن الاعتبار بصيغ العقود أو بمعانيها، هذا شرح مسائل الكتاب، وبختمه بصور نوردها على الاختصار: لو وكل رجلاً بالبيع، فباع ورد عليه المبيع بعيب، أو أمره بشرط الخيار، فشرط ففسخ البيع لم يكن له بيعه ثانياً، خلافاً لأبي حنيفة رحمة الله تعالى، ولو قال: بيع نصيبي من كذا، أو أقسم مع شركائي، أو خذ بالشفعة، فأنكر الخَصْمُ ملكه، هل له الإثبات؟ يخرج على الوجهين في أن الوكيل بالاستيفاء، هل يثبت؟ ولو قال: بع واشترط الخيار، فباع مطلقاً لم يصح، ولو أمره بالبيع، وأطلق لم يكن للوكيل شرط الخيار للمشتري، وكذا ليس للوكيل بالشراء شرط الخيار للبائع، وفي شرطهما الخيار لنفسهما، أو للموكل وجهان (¬3)، فإن إطلاق العقد يقتضي عقداً بلا ¬
شرط، ولو أمره بشراء عبد، أو بيع عبد لم يكن له أن يعقد على بعضه لضرر التبعيض، ولو فرضت فيه غبطة، كما إذا أمره بشراء عبد بألف فاشترى نصفه بأربعمائة، ثم نصفه الآخر بأربعمائة، فكذلك، ولا ينقلب الكل إليه بعد انصراف العقد عنه، وفيه وجه ضعيف، ولو قال؛ اشتراه بهذا الثوب، فاشتراه بنصف الثوب صح؛ لأنه إذا رضي بزوال كل الثوب في مقابلته، فهو بزوال بعضه أشد رضا, ولو قال: بيع هؤلاء العبيد، واشْتَرِ لي خمسة أَعْبُدٍ، ووصفهم، فله الجمع والتفريق، إذ لا ضرر ولو قال: اشترهم صفقة واحدة لم يفرّق، ولو فرق لم يصح للموكل، ولو اشترى خمسة من مالكين لأحدهما ثلاثة، وللآخر اثنان دفعة واحدة، وصححنا مثل هذا العقد، ففي وقوع شرائهم عن الموكل وجهان: أحدهما: وبه قال ابْنُ سُرَيْجٍ يقع حملاً لكلامه على الأمر بتملكهم دفعة واحدة وأظهرهما: المنع؛ لأن إذا تعدد البائع لم تكن الصفة واحدة. ولو قال؛ بع هؤلاء إلا عبُدَ الثلاثة بألف لم يبع واحداً منهم بما دون الألف لجواز ألاَّ يشتري الباقيان بالباقي من الالف، ولو باعه بألف صح، ثم هل يبيع الآخرين فيه وجهان: أصحهما: نعم، ولو قال: بع من عبيدي من شئت أبقى بعضهم، ولو واحداً. ولو وكلَّه باستيفاء دينه على زيد، فمات زيد نظر إن قال: وكلتك في طلب حقي من زيد لم يطالب الورثة، وإن قال: بطلب حقي الذي على زيد طالبهم (¬1). ولو أمره بالبيع نسيئة، فباع لم يلزمه التقاضي بعد حلول الأجل، ولكن عليه بيان المعامل حتى لا يكون مضيعاً لحقه، وكذلك لو قال: ادفع هذا الذهب إلى صائغ فقال: دفعته، فطالبه الآمر ببيانه. قال القَفَّالُ: عليه البيان، ولو امتنع كان متعدياً (¬2) حتى إذا بينه من بعد، وكان قد تلف في يد الصائغ يلزمه الضمان. قال القَفَّالُ: والأصحاب كانوا يقولون: لا يلزمه البيان (¬3). ولو قال لغيره: بع عبدك من فلان بألف، وأنا أدفعه إليك، فباعه منه. ¬
قال ابْنُ سُرَيْجٍ: يستحق البائع الألف على الآمر، دون المشتري، فإِذا غرم الآمر رجع على المشتري (¬1)، ولو قال لغيره: اشتر عبد فلان لي بثوبك هذا، أو بدراهمك، ففعل حصل الملك للأمر، ويرجع المأمور عليه بالقيمة، أو المثل. وفيه وجه: أنه أذا لم يجر شرط الرجوع لا يرجع، ومتى قبض وكيل المشتري المبيع، وغرم الثمن من ماله لم يكن له حبس المبيع ليغرم الموكل له. وفيه وجه: أن له الحبس، وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- بناء على أن الملك يحصل للوكيل، ثم ينتقل إلى الموكل، ولو وكله باستيفاء دينه من زيد، فقال زيد للوكيل: خذ هذه العشرة، وَاقْضِ بها ديني عن فلان، يعني موكله، فأخذها صار وكيل زيد في قضاء دينه حتى يجوز لزيد استردادها ما دامت في يد الوكيل، ولو تلف عنده بقي الدَّين بحاله. ولو قال زيد: خذها عن الدين الذي تطالبني به لفلان، فأخذها كان قبضاً للموكل، وبرئت ذمة زيد، وليس له الاسترداد، ولو قال: خذها قضاء عن دين فلان، فهذا محتمل للوجهين جميعاً. ¬
ولو تنازع الموكل وزيد، فالقول قول زيد مع يمينه (¬1). ولو دفع عشرة إلى رجل، وقال: تصدق بها على الفقراء، فتصدق بها، ونوى نفسه لغت نيته، وكانت الصدقة للآمر. ولو وكل عبداً ليشتري له نفسه، أو مولى آخر من سيده. ففي وجه: لا يجوز؛ لأن يده يد السيد، فأشبه مالوا وكل إنساناً ليشتري له من نفسه والأظهر الجواز، كما يجوز توكيله في الشراء من غير سيده، وعلى هذا فعن صاحب "التقريب" أنه يجب أن يصرح بذكر الموكل، فيقول: اشتريت نفسي منك لموكلي فلان، وإلا فقوله: اشتريت نفسي -صريح في اقتضاء العتق لا يندفع بمجرد النية. ولو قال العبد لرجل: اشتر لي نفسي من سيدي، ففعل. قال صاحب "التقريب": يجوز، ويشترط التصريح بالإضافة إلى العبد، فلو أطلق وقع الشراء للوكيل؛ إذ البائع لا يرضى بعقد يتضمن الإعتاق قبل توفير الثمن. ولو قال لغيره: أسلم لي في كذا وأدِّ رأس المال من مالك، ثم ارجع عليَّ. قال ابْنُ سُريْجٍ: يصح، ويكون رأس المال قرضاً على الآمر، وقيل: لا يصح؛ لأن الإقراض لا يتم إلاَّ بالإقباض ولم يوجد من المستقرض قبض (¬2). وإذا أبرأ وكيل المسلم المسلم إليه لم يلزم إبراؤه الموكل، لكن المسلم إليه لو قال: لا أعرفك وكيلاً، وإنما التزمت لك شيئاً فأبرأتني عنه نفذ في الظاهر، وتعطل بفعله حق المسلم، وفي وجوب الضمان عليه قولاً الغرم بالحيلولة. والأظهر: وجوبه، لكن لا يغرم مثل المسلم فيه، ولا قيمته كيلا يكون اعتياضاً عن المسلم، وإنما يغرم له رأس المال وحكاه الإمام عن العراقيين، وشهد له الحَسَنُ، ورأيت في "تعليق الشيخ أَبي حَامِدٍ" أنه يغرم للموكل مثل المسلم فيه. ولو قال: اشتر لي طعاماً بكذا، نص الشَّافعي -رضي الله عنه- أن يحمل على الحنطة اعتباراً بعرفهم. قال القاضي الروياني: وعلى هذا لو كان "طبوستان" لم يجز التوكيل؛ لأنه لا عرف فيه لهذا اللفظ عندهم، فيكون التوكيل في مجهول. ¬
الباب الثالث في النزاع
ولو قال: وكلتك بإبراء غرمائي لم يملك الوكيل إبراء نفسه، فإن كان قد قال: وإن شئت تبرئ نفسك، فافعل، فعلى الخلاف السابق في أنه هل يجوز توكيل المديون بإبراء نفسه؟ ولو قال: فرّق ثلثي مالي على الفقراء، وإن شئت أن تضعه في نفسك، فافعل فعلى الخلاف فيما إذا أذن للوكيل في البيع من نفسه (¬1) والله اعلم. البَابُ الثَّالِثُ في النِّزَاعِ قال الغزالي: وَهُوَ في ثَلاثةِ مَوَاضِعَ: (الأَوَّلُ) في أَصْلِ الإِذْنِ وَصِفَتهِ وَقَدْرِهِ، وَالقَوْلُ فِيِهَ قَوْلُ المُوَكِّلِ، فَإِذَا اشْتَرَى جَارِيةً بِعِشْرِينَ فَقَالَ: مَاَ أَذِنْتُ إِلاَّ في الشِّراءِ بِعَشَرةً وَحَلَفَ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِعِيْنِ مَالِ المُوَكِّلِ وَصَدّقَهُ البَائِعُ في أَنَّهُ وَكِيلٌ فَالَبَيْعُ بَاطِلٌ وَغَرَمَ الوَكِيلُ العِشْرِينَ، وَإِنْ اشْتَرَاهُ في الذِّمَّةِ واعْتَرَفَ البَائِعُ بالوِكَاَلَةِ فَبَاطِلٌ، وَإِنْ أَنْكَرَ البَائِعُ الوكالة لَمْ يَقْبَلْ، فَإنْ أَنْكَرَ الَوكَاَلَةَ وَبَقَيِتِ الجَارِيةُ في يَدِ الوَكِيلِ فَلْيَتَلطَّفِ الحَاكِمُ بِالمُوَكِّلِ حَتى يَقُولَ لِلوكَيِلِ: بعْتُكَ بِعِشْرِيِنَ، فَإنْ قَالَ: إنْ كُنْتُ أَذِنْتُ لَكَ فَقَدْ بِعْتُكَ بَعِشْرِينَ صَحَّ عَلَىَ النَّصِّ، فَإِنِ امْتَنِعَ وَالوَكِيلُ صَادِقٌ في البَاطِنِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لاَ تَحِلُّ لَهُ وَلاَ يَمْلِكُهَا، وَلكَنْ لَهُ بَيْعُهَا وَأَخْذُ العِشْرِينَ من ثَمَنِهَا لأَنَّهُ ظَفِرَ بِغَيْرِ جِنْسِ حَقِّهَ، وِمَنْ لَه الحَقُّ لاَ يَدَّعِي عَيْنَ المَالِ فَيُقْطَعُ بَجَوازِ أَخْذِهِ. قال الرافعي: الاختلاف في الوِكَالَةِ: ¬
منها: أصل العقد، فهذا قال: وكلتني في كذا، فأنكر، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإذن، ولو توافقا على أصل العقد، واختلفا في بعض الكيفيات، أو المقادير، كما إذا قال: وكلتني بيع كله، أو بيعه نسيئه، أو بشرائه بعشرين وقال الموكل: لا بل، بيع بعضه، أو بيعه نقداً أو بشرائه بعشرة، فالقول قول الموكل أيضاً؛ لأن الأصل عدم الإذن فيما يدعيه الوكيل، والموكل أعرف بحال الإذن الصادر منه، ولأنه لما كان القول في أصل العقد قوله، وجب أن يكون في الصفة والمقدار كذلك، كما أن الزوجين إذا اخلتفا في عدد الطلاق كان القول فيه قول الزوج؛ لأنهما لو اختلفا في أصله كان القول فيه قوله، وفرقوا بينه وبين ما إذاَ قطع الخياط ثوب غيره قباء وقال: كذلك أمرتنى، وقال المالك: بل أمرتك أن تقطعه قميصاً، حيث كان القول قول الخياط على قول، مع أنهما لو اخلتفا في أصل الإذن كان القول قول المالك، بأن المالك هناك يريد إلزام الخياط الأرش، والأصل عدمه وهاهنا الموكل لا يلزم الوكيل غرامة، وإن لزمه الثمن، وإنما يلزمه بحكم إطلاق البيع على ما سيأتي. إذا تقرر ذلك، فلو وكله بشراء جارية، فاشتراها الوكيل بعشرين، وزعم أن الموكل أذن فيه، وقال الموكل: ما أذنت إلا في الشراء بعشرة، وحلفناه فحلف، فينظر في الشراء أكان بعين مال الموكل أم في الذمة؟ إن كان بعين مال الموكل، فإن ذكر في العقد أن المال لفلان والشراء له، فهو باطل؛ لأن المال في يده لم يتعلق به حق الغير قبل الشراء، فيقبل إقراره فيه، وحينئذ يكون العقد واقعاً بمال الغير وقد ثبت بيمين مَنْ له المال أنه لم يأذن في الشراء الذي باشره الوكيل، فيلغو، فإن لم يذكره في العقد وقال بعد الشراء: إني اشتريت له، فإن صدقه البائع، فالعقد باطل أيضاً، وإذا أبطل الشراء كانت الجارية باقية على ملك البائع، وعليه رد ما أخذه، وإن كذبه البائع، وقال: إنما اشتريت لنفسك، والمال لك حلف على نفي العلم بالوكالة، وحكم بصحة الشراء للوكيل في الظاهر، وسلم الثمن المعين إلى البائع، وغرم الوكيل مثله للموكل. وإن كان الشراء في الذمة، نظر إن لم يسم الموكل، ولكن نواه كانت الجارية للوكيل، والشراء له ظاهراً، وإن سماه، فإن صدقه البائع بطل الشراء، لاتفاقهما على كونه للغير، وثبوت كونه بغير إذنه بيمينه وإن كذبه البائع، وقال: أنت مبطل في تسميته، فيلزم الشراء الوكيل، ويكون كما لو اقتصر على النية، أو يبطل الشراء من أصله؟ فيه وجهان، سبق ذكرهما في أخوات هذه الصورة: والأظهر: وبه قال أبو إسْحَاقَ: صحته ووقوعه للوكيل ظاهراً، وحيث صححنا الشراء، وجعلنا الجارية للوكيل، وزعمه أنها للموكل قال المُزَنِيّ عن الشَّافعي -رضي الله عنه-: يستحب في مثل هذا أن يرفق الحاكم بالموكل فيقول له: إن كنت أمرته أن
يشتريها بعشرين، فقل: بعته إياها بعشرين، ويقول الآخر: قد قبلت، فيحل له الفرج. قال الأئمة: إن أطلق الموكل، وقال: بعتكها بعشرين، وقال الوكيل: اشتريت صارت الجارية له ظاهراً وباطناً وإن علق، كما ذكره المزني ففيه وجهان: أحدهما لا يصح البيع للتعليق، والتعليق مما حكاه المُزَنِيُّ من كلام الحاكم لا من الموكل. وأصحهما: الصحة؛ لأنه لا يتمكن من البيع إلاَّ بهذا الشرط، فلا يضر التعرض له، كما لو قال: هذا زكاة مالي الغائب، إن كان سالماً يجزئه؛ لأنه إنما يقع زكاة عن الغائب بهذا الشرط، وسواء أطلق البيع، أو علق فلا يجعل ذلك إقراراً بما قاله الوكيل، وتكذيباً لنفسه، وإن امتنع الموكل من الإجابة، أو لم يرفق الحاكم به، نظر إن كان الوكيل كاذباً لم يحل له وطؤها, ولا التصرف فيها بالبيع وغيره، وإن كان الشراء بعين مال الموكل, لأن الجارية حينئذ تكون للبائع، وإن كان الشراء في الذمة ثبت الحل لوقوع الشراء عن الوكيل ضرورة كونه مخالفاً للموكل. وذكره في "التتمة" أنه إذا كان كاذباً والشراء بمال الموكل، فللوكيل بيعها، إما بنفسه، أو بالحاكم؛ لأن البائع حينئذ يكون أخذ مال الموكل لا عن استحقاق، وقد غرم الوكيل للموكل، فله أن يقول للبائع: رد مال الموكل، أو أغرمه إن كان تالفاً، لكنه قد تعذر ذلك بسبب اليمين، فله أخذ حقه من الجارية التي هي ماله، ولو كان الوكيل صادقاً، ففيه أوجه: أحدها: ويحكى عن الاِصْطَخْرِيِّ أنها تكون للوكيل ظاهراً وباطناً حتى يحل له الوطء، وكل تصرف، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله بناء على أن الملك يثبت للوكيل، ثم ينتقل إلى الموكل، فإذا تعذر نقله منه بقي على ملكه. ومنهم من خص هذا الوجه بما إذا كان الشراء في الذمة، ولم يطرده في الحالين، وإليه مال الإمام رحمه الله تعالى. وثانيها: أنه إن ترك الوكيل مخاصمة الموكل، فالجارية له ظاهراً وباطناً، وكأنه كذب نفسه، وإلاَّ فلا. وثالثها، وهو الأصح: أنه لا يملكها باطناً بل هي للموكل، وللوكيل الثمن عليه، فهو كمن له على رجل دين لم يؤده فظفر بغير جنس حقه من ماله، فيجيء الخلاف أنه هل له بيعه وأخذ الحق من ثمنه؟. والأصح: أن له ذلك، ثم يباشر البيع بنفسه، أو يرفع الأمر إلى القاضي حتى يبيعه؟ فيه وجهان:
فرع
الأصح: هاهنا أن له بيعها بنفسه؛ لأن القاضي لا يجيبه إلى البيع. ولأن المظفور بما له في سائر الصور يدعي المال لنفسه، وتسلط غيره عليه قد يستبعد وهاهنا الموكل لا يدعي المال لنفسه. وإذا قلنا: إنه ليس له أن يأخذ الحق من ثمنها، فتوقف في يده حتى يظهر مالكها، أو يأخذها القاضي، ويحفظها فيه وجهان نذكرها في نظائره. ولو اشترى جارية، فقال له الموكل: ما وكلتك بشرائها، وإنما وكلتك بشراء غيرها، وحلف عليه بقيت الجارية المشتراة في يد الموكل، ويتلطف كما مر. قوله في أول إلباب: "القول فيه قول الموكل" إطلاق لفظ الموكل على المشتري في الصورتين بالخلاف في صفة الإذن، أو قدره قويم حسن، لكنه في صورة الاختلاف في أصل الإذن غير مستحق، وكيف نحن نصدقه بأنه غير موكل. قوله: "صح على النص" المراد منه ما حكيناه من كلام المُزَنِيِّ وهو ظاهر في تصحيح البيع يأبى عن قبول التأويل المذكور. وقوله: "ولكن له بيعها وأخد العشرين من ثمنها" معلّم -بالواو- لما مر. وقوله: "لا يملكها" بالحاء. وقوله: "لأنه ظفر بغير جنس حقه" -إشارة إلى ما ذكرنا من أن الظافر هاهنا أولى بالتمكن. فرع لو باع الوكيل بالبيع نسيئة، وقال: كنت مأذوناً فيه، وقال الموكل: ما أذنت لك إلاَّ في بيعه نقداً، فالقول قول الموكل كما مر، ثم لا يخلو إما أن ينكر المشتري الوكالة، أو يعترف بها. الحالة الأولى: أن ينكر الوكالة، أو يقول: إنما عرفت البائع مالكاً، فالموكل يحتاج إلى البينة، فإن لم تكن بينة، فالقول قول المشتري على نفي العلم بالوكالة، فإن حلف قرر المبيع في يده، وإلا ردت على الموكل؛ فإن حلف حكم ببطلان البيع، وإلاَّ فهو كما لو حلف المشتري، ونكل الموكل عن يمين الرد في خصومة المشتري لا يمنعه من الحلف على التوكيل، فإذا حلف عليه، فله أن يغرم الوكيل قيمة المبيع، أو مثله إن كان مثليًّا، والوكيل لا يطالب المشتري بشيء حتى يحل الأجل، مؤاخذة له بموجب تصرفه، فإذا حل نظر إن رجع عن قوله الأول، فصدقه الموكل، فلا يأخذ من المشتري إلا أقل الأمرين من الثمن، أو القيمة؛ لأنه إن كان الثمن أقل، فهو موجب عقده وتصرفه، فلا يقبل رجوعه فيما يلزم زيادة على الغير، وإن كانت القيمة أقل، فهو الذي غرمها، فلا يرجع إلاَّ بما غرم؛ لأنه قد اعترف آخراً بفساد العقد، فإذا لم يرجع وأصر
على قوله الأول، فيطالبه بالثمن بتمامه، وإن كان مثل القيمة، أو أقل، فذالك وإن كان أكثر، فالزيادة في يده للموكل ينكرها، فيحفظها، أو يلزم دفعها إلى القاضي فيه خلاف مذكور في موضعه، وسأل الإمام نفسه هاهنا، وقال: إذا أنكر الموكل التوكيل بالبيع نسيئةً كان ذلك عزلاً للوكيل على رأى، فكيف يملك التوكيل بعد استيفاء الثمن؟ وأجاب عنه بأنه إنما استوفى الثمن؛ لأن الموكل ظلمه بتغريمه في زعمه واعتقاده، والثمن على المشتري ملكه، فإن كان من جنس حقه، فقد ظفر بجنس حقه من مال من ظلمه، وإن كان من غير الجنس، فيأخذه أيضاً، ولا يخرج على القولين بالظفر بغير جنس الحق في غير هذه الصورة, لأن المالك يدعيه لنفسه، ويمنع الغير عنه، والموكل لا يدعي الثمن هاهنا، وأول مصرف يقرض له التسليم إلى الغارم الوكيل، وهذا ما أراد صاحب الكتاب بقوله في مسألة الجارية، فيقطع بجواز أخذه، والمذهب المشهور تخريجه على الخلاف في ذلك الأصل، على ما مر، ولك أن تعلّم قوله: "ويقطع بجواز أخذ" بالواو وعليك أن تعلم أن الظاهر خلافه. الحالة الثانية: أن يعترف المشتري بالوكالة، إن صدقه الموكل، فالبيع باطل، وعليه رد المبيع إن كان باقياً، وإن تلف، فالموكل بالخيار إن شاء غرم الوكيل لتعديه، وإن شاء غرم المشترى لتفرغ يده على يد مضمونه، وقرار الضمان على المشتري لحصول الضمان في يده. نعم يرجع بالثمن الذي دفعه إلى الوكيل لخروج المبيع مستحقّاً، وإن صدق الوكيل، فالقول قول الموكل، فإن حلف أخذ العين، وإن نكل حلف المشتري، وبقيت له. قال الغزالي: (الثَّاني) في المَأْذُون فَإذَا قَالَ: تَصَرَّفْتُ كَماَ أَذِنْتَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ عِتْقٍ فَقَالَ المُوَكِّلُ بَعْدُ لَمْ تَتَصَرَّفْ فَقَولاَنِ: (أَحَدهُمُاَ): القَوْلُ قَوْلُ الوَكِيلِ؛ لأَنَّهُ أَمِينٌ وَقَادِرٌ عَلىَ الإِنْشَاءِ وَالتَّصَرُّفِ إلَيْهِ (وَالآخَرُ): لا فَإنَّهُ إِقْراَرٌ عَلىَ المُوَكِّلِ مُلْزمٌ والأَصْلُ عَدَمُهُ، وَأَمَّا إِذَا ادَّعَى تَلَفَ المَاَلُ فَالقَوْلُ قَوْلُهُ لأَنَّهُ يَبْقى دَفْعُ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، وَكَذَا اِذا ادَّعَي رَدَّ المَالَ سَوَاءٌ كَانَ بِجُعْلٍ أَوْ بِغَيْرِ جُعْلٍ، وَذَكَرَ العِرَاقِيُّونَ في تَصْدِيِقِ الوَكِيلِ بِالجُعْلِ وَجْهيَنْ. قال الرافعي: في الفصل مسألتان: الأولى: إذا وكله ببيع، أو هبة، أو صلح، أو طلاق، أو إعتاق، أو إبراء، فقال الوكيل: تصرفت كما أذنت، وقال الموكل: لم تتصرف بعد، نظر إن جرى هذا الخلاف بعد انعزال الوكيل لم يقبل قوله إلا ببينة؛ لأنه غير مالك للتصرف حينئذ، وإن وقع قبله قولان:
أحدهما: أنه يصدق الوكيل بيمينه؛ لأنه ائتمنه، فعليه تصديقه، ولأنه مالك لإنشاء التصرف، ومن يملك الإنشاء يقبل إقراره كالولي المجبر إذا أقر بنكاح موليته، وبهذا قال أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- إلاَّ في النكاح إذا اختلف فيه الوكيل والموكل، فالقول قول الموكل. والثاني: أن القول قول الموكل؛ لأن الأصل العدم، ولأن الوكيل مقر عليه بزوال الملك عن السلعة، فوجب إلاَّ يقبل، بخلاف ما إذا ادعى، الرد أو التلف، فإنه يبغي دفع الضمان عن نفسه، لا إلزام الموكل شيئاً، وما الأصح من القولين؟ وما كيفيتهما. أما الأول: فكلام أكثر الأصحاب ترجيح تصديق قول الموكل، وهو اختيار ابن الحَدَّادِ (¬1) ورجحه الشيخ أبُو عِليٍّ من جهة القياس. وأما الثاني: فإن قول تصديق الموكل منقول عن نص الشَّافعي -رضي الله عنه- في مواضع، واختلف الناقلون القول الآخر، فذكر الرُّوَيانِيُّ وغيره أنه منصوص عليه في "الرَّهْن الكبير". قال الشيخ أبُو عَليٍّ إنه مخرج خرجه ابْنُ سُرَيْجٍ على هذه الطريقة، وربما أبدلوا لفظ القولين بالوجهين. وفي المسألة وجه ثالث، وهو أن ما يستقل به الوكيل، كالطلاق والإعتاق، والإبراء يقبل فيه قوله مع يمينه، وما لا يستقل كالبيع، لا بد فيه من البينة، ولو صدق الموكل في البيع ونحوه، ولكن قال: كنت عزلتك قبل التصرف، وقال الوكيل: بل كان العزل بعد التصرف، فهو كما لو قال الزوج: راجعتك قبل انقضاء العدة، وقالت: انقضت عدتي قبل أن تراجعني، ولو قال الموكل: قد باع الوكيل، وقال الوكيل: لم أبع فإن صدق المشتري الموكل حكم بانتقال الملك إليه، وإلا فالقول قوله. الثانية: دعوى الوكيل تلف المال مقبول مع يمينه، كما في المودع، وكذا دعواه الرد على اختلاف، ذكرناه في "الرَّهْن" والظاهر القبول أيضاً. وقد ذكر صاحب الكتاب حكم دعواه الرد مرة في "باب الرَّهْن" إلا أن لفظه في حكايته طريقة العراقيين هناك جواب على أحد وجهيهم، وهو أن الوكيل بالجُعل غير مصدق، وهاهنا نص على الوجهين، كما ذكرناهما في شرح طريقتهم هناك، وقد بينا، ثم إن تسويته بين دعوى التلف والرد في نقل الخلاف على خلاف ما أورده الجمهور، ولفظه هاهنا صالح لما ذكره هناك، ولما هو الحق أن يفصل بين قوله، وكذا إذا ادعى ¬
رب المال عما قبله، وكل من ذكرناه هاهنا، وهناك فيما إذ ادعى الأمين الرد على من ائتمنه، أما إذا ادعى الرد على غيره، فقد ذكره صاحب الكتاب في "الوديعة" وستأتي إن شاء الله تعالى، ومن مسائله دعوى القيم الرد على اليتيم الذي كان يقوم بأمره، وهي مذكورة في هذا الباب من بعد. ومنها: أن يدعي الوكيل الرد على رسول الملك؛ لاسترداد ما عنده، فلا خلاف في أن الرسول إذا أنكر القبض كان القول قوله مع يمينه، وأما الوكيل فالمذهب أنه لا يلزمه تصديق الوكيل, لأنه يدعي الرد على مَنْ لم يأتمنه، فليقم البينة. وفي وجه عليه التصديق, لأنه معترف برسالته، ويدِ رسوله يده، فكأنه ادعى الرد عليه. قال الغزالي: وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: قَبَضْتُ الثَّمَنَ وَتَلَفَ في يَدِي وَكَاَنِ ذَلِكَ بَعْدَ التَّسِلْيِمِ فَالقَوْلُ قَولُهُ لَأَنَّ المُوكَلَ يُرِيد أَنْ يَجْعَلَهُ خَائِنًا بالتَّسْليِمِ قَبْلَ الاستيفاء، فأَمَّا إِذا كان قَبل التَّسْليِمِ فِالقَوْلُ فِيهِ قَولُ المُوَكِّلِ وَالأَصْلُ بَقَاءُ حقِّهِ. قال الرافعي: إذا وكل وكيلاً باستيفاء دَيْنٍ له على إنسان، فقال: استوفيته، وأنكر الموكل، نظر إن قال: استوفيته، وهو قائم في يدي، فخذه فعليه أخذه، ولا معنى لهذا الاختلاف ولو قال: وتلف في يدي، فالقول قول الموكل مع يمينه على نفي العلم باستيفاء الوكيل, لأن الأصل بقاء حقه، فلا يقبل قول الوكيل والمديون إلاّ ببينة، هذا ظاهر المذهب وجعله بعضهم على الخلاف المذكور فيما اختلفا في البيع ونحوه، وعلى الأول، فإذا حلف الموكل أخذ حقه ممن كان عليه، ولا رجوع له على الوكيل لاعترافه أنه مظلوم، ولو وكله بالبيع، وقبض الثمن، أو البيع مطلقاً، وقلنا: الوكيل بالبيع يملك قبض الثمن، واتفقا على البيع، واختلفا في قبض الثمن، فقال الوكيل: قبضته، وتلف في يدي، وأنكر الموكل، فهذه مسألة الكتاب، وفي معناها ما إذا قال: قبضته ودفعته إليك، فأنكر الموكل القبض، ففي المصدق منهما طريقان: أحدهما: أنه على الخلاف المذكور في البيع، وسائر التصرفات. وأظهرهما: أن هذا الاختلاف إنْ كان قبل تسليم المبيع، فالقول قول الموكل، كما في المسألة السابقة، وإن كان بعد تسليمة، فوجهان: أحدهما: الجواب هكذا؛ لأن الأصل بقاء حقه. وأصحهما: وبه قال ابْنُ الحَدادِ: أن القول قول الوكيل؛ لأن الموكل ينسبه إلى الخيانة قبل قبض الثمن، ولزوم الضمان، والوكيل ينكر، فأشبه ما إذا للموكل: طالبتك برد الثمن الذي دفعته إليك، أو بثمن المبيع الذي قبضته، فامتنعت مقصراً إلى أن تلف، فقال الوكيل: لم تطالبني، ولم كن مقصراً، فإن القول قوله، وهذا التفصيل فيما إذا أذن
في البيع مطلقاً، أو حالاً، فإن أذن في التسليم قبل قبض الثمن، أو أذن في البيع بثمن مؤجل، وتنازعا في القبض بعد الأجل فهاهنا لا يكون خائناً بالتسليم قبل القبض، والاختلاف كالاختلاف قبل التسليم، فإذا صدق الوكيل، فحلف فهل تبرأ ذمة المشتري؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنا قبلنا قول الوكيل في قبضه الثمن، فاكتفى بموجبه. والثاني: لا؛ لأن الأصل عدم الأداء، وإنما قبلنا من الوكيل في حقه لائتمانه إياه، وهذا أصح عند صاحب "التهذيب"، والأول أصح عند الإمام، وعلى الأول، فإذا خلف الوكيل، وبرأنا المشتري، ثم وجد المشتري بالمبيع عيباً، فإن رده على الموكل، وغرم الثمن لم يكن له الرجوع على الوكيل لاعترافه بأن الوكيل لم يأخذ شيئاً، وإن رد على الوكيل، وغرمه لم يرجع على الموكل، والقول قوله مع يمينه في أنه لم يأخذ شيئاً، ولا يلزم من تصديقنا الوكيل في الدفع عن نفسه بثمنه، أن تثبت بها حقّاً على غيره، ولو خرج المبيع مستحقّاً. قال في "التهذيب": يرجع المشتري بالثمن على الوكيل؛ لأنه دفعه إليه، ولا رجوع له على الموكل لما مر، ولو اتفقا على قبض الوكيل الثمن، فقال الوكيل: دفعته إليك، وقال الموكل: بل هو باقٍ عندك، فهو كما لو اختلفا في رد المال المسلم إليه، والظاهر أن القول قول الوكيل، ولو قال الموكل: قبضت الثمن، فادفعه لي، وقال الوكيل: لم أقبضه بعد، فالقول قول الوكيل مع يمينه، وليس للموكل طلبه (¬1) الثمن، فهو متعدٍ بفعله وللموكل أن يغرمه قيمة المبيع والله أعلم. قال الغزالي: "الثَّاَلثُ" إِذا وَكَّلَهُ بقَضَاءِ الدَّيْنِ فَلْيَشْهَدْ فَإِنْ قَصَّرَ ضَمِنَ بِتَرْكِ الإِشْهَادِ، وَكَذا قَيِّمُ اليَتيِمِ لاَ يُصَدَّقُ (و) في دَعْوَى رَدِّ المَالِ، قَالَ الله تَعَالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}، وَمَن يُصَدَّقُ في الرَّدِّ إِذَا طُولِبَ بِالرَّدِّ هَلْ لَهُ التَّأخِيرُ بِقَدْرِ الإِشْهِادِ؟ وَجْهِانِ. قال الرافعي: ذكر في أول الباب أن نزاع الموكل والوكيل في ثلاثة مواضع: وثالثها في "الوسيط": النزاع في القبض، وهو ما سبق في الفصل المتقدّم على هذا الفصل وهاهنا جعل الثالث مما يشرع فيه الآن، وترتيب "الوسيط" أحسن؛ لأن أكثر المسائل من هذا الموضع إلى آخر الباب لا تعلق له بالاختلاف، وفي الفصل ثلاث صور: ¬
إحداها: إذا دفع إليه مالاً، ووكله بقضاء دينه، ثم قال الوكيل: دفعته إلى رب الدَّين وأنكر رب الدين، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه لم يأتمن الوكيل حتى يلزمه تصديقه، والأصل عدم الدفع، فإذا حلف طالب الموكل بحقه، وليس له مطالبة الوكيل، وهل يقبل قول الوكيل على الموكل؟ فيه قولان: أحدهما: نعم خرّجه ابْنُ سُرَيْجٍ، ويحكى عن أَبي حنيفة؛ لأن الموكل قد ائتمنه، فأشبه ما إذا ادعى الرد عليه. وأصحهما: لا، بل لا بد من البينة, لأنه أمره بالدفع، إلى من لم يأتمنه، فكان من حقه الإشهاد عليه، فعلى الأول يحلف الوكيل، وتنقطع مطالبة المالك عنه، ولا يغنيه تصديق المدفوع إليه عن اليمين، وعلى الأصح ينظر إن ترك الإشهاد على الدفع، فإن دفع بحضور الموكل، فلا رجوع للموكل عليه في أصح الوجهين، وإن دفع في غيبته فله الرجوع، ولا فرق بين أن يصدقه الموكل على الدفع أو لا يصدقه وعن أبي الطَّيب وجه: أنه لا يرجع عند التصديق، وإن اختلفا، فقال الوكيل: دفعت بحضرتك، وأنكر الموكل، فالقول قول الموكل مع يمينه، وإن كان قد أشهد عليه، ولكن مات الشهود، أو جنوا أو غابوا، فلا رجوع، وإن كان قد أشهد شاهداً واحداً، أو فاسقين فيه خلاف، وكل ذلك على ما ذكرنا في رجوع الضامن على الأصيل. فهذا عرفت ذلك علمت قوله: "ضمن بترك الإشهاد"، وتنزيله على الحالة التي يجب التنزيل عليها, ولو أمره بإيداع ماله، ففي لزوم الإشهاد وجهان مذكوران في "الوديعة". الثانية: إذا ادعى قيم اليتيم أو الوصي دفع المال إليه بعد البلوغ، فظاهر المذهب أنه لا يقبل قوله، بل يحتاج إلى البينة؛ لأن الأصل عدم الدفع، وهو لم يأتمنه حتى يكلف تصديقه واحتج له أيضاً بأن الله -تعالى- قال: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} أمر بالإشهاد، ولو كان قوله مقبولاً لما أمر، لكن يجوز أن يكون الأمر بالإشهاد إرشاداً أو ندباً إلى التورع عن اليمين. وعن رواية ابن المرزبان وغيره وجه آخر: أنه يقبل قوله مع يمينه, لأنه أمين. الثالثة: إذا طلب المالك مَنْ في يده المال بالرد، فقال: لا أرد إلا بالإشهاد ينظر إن كان ممن يقبل قوله في الرد، كالمودع والوكيل، ففيه وجهان: أشهرهما: وهو الذي أورده العراقيون: أنه ليس له ذلك؛ لأن قوله في الرد مقبول، فلا حاجة إلى البينة. والثاني: ويروي عن ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ رحمه الله: أن له الامتناع كيلا يحتاج إلى اليمين، فإن الأمناء يتحرزون عنها ما أمكنهم.
وفيه وجه ثالث: أنه إن كان التوقف إلى الاشهاد يورث تأخيرًا أو تعويقًا في التسليم لم يكن له الامتناع، وإلًّا فله ذلك، وإن كان ممن لايقبل قوله كالغاصب، فإن كان عليه بينة بالأخذ، فله الامتناع إلى الإشهاد؛ لأنه يحتاج إلى بينة الأداء إن توجهت عليه بينة الأخذ، وإن لم تكن عليه بينة بالأخذ فوجهان: وأصحهما عند صاحب "التهذيب": أن له أن يمتنع إلى الإشهاد؛ لأن قوله في الرد غير مقبول والثاني: المنع؛ لأنه يمكنه أن يقول: ليس عندي شيء، ويحلف عليه، هذا ما أورده المشايخ العراقيون، والمديون في هذا الحكم، كمن لا يقبل قوله في رد الأعيان. قال الغزالي: وَلِمَنْ عَلَيهِ الحَقُّ (ح وز) أَنْ لاَ يُسْلِم إِلَى وَكِيلِ المُسْتَحِقّ إِلاَ بالإِشْهَادِ وإنِ اعْتَرَفَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ في يَدِه تَرِكَةٌ وَأَقَرَّ لإِنْسَانِ بَأنَّه لاَ وَارِثَ سِوَاهُ لَزِمَهُ (و) التَّسْليمُ، وَلَمْ يجُز لَهُ تكلِيفُهُ شَهَادَةٌ (و) عَلَى أَنْ لاَ وَارِثَ سِوَاهُ، ولَوِ اعْتَرَفَ لِشَخْصٍ بِأنَّهُ اسْتَحَقَّ أَلْفًا, عَنْ جِهَةِ الحِوَالَةِ ولَكِنْ خَافَ إِنْكَارَ المُحِيلِ فَهُوَ كَخَوْفِ إِنْكَارِ المُوكِّل فَعَلَى وَجْهَيْنِ. قال الرافعي: إذا كان له دَيْن في ذمة غيره، أو عين في يد غيره، فأتى ذلك الغير إنسان، وقال: أنا وكيل بقبضة، فله حالتان: إحداهما: أن يصدقه في دعوى الوكالة، فله دفعه إليه، وإذا دفع، ثم ظهر المستحق، وأنكر الوكالة، فالقول قوله مع يمينه، فإذا خلف، فإن كان الحق عينًا أخذها، فإن تلفت فله تغريم من شاء منهما, ولا رجوع للغارم منهما على الآخر؛ لأنه مظلوم بزعمه، والمظلوم بزعمه، والمظلوم لا يؤاخذ إلاَّ من ظالمه. قال في "التتمة": هذا إذا تلف من غير تفريط منه، فإن تلف بتفريط من القابض، فينظر إن غرم المستحق القابض فلا رجوع، وإن غرم الدافع، فله الرجوع؛ لأن القابض وكيل عنده، والوكيل يضمن بالتفريط، والمستحق ظلمه بأخذ القيمة منه، وماله في ذمة القابض، فيستوفيه بحقه. وإن كان الحق دينًا، فله مطالبة الدافع بحقه، إذا غرمه. قال المتولي: إن كان المدفوع باقيًا، فله استرداده، وإن صار ذلك للمستحق في زعمه؛ لأنه ظلمه بتغريمه، وذلك مال له ظفر به، وإن كان تالفًا، فإن فرط فيه غرم، وإلاَّ فلا، وهل للمستحق مطالبة القابض، ينظر إنْ تلف المدفوع عنده فلا؛ لأن المال للدافع بزعمه، وضمانة له، وإن كان باقيًا فوجهان: عن أَبي إِسْحَاقَ أن له مطالبته بتسليمه إليه؛ لأنه إنما دفعه ليدفعه إلى المستحق،
فكأنه انتصب وكيلاً في الدفع من جهته، وبهذا أجاب الشيخ أَبُو حَامِدٍ في "التعليق". وقال الأكثرون: لا مطالبة؛ لأن الآخذ فضولي بزعمه، والمأخوذ ليس حقًّا له، وإنما هو مال المديون، فلا تعلق للمستحق به. فإن قلنا بالأول، فأخذه برئ الدافع عن الدين، وهل يلزم من عنده الحق دفعه إليه بالتصديق أم له الامتناع إلى قيام البينة على الوكالة نص أنه لا يلزمه إلاَّ بعد البينة، ونص فيما إذا أقر بِدَيْنٍ أو عَيْنٍ من تركة إنسان أنه مات، ووارثه فلان أنه يلزمه الدفع إليه، ولا يكلف البينة، وللأصحاب طريقان: أحدهما: ونقل عن أَبي إسْحَاقَ: أن المسألتين على قولين في قول يلزم الدفع إلى الوكيل والوارث؛ لأنه اعترف باستحقاقه الأخذ، فلا يجوز له منع الحق عن المستحق. وفيه قول: لا يلزمه الدفع إلى واحد منهما إلاَّ بالبينة. في الصورة الأولى، فلاحتمال إنكار الموكل الوكالة. واما في الثانية: فلاحتمال استناد إقراره بالموت إلى ظن خطأ. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب تقرير النصين، والفرق حصول اليأس بزعمه عن عَودِ الموت، وصيرورة الحق للوارث، وعدم الياس عن إنكار الموكل الوكالة، وبقاء الحق له. الثانية: ألا يصدقه، فلا يكلف الدفع إليه فإن دفع، ثم حضر الموكل، وحلف على نفي الوكالة، وغرم كان له أن يرجع على القابض ديناً كان أو عينًا: لأنه لم يصرح بتصديقه، وإنما بين الأمر له على ظاهر قوله فإذا تبين خلافه غرم ما غرم. ولو أنكر الوكالة، أو الحق، وكان الوكيل مأذونًا في إقامة البينة وقلنا: إن الوكيل بالقبض مطلقاً يملك إقامة، البينة، فله أن يقيم البينة، ويأخذ فإن لم تكن بينة، فهل له التحليف ينبني على أنه إذا صدقه، هل يلزمه الدفع إليه؟ إن قلنا: نعم، فله تحليفه، فلعله يصدق إذا عرضت اليمين عليه. وإن قلنا: لا ينبني على أن النكول ورد اليمين كإقامة البينة من المدعي، أو كالإقرار من المدعى عليه. إن قلنا بالأول، فله تحليفه طمعًا في أن ينكل، فيحلف الوكيل. وإن قلنا بالثاني فلا, ولو جاء رجل، وقال لمن عليه الدَّين: أحالني عليك فلان، فصدقه، وقلنا: إذا صدق مدعي الوكالة لا يلزمه الدفع إليه فوجهان. أحدهما: أنه لا يلزم أيضاً؛ لأنه قد ينكر صاحب الحق، كما ينكر صاحب الوكالة. وأصحهما: اللزوم لاعترافه بانتقال الحق إليه، كالوارث، وينبني على الوجهين أنه
لو كذبه، ولم تكن بينة هل له تحليفه؟ إن ألزمناه الدفع إليه له تحليفه، وإلا فكما سبق. ولو قال: مات فلان، وله عندي كذا فهذا وصية، فهو كما لو قال هذا وارثه، ولو قال: مات، وقد أوصى به لهذا الرجل، فهو كما لو قال، أقر بالحوالة، وإذا أوجبنا الدفع إلى الوارث والوصي، أو لم نوجب فدفع، ثم بَانَ أن المالك حي ثُم غرم الدافع، فله الرجوع على المدفوع إليه، بخلاف صورة الوكالة؛ لأنه صدقه على الوكالة، وإنكار صاحب الحق لا يرفع بتصديقه، وصدق الوكيل لاحتمال أنه وكله، ثم جحد، وهل هنا بخلافه؟ والحوالة في ذلك كالوكالة. وقوله في الكتاب: "ولمن عليه الحق أن لا يسلم إلى وكيل المستحق له إلاَّ بالإشهاد". كان الأحسن أن يقول: إلى من يدعي الوكالة عن المستحق، ولفظ الإشهاد هاهنا بعيد عما هو المراد إن أراد به البينة؛ لأن المفهوم من الإشهاد ما استعمل اللفظ له في المسائل قبل هذا الفصل، ويمكن أن يراد إشهاد الوكيل على الموكل. قوله: "وإن اعترف به معلم -بالواو لما نقلناه من طريقة القولين، والحالان عند أبي حنيفة يجب دفع الدين إلى من أقر بوكالته، ولا يجب دفع العين، وفرق بينهما بأنه في الدَّين أقر بثبوت المطالبة لمدعي الوكالة في ماله، وفي العَيْنِ يقر بمال الغير، فلا يلتفت إليه وبالزاي؛ لأن أَبَا إسْحَاقَ الشِّيْرَازِيَّ وغيره حكموا عن المُزَنِيِّ أنه يلزمه تسليم الحق إليه، ولم يفرقوا بين الدَّين والعين. وقوله في مسألة الوارث: (لزمه التسليم) معلم -بالواو- لما مَرَّ والله أعلم. قال الغزالي: وَلَوِ ادْعَي عَلَى الوكَيِلِ قَبْضَ الثَّمَنِ فَجَحَدَ فَأُقِيمَ عَلَيْهِ بَيِّنةٌ بِالقَبْضِ فَادَّعَى تَلفَاً أَوْ رَدّاً قَبْلَ الحُجُودِ لِلْقَبْضِ لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ لأَنَّهُ خَاِئنٌ وَلاَ بيتة (و) لأَنَّه لاَ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَلَوِ ادَّعَى بَعْد الجُحُودِ رَدّاً سُمِعَ الدَّعْوَى (و) وَلاَ يُصَدَّقُ لأَنَّهُ خَاِئنُ، وَلكَنْ تُسْمَعُ البَيِّنَةُ، وَلَوِ ادَّعَى التَّلَفَ صُدِّقِ لِيَبْرَأَ مِنَ العَيْنِ وَلكنَّهُ خَاِئنٌ فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ. قال الرافعي: إذا ادعى على إنسان أنه دفع إليه متاعًا ليبيعه، ويقبض ثمنه وطالبه برده، أو قال: بعته وقبضت الثمن، فسلمه إلى، فأنكر المدعى عليه، فأقام المدعي بينه على ما ادعاه فادعى المدعى عليه إن كان قد تلف أورده، فينظر في ضيغة جحوده، إن قال: مالك عندي شيء أو لا يلزمني تسليم شيء إليك قبل قوله في الرد والتلف؛ لأنه إذا كان قد تلف أورده كان صادقًا في إنكاره، ولم يكن بين كلاميه، تناقض، وإن أقام عليه بينة سمعت بينته وإن كان صيغة جحوده أنك ما وكلتني، أو ما دفعت إلى شيئاً، أو ما قبضت الثمن، وهذه صورة مسألة الكتاب، فينظر أن ادعى التلف، أو الرد قبل أن يجحد لم يصدق؛ لأنه مناقض لقوله الأول، ولزمه الضمان، وإن أقام بينة على ما ادعاه، فوجهان:
فرع
أولهما: أنها تسمع؛ لأنه لو صدقه المدعي لسقط عنه الضمان، فكذلك إذا قامت الحجة عليه، وأيضاً فلما يذكر في "الوديعة". والثاني، وهو الأظهر عند الإمام، وهو الذي أورده في الكتاب: أنها لا تسمع؛ لأن جحوده الأول كذّب هذه البينة، وعلل في الكتاب عدم سماع البينة بعدم سماع الدعوى ويجيء فيه نحو الإمام، فإنه قال: كل بينة تقام، فإن قيامها يستدعي دعوى من يقيمها، فإن فسدت الدعوى استقلت البينة، وهي غير مسموعة من غير دعوى، لكن من يقول بسماع الدعوى كيف يسلم عدم سماع الدعوى. إذ الدعوى قد تسمع بمجرد تحليف عدم سماع الدعوى ليس متفقًا عليه حتى يقلل به من أحد الوجهين في البينة؛ فإن من يسمع البينة يسمع الدعوى لا محال، فإذًا الخلاف في سماع البينة، يجري في سماع الدعوى، بل يجوز أن تكون الدعوى مسموعة جزماً مع الخلاف في سماع البينة، إذ الدعوى قد تسمع الخصم لما سبق في "باب الرَّهْن" وقبله وإن ادعى الرد بعد الجحود لم يصدفه لصيروته خائنًا، لكن لو أقام بينه، فالمشهور في هذا الباب أنها تسمع لا غايته أن يكون كما الغاصب في ابتداء الأمر، ومعلوم أنه لو أقام بينة على الرد تسمع، ورأى الإِمام أن يكون سماع بينة على الوجهين السابقين رأى الإمام رحمه الله تعالى أن يكون سماع البينة على الوجهين السابقين لتناقض دعوى الرد والجحود، وهو حسن موافق، لما ذكرناه في "باب الوديعة" وإن ادعى التلف بعد الجحود صدق بيمينه لتنقطع عنه المطالبة برد العين، ولكن يلزمه الضمان لخيانته، وهذا كما إذا ادعى الغاصب التلف والله أعلم. فرع لو قال: بع هذا، ثم هذا لزمه رعاية الترتيب كذا قاله القَفَّالُ، ولو جعل للوكيل بالبيع جعلاً، فباع استحقه، وإِن تلف الثمن في يده؛ لأن استحقاقه بالعمل، وقد عمل آخر وإذا ادعى خيانة عليه لم تسمع حتى يتبين القدر الذي خان به، بأن يقول: بعت بعشرة، وما دفعت إليّ إلا خمسة، وإذا وَكَّلَ بقبض دَين أو استرداد وديعة، فقال المديون: أو المودع دفعت، وصدقه الموكل، والوكيل منكر، هل يغرم الدافع بترك الاشهاد؟. فيه وجهان، كما لو ترك الوكيل بقضاء الدين الأشهاد، ومن قال: أنا وكيل في بيع أو نكاح، وصدقه من يعامله صح العقد، فلو قال الوكيل بعد العقد: لم أكن مأذونًا فيه، لم يلتفت إلى قوله، ولم يحكم يبطلان العقد، وكذا لو صدقه المشتري بحق من يوكل عنه، إِلاَّ أن يقيم المشتري بينة على إقراره، بأنه لم يكن مأذونًا من جهته في ذلك التصرف، والله أعلم.
كتاب الإقرار وفيه أربعة أبواب
قال الغزالي: " كتاب الإقرار وَفِيهِ أَرْبعَةَ أبْوابٍ": البَابُ الأَوَّل في أَركانه وَهىَ أَرْبَعَةْ: (الَرُّكْنُ الأَوَّلُ) المِقرُّ وَهوَ يَنْقَسِمُ إِلَى مُطْلَقٍ وَمَحْجُورٍ، فَالمُطْلَقُ يَنْفُذُ إِقْرَارُهُ بِكُلِّ ما يُقْدَرُ عَلىَ إِنْشَائه، وَالمَحْجُوُرُ عَلَيْهِ سَبْعَةُ أَشْخَاصٍ، الصَّبِيُّ وإقْراَرُهُ مَسْلُوبٌ مُطْلَقًا، نَعَمْ لَوِ ادَّعَى أنَّهُ بَلَغَ بِالاحْتِلامِ في وَقْتِ إِمْكاَنِه يُصَدَّقُ إِذْ لاَ يُمْكنُ مَعْرِفَتُهُ إِلاَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَوِ ادَّعَى البُلوُغَ بِالسِّنِّ طُوِلبَ بالبَيِّنِةِ، وَالمجْنُونُ وِهُوُ مَسْلُوبُ القَوْلِ مُطْلقًا وَالسَّكْرَانُ وَهُوَ مُلْتِحَقٌ بِالمَجْنُوِنِ أَو الصَّاحي؟ فِيِهِ خِلاَفٌ مَشْهُورُ، وَالمُبَذِّرُ والمُفْلِسُ وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُاَ. قال الرافعي: الإقرار أصله الاثبات من قولك: قَرَّ الشيء يقر وقررته إذا أقر به القرار، ولم يسم ما يسوغ فيه إقرارًا من حيث إنه افتتاح إثبات، ولكن لأنه إخبار عن ثبوت، ووجوب سابق (¬1). والأصل فيه من حيث الكتاب قوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] قال المفسرون: شهادة المرء على نفسه إقراره، وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "قُولُوا الحَقَّ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُم" (¬2) وقال - ¬
صلى الله عليه وسلم- لأنيس "أغديا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها". (¬1) ولا شك أن في الإقرار مقرًّا ومقرًّا به، وصيغة تترتب عليها المؤاخذة، وهذه الأمور سماها في الكتاب أركانًا له ثم المقر به قد يكون مالاً، وقد يكون غيره، وعلى التقديرين فإما أن يعقب الإقرار بما يرفعه أو لا يعقب، وإذا لم يكن المقر به مالاً قد يكون عقوبة من قصاص أو حد، وقد يكون نسباً، أو غيره، فجعل أبواب الكتاب أربعة. الأول في الأركان. والثاني: في الأقارير المجملة. والثالث: في تعقب الإقرار بما يرفعه. والرابع: في الإقرار بالنسب، وأما ما عدا النسب، فما يقع في قسم ما عدا المال، فلم يورده قدماء الأصحاب في هذا الباب، فنجري على أمثالهم. والركن الأول: من الباب الأول المقر، وهو إما مطلق، أو محجور. أما المطلق وهو المنفك عن أنواع الحجر، فإقراره صحيح. وقوله: "ينفذ إقراره بكل ما يقدر على إنشائه" (¬2) كالدخيل في هذا الركن، فإن الكلام فيه في المقر، وهذا لا يضبط المقر به، والضبط ما ينفذ إقرار المقر فيه على أنه يحتاج إلى استثناء صور أقربها بناء على أن الوكيل إذا قال: تصرفت كما أذنت لي، فقال الموكل: لم تتصرف، لم يقبل قول الوكيل، على أحد القولين مع قدرته على الإنشاء، ¬
وكذا لو قال: استوفيت ما أمرتني باستيفائه، ونازعه الموكل. ومنها: أن إنشاء نكاح البنت إلى وليها، فإقراره غير مقبول، ويمكن أن يزاد فيه، فيقال: ينفذ إقرار الإنسان في التصرفات المتعلّقة به التي يستقل بإنشائها أو يقال: ما يقدر على إنشائه ويؤاخذ المقر بموجب الإقرار به، ولا يلزم نفوذه في حق الغير، فتخرج المسائل. وأما المحجور، فقد ذكرنا في "كتاب الحجر"، أقسامه، فمنها حجر الصبي، وأقاريره لا غية، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله تعالى، حيث قال: إن كان مميزًا مأذونًا من جهة الولي، صح إقراره، كتصرفاته (¬1) ولنا قول في صحة تدبيره، ووصيته، فعلى ذلك القول يصح إقراره بهما, ولو ادعى أنه بلغ بالاحتلام، أو ادعت الجارية البلوغ بالحيض في وقت إمكانها، وقد سبق بيانه صدقا، وإن فرض ذلك في خصومة لم يحلفهما؛ لأنه لا يعرف ذلك إلاَّ من جهتهما، فأشبه ما إذا علق العتق على مشيئة الغير فقال: شئت يصدق من غير يمين، وأيضاً فإنهما إن صدقاء، فلا تحليف، وإن كذبا، فكيف يحلفان؟ واعتقاد المكذب أنهما صغيران، قرب الإمام رحمه الله تعالى المسألة من الدائرات الفقهية، فإن في تحليفه تصديق الصبي، وبتصديق الصبي لا يحلف، فإذًا لو حلف لما حلف، هذا ما نقله صاحب الكتاب وشيخه، وبه قال الشيخ أبو زيد، وعلى هذا فإذا بلغ مبلغاً تيقن بلوغه. قال الإمام رحمه الله تعالى الظاهر أنه لا يحلف أيضاً على أنه كان بالغًا حينئذ؛ لأنا إذا حكمنا بموجب قوله، فقد أنهينا الخصومة نهايتها، فلا عود إلى تحليفه. ¬
وفي "التهذيب" وغيره أنه إذا جاء واحد من الغُزَاةِ يطلب سهم المقاتلة، وذكر أنه احتلم، حلف وأخذ السهم، فإن لم يحلف، فوجهان عن صاحب "التلخيص (¬1) " تخريجًا أنه لايعطى. وقال غيره: يعطى؛ لأن الظاهر استحقاقه بحضور الواقعة. ولو ادعى البلوغ بالسن طولب بالبينة لإمكانها، نعم لو كان غريبًا خامل الذكر، فيلحق بدعوى الاحتلام، أو يطالب بالبينة، لامكانها من جنس (¬2) المدعي، وينظر في الإثبات لتعذر معرفة التاريخ, كما في صبيان الكفار، فيه ثلاثة احتمالات للإمام رحمه الله تعالى. والظاهر: الثاني؛ لأنه إذا أمكن إقامة البينة كلف إقامتها, ولم ينظر إلى حال المدعي وعجزه، هذا فقه المسألة (¬3). ولفظ الكتاب يشعر بأنه عد دعوى الاحتلام إقرارًا، فإن قوله: "نعم لو ادعى أنه بلغ بالاحتلام إقرارًا" كالاستدراك لقوله قبله وإقراره مسلوب مطلقاً، لكن عدها إقرارًا بعيد، فإن المفهوم من الإقرار بالإخبار عن ثبوت حق عليه للغير، ونفس البلوغ ليس كذلك، ولهذا يطالب مدعي البلوغ بالسن بالبينة، واختلفوا في تحليف مدعي البلوغ بالإحتلام، والمقر لا يكلف البينة، ولا اليمين، نعم لو قال: أنا بالغ، فقد اعترف بثبوت الحقوق المَنُوطَةِ بالبلوغ، فهو من هذا الوجه يكون متضمنًا للإقرار، لا أن نفسه إقرار، وبتقدير كونه إقرارًا، فليس ذلك كإقرار الصبي، بأنه إذا قال: أنا بالغ يحكم ببلوغه سابقًا على قوله، فلا يكون إقراره إقرار الصبي، حتى يحتاج إلى الاستدراك. ومنهما: حجر المجنون، وهو مسلوب القول أيضاً، انشاءًا أو إقرارًا بلا استثناء، والسكران بين الصاحي، والمجنون، فبأيهما يلحق في إقراره وتصرفاته؟. فيه طرق للأصحاب تبسط في "كتاب الطلاق (¬4) ". ¬
ومنهما: حجر المبذر وحجر المفلس، وقد بينا حكم إقرارهما في بابيهما. ويقبل إقرار المفلس المحجور عليه في النكاح، دون السفيه المحجور اعتبارًا للإقرار بالإنشاء. قال الإِمام رحمه الله تعالى: وإقرار السفيهة بأنها منكوحة فلان، كإقرار الرشيدة، إذ لا أثر للسفه في النكاح من جانب المرأة. قال: وفيه احتمال من جهة ضعف قولها، وخبل عقلها، والعلم عند الله تعالى عز اسمه. قال الغزالي: وَالرَّقِيقُ وَإِقْرَارُهُ مَقْبُولٌ بِمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ عُقَوَبةَ، وَلَوْ أَقَرَّ بِسَرِقةِ مَالٍ وَوَجَبَ عَلَيْهِ القَطْعُ فَفي قَبُولهِ في وُجُوبِ المَالِ قَوُلاَنِ، وَلَوْ أَقَرَّ بإِتْلاَفِ مَالٍ وَكَذَّبَهُ السَّيِّدُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ بَل يُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ العِتْقِ، وَلَوْ كَانَ مَأْذُونًا فَاَقَرَّ بِدَيْنِ مُعَامَلَةِ قَبْلُ وَأَدَّى مِنْ كَسْبِهِ، وَلَو لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى مُعَامَلَةٍ بَلْ أَطْلقَ فَفِي القَبُولِ خِلاَفٌ، وَلَوْ أَقَرَّ بَعْدَ الحَجْرِ بِدَيْنٍ أَسْنَدَهُ اِلَى حَالَ الإذْنِ فَالظَّاهِرُ رَدُّهُ لأَنَّهُ في الحَالِ عَاجِزٌ عَنْ إِنْشَائِهِ. قال الرافعي: أحد المحجورين الرقيق، وإذا أقر إما أن يقر بما يوجب عليه عقوبة، أو بغيره. أما القسم الأول: كالإقرار بالزنا، وشرب الخمر، والسرقة، والقذف، وما يوجب القصاص في النفس، والطرف، فذلك مقبول، ويقام عليه موجب ما أقر به، خلافاً لِأَحْمَدَ وَالمُزَنِيِّ حيث قالا: لا يقبل إقراره على نفسه بالعقوبات؛ لأنه ملك السيد، والإقرار في ملك الغير لا يقبل. ويروى عن أَحْمَدَ: أنه لا يقبل إقراره بما يوجب القتل، ويقبل بما يوجب سائر العقوبات. لنا ما روي أَنَّ عَلِيًّا -رضي الله عنه- قطع عبداً بإقراره (¬1)، وأيضاً فإنه لو ظهر الحال بالبينة لأقيمت عليه العقوبات، فإذا ظهر بالإقرار كان أولى؛ لأنه أبعد عن التهمة، فإن كل نفس مجبولة على حب الحياة، والاحتراز عن الآلام. وإذا أقر بسرقة مال توجب القطع قُبِلَ في القطع وفي قبوله في المال قولان إذا كان المقر بسرقته تالفًا: أحدهما: أنه يقبل ويتعلق الضمان برقبته؛ لأن إقراره لما تضمن عقوبة القطع انقطعت التهمة عنه. ¬
وأصحهما: أنه لا يقبل، كما لو أقر بمال، ويتعلق الضمان بذمته إلَّا أن يصدقَ السيد، فيقبل، وإن كان المقر بسرقته باقيًا، نظر إن كان في يد السيد لم ينزع من يده إلاَّ بتصديقه، كما لو أقر حُرُّ بسرقته، ودفعه إليه، وإن كان في يد العبد، فطريقان عن ابْنِ سُرَيْجٍ أن في انتزاعه القولين في التالف. فإن قلنا: لا تنزع ثبت بدله في ذمته. ويروى هذا عن أبي حَنِيْفَةَ رحمه الله تعالى ومالك رحمه الله تعالى ويروى عنهما أنه لا يوجب القطع أيضاً، والحالة هذه. ومن الأصحاب مَنْ قطع بنفي القبول في المال، كما لو كان في يد السيد؛ لأن يده يد السيد، ويخالف ما لو كان تالفًا؛ لأن غاية ما في الباب ذوات رقبته على السيد، إذا بيع في الضمان، والأعيان التي تفوت عليه لو قبلنا إقراره فيها لا ينضبط، فيعظم ضرر السيد، ومنهم من عكس، وقال: إنْ كان المال باقياً في يد العبد قبل إقراره، بناء على ظاهر اليد، وإن كان تالفًا لم يقبل؛ لأن الضمان حينئذ يتعلّق بالرقبة، وهو محكوم بها للسيد. وإذا اختصرت قلت في قبول إقراره بالمال أربعة أقوال: يقبل مطلقاً، لا يقبل مطلقاً، يقبل إذا كان المال باقيًا، يقبل إذا كان المال تالفًا، وقد أوردها صاحب الكتاب مجموعة هكذا في السرقة، واقتصر هاهنا على القولين الأولين. ولو أقر، ثم رجع عن الإقرار كان كما لو أقر بسرقة لا توجب القطع، ولو أقر بالقصاص على نفسه فعفا المستحق على مال، أو عفا مطلقاً، وقلنا: إنه يوجب المال، فوجهان: أصحهما: عند صاحب "التهذيب": أنه يتعلق برقبته، وإن كذبه السيد؛ لأنه إنما إقر بالعقوبة، والمال يؤخذ بالعفو، ولا ينظر احتمال أنه واطأه المستحق على أن يقر، ويعفو المستحق لتفوت الرقبة على السيد؛ لأن هذه التهمة ضعيفة؛ إذ المستحق ربما يموت أو لا يفي، فيكون المقر مخاطرًا بنفسه. والثاني: أن الجواب هكذا إن قلنا: موجب العمد القصاص. أما إذا قلنا: موجبه أحد الأمرين، ففي ثبوت المال قولان، بناء على الخلاف في ثبوت المال، إذا أقر بالسرقة الموجبة للقطع، وينسب هذا إلى صاحب "الإفصاح". وأما القسم الثاني: فإذا أقر بدين خيانة من جهة غَصْبٍ، أو سرقة لا توجب القطع، أو إتلاف هنا فصدقه السيد تعلّق برقبته، كما لو قامت عليه بينه، فيباع فيه إلاَّ أن يختار السيد الفداء، وإذا بيع فيه، وبقي شيء من الدَّين، فهل يتبع به إذا عتق؟
فرع
فيه قولان مذكوران في "الجنايات" (¬1). وإنْ كذبه السيد لم يتعلّق برقبته، ولكن يتعلق بذمته يتبع به إذا عتق، ولا يخرج على الخلاف، فيما إذا بيع في الدَّين، وبقي شيء؛ لأنه إذا ثبت التعلق في الذمة، فكان الحق الحصر فيها، وتعينت محلاًّ للأداء. وفي "النهاية" أن القياسيين خرجوه على ذلك الخلاف، وقالوا: الفاضل عن قدر الدَّين غير متعلق بالرقبة، كما أن أصل الحق غير متعلّق بها هاهنا. ولو أقر بدين معاملة، نظر إنْ لم يكن مأذونًا له في التجارة، فلا يقبل إقراره على السيد، ويتعلق المقر به بذمته يتبع به إذا أعتق، ولا فرق فيه بين أن يصدقه السيد، أو يكذبه، وإن كان مأذونًا له في التجارة قبل وأدى من كسبه، وما في يده إلاَّ إذا كان مما لا يتعلق بالتجارة، كالقرض، فلو أطلق المأذون الإقرار بالدَّين، ولم يبين جهته، فينزل على جهة دين المعاملة، أو لا ينزل على ذلك لاحتمال أنه أراد دين الإتلاف فيه وجهان: وأظهرهما: الثاني، ولا فرق في دَيْن الإتلاف بين المَأْذُونِ وغيره، ولو حجر عليه، فأقر بعد الحجر بِدَيْن معاملة أسنده إلى حال الإذن، ففيه وجهان مبنيان على القولين، فيما لو أقر المفلس بدين لزمه قبل الحجر يقبل، هل في مزاحمته الغرماء. والأظهر: هاهنا المنع لعجزه عن الإنشاء في الحال، وتمكن التهمة. وإذا عرفت ما ذكرناه لم تخفف عليك المواضع التي ينبغي أن تعلم بعلامات الاختلاف، ورأي الإمام رحمه الله تعالى: أن يخرج وجوب القطع في مسألة الإقرار بالسرقة، إذا لم نقبله في المال على الخلاف فيما إذا أقر الحر بسرقة مال زَيْدٍ، هل يقطع قبل مراجعة زيد؟ وذلك لارتباط كل واحد منهما بالآخر، وعلى هذا يجوز إعلام قوله: "ووجب عليه القطع" بالواو. فرع قال في "التتمة": من نصفه حر، ونصفه رقيق إذا أقر بدين جناية لم يقبل فيما يتعلّق بالسيد، إلا أن يصدقه، ويقبل في نصفه، وعليه قضاؤه مما في يده، وإن أقر بدين معاملة، فمتى صححنا تصرفه قبلنا إقراره عليه، وقضيناه مما في يد، ومتى لم نصححه فإقراره كإقرار العبد. ¬
فرع آخر
فرع آخر إقرار السيد على عبده بما يوجب عقوبته مردود، وبدين الجناية مقبول، إلاَّ أنه إذا بيع فيه (¬1)، وبقي شيء لم يتبع به بعد العتق، إلاَّ أن يصدقه، وكذا إقراره بدين المعامله لا يقبل على العبد (¬2) والله أعلم. قال الغزالي: وَالمَرِيِضُ وَهُوَ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ , عَنِ الإقْرَارِ في حَقِّ الأَجَانِبِ، وَفِي حَقِّ الوَارِثِ أيْضَاً عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلاَنِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ كَانَ وَهَبَ مِنَ الوَارِثِ فِي الصِّحَّةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ يُقْبَلُ لِعَجزِهِ عَنِ الإِنْشَاءِ فِي الحَالِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُسْتَغْرقٍ فَمَاتَ وَأَقَرَّ وَارِثُهُ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ مُسْتَغْرَقٍ فَيَتَزَاحَمَانِ، أَوْ يُقَدَّمُ إِقْرَارُ المُوَرِّثِ لِوُقُوعِ إِقْرارِ الوَارِث بَعْدَ الحَجْرِ فِيهِ قَوْلاَنِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِعَيْنِ مَالِه في المَرَضِ لِشَخْصٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُسْتَغْرَقٍ سَلَّمِ العَيْنَ لِلْأَوَّلِ وَلاَ شيء لِلثَّانِي لأنَّهُ مَاتَ مُفْلِسًا، وَإِنْ أَخَّرَ الإِقْرَارَ بِالعَيْنِ فَكَمِثْلٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَّرَ أنه إذا تأخّر يَتَزَاحَمَانِ. قال الرافعي: ومن المحجورين المريض مرض الموت، وفي إقراره مسألتان إحداهما: يصح إقراره بالنكاح بموجبات العقوبات، وكذا لو أقر بَديْن، أو عين لأجنبي، وفي إقراره للوارث طريقان: أحدهما: أنه على القولين: أحدهما: أنه لا يقبل، وبه قال أَبو حنيفة، وأحمد رحمهما الله، ولأنه موضع التهمة يقصد حرمان بعض الورثة، فأشبه الوصية للوارث. وأصحهما: القبول، كما لو أقر الأجنبي وكما لو أقر في حال الصحة، والظاهر أنه لا يقر إلاَّ عن حقيقة، ولا يقصد حرمانًا فإنه انتهى إلى حال يصدق فيها الكاذب ويتوب الفاجر. ¬
التفريع
والثاني: القطع بالقبول وحمل قول الشَّافعي -رضي الله عنه-، فيمن أجاز الإقرار لوارث أجازه، ومن أبى رده على حكايته مذهب الغير، وهذه الطريقة أصح عند صاحب الكتاب. والأكثرون رجحوا طريقة القولين ونقلوا عن "الإملاء" نصه على المنع. وفي "تعليق الشيخ أَبِي حَامِدٍ"، أنه رجع إليها بعد ما كان يقول بطريق القطع بالقبول. وقال مالك رحمه الله: إن كان المقر منهما لم يقبل إقراره، وإلاَّ قبل، ويجتهد الحاكم فيه، واختاره القاضي الروياني لفساد الزمان. التفريع إن قلنا: لا يقبل، فالاعتبار في كونه وراثًا بحال الموت، أم بحال الإقرار؟ قيل: فيه وجهان. وقيل: قولان: الجديد: أن الاعتبار بحال الموت، كما في الوصية، وهذا لأن المنع من القبول كونه وارثًا، والوراثة تتعلق بحالة الموت، وبهذا قال أبو حنيفة. والقديم وبه قال مالك رحمه الله أن الاعتبار بحال الإقرار؛ لأن التهمة حينئذ تمكن. والأول: أظهر في المذهب وأشهر. وبالثاني: قال أَبُو إِسْحَاقَ، واختاره القاضي الروياني. فعلى الأول: لو أقر لزوجته، ثم أبانها، أو لأخته، ثم ولد له ابن صَحَّ الإقرار، ولو أقر لأجنبية، ثم نكحها، أو لاخته، وله ابن فمات لم يصح. وعلى الثاني: الحكم فيهما بالعكس، ولو أقر في المرض بأنه كان قد وهب من وارثه، وأقبض في الصحة، أشار الإمام رحمه الله إلى طريقين. أحدهما: القطع بالمنع لذكره ما هو عاجز عن إنشائه في الحال. والثاني: أنه على القولين في الإقرار للوارث، ورجح صاحب الكتاب هاهنا عدم القبول، واختار القاضي الحُسَيْنُ القبول (¬1)؛ لأنه قد يكون صادقًا فيه، فليكن ذلك له طريقًا إلى إيصال الحق إلى المستحق. ولو أقر لوارثه ولأجنبي معاً، هل يصح في نصفه للأجنبي إذا لم يقبل؟ فيه قولان لابن سُرِيْجٍ، الظاهر الصحة. المسألة الثانية: أقر في صحته بِدَيْنٍ لإنسان، وفي مرضه بدين لآخر، فهما سواء، ¬
كما لو ثبتا بالبينة، وكما أقرّ بهما في الصحة، أو المرض (¬1). وقال أبو حنيفة رحمه الله: يقدم ما أقر به في الصحة حتى لو لم يفضل عنه شيء، فلا شيء له. ولو أقر في صحته، أو مرضه بدين، ثم مات، فأقر وارثه عليه بدين آخر، فوجهان: أحدهما: أنهما سواء يتضاربان في التركة، كما لو ثبت الدَّيْنَانِ بالبينة، وكما لو أقر بهما في حياته، فإن الوارث خليفته وإقراره كإقراره. (¬2) والثاني: أنه يقدم ما يقر به المورث؛ لأنه بالموت تعلّق بالتركة، فليس للوارث صرف التركة عنه، والوجهان جاريان فيما لو أقر لوراث بِدَيْنٍ عليه، ثم أقر لآخر بدين آخر عليه، وهما مبنيان على أن المحجور عليه بالفلس، إذا أقر بدين أسنده إلى ما قبل الحجر، هل يقبل إقراره في زحمة الغرماء؟ وفيه قولان، والتركة كمال المحجور عليه من حيث إن الورثة ممنوعون من التصرف فيها، وهذا معنى قوله في الكتاب: "لوقوع إقرار الوارث بعد الحجر" وإطلاقه القولين في المسألة خلاف رواية الجمهور، فإنهم جعلوها وجهين، ويمكن تنزيلهما على أنهما مخرجان من مسألة المفلس. وقوله في تصوير المسألة: "بدين مستغرق" قيد الاستغراق غير محتاج إليه، بل الخلاف ثابت فيما إذا زادت التركة على قدر الدَّين الأول. ففي وجه يوزع عليهما. وفي وجه يوفي الأول بتمامه، ويصرف الفاضل إلى الثاني، ولو ثبت عليه دَيْنٌ في حياته بالبينة، ثم مات فأقر وارثه عليه بدين، جرى الخلاف أيضاً، فإذاً ليس من الشرط أن يكون ثبوت الدين الأول بالإقرار وما الأظهر من الخلاف؛ أشار بعضهم إلى ترجيح وجه التقديم. وقال في "التهذيب" التسوية أصح، وهو موافق لما مر في مسألة المفلس، وإن ثبت عليه دَيْنٌ في حياته، أو موته، ثم ترد بهيمة في بئر كان قد احتقرها في محلّ عدوان، ففي مزاحمة صاحب البهيمة رب الذين القديم ما سبق، فيما إذا جنى المفلس ¬
بعد الحجر عليه، قاله في "التتمة"، وإذا مات، وخلّف ألف درهم، فجاء مدعٍ وادعى أنه أوصى له بثلث ماله، فصدقه الوراث، ثم جاء آخر، وادعى عليه ألف درهم دينًا، فصدقه الوراث قيل يصرف الثلث إلى الوصي لتقدمها. وقيل: يقدم الدين على الوصية كما هو وضع الشرع فيهما، وهذا يخرج على قولنا بأن إقراري الوارث والموروث يتساويان، ولو صدق مدعي الدَّين أولاً صرف المال إليه على قياس الوجهين جميعًا، ولو صدق المدعيين معًا، فالحكاية عن أكثر أنه يقسم الألف بينهما أرباعًا؛ لأنَّا نحتاج إلى الألف للدَّين، وإلى ثلث الألف للوصيه، فيتزاحم على الألف وثلث الألف، فيخص الوصية بثلث عائل، وهو الربع. وعن الصيدلاني: أنه تسقط الوصية، ويقدم الدَّين، كما ثبتا بالبينة، وهذا هو الحق سواء قدمنا عند ترتيب الإقرارين الأول منهما، أو سوينا بينهما, ولو أقر المريض بعين ماله لإنسان، ثم أقر بدين لآخر مستغرق، أو غير مستغرق سلمت العين وللمقر له بها, ولا شيء للثاني؛ لأنه مات المقر، ولا يعرف له مال، ولو أقر بالدَّين أولا، ثم أقر بعين ماله فوجهان: أصحهما: أن الحكم، كما في الصورة الأولى؛ لأن الإقرار بالدَّين لا يتضمن حجرًا في العين، ألا ترى أنه تنفذ تصرفاته فيه؟ والثاني: وبه قال أبو حنيفة رحمه الله: أنهما يتزاحمان؛ لأن لأحد الإقرارين قوة السبق، وللآخر الإضافة إلى العين، فاستويا, ولا يخفى أن التعرض للاستغراق في المسألة اتفاق غير محتاج إليه، والله اعلم. ويشترط في المقر الاختيار، فإقرار المكره على الإقرار باطل، كسائر تصرفاته (¬1). ¬
قال الغزالي: (الرُّكْنُ الثَّانِي): المقولة وَلَهُ شَرْطَانِ: (الأَوَّلُ) أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِلاسْتِحْقَاقِ، وَلَوْ قَالَ لِهَذَا الحِمَارِ عَلَيَّ أَلْفٌ بَطُلَ قَوْلُهُ، وَلَوْ قَالَ: بِسَبَبِهِ عَلَيَّ أَلْفٌ لزمه لِمَالِكِهِ عَلَى تَقْدِيِرِ الاسْتِئجَارِ، وَلَوْ أَقَرَّ لِعَبْدٍ لزم الَحّقِ لِمَوْلاهُ، وَلَوْ قَالَ: لَحَمْل فُلانَةَ عَلَيَّ أَلْفٌ من أُرْثِ أَوْ وَصِيَّةٍ قُبِلَ، وَلَوْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَذْكُرِ الجِهَةَ فَظَاهِرُ الَنَّصِّ أنَّهُ لاَ يُقْبَلُ، وَفِيهِ قَوْلٌ أَنَّهُ يُقْبَلُ وَيَنْزِلُ عَلَى هَذَا الاِحْتِمَالِ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: لِلْمَسْجِدِ أَوْ لِلْمَقْبَرَةِ عَلَيَّ أَلْفٌ إِنْ أَضَافَ إِلَى وَقْفٍ عَلَيْهِ قُبِلَ، وَإِنْ أَطْلَقَ فعَلَى الخِلاَفِ. قال الرافعي: يشترط في المقر له أهلية استحقاق الحق المقر به، وإلاَّ كان الكلام لغوًا وهزوًا. وفيه ثلاثة صور: إحداها: لو قال: لهذا الحمار، أو لدابة فلان عليّ ألف بطل إقراره، ولو قال: بسببها عليّ ألف صح، ولزمه حملاً على أنه جنى عليها، أو أكثرها. وعن الشيخ أَبِى عَاصِمٍ العبادي وجه: أنه لا يصح؛ لأن الغالب لزوم المال بالمعاملة، ولا تتصور المعاملة معها. ولو قال: لعبد فلان عليّ أو عبدي كذا، صح، وكان الإقرار لسيده، ويخالف مسألة الدابة؛ لأنه لا يتصور المعاملة معها، وتتصور مع العبد، والإضافة إليه كالإضافة في الهِبَةِ، وسائر الإنشائات. وقوله في الكتاب: "ولو قال: بسببه عليّ ألف لزمه لمالكه" -المراد ما إذا قال
لمالكه: بسببه على ألف، فأما إذا اقتصر على اللفظ المذكور في الكتاب لم يلزم أن يكون الألف لمالك الدابة في الحال، ولكن يسأل ويحكم بموجب بيانه. الثانية: إذا قال: لحمل فلانة على ألف أو عندي ألف، فله ثلاثة أحوال: إحداها: أن يسنده إلى جهة صحيحة، بأن يقول: ورثه من أبيه، أو يقول: أوصى به فلان له، فيعتبر إقراره، ثم إن انفصل العمل ميتاً، فلا حق له، بل هو لورثة من قال: إنه ورثه منه، أو للموصى أو ورثته إن أسنده إلى وصيته، وإن انفصل حياً، فإن انفصل لما دون ستة أشهر من يوم الإقرار استحق؛ لأنا تيقنَّا وجوده يومئذ. وإن انفصل لأكثر من أربع سنين، فلا لأن تيقنَّا عدمه (¬1) يومئذ، وإن انفصل لستة أشهر، أو أكثر ولما دون أربع سنين، فإن كانت مستفرشة لم يستحق لاحتمال تجدد العُلُوق بعد الإقرار، والأصل عدم الاستحقاق، وعدمه عند الإقرار، فإن لم تكن مستفرشة، قولان: أحدهما: أنه لا يستحق؛ لأنا لا نتيقن وجوده عند الإقرار. وأظهرهما: الاستحقاق؛ إذ لا سبب في الظاهر يتجدد به العلوق والظاهر وجوده وقت الإقرار لحكم ثبوت نسبه ممن كانت فراشاً له. وإذا ثبت الاستحقاق، فإن ولدت تلك المرأة ذكراً فهو له، وإن ولدت ذكرين فصاعدًا فلهم بالسوية، وإن ولدت أنثى، فهو لها إن أسنده إلى وصية، وإِن أسنده إلى الإرث من الأب، فنصفه لها، وإن ولدت ذكراً وأنثى، فهو بينهما بالسوية، إن أسنده إلى وصية، وثلثاه إن أسنده إلى الإرث من الأب. وقوله: "ونصفه لها" وهذا إذا اقتضت جهة الوراثة ما ذكرنا، فان اقتضت التسوية بأن يكونا لولدي الأم كان ثلثه (¬2) بالسوية. ¬
قال الإمام رحمه الله تعالى: ولو أطلق الإرث سألناه عن الجهة، وحكمنا بمقتضاها (¬1). الحالة الثانية: أن يطلق الإقرار، ففيه قولان: أحدهما: وهو ظاهر نصه في المختصر: أنه باطل؛ لأن المال في الغالب إنما يجب بمعاملة، أو جناية، ولامتناع المعاملة مع الجهل، ولا الجناية عليه. وأصحهما: وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله- وأبو إِسْحَاقَ: أنه يصح، ويحمل على الجهة الممكنة في حقه، وإن كانت نادرة. الثالثة: إن يسنده إلى جهة فاسدة، بأن يقول: ألف أقرضنيه، أو ثمن ما باعه مني، فإن لم نصححه بالإقرار المطلق، فهذا أولى، وإن صححناه، فطريقان: أحدهما: أنه على القولين في تعقيب الإقرار بما يرفعه (¬2). وأظهرهما: الصحة؛ لأنه عقبه بما هو غير مقبول، ولا منتظم، فأشبه ما إذا قال لفلان: عليّ ألف لا يلزمني، وإذا صححنا الإقرار في الحالتين الأخيرتين، فإن انفصل الحملُ مَيْتًا، فلا حق له، ويسأل المقر عن جهة إقراره من الإرث، أو الوصية، ويحكم بموجبه. قال في "النهاية": وليس لهذا السؤال والبحث طالب معين، وكان القاضي يسأل حسبة ليصل الحق إلى المستحق، فإن مات قبل البيان كان كما لو أقر لإنسان، فرده وفي "تعليق الشيخ أَبِى حِامِدٍ" أنه يطالب ورثته ليفسروا، فإِن انفصل حيًا للمدة التي قدرنا من قبل، فالكل له ذكراً كان أو أنثى، وإن انفصل ذكراً وأنثى، فهو لهما بالسوية، لأن ظاهر الإقرار يقتضي التسوية، ومن المحتمل أن تكون الجهة الوصية، ومتى انفصل حي وميت، فيجعل الميت كان لم يكن، وينظر في الحي على ما ذكرنا, ولو أقر بحمل ¬
جارية، أو بهيمة لإنسان، ففيه التفصيل المذكور فيما إذا أقر للحمل، فإن قال: إنه أوصى له به صح، وينظر كم بين انفصاله، وبين يوم الإقرار من المدة على ما سبق، وفي حمل البهيمة يرجع إلى أهل الخبرة، وإن أطلق أو أسند إلى جهة فاسدة خرج على ما تقدم من الخلاف (¬1). ولو أقر بالحمل لرجل وبالام لاخر إن جوزنا الإقرار بالحمل صحَّ الإقرار، وإلاَّ فلا. قال صاحب "التهذيب": هما جميعاً للآخر، وهذا البناء على أن الإقرار بالحامل إقرار بالحمل، وفيه خلاف يأتي من بعد. الصورة الثالثة: لو أقر لمسجد، أو مقبرة، أو نحوها بمال، وأسنده إلى جهة صحيحة، كغلّة وقف عليه صح، وإن أطلق فعلى وجهين تخريجًا من القول في مسألة العمل، وعلى قياسه ما إذا أضاف إلى جهة فاسدة (¬2). ¬
قال الغزالي: (الثَّانِي) أَنْ لاَ يُكَذِّبَهُ المُقِرُّ لَهُ فإِنْ كَذَّبهُ لَمْ يُسْلَمُ إِلَيْهِ وَيُتْرَكُ فِي يَدِ المُقِرِّ في وَجْهٍ، وَيَحْفَظُهُ القَاضِي فِي وَجْهٍ، فَإِنْ رَجَعَ المُقَرُّ لَهُ عَنِ الإِنْكَارِ سُلِّم إِلَيْهِ، فَإِنْ رَجَعَ المُقِرُّ في حَالِ إِنْكارِ المُقَرِّ لَهُ، فَالأَظْهَرُ أنَّهُ لا يقبل لأنه أَثْبَتَ الحَقَّ لِغَيْرِه بِخِلاَفِ المُقَرِّ لهُ فَإنَّهُ اَقْتَصَرَ علَى الإِنْكَارِ. قال الرافعي: يشترط في الحكم بالإقرار عدم تكذيب المقر له في إنكاره، وإن لم يشترط قبوله لفظًا على رسم الإيجاب والقبول في الإِنشاءات، فإن كذبه نظر إن كان المقربه مالاً لم يدفعه إليه وفيما يفعل به ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه يترك في يد المقر (¬1)، كما كان؛ لأن يده تشعر بالملك ظاهراً، والإقرار الثاني عارضه إنكار المقر له فيسقط، وأيضاً فإنا لا نعرف مالكه، ونراه في يد المقر، فهو أولى الناس بحفظه. وثانيها: واختاره صاحب "التهذيب" و"التتمة": أنه ينتزعه القاضي، ويتولى حفظه إلى أن يظهر مالكه، فإنه في حكم مال ضائع، فيحتاط لمالكه، فإن رأى استحفاظ صاحب اليد، فهو كما لو استحفظ عدلاً آخر. وثالثها: أنه يخير المقر له على القبول والقبض، وهو بعيد. وقال الشيخ أَبُو مُحَمَّدٍ: موضع الخلاف ما إذا قال صاحب اليد هذا لفلان، وكذبه فلان، فأما إذا قال صاحب اليد للقاضي: في يدي مال لا أعرف مالكه، فالوجه القطع بأن القاضي يتولى حفظه. وأبعد بعضهم فلم يجوز انتزاعه هاهنا, ولو رجع المقر له عن الإنكار، فصدق المقر، فقد حكى الإمام رحمه الله الجزم بقبوله، وتسليم المقربه إليه، لكن الأظهر، وهو الذي أورده المُتَوَلِّى وغيره تفريعه على الخلاف السابق. ¬
فرع
إنْ قلنا: يترك في يد المقر فهذا حكم منا ببطلان ذلك الإقرار، فلا يصرف إلى المقر له إلاَّ بإقرار جديد. وإن قلنا: إنه ينتزعه القاضي، ويحفظه، فكذلك لا يسلم إليه، بل لو أراد إقامة البينة على أنه ملكه لم تسمع، وإنما يسلم له، إذا فرعنا على الوجه البعيد، فإن الظاهر أنه لا يسلم إليه، على خلاف ما ذكر في الكتاب، ولو رجع المقر في حال إنكار المقر له، وقال: غلطت، أو تعمدت الكذب لم يقبل رجوعه، إن قلنا: ينتزعه القاضي، وإن تركناه في يده، فعلى وجهين، رواهما الإمام رحمه الله: أظهرهما: عنده، وعند صاحب الكتاب: أنه لا يقبل أيضاً، بناء على أنه لو عاد المقر له إلى التصديق قُبل منه، فإذا كان ذلك متوقعًا لم يلتفت إلى رجوعه. والثاني: أنه يقبل، بناء على أن الترك في يده إبطال الإقرار، وقضية كلام الأكثرين ترجيح هذا الوجه ويعزى إلى ابْنِ سُرَيْجٍ، ومن قال به لا يسلم لصاحب الكتاب قوله؛ "لأنه أثبت الحق لغيره"، بل يقول: يشترط كونه إثباتًا سلامته مع معارضة الإنكار، وجميع ما ذكرناه فيما إذا كان الإقرار بثوب ونحوه، وأما إذا كان إقراره بعبد، فأنكر ففيه وجهان: أحدهما: يحكم بعتقه؛ لأن صاحب اليد لا يدعيه، والمقر له ينفيه، فيصير العبد في يد نفسه، فيعتق، وهذا كما إذا أقر اللقيط بعد البلوغ بأنه مملوك زيد، فأنكر يحكم بحريته. وأظهرهما: المنع؛ لأنه مملوك بالرق، فلا يرفع إلاَّ بيقين، وتخالف صورة اللقيط، فإنه محكوم بحريته بالدار، فإذا أقر، ونفاه المقر له بقي على أصل الحرية، فعلى هذا الحكم فيه ما ذكرنا في الثوب وغيره، فإن كان المقر به قِصَاصًا، أو حد قذف، وكذبه المقر له سقط الإقرار، وكذا لو أقر بسرقة توجب القطع، فأنكر رب المال السرقة، فلا قطع، وفي المال ما سبق، وإن أقرت بالنكاح، وأنكر سقط حكم الإقرار في حقه. فرع لو قال من في يده عبدان: إن أحد هذين العبدين لفلان طولب بالبيان، فلو عيّن أحدهما، فقال المقر له إن عبدي هو الآخر، فهو مكذب للمقر في المعين، ومدعٍ في العبد الآخر. فرع ادّعى على آخر ألفًا من ثمن مبيع فقال المدعى عليه: قد أقبضتك الألف، وأقام بينة على إقراره بالقبض يوم كذا، وأقام المدعي بينة على إقرار المشتري بعد بينته، بأنه ما أقبضه الثمن بعد، سُمعت وألزم المشتري الثمن؛ وإن قامت البينة على إقراره بالقبض، فقد قامت أيضاً على أن صاحبه كذبه، فيبطل حكم الإقرار، ويبقى الثمن على
المشتري، ويعتبر في المقرّ له شرط آخر، وهو أن يكون معيناً، فلو قال لإنسان أو لواحد من بني آدم أو من أهل البلد: عليّ ألف، هل يصح إقراره؟ خرّجه الشيخ أبُو عَليٍّ عَلَى وجهين، بناء على أنه إذا أقر لمعين بشيء، وكذبه المقر له، هل يخرج من يده؟ إن قلنا: نعم؛ لأنه مال ضائع، فكذا هاهنا ويفيد الإقرار. وإن قلنا: لا، لم يصح هذا الإقرار، وهو الصحيح. قال في "التتمة" ولو جاء واحد، وقال: أنا الذي أردتني، ولي عليك الألف، فالقول قول المقر مع يمينه في نفي الإرادة، ونفي الألف، ويخالف الإقرار على هذا الإبهام، ما إذا قال: غصبت هذا من أحد هذين الرجلين، أو هؤلاء الثلاثة حيث يعتبر ذلك ما سنذكره، ونفرعه من بعد، والفرق أنه إذا قال هو لأحد هذين، فله مدع وطالب، فلا يبقى في يده مع قيام الطالب، واعترافه بأنه ليس له. وإذا قال لواحد من بني آدم فلا طالب له، فيبقى له في يده، وكان الشرط أن يكون المقرّ له معيناً ضرب تعيين، تتوقع معه الدعوى والطالب. قال الغزالي: (الرُّكْنُ الثَّالثُ): المُقَرُّ بِهِ وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بَلْ يَصِحُّ الإِقْرَارُ بِالمَجْهُولِ، وَلاَ أَنْ يَكُونْ مَمْلُوكًا لِلمُقِرِّ بَلْ لَوْ كَانَ ملكا بَطُلَ إِقْرَارُهُ، فَلَوْ قَالَ: دَارِي لِفُلاَنٍ أَوْ مَالي لِفُلاَنٍ فَهُوَ مُتَنَاقِضٌ، وَلَوْ شَهِدَ الشَّاهِدُ أنَّهُ أَقَرَّ لَهُ وَكَانَ مِلكُهُ إِلَى أَنْ أَقَرَّ كَانَتِ الشَّهَادَةُ باطلة، وَلَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِفُلاَنٍ وَكَانَتْ مِلْكِي إلى وَقْتِ الإِقْرَارِ آخَذْنَاهُ بِأَوَّلِ كَلاَمِهِ وَلَمْ نَقْبَلْ آخِرَهُ. قال الرافعي: لا يشترط أن يكون المقر به معلومًا، بل يصح الإقرار بالمجاهيل على ما سيأتي، ولا أن يكون مملوكًا له حين يقر [بل الشرط في الإقرار بالإعيان أن لا يكون مملوكًا له حين يقر] لأن الإقرار ليس إزالة ملك، وإنما هو إخبار عن كونه مملوكًا للمقر له، فلا بُدَّ من تقدُّم المخبر به على الخبر، فلو قال: داري هذه، أو ثوبي الذي أملكه لفلان، فهو متناقض (¬1)، والمفهوم منه الوعد بالهبة، ولو قال: مسكني هذا لفلان يكون إقرارًا؛ لأنه أضاف إلى نفسه السّكني، وقد يسكن ملك الغير ولو شهدت بينة على أن فلانًا أقر أن له دار كذا، وكانت ملكه إلى أن أقر كانت الشهادة باطلة نص عليه، ولو قال المقر: هذه الدار لفلان، وكانت ملكي إلى وقت الإقرار فإقراره نافذ والذي ذكره ¬
بعده متناقض لأوله، فيلغو كما لو قال: هذه الدار لفلان، وليست له، هذا في الأعيان، وكذلك في الديون إذا كان له دَيْنٌ على غيره في الظاهر من قَرْض، أو أجرة، أو ثمن مبيع، فقال: ديني الذي لي على زيد لعمرو، فهو باطل، ولو قال: الدَّين الذي لي، على زيد لعمرو، واسمي في الكتاب عاريَّة، فهو صحيح (¬1)، فلعله كان وكيلاً عنه في الإقراض والإجارة والبيع، ثم عمرو يدعي المال على زيد لنفسه، فإن أنكر فهو بالخيار بين أن يقيم البينة على دَيْن المقر على زيد، ثم على إقراره له بما على زيد، وبين أن يقيم البينة أولاً على الإقرار، ثم على الدَّين، ذكره القَفَّالُ. واستثنى صاحب "التلخيص" ثلاثة ديون، ومنع الإقرار بها. أحدها: الصَّدَاق في ذمة الزوج لا تقر المرأة به. والثاني: بدل الخلع في ذمة المرأة لا يقر للزوج به. والثالث: أرش الجناية لا يقر به المجني عليه (¬2)؛ لأن الصَّداق لايكون إلاَّ للمرأة، ¬
وبدل الخلع إلاَّ للزوج، وأرش الجناية إلاَّ للمجني عليه، نعم لو كانت الجناية على عبد، أو مال آخر، جاز أن يقر به الغير لاحتمال كونه له يوم الجناية. قال الأئمة: هذه الديون، وإن لم يتصور فيها الثبوت للغير ابتداءًا وتقديرًا بوكالة، ولكن يجوز انتقالها إلى الغير بالحوالة، وكذلك في البيع على قوله، فيصح الإقرار بها عند احتمال جريان الناقل، وحملوا ما ذكره صاحب "التلخيص" على ما إذا أقر بها عقيب ثبوتها، يحيث لا يحتمل جريان الناقل، لكن سائر الديون كذلك، فلا ينتظم الاستثناء بها، بل الأعيان أيضاً يرتد المستثنى به حتى لو أعتق عبده، ثم أقر له السيد، أو غيره عقيب العتق بدين، أو عين لم يصح؛ لأن أهلية الملك لم تثبت له، إلاَّ في الحال، ولم يجر بينهما ما يوجب المال، وزاد أبُو العَبَّاسِ الجُرْجَانِيُّ في الفصل شيئاً، فقال: إن أسند الأقارير الثلاثة إلى جهة حوالة، أو بيع، إِن جوزناه، فذاك، وإلاَّ فعلى قولين، بناء على ما لو أقر للحمل بمال وأطلق. قال الغزالي: نَعَمْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ المُقَرُّ بِهِ تَحتَ يَدِهِ وَتَصَرُّفهِ، فَلَوْ أَقرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ في يَدِ غَيْرِهِ لَمْ يُقْبَلْ، فَلَوْ أَقْدَمَ عَلَى شِرَائِهِ صَحَّ تَعْوِيلاً عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ اليَدِ، ثُمَّ قِيلَ شِراءٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ فِدَاءٌ مِنْ جَانِبِهِ بِيْع من جَانِبِ البَائِعِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ وَالمَجْلِسِ لاَ يَثْبُتُ فِيهِ، كَمَا لاَ يَثْبُتُ في بَيْعِهَ عَبْدَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَلاَ يَثْبُتُ في بَيْعِ العَبْدِ مِنْ قَرِيبهِ الَّذِي يُعْتَقُ عَلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ، ثُمَّ يُحْكَم بِعِتْقِ العَبْدِ عَلَى المُشْتَرِي وَلاَ يَكَونُ الوَلاَءُ لَهُ وَلاَ لِلْبَائِعِ، فَإِنْ مَاتَ العَبْدُ وَلَهُ كَسْبٌ فَلِلْمشْتَريِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ تَرْكَتِهِ قَدْرَ الثَّمَنِ لِأنَّهُ إِنْ كَذَّبَ فَكُلُّهُ لَهُ، وَإِنْ صَدَّقَ فَهُوَ لِلبَائِعِ وَلَهُ الوَلاَءُ وَقَدْ ظَفِرَ هُوَ بِمَالِهِ هَكذَا ذَكرَهُ المُزَنِي رَحِمَهُ الله، وَمِنَ الأَصْحَابِ مَنْ خَالَفَهُ لأَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ في هَذهِ الَجِهةِ.
قال الرافعي: قوله: "يشترط أن يكون المقر به تحت يده، وتصرفه أراد به أنه إذا لم يكن تحت يده لم يسلطنا إقراره على الحكم بثبوت الملك للمقر له، بل يكون ذلك دعوى، أو شهادة، وليس معناه: أنه يلغو قوله من كل وجه، بل لو حصل المقرّ به في يده يوماً من الدهر في يده يؤمر بتسليمه إليه فلو قال: العبد الذي في يد زيد هو مرهون عند عمرو بكذا، ثم حصل العبد في يده، يؤمر ببيعه في دين عمرو، ولو أقر بحرية عبد في يد غيره، أو شهد بحريته، فلم تقبل شهادته لم يحكم بحريته في الحال، ولو أقدم المقر على شرائه، صح تنزيلاً للعقد عَلَى قول من صدقه الشرع، وهو صاحب اليد البائع، ويخالف ما إذا قال: فلانة أختي من الرضاع، ثم أراد أن ينكحها لا نمكنه منها؛ لأن في الشراء غرض استنقاذه من أسر الرِّق، ومثل هذا الغرض لا يوجد هناك، فيمنع من الاستمتاع بفرج اعترف بأنه حرام عليه، ثم إذا اشتراه حكم بحرية العبد، وأمر برفع اليد عنه، ثم للإقرار حالتان: إحداهما: أن تكون الصيغة أنك أعتقته، وتسترقه ظلمًا، وهي التي تكلم بها في الكتاب، فالعقد الجاري بينه، وبين البائع ما حكمه أهو شراء أم افتداء؟ حكى الإمام صاحب الكتاب فيه أوجهًا ثلاثة: أصحها: أنه بيع من جهة البائع، وافتداء من جهة المقر. والثاني: أنه بيع من الجانبين. والثالث: أنه افتداء من الجانبين، وهذا الثالث مما ينبو الطبع عنه في جانب البائع، وكيف يتنظم أن يقال: إنه يأخذ المال لينقذ من يسترقه ويعرفه حرًا يفتديه، بل لو قيل فيه المعنيان جميعاً، والخلاف في أن الأغلب منهما ما إذا كان، أو بما رآه، والمعتمد الذي رواه الأكثرون أنه بيع من جانب البائع لا محالة، ومن جانب المشتري وجهان: أحدهما: أنه شراء، كما في جانب البائع. وأصحهما: أنه افتداء لاعترافه بحريته، وامتناع شراء الحر، وينبني على هذا الخلاف الكلام في ثبوت الخيار في هذا العقد. أما البائع، فيثبت له خيار المجلس، والشرط بناء على ظاهر المذهب في أنه بيع من جانبه، ولو كان البيع بثمن معين، فخرج معيبًا، ورده كان له أن يسترد العبد، بخلاف ما لو باع عبداً، أو أعتقه المشتري، ثم خرج الثمن المعين معيبًا، ورده حيث لا نسترد العبد، بل يعدل إلى القيمة لاتفاقهما على العتق هناك. وأما المقر المشتري، فإِن جعلناه شراءً في حقه فيه الخيار، وإن جعلناه فداء،
فلا، وعلى الوجهين لا رد له لو خرج العبد معيبًا، لكن يأخذ الأرش على وجه الشراء، ولا يأخذ على الوجه الآخر. وذكر الإمام رحمه الله أنه إذا لم يثبت خيار المجلس للمشتري، ففي ثبوته للبائع وجهان؛ لأن هذا الخيار لا يكاد يتبعّض. وقوله في الكتاب: "والصحيح أن خيار الشرط والمجلس لا يثبت فيه ... " إلى آخره يشعر بإثبات الخلاف فيه، نعم مع الحكم بكونه شراءً وبيعًا لا ستعقابه العتق، كالخلاف في شراء القريب. واعلم أن مسألتي بيع العبد من نفسه، وبيعه من قريبه قد ذكرناهما بما فيهما في "البيع" وتبين أن كلامه في شراء القريب، بخلاف كلام الأكثرين، والحكم بأن الصحيح هاهنا منع الخيار غير مسلم على إطلاقه، بل الصحيح ثبوتهما في طرف البائع، نعم في طرف المشتري الفتوى بالمنع، بناء على أنه فداء، والله اعلم. ثم إذا حكمنا بالعِتْقِ والحالة وهذه، فلا نقول بأن ولاءه للمشتري، لاعترافه بأنه لم يعتقه، ولا للبائع لزعمه أنه ليس بعتق، بل هو موقوف، فإن مات وقد اكتسب مالاً، فإن كان له وارث بالنسب، فهو له، وإِلاَّ فينظر إن صدق البائع المشتري أخذه، ورد الثمن، إِن كذبه وأَصَرَّ على كلامه الأول، فظاهر النص أنه يوقف المال، كما كان الولاء موقوفاً، واعترض المُزَنِيُّ فقال: للمشتري أن يأخذ قدر الثمن مما تركه، فإنْ فضل شيء كان الفاضل موقوفاً، وعلله بأن المشتري إذا كان كاذبًا، فالميت رقيق، وجميع أكسابه له أو صادقًا، فالأكساب للبائع إرثًا بالولاء، وهو قد ظلمه بأخذ الثمن، وتعذر استرداده، فإذا ظفر بماله كان له أن يأخذ به حقه. وافترق الأصحاب في المسألة، فذهبت فرقة إلى تقرير النصين، وتخطئة المزني، فالتوجيه من وجهين. أحدهما: أنه لو أخذ شيئاً فإما أن يأخذه بجهة أنه كسب مملوكه، وقد نفاه بإقراره، أو بجهة الظفر بمال من ظلمه، وهو ممتنع؛ لأنه أنما بذله تقربًا إلى الله -تعالى- باستنقاذه حُرَّا، فيكون سبيله سبيل الصدقات، والصدقات لا يرجع فيها. والثانى: لا يدري أنه يأخذه بجهة الملك، أو بجهة الظفر بمال من ظلمه، فيمتنع من الأخذ إلى ظهور جهته. وقال ابْنُ سُرَيْجٍ وأَبُو إِسْحَاقَ، وأكثر مشايخ المذهب: الأمر كما ذكره المُزَنِيُّ. وعن ابْنِ سُرَيْجٍ والقاضي أَبِي حَامِدٍ أن الشَّافعي -رحمه الله- نص عليه في غير هذا الموضع، وحملوا ما ذكره هاهنا على أن ما يأخذه بجهة الولاء لا يكون موقوفاً وهو
فرع
ما زاد قدر الثمن، فأما المستحق بكل حال، فلا معنى للتوقف فيه. قالوا: ويجوز الرجوع في المبذول على جهة الفدية، كما لو فدى أسيرًا في يد المشركين، ثم استولى المسلمون على بلادهم، ووجد الباذل عين ماله أخذه. وأما اختلاف الجهة. فلا يسلم أنه يمتنع أخذ بعد الاتفاق على أصل الاستحقاق. الحالة الثانية: أن يكون صفة إقراره أنه حر الأصل، وأنه عتق قبل أن اشتريته، فإذا اشتراه، فهو فداء من جهته، بلا خلاف، كذلك وذكر صاحب "التهذيب". وإذا مات وقد اكتسب مالاً، وليس له وارث، فالمال لبيت المال؛ وليس للمشتري أن يأخذ منه شيئاً؛ لأن تقدير صدقه لا يكون المال للبائع حتى يأخذ عوضاً عن الثمن، ولو مات العبد قبل أن يقبضه المشتري؛ لم يكن للبائع أن يطالبه بالثمن؛ لأنه لا حرية في زعمه، والمبيع قد تلف قبل القبض، هذا شرح المسألة، وقد اندرج فيه بعض ما يتعلّق بلفظ الكتاب خاصة. وقوله: "ثم يحكم بعتق العبد على المشتري" على من صلة الحكم، لا من صلة العتق، فإنا لا نحكم بأنه عتيق على المشتري، وإنما نحكم على المشتري بأنه عتيق. وقوله: "لأنه غير مصدق في هذه الجهة". أراد به ما ذكرنا في التوجيه الثاني، وشبه هذا الخلاف فيما إذا قال: لي عليك ألف ضمنته، فقال: ما ضمنت شيئاً، ولكن لك عليّ ألف عن قيمة متلف، والأصح الثبوت، وقطع النظر عن الجهة. فرع لو استأجر العبد المقر بحريته بدلاً عن الشراء لم يحل له استخدامه، والانتفاع به، وللمكري مطالبته بالأُجرة (¬1)، ولو أقر بحرية جارية ثم قبل نكاحها منه لم يحل له وطؤها, وللمزوج مطالبته بالمهر (¬2). ¬
فرع آخر
فرع آخر لو قال: العبد الذي في يدك غصبته من فلان، ثم اشتراه منه، ففي صحة العقد وجهان، نقلهما الإمام رحمه الله: أصحهما: الصحة، كما لو أقر بحريته، ثم اشتراه والثاني: المنع؛ لأن الصحيح ثم الافتداء والانقاذ من الرق، ولا يتجه مثله في تخليص ملك الغير. ثالث: لو أقر بعبد في يده لزيد، وقال العبد: بل أنا ملك لعمرو يسلم إلى دون عمرو، ولأنه في يد من يسترقه، لا في يد نفسه، فلو أعتقه لم يكن لعمرو تسليم رقبته، والتصرف فيها أيضاً لما فيها من إبطال الولاء على المعتق، وهل له أخذ كسابه؟ فيه وجهان: وجه المنع: أن استحقاق الأكساب فرع الربح، وإنه لم يثبت والله أعلم. قال الغزالي: (الرُّكْنُ الرَّابعُ): الصِّيغَةُ، فإذَا قالَ: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ أَوْ عِنْدِي أَلْفٌ فَهُوَ إِقْرَارٌ، وَلَوْ قَالَ المُدَّعِي: لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ فَقَالَ: زِنْ أَوْ خُذْ لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا، وَكَذَا إِذَا قَالَ: زِنْهُ أَوْ خُذْهُ (و) ولو قَالَ: بَلَى أَوْ أَجَلْ أَوْ نَعَمْ أَوْصَدَقْتَ أَوْ أَنَا مُقِرُّ بِهِ أَوْ لَسْتَ مُنْكِرًا له فَهُوَ إِقرَارٌ، وَلَوْ قالَ: أَنَا مُقِرٌ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ فَلاَ يَكُونُ إقرَارًا بِهِ، وَلوْ قَالَ: أَنَا أُقِرُّ بِهِ قِيِلَ: إِنَّهُ إِقْرَارٌ، وِقِيِلَ: إنَّهُ وَعْدٌ بِالإقْرَارِ، وَلَوْ قَالَ: أَلَيْسَ لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ فَقَالَ: بَلَى لَزِمَهُ، وَلَوْ قَالَ: نَعَمْ قِيلَ: إنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ وَالأَصَحُّ التَّسْوِيَةُ، وَلَوْ قَالَ: اشْتَرِ مَنِّي هِذَا العَبْدَ فَقَالَ: نَعَمْ فَهُوَ إقْرَارٌ بِالعَبْدِ. في الفصل صور: إحداها: قول القائل كذا لفلان صيغة إقرار. وقوله لفلان عَلَيَّ أو في ذمتي إقرار بالدين ظاهرًا. وقوله: عندي أو معي إقرار بالعين، ولو قال: له قبلي ألف قال في "التهذيب":
هو دين ويشبه أن يكون هو صالح للدين والعين جميعاً (¬1). الثانية: إذا قال لغيره: لي عليك ألف، وقال في الجواب: زن أو خذ لم يكن إقرار؛ لأنه لم توجد منه صيغة التزام، وقد يذكر مثل ذلك من يستهزئ، ويبالغ في الجحود، ولو قال: استوف أو اتزن، فكذلك. وفي "التتمة" نقل وجه في قوله: اتزن أنه اقرار؛ لأنه يستعمل في العادة فيما يستوفيه الإنسان لنفسه، بخلاف قوله: زن وبقال: هو مذهب أَبِي حَنِيْفَةَ -رحمه الله- ولو قال: خذه أو زنة، فظاهر المذهب أنه ليس بإقرار أيضاً. وقال الزبيري: إنه إقرار، ووجهه أن الكناية تعود إلى ما تقدم في الدعوى، ولو قال: سده في همنا بك، أو اجعله في كسبك أو اختم عليه فهو كقوله: زنه أو خذه، واعلم أن الوجه الذي رويناه عن الزبيري نسبه صاحب الكتاب في "الوسيط" إلى صاحب "التلخيص"، فلم يورد فيه المسألة ولو قال المدعى عليه في الجواب: بلى أو نعم أو أجل أو صدقت فهو إقرار؛ لأن هذه الألفاظ موضوعة للتصديق والموافقة، ومثله أجابوا فيما إذا قال: لعمري ولعل العرف يختلف فيه، ولو قال: أنا مقر به أو بما يدعيه، ولست بمنكر له فهو إقرار، ولو قال: أنا مقر ولم يقل به، أو قال: لست بمنكر، أو أنا أقر لم يكن إقرارًا لجواز أن يريد اقرارًا ببطلان دعواه، أو بأن الله -تعالى- واحد، وهذا يدل على أن الحكم بأن قوله: أني مقر به إقرار فيما إذا خاطبه، فقال: أنا مقر لك به، وإلا فيجوز أن يريد الإقرار به لغيره، ولو قال؛ أنا أقر به فوجهان: أحدهما: أنه ليس بإقرار لجواز أن يريد به الوعد بالإقرار في تأتي الحال. والثاني: أنه إقرار؛ لأن قرينة الخصومة تشعر بالتمييز، ونسب الإمام -رحمه الله- الوجه الثاني للأكثرين، واختاره كذلك القاضيان الحُسَيْنُ والرُّوَيانِيُّ، ولا يحكي الثاني إلا نادرًا فضلاً عن الذهاب إليه. وأما المختار فهو مؤيد بأنهم اتفقوا على أنه لو قال؛ لا أنكر ما تدعيه كان إقرارًا غير محمول على الوعد، ورأيت بعض أصحاب عَاصِم العَبَّادِيِّ أجاب عن هذا الإلزام بأن العموم إلى النفس أسرع منه إلى الإثبات، ألا ترى إن النكرة في معرض النفي نعم وفي معرض الإثبات لا تعم؟ ولك أن تقول: هب أن هذا الفرق بين، لكن لا ينفي ¬
الاحتمال، وقاعدة الإقرار الأخذ باليقين قال الإمام رحمه الله: وبتقدير حمله على الوعد، فالقياس أن الوعد بالإقرار إقرار كما أنا نقول: التوكيل بالإقرار إقرار، ولو قال في الجواب: لا أنكر أن يكون محقًا لم يكن مقراً بما يدعيه لجواز أن يريد في شيء آخر، فلو قال: فيما تدعيه، فهو إقرار، ولو قال: لا أقر به، ولا أنكر فهو كما لو سألت، فيجعل منكرًا وتعرض عليه اليمين، ولو قال: أبرأتني عنه، أو قبضته فهو إقرار، وعليه بَيِّنة القضاء أو الإبراء. وعن بعض الأصحاب: أن قوله: أبرأتني ليس بإقرار لقوله تعالى: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب: 69] وتبرئته عن عيب الأُدْرة لا يقتضي إثباته له، ولو قال: أقررت بأنك أبرأتني، واستوفيت مني لم يكن إقرارًا، ولو قال في الجواب: لعل أو عسى أو أظن أو أحسب أو أقدر لم يكن مقرًا وهاهنا مباحثة، وهو أن اللفظ وإن كان صريحًا في التصديق، فقد تنضم إليه قرائن تصرفه عن موضوعه إلى الاستهزاء والكذب، ومن جملة الأداء والإبراء وتحريك الرأس على شدة التعجب، والإنكار، ويشبه أن يحمل قول الأصحاب: إن صدقت، وما في معناه إقرار على غير هذه الحالة. أما إذا اجتمعت القرائن فلا يجعل إقرارًا، أو يقال: فيه خلاف لتعارض اللفظ والقرينة، كما لو قال: لي عليك ألف، فقال في الجواب على سبيل الاستهزاء لك عليّ ألف فإن أبا سعيد المتولي حكى فيه وجهين. الثالثة: لو قال: أليس لي عليك ألف، فقال: بلى كان مقراً، ولزمه الألف، ولو قال: نعم فوجهان. أحدهما: أنه لا يلزمه؛ لأن "نعم" تصديق لما دخل عليه حرف الاستفهام، وبلى تكذيب له من حيث أن أصل بلى "بل" وزيدت عليها "الياء"، وهو الرد والأستدراك، وإذا كان كذلك فقوله: بلى رد لقوله أليس لي عليك ألف، فإنه الذي أدخل عليه حرف الاستفهام، وبقي له، ونفي النفي إثبات، فكأنه قال: لي عليك لك على ألف، وقوله: نعم تصديق له، فكأنه قال: ليس لي لك علي عليك ألف، هذا تلخيص ما نقل عن الكسائي وغيره أئمة اللُّغة، وعلى وفاقه ورد القرآن قال الله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80] وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)} [القيامة: 3، 4] وقال تعالى في لفظه نعم: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44]، وقال تعالى: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ} [الشعراء: 41]، والوجه الثاني أن يكون مقرًا بأن كل واحد منهما يقام مقام الآخر في العرف، والوجه الأول هو الذي أورده صاحب
"التهذيب" وغيره لكن الثاني أصح عند الإمام وصاحب الكتاب، وبه أجاب الشيخ أبو محمَّد وأبو سعيد المتولى، ووجهوه بأن الأقارير تحمل على معهود العرف لا على حقائق العربية (¬1)، ولو قال: هل لي عليك ألف، فقال: نعم فهو إقرار. الرابعة: إذا قال اشتر مني عبدي هذا فقال: نعم فهو إقرار به للقائل، كما لو قال: اعتق عبدي هذا فقال: نعم ويمكن أن يجيء فيه خلاف ما ذكرنا في الصُّلْح فيما إذا قال: بعني هذا العبد، هل هو إقرار بالعبد للمخاطب؟ وليس في لفظ الكتاب في المسألة إضافة العبد إلى نفسه، ولكن المراد ما إذا أضاف، وكذلك صور في "الوسيط" ولو كان اللفظ اشتر مني هذا العبد كما في الكتاب، فالتصديق بنعم يقتضي الاعتراف بملكية البيع لا بأنه يملك المبيع، ولو ادعى عليه عبداً في يده، فقال: اشتريته من وكيلك فلان، فهو إقرار له، ويحلف المدعى عليه أنه ما وكل فلاناً بالبيع، ثم إنا نردف شرح صور الفصل بصور تقرب منها لو قال: له علي كذا في علمي، أو فيما أعلمه، وأشهد فهو إقرار، ولو قال: كان علي ألف لفلان، أو كانت هذه الدار في السنة الماضية له فوجهان: أحدهما: أنه إقرار في الحال بحكم الاستصحاب. والثاني: لا؛ لأنه لم يعرف في الحال بشيء، والأصل براءة الذمة (¬2)، ويقرب منه الخلاف فيما إذا قال: هذه داري أسكنت فيها فلاناً، ثم أخرجته منها قيل: هو إقرار باليد؛ لأنه اعترف بثبوتها من قبل، وادعى زوالها. وعن أبي علي الزَّجَّاجي في جواب الجامع الصغير أنه ليس إقراره بالملك لزيد، ودعوى انتقالها منه؛ لأنه لم يعترف بيد فلان إلا من جهته، ولو قال: ملكتها من زيد فهو إقرار، فإن لم يصدقه زيد أمر بالرد إليه (¬3)، ولو قال: اقض الألف الذي لي عليك، فقال: نعم فهو إقرار، ولو قال في الجواب: أعطني غداً أو أبعث من يأخذه، أو أمهلني يوماً، أو حتى أصرف الدارهم، أو حتى أفتح باب الصندوق، أو اقعد حتى تأخذ، أو لا أجد اليوم، أو لا تزال تتقاضى، أو قال: ما أكثر ما تتقاضى، والله لأقضينك فجميع هذه الصور إقرار عند أبي حنيفة رحمه الله، والأصحاب فيه مضطربون. ¬
الباب الثاني في الأقارير المجملة
والميل إلى موافقته في أكثر الصور أكثر، وتردد بعضهم في قوله: اقض الألف الذي لي عليك، فقال: نعم أيضاً، وكذا لو قال: أسرج دابة فلان هذه، فقال: نعم، أو قال: متى تقضي حقي؟ فقال: غدًا, ولو قائل له قائل: غصبت ثوبي، فقال: ما غصبت من أحد قبلك، ولا بعدك لم يكن مقرًّا؛ لأن نفي الغصب من غيره لا يوجب الغَصْبَ منه، وكذا لو قال: ما لزيد أكثر من مائة درهم؛ لأن نفي الزائد على المائة لا يوجب إثبات المائة. وفيه وجه آخر أنه إقرار بالمائة، ولو قال معسر: لفلان عَلَيَّ ألف درهم، إن رزقني الله مالاً، قيل: ليس بإقرار للتعليق. وقال: هو إقرار، وذلك بيان لوقت الأداء، والأصح أن يستفسر، فإن فسر بالتأجيل صح، وإن فسر بالتعليق لغا (¬1). ولو شهد عليه شاهد، فقال: هو صادق، أو عدل لم يكن مقرًا. وإن قال: صادق فيما شهد به، أو عدل فيه كان مقرًّا قاله في "التهذيب". ولو قال: إنْ شهد عليَّ فلان وفلان أو شاهدان بكذا، فهما صادقان. قال في "الحلية": فيه قولان. أصحهما: أنه إقرار، وإن لم يشهدا. وبه صاحب "التلخيص" في "المفتاح". والثاني: أنه ليس بإقرار لما فيه من التعليق، فإن قال: إن شهدا صدقتهما لم يكن مقرًّا؛ لأن غير الصادق قد يصدق (¬2). البَابُ الثَّانِي في الأَقَارِير المجملةِ قال الغزالي: (وَهِيَ سَبْعَة): (الأوَّلُ) إِذا قَالَ لِفُلاَنٍ: عَلَى شيءٍ يَقَبَلُ تَفْسِيرَهُ بِأَقَلِّ ¬
مَا يُتَمَوَّلُ (ح) لأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ، وَهَلْ يُقْبَلُ بِحَبَّةٍ مِنَ الحِنْطَةِ فيهِ خِلاَفٌ، وَهَلْ يُقبَلُ بِالْكَلْبِ وَالسِّرْجِينِ وَجِلْدِ المَيِتْةَ؟ فيهِ خِلاَفٌ، وَالأَظْهَرُ القَبُولُ لِأَنَّهُ شَيْءٌ؛ لاَزِمٌ، وَلاَ يُقْبَلُ بِالخَمْرِ وَالخَنْزِيرِ لأَنَّهُ لاَ يَلْزَم رَدُّهُمَا، وَلاَ يُقْبَلُ بِرَدِّ جَوَابِ السَّلاَمِ وَالعِيَادَةِ فَإنَّهُ لاَ مُطَالَبَةَ بِهِمَا، وإنْ قَالَ؛ غَصَبْتُ بِشيءٍ قُبِلَ بِالخمرِ وَالخِنْزِيرِ، وَلَوْ قَالَ لَهُ عِنْدِي شَيْءٌ لَمْ يُقْبَل بِالسَّلاَمِ لأَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ، وَفِيهِ وَجْهٌ. قال الرافعي: المقر به قد يكون مفصلاً، وقد يكون مجملاً مجهول الحال، وإنما احتمل فيه الإجمال؛ لأنه إخبار عن سوابق، والشيء يخير عنه مفصلاً تارة، ومجملاً تارة، ويخالف الإنشاءات، حيث لا تحتمل الجهالة، والإجمال في أغلبها احتياطًا لابتداء الثبوت، وتحرزًا عن الغرر، ولا فرق في الأقارير المجملة بين أن تقع ابتداءًا، أو في جواب دعوى معلومة، كما إذا ادعى عليه ألف درهم، وقال: لك علي شيء، والألفاظ التي تقع فيها الجهالة والإجمال لا حصر لها، فاشتغل الشَّافعي -رضي الله عنه- والأصحاب ببيان ما هو أكثر استعمالاً، ودورانًا على الألسنة ليعرف حكمهما، ويقاس بها غيرها. منها: إذا قال: لفلان علي شيء، رجعنا في التفسير إليه، فإن فسره بما يتمول قُبل قليلاً كان أو كثيراً كفلس ورغيف وتمرة، حيث يكون لها قيمة، وإن فسره بما لا يتمول، فإما أن يكون من جنس ما يتمول أو لا يكون، إن كان كحبة من الحِنْطَةِ والشَّعِيْرِ والسِّمْسِمِ وقمع الباذنجانة، ففيه وجهان: أحدهما: لا يقبل التفسير به؛ لأنه لا قيمة له، فلا يصح التزامه، بكلمة عليّ، ولهذا لا تصح الدعوى به. وأصحهما: القبول؛ لأنه شيء يحرم أخذه، وعلى من أخذه رده وقوله إن الدعوى به لا تسمع -ممنوع والتمرة الواحدة حيث لا قيمة لها من هذا القبيل. وعن القاضي: أن الخلاف فيها بالترتيب، وهي أولى بالقبول، وإن لم يكن من جنس ما يتمول، فإما أن يجوز اقتناؤه لمنفعة، أو لا يجوز. القسم الأول: الكلب المعلم، والسِّرجين، وجلد الميتة القابل للدباغ، ففي التفسير بها وجهان. أحدهما: لا يقبل؛ لأنها ليست بمال، وظاهر الإقرار المال. وأصحهما: القبول لأنها أشياء يثبت فيها الحق، والاختصاص، ويحرم أخذها،
ويجب ردها، ومن هذا القسم الخمر المحترمة والكلب القابل للتلعيم (¬1). ومثال الثاني الخمرة التي لا حرمة لها، والخنزير، وجلد الميتة، والكلب الذي لا منفعة به ففي التفسير بها وجهان، لكن الأصح هاهنا المنع، وهو الذي ذكره في الكتاب؛ لأنه ليس فيه حق واختصاص، ولا يلزم ردها. وقوله: على مقتضى ثبوت حق المقر له، ولو فسره بوديعة قبل؛ لأن عليه ردها عند الطلب, وقد يتعدى فيها فتكون مضمونة عليه. وروى الإمام رحمه الله وجهاً: أنه لا يقبل؛ لأنها في يده لا عليه، ولو أقر بحق الشفعة يقبل ذكره القاضي الرُّوَيانِيُّ، وبالعبادة ورد السلام لا يقبل؛ لأنه بعيد عن الفهم في معرض الإقرار إذ لا مطالبة بهما، والإقرار في العادة يجري بما يطلب المقر، ويدعيه. قال في "التهذيب": ولو قال له عليَّ حق قبل التفسير بهما، وظني أن الفرق بينهما عسير، وكيف لا والحق أخص من الشيء (¬2)؟ ويبعد أن يقبل تفسير الأخص بما لا يقبل به تفسير الأعم، وبتقدير أن يكون الأمر، كما ذكره، فينتقض التوجيه المذكور. وقوله في الكتاب: "ولا يقبل برد جواب السلام" -أخذ اللفظين من الرد والجواب كافٍ، والآخر زائد، ولو كان الإقرار بلفظ الغصب، فقال: غصبت منه شيئاً فيما يقبل تفسيره في الصورة السابقة، يقبل هاهنا بطريق الأولى، إِذا احتمله اللفظ، وهذا القيد لتخريج الوديعة، وحق الشفعة، ويقبل أيضاً بالخمر والخنزير، نص عليه في "الأم"؛ لأن الغَصْبَ لا يقتضي إلاَّ الأخذ قهرًا، وليس في لفظه ما يشعر بالتزام وثبوت حق، بخلاف قوله: عليَّ، ولو قال: له عندي شيء، فكذلك يقبل التفسير بالخمر والخنزير على المشهور؛ لأنه شيء مما عنده. ¬
وقال الشيخ أَبُو مُحَمَّدٍ: لا يقبل، واختاره الإمام، وصاحب الكتاب، ووجهوه بأن قوله: "عندي" يشعر بثبوت ملك أو حق، وللأولين أن يمنعوا ذلك، ويحتجوا عليه بانتظام قول القائل: لفلان عندي خمر أو خنزير، ثم لهم أن يدعوا مثل ذلك في قوله: غصبت مِنْ فلان (¬1). قال الغزالي: ثُمَّ إِن امَتْنَعَ عَنِ التَّفْسيْرِ حُبِسَ إِلى أَنْ يُفَسَّرَ عَلَى رَأْيٍ، وَجُعِل نَاِكلاً عَنِ اليَمِيِنَ عَلَىَ رأْي حَتَّى يَحْلِفَ المُدَّعي، فَلَوْ فُسِّرَ بِدِرْهَمٍ فَقَالَ المُدَّعيِ: بَلْ أَردَتُّ عَشَرَةً لَمْ يَقْبَلْ دَعوْى الإِرادَةِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَدَّعِي نَفسَ العَشَرَةِ، وَالقَوْلُ قَوْلُ المُقِرِّ فيِ عَدَمِ الإِرَادَةِ وَعَدَمِ اللُّزُومِ. قال الرافعي: عرفت أنه بم يقبل تفسير الإقرار بالشيء؟ وبم لا يقبل؟ وفي الفصل وردت مسألتان، لا اختصاص لهما بلفظ الشيء، بل يعمان سائر المبهمات، وإنما أوردها في هذا الموضع؛ لأن الإقرار بالشيء أول ما ذكره من الأقارير المجملة. المسألة الأولى: إذا أقر بمجمل، وطالبناه بالتفسير، فامتنع ففيه ثلاثة أوجه، جمعها الإمام رحمه الله: أظهرها: أنا نحبسه حبسنا إياه إذا امتنع من أداء الحق؛ لأن التفسير والبيان حق واجب. والثاني: أنه لا يحبس، بل ينظر إن وقع الإقرار المبهم في جواب دعوى، وامتنع عن التفسير جعل ذلك إنكارًا منه، وتعرض عليه اليمين، فإن أصر جعل ناكلاً عن اليمين، وحلف المدعي، وإن أقر ابتداء، قلنا للمقر له: ادعي عليه حقك، فإذا ادعاه، وأقر بما ادعاه، أو أنكر، فذاك، وأجرينا عليه الحكم. وإن قال: لا أدري، جعلناه منكراً، فإن أصر جعلناه ناكلاً، وذلك أنه إذا أمكن تحصيل الغرض من غير حبس لا يحبس والثالث، عن حكايته صاحب "التقريب": أنه إن أقر بِغَصْبٍ، وامتنع من بيان المغصوب، حبس، وإن أقر بدين مبهم، فالحكم كما ذكرنا في الوجه الثاني. وذكر أَبوُ عَاصِم العَبَّادِيُّ أنه إذا قال: عَلَيَّ، وامتنع من التفسير لم يحبس، وإن قال: علي شيء ثوبٌ أو فضة، ولم يبين يحبس. ¬
وأشار مَنْ شَرَحَ كلامه إلى أن الفرق مبني على قبول التفسير بالخمر والخنزير، فإنه لا يتوجه بذلك مطالبته وحبسه. الثانية: إذا فسر إقراره المبهم، بتفسير صحيح، وصدفه المقر له فذاك، وإلاَّ فليبين جنس الحق، وقدره، وَلْيَدَّعيه والقول قول المقر في نفية، ثم لا يخلو إِما أن يكون ما ادَّعَاه من جنس ما فَسَّره المقر، أو من غير جنسه، فإن كان من جنسه، كما إذا فسر إقرار بمائة درهم، وقال المقر له: لي عليه مائتان، فإن صدقه على إرادة المائة، فهي ثابتة بالاتفاق، ويحلف المقر على نفي الزيادة، ولو قال: أراد به المائتين حلف المقر على أنه ما أراد مائتين، وليس عليه إلاَّ مائة، ويجمع بينهما في يمين واحدة. وعن ابن المرزبان أنه لا بد من يمينين والمشهور الأول، فلو نكل حلف المقر له على استحقاق المائتين، ولا يحلف على الإرادة؟ لأنه لا يطلع عليها، بخلاف ما إذا مات المقر، وفسر الوارث، فادعى المقر له زيادة، حيث يحلف الوارث على نفي إرادة المورَّث؛ لأنه قد يطلع من حال مورثه على ما لا يطلع عليه غيره قال صاحب "التهذيب": ومثله لو أوصى بمجمل، ومات، فبينه الوارث زعم الموصى له أنه أكثر يحلف الوارث على نفي العلم باستحقاق الزيادة، ولا يتعرض للإرادة. والفرق أن الإقرار إخبار عن سابق، وقد يعرض فيه اطلاع، والوصية إنشاء أمر على الجهالة وبيانه: إذا مات الموصي إلى الوارث وأما إن كان ما ادعاه من غير جنس ما فسر به المقر، نظر إن صدقه في الإرادة، وقال هو ثابت لي عليه ولي عليه مع ذلك كذا ثبت المتفق عليه، والقول قول المقر في نفي غيره وإن صدقه في الإرادة وقال ليس لي عليه ما فسر به، إنما لي عليه كذا بطل حكم الإقرار برده، وكان مدعياً في غيره، وإن كذبه في دعوى الإرادة، وقال: إنما أراد ما ادعيته حلف المقر على نفي الإرادة، ونفي ما يدعيه، ثم إن كذبه في استحقاق المقر به بطل الإقرار فيه، وإلاَّ ثبت، ولو اقتصر المقر على نفي دعوى الإرادة، وقال: ما أردت بكلامك ما فسرته، وإنما أردت كذا، إما من جنس المقر به، أو من غيره لم يسمع منه ذلك؛ لأن الإقرار والإرادة لا يثبتان حقّاً له، الإقرار إخبار عن حق سابق، وعليه أن يدعي الحق لنفسه. وقال الإمام: وفيه وجه ضعيف أنه تقبل دعوى الإرادة المجردة، وهو كالخلاف فيمن ادعى على خصمه أنه أقر بألف درهم، هل تسمع منه أم عليه أن يدعي بعين الألف؟ وقوله في الكتاب: "لم تقبل منه دعوى الإرادة، بل عليه أن يدعي نفس العشرة ربما يفهم منه أن دعوى الإرادة لا التفات إليها أصلاً، وليس كذلك، وإنما المراد أنها وحدها غير مسموعة، فإما إذا ضم إليها دعوى الاستحقاق، فيحلف ليقر على نفيهما
فرع
على التفصيل الذي تبين، والذي اتفقت النقلة عليه، ويدل عليه من لفظ الكتاب قوله: "والقول قول المقر في نفي الإرادة، ونفي اللزوم" ولكن فيه كلام، وهو أنا حكينا في البيع وجهين، وهو أن المشتري إذا ادعى عيبًا قديماً بالمبيع، وقال البائع: بعته أو قبضته سليمًا، يلزمه أن يحلف كذلك، أم يكفيه الاقتصار على أنه لا يستحق به الرد؟ فليجيء هاهنا وجه أنه يكفيه نفس اللزوم، ولا يحتاج إلى التعرض للإرادة. فرع لو مات المبهم قبل التفسير طولب به الوارث، فإن امتنع فقولان: أحدهما: أنه يوقف مما ترك أقل ما يتمول. وأظهرهما: أنه يوقف الكل؛ لأن الجميع، وإنْ لم يدخل في التفسير، فهو مرتهن بالدَّيْن. قال الغزالي: (الثَّانِي) إِذَا قَالَ: عَلَيَّ مَالٌ تُقْبَلُ بأَقَلَّ مَا يُتَموَّلُ وَلاَ يُقْبَلُ بِالكَلْبِ وَجِلْدِ المَيْتَةِ، وَالأَظْهَرُ قَبُولُ المُسْتَوْلَدَةِ، وَلَوْ قَالَ: مَالٌ عَظِيمٌ أَوْ نَفِيسٌ أو كَثِيرٌ أَوْ مَالٌ وَأَيُّ مَالٍ كان، كَمَاَ لَوْ قَالَ: مَالٌ، وَحُمِلَ عَلَى عِظَمِ الرُّتْبةِ بِالإِضَافَةِ، فَلَوْ قَالَ: مَالٌ أَكْثَرُ مِنْ مَالِ فُلاَنٍ أَوْ مِمَّا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ علَى فُلاَنٍ قُبِلَ تَفِسيرُهُ بَما دُونَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الدَّيْنَ أَكْثَرُ بَقَاءً مِنَ العَيْنِ، أَوِ الحَلاَلَ، أكْثرُ مِنَ الحَرَامِ. قال الرافعي: في الفصل ثلاث صور: إحداها: إذا قال: له عَلَيَّ مال قُبِلَ تفسيره بأقل ما يتمول، ولا يُقبل بما ليس بمال، كالكلب، وجلد الميتة والوجه القبول بالتمرة الواحدة، ولو كان بحيث يكثر التمر. وتوجيهه أنه مال، وإن لم يتمول في ذلك الموضع، هكذا يذكره العراقيون، ويقولون: كل ما يتمول مال، ولا ينعكس، وتلتحق الحبة من الحِنْطَةِ بالتمرة الواحدة، وفي قبول التفسير بالمستولدة وجهان، حكاهما الشيخ أَبُو مُحَمَّدٍ: أظهرهما، وهو اختيار الشيخ: القبول؛ لأنه ينتفع بها، وتستأجر، وإن كانت لا تباع وإن فسر بوقف عليه، فيشبه أن يخرج على الخلاف في أن الملك في الوقف، هل للموقوف عليه. الثانية: إذا قال: عليَّ مال عظيم، أو كبير، أو كثير، أو جليل، أو نفيس، أو خطير، أو غير تافه، أو مال، وأي مال قُبل تفسيره بأقل ما يتمول؛ لأنه يحتمل أن يريد
به عظم خطره، يكفر مستحله، أو وزر غاصبه، والخائن فيه. وقد قال الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: أصل ما أبني عليه الإقرار ألا ألزم إلاَّ اليقين، وأطرح الشك، ولا أستعمل الغلبة (¬1). وعن أَبِي حَنِيْفَةَ -رحمه الله- أنه لا يقبل في العظيم والكثير بأقل من عشرة دراهم، ويروى مائتا درهم وساعدنا في الجليل والنفيس والخطير. وعن مالك -رحمه الله- أنه لا يقبل التفسير بأقل مما تقطع فيه يد السارق، وذهب بعض الأصحاب فيما حكاه القَاضِي الحُسَيْنُ وغيره إلى أنه يجب أن يزيد تفسير المال العظيم على تفسير مطلق المال ليكون لوصفه بالعظيم فائدة واكتفى بعضهم بالعظيم من حيث الجرم والجثة. ولو قال: عليَّ مال قليل، أو حقير، أو خسيس، أو طفيف، أو تافه، أو نذر، أو يسير، فهو كما لو قال: مال، وتحمل هذه الصفات على استحقار الناس إياه، أو على أنه فَانٍ زائل، فكثيره بهذا الإعتبار قليل، وقليله بالأعتبار الأول كثير. وقوله في الكتاب: "وحمل على عظم الرتبة بالإضافة" يجوز كان يريد به الإضافة إلى الوزر والعقو به، ويجوز أن يريد لإضافته إلى أحوال الناس، وطباعهم، فقد يستعظم الفقير ما يستحقره السري. الثالثة: قال: لزيد على مال أكثر مما لفلان قبل تفسيره، بأقل ما يتمول، وإن كثر ¬
مال فلان؛ يحتمل أن يريد به أنه دين لا يتطرق إليه الهلاك، وذلك عين متعرض الهلاك، أو يريد أن مال زيد عليَّ حلال، ومال فلان حرام، والقليل من الحلال أكثر بركة من الحرام، وكما أن القدر مبهم في هذا الإقرار، فكذلك الجنس والنوع مبهمان ولو قال: له عليَّ أكثر من مال فلان عددًا، فالإبهام في الجنس والنوع. ولو قال له: عليَّ من الذهب أكثر مما لفلان، فالإبهام في القدر والنوع، ولو قال: من صحاح الذَّهَب، فالإبهام في القدر والنوع، ولو قال: من الذهب فالإبهام في القدر وحده، ولو قال: لزيد على مال أكثر مما شهد به الشهود على فلان، قبل تفسيره بأقل ما يتمول أيضًا؛ لاحتمال أن يعتقد أنهم شهدوا زورًا، ويريد أن القليل من الحلال أكثر بركة ولو قال: أكثر مما قضى به القاضى على فلان فوجهان: أحدهما: أنه يلزمه القدر المقضى به؛ لأن قضاء القاضي محمول على الصدق والحق. وأظهرهما: أنه كما لو قال أكثر مما شهد به الشهود؛ لأن قضاء القاضي قد يستند إلى شهادة الزور، والحكم الظاهر لا يغير ما عند الله -تعالى- ولو قال: لفلان عليَّ أكثر مما في يد فلان، قبل تفسيره بأقل مما لو قال: من مال فلان، ولو قال: له على أكثر مما في يد فلان من الدراهم، لا يلزم التفسير من جنس الدراهم، لكن يلزمه بذلك العدد، من أي جنس شاء، زيادة بأقل ما يتمول، هكذا ذكره في "التهذيب"، لكنه يخالف ما سبق من وجهين: أحدهما: التزام ذلك العدد. والثاني: التزام زيادة عليه، فإن التأويل الذي تقدّم الأكثرية يتبعهما جميعًا، ولو قال: عليَّ من الدراهم أكثر مما في يد فلان من الدارهم، وكان في يد فلان ثلاثة دراهم. فجواب صاحب "التهذيب" أنه ثلاثة دراهم، وزيادة بأقل مما يتمول. والأظهر: ما نقله الإمام رحمه الله، وهو أنه لا يلزمه زيادة حملاً للأكثر على ما سبق، وحكى عن شيخه أنه لو فسر بما دون الثلاثة يقبل أيضًا، ولو كان في يده عشرة دراهم، وقال المقر: لم أعلم، وظننت أنها ثلاثة، قبل قوله مع يمينه. وقوله في الكتاب: "أو الحلال أكثر من الحرام" أي: أكثر بركة، أو رغبة، وما أشبه ذلك. قال الغزالي: (الثَّاِلثُ) إِذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ كَذَا فَهُوَ كَاِلشَّيءِ، وَإذَا قَالَ: كَذَا كَذَا دِرْهَمٍ فَهُوَ تَكْرَارٌ، وَلَوْ قَالَ: كَذَا دِرْهَمٍ (ح و) يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ كَذا وَكَذَا (ح) دِرْهَمٍ وَكَذَا وَلَوْ قَالَ: كَذَا وكَذَا دِرْهَمًا نَقَلَ المُزَنِيُّ رَحِمَهُ الله قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَاَ): أنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهُمَا
دِرْهَمَانِ (ح) (وَالثَّاني): أَنَّهُ دِرْهَمٌ (ح و) وَاحِدٌ، وَهَذَا في قَوْلِهِ: دِرْهَمًا بالنَّصْبِ، وَفي قَوْلهِ: دِرْهَمٌ بِالرَّفْعِ الأَصَحُّ أَنَّهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ. قال الرافعي: إذا قال: لفلان عليَّ كذا، فهو كما قال: شيء، ويقبل تفسيره بما يقبل به تفسير الشيء، ولو قال: كذا كذا، فهو كما لو قال: كذا، والتكرار للتأكيد، لا للتجديد، ولو قال: كذا وكذا، فعليه التفسير بشيئين مختلفين، أو متفقين، يقبل كل واحد منهما في تفسير "كذا"، من غير عطف، وكذا الحكم فيما لو قال: عليَّ شيء شي أو شيء شيء، ولو قال: عليَّ كذا درهمًا، يلزمه درهم واحد، وكان الدرهم تفسيرًا لما أبهم. وفي "النهاية" أن عند أبي حنيفة -رحمه الله- يلزمه عشرون، لأنه أول اسم مفرد ينتصب الدرهم المفسر عقبه، وأن أَبَا إِسْحَاَق الَمْروزِيَّ وافقه فيما إذا كان المقر عارفًا بالعربية. وأجاب الأصحاب في أن تفسير الألفاظ المبهمة لا ينظر إلى الإعراب ولا توازن المبهمات بالمبينات، بدليل أنه لو قال: عليَّ كذا درهم صحيح، لا يلزمه مائة درهم بالإتفاق (¬1)، وإن كانت الموازنه المذكورة تقتضى لزوم مائة، والتقييد بالصحيح لئلا يحمل على نصف درهم، أو ثلث درهم، لكن نقل البندنيجي أن الطَّحَاوِيَّ حكى عن بعض أصحاب أبي حنيفة (¬2) أنه يلزمه مائة درهم، والمشهور أنه لا يلزمه إلاَّ درهم واحد، كما هو قولنا، ولو قال: كذا درهم من غير صفة الصحة، فكذلك. وفيه وجه: أنه يلزم بعض درهم، وهو اختيار ابْنِ الصَّبَّاغِ ولو قال: كذا درهم بالرفع، فلا خلاف أنه يلزمه درهم واحد، ولو قال: كذا درهم، ووقف، كما لو ¬
خفض، ولو قال: كذا كذا درهمًا لم يلزمه أيضًا إلاَّ درهم. وقال أَبُو حَنِيْفَةَ رحمه الله: يلزمه أحد عشر درهمًا، ووافقه أَبُو إِسْحَاقَ في العالم بالعربية، ولو قال: كذا وكذا درهم أو درهم، فكذلك لا يلزمه إلاَّ درهم، ويجيء في الخَفْض الوجه الذي مَرَّ، ولو قال: عليَّ كذا وكذا درهمًا. قال في "المختصر": يعطيه درهمين؛ لأن كذا يقع على درهم، يعني: لما وصل الخمس بالدرهم، كان كل واحد من المعطوف والمعطوف عليه واقعًا على درهم، وكناية عنه، هكذا قال المزَنِيُّ. وقال في موضع آخر: إذا قال: عليَّ كذا وكذا درهمًا قيل: أعطه درهمًا أو أكثر من قبل أن كذا يقع على أقل من درهمين. وقوله: (أكثر) إذا فسر بأكثر من درهم لزمه، وإلاَّ فالدرهم تعيين ويروى في بعض النسخ المختصر وأكثر وأبي الشيخ أبو حامد ثبوته هذا ما نقله المُزَنِيُّ، واختلف الأصحاب في المسألة على طريقين: أشهرهما: أنه على قولين، وبه قال ابْنُ خَيْرَانَ وأبُو سَعِيدٍ. وأصحهما: أنه يلزمه درهمان؛ لأنه أقر بجملتين مبهمتين، وعقبهما بالدرهم منصوبًا والظاهر كونه تفسيرًا لها. والثاني: وهو اختيار المُزَنِيِّ: أنه لا يلزمه إلاَّ الدرهم لجواز أن يريد تفسير اللفظين معًا بالدرهم، وحينئذ يكون المراد من كل واحد نصف درهم. ومنهم من زاد قولاً ثالثًا، وهو أنه يلزمه درهم وشيء، فأما الدرهم فلتفسير الجملة الثانية. وأما الشيء، فلأن الأولى باقية على إبهامها، وهذا ينطبق على رواية مَنْ روى: أعطه درهمًا وأكثر. والطريق الثاني، وبه قال أبُو إِسْحَاقَ: القطع بأنه يلزمه درهمان، واختلفوا في نقل المُزَنِيِّ، والتصرف فيه من وجوه: أحدها: حمل ما نقل عن موضع آخر على ما إذا قال: كذا وكذا درهم بالرفع، كأنه يقول: وكذا والغرض أبهمه درهم. الثاني: أنه حيث قال: درهمان، أراد ما إذا أطلق اللفظ، وحيث قال: درهم أراد به ما إذا نواه، ويصرف اللفظ عن ظاهرة بالنية. والثالث: أنه حيث قال: درهم أراد ما إذا قال: كذا وكذا درهم، فشك أن الذي يلزمه شيئان أو شيء واحد. والرابع: أنه حيث قال: يلزمه درهم صور فيما إذا قال: كذا وكذا درهمًا. وقال أَبُو حَنِيْفَةَ رحمه الله: يلزمه أحد وعشرون درهمًا للموازنة السابقة، وبه قال
أَبُو إِسْحَاقَ في العارف بالعربية، وخصص اختلاف الطرق، وتفرق الأصحاب بغيره، ولو قال كذا وكذا درهم بالرفع فطريقان: أحدهما: طرد القولين؛ لأنه يسبق إلى الفهم أنه تفسير لهما وإن أخطأ في إعراب التفسير. وأصحهما: القطع بأنه لا يلزمه إلاَّ درهم واحد، لما سبق، وكذا لو قال: كذا وكذا درهم بالخَفْضِ لم يلزمه إلاَّ درهم واحد، ويمكن أن يخرج مما سبق أنه يلزمه شيء، وبعض درهم أو لا يلزمه إلاَّ بعض درهم، ولو قال: كذا وكذا وكذا درهمًا. فإن قلنا: لو ذكر مرتين لزمه درهمان، فهاهنا يلزمه ثلاثة. وإن قلنا: يلزمه درهم، فكذلك هاهنا. وإذا عرفت ما ذكرناه أعلمت قوله: "ثم كذا درهمًا يلزمه درهم واحد بالحاء والواو -كما ذهب إليه أبُو إِسْحَاقَ وكذا قوله: "ولو قال: كذا وكذا درهمًا". ويجوز إعلام قوله: فهما درهمان وقوله أنه درهم في مسألة كذا وكذا درهمًا بهما أيضًا. وقوله: "وهذا في قوله: درهمًا بالنصب" أي موضع القولين ذلك، فأما إذا رفع فأصح الطريقين القطع بلزوم درهم. قال الغزالي: وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ ودِرْهَمٍ فالألْفُ مُبْهَمٌ وَلَهُ تفسيره بِمَا شَاءَ، بِخِلافِ مَا لَوْ قَالَ: أَلْفٌ وَخَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، أَوْ أَلْفٌ ومائة وخَمْسَةٌ وِعِشْرُونَ دِرْهَمًا فَإِنَّ الدِّرْهَمَ لَمْ يثْبُتْ بِنَفْسِهِ فَكَانَ تَفْسِيرًا لِلْكُلِّ وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ وَنِصْفٌ فَفِي النِّصْفِ خِلاَفٌ. قال الرافعي: إذا قال: لفلان عليَّ ألف ودرهم أو دراهم، أو ألف وثوب، أو ألف وعبد، فهذا عطف مبين على مبهم، فله تفسير الألف بغير جنس المعطوف. وقال أَبُو حَنِيْفَةَ رحمه الله: إنْ كان المعطوف مكيلاً أو موزونًا أو معدودًا، يفسر الألف به، وإن كان متقومًا كالثوب، والعبد بقي على إبهامه. لنا القياس على ما سلمه، وعن مالك رحمه الله مثل مذهبنا. واختلف أصحاب أحمد: فمنهم: من ساعدنا. ومنهم: من قال: يفسر بالمعطوف بكل حال. ولو قال: خمسة عشر درهمًا، فالكل دراهم؛ لأنه لا عطف، وإنما هما اسمان جعلاً واحدًا، فالمذكور تفسير له. ولو قال خمسة وعشرون درهمًا، فظاهر المذهب أن الكل دراهم؟ لأن لفظ الدراهم فيه لا يجب به شيء زائد، بل هو تفسير لبعض الكلام، والكلام يحتاج إلى التفسير، فيكون تفسيرًا للكل.
وقال ابْنُ خَيرَانَ والإِصْطَخْرِيُّ: الخمسة مجملة، والعشرون مفسرة بالدراهم لمكان العطف، وعلى هذا الخلاف قوله: "مائة وخمسة وعشرون درهمًا" وقوله: ألف ومائة وخمسة وعشرون درهمًا، وألف وثلاثة أثواب ومائة وأربعة دنانير وقوله: مائة ونصف درهم. ولو قال: درهم ونصف أو عشرة دراهم ونصف، فوجهان أيضًا. قال الإصْطَخْريُّ وجماعة من الأصحاب: النصف مبهم؛ لأنه معطوف على ما تقدم، مفسر به، فلا يتأتى فيه. وقال الأكثرون: الكل دراهم: لجريان العادة به حتى إنه من قال: درهم ونصف درهم عد ذلك تطويلاً منه زائدًا على قدر الحاجة. ولو قال: نصف ودرهم، فالنصف مبهم، ولو قال: مائة وقفير حِنْطَة، فالمائة مبهمة، بخلاف قوله: مائة وثلاثة دراهم؛ لأن الدراهم تصلحُ تفسيرًا للكل والحنطة لا تصلح تفسيرًا للمائة؛ لأنه لا يصلح أن يقال: مائة حنطة، ولو قال: عليَّ ألف درهم برفعهما وتنوينهما فسر الألف بما لا تنقص قيمته عن درهم، كأنه قال: الألف مما قيمة الألف منه درهم والله أعلم بالصواب. قال الغزالي: (الرَّابعُ) إِذَا قَالَ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ يَلَزْمُهُ دِرْهَمٌ فِيهِ سِتَّةُ دَوَانِيقَ عَشَرَةٌ مِنْهَا تُسَاوِي سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ، وَهِيَ دَرَاهِمُ الإِسْلامِ، فَإِنْ فُسِّرَ بِالنَّاقِصِ في الوِزْنِ مُتَّصِلًا قُبِلَ (ح)، وَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلاً لَمْ يُقْبَلْ، إلاَّ إِذَا كَانَ التَّعَامُلُ بِهِ غَالِبًا ففِيهِ وَجْهَانِ، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ التَّفْسِيرُ بِالدَّرَاهِمِ المَغْشُوُشَهِ، وَلَوْ فُسِّرَ بِالفُلوُسِ لَمْ يُقْبَلْ بَحالٍ، وَكذَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ دُرَيْهماتٌ أَوْ دَرَاهِمُ صِغَارٌ وَفُسِّرَ بِالنَّاقِصِ لَمْ يُقْبَلْ، وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ دَرَاهِمُ يَلْزَمُهُ ثَلاثَةٌ. قال الرافعي: ذكرنا في الزكاة أن الدرهم الإسلامي المعتبر به نصب الزكاة والديات وغيرها عشرة من الدراهم سبع مثاقيل، وكل واحد منها ستة دَوَانِيْقَ، ونزيد الآن أن كل دَانِقٍ ثماني حبات، وخُمْسَا حبة، فيكون الدرهم الواحد خمسين حبة وخمسي حبة، والمراد من الحبة حبة الشعير المتوسطة التي لن تقشر، لكن قطع من طرفها ما دَقَّ وطال، والدينار اثنان وسبعون حبة منها، كذا نقل عن رواية أَبِي عُبَيْدٍ القَاِسمُ، وحكاه الخَطَّابِيُّ عن ابْنِ سُرَيْجٍ وفي "حلية" القاضي الروياني أن الدانق ثماني حبات، فعلى هذا يكون الدرهم ثمانية وأربعين حبة والله أعلم. إذا عرفت ذلك، ففي الفصل مسائل: إحداها: إذا قال: عليَّ درهم، أو ألف درهم، ثم قال: وهي ناقصة فدراهم "طبرية الشام" الواحد منها أربعة دَوانِيْقَ.
فأمَّا أن يتفق الإقرار في بلد دراهمه تامة، أو في بلد دراهمه ناقصة، إن كان الأول، فإما أن يذكره منفصلاً أو متصلاً، فإن ذكره متصلاً فطريقان. أصحهما: القبول، كما لو استثنى، وكأنه استثنى من كل درهم دَانِقَيْنِ. والثاني: وبه قال ابْنُ خَيْرَانَ: أنه على قولين، بناء على أن الإقرار هل يتبعض؟ وقد يوجه القبول بما سبق، والمنع بأن اللفظ صريح فيه، وما كل لفظ يتضمن نقصانًا يصلح للاستثناء، ألا ترى أنه لو قال: عليَّ ألف بل خمسائة يلزمه الألف، وإن ذكره منفصلاً لم يقبل، وعليه وزن درهم الإِسلام إلاَّ أن يصدقه المقر له؛ لأن لفظ الدراهم صريح في القدر المعلوم، وعرف البلد مؤيد له واختار القاضي الروياني أنه يقبل؛ لأن اللفظ محتمل له، والأصل براءة الذمة، وحكاه عن جماعة من الأصحاب، وهو غريب، وإن كان الثاني، فإن ذكره متصلاً قُبِلَ؛ لأن اللفظ والعرف يصدقانه، وإن ذكره منفصلاً فوجهان: أحدهما: لا يقبل، ويحمل مطلق قراره على وزن الإِسلام، وهذا كما أن نصب الزكاة لا تختلف باختلاف البلاد. وأظهرهما: وهو المحكي عن نصه: أنه يقبل حملاً لكلامه على نقد البلد؛ لأن العرف أثرًا بينًا في تقييد الألفاظ بأهل العرف، وصار كما في المعاملات، ويجري الخلاف فيما إذا أقر في بلد وزن دراهمه أكثر من وزن دراهم الإسلام، مثل "غزنة" (¬1) أنه يحمل إقراره على دراهم البلد، أو على دراهم الإسلام. إن قلنا: بالأول، فلو قال: عنيت دراهم الإسلام منفصلاً لم يقبل، وإن قاله متصلاً، ففيه الطريقان السابقان. والأصح: القبول مطلقًا؛ وقد ذكرنا فيه خلافًا إذا كان الإقرار في بلد وزن دراهمه كامل. وقوله: "وإن كان منفصلاً لم يقبل" يجوز إعلامه -بالواو- كما قاله الروياني. الثانية: الدراهم عند الإطلاق إنما تستعمل في النُّقرة فلو أقر بدراهم، وفسرها بالفلوس لم يقبل، والتفسير بالدراهم المغشوشة، كالتفسير بالناقصة؛ لأن نقرتها لا تبلغ وزن الدراهم، فيعود فيه التفصيل المذكور في الناقصة، ولو فسر بجنس رديء من الفضة، أو قال: أردت من سكّة كذا، وهي غير جارية في تلك البلد قُبِلَ، كما لو قال: عليَّ ثوب، ثم فسره بجنس رديء، أو بما لا يعتاد أهل البلد لُبْسه، ويخالف ما لو فسر بالناقصة؛ لأنه يرفع شيئًا مما أقر به وهاهنا بخلافه، ويخالف البيع حيث يحمل على ¬
سكّة البلد؛ لأن البيع إنشاء معاملة، والغالب أن المعاملة في كل بلدة تقع بما يروج فيها، ويتعامل الناس بها والإقرار إخبار عن سابق، ربما ثبت بمعاملة في تلك البلدة، وربما ثبت بغيرها، فوجب الرجوع إلى إرادته، ولأنه لا بد من صيانة البيع عن الجهالة، والحمل على ما يروج في البلد أصلح طريق تنتفي به الجهالة، والإقرار لا تجب صيانته عن الجهالة. وقال المُزَنِيُّ: لا يقبل تفسيره بغير سكّة البلد. وحكاه الشيخ أبُو حَاِمدٍ عن غيره من الأَصْحَابِ. الثالثة: إذا قال: عليَّ دريهم، أو دريهمات، أو درهم صغير، أو دراهم صغار، ففيه اضطراب رواية الذي ذكره الإمام -رحمه الله- وصاحب الكتاب أنه كما لو قال: درهم أو دراهم، فيعود في التفسير بالنقص التفصيل السابق، وليس التقييد بالصغر، كالتقييد بالنقصان؛ لأن لفظ الدراهم صريح في الوزن والوصف بالصغر يجوز أن يكون من حيث الشكل، ويجوز أن يكون الإضافة إلى الدراهم البغلية، وساعدهما صاحب "التهذيب" على ما ذكره في الدريهم، وقال في قوله: درهم صغير: إِن كان "بطبرية" لزمة نقد البلد، وإن كان ببلد ووزنه وزن "مكة" فعليه وزن مكة، وكذلك إن كان "بغزنة"؛ ولك أن تقول: الجواب فيما إذا كان "بطبرية" لا يلائم الجواب فيما إذا كان "بغزنة"؛ لأنه إما أن يعتبر اللفظ، أو عرف البلد، إن اعتبرنا اللفظ، فيجب الوزن بالطبرية، وإن اعتبرنا عرف البلد، فيجب نقد البلد نقرة. وقال الشيخ أَبُو حَاِمدٍ ومن تابعه: إذا قال: دريهم، أو درهم صغير لزمه درهم من الدراهم الطبرية؟ لأنها أصغر من دراهم الإسلام، وهي أصغر من البغلية على ما بينا في الزكاة، فهي صغر الصغيرين باليقين، فيؤخذ باليقين، ولم يفرق بين بلدة وبلدة، ويشبه أن يكون الأظهر من هذه الاختلافات ما تضمنه الكتاب ولأنا لا نفرق بين أن يقول: مال وبين أن يقول: مال صغير، وكذلك في الدراهم، وهو ظاهر ما ذكره في "المختصر". ولو قال: على درهم كبير، فعلى قياس ما في الكتاب، هو كما لو قال: درهم. ونقله الشيخ أَبُو حَامِد، وهو أفقه. وقال في "التهذيب": إن كان ببلد وزنه "مكة" أو "طبرية" لزمه وزن "مكة" وإن كان "بغزنة" لزمه من نقد البلد، وفيه الإشكال الذي ذكرناه. الرابعة: عرفت أن قدر الدرهم وجنسه ماذا أما من حيث العدد، فإذا قال: عليَّ دراهم يلزمه ثلاثة، ولا يقبل تفسيره بأقل منها، وكذلك لو قال: عليَّ دراهم كثيرة، أو عظيمة، ويجئ فيه الوجه المذكور في المال العظيم، والكثير، ولو قال: عليَّ أقل أعداد الدراهم لزمه درهمان؛ لأن العدد هو المعدود، وكل معدود متعدد، فيخرج عنه الواحد، ولو قال: عليَّ مائة درهم عددًا لزمه مائة درهم بوزن الإسلام صحاح.
قال في "التهذيب" ولا يشترط أن يكون كل واحد ستة دوانق، وكذلك في البيع، ولا يقبل المائة من العدد، ناقصة الوزن إلاَّ أن يكون نقد البلد عدده ناقصة، فظاهر المذهب القبول ولو قال: عليَّ مائة عدد من الدراهم، فهاهنا يعتبر العدد دون الوزن والله أعلم. قال الغزالي: وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ مِنْ وَاحِدٍ إِلىَ عَشَرَة فَالأَصَحُّ أَنَّهُ يَلَزَمُهُ تِسْعَةٌ، وَقِيلَ: ثَمانيَةٌ، وَقِيلَ عَشَرَةٌ، وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ فَي عَشَرَةٍ وَلَمْ يَرِدِ الحِسَابُ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلاَّ وَاحِدٌ. قال الرافعي: إحدى مسألتي الفصل إذا قال: له عليَّ من درهم إلى عشرة، ففيما يلزمه ثلاثة أوجه. أحدها: عشرة، ويدخل الطرفان فيه، كما يقال: من فلان إلى فلان لا يرضى أحد بكذا. والثاني: تسعة؛ لأن الملتزم زائد على الواحد، والواحد مبدأ العدد، والالتزام فيبعد إخراجه عما يلزمه. والثالث: ثمانية، ولا يدخل الطرفان، كما لو قال: بعتك من هذا الجدار إلى هذا الجدار، لا يدخل الجدران في البيع، والأول أصح عند صاحب "التهذيب". وقال الشيخ أَبُو حَامِدٍ والعراقيون: الأصح الثاني ووافقهم صاحب الكتاب، واحتج له الشيخ أبُو حَامِدٍ بأنه لو قال: لفلان من هذه النخلة إلى هذه النخلة، تدخل النخلة الأولى في الإقرار، دون الأخيرة، وما ينبغي أن يكون الحكم في هذه الصورة، كما ذكر بل هو كما لو قال: بعتك من هذا الجدار إلى هذا الجدار. وقوله في الكتاب: "ثمانية" و"عشرة" معلمان -بالحاء- لأن مذهب أبِي حَنِيْفَةَ -رحمه الله- كالوجه الثاني، وبه قال أَحْمَدُ رحمه الله. ولو قال: عليَّ ما بين درهم إلى عشرة، فالمشهور أنه يلزم ثمانية توجيهًا بأن "ما" بمعنى الذي كأنه قال: العدد الذي يقع بين الواحد والعشرة، وهو صريح في إخراج الطرفين، وذكر ابْنُ الحَدَّادِ حكاية عن نصه. ونقل في "المفتاح" عن النص أنه يلزمه تسعة، ووجه بأن الحد إذا كان من جنس المحدود يدخل فيه، فيضم الدرهم العاشر، إلى الثمانية. وحكى أبُو خَلَفٍ السلمِيَّ (¬1) عن القَفَّال أنه يلزمه عشرة، والمقصود بيان غاية ما ¬
عليه، فحصل في المسألة ثلاثة أوجه، كما في الصورة الأولى، ولم يفرقوا بين أن يقول: ما بين واحد إلى عشرة، وبين أن يقول: ما بين واحد وعشرة، وربما سووا بينهما، ويجوز أن يفرق ويقطع بالثمانية في الصيغة الأخيرة (¬1). الثانية: إذا قال: عليَّ درهم في عشرة إن أراد الظرف لم يلزمه إلاَّ واحد، وإن أراد الحساب، فعليه عشرة، وإن أراد المعية، فعليه أحد عشر درهمًا، وإن أطلق لم يلزمه إلاَّ واحد أخذًا باليقين، وفيما إذا قال: أنت طالق واحدة في اثنتين، في قول آخر أنه يحمل على الحساب، وإن أطلق؛ لأنه أظهر في الاستعمال، وذلك في القول عائد هاهنا، وإن لم يذكروه ولفظ الكتاب يفتقر إلى تأويل؛ لأنه حكم بأنه لا يلزمه إلاَّ واحد، إذا لم يرد الحساب، وله شرط، وهو أنه لا يريد المعية. قال الغزالي: (الخَامِسُ)، إِذَا قَالَ لَهُ عِنْدِي زَيْتٌ في جَرَّةٍ أَوْ سَيْفٌ في غِمْدٍ لا يَكُونُ مُقِرًا بِالظَّرْفِ (ح)، وَلَوْ قَالَ لَهُ عِنْدِي غِمْدٌ فِيهِ سَيفٌ أَوْ جَرَّةٌ فِيهَا زَيْتٌ لَمْ يَكُنْ مُقِرًا إِلاَّ بِالظَّرْفِ، وَعَلَى قِيَاسِ ذَلِكَ قَوْلُهُ فَرَسٌ في إِصْطَبْلٍ، وَحِمَارٌ عَلَى ظَهْرِهِ إِكَافٌ، وَعَمَامَةٌ في رَأَسِ عَبْدٍ وَنَظَائِرُهُ، وَلَو قَالَ: لَهُ عِنْدِي خَاتَمٌ وَجَاءَ بِهِ وَفيه فَصٌّ وقَالَ: مَا أَرَدتُّ الفَصَّ فَالظَّاهِرُ أنَّهُ لاَ يُقْبَلُ، وَلَوْ قَالَ: جَارِيَةٌ فَجَاءَ بِهَا وَهِي حَامِلٌ ففَي استِثنَاءِ الحَمْلِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: الإضافة إلى الظرف صور تبينها فصول، هذا النوع، والأصل المقرر فيها أن الإقرار بالمظروف لا يقتضي الإقرار بالظرف، وبالعكس أيضًا، وأصل هذا الأصل البناء على اليقين، فإذا قال: لفلان عندي زيت في جَرَّة أو سيف في غِمْدٍ لا يكون مقرًا بالجَرَّةِ، والغِمْد وكذا لو قال: ثوب في مِنّدِيْلِ أو تمرةٌ في جراب أو لبن في كُوزٍ أو طعام في سفينة، لاحتمال أن يريد في جرّة أو منْديل لي: غصبت زيتًا، ثم ¬
رأيناه في جرة لا يكون مقرًا إلاَّ بغصب الزيت، ولو قال: عندي غمد فيه سيف، أو جرة فيها زيت، أو جراب فيه تمر وسفينة فيها طعام فهو إقرار بالظرف دون المظروف، وعلى هذا القياس، وإذا قال: فرس في إصْطَبْلٍ، أو حمار على ظهره إكاف أو دابة عليها سَرْجٌ أو زِمام، أو عبد على رأسه عِمَامَةٌ أو في وسطه مِنْطَقَةٌ أو في رجليه خُفٌ فلا يكون مقرًا إلاَّ بالدابة والعبد. وعند أبي حنيفة الإقرار بالمظروف في الظَّرْفِ يكون إقرارًا بهما إذا كان مما يحرز في الظرف غالبًا كالزيت في الجرة والتمر في الجراب دون الفرس في الإصطبل (¬1). وقال صاحب "التلخيص": إذا قال: عبد على رأسه عمامة أو عليه قميص أو في رجله خف، فهو إقرار مع العبدِ، لأن العبد له يد على مَلْبُوسِهِ، وما في يد العبد فهو في يد سيده، فإذا أقر بالعبد للغير كان ما في يده لذلك الغير، بخلاف المنسوب إلى الفرس. وعامة الأصحاب على أنه لا فرق بينهما، وذكر الإمام رحمه الله أنه قال ذلك في "التلخيص". وفي "المفتاح" أجاب بما يوافق قول الجمهور، وهو وهم، بل جوابه في "المفتاح" كجوابه في "التلخيص". ولو قال: عندي دابة مُسْرَجَةٌ، أو دار مفروشة لم يكن مقرًا بالسرج، ولا الفرش، بخلاف ما لو قال: سرجها وفرشها، وبخلاف ما لو قال: ثوب مطرز؛ لأن الطِّرَاز جزء من الثوب ومنهم من قال: إن ركب عليه بعد النسج، فهو على وجهين، نذكرهما في أخوات المسألة، ولو قال: فَصٌّ في خاتم، فهو إقرار بالفَصّ دون الخاتم، ولو قال: خاتم فيه فص، ففي كونه مقرًا بالفص وجهان. أصحهما: ما ذكره في "التهذيب": أنه ليس بمقر لجواز أن يريد فَصّ لي، فصار كالصورة السابقة. والثاني: أنه يكون مقرًا بالفَصِّ، لأن الفص من الخاتم، حتى لو باعه دخل فيه، بخلاف تلك الصورة، ولو اقتصر على قوله: عندي خاتم، ثم قال بعد ذلك: ما أردت الفص، فقد ذكر صاحب الكتاب فيه وجهين. أحدهما: أنه يقبل منه؛ لأن اسم الخاتم يطلق مع نزع الفص. وأصحهما: الذي ينبغي أن يقطع به أنه لا يقبل؛ لأن الفص متناول باسم الخاتم، فهو رجوع عن بعض المقربة، ولو قال: حمل في بطن جارية لم يكن مقَّرًا بالجارية، وكذا لو قال: نَعلٌ في حَافِرِ دابة، وعُرْوَةٌ على قُمْقُمَةٍ. ¬
ولو قال: جارية في بطنها حمل، أو دابة في حافرها نعل وقُمْقُمَةٌ عليها عروة، فوجهان كما في قوله: خاتم فيه فص، ويشبه أن يترتب الوجهان في مسألة الكتاب على الوجهين، في صورة العمل، وهي ما إذا قال: هذه الجارية لفلان، وكانت حاملاً هل يتناول الإقرار الحمل؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما في البيع، وبه أجاب القَفَّالُ. وأظهرهما: لا، وله أن يقول: لم أرد العمل، بخلاف البيع؛ لأن الإقرار إخبار عن سابق، وربما كانت الجارية له دون العمل بأن كل العمل موصى به، وسلم القَفَّالُ أنه لو قال: هذه الجارية لفلان إلاَّ حملها يجوز، بخلاف البيع. فإن قلنا الإقرار بالجارية يتناول الحمل، ففيه الوجهان المذكوران في الصورة السابقة، وإلاَّ فيقطع بأنه لا يكون مقرًا بالحمل، كما إذا قال: جارية في بطنها حمل، ولو قال: ثمرة على شجرة لم يكن مقرًا بالشجرة، ولو قال: شجرة عليها ثمرة، فليرتب ذلك على أن الثمرة هل تدخل في مطلق الإقرار بالشجرة؟ وهي لا تدخل بعد التَّأْبِيْرِ، كما في البيع. وفي "فتاوى القَفَّالُ" أنها تدخل، وهو بعيد وقبل التأبير وجهان: أظهرهما: وهو الذي أطلقه في "التهذيب" أنها لا تدخل أيضا لأن الاسم لا يتناولها في البيع والبيع ينزل على المعتاد، وذكر القَفَّالُ وغيره لضبط الباب أن ما يدخل تحت البيع المطلق يدخل تحت الأقارير ومالا فلا. قال القَفَّالُ: إلاَّ الثمار المؤبرة وما ذكرنا من المسائل يقتضي أن يقال في الضبط ما لا يتبع في البيع، ولا يتناوله الاسم [فهو غير داخل وما يتبع ويتناول فهو داخل وما يتبع ولا يتناوله الاسم (¬1)] ففيه وجهان. وقوله في الكتاب؛ "لا يكون مقَّرًا بالظرف" معلم -بالحاء- لأن عند أبي حنيفة رحمه الله الإقرار -بالمظروف في الظرف إقرار بهما، إذا كان ذلك مما يحرز في الظرف غالبًا، كالتَّمْر في الجراب، والزيت في الجرة، بخلاف الفرس في الإصْطَبْلِ. قال الغزالي: وَلَوْ قَالَ: أَلْفٌ في هَذَا الكِيسِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ لَزِمَهُ الأَلْفُ، فَإِنْ كَانَ الأَلْفُ نَاقِصًا يَلْزَمُهُ الإِتْمَامُ عِنْدَ القَفَّالُ، وَلا يَلْزَمُهُ عِنْدَ أَبِي زَيْدٍ لِلْحَصْرِ، وَلَوْ قَالَ: الأَلْفُ الَّذِي في الكِيسِ لاَ يَلْزَمُهُ الإِتْمَامُ، فَإِنْ لَمْ يَكُن فِيهِ شَيءٌ فَهَلْ يَلْزَمُهُ الأَلْفُ؟ فَوجْهَانِ. ¬
قال الرافعي: إذا قال عليَّ ألف في هذا الكيس لزمه، سواء كان فيه شيء، أو لم يكن فيه شئ أصلاً؛ لأن قوله "عليَّ" يقتضي اللزوم، ولا يكون مقرًا بالكيس على ما عرفت، وإن كان فيه دون الألف ففيه وجهان. قال الشيخ أبو زيد: لا يلزمه إلاَّ ذلك القدر لحصر المقر به. وقال القَفَّالُ: يلزمه الإتمام، كما أنه لو لم يكن فيه شيء يلزمه الألف، وهذا أقوى، ولو قال: عليَّ الألف الذي في هذا الكيس، فإن كان فيه دون الألف لم يلزمه إلاَّ ذلك القدر لجمعه بين التعريف والإضافة إلى الكيس. وعن رواية الشيخ أبي عليَّ وجه آخر ضعفوه: أنه يلزمه الإتمام، ويمكن أن يخرج هذا على الخلاف في أن الإشارة تقدم أم اللفظ، وإن لم يكن في الكيس شيء، ففيه وجهان، ويقال: قولان بناء على ما إذا حلف ليشربن ماء من هذا الكوز، ولا ماء فيه، هل تنعقد يمينه، ويحنث أم لا؟. قال الغزالي: وَلَوْ قَالَ: لَهُ في هَذَا العَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ إَنْ فُسِّرَ بأَرْشِ الجِنَايَةِ قُبِلَ، وَإِنْ فُسِّرَ بِكَوْنِ العَبْدِ مَرْهُونًا، فَالأَظْهَرُ أَنَّهُ يُقْبَلُ، وَلَوْ قَالَ: وَزْنٌ في شِرَاءِ عُشْره أَلْفًا، اشْتَرَيْتُ جَمِيعَ البَاقِي بِأَلْفٍ قُبِلَ، وَلا يَلْزَمُهُ إِلاَّ عُشْرُ العَبْدِ. قال الرافعي: إذا قال: لفلان في هذا العبد ألف درهم، فهذا لفظ مجمل، فيسأل عنه إن قال: أردت أنه جنى عليه، أو على ماله جناية أرشها ألف قُبِلَ، وتعلق الألف برقبته، وإن قال أنه رهن عنده بألف عليَّ، ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقبل؛ لأن اللفظ يقتضي كون العبد محلاًّ للألف، ومحل الدَّين الذمة لا المرهون، وإنما المرهون وثيقة له، وعلى هذا فإذا نازعه المقر له، وأخذناه بالألف الذي ذكره في التفسير، وطالبناه للإقرار الجملي بتفسير صالح. وأظهرهما: القبول؛ لأن الدَّين، وإن كان في الذمة، فله تعلق ظاهر بالمرهون، فصار كالتفسير بأرش الجناية ولو قال: إنه [وزن في شراء عشرة مثلاً ألفًا، وأنا اشتريت الباقي بألف، أو بما دون الألف قُبِلَ؛ لأنه محتمل، ولا يلزمه بهذا الإقرار إلاَّ عشر العبد، وإن قال: أردت أنه (¬1)] وزن في ثمنه ألفًا، قيل له هل وزنت شيئًا؟ فإن قال: لا، فالعبد كله للمقر له وإن قال: نعم سئل عن كيفية الشراء أكان دفعة واحدة أم لا؟ فإن قال: كان دفعة واحدة، سئل عن قدر ما وزن، فإن قال: وزنت ألفًا أيضًا فالعبد بينهما بالسوية، وإن قال: وزنت ألفين، فثلثا العبد له، والثلث للمقر له، وعلى هذا ¬
القياس، ولا نظر إلى قيمته خلافًا لمالك رحمه الله، حيث قال: لو كان العبد يساوي ألفين، وقد زعم أنه وزن ألفين، والمقر له ألفًا يكون العبد بينهما بالسوية، ولا يقبل قوله: إني وزنت ألفين في ثلثه، وقد يعبر عن مذهبه بأن المقر له من العبد ما يساوي ألفًا وإن قال: اشتريناه دفعتين، ووزن في شراء عشرة مثلاً ألفًا وأنا اشتريت تسعة أعشاره بألف قُبل؛ لأنه يحتمل، ولو قال: أردت به أنه أوصي له بألف من ثمنه قُبِلَ البيع ودفع إليه ألف من ثمنه، وليس له دفع الألف من ماله، وإن فسرنا به دفع إليه الألف ليشتري له العبد، ففعل فإن صدقه المقر له، فالعبد له، وإن كذبه فقد رد إقراره بالعبد، وعليه رد الألف الذي أخذه، وإن قال: أردت أنه أقرضه ألفًا فصرفته إلى ثمنه قُبِلَ، ولزمه الألف، وتوجيه الخلاف المذكور فيما إذا فسره بالرهن يقتضى عوده هاهنا، ولو قال: له عليَّ من هذا العبد ألف درهم، فهو كما لو قال: في هذا العبد، ولو قال: من ثمن هذا العبد (ألف درهم) فكذلك ذكره في "التهذيب"، ولو قال: عليَّ درهم في دينار، فهو كما قال: ألف في هذا العبد فإن أراد النفي معه لزماه. قال الغزالي: وَلَوْ قَالَ: لَهُ في هَذَا المَالِ أَلْفٌ أَوْ فِي مِيرَاثِ أَبِي أَلْفٌ لَزِمَهُ، وَلَوْ قَالَ: لَهُ في مَالِي أَلْفٌ أَوْ في مِيرَاثِي مِنْ أَبِي أَلْفٌ لَمْ يَلزَمْهُ لِلتَّنَاقُضِ. قال الرافعي: قال الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- في "المختصر": لو قال: له في ميراث أبي ألف درهم كان إقرارًا منه على أبيه بدين، ولو قال له في ميراثي من أبي ألف درهم كانت هبة إلاَّ أن يريد إقرارًا، وما الفرق قيل: الفرق إنه في الصورة الثانية أضاف الميراث إلى نفسه، وما يكون له لا يصير لغيره بالإقرار فكان كما لو قال: داري أو مالي لفلان، وفي الأولى لم يضف الميراث إلى نفسه، فكان مقرًا بتعلق الألف بالتركة، وهذا ما أشار إليه صاحب الكتاب بقوله: للتناقض، ولك أن تمنع التناقض بين إضافة الميراث إلى نفسه، وبين تعلق دين الغير به، فإن تركة كل مديون مملوكة لورثته على الصحيح، والدَّين يتعلق بها. وقال الأكثرون: الفرق أنه إذا قال: في ميراث أبي، فقد أثبت حق المقر له في التركة، وذلك لا يحتمل إلاَّ شيئًا واجبًا، فإن التبرعات التي لا تلزم ترتفع بالموت، ولا تتعلق بالتركة. وإذا قال: في ميراثي من أبي، فقد أضاف التركة إلى نفسه، ثم جعل للمقر شيئًا، منهما وأضافة إليه، وذلك قد يكون بطريق لازم، وقد يكون بطريق التبرع. وإذا فسر بالتبرع قُبِلَ، واعتبر فيه شرطه. وعن صاحب "التقريب" الإشارة إلى التسويه بين الصورتين، كأنه نقل وخرج، فإن كان كذلك جاز إعلام قوله في الكتاب: "أو في ميراث أبي ألف -بالواو- والمذهب
المشهور الفرق بمثله، لو قال: له في هذه الدار نصفها، فهو إقرار، وإن قال: له في داري نصفها، فهو وعد هبة. حكاه الشيخ أَبُو عَلِيّ عن النص أيضًا، واشتهر عن نصه أنه لو قال: له في مالي ألف درهم كان إقرارًا، ولو قال: من مالي كان وعد هبة، لا إقرارًا، وهذا الموضع البحث فيه من وجهين: أحدهما: أن هذا النص في قوله: في مالي يخالف ما نقلناه في قوله: في ميراثي، وفي داري، فما حال هذه النصوص؟. والثاني: أنه لما فرق بين "في" و"من"؟ وهل المذهب الظاهر ما نص عليه أم الأول؟ فللأصحاب طريقان، فيما إذا قال: في مالي ألف درهم. منهم من قال: فيه قولان: أحدهما: أنه وعد هبة، لإِضافة المال إلى نفسه. والثاني: أنه إقرار؛ لأن قوله له يقتضي الملك وبوعد الهبة لا يحصل الملك. ومنهم من قطع بأنه وعد هبة، وحمل ما روي عن النص الأخير على خطأ النساخ، وربما تأوله على ما إذا أتى بصيغة التزام، فقال: عليَّ في مالي ألف درهم، فإنه يكون إقرارًا على ما سيأتي، وإذا أثبتنا الخلاف فعن الشيخ أَبِي علي أنه يطرد فيما إذا قال: في داري نصفها، وامتنع من طرده فيما إذا قال: في ميراثي من أبي. وعن صاحب "التقريب" وغيره أنه يلزمه تخريجه فيه بطريق الأولى؛ لأن قوله: في ميراثي من أبي أولى بأن يجعل إقرارًا من قوله: في مالي، أو في داري، لأن التركة مملوكة للورثة، مع تعلق الدَّين بها، فيحسن إضافة الميراث إلى نفسه مع الإقرار بالدَّين، بخلاف المال والدار. وأما الثاني، فمنهم من قال: لا فرق، ولم يثبت هذا النص أو أوله، ومنهم مَنْ فرق بأن في تقتضي كون مال المقر ظرفًا لمال المقر له، وقوله: "من مالي" يقتضي الفَصْل والتبعيض، وهو ظاهر في الوعد بأنه يقطع شيئًا من ماله فإذا فرقنا بينهما لزمه مثله في الميراث، والدار لا محالة، والظاهر أنه لا فرق بينهما وأن الحكم في قوله: "في مالي" كما ذكرنا - أولاً في ميراثي. وليستبعد الإمام -رحمه الله- أن تخريج الخلاف فيما إذا قال: له في داري نصفها؛ لأنه إذا أضاف الكل إلى نفسه لم ينتظم الإقرار ببعضه، كما لا ينتظم منه الإقرار بكله بأن يقول: داري لفلان، وتخصص طريقة الخلاف بما إذا لم يكن المقر به جزءًا من مسمى ما أضافه إلى نفسه، كقوله: في مالي ألف درهم، أو في داري ألف، ولا
يخفى عليك مما ذكرنا حاجة قوله في الكتاب "لم يلزمه للتناقض" إلى الاعلام -بالواو- وحيث قلنا في هذه الصورة: إنه وعد هبة، لا إقرار، فذلك لم يذكر كلمة "التزام". فأما إذا ذكر بأن يقول: عليّ ألف درهم في هذا المال، أو في مالي أو في ميراث أبي، أو في ميراثي [أو داري أو عبدي أو في هذا العبد فهو إقرار بكل حال، ولو قال: له في ميراثي (¬1)] عن أبي أو في مالي كذا بحق لزمني، أو بحق ثابت؛ وما أشبهه، فهو كما لو قال: عليَّ فيكون إقرارًا بكل حال، ذكره ابن القاصَّ والشيخ أبو حامد وغيرهما. واعلم أن قضية قولنا: إن قوله عليَّ في هذا المال، أو في هذا العبد ألف درهم إقرارًا له بالألف، وإن لم يبلغ ذلك المال ألفًا. وربما يخطر ذلك الخلاف المذكور، فيما إذا قال: لفلان على ألف في هذا الكيس، وكان فيه دون الألف، إلا أن ظرفية العبد للدراهم ليست كظرفية الكيس لها، فيمكن أن يختلفا في الحكم، لكن لو قال: في هذا العبد ألف درهم من غير كلمة "عليَّ"، وفسره بأنه أوصى له بألف من ثمنه، فلم يبلغ ثمنه ألفًا، فلا ينبغي أن يجب عليه تتمة الألف بحال والله أعلم بالصواب. قال الغزالي: (السَّادِسُ) إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ لَمْ يَلْزَمُهُ إلاَّ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ لاِحْتِمَالِ التَّكْرَارِ وَلَو قَالَ: دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ أَوَ دِرْهَمٌ ثُمَّ دِرْهَمٌ لَزِمَهُ دِرْهَمَانِ لامْتِنَاعِ التَّكْرَارِ، وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ مَعَ دِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمٌ تَحْتَ دِرْهَمٌ أَوْ فَوْقَ دِرْهَمٍ لا يَلْزَمُهُ إِلاَّ وَاحِدٌ تَقْدِيرُهُ مَعَ دِرْهِمٌ لِي بِخِلافِ نَظِيرِهِ مِنَ الطَّلاقِ، لَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ قَبْلَ دِرْهَمٍ أَوْ بَعْدَ دِرْهَمٍ لَزِمَهُ دِرْهَمَانِ إِذِ التَّقَدُّم وَالتأخرُ لا يُحْتَمَلُ إِلاَّ في الوُجُوبِ، وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ ودِرْهَمٌ وقَالَ: أَرَدَتُّ بِالثَّالِثِ تَكْرَارَ الثَّاني قُبِلَ، وَلَوْ قَالَ: أَردتُّ بالثَّالِثِ تَكْرَارَ الأَوَّلَ لَمْ يُقْبَلْ لِتَخَلُّل الفَاصِلِ، وَكَذَا في قَوْلِهِ: طَالِقٌ وطَالِقٌ وطَالِقٌ، فإِذَا أطلق ففي الطَّلَاقَ قَوْلاَنِ: (أَحَدَهُمَا): يَلْزمَهُ ثَلاثَةٌ لِصُورَةِ اللَّفْظِ. (وَالثَّانِي): ثِنْنَانِ لِجَرْيِ العَادَةِ في التِّكْرَارِ، والأَظْهَرُ في الإِقْرَار أَنَّهُ يَلْزَمُهُ عِنْدَ الإِطْلاقِ ثَلاثَةٌ لأنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ قَبُولِ التأَكِيدِ اعْتِيادًا، وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ قَالَ: أنتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ يَقَعُ طَلْقَتَانِ، وتَقْدِيرُ الإِقْرَارِ فَدِرْهَمٌ لَازِمٌ، وَقِيلَ بِتَخْرِيجٍ فِيهِ مِنَ الطَّلاَقِ، وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ بَلْ دِرْهَمَانِ فَدِرْهَمَانِ، وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ بَلْ دِينَارَانِ فَدِرْهَمٌ ودِينَارَانِ، إِذْ إِعَادَةُ الدرهمِ في الدِّينَارِ غَيْرُ مُمْكِن. قال الرافعي: في الفصل صور نذكرها مع ما يناسبها، وإن احتجنا إلى تقديم وتأخير، فعلناه. ¬
الأولى: لو قال: له عليَّ درهم درهم درهم لم يلزمه إلاَّ درهم واحد، لاحتمال إرادة التأكيد بالتكرار، وكذا لو كرر عشرًا فصاعدًا، ولو قال: درهم ودرهم أو درهم ثم درهم لزمه درهمان لاقتضاء العطف المغايرة. ولو قال: درهم ودرهم ودرهم لزمه بالأول والثاني درهمان. وأما الثالث، فإن أراد به درهمًا آخر لزمه. وإن قال: أردت به التكرار الثاني قُبِلَ، ولا يلزمه إلاَّ درهمان، وإن قال: أردت به تكرار الأول، فوجهان ذكرهما في "النهاية": وأظهرهما: وهو المذكور في الكتاب: أنه لا يقبل، ويلزمه ثلاثة لأن التكرار إنما يؤكد به إذا لم يتخلل بينهما فاصل، وهذا الحكم فيما إذا قال أنت طالق وطالق وطالق، ففي الطلاق قولان، ينظر في أحدهما إلى صورة اللفظ، وفي الثاني إلى احتمال التكرار، وجريان العادة وسيعود ذكرهما في "الطلاق" وفي الإقرار طريقان. قال ابْنُ خَيْرَانَ: إنه على قولين في الطلاق. وقطع الأكثرون بأنه يلزمه ثلاثة، وفرقوا بأن دخول التأكيد في الطلاق أكثر منه في الإقرار؛ لأنه لا يقصد به التخويف، والتهديد، ولأنه يؤكد بالمصدر، فيقال: هي طالق طلاقًا، والإقرار بخلافه، وعلى هذا لو كرر عشر مرات، أو أكثر لزمه من الدراهم بعدد ما كرر، ولو قال عليَّ درهم، ثم درهم ثم درهم، فهو كما لو قال: درهم ودرهم ودرهم ولو قال: درهم ودرهم ثم درهم، لزمه ثلاثة لا محالة. الثانية: إذا قال: على درهم مع درهم، أو معه درهم، أو فوق درهم، أو فوقه درهم أو تحت درهم، أو تحته درهم. فرواية المُزَنيَّ في "المختصر" أنه لا يلزمه إلاَّ درهم واحد لجواز أن يريد مع درهم لي، أو فوق درهم لي، وأيضًا فقد يريد فوقه الجودة، وتحته الرداءة بهذه الرواية أخذ أكثر الأصحاب، وهي التي أوردها في الكتاب. ووراء هذا. مذهبان للأصحاب: أحدهما: أنه يلزمه درهمان، واختلف القائلون به فمن ناسب له إلى النص في رواية الربيع ومن قائل: إنه مخرج، واختلف هؤلاء، فقيل: هو مخرج من الطلاق، فإنه لو قال: أنت طالق طلقة مع طلقة أو فوق طلقة تقع طلقتان. وقيل: هو مخرج مما لو قال: على درهم قبل درهم، فإنه يلزمه درهمان كما سيأتي. ومن قال بالأول، فإنه اعتذر عن قوله: قبل درهم، وأما الطلاق فالفرق أن لفظه الصريح موقع فإذا أنشاه عمله، والإقرار إخبار عن سابق، فإذا كان فيه إجمال روجع حتى يبين أنه عما أخبر.
والمذهب الثاني: قال الدَّارِكِيُّ: إِن قال: درهم معه درهم، أو فوقه درهم لزمه درهمان لرجوع الكتابة إلى الأول الذي التزمه، ولو قال: درهم عليَّ، عليه درهم، أو عليَّ درهم، فهو كما لو قال: فوقه درهم، أو فوق درهم، ولو قال: عليَّ درهم قبل درهم أو قبله درهم أو بعده درهم أو بعده درهم، فرواية الْمُزَنِيِّ، وبها أجاب الأكثريون أنه يلزمه درهمان، بخلاف الصورة السابقة. والفرق أن الفوقية والتحتية، يرجعان إلى المكان ويتصف بهما نفس الدرهم [والقبلية والبعدية يرجعان إلى الزمان ولا يتصف بهما نفس الدرهم] (¬1)، فلا بد من أمر يرجع إليه التقديم والتأخير، وليس ذلك إلاَّ الوجوب عليه. وفيه قول آخر: أنه لا يلزمه إلاَّ درهم، منهم من حكاه نصًا عن رواية الربيع. ومنهم من خرّجه من الصورة السابقة، وسَوَّى بينهما جميعًا، فجعلهما على قولين، ولمن قاله أن يقول: القبلية والبعدية، كما يكونان بالزمان يكونان بالرتبة، وغيرهما، ثم هب أنهما زمانيان، وأن نفس الدرهم لا يتصف بهما، لكن يجوز رجوعهما إلى غير الواجب بأن يريد درهمًا مضروبًا قبل درهم، وما أشبهه، ثم هب أنهما راجعان إلى الواجب، لكن يجوز أن يريد لزيد درهم وجب له قبله وجوب درهم لعمرو. وفي المسألة وجه آخر أيضًا عن ابْنِ خَيْرَانَ وغيره: أنه إن قال: قبله درهم أو بعده درهم لزمه درهمان، وإن قال: قبل درهم أو بعد درهم لم يلزمه إلاَّ درهم واحد؛ لاحتمال أن يريد قبل لزوم درهم، أو بعد درهم كان لازمًا. وقوله في الكتاب: "لا يلزم إلاَّ واحد" يجوز إعلامه مع الواو بالحاء والألف. أما الحاء، فلأن عند أبي حنيفة -رحمه الله- يلزم درهمان، فيما إذا قال فوق درهم وأما الألف فلان عند أحمد يلزمه في جميع الصور درهمان. الثالثة: له عليَّ، أو عندي درهم فدرهم، إن أراد العطف لزمه درهمان، وإلاَّ فالنص أنه لا يلزمه إلاَّ درهم، ونص فيما إذا قال: أنت طالق فطالق، أنه يقع طلقتان، فنقل ابْنُ خَيْرَانَ الجواب من كل واحدة إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: يلزمه ودرهمان يقع طلقتان، لأن "الفاء" حرف عطف "كالواو" و"ثم". والثاني: لا يلزمه إلاَّ درهم واحد، ولا يقع إلاَّ طلقة؛ لأن "الفاء" قد تستعمل لغير العطف، فيؤخذ باليقين (¬2). ¬
وذهب الأكثرون إلى تقرير النصين، وفرقوا بوجهين: أحدهما: أنه يحتمل في الإقرار أن يريد فدرهم لازم، أو فدرهم أجود منه، ومثل هذا لا يقدح في الطلاق. والثاني: أن الطلاق انشاء والإقرار إخبار، والإنشاء أقوى وأسرع نفوذًا، ولهذا لو أقر اليوم بدرهم لا يلزمه إلاَّ درهم، وغدا بدرهم لا يلزمه إلاَّ درهم ولو تلفظ بالطلاق في اليومين وقعت طلقتان، وهذا أظهر في المذهب، لكن لابْنِ خَيْرَانَ أن يمنع الفرق الأول ويقول: يجوز أن يريد فطالق مهجورة، أو لا تراجع، ويجوز أن يريد فطالق حرمتك وما أشبهه. وأما الثاني: فإنه يناقض الفرق المذكور في مسألة درهم ودرهم وطالق وطالق. وقوله في الكتاب: "يلزمه درهم واحد" معلّم -بالحاء والألف- لأن عندهما يلزمه درهمان. وقوله: "يقع طلقتان" يجوز إعلامه -بالواو- لأنه لم يذكر طريقة النقل والتخريج بتمامها، حتى يستغني عن الإعلام، وإنما ذكر التخريج من الطلاق في الإقرار. ورأيت في بعض الشروح أن ابْنَ أبِي هُرَيْرَةَ -حكى قولاً منصوصًا للشافعي -رضي الله عنه- أنه يلزمه درهمان، ويتأيد هذا القول منصوصًا كان أو مخرجًا بما إذا قال: درهم ودرهم، فإنه يلزمه درهمان، ولا يمتنع فيه مثل التقديرات المذكورة في "الفاء"، ولو قال: عليَّ درهم فقفيز حنطة، فلا يلزمه إلاَّ درهم، أو ويلزمانه جميعًا، فيه هذا الخلاف. وذكر أبُو العَبَّاسِ الرّويَانِيُّ في "الجُرْجَانِيَّاتِ" أن قياس ما ذكرناه في الطلاق أنه إذا قال: بعتك بدرهم فدرهم، يكون بائعًا بدرهمين؛ لأنه إنشاء. الرابعة: قال عليَّ درهم، بل درهم لم يلزمه إلاَّ درهم لجواز أن يقصد الاستدراك، فيتذكر أنه لا حاجة إليه، فيعيد الأول ولو قال: درهم لا بل درهم ولكن درهم، فكذلك ولو قال: درهم لا بل درهمان أو قفيز حنطة لا بل قفيزان لم يلزمه إلاَّ درهمان وقفيزان؛ لأن "بل" للاستدراك، ولا يمكن أن يكون المقصود هاهنا نفي المذكور أولاً لاشتمال الدرهمين على الدرهم والقفيزين على القفيز، وإنما المقصود في الاقتصاد على الواحد، وإثبات الزيادة عليه، وهذا يشكل بما إذا قال: أنت طالق طلقة، بل طلقتين فإنه يقع الثلاثة، ولا أدري لِمَ يتصرفوا فيهما هاهنا تصرفهم فيما سبق من المسائل؟ ثم ما ذكرناه مفروض فيما إذا أرسل ذكر المقر به أما إذا قال: له عندي هذا القفيز، بل هذان القفيزان لزمه الثلاث؛ لأن القفيز المعين لا يدخل في القفيزين
المعينين، وكذلك لو اختلف جنس الأول والثاني مع الإرسال بأن قال: عَلَيَّ درهم، بل ديناران. أو قفيز شعير لزمه الدرهم والديناران، أو قفيز حنطة بل قفيز الحنطة وقفيز الشعير لأن الأول غير داخل في الثاني، فهو راجع عن الأول مثبت للثاني والرجوع لا يقبل، وما أقر به ثانيًا يلزمه، ولو قال: درهمان بل درهم أو عشرة، بل تسعة يلزمه الدرهمان والعشرة؛ لأن الرجوع عن أكثر لا يقبل، ولا يدخل الأقل فيه، ولو قال: دينار بل ديناران بل ثلاثة، يلزمه ثلاثة ولو قال: دينار بل ديناران، بل قفيز بل قفيزان، لزمه ديناران وقفيزان، ولو قال: دينار وديناران، بل فقفيز وقفيزان، فثلاثة دنانير وثلاثة أقفزة وقس على ما ذكرنا ما شئت. قال الغزالي: (السابع) إِذَا قَالَ: يَوْمَ السَّبْتِ عَلَيَّ أَلْفٌ وَقَالَ ذَلِكَ يَوْمَ الأَحَدِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلاَّ أَلْفٌ وَحِدٌ، إلاَّ أَنْ يُضِيفَ إِلَي سَبَبيْنِ مُخْتَلِفيَنْ، فَلَوْ أَضَافَ أَحَدَهُما إِلَي سَبَبٍ وَأَطْلَقَ الآخَرَ نُزِّلَ المُطْلَقُ عَلَى المُضَافِ، وَكَذَلِكَ لوَ قَامَتِ الحُجَّةُ عَلَى إِقْرَارَيْنِ بتَارِيِخَيْنِ جُمِعَ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ بِلُغَتَيِنْ إِحْدَاهُمَا بِالعَجَمِيَّةِ وَالأُخْرَى بِالعَرَبِيَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَالأَصَحُّ أَنَّهُ يَجْمَعُ نَظَرًا إِلى المُخْبَرِ عَنْهُ، وَفي الأَفْعَالِ لاَ يَجْمَعُ أَصْلاً. قال الرافعي: القول الجملي في الفصل أن تكرير الإقرار لا يقتضي تعدد المقر به؛ لأن الإقرار إخبار ألا ترى أنه يحتمل فيه الإبهام؟ ولو كان إنشاء لما احتمل، وتعدد الخبر لا يقتضي تعدد المخبر عنه، فيجمع إلاَّ إذا عرض ما يمنع الجمع، والتنزيل على واحد، فحينئذ يحكم بالمغايرة، وفيه مسألتان: إحداهما: إذا أقر لزيد يوم السبت بألف، وأقر له يوم الأحد بألف، لم يلزمه إلا ألف واحد، سواء اتفق الإقراران في مجلس واحد، أو مجلسين، وسواء كتب به صكًّا، وأشهد عليه شهودًا على التعاقب، أو كتب صكًّا بألف، وأشهد عليه، ثم كتب صكًّا بألف وأشهد عليه. وبه قال: مالك وأحمد رحمهما الله خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله فيما إذا كتب صكين، وأشهد عليهما، وفيما إذا أقر في مجلسين، ومن أصحابه من لا يفرق بين المجلس والمجلسين، ولو أقر في أحد اليومين بالألف، وفي الآخر بخمسمائة دخل الأقل في أكثر، ولو أقر [مرة بالعربية وأخرى بالعجمية لم يلزمه إلاَّ واحد، ولا اعتبار باختلاف اللغات والعبارات] (¬1). وإذا لم يمكن الجمع كما إذا أقر في يوم السبت ألف ¬
من ثمن عبد، ويوم الأحد بألف من ثمن جارية، أو قال مرة: صحاح، ومرة مكسرة لزمه الألفان، ولم يجمع، وكذا لو قال: قبضت منه يوم السبت عشرة، ثم قال: قبضت منه يوم الأحد عشرة، أو طلقتها يوم السبت طالقة، ثم قال: طلقتها يوم الأحد طلقة، ولو قال: يوم السبت طلقتها طلقة ثم أقر يوم الأحد بطلقتين، لم يلزمه إلا طلقتان، ولو أضاف أحد الإقرارين إلى سبب أو وصف الدراهم بصفة، أو أطلق الإقرار الآخر نزل المطلق على المضاف لا مكانة. وقوله في الكتاب: "وكذلك لو قامت الحجة على الإقرارين بتاريخين جمع بينهما" كان الغرض منه الإشارة إلى تكرير الإشهاد والصك لا تأثير له وإلا فالحجة على الإقرارين لا تفيد إلا ثبوت الإقرارين وقد تبين في أول الفصل أن تعدد الإقرار لا يوجب تعدد المقر به والله أعلم. المسألة الثانية: لو شهد شاهد على أنه أقر يوم السبت بألف أو بغصب [دار وشهد شاهد آخر على أنه أقر يوم الأحد بألف أو بغصب تلك الدار] (¬1) لفقنا بين الشهادتين، وأثبتنا الألف والغصب؛ لأن الإقرار لا يوجب حقًا بنفسه؛ إنما هو إخبار عن ثابت، فينظر إلى المخبر عنه، وإلى اتفاقهما على الإخبار عنه، وكذا لو شهد أحدهما على إقراره بألف بالعربية، والآخر على إقراره بالعجمية، ولو شهد شاهد على أنه طلق يوم السبت، وآخر على أنه طلقها يوم الأحد، لم تثبت شهادتهما؛ لأنهما لم يتفقا على شيء واحد، وليس هو إخبار حتى ينظر إلى المقصود، والمخبر عنه. وعن صاحب "التقريب" أن من الأصحاب من جعل الإقرارين والطلاقين على قولين بالنقل والتخريج. قال الإمام رحمه الله أما التخريج من الطلاق في الإقرار، فهو قريب في المعنى، وإن بعد في النقل؛ لأن الشاهدين لم يشهدا على شيء واحد، بل شهد هذا على إقرار، وشهد ذاك على إقرار آخر، والمقصود من اشتراط العدد في الشهادة زيادة التوثق والاستظهار، وإذا شهد كل واحد على شيء لم يحصل هذا المقصود فاتجه ما ألا يحكم بقولهما. وأما التخريج من الإقرار في الطلاق، فبعيد نقلاً ومعنى؛ لأن من طلق اليوم، ثم طلق غدًا، والمرأة رجعية، فزعم أنه أراد طلقة واحد، لم يقبل منه، فكيف يجمع بين شهادة شاهد على طلاق اليوم وشهادة آخر على طلاق الغد [ويجرى التخريج على ضعفه في سائر الإنشاءات وفي الأفعال كالقتل والقبض وغيرهما والمذهب ¬
فرع
الأول] (¬1) حتى لو شهد أحدهما أنه قذف يوم السبت أو بالعربية، والثاني على أنه قذف يوم الأحد، أو بالعجمية، لم يثبت بشهادتهما شيء، أو شهد أحدهما على إقراره بأنه يوم السبت قذف، أو بالعربية قذفه، والثاني على إقراره بأنه يوم الأحد قذفه، أو بالعجمية قذفه، فلا تلفيق أيضًا؛ لأن المقر به شيئان مختلفان، وقد قطع به الشيخ؛ أَبُو مُحَمَّدٍ. ولو شهد شاهد بألف من ثمن مبيع، وآخر بألف من قرض، أو شهد أحدهما بألف استقرضه يوم السبت، وآخر بألف استقرضه يوم الأحد لم تثبت شهادتهما، لكن للمدعي أن يعين أحدهما، ويستأنف الدعوى عليه، ويحلف مع الذي شهد له، وله أن يدعيهما، ويحلف مع كل واحد من الشاهدين، وإن كانت الشهادتان على الإقرار شهد أحدهما أنه أقر بألف من ثمن مبيع، وشهد الثاني على إقراره بألف من قرض، ففي ثبوت الألف وجهان: الظاهر: أنه لا يثبت أيضًا، وربما بنو الوجهين على الوجهين فيما إذا ادعى عليه ألفًا من ثمن مبيع، فقال المدعى عليه: لك عليَّ ألف، ولكن من قرض، هل يحل للمدعي أخذ الألف لاتفاقهما عليه أو لاختلافهما في الجهة؟. إن قلنا: اختلاف الجهة يمنع الأخذ لم يثبت الألف، وإلاَّ ثبت. ولو ادعى ألفا فشهد أحد الشاهدين على أنه ضمن ألفًا، والثاني على أنه ضمن خمسمائة، ففي ثبوت خمسمائة قولان عن ابْنِ سُرَيْجٍ، وهذا قريب من التخريج المذكور في الإنشاءات، أو هو هو. ولو شهد أحد شاهدي المدعى عليه أن المدعي استوفى الدَّين، والآخر على أنه أبرأه فلا يلفق على المذهب، ولو شهد الثاني أنه بريء إليه منه. قال أبو عَاِصمٍ العبَّادِيِّ: يلفق؟ لأن إضافة البراءة إلى المديون عبارة عن إيفائه، وقيل بخلافه. فرع أورده في هذا الموضوع: ادعى على رجل ألفين، وشهد له شاهد بألفين وآخر بألف، ثبت الألف، وله أن يحلف مع الذي شهد بالألفين، ويأخذ الكل، وكذا الحكم لو كانت الشهادتان على الإقرار. وقال أَبُو حَنِيْفَةَ رحمه الله: لا تثبت الألف وسلم أنه لو شهد أحدهما بثلاثين، والآخر بعشرين ثبتت العشرون، كالألف والألفين. ¬
وفيه وجه لأن لفظ "الثلاثين" لا يشتمل على "العشرين"، ولفظ "الألفين" يشتمل على "الألف" وربما يسمع أحد الشاهدين بالألف، وغفل عن الآخر، ولو ادعى ألفًا، فشهد له شاهد بألف، والآخر بألفين، فالثاني شهد بالزيادة قبل أن يستشهد ففي مصيره بذلك مجروحًا وجهان، إن لم يصر مجروحًا، فشهادته في الزيادة مردودة، وفي المدعي قَوْلاَ تبعيض الشهادة. وقطع بعضهم بثبوت الألف، وخص الخلاف بالتبعيض بما إذا اشتملت الشهادة على ما يقتضي الرد، كما شهد لنفسه ولغيره. فأما إذا زاد على المدعي، فقوله في الزيادة ليس بشهادة، بل هو كما لو أتى بلفظ الشهادة في غير مجلس الحكم. وإن قلنا: إنه يصير مجروحًا، فقد ذكر في "التهذيب" أنه يحلف مع شاهد الألف، ويأخذه. قال الإمام رحمه الله تعالى: إنه على هذا الوجه بما يصير مجروحًا في الزيادة، فأما الألف المدعى، فلا جرح في الشهادة عليه، لكن إذا ردت الشهادة في الزائد، كانت الشهادة في المدعي على قولي التبعيض، فإن لم نبعضها فلو أعاد الشهادة بألف قبلت لموافقتها الدعوى، وهل يحتاج إلى إعادة الدعوى؟. قال فيه وجهان: أظهرهما: المنع، ونختم الباب بخاتمتين: إحداهما: في فروع لائقة بالباب. منها: لو أقر بجميع ما في يده، أو نسب إليه صح، فلو تنازعا في شيء أنه هل كان في يده يومئذ؟ فالقول قول المقر، وعلى المقر له البينة، ولو قال: ليس لي مما في يدك إلاَّ ألف صح، وعمل بمقتضاه، ولو قال: لا حق لي في شيء مما في يد فلان، ثم ادعى شيئًا منه وقال: لم أعلم كونه في يده في يوم الإقرار صدق بيمينه. ولو قال: لفلان عليَّ درهم أو دينار لزمه أحدهما، وطولب بالتعيين. وعن رواية الشيخ أَبِي عَلِي وجه ضعيف: أنه لا يلزمه شيء: ولو قال: عليَّ ألف، أو على زيد، أو على عمرو لم يلزمه شيء، وكذا لو قال على سبيل الإقرار: أنت طالق أولاً، فإن ذكره في معرض الإنشاء طلقت، كما لو قال: أنت طالق طلاقًا لا يقع عليك. ولو قال: عليَّ ألف درهم، وإلاَّ لفلان عليَّ ألف دينار لزمه، وهذا للتأكيد،
والإِقرار المطلق يلزمه، ويؤاخذ به المقر على المذهب المشهور، وخرج فيه وجه: أنه لا يلزمه حتى يسأل المقر عن سبب اللزوم؛ لأن الأصل براءة الذمة، والإقرار ليس موجبًا في نفسه، وأسباب الوجوب مختلف فيها، فربما ظن ما ليس بموجب موجبًا، وهذا كما أن الجرح المطلق لا يقبل، وكما أنه لو أقر بأن فلانًا وارثه، لا يقبل حتى يبين جهة الوراثة، ولو قال: وهبت منك كذا، أو خرجت منه إليك لم يكن مقرًّا بالقبض لجواز أن يريد الخروج منه بالهبة. وعن القَفَّالِ الشاشى أنه مقر بالقبض؛ لأنه نسب إلى نفسه ما يشعر بالإقباض بعد المفروغ منه، ولو أقر الآن بعين مال لابنه، فيمكن أن يكون مستند إقراره ما يمنع الرجوع، ويمكن أن يكون مستنده مالاً يمنع، وهو الهبة، فهل له الرجوع عن أقضى القضاة الماوردي وأبي الطيب أنهما أفتيا بثبوت الرجوع تنزيلاً للإقرار على أضعف الملكين، وأدنى السببين، لما ينزل على أقل المقدارين. وعن الشيخ العَبَّادِيِّ أنه لا رجوع؛ لأن الأصل بقاء الملك للمقر له، ويمكن أن يتوسط، فيقال: إن أقر بانتقال الملك منه إلى الابن، فالأمر كما قال القاضيان، وإن أقر بالملك المطلق، فالأمر كما قال العَبَّادِيُّ: ولو أقر في وثيقة بأنه لا دعوى له على فلان، ولا طلب بوجه من الوجوه، ولا سبب من الأسباب، ثم قال: إنما أردت في عمامته أو قميصه، لا في داره. قال القاضي أبُو سَعِيدٍ بن أبي يوسف: هذا موضع تردد، والقياس أنه يقبل؛ لأن غايته تخصيص عموم، وهو محتمل. الثانية: المقر به المجهول قد تمكن معرفته من غير رجوع إلى المقر وتفسيره، وذلك بأن يحيله على معروف، وذلك ضربان: أحدهما: أن يقول له: عليَّ من الدراهم بوزن هذه الصنجة، أو بالعدد المكتوب في كتاب كذا، أو بقدر ما باع به فلان عبده، وما أشبه ذلك، فيرجع إلى ما أحال عليه. الثاني: أن يذكر ما يمكن استخراجه بالحساب، فمن أمثلته مسالة "المفتاح" وهو أن يقول: لزيد عليَّ درهم إلاَّ نصف ما لابنه عليَّ ولابنيه عليَّ ألف إلاَّ ثلث ما لزيد عليَّ ولمعرفته طرق: أحدها: أن يجعل لريد شيئًا، ويقول للإبنين ألف إلاَّ ثلث شيء، فيأخذ نصفه وهو خمسمائه إلاَّ سدس شيء، ويسقط من الألف يبقى خمسمائة وسدس شيء، وذلك يعدل شيئًا، فالمفروض لزيد لأنه جعل له ألفًا إلاَّ نصف ما لابنه، فسقط سدس شيء لسدس شيء يبقى خمسة أسداس شئ في مقابلة خمسمائة، فيكون الشيء التام ستمائة،
وهو ما لزيد، فهذا أخذت ثلثها، وهو مائتين، وأسقطته من الألف، فبقي ثمانمائه، وهي ما أقر به للاثنين. والثاني: أن يجعل لزيد ثلاثة أشياء لاستثنائه الثلث منه، ويسقط ثلثها من الألف المضاف إلى الإبنين فيكون لهما ألف ناقص شيء، ثم تأخذ نصفه، وهو خمسمائة ناقصة بنصف شئ، وتزيده على ما فرضناه لزيد، وهو ثلاثة أشياء تكون خمسمائة وستين ونصف شئ، وذلك يعدل الألف درهم، فسقط خمسمائة بخمسمائة تبقى خمسمائة في مقابلة ستين ونصف شيء، فيكون الشيء ما بين، وقد كان لزيد ثلاثة أشياء فهي إذًا ستمائة. الثالث: أن تقول: استثنى من أحد الإقرارين النصف، ومن الآخر الثلث، فيضرب مخرج أحدهما في مخرج الآخر يكون ستة، ثم ينظر في الجزء المستثنى من الإقرارين، وكلاهما واحد، فتضرب واحدًا في واحد يكون واحدًا تنقصه من الستة يبقى خمسة، فتحفظها وتسميها المقسوم عليه، ثم تضرب ما يبقى من مخرج كل واحد من الجزءين بعد إسقاطه في مخرج الثاني، وذلك بأن تضرب ما يبقى في مخرج النصف بعد النصف وهو واحد في مخرج الثلث، وهو ثلاثة يحصل ثلاثة تضربها في الألف المذكور في الإقرار يكون ثلاثة آلاف تقسمها على العدد المقسوم عليه، وهو خمسة يخرج نصيب الواحد، وهو ستمائة وهو ما لزيد، وتضرب ما يبقى في مخرج الثلث بعد الثلث، وهو اثنان في مخرج النصف، وهو اثنان يكون أربعة تضربها في الألف يكون أربعة آلاف تقسمها على الخمسة يخرج من القسمة ثمانمائة فهو ما للإبنين. ولو قال: لزيد عليَّ إلا ثلثي ما لعمرو، ولعمْرو وعشرة إلا ثلاثة أرباع ما لزيد، تضرب المخرج في المخرج، يحصل اثنا عشر، ثم تضرب أحد الجزئين في الباقي وهو اثنين في ثلاثة يكون ستة تسقطها من اثني عشر، يبقى ستة تضرب الباقي في مخرج الثلث بعد إخراج الثلثين، وهو واحد في أربعة، يكون أربعة تضربها في العشرة المذكورة في الإقرار، يكون أربعين تقسمها على الستة، يكون ستة وثلثين، وذلك ما أقر به لزيد، ثم تضرب واحد، وهو الباقي في مخرج الربع بعد إخراج الأرباع الثلاثة، يكون ثلاثة تضربها في العشرة، يكون ثلاثين تقسمها على الستة، يكون خمسة وهو ما أقر به لعمرو، والطريقان الأَولان يجريان في أمثال هذه الصور بأسرها. وأما الطريق الثالث فإنه لا تطرد فيما إذا اختلف المبلغ المذكور في الإقرارين، وتخرج فيما إذا كانت الأقارير ثلاثة فصاعدًا، مثل أن يقول: لزيد عشرة إلاَّ نصف ما لعمرو ولعمرو عشرة، إلاَّ ثلث ما لبكر ولبكر عشرة إلاَّ ربع ما لزيد إلى تطويل لا يؤثر ذكره في هذا الموضع. ولو قال: لزيد عليَّ عشرة إلاَّ نصف ما لعمرو، ولعمرو ستة إلاَّ ربع ما لزيد
الباب الثالث، في تعقيب الإقرار بما يرفعه
يكون مقرًّا لزيد بثمانية، ولعمرو بأربعة، ولو قال: لزيد عليَّ عشرة إلاَّ نصف ما لعمر، ولعمرو عشرة إلا ربع ما لزيد كون مقرًّا لزيد بخمسة وخمسة أسباع، ولعمرو بثمانية، وأربعة أسباع وقد يصور صدور كل إقرار من شخص بأن يدعى مالاً على زيد وعلى عمرو، فيقول زيد: لك عليَّ عشرة إلاَّ نصف مالك على عمرو، ويقول عمرو: لك عليَّ عشرة إلاَّ ثلث ما على زيد فطريق الحساب لا يختلف والله أعلم بالصواب. البَابُ الثَّالِثُ، في تَعِقْيبِ الإِقْرَارِ بِمَا يَرْفَعُهُ قال الغزالي: وَلَهُ صُوَرٌ: (الأُولَى) إِذَا قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ من ثُمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مِنْ ضَمَانِ شَرْطٍ فيه الخِيَارُ فَفي لُزُومِهِ قَوْلاَنِ يَجْرِيَانِ في تَعْقِيبِ الإِقْرَارِ بِمَا يَنْتَظِمُ لفَظًا في العَادَةِ وَيَبْطُلُ حُكْمُهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ إِنْ سَلَّمَ سَلَّمْتُ، فَعَلَي قَوْلٍ لا يُطَالَبُ إِلاَّ بِتَسْليِمِ العَبْد، وَعَلَى قَوْلٍ يُؤَاخَدُ بِأوَّلِ الإِقْرَارِ، وَلَوْ قَالَ: أَلْفٌ لا يَلْزَمُ يَلْزَمُهُ لأَنَّهُ غَيْرُ مُنتْظِم، وَقِيلَ قَوْلانِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ قَضَيْتُهُ فَالأَصَحُّ أنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَقِيلَ قَوْلانِ، وَلَوْ قَالَ: أَلْفٌ إِنْ شَاءَ اللهُ فَالأَصَحُّ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ، وَقِيلَ قَوْلانِ، وَلَوْ قال: أَلْفٌ مُؤَجَّلٌ فَالأَصَحُّ أنَّهُ لا يُطالَبُ في الحَالِ، وَقِيلَ: قَوْلاَنِ، وَلَوْ ذَكرَ الأَجَلَ بَعْدَ الإِقْرَارِ لَمْ يُقْبَلْ، وَلَوْ قَالَ: أَلْفٌ مُؤَجَّلٌ مِنْ جِهَةِ تَحَمُّلِ العَقْل قُبِلَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَوْ قَالَ: مِنْ جِهَةَ القَرْضِ لَمْ يُقْبَل قَوْلاً وَاحِدًا وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَلْفٌ إِنْ جَاَء رأْسُ الشَّهْرِ فَهُوَ عَلَى القَوْلَيْنِ إِذْ وَقَعَ لُزوُمُ الإقْرَارِ بِالتَّعْليِقِ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَعَلَيَّ أَلْفٌ لَمْ يَلْزَمْهُ أَصْلاً، لأَنَّ الإِقْرَارَ المُعَلَّقَ بَاطِلٌ (الثَّانِيَةُ) إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ ثُمَّ جَاءَ بِأَلْفٍ وَقَالَ: هُوَ وَدِيعَةٌ عِنْدِي قُبِلَ، لأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ أَنْ يكَوُنَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالتَّعدِّي وَكَانَ لاَزِمًا عَلَيْهِ، وَلا يُقْبَلُ قَوْلُهُ في سقُوُطِ الضَّمَانِ لَوِ ادَّعَى التَّلَفَ بَعْدَ الإِقْرَارِ، وَفِيِه قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُ لا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بالوَدِيعَةِ أَصْلًا فَيَلْزَمُهُ أَلْفٌ آخَرُ، وَهُوَ أَظْهَرُ فِيما إِذَا قَالَ: عَلَيَّ وَفي ذمَّتي أَوْ قَالَ: أَلْفٌ دَيْنًا. قال الرافعي: تعقيب الإقرار بما ينافيه إما بالأسْتِثْنَاءِ (¬1)، أو غيره. ¬
والثاني: ينقسم إلى ما يرفعه أصلاً، إلى غيره. والأول: ينقسم إلى ما لا ينتظم لفظًا، فيلغوا، وإلى ما ينتظم، فإِن كان مفصولاً لم يقبل، وإن كان موصولاً، ففيه خلاف والثاني إن كان مفصولاً لا يقبل أيضًا، وإن كان وصولاً ففيه خلاف بالترتيب هذا عقد الباب، وإذا مرت بك مسائله عرفت أن كل واحدة من أي قبيل هي؟ وأما الاستثناء، فسيأتي حكمه. فمن المسائل إذا قال: لفلان عليَّ من ثمن خَمْرِ أو كَلْبٍ، أو خِنْزِيرٍ، نظر إن وقع قوله: من ثمن خمر منفصلاً عن قوله: عليَّ ألف لم يقبل ولزمه الألف، وإن كان موصولاً، ففيه قولان: أحدهما وهو اختيار المُزَنِيِّ وأبِي إِسْحَاق: أنه يقبل، ولا يلزمه شيء؛ لأن الكل كلام واحد، فيعتبر بآخره، ولا يتبعض ولأن الإقرار إخبار عما جرى، وهذه المعاملات
على فسادها جارية بين الناس، فعلى هذا اللمقر له تحليف المقر إنه كان من ثمن خمر أو خنزير، وأصحهما عند العراقيين وغيرهم أنه لا يقبل ويلزم الألف (¬1) ويبعض كلامه. والثاني: لا يقبل، فيعتبر أوله، ويلغى آخره، لأنه وصل بإقرار ما يرفعه، فأشبه ما إذا قال: عليَّ ألف لا تلزمني أو فصل -قوله: عن ثمن خمر عن الإقرار، وبهذا قال أبو حنيفة -رحمه الله- فعلى هذا لو قال المقر: كان ذلك من ثمن خَمْرٍ، وظننته لازمًا، فله تحليف المقر له على نفيه، ويجري القولان فيما إذا وصل بإقراره ما ينتظم لفظه في العادة، ولكنه يبطل حكمه شرعًا إذا أضاف المقرّ به إلى بيع فاسد، كالبيع بأجل مجهول، وخَيار مجهول وقال: تكفلت ببدن فلان، بشرط الخيار أو ضمنت لفلان، كذا بشرط الخيار، وما أشبه ذلك، وفي كلام الأئمة -رضي الله عنهم- ذكر مأخذين لهذا الخلاف. أحدهما: بناه على القولين في تبعيض الشهادة، إذا شهد لابنه وأجنبي، ولك أن تقول: هذا لا يشبه مسألة الشهادة، لأن الشهادة للأجنبي، والشهادة للابن أمران لا تعلق لأحدهما بالآخر، وإنما قرن بينهما الشاهد لفظًا، والخلاف فيها شبيه بالخلاف في تفرق الصَّفقة [وأما هاهنا، فالمذكور أولاً مستند إلى المذكور آخرًا، ولكنه فاسد في نفسه، مفسد للأول، ولهذا] (¬2) لو قدم ذكر الخمر، فقال: لفلان عليَّ من ثمن الخمر ألف لم يلزمه شيء بحال، وفي الشهادة لا فرق بين أن يقدم ذكر الابن أو الأجنبي، ثم هب أنهما متقاربان، لكن ليس بناء الخلاف في الإقرار على الخلاف في الشَّهادة بأولى من القلب، والعكس. والثاني: أنه يجوز بناء هذا الخلاف على الخلاف في حد المدعي، والمدعى عليه. إن قلنا: المدعي من لو سكت ترك، فهاهنا لو سكت عن قوله: من ثمن خمر لترك، فهو بإضافته إلى الخَمْر مدعٍ، فلا يقبل قوله، ويحلف المقر له. وإن قلنا: المدير من يدير أمرًا باطنًا، قبل قول المقر؛ لأن الظاهر معه، وهو براءة الذمة، والمقر له هو الذي يدعي أمرًا باطنًا، وهو زوال أصل البراءة، ولك أن تقول: لو صَحَّ هذا البناء لما اقترن الحال بين أن يضيفه إلى الخمر موصولاً، أو مفصولاً، ولوجب أن يخرج التعقب بالاستثناء على هذا الخلاف. ¬
وقال الإمام -رحمه الله- بعد ذكر القولين: كنت أود لو فصل بين أن يكون المقر جاهلاً بأن ثمن الخمر لا يلزم، وبين أن يكون عالمًا، فيعذر الجاهل دون العالم، ولكن لم يصر إليه أحد من الأصحاب. منها: إذا قال: عَلَيَّ أَلْفٌ من ثمن عبد لم أقبضه، إذا سلمه سلمت الألف، ففيه طريقان: أحدهما: أن قبول قوله: من ثمن عبد لم أقبضه، على القولين السابقين، وفي قول يقبل، ولا يطالب بالألف إلاَّ بعد تسليم العبد. وفي قول: يؤخذ بأول الإقرار، ولا يحكم بثبوت الألف ثمنًا، وهذا ما أورده في الكتاب. وأصحهما: القطع بالقبول، وثبوته ثمنًا، ويفارق صور القولين، فإن المذكور آخرًا منها يرفع المقر به وهاهنا بخلافه، وعلى هذا فلو قال: عليَّ ألف من ثمن عبد، واقتصر عليه، ثم قال مفصولاً: لم اقبض ذلك العبد، قيل أيضًا لأنه علق الإِقرار بالعبد، والأصل فيه عدم القبض، نعم لو اقتصر على قوله: لفلان عليَّ ألف، ثم قال مفصولاً: هو من ثمن عبد، لم أقبضه لم يقبل، ولا فرق عندنا بين أن يُعَيِّنَ العبد، فيقول: عَلَيَّ ألف من ثمن هذا العبد، إِذا سلمه سلمت الألف، وبين أن يطلق، فيقول: من ثمن عبد. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إنْ عين قُبِلَ، وإن أطلق لم يقبل، ولزمه الألف. ومنها: لو قال: عليَّ الألف لا يلزمني، أو عليَّ ألف أو لا، لزمه الألف؛ لأنه غير منتظم (¬1) لو قال: عليَّ ألف قضيته، ففيه طريقان: أحدهما: القطع بلزوم الألف، لقرب اللفظ من عدم الانتظام (¬2) فإن ما قضاه لا يكون عليه، بخلاف قوله: من ثمن الخمر، فإنه ربما يظن لزومه وهذا أصحّ عند صاحب الكتاب. وأصحهما: عند الجمهور أنه على القولين؛ لأن مثله يطلق في العرف، والتقدير كان عليَّ ألف فقضيته ولو قال ابتداء: كان لفلان عليَّ ألف فقضيته. يقبل فكذلك هاهنا ¬
[ويجري الطريقان فيما إذا قال: لفلان على ألف أبرأني عنه، ولو ادعى عليه ألفًا، فقال: قد قضيته، فالمشهور ما ذكرناه في الباب الأول، وهو أنه إقرار] (¬1) وجعله أَبُو عَلِيُّ البندنيجي بمثابة ما لو قال: عليّ ألف قضيته. ومنها: إذا قال: عليَّ ألف إن شاء الله، فالصحيح أنه لا يلزمه شيء؛ لأنه لم يلزم بالإقرار، وقد علقه على المشيئة، وهي غيب عنا، وأيضًا فإن الإقرار إخبار عن واجب سابق، والوقع لا يتعلق بالغير. وعنِ صاحب "التقريب" أن من الأصحاب من جعله على الخلاف فيما إذا قال: من ثمن خَمْرٍ؛ لأنه لو اقتصر على أول الكلام لكان إقرارًا جازمًا، ولو خرجوا طريقًا آخر جازمًا باللزوم لكان قريبًا، بناء على أن تعليق السابق لا ينتظم وبهذا قال أحمد. ولو قال: عليَّ ألف إن شئت، أو شاء فلان، فالمشهور بطلان الإقرار، وقال الإمام رحمه الله: الوجه تخريجه على القولين؛ لأنه نفي بآخر كلامه مقتضى أوله، قال: وليس ذلك، كقوله: إن شاء الله فإنه يجري في الكلام كالتردد بخلاف التعلق بمشيئة غيره، ووجهه بعضهم للمذهب المشهور في قوله إن شاء الله وإن شاء زيد، فإن مثل هذا الكلام يطلق للالتزام في المستقبل، ألا ترى أنه لو قال: لك عليَّ كذا إن رددت عبدي الآبق، كان ذلك التزاما في المستقبل، ولو قال: عليَّ ألف إذا جاء رأس الشهر، أو إذا قدم فلان، أطلق مطلقون أنه لا يكون إقرارًا، لأن الشرط لا أثر له في إيجاب المال، والواقع لا يعلق بالشرط. وذكر الإمام رحمه الله، وغيره: أنه على القولين؛ لأن صدر الكلام صيغة التزام، والتعليق يرفع حكمه ويمكن أن يكون إطلاق من أطلق اقتصارًا على الأظهر من القولين في المسألة، وهذا إذا أطلق، وقال: قصدت التعليق. أما إذا قال: قصدت به كونه مؤجلاً إلى رأس الشهر، فسيأتي، ولو قدم التعليق، فقال: إن جاء رأس الشهر، فعليَّ ألف لم يلزمه شيء؛ لأنه لم توجد صيغة التزام جازمه؛ نعم لو قال: أردت به التأجيل برأس الشهر قبل وفي "التتمة" حكايته وجه أن مطلقه يحمل على التأجيل برأس الشهر وبهذا أجاب فيما إذا آخر صيغة التعليق، فقال: عليَّ ألف إذا جاء رأس الشهر، ولم يذكر غيره، فيجوز أن يعلم لذلك قوله في الكتاب: "لم يلزمه أصلاً" -بالواو- قوله في الصورة الأولى، "فهو على قولين أيضًا"، ولعلك تقول: ما حكيت في صورة التَّعْلِيْق أفهمني أن الظَّاهر مذهب بطلان الإقرار فيما إذا قال: من ثمن الخمر والخنزير، أن الأصح عند العراقيين وغيرهم لزوم ما أقر به، فهل ¬
فرع
من فارق؟!. والجواب: أنه يمكن أن يقال: دخول الشَّرطِ على الجملة يصير الجملة جزءًا من الجملة الشرطية والجملة إذا صارت جزءًا من جملة أخرى تغير معناها. وقوله: "من ثمن خمر أو خنزير" لا يغير معنى صدر الكلام، وإنما هو بيان جهته، فلا يلزم من إلاَّ يبعض الإقرار عند التعليق، بل يلغي تحرزًا من اتخاذ جزء الجملة جمله برأسها ألاَّ يتبعض في الصُّورة الأخرى. ومنها: لو قال: عليَّ ألف مؤجل إلى وقت كذا، نظر إن ذكر الأجل مفصولاً لم يقبل، وإن ذكره موصولاً، ففيه طريقان كالطريقين فيما إذا قال ألف من ثمن عبد، لم أقبضه، والظاهر القبول، وبه قال أحمد. وإذا قلنا: لا يقبل، فالقول قول المقر له مع يمينه في نفي الأجل، وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-. وأعلم لذلك قوله في الكتاب: "لا يطالب في الحال" بالحاء. قال الإمام: وموضع الطريقين ما إذا كان الدَّين المقر به مطلقًا، أو مستندًا إلى سبب، وهو بحيث يتعجل، ويتأجل. أما إذا استند إلى جهة لا تقبل التأجيل، كما إذا قال: ألف أقرضنه مؤجلاً، فيلغو ذكر الأجل، بلا خلاف، وإن أسنده إلى جهة يلازمها التأجيل، كالدِّيَةِ المضروبة على العاملة، فإن ذكر ذلك في صدر إقراره، بأن قال: قتل ابن عمي فلانًا خطأ، ولزمني من دية ذلك القتيل كذا مؤجلًا إلى سنةٍ انتهاؤها كذا، فهو مقبول لا محالة. وإن قال: عليَّ كذا من جهة حمل العَقْل مؤجلًا إلى وقت كذا، فطريقان: أحدهما: القطع بالقبول؛ لأنه كذلك يثبت. والثاني: أنه على القولين، والطريق الأول هو المذكور في الكتاب، لكن الثاني أظهر؛ لأن أول كلامه ملزم لو اقتصر عليه، وهو في الإسْنَادِ لتلك الجهة مدعٍ، كما في التأجيل. فرع لو قال: بعتك أمس كذا، فلم تقبل فقال: قد قبلت، فهو على قولي تبعيض الإقرار إن بعضناه، فهو مصدق بيمينه في قوله: قبلت، وكذا الحكم فيما إذا قال لعبده: أعتقتك على ألف، فلم تقبل، ولامراته خَالَعْتُكِ على ألف، فلم تقبلي وقال لا قبلنا. فرع إذا قال أقر الآن بما ليس عليَّ لفلان عليَّ ألف، أو ما طلقت امرأتي، ولكن أقر
بطلاقها، فأقول طلقتها. عن الشيخ أبِي عَاصمٍ أنه لا يصح إقراره. وقال صاحب "التتمة": الصحيح أنه كما لو قال عليَّ ألف لا يلزمني لفلان. ولو قال: عليَّ ألف وزعم أنه وديعة، فأما أن يذكر ذلك مفصلاً، أو متصلاً. الحالة الأولى: وهي المذكورة في الكتاب أن يذكره منفصلاً فإن أتى بألف بعد إقراره، وقال: أردت هذا، وهو وديعة عندي، فقال المقر له: هو وديعة، ولي عليك ألف آخر دينًا، وهو الذي أردته بإقرارك، ففيه قولان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله- وأحمد: أن القول قول المقر له، فما أتى به وديعة، وعليه ألف دينًا؛ لأن كلمة "علي" تقتضي الثبوت في الذمة، ولهذا لو قال: علي ما على فلان، كان ضامنًا، والوديعة لا تثبت في الذمة، فلا يجوز التفسير بها. وأصحهما: أن القول قول المقر مع يمينه؛ لأن الوديعة يجب حفظها، والتخلية بينها وبين المالك، فلعله أراد بكلمة "علي" الإخبار عن هذا الواجب، ويحتمل أيضًا أنه تعدى فيها، حتى صارت مضمونة عليه، فلذلك قال: هي عليَّ، وأيضًا فقد تستعمل "عليَّ" بمعنى "عندي"، وفسر بذلك قوله تعالى مخبرا: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} [الشعراء: 14]. وحكى الإمام طريقة قاطعة بالقول الثاني، والمشهور إثبات القولين، وقد نسبهما الشيخ أبُو حَامِدٍ إلى نَصِّهِ في "الأم"، ولو كان قد قال: عليَّ ألف في ذمتي، أو ألف دينًا، ثم جاء بألف، وفسر كما ذكرنا، فإن لم تقبل في الصورة الأولى فهاهنا أولى وإن قبلنا هناك فوجهان: أحدهما: يقبل لجواز أن يريد الألف في ذمته، إن تلفت الوديعة، لأني تعديت فيها. وأصحهما: أنه لا يقبل، والقول قول المقر له مع يمينه؛ لأن العين لا تثبت في الذمة وقوله في الكتاب تفريعًا على قبول التفسير بالوديعة ولا يقبل قوله في سقوط الضمان لو ادعى التلف أراد به ما ذكره الإمام من أن الأصحاب قالوا الألف مضمون، وليس بأمانة، لأن قوله: "علَيَّ" يتضمن الإلتزام، فلو ادعى تلف الألف الذي زعم أنه وديعة لم يسقط الضمان عنه، ولو ادعى رده لم يصدق؛ لأنه ضامن، وإنما يصدق المؤتمن، والمفهوم من هذا الكلام أنه لايصدق في دعوى تلفه بعد الإقرار، أو رده، لكن فيه إشكال توجيهًا ونقلًا. أما التوجيه فإن كلمة "عليَّ" يجوز أن يريد بها صيرورتها مضمونة عليه لتعديه، ويجوز أن يريد بها وجوب الحفظ، والتخلية، ويجوز أن يريد بها عندي، كما سبق، وهذان المعنيان لا ينافيان الأمانة.
وأما النقل، فلأن قضية إيراد غيرهما أنه إن ادعى أنه تلف أورده قبل الإقرار لم يصدق؛ لأن التَّالف والمردود لا يكون عليه بمعنى من المعاني، فإن ادعى التلف بعد الإقرار، فيصدق، وقد صرح به صاحب "الشامل" في موضعين من الباب. الحالة الثانية: أن يذكره على الاتصال، فيقول: لفلان عليَّ ألف وديعة، فيقبل، وتأويل كلامه على ما مر. وعن الشيخ أبِي إِسْحَاقَ: أنه على القولين فيما لو قال: عليَّ ألف قضيته، وهو متوجه تفريعًا على عدم القبول حالة الانفصال. وإذا قلنا بالقبول فإذا أتى بألف، وقال: هذا هو، فبع به، وإن لم يأت بشيء، وادعى التلف، أو الرد، ففي القبول وجهان بناهما في "التهذيب" على تأويل كلمة "عليَّ" إن حملناها على وجوب الحفظ قُبِلَ، وهو الأصح، وإن حملناه على صَيْرُورَتِهِ مَضْمونًا عليه، فلا يجوز أن يثبت في الحالة الأولى مثل هذا الخلاف، نظرًا إلى المعنيين، ولو قال: معي أو عندي ألف، فهو محتمل للأمانة، مصدق في قوله: إنه كان وديعة، وفي دعوى التلف والرد، ولو قال: له عندي ألف درهم مضاربة دينًا، أو وديعة دينًا، فهو مضمون عليه، ولا يقبل قوله في دعوى التلف، والرد نص عليه، ووجهوه بأن كونه دينًا عبارة عن كونه مضمونًا، فإن قال: أردت به أنه دفعه إلى مضاربة أو وديعة، بشرط الضمان لم يُقبل قوله، لأن شرط الضمان في الأمانة لا يوجب الضمان، هذا إذا فسر منفصلاً، وإن فسره متصلاً، ففيه قولا تبعيض الإقرار، ولو قال: عندي ألف عارية، فهي مضمونة عليه، صححنا إعارة الدراهم، أو أفسدناها؛ لأن الفاسد كالصحيح في الضمان، ولو قال: دفع إليَّ ألفًا، ثم فسره بوديعة وزعم تلفها في يده صدق بيمينه، وكذا لو قال: أخذت منه ألفًا. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا قال: أخذت منه ألفًا، ثم فسره بوديعة، وقال المأخوذ منه: بل غصبته، فالقول قول المقر له؛ لأن الأخذ منه قد لا يكون برضاه ودفعه يكون برضاه وعن القَفَّال أنه قال؛ المذهب عندي أنه يفرق بين اللفظين، كما قال أبو حنيفة رحمه الله، ولو ذكره على الاتصال، فقال: أخذت من فلان ألفًا وديعة، فعند أبى حنيفة لا يقبل، وعلى ما ذكره القَفَّالُ يجيء فيه القولان في تبعيض الإقرار، وظاهر المذهب لا يخفى والله أعلم. قال الغزالي: (الثَّالِثَةُ): إِذَا قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لَكَ عَارَيةٌ قُبِلَ لأَنَّ الإِضَافَةَ بِاللاَّمِ تَحْتَمِلُ العَارِيَةَ إِذَا وُصِلَ بِهِ، وَقِيلَ فِيهِ قَوْلانِ، وَلَوْ قَالَ: هِيَ لَكَ هِبَةٌ ثُمَّ قَالَ: أَرَدتُّ هِبَةً قَبْلَ القَبْضِ قُبِلَ أَيْضًا، وَلَوْ قَالَ: وَهَبْتُ وأَقْبَضْتُ، أَوْ رَهَنْتُ وَأَقْبَضْتُ ثُمَ قَالَ: كَذَبْتُ
لَمْ يُقْبَلْ، وَلَوْ قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّ القَبْضَ بِالقَوْلِ قَبْضٌ، أَوْ أَشْهَدتُّ عَلَى الصَّكِّ عَلَى العَادَةِ، وَهَلْ تُقْبَلُ دَعْوَاهُ ليَحْلِفَ الخَصْمُ؟ فِيهِ خِلافٌ، وَلَوْ أَقَرَّ ثُمَّ قَالَ: لُقِّنْتُ بِالعَرَبِيَّةِ وَهُوَ عَجَمِيُّ لا يَفْهَمُ قُبِلَ دَعْوَاهُ بِالتَّحْلِيفِ. قال الرافعي: الفصل يشتمل على ثلاثة مسائل: إحداها: إذا قال: هذه الدار لك عارية، فهو إقرار بالإعارة، وله الرجوع عنها. وقال صاحب "التقريب": هي لك إقرار بالملك لو اقتصر عليه، وذكر العارية ينافيه، فيكون على القولين في تَبْعِيضِ الإقرار، وأجابوا، عنه بأن الإضافة بـ"اللام" تقتضي الاختصاص بالملك، أو غيره، فإن تَجَرَّدَت، وأمكن الحمل على الملك حمل عليه؛ لأنه أظهر وجوه الاختصاص، بالملك، وإن وصل بها، وذكر وجهًا آخر من الاختصاص، أو لم يمكن العمل على الملك، كقولنا: الجل للفرس حمل عليه، ولو قال: هذه الدار لك هبة عارية بإضافة الهبة إلى العارية، أو هبة سكنى، فهو كما لو قال: لك عارية، بلا فرق. الثانية: الإقرار بالهبة لا يتضمن الإقرار بالقبض على المشهور. وفي "الشامل" ذكر خلاف في المسألة إذا كانت العين في يد الموهوب منه، وقال: أقبضتني. ولو قال: وهبته، وخرجت منه إليه فقد مر أن الظَّاهر أنه ليس بإقرار بالقبض أيضًا، وكذا لو قال: وهبت منه وملكها كذا قال في "التَّهْذِيْبِ" أما إذا أقر بالقبض مع الهبة، فقال: وهبت وأقبضت، أو سلمته منه، أو حازه منى لزمه الإقرار، عاد، وأنكر القبض، وذكر لإقراره تأويلاً، أو لم يذكر، فهو كما ذكرنا في "الرَّهْن" إذا قال: رَهَنْتُ وأقبضته، ثم عاد وأنكر المذكور في الرَّهْن أنه له تحليفه، وقيل: لا يحلفه إلاَّ أن يذكر للإقرار تأويلاً. وقوله في الكتاب: "أو رهنت" "وأقبضت" كالمكرر؛ لأنه أورده ثم، إلاَّ إنه أورد الخلاف هاهنا فيما إذا ذكر لإقراره تأويلاً، وهناك أجاب بالأصح، وهو أنه يحلف، ولو أقر ببيع أو هبة، وقبض ثم قال: كان ذلك فاسدًا وأقررت لظني الصحة لم يصدق، لكن له تحليف المقر له، فإن نكل حلف المقر، وحكم ببطلان البيع والهبة، ولو أقر بإتلاف مال على إنسان، وأشهد عليه ثم قال: كنت عازمًا على الإتلاف، فقدمت الإشهاد على الإتلاف لم يلتفت إليه بحال، بخلاف ما لو أشهد على نفسه، ثم قال: كنت عازمًا على أن أستقرض منه، فقدمت الإشهاد على الاستقراض لأن هذا معتاد، وذلك غير معتاد.
الثالث: إقرار أهل كل لغة بلغتهم إذا عرفوها صحيحة، فلو أقر عجمي بالعربية، أو بالعكس، وقال: لم أفهم معناه، ولكن تلقنته فتلقنت صدق بيمينه، إن كان ممن يجوز إلاَّ يعرفه، وكذلك الحكم في جميع العقود، والحلول، وكذا لو أقر، ثم قال: كنت يوم الإقرار صغيرًا، وهو محتمل صدق بيمينه إذ الأصل الصغر، وكذلك لو قال: كنت مجنونًا، وقد عهد له جنون، ولو قال: كنت مكرهًا، وثم أمارات الإكراه من حبس أو توكيل، فكذلك، وإن لم تكن أمارة لم يقبل قوله، والأمارة إنما تثبت بإقرار المقر له، أو بالبينة، وإنما تؤثر إذا كان الإقرار لمن ظهر منه الحبس والتوكيل، أما إذا كان في حبس زيد لم يَقْدَحْ ذلك في الإقرار لعمرو، ولو شهد الشهود على إقراره، وتعرضوا لبلوغه، وصحّة عقله، واختياره، فادعى المقر خلافه لم يقبل لما فيه من تكذيب الشهود، ولا يشنرط في الشهادة التعرض للبلوغ، والعقل والطواعية، والحرية والرشد، ويكتفي بأن الظاهر وقوع الشهادة على الإقرار الصحيح، وفي مجهول الحرية قول أنه يشترط التعرض للحرية، وخرج منه اشتراط التعرض لسائر الشروط، والمذهب الأول. قال الأئمة: وما يكتب في الوثائق أنه أقر طائعًا مع صحة عقله، وبلوغه احتياط، ولا تقيد به شهادة الإقرار لكونه طائعًا، وأقام الشهود عليه بينة على كونه مكرهًا قدم بينة الاكراه، ولا تقبل الشهادة على اجمراه مطلقًا، بل لا بد من التفصيل. وقوله في الكتاب في مسألة التلقين "تقبل دعواه بالتحليف" إنما يذكر هذا اللفظ فيما لا يصدق فيه الشخص، لكنه يحلف فيه الخصم، وهاهنا هو مصدق على ما بينا والله أعلم بالصواب. قال الغزالي: (الرابعة): إِذَا قَالَ: الدَّارُ لِزَيْدٍ بَل لعَمْرٍو وَسلَّمَ إلَى زَيْدٍ وَيُغَرَّمُ لِعَمْرو في أَقْيَسِ القَوْلَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: غَصَبْتُهَا من زَيْدٍ وَمِلْكهَا لِعَمْرٍو ويَبْرَأُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى زَيْدٍ فَلَعَلَّهُ مُرْتَهِنٌ أَوْ مُسْتَأجَرٌ. قال الرافعي: فيها مسألتان: إحداهما: إذا قال: غصبت هذه الدار من زيد، لا بل من عمرو، أو قال: غصبت هذه الدار من زيد، وغصبها زيد من عمرو، أو قال: هذه الدار لزيد، لا بل لعمرو، فنسلم الدار لزيد، وهل يغرم المقر قيمتها لعمرو؟ فيه قولان منصوصان: أحدهما: وهو الذي نقله في "المختصر" في الصورة الأولى أنه لا يغرم؛ لأنه اعتراف للثاني، بما يدعيه، وإنما منع الحكم من قبوله، وأيضًا فإن الإقرار الثاني صادف
ملك الغير، فلا يلزمه شي، كما لو أقر لعمرو بالدار التي هي في يد زيد لعمرو. والثاني: أنه يغرم، وبه قال أحمد، لأنه حال بين عمرو وبين داره بإقراره الأول والحيلولة تثبت الضمان بالإتلاف ألا ترى أنه لو غصبت عبدًا، فأبق من يده ضمنه، وهذا أصح عند الأكثرين، وفي الصورة الثالثة طريقة قاطعة بأنه لا يجب الغرم مذكورة في "التهذيب" و"التتمة" موجه بأنه لم يقر بجناية في ملك الغير، بخلاف الصورتين الأوليين فإنه أقر فيهما بالغَصْبِ، فضمن لذلك وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا قال: غصبت هذه الدار من فلان، بل من فلان غرم للثاني، ولو قال: هذه لفلان، بل لفلان لا يغرم للثاني، فيجوز أن يعلم لذلك قوله في الكتاب: "ويغرم لعمرو" بالحاء، ويجوز أن يعلم قوله: "في أقيس القولين" -بالواو- إشارة إلى الطريقة القاطعة بنفي الغرم، واختلفوا في موضع القولين، حيث ثبتا، فقال قائلون: هما مخصوصان بما إذا انتزعها الحاكم من يد المقر، وسلمها إلى زيد، فأما إذا سلمها إلى زيد، فأما إذا سلمها إلى زيد بنفسه غرمها لعمرو، بلا خلاف. وقال آخرون: يجريان في الحالتين (¬1) لأن سبب انتزاع القاضي أيضًا إقراره، ولو باع عينًا وأقبضها، واستوفى الثمن ثم قال: كنت قد بعته من فلان، أو غصبته لم يقبل قوله: على المشتري، وفي غرامته القيمة للمقر له طريقان: أحدهما: أنه على القولين. وأصحهما: عند صاحب "التهذيب" ورواه الماسرجس عن ابْنِ أَبِى هُرَيْرَة القطع بأنه يغرم لتفويته عليه بتصرفه، وتسليمه؛ لأنه استوفى عوضه، وللعوض مدخل في الضمان، ألا ترى أنه لو غر بحرية أمة فنكحها، وأحبلها، ثم أجهضت بجناية جانٍ يغرم المغرور الجنين لمالك الجارية، لأنه يأخذ الغرة، ولو سقط ميتًا من غير جناية لا يغرم، وينبني على هذا الخلاف، أن مدعي العين المبيعة، هل له دعوى القيمة على البائع مع بقاء العين في يد المشتري. إن قلنا: لو أقر يغرمه القيمة، فله دعواها، وإلاَّ فلا، ولو كان في يد إنسان عين، فانتزعها منه مدعٍ بيمينه بعد نكول صاحب اليد، ثم جاء آخر يدعيها، هل له طلب القيمة من الأول. إن قلنا: النكول، ورد اليمين، كالبينة، فلا كما لو كان الانتزاع بالبينة، وإن جعلناها كما الإقرار، ففي سماع دعوى الثاني عليه القيمة الخلاف. ¬
فرع
الثانية: إذا قال: غصبت هذه الدار من زيد؛ لأنه اعترف له باليد. والظاهر: كونه محقًّا فيها، ثم الخصومة في الدار تكون بين زيد وعمرو، ولا تقبل شهادة المقر لعمرو؛ لأنه غاصب، وفي غرامته لعمرو طريقان: أحدهما: أنه على القولين فيما إذا قال: غصبتها من زيد المقر، لا بل من عمرو، واختاره في "التهذيب". وأصحهما: القطع بأنه لا يغرم؛ لأن الإقرارين هناك متنافيان والإقرار الأول مانع من الحكم بالثاني، وهاهنا لا منافاة لجواز أن يكون الملك لعمرو، تكون في يد زيد بإجارة، أو رهن، أو وصية بالمنافع، فيكون الآخذ منه غاصبًا منه، ولو أخر ذكر الغَصْب، فقال: هذه الدار ملكها لعمرو، وغصبتها من زيد، فوجهان: أظهرهما: أن الحكم كما في الصورة الأولى لعدم التنافي، فتسلم إلى زيد، ولا يغرم لعمرو. والثاني: أنه إذا أقر بالملك أولاً لم يقبل إقراره باليد لغيره، فتسلم إلى عمرو، وفي الغرم لزيد القولان، هكذا أطلقوه، وفيه مباحثه؛ لأنا إذا غرمنا المقر في الصورة السابقة للثاني، فإنا نغرمه القيمة؛ لأنه أقر بالملك، وهاهنا جعلناه مقرًّا باليد دون الملك، فلا وجه لتغريمه القيمة، بل القياس أن يسأل عن يده أكانت بإجارة، أو برهن، أو غيرهما، فإن أسندها إلى الإجارة غرم قيمة المنفعة، وإن أسندها إلى الرَّهْن غرم قيمة المرهون ليتوثق به في دينه، وكأنه أتلف المرهون، ثم إن وفي الدَّين من موضع آخر، فترد القيمة عليه. وقوله في الكتاب "يبرأ بالتسليم إلى زيد" يجوز إعلامه بالواو؛ لأنه أراد البراءة عن الغرم لعمرو على ما هو بين في "الوسيط"، وقد عرفت الخلاف فيه. فرع إذا قال: غصبت هذه العين من أحدكما، فيطالب بالتعيين، فإن عين من أحدهما سلمت إليه، وهل للثاني تحليفه ينبني على أنه لو أقر للثاني، هل يغرم له القيمة؟ إن قلنا: لا فلا إن قلنا: نعم، فنعم؛ لأنه ربما يقر له إذا عرضت اليمين عليه، فيغرم، فعلى هذا إن نكل ردت اليمين على الثاني، وإذا حلف، فليس له إلاَّ القيمة. ومنهم من قال: إن قلنا: إن النكول ورد اليمين، كالإقرار من المدعى عليه، فالجواب كذلك.
أما إذا قلنا: كالبينة، فتنتزع الدار من الأول، وتسلم إلى الثاني، ولا غرم عليه للأول، وعلى هذا فله التحليف. وإن قلنا: لا يغرم القيمة، لو أقر للثاني طمعًا في أن ينكل، فيحلف المدعي، ويأخذ العين، وإن قال المقر: لا أدري من أيكما غصبت، وأصر عليه فإن صدقاه، فالعين موقوفة بينهما حتى يتبين المالك، أو يصطلحا، وكذا إن كذباه، وحلف لهما على نفي العلم، هذا ظاهر المذهب في الفرع، وللشيخ أَبِي عَلِي فيه تطويل في "شرح الفروع" لكنه لم يتنقح لي تنقيح كلامه، فتركته والله اعلم بالصواب. قال الغزالي: (الخامسة): إِذَا اسْتَثنَي عَنِ الإِقْرَارِ مَا لاَ يَسْتَغرِقُ صَحَّ كَقَوْلهِ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ تِسْعَةً يَلْزَمُهُ وَاحِدٌ، وَلَوْ قَالَ: عَشَرَةٌ إِلاَّ تِسْعَةً إِلاَّ ثَمَانِيَةً يَلْزَمَهُ تِسْعَةٌ، لأَنَّ الاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ كَمَا أنَّهُ مِنَ الإثْبَاتِ نَفْيٌ. قال الرافعي: الكلام من هذا الموضع إلى آخر الباب في الاستثناء، وهو جائز في الإقرار والطلاق وغيرهما، بشرط أن يكون متصلاً، ولا يكون مستغرقًا فإن سكت بعد الإقرار [طويلاً] أو تكلم بكلام أجنبي عما هو فيه، ثم استثنى لم ينفع الاستثناء (¬1). ولو استغرق، فقال؛ عشرة إلاَّ عشرة، فعليه العشرة؛ لأن هذا الاستثناء غير منتظم في البيان، ولو قال: على عشرة إلاَّ تسعة، أو سواء واحد، صح الاستثناء، ولزمه في الصورة الأولى درهم، وفي الثانية تسعة، ولا فرق بين استثناء الأقل من الأكثر، وبين عكسه. وعن أحمد أنه لا يجوز استثناء الأكثر من الأقل. فقوله في الكتاب: "يلزمه واحد" يصح إعلامه بالألف لذلك، ويصح إعلامه بالميم؛ لأن في "التتمة" أن مالكًا لا يصح عنده استثناء الآحاد من العشرات، ولا المئين من الألوف، وإنما يصح استثناء العشرات من المئين، والألوف. وفي "الذخيرة" للبندنيجي أن مالكًا لا يصح الاسثناء في الإقرار أصلاً، ثم الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات؛ لأنه مشتق من الثنى، وهو الصرف، والصرف إنما يكون من الإثبات إلى النفي، وبالعكس، فلو قال؛ عليَّ عشرة إلاَّ تسعة إلاَّ ثمانية فعليه تسعة، المغنى إلاَّ تسعة لا يلزم إلا ثمانية فتلزم فتكون الثمانية والواحد ¬
الباقي من العشرة، والطريق فيه، وفي نظائره أن يجمع كل ما هو إثبات، وكل ما هو نفي، فيسقط المنفي من المثبت، فيكون الباقي هو الواجب، فالعشرة في الصورة المذكورة، والثمانية مثبتتان يجمعهما، ويسقط التسعة المنفية من المجموع، يبقى تسعة، ولو قال: عشرة إلاَّ تسعة إلاَّ ثمانية إلاَّ سبعة، وهكذا إلى الواحد، فعليه خمسة لأن الأعداد المثبتة ثلاثون والمنفية خمسة وعشرون. قال الإمام وطريق تمييز المثبتات من المنفيات أن ينظر إلى العدد المذكور أولاً، فإن كان شفعًا فالأوتار منفية والأشفاع مثبتة، وإن كان وترًا فالعكس، ولهذا شرط وهو أن تكون الأعداد المذكورة على التوالي الطبيعي، أو يتلو كل شفع منها وترًا، وبالعكس، ولو قال: ليس لفلان عليَّ شيء إلاَّ خمسة، فعليه خمسة، ولو قال: ليس له عليَّ عشرة إلاَّ خمسة لم يلزمه شيء عند الأكثرين؛ لأن عشرة إلاَّ خمسة خمسة فكأنه قال: ليس عليَّ خمسة. وفي "النهاية" وجه آخر: أنه يلزمه خمسة، بناء على أن الاستثناء من النفي إثبات، ولو أتى باستثناء بعد استثناء والثاني مستغرق صح الأول، وبطل الثاني. مثاله قال: عليَّ عشرة إلاَّ خمسة، إلاَّ عشرة أو عشرة إلاَّ خمسة إلاَّ خمسة يلزمه خمسة وإن كان الأول مستغرقًا، كقوله: عشرة إلاَّ عشرة إلاَّ أربعة. فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: يلزمه عشرة، ويبطل الاستثناء الأول لاستغراقه، والثاني لبطلان المستثنى فيه يلزمه أربعة ويصح الاستثناءان؛ لأن الكلام إنما يتم بآخره وآخره يخرج الأول عن كونه مستغرقًا، ويصيره كأنه استثنى من أول الكلام ستة. قال في "الشامل": وهذا أقيس. والثالث: أنه يلزمه ستة؛ لأن الاستثناء الأول باطل، لاستغراقه، فيكون وجوده كعدمه، ويرجع الاستثناء إلى أول الكلام. ولو قال: عليَّ عشرة إلاَّ عشرة إلاَّ خمسة، فعلى الوجه الأول يلزمه عشرة، وعلى الأخيرين خمسة، هذا إذا لم يكن في الاستثناء عطف، أما إذا قال: عشرة إلاَّ خمسة، وإلاَّ ثلاثة أو عليَّ عشرة إلاَّ خمسة، وثلاثة فهما جميعًا مستثنيان من العشرة، ولا يلزمه إلاَّ درهمان، فإن كان العددان بحيث لو جمعا حصل الاستغراق، كما إذا قال: عليَّ عشرة إلاَّ سبعة وثلاثة، فيلزمه عشرة؛ لأن "الواو" تجمعهما، وتوجب الاستغراق أو يخص الثاني بالبطلان؛ لأن الأول صح استثناؤه، والثاني مثل العدد الباقي، فهو المستغرق فيه وجهان.
قال الشيخ أبو علي: أصحهما الثاني، ورأى أن يفرق بين قوله: عشرة إلاَّ سبعة وثلاثة وبين قوله عشرة إلاَّ سبعة إلاَّ ثلاثة فيقطع في الصورة الثانية بالبطلان لأنهما استثناءان مستقلان، فيحصل من ذلك وجه ثالث فارق ومهما كان في المستثنى، والمستثنى منه عددان معطوف أحدهما على الآخر، ففي الجمع بينهما وجهان، كما في الصورة السابقة: أصحهما: ويحكى عن نصه في الطلاق، وبه أجاب ابْنُ الحَدَّادِ والأكثرون أنه لا يجمع؛ لأن الواو العاطفة وإن اقتضت الجمع، لكنها لا تخرج الكلام عن كونه ذا جملتين من جهة اللفظ، والاستثناء، ويدور على اللفظ مثاله إذا قال: عليَّ درهمان ودرهم، إلاَّ درهمان إن لم يجمعه لزمه ثلاثة؛ لأنه استثنى درهمان من درهم، وإن جمعنا لزمه درهم، فكان الاستثناء من ثلاثة، ولو قال علىَّ ثلاثة إلا درهمين ودرهمًا فإن لم يجمع لزمه درهم، وصح استثناء الدرهمين إن جمعنا لزمه ثلاثة وكان الاستثناء مستغرقًا، ولو قال: ثلاثة إلاَّ درهماً، ودرهمين فإن لم نجمع لزمه درهمان، وإن جمعنا، فثلاثة، ولو قال: درهم فدرهم ودرهم إلاَّ درهماً ودرهمًا ودرهمًا لزمه ثلاثة على الوجهين؛ لأنا إن جمعنا جمعنا في الطرفين، وإن لم نجمع كان مستثنيًا درهماً من درهم، وحكم هذه الصورة في الطلاق، كحكمها في الإقرار، وقد ذكر صاحب الكتاب أكثرها في الطلاق، ولو قال: على عشرة إلاَّ خمسة أو ستة. قال في "التتمة": يلزمه أربعة؛ لأن الدرهم الزائد مشكوك فيه، فصار كما لو قال: عليَّ خمسة أو ستة لم يلزمه إلاَّ خمسة، ويمكن أن يقال: يلزمه خمسة؛ لأنه أثبت العشرة، واستثنى منه خمسة، واستثنى درهماً زائدًا مشكوكًا فيه فلو قال: علىَّ درهم غير دانق، فقضية النحو وبه قال بعض الأصحاب أنه إن نصب "غير" فعليه خمسة دوانيق؛ لأنه استثناء وإلاَّ فعليه درهم تمام؛ إذ المعنى عليه درهم لا دانق. وقال الأكثرون: السابق إلى فهم أهل العرف منه الاستثناء، فيحمل عليه، وإن أخطأ في الإعراب، والله أعلم. قال الغزالي: (السادسة): الاسْتِثْنَاء مِنْ غيْرِ الجِنْسِ صَحِيحٌ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمِ إِلاَّ ثَوْبًا مَعْنَاهُ قِيمَة ثَوْبٍ، ثُمَّ لِيُفَسِّرْ بِمَا يَنْقُصُ قِيمَتَهُ عَنِ الأَلْفِ، فَلَوِ اسْتَغْرَقَ بَطُلَ تَفْسِيرُهُ في وَجْهٍ، وَأَصْلُ اسْتِثَنَائِهِ في وَجْهٍ. قال الرافعي: الاستثناء من غير الجنس صحيح، كما إذا قال: عليَّ ألف درهم، إِلاَّ ثوباً، أو عبداً. وقال مالك وأَبُو حَنِيْفَةَ لا يصح إلاَّ المكيل والموزون والمعدود، ويستثنى بعضها
من بعض مع اختلاف الجنس. وقال أَحْمَدُ: لا يصح ذلك بحال وحجة المذهب مشهورة في الأصول، ثم عليه أن يبين ثوباً، وتستغرق قيمته الألف، فإن استغرق، فالتفسير لغو، وفي الاستثناء وجهان: أحدهما: أنه لا يبطل؛ لأنه صحيح من حيث اللفظ، وإنما الخلل فيما فسر به اللفظ، فيقال له: هذا التفسير غير صحيح، ففسره بتفسير صحيح. والثاني: أنه يبطل الاستثناء، ويلزمه الألف؛ لأنه بين ما أراد باللفظ، فكأنه تلفظ به، والوجه الأول أصح عند صاحب "التهذيب". وقال الإمام وغيره: الثاني أصح، وهو الأشبه، ويصح استثناء المجمل من المجمل والمجمل من المفصل، وبالعكس، فالأول كما إذا قال: ألف إلاَّ شيئاً، فيبين جنس الألف أولاً، ثم يفسر الشيء بما لا يستغرق الألف من الجنس الذي بينه المفسر به. والثاني: كما إذا قال: عليَّ عشرة دراهم إلا شيء، ويفسر الشيء بما لا يستغرق العشرة. وإذا قال: على شي إلاَّ درهماً يفسر الشي بما يزيد على الدرهم، وإن قّل، وكذا لو قال: ألف إلاَّ درهما، ولا يلزمه من استثناء الدرهم أن يكون الألف دراهم، ومهما بطل التفسير في هذه الصورة، ففي بطلان الاستثناء الوجهان، وإن اتفق اللفظ في المستثنى منه، كما إذا قال: عليّ شيء إلا شيئاً أو مال إلاَّ مالاً، فقد حكى الإمام عن القاضي فيه وجهين: أحدهما: أنه يبطل الاستثناء، كما لو قال: عليَّ عشرة إلاَّ عشرة. والثاني: لا يبطل لوقوعه على القليل، والكثير، فلا يمتنع حمل الثاني على أقلّ ما يتمول، وحمل الأول على الزائد على أقل ما يتمول. قال: وفي هذا التردد غفلة؛ لأنا إن ألغينا استثناؤه اكتفينا بأقل ما يتمول، وإن صححناه ألزمناه أيضاً أقل ما يتمول، فيتفق الجوابان، ويمكن أن يقال: حاصل الواجب لا يختلف، لكن التردد غير خالٍ عن الفائدة، فإنا إذا أبطلناه الاستثناء لم نطالبه إلاَّ بتفسير اللفظ الأول، وإن نبطله طلبناه بتفسيرهما وله آثار في الامتناع من التفسير، وكون التفسير الثاني غير صالح للاستثناء الأول، وما أشبه ذلك. قال الغزالي: (السابعة) الاسْتِثْنَاءُ عَنِ العَيْنِ صَحِيحٌ كَقَوْلِهِ: هَذِهِ الدَّارُ لِفُلاَنٍ إِلاَّ ذَلِكَ البَيْتَ، وَالخَاتَمُ إلاَّ الفَصَّ، وَهَؤُلاَءِ العَبِيدُ إلاَّ وِاحِدًا، ثُمَّ لَهُ التَّعْيِينُ، فَإنْ مَاتُوا اِلاَّ وَاحِداً فَقَالَ: هُوَ المُسْتَثنَى قَبْلُ، وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلاَنِ.
قال الرافعي: صحته من المطلقان، كما إذا قال: هذه الدار لفلان، إِلاَّ هذا البيت، وهذا القميص إلاَّ كميه، وهذه الدراهم إِلاَّ هذا الواحد، وهذا القطيع إلاَّ هذه الشاة أو هذا الخاتم إلا هذا الفص ونظائره. وفيه وجه: أنه لا يصح؛ لأن الاستثناء المعتاد هو الاستثناء من الأعداد المطلقة. وأما المعينات، فالاستثناء فيها غير معهود، ولأنه إذا أقر بالمعين، كان ناصًّا على ثبوت الملك فيها، فيكون الاستثناء بعده رجوعًا، والأول ظاهر المذهب، وقد نص عليه في بعض الصور المذكورة، واقتصر في الكتاب هاهنا على ما هو الظاهر، لكنه قال في "الطلاق" لو قال: أربعتكن طوالق إلا فلانة (¬1) لم يصح هذا الاستثناء عند القاضي الحُسَيْنِ، كما لو قال: هؤلاء الأعبد الأربعة لفلان إلاَّ هذا الواحد لم يصح؛ لأن الاستثناء المعين لا يعتاد، وأجاب بعدم الصحة من غير ذكر الخلاف، والكلام في مسألة الطلاق يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، ولو قال: هؤلاء العبيد لفلان إلا واحداً، فالمستثنى منه معين، والمستثنى غير معين، وهو الصحيح إذا جوزنا الاستثناء من المعين، والرجوع إليه في غير المعين، فإن ماتوا إلاَّ واحداً فقال هو الذي أردته بالاسشاء قُبِلَ قوله مع يمينه؛ لأنه محتمل. وفيه وجه: أنه لا يقبل بالتهمة، وندرة مثل هذا الاتفاق، وهو ضعيف بإجماع من نقله. وقوله في الكتاب قبل: "وقيل: فيه قولان" يقتضي أولاً أن يكون الخلاف قولاً. وثانيًا إثبات طريقين: طريقة جازمة، وطريقة خلافية، وفيهما نظر من جهة النقل. ولو قال: غصبتهم إِلاَّ واحداً فماتوا إلاَّ واحداً، فقال: هو المستثنى قُبِلَ، بلا خلاف؛ لأن أثر الإقرار ينفي في الضمان، وكذا لو قتلوا في الصورة الأولى إلاَّ واحداً؛ لأن حقه يثبت في القيمة، فلو قال: هذه الدار لفلان، وهذا البيت منها لي، أو هذا الخاتم لفلان، وفَصُّهُ لي قُبلَ؛ لأنه إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فكان كالاستثناء والله اعلم وقد فرغنا من شرح أَبواب الكتاب، سوى الأخير، ونذكر قبل الشروع فيه مسائل وفروع بقيت علينا مما يورد تعددًا في الإقرار، وإن كان بعضها أجنبيًا عنه. منها: جارية في يد إنسان جاء غيره، وقال له: بعتك هذه الجارية بكذا أو سلمتها إليك، فأدِّ الثمن، وقال من في يده: بل زوجتنيها على صداق كذا، وهو علىَّ فإما أن يجري هذا التنازع، وصاحب اليد لم يولده، أو يجري بعد أن أولدها. ¬
فأما في الحالة الأولى، فيحلف كل منهما على نفي ما يدعيه الآخر، فإن حلف سقط دعوى الثمن والنكاح، ولا مهر، سواء دخل بها صاحب اليد، أو لم يدخل؛ لأنه وإن أقر بالمهر لمن كان مالكاً، فهو منكر له، وتعود الجارية إلى المالك، ثم أحد الوجهين إنها تعود إليه، كما يعود المبيع إلى البائع لإفلاس المشتري بالثمن. والثاني؛ أنها تعود بجهة أنها لصاحب اليد بزعمه، وهو يستحق الثمن عليه، فقد ظفر بغير جنس حقه من ماله، فلى هذا يبيعها، ويسوفي ثمنها، فإن فضل شيء فهو لصاحب اليد، ولايحل له وطؤها، وعلى الأول يحل له وطؤها، والتصرف فيها، ولابد من التَّلَفُّظ بالفسح، وإن حلف أحدهما دون الآخر، نظر إن حلف مدعي الثمن على نفي التزويج، ونكل صاحب اليد عن اليمين على نفي الشراء حلف المدعي اليمين المردودة على نفي المشتري، ووجب الثمن، وإن حلف صاحب اليد على الشراء، ونكل الآخر عن اليمين على نفي التزويج، حلف صاحب المردودة على النكاح وحكم له بالنكاح وبأن رقبتها للآخر، ثم ارتفع النكاح بطلاق، أو غيره حلت للسيد في الظاهر، وكذا في الباطن إن كان كاذبًا. وعن القاضي الحُسَيْنِ، أنه إذا نكل أحدهما عن اليمين المعروضة عليه اكتفى من الثَّاني بيمين واحدة يجمع فيها بين النفي والإثبات، والمذهب الأول. الحالة الثانية: إذا كان قد أولدها صاحب اليد، فالولد حر، والجارية أم ولد له باعتراف المالك القديم، وهو يدعي الثمن، فيحلف صاحب اليد على نفيه، فإن حلف على نفي الشراء لسقط عنه الثمن المدعى، وهل يرجع المالك عليه بشئ؟. فيه وجهان: أحدهما: أنه يرجع بأقل الأمرين من الثمن، أو المهر، لأنه يدعي الثمن، وصاحب اليد مقر له بالمهر، فالأقل منهما متفق عليه. والثاني: لا يرجع بشيء، لأن صاحب اليد أسقط الثمن عن نفسه بيمينه، والمهر الذي يقر به لا يدعيه الآخر، ولا يتمكنا من المطالبة به، وهل لصاحب اليد تحليف المالك على نفي الزوجية بعد ما حلف على نفي الشراء؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه لو ادعى ملكها، وتزويجها يعد اعترافه بأنها أم ولد لآخر لم يُقبل، فكيف يحلف على ما لو أقر به لم يُقبل؟ والثاني: نعم طمعًا في أن ينكل فيحلف، ويثبت له النكاح، فلو نكل صاحب اليد عن اليمين على نفي الشراء، حلف المالك القديم المردودة، واستحق الثمن، وعلى كل حال فالجارية مقررة في يد صاحب اليد، فإنها أم ولده أو زوجته، وله وطؤها في الباطن، وفي الظاهر وجهان:
أحدهما: الحل، ووجه المنع أنه لا يدري أنه يطأ زوجته أو أمته وإذا اختلفت الجهة وجب الاحتياط للبضع كما قال الشافعي رضي الله عنه فيما إذا اشترى زوجته بشرط الخيار أنه لا يطأها في زمان الخيار لأنه لايدري أيطأ زوجته أم أمته. واعتذر الإمام عن هذا النص وقال: ليس المنع في هذه الصورة لاختلاف الجهة، بل لأن الملك فى زمن الخيار للمشتري على قول، وإذا ثبت المِلْكُ انفسخ النكاح، والملك الثابت ضعيف لا يفيد حل الوطء، ونفقتها على صاحب اليد إن جوزنا له الوطء، وإلاَّ فقولان ذكرهما أبو إسحاق. أحدهما: أنه على المالك القديم؛ لأنها كانت عليه، فلا يقبل قوله في سقوطها، وإن قبل هما عليه، وهو زوال المِلْكُ وزوال الاستيلاء. وأصحهما: أنها في كسب الجارية، ولا يكلف بها المالك القديم، كما لا يكلف بنفقة الولد، وإن كانت حريته مستفادة من قوله أيضاً، فعلى هذا لو لم يكن لها كسب كانت من محاويج المسلمين، ولو ماتت الجارية قبل موت المستولد ماتت رقيقة، وللمالك القديم أخذ الثمن مما تركته من اكتسابها؛ لأن المستولد يقول: إنها بأسرها له، وهو يقول: إنها للمستولدة، وله عليه الثمن، فيأخذ حقه منها، والفاضل موقوف لا يدعيه أحد، وإن ماتت بعد موت المستولد ماتت حرة، ومالها لوارثها النسيب، فإن لم يكن فهو موقوف: لأن الولاء لا يدعيه واحد منهما، وليس للمالك القديم أخذ الثمن من تركتها لأن الثمن بزعمه على المستولدة، وهي قد عتقت بموته، فلا يؤدي دينه بما جمعته بعد الحرية، هذا كله فيما إذا أصرَّا على كلامهما. أما إذا رجع المالك القديم، وصدق صاحب اليد لم يقبل في حرية الولد، وثبوت الاستيلاء، ويكون اكتسابها له ما دام المستولد حيًّا، فإذا مات عتقت، وكان اكتسابها له، ولو رجع المستولد، وصدق المالك القديم لزمه الثمن، وكان ولائها له. ومنها: إقرار الورثة على الميت بالدَّين والعين مقبول كإقراره، ولو أقر بعض الورثة عليه بدين، وأنكر البعض فقولان: القديم، وبه قال أَبُو حَنِيْفَةَ رحمه الله أن على المقر أيضاً جميع الدَّين من نصيبه من التركة إن كان وافيًا، وإِلاَّ صرف جميع نصيبه إليه؛ لأن الدَّين مقدم على الميراث، فإذا أقر بدين على الميت لم يحل له شيء من التركة، ما بقي شيء من الدَّين، ويحكى هذا عن ابْنِ سُرَيْجٍ، واختاره القاضي الرُّويانِيُّ. والجديد: أنه لا يلزمه من الدَّين إلاَّ نسبة نصيبه من التركة؛ لأن الوارث لا يقر بالدَّين على نفسه، وإنما يقر على الميت بحكم الخلافة عنه وأيضاً فإن أحد الشريكين في العبد المشترك إِذا أقر بجناية لم تلزمه إلاَّ بحصته، فكذلك هاهنا.
وقال بعض المتلقين عن الشيخ ابْنِ عاَصِم: يجب القطع بأن على المقر توفية جميع الدَّين مما في يده عند الإمكان، فإن المقر في نصيبه لا يتقاعد عن الأجنبي في جملة التركة ولو أقر أجنبي بدين في التركة يستغرقها لزمه إقراره حتى لو وقعت التركة يوماً من الدهر ألزم بصرفها إلى ذلك الدَّين، والقولان محمولان على أن بإقراره يثبت جميع الدَّين على الميت تبعاً لثبوته على المقر، أم لا يثبت إلاَّ حصته، وفائدته المتقدم على الوصية، فعلى قول: يتقدم جميع الدين المقر به على الوَصَايَا. وعلى قول: حصته والمشهور الأول. وإذا قلنا بالجديد، فلو مات المنكر ووارثه المقر فهل تلزمه جميع المقر به الآن؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم لحصول جميع التركة في يده، ويتفرع على القولين فرعان: أحدهما: لو شهد بعض الورثة بدين على المورث. إن قلنا: لا يلزمه بالإقرار إلاَّ حصته تقبل. وإن قلنا الجميع لم تقبل؛ لأنه متهم بإسقاط بعض الدَّين عن نفسه، ولا فرق بين أن تكون الشهادة بعد الإقرار أو قبله؛ لأنه متهم بالعدول من طريق الإقرار إلى طريق الشهادة وعليه إظهارها على مورثه بأحد الطريقين. وعند أبِي حَنِيْفَةَ إِن شهد قبل الإقرار قبل، وإِن شهد بعده فلا. الثاني: كيس في يد رجلين فيه ألف درهم فقال أحدهما لثالث لك نصف ما في الكيس فيحمل إقراره على النصف الذي في يده، أو على نصف ما في يده، وهو ربع الجميع؟. فيه وجهان، بناء على القولين السابقين، وبنى على الخلاف فيما إذا أقر بأحد الشريكين في العبد المشترك بالسوية بنصفه أنه يحمل على نصيبه، أم يوزع النصف المقر به على النصفين، وهذا الخلاف الثاني مذكور في الكتاب في "باب العتق". ومنها: مات عن اثنين فأقر أحدهما بأن أباه أوصى لزيد بعشرة، فهو كما لو أقر عليه بدين، فعلى القديم تتعلَّق كل العشرة بثلث نصيبه. وعلى الجديد يتعلّق نصف العشرة بثلث نصيبه، وبه قال أَبُو حَنِيْفَةَ، بخلاف "ما قال في الإقرار بالدين، ولو أقر أحدهما بأنه أوصى بربع ماله، وأنكر الآخر، فعلى المقر أن يدفع ربع ما في يده إلى الموصى له، ولو أقر بأنه أوصى بعين من أعيان أمواله، نظر إن لم يقتسما التركة، فنصيب المقر في تلك العين يصرف إلى الموصى له والباقي للمنكر وإن اقتسماهما نظر، إن كانت تلك العين في يد المقر، فعليه دفعة إلى
الموصى له وإن كانت في يد المنكر، فللموصى له أخذ نصف القيمة من المقر؛ لأنه فوته عليه بالقسمة، ولو شهد المقر للموصى له قبلت شهادته، ويغرم المشهود عليه نصف قيمة العين، كما لو خرج بعض أعيان التركة مستحقًّا. ومنها: لو قال لعبد: أعتقتك على ألف، وطالبه بالألف، فأنكر العبد، وحلف سقطت دعوى المال، ويحكم بعتق العبد لإقراره، وكذلك لو قال: بعت منك نفسك، إذا صححنا هذا التصرف وهو الصحيح ولو قال لولد عبده: بعتك والدك بكذا، فأنكر فذلك لاعترافه بصيرورته حرًّا إذا دخل في ملك أبيه. ومنهما: إذا قال: لفلان عندي خاتم، ثم جاء بخاتم، وقال: هذا هو الذي أقررت به. فعن الشافعي رضي الله عنه أنه قال في موضع يقبل منه ذلك وعليه تسليمه إلى المقر له، وقال في موضع آخر لا يلزمه التسليم. قال الأصحاب: الأول محمول على ما إذا صدقه المقر له. والثاني على ما إذا قال: الذي أقررت به غيره، وليس هذا لي، فلا يسلم ما جاء به إليه، والقول قول المقر في نفي غيره والله أعلم بالصواب (¬1). ¬
الباب الرابع في الإقرار بالنسب ومن هو من أهل الإقرار
" البَابُ الرَّابعُ في الإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ وَمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الإِقْرَارِ" قال الغزالي: إِذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: هَذَا ابنْيِ الْتَحَقَ بِهِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يُكَذِّبَهُ الحِسُّ بِأَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ سِنَّاً مِنْهُ، أَوِ الشَّرْعُ بأَنْ يَكُونَ مَشْهُورَ النَّسَبِ، أَو المُقِرُّ لَهُ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا فَيُنْكِرَ، فَلَوْ اسْتَلْحَقَ مَجْهوُلاً بِالغًا وَوَافَقَهُ لِحَقَ، وَلَوْ كَانَ صَغِيراً لَحِقَ في الحَالِ حَتَّى يَتَوَارَثَانِ في الصغَرِ، فَلَوْ بَلَغَ وَأنْكَرَ فَفِي اعْتِبَارِ إِنْكَارِهِ بَعْدَ الحُكْمِ بِهِ خِلاَفٌ، وَلَوْ مَاتَ صَبِيٌّ وَلَهُ مَالٌ فَاسْتَلْحَقَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَوَرِثَ، وَإِنْ كَانَ بَالِغاً فَاسْتَلْحَقَهُ بَعْدَ المَوْتِ فَفِيهِ خِلاَفٌ، لِأَنَّ تَأَخِيْرَهُ إِلَى الَمْوتِ يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَوْفًا من إِنْكَارِهِ. قال الرَّافِعِيُّ: الإقرار بالنسب لا يصح إلاَّ إذا كان المقر بالصفات المعتبرة في المقرين كما سبق، ثم لا يخلو إما أن يلحق النسب بنفسه أو بغيره. القسم الأول: أن يلحق النسب بنفسه، فيشترط فيه أمور. أحدها: ألا يكذبه الحس، ويكون ما يدعيه ممكناً، فلو كان في سن لا يتصور أن يكون ولداً للمستلحق بأن كان أكبر سنًا منه، أو مثله، أو كان المستلحق أكبر، ولكن بقدر لا يولد لمثله. فلا اعتبار بإقراره. ولو قدمت امرأة من الرُّوْم أو غيرها من بلاد الكفر (¬1)، ومعها صبي، فادعاه رجل من المسلمين لحقه إن احتمل أنه خرج إليها، أو أنها قدمت قبل ذلك، وإن لم ينقدح احتمال لم يلحقه. والثاني: ألا يكذبه الشرع، بأن يكون المستلحق معروف النسب من غيره؛ لأن النسب الثابت من شخص لا ينتقل إلى غيره، ولا فرق بين أن يصدقه المستلحق، أو ¬
يكذبه، وفيما جمع من "فتاوي القَفَّال" أن المنفى بالِّلعَانِ لا يصح استلحاقهِ؛ لأن فيه شبهة للملاعن. والثالث: أن يصدقه المقر له إذا كان ممن يعتبر تصديقه، فإن استلحق بالغًا، فكذبه لم يثبت النسب، إلاَّ أن يقيم عليه بينة، فإن لم تكن بينة حلف، فإن حلف سقط دعواه، فإن نكل حلف المدعي، وثبت نسبه، وكذا لو قال رجل لآخر: أنت أبي فالقول قول المنكر مع يمينه، وإن استلحق صغيرًا ثبت نسبه حتى يرث منه الصغير لو مات، ويرث هو لو مات الصغير، وإن استلحق صغيرًا، فلما بلغ كذبه، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يندفع النسب؛ لأنا إنما حكمنا به حين لم يكن إنكار. وأظهرهما: أنه لا يندفع؛ لأن النسب مما يحتاط له، فهذا حكم بثبوته لم يتأثر بالانكار، كما لو ثبت بالبينة، وعلى هذا لو أراد المقر تحليفه. قال ابْنُ الصَّبَّاغ: ينبغي ألا يمكن منه؛ لأنه لو رجع لم يقبل، فلا معنى لتحليفه، ولو استلحق مجنونًا فأفاق وانكر فهو على الوجهين، ولو استحلق صبيًا بعد موته لحقه كان له مال، أو لم يكن، ولم ينظر إلى التهمة بطلب المال، بل يورث؛ لأن أمر النسب مبني على التغلب، ولهذا نثبته لمجرد الإمكان حتى أنه لو قتله، ثم استلحقه يقبل، ويحكم بسقوط القصاص. وقال أَبُو حَنِيْفَةَ رحمه الله: لا يلحقه. وأما إذا كان بالغًا ففيه وجهان؛ لأن شرط لحقوق البالغ تصديقه، ولا تصديق، ولأن تأخير الاستلحاق إلى الموت يوشك أن يكون خوفاً من إنكاره، وهذا أظهر عند القَاضِي الحُسَيْنِ وصاحب "التَّهْذِيْبِ" والأكثرون على أنه يلحقه كالصغير، ومنعوا كون التصديق شرطاً على الإطلاق، بل هو شرط إذا كان المستلحق أهلاً للتصديق. وأما الكلام الثاني، فهو تمسُّك بالتهمة، وقد بَينَّا أنه لا اعتبار بها في النسب، ويجري الوجهان فيما إذا استحلق مجنونًا طرأ جنونه بعد ما بلغ عاقلاً، ولو ازدحم اثنان فصاعداً على الاستلحاق، نظر إن كان المستلحق بالغاً ثبت نسبه ممن صدقه، وإن كان صبيَّاً لم يلحق بواحد منهما، بل الحكم ما هو مذكور في الكتاب في "باب اللَّقِيْطِ" فإذا عدم زحمة الغير شرط رابع للحقوق، وهكذا كله فيما إذا كان المستلحق ذكراً حرًا. أما استلحاق المرأة والعبد، فسيأتيان في اللَّقيط إن شاء الله. ولو استلحق عبد الغير، أو معتقته لم يلحقه إن كان صغيراً مُحَافَظَةً على حق الولاء للسيد، بل يحتاج إلى البينة، وإن كان بالغًا وصدقه ففيه خلاف نذكره هنالك (¬1). ¬
فرع
ولو استلحق عبداً في يده، نظر إن لم يوجد الإمكان بأن كان أكبر سنًّا منه لغا قوله، وإن وجد، فإن كان مجهول النسب لحقه إن كان صغيراً، وحكم بعتقه، وكذا إن كان بالغًا وصدقه، وإن كذبه لم يثبت النسب، وفي العتق وجهان، وكذا لو كان المستلحق معروف النسب من غيره. وأما لفظ الكتاب فقوله: "التحق به" يجوز إعلامه -بالميم- لأن البندنيجي حكى عن مَالِكٍ أنه إن شاع في الناس أنه استلحق من ليس ولداً له لم يلحقه، وإن اجتمعت الشرائط التي ذكرناها. قوله: "أو المقر له" ليس فيه إلاَّ اعتبار عدم التكذيب، وهو معتبر، لكنه غير مكتفي به، بل المعتبر تصديقه عند الإمكان صرح به صاحب "الشامل" وغيره، وقضيته أنه لو سكت لم يثبت النسب. وقوله: "فلو استلحق مجهولاً بالغًا" لفظ "المجهول" لا ضرورة إليه في هذا الموضع، فإنه فقد بين اشتراطه من قبل، وإِذا كنا في شرط لم نحتج فيه إلى التعرض لسائر الشروط إلاَّ للإيضاح. فرع لو استلحق بالغًا عاقلاً، ووافقه، ثم رجعا. قال ابْنُ أبِي هُرَيْرَةَ رحمه الله: يسقط النسب كما لو أقر بمال ورجع، وصدقه المقر له. وعن الشيخ أبي حامد أنه لا يسقط؛ لأن النسب المحكوم بثبوته لا يرتفع بالاتفاق، كما لو ثبت بالفراش (¬1) والله أعلم. قال الغزالي: وَلَوْ كَانَ لَهُ أَمَتَانِ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ وَلَدٌ وَلاَ زَوْجَ لَهُمَا فَقَالَ: أَحَدُهُمَا ابْنِي عُلِّقَتْ بِهِ أُمُّهُ فِي مِلْكِي طُولِبَ بِالتَّعْيِينِ، فَإِنْ عَيَّنَ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَعِتْقُهُ وَأمِّيَّةُ الوَلَدِ لْلأُمِّ، فإنْ مَاتَ كَانَ تَعْيِينُ الوارِثِ كَتَعْيِنِهِ، فَإِنْ عَجَزْنَا عَنْهُ فَإِلْحَاق القَائِفِ كَتَعْيِينِهِ، فَإنْ عَجَزْنَا فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُة عُتِقَ وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ وَلاَ مِيَراثُهُ إِذَ القُرْعَةُ لاَ تُعْمَلُ إلاَّ فِي العِتْقِ، وَهَلْ يُقْرَعُ بَيْنَ الأَمَتَيْنِ للاسْتِيْلاَدِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ أُمِّيَّةَ الوَلَدِ فَرْعُ النَّسَبِ ¬
وَقَدْ أَيِسَ عَنْهُ، وَهَلْ يُوقَفُ نَصِيبُ ابْنٍ مِنَ المِيْرَاثِ؟ فِيْهِ خِلاَفٌ لأنَّهُ نَسَبٌ أَيس مِنْ ظُهُوْرِهِ فَيَمْتَنِعُ التَّوْرِيثُ بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَمَّةٌ لَهَا ثَلاَثَةُ أَوْلاَدٍ فَقَالَ: أَحَدُهُمْ ابْنِي فَإِنْ عَيَّنَ الأَصْغَرَ تَعَيَّنَ، وَإِنْ عَيَّنَ الأَوْسَطَ عُتِقَ مَعَهَ الأَصْغَرُ وَثَبَتَ نَسَبُهُمَا، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ اسْتِبْرَاءَ بَعْدَ وِلاَدَةِ الأَوْسَطِ وَرَأَيْنَا ذَلكَ نَافِيًا لِلنَّسَبِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ البَيَان وَعَجزِنَا عَنْ تَعْيِينِ الوَارِثِ وَالقَائِفِ أُقْرعَ بَيْنَهُمْ، وَأُدْخِلَ الصَّغِيرُ في القُرْعَةِ، وَفَائِدَةُ خُرُوجِ القُرْعَةِ عَلَيْهِ اقْتِصَارُ العتق عَلَيْهِ وَإلاَّ فَهُوَ عَتِيقٌ فِي كلِّ حِالٍ، وِفِي وَقَفْ الميِرِاثِ الخِلاَفُ الَّذِي مَضَى. قال الرافعي: في الفصل مسألتان، تقدم علهيما أن له جارية ذات ولد إذا قال: هذا ولدي من هذه الجارية ثبت نسبه عند الإمكان، وهل تكون الجارية أم ولد؟ فيه قولان، ويقال: وجهان: أحدهما: لا لاحتمال أنه استولدها بالنكاح، ثم ملكها، وحينئذ لا تكون أم ولد له، وكذلك تحمل أنه استولدها بشبهة ثم ملكها وحينئذ لا تكون أم ولد أيضاً على أحد القولين: والثاني: نعم؛ لأن الظاهر أنه استولدها في الملك؛ لأنه حاصل محقق، والنكاح غير معلوم والأصل فيه العدم، وللمسألة خروج ظاهر على قول يقابل الأصل والظاهر، وما الأظهر من الخلاف في المسألة؟ ذكر الشيخ أَبُو حَامِدٍ وجماعة أن الثاني أظهر، وهو ظاهر نصه في "المختصر" لكن الأول أقرب إلى القياس، وأشبه بقاعدة الإقرار، وهي البناء على اليقين، ولقوته أعرض الأكثرون عن التَّرْجِيحِ، وأرسلوا ذكر الخلاف، ومن ذهب إليه لم يصعب عليه جعل النَّص على الصورة الآتيه. ولو قال: أنه ولدي ولدته في ملكي فطريقان: أحدهما: بالقطع بثبوت أُمِيَّهِ الولد لتصريحه بالولادة في الملك. وأصحهما: أنه على القولين لا حتمال أن يحبلها قبل الملك بالنكاح، ثم يشتريها وتلد بالملك، ولو قال: إنه ولدي استولدتها به في ملكي، أو علقت به ملكي، انقطع الاحتمال، وكانت أم ولد له لا محالة، وكذا لو قال: هذا ولدي منها، وهي في ملكي منذ عشرين سنة، وكان الولد ابن سنة، وهذا كله مفروض إذا لم تكن الأم مزوجة، ولا فراشاً أما إذا كانت مزوجة لم ينسب الولد إلى السيد، ولم يعتد باستلحاقه للحوقه بالزوج، وإن كانت فراشاً له، فإِن أقر بوطئها فالولد يلحقه بحكم الفراش لا بالإقرار،
ولا يعتبر فيه إلاَّ الإمكان، ولا فرق في الإقرار بالاستيلاد بين أن يكون في الصَّحَّة أو في المرض؛ لأن انشاءه نَافِذٌ في الحالتين. إِذ تبين ذلك فالمسألة الأولى إذا كان له أمتان لكل واحدة منهما ولد، فقال: أحدهما ولدي، فَلِلأَمَتَيْنِ أحوال: أحدها: ألا تكون واحدة منهما مزوجة، ولا فراشًا للسيد، فيؤمر بالتعيين، كما لو أقر بطلاق إحدى امرأتيه، فإذا عين أحدهما ثبت نسبه، وكان حرًّا وورثه، وهل تصير أمه أم ولد له؟ ينظر، إن لم يزد على استلحاقه، فقولان على ما قدمنا، وإن صرح بإنه استولدها به في ملك اليمين صارت أم ولد له وإن صرح بأنه استولدها به في النكاح لم تصر أم ولد، وإن أضافه ألى وطء شبهة، ففيه قولان يذكران في موضعهما. ولو قال: استولدتها بالزِّنَا مفصولاً عن الاستلحاق لم يقبل، وكانت أُمِّيَّةُ الولد على القولين فيما إذا أطلق الاستلحاق، وإِن وصله باللفظ. قال في "التهذيب": لا يثبت النَّسَب ولا أمية الولد، ولك أن تقول: ينبغي أن يخرج على قولي تبعيض الإقرار. ولو ادعت الأَمَةُ الأُخرى أن ولدها هو الذي استلحقه، وأنها التي استولدها، فالقول قول السيد مع يمينه وكذا لو بلغ الولد وادّعى فإن نكل السير، حلف المدعي وقضى بمقتضى يمينه ولو أن السيد مات قبل التعيين قام ورثته في التعيين وحكم تعيينهم حكم تعيينه في النسب والحرية والإرث، وتكون أم المعين مستولده إن ذكر السَّيِّدُ ما يقتضي ثبوت الاستيلاد، وإلاَّ سئلوا، وحكم بيانهم حكم بيان المورث، فإن قالوا: لا نعلم أنه بما استولدها، فعلى الخلاف فيما إذا أطلق المستلحق استلحاقه، ولو لم يكن وارث (¬1). فهو كما لو أطلقه الاسْتِلْحَاق، ويجوز ظهور الحال لِلْقَائِفِ مع موت المستلحق بأن كان قد رآه أو بأن يرى قبل الدفن، أو بأن يرى عصبته، فيجد الشبه، فإن عجز عن الاستفادة من القائف لعدمه، أو لإلحاقه الولدين به، أو نفيهما، أو أشكل الأمر عليه أقرعنا بينهما لنعرف الحر منهما، ولا ينتظر بلوغ الولدين حتى ينتسبا، بخلاف ما لو تنازع اثنان في ولد قائف؛ لأن الاشتباه هاهنا في أن الولد أيهما، فلوا اعتبر الانتساب فربما، ينتسب كل واحد منهما إليه، فلا يرتفع الإشكال، ولا يحكم لمن خرجت قرعته بالنسب والميراث؛ لأن القرعة على خلاف القياس، وِإنما ورد الخبر بها في العِتْقِ، فلا تعمل في النسب والميراث. ¬
فرعان
نعم هل يوقف نصيب ابْنٍ بين من خرجت القرعة له وبين الآخر؟ فيه وجهان سيأتي توجيههما. والاظهر: منهما في المسألة الثانية، واختيار المُزَنِيِّ أنه يوقف. وأما الاستيلاد فهو على التفصيل السابق، فإن لم يوجد من السَيِّدِ ما يقتضيه لم يثبت، وإن وجد فهل تحصل أمية الولد في أم ذلك بخروج القرعة؟ حكى الإمام فيه وجهين. وقال المذهب: أنها لا تحصل؛ لأنها تتبع النَسَب، فهذا لم يجعله ولداً لم يجعلها أم ولد، والذي أورده الأكثرون أنها تحصل؛ لأن المقصود العِتْقُ، والقرعة عاملة فيه، فكما تفيد حريته تفيد حريتها، وعلى هذا الخلاف يحمل قوله في الكتاب: "وهل يقرع بين الأمتين في الاسِتْيَلاد؟ فيه خلاف" وقد يتبادر إلى الفهم من ظاهره إخراج القرعة بهما مرة أخرى، ولا يفعل ذلك إذ لا يؤمن خروج القرعة على غير التي خرج لولدها. فرعان: أحدهما: حيث يثبت الاستيلاد، فالولد حُرُّ الأصل لا ولاء عليه، وحيث لا يثبت فعليه الولاء إلاَّ إذا نسبه إلى وطء شبهة، وقلنا: أنها لا تفسير أم ولد إذا ملكها بعد ذلك. والثاني: إذ لم يثبت الاستيلاد، ومات السيد ورث الولد أمه أمه، وعتقت عليه، وهذا إذا تعين لا بالقرعة، وإن كان معه وارث آخر عتق نصيبه عليه، ولم يشتر، هذا تمام الكلام في الصورة الأولى وهي المذكورة في الكتاب. والثانية: إذا كانت الأمان مزوجتين لم يقبل قول السيد، وولد كل أمه يلحق بزوجها، وإن كانت فراشا للسيد، فإن كان قد أقر بوطئها لحقه الولدان بحكم الفراش. الثالثة: إذا كانت إحداهما مزوجة لم يتعين إقراره في الأُخرى، بل يطالب بالتعيين فإن عين ولد المزوجة لم يُقبل، وإن عين في ولد الأخرى قُبِلَ، وثبت نسبه، وإن كانت إحداهما فراشًا له لم يتعين إقراره في ولدها، بل يؤمر بالتعيين، فإن عيّن في ولد الأُخرى لحقه بالإقرار، والولد الآخر ملحق به بالفراش. المسألة الثانية: إذا قال من له أمة لها ثلاثة أولاد: أحد هؤلاء ولدي، والتصوير فيما إذا لم تكن مزوجة، ولا فراشًا للسيد قبل ولادتهم، فيطالب بالتعيين، فمن عينه منهم، فهو نسيب حر وارث، والقول في الاستيلاد على التفصيل الذي مَرَّ، ثم إذا كان المعين الأصغر فالأكبران رقيقان فلكل واحد منهما أن يدعي أنه الولد، والقول قول المنكر مع يمينه، فإن كان المعين الأوسط فالأكبر رقيق، وأمر الصغير مبني على استيلاد الأمة فإذا لم نجعلها مستولدة، فهو رقيق كالأم، وإن جعلناها مستولدة، فينظر إن لم
يدع الاستبراء بعد الأوسط فقد صارت فراشاً له بالأوسط، فيلحقه الأصغر ويرثه وإن ادعى الاستبراء، فينبني على أن نسب ملك اليمين هل ينتفي بدعوى الاستبراء؟ فيه خلاف مذكور في "اللعان". وإن قلنا: لا ينتفي، فهو كما لو لم يدع الاستبراء. وإن قلنا: ينتفي فلا يلحقه الأصغر، وفي حكمه وجهان: أظهرهما: أنه كالأم يعتق بوفاة السيد؛ لأنه ولد أم الولد، وأم الولد إذا ولدت من زوج، أو زنا عتق بعتقها. والثاني: أنه يكون قِنًّا؛ لأن ولد أم الولد قد لا يكون كذلك، كما لو أحيل الراهن الجارية المرهونة، وقلنا: إنها لا تصير أم ولد له، فبيعت في الحق، وولدت أولادًا ثم، ملكها وأولادها، فإِنا نحكم بأنها أم ولد له على الصحيح، والأولاد أرقاء لا يأخذون حكمها، وأيضاً فإنه إذا أحبل جارية بالشبهة، ثم أتت بأولاد من زوج أو زنا، ثم ملكها، وأولادها تكون أم ولد له على قول، والأولاد لا يأخذون حكمها. وإذا أمكن ذلك لم يلزمه من ثبوث الاستيلاد أن يأخذ الولد حكمها بالشك والاحتمال، ولصاحب الوجه الأول أن يقول: الاولاد في الصورتين المذكورتين ولدوا قبل الحكم بالاستيلاد، فالأصغر ولد بعد الحكم بالاستيلاد. على أن بعضهم حكى في صورة الرَّهْن وجهاً أن الأولاد يأخذون حكمها، ولا يبعد أن يجئ مثله في صورة الإحبال بالشبهة. وذكر في "التتمة" وجهاً آخر فيما إذا لم يكن يدع الاستبراء أنه لا يثبت نسبه، ويكون حكمه حكم الأم يعتق بموت السيد؛ لأن الاستبراء حصل بالأوسط، ولم أر لغيره ذكر، وإن كان المعين الأكبر، فالقول في حكم الأوسط والأصغر كما ذكرناه في الأصغر إذا عين الأوسط، ولو مات السيد قبل التعين عين وارثه، فإن لم يكن وارث أو قال: لا أعرف عرضوا على القائف ليعين، والحكم على التقديرين، كما لو عَيَّن السيد، فإِن تعذر معرفة القائف نص أنه يقرع بينهم لمعرفة الحرية، وثبوت الاستيلاد على التفصيل الذي سبق، واعترض المزني في المختصر بأن الأصغر حر بكل حال عند موت السيد: لأنه إما أن يكون هو المقر به أو يكون ولد أم الولد، وولد أم الولد يعتق بموت السيد، وإن كان حرًّا بكل حال وجب ألا يدخل في القرعة أيضاً لاحتمال أنها لا تخرج على غيره، فيلزم إرقاقه. واختلف الأصحاب في الجواب عنه، فسلم بعضهم حريته، وقالوا: إنه لا يدخل في القرعة ليرق إن خرج لغيره، بل ليرق غيره إن خرجت عليه، ويقتصر العتق عليه،
وهذا ما ذكره في الكتاب، ومنها آخرون بناء على أنها وإن كانت أم ولد، فولد أم الولد يجوز أن يكون رقيقاً. والأظهر الأول: وهو عين الوجه الأول المذكور فيما إذا عين الأوسط، وادعى الاستبراء بعده، وقلنا: إنه ينتفي به النسب، ثم إذا أقرعنا بينهم، وخرجت القُرْعَةِ لواحد منهم، فهو حر، والمشهور أن النسب والميراث لا يثبتان، كما ذكرنا في المسأله الأولى. وعن المُزَنِيَّ في "المختصر الكبير" أن الأصغر نسيب بكل حال؛ لأنه بين أن يكون هو المراد بالاسْتِلْحَاقِ، وبين أن يكون ولد أمته التي صارت فراشاً له بولادة من قبل وجرى الأصحاب على رأيهم في الطَّعْنِ على اعتراضاته متبادرين، لكن الحق المطابق لما تقدم أن يفرق بين ما إذا كان السيد قد ادَّعَى الاستبراء قبل ولادة الأصغر، وبين ما إذا لم يدَّعه ويساعده في الحالة الثانية، وإذا ثبت النسب ثبتت الحرية لا محالة، وحيث لا نحكم بثبوت النسب، فهل يوقف الميراث؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنا نتيقن أن أحدهما ابنه، وإن لم تُفِدِ القُرْعَةُ تعيينه، فأشبه ما إذا طلق إحدى امرأتيه، ومات قبل البيان حيث يوقف نصيب امرأة. والثاني: لا؛ لأنه إشكال وقع البائس من زواله، فأشبه ما إذا غرق المُتَوارِثَانِ، فلم يدر أنهما ماتا مَعاً، أو على التعاقب لا توريث، ولا وقف وهذا أصح عند الأكثرين. واختار المُزَنِيُّ الوقف، واختلفت الرواية عنه في كيفيته، ففي رواية ابْنِ خُزَيْمَةِ وجماعة أنه إذا كان له ابن معروف النسب يدفع إليه ربع الميراث، ويدفع ربعه إلى الأصغر، ويوقف النصف. وفي رواية ابْنِ عَبْدَانَ المَرْوَزِيِّ في آخرين أنه يدفع نصف الميراث إلى المعروف النسب، ويوقف النصف للمجهول، واعلم أن الرواية الأولى مبنية على ما ذهب إليه المُزَنِيُّ من أن الأصغر نسيب بكل حال، فهو والمعروف ابنان يقينًا، فيدفع النصف إليهما، ويوقف النصف بينهما وبين الأكبرين، فيجوز أن يكون الأوسط ابناً دون الأكبر والرواية الثانية اختيار الشافعي -رضي الله عنه- وجوابًا على أنه لا يثبت نسب واحد منهم على التعيين، ولكن يعلم أن فيهم ابناً، فيقف النصف له، ويدفع النصف إلى الابن المعروف. وأما لفظ الكتاب فقوله: "قال أحدهم: ابني" أراد ما إذا ذكر معه ما يقتضي الاستيلاد على أمة صور في المسألة الأولى، حيث قال: فقال أحدهما: إني علقت به في ملكي ألا ترى أنه حكم بعتق الأصغر عند تعيين الأوسط؟ وإنما يكون كذلك إذا ثبت الاستيلاد.
وقوله: "عتق معه الأصغر" يجوز إعلامه بالواو للوجه المنقول عن "التهذيب". وقوله: "أقرع بينهم" بالحاء؛ لأن الحكاية عن أبي حنيفة أن الأصغر حُرٌّ كله، ويعتق من الأوسط ثلثاه؛ لأنه حر في الحالتين، وهما إذا عينه أو عين الأكبر، فالأكبر رقيق في حالة، وهي إذا عين الأصغر، ومن أكبر ثلثة؛ لأنه حر في حالة، هي إذا عين فيه رقيق في حالتين، وهما إذا عين في الأوسط أو الأصغر. قال: ويعتق من الأم ثلثاها؛ لأنه قد عتق ثلثا ولدها. وقوله: "وأدخل الصغير في القرعة أعلم بالرأي لما تقدم، ويجوز أن يعلم بالواو أيضاً؛ لأنه نقل في "النهاية" وجهاً عن بعض الأصحاب أن الصغير يخرج عن القرعة، قال: وهو ضعيف؛ لأنه إنما يقرع بين عبدين يتعين أن فيهم حرًّا، ومن الجائز أن يكون المستلحق الأصغر، ويكون الأكبران رقيقين، فكيف يقرع بينهما. وقولة: "وإلاَّ فهو عتيق بكل حال" معلم -بالواو- لما مر. قال الغزالي: أَمَّا إِذَا أَقَرَّ بِأَخُوَّةِ غَيْرِهِ أَوْ بِعُمُومَتِهِ فَهُوَ إِقْرَارٌ بِالنَّسَبِ عَلَى الغَيْرِ فَلاَ يُقْبَلُ إِلاَّ مِنْ وَارِثٍ مُسْتَغْرِقٍ، كَمَنْ مَاتَ وَخَلَفَ ابْناً وَاحِداً فَأَقَرَّ بِأَخٍ آخَرَ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَمَيِرَاثُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ زَوْجَةٌ اعْتُبِرَ مُوَافَقَتُهُمَا (و) لِشَرِكَتِهِمَا في الإِرْثِ، وَكَذَا مُوَافَقَتُهُ المَوْلَى (و) المُعْتِقَ، وإِنْ خَلَّفَ بِنْتًا وَاحِدَةً وِهِيَ مَعُتَقَةٌ ثَبَتَ النَّسَبُ بِإقْرَارِها لِأَنَّهَا مُسْتَغْرَقَة، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَقَةَ فَوَافَقَهَا الإِمَامُ ففِيِهِ خِلاَفٌ؛ لِأَنَّ الإِمَامَ لَيْسَ بِوَارِثٍ إِنَّمَا هُوَ نَائِبٌ، وَلَوْ خَلَّفَ اثْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِأخٍ ثَالِثٍ وَأَنْكَرَ الأخَر النَّسَبُ وَلاَ المِيرَاثُ (ح) عَلَى القَوْلِ المنَصْوُصِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَثْبُتُ بَاطِنًا وَفِي الظَّاهِرِ خِلاَفٌ، فَلَوْ مَاتَ وَخَلَّفَ ابْنًا مُقِرَّاً فَهَلْ يَثْبُتُ الآنَ؟ فِيهِ خِلاَفٌ، لِأَنَّ إِقْرَارَ الفَرْعِ مَسْبُوقٌ بِإنْكَار الأَصْلِ، وَكَذَا الخِلاَفُ فِيَما إِذَا لَمْ يُخَلِّف إِلاَّ الأَخَ المُقِرَّ، وَلَوْ كَانَ سَاكِتًا فَمَاتَ فَأَقَرَّ ابْنُهُ ثَبَتَ لاَ مَحَالَةَ، وَالأَخُ الكَبِيرُ مَعَ الصَّغِيرِ لاَ يَنْفَرِدُ بِالإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ عَلَى الأَصَحِّ، وَلَوْ أَقَرَّ بِشَخْصٍ فأَنْكَرَ المُقِرُّ لَهُ نَسَبَ المُقِرِّ فَقِيلَ: إِنَّهُ لاَ يُشَارَكُ لِأَنَّ مُوجِبَ قَوْلِهِ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ لَهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الإِقْرَارَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الكُلَّ. قال الرافعي: القسم الثاني: أن يلحق النسب بغيره مثل أن يقول: هذا أخي ابن أبي، أو ابنْ أمي، أو بعمومه غيره، فيكون ملحقًا للنسب بالجَدّ، والكلام في فصلين: أحدهما: في ثبوت النسب، ويثبت النسب بهذا الالحاق. بالشرائط المقدمة، فيما إذا لحق بنفسه، وبشرائط أخر:
احداهما: أن يكون الملحق به ميتاً، فما دام حياً ليس لغيره الإلحاق به، وإن كان مجنونًا. والثانية: ألا يكون الملحق به قد نفى المقر به، أما إذا نفاه، ثم استلحقه وارثه بعد موته، ففيه وجهان: أحدهما: اللحوق، كما استلحقه المورث بعد ما نفاه بلعان وغيره. والثاني: المنع؛ لأنه نسب قد سبق الحكم ببطلانه، ففي إلحاقه به بعد الموت إلحاق عارٍ بنسبه، وشرط الوارث أن يفعل ما فيه حظ الموروث لا ما يضر به. ولم يورد صاحب "التهذيب" من الوجهين إلاَّ الثاني، ولا معظم العراقيين إلاَّ الأول، وهو الأشبه. والثالثة: صدور الإقرار من الورثة الحجائزين للتركة، وفيه مسائل: إحداها: إقرار الأجانب لا يثبت به النسب، ولو مات مسلم عن ابْنِ كافر، أو قاتل، أو رقيق لم يقبل إقراره عليه بالنسب، كما لا يقبل إقراره عليه بالمال، ولو كان له ابنان مسلم وكافر لم تعتبر موافقة الكافر، ولو كان الميت كافراً كفى استلحاق الكافر، ولا فرق في ثبوت النسب بين أن يكون المقر به كافراً، أو مسلماً. الثانية: لو مات وخلف ابناً واحداً، وأقر بأخٍ آخر يثثبت نسبه ولو مات وخلف ابنين، أو بنتين أو بنات فلابد من اتفاقهم جميعاً، وكذلك تعتبر موافقة الزوج والزوجة، لأنهما من الورثة. وفيهما وجه؛ لأن الزوجيه تنصرم بالموت، ولأن المقربه النسب، ولا شركة لهما في النسب، ويجرى مثل هذا الخلاف في المعتق، لو خلف بنتاً واحدة، فإن كانت حائزة بأن كانت معتقه يثبت النسب بإقرارها، وإن لم تكن حائزه، وافقها الإمام، فوجهان جاريان فيما إذا مات مَنْ لا وارث له، فألحق الإمام به مجهولاً، والخلاف مبني على أن الإمام له حكم الوراث، أو لا؟ والذي أجاب به العراقيون أنه يثبت النَّسَب بموافقة الإمام، ثم هذا الكلام فيما إذا ذكر الإمام ذلك لا على وجه الحكم، أما إذا ذكره على وجه الحكم. فإن قلنا: إنه يقضي لعلم نفسه ثبت النسب، وإلاَّ فلا. الثالثة: لا فرق بين أن تكون حيازة الملحق تركة، الملحق به بغير واسطة، فإن كان قد مات قبل جده، والوراث ابن الابن فلا واسطة. الرابعة: البالغ من الوارثين لا ينفرد بالاقرار على الصحيح ونقل الإمام وجهاً أنه
ينفرد، ويحكم بثبوت النسب في الحال، وربما يوجه بأن أمر النسب خطر، فالظاهر من حال كامل الحال من الورثة أن يعتني به، ولا يجازف فيه، وعلى الأول ينتظر بلوغ الصبي، فإِذا بلغ الصبي، ووافق البالغ ثبت النسب حينئذ، فإن مات قبل البلوغ، نظر إن لم يخلف سوى المقر ثبت النسب، وإن لم يجدد إقراره، وإن خلف ورثة سواه اعتبر موافقتهم، إن كان أحد الوارثين مجنونًا، فهو كما لو كان أحدهما صبيًا، ولو خلف بالغين عاقلين، وأقر أحدهما وأنكر الآخر، ثم مات، ولم يخلف إلاَّ أخاه المقر، فأظهر الوجهين أنه يثبت النسب،؛ لأن جميع الميراث قد صار له. وثانيهما: المنع؛ لأن إقرار الفرع مسبوق بإنكار الأصل، ويجري الخلاف فيما إذا أخلف المنكر وارثًا، فأقر ذلك الوارث. والوجهان عند القاضي الحُسَيْنِ مبنيان على الوجيهن في اسْتِلْحَاق من نفاه المورث، ولو أقر أحد الاثنين، وسكت الآخر، ثم مات الساكت، وابنه مقر ثبت النسب لا محالة؛ لأن إقراره غير مسبوق بتكذيب الأصل. الخامسة: لو أقر الوارث المستغرق بإخوة مجهول،. فأنكر المجهول نسب المعروف لم يتأثر بقوله النسب المشهور. وفيه وجه: أن المقر يحتاج إلى البينة على نسبة لاعترافه بنسب المجهول، وإنكاره إياه، والمذهب الأول، وفي ثبوت نسب المجهول وجهان: وجه المنع: أن المقر ليس بوارث بزعمه. والثاني وهو الأصحه: أنه يثبت لحكمنا بأنه وارث حائز ولو أقر بإخوة مجهول، ثم إنهما أقرا بنسب ثالث، وأنكر الثالث نسب الثاني، ففي سقوط نسب الثاني وجهان: أصحهما: السقوط؛ لأنه ثبت بنسب الثالث، فاعتبر موافقته لثبوت نسب الثاني، ولو أقر بإخوة مجهولين، فصدق كل واحد منهما الآخر ثبت نسبهما، وإن كذب كل واحد منهما الآخر، فوجهان: أصحهما: ثبوت النسب لوجود الإقرار ممن يحوز التركه، فإن صدق أحدهما، وكذبه الآخر ثبت نسب المصدق دون المكذب، هذا إذا لم يكن المجهولان توأمين، فإن كانا توأمين، فلا أثر لتكذيب أحدهما الآخر، فإذا أقر الوارث بأحدهما ثبت نسب كليهما. السادسة: إذا أقر بنسب من يحجب المقر، كما إذا مات عن أخ، أو عم، فأقر بابن للميت، فأحد الوجهين: أنه لا يثبت نسبه؛ لأنه لو ثبت لورث، ولو ورث لحجب المقر، وإذا حجب خرج عن الأهلية للإقرار، وإذا بطل الإقرار بطل النسب.
ثبوت الميراث
وأصحهما: في "التوريث" في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى ثم التوريث قد ينتفي بأسباب وموانع، ولا يبعد أن يكون هذا منها. الفصل الثاني في ثبوت الميراث قال الغزالي: وَالمُقِرُّ يَحْتاَجُ إِلى البَيِّنَةِ، وَلَوْ أَقَرَّ الأَخُ بِابْنٍ لأَخِيهِ المَيِتِّ، فَالظَّاهِرُ أنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ دوُنَ المِيرَاثِ، إِذْ لَوْ ثَبَتَ لَحَرُمَ الأَخُ وَلَخَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الإِقْرَارِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا يَثْبُتَانِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا لاَ يَثْبتَانِ. قال الرافعي: المقر به لا يخلو إما أن يكون ممن لا يحجب المقر به عن الميراث، أو ممن يحجبه، أو يحجب بعض الورثة المقرين، دون البعض. الحاله الأولى: إذا لم يحجب المقر، فيشتركان في التركة على فرائض الله -تعالى- ولو أقر أحد الابنين المستغرقين بأخ، وأنكر الآخر، فظاهر المذهب، وهو المنصوص أنه لا يرث؛ لأن الإرث فرع النسب، وإنه غير ثابت، كما سبق وإذا لم يثبت الأصل لم يثبت الفرع، وعن صاحب "التقربب" حكايته وجه تخريج أن المقر له يرث، ويشارك المقر بما في يده، ورأيت ذلك لابْنِ سُرَيْجٍ، وبه قال أَبُو حَنِيْفَةَ رحمه الله ومَالِكٌ وأَحْمَدُ -رحمهما الله- ويتأيد بمسائل: منها: لو قال أحد الابنين: فلانة بنت أبينا، وأنكر الآخر حرم على المقر نكاحها، مع أنه فرع النسب الذي لم يثبت. لو قال أحدهما لعبد في التركة: إنه ابن أبينا، هل يحكم بعتقه فيه وجهان. ومنها: لو قال أحد شريكي العقار الثالث: بعت منك نصيبي، فأنكر لا يثبت الشراء، وفي ثبوت الشفعة للشريك خلاف. ومنها: لو قال: لزيد على عمرو كذا، وأنا به ضامن، فأنكر عمرو، ففي مطالبة المقر بالضمان خلاف. والأصح: المطالبة. ومنها: إذا اعترف الزوج بالخلع، وأنكرت المرأة ثبتت البينونة، وإن لم يثبت المال الذي هو الأصل. وإذا قلنا: بظاهر المذهب، وكذلك في ظاهر الحكم. فأما في الباطن فهل على المقر إذا كان صادقًا أن يشركه فيما في يده؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، كما في الظاهر. والثاني: نعم. قال ابْنُ الصَّبَّاغ: وهو الصحيح؛ لأنه عالم باستحقاقه، محرم عليه منع حقه منه،
وعلى هذا فبكم يشركه؟ فيه وجهان: أحدهما: بنصف ما في يده؛ لأن قضية ميراث البنتين التسوية، فلا يسلم لأحدهما شيء، وإلاَّ ويسلم للآخر مثله، والثالث بزعمهما غصبهما بعض حقهما، وبهذا قال أبو حنيفة -رحمه الله-. وأصحهما: وبه قال مَالِكٌ وأَحْمَدُ رحمهما الله بثلث ما في يده؛ لأن حق الثالث بزعم المقر شائع فيما في يده ويد صاحبه، فله الثلث من هذا، وله الثلث من ذاك. ويقال: الوجهان مبنيان من القولين فيما إذا أقر أحد الابنين بِدَيْنٍ علي أبيه، فأنكر الآخر، هل على المقر توفية جميع الدَّين مما في يده، أو لا يلزمه إلاَّ القسط؟ فإن قلنا بالثاني لم يلزمه إلاَّ الثلث لجعلنا الحق الثابت بالإقرار شائعًا في التركة، ولكل واحد من الوجهين عبارة تجري مجرى الضابط لأخوات هذه الصورة؛ فالعبارة على وجه النصف أننا ننظر في أصل المسألة على قول المنكر، ونصرف إليه نصيبه منها، ثم نقسم الباقي بين المقر والمقر به، فإن انكسر صححناه بالضرب، فأصل المسألة في الصورة التي نحن فيها اثنان على قول المنكر يدفع إليه واحداً منهما يبقى واحد لا ينقسم على اثنين نضرب اثنين في أصل المسألة يكون أربعة: سهمان منها للمنكر، ولكل واحد من الآخرين سهم، وعلى وجه الثلث نأخذ أصل المسألة على قول المنكر، وأصلها على قول المقر، ونضرب أحدهما في الآخر، ونقسم الحاصل باعتبار مسألة الإنكار، فيدفع نصيب المنكر منه إليه، باعتبار الإقرار ويدفع نصيب المقر منه إليه ويدفع الباقي إلى المقر به، ومسألة الإنكار فيما نحن فيه من اثنين، ومسألة الإقرار من ثلاثة، فنضرب أحدهما في الآخر يكون ستة: ثلاثة منها للمنكر، وسهمان للمقر، وواحد للمقر له، ولو كانت المسألة بحالها، وأقر أحد الابنين بآخرين، فعلى الوجه الأول المسألة على قول المنكر من اثنين يدفع نصيبه إليه، يبقى واحد لا ينقسم على ثلاثة يضرب ثلاثة في اثنين يكون ستة ثلاثة منها للمنكر، ولكل واحد من الباقين واحد، وعلى الوجه الثاني أصلها على قول المنكر من اثنين، وعلى قول المقر من أربعة يضرب أحدهما في الآخر يكون ثمانية أربعة منها للمنكر. واثنين للمقر، ولكل واحد من المقر بهما سهم. وعن صاحب "التقريب" يصرف بالتوسط بين الوجهين، وهو أن ينظر فيما حصل في يد المقر أحصل بقسمة أجبر المنكر عليها، أم بقسمة، وهو مختاره فيها. أما على تقدير الإجبار، فالجواب ما ذكرناه في الوجه الثاني. وأما على تقدير الاختيار، فينظر إن كان عالماً عند القسمة بأن معهما ثالثًا
مستحقّاً. والجواب ما ذكرناه في الوجه الأول؛ لأنه متعدّدٍ بتسليم نصف حقه الثابث إليه فيغرمه ما حصل في يد صاحبه كما يغرم الحاصل في يده، فإن لم يكن عالياً حينئذ، ثم علم فوجهان: يوجه أحدهما بأنه لا تقصير منه. والثاني: بأنه لا فرق بين العِلْم والجهل، فيما يرجع إلى الغرم. الحالة الثانية: إذا كان المقر به ممن يحجب المقرين عن الميراث، أو بعضهم، كما لو كان للوارث في الظاهر أخ أو ابن عم أو معتق، فأقر بإبن للميت، فإن لم نثبت نسبه فذاك، وإن أثبتناه ففي الميراث وجهان. أظهرهما: المنع؛ لأنه لو ورث لحجب الأخ، ولو حجبه لخرج عن أهلية الإقرار، وإذا بطل الإقرار، فلا نسب، ولا ميراث، فإذاً يلزم من توريثه منعه. والثاني: وبه قال ابْنُ سُرَيْجٍ: أنه يرث، ويحجب المقر، وهو اختيار صاحب "التقريب" وابن الصباغ، وجماعة، ومنعوا لزوم بطلان الإقرار من حرمانه، وقالوا: المعتبر كونه وارثًا لولا إقراره بذلك لا ينافي خروجه عن الوراثية بالإقرار، كما أن المعتبر كونه حائزًا للتركة لو أقر الابن المستغرق في الظاهر بإخوة غيره قبل، وتشاركا في الإرث كذلك هاهنا، ولو خلف بنتاً هي معتقة فأقرت باخ، ففي ميراثه وجهان، تفريعاً على الوجه الأول في المسألة السابقة: أحدهما: يرث، ويكون المَالُ بينهما أثلاثًا؛ لأن توريثها لا يحجبها. والثاني: لا؛ لأنه يحجبها عن عصوبة الولاء، فصار كما لو خلف بينتًا ومعتقًا وأقر بابن للميت لا يثبت لحجبه المعتق، ولو ادّعى مجهول على أخي الميت أنه ابن الميت، فأنكر الأخ، ونكل عن اليمين، فحلف المدعي اليمين المردودة، ثبت نسبه، ثم إنْ جعلنا النكلول ورد اليمين كالبينة، ورث وحجب الأخ، وإن جعلناهما كالإقرار، ففيه الخلاف المذكور فيما إذا أقر به الأخ. ولو مات عن بنت وأخت، فأقرتا بابن للميت، فنصيب الأخت على الوجه الأظهر يسلم لها؛ لأنه لو ورث الإبن لحجبها. وعلى الثاني يأخذ ما في يدها كله، وهذا الحكم فيما إذا خلف زوجة وأخا، فأقر بابن، يكون للزوجة الربع على الوجه الأظهر، وهذا الابن لا ينقص حكمها، كما لا يسقط الأخ -والله أعلم- ولنعد إلى ما يتعلق بلفظ الكتاب. وأما قوله: "فلا يقبل إلا من وارث مستغرق" لفظ بمستغرق معلّم بالحاء والميم. وكذلك قوله: "ثبت نسبه وميراثه" لأن عند أبِي حَنيفة في روايته المشهورة لا يشترط إقرار جميع الورثة وإنما المعتبر عدد الشهادة، فإذا لم يكن إلاَّ ابن واحد لم يثبت
النسب بإقراره، فهذا خلف أبناءً، فأقر اثنان منهم كفى، وبه قال مَالِكٌ. وقوله: "اعتبر موافقتهما" معلم بالواو. وكذلك قوله: "موافقة المولى المعتق" كما تقدم. وقوله: "ولأن الإمام ليس بوارث إنما هو نائب" أي: نائب المسلمين في أخذ حقهم، وحفظه، وهو إشارة إلى ما سبق أن الإمام هل له حكم الوارث أم لا؟ وقوله: "ولا الميراث" عند قوله "لم يثبت النسب ولا الميراث" على القول المنصوص معلم بالحاء والميم والألف وإنما يرجع قوله على القول المنصوص إلى الميراث المعلم -بالألف- وحده. وأما أن النسب لا يثبت، فلا خلاف فيه. واعلم أن حاصل الخلاف في المسألة طريقان، جمعهما صاحب "التقريب": أحدهما: أن الإرث يثبت باطنًا، وفي الظاهر خلاف. والثاني: أنه لا يثبت ظاهرًا وفي الباطن خلاف والذي ذكره صاحب الكتاب من الخلاف إنما هو في الإرث ظاهراً إلاَّ أن المقابل للقول المنصوص هو المخرج الذي عَزاهُ بعضهم إلى ابْنِ سُرَيْجٍ على ما بينه في "الوسيط"، وإنما خرج ابْنُ سُرَيْجٍ، ذلك في الإرث الظاهر وإذا كان ما حكاه مفروضًا في الإرث الظاهر كان جازماً بثبوته باطنًا فيكون قوله بعد ذلك: "وقيل: يثبت باطنًا"، وفي الظاهر خلاف غير ما ذكره مرة فلا ينبغى أن يقول: وقيل: لا يثبت ظاهراً وفي الباطن خلاف إن أراد الطريقة الأخرى. والأوجه الثلاثة التي ذكرناها في الميراث إذا أقر لشخص، وأنكر المقر له نسب المقر حاصله من الخلاف الذي أسلفناه في أن نسب المقر، هل يتأثر بإنكار المقر له، وإن لم يتأثر، فهل يثبت نسب المجهول؟ فقوله: "لا يشارك" مبني على أن نسب المقر بحاله ونسب المقر له يثبت. وقوله: قيل: "إنهما يشتركان، ولا يبالي بتكذيبه" مبني على أن نسب المقر بحاله، ونسب المقر له يثبت. والوجه الآخر مبني على أن نسب المقر يتأثر بإنكار المجهول. وأمّا الوجوه الثلاثة المذكورة فيما إذا أقر الأخ بإبن لأخيه الميت، فلا يخفى عليك خروجها مما مَرَّ إذا جمع بين النسب والميراث، وقد وقع في شرح الفصل تغيير ترتيب بعض المسائل للحاجة إليه، فلا يبالي به. فرع: إقرار الورثة بزوج أو زوجه للميت مقبول، وعلى القَدِيْمِ قول: أنه لا يقبل،
فلو أقر أحد الإبنين المستغرقين، وأنكر الآخر، فالتوريث على ما ذكرناه فيما إذا أقر أحدهما بأخ، وأنكر الآخر. فرع: لو أقر إنسان، وقال: فلان أخي.، ثم فسر بالإخوة من الرّضَاع حكى القاضي الرّويانِي عن أبيه أن الأشبه بالمذهب ألا يقبل؛ لأنه خلاف الظَّاهر، ولهذا لو فسر بإخوة الإسلام لا يقبل. فرع: آخر في "فتاوى القفال" أنه إذا أقر على أبيه بالولاء، فقال: هو معتق فلان ثبت الولاء عليه إن كان المقر مستغرقاً، كما في النسب (¬1)، والله تعالى أعلم بالصواب. ¬
كتاب العارية
كتَابُ العَارِيةِ قال الغزالي: وَالنَّظَرُ في أَرْكَانِهَا وَأَحْكَامِهَا، أَمَّا الأَرْكَانُ فَأَرْبَعَةٌ: (الأَوَّلُ: المُعِيرُ) وَلاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ إِلاَّ كَوْنُهُ مَالِكًا لِلْمَنْفَعَةِ غَيْرَ مَحَجْوُرٍ عَلَيْهِ في التَّبَرُّعِ، فَيَصِحُّ مِنَ المُسْتَأْجِرِ وَلاَ يصحُّ من المُسْتَعِيرِ عَلَى الأَظْهَرِ لإنَّهُ مُسْتَبِيحٌ بِالإِذْنِ كَالضَّيْفِ، نَعَمْ لِهُ أَنْ يَسْتَوفَي المنَفَعَةُ بِالوَكِيلُ يُوكِّلُهُ لِنَفْسِهِ. (الثَّانِي: المُسْتَعِيرُ) وَلاَ يُعْتَبَر فِيهِ إِلاَّ كَوْنُهُ أَهْلاً للتَبَرُّعِ. قال الرافعي: قال في "الصِّحَاح": العارية بالتشديد، كأنها منسوبة إلى العار؛ لأن طلبها عار. وقال غيره: منسوبة إلى العار، وهي مصدر يقال: أعار يعير إعارة كما يقال: أجاب يجيب إجابة، وجابة وأطاق إطاقة وطاقة. وقيل: هي من عار يعير، أي جاء وذهب، فسميت عارية لتحويلها من يد إلى يد. وقال إنه من التعاور الإعتوار، وهو أن يتداول القوم الشيء بينهم، وذكر الخَطَّابِيُّ في "الغريب" أن لغة العارية بالتشديد وقد تخفف (¬1). ¬
والأصل فيها قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] فسره بعضهم بما يستعيره بعض الجِيْرَان من بعض كالدلو والفأس والقدر، وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال:" العارِيَةُ مضمونة والزَّعيم غَارِمٌ" (¬1). وروى أيضاً أنه -صلى الله عليه وسلم- (استعار درعًا مِنْ صَفْوَانَ فقَالَ أغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بَلْ عَارَيةٌ مَضمُونَةٌ) (¬2). فقال صاحب الكتاب (ولها أركان وأحكام). أما الأركان: فاحدها المُعير والمعتبر فيه المنفعة (¬3)، وألاَّ يكون محجوراً عليه في التبرّعات، ¬
وإنما اعتبرت ملكية المنفعة دون العين؛ لأن الإعارة ترد على المنفعة دون العين، وإنما اعتبر عدم الحَجْر في التبرعات؛ لأن الإعارة تبرع، ويتعلق بقيد المالكية صورتان. إحداهما: أن المستأجر يجوز له أن يعير؛ لأن مالك المنفعة أَلاَ تَرَى أنه يجوز له أخذ العوض عنها بعقد الإجاره؟ وكذا الموصى له بخدمة العَبْدَ وَسَكْنَى الدار له أن يعيرها (¬1). الثانية: أن المستعير هل يعتبر (¬2)؟ فيه وجهان. أحدهما: نعم، كالمستأجر فإن للمستأجر أن يؤجّر، فكذلك المستعير له أن يعير، ويحكى هذا عن أبي حنيفة. وأصحهما: المنع؛ لأنه غير مالك للنفعة ألاَ ترى أنه لا يجوز له أن يؤجر، وإِنما أبيح له الانتفاع، والمستبيح لا يملك نقل المِلْكِ بإلاباحه إلى غيره، والضيف الذي أبيح له الطَّعَام ليس له أن يبيح لغيره، للمستعير أن يستوفي المنفعة بنفسه (¬3)، وبوكيله. ¬
الركن الثاني: في المستعير. قال في الكتاب: "ولا يعتبر فيه إلاَّ كونه أهلا للتبرع" أي يتبرع عليه، وكأنه أراد التبرع بعقد يشتمل على الإيجاب والقبول إما بقول، أو فعل، وإلاَّ فالصبي والبهيمة لهما أهلية التبرع والإحسان إليهما، ولكن لا يوهب منهما ولا يعار. قال الغزالي: (الثَّالِث: المُسْتَعَارُ) وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِعًا به مَعَ بَقَائِهِ، وَفي إِعَارَةِ الدنانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ لِمَنْفَعَةِ التَّزْيِينِ خِلاَفٌ؛ لأَنَّها مَنْفَعَةٌ ضَعِيفَةٌ، فَإذَا جَرَتْ فَهِيَ مَضْمُوَنَةٌ لأنها عَارِيةٌ فَاسِدَةٌ، وَأَنْ يكَوُنَ الانْتِفَاعُ مُبَاحًا فَلا تُسْتَعَارُ الجَوَارِي لِلاسْتِمْتَاعِ، وَيكُرْهُ الأسْتِخْدَامُ إلاَّ لِمَحْرَمِ، وَكَذَا يُكْرَهُ اسْتِعَارَةُ أَحَدِ الأَبوَيْنِ لِلْخِدمَةِ، وَإِعَارَةُ العَبْدِ المُسْلِمِ مِنَ الكَاِفِرِ، وَيَحْرُمُ إِعَارَةُ الصَّيْدِ مِنَ المُحْرِمِ. قال الرافعي: الركن الثالث: المُسْتَعَار، وله شرطان. أحدهما: أن يكون منتفعًا به مع بقاء عينه، كالعَبْدِ والدَّواب والدُّور والثياب. أما الأطعمة فلا يجوز إعارتها؛ لأن منفعتها في استهلاكها، وفي إعارة الدراهم والدنانير وجهان: أحدهما: الجواز؛ لأنها تصلح للتزُّين بها، وللضَّرْب على طَبْعِهَا. وأصحهما: المنع لأن هذه منفعة ضعيفة قَلَّمَا تقصد، ومعظم منفعتها في الإنفاق، والإخراج. قال الإمام: وما ذكرناه في الدراهم يجرى في استعارة الحنطة والشعير، وما في معناها، ولك أن تبحث عن مواضع الخلاف أهو ما إذا صرح بالأعارة للتزُّين أم إذا أطلق؟ فالجواب أن الأسبق إلى الفهم من كلامهم في مسألة الدراهم أن الخلاف في حالة الإطلاق. فأما إذا صرح التزّين فقد اتَّخَذَ هذه المنفعة مقصداً، وإن ضعفت فينبغي أن يصح، وبصحته أجاب في "التتمة" وعلى هذه قوله في الكتاب: "المنفعة التزين" ليس هو من كلام المعير، وإنما هو إشارة إلى صورة الجواز، لكن هذا يتفرغ على تصحيح الإعارة مطلقًا. أما إذا شرطنا تعيين جِهَة الانتفاع، فلا بد من التعرُّض للتزين، أو غيره، وسيأتي الخلاف فيه، وحيث قلنا: إنه لا يصح إعارتها، فإن جرت، فهي مضمونة؛ لأن العارية الصحيحة مضمونة، وللفاسدة حكم الصحيحة في الضمان.
وفيه وجه: أنها غير مضمونه؛ لأن العارية صحت، أو فسدت تعتمد منفعة معتبرة؛ فإذا لم توجد، فما جرى بينهما ليس بعارية؛ لا أنه عارية فاسدة، ومن قبض مال الغير بإذنه لا لمنفعته كان أمانه في يده. الشرط الثاني: أن تكون المنفعه مباحة، فلا يجوز استعمارة الجَوَارِى للاستمتاع، وإما للِخدمة فيجوز إن كانت الإعارة من مَحْرم أو امرأة، وإلاَّ فلا يجوز لخَوْف الفتنة إلاَّ إذا كانت صغيرة لا تُشْتَهَى أو قبيحة، ففيها وجهان (¬1). وقوله في الكتاب: "ويكره الاستخدام إلا لمحرم" لفظ الكراهية يستعمل للتحريم تارة، وللتنزيه أخرى، وأراد هاهنا التحريم على ما صَرَّح به في "الوسيط"، وهو جواب على نفي الفرق بين الصغيرة والكبيرة، ثم إنه حكم في "الوسيط" بالصحة، وإن كانت الإعارة محظورة، فيشبه أن يقال بالفساد، فالإجارة للمنفعة المحرمة، ويشعر بما ما أطلقة المُعْظَم من نفي الجواز (¬2) ويكره استعارة أحد الأبوين للخدمة؛ لأن استخدامهما (¬3) مكروه، ولفظ الإمام في المسألة نفى الحل، ويكره إعارة العبد المُسْلم من الكافر، وهي كراهة (¬4) تنزيه والله أعلم. ولا يجوز للحلال إعارة الصَّيْدِ من المُحرم؛ لأنه يحرم عليه إمساكه، فلو فعل وتلف في يد المُحرم ضمن الجزاء لله تعالى والقيمة للحلال، وإن أعار محرم من ¬
حلال. فإن قلنا: إن المحرم يزول ملكة عن الصيد، فلا قيمة له على الحلال؛ لأنه أعار ما ليس ملكًا له، وعلى المحرم الجزاء لله تعالى لو تلف في يد الحلال؛ لأنه متعّدٍ بالإعارة، وكان من حقه الإرسال. وإن قلنا: لا تزول صحت الإعارة، وعلى الحلال القيمة لو تلف الصيد عنده. فرع: دفع شاة إلى رجل، وقال: ملَّكتك دَرّها ونسلها، فهي هبة فاسدة، وما حصل في يده من الدر والنسل كالمقبوض بالهبة الفاسدة، والشاة مضمونة عليه بالعارية الفاسدة، ولو قال: أبحث لك دَرّهَا ونسلها، فهو كما لو قال: ملكتك على أحد الوجهين. والثاني: أنها إباحة صحيحة، والشاة عارية صحيحة، وهذا ما أورده صاحب "التتمة" (¬1). وعلى هذا فقد تكون العارية لاستيفاء عين، وليس من شرطها أن يكون المقصود مجرد المنفعة، بخلاف الإجارة، ولو قال: ملكت لك دَرَّهَا، أو أبخنكه على أن تعلقها. قال في "التهذيب": العلف أجرة الشاة وثمن الدر والنسل، والشاة غير مضمونة؛ لأنها مقبوضة بإجاره فاسد، والدر والنسل مضمون عليه بالشراء الفاسد، وكذلك لو دفع قراضه إلى سقَّاءٍ، وأخذ الكوز ليشرب فسقط من يده، وانكسر ضمن الماء؛ لأنه مأخوذ بالشراء الفاسد، ولم يضمن الكوز؛ لأنه في يده بإجارة فاسدة وإن أخذ مجانًا، فالكوز عارية، والماء كالمقبوض بالهبة الفاسدة (¬2). الثاني: قال في "التتمة": تعين المستعار ليس بشرط عند الأستعارة حتى لو قال: أعرنى دابتك، فقال المالك: أدخل الإصْطَبل، وخذ ما أردت، صحت العارية، بخلاف الإجارة تُصَان عن مثلها؛ لأن الغرور لا يحتمل في المعارضات والله أعلم. قال الغزالي: (الرَّابِعُ: صِيغَةُ الإِعَارَةِ) وَهُوَ كُلُّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلىَ الإِذْنِ الانْتِفَاعِ، ¬
ويَكْفِي القَبُولُ بِالفِعْل، وَلَوْ قَالَ: أَعَرْتُكَ حِمَارِي لِتُعِيَر لىِ فَرَسَكَ فَهُوَ إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ وَلاَ مضَمْوُنَةٍ، وَلَوْ قَالَ: اغْسِلْ هَذَا الثَّوبْ فَهُوَ اسْتِعَارةٌ لِبَدَنِهِ، وَإِنْ كَانَ الغَاسِلُ مِمَّنْ يَعْمَلُ بالأُجْرَةَ اعَتْيِاَدًا اسْتَحَقَّ الأُجْرَةَ. قال الرافعي: في الباب ما يدلُّ على الإذن في الأنتفاع، لقوله: أعرتك أو خذه لتنتفع به، وما أشبههما ثم ظاهر لفظ الكتاب أنه يعتبر اللفظ من جهة المُعير، وأنه لا يعتبر من جهة المُستعير، وإنما يعتبر منه القبول، إما باللفظ وإما بالفعل، كما في الضيف، وقد صرح بهذا في "الوسيط". وقال صاحب "التهذيب" وغيره: المعتبر في الإعارة اللفظ من أحد الطرفين، والفعل من الآخر حتى لو قال المستعير: أعرنى فسلمه المالك إليه، صحت الإعارة، وكان كما لو قال: خذه لتنتفع به، فأخذه تشبيهاً للإعارة بإباحة الطعام. وذكر أَبُو سَعِيْدٍ الُمَتَولِّى أن اللفظ لا يعتبر في واحد من الطرفين، حتى لو رآه عاريًا فأعطاه قميصًا لبسه تمّت العارية، وكذلك لو فرش لضيفة فراشاً أو بساطًا أو مصلّى أو ألقى له وِسَاَدة، فجلس عليها كان ذلك إعارة، بخلاف ما لو دخل مجلسًا فجلس على الفرش المبسوط (¬1) لأنه لم يقصد بها انتفاع شخص معين، ولا بد في العارية من تعيين الشخص المستعير، وهذا الذي ذكره يشبه تمام الشبه بالضيافة، ويوافقه ما حكى (¬2) عن الشيخ أبِي عَاصِمٍ أنه إذا انتفع بظَرْفِ الهديّة المبعوثة إليه، حيث جرت العادة باستعماله (¬3) كأكل الطعام من القصعة المبعوث فيها كان عارية؛ لأنه منتفع يملك الغير، بإذنه (¬4). والأشهر الرواية الوسطى، ولو أعلم قوله في الكتاب: "وصيغة الإعارة" -بالواو- كما ذكره في "التتمة" لكان صحيحاً، ثم في الفصل مسألتان: الأولى: إذا قال: أعرتك حماري لتعيرني فرسك، فهي إجارة فاسدة على كل واحد منهما أجرة مثل دابة الآخر، وكذلك الحكم إذا أعاره شيئاً بعوض مجهول، كما لَوْ أعاره دابته ليعلفها (¬5)، أو داره ليطين سطحها، وكذا (¬6) لو كان العوض معلوماً ولكن ¬
مدة الإعارة مجهولة، كما لو قال: أعرتك داري بعشرة دراهم، أو لتعيرني ثوبك شهراً. وفيه وجه أنه عارية فاسدة نظراً إلى اللفظ، فعلى هذا تكون مضمونة عليه، وعلى الأول لا ضمان (¬1). ولو بين مدة الإعارة، وذكر عوضاً معلوماً فقال: أعرتك هذه الدار شهرًا واليوم بعشرة دراهم لتعرني ثوبك شهراً من اليوم، فهي إجارة صحيحة مضمونة، أو إعارة فاسدة؟ فيه وجهان مبنيان على أن النظر إلى اللفظ، أو المعنى، ولو دَفَع دراهم إلى رجل، وقال: اجلس في هذا الحَانُوتِ، واتَّجِرْ عليه بنفسك، أو ادفع إليه بذرًا، ازرع به هذه الأرض، فهو مُعِيْرُ الحانوت، والأرض، وأما الدراهم والبذر، فتكون هبة أو قرضًا، فيه وجهان. الثانية: لو قال لقَصَّارٍ: اغسل هذا الثوب، أو لخَيَّاط خطه مجانًا، ففعل، فلا أجرة له، ولو قال: اغسله أو خيطه، وأنا أعطيك حَقّك، أو أجرتك يستحق أجرة المْثِلِ، وهذا إجارة فاسدة، ولو اقتصر على قوله: اغسله أو خيطه، أوجه، نذكرها في "الإجارة"، فإن ذلك الموضع أحق بذكرها، وصاحب الكتاب قد أعاد المسألة هناك وذكر بعض تلك الأوجه. واعرف في هذا المقام سببين: أحدهما: أن قوله: أن قوله "فهو استعارة" أراد به استعاره بَدَنِهِ لذلك العمل، ولا يعد في إطلاق الأستعارة والاعارة في منافع الحُرّ كالإجارة. والثَّانى: إن حاصل جوابه في المسألة أنه إنْ كان من يعتاد ذلك بالأجرة استحق الأجرة وإلاَّ فلا، وهذا أحد الوجود الوجوه المشار إليها لكن ظاهر المذهب غيره على ما سيأتي. إن شاء الله تعالى. قال الغزالي: أَمَّا أَحْكَامُهَا فأَرْبَعَةٌ: (الأَوَّلُ: الضَّمَانُ)، وَالعَارِيَةُ مَضْمُونَةُ الرَّدِّ والعَيْنِ يِقَيمَتِهِا (ح) يَوْمَ التَّلَفِ، وَقِيلَ بِأَقْصَى القِيم مِنْ يَوْمِ القبْضِ إِلَى يَوْم التَلَفَ كَالغَصْب، وَمَا يَنْمحِق مِنْ أَجْزَائِهَا بالاسْتِعْمَالِ غَيْرُ مَضْمُونٍ، وَالمُسْتَعَيرُ مِنَ المُسْتَأجِرِ ¬
هِلْ يَضْمَنُ؟ فِيهِ خِلاَفٌ، والمُسْتَعِيرُ مِنَ الغَاصِبِ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ إِذَا تَلَفَ تَحْتَ يَدِهِ وَلَوْ طُولِبَ بإجْرَةِ المَنْفَعَةِ فَمَا تَلَفَ تِحْتَ يَدِهِ فَلاَ خِلاَفَ فِي قَرَارِ ضَمَانِهِ عَلَى المُعِيرِ، وَمَا تَلَفَ باِسْتِيفَائِهِ فَقَوْلانِ لأنَّهُ مَغْرُورٌ فِيهِ. قال الرافعي: من أحكام العارية الضمان، والكلام في الضمان رد العين والإجزاء، أما ضمان الرد فمعناه أن مؤنة الرد على المستعير: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (عَلَى اليَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تؤَدِّيَهُ) (¬1). وأيضاً فإن الإعارة نوع بر ومعروف فلو لم تجعل مؤنة الرد على المستعير لامتنع الناس من الإعارة. وأما ضمان العين، فإنها إذا تلفت في يد المستعير ضمنها (¬2)، سواء تلفت بآفة سماوية أو بغفله بتقصير، أو من غير تقصير، وبه قال أَحْمَدُ وقال أَبُو حَنِيفَةَ: لا يضمن إلاَّ إذا تَعَدَّى فيها. وعن رواية الشيخ أَبي عَلِيٍّ أن الشَّافعي -رضي الله عنه- قولاً مثله في "الأمَالِي". ووجه ظاهر المذهب الخبر المذكور في صدر هذا الباب، وأيضاً فإنه مال يجب رده إلى مالكه، فتجب قيمته عند التلف، كالمأخوذ على سبيل السَّوْمِ، وأيضاً ¬
فإن المستعير من الغَاصِبِ يستقرُّ عليه الضمان، ولو كانت العارية أمانة لما استقر، كالمودع من الغاصب. وذهب مَاِلكٌ إلى أن العارية مضمونة إلاَّ أن تكون حيواناً، فهو أمانة، ولو أعار بِشَرْطِ أن تكون أمانة لغَا الشرط، وكانت مضمونة، وإذا وجب الضمان، فأي قيمة تجب؟ فيه ثلاثة أوجه، وسماها الزَّجَّاجيُّ أقوالاً، وكذلك فعل في "الوسيط". أحدها: أقصى القيم من يوم القَبْضِ إلى التلفِ؛ لأنه لو تلف في حالة زيادة القيمة لوجبت القيمة الزائدة، فأشبه المغصوب. والثاني: قيمة يوم القبض تشبيهاً بالقرض يومئذ. والثالث وهو الأصح: قيمة يوم التلف؛ لأن إيجاب أقصى القيم بمثابة ضمان الأجزاء التالفة بالاستعمال، وهي غير مضمونة على الصحبح، كما سيأتي، ومن قال بالأول منح كون تلك الأجزاء غير مضمونة بالاستعمال على الإطلاق. وقال إنما لا يضمن إذا رد العين، وينبني على هذا الخلاف أن العارية إذا ولدت في يد المستعير، هل يكون الولد مضمونًا في يده (¬1). إن قلنا: إنْ العارية مضمونة ضمان الغصب، كان مضمونًا عليه، وإلاَّ فلا، وليس له استعماله بلا خلاف، والخلاف المذكور في العارية أنها كيف تضمن جارٍ في المأخوذ على سبيل السوم إلاَّ أن الأصَحَّ هناك على ما ذكره في "النهاية" أن الاعتبار بقيمة يوم القبض؛ لأن تضمن أجزائه غير ممتنع. وقال غيره: الأصح فيه كهو في العارية، وهذا كله فيما إذا تلفت العين، لا بالاستعمال، أما إذا تلفت بالاستعمال بأن انْمَحَقَ الثوب باللبس، فوجهان: أصحهما: أنه لا يجب ضمانها كالأجزاء. والثاني: يجب؛ لأن حق العارية أن ترد، فهذا تعذر الرد لزم الضمان، وعلى هذا فما الذي يضمن؟ فيه وجهان: أحدهما، وهو المذكور في "النهاية": أنه يضمن العين بجميع أجزائها. وأصحهما، وهو المذكور في "التهذيب": أنه يضمن في آخر حالات التقويم، وصححه في "التتمة". ¬
وأما ضمان الأجزاء، فما تلف منها بسبب الاستعمال المأذون فيه كانمحاق الثوب باللبس لا يلزم ضمانها لحدوثه عن سبب، وأذن فيه. وفيه وجه ضعيف: أنه يلزم؛ لأن العارية مؤداة، فهذا تلف بعضها فات رده، فيضمن بدله، وما تلف منها بغير هذا السبب، ففيه وجهان مذكوران في "التهذيب": أحدهما: أنه لا يلزم ضمانها أيضاً، كما لو تلف بالاستعمال، ويكتفى برد الباقي. وأصحهما: اللزوم، كما لو تلفت العين كلها وهلاك الدابة بسبب الركوب، والحمل المعتاد، كانمحاق الثوب وتعييبها به كالانمحاق، كذا ذكره الإمام. وفيما جمع من "فَتَاوى القَفَّالِ" انه لو قرّح ظهرها بالحمل، وتلفت منه يضمن، سواء كان متعديًا بما حمل، أو لم يكن؛ لأنه إنما أذن في العمل لا في الجراحة، وردُّها إلى المالك لا يخرجه عن الضمان؛ لأن السّرَاية تولدت من مضمون، فصار كما لو جرح دابة الغير في يده، وهذا في الجمل الذي هو غير متعدّ به جواباً على وجوب الضمان في صورة تفسير الانمحاق والله أعلم. كذا ذكر الإمام وجميع ما ذكرناه فيما إذا استعار من المالك، ووراءه صورتان: إحداهما: إذا استعار من المستأجر، أو الموصى له بالمنفعة فأحد الوجهين: أنه يضمن، كما لو استعار من المالك. وأصحهما: أنه لا يضمن (¬1)؛ لأن المستأجر لا يضمن، وهو نائب المستأجر ألاَ تَرى أنه إذا انقضت مدة الإجارة ارتفعت العارية، وأنه استقرت الأجرة على المستأجر بانتفاع المستعير. ومؤنة الرد في هذه الاستعارة على المستعير (¬2) أنْ رد على المستأجر، وعلى المالك إن رد عليه كما لو رد عليه المستأجر. الثانية: إذا استعار المغصوب من الغاصب، وتلف في يده غَّرم المالك قيمته يوم التلف من شاء منهما وقرار الضمان على المستعير. لأن المال حصل في يده بجهة مضمونة، وإن كانت قيمته يوم التلف أكثر، نظر أن كانت الزيادة في يد المعير الغاصب لم يطالب بها غيره، وإن كانت في يد المستعير. فإن قلنا: العارية تضمن ضمان المغصوب فهو كقيمته يوم التلف (¬3). ¬
وإن قلنا: لا تضمن ضمان المغصوب، فغرامة الزيادة كغرامة المنافع، وإذا طالبه المالك فغرامة المنافع، وغرمها بالمنفعة التي تلفت تحت يده قرار ضمانها على المعير، لأن يد المستعير في المنافع ليست يد ضمان، والتي استوفاها بنفسه فيها قولان. مشروحان في "الغصب" النظر في أحدهما إلى تقرير المعير إياه وفي الثاني إلى مباشرته الإتلاف، وهو الأظهر، والمستعير من المستأجر من الغاصب حكمه حكم المستعير من الغاصب إن ضمنَّا المستعير من المستأجر، وإلاَّ فيرجع بالقيمة التي غُرمها على المستأجر على الغاصب والله أعلم. قال الغزالي: والمُسْتَعِيرُ كُلٌّ طَالِبٍ أَخَذَ المَالَ لِغَرَضِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، فَلَوْ أَرْكَبَ وَكِيلَهُ المُسْتَعْمَلَ فِي شُغْلِهِ دَابَّتَهُ فَتَلَفَتْ فَلاَ ضَمَان عَلَيْهِ، وَلَوُ أَرْكَبَ فِي الطَّرِيقِ فَقِيرًا تَصَدُّقًا عَلَيْهِ، فَالأَظْهَرُ أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ. قال الرافعي: ذكر حد المستعير ليبنى عليه مسائل، فقال: "والمستعير كل طالب أخذ المال لغرض نفسه من غير استحقاق". وزاد بعضهم وقال: وتملك، وقصد بهذه الزيادة الاحتراز عن المستقرض. وأما ففي الاستحقاق، والقصد منه الاحتراز عن المستأجر، والحد مع هذه الزيادة ودونها معترض من وجهين: أحدهما: أنه منقوض بالمُسْتَام من الغاصب. والثاني: أن التعرض لكونه طالبًا غير محتاج إليه، إذ لا فرق بين أن يلتمس المستعير حتى يعير، وبين أن يبتدئ المعير بالإعارة. وأما المسائل المشار إليها فمنها: أنه لو أركب وكيله الذي استعمله في إشغاله دابته وسيره إلى موضع، فتلفت الدابة في يده من غير تعدّ، فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يأخذها لغرض نفسه، وكذلك لو سلمها إلى رائض ليروضها، أو كان عليها متاع نفيس، فاركب إنساناً فوقه إحرازًا للمال. ومنها: لو وجد مَنْ أعيا في الطريق، فاركبه، فالمشهور أنه يضمن، سواء التمس
المدعي (¬1) أو ابتدأه المركب. وقال الإمام: إنه لا يضمن؛ لأن القصد من هذه العارية التصدق والقربة، والصدقات في الأعيان تفارق الهبات ألاَ ترى أنه يرجع في الهبة، ولا يرجع في الصدقة، وكذلك يجوز أن تفارق العارية التي هي صدقة سائر العَوَاري في الضمان، وأقام صاحب الكتاب هذا وجهاً وحكم بأنه أظهر. ولو أركبه مع نفسه، فعلى الرّدِيْفِ نصف الضمان، ورأى الإمام أنه لا يلزمه شيء تشبيهاً بالضيف، وعلى الأول لو وضع متاعه على دابة غيره، وأمره أن يسير الدابة، ففعل كان صاحب المتاع مستعيرًا للدابة بقسط متاعه مما عليها، حتى لو كان عليها مثل متاعه، وتلف ضمن نصف الدابة ولو لم يقل صاحب المتاع: سيرها، ولكن سيرها المالك لم يكن صاحب المتاع مستعيرًا، ودخل المتاع في ضمان صاحب الدابة؛ لأنه كان من حقه أن يطرحها، وإن كان لأحد الرفيقين في السفر متاعٌ للآخر دابة، فقال صاحب المتاع للآخر مَتَاعِي على دابتك، فأجابه، فصاحب المتاع مستعير لها. ولو قال صاحب الدابة: أعطني متاعك لأضعه على الدابة، فهو مستودع متاعه، ولا تدخل الدابة في ضمان صاحب المتاع، أورده كذا في "التهذيب". فرع: لو استعار دابة ليركبها إلى موضع، فجاوزه، فهو متعدّ من وقت المجاوزة، وعليه أجرة المثل ذهابًا ورجوعًا إلى ذلك الموضع، وفي لزوم الأجرة من غير ذلك الموضع إلى أن يرجع إلى البلد الذي استعار منه وجهان: وجه المنع: أنه مأذون فيه من جهة المالك. ووجه اللزوم: أن ذلك قد انقطع بالمجاوزة، وعلى هذا فليس له الركوب من ذلك الموضع، بل يسلمه إلى حاكم الموضع الذي استعار إليه. فرع: أودعه ثوبًا وقال: إن شئت تلبسه فالبسه، فهو قبل اللبس وديعة وبعده عارية وعن صاحب "التقريب" تخريج وجه آخر من السَّوْم؛ لأنه مقبوض على توقع الانتفاع كما أن المأخوذ على سبيل السوم مقبوض على توقع عقد ضمان قال: ولو قيل: لا ضمان في السوم أيضاً تخريجًا مما نحن فيه لم يبعد. فرع: استعار صندوقًا فوجد فيه دراهم، فهي أمانة عنده، كما لو طَيَّرَ الريح الثوب في داره. قال الغزالي: اصطلاحكم الثَّانِي: التَّسَلُّطُ عَلَى الانْتِفَاعِ، وَهُوَ بِقَدْرِالتَّسْلِيطِ، فَإِنْ ¬
أَذِنَ لَهُ فِي زِرَاعَةِ الحِنْطَةِ لَمْ يَزْرَعْ مَا ضَرَرُهُ وَزَرَعَ مَا ضَرَرَه فَوْقَهَا مِثْلُهَا أَوْ دُونَهِا إِلاَّ إِذَا نَهَاهُ، وَلَوْ أَذِنَ في الغِرَسِ فَبَنَى أَوْ في البِنَاءِ فَغَرَسَ فَوَجْهَانِ لاِخْتِلاَفِ جِنْس الضَّرَرِ، وَلَوْ أَعَارَ الأَرْضَ ولَمْ يُعَيِّنْ فَسَدَتِ العَارِيةُ، فَإِنْ عَيَّنَ جِنْسَ الزِّرَاعَةِ كَفَاهُ. قال الرافعي ومن أحكام العارية تسلّط المستعير على الانتفاع بحسب إذن المعير وتسليطه، وفيه مسائل: الأولى: إذا أعار أرضًا للزراعة، فأما أن يبين ما يزرعه أو يطلق، كما إذا قال: أعرتكها لزراعة الحنطة نظر إن لم ينه عن زراعة غيرها، فله أن يزرع الحِنْطَة وما ضرره مثل ضرر الحنطة، أو دونه، وليس له أن يزرع ما ضرره فوق ضرره كالذّرَةَ والقطن، فإن نهاه عن زراعة غيرها لم يكن له زراعة غيرها، وحيث زرع ما ليس له أن يزرعه، فلصاحب الأرض قلعة مجاناً، وإن أطلق ذكر الزراعة ولم يبين المزروع فوجهان: أصحهما، وهو المذكور في الكتاب أن الإعارة صحيحة، وله أن يزرع ما شاء لإطلاق اللفظ. والثاني: أنها لا تصح للتفاوت الظاهر بين أنواع المزروع، ولو قيل: تصح الإعارة، ولا يزرع إلاَّ أقل الأنواع ضررًا لكان مذهبًا والله أعلم. والثانية: إذا أعار للزراعة لم يكن له البناء، ولا الغراس؛ لأن ضررهما أكثر، والقصد منهما الدوام، ولو أعار للبناء فله أن يزرع ولو أعار للغراس هل له أن يبني أو للبناء هل له أن يغرس؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم لتقارب ضررهما، فإن كلاً منهما للابد. وأصحهما: لا لاختلاف جنس الضرر، فإن ضرر الغِرَاس في باطن الأرض أكثر لانتشار عروقه وضرر البناء في ظاهرها أكثر. الثالثة: إن كان المستعار لا ينتفع به إلاَّ بجهة واحدة كالبساط الذي لا يصلح إلاَّ أن يفرش فلا حاجة في إعارته إلى التعرض للانتفاع، وإن كان ينتفع به بجهتين، فصاعداً كالأرض تصلح للزراعة والبناء والغراس، والدابة تصلح للحمل والركوب، فهل تصح إعارته مطلقاً أم لا بد من التعرض لجهة الانتفاع؟ فيه وجهان: أحدهما، وهو الذي أورده القاضي الرّويانِيّ وصاحب "التهذيب" أنها تصح، ولا يضر ما فيها من الجهالة بخلاف الإجارة يشترط فيها التعيين؛ لأنه يحتمل في العارية ما لا يحتمل في الإجارة. وأظهرهما عند الإمام، وهو المذكور في الكتاب: أنه لا بد من تعيين نوع المنفعة؛
لأن الإعارة معونة شرعية جوزت للحاجة فلتكن على حسب الحاجة، ولا حاجة إلى الإعارة المرسلة، وعلى هذا فلو قال: أعرتك كذا لتفعل به ما بدا لك، أو لتنتفع به كيف شئت؟ فوجهان (¬1) على الوجه الأول للمستعير أن ينتفع به كيف شاء لإطلاق الإذن وقال القاضي الروياني ينتفع به على العادة فيه، وهذا أحسن، والله أعلم بالصواب. قال الغزالي: الحُكْمُ الثَّالِثُ: جَوَازُ الرُّجُوعِ عَنِ العَارِيةَ، إِلاَّ إِذَا أَعَارَ لِدَفْنِ مَيِّتْ فَيمَتْنعُ نَبْشُ القَبْر إِلَى أنْ يَنْدَرِسَ أَثَرُ المَدْفُونِ، وإِذَا أَعَارَ جِدَارًا لِوَضْعِ الجُذوع عَلَيْهِ فَلاَ يَستَفِيدُ بِالُّرجُوعِ قَبْلَ الاِنْهِدَامِ شَيْئًا إِذْ لاَ أجرةَ لَهُ حَتَّى يُطَالَبَ بِهِ وَلاَ يُمْكِنَ هَدْمُهُ والطَّرفُ الآخَرُ في خَاصَّ مِلكِ الجَارِ. قال الرافعي: الأصل في العارية الجواز حتى يجوز للمعير الرجوع متى شاء، وللمستعير الرد متى شاء؟ لأنه مبرة وتبرع، فلا يليق بها الالتزام فيما يتعلّق بالمستقبل، ولا فرق بين العارية المطلقة والمؤقتة. وعن مالك أنه لا يجوز الرجوع في المؤقتة، واستثنى الأصحاب من الأصل المذكور صورتين: إحداهما: إذا أعار أرضًا لدفن ميت. قال في "النهاية" فدفن ولم يكن له الرجوع ونبش القبر إلى أن يندرس أثر المدفون لما من النبش في هتك حرمة الميت. وقال في "النهاية" وله سقي الأشجار التي فيها إن لم يُفْض إلى ظهور شيء من بدن الميت، وله الرجوع قبل الحفر، وبعده ما لم يوضع فيه الميت. قال في "التتمة" وكذا بعد الوضع ما لم يواره التراب وذكر أن مؤنة الحفر إذا رجع بعد الحفر، وقبل الدفن على ولى الميت، ولا يلزمه الَّطمِّ (¬2). واعلم أن الدفن في الأرض إحدى منافعها كالبناء والغراس (¬3)، وقد ذكرنا خلافاً ¬
في أن التعرض للمنفعة يشترط في الإعارة أم إطلاق الأعارة لا يسلط على ما فيه من المنافع لكن الدفن ليس كسائر المنافع في ذلك، بل الوجه القطع بأن أطلاق الإعارة لا يسلط عليه لما فيه من ضرر اللزوم ولو قدر تسليطه عليه لكان ذلك ذريعة إلى إلزام عارية الأرضين. الثانية: إذا أعار جدارًا لوضع الجذوع عليه (¬1)، ففي جوز الرجوع وجهان. أن جوزناه: ففائدته طلب الأجرة للمستقبل، أو التخيير بينه وبين القلع، وضمان أرش النقصان فيه وجهان، وكل ذلك الشرح مذكور في "كتاب الصُّلْح" (¬2). والذي أجاب به صاحب الكتاب هناك جواز الرجوع، وأورد تفريعًا عليه الوجهين في فائدة الرجوع. وقوله هاهنا: "فلا يستفيد بالرجوع قبل الانهدام شيئًا" حاصلة الجواب (¬3) بمنع الرجوع؛ لأن أثر الرجوع إما طلب الأجرة أو الهدم أو ضمان النقصان، وقد تفاهما ¬
جميعاً في هذا الموضوع، وكان ذلك منعاً من الرجوع؛ ألاَ تَرَى إنه لما امتنع في الصورة السابقة طلب الأجرة والنَّبْش أطلقنا القول بمنع الرجوع. إذا كان كذلك جاز إعلام قوله: "فلا يستفيد بالرجوع قبل الانهدام شيئاً" بالواو. وكذلك قوله: "إذ لا أجرة له. قوله: "إذ لا إجرة له". وقوله: "ولا يمكن هدمه"، وقد بين في "الصُّلْح" الأصح من الوجهين ماذا. وحاول بعض من شرح هذا الكتاب الجمع بين كلامه هاهنا وبين قوله في الصُّلْح، فمهما رجع كان له النقض بشرط أن يغرم النقص، فحمل ما ذكره في "الصُّلْح" على ما إذا كان طرف الجُذُوع على المُسْتَعَار، وما ذكره هاهنا على ما إذا كان أحد الطرفين على خَاصّ ملك المستعير، لكن فيه نظر من حيث إن الوجه الثاني هناك، وهو قوله: وقيل: فائدة الرجوع المطالبة بالأجرة للمستقبل موجه في "الوسيط" وغيره بأن الطرف الآخر من خالص ملك المستعير، فلا يمكن تمكينه من نقضه، فلو كان التصوير هناك فيما إذا كان الطرفان على ملك المعير انتظم ذلك، وبالجملة فالأئمة لم يفرقوا في ثبوت الرجوع والوجهين في فائدة الرجوع إذا أثبتناه بين أن يكون على ملك المعير أحد طرفي الجُذُوع أو كلاهما والله أعلم. قال الغزالي: فَإِنْ أَعَارَ لِلبَنَاء وَالغِرَاسِ مُطْلَقَاً لَمْ يكُنْ لَهُ نَقَضُهُ مجَّاناً لأَنَّهُ محْتَرَمٌ، بَلْ يَتَخَيَّرُ أَنْ يِبقى باجرة أو ينقض بأرش أوْ يَتَمَلّكَ بِبَدَلٍ فَأَيُّهَا أَرَادَ أجُبِرَ المُسْتَعِيْرُ عَلَيْهِ، فَإنْ أبَى كُلِّفَ تَفْريغَ المِلْكِ، فَإِنْ بَادَرَ إلىَ التَّفْرِيْغِ بِالْقَلْعِ فَفِي وُجُوبِ تَسْوِيَةِ الحَفْرِ خِلاَفٌ؛ لأَنَّهُ كَالْمَأذُونِ فِي القَلْعِ بِأَصْلِ العَارِيةِ، وَيَجُوزُ لِلْمُعِيرِ دُخُولُ الأَرْضِ وَبَيْعُهَا قَبْلَ التَّفْرِيغِ، وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُسْتَعِيرِ الدُّخُولُ بَعْدَ الرُّجوعِ إلاَّ لِمَرَمَّة البِنَاءِ عَلَى وَجْهٍ، وَفِي جَوَازِ بَيْعَةِ البِنَاءِ خِلاَفٌ؛ لأنَّهُ مُعَرِّضٌ لِلنَّقْصِ، وَلَوْ قَالَ أعَرْتُكَ سَنَةً فَإذَا مَضَتْ قُلِعَتْ مَجَّانَاً فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ القَلْعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلاَّ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الخِصَالِ الثَّلاَثةِ كَمَا في العَارِيةِ المُطْلَقَةِ، وَإذَا أعَارَ للزِّرَاعَةِ وَرَجِعَ قَبْلَ الإِدْرَاكِ لَزِمَهُ الإبْقَاءُ إلى الإِدْرَاكِ، وَلَهُ أخْذُ الأُجْرَةَ مِنْ وَقْتِ الرُّجُوعِ، وَإذَا حَمَلَ السَّيْلُ نَوَاةً إلى أرْضٍ فَأَنْبَتَتْ فَالشَّجَرَةُ لِمَالِكِ النَّوَاةِ، وَالظَّاهِرُ أنَّ لِمَالِكِ الأَرْضِ قَلْعَهَا مَجَّاناً إذْ لاَ تَسْلِيطَ مِنْ جِهَتِهِ. قال الرافعي: إعارة الأرض للبناء والغراس تنقسم إلى مطلقة، وهي التي لم تبين لها مدة وإلى موقتة (¬1) وهي التي بين لها مدة. ¬
القسم الأول: المطلقة للمستعير فيها أن يبني ويغرس ما لم يرجع المعير، فإذا رجع لم يكن له البناء والغراس، ولو فعل وهو عالم بالرجوع قلع مجانًا، وكلف تسوية الأرض كالغاصب، وإن كان جاهلًا، فوجهان كالوجهين فيما لو حمل السيل نواة إلى أرض، فنبتت وربما شبهها بالخلاف في تصرف الوكيل جاهلاً بالعزل وأما ما بني وغرس قبل الرجوع، فإن أمكن رفعه من غير نقصان يدخله رفع، وإلاَّ فينظر إن كان قد شرط عليه قلعه مجاناً عند رجوعه وتسوية الحفر ألزم ذلك، فإن امتنع قلعه المعير مجاناً (¬1)، وإن كان قد شرط القلع دون التسوية لم يجب على المستعير التسوية؛ لأن شرط القلع رضيَّ بالحفر، وإن لم يشترط القلع أصلاً، نظر إن أراد المستعير القلع مُكِنّ منه؛ لأنه ملكه فله نقله عنه، فإذا قلع فهل عليه التسوية؟ فيه وجهان. أحدهما: لا؛ لأن الإعارة مع العلم بأن للمستعير أن يقلع رضا بما يحدث من القلع. وأظهرهما: (¬2) نعم؛ لأنه قلع باختياره، ولو امتنع منه لم يجبر عليه، ويلزمه رد الأرض إلى ما كانت عليه، وإن لم يختر المستعير القلع لم يكن للمعير قلعه مجانًا؛ لأنه بناء محترم، ولكنه يخير بين ثلاثة خصال: إحداهما: أن يبقيه بأجرة يأخذها. والثانية: أن يقلع ويضمن أرش النقصان وهو قدر التفاوت بين قيمته ثابتاً مقلوعًا. الثالثة: أن يتملكه عليه بقيمته، فإن اختار القلع، وبذل أرش النقص، فله ذلك والمستعير يجبر عليه وإن إختار أحد الخصلتين الأخريين أجبر المستعير عليه أيضاً فيما رواه جماعة، منهم الإمام، وأبُو الحسن العَبَّادِي، وصاحب الكتاب. وفي "التهذيب" أنه لا بد فيها من رضا المستعير؛ لأن إحدهما بيع، والأخرى ¬
إجارة، ويمكن أن يقرر وجه ثالث فارق بين التملك بالقيمة فيقال: إذا إختاره المعير أجبر المستعير، وهو كتملك الشفيع الشقص بهذا، وبين الإبقاء بالأجرة، فيقال: إنه لا بد فيه من رضا المستعير، ويستخرج هذا الفرق من قول من يقول من الأصحاب بتخير المُعِيْر بين خصلتين القلع، وضمان الأرش والتمليك بالقيمة، وهذا ما ذكره القَاضِي أَبُو عَلِيَّ الزجاجي وأكثر العراقيين وغيرهم، ويشبه أن يكون هذا أظهر في المذهب (¬1)، والمعنى المرجوع إليه في الباب أن العارية مكرمة ومبرة ولا يليق بها منع المعير من الرجوع، ولا تضييع مال المستعير، فأثبتنا الرجوع على وجه لا يتضرر به المستعير، وربطنا الأمر باختيار المعير لأنه الذي صدرت منه هذه المكرمة، ولأن ملكه الأرض وهي أصل والبناء والغراس فرع تابع لها، وكذلك يتبعها في البيع. فإذا عرفت ما ذكرناه أعلمت قوله: "فأيها أراد أجبر المستعير عليه" بالواو. وأما قوله: "فإن أبى كلف تفريغ لملك"، فاعلم أن من فوض الأمر إلى اختيار المعير في الخِصَال الثلاثة، قال منه الاختيار، ومن المستعير الرضا وإسعافه بما طلب، فإن لم يسعفه كلفناه بتفريغ أرضه. ومن اختار رضا المستعير, والتمليك بالقيمه والإبقاء بالأجرة فلا يكلفه التفريغ بل ¬
يكون الحكم عنده كالحكم فيما إذا لم يختر المستعير شيئاً مما خيرناه فيه، وسيأتي، فليكن قوله: "فإن أبى كلف تفريغ الملك" معلماً -بالواو- أيضاً ثم من قصر خيره المعير على خصلتي القلع، بشرط ضمان الأرش والتمليك قالوا لو امتنع من بذل الأرش أو القيمة بالقيمة وبذل المستعير الأجرة لم يكن للمعير القلع مجانًا وإن لم يبذلها فوجهان: أظهرهما: أنه ليس له ذلك أيضاً وبه أجاب الذين خيروه بين الخصال الثلاثة إذا امتنع منها جميعاً، وما الذي يفعل؟. قال بعض الأصحاب منهم أبُو عَلِيَّ الزَّجَّاجَيُّ: يبيع الحاكم الأرض مع البناء والغراس ليفاضل الأمر وقال الأكثرون ويحكى عن المُزِنِيِّ إنه يعرض الحاكم عنهما إلى أن يختار شيئا، ويجوز للمعير دخول الأرض، والانتفاع بها، والاستظلال بالبناء والشجر؛ لأنه جالس على ملكه، وليس للمستعير دخولها للتفرج بغير إذن المعير، ويجوز لسَقْي الأشجار وإصلاح الجدار على أصح الوجهين صيانة لملكه عن الضياع. ووجه المنع أنه يشغل ملك الغير إلى أن ينتهي إلى ملكه وعلى الأول لو تعطلت المنفعة على صاحب الأرض لدخوله. قال في "التتمة": لا يمكن إلاَّ بالاجرة، ولكل واحد من المعير والمستعير بيع ملكه من الآخر، وللمعير بيع الأرض من ثالث، ثم يتخير المشتري تخير المعير، وهل للمستعير بيع البناء من ثالث؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه في معرض النقض والهدم. ولأن ملكه عليه غير مستقر, لأن المعير بسبيل من تملكه. وأصحهما: نعم؛ لأنه مملوك في الحال، ولا اعتبار يمكنة تمليك الغير كتمكُّن الشفيع من تملك الشَّقْص، وعلى هذا فينزل المشتري منزلة المستعير، وللمعير الخيرة على ما ذكرناه، وللمشتري فسخ البيع إن كان جاهلًا بالحال. ولو أن المعير والمستعير اتَّفَقَا على بَيْع الأرض بما فيها بثمن واحد، فقد قيل: هو كما لو كان لهذا عبد، ولهذا عبد فباعاهما بثمن واحد. والأظهر: الجواز للحاجة، ثم كيف يوزع الثمن هاهنا وفيما إذا باعاهما الحاكم على أحد الوجهين في "التتمة" أنه على الوجهين المذكورين فيما إذا غرس الراهن في الأرض المرهونة أشجارًا، والذي أورده في "التهذيب" أنه يوزع على الأرض مشغولة بالغراس والبناء، وعلى ما فيها وحده، فَحِصَّة الأرض للمعير، وحصة ما فيها للمستعير، وحكم الدخول والانتفاع والبيع على ما ذكرناه في ابتداء الرجوع إلى الاختيار، فيما
امتنعنا من الاختيار وأعراض القاضي عنهما على وتيرة واحدة. القسم الثاني: العارية المقيدة بمدة فللمستعير البناء والغراس في المدة إلاَّ أن يرجع المعير، وله أن يجدد كل يوم غرسًا كذا قاله في "التهذيب"، وبعد مضي المدة ليس له إحداث البناء والغراس، وإذا رجع المعير عن العارية إما قبل مضي المدة، أو بعده، فالحكم كما لو رجع في القسم الأول، ويختص هذا القسم بشيئين: أحدهما: أن فيما قبل مضي المدة وجهاً أنه لا يتمكن من الرجوع، كما قدمناه عن مالك. والثاني: أن أَبَا حَنِيْفَةَ والمزني جَوَّزا له القَلْع مجاناً، فهذا رجع بعد المدة ذهاباً إلى أن فائدة ذهاب المدة القلع بعد مضيها مضبوطة. ونقل أَبُو عَلِيٍّ الزَّجَّاجِيُّ قولاً مثله عن رواية السَّاجيِّ، وهو اختيار القَاضِي الرُّوياني. ووجه ظاهر المذهب أنه مخير ما لم يشترط نقضه، فلا ينقض مجاناً، كما في العارية المطلقة، وبيان المدة كما يجوز أن يكون المنح من إحداث البناء والغراس بعدها، أو طلب الأجرة. وقوله في الكتاب: "بل يتخير بين أن يبقى بأجرة وينقض بأرش أو يتملك" ببدل المراد من الأرض مَا مَرَّ والتفاوت بين قيمته ثابتًا ومقلوعًا، ومن الأجرة أجرة المِثْلِ، ومن البدل القيمة عند من يقول باختيار المستعير على ما اخْتَارَهُ المعير منها، وما يتفقان عليه، ومن الأجرة والإبدال عند من يعتبر رضا المستعير. وقوله: "لأنه معرض للنقض" يمكن حمله على نقض الملك بأن يملكه المعير، وعلى نقض البناء بأن يقلعه، وهو الذي أراد صاحب الكتاب. وقوله: "لم يكن له إلاَّ التخيير بين الخصال الثلاثة معلم -بالحاء والزاي والواو- وسائر ما يحتاج إلى ذكره من ألفاظ الكتاب قد اندرج في أثناء الكلام، والله أعلم. فرع: قال أَبُو سَعِيدٍ المُتَوَلِّي: أحد الشريكين إذا بني، أو غرس في الأرض المشتركة بإذن صاحبه، ثم رجع صاحبه لم يكن له أن يغرم ويتقضى (¬1) لأنه للباني (¬2)، ويغرم أرش النقصان؛ لأنه يتضمن نقض بناء المالك في ملكه، ولأن يتملك بالقيمة في الأرض مثل حقه، فلا يمكننا أن نقول: الأصل للمعير والبناء تابع له، نعم له تقرير ¬
بالأجرة فإن لم يبذلها الثاني يباع، أو يعرض عنهما فيه ما سبق (¬1). قال الرَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى في الفصل صورتان (¬2). إحداهما: إذا أعار للزراعة، فزرعها ثم رجع قبل إدراك الزرع، نظر إن كان مما يعتاد قطعه كلف قطعه، وإلاَّ فقد ذكرناه للمعير خصالًا عند رجوع في البناء والغراس، واختلف الأصحاب هاهنا. فعن صاحب "التقريب" وجه: أن له أن يقلع، ويغرم أرش النقصان تخريجًا مما إذا رجع في العارية، المؤقتة للبناء قبل مضي المدة. وعن القاضي الطبري أنه يملكه بالقيمة، وظاهر المذهب أنه ليس كالبناء في هاتين الخصلتين؛ لأن للزرع أمدًا ينتظر والبناء والغراس للتأبيد، فعلى المعير إبقاءه للمستعير إلى أوان الحصاد ثم فيه وجهان: أحدهما: ويحكى عن المُزَنِيَّ، واختاره القاضي الروياني (¬3) أنه يبقيه بلا أجرة؛ لأن منفعة الأرض إلى الحصاد بالزرع، وأصحهما -وهو المذكور في الكتاب- أنه يبقيه بالأجرة لأنه إنما اباح المنفعة إلى وقت الرجوع فصار كما إذا أعاره دابةٍ إلى بلد، ثم رجع في الطريق عليه نقل متاعه إلى مأمن بأجرة المثل، ولو عين المعير للزراعة مدة، فانقضت المدة، والزرع غير مدرك، نظر أن كان ذلك لتقصيره في الزراعة بالتأخير، قلع مجاناً، وإلاَّ فهو كما لو أعاره مطلقاً وإن أعار للغسيل، قال الشيخ أبو محمد: إن كان ذلك مما يعتاد نقله، فهو كالزرع، وإلاَّ فكالبناء. فرع: قال في "التهذيب" إذا أعار للزراعة مطلقاً لم يزرع إلاَّ زرعًا واحداً، وكذا لو أعار للغراس، فغرس وقلع لا يغرس بعده إلاَّ بإذن من جديد، وهذا بين أن المعنى من قولنا فيما إذا أعار للبناء أو الغراس مطلقاً يبني ويغرس ما لم يرجع المعير؛ لأن البناء المأذون فيه جائز له ما لم يرجع، والمأذون فيه هو البناء مرة واحدة إلاَّ إذا كان قد صَرَّح له بالتجديد مرة بعد أخرى. ¬
الثانية: إذا حمل السيل (¬1) حبات، أو نويات لغيره إلى أرضه، فعليه ردها إلى مالكها إن عرفه، وإلاَّ دفعها إلى القاضي، فلو نبتت في أرضه فوجهان: أحدهما: أن مالكها لا يجبر على قلعها؛ لأنه يوجد منه تعدٍّ، وعلى هذا هو كالمستعير، فينظر في الثابت أهو شجر أم زرع؟ ويكون الحكم على ما سبق. وأصحهما: الإجبار؛ لأن المالك لم يأذن فيه، كما لو انتشرت أغصان شجرة المعير إلى هواء داره له قطعها, ولو حمل ما لا قيمة له من نواة واحدة أو حبة، فتنبت فهي لمالك الأرض في وجه؛ لأن التقويم والمالية حصل في أرضه، ولمالك الأصل في وجه؛ لأنها كانت محرمة الأخذ، فعلى هذا في قلع الثابت الوجهان (¬2) ولو قلع صاحب الشجرة، فعليه تسوية الأرض؛ لأنه قصد تخليص ملكه. قال الغزالي: الحُكْمُ الرَّابعُ: فَصْلُ الخُصُومَةِ، فإِذَا قَالَ رَاكِبُ الدَّابَّة لِمَالِكِها أَعَرْتَنِيهَا: وَقَالَ المَالِكُ: أَجَرْتُكَهَا فَالقَوْلُ قَوْلُ الرَّاكِبِ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ زَارعُ الأَرْضِ لِماَلِكِهَا فَالقُولُ قَوْلُ المَالِكِ لأنَّ عَارِيةَ الأَرْضِ نَادِرَةٌ، وقِيلَ في المَسْئَلَتَيَن قَوْلاَنِ بالنَّقَلِ والتَّخْرِيجِ، وَلَوْ قَالَ: بَلْ غَصَبْتَنِيهَا فَالقَوْلُ قَوْلُ المَالِكِ إِذِ الأَصْلُ عَدَمُ الإِذْنِ،، وَلَوْ قَالَ الرَّاكِبُ: أَرْكَبْتَنِيهَا وقَالَ المَالِكُ: أَعَرْتَكَهَا فاَلقَوْلُ قَوْلُ المَالِكِ إِذْ الأصْلُ عَدَمُ الإِجَارِةَ فَيحْلِفُ حَتَّى يَسْتَحِقُّ القِيمَةَ عِنْدَ التَّالفَ، وَجَوَازُ الرُّجُوعُ عِنْدَ القِيامِ. قال الرافعي: في الترجمة تساهل، فإن فصل الخصومة ليس حكماً للعارية، بخلاف الأحكام السابقة، والمقصود بيان مسائل: إحداها: إذا قال راكب الدابة لمالكها: أعرتني هذه الدابة، وقال المالك: بل أجرتك مدة كذا بكذا، فأما أن يفرض هذا الخلاف والدابة باقية أو هالكة. الحالة الأولى: أن تكون باقية، فأما أن يقع الاختلاف بعد مضي مدة لمثلها أجرة، والنص في "المختصر" أن القول قول الراكب مع يمينه، ونص في "باب الزراعة" أنه إذا زرع أرض الغير، ثم اختلفا هكذا أن القول قول المالك مع يمينه، ولإصحاب فيها طريقان. أحدهما: تقرير النصين؛ لأن الدواب يغلب فيها الإعارة، وفي الأراضي يندر، فصدق في كل صورة من الظاهر معه، وذكر في "الرقم" أن هذا أظهر عند القَفَّال. ¬
وأصحهما: عند الجمهور، وبه قال الرَّبِيعُ والمُزَنِيَّ وابْنُ سُرَيْجٍ بأن الصورتين على القولين، ثم منهم من يقول بحصولهما على سبيل النقل والتخريج. ومنهم من يقول: هما منصوصان في كل واحد من الصورتين. أصحهما: تصديق المالك، وبه قال مالك والمزنى، كما لو اختلفا في عين مال، فقال المالك: بعتكها، وقال من في يده؛ وهبتنيها، فإن المصدق هو المالك، وكما لو أكل طعام الغير، وقال: كنت أبحته لي، فأنكر المالك فالقول قوله. والثاني: تصديق الراكب والزارع، ويحكى هذا عن أبي حنيفة؛ لأنهما أتفقا على أن المنفعة مباحة له، والمالك يدعى عليه الأجرة، والأصل براءة ذمته عنها، وإلى هذا مال الشيخ أبُو حَامِدٍ. وفرق الأئمة: بين هذه المسألة، وبين ما إذا غسل ثوبه غسال، أو خاطه خياط، ثم قال: فعلته بالأجرة، وقال المالك: بل مجاناً حيث كان القول قول المالك مع يمينه قولًا واحداً، فإن الغَسَّال فوت منفعة نفسه، ثم دعى لها عوضاً على الغير، وهاهنا المتصرف فوت منفعة مال الغير، وأراد إسقاط الضمان عن نفسه، فلم يقبل. التفريع إن صدقنا المالك فعلى ما يحلفه حكى الإمام عن شيخه في طائفة إنه إنما يحلف على نفي الإعارة التي تدعى عليه، ولا يتعرض لإثبات الإجارة مع نفي الإعارة، وكان السبب فيه أن ينكر أصل الإذن حتى يتوصل إلى إثبات المال بنفي الإذن، ونسبته إلى الغَصْب، وإذا بأصل الإذن، فإنما يثبت المال بطريق الإجارة، فملكناه الحلف على إثباته. فإن قلنا: لا يتعرض إلاَّ لنفي الإعارة فإذا حلف استحق أقل الأمرين من أجرة المثل أو المسمى؛ لأنه إن كان أجر المثل أقل لم تَقَمْ حجة على الزيادة، وإن كان المسمى أقل فقد أقر أنه لا يستحق الزيادة. وإن قلنا: يتعرض لهما ففيما يستحقه وجهان: أحدهما: المسمى إتمامًا لتصديقه. وأظهرهما: ويحكى نصًّا في "الأم" أجرة المثل؛ لأنهما لو اتفقا على الإجارة واختلفا في الأجرة كان الواجب أجرة المثل، وإذا اختلفا في أصل الإجارة كان أولى، والإمام لم يحك الوجه الثاني هكذا, ولكن حكى بدله أنه يستحق أقل الأمرين كما سبق، والتعرض للإجارة لي هذا ليس لإثبات المال الذي يدعيه، ولكن لينتظم كلامه من حيث إنه اعترف بأصل الإذن، فحصل فيما يستحقه ثلاثة أوجه كما ترى، وإن نكل المالك عن اليمين المعروضة عليه لم ترد اليمين على الراكب، والزارع؛ لأنهما لا يدعيان حقاً عل المالك حتى يثبتا باليمين، وإنما يدعيان الإعارة، وليست هي حقًّا لازماً على المعير. وعن أبِي الحُسَيْنِ رمز إلى أنها ترد ليخلص من الغرم، ولو صدقنا الراكب
والزارع، فهذا حلف على نفي الإجارة كفاه، وبرئ، وإن نكل رد اليمين على المالك، واستحق بيمينه المسمى؛ لأن اليمين المردودة كالبينْة، أو كالإقرار، وأيهما كان يثبت به المسمى. فيه وجه ضعيف: أنه يستحق أجرة المثل؛ لأن الناكل ينفي أصل الإجارة فيقع المدعي على إثباته. القسم الثاني: أن يقع الاختلاف قبل مضي مده لمثلها أجرة، بل عقب العقد، والقول الراكب مع يمينه، فهذا حلف على نفي الإجارة سقط دعوى الإجارة، وردت اليمين إلى المالك، فإن نكل حلف المالك اليمين المردودة، ويستحق الأجرة وإنما لم يجئ القولان في هذه الصورة؛ لأن الراكب لا يدعي لنفسه حقاً، ولم يتلف المنافع على المالك، فالمدعي على الحقيقة هو المالك، وهناك تلفت المنافع تحت يد الراكب بعد القول بإحاطتها، فهو الذي جرَّ الخلاف. الحالة الثانية: أن تكون الدابة هالكة، فإن تلفت عقب الأخذ قبل أن يثبت لمثلها أجرة فالراكب يقر بالقيمة، والمالك ينكرها، ويدعى الأجرة، فتخرج على خلاف ما تقدم في أن اختلاف الجهة هل يمنع الأخذ؟ وإن قلنا: نعم سقطت القيمة برده، والقول قول من رد الأجرة فيه الطريقان المذكوران في الحالة الأولى. وإن قلنا: لا، فإن كانت الأجرة مثل القيمة، أو أقل أخذها بلا يمين، وإن كانت أكثر أخذ قدر القيمة، وفي المصدق في الزيادة الخلاف السابق. وقوله في الكتاب: "فالقول قول الركب" معلم -بالميم والزاي. وقوله: "والقول قول المالك" معلم -بالحاء- ولا يخفي عليك بعد ما ذكرنا في لفظ الكتاب في المسألة "وإن كان مطلقا" فالمراد القسم الأول من الحاله الأولى. المسألة الثانية: إذا قال المتصرف: أعرتني هذه الدابة والأرض وقال المالك؛ بل غصبتنيها، فإن لم تمضي مدة لمثلها أجرة، فلا معنى لهذه المنازعة؛ إذ لم تفت العين، ولا المنفعة، ويرد المال إلى المالك، وإن كان النزاع بعد مضي مده لمثلها أجرة. نقل المزني أن القول قول المستعير، وللأصحاب فيه ثلاثة طرق: أظهرها: أن الحكم على ما ذكرنا في المسألة الأولى، فيفرق بين الدابة، وبين الأرض على طريق، ويجعلان على قولين في طريق؛ لأن المالك ادعى أجرة المثل هاهنا، كما يدعي المسمى هناك، والأصل براءة الذمة. والثاني: القطع بأن القول قول المالك، بخلاف تلك المسألة لأنهما متفقان على الإذن هناك، وهاهنا المالك منكر له، والأصل عدمه، ومن قال بهذا خطأ المزني في النقل. قال الشيخ أَبُو حَامِدٍ: لكنه ضعيف؛ لأن الشَّافعي -رضي الله عنه- نص في "الأم" على ما نقله المُزَنِيُّ.
الثالث: القطع بأن القول قول المتصرف؛ لأن الظاهر من حاله أنه لا يتصرف إلاَّ على وجه جائز، هذا إذا تنازعا والعين باقية. أما إذا كانت هالكة نظر إن هلكت بعد مضي مدة يثبت لمثلها أجرة، فالمالك يدعي أجرة المثل والقيمة بجهة الغصب، والمتصرف ينكر الأجرة، ويقره بالقيمة بجهة العارية، فالحكم في الأجرة على ما ذكرناه عند بقاء العَيْنِ. وأما القيمة فقد قال في "التهذيب": إن قلنا: إن اختلاف الجهة يمنع الأخذ، فلا يأخذها إلاَّ باليمين. وإن قلنا: لا يمنع؛ فإن قلنا العارية تضمن ضمان الغصب، أَو لم نقل به، ولكن كانت قيمته يوم التلف أكثر أخذها باليمين، وإن كانت قيمته يوم التلف أقل، أخذ بلا يمين، وفي الزيادة يحتاج إلى يمين، وإن هلكت عقيب القبض، وقبل مضي مدة يثبت لمثلها أجرة لزمه القيمة، ثم قياس ما نقلناه عن "التهذيب" إلا أن يقال: إن جعلنا اختلاف الجهة مانعاً من الأخذ حلف، وإلاَّ أخذ من غير يمين، وقضية ما ذكره الإمام أنه لا تخريج على ذكر الخلاف لا هذه الصورة، ولا ماذا كان الاختلاف بعد مضي مدة يثبت لمثلها أجرة قال: لأن العين متحدة، ولا وقع الاختلاف في الجهة مع اتِّحَاد العَيْن: والظاهر الأول. وقوله في الكتاب: "والقول قول المالك" معلم -بالواو- لما ذكرنا من اضطراب الطرق، وربما أعلم بالزاي -لأنه قال في "الوسيط": قال المزني: "والقول قول الراكب"، وهذا ليس بقويم؛ لأن المزني لم يقل ذلك، ولا صار إليه، وإنما نقله عن الشَّافعي -رضي الله عنه- كلما تقدم، ثم أخذ يعترض عليه، واختياره في المسألة تصديق المالك، كما اختار في المسألة الأولى، ولو قال المالك: غصبتنيها، وقال المتصرف: بل أجرتني. فالجواب تفريعاً على الأصح أنه إن كانت العين باقيةً ولم تمض مده لمثلها أجرة، فالمصدق المالك فإن حلف استرد المال، وإن مضت مدة لمثلها أجرة، فالمالك يدعي أجرة المثل، والتصرف بالمسمى، فإن استويا، أو كانت أجرة المثل أقل أخذ بلا يمين، وإن كانت أجرة المثل أكثر أخذ قدر المسمى بلا يمين، والزيادة باليمين. قال صاحب "التهذيب": ولا يجيء هاهنا خلاف اختلاف الجهة؛ كما لو ادعى المالك فساد الإجارة، والمتصرف صحتها يحلف المالك، ويأخذ أجرة المثل، وإن كان الاختلاف بعد بقاء العين مدة في يد المتصرف، وتلفها، فالمالك يدعي أجرة المثل والقيمة، والمتصرف يقر بالمسمى، وينكر القيمة، فللمالك أخذ ما يقر به بلا يمين، وأخذ ما ينكره باليمين، ولو قال المالك: غصبتني، وقال صاحب اليد: بل أودعتني،
فرع
فيحلف المالك على الأصح، ويأخذ القيمة إن تلف المالك، وأجرة المثل إن مضت مدة لمثلها أجرة (¬1). المسألة الثالثة: قال راكب الدابة، أكريتنيها، وقال المالك: بل أعرتكها، فإن اختلفا والدابة باقية، فالمصدق المالك في نفي الإجارة؛ لأن الراكب يدعي استحقاق المنفعة عليه، والأصل عدمه، فهذا حلف استردها، فإن نكل حلف الراكب، واستحق الإمساك، ثم إن كان قد مضى مدة لمثلها أجرة، فالراكب يقر له بالأجرة، والمالك ينكرها, ولا يخفى حكمه، وإن كان الاختلاف بعد هلاك الدابة، فإن هلكت عقيب القبض، فالمذهب أن المالك يحلف، ويأخذ القيمة؛ لأن الراكب أتلف عليه ماله، ويدعي أنه أباحه له، والأصل عدمه، وخرج قول مما مر في المسألة الأولى أن المصدق الراكب؛ لأن الأصل براءة ذمته، وإن هلكت مدة لمثلها أجرة؛ فالمالك يدعي القيمة، وينكر الأجرة، والراكب يقر بالأجرة، وينكر القيمة. فإن قلنا: اختلاف الجهة يمنع الأخذ حلف، وأخذ القيمة، ولا عبرة بإقرار الراكب. وإن قلنا لا يمنع، وهو الأصح، فإن كانت القيمة والأجرة سواء، أو كانت القيمة أقل أخذها بلا يمين، وإن كانت القيمة أكثر أخذ الزيادة باليمن. فرع: إذا استعمل المستعير العارية بعد رجوع المعير، وهو جاهل بالرجوع لم تلزمه الأجرة ذكره القَفَّال (¬2). ¬
فرع
فرع: إذا مات المستعير وجب على ورثته الرَّد، وإن لم يطلب المعير (¬1) والله أعلم. ¬
كتاب الغصب، وفيه بابان
كتَابُ الغَصْبِ، وَفِيهِ بَابَانِ البَابُ الأَوَّلُ في الضَّمانِ قال الغزالي: وَفِيهِ ثَلاثةَ أَرْكَانٍ: الأَوَّلُ: المُوجِبُ وَهَو ثَلاثَةٌ: التَّفْوِيِتُ بِالمُبَاشَرَةِ أَوِ التَّسْببُ أَوْ إِثْبَاتُ اليَدِ العَادِيَّةِ، وَحَدُّ المُبَاشَرَةِ إيجادُ عِلَّة التَّلَفِ كَالقَتْلِ وَالأَكْلِ وَالإحْرَاقِ، وَحَدُّ السَّبَبِ إِيِجَادُ مَا يَحْصُلُ الهَلاَك عِنْدَهُ لِكَنْ بِعِلَّةٍ أُخْرَى إِذَا كَانَ السَّبَبُ مِمَّا يُقْصَدُ لِتَوَقُّعِ تِلْكَ الِعَّلةِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى المُكْرِهِ عَلَى إِتْلاَفِ المَالِ، وَعَلَى مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَحَلِّ عُدْوَانٍ فَتَردَّتْ فِيهِ بَهِيَمةُ إِنْسَانٍ، فَإِنْ رَدَّاهُ غَيْرُهُ فَعَلَيَ المُرَدِّي تَقْدِيماً لِلمُبَاشَرَةِ عَلَى السَّبَبِ. قال الرافعي: للأصحاب في (¬1) التعبير عن معنى الغَصْب عبارات. إحداها: أنه أخذ مال الغير على جهة التعدَّي، وربما يقال: الاستيلاء على مال الغير (¬2). والثانية: وهي أعم من الأولى: أنه الاستيلاء علي مال الغير بغير حق (¬3)، واختار الإمام هذه العبارة، وقال: لا حاجة إلى التقيد بالعدوان، بل يثبت الغصب، وحكمه من غير عدوان، كما إذا أوع ثوباً عند إنسان، ثم جاء وأخذ ثوباً للمودع على ظن أنه ثوبه، أو لبسه الموع، وهو يظن أنه ثوبه. والثالثة: وهي أعم من الأوليين حَكى أبُو العَبَّاسِ الرُّويانِيُّ عن بعض الأصحاب إطلاق القول بأن كل مضمون على ممسكه، فهو مغصوب حتى المقبوض بالشراء ¬
الفاسد والوديعة إذا تعدَّى فيها المودع، والرهن إذا تعدى فيه المرتهن. وأشبه العبارات وأشهرهما الأولى، وفي الصورة المذكورة الثابت الغَصْب لا حقيقته (¬1)، وفي الكتاب والسُّنَّة ما يدل على تحريم الغَصْب، ويشير إلى جمل من أحكامه، قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وعن أبي بكرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في خطبته يوم النحر: (إِنَّ أَمْوالَكُمْ وَدِمَاءَكُمْ وأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا في بَلَدِكُمْ هَذَا في شَهْرِكُمْ هَذَا) (¬2) وعن سمرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (عَلَى اليَدِ مَا أَخَذَتْ حَتى تُؤَدِّيَهُ) (¬3). وعن إبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طَوَّقَهُ اللهُ -تَعَالَى- مِنْ سَبْعِ أَرْضِيْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ) (¬4). ¬
والإجماع منعقد على تحريم الغصب، وتعلّق الضمان به. ثم المغصوب إما أن يتلف قبل العود إلى يد المالك، أو لا يتلف، وينئذ فإما أن يعود إلى المالك من غير تغيير فيه، وإما أن يتغير بطارئ، فخص المصنف كلام الكتاب في بابين: أحدهما: في الضمان عند التلف. والثاني: في الطوارئ وأحكامها. أما الأول: فالحاجة فيه إلى معرفة ما يوجب الضمان، وما يجب ضمانه، وما يوجب ضمانًا فهذه ثلاثة أركان: الأول: الموجب والغصب وإن كان موجبا للضمان فالموجب غير منحصر فيه، بل الإتلاف أيضاً موجب، بل هو أقوى، فإنه بمجرده يوجب إشغال الذمة بالضمان، والغصب بمجرده لا يوجبه، وإنما يوجب دخول المغصوب في ضمانه حتى إذا تلف اشتغلت الذمة بالضَّمان، الاتلاف قد يكون بالمباشرة، وقد يكون بالسبب، فصارت الأسباب ثلاثة: التفويت بالمباشرة، والتفويت بالتسبب، وإثبات اليد العادية، وهو الغَصْب أما التفويت بالمباشرة والتسبب، فأول مبدئه بيانهما، والفرق بينهما. واعلم أن ماله مدخل في هلاك الشيء إما أن يكون يضاف إليه الهلاك في العادة إضافة حقيقية، أو لا يكون كذلك، ومالا يكون كذلك، فأما أن يكون بحيث يقصد بتحصيله حصول ما يضاف إليه الهلاك، أو لا يكون كذلك، الذي يضاف إليه الهلاك يسمى علّة، والإتيان به مباشرة، ومالا يضاف إليه الهلاك، ويقصد بتحصيله ما يضاف إليه يسمى سبباً والإتيان به تسببًا هذا القصد، والتوقع قد يكون لتأثير بمجرده فيه، وهو علة العله، وقد يكون بانضمام أمور إليه هي غير بعيدة الحصول، وقد يخص اسم السبب بالنوع الأول، وعلى ذلك جرى صاحب الكتاب في أول "الكتاب الجراح". وأما هاهنا فإنه فسر السبب بمطلق ما يقصد به حصول العلّة، وفسره في "الآيات" بما هو أعم من ذلك، فقال: السبب ما يحصل الهلاك عنده بعلّة سواه، ولكن لولاه لما أثرت العلة، فلم يعتبر إلاَّ أنه لا بد منه، وعلى هذا التفسير فكل شرط سبب (¬1). ولما ¬
فُسر في الأبواب بتفاسير مختلفه اختلفه اعتبار الحَفْر مع التردِّي، فسمي الحفر هاهنا، وفي "الديات" سببًا وامتنع منه في أول الجراح، واقتصر على تسميته شرطاً، وفي الجملة فيكفي للتأثير في الأموال مالاً يكتفي به للتأثير في القصاص، والحكم المقصود لا يختلف باختلاف التعبيرات، والاصطلاحات، ولكن كان الأحسن الاستمرار على تفسير واحد وتعليق الأحكام عليه، ثم إنه اندفع في بيان صور من مسمي المباشرة والتسبب، والمباشرة لقتل والأكل والإحراق، ومن التسبب الإكراه على إتلاف مال الغير، فإن الإكراه مما يقصد لتحصيل الإتلاف، ومنه إذا حفر بئرًا في محل عدواناً، فتردَّت فيها بهيمة، أو عبد أو حر، فإن ردا غيره فالضمان على المردي؛ لأن المباشرة تتقدم على السبب والكلام فيه، وفي موضع عدوان الحفر الحفر يستقصي في "الجنايات" إن شاء الله تعالى. وقوله في الكتاب: "والموجب وهو ثلاثة" ظاهره يقتضي حصر أصباب الضمان في الثلاثة، وقد يقال: كيف حصرها في الثلاثة وله أسباب أخر الاستيام والاستعارة وغيرها؟ (والجواب) أنه يجوز أن يريد الأسباب الذي ضمنها قد ماء الأصحاب هذا الباب، فأما ما عداها فلها مواضع مفردة. وقوله: "التفويت بالمباشرة أو التسبب أو إثبات اليد العادية" إدخال "أو" في السبب حسن؛ لأنه طريق للتفويت، كما أن المباشرة طريق، لكن إدخالها في إثبات اليد العادية لا يحسن؛ لأنه سبب للضمان برأسه لا لأنه طريق للتفويت. وقوله: "وحد المباشرة إيجاد علة التلف" أي إيجاد علة التفويت ولفظ "الإيجاد" لا يستحبه المتكلم إلا أن المعنى فيه مفهوم وأراد بـ"علة التلف" ما ذكرناه من أنه يضاف
إليه التلف في العرف، وإنما قلنا: إنه أضافه حقيقيه؛ لأن الهلاك قد يضاف إلى السبب فيقال: هلك مال فلان بسعاية فلان، لكنه مجاز بدليل صحة النفي عنه. وقوله: "إيجاد ما يحصل الهلاك عنده لفظه هاهنا ليست للحصر والمقارنه، وإنما المراد عقيبه، أو ما أشبه ذلك. وقوله: "إذا كان السبب" إعادة لفظ "السبب" في حد السبب، وتفسيره مما لا يتحسن، ولو طرحه لا نتظم الكلام، والله أعلم. قال الغزالي: وَلَوْ فَتَحَ رَأْسَ زِقٍّ فَهَبَّتْ رِيحٌ وَسَقَطَ وَضَاعَ فَلاَ ضَمَانَ، لأَنَّ الضَّيَاعَ بِالرِّيحَ وَلاَ يُقْصَدُ بِفَتْحِ الزِّقِّ تَحْصِيِلُ الهُبُوبِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ فَتَحَ الحِرْزِ فَسَرَقَ غَيْرُهُ، أَوْ دَلَّ سَارِقًا فَسَرَقَ، أَوْ بنَيَ دَارًا فَألْقَي فِيَها الرِّيحُ ثَوْباً، أَوْ حَبَسَ المَالِكُ عنِ المَاشِيَةِ حَتَّي هَلَكَتْ فَلاَ ضَمَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَا إِذَا نَقَلَ صَبِيًّا حُرًّا إِلىَ مَضْيِعَةِ فَافْتَرَسَهُ سَبُعٌ، وَلَوْ نَقَلَهُ إِلى مَسْبَعَةٍ أَوْ فَتَحَ الزِّقّ. حَتَّي أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ وَأَذَابَتْ مَا فِيهِ فَفي الضَّمَانِ خِلاَفٌ؛ لأنَّ ذلِكَ يُتَوَقَّعُ فَيُقْصَدُ، وَكَذلِكَ نَقُولُ: إِذاَ غَضَبَ الأَمُهَّاَتِ وَحَدَثَتِ الزَّوَائِدُ وَالأَوْلاد في يَدِهِ مَضْمُونَةً وَكَاَنَ ذَلِكَ تَسَبُّبًا إِليَ إِثْبَاتَ اليَدِ، وَلَوْ فَتَحَ قَفَصَ طَائِرِ فَوَقَفَ ثُمَّ طَارَ لَمْ يَضَمْنْ لأَنَّهُ مُخْتَارٌ، وإِنْ طَارَ في الحَالِ ضَمِنَ، لأَنَّ الفَتْحَ في حَقِّهَ تَنَفِيرٌ، وَكَذَا البَهِيمَةُ والعَبْدُ المَجْنُونُ المُقَيَّدُ بِمَنْزِلَةَ البَهِيمَةَ، وَإِنْ كَانَ العَبْدُ عَاقِلاً فَلاَ يَضْمَنُ مَنْ فَتَحَ بَابَ السِّجْنِ وَإِنْ كَانَ آبِقَاً، وَلَوْ فَتَحَ رَأَسَ الزِّقِّ فَتَقَاطَرَتَ قطَرَاتٌ وَابْتَلَّ أَسْفَلُهُ وسَقَطَ ضَمَنِ؛ لأَنَّ التَّقَاطُر حَصَلَ بِفِعْلِهِ، وَلَوْ فَتَحَ الزِّقَّ عَنْ جَامَدٍ فَقَرّبَ غَيْرهُ النَّارَ مِنْهُ حَتَّى ذَابَ وَضَاعَ فَالثَّاني بِالضَّمَانِ ولَى، وَقِيلَ: لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِمَا. قال الرافعي: في الفصل مسألتان: (¬1) أحداهما: لو فتح رأس زِقٍّ، فضاع ما فيه نظر إن كان مطروحًا على الأرض فاندفق ما فيه بالفتح ضمن، وإن كان منتصبًا لا يضيع ما فيه بالفتح لو بقي كذلك، لكنه سقط نظر إن سقط بفعله بأن كان يحرك الوكاء ويجد به حق أفض إلى السقوط ضمن؛ لأنه والحالة هذه فتح رأسه وأسقطه، وكذلك لو سقط بما يقصد تحصيله بفعله كما لو فتح رأسه فأخذ ما فيه في التقاطر شيئاً فشيئاً حتى أميل أسفله وسقط، ضمن لأن السقوط بالميلان الناشئ من الابتلال الناشئ من التقاطر الناشئ من الفتح وهو مما يقصد تحصيله بالفتح، وإن سقط بأمر عارض من زلزلة، أو هبوب ريح، أو وقوع طائر ¬
فلا ضمان؛ لأن الهلاك لم يحصل بفعله، وإلا فعله مما يقصد به تحصيل ذلك العارض. وعن مالك فيما ذكره المسْعُودِيُّ أنه يجب الضمان؛ لأنه لولا الفتح لما ضاع ما فيه بالسقوط، ولو جاء إنسان واسقط، فالضمان عليه لا على الفاتح، ولو أنه لما فتح رأسه أخذ ما فيه من الخروج، ثم جاء آخر ونكسه مستعجلاً فضمان الخارج بعد التنكيس عليهما كالخارجين، أو على الثاني وحده كالخارج مع الخارج فيه وجهان: أصحهما: الثاني هذا إذا كان ما في الزِّقِّ مائعًا أما إذا كان جامداً، فشرقت الشمس فأذابته فضاع، أو ذاب بمرور الزمان، وتأثير حرارة الهواء فيه وجهان: أحدهما: أن الضياع إنما حصل بعارض الشروق، فأشبه هبوب الريح. وأصحهما: الوجوب؛ لأن الشمس تذيب ولا نخرج، فيكون الخروج بفعله وكأن الشمس كما يعلم شروقها، فيكون الفاتح معرضاً لما فيه للشمس، وذلك تضييع بخلاف هبوب الريح فإنه مما ينتظر. وعن القاضي الحُسَيْنِ: إجراء الوجهين فيما إذا زال أوراق الكروم، وجرَّد عنا قيدها للشمس حتى أفسدها، وطرد أيضاً فيما إذا ذبح شاة إنسان، فهلكت سخلتها، أو حمامته فهلك فرخها لفقدان ما يصلح لهما. ولو جاء آخر وقرب نارًا من الجامد حتى ذاب وضاع فوجهان: أحدهما: أنه لا ضمان على واحد منهما أما الأولى فلان مجرد الفتح لا يقتضي الضمان. وأما الثاني فلأنه لم يتصرف في الظرف ولا في المظروف. وأظهرهما وهو اختيار صاحب "المهذب": وجوب الضمان على الثاني؛ لأن تقرب النار منه تصرف بالتضييع والإتلاف، والوجهان جاريان في تقريب الفاتح النار منه، وفيما إذا كان رأس الزِّقِّ مفتوحًا فجاء إنسان وقرب منه النار، ولو حل رباط سفينة، فغرقت بالحل ضمن، ولو غرقت بسبب حادث من هبوب الريح أو غيره لم يضمن، وإن لم يظهر سبب حادث فوجهان مذكوران في "المهذب"، وليكن الأمر كذلك في "مسأله الزق" إذا لم يظهر حادث لسقوطه (¬1). الثانية: لو فتح قفصًا عن طائر وهَيَّجه حتى طار ضمنه (¬2)؛ لأنه أتلفه على مالكه، ¬
وإن لم يزد على فتح القفص، فطار الطائر، فأما أن يطير في الحال، أو يقف ثم يطير. فأما في الحالة الأولى فطريقان. أظهرهما: أن في وجوب الضمان قولين: أحدهما: أنه لا يلزمه الضمان؛ لأن للحيوان قصدًا واختيارًا، ألا ترى أنه يقصد ما ينفعه، ويتوقى المهالك، وغاية الموجود من الفاتح التسبب إلى تضييعه، فتقدم عليه مباشرة الطائر واختياره. وأظهرهما: اللزوم؛ لأن الطائر ينفر ممن يقرب منه، فإذا طار عقيب الفتح أشعر ذلك بأنه نفره. والثاني: القطع بالقول الثاني؛ ومنهم من فرّق بين أن يخرج الطائر من غير اضطراب، وبين أن يضطرب، ثم يخرج فبدل ذلك على فزعه وتنفره. وأما في الحالة الثانية فطريقان أيضاً: أحدهما: أنه على قولين. وأظهرهما: القطع ينفي الضمان؛ لأن الطيران بعد الوقوف أمارة ظاهرة على أنه طار باختياره. وإذا اختصرت قلت في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن يضمن مطلقًا، وبه قال مالك وأحمد، واختاره أبو خلف السلمي، والقاضي الروياني وغيره من الأصحاب. وثانيها: لا يضمن مطلقاً. وأظهرها: أنه يضمن إن طار في الحال، ولا يضمن إن وقف ثم طار وروى عن أبي حنيفة مثله، وأيضاً مثل القول الثاني وهو أشهر، ذكر العراقيون أن الثاني هو قوله في القديم. وفي "التهذيب" عن طريقة القولين في الحالة الثانية أن القديم لا يضمن، وفيما جمع من "فتاوى القفال" وغيره تفريعاً على وجوب الضمان إذا طار في الحال أنه لو ثبت هرة، كما لو فتح القفص ودخلت، وقتلت الطائر لزمه الضمان، كأنهم جعلوا الفتح إغراء للهرة كما أنه تنفير للطائر، وأنه لو كان القفص مغلقًا، فاضطرب بخروج الطائر، وسقط وانكسر وجب ضمانه على الفاتح، وأنه لو كسر الطائر في خروجه قارورة أنسان لزمه ضمانه؛ لأن فعل الطائر منسوب إليه (¬1)، وأنه لو كان شعير في جراب مشدود ¬
الرأس، وبجنبه حمار ففتح فاتح رأسه فأكله الحمار في الحال لزمه الضمان، وإذا حل رباط بهيمة أو فتح الاصطبل، فخرجت وضاعت (¬1)، فالحكم على ما ذكرنا في فتح القفص، وحكى الإمام أن شيخه أبا محمد كان يثبت الفرق بين الحيوان النافر بطبعه والأنس، ويجعل خروج الإنس على الاتصال كخروج النافر على الانفصال. قال: وهذا منقاس، ولكني لم أره إلاَّ له. وإذا خرجت البهيمة في الحال، وأتلفت زرع إنسان فعن القفال: أنه إن كان نهارًا لم يضمن، وإن كان ليلاً ضمن كما في دابة نفسه. وقال العرقيون: لا يضمن إذ ليس عليه حفظ بهيمة الغير عن الزرع عليه (¬2). ولو حل قيد العبد المجنون أو فتح باب السجن فذهب، فهو كما لو حل رباط البهيمة، وإن كان عاقلاً نظر إن لم يكن آبقًا فلا ضمان؛ لأن له اختيارًا صحيحًا، وذهابه محال عليه، وإن كان آبقًا ففيه خلاف للأصحاب منهم من جعل حل قيده كحل رباط البهيمة؛ لأنه أطلقه، وقد اعتمد المالك ضبطه فأتلفه عليه، فعلى هذا يجيء فيه التفصيل السابق، وهذا ما أورده في "التهذيب". والأظهر: أنه لا ضمان بحال كما في غير الآبق، وهو المذكور في الكتاب. ولو وقع طائر على جداره، فنفره لم يضمن؛ لأنه كان ممتنعاً من قبل، ولو رماه في الهواء فقتله ضمن، سواء كان في هواء داره، أو في غيره، إذ ليس له المنع الطائر من هواء ملكه، هذا شرح المسألتين، وكانت صورة المسألة الأولى مبددة في الكتاب، فنظمها، وقد أدرج وفي خلالها صورًا للاستشهاد لانهملها، وإن كانت تأتي في الشرح في مواضعها. منها لو فتح باب الحِرْز فسرق غيره، أو دلَّ سارقًا فسرق أو أمر غاصبا حتى غصب، أو بني دارًا فألقت الريح فيها ثوباً فضاع لا ضمان عليه؛ لم يوجد منه إثبات يد ¬
على المال، ولا مباشرة إتلاف ولا تسبب يمكن تعليق الضمان به. أما في الصورة الأخيرة فلا تسبب أصلاً؛ لأنه لا يقصد ببناء الدار ذلك، وأما فيها سواها فلانة طرأ عليه مباشرة المحتاز فانقطعت الإضافة إلى السبب. ونها لو حُبِسَ المالك عن ماشيته حتى تلفت لا ضمان عليه؛ لأنه لم يتصرف في المال، ولكنه تصرف في المالك، وكان هذا التصوير فيما إذا لم يقصد منعه عن الماشية، وإنما القصد حبسه فأفضى الأمر إلى هلاكها؛ لأن أبا سعيد المتولي أجرى الوجهين المذكورين فيما إذا فتح الزق عن جامد، فذاب ما فيه بشروق الشمس وضاع وفيها إذا كان زرع ونخيل، وأراد سوق الماء إليهما، فمنعه ظالم من السَّقي حتى فسدت هل يلزمه الضمان (¬1)؟ ومنها: لو نقل صبيًا حرًا إلى مضيعة فاتفق سبع فافترسه لا ضمان عليه إحالة للهلاك على اختيار الحيوان، ومباشرته، وأنه لا يقصد بالنقل ذلك. أما إذا كان نقله إلى مسبعه (¬2) فافترسه سَبُعٌ، فقد حكى صاحب الكتاب وجهين إلحاقًا بالوجهين في مسألة شروق الشمس. والمشهور من مذهبنا أنه لا ضمان، وإنما يوجبه أبو حنيفة. وأما قوله: "وكذلك نقول إذا غصب الأمهات وحدثت الزوائد والأولاد في يده مضمونة" فهذا وإن كان مذكوراً على سبيل الاستشهاد، لكنه يشتمل على مسألة مقصودة في الباب، وهي أن زوائد المغصوب منفصلة كانت كالولد والثمرة والبيض، أو متصلة كالسمن، وتعلم الصنعة مضمونة على الغاصب كالأصل، سواء طالبه المالك بالرد أو لم يطالبه، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة هي أمانة لا يضمنها إلاَّ بما يضمن سائر اومانات، ويروي مثله عن مالك. لنا أن غَصْب الأم يتضمن منع حصول الولد من يد المالك، فليكن كإزالة يده عنه كما أن من غَرَّ بحرية أمه فأحبلها كان الولد حرًا، وضمن قيمته لأن باعتقاد حرية الأم يقع دخول الولد في ملكه، فجعل كإتلاف ملكه، وأيضاً فإن اليد العادية مضمونة كالإتلاف ثم الإتلاف قد يكون على سبيل المباشرة وقد يكون على سبيل التسبب، وكذلك اليد وإثبات اليد على الأصول تسبب إلى إثبات اليد على الأولاد، فليتعلق به ¬
الضمان، وهذا معنى قوله في الكتاب: "وكان ذلك تسببًا إلى إثبات اليد" واستشهد بالمسألة بقوله: "إن ذلك يتوقع فيقصد" ولنطرد هذه القاعدة ذهب بعضهم إلى أنه إذا غصب هادي القطيع، فتبعه القطيع أو البقرة فتبعها العجل يضمن القطيع والعجل (¬1)، والله أعلم. قال الغزالي: أَمَّا إِثْبَاتْ اليَدِ فَهَوَ مُضَمَّنٌ، وإِذَا كَانَ عُدْوانًا فَهُوُ غَصْبٌ، والمُودِعُ إِذَا جَحَدَ فَهُوُ مَنْ وَقْتِ الجُحُدِ غَاصِبٌ، وَإِثْبَاتُ اليَدِ في المَنْقُولِ بِالنَّقْلِ إلاَّ في الدَّابَّةِ فَيكْفِي فِيِهَا الرُّكوُبَ (و)، وفِي الفَرَسِ الجُلُوُسِ عَلِيْهِ فَهُوِ غَايَةُ الاستِيْلاَء، وفِي العَقَارِ (ح) يَثْبُتُ الغَصْبُ بِالدُّخُولِ وَإِزْعَاجِ المَالِكِ، وَإِنْ أَزْعَجَ وَلَمْ يَدْخُلْ لَمْ يَضْمَنْ. وَإِنْ دَخَلَ وَلَمْ يُزْعِجُ وَلَمْ يَقِصْدِ الاسْتِيلاَءِ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ قَصَدَ صَارَ غَاصِبًا لِلنِّصْفُ والنِّصْفُ فِي يَدِ المَالِكِ، والضَّعِيْفُ إذا دَخَلَ دَارَ القَوِيَّ وَهُوَ فِيِهَا وَقَصَدَ الاسْتِيلاَءِ لَمْ يَضْمَنْ؛ لأنْ المَقْصُودَ غَيْرُ مُمْكِنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ القَوِيُّ فِيِهَا ضَمِنَ لأنَّهُ فِي الحَالِ مُسّتَوْلٍ وأَثَرُ القُوَّةِ في القُدْرَةِ عَلَى الاِنْتِزَاعِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ غَصَبَ قَلَنْسُوَةَ مَلِكٍ ضَمِنَ في الحَالِ. قال الرافعي: السبب الثالث إثبات اليد العادية ينقسم إلى مباشرة بأن يغصب الشيء، ويأخذه من مالكه، وإلى التسبب وهو في الأولاد وسائر الزوائد، كما مر أن إثبات اليد على الأصول سبب إلى إثباتها على الفروع: وقوله في الكتاب: "إثبات اليد فهو مضمن" يعني إثبات اليد العادية، كما ذكرنا في أول الركن لا مطلق إثبات اليد. وقوله: "إذا كان عدواناً فهو غصب" يعني إذا كان عدوانًا بمباشرته، ويمكن أن يحمل قوله: "إن إثبات اليد مضمون" على أنه جهة للضامن في الجملة، فهذا انضمت إليه العدوانية، فهو غصب إما بالمباشرة أو بالتسبب، وهذا أحسن، واللفظ إليه أقرب، لكنه صرح بالأول في "الوسيط" والظاهر أنه أراد هاهنا ما صرح به هناك. وقوله: "إذا جحد فهو من وقت الجحود غاصب" هذه الصورة وحكمها مذكورة ¬
في "الوديعة"، والداعي إلى ذكرها في هذا الموضع أن أبا حنيفة يقول: غاصب الأصل وإن أثبت اليد على الولد، لكنه لم تزل يد المالك، والغصب عبارة عن إزالة يد المالك، فمنع الأصحاب اعتبار قيد الإزالة في الغَصْب، واحتجوا عليه أن المودع من وقت الجحود غاصب، وبأنه لو طولب بولد المغصوب، فامتنع كان غاصبًا، وإن لم تزل يد المالك، ولمن ينازع أن يقول: لا غصب في الصورتين، لكنه يضمن ضمان المغصوب لتقصيره في الأمانة في الجحود والامتناع، ثم تكلم فيما تثبت به اليد العادية في العقار والمنقول. أما المنقول فالأصل فيه النقل، لكن لو ركب دابة الغير، أو جلس على فراشه، ولم ينقله فقد حكى الإمام فيه وجهين: أحدهما: أنه لا بد من النقل، كما لا بد منه في قبض المبيع، وسائر العقود. وأصحهما وهو المذكور في الكتاب: أنه يكون غاصبًا لحصول غاية الاستيلاء بصفة الاعتداء، ولمن نصره أن يجيب عن احتجاج الأول بأن القبض في البيع له حكمان: دخول في ضمانة، وذلك حاصل بالركوب والجلوس من غير نقل. والثاني: تمكنه من التصرف، فالركوب إما أن يكون بإذن البائع، أو دون إذنه، فإن أذن البائع فالتمكن حاصل، وإن لم يأذن فلا يتمكن، لكن الحكم في النقل بغير إذنه مثله، فإذا لا فرق، ويشبه أن تكون المسألة مصورة فيما إذا قصد الراكب أو الجالس الاستيلاء أما إذا لم يقصده ففي "التتمة" في كونه غاصبًا وجهان. قال: وهذا كان المالك غائبًا، أما إذا كان حاضرًا، فإن زعجه وجلس على الفراش ضمن، وهذا إن لم يزعجه، وكان بحيث يمنعه من دفعه والتصرف فيه، وقياس ما سيأتي في نظيره في العقار ألا يكون غاصبًا إلاَّ لنصفه والله اعلم. وأما العقار فإما أن يكون مالكه فيه أو لا يكون إن كان فيه فأزعجه ظالم، ودخل الدار بأهله على هيئة من يقصد السُّكني فهو غاصب، سواء قصد الاستيلاء، أم لم يقصد، فإن وجود نفس الاستيلاء يغنى عن قصده، ولو سكن بيتاً من الدار، ومنع المالك عنه دون باقي الدار، فهو غاصب لذلك البيت دون باقى الدار، فإن أزعج المالك، لكنه لم يدخل الدار فقد أطلق هاهنا. وفي "الوسيط" أنه لا يضمن، واعتبر دخول الدار في غصبها, لكن قدم في "البيع" أنه لا يعتبر في قبض العقار دخوله والتصرف فيه، وإنما المعتبر التمكن من التصرف بالتخلية، وتسليم المفتاح إليه، وإذا كان حصول التمكين بتمكين البائع قبضاً، وجب أن يكون حصوله بالتسليط في أخذ المفتاح بالقهر غصبًا، وإن لم يوجد الدخول،
وهذا ما يدل عليه كلام عامة الأصحاب، فإنهم لم يعتبروا إلاَّ الاستيلاء ومنع المالك عنه، ولم يذكر الإمام المسألة كما ذكرها صاحب الكتاب، ولكن قال: لا يحصل الغَصْب بنفس الإزعاج، فإنه بمثابة منع المالك عن ماشيته، وحمل هذا على ما ذكره الأكثرون هين، ولو لم يزعج المالك، ولكنه دخل واستولى مع المالك كان غاصبًا لنصف الدار لاجتماع يدهما واستلائهما عليه، نعم لو كان الداخل ضعيفًا والمالك قوي لا يعد مثله مستوليًا ولم يكن غاصبًا لشيء من الدار ولا عبره بقصد مالا يتمكن من تحقيقه أما إذا لم يكن مالك العقار فيه ودخل على قصد الاستيلاء فهذا غاصب وإن كان الداخل ضعيفًا وصاحب الدار قويًا لأن الاستيلاء حاصل في الحال واثر قوة المالك سهولة ازالته والانتزاع من يده فكان كما لو سلب قلنسوة ملك يكون غاصبًا وإن سهل على المالك انتزاعها وتأديبه. وفيه وجه أن لا يكون غاصبًا؛ لأن مثله في العرف يعد هزءًا، ولا استيلاء وإن دخله لا على قصد الاستيلاء بل لينظر هل يصلح له أو ليتخذ مثله لم يكن غاصبًا. قال في "التتمة" لكن لو أنهدمت في تلك الحالة هل يضمنها فيها وجهان. أحدهما: نعم؛ كما لو أخذ منقولاً من بين يدي مالكه لينظر هل يصلح له ليشتريه، فتلف في تلك الحالة فإنه يضمنه. وأصحهما: لا؛ بخلاف المنقول وفرق بينهما بأثر اليد على المنقول حقيقة فلا يحتاج في إثبات حكمها إلى قرينة وعلى العقار حكمية فلا بد من تحقيقها من قرينة الاستيلاء وهذا الفرق كأنه راجح إلى الأصح وإلاَّ فوجهان جاريان في المنقول على ما سبق. وقوله خاصة بل المعنى إذا وجد الانتفاع والاستيلاء التام على المنقولات في الكتاب "إلاَّ في الدابة وفي الفراش" ليس القصد من الاستيلاء الدابة والفراش ولا شيء في المنقولات فيكفي على وجه وقوله "وفي العقار يثبت الغصب" معلم -بالحاء- لأن عند أبي حنيفة لا يثبت فيه الغصب لنا أن العقار تثبت عليه اليد فيدخله الغصب كالمنقول. وقوله "بالدخول إزعاج المالك" اعتبار الدخول والازعاج جميعاً، وفي اعتبار الدخول ما ذكرنا فيجوز أن يعلم قوله "بالدخول" بالواو وكذا قوله "لا يضمن". واما الإزعاج فهو غير معتبر في غصب العقار أيضاً ألاَ تَرىَ انه لو كان المالك غائباً يوجد الغصب ولا إزعاج ولو استولى مع المالك غاصبًا للنصف ولا إزعاج بل الاعتبار باليد والاستيلاء حتى لو اقتطع قطعة من ارض ملاصقة لارضه وبنى عليها حائطا وأضافها إلى ملكه يضمنها إلاَّ أن الاستيلاء في الغالب يحصل بالدخول والازعاج فلذلك ذكرهما والله أعلم.
قال الغزالي: وَكُلُّ يَدٍ تُبْتَنَى عَلَى يَدِ الغَاصِبِ فهِيَ يَدُ ضَمَانٍ إِنْ كَانَ مَعَ الِعلْمِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الجَهْلِ بِالغَصْبِ فَهُوَ أَيْضًا يَدُ ضَمَانٍ، وَلكَنْ في إِقْرارَ الضَّمَانِ تَفْصِيِلٌ، وَكُلُّ يدٍ لَو ابْتُنَيِ عَلىَ يَدِ المَالِكِ اقْتَضَى أَصْلُ الضَّمَانِ كَيْدَ العَارِيَةِ وَالسَّوْمَ وَالشِّرَاء، فَإِنِ ابْتُنَيِ عَلىَ يَدِ الغَاصِبِ مَعَ الجَهْلِ اقْتَضَى قَرَارَ الضَّمَانِ عِنْدَ التَّلَفِ، وَمَا لأكيْدِ الوَدِيَعةِ وَالإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالوَكَالَةِ لاَ تَقْتَضِي قرَارَ الضَّمَانِ. قال الرافعي: قد مر أكثر صور الفصل في "باب الرَّهْن" من الكتاب مع الخلاف، واقتصر هاهنا على ذكر ظاهر المذهب، وهو أن كل يد ترتبت على يد الغاصب، فهي يد ضامن (¬1) حتى يتخير المالك بين أن يطالب الغاصب عند التلف، وبين أن يطالب من ترتبت يده، على يده سواء علم الغصب، أو لم يعلم؛ لأنه أثبت يده على مال الغير بغير إذنه، والجهل غير مسقط للضمان. ثم الثاني إن علم بالغصب، فهو كالغاصب من الغاصب، يطالب بكل ما يطالب به الغاصب، وإن تلف المغصوب في يده، فاستقرار ضمانه عليه حتى لو غرم لم يرجع على الأول، ولو غرم الأول رجع إليه إذا لم تختلف قيمته في أيديهما، أو كانت في يد الثاني أكثر. أما إذا كانت في يد الأول أكثر، فلا يطالب بالزيادة إلا الأول، ويستقر عليه، وإن جهل الثاني الغَصْب، فإن كان اليد في وضعها يد ضمان، كالعارية، فيستقر الضمان على الثاني، وإن كانت يد أمانة كالوديعة، فيستقر على الغاصب. وإذا تأملت الشرع هناك أعلمت قوله: "وإن كان مع الجهل بالغصب فهو أيضاً يد ضمان" بالواو بالوجه الذاهب إلى أيدي الأمانات لا تقتضى الضمان عند الجهل، وكذا قوله: "لا يقتضى قرار الضمان" للوجه الذاهب فيها إلى القرار. واعلم أن الطريق المنسوب إلى العراقيين لم يورده الإمام هاهنا كما سبق في "الرَّهْن" ولكن نقل عنهم فرقًا بين أيدي الأمانات على نحو ما تقدم عنهم من التصديق عند دعوى الرد، والاعتماد على ما سبق هناك. ¬
وأما ما يتعلق باللفظ، فقدله: "وكل يد تبتني" على هكذا يوجد في الأكثر، ويقرأ لكن الابتناء متعد كالبناء، فالوجه أن يقال: ابتنت وقد تستعمل اللازمه الأبتناء، فيمكن أن تراعى الصورة، ويقرأ ابتنت وقوله: "تقرير ضمان" يعني بصفة الاستقرار. وأما عند الجهل، فهو يد ضمان، وفي صفة الاستقرار التقضيل. وقوله: "اقتضت أصل الضمان" ينبغى أن يكون الضمان هاهنا مفسرًا باستقرار اليد عليه إذا حصل التلف في يده، ثم البدل القيمة تارة، والثمن أخرى، وهذا لأن الشراء معدود من أيدي الضمان، فليكن التفسير ما يشمل الشراء، والكلام في تفصيل ما يضمن المشتري من الغاصب، وسائر ما يناسبه يأتي في الفصل الثالث من الباب الثاني، إن شاء الله تعالى، والقرض معدود من أيدي الضمان. ولو وهب المغصوب من إنسان، فتلف في يده، فالقرار على الغاصب في أحد القولين؛ لأن يد الاتهاب ليست يد ضمان، وعلى المتهب في أصحهما؛ لأنه أخذه للتمليك. قيل: هو كالمودع. ومنهم: من قطع بأنه لا يطالب؛ لأن كون الزوجة في حبالة الزوج ليس ككون المال في يد صاحب اليد. قال في "التهذيب": وهو المذهب. قال الغزالي: وَمَهْمَا أَتْلفَ الآخِذُ مِنَ الغَاصِبِ فَالقَرَارُ عَلَيْهِ أَبَدًا، إِلاَّ إِذا كَانَ مَغْرُورًا، كَمَا لَوْ قَدَّمِ إِلَيْهِ ضِيَافَةً فَفِيهِ قَوْلاَنِ لِمُعَارَضَةِ الغُرُورِ وَالمُبَاشَرَةِ، وَكَذَا الخِلاَفُ فِيمَا لَوْ غَرَّ الغَاصِبُ المَالِكَ وَقدَّمَهُ إِلَيْهِ فَأَكَلَهُ المَالِكُ، وَهَاهُنَا أَوْلَيِ بأَنْ يَبْرَأَ الغَاصِبُ، وَكَذَلِكَ يَطَّرِدُ الخِلاَفُ في الإيِدَاعِ وَالرَّهْنِ وَالإِجَارَةِ مِنَ المَالِكِ إِذَا تَلَفَ في يَدِهِ، وَلَوْ زَوَّجَ الجَارَيةَ مِنَ المَالِكِ فَاسْتَولَدَهَا مَعَ الجَهْلِ نَفَذَ اَلاستيلادُ وِبَرئَ الغَاصِبُ، وَكَذلِكَ لَوْ وَهَبَهُ مِنْهُ فَإِنَّ التَّسْليِطَ تَامٌّ، وَلَوْ قَالَ: هُوَ عَبْدَي فَأَعْتِقْهُ فَقَدْ قِيلَ: لاَ يَنْفُذُ عتْقُهُ لأَنَّهُ مَغْرُورٌ، وَقِيلَ: يَنْفُذُ وَيَرْجعُ بالغُرْمِ، وَقِيلَ: لاَ يَرْجعُ بِالغُرْمِ. قال الرافعي: عرفت حكم قرار الضمان عند تلف المغصوب في يد من ترتبت يده على يد الغاصب، أما إذا أتلفه، فينظر إن استقل به قرار الضمان عليه؛ لأن الإتلاف أقوى من إثبات اليد العادية، فإن حمله الغاصب عليه، كما إذا غصب طعامًا، فقدمه إلى إنسان ضيافة حتى أكله، فالقرار عليه أيضاً، إنْ كان عالماً، وإن كان جاهلًا، فقولان: أحدهما: أن القرار على الغاصب؛ لأنه غَرَّهُ، حيث قدم الطعام إليه، وأوهم أنه لا تبعة فيه، ويروى هذا عن القديم، وبعض كتب الجديد. وأصحهما: وهو المشهور من الجديد.
وبه قال أَبُو حَنْيِفَة والمُزنِيُّ أن القرار على الآكل؛ لأنه المتلف، وإليه عادت منفعته، فعلى هذا إذا غرم لم يرجع على الغاصب، والغاصب إذا غرم يرجع على الآكل، وعلى الأول الحكم بالعكس، وهذا إذا قدم الطعام، ولم يذكر شيئاً. أما إذا قدمه، وقال: هو ملكي، ففي رجوع الآكل على الغاصب القولان، ولو غرم الغاصب. قال المُزنِيُّ: يرجع على الآكل، وغلطه الأصحاب؛ لأن في ضمن قوله: "إنه ملكى" اعتراف بأنه مظلوم بما غرم، والمظلوم لا يرجع على غير الظالم، ولو وهب المغصوب من غيره، وأتلفه، ففيه القولان، وأولى بأن يستقر الضمان على المتهب لحصول الملك له، ولو قدم الطعام المغصوب إلى عبد إنسان، فأكله، فإن جعلنا القرار على الحر إذا قدمه إليه فأكله، فهذه جناية من العبد يباع فيها، وإلاَّ فلا يباع، وإنما يطالبه الغاصب، كما لو قدم شعيرًا مغصوبًا إلى بهيمة غيره من غير إذن مالكها. ولو غصب شاة، وأمر قَصَّابًا فذبحها جاهلا بالحال، فقرار ضمان النقصان على الغاصب، ولا يخرج على الخلاف في أكل الطعام؛ لأنه ذبح للغاصب. وهناك انتفع به لنفسه، ولو أمر الغاصب إنسانًا، فأتلف المغصوب بالقتل، والإحراق، ونحوها، ففعله جاهلًا بالغصب. فمنهم كم جعله على القولين في أكل الطعام. والأصح: القطع بأن القرار على المتلف؛ لأنه محظور، بخلاف الآكل، ولا وقع للتغرير مع الحظر، ثم في الفصل صور: إحداها: لو قدم الطعام المغصوب إلى مالكه، فأكله جاهلًا بالحال، فإن قلنا في التقديم إلى الأجنبي إن القرار على الغاصب لم يبرأ الغاصب هاهنا، وإن جعلنا القرار على الآكل برئ الغاصب هاهنا. وبه قال أبو حنيفه، وربما نصر العراقيون الأول لكن قد سبق في المسألة المبنى عليها أنْ الأصح ثبوت الاستقرار على الآكل. وحكى الإمام عن الأصحاب أنهم رأوا البراءة هاهنا أولى من الاستقرار، وهاهنا تعرف المالك في ضمن إتلافه يتضمن قطع علقة الضمان عن الغاصب. وتابعه صاحب الكتاب على ذلك، وبنيا على هذه الأولوية تردد الشيخ أبِي مُحَمَّدٍ فيما إذا أودع، أو رهن، أو أجر المالك، وهو جاهل بالحال، فتلف المغصوب عنده؛ لأن يد المالك إذا ثبتت قطعت أثر الضمان، وظاهر المذهب أن الغاصب لا يبرأ في هذه الصور، كما أن الضمان لا يتقرر على الأجنبي، وعلى عكسه لو باع، أو أقرض، أو أعار من المالك، فتلف عنده يبرأ الغاصب، ولو دخل المالك دار الغاصب، فأكل طعامًا
على اعتقاد أنه طعام الغاصب، فكان طعامه المغصوب يبرأ الغاصب؛ لأنه أتلف مال نفسه في جهة منفعته من غير تغرير من الغاصب. ولو صال العبد المغصوب على مالكه، فقتله المالك لم يبرأ الغاصب من الضمان، سواء علم أنه عبده، أو لم يعلم؛ لأن الإتلاف بهذه الجهة، كإتلاف العبد نفسه، ولهذا لو كان العبد لغيره لا يضمنه. وفيه وجه: أنه يبرأ عند العلم لإتلافه مال نفسه في مصلحته. الثانية: لو زوج الجارية المغصوبة من مالكها، وهو جاهل، فتلفت عنده، فهو كما لو أودع المغصوب عنده، فتلف ثم لو استولدها نفذ الاستيلاء، وبرئ الغاصب. ومنهم من أثبت فيه خلافاً، وهو قريب من الخلاف الذي نذكره في إعتاقه. الثالثة: لو قال الغاصب لمالك العبد المغصوب: أعتقه فأعتقه جاهلًا بالحال، ففي نفوذ العتق وجهان: أحدهما: أنه لا ينفذ؛ لأنه لم يرض بإعتاق عبده. وأصحهما: النفوذ لإضافة العتق إلى رقيقه، والعتق لا يدفع بالجهل، وعلى هذا فوجهان: أحدهما: أنه لا يبرأ الغاصب عن الضمان، بل يرجع المالك عليه بالغرم؛ لأنه لم يرض بزوال ملكه. وأصحهما: البراءة لانصرافه إلى جهة صرفه إليها بنفسه، وعادت مصلحتها إليه، ولو قال أعتقه عني، وفعل جاهلًا ففي نفوذ العتق الوجهان إن نفذ ففي وقوعه عن الغاصب وجهان. قال في "التتمة": الصحيح المنع. ولو قال المالك للغاصب: أعتقه عني، أو مطلقاً فأعتق عتق، وبرئ الغاصب. قال الغزالي: (الرُّكْنُ) الثَّانِي في المُوجَبِ فِيهِ، وَهُوَ كُلُّ مَالٍ مَغصْوُب، وَينْقَسِمُ إِلىَ الحَيوَانِ وَغَيْرِهِ، فَالحَيَوَانُ يُضْمنُ بِقِيِمَتِهِ حَتَّى العَبْدُ يَضْمَنُ عِنْدَ التَّلَفَ وَالإتْلاَف بأَقْصَى قِيمِتَهِ، وَلَوْ قَطَعَ الغاصِبُ إِحْدَى يَدَيِ العَبْدِ الْتَزَمَ أَكْثَرَ الأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشَ النُّقْصَانِ لأنَّهُ تَلَفَ تَحْتَ يَدِهِ إِذَا قُلْنَا جِرَاحُ العَبْدِ مُقَدَّرٌ، وَلَوْ سَقَطَتْ يَدُهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لاَ يَضْمَنُ أَلاَّ أَرْشَ النُّقْصَانِ، وَلاَ يَجِبُ في عَيْنِ البَقَرَةِ وَالفَرَسِ إِلاَّ أَرْشُ النَّقص، وَلاَ يَضُمَنُ الخَمْرَ لِذِمِّيِّ وَلاَ مُسْلِمِ، وَلكَنْ يَجِبُ رَدُّهَا إِنْ كَانَتْ مُحْتَرَمَةَ، وَلاَ يُرَاقُ عَلىَ أَهْلِ
الذِّمَّةِ إلاَّ إِذَا أَظْهَروُهَا، فَإِنْ أُرِيقَ فَلاَ ضَمَانَ، وَكَذَلِكَ المَلاَهِى أَذَا كُسِرَت، فَإنْ أُحْرِقَتْ وَجَبَ قِيمَةُ الرِّضُّاَضِ لأنَّهُ غيرُ جائِزٍ، وَكَذا في الصَّليِبِ وَالصَّنَمِ وَالمُسْتَولَدَةِ وَالمُدَبَّرِ، وَالمُكَاتَبُ مُلْحَقٌ في الضَّمَانِ بِالعَبْدِ القنِّ. قال الرافعي: في الموجب فيه قال: حملة المذهب المضمونات قسمان: أحدهما: ما ليس بمال، وهو الأحرار فيضمنون بالجناية على النفس والطرف بالمباشرة تارة وبالسبب أخرج. والقول في هذا القسم يبسط في "الجنايات". والثاني: ما هو مال، وينقسم إلى الأعيان والمنافع، والأعيان، قسمان: الحيوان وغيره، والحيوان: قسمان الآدمي وغيره. أما الآدمي فتضمن النفس والطرف من الرقيق بالجناية، كما يضمن الحر، ويضمن أيضاً باليد العادية وبدل نفسه قيمته بالغة ما بلغت، سواء قتل أو تلف تحت اليد العادية. وأما الأطراف والجراحات فتنقسم إلى ما لا تقدر واجبه من الحر، والواجب فيه من الرقيق ما ينقص قيمته، سواء حصل بالجناية، أو تحت اليد العادية، وإلى ما يتقدر من الحر مما يحصل منها بجناية فيه قولان: أصحهما: وهو الجديد: أنه يتقدر من الرقيق أيضًا والقيمة في حقه كالدية في الحر، فيجب في يد العبد نصف قيمته، كما يجب في الحر نصف ديته، وعلى هذا القياس. والثاني: وينسب إلى اختيار ابْنِ سُرَيْج أن الواجب ما ينقص من القيمة، كما في سائر الأموال، وما يحصل تحت مجرد اليد العادية، كما إذا غصب عبداً، فسقطت يده بآفة سماوية، فالواجب فيه قدر النقصان. وفيه وجه: أنه إذا كان النقصان أقل من المقدر وجب ما يجب على الجاني، والمذهب الأول؛ لأن ضمان اليد سبيله سبيل ضمان الأموال، ألا تَرَىَ أنه لا يتعلق به القصاص، ولا الكفارة، ولا يضرب على العاقلة بحال؟ ولهذا لو كان قدر النقصان أكثر من المقدر كان هو الواجب بالأتفاق. فإن قلنا بالجديد، فلو قطع الغاصب يد العبد المغصوب لزمه أكثر الأمرين من نصف القيمة، أو أرش النقصان لاجتماع السببين حتى لو كانت قيمته ألفا، ونقص أربعمائة وجب خمسمائة، ولو نقص ستمائة وجب ستمائة، ولو قطع يديه، فعليه كل قيمته، وكذلك لو قطع أنثييه، فزادت قيمته، لو كان الناقص بقطع الغاصب ثلثي قيمته،
فالواجب ثلثا القيمة على القولين. وأما على القديم فلأنه قدر النقصان. وأما على الجديد فالنصف واجب بالجناية والسدس باليد العادية، ولو كان الناقص بسقوط اليد ثلث قيمته، فهو الواجب على القديم، وكذا على الجديد جواباً على أصح الوجهين، وعلى الثاني الجواب نصف القيمة والمستولدة والمكاتب والمدبّر يلتحقون في الضمان بالعبد القِنّ. وقال أبو حنيفة: المستولدة لا تضمن بالغصب، لنا القياس على المدبر بجامع بقاء الرق فيهما، ألاَ تَرَىَ أنه يملك تزويجها، وإجارتها، ويأخذ قيمتها لو قتلت. وأما غير الآدمي من الحيوانات، فالواجب فيها باليد والجناية القيمة، وفيما يتلف من أجزائها ما ينقص من القيمة، ولا فرق في ذلك بين نوع ونوع. وعن أبِي حَنِيْفَةَ أن الإبل والبقر والخيل، وما له اللحم والظهر معاً يجب في إحدى عينيه ربع القيمة استحسانًا، وبه قال أَحْمَدُ في الخيل خاصة. أما القياس على أطرافها، وعلى ماله اللحم وحده كالغنم أو الظهر وحده، كالبغال والحمير، ولا فرق أيضاً بين مالك ومالك. وعن مالك أن في قطع ذنب حمار القاضي تمام القيمة؛ لأنه لا يصلح له بعد ذلك. وعن أحمد رواية مثله. لنا أن النظر في الضمان إلى نفس المفوت، لا إلى أغراض الملاك، ألاَ تَرَىَ أنه في وطء جارية الأب بالشبهة مهر المثل، كما في وطء جارية الأجنبي بالشبهة وأن تضمن وطء جارية الأب تحريمها عليه. وأما غير الحيوان، فينقسم المثلي والمتقوم (¬1)، وسيأتي ما يضبطهما في الركن الثالث. بقى من فقه الفصل مسألة، وهي أن الخمر والخنزير لا يضمنان للمسلم ولا للذمي، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: يجب الضمان في إراقة خمر الذمي إن أراقها مسلم ضمنها بالقيمة؛ وإن أراقها ذمي ضمنها بالمثل. لنا أن مالا في ضمن للمسلم لا يضمن للذمي، كالميتة والدم، وأيضاً فإن الخمر ليست بمال، ولا فرق فيما. ذكرناه بين أن يريق، حيث تجو الإراقة وحيث لا تجوز، ولا تراق خمر أهل الذمة إلاَّ إذا تظاهروا بشربها أو بيعها, ولو غصبت منهم، والعين باقية ¬
وجب ردها. وإن غصبت من مسلم وجب ردها، إن كانت محترمة، وإلاَّ لم يجز، بل أريقت لحديث أَبِي طَلْحَةَ في خمور الأيتام (¬1)، وآلات الملاهي، كالبَرْيط والطَّنبُور وغيرهما، وكذلك الصليب والصنم لا يجب في إيصالها شيء أصلاً؛ لأنها محرمة الاستعمال، ولا حرمة لتلك الصنعة والهيئة. واختلفوا في الحد المشروع لإبطالها على وجهين: أحدهما: أنها تُكسر وتُر حتى تنتهي إلى حد لا يمكن إيجاد آلة محرمة منها لا الأولي ولا غيرها. وأظهرهما: أنها لا تكسر الكسر الفاحش، ولكنها تفصل، وفي حد التفصيل وجهان: أحدهما: أنها تفصل قدر مالا تصلح للاستعمال الحرام، حتى إذا رفع وجه البَرْيط، وترك على شكل قصعة كفى. والثاني: أنها تفصل إلى حد لو فرض إيجاد ألة محرمه من مفصلها لنال الصانع التعب الذي يناله في ابتداء الإيجاد، وهذا بأن يبطل تأليف الأجزاء كلها، حتى تعود كما كانت قبل التأليف، ويشبه أن يكون هذا أقرب إلى كلام الشَّافعي -رضي الله عنه- وعامة الأصحاب، وما ذكرنا من الاقتصار على تفصيل الأجزاء فيما إذا تمكن المحتسب منه. أما إذا منعه من في يده، وكان يدفع عن المنكر، فله إبطاله بالكسر. وحكى الإمام وِفَاقَ الأَصحاب على أن قطع الأوتار لا يكفي؛ لأنها مجاورة لها منفصلة. وتوقف في شيئين تفريعاً على وجه المبالغة في الكسر: أحدهما: في الصفائح التي توجد في يد من يصنع تلك الآلاتِ؛ لأن من بالغ في الكسر، عند حصول الهيئة المحظورة قد لا يرى تلك المبالغة في الابتداء. والثاني: في الصليب؛ لأنها خشبة معروضة على خشبة؛ فإذا رفعت إحداهما عن الأخرى، فلا معنى للزيادة عليه. إذا عرفت ذلك، فمن اقتصر في إبطالها على الحد المشروع، فلا شيء عليه، ومن جاوزها، فعليه التفاوت بين قيمتها مكسورة إلى الحد المشروع، وبين قيمتها منتهية إلى الحد الذي أتى به، وإن أحرقها، فعليه قيمتها مكسورة إلى الحد ¬
المشروع (¬1)، ولنعد إلى ما يتعلق بلفظ الكتاب. قوله "وهو كل مال معصوم". ظاهره يقتضى حصر ما يجب ضمانه في الأموال، وقد عرفت من التقسيم السابق أن الأحرار مضمونون أيضاً، وكأنه أراد ما يجب ضمانه بالأسباب المذكورة في أول الباب، وحينئذ يخرج الأحرار؛ لأنهم لا يضمنون باليد العادية، وإن كانوا مضمونين، وأشار بالعصوم إلى أن عصمة المال شرط في وجوب الضمان، فلا يضمن مال الحربي. وقوله: "حتى العبد يضمن عند التلف والإتلاف -أقصى قيمته" -معلّم بالحاء؛ لأن أبا حَنِيْفَةَ لا يوجب أقصى قيمة المماليك على ما بينته في موضعه. وقوله: "إذا قلنا: جرح العبد مقدار" إشارة إلى قوله الجديد. وقوله: "لا يضمن إلاَّ أرش النقضان" معلم بالواو. وقوله: "ولا يجب في عين البقرة والفرس" بالحاء والألف، لما ذكرنا، والقصد بما ذكرنا التعرض لمذهبهما، وإنما ذهبا إليه لأثر فيه عن الصحابة -رضي الله عنهم- وتأويله عندنا أن الأرض في الواقعة كان قدر الربع. وقوله: "لذمي" معلم بالحاء وقوله "ولكن" يجب ردهًا يجوز إعلامه بالواو، كما تقدم في فصل التحليل في "كتاب الرَّهْن". وقوله: "وإن أريقت، فلا ضمان" ضرب تأكيد وبينه على أن لا يضمن الخمر مع المنع من إراقتها، وإلاَّ فقوله: "لا يضمن الخمر لذمي" يفيد النفي الكلي، وإذا ذكره، فلا بأس بإعادة إعلامه بالحاء. وقوله: "وكذا الملاهي إذا كسرت" يعني الكسر المشروع، ولفظ في "المستولدة" معلم بالحاء وإتلاف الخمر، وإبطال منفعة الملاهي يخرج عما يضمن بقوله في أول الركن: "وهو كل مال معصوم" والله أعلم. ¬
قال الغزالي: وَمَنْفَعةُ الأَعْيَانِ تُضْمَنُ بِالفَوَاتِ تَحْتَ اليَدِ وَالتَّفْوِيتِ، وَمَنْفَعَةُ البُضْعِ لاَ تُضْمُنُ إلاَّ بِالتَّفْوِيتِ، وَمَنْفَعَةُ بَدَنِ الحُرِّ تُضْمَنُ بِالتَّفْوِيتِ، وَهَلْ يُضْمَنُ بِفَوَاتها عِنْدَ حَبْسِ الحُرِّ؟ وَجْهَانِ، وَهُوَ تَرَدُّدٌ في ثُبُوتِ يَدِ غَيْره عَلَيْهِ حَتَّى يَنْبَنى عَلَيْهِ جَوَازُ إجَارَةِ الحُرِّ عِنْدَ اسْتِئْجَارِهِ إنْ قُلْنَا: تَثْبُتُ اليَدُ وَإنَّهُ بِتَسْليِمِ نَفْسِهِ هَلْ يَتَقَرَرَّ أُجْرَتُهُ؟، وَفي ضَمَانِ مَنْفَعَةِ الكَلْبِ المَغْصُوُبِ وَجْهَانِ، وَمَا اصْطَادَهُ بِالكَلْبَ المَغْصُوب فُهوَ للِغَاصِبِ عَلىَ أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، فَإِنِ اصْطَادَ العَبْدُ فَهَلْ يُدْخِلُ أُجْرَتَهُ تَحْتَهُ لأَنَّ الصَّيْدَ للِمَالِك؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلَوْ لَبِسَ ثَوْباً وَنَقَصَ قِيِمَتَهُ فَهَلْ تَنْدَرجُ الأُجْرَةُ تَحْتَ النَّقْصِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؟ وَلَو ضَمِنَ العَبْدَ المَغْصَوبَ بَعْدَ إبَاقِهِ فَهَل تَسْقُطُ عَنْهُ أُجْرَتُهُ بَعْدَ الضَّمَانِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: ثم الكلام في قسم الأعيان من المضمونات. أما المنافع فهي أنواع: منها: منافع الأموال من العبيد والثياب وغيرها، وهي مضمونة بالتفويت (¬1)، والفوات تحت اليد العادية، خلافاً لأبي حَنِيْفَةَ، حيث قال: لا تضمن بالتفويت، ولا بالفوات، وإنما تضمن بعقد، أو شبهة عقد، ولمالك حيث قال: لا تضمن بالفوات تحت اليد وإنما تضمن بالتفويت والاستعمال. لنا أن المنافع مضمونة بالعقد الفاسد، وتضمن بالغصب، كالأعيان، وأيضاً فإنها متقومة، أَلاَ تَرَىَ أنه يبذل المال لتحصيلها؟ ولو استأجر عينًا لمنفعة، واستعملها في غيرها ضمنها، فأشبهت الأعيان. إذا تقرر ذلك، فكل عين لها منفعة تستأجر من أجلها، تضمن منفعتها (¬2) إذا بقيت في يده مدة لمثلها أجرة، حتى لو غصب كتاباً وأمسكه مدة، طالعه أو لم يطالعه، أو مسكًا شمه، أو لم يشمه لزمه الأجرة، ولو كان العبد المغصوب يحسن صناعات لزمه أجرة أعلاها, ولا يجب أجرة الكل. ومنها: منفعة البُضْع وهي لا تضمن بالفوات تحت اليد. والفرق بينها، وبين سائر المنافع أن اليد لا تثبت على منفعة البضع، أَلاَ تَرَىَ أن ¬
السيد يزوج الأمة المخصوبة، ولا يؤجرها، كما لا يبيعها؛ لأن يد الغاصب حائلة. ولو تداعى اثنان نكاح امرأة، يدعيان عليها, ولا يدعى أحدهما على الآخر، وإن كانت عنده، وإِذا أقرت لأحدهما حكم بأنها منكوحته، وذلك يدل على أن اليد لها، وأيضاً فإن منفعة البضع تستحق استحقاق ارتفاق للحاجة وسائر المنافع تستحق استحقاق ملك تام، أَلاَ تَرَىَ أن من ملك منفعة بالاستئجار نقلها إلى غيره بالعوض بأن يؤجر وبغير العوض بأن يعير؟ والزوج المستحق لمنفعة البضع لا يملك نقلها, لا بعوض، ولا بغير عوض. وأما إذا فوت منفعة البضع بالوطء ضمن مهر المِثْلِ. وأخرنا بسط الكلام فيه إلى الفصل الثالث من الباب الثاني؛ لأن حكم وطء المشترى من الغاصب مذكور هناك، وذكر حكم وطء الغاصب معه أحسن في النظم. ومنها: منفعة بدن الحر، وهي مضمونة بالتفويت، وإذا قهر حرّاً، واستخدمه في عمل ضمن أجرته، وإن حبسه، وعطل منافعه، فوجهان: أحدهما: أنه يضمنها أيضاً؛ لأن منافعه متقومة بالعقد الفاسد، فأشبهت منافع الأموال، وحكى هذا عن ابنِ أَبِي هُريَرَة. وأصحهما: المنع؛ لأن الحر لا يدخل تحت اليد فمنافعه تفوت تحت يده بخلاف الأموال، ويقرب من هذين الوجهين الخلاف في صورتين. إحداهما: لو استاجر حرّاً وأراد أن يؤجره هل له ذلك؟ والثانية: إذا أسلم الحر المستاجر نفسه، ولم يستعمله المستأجر إلى انقضاء المدة التي استأجره فيها هل تتقرر أجرته؟ قال الأكثرون: له أن يؤجره، وتتقرر أجرته. وقال القَفَّالُ: لا يؤجره، ولا تتقرر أجرته؛ لأن الحر لا يدخل تحت اليد، ولا تحصل منافعه في يد المستأجره وضمانه، إلاَّ عند وجودها، هكذا أورد النقلة توجيه الخلاف في المسائل الثلاثة، ولم يجعلوا دخول الحر تحت اليد مختلفاً فيه، ولكن القائلين بجواز إجارة الحر المستأجر، وتغريم الأُجرة كأنهم بنوا الأمر على الحاجة والمصلحة، وصاحب الكتاب جعله مختلفاً فيه، وبنى الخلاف في المسائل على التردد في دخوله تحت اليد، ولم أعثر على ذلك لغيره، وبتقدير ثبوته يجوز أن يعلم قوله: "والحر لا يدخل تحت اليد" وفي الرَّهْن في الباب الثالث في مسألة موت الحرة المَزْنِيِّ بها في الطلق من حمل الزنا بالواو، وفي ثياب الحر في ضمان من استولى عليه تفصيل مذكور في الكتاب في "السرقة".
فرع
فرع قال في "التتمة": لو نقل حرّاً صغيرًا أو كبيرًا بالقهر من موضع إلى موضع آخر، فإن لم يكن له غرض في الرجوع إلى الموضع الأول، فلا شيء عليه (¬1) وإن كان واحتاج إلى مؤنة، فهو على الناقل لتعديه. ومنها: منفعة الكلب، فمن غصب كلب الصيد، أو الحراسة لزمه رده مع الرد، إِن كان له مؤنة، وهل يضمن منفعته بالأجرة؟ فيه وجهان مرتبان مبنيان على الوجهين في جواز استئجاره، وسيأتي ذكرهما، وما اصطاده الغاصب بالكلب المغصوب للمالك على أحد الوجهين، كصيد العبد، وأكسابه، وللغاصب على أظهرهما؛ لأن الجارحة آلة كما لو غصب شبكة أو قوصا، واصطاد بهما، ويجرى الوجهان فيما لو اصطاد بالبَازِي، والفهد المغصوبين، وحيث كان الصيد للغاصب لزمه أجرة المِثْلِ للمغصوب منه، وحيث كان للمالك كصيد العبد، ففي وجوب الأجرة لزمن الاصطياد وجهان: أحدهما: لا تجب؛ لأنه إذا كان الحاصل له كانت المنافع منصرفة إليه. وأشبههما: الوجوب؛ لأنه ربما كان يستعمله في غير ما استعمله (¬2). ولا تدخل الأجرة فيما اكتسبه. ثم الفصل مختوم بقاعدتين. إحداهما: المغصوب إذا دخله نقص هل يجب أرشه مع الأجرة؟ ينظر إن كان النقص بسبب غير الاستعمال، كما لو غصب ثوباً أو عبداً، فانتقصت قيمته بآفة سماوية، كما لو سقط العبد بمرض وجب الأرش مع الأجر، والأجرة لما قبل حدوث النقصان أجرة مثله سليمًا، ولما بعده أجرة مثله معيباً، فإن كان النقص بسبب الاستعمال، كما إذا لبس الثوب فأبلاه فوجهان: أصحهما: أنهما يجبان أيضاً، كما لو حصل النقصان بسبب آخر. والثاني: أنه لا يجب إلاَّ أكثر الأمرين من أجره المثل، وأرش النقصان؛ لأن النقصان نشأ من الاستعمال، وقد قوبل الاستعمال بالأجرة، فلا يجب له ضمان أجر، والقائل الأول يقول: الأجرة لا تجب للاستعمال؛ وإنما تجب لفوات المنفعة على المالك، أَلاَ تَرَى أنها تجب، وإن لم تستعمل، فإذا لا يلزم وجوب ضامنين بشيء واحد والله أعلم. ¬
سنذكر القاعدة الثانية أن العبد المغصوب إذا تعذر رده بآفة غرم الغاصب قيمته للحيلولة، ويلزمه مع ذلك أجرة المثل للمدة التي تمضي قبل بذل القيمة، ولما بعده وجهان: أحدهما: أنها لا تجب؛ لأن القيمة المأخوذة نازلة منزلة المغصوب، فكأن المغصوب عاد إليه. وأصحهما: الوجوب؛ لأن حكم الغصب باقٍ، وإنما وجبت القيمة للحيلولة، فيضمن الأجرة لفوات المنفعة، والوجهان جاريان في أن الزوائد الحاصلة بعد دفع القيمة، هل تكون مضمونة على الغاصب، وفي أنه يلزمه مؤنة ردها؟ وفي أن جناية الآبق في إباقه هل يتعلق ضمانها بالغاصب؟ ولو غيب الغاصب العبد المغصوب إلى مكان بعيد وعسر رده، وغرم القيمة. قال الإمام طرد شيخي في الصورة الخلاف في الأحكام المذكورة أيضاً. ومنهم من قطع بوجوب الأجرة وثبوت سائر الأحكام، الفرق أن من غيبه باختياره، فهو باقٍ في يده وتصرفه، فلا تنقطع علائق الضمان عنه، بخلاف الآبق. قال الغزالي: (الرُكْنُ الثَّالِثُ): في الوَاجِبِ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إلَى المِثْلِ وَالقِيمَةِ، وَحَدُّ المِثلْيِّ مَا تَتَمَاثَلُ أَجْزَاؤُة فِي المَنْفَعَةِ والقِيمةِ مِنْ حَيْثُ الذَّاتِ لا مِنْ حَيْثُ المَنْفَعَةِ، وَالأظْهَرُ: أَنَّ الرُّطَبَ والعِنَبَ والدَّقِيقَ مِثْلِيُّ، وَكَذَا الخُبْزُ فَإِنَّ أَخْلاَطَهُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بِخِلاَفِ سَائِرِ المَخْلُوطَاتِ. قال الرافعي: ما يجب ضمانًا ينقسم باعتبار المضمون إلى المثل والقيمة، فيضمن المثلى بالمثل؛ لأنه أقرب إلى التالف والمتقوم بالقيمة. وللأصحاب في ضبط المثلي عبارات: إحداها: أن كل مقدر بكيل، أو وزن، فهو مثلي، وتروى هذه العبارة عن أَبِي حَنِيفَةَ وأحْمَدَ، وتنسب إلى نص الشَّافعي -رضي الله عنه- لقوله في "المختصر": وماله كيل أو وزن، فعليه مثل كيله أو وزنه. والثانية: زاد بعضهم اشتراط جواز السَّلم فيه؛ لأن المسلم فيه يثبت بالوصف في الذمة، والضمان يشبه ألا يثبت في الذمة. والثالثة: زاد القَفَّالُ وآخرون اشتراط جواز بيع بعضه ببعض، لتشابه الأصلين في قضية التقابل، واعترض على العبارات الثلاث بأن القماقم والملاعق والمغرف المتخذة من الصفر والنحاس موزونة، ويجوز السَّلم فيها، وبيع بعضها ببعض، وليست مثلية،
هكذا حكى الإمام الاعتراض عن القاضي لكن قد مر في باب السَّلم أن القماقم ونحوها لا يجوز السَّلم فيها لاختلافها، وإنما الجواز في الأسطال المريعة، والظروف المضروبة من القوالب، فإن كان الالتزام بمثلها، فلا يبعد ممن صار إلى العبارات الثلاثة طردها فيها والحكم بأنها مثلية. والرابعة: نقل بعض شارحي "المفتاح" أن المثليات هي التي تنقسم بين الشريكي من غير حاجة إلى تقويم، ولك أن تقول: هذا مشكل بالأرض المتساوية الأجزاء، فإنها تنقسم من غير تقويم، وليست هي بمثلية. الخامسة: قال العراقيون: المثلى مالاً تختلف أجزاء النوع الواحد منه في القيمة، وربما يقال في الجِرْم والقيمة، ويقرب منه قول من قال: المثليات هي التي تتشاكل في الخلقة، ومعظم المنافع وما اختاره الإمام هو تساوي الأجزاء في المنفعة والقيمة، فزاد النظر إلى المنفعة، وعلى ذلك جرى صاحب الكتاب، وزاد قوله: "من حيث الذات، لا من حيث الصنعة" وقصد به الاحتراز من الملاعق والمغارف وصنجات الميزان المتساوية، فإن تساويهما جاء من حفظ التشابه في الصنعة، وإلاَّ فالمصنوعات مختلفة في الغالب، ولك أن تقول: الملعقة ونحوها لو وردت على الضابط المذكور، إما ترد لتماثل أجزائها، وهي ملعقة، أو لتماثل جوهرها فقط. والأول: باطل؛ لأن أجزاء الملعقة غير متماثلة في الصنعة. وأما الثاني: فالصفر الذي هو جوهر الملعقة إذا كان مثليًا كان تماثل أجزائه من حيث الذات، لا من حيث الصنعة وإذا لم تؤثر الصنعة في تماثل الأجزاء، فكيف يقال: أجزاؤه من حيث الذات، لا من حيث الصنعة، والحق أن أثر الصنعة في تماثل الأعداد، وأوضاع أجزائها لا غير. وإذا وقفت على هذه العبارات، وبحثت عن الأظهر منها، فاعلم أن الأولى منقوضة بالمعجونات. والثالثة: المعتبرة ليجوز بيع البعض بالبعض بعيدة عن اختيار أكنز الأصحاب، فإنهم أعرضوا عن هذا الشرط، وقالوا: امتناع بيع البعض بالبعض من الربويات، لرعاية التماثل في حال الكمال بمعزل عما نحن فيه. والرابعة: لا حاصل لها. وأما الخامسة: فإن أريد بالأجزاء فيها كل ما يتركب فيه الشي، فيلزم ألاَّ تكون الحبوب مثلية؛ لأنها تتركب من القشور، والألباب والقشر مع اللباب مثليان في القيمة والمنفعة، وكذا التمر والزبيب لما فيهما من النوى والعجم. وإن أريد الأجزاء التي يقع عليها اسم الجملة، فيلزم ألا تكون الدراهم والدنانير
مثلية لما يقع في الصّحَاح عن اختلاف في الوزن، وفي الاستدارة والاعوجاج، وفي وضوح السكّة، وخفائها، وذلك ما يؤثر في المنفعة والقيمة، والنظر إلى الجِرْمِ بعيد؛ لأن الحبوب والتمور متماثلة. ومعلوم أن نوعاً منها لا يخلو عن اختلاف الحبات في الصغر والكبر، فإذا أظهر العبارات الثانية لكن الأحسن أن يقال: المثلى كل ما يحصره الكيل، أو الوزن، ويجوز السلم فيه، ولا يقال: كل مكيل أو موزون؛ لأن المفهوم منهما ما يعتاد كيله ووزنه، فيخرج منه الماء وكذا التراب وهو مثلي على الأصح، هذا ما يتعلق بالضبط، وينشأ من اختلاف العبارات الخلاف في الصفر والنحاس والحديد والآنك؛ لأن أجزاءها مختلفة الجوهر، ولأن زُبُرُها متقاربة الأجرام، وفي التبر والسبيكة والعنبر والمسك والكافور والثلج والجمد والقطن بمثل ذلك، وفي العنب والرطب وسائر الفواكه الرطبة لامتناع بيع بعضها ببعض، وكذا في الدقيق. والأظهر: أنها جميعاً مثلية، وفي السكر والفانيد والعسل المصفى بالنار واللحم الطرى للخلاف في جواز بيع كل منها بجنسه، وفي الخبز لامتناع بيع بعضه ببعض، وأيضاً للخلاف في جواز السلم فيه، وجعل صاحب الكتاب الأظهر كونه مثليّاً، بناء على قطع النظر عن امتناع بيع بعضه ببعض، ويجوز السلم فيه لكنَّا أثبتنا الخلاف في السلم، وبيان ذلك الخلاف. وقوله: "فإن أخلاطه غير مقصودة، بخلاف سائر المخلوطات" يعني المعجونات والغوالي ونحوها. والفرق بين ما يقصد أخلاطه وبين ما لا يقصد منه إلاَّ الواحد مقرر في السلم، أما الحبوب والأدهان والألبان والسمن والمخيض والخل لم يستعن في إيجاده بالماء والزبيب والتمر ونحوها، فهي مثلية بالاتفاق، وكذا الدراهم والدنانير، لكن قضية العبارة الثانية إثبات الخلاف فيها؛ لأن في السلم فيها اختلافاً قد تقدم، وأيضاً فإنهم جعلوا المكسرة على الخلاف في التبر والسبيكة لتفاوت القراضات في الجِرْمِ، ومثل ذلك يفرض في الصحاح، فيلزم مجيء الخلاف فيها، وهذا في الدراهم والدنانير الخالصة، أما المغشوشة، ففي "التتمة" أن أمرها يبنى على جواز التعامل بها إن جوزناها فهي مثلية، وإلا فتقومه؛ لأن ما لا يملك بالعقد لا يملك بالقبض عوضاً عن التلف والله اعلم بالصواب. قال الغزالي: ثُمَّ إِنْ لَمْ يُسَلِّمِ المِثْلَ بَعْدَ أَنْ تَلَفَ المَغْصُوبُ حَتَّى فَقَدَ المِثْلَ، فَقِيلَ: الوَاجِبُ أَقْصَى قِيمَةِ المَغْصُوبِ مِنْ وَقْتِ الغَصبِ إِلَى التَّلَفِ، وَقِيلَ: أَقصَى قِيمَةِ المِثْلِ
مِنْ وَقْتِ وُجُوبِهِ اِلى الإعْوَازِ، وقِيْلَ: منْ وَقْتِ الغَصْبِ إلَى الإعْوَازِ وَقِيلَ: إِلى وَقْتِ طَلَبِ الضَّمَانِ وَلَوْ غُرِّمَ القِيمَةَ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى المِثْلِ فَلاَ يَرُدُّ القِيمَةَ عَلَى الأظْهَرَ لِتَمَام الحُكْمِ بِالبَدَلِ الحَقِيقِّي. قال الرافعي: إذا غصب مثليّاً، وتلف في يده، والمثل موجود، فلم يسلمه حتى فقد، أخذت منه القيمة، والمراد من الفقدان ألاَّ يوجد. في ذلك البلد، وما حواليه على ما تبين في انقطاع المسلم فيه، وفي القيمة المعتبرة عشرة أوجه: أحدها: أنها أقصى قيمة من يوم الغصب إلى التلف، ولا اعتبار بزيادة قيمة أمثاله بعد تلفه، كما في المتقومات. وثانيها: أنها أقصى قيمة من وقت تلف المغصوب إلى الإعواز؛ لأن المثل هو الواجب، إلاَّ أنه لما فقد تعذر الوصول إليه، فينظر إلى قيمته من وقت وجوبه إلى التعذر، ويطلق هذان الوجهان على أن الواجب عند إعواز المثل قيمة المغصوب؛ لأنه الذي تلف على المالك، أو قيمة المثل؛ لأنه الواجب عند التلف، وإنما رجعنا إلى القيمة لتعذره، وفيه وجهان لأَبِى الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ: إن قلنا بالأول اعتبرنا الأقصى من وقت الغَصْب إلى وقت تلف المغصوب. وإن قلنا بالثاني اعتبرنا من وقت تلف المغصوب؛ لأن المثل حينئذ يجب إلى وقت الانقطاع والإعواز، ولفظ الكتاب في حكايته الوجه الأول أقصى فيه قيمة المغصوب وفي حكايته الوجه الثاني أقصى قيمة المثل إشارة إلى هذا. وثالثها: وهو الأصح: أن القيمة المعتبرة أقصى القيم من يوم الغَصْبِ إلى الإعواز؛ لأن وجود المثل، كبقاء عين المغصوب من حيث إنه كان مأموراً بتسليم المثل كما كان مأموراً برد العين، فإذا لم يفعل غرم أقصى قيمة في المدتين، كما أن المتقومات تضمن بأقصى قيمتها لهذا المعنى، ولا نظر إلى ما بعد انقطاع المثل، كما لا نظر إلى ما بعد تلف المغصوب المتقوم. ورابعها: أقصى القيم من الغصب إلى وقت تغريم القيمة، والمطالبة بها؛ لأن المثل لا يسقط بالإعواز، ألا تَرَى أن المغصوب منه لو صبر إلى وجدان المثل ملك المطالبة به، وإنما المصير إلى القيمة عند تغريمها، وهذه الأوجه الأربعة هي المذكورة في الكتاب. وخامسها: عن رواية الشيخ أبِي مُحَمَّدٍ: أنها أقصى القيم من وقت انقطاع المثل وإعوازه إلى وقت المطالبة بالقيمة؛ لأن الإعواز وقت الحاجة إلى العدول إلى القيمة فيعتبر الأقصى من يومئذ. وسادسها: أنها أقصى القيم من وقت تلف المغصوب، إلى وقت المطالبة؛ لأن
الضمان يومئذ يجب. وسابعها: أن الاعتبار بقيمة اليوم الذي تلف فيه المغصوب. وثامنها: أن الاعتبار بقيمة يوم الإعواز لأنه وقت العدول إلى القيمة، ويحكى هذا عن اختيار أبى عَلِيٍّ الزَّجَّاجِيِّ والحَناطِيِّ والمَاوَرْدِيّ وأبِى خَلَفٍ السلميِّ. وتاسعها: أن الاعتبار بقيمة يوم المطالبة؛ لأن الإعواز حينئذ يظهر ويتحقق، وقد يبدل لفظ المطالبة والتغريم بالحكم والقيمة والمرجح بها إلى شيء واحد. وعاشرها: أنَّه إن كان منقطعاً في جميع البلاد، فالاعتبار بقيمة يوم الإعواز، وإن فقد في تلك البقعة، فالاعتبار بقيمة يوم الحكم بالقيمة، كذا نقله صاحب "المهذب". الحادي عشر: وفيما علق عن الشيخ أبى حَامِدٍ أن المعتبر فيه يوم أخذ القيمة، لا يوم المطالبة، ولا يوم التلف، فهذا وجه آخر إن كان ثابتاً. ويجوز إعلام جميع الوجوه المذكورة في الكتاب -بالحاء- لأن البندنيجي حكى عن أَبِى حَنِفَةَ الاعتبار بقيمة يوم المطالبة، والقبض هذا لفظه -وبالألف- لأن مذهب أَحْمَدَ كالوجه الثامن. ولو غصب مثليّاً فتلف، والمثل مفقدد، فالقياس أنه يجب على الوجه الأول والثالث أقصى القيم من وقت الغصب إلى التلف، وعلى الثاني والسابع والثامن قيمة يوم التلف، وأن يعود والرابع والسادس والتاسع بحالها، وعلى الخامس أقصى القيم من يوم التلف إلى يوم التغريم، وعلى الحاضر إن كان مفقوداً في جميع البلاد، وجب قيمة يوم التلف، وإلاَّ قيمة يوم التقويم (¬1). ولو تلف مثليًّا على إنسان من غير غصب، وإثبات يد عليه، وكان المثل موجوداً، فلم يسلم حتى فُقِدَ، فعلى الوجه الأول تجب قيمة يوم الإتلاف، وعلى الثاني وعلى الثالث أقصى القيم من يوم الإتلاف إلى الإعواز، وعلى الرابع من يوم الإتلاف إلى التقويم، والقياس عود الوجوه الباقية، ولو أتلفه، والمثل مفقود (¬2) فالقياس أن يقال على الوجه الأول والثاني والسابع والثامن: تجب قيمة يوم الإتلاف، وعلى الرابع والخامس والسادس أقصى القيم من يوم الإتلاف إلى التقويم وعلى التاسع قيمة يوم التغريم، وعلى الحاضر إن كان منقطعاً في جميع البلاد وجبت قيمة يوم الإتلاف، وإلاَّ فقيمة يوم التقويم، والله أعلم. ومهما غرم الغاصب أو المتلف القيمة لإعواز المثل، ثم وجد المثل، هل للمالك رد القيمة، وطلب المثل؟. ¬
فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن حقه المثل، وإنما أخذت القيمة للعجز عنه، وإذا حصلت القدرة عدل إليه، كما إذا غرم قيمة العبد الآبق ثم عاد. وأظهرهما: على ما ذكر صاحب الكتاب والقاضي الروياني المنع (¬1)؛ لأن الأمر قد انفصل ببذل المثل، وإذا تم الحكم بالبدل، فلا عود إلى المبدل كما لو صام المعسر في الكفارة المرتبة، ثم أيسر، وهذا معنى قوله: "لتمام الحكم بالبدل الحقيقي" وأراد بتسميته حقيقيّاً أن القيمة بدل حقيقة عند إعواز المثل لا لالتحاق المثل حينئذ بالتقويم، وفي غرامة العبد الآبق ليست القيمة بدلاً حقيقية وإنما هي مأخوذة لحصول الحيلولة لكن لصاحب الوجه الأول أن يقول عندي القيمة حالة الإعواز ليس بدل حقيقة، وإنما هي مأخوذة لحصول الحيلولة بينه وبين حقه، وهو المثل، فالأجود من الفرق أن يقال: العبد عين حقه المغصوب، والمثل بدل حقه، فلا يلزم من تمكينه من الرجوع إلى عين حقه تمكين من الرجوع إلى بدل حق، والله أعلم. قال الغزالي: وَلَوْ أَتْلَفَ مِثْلِيًّا فَظَفَرَ بِهِ في غَيْرِ ذَلِكَ المَكانِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلاَّ القِيمَةُ، فَإِذَا عَادَ إلَى ذَلِكَ المَكَانِ لَزِمَهُ المِثْلُ وَأَخَذَ القِيمَةَ، وَلَوْ ظَفَرَ بِهِ في غَيْرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ جَازَ طَلَبُ المِثْلِ؛ لأَنَّ رَدَّ الزَّمَانِ غَيْرِ مُمْكِنِ فَتَعَذَّرَ المِثْلُ الحَقِيقيُّ، والمُسَلَّمُ إِلَيْهِ إِذَا انْتَقَلَ لَمْ يُطَالِبْ، وَفِي مُطَالَبَتِهِ بِالقِيمَةِ تَرَدُّدٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ اعْتِياضٌ، فَإِنْ مُنِعَ فَلَهُ الفَسْخُ، وَطَلَبُ رَأسِ المَالِ. قال الرافعي: مقصود الفصل أن المثل هل يؤخذ مثله مع اختلاف المكان والزمان، أما المكان، فاعلم أولاً أنَّه لو غصب مثلياً، ونقله إلى بلد آخر كان للمالك أن يكلفه رده، وله أن يطالب بالقيمة في الحال للحيلولة (¬2)، ثم إذا رده الغاصب رد القيمة، واسترده، ولو تلف في البلد المنقول إليه طالبه بمثله، حيث ظفر به من البلدين لتوجه الطلب عليه برد العين في الموضعين (¬3)، فإن فقد المثل غرمه قيمة أكثر البلدين قيمة. ¬
ولو أتلف مثليّاً، أو غصبه، وتلف عنده في بلد، ثم ظفر المالك به في بلد آخر، هل له مطالبته بالمثل؟. الذي ذكره الأكثرون أنه إن كان مما لا مؤنة لنقله، كالدراهم والدنانير (¬1)، فله المطالبة بالمثل، وإن كان لنقله مؤنة لم يكن له طلب المثل، ولا للغارم تكليفه قبول المثل لما يلزم فيه المثل لما فيه من المؤنة والضرر للمالك أن يغرمه قيمة بلد التلف، فإن تراضيا على المثل لم يكن على المثل لم يكن له تكليفه مؤنة النقل. وعلى هذا تنزيل جوابه في الكتاب، وإن أطلقه إطلاقاً، وحكى الإمام وراءه وجهين: أحدهما: عن شيخه أَبِى مُحَمَّدٍ: أنه يطالبه بالمثل، وإن لزمت المؤنة، وزادت القيمة، كما أتلف مثليّاً في وقت الرخص له طلب المثل في الغلاء. والثاني: عن رواية الشيخ أَبِي عَليٍّ: أنه إن كانت قيمة ذلك البلد مثل قيمة المتلف، أو أقل طالبه بالمثل، وإلاَّ فلا (¬2). وذكر أبُو عَاصِمٍ العَبَّادِيُّ مثل هذا، وإذا حكمنا بالمنع، وأخذ القيمة، ثم اجتمعا في بلد التلف، هل للمالك رد القيمة، وطلب المثل؟ وهل لصاحبه استرداد القيمة وبذل المثل؟. فيه الوجهان فيما إذا غرم القيمة؛ لإعواز المثل، والذي أورده صاحب الكتاب منهما أن عليه المثل، وأخذ القيمة مع أنه جعل الأظهر في مسألة الإعواز المنع، وهذا لا وجه له، بل الخلاف في المسألتين واحد، باتفاق الناقلين. ¬
فإما أن يختار فيهما النفي، أو الإثبات. ولو نقل المغصوب المثلي إلى بلد آخر، فتلف هناك، أو أتلفه، ثم ظفر به المالك في بلد ثالث وقلنا: إنه لا يطالب بالمثل في غير موضع التلف، فله أخذ قيمة أكثر البلدين قيمة (¬1). وأما في المسألة الأولى فهاهنا لا يطالب إلاَّ بالمثل وإذا اختلف الزمان فله المطالبة بالمثل، وإن زادت القيمة وليس له إلاَّ ذلك، وإن نقصت القيمة، والفرق بينه وبين المكان. إذا قلنا: لا يطالب بالمثل في غير ذلك المكان أن العود إلى المكان الأول يمكن، فجاز انتظاره، ورد الزمان الأول غير ممكن، فقنعنا بصورة المثل، وإن لم يكن ذلك مثلاً حقيقة؛ لأن التساوي في القيمة معتبر في المثلين، وللزمان أثر ظاهر في تفاوتها، لكن يتوجه على هذا أن يقال: نعم رد الزمان الأول غير ممكن، لكن انتظار الزمن الذي تكون القيمة فيه كالقيمة وقت الإتلاف ممكن، فهلا قنع بقيمة يوم الإتلاف، وانتظر المثل إليه، وهذا أكله فيما إذا لم يخرج المثل، باختلاف المكان والزمان عن أن يكون له قيمة ومالية. أما إذا خرج، كما إذا أتلف عليه الماء في مفازة، ثم اجتمعا على شط نهر، أو بلد أو أتلف عليه الجمد في الصيف، واجتمعا في الشتاء، فليس للمتلف بذل المثل، بل عليه قيمة المثل في مثل تلك المفازة أو في الصيف وإذا غرم القيمة ثم اجتمعا في مثل تلك المفازة، وفي الصيف هل يثبت الترادُّ؟ فيه الوجهان السابقان. وأما قوله في الكتاب: "والمسلم إليه" إلى آخره، فقد ذكرنا المسألة بما فيها في "السلم" (¬2). قال الغزالي: وَلَوْ أَتْلَفَ آنِيَةً مِنْ نُقْرَةٍ يَلْزَمُهُ المِثْلُ، وَمَا زَادَ بِالصَّنْعَةِ يُقَوَّمُ بِغَيْرِ جِنْسِ الأَصْلِ حِذَاراً مِنَ الرِّبَا، وَقِيلَ: لاَ يُبَالِي بِهِ فَإنَّهُ لَيْسَ بَيْعٍ. قال الرافعي: الذهب والفضة إما أن يكونا مضروبين، فقد ذكرنا أنهما مثليان، أو لا يكونا مضروبين، وكل واحد منهما إمّا أن يكون فيه صنعة كالحلي، أو لا تكون ¬
كالتبر. أما الأول: فإذا أتلف حليًّا وزنه عشرة، وقيمته عشرون، فقد نقل أصحابنا العراقيون وجهين فيما يلزمه: أحدهما: أنه يضمن العين بوزنها من جنسها، والصنعة بقيمتها من غير جنسها، سواء كان ذلك نقد البلد، أو لم يكن؛ لأنا لو ضمنا الكل بالجنس، لقابلنا عشرة بعشرين، وذلك رباً. وأصحهما عندهم: أنه يضمن الجميع بنقد البلد، وإن وإن من جنسه، ولا يلزم الربا، فإنه إنما يجري في العقود، لا في الغرامات، ولو كان هذا رباً، لكان الوجه الأول أيضاً ربا، فإنه كما لا يقابل دينار بديناربن، لا يقابل دينار بدينار ودرهم. وفيه وجهان آخران: أحدهما: أن العين تضمن بوزنها من جنسها، والصنعة بنقد البلد، كما لو أتلف الصنعة وحدها بكسر الحلي يضمن بنقد البلد، سواء كان من جنس الحلي، أو من غير جنسه، هنا محكى في "النهاية" مع الأولين. والثاني: أنه يضمن الكل بغير جنسه تحرزاً عن التفاضل، ومن اختلاف الجنس في أحد الطرفين، ويروى هذا عن أبِي حَنِيْفةَ. وأحسن ترتيب في المسألة ما ذكره في "التهذيب"، وهو أن صنعة الحلي متقومة وفي وزنه الاختلاف الذي سبق في التبر والسبيكة. إن قلنا إنه مثلي، فوجهان: أحدهما: أنه يضمن الكل بغير جنسه كيلا يلزم الربا. وأصحُّهما: أنه يضمن الوزن بالمثل، والصنعة بنقد البلد، سواء كان من جنسه، أو من غير جنسه. وإن قلنا: إنه متقوم، فيعتبر الكل بنقد البلد، كيف كان، وينبغي أن يجي على هذا وجه التضمين، بغير الجنس؛ إِذا كان نقد البلد من الجنس؛ لأن معنى الربا لا يختلف، ولو أتلف آنية من ذهب أو فضة، فتبنى على أن اتخاذها، هل هو جائز. إن قلنا: نعم، كما لو أتلف حليًّا. إن قلنا: لا، فهو كإتلاف ما لا صنعه فيه، كالتبر والسبيكة، فينبني على الخلاف في أنه مثلي، أو متقوم. إن قلنا بالأول، ضمن مثله. وإن قلنا بالثاني فوجهان: أحدهما: قيمته بنقد البلد، سواء كان من جنسه، أو من غير جنسه، كسائر المتقومات.
والثاني: أن الجواب كذلك، إلاَّ إذا كان نقد البلد من جنسه، وكانت القيمة تزيد على الوزن، فحينئذ يقوم بغير الجنس، ويضمن به، وهذا ما اختاره العراقيون هاهنا فَارِقِيْنَ بين ما فيه صنعة، وبينه بأن الزيادة ثم تقع في مقابلة الصنعة، فلا تؤدي إلى الربا وهاهنا لا قيمة للصنعة، فيلزمه الربا، لكن لصاحب الوجه الأول أن يقول: لو كان الربا جارياً في الغرامات لاستوى المصنوع وغيره، كما لو قابل حليًّا بتبر لا يجوز للفضل. وقوله في الكتاب: "ولو اتلف آنية". التصوير في الآنية مفرع على جواز اتخاذها، كما بيناه. وقوله: "يلزمه المثل". مثل وزن الآنية والحلى التبر، لا الدراهم والدنانير المضروبة. وقوله قيل: لا نبالي به أي بتقويم الصنعة بجنس الأصل وتغريمها رد، وذلك مما يترك فيه وجه تقويم الكل بنقد البلد، إذا كان نقد البلد من جنسه. ووجه تقويم الأصل بالمثل والصنعة بنقد البلد إذا كان من جنسه ويجوز إعلامه -بالحاء- وكذا إعلام قوله: "يلزمه المثل" لما مر من الرواية قوله: "فإنه ليس ببيع" يعني أنَّه غرامة متلف، ومحل الربا إنما هو البيوع والمعاقدات، والله اعلم بالصواب. قال الغزالي: وَلَوْ اتَّخَذَ مِنَ الرُّطَبِ تَمْراً وَقُلْنَا: لاَ مِثْلَ للِرُّطَبِ وَللِتَّمْرِ مِثْلٌ، أَوْ مِنَ الحِنْطَةِ دَقِيْقاً، فَالأَوْلَى أَنْ يَتَخَيَّرَ المَالِكُ بَيْنَ المُطَالَبَةِ بِقِيمَةِ الرُّطَبِ وَالدَّقِيقِ أَوْ مِثْلِ التَّمرِ وَالحِنْطَةِ، كَمَا لَوِ اتَّخَذَ مُنَ السِّمْسِمِ الشَّيْرَجَ فَيُطَالِبُ إنْ شَاءَ بِالسِّمْسِمِ أَوْ بالشَّيْرَجِ، وَلَوْ عَدِمَ المِثْل إلاَّ بالأكْثَرِ من ثَمَنِ المِثْلِ لَمْ يَلْزَمْهُ الشِّراءُ عَلَى الأَظْهَرِ. قال الرافعي: في الفصل مسألتان: الأولى: إذا تغير المغصوب في يد الغاصب من حال إلى حال، ثم تلف عنده، فأما أن يكون متقوماً في الحالة الأولى مثلياً في الثانية، أو بالعكس أو مثلياً فيهما، أو متقوماً فيهما. أما القسم الأول: فكما إذا غصب رطباً، وقلنا إنه متقوم، فصار تمراً، ثم تلف عنده، ففيه وجهان: أحدهما: وبه أجاب العراقيون: أنَّه يضمن مثل التمر؛ لأنه لا يمكن الجمع بين المثل والقيمة، ولا بد من إيجاب أحدهما، والمثل أقرب إلى التالف، فيكون إيجابه أولى. وأشبههما: وهو المذكور في "التهذيب": أنه إن كان الرطب أكثر قيمة، أو فعلية قيمته كيلا تضيع الزيادة عليه، وإن كان التمر أكثر قيمة، أو استويا فعلية المثل. واختار صاحب الكتاب أنه يتخير أن يأخذ مثل التمر، أو قيمة الرطب؛ لإنه أتلف
عليه ماله، وهو مِثْلِي ورد ماله، وهو متقوم، فيطالب بموجب ما شاء من الحالتين. وأما القسم الثاني: فهو كما لو غَصَبَ حِنْطَة وطحنها، وتلف الدقيق عنده، أو جعله خبزاً، أو أكله وقلنا: لا مثل للدقيق والخبر أو غصب تمراً، واتخذ منه الخَلّ بالماء. فعلى جواب العراقيين يضمن المثل، وهو الحنطة. وعلى ما أورده في "التهذيب" إن كان المتقوم أكثر قيمة غرمها، وإلاَّ غرم المثل. وعن القاضي الحُسَيْنِ: أنه يغرم أقصى القيم، وليس للمالك مطالبته بالمثل؛ لأن التلف حصل، وهو متقوم، وعلى هذا فإذا قيل: من غصب حنطه في الغلاء، وبقيت عنده إلى التلف، وغرمه المالك في وقت الرخص يغرم المثل، أو القيمة؟ لم يصح إطلاق الجواب بالمثل، ولا القيمة. بل الصواب أن يفصل فيقال: إن تلفت، وهي حنطة غرمه المثل، وإن صارت إلى حالة التقويم، ثم تلفت، ويقال: كأن القاضي قد لقن المسألة الرئيس أبا عَلِيٍّ المنيعِيَّ (¬1) ليغالط بها فقهاء "مرو" فغلط من أطلق الجواب منهم. وأما القسم الثالث: فكما لو غصب سمسماً، واتخذ منه شريجاً (¬2)، ثم تلف عنده، ونقل العراقيون وصاحب الكتاب أن المالك بالخيار، فيغرمه ما شاء منهما. وفي "التهذيب" أنه إن كان أحدهما أكثر قيمة غرم مثله، وإلاَّ تخير المالك، وأخذ ما شاء منهما. وظاهره يقتضي إثبات خلاف في التخير إذا كان أحدهما أكثر قيمة والله أعلم. وأما القسم الرابع فحكمه بَيَّنٌ، وهو وجوب أقصى القيم في الحالتين. المسألة الثانية: إذا لزمه المثل، فعليه تحصيله إن وجده بثمن المثل، وإذا لم يجده إلاَّ بما فوقه فوجهان: ¬
أحدهما: أنه لايلزمه تحصيله؛ لأن الموجود بأكثر من ثمن المثل، كالمعدوم بدليل الماء في الطهارة والرقبة في الكفارة. والثاني: يلزمه؛ لأن المثل كالعين، ورد العين واجب، وإن لزم في مؤنته أضعاف قيمته، وهذا أظهر الوجهين عند صاحب "التهذيب" والقاضي الروياني، والأول أظهر عند آخرين، ومنهم صاحب الكتاب، وفرقوا بين المثل والعين، بأنه تَعَدَّى في العَيْنِ دون المثل (¬1)، فلا يأخذ المثل حكم العين، هذا ما يتعلّق بقسم المِثْلِيِّ والله أعلم. قال الغزالي: أَمَّا المُتَقَوَّمَاتُ إِذَا تَلِفَتْ تُضْمَنُ بِأقْصَى قِيمَتِهَا من وَقْتِ الغَصْبِ إِلَى التَّلَفِ، فَإِنْ أَبَقَ العَبْدُ ضُمِنَ (ح) في الحَالِ لِلْحَيُلُولَةِ، فَإذَا عَادَ رُدَّتِ القِيمَةُ (ح) وَسُلِّمَ العَبْدُ، وَللغَاصِبِ حَبْسُ العَبدِ إِلى أَنْ تُرَدُّ القِيمَةُ عليه. قال الرافعي: القسم الثاني من الأموال: المتقوم، فإذا غصبه، وتلف عنده لزمه أقصى قيمته من يوم الغصب، إلى يوم التلف؛ لأنه في حال زيادة القيمة غاصب مطالب بالرد، فإذا لم يرد ضمن بدله، وإنما تجب القيمة من نقد البلد الذي حَصَلَ فيه التلف، وتفاوت القيمة قد يكون لزيادة ونقصان في المغصوب، كما إذا كان العبد كاتباً، فنسي الكتابة، وقد يكون لمحض ارتفاع الأسواق وانخفاضها، فلو كانت قيمة مائة، فبلغت مائتين، ثم عادت بتراجع الأسواق إلى مائة وخمسين، ثم هلك لزمه مائتان ولا عبرة باتفاق السوق بعد التلف، ولو تكرر ارتفاع السوق، وانخفاضها لم يضمن كل زيادة، وإنما يضمن أكثر. ولو أتلف متقوماً من غير غصب لزمه قيمته يوم الإتلاف، فإن حصل التلف بتدرج وسراية، واختلفت القيمة في تلك المدة، كما إذا جنى على بهيمة قيمة مثلها يومئذ مائة، ثم هلكت، وقيمة المثل خمسون. وقال القفال: يلزمه مائة؛ لأنا إذا اعتبرنا الأقصى في اليد العادية، فلأن نعتبرها في نفس الإتلاف كان أولى. وليعلم قوله في الكتاب: "فأقصى قيمتها" بالحاء والألف. أما الحاء، فلان أَبَا حَنِيْفَةَ يعتبر قيمة يوم الغصب، بناء على أن الزوائد غير مضمونة. وأما الألف، فلان أَحْمَدَ يعتبر قيمة يوم التلف، إذا كان التفاوت لاضطراب ¬
الأسواق. ولو لم يهلك العبد المغصوب، لكنه أبق أو عيْبَّه الغاصب، أو ضلَّت الدابة أو ضاع الثوب، فللمالك أن يضمنه القيمة في الحال لحصول الحيلولة، ولزوم الضرر والاعتبار بأقصى القيم من يوم الغصب إلى يوم المطالبة (¬1)، وليس للغاصب أن يلزمه قبول القيمة؛ لأن قيمة الحيلولة ليست حقًّا ثابتاً في الذمة حتى يجبر على قبوله، والإبراء عنه، بل لو أبرأه المالك عنها لم ينفذ. وعن بعض الأصحاب: تنزيلها منزلة الحقوق المستقرة، ثم القيمة المأخوذة يملكها المالك، كما يملك عند التلف، وينفذ تصرفه فيها، ولا يملك الغاصب المغصوب، كما لا يملك نصف العبد، إذا قطع إحدى يديه وغرم، فإذا ظفر بالمغصوب، فللمالك استرداد، ورد القيمة، وللغاصب رده واسترداده القيمة، وهل له حبس المغصوب إلى أن يسترد القيمة؟. ذكر في الكتاب أن له ذلك، وهذا حكاه القاضي حُسَيْن عن نص الشافعي -رضي الله عنه- كما حكى ثبوت الحبس للمشتري في الشراء الفاسد، لاسترداده الثمن لكن تقدم في "البيع" ذكر الخلاف في ثبوت الحبس للمشتري، وبينما أن الظاهر المنع، ويشبه أن يكون حبس الغاصب في معناه، والمنع هو اختيار الإمام في الصورتين، إذا كانت الدراهم المبذولة باقة بعينها في يد المالك فللشيخ أبِي مُحَمَّدٍ تردد في أنه هل يجوز للمالك إمساكها، وغرامة مثلها، أم لا (¬2). وإذا اتفقنا على ترك التراد، فلا بد من بيع ليصير المغصوب للغاصب (¬3). وقوله في الكتاب "ردت القيمة" معلّم -بالحاء- لأن عنده تملك العبد بالضمان، فلا رد ولا استرداد، وساعدنا في المدبّر، وفيما إذا اختلفا في القيمة، وغرمناه، ما اعترف به، ثم تبين عند الظفر بالمغصوب أنها كانت أكثر. واعلم أن التضمين في صورة الاتفاق وغيرها لا يختص بالمتقومات، وإن أورده في هذا القسم، بل ضمان الخيار ثابت في كل مغصوب خرج من يد المالك، ¬
فرع
وتعذره (¬1). فرع قد مر أن منافع المغصوب مضمونة فلو كانت الأجرة في مدة الغصب متفاوتة فيما يضمن؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها القاضي أبُو سَعْدٍ بْنُ يُوسُفَ (¬2). أضعفها: أنها بالأكثر في جميع المدة. وأظهرها: أنها تضمن في كل بعض من أبعاض المدة بأجره مثلها. والثالث: أن الأمر كذلك إن كانت الأجرة في أول المدة أقل، وإن كانت أكثر ضمنها بالأكثر في جميع المدة؛ لأنه لو كان المال في يده، فربما يلزمه بها في جميع المدة والله اعلم. قال الغزالي: وَإِنْ تَنَازَعَا فيِ تَلَفِ المَغْصُوبِ فَالقَوْلُ قَوْلُ الغَاصِبِ (و) لأَنَّهُ رُبَّمَا يَعْجَزُ عنِ البيِّنَةَ وَهُوَ صَادِقٌ، فَإِنْ حَلَفَ جَازَ طَلَبُ القِيمَةِ وَإِنْ كَانَ العَيْنُ بَاقِيَةً بِزَعْمِ الطَّالِبِ للعَجْزِ بِالحَلِفِ، وَكَذَلِكَ إِذَا تَنَازَعَا في القِيمَةَ أَوْ في صَفْقِةَ العَبْدِ (و) أَوْ في عَيْبٍ (ز) يُؤثِّرُ في القِيمَةِ فَالقَوْلُ قَوْلُ الغَاصِبِ لأَنَّ الأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِمَّةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا تَنَازَعَا ¬
في الثَّوبِ الَّذيِ عَلَى العَبْدِ؛ لأَنَّ العَبْدَ وَثَوْبَهُ في يَدِ الغَاصِبِ. قال الرافعي: المقصود من بقية الباب الكلام في تنازع المالك، والغاصب، وذلك يقع على أنحاء: منها: إذا ادعى الغاصب تلف المغصوب، وأنكر المالك، فالصحيح وهو المذكور في الكتاب أن القول قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه قد يعجز عن البينه، وهو صادق، فلو لم نصدقه لتخلد الحبس عليه، ولما وجد عنه مخرجاً. وفيه وجه: أن القول قول المالك مع اليمين؛ لأن الأصل بقاؤه. وإذا قلنا بالأول، فلو حلف الغاصب، هل للمالك تغريمه القيمة أو المثل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، لبقاء العين في زعمه. وأصحهما: نعم (¬1)، وهو المذكور في الكتاب؛ لأنه عجز عن الوصول إليهما بيمين الغاصب، وإن كانت باقية. ومنها: إذا اتفقا على الهلاك، واختلفا في قيمته، فالقول قول الغاصب؛ لأن الأصل براءة ذمته عن الزيادة، وعلى المالك البيِّنة، وينبغي أن يشهد الشهود بأن قيمته كذا. أما إذا أراد إقامة البينة على صفات العبد ليقومه المقومون بتلك الصفات، فعن صاحب "التقريب" حكاية قول أنها تقبل، ويقوم، وينزل على أقل الدرجات كما في السلم. والمذهب المنع لأن الموصوفين بالصفات الواحدة يتفاوتون في القيمة، لتفاوتهم في الملاحة، وما لا يدخل تحت الوصف. قال الإمام: لكن المالك يستفيد بإقامة البينه على الأوصاف إبطال دعوى الغاصب مقداراً حقيراً لا يليق بتلك الصفات، كما لو أقر الغاصب بصفات في العبد تقتضي النفَاسة، ثم قَوَّمَهُ بشيء حقير، لا يليق بها لا يلتفت إليه، بل يؤمر بالزيادة إلى أن يبلغ حدّاً يجوز أن تكون قيمته لمثل ذلك الموصوف ولو قال المالك: قيمته ألف، وقال الغاصب: بل خمسمائة، وجاء المالك ببينه على أنها أكثر من خمسمائه من غير تقدير. منهم من قال: لا تسمع البينه هكذا. ¬
والأكثرون: سمعوها، وقالوا: فائدة السماع أن يكلف الغاصب الزيادة على الخمسمائة، إلى حد لا تقطع البينة بالزيادة عليه، ولو قال المالك: لا أدري كم قيمته؟ لم تسمع دعواه لقوله حتى يبين، وكذا لو قال الغاصب: أعلم أن قيمته دون ما ذكره، ولا أعرف قدره لم تسمع حتى يبين، فهذا بين حلف عليه. ومنها: لو قال المالك: كان العبد كاتباً أو محترفاً، وأنكر الغاصب، فالقول قول الغاصب؛ لأن الأصل عدمه وبراءة ذمته. وحكى العراقيون من أصحابنا وجهاً أن القول قول المالك؛ لأنه أعرف بحال مملوكه، ولو ادعى الغاصب به عيباً، وأنكر المالك نظر إن ادعى عيباً حادثاً بأن قال: كان أقطع أو سارقاً، ففي المصدق منهما قولان: أحدهما: الغاصب؛ لأن الأصل براءة الذمة. وأصحهما: المالك؛ لأن الأصل والغالب دوام السلامة، ولو ادعى عيباً في أصل الخلقة بأن قال: كان أَكْمَه، أو وُلِدَ أعرج، أو عدم اليد، والمصدق الغاصب؛ لأن الأصل العدم، والمالك متمكن من إثباته بالبينة. وفيه وجهان آخران؟ أحدهما: تصديق المالك نظراً إلى غلبة السلامة. والثاني: الفرق بين ما يندر من العيوب وما لا يندر ولفظ الكتاب في الغصب، وإن كان مطلقاً، لكن في "الوسيط" ما يبين أنه أراد به العيب الخِلقي، ولو رد المغصوب، وبه عيب وقال: غصبته هكذا، وقال المالك: بل حدث العيب عندك. قال في "التتمة": المصدق الغاصب (¬1) لأن الأصل براءة ذمته، وعدم يده على تلك الصفة. منها: لو تنازعا في الثياب التي على العبد، فالمصدق الغاصب؛ لأن العبد وما عليه في يد الغاصب، هذه صورة الكتاب في الاختلاف. ومنها: لو قال: غصبت منى داراً بـ"الكوفة"، فقال: بل غصبت دارك بـ"المدينة"، فالقول قول المدعى عليه في أنَّه لم يغصب دار "الكوفة"، وأما غصبت دار المدينة، فإن وافقه المدعى عليه ثبت، وإلاَّ ارتد إقراره بتكذيبه (¬2). ¬
ومنها: غصب خمراً محترمة، وهلكت عنده، ثم قال المغصوب منه: هلك بعد التخليل، وقال الغاصب: بل قبلها، فلا ضمان على المصدق الغاصب. لأن الأصل بقاء الخمرية، وبراءة ذمته. ومنها: قال طعامي الذي غصبته كان حديثاً، وقال الغاصب: بل عتيقاً، فهذا كالخلاف في كون العبد كاتباً، والمصدق الغاصب، فإن نكل عن اليمين حلف المالك، ثم له أن يأخذ العتيق، فإنه دون حقه (¬1). ومنها: باع عبداً من إنسان، فجاء آخر يدعى أنه ملكه، وأن البائع كان غصبه منه، فلا شك أن له دعوى عين العبد على المشتري، وفي دعواه القيمة على البائع ما ذكرناه في الإقرار، فإن ادَّعى العين على المشتري، فصدقه أخذ العبد منه، ولا رجوع له بالثمن على البائع المكذب، فإن كذبه، فأقام المدعى عليه بينه، أخذه ورجع المشتري بالثمن على البائع، فإن لم يقم البينة، ونكل المشتري حلف المدعي، وأخذه، ولا رجوع للمشتري بالثمن لتقصيره بالنكول، وإن صدقه البائع دون المشتري لم يقبل إقرار البائع على المشترى، وبقي البيع بحاله، إلاَّ أن يكون إقراره بالغصب في زمن الخيار، فيجعل ذلك فسخاً للبيع، ثم عاد العبد إلى البائع بإرث، أو رد بعيب لزمه تسليمه إلى المدعي، وإن صدقه البائع والمشتري جميعاً، سلم العبد إلى المدعي، وعلى البائع رد الثمن المقبوض على المشتري، إن بقي بحاله وضمانه إن تلف. ولو جاء المدعي بعد ما أعتق المشتري العبد، وصدقه البائع والمشتري، لو يبطل العتق، سواء وافقهما العبد، أو خالفهما لما في العتق من حق الله -تعالى- ولهذا سمعت شهادة الحسبة عليه، بخلاف ما لو كاتبه المشتري، ثم توافقوا على تصديق المدعي؛ لأن الكتابه قابلة للفسح، وللمدعي في مسألة الإعتاق قيمة العبد على البائع، إن اختص بتصديقه، إذا أوجبنا الغرم للحيلولة، وعلى المشتري إن اختص بتصديقه، وعلى من شاء منهما، إن صدقاه جميعاً وقرار الضمان على المشتري، إلاَّ أن تكون القيمة في يد البائع أكثر، فلا يطالب المشترى بالزيادة، ولو مات المعتق، وقد اكتسب أموالاً كانت للمدعي؛ لأن المال خالص حق الآدمي، وقد اتفقوا على أنه هو المستحق، بخلاف العتق، فإن تصادقهم فيه إنما لم يؤثر لما فيه من حق الله -تعالى- هكذا أطلقوه. قال الإمام: وهو منزل على الأكساب التي يستقل العبد بها، فأما الأكساب التي يحتاج فيها إلى أذن السيد، فإن المدعى لا يستحقها، إن اعترف بخلوها عن ¬
الباب الثاني في الطوارئ، وفيه ثلاثة فصول
الإذن (¬1) والله أعلم. البَابُ الثَّانيِ فيِ الطَّوَارِئ، وَفِيهِ ثَلاثَةُ فُصُولٍ قال الغزالي: الأُوَّلُ في النُّقْصَانِ فَإِذَا غَصَبَ مَا قِيمَتُة عَشْرَةٌ فَعَادَ إِلَى دِرْهَمِ وَرَدَّهُ بِعَيْنِهِ فِلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لأَنَّ الفَائِتَ رَغَبَاتُ النَّاسِ لاَ شَيْءٌ مِنَ المَغْصُوبِ، وَإِنْ تَلِفَ فَالَواجِبُ عَشَرَةٌ وَهُوَ أَقصَى القِيمَةِ، وَإِنْ تَلَفَ بَعْضُهُ كَالثَّوْبِ إِذَا أَبلاَهُ حَتَّى عَادَ إِليَ نِصْفِ دِرْهَمٍ بَعْدَ رُجُوعِ الأَصْلِ إلَى دِرْهَمٍ ضَمِنَ القَدْرَ الفَائِتَ وَهُوِ نِصْفُ الثَّوْبِ بِنَصْفِ أَقْصَى القِيَمِ وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَرَدَّهَا مَعَ الثَّوْبِ البَالي. قال الرافعي الطوارئ على المغصوب إما أن تعود إلى ذاته أو لا تعود إليها، فالأول إما أن تكون بزيادة أو نقصان، وإما أن لا تعود إلى ذاته. فأهم ما نتكلم فيه من هذا النوع تصرفات الغاصب، فلذلك اشتمل الباب على ثلاثة فصول: أولها: في النقصان، والناقص من المغصوب، إِما قيمته أو شيء من أجزائه وصفاته، أو كلاهما. القسم الأول: أن يكون النقصان في القيمة وحدها، كما لو غصب ما قيمته عشرة، فرده بحالة، وقد عادت قيمته إلى درهم، فلا شيء عليه. وقال أَبُو ثَوْرٍ: عليه نقصان القيمة، كما لو تلف المغصوب، والصورة هذه تلزمه أقصى قيمته عشرة. لنا أن الفائت رغبات الناس لا شيء من المغصوب، بخلاف ما إذا أتلف، فإن الواجب هناك البدل، فوجب الأكثر لكونه مأموراً بالرد في تلك الحالة، وإذا كانت العين باقيةٌ، فالواجب ردها، وقد أتى به. وليعلم قوله في الكتاب: "فلا شئ عليه -بالواو- لمذهب أبِي ثَوْرٍ، فإنه وإن كان داخلاً في طبقه أصحاب الشَّافعي -رضي الله عنه- فله مذهب برأسه، ولا يُعَدُّ تفرده وجهاً، لكن حكى المُوَفَّقُ بْنُ طَاهِرٍ أن من الأصحاب من يوافقه، وأيضاً فإن الإِمَامَ بعد ¬
توجيه مذهبه بأنه تسبب إلى تفويت تلك الزيادة بإدامة اليد العادية. قال: وهذا يجده القياس منقاساً. القسم الثاني: أن يكون النقصان في كليهما، فالجزء التالف مضمون بقسط من أقص القيم من يوم الغصب إلى التلف، والنقصان الحاصل بتفاوت السوق في الباقي المردود غير مضمون. مثاله: غصب ثوباً قيمته عشرة، وانخفض السوق، فعادت قيمته إلى درهم، ثم لبسه، فأبلاه حتى عادت إلى نصف درهم يرده خمسه دراهم؛ لأن بالاستعمال والإبلاء تنسحق أجزاء من الثوب، وتلك الأجزاء، والصورة هذه نصف الثوب لانتهاء قيمته إلى نصف درهم، بعد ما كانت قبل الاستعمال درهماً، فيغرم النصف بمثل نسبته من أقصى القيم، كما يغرم الكل عند تلفه بالأقصى، ولو كانت القيمة عشرين، وعادت بانخفاض السوق إلى عشرة، ثم لبسه وأبلاه، حتى عادت إلى خمسة لزمه مع رده عشرة، ولو كانت عشرة، وعادت بانخفاض السوق إلى خمسة، ثم لبسه، وأبلاه حتى عادت إلى درهمين، لزمه مع رده ستة؛ لأنه تلف بالإبلاء ثلاثة أخماس الثوب، فيغرمها بثلاثة أخماس أقصى القيم. وذكر الشيخ أبُو عَلِيٍّ أن بعض من شرح "المولدات" أخطأ في هذه الصورة؛ فقال: يلزمه ثلاثة؛ لأنها الناقصة بالإبلاء، ولا عبَرة بالخمسة التي هي نقصان السوق، وقياس قول هذا القائل أن يلزمه في الصورة الأولى، وهي المذكورة في الكتاب نصف درهم، وفي الثانية خمسة دراهم، ولو غصبه وقيمته عشرة، فاستعمله أولاً حتى عادت بالإبلاء إلى خمسة؛ ثم انخفض السوق فعادت قيمته إلى درهمين، فرده يلزمه مع الرد الخمسة الناقصة بالإبلاء، ولا يغرم النقصان الحاصل في السوق في البالي الباقي، ولو غصب ثوباً قيمته عشرة، ولبسه وأبلاه حتى عادت القيمة إلى خمسة، ثم ارتفع السوق، فبلغت قيمته، وهو بالٍ عشرة، فظاهر كلام ابْنِ الحَدَّادِ أنه يغرم مع رد الثوب عشرَة لأن الباقي من الثوب نصفه، وهو يساوي عشرة، فلو بقي كله لكان يساوي عشرين، فيغرم عشرة للتالف. واختلف الأئمة فيه فساعده بعضعهم، وخالفه الجمهور على انقسامهم إلى مغلط ومؤل، وقالوا: لا يغرم مع رده إلاَّ الخمسة الناقصة بالاستعمال، ولا عبَرة بالزيادة الحاصلة بعد التلف، أَلاَ تَرَىَ أنَّه لو تلف الثوب أكله، ثم زادت القيمة لم يغرم تلك الزيادة. قال الإمام والصفات كالأجزاء في ذلك كله، حتى لو غصب عبداً صانعاً قيمته مائة، فنسي الصنعة، وعادت قيمته إلى خمسين، ثم ارتفع السوق، فبلغت قيمته ناسياً
مائة، وقيمة مثله إذا أحسن تلك الصنعة مائتين، لا يغرم مع رده إلاَّ خمسين. واعلم أن الجواب في صور إبلاء الثوب كلها مبني على أن أجره مثل المغصوب لازمه، مع أرش النقصان الحاصل بالاستعمال، وهو الأصح وقد مَرَّوجه آخر أنَّه لا يجمع بينهما، فعلى ذلك الوجه الجواب لزوم أكثر الأمرين من المقادير المذكورة، أو أجره المثل، ولو اختلف المالك والغاصب في قيمة الثوب الذي أبلاه أنها متى زادت، فقال المالك: زادت قبل الإبلاء، فاغرم التالف بقسطه منها، وقال الغاصب: بل زادت بعده قال ابْنُ سُرَيْجٍ: المصدق الغاصب؛ لأنه غارم، كلما لو تلف كله، واختلفا في أن القيمة زادت قبل التلف أو بعده. وأما القسم الثالث، وهو أن يكون النقصان في شيء من الأجزاء أو الصفات بعدها فيوضحه المسائل الآتيه على الأثر والله أعلم. قال الغزالي: وَلَوْ مَزَّقَ الثَّوْبَ خِرَقاً لَمْ يَمْلِكْهُ (ح) بَلْ يَرُدُّ الخِرَقَ وَأَرْشَ النَّقْصِ، وَإِنْ كَانَتِ الجِنَايَةُ لاَ تَقِفُ سِرَايَتُهَا اِلى الهَلاَكِ كَمَا لَوْ بَلَّ الحِنْطَةَ حَتَّى تَعَفَّنَتْ، أَو اتَّخَذَ مِنْهَا هَرِيَسَةٌ، أَوْ مِنَ التَّمْرِ وَالسَّمْنِ حَلْوَاء، فَنَصَّ الشَّافِعيُّ رَحمَةُ الله عَلَيْهِ أَنَّ المَالِكَ بِالِخَيارِ بَيْنَ أَنْ يأُخُذَ المَعِيبَ وَأَرْشَ النَّقْص أَوْ يُطَالِبَ بِمِثْلِ أَصْلِ المَالِ، فَإِنَّ مَصِيَرِهُ إِلى الهَلاَكِ فيِ حَقِّ مَنْ لاَ يُرِيدُهُ فَكَأنَّهُ هَالِكٌ، وَفِيهِ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ وَهُوَ القِيَاسُ أنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلاَّ مَا بَقِيَ من مِلْكهِ وَأَرْشُ النَّقْصِ. قال الرافعي: النقصان الحاصل في المغصوب نوعانِ: أحدهما: ما لا سرايه له، فعلى الغاصب أرشه، ورد الباقي لا فرق في ذلك بين أن يكون الأرش قدر القيمة، كما في يدي العبد، أو دونها، ولا بين أن يفوت معظم منافعه، أو يفوت، ولا بين أن يبطل بالجناية عليه الاسم الأول وألاَّ يبطل. قال أَبُو حَنِيْفَةَ: إذا كان الواجب قدر القيمة، أو فوت الغاصب معظم منافعه بجنايته، كما لو مزق الثوب المغصوب خرقاً، أو شَقَّهُ طولاً أو كسر قوائم الدابة، أو بعضها لم يكن للمالك أن يغرمه شيئاً إلاَّ أن يترك المغصوب إليه، وكذا لو ذبح الشاة، أو صبغ الثوب بما لا يقبل بعده لوناً آخر، وهو السواد، قال: فإذا تصرف بما أبطل الأسم الأول ملك، وغرم قيمته، ولا سبيل للمالك إلى أخذه منه، وهذا كما إذا غصب حِنْطَةً فطحنها، أو دقيقاً فخبزه، أو شاة فذبحها وشواها، أو صفراً واتخذه آنية، أو ثوباً فخاط منه قميصاً، وساعدنا في قطع أذن الدابة، وإحدى يدي العبد، وما أشبهها أنه يأخذ الباقي، ويغرمه الأرش.
واحتج الشَّافعي -رضي الله عنه- فقال: جناية قطع اليدين فوق جناية قطع إحداهما، فإذا لم يستفد بالغرامة في أدنى الجنايتين ملكًا وجب إلاَّ يستفيد في أعلى الجنايتين بطريق أولى. وعبارة الأصحاب أنه جنى على ملك الغير، فلا يتوقف تغريمه على تمليكه، كما لو قطع إحدى اليدين، ولو أراد المالك ترك الناقص عند الغاصب، وتغريمه بدله لم يكن له ذلك، فإنه عين ملكه. ونقل صاحب "المهذب" وغيره وجهاً أنه إذا طحن الطعام المغصوب للمالك ترك الدقيق ومطالبته بالمثل؛ لأنه أقرب إلى حقه من الدقيق. والنوع الثاني: ما له سراية لا تزال تزداد إلى الهلاك الكلي، كما لو بل الحنطة، وتمكن منها العفن السَّاري، أو اتخذ من الحِنْطة المغصوبة هريسةٍ، أو غصب سمناً وتمراً ودقيقاً، واتخذ منها عصيدة نقل العراقيون عن نصه -رضي الله عنه- في "الأم" أنه يجعل كالهالك ويغرم بدل كل مغصوب من مثل، أو قيمة. وقول آخر عن رواية الرَّبيع أنه يرده مع أرش النقصان، ثم قالوا: فيه طريقان للأصحاب: أحدهما: إثبات القولين، وجه الثاني القياس على النوع الأول من النقصان، ووجه الأول أنه مشرف على التلف والهلاك، ولو ترك حاله لفسد، فكأنه هالك. والطريق الثاني: القطع بالقول الأول، وجعله كالهالك أظهر عندهم، سواء أثبت القولين أو لا. وأما الإمام وصاحب "التهذيب" فإنهما رويا في المسألة قولين: أرجحهما: أنه يرده مع أرش النقصان، وليس للمالك إلاَّ ذلك. والثاني: أنه يتخير المالك بينه وبين أن يغرمه بدل ماله من مثل، أو قيمة، ويجعل كالهلاك؛ لأن أرْشَ النقص السَّارى لا يكاد ينضبط، فله أن يكفى مؤنة نفسه الاطلاع عليه وأيضاً، فإنه إذا لم يرده وتركه بحاله يهلك، بخلاف ما إذا طحن الحِنْطَة، فإنه وإن لم يرد الدقيق، فلو تركه بحاله لا يهلك. ونسب الإمام التخير هكذا إلى نص الشَّافعي -رضي الله عنه- وبه أجاب طائفة، منهم الشيخ أَبُو مُحَمَّدٍ والمَسْعُودِيُّ، وهو كالمتوسط بين ما اختاره العراقيون، وبين ما اختاره الإمام، وصاحب "التهذيب"، وذكر البندنيجى قولاً آخر عن رواية أَبِي إسحاق في الشرح أنَّه يتخير الغاصب بين أن يسكنه ويغرمه، وبين أن يرده مع أرش النقصان، ويخرج المختصر من هذه الروايات أربعة أقوال:
تغريمه: كما هلك رده وأرش النقصان. تخيير: المالك تخيير الغاصب. وإذا قلنا بالأول، فقد أورد أبُو سَعِيدٍ المُتَوِّلى وجهين (¬1) في أن الحنطة المبلولة لمن تكون؟ أحدهما: تبقى للمالك كيلا يكون العدوان قاطعاً حقه، كما لو نجس زيته، وقلنا: إنه لا يطهر بالغسل، فإن كونه للمالك أولى به. والثاني: أنها تصيير للغاصب؛ لأنا ألحقناه بالهلاك في حق المالك، ولو هلك لم يكن للمالك غير ما أخذه ضماناً، وكذلك هاهنا، وإذا حكمنا بتغريمه الأرش مع الرد، فإنه يغرم أرش عيب سارٍ، وهو أكثر من أرش الفائت. ثم قال الشيخ المتولى: إن رأى الحاكم أن يسلم الجميع إليه فعل، وإن رأى سلم أرش النقص المتحقق في الحال إليه، ووقف الزيادة إلى أن تتيقن نهايته، وفي هذا توقف؛ لأن المعقول من أرش العيب الساري أرش العيب الذي شأنه السّرَاية، وأنه حاصل في الحال. أما المتولد منه، فيجب قطع النظر عنه، إذ الكلام في النقصان الذي لا تقف سرايته إلى الهلاك، فلو نظرنا إلى المتولد معه لا نجر ذلك إلى أن يكون أرش العيب الساري تمام قيمته، وهو عود إلى القول الأول، وقد بَيَّنَ في "شرح المفتاح" الشيخ أبُو حَامِدٍ السلمي ذلك، فإنه قال في التعبير عن قول التخيير: إن شاء المالك ضمنه ما نقص إلى الآن، ثم لا شيء له من زيادة فساد تحصل من بعد، وإن شاء تركه، إليه، وطالبه بجميع البدل. ومن صور النوع الثاني ما إذا صَبَّ الماء في الزيت، وتعذر تخليصه منه، فأشرف على الفساد. وعن الشيخ أَبِي مُحَمَّدٍ تردد في مرض العبد المغصوب، إذا كان سارياً عسر العلاج، كالسل والاستسقاء، ولم يرتضه الإمام؛ لأن المرض الميئوس منه قد يبرأ، والعفن المفروض في الحنطة يفضي إلى الفساد لا محالة (¬2). وقوله في الكتاب: "وفيه قول مخرج" لم أجد غيره يصفه بكونه مخرجاً، وقد ¬
ذكرنا أنهم نقلوه عن رواية الرَّبِيْع، ولا حاجة مع النقل إلى التخريج، نعم ربما لا يبلغ النقل المخرج، فيقع الحافر على الحافر، والله أعلم. قال الغزالي: وَلَوْ جَنَى العَبْدُ المَغْصُوبُ جَنَايَةً قَتَلَ بِهَا قِصَاصاً ضَمِنَ الغَاصِبُ للمَالِكِ أَقْصَى قِيمَتِهِ إذْ حَصَلَ الفَوَاتُ تَحْتَ يَدِهِ، وإنْ تَعَلَّقُ الأَرْشُ بِرَقَبَتِهِ ضَمِنَ الغَاصِبُ لِلمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَمَا يَضْمَنُ المَالِكُ إذَ مَنَعَ البَيْعَ وَكَأنَّ الغَاصِبَ مَانِعٌ، فَإنْ تَلَفَ العَبْدُ في يَدِهِ ضَمِنَ لِلمَجنِيِّ عَلَيْهِ الأَرْشَ وَلِلمَالِكِ القِيمَةَ، وَإِنْ سَلَّمِ القِيمَةَ اِلىَ المَالِكِ فَللِمَجْنيِّ عَلَيْهِ التَّعَلُّقُ بِهِ لأنَّهُ بَدَلُ عَبْدٍ تَعَلَّقَ بِهِ أَرْشُهُ، فَإذَا أَخَذَهُ المَجْنِيُّ عَلَيْهِ رَجَعَ المَالِكُ عَلَى الغَاصِبِ بَمِا أَخَذَهُ لأنَّهُ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ. قال الرافعي: مقصود الفصل الكلام في جناية العبد المغصوب، وسب ذكره في هذا الموضع أن الجناية أحد أنواع النقصان، ونحن نذكره، ونضم إليه حكم الجناية عليه. أما جنايته، فينظر إن جنى بما يوجب القصاص، واقتص منه في يد الغاصب، غرم الغاصب أقصى قيمة من يوم الغَصْب إلى الأقتصاص، وإن جنى بما يوجب القصاص في الطرف، واقتص منه في يده غرم بدله، كما لو سقط بآفة سماوية ولو اقتص منه بعد الرد إلى السيد، غرم الغصب أيضاً؛ لأن سبب الفوات حصل في يده، وكذا الحكم لو ارتد، أو سرق في يد الغاصب، ثم قتل، أو قطع بعد الرد إلى المالك، ولو غصب مرتدّاً أو سارقاً، فقتل أو قطع في يد الغاصب، هل يضمنه الغاصب؟ في "النهاية" أنه على الوجهين، في أنه إذا اشترى مرتدّاً أو سارقاً، فقتل، أو قطع في يد المشترى، فمن ضمان من يكون القطع والقتل؟ ولو جنى المغصوب على نفس، أو مال جناية توجب المال متعلقاً برقبته، فعلى الغاصب تخليصه بالفداء. قال الإمام: وبم يفدية بأرش الجناية بالغاً ما بلغ، أو بأقل الأمرين من الأرش، ومن قيمة العبد فيه قولان، كما إذا أراد المالك تخليص العبد الجاني، وفداه، قال: وهذا؛ لأن وجوب بذل الأرش بتمامه في حق المالك، ووجهه أنه امتنع من البيع، ولو رغب فيه ربما. وقع الظفر بمن يشتريه بمقدار الأرش، ومثل هذا موجود في حق الغاصب؛ لأنه بالغصب مانع ملكه من بيعه وينزل ذلك منزله المالك المانع، ويترتب عليه تضمينه المجني عليه، وهذا ما أشار إليه صاحب الكتاب بقوله: "كما يضمن المالك إذا منع اليع، وكأنه الغاصب مانع". ولك أن تقول: لو كان يضمنه للمنع من البيع أسقط الضمان إذا رده إلى المالك لارتفاع الحيلولة، ولا يسقط بل لو بيع في الجناية بعد الرد إلى المالك، غرمه الغاصب
أيضاً، كما سيأتى ولم يوجه العراقيون تضمينه بذلك، وإنما وجهوه بأن جناية العبد لنقص دخله، كسائر وجوه النقصان، وسواء جرى الوجهان، كما ذكره الإمام أولاً، فالظاهر أنه لا يجب على الغاصب تحصيله إلاَّ بأقل الأمرين، وهو المذكور في "التتمة"، فإذا ثبت أن الجانى والجناية مضمونان على الغاصب، فلا يخلو إما أن يتلف العبد في يد الغاصب، أو يرده إن تلف في يده، فللمالك تغريمه أقصى القيم، فإذا أخذها، فللمجنى عليه إن لم يغرم الغاصب له بعد أن يغرم الغاصب، وله أن يتعلق بالقيمة التي أخذها المالك؛ لأن حقه كان متعلقاً بالرقبة، فيتعلق ببدلها، كما أن العَيْن المرهونة إذا أتلفها متلف يتوثق المرتهن ببدلها. وحكى الشيخ أَبُو عَلِيٍّ وَجْهاً أن القيمة المأخوذة تسلم للمالك، ولا يطالبه المجني عليه بها، وإنما يطالب الغاصب، كما أن المجني عليه لو أخذ الأرش لم يكن للمالك التعلق به، فهما كرجلين لكل واحد منهما دين على ثالث، والصحيح الأول، وإذا أخذ المجني عليه حقه من تلك القيمة، يرجع المالك بما أخذه على الغاصب؛ لأنه لم يسلم له، بل أخذ منه بجناية مضمونة على الغاصب، ثم الذي يأخذه المجني عليه قد يكون كل القيمة بأن كان الأرش مثل القيمة، وقد يكون بعضها بأن كانت القيمة ألفاً، والأرش خمسمائة، فلا يأخذ إلاَّ خمسمائة، ولا يرجع المالك إلاَّ بخمسمائة؛ لأن الباقي قد سلم له، وكذا لو كان العبد يساوى ألفاً، فرجع بانخفاض السوق إلى خمسمائة، ثم جنى، ومات عند الغاصب، فغرمه المالك الألف لم يكن للمجنى عليه إلاَّ خمسمائة وإن كان أرش الجناية ألفاً؛ لأنه ليس له عليه إلاَّ قدر قيمة الجناية، وإن رد العبد إلى المالك، نظر إن رده بعد ما غرم المجني عليه، فذاك، وإن رد قبله، فبيع في الجناية رجع المالك على الغاصب بما أخذه منه؛ لأن الجناية حصلت حين كان العبد مضموناً عليه، ويخالف ما إذا جنى في يد المالك، ثم غصبه غاصب، فرده، ثم بيع في تلك الجناية، حيث لا يرجع المالك بشيء؛ لأن الجناية حصلت، وهو غير مضمون عليه. وفرع ابْنُ الحَدَّادِ على ذلك، فقال: إذا جنى في يد المالك جناية تستغرق قيمته، ثم غصب وجنى في يد الغاصب جناية أخرى مستغرقة، ثم رده إلى المالك، ثم بيع في الجنايتين وقسم الثمن بينهما نصفين، يرجع المالك على الغاضب بنصف قيمة العبد؛ لأن إحدى الجنايتين وجدت، والعبد في ضمانه، فإذا أخذه كان للمجني عليه الأول التعلق به، ولا حق للمجنى عليه الثاني. ووجه الشيخان أبُو عَلِي وأَبُو مُحَمَّدٍ بأن سبب وجوب هذا النصف إنما هو الغصب، فإنه بالغصب ضمن ما يجنى المغصوب، والغصب مقدم على الجناية الثانية،
فلا يأخذ المجنيّ عليه الثاني، بما يوجب به شيئاً، كما لو جنى عبده على رجل، ثم قطعت يده، ثم جنى على آخر، ثم قتل أو مات من سراية القطع، فإن أرش اليد لا يأخذ منه المجني عليه الثاني شيئاً لوجوبه بالقطع المتقدم على الجناية عليه، ثم إذا أخذ المجني عليه الأول لم يرجع المالك على الغاصب؛ لأنه أخذه بسبب جناية غير مضمونة على الغاصب، ولو كان الفرع بحاله، وتلف العبد بعد الجنايتين في يد الغاصب، فله طلب القيمة من الغاصب، وللمجني عليه أخذها، فإذا أخذها، فللمالك الرجوع بنصفها على الغاصب؛ لأنه أخذ منه النصف بجناية مضمونه على الغاصب، فإذا رجع فللمجني عليه الأول أخذه؛ لأنه بدل ما تعلق به حقه قبل الجناية الثانية وإذا أخذه لم يكن له الرجوع على الغاصب مرة أخرى؛ لأنه مأخوذ بجناية غير مضمونة على الغاصب، هذا ظاهر المذهب في الحالتين. وقيل: إذا رد العبد، وبيع في الحالتين، فالنصف الأول يرجع به المالك سلم له، ولا يؤخذ منه، وإنما يطالب المجني عليه الأول الغاصب بنصف القيمة، وإذا ثبت في يد الغاصب بعد الجنايتين، لا يأخذ المالك شيئاً ولكن المجني عليه الأول يطالب الغاصب بتمام القيمة، والمجنى عليه الثاني يطالبه بنصف القيمة. ولو جنى العبد المغصوب في يد الغاصب أولاً، ثم رده إلى المالك، فجنى في يده جناية أخرى، وكل واحد منها مستغرق القيمة فبيع فيهما، وقسم الثمن بينهما، فللمالك الرجوع على الغاصب بنصف القيمة للجناية التي هي مضمونة عليه، فإذا أخذه، قال الشيخ أَبُو عَلِيٍّ: سمعت الشيخ القَفَّالَ مرة يقول: ليس لواحد من المجني عليهما أخذه. أما الثاني، فلأن الجناية عليه مسبوقة بجناية مستغرقة، وحق الثاني لم يثبت إلاَّ في نصف القيمة، وقد أخذه. وأما الأول، فلأن حق السيد في القيمة يثبت بنفس الغصب، وهو متقدم على حتى المجني عليه، فما لم يصل حقه إليه لا يدفع إلى غيره شيئاً. وقال: وليس هذا بشئ، بل للمجنى عليه، الأول أخذه، كما في المسألة السابقة، ولا عبَرة بثبوت حق السيد في القيمة، فإن حق السيد، وإن كان متقدماً، فيتقدم عليه حق المجني عليه، كما في نفس الرقبة. قال: وقد ناظرت القَفَّالَ، فرجع إلى قولى، وعلى هذا فإذا أخذه المجني عليه الأول، رجع به المالك على الغاصب مرة أخرى، ويسلم له المأخوذ ثانياً؛ لأن الأول قد أخذ تمام القيمة، والثاني لم يتعلق حقه إلاَّ بالنصف، وقد أخذه، ولو جنى في يد الغاصب، ثم في يد المالك، كما صورنا، ثم قتله الغاصب، أو غصبه ثانياً، فمات
عنده أخذت القيمة منه وقسمت بين المجني عليهما ثم للمالك أن يأخذ منه نصف القيمة؛ لأنه أخذ منه جناية مضمونة عليه، فإذا أخذه كان للمجنى عليه الأول أن يأخذه منه، ثم له أن يرجع به على الغاصب مرة أخرى، ويسلم له المأخوذ في هذه المرة، وقد غرم الغاصب، والصورة هذه القيمة مرتين: مرة بجناية العبد في يده، ومرة بالقتل، وعلى قياس الوجه الذي سبق يأخذ المجني عليه الأول تمام القيمة من الغاصب، والثاني نصف القيمة، وللمالك نصف القيمة ولا تراجع. هذا هو القول في جناية العبد المغصوب. وأما الجناية عليه، فإن قتل، نظر بأن وجب القصاص بأن كان القاتل عبداً، والقتل عمداً، فللمالك القصاص، فهذا اقتص برئ الغاصب؛ لأنه أخذ بدل عبده، ولا نظر مع القصاص إلى تفاوت القيمة، كما لا نظر في الأحرار إلى تفاوت الدّية، فإن لم يجب القصاص بأن كان الجاني حرّاً، فعليه بالجناية قيمة يوم القتل، سواء قتله الغاصب، أو أجنبى، والمالك بالخيار بين أن يطالب به الغاصب، أو الجانى، لكن الإقرار على الجانى، ثم إنْ كانت قيمته قبل يوم القتل أكثر، ونقصت في يد الغاصب، فعليه ما نقص بحكم اليد، وإن كان الجاني عبداً، فإن سلمه سيده، وبيع في الجناية، نظر إن كان الثمن مثل قيمة المغصوب أخذه، ولا شيء له على الغاصب، إلاَّ إذا كانت القيمة قد نقصت عنه قبل القتل، وإن الثمن أقل أخذ الباقي من الغاصب فإن اختاره سيده فداه. إن قلنا: يفدية بالأرش أخذه، ولا شئ له على الغاصب، إلاَّ على التقدير المذكور. وإن قلنا: يفدي بالأقل من أرش الجناية، وقيمة الجاني، فإن كانت قيمة المغصوب أكثر من قيمة الجاني، فالباقي على الغاصب، إن كانت أقل، أو مثلها أخذها المالك، ولا شئ له على الغاصب، إلاَّ على التقدير المذكور. ولو اختار المالك تغريم الغاصب الفداء فله ذلك ويأخذ منه جميع قيمة المغصوب، ثم يرجع الغاصب على سيد العبد الجانى بما غرم إلاَّ ما لا يطالب به، إلاَّ الغاصب، هذا إذا كانت الجناية قتلاً. أما الجراحات، فأما أن يكون لها أرش مقدر في حق الحر، أو لا يكون لها أرش مقدّر، فالواجب في القسمين ما بينا من قبل، فإذا كان الواجب ما نقص من قيمته بالجناية، كان المرعى حالة الاندمال، فإن لم يكن حينئذ نقصان لم يطالب بشئ، وإذا كان الواجب مقدراً من القيمة، كالمقدر من الدّية، فيؤخذ في الحال، أو يؤخر إلى الاندمال، فيه قولان، كما لو كانت الجناية على الحُرِّ، وسيأتي ذلك في موضعه -إن
شاء الله تعالى- وإذا كان الجاني غير الغاصب، وغرمناه المقدر من القيمة، وكان النقص أكثر من ذلك المقدر، فعلى الغاصب ما زاد على المقدر، فإن المقدر أكثر مما نقص من القيمة، فهل يطالب الغاصب بالزيادة على ما نقص من القيمة؟ ذكرنا فيما إذا سقطت يده بآفة أن الأصح أنه لا يطالب وهاهنا الظاهر أنه يطالب، والقرار على الجانى، وترددوا فيما إذا قطعت يده قصاصاً، أو حدّاً؛ لأنه يشبه السقوط بآفة من حيث إنه تلف بلا بدل، ويشبه الجناية من حيث حصوله بالأختيار، فإن اجتمعت جناية المغصوب، والجناية عليه، كما إذا قتل العبد المغصوب إنساناً، ثم قتله في يد الغاصب إنسان، فللمغصوب منه أن يقتص، ويسقط به الضمان عن الغاصب، ويبطل حق ورثة من قتله المغصوب؛ لأن العبد الجانى إذا هلك، ولم يحصل له عوض يضيع حق المجني عليه، نعم لو كان المغصوب قد نقص عند الغاصب بعروض عيب بعد ما جنى، فلا يبرأ الغاصب من أرش النقصان، ولولى من قتله التمسك به وإن عرض عيب قبل جنايته، فاز المغصوب منه بالأرش؛ لأن الجزء المقابل للأرش كان مقصوداً عند الجناية، ولو لم يقتص المغصوب منه، بل عفا على المال، أو كانت الجناية موجبة للمال، فحكم تغريمه وأخذه المال على ما مر في الجناية عليه من غير جناية منه، ثم إذا أخذ المال كان لورثة من جنى عليه عبده التعليق به؛ لأنه بدل الجاني على مورثهم، فإذا أخذوه رجع المغصوب منه على الغاصب مرة أخرى؛ لأنه أخذ منه بسبب جناية مضمونة عليه، ويسلم له المأخوذ (¬1) ثانياً على ما مر نظيره والله أعلم بالصواب. قال الغزالي: وإِذَا نَقَلَ الغَاصِبُ التُّرَابَ مِنْ أَرْضِ المَالِكِ فَعَلَيْهِ رَدُّ التُّرَابِ بِعَيْنِه أَوْ رَدُّ مِثْلِهِ اوِ الأَرْشُ لِتَسْوِيَةِ الحَفْرِ، وَالبَائِعُ إِذَا قَلَعَ أَحْجَارَهُ يَكَفِيهِ تَسْوِيةُ الحَفْرِ وَلاَ يَلْزَمُهُ الأرْشُ، وَقِيِلَ في المَسْئَلَتَيْنَ قَوْلاَنِ بِالنَّقُلِ وَالتَّخْرِيجِ، وَالاكْتِفَاءُ بالتسويةِ في المَوضعَيْنِ أَوْلَى فَإنَّهُ لاَ يَتَفَاَتُ، بِخِلاَفِ بِنَاءِ الجِدَارِ بَعْدَ هَدْمِهِ، وَلَيْسَ لِلغَاصِبِ أَنْ يَنْقُلَ التُّرَابَ إِلَى ¬
مِلكْهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ مَنَعَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إِلاَّ إِذا تَضَرَّرَ الغَاصِبُ بِهِ لِتَضْيِيقِهِ مِلْكَهُ أَوْ لِوقُوُعِهِ في شَارعِ يَحْذَرُ مِنَ التَّعَثُّرِ بِهِ ضَمَاناً، وَلَو حَفَرَ بِئْراً في دَارِهِ فَلَهُ طَمُّهَا وَإنْ أَبَاهُ المَالِكُ لِيَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ ضَمَانِ التَّرَدَيِّ، فَإِنْ أَبْرَأَهُ المَالِكُ فَالأَظْهَرُ أَنَّ رِضَاهُ الطَّارِئَ كَالرِّضَا المَقْرُونِ بِالحَفْرِ حَتَّى يَسْقُطَ الضَّمَانُ بِهِ فَلاَ يَجُوزَ لَهُ الطَّمُّ بَعْدَ رِضَاهُ. قال الرافعي: نقل التراب من الأرض المغصوبة تارة يكون من غير إحداث حفر فيها، كما إذا كشط عن وجهها، وتارة يكون بإحداث حفرة فيها، كما إذا حفر بئراً، أو شق نهراً. الحالة الأولى: إذا كشط وجه الأرض، ونقل التراب، فللمالك إجباره على رده إن كان باقياً، وإن تلف، وانمحق بهبوب الرياح والسيول الجارية رد مثله إليه، وعليه إعادة وضعه وهيئته، كما كانت من انبساط، أو ارتفاع، وإن لم يطالبه المالك بالرد، نظر إن كان له فيه عرض بأن دخل الأرض نقص، وكان ذلك النقص يرتفع بالرد ويتوقع منه (¬1) الأرش أو كان نقل التراب إلى ملكه، وأراد تفريغه إلى ملك غيره أو شارع يحدث من التعثر به الضمان، فله الاستقلال بالرد، وإن لم يكن شيء من ذلك، بل نقله إلى موات، أو من أحد طرفي الأرض المغصوبة إلى الآخر، فإن منعه المالك من الرد لم يرده، وإن لم يمنعه، فهل يفتقر الرد إلى إذن المالك؟ حكى في "التتمة" فيه وجهين، بناء على الوجهين في أنه إذا منعه، فخالف فرد، فهل للمالك مطالبته بالنقل ثانياً إلى الأرض؟ إن قلنا: لا: رد من غير إذن المالك. وإن قلنا: نعم افتقر إلى إذنه، وهو المذكور في الكتاب، وهو الأظهر، وإذا كان له غرض في الرد، فرده إلى الأرض، فمنعه المالك من بسطه لم يبسطه، وإن كان في الأصل مبسوطاً والله أعلم. الحالة الثانية: إذا حفر في الأرض المغصوبة بِئْراً، فأمره المالك بطَمِّهَا لزمه الطَّمُّ وإن لم يأمره المالك كان له أن يستقل بالطَّمِّ ليدفع عن نفسه خَطَر الضمان لو تردَّى فيها مترد، وأيضاً قد يكون في الطَّمِّ بعض الأغراض المذكورة في الحالة الأولى. وقال المُزَنِيُّ: لا يعلم إلاَّ بإذن المالك، فإن منعه المالك، وقال: رضيت باستدامة البئر، فإن للغاصب غرض في الطَّمِّ سوى دفع ضمان التردي، فله، الطم، وإن لم يكن له غرض سواه، فوجهان: أحدهما: له الطم أيضاً؛ لأن الإذن الطارئ لا يرفع حكم الحفر المتقدم. ¬
وأظهرهما، ويحكى عن أبي حنيفة: المنع، ويندفع عنه الضمان لخروجه عن أن يكون جناية وتعدياً، ولو لم يقل: رضيت باستدامتها، واقتصر على المنع من الطَّمِّ ففي "التتمة" أنَّه كما لو صرح بالرضا ليضمنه إياه. وقال الإمام: لا يضمنه، ولو كان الغاصب قد طمَّ البئر بآلة نفسه، فله نقلها، وللمالك إجباره عليه فإن تركها، ووهبها منه لم يلزمه القبول على أظهر الوجهين، وحيث قلنا في الحالتين: إنه يرد التراب إلى الأرض المغصوبة لوقوعه في ملكه أو في شارع، فذاك إذا لم يتيسر نقله إلى موات ونحوه في طريق الرد، فإن تيسر لم يرده إلاَّ بالإذن كذا قاله في "النهاية"، وذكر أنه إنما يستقل بعلم البئر إذا بقي التراب الأول بعينه. أما إذا تلف ففي الطم بتراب آخر دون إذن المالك وجهان، وينبغي أن يجرى هذا الخلاف في الحالة الأولى، وفيما إذا طلب المالك الرد والطَّمِّ عند تلف ذلك التراب. والظاهر فيها جميعاً أنه لا فرق بين التراب وغيره. أما إذا أعاد هيئة الأرض في الحالتين إلى ما كانت عليه إما بطلب المالك أو دونه، نظر إن لم يتفق في الأرض نقص، فلا أرش عليه ولكن عليه أجرة المثل لمدة الحفر والرد، وإن بقى فيها نقص وجب عليه الأرش مع الأجرة، هذا ما به الفتوى في مسألة الفصل من أولها إلى هذا الموضع، وورائه تصرف الأصحاب. قالوا: النص فيما نحن فيه أن يجب أرش النقص الحاصل بالحفر، ولم يوجب التسوية؛ لأنه نص على ذلك فيما إذا غرس في الأرض المغصوبه؛ ثم قلع بطلب المالك، وإذا باع أرضاً فيها أحجار مدفونة، فقلعها، ونقلها نص أنه يلزمه تسوية الأرض، واختلفوا فيها على طريقين: أحدهما: أن في الصورتين قولين بالنقل والتخريج: أحدهما: أن الواجب في الموضعين أرش النقصان؛ لأن إلزام التسوية مقابلة فعل بمثله، فصار كما إذا هدم جدار الغير لا يكلف بإعادته. والثاني: أن الواجب التسوية لتعود الأرض إلى ما كانت، ومهما أمكن التضمين بالمثل، لا يصار إلى التضمين بالقيمة، ويفارق هدم الجدار، كما تقدم في "البيع". والطريق الثاني: تقرير النصين، وفرقوا بأن الغاصب متعّدٍ، فغلظ عليه الأمر بإيجاب الأرش لكن لا متانة لهذا الفرق؛ لأن مؤنة التسوية قد تزيد على أرش النقصان الحاصل بالحفر، فلا يظهر زيادة تغليظ بإبحاث الأرش، وأيضاً فإنا إذا أوجبنا التسوية، وبقي بعد التسوية نقصان من الأرش يجب أرشه، نص عليه الأئمة، ولا بد منه، وإلاَّ كان الضمان دون الفائت، وإذا أوجبنا أرش النقصان الباقي بعد التسوية مع التسوية لم يكن فيه تخفيف، والله أعلم.
وإذا نظرت في لفظ الكتاب أفهمك ظاهره انصراف الطريقين إلى شئ آخر، وهو أن الواجب مجرد التسوية أم يجب مع التسوية أرش النقص الباقي؛ لأنه قال: "فعليه رد التراب"، والأرش، وأيضاً قال: يكفيه تسوية الحفر، ولا يلزمه الأرض، وأيضاً قال: والأكتفاء بالتسوية في الموضعين أولى، لكن الأعتماد على ما نقلناه، وإن كان المراد ما أشعر به ظاهره، كما انتظم الوجه بقوله، فإنه لا يتفاوت بخلاف بناء الجدار بعد هدمه؛ لأن هذا المعنى لا يقتضي القناعة بالتسوية، والإضراب عن أرش النقصان الباقي بعدها، وإنما هو توجيه القول الصائر إلى وجوب التسوية. والفرق بين إعادة الجدار بعد هدمة، وبين التسوية على ما مَرَّ، فإذاً يجب تأويل ظاهر الكتاب، بأن يحمل قوله: "فعليه رد التراب على رده وتسليمه إلى المغصوب منه، لا إلى الأرض، ويكون معنى قوله: والأرش لتسوية الحفر. وقوله: "يكفيه تسوية الحفر، ولا يلزمه الأرش" يؤمر بالتسوية، ولا يكلف الأرض، أو ما أشبه ذلك، ويجوز أن يعلم -بالواو-. وقوله في الكتاب: "وتسوية الحفر" في مسألة بيع الأرض التي فيها حجارة مدفونه من كتاب "البيع" كما عرفته هاهنا وكنا قد أحلنا شيئاً من الكلام فيه إلى هذا الموضع. واعلم أن توجيه هذا الخلاف الذي شرحناه يقتضى طرده في طَمِّ البئر، لكنهم سكتوا عنه. وقوله: "وليس للغاصب أن ينقل التراب إلى ملكه" يجوز إعلامه -بالواو- ولما سبق. وقوله: "فله طمها وإن أباه المالك" أي: لم يرده، ولم يأذن فيه. أما إذا صرح بالمنع مع الرضا باستدامة البئر، فهو على الوجهين الدين ذكرهما عقبه. وليعلم قوله: "وإن أباه" بالزاي. وقوله: "فإن أبرأه المالك" أي: عن ضمان التردي، وهذا اللفظ قد استعمله كثير من الأصحاب. قال الإمام: وليس المراد منه حقيقة الإبراء فإن الضمان حق عساه يثبت للمتردي، فكيف يبرئ عن حق الغير قبل ثبوته، وإنما المراد الرضا بابقاء البئر، كما قدمناه. قال الغزالي: وَإذَا خَصَى العَبْدَ فَعَلَيْهِ كَمَالُ قِيمَتِهِ، فَإِنْ سَقَطَ ذَلِكَ العُضُوُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةِ فَلاَ شَيْءَ (و) عَلَيْهِ لأَنَّهُ بِهِ تَزِيدُ قِيمَتُهُ، وَكذَلِكَ إِذَا نَقَصَ السَّمْنُ المُفْرِطُ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنَ القِيمَةِ.
قال الرافعي: إذا خصى (¬1) العبد المغصوب فهو على القولين السابقين، في أن جراح العبد، هل تتقدر؟ إن قلنا بالجديد، وهو أنه يتقدر لزمه كمال القيمة. وإن قلنا: لا يتقدر فالواجب ما نقص من القيمة (¬2)، فإن لم ينقص شئ، فلا شيء عليه، ولو سقط ذلك العضو بآفة سماوية، وزادت قيمتة ورده، فلا شيء عليه على القولين، نعم قياس الوجه الذي قدمناه في أنه يضمن بالتلف تحت اليد العادية، كما يضمن بالجناية أن يجب كمال القيمة، فلو كان بالجارية سمن، فزال ورجع إلى حد الاعتدال، ولم تنقص قيمتها لم يلزمه شيء؛ لأن السمن ليس له بدل مقدر، بخلاف الانثبيين، ويجوز أن يعلم لما ذكرناه قوله: "فعليه كمال قيمته" -بالواو- وكذا قوله: "فلا شيء عليه" والله أعلم. قال الغزالي: وَلَوْ عَادَ الزَّيْتُ بِالإغْلاَءِ إلَى نِصْفِهِ ضَمِنَ مِثْلَ نِصْفِهِ وَإِنْ لَمْ تَنْقُصِ القِيمَةُ لأَنَّ لَهُ مِثْلاً، وَكَذَا في إغْلاَءِ العَصِيرِ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: لاَ يُضْمَنُ في العَصِيرِ لأَنَّ الذَّاهِبَ مَائِيَّةٌ غيرُ متَمَوَّلَةٍ بِخلاَفِ الزَّيْتِ. قال الرافعي: إذا غصب زيتاً أو دهناً فأغلاه، فأما أن تنقص عينه، أو قيمتة، أو كلاهما، أو لا ينقص واحد منهما، فإن نقصت عينه، دون قيمتة، كما إذا غصب صاعين قيمتهما درهمين، فعادا بالإغلاء إلى صاع قيمتة درهمان، ففيه وجهان أحدهما: ويروى عن صاحب "التلخيص" أنه يرده، ولا غرم عليه؛ لأن ما فيه من الزيادة والنقصان استند إلى سبب واحد، فيجبر النقصان بالزيادة. وأصحهما، وهو المذكور في الكتاب أنه يرده، ويغرم مثل الصاع الذاهب؛ لأن للزيت بدلاً مقدراً، وهو المثل، فصار كما لو جنى وخصى العبد، والزيادة الحاصلة أثر محض لا ينجبر به النقصان، كما لا يستحق به الغاصب شيئاً، إذا لم يكن نقصان. وإذا نقصت قيمتة، دون عينه رده مع أرش النقصان. وإن انتقصا جميعاً، فالواجب عليه مع رد الباقي مثل ما ذهب بالإغلاء، إلاَّ إذا كان ما نقص من القيمة أكثر مما نقص من العين، فيلزمه مع الذاهب أرش نقصان الباقي، وإن لم ينقص واحد منهما رده، ولا شيء عليه. ولو غصت عصيراً وأغلاه، فهل هو الزيت حتى يضمن مثل الذاهب، إذا لم تنقص القيمة. ¬
فيه وجهان: أحدهما: نعم، وبه قال أَبُو عَلِي الطَّبَرِيُّ؛ لأنه مضمون بالغلي كالزيت. والثاني: لا، وبه قال ابْنُ سُرَيْجٍ، والفرق أن حلاوة العصير باقية، والذاهب منه مائية ورطوبة لا قيمة لها، والذاهب من الزيت زيت متقوم، وهذا أصح مما ذكره الشيخ أبُو حَاِمدٍ وَالقاضي الروياني، ومن قال به قطع بأنه لا يضمن مثل العصير الذاهب. وإيراد صاحب الكتاب يقتضى ترجيح الوجه الأول، وربما يقول: من رجحه الذاهب من الزيت المائية أيضاً إلاَّ أن مائيته أقل، وعلى هذا أن يعود الوجهان المذكوران في أنه هل يضمن مِثْل الزيت الذاهب إذا لم تنتقص القيمة؟ والخلاف المذكور فيما إذا أغلى العصير يجري فيما إذا صار خلاًّ، وانتقص عينه دون قيمتة، وكذا إذا صار الرطب تمراً، والله أعلم. قال الغزالي: وَلَوْ هَزَلَتِ الجَارِيةُ ثُمَّ سِمِنَتْ، أَوْ نَسِيَ الصَّنْعَةَ ثُمَّ تَذَكَّرَ، أَوْ أَبْطَلَ صَنْعَةَ الإِنَاءِ ثُمَّ أَعَادَ مِثْلَهُ فَفيِ حُصُولِ الجَبِرْ وَجْهَانِ، وَلَو أَعَادَ صَنْعَةَ أُخْرى فَلاَ يَخْيَرُ أَصْلاً. قال الرافعي: نقصان المغصوب، هل ينجبر بالكمال بعده، ينظر إن كان الكمال من الوجه الذي حصل فيه النقصان، كما لو هزلت الجارية (¬1) ثم سمنت، وعادت، كما كانت، ففيه وجهان: أحدهما: أنه ينجبر، ويسقط الغرم، كما لو أبق العبد، فعاد، وكما لو جنى على عين، فابيضت، ثم زال البياض. وأظهرهما: المنع؛ لأن السمن الثاني غير الأول، ويروى هذا عن الإِصْطَخْرِيِّ، والأول عن ابن أَبي هرَيْرة، والوجهان عند القاضي أَبِي الطَّيِّبِ مبنيان على الَخلاف، إِذا قلع سن كبير، وعاد، وضعفه صاحب "التتمة"؛ لأن عود سن الكبير نادر، وعود السمن ليس بنادر، فهو بعود سن الصغير أشبه، وأجرى الوجهان فيما إذا كان العبد المغصوب صانعاً، فنسى الصنعة، ثم تذكرها أو تعلمها، ومنهم من قطع هاهنا بالأنجبار؛ لأن السمن الثاني زيادة في الجسم محسوسة مغايرة لما كان، وتذكر الصنعة لا يعد في العرف شيئاً متجدداً، والظاهر هاهنا الانجبار، سواء ثبت الخلاف أو لا. ¬
ومنهم من قطع في السمن بعدم الانجبار، وخص الخلاف بالصورة الثانية، وحكاه في "التهذيب" عن صاحب "التلخيص". وإذا قلنا: بالأنجبار، فلو لم تبلغ القيمة بالعائد إلى القيمة الأولى، ضمن ما بقى من النقصان، وانجبر ما وراءه بما عاد، ويجري الخلاف فيما إذا كسر الحُلى، والإناء المغصوبين، ثم أعاد تلك الصنعة (¬1). ويجوز أن يعلم قوله في الكتاب: "وجهان" -بالواو- للطريقة القاطعة بعدم الأنجبار، بعود السمن وبالانجبار في تذكر الصنعة، وإن كان الكمال من وجه آخر بأن نسي صنعه، وتعلم أخرى أو أبطل صنعة الإناء، وأحدث صنعة أخرى، فلا انجبار بحال، وعلى هذا لو تكرر النقصان، وكان الناقص في كل مرة مغايراً للنوع الناقص في المرة الأخرى ضمن الكل، حتى لو غصب جارية قيمتها مائة، فسمنت، وبلغت القيمة ألفاً، وتعلمت صنعة، فبلغت القيمة ألفين، ثم هزلت، ونسيت الصنعة، فعادت قيمتها إلى مائة يردها ويغرم ألفاً وتسعمائة (¬2)، ولو علم العبد المغصوب سورة من القرآن، أو حرفة فنسيها، ثم علمه، حرفة، أو صورة أخرى فنسيها أيضاً ضمنها، وإنْ لم تكن مغايرة، كما إذا علمه سورة واحد، أو حرفة واحدة مراراً، وهو ينساها في كل مرة. فإن قلنا: لا يحصل الانجبار بالعائد، ضمن النقصان كل مرة. وإن قلنا: يحصل ضمن أكثر المرات نقصاناً، والله أعلم. فرع: لو زادت قيمة الجارية بتعلم الغناء، ثم نسيته. نقل القاض الروياني عن النَّص أنه لا يضمن النقصان؛ لأنه محرم والمضمون الزيادة المحترمة (¬3). وعن بعض الأصحاب: أنه يغرمه، ولهذا لو قتل عبداً مغنياً يغرم قيمتة. قال: وهو الأختيار. ¬
فرع آخر: مرض العبد المغصوب، ثم برئ، وزال أثر المرض لا شيء عليه مع رده. وفيه وجه بعيد: أنه يضمن النقص الحاصل بالمرض، ولا يسقط عنه بالبرئ، وكذا الحكم فيما لو رده مريضاً، ثم برئ، وزال الأثر. فرع آخر: غصب شجرة فتحات ورقها، ثم أورقت أو شاة فجز صوفها، ثم نبت غرم بالأول، ولا ينجبر بالثاني، بخلاف ما لو سقط سن الجارية المغصوبة، ثم نبت أو انمعط شعرها، ثم نبت يحصل الانجبار قاله في "التهذيب" لأن الورق والصوف متقومان، فيغرمهما وسن الجارية وشعرها غير متقومين، وإنما يغرم أرش النقص الحاصل بفقدانها، وقد زال والله أعلم بالصواب. قال الغزالي: وَلَوْ غَصَبَ عَصِيراً فَصَارَ خَمْراً ضَمِنَ مَثْلَ العَصِيرِ لِفَواتَ المَالِيَّةِ، وَلَو صَارَ خَلاًّ فَالأَصَحُّ أنَّهُ يُرَدُّ مَعَ أَرْشِ النُّقْصَانِ إِنْ كَانَ الخَلُّ أَنْقَصَ قِيْمَةً، وَقِيْلَ: يُغَرَّمُ مِثْلُ العَصِيرِ، وُيرَدُّ الخَلُّ وَهُوَ رِزْقٌ جَدِيدٌ كَالسَّمْنِ العَائِدِ، وَكَذَا الخِلاَفُ فيِ البَيْضِ إِذَا تَفَرَّخَ، وَالبِذْرِ إِذَا زُرعَ، وَالأَصَحُّ الأكْتِفَاءُ بِهِ فَإنَّهُ اسْتِحَالَة إلَى زَيادَةٍ، وَلَوْ غَصَبَ خَمْراً فَتَخَلَّلَ فيِ يَدِهِ، أَوْ جِلْدَ مَيْتَةَ فَدَبَغَهُ فَالأَصَحُّ أَنَّ الخَلَّ (ح) وَالجِلْدَ لِلمْغَصْوُبِ مِنْهُ، وَقِبلَ: بَل للْغَاصِبِ فَإنَّهُ حَصَلَ بِفِعْلِهِ مِمَّا لاَ مِالِيَّةِ لِلمالِكِ فِيهِ. قال الرافعي: في باقي الفصل مسألتان: إحداهما: إذا غصب عصيراً، فتخمر عنده كان للمغصوب منه تضمينه، مثل العصير لفوات المالية، وذكروا أن على الغاصب إراقة الخمر، فلو جعلت محترمة، كما لو تخمرت في يد المالك من غير قصد التخميرية لكان جائزاً، ولو تخللت في يد الغاصب فوجهان: أصحهما: أن النحل للمالك وعلى الغاصب أرش النقصان، إِن كانت قيمة النحل أنقص. والثاني: أنه يغرم مثل العصير؛ لأنه بالتخمير كالتالف، وعلى هذا ففي الخل وجهان: أحدهما: أنه للغاصب، كما لو غصب الخمر، فتخللت في يده يكون الخل للغاصب على وجه. وأظهرهما: أنَّه للمالك؛ لأنه فرع ملكه، ويجوز أن يكون الخل له، ولا يسقط الضمان اللازم قبل التخلل، كما في السمن العائد على أحد الوجهين، ويجرى هذا
الخلاف فيما إذا غصب بيضة، فتفرحت عنده، أو بذراً فزرعه، فنبت أو بذر قز، فصار قزَّاً، فعلى الأصح الحاصل للمالك، ولا يغرم الغاصب شيئاً إلاَّ أن يكون الحاصل أنقص قيمة مما غصبه؛ لأن المغصوب قد عاد إليه زائداً، وعلى الثاني يغرم المغصوب لهلاكه، والحاصل للمالك في أظهر الوجهين، وللغاصب في الآخر. وبه قال أَبُو حَنِيْفَةَ والمزني، ويجوز أن يعلم لما ذكرنا قوله: "ويرد الخل" بالواو. وقوله: "والأصح الاكتفاء به" بالحاء والزاي. لأن اكتفاء المالك مفرع على أنه له وهما لا يجعلان الحاصل له، ثم الأكتفاء فيما إذا لم يكن الحاصل نقص، وهو الغالب. المسألة الثانية: إذا غصب خمراً، فتخللت في يده، أو جلد ميتة، فدبغه فوجهان: أصحهما: أن الخل والجلد للمغصوب منه؛ لأنه فرع ملكه، فعلى هذا إذا تلف في يده غرمه. والثاني: أنهما للغاصب لحصولهما عنده بما ليس بمال. وفي المسألة طريقان آخران: أحدهما: القطع بأن الخل للمالك، وتخصيص الوجهين بالجلد؛ لأن الجلد صار مالاً يفعله، والخمر تخللت بنفسها. والثاني: القطع بأن الجلد للمالك، وتخصيص الوجهين بالخل؛ لأن جلد الميتة يقتنى، والخمر التي غصبها لا يجوز اقتناؤها، فإن كانت الخمر محترمة كانت كجلد الميتة. وإذا جمعت الطرق، واختصرت قلت: هما للمالك، أو للغاصب، أو الخل للمالك، والجلد للغاصب، أو بالعكس فيه أربعة أوجه. وإذا حكمنا بأنهما للمالك، وذلك فيما إذا لم يكن المالك معرضاً عن الخمر والجلد. وأما إذا كان قد أراق الخمر أو ألقى جلد الشاة الميتة، فأخذها أحد، هل للمعرض استرداد الحاصل؟ فيه وجهان (¬1)؛ لأنه أبطل اختصاصه بالإلقاء. وقوله في الكتاب: "فإنه حصل بفعله فيما لا مالية للمالك فيه" هذا في الجلد ظاهر، وفي الخمر كأنه يعني به الحفظ، والإمساك إلى أن تتخلل، والله أعلم بالصواب. ¬
قال الغزالي: الفَصْلِ الثَّانِي فيِ الزِّيادَةَ فَإذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا، أَوْ ثَوَباً فَقَصَّرهَ، أَوْ خَاطَهُ، أَوْ طِيِناً فَضَرَبهُ لِبِنَاً، أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا وَسواهَا لَمْ يَمْلِكْ (ح) شَيئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يَرُدُّهُ عَلىَ حَالِهِ وَأَرْشَ النَّقْصِ إنْ نَقَصَ، وَإِنْ غَصَبَ نُقْرَةً فَصَاغَهَا حَلياً رَدَّها كَذَلِكَ، وَلَوْ كَسَرَه ضِمِنَ الصَّنْعةَ وَإِنْ كَانَتْ من جِهَتِهِ؛ لأَنَّهَا صَارَتْ تَاِبَعةً لِلنُّقْرُةِ، فَإِنْ أَجْبَرَهُ المَالِكُ عَلىَ رَدَّهِ اِلَي النُّقْرُةِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلاَ يَضْمَنُ أرْشَ الصَّنْعَةِ، وَيَضْمَنْ مَا نَقَصَ مِنْ قِيْمَةِ أصْلِ النُّقْرَةِ بِالكَسْرَ. قال الرافعي: الزيادة في المغصوب تنقسم إلى آثار محضة وإلى أعيان: أما القسم الأول: فالقول الجملي فيه أن الغاصب لا يستحق بتلك الزيادة شيئاً لتعديه، ثم ينظر إن لم يمكن رده إلى الحالة الأولى رده بحاله، وأرش النقص، وإن نقصت قيمته، وإن أمكن رده إلى الحالة الأولى، فإن رضي به المالك لم يكن للغاصب رده إلى ما كان، وعليه أرش النقص، إن كان فيه نقص إلاَّ أن يكون له غرض في الرد إلى الحالة الأولى، فله الرد، وإن ألزمه الرد إلى الحالة الأولى لزمه ذلك، وأرش النقص إن نقص عما كان قبل تلك الزيادة. إذا تقرر ذلك، فمن صور هذا القسم طحن الحنطة، وقصارة الثوب، وخياطته، وضرب الطين لبناً، وذبح الشاة وشَيّها، ولا يملك الغاصب المغصوب بشيء من هذه التصرفات، بل يردها مع أرش النقص، إن نقصت القيمة وقد ذكرنا خلاف أَبِي حَنِيْفَةَ، وإنما تكون الخياطة من هذا القسم إذا خاط بخيط المالك. أما إذا كان الخيط للغاصب فستأتى نظائرة -إن شاء الله تعالى- في الطحن والقصارة والذبح والشيء لا يمكن الرد إلى ما كان، وكذا في شَقِّ الثوب وكسر الإناء، ولا يجبر على رفو الثوب، وإصلاح الإناء؛ لأنه لا يعود إلى ما كان بالرفو والإصلاح، وعن مالك: أنه يجبر عليها، كما في تسوية الحفر، ولو غزل القطن المغصوب رد الغزل وأرش النقص إن نقص، ولو نسج الغزل المغصوب، فالِكْربَاس للمالك مع أرش النقص، إن فرض مقص، وليس للمالك إجباره على نقضه، إن كان لا يمكن رده إلى الحالة الأولى ونسجه ثانياً، وإن أمكن كالخز فله إجباره عليه، فإن نقضه ونقصت قيمتة عن قيمة الغزل في الأصل غرمه ولا يغرم ما كان قد زاد بالنسيج، وفات بالنقص؛ لأن المالك أمره بذلك، فإن نقض من غير إذن المالك ضمنه أيضاً، ولو غصب نقرة، وضربها دراهم صاع منها حليّاً، أو غصب نحاساً أو زجاجاً، واتخذ منه إناء فإن رضي المالك رده كذلك، لم يكن له رده إلى الحالة الأولى إلاَّ أنْ يكون ضرب الدراهم بغير إذن السلطان، أو على غير عياره؛ لأنه حيئنذ يخاف التعبير، وحيث مُنع من الرد إلى ما
كان فخالف، غرم للنقصان الحاصل بزوال الصنعة الحاصلة عند الغصب، ولو أجبره المالك على رده إلى ما كان لزمه للرد فإذا، امتثل لم يغرم النقصان الحاصل بزوال الصنعة، لكن لو نقص عما كان بما طرأ أو زال غرمه. قال الغزالي: وَلَوْ غَصَبَ ثَوْياً قَيمتُهُ عَشَرَةٌ وصَبَغَهُ بِصَبْغٍ قِيْمتُهُ عَشَرَةٌ فَصَارَتْ قَيِمَة الثُّوبِ عِشْرِينَ فَهُمَا شَرِيكَانِ، فَيُبَاعُ وُيقَسَّمُ الثَّمَنُ بَينَهُمَا، فَإِنْ وِجُدَ زُبُونٌ يَشْتَرِي بِثَلاَثيِنَ صُرِفَ إِلَي كُلِّ واحِدٍ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَإِنْ عَادَ الثَّوبُ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ بِالصَّبْغِ حسِبَ النُّقْصَانُ عَلىَ الصَّبْغِ، وَإِنْ عَادَ إِلَي ثَمَانِيَةِ ضَاعَ الصَّبْغُ وَغُرِّمَ الغَاصِبُ دِرْهَمَينِ، وَكَذَا القَوْلُ فيِ ثُبوتِ الشَّرِكَةِ إِذَا طَيَّرَ الرِّيُحِ الثَّوْبَ إِلَى إِجَّانَةِ صَبَّاغٍ، أَوْ صبَغَ الثَّوْبِ المغْصُوب بِصَبْغِ مغَصْوب مِنْ غَيْرهِ، فَإِنْ قَبِلَ الصَّبْغُ الفَصْلَ أُجْبِرَ الغَاصِبُ عَلىَ فَصْلِهِ كَمَا يُجْبَرُ عَلىَ قَلْعِ الزَّرْعِ وَالغِراسِ وَالبِنَاءِ وَإِنْ نَقَصَ زَرْعُهُ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: لاَ يُجبَرُ عَلىَ فَصلِ الصَّبغِ إنْ كَانَ يَضِيعُ بالفَصْلِ أو لاَ تَفِيِ قَيِمتُهُ بِمَا يَحْدُثُ فيِ الثَّوْبِ من نُقْصَانٍ بسَبَبِ الفَصْلِ، وَمَهْمَا طُولِبَ بِالفَصْلِ وَكَانَ يَسْتَضِرُّ بِهِ فَلَوْ تَركَهُ عَلىَ المَالِكِ أُجْبِرَ عَلىَ قَبُولِه فيِ وَجْهٍ كَالنَّعْلِ فيِ الدَّابَّةِ المَرْدُودَة بِالعَيْبِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيهِ ضَرَرٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ الإِجْبَارُ عَلىَ القَبُولِ، وَلَوْ بَذَلَ المَالِكُ قِيمَةَ الصَّبغِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أنْ يَتَملَّكَ عَلَيْهِ الثَّوْبُ للِخَلاَص مِنَ الشَّرِكَةِ سَهُلَ، بِخِلاَفِ المعُيِرِ يَتَمَلَّكُ بِنَاءَ المُسْتَعيرِ بِبَدَلٍ لأَنَّ بَيْعَ العَقَارِ عَسِيِرٌ، وَمَهْمَا رَغَبَ المَالِكُ فيِ بَيْعِ الثَّوبِ أُجْبِرَ الغَاصِبُ عَلىَ بَيْعِ الصَّبْغِ لِيَصِلَ كُلُّ وَاحِدِ إِلَى الثَّمَنِ، فإنْ رَغِبَ الغَاصِبُ فَفيِ إِجْبَارِ المَالِكِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: القسم الثاني: الأعيان، فمن صورة صبغ الثوب المغصوب، ونقدم عليه صورتين مقصودتين في نفسهما، ويحتاج إليهما في مسألة الصبغ: إحداهما: إذا غصب أرضاً، وبنى فيها أو غرس أو زرع، كان لصاحب الأرض أن يكلفه القلع. قال صلى الله عليه وسلم: (لَيْسِ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ) (¬1) وعن أَحْمَدَ: أنَّه لا يكلف ¬
قلع الزرع مجاناً؛ لأن له غاية تنتظر، ولكن بخير صاحب الأرض بين أن يبقيه بأجرة وبين أن يتملكه ويغرم مثل البذر وأجرة عمله، ولو أراد الغاصب القلع لم يكن للمالك منعه، فإنه عين ماله، وإذا قلع فعليه الأجرة، وفي وجوب التسوية أو الأرش ما قدمناه في نقل التراب، وإن نقصت الأرض لطول مدة الغراس، فيجمع بين أجرة المِثْل، وأرش النقص، أو لا يجب إلا أكثرهما، فيه الخلاف المذكور، فيما إذا أبلى الثوب بالأستعمال، ولو أراد صاحب الأرض أن يتملك البناء، أو الغراس بالقيمة، أو تبقيتهما، أو الزرع بالأجرة، هل على الغاصب إجابته؟ قال في "التتمة": فيه وجهان: أحدهما: نعم كالمستعير بل أولى، فإن الغاصب متعّدٍ. وأظهرهما: المنع لتمكنه من القلع بلا غرامة، بخلاف المعير، وهذا ما ذكره الإمام حكايته عن القاضي الحُسَيْنِ. ولو غصب من رجل أرضاً وبذراً، وزرعها به، فللمالك أن يكلفة إخراج البذر من الأرض، ويغرمه أرش النقصان، وليس للغاصب إخراجه إذا رضي به المالك. الصورة الثانية: إذا زَوَّقَ الدَّار المغصوبة نظر إن كان بحيث لو نزع حصل منه شيء، فللمالك إجباره على النزع، وإن تركه الغاصب ليدفع عنه كلفة النزع، هل يجبر المالك على قبوله؟ فيه وجهان نشرحهما في مسألة الصبغ. ولو أراد الغاصب نزعه، فله ذلك؛ لأنه عين ماله، ولا فرق بين أن يكون للمنزوع قيمة، أو لا يكون، فإذا نزع فنقصت الدار عما كانت قبل التزويق، لزمه الأرض، وإن كان التزويق محض تمويه، لا يحصل منه عين لو نزع، فليس للغاصب النزع إن رضي المالك، وهل له إجباره عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه قد يريد تغريمه أرش النقص الحاصل بإزالته. والثاني: لا، كما في الثوب إذا قصر. وقال في "التهذيب": وهو الأصح إذا عرفت ذلك عدنا إلى الصبغ، وقلنا: للصبغ الذي يصبغ به الثوب المغصوب أحوال: الحالة الأولى: أن يكون للغاصب فينظر إن كان الحاصل تمويهاً محضاً، فالحكم على ما ذكرنا في التزويق، وإنْ حصل بالانصباغ عين مال فيه، فأما إلاَّ يمكن فصله عنه، أو يمكن.
القسم الأول: إذا لم يمكن فصله عنه، فعن صاحب "التقريب" حكاية قول عن القديم أنه يفوز به صاحب الثوب تشبيهاً له بالسمن. والمذهب المشهور أنه ليس له ذلك، لكن قضية الشركة بين المالك والغاصب؛ لأنه عين مال له انضم إلى ملك المغصوب منه، بخلاف السمن، وبخلاف القصارة والطحن ونحوهما، فإنهما آثار محضة، وحينئذ ينظر إن كانت قيمة الثوب مصبوغاً مثل قيمته، وقيمة الصبغ قبل الصبغ، كما إذا كانت قيمة الثوب عشرة وقيمة الصبغ عشرة، وهو يساوي بعد الصبغ عشرين، فهو بينهما بالسوية حتى لو وجدا راغباً باعاه منه بثلاثين إلى كل واحد خمسة عشرة وإن عادت قيمة الثوب المصبوغ فهي بينهما وإن نقصت قيمته مصبوغاً عن قيمتهما بأن عاد الثوب مصبوغاً وللتصوير كما سبق إلى خمسة عشرة، أطلق الأكثرون بأن النقصان محسوب من الصبغ؛ لأن الأصل هو الثوب والصبغ، وإن كان عيناً، كالصفة التابعة للثوب، فيكون الثوب المصبوغ بينهما أثلاثاً الثلثان للمغصوب منه، والثلث للغاصب. وفي "الشامل" و"التتمة" أنه إن كان النقصان لانخفاض سوق الثياب، فالنقصان محسوب من الثوب، وإن كان لانخفاض سوق الأصباغ، فمن الصبغ وكذا لو كان النقصان بسبب العمل؛ لأن صاحب الصبغ هو الذي عمل، ويمكن أن يكون إطلاق من أطلق منزلاً على هذا التفصيل، وإن كانت قيمتة بعد الصبغ عشرة انمحق الصبغ، ولا حق فيه للغاصب، وإن تراجعت القيمة، وكان الثوب مصبوغاً يساوي ثمانية، فقد ضاع الصبغ، ونقص من الثوب درهمان، فيرده مع درهمين، وإن زادت قيمة الثوب مصبوغاً عن قيمتها قبل الصبغ، بأن بلغت ثلاثين في الصورة المذكورة، فمن أطلق الجواب في النقصان أطلق القول هاهنا بأن الزيادة بينهما على نسبة ماليهما، ومن فصل قال: وإن كان ذلك لارتفاع سوق الثياب، فالزيادة لصاحب الثوب، وإن كان لارتفاع سوق الأصباغ، فهي للغاصب، وإن كان للعمل والصنعة، فهي بينهما؛ لأن كل واحد منهما قد زاد بالصنعة والزيادة الحاصلة بفعل الغاصب، إذا استندت إلى الأثر المحض تسليم للمغصوب منه. القسم الثاني: إذا أمكن فصله من الثوب، فعن صاحب "التقريب" نقلاً عن القديم أنَّه إنْ المفصول لا قيمة له، فهو كالسمن. والمذهب أنه ليس كالسمن؛ وأنه لا يفوز به المغصوب منه، وهل يملك إجبار الغاصب على فصله فيه وجهان. أحدهما: نعم، كما يملك إجباره على إخراج الغِرَاس، ويحكى هذا عن ابْنِ خَيْرَانَ وأَبِي إسحاق في الزيادات على الشرح.
والثاني: لا، وبه قال ابْنُ سُرَيْجٍ لما فيه من الضرر، بخلاف الغِرَاس، فإنه لا يضيع بالإخراج، ولأن الأرض بالقلع تعود إلى ما كانت، والثوب لا يعود، ولأن الأشجار تنتشر عروقها وأغصانها، فيخاف ضررها في المستقبل، وهذا أظهر عند أصحابنا العراقيين. وقال صاحب "التهذيب": طائفة: الأول أصح، وكذا ذكره الإمام، وحكى قطع المراوزة به، وأن موضع الوجهين ما إذا كان الغاصب يخسر بالفصل خسراناً بيناً، وذلك قد يكون لضياع المنفصل بالكلية، وقد يكون لحقارته بالأضافة إلى قيمة الصبغ، ومن جملة الضياع أن يحصل في الثوب نقصان بسبب الفصل لا يفي بأرشه قيمة المفصول، ولو رضي المغصوب منه بإبقاء الصبغ، وأراد الغاصب فصله، فله ذلك إن لم ينتقص الثوب، وإن انتقص. قال الإمام: يبنى على الخلاف في أن المغصوب منه هل يجبره على الفصل؟ أن قلنا: لا لم يفصله. وإن قلنا: نعم فله ذلك، وهو الأظهر، ويحكى الأول عن أبِي الطَّيِّب ابْنِ سَلَمَةِ وإن تراضيا على ترك الصبغ بحاله، فهما شريكان، وكيفية الشركَةِ كما بينَا في القسم الأول، ثم الكلام في فروع: أحدها: لو ترك الغاصب الصبغ على المالك، ففي إجباره على القبول وجهان. ووجه الإجبار صيرورته كالصفة التابعة للثوب، وَأيضاً، فإن المشترى إذا أنعل الدابة، ثم اطلع على عيبها، فردها مع النعل لكان يعيبها لو نزع النعل يجبر البائع على القبول، ووجه المنع القياس الظاهر، ويدل عليه أنه لا جبر على قبول البناء والغِرَاس إذا تركه الغاصب. وذكر القاضى الروياني أن الأول ظاهر المذهب، لكن الثَّانِي أقيس وأشبه، ويخالف مسألة النعل؛ لأن الغاصب متعّدٍ، والمشتري غير متعّدٍ على أنه لو ألحق بما إذا صبغ المشتري الثوب، بما زاد في قيمتة، ثم اطلع على عيبه، فرده مسامحاً بالصبغ لكان أقرب لما مَرّ من أن الصبغ يصير ملكًا للبائع. فأما في مسألة النعل، فإنه يجبر على قبول النعل، وفي دخول النعل في ملكه اختلاف مذكور في موضعه. وذكر الإِمَامُ في الفرع شيئين: أحدهما: أن في موضع الوجهين طريقين: أحدهما: أنهما مطردان فيما إذا أمكن فصل الصبغ، وفيما إذا لم يمكن.
وأظهرهما: التخصيص بما إذا أمكن. وقلنا: إِن الغاصب يجبر على الفصل وإلاَّ فهما شريكان لا يجبر واحد منهما على قبول الهبة من الآخر. وعلى هذا فطريقان: أحدهما: أن الوجهين فيما إذا كان يتضرر بالفصل إما لما يناله من التعب، أو لأن المفصول يضيع كله، فإن لم يكن كذلك لم يلزم القبول بحال. والثاني: أن الوجهين فيما إذا كان الثوب ينقص بالفصل نقصاناً لا يفي بأرش قيمته الصبغ المفصول، فإن وَفي لم يلزمه القبول وإن تعيب أو ضاع معظم المفصول. والثاني: إذا قلنا بلزوم القبول على المغصوب منه، فلا حاجة إلى تلفظه بالقبول. وأما من جهة الغاصب، فلا بد من لفظ يشعر بقطع الحق، كقوله: أعرضت عنه، أو تركته إليه أو أبرأئه عن حقي أو أسقطته، قال: ويجوز أن يعتبر اللفظ المشعر بالتمليك. الثاني: لو بذل المغصوب منه قيمة الصبغ، وأراد أن يتملكه على الغاصب، هل يجاب إليه. فيه وجهان، سواء كان الصبغ مما يمكن فصله، أو مما لا يمكن. أحدهما: نعم، ويجبر الغاصب على قبوله لينفصل الأمر بينهما، وقد شبه ذلك بما إذا رجع المعير، وقد بني المستعير، أو غرس، فإن له أن يتملكه عليه بالقيمة، وبهذا قال أبُو حَنِيْفَةَ. وأظهرهما: وهو المذكور في الكتاب المنع، ويفارق مسألة العارية, لأن المعير لا يتمكن من القلع مجاناً، فكان محتاجاً إلى التمليك بالقيمة وهاهنا بخلافه، وأيضاً فإن بيع العقار عسير، وبيع الثوب سهل، وبه يحصل الخلاص من الشركة. وفي "التتمة" أنه إن كان الصبغ بحيث لو فصل حصل منه شئ ينتفع به، ففي تملك المغصوب منه الوجهان المذكوران في الغِرَاس والبناء، وإن كان لا يحصل منه شئ، فله تملكه لا محالة، فيتولد من هذا وجه ثالث فارق. الثالث: متى اشتركا في الثوب المصبوغ، فهل لأحدهما الانفراد ببيع ما يملكه منه؟ جعله الإمام على الوجهين في بيع دار لا مَمَرَّ لها؛ لأنه لا يتأتى الانتفاع بأحدهما دون الآخر. والأظهر: المنع، فلو رغب مالك الثوب في البيع، ففى "المهذب" و"التهذيب"
أنه يباع، ويجبر الغاصب على موافقته، ووجهه أن المالك إن لم يتمكن من بيع الثوب وحده فامتناع الغاصب منع له من بيع ماله، وإن تمكن فلا شك في عسر البيع عليه لقلة الراغبين فيه، والغاصب متعّدٍ، فليس له الإضرار بالمالك بالمنع من البيع، وتعسيره، وإن رغب الغاصب في البيع، ففي إجبار المالك على موافقته وجهان. أحدهما: يجبر تسوية بين الشريكين ليصل كل واحد منها إلى عين ملكه. وأظهرهما: المنع كيلا يستحق المتعدى بتعديه إزالة ملك غير المتعدي. وفي "النهاية" أن واحداً منهما لا يجبر على موافقة الآخر على قياس الشركة في الأموال. الحالة الثانية: أن يكون الصبغ مغصوباً من مالك الثوب أيضاً، فإن لم يحدث بفعله نقصان، فلا غرم على الغاصب، وهما شريكان في الثوب المصبوغ، كما سبق في الغاصب، والمالك، وإن حدث نظر إن كانت قيمتة مصبوغاً عشرة، والتصوير كما تقدم، فهو لصاحب الثوب، ويغرم الغاصب الصبغ، للآخر وإن كانت قيمته خمسة عشر روى صاحب "التهذيب" أن الثوب بينهما بالسوية، ويرجعان على الغاصب بخمسة. قال: والقياس أن يكون بينهما أثلاثاً، كما مر في الحالة الأولى، وهذا ما نقله غيره، وهو الحق فإن كان مما يمكن فصله، فلهما تكليف الغاصب الفصل، فإن حصل بالفصل نقص فيهما، أو في أحدهما كما كان قبل الصبغ غرمه الغاصب، ولصاحب الثوب وحده طلب الفصل، أيضاً إذا قلنا: إن المالك يجبر الغاصب على الفصل في الحالة الأولى، وهذا إذا حصل بالانصباغ عين مال في الثوب، فإن لم يحصل إلاَّ بمؤنة، فالحكم ما بينا في التزويق، ويقاس بما ذكرنا في الحالتين ثبوت الشركة، فيما إذا طير الريح ثوب إنسان في إجَّانة صباغ فانصبغ، لكن ليس لأحدهما أن يكلف الآخر الفصل، ولا التغريم إن حصل نقص في أحدهما، إذ لا تعدى، ولو أراد صاحب الثوب تملك الصبغ بالقيمة، فعلى ما تقدّم. الحالة الثالثة: أن يكون الصبغ مغصوباً من مالك الثوب أيضاً، فإن لم يحدث بفعله نقصان، فهو للمالك، ولا غرم على الغاصب، ولا شئ له إن زادت القيمة؛ لأن الموجود منه أثر محض، وإن حدث بفعله نقصان غرم الأرش، وإذا أمكن الفصل، فللمالك إجباره عليه، وليس للغاصب الفصل، إِذا رضي المالك. واعلم أن المذكور في الكتاب هو الحالة الأولى، وفي أثنائها تعرض للثانية. وقوله في أول الفصل: "فلهما شريكان" يجوز إعلامه -بالواو- لما حكى عن القديم من تنزيله منزلة السمن.
وقوله: "فيباع" ليس المراد منه البيع القهري، وإنما الغرض هاهنا أنه إذا بيع كان الثمن بينهما كما كان الثوب مشتركًا بينهما، ثم إن رضيا بالبيع فذاك، إلاَّ فهل يجبر أحدهما الآخر فيه ما قد عرفته. وقوله: "وإن عاد الثوب إلى خمسة عشر بالصبغ" يمكن أن يفهم من قوله: "بالصبغ" الاحتراز عما إذا كان النقصان بسبب تراجع الأسواق، فإن النقصان حينئذ لا يحسب من الصبغ إذا كان التراجع في الثياب على ما حكيناه عن "الشامل" و"التتمة". وقوله: "وكذا القول في ثبوت الشركة إذا طيرت الريح الثوب" إِنما قال: "في ثبوت الشركة" ولم يقل: "وكذا القول فيما إذا طيرت الريح الثوب"؛ لأن الصورتين اللتين ذكرهما ليستا كما إذا صبغ الثوب المصبوغ بضبغ نفسه في جميع الأحكام المذكورة لأنه إذ لو رجع الثوب مصبوغاً إلى ثمانية لا يغرم صاحب الإجَّانة شيئاً بحال وإنما الصورتان كتلك الصورة في ثبوت الشركة فيهما، حيث ثبتت الشركة فيهما، ويجوز أن يعلم -بالواو- لأن قياس القول القديم أن يفوز صاحب الثوب بالصبغ في الصورتين، ولا تثبت الشركة. وقوله: "كما يجبر على قلع الزرع والغِرَاس والبناء وإن نقص زرعه به" أشار بقوله "وإن نقص زرعه به" إلى أنه لا عبرة بما يعرض في الصبغ من ضرر، بسبب انتشاره وتمدده، كما لا عبرة بنقصان الزرع. وقوله: "ومهما طولب بالفصل" وكان يستضرُّ به. وقوله: بعد ذلك: "وإن لم يكن عليه ضرر لم يكن له الإجبار على القبول" جواب على طريقة تخصيص الوجهين بما إذا تضرر بالفصل، وقد بَيَّنَا ما فيه من الأختلاف، فيجوز إعلام قوله: "لم يكن له الإجبار" بالواو. وقوله: "لم يكن له يتملك" معلم بالحاء والواو. وقوله: "أجبر الغاصب على بيع الصبغ" -بالواو- لما حكينا عن "النهاية". فرع: إذا كان الصبغ للغاصب، وقيمته عشرة، وقيمة الثوب عشرة، وبلغت قيتة مصبوغاً ثلاثين، ففصل الغاصب الصبغ، ونقصت قيمة الثوب عن عشرة لزمه ما نقص عن عشرة، وكذا ما نقص عن خمسة عشر، إن فصل بغير إذن المالك، وطلبه، وإن فصل بإذنه لم يلزمه إلاَّ نقصان العشرة، وإن عادت قيمتة مصبوغاً إلى عشرة لتراجع الأسواق، وكان التراجع في الثياب، والأصباغ على وتيرة واحده، فالثوب بالسوية بينهما، كما كان، والنقصان داخل عليهما جميعاً، وليس على الغاصب غرامة ما نقص مع رد العين، نعم لو فصل الصبغ بعد تراجع القيمة إلى عشرة، فصار الثوب يساوي
أربعة دراهم، غرم ما نقص، وهو خمس الثوب بأقصى القيم، والمعتبر في الأقصى خمسة عشرة، إن فصل بنفسه، وعشرة إن فصل بطلب المالك له، والله أعلم. قال الغزالي: وإِذَا غَصَبَ زَيْتاً وَخَلَطَهُ بِزَيْتِهِ فَالنَّصُّ أنَّهُ كَالإِهْلاَكِ فَيَضْمَنُ المِثْلَ مِنْ أَيْنَ شَاءَ، وَتَخْرِيجُ الأَصْحَابِ أنْ لاَ ضَمَانَ لأَنَّهُ لَوْ خَلَطِهُ بِمِثْلِهِ فَهُوَ مُشْتَرِكٌ، وإِنْ خَلَطَهُ بِالأَجْوَدِ أَوُ بِالأَرْدَإِ فَقَوْلاَنِ، إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ هَالِكٌ غُرِّمَ مِثْلَهُ مِنْ أَيْنَ شَاءَ، وإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُشَتَرَكٌ فَيُبَاعُ الكُلُّ وَيُوزَّعُ عَلَى نِسْبَةِ القِيمَةِ، وَلاَ يُقَسَّمُ الزَّيْتُ (و) بِعَينِهِ عَلَى تَفَاوُتٍ فَيُؤَدِّىَ اِلى الرِّبَا، وخَلْطُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ كَخَلْطِ الزَّيْتِ بِالزَّيْتِ، وَخَلْطُ الزَّيْتِ بِالشَّيْرَجِ أَوْلَى بِجَعْلِهِ إِهْلاكاً، وَخَلْطُ الحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ لَيْسَ بإِهْلاَكٍ بَلْ يَلْزَمُهُ الفصْلُ بِالاِلْتِقَاطِ. قال الرافعي: إذا خلط الزيت المغصوب بغيره، لم يخل إما أن يتعذر التمييز بينهما، أو لا يتعذر، إن تعذر، فإما إن يكون ذلك الغير من جنسه أو لا يكون. إن كان من جنسه كالزيت والزيت والحنطة والحنطة، نظر إن خلطه بأجود من المغصوب، فالنص أنه كما لو هلك (¬1) حتى يتمكن الغاصب من أن يعطيه قدر حقه المخلوط، ونص في التفليس فيما إذا خلطه بالأجود، ثم فلس على قولين: أحدهما هذا حتى لا يكون للبائع إلاَّ المضاربة بالثمن. والثاني: أنهما شريكان في المخلوط، ويرجع البائع إلى حقه منه، واختلف الأصحاب على طريقين: أظهرهما: إثبات القولين في الغصب أيضاً، وجه جعله هالكاً تعذر رده، والوصول إليه، وأيضاً فإن قلنا بالشركة لاحتجنا إلى البيع، وقسمة الثمن بينهما، كما سيأتي، فلا يصل المالك إلى عين حقه، ولا إلى مثله مع وجود العين، والمثل أقرب إلى حقه من الثمن، ووجه الشركة القياس على مسألة الصبغ، على ما إذا اختلط الزيتان بنفسهما أو برضا المالكين، وأيضاً فلو غصب صاعاً من هذا، وخلطهما وجعلناهما هالكين، ينتقل الملك فيهما إلى الغاصب، وذلك يملك التعدى. ¬
وأظهر القولين: عند الأكثرين الأول المنصوص. وعند الإمام والمتولي الثاني. والطريق الثاني القطع بالقول الأول والفرق أنا إذا لم نثبت الشركة هناك، لا يحصل للبائع تمام حقه بل يحتاج إلى المضاربة وهاهنا يحصل للمالك البدل، وإن خلطه بمثله، ففيه الطريقان، وطريق ثالث هو القطع بالشركة؛ لأن في إثبات الشركة اتصال المالك، إلى بعض حقه بعينه، وإلى بدل بعضه من غير زيادة تقوم على الغاصب، فكان أولى من أتصاله إلى بدل الكلّ. وحكى ذلك عن ابْنِ سُرَيْجٍ وأبى إسحاق، وإن خلطه بأردأ منه فالنص أنه كالهالك أيضاً، ويجيء فيه الطريقان المَذكوران في الأجود، ولكن المنصوص في "التفليس" والحالة هذه ليس إلاَّ قول الشركة وذكرنا أن بعضهم خرج غيه قولاً آخر يمكن أن يكون مخرجاً من نصفه هاهنا، ويكون في الصورتين قولان بالنقل والتخريج من الطريقين ويمكن أن يكون قول الهلاك في الأردأ مخرجاً من توجيهه في الأردأ فإن الشَّافعي -رضي الله عنه- قال الذائب إذا اختلط انقلب حتى لا يوجد عين ماله على ما مَرّ. وأذ اختصرت قلت في الخلط المطلق ثلاثة أوجه. ثالثهما، الفرق بين أن خلط بغير المثل، فيكون المغصوب هالكاً، وبالمثل فيشتركان. التفريع: إن جعلنا الاختلاط كالهلاك، فللغاصب أن يعطيه المثل من غير المخلوط، وله أن يعطيه منه إذا كان بالمثل، وكذا لو خلطه بالأجود؛ لأن المخلوط خير من المغصوب، وليس له أن يعطيه قدر حقه من المخوط إذا خلط بالأردأ إلاَّ إذا رضي المالك، وإذا رضي فلا أرش له كما إذا أخذ الرديء من موضع آخر. وإن حكمنا بالشركة، فإن خلط بالمثل، فقدر زنته من المخلوط، وإن خلط بالأجود، كما إذا خلط صاعاً قيمته درهم بصاع قيمته درهمان، نظر إن أعطاه صاعاً من المخلوط، أجبر المالك على قبوله, لأن بعضه من حقه، وبعضه خير منه، وإلاَّ فيباع المخلوط، ويقسم الثمن بينهما أثلاثاً فإن أراد قسمه عين الزيت على نسبة القيمة، فالظاهر أنه لا يجوز, لأنه يكون قد أخذ ثلثي صاع لجودته في مقابلة صاع، وهو رِبَا، عن رواية الْبَويْطِيىِّ أنه يجوز، وبنى ذلك على أن القسمة إفراز حق، لا بيع. وفي المسأله وجه أنه يكلف الغاصب تسليم صاع من المخلوط؛ لأن اكتساب المخلوط صفة الجودة بالخلط، كزيادة متصله تحصل في يد الغاصب، وإن خلط بالأردأ، كما إذا خلط صاعاً قيمته درهمان بصاع قيمته درهم، أخذ المالك من المخلوط
صاعاً مع أرش النقصان؛ لأن الغاصب متعدّ، بخلاف ما إذا خلط المشتري بالأردأ، وأفلس فإن البائع إما أن يقنع بصاع من المخلوط، أو يضارب مع الغرماء، فإن اتفقا على بيع المخلوط، وقسمة الثمن أثلاثاً جاز، وإن إراد قسمة عين الزيت على نسبة الثمنين. فمنهم من جعله على الخلاف المذكور في طرف الأجود. ومنهم من قطع بالمنع, لأنه أمكن الرجوع إلى صاع منه مع الأرش، ولا حاجة إلى احتمال القسمة المشتملة على التفاضل. وخلطة الخل بالخل، واللبن باللبن كخلط الزيت بالزيت، وإذا خلط الدقيق بالدقيق. فأن قلنا: إنه مثلي، وبه قال ابْنُ سُرَيْجٍ، منه كخلط الزيت بالزيت أيضاً. وإن قلنا: إنه متقوم. فإن قلنا: إن المختلط هالك، فالواجب على الغاصب القيمة. وإن قلنا: بالشركة فيباع ويقسم الثمن بينهما على قدر القيمتين، فإن أراد قسمة الدقيق على نسبة القيمتين والخلط بالأجود أو الأردأ. فهو على ما ذكرنا في قسمة الزيت المخلوط، وإن كان الخلط بالمِثلِ، فالقسمة جائزة إن جعلناها إفرازاً، وإن جعلناها بيعاً لم تجز؛ لأن بيع الدقيق بالدقيق لا يجوز، هذا إذا كان الخلط بالجنس. أما إذا خلط المغصوب بغير جنسه، كما لو خلط زيتاً بشيرج أو ذهن بانٍ (¬1). أو دهن جَوْزٍ، أو خلط دقيق حنطة بدقيق شعير، فالمغصوب هالك لبطلان فائدته، وخاصيته باختلاط غير الجنس به، بخلاف الجيد مع الردئ. ومنهم من جعله على السابق، ووجه ثبوت الشركة ما لو خلطا بالرضا، وهذا ما اختاره صاحب "التتمة" هاهنا أيضاً. وقال: إن تراضيا على بيع المخلوط، وقسمة الثمن جاز، وإن أراد قسمته جاز، وكان المغصوب منه باع ما يضمن في يد الغاصب من الزيت، بما يصير في يده من الشِّيرج. قال الإمام، وألحق الأصحاب بخلط الزيت بالشِّيرجِ لَتّ السَّوِيْقِ بالزَّيْتِ، وهو بعيد وإنما هو كصبغ الثوب، وهذا في الخلط الذي يتعذّر معه التمييز فإن لم يتعذر التمييز وجب عليه التمييز والفصل بالالتقاط، وإن شق سواء خلط بالجنس كالحِنْطَةِ ¬
البيضاء والحمراء، أو بغير الجِنْسِك الحنطة والشَّعِيرِ والمواضع الذي ينبغي أن يعلم عليها من الفَصْلِ غير خافية والله أعلم. فرع: لو خلط الزيت بالماء، وأمكن التمييز لزم التمييز، وأَرْش النقص إن كان فيه نقص، وإن لم يمكن التمييز، فهو كخلطه بِالبَانِ (¬1)، ألاَّ يبقى له قيمة فيكون هالكاً لا محالة فإن حصل فيه مميز، أو غير مميز نقص سار، فقد سبق حكمه والله أعلم. قال الغزالي: وَلَو غَصَبَ سَاجَةً وَأَدْرجَهَا في بنَائِهِ لَمْ يَمْلِك بَلْ يَرُدُّ (ح) عَلَى مَالِكِهِ وَإِنْ أَدَى إِلَى هَدْم بِنَائِهِ، وَإنْ أَدْرَجَ في سَفِينَةٍ لَمْ يَنْزعْ إنْ كَانَ في النَّزْعِ إِهْلاَكُ الغَاصِبِ، أَوْ إهْلاَكُ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ، أَوْ إِهْلاَكُ مَالٍ لِغَيْرِهِ وَلَكِنْ يُغَرَّمُ في الحَالِ للِحَيْلُولَةِ إِلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ الفَصْلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلاَّ مَالُ الغَاصِبِ فَفِي جَوَازِ النَّزْعِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: إذا غصب سَاجَةً وأدرجها في بنائه، أو بني عليها، أو على آجُرٍّ مَغْصُوب لم يملك المغصوب، وعليه إخراجه من البناء، ورده إلى المالك، وبه قال ماَلِكٌ وأحْمَدُ. وعند أبِي حَنِيفَةَ: يملك ويغرم قيمته. لنا أنه بني على ملك الغير عدواناً، فلا يزول به ملك المالك قياساً على ما لو غصب أرضاً، وبنى عليها، وأيضاً فإن القدرة على المَثْلِ تمنع من العدول إلى القيمة؛ لأن المثل أقرب إلى المغصوب، فأولى أن تمنع القدرة على العين العدول إلى القيمة، وهذا ما لم تعفن الساجة، فإن عفنت بحيث لو أخرجت لم تكن لها قيمة، فهي مستهلكة، فإن أخرجها، وردها لزمه أرش النقص إن دخلها نقص، وفي الأجرة ما ذكرنا في إِبلاءِ الثوب بالاستعمال. ولو أدرج لوحاً مغصوباً في سفينة، نظر إن لم يخف من النزع هلاك نفس، ولا مال بأن كانت على وجه الأرض أو مرساة على الشَّط، أو أدرج في أعلاها, ولم يخش من نزعه الغرق، أو لم يكن فيها نفس، ولا مال، ولا خيف هلاك السفينة نفسها نزع ورد، وخلاف أبى حنيفة عائد فيه. وإن كان في لُجَّةِ البحر، وخيف من النزع هلاك حيوان محترم، سواء كان آدمياً -أما الغاصب، أو غيره- أو غير آدمي (¬2) لم تنزع حتى تصل إلى الشط، وإن خيف من النزع هلاك مال إما نفس السفينة، أو غيرها، فهو إما للغاصب، أو لمن وضع ما له فيها، وهو يعلم أن فيها لوحاً مغصوباً، أو لغيرهما، إن كان لغيرهما لم ينزع أيضاً، وإن كان لهما فوجهان: ¬
أصحهما: عند الإمام: النزع كما يهدم البناء لرد السَّاجَة، ولا يبالي بما يضيع عليه. والثاني: وهو الأصح عند ابْنِ الصَّبَّاغ وغيره أنه لا ينزع؛ لأن السفينة لا تدوم في البحر، فيسهل الصبر إلى انتهائها إلى الشط، بخلاف الساجة المدرجة في البناء، فإن البناء للتأبيد. وحيث لا تنزع إلى الرسول إلى الشط توجد القيمة للحيلولة إلى أن يتيسر الفصل، فحينئذ يرد اللَّوح مع أَرش النقص إن نقص، ويسترد القيمة إن قلنا: لا يبالي في النزع بهلاك مال الغاصب، فلو اختلطت التي أدرج منها اللوح بسفن الغاصب، ولا توقف على النزع إلاَّ بفصل الكل حكى في "المُهَذّبِ" فيه وجهين (¬1) والله اعلم بالصواب. قال الغزالي: وَكَذَا لَوْ غَصَبَ خَيْطًا وَخَاطَ بَهِ جُرْحَ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوانٍ مُحْتَرَمِ غَيْرِ مَأْكُولٍ وَكَانَ في نَزْعِهِ خَوْفُ هِلاَكٍ لَمْ يَنْزَعْ إِذْ يَجُوزُ الغَصْبُ بِمِثْلِ هَذَا القَدْرِ ابْتِدَاءً بَلْ يُغَرَّمُ قِيمَتَهُ، فَإِنْ مَاتَ المَجْرُوحُ أَو ارْتَدَّ فَفِي النَزْعِ خِلاَفٌ لأَنَّ فِيهِ مُثْلَة، وَفِي الحَيَوَانِ المَأْكُولِ خِلاَفٌ لأَنَّهُ ذَبْحٌ لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ، وَيَنْزَعُ عَنِ الخِنْزِيرِ وَالكَلْبِ العَقُورِ إِذْ لاَ حُرْمَةَ لَهُمَا. قال الرافعي: الخَيطُ المَغْصُوب إن خيط به ثوب ونحوه، فالحكم كما في البتاء على السَّاجَة، وإن خيط به جرح حيوان، فهو إما محترم أو غيره. القسم الأول: المحترم وهو الآدمي وغيره. أما الآدمي فإن خيف من نزعه منه هلاكه لم ينزع، وعلى الغاصب قيمته، ثم إن خاَطَ جرح نفسه، فالضمان مستقرٌّ عليه، وإن خاط جرح غيره بإذنه، وهو عالم بالغَصْبِ، فقرار الضمان عليه، وإن كان جاهلاً، فعلى الخلاف فيما إذا أطعم المغصوب غيره، وفي خوف الهَلاَك خوف كُلِّ محذور يجوز العدول إلى التّيمم من الوضوء وِفَاقاً وخِلاَفاً. قال الإمام: ولو رتب انقدح وجهان: أحدهما: أن ترك الخيط أولى لقيام القيمة مقامه. والثاني: أن نزعه أولى لتعلقه بحق الآدمي المبني على الضيق. وأما غير الآدمي فهو على ضربين: ¬
أحدهما: غير المأكول، فالحكم فيه كما في الآدمي إلاَّ أنه لا اعتبار لبقاء الشَّيْن فيه. والثاني: المأكول، فإن كان لغير الغَاصب لم ينزع، وإن كان للغاصب ففيه قولان، وقيل: وجهان: أحدهما: وهو راوية الرَّبِيْعِ، أنه يذبح ويرد الخيط؛ لأنه جائز الذبح، وبذبحه يصل الحق إلى المستحق. وأظهرهما: المنع كما في غير المأكول؛ لأن الحيوان حرمته في نفسه، ألا ترى أنه يؤمر بالإنفاق عليه، ويمنع من إتلافه، وإذا لم يقصد بالذبح الأكل منع منه، وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم "نَهَى عَنْ ذَبْحِ الحَيَوانِ إلاَّ لمأكله (¬1) ". وإذا مات الحيوان الذي خيط به جرحه، فإن كان غير الآدمي نزع منه الخيط، وفي الآدمي وجهان: أصحهما: على ما ذكره في "النهاية": أنه ينزع، وإِن لم ينزع في الحياة لحرمة الروح. والثاني: المنع؛ لأن الآدمي محترم بعد الموت، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "كَسْرُ عَظْمِ المَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الحَيِّ (¬2) ". القسمِ الثاني: غير المحترم، فلا يبالي بهلاكه، وينزع منه الخيط، ومن هذا القسم الخِنْزِيرُ وَالكَلْبُ العَقُورُ. أما كلب الصيد والماشية، فلا يجوز النزع منه كذا قاله الإمام، وألحق الكلب الذي لا منفعة فيه بالمؤذيات، وذكر تَرَدُّداً فيما إذا خاط به جرح مرتد، وحكم بأن الأوجه المنع؛ لأن المُثْلَةَ بالمرتد محرمة، وليست كالمُثْلَةِ بالميت؛ لأنا نتوقع بالمرتد عوداً إلى الإسلام، وهذا لفظه، ويوافق ذلك قوله في الكتاب: "أو ارتد ففي النزع خلاف" غير أن الإمام صورة فيما إذا خيط به جرح المرتد، ولفظ الكتاب فيما إذا طرأت الردة على ¬
الخِياطَة. والذي أجاب به الأكثرون أن المُرْتَدَّ غير محترم، فينزع الخيط منه، وكذا الحَرْبِيُّ. وخرج صاحب "التتمة" فيما إذا خاط به جرح الزاني المحصن، أو المحارب على الخلاف فيما إذا خاط به جرح معصوم فمات؛ لأن تفويت روحه مستحقة، فألحق بالميت، ويبني على التفصيل المذكور في جواز غَصْبِ الخيط ابتداء ليخاط به الجرح، إذا لم يوجد خيط حلال، فحيث حكمنا بالنَّوعِ لا يجوَز الغَصْب، وحيث قلنا: لا ينزع يجوز، وإلى هذا أشار بقوله في الكتاب: "إذ يجوز الغَصْبُ بمثل هذا القَدْر ابتداءً" والله اعلم بالصواب. قال الغزالي: وَلَوْ أَدْخَلَ فَصِيلاً في بَيْتِهِ أَوْ دِينَاراً في مَحْبَرَتِهِ وَعَسُرَ إِخْرَاجُهُ كُسِرَ عَلَيْهِ تَخْلِيصاً لِلمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِفْعِلِهِ فَالأظْهَرُ أَنَّ المُخَلِّصَ مَا لَهُ يُغَرَّمُ أَرْشَ النَّقْصِ، وَإِنْ غَصَبَ فَرْدَ خُفِّ قِيمةُ الكُلِّ عَشَرَةَ وَقِيمَةُ الفَردُ ثَلاثةُ ضَمِنَ سَبْعَةَ؛ لأَنَّ البَاقِي ثَلاَثةٌ، وَقِيلَ: ثَلاَثَةً لأنَّهُ المَغْصُوبُ، وَقِيلَ: خَمسَةً كَمَا لَوْ أَتْلَفَ غَيْرَهُ الفَرْدَ الآخَرَ تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا. قال الرافعي: فرعان: أحدهما: فصيل رجل حصل في بيت آخر، ولم يمكن إخراجه إلاَّ بنقص البناء فينظر إن كان بتفريط من صاحب البيت بأن غصبه، وأدخله فيه نقض، ولم يغرم صاحب الفصيل شيئاً، وإن كان بتفريط من صاحب الفيصل، فإذا نقص البناء غرم أَرش النقض، وإن دخل الفصيل بنفسه نقض أيضاً، وهل على صاحب الفصيل أرش النقض. قال العراقيون: نعم، وهو ظاهر المذهب؛ لأنه إنما نقض لتخليص مِلْكِهِ، وذكر الإمام، وصاحب الكتاب فيه خلافاً، ووجه المنع أنه لا تفريط من أحد، والاخراج لابد منه لحرمة الروح، وإنما ينتظم هذا إذا كان الفرض فيما إذا خِيْفَ هلاكه لو لم يخرج. ولو وقع دينار في مِحبَرَةٍ، ولم يخرج إلاَّ بكسرها، إن وقع فيها بفعل صاحب المَحْبَرةِ عمداً أو سهواً كسرت، ولا غرم على صاحب الدينار، وإن وقع بفعل صاحب الدينار فعلية الأَرْش، وإن وقع من غير تفريط من أحد كسرت، وعلى صاحب الدينار الأرش، وأجرى صاحب الكتاب في وجوب الأرش الخلاف المذكور في الصورة الأولى لكن التوجيه الذي مر لا يجيء هاهنا. وقال ابن الصَّبَّاغ: إذا لم يفرط واحد منهما، وضمن صاحب المِحْبَرَة الدينار ينبغي أن يقال: لا تكسر المحبرة لزوال الضرر بذلك، وهذا الاحتمال عائد في صورة البيت والفَصِيلِ.
فرع
ولو أدخلت بهيمة رأسها في قِدْرٍ، ولم تخرج إلاَّ بكسرها، فإن كان معها صاحبها، فهو مفرط بترك الحفظ، فإن كانت غير مأكولة تخلص بكسر القدر، وعليه أرش النقصان، وإن كانت مأكولة، ففي ذبحها وجهان، كلما في مسألة الخَيْطِ، وإذا لم يكن معها أحد، فإن فرط صاحب القدر مثل أن وضع القدر في موضع لاحِقٍ له فيه كسرت، ولا غرم له، وإن لم يفرط كسرت، وغرم صاحب البهيمة الأرش، ولم يذكر التفصيل المذكور في صورة القدر، والفرق بين المأكول وغير المأكول في الفصيل والبيت والوجه التسوية والله اعلم. الفرع الثاني: غصب زَوْجَى خُفٍّ قيمتها عشرة، ثم رد إحداهما، وقيمته ثلاثة وتلف الآخر يلزمه سبعة؛ لأن بعض المغصوب قد تلف، والباقي ينقص، ولو أتلف أحدهما، أو غصبه وحده، وتلف، وعادت قيمة الباقي إلى ثلاثة، ففيه أوجه: أحدها: أنه يضمن سبعة؛ لأنه أتلف أحدهما، وأدخل النقصان على الباقي بتعديه فأشبه ما لو حَلّ أجزاء الباب والسَّرِيرِ، فنقصت قيمته. والثاني: يضمن ثلاثة؛ لأن قيمة الفرد الذي أتلفه ثلاثة. والثالث: خمسة، كلما لو أتلف رجل أحدهما، وآخر الآخر، فإنه يسوى بينهما، ويضمن كل واحد منهما خمسة، ونظم الكتاب يقتضي ترجيع الوجه الأول، وبه قال الشيخ أَبو حَامِدٍ، ومن تابعه. وقال الإمام وصاحب "التهذيب": الأظهر الثالث، ولو أخذ أحدهما على صورة السرقة، وقيمته مع نقصان الثاني مع نقصان الثاني نصاب لا يقطع بلا خلاف (¬1). فرع سيأتي القول في أن ما تتلفه البهيمة متى يضمنه مالكها، فإذا ابتلعت البهيمة شيئاً، واقتضى الحال لزوم الضمان، نظر إن كان مما يفسد بالابتلاع ضمنه، وإن كان مما لا يفسد كالَّلآلي، فإن لم تكن مأكولة لم تذبح، ويغرم قيمة ما ابتلعته للحيلولة، وإن كانت مأكولة، فعلى الوجهين السابقين، ولو باع بهيمة بثمن معين، فابتلعته، نظر إن لم يكن الثمن مقبوضاً انفسخ البيع، وهذه بهيمة للبائع ابتلعت مالاً للمشترى، إلاَّ أن يقتضى ¬
الحال وجوب الضمان على صاحب البهيمة، فيستقر العقد، ويكون ما جرى قبضاً للثمن بناءً على أن إتلاف المشتري قبض منه، وإن كان الثمن مقبوضاً لم ينفسخ البيع، وهذه بهيمة للمشتري ابتلعت مالاً للبائع والله اعلم. قال الغزالي: الفَصْلُ الثَّالثُ في تَصَرُّفَاتِ الغَاصِبِ: فَإذَا بَاعَ الجَارِيَةَ المَغْصُوبَةَ وَوَطِئَهَا المُشْتَرِي وَهُوَ عَالَمٌ لَزِمَهُ الحَدُّ وَالمَهْرُ (ح) إِنْ كَانَتْ مُسْتَكْرَهَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ رَاضِيَةً فَوَجْهَانِ لقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلامُ: لاَ مَهْرَ لِبَغَيٍّ، وَلَكِنَّ المَهْرَ للِسَّيِّدِ فَيُشْبهُ أَنْ لاَ يُؤْثِرَ رِضَاهَا، وَفِي مُطالَبَةِ الغَاصِبِ بِهَذَا المَهْرِ تَرَدُدٌ, لأنَّ مَنَافِعَ البُضْعِ لاَ تَدْخُلُ تَحْتَ الغَصْبِ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً لَزِمَهُ المَهْرُ، وَلاَ يَجِبُ إِلاَّ مَهْرٌ وَاحِدٌ بِوَطْآتٍ إِذَا اتَّحَدَتِ الشُّبْهَةُ، وَفِي تَعَدُّدِ الوَطْءِ بِالاسْتِكْرَاهِ تَرَدُدٌ في تَعَدُّدِ المَهْرِ. قال الرافعي: هذا الفصل الثالث، وإن كان مترجماً بتصرفات الغاصب مطلقاً، لكن القصد منه شيئان: أحدهما: الكلام في وطء المشتري من الغاصب. والثاني: فيما يرجع به إذا غرم على الغاصب، واعلم قبل الشروع فيهما أنه إذا اتَّجَرَ الغاصب في المال المغصوب، ففيه قولان: الجديد: أنه إن باعه، أو اشترى بعينه، فالتصرف باطل، وإن باع سلماً، أو اشترى في الذمة، وسلم المغصوب فالعقد صحيح، والتسليم فاسد، ولا تبرأ ذمته عما التزم، ويملك ما يأخذوا أرباحه له. والقديم: أنه يتبعه، والشراء بعينه منعقد موقوفاً على إجارة المالك، فإن أجازه، فالربح له وكذا إذا التزم في الذمة، وسلم المغصوب، وتكون الأرباح للمالك، وهذه المسألة قد مر ذكرها في أول البيع، ويتم شرحها في القِراضِ، والغرَضِ الآن التذكير ببيان أن مسائل الفصل متفرعة على المذهب الجديد. إذا عرفت ذلك، فالمقصد الأول هو القول في وطء المشتري من الغاضب، ولا يخلو إما أن يكون مُحْبلاً أو لا. الضرب الأول: الوطء الخالي عن الاحبال، ونذكر أولاً حكمه إذا وجد من الغاصب بعضه، فنقول: إنه مع الجارية المغصوبة إما أن يكونا جاهلين بتحريم الوطء؛ أو عالمين، أو أحدهما عالم، والآخر جاهل إن كانا جاهلين، فلا حَدَّ عليهما، وعليه المهر للسيد، وكذلك أَرْش الافتضاض، إن كانت بكراً ثم ذكروا وجهين، في أنا نفرد أرش الافتضاض من المهر فنقول عليه مهر مثلها ثيبا وأرش الافتضاض أولاً نفرد،
ونقول: عليه مهر مثلها بكراً، ورجحوا الأول لوجوبهما بسببين مختلفين، وانفكاك كل واحد منهما عن الآخر. فإن قلت: هل يختلف المقدار بالاعتبارين أم لا؟ إن اختلف وجب أن يقطع، بوجب الزائد؛ لأن بناء أمر الغاصب على التغليظ، وإن لم تختلف فلا فائدة للوجهين. فالجواب: أن يقال: إن اختلف المقدار، فالوجه ما ذكرته، وقد أشار إليه الإمام، وإن لم تختلف، فللوجهين فوائد تظهر من بعد. وإن كانا عالمين بالتحريم، فينظر إن كانت الجارية مكرهة، فعلى الغاصب الحد والمهر، خلافاً لأبِى حَنِيْفة في المهر، ويجب عليه أرش الافتضاض إن كانت بكراً، وإن كانت طائعة، فعليهما الحد، وفي المهر وجهان، ويقال: قولان: أحدهما: يجب؛ لأن المهر حق للسيد، فلا يؤثر فيه رضاها، كما لو أذنت في قطع يدها. وأظهرهما: وهو المنصوص: أنه لا يجب؛ لأنها زانية ساقطة الحرمة، فأشبهت الحرة إذا زنت طائعة، وقد روى أنه -صلى الله عليه وسلم- (نَهَى عَنْ مَهْرِ البَغِيِّ) (¬1). ويجوز أن يكون مهرها للسيد، ويتأثر بعضها، كما لو ارتدت قبل الدخول، أو أرضعت إرضاعاً مفسداً للنكاح، ويجب أرش الافتضاض، إن كانت بكراً. إذا قلنا: انه يفرد عن المهر. وإن قلنا: لا يفرد، ففي وجوب الزيادة على مهر مثلها، وهي ثيب وجهان: في وجه: لا تجب، كما لو زنت الحرة طائعة، وهي بكر. وفي وجه: تجب، كما لو أذنت في قطع طرف منها. وإن كان أحدهما عالماً، دون الآخر، فإن كان الغاصب عالماً فعليه الحد وأرش البكارة إن كانت بكراً، والمهر، وإن كانت الجارية عالمة فعليها الحد دونه، ويجب المهر إن كانت مطاوعة، فعلى الخلاف، واعلم أن الجهل بتحريم وطء المغصوبة قد يكون للجهل بتحريم الزنا مطلقاً، وقد يكون لتوهُّم حلّها خاصة لدخولها بالغصب في ضمانه، ولا تقبل دعواها إلاَّ من قريب العهد بالإسلام، أو ممن نشأ في موضع بعيد عن المسلمين، وقد يكون لاشتباهها عليه، وظنه أنها جاريته، ولا يشترط لقبول الدعوى ما ذكرناه. ¬
هذا في وطء الغاصب، وأما المشتري من الغاصب، فالقول في وطئه في حالتي العلم والجهل، كما ذكرنا في الغاصب إلاَّ أن الجهل في حق المشتري قد ينشأ من الجهل بكونها مغصوبة أيضاً، فلا يشترط في دعواه الشرط السابق، كما لا يشترط في الاشتباه وإذا غرم المشتري المهر، فسيأتي الخلاف في رجوعه على الغاصب، وهل للمالك مطالبة الغاصب به ابتداء؟. فيه وجهان عن صاحب "التقريب": وجه المنع أن المهر بدل منفعة البُضْعِ، وهي غير داخلة تحت اليد، ولا مضمونة بالغَصْبِ. ووجه الثاني: وهو قضية كلام المُعَظَمِ: أن الأمر إذا أفضى إلى الغرم بعد فرضه غير متعلق بالغاصب. وأشار الإمام إلى جريان الوجهين، سواء قلنا برجوع المشتري على الغاصب بالمهر، أو بعدم الرجوع. وقال: إذا قلنا بعدم الرجوع، فظاهر القياس ألاَّ يطالب، وغيره محتمل. وإذا قلنا بالرجوع، فالظاهر المطالبة لاستقرار الضمان عليه، ويجوز أن يقال: الرجوع بسبب الغَررِ، فيختص به المغرور، وطرد الخلاف في مطالبة الغاصب بالمهر إذا وطئت بالشبهة، وإذا تكرر الوَطْء إما من الغاصب، أو من المشتري من الغاصب، فإن كان في حالة الجهل لم يجب إلاَّ مهر واحد؛ لأن الجهل شبهة واحدة مطردة، فأشبه ما إذا وطئ في النكاح الفاسد مراراً، وإن كان عالماً وجب المهر لكونها مستكرهة، وعلى قولنا بالوجوب مع طواعيتها، فوجهان: أحدهما: الاكتفاء بمهر واحد، كما في حالة الجهل. وأصحهما وبه أجاب صاحب الكتاب في "الصَّدَاقِ"، حيث أعاد هذه الصورة في أخوات لها أنه يجب لكل مرة مهر؛ لأن الواجب هاهنا لإتلاف منفعة البُضعِ؛ فيتعدد بتعدد بتعدُّد الإتلاف، لكن قضية هذا الوجه الحكم بالتعدد في صورة الجهل؛ لأن الإتلاف الذي هو سبب الوجوب حاصل، فلا معنى للإحالة على الشبهة، وإنما يحصل اعتماد الشبهة، حيث لا يجب المهر لولا الشبهة، وذكر هذا المستدرك إمام الحرمين. وقال: هذه لطيفة يقضى منها العجب، وإن وطئها مرة جاهلاً، ومرة عالماً وجب مهران. وقوله في الكتاب: "لزمه الحد والمهر" لفظ المهر معلّم -بالحاء- لأن عند أَبِى حَنِيْفَة لا يجامع المهر الحد، والمشهور من لفظ الخبر أنه "نهى عن مهر البغي" كما تقدم لا ما أورده في الكتاب والله أعلم. قال الغزالي: أَما الوَلَدُ فَهُوَ رَقَيقٌ لاَ نَسَبَ لَه إِنْ كَانَ عَالِماً، وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً انْعَقَدَ
عَلَى الحُرِّيَّةِ، وَضَمِنَ المُشْتَرِي قِيمَتَهُ، وَرَجَعَ بِهِ عَلَى الغَاصِبِ إِذَا الشِّرَاءُ لاَ يُوجِبُ ضَمَانَ الوَلَدِ، وَإِنِ أَنْفَصَلَ الوَلَدُ مَيِّتاً فلاَ ضَمَانِ لأَنَّ الحَيَاةَ لَمْ تُتَيَقَّنْ، وَإِنْ سَقَطَ مَيَّتاً بِجِنَايَةِ جَانٍ يَجِبُ الضَّمَانُ لأَنَّهُ انْفَصَلَ مَضْمُونًا وَقَدْ قَدَّرَ الشَّارعُ حَيَاتَهُ وضَمَانُهُ عشر قِيمَةِ الأُمِّ, وَقِيلَ في هَذِهِ الصُّورَةِ: يَجِبُ أَقَلُّ الأَمْرَيْنِ مِنْ عُشْرِ قِيمَةِ الأُمِّ أَوِ العُّرَّةِ إِذْ وَجَبَ الضَّمَانُ بِسَبَبِهَا فَلاَ يَزَيدُ عَلَيْهَا. قال الرافعي: الضرب الثاني الوطء المُحْبِلُ، سواء وجد من الغاصب أو من المشتري منه، فينظر إن كان عالماً بالتحريم، فالولد رقيق للمالك، غير نسيب لكونه زانياً، وإن انفصل حيًّا، فهو مضمون على الغاصب، وإن انفصل ميتاً بجناية جانٍ، فبدله لسيده، وإن انفصل ميتاً من غير جناية، ففي وجوب الضَّمان على الغاصب وجهان: أحدهما: وهو ظاهر النص: الوجوب لثبوت اليد عليه تبعاً لثبوت اليد على الأم، ويُحْكى هذا عن الأنماطِيِّ وأبِى الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَة، واختاره القَفَّالُ. والثاني: المنع، وبه قال أَبُو إسحاق، واختاره الشيخ أبُو مُحَمَّدٍ، والإمام، وصاحب "التهذيب"؛ لأن جنايته غير منتفية، وسبب الضمان هلاك رقيق تحت يده. ويجري الوجهان في حمل البهيمة المغصوبة إذا انفصل ميتاً، وإن أوجبنا الضمان، فنوجب قيمته يوم الانفصال، ولو كان حيًّا في ولد الجارية والبهيمة سواء وخرج الإمام وجهاً آخر في ولد الجارية أنه يضمن بعشر قيمته الأم تنزيلاً للغاصب منزلة الجاني الذي يترتب على جنايته الاجهاض، وإن كان الواطئ جاهلاً بالتحريم، فالولد نسيب حر للشبهة، وعليه قيمته لمالك الجارية يوم الانفصال، إن انفصل حيًّا؛ لأن التقويم قبله غير ممكن، وإن انفصل ميتاً، فأما أن ينفصل بنفسه، أو بجناية. أما التقدير الأول، فالمشهور أنه لا يلزمه قيمته؛ لأنا لا نتيقن جناية؛ وأن الغاصب أتلفه، ويخالف ما لو انفصل رقيقاً ميتاً حالة العلم، حيث ذكرنا في وجوب الضمان وجهين؛ لأن الرقيق يدخل تحت اليد والغَصْب، فجعل تبعاً للأم فيه وفي التتمة حكايته وجه هاهنا أيضاً أنه يلزمه القيمة لأن الظاهر الحياة. وأما على التقدير الثاني، فعلى الجاني ضمانه؛ لأن الانفصال عَقِيْبَ الضرب يغلب على الظن أنه كان حيًّا، فمات بفعله، وللمالك الضمان على الغاصب، بخلاف ما إذا انفصل ميتاً من غير جناية؛ لأنه لا بدل له هناك، وهاهنا يقوم له، فيقوم عليه، وكان حق المالك يتعلق ببدله، كما لو قتل العبد الجاني يتعلّق العبد المجني عليه ببدله، ولو مات فات حقه، ثم الذي يجب على الجاني الغرة والذي يجب للمالك عشر قيمة الأم؛ لأن الجنين الرقيق به يضمن، فإن كانت قيمة الغرة وعشر الأم سواء ضمن
الغاصب للمالك عُشْر قيمة الأم، وإن كانت قيمة الأم أكثر، فكذلك، والزيادة تستقر له بحق الإرث، وإن نقصت الغرة عن العشر، فوجهان: أظهرهما: أنه يضمن للمالك تمام العشر؛ لأنه لما انفصل متقوماً كان بمثابة ما لو انفصل حيًّا, ولأن بدله إنما يقصر عن العشر بسبب الحرية الحاصلة بظنه. والثاني: أنه لا يضمن إلاَّ قدر الغرة، ويعبر عنه بأن الواجب أقلّ الأمرين من العشر والغرة، ووجهه أن مثبت وجوب الضمان يقومه عليه فلا يضمن فوق ما يحصل له، وإن انفصل ميتاً بجناية الغاصب نفسه لزمه الضمان؛ لأن ما وجد منه بسبب الضمان، إلاَّ أنه لا يستحق على نفسه شيئاً. ولو أحبل الغاصب الجارية ومات وخلف أباه، ثم انفصل الجنين ميتاً بجناية جانٍ، فالغرة تكون لجد الجنين. وعن القاضي الحسين أنه يضمن للمالك ما كان يضمنه الغاصب لو كان حيًّا، وعنه أنه لو كان مع الغاصب أم الجنين، فورثت سدس الغرة يقطع النظر عنه، وينظر إلى عشر قيمة الأم، وخمسة أسداس الغرة، وكأنها كل الغرة، والجوابان يختلفان، فرأى الإمام إثبات احتمالين في الصورتين فصار في أحدهما إلى أن من يملك الغرة ينبغي أن يضمن للمالك، ويستبعد في الثاني تضمين مَنْ لم يغصب، ولا تفرعت يده على يد الغاصب. وذكر في "التتمة" أن الغرة تجب مؤجلة، فإنما يغرم الغاصب عشر قيمة الأم إذا أخذ الغرة، وللإمام توقف فيه، هذا ظاهر المذهب في الولد المحكوم بحريته. وفيه طريقة أخرى: أنه لا ينظر إلى عشر قيمة الأم، ولكن تعتبر قيمته لو انفصل حيًّا، وينظر إليه وإلى الغرة على التفصيل الذي بيناه. وأشار في "الوسيط" إلى استمداد هذه الطريقة من القول القديم في أن جراح العبد لا تتقدّر لأن عشر قيمة الأم نوع مقدر، لكنه ليس بواضح، فإن الخلاف في أن البدل يتقدر أو لا يتقدر في أطراف العبد، والفائت هاهنا جملته، وليس لهذا البناء ذكر في كتاب الإمام، لكنه قال: الطريقة ملتفتة إلى الخلاف في أن ما يتلف في يد الغاصب من أعضاء العبد المغصوب بآفة سماوية، أو بجناية غير الغاصب يعتبر في حقه بدله المقدر في حق الجاني أم ينظر إلى قدر النقصان بإيجاب العشر في قيمة الأم إيجاب المقدر الواجب على الجناية. وعن بعض الأصحاب أن الغاصب يغرم للمالك أكثر الأمرين من قيمة الولد والغرّة وضعفه من نقله؛ لأن الغرة إن كانت أكثر، فثبوت الزيادة بسبب الحرية، فكيف
يستحقها المالك. ومن العجب أن صاحب "التهذيب" أجاب بهذا الوجه في المشتري من الغاصب، وجوابه في الغاصب ما تقدم، ودعوى الجهل في هذا الضرب كدعواه في الضرب الأول. وروى المَسْعُودِيُّ خلافاً في قَبُولِهَا لحرية الولد، وإن قبلت لدفع الحد، كما رواه في استيلاء المرتهن، ويجب في حالتي العلم والجهل أَرْش نقصان الجارية، وإن نقصت بالولادة، فإن تلفت عنده وجب أقصى القيم، ودخل فيه نقصان الولادة، وأرش البكارة، ولو ردها وهي حبلى، فماتت في يد المالك من الولادة، ذكر أَبو عَبْدِ اللَّهِ القَطَّانُ في "المطارحات" أنه لا شيء عليه في صورة العلم؛ لأن الولد ليس منه حتى يقال: ماتت من ولادة ولده، وإن في صورة الجهل قولين. واعلم أن لوجوب الضمان في هذه الصورة مأخذين: أحدهما: أنه أحبل جارية الغير إما بالشبهة، أو بالزنا، وفي كونه سبباً للضمان ما قدمناه في المرتهن. والثاني: أنه يحصل نقصان الحمل تحت اليد، وذلك سبب الضمان، وإن وجد أثره بعد الرد إلى المالك، كما لو جنى المغصوب عند الغاصب، فرده، ثم بيع في يد المالك. وأطلق صاحب "التتمة" بوجوب الضمان للمأخذ الثاني (¬1). وقوله في الكتاب: "وضمن المشتري قيمته، ورجع بها على الغاصب، إذ الشراء لا يوجب ضمان الولد"، والكلام في الرجوع أخرناه إلى الفصل التالي لهذا الفصل، وقد كرره هناك، وفي ذكره هناك غنية عن الذكر هاهنا. وقوله: "فلا ضمان؛ لأن الحياة لم تتيقن" معلم بالواو. ويجوز إعلام قوله: "وضمان عشر قيمة الأم" -بالحاء- لما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. ¬
فرع: في "ذخيرة" البندنيجي لو وطئ الغاصب بإذن المالك، فحيث لا يجب المهر لو لم يأذن فهاهنا أولى، وحيث نوجبه فقولان محافظة على حرمة البُضْعِ، وفي قيمة الولد طريقان: أحدهما: أنه على الخلاف في المهر. والثاني: القطع بالوجوب؛ لأنه لم يصرح بالإذن في الإحبال (¬1)، والله اعلم بالصواب. قال الغزالي: وَيَضْمَنْ المُشْتَرِي (ح) أُجْرَةَ المَنْفَعَةِ الَّتي فَاتَتْ تَحْتَ يَدِهِ، وَمَهْرَ المِثْلِ عِنْدَ الوَطْءِ وَقِيمَةَ انْعِقَادِهِ حرًّا، وَيرْجَعُ بِكُلِّ ذَلِكَ عَلَى الغَاصِبِ مَهْمَا كَانَ جَاهِلاً، وُيغَرَّمُ قِيمَة العَيْنِ إِذَا تَلِفَتْ وَلاَ يُرْجَعُ، وَكَذَا المُتَزَوِّجُ مِنَ الغَاصِبِ لاَ يَرْجِعُ بِالمَهْرِ، وَهَلْ يَرْجِعُ المُشْتَرِي بِقِيمَةِ مَنْفَعَةٍ اسْتَوْفَاهَا؟ فِيهِ قَوْلاً الغُرورِ، وَلَوْ بَنَى فَقَلَعَ بِنَاءَهُ فَالأَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ بِأرْشِ النَّقْصِ، وَلَوْ تَعَيَّبَ في يَدِهِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يَرْجِعُ (ز) لأَنَّ العَقْدَ لاَ يُوجِبُ ضَمَانَ الأَجْزَاءِ بِخِلافِ الجُمْلَةِ، وَكَذَا إِذَا تَعَيَّبَ قَبْلَ القَبْضِ لَمْ يَكُنْ للِمُشْتَرِي الأَرْشُ، ولَوْ اشْتَرَى عَبْداً لِجَارِيةٍ وَرَدَّ الجَارِيةَ بِعَيْبٍ وَبِالعَبْدِ عَيْبٌ حَادِثٌ لَزِمَهُ قَبُولُ العَبْدِ أَوْ طَلَبُ قِيمَتِهِ، وَلَيسَ لَهُ طَلَبُ الأَرْشِ مَعَ العَبْدِ وَلِذَلِكَ فُرِّقَ بَيْنَ الجُزْءِ وَالجُمْلَةِ. قال الرافعي: الفصل الثَّاني الكلام فيما يرجع به المشتري على الغاصب إذا غرم، وما لا يرجع، وسنبيّن في خلاله ما يغرمه وما لا يغرمه، وفي سائر الأيدي المترتبة على يد الغاصب مسائل نشرح ما في الكتاب منها، غير مبالين بما يحتاج إليه من تغيير نظمه، ونضيف إليها ما يتفق. الأولى: إذا تلفت العَيْنُ المغصوبة عند المشتري، ضمن قيمتها أكثر ما كانت من يوم القبض إلى يوم التلف، ولا يضمن الزيادة التي كانت في يد الغاصب، إن كانت في يده أكثر قيمة، ولا يرجع بما يضمنه عالماً كان أو جاهلاً؛ لأن الشراء عقد ضمان، وقد شرع فيه على أن تكون العين من ضمانه وإن كان الشراء صحيحاً، ولك أن تقول: إن كان المراد من كونه عقد ضمان أنه إذا تلف المبيع عنده تلف من ماله، واستقر عليه الثمن، فهذا مسلّم، لكن لم يكن شارعاً فيه على أن يضمن القيمة، ومعلوم أنه لو لم يكن المبيع مغصوباً لم يلزمه شي بالتلف، فكان الغاصب مغرراً موقعاً إياه في خطر الضَّمان، فليرجع عليه، وإن كان المراد غيره، فَلِمَ قلتم: إِن الشراء عقد ضمان؟ على ¬
تفسير آخر، وربما انساق هذا الإشكال إلى ما حكى عن صاحب "التقريب" أنه يرجع من المغروم بما زاد على قَدْرِ الثمن، سواء اشتراه رخيصاً في الابتداء، أو زادت القيمة بعد الشراء، وأنه إذا رجع بما زاد على الثمن لم يلحقه ضرر. الثانية: تعيّب المغصوب عند المشتري بِعَمىً أو شلَلٍ، أو نحوها، ينظر إن كان بفعل المشتري، فيستقر ضمانه عليه، وكذا لو أتلف الكل، وإن كان بآفة سماوية فقولان: أحدهما: عن تخريج المُزَنِيِّ وغيره: أنه لا يرجع على الغاصب بضمانه، كما لا يرجع بالقيمة عند هلاك الكل تسوية بين الجملة والأجزاء، وبهذا أجاب العراقيون، بل أكثر الأصحاب. والثاني: وينسب إلى نَصِّ الشَّافعي -رضي الله عنه- أنه يرجع، وقرره ابْنُ سُرَيجٍ بأن العقد يوجب ضمان الجملة، ولا يوجب ضمان الأجزاء على الانفراد، واحتج عليه بصورتين: إحداهما: أنه لو تعيب المبيع قبل القبض لم يكن للمشتري أن يجيز العقد، ويطالبه بجزء من الثمن، بل إما أن يفسخ أو يُجيز بكل الثمن ولو تلف يستقر كل الثمن. والثانية: لو اشترى عبداً بجارية، وتقابضا، ثم وجد بائع العبد بالجارية عيباً قديماً، فردها، وقد تلف العبد فإنه يأخذ قيمته، ولو لم يتلف، وتعيّب بعيب حادث لم يكن له طلب الأرش مع العبد، بل يقنع به، أو يأخذ القيمة. واعلم أن في الصورة الثانية وجهين ذكرناهما في فصل "الرد بالعيب" فلناصر القول الأول أن يمنع ويقول له باسترداد العبد، وطلب أرْش النقصان وإليه ميل الإمام. وأما الصورة الأولى، فإن المبيع في يد البائع غير مضمون بالقيمة، بل بالثمن، فإذا تلف سقط الثمن، وإذا تعيَّب أمكن رده، جملة الثمن، فلا يمكن من طلب الأرش الذي هو تغيير العقد، وحَطّ من الثمن، وإنما يصار إليه عند الضرورة، فلهذا المعنى لم يثبت الأرش. الثالثة: منافع المغصوب يضمنها المشتري للمالك بأجرة مثلها، وهل يرجع على الغاصب؟ أما ما استوفاه بالسكون والرُّكوب واللُّبس، ففيه قولان، وكذا بالرجوع بالمهر إذا غرمه بالوطء: أحدهما: يرجع؛ لأن الغاصب قد غَرَّهُ ولم يشرع على أن يضمن المهر والأجرة. وأصحهما وهو قوله الجديد، وبه قال أبو حنيفة: أنه لا يرجع؛ لأن نفعه عاد إليه، ولأنه أتلف المنفعة، وحوالة الضمان على مباشر الإتلاف أولى، وأجرى الخلاف
في أرْشِ الافْتِضَاضِ إنْ كانت بكراً، وعدم الرجوع به أظهر؛ لأنه بدل جزء منها أتلفه، فأشبه ما لو قطع عضواً من أَعْضَائِها. وفي "التهذيب" أن الخلاف فيه مبني على أنه يفرد عن المهر، أم لا؟ إن افراده لم يرجع به، وإلاَّ رجع. وأما المنافع التي فَاتَتْ تحت يده، ولم تستوفها. فإن قلنا: يرجع بضمان ما استوفاه، فضمانها أولى. وإن قلنا: لا يرجع هناك فوجهان: أصحهما: الرجوع أيضاً؛ لأنه لم يتلف، ولا شرع في العقد على أن يضمنها. والثاني: لا يرجع تنزيلاً للتلف تحت يده منزلة الإتلاف. الرابعة: إذا غرم قيمة الولد عند انعقاده حرًّا رجع به على الغاصب؛ لأنه شرع في العقد على أن يسلم الولد حرًّا من غير غرامة، ولم يوجد منه تفويت. وعن الأستاذ أبي إسحاق الإسْفِرَاييْني طريقة أُخرى في "شرح الفروع" أن الرجوع بها كالرجوع بالمهر؛ لأن نفع حرية الولد تعود إليه. والمشهور الأول وأرش نقصان الولادة، قطع العراقيون بأنه يرجع به، وعن غيرهم خلاف. قال الإمام: وسبيله سبيل النقصان الحاصل بسائر الآفات السماوية، فيجيء فيه ما ذكرناه من الخلاف السابق، ولو وهب الجارية المغصوبة، فاستولدها المتهب جاهلاً بالحال، وغرمه قيمة الولد، ففي الرجوع بها وجهان: وجه الفرق أن الواهب متبرع، والبائع ضامن سلامة الولد له بلا غرامة. الخامسة: إذا بني المشتري، أو غرس في الأرض المغصوبة، فجاء المالك، ونقض بنائه، وغرسه هل يرجع بأرش النقصان على الغاصب؟ فيه وجهان: أحدهما: لا كما لا يرجع بما أنفق على العمارة، وكأنه بالبناء متلف ما له. وأظهرهما: نعم لشروعه في العقد على ظن السلامة، وإنما جاءه هذا الضرر من تغرير الغاصب، وهذا ما ذكره العراقيون، وقد ذكرنا طرفاً من المسألة في "الضمان" وذكر في "التهذيب" أن القياس ألا يرجع على الغاصب بما أنفق على العمارة، وما أدرى من خراج الأرض: لأنه شرع في الشراء على أن يضمنها. السادسة: لو زوج الغاصب الجارية المغصوبة، فوطئها الزوج جاهلاً بالحال غرم مهر المثل للمالك، ولا يرجع به على الغاصب؛ لأنه شرع فيه على أن يضمن المهر، ويخالف ما إذا غَرَّ بحرية أمة، وغرم المهر حيث يرجع على الغار على أحد القولين، لأن النكاح ثَمَّ صحيح، والبُضْعُ مملوك له، فإذا فسخ اقتضى الفسخ استرداد ما بذل له
وهاهنا النكاح باطل وإنما غرم لإتلافه منفعة البُضْعِ حتى لو كان المغرور ممن لا يحل له نكاح الأمة لم يثبت له الرجوع بالمهر لبطلان النكاح، ولو استخدمها الزوج، وغرم الأجرة لم يرجع على الغاصب؛ لأنه لم يسلطه على الاستخدام، بخلاف الوطء، ويرجع بغرم المنافع التالفة تحت يده؛ لأنه ما استوفاها, ولا شرع على أنه يضمنها، والقول في قيمتها لو تلفت في يده قد تقدم، فإن غرمها رجع بها. قال الأئمة: والضابط في هذه المسائل أن ينظر فيما عزمه مَنْ تَرَتَّبَتْ يده على يد الغاصب عن جهل إن شرع فيه على أن يضمنه لم يرجع به، وإن شرع على أنه لا يضمنه، فإن لم يَسْتَوْفِ ما يقابله رجع به، وإن استوفاه، ففيه قولان، وعلى هذا فلو كان المغصوب شاة، فَنَتَجَتْ في يد المشتري، أو شجرة فأثمرت، فأكل فائدتها، وغرمها للمالك، ففي الرجوع بما غرم الغاصب قولان كالمهر، وإن هلكت تحت يده، فالحكم كما في المنافع التي لم يستوفها، ذكره في "التتمة" وكذا القول في الأكساب، وإن انفصل الولد ميتاً، فالظاهر أنه لا ضمان، وكذا إذا انفصل ميتاً في يد الغاصب، ولو استرضع المشتري الجارية في ولده، أو ولد غيره غرم أجر مثلها، وفي الرجوع قولان كالمهر، ويغرم المشتري اللبن، وإن انصرف إلى سخلتها وعاد نفعه إلى المالك كما لو غصب علفاً، وأعلف به بهيمة مالكه. لكن قال صاحب "التهذيب" وجب أن يرجع به على الغاصب, لأنه لم يشرع فيه على أنه يضمنه، ولا عاد نفعه إليه، ولو أجر العين المغصوبة غرم المستأجر أجرة المِثلِ للمالك، ولم يرجع بها على الغاصب؛ لأنه شرع فيه على أن يضمنها، ويسترد الأُجرة المسماة، ولو أعارها رجع المستعير بما غرم للمنافع التي فاتت تحت يده، وفي الرجوع بما غرم للمنافع التي استوفاها القولان، وكذا غرم الأجزاء التالفة بالاستعمال. واعلم أن كل ما لو غرمه المشتري يرجع به على الغاصب، فلو طولب به الغاصب وغرمه لم يرجع به على المشتري، وكُلّ ما لو غرمه المشتري ولم يرجع به على الغَاصب لم يرجع به المشتري، وكذا الحُكْم فيمن غير المشتري ممن ترتبت يده على يد الغاصب. وقوله في الكتاب: "ويرجع بكل ذلك على الغاصب" جواب في المهر المغروم عند الوطء بقول الرجوع، وقد مَرَّ أن أصح القولين، ومذهب أبي حَنِيفَة منع الرجوع، فيجوز أن يعلّم ما ذكره -بالحاء والواو- لذلك، وأيضاً فللطريقة المروية في قيمة الولد. قوله: وهل يرجع المشتري بقيمة منفعة استوفاها؟ يدخل فيه منفعة البُضْع المستوفاة بالوطء كما يدخل سائر المنافع، وإجراؤه على إطلاقه ممكن، ففي جميع ذلك قولان كما سبق، لكن الأشبه أنه أراد ما سوى منفعة البُضْع.
وأما إذا وطئ وغرم المَهْر، وقد ذكره مرة، وحكم فيه بالرجوع على الغاصب. وقوله: "فيه قولا الغرور" أي ومباشرة الإتلافات على ما مرَّ في تقديم الطعام المغصوب، فحذف أحد الطرفين. وأعلم قوله في نقل النص في التعيُّب: "أنه يرجع" -بالزاي- إشارة إلى تخريج المُزَنِيَّ. وقوله: "وليس له طلب الأرش" يجوز إعلامه بالواو. وقوله: "ولذلك فرق بين الجملة والجزء" هكذا هو في بعض النسخ، وفي بعضها: "وكذلك فرق الشَّافعي -رضي الله عنه-" وهما صحيحان. قال الغزالي: وَنُقْصَانُ اَلوِلاَدَةِ لاَ يُجْبَرُ (ح) بِالوَلَدِ فَإِنَّ الوَلَدَ زِيَادَةٌ جَدِيدَةٌ. قال الرافعي: إذا انتقصت الجارية بالولادة، وكان الولد رقيقاً تفي قيمته ببعض نقصانها، أو بكله لم ينجبر به النقصان، بل الولد له، ويأخذ الأرْشَ، خلافاً لأبي حنيفة. لنا: أن الولد زيادة تحدث على ملكه، أَلا تَرَى أن يسلم له، وإن لم يكن في الأمِّ نقصان، وملكه لا يجبر نقصان ملكه، ولو ماتت الأم من الولادة، والولد وافٍ بقيمتها، فلهم فيه اختلاف، وقد فرغنا من شرح كتاب الغَصْبِ، ونختمه بمسائل منثورة: منها: أسند خشبة تعب بحملها إلى جدار يستريح، إن كان الجدار لغيره، ولم يأذن في إسناده إليه، فهو متعدّ يضمن الجدار إن وقع بإسناده إليه، ويضمن ما تلف بوقوعه عليه، وإن وقعت الخشبة وأتلفت شيئاً ضمن إن وقعت في الحال، وإن وقعت بعد ساعة لم يضمن، وإن كان الجدار له أو لغيره، وقد أذن في إسناده إليه، فكذلك يفرق بين أن تقع الخشبة في الحال، أو بعد ساعة تشبيهاً بفتح رأس الزّقِّ. ومنها: غصب داراً ونقضها، وأتلف النقض، وما نقص من قيمة العَرْصَة. وحكى الشيخ أبُو حَامِدٍ وجهين في أنه يضمن أجرة مثلها داراً إلى وقت الرد، أو إلى وقت النقض (¬1). ومنها: غصب شاة، وأنْزَى عليها فحلاً، فالولد للغاصب، ولا شيء عليه للإنزاء؛ لنهيه -عليه السلام- "عن عَسِيْبِ الفَحْل" (¬2)، فإن انتقص غرم الأرش، ولك أن تقول: للمغصوب منه، ولو غصب فَحَلاً، وأَنزاه على شاته، فالولد مغصوب منه وجب أن يخرج وجوب شيء للإنزاء على الخلاف في جواز الاستئجار (¬3). ¬
ومنها: غصب جارية ناهداً فتدلّى نهداها، أو عبداً شاباً فشاخ، أو أمرد فَالْتَحَى غرم النقصان. وعن أَبي حنيفة أنه لا يضمن في الأمرد. ولو غصب خشبة، واتخذ منها أبواباً وَسَمَّرَهَا بمسامير من عنده نزع المسامير، وإن انتقصت الأبواب بذلك ضمن الأرش، ولو بَذَلَهَا، ففي إجْبَارِ المَغْصُوب منه على قبُولها وجهان ذكرهما في نظائرها. ومنها: غصب ثوباً، ونجسه، أو نجس عنده، لم يكن له تطهيره، ولا للمالك أن يكلفه التطهير، ولو غسله، وانتقصت قيمته، ضمن النقصان ولو رده نجساً فمؤنة التطهير على الغاصب، وكذا أرش اللازم منه، وتنجيس المائع الذي لا يمكن تطهيره إهلاك وتنجيس الدهن ينبني على إمكان غسله إن جوزناه، فهو كالثوب. ومنها: قال في "التتمة": لو غصب من الغاصب فابراء المالك الأول عن ضمان الغصب صح الإبراء؛ لأنه مطالب بقيمته، فهو كَدَيْنٍ عليه، وإن ملكه المغصوب بريء، وانقلب الضَّمان على الثاني حقًّّا له وإن باعه من غاصب الغاصب، أو وهبه منه، وأذن له في القبض برئ الأول، وإن أودعه من الثاني. وقلنا: إنه يصير أمانة في يده بريء الأول أيضاً فإن رهنه من الثاني لم يبرأ واحد منهما عن الضَّمان. ومنها: لو رد المغصوب إلى المالك، أو وكليه، أو وَليَّهِ بريء من الضمان، ولو رد الدابة إلى إصطبله. قال في "التتمة": يبرأ أيضاً إذا علم المالك به، أو أخبره من يُعْتَمدُ خبره. وقيل: إنْ لم يعلم، ويخبر لا يبرأ، فإن امتنع المالك من الاسترداد، رفع الأمر إلى الحاكم. ومنها: عن القَفَّالِ وغيره أن المالك لو أبرأ غاصب الغاصب عن الضَّمان برأ الأول لأن القرار على الأول والثاني كالضامن، وهذا إن فرض بعد تلف المال، فهو بَيَّنٌ، وإما قبله فليخرج على صحّة إبراء الغاصب مع بقاء المال في يده، وفيه خلاف مذكور في "كتاب الرَّهْن" (¬1). ¬
كتاب الشفعة, وفيه ثلاثة أبواب
قال الغزالي: " كِتَابُ الشُّفْعَةِ, وَفِيهِ ثَلاَثةُ أَبْوابٍ" البَابُ الأَوَّلُ في أَرْكَانِ الاِسْتحْقَاقِ وَهِي ثَلاثةٌ: المَأْخُوذُ والآخِذُ وَالمَأْخُوذُ مِنْهُ، "الأَوَّلُ: المَأْخُوذُ"، وَهوَ كَلُّ عَقَارٍ ثَابِتٍ مُنْقَسِمٍ، احْتَرَزْنَا بِالعَقَارِ عَنِ المَنْقُولِ فَلاَ شُفْعَةَ فِيهِ لِلشَّرِيكِ لِخِفَّة الضَّرَرِ فِيهِ. قال الرافعي: الشُّفْعَةُ مأخوذة من قولك: شفعت كذا بكذا، إِذا جعلته شَفْعاً به، كأَن الشفيع يجعل نصيبه شفعاً بنصيب صاحبه. يقال: أصل الكلمة التقوية والإعانة، ومنه الشفاعة والشفيع؛ لأن كل واحد من الوِتْرين يقوى بالآخر، ومنه شاة شافع للتي معها ولدها لتقويها به (¬1)، وفسرت في الشريعة بحق تملك قهري يثبت للشريك القديم على الحادث، وفيه مجال لمضايقات: منها: أن الشركة مأخوذة في هذا التفسير، ولو كان كذلك لما انتظم قولنا: هل تثبت الشفعة للجار أم لا؟ والأصل في الشُّفْعَة الأخبار التي نوردها متفرقة في الباب، وكل ما يدل على مسألة في باب يدل على ثبوت أصل ذلك الباب. واحتج بعضهم بالاجماع، لكنه نُقِلَ عن جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ (¬2) من التابعين وغيرهم ¬
إنكار أصل الشفعة (¬1)، وإذا علمت أن لِحَقِّ الشفعة ثبوتاً ذهب ذهنك إلى البحث عن أنه لم يثبت، وأنه كيف يُؤخَذُ الشِّقصُ، وأنه يستمر، أو يسقط، ولم يسقط إن سقط؟ وهذه الأمور الثلاثة هي أبوب الكتاب الثلاثة. أما أنه بم يثبت فاعلم أن سبب ثبوت الشفعة يتركب من أمور: منها: ما يرجع إلى الملك المأخوذ. ومنها: ما يرجع إلى الآخذ. ومنها: ما يرجع إلى الذي يؤخذ منه، وسمى صاحب الكتاب هذه الثلاثة ثلاثة أركان الاستحقاق لتعلقه بها، وتركّب سببه من الأمور معتبرة فيها فقال: الباب الأول في أركان الاستحقاق. الركن الأول: المأخوذ، فاعتبر فيه ثلاثة شروط: أحدها: أن يكون عقاراً. قال الأصحاب: والأعيان ثلاثة أضرب: أحدها: المنقولات فلا شفعة فيها، سواء بيعت وحدها، أو مع الأرض. وعن مالك ثلاث روايات: إحداها: إثبات الشفعة في كل منقولٍ باع أحد الشفيعين نصيبه منه. والثانية: إثباتها في السفن خاصة. والثالثة: أنها إن بيعت وحدها، فلا شفعة فيها، وإنْ بِيعت مع الأرض، ففيها الشفعة كيلا تتفرق الصفقة على المشتري. لنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقسَمْ فإذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ صُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ (¬2)). وبما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- (قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا يُقْسَمُ رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ لاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ ¬
يَبِيْعَهُ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيْكَهُ، فَإِنْ شَاءَ أخِذَ، وَإنْ شَاءَ تَرَكَ فَإِنْ بَاعَهُ وَلَمْ يِأْذَنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ (¬1)). وروى: (الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ (¬2)). الضرب الثاني: الأراضي، فتثبت الشفعة فيها، سواء بيع الشقص منها وحده، أو مع شيء من المَنْقُولاَتِ، ثم في الحالة الثانية يوزع الثّمَنُ عليه، وعلى ذلك المنقول، كما سيأتي. والثالث: الأعيان التي كانت منقولة في الأصل، ثم أثبتت في الأرض، للدَّوام كالأبْنِية والأشجار (¬3)، فإن بيعت منفردة، فلا شفعة فيها؛ لأنها في حكم المَنْقُولاَتِ، وكانت في الأصل منقولة وتنتهي إليه، وإن طال أَمَدُهَا, وليس معها ما تجعل متابعة له. وحكى الإمام أَبُوالفَرَجِ السَّرْخَسِيُّ وجهاً أنه تثبت الشفعة فيها لثبوتها في الأرض والمذهب الأول وإن بيعت الأرض وحدها ثبتت الشفعة فيها ويكون الشفيع معه كالمشترى، وإن بيعت الأَبْنِيةُ والأشجار مع الأرض، إما صريحاً، أو على قولنا: إن الأرض، تستتبعها ثبتت الشفعة فيها متابعة للأراضي، كما سبق من الأخبار، فإن لفظ "الرَّبْع" يتناول الأبنية، ولفظ "الحائط" يتناول الأشجار، ولو كان على النَّخل ثمرة مؤبَّرة، فأدخلت في البيع شرطاً لم تثبت فيها الشفعة؛ لأنها لا تدوم في الأرض، بل يأخذ الشفيع الأرض والنخيل بِحِصَّتِها من الثمن. وعن مالك وأَبي حَنِيْفَةَ إثبات الشفعة فيها تبعاً، وإن كانت غير مؤبَّرة دخلت في البيع تبعاً وهل يأخذ؟ فيه وجهان أو قولان: أحدهما: لا كالمؤبَّرة؛ لأنها منقولة. والثاني: نعم لدخولها في مطلق البيع. قال في "التهذيب": وهذا أصح، وعلى هذا فلو لم يتفق الأخذ إلى أن تأبَّرت فوجهان: أظهرهما: الأخذ؛ لأن حقه تعلّق بها، وزيادتها كالزيادة الحاصلة في الشجرة من بسوقها، أو طول أغصانها. والثاني: المنع، وبه قال القَاضِي أبُو الطَّيِّبِ لخروجها عن أن تكون متابعة للنخيل، وعلى هذا فبم يأخذ النخيل والأرض؟ فيه وجهان: ¬
أشبههما: بحصتها من الثمن، كما في المؤبرة. والثاني: بجميع الثمن تنزيلاً له منزلة عيب يحدث بالشَّقْصِ، ولو كانت النخيل حائلة عند البيع، ثم حدثت الثمرة قبل أخذ الشفيع، فإن كانت مؤبرة لم يأخذها، وإن كانت غير مؤبرة، فعلى قولين ذكرناهما بتوجيههما، وتخاريجهما فيما إذا أفلس مشتري النخيل، وهي مطلعة هل يتعدى الرجوع إلى الطلع؟. وقد ذكر كثير من النَّاقلين أن قول: أخذ الثمار قوله القديم، ومقابله الجديد، وعلى هذا فالمسألة مما يجاب فيها على القديم لما مَرَّ في "التَّفْلِيسِ" أن الأخذ أظهر عند الأصحاب، وإذا بعث الثمرة للمشتري، فعلى الشفيع إبقاؤها إلى الإدراك، وهذا إذا بيعت الأشجار، مع البياض الذي يتخللها، أو بيع البستان كله أما إذ بيعت الأشجار ومغارسها لا غير، فوجهان، وكذا لو باع الجدار مع الأُسِّ (¬1). أحدهما: إنه تثبت الشفعة؛ لأنها فرع أصل ثابت. وأشبههما: المنع؛ لأن الأرض تابعة هاهنا، والمتبوع منقول (¬2). ولو باع شقصاً فيه زرع لا يجَذُّ مراراً، وأدخله في البيع شرطاً أخذ الشفيع الشِّقْص بحصته من الثمن، ولم يأخذ الزرع، وخلافاً لأبي حَنِيفَةَ ومالك، وإن كانا مما يجذُّ مراراً، فالجذوة الظاهرة التي لا تدخل في البيع المطلق كالثمار المؤبرة، والأصول كالأشجار. وما يدخل تحت مطلق بيع الدَّار من الأَبواب والرُّفُوف والمسامير يؤخذ بالشفعة تبعاً كالأبنية، وكذا الدُّولاب الثابت في الأرض، سواء أداره الماء، أو غيره، بخلاف الدَّلو والمنقولات (¬3)، ولو باع شقصاً من طَاحونَةٍ، فالحجر التَّحْتَانى يؤخذ بالشُّفعة. إن قلنا بدخوله البيع، وفي الفَوقَانيِّ وجهان مع التفريع عليه كالوجهين في الثمار التي لم تؤبر. ¬
وقوله في الكتاب: "كل عقار" غير مجري على ظاهره؛ لأنه يقتضي اشتراط كون المأخوذ عقاراً، وقد عرفت أن الأبنية والأشجار، بل الثمار أيضاً مأخوذة، ومعلوم أن اسم العقار لا يقع عليها في المتعارف، ولا يمكن أن يقال: أراد بالعَقَارِ غير المنقول؛ لأن قضيته حينئذ إثبات الشفعة في الأبنية والأشجار وحدها؛ لأنه كما لا يقع عليها اسم العَقَار لا يقع عليها اسم المنقول، وهي ثابتة في الأرض، فيصدق عليها أنها غير المنقول. وقوله: "فلا شفعة فيه" معلّم بالميم. وقوله: "لحقه الضرر فيه" معناه: أن المنقول لايبقى دائما، والعقار يتأبد فيتأبد سوء ضرر المشاركة فيه، والشفعة تملك قهري، فلا يحكم بثبوته إلاَّ عند شدة الضرورة. قال الغزالي: وَبِالثَّابِتِ عَنْ حُجْرَةٍ عَالِيةٍ مُشْتَرَكَةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى سَقْفٍ لِصَاحِبِ السُّفْلِ فَإنَّهُ لاَ أَرْضَ لَهَا فلاَ ثَبَاتَ، فَإِنْ كَانَ السَّقْفُ لِشُرَكَاءِ الْعُلُوِّ فَوَجْهَانِ؛ لأنَّ السَّقْفَ فِي الهَوَاءِ فلاَ ثَبَاتَ لَهُ. قال الرافعي: الشرط الثاني كونه ثابتاً، وقصد به الاحتراز عما إذا كان بين اثنين حجرة، أو غرفة عالية مبنية على سَقْفٍ لأحدهما، أو لغيرهما، فإذا باع أحدهما نصيبه، فلا شفعة لشريكه؛ لأنه لا أرض لها, ولا ثبات، فهو كالمنقولات، ولو كان السقف المبني عليه مشتركاً بينهما، فعلى وجهين، نقلهما هاهنا وفي "الوسيط": أحدهما: أن الشفعة تثبت للاشتراك فيها أرضاً وجداراً. وأظهرهما: المنع؛ لأن السقف الذي هو أرضه لا ثَبَاتَ له أيضاً، وما لا ثبات له في نفسه لا يفيد ثباتاً لما هو عليه، ولو كان السقف مشتركاً بين اثنين، العلو لأحدهما، فباع صاحب العلو، ونصيبه من السفل، ففيه للقَفَّالِ جَوابان: أحدهما: أن الشريك يأخذ السفل، ونصف العلو بالشفعة؛ لأن الأرض مشتركة بينهما، وما فيها تابع لها، ألا تَرَى أنه يتبعها في بيع الأرض عند الإطلاق؟ فكذلك في الشفعة. وأصحهما: وهو الذي ارتضاه الشيخ أبُو عَلِيٍّ أنه لا يرضى أن يأخذ إلاَّ السفل؛ لأن الشفعة لا تثبت في الأرض إلاَّ إذا كانت مشتركة، فكذلك فيما فيها من الأبنية، ولا شركة بينهما في العلو. ولو كانت بينهما أرض مشتركة، وفيها أشجار لأحدهما، فباع صاحب الأشجار الأشجار، ونصيبه من الأرض، ففيه هذا الخلاف هذا فقه الفصل. ولك أن تقول: اسم العقار إما يقع على الأبنية بقطع النظر عن الأرض، أو لا يقع، إن كان وقع الضابط المذكور متناً، ولا للأبنية وحدها، فلتكن مأخوذة بالشفعة
وحدها، إن لم تقع خرجت الصورتان المذكورتان في الكتاب عن الضابط بلفظ العَقَار، فلا حاجة إلى ذكر الثابت. قال الغزالي: وَاحْتَرَزنَا بِالمُنْقَسِمِ عَنِ الطَّاحُونَةِ وَالحَمَّامِ وَبِئْرِ المَاءِ وَمَا لاَ يَقْبَلُ القِسْمَةَ إلاَّ بِإبْطَالِ مَنْفَعَتِهِ المَقْصُودَةِ مِنْهُ فَلاَ شُفْعَةَ فِيهَا (ح و) إِذْ لَيْسَ فِيها ضَرَرُ مُؤنَةِ الإسْتِقْسَامِ وَتَضَايقِ المِلْكِ بِالقِسْمَةِ. قال الرافعي: الشرط الثالث: كونه منقسماً، وفي ثبوت الشفعة في العقار الذي لا ينقسم اختلاف مبني على أن الشفعة لم تثبت في المنقسم، وفيه وجهان: أحدهما: أنها تثبت لدفع ضرر الشركة فيما يتأبد ويدوم، كتضييق المدخل والتأذي بحرفة الشريك أو أخلاقه أو كثرة الداخلين عليه، وما أشبههما. وأصحهما: أنها تثبت لدفع الضرر الذي ينشأ من القسمة من بدل مؤنتها، والحاجة إلى افراد الحِصَّة الصَّائرة له بالمرافق الواقعة في حِصّة صاحبه، كالمِصْعَدِ والمبرز والبالُوعة وحدها، وكل واحد من الضررين، وإن كان واقعاً قبل البيع لكن من رغب من الشَّريكين في البيع كان من حقه أن يخلص الشريك مما هو فيه ببيعه منه، فإذا لم يفعل سلطه الشرع على أخذه. فإن قلنا بالمعنى الأصح أنها لم تثبت الشفعة فيما لم ينقسم؛ لأنه يؤمن فيه غرر القسمة، وهذا هو الذي أورده في الكتاب. وإن قلنا بالثاني ثبتت الشفعة فيه، ويحذف هذا الشرط الثالث، وبه قال أبُو حَنِيْفَةَ وابْنُ سُرَيْجٍ، وهذا المذهب الثاني ينسب إلى تخريجه، واختاره أَبُو خَلَفٍ السلمِيُّ، والقاضي الرُّويانِيّ. ومنهم من يجعل هذا الخلاف قولين، ويقول: الجديد منع الشفعة، وهو ظاهر المذهب كيف فرض الخلاف. وعَن مالكٍ وأحَمْدَ اختلاف رواية فيه أيضاً، والظاهر المنع، والمراد من المنقسم ما إذا طلب أحد الشريكين قسمته أجبر الآخر عليها. وفي ضبطه ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه الذي لا تنقص القسمة قيمته نقصاناً فاحشاً حتى لو كانت قيمة الدار مائة، ولو قسمت عادت قيمة كل نصف إلى ثلاثين، فلا تقسم لما فيها من الضرر. وثانيها: أنه الذي يبقى منتفعاً بها بعد القسمة بوجه ما. أما ما لا يبقى منتفعاً به بِحَالٍ، إما لضيق الخطَّة، أو لقلة النصيب، أو لأن أجزاءه غير منتفع بها وحدها، كماء سراب القنا، فلا يقسم.
وأصحها: أنه الذي إذا قسم أمكن أن ينتفع به من الوجه الذي كان ينتفع به قبل القسمة، ولا عبرة بإمكان الانتفاع به من وجه آخر للتفاوت العظيم بين أجناس المنافع. إذا عرفت ذلك فلو كان بينهما طَاحُونَةَ، أو حَمَّام أو نهر، أو بئر فباع أحدهما نصيبه، نظر إن كانت الطاحونة كبيرة يمكن أن تجعل طاحونتين لكل واحد حجران، والحَمَّام كثير البيوت، يمكن أن يجعل حمامين، أو كبير البيوت يمكن جعل كل بيت بيتين، والبئر واسعة يمكن أن يبنى فيها، فتجعل بئرين لكل واحدة بياض يقف فيها، ويلقي فيه ما يخرج منها ثبتت الشفعة فيها، وإن لم يكن كذلك، وهو الغالب في هذه العقارات، فلا شفعة فيها على الأصح، وهذا جوابه على أصح الوجوه في معنى المنقسم. أما إذا اعتبرنا بقاء منفعة ما كفى أن يصلح لكل سَهْمٍ من الحَمَّام بعد القسمة للسُّكْنَى، فإن اعتبرت القسمة لم يخف حكمه. ولو اشترك اثنان في دار صغيرة لأحدهما عشرها, وللآخر باقيها، فإن حكمنا بثبوت الشفعة فيما لا ينقسم، فأيهما باع نصيبه فلصاحبه الشفعة، وإن حكمنا بمنعها، فإن باع صاحب العشر نصيبه لم يثبت لصاحبه الشفعة؛ لأنه أمن من أن يطالب مشتريه القسمة؛ لأنه لا فائدة له في القسمة، وبتقدير أن يطلب فلا يجاب؛ لأنه متعنت مضيِّع ماله وإذا كان كذلك فلا يلحقه ضرر قسمة، وإن باع صاحب النصيب الأوفر نصيبه، ففي ثبوت الشفعة لصاحب العشر وجهان، بناء على أن صاحب النصيب الأوفر، هل يجاب إذا طلب القسمة؛ لأنه منتفع بالقسمة؟. والظاهر أنه يجاب، ولو كان حول البئر بَيَاضٌ وأمكنت القسمة، بأن نجعل البئر لواحد، والبياض لآخر ليزرعه، ويسكن فيه، أو كان موضع الحجر في الرَّحى واحداً، ولكن لها بيت يصلح لغرض آخر، وأمكنت القسمة، بأن يجعل موضع الحجر لواحد، وذلك البيت لآخر ليزرعه، فقد ذكر جماعة من الأصحاب أن الشفعة تثبت، وأن البئْرَ والحالة هذه من المنقسمات. وهذا جواب على جرَيان الإِجْبَار في هذا النوع من القسمة. وفيه خلاف على أنه لا يشترط فيما يصير لكل واحد منهما أن يمكن الانتفاع به من الوجه الذي كان ينتفع به قبل القسمة. وقوله في الكتاب: "وبئر الماء" ليس مذكوراً للتقييد، بل بئر الماء وسائر الآبار في الشفعة واحدة. وقوله "إلا بإبطال منفعته المقصودة" إشارة إلى الوجه الأصح في ضبط المنقسم. وقوله: "فلا شفعة فيها" معلّم -بالحاء والواو- ويمكن أن يعلم -بالميم والألف-
فرع
لإحدى الروايتين عنهما. وقوله: "إذ ليس فيها ضرر مؤنة الاستقسام ... " إلى آخره. معناه: أن هذا هو المقتضى للشفعة في المنقسم، وإنه غير موجود. واعلم أنا لو قدرنا ثبوت الشفعة هناك لمجموع المعنيين يلزم المنع في غير المنقسم أيضاً، لانتفاء أحد المعنيين. فرع شريكان في مزارع، وبئر تستقى منها باع أحدهما نصيبه منها تثبت للآخر الشفعة فيها إذا انقسمت البئر، أو قلنا بثبوت الشفعة فيما لا ينقسم، وإِلاَّ فتثبت في المزرعة وفي البئر وجهان: أحدهما: تثبت كما تثبت في الأشجار تبعاً للأراضي. وأصحهما: المنع لأن الأشجار ثابتة في محل الشفعة والبئر مباينة عنه. قال الغزالي: "الرُّكْنُ الثَّانِي: الآخذُ" وَهُوَ كُلُّ شَرِيكٍ بِالمِلْكِ، فَلاَ شُفْعَةَ (ح) للِجَارِ عِنْدَنَا وَإِنْ كَانَ مُلاَصِقاً (و)، وَتَثْبُتُ لِلشَّرِيكِ وَإِنْ كَانَ كَافِراً، فَإِنْ شَارَكَ بِحِصَّةٍ مَوْقُوفَةٍ وَقُلْنَا: لاَ يَمْلِكُ المَوْقُوفُ علَيْهِ فَلاَ شُفْعَةَ، وَإلاَّ فَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ إِفْرَازُ الوَقْفِ عَنْ المِلْكِ؟، وَالشَّرِيكُ في المَمَرِّ المُنْقَسِمِ يَأَخُذُ المَمَرَّ بِالشُّفْعَةِ إِنْ كَانَ لِلمُشْتَرِي طَرِيقٌ آخَرُ إِلى دَارِهِ، وَإلاَّ فَيَأْخُدُ بِشَرْطِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ الاجْتِيَازِ، وَقِيلَ: يَأْخُذُ وَإِنْ لَمْ يُمَكَّن، وقِيلَ: لاَ يَأْخُدُ وإنْ مُكِّنَ. قال الرافعي: فقه الركن صور: إحداها: أنه لا شفعة للجار ملاصقاً كان أو مقابلاً، وبه قال مَالِكٌ وأحمد. وعهد أبي حنيفة للملاصق الشفعة، وكذا المقابل إذا لم يكن الطريق بينهما نافذاً. لنا ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الشُّفْعَةُ فِيْمَا لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ فَلا شُفْعَةَ) وعن ابن سُرَيْجٍ تخريج قول كمذهب أبي حَنيفَةَ. قال القاضي الروياني: ورأيت بعض أصحابنا يفتي به، وهو الاختيار. وذكر الإمام أن الشيخ أبَا عَلِيٍّ لم يثبت ذلك عن ابْنِ سُرَيْجٍ، وحمل كلامه فيه على أنه لا يعترض في الظاهر على الشَّافعي إذا قضى له الحنفي بشفعة الجار، وهذا شأن مسائل الخلاف في الأغلب، وفي الحل باطناً خلاف. الثانية: الدار إما أن يكون بابها مفتوحاً إلى دَرْبٍ نافذ، أو إلى درب غير نافذ إن
كان الأول، ولا شركة في الدار فلا شفعة فيها لأحد، ولا في مَمَرِّهَا؛ لأن مثل هذا الدرب غير مملوك، وإن كان الثاني، فالدرب ملك مشترك بين شركائه على ما سبق في "الصُّلْح"، فإن باع نصيبه من المَمَرِّ وحده فللشركة الشفعة فيه، إن كان منقسماً على ما عرفت معناه وإلاَّ ففيه ما مَرَّ من الخلاف، وإن باع الدار بممرها، فلا شفعة لشركاء المَمَرِّ في الدار؛ لأنه لا شركة لهم فيها، فصار كما لو باع شِقْصاً من عقار مشترك، وعقار غير مشترك. وخرج ابْنُ سُرَيْجٍ أنها تثبت الشفعة فيها بتبعية الشركة في الطريق، وبه قال مَالِكٌ وأَبُو حَنِيْفَةَ، وقدم أَبُو حَنِيفَة الشريك في الممر على الجار الملاصق الذي ينفذ باب داره إلى درب آخر. وظاهر المذهب الأول. ولو أرادوا أخذ الممرّ بالشفعة، نظر إن كان للمشتري طريق آخر إلى الدار، أو أمكنه فتح باب آخر إلى شارع، فلهم ذلك على المشهور، إن كان منقسماً، وإلاَّ فعلى الخلاف في غير المنقسم. وقال الشيخ أَبُو مُحَمَّدٍ: إن كان في إيجاد المَمِرِّ الحادث عسر أو مؤنة لها، وجب أن يكون ثبوت الشفعة على الخلاف الذي نذكره على الأثر، وإن لم يكن له طريق آخر، ولا أمكن إيجاده، ففيه أوجه: أحدها: أنهم لا يمكنون منه؛ لما فيه من الإضرار بالمشتري، وإنما أثبتت الشفعة لدفع الضرر، فلا يزال الضرر بالضرر. والثاني: أن لهم الأخذ، والمشتري هو المضر بنفسه، حيث اشترى منه مثل هذه الدار. والثالث: أنه يقال لهم: إن أخذتموه على أن تمكنوا المشتري من المرور، فلكم الأخذ، وإن أبيتم تمكينه منه، فلا شفعة لكم جميعاً بين الحقين. وإيراد الكتاب يشعر بترجيح الوجه، وإليه ذهب أبو الفَرَجِ السِّرْخَسِيُّ، لكن الأصحاب من العراقيين وغيرهم على أن الوجه أصح، بل مَرَّ نص الإمام وجماعة عبارة تخيير الشفيع، وأدوا الغرض في عبارة أخرى، فقالوا في أخذه بالشفعة وجهان: إن أخذ ففي بقاء المرور للمشتري وجهان، وشركة مالكي بيوت الخيار في صحته، كشركة مالكي الدور في الدروب التي لا تنفذ، وكذا الشركة في مَسِيْلِ ماء الأرض دون الأرض وفي بئر المزرعة دون المزرعة، كالشركة في المَمَرِّ وحده. الثالثة: تثبت الشفعة للذمي على المسلم، والذمي حسب نبوتها للمسلم.
وقال أحْمَدُ: لا شفعة للذمي على المسلم. لنا: القياس على الرد بالعيب، ولو باع ذمي شِقْصاً من ذمي بخمر، أو خنزير، وترافعوا إلينا بعد الأخذ بالشفعة لم نرده، ولو ترافعوا قبله لم نحكم بالشفعة. وقال أبُو حَنِيفَةَ: نحكم وإن كان الشفيع مسلماً أخذ الشِّقص بقيمة الخمر، وإن كان ذمِّيًّا فبمثلها, ولو بيع الشقص، فارتد الشريك، فهو على شفعته. إن قلنا: إن الردة لا تزيل الملك. وإن قلنا: تزيله، فلا شفعة له، وإن عاد إلى الإسلام، وعاد ملكه، ففي عود الشفعة تردد عن الشِّيْخِ أَبي عَلِيِّ، والظاهر المنع. وإن قلنا بالوَقْفِ، فمات، أو قتل على الرِّدة، فللإمام أخذه لبيت المال، كما لو اشترى معيباً، أو اشترط الخيار، وارتد، ومات للإمام رده، ولو ارتد المشتري، فالشفيع على شفعته. الرَّابعة: دار نصفها لرجل، ونصفها ملك للمسجد، اشتراه قيّم المسجد، اشتراه قيّم المسجد، أو وهبه منه ليصرف في عمارته، فباع الرجل نصيبه كان للقَيِّمِ أن يأخذ بالشفعة، إن رأى المصلحة فيه، كما لو كان لبيت المال شريك في دار، فباع الشريك نصيبه للإمام الأخذ بالشفعة، وإن كان نصف الدار وَقْفاً والنصف ملكًا، فباع المالك نصيبه، فينبني على أن الموقوف عليه هل يملك الوقف؟. إن قلنا: لا لم يأخذ ما باعه بالشفعة. وإن قلنا: نعم، فينبني على أن الملك هل تقرر عن الوقف؟: وفيه وجهان يذكران في "القسمة". إن قلنا نعم، ففي ثبوت الشفعة وجهان: أحدهما: تثبت لدفع ضرر القسمة، ودفع ضرر مداخلة الشريك، وهذا ما أورده الكتاب بناء على جواز قسمته، وعلى هذا فلو كان الوقف على غير معنيين أخذه المتولي إن رأى المصلحة فيه. وأظهرهما: المنع؛ لأن الوقف لا يستحق بالشفعة، فلا ينبغي أن يستحق به، وأيضاً فإنه ملك ناقص، أَلاَ تَرَى أنه لا ينفذ تصرفه فيه، فلا يتسلّط على الآخذ. وإن قلنا: لا يقرر الملك على الوقف، فإن لم تثبت الشفعة فيما لا ينقسم لم تثبت، وإن أثبتناه عاد الوجهان. وقوله: "وهو كل شريك بالمِلْكِ" قصد بقوله: "بالملك" الاحتراز عن الشريك
بالوقف، والمراد ملك الرقبة أما إذا لم يملك إلاَّ المنفعة إما مؤقتاً بالإجارة، أو مؤبداً بأن أوصى له بالمنفعة لم يكن له الأخذ بالشفعة، ويخرج بلفظ الشريك الجار، ويدخل المسلم والذمي، والحُرُّ والمكاتب حتى لو كان السيد والمكاتب شريكين في الدَّار، فلكل منهما الشفعة على الآخر، والمأذون له في التجارة إذا اشترى شِقْصاً، ثم باع الشريك نصيبه، فله الأخذ بالشفعة إلاَّ أن يمنعه السيد، أو يسقط الشفعة وله الإسقاط، وإن أحاطت به الديون، وكان الأخذ غبطة، كما له منعه من سائر الاعتياضات في المستقبل، ولو أراد السيد أخذه بنفسه، فله ذلك، ولا يخفى أن الشركة لا تعتبر في مباشرة الآخذ، وإنما هي معتبرة فيمن يقع له الآخذ، بدليل الولي والوكيل، والعبد المأذون، فإن لهم الأخذ بالشفعة. وقوله: "والشريك في الممر المنقسم يأخذ المَمَرَّ بالشفعة" معلّم -بالواو- ولما حكينا عن الشيخ أبي مُحمَّدٍ وليس لمسألة الممر اختصاص بذكر الأخذ، ولعل إيرادها في ركن المأخوذ أولى. قال الغزالي: "الرُّكْنُ الثَّالِثُ المَأْخُوذُ مِنْهُ"، وَهُوَ كُلُّ مَنْ تَجَدَّدَ مِلْكُهِ اللاَّزِمُ بِمُعَاوَضَةَ، احْتَرَزنَا بِالتَّجَدُّدِ عَنْ رَجُلَيْنِ اشْتَرَيَا دَاراً فَلاَ شُفْعَةَ لأَحَدَهِمَا عَلَى الآخَرِ إِذْ لاَ تَجَدُّدَ لأَحَدِهِمَا، وَاحْتَرَزنَا بِاللاَّزِمِ عَنِ الشِّراء فِي زَمانِ الخِيَارِ فَإنَّهُ لاَ يُؤْخَذُ إِنْ كَانَ لِلبَائِعِ خِيَارُ لأَنَّهُ إِضْرَارٌ بِهِ. وَلاَ حَقَّ للِشَّفِيعِ عَلَى البَائِعِ، وَإِنْ كَانَ للِمُشْتَرِي وَحْدَهُ فَطَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: لاَ لأَنَّ العَقْدَ بَعْدُ لَمْ يَسْتَقِرَّ، والثَّاني: فِيهِ قَوْلاَنِ، كَمَا لَوْ وَجَدَ المُشْتَرِي بِالشِّقْصِ عَيْباً وَأَرَادَ رَدَّهُ وَقَصَدَ الشَّفِيعُ أَخْذَهُ فَأيَّهُمَا أَولى وقَدْ تَقَابَلَ الحَقَّان؟ فِيهِ قَوْلاَنِ، وَكَذَا الخِلاَفُ في تَزَاحُمِ الشَّفِيعِ وَالزَّوْجِ إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ المَسِيسِ عَلَى الشِّقْصِ المَمْهُورِ. قال الرافعي: المأخوذ منه هو المشتري، ومن في معناه، وفي ضبطه قيود: أحدها: كون ملكه طارئاً على ملك الآخذ، فإذا اشترى رجلان داراً معاً أو شِقْصاً من دار، فلا شفعة لواحد منهما على الآخر لاستوائهما في وقت ثبوت المِلْك. الثاني: كونه لازماً، وفيه ثلاث صور: إحداها: إن جرى البيع بشرط الخيار لهما، أو للبائع الخيار وحده، لم يؤخذ الشقص بالشفعة ما دام الخيار باقياً. أما على قولنا: الملك غير منتقل إلى المشتري، فظاهر. وأما على قول الانتقال، فلأن في أخذه إبطال خيار البائع، ولا سبيل للشفيع إلى الإضرار بالبائع، وإبطال حقه.
فرع
وعن صاحب "التقريب" احتمال على قولنا بانتقال الملكِ إلى المشتري، وإن شرط الخيار للمشتري وحده، فإن قلنا: الملك له، ففي أخذه بالشفعة قولان رواية الرَّبِيْعِ واختيار أبي إسحاق المنع، وبه قال مَالِكٌ وأحْمَدُ؛ لأن المشتري لم يَرْضَ بلزوم العقد، وفي الأخذ إلزام وإثبات للعهدة عليه. ورواية المُزَنِيِّ يؤخذ، وبه قال أبُو حَنِيفَةَ؛ لأنه لا حَقَّ فيه إلاَّ للمشتري، والشفيع مسلط عليه بعد لزوم الملك، واستقراره، فقبله أولى. وهذا أصح عند عامة الأصحاب، ونقل الإمام وصاحب الكتاب في المسألة طريقين: إحداهما: إثبات القولين هكذا، لكن قالا: هما مأخوذان من الخلاف الذي نذكره فيما بعد إذا اطلع المشتري على عيب بالشِّقْصٍ، وأراد ردّه، وأراد الشفيع أخذه، فعلى رأي للشفيع قطع خيار المشتري في الصُّورتين، وعلى رأي لا يمكن منه. والثاني: القطع بأنه لا يأخذه إلاَّ أن يلزم العقد، والفَرْقُ بين الرد بالعيب وبينه أن الآخذ بالشفعة يفتقر إلى استقرار العقد وتمامه. واعلم أن هذه الطريقة الثانية لا تكاد توجد في غير كتابنا، والذهاب على الطريقة الأولى إلى تخريج قولين من الخلاف في الرَّدِّ بالعيب بعيد، مع أن الجمهور حكوهما عن النص. ولو عكس، وقيل: الخلاف في الرد بالعيب مأخوذ من الخلاف هاهنا لكان أشبه، هذا إذا فرعنا على أن الملك للمشتري. أما إذا قلنا: إنه بعد للبائع، أو موقوف والمشتري منفرد بالخيار، فعن صاحب "التقريب" وجه أن الشفيع يأخذ الشقص لانقطاع سلطة البائع بلزوم العقد من جهته. والأصح: المنع؛ لأن ملك البائع غير زائل على التقدير الأول، وغير معلوم الزوال على الثاني، وعلى الأول إذا أخذه الشفيع تبينًّا أن المِلْكَ للمشتري قبل أخذه، وانقطع الخيار. فرع باع أحد الشريكين نصيبه بشرط الخيار، ثم باع الثاني نصيبه في زمان الخيار بيع بَتَاتٍ، فلا شُفْعَةَ في المبيع أولاً للبائع الثاني؛ لزوال ملكه، ولا للمشتري منه، وإن تقدم ملكه على ملك المشتري الأول إذا فَرَّعْنَا على أنه لا يملك في زمان الخيار؛ لأن سبب الشفعة البيع، وهو سابق على ملكه. وأما الشفعة في المبيع ثانياً فَمَوْقُوفَة، إن توقفنا في المِلْك، وللبائع الأول إن أبقينا
المِلْكَ له، وللمشتري منه، إن أثبتنا الملك له وعلى هذا قال في "التتمة": إن فسخ البيع قبل العلم بالشفعة بطلت شفعته. إن قلنا: إن الفسخ بخيار الشرط يرفع العقد من أصله. وإن قلنا: يرفعه من حينه، فهو كما لو باع مِلكَهُ قَبْل العلم بالشفعة، وإن أخذه بالشفعة، ثم فسخ البيع، فالحكم بالشفعة كالحكم في الزوائد الحادثة في زمن الخيار. الثانية: إذا وجد المشتري بالشِّقْص عيباً قديماً، فأراد ردّه وجاء الشفيع يريد أخذه ويرضى بكونه معيباً فيه قولان، ويقال: وجهان: أحدهما: أن الشفيع أولى بالإجابة, لأن حقه سابق على حق المشتري، فإنه ثابت بالبيع، ولأن الغزض للمشتري استدراك الظُّلامة، والوصول إلى الثمن، وهذا الغرض حاصل بأخذ الشفيع، ولأنا لو قدمنا المشتري بطل حق الشفيع بالكلية، ولو قدمنا الشفيع حصل للمشتري مثل الثمن أو قيمته. والثاني: أن المشتري أولى؛ لأن الشفيع إنما يأخذ إذا استقر العقد، وسلم عن الرد؛ لأنه قد يريد استرداد عَيْنَ ماله، ودفع عهدة الشِّقص عن نفسه، والأول أرجح عند الأكثرين، ومنهم من لا يذكر غيره، ولو رده بالعيب قبل مطالبة الشفيع، ثم جاء الشفيع طالباً فلا يجاب. إن قلنا: المشتري أولى عند اجتماعهما. لأن قلنا: الشفيع أولى فوجهان: أحدهما: لا يجاب لتقدم الرد، وفي الأظهر يجاب، ويفسخ الرد، أو نقول: تبينَّا أن الرد كان باطلاً، والخلاف في أن الشفيع أولى، أو المشتري جاز، كما إذا اشترى شِقْصاً بِعَبْدٍ، ثم وجد البائع بالعبد عيباً، فأراد رده، واسترداد الشقص، وأراد الشفيع أخذه بالشفعة، والمسألة مذكورة في الكتاب من بعد، وسنعود إليها. وحكى في "التهذيب" جريانه أيضاً فيما إذا اشترى شِقْصاً بعبد، وقبض الشقص قبل تسليم العبد، فتلف العبد في يده حتى تبطل شفعة الشفيع في وجه، ويتمكن من الأخذ في الثاني، كما لو تلف بعد أخذ الشفيع، فإن الشفعة لا تبطل، بل على الشفيع قيمة العبد للمشتري، وعلى المشتري قيمة الشقص للبائع. والذي أورده صاحب "الشامل" وغيره أنه إذا كان الثمن عيناً، وتلف قبل القبض بطل البيع والشفعة. الثالثة: ستعرف أن الشقص الممهور مأخوذ بالشفعة، فلو أصدقها شقصاً، ثم طلقها قبل الدخول، أو ارتد، وجاء الشفيع يريد أخذه بالشفعة، فله أخذ نصفه.
وأما النصف الآخر، فالزوج أولى به، أو الشفيع فيه وجهان، وكذلك إذا اشترى شقصاً، وأفلس بالثمن، فأراد البائع الفسخ، والشفيع الأخذ بالشفعة في الوجهان: أحدهما: أن الزوج، والبائع أولى بالإجابة لاستناد حقهما إلى ملك سابق، وأيضاً فإن البائع لم يرض بزوال الشقص، إلاَّ على أن يسلم له الثمن، فإذا لم يسلم وجب ألاَّ يؤخذ منه. وأصحهما: أن الشفيع أولى؛ لأن حقه ثبت بالعقد، وحق الزوج ثبت بالطلاق، وحق البائع بالإفلاس، وأسبق الحَقَّين أولى بالرعاية، ولأن منع الشفيع إبطال حقه، وإذا قدمناه لا يبطل حق الزوج والبائع، وإنما ينتقل إلى البدل، ولأن حق الشفيع أقوى من حق الزوج والبائع، ألا ترى أن الشفيع يبطل تصرف المشتري عند إفلاسه، ولا الزوجة تصرف الزوج. وقال الشيخ أبُو عَلِيٍّ: والوجهان مبنيان على القولين فيما إذا كان الخيار للمشتري وحده، وأراد الفسخ، والشفيع أراد أخذه بالشفعة، وقد قدمناهما. وذكر الإمام، وصاحب "التهذيب" أن الوجهين متولدان من جواب ابْنِ الحَدَّادِ في الصورة الأولى أن الشفيع أولى، وجواب أبي إسحاق في الثانية بأن تصرف البائع أولى، وتصرف من بعدهما من الأصحاب في كلامهما، وجعلوا الصورتين على جوابين بالنقل والتخريج، وقطع بعضهم بجواب ابْنِ الحَدَّادِ في الصورة الأولى، وبجواب أبي إسحاق في الثانية. والفرق أن الثابت للزوج بالطلاق الملك، والشفيع ثبت له ولاية التملك لا نفس الملك، فكان الزوج أولى بالتقديم، وفي الصورة الأخرى الثابت للبائع والشفيع معاً ولاية التملك، لكن الشفيع أسبق حقًّا، فهو أولى بالتقديم، وإذا قدمنا الشفيع في صورة الإفلاس، فأظهر الوجوه وبه قال ابْنُ الحَدَّاد أن الثمن المأخوذ من الشفيع مقسوم بين الغرماء كلهم؛ لأن حق البائع إذا انتقل عن العَيْنِ إلى الذمة التحق بسائر الغرماء. والثاني: ويحكى عن ابْن سُرَيْجٍ أنه يقدم البائع بالثمن رعاية للجانبين. والثالث: أنه إن كان البائع سلم الشقص، ثم أفلس المشتري لم يكن أولى بالثمن لرضاه بذمة المشتري، وإن لم يسلمه فهو أولى بالثمن، والطريقان جاريان فيما إذا اقتضى الحال عود كل الصداق إلى الزوج لردة، أو فسخ قبل الدخول، هذا إذا اجتمع الشفيع مع الزوج أو البائع. أما لو أخذ الشفيع الشقص من يد الزوجة، ثم طلق الزوج، أو من يد المشتري، ثم إنه أفلس، فلا رجوع للزوج والبائع إلى الشفيع بحال لكن ينتقل حق البائع إلى
الثمن، وحق الزوج إلى القيمة في مالها، كما لو زال الملك ببيع أو غيره، ولو طلقها قبل علم الشفيع، وأخذ النصف، ثم جاء الشفيع، ففي استرداد ما أخذه الزوج وجهان، كما إذا جاء بعد الرد بالعيب. وحكى الإمام طريقة أخرى قاطعة بالمنع؛ لأن المهر يتشطر بالطلاق من غير اختيار، فيبعد نقصه. وإن قلنا: يسترده أخذه وما بقي في يدها، وإلاَّ أخذ ما في يدها، ودفع إليها نصف مهر المثل، ولو كان للشقص الممهور شفيعان، فطلبا وأخذ أحدهما نصفه، وطلقها قبل أن يأخذ الآخر، فلا يأخذ الزوج النصف الحاصل في يد الشفيع. وأما النصف الآخر فهو أولى، أم الشفيع فيه الخلاف السابق، ويجري فيما إذا أخذ الشفيعين من يد المشتري، ثم أفلس. فإن قلنا: الشفيع أولى ضارب البائع مع الغرماء بالثمن. وإن قلنا: البائع أولى، فإن شاء أخذ النصف الباقي، وضارب مع الغرماء بنصف الثمن إلاَّ تركه وضارب بجميع الثمن. قال الغزالي: وَاحْتَرَزْنَا بِالمُعَاوَضَةِ عَنْ مِلْكٍ حَصَلَ بِهِبَةٍ أَوْ إرْثٍ رَجَعَ بِإقَالَة أَوْ رُدَّ بِعَيْبٍ، فَلاَ شُفْعَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَتَثْبُتُ (ح) الشُفْعَةُ فِيمَا جُعِلَ أُجْرَةَ فِي إِجَارَةٍ، أَوْ صَدَاقاً فِي نِكَاحٍ، أَوْ عِوَضاً فِي كِتَابَةٍ أَوْ خُلْعٍ أَوْ صُلْحٍ عَنْ دَمٍ عَمْدٍ أَوْ عَنْ مُتْعَةِ نِكَاحٍ، وَلَوْ بَذَلَ المُكَاتَبُ شِقْصاً عِوَضاً عَنْ نُجومِهِ ثُمَّ عَجَزَ وَرُقَّ فِفِي الشُفْعَةِ خِلاَفٌ إِذْ خَرَجَ عَنْ كَوْنهِ عِوَضاً، وَلَوْ أَوْصَى لِمُسْتَوْلَدَتِهِ بِشْقصٍ إِنْ خَدَمَتْ أَوْلاَدَهُ شَهْراً فَفِيِه خِلاَفٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الوَصيَّةِ وَالمُعَاوَضَةِ. قال الرافعي: القيد الثالث في ضبط المأخوذ منه أن يكون ملكه حاصلاً بمعاوضة، فيخرج عنه ما إذا ملك بإرث، أو هبة (¬1)، أو وصية، فإنه لا يؤخذ بالشفعة. أما الإرث فلأن الوارث لا اختيار له في حصول الملك، بخلاف ما إذا ملك اختيارًا، فإنه كان من حقه إلاَّ يدخل على الشريك، ولا يضربه، فإذا لم يفعل سلط الشريك عليه. وأما الهبة والوصية فلأن المتهب والموصى له تقلدا لمنة من الواهب والموصي بقبول تبرعهما, ولو أخذ الشفيع لأخذ عن استحقاق، ولو تسلّط فلا يكون متقلداً ¬
للمِنَّةِ، ووضع الشفعة على أن يأخذ الشفعة بما أخذ به المتملك، ولو وهب بشرط الثواب، أو مطلقاً، وقلنا: إنه يقتضى الثواب فوجهان: أصحهما: أنه يؤخذ بالشفعة؛ لأنه مملوك بعقد معاوضة. والثاني: لا يؤخذ؛ لأنه ليس المقصود منه المعاوضة، وعلى الأول ففي أخذه قبل قبض الموهوب وجهان: أظهرهما: الأخذ: لأنه صار بيعاً. والثاني: لا؛ لأن الهبة لا تتم إلاَّ بالقبض، وهذا هو الخلاف في أن الاعتبار باللفظ، أو المعنى، ولو اشترى شقصاً، ثم تقايلا، فإن كان الشفيع قد عَفَا، فتجدد الشفعة ينبني على أن الإقالة فسخ، أم بيع. إن قلنا: بيع تجددت، وأخذه من البائع. وإن قلنا: فسخ لم تتجدد، كما لا تتجدد بالرد بالعيب؛ لأن الفسوخ، وإن كانت تشتمل على تراد العوضين، فلا تعطى أحكام المعاوضات، أَلاَ تَرَى أنه يتعيَّن فيها العوض الأَول، وإن جرت الإقالة قبل علم الشفيع بالشفعة، فإن جعلنا الإقالة بيعاً، فالشفيع بالخيار بَيْنَ أن يأخذها، وبين أن ينقضها، حتى يعود الشقص إلى المشتري، فيأخذ منه، وإن جعلناها فسخاً، فهو كطلب الشفعة بعد الرد بالعيب، وقد سبق، ويدخل في الضبط ما إذا جعل الشقص أجرة في إجارة، أو جُعْلًا في جعالة أو رأس مال في سلم، أو أصدق امرأته شقصاً، أو متعها به، أو خالعها على شقص أو صالح عليه على مال، أو دم، أو جراحة أو جعله المُكَاتب عوضاً عن النجوم، فتثبت الشفعة في ذلك كله، خلافاً لأبي حنيفة، حيث قال: لا تثبت الشفعة إلاَّ في الشراء وهو رواية عن أَحْمَدَ. لنا قياس ما عداه عليه بجامع أنه مملوك بعقد معاً وضعه، ولو أقرضه شقصاً. قال في "التتمة": القرض صحيح، وللشفيع أخذه إذا ملكه المستقرض، وإنما تثبت الشفعة في الجُعَالة بعد العمل، فإن الملك حينئذ يحصل للعامل ثم في الفصل فرعان: أحدهما: لو بذل المكاتب شقصاً عوضاً عن بعض النجوم، ثم عجز ورَقَّ، ففي بطلان الشفعة وجهان، ينظر في أحدهما إلى أنه كان عوضاً أولاً، وفي الثاني خروجه أجرًا عن العوضية، وهذا أظهر، والخلاف شبيه بما ذكرنا فيما إذا كان الثمن عيناً، وتلف قبل القبض. الثاني: لو قال لمستولدته إنْ خدمت أولادي شهراً فلك الشقص، فخدمتهم
استحقت الشقص، وفي ثبوت الشفعة فيه وجهان: أحدهما: تثبت؛ لأنها ملكته بالخدمة، فكان كالمملوك بالإجارة، وسائر المعاوضات. وأظهرهما: المنع؛ لأنها معتبرة من الثلث، كسائر الوصايا، وذكر الخدمة شرط داخل على الوصية (¬1). وقوله في الكتاب "عن ملك حصل بهبة" أعلم لفظ "الهبة" -بالميم- لأنه روى في "الوسيط" عن مالك أنه يأخذ الموهوب بالقيمة، وهذه إحدى الروايتين عنه فيما ذكره في "الشامل". وقوله: "أو رجع بإقالة" معلّم -بالواو- ولما ذكرنا، ويجوز أن يعلّم -بالحاء- لأن صاحب "الشامل" حكى عن أبي حَنِيْفَةَ ثبوت الشفعة فيه، وكذا في الرد بالعيب إذا جرى بالتراضي. وقوله: "تثبت الشفعة فيما جعل أجرة" معلّم -بالحاء- يجوز أن يعلم بالواو؛ لأن في "أمالي" أبي الفرج السَّرْخَسِيِّ أن صاحب "التلخيص" قال: إذا كان يقابل الشقص مما لا يثبت في الذمة بالسلم، ولا بالقرض، فلا شفعة فيه؛ لأنه تعذر أخذه بما ملك به المتملك، وهو غريب. وقوله: "أو صلح عن دم عمد" ربما يبحث فيه عن سبب التقييد بالعمدية، واعلم أن الجناية على النفس فما دونها تنقسم إلى مالا يوجب القصاص، والقول في صحة الصُّلْح عن موجبها ما ذكرناه في كتاب "الصُّلْح"، وإلى ما موجبه، والصلح هاهنا مبني على الخلاف في أن موجب العمد ماذا؟ فإذا تأملت القسمين وجدت صحة الصُّلْح عما يوجب القصاص أظهر وأعم، فيمكن أن يكون ذلك سبب التقييد بالعمدية التي هي مناط القصاص. وقوله: "ولو بذل المكاتب شقصاً عوضاً عن نُجُومِهِ" أشار به إلى أن نفس الشِّقْص لا يمكن الكتابة عليه؛ لأنه لا يثبت في الذمة بعقود المعاوضات، والمعين لا يملكه العبد، وهذا هو المراد بقوله قبله: "أو عوضاً في كتابه". قال الغزالي: وَلَو اشْتَرَى الوَصِيُّ لِلطِّفْلِ وَهُوَ شَرِيكٌ أَخَذَ (و) بِالشُّفْعَةِ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ ¬
بَاعَ شِقْصَ الطِّفْلِ لَمْ يأَخُذْهُ (و)؛ لأنَّهُ مُتَّهمٌ كَمَا لَوْ بَاعَ مِنْ نَفْسِهِ، وَالأَبُ يَأَخُذُ فِإِنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَم، وَلِذَلِكَ يَبِيعُ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ فِي الدَّارِ شَرِكَةٌ أُخْرَى قَدِيمَةٌ فَيَتْرُكُ (و) عَلَيهِ مَا يَخُصُّهُ وَلَوْ كَانَ المُشْتَرِي غَيْرَهُ. قال الرافعي: فيه مسألتان: الأولى: إذا باع الوصي، أو القَيِّم شقصاً للطفل، وهو شريك فيه، فأصح الوجهين وبه قال ابْنُ الحَدَّادِ، وهو المذكور في الكتاب: أنه ليس له أخذه بالشفعة؛ لأنه لو تمكَّن منه لم يؤمن أن يترك النظر والاستقصاء للصبي، ويتسامح في البيع ليأخذ بالشفعة بالثمن البخس، وهذا كما أنه لا يتمكن من بيع ماله من نفسه. والثاني: عن رواية صاحب "التقريب" وبه قال أّبُو الحُسَينِ ابْنُ القَطَّانِ: أن له الأخذ؛ لأنه حق ثبت له على المشتري بعد تمام العقد، وانقطاع ملك الطفل. ولو اشترى شقصاً للطفل، وهو شريك في العقار، فالمشهور أنه يأخذ؛ لأنه لا تهمه هاهنا إذ لا يزيد في الثمن ليأخذ به. ونقل في "الشامل" وجهاً آخر؛ لأن الشراء أو الأخذ تعليق عهده بالصبي من غير منفعة له، وللأب والجد الأخذ بالشفعة إذا كانا شريكين، سواء باعا، أو اشتريا لقوة ولايتهما وشفقتهما، ولهذا كان لهما بيع مال الطفل من أنفسهما، ولو كان في حجر الوصي يتيمان بينهما دار فباع نصيب أحدهما من رجل، فله أخذه بالشفعة للثاني؛ لأن الأول قد يحتاج إلى البيع، والثاني إلى الأخذ، ولو وكل أحد شريكي الدار صاحبه ببيع نصيبه فباعه، ففي الشفعة وجهان أيضاً. لكن الشيخ أَبَا عَلِيٍّ قال: إن الأثرين هاهنا عل أنه يأخذ؛ لأن الموكل ناظر لنفسه، يعترض ويستدرك إن عثر على تقصير من الموكل، والصبي عاجز عن ذلك، فَيُصَانُ حقه عن الضياع. ولو وكل إنسان أحد الشريكين بشراء شقص من الآخر، فله الأخذ بلا خلاف. وقال أَبُو حَنِيْفَةَ: في الوكيل والوصي معا تثبت الشفعة في الشراء، ولا تثبت في البيع. ولو وكل الشريك الشريك ببيع نصف نصيبه، أو أذن له في بيع نصيبه، أو بعض نصيبه مع نصيب الموكل إن شاء، فباع نصف نصيب الموكل مع نصف نصيبه صفقه واحدة، فللموكل أخذ نصيب الوكيل بالشفعة، وهل للوكيل أخذ نصيب الموكل فيه وجهان: المسألة الثانية: إذا كان للمشتري في الدار شركة قديمة، بأن كان بين ثلاثة أثلاثاً،
فباع أحدهم نصيبه من أحد الآخرين، فأصح الوجهين، وهو المذكور في الكتاب، وبه قال أبُو حَنِيْفَهَ وَالمُزَنِيُّ أن المشتري والشريك الآخر يشتر كان في البيع، لاستوائهما في الشركة كما لو كان المشتري غيره. وعن ابْنِ سُرَيْجٍ أن الشريك الثالث ينفرد بالشفعة، ولا حق فيه للمشتري؛ لأن الشفعة تستحق على المشتري، ولا يجوز أن يستحقها على المشترى، ولا يجوز أن يستحقها المشترى على نفسه، فعلى هذه الثالث بالخيار بين أن يترك جميع المبيع، أو يأخذ الجميع، وعلى الأصح هو بالخيار بين أن يأخذ نصف المبيع، أو يترك. فإن قال: خذ الكل، أو اترك الكل، وتركت أنا حقى لم تلزمه الإجابة، ولم يصحّ إسقاط المشترى الشفعة؛ لأن مِلْكَهُ مستقرٌ على النصف بالشراء، فأشبه ما إذا كان للشقص شفيعان: حاضر وغائب، فأخذ الجميع الحاضر، ثم عاد الغائب له أن يأخذ نصفه، وليس للحاضر، أن يقول له: اترك الكل، أخذ الكل، وأنا تركت حقي، ولا نظر إلى تبعُّض الصفقة عليه، فإنه يلزمه دخوله في هذا العقد. وعن رواية الشيخ أَبِى عَلِيٍّ وجه: أنه إذا ترك المشتري حقه وجب على الآخر الكل، أو ترك كما إذا باع من أجنبى، وله شفيعان، فترك أحدهما حقه يأخذ الآخر الكل، أو يترك، إلاَّ أن هذا الترك سابق على اختيار التملك هاهنا، وفيما نحن فاختيار التملك بالشراء، فلم يؤثر الإعراض بعده. ولو كان بين اثنين دار، فباع أحدهما نصف نصيبه من ثالث، ثم باع النصف الثاني من ذلك الثالث، فعلى الأصح حكمه حكم ما لو باع النصف الثاني من أجنبى، وهو المذكور في الباب الثاني. وعلى ما ذكره ابْنُ سُرَيْجٍ لا شفعة للمشتري، فللشفيع الخيار بين أن يأخذ الكل، أو يأخذ أحد النصفين دون الآخر. وإذا عرفت ما ذكرناه أعلمت قوله في الكتاب: "أخذ بالشفعة لنفسه" بالواو. وكذا قوله: "لم يأخده لأنه متهم". وكذا قوله: "فيترك عليه ما يخصه". قال الغزالي: وَلَوْ بَاعَ المَرِيضُ شِقْصاً يُسَاوِي أَلفْينِ بألْفٍ مِنْ أَجْنَبِيّ وَالوَارِثُ شَرِيكٌ فَلاَ يأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ لأَنَّهُ يَصِلُ إِلَيْهِ المُحَابَاةُ، وَقِيلَ: يأْخُدُ لأَنَّ المحَابَاةَ مَعَهُ لَيْسَتَ مِن المَرَيضِ، وَقِيلَ: لاَ يَصِحُّ البَيْعُ لِتنَاقُضِ الإِثْبَاتَ والنَّفْيِ جَمِيعاً، وَقِيلَ: يأْخُدُ الوَارِثُ بِقَدْرِ قِيمَة الأَلْفِ وَالبَاقِي يَبقْى لِلمُشْتَرِي مَجَّاناً. قال الرافعي: إذا باع في مرض موته شقصاً وحابى، فلا يخلو إما أن يكون
المشتري والشفيع أجنبيين، أو وارثين، أو المشتري وارثاً، والشفيع أجنبيّاً، أو بالعكس، والمذكور في الكتاب هو القسم الرابع، ونحن نذكر أربعتها: الأول: أن يكونا أجنبيين، فإن احتمل الثلث المحاباة، صح البيع، وأخذ الشقص بالشفعة، ولا إشكال، وإن لَمْ يحتمله، كلما إذا باع شقصاً يساوي ألفين بألف، ولا مال له غيره، نظر أن رده الورثة بطل البيع في بعض المحاباة، وفي صحته في الثاني طريقان: أحدهما: التخريج على الخلاف في تفريق الصفقة. والثاني: القطع بالصحة. وإذا قلنا بالصحة، ففيما يصح فيه البيع قولان: أحدهما: أنه يصح في قدر الثالث، قدر الثالث، والقدر الذي يوازي الثمن بجميع الثمن. والثاني: أنه لا يسقط شيء من المبيع، إلاَّ ويسقط ما يقابله من الثمن، وقد وجَّهنا كل واحد من الطريقين والقولين، وتكلمنا فيما هو الأظهر في تفريق الصفقة. فإن قلنا، بالقول الأول صحَّ البيع في الصورة المفروضة في خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن. وإن قلنا، بالثاني دارت المسألة، وحسابها أن يقال: صحَّ القول في شيء من الشقص بنصف شيء يبقى مع الورثة ألفان، إلاَّ نصف شيء، وذلك يعدل مثلي المحاباة، وهو نصف شيء، فتلاها شيء فيجبر ويقابل فيكون ألفان معادلين لشيء، ونصف الشيء من شيء، ونصف ثلثاه فعلمنا أن البيع صحيح في ثلثي الشقص قيمته ألف وثلاثمائة وثلاث وثلاثون وثلث مثلي الثمن، وهو نصف هذا المبلغ، فتكون المحاباة ستمائة وستة وستين وثلثي المثل يبقى للورثة ثلثا الشقص، وثلثا الثمن، وهما ألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث، وذلك ضعف المحاباة، وعلى القولين جميعاً للمشتري الخيار؛ لأن جميع المبيع لم يسلم له، فأما إذا أجاز أخذ الشفيع خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن على القول الأول، ويبقى بثلثي الثمن على الثاني ولو أراد أن يفسخ، وجاء الشفيع فمن المجاب منهما؟. فيه الخلاف المذكور في الرد بالعيب. وكذلك لو فسخ قبل طلب الشفيع تبطل الشفعة، أم للشفيع رد الفسخ؟. فيه ما سبق من الخلاف، وإن أجاز الورثة صح البيع في الكل، ثم إن قلنا: إن أجازتهم كما فعله المورث أخذ الشفيع الكل بكل الثمن. وإن قلنا: إنها ابتداء عطية منهم لم يأخذ الشفيع القدر النافذ بإجازتهم، وأخذ القدر المستغنى عن إجازتهم، وفيه القولان المذكوران عند الرد.
القسم الثاني والثالث: أن يكونا وارثين، أو المشتري وارثاً فيكون هذا البيع محاباة مع الوارث، وهي مردودة، فإن لم نفرق الصفقة بطل البيع في الكل، فإن فرقناها قلنا في القسم الأول والتصوير ما سبق أن البيع يصح في خمسة أسداس الشقص بجميع الثمين، فهاهنا في مثل تلك الصورة يصح البيع في نصفه بجميع الثمن. وإن قلنا: هناك يصبح في ثلثيه بثلثي الثمن فهاهنا يبطل البيع في الكل هكذا ذكره القَفَّالُ وغيره، وعلله في "التهذيب" بأن البيع لا يبطل في شيء إلاَّ ويسقط بقدره من الثمن، فما من جزء يصح فيه البيع إلاَّ ويكون بعضه محاباة وهي مردودة، ولك هنا كلامان: أحدهما: أن المفهوم من هذا التوجيه شيوع المعاوضة والمحاباة في جميع الشقص، وذلك لا يمنع تخصيص قدر المحاباة بالإبطال، ألا تَرَى أنه لم يمنع في القسم الأول تخصيص ما وراء القدر المحتمل من المحاباة والإبطال. والثاني: أن الوصية للوارث موقوفة على إجازة باقي الورثة على رأي، كما أن الوصية بما زاد على الثلث لا تنفذ من غير إجازة الورثة على رأي، فليفرق هاهنا بين الإجازة، والرد كما في القسم الأول. والرابع: أن يكون الشفيع وارثاً دون المشترى، فإذا احتمل الثلث المحاباة، أو لم يحتمل، وصححنا البيع في بعض المحاباة في القسم الأول، ومكنا الشفيع من أخذه فهاهنا وجوه: أحدها: أنه لا يصح البيع كذلك، ولا يأخذه الوارث بالشفعة. أما صحة البيع فلأن المشتري أجنبي، وأما منع الشفعة فلأنها لو ثبتت أكله المريض بسبب أن ينفع الوارث بالمحاباة؛ لأن الشفعة تستحق بالبيع. والثاني أنه يصح، ويأخذه (¬1) بتملك على المشتري، ولا محاباة معه من المريض. والثالث: أنه لا يصح البيع أصلاً لأنه لو صحَّ لتقابلت فيه أحكام متناقضة؛ لأنا إن لم نثبت الشفعة أضررنا بالشفيع، وإن أثبتناه أوصلنا إليه المحاباة، وهذا ما عناه بقوله: "لتناقض الإثبات والنفي جميعاً". والرابع: يصح في الجميع، ويأخذ الشفيع ما يوازي الثمن منه، ويبقى الباقي للمشتري مجاناً؛ لأن المحاباة مع الأجنبي دون الوارث، فيجعل كأنه باع الشَّقْص منه، ووهب بعضه فيأخذ المبيع دون الموهوب. ¬
والخامس: أنه لا يصح البيع في القدر الموازي للثمن؛ لأنه لو صح في الكل فإن أخذه الشفيع وصلت إليه المحاباة، وإن أخذ ما وراء قدر المحاباة كان إلزاماً بجميع الثمن ببعض المببع، وهو على خلاف وضع الشفعة. وقد يقال في العبارة عن هذا الوجه: إن ترك الشفيع الشفعة صحت المحاباة مع المشتري، وإلاَّ فهو كما لو كان المشتري وارثاً فلا تصح المحاباة. والأوجه الأربعة الأخيرة تحكى عن ابْنِ سُرَيْجٍ. وأصح الخمسة عند الأكثرين منهم أَبُو عَلِيٍّ صاحب "الإفصاح"، والعراقيون، والاستاذ أَبُو مَنْصُورٍ، والإمام، وصاحب "التهذيب" إنما هو الثاني، والأول ابْنِ الصَّبَّاغِ وهو قضية إيراده في الكتاب، ويحسن أن يرتب، فيقال: في صحة البيع وجهان: إن صح فيصح في الجميع، أو فيما وراء قدر المحاباة وجهان: إِن صح في الجميع بالشفعة، أو وراء قدر المحاباة أولا يأخذ شيئاً فيه ثلاثة أوجه. قال الغزالي: وَلَوْ تَسَاوَقَ شَرِيكَان إِلىَ مَجْاِسِ الحُكْمَ وَزَعَمَ كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّ شِرَاءَ الآخَرِ مُتأَخِّرٌ وَلَهُ الشُّفْعَةُ فَالقَوْلُ قَوْلُ كُلَّ وَاحِدٍ في عِصْمِةِ مِلْكِهِ عَنِ الشُّفْعَةِ، فَإِنْ تَحَالَفَا أَوْ تَنَاكَلاَ تَسَاقَطَا، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا ونَكَلَ الآخَرُ قَضَيِ لِمَنْ حَلَفَ. قال الرافعي: ذكرنا من قبل أن تقدم ملك الآخذ على ملك المأخوذ منه شرط في الشفعة، فلو كانت في يد رجلين دار شرياها بعقدين، وادعى كل واحد منهما أن شراءه كان قبل شراء صاحبه، وأنه يستحق الشفعة عليه، نظر إن ابتدأ أحدهما بالدعوى، أو جاءا معاً وتنازعا في البدء، فقدم أحدهما بالقرعة وادعى، فعلى الآخر الجواب، ولا يرضى منه الجواب بأن يقول: بل شرائى أسبق، فإنه ابتداء دعوى، بل إما أن ينبغي سبق شراء المدعي، أو يقول: لا يلزمني تسليم شيء إليك. وحينئذ يحلف فإن استقر حلف ملكه، ثم تسمع دعواه على الأول، فإن حلف استقر ملكه أيضاً، وإن نكل المدعى عليه أولاً ردت اليمين على المدعي، عليه، فحلف أخذ ما في يد المدعى عليه، وليس عليه النكل بعد ذلك أن يدعى عليه لأنه، لم يبق له ملك يأخذ به الشفعة، وإن نكل المدعي عن اليمين المردودة سقطت دعواه، وللمدعى عليه أن يدعى عليه، هذا إذا لم يكن لواحد منهما بِيِّنَة. أما إذا أقام أحدهما البَيِّنَةَ على السبق دون الآخر قضى له، وإن أقام كل واحد منهما بينة على سبق شرائه مطلقاً، أو على أنه اشترى يوم السبت وصاحبه اشترى يوم الأحد، فهما متعارضتان، وفي تعارض البيتين قولان:
الباب الثاني في كيفية الأخذ
أحدهما: أنهما يتساقطان، فكأنه لا بينة لواحد منهما. والثاني: أنهما يستعملان، وفي كيفيته أقوال: أحدها: القرعة، فعلى هذا فمن خرجت قرعته أخذ نصيب الآخر بالشفعة. والثاني: القسمة، ولا فائدة لها هاهنا إلاَّ أن تكون الشركة بينهما على التفاوت فيكون النصف مقيداً. والثالث: الوقف، وعلى هذا يوقف حق التملك إلى أن يظهر الحال. ومنهم من لم يجر قول الوقف هاهنا وقال: لا معنى للوقف كون الدار في يدهما، ولو عينت كل واحدة من البينتين وقتاً واحداً، فلا تنافي بينهما لاحتمال وقوع العقدين معاً، ولا شفعة لواحد منهما؛ لأنا تَبَيَّنَّا وقوع العقدين معاً. وفيه وجه: أنهما يسقطان؛ لأن واحدة منهما لم تتعرض لمقصود مقيمها، فكأنه لا بينة. البَابُ الثَّانِي فِي كَيْفِيَّةِ الأَخْذِ قال الغزالي: وَالنَظَّرُ فِي أَطْرَافٍ ثَلاَثَةٍ: الأَوَّلُ فِيمَا لاَ يُمَلَكُ بِهِ فَلاَ يُمْلَكُ بِقَوْلِهِ: أَخَذْتُ وَتَمَلَّكْتُ، وَلَكِنْ يُمْلَكُ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ المُشْتَرِي بِهِ، أَوْ بِتَسْلِيمِ المُشْتَري الشَّقْصَ إِلَيْهِ رِضْاً بِكَوْنِ الثَمَّنِ في ذِمَّتِهِ، وَهَلْ يَمْلِكُ بِمُجَرَّدِ رِضَا المُشْتَرِي دُونَ التَّسْلِيمِ، أَوْ بِقَضَاءِ القَاضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ عِنْدَ الطَّلَبَ، أَوْ بِمُجَرَّدِ الإِشْهَادِ عَلَى الطَّلَبِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ، الأظْهَرُ: أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ. قال الرافعي: حق الشفعة قد يثبت لواحد، وقد يثبت لجماعة، وعلى التقديرين فلا شك أن الأخذ بها ضرب تملُّك بعرض، فالحاجة إلى بيان ما يحصل به الملك، وبيان العوض المبذول، وبيان الأحكام العارضة باعتبار تعدُّد المستحق، فعقد لهذه الأمور أطرافاً: فأما الأول: فلا يشترط في التمليك بالشفعة حكم الحاكم، ولا إحضار الثمن، ولا حضور المشتري ورضاه. أما الأول: فلأنه ثابت بالنص فيستغني عن حكم الحاكم. وأما الثاني: فلأنه تملك بعوض، فلا يفتقر إلى إحضار العوض كالبيع. وأما الثالث: فلما ذكرنا في الرَّد بالعيب. وعند أبي حَنِيْفَةَ يعتبر حضور المشتري، أو حكم الحاكم، ولا يحكم الحاكم، إلاَّ إذا حضر الثمن.
وعن الصعلوكي أن حضور المأخوذ منه، أو وكيله شرط، ولا بد من جهة الشفيع من لفظ كقوله: تملكت، أو اخترت الأخذ بالشفعة، أو أخذته بالشفعة، وما أشبه ذلك، وإلاَّ فهو من باب المُعَاطاة، ولا يكفي أن يقول: لي حق الشفعة، وأنا مطالب بها؛ لأن المطالبة ركبة في التملك، والملك لا يحصل بالركبة المجردة، هكذا ذكره في "التتمة". وفي أمالي أبِي الفَرَجِ السَّرْخَسِيِّ أن الطلب يكفي سبباً لثبوت التملك، ولا يقف على قوله: تملكت، الأول، والأول أظهر، وكذلك قالوا: يعتبر في التملك أن يكون الثمن معيوماً للشفيع، ولم يشترطوا ذلك في الطلب، وينبغي أن يكون في صحة التملك مع كون الثمن مجهولاً ما ذكرناه في بيع المرابحة. وفي "التتمة" إشارة إلى نحو من هذا، ثم لا يملك الشفيع بمجرد اللفظ، بل يعتبر مع ذلك أحد أمور: الأول: أن يسلم العوض إلى المشتري، فيملك به إن سلمه، وإلاَّ خلى بينه وبينه، أو رفع الأمر إلى القاضي حتى يلزمه التسليم. والثاني: أن يتسلم المشتري الشقص، ويرض يكون الثمن في ذمته، نعم لو باع شقصاً من دار عليها صَفَائِحُ ذهب بالفضة، أو بالعكس وجب التقايض، ولو رضي يكون الثمن في ذمته، ولم يسلم الشقص فوجهان: أحدهما: أنه لا يحصل الملك، وقول المشتري ما لم يتصل به القبض في حكم وعد. وأصحهما: الحصول؛ لأنه معاوضة، والملك في المعاوضات لا يتوقف على القبض. والثالث: أن يحضر مجلس القاضي، ويثبت حقه في الشفعة، ويختار التملك، فيقضي القاضي له بالشفعة، وفيه وجهان: أحدهما: أنه لا يحصل الملك، ويستمر ملك المشتري إلى أن يصل إليه عوضه، أو يرضى بتأخره. وأصحهما: الحصول؛ لأن الشرع نزل الشفيع منزلة المشتري، كان العقد له، إلاَّ أن يتخير بين الأخذ والترك، فإذا طلب وتأكد طلبه بالقضاء، وجب أن يحكم له بالملك. والرابع: أن يُشْهَدَ عدلين على الطلب، فإن لم نثبت الملك بحكم القاضي فهاهنا أولى، وإن أثبتناه فوجهان لقوة قضاء القاضي.
وقوله في الكتاب: "والأظهر أنه لا يملك" بمقتضى ترجيع الوجه الصائر إلى عدم حصول الملك بالقضاء والإشهاد، وفيما إذا رضي المشتري أن يكون الثمن في ذمة الشفيع، وإن لم يستلم الشقص، لكن جواب الاكثرين في هذه الصورة، وفي صورة قضاء القاضي بالشفعة أنه يثبت الملك، وإذا ملك الشفيع الشقص بغير الطريق الأول لم يكن له أن يتسلمه حتى يؤدي الثمن، وإن سلمه المشتري قبل أداء الثمن، ولا يلزمه أن يؤخر حقه، وإن أخر البائع حقه، وإذا لم يكن الثمن حاضراً وقت التملك، أمهل ثلاثة أيَّام، فإن انقضت، ولم يحضره فسخ القاضي تملكه، هكذا حكى عن ابن سُرَيْجٍ، وساعده المعظم. وفيه وجه آخر: أنه إذا قَصَّر في الأداء بطل حقّه، وإن لم يؤخذ رفع إلى الحاكم، وفسخ به. قال الغزالي: وَهَلْ يَلْتَحِق هَذَا التَّمْلِيكُ بِالشِّرَاءِ في ثُبُوتِ خِيَارِ المَجْلِسِ للِشَّفِيَعِ وامْتِنَاعِ التَّصَرُّفِ في الشِّقْصِ قَبْلَ القَبْضِ، وَامْتِنَاعُ التَّمَلُّك دُونَ رُؤْيَةِ الشِّقْصِ؟ فيه خِلافٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُشْبِهُ البَيْعَ فِي كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً ويُخَالِفُهُ فِي أَنَّه لاَ تَرَاضِي فِيهِ. قال الرافعي: فيه ثلاث صور (¬1): إحداها: في ثبوت خيار المجلس للشفيع، فيه خلاف ذكرناه في البيع. والأظهر: الثبوت، ويحكى ذلك عن نَصَّهِ في "اختلاف العِرَاقِيِّين"، وعلى هذا فيمتد إلى مفارقته المجلس، وهل ينقطع بأن يفارقه المشتري؟ فيه وجهان: وجه المنع: أنه لاحَظَّ له في الخيار، فلا اعتبار بمفارقته (¬2). الثانية: إذا ملك الشفيع امتنع تصرف المشترى، وإن طلبه ولم يثبت الملك بعد لم يمتنع وأبدى الإمام فيه احتمالاً لتأكُّد حقَّه بالطلب، وحكى فيه وجهين في نفوذ تصرف الشفيع قبل القبض إذا كان قد سلم الثمن: ¬
أظهرهما: المنع، كتصرف المشتري قبل القبض. ووجه الثاني كونه قهرياً كالإرث قال: ولو ملك بالإشهاد، أو قضاء القاضي لم ينفذ تصرف، وكذا لو تملك برضا المشترى لكون الثمن عنده، والقياس التسوية. الثالثة في تملك الشفيع الشقص الذي لم يكره طريقان: أظهرهما: أنه على قولي بيع الغائب، إن منعناه لم يتملكه قبل الرؤية، وليس للمشتري منعه من الرؤية، وإن صححناه، فله التملُّك، ثم منهم من جعل خيار الرؤية على الخلاف في خيار المجلس ومنهم من قطع به، وقال: المانع هناك على رأي بعد اختصاص ذلك الخيار بأخذ الجانبين. والثاني: المنع، سواء صححنا بيع الغائب أو أبطلناه، ولأن البيع بالتراضي فأثبتنا الخيار فيه، وهاهنا الشفيع يأخذ من غيره رضا المشترى، فلا يمكن إثبات الخيار فيه، نعم لو رضي المشترى بأن يأخذه الشفيع ويكون بالخيار، فيكون بالخيار على قولي بيع الغائب، ويحكى هذا الطريق عن ابنِ سُرَيْجٍ، وإذا جوزناه له التملُّك، وأثبتنا الخيار فيه، فللمشتري أن يمتنع من قبض الثمن، وإقباض المبيع حتى يراه ليكون على ثقة فيه. وقوله: "حيث إنه يشبه البيع ... " إلى آخره توجيه لطرفي الخلاف في المسائل الثلاث والأظهر التحاقه بالشراء، وكذلك يرد الشفيع بالعَيْبِ، ولو أفلس وكان المشتري سلم الشقص إليه راضياً بذمته يجوز له الاسْتِرْدَادُ. قال الغزالي: الطَّرَفُ الثَّانِي، فِيمَا يُبْدَلُ مِنَ الثَّمَنِ، وَعَلَى الشَّفِيعِ بَذْلُ مِثْلِ مَا بَذَلَهُ المُشْتَرِي إِنْ كَانَ مِثْلِيّاً أَوْ قِيمَةَ (و) يَوْمِ العَقْدِ إِنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ القِيَمِ، فَيَبْذُلُ في المُهِورِ وَمَا عَلَيْهِ الخُلْعُ قِيمَةِ (وم) البُضْعِ، وَفِي عِوضِ الكِتَابَةِ قِيمَةِ النُجُّوُمِ (وم)، وَفِي عِوَضِ المُتْعَةِ قِيمَةِ المُتْعَةِ (وم)، وَفِي الصُّلْحِ عَنِ الدّمِ (وم). قال الرافعي: المقصود الآن بيان ما يأخذ به الشَّفْيع، والمأخوذ أنواع: منها المبيع، فإن بيع بمثلي كالنقدين والحبوب، يأخذه بمثله، ثم إن قدر بمعيار الشرع أخذه به، وإن كان قدر بغيره كما لو باع بمائة منٍّ من الحِنْطَةِ فيأخذه بمثله وزناً، أم يُكَال ذلك المبلغ، ويأخذ به كيلًا؟ فيه اختلاف ذكرناه في "القَرْضِ"، ولو كان المثل منقطعاً وقت الأخذ عدل إلى القيمة، كما في الغَصْبِ، ولو بيع بمتقوَّم من عَبْدٍ وثوب ونحوهما، أخذه بقيمة ذلك المتقوم، والاعتبار بقيمة يوم البيع؛ لأنه يوم إثبات العوض، واستحقاق الشفعة وقال ابْنُ سُرَيْجٍ: تعتبر قيمته يوم استقرار العقد بانقطاع
الخيار، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب"، وجماعة. وعن مَالِكٍ أن الاعتبار بقيمته يوم المحاكمة لنا: أن الثمن صار ملكًا للبائع، فلا تعتبر زيادته في حَقّ المشتري، ولو جعل الشِّقْص رأس مال سلم أخذه الشفيع، بمثل المسلم فيه إن كان إن كان متقوماً ولو صالح من دين على الشقص، أخذه بمثل ذلك الدَّيْن إن كان مثلياً أو بقيمته إن كان متقوماً ولا فرق بين أن يكون دين إتلاف، أو دين معاملة. ومنها: الشقص الممهور يؤخذ بمهر مثل المرأة؛ لأن البُضْع متقوَّم، وقيمته مهر المثل وكذا إذا خَالَعَهَا على شِقْصِ، والاعتبار بمهر مثلها يوم النكاح، ويوم جريان البَيْنُونَةِ، هذا هو المشهور. وفي "التتمة" عن بعض الأصحاب أنه خرج وجهاً أنه يأخذه بقيمته يوم القبض، وأصله أن المرأة إذا وجدت الصَّدَاق عيباً وردته ترجع بقيمته على أحد القولين، وإذا كان المستحق عند الرد بالعيب بدل المسمّى كذلك عند الأخذ بالشفعة، وهذا مذهب مَالَكٍ. ولو منع المطلقة بشقص أخذه الشفيع بمتعة مثلها لا بالمهر؛ لأن المتعة هي التي وجبت بالطلاق والشقص عوض عنها. ومنها لو أخذ من المُكَاتب شقصاً عوضاً عن النجوم أخذه الشفيع بمثل النجوم، أو قيمتها؛ لأن النجوم هي التي قابلته. ومنها: الشقص الذي جعل أجرة الدار يؤخذ بقيمة المنفعة، وهي أجرة مثل الدار. ومنها: إذا صالح عليه عن الدَّم أخذه الشفيع بقيمة الدم، وهي الدية، ويقود منه الجريح، ويذهب ملكه. ومنها: قال في "التتمة" إذا استقرض شقصاً أخذه الشفيع بمثل قيمته، وإن قلنا: إن المستقرض يرد المثل؛ لأن القَرْضَ مبني على الإرفاق، والشفعة ملحقة بالإتلاف، والمواضع المحتاجة إلى الرّقوم من لفظ الكتاب لا تخفى بعد ما ذكرناه. قال الغزالي: وَإِنْ بَاعَ بِأَلفْ إِلىَ سَنَةٍ، فَإِنْ شَاءَ عَجَّلَ فَي الحَالِ الألْفَ وَأَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ نَبَّهَ عَلىَ الطَّلَبِ (و) وَأَخَّرَ التَّسْلِيمَ إِلىَ مُضِيَّ السَّنَةِ، ورَوَيَ حَرْمَلَةُ قَوْلاً أَنَّهُ يأْخُذُ (ح) بِثَمَنٍ مُؤَجَّل عَلَيْهِ كَمَا أَخَذَهُ المُشْتَرِي، وَحَكَى ابْنُ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَأَخُذُ بِعِوَضٍ يُسَاوي أَلْفاً إِلىَ سَنَةٍ. قال الرافعي: إذا كان الثمن حالاً بذله الشفيع في الحال، فأما إذا باع بألف إلى سنة مثلاً ففيه ثلاثة أقوال:
أصحهما وبه قال أَبُو حَنِيْفَةَ: أن الشفيع بالخيار بين أن يعجل الألف، ويأخذ الشقص في الحال، وبين أن يصبر إلى أن يحل الأجل، فحينئذ يبذل الألف، ويأخذ الشقص، وليس له أن يأخذ بألف، مؤجَّل؛ لأن الذِّمَمَ لا تتماثل، فقد لا يرضى المشتري بذمة الشفيع، وإن رضي البائع بذمَّة المشتري، ولا يمكن إلزامه الأخذ بألف حالٍّ لما فيه من الإجحَافِ. والثاني: أن له أخذ الشقص بألف مؤجَّل، كما أخذه المشتري تنزيلاً للشَّفيع منزلة المشتري، كما ينزل منزلته في قدر الثَّمن، وسائر صفاته. والثالث: أنه يأخذ بعرض يساوي الألف إلى سنة كيلا يتأخر الأخذ، ولا يتضرر الشفيع، ولا المشتري، ولنتكلم في حَالِ هذه الأَقْوَال، وتفريعها. أما حالها: فالأول: منصوص عليه في الجديد. والثاني: نسبه الإمام، وصاحب الكتاب إلى رواية حَرْمَلَةَ، وسكت الأكثرون عن ذلك، وَرَوَوْهُ عن القديم. وأما الثالث: فعامة الأصحاب ذكروا أن ابْنَ سُرَيْجٍ نقله عن الشَّافعي -رضي الله عنه- من كتاب الشُّروط، والمفهوم من إيراده أنه نص عليه فيه. وقال الشيخ أَبُو عَلِيٍّ: إن ابْنَ سُرَيْجٍ خرجه من قول الشَّافِعيّ من كتاب الشروط أَنَّهُ يجوز بَيْع الدّين، فقال يقُوِّمُ الدين المؤجَّل بعوض، ويأخذه الشفيع به. وأما التفريع: فإنْ قلنا بالجديد لم يبطل حقَّه بالتأخير؛ لأنه تأخير بعذر، ولكن هَلْ يجب عليه تنبيه المشتري على الطَّلب؟ فيه وجهان. أحدهما: لا، إذ لا فائدة فيه. والثاني: نعم؛ لأنه ميسور، إن كان الأخذ معسراً، وإلى هذا أشار في الكتاب بقوله: "إن شاء نَيَّة" المشتري على طلب، لكن الأوَّل أشبه بكلام الأصحاب. ولو مات المشتري، وحَلَّ عليه الثمن لم يتعجّل الأخذ على الشفيع، بل على خيرته إن شاء أخذ في الحال، وإن شاء صبر إلى مجيء ذلك المحل، وإن مات الشفيع فالخيرة التي كانت له تثبت لورثته، ولو باع المشتري الشَّقْص في المدة نقداً، فالشفيع بالخيار بين أن يأخذه بالثمن الثاني، وبين أن يفسخه، إما في الحال، وإمَّا عند حلول الأجل، ويأخذه بالثمن الأول، هذا إذا قلنا: إن الشفيع ينقض تصرف المشتري، وهو الظاهر، وفيه خلاف سيأتي.
وإن قلنا بالقول الثاني، ففي موضعه وجهان: أحدهما: أنه إنما يأخذ بثمن مؤجَّل إذا كان مليئاً موثوقاً به، أو إذا أعطى كفيلاً مليئاً، وإلاَّ لَمْ يأخذه؛ لأنه إضرار بالمشتري، وبهذا قال مَالِكٌ وأَحْمَدُ. والثاني: أن له الأخذ على الإطلاق، ولا ينظر إلى صفته، ولو أخذه ثم مات حَلَّ عليه الأجل. وإن قلنا بالقول الثالث، فتعين العرض إلى الشفيع، وتعديل القيمة إلى من يعرفها، ذكره الإمام، قال: فلو لَمْ يتفق طلب الشفعة، حتى حَلَّ الأجل وجب ألاَّ يطالب على هذا القول إلاَّ بالسِّلْعَة المعدلة؛ لأن الاعتبار في قيمة عوض المبيع بحال المبيع أَلاَ ترى أنه إذا باع بمتقوّم تعتبر قيمته يوم البيع؟ وعلى القولين الآخرين لو أخر الشفيع بطل حَقُّهُ. قال الغزالي: وَلَوْ اشْتَرَي شِقْصاً وَسَيفْاً بِألْفٍ أخَذَ (م) الشِّقْصَ بِمَا يَخُصُّهُ مِنَ الثَّمَنِ بَاعْتِبَارِ قِيمَةِ يَوْمِ العَقْدِ، ثُمَّ لاَ خِيَارَ للِمُشْتَرِي فِيما فَرَّقَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّفْقَةِ. قال الرافعي: إذا اشترى الشقص المشفوع مع عرض كثوب وسيف صفقه واحدة، وزع الثمن عليهما باعتبار قيمتها، وأخذ الشفيع الشقص بِحصَّته من الثمن، وبه قال أبُو حَنِيْفةَ وأحْمَدَ. وعن مَالِكٍ أنه يأخذهما جميعاً، لما ذكرنا في أوَّل الكتاب، ويروى عنه إن كان من مصالح الصفقة، وتوابعها كالثيران وآلات الحرث والعبد العامل، والبستان أخذه الشفيع مع الشقص، وإن كان غير ذلك لم يأخذه، ثم النظر في قيمتها إلى يوم البيع؛ لأنه وقت المقابلة. قال الإمام: وإذا قلنا: إن الملك ينتقل بانقطاع الخيار، فيجوز أن يعتبر انقطاع الخيار؛ لأن انتقال الملك الذي هو سبب الشفعة حينئذ يحصل، وإذا أخذ الشفيع الشقص لم يثبت للمشتري الخيار، وإن تفرَّقت الصفقة عليه لدخوله فيها عالماً بالحال. قال الغزالي: وَلَوْ تَعَيَّبَتِ الدَّارُ بِاضْطِرَابِ سَقْفِها أَخَذَ المَعِيبَ بِكُلِّ الثَّمَنِ كَمَا يأْخُذُ المُشْتَرِي مِنَ البَائِعِ إِذَا عَابَ المَبِيعَ قَبْلَ القَبْضِ، وَإِنْ تَلَفَ الجِدَارُ مَعَ بَعْضِ العَرَصَةِ بِأَنْ تَغَشَّاهُ السَّيْلُ أَخَذَ البَاقِي بِحِصَّتِهِ، وَإِنْ بَقِي تَمَامُ العَرَصَةِ وَاحْتَرَقَتِ السُّقُوفُ، فإنْ قُلْنا: إِنَّهَا كأَطْرَفِ العَبْدِ أُخِذَ (م) بِالكُلَّ، وإِنْ قُلْنَا: كأَحَدِ العَبْدَيْنِ أُخِذَ بِحِصَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ النَّقْضُ بَاقِياً فَهُوَ مَنْقُولٌ فَفِي بَقَاءِ الشُّفْعَةِ فِيهِ قَوْلاَنِ (و) لأَنَّهُ لَوْ قَارَنَ الابْتِدَاءَ لَمْ يَتَعَلْق بِهِ الشُّفْعَةُ، وإِنْ قُلْناَ: إِنْ نَبْقَى حَقُّ الشَّفِيَعِ فِيهِ فَيَأخُذُ المُنْهَدِمِ مَعَ النَّقْضِ بِكُلِّ الثَّمَنِ، وإِنْ
قُلْنَا: لاَ يَبْقى الحَقُ فِيْهِ، فإِنْ قُلْنَا: الجِدَارُ كأَحَدِ العَبْدَيْنِ أَخَذَ البَاقِي بِحِصَّتِه، وَإِنْ قُلْنَا: كَأَطْرَافِ العَبْدِ فَقَولاَنِ، إِذْ يبْعُدُ أَنْ يَفُوزَ المُشْتَرِي بِشْيءٍ مَجَّاناً. قال الرافعي: الفَصْل يتعلّق بأصلين: أحدهما: أن المنقول لا شفعة فيه، وإذا ضم إلى شقص، وبيعا صفقة واحدة أخذ الشقص بحصّته، والعهد قريب بهذا الأصل. والثَّاني: أن الخلاف في أن السقف والجدران من الدار المبيعة أحد العبدين المبيعين، أو كطرف من أطراف العبد المبيع، أو صفة من صفاته، وهذا قد ذكرناه في النظر الثالث من كتاب البيع. إذا عرفت ذلك، فإذا اشترى شِقْصاً من دار، ثم نقضت الدَّار، فلها أحوال: أحدها: إن بيعت من غير تلف شيء منها، ولا انفصال بعضها من بعض، بأن شق جدار، أو مالت أسْطُوَانَة، أو انكسر جذع، أو اضطرب سقف، فالشفيع بالخيار بين الأخذ بكل الثمن، وبين الترك، ويكون تعيبه في يد المشتري، كتعيب المبيع في يد البائع فإنه يخير المشتري بين الأخذ بجميع الثمن، وبين الفسخ. والثَّانية: أن يتلف بعضها فينظر إن تلف شيء من العَرْصَة بأن غشيها السَّيْلُ فغرقها، أخذ الباقي بحصته من الثمن، وإن بقيت العرصة بتمامها، وتلفت السُقُوف والجدران باحتراق وغيره. فإن قلنا: إن الأبنية كأحد العبدين المبيعين أخذ العَرْصة بِحِصَّتِهَا من الثمن وهو الأصح وبه قال أَحْمَدُ وماَلِكٍ. وإن قلنا: إنها كأطراف العبد وصفاته أخذها بكل الثمن، وفرق بعضهم بين أن يكون التلف بآفة سماوية، فيأخذها بجميع الثمن، أو بإتلاف متلفٍ فيأخذها بالحصَّة، لأن المشتري يحصل له بدل التالف، فلا يتضرر، وبهذا قال أَبُو حَنِيْفَةَ. والثالث: إلاَّ يتلف شيء منها، ولكن ينفصل بعضها عن بعض بالانهدام، وسقوط الجدران فهل يأخذ الشفيع النقض فيه قولان: ويقال: وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه منقول، كما لو كان في الابتداء كذلك، وأدخل النقض في البيع لا يؤخذ بالشفعة. والثاني: نعم، قال في "الشامل": وهو اختيار أبي إسحاق وشيوخنا المتأخرين؛ لأن منقوليته عرضت بعد البيع، وتعلق حق الشفيع به، والاعتبار بحال جَرَيانِ العقد، ولهذا لو اشترى داراً، فانهدمت يكون النقض والعَرْصَة للمشتري، وإن كان النقض لا
يدخل في البيع لو جرى، وهي منهدمة. فإن قلنا: إنه يأخذ النقض أخذه مع العَرْصَة بجميع الثمن وإلاَّ أعرض عن الكل. وإن قلنا: إنه لا يأخذه، فيبنى على أن السقوف والجدران كأحد العبدين المبيعين، أو كطرف العبد. أن قلنا بالأول أخذ العَرْصَة، وما بقي من البناء بحصَّتهما من الثمن. وإن قلنا بالثاني، فوجهان: أحدهما: أنه يأخذ الحصّة؛ لأن النقض كان من الدار المشتراه، فيبعد أن يبقى للمشتري مجاناً، أو يأخذ الشفيع ما سواه بتمام الثَّمَنِ. والثاني: وهو قياس الأصل المبنى عليه أنه يأخذ الكل بالثمن، كما في الحالة الأولى، وعلى هذا يشبه النقض بالثمار، والزوائد التي يفوز بها المشتري قبل قبض الشفيع. ومنهم مَنْ يُطْلِقُ قولين تفريعاً على أن النقض غير مأخوذ من غير البناء على أن النَّقْضَ كأحد العبدين، أو كأطراف العبد، وبوجه الأخذ بالكل، بأنه نقص حصل عند المشتري، فأشبه تشقُّق الحائط، والأخذ بالحصة؛ بأنَّ مَا لاَ يؤخذ من المبيع بالشفعة تسقط حصّته من الثمن، كما إذا اشترى شِقْصاً وسيفاً. واعلم أن منقول المُزَنِيِّ في "المختصر" أن الدار إذا أصابها هَدْمٌ يأخذ الشفيع الشَّقْص بجميع الثمن، أو يترك. وعن القديم، ومواضع من الجديد أنه يأخذ بالحصّة، واختلف الأصحاب في النَّصَّين بحسب ما حكينا عنهم من فِقْهِ الفصل، فالفارقون في الحالة الثانية بين أن يتلف بعض العَرْصَة، حيث يأخذ الباقي بالحصَّة، وبين أن يتلف بعض النقض، أو كلّه، وتبقى العَرْصَة كلها، حيث يأخذ الباقي بالكل جواباً على إلحاقه بأطراف العَبْدِ، وحملو النص الثاني على ما إذا تلف بعض العَرْصَة، والأول على ما إذا بقي كل العَرْصَة، وتلفت الأبنية، والفارقون بين أن يكون التلف بآفة سماوية، أو بإتلاف متلف، حملوا الأول على ما إذا كان التلف بآفة سماوية، والثاني على ما إذا كان بإتلاف متلفٍ، والفريقان متفقان على فَرْض النصين في الحالة الثانية، والذين قالوا في الحالة الثالثة: لا يأخذ الشفيع النقض، منهم من أثبت النصين قولين المذكورين ومنهم من قطع بالأخذ بالحصّة، وحمل منقول المُزَنِيُّ على الحالة الأولى هو مجرد التعيُّب، والذين قالوا: يأخذ النقض بالشُّفْعَة حملوا النص الثاني على ما إذا تلف كل النقض، أو بعضه ونزلوا الأول على مذهبهم، فخلصت من هذه التصرفات خَمْسَةُ طرق في النَّصَّيْنِ والله أعلم.
وقوله في الكتاب: "وفي بقاء الشفعة قولان" يجوز إعلامه -بالواو- لأن عن ابْنِ سُرَيْجٍ طريقة جازمة ببقاء الشفعة فيه، ذكرها في "التتمة". قال الغزالي: وَلَوْ اشْتَرَى الشِّقْصَ بِأَلْفٍ ثمَّ حُطَّ بالإِبْرَاءِ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ بَعْدَ اللُّزُومِ فَلاَ يَلْحَقُ الشَّفِيعَ، وَإِنْ كَانَ في مُدَّةِ الخِيَارِ لَحِقَهُ عَلَى الأَصَحِّ (و)، وَإِنْ وَجَدَ البَائِعُ بِالعَبْدِ الَّذي هُوَ عِوَضُ الشِّقْصَ عَيْباً وأَرَادَ اسْتِرْدَادَ الشِّقْصَ قَبْلَ أَخْذِ الشفِيعِ فَهُوَ أَولَي بِهِ مِنَ الشَّفِيعِ في أَقْيَسِ القَوْلَيْنِ، وإِنْ كَانَ بَعْدَ أَخْذَ الشَّفِيعِ لَمْ يُنْقَضَ (و) مِلْكُ الشَّفِيعِ، وَلَكِنْ يُرْجَعُ إِلَي قِيمَةِ الشِّقْصِ، فإِنْ زَادَ عَلَى مَا بَذَلَهُ الشَّفِيعُ أَوْ نَقَصَ فَفِي التَّرَاجُعِ بَيْنَ المُشْتَرِي وَالشَّفِيعِ خِلاَفٌ إِذْ صَارَتِ القِيمَةُ مَا قَامَ الشِّقْصُ بِهَا عَلَى المُشْتَرِي أَخِيراً، وَكَذا لَوْ رَضِي البائِعُ بِالعَيْبِ فَفِي اسْتِرْدَادَ الشَّفِيعِ بِهِ قِيمَةَ السَّلامَةِ مِنَ المُشْتَرِي خِلاَفٌ، وَإِنْ وَجَدَ المُشَّتَرِي بِالشِّقْصُ عَيْباً بَعْدَ أَخْذِ الشَّفِيعِ لَمْ يَكُنْ (و) لَهُ طَلَبُ أَرْشٍ، فَإِنْ رَدَّ الشَّفِيعُ عَلَيْهِ رَدَّ هُوَ عَلَى البَائِعِ، فإِنْ وَجدَ قَبْلَ أَخْذِ الشَّفِيعِ وَمَنَعَهُ عَيْبٌ حَادِثٌ فِيَ الرَدَّ فَاستَرَدَّ أَرْشاً فَهُوَ مَحْطُوطٌ عَنِ الشَّفِيعِ قَوْلًا واحِداً. قال الرافعي: الفصل ينظم مسائل: إحداها إذا اشترى الشِّقْصَ بألف درهم، ثم اتفق المتبايعان على حطٍّ من الثمن، أو زيادة فذلك إما أن يكون قبل لزوم العقد، أو بعده، إما في زمن الخيار أو مكانه، وحكم القسمين ما ذكرناه في البَيْعِ بالشرح، وحاصله أنه لا تلتحق الزيادة، ولا الحَطّ بالعَقْدِ بعد لزومه، ولا حط البعضَ، ولا حط الكل. وذهب أبُو حَنِيْفَةَ إلى التحاق حطّ البعض به حتى يأخذ الشفيع بالباقي، وفيما قيل اللزوم وجهان: أصحهما: الالتحاق، كما ذكره صاحب الكتاب هاهنا وإِن أشار في البيع إلى ترجيح المنع. وإذا قلنا بالالتحاق، وحط كل الثمن، فهو كما لو باع بلا ثمن، وحينئذ فلا شُفْعَةَ للشريك؛ لأنه يصير هبة على رأي، ويبطل على رأي، وكُنَّا قد ذكرنا في البيع التفات الخلاف في الالتحاق إلى الخلاف في المِلْك في زمن الخيار، وعلى ذلك جرى الإمام وآخرون هاهنا فقالوا: إن قلنا: إن الخيار لا يمنع ثبوت المِلْك للمشتري، فكما يملك المشتري المبيع يملك البائع ثمنه، فينفذ تصرفه بالإبراء لمصادفته ملكه، فقال الإمام: وفيه احتمالِ؛ لأن الأصحاب ترددوا في أن إعتاق المشتري في زمن الخيار، هل ينفذ مع الحكم بثبوت الملك له لتعلق خيار البائع بالمبيع؟ فإذا ترددوا في الإعتاق مع قُوَّته لهذا المعنى جاز أن يتردد في الإبراء؛ لأن الثمن متعلّق خيار المشتري.
وإذا قلنا: إن الملك للبائع، أو موقوف، ففي صحة الحط وجهان عن القاضي حُسَيْن: أحدهما: الصحة؟ لجريان الناس عليه في الأعصار الخالية. والثاني: المنع؛ لأنه تصرف فيما ليس مملوك، فحيث قلنا بصحة الحَطّ، ففي التحاقه بالعَقْدِ خلاف. والثَّانية: إذا اشترى الشِّقْص بعَبْدٍ مثلًا، وتقابضا، ثم وجد البائع بالعبد عيبا وأراد رده بالعيب، واسترداد الشقص، وجاء الشفيع يريد أخذ الشقص، ففي الأولى منهما خلاف مَرَّ. وحكى الإمام طريقه أخرى قاطعة بتقديم البائع، وفرق بينه وبين ما إذا أراد المشتري ردّ الشِّقْص بالعيب، وزاحمه الشفيع، حيث ذكرنا فيه القولين، بأن البائع يُنْشِئ الرد على غير محل الشفعة، والمشتري ينشئه في غير محل الشفعة، ولو عرف عيب العبد بعد أخذ الشفيع الشقص لم ينقض ملك الشفيع، ولم يرد شفعته، كما لو باع، ثم أطّلع على العيب. وعن صاحب "التقريب" قول: أنه يسترد المشتري الشقص من الشفيع، ويرد عليه ما أخذه، ويسلم الشِّقْص إلى البائع؛ لأن الشفيع نازل منزلة المشتري فردّ البائع يتضمَّن نقض ملك المشتري لو كان في ملكه، والمذهب الأول. وإذا قلنا به أخذ البائع قيمة الشِّقْص من المشتري، فإن كانت مثل قيمة العَبْد فذاك، وإن زادت قيمة الشِّقْص على قيمة العبد، أو نقصت عنها، ففي رجوع من بذل الزيادة من المشتري، أو الشفيع على صاحبه وجهان: أظهرهما: أنه لا تراجع بينهما؛ لأن الشفيع قد ملكه بالعوض المبذول، فلا يتغير حكمه بعد ذلك، كما إذا باعه، ثم رَدَّ البائع العبد بالعيب. والثاني: ويحكى عن ابْنِ سُرَيْجٍ: أنه يثبت التراجع بينهما؛ لأن قيمة الشِّقْص (¬1) هي التي قام بها الشقص على المشتري أخيراً والشفيع ينبغي أن يأخذ بما قام على المشتري. ولو عاد الشقص إلى ملك المشتري بابتياع، أو غيره لم يتمكن البائع من إجباره على رَدّ الشَّقْص، ولا للمشتري من إجْبَاره على القبول، ورد القيمة بخلاف ما إذا غرم العبد المغصوب لإباقه فرجع؛ لأن ملك المغصوب منه لم يزل، وملك المشتري قد ¬
زال، وبعد الرد على القيمة حكى صاحب "التتمة" وجهين في المسألة بناء على الوجهين، فيما لو خرج المبيع عن مِلْكِ المشتري وعاد، ثم اطلع البائع على عَيْبٍ بثمن معين، فرده هَلْ يسترد المبيع؟ ولو وجد البائع العَيْبَ بالعبد، وقد حدث عنده عيب، فأخذ الأرش لا متناع الرد، نظر إن أخذ الشفيع الشَّقْص بقيمة العبد سليماً، فلا رجوع عليه، وإِن أخذه بقيمته معيباً ففي رجوع المشتري على الشفيع الوجهان السابقان في التراجع، لكن الأصح هاهنا الرجوع ومال ابنُ الصَّبَّاغ إلى القطع به؛ لأن الشقص استقر عليه بالعبد، والأرش ووجوب الأرش من مقتضى العَقْد لاقتضائه سَلاَمة العوض، ولهذا إذا أخذه الشفيع بقيمته سليماً لم يرجع على المشتري بشيء، ولو رضي البائع، ولم يرده فما الذي يجب على الشفيع؟ فيه وجهان: أحدهما: أن عليه قيمة العبد سليماً، ورضا البائع مسامحة منه مع المشتري. والثاني: أن تلزمه قيمته معيباً حتى لو بذل قيمة السَّليم استرد قيمة السلامة من المشتري (لأن الذي يلزم الشفيع قيمة المَجْعُول ثمناً بصفاته). وضعّف الإمام الوجه الأول، وغلط من قال به، لكنه هو الذي أورده في "التهذيب". الثالثة: للمشتري رد الشِّقْص بالعَيْبِ على البائع، وللشفيع رده على المشتري بالعيوب السابقة على البيع، وكذا بالعيوب السابقة على الأخذ ثم لو وجد المشتري العيب بعد أخذ الشفيع، فلا رد في الحال، وليس له الأرش أيضاً، وكذا أطلقه في الكتاب، وهو الصحيح، ويجيء فيه الخلاف الذي ذكرناه فيما إذا باعه، أو أزال الملك بجهة أخرى، فلو رد عليه الشفيع بالعيب رده حينئذٍ على البائع، ولو وجد المشتري عَيْب الشقص قبل أن يأخذه الشفيع، ومنعه عيب حادث من الرد، فاسترد أرش العيب القديم حطّ ذلك عن الشفيع؛ لأنه بدل صفة السلامة التي استحقها الشفيع كما استحقها المشتري على البائع، وإن قدر على الرَدّ، لكنهما توافقا على الرجوع إلى الأرش، ففي صحة المصالحة وجهان مذكوران في موضعهما إن صححناها، ففي حَطِّه عن الشفيع وجهان: أحدهما: لا يحط؛ لأنه ينزع من البائع. وأصحهما: الحط لتقرر الثمن على الباقي. وقوله في الكتاب "فهو أولى به في أقيس القولين" يمكن أن يعلّم -بالواو- للطريقة القاطعة بتقديم البائع وقوله: "لم ينقض ملك الشفيع" معلّم به.
وكذا قوله: "لم يكن له طلب أرش". وقوله: "وهو محطوط عن الشفيع قولًا واحداً" كان الإشارة به إلى هذه الصورة تفارق ما إذا رجع المشتري بالأرش، مع إمكان الرَّد، فهي مختلف فيها. قال الغزالي: وَلَوْ اشْتَرَى بِكَفٍّ مِنَ الدَّرَاهِمِ لَمْ يَعْرِف وَزْنَهُ وَحَلَفَ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَعْرِفُ وَزْنَهُ فَلاَ شُفْعَةَ (و) إِذِ الأَخْذُ غَيْرُ مُمْكِن. قال الرافعي: إذا اشترى بكَفٍّ من الدراهم لا يعرف وزنه، أو بِصُبْرَةٍ مِنَ الحِنْطَةِ لا يعلم كيلها فيوزن وتكال ليأخذ الشفيع بذلك القدر، فإن كان ذلك غائباً، فتبرع البائع بإحضاره، أو أخبر عنه، واعتمد قوله فذاك، وإِلا فليس للشفيع أن يكلفه الإحضار ولا الإِخبار عنه، وإن هلك الثمن، وتعذَّر الوقوف عليه تعذر أخذه بالشفعة، فإن أنكر الشفيع كون الشراء بما لا يعلم قدره، نظر إن عين قدراً وقال: اشتريته بكذا، وقال المشتري: إنه لم يكن معلوم القدر، فعن ابْنِ سُريْجٍ أنه لا يقنع منه بذلك، ولا يحلف على نفي العِلْمِ كما لو ادَّعى ألفاً على إنسان، فقال في الجواب لست أدري كم لك عَلَيَّ؟. فعلى هذا لو أصَرَّ على قوله الأول جعل ناكلًا، وردت اليمين على الشفيع. والمحكى عن النَّص ومعظم الأصحاب أنه يقنع منه بذلك، ويحلف عليه؛ لأنه محتمل، ويخالف ما إذا ادَّعى عليه ألفاً فإن المدعي هاهنا هو الشِّقْص لا الثمن المجهول وبتقدير صدق المشتري ليس له الأخذ بالشفعة، فكان ذلك إنكاراً لولاية الأخذ، وعلى هذا الخلاف لو قال: نسيت مقدار الثمن الذي اشتريت به، فعلى رأي يجعل قوله: نسيت نكولًا، وترد اليمين على الشفيع، قاله القَاضِي الروياني، وبه قال ابْنُ سُرَيْجٍ، وابنُ أَبِي هُرَيْرَةَ والمَاوَرْدِيُّ وَالقَفَّال وهو الاختيار. وإن لم يعين قدراً، ولكن ادعى على المشتري أنه يعلمه، وطالبه بالبيان، ففيه وجهان: أصحهما: عند صاحب "التهذيب" أنه لا تسمع دَعْوَاهُ حتى يعين قدراً، فيحلف المشتري حينئذ أنه لا يعرف. والثاني: أنها تسمع ويحلف المشتري على ما يقوله، فإن نكل حلف الشفيع على علم المشتري، وحبس المشتري حتى يُبَيِّنَ قدره. ويحكى عن ابْنِ سُرَيْجٍ وغيره تفريعاً على الأول أن طريق الشفيع أن يعيّن قدراً، فإن ساعده المشتري فذاك، وإلا حلفه على نفيه، فإن نكل استدلّ الشفيع بنكوله، وحلف على ما عينه اتفاقاً، وإن حلف المشتري زاد، وادَّعى ثانياً وهكذ يفعل إلى أن
ينكل المشتري، فيستدل الشفيع بنكوله، ويحلف وهذا لأن اليمين قد تستند إلى التخمين، ألا ترى أنه له أن يحلف على خَطِّ أبيه إذا سكنت نفسه إليه. وقوله في الكتاب: "وحلف أنه لا يعرف وزنه" غير محتاج إليه في التصوير، فإنه لو اقتصر على أن يقول: ولو اشترى بكفٍّ من الدراهم لا يعرف وزنه فلا شفعة كان صحيحاً، وإنما يحتاج إلى الحلف إذا فرض نزاع، ثم الحلف على نفي العلم إنما يكون إذا سمع منه نفي العلم في جواب دَعْوَى الشفيع، ويجيء فيه ما سبق من الخلاف. قال الغزالي: وَلَوْ خَرَجَ ثَمَنُ المَبِيع مُسْتَحَقَّاً وَهُوَ مُعَيَّنٌ تَعَيَّنَ بُطْلاَنُ (ح) البَيْعِ وَالشُّفْعَةِ، وَإِنْ خَرَجَ ثَمَنُ الشَّفِيعِ مُسْتَحَقاً لَزِمَهُ الإِبْدَالُ وَلَمْ يَبْطُلْ مِلْكُهُ وَلاَ شُفْعَتُهُ فِي أَظهَرِ الوجْهَيْنِ، وَكَذَا إِذَا خَرَجَ زُيُوفاً. قال الرافعي: إذا ظهر الاستحقاق في ثمن الشِّقْص المشفوع فإما أن يظهر في ثمن المبيع، أو في ثمن الشفيع، فإن ظهر في ثمن المبيع، نظر إن كان معيباً بان بطلان المبيع، وإذا بطل البيع سقطت الشفعة، وعلى الشفيع رَدّ الشِّقْص، إن كان قد أخذه. وعند أَبِي حَنِيْفَةَ لا يبطل البيع إذا كان الثمن نقداً، بناء علي بناء على أن النقود لا تتعيَّن بالتعيين، وإن خرج بعضه مستحقاً بطل البيع في ذلك القدر. وفي الباقي قولا تفريق الصفقة، فإن فرقناها، واختار المشتري الإجازة، فللشفيع الأخذ، فإن اختار الفسخ، وأراد الشفيع الأخذ بالشفعة ففيه الخلاف المذكور فيما إذا أصدقها شِقْصاً، ثم طلقها قبل الدخول، وإن كان الثمن في الذمّة أي ونقضه المشتري، ثم خرج المدفوع مستحقاً فعليه الإبدال والبيع، والشفعة بحالهما، وللبائع استرداد الشِّقْص ليحبسه إلى أن يقضي الثمن. فأما إذا ظهر الاستحقاق في ثمن الشفيع، فإن كان جاهلًا لم يبطل حقه، وعليه الإبدال، ثم حكى الإمام وجهين في أنّا نتبيَّن بم يملك بأداء المستحق؟ ويفتقر الآن إلى تملُّك جديد، أو نقول: إنه ملكه، والثمن ديناً عليه، وإن كان عالماً فوجهان: أحدهما: أن شفعته تبطل؛ لأنه أخذ بما لا يجوز الأخذ به، فكأنه ترك الشفعة مع القدرة عليها. والثاني: لا تبطل؛ لأنه لم يقصِّر في الطلب والأخذ، والشفعة لا تستحق بمال معين حتى تبطل باستحقاقه. والأول: هو المذكور في "التهذيب". والثاني: ظاهر كلام المزَنِيّ، واختاره كثير من الأصحاب، ومنهم صاحب الكتاب، وهل من فرق بين أن يكون ثمن الشفيع معيناً بأن يقول: تملكت الشقص بهذه
الدنانير أو غير معين بأن يقول: تملكه بعشرة؟ فمنهم من قال: لا وقال الشيخ أبُو حامِدٍ وآخرون: نعم، وموضع الوجهين ما إذا كان معيناً وخروج الدنانير نحاساً كخروجها مستحقة. ولو خرج ثمن المبيع رديئاً، فللبائع الخيار بين أن يرضى به، وبين أن يستبدل، فإن رضي به لم يلزم المشتري الرَّضا بمثله، بل يأخذ من الشفيع ما اقتضاه العقد، ذكره في "التهذيب". ولو خرج ثمن الشفيع رديئاً لم تبطل شفعته عالماً كان أو جاهلًا، لأن أداءه صحيح، بدليل ما إذا رضي المشتري به. وفيه وجه: أن خروجه معيباً كخروجه مستحقاً. وقوله: في الكتاب "لم يبطل ملكه، ولا شفعته في أظهر الوجهين. أطلق الكلام في المسألة إطلاقاً، ولم يفرق بين أن يكون عالماً، أو جاهلًا لاختياره الوجه الذاهب إلى أن حقه لا يبطل وإن كان عالماً والوجه الذي يقابله على هذا لا يرد أنه إن كان عالماً بطل، وإن كان جاهلًا فلا يبطل لا البطلان مطلقاً، فإنه لا قائل به، والخلاف في أن ملكه هل يبطلهما الوجهان اللذان نسبناهما إلى حكايه الإمام في حالة الجهل، ويطردان في حالة العلم؟ إذا قلنا: إن حقه لا يبطل، لكنه حكم بأن الأظهر أن ملكه لا يبطل، وهو خلاف المفهوم من كلام الجمهور سِيَّمَا في حالة العلم. وقوله: "وكذا إذا خَرَجَ زُيُوفاَ" إن كان المراد منه النحاس المَحْضُ فهو صحيح. وإن أراد الرديء من ذلك الجنس، فالتسوية بينه وبين ما إذا خرج مستحقاً خلاف ظاهر المذهب، وقد أجاب في "الوسيط" بأن خروج الثمن زيُوفاً لا يبطل المِلْك ولا الشفعة، وهذا يقتضي إرادة المعنى الثاني، وحينئذ يختلف جوابه في الكتابين، ويكون الصحيح ما في الوسيط". قال الغزالي: وَلَوْ بَنَي المُشْتَرِي في الشِّقْصِ الَّذِي قَاسَمَهُ وَكِيلُ الشَّرِيكِ في غَيْبَتِهِ فَإذَا حَضَرَ فَحَقُّهُ في الشُّفَعَةِ بَاقٍ لِهُ فَإِنَّهُ كَانَ شَرِيكاً وَلَمْ يُسْقِطْ هُوَ حَقَّ الشُّفْعَةِ وَقَدْ بَقِي لَهُ نَوْعُ اتِّصَالِ وَهُوَ الجِوَارُ، وَلَكِنْ لاَ يُقْلَعُ (ح ز) بِنَاءُ المُشْتَرِي مَجَّاناً، بَلْ يَتَخَيَّر بِأَنْ يَبقَى بَأجْرَةٍ أَوْ يَتَمَلَّكَ بِعَوَضٍ أَوْ ينقُضَ بِأَرْشٍ كَالمُعِيرِ سَوَاءً، إلاَّ أنَّهُ يُبْقِي زَرْعُهُ ولا يُطَالِبُهُ (و) بِالأُجْرَةِ، والمُعِيرُ لَهُ الأُجْرَةُ لأن المُشْتَرِي زَرَعَ مِلْكَ نَفَسِهِ فَكَأَنَهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهُ فَهُو كَمَا لَوْ زَرَعَ مِلْكَهُ وبَاعَ.
قال الرافعي: إذ بني المشتري، أو غرس، أو زرع في الشِّقْصِ المشفوع، ثم علم الشفيع، فله الأخذ بالشُّفعة، وقلع بنائه، وغراسه، وزرعه مجاناً لا بحق الشفعة، ولكن لأنه شريك واحد الشريكين إذا انفرد بهذه التصرفات في الأرض المشتركة كان للآخر أن يقلع مجاناً، وإن بني وغرس المشتري في نصيبه بعد القسمة، والتمييز، ثم قد علم الشفيع لم يكن له قلعه مجاناً، وبه قال مَالِكٌ وأحْمَدُ خلافاً لأبي حنيفة لنا أنه بني في ملكه الذي ينفذ تصرفه فيه، فلا يقلع مجاناً، وتعلّق حتى الشفعة به لا يمكن من القلع مجاناً لتعلّق حق الرجوع بالأرض المرهونة. وأعلم أن في في تصوير المسألة إشكالين: أحدهما: قال المزَنِيُّ: المقاسمة تتضمن الرضا من الشفيع وإذا رضي الشفيع بمالكية المشتري بطلت الشفعة، فكيف يفرض ثبوت الشفعة مع جريان القسمة؟ والثاني: أن القسمة تقطع الشركة، وترد العلقة بينهما إلى الجوار، وحينئذ وجب ألا تبقى الشفعة لاندفاع الضرر الذي ثبت الشفعة لدفعه، كما لا تثبت ابتدأ وللجار وأجاب الأصحاب عن الأول بصور واضحة القسمة مع بقاء الشفعة في صور: منها: أن يخبر الشفيع بأن البيع جرى بألف، فيعفو أو يقاسم أرباب الشقص أو انتقل إليه بالهبة ويقاسم ويبني ثم يتبيَّن أن البيع كان بما دون الألف، وأن الانتقال كان بالعوض، فتصحُّ القسمة، وتثبت الشفعة. ومنها: أن يقاسم الشفيع المشتري على ظن أنه وكيل البائع إما لاخباره عنه، أو لسبب آخر ومنها: أن يكون للشفيع وكيل بالقسمة مع شركائه والمشترين منهم، فيقاسم الوكيل المشتري، والشفيع غير عالم. ومنها: أن يكون له وكيل بالقسمة، وفي أخذ الأَشْقَاصِ بالشفعة فيرى في شقص الحَظّ في الترك، فيتركه فيقاسمه، ثم يقدم الشفيع، ويظهر له بأن الحظ في الأخذ، وكذلك ولي اليتيم. ومنه: أن يكون الشفيع غائباً فيطالب المشتري الحاكم بالقسمة، وللإمام في إجابة القاضي إياه وقفه إذا علم ثبوت الشفعة، والمشهور الإجابة. وأما الثاني: فأجيب عنه بأن الجوَار، وإن لم يكن يكتفي به في الابتداء إلا أنه اكتفى به في الدوام عند حصول الشركة في الابتداء، ولم يخرج على الخلاف في بطلان الشفعة فيما إذا باع نصيبه جاهلاً بالشفعة لأن الجِوَار على حال ضرب اتصال قد يؤدي إلى التأذَّي بضيق المرافق، وسوء الجوار.
ولذلك اختلف العلماء في ثبوت الشفعة به. وقوله في الكتاب: "في الشِّقْص الذي قاسمه وكيل الشريك" إشارة إلى حل الإشكال الأول، وبيان بعض طرق صحّة القسمة مع بقاء الشفعة. وقوله: "إنه كان شريكاً ... " إلى آخره إشارة إلى حل الثاني. إذا تقرَّر ذلك، فإن اختار المشتري قَلْع البناء، أو الغراس، فله ذلك، ولا يكلف تسوية الأرض؛ لأنه كان متصرِّفاً في ملكه، فإن حدث في الأرض نقص، فالشفيع إما أن يأخذه على صفته، وإما أن يترك، فإِن لم يختر المشتري القلع، فللشفيع الخيار بين إبقاء ملكه في الأرض بأجره، وبين تمَلكه بقيمته يوم الأخذ وبين أن ينقضه، ويغرم أَرْش النقص على الوجه الذي تقرر في المُعِيْرِ إذا رجع، وقد بني المستعير في الأرض، أو غرس بلا فرق، ولووإن قد زرع فيبقى زرعه إلى أن يدرك، فيحصد، وقياس التسوية في فصل البناء، وما نحن فيه، وبين العارية أن يجيء الخِلاَفُ المذكور هناك في زرع الأرض المستعارة. والظَّاهر في الموضعين: أنه يبقى الزرع، وهل للشفيع أن يطالبه بالأجرة؟ عن صاحب "التقريب" أن له المطالبة كما أن المعير يبقى بالأجرة على الظاهر. والمشهور: أنه لا مطالبة للشفيع بالأجرة، بخلاف المعير، فإن المستعير زرع أرض المعير، والمشتري زرع ملك نفسه، واستوفى منفعته بالزراعة، وهذا كما لو باع أرضاً مزروعة لا يطالبه المشتري بالأجرة لمدة بقاء الزرع. وقوله في الكتاب: "ولكن لا يقلع بناء المشتري مجاناً معلّم -بالحاء- لما مَرَّ -وبالزاي- لأن المزني يوافقه. وقوله: "أنه يبقى زرعه" هذا الاستثناء يتعلّق بالتسوية بين الشفيع والمعير، كأنه قال: والشفيع كالمعير إلا أنه يبقى زرع المشتري بلا أجرة والمعير يبقى بالأجرة. واعلم أن في الصور الثلاث منها صورة بيع الأرض المزروعة، وصورة العارية وما نحن فيه وجهين في وجوب الأجرة، وقد ذكرنا الخلاف في الصورتين في موضعهما. لكن الظَّاهر من الخلاف في صورة العارية وبخوب الأجرة، وفي الصورتين الأخيرتين المنع للمعنى الذي يجمعهما، وهو أنه استوفى منفعة ملكه. هذا ما ذكره عامة الأصحاب، وصاحب الكتاب ناقض في مسألة بيع الأرض المزروعة، والذي ذكره هاهنا جواب على أنه لا تجب الأجرة وذكر في اللفظ الأول من القسم الثالث من النظر الرابع من "كتاب البيع" أن الأظهر وجوبها.
فرع: ذكرنا أنه إذا زرع لزم الشفيع إبقاء الزرع، وحيئذ يجوز له تأخير الشفعة إلى الإدراك والحصاد؛ لأنه لا ينتفع به قبل ذلك ويخرج الثمن من يده. قال الإمام: ويحتمل أنه لا يجوز له التأخير، وإن تأخرت المنفعة، كما لو بيعت الأرض وسط الشتاء لا يؤخر الشفعة، إلى أوان الانتفاع، ولو كان في الشقص أشجار ثمار لا تستحق بالشفعة، ففي جواز التأخير إلى القِطَافِ وجهان، والفرق أن الثمار لا تمنع من الانتفاع المأخوذ، بخلاف الزرع. قال الغزالي: وَلَوْ تَصَرَّفَ المُشْتَرِي بِوَقْفٍ أَوْ هِبَةٍ نَقَضَ (و)، وإِنْ كَانَ بِبَيْعٍ فَالشَّفِيعُ بِالخِياَرِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالبَيْعِ الأَوَّلِ فَيَنْقُضَهُ (و)، أَوْ بِالثَّاني. قال الرافعي: تصرفات المشتري في الشقص من البيع والوقف، وغيرهما صحيحة لأنها واقعة في ملكه، وثبوت حق التملك للشفيع لا يمنع المشتري من التصرف، كما أن حق التملك للواهب بالرجوع لا يمنع تصرف المتهب، وكما أن حتى التملك للزوج بالطَّلاَق لا يمنع تصرُّف الزوجة. وفي "التتمة" وجه غريب عن ابْنِ سُرَيْجٍ أنها باطلة؛ لأن للشفيع حقًّا لا سبيل إلى إبطاله، فأشبه حق المرتهن. وإذا قلنا بالشفعة، فظاهر المذهب، وهو المذكور في الكتاب، ونصه في القديم أنه ينظر إن كان التصرف مما لا تثبت فيه الشفعة كالوَقْفِ والهبة، فللشفيع نقضه، وأخذ الشقص بالشفعة، وإن كان ممَّا تثبت فيه الشفعة كالبيع والإصْدَاقِ، فهو بالخيار بين أن ينقض تصرفه، ويأخذ الشقص بالبيع الأول، فربما يكون الثمن فيه أقل، أو من جنس هو عليه أيسر، وبين ألاَّ ينقض تصرفه به، ويأخذ. وعن أبِي إسْحَاقَ المَرْوَزِيِّ أنه ليس تصرف المشتري بأقل من بنائه، فكما لا ينقض الشفيع بناءه لا ينبغي أن ينقض تصرفه، واختلفوا في موضع هذا الوجه: منهم من خصصه بما ثبتت فيه الشفعة من التصرفات. أما ما لا تثبت فيه فله نقضه لتعذر الأخذ به. ومنهم من عمم وقال: تصرفات المشتري تبطل حق الشفيع، كما يبطل تصرف المشتري المفلس في حق الفَسْخِ للبائع، وتصرف المرأة حق الرجوع إلى العين إذا طلق قبل الدخول، وتصرف المتهب رجوع الواهب. نعم لو كان التصرُّف بيعاً، أو غيره مما تثبت فيه الشفعة، تجدد حق الشفعة بذلك.
وعن رواية الشيخ أبِي عَلِيٍّ عن أبِي إسحاق انها لا تتجدد أيضاً؛ لأن تصرف المشتري إذا كان مبطلًا للشفعة لا يكون مثبتاً لها، كما إذا تحرم بالصلاة، ثم شك، فجدد نية وتكبيراً لا تنعقد بها الصلاة؛ لأنه يجعل بها الحِلُّ، فلا يحصل العقد. ووجه ظاهر المذهب، وهو أن للشفيع نقض تصرف المشتري؛ لأن حقه ثابت بأصل العقد، فلا يتمكن المشتري من إبطاله، ولا يشبه تصرف المفلس، وتصرف المَرْأَةِ في الصَّدَاقِ، فإن حق البائع والزوج لا يبطل بالكليّة، بل ينتقل إلى الثمن، أو القيمة، والواهب رضي بسقوط حقه حيث سلمه إليه، وسلطه عليه وهاهنا يبطل حق الشفيع بالكلية، ولم يوجد منه رضا، ولا تسليم. قال الشيخ أبُو عَلِيٍّ: ويجوز أن يبنى الوجهان على القولين فيما إذا عتقت الأمة تحت عبد، وطلقها قبل أن تختار الفسخ، هل ينفذ الطلاق؟ ووجه الشبه أن الطلاق يبطل حقها في الفسخ، ولم تتسلط عليه كما ذكرنا في الشفيع وحكى القاضي أبُو الطَّيِّبِ عن القاضي الماسرجسي أنه لا ينقض تصرُّف الوقف، وينقض ما عداه. قال الغزالي: وَلَوْ تَنَازَعَ المُشْتَرِي وَالشَّفِيعُ في العَفْوِ فَالقَوْلُ قَوْلُ الشَّفِيع، في قَدْرِ الثَّمَنِ فَالقَوْلُ قَوْلُ المُشْتَرِي، أَوْ فِي كَوْنِ الشَّفِيعِ شَرِيكاً فَالقَوْلُ قَوْلُ المُشْتَرِي يُحَلَّفُ أَنَّهُ لاَ يَعْرِفُ لَهُ شَريكاً، فإِنْ أَنْكَرَ المُشْتَرِي الشِّرَاءَ فَإنْ كَانَ للِشَّفِيعِ بَيِّنَةٌ أَخَذَ الشِّقْصَ وَتَرَكَ الثَّمَنَ في يَدِهِ علَى رَأْيٍ (و) إِلى أَنْ يُقِرَّ، أَو يَحْفَظُهُ القَاضِي فِي وَجْهِ، أَو يُجْبَرُ، المُشْتَرِي عَلَى قَبُولِهِ في وَجْهٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَإِنْ أَقَرَّ البَائِعُ بِالبَيْعِ دُونَ قَبْضِ الثَّمَنِ سَلَّمَ الثَّمَنَ إِلَيْهِ وَأَخَذَ (و) بِالشُّفْعَةِ فَالحَقُّ لاَ يَعْدُوهُمَا، وَإِنْ قَالَ: قَبَضْتُ الثَّمَنَ فَيُقَرِّرُ الثَّمَنَ فِي يَدِهِ أَوْ يَحْفَظُهُ القَاضِي، وَقِيلَ: لاَ شُفْعَةَ هَهُنَا لِتَعَذُّرِ الأَخْذِ بِلاَ ثَمَنٍ. قال الرافعي: غرض الفصل في الاختلاف، وفيه مسائل: إحداها: إذا اختلف المشتري والشفيع، فقال المشتري للشفيع: عفوت عن الشفعة، أو قصرت، وسقط حقك، وأنكر الشفيع، فالقول قوله؛ لأن الأصل بقاء حقه. الثانية: قال المشتري: اشتريت بألف، وقال الشفيع: بل بخمسمائة، فالقول قول المشتري (¬1)؛ لأنه أعلم بالعَقْدِ الذي بَاشَرَهُ من الشفيع، ولأن الأصل بقاء ملكه حتى ¬
ينتزع بما يقرّ باستحقاق الانتزاع منه، وكذلك لو كان الثمن عرضاً، وتلف، واختلفنا في قيمته، فإن نكل المشتري حلف الشفيع، وأخذ بما حلف عليه، وهذا إذا لم تكن بينة، فإن كان لأحدهما بينة قضى بها، ولا تقبل شهادة البائع للمشترى؛ لأنه يشهد لحق نفسه، وفعل نفسه. وفيه وجه أنها تقبل؛ لأنه لا يجر إلى نفسه نفعاً بشهادته، والثمن ثابت له بإقرار المشتري، ولو شهد للشفيع، فيخرج من كلام النقلة ثلاثة أوجه: أحدها: المنع؛ لأنه شهد على نفسه حيث يقول: بعت بكذا، وهذا ما أجاب به العراقيون. والثاني: القبول؛ لأنه ينقض حقه، وهذا أصح عند صاحب "التهذيب". والثالث: أنه إن شهد قبل قبض الثمن قُبِلَ شهادته؛ لأنه ينقض حقه؛ إذ لا يأخذ أكثر مما شهد به، وإن كان شهد بعده لم تُقبل؛ لأنه يجر إلى نفسه نفعاً من حيث إنه إذا قَبِلَ الثمن قَبِلَ ما يغرمه عند ظهور ذلك الاستحقاق، وإن أقام كل واحد منهما بَيِّنة على ما يقوله، فعن الشيخ أَبِي حَامِدٍ أَنَّ بَيِّنَة المشتري أولى، كما أن بينة الداخل أولى من بينة الخارج. والأصح: ويحكى عن القاضي أبي حامِدٍ: أنهما يتعارضان؛ لأن النزاع هاهنا فيما وقع عليه العقد، ولا دلالة لليد عليه، وعلى هذا فالاستعمال هاهنا. أما إن قلنا بالتساقط، فكما لو لم تكن بينة، وإن استعملناها هاهنا إما بالقُرْعَة، وإما بالتوقف، ولو اختلف البائع والمشتري في قدر الثمن، فإن ثبت قول المشتري فذاك، وإن ثبت قول البائع بالبينة، أو باليمين المردودة، فعلى المشتري ما ادَّعاه البائع، يأخذ بما ادعاه المشتري لاعترافه بأن البيع جرى بذلك، والبائع ظالم بالزيادة، فَتُقْبل شهادة الشفيع للبائع، ولا تُقْبل للمشتري؛ لأنه متهم في تقليل الثمن، وإن لم تكن بينة وتحالفاً، وفسخ البيع بينهما، أو انفسخ، فإن جرى ذلك بعد ما أخذ الشفيع الشقص أقر في يده، وعلى المشتري قيمة الشقص للبائع، لأن جرى قبل الأخذ، ففي سقوط حقه الخلاف المذكور فيما إذا خرج معيباً. فإن قلنا: لا تسقط أخذه بما حلف عليه البائع؛ لأنه اعترف باستحقاق الشفيع الأخذ بذلك الثَّمن، فلا يبطل حَقُّه ببطلان حق المشتري بالتحالف، بل يأخذه منه، وتكون عهدته عليه، وتكلموا في أنه لو لم يتحالف المشتري، والشفيع تحالف البائع، والمشتري، وفرقوا بينهما من ثلاثة أوجه: أحدها: أن كل واحد من البائع والمشتري يدعي شيئاً ويدعي عليه شيء، فحلف
كل واحد منهما بحيث هو مدَّع، وليس كذلك الشفيع والمشتري، بل الشفيع مدعٍ محض، والمشتري مدعى عليه محض، فاختص بالتحليف. والثاني: أن البائع والمشتري كلاهما مباشر للعقد، والاحتمال في قولهما على السواء، وهاهنا الشفيع أجنبي عن العقد، فكان تصديق المباشر أولى. والثالث: قال أَبو إِسْحَاقَ: كل واحد من البائع والمشتري يرجع إلى شيء بعد التحالف، هذا إلى المبيع، وذاك إلى الثمن. وأما الشفيع والمشتري لو تحالفا لم يرجع الشفيع إلى شيء، فلا فائدة في تحليفه. الثالثة: لو أنكر المشتري كون الطالب شريكاً، فالقول قوله مع يمينه، وإنما يحلف على نفي العلم بشركته، لا على نفي شركته، فإن نكل حلف الطالب على البَتِّ، وأخذ بالشفعة، وكذلك الحكم لو أنكر تقدم ملك الطالب على ملكه. الرابعة: إذا كانا شريكين في عَقَار فَغَابَ أحدهما، ورأينا نصيبه في يد ثالث، فادَّعى الحاضر عليه أنك اشتريته، ولي فيه حق الشفعة، فلا يخلو إما أن يكون للمدعي بيِّنة على دعواه، أو لا يكون. القسم الأول: أن تكون له بَيِّنَة، فيقضي بها ويأخذه بالشفعة، ثم إن اعترف المدعى عليه سلّم الثمن إليه، وإلاَّ فيترك في يد المدعي إلى أن يقر المدعى عليه، أو يأخذه عنه القاضي ويحفظه، أو يجبر على قبوله، أو الإبراء فيه ثلاثة أوجه مذكورة في "باب الإقرار" وغيره. ولو أقام المدعي البيِّنة، وجاء المدعى عليه ببيّنة على أنه ورثه أو اتهبه، فالبينتان مُتَعَارضتان، وإن جاء ببيِّنة على أن ذلك الغائب أودعه إيَّاه، أو أعاره، فإن لم يكن للبينتين تاريخ لإيداع، فلا منافاة فيقضي بالشفعة؛ لأنه ربما أودعه، ثم باعه، وإن سبق تاريخ البيع فلا منافاة أيضاً لاحتمال أن البائع غصبه بعد البيع، ثم رده بلفظ الإيداع، فاعتمده الشهود. قال الشيخ أبُو حامدٍ: ولاحتمال أنه تعذَّر على المشتري تسليم الثمن، فقال له البائع: أودعتك ما في يدي من هذا العَقَار إلى أن تسلم الثمن، نعم لو انقطع الاحتمال، بأن كان تاريخ الإيداع لاحقا، وذكر الشهود أنه أودعه، وهو ملكه فهاهنا يراجع الشريك القديم، فإن قال إنه وديعة سقط دعوى الشراء. وإن قال: لا حَقٌّ لي فيه قضى له بالشفعة. والقسم الثاني: ألا تكون له بينة، فللمدعى عليه في الجواب أحوال:
أحدها: أن يقر بأنه كان لذلك الغائب، فاشتراه منه كما ادَّعى المدعي، فهل للمدعي أخذه؟. فيه وجهان عن ابْنِ سُرَيْجٍ. أحدهما: لا؛ لأنه اعترف بسبق ملك الغائب، ثم ادعى انتقاله إليه، فلا يقبل قوله في الانتقال، فعلى هذا يوقف الأمر حتى يكاتب، ويبحث هل هو مقر بالبيع؟. والثاني: وهو الأظهر: نعم لتقارهما على البيع، ويكتب القاضي في السجل أنه أثبت الشفعة بإقرارهما، فإذا قَدِمَ الغائب، فهو على حجته. الثانية: أن ينكر أصل الشراء، فالقول قوله مع يمينه، ثم ينظر إن اقتصر في الجواب على أنه لا يستحق أخذه بالشفعة أو أنه لا يلزمه تسليمه إليه حلف كذلك، ولم يلزمه التعرُّض لنفي الشراء، وإن قال في الجواب: لم أشتره، بل ورثته، أو اتهبته، فيحلف كذلك، أم يكفيه الحلف على أنه لا يستحق الشفعة؟. فيه جهان أما ذكرنا في دَعْوى عَيب المبيع. وإن نكل المدعى عليه حلف الطالب، واستحق الشِّقْص، وفي الثمن ما تقدم من الوجوه. هذا إذا أنكر المشتري، والشريك القديم غير معترف بالبيع، فإن كان معترفاً، والشِّقْص في يده، نظر إن لم يعترف بقبض الثمن، ففي الشفعة وجهان: أصحهما: ثبوتها، وبه قال أبُو حَنِيْفَةَ وَأَحْمَدُ والمُزَنِيُّ؛ لأن إقراره يتضمن إثبات حق المشتري، وحق الشفيع، فلا يبطل حق الشفيع بإنكار المشتري. والثاني: وبه قال مَالِكٌ: أنها لا تثبت؛ لأن الشفيع يتملك على المشتري، وهو منكر، فلا يثبت ما يتفرع عليه، ويروى هذا عن ابْنِ سُرَيْجٍ. فإن قلنا بالثبوت فإلى من يسلّم الثمن؟ فيه وجهان: أظهرهما: وهو المذكور في الكتاب إلى البائع، وتكون عهدته عليه؛ لأنه يتلقى الملك منه، فكان الشفيع في هذه الصورة هو المشتري. والثاني: أنه ينصب القاضي أميناً يقبض الثمن من الشفيع للمشتري، ويدفعه إلى البائع، ويقبض الشِّقْص من البائع للمشتري، ويدفعه إلى الشفيع، وهذا يستمد من أحد الوجهين في أن الأخذ بالشفعة هل يتوقف على قبض المشتري الشَّقْص؟ وإذا أخذ البائع ثمن الشفيع فهل له مخاصمة المشتري، ومطالبته بالثمن؟. فيه وجهان؛ لأنه قد يكون ماله أبعد من الشبهة، والرجوع بالدرك عليه أسهل.
إن قلنا: نعم، وحلف المشتري، فلا شيء عليه، وإن نكل حلف البائع، وأخذ الثمن من المشترى، وكانت عهدته عليه، وما أخذه من الشفيع يترك في يده، أم يؤخذ ويوقف؟ فيه وجهان، هكذا أورده صاحب "التهذيب". وفي "الشامل" أن الوجهين في أنه هل يطالب المشتري فيما إذا لم يرض بأخذ الثمن من الشفيع، فإن رضي فليقنع بما أخذ، وهذا أحسن. وإن اعترف مع البيع بقبض الثمن. فإن قلنا: لا شفعة فيما إذا لم يعترف بالقبض فهاهنا أولى. وإن اثبتنا الشفعة هناك، ففي هذه الصورة وجهان: أظهرهما: الثبوت، ثم الثمن يترك في يد الشفيع، أو يأخذه القاضي، ويحفظه، أو يجبر المشتري على قبوله أو الإبراء منه؟ فيه الأوجه السابقة. والثاني: ويحكى عن أبي إسحاق وابْنِ أَبي هُرَيْرَةَ: أنها لا تثبت؛ لأن الشفيع لا يأخذ إلاَّ بالثمن، ولا يمكن صرف الثمن هاهنا إلى المشتري، ولا إلى البائع. الثالثة: أن يقول في الجواب: اشتريته لفلان، ولا خصومة لك معي، فينظر في المضاف إليه أهو حاضر، أو غائب بالغ، أو صبي ويكون الحكم فيه على ما سيأتي في سائر الدعاوي (¬1). وقوله في الكتاب: "سلم الثمن إليه وأخذ" كلاهما معلم -بالواو- لما ذكرنا من الخلاف في الأخذ بالشفعة، وفيمن يسلم إليه الثمن على تقدير الأخذ. وقوله: "فيقرر الثمن في يده، أو يحفظه القاضي" -إشارة إلى الخلاف الذي ذكره مرة، وترك الوجه الثالث اكتفاء بما سبق في نظير المسألة، والله اعلم. قال الغزالي: الطَّرَفُ الثَّالثُ في تَزَاحُمِ الشُّرَكَاءِ، فَإِنْ تَوَافَقُوا فَي الطَّلَبِ وَتَسَاوَتْ حِصَصُهُمْ وُزَّع عَلَيْهِمْ بالسَّوِيَّةِ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ حِصَصُهُمْ فَقَوْلاَنِ فِي أنَّهُ يُوَزَّعُ عَلَى قَدْرِ الحِصَصِ (ح و) أَوْ عَلَى عَدَدِ الرُّؤُسِ، وَالجَدِيدُ عَلَى أنَّه عَلَى قَدْرِ الحِصَصِ، وَلَوْ بَاعَ أَحَدُ الشَّريكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ شَخْصَيْنِ فِي صَفْقَتَينِ مُتَعَاقِبَتَينِ فَالمُشْتَرِي الأَوَّلُ هَلْ يُشَارِكُ ¬
الشَّرِيكَ القَدِيمَ فِي أَخْذِ مَضْمُونِ الصَّفْقَةِ الثَّانِيَةِ وَمِلْكُهُ فِي نَفْسِهِ مُعَرَّضٌ لِلنَّقْضِ ثَلاَثةُ أَوْجُهٍ: يُفَرِّقُ في الثَّالِثِ بَيْنَ أنْ يَأْخُذَ القَدِيمُ نَصِيبَهُ فَلاَ يُسَاهِمَهُ (ح) أَوْ يَعْفُو عَنْ صَفْقَتِهِ فَيَسْتَقِرَّ شَرِكَتَهُ فَيُسَاهِمَ فِيهِ. قال الرافعي: الكلام في هذا الطرف ينحصر في ثلاثة أمور: الأول: أن يتفق الشركاء على الطلب. والثاني: أن يطلب بعضهم ويعفو بعضهم. والثالث: أن يحضر بعضهم، ويغيب بعضهم، وسبيل ضبطها إما أن يكون كلهم حضوراً أو لا يكون كذلك. إن كان الأول فأما أن يتفقوا على الطَّلب، وهو الأمر الأول، أو على الترك وشانه هين، أو يطلب بعضهم، ويترك البعض، وهو الثاني. وإن كان الثَّاني، فأما إن كانوا غائبين جميعاً، وهو متروك لوضوحه، أو كان بغضهم غائباً والبعض حاضراً وهو الثالث. أما الأول فتقدم عليه أن تعدُّد المستحقين للشفعة قد يكون ابتداء، بأن كانت الدار مشتركة جماعة، فباع أحدهم نصيبه، فتثبت الشفعة للباقين، وقد يحصل في الدوام بأن يكون الاستحقاق لواحد، فمات، تثبت الشفعة لورثته. وعند أبي حَنِيفَة وأحْمَدَ حق الشفعة لا يورث. لنا قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَرَكَ حَقَّا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ (¬1) " وأنه حق لازم مالي، فأشبه بالرد بالعيب. إذا تقرر ذلك، ففي الفصل مسألتان: إحداهما: أن المستحقين للشفعة إذا تساوت حصصهم، كدار بين ثلاثة أثلاثاً فيأخذ الشَّقْص بالسوية، وإن تفاوتت حصصهم، كما إذا كان لأحد الثلاثة نصفها، وللثاني ثلثها، وللثالث سدسها، فباع صاحب النصف نصيبه فقولان: أصحهما: وبه قال مَالِكٌ: أن الشفعة على قدر الحصص، فيقسم النصف بينهما أثلاثاً؛ لأن الشفعة من مرافق المِلْك، فيقدر بقدر الملك، ككسب العبد المشترك، والنِّتاج، والثمار. والثاني: وبه قال أبُو حَنِيْفَةَ، واختاره المُزَنِيُّ: أنها على عدد الرؤوس، فيقسم النصف بينهما بالسوية؛ لأن سبب ثبوت الشفعة أصل الشركة ألا ترى أن الشريك الواحد ¬
يأخذ الكل في نصيبه أو أكثر، وهما في أصل الشركة سواء فأشبه أجرة السكَّاك. وعن أحمد روايتان كالقولين. واحتج المُزَنِيُّ للقول الثاني بثلاث مسائل: إحداها: أنه إذا اشترك ثلاثة في عبد على التفاوت، فأعتق اثنان نصيبهما، وهما مُوسِرَانِ يغرمان نصيب الثالث بالسَّويَّة. والثانية: لو مات مَالِكُ الدار عن اثنين، ثم مات أحدهما، وله اثنان، ثم باع أحد الاثنين نصيبه سَوَّى الشَّافعي بين الأخ والعم في الشفعة مع تفاوت حصصهم. والثالثة: قال الشافعي: فيما إذا مات الشفيع قيل أن يأخذ فلورثته الشفيع أن يأخذوا وما كان يأخذه أبوهم بينهم على العدد، وامرأته وابنه في ذلك سواء. والجواب: أما مسألة العِتْق، فمن الأصحاب مَنْ لم يسلمها وجعلها على القولين. ومنهم من سلم، وفرق بأن ذلك ضمان إتلاف، والنظر فيه إلى المتلفين، لا إلى حال الإتلاف، وهذا فائدة من فوائد الملك، فيتقدر بقَدْره. وأما المسألتان الأخيرتان، فهما من باب الشفعة، فنشرحهما، ثم نذكر اعتذار من نصر القول الأول. أما الأولى، فللشافعي فيها قولان: القديم وبه قال مَالِكٌ أن الأخ يختص بالشفعة؛ لأن ملكه أقرب إلى ملك الأخ؛ لأنهما ملكًا بسبب واحد، ولهذا لو ظهر دَيْن على أبيهما يباع فيه ملكهما، دون ملك العم، وإذا كان أقرب ملكاً كان أحق بالشفعة، كالشريك مع الجار. وأصحهما: وبه قال أَبو حَنِيْفَةَ وأحْمَدُ والمُزَنِيُّ: أنهما يشتركان في الشفعة؛ لاشتراكهما في الملك، والنظر في الشفعة إلى ملك الشريك، لا إلى سبب ملكه؛ لأن الضرر المحوج إلى إثبات الشفعة لا يختلف، فعلى هذا يوزع على الأخ والعم بالسوية أم على قدر الحصص فيه القولان، وقال الإمام قضية المذهب القطع بالتوزيع عليهما على قدر الحصص لأن القول باستحقاقهما هو الجديد، ولا تردد على الجديد في أن الشفعة على قَدْر الحصص، والتوزيع على الرؤوس هو القول القديم. وفي القديم لا شفعة للعم في المسألة، وفي هذا الذي ذكره نِزاعٌ سنورده من بعد. وإذا قلنا باختصاص الأخ بالشفعة، فلو أنه عفا، هل تثبت للعم؟ فيه وجهان عن ابْنِ سُرَيْجٍ: أحدهما: لا؛ لأنه لو كان مستحقًّا لتقدم غيره عليه.
والثاني: نعم لأنه شريك، وإنما يقدم الأخ عليه لزيادة قربه فهذا سقط حقه استحق العم، كما أن المرتهن يتقدم على سائر الغرماء في المرهون، ثم إذا سقط حقه تمسك به الباقون، وهذا الخلاف راجع إلى أن العم على القول القديم ساقط عن الاستحقاق، أو مزحوم بالأخ، والقولان في مسألة الأخ والعم جاريان في كل صورة ملك شريكان بسبب واحد، وغيرهما من الشركاء بسبب آخر، فباع أحد المالكين بالسبب الواحد نصيبه، ففي قول: الشفعة لصاحبه خاصة. وفي قول: للكل مثاله: كان بين اثنين دار، فباع أحدهما نصيبه من رجلين أو وهبه، ثم باع أحدهما نصيبه، أو مات مالك الدار عن ابنين وأختين، فباعت إحدى الأختين نصيبها، ففي من له الشفعة وجهان عن ابْنِ سُرَيْجٍ. أحدهما: أنه على القولين، ففي قول: هي للأخت الأخرى، وفي قول: لهن جميعاً. وأظهرهما: القطع باستحقاقهن جميعاً؛ لأن سبب ملكهن واحد، وإنما الاختلاف فى مقادير المِلْكِ. وأما الثانية: فإذا مات الشفيع عن ابْنٍ وزوجة ورثا حق الشفعة، كما تقدم، وفي كيفيته ثلاث طرق: أحدها: أن في كون الشفعة بينهما على الرؤوس، أو على قَدْر المواريث القولين: أظهرهما: وبه قال صاحب "الإفصاح" والشيخ أَبُو حَامِدٍ: القطع بأنهما يأخذان على قدر الميراث، والطريقان مبنيان على خلاف الأصحاب في أن ورثة الشفيع يأخذون لأنفسهم، أو للموروث، ثم يتلقون منه فإن قلنا: يأخذون لأنفسهم عاد القولان في المسألة. وإن قلنا: يأخذون للميت، قطعنا بأنهما يأخذان على قدر الميراث، والثاني يوجه بأنهم أخذوا لأنفسهم لأخذوا بالملك، وإنما يحصل ملكهم بالإرث، وهو متأخر عن الشراء، والملك التأخر لا يفيد ولاية الشفعة. والطريق الثالث: القطع بالتسوية؛ لأن المورث من الشفيع حق تملك الشقص لا الشقص، ومجرَّد الحقّ قد يسوى فيه بين الورثة، كحد القَذْف، هكذا حكاه، ووجهه الشيخ أبُو الفَرَجِ السَّرْخَسِيُّ، وإذا عرفت المسألتين، فمن نصر قول التوزيع على الحِصص قال في المسألة الأولى: إن قلنا بطريق القولين، فلا فرق، ولا احتجاج.
وعلى ما ذكره الإمام الحكم في المسألة غير ما احتج به جزماً، فلا يصح الاحتجاج به أصلاً، ولكن الذي ذكره مبني على أن الجديد هو التوزيع على الحصص. والأكثرون عكسوا ذلك، وقالوا: القولان معاً منصوصان في "الأم"، والقديم منهما هو التوزيع على الحصص، ولذلك اعترضوا على ابْنِ القَاصِّ، ومن أثبت قول التوزيع في المسألة تفريعاً على ثبوت الشفعة للأخ والعم جميعاً بأن الشفعة إنما ثبتت لهما في الجديد. وفي الجديد التوزيع على عدد الرؤوس فلا يجيء فيهما إلاَّ قولان: التخصيص بالأخ، والتسوية بينهما، ذكر هذا الاعتراض القَفَّالُ في كثير من الأئمة. وأما المسألة الثانية: فمن قال فيها بالقولين، قال: الذي ذكرناه أحد القولين، وسقط الآخر، ومن قطع فيهما بالتفاوت اختلفوا، فمنهم مَنْ لم يثبت ما نقله المُزَنِيُّ. ومنهم من حمله على التسوية في أصل الاستحقاق دون المقدار المستحق. وقوله في الكتاب: "والجديد على أنه على قدر الحِصَصْ معلّم -بالحاء والزاي- وجعل هذا القول جديداً اتباعاً لما ذكره الإمام، وفيه ما ذكرنا عن الأولين، وكأنهم لما رأوا القولين منصوصين في الجديد، وأحدهما وهو التوزيع على الحصص منصوصًا في القديم، رأوا اسم الجديد مما يقابل القديم أحق فخصصوه به. المسألة الثانية: دار بين اثنين مناصفة باع أحدها نصف نصيبه من إنسان، ثم باع النصف الثاني من آخر، فالشفعة في النصف الأول تختص بالشريك القديم، ولا يخلو الحال إما أن يعفو عنه، أو يأخذه، إن عفا فهل يشاركه المشتري الأول في النصف الثاني؟. فيه وجهان: أحدها: لا؛ لأن الشريك القديم مسلّط على ملكه، فكيف يزاحمه به. وأصحهما: نعم؛ لأن ملكه قد سبق الصفقة الثانية، واستقر بعفو الشريك القديم، فيستحق به. وقطع قاطعون بهذا الوجه. إذا قلنا به فيأخذان بالسوية، أم بحسب الحصتين؟. فيه القولان السابقان. وإن أخذ الشريك القديم النصف الأول، ففي مشاركة الأول إياه في النصف الثاني وجهان، أيضاً قربوهما من الخلاف فيما إذا باع الشفيع ملكه، وهو جاهل بالشفعة، هل يبقى له الحق؛ لأنه زال ملكه هاهنا بالقهر، كما زال هناك بالجهل. والأصح: أنه لا يشاركه، وقطع به بعضهم.
وإذا اختصرت قلت في المسألة ثلاثة أوجه، كما ذكر في الكتاب: أحدها: أن الشريك القديم، والمشتري الأول بتساويان في النصف الثاني بكل حال. والثاني: يختص به الشريك القديم بكل حال. والثالث: يفرق بين أن يعفو عن النصف الأول، أو لا يعفو، وهو الظاهر، والمحكي عن أبِي حَنِيْفَةَ في المسألة يوافق الوجه الأول. قال الغزالي: وَإِنْ عَفَا أَحَدُ الشَّريكَيْنِ وَجّبَ عَلَى الثَّانِي أَنْ يَأَخُدَ الكُلَّ (و) لأَنَّ أخذ البَعْضِ إِضرَارٌ بِالمُشْتَرِي، وَإِنْ عَفَا شَرِيكٌ وَاحِدٌ عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ سَقَطَ (و) كُلُّهُ، كَالعَفْوِ عَنِ القَصَاصِ فَإنَّهُ لاَ يَتَجَزَّأُ نَظَرَاً لِلمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانُوا ثَلاَثَةً وَلَمْ يَحْضُرْ إِلاَ وَاحِدٌ أَخَذَ الكُلَّ وَسلَّمَ كُلَّ الثَّمَنَ حَذَرَاً مِنَ التَّبْعِيضِ، فَإِذا رَجَعَ الثَّانِي شَاطَرَهُ وَمَلَكَ عَلَيْهِ مِنْ وَقْتِ تَسْلِيمِ نِصْفِ الثَّمَنِ إِلِيْهِ وَعُهْدَتِهِ، وَإذَا جَاءَ الثَّالِثُ قَاسَمَهُمَا جَمِيعاً. قال الرافعي: الأمر الثاني: أن يطلب بعض الشركاء، ويعفو بعضهم، ونبتدئ فيه بما إذا كانت الشفعة لواحد، فعفا عن بعض حقه. وفيه وجوه: أصحها: وهو المذكور في الكتاب: أنه يسقط جميعه؛ لأن التبعيض لا سبيل إليه، لما فيه من الإضرار بالمشتري، فهذا سقط بعضه سقط كله، كالقصاص إذا عفا المستحق عن بعضه. والثاني: لا يسقط شيء؛ لأن التبعيض قد تعذَّر، وليست الشفعة مما يسقط بالشبهات، فيغلب فيها جانب الثبوت، وأيضاً فإنه لم يرض بترك حقه، وإنما عفا عن البعض ليأخذ الباقي، فصار كما لو عفا عن بعض حد القذف. والثالث: أنه يسقط ما عفا عنه، ويبقي الباقي؛ لأنه حق مالي قابل للانقسام. وعن الصَّيْدَلاَنِيِّ أن موضع هذا الوجه ما إذا رضي المشتري بتبعيض الصفقة عليه، فإن أبَى وقال: خذ الكل، أوْ دَعِ الكل، فله ذلك. قال الإمام: وهذه الوجوه إذا لم نحكم بأن الشفعة على الفور، فإن حكمنا به فطريقان. منهم: من قطع بأن العفو عن البعض تأخير في طلب الباقي. ومنهم: من احتمل ذلك إذا بادر إلى طلب الباقي، وأجرى الوجوه ما يؤيد الأول
أن صاحب "الشامل" ذكر أنه لو استحق شِقْصاً بالشفعة، فجاء، وقال: آخذ نصفه سقطت شفعته في الكل؛ لأنه ترك طلب النصف. إذا تقرر ذلك، فلو استحق الشفعة اثنان، فعفا أحدها عن حقه، ففيه أربعة أوجه: أحدها: ويحكى عن ابْنِ سُرَيْجٍ: أنه يسقط حقهما جميعاً، كما لو استحق اثنان القصاص، فعفا أحدها. والثاني: لا يسقط حق واحد منهما كما ذكرنا في الصورة الأولى؛ لأنه لا يسقط شيء، فغلبنا جانب الثبوت. والثالث: أنه يسقط حق العافي، وليس لصاحبه إلاَّ أن يأخذ قسطه؛ لأن العفو يقتضي استقرار العفو عنه على المشتري، كما لو عفوا جميعاً، وليس للمشتري أن يلزمه أخذ الجميع. والرابع وهو الأصح: أن حق العافي يسقط، ويثبت الحق بكماله للثاني فإن شاء ترك الكل، وإن شاء أخذ الكل، وليس له أن يقتصر على أخذ حصته لولا العفو؟ لما فيه من تبعيض الصفقة على المشتري، هذا هو الوجه المذكور في الكتاب. وقوله: "وجب على الثاني أن يأخذ الكل" أراد به أنه إن أخذ الكل لا الحصة إلاَّ أنه يلزمه الأخذ، هذا إذا ثبتت الشفعة لعدد ابتداء. أما إذا ثبت لواحد، ومات، وورثه اثنان، فعفا أحدها، فهو كما لو ثبتت الشفعة لواحد، فعفا عن بعضها، أو ثبتت لاثنين، فعفا أحدهما فيه وجهان: أظهرهما: الثاني قال الإمام: والخلاف بناء على ما سبق أن الوارث يأخذ الشفعة لنفسه، أو يتلقاها عن المورث. واعلم أن الوجوه المذكورة شاملة لعفو الشفيع عن بعض حقه وليعفو أحد الشفيعين عن حقه إلاَّ الوجه الصائر إلى استقرار العفو عنه على المشتري، فإنهم لم يذكروه في عفو الشفيع عن بعض حقه، فيه يحصل الافتراق، وأيضاً يفترقان في الأصح. ولو كان للشقص شفيعان، فمات كل واحد منهما عن ابنين، فعفا أحدها. فإن قلنا: عفو الوارث كعفو الشفيع عن بعض حقه، ففي وجه يسقط الكل وفي وجه كما كان، وقياس الوجه الثالث في عفو الشفيع عن بعض حَقّه أن يسقط حق العافي وأخيه، ويأخذ الآخران.
فرع
وإن قلنا: كعفو أحد شفيعي الأصل عاد الوجه الأول والثاني. وفيه وجه ثالث: وهو أنه ينتقل حق العافي إلى الثلاثة، فيأخذون الشِّقْص أثلاثاً. ووجه رابع: وهو أن حق العافي يستقر للمشتري، وكل واحد من الثلاثة يأخذ الرُّبع. ويجيء في هذه الصورة وجه خامس: وهو أن حق العافي ينتقل إلى أخيه خاصة، بناءً على القول القديم في مسألة الأخ والعم. فرع مات الشفيع عن اثنين، وادّعى المشتري عليهما أنهما عفوا، فالقول قولهما مع اليمين، وتكون اليمين على البَتّ، بخلاف ما إذا ادعى أن أباهما عفا عن الشفعة، فأنكرا، فإنهما يحلفان على نفي العلم، ثم إن حلفا أخذا، وإن نكلا حلف المشتري، ويبطل حقهما، وإن حلف أحدهما دون الآخر. قال ابْنُ الحَدَّاد: ليس للمشتري أن يحلف؛ لأنه لا يستفيد بيمينه شيئاً، فإنه وإن ثبت عفو أحدهما ينتقل الحق إلى الثاني، وهذا جواب على أنه إذا عفا أحد الشريكين كان للآخر أن يأخذ الكل، وهو الأصح. أما إذا قلنا: إن حق العافي يستقر على المشتري فيحلف المشتري ليستقر له نصيب النَّاكل، ثم الوارث الحالف لا يستحق الكل بنكول أخيه، ولكن ينظر إن صدق أخاه على أنه لم يَعْفُ فالشفعة بينهما، وإن ادّعى عليه العفو، وأنكر الناكل عرضت عليه اليمين لدعوى أخيه ولا يمنعه من الحلف نكوله في الجواب للمشتري فإن حلف فالشفعة بينهما وإن نكل في جوابه أيضاً حلف المدعي على أنه عفا، وحينئذ يأخذ الكل. قال: وإن كانوا ثلاثة ولم يحضر إلاَّ واحد أخذ الكل، وسلم كل الثمن حذاراً من التبعيض، فإذا رجع الثاني شاطره، وملك عليه من وقت تسليم النصف من الثمن إليه، وعهدته عليه، فإذا جاء الثالث قاسمهما جميعاً. الأمر الثالث: أن يحضر بعض الشركاء دون بعض، فإذا كانت الدار لأربعة بالسوية، فباع أحدهم نصيبه، وثبت الشفعة للباقين، ولم يحضر إلاَّ واحد، فليس له أخذ حصته من الشقص؛ لأنه ربما لا يأخذ الغائبان، فتتفرق الصفقة على المشتري، ولا يكلف الصير إلى أن يحضرا، ولكنه يخيّر بين أن يأخذ الكل، أو يترك الكل، وهل له تأخير الأخذ إلى حضور الشريكين إذا جعلنا الشفعة على الفور؟. أحدهما، وبه قال ابْنُ أبِي هُرَيْرَةَ: لا لتمكنه من الأخذ. وأصحهما: عند الشيخ أبي حَامِدٍ، ويحكى عن ابْنِ سُرَيْجٍ وأبي إسحاق: نعم؛ لأنه تأخير بالعذر؛ لأن له عوضاً ظاهراً ألا يؤخذ منه، وإذا أخذ الكل، ثم حضر بعض
الغائبين أخذ منه النصف بنصف الثمن، كما لو لم يكن إلاَّ شفيعان، فإذا حضر الثالث، فله أن يأخذ من كل واحد منهما ثلث ما في يده، وحينئذ يحصل الاستواء، وششقر ملكهم، ثم للمسألة فروع: منهما: إذا خرج الشقص مستحقّاً بعد الترتيب المفروض، ففي العهدة وجهان: أحدها: أن عهدة الثلاثة على المشتري لاستحقاقهم الشفعة عليه. والثاني أن رجوع الأول على المشتري يسترد منه كل الثمن، ورجوع الثاني على الأول يسترد منه النصف، ورجوع الثالث على الأولين يسترد من كل واحد منهما ما دفع إليه؟ لأن التملك، وتسليم الثمن هكذا وقع فيما بينهم، وهذا أظهر، وهو المذكور في الكتاب. والعراقيون يرجِّحون الأول. وفي "التتمة" أن هذا الخلاف في الرجوع بالمغروم من أُجرة المِثْل، وما عساه ينقص من قيمة الشقص، فأما الثمن فكل منهم يستردُّ ما سلّمة ممن سلمه إليه بلا خلاف. ولو أخذ الحاضر جميع الشقص، ثم وجد به عيباً، فردَّه، فقدم الثاني وهو في يد المشتري، فله أخذ الكل. ومنهما: ما يستوفيه الأول من المنافع، ويحصل له من الأجرة، والثمن يسلم له، فلا يزاحمه فيها الثاني والثالث على أصح الوجهين، وكذا الثالث لا يزاحم الثاني فيما حصل له بعد المُشاطرة، كما أن الشفيع لا يزاحم المشتري فيها، ويقرب من هذين الوجهين الخلاف فيما إذا أخذ الأول كل الشِّقْص وأفرزه بأن أتى الحاكم، فنصب قَيِّماً في مال الغائبين، فاقتسما، وبنى فيه أو غرس، ثم رجع الغائبان هل لهما القلع؟ وأصح الوجهين: أنهما لا يقلعان، كما أن الشفيع لا يقلع بناء المشتري، وغراسه مجاناً، وفي الثاني لهما القلع؛ لأنهما يستحقان مثل استحقاق الأول، وبذلك السبب، فليس له التصرف حتى يظهر حالهما، بخلاف الشفيع مع المشتري، ولو كان الثاني حاضرين، فأخذا الشِّقْص، واقتسما مع القَيِّم في مال الغائب، ثم قدم الغائب، فله الأخذ وإبطال القسمة، وإن عفا استمرت القسمة. منهما: لو أخذ الأول والثاني كما صورنا ثم حضر الثالث، وأراد أن يأخذ من أخدهم ثلث ما في يده، ولا يأخذ من الثاني شيئاً، فله ذلك، كما يجوز للشفيع أن يأخذ نصيب أحد المشترين دون الثاني. ومنها: لو أخذ الأول الكل، وقدم الثاني، وأراد أن يأخذ الثلث بلا مزيد هل له ذلك؟. فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له ذلك، كما لا يجوز للأول إن اقتصر على أخذ الثلث. وأظهرهما: نعم؛ لأن أخذه الثلث لا يفرق الحق على الأول؛ إذ الحق ثبت لهم أثلاثًا، وبأخذ الأول الثلث تفرق الصفقة على المشتري، فإن أخذ الثلث تفريعًا على هذا الوجه، أو أخذه بالتَّراضي، ثم قدم الثالث، نظر إن أخذ من الأول نصف ما في يده، ولم يتعرض للثاني، فلا كلام قاله في "التتمة". وإن أراد أن يأخذ من الثاني ثلث ما في يده، فله ذلك؛ لأنه يقول: ما من جزء الأولى ثلثه، وإن ترك الثاني حقه حيث لم يشاطر الأول، فلا يلزمني أن أترك حقي، ثم له أن يجيء إلى الأول، فيقول: ضُمَّ ما معك إلى ما أخذته لنقسمه نصفين لأنا متساويا القَدْر والشقص، والحالة هذه إنما تصحُّ قسمته من ثمانية عشر؛ لأنا نحتاج إلى عدد له ثلث، ولثلثه وثلث، أقله تسعة يحصل منها ثلاثة في يد الثاني، وستة في يد الأول، ثم ينتزع الثالث من يد الثاني واحدًا ويضمه إلى الستة في يد الأول تكون سبعة يقتسمانها بينهما، وسبعة لا تنقسم على اثنين، فتضرب اثنين في تسعة تبلغ ثمانية عشرة، وكان في يد الثاني من التسعة بعد انتزاع الثالث منه ما انتزع اثنان، نضربهما في المضروب في المسألة يكون له أربعة، فهي حِصّته تبقى أربعة عشر، يأخذ كل واحد من الأول والثالث منهما سبعة، فإذا كان ربع الدار ثمانية عشر كانت جملتها اثنين وسبعين، هذا ما ذكره الأكثرون، ونقلوه عن ابْنِ سُرَيْجٍ. وحكى الإمام عن القاضي حسين أنه لما ترك الثاني سدسًا على الأول كان عافيًا عن بعض الحق والشفيع إذا عفا عن بعض حقه يبطل جميعه على الظاهر كما سبق، فينبغي أن يسقط حق الثاني بالكلية، ويكون الشقص بين الأول والثالث. ومنها: قال ابْنُ الصَّبَّاع: لو حضر اثنان، وأخذا الشقص، ثم حضر الثالث وأحدهما غائب، فإن قضى له القاضي على الغائب أخذ من كل واحد من الحاضر والغائب ثلث ما في يده وإلاَّ فوجهان أحدهما: أنه يأخذ من الحاضر ثلث ما في يده لأنه الذي يستحقه منه، والثاني يأخذ نصف ما في يده؛ لأنه إذا غاب أحدهما، فكأن الحاضرين هما الشفيعان، فيسوى بينهما، ثم لو حضر الغائب، وقد غاب الحاضر، فإن كان الثالث، قد أخذ من الحاضر ثلث ما في يده أخذ من هذا الذي قدم ثلث ما في يده أيضًا، وإن كان قد أخذ نصف ما في يده أخذ من القادم سدس ما في يده، ويتم نصيبه بذلك الشِّقص، والمسألة تقسم من اثني عشر للحاجة إلى عدد له نصف ولنصفه ثلث وسدس، وإذا كان الربع اثني عشر فالكل ثمانية وأربعون. ومنها ثبتت الشفعة لحاضر وغائب، فعفا الحاضر، ثم مات الغائب، وورثه الحاضر له أخذ الشقص بالشفعة، وان عفا أولًا لأنه الآن يأخذ بحق الإرث، وهذا
جواب على أصح الأوجه في عفو أحد الشريكين، وهو أن للآخر أخذ الكل، وساعده التفريع على أن العفو من بعض الشركاء لا يصح. أما إذا قلنا: إن نصيب العافي يستقر على المشتري، فلا يأخذ الحاضر بحق الإرث إلاَّ النصف. وإن قلنا: إن عفو أحدهما يسقط حق الآخر أيضًا لم يأخذ شيئًا. قال الغزالي: وَمَهْمَا تَعَدَّدَ البَائِعُ أَوْ المُشْتَرِي جازَ أَخْذُ مَضْمُونِ إِحْدَى الصَّفْقَتَيْنِ، وإِنِ اشْتَرَى فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ شِقْصَيْنِ فِي دارَيْنِ شَرِيكُهُما وَاحِدٌ فَفِي جَوازِ أَخْذِ أَحَدِهِما وَجْهَانِ. قال الرافعي: أصل الفصل أنه ليس للشفيع تفريق الصفقة على المشتري على ما مَرَّ أثناء الكلام، ولو اشترى اثنان شِقْصًا من واحد، فللشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما خاصة؛ لأنه لا يفرق على واحد منهما ملكه. وعن أبي حَنيْفَةَ لا يجوز إن كان ذلك قبل القبض، وإن تعدد البائع بأن باع اثنان من شركاء الدار شِقْصًا من واحد فوجهان: أحدهما: أنه لا يجوز أخذ حِصَّة أحد البائعين؛ لأنّ المشتري ملك الكل بصفقة واحدة، فلا يفرق ملكه عليه، وبهذا قال مالك. وأصحهما: ويحكى عن نَصِّه في القديم، وبه أجاب المُزَنِيُّ أنه يجوز؛ لأن تعدُّد البائع يوجب تعدد العقد، كتعدد المشتري، فصار كما لو ملكه بعقدين، ولو باع اثنان من شركاء الدار نصيبهما بعقد واحد من رجلين، والصفقة نازلة منزلة أربعة عقود تفريعًا على الأصح في أن تعدُّد البائع كتعدد المشتري، وللشفيع الخيار بين أن يأخذ الجميع، وبين أن يأخذ ثلاثة أرباع المبيع، وهو نصيب أحد المشترين، ونصف نصيب الآخر، وبين أن يأخذ نصفه إما بأخذ نصيب أحدهما، وترك الآخر، أو بأخذ نصف نصيب واحد منهما، وبين أن يأخذ ربعه بأخذ نصف نصيب أحدهما لا غير، وإن وَكَّل وكيلين في بيع شِقْصٍ، أو شرائه، أو وكل وكيلاً في بيع شقص، أو شرائه، فالاعتبار بالعاقد، أو من له اليد فيه خلاف، وقد ذكرناه في "تفريق الصفقة" حتى لو كانت الدَّار لثلاثة شركاء توكل أحدهم لآخر ببيع نصيبه، وجَوَّز له أن يبيعه مع نصيب نفسه إن شاء صفقة واحدة فباع كذلك، فليس للثالث إذا جعلنا الاعتبار بالعاقد إلاَّ أخذ الكل، أو ترك الكل، فإن جعلنا الاعتبار بالمعقود، فله أن يأخذ حصة أحدهما دون الآخر كما لو باع كل منهما حِصَّته بنفسه. ولو كانت الدار لرجلين، فوكل أحدهما الآخر ببيع نصف نصيبه، وجَوَّز له أن يبيعه مع نصيب نفسه، إن شاء صفقة واحدة، فباع كذلك، وأراد الموكل أخذ نصيب
الباب الثالث فيما يسقط به حق الشفعة
الوكيل بالشفعة بحق ما بقي له من النِّصْف، فله ذلك؛ لأنّ الصفقة اشتملت على ما لا تثبت فيه الشفعة للموكل وهو ملكه، وعلى ما تثبت، وهو ملك الغير فشبه ذلك بما إذا باع ثوبًا وشِقْصًا بمائة. وفيه وجه: أنه كالصورة السابقة، ولو باع شِقْصَيْن من دارين صفقة واحدة، فإن كان الشفيع في أحدهما غير الشفيع في الأخرى، فلكل واحد منهما أن يأخذ ما هو شريك فيه، وافقه الآخر في الأخذ أم لا، وإن كان الشفيع فيهما واحدًا فوجهان: أحدهما: ويروى عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز؛ لأن الصفقة متحدة. وأصحهما: الجواز؛ لأنه لا يفضي إلى تَبْعيض الشيء الواحد وذلك التبعيض هو الذي يوجب الضرر. قال الغزالي: (البَابُ الثَّالِثُ فِيما يَسْقُطُ بِهِ حَقَّ الشُّفْعَةِ)، وفِيهِ ثَلاَثةُ أَقْوَالٍ: (الأَوَّلُ): الجَدِيدُ أَنَّهُ عَلَى الفَوْرِ (م)، قَالَ صلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ: الشُّفْعَةُ كَحَلِّ العِقَالِ (والثاني) أَنَّهُ يَبْقَى ثَلاَثةَ أَيَّامٍ (والثَّالثُ): أنَّهُ يَتَأَبَّدُ فَلا يَبْطُلُ إِلاَّ بإِبْطالٍ أَوْ دَلاَلَةِ الإِبْطَالِ (و). قال الرافعي: لا شَكَّ أن حَقّ الشفعة يعرض له السّقوط، ومقصود الباب بيان أنه بِمَ يسقط؟. وسبيل التدرج إليه أن قول الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه- اختلف في أنه تثبت على الفور أم على التراخي؟ وأصح القولين وهو المنصوص في الكتب الجديد انه على (¬1) الفور لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: (الشُّفْعَةُ كَحَلِ العِقَال) (¬2). أي أنها تفوت إذا لم يُبْتَدَر إليها كالبعير الشّرود يحل عنه العِقَال ويروى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال "الشُّفْعَةُ لِمَهْر وَاثبها (¬3) " وروى "بالشُّفْعَةِ كَنَشْطِهِ العِقَالْ إنْ قُيِّدَتْ ثَبَتَتْ وإلاَّ فاللَّوْمُ ¬
عَلَى مَنْ تَرَكَها" (¬1) وأيضًا فإنه حق خيار ثبت في البيع بنفسه لدفع الضرر، فكان على الفور كالرد بالعيب. والثاني: أنه على التَّراخي، وعلى هذا ففي تقدير مدته قولان: أظهرهما: التقدير في ضبطها قولان: أظهرهما: أنها تمتد إلى ثلاثة أيَّام؛ لأن الحكم بالفور يضر بالشفيع، فإنه قَدْ يحتاج إلى تأمل ونظر، والحكم بالتأييد يضر بالمشتري؛ لأنه لا يأمن من أخذ الشفيع، فتفوت عليه العمارة والتصرف، فلا بُدَّ من حَدٍّ فاصِلٍ، فجعلت الثلاثة حدًا كما في خيار الشرط وغيره. والثاني: عن حكاية صاحب "التقريب" أنه يمتد إلى أن تمضي مدة التدبر في ملك ذلك الشِّقص، ويختلف باختلاف حال المأخوذ. والثاني: أنه لا تتقدَّر له مدة، بل يتأبد؛ لأنه لا ضرر على المشتري في التأخير، إذ الشقص له وإن بني فيه، أو غرس، فله قيمته إن أخذ الشفيع، وما لا ضرر في تأخيره يتأبد كالقِصَاصِ، فعلى هذا لو صَرَّح بإبطاله يبطل. وفيما يدل على الإبطال قولان: أظهرهما: البطلان وهو المذكور في الكتاب. ومما له دلالة البطلان قوله للمشتري بع الشقص ممن شئت، أو هبه، ولو قال: بعنيه، أو هبه مني، أو قاسمني عليه فكذلك. وفيه وجه: أنه لا يبطل به بقاء الشفعة، لأنه قد يحاول الأخذ بغير طريق الشفعة إن تيسر له، وللمشتري إذا لم يأخذ الشفيع، ولم يَعْفُ أن يرفعه إلى الحاكم ليلزمه الأخذ، أو العفو. وفيه قول: أنه ليس له تنزيلاً للشفيع منزلة مستحق القصاص. ويخرج من الترتيب المذكور عند الاختصار خمسة أقوال في كيفية ثبوت الشُّفْعَةِ: أنها على الفور تمتد ثلاثة أيَّام -تمتد مدة تسع للتأمل- تتأبد إلى التصريح بالأبطال ¬
تتأبد إلى أن يصرح بالإبطال، أو يأتي بما يدل عليه. وعند أبِي حَنِيْفَةَ وأحْمَدَ أنها تمتد امتداد المجلس للعلم بالشفعة. وعند مالك: تمتد سنة في رواية ومدة يغلب على الظن فيها الإسقاط والترك فيها في الأخرى. قال الغزالي: والصَّحِيْحُ أنَّهُ عَلَى الفَوْرِ وأنَّهُ يَسْقُطُ بَكُلِّ ما يُعَدُّ تَقْصِيرًا أو تَوانِيًا فِي الطَّلَبِ، فإِذَا بَلَغَهُ الخَبَرَ فَلْيَنْهَضُ عَنْ مَكَانِهِ طَالِبًا، فَإنْ كَانَ مَمْنُوعًا بِمَرَضٍ أَوْ حَبْسٍ فِي باطِلٍ فَلْيُوكِّلْ، فإِنْ لَمْ يُوَكِّلْ مَعَ القُدْرَةِ بَطَلَ حَقُّهُ (و) إِنْ لمْ يَكُنْ في التَّوْكِيلِ مَؤْنَةٌ وَمِنَّه ثَقِيلةٌ، فإنْ لَمْ يَجِدْ الوَكِيلَ فَلْيُشْهِدهُ، فَإنْ تَرَكَ الأِشْهادَ فَفِي بُطْلاَنِ حَقِّهِ قَوْلاَنِ، وإنْ كَانَ المُشْتَرِي غائِبًا وَلَمْ يَجِدْ في الحَالِ رُفْقَةً وَثِيْقَةً لاَ يَبْطُلُ حَقُّهُ، وَإِنْ كَانَ فِي حَمَّامٍ أَوْ عَلَى طَعَامٍ أَوْ فِي صَلاةٍ نَافِلَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ (و) قَطْعُهَا عَلَى خِلاَفِ العَادَةِ. قال الرافعي: إنما أعاد ذكر الفَوْر، فقال: "والصحيح أنه على الفور" لأنه أراد التفريج عليه. واعلم أنا إنما نحكم بالفور بَعْد علم الشفيع بالبيع. أما إذا لم يعلم حتى مضت سنون، فهو على حقِّه. ثم إذا علم فلا يكلّف ابتدارًا على خلاف العادة بالعد ونحوه، بل يرجع فيه إلى العُرْف فما يعد تقصيرًا أو توانيًا في الطلب يسقط الشفعة، وما لا يعد تقصيرًا لاقتران عذر به لا يسقطها، والأعذار ضربان: أحدهما: ما لا ينتظر زواله عن قرب كالمرض المانع من المطالبة، فينبغي للمريض أن يوكل إن قدر عليه، وإن لم يفعل فثلاثة أوجه: أصحها: بطلان الشفعة، كما لو أمكنه الطلب بنفسه فقصر. والثاني وبه قال أبُو علِيٍّ الطَّبَرِيُّ: لا يبطل؛ لأنه يلزمه في التوكيل مِنَّة أو مُؤْنَة. والثالث: إن لم يلزمه فيه مِنَّة ولا مؤْنَة ثقيلة يبطل حقه، وإن لزمه أحدهما لم يبطل. وإن لزمه أحدهما لم يبطل. وإن لم يمكنه التوكيل، فليشهد على الطلب، فإن لم يشهد فقولان، أو وجهان: أظهرهما: أنه يبطل حقه؛ لأن السكوت مع التمكن من الإشهاد مشعر بالرضا. والثاني: لا يبطل، وإنما الإشهاد لاثبات الطلب عند الحاجة، وهذا ما اختاره الشيخ أبُو مُحَمَّدٍ. والخوف من العدو كالمرض، وكذا الحَبْس إن كان ظلمًا أو بِدَيْنٍ هو معسر به، وعاجز عن بَيِّنَة الإعسار، فإن حبس بحق، فإن كان مليئًا فهو غير فعذور، بل عليه الأداء والخروج.
ومن هذا الضرب غنية، فإذا كان المشتري في بلدة، والشفيع في غيرها، فعلى الشفيع أن يخرج طالبًا كما بلغه الخبر، أو يبعث وكيلًا إلاَّ أن يكون الطريق مخوفًا، فيجوز التأخير إلى أن يجد رُفْقَة وثيقة يصحبها هو أو وكيله، أو يزول الحَرَّ المفرط، أو البرد المفرط، فإذا أخر لذلك، أو لم يمكنه المسير بنفسه، ولا وجد وكيلاً فليشهد على الطلب، فإن لم يشهد، ففي بطلان حقه الخلاف السابق، وأجرى ذلك في وجوب الإشهاد إذا سار في الحال، والظاهر هاهنا أنه لا يحب، ولا تبطل الشفعة بتركة، كما لو أنفذ وكيلاً. ولم يشهد يكتفي فيه بذلك، وليطرد فيما إذا كان حاضرًا في البلد، فخرج إليه، أو إلى مجلس الحكم، كما سبق في الرد بالعيب. والضرب الثاني: ما ينتظر زواله عن قريب، بأن كان مشغولًا بطعام أو صلاة، أو قضاء حاجة، أو في حمَّام، فله الإتمام ولا يكلِّف قطعها على خلاف المعهود. وفيه وجه: أن عليه قطعها حتى الصلاة إذا كانت نافلة، ولو دخل وقت الأكل والصلاة، أو قضاء الحاجة جاز له أن يقدّمها، فإذا فرغ طالب بالشفعة، ولا يلزمه تخفيف الصلاة، والاقتصار على أقل ما يجزئ. ولو رفع الشفيع الأمر إلى الحاكم، وترك مطالبة المشتري مع حضوره جاز، وقد ذكرناه في الردِّ بالعيب. ولو أشهد على الطلب، ولم يراجع المشتري والحاكم لم يكلُّف، خلافًا لأبي حنيفة. وإن كان المشتري غائبًا، فالقياس أن يرفع الأمر إلى الحاكم، ويأخذ كما ذكرنا هناك، وإذا ألزمناه الإشهاد، ولم يقدر عليه، فهل يؤمر أن يقول: تملّكت الشفعة؟ فيه وجهان مَرَّ نظائرهما في الرد بالعيب. وإذا تلاقيها في غير بَلَدِ الشِّقص، فأخر الشفيع إلى العود إليه بطل حقه؛ لاستغناء الأخذ عن الحضور عند الشقص. وقوله في الكتاب: "فإذا بلغه الخبر" أي خبر من يعتمد قوله "فلينهض عن مكانه طالبًا"، أي إما بنفسه أو بنائبه. وقوله: "فإن لم يوكل مع القدرة بطل حقه" معلّم بالواو. وكذا قوله: "لم يلزمه قطعها". قال الغزالي: وَلَوُ أَخْبَرَ ثُمَّ قَالَ: لَمْ أُصَدِّقِ المُخْبِرَ فَإِنْ أَخْبَرَهُ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتَهُ بَطَلَ حَقُّهُ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ مَنْ لا تُقْبَلُ رِوايَتُهِ كَفاسِقٍ وَصَبيٍّ فَلا يَبْطُلُ، وإِنْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ وَاحِدٌ أَوْ
عَبْدٌ تُقْبَلُ رِوَايتُهُ فالأَظْهَرُ (و) أَنَّهُ يَبْطُلُ حَقُهِ، وإِنْ كَذَّبَ المُخْبِرُ فِي مِقْدَارِ الثمَن، أَوْ تَعْيينِ المُشْتَرِي، أَوْ جِنْسِ (وح) الثَّمَنِ، أَو قَدْرِ المَبِيعِ فَتَرَكَ المَبيَع لَمْ يبَطُل حَقَّهُ لأَنَّ لَهُ غَرَضًا، وإِنْ أَخبرَ بأَنَّ الثَّمَنَ أَلْفٌ فَإذا هُوَ الْفَانِ لَمْ يْكُنِ لَهُ الرُجُوَعُ إِذْ لا غَرضَ فِيهِ، وإِذَا لَقِيَ المُشْتَرِي فَقَالَ؛ السَّلاَم عَلَيْكُمْ لَمْ يبَطُلَ حَقُّهُ، وَلَوْ قَال: بِكَمْ اشْتَرَيْتَ فَفِيهِ تَردُّدٌ، وَكَذا في قَوْلِهِ: بَارَكَ اللَهُ لَكَ في صَفْقَةِ يَمِينِكَ، وَلَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتَ رَخِيصًا وَأَنَا طَالِبٌ؛ بَطَلَ حَقُّهُ؛ لأنَّهُ فُضُولٌ مِنْ غَيْرِ غَرَضٍ. قال الرافعي: الفصل يشتمل على صور: إحداها: إذا أخر الطلب، ثم قال: إنما أخرت؛ لأني لم أصدق المخبر عنه نظر إن أخبره عدلان يبطل حقه؛ لأن شهادتهما مقبولة، فكان من حقه أن يعتمد قولهما، ويثق به، وكذا لو أخبره رجل وامرأتان. وإن أخبره من لا تقبل روايته، كالكافر والفاسق والصبي لم يبطل حقه، وإن أخبره عَدْلٌ واحد حُرٌ أو عبد، فوجهان: أحدهما: لا يبطل حقه: لأن الحجة لا تقوم بالواحد، وهو رواية عن أبِي حَنِيْفَةَ ذكره في "التتمة". وأظهرهما: البطلان؛ لأنه إخبار، وإخبارهم مقبول. وفي "النهاية" أنهم ألحقوا العبد بالفاسق؛ لأنه ليس من أهل الشَّهادة، والمرأة الواحدة كالعبد حتى يجيء فيها الوجهان. وقطع بعضهم بأن إخبارها لا يبطل حقه، وعلى هذا فلو أخبره نسوة، قال أبو سَعِيدٍ المُتَولي: ينبني على أن المدعي إذا أقام امرأتين هل يقضى بيمينه معهما؟ إن قلنا؛ لا فإخبارهن كإخبار المرأة الواحدة. وإن قلنا: نعم، فكالعدل الواحد، وهذا كله إذا لم يبلغ عدد المخبرين حدًا لا يحتمل التواطؤ على الكذب، فإن بلغه وأخر، بطل حقه، وإن كانوا فُسَّاقًا. الثانية: لو كذبه المخبر، فزاد في قدر الثمن، بأن قال: باع الشريك نصيبه بألف، فعفا الشفيع، أو تَوانى، ثم بَانَ أن البيع بخمسمائة لم يبطل حقه، ولو كذب بالنقصان، فقال: باع بألف، فعفا، ثم بَانَ أنه باع بألفين، بَطُلَ حقه؛ لأنه إذا لم يرغب فيه بألف، فبألفين أولى، ولو كذب في تعيين المشتري، بأن قال باعه من زيد ثم بَانَ أنه باعها من غيره، أو قال المشتري: اشتريت لنفسي، ثم بَانَ أنه كان وكيلاً، أو في جنس الثمن بأن قال: باع بالدراهم، فَبَانَ أنه باع بالدنانير، أو في نوعه بأن قال: باع "بالنيسابورية"، فَبَانَ
أنه باع "بالمروبة"، أو في قدر المبيع بأن قال: باع كل نصيبه، فَبَانَ أنه بعضه، أو بالعكس لم يبطل حقه؛ لأنه ربما يرضى بتركه لزيد دون غيره، وقد يجد الدنانير دون الدراهم، أو يرغب في الكل دون البعض، وبالعكس، وكذا لو قال: باعه من فلان، فعفا، ثم بَانَ أنه باع من غيره، أو قال: باعه من رجلين، فَبَانَ أنه باعه من أحدهما، أو قال: باعه بكذا حالاًّ، فَبَانَ أنه باعه مؤجلاً، أو قال: باع بكذا إلى شهر، فَبَانَ أنه باع إلى شهرين لا يبطل حقه، ولو قال: باعه بكذا مؤجلاً، فعفا، ثم بَانَ أنه باعه حالاً يبطل حقه؛ لأنه متمكن من التعجيل إن كان يقصده، وكذا لو قال: باع كله بألف، فعفا، ثم بَانَ أنه بيع بعضه بألف يبطل حقه؛ لأنه إذا لم يرغب في الكل بألف، ففي البعض أولى. وعند أبي حَنِيْفَةَ إذا أخبرا عن البيع بالدراهم، فعفا، ثم بَانَ أن البيع بالدنانير أو بالعكس، ولم يتفاوت القدر عند التقويم بطلت شفعته، وبه أجاب الإمام، فيجوز أن يعلم بذلك قوله: "أو جنس الثمن" بالحاء والواو. الثالثة: لقي المشتري، فقال: السلام عليك أو سلام عليك أو سلام عليكم لم يبطل حقه؛ لأن السنة السلام قبل الكلام (¬1) قال الإمام: ومن غلا في اشتراط قطع ما هو مشغول به من الطعام، وقضاء الحاجة لا يبعد أن يشترط ترك الابتداء بالسلام. وفيما إذا قال عند لقاء المشتري: بكم اشتريت؟ وجهان: ذكر العراقييون أنه يبطل حقه. وقال: من حقه أن يظهر الطلب ثم يبحث. والأصح بالمنع؛ لأنه إن لم يعلم قدر الثمن، فلا بد من البحث عنه، وإن علم فيجوز أن يريد أخذ إقرار المشتري كي لا ينازعه في الثمن. وحكى الإمام وجهين أيضًا فيما إذا قال: بارك الله في صفقة عن قياس طريق طريق المَرَاوزة أنه يبطل حقه؛ لأن هذا الدعاء يشعر بتقرير الشقص في يده، فلا ينتظر الطلب عقبه. وأصحهما: وهو الذي أورده المعظم أنه لا يبطل؛ لأنه قد يدعو بالبركة ليأخذ بصفقة مباركة، ولو قال: اشتريت رخيصًا، وما أشبه، ثم أعقبه بالطلب بطل حقه؛ لأنه فضول لا غرض فيه، ولو أخر الطلب، ثم اعتذر بمرض أو حبس، أو غيبة، وأنكر المشتري، فالقول قول الشفيع إن علم له العارض الذي يدعيه، وإلاَّ فالمصدق المشتري ¬
ولو قال: لم أكن أعلم بثبوت حق الشفعة أو كونها على الفور، فهو كما مر في الرد بالعيب والله أعلم بالصواب. قال الغزالي: وَلَوْ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ مَعَ العِلْمِ بِالشُّفْعَةِ بَطُلَ حَقُّهُ، فَإنْ لَمْ يَعْلَمْ فَقَولاَنِ مِنْ حِيْثُ إنَّهُ انْقَطَعَ الضَّرَرُ، وإنْ صَالَحَ عَنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحَ، ثُمَّ إنْ كَانَ جاهِلًا فَفِي بُطْلاَنِ شُفْعَتِهِ خِلاَفٌ. قال الرافعي: في هذه البقية مسألتان: الأولى: إذا باع الشفيع نصيب نفسه من العقار أو وهب عالمًا بثبوت الشفاعة له بطل حقه. أما إذا جعلنا الشفعة على الفور فظاهر. وأما إذا جعلناها على التراخي، فلأن الشفعة إنما ثبتت لدفع ضرر سوء المشاركة ومؤنة المقاسمة، وإنما يلزم ذلك من التركة، فإذا باع نصيب نفسه، فقد أزال سبب الشفعة. ولو باع بعض نصيبه حكى الشيخ أبُو عَلِيٍّ وغيره فيه قولين: أحدهما: أن شفعته لا تبطل؛ لأنه لو لم يملك إلاَّ ذلك القدر ابتداءً لثبتت الشفعة فلذلك إذا بقيت إنتهاءً. والثاني: تبطل لأنه إنما يستحق الشفعة بجميع نصيبه، فإذا باع بعضه بطل بقدره وإذا بطل البعض بكل، كما لو عفا عن بعض الشِّقْص المشفوع، وهذا أظهر على ما ذكره الأمام وغيره، هذا إذا كان عالمًا. أما إذا باع نصيبه جاهلًا بالشفعة، قال أكثرهم: فيه وجهان: وقال صاحب الكتاب قولان: أحدهما: أنه على شفعته؛ لأنه كان شريكًا يوم البيع، ولم يرضَ بسقوط حق الشفعة. وأشبههما: أنها تبطل لزوال سبب الشفعة، ولهذا لو زال عيب المبيع قبل التمكُّن من الرد، سقط حق الرد، ولو باع بعض نصيبه جاهلًا أطلق في "التهذيب" أن شفعته لا تبطل، والوجه أن يكون على الخلاف السابق إذا فرعنا على أنه لو باع الجميع بطلت شفعته (¬1). ¬
الثانية: لو صالح على حق الشفعة على مال، فهو على ما ذكرناه في الصلح عن الرد بالعيب. واختار أبُو إسحاق المَرْوَزِيُّ صحته، ولو تصالحا على أن يأخذ بعض الشقص، فيصح الصُّلْح برضا المشتري بالتبعيض، أو يبطل، وتبقى خيرة الشفيع بين أخذ الكل، وترك الكل أو تبطل شفعته أصلًا تنزيلًا لترك البعض منزلة ترك الكل؟. نقلوا فيه ثلاثة أقوال. وقد فرغنا بتوفيق الله -تعالى- من شرح مسائل الكتاب، ونزيده بفصلين: أحدهما: في الحيل الدافعة للشفعة. منها: أن يبيع الشقص بأضعاف ثمنه دراهم ويأخذ عرضًا قيمته مثل الثمن الذي يتراضيان عليه بدلًا من الدراهم، أو يحط من المشتري ما يزيد عليه، فلا يرغب الشفيع في الشفعة لحاجته إلى الأخذ بالدراهم المسماة، وفيها غرر؛ لأنّ البائع قد لا يرضى بالعرض عوضًا أو لا يحط على المشتري ما يزيد عليها. ومنها قال ابْنُ سُرَيْجٍ: يشتري أولًا بائع الشقص عرضًا يساوي ثمن الشقص بأضعاف ذلك الثمن، ثم يجعل الشقص عوضًا عما لزمه، وفيها غرر؛ لأن البائع قد لا يرضى به. ومنها: أن يبيع جزءًا من الشقص بالثمن كله، ويهب منه الباقي، فلا يأخذ الشفيع الشقص المبيع للغبن، ولا يتمكن من أخذ الموهوب، وفيها غرر ظاهر. ومنها: أن يجعل الثمن حاضرًا مجهول القدر، ويقبضه البائع وينفقه، أو يخلط بغيره، فتندفع الشفعة، وفيه خلاف ابْنُ سُرَيْج على ما تقدَّم. ومنها إذا وهب المشتري الشِّقص أو وهبه يبطل حق الشفيع على رأي أبِي إسحاق. ومنها: لو باع بعض الشقص، ثم باع الباقي لم يكن للشفيع أخذ جميع المبيع ثانيًا في أحد الوجهين، فيندفع أخذ الجميع. ومنها: لو وكَّل البائع شريكه بالبيع فَبَاعَ لم يكن له الشفعة على أحد الوجهين، وقد سلف ذكر هذه المسائل (¬1). ¬
فرع: عند أبِي يُوسُفَ لا يكره دفع الشفيع بالحيلة، إذ ليس فيها تفويت حقّ على الغير؛ لأن الحق إنما يثبت بعد البيع. وعند مُحَمَّدٍ يكره لما فيه من إيقاع الشفيع في الضرر مع حقه من الثبوت، وهذا أشبه بمذهبنا في الحيلة في دفع الزكاة (¬1) وهما يختلفان في الزكاة. الفصل الثاني: في مسائل وفروع من الباب لم تسلك فيما قدمنا، ونوردها منثورة، فنقول: للمفلس العفو عن الشفعة، والأخذ والاعتراض عليه للغرماء، وينبغي أن يعود في أخذه الخِلاَف المذكور في شرائه في الذِّمة، ثم الكلام في أنه لم يؤد الثمن على ما ذكرناه في التفليس. ولو وهب شقصًا من عبده، وقلنا: إنه يملك، فبيع باقيه. قال الشيخ أبُو مُحَمَّدٍ: تثبت له الشفعة، وهل يفتقر إلى إذن جديد من السيد؟ فيه وجهان. ولعامل القراض الأخذ بالشفعة، فإن لم يأخذ، فللمالك الأخذ ولو اشترى بمال القِرَاض شقصا من عقار فيه شركة لربّ المال، ففي ثبوت الشفعة له وجهان عن ابْنِ سُرَيْجٍ: أصحهما: المنع. ووجه الثاني: أن مال القِرَاض كالمنفرد عن ملكه لتعلق حق الغير به، ويجوز أن يثبت له على ملكه حق، والحالة هذه كما لو ثبت له على عبده المَرْهُون حق الجناية، وإن كان العامل شريكًا فيه، فله الأخذ إن لم يكن في المال ربح، أو كان، وقلنا: إنه لا يملك بالظهور، وإن قلنا: إنه يملك، فعلى الوجهين في المالك. ولو كان الشِّقْصُ في يد البائع فقال الشفيع: لا أقبضه إلا من المشتري فيه وجهان عن ابْنُ سُرَيْجٍ: أحدهما: له ذلك، ويكلف الحاكم المشتري أن يتسلّمه، ويسلمه إلى الشفيع، وإن كان غائبًا نصب الحاكم من ينوب عنه في الطرفين. والثاني: أنه لا يكلف ذلك، بل يأخذه الشفيع من يد البائع، وسواء أخذ من ¬
المشتري، أو من البائع فعهدة الشفيع على المشتري، فإن الملك ينتقل إليه منه (¬1). وقال أبُو حنيفة: إن أخذه من يد المشتري، فالعهدة على المشتري، وإن أخذه من يد البائع، فالعهدة عليه، ولو اشترى شقصًا شرط البراءة من العيوب، فإن أبطلنا البيع فذاك، وإن صححناه، وأبطلنا الشرط، فكما لو اشترى مطلقًا، فإن صحننا الشرط فللشفيع رده بالعيب على المشتري، وليس للمشتري الرَّد، كما لو كان المشتري عالمًا بعيبه عند الشراء، والشفيع جاهلًا به عند الأخذ، وإن علم الشفيع العيب دون المشتري، فلا رد للشفيع، وليس للمشتري طلب الأَرْش؛ لأنه استدراك للظُّلامة، أو لأنه لم ييأس من الرد، فلو رجع إليه ببيع، أو غيرها لم يرده على العلّة الأولى، ويرده على الثانية، ولو قال أحد الشريكين للآخر: بيع نصيبك، فقد عفوت عن الشفعة، فباع ثبتت له الشفعة، ولغا العفو قبل ثبوت الحق. وعن تفريع ابن سُرَيْجٍ عن "الجامع الكبير" لمحمد أنه إذا باع شِقْصًا، ضمن الشفيع العهدة للمشتري لم تسقط بذلك شفعته، وكذلك إذا شرط الخيار للشَّفيع، وصححنا شرط الخيار للأجنبي، ولو كان بين أربعة دار، فباع أحدهم نصيبه، واستحق الشركاء الشفعة، فشهد اثنان منهم على الثالث بالعفو، ثبتت شهادتهما ان شهدا بعد ما عفوا وإن شهدا قبله لم تقبل؛ لأنهما يجران الشقص إلى أنفسهما، فلو عفوا ثم أعادوا بتلك الشهادة لم تقبل أيضًا للتهمة، وإن شهدا بعد ما عفا أحدهما قبلت شهادة العافي دون الآخر، فيحلف المشتري مع العافي، ويثبت العفو، ولو شهد البائع على عفو الشفيع قبل قبض الثمن لم يقبل؛ لأنه قد لا يقصد الرُّجوع بتقدير الإفلاس، وإن كان بعد القبض فوجهان؛ لأنه ربما يتوقع الرجوع إلى العين لسبب من الأسباب، ولو أقام المشتري على عفو الشفيع بينه، وأقام المشتري بيِّنة على أنه أخذ بالشفعة، والشقص في يده، فبيِّنة الشفيع أولى لتقويها باليد، أو بيِّنة المشتري لزيادة علمها بالعفو؟ فيه وجهان: أظهرهما: الثاني، ولو شهد السيد على شراء شقص فيه شفعة لمكاتبه، فعن الشيخ أبِي مُحَمَّدٍ: قَبُول شهادته. قال الإمام: كأنه أراد أن يشهد للمشتري إذا ادعى الشراء ثم إذا ثبت الشراء فيجوز أن تثبت الشفعة تبعًا أما شهادته لمكاتب فإنها لا تقبل بحال، ولو كان الشفيع صبيًا، ¬
فعلى وليِّه الأخذ إن كان فيه مصلحة، وإلاَّ لم يجز الأخذ، وإذا ترك بالمصلحة، ثم بلغ الصَّبي، فهل له الأخذ؟ فيه خلاف ذكرناه في آخر الحجر، ولو كان بين اثنين دار، فمات أحدهما عن حمل في البطن ثم باع الآخر نصيبه، فلا شفعة للحمل؛ لأنه لا يتيقن وجوده، فإن كان له وارثٌ غير الحمل، فله الشفعة، وإذا انفصل حيًا، فليس لوليِّه أن يأخذ شيئًا من الوارث، ولو ورث الحمل الشفعة عن مورثه، فهل لأبيه أو جدّه الأخذ قبل انفصاله. فيه وجهان: وجه المنع، وبه قال ابْنُ سُرَيْجٍ: أنه لا يتيقّن وجوده، فإذا أخذ الشفيع الشقص وبنى فيه أو غرس وخرج مستحقًا وقلع المستحق، بناءه وغراسه، فالقول فيما يرجع به الشفيع على المشتري من الثمن، وما ينقص قيمة البناء والغراس وغيرهما، كالقول في رجوع المشتري من الغاصب عليه. قال الإمام: وإن نظرنا إلى أن الرجوع بما ينقص من قيمة البناء والغراس هناك مبني على التغرير، ولا تغرير من المشتري، بل الشِّقص مأخوذ منه قهرًا، فيجوز أن يجاب عنه بأنه مختار في الشراء، والأخذ بالشفعة موجب للشراء. ولو مات رجل، وله شقص من داره، وعليه ديون تستغرق التركلة، فباع الشريك الآخر نصيبه قبل أن يباع الشقص في الدَّين. قال ابْنُ الحَدَّادِ: للورثة أخذه بالشفعة، وهو جواب على أن الدَّيْن لا يمنع انتقال المِلْك، في التركة إلى الورثة، وهو الأصح. فإن قلنا: يمنع، فلا شفعة لهم، ولو خلف دارًا وديونًا لا تستغرق قيمة الدار، فبيع منها ما بقي بالدَّين. قال ابْنُ الحَدَّادِ: لا شفعة للورثة فيما بيع بما بقي لهم في الملك، وهذا مستمر على الأصل السابق، فإنهم إذا ملكوا الدار كان المبيع جزءًا من ملكهم، ومن بيع جزء من ملكه بحق لم يكن له استرجاعه بالباقي. فإن قلنا: إنه يمنع، فمنع الملك في قدر الدَّين، أم في جميع التركة؟ فيه خلاف مذكور في موضعه. إن قلنا بالثاني، فلا شُفْعَة لهم أيضًا؛ لأنهم إنما يملكون الباقي بأداء الدين، وإنما تثبت الشُّفعة بملك يتقدَّم على البيع. وإن قلنا بالأول ثبتت لهم الشفعة، ولو كانت الدَّار المشتركة بين المورث والورثة، ثم إنه مات، فبيع نصيبه أو بعضه في ديونه وصاياه.
قال ابن الحَدَّادِ: لهم بالشفعة، وهذا يخالف الأصل الذي سبق فإنهم إذا ملكوا التركة صار جميع الدار ملكهم، فيكون المبيع جزءًا من ملكهم. واختلف من بعده. فمنهم من أخذ به، وقال ما يباع في ديونه ووصاياه بمثابة ما يبيعه بنفسه، ولو باعه في حياته بنفسه كان لهم الشفعة فكذلك هاهنا. والأكثرون خالفوه وجروا على قضية ذلك الأصل، ثم منهم من خطَّأه، وقال: إنما ينتظم هذا الجواب على قولنا: إن الدين يمنع ملكهم، فيستحقون الشفعة بالملك القديم. وعن الشيخ أبِي زَيْدٍ حمل كلامه على ما إذا باع بنفسه في مرض موته، ومن "مولدات" ابْنِ الحَدَّادِ دار بين ثلاثة لأحدهم نصفها، ونصفها بين الأخيرين بالتسوية، فاشترى صاحب النصف نصيب أحد الآخرين، ثم باع ثلث ما معه مطلقًا من أجنبي، والشريك الثالث غائب مثلاً. فاعلم أن الشفيع في المبيع الثاني وهو الشريك الثالث لا غير. وأما في الأول فيتعلق النظر بأصلين: أحدهما: الخلاف الذي سبق في أن المشتري إذا كان أحد الشركاء تكون الشفعة بينه وبين الشريك الآخر أو يختص بهذا الشريك الآخر. والثاني: عود القولين في أن الشفعة على عدد الرءوس أو الحصص، إذا حكمنا بالشركة، إذا عرفت ذلك، فإذا قدم الغائب، وفرعنا على قسمة بينه وبين المشتري، وهو الأصح، نظرنا إن طلب الشُّفعة في العقد الأول فله مما اشتراه الشريك، على قولنا بالتوزيع على عدد الرءوس النصف، وهو ثمن جميع الدار، وذلك شائع فيما معه، وهو ثلاثة أرباع الدار، فإذا باع ثلث ما معه كان بائعًا ثلث حق الشفيع، ولا يتصرف إلى الشريك ما يستقر ملكه فيه؛ لأن الكل قابل للبيع، فيأخذ القادم من الشريك ثلثي الثَّمن، ومن المشتري منه ثلث الثمن، فيتم له ما استحقه بالعقد الأول. وإن قلنا بالتوزيع على الحِصَص، فله مما اشتراه الشريك الثلث؛ لأن ملكه قدر نصف ملك الشريك، وحينئذ فله نصف سدس الدار، فيأخذ من الشريك ثلثي نصف السدس، ومن المشتري منه ثلثه، لما ذكرنا من الشُّيوع، فعلى القول الأول يخرج الحساب من أربعة وعشرين؛ لأن نصيب الغائب سدس ما معه، وهو الثلاثة أرباع الدار، فيحتاج إلى عدد لثلاثة أرباعه سدس، فتضرب أربعة في ستة تكون أربعة وعشرين، وعلى الثاني من ستة وثلاثين؛ لأن نصيب الغائب تسع ما معه، فيحتاج إلى عدد لثلاثة أرباعه تسع، فتضرب أربعة في تسعة يكون ستة وثلاثين، والربع الذي اشتراه الشريك على التقدير الأول ستة وعلى الثاني تسعة، ثم إذا أخذ ذلك، فله أن يأخذ ما بقي من يد المشتري بالعقد الثاني، وله أن يعفو فيكون للمشتري الخيار بين أن يفسخ
لتفرُّق الصفقة عليه، وبين أن يختار بحصَّته من الثمن. أما إذا فرعنا على أن المشتري إذا كان شريكًا لا شُفْعَة له، بل يختص بها الشريك الآخر، وبه قال ابْنُ سُرَيْجٍ، فإن الغائب إذا كان يأخذ جميع ما اشتراه الشريك لو لم يكن بيع ثانٍ، فإذا باع ثلث ما في يده، فقد باع من حقّ الغائب الثلث، فإذا قدم أخذ ثلث الربع من المشتري، وثلثيه من الشريك، فيتم له ما استحق بالبيع الأول، ثم له أن يأخذ ما في يد المشتري بالعقد الثاني، وله أن يعفو عن الأول، ويأخذ جميع الربع من يد المشتري، وهذا كله فيما إذا باع ثلث ما في يده مطلقًا أما إذا قال: بعت ربع الذي اشتريت، فليس للغائب أن يأخذ غير ما في يد المشتري من الشريك، لكنه إن عفا عن شفعة البيع الأول أخذ جميع الربع بالبيع الثاني، وإن أراد الأخذ بالبيع الأول فسخ البيع في نصف الربع على قول التوزيع على الرءوس وثلثه على القول المقابل له، ثم له أخذ الباقي بالبيع الثاني، ولو قال: بعت الدار من جملة النصف الذي كنت أملكه قديمًا، فللغائب أن يأخذ جميعه بالعقد الثاني، وأن يأخذ بالعقد الأول مما في يد الشريك نصف الربع، أو ثلثة على اختلاف القولين والله أعلم. تم الجزء الخامس، ويليه الجزء السادس، وأوله: "كتاب القراض"
كتاب القراض
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ القِرَاضِ البابُ الأَوَّلُ في أَرْكَانِ صِحَّتِهِ قال الغزالي: وَفِيهِ ثَلاَثةُ أَبْوَابٍ وَهِيَ سِتَّةٌ: الأَوَّلُ -رَأْسُ المالِ وَشَرائِطُهُ أَرْبَعَةٌ: وهيَ أَنْ يَكُونَ نَقْدًا مُعَيَّنًا معْلُومًا مُسَلَّمًا، احْتَرَزْنَا بِالنَّقْدِ عَنِ العُروضِ والنُّقْرَةِ التي ليَسْتَ مَضْروُبَةً فَإِنَّ ما يَخْتَلِفُ قِيَمتُهُ إِذَا جُعِلَ رَأْسَ المَالِ فَإِذَا رُدَّ بالأُجْرَةِ إِلَيْهِ لِيَتَمَيَّزَ الرِّبْحُ فَرُبَّمَا ارْتَفَعَ قِيمَتُهُ فَيَسْتَغْرقُ رَأْسُ المَالِ جَمِيعَ الرِّبْحِ، أَوْ نَقَصَ فَيَصِيرُ بَعْضُ رَأْسِ المَالِ رِبْحًا، وَلا يَجُوزُ (و) عَلَى الفُلُوسِ وَلا عَلَى الدَّرَاهِمِ (ح و) المَغْشُوشَةِ. قال الرافعي: العَقْدُ المعقود له الباب هو أن يدفع مالًا إلى غيره ليتَّجر فيه على أن يكون الربح بينهما، ويسمَّى ذلك قِرَاضًا ومُقَارَضَة، وقد يسمى مُضارَبَة (¬1)، وأشهر اللفظين القِرَاض عند الحجازيين والمُضَاربة عند العراقيين، واشتقاق القِرَاض من قولهم: قرض الفَأْرُ الثوب أي: قطعه ومنه المِقْراض؛ لأنه يقطع به، وسمى قِرَاضا إما لأن المالك اقتطع قطعة من ماله فدفعها إلى العامل، أو لأنه اقتطع له قطعة من الربح. وقيل: اشتقاقه من المُقَارضة، وهي المساواة والمُوازنة سمي به لتساويهما في ¬
قوام العقد بهما، فمن هذا المال، ومن هذا العمل لتساويهما في استحقاق الربح. وأما المُضَاربة، فإنه تقع على هذا العقد؛ لأن كل واحد منهما يضرب في الربح بسهم، أو لما فيه من الضرب بالمال، والتقليب، ويقال للمالك من اللفظة الأولى: مقارض، وللعامل، ومُقَارض، ومن اللفظة الثانية يقال للعامل مضارب؛ لأنه الذي يضرب بالمال، ولم يشتقوا للمالك منها اسمًا. واحتج الأصحاب للقراض بإجماع الصحابة، ذكر الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- في "اختلاف العراقيين" أن أَبَا حَنِيْفَةَ روى عن حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُبَيْدِ الأَنْصَارِيِّ عن أبيه عن جده أن عُمَرَ بْنَ الخَطَّاب رضي الله عنه أعطى مال يتيم مضاربة فكان يعمل به في "العِرَاقِ" (¬1). وروي أنَّ عَبْدَ اللهِ وعُبَيْدَ الله ابْنَي عُمَرَ بْنِ الخَطَّاب لقيا أَبا مُوسَى بـ"البصرة" عند مصرفهما من غزوة "نَهاوند" (¬2) فتسلَّفا منه مالًا وابتاعا به متاعًا، وقدما "المدينة"، فباعا وربحا فيه، فأراد عُمَرُ -رضي الله عنه- أخذَ رأس المال، والربح كله فقالا: لو تلف كان ضمانه علينا، فكيف لا يكون ربحه لنا؟ فقال رجل لأمير المؤمنين: لو جعلته قِراضًا، فقال: قد جعلته، وأخذ منهما ¬
نصف الربح (¬1). يقال: إن ذلك الرجل هو عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ (¬2) رضي الله عنه. وأظهر ما ذكره الأصحاب في محلّ القضية وبه قال ابْنُ سُرَيْجٍ أن ما جرى كان قرضًا صحيحًا، وكان الربح ورأس المال لهما، لكن عُمَرَ -رضي الله عنه- استنزلهما عن بعض الربح خِيْفةَ أن يكون قصد أبُو مُوسى إرفاقهما، لا رعاية مصلحة بيت المال. ولذلك قال في بعض الروايات: أو أسلف كل الجيش، كما أسلفكما؟ وعن العَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَعْقُوبَ عن أبيه أنَّ عُثْمَان بن عفان -رضي الله عنه- أعطاه مالاً مقارضة (¬3) وأيضًا: عن عَلِيٍّ وابْنِ مَسْعُودِ وابن عباس وجَابِرِ وحَكِيم بْنِ حِزامٍ -رضي الله عنهم- تجويز المُضَارَبَة (¬4) وأيضًا فإن السُّنَّة الظَّاهرة وردت في المُسَاقَاة. ¬
وإنما جوزت المُسَاقاة للحاجة من حيث إن مالك النخيل قد لا يحسن تعهدها، ولا يتفرغ له، ومن يحسن العمل قد لا يملك ما يعمل فيه، وهذا المعنى موجود في الِقَراض. ثم كلام الكتاب مندرج في ثلاثة أبواب: أحدها: فيما يعتبر لصحّة هذا العقد، وما يعتبر تارة يعتبر في رأس المال، وتارة في العمل، وأخرى في صفة العقد، وأخرى في العاقدين، فسمى هذه الأمور أركانًا، وبَيَّنَ ما يشترط في كل واحد منها. والثاني: في إحكامه إذا صح. والثالث: فيما إذا انفسخ العقد بفسخٍ وغيره ما حكمه؟ وفيما إذا اختلفا في كيفية جريان العقد بينهما كيف يفصل الأمر؟ أما الباب الأول: فالركن الأول منه رأس المال، وله شروط: أحدها: أن يكون نقدًا، وهو الدراهم والدنانير المضروبة، وفيه معنيان: أحدهما: أن القراض معاملة تشتمل على إغرار، إذ العمل غير مضبوط، والربح غير موثوق به، وإنما جوزت للحاجة، فتختص بما تسهل التجارة عليه، وتروج بكل حال (¬1). وأشهرهما: وهو المذكور في الكتاب أن النقدين ثمنًا لا يختلفان بالأزمنة والأمكنة إلاَّ قليلًا ولا يقومان بغيرهما، والعروض تختلف قيمتها، فلو جعل شيء منها رأس المال لزم أحد الأمرين. أما أخذ المالك جميع الربح، أو أخذ العامل بعض رأس المال، ووضع القراض على أن يشتركا في الربح، وينفرد المالك برأس المال، ووجه لزوم أحد الأمرين: أنهما إذا جعلا رأس المال ثوبًا، فإما أن يشترطا رد ثوب بتلك الصفات أو رد قيمته. ¬
إن شَرَطَا الأول، فربما كان قيمة الثوب في الحال درهمًا، ويبيعه، ويتصرف فيه حتى يبلغ المال عشرة، ثم ترفع قيمة الثياب، فلا يوجد مثل ذلك الثوب إلاَّ بعشرة فيحتاج العامل إلى صرف جميع ما معه إلى تحصيل رأس المال، فيذهب الربح في رأس المال، وربما كانت قيمته عشرة فباعه ولم يربح شيئًا ثم صار يؤخذ مثله بشيء يسير فيشتريه، ويطلب قسيمة الباقي، فحينئذ يفوز العامل ببعض رأس المال. وإن شَرَطَا ردّ القيمة، فإما أن يشترطا قيمة حال المفاصلة، أو قيمة حال الدفع. والأول غير جائز؛ لأنها مجهولة، وقد تكون قيمته في الحال درهمًا، وعند المفاصلة (¬1) عشرة، فيلزم المحذور الأول. والثاني: غير جائز؛ لأنه قد تكون قيمته في الحال عشرة، وتعود عند المفاصلة إلى درهم، فيلزم المحذور الثاني، وفي النفس حسيكة من هذا الكلام؛ لأنّ لزوم أحد الأمرين مبني على أنَّ رأس المال قيمة يوم العقد، أو يوم المفاصلة، وبتقدير جواز القراض على العرض يجوز أن يكون رأس المال ذلك العرض بصفاته من غير نظر إلى القيمة، كما أنه المستحق في السَّلَم، وحينئذ إن ارتفعت القيمة، فهو كخسران حصل في أموال القراض، وإن انخفضت فهو كزيادة قيمة فيها. وعن الشيخ أَبِي مُحَمَّدٍ أنه كان يعوّل في اختصاص القِرَاض بالنقدين على الإجماع، ولا يبعد أن يكون العدول إليه لهذا الإشكال، ويترتب على اعتبار النقدية امتناع القراض على الحُلِيِّ والتّبْر، وكل ما ليس بمضروب؛ لأنها مختلفة القيمة كالعروض، وكذلك لا يجوز القِرَاضُ على الفلوس (¬2)، ولا الدراهم والدنانير المغشوشة (¬3)؛ لأنها نقد وعرض. وحكى الإمام وجهًا أنه يجوز القراض على المغشوش اعتبارًا برواجه وادعاء الوفاق على امتناع القِرَاض في الفلوس، لكن صاحب "التتمة" ذكر فيها أيضًا الخلاف. وعن أَبي حَنِيْفَةَ يجوز القراض في المغشوش إذا لم يكن الغش أكثر. قال الغزالي: وَاحْتَرَزنَا بالمَعْلُومَ عَنِ القِرَاضِ عَلَى صُرَّةِ دَرَاهِمَ، فَإِنَّ جَهْلَ رَأْسِ المَالِ يُؤَدِّي إِلَى جَهْلِ الرَّبْحِ، وَاحْتَرَزْنَا بالمُعَيَّنِ عَنِ القِراضِ عَلَى دَيْنِ في الذِّمَّةِ، وَلَوْ عَيَّنَ وَأَبْهَمَ فَقَالَ: قَارَضْتُكَ عَلَى أَحَدَ هَذَيْنِ الألْفَيْنِ والآخَرُ عِنْدَكَ وَدِيعَةً وَهُمَا في كِيسَيْنِ ¬
مُتَمَيِّزَين فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَلَوْ كَانَ النَّقْدُ وَدَيعَةً أَوْ رَهْنًا فِي يَدِهِ أَو غَصْبًا وَقَارَضَهُ عَلَيْهِ صَحَّ، وَفِي انْقِطَاعِ ضَمَانِ الغَصْبِ خِلاَفٌ. قال الرافعي: الشَّرط الثاني: أن يكون معلومًا (¬1)، فلو قارض على كفين من الدراهم، أو صُرَّة مجهولة القدر لم يجز؛ لأنه إذا كان رأس المال مجهولًا، كان الربح مجهولًا، ويخالف رأس مال السَّلم، حيث يجوز أن يكون مجهول القدر على أحد القولين؛ لأن السلم لا يعقد ليفسخ، والقراض يعقد ليفسخ، ويميز بين رأس المال والربح. وفي "الشامل" وغيره أن عند أَبِي حَنِيْفَةَ يجوز أن يكون رأس المال مجهول القدر، وإذا تنازعنا فيه عند المفاصلة، فالمصدق العامل، وعلى هذا فليكن قوله: "معلوما" في الفصل السابق معلّما بالحاء. ولو دفع إليه ثوبًا، وقال: بعه، وإذا قبضت ثمنه، فقد قارضتك عليه لم يجز؛ لأنه مجهول، ولما فيه من تعليق القرض. قال أبو حنيفة: يصح. الشرط الثالث: أن يكون معينًا فلو قارض على دراهم غير معينة، ثم أحضرها في المجلس وعينها، حكى الإمام عن القَاضِي، وقطع به أنه يجوز، كما في الصرف ورأس مال السَّلم. والذي أورده صاحب "التهذيب" المنع (¬2). ولو كان له دَيْن في ذمة إنسان فقال لغيره: قارضتك على دَيْني على فلان، فأقبضه، واتجر فيه لم يجر؛ لأنا لم نجوز القِرَاض على العرض لعسر التجارة والتصرف فيها، ومعلوم أن التصرف في الدَّين أكثر عسرًا فكان بالمنع الأولى. ووجهه الإمام بأن ما في الذِّمة لا بد من تحصيله أوّلًا، وسنذكر أنه لا يجوز في القراض ضم عمل إلى التجارة، ولكن مثل هذا العمل يجوز أن يُعَدَّ من توابع التجارة، فلا يمتنع ضمه إلى عمل القراض، يؤيده قولهم: إنه لو كان له عند زيد دراهم وديعة، فقال لعمرو: قارضتك عليها، فخذها وتصرف فيها يجوز، ولو أن صاحب الدَّين قال: قارضتك عليه لتقبض، وتتصرف، أو اقبضه فإذا قبضته فقد قارضتك عليه لم يصح أيضًا، وإذا قبض العامل، وتصرّف فيه لم يستحق الربح المشروط، بل الجميع للمالك، وللعامل أجره مثل التصرف، إن كان قد قال: إذا قبضت فقد قارضتك، وإن قال: ¬
قرضتك عليه لتقبض وتتصرف، استحق مثل أجرة التقارض، والقبض أيضًا. ولو قال للمديون: قارضتك على الدَّين الذي عليك لم يصح القراض أيضًا؛ لأنه إذا لم يصحّ والدَّين على الغير، فلأن لا يصح والدَّين عليه كان أولى؛ لأن المأمور لو استوفى ما على غيره ملكه وصح القبض، وما على المأمور لا يصير للمالك بعزله من ماله، وقبضه للأمر، بل لو قال: اعزل قدر حقي من مالك، فعزله، ثم قال: قارضتك عليه لم يصح؛ لأنه لم يملكه. وإذا تصرف المأمور فيما عزله نظر إن اشترى بعينه للقراض، فهو كالفُضُولِيِّ يشتري لغيره بعين ماله، وإن اشترى في الذمة، ونقد ما عزله ففيه وجهان. أحدهما: أنه للمالك؛ لأنه اشترى له بإذنه. والثاني: أنه للعامل؛ لأنه إنما أذن في الشراء بمال القراض، إما بعينه، أو في الذمة لينقده فيه، وإذا لم يملكه، فلا قراض، وهذا أظهر عند الشيخ أبي حَامِدٍ (¬1). وفي "التهذيب" أن الأصح الأول بحيث كان المال المعزول للمالك، فالربح ورأس المال له لفساد القراض، وعليه الأجرة للعامل. ولو دفع إليه كيسين في كل واحد منها ألف، وقال: قارضتك على أحدهما، فوجهان: أحدهما: الصحة لتساويهما. وأصحهما: المنع لعدم التعيين (¬2)، كما لو قال: قارضتك طى هذه الدراهم، أو على هذه الدنانير، وكما لو قال: بعتك أحد هذين العبدين، ولو كانت دراهمه في يد غيره وديعة، فقارضه عليها صَحَّ، ولو كانت غصبًا لم يصح في وجه؛ لأنه مضمون والقرض عقد أمانة. الأصح (¬3) الصحة، كما إذا رهن من الغاصب. وعلى هذا لا يبرأ من ضمان الغَصْبِ، كما في الرَّهْن وعند أبي حنيفة ومالك -رضي الله عنهما- إنه يبرأ. قال الغزالي: وَأَرَدْنا بالمُسَلَّم أَنْ يكَوُنَ في يَدِ المُعَامِلِ، فَلَوْ شَرَطَ المالِكُ أَنْ يَكُونَ فيِ يَدِهِ أَوْ أَنْ يَكُونَ لَهُ يدٌ أَوْ يُرَاجِعَ فيِ التَّصَرُّفِ أَوْ يُرَاجِعُ مُشُرْفَهُ فَسَدَ القِراضُ؛ لأَنَّهُ ¬
تَضيَيقٌ للتجارَةِ، وَلَوْ شَرَطَ أنْ يَعْمَلَ مَعَهُ غُلاَمُ المالِكِ جاَزَ عَلىَ النَّصِّ. قال الرافعي: الشراط الرابع: أن يكون رأس المال مسلّمًا إلى العامل (¬1)، ويستقل باليد عليه، والتصرف فيه، ولو شرط المالك أن يكون الكيس في يده ليوفي الثمن منه إذا اشترى العامل شيئًا، أو شرط أن يراجعه العامل في التصرفات، أو يراجع مشرفًا نصّبه فسد القراض؛ لأنه قد لا يجده عند الحاجة، أو لا يساعده على رأيه فيفوت عليه التصرف الرابح، فالقراض موضوع توسعًا لطريق التجارة، ولهذا الغرض احتمل فيه ضرب من الجَهَالة فَيُصَانُ عما يخل به، ولو شرط أن يعمل معه المالك بنفسه فسد أيضًا؛ لأن انقسام التصرف يُفْضِي إلى انقسام اليد ويبطل الاستقلال. وفي "الرقم" لأبي الحسن العَبَّادِيِّ أن أبا يحيى البَلِحْيّ جوزِ ذلك على طريق المعاونة والتبعية، والمذهب الأول، ولو شرط أن يعمل معه غلام المالك فوجهان، ويقال: قولان. أحدهما: أنه لا يصح أيضًا، كما لو شرط أن يعمل بنفسه؛ لأن يد عبده يده. والثاني: وبه قال ابْنُ سُرَيجٍ وأبُو إِسْحاقَ والأكثرون: أنه يجوز؛ لأن العبد مال يدخل تحت اليد، ولمالكه إعارته وإجارته، فإذا دفعه إلى العامل، فقد جعله معينًا وخادمًا للعامل، فوقع تصرفه للعامل تبعًا لتصرفه، بخلاف ما إذا شرط المالك أن يعمل بنفسه، فإنه لا وجه لجعله تابعًا، وموضوع الخلاف ما إذا لم يصرح بحَجْرِ العامل. فأما إذا قال: على أن يعمل معك غلامي، ولا يتصرف دونه، أو يكون بعض المال في يده، فسد لا محالة، ولا شرط في المُضَاربة أن يعطية بهيمة يحمل عليها، ففي "التتمة" أنه على الخلاف في مسألة الغلام. ومنهم من قال: قضية كلامه، القطع بالجواز، ولو لَمْ يشترط عمل الغلام معه، ولكن شرط أن يكون ثلثي الربح له، والثلث لغلامه، والثلث للعامل جاز، وحاصله اشتراط ثلثى الربح لنفسه نص عليه في "المختصر" حيث قال: فان قارضه، وجعل معه رَبّ المال غلامه، وشرط أن الربح بينه، وبين العامل، والغلام أثلاثًا فهو جائز، وكان لرب المال الثلثان. واعلم أن من لم يجوز شرط عمل الغُلاَم قال: المراد من هذا النص أن يجعل مع العامل في قسمة الربح لا في العمل، ومن جوزه عمل بإطلاقه، وقال: لا فرق بين شرط عمله، وبين تركه، وهذا ما ينزل عليه قوله في الكتاب: "جار على النص"، ولو شرط ثلث الربح لحُرٍّ، فسيأتي في الركن الثالث. ¬
فرع
فرع: قال في "التتمة": ولو كان بينه وبين غيره دراهم مشتركة، فقال لشريكه: قارضتك على نصيبي منها صح إذ ليس فيه إلاَّ الإشاعة، فإنها لا تمنع صحة التصرفات قال: وعلى هذا لو خلط ألفين بألف لغيره، ثم قال صاحب الألفين للآخر: قارضتك على أحدهما، وشاركتك في الآخر، فقبل جاز، وانفرد العامل بالتصرف في ألف القراض، ويشتركان في التصرف في باقي المال، ولا يخرج عقدين على الخلاف في الصَّفقة الواحدة تجمع مختلفين؛ لأنهما جميعًا يرجعان إلى التوكيل بالتصرف، ولا يجوز أن يجعل رأس مال القِراض سُكْنَى دار، فإن العروض إذا لم تجعل رأس مال، فالمنافع أولى، وهذا يمكن فهمه من الضبط المذكور في الكتاب. قال الغزالي: الرُّكْنُ الثَّاني العَمَلُ وَهُوَ عِوَضُ الرِّبُحِ، وَشُرُوطُهُ ثَلاَثةٌ: وهِيَ أَنْ يَكُونَ تِجَارَةً غير مُضَيَّقَةِ بِالتَّعْيينِ وَالتَّأقْيِتِ، احْتَرَزْنَا بِالتِّجَارَةِ عَنِ الطَّبْخِ والخُبْزِ والحِرْفَةِ، فإنَّ عَقْدَ الِقَراضِ عَلَى الحِنْطَةِ لَيْربَحَ بِذَلِكَ فَاسدٌ. أَمَّا النَّقْلُ والَكَيْلُ والوَزْنُ وَلَوَاحِقُ التِّجَارَةِ تَبعٌ لِلتِّجارةِ، والتِّجَارَةِ، هِىَ الاسْتِربَاحُ بِالبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لا بِالحِرْفَةِ والصَّنْعَةِ. قال الرافعي: لمَّا تكلَّم في رأس المال وشرائطه أَخذ يتكلَّم فيما يقابله بين من طرف العامل، وهو العمل، ويشترط فيه أمور: أحدها: كونه تجارة، ويتعلق بهذا القيد صور: منها: لو قارضه على أن يشتري الحِنْطَةُ فيطحنها، وبخبزها والطعام ليطبخه ويبيع، والربح بينهما، فهو فاسد، وتوجيهه الملتئم من كلام الأَصْحَاب أن الطبخ والخبز ونحوهما أعمال مضبوطةٌ يمكن الاستئجار عليها، وما يمكن الاستئجار عليه، فيستغنى عن القِرَاض إنما القراض لما لا يجوز الاستئجار عليه، وهو التجارة التي لا ينضبط قدرها، وتمس الحاجة إلى العقد عليها، فيحتمل فيه للضرورة جهالة العوضين، وعلى هذا القياس ما إذا اشترط عليه أن يشتري الغزل، فينسجه، أو الثوب فيقصره، أو يصبغه. ولو اشترى العامل الحِنْطَة، وطحنها من غير شرط، فعن القاضِي الحُسَيْنِ في آخرين أنه يخرج الدقيق عن كونه مال قراض، ولو لم يكن في يده غيره ينفسخ القراض؛ لأن الربح حينئذ لا يحال على البيع والشراء فقط، بل على التعبير الحاصل في مال القراض بفعله، وغير التجارة لا يقابل بالربح المجهول، وعلى هذا فلو أمر المالك العامل أن يطحن حِنْطَة مال القراض كان فاسخًا للعقد. والأظهر وإليه ميل الإمام، وهو المذكور في "التهذيب" أن القِرَاض بحاله، ويلتحق ذلك بما إذا زاد عبد القراض بكبر أو سمن، أو بتعلُّم صنعة، فإنه لا يخرج عن كونه مال القراض، ولكن العامل إذا استقلّ
بالطحن صار ضامنًا، وعليه الغرم إن فرض نقص في الدقيق، فإن باعه لم يكن الثمن مضمونًا عليه؛ لأنه لم تبعد فيه، ولا يستحق العامل بهذه الصناعات أجرة على المالك، ولو استأجر عليه أجيرًا، فأجرته عليه، والربح بينه وبين المالك كما شرطا. ومنها: لو قارضه على دراهم على أن يشتري بها نخيلًا، أو دواب، أو مستغلات، ويمسك زمامها رقابها لثمارها، أو نتاجها أو غلاتها، أو تكون الفوائد بينهما، فهو فاسد؛ لأنه ليس استرباحًا بطريق التجارة، والتجارة هي التصرف بالبيع والشراء، وهذه الفوائد تحصل من عين مال لا من تصرفه. ومنها: لو شرط عليه أن يشتري شبكة الصيد ويصطاد بها، وليكون الصيد بينهما، فهو فاسد، ويكون الصيد للصائد، وعليه أجرة الشبكة. وقوله في الكتاب: "العمل وهو عوض الربح" كان المراد فيه أن قضية ملك المالك رأس المال وملكه الربح، فالقدر المشروط للعامل إنما ملكه عوضًا عن عمله للمالك، وربما يقال: رأس المال والعمل عوضان متقابلان، ونعني به أن رأس المال من المالك، والعمل من العامل يتقابلان، والربح يحصل من معاونتهما. وقوله: "فإنْ عقد القِرَاض على الحنطة ليربح بذلك فهو فاسد" أي الطحن والخبر، وفي الصورة التي صورها للفساد سبب آخر، وهو كون رأس المال عوضًا، وإنما الصورة التي تختصُّ بما نحن فيه أن يقارضه على دراهم على أن يشتري بها الحنطة، ويطحن وبخبز على ما سبق. وقوله: "أما النقل والوزن ولواحق التجارة بيع للتجارة". معناه: أن هذه الأعمال وإن كان العامل يأتي بها على ما سنبين في الباب الثاني ما على العامل فليس ذلك كالطَّحْن والخبر، فإنها من توابع التجارة ولو احقها التي انبنى العقد لها. قال الغزالي: ثُمَّ لَوْ عَيْنَ الخَزَّ الأَدْكَنَ أَوِ الخَيْلَ الأَبْلَقَ لِلتِّجَارَةَ عَلَيْه، أَوْ عَيَّن شَخْصًا لِلمُعَامَلَةِ مَعَهُ فَهَوُ فَاسِدٌ (ح و) لأَنَّه تضَيِيقٌ وَلَوْ عَيَّنَ جِنْسَ الخَزِّ أَوِ البَزِّ جَازَ لأنَّهُ مُعْتادٌ. قال الرافعي: الأمر الثاني: ألاَّ يكون مضيقًا عليه بالتعيين (¬1)، فلو عين نوعًا ¬
فرع
للاتجار فيه، نظر إن كان مما يندر وجوده كاليَاقُوتِ الأحمر، والخَزّ الأَدْكَن، والخيل البُلْق (¬1)، والصيد حيث يوجد نادرًا فسد القراض، فإن هذا تضييق يخل بقصوده، وإن لم يكن نادر الوجود، نظر إن كان يدوم شتاء وصيفًا، كالحبوب والحيوان والخَزّ والبَزّ، صح القراض، وإن لم يدم كالثمار الرطبة، فوجهان: أحدهما: أنه لا يجوز، كما إذا قارضه مدة، ومنعه من التصرف بعدها، نعم لو قال: تصرف فيه، فإذا انقطع، فتصرف في كذا جاز. وأصحهما: وبه قال أَبُو إِسْحَاقَ: أنه يجوز؛ لأنه لا يمنع التجارة في تلك المدة، ويخالف ما إذا قارضه مدة؛ لأنها قد تنقضي قبل أن يبيع ما عنده من العروض، وهذا النوع سهل التصرف فيه ما دام موجودًا، وإذا انقطع لم يَبْقَ عنده شيء ولو قال: لا تشتر إلاَّ هذه السلعة، أو إلاَّ هذا العبد، فسد القراض، بخلاف ما إذا قال: لا تشتر هذه السلعة وهذا العبد؛ لأن فيما سواهما مجالًا واسعًا، وكذا لو شرط ألا يبيع إلاَّ من فلان ولا يشتري إلاَّ منه لم يجز، ولو قال: لا تبع من فلان ولا تشتري منه جاز. وفي بعض شروح "المفتاح" أنه لا يجوز كما لو قال: لاتبع إلاَّ منه والمذهب الأول وبقولنا قال مالك. وقال أبو حَنِيْفَةَ وأَحْمَدُ: يجوز أن يعين سلعة للشراء، وشخصًا للمعاملة معه، كما في الوِكالَةِ. وعن القاضي أَبي الطَّيِّبِ أن المَاسَرجسي (¬2) قال: إذا كان الشخص المعين بياعًا لا ينقطع عنده المتاع الذي يَتَّجِرُ على (¬3) نوعه غالبًا جاز تعيينه. فرع: في اشتراط تعيين نوع يتصرف فيه مثل الخلاف المذكور في الوِكَالةِ (¬4)، والظاهر وهو الذي أورده في "النهاية" أنه لا يشترط؛ لأنّ الوكالة نيابة مِحْضَة، والحاجة تمس ¬
فرع
إليها في الأشغال الخاصة، والقراض معاملة يتعلّق بها غرض كل واحد من المتعاقدين، فمهما كان العامل أبسط يدًا كان أفضى إلى مقصودها. فرع: إذا جرى تعيين صحيح لم يكن للعامل مجاوزته، كما في سائر التصرفات المستفادة من الإذن، فالإذن في البَزّ يتناول ما يلبس من المنسوج من الإبريسم والقطن والكتان والصوف دون الفرش والبسط. وفي الأكسية وجهان؛ لأنها ملبوسة، لكن بائعها لا يسمى بَزَّازًا (¬1). قال الغزالي: وَلَوْ ضُيِّقَ بِالتَّأقيِتِ إِلَى سَنَةٍ مَثَلًا وَمُنِعَ مِنَ البَيْعِ بَعْدَهَا فَهُوَ فَاسِدٌ فإنَّهُ قَدْ لا يَجِدُ زُبُونًا قَبْلَهَا، وإِنْ قُيِّدَ الشِّرَاءُ وَقَالَ: لا تَشْتَرِ بَعْدَ السَّنَةِ وَلَكَ البَيْعُ فَوَجْهَانِ، إِذ المَنْعُ عَنِ الشِّرَاءِ مَقْدُورٌ لَهُ في كُلِّ وَقْتِ فأَمْكَنَ شَرْطُهُ، فَإِنْ قَالَ: قَارَضْتُكَ سَنَةَ مُطْلقًا فَعَلَى أَيِّ القِسْمَيْنِ يَنْزِلُ فِيهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: الأمر الثالث: ألاَّ يضّيق بالتأقيت. واعلم أولًا أن القراض لا يعتبر فيه بيان المدة، بخلاف المُسَاقاة؛ لأن المقصود من المُسَاقاة ينضبط بالمدة، فإن للثمر وقتًا معلومًا، والمقصود من القِرَاض ليس له مدَّة مضبوطه، فلم يشترط فيه التأقيت، ولو أَقَّت وقال: قارضتك سنة، فينظر إن منعه من التصرف بعدها مطلقًا، أو من البيع فهو فاسد؛ لأنّ يخل بمقصود العقد، ويخالف مقتضاه. أما الأول: فلأنه قد لا يجد راغبًا في المدة، فلا تحصل التجارة والربح. وأما الثاني: فلأنه قد يكون عنده عروض عند انقضاء السنة وقضية القراض أن ينص العامل ما في يده لآخر الأمر ليتميز رأس المال من الربح. وإن قال: عَلَيَّ ألا أشترى بعد السنة، ولك البيع فوجهان. أحدهما: المنع؛ لأن ما وضعه على الإطلاق من العقود لا يجوز فيه التأقيت، وهذا الوجه ذكر الإمام أن العراقيين نسبوه إلى أبي الطَّيبِ ابْنِ سَلَمَةَ، ولا يكاد يوجد ذلك في كتبهم، نعم يقولون: إن أبا الطيب النساوي حكاه عن إبي إِسْحَاقَ فيما علق من الزيادات على الشرح، فكأنه اشتبه عليه أبو الطيب بأبي الطيب. وأصحهما: الجواز؛ لأنّ المالك يتمكّن من منعه من الشراء مهما شاء، فجاز أن يتعرض له في العقد، ¬
بخلاف المنع من البيع، ولو اقتصر على قوله: قارضتك سنة، فوجهان: أصحهما: المنع، لأن قضية انتهاء القراض امتناع التصرف بالكلية، ولأن ما يجوز أن فيه الإطلاق من العقود لا يجوز فيه التأقيت، كالبيع والنكاح. والثاني: يجوز، ويحمل على المنع من الشراء باستدامة العقد. ولو قال: قارضتك سنة على ألاَّ أملك الفسخ قبل انقضائها، فهو فاسد، ولا يجوز أن يعلّق القراض فيقول: إذا جاء رأس الشهر، فقد قارضتك كما لا يجوز تعليق البيع ونحوه. ولو قال: قارضتك الآن ولكن لا تتصرف حتى يجيء رأس الشهر، ففي وجه يجوز كالوِكالَةِ. والأصح: يمنع كما لو قال: بعتك بشرط ألا تملك إلاَّ بعد شهر. قال الغزالي: الثَّالِثُ: الرِّبْحُ وَشَرَائِطُهُ أَرْبَعٌ: وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالعَاقِدَينِ مُشْتَركًا مَعْلُومًا بِالجُزْئيِة لا بالتَّقْدِيِر، وَعَنَيْنَا بالخُصُوصِ أَنَّهُ لَو أُضِيِفَ جُزْءٌ مِنَ الَرِّبْحِ إِلى ثَالِثٍ لَمْ يَجُزْ، وَبِاَلاشِتْراكِ أَنَّهُ لَوْ شُرِط الكُلُّ لِلْعَامِلِ أَوْ لِلمَالِكِ فَهُوَ فَاسِدٌ (م)، وَبِكَوْنِهِ مَعْلُومًا احْتَرَزْنَا ناعَمًا إِذَا قَالَ: لَك مِنَ الرِّبْحِ مَا شَرَطَهُ لِفُلاَنٌ فَإنَّهُ مَجْهُولٌ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ الرِّبْحِ بَيْنَنا وَلَمْ يَقُلْ: نِصْفَيْنِ فالأَظْهَرُ: (و) التَّنْزِيِلُ عَلىَ التَّنْصِيفَ لِيَصِحَّ، واحْتَرزْنَا بِالُجْزئِيَّةِ عَمَّا إِذا قالَ: لَكَ مِنَ الرِّبْح مِائَةٌ أَوْ دِرْهَمٌ أَوْ لي دِرْهِم والبَاقيِ بَيْنَنا فَكُلُّ ذَلِكَ فَاسِدٌ إِذْ رُبَّمَا لا يَكُونُ الرِّبْحُ إلاَّ ذَلِكَ المِقْدَارِ. قال الرافعي: في الربح شروط: أحدها: أن يكون مخصوصًا بالمتعاقدين، فلو شرط بعضه لثالث، فقال: على أن يكون ثلثه لك، وثلثه لي، وثلثه لزوجتي، أو لأمي أو لابني أو لأختي أو لأجنبي لم يصح القراض؛ لأنه ليس بعامل، ولا مالك للمال، إلاَّ أن يشترط عليه العمل معه، فيكون قراضًا مع رجلين. ولو كان المشروط له عبدًا، لمالك أو العامل، كان ذلك مضمونًا للمالك، أو العامل على ما تقدم. ولو قال: نصف الربح لك، ونصفه لي، ومن نصيبي نصفه لزوجتي صح القراض، وهذا وعد منه لزوجته. ولو قال للعامل: لك كذا على أن تعطي ابنك أو امراتك نصفه، فعن القاضي أَبي حَامدٍ إن ذكره شرطًا فسد القراض، وإلا لم يفسد. الثاني: أن يكون مشتركًا بينهما، فلو قال: قارضتك على أن يكون جميع الربح لك، ففي حكمه وجهان: أصحهما: أنه قراض فاسد رعاية للفظ.
والثاني: أنه قراض صحيح رعاية للمعنى، ويروى هذا عن أبي حَنيْفَةَ، ولا يجيء الوجه الثاني في مثله من المُسَاقَاةِ لتعذُّر القراض. ولو قال: قارضتك على أن الربح كله لي، فهو قراض فاسد، أو إِيضاع (¬1)؟ فيه وجهان. وعن مالك -رضي الله عنه- أنه يصح القِرَاض في الصورتين، ويجعل كأن الآخر وهب نصيبه من المشروط له. ولو قال: أبضعتك على أن نصف الربح لك، فهو إبضاع، أو قراض؟ فيه الوجهان. ولو قال: خذ هذه الدراهم، فتصرف فيها، والربح كله لك، فهو قرض صحيح عند ابْنِ سُرَيْجٍ والأكثرين، بخلاف ما لو قال: قارضتك على أن الربح كله لك؛ لأن اللفظ يصرح بعقد آخر. وقال الشيخ أَبُو مُحَمَّدٍ: لا فرق بين الصورتين. وعن القاضي الحُسَيْنِ أن الربح والخسران للمالك، وللعامل أجرة المثل، ولا يكون قرضًا؛ لأنه لم يملكه ولو قال: تصرف فيها والربح كله لي، فهو إبضاع. الثالث: أن يكون معلومًا، فلو قال: قارضتك على أن لك في الربح شركة أو شِرْكًا أو نصيبًا فسد. ولو قال: لك مثل ما شرطه فلان لفلان، فإن كانا عالمين بالمشروط لفلان صح، وإن جهلاه أو أحدهما فسد. ولو قال: على أن الربح بيننا، ولم يقل: نصفين فوجهان: أحدهما: الفساد؛ لأنه لم يبين ما لكل واحد منهما فأشبه ما إذا اشترط أن يكون الربح بينهما أثلاثًا، ولم يبين من له الثلثان، ومن له الثلث. وأظهرهما: على ما ذكره في الكتاب، وبه أجاب الشيخ أبُو حَامِدٍ، وحكاه عن ابْنِ سُرَيْجٍ أنه يصح، وينزل على النصف، كما لو قال: هذه الدراهم بيني وبين فلان يكون إقرارًا بالنصف. ولو قال: على أن ثلث الربح لك، وما بقي فثلثه لي، وثلثاه لك صح، وحاصله اشتراط سبعة أتساع الربح للعامل والحساب من عدد لثلثه ثلث وأقله تسعة، وهذا إذا علما عند العقد أن المشروط للعامل بهذه اللفظة كم هو؟ فإن جهلاه أو أحدهما فوجهان: أحدهما: عن صاحب "التقريب" والذي أورده صاحب "الشامل" منهما الصِّحة لسهولة معرفة ما تضمنه اللفظ. ويجري الخلاف فيما إذا قال: على أن لك من الربح سدس ربع العشر، وهما لا يعرفان قدره عند العقد، أو أحدهما. ¬
والرابع: أن يكون العلم به من حيث الجزئية، لا من حيث التقدير، فلو قال: لك من الربح، أو لي منه درهم أو مائة، والباقي بيننا بالسَّويَّه فسد القراض؛ لأنه ربما لا ربح إلاَّ ذلك القدر، فيلزم اختصاص أحدهما بكل الربح، وكذا لو قال: لك نصف الربح سوى درهم، وكذا لو شرط أن يوليه سلعة كذا إذا اشتراها برأس المال؛ لأنه ربما لا يربح إلاَّ عليها، وكذا لو شرط أنه يلبس الثوب الذي يشتريه، ويركب الدابة التي يشتريها؛ لأن القراض جوز على العمل المجهول بالعوض المجهول للحاجة، ولا حاجة إلى ضم ما ليس من الربح إليه، ولأنه ربما ينقص بالاستعمال، ويتعذر عليه التصرف فيه. ولو شَرَطَا اختصاص لو أحدهما بربح صنف من المال، فسد أيضًا لأنه ربما لا يحصل الربح إلاَّ فيه وكذا لو شرط أحد الألفين لهذا، وربح الألف الثاني لهذا، وشرط أن يكون الألفان متميزين، ولو دفعهما إليه، ولا تمييز وقال: ربح أحد الألفين لي، وربح الآخر لك، فعن بعض الأصحاب أنه يصح، ولا فرق بينه وبين أن يقول: نصف ربح الألفين لك. والأظهر، ويحكي عن ابْنِ سُرَيْجٍ أنه فاسد؛ لأنه خصصه بربح بعض المال، فأشبه ما إذا كان الألفان متميزين، وما إذا دفع إليه ألفًا على أن يكون له ربحها ليتصرف له في ألف آخر. قال الغزالي: الرَّابُعِ: الصِّيغَةُ وَهِيَ أنْ يَقُولَ قَارَضْتُكَ أَوِ ضَارَبْتُكَ أَوْ عَامَلْتُكَ عَلَى أَنّ الرِّبْحِ بَيْنَنا نِصْفَيْنِ فَيَقُولُ: قَبِلْتُ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ النِّصْفَ لِي وَسَكَتَ عَنِ العَامِلِ فَسَدَ (و)، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ النِّصْفَ لَكَ وَسَكَتَ عَنْ جَانِبِ نَفْسِهِ جَازَ. قال الرافعي: القِراضُ والمُضَارَبَة والمُعَامَلَة ألفاظ مستعملة في هذا العقد، وإذا قال: قارضتك، أو ضاربتك، أو عاملتك على أن الربح بيننا كذا كان إيجابًا صحيحًا، ويشترط فيه القبول على التواصل المعتبر في سائر العقود. ولو قال: خذ هذه الدراهم، واتَّجِرْ عليها على أن الربح بيننا كذا. ففي "التهذيب" أنه يكون قِراضًا، ولا يفتقر إلى القبول، وهذا حكاه الإمام عن القاضي الحُسَيْنِ ثم قال: وقطع شيخي والطبقة العظمى من نقلة المذهب أنه لا بد من القبول بخلاف الجُعالَةِ والوكالة فإن القراض، عقد مُعَاوَضَة يختص بمعين، فلا يشبه الوكالة التي هي إذن مجرد، والجعالة التي يتهم فيها العامل، فإن قال: قارضتك على أن نصف الربح لي، وسكت عن جانب العامل فوجهان: أحدهما: أنه يصح، ويكون النصف الآخر للعامل؛ لأنه الذي يسبق إلى الفهم منه، ولهذا قال ابْنُ سُرَيْجٍ.
وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب، وبه قال المُزَنِيُّ أنه لا يصح؛ لأن الربح فائدة رأس المال، فيكون للمالك إلاَّ إذا نسب منه شئ إلى العامل، ولم ينسب إليه شيء. ولو قال: على أن نصف الربح لك، وسكت عن جانب نفسه، فالصحيح الجواز، وما لا ينسب إلى العامل يكون للمالك بحكم الأصل بخلاف الصورة السابقة. وفي "النهاية" ذكر وجه ضعيف: أنه لا يصح حتى تجري الإضافة في الجزءين إلى الجانبين. وإذا قلنا بالصحيح فلو قال: على أن لك النصف ولي السدس، وسكت عن الباقي صح، وكان الربح بينهما نصفين، كما لو سكت عن ذكر جميع النصف. قال الغزالي: الرُّكْنُ الخَامِسُ والسَّادِسُ: وَالعَاقِدَانِ وَلاَ يُشْتَرَط فِيِهَما إِلاَّ مَا يُشْتَرَطُ في الوِكَيلِ وَالمُوَكَّل، نَعَمْ لَوْ قارَضَ العَامِلُ غَيْرَهُ بِمِقْدَارِ مَا شَرَطَ لَهُ بإِذْنِ المالِكِ فَفِيهِ وَجْهَانِ لأنَّ وَضْعَ القِرَاضِ أَنْ يَدُوَرَ بَيْنَ عَامِلٍ وَمالِكٍ. قال الرافعي: صاحب الكتاب رحمة الله قد يعد العاقدين ركنين، كما فعل هاهنا، وفي الوِكَالَةِ، وقد يعد العاقد مطلقًا رُكْنًا واحدًا، كما فعل "البيع" و"الرَّهْن"، والفرض الأصلي لا يختلف، لكنه لو استمر على طريقة واحدة كان أحسن. وفقه الفصل أن القِراضَ توكيل وتوكّل (¬1) في شيء خاص وهو التجارة، فيعتبر [في العامل والمالك ما يعتبر في الوكيل والموكل، فكما يجوز لولي الطفل التوكيل في أجور الطِّفل، كذلك يجوز لولي (¬2)] الطفل والمجنون أن يقارض على مالها، يستوي فيه الأب والجد ووصيهما، والحاكم وأمينه، وهل يجوز لعامل القراض أن يقارض غيره. أما بإذن المالك، فقد ذكره هاهنا، وأعاده مرة أخرى في الباب الثاني مع القسم الآخر، وهو أن يقارض بغير إذن المالك، ونحن نشرح المسألة بقسميهاهناك إن شاء الله تعالى. قال الغزالي: وَلَوْ كَانَ المَالِكُ مَرِيضًا وَشَرَطَ ما يَزِيدُ عَلَى أُجْرَةِ المِثْلِ لِلعْامِلِ لَمْ يُحْسَبْ مِن الثُّلث لأنَّ التَّفْوِيَت هُوَ المُقَيَّدُ بِالثُّلثُ وَالرِّبْحُ غَيْرُ حَاصِلٍ، وَفِي نَظِيرِهِ مِنَ المسَاقَاةِ خِلاَفٌ (و)، لأِنَّ النَّخِيلَ قَدْ تُمّر بِنَفْسِهِ فَهُوَ كَالحَاصِلِ، وَلوْ تَعَدَّدَ العَامِلُ واتَحَّدَ المالِكُ أَوْ بِالعَكْسِ فَلا حَرَجَ. ¬
قال الرافعي: فيه مسألتان: إحداهما: لو قارض في مرض موته صح، وإذا ربح العامل سلم له الجزء المشروط، وإن زاد على أجرة مثل عمله، ولا يحسب من الثلث؛ لأن المحسوب من الثلث ما يفوته من ماله، والربح ليس حاصل حتى يفوته، وإنما هو شيء يتوقع حصوله، فإذا حصل حصل بتصرفات العامل وكسبه. ولو ساقاه في مرض الموت، وزاد الحاصل على أجرة المثل فوجهان: أحدهما: أنه لا يحتسب من الثلث أيضًا؛ لأنه لم يكن حينئذ ثمرة، وحصولها منسوب إلى عمل العامل وتعهده. وأشبههما: احتساب الزيادة من الثلث؛ لأن للثمار وقتًا معلومًا ينتظر، وهي قد تحصل من عَيْنِ النخيل من غير عمل، فكانت كالشَّيء الحاصل، بخلاف الأرباح الثانية يجوز أن يقارض الواحد اثنين والعكس، ثم إذا قارض الواحد اثنين، وشرط لهما نصف الربح بالسوية جاز، ولو شرط لأحدهما ثلث الربح (¬1)، وللآخر ربعه، فإن أبهم لم يجز، وإن عين الثلث لهذا، والربع لهذا جاز؛ لأن عقد الواحد مع اثنين كعقدين. وقال مَالِكٌ: لا يجوز لاشتراكهما في العمل. وقال الإمام: وإنما يجوز أن يقارض اثنين إِذا ثبت لكل واحد منهما الاستقلال، فإن شرط على كل واحد منهما مراجعة الآخر لم يجز. وما أرى أن الأصحاب يساعدونه عليه (¬2)، وإذا قارض اثنان واحدًا، فليبينا نصيب العامل من الربح، ويكون الباقي بينهما على قدر ماليهما (¬3) ولو قالا: لك من نصيب أحدنا من الربح الثلث، ومن نصيب الآخر الربع، فإن أبهما لم يجز، وإن عينا وهو عالم بقدر كل واحد منهما جاز، إلاَّ أن يشترطا كون الباقي بين المالكين على غير ما تقتضيه نسبة المالين كافية من شرط الربح لمن ليس بمالك، ولا عامل. وعن أبي حنيفة تجويز هذا الشرط. قال الغزلي: وَمَهْمَا فَسَدَ القِرَاضُ بِفَوَاتِ شَرطٍ نَفّذَ التَّصَرُّفَاتِ وَسلَّمَ كُلِّ الربِّح ¬
فرع
للِمَالِكِ، وَللعَامِلِ أُجْرَةُ مثْلِهِ إِلاَّ إذَا فَسدَ بأَنْ شَرَطَ كُلِّ الرِّبْحِ للمَالِكِ فَفِيِ اسْتِحْقَاقِهِ الأُجْرَةَ وَجْهَانِ؛ لأنَّهُ لَمْ يَطْمعَ في شَيْءٍ أَصْلًا. قال الرافعي: لما قضى حق القول في الأمور المعتبرة في القراض بَيَّن حكمه إذا فسد يتخلف بعض الشروط، وله ثلاثة أحكام. أحدها: نفوذ تصرفاته نفوذها لو كان القراض صحيحًا؛ لأنه يتصرف بالإذن، والإذن موجود، وهذا كما أن تصرف الوكيل نافذ مع فساد الوكالة، وليس كما إذا أفسد البيع لا ينفذ تصرف المشتري؛ لأن المشتري إنما يتصرف بالملك، ولا ملك في البيع الفاسد (¬1). والثاني: سلامة الربح كله للملك بتمامه للمالك؛ لأنه فائدة ماله، وإنما يستحق العامل بعضه بالشراط بالعقد الصحيح. والثالث: استحقاق العامل أجرة مثل عمله، سواء كان في المال ربح، أو لم يكن، لأنه عمل طبعًا في المسمى، فإذا لم يسلم إليه وجب أن يرد عمله عليه وإن متعذر، فتجب قيمته، كما إذا اشترى شيئًا شراء فاسدًا، وقبضه فتلف تلزمه قيمته. وعن مالك أنه إن لم يحصل منه ربح، فلا شئ له، وإن حصل له، فله ما يقارض به مثله في محل ذلك المال، وهذه الأحكام مطردة في صورة الفساد، نعم لو قال: قارضتك على أن جميع الربح لي، وفرعنا على أنه قِرَاضٌ فاسد لا إبضاع، ففي استحقاق العامل أجرة المثل وجهان. أحدهما: يستحق كما سائر أسباب الفساد (¬2). وأصحهما: قال المزني المنع؛ لأنه عمل مجانًا غير طامع في شئ. فرع: قال المزني في "المختصر" لو دفع إليه ألف درهم، وقال: اشتر بها هرويًّا أو مرويًّا بالنصف، فهو فاسد، واختلفوا في تعليله. فالأصح: وفي وهو سياق الكلام ما يقتضيه أن الفساد باعتبار أنه تعرض للشراء دون البيع، وهذا جواب على أصح الوجهين أن التعرض للشراء لا يغني عن التعرّض للبيع، بل لا بد من لفظ المُضَاربة ونحوها ليتناول البيع والشراء، أو من التصريح ¬
الباب الثاني في حكم القراض الصحيح
بالشراء والبيع جميعًا، وإذا اقتصر على الشراء، فللمدفوع إليه الاقتصار على الشراء، دون البيع، والربح كله للمالك، والخسران عليه. وفيه وجه: أن التعرض للشراء كافٍ، وهو ينبه على البيع بعده، وفيما إذا أتى بلفظ المُضَاربة والقراض أيضًا حكايته وجه ضعيف في "النهاية" أنه كما لو قال: اشتر، ولم يتعرض للبيع. وقيل: سبب الفساد في تصوير المزني أنه قال بالنصف، ولم يبين لمن النصف هو؟ فيحتمل أنه أراد شرطه لنفسه، وحينئذ يكون نصيب العامل مسكوتًا عنه، فيفسد العقد. واعترض ابْنُ سُرَيْجٍ على هذا بأن الشرط ينصرف إلى العامل؛ لأن المالك يستحق بالمال لا بالشرط. وعن ابْنِ أَبي هُرَيْرَةَ أن سبب الفساد أنه تردَّد بين النوعين، ولم يعين واحدًا، ولا أطلق التصرف في أجناس الأمتعة. واعترض القاضي الحُسَيْنِ عليه أنه لو عَيْن أحدهما لحكمنا بالصِّحة، فإذا ذكرهما على الترديد فقد زاد العامل بسطةً وتخييرًا نينبغي أن يصح بطريق الأولى (¬1). وقيل: سببه أن القراض إنما يصح إذا أطلق له التصرف في الأمتعة، أو عين جنسًا يعم وجوده، والهروِيّ والمروِيّ ليسا كذلك، وهذا القائل كأن يفرض في بلد لا يعمَّان به. وقال الإمام: يجوز أن يكون سبب الفساد أنه أرسل ذكر النصف، ولم يقل بالنصف من الربح. قال الغزالي: البَابُ الثَّانيِ في حُكْمِ القِرَاضِ الصَّحِيحِ وَلَهُ خَمْسَةُ أَحْكَام: الحُكْمُ الأَوَّلُ -أنَّ العَامِلَ كَالوكيلِ في تَقْيِيدِ تَصَرُّفِهِ بِالغِبْطَةِ، فَلا يَتَصَرَّفُ بالغَبْنِ وَلا بِالنَّسِيئَةِ بَيْعًا وَلاَ شِرَاءً إِلاَّ بِالإِذنِ، وَيَبَيعُ بِالعَرْضِ فَإنَّهُ عَيْنُ التِّجَارَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرَّدُ بِالعَيْبِ، فَإنْ تَنَازَعا فَقالَ العَامِلُ: يَرُدُّ وَامْتَنَعَ رَبُّ المَالِ أَوْ بِالعَكْسِ فَيُقَدَّمُ جَابِبُ الغِبْطَةِ وَلا يُعَامِلُ العَامِلُ المَالِكَ، وَلاَ يَشْتَري بِمَالِ القِرَاضِ أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ المَالِ، وَإِنِ اشْتَرَى لَمْ يَقَعْ لِلقْراضِ، وَانْصَرَفَ إِلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَ. قال الرافعي: من أحكام القراض تقييد تصرف العامل بالغِبْطَة، كتصرف الوكيل ثم الغِبْطَة والمصلحة قد تقتضي التسوية بينهما، وقد تقتضي الفرق، وبيع العامل وشراؤه بالغَبْنِ كبيع الوكيل (¬2) بلا فرق، ولا يبيع نسيئة بدون الإذن، ولا يشتري أيضًا؛ لأنه ربما ¬
يهلك رأس المال فتبقى العهدة متعلقة به، فإن أذن في البيع نسيئة، ففعل وجب عليه الإشهاد (¬1)، ويضمن لو تركه، ولا حاجة إليه في البيع حالًا؛ لأنه يحبس المبيع إلى استيفاء الثمن، ولو سلمه قبل استيفاء الثمن، ضمن كالوكيل، فإن كان مأذونًا في التسليم قبل قبض الثمن سلمه، ولم يلزمه الإشهاد؛ لأن العادة ما جرت بالإشهاد في البيع الحالِّ (¬2)، ويجوز للعامل أن يبيع بالعرض، بخلاف الوكيل لأن المقصود من القراض الاسترباح بالعرض طريق فيه، وكذلك له شراء المعيب إذا رأى فيه ربحًا بخلاف الوكيل، فإن اشتراه بقدر قيمته قال في "التتمة": فيه وجهان؛ لأن الرغبات في المعيبِّ (¬3) تقل. وإن اشترى شيئًا على ظنِّ السَّلامة، فَبَانَ معيبًا فله أن ينفرد بردّه، وإن كانت الغِبْطَة فيه، ولا يمنعه منه رضا المالك بخلاف الوكيل؛ لأن العامل صاحب حق في المال، وإن كانت الغِبْطَة في إمساكه، ففي "النهاية" وجهان في تمكّنه من الرد. وأظهرهما: المنع لاخلاله بمقصود العقد، وحيث ثبت الرد للعامل ثبت للمالك بطريق الأولى، ثم الذي حكاه الإمام أن العامل يرد على البائع، وينقص البيع. وأما المالك فينظر إن كان الشراء بِعَيْنِ مال القراض فكمثل، وإن اشترى العامل في الذِّمَّة، فيصرفه المالك عن مال القراض وفي إنصرافه إلى العامل ما سبق في إصراف العقد إلى الوكيل إذا لم يقع الموكل، ولو تنازع المالك والعامل في الرد، وتركه فعل، فيه الحظ (¬4). ولا يجوز للمالك معاملة العامل بأن يشتري من مال القِرَاض شيئًا؛ لأنه ملكة كما أن السيد لا يعامل المأذون. ولا يجوز أن يشتري بمال القراض أَكثر من رأس المال؛ لأن المالك لم يرض بأن يشغل العامل ذمته إلاَّ به فلو فعل لم يقع ما زاد عن جهة القِرَاض (¬5) حتى لو دفع إليه مائة قراضًا فاشترى عَبْدًا بمائة، ثم آخر بمائة للقراض ¬
أيضًا لم يقع الثَّاني للقراض، ولكن ينظر إن اشتراه بعين المائة، فالشراء باطل سواء اشترى الأول بعين المائة، أو في الذمة. أما إذا اشترى بعين المائة فلصيرورتها ملكًا للبائع الأول. وأما إذا اشترى في الذمة، فلصيرورتها مستحقّة الصرف إلى العقد الأول، وإن اشترى العبد الثاني في الذمة لم يبطل، ولكن ينصرف إلى العامل حيث ينصرف شراء الوكيل المخالف إليه، وإذا انصرف العبد الثاني إلى العامل فإن صرف مائة القراض إلى ثمنه، فقد تعدَّى، ودخلت المائة في ضمانه، لكن العبد يبقى أمانه في يده؛ لأنه لم يتعدَّ فيه، فإذا تلفت المائة نظر إن كان الشراء الأول بعينها انفسخ، وإن وكان في الذمة لم ينفسخ، ويثبت للمالك على العامل، مائة والعبد الأول للمالك، وعليه لبائعة مائة فإن أداها العامل بإذن المالك، وشرط له (¬1) الرجوع ثبتت له مائة على المالك، ووقع الكلام في التَّقاصّ، وإن أدى بغير إذنه برئ المالك عن حق بائع العبد ويبقى حقه على العامل، ويجوز أن يعلّم قوله من لفظ الكتاب: "فلا يتصرف بالغَبْن ولا بالنَّسيئة -بالحاء- لأن أبا حنيفة يخالف فيه كما ذكرنا في الوكالة. قال الغزالي: ولَوِ اشْتَريَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى المالِكِ لَمْ يَقَع عَنِ المَالِك فإنَّهُ نَقَيِضُ التِّجارَةِ، وَلَو اشْتَرَى زَوْجَةَ المَالِكِ فَوَجْهَانِ، والوَكيِلُ بِشِراءِ عَبْدٍ مُطْلَقٍ إِنِ اشْتَرَى مَنْ يُعْتَقُ عَلَى المُوَكَّلَ فِيهِ وَجْهَانِ، والعَبْدُ المأَذُونُ إِنْ قِيلَ لَهُ: اشْتَرِ عَبْدًا فَهُوَ كَالوَكِيِل، وَإِنْ قِيلَ لَهُ: اتَّجِر فَهُوَ كَالعَامِلِ، وَإِنْ اشْتَرَى العَامِلُ قَرِيبَ نَفْسِهِ وَلاَ رِبْحَ فِي المالِ صَحَّ، وَإِنِ ارْتَفَعَتِ الأَسْوَاقُ وَظَهَرَ رِبْحٌ وَقُلْنَا يَمْلِكُ بِالظُّهُورِ عَتَقَ حِصَّتَهُ (و) وَلَمْ يَسْرِ إِذْ لاَ اخْتِيَارَ فِي ارْتفَاعِ السُّوقِ، وَإِنْ كَانَ فِي المَالِ رِبْحٌ وَقُلْنَا: لاَ يَمْلِكُ بِالظُّهُورِ صَحَّ وَلَمْ يُعْتَقْ، وَإِنْ قُلْنَا يَمْلِكُ فَفِي الصِّحَّةِ وَجْهَانِ لأنَّهُ مُخَالِفٌ لِلتِّجَارَةِ، فَإِنْ صَحَّ عَتَقَ (و) حِصَّتَهُ وَسَرَى إِلَى نَصِيبِ المَالِكِ لأِنَّ المُشْتَرِي مُخْتَارٌ وَغُرِّمَ لَهُ حِصَّتَهُ. قال الرافعي: مضمون الفصل مسألتان: إحداهما: إذا اشترى العامل مَنْ يعتق على المالك، فإما أن يشتريه بإذن المالك، أو بغير إذنه. أما الحالة الأولى فيصح الشراء، ثم إن لم يكن في المال ربح عتق عن المالك، وارتفع القراض إن اشتراه بجميع مال القراض، وخيار رأس المال الباقي إن اشتراه ¬
ببعضه، وإن كان في المال ربح ينبني على أن العامل متى يملك نصيبه من الربح؟ وإن قلنا: يملك بالقسمة عتق أيضًا، وغرم المالك نصيبه من الربح، وكأنه استرد طائفة من المال بعد ظهور الربح، وأتلفه. وإن قلنا: إنه يملك بالظُّهور عتق منه حصّة رأس المال، ونصيب المالك من الربح، ويسري إلى الباقي إن كان موسرًا، أو يغرمه وإن كان معسرًا بقي رقيقًا. وفيه وجه: أنه إذا كان في المال ربح، وقد اشتراه ببعض مال القراض، نظر إن اشتراه بِقَدْرِ رأس المال عتق، وكان المالك استرد رأس المال، والباقي ربح يتقاسمانه على قضية الشرط، وإن اشتراه بأقل من رأس المال، فهو محسوب من رأس المال، وإن اشتراه بأكثر حسب قدر رأس المال من رأس المال، والزيادة من حصة المالك، وما أمكن، والظاهر الأول وهو وقوعه سائغًا على ما سنذكره في استرداد طائفة من المال بعد الربح، والحكم فيما إذا أعتق المالك عبدًا من مال القراض كالحكم في شراء العالم من يعتق عليه بإذنه. الحالة الثانية: أن يشتريه بغير إذن المالك، وهي التي قصدها صاحب الكتاب، فلا يقع الشراء عن المالك بحال؛ لأن مقصود العقد تحصيل الربح، وفي شراء من يعتق عليه تفويت رأس المال أيضًا، لكن ينظر إن اشتراه بعين مال القراض بطل من أصله، وإن اشتراه في الذمة وقع عن العامل، ولزمه الثمن من ماله، فإن أدَّاهُ من مال القراض ضمن. ولو اشترى العامل زوجة المالك، أو زوج المالكة بغير إذنها فوجهان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة أنه يصح؛ لأنه اشترى له ما يتوقع فيه الربح، ولا يتلف رأس المال. وأظهرهما: ويحكى عن نصه في "الاملاء": المنع؛ لأنه لو ثبت الملك لانفسخ النكاح، وتضرر به، والظاهر أنه لا يقصده بالإذن، وإنما يقصد مال فيه حظ، فعلى هذا الحكم كما لو اشترى من يعتق على المالك بغير إذنه. وإذا وَكَّل وكيلًا بشواء عبد، فاشترى من يعتق على الموكل، ففي وقوعه عن الموكل وجهان نقلهما الإمام: أحدهما: المنع؛ لأن الظاهر أنه يطلب عبد تجارة أو عبد قنية، وبشراء من يعتق عليه لا يحمل واحدًا من الوصفين. وأظهرهما: وهو الذي أورده الجمهور: الوقوع له لأن اللفظ [شامل وقد يرضى بعيد] (¬1) إن بقي له انتفع به، وإن أعتق عليه ناله ثوابه، وإنما أخرجناه عن التناول ¬
بالقِرَاض لقرينة غرض التجارة. فإن قلنا بالأول بطل الشراء إن اشتراه بعينه، وإلاَّ وقع عن الوكيل، والعبد المأذن له في التجارة إن اشترى من يعتق على سيده بإذن السيد صح، وعتق عليه إن لم يركبه دَيْن، وإن ركبه الديون ففي العتق قولان؛ لأن ما في يده كالمرهون بالديون. وإن اشترى بغير إذنه، فقولان منصوصان: أحدهما: أنه يصح ويعتق عليه؛ لأن العبد لا يمكنه الشراء لنفسه، وإنما يشتري لسيده، فإذا أطلق الإذن انصرف ما يشتريه إليه مقيداً كان أو غير مقيد، والعامل يمكنه الشراء، لنفسه، كما يمكنه الشراء للمالك، فما لا يقع مقصوداً بالإذن ظاهراً ينصرف إلى العامل. وأصحهما، وهو اختيار المُزَنِيِّ أنه لا يصح كما في حق العامل؛ لأن السيد إنما أذن في التجارة، وهذا ليس من التجارة في شيء، ورأى الإمام القطع بهذا القول فيما إذا كان الإذن في التجارة، ورد الخلاف إلى ما إذا قال: تصرف في هذا المال، أو اشتر عبداً، وعلى هذا جرى صاحب الكتاب حيث قال: "إن قيل له: اشتر عبداً فهو كالوكيل وإن قيل: اتَّجِرْ فهو كالعامل"، أي هو كالوكيل في أن الخلاف يجد مجالاً ومضطرباً، ولا يمكن حمله على أن الخلاف، كالخلاف فإن الخلاف في المأذون قولان مشهوران، وفي الوكيل إن ثبت وجهان. وقوله: "فهو كالعامل" يجوز إعلامه -بالواو- لأن الأكثرين أثبتوا القولين مع تصويرهم في الإذن في التجارة، وكذلك حكاه المزني عن نَصِّه في "المختصر"، ويجوز إعلامه -بالحاء- أيضاً لأن المحكى عن أبي حنيفة أنه إن لم يدفع السيد إليه، وإنما أذن له في التجارة صح الشراء، وعتق على السيد وإن دفع إليه مالاً فهو كالعامل، ثم هذا الخلاف فيما إذا لم يركبه دين، فإن ركبه، وقد اشتراه بغير إذن السيد، ترتب الخلاف على الخلاف فيما إذا لم يركبه، وعدم الصحه هاهنا أولى، وإن صح ففي نفوذ العتق الخلاف السابق. المسألة الثانية: إذا اشترى العامل من يعتق عليه، نظر إن لم يكن في المال ربح صح الشراء، ولم يعتق عليه كالوكيل يشتري قريب نفسه لموكله، ثم إن ارتفعت الأسواق، وظهر ربح بني على القولين في أن العامل متى يملك الربح؟ إن قلنا: يملكه بالقسمة لم يعتق بشئ منه. وإن قلنا بالظهور فأظهر الوجهين، وهو المذكور في الكتاب أنه يعتق عليه قدر حصته من الربح؛ لأنه ملك بعض أبيه. والثاني: لا يعتق؛ لأن الملك فيه غير تام من حيث إنه وِقَاية لرأس المال مُعَدًّا لهذا الغرض إلى انفصال الأمر بينهما بالمُقَاسمة.
فرع
فإن قلنا بالأول، ففي السرابة إن كان موسراً وتقويم الباقي عليه وجهان. أحدهما: وبه أجاب الأكثرون: أنها تثبت كما لو اشتراه، فيه ربح، وقلنا: إنه يملك بالظهور. والثاني: المنع، وهو الذي أورده في الكتاب؛ لأن العتق -والحالة هذه- يحصل في الدوام بسبب هو فيه غير مختار ومثل ذلك لا يتعلق به الشراء، ألا ترى أنه لو ورث بعض قريبه عتق عليه، ولم يشتر. ومن قال بالأول أجاب بأنه لا اختيار في الإرث أصلاً وهاهنا الشراء أولاً، والإمساك ثانياً إلى ارتفاع الأسواق اختياران، وإن كان في المال ربح، سواء كان حاصلاً في الشراء، أو حصل بنفس الشراء مثل أن كان رأس المال مائة، فاشترى بها أباه، وهو يساوي مائتين. فإن قلنا: إنه يملك الربح بالقسمة دون الظهور صَحَّ الشراء، ولم يعتق. وإن قلنا: يملك بالظهور، ففي صحة الشراء في قدر حِصَّته من الربح وجهان: أظهرهما: الصِّحة لأنه مطلق التصرف في ملكه. والثاني: المنع؛ لأنه لو صح فإما أن يحكم بعتقه، وهو يخالف غرض الاسترباح الذي هو مقصود التجارة، أو لا يحكم فيختلف العتق عن ملك القريب. فإن قلنا بالمنع، ففي الصحة في نصيب المالك قولا تفريق الصفقة، وإن قلنا بالصحة ففي عتقه عليه الوجهان السابقان. وإن قلنا: يعتق فإن كان موسرًا سَرَى العتق إلى الباقي، ولزمه الغُرْم؛ لأنه مختار في الشراء، وإلاَّ بقي رقيقاً هذا كله فيما إذا اشترى العامل قريب نفسه بعين مال القراض. أما إذا اشتراه في الذمة للقراض فحيث صحَّحنا الشراء بعين مال القراض أوقعناه هاهنا عن القراض، وحيث لم نصحح أوقعناه هاهنا عن العامل، وعتق عليه. وعن صاحب "التقريب" قول: أنه أطلق الشراء، ولم يصرفه إلى القراض لفظاً، ثم قال: كنت نويته. وقلنا إنه إذا وقع القِرَاض لم يعتق منه شيء لا يقبل قوله: لأن الذي جرى عقد عتاقه، فلا يمكن من رفعها. فرع: ليس لعامل القراض أن يكاتب عبد القراض بغير إذن المالك، فإن كاتباه معاً جاز، وعتق بالأداء، ثم إن لم يكن في المال ربح فولاؤه للمالك، ولا ينفسخ القِرَاض بما جرى من الكتابة في أظهر الوجهين، بل ينسحب على النجوم، وإن كان فيه ربح فالولاء بينهما على حسب الشرط، وما يزيد النجوم على الثمن من القيمة ربح.
قال الغزالي: الحُكْمُ الثَّاني -لَيْسَ لِعامِلِ القِرَاضِ أنْ يُقَارِض عَامِلاً آخَرَ بِغَيْرِ إِذْنَ المَالِكِ، وَفيِ صحَّتِهِ بِالإِذْنِ خِلاَفٌ (و) فَإِنْ فَعَلَ بِغَيْرِ الإذْنِ وَكَثُرَتِ التَّصَرُّفَاتُ وَالرِّبْحُ [فَعَلى الجَدِيدِ الرَّبْحُ كُلُّهُ لِلعَامِلِ الأَوَّلِ وَلاَ شَيْء للمَالِكِ]، وَلْلعَامِلِ الثَّاني أَجْرُ مِثْلهِ عِلىَ العَامِلِ الأَوَّلِ إِذِ الرَّبْحُ عَليَ الجَديِدِ لِلغَاصِبِ، وَالعَامِلُ الأَوَّلُ هُوَ الغَاصِبُ الَّذيِ عُقِدَ العَقْدُ لَهُ، وَقِيلَ: كُلُّهُ لِلْعَامِلِ الثاني فإنه الغَاصِبُ، وَعَلَى القَديمِ يُتَّبعَ مُوُجَبُ الشَّرْطِ لِلْمَصْلَحَةِ وَعُسْرِ إِبْطَالِ التصَّرُّفاَتِ وَللمْالِكِ نِصْفُ (و) الرِّبْحِ وَالنِّصْفُ الآخَرُ بَيْنَ العَامِليْنِ نِصُفَيْن (و) كَمَا شَرَطَا، وَهَلْ يَرْجِعُ العَامِلُ الثَّانيِ بِنِصْفِ أُجْرَةِ مِثْلِه لأنَّه كَانَ طَمِعَ في كُلِّ النِّصْفِ مِنَ الرَّبْحِ وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: إذا قارض العامل غيره (¬1) لم يَخْلُ إما أن يقارضه بإذن المالك، أو بغير إذنه. أما الحالة الأولى فتتصور على وجهين. أحدهما: أن ينسلخ العامل من الدَّين، وينتهض وكيلاً في القراض مع الثاني، كأن المالك سلم إليه المال، وإذن له في أن يقارض غيره إن بدا له، فهذا صحيح كما لو قارضه المالك بنفسه (¬2)، ولا يجوز أن يشترط الأول لنفسه شيئاً من الربح، ولو فعل فسد القراض، وللثاني أجرة المثل على المالك لما مَرَّ إن شرط الربح لغير المالك، والعامل ممتنع. والثاني: أن يأذن له في أن يعامل غيره ليكون ذلك الغير شريكاً له في العمل، والربح المشروط له على ما يراه، حكى (¬3) الإمام وصاحب الكتاب فيه وجهين: أحدهما: الجواز كما لو قارض المالك شخصين في الابتداء. وأشبههما: المنع لأنَّا لو جوزنا ذلك لكان الثاني فرعاً للأول منصوباً من جهته، والقراض معاملة تضيق محال القياس فيها، فلا يعدل بها عن موضوعها، وهو أن يكون أحد المتعاقدين مالكاً لا عمل له، والثاني: عاملاً لا ملك له، وهذا ما أشار إليه صاحب الكتاب بقوله في الباب الأول حين ذكر هذه المسألة. "لأن موضع القراض أن يدور بين مالك وعامل". وليكن لفظ الكتاب هنالك معلّماً بالواو. ¬
نعم لو قارض العامل غيره بمقدار مما شرط له، أما إذا قارض بمقدار ما شرط له كان ذلك على (¬1) التصوير الأول، وهو جائز بلا خلاف. الحالة الثانية: أن يقارض العامل بغير إذن المالك فهو فاسد (¬2)؛ لأن المالك لم يأذن فيه، ولا ائتمن على غيره ويجيء فيه القول المذكور في أن تصرفات الفُضُوليّ تنعقد موقوفة على الإجازة. وإذا قلنا بالمذهب فلو أن الثاني تصرّف في المال وربح، فهذا ينبني على أن الغاصب إذا اتَّجر في المال. مغصوب ما حكم تصرفه؟ ولمن الربح الحاصل؟. وأما إذا تَصرَّفَ في عين المَغْصُوب، فتصُّرف (¬3) الفضولي. فأما إذا باع سلماً، أو اشترى في الذمة، وسلم المغصوب فيما [التزمه وربح فعلى الجديد: الربح للغاصب؛ لأن التصرف صحيح، والتسليم فاسد]، فيضمن المال الذي سلمه، ويسلم له الربح، وهذا قياس ظاهر. وعلى القديم: هو للمالك توجيهاً بحديث عُرْوَةَ البَارِقيِّ، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ رأس المال والربح، وبأنا لو جعلناه للغاصب لا تخذه الناس ذَرِيْعَةً إلى الغصب، والخيانة في الودائع، والبضاعات، وأن تصرفات الغاصب قد تكثر، فيتعسر بيع الأمتعة التي تداولتها الأيدي المختلفة، أو يتعذر، وفي هذا القول مباحثات: أحداها: الجَزْم على هذا القول بإن الربح للمالك، أو نوقفه على إجازته واختياره؟ قيل بالوقف على الإجازة، وبني هذا القول على قول الوَقْف في بيع الفُضُولي، وإنما لم يتعرض الشافعي -رضي الله عنه- للفسخ والإجازة؛ لأن الغالب أنه يجيز إذا رأى الربح، فعلى هذا إذا رده يرتد، سواء اشترى في الذمة، أو بعين المغصوب. وقال الأكثرون: إنه مجزوم به، ومبني على المصلحة، وكيف يستقيم توقيف شراء الغاصب لنفسه على إجازة غيره؟ وإنما يجري قول الوقف إذا تصرف في عين مال الغير أوْ له. الثانية: إذا كان في المال ربح، وكثرت التصرفات، وعسر تتبعها فهو موضع القول القديم، أما إذا قَلَّت، وسهل التتبع ولا ربح، فلا مجال له. ¬
قال الإمام وحكى وجهين فيما إذا سمهل التتبع، وهناك ربح أو عسر ولا ربح. الثالثة: لو اشترى في ذمته، ولم يخطر له أن يؤدي الثمن من الدراهم المغصوبة، ثم سَنَحَ له ذلك. قال الإمام ينبغي ألا يجيء فيه القول القديم أن صدقه صاحب الدراهم. واعلم أن المسألة قد تلقب بمسألة البضاعة، وقد ذكرناها، والاختلاف فيها مر على الاختصار مرة في أول البيع وأخرى في الغَصْب. إذا تقرر ذلك فعلى الجديد ينظر إن اشترى بعين مال القراض، فهو باطل، وإن اشترى في الذمة، فأحد الوجهين: أن كل الربح للعامل الثاني؛ لأنه المتصرف كالغاصب في صورة الغَصْب. وأصحهما: وبه أجاب المُزَنِيُّ: أن كله للأول؛ لأن الثاني تصرف للأول بإذنه، فكان كالوكيل من جهته، وعليه للثاني أجرة عليه ويحكى هذا عن أَبِي حَنِيْفَةَ. وإن قلنا بالقديم، ففيما يستحقُّه المالك من الربح وجهان: أحدهما: ولم أره إلاَّ في كتاب أبِي الفَرَجِ السَّرْخَسِيِّ: أن كله للمالك، كما في الغَصْب طرداً لقياس هذا القول، وعلى هذا فللعامل الثاني أجرة مثله، وعلى مَنْ تجب؟ حكى فيه وجهان: أحدهما: أنها على العامل الأول؛ لأنه استعمله وغيره. والثاني: على المالك؛ لأن نفع عمله عاد إليه. وأصحهما: وبه أجاب المزني: أن له نصف الربح، لأنه رضي به، بخلاف صورة الغَصْب، فإنه لم يوجد منه رضا به، فصرفنا الكل إليه قطعاً لطمع الغُصَّاب والخائنين، وعلى هذا ففي النصف الثاني وجوه: أحدها: وهو اختبار ابْنِ الصَّبَّاغِ: أن كله للعامل الأول؛ لأن المالك إنما شرط له، وعقده معِ الثاني فاسد، فلا يتبع شرطه، وعلى هذا فللثاني أُجْرة مثل عمله على الأولِ؛ لأنه غَرَّهُ. والثاني: أن كله للثاني؛ لأنه العامل، أما الأول فليس له عمل ولا ملك، فلا يصرف إليه شيء من الربح. وأصحهما، وهو المذكور في الكتاب: أنه يكون بين العاملين بالسَّوية وبه أجاب المزني، ووجهه أن تتبع التصرفات عسير، والمصلحة اتباع الشرط، إلا أنه تعذَّر الوفاء به في النصف الذي أخذه المالك، فكأنه تلف، وانحصر الربح في الباقي، وعلى هذا فهل يرجع العامل الثاني بنصف أجرة المثل؟
فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه كان قد طمع في نصف الربح بتمامه، ولم يسلم له إلاَّ نصف النصف. وأشبههما، وبه قال المزني، وأبو إسحاق: لا؛ لأن الشرط محمول على ما يحصل لهما من الربح، والذي حصل هو الربح، والوجهان فيما إذا كان العامل الأول قد قال: على أن ربح هذا المال بيننا، أو على أن لك نصفه. أما إذا كانت الصيغة على أن ما يرزقنا الله -تعالى- من الربح فبيننا. قطع الأكثرون بأنه لا يرجع؛ لأن النصف هو الذي رُزِقَاهُ. وعن الشيخ أبِي مُحَمَّدٍ إجراء الوجهين؛ لأن المفهوم تشطر جميع الربح، ولا يخفى أن جميع ما ذكرناه إذا جرى القراضان على المناصفة، فإن كانا أو أحدهما على نسبة أخرى، فعلى ما تشارطا، وهذا كله فيما إذا تصرف الثاني وربح. أما إذا هلك المال في يده، فإن كان عالماً بالحال، فهو غاصب أيضاً، وإن كان يظن العامل مالكاً، فترتب يده على يد الأول كترتب يد المودع على يد الغاصب؛ لأنه يد أمانة. وفي طريق هو كالمُتَّهب من الغاصب لعود النفع إليه، وقد بينا الحكم فيهما ضماناً وقراراً من قبل. وقوله في الكتاب: "وكثرت التصرفات والربح" يشعر باعتيار الأمرين لمجيء الخلاف، وفيه من التردد ما ذكرناه، ثم ليس المراد: وكثر الربح، بل المعنى: وحصل الربح، ومما أشبهه؛ لأن الكثرة في الربح غير معتبرة بالاتفاق. وقوله: "والعامل الأول هو الغاصب" أي هو الجائز الذي يقع التصرف في المال له، كما يقع في الغَصْب للغاصب. وقوله: وقيل: "كله للعامل الثاني فإنه الغاصب" ليس محمولاً على ما ذكر ما ذكرناه في حق الأول، لكن المعنى به أنه الشبيه بالغاصب من حيث إنه المتصرف في المال بيعاً وشراءً وأخذاً وإعطاءً. وقوله: "وللمالك نصف الربح". وقوله: "بين العاملين" معلَّم -بالواو- لما عرفته. قال الغزالي: الحُكْمُ الثَّالِثُ -لَيْسَ للعَامِلِ أَنْ يُسَافِرَ (ح م و) بِمَالِ القِراضِ إلاَّ بِالإِذْنِ فَإنَّهُ خَطَرٌ فإن فَعَلَ نَفَذَتْ تَصَرُّفَاتُهُ وَاسْتَحَقَّ الرِّبْحُ وَلَكِنَّهُ ضَامِنٌ بِعُدْوَانِهِ، وإِذَا سَافَرَ بِالإِذْنِ فأُجْرَةُ النَّقْلِ عَلَى مَالِ القِرَاضِ كَمَا أَنَّ نَفَقَةَ الوَزْنِ وَالكَيْلِ وَالحَمْلِ الثَّقِيلِ في الحَضَرِ أَيضاً عَلَى القِرَاضِ، وَلَيْسَ علَى العَامِلِ إلاَّ التِّجَارَةُ وَالنَّشْرُ وَالطَّيُّ وَنَقْلُ الشَّيْءِ الخَفِيفِ، فَإنْ تَعَاطَى شَيْئًا مِمَّا لَيْسَ عَلَيْهِ فَلاَ أُجْرَةَ لَهُ، وَإِنِ اسْتَأْجَرَ عَلَى ما عليه فَعَلَيْهِ
الأُجْرَةُ، وَنَفَقَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ (م) في الحَضَرِ، وَنَصَّ في السَّفَرِ أَنَّ لَهُ نَفَقَتَهُ بِالمعرُوفِ، فَمِنْهُمْ مَنْ نَزَّلَهُ عَلَى نَفَقَةِ النَّقْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلاَنِ، وَوَجْهُ الفَرْقِ بَيْنَ الحَضَرِ وَالسَّفَر أَنَّهُ مُتَجَرِّدُ فِي السَّفَرِ لِلشُّغْلِ، فَعَلَى هَذَا لَو اسْتَصْحَبَ مَعَ ذَلكَ مَالَ نَفْسِهِ وَزَّع النَّفَقَةَ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ قَدْ قِيلَ القَوْلاَنِ في القَدْرِ الَّذيِ يَزِيِدُ في النَّفَقَةِ بِسَبَبِ السَّفَرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ فِي الأَصْلِ. قال الرافعي: كلام الفصْل على التفات بعضه بالبعض يشتمل على ثلاثة مقاصد: أحدها: أنه ليس للعامل أن يسافر بمال القراض بغير إذن المالك (¬1). وعن أبي حنيفة، ومالك أن له ذلك عند أَمْن الطريق. وفي تعليق الشيخ أبي حامد نقل قول مثله عن البْوَيْطِيِّ. لنا: أن فيه [خطراً] وتعريضاً للهلاك، فلا ينبغي أن يستقل به فلو خالف ضمن المال، ثم ينظر إن كان المتاع بالبلد التي سافر إليها أكثر قيمة، أو تساوت القيمتان صح البيع، واستحق الربح لمكان الإذن، وإن كان أقل قيمة لم يصح البيع بتلك القيمة، إلاَّ أن يكون النقصان بقدر ما يَتَغَابن به، وإذا صححنا البيع، فالثمن الذي يأخذه يكون مضموناً عليه أيضاً، بخلاف ما إذا تعدى الوكيل بالبيع في المال ثم باع، وقبض الثمن لا يكون مضموناً عليه؛ لأن العدوان لم يوجد في الثمن، وهاهنا سبب العدوان السفر، ومزايلة (¬2) مكان المال، وإنه شامل، ولا تعود الأمانة بالعود من السفر، وإذا سافر بالإذن فلا عدوان، ولا ضمان. قال في التتمة وبيع المال في البلد المنقول إليه بمثل ما كان يبيعه في المنقول عنه، وبأكثر منه، وأما بما دونه فإن ظهر فيه غرض بأن كانت مؤنة الرد أكثر من قدر النقصان، أو أمكن صرف الثمن إلى متاع يتوقع فيه الربح، فله البيع أيضاً، وإلاَّ لم يجز؛ لأنه محض تخسير (¬3). ¬
الثاني: على العامل أن يتولى ما جرت العادة به من نَشْر الثياب وطَيِّها وذَرْعها وإدراجها السفط، وإخراجها، ووزن ما يخف كالذهب والمسك والعود، وقبض الثمن، وحمله، وحفظ المتاع على باب الحانوت، وفي السفر بالنوم عليه ونحوه، وليس عليه وزن الأمتعة الثقيلة، وحملها، ونقل المتاع من الختان إلى الحانوت، والنداء عليه، وما يجب عليه أن يتولاه لو استأجر عليه لزمه الأجرة في ماله، وما لا يجب أن يتولاه له أن يستأجر عليه من مال القَراضِ، لأنه من تتمة التجارة، ومصالحها، فإن تولاه بنفسه لم يكن له أخذ الأجرة، بل هو متبرع، ومريد كسباً بالاسترباح. الثالث: القول في المؤنات، ولا يجوز للعامل أن ينفق في الحضر من مال القراض على نفسه، أو يواسي منه بشيء. وعن مالك -رضي الله عنه- أن له أن ينفق منه على العادة كالغذاء، ودفع الكسرة إلى السقاء، وأجرة الكَيَّال والوزان والحمال في مال القراض، وكذا أجرة النقل إذا سافر بالإذن، وأجرة الحارس والرَّصْدي. ونص في المختصر أن له النفقة بالمعروف. وقال في البويطي: لا نفقة له وللأصحاب طريقان: أحدها: أنهما قولان: أظهرهما: أنه لا نفقة كما في الحضر، وهذا لأنه ربما لا يحصل إلاَّ ذلك القدر، فيختل مقصود العقد. والثاني: تجب، وبه قال مالك، بخلاف ما إذا كان في الحضر؛ لأنه في السفر سلم نفسه وجردها لهذا الشغل، فأشبه الزوجة تستحق النفقة إذا سلمت نفسها، ولا تستحق إذا لم تسلم. والثاني: القطع بالمنع، وحمل ما نقله المزني على أجرة النقل. ومنهم من قطع بالوجوب، وحمل ما في البُوَيْطيِّ على المؤن النادرة كأجرة الحَجَّام والطبيب، وإذا أثبتنا القولين فهما في كل ما يحتاج إليه من الطعام والكسوة والإدام تشبيهاً بما إذا سلمت الزوجة نفسها، أو فيما يزيد بسبب السفر كالخُفّ والإداوة، وما أشبهما؛ لأنه لو كان في الحضر لم يستحق شيئاً فيه وجهان. أصحهما: الثاني، وبه قال مَالِكٌ فيما رواه ابْنُ الصَّبَّاغِ، وأبو سعيد المتولي، ثم تفرع على القول بالوجوب فروع: منها: لو استصحب مال نفسه مع مال القراض وزعت النفقة على قدر المالين.
قال الإمام: ويجوز أن ينظر إلى مقدار العمل على المالين، ويوزع على أجرة مثلهما. وفي "آمالي" أبِي الفَرَجِ السَّرْخَسيِّ أنها إنما توزع إذا كان ماله قدراً يقصد السفر له (¬1)، وإن كان لا يقصد، فهو كما لو لم يكن معه غير مال القِرَاض. ومنها: لو رجع العامل، وبقي معه فصل زاد أو آلات أعدها للسفر كالمطهرة ونحوها، هل عليه ردها إلى مال القراض؟ فيه وجهان عن الشيخ أبِي مُحَمَّدٍ: وأظهرهما: نعم. ومنها: لو استرد المالك المال منه في الطريق، أو في البلد الذي (¬2) سافر إليها لم يستحق نفقة الرجوع على أظهر الوجهين، كما لو خالع زوجته في السفر. ومنها: يشترط عليه إلاَّ يسرف، بل يأخذ بالمعروف، وما يأخذ يحسب من الربح، فإن لم يكن ربح فهو خسران لحق المال ومهما أقام في طريقه فوق مدة المسافرين في بلد، لم يأخذ لتلك المدة. ومنها: لو شرط نفقة السفر في ابتداء القراض، فهو زيادة تأكيد إذا قلنا بالوجوب. أما إذا لم تقل به، فأظهر الوجهين أنه يفسد العقد، كما لو شرط نفقة الحضر. والثاني: لا يفسد؛ لأنه من مصالح العقد من حيث إنه يدعوه إلى السفر، وهو مظنة الربح غالباً، وعلى هذا فهل يشترط تقديره؟ فيه وجهان: وعن رواية المزني في "الجامع الكبير" أنه لا بد من شرط النفقة للعقد مقدرة، لكن الأصحاب لم يثبتوها. وقوله: في الكتاب "ونفقته على نفسه في الحضر ونص في السفر أن له نفقته بالمعروف .... " إلى آخره يقتضي ظاهره أخذ المنع في أحد القولين من أنه لا نفقة في الحضر لا على سبيل التخريج؛ لأنه لم يحكي عن النص سواء الوجوب، وليس كذلك بل القولان عند من أثبتهما منصوصان، هذا في رواية المزني، وهذا رواية البويطي. قال الغزالي: الحُكْمُ الرَّابعُ اخْتَلَفَ القَوْلُ في أنَّهُ هَلْ يَمْلِكُ الرِّبْحَ بمُجَرَّدِ (م ز) الظُّهُورِ أَمْ يَقِفُ عَلَى المُقَاسَمَةِ، فَإنْ قُلْنَا: يملك بِمُجَردِ الظُّهُورِ فَهُوَ مِلْكٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ بَلْ ¬
التفريع
هُوَ وقَايَةْ لِرَأْسِ المَالِ عَنِ الخُسْرَانِ، وَإِنْ وَقَعَ خُسْرَانٌ انْحَصَرَ في الرِّبْحِ، وَلاَ يَسْتَقرُّ إلاَّ بِالقِسْمَةِ، وَهَلْ يَسْتَقَرُّ بِالتَّنْضِيضِ وَالفَسْخِ قَبْلَ القِسْمَة؟ فِي وَجْهَانِ، وَإِنْ قُلْنَا: لاَ يَمْلِكُ (ح) فَلَهُ حَقٌّ مُؤَكَّدٌ حَتَى لَوْ مَاتَ يُورَثُ عَنْه، وَلَوْ أَتْلَفَ المَالِك المَالَ غُرِّمُ حِصَّتهُ، وَكَذَا الأَجْنَبيُّ فَإِنَّ الإِتْلافَ كَالقِسْمَةِ، وَلَوْ كَانَ في المَالِ جَارَيةٌ لَمْ يَجُزْ لِلمَالِكِ وَطْؤُهَا لِحَقِّهِ. قال الرافعي: متى يملك العامل من الربح الحصة المشروطة له من الربح. أحد قولي الشَّافعي: أنه يملكها بالظهور، كما يملك عامل المُسَاقاة نصيبه من الثمار بالظهور، ولأن سبب الاستحقاق الشرط الصحيح، فإِذا حصل الربح، فليثبت موجب الشرط، ولأنه سبيل من مطالبة المالك بأن يقتسما الربح، ولولا أنه مالك لما كان كذلك. والثاني: لا يملك إلاَّ بالقسمة؛ لأنه لو ملك بالظهور لكان شريكاً في المال، ولو كان شريكاً لكان النقصان الحادث بعد ذلك شائعاً في المال، فلما انحصر في الربح دَلَّ على عدم الملك. وأيضاً فإن القراض معاملة جائزة، والعمل فيها غير مضبوط، فوجب ألاَّ يستحق العوض فيها إلاَّ بتمام العمل، كما في الجعالة. وأصح القولين الأول عند الشيخ أبي حامد وطائفة. والثاني: عند الأكثرين منهم المسعودي، والقاضي الروياني، وصاحب "التهذيب"، وقد ذكرنا ذلك في "الزكاة" وبينا أن أبا حنيفة قال بالأول، والمزني قال بالثاني، وهو مذهب مَالِكٍ أيضاً. التفريع: إن قلنا: إنه يملك بالظهور، فليس ملكاً مستقرّاً، بل لا يتسلط العامل عليه، ولا يملك التصرف فيه؛ لأن الربح وقاية لرأس المال عن الخسران ما دامت المعاملة باقية حتى لو اتفق خسران كان محسوباً من الربح دون رأس المال ما أمكن، وكذلك نقول: إذا طلب أحد المتعاقدين قسمة الربح قبل فسخ القِرَاض لا يجبر الآخر عليه. أما إذا طلب المالك فلأن العامل يقول: لا آمن الخسران، فنحتاج إلى رد ما اقتسمنا. وأما إذا طلب العامل، فلان المالك يقول: الربح وقاية مالي، فلا أدفع إليك شيئاً حتى تسلم لي رأس المال، فإذا ارتفع القراض، والمال نَاضّ، واقتسما حصل الاستقرار، وهو نهاية الأمر، وكذلك لو كان قدر رأس المال نَاضاً، وأخده المالك، واقتسما الباقي، وهل يحصل الاستقرار بارتفاع العقد، ونضوض المال من غير قسمة فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن القسمة الباقية من تتمة عمل العامل. وأصحهما: الاستقرار لارتفاع العقد، والوثوق بحصول رأس المال، وإن كان
المال عروضاً، فينبني على خلاف سيأتي في أن العامل، هل يجبر على البيع والتنضيض؟ إن قلنا: نعم، فظاهر المذهب أنه لا استقرار؛ لأن العمل لم يتم. وإن قلنا: لا فوجهان كما لو كان المال ناضّاً، ولو اقتسما الربح بالتراضي قبل فسخ العقد لم يحصل الإستقرار، بل لو حصل خُسْران بعده كان على العامل جَبْره بما أخذ، وبهذا يتبين أن قوله في الكتاب: "ولا يستقر إلاَّ بالقسمة" غير معمول بظاهره فيما يرجع الاكتفاء بالقسمة. وإن قلنا: إنه لا يملك إلاَّ بالقسمة، فله فيه حق مؤكد حتى يورث عنه إذا مات، لأنه كان لم يثبت الملك له، فقد ثبت له حق التملك، ويقدم على الغرماء لتعلق حقه بالعين، وله أن يمتنع عن العمل بعد ظهور الريح، ويسعى في التنضيض ليأخذ منه حقه، ولو أتلف المالك المال غرم حصّة العامل، وإن كان الإتلاف بمثابة الاسترداد ولو استرد الكل غرم حصة العامل، فكذلك إذا أتلف. وأما قوله: "وكذا الأجنبي فإن الاتلاف كالقسمة". وأعلم أن الأجنبي إذا أتلف مال القراض ضمن بدله، وبقي القراض في بدله، كما كان، هذا ما ذكره الأصحاب في حكم المسألة، وفي نظم الكتاب خلافان. أحدهما: أن الغرض في هذا المقام التفريع على أن العامل إنما يملك حصّته بالقسمة، وعلى هذا القول يكون كل الربح قبل القِسْمة للمالك، وحينئذ يستحسن الكلام في أنه لو أتلف المالك المال غرم حصّة العامل لتعرف تأكيد حقه، وإن لم يكن مالكاً لكن لا يستحسن ذكر إتلاف الأجنبي؛ لأنه لا يمكن أن يقال أنه يغرم حصة العامل، إذْ لا امتياز لها لبقاء القراض بحاله ولا اختصاص الغرم بها، بل يغرم كل المال، وأصل الغرم لا دلالة له على حق العامل. والثاني: أن قوله: "فإن الإتلاف كالقسمة" لا ينصرف إلى مسألة الأجنبي؛ لأن القراض إذا بقي في البدل لم يكن الإتلاف مفيداً للقسمة، بل هو مصروف إلى ما قبلها، وهو إتلاف المالك، وأنما كان كالقسمة؛ لأنه أتلف ملكه وملك غيره أو حق غيره، ولا يمكن تغريمه ملك نفسه، ولا تعطيل حق الغير، فيغرم حق الغير، وذلك يتضمن مقصود القسمة، وهو التمييز. ولو كان في المال جارية لم يجز للمالك وطؤها إن كان في المال ربح لملك العامل، أو حقه، كان لم يكن ربح فكذلك الجواب، ووجهوه بأن انتفاء الربح في المتقومات غَيْرُ معلوم، وإنما يستقر الحال بالتَّنْضيض، واستبعد الأمام التحريم إذا تيقَّن عدم الربح. قال: ويمكن تخريجه على أن العامل لو طلب بيعها، وأباه المالك هل له ذلك؟ فيه خلاف سيأتي، فإن اسغناه فقد أثبتنا له علقة فيها، فيحرم الوطء بها.
وإذا قلنا بالتحريم ووطئ، فللشيخ أبي محمد تردد في أنه هل يكون ذلك فسخاً للقراض؟ والأظهر المنع، ولا يلزم الحَدّ، وحكم المهر سنذكره، ولو وطئها العامل، فعليه الحد إن لم يكن ربح إن وكان عالمًا (¬1) وإِلا فَلاَ حَدَّ، ويؤخذ منه جميع المهر، ويجعل في مال القراض؛ لأنه ربما يقع خسران يحتاج إلى الجبر، ولو استولدها لم تصر أم ولد. وإن قلنا: إنه لا يملك بالظهور. وإن قلنا: يملك ثبت الاستيلاد في نصيبه، ويقوَّم عليه الباقي إن كان موسراً. ولا يجوز للمالك تزويج جارية القراضِ؛ لأن القراض لا يرتفع بالتزويج، وإنه ينقص قيمتها فيتضرر العامل به. قال الغزالي: الحُكْمُ الخَامِسُ الزِّيَادَةُ العَيْنِيَّةِ كَالثَّمَرَةِ وِالنِّتَاجُ مَحْسُوبٌ مِنَ الرِّبْحِ وَهُوَ مالُ القِراضِ، وَكَذَا بَدَلُ مَنَافعِ الدَّوَابِّ وَمهْرِ وَطْءِ الجَوَارِي حَتَّى لَوْ وَطِئ السَّيِّدَ كَانَ مُسْتَرِدَاً بِمِقِدْارِ العُقْرِ، وَأَمَّا النُّقْصَانُ فَمَا يَحْصُلُ بِانْخِفَاضِ السُّوقِ أَوْ طَرَيَانِ عَيْبٍ وَمَرَضٍ فَهُوَ خُسْرَانٌ يَجِبُ جَبْرُهُ بِالرِّبْحِ، وَمَا يَقَعُ بِاحِتْراقٍ وَسَرَقةِ به عَيْنٍ فَوَجْهَانِ: أصحُّهمَا أَنَّهُ مِنَ الخُسْرَانِ كَمَا أَنَّ زِيَادَةَ العَيْنِ مِنَ الرِّبْحِ، وَلَوْ سَلمَ إِلَيْهِ أَلفَيْنِ فَتَلفَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيِ شَيْئاً به أَوْ بَعْدَ أَنْ يَشْتَرِيَ كمَا لَوِ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ مَثَلاً وَلَكِنْ قَبْلَ البَيْعِ فَرَأْسُ المَالِ أَلْفٌ أَوْ أَلْفَانِ فِيهِ وَجْهَان وَهُوَ تَرَدُّدٌ فِي أَنَّهُ هَلْ يُجْعَلُ ذَلِكَ مِنَ الخُسْرَانِ وَهُوَ وَاقِعٌ قَبْلَ الخَوْضِ في التَّصَرُفَاتِ؟ قال الرافعي: مقصود الفصل الكلام فيما يقع في مال القراض زيادة أو نقصان. أما الزيادة فثمرة الشجرة المشتراة للقراض، ونَتِاج البهيمة، وكسب الرقيق، وولد الجارية، ومهرها إذا وطئت بالشبهة (¬2) أطلق صاحب الكتاب، والإمام القول بأنها من مال القراض؛ لأنها من فوائده، وكذا بدل منافع الدواب، والأراضي، وذلك قد يجب بتعدي المتعدي باستعمالها، وقد يجب بإجارة تصدر من العامل، فإن له الإجارة إذا رأى فيها المصلحة. وفصّل في "التتمة" فقال: إن كان في المال ربح، وملَّكنا العامل حصته بالظهور، فالجواب كذلك، وإن لم يكن ربح، أو لم نملكه، فمن الأصحاب من عدها من مال القراض كالزيادات المتصلة. وقال عامتهم: يفوز بها المالك؛ لأنها ليست من فوائد ¬
التجارة، ويشبه أن يكون هذا أولى، فإن جعلناها مال القراض، قال هاهنا، وفي "الوسيط": هي بجبر من الربح، وهو قضية ما في "التهذيب". وأورد بعض أصحاب الإمام أنها لا تعد من الربح خاصة، ولا من راس المال، بل هي شائعة. وقوله في الكتاب: وهو"مال القراض" بعد قوله: "محسوبة من الربح" يستغني عنه، نعم لو قدم وأخر، فقال: إنها مال القراض، وهي محسوبة من الربح كان حسناً. وكذلك لفظ "الوسيط" وإن وطئها المالك قال المصنف وغيره إنه يكون مستردّاً مقدار العُقْرِ، حتى يستقر نصيب العامل -منه. في "التهذيب" أنه إن كان في المال ربح، وملكناه بالظهور وجب نصيب العامل من الربح، وإلاَّ لم يجب شيء فليعلم كذلك. وقوله في الكتاب "كان مستردّاً مقدار العُقرِ" -بالواو- واستيلاد المالك جارية القراض كإعتاقها، وإِذا أوجبنا المهر بالوطء الخالي عن الإحبال، فالظاهر الجمع بينه وبين القيمة. وأما النقصان فما يحصل بانخفاض السوق فهو خسران مجبور بالربح، وكذا النقصان بالتعييب، والمرض الحادث، والنقصان العيني، وهو تلف البعض ينظر إن حصل بعد التصرف في المال بيعاً وشراء، فالأكثرون ذكروا أن الاحتراق وغيره من الآفات السماوية خسران مجبور بالربح أيضاً، وفي التلف بالسرقة والغصب وجهان، والفرق أن في الضمان الواجب ما يجبره، فلا حاجة إلى جبره بمال القراض. وَسَوَّى المصنف وطائفة بين الهلاك بالآفة السماوية وغيرها، فحكوا الوجهين في النوعين. ووجه المنع أنه نقصان لا تعلق له بتصرف العامل وتجارته، بخلاف النقصان الحاصل بانخفاض السوق، وليس هو بناشئ من نفي المال الذي اشتراه العامل، بخلاف المرض والعيب، فلا يجب على العامل جبره، وكيفما كان فالأصح أنه مجبور بالربح، وإن حصل النقصان قبل التصرف فيه بيعاً وشراء، كما إذا دفع إليه ألفي درهم قراضاً، فتلف ألف قبل أن يتصرف، فيه وجهان: أحدهما: أنه خسران أيضاً مجبور بالربح الحاصل بعده؛ لأنه بقبض العامل صار مال القِرَاض، وعلى هذا فرأس المال الفان كما كان، ويقال: هذا هو منقول المُزَنْيِّ عن الجامع الكبير. وأظهرهما: أنه يتلف من رأس المال، ويكون رأس المال الألف الباقي؛ لأن العقد لم يتأكد بالعمل، ولو اشترى بألفين عبدين أو ثوبين، فتلف أحدهما. فإن قلنا: لو تلف أحد الألفين قبل التصرف جبرناه بالربح، فهاهنا أولى. وإن قلنا: يتلف من رأس المال فوجهان:
أحدهما: أن الجبراب كذلك؛ لأن العبدين بدل الألفين، ولا عبرة بمجرد الشراء، فإنه تهيئة محل التصرف، والركن الأعظم في التجارة البيع، إذ به يظهر الربح. وأظهرهما: أنه يتلف من الربح، ويجب جبره؛ لأنه تصرف في رأس المال، ولا يأخذ شيئاً بالربح حتى يرد ما تصرف فيه إلى المالك، هذا إذا تلف بعض المال. أما أذا تلف كله بآفة سماوية قبل التصرف، أو بعده ارتفع القراض، وكذا لو أتلفه المالك كما تقدم، ولو أتلفه أجنبي أخذ بدله، وبقى القراض فيه على ما مر، وكذا لو أتلف بعضه، وأخذ بدله استمر القراض وما ذكرنا من الخلاف في أنه هل يجبر بالربح؟ مفروض فيما إذا تعذر أخذ البدل من المتلف، ولو أتلف العامل المال، قال الإمام: يرتفع القراض؛ لأنه كان وجب بدله عليه، فإنه لا يدخل في ملك المالك إلاَّ بقبض منه، وحينئذ يحتاج إلى استئناف القراض، ولك أن تقول: ذكروا وجهين في أن مال القراض إذا غصب، أو تلف من الخصم فيه وجهان: أظهرهما: أن الخصم المالك إن لم يكن في المال ربح، وهما جميعاً إن كان فيه ربح. والثاني: أن للعامل المخاصمة بكل حال حفظاً للمال، ويشبه أن يكون الجواب المذكور في إتلاف الأجنبي مفرعاً على أن العامل خصم، وبتقدير أن يقال: إنه وإن لم يكن خصماً، لكن إذا خاصم المالك، وأخذ عاد العامل إلى التصرف فيه بحكم القراض لزمه مثله فيما إذا كان العامل هو المتلف. وإن قتل عبد القراض قاتل، وفي المال ربح لم ينفرد أحدهما بالقصاص، بل الحق لهما إن تراضيا على العفو على مال، أو على الاستيفاء جاز، وإن عفا أحدهما سقط القصاص، ووجبت القيمة، هكذا ذكروه، وهو ظاهر على قولنا: إنه يملك الربح بالظهور، وغير ظاهر على القول الآخر، وإن لم يكن فيه ربح فللمالك القصاص، والعفو على غير مال، وكذا لو كانت الجناية موجبه للمال، فله العفو عنه، ويرتفع القِرَاض، وإن أخذ المال، أو صالح عن القِصاص على مال، بَقِيَ القراض فيه. وقوله في الكتاب: "كما أن زيادة العَيْن من الربح" ينبني على ما ذكره وفي الزيادات أنها محسوبة من الربح، وفيه من الخلاف ما مر. وقوله: "وهو تردد في أنه هل يجعل ذلك من الخسران ... " إلى آخره، هذا اللفظ يتناول الصورة الأولى، وهي تلف أحد الألفين فقبل أن يشتري بهما شيئاً. فأما الصورة الثانية فالتوجيه فيها ما قدمناه أن الاعتبار بالبيع دون الشراء، إذ ظهور الربح وصيرورة العرض نقداً يتعلّق بالبيع.
فرع
فرع: مال القراض ألف درهم، واشترى بعينه ثوباً أو عبداً فتلف قبل التسليم بطل الشراء، وارتفع وإن اشترى في الذمة. قال في البُوَيْطِيِّ: يرتفع القراض، ويكون الشراء للعامل، فمن الأصحاب من قال: هذا إذا كان التلف قبل الشِّراء فإن القراض والحالة هذه غير باقٍ عند الشراء (¬1)، فينصرف الشراء إلى العامل. أما إذا تلف بعد الشراء فالمشتري (¬2) للمالك فإذا تلف الألف المعدُّ للثمن أبدله بألف آخر. وقال ابن سريج: يقع الشراء عن العامل سواء تلف الألف قبل الشراء، أو بعده، وعليه الثمن، ويرتفع القراض؛ لأن إذنه ينصرف إلى التصرف في ذلك الألف (¬3)، تعلّق التصرف في ذلك بعينة أم لا؟ فإن قلنا بالأول فرأس المال ألف أو الفان؟ فيه وجهان، يحكي الثاني منهما عن أبي حنيفه. فان قلنا بالأول فهو الألف الأول، أو الثاني؟ فيه وجهان (¬4)، تظهر فائدتهما عند اختلاف الألفين في صفة الصِّحة وغيرها. وعن مالك أن المالك بالخيار بين أن يدفع ألفاً آخر، ويكون هو رأس المال دون الأول وبين ألا يدفع، فيكون الشراء للعامل، ويمكن أن يجعل هذا وجهاً للأصحاب تخريجاً من وجه ذكرناه في "باب، مداينة العبيد مما إذا سلم إلى عبده ألفاً ليتجر فيها، فاشترى في الذمة ليصرفه إلى الثمن، فتلف أنه يتخير السيد بين أن يدفع إليه ألفاً آخر فيمضي العقد، أو لا يدفع، فيفسخ البائع العقد، إلاَّ أن هاهنا يمكن تصرفه العقد إلى المباشر إذا لم يخرج المعقود له ألفاً آخر، وهناك لا يمكن، فيصار إلى الفسخ، وهذا الفرع قد ذكرنا طرفاً منه هناك للحاجة إليه والله اعلم. البَابُ الثَّالِثُ، في التَّفاسُخِ وَالتَّنَازُعِ قال الغزالي: وَالقِرَاضُ جَائِزٌ ينفَسْخُ بفَسْخِ أَحَدهِمَا، وَبِالمَوْتِ، وَبِالجُنُونِ، ¬
كَالوكَالَةِ فَإنِ انْفَسَخَ وَالمَالُ ناضٍ لَمْ يُخْفَ أَمْرُهُ، وَإِنْ كَانَ عُروُضاً فَعَلَى العامل بَيْعُهُ إِنْ كَانَ فِيهِ رَبْحٌ لِيَظْهَر نَصِيِبُهُ، وإِنْ لِمْ يَكُنْ رِبْحٌ فَوَجْهَانِ، مَأْخَذُ الوُجُوبَ أنَّهُ فِي عُهْدَتِهِ أَنْ يَرُدَّ كَمَا أَخَذَ، فَإنْ لَمْ يَكُن رِبْحُ وَرَضِيَ المَالِكُ بِهِ وَقَالَ العَامِلُ: أَبِيعُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلاَّ إِذَا وَجَدَ زُبُوناً يَسْتَفيد بِهِ الرِّبْحَ، وَمَهْمَا بَاعَ العَامِلُ قَدْرَ رَأْسِ المَالِ وَجَعَلَهُ نَقْداً فالبَاقِي مُشْتَركٌ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ عَلَيْهِ بَيْعُهُ، وَإِنْ رَدَّ إِلىَ نَقْدٍ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ المَالِ لَزِمَهُ الرَّدُّ إِلىَ جِنْسِهِ قال الرفعي: الباب يتضمن فصلين: أحدهما: في فسخ القراض وفروعه، والقراض جائز كالوكالة والشركة، بل هو عينهما، فإنه وكالة في الابتداء، وقد تصير شركة في الانتهاء، فلكل واحد من المتعاقدين فسخه، والخروج منه متى شاء، ولا يحتاج فيه إلى حضور الآخر ورضاه. وعن أبي حنيفة: اعتبار والحضور كما ذكره في "خيار الشرط" وإذا مات أحدهما أو جُنَّ، أو أغمي عليه انفسخ العقد، ثم إذا فسخا أو أحدهما لم يكن للعامل أن يشتري بعده، ثم ينظر إن كان المال دَيْناً، فعلى العامل التقاضي والاستيفاء، خلافاً لأبي حنيفة، حيث فرق بين أن يكون في المال ربح، فيَلَزمه الاستيقاء أو لا يكون فلا يلزمه. واحتج الأصحاب بأن الدَّين ملك ناقص، وقد أخذ منه ملكًا كاملاً، فليرد كما أخذ، كان لم يكن ديناً، نظر إن كان نقداً من جنس رأس المال، ولا ربح أخذه المالك، وإن كان فيه ربح اقتسماه بحسب الشرط، فإن كان الحاصل في بده مكسرة، ورأس المال صحاح، نظر إن وجد من يبدلها بالصِّحاح وزناً بوزن أبدلها، وإلاَّ باعها بغير جنسها من النَّقْد، واشترى بها الصحاح، ويجوز أن يبيعها بعرض، ويشتري به الصحاح في أصح الوجهين. والثاني: لا يجوز؛ لأنه قد يتعوق عليه بيع العرض، فإن كان المال نقداً من غير حسن رأس المال، أو عرضاً، فله حالتان: إحداهما: أن يكون فيه ربح، فعلى العامل بيعه إن طلبه المالك، وله بيعه، وإن أباه المالك، وليس للعامل تأخير البيع إلى توسُّم رواج المتاع؛ لأن حق المالك يعجل، خلافاً لِمَالِكِ. ولو قال للمالك: تركت حقي لك، ولا تكلفني البيع، هل عليه فيه الإجابة؟ فيه وجهان: وأقربهما: المنع ليرد المال كما أخذ، فإن التنضيض مشقة ومؤنة، ثم اختلفوا في مأخذ الوجهين، وكيفية خروجهما.
فمن بان لهما على الخلاف في أنه متى يملك الربح؟ إن قلنا بالظهور لم يلزم المالك قبول ملكه، ولم يسقط به طلب البيع. وإن قلنا بالقسمة فيجاب؛ لأنه لم يبق له توقع فائدة، فلا معنى لتكليفه تحمل مشقة. ومن مفرع لهما أولاً على أن حق العامل هل يسقط بالترك والاسقاط؟ وهو مبني على أن (¬1). الربح متى يملك؟ إن قلنا بالظهور لم يسقط كسائر المملوكات. وإن قلنا بالقسمة سقط على أصح الوجهين، فإنه ملك إن تملك، فكان له العفو والإسقاط كالشفعة. فإن قلنا: لا يسقط حقه بالترك لم يسقط بتركه المطالبة بالبيع. وإن قلنا: يسقط ففيه خلاف سنذكره في أنه هل يكلف البيع إذا لم يكن في المال ربح؟ ولو قال المالك: لا تبع وتقتسم العروض بتقويم عدلين، أو قال: أعطيك نصيبك من الربح ناضّاً، ففي تمكن العامل من البيع وجهان، بناهما قوم من الأصحاب على أن الربح متى يملك؟ إن قلنا بالظهور فله البيع؛ لأنه قد يجد زبوناً يشتريه بأكثر من قيمته. وإن قلنا بالقسمة فلا، لوصوله إلى حقه بما يقوله المالك. وقطع الشيخ أبو حامد وغيره بالوجه الثاني. وقالوا: إذا غرس المستعير في أرض العارية كان للمعير أن يتملكه عليه بالقيمة؛ لأن الضرر يندفع عنه بأخذ القيمة فهاهنا أولى، وحيث لزمه البيع، قال الإمام: الذي قطع به المحققون أن ما يلزمه بيعه وتنضيضه قدر رأس المال. أما الزائد عليه، فحكمه حكم عرض آخر يشترك فيه اثنان لا يكلف واحد منهما بيعه، ثم ما يبيعه بطلب المالك، أو دونه (¬2) يبيعه بنقد البلد إن كان من جنس رأس المال، وإن كان من غير جنسه باعه بما يرى المصلحة فيه من نقد البلد، ورأس المال، فإن باعه بنقد البلد حصل به رأس المال. الثانية: إذا لم يكن في المال ربح هل للمالك تكليفه البيع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن غرض البيع أن يظهر الربح ليصل العامل إلى حقه منه، فإن لم يكن ربح، وارتفع العقد لم يحسن تكليفه بيعاً بلا فائدة. وأظهرهما: نعم وبه قال الشَّيْخِان أبو محمَّد، وأبو علي، والقاضي حسين؛ لأنه في عهده أن يرد المال كما أخذ، وإلاَّ لزم المالك في رده إلى ما كان كلفة ومؤنة، وهل ¬
فرع
للعامل بيعها إذا رضي المالك بإمساكها؟ حكى الإمام فيه وجهين. وجه المنع: أنه كفاه شغلاً بلا فائدة. ووجه الآخر: أنه قد يجد زبوناً يشتريه بزيادة، وهذا ما ذكره عامة الأصحاب، وقالوا: له أن يبيع إذا توقع ربحاً بأن ظفر بسوق أو راغب. ورأى الإمام تفصيلاً فيه، وهو أنه ليس له البيع بما يساويه بعد الفسخ جزماً، وبيعه بأكثر مما يساويه عند الظفر بزبون محتمل؛ لأنه ليس ربحاً في الحقيقة (¬1)، وإنما هو رزق مساق إلى مالك العروض. وإذا قلنا: ليس للعامل البيع إذا أراد المالك إمساك العروض، واتفقا على أخذ المالك العروض، ثم ظهر ربح بارتفاع السوق، فهل للعامل نصيب فيه لحصوله بكسبه أم لا لظهوره بعد الفسخ؟ فيه وجهان: أظهرهما: الثاني: وقوله في الكتاب: "وإن رد إلى نقد لا من جنس رأس المال لزمه الرد إلى جنسه" غير خافٍ مما أدرجناه في أثناء الكلام ثم إنه يشمل ما إذا كان عند الفسخ نقداً من غير جنس رأس المال، وكان الرد إليه قبل انفسخ وما إذا باعه بعد الفسخ. فرع: كما يرتفع القراض بقول المالك: فسخته يرفع بقوله للعامل: لا تتصرف بعد هذا، وباسترجاع المال منه، ولو باع المالك ما اشتراه العامل بالقراض، فينعزل العامل كما لو باع الموكل ما وكل ببيعه ينعزل الوكيل أو لا ينعزل، ويكون ذلك إعانة له فيه وجهان: أشبههما: الثاني، ولو حبس العامل، ومنعه من الصرف، أو قال: لا قراض بيننا، ففي انعزاله وجهان. أشهرهما أنه لا ينعزل أيضاً ذكرهما أبو العباس الروياني في "الجرجانيات". قال الغزالي: وَلَوْ مَاتَ المَالِكُ فَلِوَارِثهِ مُطَالَبَة العَامِلِ بِالتَّنْضِيضِ، وَلَهُ أنْ يُجَدِّدَ العَقْدَ مَعَهُ إِنْ كَانَ المَالُ نَقْدَاً، وَإِنْ كَانَ في المَالِ رِبْحٌ أَخَذَ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ ربْحِهِ عِنْدَ القِسْمَةِ، وَالبَاقِي يُتَّبَعُ فِيهِ مُوجَبُ الشَّرْطِ، وَإِنْ كَانَ عَرْضاً نَفِي جَوَازِ التَّقْرِيرِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ، وَوَجْهُ الجَوَازِ أنَّهُ قَدْ ظَهَرَ رَأْسُ المَالِ وَجِنْسُهُ مِنْ قَبْلُ فَلَمْ يُوجَدْ عِلَّةُ أشْتِرَاطِ ¬
النَّقْدِيَّةِ هَهُنَا، وَإِنْ مَاتَ العَامِلُ لَمْ يَجُزْ تَقْرِيُر وَارِثهِ عَلَى العَرْضِ فَإنَّهُ مَا اشْتَرَاهُ بِنَفْسِهِ فَيَكُونَ كَلاًّ عَلَيْهِ، نَعَمْ إِنْ كَانَ نَقْداً فَهَلْ يَنْعَقِدُ القِرَاضُ مَعَهُ بِلَفْظِ التَّقْرِيرِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: ذكرنا أن القراض ينفسخ بالموت، وإذا مات المالك، والمال ناض لا ربح فيه أخذه الوارث، وإن كان فيه ربح أقتسماه، وإن كان عرضاً، فالمطالبة بالبيع والتنضيض كما في حالة حصول الفسخ في حياتهما، وللعامل البيع هاهنا، حيث كان له البيع هناك، ولا يحتاج إلى إذن الوارث اكتفاء بإذن من تلقى الوارث المالك عنه، بخلاف ما إذا مات العامل حيث لا يتمكن وارثه من البيع دون إذن المالك، فإنه يرض بتصرفه. وفي "التتمة" وجه أن العامل أيضاً لا يبيع إلاَّ بإذن وارث المالك، والمشهور الأول، ويجري الخلاف في استيفائه الديون بغير إذن الوارث، ولو أراو الاستمرار على العقد، فإن كان المال ناضّاً فلهما ذلك بأن يستأنفا عقداً بشرطه، ولا بأس بوقوعه قبل القسمة لجواز القراض على المشاع، وكذلك يجوز القراض الشريك بشرط ألاَّ يشاركه في اليد، ويكون للعامل ربح نصيبه، ويتضاربان في الربح نصيب الآخر، وهل ينعقد بلفظ الترك والتقرير بأن يقول الوارث أو القائم بأمره: تركتك أو أقررتك على ما كنت عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال الشيخ أبو محمد: لا؛ لأن العقد السابق قد ارتفع، وهذا ابتداء عقد، فلا بد من إذن صالح للابتداء، والتقرير يشعر بالاستدامة. وأظهرهما: عند الإمام نعم لفهم المعنى، وقد يستعمل التقرير لإنشاء عقد على موجب العقد السابق، وليكن الوجهان مفرعان على أن هذه العقود لا تنعقد بالكنايات فإن قلنا ينعقد فينبغي أن يجزم بالوجه الثاني، وإن كان المال عروضاً، ففي جواز تقريره على القراض وجهان: عن أبي إسحاق أنه جائز؛ لأنه استصحاب قراض، فيظهر في حنس رأس المال وقدره فيجريان على موجبه، ولا يلزم مصير رأس المال ربحاً ولا ذهاب بعض الربح في رأس المال. والأظهر المنع لأن القراض الأول قد ارتفع، فلو وجد قراض آخر لكان قراضاً مستأنفاً، وحينئذ يمتنع إيراده على العروض، والأول ظاهر لفظه في "المختصر" لكن القائلين بالثاني حملوه على ما إذا كان المال ناضاً أو استأنفاً عقداً. وألاشبه: أن يختص الوجهان بلفظ الترك والتقرير، ولا يتسامح باستعمال الألفاظ التي تستعمل في الابتداء.
ثم حكى الإمام فيما إذا فسخ القراض في الحياة طريقة طاردة للوجهين، وأخرى قاطعة بالمنع وهو الأشهر، وعليها بضعف وجه جواز التقرير بعد الموت، وهذا إذا مات المالك، وإن مات العامل، واحتيج إلى البيع والتنضيض، فإن أذن المالك لوارث العامل فيه فذاك، وإلاَّ تولاه منصوب من جهة الحاكم، ولا يجوز تقرير وارثه على القراض إن كان المال عرضاً ولا يخرج على الوجهين المذكورين في موت المالك، وفرقوا بينهما بوجهين: أحدهما: أن ركن القراض من جانب العامل عمله، وقد فات بفواته، ومن جانب المالك المال، وهو باقٍ بعينه انتقل إلى الوارث. والثاني: وهو المذكور في الكتاب: أن العامل هو الذي اشترى العروض، والظاهر أنه لا يشتري إلاَّ ما يسهل عليه بيعه وترويجه، وهذا المعنى لا يؤثر فيه موت المالك، وإذا مات العامل فربما كانت العروض كلاًّ على وارثه، لأنه يشترها، ولم يخترها، وإن كان المال ناضّاً فلهما الاستمرار بعقد منشأ، وفي لفظ التقرير الوجهان السابقان، وهما كالوجهين في أن الوصية بالزائد على الثلث إذا جعلناها ابتداء عطية، هل تنتفض بلفظ الإجازة، ويجريان أيضاً فيما إذا انفسخ البيع الجاري بينهما، ثم أرادا إعادته، فقال البائع قررتك على موجب العقد الأول وقبل صاحبه، وفي مثله من النكاح لا يعتبر ذلك، وللإمام احتمال فيه لجريان لفظ النكاح مع التقرير. وقوله في الكتاب: "فإن كان في المال ربح أخذ بقدر حصته من ربحه عند القسمة، والباقي يتبع موجب الشرط". مثاله: إذا كان رأس المال المورث مائة، وربح عليه مائتين، وجدد الوارث العقد على النصف كما كان من غير أن يقتسما، فرأس مال (¬1) للوارث مائتان من الثلاثمائة، والمائة الباقية للعامل، فعند القسمة يأخذها بقسطها من الربح، ويأخذ الوارث رأس المال مائتين، ويقتسمان ما بقي (¬2). وقوله: "ولم يوجد علة اشتراط النقدية هاهنا" أي لا يعتبر في التقرير كونه نقداً لخلاف ما في الابتداء لما مر. وقوله: "وهل ينعقد القراض معه بلفظ التقرير؟ فيه وجهان" أشار به إلى أن تجديد العقد جائز لا محالة، كما إذا مات المالك والمال نقداً، ¬
وإنما الخلاف في الصورتين في الانعقاد بلفظ التقرير. فأما إذا كان المال عرضاً في صورة موت المالك، فالخلاف هناك في أصل التقرير، فلذلك قال في جواز التقرير: عليه وجهان. قال الغزالي: وَمَهْمَا كَانَ اسْتَرَدَّ المَالِكُ طَائِفَةً مِنَ المَالِ وَكَانَ إِذْ ذَاكَ فِي المَالِ رِبْحٌ فَهُوَ شَائِعٌ يَسَتْقَرُّ مِلْكُ العَامِلِ عَلَى مَا يَخُصُّهُ مِنْ ذَلِكَ القَدْرِ فَلاَ يَسْقُطُ بِالنُّقْصَانِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ خُسْرَان لَمْ يَجِبْ عَلَى العَامِلِ جَبْرُ مَا يَخُصُّ المُسْتَرِدَّ مِنَ الخُسْرَانِ. قال الرافعي: استرداد المالك طائفة من المال إن كان قبل ظهور الربح والخسران رجع رأس المال إلى القدر الباقي، وإن كان بعد ظهور الربح في المال فالمسترد شائع ربحاً وخسراناً على النسبة الحاصلة بين جملتي الربح، وبين رأس المال، ويستقر ملك العامل على ما يخصه بحسب الشرط مما هو ربح فيه، فلا يسقط بالنقصان الحادث، وإن كان الاسترداد بعد ظهور الخسران، إِن كان الخسران موزعاً على المسترد والباقي، فلا يلزم جبر حِصَّة المسترد من الخسران، كما أنه لورد الكل بعد الخسران لم يلزمه شيء، ويصير رأس المال الباقي بعد المسترد، وحصته من الخسران. ومثال الاسترداد بعد الربح رأس المال مائة ربح عليها عشرين، ثم استراد المالك عشرين، والربح سدس المال يكون المأخوذ سدسه ربحاً، وهو ثلاثة دراهم وثلث، ويستقر ملك العامل على نصفه إذا (¬1) كان الشرط المناصفة، وهو درهم وثلثا درهم، حتى لو انخفضت السوق، وعاد ما في يده إلى ثمانين لم يكن للمالك أن يأخذ الكل، ويقول: كان رأس المال مائة، وقد أخذت عشرين أضم إليها هذه ثمانين لتتم لي المائة، بل يأخذ العامل من الثمانين درهماً وثلثي درهم، ويرد الباقي وهو ثمانية وسبعون درهماً وثلث درهم. ومثال الاسترداد بعد الخسران رأس المال مائة وخسر عشرين، ثم استرد العشرين، فالخسران يوزع على المسترد، والباقي يكون حصة المسترد خمسة لا يلزمه جبرها حتى لو ربح بعد ذلك، فبلغ المال ثمانين لم يكن للمالك أخذ الكل، بل يكون رأس المال خمسة وسبعين (¬2)، والخمسة الزائدة تقسم بينهما نصفين، فيجعل للمالك من الثمانين سبعة وسبعين ونصف درهم. ¬
قال الغزالي: وَإِنْ قَالَ العَامِلُ: تَلِفَ المَالُ أوْ رَدَدَتُّ (و) أَوْ مَا رَبِحْتُ أَوْ خَسِرْتُ بَعْدَ الرِّبْحِ أَوْ هَذَا العَبْدُ اشْتَرَيتُهُ لِلقِرَاضِ أَوْ لِنَفْسيِ أَوْ مَا نَهَيْتَنِيِ عَنْ شِرَائِهِ وَخَالَفَهُ المَالِكُ فُالقَوْلُ قَوْلُ العَامِل، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ مَا شَرَطَ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ فَيَتَحَالفَانِ وَيرْجِعُ إلىَ أَجْر المِثْلِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ رَأْسِ المَالِ فَالقَوْلُ قَوْلُ العَامِلِ إِذِ الأَصْلُ عَدَمُ القَبْضِ. قال الرفعي: الفصل الثاني من الباب في التنازع، فيه وجوه: منها: أن يدعي العامل تلف المال في يده، فهو مصدق بيمينه كالمودع، نعم إذا ذكر سبب التلف، ففيه تفصيل نؤخره إلى "كتاب الوديعة" إن شاء الله تعالى؛ لأن صاحب الكتاب أورد طرفاً منه هنالك. ومنها: إذا اختلف في رد المال، ففيه وجهان ذكرناهما في "باب الرَّهْن". وأظهرهما: ما أجاب به الكتاب، وهو تصديق العامل. وأعلم قوله: "أوْ رَددَتُّ" -بالواو- إشارة إلى ذلك الخلاف. ومنها: إذا قال العامل: ما ربحت أو قال: لم أربح إلاَّ ألفاً، وقال المالك: بل ألفين صدق العامل بيمينه، ولو قال: ربحت كذا، ثم قال غلطت في الحساب إنما الربح كذا، أو تبينت أن لا ربح أو قال كذبت فيما قُلتْ خوفاً من انتزاع المال من يدي لم يقبل رجوعه؛ لأنه أقر بحق لغيره فأشبه سائر الأقارير. وعن مالك أنه إن كان بين يديه موسم يتوقع فيه ربح يقبل قوله: كذبت ليترك المال في يدي لأربح في الموسم، ولو قال: خسرت بعد الربح الذى أخبرت عنه قُبِلَ. قال في "التتمة": وذلك عند الاحتمال بأن عرض للأسواق كساد، فإن لم يحتمل لم يقبل، ولو ادعى الخسارة عند الاحتمال، أو التلف بعد قوله: كنت كاذباً فيما قلت، ورددنا قوله قُبِلَ أيضاً، ولا نبطل أمانته بذلك القول السابق، هكذا قال الأصحاب، ونسبه القاضي الروياني في "التجربة" إلى نصه. ومنها: قال العامل: اشتريت هذا العبد للقراض، وقال المالك: بل لنفسك، وإنما يقع هذا الاختلاف عند ظهور خسران فيه غالباً، أو قال العامل: اشتريته لنفسي، وقال المالك: بل للقراض، فالقول قول العامل؛ لأنه أعرف بقصده ونيته، ولأنه في يده، وإذا ادعى أنه ملكه صدق. وعن ابْنِ سُرَيْجٍ أن في الصورة الأولى قولاً آخر أن القول قول المالك؛ لأن الأصل عدم وقوعه للقارض كمأخذ القولين فيما إذا قال الوكيل: بعث ما أمرتني ببيعه أو
اشتريت ما أمرتني بشرائه، فقال الوكيل (¬1): لم تفعل، والظاهر الأول. قال في "المهذب" فلو أقام المالك بينة أنه اشتراه بمال القراض، يعني في الصورة الثانية، ففي الحكم بها وجهان: وجه المنع أنه قد يشتري لنفسه بمال القراض متعدياً، فيبطل البيع، ولا يكون للقراض. ومنها: قال المالك: كنت نهيتك عن شراء هذا العبد، فقال العامل: لم تنهتي، فالقول قول العامل؛ لأن الأصل عدم النهي؛ لأنه لو كان كما يزعمه المالك لكان خائناً، والأصل عدم الخيانة. ومنها: قال العامل: شرطت لي نصف الربح، وقال المالك: بل ثلثه فيتحالفان، لأنهما اختلفا في عوض العقد، فأشبه اختلاف المتابعين في الثمن وإذا تحالفا فصح العقد، واختص الربح والخسران بالمالك، وللعامل أجر تمثل عمله. وفيه وجه: أنها إن كانت أكثر من نصف الربح، فليس له إلاَّ قدر النصف؛ لأنه لا يدعي أكثر منه (¬2). ومنها: لو اختلفا في قدر رأس المال، فقال المالك دفعت إليك ألفين، وقال العامل: بل ألفاً فالقول قول العامل إن لم يكون في المال ربح؛ لأن الأصل عدم دفع الزيادة، وإن كان في المال ربح، فكذلك على الأصح. وفيه وجه أنهما يتحالفان؛ لأن قدر الربح يتفاوت به، فأشبه الاختلاف في القدر المشروط من الربح. ومن قال بالأول قال: الاختلاف في القدر المشروط من الربح اختلاف في كيفية العقد، والاختلاف هاهنا اختلاف في البعض (¬3)، فيصدق فيه الباقي (¬4) كما إذا (¬5) اختلف المتبايعان في قبض الثمن، فإن المصدق البائع، ولو قارض رجلين على مال بشرط أن يكون نصف الربح، له والباقي بينهما بالسوية فربحا، ثم قال الماللث: دفعت إليكما ألفين، وصدقه أحدهما، وقال الآخر: بل ألفاً لزم المقر ما أقر به، وحلف المنكر، وقضى له بموجب قول، فلو كان الحاصل (¬6) ألفين، أخذ المنكر ربع الألف الزائد على ما أقر به، والباقي يأخذه المالك، ولو كان الحاصل ثلاثة الآلف، فزعم المنكر أن الربح منها ألفان، وأنه يستحق منها خمسمائة، فلتسلم إليه، ويأخذ المالك من الباقي ألفين من ¬
رأس المال لاتفاق المالك والمقر عليه يبقى خمسمائة يتقاسمانها أثلاثاً لاتفاقهم على أن ما يأخذه المالك، مِثلاً ما يأخذه كل واحد من العاملين وما أخذه المنكر كالتالف منهما. ولو قال المالك: كان رأس المال دنانير، وقال العامل: بل دراهم، فالمصدق العامل أيضاً. ولو اختلفا في أصل القراض، فقال المالك: دفعت المال إليك لتشتري لي وكالة، وقال مَنْ في يدهِ بل قارضتني فالمصدق المالك، فإذا حلف أخذ المال وربحه، ولا شيء عليه للآخر (¬1). وهذا فروع مبددة نختم بها الباب. ليس للعامل التصرف في الخمر شراءً وبيعاً، خلافاً لأبي حنيفة فيما إذا كان العامل ذِمِّيِّاً، فلو خالف واشترى خمراً، أو خنزيراً، أو أم ولد، ودفع المال في ثمنه عن علم، فهو ضامن، وإن كان جاهلاً، فكذلك على الأشهر (¬2) لأن حكم الضمان لا يختلف بالعلم والجهل، وقال القفال يضمن الخمر دون أم الولد إذ ليس لها أمارة تعرف به. وفي "التهذيب" وجه غريب أنه لا يضمن فيها. وأبعد منه وجه نقله في "الشامل" أنه لا يضمن حالة العلم أيضاً؛ لأنه ضمن (¬3) الفضل بخسرانه (¬4)، ولو قارضه على أن ينقل المال إلى موضع كذا، ويشتري من أمتعته، ثم يبيعهاهناك أو يردها إلى موضع القراض. قال الإمام: ذهب الأكثرون إلى فساد القراض؛ لأن نقل المال من قُطْر إلى قطر عمل زائد على التِّجَارة، فأشبه شرط الطحن والخبز، ويخالف ما إذا أذن له في السفر، فإن الغرض منه رفع الحرج. وعن الأستاذ أَبِي إِسْحَاق وطائفة من المحققين إن شرطا المسافرة لا يضر، فإنها الركن الأعظم في الأموال والبضائع الخطيرة. ولو قال: خذ هذه الدراهم قراضاً، وصارف بها مع الصَّيَارفة، ففي صحة مصارفته مع غيرهم وجهان: وجه الصحة أن المقصود من مثله أن يكون تصرفه صرفاً لا قوام بأعيانهم. ¬
ولو خلط العامل مال القراض بمال صار ضامناً، وكذ الو قارضه رجلان هذا على مال، وهذا على مال، فخلط أحدهما بالآخر، وكذا لو قارضه واحد على مالين بعقدين، فخلط خلافاً لأبي حنيفة في الصورة الأخيرة، ولو جرى ذلك بإذن المالك بأن دفع إليه قراضاً، ثم دفع إليه ألفاً آخر، وقال: ضمه إلى الأول، فإن لم يتصرف بعد في الأول جاز، وكأنه دفعهما إليه دفعة واحدة، وإن تصرف في الأول لم يجز القراض في الثاني، ولا الخلط؛ لأن حكم الأول قد استقر بالتصرف ربحاً وخسراناً، وربح كل مال وخسرانه يختص به. ولو دفع إليه ألفاً قراضاً وقال: ضم إليها ألفاً من عندك على أن يكون ثلث ربحها لك، وثلثاه لي أو بالعكس كان قراضاً فاسدًا لما فيه من شرط التفاوت في الربح مع التساوي (¬1) في المال، ولا نظر إلى العمل بعد حصول الشركة في المال. ولو دفع إليه زيد ألفاً قراضاً، وعمرو كذلك، فاشترى لكل واحد منهما بألف عبداً ثم أشتبها عليه، ففيه قولان عن رواية حرملة. أحدهما: أن شراء العبدين ينقلب إليه، ويغرم لها لتفريطه، حيث لم يفردهما حتى تولد الاشتباه، ثم المغروم عند الأكثرين الألفان. وقال بعضهم: يغرم قيمة العبدين، وقد تزيد على الألفين. والقول الثاني: أن يباع العبدان، ويقسم الثمن بينهما، وإن حصل ربح فهو بينهم على حسب الشرط، فإن اتفق خسران قالوا: يلزمه الضمان لتقصيره، فاستدرك المتأخرون فقالوا: إن كان الخسران لانخفاض السوق لا يضمن؛ لأن غايته أن يجعل كالغاصب والغاصب لا يضمن نقصان السوق. قال إمام الحرمين: والقياس مذهب ثالث وراء القولين، وهو أن يبقى العبدان لهما على الإشكال إلى أن يصطلحاً (¬2). ¬
كتاب المساقاة، وفيه بابان
كِتابُ المُسَاقَاةِ، وَفِيهِ بَابَانِ البَابُ الأَوَّلُ فِي أَرْكَانِهَا قال الغزالي: وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الأَوَّلُ: مُتَعَلَّقُ العَقْدِ وَهُو الأشْجَارُ إِذْ عَلَيْهَا يُسْتَعْمَلُ العَامِلُ بِجُزْء مِنَ الثِّمَارِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ عَامِلُ القِرَاضِ، إِلاَّ أَنَّ المُسَاقَاةَ لاَزِمَةٌ مُؤَقَّتَةُ يَسْتَحِقُّ (و) الثِّمَارَ فِيَها بِمُجِرَّدِ الظُّهُوِرِ بِخِلاَفِ القِرَاضِ، وَأَصْلُهَا مَا رُوِىَ أَنَّهِ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ سَاقَىَ أهل خَيَبر علَى النِّصْفِ مِنَ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ. قال الرافعي: صورة المُسَاقاة أن يعامل إنساناً على نخلة ليتعهَّدها بالسَّقْى والتربية، على أن ما رزق الله -تعالى- من ثمرة تكون بينهما (¬1). ولفظ المساقاة مأخوذ من السَقْي؛ لأن أنفع الأعمال وأكثرها مؤنة أو تبعاً السقى خاصة "بالحجاز"؛ لأن أهلها يسقون من الآبار، والمعتمد في جوازها أن ابن عمر -رضي الله عنه- روى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (عَامَل أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى شَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ) (¬2). ومن جهة المعنى أن مالك الأشجار قد لا يحسن تعهدها، ولا يتفرغ له، ومن يحسن ويتفرغ قد لا يملك الأشجار، فيحتاج ذلك الاستعمال، وهذا إلى العمل، ولو تعاقدا عقد الإجارة للزم المالك غرم الأجرة في الحال، وربما لا يحصل له من الأشجار شيء، ويتهاون العامل، فلم يبذل المجهود في تعهدها؛ لأنه لا يتحصل من فوائدها على شيء، فدعت الحاجة إلى تجويز هذا العقد، وبه قال مالك وأحمد، وخالف فيه أَبُو حَنِيْفَةَ وقد يقيس الأصحاب المساقاة على القراض في الحجاج معه. ومسائل الكتاب مذكورة في بابين. أحدهما: في أركان العقد. ¬
والثاني: في أحكامه كما ذكر في القراض. وأما التفاسخ والتنازع، فلم يفرد لها باباً؛ لأن حظهما هين في هذا العقد إمَا التفاسخ فلأنه لأزم، وسبيل الفسخ فيه سبيل الإقالات، وإما التنازع فلأنه معلوم مما ذكره في القراض، وقد أشار إليه إشارة خفيفة في آخر الكتاب. الباب الأول في الأركان: وهي كأركان القراض، إلا أنه ترك ذكر العاقدين اكتفاء بما مَرَّ في القراض، فبقيت أربعة: إحداها: الأشجار وهي كرأس المال في القراض؛ لأنها محل العمل، والتصرف كالمال هناك. وقوله: "متعلق العقد" يمكن أن يطابق فيه فيقال: العقد كما يتعلق بالأشجار يتعلّق بالثمار، ولذلك عد الثمار ركنًا للعَقْد، وليس للترجمة اختصاص بالأشجار، نعم لو قال: متعلّق العمل كان قريبًا. وقوله: "إلاَّ أن المُسَاقَاة لازمة .... " إلى آخره لا يخفى على الناظر أن لفظ الكتاب أنه ليس استثناه محققاً، ثم الغرض منه بيان أن العقدين يشتركان في أكثر، ويفترقان في الأقل، وذكر في افتراقهما مسائل: إحداها: المساقاة ليس لأحد المتعاقدين فسخها، بخلاف القراض؛ لأن العمل في المُسَاقاة يقع في أعيان تبقى بحالها، وفي القراض لا تبقى الأعيان بعد العمل والتصرف، فكان القراض شبيهاً بالوكالة والمساقاة بالإجارة، وأيضاً فإنا لو حكمنا بالجواز، فربما يفسخ المالك بعد العمل، وقبل ظهور الثمار، وحينئذ فإما أن نقطع حق العامل عنها أو لا نقطع. إن قطعناه ضاع سقاء العامل مع بقاء تأثيره في الثمار، وإنه ضرر، وإِن لم نقطعه لم ينتفع المالك بالفسخ، بل يتضرر لحاجته إلى القيام ببقية الأعمال، ويخالف القراض، فإن الربح ليس له وقت معلوم، ولا تأثيره بالأعمال السابقة، فلا يلزم من فسخه ما ذكرناه. الثانية: المساقاة لا بد من تأقيتها كالإجارة، وسائر العقود اللازمة، وهذا لأنها لو تأبدت لتصور من ليس بمالك بصور المالكين، وفيه إضرار بالمالكين، وأيضاً فإن المُسَاقاة تفتقر إلى مدة يقع فيها التعهُّد، وخروج الثمار، ولحصول الثمار غاية معلومة يسهل ضبطها، والقراض يخل به التأقيت؛ لأن الربح ليس له وقت معلوم، فربما لا يحصل في المدة المقدرة. الثالثة: هل يملك العامل نصيبه من الثمار بالظهور؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه على القولين في ربح مال القراض. وأظهرهما: القطع بأنه يملك.
والفرق أن الربح وقاية لرأس المال عن الخسران، فلا يملك الربح حتى يسلم رأس المال عن الخسران المحوج إلى الجُيْران، والثمار ليست وقاية للأشجار (¬1). قال الغزالي: وَلِلأَشْجَارِ ثَلاَثُ شَرَائِطَ: الأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ نَخِيلاً أَوْ كَرْماً، وَفِيمَا عَدَاهَمُا مِنَ الأَشْجَارِ المُثْمِرَةِ قَوْلاَنِ، وَكُلُّ مَا يَثْبُتُ أَصْلُهُ فِي الأَرْضِ فَشَجَرٌ إِلاَّ البَقْلَ (و) فَإِنَّهُ يَلتْحِقُ بِالزَّرْعِ وَالبِطِّيخِ وَالبَاذِنْجَانِ وَقَصَبِ السُّكَّرِ وَأَمْثَالِهِ. قال الرافعي: المُسَاقاة على النخل وردت بها السُنَّة والكَرْم في معناها. وأما غيرها من أنواع النبات، فينقسم إلى ماله سَاقٌ وإِلى غيره. القسم الأول: ماله ساق، وهو على غربين: الأول ماله ثمر كالتين والجوز واللوز والمشمش والتفاح ونحوها، وفيها قولان: القديم وبه قال مَالِكٌ وأحمد: أنه تجوز المساقاة عليها للحاجة عليها كالنخل والكرم، وأيضاً فقد روي أنه-صلى الله عليه وسلم -: (عَامَلَ أَهْلَ خَبْيَرَ بِالشَّطْرِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ) (¬2) والجديد: المنع؛ لأنها أشجار لا زكاة في ثمارها، فأشبهت الأشجار الواقعة في الضرب الثاني، وتخالف النخيل والكرم؛ لأن ثمارها لا تكاد تحصل إلاَّ بالعمل وسائر الأشجار يثمر من غير تعهد وعمل عليها، ولأن الزكاة تجب في ثمرتها، فجوزت المساقاة سعياً في تثميرها ليرتفق بها المالك والعامل والمساكين جميعاً، ولأن الخرص يتأتى في ثمرتها لظهورها وتدلي عنها قيدها، وثمار سائر الأشجار تنتشر وتستتر بالأوراق، فإذا تعذر الخرص تعذر تضمين الثمار للعامل، وربما لا يثق المالك بأمانته فإذًا تجويز المساقاة عليها أهم، وفي شجر المُقل وجهان تفريعاً على الجديد. عن ابن سُرَيْجٍ تجويز المُسَاقاة عليها تخريجاً لظهور ثمرتها. ¬
وقال غيره بالمنع؛ لأنه لا زكاة فيها (¬1). والضرب الثاني: ما لا ثمرة له كالدُّلْب (¬2) والصنوبر، وما أشبههما فلا تجوز المُسَاقَاة عليها. وعن الشيخ أبي علي وآخرين أنا إذا جوزنا المساقاة على غير النَّخِل والكرم من الأشجار المثمرة، ففي المساقاة على شَجَرِ الفْرصَاد وجهان تنزيلاً لأوراقها منزلة ثمار الأشجار المثمرة، وكذلك في ضجر الخلاّف لأغصانها التي تقصد كل سنة أو سنتين. والقسم الثاني: ما لا ساق لها من النبات، فلا تجوز المساقاة عليه، ومنه البِّطِّيْخ، والقِثَّاء، وقصب السكر والباذنجان والبقول التي لا تثبت في الأرض ولا تجزّ إلاَّ مرة. وأما ما يثبت في الأرض ويجزّ مرة بعد أخرى، نقل صاحب "التتمة" في وجهين: الأصح المشهور: المنع؛ لأن المساقاة جوزت رخصة على خلاف القياس، فلا تتعدى إلى غير موردها، ومن هذا القبيل الزروع على تنوعها، فلا يجوز أن يعامل على الأرض ببعض ما يخرج من زرعها (¬3) على ما سنشرحه في الفصل الذي يلي هذا الفصل. وقوله في الكتاب: "وفيما عداه من الأشجار المثمرة قولان" فيه لفظان "الشجرة" و"الأثمار". أما الأثمار ففي التقييد به بيان أنه إذا لم يكن الشجر مثمراً لم تجز المساقاة عليه جزماً، وليس ذلك محل القولين. وأما الشجر فقد بينه بقوله: "وكل يثبت أصله فشجر" أي هو الذي يجري فيه القولان. وأما ما لا ثبات له، فلا يقع عليه اسم الشجر، وليس ذلك موضع القولين. وقوله: "إلاَّ البقل" يعني أنه مع ثبوت عروقه في الأرض لا يقع عليه اسم الشجر، ولا يجري فيه القولان، فكان اسم الشجر مخصوصاً بذي الساق في عرف اللسان، قال الله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6]. قيل في التفسير: النجم مالا ساق له من النبات، والشجر ماله ساق، فلا يبعد إعلام قوله: "إلاَّ البقل" بالواو للوجه المروي في "التتمة". قال الغزالي: وَلاَ يُجَوّزُ (و) هَذِهِ المُعَامَلَةَ عَلَيْهِ لِنَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَنِ المُخَابَرَةِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ البِذْرُ مِنَ العَامِلِ، وَعَنِ المُزَارَعَةِ وَهِيَ (و) أَنْ يَكُونَ البِذْرُ مِنَ ¬
المَالِكِ، نَعَمِ يْجَوُزُ ذَلِكَ عَلَى الأَرَاضَيِ المُتَخَلَّلَةِ بَيْنَ النَّخِيلِ وَالكَرْم تَبَعاً لِلمُسَاقَاةِ بِشَرْطِ اتِّحَادِ العَامِلِ وَعُسْرِ إِفْرازِ الأَرَاضِي بِالعَمَلِ، فَلَوْ وَقَعَتْ مُتَغَايِرةٌ بِتَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ أَوْ بِتَفَاوُتِ الجُزْءِ المَشْرُوطِ مِنَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ أَوْ بِكَثْرةِ الأَرَاضِي وَإِنْ عَسُرَ إِفْرَازُهَا بِالعَمَلِ أَوْ بْكَوْنِ مِنَ العَايلِ فَفي بَقَاءِ حُكْمِ التَّبعِيَّةِ فِي الصَّحَّةِ خِلاَفٌ. قال الرافعي: المُخَابرة من الخبير وهو الأَكَّار ويقال: هى مشتقة من الخبار، وهي الأرض الرّخوة، ثم ذهب بعض الأصحاب إلى أن المخابرة المزارعة عبارتان عن معبر واحد، ويوافقه قوله في الصِّحاح (¬1): والخبير الأَكَّار (¬2)، ولفظ المخابرة وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، والصحيح وهو ظاهر نص الشَّافعي -رضي الله عنه- أنهما عقدان مختلفان فالمخابرة هي المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها، والبذر من العامل، والمزراعة هي هذه المعاملة، والبذر من مالك للأرض، وقد يقال: المخابرة اكتراء الأرض ببعض ما يخرج منها، والمزارعة اكتراء العامل ليزرع الأرض ببعض ما يخرج منها، وهذا المعنى لا يختلف (¬3) ويجوز أن يعلم قوله في الكتاب: "وهي أن يكون على العامل" -وكذا؛ "وهي أن يكون البذر من المالك" - بالواو- إشارة إلى قول من قال: هما عبارتان عن معبر واحد، فإن عند ذلك القائل ليس واحداً من هذين الخصوصين بداخل في واحد من اللفظين، بل هما عبارتان عن مُجَّرد المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها، وقد اشتهر في الأخبار النهي عن المخابرة. (قال ابن عمر: كنا نخابر، ولا نرى بذلك بأساً حتى أخبرنا رَافِعُ بْنُ خُدِيْجٍ أن النبي -صلى الله عليه وسلم-نهى عنه فتركناها لقول رَافِعٍ) (¬4). ¬
وعن جَابِرٍ وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (نَهَى عَنِ المُخَابَرةِ) (¬1) وأما المزارعة، فعن رواية ثابت بن الضَّحَّاَك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (نَهَى عَنِ المُزَارَعَةِ) (¬2). وقال كثيرون: لم يرد فيها نهي، لكنها شبهت بالمخابرة فأبطلت، وساعدنا على إبطال المخابرة والمزارعة معاً مالك وأبو حنيفة، وأبطل أحمد المخابرة، دون (¬3) المزارعة، فيجوز أن يعلم لذلك قوله في الكتاب: "ولا يجوز هذه المعاملة عليه" كذلك بالواو؛ لأن ابن سريج فيما حكاه المسعودي جوز المزارعة (¬4). إذا تقرر ذلك فمهما أفردت الأرض مخابرة، أو مزارعة، فالعقد باطل، ثم إن كان البذر للعامل، فالريع له، وللعامل أجرة مثل عمله، وأجرة مثل الآلات والثيران إن كانت له؛ وإن كان البذر للعامل فالريع له ولمالك الأرض أجرة مثل الأرض على العامل، وإن كان البذر بينهما فالريع بينهما ولكل واحد منهما على الآخر أجرة مثل ما انصرف من المنافع المستحقة له إلى جهة المزارعة، وإذا أراد أن يكون الزرع بينهما على وجه مشروع من غير أن يرجع أحدهما على الآخر شيء، نظر إن كان البذر بينهما، والأرض لأحدهما، والعمل والآلات للثاني، فعن الشَّافعي -رضي الله عنه- أن صاحب الأرض يعير نصف أرضه من العامل، ويتبرع العامل بمنفعة بدنه ومنفعة الآته، فيما يتعلق بصاحب الأرض. وقال المُزَنِيُّ: يكري صاحب الأرض نصف أرضه من العامل بعشرة مثلاً، ويكري العامل ليعمل على نصيبه بنفسه والآته بعشرة، ويتقاصَّان. ¬
قال الأصحاب يكريه نصف أرضه بنصف منافع العامل، ومنافع الآته المصروفة إلى الزراعة، فهذه ثلاثة طرق: والثالث: أحوطها وإن كان البذر لأحدهما خاصة فإن كان لصاحب الأرض أقرض نصف البذر من العامل، واكنزي منه نصف الأرض بنصف عليه، ونصف منافع الآلات، وحينئذ لا شيء لأحدهما على الآخر إلاَّ ردِّ العوض وإن شاء استأجر العامل بنصف البذر، ونصف منفعة تلك الأرض ليزرع له النصف الآخر، وأعار منه نصف الأرض، وإِن شاء استأجر بنصف البذر ونصف منفعته تلك الأرض ليزرع ما يبقى من ذلك البذر في تلك الأرض، وإِن كان البذر للعامل، فإن شاء أقرض نصف البذر من صاحب الأرض، واكترى منه نصف الأرض بنصف عمله، ومنافع الآلات، وإن شاء اكترى نصف الأرض بنصف البذر، ويتبرع بعمله، ومنافع الآلات، وإن شاء اكترى منه نصف الأرض بنصف البذر، ونصف عمله، ونصف منافع الآلات، ولا بد في هذه الإجارات من رعاية الشرائط كرؤية الأرض والآلات، وتقدير المدة وغيرها، هذا إذا أفردت الأرض بالعقد. أما إذا كان بين النخيل بَيَاضٌ تجوز المزارعة عليه مع المُسَاقاة على النخيل، وعلى ذلك يحمل ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- (سَاقَى أَهْلَ خَيْبرَ عَلَى نِصْفِ التَّمْرِ وَالزَّرْعِ) (¬1). وسببه الحاجة لعسر الإفراد، ومداخلة البستان، وشرط فيه اتحاد العامل، فلا يجوز أن يساقي واحداً، ويزارع آخر؛ لأن غرض الاستقلال لا يحصل، ويثترط أيضاً تعذر إفراد النخيل بالسقى، وإفراد البياض بالعمل لانتفاع النخيل بسقيه وتغليته، فإن أمكن الإفراد لم تجز المزارعة على البَيَاض. واختلفوا في اعتبار أمور أخر: أحدها: اتحاد الصفقة، واعلم أن لفظ المُعَامَلةُ يشمل المُسَاقَاة والمزارعة، فلو قال: عاملتك على هذه النخيل، والبياض بينهما بالنصف كفى. وأما لفظ المساقاة والمزارعة، فلا يغني أحدهما عن الآخر بل، يساقى على النخيل، ويزارع على البياض وحينئذ، فإن قدم المساقاة نظر إن أتى بها على الاتصال، فقد اتحدت الصفقة، وتحقق الشرط، وإن فصل بينهما، ففي وجه تصح المزارعة لحصولهما لشخص واحد. والأصح: المنع؛ لأنها تتبع، ولا يجوز إفرادها، كما لو زارع مع غير عامل المساقاة، كان قدم المزارعة فسدت، فإن التابع لا يتقدم على المتبوع، كما لو باع ¬
بشرط الرَّهْن لا يجوز تقديم شرط الرَّهْن على البيع وفيه وجه: أنها تنعقد موقوفة إن ساقاه بعدها على النخيل بَانَ صحّتها، وإلاَّ فلا. والثاني: لو شرط للعامل من الثمر النصف ومن (¬1) الزرع الربع، فأحد الوجهين: أنه لا يجوز، ويشترط تساوي المشروط؛ لأن التفضيل يبطل التبعية، أَلاَ تَرَى أنه لو باع شجرة عليها ثمرة لم يبد فيها الصلاح، وقال: بعتك الشجرة بعشرة، والثمر بدينار لم يجز إلاَّ بشرط القطع. وأصحهما: الجواز؛ لأن المزارعة وإن جوزت تبعاً للمساقاة، فكل منهما عقد برأسه. والثالث: لو كثر البياض المتخلل فوجهان، وإن عسر الإفراد. أحدهما: المنع؛ لأن الأكثر لا يتبع الأقل. وأشبهما: الجواز؛ لأن الحاجة لا تختلف، ثم النظر في الكثرة إلى زيادة الثمار، والانتفاع، أو إلى مساحة البياض، ومساحة مغارس الأشجار فيه تردد للأئمة (¬2). والرابع: لو شرط كون البذر من العامل جاز في أحد الوجهين، وكانت المخابرة تبعاً للمساقاة كالزراعة، ولم تجز في أصحهما: لأن الخبر ورد في المزارعة، وهي أشبه بالمساقاة؛ لأنه لا يتوظف على العامل فيهما إلاَّ العمل وشرط أن يكون البذر من المالك، والثور من العامل أو بالعكس فيه وجهان عن أبِي عَاصِم العَبَّادِيِّ. والأصح: الجواز إذا كان البذر مشروطاً على المالك؛ لأنه الأصل، فكأنه اكترى العامل وثوره. قال: وإن حكمنا بالجواز فيما إذا شرط الثور على المالك والبذر على العامل، فينظر إن اشرط الحب والتَّبْن بينهما جاز، وكذا لو شرط الحب بينهما والتَّبْن لأحدهما لاشتراكهما في المقصود، وإن شرط التَّبْن لصاحب الثور وهو المالك، والحب للآخر لم يجز؛ لأن المالك هو الأصل، فلا يحرم المقصود، وإن شرط التَّبْن لصاحب البذر وهو العامل. فوجهان: وقيل؛ لا يجوز شرط الحب لأحدهما والتبن للآخر أصلاً؛ لأنه شركة مع الانقسام، فأشبه ما إذا ساقاه على الكروم، والأشجار، وشرط ثمار الكروم لأحدهما، وثمار الأشجار للآخر. واعلم أنهم أطلقوا القول في المخابرة بوجوب أجرة المثل للارض، لكن ¬
في "فتاوى القَفَّال" و"التهذيب" وغيرهما أنه لو دفع أرضاً إلى رجل ليغرس أو يبني، أو يزرع فيها من عنده على أن تكون بينهما على النصف، فالحاصل للعامل، وفيما يلزمه من أجرة الأرض وجهان: أحدهما: أن الواجب نصف الأجرة؛ لأن نصف الغراس كان يغرسه لرب الأرض بإذنه، فكأنه رضي ببطلان نصف منفعته من الأرض. وأصحهما: وجوب الجميع؛ لأنه لم يرض ببطلان المنفعة إلاَّ إذا حصل نصف الغراس، فإذا لم يحصل وانصرف كل المنفعة للعامل استحق كل الأجرة، فإذا ما أطلقوه في المخابرة اقتصار منهم على الأصح، ثم العامل يكلَّف نقل البناء والغراس إن لم تنقص قيمتها، وإن نقصت لم يقلع مجاناً للإذن، ويتخير مالك الأرض فيهما تخير المعير، والزرع يبقى إلى الحصاد، ولو زرع العامل البياض بين النخيل من غير عَقْد قلع زرعه مجاناً. وعن مَالِكِ -رضي الله عنه- أنه إن كان دون ثلث البستان كان تابعاً، وإذا لم نجوز المساقاة على ما سوي النخيل والكروم من الأشجار المثمرة على الإنفراد، ففي جوازها تبعاً للمُسَاقاة كالمزارعة وجهان (¬1). قال الغزالي: الثَّانِى أَنْ لاَ تَكُونَ الثِّمَارُ بَارِزَةً، وإن سَاقَى بَعْدَ البُروُزِ (م) فَسَدَ عَلَى القَدِيمِ، وَصَحَ عَلَى الجَديِدِ لأنَّهُ عَنِ الغَرَرِ أَبْعَدُ إذِ العِوَضُ مَوْثُوقٌ بِهِ. قال الرافعي: لو أخر هذا الشرط إلى الركن الثاني لكان جائزاً أو أحسن. وفقهه أن في جواز المُسَاقاة بعد خروج الثمار قولين: رواية البويطي المنع؛ لأن الثمرة إذا ظهرت وملكها رب البستان كان شرط شئ منها كشرط شيء من النخيل، وأيضاً مقصود المساقاة أن تخرج الثمار بعمله. وفي "الأم" أنه جائز، وبه قال مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وهو الأصح؟ لأن العقد والحالة هذه أبعد عن الغرر، والوثوق بالثمار، فهو أولى بالجواز، وفي موضع القولين ثلاثة طرق جمعها من شرح "مختصر" الجويني: أظهرها: أن القولين فيما إذا لم يَبْدُ الصلاح فيها، فأما بعده فلا تجويز بلا خلاف؛ لأن تجويز المساقاة لتربية الثمار وتنميتها، وهي بعد الصلاح لا تتأثر بالأعمال. والثاني: إجراء القولين فيما إذا بدأ الصلاح، وفيما إذا لم يَبْدُ مالم يتناه نضجها، فإن تناهى، ولم يبق إلاَّ الجذَاذ لم يجز بلا خلاف. ¬
والثالث: إجراء القولين في جميع الأحوال، وهذه قضية إطلاق المصنف، فأما إذا كان بين النخيل بياض، تجوز المزارعة عليه تبعاً، فلو كان فيه زرع موجود، ففي جواز المزارعة وجهان، بناء على هذين القولين، [ويجوز إعلام قوله في الكتاب: "فسد" -بالميم والألف- لما ذكرناه من مذهبهما، وتعبيره عن القولين بالقديم] والجديد شيء أَتبع فيه الإمام، ولم يتعرض [الجمهور لذلك، ولا يمكن تنزيل القديم على رواية البُوَيْطىِّ، فإن كتابه معدود] من الجديد. وقوله: "إذ العوض موثوق به" أي عوض العمل وهو الثمار. قال الغزالي: الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الأَشْجَارُ مَرْئِيَّةَ وَإلاَّ فَهُوَ بَاطِلُ لِلغَرَرِ، وَقِيلَ: إنَّهُ عَلَى قَوْلَي بَيْعِ الغَائِبِ. قال الرافعي: هل يشترط في المساقاة رؤية الحديقة والأشجار؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه على قولي بيع الغائب. وثانيهما: القطع بالاشتراط، وإبطال العقد عند عدم الرؤيةِ؛ لأن المساقاة عقد غرر من حيث إن العوض معدوم في الحال، وهما جاهلان بمقدار ما يحصل، وبصفته فلا يحتمل فيه غرر عدم الرؤية أيضاً، وإيراد الكتاب يقتضي ترجيح هذه الطريقة. قال الغزالي: الرُّكْنُ الثَّانِي: الثِّمِارُ وَلْيَكُنْ مَخْصُوصاً بِمَا شَرَطَا عَلَى الاسْتِبْهَامِ مَعْلُوماً (و) بِالجُزْئِيَّةِ لاَ بِالتَّقْدِيِرِ كَمَاَ فِي القِراضِ. قال الرافعي: ويشترط في الثمار (¬1) أن تكون مخصوصة بالمتعاقدين، بينهما، ومعلومة وأن يكون العلم بها من حيث الجزئية دون التقدير، وهي بعينها شروط الربح في عقد القراض، فلو شرط بعض الثمار لثالث فسد العقد، وكذا لو قال: بساقيتك على أن كل الثمار لك، أو كلها لي، وفي استحقاق الأجرة عند شرط الكل للمالك وجهان، كما في القراض. قال المزني: وهو الأصح لا أجرة له؛ لأنه عمل مجاناً. وقال ابن سريج: يستحقها؛ لأن المساقاة تقتضي العوض، فلا تسقط بالتراضي كالوطء في النكاح، ولو قال: ساقيتك؛ على أن لك جزءاً من الثمار فسد أيضاً، ولو قال: على أنها بيننا، أو على أن نصفها لي، وسكت عن الباقي، أو على أن نصفها لك، وسكت عن الباقي، أو على أن ثمرة هذه النخلة، أو النخلات لك أوْلى، والباقي بيننا، أو على أن صاعاً من ¬
الثمرة لك أوْلى، والباقي بيننا، فكل ذلك كما مر في القراض. وقوله في الكتاب "شرطا على الاستبهام" أي على الاشتراك، وقد استعمل الاستبهام والمساهمة بمعنى الاشتراك والمشاركة، وإن كان الأصل في الاستبهام الانتزاع (¬1)، وهذا بدل قوله: "في القراض" عند شروط الربح مشروطاً مشتركاً، وقد تقرأ هذه اللفظة على الاستيهام ذهاباً منه إلى أن المراد منه ضد التعيين، والتقدير ليخرج عنه ما إذا شرط ثمرة نخلة بعينها لأحدهما والتقدم بصاع وما أشبهه، لكن الأول أولى؛ لأن هذا معنى قوله: "بالجزئية لا بالتقدير" ويجوز إعلامه -بالواو- لأن صاحب "التتمة" حكى وجهاً في صحّة المساقاة إذا شرط كل الثمرة للعامل لغرض القيام، وتعهد الأشجار وتربيتها. قال الغزالي: وَلَوْ سَاقَى عَلَى وَدِي غير مَغْرُوسِ لِيَغْرِسَهُ فَهُوَ فَاسِدٌ (و) فَإنَّهُ كتَسَليِمِ البِذْرِ، وإِنْ كَانَ مَغْرُوساً وَقَدَّرَ العَقْدَ بِمُدَّةِ لاَ يُثْمِرُ فِيهَا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ يَتَوَهَّمُ وُجُودَ الثِّمَارِ فَإِنْ غَلَبَ الوُجُودُ صَحَّ (و)، وَإِنْ غَلَبَ العَدَمُ فَلاَ (و)، وَإِنْ تَسَاوَى الاحْتِمَالاَنِ فَوَجْهَانِ، ثُمَّ إِنْ سَاقَى عَشْرَ سِنِيِنَ وَكَانَتِ الثَّمَرَةُ لاَ تتَوَقَّعُ إِلاَّ فِي العَاشِرَةِ جَازَ فَيَكُونُ ذَلِكَ في مُقَابَلِةَ كُلِّ العَمَلِ كالأَشْهُرِ مِنْ سَنَةٍ واحِدَةٍ. قال الرافعي: إذا ساقاه على وَدِيٍّ (¬2) ليغرسه، ويكلون الشجر بينهما، فالعقد فاسد؛ لأنه كتسليم البذر في المزارعة، وإن قال: لتغرسه وتتعهد الشجرة مدة كذا على أن تكون الثمرة الحاصلة بيننا، فهو فاسد أيضاً (¬3)؛ لأنه قد لا يعلق، ولا حاجة إلى احتمال هذا النوع من الضرر، وأيضاً فالغراس ليس من أعمال المساقاة فضمه إليها كضم غير التجارة إلى عمل القراض، وإذا عمل العامل في هذا العقد الفاسد استحق إجرة المثل إن كانت الثمار متوقعة في تلك المدة، وإلاَّ فعلى ما ذكرنا من خلاف المزني، وابن سريج، وفي المسألة وجه أن الحكم كما لو كان الوَدِيّ مغروساً، وساقاه عليه، لأن الحاجة قد تدعو إليه في المساقاة. وأبعد منه وجه عن حكاية صاحب "التقريب" فيما إذا شرط بعض الشجرة للعامل، ولو ساقاه على وَدِيٍّ مغروس، نظر إن قدر للعقد مِدة لا يثمر فيها في العادة لم تصح المساقاة لخلُوِّها عن العوض، وكالمُسَاقاة على الأشجار التي لا تثمر، وإذا عمل ففي استحقاقه أجرة المثل الخلاف السابق. ¬
فرع
قال الإمام: هذا إذا كان عالماً بأنها لا تثمر فيها، وإن كان جاهلاً قطعنا باستحقاق الأجرة، وإِن قدرت بمدة يثمر فيها غالباً صح، ولا بأس بخلو أكثر سِنِيِّ المدة عن الثمرة، مثل أن يساقيه عشر سنين، والثمرة لا تتوقع إلاَّ في العاشرة، وتكون هي بمثابة الأشهر من السَّنَة الواحدة، ثم إن اتفق أنها لم تثمر لم يستحق العامل شيئاً، كما لو قارضه فلم يربح أو ساقاه على النخيل المثمرة، فلم تثمر، فإن قدره بمدة يحتمل أن تثمر فيها، ويحتمل ألا تثمر فوجهان: أصحهما: المنع، وبه أبو إسحاق؟ لأنه عقد على عوض غير موجود، ولا غالب الوجود فأشبه السلم في معدوم إلى وقت يحتمل أن يوجد فيه، ويحتمل خلافه. والثاني: يصح، ويكتفي بالاحتمال، ورجاء الوجود، فعلى هذا إن أثمرت استحق وإلاَّ فلا شيء له وعلى الأول يستحق أجرة المثل؛ لأنه عمل طامعاً هذه الطريقة التي ذكرها عامة الأصحاب، وجعلوا توقع حصول الثمرة على ثلاث مراتب، كما فصلنا، ونسب الإمام هذه الطريقة إلى القاضي، وحكى طريقتين أخريين. إحداهما: أنه إن غلب عدمها في تلك المدة بطل، وإلاَّ فوجهان. الثانية: أنه إن غلب وجودها صح وإلاَّ فوجهان، فيجوز أن يعلم للأولى قوله "فإن غلب الوجود صح" -بالواو- وللثانية قوله: "فإن غلب العدم فلا". واعلم أن صور الفصل مبنيّة على تجويز المُسَاقاة أكثر من سنة، وهو الصحيح، وستعرف ما فيه من الخلاف. فرع: دفع إليه وَديّاٌ ليغرسه في أرض نفسه على أن يكون الغراس للدافع والثمار بينهما، فهو فاسد [وللعامل عليه أجرة مثل عمله وأرضه. ولو دفع إليه أرضه ليغرسها بوديّ نفسه على أن يكون الثمرة بينهما فهو فاسد (¬1)]. أيضاً ولصاحب الأرض أجرتها على العامل. قال الغزالي: وَلَوْ قَالَ: سَاقَيْتُكَ عَلَى أَنَّ لَكَ مِنَ الصَّيْحَانِىِّ نِصْفَهُ وَمِنَ العَجْوَةِ ثُلُثَهُ لَمْ يَصِحَّ إلا إِذَا عَرَفَ مِقْدَارَ الأَشْجَارِ، وَإِنْ شَرَطَ النِّصْفَ مِنْهُمَا لَمْ يَشْتَرطْ مَعْرِفَةَ الأَقْدَارِ، وَلَوْ سَاقَاهُ عَلَىَ إحْدَى الحَدِيِقَتَيْنِ لاَ يِعَيْنِهَا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ إِنْ سَقَيِ بِمَاءِ السَّمَاءِ فَلَهُ الثُّلُثُ أَوْ بِالدَّالِيَةِ فَلَهُ النَّصْفُ فَهُوَ فَاسِدٌ لِتَرَدُّدِهَ بِيْنَ جِهَتَيْنِ: ¬
قال الرافعي: إذا كان في الحديقة نوعان من الثمر فصاعداً كالصّيْحَاني والعَجْوة والدَّقل، فساقى مالكها رجلاً على أن له من الصّيْحَاني النصف، ومن العجوة السدس أو الثلث، نظر إن علما قدر كل نوع جاز، كما لو ساقاه على حديقتين على أن له النصف من هذه، والثلث من هذه، وإن جهلا أو أحدهما قدر كل نوع لم يجز لما فيه الغَرَر، فإن المشروط فيه أقل الجزءين قد يكون أكثر النصيين، ومعرفة كل نوع من الأشجار إنما يكون بالظن والتخمين، دون التحقيق، وإن ساقاه على أن له النصف، أو الثلث من الكل صحت المساقاة، كان جهلا أو أحدهما قدر كل نوع، قال ابْنُ الصَّبَّاغِ: والفرق أن قدر حقه من ثمرة الحديقة هاهنا معلوم بالجزئية، وإِنما المجهول النوع والصفة، وهنالك القدر مجهول أيضاً لاحتمال والفرق اختلاف ثمرة النوعين في القدر، وحينئذ يكون قدر ماله من ثمرة الكل مجهولاً؛ لأن المستحق على أحد التقديرين نصف الأكثر، وثلث الأقل، وعلى الثاني ثلث الأكثر، ونصف الأقل، والأول أكثر من الثاني، ومعلوم أن الجهل بالقدر أشد، ولو ساقاه على إحدى الحديقتين من غير تعيين، أو على أنه إن سقى بماء السماء، فله الثلث، أو بالدَّالِية، فله النصف لم يصح للجهل بالعمل والعوض، وهو كما لو قارضه على أنه إن تصرف وربح كذا، فله النصف، أو كذا فله الثلث، ولو ساقاه على حديقة بالنصف على أن يساقيه على أخرى بالثلث، أو سنة أخرى، أو على أن يساقية العامل على حديقته فهو فاسد، وهل تصح المساقاة؟. الثانية: قال في "التهذيب" إن عقدها على شرط العقد الأول لم تصح، وإلاَّ فتصح، وقد مر نظيره في الرَّهْن (¬1). قال الغزالي: وَلَوْ سَاقَى شَرِيكَهُ في الحَدِيقَةِ وَشَرَطَ لَهُ زِيَادَةَ صَحَّ إِنِ اسْتَبَدَّ بِالعَمَلِ، وَإِنْ شَارَكَ الآخَرَ بِالعَمَلِ فَلاَ. قال الرافعي: حديقة بين اثنين على السواء ساقى أحدهما الآخر، وشرط له زيادة على ما كان يستحقه بالمِلْك، كما إذا شرط ثلثي الثمرة، فالعقد صحيح، وقد دفع إليه نصيبه بثلث ثمرته، وإن شرط له نصف الثمار أو ثلثها لم يصح؛ لأنه يثبت له عوضاً بالمساقاة؛ إِذ النصف مستحق له بالملك، بل يشترط عليه في الصورة الثانية أن يترك بعض ثمرته أيضاً، وإذا عمل في الصورتين، ففي استحقاقه الأجرة اختلاف المزني، وابن سريج، ولو شرط له جميع الثمرة فسد العقد، وهل له الأجرة؟ فيه وجهان؛ لأنه لم يعمل؛ إلاَّ أنه انصرف إليه (¬2). ¬
ولو شرط في المُسَاقاة مع الشريك بأن يتعاونا على العمل فسدت، وإن أثبت له زيادة على ما يستحقه بالمالك، كما لو ساقى أجنبيّاً على هذا الشرط، ثم تعاونا، واستويا في العمل، فلا أجرة لواحد منهما على الآخر، وإِن تعاونا فإِن كان عمل من شرط له زيادة أكثر استحق على الآخر الحِصّة من عمله، وإن كان عمل الآخر أكثر، ففي استحقاقه الأجرة خلاف المزني، وابن سريج. وقوله في الكتاب: "صح إن استبد بالعمل، وإن شارك الآخر في العمل فلا" ليس فيه تعريض للاشتراك، لكنه محمول عليه، معناه: فإن شرط مشاركة الآخر، أما المعاونة من غير شرط، فهي غير ضائرة، وكذا قوله: "إن استبد بالعمل" معناه: أن إفادة العقد بالاستبداد بشرط الاستبداد، أو بإطلاق العقد، ولو ساقى شريكا الحديقة رجلاً، وشرطا له جزءاً من ثمرة الحديقة جاز، وإن لم يعلم العامل نصيب كل واحد منهما، وإن قالا: على أن لك من نصيب أحدنا النصف، ومن نصيب الآخر الثلث من غير تعين لم يجز، فإن عينا فإن علم نصيب كل واحد منهما جاز، وإلاَّ فلا. فرعان: الأول: لو كانت الحديقة (¬1) لواحد، وساقى اثنين على أن لأحدهما نصف الثمرة، وللآخر ثلثها، إما في صفقة، أو في صفقتين جاز إذا يتميز من له النصف، ومن له الثلث. الثاني: حديقة بين ستة أسداساً، فساقوا عليها واحداً على أن له من نصيب أحدهم النصف، ومن نصيب الثاني الربع، ومن الثالث الثمن، ومن الرابع الثلثين، ومن الخامس الثلث، ومن السادس السدس، فحسابه أن خرج النصف والربع يدخلان في مخرج الثمن، ومخرج الثلثين والثلث يدخلان في مخرج السدس، فتبقى ستة وثمانية، وبينهما موافقة بالنصف نضرب نصف أحدهما في جميع الآخر، يكون أربعة وعشرين، نضربه في عدد الشركاء، وهو ستة، يبلغ مائة وأربعة وأربعين لكل واحد منهم أربعة وعشرين يأخذ العامل ممن شرط له النصف اثنى عشر، ومن الثاني ستة، ومن الثالث ثلاثة، ومن الرابع ستة عشر، ومن الخامس ثمانية، ومن السادس أربعة، فيجتمع له تسعة وأربعون، ويبقى المُلاَّك على تفاوتهم فيه خمسة وسبعون. قال الغزالي: الرُّكنُ الثَّالِثُ: العَمَلُ وَشَرْطُهُ أَنْ لاَ يُضَمَّ إِلَيْهِ عَمَلٌ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ المُسَاقَاةِ، وَأَنْ لاَ يَشْتَرِطَ مُشَارَكَةَ المَالِكَ مَعَهُ في اليَدِ بَلْ يَسْتَبِدُّ العَامِلُ بِاليَدِ، ثُمَّ لَوْ شَرَطَ دُخُولَ المَالِك أَيْضاً لَمْ يَضُرَّ (و)، وَأَنْ لاَ يَشْتَرِطَ عَمَلُ المَالِك مَعَهُ بَل يَنْفَردُ بِالعَمَلِ، وَلَوْ ¬
شَرَطَ أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ غُلاَمُ المَالِكِ صَحَّ عَلَى النَّصِّ، ثُمَّ النَّفَقَةُ عَلَى المَالِكِ إلاَّ إِذا شَرَطَ عَلَى العَامِلِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ، وَوَجْهُ المَنْعِ: أَنَّهُ قَطَعَ نَفَقَةَ المَالِك عَنِ المِلْكِ، وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ العَامِلَ بِأُجْرةٍ عَلَى المِالِكِ وَلَمْ يَبقِ العَامِلِ إلاَّ الَدَّهْقَنَةُ والتَّحَذقُ فِي الاسْتِعْمَالِ فَفِيهِ وَجْهَانِ. قال الرافعي: شروط عمل المساقاة قريبة من شروط عمل القراض، وإن اختلفا في الجنس. منها: أنه لا يُشترط عليه عمل ليس من جنس أعمال المساقاة. ومنها: أن يستبد العامل باليد في الحديقة ليتمكن من العمل متى شاء، فلو شرط كونها في يد المالك، أو مشاركته في اليد لم تجز، ولو سلم المفتاح إليه، وشرط المالك الدخول عليه فوجهان: وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب أنه لا يضر بحصول الاستقلال، والتمكن من العمل. ووجه الثاني: أنه إذا دخل كانت الحديقة في يده، وقد يتعوَّق بحضوره عن العمل. ومنها: أن ينفرد العمل بالعمل، فلو شرط أن يشاركه المالك في العمل فسد العقد، ولو شرط أن يعمل معه غلام الملك، فالنص الجواز، وللأصحاب فيه طريقان: أحدهما: أنه على وجهين، كما ذكرنا في "القِرَاض"، ومن منع حمل النَّص على ما إذا شرط أن يعمل الغلام ما يتوظف على المالك من الأعمال، كحفر الأنهار، وبناء الحيطان. وأظهرهما: الجواز جزماً، والفرق بين المساقاة والقراض أن في المساقاة بعض الأعمال على المالك، وله باعتبار ذلك يد ومُدَاخَلة، فجاز أن يشترط فيه عمل غلامه، وفي القراض لا عمل على المالك أصلاً فلا يجوز شرط عمل غلامه، والمسألة مصورة فيما إذا كان الشرط أن يعاونه، ويكون تحت يده. أما إذا شرط أن يكون التدبر للغلام، ويعمل العامل برأيه، أو أن يعملا ما اتفق رأيهما عليه لم تجز بلا خلاف، ثم إن جوزنا فلا بد من معرفة الغلام بالرؤية، أو الوصف. وأما نفقته ففى جواز شرطها على العامل وجهان: أحدهما: المنع لما فيه من قطع نفقة المالك على المِلْك، وبهذا قطع المسعودي. وأظهرهما: الجواز؛ لأن العمل في المُسَاقاة على العامل؛ ولا يبعد أن يلتزم مؤنة من يعمل معه، ويعاونه كاستئجار من يعمل معه، وعلى هذا فهل يجب تقديرها؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم، فيبين ما يدفع إليه كل يوم من الخبز والإدام. والثاني: لا، وبه أجاب الشيخ أبو حامد، بل يحمل على الوسط المعتاد؛ لأنه يتسامح بمثل ذلك في المعاملات. ولو شرط أن تكون النفقة على المالك جاز. وعن مالك: منعه، وإِن شرطاها في الثمار. قال في "التهذيب": لا يجوز؛ لأن ما يبقى يكون مجهولاً. وقال صاحب "الإفصاح": يجوز؛ لأنه قد يكون ذلك من صلاح المال، ويشبه أن يتوسط (¬1)، فيقال: إن شرطاها من جزء معلوم، بأن يتعاقدا بشرط أن يعمل الغلام على أن يكون ثلث الثمار للمالك، وثلثها للعامل، ويصرف الثلث الثالث إلى نفقة الغلام، فهو جائز، وكان المشروط للمالك ثلثاها، وإن شرطاها في الثمار من غير تقدير جزء لم يجز، وإن لم يتعرضا للنفقة أصلاً، فالمشهور أنها على المالك بحكم الملك. وذكر صاحب "الإفصاح" وراءه احتمالين: أحدهما: أنها تكون من الثمرة. والثاني: أنه يفسد العقد. وفي "المهذب" (¬2) ذكر وجه أنها تكون على العامل؛ لأن العمل عليه، وليس للعامل استعمال الغلام في عمل نفسه إذا فرغ من عمل الحديقة. ولو شرط أن يعمل له بطل العقد، ولو كان له برسم الحديقة غلمان يعملون فيها لم يدخلوا في مطلق المساقاة؛ لأنه ربما يريد تفريغهم لشغل آخر. وعن مالك: أنهم يدخلون فيه. ولو شرط استئجار العامل من يعمل معه من الثمرة بطل العقد؛ لأن قضية المساقاة أن تكون الأعمال ومؤناتها على العامل، ولأنه لا يدري أن الحاصل للعامل كم هو؟ حتى لو شرط له ثلثي الثمرة ليصرف الثلث إلى الأجراء، ويخلص له الشك، فعن القَفَّالِ أنه يصح، فإذا امتنع شرط الأجرة في الثمرة فأولى أن يمتنع شرط أدائها من سائر أموال المالك، هذا ما ذكره المزني، وعامة الأصحاب. ونقل صاحب الكتاب وجهين فيما إذا شرط أن يستأجر بأجرة على المالك، وأشار بقوله: "ولم يبق للعامل إلاَّ الدَّهْقَنة وَالتَّحَذُّق في الاستعمال" إلى توجيه الجواز معناه: أن المالك قد لا يهتدي إلى الدَّهْقَنة، واستعمال الأجراء أو لا يجد من يباشر الأعمال، أو من لا يأتمنه، فتدعو الحاجة إلى ¬
أن يساقي من يعرف ذلك لينوب عنه في الاستعمال. قال الغزالي: وُيشْتَرطُ تَأْقِيتُ المُسَاقَاة لأنَّها لاَزِمَةٌ فَيَضُرُّ التَّأْبِيدُ، وَلْيُعَرِّفِ العَمَلَ جُمْلَةً، ثُمَّ لْيُعَرِّفْ بِالسَّنَةِ العَرَبِيَّةِ، فَإِنْ عَرَّفَ بِإدْرَاكِ الثَّمَارِ جَازَ عَلَى الأَصَحِّ، فَإِنْ عَرَّفَ بِالعَرَبيَّةِ فَبِرَزَتِ الثِّمَارُ في آخِرِ المدَّةِ وَلَمْ تُدْرَكْ في المُدَّةِ فَالعَامِلُ شَرَيكٌ فِيهَا. قال الرافعي: اشتراط التأقيت في المُسَاقاة قد سبق ذكره في أول الباب، ويتعلق هذا الركن به من جهة أن العمل يجب تعريفه ببيان المدة دون التعيين والتفصيل، ثم إن أقت بالأشهر أو السنين العربية فذاك. وإن أقت بإدراك الثمار فوجهان: أحدهما: أنه يجوز لأنه قد يتقدم تارة، ويتأخر أخرى، فليقدر بما تقدر به الإجارات والآجال في العقود. والثاني: لا يجوز؛ لأنه المقصود من هذا العقد، ألاَ تَرىَ أنه لو أقت بالزمان كان الشرط أن يعلم أو يظن الإدراك فيه فإذا تعرض للمقصود كان أولى، وهذا أصح عند صاحب الكتاب، والأول أصح عند الأكثرين، وهو المذكور في "التهذيب" وإذا قلنا بالثاني، فلو قال: ساقيتك سنة، وأطلق فيحمل على سنة عربية، أو على سنة الإدراك؟ فيه وجهان، زعم الشيخ أبو الفَرَجِ السَّرْخَسِيُّ أن أصحهما الثاني. وإذا قلنا بالأول لو أقت بالزمان فأدركت الثمار، وبعض المدة باقية وجب على العامل أن يعمل في تلك البقية، ولا أجرة له، وإن انقضت المدة، وعلى الأشجار طلع أو بلح، فللعامل نصيبه منها، وعلى المالك التعهُّد إلى الإدراك، فإن حدث الطلع بعد المدة، فلا حق له فيه. وجواز المساقاة أكثر من سنة على الأقوال التي نذكرها في جواز الإجارة أكثر من سنة، وإذا جوزناها فهل يجب أن يبين (¬1) حصته كل سنة أم يكفي قوله: ساقيتك على النصف لاستحقاق النصف كل سنة؟ فيه وجهان أو قولان كما في الإجارة، وفي "المهذب" طريقة أخرى قاطعة بوجوب البيان؛ لأن الاختلاف في الثمار يكثر، وفي المنافع يقل، ولو فارت بين الجزء المشروط في السَّنتين لم يضر. وفيه وجه: أنه على الخلاف فيما إذا أسلم في جنس إلى آجال، ولو ساقاه سنين، وشرط له ثمرة سنة بعينها، والأشجار بحيث تثمر كل سنة لم يصح (¬2)؛ لأنها ربما لا تثمر تلك السنة، فلا يكون للعامل شيء أو إلاَّ تلك السنة، فلا يكون للمالك شيء، ¬
ويخالف ما لو ساقاه على وَدِيٍّ عشر سنين، والثمرة لا تتوقع إلاَّ في العاشرة لتكون هي بينهما أنه شرط له سهماً من جميع الثمرة، ولو أنه أثمر قبل سنة التوقع لم يستحق العامل منها شيئاً. وقوله في الكتاب: "وليعرف العامل عمله" لا ينبغي أن يقرأ على الأمر؛ لأنه حينئذ يكون المراد منه أنه لا يشترط تفصيل الأعمال، وهذا قد ذكره في آخر الباب، فليزم التكرار، وأيضاً فإن المسألة لا تتعلّق بركن العمل، ولكنه معطوف على قوله: لأنها لأزمة المعنى أنه يشترط تأقيت المساقاة للزومها، وليكون التأقيت معرفاً للعمل مقدراً بجملته. وقوله: "ثم ليعرف بالسنة العربية" المراد ليعرف بالزمان، وذكر العربية يجري على سبيل التمثيل لا لتخصيص التأقيت بها، فإن التأقيت بالرومية وغيرها جائز إذا علماها، نعم فإذا أطلقا لفظ السَّنة انصرف إلى العربية، وكذا سبيل قوله: "وإن عرفت بالعربية". قال الغزالي: الرُّكَنُ الرَّابعُ: الصِّيغَةُ (و) فَيَقُولُ: سَاقَيتُكَ عَلَى هَذَهِ النَّخِيِلِ بِالنِّصْفِ أَوْ عَامَلتْكَ فَيَقُولُ: قَبِلْتُ، فَلَوْ عَقَدَ بِلفَظ الإِجَارَةِ لَمْ يصحّ عَلَىَ الأَظهَرِ (و) لِفَقْدِ شَرْطِ الإِجَارَة، وَلاَ يُشَتَرَطُ (و) تَفْصِيلُ الأَعَمْاَلِ فَإِنَّ العُرْفَ يُعَرِّفُهَا. قال الرافعي: يجوز أن يعلم قوله: "الركن الرابع" بالواو للوجه المكتفي به العقود بالتراضي والمُعَاطاة، وكذا في القراض وغيره، ثم أشهر صيغ هذا العقد أن يقول: ساقيتك على هذه النخيل بكذا، أو عقدت معك عقد المساقاة. قال الأئمة: وتنعقد بكل لفظ يؤدي معناها، كقوله: سلمت إليك نخلي لتتعهدها على أن يكون لك كذا، أو عمل هذه النخيل، أو تعهد نخيلي بكذا، وهذا يجوز أن يكون جواباً على أن مثله من العقود ينعقد بالكتابة، ويجوز أن يكون ذهاباً إلى أن هذه الألفاظ صريحة، ونظيره أنا على رأي يقول: صرائح الرجعة غير محصورة، ويعتبر القبول في المساقاة، ولا تجيء فيها الوجوه المذكورة في القراض والوِكَالَةِ للزومها هكذا قال الإمام، وصاحب الكتاب، ولو تعاقدا بلفظ الإجارة، فقال المالك: استاجرتك لتعهُّد نخلي بكذا من ثمارها، فيه وجهان جاريان في الإجارة بلفظ المساقاة. أحدهما: الصحة لما بين العقدين من المشابهة، واحتمال كل واحد من اللفظين معنى الآخر. وأظهرهما: المنع؛ لأن لفظ الإجارة صريح في غير المُسَاقاة، فإن أمكن تنفيذه في موضعه نفذ فيه، وإلاَّ فهو إجارة فاسدة (¬1)، والخلاف نازع إلى أن الاعتبار باللفظ أو ¬
الباب الثاني في أحكامها
المعنى، ولو قال: ساقيتك على هذه النخيل بكذا ليكون أجرة لك، فلا بأس لسبق لفظ المساقاة، هذا إذا قصد بلفظ الإجارة المساقاة، أما إذا قصد الإجارة نفسها، فينظر إن لم تخرج الثمرة لم يجز؛ لأن الشرط أن تكون الأجرة في الذمة، أو موجودة ومعلومة، وإن خرجت فإن بَدَا الصلاح فيها جاز، سواء شرط ثمرة نخلة معينة، أو جزءاً شائعاً، هكذا أطلقوه، لكن يجئ فيه ما سنذكره في مسألة قفيز الطّحان وأخواتها، فإن لم يَبْدُ فيها الصلاح، فإن شرط له ثمرة نخلة بعينها، جاز بشرط القطع، وكذا لو شرط كل الثمار له، وإن شرط جزءاً شائعاً لم يجز، وإن شرط القطع لما سبق في البيع، وإن عقد لفظ المُسَاقاة فالصحيح وهو المذكور في الكتاب أنه لا حاجة إلى تفصيل الأعمال، بل يحمل في كل ناحية على عرفها الغالب. وفيه وجه: أنه يجب تفصيلها؛ لأن العرف يكاد يضطرب، وما ذكرناه فيما إذا علم المتعاقدان العرف المحمول عليه، فإن أو أحدهما وجب التفصيل لا محالة. البَابُ الثَّاني في أَحْكَامِها قال الغزالي: وَحُكْمُهَا وَجُوُبُ كُلِّ عَمَل يَتَكرَّرُ فَي كُلِّ سَنَةٍ وَتَحْتَاجُ إليهِ الثِّمَارُ مِنَ السَّقُيِ وَالتَّقْليِبِ وَتَنْقِيَةِ الآبَارِ (و) وَالأَنْهَارِ وَتَنْحِيَة الحَشِيشِ المُضِرِّ وَالقُضْبَانِ وَتَصْرِيفِ الجَرِيِدِ وَتَسوِيةِ الجَرِينِ وَرَدِّ الثِّمَارِ إليَهِ، وَمَا لاَ يَتَكَرَّرُ في كُلِّ سَنَةٍ وَيُعَدُّ مِنَ الأُصُولِ فَهُوَ عَلَى المَالِكِ كَحَفْرِ الآبَارِ وَالأَنْهَارِ الجَدِيدَةِ وَبِنَاءِ الحِيطَانِ وَنَصْبِ الدُّولاَبِ وأَمْثَاله وَأُجْرَةِ النَّاطُورِ وَجِدَادِ الثَّمَرَةِ وَرَدْمِ ثَلْمَةٍ يَسِيَرةٍ في طَرَفِ الجَدَارِ خِلاَفٌ. قال الرافعي: غرض الفصل بيان ما يجب على عامل المساقاة من الأعمال، وما لا يجب، وكل عمل تحتاج إليه الثمار لزيادتها أو إصلاحها ويتكَّرر كل سنة، فهو على العامل، وإنما اعتبر التكرار كل سنة؛ لأن ما لا يتكرر كل سنة يبقى أثره، وفائدته بعد ارتفاع المساقاة، وتكليف العامل مثل ذلك إحجاف به فمن هذا القبيل السقي، وما يتبعه من إصلاح طريق الماء والأجاجين (¬1) التي يقف فيها الماء، وتنقية الآبار، والأنهار من الحَمَأَة ونحوها، وإِدارة الدولاب، وفتح رأس الساقية، وسدها عند السقي على ما لا يقتضيه الحال، وفي تنقية النهر وجهان اخران: أحدهما: أنها على المالك كحفر أصل النهر. ¬
والثاني: عن أبي إسحاق المروزي: أنها على من شرطت عليه من المتعاقدين، فإن لم يذكراها فسد العقد وعنه تقليب الأرض بالمَسَاحى، وتكريتها في المزارعة. قال في "التتمة": وكذا تقويتها بالزبل، وذلك بحسب العادة، ومنها التلقيح (¬1) والطَّلع الذي يلقح به على المالك؛ لأنه عين مال، وإنما يكلف العامل العمل. ومنه تنحية الحشيش المضرّ (¬2)، والقضبان المضرة بالشجر. وذكر الشَّافعي -رضي الله عنه- تصريف الجريد، والجريد سعف النخل، وحاصل ما قاله الأزهري وغيره في تفسير تصريف الجريد شيئان: أَحدهما: قطع ما يضر تركه يابساً، وغير يابس. والثاني: ردّها عن وجوه العناقيد، وتسوية العناقيد بينها لتصيبها الشمس، وليتيسر قطعها عند الإدراك، ومنه تعريش الكَرْم حيث جرت العادة به. قال في "التتمة": ووضع الحشيش فوق العناقيد صوناً لها عن الشمس عند الحاجة. وفي حفظ الثمار وجهان: أحدهما: (¬3). وهو الذي ذكره ابن الصَّباغ وغيره أنه على العامل، كما أن حفظ المال في المضاربة على العامل، فإن لم يحفظ بنفسه فعليه مؤنة من يحفظ. وأقيسهما: أَنه على المالك والعامل جميعاً، بحسب اشتراكهما في الثمرة؛ وهذا لأَن الذي يجب على العامل ما يتعلّق باستزادة الثمار وتنميتها، ويجري الوجهان في حفظ الثمار عن الطيور والزَّنَابير بإن يجعل كل عنقود في قَوْصَرَّة، فيلزمه ذلك على الأظهر عند جريان العادة، والقوصرة على المالك. وفي جذاذ الثمار وجهان: أحدهما: أَنها لا تجب على العامل؛ لوقوعه بعد كمال الثمار. وأَصحهما: الوجوب، لأَن الصلاح به يحصل، وهذا ما أَورده الأَكثرون. وفي "الرقم" طرد الوجهين في تجفيف الثمار، والظاهر وجوبه إِذا اضطردت العادة به أَو شرطاه (¬4)، وإذا وجب التجفيف تهيئة موضع التجفيف وتسويته. ¬
ويسمى البَيْدَر والجرين، ونقل الثمار إِليه، وتقليبها في الشمس من وَجْه إِلى وجه وأمَّا مَا لا يتكرر كل سنة ويقصد به حفظ الأُصول، فهو من وظيفة المالك، وذلك: كحفر الأَنهار والآبار الجديدة،. والتي انهارت بها الحيطان، ونصب الأَبواب والدولاب ونحوها، وردم الثلم اليسيرة التي تنفق في الجدران فيه وجهان، كما في تنقية الأَنهار، والأَشبه اتباع العرف، وكذلك في وضع الشوك على رؤوس الجدران وجهان، والآلات التي يوفى بها العمل؛ كالفأَس، والمعول، والنجل، والمِسْحاة والثِّيران، والفدان في المزارعة، والثور الذي يدير الدولاب على المالك. وفيه وجه أَنها على من شرط المتعاقدين، ولا يجوز السكوت عنها، وهذا ما أَورده أَبو الفرج السَّرخسي في "الأَمالي"، ويحكى عن أَبي إِسحاق. وخراج الأرض الخراجية على المالك، وكذلك كل عَيْن تتلف في العمل بلا خلاف، وكل ما يجب على العامل يجوز له استئجار المالك عليه، ويجيء فيه وجه آخر. ولو شرط على المالك في العهد بطل العقد، وكذلك ما يجب على المالك لو شرط على العامل بطل العقد، ولو فعله العامل بغير إذن لم يستحق شيئاً، وإن فعل بإذن المالك استحق الأجرة. واعلم أن جميع ما ذكرناه مبني على الصحيح في أن تفصيل الأعمال لا يجب في العقد، فإن أوجبناه فالمتبع الشرط إلاَّ أنه لا يجوز أن يكون الشرط مغيراً وضعَ العقد هذا فقه الفصل. وأما ما يتعلق بالكتاب خاصة فليعلم قوله: وتنقية الآبار والأنهار-بالواو واعترض بعض من شرح هذا الكتاب في موضعين من الفصل: أحدهما: أن لفظ الكتاب، وتصريف الجرين، ورد الثمار إليه. والشافعي -رضي الله عنه- إنما ذكر تصريف الجريد بالدَّال قال: والصواب أن يكتب. وتصريف الجريد، وتسوية الجرين، ورد الثمار إليه. والثاني: أنه جعل الجذاذ من المختلف فيه، وأنه على العامل بالاتفاق، فلك أن تقول: أما الثاني فدعوى الاتفاق وهم، والوجهان مسطوران في "المهذب" و"التهذيب" و"الرقم" وغيرها. وأما الأول: فقد عرفت أن التجفيف قد يحوج إلى تسوية الجرين، وحمل التصريف على التسوية ليس يبعد فإذًا لا ضرورة إلى تغيير نظم الكتاب، وغايته أن يكون تصريف الجريد مسكوتاً عنه على أن قوله: "وتنحية الحشيش المضر، والقضبان" ما يفيد بعض معناه. وقوله: "وفي أجرة النَّاظور" المواد منه مؤنة الحفظ، والناظر والناظور حافظ الكروم، والجمع النّواظر ذكر أن النظرة هي الحفظ بالعين، وقد يقال: نَّاطُور بالطاء غير المعجمة.
قال الغزالي: وَإِذَا هَرَبَ العَامِل قَبْلَ تَمَامِ العَمَلِ اسْتَقْرَضَ القَاضِي عَلَيْهِ أَو أسْتَأْجَرَ مَنْ يَعْمَلُ عَليْهِ، فإِنْ عَمِلَ المَالِكُ بِنَفْسِه سَلَّم الثِّمَارَ للعَامِلِ وَكَانَ هُوَ مُتَبَرِّعاً، وكَذَا لَوِ أسْتَأْجَرَ عَلَيْهِ إِذْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ عَجَزَ عَنِ الحَاكِمِ فَكَمِثْلِ (و) إِنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَى الاسْتِئْجارِ، وَإِنْ أَشْهَدَ فَوَجْهَانِ، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ العَقْدَ إِذَا عَجَزَ وَيُسَلمِّ إِلى العَامِلِ أُجْرَةَ مِثْلِ مَا عَمِلَ قَبْلَ الهَرَبِ، فإِنْ تَبَرَّعَ أَجْنَبِيُّ بِالعَمَلِ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ إِذ قْدَ لاَ يَرْضَىَ بِدُخُولِهِ ملْكهُ، وإن عَمِلَ الأَجْنبِيُّ قَبْلَ أن يَشْعُرَ بِهَ المَالِكُ سَلَّمِ الثَّمَارَ لِلعَامِلِ وَكَانَ الأَجْنَبيُّ مُتَبرَّعاً عَلَيهِ لاَ عَلَى المَالِكِ. قال الرافعي: تصدّر المسأله بقول جملي، وهو أن بناء هذا الفصل، والذي يليه على أن المساقاة لازمة على ما مر لا كالقراض، ثم تقول: إذا هرب العامل قبل تمام العمل، ينظر إن تبرع المالك بالعمل، أو بمؤنته بقي إستحقاق العامل مجاناً، وإلاَّ رفع الأمر إلى الحاكم، وأثبت عنده المساقاة لينفذ في طلبه، فإن وجده أجبره على العمل؛ وإلاَّ استأجر عليه من يعمل، وممّ يستأجر؟ إن كان للعامل مال فمنه، وإلاَّ فإن كان بعد بُدُوِّ الصلاح باع نصيب العامل كله، أو بعضه بحسب الحاجة من المالك، أو من غيره، واستأجر بثمنه، وإن كان قبل بدو الصلاح. أما قبل خروج الثمرة، أو بعده استقرض عليه من المالك، أو من أجنبي، أو من بيت المال، واستأجر به ثم يقضيه العامل وإذا رجع، أو يقضي من نصيبه من الثمرة بعد بدو الصلاح، أو الإدراك، ولو وجد من يستأجره بأجرة مؤجلة توفي بالأجرة استغنى عن الاستقراض، وحصل الغرض، وإن عمل المالك بنفسه، أو أنفق عليه ليرجع، نظر إن قدر على مراجعة الحاكم فلم يفعل، فهو متبرع لا رجوع له، وإن لم يقدر، فإن لم يشهد عليه لم يرجع أيضاً؛ إلاَّ ألاَّ يمكنه الإشهاد ففيه وجهان، وربما حكى وجه مطلق. أنه يرجع، فإن أشهد، فأصح القولين أنه يرجع للضرورة. الثاني: لا يرجع، وإلاَّ صَارَ حاكماً لنفسه على غيره. وننبه هاهنا لفائدتين إحداهما: الوجهان في الرجوع إذا لم يمكنه الإشهاد قريبان من الوجهين فيما إذا أشهد للعجز عن الحاكم للعذر والضرورة. لكن الذي رجحه الجمهور أنه لم يشهد لا يرجع من غير فرق بين الإمكان وعدم الإمكان، ويجوز أن يكون سبيه أن عدم إمكان الإشهاد نادر لا يعتد به. الثانية: الإشهاد المعتبر أن يشهد على العمل أو الاستئجار، وأنه بذل ذلك بشرط الرجوع. وأما الإشهاد على ذلك من غير التعرُّض للرجوع فهو كترك الاشهاد، قاله من
"الشامل". وإذا أنفق المالك بأمر (¬1) الحاكم ليرجع ففيه وجهان: وجه المنع: أنه متهم في حق نفسه، فالطريق أن يسلمِّ المال إلى الحاكم ليأمر غيره بالإنفاق، ولو استأجره لباقي العمل ففيه وجهان أيضاً، بناء على ما لو أجر داره، ثم أكراها من المكتري. ومتى تعذر إتمام العمل بالاستقراض تمم بغيره، فإن لم تخرج الثمرة بعد؛ فللمالك فسخ العقد. وعن ابن أبي هريرة: أنه لا يفسخ، ولكن يطلب الحاكم من يساقي عن العامل، فربما يفضل لشيء. والمذهب الأول؛ لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه، فأشبه ما إذا أبق العبد المبيع قبل القبض، فإن خرجت الثمرة، فهي مشتركة، فإن بدأ الصلاح فيها بيع نصيب العامل كله، أو بعضه بقدر ما يستأجر به من يعمل، وإن لم يَبْدُ الصلاح فيها وقد تعذر بيع نصيبه وحده (¬2)؛ لأن شرط القطع في الشائع لا يغني. فإما أن يبيع المالك نصيبه معه يشترط القطع في الكل، وإما أن يشتري المالك نصيبه، فيجوز على أحد الوجهين في أن بيع الثمار قبل بدوّ الصلاح من صاحب الشجرة يستغني عن شرط القطع، فإن لم يرغب في بيع ولا شراء، وقف الأمر حتى يصطلحا. ويتفرع على ثبوت الفسخ قبل خروج الثمرة فرعان: أحدهما: إذا فسخ غرم للعامل أجرة مثل ما عمل. ولا يقال: تتوزع الثمار على أجرة مثل جميع العمل، إذا الثمار ليست موجودة (¬3) عند العقد حتى يقتضي العقد التوزيع فيها. والثاني: لو جاء أجنبي وقال: لا تفسخ لأعمل نيابة عن العامل، لم تلزمه الإجابة؛ لأنه قد لا يأتمنه ولا يرض بدخوله ملكه. نعم لو عمل نيابة عنه من غير شعور المالك حتى حصلت الثمار، سلم العامل نصيبه منها، وكان الأجنبي متبرعاً عليه. هذا ما ذكروه. وقيل: إذا وجد من يتبرع بالعمل كان كما ما لو وجد مال لم يستأجر منه، أو وجد من يقرض حتى لا يجوز للمالك الفسخ لكان قريباً. وقوله: في الكتاب، "ولو عجز عن الحاكم، فكمثل إن لم يشهد" يجوز أن يعلّم -بالواو- للوجه المطلق، وللوجه المخصوص بما إذا لم يشهد لعدم الإمكان. ¬
فرع
وقوله: "ثم له أنه يفسخ القعد" مطلق، لكن موضعه ما إذا لم تخرج الثمرة كما قرّرناه. كذلك أورده أكثرون. وفي "المهذب" أنه يفسخ، فإذا فسخ نظر إن لم تخرج الثمرة، فللعامل الأجرة، فإن خرجت فهي بينهما. وهذا يوافق إطلاق الكتاب، لكن لا يكاد يفرض للفسخ بعد خروج الثمار فائدة، ثم هو معلّم -بالواو- لوجه ابن أبي هريرة، والعجز عن العمل بالمرض ونحوه كالهرب. قال الغزالي: فَإِنْ مَاتَ العَامِلُ تَمَّمُ (و) الوَارِثُ العَمَلَ من تَرِكَتِهِ فإنْ لَمْ يَكُن تَركَةٌ فَلَهُ أن يُتَمِّم مِنْ مَالِهِ لِأَجْلِ الثِّمَارِ، فَإِنْ أَبَى (وم) لِمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ تَرِكَةٌ وَسلَّمَ إِليَه أُجرَةَ العَمَلِ المَاضِي وَفَسَخَ العَقْدَ لِلمُسْتَقْبَلِ. قال الرافعي: إذا مات مالك الأشجار في أثناء المدة لم تنفسخ المُسَاقاة، بل يستمر العامل على شغله، ويأخذ نصيبه من الثمار، وإن مات العامل في المُسَاقاة إما أن تكون واردة على عين العامل، أو في الذمة. إن وردت على عينه انفسخت بموته كما لو مات الأجير المعين تنفسخ الإجارة، وإن كانت في الذمة، فقد روى وجه أنها تنفسخ، وكأنه موجه بأنه ربما لا يرضى بيد غيره وتصرفه. والصَّحيح وعليه يتفرع كلام الكتاب أنها لا تنفسخ كالإجارة. وعلى هذا، فينظر إن خلف العامل تركة يقتسم تمّم الوارث العمل بأن يستأجر منها من يعمل وإلاَّ فإن أتم الوارث بنفسه، أو استأجر من ماله من يتمْ، فعلى المالك تمكينه إن كان أميناً مهتدياً إلى أعمال المُسَاقاة، ويسلم له المشروط، فإن أبي لم يجبر عليه. وعن رواية القاضي "أبي حامد" وصاحب "التقريب" وجه آخر أنه يجبر عليه لقيامة مقام المورث وحكى هذا عن مَالِكٍ. والمذهب الأول؛ لأن منافعه خالص حقه، وإنما يجبر على توفية ما على المورث من تركته. نعم لو خلف تركة وامتنع الوارث من الاستئجار منها استأجر الحاكم، وإن لم يخلف تركه، فلا يستقرض على الميت بخلاف الحي إذا هرب، ومهما لم يتم العمل، فالقول في ثبوت الفسخ، وفي الشركة وفصل الأمر إذا خرجت الثمار كما ذكرنا في الهرب. واعلم أن ما ذكرناه من انقسام المساقاة إلى ما يرد على العين، وإلى ما يتعلق بالذمة مبني على ظاهر المذهب في النوعين، وتردد بعضهم في صحة المساقاة على العين لما فيه من التضييق. فرع: نقل صاحب "التتمة" أنه إذا لم تثمر الأشجار أصلاً، أو تلفت الثمار كلها بجائحة
أو غصب فعلى العامل إتمام العمل، وإن تضرر به كما أن عامل القراض يكلف التنضيض وإن ظهر الخسران في المال، ولم ينل إلا التعب. وهذا أشبه مما ذكره في "التهذيب" أنه إذا هلكت الثمار كلها بالجائحة ينفسخ العقد، إلاَّ أن يزيد بعد تمام العمل، وتكامل الثمار. قال: وإن هلك بعضها، فالعامل بالخيار بين أن يفسخ العقد، ولا شيء له وبين أن يجيز ويتم العمل، ويأخذ نصيبه من الباقي. قال الغزالي: وَإِنْ ادَّعَى المَالكُ سَرِقَةً أَوْ خِيَانَةً عَلَى العَامِلِ فَالقَوْلُ قَوْلُ العَامِلِ فَإِنَّهُ أَمِينٌ، فَإِنْ ثَبَتَتْ خِيَانَتُهُ يُنْصَبُ (و) عَلَيْهِ مُشْرِفٌ وَعَلَيْهِ (و) أُجْرتُهُ إِنْ ثَبَتَ بالبَيِّنَةِ خِيَانَتُهُ، وإنْ لِمْ يُمْكَنْ حِفْظُهُ بِالمُشْرِفِ أُزيِلَتْ (م و) يَدهُ وَاسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ. قال الرافعي: دعوى المالك الخيانة والسرقة على العامل في الثمار، أو السعف لا تقبل حتى يبين قدر ما خان فيه، ويحرَّر الدعوى. فإذا حررها وأنكر العامل، فالقول قوله مع يمينه. وقوله في الكتاب: "فإنه أمين" قد يستدرك عليه فإن الأمانة غير مؤثرة في هذا الحكم بل القول قول المدعي عليه في نفي المدعى أميناً كان أو لم يكن فإن ثبتت خيانته بالبينة أو بإقرار، أو بيمين المالك بعد نكوله. فالذي ذكره المُزَنِيُّ في جواب المسائل التي فرعها على أصل الشَّافعي -رضي الله عنه- في "المختصر" أن يستأجر عليه من يعمل عنه. وقال في موضع آخر: يضم إليه أمين يشرف عليه، وبه قال مَالِكُ -رضي الله عنه- فجعلهما بعضهم قولين. والجمهور نزلوهما على حالين: إن أمكن حفظه بضم مشرف إليه قنع به وإلا أُزيلت يده بالكلية، واستؤجر عليه من يعمل عنه، وهذا ما أورده في الكتاب. ثم إذا استؤجر عليه فالأجرة في ماله؛ لأن العمل مستحق عليه. أما أجرة المشرف، فكذلك الجواب فيها على المشهور في: "التتمة" أن ذلك مبني على أن مؤنة الحفظ على العامل، وأن المقصود من ضم المشرف إليه الحفظ. أما إذا قلنا: أن الحفظ عليهما فكذلك أجرة المشرف، وإذا عرفت ما ذكرناه جاز لك إعلام قوله: "أزيلت يده واستؤجر عليه" بالميم، وكذلك بالواو، وصح قوله: "وينصب عليه مشرف" لطريقة القولين وقوله: "وعليه أجرته" لما ذكرناه في "التتمة" وقوله: "إن ثبت بالبينة خيانته" غير محتاج إليه، إذ لا فرق في وجوب الأجرة
عليه بين أن تثبت خيانته بالبينة، أو بالإقرار، أو اليمين بعد النكول. ذكر في "الوسيط" أن أجرة المشرف على العامل إن ثبت خيانته بإقراره أو بينته، وإلاَّ فعلى المالك فسوى بين البينة والإقرار. وقوله: وإلاَّ فعلى المالك فيه إشكال؛ لأنه إذا لم تثبت خيانته فما ينبغي أن يتمكن المالك من ضم المشرف إليه لما فيه من إبطال استقلاله باليد. قال الغزالي: فَإِنْ خَرَجَت الأَشْجَارُ مُسْتَحَقَّةَ فَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ عَمَلهِ عَلَى الغَاصِبِ، فَإِنْ كَانَتَ الثِّمَارُ بَاقِيَةً أَخَذَهَا المُسْتَحِقُّ، فَإِنْ تَلَفَ غُرِّمَ العَامِلُ مَا قبَضَهُ لنَصِيبهِ ضمَانَ (و) المُشْتَرىَ فَإنَّهُ أَخَذَهُ في مُعَاوَضَةِ، وَنَصِيبِ المُسَاقِي، وَكذَا الأَشْجَارُ إِذَا تَلِفَتْ يُطَالَبُ بِهَا الغَاصِبُ، وفي مُطالَبَةِ العَامِلِ بِهَا وَجْهَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ يَدَهُ لَمْ يَثبُتْ عَلَيْهِ مَقْصُوداً بِخِلاَفِ المُودِعِ، فإِنْ طُولِبَ رَجَعَ (و) بِهِ عَلَى الغَاصِبِ رُجُوعَ المودِعِ. قال الرافعي: الأشجار التي وردت المساقاة عليها إذا خرجت مستحقة أخذها المالك مع الثمار إن كانت باقية، وإن جففاها، ونقصت القيمة بالتجفيف استحق الأرضَ أيضاً، ويرجع العامل على الغاصب الذي ساقاه بأجرة المثل، كما غصب نقرة فأستأجر رجلاً ليضر بها دراهم يأخذها المالك، ويرجع الضراب بالأجرة على الغاصب. وفيه وجه أنه لا أجرة له تخريجاً على قولي الغرور؛ لأنه هو الذي أتلف منفعه نفسه وتشبيهاً بفوات الثمار بالاستحقاق بفواتها في المساقاة الصحيحة بجائحة، وإن اقتسما الثمار واستهلكاها. فأما نصيب العامل فالمالك بالخيار بين أن يطالب بضمانة الغاصب، أو العامل وقرار الضمان على العامل؛ لأنه أخذه عوضاً في معاوضة، فأشبه المشتري من الغاصب وذكر في "التتمّة" أن بعض الأصحاب ذكر في المسألة على ما إذا أطعم الغاصب المالك الطعام المغصوب، فيجيء من هذا وجه أن القرار على الغاصب. وأما نصيب الغاصب فللمستحق مطالبته بها، وفي مطالبة العامل وجهان: أظهرهما: عند المعظم المطالبة بثبوت يده عليها، كما لا يطالب عامل القراض إذا خرج مال القراض مستحقًّا، وكما يطالب المودع من الغاصب. والثاني: المنع؛ لأن يده لم تثبت عليه مقصوداً بخلاف المودع، بل يد العامل مستدامة حكماً، وهو نائب في الحفظ والعمل كأجير يعمل في حديقة. وعلى الوجهين يخرج ما إذا تلفت جميع الثمار قبل القسمة بجائحة، أو عصب فإن أثبتنا يد العامل عليها، فهو يطالب بضمانها وإلاَّ فلا، ولو تلف شيء من الأشجار،
فروع
ففيه هذان الوجهان. وإذا قلنا بأن العامل مطالب بنصيب الغاصب، فهذا غرمة ففي رجوعه على الغاصب الخلاف المذكور في رجوع المودع، والظاهر أنه يرجع، وهذا الذي ذكره صاحب الكتاب ومواضع العلامات في الفصل غير خافية. ومنها: قوله: "ضمان المشتري" فإنه قصد الإشارة به إلى الاستقرار. وفيه ما حكاه صاحب "التتمة". وقوله: "ونصيب المساقي" أراد به هاهنا الغاصب الذي هو في صورة المالك، وقد يسمى العامل مساقياً؛ لأن كل واحد من المفاعلة مفاعل، ولو حذف لفظ الغاصب من قوله: "يطالب به الغاصب" لكان أقرب إلى الفهم؛ لأنه إذا اختلف اللفظ أذهب الوهم إلى اختلاف المعنى، والمراد من المُسَاقي هو الغاصب. قال الغزالي: وَإِنَ اخْتَلفَ المُتَعَاقِدَانِ في قَدْرِ الجُزْءِ المشْرُوطِ تَحَالَفَا (م) كمَا في القِرَاضِ. قال الرافعي: إذا اختلف المتعاقدان في قدر المشروط للعامل، ولا بَيَّنة تحالفا، كما ذكرنا في "القراض" ولذا تحالفا وتفاسخا قبل العمل فلا شيء للعامل، وإن كان بعده، فللعامل أجرة مثل عمله. وعن مالك -رضي الله عنه- أنهما لا يتحالفان بعد العمل، بل القول قول العامل وعن أحمد: أن القول قول المالك، وإن كان لأحدهما بيِّنة قضى بهما، فإن كان لكل واحد منهما بينة، فإن قلنا بالتهاتر وهو الأصح فكما لو لم تكن بينة فيتحالفان. وإن قلنا بالاستعمال فيقرع بينهما، ولا يجرى قول الوقف، والقسمة؛ لأن الاختلاف في العقد، والعقد لا يوقف ولا يقسم، وقيل يجيء قول القسمه في القدر المختلف فيه، فينقسم بينهما نصفين. ولو ساقاه شريكان في الحديقة، ثم قال العامل: شرطتما لي نصف الثمار وصدقه أحدهما. وقال: الثاني بل شرطنا الثلث، فنصيب المصدق يقسم بينه وبين العامل، وفي ونصيب المكذب الحكم بالتحالف. ولو شهد المصدق للمكذب، أو للعامل قُبِلَت شهادته؛ لأنه لا يجر بها نفعاً، ولا يدفع بها ضرراً، وإذا اختلف في قدر الأشجار المعقودة عليها، أو في رد شيء من المال، أو هلاكه، فالحكم على ما ذكرنا في القراض. فروع: أحدهما: أذا بدأ الصلاح في الثمرة، فإن وثق المالك بالعمل؛ تركها في يده إلى وقت الإدراك، فيقسمان حينئذ إن جوَّزناها، أو يبيع أحدهما نصيبه من الثاني، أو يبيعان من ثالث، فإن لم يثق به، وأراد تضمينه التمر أو الزبيب، فيبنى على أن الخرص عبرة
أو تضمين أن جعلتا عبره لم يجز، وإن جعلنا تضمين، فالأصح جوازة كما في الزكاة. وقد روى النبي -صلى الله عليه وسلم- (أنه خرص على أهل خيبر) وقيل: لا يجوز لأنه بيع الرطب بالتمر مع تأخر أحد العوضين، ويخالف الزكاة؛ لأنها مبنية على المسامحة، وكذا قضية خيبر؛ لأنه يتسامح في معاملات الكفار ما لا يتسامح في غيرها. ويجري الخلاف فيما لو أراد العامل تضمين المالك بالخرص. الثاني: إذا انقطع ماء البستان، وأمكن رده، ففي تكليف المالك السقي وجهان: أحدهما: لا يكلف كما لا يجبر أحد الشريكين على عمل العمارة (¬1)، وكما لا يجبر المكري على عمارة الدار المكراة. والثاني: يكلف؛ لأنه لا يتمكن العامل من العمل إلاَّ به، فأشبه ما إذا استأجره لقصارة ثوب بعينة يكلف تسليمه إليه، فعلى هذا لو لم يسع في رده لزمه للعامل أجرة عمله، فإن لم يمكن رد الماء، فهو كما لو تلفت الثمار بجائحة (¬2). الثالث: السواقط وهي السقف التي تسقط من النخل يختص بها المالك وما يتبع الثمرة فهو بينهما. قال الشيخ "أبو حامد": ومنه الشَّمَاريخ. الرابع: دفع بهيمته إلى غيره ليعمل عليها، وما رزق الله عزّ وجلّ، فهو بينهما فالعقد فاسد؛ لأن البهيمة يمكن إجارتها، فلا حاجة إلى إيراد عقد عليها فيه غرر. ولو قال: تعهد هذه الأغنام على أن يكون لك دَرّها ونسلها بيننا، فكذلك لأن النماء (¬3) لا يحصل بعمله. ولو قال: اعتلف هذه من عندك، ولك النصف من درها، ففعل وجب بدل العلف على صاحب الشاة، والقدر المشروط من الدَّر لصاحب العلف مضمون في يده لحصوله بحكم بيع فاسد، والشاة غير مضمونة؛ لأنها غير مقابلة بالعوض، ولو قال: خذ هذه الشاة، واعلفها لتسمن، ولك نصفها، ففعل فالقدر المشروط منها لصاحب العلف مضمون عليه دون الباقي. الخامس: قال في "التتمة": إن كانت المساقاة في الذمة، فالمعامل أن يعامل غيره لينوب عنه ثم، إن شرط له من الثمار مثل ما شرط المالك له أو دونه فذاك، وإن شرط ¬
له أكثر من ذلك، فعلى الخلاف في تفريق الصفقة إن جوزناه وجبت للزيادة أجرة المثل، وإن لم نجوزه، فالجميع له، وإن كانت المساقاة على عينه لم يكن له أن ينيب، ويعامل غيره، فلو فعل انفسخت المساقة بشركة العمل، وكانت الثمار كلها للمالك، ولا شيء للعامل. والعامل الثاني إن كان عالماً بفساد العقد فلا شيء له، وإلاَّ ففي استحقاقه أجرة المثل ما ذكرناه في خروج الثمار مستحقة.
كتاب الإجارة
كِتَابُ الإِجَارَةِ قال الغزالي: وَفِيهِ ثَلاثةُ أَبْوَابٍ: البَابُ الأَوَّلُ فِي أَرْكَانِ صَحَّتِهَا وَهِيَ بَعْدَ العَاقِدَيْنِ ولاَ يُخّفِي أَمْرُهُمَا ثَلاَثةٌ الأَوَّلُ الصِّيغَةُ وَهِيَ أَنْ يَقُولَ: أَكْرَيْتُكَ الدَّار أَوْ أَجَّرْتُكَ فَيَقُولُ: قَبِلْتُ، وَيَقُومُ مَقَامَهُمَا (و) لَفْظُ التَّمْلِيكِ وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يضِيفَ إلَى المَنْفَعَةِ فَيَقُولَ: مَلَّكْتُكَ مَنْفَعَةَ الدَّارِ شَهْراً، وَالظَّاهِرُ (و) أَنَّ لَفْظَ البَيْعِ لاَ يَقُومُ مَقَامَ التَّمْلِيِكِ لأنَّهُ مَوْضُوعٌ لِمِلْكِ الأَعْيَانِ. قال الرافعي: نفتتح الباب بمقدمات: إحداها: أنه سيعمل في هذا العقد لفظتان: إحداهما: الإجارة، وهذا اللفظة وإن اشتهرت في العقد، فهي في اللغة اسم للأجرة، وهي كراء الأجير وذكر "ابن الصباغ" (¬1) في "الشامل" أنه يقال لها: إجارة أيضاً -بالضم- ويقال: استأجرت دار فلان، وأجر لي داره ومملوكه يؤجرها إيجاراً، فهو مؤجر وذاك مؤجر، ولا يقال: مؤاجر ولا آجر. أمَّا المؤاجر فهو من قولك: أجر الأجير مؤاجرة كما يقال: زارعه وعامله، وآجر هذا "فاعل" وإجر داره أفعل فاعل، ولا يجر منه مفاعل. وأمَّا الأجر فهو فاعل من قولك: أجره يأجره ويأجيره ويأجره أجرًا إذا أعطاه أجراً، وقولك: أجره يأجره إذا صار أجيراً له. وقوله تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] فسره بعضهم بالمعنى الأول، فقال: تعطيني من تؤويجي إياك رعي الغنم هذه المدة، وبعضهم بالثاني فقال تصير أجرى وإذا استاجرت عاملة لعمل فأنت آجر بالمعنى الأول؛ لأنَّك تعطي الأجرة، وهو أجر بالمعنى الثاني؛ لأنّه يصير أجيراً لك، وأجره إليه لغة في آجره، أي: أعطاء أجره، ولأجير فعيل بمعنى مفاعل، كالجليس والنديم، هذا تلخيص ما ذكره أئمة ¬
اللغة (¬1). والثانية: الإكراء يقول: أكريت الدار فهي مكراة، ويقال: اكتريت واستكريت وتكاريت بمعنى، ورجل مكاري والكرى على فعيل المكاري والمكتري أيضاً والكراء، وإن اشتهر اسماً للأجرة فهي في الأصل مصدر كاريت. المقدمة الثانية: أصل هذا العقد من الكتاب قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقصة موسى وشعيب -عليه السلام- ومن الخبر نحو قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أَعْطُوا الأَجِيْرَ أُجْرَتَهُ قَبْلَ إِنْ يِجَفَّ عَرَقُهُ) (¬2). ومن الأثر فيما روى أن عليّاً عليه السلام: (آجَرَ نَفْسَهُ مِنْ يُهُودِيِّ يَسْتَقِي لَهُ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرةً) (¬3). ثم الحاجة داعية إليه ظاهرة، وهو متفق على صحته، إلاَّ ما يحكى فيه عبد الرحمن بن كيسان الأصم (¬4). ¬
والفاشاني (¬1). مقدمة أخرى اختلف الأصحاب في أن العقود عليه في الإجارة ماذا؟ فمن أبي إسحاق وغيره أن المعقود عليه العين ليستوفي منها المنفعة؛ لأنَّ المنافع معدومة، ومورد العقد يجب أن يكون موجوداً، وأيضاً فإن اللفظ مضاف إلى العين، أَلا تَرىَ أنّك تقول: أجرتك هذه الدار؟ وقال المعظم: العين غير معقود عليها؛ لأنّ المعقود عليه ما يستحق بالعقد، ويجوز التصرف فيه، والعين ليست كذلك، فإن المعقود عليه المنفعة، وبه قال أحمد وأبو حنيفة -رضي الله عنه- ومالك، وعليه ينطبق قول الجمهور أن الإجارة تمليك المنافع به بعوض، ثم حققوا ذلك بأن عين الثوب مثلاً تتعلّق به ثلاثة أمور: أحدها: صلاحيته لأن يلبس. والثاني: الفائدة الحاصلة باللبس كاندفاع الحر والبرد. الثالث: نفس اللبس المتوسط بينهما، واسم المنفعة يقع عليهما جميعاً، ومورد العقد المستحق إِنما هو الثالث، ويشبه إلاَّ يكون ما حكيناه خلافاً محققاً، لأن من قال: المعقود عليه العين لا يعني به أن العين تملك بالإجارة كما تملك بالبيع، أَلاَ تَرىَ أنه قال: المعقود عليه العين لاستيقاء المنفعة؟ ومن قال: المعقود عليه المنفعة لا يقطع الحق عن العين بالكلمة، بل له تسلم العين وإمساكها مدة العقد لينتفع بها. وإذا عرفت هذه المقدمات فلإجارة تنقسم إلى صحيحة، وإلى غيرها، وإذا صحت ترتب عليها أحكام، ودامت إلى انتهاء مدتها إلاَّ أن يعرض ما يقتضي فسخاً أو انفساخاً، فالكلام في ثلاثة مقاصد أدرجها المصنف في ثلاثة أبواب: أحدها: في أركان صحة الإجارة. والثاني: في أحكامها إذا صحت. والثالث: في العوارض المقتضية للفسخ والانفساخ. أمَّا الباب الأول: فقد نخطر لك أولاً أنه ترجمه بأركان الصحة، فأضاف الأركان إلى الصحة، وكذلك فعل في القراض، وأضاف في البيع، وأكثر العقود الأركان إلى نفسها، فهل لذلك من سبب؟ ¬
والجواب: أنه لا فرق بين عقد وعقد في الأمور المسماه أركاناً فإذا أُضيفت إلى نفس العقد، فعلى المعنى الذي حكيناه عن "الوسيط" في أول البيع، وإن أُضيفت إلى الصحة، فعلى المعنى الذي ذكرناه آخراً هناك، وهي أنها أمور معتبرة في الصحة على صفة مخصوصة. وثانيها: أنه عد الأركان دون العاقدين ثلاثة، وفي البيع مع المتعاقدين ثلاثة، وسببه أنه في البيع أخذ المعقود عليه بمطلقه ركناً، وأنه يشمل العوضين، وهاهنا جعل كل واحد منهما ركناً برأسه، ولا فرق في الحقيقة وقوله: "في العاقدين، ولا يخفى أمرهما" أشار به إلى ما يعتبر فيهما من العقل والبلوغ، كما تقدم في سائر التصرفات. الركن الأول: الصيغة وهي أن تقول: أكريتك هذه الدار، أو أجرتكها مدة كذا بكذا، فيقول على الأتصال قبلت أو أستاجرت أو اكتريت (¬1). ولو أضافهما إلى المنفعة فقال: أكريتك منافع هذه الدار، أو أجرتكها فوجهان: أظهرهما: وبه أجاب في "الشامل" أنه يجوز، ويكون ذكراً لمنفعة ضرباً من التأكيد، كما لو قال: بعتك عين هذه الدار (¬2) ورقبتها يصح البيع. والثاني: المنع، وهو الذي أورده (¬3) في الكتاب؛ لأن لفظ الإجارة وضع مضافاً إلى العين، وإن كان العقد في الذمة، فقال: ألزمت ذمتك كذا، فقال قبلت جاز، وأغنى عن الإجارة والإكراء، وإن تعاقدا بصيغة التمليك، نظر: إن أضافها إلى المنفعة، فقال: ملكتك منفعتها شهراً جاز؛ لأن الإجارة تمليك منفعة بعوض. ولو قال: بعتك منفعة هذه الدار شهراً، فأحد الوجهين، وبه قال ابن سريج: أنه يجوز؛ لأن الإجارة صنف من البيع. وأظهرهما: المنع؛ لأن البيع موضوع لملك الأعيان، فلا يستعمل في المنافع، كما لا ينعقد البيع بلفظ الإجارة هذا هو النقل الظاهر. وقوله والمذكور في الكتاب: وورائه شيئان غريبان: أحدهما: طرد صاحب "التهذيب" الوجهين في قوله: "بعتك هذه الدار" فيما لو قال: ملكتك منفعتها. ¬
والثاني: حكى أبوُ العبَّاس الروياني طريقة قاطعة بالمنع فيما إذا قال بعتك منفعة هذه الدار، ويجوز أن يعلم للأول قوله في الكتاب: "ويقوم مقامها لفظ التمليك"، ولو قال: ملكلتك أو بعتك هذه الدار لم تنعقد به الإجارة. قال الغزالي: الرُّكُنُ الثَّاني: الأُجْرَةُ فإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ فَهِيَ كَالثَّمَنِ حَتَّى يَتَعَجَّلَ (ح م) بِمُطْلَقِ العَقْدِ، وإِنْ كَانَ مُعَيّناً فَهُوَ كَالمَبِيع فَيُرَاعِي شَرَائِطَهُ فَلَوْ أَجَّرَ دَاراً بِعَمارَتها أَوْ بِدَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ بِشَرْطِ صَرْفَها إِلىَ العِمَارَةِ بِعَمَلِ المُسْتَأْجِرِ فَهُوَ فَاسِدٌ لأَنَّ العَمَلَ في العِمَارَة مَجْهُولٌ، وَلَوْ كَانَتِ الأُجْرَةُ صُبْرَةً مَجْهُوَلةً جَازَ كَمَا فِي البَيْعِ، وَقِيلَ: إنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا في رَأْس مَالِ السِّلَمِ. قال الرافعي: الأجارة تنقسم إلى: واردة على العين، كما إذا استأجر دابة بعينها (¬1) ليركبها، أو يحمل عليها، أو شخصاً بعينه لخياطة ثوب. وإلى واردة على الذمة كما إذا استأجر دابة موصوفة للركوب، أو للحمل، أو قال: الزمت ذمتك خياطة ثوب أو بناء جدار فقبل. وقوله: استأجرتك لكذا أو لتفعل كذا وجهان. أظهرهما: أن الحاصل به إجارة عين للإضافة إلى المخاطب، كما لو قال: استأجرت هذه الدابة. والثاني: ويحكى عن اختيار القاضي حُسَيْنٍ أن الحال الحاصل إجارة في الذمة، لأن المقصود حصول العمل من جهة المخاطب، فكأنه قال: استحققت عليك كذا، وإنما تكون إجارة عين على هذا إذا زاد فقال استأجرت عينك أو نفسك لكذا، أو لتعمل بنفسك كذا. وإجارات العقارات لا تكون إلاَّ من القسم الأول؛ لأنها لا تثبت في الذمة، ألاَ تَرىَ أنه لا يجوز السّلم في دار ولا أرض. إن وردت الإجارة على العين لم تجب الأجرة في المجلس؟ كما لا يجب الثمن في البيع، ثم إن كانت في الذمة فهي كالثمن في الذمة في جواز الاستبدال، وفي أنه إذا شرط فيها التأجيل أو التنجيم كانت مؤجلة أو منجمة، وإن شرط التعجيل كانت معجلة، وإن أطلق ذكرها تعجلت أيضاً، وملكها المكري بنفس العقد، واستحق استيفاءها إذا سلم العين إلى المستأجر، وبهذا قال أحمد. ¬
وقال أبو حنيفة ومالك: لا تملك الأجرة عن الإطلاق بنفس العقد، كما لا يملك المستأجر المنفعة، فإنها معدومة، ولكن يملكها شيئاً فشيئاً، كذلك الأجرة، إلاَّ أن المطالبة كل لحظة مما يعسر، فضبط أبو حنيفة باليوم، وقال: كلما مضى يوم طالبه بأجرته، وهذا رواية عن مالك -رضي الله عنه- قال في رواية: لا يستحق أخذ الأجرة حتى تنقضي المدة بتمامها. لنا أن الأجرة عوض في معاوضة تتعجَّل بشرط التعجيل، فتتعجل عند الإطلاق كالثمن، وكذلك تقول: يملك المستأجر المنفعة في الحال، وينفذ تصرفه فيها، إلاَّ أنها تستوفي على التدريج. وقولهم بأنها معدومة يشكل بما إذا شرط التعجيل، فإن الشرط لا يجعل المعدوم موجوداً. ثم قال: الأصحاب المنافع إمَّا موجودة، وإمَّا ملحقة بالموجودات، ولهذا صح إيراد العقد عليها، وجاز أن تكون الأجرة ديناً في الذمة، ولولا أنها ملحقة بالموجودات لكان ذلك في معنى بيع الدَّين بالدَّين. ويجب أن تكون الأجرة معلومة القدر، والوصف كالثمن إذا كان في الذمة (¬1)، وقد روي أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: (مِنْ اسْتِأْجَرَ أَجِيْراً فَلْيُعْطِهِ أَجْرَهُ) (¬2). فلو قال: اعمل كذا لأرضيك أو أعطيك شيئاً، وما أشبهه فسد العقد، وإذا عمل استحق أجرة المثل، ولو استأجر أجيراً بنفقته، أو كسوته فسد، خلافاً لمالك وأحمد حيث قالا: تجوز ويستحق الوسط. ولأبى حنيفة في المرضعة خاصة. لنا: القياس على عوض البيع والنكاح، وإن استأجر بقدر معلوم من الحِنْطَةِ أو الشعير، ووصفه كما يجب في السلم جاز، أو بأرطال من الخبز يبنى على جواز السلم في الخبز. ولو أجَّر الدار بعمارتها أو الدابة بعلفها، أو الأرض بخراجها أو مؤنتها لم يجز، ¬
وكذلك لو أجَّرها بدراهم معلومة على أن يعمرها، ولا يحسب ما أنفق من الدراهم، وكذا لو أجَّرها بدراهم معلومة على أن يصرفها في العمارة؛ لأن الأجرة الدراهم والصرف إلى العمارة، والعمل في الصرف مجهول، وإن كانت الدراهم معلومة. ثم إذا صرفها إلى العمارة ثم رجع بها، ولو أطلق العقد، ثم أذن له في الصرف إلى العمارة، وتبرع به المستأجر جاز. فإن اختلفا في ما أنفقه، فقولان في أن القول قول من؟ (¬1) ولو سلم إليه ثوباً، وقال: إن خطته اليوم، ذلك درهم، وإن خطته غداً فلك نصف درهم، فالعقد فاسد، والواجب أجرة مثله في أي يوم خاطه. وقال مالك وابو حنيفة: إن خاطه اليوم استحق درهماً، وإن خاطه غداً استحق أجرة المثل، وإن قال: إن خطته روميّاً فلك درهم، وإن خطته فارسياً فنصف درهم فهو فاسد، خلافاً لأبي حنيفة. والخياطة الرومية بغرزتين، والفارسية بغرُزة. وإذا شرط التأجيل في الأجرة فحل الأجل وقد تغير النقد، فالاعتبار بنقد بيوم العقد، وفي الجعالة الاعتبار بيوم اللفظ، أو بيوم تمام العمل، حكى الإمام فيه وجهين؛ أصحهما: الأول. ووجه الثاني: أن الاستحقاق يثبت بتمام العمل. هذا إذا كانت الأجرة في الذمة، فإن كانت معينة ملكت في الحال كالمبيع، واعتبرت فيه، الشرائط المعتبرة في البيع، حتى لو جعل الأجرة جلد شاة مذبوحة قبل السَّلخ لم يجز؛ لأنه لا يعرف حاله في الرَّقة والثَّخانة، وسائر الصفات قبل السلخ. وهل تغني مشاهدتها عن معرفة القدر؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه على القولين في رأس مال السلم؛ لأن الإجارة تعرض للفسخ والانفساخ، لتعذر استيفاء المنافع كالسلم لانقطاع المسلم فيه. والثاني: القطع بالجواز؛ لأن المنافع ملحقة بالأعيان الموجودة لتعلقها بالعين الحاضرة، وكيف ما كان فالظاهر الجواز، هذا في إجارة العين. النوع الثاني: الإجارة الواردة على الذمة، فلا يجوز فيها تأجيل الأجرة والاستبدال ¬
عنها، ولا الحوالة بها ولا عليها ولا الإبراء، بل يجب التسليم في المجلس، كرأس مال السلم؛ لأنه سلم في المنافع، فإن كانت الأجرة مشاهدة غير معلومة القدر، فهي على القولين في رأس مال السلم، ولا يجئ هاهنا الطريق الآخر، هذا إذا تعاقدا بلفظ السلم بأن قال: أسلمت إليك هذا الدينار في دابة تحملني إلى موضع كذا فإن تعاقدا بلفظ الإجارة بأن قال: استأجرت منك دابة، صفتها كذا لتحملني إلى موضع كذا فوجهان، بنوهما على أن الاعتبار باللفظ أم بالمعنى؟ أصحهما: عند العراقيين والشيخ أبِي عَلِيٍّ أن الحكم كما لو تعاقدا بلفظ السلم؛ لأنه في المعنى، وتابعهم صاحب "التهذيب" على اختيار هذا الوجه، لكنه لا يلائم مصيره فيما إذا أسلم بلفظ الشراء، إلى أن الأصح اعتبار اللفظ ولعلك تقول: حكيتم اختلاف الأصحاب في أن أصح الوجهين ماذا في السلم بلفظ الشراء، وكذلك فيما نحن فيه اختار مختارون اعتبار اللفظ وفيما إذا اشترى بلفظ السلم ذكرتم أن أظهر القولين بطلان العقد، والأئمة كالمتفقين عليه فهل من فارق؟ والجواب: أن المسائل التي بنوها على هذا الأصل كثيرة، لكنها متنوعة. فمنها: أن يستعمل اللفظ فيما لا يوجد فيه تمام معناه، وإن كان بينهما بعض التشابه كالشراء بلفظ السَّلم، فإن تمام معنى السلم لا يوجد في البيع؛ لأنه أخص منه: ومنها: أن يكون آخر اللفظ رافعاً لأوله كقوله: لا بلا ثمن. ومنها: أن يكون الشيء. الأصلي اللفظ مشترك بين خاصين، يشتهر اللفظ في أحدهما، ثم يستعمل في الثاني، كالسلم بلفظ الشراء، فإن المعنى الأصلي للشراء موجود بتمامه في السلم إلاَّ، أنه اشتهر في شراء الأعيان، وكذلك السَّلم في المنافع بلفظ الاستئجار المشهور في إجارة العين، فيشبه أن يقال الصيغة مختلفة (¬1) في النوع الأول والثاني، ومنتظمة صحيحة الدلالة على المقصود في النوع الثالث، فيعتبر المعنى، ولا يخفى عليك بعد الشرح أن مسائل الكتاب في الفصل واقعة في النوع الأول من الإجارة. ويجوز أن تكون الأجرة منفعة عين أخرى اتفق الجنس، كما إذا أجَّر داراً بمنفعة دار أخرى، أو اختلفت كما إذا أجَّرها بمنفعة عبد، خلافاً لأبي حنيفة فيما إذا اتفق الجنس، بناء على أن الجنس الواحد يحرم النَّسَاءِ، وفي الإجارة نَسَاء. وعندنا لا رِبَا في المنافع أصلاً، حتى لو أجَّرَ داراً بمنفعة دارين يجوز، وكذلك لو أجّر، حُلِيًّا ذهباً بذهب، ولا يشترط القبض في المجلس. ¬
قال الغزالي: وَلَو اسْتَأْجَرَ السِّلاَحَ بالجِلْدِ وَالطِّحَانَ بالنَّخَالَةِ أَوْ بِصَاع مِنَ الدَّقِيقِ فَسَدَ لِنَهْيِه عَلَيْهِ الصَّلاة وَالسَّلاَمُ عَنْ قَفِيزِ الَطِّحَانِ وَلأنَّهُ بَاعَ مَا هُوَ مُتَّصِلَ بمِلْكَهِ فَهُوَ كَبَيْعِ نِصْفٍ مِنْ سَهْمٍ، وَلَوْ شَرَطَ لِلمُرْضِعَةِ جُزءاً مِنَ المُرْتَضِع الرَّقِيِقَ بَعْدَ الفِطَام، وَلَقَاطِفِ الثِّمَارِ جزءاً مِنَ الثِّمَار المَقْطُوفَةِ فَهوَ أَيْضَاً فَاسِدٌ، وَإِنْ شَرَطَ جزءاً مِنَ الرَّقِيقِ في الحَالِ أَوْ مِنَ الثِّمَارِ في الحَالِ فَالقَيَاسُ صَّحِتُهُ (و)، وَظَاهرُ كَلاَم الأَصْحَابِ دَالٌّ عَلَى فَسَادِهِ حَتَّى مَنَعُوا اسْتِئْجَارِ المُرْضِعَة عَلَى رَضِيعٍ لَهَا فِيهِ شِرْكٌ لأِنَّ عَمَلَهَا لاَ يَقَعُ عَلَى خَاصِّ مِلْكِ المُسْتَأْجِرِ. قال الرافعي: لا يجوز أن تجعل الأجرة ما يحصل بعمل الأجير، كما إذا استأجر السَّلاَّح لِسَلْخ الشاة بجلدها، أو الطحان ليطحن الحِنْطة (¬1) بثلث دقيقها، أو بصاع منه أو بالنخالة أو المرضعة بجزءٍ من الرقيق المرتضع بعد الفِطَام، أو قَاطِف الثمار بجزء من الثمار بعد القِطَاف، أو النَّسَّاج لينسج الثوب بنصفه، والمستحق للأجير في هذه الصور أجرة مثل عمله، وهو موجه أولاً بالخبر، حيث روى أنه -صلى الله عليه وسلم- (نَهىَ عَنْ قِفَيزِ الطَّحَّانِ) (¬2). وتفسيره: استئجار الطَّحان ليطحن الحنطة بِقَفِيْزٍ من دقيقها. ثم وجه ثانياً بثلاثة أوجه: أحدها: أن المجهول أجره متصل بغيره، فهو كبيع نصف من سهم أو نصل، وهذا قد ذكره في الكتاب، وسمى جعله أجرة بيعاً حيث قال: "باع ما هو متصل بملكه"؛ لأنه في معناه، ولك أن تقول: هذا إن اشتهر في الجلد لا يستمر في الجزء المشاع، والحكم لا يختلف، فإن كنا نقنع بما لا يطرد في هذا القبيل، ففي المسائل بالفساد مأخذ أظهر من هذا، كمسألة السلاح، فإن الجلد قبل السلخ مجهول، ولا يجوز جعله أجرة مطلقاً كما سبق، وكمسألة النخالة، فإنها مجهولة المقدار، وإذا شرط صاعاً من الدقيق، فإن كانت الجملة مجهولة، فهو كبيع صاع من صُيْرَةٍ مجهولة الصِّيْعَان، وقد ¬
مر وفي مسألة الرقيق الرضيع، وقِطَاف الثمار شيء آخر، وهو أن الأجرة معينة، وقد أجلها بأجل مجهول، والأعيان لا تؤجل بالآجال المعلومة، فكيف بالمجهولة؟ والثاني: أن عمله لا يقع للمستأجر في محل ملكه خاصة بل لنفسه وللمستأجر، وفي ملكيهما، والشرط في الإجارة وقوع العمل في خاص ملك المستأجر. وهذا قد ذكره صاحب الكتاب أيضاً في آخر الفصل، وسيأتي الإشكال عليه. والثالث: أن الأجرة غير حاصلة في الحال على الهيئة المشروطة، وإنما تحصل بعمل الأجير من بعد، فهي إذاً غير مقدور عليها في الحال. ولو استأجر المرضعة بجزء من الرقيق في الحال، أو قَاطِف الثمار بجزء منها على رؤوس الأشجار، فحكاية الإمام وصاحب الكتاب عن الأصحاب المنع أيضاً، توجيهاً بأن عمل الأجير ينبغي أن يقع في الخاص ملك المستأجر، وإنهم خرجوا على هذا أنه لو كان الرضيع ملكًا لرجل وامرأة، فاستأجرها الرجل، وهي مرضع لترضعه بجزء من الرقيق أو غيره لم يجز؛ لأن عملها لا يقع في خاص ملك المستأجر، واعترضا عليه بأن القياس والحالة هذه الجواز، ولا يضر وقوع العمل في المحل المشترك، ألاَّ تَرىَ أن أحد الشريكين لو ساقى صاحبه، وشرط له زيادة في الثمار يجوز، وإن كان عليه يقع في المشترك؟ وظاهر المذهب هذا الذي مالا إليه دون ما نقلاه. قال في "التهذيب": لو استأجر أحد الشريكين في الحِنْطة صاحبها ليطحنها، أو في الدابة ليتعهدها بدرهم جاز، ولو قال: استأجرتك بربع هذه الحنطة، أو بصاع منها لتطحن الباقي. فالجواب: في "التهذيب" والتتمة الصحة، ثم يتقاسمان قبل الطحن، فيأخذ الأجرة، ويطحن الباقي. قال في "التتمة": فإن شاء طحن الكل، والدقيق مشترك بينهما. ومن صور "الوسيط" ما إذا استأجر حَمَّال الجيفة بجلدها، وتعليل الفساد فيها بأن جلد الجيفة أجرة أوضح، لكن الصورة الغريبة منها ما إذا استأجر لحمل شاة مُذَكَّاة إلى موضع كذا بجلدها. قال الغزالي: الرُّكْنُ الثَّالِثُ: المَنْفَعَةُ وَشُروُطُهَا خَمْسَةٌ: أَنْ تَكُونَ مُتَقَوّمَةً لاَ بِانْضِمَامِ عَيْنِ إِلَيْهَا، وَأَنْ تَكُونَ مَقَدُوراً عَلَى تَسْلِيِمِهَا، حَاصِلَةِ لِلمُسْتَأْجِرِ، مَعْلُومةً، أَمَّا التَّقْويِم عَنَيَنَا به إِنَّ اسْتِئْجَارَ تُفَّاحَةٍ لِلشَّمِّ وَطَعَام لتَزْيِينِ الحَانوُتِ لاَ يَصِحُّ، وَكَذَا (ح) اسْتِئجَارُ الدَّرَاهَم وَالدَّنَانِيرِ لِتَزْيِينِ الحَانُوتِ فَإنَّهُ لاَ قِيمَةَ لَهُ عَلَى الأَصَحِّ (و)، وَكَذَا اسْتِئْجَارُ الأَشْجَارِ لِتَجَفِيفِ الثِّياب وَالوقُوُفِ فِي ظِلِّهَا وَكَذَا اسْتِئْجَارِ البَيَّاعِ عَلَى كَلِمَةٍ تُرَوَّجُ لَهَا السِّلعْةَ وُلاَ تَعَبَ فِيَها، وَفِي اسْتِئْجَارِ الكَلْبِ لِلحرَاسَةِ والصَّيْدِ وَجْهانِ.
قال الرافعي: اعتبر في المنفعة المعقود عليها خمسة شروط: أحدها: أن تكون متقوّمة (¬1) ليحسن بذل المال في مقابلتها، فإن لمِ يكن كذلك كان بذل المال لها سفهاً وتبذيراً، فصنع منه كما منع من شراء ما لا يُتتَفعُ به، وفيه صور: إحداها: ذكر أن استئجار (¬2) تفاحة للشَّم فاسد وكأن المنع ناشئ من أن التفاحة الواحدة لا تقصد للشم، فيكون استئجارها كشراء الحبة الواحدة من الحِنْطة والشعير، فإن أكثر فالوجه الصحة، ولأنهم نصوا على جواز استئجار المسك والرَّيَاحين للشم، ومن التفاح ما هو أطيب من كثير من الرياحين. الثانية: في استئجار الدراهم والدنانير وجهان، كما في إعارتها. والأصح: المنع والأعارة أولى بالجواز؛ لأنها مكرمة لا معاوضة، ولذلك جَوَّز بعضهم الإعارة مع منع الإجارة، وذكرنا هناك بحثاً في أن موضع الخلاف إطلاق إعارة الدراهم، أو التعرض لغرض التبرين، بناء على الخلاف في أن صحة الإجارة من غير تعيين لجهة المنفعة، وهاهنا لا تصُح الإجارة عند الإطلاق بمال؛ لأن تعيين الجهة في الإجارة لا بد منه. وعن أبي حنيفة أنه إن عين جهة الانتفاع بها من تزيين الحوانيت، أو الموزن بها، أو الضرب على طبعها صحت الإجارة، وإلاَّ كانت قرضاً، وأما استئجار الأطعمة لتزيين الحوانيت بها فكلام المصنف هاهنا وفي "الوسيط" يقتضي القطع بمنعه وكذلك ذكره القاضى حُسَيْن. وعن الإمام وغيره أنه على الوجهين، فيجوز إعلام قوله: "والطعام لتزيين الحوانيت" بالواو، والوجهان جاريان في استئجار الأشجار لتجفيف الثياب، والوقوف في ظلها، وربط الدواب بها؛ لأن الاستئجار لا يقصد لهذه الأغراض. وذهب بعضهم إلى أن الأصح الصحة هاهنا على خلاف الأصح في مسألة الدراهم والدنانير؛ لأنها منافع مهمة ومنفعة التزيين ضعيفة. وأجرى في "التهذيب" الوجهين في استئجار الببغاء للاستئناس، وبالجواز أجاب أبو سعيد المتولي، وكذلك في كل مستأنس بلونه كالطاوس، أو بصوته كالعندليب. الثالثة: استئجار البياع على كلمة البيع، أو كلمة تروج بها السلعة، ولا تعب فيها فاسد؛ لأنه لا قيمة لها، ولم يجعلوا هذا من صور الوجهين، لكن المحكي عن الإمام ¬
محمد بن يحيى أن ذلك في البيع المستقر قيمته في البلد كالخبز واللحم، وأمَّا الثياب والعبيد، وما يختلف قدر الثمن فيه باختلاف المتعاقدين، فيختص بيعها من البياع بمزيد منفعة وفائدة، فيجوز الاستئجار (¬1)، وعليه فهذا لم يجز الاستئجار، ولم يلحق البياع تعب فلا شيء له، وإن تعب بكثره التردد، أو كثرة الكلام في تأليف أصل المعاملة، فله أجرة المثل، لا ما تواطأ عليه البياعون. الرابعة: في استئجار الكلب المعلَّم للحراسة والصيد وجهان: أحدهما: الجواز كاستئجار الفَهْد والبَازِيَّ والشبكة للاصطياد، والهِرَّة لدفع الفأرة. وأصحهما: المنع؛ لأن اقتناءه ممنوع إلاَّ لحاجة، وما جوز للحاجة لا يجوز أخذ العوض عليه وأيضاً فإنه لا قيمة لعينه، وكذلك لمنفعته (¬2). قال الغزالي: أَمَّا المتَقَومَّ دُوُنَ العَيْنِ مَعْنَاهُ أَنَّ اسْتِئْجَارَ الكَرْمِ والبُسْتَانِ لِثِمَارِهَا وَالشَّاةِ لِنتَاجِهَا وَلَبَنهَا وصَوُفِهَا بَاطِلٌ فإنَّهُ بَيْعُ عَيْنٍ قَبْلَ الوُجُودِ، واسْتِئْجَارُ الشَّاةِ لإرْضَاعِ السَّخْلَةِ بَاِطِلٌ وَاسْتِئْجَارُ المَرْأةِ لِلإِرْضَاعِ مَعَ الحَضَانة جَائزِ، وَدُونَ الحَضَانَةِ فَخِلاَفٌ، وَالأَوْلَي الجَوَازُ لِلحَاجَةِ، واسْتِئْجَارُ الفَحْلِ للضِّرَاب فِيهِ خِلاَفٌ، وَالأَوْلَى المَنْعُ لأنَّهُ لاَ يُوثَقُ بِتَسْلِيمِهِ عَلَى وَجْهٍ يَنْفَعُ، أَمَّا القُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ نَعْنِي بِهِ أَنَّ اسْتِئْجَارَ الأَخْرَسِ لِلتَّعْلِيِم وَالأَعْمىَ لِلحِفْظِ بَاطِلٌ لأِنَّ المقْصُودَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَلَوِ أسْتأْجَرَ قِطْعَةَ أَرْضٍ لاَ مَاءَ لَهَا لِلزِّرَاعةِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وإِنِ اسْتَأَجَرَ لِلسُّكْنَيِ فَجَائِزٌ، فَإِنْ أَطلَقَ وَكَانَ في مَحَلٍّ يَتَوَقَّعُ الزِّرَاعَةَ كَانَ كَالتَّصرِيحِ بِالزِّرَاعَةِ، وإِنْ كَانَ المَاءُ مُتَوَقِّعاً وَلَكِنَ عَلَى النّدُورِ فَفَاسِدٌ بِنَاءً عَلَى الحَالِ، وإِنْ كَانَ يَعْلَمُ وجُودَ المَاءِ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ يَغْلِبُ وُجُودُ المَاءِ بَالأَمْطَارِ فَالنَّصُّ أَنِهُ فَاسدٌ نَظَراً إِلى العَجزِ في الحَالِ، وَقِيلَ: إِنَهُ صَحِيحٌ إِذ انِقْطَاعُ الشُّرْبِ العِدِّ وَالمَاءِ الجَارِي أيضاً مُمِكْنٌ، وإِنِ اسْتَأْجَرَ أَرضاً وَالمَاءُ مُسْتَوٍ عَلَيْهَا في الحَالِ وَلاَ يَعْلَمُ انْحِسَارَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ، وإِنْ عِلمَ انْحِسَارَهُ فَهُوَ صَحيِحٌ (و) إنْ تَقَدَّمَتْ رُؤْيَةُ الأَرْضِ أَوْ كَانَ المَاءُ صَافِياً لاَ يَمْنَعُ رُؤيَةَ الأَرْضِ. قال الرافعي: ترجمة هذا الفصل (¬3) هاهنا، وفي الفصل السابق يكون المنفعة ¬
متقومة بنفسها لا بعين تضم إليها كأنه قدر انقسام المنفعة إلى مقومة بنفسها، ومتقومة بعين تنضم إليها، ولمانع أن يمنع ذلك، ويقول: إن العين المنضمة إلى المنفعة هي المتقومة، والمنفعة لا تستفيد من العين تقوماً. وقال في "الوسيط" معبراً عن هذا الشرط: أنه لا يَتضمن استيفاء عين قصد وهذا أليق بمسائل الفصل، وعلته أن الإجارة عقد يبتغي به المنافع دون الأعيان، هذا هو الأصل ألاّ أنه قد تستحق بها الأعيان متابعة لضرورة أو حاجة حاقّة، فتلحق تلك الأعيان حينئذ بالمنافع. وفيه مسائل: إحداها: استئجار الكروم والبستان لثمارها، والشَّاة لنتاجها، أو صوفها، أو لبنها باطل؛ لأن الأعيان لا تملك بعقد الإجارة، وهذا في الحقيقة بيع الأعيان معدومة ومجهولة. الثانية: الاستئجار لإرضاع الطفل جائز، ويستحق به منفعه وعين المنفعة أن تضع الصبي في حجرها، وتلقمه الثدي، ويعصره عند الحاجة، والعين اللبن الذي يمتصه الصبي، وإنما جوزناه وأثبتنا به استحقاق اللبن، لأنّا لو منعناه لاحتاج إلى شراء اللبن كل دقيقة، وفيه من المشقة ما يعظم، ثم الشراء إنما يمكن بعد الحَلْب، والتربية لا تتم باللبن المحلوب (¬1)، ثم الأصل الذي يتناوله العقد ماذا. فيه وجهان؛ أحدهما: اللبن، وفعلها تابع، لأن اللبن مقصود لعينه، وفعلها مقصود لإيصال اللبن المقصود إلى الصبي. وأصحهما: أن الأصل المتناول بالعقد فعلها واللبن مستحق تبعاً لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. علل الأجرة بفعل (¬2) الإرضاع لا باللبن وأيضاً فإن الإجارة موضوعة لاستحقاق المنافع، فإن استحق فيها عين لضرورة تدعو إليه فهي متابعة، كالبئر تستأجر لسقي مائها، والدار تستأجر، وفيها بئر يجوز الاستسقاء منها، ثم إن استأجرها للحضانة مع الإرضاع جاز وإن استأجرها للارضاع ونفى الحضانة فوجهان: أحدهما؛ لا يجوز؛ لأنه لا يجوز استئجار الشاة لإرضاع السّخلة. وأصحهما: الذي أورده أن الأكثرون أنه يجوز، كما يجوز أن تستأجر لمجرد الحضانة. قال الإمام: وهذا الخلاف فيما أذا قصر الإجارة على صرف اللبن إلى الصبي وقطع عنه، وضعه في الحجر ونحوه، فأما الحضانة بالتفسير (¬3) الذي تذكره من بعد، فلا خلاف في جواز قطعه عن الإرضاع. ¬
الثالثة: استئجار الفِحْل للضِّرَاب حكمه ما ذكرنا في الباب الثالث من "كتاب البيع". وقوله "أنه لا يوافق بتسليمه على وجه ينفع" أرادية أنه أمر لا يتعلق باختيار الحيوان، ثم بتقدير أن يَنْزُو، فربما لا ينزل، فإن أنزل فربما لا يحصل منه الولد، وهو المقصود، لكن المعتبر القدرة على تسيلم المنفعة المعقود عليها. فأما وقوعه نافعاً مَرّ وسبيله إلى الغاية المقصودة، فغير معتبر بالاتفاق. ومما يناسب مسائل الفصل استئجار القَنَواتَ، وله ذكر في بعض نسخ الكتاب قبيل المسألة الثالثة بهذه العبارة، واستئجار القناة للزراعة بمائها الأصلح تجويزه للحاجة، ولا وجه في القياس إلاَّ على قول مَنْ لا يرى الماء مملوكاً، فتكون القناة كالشبكة، والماء كالصيد، وغالب الظن أوّلاً أن المسألة ليست من متن الكتاب، فليست هي ثابته في "الوسيط"؛ ثم حكمها تفريعاً على أن الماء ليس بملوك بَيِّن كما ذكره. وعلى قولنا: إنه مملوك فالمنافع آبار الماء. وقد جوزنا استئجار بئر الماء للاستقاء والتي بعدها مستأجرة لإجراء الماء فيها. وقال القاضي الروياني في "الحلية" إذا اكترى قرار القناة ليكون أحق بمائها جاز في قول بعض أصحابنا، وهو الاختيار، والمشهور منعه، ولفظه في تصوير المسألة يشبة أن يكون مبنيّاً، على أن الماء لا يملك (¬1). الشرط الثالث: للمنفعة أن تكون مقدوراً على تسليمها (¬2). فلا يجوز استئجار الآبق والمغصوب كبيعهما، ولا استئجار الأخرس للتعليم، والأعمى لحفظ المتاع، وكذا استئجار من لا يحسن القرآن ليعلمه. قال في "الوسيط": فإن وسَّع عليه وقتاً يقدر على التعلُّم قبل التعليم ففيه وجهان. ¬
الأصح: المنع (¬1)؛ لأن المنفعة مستحقة في عينه، والعين لا تقبل شرط التأجيل والتأخير، وإن استأجر أرضاً للزراعة وجب أن تكون الزراعة فيها متيسرة. والأراضي أنواع: منها أرض لها ماء دائم من نهر أو عين أو بئر ونحوها. ومنها: أرض لا ماء لها ولكن يكفيها المطر المعتاد، والنَّداوة التي تصيبها من الثلوج المعتادة، كبعض أراضي الجبال أوْ لا يكفيها ذلك، ولكنها تسقى بماء الثلج والمطر في الجبل، والغالب فيها الحصول. ومنها: أرض لا ماء لها، ولا تكفيها الأمطار المعتادة، ولا تسقى بماء غالب الحصول من الجبل، ولكن إن أصابها مطر عظيم أَوْ سيل نادر أمكن أن تنزرع. فالنوع الأول يجوز استئجاره، لثالث لا يجوز؛ لأنها منفعة غير مقدور عليها، وإمكان الحصول غير كافٍ كإمكان عود الأبق ورد المغصوب. وفي النوع الثاني وجهان: أحدهما: وبه قال القفَّال: أنه لا يجوز استئجاره؛ لأن السقي معجوز عنه في الحال، والماء المتوقع لا يعرف حصوله، وبتقدير حصوله لا يعرف أنه هل يحصل في الوقت تمكن الزراعة فيه؟ والثاني: أنه يجوز، ويحكي عن القاضي الحُسَيْن؛ لأن الظاهر حصول المقصود، والتمكن الظاهر كافٍ، أَلاَ تَرىَ أن انقطاع ماء النهر والعين ممكن أيضاً، لكن لمّا كان الظاهر فيه الحصول كفى لصحة العقد، وهذا أقوى الوجهين، وبه أجاب القاضي ابْنُ ¬
كَجٍّ وصاحب "المهذّب" وغيرهما، وإنما أضاف صاحب الكتاب الأول إلى النص؛ لأنه قال في "المختصر": وأن يُكَاري الأرض البيت التي لا ماء لها، وأنما تسقى بنُطَفِ من السماء أو بسيل إن جاء فلا يصح. وظاهره يشمل النوع الثاني والثالث لأن كليهما يسقى بماء السماء، لكن من قال بالوجه الثاني حمل النص على النوع الثالث وقد يشعر به قوله: "أو بسيل إن جاء". والنَّطف: القطر يقال: نطف ينطف نطفاً وكلل قاطر ناطف. ومنها: أرض على شَطِّ النيل أو الفرات أو غيرهما يعلو الماء عليها، ثم ينحسر، ويكفي ذلك لزراعتها السَّنة، فهذا استأجرها للزراعة بعد ما علاها الماء وانحسر صح، وإن كان قبل أن يعلو الماء عليها، فإن لم يوثق به كالنيل لا ينضبط أمره، لا يصح إن كان الغالب حصوله، فليكن على الخلاف في استئجار النوع الثاني من الأراضي، وإن كان موثوقاً به كالمد "بالصبرة" صح كماء النهر، وإن كان يتردد في وصول المد إلى تلك الأراضي، فهي كأرض من الأراضي ليست لها ماء معلوم، وإن كان قد علاها الماء ولم ينحسر، فإن كان لا يُرْجى إنحساره لم يجز استئجارها، وكذا لو كان يتردد فيه؛ لأن العجز يقين وزواله مشكوك فيه، وإن كان يرجى إنحساره وقت الزراعة بالعادة، فالنص صحته. قال الأصحاب: فيه وجهان من الإشكال: أحدهما: أن شرط الإجارة التمكن من الانتفاع عقب العقد، والماء مانع منه. والثاني: أنه يمنع رؤية الأرض، فيكون إجارة الغائب. وأجيب عن الأول بوجهين: أحدهما: أن موضع النص إذا كان الاستئجار لزراعة ما تمكن زراعته في الماء كالأرز، فإن كان غير ذلك لم يصح الاستئجار، حكاه الشيخ أبو حامد عن بعضهم. واصحهما: أنه لا فرق بين مزروع ومزروع ولكن الماء فيها من مصالح العمارة والزراعة، فكان إبقاؤه فيها ضرباً من العمارة، وأيضاً فإن صرف الماء يفتح موضع ينصب إليه، أو حفر بئر ممكن في الحال، وحينئذ يكون متمكناً من الاستعمال بالعمارة بهذه الوسائط، فاشبه ما إذا استأجر داراً مشحونة بأمتعة يمكن الاستعمال بنقلها في الحال، فإنه يجوز إلاَّ أن الشيخ أَبا مُحَمَّدٍ حكى وجهاً في منع إجارة الدار المشحونة بالأمتعة بخلاف بيعها، والأظهر الأول. وأما الثاني فمنهم من قال: التصوير فيما إذا كان قد رأى الأرض قبل حصول الماء فيها، أو كان الماء صافياً لا يمنع رؤية وجه الأرض، وإن لم يكن كذلك، فعلى قولي شراء الغائب، ومنهم من قطع بالصحة.
أما عند حصول الرؤية فظاهر. وأما إذا لم تحصل فلأنه من مصلحة المزارعة، من حيث أنه يقوي الأرض، ويقطع العروق المنتشرة فيها، فأشبه استثار الجوز واللوز بقشره. والظاهرة: الصحة سواء أجرينا القولين أم لا وإن كانت الأرض على شط نهر، الظاهر منها أنها تفرق، وتنهار في الماء لم يجز استئجارها، وإن احتمل ولم يظهر جاز؛ لأن الأصل والغالب دوام السلامة، ويجوز أن تخرج حالة الظهور على مقابل الأصل. والظاهر إذا عرف حكم الأنواع، فكل أرض لها ماء معلوم واستأجرها للزراعة مع شربها منه فذاك، وإن استأجرها للزراعة دون شربها جاز إن تيسر سقيها من ماء آخر، وإن أطلق دخل فيه الشرب، بخلاف ما إذا باعها لا يدخل الشرب فيه؛ لأن المنفعة هاهنا لا تحصل دونه، وهذا إذا اطردت العادة للإجارة مع الشرب، فإن اضطريت فسيأتي الحكم في الباب الثاني، فكل أرض منعنا استئجارها للزراعة، فإن اكتراها لينزل فيها، أو يسكنها، أو يجمع الحطب فيها، أو يربط الدواب جاز، وإن اكتراها مطلقاً نظر إن قال: اكتريت هذه الأرض البيضاء، ولا ماء لها جاز؛ لأنه يعرف بنفي الماء أن الاستئجار بغير منفعة الزراعة، ثم لو حمل ماء من موضع وزرعها أو زرع على توقع حصول ماء لم يمنع، وليس له البناء والغراس فيها، نص عليه ووجهوه بأن تقدير المدة يقتضي ظاهره التفريغ عند إنقضائها والغراس والبناء للتأبيد، بخلاف ما لو استأجر للبناء والغراس، فإن التصريح بها حرف اللفظ عن ظاهره، وإن لم يقل عند الإجارة: ولا ماء لها، فإن كانت الأرض بحيث يطمع في سوق الماء إليها لم يصح العقد؛ لأن الغالب في مثلها الاستئجار للزراعة، فكان ذكرها وإن كانت على قلّة جبل لا يطمع في سوق الماء إليها. فوجهان: عن رواية أبِي إِسْحَاقَ: وأظهرهما: الصحة وتكفي هذه القرينة صارفة، فإذا اعتبرنا نفي الماء ففي قيام علم المتعاقدين مقام التصريح بالنفي وجهان: أشبههما: المنع؛ لأن العادة في مثلها الاستئجار للزراعة، فلا بد من الصرف باللفظ، أَلا ترى أنه لما كانت العادة في الثمار الإبقاء، وأردنا خلافه اعتبرنا التصريح شرط القطع؟ واعلم أن في المسألة تصريحاً بجواز الاستئجار مطلقاً من غير بيان جنس المنفعة، وسيأتي الكلام فيه. وأما لفظ الكتابة فقوله: "فإن أطلق وكان في محلّ يتوقع الزراعة كان كالتصريح بالزراعة" جواب على أحد الوجهين. فأما على رأي من لا يفرق، ويقول: سواء كانت الزراعة متوقعة أو لم تكن، فإلاطلاق كالتصريح بالزراعة، فيجوز أن يعلّم بالواو.
وقوله: "وكان في محل تتوقع الزراعة" وأبعد الماء الدائم الذي لا انقطاع له. وقوله: "فإن علم انحساره فهو صحيح" يمكن إعلامه -بالواو- للوجه الذي رواه الشيخ أبُو حامد في فرق بين الأرز وغيره. وقوله: "إن تقدمت رؤية الأرض، أو كان الماء صافياً لا يمنع رؤية الأرض" وإلا فهو على الخلاف في شراء الغائب. قال الغزالي: وَإِجَارَةُ الدَّارِ للِسَّنَةِ القَابِلَةِ فَاسِدَةٌ (ح) إذْ لاَ تَسَلُّطَ عَلَيْهِ عَقِيبَ العَقْدِ مَعَ اعْتِمَادِ العَقْدِ العَيْنَ. قال الرافعي: عرفت انقسام الإجارة إلى: واردة على العين وواردة على الذمة. أما إجارة العين فلا يجوز إيرادها على المستقبل كإيجار الدار للسنة القابلة والشهر الآتي. وكذا إذا قال أجرتك سنة مبتدأة من الغد أو من الشهر الآتي، أو أجرتك هذه الدابة للركوب إلى موضع كذا على أن تخرج غدًا. وقال أبو حنيفة وأحمد: يجوز ذلك لنا القياس على البيع فإنه لو باع على أن يسلم بعد شهر فإنه باطل. ولو قال أجرتك سنة فهذا انقضت السنة فقد أجرتك سنة أخرى، فالعقد الثاني باطل على الصحيح، كما لو قال إذا جاء رأس الشهر فقد أجرتك مدة كذا. فأما الإجارة الواردة على الذمة فيحتمل فيها التأجيل والتأخير كما إذا قال ألزمت ذمتك حملي إلى موضع كذا على دابة صفتها كذا، غداً أو غرة شهر كذا، كما لو أسلم في شيء مؤجلاً وإن أطلق كان حالاً، وإن أجَّر داره سنةً من زيدٍ، ثم أجرها من غيره السنة الثانية قبل انقضاء الأولى لم يجز، فإن أجرها من زيد نفسه، فوجهان ويقال قولان: أحدهما: المنع لأنه إجارة سنة قابلة، كما لو أجر من غيره أو منه مدة لا تتصل بآخر المدة الأولى. والثاني: وهو المنسوب إلى نصه أنه يجوز اتصال المدتين، كما لو أجر منه السنتين في عقد واحد، وهو أصح عند صاحب "التهذيب" وغيره. ورجح في "الوسيط" الوجه الأول محتجاً بأن العقد الأول قد ينفسخ فلا يتحقق شرط العقد الثاني، وهو الاتصال بالأول ولمن نصر الوجه الثاني أن يقول: الشرط رعاية الاتصال ظاهرا، وذلك لا يقدح فيه الانفساخ العارض، ولو أجرها من زيد لسنة وأجرها زيد من عمرو ثم أجرها المالك من عمرو السنة الثانية قبل انقضاء المدة الأولى ففيه
الخلاف، ولا يجوز أن يؤجرها من عمرو وهكذا في التهذيب وفي "فتاوى القفال" أنه يجوز أن يؤجرها من زيد، ولا يؤجرها من عمرو؛ لأن زيداً هو الذي عاقده، فيضم إلى ما استحق بالعقد الأول السنة الثانية. قال الغزالي: وَلَوْ سَنَةً ثُمَّ أَجَّرَ مِنْ نَفْسِ المُسْتَأجِرِ السَّنَةَ الثَّانِيَةَ فَوَجْهَانِ، وَلَوْ قَالَ: اسْتَأجَرْتُ هَذِهِ الدَّابَّةَ لأَرْكَبَهَا نِصْفَ الطَّرِيقِ وَأَتْرُكَ النِّصْفَ إِلَيْكَ، قَالَ المُزَنيُّ: هُوَ إِجَارَةٌ للزَّمَانِ القَابِلِ إِذْ لاَ يَتَعَيَّنُ لَهُ النِّصْفُ الأَوَّلُ، وقَالَ غَيْرَهُ يَصِحُّ، وَإِنَّمَا التَّقَطُّعُ بِحُكْمِ المُهَايأَةِ فَهُوَ كَاسْتِئجَار نِصْفِ الدَّابَّةِ ونِصْفِ الدَّارِ وَهُوَ صَحِيحٌ (ح). قال الرافعي: ولو أجر داره سنةً وباعها في المدة، وجوَّزناه لم يكن للمشتري أن يؤجر السنة الثانية من المكتري؛ لأنه لم تكن بينهما معاقدة، وتردد في أن الوارث هل يتمكن منه إذا مات المكري في المدة؛ لأن الوارث نائبه. ولا يجوز أن يؤجر الدار والحانوت شهراً على أن ينتفع به الأيام دون الليالي؛ لأن زمان الانتفاع لا يتصل بعضه ببعض، فيكون إجارةً للزمان المستقبل، وفي مثله في العبدِ والبهيمة يجوز؛ لأنهما لا يطيقان العمل الدائم، ويرفهان الليل على العادة وإن أطلق الإجارة. ولو أجر دابته لموضع ليركبها المكري زماناً، ثم المكتري زماناً لم يجز لتأخر حق المكتري، وتعلق الإجارة بالزمان المستقبل، وإن أجرها منه ليركب المكتري بعض الطرق، وينزل ويمشي في البعض أو أجر من اثنين ليركب هذا زماناً، وهذا مثله ففيه أوجه: أحدها: أن الإجارة فاسدة في الصورة الأولى، صحيحة في الثانية؛ لأنه إذا اكترى من اثنين اتصل زمان الإجارة بعضه ببعض، فإذا اكترى من واحد تفرق، فتكون إجارة الزمان المستقبل. وثانيهما: المنع في الصورتين؛ لأنه إجارة إلى آجال متفرقة، وأزمنة متقطعة. وثالثها: وبه مقال المزني في "الجامع الكبير" تخريجاً، ووافقه صاحب "التلخيص" أنه تجوز الإجارة في الصورتين مضمونة في الذمة، ولا تجوز على دابة معينة. والفرقُ وأنها إذا كانت في الذمة، فإن أجر من واحد فقد ملكه نصف المنافع على الإشاعة، فيقاسم المالك، وإن أجرها من اثنين ملكهما الكل نسقاً فيتقاسمان. وأما إجارةُ العين فإنها تتعلق بأزمنة متقطعة، فتكون إجارة الزمان المستقبل. وأصحهما: وهو نصه في "الأم" جواز الإجارة في الصورتين، سواء وردت على
العين أو الذمة، ويثبت الاستحقاق في الحال بتقسيم المكتري والمكري أو المكتريان، والتأخير الواقع من ضرورة القسمة والتسليم لا يضر، وهذه المسألة تشهر بـ"كراء العُقب" وهو جمع عُقْبة، والعقبة: النَّوْية وهما يتعاقبان على الراحلة، إذا ركب هذا تارةً، وهذا تارةً. وإذا قلنا بالجواز فلو كان بالطريق عادة مضبوطة، إما بالزمان بأن يركب يوماً وينزل يوماً، أو بالمسافة بأن يركب فرسخاً ويمشي فرسخاً حمل العقد عليها، وليس لأحدهما أن يطلب الركوب ثلاثاً والنزول ثلاثاً لما في دوام المشي من التعب (¬1). وإن لم تكن عادة مضبوطة فلا بد من البيان في الابتداء، وإن اختلفا في من يبدأ بالركوب، فالحكم القرعة ولو أكرى الدابة من اثنين، ولم يتعرض للتعاقب. قال في "التتمة" إن احتملت الدابة ركوب شخصين اجتمعا على الركوب، وإلاَّ فالرجوع (¬2) يخرج على المهايأة كما سبق. ولو قال: أجرتك نصف الدابة إلى موضع كذا، أو أجرتك الدابة لتركبها نصف الطريق صَحَّ، ويقتسمان إما بالزمان أو بالمسافة وهذه إجارة المشاع تصح كما يصح بيعه وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة وأحمد: لا تصح إجارة المشاع إلاَّ من الشريك. وفي إجارة نصف الدابة وجه أنها غير جائزة للتقطع بخلاف إجارة نصف الطريق وبخلاف ما إذا أجر منهما ليركبان في محمل. ونعود إلى ما يتعلق بلفظ الكتاب خاصة. أما تضمينه مسائل الفصل شرط القدرة على التسليم، فكان سببه أن منافع الزمان المستقبل غير مقدور عليها. أما إذا نَجَّز كان التسليم في الزمان الحاضر مقدوراً عليه فينسحب حكمه على جميع المدة المتواصلة للحاجة. وقوله "فاسد" معلم بالحاء والألف. وأراد بقوله: "إذ لا تسلط عليه عقب العقد مع اعتماد العقد العين" أن هذه الإجارة متعلقة بالعين غير واردة على الذمه، وذلك يقتضي التسليط في الحال. وقوله: "فوجهان" يجوز إعلامه بالواو ولأن أبا الفرج السرخسي حكى طريقة قاطعة بالمنع كما لو أجر من غير المستأجر، ولفظ الكتاب في مسألة كراء العُقب لا يتناول إلاَّ الإجارة الواردة على العين، وإلاَّ إذا اتحد المكتري لا يجيء حينئذٍ إلا وجهان كما ذكرنا. وقوله ¬
فرع
"وهو صحيح" يجوز أن يعلم بالحاء والالف المذهبهما في إجارة المشاع. فرع: لا تجوز إجارة ما لا منفعة له في الحال، ويصير منتفعاً به كالجحش لأن الإجارة موضوعة على تعجيل المنافع، بخلاف المساقاة على ما لا يثمر في تلك السنة، ويثمر بعدها؛ لأن تأخر الثمار محتمل في كل مساقاة. قال الغزالي: وَالعَجْزُ شَرْعاً كَالعَجْزِ حِسّاً، فَلَو اسْتَأجَرَ عَلىَ قَلْع سنٍّ صحيحَةٍ وَقَطْعِ يَدٍ صَحيحَةٍ أَوْ استَأْجَرَ حَائِضاً عَلَى كَنْسِ مَسْجِدٍ فَهُوَ فَاسِدٌ لأَنَّ تَسْلِيمَهُ شَرْعاً مُتَعَذِّرٌ وَلَوْ كَانَتِ اليَدُ مُتَآكِّلةَ أوْ السِّنُّ وَجِعَةً صَحَّتْ، فَإِنْ سَكَنَتْ قَبْلَ القَلْعِ انْفَسَخَتِ الإِجَارَةُ. قال الرافعي: المعجوز عنه شرعاً كالمعجوز عنه حِساً (¬1)، كما قدمنا في البيع، فلا يجوز الاستئجار لقلع سن صحيحة (¬2)، وقطع يد صحيحة، ولا استئجار الحائض (¬3) لكنس المسجد وخدمته؛ لأَنها منافع متعذرة التسليم شرعاً. وقال في "الوسيط" في إجارة الحائض لكنس المسجد احتمال، فيجوز أن تصح (¬4)، وإن كانت تعصى به، كما تصح الصلاة في الأرض المغصوبة، وإن كان يشغل ملك الغير والمنقول الأول، وكذا لا يجوز الاستئجار لتعليم التوراة، والإِنجيل، وختان الصغير الذي لا يحتمل أَلمه ولتعلم السحر والفحش. ولو استأجر لقطع يد متآكلة أو قلع سن وجعة، فالكلام أَولاً في جوازهما. ¬
أما القلع فإنه يجوز إذا صعب الألم. وقال أهل البصر: إنه يريح الألم. وأمَّا القطع فلا بد وأَن يذكر أهل الصنعة أَنه نافع، وأن مع ذلك ففي جوازه خلاف عن حكايته الشيخ أَبي محمد المنع، أَن القطع إِنما يمنع إذا وضعت الحديدة على محل صحيح، وأَنه مهلك، كما إن الأكله مهلكة، وهذا الخلاف وما في جِواز القطع من التفصيل مذكور في الكتاب في (باب ضمان الولاة) فحيث لا يجوز القطع والقلع، فالاستئجار لهما باطل، وحيث يجوز ففي صحة الإِجارة وجهان: أَحدهما: المنع؛ لأَن الإجارة إِنما تجوز في عمل موثوق به، وجواز زوال العلّة محتمل فيمتنع الوفاء بقضية الإجارة، وسبيل مثل هذا الغرض أَن يحصل بالجعالة بأن يقول: اقلع سني هذه، ولك كذا. وأَصحهما: الصحة، إذ لا يشترط لصحة الإجارة القطع بسلامتها عما يقطعها. ورأى الإمام تخصيص الوجهين بالقلع لا أن احتمال فتور الوجع في الزمان الذي يفرض فيه القلع (¬1) غير بعيد. وأما زوال الآكلة من زمان بأرباب القطع فإنه غير محتمل، وأجرى الخلاف في الاستئجار للفَصْد، والحجَامة، وبزع الدابة؛ لأَن هذه الإيلامات إنما تباح بالحاجة، وقد تزول الحاجة. وإذا استأجر امرأَة لكنس مسجد فحاضت، انفسخ العقد، إِن وردت الإجارة على عينها وعينت المدة، وإن وردت على الذمة لم تنفسخ، لإمكان أن تفوضه إلى الغير، وأَن تكنس بعد أَن تطهر. وإذا جوزنا الاستنجار لقلع السن الوجعة فأستأجر له ثم سكن الوجع، انفسخت الإجارة لتعذر القلع، وهذا قد ذكره مرة أُخرى في الباب الثالث، وسنذكر هناك ما يقتضي إِعلام قوله: "انفسخت الإجارة" بالواو وإن لم يبرأ، لكن امتنع المِستأجر من قلعه. قال في "الشامل": لا يجب عليه إلاَّ أنَّه إذا سلم الأَجير نفسه، ومضى مدة إِمكان العمل، وجب على المستأْجر الأُجرة، ثم ذكر القاضي أبَو الطَّيب أَنها لا تستقر حتى لو انقلعت تلك السن، انفسخت الإِجارة، ووجب رد الأُجرة، كما لو مكنت الزوجة في النكاح ولم يطأها الزوج ويفارق ما إِذا حبس الدابة مدة إِمكان السير حيث تستقر عليه الأُجرة لتلف المنافع (¬2). ¬
قال الغزالي: وَلَوِ اسْتَأْجَرَ منْكُوحَةَ الغَيْر دُونَ الزَّوجِ فَفَاسدٌ (و)، وَلَوِ اسْتَأجَرَهَا الزَّوْجُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وإنِ اسْتَأْجَرَهَا (و) لإِرْضَاعِ وَلَدِهِ مِنْهَا صَحَّ. قال الرافعي: استئجار منكوحة الغير، إما أَن بفرض من غير الزوج أَو منه. أَما غيره، فله أَن يستاجرها للرضاع. وغيره بإِذن الزوج (¬1) وبغير إذنه وجهان: أَحدهما: يجوز أَيضاً؛ لأَن محله غير محل النكاح، إِذ لا حَقَّ في لبنها وخدمتها. وأصحهما: المنع (¬2)، وهو المذكور في الكتاب؛ لأَن أَوقاتها مستغرقة بحق الزوج، فلا تقدر على توفية ما التزمته، فإن لم نصححة فذاك، وإن صححناه، فللزوج فسخه كيلا يحيل حقه. ولو أَجرت نفسها , ولا زوج لها، ثم نكحت في المدة، فالاِجازة بحالها, وليس للزوج منعها بما التزمته، كما لو أَجرت نفسها بإذنه، لكن يستمتع بها في أَوقات فراغها، فإن كانت الاِجارة للرضاع، فهل لولي الطفل الذي استأَجرها لارضاعه منع الزوج من وطئها؟ فيه وجهان: أحدهما: ويحكي عن أَبي حنيفة ومالك نعم؛ لأَنه ربما تحمل، فينقطع اللبن فيقل، فيضر بالطفل. والثاني: وبه أَجاب أَصحابنا العراقيون لا؛ لأَن الحمل متوهم، ولا يمتنع به الوطء المستحق. وذكر في التهذيب أَنه إِن كانت الاِصابة تضر باللبن منع الزوج من إِصابتها، وهذا إِن أَراد به الضرر الناشئ من الحبل الناشئ من الإِصابة فهو جواب على الوجه الأول، ويجوز أَن يحمل على إِضرارها باللبن من غير توسُّط الحمل، وإِذا منع الزوج فلا نفقة عليه في تلك المدة (¬3). ولو أَجر السيد الأَمة المزوجة جاز، ولم يكن للزوج منعها من المستأجر؛ لأَن يده يد السيد في الانتفاع، وأَما الزوج فلا يمنع من استأجرها إِلاَّ أَنه إِذا استأجرها لإِرضاع ولده منها ففيه وجهان: ¬
أَحدهما: وهو الذي ذكره العراقيون المنع، ووجهوه بأَنها أَخذت منه عوضاً للاستمتاع، وعوضاً للحبس، فلا تستحق شيئاً آخر، وهذا على ضعفه منقوض باستئجارها لسائر الأعمال. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب الجواز، كما لو استأجرها بعد البينونة، وكما لو استأجرها للطبخ والكنس ونحوهما. وعن أَبي حنيفة: أَنه لا يجوز استئجارها للطبخ، وما أَشبهه؛ لأَنه مستحق عليها في العادة، وعلى هذا الخلاف استئجار الوالد ولده للخدمة، وفي عكسه وجهان، إِذا كانت الإِجارة على عينه، كالوجهين فيما إِذا أَجر المسلم نفسه من كافر. قال الغزالي: أَمَّا الحُصُولُ لِلمُسْتَأْجِرِ نَعْنِي بِهِ أَنَّ اسْتِئْجَارَهُ عَلَى الجِهَادِ (و) وَالعِبادَاتِ التِي لاَ تَجْرِي النِّيَابَةُ فِيهَا فَاسِدٌ إِذْ يَقَعُ لِلأَجِيِر، وأَمَّا الحَجُّ وَحَمْلُ الجَنَازَةَ وحَفْرُ القَبْرِ وَغَسْلُ المَيِّتِ فَيَجري فِيَها النِّيَابَةُ وَالإِجَارَةُ، ولِلإِمَامِ (و) اسْتَئْجَارُ أَهْلِ الذِّمَّةِ للِجِهَادِ إِذْ لاَ يَقَعُ لَهُمْ، وَالاسْتِئْجَارُ عَلَى الأَذَانِ جَائِزٌ للإِمَامِ، وَقِيَل: إِنَّهُ مَمْنُوَعٌ كَالجِهَادِ، وقِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ لآحَادِ النَّاسِ لِيَحْصُلَ لِلمُسْتَأجِرِ فَائِدةُ مَعْرِفةِ الوِقْتِ، وَلاَ يَجُوزُ الاسْتِئْجَار عَلَى إِمَامةِ الصَّلَوَاتِ الفَرَاِئضِ، وَفي إِمَامَةِ التَّرَاوِيحِ خِلاَفٌ، وَالأَصَحُّ مَنِعُهُ، وَبِالجُملةِ فَكُلُّ مَنْفَعَةٍ مُتَقَوَّمَة مَعْلُومَةٍ مُبَاْحَةٍ يَلْحَقُ العَامِلَ فيِهَا كُلْفَةٌ وَيَتَطَوَّعُ بِهَا الغَيْرُ عَنِ الغَيْر يَصِحُّ إِيرّادُ العَقْدِ عَلَيْهَا. قال الرافعي: الشرط الرابع حصول المنفعة للمستأجر، وإلاَّ اجتمع العوضان في ملك واحد، فإنه إذا قال: استأجرت دابتك لتركبها بعشرة، كانت المنفعة، والعشرة حاصلة له. وفي أكثر العناية في هذا الشرط نذكر حكم العبادات في الاستئجار، وضبطها إمام الحرمين، فقال: هي على نوعين: أحدهما: الذي يتوقف الاعتداد بها على النية، فما لا تدخله النيابة منها لا يجوز الاستئجار عليه, لأن الاستئجار نيابة خاصة وما تدخله النيابة منها يجوز الاستئجار عليه كالحج وتفرقة الزكاة. وقال الإمام: ومن هذا القبيل غسل الميت إذا اعتبرنا فيه النية، كجريان النيابة فيه. والنوع الثاني: لا يتوقف الاعتداد بها على النية، وهي تنقسم إلى فرض كفاية، وإلى شعار غير مفروض. القسم الأَول: فرض الكفايات، وهو على ضربين. أَحدهما: ما يختص إفراضه في الأَصل بشخص وموضع معين، ثم يؤمر به غيره
إِن عجز، كتجهيز الميت بالتكفين، والغسل وحفر القبر، وحمل الجنازة، والدفن فإن هذه المؤنات تختص بتركة الميت، فإن لم تكن فحينئذ يجب على الناس القيام بها، فمثل هذا يجوز الاستئجار عليه؛ لأَن الأَجير غير مقصود بفعله حتى يقع عنه. وعد من هذا القبيل تعليم القرآن، فإِن كل أَحد لا يختص بوجوب التعليم، وِإن كان نشر القرآن وإشاعته من فروض الكفايات، وهذا إذا لم يتعين واحد لمباشرة هذه الأَعمال، فإِن تعين واحد لتجهيز الميت، ولتعليم الفاتحة فوجهان: أحدهما: المنع، كفروض الأَعيان ابتداء. وأَصحهما: الجواز، كما أَن المضطر يجب إِطعامه، ويجوز تغريمه. والضرب الثاني: ما يثبت افتراضه في الأَصل شائعاً غير مختص بشخص وموضع كالجهاد، فلا يجوز استئجار المسلم عليه؛ لأَنه مكلف بالجهاد، والذَّبَّ عن المِلَّة، فيقع عنه، ويجوز استئجار الذمي عليه، وسيأَتي ذلك في "كتاب السير" إِن شاء الله تعالى. والقسم الثاني: شعائر غير مفروضة، كالأَذان تفريعاً على الأَصح، وفي جواز الاستئجار عليه ثلاثة أَوجه ذكرناها، وترتيبها في "باب الأَذان" فإِن جوزنا فعن الشيخ أَبي محمد وغيره ثلاثة أَوجه في أَن المؤذن علام يأَخذ الأَجرة؟ أَحدها: أَنه يأَخذ على رعاية المواقيت. والثاني: على رفع الصوت. والثالث: على الجبعلتين؛ لأَنهما ليسا من الأَركان. والأصح: وجه رابع: أَنه يأخذه على جميع الأذان بجميع صفاته، ولا يبعد استحقاق الأجرة على ذكر الله تعالى -كما لا يبعد استحقاقها على تعليم القرآن، وإن اشتمل على القرآن، ويتخرج على هذه التقاسيم صور. منها: الاستئجار، لإمامة الصلاة المفروضة ممنوع منه، والإمامة في التراويح وسائر النوافل وجهان. الاصح: المنع؛ لأَن الإِمام حصل لنفسه، ومهما صلى اقتدى به من يريد، وإن لم ينو الإِمامة، وإن توقف على نيته شيء، فهو إِحراز فضيلة الجماعة، وهذه فائدة تحصل لهَ دون المستأجر، ومن جوزه ألحقه بالاستئجار للأذان لتأدي الشعائر. ومنها: الاستئجار للقضاء ممتنع؛ لأن المتصدِّي له قد تعلّق بعمله أَمر الناس عامة، وأَيضاً فأعمال القاضي غير مضبوطة.
ومنها: أَطلقوا القول بمنع الاستئجار للتدريس وعن الشيخ أَبي بكر الطوسي (¬1) ترديد جواب في الاستئجار لإِعادة الدروس. قال الإمام: لو عين شخصاً أَو جماعة ليعلِّمهم مسأَلة، أَو مسائل مضبوطة، فهو جائز والذي أَطلقوه، فهو محمول على استئجار من يتصدى للتدريس من غير تعيين من يعلمه وما يعلمه؛ لأَنه كالجهاد في أَنه إِقامة مفروض على الكفاية ثابت على الشيوع,. وكذلك يمتنع استئجارُ مقرئ يُقرئٍ على هذه الصورة. قال: ويحتمل أَن يجوز الاستئجار له، ويشبه الأَذان، وللمنع وراء ما ذكره مأخذ آخر وهو أَن عمله غير مضبوط كما ذكرناه في القاضي. وقوله في الكتاب: "وللإِمام أَن يستأجر أَهل الذمة للجهاد" يجوز أَن يعلم -بالواو- لوجه ذكره في السير سينتهي إِليه الشرح إِن وفق الله تعالى. وقوله: "ليحصل للمستأجر فائدة معرفة الوقت". هذا التوجيه مبني على جواز الأَخذ بقول المؤذن والاعتماد عليه، ثم قضية الاكتفاء بحصول فائدة المستأجر دون أَن تحصل له كل الفائدة، ويلزم منه تجويز الاستئجار للإمامه؛ ليحصل للمستأجر فضيلة الجماعة. وقوله: "فيما يحمله فكل منفعة متقومة .. " إلى آخره. قريب من قوله في أَول الركن: "متقومة لانضمام عين إِليها ... " إلى آخره. وهما في ظاهر الأمر كضابطين يتأدى بهما معنى واحد، لكن ينبغي أن يتنبه فيه لشيئين: أحدها: أن التعرض للمتقوم مغنٍ عن قوله: "يلحق العامل بها كلفة"؛ لأَن ما لا كلفة فيه لا يتقوم كما سبق. والثاني: أَنه وإِن أَطلق لفط. المنفعة، لكن المراد هاهنا الأَعمال التي يستأَجر لها الأَجراء، وإلا لم ينتظم قوله "يلحق العامل فيها كلفة"، أَوْ لا مجال لمفهومه في منفعة لبس الثوب، وسكون الدار، وقد صرح بذلك في "الوسيط" فقال: كل عمل معلوم متاع يلحق العامل فيه كلفة .... " إلى آخره، وكذلك حكاه الإمام عن القاضي الحسين، ثم هذا الضابط سواء كان ضابطاً لمنفعة، أَو لمنافع أَبدان الأجراء لا اختصاص له بهذا الموضع، وذكره في غير هذا الموضع أَحسن، والله أعلم. قال الغزالي: وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَعْلُومَةٌ فَتَفْصِيُلهُ فِي الآدَمِىِّ والأراضي وَالدَّوَابِّ، (أَمَّا ¬
الآدَمِىُّ) إِذَا اسْتُؤْجَرَ لِصَنْعَةِ عُرِفَ بِالزَّمَانِ أَوْ بِمَحَلِّ العَمَلِ كَمَا لَوِ اسْتُأْجِرَ الخَيَّاطَ يَوْمًا أَوْ لِخيَاطَةِ ثَوْبٍ معَيَّنِ، وَلَوْ قال اسْتأْجَرْتُكَ لِتُخَيِّطَ هَذَا القَمِيصَ في هَذَا اليَوْمِ فَسَدَ (و) لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَتمُّ العَمَلُ قَبْلَ اليَوْمِ أَوْ بَعْدَهُ، وفي تَعْلِيمِ القُرْآنِ يعَلِّمُ بِالسُّوَرِ أَوْ بِالزَّمانِ، وَفِي الإِرْضَاعِ يَعيَّنُ الصَّبيُّ وَمَحَلُّ الإِرْضَاعِ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ الغَرَضُ بِهِ. قال الرافعي: الشرط الخامس: كون المنفعة معلومة؛ وقد اعتبر في البيع العلم بثلاثة أُمور من المبيع: العين، والقدر، والصفة. أَما العين، فلما لا يجوز أَن يقول: بعتك أَحد هذين العبدين، لا يجوز أَن يقول: أَجرتك أَحدهما، بل إما أَن يلتزم في الذمة كما يلتزم بالسلم، وإما أَن يؤجر عيناً معينة، ثم إن لم تكن لها إِلاَّ منفعة واحدة، فالإِجارة محمولة عليها، وإِن كانت لها منافع لا بد من البيان. وأَما الصفة، فقد ذكرنا أَن إِجَارة العَيْن الغائبة على الخلاف في بيعها. وأما القدر، فهو المقصود بالذكر فاعلم أَن قدر المنفعة يشترط العلم به، سواء كانت الإِجارة في الذمة، أَو كانت إِجارة عين، بخلاف المبيع، فإِن الشيء المعين إذا بيع تغني المشاهدة عن تحقيق القدر. والفرق أَن المنافع ليس لها حضور محقق، وإِنما هي متعلّقة بالاستقبال، والمشاهدة لا يطلع فيها على الغرض، ثم المنافع تقدر بطريقتين: تارةً تقدر بالزمان، كما إِذا استأجر الدار ليسكنها سنة. وتارةً بمحل العمل، كما إِذا استأجر الخَيَّاط ليخيط له الثوب المعين، أَو الدابة ليركبها إِلى موضع كذا. ثم قد يتعين الطريق الأَول، كما في استئجار العقارات، فإِن منافعها لا تنضبط إِلاَّ بالمدة وكالإرضاع فإِن تقدير اللبن لا يمكن، ولا سبيل فيه إِلاَّ الضبط بالزمان. وقد يسوغ الطريقان كما إِذا استأجر عين شخص أَو دابة يمكنه أَن يقول: ليعمل لي كذا شهراً، وأَن يقول: ليخيط هذا الثوب، وفي الدابة أَن يقول: لأتردد عليها في حوائجي اليوم، أَو يقول: لأَركبها إِلى موضع كذا، فأَيهما كان كفي لتعريف المقدار، فإِن جمع بينهما بأَن قال: استأجرتك لتخيط لي هذا القميص اليوم ففيه وجهان: أصحهما: وهو المذكرر في الكتاب، وبه قال أَبو حنيفة: أَنه لا يجوز؛ لأَن في إِضافة الزمان إِلى العمل غرراً لا حاجة إِلى احتماله؛ لجواز انتهاء العمل قبل انتهاء اليوم وبالعكس، وهذا كما إِذا أَسلم في قفيز حِنْطَة، بشرط أَن يكون كذا لا يصح؛ لاحتمال أَن يزيد أَو ينقص فيتعذر التسليم. والثاني: يجوز، والمدة مذكورة للتعجيل، فلا تؤثر في فساد العقد، وعلى هذا فوجهان:
أصحهما: أَنه يستحق الأُجرة بأسرعهما إِتماماً، فإن تم العمل قبل إِتمام اليوم وجبت الأُجرة، وإِن انقضى النهار قبل تمام العمل فكذلك والثاني الإعتبار بالعمل مقصود فإن تم قبل انقضاء اليوم وحب الأجرة اليوم قبله وجب إِتمامه، وبالأَول أَفتى القفال وذكر أَنه إِن انقضى النهار أَوَّلاً لم يلزمه خياطة الباقي، وإِنْ تم العمل أَولاً، فللمستأجر أَن يأَتي بمثل ذلك القميص ليخيط بقية النهار، فإن قال في الإِجارة: على أَنك إِن فرغت قبل تمام اليوم لم تخط غيره، بطلت الإِجارة؛ لأَن زمان العمل يصير مجهولاً. إِذا عرفت ذلك فالمنافع متعلقة بالأَعيان، وتابعة لها، وعدد آحاد الأَعيان التي تستأجر كالمتعذر، فَعُنى الأَصحاب بثلاثة أَنواع تكثر البلوى بإِجارتها ليعرف طريق الضبط فيها، ثم يقاس بها غيرها. أحدها: الآدمي يستأجر لعمل، أو صناعة كالخياطة، فإِن كانت الإِجارة في الذمة قال: لزمت ذمتك خياطة هذا الثوب، ولو أَطلق وقال: ألزمت ذمتك عمل الخياطة كذا يوماً. قال القاضي أبو الطيب: لا يصح، وبه أَجاب صاحب "التتمة" توجيهاً بأنه لم يعين عاملاً يخيط، ولا محلاً للخياطة، فلا ترتفع الجهالة. وإن استأجر عينه قال: استأجرتك لتخيط هذا الثوب ولو قال لتخيط لي يوماً أَو شهراً، نقل أَكثرهم جوازه أَيضاً، ويجب أَن يبين الثوب، وما يريد منه من القميص، أَو القبا، أَو السَّراويل، والطول، والعرض، وأَن يبين نوع الخياطة، أَهي رومية، أَو فارسية؟ إِلاَّ أَن تطرد العادة بنوع فيحمل المطلق عليه. ومن هذا النوع الاستئجار لتعليم القرآن، ذكر الإمام وصاحب الكتاب أَنه يعين السورة والآيات التي يعلمها، أَو يقدر المدة، فيقول: لتعلمني شهراً، وفي إيراد غيرها ما يفهم عدم الاكتفاء بذكر المدة، واشتراط تعيين السور والآيات؛ لتفاوت التعليم سهولة وصعوبة. وفي وجه أَنه لا يجب تعيين السور, وإذا ذكر عشر آيات كفى. وفي "المهذب" وجه أَنه لا بد من تعيين السور، لكن يكتفي لإطلاق العشر منها، ولا يعين واحتج له بما روي أَنهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ في قِصَّةِ التَّي عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْه لبعض القوم: "إِني أُريد أَنْ أُزَّوِجُكَ هَذِهِ إِنْ رَضْيتِ فَقَالَ: مَا رَضِيْتَ لِي يَا رَسَولَ اللهِ فَقَدْ رَضِيْتُ فَقَالَ لِلرَّجُلِ: هِل عِنْدَكَ شَيء؟ قَالَ: لاَ قَالَ مَا تَحْفَظُ شَيْئًا مِنَ الْقُرآنَ؟ قال: سُوَرةَ البْقَرَةِ والَّتي تَلِيْهَا. قَالَ: قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرَين آية وَهِيَ امْرأَتُكَ (¬1). ¬
وفي وجوب رواية ابن كثير (¬1) ونافع (¬2) وغيرهما وجهان: أصحهما: المنع؛ لأَن الأَمر فيهما قريب، ويدل عليه الخبر السابق. قال الإمام وكنت أود أَلاَّ يصح الاستئجار للتعليم حتى يختبر حفظ المتعلم، كما لا تصح إِجارة الدابة للركوب حتى يعرف حال الراكب. لكن ظاهر كلام الأَصحاب أَنه لا يشترط، والخبر يدل عليه، وإنما الاستئجار لتعليم القرآن إِذا كان من يعلمه مسلماً أَو كافراً يُرْجَى إِسلامه، فإن كان لا يُرْجَى لا يعلم القرآن، كما لا يباع المصحف من الكافر، ولا يجوز الاستئجار له. وإن كان المستأجر على تعليمه يعلم الشيء بعد الشيء ثم ينساه، فهل على الأَجير إعادة التعليم؟ فيه أَوجه: أَحدهما: أَنه إن تعلم آية ثم نسيها لم يجب تعليمها ثانياً، وإن تعلم دون آية ونسي وجب. والثاني: أَن الاعتبار بالسورة. والثالث: إن نسي في مجلس التعليم، وجب إِعادته، وإِن نسي بعده فلا. والرابع: أن الرجوع فيه إِلى العرف الغالب وهو الأصح. فرع: عن القاضي الحسين في "فتاويه" أَن الاستئجار لقراءة القرآن على رأس القبر مدة جائز (¬3)، كالاستئجار للأذان، وتعليم القرآن. واعلم أَن عَوْد المنفعة إِلى المستأجر شرط في الإجارة كما سبق، فيجب عود المنفعة إلى المستأجر أَو ميِّته، لكن المستأجر لا ينتفع بأَن يقرأ الغير، ومشهور أَن الميت لا يلحقة ثواب القراءة المجردة، فالوجه تنزيل الاستئجار على صور انتفاع الميت بالقراءة، وذكر له طريقتين. أحدهما: أن يعقب القراءة بالدعاء للميت، فإن الدعاء يلحقه، والدعاء بعد القراءة أَقرب إِلى الإِجابة، وأَكثر بركة. ¬
والثاني: ذكر الشيخ عبد الكريم الثَّالوسي (¬1) أنه إِن نوى القارئ بقراءته أَن يكون ثوابها للميت لم يلحقة، لكن إِن قرأَ، ثم جعل ما حصل من الأجر له فهو دعاء بحصول ذلك الأَجر للميت، فينتفع الميت (¬2). ومنه: الاستئجار للرضاع يجب فيه التقدير بالمدة كما سبق، ولا سبيل إِلى ضبط مرات الإرضاع ولا القدر الذي يستوفيه في كل مرة، وقد تعرض له الأَمراض والأسباب الملهية، ويجب تعيين الصبي لاختلاف الغرض باختلاف حال الرضيع (¬3)، وتعيين الموضع الذي يرضع فيه أَهو بيته أَم بيتها. فإِن إرضاعها في بيتها أَسهل عليها، فالإِرضاع في بيته أَشد وثوقاً، هذا ما ذكره في استئجار الآدمي. وقد يستأجر لأُمور أُخر: منها: الحج وقد ذكرناه في بابه. ومنها: إِذا استأجر لحفر بئر أَو نهر أَو قناة، قدّر إِمَّا بالزمان، فيقول: تحفر لي شهراً، أَو بالعمل، فيقدر الطول والعرض والعمق، ويجب معرفة الأَرض بالمشاهدة، وللوقوف على صلابتها ورخاوتها، ويجب عليه إِخراج التراب المحفور، فإن انهار شيء من جوانب البئر لم يلزمه إِخراج ذلك التراب وِإذا انتهى إلى موضع صلب إِو حجارة، نظر إن كان يعمل فيه المعول وجب حفره على أَظهر الوجهين، وبه قال القاضي أَبو الطيب. والثاني: لا يجب، وبه قال ابن الصَّبَّاغ؛ ولأنه خلاف ما اقتضته المشاهدة، فعلى هذا له فسخ العقد، وإِن لم يعمل به المعول أو نبع الماء قبل أَن ينتهي إلى القدر المشروط، وتعذر الحفر انفسخ العقد في الباقي، ولا يفسخ فيما مضى على الأَصح، فتوزع الأجرة المسماة على ما عمل، وعلى ما بقي: وإِن استأجر لحفر قَبْر بَيَّنَ الموضع، والطول والعرض، والعمق، ولا يكفي الإِطلاق خلافاً لأَبي حنيفة، ولا يجب عليه التراب بعد وضع الميت خلافاً له أَيضاً. ومنها: إذا استأجر اللبن، قدر بالزمان أَو العمل، وإذا قدر بالعمل بين العدد ¬
فرع
والقالب، فإن كان القالب معروفاً فذاك، وإلاَّ بين طوله وعرضه وسمكه. وعن القاضي أَبي الطيب: الاكتفاء بمشاهدة القالب، ويجب بيان الموضع الذي يضرب فيه، لأَنه يبعد من الماء ويقرب، وربما يحتاج إلى نقل التراب أَيضاً، ولا يجب عليه إِقامتها حتى تجف خلافاً لأَبي حنيفة، ولو أَستاجر لطبخ اللبن فطبخ يجب عليه الإخراج من الأتون خلافاً له. ومنها: إذا استأجر لبناء، قدر بالزمان أَو بالعمل، فإن قدر بالَعمل، بينّ موضعه، وطوله وعرضه، وسمكه، وما يبنى منه من الطين، أَو الأجَر وإِن استأجره للتطيين أَو التجصيص بقدر بالزمان، ولا سبيل فيه إِلى تقدير العمل، فإِن سمكه لا ينضبط رقة وثخانة. ومنها: إِذا استأجر كَحَّالاً ليداوي عينيه قدر بالمدة دون البرء، فإن برئت عيناه قبل تمامها انفسخ العقد في الباقي، ولا يقدر بالعمل؛ لأَن قدر الدواء لا ينضبط، ويختلف بحسب الحاجة. ومنها: إِذا استأجر للرعي، وجب بيان المدة، وجنس الحيوان، ثم يجوز العقد على قطيع معين ويجوز في الذمة، وحينئذ فأَظهر الوجهين عند الشيخ أَبي إِسحاق الشيرازي أَنه يجب بيان العدد. والثاني: وبه أَجاب ابن الصَّبَّاغ، والقاضي الروياني، أَنه لا يجب، ويحمل على ما جرت العادة أَن يرعاه الواحد. قال الروياني: وهو مائة رأس من الغنم على التقريب، وِإن توالدت حكى ابن الصباغ أَنه لا يلزمه رعي أَولادها إِن رد العقد على أَعيانها، وإن كانت في الذمة لزمه. ومنها: إِذا استأجر نَسَّاخاً ليكتب له، بينّ عدد الأوراق والأسطر في كل صفحة ولم يتعرضوا للتقدير بالمدة، والقياس جوازه، وأَن يجب عند تقدير العمل بيان قدر الحواشي، والقطع الذي يكتب فيه. فرع: يجوز الاستئجار لاستيفاء الحد والقصاص، خلافاً لأَبي حنيفة في قصاص النفس. فرع: يجوز الاستئجار لنقل الميتة عن الدار إِلى المزيلة، والخمر لتراق ولا يجوز نقل الخمر من بيت إلى بيت خلافاً لأَبي حنيفة؟ قال الغزالي: (أمَّا الأرَاضَي) فَمَا يُطْلَبُ لِلسُّكْنَى يَرىَ المُسْتَأْجِرُ مَوَاضِعَ الغَرضِ فَيُنْظَرُ في الحَمَّامِ إِلى البُيُوتِ وَبِئْرِ المَاءِ وَمَسْقَطِ القَمَّاشِ وَالأَتُونِ وَالوَقُودِ وَيُعْرَفُ قَدْرُ المَنْفَعَةِ بِالمَدَّةِ، فإِنْ أجَّرَ سَنَةٌ فَذاكَ، فَإِنْ زَادَ فَالأَصَحُّ (و) أَنَّهُ جَائِزٌ ولاَ ضَبْطِ فِيهِ قَوْلاَنِ
آخَرَانِ، أحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يُزَادُ عَلَى السَّنَةِ لأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالحَاجَةِ، وَالثَّانِي: أَنَّه لاَ يُزَادُ عَلَى ثَلاثَيِنَ سَنَةً، وَلَوْ آجَرَ سِنِينَ ولَمْ يُقَدَّرْ حِصَّةَ كُلِّ سَنَةٍ مِنَ الأُجْرَةِ فَالأَصَح (و) الجَوَازُ كَمَا فِي الأَشْهُرِ مِنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ قَالَ: آجَرْتُكَ شَهْراً بِدْرِهَم وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِه فَهُوَ فَاسِدٌ إِذْ لَمْ يُقَدِّرْ جُمْلَتَهُ، وَقِيلَ: إنَّهُ يَصِحُّ في الشَّهْرِ الأَوَّلِ وَيَفْسدُ في البَاقِي. قال الرافعي: النوع الثاني: العقارات، وتستاجر لأَغراضٍ: منها السُّكنى، فإذا استأجر داراً وجب أَن يعرف موضعها، وكيفية أبنيتها؛ لاختلاف الغرض باختلافها، وفي الحَمَّام يعرف البيوت، والبئر التي يسقى منها ماؤه، والقدر التي يسخن فيها، والأتون وهو موضع الوقود ومبسط القماش (¬1)، والذي يجمع للأتُون من السَّرْجِيْنِ ونحوه، والموضع الذي يجمع فيه الزّيْل، والوَقُود، ومطرح الرَّمَاد، والمُسْتنْقَع الذي يجمع فيه الماء الخارج من الحمام، وعلى هذا قياس سائر المساكن. وقوله في الكتاب: "يرى المستأجر مواضع الغرض، فينظر في الحمام" مبني على أن إجارة الغائب لا تجوز. أما إذا جوزناها، فلا تعتبر الرؤية، بل يكفي الذكر. وقوله: "ومبسط القماش وألاتون والوقود". الوجه أن يقدم لفظ الوقود ليصير المعنى، ومبسط القماش، وموضع الوقود والأتون، وهذا لفظه في "الوسيط". فأما نفس الوقود فلا حاجة إلى رؤيته، ولا هو داخل في بيع الحَمَّام إجارتها، كالأزر والأسطال والحبل والدَّلو. وذكر في "الشامل" في رؤية قدر الحمام أنه إما أن يشاهد داخلها من الحمام، أو ظاهرها من الأتون، والقياس: على اعتبار الرؤية أن يشاهد الوجهين عند الإمكان، كما تعتبر مشاهدة وجهي الثوب. وفي شرح "المفتاح" أنه لا بد من ذكر عدد السُّكَّان من الرجال والنساء والصبيان، ثم لا يمتنع دخول زائر وضيف، وإن بات فيها ليالي في إجارة الدار (¬2). ولا بد من تقدير هذه المنفعة بالمدة، ولها كانت منافع هذه العقارات لا تتقدَّر إلاَّ بالمدة كما ذكرنا في الفصل السابق تكلَّم في مدة الإجارة في هذا الموضع، وفيها مسائل. إحداها: في إجارة الشيء أكثر من سنة قولان: ¬
أحدهما: المنع؛ لأن الإجارة عقد على معدوم جوز رخصة للحاجة والحاجة تندفع بالتجويز سنة، لأَنها مدة تنظيم الفصول، وتتكرر فيها الزروع والثمار والمنافع بتكرر تكررها. وأصحهما: الجواز، كما يجوز الجمع في البيع بين أعيان كثيرة، وهذا ما أجاب به في "المختصر"، فقال: وله أن يؤجر داره وعبده ثلاثين سنة، وعلى هذا فطريقان: أحدهما: أن المسألة على قولين: أحدهما: أنه يجوز الزيادة على ثلاثين سنة؛ لأنها نصف العمر، والغالب ظهور التغيير على الشيء بمضي هذه المدة، فلا حاجة إلى تجويز الزيادة عليها. وأصحهما: أنه لا تقدر كما لا تقدر في جميع الأعيان المختلفة في البيع. والطريق الثاني: القطع بالقول الثاني، وحمل ما ذكره المُزَنِيُّ على التمثيل للكثرة لا للتحديد، وعلى هذا من ضابط؟ قال معظم الأصحاب: يجب أن تكون المدة بحيث يبقى إليها ذلك الشيء غالباً، فلا يؤجر العبد أكثر من ثلاثين سنة، والدابة تؤجر عشر سنين، والثوب إلى سنتين، أو سنة على ما يليق به، والأراضي إلى مائة أو أكثر. وفي كتاب القاضي ابْنِ كَجٍّ أن العبد يؤجر إلى مائة وعشرين سَنَةً من عمره. وقال بعضهم: يصح وإن كانت المدة بحيث لا تبقى إليها العين في الغالب اعتماداً على أن الأصل الدوام والاستمرار، فإن هلك بعارض، فهو كانهدام الدار ونحوه في المدة، وحاصل هذا الترتيب أربعة أقوال. التقدير بثلاثين سنة والضبط بمدة بقاء ذلك الشيء غالباً، ومنع الضبط والتقدير من كل وجه. وقوله: فالأصح أنه جائز ولا ضبط يجوز أن يحمل على ما قاله المعظم. ويقال: المعنى أنه لا ضبط بعد كون المدة بحيث يبقى إليها شيء، ويجوز أن يجري على ظاهره، فيكون اختيارًا للقول الرابع وقد اختاره غيره من أصحاب الإمام. وقوله: "وفيه قولان آخران" يجوز إعلامه بالواو للطريقة القاطعة لقول التقدير بالثلاثين. وقوله: "لا يزاد على السنة ولا يزاد على ثلاثين سنةٌ معلّماً بالحاء والميم والألف؛ لأن عندهم لا تقدير. وحكم الوقف في مدة الإجارة حكم الملك. قال أبو سعيد المتولي: إلاَّ أنَّ الحكام اصطلحوا على منع إجارته أكثر من ثلاث سنين لئلاَّ (¬1) يندرس الوقف، وهذا الاصطلاح غير مطرد، وهو قريب مما حكوه عن ¬
أَبِي حَنيْفَةَ في منع إجارة الوقف أكثر من ثلاث سنين في عقد واحد. وفي "آمالي" أَبِي الفَرجِ السَّرْخَسِيِّ أن المذهب منع إجارة الوقف أكثر من سنة واحدة إذا لم تمس إليها الحاجة لعمارة وغيرها وهو قريب. المسألة الثانية: إنْ جوزنا الإجارة أكثر من سنة، فهل يجب تقدير حصَّة كل سنة؟ قولان: أصحهما: لا كما لو باع أعياناً صفقة واحدة لا يجب تقدير حِصَّة كل عين منها، وكما لو أَجَّرَ سنة لا يجب تقدير حِصّة كل شهر. والثاني: ويحكى عن رواية الربيع، وحرملة، والمزني في "الجامع الكبير"، نعم؛ لأن المنافع تتفاوت قيمها بالسنين، وربما تهلك العين في المدة، فيتنازعان في قدر الواجب من الأجرة، ومن قال بالاول يوزع الأجرة المُسَمَّاة على قيمة منافع السنين، فينقطع النزاع، وبنى القولين بعضهم على القولين فيما إذا أسلم في شيئين، أو في شيء إلى أجلين، ففي قول يجوز أخذاً بظاهر السلامة (¬1)، وفي قول: لا لما عساه أن يقع من الجهالة بالأجرة، ويجوز أن يعلم قوله في الكتاب: "فالأصح الجواز" -بالواو- لأن القاضي أبَا القَاسِمِ بْنَ كَجٍّ حكى طريقة أخرى قاطعة بإنه لا يجب التقدير، واختارها مذهباً. الثالثة: قول العاقد أجرتك شهراً أو سنة فحمول على ما يتصل بالعقد في أظهر الوجهين. وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه المفهوم المتعارف. والثاني: وبه قال أحمد: لا بد وأن يقول: من الآن وإلاَّ فهو كقوله: بعتك عبداً من العبيد، ولو قال: أجرتك شهراً من السنة. قال الإمام: يفسد العقد بلا خلاف للإبهام، واختلاف الأغراض. وإذا قال: أَجَّرْتُكَ هذه الدار كل شهر بدرهم من الآن لم تصح الإجارة؛ لأنه لم يبين لها مدة. وعن "الإملاء" أن تصح في الشهر الأول؛ لأنه معلوم، والزيادة مجهولة، وبه قال الإصطخري. ولو قال: أجرتك كل شهر من هذه السنة بدرهم لم يصح. وعن ابن سريج أنه يصح في شهر واحد دون ما زاد، ورجحوا الأول واحتجوا له بأنه لم يضف الإجارة إلى جميع السنة. وفي "النهاية" أن الأئمة بمثله أجابوا فيما إذا قال: بعتك كل صاع من هذه الصُّبْرة بدرهم، وقالوا: إنه لم يضف البيع إلى جميع ¬
الصبرة بخلاف ما إذا قال: بعتك هذه الصُّبرة كل صاع بدرهم. وكان ينبغي أن يفترق بين أن يقول: بعتك كل صاع من هذه الصبرة بدرهم، فيجعل كما لو قال: بعتك هذه الصُّبرة كل صاع بدرهم، ويصح العقد في الجميع وبين أن يقول: بعتك من هذه الصبرة كل صاع بدرهم، فيحكم بالبطلان هاهنا أو يصح في صاع واحد، كما حكيناه عن ابْنِ سُرَيْجٍ في البيع، وكذلك ينبغي أن يفرق في الإجارة. وقد وَفَّى القضية المذكورة الشيخ أبو محمد، فسوى بين قوله: بعتك كل صاع من هذه الصُّبْرَةِ بدرهم، وبين قوله: بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهمٍ، وصحح البيع في جميع الصبرة باللفظين. ثم اعلم أن عامة النقلة إنما نقلوا التجويز في شهر واحد عن ابن سُرَيْجٍ فيما إذا ضبط الاشهر بالسنة، أما إذا أطلق، وقال: كل شهر بدرهم، فالخلاف فيها منسوب إلى "الإملاء"، واختيار الإصطخري كما سبق. والفرق بين الصورتين بَيِّنٌ. وحكى الإمام والمصنف في "الوسيط" التجويز في شهر عن ابن سريج مع التصوير فيما إذا أطلق ذكر الشهر، ولم يساعدا عليه. وقوله هاهنا: "لو قال: اجرتك شهراً بدرهم، وما زاد فبحسابه" أراد به الصورة الأولى والثانية، حيث حكى الخلاف فيه، وأما ما يشعر به اللفظ فلا يجري فيه الخلاف؛ لأن قوله: آجرتك شهراً بدرهم إمَّا أنْ يُحْمَلَ على شهرٍ غير معين، أو على الشهر المتصل باللفظ، إن كان الأول فلا خلاف في فساد الإجارة، وإن كان الثاني فالشهر الأول مفرد بالعقد مقابل بالعوض، فيصح العقدُ فيه بلا خلاف. وكذلك أورده صاحب "المهذب" وغيره. واعلم أن الحكم في مدة الإجارة كالحكم في أجل السلم في أن مطلق الشهر يحمل على أمرين. وكذا السنة في أنه إذا قَيّد بالعدد، أو قال سنة روميّة، أو فارسيّة أو شميّسة كان الأجل ما ذكره في أن العقد إذا انطبق على أَوَّلِ الشهرِ اعتبر ذلك الشهر، وما بعده بالأهلّة، وإن لم ينطبق تيمم المنكسر بالعدد من الآخر، ويحسب الباقي بالأهلّة، وفي سائر المسائل المذكررة في السلم، وفي التأجيل بالسنة الشمسية وجه أنه لا يجوز، وهو قريب من الوجه المذكور هناك في التأقيت بفصح النصارى. ولو قال: أجرتك شهراً من هذه السنة فإن لم يكن بقي من السنة إلاَّ شهر صَحَّ، وإن بقي أكثر من شهر لم يصح للجهالة، هكذا ذكره في "التهذيب" و"التتمة". والحكم بالبطلان فيما إذا كان الباقي أكثر من شهر يجوز أن يكون تفريعاً على
قولنا: إن الشهر المطلق محمول على المتصل بالعقد ويجوز أن يحكم بالبطلان مع قولنا أن الشهر المطلق محمول مع المتصل بالعقد. ويقال: التعقيب بقوله: من هذه السنة يمنع من فهم الشهر المتصل بالعقد، ويوقع التردد بينه وبين سائر المشهور. قال الغزلي: وَلَوْ قَالَ: اجَرْتُكَ الأَرْضَ وَلَمْ يُعَيِّنِ البِنَاءَ وَالزّرَاعَةَ وَالغِرَاسَ لَمْ يَجُزْ لأنَّهُ مَجْهُولٌ، وَلَوْ قَالَ: لِتَنْتَفِعَ بِهِ مَا شِئْتَ جَازَ (و)، وَلَوْ قَالَ: اجَرْتُكَ لِلزِّرَاعَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَزْرَعُ فِفيهِ خِلافٌ لِأنَّ التَّفَاوُتَ فِيِه قَرِيبٌ، وَلَوْ قَالَ: أَكْرَيْتُكَ إنْ شئت فَازْرَعْهَا وإِنْ شئْتَ فَاغْرِسْهِا جَازَ عَلَى الأَصَحِّ (و) وَيَتخَيَّرُ كَمَا لَوْ قَالَ: كَيْفَ شِئْتَ، وَلَوْ قَالَ: أكْرَيْتُكَ فَازْرَعْهَا وَاغْرِسْهَا وَلَمْ يَذْكُرِ القَدْرَ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَقِيلَ: إنَّهُ يُنَزَّلُ عَلَى النِّصْفِ، وَلَوِ اكْتَرَى الأَرْضَ لِلبْنَاءِ وَجَبَ تَعْرِيفُ عَرْضِ البِنَاءِ ومَوْضِعِهِ، وفِي تَعْرِيفِ ارْتِفَاعِهِ خِلاَفٌ (و). قال الرافعي: ومما تستأجر له الأرض البناء. والزراعة، والغراس، فلو قال: آجرتك هذه الأرض ولم يذكر البناء ولا غيره، وهي صالحة للكل لم يصح؛ لأن منافع هذه الجهات مختلفه. وكذا ضررها اللاحق بالأرض فوجب التعيين، كما لو أجر بهيمة لا يجوز الإطلاق، هذا جواب الأصحاب في هذا الموضع وقد رأوه متفقاً عليه، حتى احتجوا به لأحد الوجهين فيما لو أعار الأرض مطلقاً كما سبق في "العارية". لكنا قد نقلنا في مسألة إجارة الأرض التي لا ماءَ لها تصريحهم بجواز الإجارة مطلقاً فيثبه أن تكون الإجارة مطلقاً على وجهين كإعارتها. والظاهر المنع فيهما، وما ذكروه في إجارة الأرض التي لا ماء لها مفرع على الوجه الآخر (¬1) أو مؤول. ولو أجر داراً أو بيتاً لم يحتج إلى ذكر السُّكنى؛ لأن الدار لا تستأجر إلاَّ للسكنى، ووضع المتاع فيها, وليس ضررها مختلف، فيجوز الإطلاق كذا ذكروه. ويجوز أن يمنع فيقال: كما تستاجر الدار للسُّكنى، كذلك تستأجر لتتخذ مسجداً، ¬
ولعمل الحَدَّادين، والقصارين، ولطرح المزابل فيها، وهي أكثر ضرراً، أَلاَ تَرىَ إذا استأجر للسُّكنى لم يكن له شئ من هذه الانتفاعات؟ فإذا ما جعلوه مبطلاً في إجارة الأرض مطلقاً موجود في الدار ولئن قيل الإجارة لا تكون إلاَّ لاستيقاء منفعة، فإذا أجر الدَّارَ وأطلق، منزل على أدنى الجهات ضرراً، وهي السكنى، ووضع المتاع لزم في إجارة الأرض مثله حتى ينزل على أدنى الجهات ضرراً وهي الزراعة، ويصح العقد بها، وهذا الإشكال ينساق إلى أنه لابد في استئجار الدار من بيان أنه يستأجر للسكنى، أو للعمارة فيها، وقد أجاب بعض شارحي "المفتاح". ولو قال: أجرتك هذه الأرض تنتفع بها ما شئت. فمنقول الإمام وصاحب الكتاب أن الإجارة صحيحة، وله أن ينتفع ما شاء لرضاه. وفي "التهذيب" وجه آخر: أنها لا تصح كما لو قال: بعتك من هؤلاء العبيد من شئت. ولو قال: أجرتكها للزرعة، ولم يذكر ما يزرع أو للبناء والغراس، وأطلق فوجهان كالوجهين المذكورين فيما إذا أعار الأرض للزراعة، ولم يبين الزرع. أظهرهما: عند الأكثرين الجواز. وبالمنع قال أبو حنيفة وابن سريج ونقله القاضي ابن كج عن نصه في "الجامع الكبير" وحكى للأول عن تخريج ابن القطان حكايته الشيء الغريب، ومن جوّز قال: له أن يزرع ما شاء لإطلاق اللفظ، وكان يجوز أن ينزل على أقل الدرجات، ولو قال: أجرتكها لتزرع، أو لتغرس لم يصح، ولو قال: إن شئت فازرعها، وإن شئت فاغرسها، فأصح الوجهين ما ذكر في الكتاب صحة الإجارة ويخيّر المستأجر. والثاني: المنع كما لو قال: بعتك بألف مُكسَّرة إن شئت، وصحيحة إن شئت، واستشهد في الكتاب للوجه الأول بماذا قال: لتنتفع كيف شئت؟ لكنَّا حكينا الخلاف فيه أيضاً فلا فرق. ولو قال: أكريتك فازرعها واغرسها، أو لتغرسها وتزرعها ولم يبين القدر فوجهان. أحدهما: وبه قال ابن سلمة: يصح وينزل على النصف، وعلى هذا فله أن يزرع الكل لجواز العدول من الغراس إلى الزرع، ولا يجوز أن يغرس الكل. وأقربهما: وبه قال المزني وابن سريج، وأبو إسحاق: أنه لا يصح؛ لأنه لم يُبَيِّن كم يزرع؟ وكم يغرس؟ بل لو قال: لتزرع النصف، وتغرس النصف فعن القَفَّال: أنه لا يصح لأنه لم يُبَيِّن المغروس والمزروع، فصار كما إذا قال: بعتك أحد هذين العبدين بألف والآخر بخمسمائة، ويجب في استئجار الأرض للبناء بيان موضعه وطوله
وعرضه، وفي بيان قدر ارتفاعه وجهان ذكرهما في "كتاب الصُّلْح" بتوجيههما: والأظهر: ما أجاب به في الكتاب هناك، وهو أنه لا حاجة إليه، بخلاف ما إذا استأجر سقفاً للبناء. قال الغزالي: (أَمَّا الدوَابُّ) فَإِنِ أسْتُؤْجِرَ لِلرُّكُوبِ عَرَّفَ (م) الآجِرُ الرَّاكِبَ بِرُؤْيَةِ شَخْصِهِ أَوْ سَمَاعِ صُفَتِهِ في الضَّخَامَةِ وَالنَّحَافَةِ لِيَعْرفَ وَزْنَهُ تَخْمِيناً، وَيعِرْفَ المَحِلَ (ح) بِالصِّفَةِ في السَّعَةِ وَالضِّيقَ وَبِالوَزْنِ فَإِنْ ذَكَرَ الوَزْنَ دُوْنَ الصِّفَةِ أَوْ بِالعَكْسِ فَفيهِ خِلاَفٌ (و)، وُيعَرِّفَ تَفَاصِيل المَعَاليِقِ ,فَإِنْ شَرَطَ المَعَالِيَقَ مُطلَقاً فَهُوَ فَاسدٌ (ح م) عَلَى النَّصِّ لتَفَاوُتِ النَّاسِ فِيهِ، وَالمُسْتَأْجِرُ يُعَرِّفُ لِدَابَّةٍ بِرُؤْيتِهَا أَوْ بِوَصْفِهَا إِنْ أَوْرَدتَّ الإِجَارَةَ عَلَى العَيْنِ أَهِيَ فَرَسٌ أَمْ بَغْلٌ أم ناقة أَمْ حِمَارٌ، وفِي ذِكْرِ كَيِفْيَّةِ السَّيْرِ مَنْ كَوْنِهَا مُهَملْجِاً أَوْ بَحْراً خِلاَفٌ (و)، وَيُعَرِّفُ وتَفْصِيلَ السَّيْرِ والسُّرَى وَمِقْدَارِ المَنَازَلِ وَمَحَلِّ النُّزوُلِ أَهُو القُرَى أَو الصَّحْرَاءُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلعُرْفِ فِيهِ ضَبْطٌ، وَإِنْ كَانَ فالعُرْفُ مُتَّبَعٌ. قال الرافعي: النوع الثالث: الدواب وتستأجر لأغراض. منها: الركوب، وفيه مسائل: إحداهما: يجب أن يعرف المؤجر الراكب، وفي طريق معرفته وجوه. قيل: الطريق المشاهدة لأن الغرض يتعلق بثقل الراكب، وخفته بالضَّخامة، والنَّحافة، وكثرة الحركات والسكنات، والوصف لا يفي بذلك. ومنهم من قال: إن كان غائباً وصفه، وذكر وزنه. وقال الآخرون: بل بذكر صفته في الضخامة والنحافة ليعرف وزنه تخميناً، وهذا ما ذكره الإمام وصاحب الكتاب. وأكثر الأصحاب على اعتبار المشاهد لكن إلحاق الوصف التام بهذا أشبه في المعنى؛ لأنه يفيد التخمين كالمشاهدة. ويجوز أن يعلم قوله: "عرف المؤجر الراكب" بالميم؛ لأن الحكاية عن مالك أنه يجوز فيه الإطلاق لتفاوت أجسام الناس غالباً. الثانية: إن كان الراكب مجرداً ليس معه ما يركب عليه، فلا حاجة إلى ذكر ما يركب عليه لكن المؤجر يركبه على ما يشاء من سَرْج، أو أكاف زاملة على ما يليق بالدابة (¬1)، وإن كان يركب على رَحْل أو فوق زَامِلة، أو فوق مَحْمل أو عمارية، وفي ¬
غير الإبل أراد الركوب على سرج أو أكاف وجب ذكره، وينبغي أن يعرف المؤجر هذه الآلات، فإن شاهدها كفى، وإلاَّ فإن كانت سروجهم ومحاملهم وما في معناها على وزن وتقطيع لا يتفاحش (¬1) فيه التفاوت كفى الإطلاق، وحمل على معهودهم، وإن لم يكن لهم معهوداً مطرداً، فلا بدّ من ذكر وزن السرج والإكاف والزاملة هذا هو المشهور. وفي "النهاية" أن أحداً من الأصحاب لم يتعرض لاشتراط الوزن في السّرج والإكاف؛ لأنه لا يكثر فيهما التفاوت، وفي المحمل والعمارية ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا يصح العقد، ولا بدّ من مشاهدتها لأن الغرض يختلف بسعتهما وضيقهما، وذلك لا نضبط بالوصف والثاني قال أبو إسحاق إن كانت المحامل بغدادية خفافاً لتقاربها وإن كانت خراسانية ثقالاً فلا من مشاهدتها. وأشبههما: وهو المذكور في الكتاب: أنه يكفي فيها الوصف وذكر الوزن، لإفادتهما التخمين كالمشاهدة، ولك أن تحتج له يقوله في "المختصر" فإن ذكر محملاً أو مركباً أو زاملةً بغير رؤية ولا وصفٍ فهو مفسوخ للجهل بذلك، فاعتبر الوصف كالرؤية. وعلى هذا لو ذكر الوزن دون الصفة أو الصفة دون الوزن فوجهان: أظهرهما: أنه لا يكفي لبقاء الجهل مع سهولة إزالته، وذكر في "التهذيب" أن الزاملة تمتحن باليد ليعرف خفتها وثقلها، بخلاف الراكب لا يمتحن بعد المشاهدة، وينبغي أن يكون المحمل والعمارية في ذلك كالزاملة، ولا بُدَّ في المحمل ونحوه من الوطاء، وهو الذي يفرش فيه ليجلس عليه فينبغي أن يعرف بالرؤية والوصف والغطاء الذي يستظل به، ويتوَّقى من المطر وقد يكون وقد لا يكون فيحتاج إلى شرطه، وإذا شرطه فجواب الشيخ أبي حامد وابن الصباغ أنه يكفي فيه الإطلاق؛ لأن التفاوت فيه قريب، ويغطية بجلد أو كساءٍ أو لبْد. وفي شرح القاضي ابن كج "والتتمة" أنه يعتبر وصفه أو رؤيتة كالوطاء، وهو ظاهر النص. نعم لو كان فيه عرف مطرد كفى الإطلاق كما سبق في المحمل وغيره، وقد يكون للمحل طرف من لبود أو أدم فهو كالغطاء. وليعلم وقوله في الكتاب "ويعرف المحمل" بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة يجوز فيه الإطلاق ولا حاجة إلى تعريفه. وقوله: "بالصفة" بالواو للوجه الذاهب إلى اعتبار المشاهدة. الثالثة: إذا استأجر للركوب، وشرط حمل المُعاليق، وهي السُّفر والإداوة، ¬
والقدور، والقمقمة ونحوها، نُظِرَ إن رآها المؤجر أو وصفها وذكر وزنها فذاك. وإن أطلق قال الشافعي رضي الله عنه: القياسُ أنه فَاسدٌ ومن الناس من يقول: له بقدر ما يراه الناس وسطاً. وفيه طريقان للأصحاب: أشهرها: أن في المسألة قولين، وما ذكره تمثيل قول منه: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة ومالك أنه يصح العقد، ويحمل الشرط على الوسط المعتاد. وأصحهما: المنع لاختلاف الناس فيها. والطريق الثاني: القطع بالقول الثاني، وحمل ما ذكره على نقل مذهب الغير. وإن قال استأجر للركوب من غير شرط المُعَاليق لم يستحق حملها؛ لأن الناس فيه مختلفون فقد لا يكون للراكب معاليق أصلاً. وفيه وجه أنه كما لو شرط، وأطلق، وما ذكرناه في السفرة والإِدَوَاة الخاليتين، فإن كان في هذه طعام، وفي تلك ماء، فسيأتي في الباب الثاني إن شاء الله تعالى. الرابعة: إنْ كانت الإجارة على عين الدابة، فلا بد من تعيينها، وفي اشتراط رؤيتها الخلافُ في شراء الغائب، فإن كانت في الذمة، فلا بد من ذكر جنسها أهي من الإبل، أو الخيل، أو البغال، أو الحمير؟ ومن ذكر نوعها أهي عربية أم نجيبة؟ ومن ذكر الأنوثة والذكورة لاختلاف الغرض، فإن الأنثى أسهل سيراً، والذكر أقوى، وفي المسامحة به بذكر الأنوثة والذكورة وجه. وهل يجب أن يقول: مهمِلج (¬1) أوَ بحْر (¬2) أو قطوف (¬3)؟ فيه وجهان. أظهرهما: نعم؛ لأن معظم الغرض يتعلق بكيفية السير الخامسة: إذا استأجر دابة للركوب فلبيينا قدر السير كل يوم (¬4) فهذا بَيَّناه حملاً على المشروط، فإن زادا في يوم أو نقصاً فلا جبران، بل يسيران بعده على المشروط، وإذا أراد أحدهما المجاوزة عن المشروط، أو النزول دونه لخوف أو غصب لم يكن له ذلك، إلاَّ أن يوافقه صاحبه قاله في "التهذيب"، وكان يجوز أن يجعل الخوف عذراً لمن يختاط ويؤمر الآخر ¬
بموافقته (¬1). وإن لم بيَّنَا قدر السير، وأطلقا العقد، نُظِرَ إن كان في الطريق منازل مضبوطة صح العقد، وحمل عليها، وإن لم يكن فيه منازل، أو كانت والعادة مختلفة فيها لم يصح العقد حتى بيَّنَا أو يقدَّرا بالزمان هذا ما اشتملت عليه الطرق ووراءه شيئان: أحدهما: عن أبي إسحاق أنه قال: إذا اكترى إلى "مكة" في زماننا لم يكن بُد من ذكر المنازل؛ لأن السير في هذا الزمان سياق لا تطيقه الحمولة فلا يمكن حمل الإطلاق عليه. والثاني: ذكر القاضي أبو الطيب أنه إذا كان الطريق مخوفاً لم يجز تقدير السير فيه؛ لأنه لا يتعلق بالاختيار. وتابعه على هذا القَاضِي الرُّوياني في "التجريد" وقضيته امتناع التقدير بالزمان أيضاً، وحيئذ يتعذَّرُ الاستئجارُ في الطريق الذي ليس له منازل مضبوطة إذا كان مخوفاً، والقول في وقت السير أهو الليل أو النهار؟ وفي موضع النزول في المرحلة أهو نفس القرية أو الصحراء، أو في الطريق الذي يسلكه إذا كان للمقصد طريقان؟ على ما ذكرنا في قدر السير في العمل على المشروط أو المعهود، وقد يختلف المعهود في فصلي الشتاء والصيف، وحالتي الأمن والخوف، فكل عادة تراعى في وقتها. وقوله في الكتاب "ويعرف تفصيل السير والسُّري" المراد من السير المسير بالنهار، ومن السُّري المسير بالليل أو المعنى أنه يجب ذكر ذلك، وبيانه إن لم يكن للعرف ضبطاً فيه، وإن كان فيتبع إن أطلقا العقد، أما إذا شرطا خلاف المعهود، فهو المتبع لا المعهود. قال الغزالي: وَإِنِ اسْتُؤْجُرَ لِلحَمْلِ فَيعَرِّفُ قَدْرَهُ بالتَّخْمِينِ إِنْ كَانَ حَاضِراً، فَإِنْ كَانَ غَائِباً فَبِتَحَقُّقِ الوَزْنِ بِخلاَفِ الرَّاكِب، وَإِنْ كَانَ في الذِّمِة فَلاَ يُشْتَرَطُ معْرِفَةُ وَصْفِ الدَّابَّةِ إِلاَّ إِذا كَانَ المَنْقُولُ زُجَاجاً إِذْ يَخْتَلِفُ الغَرَضُ بصفَاتِ الدَّابَّةِ، وَإِذَا شَرَطَ مأته مَنٍّ مِنَ الحِنْطَةِ بِكَوْنِ الظَّرْفِ وَرَآهُ فَلْيُعَرِّفْ قَدْرَهُ وَوَزنَهُ إِلاَّ إِذَا تَمَاثَلَتِ الغَرَائِرِ بِالعُرْفِ، وإِنْ قَالَ: مِائَةُ من فَهُوَ الظَّرْفِ عَلَى الأَصَحِّ (و). قال الرافعي: من الأغراض التي تستأجر لها الدواب العمل عليها، فينبغي أن يكون المحمول معلوماً؟ فإن كان حاضراً ورآه المؤجر كفى، وإن كان في ظَرْفٍ وجب أن يمتحنه باليد تخميناً لوزنه، فإن لم يكن حاضراً فلا بد من تقديره بالوزن، أو الكيل ¬
إن كان مكيلاً، والتقدير بالوزن في كل شيء أولى وأحصر، فَلاَ بُدَّ من ذكر جنسه؛ لأن تأثير الحديد والقطن في الدابة. وإن استويا في القدر (¬1) فمختلف، فالحديد يَهِدُّ مؤخرة الدابة، والقطن يعمُّها ويتثاقل إذا دخله الريح. نعم لو قال: أجرتكها لتحمل عليها مائة مما شئت، فأصح الوجهين: أنه يجوز، ويكون رضاً منه بأضر الأشياء، فلا حاجة مع ذلك إلى بيان الجنس وفي "الرقم" أنه يجوز حذاق المَرَاوِزَةِ قالوا: إذا استأجر دابة للحمل مطلقاً جاز، وجعل راضياً بالأضر، وحاصله الاستغناء بالتقدير عن ذكر الجنس، هذا في التقدير بالوزن. أما إذا قدر بالكيل، فالمفهوم مما أورده أبُو الفَرَج السَّرخَسِيُّ أنه لا يغني عن ذكر الجنس، وإن قال: عشرة أقفزة مما شئت لاختلاف الأجناس في الثقل مع الاستواء في الكيل، لكن يجوز أن يجعل ذلك رضاً بأثقل الأجناس، كما جعل رضاً بالأضر, الأجناس، ولو قال: أجرتك لتحمل عليها ما شئت لم يجز، بخلاف ما إذا أجر الأرض ليزرع ما شاء؛ لأن الدابة لا تطيق كل ما يحمل، وأما ظروف المتاع وحباله، فإن لم تدخل في الوزن، فإن قال: مائة مَنٍّ مِنَ الحِنْطَة، أو كان التقدير بالكيل، فلا بد من معرفتها بالرؤية، أو الوصف إلاَّ أن تكون هناك غرائز متماثلة اطرَّد العرف بأستعمالها، فيحمل مطلق العقد عليها، وإن دخلت في قدر المتاع بإن قال: مائة مَنٍّ من الحِنْطةِ بظروفها صح العقد لزوال الغَرَرِ بذكر الوزن، هكذا ذكر، لكنا إذا اعتبرنا ذكر الجنس مع الوزن وجب أن يعرف قدر الحِنْطَة وحدها، وقدر الظَّرْف وحده، ولو اقتصر على قوله: مائة مَنٍّ، فأصح الوجهين أن الظرف من المائة. والثاني: أنه وراءها؛ لأنه السابق إلى الفهم، فعلى هذا يكون الحكم كما لو قال: مائة مَنٍّ مِنَ الحِنْطَة، وتصوير المسألة يتفرع على الاكتفاء بالتقدير، وإهمال ذكر الجنس إما مطلقاً أو إذا قال: مائة مما شئت، هذا حكم المَحْمل على الدَّابة. أما الدابة الحاملة إذا كانت معينة، فعلى ما ذكرنا في الركوب، فإن كانت الإجارة على الذمة، فلا يشترط معرفة جنس الدابة وصفتها، بخلاف ما في الركوب؛ لأن المقصود تحصيل المتاع في الموضع المنقول إليه، فلا يختلف الغرض بحال الحامل، نعم لو كان المحمول زُجَاجاً أو خَزَفاً، وما أشبهها، فلا بد من معرفة حال الدابة، ولم ينظروا في سائر المحمولات إلى تعلُّق الغرض بكيفية سير الدابة بسرعة، أو بُطءٍ، وقوة أو ضعف، أو تخلفها عن القافلة على بعض التقديرات، ولو نظروا إليها لم يكن بعيداً، والكلام في المُعَاليْقِ، وتقدير السير على ما ذكرنا في الاستئجار للركوب. ¬
فرع
فرع: لو استأجره ليحمل هذه الصُّيْرة إلى موضع كذا كل مكيلة بدرهم، أو مكيلة منها بدرهم، وما زاد فبحسابه صح العقد، كما لو باع كذلك، بخلاف ما لو قال: أجرتك كل شهر بدرهم؛ لأن جملة الصُّبْرَة معلومة محصورة، وليست الأشهر كذلك، ولو قال: لتحمل مكيلة منها بدرهم على أن تحمل كل مكيلة منها بدرهم، أو على أن ما زاد فبحسابه ففيه وجهان عن صاحب "التقريب": أشبههما: المنع؛ لأن شرط عقد في عقد. والثاني: الجواز، والمعنى أن كل قفيز بدرهم، ولو قال: لتحمل هذه الصُّبْرَة، وهي عشرة مكاييل كل مكيلة بدرهم، فإن زادت فبحساب ذلك، صح ذلك العقد في العشرة المعلومة دون الزيادة المشكوكة وعلى هذا أَوَّلَ مؤلون قوله في "المختصر": ولو اكترى حمل مكيلة، وما زاد فبحسابه، فهو في المكيلة جائز، وفي الزيادة فاسد. ومنهم من حمله على ما إذا قال: لتحمل هذه المكاييل كل واحدة بدرهم، فإن قدم إلى طعام فبحساب ذلك. وعن أبي إِسْحَاق في الزيادات على الشرح حمله على ما إذا قال: استأجرتك لتحمل هذه الصُّبْرة مكيلة منها بكذا، والباقي بحسابه، لكن في هذه الصورة صحة العقد في الجميع؛ لأن الصُّبرة معلومة مشاهدة، والأجرة بالتقسيط. ولو قال: استأجرتك لتحمل من هذه الصَّبْرة كل مكيلة بدرهم لم يصح على المشهور، وقد مَرَّ في نظيره من البيع أنه يصح في مكيلة واحدة، فيعود هاهنا. قال الغزالي: وَإِنْ اسْتُؤْجِرَ لِلسَّقْي فَيُعَرِّفُ قَدْرَ الدّلاَءِ وَالعَدَدِ وَمَوْضِعَ البِئْرِ وَعُمْقَهُ، وَإِن كَانَ لِلحِرَاثَةِ فَيُعَرّفُ بِالمُدَّةِ (و) أَوْ بِتَعْيِينِ الأَرْضِ فَيُعَرِّفُ صَلاَبَتَهَا وَرَخَاوَتَهَا وَعَلَى الجُمْلةِ مَا يَتَفَاوَتُ بِهِ الغَرَضُ وَلاُ يَتَسَامَحُ بِهِ في المُعَامَلَةِ يُشْتَرَطُ تعْرِيفُهُ. قال الرافعي: ومن الأغراض سقي الأرض بإدارة الدُّولاَب أو الاستقاء من البئر بالدَّلْو، فإن كانت الإجازة على عَيْن الدابة وجب تعيينها، كما في الركوب والحمل، وإن كانت في الذمة لم يجب بيان الدابة، ومعرفة جنسها. وعلى التقديرين فينبغي أن يعرف المكري الدولاب والدلو، وموضع البئر، وعمقها بالمشاهدة، أو الوصف أن كان الوصف بضبطها، وتقدر المنفعة إما بالزمان بإن يقول: للسقي بهذا الدلو من هذه البئر اليوم، أو بالعمل بأن بقول: لتسقى خمسين دلواً من هذه البئر بهذه الدلو، ولا يجوز التقدير بالأرض بأن يقول: لتسقى هذا البستان، أو جزءاً منه؛ لأن رَيَّهُ مختلف بحرارة الهواء وبرودته، وكيفية حال الأرض، ولا تنضبط.
ومنها: الحراثة فيجب أن يعرف المكتري الأرض لاختلاف الأراضي في الصَّلابه والرَّخَاوة، ومَقدار المنفعة إما بالزمان بأن يقول: لتحرث هذه الأرض الشهر (¬1)، أو بالعمل بأن يقول: لتحرث هذه القطعة، أو إلى موضع كذا منها. وفيه وجه آخر: أن هذه المنفعة لا يجوز تقديرها بالمدة، وبه أجاب الشيخ أَبُو حَامِدِ في "التعليق" والظاهر الأول. وأما معرفة الدَّابة، فلا بد منها إن كانت الإجارة إجارة عين، وإِن كانت في الذمة، فكذلك إن قدر بالمدة، وجوزناه لأن العمل يختلف بإختلاف حال الدابة، وإن قدر بالأرض المحروثة، فلا حاجة إلى معرفتها. ومنها: الدِّيَاس فيعرف المكرى الجنس الذي يُرِيْدُ دِبَاسَته، وتقدر المنفعة بالمدة أو بالزرع الذي يدوسه، والقول في معرفة الدابة على ما ذكرنا في الحراثة، والاستئجار للطحن كالاستئجار للدِّيَاسِ. وقوله في الكتاب: "في الاستئجار للحراثة فيعرف بالمدة" يجوز إعلامه بالواو. ثم في قوله: "فيعرف بالمدة أو بتعين الأرض فيعرف صلابتها ورخاوتها" مضايقة من جهة أن ما فيه الخيار هو الضبط بالمدة، والضبط بقدر الأرض المحروثه فأما تعيين الأرض فلا بد منه على التقديرين فكان من حق أن يقول بالمدة بتقدير الأرض وتعتبر أو الأرض الأرض بالإشارة عند المشاهدة، وبالوصف أو في الوصف بالمقصود. وقوله: "على الجملة .... " إلى آخره كلام جملي ذكره ليعرف ما يجب تعريفه في الاجارات شامل لما وقع النص عليه، ولغيره والله أعلم. ¬
الباب الثاني في حكم الإجارة الصحيحة
البابُ الثَّانِي فِي حُكْمِ الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ, وَفِيهِ فصْلاَنِ قَالَ الغَزَاليُّ: أَمَّا فِي الآدَمِيِّ، فَاسْتِئجَارُ الخَيَّاطِ لاَ يُوجِبُ عَلَيْهِ الخَيْطَ، بَلْ هُوَ عَلَى المَالِكِ، وَاسْتِئجَارُ الحَاضِنَةِ عَلَى الحَضَانَةِ، هَلْ يَسْتَتْبعُ الإِرْضَاعَ؟ وَعَلَى الإِرْضَاعِ، هَلْ يَسْتَتْبعُ الحَضَانَةَ؟ فِيهِ ثَلاَثةُ أَوْجُهٍ؛ يُفَرَّقُ في الثَّالِثِ، وَيُقَالُ: الإِرْضَاعُ يَسْتَتْبعُ الحَضَانَةَ؛ كَيْ لاَ يَتَجَرَّدَ العَيْنُ مَقْصُوداً بِالإِجَارَةِ، وَالحَضَانَةُ لاَ تَسْتَتْبعُ الإِرْضَاعَ، فَإنْ صُرِّحَ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَوْ قُلْنَا: ذِكْرُ أَحَدِهِمَا كَافٍ في الاسْتِتْبَاع، فَانْقَطَعَ اللَّبَنُ، فَعَلَى وَجْهٍ؛ يَنْفَسِخُ؛ لِأنَّهُ المَقْصُودُ، وَعَلَى وَجْهٍ؛ يَسْقُطُ قِسْطٌ مِنَ الأُجْرَةِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ المَقْصُودَيْنِ وَعَلَى وَجْهٍ؛ يَثْبُتُ الخِيَارُ؛ لأَنَّهُ تَابعٌ (و) فَهُوَ كَالعَيْبِ، أَمَّا الحِبْرُ فِي حَقِّ الوَرَّاقِ، وَالصَّبْغُ فِي حَقِّ الصِّبَّاغِ، قِيلَ: إِنَّهُ كَاللَّبَنِ فِي الحَاضِنَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَالخَيْطِ. الفَصْلُ الأَوَّلُ: فِي مُوجب الألْفَاظِ المُطْلَقَةِ قالَ الرَّافِعِيُّ: مَقصُود الباب بيانُ أَحْكام الإجَارة، إذا صحَّت، وهي مندرجة (¬1) في فصلَيْن ترجمة أولَّهما بموجب الألفاظِ المُطلقة، يعْني ما يقتضي اللفظ دخوله في العقْد، إما بالوَضْع، أو بالعُرْف، وما يلزم إتماماً له إِمَّا على المكتري، أو على المُكْرى، ومسائله مذكررة على الأنواع الثلاثةِ المذكورة في شَرْط العلمْ بالمنْفَعة: النوعُ الأوَّل: استئجار الآدميِّ، وفيه فصلان (¬2): إحداهما: الاستئجارُ للحضَانَةِ وَحْدَها، والإرْضَاع وحده، وهما جائزانِ، على ما ذكرناه أن المستحق بالاستئجار للإرضاع ما هو؟ وأما الحضانة، فهي عبارةٌ عن حفْظ الصَّبيِّ، وتعهُّده بغسله وغسل رأسِه، وثيابه وخُرُوقه وتطهيره من النَّجاسات وتدْهِينه، وتكْحِيله، وإضْجَاعه في المَهْد، ورَبْطه، وتَحْريكه في المَهْد لينام (¬3)، وإذا أطلق الاستئجارُ لأحدهما ولم ينْف الآخر، ففي ¬
استتباعه الآخَرَ ثَلاثةُ أوْجُهٍ: أصحُّهُما: أن واحداً منهما لا يستتبع الآخر؛ لأنَّهما منفعتان بجواز إفْراد كلِّ واحدة منهما بالإجَارة، فاشبهتا سائر المنَافع. والثاني: أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يستتبع الآخرَ؛ لأنه لا تتولاَّهما في العادة إلاَّ امرأةٌ واحدةٌ. والثالث: ويُحْكَى عن اختيار القاضي الحُسَيْن أنَّ الاستئجار للإرْضاع يستتبع الحضانة، والحضَانَةُ لا تستتبع الإرْضَاع؛ لأنَّه الإجارة تعْقَد للمنافعٍ دُون الأعْيَان. فلو لم يستتَبع الإرْضَاع للحضانة لتجرَّد اللبن مقصوداً، ويجوز أن يُمْنَع تجَرُّده مقصوداً؛ لما سبق أنَّ المستحقَّ بالآستئجار للارْضاع عينٌ ومنفعة. فإن قلنا: إنَّ الإستئجار لأحدِهِما يَستْتبع الآخر، أو استأجر لهما صريحاً، فانقطع اللبن، ففيه ثلاثةُ أَوجهٍ مبنيَّةٍ عَلى ثلاثةِ أوجُهٍ في أن المعقود علَيْه في هذه الإجَارَة ماذا؟ أحدها: أن المَعْقُودَ عَليْه اللَّبن؛ لأنه أشدُّ مقصوداً، والحضانة متابعةٌ، فعلى هذا ينْفَسِخ العقْد عنْد إنقطاع اللَّبَن. والثاني: أن المعقُودَ عليه الحضانةُ، واللَّبَن تابعٌ؛ لأن الإجارة وُضِعَت للمنافع، والأعيان تقع تابعةً؛ فعلى هذا لا ينْفَسِخ مَنْ العقْد، لكنْ للمستأجر الخيارُ؛ لأنَّ انقطاع اللَّبَن عيْبٌ كما لو استأجر طاحونةَ، فانقطع ماؤها، وأصحُّهما أنَّ المعقود علَيْه وكلاهما لأنَّهما جميعاً مقصودَانِ؛ فعلَى هذا ينفسخ العقْدُ في الإرْضَاع، ويسقط قِسْطُه من الأجرة، وفي الحَضَانة قَوْلاً تفريقِ الصَّفْقة، ولم يفْرِقُوا في حكاية الأوْجه أن يصلاح بالجمع بينْهَما وبين أن يذكر أحدهما، ويحكم باستتباعه للآخَرِ وحَسنٌ أن يفرَّق، فَيُقَالُ: إذا صَرَّح بالجمع بينهما، قطَعْنا بأنَّهما مقصودَانِ من العَقد، وإذا ذكر أحدهما، فهو المقصودُ، والآخرُ تابعٌ، وعلى المرضِعَة أن تأكل وتشْرَب ما يدرُّ به اللَّبَن، وللمكتري أن يكلِّفها ذلك. الثانية: إذا استأجر وَرَّاقاً، فعلى مَنِ الحِبْرُ؟ يحصُلُ فيه ما ذكره الأئمَّة ثلاثةُ طُرُقُ. أشبهها: أنَّ الرجوع فيه إلى العادة، فإنِ اضطربَتِ العادةُ، وجب البيان وإلاَّ، فيبطل العقد. وأشهرهما: القطْعُ بأنَّه لا يجبُ على الورَّاق؛ لأن الأعيان لا تُستَحَقُّ بالإجارة، وأمْرُ اللَّبَن كان على خلافِ القياس للضَّرورة، فإنَّ إفراده بالبَيْع قبل الحلْب ممتنعٌ، وبعده لا يصلح للطِّفْل. وثالثها: أنه على الخلاف في أنَّ اللبن، هل يتبع الاستئْجار للحَضَانة؟ فهذا أوجَبْناه على الورَّاق (¬1)، فهو كاللبن في أنَّه لا يجبُ تقْديرُه، وإن صرح باشتراطه عليه، كما لو ¬
صرَّح بالإرضاع والحضانة، وإذا لم نوجبْه عليه، فلَوْ أنَّه شُرِطَ علَيْه، فسَد العقْدُ إِنْ لم يكنْ معلوماً، وإن كان معلوماً، ففيه طريقَانِ: أحدُهُما: وبه قال ابْنُ القاصِّ: يصحُّ العقد؛ لأن المقصود فِعْل الكتابة، والحبر تابع كاللبن. والثاني: أنه شراءٌ واستئجار، وليْسَ الحِبْرُ كاللبن؛ لإمْكان إفراده بالشراء. وعلَى هذا، فيُنْظر؛ إن قال: اشتريْتُ منْك هذا الحِبْرَ على أن تكتب به كذا، فهو كلما لو اشترَى الزَّرْع بشرط أن يحْصُدَه البائع. ولو قال: اشْتريْتُ هذا الحِبْر، واستأجرتُكَ؛ لتكتب به كذا بعَشَرةٍ، فهو كما لو قال: اشتريْتُ الزرع، واستأجرتُكَ لتحصُدَه بعشَرَة. ولو قال: اشتريتُ الحِبْرَ بدرهم، واستأجرتُكَ لتكتب به بعَشَرة، فهو كلما لو قال: اشتريتُ الزَّرْع بعَشَرة، واستأجرتُكَ لتحصده بدرهم، وحكم الصور (¬1) مذكورٌ في البَيْع. وإذا استأجر الخيَّاط، والصباغ، وملَقِّح النَّخْل، والكحَّال، فالقول في الخيْط، والصبْغ، وطلْع النخل، والذرور (¬2) كما ذكرنا في الحِبْر، هذا هو المَشْهور. وفَرَق الإمام وشيْخُه بين الخيط وبين الحِبْر والصبغ قاطعاً بأنَّ الخَيْطَ لا يجبَ على الخَيَّاط، وعَلَى ذلك جَرَى صاحب الكتابِ، وأوْرَد في الحِبْر والصبغ الطريقَ الثَّانِي والثالِثَ من الطرق الثلاثة التي أورَدْنَاها. قوله: فقَدْ قِيلَ: إنَّه كاللَّبَن في حقِّ الحاضنة والثاني قولُه: "وقِيلَ كالخيْط" وكان سَببُ الفرق بين الخيط وبينهما أن العادة الغالبةَ في الخيط خلافُ العادَة الغالبة فيهما. قَالَ الغَزَالِيُّ: أَمَّا الدُّوْرُ فَعِمَارَةُ الدَّارِ بإقَامَةِ مَائِلٍ، أَوْ إِصْلاَحِ مُنْكَسِرٍ عَلَى المُكْرِي، وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى تَجْدِيدِ بِنَاءٍ أَوْ جِذْعٍ فَإنْ فَعَلَ اسْتَمرَّتِ الإِجَارَةُ، وَإِنْ أَبَي فَلِلْمُكْتَرِي الخِيَارُ، فَإنْ أَرَادَ إِجْبَارَهُ عَلَى الْعِمَارَةِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الأَظْهَرِ، وَكَذَا إِذَا غَضَبَ الدَّارَ لَمْ يَلْزَمْهُ الانْتِزَاعُ وَإِنْ قَدَرَ وَلَكِنْ لِلْمُكْتَرِي الْخِيَارُ، وَيَجبُ عَلَى المُكْرِي تَسلِيْمُ المُفْتَاحِ، فَإِنْ ضَاعَ في يَدِ المُكْتَرِي فَهُوَ أَمَانَةٌ، وَلَيْسَ عَلَى المُكْرِي إِبْدَالُهُ، وَلَوْ أَجَّرَ دَاراً لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَمِيزَابٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَجْدِيدُهُ، فَإِنْ جَهِلَهُ المُكْتَرِي فَلَهُ الخِيَارُ. قَالَ الرافِعِيُّ: النَّوْع الثَّانِي: استئْجَار العقار، وهو ينْقَسِم إلَى: مبنىَّ؛ كالدَّار ¬
والحَمَّام وإلى غيره، وهو الأرَاضِي الييضُ. أمَّا الأوَّل، ففيه مسْأَلَتَان: إحداهما: ما تحتاجُ إِلَيْه الدار المكراةُ مِنَ العمارات ثلاثةُ أضرب: أحدهما: مَرَمَّة لا تحتاج (¬1) إلى عين جديدة؛ كإقامة جدار مائل (¬2) وإصلاح جذع منكسي، وغَلْقٍ تعسر فتحه. والثاني: يحوج إلى عَيْن جديدةٍ؛ كبناءٍ؛ وجذع جديد، وتطيين سطح، والحاجة في الضربين لخلل عَرَضَ في دَوَام الإجَارَة. والثالثُ: عمارة ما يحتاجُ إليها لخللٍ قارن العَقْد، كما إذا أجَّرَ داراً ليس لها بابٌ أو ميزابٌ (¬3)، ولا يجب شَيْءٌ من هذه الأضْرُب على المكتري، وإنَّما هي من في وظيفة. المكْري، فإن بادر إلى الإصْلاح، فلا خِيَارَ للمكْتَرِي، وإلاَّ، فله الخيارُ إذا انتقضت المنفعة، حتَّى لَو تَوكَّفَ (¬4) البيْت، لترك التطيين، فعن الأصْحَاب أنَّ للمكتري الخِيَار إفإذا انقطع، بطَل الخيارُ إلاَّ إذَا حدث بسببه نقْصٌ، وإنَّما يثبُت الخيارُ في الضَّرْب الثالث، إذا كان جاهلاً بالحال في ابتداء العَقْد. وهل يُجْبَرُ المكري على هذه العمارات ذكر صاحبُ الكتابِ والإمامُ -رحمهما الله- أنه يُجْبَر على الضرب الأوَّل، ولا يجبر على الثالث؛ لأنه لم يلزمه من الابتداء، وفي الثاني وجهان، وكذلك ذكر الشيخُ أَبُو الفَرَجِ السَّرْخسِيُّ إلاَّ أنَّ كَلاَمَه يوهم طرْدَ الوَجْهَيْن في الضَّرْب الثالث. أحَدُهما، وبه قال الشيخ أبو محمد، والقاضي حسين: أنه يجبر توفيراً للمنْفَعة. وأظْهَرُهما، ويُحْكَى عن أبي حَنِيفةَ رضي الله عنه المنع؛ لما فيه من إلزامه تسليمَ عَيْنٍ لم يتناولْها العَقْد، وأُجْرِيَ الوجهان فيما إذا غَصَب الدَّار المستأجَرَة، وقَدَر المالِكُ على الانتزاع، هل يُجْبَر عليه (¬5)؟ ولا شكَّ أنَّه، إذا كان العَقْدُ عَلى شيءٍ موصوفٍ في الذِّمَّة، ولم ينتزع ما سلَّمه يطلبَ إقامة غيره مُقامه. وأجاب مجيبون في الأضْرُب كلّها بأن المكري لا يُجْبَر عليها، ومنْهم صاحب "التهذيب"، وأبو سعْدٍ المتولِّي، ¬
ويجوز أن يعلم قولُه: "وإصلاح منكسر عَلَى المُكْرِي لذلك. وحكى الإمامُ؛ تفريعاً على الطَّريقة التي اقتضاها وجهَيْن في الدّعامة المانعة للانهدام، إذا احتيج إلَيْها أنَّه يعدُّ من الضرب الأول أو الثاني. ويجبُ على المكري تسليمُ مفْتاحِ الدار للتمكين مِنَ الانتقاع، بخلافِ ما إذا كانتِ العَادةُ فيه الإقفال؛ حيثُ لا يجبُ تسْلِيم القُفْل؛ لأنَّ الأصْل ألاَّ تدخَل المنقولاتُ في العَقْدِ الواردِ على العَقَّار، والمفتاح جُعِلَ تابعاً للغلق، فإذا سلّمة، فهو أمانةٌ في يد المكتري حتَّى لَوْ ضاع من غَيْر تقصير، لم يلزمْهُ شيءٌ، وإبداله من وظيفة المكْري، وهَلْ يُطَالب به؟ فيه الخلافُ المذكورُ في العِمَارات (¬1)، فإن لم يبدلْه، فللمكترى الخيارُ. وقوله: "ولَيسَ على المكري إبدالُهُ" جواب على أظهر الوجهَيْنِ، فيجوز أنْ يُعْلم بالواو. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَتَطْهِيْرُ عَرْصَةِ الدَّارِ عَنِ الْكُنَاسَةِ وَالثَّلْجِ الخَفِيفِ وَالأَتُونِ عَنِ الرَّمَادِ عَلَى المُكْتَرِي، وَتَسْلِيمُ الدَّارِ وَبِئْرِ الحُشِّ وَالبَالُوعَةِ خَالِيَةً عَلَى المُكْرِي، فَإنِ امْتَلأَ فَفِي وُجُوبِ تَفْرِيغِهِ عَلَى المُكْرِي لِبَقِيَّةِ المُدَّةِ خِلاَفٌ، وَإذَا مَضَتِ المُدَّةُ عَلَى المُكْتَرِي التَّفْريغُ مِنَ الكُنَاسَاتِ وَلاَ يَلْزَمُهُ تَفْرِيغُ البَالُوعَةِ وَالحُشِّ، وَمُسْتَنْقَعُ الحَماَّمِ كالحُشِّ، وَرَمَادُ الأتُونِ كَالكُنَاسَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المسألةَ الثانيةُ: تطهير الدارِ عَنِ الكناسة والأتُون (¬2) عن الرماد. في دَوَام الإجارة على المُكْترِي؛ لأنَّهما حصَلا بفعْله، فإنْ أراد أنْ يَكْمُل له الانتفاعُ، فليرفعهما وكَسْحِ الثلج عن السطحَ من وظيفة المكْرِي لأنَّه عمارةُ الدارُ، فإن تَرَكَه على السَّطْح (¬3) وحدث به عَيْبٌ، فللمكتري الخِيَارُ (¬4). قال الإمامُ: وهلْ يُجْبَر عليه، ويُطَالَب به؟ فيه مَا مَرَّ من الخِلاف في العمارة. وفيه وَجْهٌ أنَّا لا نوجب عليه الكَسْح وإن أوجبنا العمارة، فإنَّ إيجابها لتعودَ الدار إلى ما كانَتْ، وليْسَ الكَسْحُ بهذه المَثَابة. وأمَّا الثَّلْجُ في عَرْصَة الدار، فإنْ خَفَّ، ولم يمنع الانتفاع، فهو مُلْحَقٌ بكَنْس الدَّار، وإن كشف، فكذلك على الظاهر. ¬
فرع
ومنهم من ألحقه بِتَنْقِيَةِ البالوُعَة، وفيها خلافٌ يأتي لأنَّه يمنع التردُّد في الدار، وإن أخذنا بظاهِرِ المذهْبَ، فقوله في الكتاب: "عن الثلج الخفيف" ليس مذكوراً للتَّقْييد. ويَجِبُ على المكْرِي تَسْلِيمُ الدارَ، وبالوعتُها فارغة، وكذا الحُشُّ، ليثبت التمكُّن من الانتفاع، وإن كان مملوءاً، فللمكتري الخيار، وكذا مستنْقَعُ الحمَّام، وهو الموضِعُ الذي تنصبُّ إليه الغَسَّالة، وإذا امتلأَتِ البالوعةُ، والحُشُّ، ومستنقع الحمام في دوام الإجارة، فوجهان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة رضي اللهُ عنه، واختاره القاضي الرُّويانيُّ أَنَّ التفريغَ على المكري تمْكِيناً من الانتفاع من بقيَّة المرة (¬1) فإن لم يفْعَلْ، فللمكتري الخيار، وأظهرُهما، وبه أجاب القاضي المَاوَرْديُّ، وابْنُ الصَّبَّاغ، والمتولِّي: أنَّهُ على المكتري لأنَّ الامتلاء حصَل بفعْله، فصار كنقل (¬2) الكُنَاسَات، فإنْ تعذَّر الانتفاعُ، فلينقِّ، ولا خِيَارَ له. وفيه وجه: أنَّ له الخيارَ، ولا يجبُ على المكتري تنقية البالوعة، والحُشِّ عند انقضاء المُدَّة، ويجبُ عليه التطهيرُ من الكناسات ومستنْقَعُ الحَمَّامِ لا يجب تفريغه؛ كالحُشِّ. وذكر الإمامُ، وصاحب الكتاب أن رماد الأَتُونِ كالكُنَاسة، حتى يَجِبَ نقله عنْد انقضاء المدَّة. وفي "التهذيب" أنَّه لا يجبُ، ويخالف القِمَامَاتِ [لأن طرحَ الرِماد من ضرورة استبقاء المنفعة، وفسروا الكناسة التي يجب على المكتري تطهير الدار عنها] (¬3) بالقُشُور، وما يسقط من الطعام ونحوه دُون التراب الذي يجتمع بهبوب الرِّياح؛ لأنه حَصَل لا بفعله، لكن قد مَرَّ في ثلْج على العَرْصَة؛ أنه لا يجبُ على المُكْتَرِي نقْلُه، بل هو كالكناسات (¬4) مع أنه حَصلَ، لا بفعْله، [فيجوز أن يكون التُّرَابُ -أيضاً- كالكناسات في إنهاء الإجارة، وإن حَصَل لا بفعْله (¬5)]. فرع: الدار المكتراةُ للسُّكْنى لا يجوز طرْحُ الرمادِ والترابِ في أصْلِ حِيطانها , ولا ربْطُ الدواب فيها، بخلاف وضْع الأمتعة. وفي جواز طرْحِ ما يسرع إليه الفساد في الأطْعمة وجهان: أصحُّهما: الجوازُ؛ لأنه معتاد. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: أَمَّا الأَرَاضِي إِذَا اسْتُؤْجِرَتْ لِلزِّرَاعَةِ وَلَهَا شِرْبٌ مَعْلُومٌ فَالعُرْفُ فِيهِ الاِتِّبَاعُ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ، وَإِنْ كَانَ العُرْفُ مُضْطَرباً فالأَصَحُّ أَنَّهُ لاَ يُتَّبَعُ، وَقِيل: إِنَّ لَفْظَ الزِّرَاعةِ كالشَّرْطِ لِلشرِّبِ، وَقِيلَ: يَفْسُدُ لِأَجْلِ هَذَا التَّرَدُّدِ. قال الرَّافِعِي: القسم الثَّاني: الأراضي البِيضُ، فمنْ مسائله: قال الغزاليُّ: إذا استأجر أرْضاً للزِّرَاعة، ولها شِرْبٌ معلومٌ ,. فإنْ شُرِطَ دخوله في العقد (¬1)، أو خروجُه، أَتُّبع الشرط، وإلاَّ فإن اطردت العادةُ باتباعه الأرضَ أو انفراده، اتُّبِعت، وإن اضطربت، فكانت الأَرْضُ تُكْرَى وَحْدَها تارةً، ومع الشّرْب تارةً أخرى، ففيه ثلاثةُ أوجه: أظهرُها: أنَّه لا يُجْعَل الشِّرْب تابعاً اقتصاراً على موجِبِ اللفظ، وإنما يزاد عَليْه بعُرْفِ مُطَّرد. والثاني: -وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه: يجعل تابعاً؛ لأنَّ الزراعةَ مفتقرةٌ إليه فالإجارة للزراعة كشرط الشِّرْب. والثالث: أنَّ العَقْدَ يبطلُ من أصله؛ لأن تعارضَ المعنيين يوجبُ جهالة المقصُود. قَالَ الغَزَالِيُّ: فَإِنْ مَضَتِ المُدَّةُ وَالزَّرْعُ بَاقٍ وَإِنَّمَا بَقِيَ لِتَقْصِيرِهِ في الزِّرَاعَةِ قَلَعَ مَجَّاناً، وَإِنْ كَانَ لِغَلَبَةِ البَرْدِ لَمْ يَقْلَعْ مَجَّاناً فَإنَّهُ غَيْرُ مُقَصِّرٍ، وَإِنِ اسْتُؤْجِرَ لِزِرَاعَةِ القَمْحِ شَهْرَيْنِ فَإِنْ شَرَطَ القَلْعَ بَعْدَ المُدَّةِ جَازَ وَكَأنَّهُ لاَ يَبْغِي إِلاَّ القَصِيلَ، وَإِنْ شَرَطَ الإِبْقَاءَ فَهُوَ فَاسِدٌ لِتَّنَاقُضَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّأْقِيتِ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَقِيلَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ وَيُنَزَّلُ عَلَى القَلْعِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَفْسُدُ إِذِ العَادَة تَقْضِي بالإِبْقَاءِ، وَكَذا إنْ آجَرَ للبِنَاءِ وَالغِرَاسِ سَنَةً أَوْ سَنَتَينِ اتَّبَعَ الشَّرْطَ، فَإِنْ أَطْلَقَ فَهُوَ كَالزَّرْعِ الَّذِي يَبْقى، وَحَيْثُ صَحَّحْنَا فَفِي جَوَازِ القَلْعِ مَجَّاناً بَعْدَ المُدَّةِ خِلاَفٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لاَ يَقْلَعُ كَمَا في العَارِيَّةِ المُؤَقَتَّةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَقْلَعُ إِذْ فَائِدَةُ التَّأْقِيت فِي العَارِيَّةِ طَلَبُ الأُجْرَةِ بَعْدَ المُدَّةِ وَلاَ فَائِدةَ هَاهُنَا إِلاَّ القَلْعُ، فَإِنْ قُلْنَا: لا يَقْلَعُ مَجَّانًا فَهُوَ كَالمُعِير يَتَخَيَّرُ بَيْنَ القَلْعِ بِالأَرْشِ أَوِ الإبْقَاءِ بأُجْرَة أوِ التَّمَلُّك بِعوضَ، وَمُبَاشَرَةُ القَلْعَ أَوْ بَدَلُ مُؤْنَتِهِ عَلَى الآجِرِ أو المُسْتَأَجِرْ فِيهِ خِلاَفٌ، فَإِنْ مَنعَ المُسْتأَجِرُ مَا عَيَّنَهُ الآجِرُ قيلَ: إِنَّهُ يَقْلَعُ مَجَّانَاَ تَفْرِيغاً لِمِلكِهِ، وَالأَقْيَسُ: أنَّه يُقْلعُ ويَغْرَمُ لَهُ وَلاَ يَبْطُلُ حَقُّهُ بِامْتِنَاعِهِ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصل صورتان: إحداهما: إذا استأجر أرضاً للزراعة، فانقضتَ المدَّة ولم يدْرِك الزَّرعَ، فلا يَخْلُو، إمَّا أن يكون الاستئجارُ لزراعةِ زرْع معين، أو للزراعةِ مُطلقاً، أَمَّا في الحالة الأولى، فلعدم الإدراك أسباب: إحداها: التقصير في الزراعة. بأنَّ أخَّرها حتى ضاق الوَقْت، أو أبْدل الزَّرْع المعَّين بما هُوَ أبْطَأُ إدراكاً أو أكله الجَرَادُ، فزرعه ثانياً، فللمالك إجبارُه علَى قلْعِه، وعلى الزارع تسويةُ الأرْضِ، كالغاصب، هذا لفْظه في "التهذيب"، وقضيَّة إلحاقه بالغَاصِب أن يقلع زرعه قَبْل انقضاء المدَّة أيضاً، لكن صَاحِبَ "التَّتمَّة" وغيرَه صرَّحوا بأنه لا يقْلَعَ قبل انقضاء المدة؛ لأنَّ الأرْضِ في الحال (¬1) لهُ. وللمالك منعُه من زراعةِ ما هُوَ أبطأ إدْراكًا في الابتداء، وهل له المنْعُ من زراعة النَّوْع المعيَّن إذا ضاق الوقتُ؟ فيه وجهان؛ لأنَّه استحقَّ منْفعةَ الأرْضِ في تلْك المدة (¬2)، وقد يقْصِد القَصِيلَ (¬3). والثاني: أن يكونَ تأخُّر الإدراك لِحَرٍّ أو بَرْدٍ، فالظَّاهرُ، وهو المذكور في الكتاب أنه لا يجبر على القَلْع، بل على المالِك الصَّبْرُ إلى الإِدراك مجَّاناً، أو بأُجْرة المِثْل. وفيه وَجهٌ أنَّه يقْلَع مجَّاناً؛ لأنَّه لم يرْضَ بشغْل ملكه فيما وراء المدَّة، ومن هذا القبيل ما إذا أكل الجرادُ رُؤوس الزَّرْع، فنبتت ثانياً، وتأَخَّر الإدراك وكذا التأخُّر لكثرة الأمطار. والثالث: أن يكون ذلك الزَّرع، المعيَّن، بحيث لا يدرك في المدَّة كما إذا استأْجر لزراعة الحِنْطة شهرَيْن، فإنه شرط القَلْعَ بعْد مضىِّ المدة، جاز، وكأَنَّه لا يبغي إلاَّ القَصِيل ثُمَّ لو تراضَيَا على الإبْقَاء مجَّاناً أو بأجْرة المثْل، فلا بأْسَ، وإن شرطا الإبْقاء، فَسَدَ العَقْدُ، للتناقض بينه وبين التوقيت، ولجهالة غاية الإدراك، ويجيء فيه خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى، وإذا فسد العقد فللمالك منعه من الزِّراعة، لكن لو زَرَع، لم يقلع زرْعه مجَّانًا للإذْن، بل يُؤخَذُ فِيه أُجْرة المِثْل لجميع المُدَّة وإن أطلقا العَقْد، ولم يتعرَّضا لقلْعٍ، ولا إبقاءٍ، فوجهان: ¬
أحدهما: وبه قال الشَّيْخ أبو محمَّد: أنَّه فاسدٌ؛ لأنَّ العادةَ في الزَّرْع الإبقاءُ مجاناً، فهو كما لو شرطا الابقاء. وأصحُّهما: أن العقد صحيحٌ؛ لأن التأقيت لحصر المعْقُود علَيْه في منفعة تلْك المدَّة، فعلى هذا، إن توافقا بعد المدَّة على إبقائه مجاناً أو بأجْرة فذَاك، وإنْ أراد المالكُ إجبارَهُ على القلْع، فوجهان: أحدهُما: وبه قال أبو إسحاق: أنَّه يتمكَّنُ منه لانقضاءِ المدَّة التي تناولها العقْدُ، وهذا ما يوافقُ قولَهُ في الكتاب "وينزل على القلع". وأشبههما، ويُحْكَى عن اخْتيار القَفَّال: أنَّه لا يتمكَّن منه؛ لأنَّ العادة في الزَّرْع الإبْقاء، وعلى هذا فأظْهر الوجهَيْن: أن له أُجْرَةَ المثْل؛ للزيادة. وفي وجْهٍ: لا؛ لأنَّه إذا أجَّر مدة، لا يدرك فيها الزَّرْع كان معتبراً للزيادة على تلْك المدة. قال أبو الفَرَج السِّرْخَسىُّ: إذا قلْنا: لا يقلع بعْد المدَّة لزم تصحيح العقد فيما إذا شرط الإبقاءَ بعْد المدَّة، وكأنه صرَّح بمُقْتضَى الأطْلاَق، وهذا حسن. والحالة الثانية: إذا استأْجر للزِّراعة مطْلَقاً، وفرَّعنا على أظهر الوجْهَيْن، وهو صحته، فعليه أن يزرع ما يدرك في تلك المدة، فإن زرعه وتأخر إدراكه لتقصير أو لغيره تقصير (¬1)، فعلى ما ذكرنا في الزَّرْع المعيَّن، فإن أراد أن يَزْرع ما لا يدرك في تلْك المدَّة فللمالِك مَنْعُه، لكن لو زرع، لم يقلع إلى انقضاء المدِّة. وقال الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرازيُّ يُحْتَملَ ألا يُمْنَع من زَرْعِهِ كما لا يَقْلَعُ إذا زَرَعَ. الصُّورةُ الثَّانيَةُ: إذا استَأْجَر للبِنَاء، أو الغراس، فإما أن يشترطا القلع بعد المدَّة، أو يشترطا الإبْقَاء، أو يسْكُتَا عنهما، أَو يُطْلِقا العقْد، إن شرط القلع، صحُّ العقْد، وَأُمِرَ المستأجر بالقَلْع بعدْ المدَّة، وليْسَ على المالك أَرْشُ النُّقْصان، ولا على المُسْتَأْجر تسوية الأرْضِ، ولا أرْش نقصانها وإن نقصت لتراضيهما بالقلْع، وإن شَرَطا الإبْقَاء بعْد المدَّة، فوجهان: أَحَدُهُمَا: أن العَقْدَ فاسِدٌ لجهالة المدة، وهذا أرجحُ في إيراد جَمَاعةٍ، منهم الامامُ وصاحبُ "التهذيب". والثاني: يصحُّ؛ لأنَّ الإطلاق يقتضي الابْقَاء على ما سيأْتي، فلا يضرُّ شرطه، وهذا ما أجاب به العراقيُّون كُلُّهُمْ، أو معظمهم (¬2) ويتأيَّد به كلام السَّرْخَسِيّ في "مسألة الزرع". ¬
وإذا قلْنا بالفساد، فعلى المُسْتَأْجر أجرةُ المِثْل للمدَّة، وفيما بعد المدَّة، الحكم على ما سنذكره فيما إذا أطْلَقا العقد، وإنْ أطْلَقَا العقْد، وسكتا عن شرْط القَلْع، والابْقَاء، فلفظ صاحب الكتاب (¬1) حيث قال: "فإن أطْلق، فهو كالزرع الذي (¬2) يبقى ظاهر الاشعار بأنَّ صحَّة العقْد على وجهَيْن، كما إذا أُطْلِق الاستئجارُ لزراعة ما لا يُدْرَك في المدة، وإيراد الجمهورِ يُشير إلى القَطْع بالصحَّة، والصحيح الصَّحة؛ إذ لا اختلاف (¬3) فيها، ثم يُنْظَر بعد المدَّة، فإن أمكن القَلْع والرفْع منْ غَيْر نقصان [الأرض] فعل، وإلا، فإن اختار المستأجِر القَلْعُ فله ذلك؛ لأنَّه ملكه، وإذا قلع، فهل عليه تسْوية الحَفْر وأرْشُ نقصان الأرض؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي ابنُ كج، وغيره، وهما كالوجهَيْن فيما إذا رغب المستعير في القلْع عنْد رجوع المعير، وهل عليه التسوية؟ الأصحُّ المنصوصُ الوجوبُ؛ لتصرُّفه في أرض الغير بالقَلْع بعْد خروجها منْ يده، وتصرُّفه بغير إذْن المالك، وعلى هذا، فلو (¬4) قلع قبل انقضاء المدَّة، فيلزمُه التَّسْوية؛ لأنَّ المالك لم يأذَنْ، أوْ لا يلزمه لبقاء الأرْضِ في يده وتصرُّفه؟ فيه وجهان: أًصحُّهما: الأولُ. وإن يختر (¬5) المستأجر القلْعَ، فهل للمؤجِّر أن يقلعه مجَّاناً؟ فيه وجهان (¬6)، نقلهما الإمامُ وصاحبُ الكتاب كما في صورة الزَّرْع: أحدُهُما، وبه قال أبو حنيفة والمُزَنىُّ رضي الله عنهما أنَّ له ذلك؛ لأنَّ مدة استحقاق المَنْفعة قد انقضَتْ. وأصحُّهما: وقطع به قاطعون: أنَّهُ لا يقلع مجَّاناً؛ لأنَّه بناءٌ محترمٌ , لم يَشْتَرطْ قلْعَه, وهذا كما ذكرْنا في العاريَّة المؤقَّتة, فإنَّ ظاهر المذْهَب فيها أن بناء المستعير لا يقْلع بعد المدَّة مجاناً. ومن قال بالأوَّل فَرَق بأن فائدة التأقيت في الإعارة طلب الأجرة بعد المدَّة، وهاهنا الأُجْرَةُ لازمةٌ في المدَّة، فلا فائدة إلى القَلْع ولناصر الأصح أن يمنع قوله الفائدة في الإعارة طلبُ الأجْرَة بعد المدَّة، وأن الفائدة هاهنا القلْعُ لجواز أن يكُون الغرض في الصورتَيْن المَنْعَ من إحداث الغراسِ، والبناء بعد المدَّة، وأن يكونَ الغَرَضُ هاهنا العدول إلى أجرة المثْل بعْد المدَّة، وإن قلْنا: لا يقلع مجَّاناً، فالكلام في أنَّ المالِك ¬
يتخيَّر بين أن يقْلَع وُيغَرَّم (¬1) أرْشَ النقصان مع نُقْصَان الثِّمار، إن كانت على الأشْجَارِ ثمارٌ، أو يتملَّكه عليه بالقيمة، أو يبقيه بأُجْرةِ يأخُذُها أو لا يتخيَّر إلا بين الخصلتين الأولين من الخصال الثلاثة على ما ذكرنا فيما إذا رَجَع المعير (¬2) عن العارية فإذا انتهى الأمرُ إلى القَلْع فمباشرة القلع، أو بدل مؤنته على المُؤجّر أو المستأجر، فيه (¬3) وجهان مستتْبَطَان منْ كلام الأصْحَاب: أحدُهُما: على المؤجّر؛ لأنَّه الذي اختاره. وأصحُّهما: على المُسْتَأْجر؛ لأنه الذي شغل الأرْض فليفرغْها , إذا عيّن المؤجِر خصلة، فامتنع المستأجرُ، ففي إجباره ما ذكَرْناه في إجْبَار المُسْتَعير، فإنْ أُجْبِرَ كلِّفَ تفريغ الأرْضِ مجَّاناً، وإلاَّ، لم يكلَّف، بل هو كَمَا لو امتنع المؤجّر من الاختيار وحينئذ، يبيع الحاكمُ الأرْضَ وما فيها، أو يعوِّض عنها، فيه خلافٌ قد مَرَّ، ويخرَّج من ذلك عند الاحتصاد في التفريغ مجَّاناً وجْهان كما ذكرنا في الكتاب. أحدهُما: يكلَّف ذلك، ليرُدَّ الأرض كما أَخذ، وهذا ما أجاب به في كتاب العارِيَّة. وأقيسهما: المنعْ ولا يبْطُل حقُّه من العوض باقْتناعه، كما أنَّ من منع المضْطَرَّ طعامه يُؤْخَذَ منه قهْراً، ويسلَّم إليه العِوَضُ، والإجارةُ الفاسدةُ لِلغراسَ والبناءِ كالصحيحة في تخيير المالك، ومنع القلع مجَّاناً. وقوله في الكتاب: "وكذا إن آجر للغراس والبناء سنةً أو سنتَيْنِ، اتَّبَعَ الشَّرْط أراد به أنه إذا آجَرَ بشرط القلْع يَتْبَع الشَّرْط، وكذلك، إن آجَرَ بشَرْط الابقاء، إذا أوجَبْنا بأنَّ العَقْدَ لا يفْسُد بهذا الشَّرْط، وذلك بين (¬4) من سياق الكَلاَم، والتَّمْثيل بالسنتين مبني علي جواز الإجارة أكْثَرَ من سَنَة. وقوله: "وإن أطلق فهو كالزرع الذي يبقى"، أي: كالإِجَارَة لزرْع ما لا يُدْرَك في المدَّة التي عيَّنَّاها، فإنَّ العادة التبقية إلى الإدْراك. وقوله: "لا يقلع كما في العاريَّة" مُعْلَم بالحاء والزاي. وقوله: "يتخير بين القلع ... " إلى آخره بالميم؛ لأن الحكاية عَنْ مالك رضي الله عنه أن [صاحب الأرض] (¬5) بالخيار بيْن أن يقْلَع منْ غَيْر ضمانِ النُّقْصَان، وبين (¬6) أن ¬
يتملَّك بالقيمة، وبين أن تبقى الأشجارَ عَلَى أن تكون الثِّمارُ بينهما. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوِ اسْتَأْجَرَ أَرْضاً لِلذُّرَةِ فَلَهُ زَرْعُ الْقَمْحِ، وَلَوِ اسْتَأَجَرَ لِلْقَمْحِ لَمْ يَجُزْ زَرْعُ الذُّرَةِ وَلَهُ الشَّعِيرُ، وَكَذَا إِذَا اسْتَأْجَرَ دُكَّاناً لِصَنْعَةِ فَلاَ يُبَاشِرُ مَا ضَرَرَهُ فَوْقَهَا، وَيَفْعَلُ مَا ضَرَرَهُ دُونَهُ، فَلَوِ اسْتَأْجَرَ لِلْقَمْحِ فَزَرَعَ الذُّرَةَ فَللِآجِرِ القَلْعُ في الحَالِ، فَإنْ لَمْ يَقْلَعْ حَتَّى مَضَتِ المُدَّةُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أُجْرَةِ المِثْلِ وَبيْنَ أَخْذِ المُسَمَّى وَأَرْشِ نَقْصِ الأَرْضِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَتَعَيَّنَ أَجْرُ الْمِثْلِ وَهَلْ يَتَعَيَّنُ المُسَمَّى وَأَرْشُ النَّقْصَ وَالنَّصُّ هُوَ الأَوَّلُ؟ وَلَوْ عَدَلَ مِنَ الزَّرْعِ إِلَى الغَرْسِ يَتَعَيَّنُ أَجْرُ الْمِثْلِ إِذْ تَغَيَّرَ الجِنْسُ، وَلَوْ عَدَلَ من خَمْسِينَ مَنَّاً إلَى مَائَةٍ في الحَمْلِ تعَيَّنَ المُسَمَّى وَطَلَبَ الزِّيَادَةَ لأنَّهُ اسْتَوْفَى المَعْقُودَ عَلَيْهِ وَزَادَ. قال الرَّافِعِيُّ: إذا اسْتأْجر أرْضاً لزراعة جِنْسٍ مُعَيَّنِ جاز له أن يزرعه، وما ضرَرُه مثل ضرره، أو دون ذلك، ولا يزرع ما ضرَرُه فوقه، وضررُ الحِنْطة فوْقَ ضَرَرِ الشعير، وكلُّ واحدٍ من الذُّرَة والأُرزْ أشدُّ ضَرَاً من الحِنْطة. أمَّا الذُّرة، فلأنَّ لها عُروقاً غليظةً تنتشرُ في الأرض ويستوفي قوَّته. وأمَّا الأرزُ؛ فلأنَّه يحتاجُ إلى السَّعْي الدَّائم، وأنه يذْهَب بقوة الأرْض. وعن البُوَيْطىِّ، أنه لا يجوزُ العُدُول إلى غير الزرعِ المعيَّن، فمن الأصحاب من قال: إنَّه قولُ الشافعيِّ -رضي الله عنه- رواية ومنْهُمْ من قال: رأى رآه، ووجْهُ ظاهرِ المذْهَب أن المعقود علَيْه منفعةُ الأرْضِ، والمزْرُوعُ طريقٌ في الاستيفاء، فلا يتعيَّن، كما أنه إذا كان له حقٌّ على غيره يتخير بيْن أنْ يستَوفِيَه بنَفْسِه، أو بغَيْره، هذا في تعيين الجنْس، أو النَّوْع. أما إذا عيَّن الشَّخْص كما إذا قال: أجرتكها؛ لتزرع هذه الحنطة، فعن ابن القطان أن صحَّة العقْد على وجهَيْن: أحدُهُمَا: المنْعُ؛ لأنَّ تلْكَ الحِنْطَة قدْ تتلْفَ، فيتعذَّر الزَّرْعُ. والثاني: وهو اختيارُ القاضي ابن كج: أنَّهُ كتعيين الجِنْس، ولا تتعذر الزراعة بتَلَفِ تلْك الحنْطة (¬1)، والأوَّل هو الذي أجاب به في "التهذيب" إلاَّ أنَّهُ صوَّرهما فيما إذا قال: نزرع هذه الحنْطَةَ دُون غَيْرِها، فصرَّح بنفْي زراعة الغير. ولو قال: نزْرَع الحِنْطة، ولا نزْرَع غَيْرِها، ففيه ثلاثةُ أوْجُهٍ: ¬
أحدُها: أنَّه يَفْسُد العَقْدَ؛ لأنَّ الشَّرْط، إذَا لم يكُنْ مِنْ قضايا العقْدِ، ولا مِنْ مصالِحِهِ يَفْسد، والإِجارةُ تَفْسُد بالشُّروط الفاسدَةِ كالبيع، وذكَرَ القاضي ابْنُ كج والروَيانيُّ (¬1) أنَّه المذْهَبُ. والثَّاني: واختاره الإمامُ: أنه يَصحُّ العقْدُ، ويفْسُد الشَّرط؛ لأنه شرط لا يتعلَّق به غَرَضٌ، فأشبه ما إذا قال: آجَرْتُكَ على ألاَّ تلْبَسَ إلا الحرير. والثالث: أنَّهُ يصحُّ العقْد والشرط؛ لأنَّ المستأْجِر يملك المنْفَعَة منْ جهة المؤجِّر، فيملك بحَسب التَمْلِيك (¬2). وعلى هذا قياسُ استبقاء سائر المنافع، فهذا استأْجَر دابَّةً للركُّوب في طريقٍ، لم يركبها في طريق أحزن منه (¬3) ويركبها في مثل ذلك الطريق، وفيما هو أسهلُ منْه. وإذا استأْجرَ لحَمْلِ الحديدِ، لم يحمل القطْن، وكذا بالعكْسِ، وإذا استأْجرُ دُكَّانًا، لصنعة، فله أن يباشِرَها، وما دُونَها في الضَّرر دُون ما فَوْقها. إذا تقرَّر ذلك، فلو تعدَّى المُسْتَأجِر لزراعةِ الحِنْطة، فزرع الذُّرَة، ولم يتخاصَما حتَّى انقضتِ المدةُ، وحصد الذُّرَة، فالنصُّ في "المختصر" أنَّ المالِكَ بالخيار بين أن يأخذ المسمّى، وبدل النقصان الزائد على زراعة الحنطة، وزراعة الذَّرَة، وبين أن يأْخذ أُجْرَةَ المِثْل، لزراعة الذرة. ثم قال المُزَنِيُّ: يُشْبِه أن يكون الأول أَوْلَى. واختلَفَ الأصْحَابُ عَلَى طريقتين: أشهرُهُما: أنَّه المسألة على قولَيْن، وفي كيفيتهما طريقان: أظهرها، وبه قال أبو إسحاق: أَنَّ أحدَ القولَيْنِ وجوبُ أجْرة المِثْل؛ لأنه عَدَل عن المستحقِّ إلَى غيره، فأَشْبَهَ ما إذا زرَعَ أرْضاً أُخْرَى. والثاني: وهو اختيار [القاضي الروياني] (¬4) أن الواجبَ المسمَّى، وبدل النقصان الزائد بسبب الذُّرَة، كما لو استأْجَرَ الدابَّة للركوب إلَى موضع، فجاوز ذلك الموضعَ. والطريق الثاني، وبه قال ابن القطان: أنَّ أحد (¬5) القولَيْن في وجوب المسمَّى وبدل نقصان الذرة. والثاني: التخيير كما نصَّ عليه (¬6)؛ لأن للمسألة شبهاً كجراعة الغاصِبِ من حيث إنَّه زرع ما لم يستحقَّه، وموجِبُها أجْرَةُ المِثْل، وشبيهاً بما إذا استأجر، دابَّةً إلى موضع، ¬
وجاوَزه من حيْثُ إِنَّهُ استوفى المستحقَّ، وزاد في الضّرر، وموجبها المسمَّى وبذل المال (¬1) لما زاد، فخيَّرْناه بيْنَهما. وأيْضاً، فإنَّ المكْري استحق أجرة الذرَة، والمكتري استحقَّ منفعة زراعة الحِنْطَة، وقد فاتتْ بمضيِّ المدَّة، فأما أن يأخُذَ المكْرِي ما يستِحقُّ، ويردُّ ما أخذ، وإمَّا أن يتقاضَيَا، ويأْخُذَ الزيادة، وذكر الذاهِبُون إلَى هذه الطريقة للقولَيْن هكذا فأَخَذَين: أحدهما: قرنوهما من القولَيْن فيما إذا الصَرَّف الغاصِبُ في الدَّرَاهم المغْصُوبة ورَبح، فعلى أحدهما: يأْخُذ المالك مثْلَ دراهمه. وعلى الثاني: يتخيَّر بينه وبَيْن أن يأْخُذَ الحَاصِلَ بربحه. والثَّاني: قال الشيخ أبو محمَّد في "السِّلْسِلَة ": قولُ الرجُوع إلى أُجْرة المثل مبني على أن البائع إذا أتلف المبيعَ قَبْل القبض ينفسخ البيع، ويقدر كأن العقد لم يكُنْ، والتخْييرُ مبنيٌّ على أن البيع لا ينْفَسخ، بل يتخيَّر المشتري بيْن أن يفْسَخ، ويستردَّ الثَّمَنَ، وبين أن يتخيَّر، ويرْجِع على البائع بالقيمة، هذا البناءُ لَيْسَ بواضح؛ لأن المُكْرِيَ هو الذي يَقَع في رتبة البائع، وَلَمْ يوجدُ منه إتلافٌ، وإنَّما المُكْتَرِيَ فَوَّت المنفعةَ المستحَقَّةَ على نفْسِه، فكان ذلك بإتلاف المشتَرِي أشْبَهُ. والطريق الثاني في أصْل المسألة: القطْعُ بالتَّخْيير، وهو أوفق لظاهر النَّصِّ، وبه قال أبو عليٌّ الطبريُّ، والقاضي أبو حامدٍ وكذا ابنُ سُرَيْج فيما حكاه القاضي ابن كج، ونقل الشيخُ أبو حامد، ومن تابعه ذهابَ ابن سُرَيْجٍ إلي الأوَّل [مُنَ] طريقَي القولَيْن، ونسب ذلك إلى المُزَنيِّ أيضاً؛ لأنه قال بعد، ذكر التَّخْيير "يشبه أن يكون الأول أولَى" فأشعر بأن طرفَي التخيير قولان، ولكن من قال بالطريق الثاني والثالث تراجع أولى، فقال: أراد أولى وجهَي الخيار لا أوَّلَى [وجهيَ] القولَيْن، وحينئذٍ، فلا يكون مثبتاً قولَيْن، والله أعلم، إذا تَخاصما بعْد إنقضاء المدَّة وحصاد الذُّرَة. أما إذا تخاصَمَا في ابتداء قصْده زراعةَ الذُّرة، مَنَعْنَاهُ مِنها، وإنْ تخاصَما بعْد الزِّرَاعة وقبل الحصادِ، فله قلْعُها، وإذا قلَع (¬2) فإن تمكَّن من زراعة الحِنْطَة، زرَعَها، وإلاَّ لم يَزْرَع، وعليه الأجرةُ لجميع المدَّة؛ لأنه المفوِّت لمقصود العقْد على نفْسِه، ثم إن لم تمضىِ مدَّة تتأثر (¬3) بها الأرْض، فذاك، وإن مضَتْ، فلمستَحَقُ أجرة المِثْل؟ أمْ قسْطُها منْ المسمَّى، وزيادة النقصان؟ أم يتخيَّر بينهما؟ فيه ما تقدَّم من الطرق، وهي جاريةٌ فيما إذا استأجر داراً؛ ليسْكُنها، فأسكنها الحدَّادينَ أو القَصَّارين، أو دابَّةً؛ ليحمل ¬
عليها قطْناً، فحمل عليها بقَدْرهِ حديدًا، أو غرفة؛ ليطْرَح فيها مائة رطل (¬1) من الحنطة، فأبدَلَها بالحديد، وكذلك في كلِّ صورة لا يتميزَّ فيها المستحَقُّ عما زاد، فإن تميَّز كما إذا استأجر دابةً؛ ليحمل خمسين مَنّاً، فحمل مائةَ (¬2) أو إلى موْضِع، فجاوَزَه، فالواجبُ المسمَّى وأجرةُ المثل لما زاد. ولو عدل من الجنْسِ المشْرُوط إلَى غيره، كما إذا استأْجَر للزَّرْع، فغرس، أو بني، فالواجب أجرةُ المِثْل. ومنْهُم من طرد الخِلاَفَ (¬3) فيه. وقوله في الكتاب: "يخيّر بيْنَ أُجْرةُ المثل" إلى آخره حاصلُ ما يخرج في المسألة من الأقوال أو الأوْجُه، وفي نظمه إشعارٌ بترجيح التخْيير من ثلاثتها؛ عَلَى ما ذكره كثيرُونَ. وقوله: "وبيْن أخذ المسمَّى وأرْش نقص الأرْض" فيه مُبَاحَثة، وهي أنَّ هذا اللفظ يسبقُ إلى الفهم منه [أو ما]، ينقص من قيمة الأَرْضِ" ويقرُب منه قولُهُ في "المختصر" (¬4): ورَبُّ الأرض بالخيار، إن شاء اختار الكراءَ, أو ما نَقَصَت الأرض مما (¬5) ينقصها زرع القمح. ومنهم من يقولُ بدَلَ هذه اللَّفْظَة: إنَّهُ يأْخُذُ المسمَّى وأُجْرةَ المِثْل لِمَا زاد، فهما عبارتان عن معبّر واحدٍ، أم كيف الحال؟ والجواب إنه جَعْلَ نقصان القيمة والأجْرَة وهذا يعتد بل (¬6) شيئاً واحداً بَعيدٌ بل (¬7) لكلِّ زراعةِ أجرةٌ، ولا يَكاد تنقصُ قيمة الأرض بها، وإنِ اشتدَّ ضرَرُها، والذي يتَّجه أخْذُه مع المسمَّى بدل المنفعة التي استوفاها فوق المستحقِّ، وبدل المنفعة الأجْرَة، فليحمل لفظ "نقص الأرض" على الضَّرَرِ الذي لحقها بما استوفَاهُ المنفعة، وأرْشُه جزءٌ من أجرة ما استوفاه، وهو يفارق ما بينها وبَيْن أُجْرة المنفعة المستحَقَّة، وحقَّقه بعض الشارحين لـ"المُخْتَصَر" فقال: كان أجرةَ مثلها للحنطة خمسون، وللذُّرة سبعون، والمَسَمَّى أربعون يأخذ الأربعين، ويفاوت ما بين الآخَرِين، وهو عشرون. قَالَ الغَزَالِيُّ: أَمَّا فِي الدَّوَابِّ فَيَجِبُ عَلى مُكْرِي الدَّابَّة تَسْلِيمُ الإِكَافِ، وَالحِزَامِ، وَالثَّفَر وَالبُرَةِ وَالخِطَامِ، وَفِي حَقِّ الفَرَسِ في السَّرْجِ خِلاَفٌ، والمَحْمِل والْمِظَلَّةُ وَالغِطَاءُ وَمَا يُشَدُّ بِهِ أَحَدُ المَحْمِليْنِ إِلَى الآخَرِ فَعَلَى المُكْتَرِي، والْوِعَاءُ الَّذِي فِيهِ نَقْلُ المَحْمُولِ ¬
عَلَى المُكْتَرِي، إِنْ وَرَدَتِ الإِجَارَةُ عَلَى عَيْنِ الدَّابَّةِ، وَإِنْ وَرَدَ عَلَى الذِّمِّةِ فَعَلى المُكْرِي، فَالدَّلْوُ وَالرِّشَاةُ في الاسْتِقَاء كَالوِعَاءِ، وَيَجِبُ تَقْديرُ الطَّعَامِ المَحْمُولِ، فَلَوْ فَنِيَ فَالأَظْهَرُ أَنَّ لَهُ إبْدَالَهُ قَالَ الرَّافِعِيُّ: النوعُ الثالثُ: استئجار الدوابِّ، وفي الفصل منه ثلاثُ صُوَرٍ: إحداهما: إذا اكترَى للركوب أطلق صاحب الكتاب، وأكثرهم أنَّ عَلَى المُكْرى الإكافَ والبرذَعَةَ (¬1) والحِزَام (¬2) والبرة والثفر (¬3)، والخِطَام (¬4)؛ لأنَّه لا يتمكَّن منَ الرُّكُوب دونها والعرف مطَّرِدٌ بكونها منْ قبل المُكْرِي. وفي السَّرْجِ إذا اكترى الفَرَس، ذكروا وجهَيْن أظهرهُما (¬5) لزومُه؛ كالإكاف. وثانيها: المنعُ؛ لاضطراب العرف فيه، وأجاب القاضِي ابنُ كجٍّ بوجهٍ ثالثٍ، وهو اتِّباع العادة فيه (¬6). وقال أبو الحسن العَبَّاديُّ في "الرَّقْم": مكري الدَّابَّة لا يلزمه إلا تسليمُها عَارِيةً، والآلات كلُّها على المكْتَرِي. وفي "التهذيب" ما هو كالتوسَّط في هذه الآلاَتِ، فأطلق اللزوم فيما عدا السَّرْج، والإكاف، والبرْذَعَة، وفصل في ثالثها بين أنْ تكون الإجارةُ عَلَى عيْنِ الدابَّةَ، فهي على المُكْتَرِي، ويضمن، لو ركبَ بغير سرْج وإكاف، وإنْ كانتْ في الذِّمَة، فهي على المكْري؛ لأنها للتَّمْكين من الانتفاع، وأمَّا ما هو للتِّسْهِيل على الراكب كالمَحْمل، والمظلَّة، والوطاء والغطاء (¬7)، والحبل الذي يُشَدُّ به المَحْمِل على الجمل، والذي يشد به أحد المحملين إلى الآخر (¬8)، فهو على المكَري، والعَرْفُ مطرِد به، وفي "المهذب" حكايةَ وجهيْن في الذي يُشَدُّ به أحدهما إلى الآخر وهذا بعيد مع ¬
القطع في نفس المَحْمِل، وسائر توابعه المذكورة بأنها على المكتري، ولكن الأقْوَم ما في "تعليق" الشَّيخ أبي حامد وغيره، وهو رَدُّ الوجهَيْن إلى أنه شدّ أحدهما إلى الآخَرِ عَلى مَنْ؟ ففي وجْهٍ هو على المُكْتَرِي كالشَّدِّ على الحمل، وفي الثاني على المكري؛ لأنَّهُ إصلاحُ ملْكه (¬1)، وجميع ما ذكرناه فِيمَا إذا أطلقا العقْدَ. أمَّا إذا قال: أكريتك هذه الدابَّة العاديَةَ بلا إكاف، ولا حِزَامٍ، ولا غيرهما، لم يَلْزمْهُ شيءٌ من الآلات. الثانية: إذا اكْتَرى للحَمْل، فالوعاء الذي يَنْتَقِل فيه المحْمُول عَلَى المكْتَرِي، إن وردَتِ الإجارَةُ عَلَى عيْنِ الدابَّةُ، وعلى المكْرِي، إن وردت على الذِّمَّة، ووَجْه ذلك بأنَّها، إذا وردَتْ على العين، فليس علَيْه إلاَّ تسليمُ الدابَّة بالإكافِ، وما في معناه، وإذا كانت الذِّمَّة، فقد الْتزمَ النقْل، فليهيء أسبابه، والعادة مؤيدة له، وبدلْوُ والرِّشَاء في الأكثر للاستقاء؛ كالوعاء في الحَمْل. فيلزم المكري إنْ كانت الإجارة في الذمَّة. وعن القاضي الحُسَيْن، أنه إن كان الرجُلُ معروفاً بالاستقاء بالآلات نفْسِه، لزمه الإتيان بها، وهذا يجب طرْدُه في الوعاء، ورأى الإمام في إجازة الذِّمَّة الفَرْقَ بين أن يلتزم العوض (¬2) مطْلقاً، ولا يتعرض للدابَّة، فتكون الآلاتُ عَلْيه، وبين أن يتعرِّض لها بالوصْف، فحينئذ يتبع العادة، فإن اضطربت العادَةُ احتمل واحتمل؛ لأنَّ التعرُّض للدابة يُشْعِر بالاعتماد على الإتْيان بها، وإذا رأينا اتباع العادة، فاضطربت العادة، فهل يُشْترط التقييد (¬3) لصحَّة العقد؟ أشار إِلَى خلافٍ فيه، والظاهرُ اشتراطه، ومؤنة الدليلِ والسائقِ، والبذرقة، وحفْظُ المتاع في المَنْزِل كالوعاء. الثالثة: الطعامُ المحمُول، ليؤكلَ في الطريق كسَائِر المحمُولاَت في أنَّهُ لا بُدَّ من رؤْيَتَه، أو تقديره بالوَزْن. وعن ابن القَطَّان وغيرِه وجْهٌ أنَّهُ لا حاجة إلى تقديره، بل يُرَدّ الأمر فيه إلى العَادَةَ، ولا حاجة إِلى تقْدير ما يُؤكَل [منه] كلَّ يوم لصحَّة العقْد. وفيه وجه أيضاً، وإذا قدرَّه وحَمَلَه، فإن شرط أنَّهُ يبدله كلما انتقَصَ، أو لا يبدّلهُ، اتَّبِع الشرْط، وإلا، فإنْ فَنِيَ بعضه أو كله بسرقة، أو تلف، فله الإبدال؛ كسائر المحمولات، وإن فَنِيَ بالأكل فإن فني الكلُّ، فكذلك. وحَكَى الامامُ وجْهاً أنه لا يبْدل، فإنَّ المكتري إنما يحمله لِيُؤْكَل؛ لأن المكتري ¬
يشتري في كلِّ مرحلة] (¬1) قدْر الحاجة، والمذْهَب الأوَّل، فإن فَنِيَ بعضُه، فقَوْلان، وُيقَالُ: وجهان: أصحُّهما، وبه قال أبو حَنِيفَة رضي الله عنه واختاره المُزَنِيُّ: أنَّهُ يبدله كسائر المحْمُولات، إذا باعها أو تَلِفَتْ. والثاني: المَنْعُ؛ لأنَّ العادة فِي الطَّعام أنَّه لا يبدل كلَّ قدر [يؤكل] (¬2)، وإنما يبدل عنْد نفاذه، وموضِعُ القولَيْن على ما ذكره أبُو إسحاق إذا كان يجد الطَّعامِ في المنازل المستقبلية بسِعْر المنزل الذي هو فيه، أمَّا إذا لم يجدْه أو وجَده بسِعْرٍ أرفعَ، فله الإبدالُ لا محالة وهذا ما أجاب به الإِمامَ والشيخ أبو إسحاق في "التنبيه" وإذا فرَّعنا على أنَّه لا حاجة إلى تقدير الزاد، وحمل ما يعتاد لمثله، لم يبدله حتى يفْنى الكل. وفيه وجْهٌ ضعيفٌ. ولا يخفَى مما ذكرناه أنَّهُ يَجوزُ إعلام قَوله: "فيَجِبَ على مكري الدَّابَّة تسليمُ الإكاف" بالواو، وكذا إعلامَ قوله: "يجب تقدير الطعام المحمول". قَالَ الغَزَالِيُّ: وَيَجِبُ عَلَى المُكْرِي إِعَانَةُ الرَّاكِبِ لِلنُّزُولِ وَالرُّكُوبِ في المُهِمَّاتِ المُتَكَرِّرَةِ، وَكَذَا الإِعَانَةُ عَلَى رَفْعِ الحَمْلِ وَحَطِّهِ، وَكَذَا في المَحْمِل إِلاَّ إِذَا وَرَدَتِ الإِجَارَةُ عَلَى عَيْنِ الدَّابَّةِ وَسُلِّمَ إِلى يَدِ المُكْتَرِي. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا اكترَى للركوب في الذِّمة، وجب على المكْرِي الخروجُ مع الدَّابَّة؛ ليسوقَها ويتعهَّدَها، وإعانة الراكب في الركوب، والنزول وبراعى العادةَ في كيفيَّة الإعانة، فينيخ البعير للمَرْأَة؛ لأنَّه يصْعُب عليها الركوب والنزول في حال قيام البعير، ويخاف عليها التكشُّف، وكذلك لوْ كان الرَّجُلُ ضعيفاً بمرضٍ، أو شيخوخةٍ، أو كان مفْرط السِّمَن، أو نصف الخلق، ينيخ له البعير، ويقرب البغل والحمار من نشز (¬3)، ليسهل الركوب (¬4) والاعتبارُ في القوَّة والضَّعْف بحال الرُّكُوب لا بحال العقْد، فإن اكترى للحمل في الذِّمَّة، فعَلَى المكْري رفع الحمل وحَطُّه، وشدُّ المَحْمِل، وحلُّه، وفي شدِّ أحد المَحْمِلَيْن إلى الآخر، وهما بَعْدُ على الأرض، ما سبق من الوجهَيْن. ويقف الدابة؛ لينزل الراكب لما لا يتهيأ عليها؛ كقضاء الحاجةِ والوُضُوءِ وصلاة الفَرْض، وإذا نزل، انتظره المكْرِي؛ ليفرغ منها, ولا يلْزَمُه المبالغةُ في التخْفِيف، ولا ¬
فروع
القصرْ ولا الجَمْعُ، وليس له الإبْطَاءُ والتَّطْويلُ. قال القاضي الرُّويَانِيُّ في "البحر" (¬1): وله النزولَ في أوَّل الوقْت، لينال فضله، ولا يقفُ للنوافل، والأكل، والشرب لتأتيها على الراحلة. وإن ورد العقْد على دابَّة بعينها، فالذي يجبُ على المكْرِي النخليةُ بينها وبين المكْتَرِي، وليس عليه أن يُعينَهُ في الركوب، ولا في الحَمْل، هذا ما يوجد للأكْثَرِين في نُوْعَي الإجَارةِ، وحَكَى الامامُ وراءه ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّهُ يفرق في إجارة الذمَّة بيْن أن يقولَ عَلَيَّ التبليغُ، فيقول: ألزمت ذمتك تبلُّيغي إلى موضع كذا، ويقع ذكر الدّابَّة تبعاً، فيلزمه الإعانةُ، وهي أن يَقُول: عَلَيَّ الدَّابةُ، فيقول: ألزمت ذمتك منفعةَ دابَّةٍ صنعتُها كذا فلا يجب. والثاني: أنَّهُ يجبُ الإعانةُ علَى الركوب في إجارة العَيْن أيضاً. والثالثُ: أنَّها تجب للحمل سواءٌ كانت الإجارةُ على الذمَّة، أو على العَيْن؛ لاطراد العادة بالإعَانَة على الحطِّ، والحَمْل، وإن اضطربت في الركوب، وهذا ما اختاره صاحبُ الكتاب في "الوسيط" ورفع المَحْمِل وحطُّه كالحمل. فروع: أحدُهُما: قال الشافعيُّ -رضي الله عنه-: إذا اختلَفَا في الرحلة رحل لا مكبوباً ولا مستلقياً واختلَفُوا في تفْسِيره؛ فعن أبي إسْحَاق أن المكبوب أن يجعل مقدّم المحمل، أو الزاملة أوْسَعَ من المؤَخّر، والمستلْقي عكسه وقيل: المكبوب بأن يضيق المقدَّم، والمؤخَّر جميعاً، والمُسْتَلْقي أن يوسعهما جميعاً، وعلى التفسيرَيْن؛ المكبوب أسهل على الدَّابة، والمستلْقي أسهلُ على الراكب، وإذا اختلفا فيهما حُمِلا على الوسط المعتدل، وكذلك إذا اختلفا في كيفيَّة الجلوس. وليس للمكري منْعُ الراكب من النَّوْم في وقْته المعتاد، ويمنعه في غير ذلك الوقْت؛ لأن النائم يثقل، قاله القاضي ابن كجٍّ. وثانيهما: قد يعتاد النُّزُول والمشْيَ عند الرَّواح، فإن شرطا أن يَنْزِل أوْ لاَ ينزل اتَّبعَ الشَّرْط، قال الإمام: ويعرض في شَرْط النُّزُول إشكالٌ؛ لتقطع المسافة، ويقع في كراء العقب، لكنَّ الأصحاب احتملُوه بناءً على التساهل، وإن أطلقا، لم يجِبِ النزولُ عَلى المَرْأة، والمريض، وفي الرَّجُل القويِّ وجهان؛ لتعارض اللفظ، والعادة، وكذا ¬
حكمُ النزول على العقبات الصعْبَة (¬1). وثالثها: إذا اكترَى دابَّةً إلى بلدة، فبلغ عمرانها، فللمكري استردادُ الدابَّة، ولا يلزمُه تبليغُه دارَهُ (¬2) ولو أكترَى إلى "مكة" لم يكنْ له الحجُّ علَيْها، وإن اكتراها للحجِّ عليها، رَكِبَها إلى "منىً ثمَّ إلى عرفاتٍ ثم إلى "مُزْدَلِفَةَ"، ثم إلى "منى"، ثم إلى "مَكَّة" للطواف، وهل يركبها من "مكة" عائداً إلى "منىً" للرمْي والطواف؟ فيه وجهان (¬3). قَالَ الغَزَالِيُّ: وَمَهْمَا تَلِفَتِ الدَّابَّةُ المُعَيَّنَةُ انْفَسَخَتْ، وَإِنْ أَوْرِدَ عَلَى الذِّمَّةِ فَسُلِّمَ دَابَّةً فَتَلَفِتْ لَمْ يَنْفَسِخْ، وَكَذَا إِنْ وَجَدَ بِهَا عَيْباً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا اكترَى دابَّةً بعينها، فتِلفَتْ، انفسخَ العقْد، وإن وَجَدَ بها عَيْباً، فله الخيارُ، كما لو وجِدَ المبيعَ مَعِيباً، والعَيْبُ بأن تَتَعَثَّرَ في المشْي أو لا تبصر بالليل، أو يكون بها عَرَجٌ تتخلف بها عن القافِلَة، ومجرد خشونة المشي ليْسَ بعَيْب، وإن كانتِ الإجارةُ في الذمَّة، وسلم دابةً، فتلفتْ، لم ينْفَسِخ العقْدُ، وإن وجد بها عَيْباً، لم يكنْ له الخيارُ في فسْخ العقْد، ولكن على المكري الإبدالُ، كما لو وجد بالمُسَلَّم فيه عيباً، واعلم أن الدابة المسلمةَ عن الإجارة في الذمَّةِ، وإن لم ينفسخ العقْدُ بتلفها، فإنَّه يثبتُ للمكتري فيها حقٍّ واختصاصٍ؛ حتَّى يجوز له إجارَتُها, ولو أراد المكْرِي إبدالَهَا، فهل له ذلك دون رضا المكتري فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لما فيها من حقِّ المكترى. والثاني: عن الشَّيخ أبي محمَّد: أنه يُفْرَق بين أنه يعتمد باللفظ الدَّابة بأن يقول: آجَرْتُكَ دابَّةً من صلتها كذا وكذا، فلا يجُوزُ [إبْداَلُهَا بالذي تَسَلّمها] (¬4) أوْ لا يعتمد بأن يقول: ألزمت إركابَك عَلَى دابَّة صفتُها كذا وكذا، فيجوز الإبْدَال، واختار في "الوسيط" ¬
هذا الوجه الثاني لكنَّ الأصحَّ عند المعْظَم الأَوَّلُ. ويترتَّب على الوجهَيْن ما إذا أفلس المكْرِي بعد تعْيِين دابَّةٍ عن إجارة الذِّمَّة، هل يتقدَّم المكتري بمَنْفَعَتِها؟ وقد ذكَرْنا ذلك في "التفْلِيس" والأصَحُّ التقديمُ، وهو الذي ذكره في "التهذيب" ولو أراد المكْتَرِي أن يعتاضَ عنْ حقِّه في إجارة الذمَّة إن كان قبل أن يتسلَّم دابةً، لم يَجز لأنَّه اعتاضَ عن المسلّم فيه، وإنْ كان بعد التسليم، جاز؛ لأنَّ الاعتياض، والحالة هذه، واقعُ عن حق في عين، هكذا ذكره الأئمة، وفيه دليلٌ على أن القبض يفيد تعلُّق حقِّ المكتري بالعَيْن، فيَمْتنِع الإبدالُ دون رضاه. قَالَ الغَزَالِيُّ: ويجُوزُ إِبْدَالُ المُسْتَوْفي فَلَهُ أَنْ يُرْكِبَ (ح ز) مِثْلَ نَفْسِهِ، بَلْ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ الدَّابَّةَ وَالدَّارَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلاَ يَجْوزُ إِبْدَالُ الأَجِيرِ المُعَيَّنِ وَالدَّابَّةِ وَالدَّارِ، وَفِي إِبْدَالِ الثَّوْبِ الَّذِي عُيِّنَ لِلْخِيَاطَةِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي عُيِّنَ لِلرَّضَاعِ وَالتَّعْلِيمِ وَجْهَانِ. قال الرَّافِعِيُّ: هذا الفصْلُ لاَ يَختصُّ بنوْع إجارةِ الدَّوَابِّ؛ وإنَّما هو قولٌ جملى في إبدال متعلِّقات الإجارة، والمنفعةُ المطْلُوبةُ بالعَقْدُ لها مستوفٍ، ومستوفىً منه، ومستوفَى به. فأما المستوفَي، فهو المستَحِقُّ للاستيفاء، فله أن يُبْدِل نفسه بغيره، كما يجوز له أن يؤجر ما استأجره من غيره، فإذا استأْجر دابَّةً للركوب، فله أن يركبها مثل نفسه في الطُّول، والقِصَر، والضَّخَامَة والنَّحَافَة، ومَنْ هو أخف منه وكذلك يلبس الثوب من هو في مثْل حاله، ويسكن الدار مثْلَه دون القَصَّار والحدَّاد؛ لزيادة الضرر وكذا إذا استأجر دابة لِحَمْل القطْن، له حَمْل الصوف، والوبر، أو لحمل الحديد، له حمْلُ الرَّصَاص، والنُّحَاس، وإذا استأجر للحَمْل، فأراد إركاب من لا يزيدُ وزنُهُ على وزن القَدْر المحمول؟ قال في "التتمة": يرجع إلَى أهل الصنعة، فإن قالوا: لا يتفاوَتُ الضرَرُ، جاز، وإن قَالوا: يتفاوَتُ، فلا يجوز. وكذا لو استأْجر للركوب، فأراد الحمل، فالظاهر المنْعُ من الطرفين، وهو قضية ما في "التهذيب" وقوله في الكتاب: "فلَهُ أنْ يرْكِب مثل نفسه" يجوز أن يَعْلَم بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة لا يجوز إبدالُ الراكب، واللابس، وسلَّم أنه لو أكْرَى داراً؛ ليسْكُنَها، جاز له أن يُسْكِنُها غيره، وبالزاي؛ لأن القاضي ابن كج حكَى عن المزنيِّ منْعَ إبدال الراكب، وأما المستوفَى منه، فنحو الدار، والدَّابة المعيَّنة (¬1)، والأجيْر المعتَبَر (¬2)، لا يجوزُ إبداله كما لا يجوزُ إبدالُ المَبيع (¬3). ¬
وأما المستوفَى به، فهو كالثَّوْب المعيَّن للخياطة، والصبِيِّ المعيَّن للإرضاع، والتعلُّم، والأغْنَام المعيَّنة للرعي (¬1)، وفي إبداله وجهان، ويقال: قولان: أحدهما: أنَّهُ لا يجوز كالمستوفَى منه. وأصحُّهما: ما ذكره الإمامُ وصاحبُ "التتمة": يجوز؛ لأنه ليس [معقوداً] عليه، وإنما هو طريقُ الاستيفاء، فأشبَهَ الراكب والمتاع المعيَّن للحَمْل، والخلافُ جارٍ في انفساخ العقْد بتلف هذه الأشياء في المدَّة، ومَيْلُ العراقيين إلى ترْجيح الانفساخ، وقالوا: إنَّهُ المنصوص. والثاني: خرَّجه بعض الأصحاب، وستزداد المسألةُ وضوحاً إذا انتهينا إلى الباب الثالث، فهي مذكورةٌ فيه. ويجري الخلافُ فيما إذا لم يلتقم الصبيّ المعيَّن ثديها، فعلى رأْيٍ ينفسخ العقْد. وعلى الثاني (¬2): يُبْدَل والله أعلم بالصواب. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَمَهْمَا اسْتَأْجَرَ ثَوْباً لِلُبْسِ نَزَعَهُ لَيْلاً إِذَا نَامَ وَفِي وَقْتِ القَيْلُولَةِ (و) وَلاَ يَجُوزُ الاتِّزَارُ بِهِ، وَفي الارْتدَاءِ بِهِ تَرَدُّدٌ. قَالَ الرَّافِعِيّ: إذا استأْجَرَ الثِّيابَ لِلُبْسِ، والبسط، والزَلاَلِيُّ (¬3) للفرش، واللّحف للإلتحاف بها، جاز وإذا استأْجَرَ ثوباً ليلبسه مدَّةً، لم يجز أن ينام فِيهِ باللَّيْل؛ للعادة، وفي وقْتِ القيلولة وجهان: أحدهما: أنَّه يلزم نزْعُه أيضاً؛ لأنَّه الثَّوْب ينقصُ وبالنَّوْم فيه، وهذا ما أورده المصنِّف. وأصحُّهما: هو الذي أورده أكثرون: أنَّهُ لا يلْزَمُ؛ لاطِّرادَ العادةَ بالقَيْلُولة في الثِّياب دون البيتوتة، نعم لو كان المُسْتَأجَرُ القميصَ الفوقانيَّ، لزمه نزْعُهُ، بل يلزم نزعُه في سائر أوقات الخَلْوة، وإنما يُلْبَسُ ثياب الجَمل في الأوقات التي جرَتِ العادة فيها بالتجمُّل؛ كحالة الخروج إلى السُّوق، ودخُول النَّاس علَيْه، ولا يجوزُ الاتزار بما يستَأْجِر للُبْس لأنه أضرُّ للقميص من اللبس، وفي الارتداء وجهان: أحدُهما: المَنْعُ لأنه جنس آخر وأظهرهما: الجوازُ؛ لأنَّه ضرر الارتداء دون ضَرَر اللّبْس. ¬
الفصل الثاني في الضمان
قال في "التتمة": وإذا استأجر للارْتدَاء، لم يجزْ الاتزار، ويجوز التعمُّم (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: الفَصْلُ الثَّانِي فِي الضَّمَان وَيَدُ المُسْتَأْجِرِ في مُدَّةِ الانْتِفَاعِ يَدُ أَمَانَةٍ، وَكَذَا بَعْدَ مُضِيِّ المُدَّةِ علَى الأَصَحِّ، وَفِيهِ وَجْهٌ أنَّهُ بَعْدَ المُدَّةِ كَالمُسْتَعِيرِ، وَقَبْلَ الانْتِفَاعِ لَوْ رَبَطَ الدَّابَّةَ وَلَمْ يَنْتَفِعَ اسْتَقَرَّتِ الأُجْرَةُ، فَإِنْ تَلِفَتْ فَلاَ ضَمَانَ إلاَّ إِذَا انْهَدَمَ الإِصْطَبْلُ عَلَيْهِ ضَمِنَ لِأَنَّهُ لَوْ رَكِبَ لَأَمِنَ مِنْ هَذَا السَّبَبِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصودُ الفَصْلَ الثاني بيانُ حكْم الإِجارة فيما يرْجِعِ إلى الأمانة، والضَّمَان، والمَال في الإجارة تارةً يكون في يد المستأجر وأخرى في يد الأجير على العمل. أما المستأجر، ففيه مسألتان: إحداهما: يده على الدابَّة، والدارِ المستأجرتَيْن، ونحوِهِما في مدَّة الإجارة يدُ أمانةٍ، حتى لا يضْمَن التَّالف منهما (¬2) من غَيْر تعدٍّ وتقصير؛ لأنه مستحقٌّ للمنفعة، ولا يمكن استيفاؤها إلاَّ بإثبات اليدِ على العَيْن، فكانت أمانةً عنْده؛ كالنخلة التي اشْتَرَى ثمرتها, ولا يُشْبِه ما إذا اشترَى سَمْناً وقَبَضَه في بستوقه (¬3)؛ حيث تكون البستوقة مَضمونةً في يده على أصحِّ الوجهَيْن؛ لأنَّه أخذها لمنفعة نفسه، ولا ضرورةَ لقَبْض السمن فيها. وهل يضمَنُ ما يتلف في يده بعْد مُضِيِّ المدة؟ ينبني على أنَّهُ هل على المستأجر الردُّ ومؤْنَته، وفيه وجهان. أصحُّهما على ما ذكره في الكتاب، وبه قال أبو حنيفةَ أنَّهُ لا يلزَمُه الرَّدُّ، ولا مؤْنَتُه، وإنَّما عليه التخليةُ بينه وبيْن المالِكِ، إذا طلب؛ لأنَّه أمانةٌ فلا يجبُ ردُّه قبل الطلَب؛ كالوديعة، وَأَمْرَ بُهُما إلَى كلامِ الشافعيِّ -رضي الله عنه- وبه قال مالكٌ، ¬
واختاره الإصطخريُّ أنه يلزمه الردُّ ومؤنتُهُ، وإن لم يطلب المالك لأنه غير مأذون فيه في الإمساك بعْد المدَّة، ولأنه أخَذَه لمنفعة نفْسِه، فأشْبَهَ المُسْتَعِير (¬1). وعن القاضي أبي الطَّيِّب أنه لو شرَطَ المؤجر عَليْه الردَّ، لزمه ذلك بلا خلافٍ، ومنعه ابنُ الصَّبَّاغ، وقال: من لا يوجِبُ الردَّ عليه، ينبغي ألاَّ يجوز شرطه، فإن قلنا: لا يلزمُ الردُّ، فلا ضمانَ عليه، وإن قلْنا: يلزمه، ضَمِنَ مَا تَلِف في يده، إلاَّ أنه يكون الإمْسَاكُ بعذر (¬2). ويترتَّب على الوجهين أنه، هل يضمن أجرة المنافع التي تَتْلَف في يده بعْد مدَّة الإجارة؟ فإن ألزمناه الردَّ، ضمناه، وإلاَّ، فَلاَ (¬3). وفي "الزيادات" للشيخ أبي عاصم العَبَّادِيِّ فرُعَان يتعلَّقان بهذا الخلاف: أحدهما: غصبت الدَّابة المستأجرة مع دوابِّ سائر الرُّفْقة، فذهب بعضُهم في الطلبْ، ولم يذهَبِ المستأجر، إنْ قلنا: لا يلزمُه الردُّ، فلا ضمان عليه. وإن قلنا: يلزمُ، فإن استرد من ذهب من غيْر مشقَّةٍ [ولا غرامةٍ، ضمن المستأجر المتخلِّف، وإن لحقهم مشَقَّة، أو غرامةٌ] لم يضمن. الثاني: إذا استأجر قِدْراً مدَّةً؛ ليطبخ، فيها ثم حملها بعد المدة ليردَّها، فسقط الحمار، وانكسرت القدْرُ، قال: وإن كان لا يستقل بحمله، فلا ضمان، وإن كان يستقل، فعليه الضمان. أما إذا ألزمناه مؤنة الردِّ، فظاهر، وأمَّا إذا لم يلزمْه؛ فَلأَنَّ العادَةَ أنَّ القِدْرَ لا يرد بالحمار مع استقلال المُسْتاجر أو حمال بها. الثانية: الدابَّةُ المستأجرة للحَمْل، أو الركوب، لو ربَطَها المستأْجر، ولم ينتفع بها في المدة، فالقولُ في استقرار الأجْرة علَيْه سيأتي منْ بَعْدُ إن شاء الله تعالى ولا ضمانَ ¬
عليه لو ماتتِ الدابَّة في الإصطبل، ولو انهدم عليها، فهلكت، نُظِرَ؛ إن كان المعهُود في مثل ذلك الوقْت، أن تكونَ الدَّابَةُ تَحْتَ السَّقْف كجنح الليل في الشتاء، فلا ضمانَ، وإنْ كان المعهودِ في ذلك الوَقْتِ، لو خرج بها أن يكون في الطريق، وجب الضَّمَان؛ لأنَّ التَّلَفَ، والحالة هذه، جاء من ربْطِها في الإصْطَبل، وقوله في الكتاب: "وقبل الانتفاع لو ربط الدابة ولم ينتفع" الجمع بين اللفظَيْنِ موحسن؛ لأن الثاني ينفي الانتفاع. وقوله: "قبل الانتفاع" يقتضي أن يكونَ الانتفاعُ حصولاً، وأيضاً، فإنَّ كونَهُ غيْر منتفع قبل الانتفاع أوضحُ من أن يُذْكَر، فلا حَاجَةَ إلَى قوله: "ولمْ ينتفعْ" ولو اقتصر على قوله: "ولو ربط الدابة ولم ينتفع" لأفاد المطلوب. قَالَ الغَزَالِيُّ: أَمَّا يَدُ الأَجِيرِ عَلَى الثَّوْب الَّذِي يُرَادُ خِيَاطَتُهُ أَوْ صَبْغُهُ أَوْ قِصَارَتُهُ أَوْ عَلَى الدَّابَّةِ لِرِيَاضَتِهَا وَأَمْثَالِهِ فَهِيَ (ح) يَدُ أَمَانَةٍ عَلَى الأَصَحِّ (و) كَيَدِ المُسْتَأْجِرِ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أنَّهُ يَدُ ضَمَانٍ (ح)، وَقَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّ يَدَ الأَجِيرِ المُشْتَرَكِ يَدُ ضَمَانٍ بِخِلاَفِ الأَجِيرِ المُعَيَّنِ لِلعَمَلِ. قالَ الرَّافِعِيُّ: المالُ في يد الأجير كالثَّوبْ إذا استؤجر؛ لخياطته، أو صبغه، أو قصارته، والعَبْد إذا استُؤْجِرَ، لتعليمه، أو لرضاعه والدَّابةِ إذا استؤجرت، لرياضتها، إذا تلف، لم يخْلُ، إمَّا أن يكون الأجِيرُ منفرداً باليد، أو لا يكون: الحالَةُ الأُولَى: إذا كان منفرداً باليد، فهو إما أجيرٌ مشترَكٌ، أو منفردٌ، والمشترك هو الذي يتقبَّل العمل في ذِمَّته، كما هو دأْب الخيَّاطين والصوَّاغين، فهذا التزم لواحدٍ أمكنه أن يلتزم لغيره مثْلَ ذلك العَمَل؛ فكأنَّه مشتركٌ بين الناس، والمنفردُ هو الذي يمكنه أجْرُ نفسه مدَّةً مقدَّرةً لعمل، فلا يمكنه تقبُّل مثل ذلك العمل لغيره في تلْك المدَّة، وقيل: المشتركُ هو الذي شاركه في الرأي، فقال: اعمل في أيِّ موضع شئت، والمنفردُ هو الذي عيَّن عليه العمل فهو صِنعه. أما المشتَرَكُ، فَهَلْ يضمن ما تَلِف في يده منْ غير تقصير وتعدٍّ؟ فيه طريقان: أصحُّهما: أن فيه قولَيْن: أحدهما: يضمن، وبه قال مالكٌ؛ لأنَّه أخذ لمنفعة نفسه، فأشبه المستعير، والمستام، وأيْضاً، فقدْ رُوَي عن عُمَرَ وعَلِيٍّ (¬1) -رضي الله عنهما- تضمينُهُ، صيانةً لأموال الناس عن الخيانة المحرمة. ¬
وأَصَحُّهُما، وبه قال أحمدُ واختاره المُزَنيُّ: أنَّه لا يضمن، كما لا يضمن المستأجر ولَيْسَ أخذه لمحض غرضه، بل هو لغرضه، وغرضِ المالِكِ، فأشبه عامِلَ القِرَاض. والثاني: القَطْعُ بالقَوْل الثَّاني، ويُحْكَى هذا عن الرَّبيع؛ لما اشتهر عنه أن مذهب الشافعيِّ رضي الله عنه أن الأجراء لا يَضْمَنُون إلاَّ أنَّه كان لا يبُوح به خَوْفاً من أُجَراء السُّوء، ومن قال بهذا قال قوله في "المختصر": والأُجَرَاءُ كلُّهم سواء، وما تلِفَ في أيديهم منْ غيْر جنايتهم، ففيه واحدٌ من القَولَيْن: أحدهما: الضمان. والآخَرَ: أن لا ضمان إلاَّ بالعدوان، أراد به الردَّ على أبي حنيفة رضي الله عنه حيث قال: ما تَلِفَ في يد الأجير المشتَرَكِ بآفة سماوية، أو سرقةٍ، فلا ضمانَ علَيْه، وإن تلف بفعْله، ضَمِن، فإن كان بالفعل المأذون فيه، كتخرُّق الثوب بدقِّ القصَّار، إلا أن يكون الفعلُ المأذُونُ فيه جرحاً وختانٍ من قصد وختان، ونحوهما فقال: لا وجْهَ لما ذكره إنما المتَّجه أحد القولَيْن. أما ما قلت: وهو أنه لا يضمن بحالٍ، أو ما قال أبو يوسُفَ، وهو أنَّه يضمن ما تَلِف بفعْله، أو بالآفةِ السَّماويَّة، وأما المنفردُ، فهو أولَى يبقى الضمان؛ لأنَّ منافعه مختصةٌ بالمستأجر في المدَّة، فكانت يده كالوكيل مع الوكيل، فمَنْ قَطَع بنفي الضمان في المشتَرَكِ، ففي المنفرد أولى والمثبتون للخلاف هناك افترقُوا هاهنا فطرد أكثرهم الخلافَ، وعليه يدل نصه (¬1) "أنَّه الأجراء كلَّهم سواء" وقطَع بعضُهم بنفي الضمان، ويُحْكَى هذا عن أبي الحُسَيْن بنْ القَطَّان، والقَفَّال وفي "تعليق" الشيخ أبي حامدٍ أَنَّ الطريقتَيْن إن فسَّرْنا المنفرِدَ بالتفْسِير الأول، فأما على الثاني (¬2)، فليس إلاَّ القطْعُ بنفي الضَّمَان، وإذا جمعتْ بيْن الطرُق، قلْتَ: في ضمان الأجير ثلاثة طرق: أحدُهَا: إثباتُ قولَيْن فيه. والثاني: القَطْعُ بأنه لا يَضْمَن. والثالث: القَطْعُ بأن المنفرد لا يضمن وتخصيص القولَيْن بالمشترك، وإذا اختصرْتَ، قلْتَ: فيه ثلاثة أقوالٍ كما في الكتاب. ¬
ولْيُعْلَمْ قوله: "أمانة" بالميم وقوله: "على الأصح" بالواو، للطريقة القاطعة. وقوله: "يد ضمان" بالألف نحو إعلامُ القولَيْن [الأولَيْن] بالحاء؛ لأنه مذهبه الفرق بين المشترك، والمنفرد كالثَّالث. والحالة الثانية (¬1): إذا لم يكنِ الأجيرُ منفرداً باليَدِ، كما إذا قَعد المستأْجِر عنده حتى يَعْمَل، أو حمله إلى بيته، ليَعْمَل، قطع الجمهور بأنه لا ضمان علَيْه؛ لأَن المَالَ غيرُ مُسَلَّم إلَيْه في الحقيقة، وإنما استعان المالِكُ به في شُغُله، كما يستعين بالوكيل والتِّلْمِيذ. ونقل عن ابن كج عن أبي سعيد الإصْطَخْرِيِّ وأبي عليٍّ الطَّبريِّ طرد القولَيْن فيه، وحيث قلْنا بوجُوب الضمان على الأجير، فالواجبُ أقصى قيمة من يوْم القبْض إلى التلف، أو قيمة يوم التلف؟ فيه وجهان (¬2)، واحتجَّ المُزَنِيُّ للقول الأصحِّ بأنَّهُ لا ضمانَ على الحجَّام إذا حجم، أو ختن ولا على البَيْطَار، إذا نزع، فأقضى إلى التَّلَف، وبأن الراعي المنفرد لا ضمان علَيْه، وبأنَّ من أكراه؛ ليحفظ متاعه في دُكَّانه لا ضمان [عليه] (¬3). قال الأصحاب رحمهم الله: المحْجُوم إما حُرٌّ، فلا تثبت اليد عليه، أو عبْدٌ فينظر في انفراده باليَدِ وعدمِ الانفرادِ، وبتقدير الانفراد في كونه مشتركاً، أو منْفَرِداً، فالحكْمُ في الأحوال كما سَبَق من غَيْره، فلا احتجاج، وكذا القول في الراعي (¬4). وأمَّا المسألةُ الثالثةُ: فالمال فيها في يد المالك؛ لكن الأجير في دكانه على ما تقرَّر، هذا كلُّه فيما إذا لم يوجدْ من الأجير تعدٍّ، فإن وُجِدَ، وجب الضمان لا محالةَ ¬
وذلك مثل أن يسرف الأجيرُ على الخُبزْ في الإيقاد، أو يلْصِقَ الخبز قبل وقته أو يتركه في التَّنُّور فوْق العادة حتى يحْتَرق، أو ضرب الأجير على التأديب والتعليم الصبي فمات؛ لأن تأديب الصبيِّ بغير الضرْب ممكن، ومهما اختلف الأجير والمستأجر في أنَّه هل تعدَّى، وجاوز المعتادَ بعمله أم لا؟ راجعنا فيه عدلَيْن من أهل الخِبْرة، وعمِلْنا بقولهما، فإن لم نجد من نراجعه، فالقولُ قول الأجير؛ لأن الأصْلَ براءته من الضمان، ومهما تَلِف المالُ في يد الأجير بعْد تعدِّيه، فالواجبُ أقصى قيمة من وقْتِ التعدِّي إلى التَّلف، إنْ لم يضمن الأَجِير، فإن ضمناه، فأقصى قيمه من يوم القبْضِ إلى التلف، هكذا ذكره صَاحِبُ "التهذيب" وغيرُه، ويُشْبِه أن يكونَ هذا جواباً عَلى قولنا: إنَّهُ يضمن بأقْصَى القيمة منْ يوم القبض إلى التَّلَف، فأما إذا قلْنا: إنَّهُ يضمن الأجِير قيمةَ يوْمٍ التَّلَف، فينبغي أن يقال: الواجبُ ههنا أقصى قيمة منْ يوْم التعدِّي إلى التَّلَف (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: وَظَاهِرُ النَّصِّ أَنَّ مَنْ غَسَلَ ثَوْبَ غَيْرِهِ أَوْ دَلَكَهُ أَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ وَلَمْ يَجْرِ لَفْظُ الإِجَارَةِ اسْتَحِقَّ أُجْرَةً لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَنَافِعَ نَفْسِهِ باخْتِيَارِهِ، وَقَالَ المُزَنِيُّ: إنْ كَانَ عَادَتُهُ طَلَبَ الأُجْرَةِ اسْتَحَقَّ الأُجْرَةَ، وَأَمَّا مَنْ دَخَلَ الحَمَّامَ لَزَمَهُ الأُجْرَةُ لِأَنَّهُ يُتْلَفُ مَنْفَعَةَ غيْرِهِ بِسُكُونِهِ، وَلاَ ضَمَانَ علَى الحَمَّامِيِّ إِذَا ضَاعَ الثِّيَابُ بِغَيْرِ تَقْصِيرِهِ علَى الأَصَحِّ (و) كَسَائِرِ الأُجَرَاءِ. قَالَ الرِّافِعِيُّ: فيه مسْأَلَتَان: إحداهما: إذا دفَع ثَوْباً إلى قَصَّارٍ؛ ليقصره، أو إلى خَيَّاط؛ ليخيطه، أو جلس بين يديْ حلاَّق، ليحْلِقَ رأسه، أَو دلاَّك، ليدلكه، فَفَعَل، ولم يجْر بينهما ذكْرُ أجرة ولا نفْيُها، ففيه أوجُهٌ: أصحُّها: وَيُحْكَى عن النص أنَّهُ لا أجرة له؛ لأن المعمولَ له لَمْ يلتزَم عِوضاً وعمله كما يجوز أن يكونَ مقابلاً بعوض، يجوز أن يكون مجَّاناً، وصار كما لو قالَ: أطْعِمْنِي خبزك، فأطْعَمَه، لا ضمان عليه. والثَّاني: أنَّه يستحِقُّ الأجرة؛ لأنَّه استهلَكَ عمَلَه، ولزمه ضمانه. والثالث: وبه قال أبو إسحاق: أنه إن بدأ المعمول له، فقال: افعل كذا، لَزِمَه الأجرة، وإن بدأ العامِل، فقال: أعْطِنِي ثوْبَك؛ لِأُقَصِّره، فلا أجرة له؛ لأنه اختار تفويت منافعه. ¬
والرابعُ: إِنه كان العاملُ معروفاً بذلك العَمَل، وأخذ الأجرة علَيْه، استحق الأجرة للعادة، وإلا فلا، وهذا ما أجاب به صاحبُ الكتاب في "باب العارية" (¬1) واختلفت الروايةُ في المسألة عن المزنِّي، وابن سُرَيْج. أما المزنيُّ فَرَوى أصحابنا العِراقيُّون عنه الوَجْهَ الثاني، وأسنَدُوه إلى "الجامع الكبير" ورَوى آخرون عنه الوجه الرابع (¬2) ومنهم صاحبُ الكتاب، والقاضي الرُّويانيُّ. وأما ابْنُ سُرَيْج، فَرَوى الأكثرون عنه الوَجْهَ الأوَّل. وفي "المهذَّب"، و"التهذيب" نِسْبةُ الرابع إلَيْه، والله أعلم ولو دخل سفينةً بغير إذْنِ صاحبها، وسار إلى السَّاحل، فعلَيْه الأجْرةُ، وإن كان الإذْنِ، ولم يجرِ ذكر الأجرة، فعلى الأوجُهِ. وإذا لم نوجِبِ الأجْرة، فالثوب أمانة في يد القَصَّار، وإن أوجَبْنَاها، فوجُوب الضَّمان على الخِلاَف في الأَجير المشترَكَ. الثانية: فيما يأخذه الحمَّامِيُّون (¬3) وجهان: أحدُهما: أنَّهُ ثمن الماء، وهو متطوِّع بحفْظ الثِّياب، وإِعادة السَّطْل (¬4)، فعلى ¬
هذا؛ الثيابُ غير مضمونة على الحمَّامِين، والسَّطْلُ مضمونٌ على الداخل. وأظهرهما: أنه أجرةُ الحمامُ والسَّطْل والإزار وحفظ الثياب (¬1)، وأما الماءُ فإنَّه غير مضبوط حتى يقابل بعوَضٍ، وعلى هذا ينطبقُ قوله في الكتاب: "أمّا منْ دخَل الحمَّام لزمه الأُجْرة" فإنه جعل المأخوذ أجْرة الحمَّام، وإنما وجبت الأجرة، ولم يجر لها ذكْرٌ، ولم يخرج على الخلاف في المسألة الأولَى؛ لأنَّ الداخل مستوفٍ منفعةَ الحمام (¬2) لسُّكُوته، وهناك صاحبُ المنفعة هو الذي صرَفَها إلَى الغَيْر، فعلى هذا الوجْه، فالسَّطْل غير مضمونٍ على الدَّاخل؛ لأنه مستأجرٌ، والحمامِيُّ أجيرٌ مشترَكَ في الثياب؛ فلا يضمن على الأصح كسائر الأُجَراء. وعبارةُ صاحب "التَّهْذيب" عن الوجْه الثاني أنه المأخوذَ ثمن الماء وأجرة الحمَّام والسَّطْل، وعلى هذا فيجعل فيه ثلاثةُ أوجه [والله أعلم بالصواب]. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَصَّرَ الثَّوْبَ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ القِصَارَةَ عَيْنٌ لَمْ يَسْتَحَقَّ الأُجْرَةَ لِأَنَّهُ تَلِفَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَإِنْ قُلْنَا: أَثَرٌ فَيْسْتَحِقٌ إِذْ وَقَعَ مُسَلَّماً بالفَرَاغِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذه المسْألَةُ قد ذكرناها في "التفْليس" مرَّةَ، ونحن لا تحكي إعادتها عنْ فائدة، فنقول: إذا عمِل الأجيرُ ثم تلفت العيْنُ التي عَمِلَ عليها؛ نُظِر؛ إنْ لم يكن الأجيرُ مُنْفَرِداً باليد، بل عمل من ملْك المستأجر، أو بمحضر منه، لم يُسقط أجرته (¬3) وإن كان مُنْفَرِداً باليد كما إذا سَلَّمَ الثَّوْبَ إلى القَصَّار، فقصَّره، ثم تَلِف عنده، فيبنَى على خلافٍ مذكورٍ في "التفليس" أن في القصارة أثرٌ أمْ عَيْنٌ؟ إن قلْنا: أثر، لم تسقطِ الأجرةُ، ثم إنْ ضمنا الأجير، فعليه قيمة ثوْبٍ مقصورٍ، وإلا فلا شيْء عليه، وإن قلْنا: عيْنٌ سقَطت أجرته، وعليه قيمة ثوْب غيْر مقصود إنْ ضمنا الأجير، أو وجد منه تعدّ وإلا فلا شيء عليه، وإن قلنا: عين، سقطت أجرته، وعليه قيمة ثوب غير مقصور إن ضمنا الأجير، أو وجد منه بعد وإلا فلا شيء عليه وإن أتلف أجنبيّ الثوب المقْصُور، فإن قلْنا: القِصَارة أثرٌ، فللأجِيرِ الأجرةُ، وعلى وإن قلنا: عين سقطت أجرته وعليه قيمة ثوب غير مقصور إن ضمنا الأجير أو وجد منه بعد وإلا فلا شئ الأجنبيِّ القيمةُ، ثم المستأجرُ على قول تضمينِ الأجير يتخيَّر بين مطالبته ومطالبة الأجنبيِّ، والقرار على الأجنبيِّ. وإن قلْنا: عين، جاء الخلافُ فيما إذا أتلف أجنبيُّ المبيعَ قَبْل القَبْض. ¬
وإن قلنا: ينفسخ [العقد] فهو كما لو تلف، وإلاَّ فللمستأجر الخيارُ في فَسْخ الإجارة وإجازتها، وإن أجاز ولم يضمن الأجيرُ، فيستقرُّ له الأجرة، والمستأجرُ يغرَّم للأجنبيِّ قيمة ثوبٍ مقصورٍ، وإن ضمناه، فالمستأجر بالخيار، إن شاء ضمن الأجنبي قيمة ثوب مقصورٍ، وإن شاء، غرم الأجنبيُّ قيمة القصارة، وللأجير قيمةُ ثوْبٍ غيرِ مقْصُورٍ، ثم الأجيرُ يرجع على الأجنبيِّ وإن فسخ الإجارة، فلا أجْرةَ عليه، ويغرَّم الأجنبيُّ قيمةَ ثوبْ غير مقصورٍ، وإن ضمنا الأجير، غرم القيمة من شاء منْهما، والقرار على الأجنبيِّ، ويغرِّم الأجنبيُّ للأجير (¬1) قيمة القصَارة، ولو أتْلَف الأجيرُ الثَّوْبَ بنفسه، فإن قلْنا: القصارة أثرٌ فله الأجرة، وعَليْه قيمةُ ثوْب مقصورٍ، وإن قلنا: عيْنٌ، جاء الخلافُ في أن إتلاف البائع كالآفة السماويَّة، أو كإتلاف الأجنبيِّ، وإن قلْنا: كالأفة السماوية، فالحكمُ ما سبق، وإن قلْنا: كإتلاف الأجنبيِّ وأثبتنا للمستأجر الخِيَارَ، فإن فسخ الإجارة، سقطت الأجرةُ على الأَجير، وعلَى الأجِير قيمةُ ثوبٍ غير مقصورٍ، وإنْ أجازها، استقرَّت، وعليه قيمةُ ثوب مقصورٍ، وصبغ الثوب بصيغ صاحب الثوب كالقصارة، فإن استأجره، ليصبغ بصبغ من عنده؟ قال في "التَّتِمَّة": هو جمْعٌ بين البَيْع والإجارة، ففيه الخلافُ المعروف، وسواءٌ صحَّ أو لم يصح فهذا هَلَكَ الثَّوْبُ عنده، سقطت قيمةُ الصَّبْغ، وسقوط الأجْرَة عَلَى ما ذكرنا في القِصَارة. فَرْعٌ: سَلَّمَ ثوباً إلَى قَصَّار؛ ليقصرَه، فجحده، ثم أتَى به مقصوراً، استحق الأجرة، إن قصره ثم جحده، وإنْ جَحَد ثم قصره، فوجهان (¬2): وجهُ المنع، وبه قال أبو حنيفة: إنَّهُ عمل لنفسه. وخرَّج الصيدلانيُّ الوجَهيْن على القَوليْن في الأجير في الحج، إذا صرف الإحرام إلى نفسه، هل يستحقُّ الأجرة؟ ويُقَالُ: إنَّ أبَا حَنِيْفَةَ امتحن أبا يُوسُف. رحمه الله تعالى بهذا الفَرْع، حيث انفرد عَنْه، وتصدَّى الدرس وأمر السائل بتخطئته، إن أطلق الجواب بـ"لا أو نعم". فأطلق. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَو اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيُحَمِّلَهَا عَشَرَةَ آصُعٍ فَزَادَ صَاعاً صَارَ عَاصِيَاً ضَامِناً، وَلَوْ سَلَّم إِلَى المُكْرِي وَقَالَ: إنَّهُ عَشَرَةٌ وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ وَكَذَبَ فَتَلِفَتِ الدَّابَّةُ بِالحِمْلِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَفِي قَدْرِهِ قَوْلاَن أَحُدُهُمَا: النِّصْفُ كَمَا إِذَا جَرِحَ نَفْسَهُ جُرَاحَاتٍ وَجَرَحَهُ غَيْرُهُ جِرَاحَةَ فَمَاتَ وَالثَّانِي: أنَّه يَجِبُ جُزْءٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءَاً مِنَ الضَّمَانِ لِأَنَّ ¬
الجِرَاحَاتِ لاَ تَنْضَبِطُ بِخِلاَفِ الحَمْلِ، وَهَذَا الخِلاَفُ جَارٍ في الجَلاَّدِ إِذَا زَادَ وَاحِداً عَلَى المِائَةِ أنَّهُ يَضْمَنُ النِّصْفَ أَوْ بِحِسَابِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قدْ مرَّ أن المستأجر لا يضمَنُ، إذا لم يوجَدْ منه تُعَدٍّ، فإن وُجِدَ، وجبَ الضَّمَانُ، وذلك كما إذا ضرب الدَّابة، أو كَبَحَها (¬1) باللِّجَام فوق العادة، وعادةُ الضَّرْب تختلف في حقِّ الراكب، والرائضِ، والراعِي، فكلُّ يراعى عادة أمْثَاله، ويحتمل من الأجير للرياضة والرعْي ما لا يُحْتَمل من المستأجر للركوب. وأما الضَّرْب المعتادُ، إذا أفضى إلى تَلَفٍ، فإنه لا يوجِبُ ضماناً؛ خلافاً لأبي حنيفةَ، ويخالِفُ ضَرْبَ الزوج زوجته؛ لأنه يمكن تأديب الآدمِيِّ بغير الضَّرْب (¬2)، وإذا نام بالليل في الثوب الذي استأجره، أو نَقَل فيه التُّرَاب أو أَلْبَسَهُ عَصَّاراً، أو دَبَّاغاً دون من هو في مِثْل حالِهِ، أو أسكن الدَّارَ قصَّاراً أو حدَّاداً دون مَنْ هُوَ في مثْل حاله، وجب الضمان، وكذا لو أَرْكَب الدابَّة مَنْ هو أثقلُ منْه وقرار الضمان على الثاني إن كان عالماً، وإلاّ فعلى الأول، وإن أركبها مثله، فجاوز العادة في الضرب، فالضمان على الثاني دون الأول؛ لأنه لم يتعد. ولو اكترى لحمل مائة رطل حديد، فحمل مائة من القطن أو التبن أو بالعكس ضمن، وكذا لو اكترى لحمل مائة مَنٍّ من الحنطة، فحمل مائة مَنٍّ من الشعير ضمن أو بالعكس؛ لأن الشعير أخف فمأخذ من ظهر الدابة أكثر، والحنطةُ أثقلُ، فيحتمل ثقلُها على الموضِعِ الوَاحِد. ولو اكتَرى لحمل عشرة أَفْقِرَةٍ (¬3) من الحنطة، فحمَلَ عشرةً من الشَّعير، لم يضمن؛ لأنَّ المقدارَيْن في الحِجْم سواءٌ، والشعير أخفُّ، وبالعكس يضمن لزيادةٍ ثقَل الحنْطة. ولو اكترَى ليركب بسَرْج، فركب بلا سرج أو بالعكْس، ضمن، أمَّا الأول، فلأنه أضرَّ بالدابة. وأما الثاني فلأنه حملها فوق المَشْروط. ولو اكترَى ليحمل عليها بالإكاف، فحمل بالسِّرج، ضمنه؛ لأنه أشقُّ على الدابة وبالعكس لا يضمن إلا أن يكُون أثقل، ولو اكترى ليركب بالسرج، فركب بالإكاف ¬
ضمن، وبالعكس لا يضمن إلا أن يكون أثقل، وقس على هذه الصور أخواتها. ولو استأجرَ دابة ليحمل مقداراً سمَّيَاه، فكان المحْمُول أكثر نُظِرَ؛ إن كانت الزيادةُ بقَدْر ما يقع من التفاوُتِ بيْن الكَيْلَيْن في ذلك المبلغ، فلا عبرة بها، فإن كانتْ أكثر، كما إذا كان المشْرُوط عَشَرة أصعٍ، وكان المحمولُ أحدَ عَشَرَ، فللمسألة أحوال: الحالة الأولَى: إذا كان المكتري الطَّعام، وحمله بنفسه، فعليه أجرةُ المثْل لما زاد، هذا هو المشْهُور، وفي كتاب القاضي ابن كجٍّ أن القاضِيَ أبا حامد حَكَى قولاً: أنَّهُ يأخُذ أجرة المثل للكلِّ وقولاً: أنه يتخيَّر بيْن المسمَّى، وما دخل الدابَّة من نقْصٍ وبيْن أن يأخذ أجرة المِثْل، وإن كان أبو الحسيْن حَكَى قولاً أنَّهُ بالخيار بيْن المسمَّى وأجرة المثْل للزيادة، وبين أجرة المثل للكلِّ، وإن تلِفَت البهيمة بالحَمْل، فإن انفرد المكْتَرِي باليد، ولم يكن معها صاحِبُهَا، فعَليْه ضمانها باليد العادية؛ لأنه صار يحمل الزيادَة غاصباً، وإنْ كان معها صاحبُها ضمِن بالجناية، وفي القدْرِ المضْمُونِ قولان، ويُقَالُ: وجهان: أحدهما: النصْفُ؛ لأن التلَفَ تولَّد من جائزٍ، وغيْر جائز، فانقسم الضَّمان عليهما، كما لو جرح نفسه جِراحات، وجرَحه غيره جراحةً واحدةً، أو جَرَحَه واحدٌ جراحات، وآخَرُ [جراحة واحدةً] (¬1) يجب نِصْفُ الدِّية عَلَى صاحب الجراحة الواحدة. والثَّاني: أن قيمة البَهيمة توزَّع على الأصْل والزيادة، فيضمن بقسط الزيادة؛ لأن التوزيع على المَحْمُول، ميَسر بخلاف الجراحاتِ، فإنَّ نكاياتها لا تنْضَبِط، ولا معنى لرعاية مجرَّد العدو. قال الأئمة: وهذا الخلافُ مبنى على القولَيْن فيما إذا زاد الجلاَّد في الحدِّ واحداً علَى المائة أو الثمانين (¬2) أنَّه يضمن نصْف الدية، أو جزءاً بحسابه، ويشبه أن يكونَ التَّوْزيعُ أقْرَبَ، فقد رَجَحَة الإمامُ وغيْرُه، لكن في سلْسلَةِ الشَّيخ أبي محمَّد أنه التنصيف أصحُّ في المسألتَيْن. وفي شَرْح "المختصر" للشيْخ هذا حكايةُ قوْلٍ ثالث: أنَّهُ يضمن جميع القيمة كما لو انفرد باليَد، وهذا قد نسبه القاضي ابنُ كج إلَى رواية أبي الحُسَيْن عن بعض الأصحاب، وأبدى من عند نفْسِه احْتمالاً فيما إذا انفرد باليد؛ أنَّه لا يضْمَن الكلَّ، والمعتمد ما تقدَّم. ولو هلكت البهيمةُ بسَبَبٍ غيْرِ الحَمْل، ضمن عند انفرداه ياليَد؛ لأنَّه ضامِنٌ باليد، ¬
ولم يضْمَنْ عند عدم الانفرادُ؛ لأنَّهُ ضامِنٌ الخيانة، وإن لم يحمل المكتري الطعام بنفسه، ولكنَّه بعْدَ ما كَالَ سلَّمة إلى المكرى حتَّى حمَلَه على البهيمة، نُظِر؛ إن كان المكْرِى جَاهِلاً بالحالِ؛ بأن لُبِّسَ عليه، وقال: إنَّه عشَرةٌ كاذباً؛ ففيه طريقان: أحدهما: أنه على القولَيْن في تعارُض المباشَرَة والغرور. وإن اعتبرت المباشرة، فالحكْمُ عَلَى ما سنذكره في الحالة الثانية إن شاء الله تعالى وإن اعتبرنا التغرير، فكَمَا لوْ حمله المكْتَرِى بنَفْسِه. وثانيهما: القَطْعُ بأنَّه، كما لو حمله بنَفْسِه؛ لأنَّ إعداد المحمول وشدَّ الأعدال وتسليمها إلَيْه بعْد عقْد الإجارة كالإلجاء إلى الحَمْل شَرْعاً، فكان كشهادة شُهُود القصاص، وسواءٌ ثبت الخلاف أم لا، فالظاهر وُجوب الضمانِ، وبه أجابَ صاحبُ الكِتَاب، وإنْ كان المكْرِي عالماً بالزِّيادة، نُظِرَ، إن لم يقل المكتري شيْئاً، لكن حمله المكْرِي، فالحكمُ كما سنذكره في الحالة الثانية؛ لأنه حمْلٌ بغير إذن صاحبه، ولا فرْقَ بين أن يضعه المكتري علَى الأَرْض، فيحمله المكْري على البهيمة، وبيْنَ أن يضَعَه على ظَهْر الدابَّة، وهي واقفة، فيسيرها المكري، وإنْ قال المكْتَرِي: احْمِلْ هذه الزيادةَ، فأجابه. قال في "التتمة": هو مستعيرٌ للدابة في الزيادةَ، فلا أجرة لها، وإذا تلِفَتِ البهيمةُ بالحَمْل، فعليه الضمان؛ لأنَّ ضمانَ العارية لا تجِبُ باليد، وإنما تجب بالارْتفاق، والانتفاع، فزيادةُ الارتفاق بالمالك لا يوجِبُ سقوط الضَّمَان، وفي كلامِ الأئمَّة ما ينازع ما ذكره في الأجْرَة والضمان جميعاً. الحالة الثانية: إذا كان المكْرَي وحمل على البهيمة، فلا أجرة له لِمَا زاد، سواءٌ كان غالِطاً أو عامداً، وسواءٌ كان المكتَرِي جاهلاً بالزِّيادة، أو عالماً بالزيادة، وسكت؛ لأنه لم يأذَنْ في نقل الزيادة، ولا يجبُ عَليْه ضمانُ البهيمة، وله مطالبة المكري بردِّها إلى الموضع المنقول منه، وليس للمكري أن يردَّها بدون رضا المكتري، ولو لم يعلم المكتري حتى عاد إلى البلد المنقول منه، فله أن يطالب بردِّها وأصح القولين أو الوجهين أن له المطالبةَ ببَدَلِها في الحال، كما لو أَبق العبد المغصوب من يد الغاصب. والثَّاني: لا يطالب ببَدَلِها في الحال لأن عَيْنَ ماله باقٍ وردُّها (¬1) مقدور علَيْه. وإذا قلنا بالأول وغرم البَدَل، فإذا رَدَّها إلَى ذلك البلد (¬2)، استردَّ البدل، ورد ماله إليه، ولو كَالَ المكْرِي وتولَّى المكتري النَّقْل والحَمْل على البهيمة. ¬
قال في "التتمة": إنْ كان عالماً بالزيادة، فهو كما لو كَالَ بنفسه، وحَمَل؛ لأنه لما عَلِم الزيادَة، كان من حقِّه ألاَّ يحملها، وإن كان جاهلاً، فعلى وجهين: أحدهما: [آخذاً بما إذا] (¬1) قدَّم الطعام المغْصوب إلى المالِك، فأكَلَه جاهلاً هَلْ يبْرَأُ عن الضَّمان؟ الحالة الثالثة: إذا كال أجنبيُّ وحمل بلا إذْن، فعلَيْه أجرةُ الزيادة للمكري، وعليه الردُّ إلى الموضع المنقولِ منْه، إن طالبه المكْتَري، وضمان البهيمة عَلَى ما ذكرنا في حقِّ المكْتَرِي وإن تولَّى الحمْلَ بعد كَيْلِ الأجنبيِّ أحد المتعاقدَيْن، فينظر أهو جاهل، أمْ عالمٌ؟ ويقاسُ بما ذكرنا، هذا كلُّه فيما إذا اتَّفَقَا علَى الزيادة، وعلَى أنَّها للمُكْتَرِي. أما إذا اختلَفَا في أصْل الزيادة، أو في قدرها، فالقول قول المنْكر، وإن ادَّعى المكْرِي أنَّ الزيادة له، والدابَّة في يده، فالقول قولُه، وإنْ لم يدَّعهَا واحدٌ منْهما، تُرِكتْ في يده؛ حتى يظهر لها مستحِقٌّ، ولا يلزمُ المكْتَرِيَ كراهاً، ولو وُجِدَ المحمولُ دون المشروط، نُظِر؛ إن كان النُّقْصَانُ بِقَدْر ما يقع من التفاوُتِ بيْن الكيلَيْن، فلا عِبْرَةَ به، وإنْ كان أكثر من ذلك، قال في "التتمة": إنْ قال المكْرِي، حُطَّ من الأجرةِ بقِسْطه، إن لم يعلم المكْتَرِي، وإن علمه، فإن كانت الإجارةُ في الذمَّة، فكذلك؛ لأَنه لم يفِ بالمَشْروط، وإن كانتِ الإجارةُ عيناً فالحكم كما لو قال المكتري بنَفْسه ونقص، فلا يُحَطُّ شيءٌ من الأجرة؛ لأن التمكين في استيفاء المنْفَعَة قد حَصلَ، وذلك كافٍ في تقرر الأجْرة. ولو اكترى اثنانِ دابَّةً وركِبَاها,. فارتدَفَهما ثالثٌ بغيْر إذنهما، فهلكتِ الدابَّة ففيما يجبُ على المُرْتَدِفِ ثلاثةُ أوجه: أحدها: النصفُ؛ لحُصُول الهلاك مِنْ جائزٍ وغيرِ جَائز. والثاني: أنَّ القيمَة تُقَسطَ عَلَى أوزانهم، فيجب على المرتَدِف ما يخصُّه. والثالث: أنَّهُ يلزمه الثُّلثُ توْزِيعاً على رُؤوسهم، فإنَّ الرجالَ لا يوزَنُون في العادة (¬2). قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإِنْ سَلَّمَ ثَوْباً إِلَى خَيَّاطٍ فَخَاطَهُ قِبَاءً فَقَالَ: مَا أَذِنْتُ لَكَ إِلاَّ فِي القَمِيصِ، فَإذَا تَنَازَعَا (م) تَحَالفَا إِذْ يَدَّعِي المَالِكُ خِيَانَتَهُ فَإذَا حَلَفَ أَنَّهُ مَأْذُونٌ سَقَطَ الأَرْشُ، ويَدَّعِي الخَيَّاطُ إِذْنَ المَالِكِ وَالأُجْرَةَ فَإِذَا حَلَفَ أنَّهُ لَمْ يَأذَنْ سَقَطَتِ الأُجْرَةُ، وَفِيهِ ¬
قَوْلٌ أَنْ الأُجْرَةَ تَسْقُطُ عِنْدَ التَّحَالُف وَلَكِنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ فَكَانَ أَثَرُ التَّحَالُفِ فِي رَفْعِ العَقْدِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: القَوْلُ قَوْلُ الخَيَّاطِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: القَوْلُ قَوْلُ المَالِكِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضَيَ اللهُ عَنْهُ: قَوْلُ أَبِي حَنِيْفَةَ أَشْبَهُ، وَكِلاَهُمَا مَدْخُولاَنِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا قَوْلاَنِ لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذَا دفَع ثوباً إلَى خيَّاط، ليقطعه، ويخيطه، فخَاطَه قباءً (¬1) ثم اختلفا، فقال الخيَّاط: هكذا أمَرْتَنِي، وقال المالك: بلْ أَمرَتُكَ أن تقْطَعَه قميصاً، فحكايةُ الشافعيِّ رضي الله عنه في اختلافِ العراقِيِّين عن ابن أبي ليلَى أن القوْلَ قَوْلُ الخيَّاطِ. وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أنَّ القوْل قولُ المالِكِ، روى المُزَنِيُّ في الجامِعَيْن "المختصر"، و"الكبير" أنه ذكر. بعد حكايته قولَيْهما؛ أنَّ قول أبي حنيفة أشبهُ بالحقِّ، وكلاهما مدخولٌ، وحَكَى في "الجامع "الكبير" عنه أنهما يتحالفان، وبه أجاب في "الإملاء" فيما إذا اسودَّ الصبَّاغُ ثوبه، وقال: هكذا أمَرْتَنِي، وقال المالك: أمرتُكَ بصبغة أحْمَرَ، واختلف الأَصْحَابُ على ثلاثة طرقٍ: أحدها: إثباتُ ثلاثةِ أَقْوَالٍ في المَسْأَلة: أحدها وبه قال مالكٌ وأحمدُ: أن القوْلَ قول الخيَّاط؛ لأنهما اتَّفَقَا على الإذْنِ في القَطْع، والظاهرُ أنَّه لا يتجاوَزُ المأذُون، ولأنَّ المالك يدَّعي عليه الغرم، والأصْلُ عدمه. والثاني: وبه قال أبو حنيفَة واختاره المُزَنِيُّ: أن القول قولُ المالك؛ لأنهما لو اختلفا في أصْل الإذْن، كان القوْلُ قول المالِك، فكذلك، إذا اختلفا في صِفَتِهِ، وهذا كما لو قال: دفعْتُ هذا المالَ إليك وديعةً، فقال: بل رَهْناً أو هبةً، كان القولُ (¬2) قولَ المالِك، وأيضاً، فإن الخيَّاطَ معترفٌ بأنَّه أحْدَثَ نقْصاً في الثَّوْب، ويدعّي أنه مأذونٌ فيه، والأصلُ عدمه، وأيضاً فإنَّه يدعي أنَّهُ أتى بالعمل الذي استأجره عليْه، والمالِكُ ينكره، فأشْبَهَ ما إذا استأجره لِحَمْل متاع، فقال الأجيرُ: حمَلْتُ، وأنْكَرَ المالِكُ، فإنَّ القولَ قوْلُ المالك. والثالث: أنَّهُمَا يتحالَفَانِ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منْهما مُدَّعٍ ومدَّعىً عليه، فالخيَّاط يدعي الإجْرة والمالكُ ينكرُها (¬3)، والمالكُ يدَّعِي الأرْشَ، والخيَّاط ينكره، وهذه الطريقةُ معزبةٌ في "شرح الجويني" إلى القفال. ¬
والثانية: أنه لَيْسَ في المسألة إلا قولان، واختلفوا في عيْنهما، فعن ابن سُريْج، وأبي إسحاق، وابن أبي هُرَيْرة، والقاضي أبي حامِدٍ وغيرهم؛ أنهما مذْهَبُ أبي حَنِيفةَ، وابن أبي لَيْلَى رحمه الله واحتج لأنهما قولاه؛ بأنه قال لأحدهما: هذا أشبهُ القولَيْن. ومنهم منْ قال: هما تصديقُ المالِكِ والتحالفُ، وأما تصديقُ الخيَّاطِ، فإن الشافعيَّ رضي الله عنه أعرض عنه، حيث رجَّح القول الآخرَ، وربما أوَّلُوه، فقالوا: إنَّه يؤول إلى التحالف؛ لأنه إذا حَلَفَ الخيَّاط، خرج منْ ضمان الثَّوْب، فيحلف المالك؛ لنفي الأجرة، وهذا هو التحالُفُ. والثالثة: أنه ليْسَ في المسألة إلا قولٌ واحدٌ، وهو التحالُف، وما عداه، فهُوَ حكاية مذهب الغَيْر، وقد دفعه (¬1) بقَوْله: وكلاهما مدْخُولٌ، وبهذا قال أبو عليٌّ الطَّبريُّ وصاحب "التقريب" والشيْخُ أبو حامد. وفي "أمالي" أبي الفرج السَّرْخَسِيِّ عن ابن سُرَيْجٍ أنه، إن جرَى بينهما عقدٌ، فليس إلا التحالُفُ كسائر الاختلاف في كيفية المعاوضات، وإنْ لم يجز فالخيَّاط لا يدَّعي الأجْرَةَ، وإنَّما يدعي النِّزَاع في الأَرْش، ففيه قولان: مذهب أبي حنيفة، وابْن أبي لَيلى، فهذه خمسةُ طرُقٍ، وإلا تدون على أن المسألة على قولَيْن، وهما مذهب الإمامين: [مذهب] أبي حنيفة، وابن أبي ليلى رضي الله عنهما ثم على أن الأصحَّ مذهبُ أبي حنيفةَ، وربَّما شبهوا القَوليْن بالقولين فيما إذا زرع أرضَهُ، وقال: أعرتنيها، وقال المالِك: بل أكريتكها، ورجَّح صاحبُ الكتاب الطريقةَ القاطعةَ بالتحالُف وزيَّف غيرها. التفريعُ: إن صدَّقنا الخيَّاط، فهذا حلَف، فلا أرش علَيْه، وهل له الأجْرةُ؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال ابنُ أبي هُرَيْرة: نعَمْ؛ لأنَّه أثبت الإذْنَ بيمينه، ومن قال بهذا لا يسلِّم دعْوَى من يدَّعِي أن تصديق الخيَّاط يؤول إلى التحالف. وأظهرهما، وبه قال أبو إسحاقَ وأبو عليٍّ الطَّبريُّ: لا؛ لأنَّه في الأجرة مدَّعٍ، فيكون القولُ قول المنكر، وفائدة يمينه دفْعُ الغُرْم عن نفْسِه. فإن قلنا بالقول، الأول ففي الأجرة الواجِبَة قولان: أَحَدُهُمَا: الأجرةُ المُسَمَّاة؛ إتماماً لتصديقه. وأظهرهما: أجرةُ المِثْل؛ لأنا لو صدَّقناه من كلِّ وجهٍ لم نأمَنْ أن يدَّعِيَ مالاً كثيراً كاذِباً. وإن قلنَا لا أُجْرَة له بيمينه، فله أن يدَّعِيَ الأجرة على المالِكِ ويُحْلِفَه، فإن نَكل، ¬
ففي تجديد اليمين علَيْه وجهان (¬1): أَحَدُهُمَا يجدِّد؛ لأن إثباتَ المَال بيمينِ المدَّعِي منْ غير نكولٍ بعيدٌ. والثاني: وبه قال القاضي الحُسَيْنُ لا يجدد وكأن يمينه السابقة كانت موقوفةً على النكول لصَيْرُورَتِها حجَّةً ملزمةً للآجرة، وإن صدَّقْنا المالك، فإذا حلَف، فلا أجرةَ عليه، ويجبُ على الخيَّاط أرْشُ النقصان. وحكى أبو الفرج السَّرْخَسِيُّ فيه وجهان، كما في وجوب الأُجْرَة، تفريعاً على القول الأول، والفَرْقُ على المشهور أن القطع موجب للضمان إلا أن يعارضه الإذن، وهُوَ غير موجب للأجْرَةِ إلاَّ إذا اقترنت بالإذن، ثم في الأرْش الواجِبِ وجْهَان: أَحَدُهُمَا: ما بيْن قيمته صحيحاً ومقْطُوعاً؛ لأنَّهُ أثبت بيمينه أنَّه لم يأذَنْ في القطع. والثاني: ما بيْنَ قيمته مقْطُوعاً قيمصاً، ومقْطُوعاً قِبَاءً؛ لأن أصْلَ القطْع مأذونٌ فيه (¬2)، وعلى هذا، فلو لم يكنْ بينهما تفاوتٌ، أو كان مقطُوعاً قِبَاءً أكثر قيمةً، فلا شيءَ عليه. وذكر الشيخ أبو محمَّد؛ أنه الوجهَيْن ينبنيان على أصلَيْن: أحدهما: القْولاَنِ فيما إذا اكْتَرَى أرْضَاً ليزرعها حنْطةً، فزرَعَها ذُرَةً، ففي قولٍ: عليه أجرة المثل، ويعرض عنْ عقْد الإِجارة، فعلَى هذا يغرَّم هاهنا جميع النقص، ويعرض عن أصل الإذْنِ. والثاني: يغرم تفاوت ما بيْن الزَّرْعَيْن، فههنا يغرم تفاوُتَ ما بين القطْعَيْن. والثاني: الخلافُ في أنه الوكيلَ، إذا باع ماله بالغبن الفاحِشِ يغرَّمُ جميع قدر الغبن، أو يحط عنه ما يتغابَنُ الناس به؛ لأنه كالمأذُون فيه. وإذا قلْنا: إنَّه يغرَّم تفاوت ما بيْن القطعَيْن، فهل يستحقُّ الأجرة للقَدْر الذي يصْلُح للقميص في القَطْع؟ فيه وجهان: عن ابن أبي هُرَيْرة: نعم، وبه أجاب صاحب "التهذيب"، وضعَّفه ابْنُ الصباغ؛ لأنَّهُ لم يقْطَعْهُ للقَمِيصِ (¬3)، وإذا قلنَا يتحالَفَانِ، فإذا حلَفَا، فلا أجرةَ للخُياط، وفي وجوب أرْشِ النقْص للمالك قولان في "الإملاء" أنَّهُ يَجِبُ؛ لأنهما إذا ¬
فرع
تحالَفَا فكأنهما لم يتعاقَدَا ولو لم يتعاقَدَا وقطعَ لزِمَه الأرْش، فكذلك هاهنا، والأصحُّ وهو رواية المزنيِّ في "الجامع الكبير" منْعُه؛ لأنه، على نفي العُدْوَان؛ ولو لم يحلف (¬1)، لكان لا يلزمه إلاَّ أرْشُ النقْص، فلا بد، وأن يكون ليمينه فائدةٌ. ولو أراد الخيَّاط نزْعَ الخيط، لم يُمَكَّن منْه؛ حيث حَكْمنا له بالأجرة، سواءٌ كان الخيط للمالك، أو من عنْده؛ لأنَّه تابع للخياطة. وحيثُ قلنا: إنَّهُ لا أجْرَةَ له، فله نزْعُ خيطه، كالصبغ، وحينئذ لو أراد المالكُ أن يشُدَّ بخيطه خيْطاً لِيُدْخِلَه في الدروز إذا خرج الأول، لم يمكَّن منْه إلا برضا الخيَّاط؛ لأنه تصرُّفٌ في ملكه. بقي في المسألة شيْءٌ وهو كيفيَّة اليمين على اختلاف الأقوال. قال في "الشامل": إن صدَّقنا الخيَّاط، حلف بالله؛ ما أذنت لي في قطعِهِ قميصاً، ولقد أذنت لي في قطْعه قِبَاءَ، وإن صدَّقنا المالك، قال: يكفي عنْدي أن يَحْلِف؛ ما أَذِنْتُ لي في قطْعه قِبَاءً، ولا حاجة إلى التعرُّض للْقَمِيص؛ لأنَّ وجوبَ الغُرْم وسقوط الأجرة كلاهما يلزم من نفي الإذْن في القِبَاء. وإن فرَّعنا عَلَى قول التحالُفِ، جمع كُلُّ واحدٍ منهما في يمينه بين النَّفْيِ والإثبات، كما سبق في البيع، قال القاضِي ابْنُ كَجٍّ: والكلام في أنَّ البراءة بمن؟ على ما سبق هناك، والمالك هاهنا في رُتْبَة البائع (¬2). واعْلَمْ أنَّ اختلافَ المتعاقدَيْنِ في الأجرة أو في المدة، أو في قدْرِ المنْفَعَة بأَنْ قال المُكْرِي: أكْرَيْتُكَهَا إلَى خَمْسَةِ فراسِخَ، فقال: بل إلَى عشرَة أو في قدر المستأْجِرِ؛ بأن قال: أَكْرَيتُكَ هذَا البَيْتَ من هذه الدَّار، فقال: بلْ جميع الدار يوجِبَ التحالُفَ، كما في البيع، وإذا تحالَفَا، فُسِخَ العقْد، وعلى المستأجر أجرةُ المِثْلِ؛ لما استوفاه. فرع: قال للخيَّاط: إنْ كان يكْفي هذا الثوب لقميصي، فاقطعه، فقَطَعه، فلم يكْفِهِ، ضمن الأرش؛ لأن الإذن مشروطٌ بما لم يوجد، ولو قَالَ: هلْ يكْفِي لقميصي، فقال: نَعَمْ فقَالَ: اقْطَعْه، فقَطَعه، فلم يكْفِهِ، لم يضمن؛ لأنَّ الإذْنُ مُطْلَق. ¬
الباب الثالث في الطواريء الموجبة للفسخ
قَالَ الغَزَالِيُّ: البَّابُ الثَّالِثُ فِي الطَّوَارِيءِ المُوْجِبَةِ للْفَسْخِ وَهِيَ ثَلاثةُ أَقْسَامٍ: الأَوَّلُ: مَا يَنْقُصُ المَنْفَعَةَ نُقْصَاناً تَتَفَاوَتُ بِهِ الأُجْرَةُ فَهُوَ عَيْبٌ مُوجِبٌ لِلْفَسْخِ قَبْلَ قَبْضِ الدَّارِ وَبَعْدَهُ إِلاَّ إِذَا بَادَرَ المُكْرِي إلَى الإِصْلاِحِ إنْ قَبِلَ الإِصْلاَحِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد بان في أول الكتاب أنَّ غرَضَ البَاب الكلامُ فيما يقتضي فسْخَ الإجارة، أو انفساخَها، وإنما يثبت الفَسْخ، أو الانفساخُ؛ لخَللٍ يعْرضُ في المعْقُود علَيْه، والخلل إمَّا أن يوجِبَ نقصان المنْفعَة، أو فواتَهَا بالكلِّيَّة، وعلى التَّقْدِير الثاني، فالفواتُ، إما أن يكون حِسِّيّاً، أو شَرْعيّاً، فهذه ثلاثة أقسام: أحدها: ما ينقصُ المنفعَةَ، ومهما ظَهَر بالمستأجر نقصانٌ تتفاوت به الأجرة، فهو عيب مثبت للفَسْخِ، وذلك كمَرضِ العَبْد والدابَّة، وانقطاعِ ماء البئْر وتغيُّره؛ بحيثُ يمنع الشُّرْب، وانكسارِ دعائِمِ الدَّار، واعْوِجَاجِها، وانهدام بعْضِ جُدْرانِها, لكن لو بادَرَ المكْرِي إلى الإصْلاَحَ، وكان قابلاً للإصْلاحَ في الحال، سقَطَ خيارُ المكْتَرِي كما مَرَّ، ولا فرْقَ بيْن أن يكون لاَحِقاً حاصلاً في يد المسْتَأْجِر؛ لأنَّ المنافع في الزمان المستَقْبَل غَيْرُ مقبوضَةٍ، وإنْ كانتِ الدَّارُ مقبوضةً، فيكونُ العَيْب قد نما بالإضافة إلَيْهَا، وقياسُ هذا ألاَّ يتسلَّط على التصرُّف في المنافع المستقبلة، إلا أنَّهُ سلّط عليه للحاجة، ثم العيْبُ، إن ظهر قبل مضي مدةٍ لها أجرة، فإن شاء، فسخ، ولا شيْء عليه، وإن شاء أجاز تجميع الأجْرَة، وإن ظهر في أثناء المدة، فالوجْهُ مَا ذَكره صَاحِبُ "التتمة" وهو أنَّه، إن أراد أن يفسخ في جميع المدَّة، فهو كما لو اشتَرى عبدَيْن فَتَلِفَ أحدُهُما، ثم وَجَد بالباقي (¬1) عيباً، وأراد الفَسْخَ فيهما، وإن أراد الفَسْخ فيما بَقِيَ منَ المُدَّة فهو كما لو أراد الفَسْخَ في العبد الباقي وحده، وحكْمُها مذكورٌ في البيع، والجمهور أطلقوا القَوْل بأنَّ له الفَسْخَ، ولم يتعرَّضوا لهذا التفْصِيل، ومهما امتنع الفَسْخ، فله أخذ الأَرْش، فيُنْظر إلى أجرةٌ مثْلِهِ سليماً، وإلَى أجرة مثله مَعِيباً، وُيعرْفَ قدْرُ التفاوُت بينهما، وهذا كلُّه إجارة العَيْنِ أمَّا إذا كانَتِ الإجارةُ في الذمَّة, فوجد بالدابَّة المسلَّمة عيباً، لم يكن له فسخُ العقْد لكن يردَّها ويؤمَرُ المُكْرِي بالإبْدال والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإِنْ ظَهَرَ لِلْعَاقِدِ عُذْرٌ، بِأَنْ تَخَلَّفَ عَنِ السَّفَر وَقَدِ اسْتَأجَرَ الدَّابَّةَ أَوْ تَغَيَّرَ حِرْفته وَقَدِ اسْتَأجَرَ الحَانُوتَ أَوْ مَرِضَ لَمْ يَكُنْ لَهُ (ح) الفَسْخُ بِهَذِهِ الأَعْذَارِ لِأنَّهُ لاَ خَلَلَ في المَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَوِ اكْتَرَى أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ فَفَسَدَ الزَّرْعُ بجَائِحَةٍ فَلاَ يُحَطُّ شَيْءٌ مِنَ الأُجْرَةِ، وَلَوْ فَسَدَ الأَرْضُ بِجَائِحَةٍ ثَبَتَ الرَّدُّ، فَمَهْمَا أَجَازَ أَجَازَ بِجَمِيعِ (و) الأُجْرَةِ كَمَا ¬
فِي البَيعِ، وَإنْ فَسَخَ رَجَعَ إِلَى أُجْرَةِ البَاقِيَ واسْتَقَرَّ مَا اسْتَوْفَاهُ علَى الأَصَحِّ (و)، وَيُوَزَّعُ المُسُمَّى عَلَى المُدَّتَيْن بِاعْتِبَارِ القِيمَةِ لاَ باَعْتِبَارِ المُدَّةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه ثَلاَثُ مَسَائِلَ: إحْدَاها: الإجارةُ لا تُفْسَخ بالأعْذَار، سواءٌ كانت إجارة عيْن، أو في الذمَّة، وذلك كما إذا استأْجر دابَّةً لِلسَّفَر عليها، فمرض أو حانوتاً لحرفة فندم، أو هلكت آلاتُ تلك الحرْفة، أو حماماً فتعذَّر عليه الوَقُود، وبهذا قَالَ مَالِكُ وأحمد، وقال أبو حنيفة رضي الله عنهم يَثْبُت الفَسْخُ بهذه الأعذار وَنَحْوِها، وسلَّم أنَّه لو ظهر للمُكْرِي عذْرٌ كما لو مَرِض وعَجَزَ عن الخُرُوج مع الدوَابِّ التي آجرها، أو أكرى داره، وأهلُهُ مسافرون، فعادوا، أو لم يكنْ متأهِّلاً، فتأهَّلَ؛ أنَّه لا يثبت الفسخ، فيقاسَ عليه ما سلم، وأيضاً، فإنَّ الإجارة عَقْدٌ لا يفسخ بغَيْر عذْر، فلا يفسخ بعذْر من غير المعْقُود عَليْه؛ كالبيع (¬1). الثانية: إذا اكترى أرضاً للزِّراعة، فزَرَعها، فهلك الزَّرْع لجائِحةٍ مِنْ سيل، أو جَرَادٍ، أو شدَّة حَرٍّ، أو برْدٍ، أو كثرةِ مطَرٍ، لم يكن له الفسْخُ، ولا حطُّ شيْءٍ من الأجرة؛ لأن الجائحة لحِقَت مال المكْتَرِي لا منفَعَةَ الأرْض، فأشْبَه ما لو اكترى دُكَّاناً، لبَيْع البَزِّ، فاحترق بزُّه، لا تنفسخ الإجارة في الدُّكَّان. ولو فسَدَتِ الأرضُ بجائحةٍ، أَبْطلَتْ قوَّةَ الإنبات في مدَّة الإجارة، قال في الكتاب: "يثبُتُ الردُّ" ومفهومه أنه عيْبٌ موجِبٌ للخيار، لكنَّ هذا الفساد مفوِّت للمنفعة بالكلِّية، فليكنْ كفوات الأرْضِ بغَرَقٍ، أو رمْلٍ، وسنذكُرُه في الفصْل الذي يلي هذا الفصْلَ، وقد بيَّن ذلك في "الوسيط" فقال: ينفسخُ العقْدُ في المدَّة الباقية، ثمَّ إنْ كان فسادُ الأرْض بعْد فساد الزَّرْع، فعين الإمام فيه احتَمَالاَن قال في "الوسيط" الظَّاهر أنَّه لا يستردُّ شَيْئاً؛ لأنَّه بقيتْ صلاحيَّةُ الأرض وقُوَّتها, لم يكنْ للمستأجر فيها فائدةٌ بعْد فوات الزرع. والثّاني: يسترد؛ لأنَّ بقاء الأرض (¬2) عَلَى صنفتها مطلوبٌ، فهذا خرجَتْ عن أن ¬
يكون منتَفَعاً بها، وجَبَ أنْ يثبُتَ الانْفِسَاخ، وبهذا قطَع بعْض أصحاب الإمام، وإن كان فساد الزَّرْع بعد فساد الأرْض، فأظهر الاحتمالَيْن بالاتفاق الاستردَادُ؛ لأن أوَّل الزراعة غَيْرُ مقصود، ولم يسلم الأخير. وأمَّا المسألةُ الثالثةُ: وهي أنَّا إذا أثبَتْنَا الخيارَ، فيم يخيَّر إن أجاز وما الذي يستقر، إن فسخ؟ فنؤخِّرُها إلى الفصْل بعد هذا. وقوله في الكتاب "وقد استأجر دكاناً أو حانوتاً" الوجه طرح أحد اللَّفْظَيْن (¬1)، فإنَّ الدُّكَّان هو الحانوتُ قال في "الصِّحَاح" الدُّكَّانُ واحد الدَّكَاكِينَ، وهي الحوانيت. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّاني فَوَاتُ المَنْفَعَةِ بالكُلِّيَّةِ كَمَوْتِ الدَّابَّةِ وَالأَجِيرِ المُعَيَّنِ، وَانْهِدَامُ الدَّارِ مُوجبٌ لِلْفَسْخِ نَصَّ عَلَيْهِ، وَنَصَّ أَنَّ انْقَطَاعَ شُرْبِ الأَرْضِ غَيْرُ مُوجِبٍ لُلْخِيَارِ لِأَنَّهَا بقَيَتْ أَرْضاً وَالدَّارُ لَمْ تَبقَ دَاراً، وَقَدْ قِيلَ فِبهِمَا قَوْلاَنِ بِالنَّقْل وَالتَّخْرِيج وَهُوَ الأَظْهَرُ، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ المُتَعَاقِدَبنِ لَمْ يَنْفَسِخَ (حَ) العَقْدُ، وَلَوْ مَاتَ الصَّبيُّ المُتَعَلِّمُ أَوِ المُرْتَضِعُ أَوْ تَلِفَ الثَّوْبُ المَخِيْطُ فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ تَلَفِ العَاقِدِ وَالدَّابَّةِ المُعَيَّنَةِ فَفِيه خِلاَفِ (و) أَنَّهُ هَلْ يَنْفَسِخُ بِهِ أَمْ يُبْدَلُ بِغَيْرِهِ؟ وَإذَا غَصَبَ الدَّار المُسْتَأجَرَةَ حَتَّى مَضَتَ المُدَّةُ انْفَسُخَتْ، وَفِيهِ قَوْلٌ أَنَّ لِلْمُسْتَأجِرِ الخِيَارَ، فَإِنْ شَاءَ طَالَبَ الغَاصِبَ بِأَجْرَةِ المِثْل، وَلَوْ أَقَرَّ المُكْرِيِ لِلْغَاصِب بالِرَّقَبَة قُبِل إِقْرَارُهُ في الرَّقَبَةِ، وَهَلْ يَفُوتُ حَقُّ المَنْفَعَةَ تَبَعاً علَى المُسْتَأْجِرِ؟ فِبهِ خِلاَفٌ (و)، وَالأَقْيَسُ: (و) أَنَّ لِلمُسْتَأْجِرِ أَيضْاً مُخَاصَمَةَ الغَاصِبِ لِأَجَلْ حَقِّهِ في المَنْفَعَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: نورد مسائلَ الفَصْل والتي يَسْلُكُ معها على ما يوجيه الشَّرْح، ولا نراعي ترتيب الكِتَاب، فنقول: القسْمُ الثانِي: فوات المنفعة بالكلِّيَّة حِسّاً: فَمِنْ صُوَرِهِ مَوْتُ الدابَّة، والأجيرِ المعيَّن، وذلك إنْ كان قبل القبض، انفسَخَ العقْدُ، وكذا، إن كان عَقِبَ القَبْض قَبْلَ مضيِّ مدةٍ لمثلها أجرةٌ، إن كان في خلالِ المدَّة، انفسخ العقدُ في الباقي، وفي الماضي يجيء الطريقان فيما إذا اشترَى عبديْن، وقبضَ أحدَهُمَا، وتلف الثَّاني قبْل القبض، هل ينفسخ البيع في المقبوض. فإن قلْنا: ينفسخ في الماضي، سقَط المسمَّى، ووجب أُجْرَةُ المِثْل لما مضَى,. وإن قلْنا: لا ينفسِخُ فيه، فهل له خياز الفَسْخ؟ فيه وجهان: ¬
أصحُّهما، عند الإمام وصاحبِ "التهذيب": لا؛ لأن مَنَافِعَهُ قد صارَتْ مستوفاةً مستهلكة. والثاني: وبه أجاب ابنُ الصبَّاغ وآخرون: نعم؛ لأن جميع المعْقُود علَيْه لم يُسلَّم له. فإنْ قلْنا: له الفسْخُ، وفسخ، فالرجوع إلَى أُجْرة المثل. وإنْ قلنا: لا، فسخ له، أو أجاز، وجَبَ قَسْطُ ما مضَى من المسمى، والتوزيعُ عَلَى قيمة المنفعة، وهِيَ أجرةُ المِثْل، لا عَلَى نفْس الزَّمان، وأجْرَةُ المثل تختلف، فربما تزيد أجرةُ شهرٍ على أجرةِ شهرَيْن؛ لكثرة الرغَبَات في ذلك الشَّهْر، فلو كان مدَّة الإجارة سنةً وقد مضَتْ منها ستةُ أَشْهُرِ، لكنَّ أجرة المثل فيها ضِعْفُ أجرة المثل في السنة الباقيَة، وجَبَ في المسمَّى ثُلْثَاه، وإن كان بالعكْسِ، فثلُثُه، وتفاوُتُ الأجرة في المدتَيْن كتفاوُت القيمة في العبْدَيْن، إذا قُبِض أحدهما، وتلف الآخرُ عنْد البائع، وإذا أثبَتْنَا الخيار بسبب عيْب، وانفسخ العقْدُ في المستقبل بفسخه، ففي انفساخه في الماضي الطريقان، فإنْ لم ينْفَسِخْ، فسبيل التوزيع ما بيَّنَّاه، وإنْ أجازه، فعليه الأجرةُ المسمَّاة بتمامها، كما لو رَضِيَ بعَيْبِ المبيع، يلزمه جميع (¬1) الثمن، وهذا ما ذكره صاحب الكتاب في الفَصْل السَّابق أنَّه مَهما أجاز، أجازَ بجميع الأُجْرة إلى آخره. وأراد بقَوْله: "رجَع إلى أجرة الباقي" الأجرة المسماة. وقوله: "واستقر ما [استوفاه] (¬2) على الأصح" يعن الأصح من القولين، وعلى القول الثاني، لا يستقر شيْءٌ من المسمَّى، لتعدِّي الانفساخ إلى الماضي، ولا فَرْق بين أن يحْصُل التلَفُ بآفة سماويةٍ، أو بفعل المكْتَرِي، بل لو قتل العبْد والدابَّة المعيَّنة، كان حكم الانفساخ والأجرةِ عَلَى ما ذكرناه، ويلزمه قيمةُ ما أتْلَف. وعن ابن أبي هُرَيْرة؛ أنه يستقرُّ عليه الأجرة المسمَّاة بالإتلاف، كما يستقر الثمن علَى المُشْتَري بالاتْلاَف، والمذْهَب الأول؛ لأن البَيْع ورد على العيْنِ، فهذا أتلفها، جُعِل قابضاً، والأجارةُ وردتْ على المنافع (¬3) ومنافع الزمان المستقبل معدومةٌ، لا يُتصوَّر ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ورودُ الإتْلاف علَيْها، وعلَى هذا؛ فلو عَيَّب المكتري الدار، أو جرح العبد، كان كما لو تعيَّب بآفة سماويةٍ في ثُبُوت الخيار. قال الإمام: وقد يختلج في الصَّدرْ خلافُة، لتضمُّن التَّعَيُّب الرِّضَا بالعيب. ومنْها: انهدامُ الدار، والنصُّ أنه يقتضي الانفساخَ، ونصَّ فيما إذا اكتَرى أرضاً للزِّراعة، ولها ماءٌ معتادٌ، فانقطع أَنَّ له فسْخَ العقْد، واْختلفوا في النَّصَّيْن، فمنهم منْ نقَل وخَرَّج، وجعل المسأَلَتَيْنِ على قولَيْن: أحدُهُما: انفساخُ الإجارة؛ لفَوَات المقصود، وهو السكْنَى ههنا، والزراعة هناك، فكان كموت العبد. والثاني: المنع؛ لأن الأرْضَ باقيةُ والانتفاغ ممكنٌ من وجْهٍ آخر، ولكن يثبت به الخيارُ. ومنهم من قرر النصَّيْن، وفَرَق بأنَّ الدار لم تبعدَ داراً، والأرض بَقِيَتْ أَرْضاً، وأيضاً، فربما تُمْكِنُ الزراعةُ بالأمطار، وأشار بعضُهم إلى القَطْع بعدم الانفساخ، وحمل ما ذَكَره في الانهدام عَلَى ما إذا صارَتِ الدار تلاَّ غَيْرَ منتفع به بوجهٍ ما، وطريقةُ النَّقْل والتَّخريج أظهرُ عند الأصحاب، لكن الأظهر من القولَيْن في الانهدام الانْفِسَاخ، وفي انقطاع الماء ثُبُوت الخيارِ كما نصَّ عليه، وإنما يثبت الخيارُ، إِذا امتنعتِ الزراعة. فأما إِذا قال المُكْرِي: أنا أسوقُ الماء إليها في موضَعٍ آخر، يسقط الخيار، كما لو بادر إلَى إصلاح الدار، فإن قلْنا: بالانفساخ، فالحكمُ على ما ذكرنا في مَوْتِ العبد،
وإن قلْنا بعدم الانْفِسَاخ، فله الفسْخ في المدة الباقية، وفي الماضية الوجْهَان، فإنْ منعناه، فعَلَيْه قسْطُ ما مضى من المسمَّى وإن أجاز، لزمه المسمى، كلُّه؛ وقيل: يحط للانهدام وانقطاع المَاءِ ما يخصه. ومنها: إذا غصب العَبْدُ المستأجرُ، أو أَبق، أو نَدَّتِ الدابة، فإنْ كانتِ الإجارة في الذمَّة، فعلى المكْري الإبدالُ، فإن امتنع، استُؤْجر عليه، وإن كانتْ إجارةَ عَبيْدٍ، أو غصبتِ الدَّارُ المستأْجِرة، فللمكْتَرِي الخيار (¬1)، فإنْ كان ذلك في أثناء المدَّة، فإنِ اختار الفسْخ فسخ في الباقي، وفي الماضِي ما مضى من الخلاف، وإنْ لم يفسخ، وكان قد استأْجر مدَّةً معلومةً فانقضت، فيبني على الخلاف فيما إذا أتلف أجنبيٌّ المبيعَ قبْل القبض، فيفسخ البيع أم لا؟ إن قلنا: ينفسخ، فكذلك الإجارةُ، ويستردُّ الأجرة، وإن قلْنا: لا ينفسخ، فكذلك الإجارة ويتخيَّر بين أن يفْسَخَ ويستردَّ الأجرة، وبيْن أن يجيز ويطالب الغاصب بأُجْرة المثل، والذي نصَّ عليه الشافعيُّ رضي الله عنه وأجاب به الأصحاب انفساخُ الإجَارة، وإن كان البناءُ المذكورُ يقتضي ترْجيحَ عَدَمِ الانفساخ وعلى هذا، فلو عاد إلى يده، وقد بَقِيَ بعْضُ المدة، فللمكْتَرِي أن ينتفع به في الباقي وتسقط حصَّة المدة الباقية، إلاَّ إذا قلْنا: إنَّ الانفساخ في بعْض المدَّة يوجِبُ الانفساخ في الباقي، فلَيْسَ له الانتفاع في بقيَّة المدَّة، وإن كان قَدِ استأجره لِعَملِ معلوم، فله أنه يستعملَهُ فيه متى حصلَتِ القدْرَة علَيْه، وإذا بادر المُكْرِي إلَى الانتزاع من الغاصب، ولم يتعطَّل منفعةٌ على المكتري، سقط خيارُه، كما سبق في إصْلاحِ الدَّار، ثم ذكر في غصب المستأجر صورتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: لو أَقر المكْترِي بما أكراه للغاصِبِ مِنَ المستأجر، أو لإنْسانٍ آخر، ففي قَبُول إقرارِهِ في الرقَبَة قولان، يُوَجَّه أحدهما؛ بأنه قولٌ يناقض العقد السابق، فلا يُلْتَفَتُ إلَيْه، كما لو أقرَّ بما باعه لغَيْر المُشْتَرِي، والآخر بأنَّه مالك في الظاهر غير مُتَّهم في الإقرار، ويخالف إقرار البائع؛ لأنَّه يصادف ملك الغير، وقد يبنى الخلاف على أن المكْرِي، هل له بيعُ المستأجر؟ إن قلْنا: نعم، صحَّ إقراره، وإلا، فهو علَى الخلاَفِ في إقرار الرَّاهن، وإذا قلْنا: يُقْبَلُ إقراره، ففي بطلان حقِّ المستأجر من المنفعة أوْجُه: أظهرُها: أنه لا يَبْطُل؛ لأنه بالإجارة أَثْبَت له الحق في المنفعة، فلا يُمَكَّن من رفعه كما، أن البائع لا يتمكَّن من رفْع ما أثبته بالبَيْع. ¬
والثاني: يَبْطُل؛ تبعاً للرقَبَة كالعَبْد إذا أقرَّ على نفسه بالقَصَاص، يُقْبَل وَيبْطُلُ حَقُّ السيد تبعاً. والثالث: إنْ كَانَ المَالُ في يَدِ المستأجر (¬1)، فلا يزالُ يدُهُ إلى انقضاء مدَّة الإجارة، وإن كان في يَدِ المُقَرِّ له، فلا ينتزع من يده. وإذا قلْنا: يَبْطُل حقُّ المكتري في المنفعة، فهلْ له تحليف المكْرِي؟ فيه الخلافُ المذكورُ في أن المرتهن، هل يُحَلِّفُ الراهن، إذا أقرَّ بالمرهون، وقبِلْناه؟ والأظهرُ من الخلاف في المسألة أنَّه يقبل إقراره في الرَقبةُ، ولا يَقْبَل في المنْفَعَة، ويُحْكَى هذا عن أبي بكرٍ الفارسيِّ، لكن الذي رواه عن النَّصِّ في "عيون المسائل" له أن الإقرار جائزٌ، والكراء باطلٌ. الثانية: للمكْرِي مخاصمةُ من غَصَب العَيْن المكراةَ أو سرَقَها بحقٌ الملك، وهل للمكْتَرِي مخاصمَتُه؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنَّهُ يستحِقُّ المنفعة، فيطالبه ليستوفِيَ المنفعة. وأظهرهما، وَيُحْكَى عن نصِّ الشافعيِّ رضي الله عنه لا؛ لأنه ليْسَ بمالِك، ولا نائبٍ عن مالك فأشبه المودع والمُسْتعير، والوجْهان جاريان في أنَّ المرتهن، هل يخاصم؛ لأن له حقَّاً في المرْهُون؟ ورأى الإمامُ وطائفةٌ الوَجْه الأول أقْرَبَ إلى القِياسِ، وعلَى ذلك؛ جرى صَاحِبُ الكتاب. وقال: "والأقيس أن للمستأجر أيضاً مخاصمة الغاصِبِ" وقد يوجَّه بأن من ادَّعَى مِلْكاً، وقال اشترَيْتَهُ من فلان وكان مالكاً له إلَى أن اشتريتُهُ تُسْمَعُ بينته عَلَى ذلك، فكما سُمِعَتِ البينةُ على تملُّك البائع؛ لتوسُّله بها إلَى إثبات المِلْك لنفسه، وجب أن يكون الحُكْمُ في المنفعة كذلك. ومنْها الثوبُ المعيَّن للخياطة، إذا تَلِفَ، هل ينفسخ العقد؟ فيه خلاف قدْ مرَّ ذكره. والأصحُّ عند الإمام وجماعةٍ: أنه لا ينفسخ؛ لأنَّ المعقود عليه العمل، فلا فرْقَ بين أن يوقعه في ذلك المعيَّن، أو في مثله. وعند العراقيين والشيخ أبي عَلِيٍّ: أنه يَنْفسخ؛ لتعلُّقه بذلك المعين فيه، أجاب ابْنُه الحداد فيما إذا اكترى منه دوَابَّ في الذمَّة؛ لحمل خمسة أعْبُدٍ معيَّنين، فمات اثنانِ، وحمل ثلاثة، فقال: له ثلاثةُ أخماسِ الكراء، ويسقط خمساه، والفرض فيما إذا تساوت أوزانهم، وبوافقه نصُّ الشافعيِّ -رضي الله عنه- فيما لو نَكَحها على خياطةَ ثَوْبٍ بعينه، فهَلَكَ قبْل أن يَخِيطَهُ؛ حيث قال: لها مَهْرُ المثل، ثم بيَّن الشَّيْخُ مَوْضِعَ الخلاف؛ فقال: ¬
الخلاف فيما إذا لزم ذمَّته خياطةُ ثوبٍ بعينه، أو حمل عبْداً وقناعاً بعَيْنه، فإنَّ العقْدَ، وإن كان في الذِّمَّة، فهو متعلِّق بعينِ دلك الثَّوْب أو المتاع. أما إذا استأجر دابَّةً بعينها مدة؛ لركوب، أو حمْل متاعٍ، فلا خلاف في جوازِ إبْدالِ الراكب والمتاع، وفي أن العَقْدَ لا ينفسخ بهلاكهما وَفَرَق بأن العقْدَ، والحالةُ هذه، تناول المدة؛ ألا تَرَى أنَّهُ لو سَلَّم الدابَّة، فلم يركْب، تستقِرُّ الأجرة، وفيما إذا استأجر؛ لخياطةِ الثَّوب المعيَّن العقْدُ يتناول العمل، ولهذا لو سلَّم نفْسه مدةً يُمْكِنُ فيها الخياطة، ولكنْ لمْ يَخطْ له لم تستقرَّ هكذا ذكره الشَّيْخُ، وفيه نزاعٌ ستعرفه من بعْدُ إن شاء الله تعالى. فإن حكمنا بأنَّ الإجارة لا تَنْفَسِخ، فإن أتى المُسْتَأْجِر بثَوبْ مثله، فذاك، وإن لم يأْتِ إما لعجْزٍ، أو امتنع عنْ قدرةٍ، حتى مضت مدةٌ تسع لتوفيته (¬1) فتستقرُّ الأجرة، أو لا تستقرُّ؟ فيه وجهان (¬2)، نقلهما الإمام: إنْ قلْنا: تستقرُّ، فللمستأجر فَسْخُ العَقْدِ؛ لأنَّه، ربَّما لا يَجدُ ثوباً آخرَ أو لا يريد قَطْعَهُ. وفيه وجهٌ آخر: أنه ليسَ له فَسْخُ العقْد، فيخرَّج من هذا وجه أن المستأجر مخيَّر، إن شاء أبدل الثوب التالف، وإن شاء فسخ، وإليه، أشار صَاحِبُ الكتَاب في "الوسيط" حيْث قال بَعْد ذكر الخلاف في الانفساخ: و"فيه وجهٌ ثالِثٌ؛ وهو أنَّهما إن لم يتشاحا في الإبدال استمر العقد، ولا يثبت الفسخ. وموت الصبيِّ المعيَّن للتعليم كتَلَفِ الثَّوْب المعيَّن للخياطة، وكذا الصبيُّ المعيَّنُ للارْضاع، إن لم يكُنْ وَلَد المرْضِعة، وإنْ كان وَلَدَهَا، فالخلاف فيه مرتَّبٌ، وأولَى بالانفساخ؛ لأنَّ دُرُورَ اللَّبَن على الولد فوق دُرُوره على الأجنبيِّ؛ لزيادة الشفقة على الوَلَد، فلا يُمْكِن إقامة غيرُه مُقَامه. ولو بدأ له في قَطْع الثوب المعيَّن، وهو باقٍ، قال الإمام: المتَّجه أنَّهُ لا يجبُ عليه الإتيانُ به؛ لأنه قد نتج له غرض في الامتناع، لكن تستقرُّ عليه الأَجرة، إذا سلم الأجير نَفْسه، ومضَى مدَّة إمكان العمل، إن قلنا: استقرارُ الأجرة بتَسْلِيم الأجير نَفْسِه، ولَيْسَ للأجير فسْخُ الإجارة. وإن قلنا: لا تستقرُّ، فله فَسْخُ الإجارة، وليْسَ للمستأجِر الفَسْخُ بحال؛ فإنَّ الإجارة عندنا لا تُفْسَخ بالأعذار، ولا يلتحقَ (¬3) بالأسْبَاب المذكورةِ في الفصْل موت ¬
المتعاقدَيْن، فلا تنفسخ الإجارةُ بمَوْت المستأجِرِ، ولا مَوْتِ المؤَجِّر، وبه قال مَالِكٌ وَأَحْمَدُ رحمهما الله بل إن مات المستأْجر، قام وارثه مَقَامَهُ في استيفاءِ المَنْفَعة، وإن مات المؤَجِّر، نزل المال عند المستأْجِر إلى انتهاء مدَّة الإجارة، فإن كانَتِ الإجارةُ واردةً على الذمة، فما التزمه دَيْنٌ عليه، فإن كان في التركة وفَاءٌ، استُؤْجِرَ منها لِتَوْفِيَته، وإلاَّ، فالوارث بالخيار، إن شاء وفَّاه، واستحق الآجرة، وإن أعرض فللمستأْجِرِ فسخ الإجارةَ (¬1). وقال أبو حنيفةَ: ينفسخ العقد بموت كلِّ واحدٍ منهما. لنا: القياسُ على البَيْع، وعَلى ما إذا زوج أَمَتَه، ثم مات، وانفساخُ الإجارة بموت الأجير كان من جهة أنَّه مورد العَقْد لا من جِهَة أنَّه عاقِدٌ. ولو أوصَى لزيْدٍ بمنفعةِ دَارِه مدة عُمْرِ زَيْدٍ، فقَبِلَ الوصيَّةَ، وأجَّرها مدة، ثم مات في خلالِ المدَّة، تنفسخ الإجارة؛ لانتهاء حقه الذي هو مورِدُ الإجارة بمَوْتِه. ومما ينتظم في الفصل. مسألةُ هَرَبِ الجَمَالِ: فإذا أكْرَى جمَّالاً، وهَرَب، فإمَّا أن يذْهَب بها، أو يتركُهَا عند المكْتَرِي، فَإذا ذهَب بها، نُظِر؛ إن كانتِ الإجارةُ في الذمَّة، اكترى الحاكمُ علَيْه من ماله، فإن لم يَجِدْ له مالاً، اكْتَرَى عليه مِنْ بيت المَالِ، أو من المكتري، أو غيره، واكترى عليه. قال في "الشَّامل": ولا يجوز أن يكل أمر الاكتراء إلى المُكْتَرِي؛ لأنه يصير وكيلاً في حقِّ نفسه فإن تعذَّر الاكتراءُ علَيْه؛ فللمكتَرِي فسْخُ العقد، كما لو انقطع المُسَلَّم فيه عند المحلِّ، فإن فَسَخ، فالأجرة دَيْنٌ في ذمَّة الجَمَّال فإن لم يفْسَخ، فله مطالبةُ الجمال، إذا عاد بما التزمه، وإن كانت الإجارةُ إجارة عيْن، فللمكتري فَسْخُ العقْد، كما إذا نَدَّت الدابَّةُ، وإن تركها عنْد المُكْتَرِي، فإن تَبرَّع المكتري بالإِنْفاقِ عليها، فذاك، وإلا، راجع الحاكمَ؛ لينفق علَيْها، وعلَى من يقوم بتعهُّدها من مال المكري، إن وجده، وإلاَّ، استقرْ مَن علَيْه كما ذكرنا، ثم إنْ وثق بالمكتري، سلَّم إليه ما اقترضه. لينفق عليها، إِلاَّ، دفَعَه إلى مَنْ يثق به، وإذَا لم يجد مالاً آخَر، باع منها بقدر الحاجة؛ لينفِقَ علَيْها من ثَمَنِه، ولا يُخَرَّج على الخلاف في بيع المستأجر؛ لأنه محل الضرورة، ويبقى في يد المستأجر إلى انتهاء المدَّة، ولو لم يستقرِضِ الحاكِمُ من المكتري، ولكنْ أَذِنَ له في الإنْفَاقِ ليرجع، ففيه قولان: أَظهَرُهُمَا: الجواز، كما لو استقرض منه ودفَغ إلَيْه. ¬
والثاني: المَنْعُ، وُيُجْعَل متبرِّعاً؛ لأنا، لو جوَّزناه، لاحتجنا إلى قبول قوله فيما يدَّعيه لنَفْسِه، وهو بعيدٌ، وإذا قلْنا بالأول، نُبَالِ به، وجعلَنا القول قوله، إذا اختلَفَا في قدر ما أنفق. وعن صاحِب "التقريب" وَجْهٌ آخر: إن القَوْلَ قولُ المكْرِي؛ لأن الأصْل براءةُ ذمَّتِه، ولو أنفق المكْتَرِي بغَيْر إذْن الحاكم مع إمْكَان مراجعته، لم يرجع، وإن لم يكن حاكمٌ، فعلى ما ذكرنا في عاملِ المُسَاقاة، إذا هرب, قال الإمام: ولو كان في الموضِعِ حاكمٌ، وعُسَر إثبات الواقعة عنْدَه، فكما لو لَمْ يكُنْ حاكمٌ، فإذا أثبتنا الرجُوعَ فيما إذَا أنفق من غَيْر مراجعَةِ الحاكم فلو اختلفا، فالقَوْل قولُ الجَمَّال؛ لأن اتِّفاق المكتري لم يستند إلى ائتمانٍ من جهَةِ الحاكم. قال: وفيه احتمالٌ؛ لأن الشَّرْعَ سَلَّطَهُ علَيْه، فإذا انقَضَتْ مدَّةُ الإجارة، ولم يعد الجمَّال، باع الحاكم منها ما يَقْضِي بثمنه ما اقْتَرَضَ، ويحْفَظُ سائرها، فإن رأَى بيعها لئلا يأكل بنفسها فعل. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَمَهْمَا حَبَسَ المُكْتَرِي الدَّابَّةَ حَتَّى مَضَتِ المُدَّةُ اسْتَقَرَّتِ الأُجْرَةُ سَوَاءٌ قُدِّرَتِ المُدَّةُ أَمْ لاَ، عُيِّنَتِ الدَّابَّةُ أَمْ لاَ، فَإنْ حَبَسَ المكْرِي وَقَدِّرَتِ المُدَّةُ انْفَسَخَتْ، وَإِنْ لَمْ تُقَدَّرْ فَوَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وفيه مسألتان: الأُولَى: إِذا اكترَى دابَّةً، أو داراً مدَّةً وقبَضَها، وأمسَكهَا، حتَّى مضَتِ المدَّة، انتهت الإجارةُ، واستقرَّتِ الأجرة، سواءٌ انتفع بها في المدَّة أم لا, وليْسَ له الانتفاعُ بعد المُدَّة، ولو فعَل، لَزِمَه أجرةُ المثْل مع المسمَّى، ولو ضبطت المنفعةُ بالعمل دون المدَّة، كما إذا استأجر دابَّةً ليركبها إلَى بَلَدٍ، أو ليحمل عليها إلَى موضِعٍ معلومٍ، وقبضها وأمسكها عنْده، حتى مضَتْ مدَّة يُمْكِن فيها المسيرُ إلَيْه، فكذلك تستقرُّ عليه الأجرة؛ خلافاً لأبي حنيفة رضي الله عنه. لنا: إن المُكْرِي مكَّنه من الانتفاع بأقْصَى المقدور عَلَيْه، فتستقر له الأجرةُ، كما لو كان الضبْطُ بالمدة، ولا فَرْق بين أن يكون تخلُّف المكتري لعُذْرٍ، أو من غيْر عذْرٍ، حتى لو تخلَّف؛ لخوفٍ في الطريق، أو لعدَم وُجْدانِ الرُّفقة، استقرَّت الأجرةُ عليه، وإن كان معذوراً من جهة أنَّه لو خرَجَ، والحالَة هذه، كان متعدِّياً ضامناً للدِّيَة، وإنما استقرَّت الأجرةُ عليه؛ لأن عِوَضها وهي منافعُ المدةِ تَلِفَتْ عنده على أنه متمكِّنٌ من السَّفَر عليها إلى بلدٍ آخَرَ، ومِنِ استعْمالها في البلد تلْكَ المدة، وليس للمكْتَرِي فَسْخُ العقد بهذا السبب، ولا أنْ يُلْزِمَ المكْرِيَ استردادَ الدابَّة إلى أن يتيسَّر الخروج، هذا في
إجارة العَيْن. فلو كانت الاجارةُ في الذِّمَّة، وسلم دابَّةً بالوصف المشروط، فمضَتِ المدةُ عند المكتري، استقرت الأجرة أيضاً؛ لتعيُّن حقه بالتَّسْليم وحصول التَّمكُّن. وقوله [في الكتاب] "عينت الدابة أم لا" عبارة عن النوعين إجارةِ العَيْن، والإجارةِ في الذِّمَّة. وقوله قبله: "قدرت المدَّةُ أم لا" إشارةٌ إلى الضبط بالمدة، والضبط بالمنفعة. ولو كانتِ الاجارةُ فاسدةً، استقرَّ فيها أجرةُ المثْل بما يستقرُّ بها المسمَّى في الإجارة الصَّحِيحة، سواءٌ انتفع بها أو لم يَنْتَفِع، وسواءٌ كانتْ أجرةُ المثْلِ أقلَّ من المسمَّى، أو أكثر. وقال أبو حنيفة: إن لم ينتفعْ، فلا شيْءَ عليه، فإن انتفع، فعلَيْه أقلُّ الأمرَيْن من المسمَّى، وأجرة المثل. ولو أجَّر الحرُّ نفْسَه مدَّةً لعمل معلومٍ، وسلَّم نفْسَه، فلَمْ يستعملْهُ المستأْجِرُ حتى مضَتِ المدة، أو مضت مدةٌ يُمْكِنُ فيها ذلك العمل، ففي استقرار الأجْرَةِ خلافٌ ذكرناه في الغَصْب. والظَّاهر الاستقرارُ، ويجري الخلافُ فيما إذا ألزم ذمة الحرِّ عملاً، فسلَّم نفْسَه مدَّةَ إمكانِ ذلك العَمَل، ولم يستعملْهُ، وسبَبُ الخلاف أن الحرَّ لا يدْخُلُ تحت اليد على ما قدَّمناه. وأجرَى صاحبُ "التتمة" الخلافَ فيما التزم الحُرُّ عملاً في الذِّمَّة، وسلَّم عبده؛ ليستعمله، فلم يستعمْلُه، فوجهه بما يقْتَضِي إثْباتَ الخِلاَفِ في كل إجارة على الذمَّة، ثم إذا قلْنا بعدم الاستقرار، فللأجيرِ أن يرفع الأمْرَ إلى الحكم؛ ليجبرَه على الاستعمال. المسألة الثانية: أكْرَى عيناً مدةً، ولم يسلِّمْها حتى انقضتِ المدَّةُ انفسخت الإجارة، لقوات المعقُودِ عليه، ولو أنه استوفَى منفعَة المدَّة، حكَىَ المتولِّي فيه طريقَيْن: أحدهما: أنَّهُ كما لو أتْلَفَ البائعُ المبيع قبل القَبْضِ. والثاني: القطْعُ بالانفساخ؛ فَرْقاً بأن الواجبَ هناك بالإتْلافِ القيمةُ، وأنها قابلةٌ للبيع، فجاز أن يتعدَّى حكْمُ البيع إلَيْها، وههنا ما تقدَّر وجوبه أجرةُ المثل، وأنها لا تَقْبَل الإجارة، فلا يتعدَّى حكْمُ الإجَارة إليْها. ولو أمْسَكَهَا بعْضَ المدة، ثم سلَّم، انفسخت الإجارةُ في المدَّة التي تلِفَتْ منافعها، وفي الباقي الخلافُ فيما إذا تلِفَ بعضُ المبيع قبل القبْض، فإن قلْنا: لا تنفسخ الإجارةُ فللمستأجر الخيارُ، ولا يبدل زمانُ بزمان، ولو لم تكنِ المدةُ مقدَّرة، واستأجرَ دابَّةً للركوب إلَى بلدٍ، ثم لم يسلِّمْها، حتى مضتْ مدةً يمكن فيها المضيُّ إليه، ففيه وجهان يختار الإمام منهما أن الإجارةَ تنفسخ،
ووجَّهه بأن المدة، وإنْ ذُكِرَت، فليستْ معينةٌ، وإنما المطلوب المنفعةُ فيها، فليكن الاعتبارُ بمضيِّ زمان إمكان الانتفاع، وبأن المكتري حبسها هذه المدَّةَ، استقرَّت عليه الأجْرَةُ، كما لو حبسها إلى آخر المدَّة إذا كانتْ مذكورة في الإجارة، فإذا سوَّيْنا بيْن نوعَي الإجارة في حقِّ المكتري، وَجَب أن نسوِّيَ بينهما في حقِّ المكري. وأظهرهما، وبه أجاب الأكثرون: أنها لا تنْفَسِخ؛ لأنَّ هذه الإجارةَ متعلَّقة بالمنفعة دون الزمان، ولم يتعذَّرِ استيفاؤُها، ويخالفُ حبْس المكتري بأنا لو لم نقرِّر به الأجرَةَ لضاعَتِ المنفعةُ على المكْرِي، وعلَى هذا، ففي "الوسيط" أنَّ للمكتري الخيار؛ لتأخُّر حقه، وروايةُ الأصحاب تخالِفُ ما رواه؛ فإنَّهم قالُوا لا خيار للمكتري، كما لا خيارَ للمشْتَرِي، إذا امتنع البائعُ من تسليم المَبِيع مدَّةَ، ثم سلَّمة، ولو كانتِ الإجارةُ في الذِّمَّة، ولم يسلِّم ما يستوفِيِ المنفعةَ منْه حتى مضَتْ مدة يمكنُ فيها تحصيلُ تلك المنفعة، فلا فسْخ ولا انفساخَ بحالٍ، فإنَّه دَيْنٌ تأخَّر إبقاؤه. قَالَ الغَزَاليُّ: الثَّالثُ مَا يَمْنَعُ آسْتِيفَاءَ المَنْفَعَةِ شَرْعاً يُوَجِبُ الْفَسْخَ كَمَا لَوْ سَكَنَ أَلَمُ السِّنِّ الُمسْتَأجَرِ عَلَى قَلْعِهِ، أَوْ عَفَا عَمَّنْ عَلَيهِ القِصَاصُ وَقَدِ اسْتُؤْجِرَ (و) لِقَطعِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القسمُ الثالِثُ فواتُ المنفعةَ شَرْعاً، وهو كالفوات الحِسِّ في اقتضاء الانفساخ؛ لأنَّ تعذُّر الاستيفاء يَشْمُلُهُما، فإذا استأجَرَ لقلْع سنٍّ وجعه أو قطْعِ يد متآكلة، أو لاستيفاءِ قصاصٍ في نفْسٍ، أو طَرَفٍ، فالظاهرُ صحَّةُ اَلإجارة، لكِنْ فيه شيئان: أحدهُما: كما قدَّمناه، فإذا قلْنا به، فلو زال الوجْع، وعفا عمَّن علَيْه القصاص، فقد أطْلَق الأكثرون القَولَ بانفساخ الإجارَةِ، لكنْ فيه شيئان: أحدُهُما: أنَّ المنفعةَ في هذه الإجَارَة مضْبوطةٌ بالعَمَل دون المدَّة، وهو غير مأْيُوسٍ منه لاحتمال عَوْدِ الوجع، فليكن زوالُ الوجع كغصب العين المستأجرة؛ حتى يثبُتَ خيار الفسْحِ دون الانفساخ، ولفظ الكتاب حيث قال: "يوجِبُ الفسخ" ظاهرُهُ يوافِقُ مالكاً إلاَّ أنه أراد الانفساخ، عَلَى ما صرَّح به في "الوسيط". والثاني: أن الشَّيْخ أبا محمَّدْ حَكَى وجْهاً أنَّ الإجارة لا تنْفَسِخ، بلْ يستعمل الأجير في قلع وتدٍ، أو مسْمَارٍ، ويراعَى تداني العمَليْن، وهذا ضعيفٌ، والقوي ما قيل؛ أنَّ الحكْمَ باَلانفساخ جوابٌ على أن المستَوْفَى به لا يُبْدَل، فإنْ جوَّزناه، أجبر بقلع سنٍّ وجعةٍ لغيره. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ مَاتَ البَطْنُ الأَوَّلُ مِنْ أَرْبَابِ الوَقْفِ بَعْدَ الإِجَارَةِ وَقَبْلَ مُضِيِّ المُدَّةِ فَالأَقيَسُ (و) الانْفِسَاخِ لِأَنَّهُ تَنَاوَلَ مَا لاَ يَمْلِكُهُ، وَلَوْ آجَرَ الوَلِيُّ الصَّبِيَّ أَوْ دَابَّتَهُ مُدَّةَ تَجَاوِزُ البُلُوغَ لَمْ يَجُزْ، فَإِنْ قَصُرَتْ فَبَلَغَ بِالاحْتِلاَمِ عَلَى قُرْبٍ، فالأَقْيَسُ أَنَّهُ لاَ يَنْفَسِخُ إِذْ
بُنِيَ العَقْدُ لَهُ عَلَى المَصْلَحَةِ، وَإِنْ أُعْتِقَ العَبْدُ المُكْري لَمْ تَنْفَسِخِ (و) الإِجَارَةُ، وَلاَ خِيَارَ (و) لِلْعَبْدِ، وَلاَ يَرْجِعُ بالأُجْرَةِ عَلَى السَّيِّدِ في أَقْيَسِ الوَجْهَيْنِ، وَنَفَقَتُهُ عَلَى بَيْتِ المَالِ في هَذِهِ المُدَّةِ، وَقِيلَ: إِنَّها عَلَى السَّيِّدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفصْلُ يشتملُ على ثلاث مسائل: الأُولى: إِجارةُ الوَقْف يُفْرَضُ تارة من الموقُوف عليه، وأخْرَى من المتولِّي، وبيان الحالَتَيْن موكول إلى "كتاب الوقْف" فإِذا أجَّر البَطْنَ الأوَّلَ من الموقوف علَيْهم، ثم مات في أثناء المدَّة، فأحد الوجهَيْن: أن الَإجارة تبْقى بحالها؛ لأنَّها لازمةٌ، فلا تتأثَّر بموْتِ العائد، كما لو أجَّر ملكه. وأصحُّهما: المَنْعُ؛ لأنَّ المنافع بعْد موته لغيره، ولا ولايةَ له علَيْه، ولا نيابةَ عَنْه، فلا يمكِنُه التصرُّف في حقِّه، وسواء الوجهان على أن البطن الثانِيَ يتلقَّى الاستحقاق من الأوَّل، أو من الواقِف، إن قلْنا بالأول، فالإجارةُ بحالها، كما لو أجَّر ملكه، ومات في المدة، وإنْ قلْنا بالثاني، فلا ثُمَّ عبارة المعْظَم في المسْأَلة "الانْفِسَاخُ وعدمه" فقالوا: في وجْه: ينْفَسِخ الإجارَةُ وفي وجه لا تَنْفَسخ، ولم يستَحْسِنْها الصَّيْدَلاَنِيُّ والإمام وطائفةٌ؛ لأن الانفساخ يُشْعِر بسَبْق الانعقاد، وردُّوا الخلاف إلَى أنَّا، هل نبيَّن البطْلاَنَ؛ لأنا تبَينَّا أنه تصرُّف فيما لم يَمْلِكْه؟ وإذا حكَمْنا ببقاءِ الإجَارة، فحِصَّة المدَّة الباقيةِ منَ الأجْرة تكونُ للبَطْنِ الثَّاني، فإنْ أتْلَفَها الأوَّلُ، فهيَ دَيْن في تركته، وليْسَ هذا كما إذا أجَّر ملكه، ومات في المدَّة؛ حيث تكونُ جميع الأجرة تركةً له تقضي منْها ديونَهُ، وتنفِّذُ وصاياه، وفَرَقُوا بأنَّ التَّصَرُّفَ هناك ورَدَ على خالِصِ حَقِّه، والباقي له بعْد الإجارة رقبةٌ مسلوبةٌ المنفعةِ في تلْك المدة، فينتقلُ إلى الوارث كذلك. وإن قلنا: إنَّها لا تبقَى، فهل تبطلُ فيما مضى؟ قال ابْنُ الصَّبَّاغ: يُبْنَى على الخِلاَفِ في تفْريق الصَّفْقة، إن قلنا: لا نُفَرِّق، كان للبطْنِ الأول أجرةُ المثْل؛ لما مَضَى. وأما إذا أجَّر الوقف المتولّي، فموته لا يؤثِّر في الإجارة؛ لأنَّه ناظرٌ للكل، ولا يختصُّ تصرُّفه ببَعْض الموقُوف علَيْهم. وحكى القاضي الرُّويانيُّ وجهاً آخر أنهَا تَبْطُل، فهو كالخِلافِ فيما إذا أجَّر الولِيُّ الصَبىَّ، فبلغ في المدة بالاحتلام (¬1). المسألة الثالثة: للوليِّ إجارة الطفلِ ومالِهِ، أباً كان أو وصيّاً، أو قَيِّماً، إذا رأى المصلحةَ فيها، لكن لا تجاوِزُ مدةَ بلوغِهِ بالسِّنِّ، فلو أجَّره مدَّةً، فبلغ (¬2) في أثنائها؛ بأن ¬
كان ابن تسعٍ، فأجَّره عشْرَ سِنينَ، فطريقان: قال الأكثرون: يبطُلُ فيما يزيدُ عَلى مدة البلوغ، وفيما لا يزيدُ قولاَ تَفْرِيقِ الصَّفقة، وقطَع بعْضُهم بالبُطْلان، كما إذا أَجَّر الراهِنُ المرْهُون مدَّة يحل الدين قبْل انقضائها، وهذا أصحُّ عند صاحب "التهذيب" (¬1) ويجوزُ أنْ يؤجِّر مدةً لا يبلغ فيها بالسِّنِّ، وإِن احتمل أنْ يبلغ بالاحتلام؛ لأن الأصلَ دوامُ الصبا، فلو اتفَقَ الاحتلام في أثنائها، فوجهان: أَظْهَرُهُمَا: ما ذكره الشَّيْخ أبو إسحاق الشِّيرَازِيُّ والقاضي الرُّوَيانِيُّ في "الحلية": أن الإجارة تبْقَى؛ لأنَّه كان وليّاً حين تصرَّفَ، وقد بني تصرُّفُه على المصلحة فيلزم. والثاني: لا يَبْقى؛ لأنا تبيَّنا أنَّه زاد علَى مُدَّة ولايته، وهذا أصحُّ عند الإمام والمتولِّي (¬2)، ثم التعبير عن محل الخلاف بالانفساخ، أو تبيَّن البطلان كما ذكرنا في حكم المسألة. وإذا قلْنا: لا تبْقَى الإجَارَة، فيجيءْ فيما مضَى خلافُ تَفْرِيقِ الصَّفْقة. فإن قلْنا: تبقى، فهل له خيارُ الفَسْخ، إذا بلغ؟ فيه وجهان: أَظْهَرْهُمَا: لا كما لو زوَّج ابنته، ثم بلغت، لا خيار لها. والثاني، وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه: يَثْبُتُ؛ لأنَّ التصرُّف كان لمصلحته، وهو أعرف بمصلَحَتِه عنْد البُلُوغ، ويخالِف النِّكاح، فإنَّه معقودٌ للدوام. ولو أجَّر الوليُّ مال المجنون، فأفاق في أثْنَاء المدَّة، فهو في معْنى البلوغ بالاحتلام. المسالةُ الثَّالِثَةُ: إذا أكرى عَبْدًا، ثم أعتقه، نفذ؛ لأنَّ إعتاق المغصُوب والآبِقِ نافذ، فهذا أولَى، وهل تَنْفَسِخ الإجَازَةُ؟ الصحيحُ، وهو المذكور في الكتاب: أنهَا لا تنْفَسِخ (¬3)؛ لأن الذي السَّيِّد أزال ملكه (¬4) عن المنافع مدَّةَ الإجارة قبْل العتق، فالإعتاق يتناولُ ما بَقِيَ ملكًا له، وأيْضاً فإنه أجَّر ¬
ملكه ثم طرأ ما يُزِيلُ المُلْكَ، فأشْبَه ما إذا أجَّر، ثم مات. وعن صاحب "التقْريب" وَجْةٌ آخَرُ. إنَّهَا تنْفَسِخ كما إذا مات البطْنُ الأوَّل، وإذا قلْنا بالصحيح، فهل له الخيارُ، إذا أعتق؟ فيه وجهان: أَحَدُهُمَا: نعم، كما لو أُعْتِقَتِ الأمَةُ تحت الزَّوْج الرَّقيق. وأَصَحُّهُمَا: لا؛ لأنَّه تصرَّف لنفسه في خالِصِ مِلْكه، فلا وجْهِ للاعتراض علَيْه، وهذا هو المذكورُ في الكتاب، وعلَى هذا، ففي رجُوعه على السَّيِّد بأُجْرةِ المِثْل للمدَّة الواقِعَة بعْد العتْق وجهان في رواية بعْضهم، وقولان في رواية آخرين: أَحَدُهُمَا: يرجع؛ لأن المنافع تُسْتَوْفَى منْه بسببٍ من جهة السَّيِّد قَهْرًا فصار كما لو أكْرَهَهُ على العمل. وأصحّهما، وهو الجديد في روايةِ مَنْ جعَلَهُما قولَيْن: أنه لا يرجع؛ لأنَّه تصرَّف في منافعه حين كانَتْ مستحَقَّةً له بعَقْدٍ لازم، فصار كما لو زوَّج أمته، واستقَرَّ مَهْرُها بالدُّخُول، ثم أعْتَقَها لا يرجع بشيْءٍ، لما يستوفيه الزَّوْج بعد العتق، فإِن قلْنا: يرجع، فنفقتُهُ في تلْك المدَّة على نَفْسِه؛ لأنه مالِكٌ لمنفعته، وإذا قلْنا: لا يرجع، فوجهان: أحدهما: أنهَّا على السَّيِّد لإدامته الحَبْسَ عليه، ولأنَّه كالباقى علَى ملكه من حيثُ إنَّ منافعه له. وأشْبَهُهما: أنَّها في بيْتِ المَالِ؛ لأنَّ السيِّد قد زال مِلْكُه عنه، وهو عاجزٌ علَى تعهُّد نفْسه (¬1). وإذا ظهر بالعبْد عيْبٌ بعد العتق، وفسخ المستأجر الإجارة، فالمنافِعُ للعتيق (¬2) إنْ قلنا برجوعه على السَّيِّد بأجرة المِثْل، وإلاَّ، فهو له أو للسَّيِّد؟ فيه وجهان (¬3). ولو أجَّر عبده، ومات، وأعتقه الوارثُ في المدة، ففي انفساخ الإجَارَةِ ما سبَقَ منه الخِلاَف، لكن إذا قلْنا بعدم الانفساخ، فلا خلافَ هاهنا في أنه لا يرجِعُ على المُعْتق ههنا بشيْء. ولو أجر أم ولده ومات في المدة عَتَقَتْ وفي بُطْلاَن الإِجَارَةِ الخلافُ المذكُور فيما إذا أجَّر البطْنَ الأوَّل، ومات، وكذا الحكم في إجارة المعلَّق عتقُهُ بصفةِ (¬4). ¬
قال في "التَّهذيب": وإنمَّا يجوز إجارته مدَّة لا تتحقَّق وجود الصفة فيها، فإن تحقَّقَ، فهو كإجارة الصبىِّ مدةٌ يتحقق بلوغُه فيها (¬1). وكتابة العَبْدِ المأذون جائزةٌ عند ابن القَطَّان، وغيرُ جائزةٍ عند القاضي ابْنِ كج (¬2)؛ لأنَّه لا يُمْكِنُه التصرُّف لنفسه، فإن جوَّزناه، عاد الخلافُ في الخيار، وفي الرجُوع على السَّيِّد (¬3). وقوله في الكتاب في المسألة الأُولى "فالأقيس الانفساخ"، وفي المسألة الثانية "فالأقيس أنه لا ينفسخ" وجه افتراقِهِما في القياسِ أنَّ البطْنَ الأوَّل لا يلي أمر الثاني، وإنَّما هو متصرِّفٌ لنفسه، فإذا جاوَزَ حقَّه، فالقياسُ البُطْلان، وفيما إذا بلغ الصبيُّ بالاحتلام، فالوليُّ عاقد للصبىِّ مراعٍ لمصلحته، فالقياسُ إمضاء تصرُّفه، كما إذا أجر المتولِّي، وفي لقطة "الانفساخ" في المسألتين مناقشةٌ ذكرناها، وأمَّا في مسألة إعتاق العبد المكْري، فلا مناقشة فيها. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ بَاعَ الدَّارَ المُسْتَأْجَرَةَ مِنَ المُسْتَأْجِرِ صَحَّ وَلَمْ يَنْفَسِخِ الإِجَارَةُ عَلَى الأَصحِّ (و) فَيَسْتَوْفي المَنْفَعَةَ بحُكْم الإِجَارَةِ، وَكذَلِكَ يَصِحُّ لِلمُسْتَأْجِرِ إِجَارَةُ الدَّارِ مِنَ المَالِكِ كَمَا يَصِحُّ مِنَ الأَجْنَبيَ، وَقِيلَ: إنَّ الإِجَارَةَ وَالمِلْكَ لاَ يَجْتَمِعَانِ كَالنّكَاحِ والمِلكِ، وَلَوْ بَاعَ الدَّارَ مِنْ غَيْرِ المُسْتَأْجِرِ صَحَّ (و) البَيْعُ في أَقْيَسِ الوَجْهَيْنِ وَاسْتَمَرَّتِ الإِجَارَةُ إلَى آخِرِ المُدَّةِ، وَفِي اسْتِثْنَاءِ المَنْفَعَةِ عَنْ بَيْعِ الرَّقَبَةِ شَرْطاً خِلاَفٌ (و) مَأْخُوذٌ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ المُسْتَأْجَرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا باع العَيْن المستأجَرَةَ، فإمَّا أن يبيعَهَا من المُسْتأْجِرِ، أو غَيْرِهِ. القِسْمُ الأَوَّلُ: البَيْعُ من المستأْجِرِ، وهو صحيحٌ؛ لأن الملْكَ في الرقبة خالصُ حقِّه، وعقْد الإجارة إنَّما ورد على المَنْفَعَة، فلا يُمْنَعُ منْ بيْع الرَّقَبة كما أن تزويجَ الأمة لا يَمْنَعُ من بَيْعها، ثم في الإجارة وجهان: أحدهما: وبه قال ابن الحَدَّادَ أنَّهَا تنْفَسِخ؛ لأنَّه إذا ملك الرَّقَبَة، حدَثَت المنافعُ عَلَى ملكه تابعةً للرقبة، وإذا كانَتِ المنافعُ مملوكةً له، لم يبْقَ عقد الإجارة علَيْها، كما ¬
مسائل
أنه لو كان مالِكًا في الابتداء، لم يصحَّ منه الاستئجار، وهذا كالنكاح، فإنَّه كما لا يجوزُ أن يتزوَّج أمته كذلك لو اشترى زوجته، ينفسخُ النكاح، ويعبر عن هذا الوجه بأنَّ الإجارة والملْكَ لا يجتمعان. وأصحُّهما أنَّهَا لا تنفسخ؛ لأنه ملك المنافع أوَلاً ملكاً مستقراً فلا يبطل بما يطرأ مِنْ ملك الرَّقَبة، فإن كانتِ المنافعُ يتْبَعُها أولاً الملْكُ الأوَّل، كما أنه إذا مَلَك ثمرةَ غير مؤثَّرة، ثم اشترى الشَّجرة، لا يَبْطُل ملْك الثمرة، وإن كانتِ المنافع تدخُلُ في الشِّراء، لو لم يملكها أولاً، وفرَقُوا بين النِّكاحِ وما نحنُ فيه بأنَّ ملْكَ الرقَبة في النكاح يغْلِب ملك المنفعة؛ ألا تَرَى أن سَيِّدَ الأمة، إذا زوَّجها لا يجب عليه تسِلْيمها، وإنْ قَبَض الصداق، وفي الإجارةِ ملْكُ المنفعة، يَغْلِبُ ملْكَ الرقبة؛ فإنَّ المؤجِّر، إذا قبض الأجْرَةَ، يجب عليه تسليم العين، وأيضاً فإنَّ المؤجِّر، لم يكن مالكاً للمنفعة حين باع، فلا تصير تلْكَ المنافعُ ملكًا للمشتَرِي بالشِّراء، والسَّيِّد مالكٌ لمنفعة بُضْع الأمة المزوَّجة؛ ألا ترَى أنَّها، لو وُطِئَتْ بالشُّبهة، يكون المهرُ له لا للزَّوْج؟ فإذا باع تقع منافعُ البُضْع المملوكة له رقبتها، وملكها الزَّوْج بالشِّراء، فانفسخ النكاحُ، فإن قلْنا: بِالانفساخ، فهلْ يرجع المستأْجر على المؤجّر بأجْرةِ بقيَّة المدة؟ فيه وجهان: أحدُهُمَا: لا، وبه قال ابن الحدَّاد؛ لأن المنافع قائمة في يَدِه، وأيضاً، فإنَّه لو اشترَى زوْجَته، لا يسْقُطُ المَهْر. وأَصَحُّهُما: أنه يرجع؛ لأنَّ الأجرةَ، إنما تستقر بسلامة المنفعة للمستأْجِرِ عَلَى موجِب الإجارة، فإذا انفسخَتِ الإجارة، سقَطَتِ الأجرةُ كسائر أسباب الانفساخِ، ويخالفُ المهْر، فإنَّ استقراره لا يتوقَّف على سلامة المنْفَعَة للزَّوْج، بدليلِ ما إذا ماتَتْ. ولو فسخ المستأْجِرُ البَيْعَ بعَيْبٍ، لم يكُنْ له الإمساك بحُكْم الإجارة؛ لأنَّها قد انفسختْ بالشراء. ولو تلفت العيْنُ لم يرجعْ على البائع بشيءْ؛ لأن الإجارة غَيْرُ باقية عنْد التَّلَف حتى تتأثَّر به. وعلى الوَجْه الثَّاني: وهو أنَّ الإجارة لا تَنْفَسِخ بالشِّراء، ففي صورَةِ فسْخ البيع بالعيْبِ، له الإمسَاكُ بحُكْم الإجارة، ولو فسخ عقْد الإجارة، رجَع على البائع بأجرة بقيَّة المدَّة، وفي صورة التَّلَف تنْفَسِخ الإجارةُ بالتَّلَف، وحكْمُه ما سَبَقَ، وتتخرَّج على الخلاف في أنَّ الإجارة والمِلْك، هَلْ يجتمعان؟ مسائل: منْها: إذا أوصَى لزيْدٍ برقبة دارٍ، ولعمْرٍو لمنفعتها، فأجَّرها عمروٌ من زَيْدٍ، ففي
صحَّة الإجارة الوجهان (¬1). ومنها: لو مات المستأْجر، وورثه المؤجّر، ففي انفساخ الإجارة الوجهان. ومنها: لو أجر العيْنَ المستأجَرَة منَ المالِكِ، فأحد الوجهين المَنْعُ، ويُحْكَى عن ابن سُرَيْج؛ لاجتماع الإجارة والمِلْك، وأيْضاً، فإن المُكْرِيَ يطالَبُ بالتسليم مدَّة الإجارة، فإذا اكْتَرى ما أكْرَى، كان مُطَالِبَاً ومطَالَباً في عقْدٍ واحدٍ، وذلك لا يُحْتَمَل إلاَّ في حقِّ الأبِ والجَدِّ في مال الصغير وأصحُّهما، وهو المنصوصُ الجوازُ، كما يجوز أن يشْتَرِيَ شَيْئاً، ثم يبيعه مِنْ بائعه، وبهذا الوجه أجاب ابْنُ الحَدَّادِ في هذه المسأْلَةَ، وعُدَّ ذلك من مناقضاته؛ لأنَّه حكم بانْفِسَاخ الإجَارة، إذا اشتَرَى المستأجر ما استأْجَره لامتناع اجتماع الملك والإجَارة، وإنَّه لازمٌ هاهنا ولا فرْقَ بين أن يكتري ثم يَمْلِك، وبين أن يملك ثم يكْتَرِيَ. قال الشيْخُ أبو عَلِيٍّ: فإنْ قال من نصره: الاسْتِئْجارُ السابقُ لم يَمْنَع صحَّة الشراءِ اللاحِقِ، كذلك المِلْكُ السابِقُ وجب ألاَّ يَمْنَع صحَّة الاستئجار اللاحق، لكنْ تنْفَسِخ الإجَارَة، إذا حَصَلَ الاجتماع، كما انْفَسَخَتْ هناك. فالجوابُ أنَّ ما ينفسخ إذَا كانَ سابِقاً، وجب ألاَّ يصحَّ، إذا طرأ على ما لا ينقطع؛ أَلاَ تَرَى أن النكاح، لما انفسخ، إذا كَانَ سابِقاً. لم يصحَّ، إذا طرأ على الملك؟ ومنها: إذا أجَّر داراً مِنِ ابْنه، ومات الأبُ في المدة، ولا وارِثَ له سوى الابن المستأجر، وعلَيْه ديونٌ مستغرقةٌ، فيبنى أولاً عَلَى أن الخلاف في أنَّ الوارث، هل، يملك التركةَ، وهناك دَيْنٌ مستغرِقٌ؟ إن قلْنا: لا يَمْلِكُ، بَقِيَتِ الإجارة بحالها، وإن قلْنا: يَمْلِكُ، وهو ظاهرُ المذهب، فعلَى أَظْهَرِ الوجْهَين؛ لا تنفسخ الإجارة، وعلى الثاني الذي إلَيْه ابْنُ الحَدَّادِ: تنفسخ؛ لأنَّ الملك طرأ على الإجارة، كما لو طرأ بطريقِ الشراء، وادَّعَى القاضي الرويانيُّ أَنَّ هذا ظاهرُ المذهَبِ، وإذا انفسخت الإجارةُ، قال ابن الحدَّاد: الابْنُ غريم يُضَارِب بأجرة بقيَّة المدة مع الغرماء، وهو خلاف قوله في الشِّراء، أنه لا يرجع، فمِنْهم من تكلَّف له فرقَيْن: أَحَدُهُمَا: أنَّ الانفساخَ في صُورة الشِّرَاء حَصَلَ باختيار المسْتَأْجر، وفي الميراث لا صُنْع للمستأجر، فلا يَسْقُط حقُّه. ¬
والثاني: أن هناك، الإجارةُ، وإن انفسخت، فلا يَخْرُج البائع منْ يده، وههنا يخْرُج؛ لأن الدار تُبَاع في الدُّيُون، وهما ضعِيفانِ عنْد المُعْتَبَرِينَ. أما الأوَّل: فلأنَّه، لا فَرْق في سقُوط الأجرة بيْن أن يَفُوت المنافع، ويحصل الانفساخُ بفِعْله أَوْ لا بِفِعْله؛ ألاَ تَرَى أَنَّ هدْم المستأجر الدارَ كانهدامها. وأما الثاني: فلان بقاء المنافِعِ هناك ليس من مقتضى الإجارة، بل لأنَّها مملوكةٌ بالبَيْع والتملُّك بغير جهة الإجارة لا يقتضي استقرارَ عِوَض الإجارة، وهذا كما لو تقايلا البيع، ثم وهب البائعُ المَبِيعَ من المشتَرِي، لا يستقر عليه الثَّمَنُ. ولو مات [الأبُ] المؤجِّر عن ابنَيْنِ؛ أحدهما المستأجر، فعلى أظهر الوجهين؛ لا تنفسخ الإجارَةُ في شيْءٍ من الدار، وَيسْكُنُها المستأجر إلى انقضاء المدة، ورقبتها بيْنَهُما بالإرْث. وقال ابن الحَدَّاد: تنفسخُ الإجارة في النِّصْف الذي يملكه المُسْتَأْجِر، وله الرجوعُ بِنِصْف أجرةَ ما انفسخ العقْد فيه؛ لأنَّه قضيَّة الانفساخ في النِّصْف الرجوعُ بنصْف الأجْرَة، لكنه خلف ابنَيْن، والتركةُ في يدهما، والدَّيْن الذي يلحقها يوزَّع، فيخص الرَّاجِع الرُّبُع، ويرجع بالرُّبُع على أخيه فإن لم يترك الميت شيئاً سوى الدَّارِ، بيعَ من نصيب الأخ المرجُوعِ علَيْه بقَدْر ما يثبت به الرُّجُوع، وهذا مستبعدٌ عند الأئمة؛ لأن الابْنَ المستأجِرَ وَرِث نصيبَه بمنافِعِه، وأخوه وَرِثَ نصيبه مسلُوبَ المنفعة، ثم قد تكُون أجْرةُ مثْل الدار في تلْك المدَّة مِثْلَى ثمنها، فإذا رجَع علَى الأخ برُبُعِ الأجرة، احْتاج إِلَى جميع نصيبه، فيكونُ أحَدُهما قد فاز بجميع نَصِيبِهِ، وبِيعَ نصيبُ الآخر وحْده في دَيْنِ المَيِّت. قال الشيخ أبو عَلِيٍّ: ولو لم يحلف إلاَ الابْنُ المستأجرُ، ولا دَيْنَ عليه، فلا فائدةَ فِي الانفساخ ولا أثر له؛ لأنَّ الكلَّ له، سواءٌ أخذ بالإرْث، أو مدَّة الإجارة بالإجَارة، وبعْدها بالإرْث، وسواءٌ أخذ بالدَّيْن أو بالإرْث. وممَّا يلتحق بصُور الفَصْل ما لو أجَّر البطْن الأوَّل الوقْف من البطْن الثانِي، ومات المؤجّر في المدة، فإن قلْنا: لو أجَّر من الأجنبيِّ، ارتفعت الإجارةُ، فههنا أوَلى، وإلاَّ، فوجْهان من جهة أنَّه طرأ الاَستحقاق في دوامِ الإجَارَة، فأشْبَهَ ما إذا طَرَأ المِلْك. قال الإمامُ: وهذه الصورةُ أَوَلى بارتفاع الإجارة؛ لأنَّ المالك يستحِقُّ المنفعة؛ تبعاً للرقبة، والموقوفُ علَيْه يستحقُّها؛ مقصوداً لا بالتبعيَّة، وليكن هذا الترتيبُ مبنيَّاً عَلَى أنَّ الموقوفَ عَلَيْه لا يملك الرَّقَبة. أمَّا إذا قلْنا: إِنَّهُ يَمْلِكُها، فيمكن أن يُقَالَ: هو كالمالك في استحْقاق المنْفَعَة؛ تبعاً للرقبة. وقوله في الكتاب: "وقيلَ إنَّ الإجَارَةَ والمِلْكَ لا يجتمعان" يصحّ ردُّه إلى الصورتين المذكورتَيْن قبله، يعني: فينفسخ الإجارةُ، إذا باع المستأْجر من المستأْجر، ولا تصحُّ إذا أَجَّرَ المستأْجرُ ما استأجر المالك.
القِسْمُ الثَّانِي: البيْعُ من غيْر المستأْجِر، وفيه قولان: أَصَحُّهُمَا عند الأكثرين: أنَّهُ صحيحٌ (¬1)، وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله لأن الإجارة إنَّما تردُّ على المنفعة، فلا تمنع بيْع الرقبة كالتَّزْويج. وأصحُّهما عند الشيخ أبي عليٍّ بطلانُهُ؛ كبيع المرهون مِنْ غَيْر المرتهن؛ لأنَّ يد المستأجر حائلةٌ، وهما جاريان أذن المستأجر أو لم يأْذِن قاله في "التتمة". وعند أبي حنيفةَ: ينعقد البيعُ؛ موقوفاً عَلَى إجازة المستأجر، فإن إجازة، نفذ، وبطلَت الإجارة، وإنْ ردَّ، بطل. وإذا قلنا: بالصحة لم تَنْفَسِخ الإجارة كما لا ينفسخُ النكاحُ بِبَيْعِ الأمةِ المزوَّجة، ويترك في يد المُسْتَأْجر إلى انقضاءَ المُدَّة، وللمشتَرِي فسْخُ البيع، إن كان جاهلاً، وإن كان عالماً، فلا فَسْخ له، ولا أجرة لتلْكَ المدة، وكذا لو كان جَاهِلاً وأجاز، ذكره في "التهذيب" ويُشْبِه أن يكونَ على الخلاف في مدَّة بقاء الزرع، إذا باع أرضاً مزروعةً، ولو وَجَدَ المستأجر به عَيْباً، أو فَسَخ الإجارة أو عرض ما تنفسِخُ به الإجارةُ، فمنفعةُ بقيَّة المدَّة لمن تكون؟ فيه وجهان: أحدهما، وهو جواب ابن الحدَّاد، للمشتري؛ لأن الشراء يقْتَضِي استحقاق الرقبة والمنفعة جميعاً، إلاَّ أن الإجارة السابِقَةَ كانَتْ تمنع منْه، فإذا انفسخَتْ، خلُص المالُ له بحقِّ الشراء، وهذا كما إذا اشترى جارية مزوَّجة، وطلَّقها زوْجُها تكونُ منفعةُ البُضْعِ للمشتري، ولَيْسَ للبائع الاستمتاع بها، ولا تَزَوُّجها من الزَّوْج المُطَلَّق. والثاني، وبه قال أبو زيد: للبائع لأنه لم يملك المشتري منافعَ تلْك المُدَّة، وبَنَى ¬
أبو سعيد المتولِّي الوجهَيْن على أن الردَّ بالعيب يرفع العقْد منْ أصله، أو من حينه إن قلْنا: بالأول، فهو للمشتري، وكأنَّ الإجارَةَ، لم تكُنْ، وإن كان من حِينِهِ فللبائع؛ لانَّهُ لا يوجَدُ عنْد الردِّ ما يُوجِبُ الحقَّ للمشتري (¬1)، قال: لو تَقَايَلاَ الإجارَةَ، فإن جعلْنا الإقالة عقْداً فَهِيَ للبائع، وإن جعْلناها فَسْخاً، فكذلك على الصَّحيح؛ لأنَّها ترفع العقُد من حينها لا محالة، وإذا حَصَلَ الانفساخُ رُجَع المستأجر بأجرةِ بقيَّة المدة على البائع. قال القاضي ابْنُ كج: ويُحْتَمَلُ أنْ يقالَ: يرجعُ على المشتري، وليكنْ هذا مُفَرَّعاً على أنَّ المنفعةَ تَكُونُ للمشتري؛ لأنَّه رضي بالمبيع ناقصَ المَنْفعة، فإذا حَصَلَتْ له المنفعة، جاز أن يؤخَذَ منه بدَلُها، والقولان في بَيْع المُسْتأَجَر يجريان في هبته، وتجوزُ الوصيَّة به. ولو باعَ عيْنَاً، واستثنى لنفسه منفعتَهَا شهْراً أو سنَةً، ففيه طريقان: أَحَدُهُما: ويُحْكَي عن ابن سُرَيْجٍ: أنَّه على القولَيْن في بَيْع الدَّار المُسْتأجرة؛ لأنه إذا جاز ألاَّ تكونَ المَنَافعُ للمشتري مدَّة بل يكونُ للمستأجر، كذلكَ جازَ أن تكون للبائع ويدُلُّ على الجواز أن جابراً -رضي الله عنه- باعَ في بَعْض الأسْفَارِ بَعِيراً مِنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَن يَكُونَ لَهُ ظَهْرَهُ إِلَى المَدِينةِ (¬2). والثاني: القَطْعُ بالمَنْع؛ لأن إطلاق البَيْع يقتضِي دخولَ المنافع الَّتي تَمَلَّكَهَا البائعُ في العقْد، والاستشناء غير مقتضاه، فيمنع منه، وفي بَيْع المستأجر لَيْسَت المنافع مملوكة للبائع، وأيضاً، فإِنَّ استشناء المنفعة اشتراطُ الامتناع من التَّسليم الذي هو مقتضَى العَقْد، فلا يُمْكِن أن يقدَّم كون البائع نائباً عن المُشْتَرِي في اليد والقبْض، لكنْ يجوز أن تُقَام يدُ المستأجر مُقَام يد المشْتَري، ويُقَال: إنَّهُ يملك المال لِنَفْسِه بالإجارة، وللمالك ملْكُ الرقبة. والأظْهَر المَنْعُ، سواءٌ ثبت الخلاف أم لا. ويجوزُ أنْ يُعْلم لفظُ الخلاف في الكتاب بالواو للطريقة الأُخْرَى. وقوله: "مأخوذ من جواز بَيْع المستأجر" [صريحٌ في أنَّ الخلاف في جواز الاستثناء مبنيٌّ على الخلاف في صحَّة بيع المستأجر] (¬3) وكذلك ذكَره المعْظَم وزاد القاضي أبو الطَّيِّب في "شرح الفروع" فقال: تجويز الاستثناء مبنيٌّ على الوجه الذي يقول: إنَّ المنفعةَ عنْد الفَسْخِ تعُودُ إلى البائع. ¬
وعَكَسَ الإمَامُ، فقال: الخلافُ في جوازِ بيع المُسْتَأْجر مأخوذٌ من جواز الاستثناءِ، وكأنَّهُ أراد نُزُوع المسألتَيْنِ إلَى أصلٍ واحدٍ، وإِلاَّ، فالظَّاهر الأوَّل وبالله التَّوفيق وكما افتتحنا [كتاب الإجارة] (¬1) بمقدمات -فإنَّا [نختم كتابَ الإجارة] (¬2) بمؤخِّرات: إحداها: في مَسَائِلَ، هي من شَرْط الباب الأَوَّلِ. لو قال: ألزمت ذمتك نسج ثوْب صفَتُه كذا على أنْ تنسجه بنَفْسِك، لم يصحَّ؛ لأنَّ في هذا التعْيِين غررًا فإنَّه ربَّما يمُوتُ، ولهذا لم يجُزْ تعيينُ ما يؤدي منه (¬3) المسلم فيه، ويجوز أن يستأجر الأرْض بما يستأْجِر به العَبْد والثَّوْب، ولا فرْقَ بيْن الطعام وما ينبت في الأرض، إذا عيَّن، أو وصَفَ، وبين غيرها. وعنْ مالكٍ: أنه لا يجوز استئجارُ الأرْضِ بالطَّعام وإنْ لم يكن مما ينبُتُ من الأرض، كاللَّحْم، والعَسَل ولا بما ينْبُت من الأرض، وإنْ لم يكن طعاماً؛ كالقطن. وإذا استَأْجَرَ دابَّة؛ ليركبها إلى بلدة كذا بعَشَرة دنانير، فالواجِبُ نقْدُ بلد العقد. وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أن الواجب نقْدُ البَلَدِ المقصُودِ فلو كانَتْ الإجارةُ فاسدةً، فالاعتبار في أجرةِ المِثْل بموْضِع إتلافِ المنفعة، نقْدًا أو وزناً. ويجوز إجارة المصْحَفِ والكتُبِ لمطالَعَتِها (¬4) والقراءة فيها خلافاً لأبي حنيفة. ولا يجوز أن يسْتأجر برَكَةً ليأخذ منها السَّمَك، فإنه كاستئجار الأشْجار للثِّمار، ولو استأْجَرَها لِيَحْبِسَ فيها الماء حتَّى يجتمع فيها السمك جاز. وفيه وجه آخر أيضاً، ويصحُّ من المستأجر إجارةُ ما استأجرهُ بعْد القبْض، سواءٌ أجَّر بمثل ما استأجَرَ أو أقَلَّ، أو أكثر. وعند أبي حنيفةَ: إنْ أجَّره بأكثر ممَّا استأجر، لم يطلب له الربْحُ، وسبيلُه أن يتصدَّق به إلا أن يحدث فيه عمارة، فيقع ذلك في مقابلة الرِّبْح. لنا،: القياسُ علَى ما إذا باع بأكثرَ ممَّا اشتراه يطيب له الربْحُ. وفي إجارته قبْلَ القَبْض وجهان عن ابن سُرَيْج تجويزه؛ لأن القبض لا يوجبُ دُخُول المنَافِعِ في ضمانة، فلا معْنى لتوقيف العَقْد عليه، والأظهر: المنع، وعلَى هذا؛ ¬
ففي إجارته من المؤجّر وجهان، كما في البيع من البائع (¬1). والمسْتَعَارُ لا يؤاجر، فإنِ استعاره؛ ليؤجِّره، جاز في وجه، حكاه القاضي ابن كج، كما لو اسْتَعَاره؛ ليرهنه. ولو أجَّر متولِّي المسجد حانوته الخراب؛ بشرط أن يعمره المُسْتَأْجر بماله، ويكون ما أنفقه مَحْسُوباً من أجْرته، لم تصح الإجارة؛ لأنه عند الإجارة غيْرُ منتفع به. ولا يجوزُ إِجارةُ الحمَّام بشَرْط أن تكون مدة تعطيلها بسبب العِمَارة، ونحوها محسوبة على المكتري؛ لأنَّهُ تمكينٌ من الانتفاع في بعض المدَّة دون بعض، ولا يُشْتَرط أن تكون محسوبة على المكْرِي لا بمَعْنَى انحصار الإجارة في الباقي؛ لأن المدة تصير مجهولة، ولا بمعنى استيفاء مثلها بعد المدة؛ لأن نهاية المدة تصير مجهولة. ولو استأجره ليبيع له شيئاً معيناً جاز؛ لأن الظاهر أنه يظفر براغب، ولو استأجره لشيء معين لا يجوزُ (¬2)؛ لأنَّه رغبة مالكه في البَيْع غيرُ معلومة ولا ظاهرة ولشراء شيء موصوفٍ يجوز، ولبيع شيءٍ من معيَّن لا يجوز. ولو استأجره للخروج إلى بلدِ السُّلطان والتظلُّم للمستأجر، وعرْضِ حالِهِ فِي المَظَالِم ففي فتاوى القَفَّال أنَّه يستأجره مدَّة كذا؛ ليخرج إلَى موضع كذا، ويذْكُر حالَهُ في المظالم، ويسْعَى في أمره عند من يحتاج إلَيْه، فتصحُّ الإجارة؛ لأنَّ المدة معلومةٌ، وإن كان في العَمْل جهالةٌ، كما لو استأجره يوماً؛ ليخاصم غرماءه جاز. قال: ولو بَدا للمستأجر، فله أن يستعمله فيما ضَرَرهُ مثل ذلك. وحَكَى القاضي ابنُ كجٍّ عن نصِّ الشافعيِّ رضي الله عنه أنَّهُ لا تجوز إجارة الأرْضُ حتَّى يُرى لا حائل دُونَها من زَرْعِ، وغَيْرِه، وفي هذا تصْرِيحٌ بأنَّ إجارة الأرْضِ المزْرُوعة لا تصحُّ توجيهاً بأن الزَّرْع يمنع رؤْيَتَها. وفيها معْنًى آخرُ، وهو تأخُّر التسليم والانتفاع عن العَقْد، ومشابهته إجارة الزَّمان المستقبل، ويقرب منْه ما لو أجَّر داراً مشْحُونة بطعام وغيْرِه، وكأنَّ التفريع يستدعي مدَّة، ورأَيْتُ للأئمة فيما جُمِعَ من فتاوى القَفَّال فيه جوابَيْن: أَحَدُهُما: أنَّه إنْ أمكن التفْرِيعُ في مدَّةٍ ليس لمثلها أجرةٌ، صحَّ العقد، وإن لم يكنْ إلاَّ في مدة لمِثلهَا أجرةٌ، لم تصحَّ؛ لأنه إجارةُ مدَّةٍ مستقبلة. ¬
والثاني: أنَّه، إن كان يذهب في التفْرِيع مدَّة الإجارة، لم يصحَّ، وإن كان يبقى منها شيءٌ، يصحَّ، ولَزِمَ قسْطه من الأُجْرة، إذا وُجِد فيه التَّسْليم، وخرَّجوا على الجوابَيْن ما إذا استأجر دارًا ببلدة أخرى، فإنَّه لا يتأتى، التسليم إلاَّ بقَطْع المسافة بيْن البلدَيْن، وما إذا باع جمدًا وزنًا، وكان ينماع بعضه إلى أن يُوزَن (¬1). ولو استأجر للخِدْمة، وذكر وقتها من اللَّيْل والنهار، وفصَّل أنواعها، فذاك، إنْ أطلق، فقد حُكِيَ عن النص المنع، والظاهر الجَوَازُ، ويلْزَمُ ما جرت العادةُ به، وفصَّل أنواعها القاضي أبو سعيد ابْنُ أبي يوسف فقال: يدْخُلُ في هذه الإجارةِ غُسْل الثوب، وخياطَتُه، والخُبْز، والعَجْنُ وإيقاد النارِ في التَّنُّور، وعلَف الدَّابَّة، وحلْب الحَلُوبة، وخِدْمة الزَّوْجة، والغَرْس في الدار وحمْل الماء إلى الدَّار للشُّرب، إلى المتوضئ للطَّهارة، وعن سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيِّ أن عَلَف الدَّابَّة، وحَلْب الحلوبة، وخدْمَة الزَّوْجة لا يلزم إلا بالتنصيص عليها، وينبغي أن يكونَ الحُكْمُ كذلك في خياطةِ الثَّوْب، وحَمْل الماء إلى الدار، ويجوزُ أن يختلف الحكْمُ فيه بالعادة. وذكر بعضُ مَنْ شرح "المفتاح" أنه ليْسَ له إخراجُه من البلدة إلاَّ أن يشترط علَيْه مسافةً معلومةً منْ كلِّ جانب، وأن عليه المُكْثَ عنده إلى أن يَفْرَغَ من صلاة العشاء الآخرة (¬2). ولو استأجره للقيام على ضَيْعَةٍ قامَ علَيْها ليلاً ونهاراً علَى المعتاد. وإنِ استأجر؛ للخُبْز، وجب أن يتبين أنَّهُ يخبر الأقْرَاضَ، أو غِلاَظَ الأرْغِفَةِ، أو رقَاقَها، وأنَّهُ يخبز في تَنُّورٍ، أو فُرُنٍ، وآلاتُ الخُبْزِ على الأجيرِ إنْ كانتِ الإجارةُ في الذِّمَّة، وإلاَّ، فعلى المستأجر، وليْسَ على الأجير إلاَّ تسليم نفْسِه، والقولُ فيمن عليه الحَطَبَ كما في الخبز في حق الورَّاق. ولو أراد المستأجرُ أن يستبْدِلَ عنِ المنفعة شيئاً آخر، يقبضه، لم يَجُزْ، إن كانَتِ الإجارةُ في الذِّمَّة، وإن كانتْ إجارة عيْنٍ قال صَاحِبُ "التهذيب": هو كما لو أجَّر العيْن المستأجرة من المؤجّر، وفيه وجهان: ¬
الأَصَحُّ: الجوازُ، إذا جَرَى ذلك بعد القبض، ولو ضَمِن رجل العهدة للمستأجر، ففي الفتاوَى: أنَّهُ يصحُّ، ويرجع علَيْه عنْد ظهور الاستحقاق. وعن ابن سُرَيْجْ أنَّهُ لا يصحُّ ضمانُ العُهْدة، وذكر شارح "المِفْتاح" أنَّهُ لو اكترى دابَّةً ليركبها إلى فرْسَخَيْن، لم يجز حتى يبين شرقاً أو غرباً، ثم إذا بَيَّنَ جهة، فأراد العُدُول إلَى غيرها، فللمكري منْعُه؛ لأن المعيَّن قد يختص بسهولة أو أمن وبتقدير تساويهما، فقَدْ يكون للمُكْرِي غرضٌ فيه، وهذا يخالِفُ ما تقدَّم، فلْيُجْعَلْ وجهاً مُلْحَقاٌ. مؤخرة ثانية في مسائل: مِنْ شَرْطِ الباب الثاني: إذا استأْجَرَ رَجُلاً؛ ليَعْمَل مَدَّةً، كان زمانُ الطَّهارةِ، والصلاةِ، وفرائِضِها وسُنِنها الرَّواتِبِ مستثنىً، فلا ينقص من الأجْرَةِ شيْءٌ، ولا فرْقَ بيْن صلاة الجمعة وغَيْرِها. وعن ابْنِ سُرَيْج فيما رواه أبو الفَضْل بنُ عبْدَان: أنه يجوزُ له تَرْكُ الجمعة بهذا السَّبَب، والسُّبُوتُ (¬1) في استئجار اليهوديِّ تقع مستثناةٌ، إذا اطَّرَد عُرْفهم بذلك ذكره صَاحِبُ الكتاب في فتاويه (¬2). وفي "الزيادات" لأبِي عاصِمٍ العباديِّ أنه إذا أذا اسْتَأْجر حاضنة؛ لتعهُّدِ صبيِّ، فالدُّهْنُ على أبيه، فإن جرى عُرْفُ البلد بخلافه، فوجهان. وأنَّه إذا استأْجر حمالاً لحمل شيء إلى داره، وهي ضيِّقَةُ الباب، هلْ علَيْه إدْخَاله الدار (¬3)؟ فيه قولان للعُرْف، ولا يكلَّفُ أن يصْعَدَ به السطح. وأنه إذا استأجر قَصَّاراً؛ لغَسْل ثيابٍ معلومةٍ، وحملها إلَيْه حمالٌ، فأجْرَتُه عَلَى من شرط من القصَّار والمالك، فإن لم يجُرِ شرطٌ، فعلى القَصَّار؛ لأنَّهُ من تمام الغسل. وأنَّه لو استأجره لقطع أشجارٍ بقريةٍ، لم يجبْ عليه أجرة الذهاب، والمجيء لأنهما لَيْسَا من العمل. وفي شرح "المفتاح" أنَّه لو اسْتَأْجر دابةً ليركبها، ويحمل عليها كذا مَنّاً، فركبها، وحمل علَيْها وأخذ في السَّيْر، فأراد المُكْري أنْ يعلِّق عليها مخلاة أو سفرة، إما من ¬
قُدَّامِ القتب (¬1)، أو من خَلْفِه، أو أراد أن يُرْدِفَه رديفاً، كان للمستأجر منْعُهُ. ولو استأْجَرَ دابَّةً ليركبها إلَى موضَع معلوم، فركبها إلَيْه، فعن صاحب "التَّقْرِيب" أن له ردَّها إلى المَوْضِع الذي سارَ منْه إلاَّ أن ينْهَاه صاحِبُها، وقال الأكثرون: ليْسَ له الردُّ، ولكن يسلمها إلَى وكيل المالك، إنْ كان له وكيلٌ هناك، وإلاَّ، فإلى الحاكم، فإنْ لم يكنْ هناك حاكمُ فإلَى أمين، فإن لم يجدْ أميناً، ردَّها واستصْحَبَها إلَى حيث يذْهَب كالمودَعِ يُسَافِر بالوديعة؛ للضرورة، وإذا جاز له الردُّ لم يكن له الركوبُ، بل يسوقُها أو يقُودُها، إلا أن يكون بها جماحٌ لانتقاد إلاَّ بالركوب، وبمثله، لو استعار ليَرْكَب إليه قال العَبَّادِيُّ: لهُ الركوبُ [في الردِّ؛ لأنَّ الردَّ لازمٌ عليه، والإذن يتناوله بالعُرْف، والمستأْجر لا ردَّ عليه. ولو استأْجَرَ دابَّةً للركوب] (¬2) إلى موضعٍ، فجاوزه، فعليه المسمى لما استأجر له، وأجرةُ المِثْلِ؛ لما زاد، ويصيرُ ضامِناً من وقت المجاوَزَة، حتَّى إذا ماتت، لَزِمَه أقْصَى القيمة منْ حينئذ، إنْ لم يكن صَاحِبُهَا معها، ولا يبرأ عن الضَّمان بردِّها إلَى ذلك المكان، وإن كان صاحبُها معها، فإن تلِفَتْ بعدما نَزَل، وسلَّمها إلى المَالِكِ، فلا ضمان عليه، وإنْ تَلِفَتْ، وهو راكبٌ، نُظِر؛ إن تلِفَتْ بالوقوع في بئْرٍ ونحوه، ضمِنَ جميع القيمة، فإنْ لم يحدُثْ سببٌ ظاهرٌ، فقد قيل: يلْزَمُه جميعُ القيمة أيضاً. والأصحُّ: أنه لا يلزمُهُ الكلُّ؛ لأن الظاهرَ حُصُول التلف بكثرة التعب، وتعاقُب السير حتَّى لو أقام في المقْصِد قدر ما يزُولُ فيه التَّعَب، ثم خرَجَ منْ غير إذْن المالك، ضَمِن الكلَّ، وعلَى هذا؛ فالتَّلَف حَصَلَ من حقٍّ وعدوانٍ، فيلزمُه نصْفَ الضمان، أو ما يقتضيه التَّوْزِيع على المسافتين؟ فيه قولان، كما ذكرنا فيما إذا حَمَل فوق المشروط، وإنِ استأجرها؛ ليَرْكَب ويعود فلا يلزمُهُ؛ لما جاوز أجْرَةَ المثل؛ لأنَّه يستحقُّ أن يقْطَع قدْر تلْكَ المسافة ذهاباً وإياباً؛ بناءً على أنه يجوز العدُولُ إلَى مثل الطَّريق المعيَّن (¬3). ثمَّ إن قدر في هذه الإجارة مدَّة مقامه في المَقْصد، فذاك، وإلاَّ فإنْ لم يزدْ على مدة المسافِرِينَ، انتفع بما في الإياب فإن زاد حسبت (¬4) الزيادة عليه وإنْ إسْتأْجَر دابة إلى عَشَرة فَرَاسِخَ، فقطع نصْف المسافَةِ، ثم رَجَع لأخذ شيْءٍ نَسِيَه راكبًا، انتهتِ الإجارة، ¬
واستقرَّت الأجرة؛ لأنَّ الطريق لا يتعيَّن، وكذا لو أخذ الدابَّة، وأمْسَكَها في البَيْتِ يَوْماً، ثُمَّ خَرَجَ، فإذا بَقِيَ بيْنَه وبين المقْصِدِ يوْمَ استقرَّت الأجْرةُ، ولم يكنْ له الركوبُ، وكذا لو ذَهَبَ في الطريق؛ لاِسْتِقَاء ماءٍ، أو شراء شيء يُمْنَة ويسرة كان محسوباً من المدَّة، ويترك الانتفاع إذا قرب من المقْصِد بقدره. ولو دَفَع ثَوْباً إلَى قصَّار ليقصره بأجْرةٍ، ثم جاء، واسْتَرْجعه، فقال: لم أقصره بعْدُ، فلا أردّه وقال صاحبُ الثَّوْب: لا أريدُ أنْ تقصره، فارْدُدْه إلَيَّ فلم يردَّ وتَلِفَ الثوب عنده، فعلَيْه الضمان، فإنْ قصره وردَّه، فلا أُجرَةَ له، وعلى هذا قياسُ الغزل عنْد النَّسَّاج ونظائره (¬1)، ولو اسْتَأجره، ليكتُب صَكَّاً على هذا البياض، فكتبه خطأً. قال في العَبَّادِيُّ: عليْهِ نِقصانُ الكاغِدِ، وكذا لو أمَرَه أن يكتب بالعربيَّة، فكَتَبَ بالعجميَّة، أو بالعَكْس (¬2). وذكر العباديُّ في "الزيادات" أنه إذا استأجر دابَّةً، ليحمل الحنطة في موْضع كذا إلَى داره يوماً إلى الليل، فركبها في عَوْده، فعطبت الدابَّةُ، ضَمِن؛ لأنَّه اسْتأجرها للحَمْل لا للرُّكُوب، وقِيلَ: لا يضمن للعُرْفِ، وأنه الأكار لو تعمَّد ترْكَ السَّقْي، والمعاملةُ صحيحةٌ حتى فسد الزَّرْع، ضَمِن؛ لأنه في يده، وعَلَيه حفْظهُ. وفي فتاوى القَفَّال: أنَّه إذا تَعدَّى المُسْتَأْجر بالحَمْل على الدابَّة، فقَرَّح ظَهْرَها، وهلَكَتْ منْه، لزمه الضمان، وإن كان الهلاكُ بَعْد الردِّ إلى المالك. مؤخرةٌ ثالثةٌ في مسائل مِنْ شَرْط الباب الثالث من المنثور للمُزَنِيِّ أنَّه لَوِ استأْجَر لخياطةِ ثوْبٍ، فخاط بعْضَه، واحترق البعْض، استَحَقَّ الأجرة لما عَمَلْ. وإنْ قلْنا: ينْفَسِخ العقد بتَلَفه، استحق أجرة المثل، وإلاَّ، فقِسْطُه من المُسَمَّى. وأنه لَوِ استأْجَرَ لحَمْل حبٍّ إلَى موْضعٍ مَعْلُومٍ، فَزَلِقَتْ رِجْلُه في الطَّريق، وانكسر الحَبُّ لا يستحقُّ شَيئاً منَ الأُجْرة. وفرق بينهما بأنَّ الخياطة تظْهَر على الثَّوْب، فوَقَعَ العملُ مُسَلَّماً بظهور أثَره، والحمل لا يظْهَر أثره على الحَبِّ (¬3). ¬
ولو أَجَّر أرضاً إجارة صحيحةً، ثمَّ غَرِقَتْ بسيل، أو ماءٍ نَبَعَ منها، نُظِر؛ إنْ لم يتوقَّع الخسارة مدة الإجارة، فهُوَ كما لو انهدمَتِ الدار، وإن توقَّع فللمستأجر الخيارُ بيْن الفسخ والإجارة، أما لو غصبت العيْن المستَأْجَرة، فإنْ أجاز، سقَطَ عنه من الأجرة بقدر ما كان الماءُ مُسْتِوياً علَيْهَا، وإنْ غَرِق نِصْفها فقد مضى نصْفُ المدة، انفسخ العقْد فيه، والظاهرُ أنَّهُ لا ينفْسَخِ في الباقي، ولكنْ له الخيارُ فيه، وفي بقية المدة، فإنْ فسخ، وكانتْ أجرةُ المدَّة لا تتفَاوت، فعلَيْه نصفُ المسمَّى للمدة الماضية وإن أجاز، فعليه ثلاثةُ أرباعِ المسمَّى: النصْفُ للمدَّة الماشية، والربع لما بقي. وتعطل الرحى؛ لانقطاع الماء، والحمَّام؛ لِخَلَلٍ في الأبنية، وانتقاص الماء في بئْره كانهدام الدَّار، وكذا إذا استأْجَر قناةً، فَانقطع ماؤُها، ولو انتقص، ثَبَت الخيار، ولم ينْفَسِخ العقْد، ذكره في شرح "المُفْتَاح"، ومهْما ثبَتَ الخيار بسَبَب يقتضيه، فأجاز ثم بدا له أنْ يفْسَخ، نُظِر إنْ كان السَّبَب بحيث لا يُرْجَى زواله؛ كما إذا انقطعَ الماءَ، ولم يتوقَّع عوده، فلَيْسَ له الفسخ؛ لأنه عيْبٌ واحدٌ، وقد رضي به، وإنْ كان بحَيْثُ يُرْجَى زواله، فله الفسخ ما لم يزل؛ لأنَّه يقدر كلّ ساعة زواله، فيتجدَّد الضرر، وهذا كما إذا تركت الزوجة المطالبة بعْد مضيِّ مدة الإيلاء، أو الفسخ بعد ثُبُوتِ الإعسار، فلها العَوْد إليه، وكذا لو اشترى عَبْداً، فأَبقَ قبل القَبْض، وأجاز ثم أراد الفَسْخ، فله ذلك ما لم يَعُد العَبْد. ولو استأْجَر طاحونَتَيْنِ متقابلَتَيْن، فانتقص الماءُ، وبقي ماءَ تدُور به إحداهما، ولم يفسخ. قال العبَّاديُّ: يلزمه أجرةُ أكثرهما وقال في "التتمة": إنَّه لو دَفَع غزلاً إلى نُسَّاجٍ، واستأْجره لنَسْج ثوب طوُلُه عشَرةُ أذْرُعٍ في عرض معْلُوم، فجاءه بالثَّوْب وطُوله أحدَ عَشَر لا يستحقُّ شَيْئاً من الأُجْرة؛ لأنَّه في آخر الطاقة الأولَى من الغزل، صار مخالفاً لأمره، فإِنَّه إذا بلغ طولُها عَشَرةً، كانَ من حَقَّه أَنْ يَقْطعها، لتعود إلى المَوْضع الَّذي بدَأَ منْهُ، فإذا لم يفْعَل، وقع ذلك وما بعْدَه في غَيْر الموْضِع المأْمُور، وإنْ جاءَ به، وطُوله تسعةً، فإن كان طُول السّدي عشرة، استحقَّ من الأُجْرَةِ بقَدْرِه؛ لأنَّه، لو أراد أَنْ ينسج عشرةً؛ لتمكن منْه، وإنْ كَانَ طُولُه تسعةً، لم يستحقَّ شَيْئاً؛ لمخالفته في الطَّاقة الأُولَى ولو كان الغَزْل المدْفُوع إلَيْه مسدى فأستأْجَره كما ذكَرْنا، ودَفَع إلَيْه من اللَّحْمة ما يَحْتَاج إلَيْه، فجاء به أطْوَل من العرْض المَشْروط، لم يستحقَّ للزَّيادة شَيْئاً، وإنْ جاءَ به أقْصَر مَن العَرْض المشْرُوط، اسْتحقَّ بقدره من الأجرة، وإن وَافَقَ في الطُّول، وخالف في العَرْض، فإن كان ناقصاً، نُظِر؛ إن كان ذلك لمجاوزته القدر المشروط من الصَّفَاقة، لم يستحقَّ من الأجرة شيئاً؛ لأنَّه مفرِطٌ بمخالفته أمره، وإنْ راعى المشْرُوط في صفة الثَّوْب رقَّةً وصفاقةً، فله الأجرة؛ لأن الخَلَلَ، والحالةُ هذِهِ، من السّدي فإن كان أزَيدَ، فإنْ أخلَّ بالصَّفاقة، لم يستحق شيئاً، وإلاَّ استحق الأجرةَ بتمامها؛ لأنه زاد خيراً.
فرع
فرع: بَيْعُ الحديقة التي ساقَى علَيْها في المدَّة يشبه بيْعَ المستأجر، ولم أر له ذكراً نعم في فتاوى صاحبِ "التَّهْذِيب" أنَّ المالِكَ، إن باعها قَبْل خُرُوج الثمرة، لم يصحُّ؛ لأن للعامِلِ حقّاً في ثمارها، فكَأنَّه قد استثنى بعض الثَّمرَة، وإن كان بعد خروح الثَّمَرة، صح البيع في الأشجار، ونصيب المالِكِ منَ الثمار، ولا حاجة إلَى شَرْط القَطْع؛ لأنَّها مبيعة مع الأصول، ويكون العاملُ مع المشتري كما كان مع البائع، وإنْ باع نصيبه من الثمرة وحْدَهَا، لم تصحَّ للحاجة إلى شرط القطْع وتعذُّره في الشائع (¬1)، واللهُ أَعْلَمُ. ¬
كتاب الجعالة
كِتَابُ الجعَالَةِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ: مَنْ رَدَّ عَبْدِي الآبِقَ فَلَهُ دِرْهَمٌ مَثَلاً، وَهِيَ صَحِيحَةٌ وَأَرْكَانُهَا أَربَعَةٌ: الأَوَّلُ: الصَّيغَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الإِذْن في الرَّدِّ بِشَرْطِ عِوَضٍ، فَلَوْ رَدَّ إِنْسَانٌ ابْتِدَاءٌ فَهُوَ مُتَبَرِّعُ فلاَ شَيْءَ لَهُ (ح م)، وَكَذَا إِذَا رَدَّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ نِدَاءَهُ فَإِنَّهُ قَصَدَ التَّبَرُّعَ، وَإذَا كَذَّبَ الفُضُولِيَّ وَقَالَ: قال فُلاَنٌ مَنْ رَدَّ فَلَهُ دِرْهَمٌ فَلاَ يَسْتَحقُّ الرَّادُّ عَلَى المَالِكِ وَلاَ عَلَى الفُضُولِيِّ لأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ قَالَ الفُضُولِيُّ: مَنْ رَدَّ عَبْدَ فُلاَنٍ فَلَهُ دِرْهَمٌ لَزِمَهُ لأَنَّهُ ضَامِنُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مِنَ الأصحاب مَنْ أَوْرَدَ هذا البابَ في هذا الموْضِع، ومنْهمِ صاحِبُ "التَّهذيب" وجمهورُهم أورده في آخر "باب اللُّقَطَةِ" ولكلٍّ مناسبةٌ، فالأول لأنَّ للجَعَالة شبهاً ظاهراً بالإجارة. والثاني: لأنَّ الحَاجةَ إلى هذا العَقْدِ في الأغلَب تقَعُ في الضَّوَالِّ والعبيد الآبقين، فحَسَنَ وصْلُه باللُّقطَة. والجَعَالَةُ في اللُّغة (¬1): ما يُجْعَلُ للإنسان على شيْءٍ يفعله، وكذلك الجُعْل والجَعِيلةَ، وأمَّا في الشَّرْعِ فصورةُ عقْدِ الجَعَالَةِ أنْ يقولَ: مَنْ ردَّ عَلَىَّ عبْدي الآبِقَ أو ¬
دابَّتِي الضَّالَّةَ (¬1)، فله كذا، وهو صحيح، لمسيس الحاجةِ إلَيْه في الأعمال المجهولة واستأنسوا له بقَوْلِهِ تعالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ثم إن صاحب الكتاب أوْدَعَ مسائِلَه فصلَيْنَ: أَحَدُهُمَا: في أركان الجَعَالَةُ وعدَّها أربعةً أحدها: الصيغةُ الدالَّةُ عَلى الإذْن في العمل بعَوَضٍ يلتزمه، فلو أَبَقَ عبْدٍ إِنسانٍ، أو ضلَّت دابَّتُه، فرده غَيْره بغير إذنه، فلا شيْءُ لهُ سواء، كان الرَّادّ معْرُوفاً بردِّ الضّوَال أو لم يكنْ، خلافاً لمالكٍ حيث قال: إنْ كان معروفاً أنَّه يستحقُّ أُجْرَةَ المِثْلِ، ولأبي حنيفة رضي الله عنه حيثُ قال فلا شيء له، سواء كان الراد معروفاً برد الضوال، أو لم يكن؛ خلافاً لمالك حيث قال: إن كان معروفاً به استحق أجرة المثل، ولأبي حنيفة حيث قال: في العبد خاصةً إن ردَّه من مسافة ما دون ثلاثةٍ أيَّام، استحق أُجرة المثل، وإن ردَّه من مسافةِ ثلاثَةِ أيَّام أو أكثر، فإنْ لم يَكُنْ معروفًا بردِّ الآبقين، لم يستحقَّ شيئاً، وإن كان معْرُوفاً به، استَحَقَّ أربعِينَ درْهماً استحساناً؛ إلاَّ أنْ تكونَ قيمتُهُ أقَلَّ مِنْ أَربَعِينَ، فيستحِقُّ قدر قيمته ناقصاً بدرهم، ولأحمد؛ حَيْثُ قال: يستحقُّ في ردِّ الآبقِ دِيناراً، سواءٌ كان معروفًا بذلك، أو لم يكن. لنا: أنَّه عملٌ لم يَلْتَزِم له المالك عِوَضاً، فيقع تبرُّعاً كما لو لم يكن معروفاً بالردِّ، وكما لو ردَّ غير العبد. ولو قال لواحد: رُدَّ آبِقِي، ولك كذا، فردَّه غَيْرُه لم يستحِقَّ شيئاً؛ لأنَّه لم يشتَرِطْ للغير ذلك المعيَّن، نعم، رَدُّ عبده كردِّه في استحقاق الجُعْل؛ لأنَّ يَدَهُ كَيَدِهِ. ولو قال: من رَدَّه، فله كذا، فردَّه من لم يَسْمعْ نداءه، لم يستحقَّ شيئاً؛ لأنّه قصَدَ التبرُّعَ، فإنْ قَصَدَ العِوَضَ، لاعتقاده أنَّ مِثْلَ هَذَا العملِ لا يحبط ويستحقُّ به الأُجرَة، فكذلك، وعن الشيخِ أَبي مُحَمَّدٍ تردُّد فيه؛ لأنَّه حصل المقصُود، وشَمِلَهُ اللفظ بعمومه،. والظاهر الأوَّل، ولا عبرةَ باعتقاده، وكذلك لو عيَّن واحداً، فقال: إن ردَّه فلان، فله كذا، فردَّه غير عالم بإذنه والتزامه، وإن أَذِن في الرَّدْ، ولم يلتزم العوضَ، ¬
فلا شيء للرادِّ. هذا ظاهر النَّصِّ، وفيه الخلاف المذكورُ فيما إذا دَفَع ثوباً إِلى غَسَّالٍ ليغسله، فغسَله، ولم يجْرِ للأُجَرة ذكر. ولا يشترط أن يكون الملتزمُ مَنْ يقع العمَلُ في ملكه، بل لو قال غيرُ المالك: مَنْ ردَّ عبْدَ فلان، فله كذا، استحقَّه الرادُّ عليه؛ ووجِّه ذلك بأنه التزمه، ولَيْسَ كما إذا التزم الثَّمَنَ في بيْعِ غيره، والثوابَ علَى هبة غيره؛ لأنَّه عِوَضُ تمليك، فلا يُتصوَّر وجوبُه عَلَى غير مَنْ حَصَلَ له المِلْكُ، والجُعْلُ ليْسَ عوضَ تمليكٍ، ولو قال فضوليٌّ: قال فلان: مَنْ ردَّ عبْدي، فله كذا، لم يستحقَّ الرادُّ على الفضوليِّ؛ لأنَّه لم يلتزمْ، وأمَّا المالكُ، فإن كذبَ الفضوليُّ عليه، فلا شيء عليه [أيضاً، وكان مِنْ حقِّه الرادِّ أنْ يثبتَ، وإن صَدَق. قال في "التَّهذيب": يثْبُت الاستحقاقُ علَيْه، وكان هذا] (¬1) فيما إذا كان المخبر ممن يعتمد على قوله، وإلاَّ، فهو كما لو رَدَّ غير عالم بإذنه والتزامه (¬2)، ولا فَرْقَ في صيغة المالِكِ بيْن أن يقولَ: منْ ردَّ عبدي، وبيْن أن يقولَ: إنْ ردَّه إنسانٌ، أو إن ردَدتُة، أو: رُدَّه، ولك كذا. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّانِي: العَاقِدُ. وَشَرْطُهُ أَهْلِيَّةُ الإِجَارَةِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ تَعِيينُ العَامِلِ لِمَصْلَحَةِ العَقْدِ وَكَذَلِكَ لاَ يُشْتَرَطُ القَبُولُ (و) قَطْعاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يلتزم الجُعْلِ ينبغي أنْ يكونَ مُطْلقَ التصرُّف، وإليه أشار بقوله: "وشُرطه أهليَّةُ الإجارة" وإنّما خَصَّ الإجارةَ بالذكر؛ لأنَّها أشْبَه بالجعالة من البَيْع وغيره؛ لأنَّ كلَّ واحدةٍ منْهما مقابلةُ منفعةٍ بمالٍ، والعاملُ يجوز أَنْ يكون شخْصاً معيَّناً، أو جماعةً معيَّنينَ، ويجوزُ إلاَّ يكونَ كذلك، وقد بان مثالُ القسْمَيْن في الفصْل السابق، وإنَّما احْتُمِلَ إبهامُ العامِل؛ لأنَّ ردَّ الآبق وما في معناه قدْ لا يتمكَّن منه معيَّن، ومن يتمكَّن [منه] ربما لا يكون حاضرًا، وربَّما لا يعرفُه المالكُ، فإذا أطْلَق الاَشْتِراط، وشاع ذلك يسارع من يتمكَّن منه إلى تحصيل العوض (¬3)، فاقتضتَ مصلحةُ العقدْ احتماله، ثم إذا لم يكُنِ العاملُ معيَّناً، فلا يُتَصَوَّرُ للعقْد قَبولٌ، فإنْ كان معيَّناً فلا يُشْترَط قبولُه أيضاً على المشْهور، ويكْفي الإتيانُ بالعمل. وقال الإمامُ: لا يمتنع أنْ يكونَ كالوَكِيل في اشْتِراط القَبُول. فيجوز أنْ يُعْلَمَ لذلك قولُه في الكتاب: "لا يُشْتَرط القَبُولُ" بالواو، وقولُه: ¬
"وكذلك" أراد لرعاية مِصْلحة العقْد، وليشترطْ عنْد التعْيين أهليةُ العمل في العامل (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّالِثُ العَمَلُ وَهُوَ كُلُّ مَا يُسْتَأْجَرُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولاً فَإِنَّ مَسَافَةَ رَدِّ العَبْدِ قَدْ لاَ تُعْرَفُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ (ز) الجَهْلُ بَلْ لَوْ قَالَ: مَنْ خَاطَ ثَوْبِيِ أَوْ مَنْ حَجَّ عَنِّي فَلَهُ دِينَارٌ اسْتُحِقَّ (ز) لأَنَّهُ إِذَا جَازَ مَعَ الجَهْلِ فَمَعَ العِلْمِ أَوْلَى، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إلاَّ عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ما لا يجوز الإجارةُ علَيْه من الأعمال لكونه مجهولاً تجوز الجَعَالةُ عليه؛ لأنَّ مسافةَ ردِّ الآبق قد لا تعرف فتدْعُو الحاجة إلى احتمال الجَهَالَةِ فيه، كما لا تدْعُو إلى احتمالها في العامِلِ، وإذا كنا نحتمل (¬2) الجهالةَ في القِراضِ؛ لتحصيل زيادة، فَلأَنْ نحتملها في الجعالة أولَى. وأمَّا ما تجوز الإجارة عليه، ففي جواز الجَعَالَةِ عليه وجهان، سبق ذكرهما في الحج، والأصَحُّ: الجوازُ، وقدْ ذكرنا هناك ما يقتضي إعْلامَ قوله: "ولا يُشْتَرَطُ الجَهْلُ" بالزاي، وكذا قوله: "اسْتحق". ولو قال: من ردَّ على مالِي، فله كذا، فردَّه عليه مَنْ كان في يَدِه، نُظِرَ، إن كان في ردِّه كلفةٌ ومؤنةٌ؛ كالعبد الآبق، استحق الجُعْل، وإنْ لم يكنْ كالدراهم والدنانير، فلا، لأنَّ ما لا كلفةَ فيه، لا يُقَابَلُ بالعِوَض. ولو قال: من دلَّني عَلَى مالي، فدَلَّه مِنَ المالُ في يده، لم يستحقَّ الجُعَلْ؛ لأنَّ ¬
ذلك واجبٌ علَيْه بالشَّرْع، فلا يجوز أخْذُ العِوَض عليه، وإنْ كان في يَدِ غيرِه فدَلَّ عليه، استحق؛ لأنَّ الغالبَ أنَّه يلحقه مشقَّةٌ في البَحْث عنه. وفيما حكيناه ما ينبئك أنَّ ما يُعْتبر في العَمَلِ لجواز الإجارة يُعْتَبَر لجواز الجعَالَةِ سوى كونه معلُوماً (¬1)، وربَّما فُهِم ذَلك مِنْ قوله: "وهو كلُّ ما يستأجر علَيْه، وإن كان مَجْهولاً". قَالَ الغَزَالِيُّ: الرَّابعُ: الجُعْلُ وَشَرْطُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُوماً مُقَدَّراً كَالأُجْرَةِ فَلَوْ قَالَ: مَنْ ردَّ مِنْ بَلَدِ كَذَا فَلَهُ دِينَارٌ فردَّ من نِصْفِ الطَّرِيقِ، اسْتَحَقَّ النِّصْفَ أَوْ مِنَ الثُّلُثِ اسْتَحَقَّ الثُّلثُ، وَلَوْ رَدَّ مِنْ مَكَانٍ أَبَعْدَ لَمْ يَسْتَحِقَّ زِيَادَةً لأَنهُ لَمْ يَشْتَرِطْ، وَإنْ قَالَ: مَنْ ردَّ فَلَهُ دِينَارٌ فَاشْتَرَكَ فِيهِ اثنَانِ فَهُوَ لَهُمَا، فَإِنْ عَيَّنَ وَاحِداً فَعَاوَنَهُ غَيْرُهُ لِقَصْدِ مُعَاوَنَةِ العَامِلِ فَالكُلُّ لِلعَامِلِ، وَإِنْ قَصَدَ طَلَبَ أُجْرَةٍ فَلاَ شَيْءَ لَهُ وَلِلعَامِلِ نِصْفُ دِينَارٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يجبُ أن يكون الجُعْلُ المشْروطُ مَعْلوماً كالأُجْرة، فإنَّه لا حاجةَ إلى احتمال الجَهَالة فيه، بخلاف العَمَل، وأيضاً، فإِنَّه لا يكادُ يَرْغَب أحدٌ في العمل، إذا لم يعلَمْ بالجُعْلِ، فلا يَحْصُلُ مقصود العقْدِ، فإن شرط جُعْلاً مجهولاً؛ بأن قال: مَنْ ردَّ آبقي، فله ثوبٌ أو دابَّةٌ، أو إنْ رددتُه، فعلي أن أُرضِيَكَ أو أُعْطِيَكَ شيئاً، فسد العقد والمستحَقُّ بالعمل أُجرة المثل، وكذا لو جَعَلَ الجُعْلَ خمراً أو خنزيراً، ولو جَعَل الجُعْلَ ثوباً مغصوباً، ذكر الإمامُ احتمالَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُخرِّجه على القَوليْنِ فيما إذَا جَعَلَ المغْصُوب صَدَاقاً، حتَّى يرجع في قولٍ إلَى قيمة ما يقابل الجُعْل، وهو أجرةُ المِثْل، وفي قول إلَى قيمة المسمَّى. وثانيهما: القطْعُ بأُجرةِ المِثْل؛ لأنَّ العِوَضَ ركْنٌ في هذه المعاملة؛ بخلاف الصداق، ولو قال: من رَدَّ عبْدِي، فله سَلَبُهُ أو ثِيَابُهُ قال في "التتمة": إن كانتْ معلومةً أو وصفها بما يفيدُ العِلْمَ، فللرادِّ المشروطُ، وإلاَّ، فله أُجْرَةُ المِثْل، فإنْ قال: فله نِصْفُهُ أو رُبْعُهُ، فالجوابُ في "التتمة" الصِّحةٌ، وفي "أمالى" أبي الفرج السرخسيِّ المنعُ، وهو قريبٌ من استئجار المرْضِعة (بجزء) من الرقيق الرَّضيع بعد الفِطَام، ثم في الفصْلِ مسألتان: الأولَى: لو قال: منْ رَّد عبْدِي من بلَدِ كذا، فله دينارٌ، فيجيء أولاً فيه الخلافُ المذكورُ في أنَّ العَمَلَ المعلومَ، هَلْ يجوزُ فيه الجَعَالة. إنْ قلْنا: نعم، وهو الأصَحُّ فمَنْ ردَّه من نصف الطريق، استحق نِصْفَ الجُعْلِ، ¬
ومن ردَّه من ثُلثه، استحقَّ الثُّلُثَ، وإن ردَّه مِنْ مكان أبْعَد، لم يستحقَّ زيادة؛ لأنَّهُ لم يلتزم وإنْ قال: إن رددتُّما عبْدِي، ملكما كذا، فردَّه أحَدهُمَا، استحقَّ نصف الجعل؛ لأنه لم يلتزمْ له أكثر من ذلك ولو قال: إنْ رددتُّما عَبْدِي، فرد واحد منهما أحدَ العَبْدَيْنِ (¬1) لم يستحقَّ إلاَّ الرُّبُعَ. وفي هذه الصُّورة شُبْهةٌ؛ لأنَّه الالتزامَ معلَّقٌ بالرَّدِّ مِنْ ذلك البلد، وبرد العبدين، ولو توزَّع الجعل في الجعَالَةِ على العَمَل، لا يستحقُّ النصْفَ، إذا ردَّ من ذلك البَلَد إلَى نصْفِ الطَّريقِ، ولما وقَع النَّظَر إلَى كونه المأتى به نافعاً أو غيرَ نافعٍ، كما في الإجارة. الثانية: قال: من، ردَّ عبْدي، فله كذا، فاشترك في ردِّه اثنان أو جماعةٌ، فالجُعْلُ مشتَرَكٌ. ولو قال لنَفَرٍ: إنْ رددتُّمْ عبدي، فلكم كذا، فردُّوه، فكذلك، ويقسم بيْنَهُم على عددِ الرؤوس؛ لأنَّ العَمَلَ في أصْلِه مجهُولٌ، ولا نظَر إلَى مقدارِه في التوزيع، قال الإمامُ: لا يبعُدُ أن يُقَال: إنَّما يدفعُ الجُعْلَ إليهم عند تمام العَمَل، وحِيْنَئذٍ، فقد انضبط العَمَل، فيوزَّع على أجور أمْثَالِهِمْ. ولو قال لزَيْدٍ: إن رددتَّه، فلك دينارٌ، فردَّه بشركة غيره، فلا شيْءَ عليه لذلك الغير؛ لأنَّهُ، لم يلتزِمْ، وأمَّا زيْدٌ فإن قصد الغير معاونَتَه، وإمَّا بعوض أو مجَّانَاً، فله تمامُ الجَعْل؛ لأنَّه قد يحتاج إلَى استعانة بالغير، ومقصود المالك ردُّ العبد بأىِّ وجهٍ أمْكن، فلا يُحْمَل لفظه عَلَى قِصَر العمل على المخاطب، ولا شيْء لذلك الغَيْر على زيد، إلاَّ أنْ يلتزمَ أُجْرَةً، ويستعين به، وإن قال: عملْتُ للمالك، لم يكنْ لزَيْدٍ تمامُ الجُعْلِ. قال الإمامُ: ويُعْتَرضُ بالنَّظَرِ في أنَّ التَّوزيعَ على الرؤوس أو على قدر العمل؟ ورأْيُ الظاهرِ التوزيعُ على العمل، لكنَّ المشهورَ الأوَّلُ، وعلى ذلك ينطبقُ قولُهُ في الكتاب: "وللعامل نصْفُ دينارٍ". وليس قوله: "وإنْ قَصَدَ طلبَ أُجْرَة" لتخصيص الحكم به، فإنَّهُ إذا قصد العَمَلَ للمالك، فلا فرْقَ بين أن يقصد الشركة في الجُعْل، وبيْن أنْه يقصدَ التبرعِ، ولا شارَكه اثْنَانِ في الرَّدِّ، فإنْ قصد إعانة زيْدٍ، فله تمامُ الجُعْلِ، وإن قصَدَ العَمَلَ للمالِك، فله ثُلُثُه، وإن قصَدَ أحدُهُما إعانتَه، والآخَرُ العمَلَ للمالِك، فله الثُّلُثَانِ، وقد خَطَر بالبالِ هاهنا أنَّ العاملَ المُعيَّنَ، هل يُوَكِّل الغير؛ لينفرد بالردِّ كما يستعينُ به، وأنَّه إذا كان النداءُ عامَّاً، فوكَّل رَجُلٌ غيْرَه، لِيَرُدَّ له، هل يجُوز؟ ويشبه أنْ يكونَ الأولُ كتوكِيْلِ الوَكِيل. ¬
والثَّاني: كالتَّوْكيل بالاحتطاب والاستقاء (¬1). ولو قال لواحدٍ: إِنْ رددَّته، فلك كذا ولآخر: إن رَددتَّهُ، فلك كذا، ولثالثٍ: إن رددَّته، فلك كذا، فاشتركوا في الردِّ. قال الشافعيُّ رضي الله عنه لكلِّ واحدٍ منْهم ثلثُ ما جعل لهُ اتَّفقتِ الأجْعَالُ أو اختلَفَتْ. قال المَسْعُودِيُّ: وهذا إذا عَمِل كلُّ واحدٍ منهم لنَفْسه، أمَّا إذا قال أحدُهُم: أَعَنْتُ صاحِبِي، وعمِلْتُ لهما، فلا شَيْءَ لهُ، ولكلِّ واحدٍ منْهُما نِصْفُ ما شَرَطَ له، ولو قال اثنانِ: عَمِلْنا لصاحِبَنا، فلا شيْءَ لَهُمَا ولَهُ جميعُ المَشْروط له، ثم في الحُكْم بأنِ لكلِّ واحدٍ منْهما الثُلُثَ تصريح بالتوزيع على عددِ الرؤوس، وعلى هذا فلو ردَّه اثنان منْهم، فلكلِّ واحدٍ منْهما نِصْفُ المَشْرُوطَ له وإن أعانهم رابعٌ في الردِّ، فلا شَيْءَ لَهُ، ثم إنْ قال: قَصَدتُّ العملَ للمَالِك فلكلِّ واحدٍ من الثلاثةِ رُبُعُ المَشْروط له. وإنْ قال: أعَنْتُهُمْ جَمِيعاً، فلكلِّ واحدٍ منْهم ثُلُثُ المشْروُط، كما لو لم يكنْ معهم غَيْرُهُمْ. وإن قال: أَعَنْتُ فُلاَناً، فلَهُ نِصْفُ المشْرُوط له، ولكلِّ واحدٍ منَ الآخرين رُبُعُ المَشْروط له، وعلَى هذا القياس؛ لو قال: أَعَنْتُ فلاناً فلاناً، فلكلِّ واحدٍ منهما رُبُعُ المَشْروط له وثمنه، وللثَّالث رُبُعُ المَشْروط له. ولوْ قالَ لواحدٍ: إنْ رددته، فلك دِينارُ، وقال لآخر: إن رَدَدتَّه، أرخيتك، أو فلَكَ ثُوْبٌ فردَّه، فللأوَّل نِصْفُ الدينارِ، وللثانِي نِصْفُ أُجْرَةِ المثْل (¬2). قَالَ الغَزَالِيُّ: أَمَّا أَحْكَامُهَا فَالجَوَازَ مِنَ الجَانِبَينِ كَالقِرَاضِ وَجَوَازُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ قَبْل فَرَاغِ العَمَلِ وَوُجُوبُ اسْتِحْقَاقِ الأُجْرَةِ عَلَى تَمَامِ العَمَلِ حَتَّى لاَ يَسْتَحِقُّ بِالبَعْضِ البَعْضَ، بَلْ لَوْ مَاتَ العَبْدُ عَلَى بَابِ الدَّارِ أَوْ هَرَبَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَلاَ حَقَّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفَصْلُ الثَّانِي: في أحكام الجَعَالَةِ؛ فمنْها: الجوازُ، فَلِكلِّ واحدٍ مِنَ المالِكِ والعَامِلِ فَسْخُهُ قبلَ تَمام العَمَل، قالَ في "التتمة": لأَنَّ الجَعَالَةَ تُشْبِهُ الْوَصِيَّةَ مِنْ حيْثُ إِنَّها تعليق استحقاق بشَرْط، والرُّجوعُ عن الوصيَّة جائز، فكذلك هاهنا، وبعد تمام العَمَل؛ لا معنى للفسخ ولا أثر له؛ لأنَّ الدَّيْنَ قد لزم (¬3)، ثم إن اتَّفقَ الفَسْخُ قَبْلَ ¬
الشُّروع في العمل، فلا شيْءَ للعاملِ، وإن كان بعْدَهُ، فإنْ فسَخَ العامِلٌ لم يستحقَّ لما عمل شيئاً؛ لأنَّهُ امتنع باختياره، ولم يَحْصُلْ غرضُ المالِك بما عَمِل، وإنْ فَسَخ المالِكُ، فوجهان مذكوران في "التهذيب": أَحَدُهُمَا: أنَّه لا شيْء لَلعامل أيضاً، كما لو فسخ بنَفْسِه. وأَصَحُّهُمَا: أنَّه يستحقُّ أُجْرَةَ المثْل لما عمل كَيْلاَ يحبط سعْيُه بفسخ غيرِه، وهذا ما أورده المعظمُ، وربما عبَّروا عنه بأنَّهُ ليس له الفَسْحُ؛ حتى يَضْمَنَ العامِلُ أُجْرَةً مثل ما عمل. وذكر الإمامُ فيما إذا فَسَخَ المالِكُ بعْد الشُّروع في العمل، والعاملُ معيَّنٌ أنه لا يبعد تخريجُه على الخلاف في عزْل الوكيل في غيبته، وهذا بعيدٌ عن كلام الأصْحَابِ. ورَدَّ أبو سعيد المتولِّي هذا التشبيه إلى شيْءٍ آخرَ، وهو أنَّ ما يعمله العامِلُ بعد الفسخِ لا يستحق عليه شيئاً إن كان عالماً بالفسخ، فإن لم يعلمه بني على ذلك الخلاف. وكما ينفسخ الجعالة بالفسخ تنفسخُ بالمَوْتِ، ولا شيْء للعامِل بما يَعْملُ بعد مَوْت المالِكِ، ولو قَطَعَ بعْضَ المسافة، ثم مَاتَ المَالِكُ، فردَّه إلَى وارثه، استحَقَّ من المسَمَّى بقدر ما عمِلَ في حياته، ذكره أبو الفرج السَّرْخَسِىُّ. ومنها: أنَّهُ يجوز التصرُّفُ في الجُعْلِ بالزيَادةِ والنُّقْصَانِ، وبغيرِ الجنس قَبْل العمل فلو قال: منْ رَدَّ عبْدي، فلَهُ عَشَرةٌ، ثم قال: من ردَّه، فَلَهُ خمسةٌ، أو بالعكْس، فالاعتبار بالنِّداء الأخيرِ، والمذكورُ فيه هو الذي يستحقُّهُ الرادُّ. نعم لو لم يَسْمَعِ العاملُ النداءَ الأَخِيرِ قال في "الوسيط": احتمل أَنْ يقال: يرْجِعُ إلَى أُجْرَة المِثْلِ. ثم قولُه في الكتاب "قبْلَ فَرَاغِ العملِ" يقتضي جوازَ الزيادةِ والنقصانِ، ما لم يتمَّ العملُ، وفي "المهذَّب" وغيره أنَّه يجوزُ ذلَكَ قَبْلَ العملِ، كما قدَّمناه، وهذا يشعر بما قبلَ الشُّروعِ، ولا شَكَّ في جَوَازِ هَذَا التصرُّفِ قَبْلَ الشُّروع، وأمَّا في أثناء العَمَلِ، فالظَّاهرُ تأثَيرُه في الرجُوعِ إلَى أجْرةِ المِثْلِ؛ لأنَّ النداء الأخير فَسْخٌ للأول والفسخ في أثناء العمل يَقْتَضِي الرُّجوعَ إلى أُجْرَةَ المِثْلِ. ومنها توقُّف استحقاقِ الجُعْلِ على تمام العَمَل حَتى لو سَعَى في طلب الآبق وردِّه، فمات في الطريق، أو على باب دارِ المَالِكِ، أو هرَب أو غصَبَةُ غاصبٌ، أو تركه العامل، أو رَجَع بِنَفْسِهِ فلا شيء عليه للعامل، لأنَّ الاستحقاقَ معلّقٌ بالرجوع (¬1) وهو ¬
فروع
المقصودُ، ويخالف ما إذا استأجرَه ليحج عنه فأتى ببعض الأعْمَال، ومات حيث يستحق من الأُجْرَة بقدر ما عمل في أحدِ القولين، وفرقوا بينهما من وجهين: أَحَدُهُمَا: أنَّ المقصود من الحج الثوابُ، وقد حَصَلَ ببعض العمل بعض الثواب، وهاهنا لم يحصل شيئاً من المقصود. والثاني: أنَّ الإجارَةَ لازمةٌ تَجِبُ الأُجْرَة فيها بالعَقْد، وتستقرُّ شيئاً فشيئاً، والجعَالة جائزةٌ لا يثبت شيْءً فيها إلاَّ بالشَّرْط، ولم يوجَدْ، وإذا ردَّ الآبق، لم يكن له حبسه إلى استيفاء الجُعْل؛ لأنَّ الاستحقاقَ بالتسليم، ولا حبس قبل الاستحقاق. ولو قال: إنْ علَّمتَ هذا الصبيِّ أو علَّمْتَني القرآنَ، فلك كذا، فعلَّمه البعْضَ، وامتنعَ منْ تعليم الباقي، فلا شيءَ له، وكذا لو كان الصبيُّ بليداً لا يتعلَّم كما لو طلب العَبْدَ، فلم يجدْه، ولو مات الصَّبِىُّ في أَثناء التعليم، استحقَّ الأجرة لما علَّمه لوقوعه مَسلَّماً بالتَّعْلِيم؛ بخلافِ ردِّ الآبق، فإنْ تسلَّم العمل بتسليم الآبِق، وهَهُنَا، ليْسَ علَيْه تسْلِيم الصَّبيِّ، ولا هو في يدَهِ، وإن منعه أبُوه منَ التَّعليم، فللمعلِّم أُجْرَةُ المِثْل لما علَّم، قاله في "الشامل". وقوله "ووجوب استحقاق الأجْرَة" أراد بالأجْرَةِ الجُعْلَ، لما بينهما من التفاوُت. قَالَ الغَزَالِيُّ: وإِنْ أَنْكَرَ المَالِكُ شَرْطَ أَصْلِ الجُعْلِ، أَوْ شَرْطَهُ فِي عَبْدٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ سَعْى الْعَامِلِ في الرَّدِّ فَالقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ تَنَازَعَا في مِقْدَارِ الجُعْلِ تَحَالَفَا وَالرُّجُوعُ إِلَى أُجْرَةِ المِثْلِ. قالَ الرِّافِعِيُّ: إذا جاء بَعبْدِه الآبِقِ، وطالبه بالجُعْلِ، فقال: ما اشترطْتُ جُعْلاً، أو قال: شرطْتُهُ عَلَى عَبْدٍ آخر، لا على هذا العَبْد، ولو قال: ما سَعَيْتَ في ردِّه، وإنَّما عادَ العَبْدُ بِنَفْسِهِ، فالقول قولُ المالك؛ لأنَّ الأصْلَ عدمُ الشرطِ والردِّ. ولو اختلَفا في القدْرِ المشروطِ (¬1)، تحالَفا، وللعامل أُجْرَةُ المثل (¬2)، كما لو اختلفا في الإجارة، وكذا لو قال المالِكُ: شرطَّتُ الجُعْلَ عَلَى ردِّ عبدين، فقال العاملُ: بل على ردِّ الذي ردَدتَّ. فروع: الأوَّل: لوْ قَال: مَنْ ردَّ عبْدي إلَي شَهْرٍ، فله كذا. فعن القاضي أبي الطيِّب: أنَّه ¬
لا يجوز؛ لأنَّ تقدير المدَّةِ يُخلُّ بمقْصُود العقْد؛ فإنَّهُ ربما لا يَظْفَرُ به في تلْك المدة، فيضيعُ سعْيُه، ولا يَحْصُلُ غرض المَالِك، وهذا كما أنَّهُ لا يجُوز تقدير مدَّة. القِراضِ. الثاني: إذا قال: بعْ عبدي هذا أو اعْمَلْ كذا، ولكَ عَشَرةُ دَرَاهِمَ، ففي بعض التصانِيف أنَّه، إنْ كان العمَلُ مضبُوطاً مُقدَّرًا، فهو إجارةٌ، وإن احتاج إلى تردد أو كان غير مضبوطةِ فهو جعَالة. الثالث: لَمْ أجدْهُ مسْطُوراً. يد العامل على ما يحصل في يده إلَى أنْ يرده يدَ أمانةً، ثمَّ لو رفع اليد عن الدابَّة، وخلاَّها في مضيعةٍ، فهو تقصير مضمن ونفقة العَبْد، وعلف الدابَّةِ في مدَّة الرد يجوزُ أنْ يكونَ عَلَى ما ذكَرْنا في مكتري الجمال، إذا هرب مالكها، وخلاَّها عنْده، ويجُوزُ أنْ يُقَالَ: ذاك أمرٌ أمضت إلَيْه ضرورةٌ، وههنا، أثبت العاملُ يده عليه باختياره، فيتكلَّفُ مؤنته، ويؤيد هذا بالعَادَة (¬1). الرابع: قال لغَيْره: إنْ أخبرتني بخُرُوجِ فلانٍ من البَلَد، فلك كذا، فأخبره، ففي فتاوى القفَّال: أنَّهُ إنْ كان له غرضٌ في خروجه، استحق وإلا فلا، وهذا يقتضي أنْ يَكُونَ صادقاً، فإنَّ الغَرَضَ حينئذ يَحْصُلُ، بخلاف ما إذا قال: إنْ أخبرتني بكذا، فأنتِ طالقٌ، فأخبرَتْه كاذبةً، وينبغي أيضاً أنْ يُنْظرَ فِي أنَّهُ، هلْ يناله تعبٌ أم لا (¬2)؟ واللهُ أعلمُ. ¬
كتاب إحياء الموات
كِتَابُ إِحْيَاءِ المَوَاتِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالمُشْتَرَكَاتُ ثَلاَثةً، أَرَاضِي وَمَعَادِنُهَا وَمَنَافِعُهَا أَمَّا الأَرَاضِي فَالمَوَاتُ مِنْهَا يُمْلَكُ بالإِحْيَاءِ، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحْيَا أَرْضَاً مَيْتَةٌ فَهِيَ لَهُ"، وَالمَوَاتُ كُلُّ مُنْفَكٍّ عَنِ اخْتِصَاصٍ، وَالاخْتِصَاصِ سِتَّةُ أَنْوَاع: النَّوْعُ الأَوَّلُ العِمَارَةُ فَلاَ يُتَمَلَّك مَعْمُورٌ، وَإنِ انْدَرَسَتِ (و) العِمَارَةُ فَإِنَّهَا مِلْكٌ لِمُعَيَّن أَوْ لِبَيْتِ المَالِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عِمَارَةً جَاهِلِيَّة وَلَمْ يَظْهَرِ، أَنَّهَا دَخَلَتْ في يَدِ المُسْلِمِينَ بِطَرِيقِ الغَنِيمَةِ أَوِ الْفَيْءِ حَتَّى يَجْرِيَ حُكْمُهَا فِفِي تَمَلُّكِهَا بِالإِحْيَاءِ (و) قَوْلاَنِ لِتَعَارُضِ أَصْلِ الإِبَاحَةِ وَظَاهِرِ اسْتِيلاَءِ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِ، وَمَعْمورُ دَارِ الحَرْبِ لاَ يُمْلَكُ إِلاَّ كَمَا (و) يُمْلَكُ سَائِرُ أَمْوَالِهِمْ، وَمَوَاتُهَا الَّذِي لاَ يَذُبُّونَ المُسْلِمِينَ عَنْهَا يَمْلِكهَا المُسْلِمُونَ وَالكُفَّارُ جَمِيعاً بالإِحْيَاءِ، بِخلاَفِ مَوَاتِ الإِسْلاَمِ فَإِنَّ الكُفَّارَ لاَ يَمْلِكُونَهَا (ح) بِالإِحْيَاءِ، أَمَّا مَوَاتٌ يَذبُّونَ عَنْهَا فَإِذَا اسْتَولَى طَائِفَة عَلَيْهَا فِفِي اخْتِصَاصِ المُسْتَوْليِنَ بِهَا دُونَ الإِحْيَاءِ خِلاَفٌ، قِيلَ: إِنَّهُمْ يَمْلِكُونَ، وَقِيلَ: هُمْ أَوْلَى بِالتَّمَلُّكْ بِإِحْيَائِهِ وَقِيلَ: لاَ أَثَرَ لِمُجَرَّدِ الاسِتِيلاَءِ فِيمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أكثر أبواب "المُخْتَصر" في هذا الموْضِع إلَى آخر الرُّبُع في "العطايا"، إمَّا من الشارع كما في "إحياء المَوَات" و"المَوَارِيث" أو من الآدَمِيِّين. "الهبة" و"الوصية". والأَصْلُ في إحياء المَوَات (¬1) ما رُوِيَ عن سعيدِ بْنِ زَيْدٍ أن ¬
رَسُولَ اللهَ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَحْيَا، أَرْضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ وليَسَ لِعَرَقِ ظَالمٍ حَقٌّ" (¬1). وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال [: "مَنْ عَمَّرَ (¬2) أَرْضاً لَيْسَتْ لأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا" (¬3) وعنْ سَمُرَةَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَحَاطَ حَائِطاً عَلَى أَرْضٍ فَهِيَ لَهُ" (¬4). وَرَوَيَ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قال:] "عادى الأَرْض لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ" (¬5). وَرَوَى ثوبان: "الأَرضُ للهِ وَرَسُولهِ ثُمَّ هِيَ لكُمْ] مِنِّي أَيُّهَا المُسْلِمُونَ". يعني المَوَاتَ، وهي: بفتح الميم والواو. وقال الخَطَّابىُّ: وفيه لُغَةٌ أُخْرَى، وهو فَتح الميمِ وتسكينُ الواوِ، فأمَّا المُوْتان بضَمِّ الميمِ وسكونِ الواو، فهو الموت الذريع، فدلَّت هذه الأخبارُ وما في معناها عَلَى ¬
حصُولِ المِلْكِ بالإْحياء، وعلَى جواز الإحياء، ويدُلُّ على استحبابه ما رُوِيَ عن جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَحْيَا أَرْضَاً مَيْتَةٌ، فَلَهُ مِنْهُ أجْرٌ وَمَا أَكَلَهُ العَوَافي (¬1) مِنْهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ" (¬2). وقولُهُ: "والمشتركات ثلاثةٌ": أشار به إلى أن الأرض، والأعْيَان الخارجة منها، والمنافع المُتَعلِّقة برقبتها مخلوقةٌ لمنافع سُكَّانها، والأَصْلُ فيها الاشتراكُ على معْنَى أنَّ لكلِّ أحَدٍ أنْ ينتفعَ بها، يعرض فيها الاختصاصُ بالمِلْك وغيره؛ بعد أنْ لم يَكُنْ، ومقصودُ الكتابِ الكلامُ في رقاب الأرض، وفي منافعها، وفي الأعيانِ الخَارِجةِ منْها، وبيان أنَّهَا كيْفَ تُمْلَكُ ويحدث فيها الاختصاص؟ البَابُ الأوَّلُ: في رِقَابِ الأرض، وهي قسمان: القسم الأول: أراضي بِلاد الإِسْلام، ولها أحوالٌ ثلاثة: الحَالةُ الأولَى: إلاَّ تكونَ معمُورةً في الحالِ، ولا من قبلُ، فيجوزُ تملُّكُهَا بالاحياء، سواءٌ أَذِنَ فيه الإمامُ، أو لم يأذَنْ، ويكْفي إذْنُ رسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فيه. وقال أبو حنيفةَ: لا بدَّ من إذن الإمَامِ فيه، وبه قال مالِكٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فيما إذا كان المَوْضِعُ قريبًا من العمران يقع فيه المشاحَّة، ثم يَخْتَصُّ ذلك بالمسلمين، وليس للذميِّ تملُّكُهَا بالإحياء، ولا يأذْنُ له الامامُ فيه، ولو أذِنَ له الإمام، وأحياها لم يَملكَ، وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "هِيَ لَكُمْ مِنِّي أيُّهَا المُسْلِمُونَ". ما يقتضي التخصيص بهم. وفيه وجه آخر: أنَّهُ يَمْلِكُ إذًا أذِنَ الامامُ فيه؛ لأنَّهُ موضعُ الاجتهاد، وبهذا قال الأُسْتاذُ أبو طاهر. وإذا قلنا بالأوَّلِ، فلو كان له فيه عيْنٌ، مال: [فله] نَقْلُهُ، فإنْ بَقِيَ بعد النقل أثر العمارةِ، قال القاضي ابْنُ كَجًّ: إنْ أحيا مُحْي بإذْنِ الإمام، يملكه، وإن لم يأذنْ، فوجهان (¬3)، وإنْ تَرَكَ العمارةَ متبرِّعاً، تولى الإمام أخذ غَلَّتها، وصرفها إلَى مصالحِ المسلمين، ولم يجزْ لأحدٍ تملُّكُها. ¬
وقال أبو حنيفةَ ومالكٌ وأحمدُ رضي الله عنهم: الذِّمي والمُسْلِمُ في الإحياء سواءٌ كما في الاحتطاب والاحتشاشِ والاصطيادِ في دار الإِسلام. والفَرْقُ عندنا: أنَّ الحطبَ والحَشِيشَ والصَّيدَ يختلف، ولا يتضرِّر المسلمون بأنْ يتملّكَهَا الذميُّ بخلاف الأراضي، وكذلك للذمِّيِّ نَقْلُ تراب مواتِ دارِ الاسلامِ، إذا لم يتضرَّرْ به المسلِمُون، والمستأمن كالذميِّ في الإحياء وفي اَلاحتطاب ونَحْوِه، والحَرْبِيُّ ممنوعٌ من جميع ذلك. والحالة الثانية: إذا كانتْ معمورةً في الحال، فهي لمُلاَّكِها (¬1)، ولا مَدْخلَ فيها للإحياء؛ لأنَّ الإحياءَ لإحْداثِ المِلْكِ، وهي مملوكةٌ. والحالة الثالثة: إذا لم تكُنْ معمورةً في الحَالِ، ولكنَّها كانَتْ معمورةً منْ قبلُ، فيُنْظَرُ؛ إن عُرِفَ مالِكها، فَهِي له ولورثَتِهِ، ولا تملَّك بالإحياءِ ولا بالعمارةِ، وإن لم يَعْرِفُ نظر؛ إن كانت العمارةُ إسلاميةً، فهي إمَّا لمسلم أو لذميِّ، وحكْمُهَا حُكْمُ الأموال الضائعةِ. قال في "النهاية": والأمر فيه إلَى رأْي الإمام، إن رأَى حفْظه إلَى أن يَظْهَرَ مَالِكُه، فإن رأَى بيعهِ وحفظ ثمنه، وله أنْ يَسْتقرضه على بيتِ المالِ. هذا ظاهر المَذْهبِ، وفيه خلافٌ سيأتي (¬2). ¬
وعند أبي حنيفةَ: يجوزُ تملُّكُهَا بالإحْياء؛ لأنَّها باندراس العمارة عادَتْ مواتاً، وعن مالكٍ مثلُهُ، وعنْه أنَّه، إن تركها مختاراً، عادت مواتاً، وإن خربت بموته أو غيبته، فلا. وإن كانت العمارةُ جاهليَّةً، فقولان. ويقال وجهان: أحدهُمَا: وبه قال أبو إسحاق: أنَّها لا تُمْلَكُ بالإحياء؛ لأنَّها كانت مملوكةً، والموات ما لم يجرْ عليه مِلْكٌ، ولأنهُ يجوزُ أن يكونَ مِلْكاً لكافر، لم تبلغهُ الدعوة. وأصحُّهِمَا: أنَّها تُمْلَكُ -لقوله -صلى الله عليه وسلم-:"عَادِيُّ الأرضِ لله وَرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي" (¬1)، ولأنَّ الرَّكاز يَمْلَكُ مع كونهِ مملوكاً لأهْلِ الجاهليَّةِ، فكذلك الأرَاضِي. وعن ابن سُرَيْجٍ وغيرِهِ رفْعُ الخلاف، وتنزيل الجوابَيْن على حالَيْن، إن بقي أثر العمارةِ، أو كان معْمُوراً في جاهليَّةٍ قريبة، لم تُمْلَك بالإحياء، وإن اندرستْ بالكلية، وتقادَمَ عَهدُهَا مُلِكَت، ثم عمَّم صاحب "التهذيب" وآخرون هذا الخلاف، وفرَّعوا عَلَى قول المنع أنَّها إن أخِذَتْ بقتالٍ، فهي للغانمين، وإلاَّ، فهي من أراضي الفَيْءِ. وقال الإمامُ: مَوضِع الخلافِ ما إذا لم يُعلم كيفيةُ استِيلاَء المُسْلمين عليه ودخوله تحْتَ يدهم، أمَّا إذا عُلِمَتْ، فإن دخَلَتْ في أيديهم بقتال، فهي للغانمين، وإلاَّ، فهي فقئ وحصَّة الغانمين تلْتحق بمِلْك المسْلِم الذي لا يعرف. وطَرَدِ طارِدُون الخلافَ فيما إذا كانت العمارةُ إسلامية، ولَم يُعْرف مَالِكُهَا، وقالوا: هي كلَقَطَةٍ لا يُعرَفُ مالكُها. والأكثرون فَرَّقُوا بين ما إذا كانتْ لكافرٍ، وبيْن ما إذا كانتْ لمُسْلِمٍ، كما قدَّمنا، وأحتجُّوا له بما رُوِيَ أنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيْتَةً في غَيْرِ حَقِّ مُسْلِم، فَهِيَ لَهُ" (¬2). والقسم الثاني: أراضِي بلادِ الكُفْر ولها أحوالٌ: الحالةُ الأولى: إذا كانتْ معمورةً، فلا مدْخلَ للإحياء فيها؛ بل هي كسائر أموالِ الكفَّار، فإنِ استولَيْنا عليها بقتالٍ، أو بغَيْر قتالٍ، لم يَخْفَ حكْمُهُ. الحالةُ الثانية: إذا لم تَكُنْ معمورةً في الحالِ، ولا مِنْ قبلُ، فَيَمْلكُهَا الكفَّارُ بالإحياء. وأمَّا المسلمُون، فيُنْظر؛ إن كان مواتاً لا يذبُّونَ المسلمينَ عنْها، فلهُمْ تملكها بالإحياء أيضاً، ولا تُمْلَكُ بالاستيلاء؛ لأنَّها غيرُ مملوكةٍ لهُمْ، حتى تمُلكَ عليهم، وإن كان مواتاً يذبون المسلمين عنْه، لم تُمْلَك بالإحياء كالمعمور من بلادهمْ، فإن استولَيْنا علَيْه، ففيه وجوهٌ: ¬
أصحُّها: أنَّه يفيد اختصاصاً كاختصاص المتحجر؛ لأنَّ الاستيلاءَ أبلغُ منه، وعلَى هذا، فسيأتي خلافٌ في أنَّ الأحقيَّة بالتحجر هل يَفيد جواز البيع؟ إن قلْنا: نعم، فهو غنيمةٌ كالمعمور، وإن قلْنا: لا، وهُوَ الأصحُّ -فالغانِمُون أحقُّ بإحياء أرْبَعَةِ أخْمَاسه، وأَهْلُ الخُمْس أحقُّ بإحْيَاءِ خُمُسِهِ، فإنْ أعرض الغانِمُون عنْ إحْيَائِه، فأهل الخمس أحقُّ به؛ لأنَّهُمْ شركاءُ الغانمين، وكذا لو أعْرَضَ بعْضُ الغانمين، فالباقون أحقُّ وإن تركه الغانِمُون وأهْلُ الخُمُسِ جميعاً، ملَكَه من أحياه من المُسْلمين (¬1). والثاني: أنَّهُمْ يملكُونه بالاستيلاءِ كالمعمور؛ لأنَّهم حيْثُ منعوا منه، فكأنهم يملكونَه عَلَى أنَّه يجوز أنْ يملك بالاستيلاء ما لم يكنْ مملوكاً كالذَّرَارِي والنِّسْوان. والثالثُ: أنَّهُ لا يفيدُ الملْكَ ولا التحجُّر؛ لأنَّهُ لم يوجد منه عمل يظهر في الموات؛ فعلى هذا، هو كموات دارِ الإسْلاَمِ (¬2)، مَنْ أحياه، مَلَكَهُ. الحالة الثالثةُ: إذا لم تكنْ معمورةٌ في الحال، لكنَّها كانت، معمورةً منْ قبلُ، فإنْ عُرِفَ مالكُهَا، فهي كالمعمورة، وإلاَّ ففيه طريقةُ الخلافِ، وطريقةُ ابنِ سُرَيْج المذكورتان فيما إذا كانتِ العمارةُ جاهليةٌ في القسمِ الأول، وإذا فتحنا بلدةً صُلْحاً عَلَى أن تكون لنا، وهمْ يَسْكُنُون بجزيَةٍ، فالمعمورُ منها فَيءٌ، ومواتُها الذي كانُوا يذبُّون عنْه، هل يكون متحجراً لأهل الفَيْءِ؟ فيه وجهان: أصحُّهُمَا: نعم، وعَلَى هذا فهو فيء في الحال أو يحبسه الإمام لهم فيه وجهان: أصحُّهُمَا: الثاني. وإنْ صالَحنَاهُم على أن تكونَ البلدةُ لهم فالمعمُورُ لهم، والمواتُ يختصُّون بإحيائه، كما أنَّ مواتَ دارِ الإِسلام يختص به المُسْلِمُون تَبَعاً للمعْمور، وعن القَاضِي أبي حامدٍ وصاحِب "التقريب"أنَّهَ إنَّما يجب علَيْنا الامتناع عنْ مواتها إذا شرطْناه لهم في الصُّلح. ¬
قال فى "التهذيب": وَالبَيْعُ التي للنَّصَارَى في دار الإسلام، فلا تُمْلَكُ عليهم، فإن فَنُوا فهي كما لو مات ذميٌّ [في دار الإسلام] (¬1) ولا وارث له، فيكونُ فَيْئاً. ونعود بعد هذَا إلَى ما يحتاج إلى التعرُّض له في لفظ الكتاب. قوله: "والمواتُ كلّ مُنْفَكِّ عن اختصاص" لا يعني به جميع الاختصاصات، فإنَّ بقعة ما لا ينفكُّ عن جميع الاختصاصاتِ؛ لأنَّها إن كانتْ في دار الإسْلاَم، فله اختصاصٌ بالمسلمين من حيث إنَّها في قبْضَة الإمام، وإنْ كانتْ في دَارِ الحرب، فكذلك، وإنَّما. أراد الاختصاصاتِ السِّتَّةَ الَّتِي ذكَرَها ثم أخذ الانفكاك عنْها في تعيين (¬2) الَمَوَاتِ بخلاف اصطلاح الأصحاب واستعمالاتِهِمْ، فإنَّهم لا يعتَبِرُون في تفسيره إلاَّ الانْفِكَاك عنِ الملك والعِمَارة، ويَجْعَلُون الانفكاكَ (¬3) عن سائر الاختصاصاتِ منْ شُرُوط التَمَلُّك بالإحْيَاء. وقوله: "فلا يتمَلَّكُ معمور" لم يُرِدْ به ما هو معمورٌ في الحال؛ لقوله: "وإن اندرسَتِ العمارةُ"، وإنَّما المرادُ ما عرضت له العمارةُ في الجُمْلَة، ويجوزُ أنْ يُعْلَم بالواو؛ لأنَّهُ لم يستثْنِ إلاَّ إذا كانتِ العمارةُ جاهليةً وأجاب المنْعِ في غيرها عَلَى ما هو ظاهرُ المذْهَب، وقد عرَفْتَ أنَّ بَعْضَهُم طَرَدَ الخلاَفَ فيما إذا كانَتِ العمارةُ إسلاميَّةً، و [قد]، اندرسَتْ، ولم يعلم المالك. وقوله: "ولم يظهر أنها دخلَتْ في يد المسْلِمين إلى آخره أراد به ما حكَيْناه عن الإمام من تخْصِيصِ القَوليْن فيما إذا لم يعلم كيفية دخولِها في يد المُسْلِمين، ويجوز إعْلامُ قوله: "قولان" بالواو؛ للطريقة التي تولت الجوابَيْن على الحالَيْن، وقوله في توجيه القولَيْن: "لتعارُضِ أصل الإباحةِ وظاهر استيلاء المسلمين علَيْه" فيه شيءٌ وذلك لأنَّ المسألة موضوعةٌ في العمارةِ الجاهليَّةِ الَّتِي هي دار الإسلام،. وقبضة الإمام؛ ألا تراه يقول: ولم يَظْهَر أنَّها دخلَتْ في يدِ المسلمينِ بطريقِ الغنيَمةِ أو الفَيْءِ، وجعْل المجهول كيفيَّة دخولِها في يد المسلمين. أمَّا أَصْلُ الدُّخولِ، فهو معلومٌ، وحينئذٍ، فقوله: "وظاهر استيلاء المسلمين عليه" إن أراد به استيلاء اليَدِ والتمكُّنِ من التصرُّف، فليس ذلك ظاهراً، بل هو حاصلٌ معلومٌ، وإن أراد استيلاء التملُّك والعمارة، فظهوره ممنوعٌ، وكيف والمسألة مصوَّرةٌ فيما إذا عَلِم أنَّها لم تُعمَّرْ إلاَّ عمارة جاهليَّةً. وقوله: "ومعمور دار الحرب لا يُمْلَكُ إلاَّ بما تُمْلَكُ به سائرُ أموالِهم" يقتضي تملكه بما يتملَّك به سائِر أمْوالِهم فَيْئاً كان أو غنيمةً. ¬
لكن لو وقع في جملة الفيءِ أرضٌ، ففي تملُّكِها خلافٌ مذْكُورٌ في قسمة الفَيْء، فيجوز إنْ يُعْلم؛ لذلك قوله: "إلاَّ بما يُمْلَكُ به سائر أموالهم" بالواو. وقوله: "فإنَّ الكافر لا يملكها بالإحْياء" مُعْلَمٌ بالحاء والميم والألف. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّانِي: حَرِيمُ العِمَارَةِ فَلاَ يُمْلَكُ، وَأَهْلُ دَارِ الْحَرْبِ إِذَا قُرِّرُوا في بَلَدٍ بصلْح فلاَ يَحْيَا (و) مَا حَوَالَيْهَا مِنَ المَوَاتِ، وسَائِرُ القُرَى للمُسْلِمِينَ لاَ يَحْيَا مَا حَوَالَيْهَا مِنْ مُجْتَمَعِ النَّادِي، وَمُرْتَكضِ الخَيْلِ، وَملْعَبِ الصِّبْيَانِ، وَمَنَاخِ الإبِلِ وَمَا يُعدُّ من حُدُودِ مَرَافِقِهِمْ، وَأَمَّا الدَّارُ إِنْ كَانَ في مَوَاتٍ فَحَرِيمُهَا مَطْرَحُ التُّرَابِ وَالثَّلْج وَمَصَبُّ المِيزَابِ وَالمَمَرِّ فِي صَوْبِ البَابِ، وَإِنْ كانَ في مِلْكٍ فلاَ حَرِيمَ (و) لَهَا إِذِ الأمْلاَكُ مُتَعَارضَةٌ، وَلكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ بِحَسَبِ العَادَةِ، فَإِنْ تَضَرَّرَ صَاحِبُهُ فلاَ ضَمَانَ، وَلَوِ اتَّخَذَ حَانُوتَ حَدَّادٍ أَوْ قَصَّارٍ أَوْ حَمَّامٍ عَلَى خِلافِ العَادَةِ فَفِي مَنْعِهِ خِلاَفٌ، وَلَوْ كَانَ لاَ يَتأَذَّى المَالِكُ إِلاَّ بِالرَّبْح كَالمُدَبَّغِ فَالظَّاهِرُ (و) أنَّهُ لاَ يُمْنَعُ مِنْهُ، أَمَّا البِئْرُ في المَوَاتِ فَحَرِيمُهَا مَوْضِعُ النَّزْحِ والدُّولاَبِ وَمُتَردِّدِ البَهِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ قَنَاةٌ حَوَالَيْهَا مِمَّا يَنْقُصُ مَاءهَا لَوْ حَفَرَ، وَقِيلَ: إنَّهُ لاَ يُمْنَعُ مِمَّا يَنْقُصُ إِذَا جَاوَزَ حَرِيمَ البِئْرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الغرض الأصليُّ من الفصْل بيان أنَّ حريم العمارة لا يُمْلَكُ بالإحْياء، ثم اختلط به القولُ في حريم الأمْلاَك، فهما جملتان: أمَّا الأُولى: فحريمُ المعْمُور لا يُمْلكُ بالإحياء كنفس المعمور؛ لأنَّ مالكَ المعمور استحقَّ باستحقاقِهِ المواضَع التي هي من مرافقُهُ، وهل نقول بأنَّهُ يملك تلك المواضع؟ فيه وجهان: أحدهُمَا: لاَ؛ لأن المِلكَ يحصُل بالإحياء، ولم يوجَدْ فيها إحياء. وأصحُّهُمَا: نعم، وبه قال القاضي أبو الطيِّب كما يملك عَرْصَة الدار ببناء الدَّار، ولم يوجد في نفْسِ العرْصَة إحياءٌ وأيضاً فالإحياء تاَرةً يكونُ بِجَعْلِه معموراً، وتارةً يكون بجَعْلِهِ تَبَعاً للمعمور، ولو باعَ المالِكُ الحريمَ دُون الملْك، فحاصل جواب الشيخ أبي عاصم العبَّادِيِّ معه، كما لو باع شِرب الأرض وحْده، وهو الرواية عن أبي حنيفة -رضي الله عنه- قال: ولو حفر اثنانِ بئْراً على أن يكونَ نَفْسُ البئر لأحدهما، وحريمُها للثاني، لم يجز، وكان الكريمُ لصاحب البئْرِ وللآخَرِ أُجْرةُ عمله. الجملة الثانية: بيان الحريم: وهي المواضعُ القريبةُ التي يُحْتَاج إلَيْها لتمام الانتفاع؛ كالطريق ومَسِيلِ الماء ونحوهما (¬1)، وفيه صُوَرٌ: ¬
إحداها: ذكرنا في الفصل السابِقِ أنَّ الكفّار إذا قُرِّرُوا في بلْدة لهم صُلْحاً لم، يجز للمسلمين إحياءُ مواتها الذي يذبُّون عنه، فهو مِنْ حريم تلْك البلدة، ومرافقها ويجوز أنْ يُعْلَم قولُه في الكتاب: "فلا يحيا ما حواليها مِنَ الموات" بالواو؛ لوجْهٍ ذكرناه هناك. الثانية: حريمُ القُرَى المحياة ما حوَالَيْها من مجتمع النَّادِي (¬1)، ومن مُرْتَكَضِ الخيل، ومُناخ الإبل، ومُطَّرَح الرمَاد والسِّمَاد، وسائِر ما يُعَدُّ من مرافقها. وأمَّا مرعى البهائم، قال الإمام: إنْ بَعْدَ من القرية، لم يكن من حريمها، وإن قَرُبَ، ولم يستقلَّ مرْعىً، ولكن كانتِ البهائم تُرُعَى فيه عند الخَوْف من الإبعاد، فعن الشيخ أبي عليٍّ ذكرُ خلافٍ فيه، والظَّاهِرُ عند الإمام أنَّهُ ليْسَ مِنْ حريمها أيضاً، ولم يتعرِّضْ لما يستقل مرعى، وهُوَ قريبٌ من القرْيَة، يشبه أن يقطع بكونه من الحريم. وعند صاحبِ "التهذيب" مَرْعَى البهائم مِنْ حقوق القرية مُطْلَقاً، والمحتطَب كالمرعَى. الثالثة: حريمُ الدَّارِ في الموات مطرح التراب والرماد والكَنَاسَات والثلج (¬2) والمَمَرّ في الصَّوْب الذي فُتِحَ إليه الباب (¬3)، وليْسَ المرادُ منه استحقاقَ المَمَرِّ في قبالة الباب على امتداد الموات، بل يجوزُ لغَيْره إحْيَاءُ ما في قبالة الباب، إذا أبقَى له الممرّ. فإنْ احتاج إلَى انْعِطَافٍ وازورار، فعل. وعدَّ جماعةٌ من الأصحاب منهم القاضي ابْنُ كَجّ فِنَاءَ الدارِ من حريمها. وقال ابْنُ الصَّبَّاعَ: عندي أَنَّ حِيْطانَ الدار لا فِنَاء لها ولا حريم، ولو أراد مُحْيي أن يَبْنِيَ بِجَنْبها، لم يلزَمْه أن يَبْعُدَ عنْ فِنَائِها، نَعمْ، يمنع مما يضر بالحيطان؛ كحفر البئر بقربها. الرابعةُ: البِئرُ المحفورةُ في الموات، حريمُها الموضعُ الذي يقفُ فيه ¬
النازح، وموضعُ الدوابِّ، ومتردَّدُ البهيمةِ، إن كان الاستقاءُ بهما، ومصَبُّ الماء، والموضعُ الذي يجتمعُ فيه لسَقْي الماشية، والزرْعُ من حوْضٍ ونحوه، والموضعُ الذي يطرح فيه ما يخرُجُ منه، وكلُّ ذلكَ غيرُ محدُودٍ، وإنَّما هو بحسب الحاجة. ومن الأصحابِ مَنْ قال: حريمُ البئر قَدْرُ عُمْقِها من كُلِّ جانب: وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أو بعضِ أصحابه. أنَّ حريمَ البئر أربعون ذرَاعاً، وحريم العَيْن خمُسمائَةِ، ذراع؛ لما رُوِيَ عن عَبْدِ اللهِ بن مغفَّل: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "منْ احْتَفَرَ بِئْرًا، فَلَهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعاً حَوْلَهَا، لِطَعْنِ مَاشِيَتِهِ" (¬1). وقال أَحْمَدُ: حريمُ البئر خَمْسَةٌ وعشرون ذِرَاعاً، إلاَّ أن تكونَ عَاديَّة، فيكون حريمُهَا خَمْسِين ذِرَاعاً؛ لما رُوِيَ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "حَريمُ البئْرِ الْبَدِيءِ (¬2) خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعاً، وَحَرِيمُ الْبِئْرِ العَادِيّةِ خَمْسُونَ ذِرَاعاً" (¬3). والْبَدِيءُ هُوَ الْبِئْرُ الَّتِي أُحْدِثت في الإسْلاَم، ولم تكُن العَادِيَّةُ هكذا، قاله في الصِّحَاحِ (¬4)، والشَّافعيُّ رضي الله عنه لم ير التَّحديدَ، وحَمَلَ اختلافَ الرِّواياتِ على اختلاف القدْر المُحْتَاج إليه، ويُحْكَى مثله عن مالكٍ، وبهذا يقاسُ حَرِيمُ النَّهْر المحْفُورِ في المَوَات. وعن أبي حَنِيفةَ -رضي الله عنه- فيما ذكر أبو الفَرَج السَّرْخِسيُّ أنَّهُ لا حريم للنَّهر أصلاً، وأمَّا القناةُ فآبارُها لا يُسْتَقَى (¬5) منها؛ حتَّى يعتبر به الحريمُ، فحريمُهَا القَدْرُ الذي لو حُفِرَ فيهِ لنقص ماؤُها، أو خيفَ منْه انهيارٌ وانكباسٌ، ويختلف ذلك بصلابة الأرْضِ ورخَاوتهَا. ¬
وحكى صاحِبُ الكتابِ وجْهاً آخر لَمْ يذكُرُه في "الوسيط"؛ أنَّ حَرِيمَهَا حريمُ البئْر الَّتي يُسْتسقى منها, ولا يُمْنَعُ من الحَفْر بعد ما جاوزه، وإنْ نقصَ، هذا ما أورده الشَّيْخُ أبو حامِدٍ، ومن تابَعَه، والصائِرُون إليه قالُوا: لو جَاءَ آخرُ، وتنحَّى عن المواضع التي عدَدْنَاها حريماً، وحفر بئراً ينقص ماء الأوَّل لم يمنع منه، وهو خارجٌ عن حريم البئْر. وفيه وجه آخر، وهو الأظهر: أنَّهُ ليْسَ لغيره الحَفْرُ حيْثُ ينقص ماؤُها، كما ليس لغيره أن يتصرَّف قريباً من بنائِهِ، بما يضر به، ويخالِفُ ما إذا حَفَرَ بئراً في مِلْكِه، فحفر جارُهُ بئْراً في مِلْكِهِ، فنقَصَ ماءُ الأوَّل فإنه يجوز قال ابْنُ الصَّبَّاغِ: والفرْقُ أنَّ الحَفْرَ في الموات ابتداء تَمَلُّك، فلا يمكن منه إذا تضرَّر الغَيْرُ، وههنا كلُّ واحدٍ منهما متصرِّفٌ في المِلْك، وعلى هذا فذلك الموضِعُ داخلٌ في حريم البئر أيضاً، وما حكمنا بكونه حريماً، فذلك إذا نتهى المَوَاتُ إلَيْه، فإن كان الموضعُ مملوكاً قَبْلَ تمام حدِّ الحريم، فالحريم إلى حيث ينتهي حَدُّ الموات. واعْلَمْ أنَّ جميعَ ما فصَّلناه في حريم الأملاك مفروضٌ فيما إذا كان الملك محفُوفاً بالموات، أو متاخماً له من بعض الجوانب، فأمَّا الدارُ الملاصقة للدُّور، فلا حريم لها؛ لأنَّ الأَمْلاك متعارضةٌ، وليْسَ جَعْلُ موضعٍ حريماً لدار أَولَى من جُعْلِهِ حريماً للأخرى، وكُلُّ واحِدٍ من الملاك يتصرَّف في ملْكه على العادة، ولا ضمانَ علَيْه، إنْ أفضَى إلى تلَفٍ، نعم، لو تعدَّى، ضمن، والقولُ في تصرُّف المالكين المتجاوزين بما يجوز منه وما لا يجوز وبمَ يتعلَّق الضمان منه ما قد سبق في "كتاب الصُّلْح" ومنه ما سيأتي في خلال الديات إن شاء الله تعالى، والمذكورُ من هذا الأصل هاهنا أنه لو اتخذ دارَهُ المحفُوفَةَ بالمَسَاكن حَمَّاماً، أو إِسطبلاً أو طاحونة، أو حانوتة في صفِّ العطَّارين حانوت حدَّاد أو قصَّار على خلاف العادة، ففيه وجهان: أحدُهُما: وبه قال أحَمْدُ أَنهُ يُمْنَعُ؛ لما فيه من الضَّرَر. وأظهرهما: الجوازُ؛ لأنَّهُ متصرِّفٌ في خالصِ ملْكِه، وفي منْعه إضرارٌ به، وهذا إذا احتطاط وأحكم الجدران؛ بحيث يليق بما يقْصِده، فإن فعَل ما الغالبُ فيه ظهورُ الخَلِل في حيطان الجار، فأظهر الوجهين المَنْعُ، وذلك كما إذا كان يدُقُّ الشَّيْءَ في داره دقَّاً عنيفاً، تتزعج منه الحيطان، أو حبس الماءَ في ملكه، بحيثُ تنتشر منه النداوةُ إلَى حيطان الجارِ، ولو اتَّخَذَ داره مدبغةً أو حانوته مخبزاً حيث لا يعتاد، فإن قلْنا: لا يمنعُ في الصورة السابقة، فهنا أولى، وإن قلْنا بالمنع، فههنا تردد للشيخ أبِي محمَّد؛ لأنَّ الضرر ههنا من حيث التأذِّي بالدُّخان والرائحة الكَرِيهة، وأنَّه أهونُ، وإذا جَمَعَت بين الصور، قلُتَ، فيه ثلاثة أوجه: ثالثُها: الفرق بين أنْ يَخَافَ منه خلل في الأملاك، وبين أن يكونَ المحذورُ تأذى الملاكِ، واختار القاضي الرُّوياني في "الحِلْية" أن يجتهد الحَاكمُ
فيها، ويمنع إذا ظهر له التعنُّتُ، وقَصَد الفسادَ، قال: وكذلك القول في إطالة البنَاء، ومنع الشَّمْسِ والقمرِ (¬1)، ولو حَفَر في ملكه بئرَ بالوعةٍ، وفسَد بها بئرُ ماءِ الجار، فهو مكرَوه لكنَّهُ لا يُمْنَعُ منه، ولا ضمانَ علَيْه بسببه خلافاً لمالكٍ وعن القفَّال موافقته؛ ويجوز أن يُعْلَمَ قولُهُ في الكتاب: "وإنْ كانَتْ في ملْكٍ، فلا حريم له" بالميم؛ لأنَّ الرواية عن مالكٍ أن لها حريماً بقَدْرها. هذا بيان الجملَتَيْن، ولا مَنْعَ في إحياء ما وَرَاء الحَرِيم، قَرُبَ أم بَعُدَ؛ لأنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- "أقْطَعَ عَبدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ الدُّورَ، وَهِيَ بَيْنَ ظَهْرَانِي عِمَارَةِ الأنْصَار مِنَ المَنَازِلِ وَالنَّخِيلِ" (¬2)، والدُّور يقال: إنَّه اسمُ موضعٍ، ويقال إنَّهُ أقْطَعَهُ تلْك البقعةَ ليتَّخذَها دُوراً. وعن مالك أنَّ المَوَاتَ القريبَ من العمران لا يحييه إلاَّ أَهْلُ العمران. وَيُرْوَى عن أبي حنيفةَ مثْلُه في تحديد القُرْب بقَدْر صَيْحَةٍ من كلِّ جانب، وربما نسب ذلك إلى أبي يُوسُفَ. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّالِثُ اخْتِصَاصُ الخَلْقِ بِالوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، هَلْ يُمْنَعَ منَ الإِحْيَاءِ؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ، وَالأَظْهَرُ: أنَّهُ إِذَا لَمْ يُضَيَّقْ لاَ يُمْنَعُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: موات الحَرَمِ يُمْلَكُ بالإحياء، كما أنَّ معموره يُمْلَك بالبيع والهِبَة، وهَلْ تملك أراضي "عرفة" بالإحْياء كسائر البقاع أم لا؛ لتعلُّق حقِّ الوقوف بها؟ فيه وجهان: ¬
إن قلنا: يملك، ففي بقاء حقِّ الوقوف فيما ملك وجهان، إن قلْنا: يبقَى فذاك مع اتِّسَاعِ الباقي أم بشرط ضيقه عن الحجيج فيه وجهان، هذا تلخيص ما حكاه الإمامُ، وأشار صاحبُ الكتاب ههنا، وفي "الوسيط" إلى ثلاثة أوجه في المسألة. ثالثُها: الفَرْقُ بين أن يضيقَ الموقفُ، فيمنع، وبين ألا يضيق، فلا يمنع، وهذا أظهر عنْده، لكنَّ المنعَ المطْلَقَ أشبهُ بالمَذْهَب، وبه أجاب صاحبُ "التتمة"، وشبَّهها بالمواضع التي تتعلَّق بها حقوقُ المُسْلمين عُمُوماً وخصوصاً، كالمساجد، والطُّرق، والرِّبَاطات في الطُّرق والمواضع التي يصلَّى فيها العِيدَ خارج الأمصار (¬1)، والبِقاعِ الموقُوفة عَلَى معيَّن أو غير معيَّن. قَالَ الغَزَالِيُّ: الرَّابِعُ اخْتِصَاصُ المُتَحَجِّرِ مَرْعىَ وَهُوَ نَصْبُ أَحْجَارٍ عَلاَمَةً عَلَى العِمَارَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ إِنْ لَمْ يَطُلِ الزَّمَانُ وَكَانَ مُشْتَغِلاً بِأَسْبَابِ العِمَارَةِ، فَإِنْ جَاوَزَ ذَلِكَ بَطَلَ اخْتِصَاصُهُ (و)، وَقِيلَ: البُطْلاَنُ لَوْ تَعَدَّى غَيْرَهُ وَأَحْيَا نِفِي حُصُولِ المِلْكِ خِلاَفٌ (و)، وَكَذَا فِي جَوَازِ اعْتِيَاضِ المُتَحَجِّرِ عَنِ اخْتِصَاصِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الشارعُ في إحياء المواتِ متحجِّر ما لم يُتِمَّه، وكذا إذا أعلم عليه علامة للعمارةِ من نَصْب أحجار أو غرز خشباتٍ قصبات، أو جَمْع تراب، أو خطّ خطوطٍ، وذلك لا يفيدُ الملك، ولكن يجعله أحقَّ به منْبر غيره. أمَّا أنّه لا يفيدُ الملك، فلأنَّ سببَ المِلْكِ الإحْياءُ, ولم يُوجَدْ. وعن أبي حسين القطّان؛ أنَّه بعض الأصحابِ جعله مفيداً للملك. وأمَّا أنَّه يفيد الأحقيَّةُ فلأنَّ الإحياءَ, إذا أفادَ المِلْكَ، وجب أن يُفِيدَ للشُّروع فيه الأحقيَّة، كالاستيام مع الشراء، وأيضاً، فليأْمَنْ من يقصد الإحياء بالشُّروع في العمارة، ولا ينبغي أنْ يَزيد المتحجر على قدر كفايته، ويضيق على النَّاس، ولا أنْ يتحجَّر ما لا يمكنه القيام بعمارته، فإنْ فَعَلَ، قال في "التتمة": لغيره أن يُحْيِىَ ما زاد على كفايته، وما زاد عَلَى ما يمكنه القيامُ بعمارته. وقال غيره: لا يصحُّ أصْلاً؛ لأنَّ ذلكَ القَدْرَ غَيْرُ متعيِّن (¬2)، وينبغي أن يشتغل بالعمارة عَقِيبَ التحجُّر، فإن طالت المُدَّةُ، ولم يحيى قال له السُّلْطَانُ أَحْي، أو ارفَعْ يدَك عنْه، فإن ذكَر عُذْراً، واسْتَمهل، أمهَلَهُ مدةً قَريبَةً، يستعدُّ فيها للعمارة، والنظَرُ في تقديرها إلَى رأْيِ السلطانِ، ولا تتقدَّر بثلاثةِ أيَّامِ في أصحِّ الوجهَيْن، فإذا مضَتْ، ولم ¬
يشتغلْ بالعمارة، بطل حقه، وليس لطُولِ المدة الواقعةِ بعْد التحجُّر حدٌّ معيَّنٌ، وإنَّما الرُّجوع فيه إلى العادة. وقالَ أبو حنيفة -رضي الله عنه-: مدةَ التحجُّر ثلاثُ سنينَ، فلا يطالَبُ فيها بالعمارة، فإذا مضَتْ، ولم يشْتَغِلْ بالعمارة، بَطَل حقُّه، وقبْلَ أنْ يَبْطُلَ حقُّ المتحجِّر، لو بادر غيرُه، وأحيا ما يحجره غيره، ففيه ثلاثةُ أوجهٍ: أصحُّها: أنَّهُ يملك؛ لأنَّ حقَّقَ سببَ الملك، وإن كان مَمْنوعاً منه، فأشْبه ما إذا دخَل في سَوْمِ غيره، واشترَى، وهذا الوجه حكاه القاضِي ابن كَجٍّ عنِ النَّصِّ. والثاني: لا يملك؛ كيلا يَبْطُلَ حقُّ المتحجِّر. والثالث: أنَّه يفْرَقُ بين أنْ ينضَمَّ إلى التحجُّر إقطاع السلطان، فلا يملك المحيي، وبين أَلاَّ ينضمَّ؛ فيملك، وَمَال الأمامُ إلى الفَرْق بيْن أنْ يأخذَ في العمارة، فلا يملِك المبتدرُ إلى الإحْيَاء، وبين أنْ يكونَ المتحجِّرُ ويرسم خطاً ونحوه فيملكُ، فهذا وجهٌ رابعٌ، وشبَّهوا الخلافَ في المسألة بالخِلاَف فيما إذا عشَّشَ الطائرُ في مِلكِه وأخذ غيرُه الفَرْخَ، هَلْ يملكه (¬1)؟. [ولو باع المتحجِّر ما تحجره، ففيه وجهان، والتفريع على أن التحجُّر لا يفيد المِلْكَ. قال الجمهور: لا يصحُّ؛ لأنَّ حقَّ التملك] (¬2) لا يُبَاعُ؛ ألا تَرَى أنَّ الشفيعَ لا يبيع الشِّقْصَ قبل الأخذ؟ وقال أبو إسحاقَ وغيرُه: يصحُّ، وكأنَّه يبيعُ حقَّ الاختصاص، وعلى هذا، فلو باعَ وأحياه في يدِ المشتَرِي مُحْيي، وقلْنا: إنَّه يملك. حَكَى أقض القضاةِ المَاوَرْدِيُّ عن ابن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّه لا يسقطُ الثمنُ عن المشتَرِي لحصولِ التلَفِ بعد القبض، وعن غيره السُّقُوط (¬3). وقوله: "فهو أولَى، إن لم يطُلِ الزمان" كان الأَولَى به أن يقول: "ما لم يطُلِ الزمان لأن الأولوية ثبتت في الحال، ثم ترتفع عند طُول الزمان. وقوله: "وكان مشتغلاً بأسبابِ العمارة" أراد ما ذكره الإمام أنَّ حقَّ المتحجِّر يَبْطُل ¬
بطول الزمان وتركه العمارة، وإن لم يُرْفَع الأمرُ إلى السُّلْطانِ، ولم يخاطِبْه بشَيْء ووجهه بأنَّ التحجر ذريعةٌ إلى العَمَارةِ، وهيَ لا تُؤَخّر عن التحجُّر إلا بقدر تهْيئة أسباب العمارة، ولذلك لا يعتبر التحجُّر ممن لا يمكّنه تهيئة الأسباب كفقير يتحجَّر منتظراً القدرة عليها, ولا من متمكَّن يتحجَّر ليُعَمِّر في السنة القابلة، فهذا أخَّر، وطالت المدةُ، عاد المَوَاتُ كما كان، وهذا قد حكاه الشيخ أبو حامدٍ عن أبي إسحاق، ثم قال: عنْدي لا فَرْق بين طُول الزَّمَان وقِصَره، إذا لم يرفع الأمر إلى السُّلْطَان، ولم يخاطبْهُ بشيءٍ، فيجوز أن يُعْلَمِ لهذا قوله: "بَطَل اختصاصه" بالواو، ولفظ "التحجُّر" فيما ذكره الأَزْهَرِيُّ (¬1) مأخوذٌ من الحَجْرِ، وهو المنعُ؛ لأنَّه بما يرسُمُه، يمنع غيره [عنه.] قَالَ الغَزَالِيُّ: الخَامِسُ إِقْطَاعُ الإِمَامِ، وَهُوَ مُتَّبَعٌ في المَوَاتِ، وَحُكْمُهُ قَبْلَ الإِحْيَاءِ كَحُكْمِ التَّحَجُّرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لإِقْطاع الإمام مَدْخَلٌ في الموات؛ رُوِيَ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أقْطَعَ الدُّورَ (¬2)، وعن علقمةَ ابْنِ وائلٍ عنَ أبيه -رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أقْطَعَهُ أَرْضَاً بِحَضْرَ مَوْتِ (¬3). ورُوِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- أَقْطَعَ الزُّبَيْرِ بْنَ العَوَّامِ -رضي الله عنْهُ- حُضْر (¬4) فرسه فَأَحْرَى فَرسَهُ، حَتَّى قَامَ، ثُمَّ رَمَى بسَوْطِهِ، فقَالَ: "أعطُوهُ من حيثُ بلغ السَّوْط (¬5) " وفائدة الإقْطَاع مصير المقطع أحقُّ بإحبائه كالمتحجِّر، وإذا طالت المدةُ أو أحياه مُحْيي، فالحكمَ عَلَى ما ذكرناه في المتحجِّر. وعن مالكٍ -رضي الله عَنْهُ- أنَّه إن أحياه عالِماً بالإِقطاع، كان مالكاً للمُقْطِع، وإن أحياه غير عالم بالإقطاعِ، فالقطع بالخيارِ بَيْن أن يأخذَهُ، ويغرم للمحْيي ما أنفَقَ في العمارة، وبيْن أن يتركَهُ على المحيي، ويأْخُذَ منْه قيمةَ المَوَاتِ قبل العمارة. وقال أبو حنيفة -رضي الله عنه-: إن أحياه قبْل ثلاثِ سنينَ، فهو للمُقْطِعِ، وإن أحياه بعدْها، فللمحيي، ولا يُقْطِع الإمامُ إلاَّ مَنْ يقدر على الإحْياء، وبقدر ما يقدر عليه. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: السَّادِسُ الْحِمَى لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ البَقِيعُ وَلِمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الأَئِمَةِ كَالتَّحَجُّرِ في المَنْعِ مِنَ الإِحْيَاءِ، وَلاَ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُ أن يَحْمِيَ لِنَفْسِهِ وَكَانَ ذَلِكَ خَاصَّةً لَهُ، وَيَجُوزُ (و) أَنْ يَحْمِيَ لإبِلِ الصَّدَقَةِ أَعْنِي لِلأِئمَّةِ، وَفِي نَقْصِ الْحِمَى بَعْدَ زَوَالِ الحَاجَةِ خِلاَفٌ (و)، قِيلَ: إِنَّهُ لاَ يُغَيِّرُ كَالمَسْجِدِ، وَقِيلَ: نَعَمْ لأَنَّهُ بُنيَ عَلَى مَصْلَحَةٍ حَالِيَّةٍ. قالَ الرَّافِعِيُّ: المرادُ من الحَمى أنه يَحْمِيَ بقعةً من المواتِ لمواشٍ بَعينْها، ويَمْنَعَ سائرَ الناس عن الرَّعْي فيها، وكان يجوزُ ذلك لرسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لخاصة نفْسه، ولكنَّه لم يَفْعَلْ، وإنَّما حَمَى النقيعَ (¬1) لإبِلِ الصَدقةِ، وَنَعَمِ الجزية، وخَيْلِ المجاهدين في سبيل الله تعالَى (¬2). وأمَّا غَيْرُ رسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فالآحاد لا يَحْمُونه أصْلاً، وليْسَ للأئمة الْحمَى لنفسِهم، وكأنَّ ذلكَ من خواصِّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- وفي حمَاهُمْ لمصالح المسْلِمِين قولان: أحدُهُما: المنعُ أيضاً؛ لما رُوِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ حِمَى إلاَّ لله وَلرَسُولِهِ" (¬3). وأصحُّهما: الجوازُ، وبه قال أبو حنيفةَ ومالكٌ؛ لأنَّ عُمَرَ -رضي الله عنه- حَمَى، واستعمل على الحِمَى مولىً له يُقالُ له: هُنَيِ. وقال: "يَا هُنَي، اضْمُمْ جَنَاحَكَ لِلْمُسْلِمِينَ، واتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ فَإِنَّهَا مُجَابَةٌ، وأَدْخِلْ ربَّ الصُّرَيْمَةُ وَالغَنِيمَةِ، وَإِيَّاكِ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ وابْنِ عَفَّانَ، فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكُ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وِإِنَّ ربَّ الصَّرِيمَةِ وَالغَنِيمَةِ، إنْ يَهْلِكِ مَاشِيَتُهُمَا يأتي بِعِيَالِهِ، فيَقُولُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، لاَ أَبَا لَكَ، فَالمَاءَ وَالكَلأُ أَيْسَرُ عَلَيَّ مِنَ الذَّهَب وَالْوَرِقِ، وَأَيْمُ اللهِ، لَوْلاَ المَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا حَمَيْتُ عن المُسْلِمِيَنَ من بِلاَدِهِم شِبْراً (¬4) وأَيْضَاً فللحاجة الداعية. وعن صاحِب "التقريب" القَطْعُ بالقول الثاني، والحديثُ محمولٌ على المَنْع من أن يَحْمِيَ لنفسه عَلَى ما كان يفعله العزيز من العربِ كان، إذا انتجع بقعةً محصنةً، استقْوَى كلباً عَلَى جبلٍ أو نشز، ووَقَف له من يَسْمَع صوته، فإلَى حيث انتهى صوتُه حماه لنفسِهِ منْ كلِّ جانب، ورعَى فيما سواه مع النَّاس، وإذا جوَّزنا، فذلك للإمام الأعظَمِ خاصَّة، أو يجوزُ لِوُلاَتِهِ في النواحي أيضاً؟ فيه وجهان رواهما القاضي ابْنُ كجٍّ وغيرُه. أظْهَرْهُمَا: الثاني، ولا فرْق بين أنْ يحمي لخيل المجاهدين أو نعَم الجزية ¬
والصدقة والضوال، ومال الضعفاء عن الأبعاد في طلب النجعة، وعن مالك أنه لا يحمي إلا لخيل المجاهدين، ولا يحمي إلا الأقل الذي يبين ضرره على الناس، ولا يضيق الأمر عليهم، وكذلك كان البقيعُ الذي حماه رسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-. إذا عَرَفتْ ذلك، فهل يجوزُ تغيير الحِمَى ونقضه؟ أمَّا حِمَى غَيْرِ رسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ففيه قولان: أحدهُمَا: لا يجوزُ تغييرُه لتعينه لتِلْك الجهة كالمَسْجِد والمقبرة. وأصحُّهما: الجوازُ؛ لأنَّ الحِمَى كان يطرأ للمُسْلِمين برعايةِ مصْلَحة حالِيَّة، وقد يقتضي النظر نقضه وردَّه إلَى ما كان، وفي بعْضِ الشُّروح أنَّه يجوز [أن يكون] للحامي أن ينقض حمى نفْسَه، ولا يجوزُ لِمَن بعْده من الأئمة نقْضُ حِمَاهُ، وإذا جوَّزناه، فلو أحياه مُحْيي بِإِذْنِ الإمام، مَلَكَه، وكانَ الإذْنُ في الإحياء نقْضاً، وإن استقل، فوجهان، ويقال: قولان منْصُوصان: أظهرهُمَا: المَنْعُ؛ لما فيه من الاعتراضِ عَلَى تصرُّف الإمام وَحكْمه. وأما حِمَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففيه طريقان: منهم من قال: إنَّه نَصُّ [من الشارع، فلا ينقض بحال. ومنْهم مَنْ قال: إنْ بَقِيَت] (¬1) الحاجةُ الَّتي حَمَى لها لم يغيّر، وإنْ زالَتْ، فوجهان: أحدُهُما، وبه قال أبو حنيفة: أنه يجوز تغْييرهُ لزوالِ العِلَّة. وأظهرهُمَا: المنْعُ؛ لأنَّ التغييرَ، إنَّما يكون بالاجتهادِ، ونحْنُ نقطع بأنَّ ما فعلَه مصلحةٌ؛ فلا يرفع القطع بالظَّنَّ (¬2). ¬
وقولُهُمْ: "إنَّه لو بقيتِ الحاجةُ، لم يغير" لا يختميى بحِمَى رسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بل حِمَى غيره أَيْضاً إنما يغيَّر عند زوال الحاجة، واقتضاء الحال التغيير، وقولُه في الكتاب: "الحمى لرسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وهو النقيع، ولمن بعده من الأئمة كالتحجُّر في منع الإحياء" التشبيهُ مستمِرٌّ في أنَّ كلاًّ من التحجُّر والحِمَى يقتضي الامتناعَ منَ الإِحياء، وفي جريان الخِلاف في أنَّهُمَا، هل يمنعان حصُول المِلْك للحِمَى؟ لكنَّ الأظْهَرَ من الخلاف في التحجُّر حصولُ المِلْك، وفي الحِمَى خلافهُ خَاصَّة في حمَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وقولُه: "ويجوزُ أن يَحْمِيَ لإبل الصدقةِ" مُعْلَم بالواو؛ لما ذكرنا، وذكَرَ إبل الصدقة للتمثيل لا لتخصيص الحكم بها والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: أَمَّا المَنَافِعُ المُشْتَرَكَةُ فَهِيَ مَنْفَعَةُ الشَّوَارع للطُّرُوقِ وَالجُلُوسَ وَمَنْفَعَةُ الْمَسَاجِدَ والرِّبَاطَاتِ، أَمَّا الشَّوَارعُ فَلِلطُّرُوقِ، وَيَجُوزُ الجُلُوسُ بِشَرْطِ أَلاَّ يَضِيقَ، ثُمَّ السَّابِقُ يُخْتصُّ بِهِ فلاَ يُزْعَجُ، فَإنْ قَامَ بَطَلَ حَقَّهُ إلاَّ إِذَا جَلَسَ لِلْبَيْعِ فَيَبْقَى حَقُّه إِلَى أَنْ يُسَافِرَ أَوْ يَقْعُدَ في مَوْضِعِ آخَرَ أَوْ يَتْرُكَ الحِرْفَةَ أَوْ يَطَوُلَ مَرَضُهُ بِحَيْثُ يَنْقَطِعُ الأُلْفَةُ إِلَى غَيْرِهِ، وَالأَظهَر: (و) أَنَّ الإِقْطَاعَ لاَ مَدْخَلَ لَهُ فِيهَا إِذِ المِلْكُ لَيْسَ مَطلُوَباً مِنْهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: البَابُ الثَّاني في المنافع: بقاع الأرض وإما مملوكة أو محبوسةٌ علَى الحقوقِ العامَّة، كالشوارع، والمساجد، والمقابرِ، والرِّبَاطَات، أو منفكَّةَ عن الحقوقِ الخاصَّةِ والعامَّةِ، وهي المَواتُ، فهذه ثلاثةُ أقْسَام، وإذا تأمَّلْهَا عَرَفْتَ أنَّ الانفكاك عن الاختصاصاتِ المذكورةِ في البَاب الأول لا يكْفيَ للتملُّك [بالإحياء]، بل يعتبر مع ذلك الانفكاكُ عنِ الحقوقِ العامَّة أيضاً. أمَّا المملوكةُ فمنافِعُها تتبع رقَابَها. ومقْصود الباب الكلامُ في الانتفاع بالبقاع المحبُوسَة على الحقوق العامَّة. ويقرب
منه الانتفاعُ بالموات منْ غير إحياء، أمَّا الشوارعُ فمَنْفَعَتُها الأصليَّة الطروقُ، ويجوز الوقوف والجلوس فيها, لغَرَضِ الاستراحةِ والمعاملةِ ونحوهما بشَرْط ألاَّ يضيقَ على المَارَّة أذِنَ الإمامُ فيه أو لم يأْذَنْ (¬1)، لاتفاق الناسَ علَيْه مع تلاحُق الأعصار، وله أن يُظَلّل على موضع جُلُوسِه بما لا يضُرُّ بالمارَّة من ثَوْبٍ وبَادِيَّةٍ ونحوِهِمَا، وفي بناء الدِّكة [على] ما ذكرناه في كتاب الصُّلْح. فلو سبَقَ اثنانِ إلى موضعٍ، فيقرع بينهما، أو يقدم الإمامُ أحدَهُمَا؟ فيه وجهان: أظهرُهما: الأوَّلُ، وفي ثبوت هذا الارتفاقِ لأهْل الذمَّةِ وجهان، رواهما القاضي ابنُ كَجٍّ، واختلفوا في أنَّهُ، هل لإِقْطاع الإمام مدْخَلٌ فيه؟ على وجهين: أحدهُمَا: أنَّه لا مَدْخل له في هذا الارتفاق؛ لأنَّه منتفعٌ بها على صفتها منْ غَيْر عمل، فأشبهتِ المعادنَ الظَّاهرة، ولأنَّهُ لا مَدْخَلَ للتَملُّك فيه، ولا معْنى للإقطاع بخلاف المَوَات. والثاني: أنَّ له مَدْخلاً فيه؛ لأنَّ للإمام نَظَراً واجتهاداً في أنَّ الجلوسَ في المَوْضع، هل هو مضرٌّ أم لا؟ ولهذا يزعج من جلس ورأى جلوسه مضراً. وإذا قلنا: يزعج إذا أدام الجُلُوس، فإنَّما يزعجُه الإمامُ، وإذا كان للاجتهاد فيه مدْخلٌ، فكذلك لإقْطَاعِهِ، وذكر المصنِّف أنَّ الوَجْهَ الأولَ أظهرُ، ويُقالُ: إنه اختيارُ القفَّال، لكنَّ الذي عليه الأكثرون الثاني، وهو نصَّ علَيْه الشافعيُّ -رضي الله عنه- ثم للنزاع مجالٌ في القول الأوَّل أنَّه لا مدخل فيه للتملُّك؛ وفي "الرقْم" للعَبَّادِيِّ، وفي "شَرْحُ مختصر الجُويْنِيِّ" لأبي طاهر روايةُ وجهِ أنَّ للإمام أنْ يتملَّكَ من الشَّوَارع ما فَضَل عن حاجة الطُّروق (¬2). إذا تقرَّر ذلك فلو جَلس في موْضعٍ، ثم قام عَنْهُ، نُظِرَ؛ إن كان جلوسه لاستراحةً وما أشبَهها بَطَلَ حقُّه، وإن وإن لحرفةٍ ومعاملةٍ، فإنْ فارقَهُ عَلَى ألا يَعُودَ لتركه الحرْفَة، أو لقعودِهِ في موْضِعٍ آخرَ، فكذلك الجواب، وإنْ فارقه عَلَى أن يعود، فالأشبهُ ¬
فرعان
بالمذهب ما ضَبَطه الإمامُ، وجرى عليه صاحبُ الكتاب، وهو أنه إن مضى زمان ينقطع فيه الذَّين ألفوا المعامَلَةَ معه، ويستَحِقُّون المعاملةَ مِع غيره، بَطَلَ حقُّهُ، وإنْ كان دُونَه، لم يَبْطُل؛ لأنَّ الغرض من تعيين لموْضِع أن يُعْرَف، فيعامل، فلا فرْقَ بين أن تكونَ المفارقةُ، لعُذْر كالسفر أو المرض، أو لغيرِ عذرٍ، وَعلَى هذا، فلا يَبْطُلُ حقُّهُ؛ بأنْ يرجع في الليل إلى بيته، وليس لغيره مزاحمته، في اليوم الثاني. وكذلك الأسواقُ التي تقام في كلِّ أُسْبُوعٍ، أو في كلِّ شهرٍ مرةً، إذا اتخذ فيها مَقْعَداً، كان أحقَّ به في النَّوْبَةِ الثَّانية، وإن تخلَّلتَ بينهما أيَّامٌ. وقال الإِصْطَخْرِيُّ: إذا رَجَعَ إلَى بيته باللَّيْل، فسَبَق إلَى الموضع غَيْرُه، فهو أحقُّ به، كما إذا فارقَ موْضِعِهِ مِنَ المَسْجِد، وعاد للصَّلاة الأُخْرى؛ وقد سبقه إليه غيره. وفرَقَتْ طائفةٌ، منهم صاحبُ "الشَّامل" والقاضي الرُّويانيُّ بيْن أن يجلس بإقطاع الإمامِ، فلا يَبْطُلُ حقُّه، إذا قام عَنْهُ، ولَيْسَ لغيره الجُلُوسُ فيه، وبين أن يستقل، فإنْ ترَكَ فيه شيئاً مِنَ رَحْلِه أو متاعِه، بقي حقه، وإلاَّ، فلا. وإذا قلْنا بالأول، فلو أراد غيرُهُ أنْ يَجْلِس فيه في مُدَّة غَيْبته القصيرة إلى أن يَعُودَ، ففيه وجهان: أَحَدُهُمَا: لا يُمَكَّنُ؛ لأنَّ الأئمَّةَ يتخيَّلون إعراضه. والأظهرُ: الثَّاني؛ كيْلا تتعطل (¬1) منفعة الموْضِع في الحال، وهذا في جلوس الغير للمعامَلَةِ، فأمَّا لغيرها، فلا يُمْنَع بحال (¬2). ولْيُعْلَم قوله في الكتاب: "فيَبْقَى حقُّه" بالواو؛ لما ذكرنا من الخلاف. فرعان: الأوَّل: كما أن موضع الجُلُوس يختصُّ بالجالس فلا يزاحَمُ فيه، كذلك ما حَوْلَه قدْرَ ما يحتاج إلَيْه؛ لوضع متاعه، ووقوف المعامِلِينَ فيه، وليس لغيره أن يقْعُد حيْثُ يمتنع منْ رؤية متاعه، أو وُصُول المعاملين إليه، أو يُضَيِّق علَيْه الكَيْلَ والوَزْن، والأخذ والإعطاء (¬3). ¬
الثاني: الجَوَّالُ الذي يقْعُد كلَّ يوم في موضِعٍ من السُّوق يبْطُل حقَّه، إذا فارق المكان، والذي تقدَّم مفروضٌ في غيره. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَمَنْ جَلَسَ في المَسْجِدِ لِيُقَرأَ عَلَيْهِ القُرْآنُ وَالعِلْمُ فَيَأْلفُهُ أَصْحَابُهُ فَهُوَ كَمَقَاعِدِ الأَسْوَاق، فَإنْ جَلَسَ للِصَّلاَةِ لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ فِي صَلاَةٍ ثَانِيَةٍ، وَيَخْتَصُّ (و) فِي تِلْكَ الصَّلاَة إِذَا غَابَ بِعُذْرِ رُعَافٍ أَوْ غيْرِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أمَّا المَسْجِدُ، فالجلُوسُ فيه يُفْرَضُ لأغْراضٍ. منها: أنْ يجلس؛ ليُقْرأ عليه القرآنُ، أو يُتعلَّمَ منه الفقْهُ، أو يُسْتَفْتَى. قال صاحبُ الكتابِ والشَّيْخ أبو عاصمٍ العبَّادِيُّ: الحكم فيه كما في مقاعِدِ الأسْوَاق؛ لأنَّ له غَرَضاً في ملازمةِ ذَلك المَوْضع ليألفه الناسُ (¬1)، وهذا أشبَهُ بمأخذ الباب. وحَكَى أقضى القضاة الماوَرْدِيُّ: أنَّه مهما قام، بَطَلَ حقُّه، وكان السابِقُ إلَيْه أحقَّ لقوله تعالَى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (¬2) [الحج: 25]. ومنها أنْ يَجْلِسَ للصَّلاة، وذلك لا يقتضي الاختصاص لما بعدها من الصَّلَوات؛ بل مَنْ سبَق في سائر الصلوات إلَى ذلك الموضع، فهو أحقُّ، وفرَقُوا بينه وبيْن مقاعد الأسواقِ بأنَّ غَرَضَ المعاملة يختلفُ باختلافِ المقاعد، والصلاةُ في بقاع المسجد لا تختلف، ويجوز أنْ يمنعَ ذلك؛ لأنَّ ثوابَ الصَّلاةِ في الصَّفِّ الأول أكثرُ، وأيْضاً، فالإنسان قد يألف بقعة من المسْجِد، فهلاَّ كان الحكْمُ كما سيأتي في المدارِسِ، إذا فارق البيتَ الذي يسكنُهُ، وأمَّا الصلاةُ التي حضَرَ لها، فهو أحقُّ بالموضع فيها, وليس لغيره أن يُزْعِجَهُ، فإن فارقه إجابةً لِمَنْ دعاه، أو لِرُعَافٍ، أو قضاءِ حاجةٍ أو تجديد وضوءٍ، ففيه وجهان، ذكرهما القاضي ابن كَجٍّ وغيرُه: أَحَدُهُمَا: أنَّ اختصَاصَهُ يَبْطُلُ لحصولِ المفارقة، كما بالإضافة إلَى سائر الصلواتِ. وأصحُّهما: المَنْعُ؛ لما رُوِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قَامَ أَحَدُكُمْ من مَجْلِسِهِ في المَسْجِدِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ إِذَا عَادَ إِلَيْهِ" (¬3). ولا فرق على الوجهين بين أنْ يتركَ إزاره فيه، ¬
فرعان
وبيْن ألاَّ يترك، ولا بين أنْ يطرأَ العُذر بعد الشُّرُوعِ في الصلاة أو قَبْله، وإن اتَّسَعَ الوقتُ، فإنْ فارَقَه من غَيْرِ عُذْر حادثٍ، فهو كما ذكرنا في سائر الصلواتِ (¬1). ومنها: الجلوسُ للبَيْعِ والشِّرَاءِ والحِرْفَة، وهو ممنوعٌ إذْ حُرْمَةُ المسجد تأْبَى اتخاذه حانوتاً، وقد رُوِيَ أن عثمانَ -رضي الله عنه- رأى خَيَّاطاً في المَسْجِدِ يخيط فأخْرَجَه (¬2). فرعان: الأَوَّلُ: يمنع الناس من استطراقِ حِلَقِ الفقهاء، والقُرَّاء في الجامع تَوْقِيراً لها. الثاني: قال الإمامُ: لا خلاف (¬3) في انقطاع تَصَرُّفِ الإمامِ، وإقْطَاعه عن بقاع المسْجِد، فإنَّ المَسَاجد لِلَّهِ تعالَى يُخْدشَهُ ههنا شيئان: أحَدُهُمَا: أنَّ القاضِيَ المَاوَرْدِيَّ ذكر أنَّ الترَتّب في المَسْجد للتدريسِ، والفَتْوَى [كالترتب للإمامة، حتى لا يعتبر إذْنُ الإمامِ في مسَاجِد المحالِّ، ويعتبر في الجوامع، وكبار المساجد، إذَا كانت] (¬4) عادةُ البَلَدِ فيه الاستئذانَ، فَجَعَلَ لإذن الإمام فيه اعتباراً. والثاني: عَدَّ الشيخ أبو حامد وطائفةٌ من جملةِ ما يقطع؛ ليرتفق المقْطع بالجلوس فيه للبَيْع والشراء مع مقاعِدِ الأسْوَاق رحابُ المسجد، وهذا كما يقدح في نفْي الإقطاع، يعترض على المشْهُور في المنْع منَ الجُلُوس في المسْجِد؛ للبيع والشراء إلاَّ أن يراد ¬
بالرِّحَابِ الأبنيةُ الخارجةُ عن حَدِّ المسجد (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالسَّابِقُ في الرِّبَاطَاتِ وَغَيْرِهَا إِلَى بُقْعَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا، ثُمَّ إنْ طَالَ عُكُوفُهُ عَلَى هَذِهِ الانْتِفَاعَاتِ المُشْتَرَكَةِ وَصَارَ كَالتَّمَلُكِ الَّذِي أَبْطَلَ أَثْرَ الاشْتِرَاكِ فَفِي الإزْعَاجِ خِلاَفٌ (و). قَالَ الرَّافِعِيُّ: الرِّبَاطاتُ المسبلة في الطُّرُقُ، وعلى أطراف البلاد، إذا سَبَقَ إلَى موضع منْها سابقٌ، صار أحقَّ به، وليْسَ لغيره إزعاجُه، سَواءٌ دخل بإذن الإمامِ، أو بغير إذْنِه، ولا يَبْطُلُ حُقِّهُ بالخُروج لشراءِ طعامٍ ونحوه، ولا يلزمه تخليفُ أحدٍ في الموضع، ولا أنْ يَتْرُكَ متاعَهُ فيه؛ لأنَّه قد لا يَجِدُ غيره، ولا يأْمَنُ على متاعه، ولو ازْدَحَمَ اثنانِ عَلَى موضِعٍ، ولا سَبْق، فعلَى ما ذكرنا في المقاعد، وكذلك الحكم في المدارس، والخوانق إذا نزلها منْ هو مِنْ أهلها، وإذا سكنَ بَيْتاً منها مُدَّة، ثم غاب أيَّاماً قليلةً، فهو أحقُّ إذا عاد؛ لأنَّهُ ألفه، وإنْ طالتْ غَيْبتُهُ، بَطَلَ حقُّهُ (¬2)، والنازِلُونَ في مَوْضِع من البادية أحقُّ به، وبما حوالَيْه قدْرَ ما يحتاجون إلَيْه لِمَرَافِقِهِم، ولا يزاحمون في الوادي الذي سرَّحُوا إليه مواشِيَهم، إلاَّ أنْ يَكُونَ فيه وفاءٌ بالكُلِّ، وإذا ارتحلوا، بَطَلَ اختصاصُهُمْ، وإنْ بَقِيَ آثار الفساطيط ونحوُها (¬3). وقوله: "إن طال عكوفه على هذه الانتفاعات المشتركة، وصار كالتملك الذي أبطل أثر الاشتراك ففي الازعاج خلاف" يعني المرتفق بالشوارع والمساجد إذا طال العكوف عليها فأخذ الوجهَيْن: أنَّهُ يزعج؛ ليظهر الفَرْق بين المشتركات والأَمْلاَكِ المختصَّة بالمُلاَّك. ¬
وأظهرهُمَا: وبه قال أبو إِسْحَاقَ أنَّه لا يُزْعَج؛ لأنَّهُ أحدُ المرتفقين، وقد ثبتَتْ له اليدُ بالسَّبْق، فلا تزال. وأيضاً فقد رُوِيَ أنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقَهُ إِلَيْهِ مُسْلِم، فَهُوَ لَهُ" (¬1). أمَّا الرِّباطاتُ الموقُوفةُ، فإنْ عَيّن الوَاقِفُ مُدَّةَ المكْثِ فيها، فلا يزيد، وكذا لو وقَفَ على المُسَافِرِين، فلا يمكث مدَّة تزيد عَلَى مدة مُكْثِ المسافرين، وإنْ أَطْلَقَ الواقف، نُظِرَ إلَى الغرضِ الذي بنيت البقعة لَهُ، وعمل بالمعتاد فيه، فلا يُمَكَّنُ من الإقامةِ في رباطات المَارَّة، إلاَّ لمصْلَحتها، أو لخوْفٍ يعرض، أو لأمطارٍ تتواتَرُ، وفي المدرسةِ الموقوفة عَلَى طلبةِ العلم، يمكَّن من الإقامة إلى استتمام غَرَضه، فإنْ ترك التَّعلُّمَ والتحصيلَ أزعج، وفي الخَانقاهات لا يمكَّن، هذا الضبطُ، ففي الازعاج، إذا طال المُكْث، ما سَبَق في الشَّوارع والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: أَمَّا المَعَادِنُ فَظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ (أَمَّا الظَّاهِرَةُ): فَالمِلْحُ وَالنِّفْطُ وَأَحْجَارُ الرَّحَا وَالرُّخَامُ وَالبُرْمَةُ وَكُلُّ مَا لاَ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى طَلَبَ فلاَ يَخْتَصّ بِهِ أَحَدٌ إلاَّ بِإِحْيَاءٍ وَتَحْوِيطٍ حَوْلَهُ وَلاَ يَخْتَصُّ بِتَحْجِير وَلاَ بِإقْطَاعِ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ كَالميَاهِ الجَارِيَةِ، وَالسَّابِقُ إِلَى مَوْضِع لاَ يُزْعَجُ قَبْلَ قَضَاءِ وَطَرِهِ، فَإِنْ تَسَابَقَ رَجُلاَنِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا (و) وَيقَدِّمُ القَاضِي مَنْ رَآهُ أَحْوَجَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: البابُ الثَّالثُ: في الأعيان الخارجةُ في الأرض، وفيه فصلان: الفصلُ الأوَّلُ: في المعادن، وهي البقَاعُ الَّتي أوْدَعَهَا الله تعَالَى شيئاً من الجواهرِ المطْلُوبةِ -وتنقسِمُ إلَى ظاهرةٍ، وباطنةٍ: فالظاهرةُ: هي التي يبدو جوهرها من غَيْر عَمَلٍ، وإنَّما السَّعْيُ والعملُ لتحْصِيله، ثم تحصيُلُه قد يَسْهُل، وقد يَلْحَقَ فيه تَعْبٌ، وذلك كالنِّفْطِ وأحجارِ الرَّحَى والبُرْمة (¬2) وَالكِبْرِيت، والقِطِران والقَارِ (¬3) والمُوميَاء (¬4) وأشبَاهها، فلا يملكُها أَحدٌ بالإحياء والعِمارة، وإن ازداد النَّيْل (¬5)، ولا يختصّ بها التحجُّر، وليْسَ للسلطانِ إقطاعُها بلْ هو ¬
فوضى بين الناس كالمياهِ الجارية، والكلأ والحطب وقد رُوِيَ أنْ أَبْيَضَ بن حمال المازني اسْتَقْطَعَ رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِلْحَ مَأْرِب، فأراد أن يُقْطِعَهُ، وُيرْوَى فأقطعه فَقِيلَ: إنَّه كالمَاء العد (¬1) قال: فلا، إذن (¬2). ولو حوط على بعض هذه المعادن محوطاً واتخذ علَيْه داراً أو بستاناً. لم يملك البقعة لفساد قصده، فإن المعدن لا يتخذ مسكناً ولا بستاناً، وأشار في الوسيط إلى خلاف فيه ولو ازدَحَمَ اثنان عَلَى معدن ظاهر، فضاق المكانُ، فالسابقُ أَوْلَى وبأيِّ قدر يَسْتَحِقُّ التمكن والتقديم؟ عبارة كثرهم أنَّه يتقدَّمُ بأخذ قدْر الحَاجَة، ولمْ يبيِّنوا أنَّ المرعى حاجةِ يَوْمٍ أو سَنَةٍ، ولما لم يشْف (¬3) ذلك، قال الإمامُ: الرُّجوعُ فيه إلى العُرْف، فَيأخذ ما تقتضيه العادةُ لأمثاله، وإذا أراد الزِّيَادَةَ عَلَى ما يقتضيه حقُّ السَّبقِ، فوجهان: أحَدُهُمَا: لا يزعج أو يأخُذُ بحقِّ السبق، ما شاء، لما رُوِيَ أنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ". وأظْهَرُهُمَا: الإزْعَاج؛ فإنَّ عكوفَه عَلَيْه كالتحجُّر، والتحْوِيط المانع للغَيْر، هكذا ذكَرُوه مع جعْلِهم الأظْهَرَ في مَقاعد الأسواق؛ أنَّه لا يزعج، ويمْكِنَهُ أن يفرق بينهما لشدة الحاجاتِ إلَى نيل المعادن، وإنْ جاءَا معاً، ففيه ثلاثةُ أوْجُهٍ: أَظْهَرُهُمَا: أنَّهُ يُقْرعُ بينهما. والثَّاني: أنَّ الإمامَ يَجْتَهِدُ، وُيقَدِّمُ من يراه أحْوَجَ وأحقَّ. والثَّالِثُ: أنَّه ينصب مَنْ يُقْسِم الحاصلَ بينهما. ووضع العراقيُّون من الأصحاب الوجُودَ فيما إذا كانا يأْخُذان للحاجَةِ لا للتجارة، فإن كانا يأخُذَان للتجارة، قالوا: يهايأ بينهما فيه، فإنْ تَشَاحَّا في السَّبْق أُقْرع، وكان الفَرْقُ أنَّ التاجرَ لغرض التجارة أليق والأشْهَر (¬4) إطلاقُ الأوجه، ويُشْبه على قياس ما ¬
ذكروه أنْ يُقَالَ: إذا كَانَ أحدُهُمَا تاجِراً، والآخرُ محتاجاً يقدَّم المحتاج. ومِن المعادِنِ الظاهرة: المِلْحُ الذي ينعقدُ منَ المَاء، وكذا الجَبليُّ إذا كان ظاهراً لا يحتاج فيه إلَى حفر [ة] وتنحية تراب، والكُحْلُ والجَصُّ والمَدَرُ، وأحجارُ النورة، وفي بعض شروح "المفتاح" عُدَّ المِلْح الجبليّ من المعادن الباطنة. وفي "التهذيب" عَدَّ الكُحْل والجَصَّ منها، وهما محمُولاَنِ على ما إذا أحوج إظهارها إلى الحَفَرِ، ولو كان بقُرْبِ السَّاحل بقعةٌ لو حفرت وسيق الماء إليها، ظهر فيها المِلْحُ، فلَيْسَتْ هي مِن المعادن الظاهرة؛ لأنَّ المقْصُودَ منْها يَظْهرُ بالعَمَل، وللإمام إقطاعُها. ومَنْ حفرها وساق الماءَ إلَيْها، وظَهَر المِلْح، مَلَكَها، كما لَوْ أحْيَا مَوَاتاً. وقولُه في الكتابِ: "والسَّابِقُ إلَى موضعٍ لا يزعج قبْلَ قضَاءِ وَطَرِهِ". هذا اللفظُّ إنَّما يَنْطَبِقُ على الوجْه الذَّاهِب إِلَى أنَّه يَأْخُذُ بحَقِّ السَّبقِ ما شاء، وفيه ما سبق. وقوله: "أُقْرعَ بينهما أو قَدَّم القاضي" أراد أُقْرعَ في وجه، وقَدَّم القاضي الأَحْوَجَ في وجه. قَالَ الغَزَالِيُّ: (أَمَّا الباطِنَةُ) وَهِيَ الَّتي تَظْهَرُ بالْعَمَلِ كَالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، فَإِنْ ظَهَرَ فِي مِلْكِ إِنْسَانٍ بَعْدَ أَنْ أَحْياهُ فَهُوَ مِلْكُهُ، فَإِنْ لَمْ يحيي وَلَكنَّه ظَهَرَ بِعَمَلِهِ فَهَلْ يَمْلِكهُ به؟ فِيهِ قَوْلاَنِ، فَإِنْ قلْنَا: يَمْلِكُ دَخَلَ الإِقْطَاعُ فيه كَالمَوَاتِ، وَلاَ يَقْتَصِرُ مِلْكُهُ عَلَى مَحَلِّ النِّيلَ بَلِ الحُفْرَة الَّتي حَوَالَيْهِ وَيلِيقُ بِحَرِيمِهِ يَمْلِكُهُ أَيْضًا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الضربُ الثاني: المعادنُ الباطنةُ، وهي الَّتي لا يظهرُ جَوْهرُها إلاَّ بالعملِ والمعالجةِ كالذهبِ، والفضةِ، والفيروزِ، والياقُوتِ، والرَّصَاص، والنُّحَاسِ، والحَدِيد، وسائِر الجواهرِ المبثوثة في طبقات الأرْضِ. وعن الشيخ أبي محمَّد تردُّدٌ في عدِّ حَجَرَ الحديد ونحوه من المعادن الباطِنَةِ؛ لأنَّ ما فيها من الجوْهَرِ بادٍ عَلَى الحَجَر، والظاهرُ الأولُ؛ لأنَّ الحديدَ لا يُسْتَخرجُ منه إلاَّ بمعاناة، وليس البادي على الحجر عيَّن الحديدِ، وإنَّما هو مخيلته، ولو أظْهَرَ السَّيْلُ قطعة ذهَبٍ، أو أتى بها، التحقَتْ بالمعادن الظاهِرَة. إذا عُرفَ ذلك، فالمعدن الباطنُ، هل يملك بالحفر والعمل؟ فيه قولان: أحدُهُمَا: وَيُحْكَى عن أبي حنيفةَ -رضي الله عنه- نعم, لأنَّهُ غيرُ مَمْلُوكٍ لا يُتَوصَّلُ إلى منفعته إلاَّ بمعالجةٍ ومُؤْنةٍ، فأشْبَهَ المَوات إذا أُحْييِ. والثاني: لاَ، كالمعادنِ الظاهرةِ، وليس كإحياء المَوَات؛ لأنَّه إذا أحيا، ثَبَتَ
الإحْياءُ فيه، واستغْنَى عن العمل كلَّ يوم والنيل مبثوث في طبقات الأرْض يُحْوِج كلَّ يوم إلَى حفرٍ وعملٍ. وأصحُّ القولَيْنِ الثاني فيما ذكره المَسْعُودِيُّ، وصاحبُ "المهذَّب"، والقاضي الرُّوَيانيُّ، وفي كلامِ الشافعِيَّ -رضي الله عنه- مَا يُشْعِرُ بترجِيحِهِ. التفريع: إن قلنا: إنَّه يَمْلِكُ، فذاك، إذا قصد التملُّك، وحفر حتى ظهر النَّيلُ، أمَّا قبلَ الظُّهورِ، فهو كالمتحجِّر، وهذا كما أنَّه إذا حفر بئراً في الموات على قصد التَملُّكِ مَلَكَه، إذا وصَلَ إلى المَاءِ, وإذا اتَّسَعَ الحفرُ، ولم يُوْجَدِ النَّيْلُ إلاَّ في الوَسَطَ، أو في بعض الأطْرَاف، لم يقصر المِلْكُ على محل النَّيلِ بل يملك ما حوالَيْه مما يليقُ بحريمه، وهو قدْرُ ما يقفُ فيه الأعوانُ والدوابُّ، ومن جاوز ذلك، وحَفَرَ لم يُمْنَع، وإن وَصَلَ إلى العروق ويجُوزُ للسُّلْطان أنَّ يُقْطِعَه كالموات، وإن قلنا: إنَّهُ لا يُمْلَكُ فالسَّابقُ إلَى موضع منْه أحقُّ به، لكن لو طالَ عكوفه، ففي الإزعاج ما ذكرنا في المعادِن الظاهر، ومنْهم من قطع ههنا أنَّه لا يزعج؛ لأنَّ هناك يُمْكنُ الأخذُ دُفْعَةً واحدةً، فلا حاجةَ إلى إطَالة المكْثِ، ولأن ههنا لا يَحْصُل النَّيْلُ إلاَّ بتعَبٍ ومشقةً، فيُقَدم السابقُ على اللاَّحقِ ولو ازدحم اثنان، فعلى الوُجُوه المذكورةِ هناك، وفي جوازِ إقْطَاعِها عَلَى هذا القولِ قولان. أحدُهُما: المنعُ كالمعادِن الظَّاهِرة. وأصحهما: الجَوَازُ؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَرَادَ إِقْطَاعَ مِلْحِ مارب أو "أقْطَعَهُ"، فلَمَّا قِيلَ لَهُ: إنَّه كالمَاءِ العد امْتَنَعَ مِنْه" (¬1) فدلَّ على أنَّ الباطنَ يَجُوزُ إقطاعُهُ، ولا يبعد دخولُ الإقْطَاع فيما لا يُمْلَكُ كمقاعد الأسواق، ولا يقطع الإمام إلا قَدْرَ ما يتأتَّى للمقطِع الْعَمَلُ علَيْه، والأخْذُ مِنْه، وعلى القولَين يجوزُ العَمَلُ على المَعْدِن الباطِنِ، والأخْذُ منه منْ غير إذْنه الإمامِ، فإنَّه إما كالمعْدِن الظاهر، أو كالموات. ولو أحْيَا مَوَاتاً، ثم ظهر فيه مَعْدنٌ من هذه المعادِن، ملَكَه بلا خلاف؛ لأنَّهُ، بالإحياء مَلَكَ الأرض بأجزائها وهو من أجزائها، بخلاف الركاز فإنَّه مودعٌ فيها، هذا إذا لم يَعْلَمْ أنَّ فيها مَعْدناً، فإنْ عَلِمَ، واتَّخَذَ عليه داراً، فإِنَّ الشَّيْخَ أبا الفرجِ السَّرْخَسِيَّ نقل في ملك المعْدِنِ طريقين: أحدهُما: أنَّهُ على القَوليْنِ السَّابقَيْنِ (¬2). ¬
والثاني: القَطْعُ بأنَّهُ يَمْلِكُ كما لو لم يَعْلَم، وأمَّا البقعةُ المُحْيَاةُ، فقد قال الإمامُ: ظاهرُ المَذْهَبِ أنَّها لا تُمْلَكُ؛ لأنَّ المَعْدِن يُتَّخذ داراً، ولا مزرعةً، فالقصدُ فاسدٌ. ومنهم مَنْ قال: يَمْلِكُهَا بالإحْيَاءِ، وكان ما حكَيْناهِ مِنَ الخلافِ في المعادِنِ الظَّاهرة عن "الوسيط" مأخوذٌ من هذا. ومما يتفرَّعُ على القوْلَين أنَّ المَعْدِنَ البَاطِنَ، إذا عُمِلَ عليه في الجاهلية، هل يُمْلك، وهَلْ يجوزُ إقطاعُهُ؟ إنْ قلْنا: إنَّ هذا المعدِنَ يُمْلَكُ بالحَفْر والعَمَل، فهو مِلْكٌ للغانمين؛ كأراضي دار الحَرْبِ التي أحْيَوْهَا، ثم اسْتَولَيْنَا عليها، وإن قلْنا: لا تُمْلَكُ، ففِي جوازِ الإقْطَاع ما قدَّمناه منَ القولَيْن. وقولُه في الكتاب "وإن لم يُحْيي، ولكنَّه أظهر بعمله أراد أنَّهُ لم يُحيي كما تَحْيا المواتُ بأن يتّخذَ مَسكناً أو بستاناً أو مزرعةً، ولكنَّهُ حَفَر حتى ظَهَرَ النيلُ. ومن الأصحابَ مَنْ يُطْلِقُ لَفْظَ الإحْياء على العَمَلِ في المعدن؛ لأنَّه إصْلاَحٌ له، ويقولُ: هَلْ يملك المعدِنَ بالإحياء؟ فيه قولان، وهذا الاختلافُ يرجع إلى مجرَّد الإصْلاحَ. وفي قوله: "أظهر بعملِه" ما يشير إلَى أنَّ الإظهارَ لا بُدَّ منه ليَجيء القولان، ونختم الفصل بمسألتين: إحدَاهُمَا: ظاهرُ المروِيِّ أنَّهُ مَالِكُ المعدن الباطِن، لا يجُوزُ له بَيْعُهُ؛ لأنَّ المقصودَ منْه النيلُ، والنِّيلُ متفرِّق في طبقات الأرض مجهولُ القَدْر والصِّفَة، فصَارَ كما لو جمع قَدْراً من تراب المَعْدِن، ومنه النِّيل وباعَه. وحَكَى الإمامُ وجْهاً آخَرَ في جوازِه، لأنَّ المبيعِ رقبة المعدِنَ، والنِّيل فائدته وريعه. الثانية: مَلَكَ معْدِناً باطناً، فجاء غَيْرُهُ، واستخرَجَ منْه نيلاً بغير إذنِه، فعليه ردُّه، ولا أُجْرَةَ له، ولو قال المالِكُ: اعْمَلْ فيه، واسْتَخْرِجِ النِّيلَ لي، ففعل، [ففي استحقاقه] الأُجْرَةَ على الخلاف فيما إذا قال: اغْسِلْ ثوبي، فغسل. ولو قال: اعْمَلْ فما استَخْرَجْتَه، فهو لك، أو قال: استَخْرِجْ لنَفْسِكَ، فالحاصل للمالِك؛ لأنَّه هبة مجهولٍ، وكان يُمْكِنُ تَشْبيهُه بإباحةِ ثمارِ البُسْتَانِ ونَحْوِها, لكنَّ المنقولَ الأوَّلْ. وفي استحقاقِ الأُجرةِ وجهان: أحدهُمَا: المنعُ؛ لأنَّه عَمِلَ لنَفْسِهِ. والثاني: وبه قال ابنُ سُرَيْجٍ: أنَّها تجبُ؛ لأنَّ عَمَلهُ وقَع للمالِك، وهو غيرُ متعدٍّ بعملِه ولا متبرِّع (¬1)، ولو قال: اعْمَلْ فما استخرجْتَه، فهو بيننا مُنَاصفةً، لم يصحَّ؛ لأنَّ ¬
العِوَضَ ينبغي أنْ يكونَ مَعْلُوماً. قال في "الشَّامِل": فلَيْسَ هذا كما لو شَرَط جزءاً من الربح والثمرة في القراضِ أو المساقاة: لأنَّه جعل عوضَ العمل ههنا جزءاً من الأصْل، فهو كما لو شَرَطَ للعاملِ جزءاً منْ رَأْسِ المَالِ. ولو قال: مهما (¬1) استخرجْتَهُ، فلك منه عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، لم يَصِحَّ أيْضاً؛ لأنَّه ربما يحصل هذا المقدار. قَالَ الغَزَالِيُّ: أَمَّا المِيَاهُ فَثَلاَثَةٌ مُحْرَزٌ في الأَوَانِي فَهُوَ مِلْكٌ (و) كَسَائِرِ الأَمْلاَكِ يَصِحُّ (و) بَيْعُهُ، وَعَامٌّ لَمْ يَظْهَرْ بِعَمَلٍ وَلاَ يَجْرِي بِحَفْرِ نَهْرِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَأْخُذَ سَاقِيَةً مِنْهُ فَيَجْرِي المَاءُ إِلَى أَرْضِهِ، وَلِلأَعْلَى أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ إِلَى الكَعْبِ (و) وَيَلْزَمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُسَرِّحَهُ إِلَى الأَسْفَلِ وَقِيلَ: لاَ يَلْزَمُهُ (و)، فَإنْ تَعَلَّى وَاحِدٌ وَأَخَذَ سَاقِيَةً وَقَطَعَ المَاءَ عَنِ الْكُلِّ مُنِعَ لأَنَّهُمْ بِإِحْيَاءِ الأرْضِ اسْتَحَقُّوا مَرَافِقَهَا وَالمَاءُ مِنَ المرافِقِ فَيُمْنَعُ مِنْ إِحْدَاثِ مَا لَمْ يَكُن. قَالَ الرَّافِعيُّ: الفصل الثاني: في المياه، وهِيَ قِسْمَان: أحدُهُمَا: المياهُ المبَاحَةَ، وهِيَ الَّتي تَنْبُعُ في مواضعَ لا تَخْتَصَّ بأحَدٍ، ولا صنع للآدمِييِّن في إنباطِهِ وإجرائه كماءِ "الفُرَات" و"جيحون" وسائِرِ أودية العَالَم، والعُيُون في الجِبَالِ، وسُيُولِ الأمطارِ، فالناس فيها سواء على ما رُوِيَ عن رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّهُ قال: "النَّاسُ شُرَكَاءُ في ثَلاثَةٍ: في المَاءِ وَالنَّارِ وَالْكَلأِ" (¬2). ¬
فإنْ اثْنَانِ فصاعداً، أخذ كُلُّ واحِدٍ [منهم] ما شاء، فإنْ قَلَّ الماءُ أو ضاق المَشْرَعُ قَدِّم السَّابق، فإنْ جَاءَا معاً، أُقْرِعَ بينهما، وإن أراد واحدٌ السَّقْي، وهناك من يَحْتَاجُ إلَيْه للشُّرْب، فالثانِي أَوْلَى، قاله في "التتمة"، ومَنْ أخَذَ منه شيئاً في إناء ملكه، ولم يكنْ للغير أَن يزاحِمَه فيه كما لو احتشَّ أو احتطب، وفي "النهاية" وجهٌ آخرُ أنَّه لا يملكُ لكنَّه أولى به من غيرِه. والمذْهَبُ الأوَّلُ، وإنْ دخل شيْءٌ منه مِلْكَ إنسان بسَيْل، فليس لغيره أخْذُه، ما دام فيه الامتناع الدُّخُول في ملْكِ الغَيْرِ بغَيْر إذْنِهِ، لكن لو فعل فيملكه أم للمالِك استرداده؟ فيه وجهان: أصحُّهما: الأوَّلُ، فإذا خَرَجَ منْه، أخَذَهُ من شاء. وإذا أراد قَوْمٌ سَقْيَ أراضِيِهِمْ مِنْ مثْلِ هذا المَاءِ, فإنْ كَانَ النَّهْرُ عظيماً يفي بالكُلِّ سقَى من شاء منْهمِ، مَتَى شاء (¬1)، وإن كان الماءُ صَغيراً، أو كان الماء يَنْسَاق من الوادي العظيمِ في ساقِيَةٍ غَيْرِ مملوكةٍ، بأن انخرقَتْ بنَفْسِها، فيَسْقِي الأوَّل أرضَهُ، ثم يُرْسِلْه إلى الثَّاني، ثم إلى الثَّالث؛ لما رُوِيَ عن عُبَادَةَ ببن الصَّامتِ - رضي اللهُ عنه - أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَضَى في الشُّرب "أنَّ لِلأَعْلَى أَنْ يَسْقِيَ قَبْلَ الأَسْفَلِ ثم يُرْسِلَ إلَى الأَسْفَلِ، ولا يَحْبِسِ الْمَاءَ في أَرْضِهِ" (¬2). والمشهورُ أنَّه يحبُسُ حتى إلى أنَّ يبلغَ الكعبَيْن؛ لما رُوِيَ في حديثِ عُبَادةَ أنَّه يجعلُ الماء إلى الكَعْبَيْن لما روي عن عمرِو بن شعيْب عن ابْنِهِ عَنْ جَدِّهِ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَضَى في السَّيْلِ أَنْ يُمْسِكَ حَتَّى يَبْلُغَ إلى الكعبين، ثُمَّ يُرْسِلَ الأعْلَى إِلى الأسْفَلِ" (¬3)، ¬
وقالَ رسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- للزُّبَيْرِ حِينَ خاصَمَهُ الأنْصَارِيُّ في شِراج (¬1) الحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ منْها: "اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ المَاءَ إلى جَارِكَ، فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ وقال: إنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَتَلوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: "يا زُبَيْرُ، اسْقِ وَاحْبِسِ الماءَ حتَّى يَرْجِعَ إلَى الجُدُرِ ثُمَّ أَرْسِلْهُ" (¬2) والشِّراج: جمع الشَّرْج، وهو النهرُ الصغير. والحَرَّةُ: الأرْضُ التي أُلْبسَتِ الحجارةَ السُّودَ، والجُدُر: الجدار، واختلفوا في تنزيل الخبر، قِيْلَ: إنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أمَرَه باسْتيقاء زيادة على القدْر المستحَقِّ تغليظاً على الأنصارِيِّ، حيث اتَّهمَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-. وَقِيْلَ، وهو الأصَحُّ: إنَّه كان قد استَنْزَلَه عنْ بَعْض حَقِّه، فلما أَسَاءَ الأنصاريُّ الأدبَ، قالَ لَهُ: اسْتَوْفِ حَقَّكَ، ومن قال بهذا، قال: إذا بلَغَ الماءُ الكَعْبَ بلَغَ أَصْل الجِدَارِ، فلا مخالفةَ بين التقديرَيْن، ووراء هذا المشهورِ أمْران: أقربُهُمَا: الرُّجوعُ في قدر السَّقْي إِلى العَادَة والحاجة، وقد ذكر أقضى القضاةِ المَاوَرْدِيُّ؛ أنَّه ليس [له] التقديرُ بالبُلُوغ إلى الكعبَيْن عَلَى عموم الأزمان والبُلْدَان، لأنَّه مقدَّرٌ بالحاجة، والحاجةُ تختلِفُ باختلافِ الأرض، وباختلافِ ما فيها من زرعٍ وشجرٍ ووقتِ الزراعَةِ، ووقْتِ السَّقْي. وأغربهما عن الداركيِّ وجْه أنَّ الأعلَى لا يقدَّم على الأسْفَلَ، ولكنْ يَسْقُونَ بالحصَص، ويُحْكَى هذا عن أبي حنيفةَ -رضي الله عنه- ولو كانت أرضُ الأعْلَى بعضُها مرتفعاً وبعضُها منخفضاً، ولو سَقَيَا معاً، لزاد الماءُ في المنخفضةِ عَلَى الحدِّ المشروع أُفْرِدَ كلُّ واحدٍ منهما بالسَّقْي بما هو طريقه (¬3). وإذا سَقَى الأعْلَى، ثم احتاجَ إلَى السَّقْي مَرَّةً أُخْرَى مُكِّنَ. وَرَوَىَ أبو عاصمٍ العَبَّاديُّ وجْهاً: أنَّهُ لا يُمَكَّنُ؛ لأنَّهُ رُوِيَ في خبر عُبَادةَ -رضي ¬
الله عنه-: وتُرْسِلُ الماءَ حتى تَنْتَهِيَ الأراضي وإذا تنازعَ اثنان أرضاً هما متحاذِيتانِ، أو أراد شَقَّ النَّهْرِ من موضِعَيْن متجاذِبَيْن يميناً ويساراً، فيُقْرَع أو يُقَسّمُ الماءُ بيْنَهما، أو يقدِّمُ الإمامُ من يراه؟ حَكَى العَبَّاديُّ فيه ثلاثةَ أوجهٍ (¬1). ولو أراد إنسانٌ إِحياءَ مواتٍ وسَقْيَه من هذا النَّهْر، نُظِر؛ إنَّ لم يَكُنْ فيه تضْييقٌ، فلا منع وإن كان منع؛ لأن الأوَّلين بإحياءِ أراضِيهم استحقُّوا مرافقها، وأنَّه مِنْ أعظمَ مَرَافِقِها. وعمارةِ حافَّاتِ هذه الأنْهَارِ مِنْ وظائف بَيْتِ المالِ. ويجوزُ لِمَن أراد أنْ يَبْنِيَ علَيْها قنطرةً، لعبور الناسِ، إنْ كان الموضعُ مواتاً، وأمَّا بين العُمْران، فهو كحفر البئر في الشَّارع، لمصلحةِ المسلمين، ويجوز بناء الرَّحَى عليها إن كان الموضِعُ مِلْكاً له، أو مواتاً مَحضاً، وإنْ كان بيْنَ الأراضي المملوكة، فإن تَضرَّرَ المُلاَّك، لم يجز، وإلاَّ فوجهان: أحدهُمَا: المَنْعُ؛ كالتصرُّف في سائر مرافق العمارات. وأشبَهُهُمَا: الجوازُ كإشراع الجناحِ في السِّكَّة غير المسندة وهذا إذا لم تكُن الأنْهَارُ والسَّواقي مملوكةً، أمَّا إذا كانت مملوكةً، بأنْ حَفَرَ نهراً يدخلُ فيه الماءُ من الوَادِي العظيم، أو من النَّهْرِ المنخرق منه، فالماء باقٍ على إباحته، لكنَّ مالِكَ النَّهر أحقُّ به؛ كالسيل يَدْخُلُ ملْكَه، فليس لأحدٍ مُزَاحَمَتُهُ؛ لِسَقْيِ الأَرْضِينَ، وأمَّا الشُّرْبُ والاستعمالُ، وسَقْيُ الدوابِّ، فقد قال الشَّيْخُ أبو عاصمٍ: ليْسَ له المنعُ، وتابَعَهُ صاحبُ "التَّتمة" ومِنْهُمُ من أطْلَقَ القولَ بأنَّه لا يدْلي فيه أحدٌ دلواً، ويجوزُ لغيْرِه أنْ يَحْفِرَ فوق نهْره نهْراً، إن لم يضيّق عليه، وإن ضيَّقَ فلا. وإنْ اشترَكَ جماعةٌ في الحَفْرِ اشتركُوا في المِلْكِ عَلَى قَدْر عمَلِهم، فإنْ شرطوا أنْ يكونَ النَّهْرُ بينَهم عَلَى قدر ما يَمْلِكُون من الأراضي، فليكنْ عملُ كلِّ واحدٍ منهم على قدرِ ضيق أرضه، فإنْ زادَ واحدٌ متطوَّعاً، فلا شيْءَ له على الباقِينَ، وإن زادَ مكْرَهاً، أو شرَطُوا له عِوَضاً، رجع عليهم باُجْرَةِ ما زاد، وليْسَ للأَعْلَى حَبْسُ المَاءِ على الأسفل، بخلافِ ما إذا لم يكن الموضعُ مَمْلُوكاً، وإذا اقتسموا المَاءَ بالأيام والسَّاعاتِ، جاز، ولكلِّ واحدٍ الرجوعُ، مَتَى شاءَ, ولكنْ لو رجَعَ بعد ما استوفَى نوبته وقبل أن يستوفي الشريكُ، ضَمِنَ له أجْرَةَ مثل نصيبه منَ النهرِ للمُدة التي أَجْرَى فيها المَاءَ، وإنِ اقْتَسَمُوا ¬
فروع
الماءَ نفسه، فعلى ما سنذكره في القناة المشتركة -إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ- ولو أرادُوا قِسْمَةَ النهرِ، وكان عريضاً، جاز، ولا يجري فيه الإجْبَار كما في الجداد الحائل، ولو أراد الشُّركاءُ الَّذين أراضيهم أسفلُ توسيعَ فَمِ النَّهر؛ لئلا يقصر الماء عنْهم، لم يجزْ، إلا برضا الأولين؛ لأنَّ تصرُّفَ الشَّرِيكِ في الَملك المشتَرَكِ لا يجوز إلاَّ برضا الشَّريكَ، وأيضاً، فقد يتَضَرَّرُون بكَثْرة المَاءِ, وكذا لا يجوزُ للأولين تضييقُ فمِ النَّهِر إلاَّ برضا الآخرين، ولا لواحِدٍ منهم بناءُ قنطرةٍ، أو رحّى عليها, ولاَ غَرْس شجرة عَلَى حافَّته إلاَّ برضا الشركاء ولو أراد أحَدُهُمْ تقديمَ رأْسِ السَّاقيةِ التي يَنْسَاقُ فيها الماءُ إلَى أرضِه، أو تأخيرَه، فكذلك، بخلاف لو قدَّم بابَ داره إلَى رأْس السِّكَّةِ المنسدة؛ لأنَّه يتَصرَّفُ هناك في الجِدارِ المملُوك، وههنا في الحافَّة المشترَكة، ولو كان لأحَدِهم ماء في أعلَى النَّهْرِ فأجْرَاهُ في النَّهْرِ المُشْتَركِ برضا الشُّرَكَاءَ؛ ليأخَذَه من الأسْفَلِ، وَيسْقِيَ به أراضه، فلهُمُ الرجوعُ متَى شاءُوا؛ لأنَّه عاريةٌ وتنقية هذا النهرِ، وعمارتُه يقومُ بها الشركاءُ بحَسَب الملك، وهل على كلِّ واحدٍ منهم عمارةُ الموضعِ الذي يَسْتَقِلُّ (¬1) عن أرْضه؟ فيه وجهان: أحدُهما: وهو المذكورُ في "الشامِل"، وبه قال أبو حنيفةَ: لا؛ لأنَّ المنفعةَ فيه للباقِينَ. والثاني: نعم، لشرِكتِهِم فيه، وانتفاعِهِمْ بإِرسال المَاءِ فيه، وهذا أصحُّ عند العَبَّادِيِّ. وأمَّا لفظُ الكتابِ، فقولُه: "أمَّا المياهُ، فثلاثةٌ" قصد به أنَّ الماءَ إما محرز في الأواني، فهو مختصٌ بالمحرزِ ملك له من أيِّ مَوْضِعٍ أخذ، وإِمَّا غيْر محرز، وينْقَسِمُ إلى ما يحدثَ منْ مَوْضِعٍ غير مَمْلُوك؛ كالمياه المباحة الشفافة، إلى ما يَحْدُث من موضع (¬2) مملوكٍ؛ كماء القنوات، فهي ثلاثةُ أقسامٍ، وفي معْنَى الأواني الحوْضُ المَمْلُوكُ، إذا جُمِعَ فيه الماءُ. وأَعْلم بقولَه: "فهو ملك" بالواو للوَجْه المذكور في "النهاية": وقولَهُ: "وَيصحُّ بيعُه" -ضَرْبٌ من التأكيد. وفي قولِهَ: "كسائر الأملاكِ" ما يفيده. وقوله: "إلَى الكَعْبِ" يجوزُ أنْ يُعْلَمَ بالواو؛ وللوجه الذاهب إلَى أنَّهُ لا تقديرَ والمرعى الحاجة. وكذا قولُهُ "لا يلزمهُ" للوجه المنقولِ عن الداركيِّ. فُرُوعٌ: ¬
كُلُّ أرض أمْكَنَ سَقْيُهَا منْ هذا النَّهْرِ، إذا رأينا لها ساقية منه، أو لم نجدْ لها شرْباً من موضعٍ آخر، حكَمْنَا عند التَّنَازُعِ بأنَّ لها فيه شِرْباً. ولو تنازع شركاء النهر في قدْر أنصبائهم، فيجعل على قَدْر الأراضي؛ لأنَّ الظاهرَ أنَّ الشركةَ بِحَسَبِ الملِك، أو بالسَّوِيَّة؛ لأنَّه في أيْدِيهم؟ فيه وجهان، وبالأول قال الإِصْطَخْرِيَّ (¬1). وإذا صادفنا نَهْراً يُسْقَى منْه أراض، ولم نَدْرَ أنَّه حفر أو انحرق؟ حُكِمَ بكَوْنه مَمْلوكاً؛ لأنَّهُمْ أصحابُ يدٍ وانتفاعٍ، فلا يُقدَّمُ بعْضُهمْ على بعض، ولو لم يَكُنْ مملوكاً، لَزِمَ التَّقَدُّم، والأَكْثَرُ هذه المسائِلِ مما يشْتَمِلُ عليه كتاب "المياه" للشَّيخ العَبَّادِيِّ. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّالِثُ: مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ العُمُومِ وَالاخْتِصَاصِ وَهُوَ مَاءُ البِئْرِ فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ بذله لِغَيْرِهِ (و) لِغَرَضِ الزَّرْعِ (و) إِلاَّ بِعِوَضٍ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ بِذَلْهُ لِلمَاشِيَةِ؟ إِنْ لَمْ يَكُنِ البِئْرُ مَمْلُوكاً لَهُ بَلْ كَانَ قَصْدُهُ من الحَفْرِ الانْتِفَاعَ بِالمَاءِ وَجَبَ البَذْلُ لِلحَدِيث، وإِنْ كَانَ مَمْلُوكاً فَالظَّاهِرُ وُجُوبُهُ لِلحَدِيثِ، وَمِنْهُمْ من خَصَّصَ بِمَا لَمْ يُمْلَكْ مَنْبَعُهُ وَألْحَقَ هَذَا بِالمُحْرَز بالأَوَاني. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لمَّا فرَغَ من الكلام في القسْمَيْن الأَوَّلَيْنِ، وهما العامُّ والخاصُّ، شرَع في الثالثِ المتردِّد بينهما، وهو ميَاهُ الآبارِ والقَنَوَاتِ، وهي من حيثُ إنَّها حاصلُةُ في المواضع المختصة بالإنسانِ تشبه الماءَ المُحرز في الآبار. ومن حيْثُ إنَّها تبذل، وينبسط النَّاسُ فيها تشبه المياهَ العامَّة، وكذلك يجب بذلُهَا عَلَى تفصيلٍ سنذكُرُه، هذا على موجِبِ تقسيمه المذكور في الكتاب. وأمَّا على موجِب ما قدَّمناه، فنقول: القسْمُ الثاني: المياهُ المختصَّةُ ببعض الناسِ وهي مياهُ الآبارِ والقَنَواَتِ، واعْلَم أولاً أنَّ حَفْرَ البئْر يُصوَّر على أوْجُهٍ: أحدُهَا: الحفْرُ في المنازِل للمارَّة. والثاني: الحَفْرُ في المَوَاتِ عَلَى قصْد الارْتِفَاقِ دُون التَّمَلُّكِ لمن ينزل في الموات، فيحفر للشُّرْبِ، وسقي الدَّوَابَّ. والثالث: الحَفْرُ على قصد التمَلُّكِ، والقوْل في أنَّ البِئْرَ مَتَى تُمْلَكُ سيأتي. والرابع: الحَفْرُ الخالِى عنِ هذا المقصود. إذا عَرَفْتَ ذلك فالبئر المحفورةُ للمارَّة، ماؤُها مشتركٌ بيْنَهُم، والحافر كأحَدِهِمْ ويجوزُ الاستقاءُ منها للشُّرب، وسَقْيِ الزُّرُوع، فإنْ ضَاقَ عنْهما، فالشُّرْبُ أوْلَى. ¬
والْبِئْرُ المحفُورَةُ على قَصْدِ الارتفاقِ دونَ التَّمَلُّكِ فالحافر أَوْلَى بمائِها إلَى أن يرْتَحِلَ، لكنْ ليس لهُ منعُ ما فَضَلَ عَنْهُ عن مَنْ يحتاجُ إلَيْه للشُّرْب، إذا اسْتَسْقَى بدَلْوِ نفسِه، ولا منْع مواشيه؛ لما رَوَى أبو هُرَيْرَة -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ مَنَعَ فَضْلَ المَاءِ؛ لَيمْنَعَ بِهِ الْكَلأَ مَنَعَهُ اللهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (¬1). والمرادُ أنَّ الماشيَةَ إنَّما تَرْعَى بِقُرَبِ المَاءِ، فهذا منع من المَاءِ, فقد منع من الكلأ، وجازَه لنَفْسِهِ، وله أن يَمْنَع غَيْرَهُ من سَقْي الزَّرْع به؛ لأنَّ الحيوانَ أعظَمُ حُرْمَةً، وللإمام فيه احتمالٌ من حيثُ إنَّه لم يَملِكْهُ، والاختصاصُ إنَّما يكون بقَدْر الحاجة، وبهذا أجاب في "التتمة" فحَصَلَ وجهان، وُيعْتَبَر في الفاضل الذي يَجِبُ بذلُه أنْ يَفْضُلَ عن سقيه ومواشيه ومزارعه. قال الإمامُ: وفي المزارعِ احتمالٌ على بُعْدٍ (¬2)، وإذا ارْتَحَلَ المرتفِقُ، صارت البئرُ كالبئرِ المحفورةِ للمارَّة، فإن عاد، فهو كغيره (¬3). وأمَّا البئرُ المحفورةُ للتَملُّكِ، وفي المِلْك، فهل يكونُ ماؤهَا مِلْكاً؟ فيه وجهان: أحدهُمَا: وبه قال أبو إسحاقَ: لاَ، لظاهر قولِه -صلى الله عليه وسلم-: "النَّاسُ شُرَكَاءُ في ثَلاثةٍ: المَاءِ وَالنَّارِ والْكَلأَ" (¬4). وأيضاً، فإنَّ للمكتَرِي الدَّارَ أنَّ يَنْتَفِع بماء بئرها, ولو كان مِلْكاً للمكرِي، لَمَا جاز له التصرُّفُ فيه. ¬
وأظْهَرُهُمَا: وبه قال ابنُ أبي هُرَيْرَةَ: نعم؛ لأَنَّهُ نماء ملكه، فأشْبَهَ الثَّمَرَةَ واللَّبَن، ويُحْكى هذا عن نَصِّهِ في القديمِ، وحَرْمَلَةَ، ويجرِي الخلافُ فمما إذا تَفَجَّرَت عَيْنٌ في مِلْكِه، ثم على الوَجْه الأوَّل، إذاَ نبع الماءُ في مِلْكِهِ وخرج ملْكُه من أخذه. وعلى الثاني: لاَ يَمْلِكُ، ولو دُخَلَ داخلُ مِلْكَهُ وأَخَذَه، ففي ملْكِهِ الوجْهَان، وسواءٌ قلْنا: يمْلِك أو لاَ يَمْلِكُ، فلا يجبُ عَلَى مالك البِئْر بَذْلُ الفاضل عن حاجته لزَرْع غيره؛ خلافاً لأحْمَدَ في إحدى الروايتَيْن، وبه قال بعضُ أصحابنا فيما حكاه القاضي المَاوَرْدِيُّ. وفي البَذْلِ للماشيةِ وجهان: أصحُّهما: الوُجُوبُ؛ لحديث أبي هُرَيْرَةَ. والثاني: وبه قال أبو عُبَيدِ بْنُ حَرْبَوَيه لا يجب كما لا تجبُ إعارةُ الدلو والرّشَا، وبذْلُ المَاءِ المحرز في الإناء، والحديثُ محمولٌ عَلَى الاستحباب، وهذا ما اختارَهُ الإِمَامُ، وحَكَاهُ عَنِ القاضي، ولكنَّ الجمهورَ عَلَى الأوَّلِ. التفريعُ: شَرَطَ المَاوَرْدِيُّ لوجوب البَذْلِ شروطاً: أَحَدُهَا: ألاَّ يجد صاحبُ المواشِي كَلَأً مُبَاحاً. والثاني: أنْ يكونَ هُنَاك كَلَأً يُرْعَى، وإلاَّ لَم يجِبْ، وفي "التتمة" ذكْرُ وجهين من هذه الشروط. والثالث: أنْ يكونَ المَاءُ في مستَقَرِّه، فأمَّا المأخوذُ في الإنَاءِ, فلا يجب بَذْلُهُ، وإنْ فَضَلَ عنْ حاجتِه. وعن أبي الحُسَيْنِ بْن القطَّانِ أنَّ من الأصحاب من أوجبه، ثم عابرو السبيلِ يُبْذَلُ لهم ولمواشيهم، وفيمنْ أراد الإقامةَ في الموضِع وجْهان؛ لأنَّه لا ضَرُورةَ له إلى الإقامةِ (¬1)، وحَكَى القاضي ابن كَجّ وجهَيْن في أنَّه هل يَجِبُ البَذْلُ للرعاة، كما يجب للمواشِي؛ لأنَّها لا تستقلُّ بنفسها، والمنعُ منْهم يتضمَّن المنْعَ منْها، وهذا كالمستبْعَد؛ لأنَّ البَذْلَ لسُقَاة الناسِ، رعاةً كانوا أو غَيْرَهم أوْلَى من البَذْلِ للمواشي، إلاَّ أن يُنْظَرَ إلى أنَّ مَنْعَ المواشِي يَتَضَمَّنُ الاستئثارَ بالكَلأَ المُبَاح، أو بضيعتها، عَلَى أنَّ الإمامُ نَقَلَ وجهَيْن في المَنْعِ من الشُّرْبِ على الإطلاق، إذا فرَّعْنَا عَلَى أنَّ الماءَ مملوكٌ، وإذا أوجَبْنا البذلَ، فهل يجوزُ أنْ يأخُذَ عليه عِوَضاً؟ فيه وجهان: أحدُهُما: نعم، كما يطعم المضَطْرُّ بالعوض. ¬
وأصحُّهُمَا: لاَ؛ لما رُوِيَ عن جابر -رضي الله عنه- أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ المَاءِ" (¬1). وأَمَّا إذا حَفَرَ، ولم يَقْصِدِ التَّمُّلَك ولا غَيْرَهُ، ففيه وجهان مَذْكُورَان في "النهاية": أظهرُهما: أنَّه لا اختصاصَ لماءِ البِئْر به، والنَّاسُ كُلُّهُمْ فيه سواءٌ. والثَّاني: أنَّ القَدْرَ الَّذِي يحتاجُ إلَيْهِ يختصُّ به، فيكون التوصُّلُ إلى الماء مُفِيداً لاِختصاصِ، وإنْ لم يَقْصِدْ كما أنَّ الإحياءَ قد يفيد المِلْكَ، وإن لم يَقْصِدْ. وقولُهُ في الكتاب: "وهو ماءُ البِئْرِ، فهو مختصٌّ به" يشتمل ظاهرُهُ البِئْرَ المحفورة لِلتَّمَلُّكِ، والمحفورة لِلارتفاق، وهذا الظاهرُ معْمولٌ به، فإن الاختصاصَ ثابتٌ في مَائِهَا، إلاَّ أنَّهُ قال: ولا يلزمه بَذْلُهُ لغَرَضِ الزَّرْع، إلاَّ بعوض، وإنَّما يجوز أخْذُ العِوَضِ عَلَى تقدير كون المَاءِ مملوكاً، ثم لاَ بُدَّ ههنا من معرفة أمور: أحدها: أنَّ قَوْلَه: "وَلاَ يَلْزُمُ بَذْلُهُ". وقولَهُ: "هَلْ يلزمُه بذلُه" محمولاَن عَلَى بذل الفاضِلِ عنْ حاجته، فأمَّا كلُّ المَاءِ، فلا يلزم بَذْلُه بحال. والثاني: أنَّ بيْعَهُ وأخْذَ اَلْعِوَضِ عليه كَيْفَ يجوزُ؟ وسيأْتِي في الفصْل التالي لهذا الفصل إن شاء الله تعالى. والثالث: إنَّ قَوْلَهُ: "إلاَّ بِعَوَضٍ" ليْس باستثناءٍ متحقق، فإن البَذْلَ، بالعِوض غَيْرُ لازمٍ أيضاً. والرَّابع: أنَّ قَوْلَه: "لا يلزمُه بذْلُه" يجوزُ أنْ يُعْلَمَ بالواو؛ لما سبق من الخلاف فيما يُحْفَرُ لاِرتفاق، وما يُحْفَرُ لِلْمِلْكِ جميعاً، وبالألف أيضاً؛ لما مَرَّ. قَالَ الغَزَالِيُّ: أَمَّا القَنَاةُ المُشْتَرَكَةُ فَالمِلْكُ فِيهَا بِحَسَبِ الاشْتِرَاكِ فِي العَمَل، وَلَهُمُ القِسْمَةُ بِنَصْبِ خَشَبَةٍ فِيهَا ثُقَبٌ مُتَسَاوِيَةٌ، وَتَصِحُّ المُهَايَاَةُ وَلاَ تَلْزَمُ عَلَى الأَظْهَرِ (و). قَالَ الرَّافِعِيُّ: حُكْمُ القَنَواتِ حُكْمُ الآبارِ في مِلْكِ مِيَاهِهَا، وفي لزومِ البذلِ وَغَيْرِهَما إِلاَّ أنَّ حَفْرَها لمجرَّد الارتفاق لاَ يكادُ يقع، ومهما اشتركَ المتملِّكون في الحفْر اشتركُوا في المِلْك، بحَسَب اشتراكهم في العمل والارتفاق كما ذكرنا في النَّهرِ ¬
فرع
المملوك. ثم لَهُمْ قِسْمةُ المَاءِ؛ بأنْ يُنصب خشبةً مُسْتَوِيةً الأعْلَى والأسْفَلِ في عرض النهر، ويفتح فيها ثُقَبٌ متساوية، أو متفاوتةٌ عَلَى قدر حقوقهم، ويجوز أن تكونَ الثُّقَبُ متساوِيةً مع تَفَاوُتِ الحقوق، إلاَّ أنَّ صاحِبَ الثُّلُثِ يَأخُذَ ثقبة، والآخر ثقبتين ويَسوقُ كُلُّ واحدٍ نصيبه في ساقيةٍ إلَى أرضِه، وله أنْ يديرَ رَحىً بما صارَ لَهُ، ولا يَشقُّ وَاحِدٌ منهم ساقيةً قبل المقسم، ولا ينصب عليه رحىً، وإِن اقْتَسَمُوا بالمُهَايأْةِ، جاز أيضاً، وقد يكونُ المَاءُ قليلاً لا يُنْتَفَعُ به إلاَّ كَذَلِك، ولكلِّ واحدٍ منْهم الرُّجُوعُ كما قَدَّمنا في النَّهْرِ، هذا هو الظَّاهر ووراءه وجهان: أَحَدُهُما: عن القاضي الحُسَيْن: أنَّ القِسْمَةَ بالمُهَايَأْةِ لا تصِحُّ أَصْلاً؛ لأنَّ الماءَ يزيدُ وَينْقُصُ، وفائدةُ السَّقِيِ تختلفُ باختلاف الأَيَّام (¬1). والثاني: أنَّها تَلْزمُ؛ ليثِقَ كلُّ واحدٍ منْهم بالانتفاع. فرع: الَّذينَ يسْقُون أَرَاضِيهِمْ من الأوْدَيَةِ المتاحة لو تواضَعُوا عَلَى مُهَايأة، وجعَلُوا للأوَّلين أيَّاماً، وللآخَرِين أيَّاماً عَلَى ما يعتاد في أودِيَة "قَزْوين" فهذا أيضاً من الأوَّلين بتقدُّم الآخرين، ومسامحة غيرُ لازمةٍ، ولها شَبَهٌ بأصول، منها: "هبةُ الضِّرَّة نوبتها من الضَّرَّة، والظاهر أنَّ مَنْ رجَعَ من الأوَّلين مُكِّن من سقْي أرْضِه. ونختم البابَ والكلامَ في بَيْع الماء. أمَّا المُحْرَزُ منْه في الإناء، فَبَيْعُهُ صحيحٌ، وفيه الوَجْهُ الضَّعِيفُ الَّذي تقدَّم، وكذا لو أُحْرِزَ في حَوْضٍ، وليكنْ عُمْقُه معْلُوماً، ولا يجوزُ بَيْعُ مَاءِ البِئْرِ والقناةِ فيهما، أمَّا إذا جَعَلْنَاهُ مملوكاً، فلِكَوْنه مجْهُولاً، وأيضاً، فإنَّه يزيدُ شَيئاً شيئاً، ويختلِطُ المبيعُ بغَيْر المبيع، فلا يمكنُ التَّسْليم، وأمَّا إذَا لم يجْعَلْهُ مملوكاً، فللمعاني الثلاثة ولو باع منه آصعاً، فإن كان جارياً كماء القَنَاةِ، لم يجز إذ لا يمكن ضبط (¬2) العقْد بمقدار معلوم؛ لعَدَم وقوفه، وإنْ لم يكنْ جَارِياً كماء البئر، فكذلك المبيع إن قلنا: إنَّه، غيرُ مَمْلُوكٍ، وإن جعلْناه مملوكاً، فعن القَفَّال: أنَّه لا يجوزُ أيْضًا؛ لأنَّه يزيدُ فيختلطُ المَبِيعُ بغير المَبِيع (¬3). قال صاحبُ "التَّهْذِيب": والأصَحُّ الجَوَازُ، كما لو بَاعَ صَاعاً من صُبْرَةٍ، واعتذر ¬
بأنّ تلْكَ الزيادة قليلةٌ، فصار كبَيْعِ الْقَتِّ في الأرْض بشَرْط القَطْع، ولك أنْ تَمْنَعَ ذلك، وتقولَ: كيفَ يُشَبّه زيادةُ العَيْن الفوارة بالزُّرُوع، بل بماء الزَّرْع على تدرُّجه، ثم لك أنْ تستبعد الاحتجاجَ والاعتِذَارَ معاً؛ لأنَّ المبيع ليس جُمْلةَ الماء، حتى يُقَالَ: إذا زَادَ اخْتَلَطَ المبيعُ بغيرِ المَبِيعِ، وتعذّر التسليم، وإنَّما المَبِيعُ [آصُع منه، وبالزيَادةِ لا يتعذَّر تَسْلِيمُ الآصع، وهذا كما لو باع] (¬1) صاعاً من صبرة، وصبَّ عليها صبرة أخْرَى، فإنَّ البَيْعَ بحاله، عَلَى قولنا: إنَّ المبيعَ صاعٌ مِنَ الجُمْلَةِ، وينقَى البَيْعُ ما بَقِيَ صاع. والأوْجَهُ أنْ يبني قول القَفَّالِ عَلَى مذْهَبه في أنَّ بَيْعَ صاعٍ من صُبْرَةٍ مجهولةِ الصِّيعَان لا يجوزُ، ولو باع الماءَ مع قراره، نُظِرَ؛ إنَّ كان جاريًا، فقالَ: بِعْتُكَ ماءَ (¬2) القناةِ، مع مائها أو لم يكُنْ جارياً، وقلْنا: إِنَّ المَاءَ لا يُمْلَكُ، لم يجز البيعُ في المَاءِ، وفي القرار قولا تفريق الصَّفْقَة، وإنْ قلنا: أنَّهُ يَمْلك، جاز. ولو باع بئْرَ المَاءِ، وأطْلَق، أو باعَ دَاراً فيها بئْرُ مَاءٍ، جاز، ثمَّ إنْ قُلْنَا: إِنَّه يُمْلَك، فالموجودُ وَقْتَ البَيْعِ، يبْقَى للبائع، وما يَحْدُثُ يكون للمشتَرِي. قال في "التهذيب": وعلَى هذا لا يَصِحُّ البَيْعُ حتَّى يشترط أنَّ المَاءَ الظَّاهرَ للمشْتَرِي، وإلاَّ فيختلِطُ الماءان، وينفسخُ البَيْعُ، وإن قلْنا: إنَّهُ لا يُمْلَكُ، فقد أطلقوا قَوْلَهُمْ بأنَّ المشترِيَ أحقُّ بذلك المَاءِ وليحمل على ما نبع بعْد البيع، فأمَّا ما نبعَ قبله، فلاَ معْنَى لِصَرْفِهِ إلَى المشتَرِي (¬3)، ولو باعَ جُزْءاً شائعاً مِنَ البئر أو القناة، جاز، وما يَنْبُع، فمشتَرَكٌ بيْنَهما إمَّا اختصاصاً مجرَّداً أو مِلْكاً. قَالَ الغَزَالِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: وَمَا طَرِيقُ إِحْيَاءِ المَوَاتِ؟ قُلْنَا: إنْ قَصَدَ المَسْكِنَ فَلاَ يُمْلَكُ إِلاَّ بالتَّحْوِيطِ وَتَعْلِيقِ البَابِ (و) وَتَسْقِيفِ (و) البَعْضِ إِذْ بِهِ يَصِيرُ مَسْكِناً، وَلاَ يُحْتَاجُ في الزَّرِيبَةَ إِلَى التَّسْقِيفِ، وَفِي البُسْتَانِ يُحْتَاجُ مَعَ التَّحْوِيطِ وَتَعْلِيقِ البَابِ (و) إِلَى حَفْرِ الأَنْهَارَ وَسَوْقِ المَاءِ إِلَيْهِ (و)، وَفِي المَزْرَعَةِ إِلَى جَمْعِ (و) التُّرَابِ حَوَالَيْهِ وَتَسْوَيةِ الأَرْضِ وَسَوْقِ المَاءِ إِلَيْهَا، وَالأَظْهَرُ أَنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَى الزَّرْعِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُ لاَ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ كَمَا لا يُحْتَاجُ إلَى السُّكُونِ في الدَّارِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصودُ الفَصْلِ الكلامُ في أنَّ إحياءَ المَوَاتِ ماذا؟ وكان ذكرُهُ في مسائِلِ "الإحْيَاء" أوْلَى، لكن كأنَّهُ غفل عنه هناك، ولم يكن إلَى إهْماله سبيلٌ، فاستدركه ¬
في آخِرِ الكتاب. قال الأَصْحَابُ: أصْلُ الفَصْل أنَّ الإحياءَ في الشَّرْع ورَد مطْلَقاً، فيترك على ما يُعَدُّ إحياءً في العُرْف كالقبوض والإحراز، ويختلفُ ذلك باختلافِ ما يقصد من عمارة المَوَات. وتفصيله بصُوَرٍ: إِحْدَاهَا: إذا أراد المَسكن، اعْتُبِرَ في المِلك ثلاثة أُمورٍ: أحدُها: التَّحْوِيطُ، إما بالآجر أو اللَّبن، أو بمحض الطِّين، أو ألواح الخَشَب، أوِ القصبِ، بحسب العادة (¬1). والثاني: تسقيفُ البَعْض ليُهَيَّأْ للسُّكْنَى، ولأنَّ اسْمَ الدارِ، حينئذ، يقعُ عليه، وعن صاحبِ "التقريب" وجهٌ: أنَّه لا حَاجَة إلى التَّسْقِيفِ. والثالثُ: تغليقُ البَاب؛ لأنَّ العادَة في المنازل أنْ يَكُونَ لها أبوابٌ، وما لا بَابَ لهُ لا يُتَّخَذُ مَسْكناً، وفي "الشامل" وَجْهٌ آخَرُ: أنَّه لا يُعْتَبُرُ؛ لأنَّ نَصْبَ الباب للحفْظِ، والسكْنَى ولا تَتَوقَّفُ عليه. الثانية: إذا أراد زَرِيبَةً للدَّوابِّ أو حظيرةً يجفِّف فيها الثمار، أو يَجْمَعُ فيها الحطب أو الحشيش، اعْتُبِر التحويطُ، ولا يَكْفِي نَصْبُ سعف وأحجار من غير بناء؛ لأنَّ المتملِّكَ لا يقتصر عَلَيْه في العَادة، وإنَّما يفْعل مثْله المجتاز المرتفق، ولو حَوَّط بالبناء في طرف، واقتصر للباقي عَلَى نصب الأحجار والسَّعَف، حَكَى الإمامُ عن القاضي أنَّهُ يَكْفِي، وعنْ شيخه المَنْع، ولا يُشْتَرط التَّسْقِيفُ ههنا، وفي تعليق الباب ما سِيقَ من الخلاف. الثالثة: إذا أراد أنْ يَتَّخِذَ مواتاً مزرَعَةَ فيعتبر في إحيائه أمُورٌ: أحدهُا: جَمْعُ التُّراب حَوَالَيْه؛ لَيَنْفَصِلَ المُحْيَا عن غيره، وفي معْناه نصب شوك ولا حاجةَ إلى التَّحْوِيط، فإنَّه معظمَ المزارعِ بارِزَةٌ. الثاني: تسويةُ الأرْض بِطَمِّ المنخفض، وكسْح المستعْلي، وحِرَاثَتُها، وتلْيين ترابها فإنْ لم يتيسّر ذلك إلا بماءٍ يُسَاقُ إلَيْها، فلا بد منه لتَتهيّأ الأرضُ للزراعة. والثالث: ترتيبُ ماءٍ لها، إما بِشقِّ ساقيةٍ من نهرٍ، أو حفْرِ بئراً وقناةٍ وسَقْيها، هكذا أطلَقَ مطْلِقُون. والأشْبَهُ تفصيلٌ ذكَرَه القاضِي ابن كجٍّ؛ تلخيصه أنَّ البقعةَ، إن كانتْ بحيث يَكْفِي لزراعَتِها ماءُ السماء، فلا حاجةَ إلَى سَقْيٍ، ولا ترتيب ماءٍ وحكَى عن أبي علي الطبري ¬
وجْهاً أنه لا بدَ له منه وضعَّفه، وإن كانتْ تحتاج إلَى ماءٍ يُسَاق إلَيْها, لزم تهيئته من عين أو نهرٍ أو غيرهما، فإذا هَيَّأْهُ، نُظِرَ، إن حفر لَهُ الطريقَ، ولم يبْقَ إلاَّ إجراءُ المَاءِ فيه، كَفَى، ولم يشترط الإجراء، ولا سَقْي، الأرْضِ، وإن لم يَحْفرْ بعْدُ فوجهان، وفي كلام الإمام أيضاً ما يدلُّ عَلَى أنَّ السَّقْيَ نفْسَه غيرُ مُحْتَاجٍ إلَيْه، وإنَّما الحاجةُ إلى ترتيْبِ ماءٍ يمكن السَّقْيُ منْه. وأراضي الجبالِ الَّتي لا يمكن سوْقُ المَاءِ إلَيْها, ولا يصيبُها إلاَّ ماءُ السَّمَاءِ, مالَ صاحبُ "التقريب" إلى أنَّهُ لا مدخَل للإحياء فيها، وبه قال القَفَّالُ وبنى عليه أنَّا إذا وجدنا شيئاً من تلْك الأراضي في يد إنْسانٍ لم يُحْكَمْ بأنه مِلْكُه، ولا يجوزُ بيْعهُ وإجارَتُه، ومِنَ الأصحاب مَنْ قال: إنَّها تُمْلَكُ بالحراثة وجمعِ التراب على الأطرافِ، وكَمْ من مزرعةٍ تَسْتَغْنِي بالمَطَر عن سَوْق المَاءِ إليها، وهذا ما اختاره القاضي الحسين. واعْلَمْ أنَّ هذا الخلاف والخلاف أنَّه يجوز إجَارةُ الأراضِي الَّتي لَيْسَ لها ماءٌ معلومٌ للزراعةِ قريبان مُسْتَمَدَّانِ من مأخَذٍ واحدٍ. فإن قلْتَ: الخلاف في جواز الإجارةِ يَدُلُّ على أنَّ الأرْضَ مملوكةٌ، فكَيْف ينتظمُ اسْتمدادُهَا من أصْلٍ واحدٍ؟ فالجواب: أنَّ الخلافَ في جوازِ الإجَارة في الأراضي المملوكةِ الَّتي سِيقَ الماءُ إليها عنْد الإحياء، ومُلِكَتْ، ثم انقطع الماء بانكباسِ القَنَاة، وانهيارِ البئْرِ، لا في الأراضي التي لا يَنْسَاق الماءُ إليها بحال، وحينئذٍ ينتظم ما ذكَرْناه، وهل تشترط الزراعةُ لِحُصُولِ المِلكِ في المزْرَعَة؟ فيه وجهان: أَحَدُهُمَا: نعَمْ؛ لأنَّ الدَّارَ والزريبة لا تصيرُ مُحْياةً إلاَّ إذا حَصَلَ فيها عينُ مالِ المُحْييِ، وكذا المزرعة. والثاني: لا, لأنَّ الزراعةَ استيقاءُ منفعةِ الأرض، واسْتيفاءُ المنفعة خارجٌ عن حدِّ الإحياء؛ ألا تَرَى أنَّهُ لا يُعْتَبَر في إحْياء الدَّار أنْ يَسْكُنَها. ويُنْسَبُ الأول إلَى ظاهر النّصِّ، لكنَّ الثاني أَوْضَحُ، والأكثرون مائلُون إلَيْه حتى أنَّ القاضِيَ المَاوَرْدِيَّ غَلَّطَ من قال بغيره. الرابعة: إذا قَصَدَ بُسْتَاناً أو كَرْماً، فلا بُدَّ من التَّحْوِيط، وكم يُحَوِّط؟ ردَّ القاضي ابن كج الأمْرَ فيه إلى العادة، وقال: إنْ كانت عادةُ البَلَد بناءَ لزم جدار البناءُ, وإن كانتْ عادتُهُمُ الحفر بالقَصَب والشَّوْك، وربَّما تركوه أيضاً كما بـ"البَصْرَة" و"قَزْوين" اعتبرت عادتهم، وحينئذ يكفي جَمْعُ التراب حوالَيْه؛ كالمزرعة، والقولُ في سَوْق التراب والماءِ إلَيْه على ما ذكرنا في المزْرَعَة، وهلْ يُعْتَبَرُ غرسُ الأشجار؟ أمَّا من اعْتبر الزَّرْعَ في المزْرَعة، اعتبر الغرس في البستان بطريق الأولَى.
وأمَّا الدين لم يَعْتَبِروا الزَّرْع، فإنهم اختلفوا في الغَرْسِ عَلى وجْهَيْن، ومعظمُهُمْ اعتبروُهُ، والفَرْقُ من ثلاثة أوجه: أحدُهَا: أنَّ اسْمَ المزْرَعَةَ يقع على البُقْعة قبْل الزِّراعة، واسم البستان لا يقع قبل الغرس. والثاني: أنَّ الزَّرْع يَسْبِقُه [حَرْثُ الأرْضِ وتقليبُها] (¬1)، مجازَ أنَّ يُقَامَ مقامَه، والغرس لا يَسْبِقُه شَيءٌ يُقَامُ مقامَه. والثالث: أنَّ الغَرْسَ يدومُ، فالحق بأبنية الدارِ والزَّرْعَ بخلافه. هذا شرح مسائل الكتاب، ويجوز أنَّ يُعْلَمَ قولُه: "وتَعْلِيقِ البَابِ وَتَسْقِيفِ البَعْضِ" بالواو؛ لما سبق. وقوله: "في البُسْتَانِ يُحْتَاجُ مَعَ التَّحْوِيطِ، وَتَعْلِيقِ البَابِ إِلَى حَفْرِ الأَنْهَارِ" أراد حَفْرَ النهر إلى الماء الذي يسوقه إلَيْه من عينٍ أو نهر. وفيما قدَّمنا يعرِّفُك أنَّهُ يجوزُ إعْلاَمُ قوله: "تَعْلِيقِ البَابَ إِلَى حَفْرِ الأَنْهَارِ، وَسَوْقِ المَاءِ إِلَيْهِ"، بالواو، ويجوزُ أيضاً أنْ يُعْلَمَ قولُه: "إلَى جَمْعِ التُّرَاب حَوَالَيْهِ في المَزْرَعَةِ" بالواو؛ لأنَّ الشَّيْخ أبا حامدٍ قال في التَّعْليق "وعنْدي إذا صارَتِ الأرضُ مزروعةً بماءٍ سبَقَ إلَيْها، فقد تَمَّ الإحياءُ، وإن لم يَجْمَعِ التّراب حوالَيْها، فاعْلَمْ أنَّ طُرُقَ الأَصْحَاب مُتَّفِقةٌ على أنَّ الإحْياء يختلفُ باختلافِ ما يقْصِدُه المحْيي من مسْكَنٍ، أو حظيرة وغيرهما. وبحث الإمام فيه عن سَبَبَيْن لا بُدَّ منهما: أحدهُمَا: أنَّ القصْدَ إلى الإحْيَاء، هلْ، يعتبر؛ لحُصُول الملك فيه؟ وأجاب بأنَّ ما لا يفعله في العادة إلاَّ المتملِّك؛ كبناء الدُّور، واتِّخاذ البستان يُفيد الملك، فإن لم يوجَدْ منه قَصْد، وما يفعله المتملِّك وغيرُ المتملِّك؛ كحفر البئر في المَوَات، وكزراعة قطْعةٍ من المواتِ؛ اعتماداً على ماءِ السماء، فإِذا انضمَّ إلَيْه القصدُ، أفَادَ المِلْكَ، وإلاَّ، فوجهان، وما لاَ يَكْتَفِي به المتملِّكُ كتسوية موْضِع النزول، وتنقيته عَنِ الحجارة، لا يفيدُ التملُّكَ، وإن قصَدَه، وشبّه ذلك بالاصطياد، بنصب الأُحْبُولة في مدارج الصُّيود يفيد الملْكَ في الصيد، وإغلاقُ الباب إذا دَخَلَ الصَّيْدُ الدارَ على قصْدِ التَمَلُّكِ يفيد المِلْكَ، ودونَهُ وجهان، وتوحل الصيد في أرضه التي سقَاهَا لا يَقْتَضِي الملْكَ، وإن قَصَده. والثاني: أنَّه إذا قَصَدَ نَوْعاً، وأتى بما يُمْلَكُ به نوعٌ آخرُ، ما الحكم؟ فأجاب بأنَّه ¬
فرع
يفيدُ المِلْكَ، حتى إذا حَوَّط البقعة، يَمْلِكُها، وإن قَصَدَ المَسْكَنَ؛ لأنَّهُ مما يملك به الزَّرِيبَةَ، لو قصَدَها، والجواب عن البحث الأوَّل فمقبولٌ، لا يلزمُ منه مخالفةُ الأصحابِ، بل إنْ قَصَدَ شَيئًا، اعتبرنا في كلِّ مقصود ما فَصَّلوه، وإلاَّ، نَظَرْنا فيما أتى به، وحَكَمنا فيه بما ذكره، وأمَّا الجوابُ عن الثَّانِي، فمخالفةٌ صريحةٌ لما قالُوهُ؛ لما فيه من الاكتفاء بأدنَى العمارات أبداً. فإذا حفر بئراً في المَوَاتِ؛ للتملُّك، لم يَحْصُل الإحياءُ ما لم يَصلْ إلى الماء، وإذا وصَلَ، كَفَى إن كانت الأرضُ صُلْبَةً، وإلاَّ، وجب أنَّ يُطْوَى، وفي "النهاية": أنَّه لا حاجةَ إلَيْه، وفي حفر القناة يَتِمُّ الإحْيَاءُ بخُروجِ المَاءِ وجريانه وإذا حَفَرَ نَهْراً ليَجْرِيَ الماءُ فيه عَلَى قَصْد التَّمَلُّكِ، فإذا انتهَتْ فُوَّهة النهر الذي يَحْفره إلى النَّهْرِ القديمِ، وجرَى فيه الماءُ، ملَكَه وكذا ذكره صاحبُ "التَّهذيب" وغَيْرُهُ. وفي "التتمة" أنَّ المِلْكَ لا يتوقَّف على إجراء المَاءِ فيه؛ لأنَّه استيفاءُ منفعة؛ فالسكون في الدار (¬1). فَرْعٌ: سَقَى أرْضَه بماءِ غَيْرِه المملوكِ لَهُ فالغلة لصاحبِ البَذْر، وعليه قيمةُ الماء. قال الحناطيّ: لو استَحَلَّ من صاحبِ المَاءِ، كان الطَّعَامُ أطْيَبَ (¬2). ¬
كتاب الوقف
كِتَابُ الوَقْفِ، وفَيهِ بَابَانِ البَابُ الأَوَّلُ في أرْكَانِهِ وَمُصَحِّحَاتِهِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَهِيَ أَربَعَةٌ: الأَوَّلُ المَوْقُوفُ وَهُوَ كُلُّ مَمْلُوكٍ مُتَعَيَّنٍ يَحْصُلُ مِنْهُ فَائِدَةٌ أَوْ مَنْفَعَةٌ لاَ يَفُوتُ العَيْنُ بِاسْتِيفَائِهَا، فَيَجُوزُ وَقْفُ العِقَارِ وَالمَنْقُولِ (ح م) وَالشَّائِعِ وَالمُفْرَزِ، وَيَجُوزُ وَقْفُ الأَشْجَارِ لِثِمَارِهَا، وَالحَيَوانِ (ح) لأَلبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا، وَالأَرَاضِيَ لِمَنَافِعِهَا، وَلاَ يَجُوزُ وَقْفُ الحُرِّ نَفْسَهُ، وَلاَ وَقْفُ الدَّارِ المُسْتَأْجَرَةِ، وَلاَ يَجُوزُ وَقْفُ المُوصَى بخِدْمَتِهِ؛ لأنَّهُ لاَ مِلْكَ في الرَّقَبَةِ، وَفِي وَقْفِ المُسْتَوْلَدَةِ وَالكَلْبِ (و) خِلاَفٌ، سَبَبة التَّرَدُّدُ فِي أَنَّ الوَقْفَ هَلْ يُزِيلُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ؟ وَيَجُوزُ وَقْفُ الحُلِيِّ لِلُّبْسِ، وَوَقْفُ الدَّرَاهِمِ لِلتَّزْيِينِ فِيهِ تَرَدُّدُ كَمَا فِي الإِجَارَةِ، وَلاَ يَجُوزُ وَقْفُ الطَّعَامِ فَإنَّ مَنْفَعَته فِي اسْتِهْلاَكِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قَسَّم الشَّافِعَيُّ -رضي الله عنه- العَطَايَا، فقال: تبرُّع الإنسان على الغَيْر بمالِهِ ينقسم إلَى منَجَّزٍ في الحياة، وإلَى معلَّقٍ بالمَوْت. والثاني: هو الوصيَّةُ، والأوَّل: ضَرْبَانِ: أحدُهما: تمليكٌ محْصنٌ؛ كالهباتِ والصَّدَقَات. والثاني: الوقْفُ (¬1) -وهو مقصود الباب- وُيسَمَّى وقْفاً؛ لما فيه من وَقْف، المال ¬
الجهة المعيَّنة، وقطْعِ سائر الجهات والتصرُّفات عنه. والأصْلُ فيه ما رُوِيَ أنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عنْه- مَلَكَ مائَةَ سَهْمٍ من خيبر اشتراها،
فلَمَّا استَجْمَعَها، قال: يا رَسُولَ اللهِ -أصبْتُ مالاً لم أُصِبْ مثلَه قطُّ. وقد أردت أن أتقرَّب به إلى الله -تَعالى- فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "حَبِّسْ الأَصْلَ وَسَيِّلِ الثَّمَرَةَ". وُيرْوى: "فجعلها عمر -رضي الله عنه- صدَقَةً لاَ تُبَاعُ، ولا تُورَثُ، ولا تُوهَبُ" (¬1) وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "إِذَا مَاتَ ابنُ آدَمَ، انْقطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له أو عِلْمٍ يَنْتَفِعُ بِهِ أو صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ" (¬2). وحمل العلماءُ الصَدقةَ الجَارِية على الوقْفُ، واشتهر اتِّفَاقُ الصحابة على الوَقْفِ قَوْلاً وفِعْلاً. وُيرْوَى عن أبي حنيفةَ إنكارُ الوَقْف (¬3)، غَيْرَ أنَّ الأكثرين استَنْكَرُوه، وردُّوا قوله إِلى أَنَّ الوقف بمجرَّده لا يلزم على ما سنحكيه من بعدُ إن شاء الله ثم إن صاحب الكتاب -رحمه الله تعالى- أَودع على عَادِتِه مَسَائِلَ الوَقْفِ في بَابَيْنِ: أحدهما: في بيانِ ما يُعْتَبَرُ لصحَّته. والثاني: في أحكامِهِ، إذا صحَّ. وما يعتبر في الصِّحَّة ينقسِمُ في الاصطلاح المشْهُورِ إلى أَركانٍ وشرائطَ. والبابُ الأوَّلُ مشتملٌ على الضَّرْبَيْن، فقوله: "في أَركَانِهِ ومُصَحِّحَاتِهِ" كأنه عَنَى بالمصحِّحات الشُّرُوطَ، وهو اصطلاحُ أهْلِ الأَصُول، ثم أركانُ الوَقْف على قياسِ مَا ذكَره في سائر العُقُود هي الواقِفُ، والمَوْقُوفُ، والمَوْقُوفُ علَيْه، وصيغةُ الوَقْفِ. أمَّا الواقِفُ، فيجب أن يكونَ صَحِيحَ العبارة، أهْلاً للتبرُّع (¬4)، ولم يُفْرِدْه بالذِّكْرَ لوضوح حاله. أمَّا الموقُفُ، ففيه مسائلُ: ¬
إحداها: يجوز وقْفُ العَقارِ والمَنْقُول، كالعَبيد، والثياب، والدوابِّ، والسلاح، والمَصَاحِفِ، والكُتُب (¬1). وعن مالك: أنَّ المَنْقُوَلَ مطْلَقاً لا يجُوزُ وَقْفُهُ. لَنَا: ما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أمَّا خَالِدٌ، فَقَدْ حبسَ أدرعه واعتده (¬2) في سَبِيلِ اللهِ" (¬3). وأيضاً فالمسلمُونَ متَّفِقون عَلَى وَقْف الحُصُر، والقَنَادِيل، والدلالي في جميع الأعْصَار، ولا فَرْقَ بيْن المفرز والشائع، بل يجُوز أن يَقِفَ نصْف دارٍ ونصْفَ عبْدٍ (¬4). وقَف عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عنْه- مائة سهْمٍ من خَيْبَر مَشَاعاً (¬5). ¬
ولا يسري الوقف من نصْفٍ إلى نصفٍ، وإنما السراية منْ خاصَّة العِتْق. ولو وقَف نصْف العبد، ثم أعْتَق النِّصْفَ الآخَر، لم يُعْتَقَ، بخلافِ ما إذا رَهَن نِصْفَ عبْدٍ، ثم أعتق النِّصْفَ الآخَرَ، فإنَّا نقول بالسراية إلى المَرْهُون، والفَرْق أن المرهونَ قابلٌ للإعتاق، والموقُوف بخلافه. المسألةُ الثانيةُ: يجوزُ وَقْفُ ما يطلب لعين تُسْتفادُ منْه؛ كالأشْجَار للثمار، والحيواناتِ للأصْوَافِ والأوْبَارِ والأَلْبَان، والبيض، وما يُطْلب لمنفعةٍ يُسْتَوْفَى منْه؛ كالدُّور والأرَاضِي. ولا يُشْترط أن يكون بحَيْثُ تحْصُل منه المنفعة، والفائدةُ في الحال، بَلْ يجُوزُ وَقْفُ العَبد، والجَحْشِ الصغيرين والزمِنِ، الذي يَرجَى زوالُ زمَانَتِهِ، كما يجوز نكاحُ الرَّضيعة. المسألة الثالثة: لا يَجُوزُ أن يقف الحُرُّ نَفْسَه؛ لأن رقبته غير ممْلوكةً، وإن قدَّرنا أنَّ منافعه ملْحقةٌ بالأمْوال، والوَقْف يَسْتَدعِي أصلاً يحبس [عليه] لِيستوفي منفعته على مرِّ الزَّمَان، وكذلك مالِكُ منافع الأموال دون رِقَابِها لا يجُوزُ له الوَقْفُ، سواءٌ ملك مُؤَقَتَاً كالمستأجر، أو مؤبَّداً كالموصَى له بالخدمة والمنفعة. وأيضاً، فإنَّ الوَقْفَ يُشْبِه التحريز، وملك المنفعة لا يُفيدُ ولايةَ التحرير، ويجوز أنَّ يعلَّل اشتراطُ كون الموقوف عَيْناً بأنَّ الموقوف يجبُ أنَّ يكونَ لَهُ دوامٌ عَلَى ما سيأتي، والمنافعُ تحْدُث وتفنى، فهي كالشيْء الذي يتَسَارَع إِلَيْه الفسادُ والفناء. المسألة الرابعة: في وقْف المستولَدَةِ وجهان: أحدُهُما: يجوزُ كما يجوز إِجَارَتُها. أصحُّهما: المنْع؛ لأنَّ حلّها حرمة العِتْق، فكأنَّها عتيقة. وبنَى بعضهم الخلافَ عَلَى أن الوَقْفَ، هلْ ينقل المِلْكَ عن الواقف؟ إن قلْنا: نَعَمْ، لا يصحّ وَقْفِها؛ لأنَّها لا تَقْبَل النقل، فإنْ قلنا: لا تُنْقَل، صَحَّ، وهذا ما أشار إليه صاحبُ الكتابِ بأن صحَّحناه. فإذا مات السيد، وعَتَقَت، قال في "التَّتِمَّة": لا يبْطُل الوقْف، بل تبْقَى منافعها للموقُوفُ علَيْه، كما لو أجَّرها، ومات. وفي "النهاية" أنَّه يبْطُل بخلاف الإجارة؛ لأنَّ الحريَّة تنافِي الوقْف دُون الإجارة، هذا قضيَّة كلامِ القَاضِي ابْنِ كَجٍّ. ويجْرِي الوجهانِ في جَوَاز وقْف المُكَاتب، ويجُوز وَقْفُ المُعَلَّق عتْقُه بصفةٍ ثم إذا وُجِدَت الصِفَةُ، فإن قلْنا: إنَّ المِلْكَ في الوقْف للواقف، أو للهِ -تعالَى- عَتَقَ، وبطلَ الوَقْفُ. وإن قلْنا: إِنَّه للموقوف عليه، فلا يُعْتَقُ، ويكونُ الوَقْفُ بحاله.
ويجوز وَقْفُ المدَبَّر أيضاً، ثم هُوَ رجوعٌ، إن قلنا: إنَّ التدبيرَ وصيةٌ، وإن قلْنا: إنَّه تعليقٌ عَتَقَ بصفة، فهو كالعبد المعلَّق عتُقُه بصفةٍ. المسألةُ الخامسة: في وقْف الكَلْب المُعَلَّم (¬1) وجهان، بناهما بانُونَ، منْهم الشيخُ أبو حامد على الخِلاَفِ في إجَارته، وآخَرُون علَى الخِلاَف في هِبَتِه، وآخرُونَ عَلَى أنَّ الوقْفَ يزيلُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ، أمْ لا يزيل؛ إنْ قلنا: لا يُزِيلُ، فَلَيْسَتْ قضيَّتهُ سَوى نقْلِ المنافعِ، ومنافعُها مستَحقَّةٌ، فجاز أنْ ينقل، وكيفَ ما قدَّر فالأصحُّ المنعُ، وقد قَطَع به بعضُهُم مع القول بجوازِ الإجَارة؛ لأن رقبته غَيْرُ مملوكةٍ. المسألةُ السادسةُ: في وقْف الدراهم والدَّنانير وجهان، كما ذكَرْنا في وقْف إجارتِهِما. إنْ جوَّزنا الإجارَةَ، جَازَ وقْفُها, لتكرى ويجوز وقف الحُلِيُّ؛ لغرض اللبس. وحَكَى الإمامُ أنَّهم ألْحَقُوا وَقْفَ الدراهم؛ ليُصَاغ منها الحُلِيُّ بوَقْفِ العَبْدِ الصغيرِ، وتردَّدَ فيه؛ لأنَّ الصغيرَ يصيرُ إلى حاَلة الانتفاع بنَفْسِه، وهذا يحتاجُ إلَى إحداث أمْرِ بالاختيار. المسألة السابعةُ: لا يجوز وقْفُ ما لا يدُومُ الانتفاعُ به كالمطعومات؛ فإنَّ منفعتها استهلاكها وكالرَّيَاحِين المشمُومةِ، فإنها سريعةُ الفَسَادِ، وإنَّما شُرعَ الوَقْفُ؛ ليكون صدقةً جاريةً (¬2). ومن المسائل الداخِلَةِ في الفَصْل أنَّه لو وَقَفَ عَبْداً، أو ثَوْباً في الذمَّة، لم يُجَزْ، كما لو أعْتَقَ عبْداً في الذمَّة، ولو وَقَفَ أحدَ عبْدَيْه، لم يَجُزْ كما لو باع، وفيه وجه؛ أنه يجُوزُ كما لو أَعْتَقَ ويجوز وقْفُ عُلْوِ الدَّارِ دون سُفْلها (¬3)، ويجوزُ وقْفَ الفَحْل للنزوات بخلاف إجارته؛ لأنَّ الوقْف قربةٌ يحتملُ فيه ما لا يُحْتَمل في المعاوَضَات، والله أعلم. وقولُهُ في الكتاب: "وهوَ كُلُّ مملوكٍ متعيَّن تحْصُلُ منه فائدةٌ أو منفعةٌ لا تفوت العَيْنُ باستيفائها" أراد به ضَبْطَ الموقوف. وقوله: "مَمْلُوك" يدخل فيه العَقَارُ، والمنْقْول، والشَّائع، والمفرَّز، ويخرج عنه الحرّ وما لا يملك. وقوله: "متعيَّن" قَصَدَ به الاحتراز عمَّا إذا وقَف أحد العَبْدَيْنِ، ¬
فرعان
ويخرج عنه ما إذا وقَفَ في الذِّمَّة. وقوله: "منفعةٌ أو فائدةٌ" -أشار بالمَنْفَعَة إلى السكنى واللُّبْس ونحوهما، وبالفائدة إلى الثَّمَرةِ واللَّبَنِ ونحوهما. وقوله: "لا تفوت العيْنُ باستِيفائها" احترز به عن الطَّعام، وما في معناه إلاَّ أنَّ هذا الضَّابِطَ يشْكِل بوقْفِ المستوْلَدَةَ، فإنه يقتضي جَوَازَه، والأصح فيه المَنْعُ، وبالملاَهِي حيْثُ لا يجوز وَقْفُهَا. فإنْ قلْتَ: كُلُّ عيْن معيَّنةٍ ممْلُوكةٌ مِلْكاً يَقْبَلُ النقل تَحْصُل منها فائدةُ أو منفعةً يستأجر لها زال الإشكال والله أعلم. فرعان: الأوَّل: أجَّرَ أرْضَهُ، ثم وقَفَها، جواب الشيخ أبي عليٌّ في "الشرح" أنَّه يصحُّ الوقْف؛ لأنَّه مملوكٌ بالشرائط المذكورةِ، وليَسَ فيه إلا العَجْزُ عن صَرْف المنفعةِ إلَى جهةِ الوَقْف في الحال، وأنَّه لا يمنع الصِّحَةَ، كما لو وقَف ماله في يد الغَاصب. وفي فتاوى القَفَّال تخريجُهُ على الوَقْف المنْقَطِع الأَوَّل. وزاد بَعْضُهم فقال: إن وقَف على المَسْجِد، صَحَّ لمشابهتِه الإعْتَاق، وإنْ وقَف على إنْسَانٍ، فإنْ قلْنا: المِلْكُ في الوقْف ينتقل إلى المَوْقُوف علَيْه، فهو على الخلافِ في بَيْع المستأجر، إنَّ لم نصصِّحه، فكذلك الوقْفُ. وإن صحَّحناه، فيخرَّج حينئذ على الخلاف في الوقْف المنْقَطِع الأوَّل، وإن قلْنا: ينتقلُ إلى اللهِ تعالَى، فَوَجْهان لافتقاره إلى القَبُولِ، ووقف الورثة الموصى بمنفعته شَهْراً كوَقْف المستأجر الثَّاني، إذا استأجر أرضاً؛ ليبني فيها أو يَغْرِس، فَفَعَلَ، ثمَّ وقَفَ البنَاءِ والغِرَاس، ففي صحَّة الوَقْف وجهان: أصحُّهُما: الصَّحة، وبه قال ابْنُ الحَدَّاد؛ لأنَّه مملوكٌ يمكن الانتفاع به مع بقاء عَيْنه. والثاني: المَنْعُ؛ لأنَّ مالك الأرْضِ بسبيل من قلعه، فكأنَّه وقَفَ مالاً ينتفع به، وهما كالوجهَيْن في أنَّ الثاني لو انفرد بِبَيْعِ البناء، هل يجوز؟ ولو وَقَف هذا أرضَه، وهذا بناءه جاز بلا خلاف كما لو اجتمعا على البَيْع، وإِذا قلْنا بصحَّة الوقْف، فإذا مضَتِ المدَّة، وقلَع مالكُ الأرْضِ البناءَ، فإن بَقِيَ منتفعاً به بعْدا القلع، فهو وَقْفٌ، كما كان، وإِنْ لم يبْقَ، فيصيرُ ملكاً للموقُوفِ علَيْه، أو يرجع إلى الوَاقِف؟ فيه وجهان، وأَرْشُ النقص الذي يؤخذ منه القالع يسلك به مَسْلَكَ الوَقْف (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الثَّانِي: المَوْقُوفُ عَلَيْهِ فَإنْ كَانَ مَوْقُوفاً عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ ¬
فَشَرْطُهُ أَنْ يكُونَ أَهْلاً لِلْهِبَةِ مِنْهُ وَالوَصِيَّةِ لَهُ، فَيَجُوزُ الوَقْفُ عَلَى الكَافِرِ الذِّمِّيِّ، وَعَلَى المُرْتَدِّ وَالحَرْبِيَ فِيهِ خِلاَفٌ (و) لأَنَّهُ لاَ بَقَاءَ لَهُ لأَنَّهُ مَقْتُولٌ، وَلاَ يَجُوزُ عَلَى الجَنِينِ؛ لأنَّهُ لاَ تَسْلِيطَ في الحَالِ، ولا عَلَى العَبْدِ (و) فِي نَفْسِهِ وَلَكِنَّ الوَقْفَ عَلَيْهِ وَقْفٌ عَلَى السَّيِّد، وَالوَقْفُ عَلى البَهِيمَةِ هَلْ هُوَ وَقْفٌ عَلَى مَالِكِهَا؟ فِيهِ خِلاَفٌ، وَلاَ يَجُوزُ الوَقْفُ عَلَى نَفْسِهِ (م) إِذْ لاَ يَتَجَدَّدُ بِهِ إلاَّ مَنعْ التَّصَرُّفِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُ يَجُوزُ، وَلَوْ شَرَطَ أنْ يَقْضِيَ مِنْ رِيعِ الوَقْفِ زَكَاتَهُ وَدُيُونَهُ فَهُوَ وَقْفٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَكَذَا إنْ وَقَفَ عَلَى الفُقَرَاءِ ثُمَّ صَارَ فَقِيراً فَفِي شَرِكَتِهِ خِلاَفٌ (و). قَالَ الرَّافِعِيُّ: الوقْفُ إمَّا أن يكون على معيَّنٍ أو غير معين. القِسْمُ الأَوَّلُ: إِذا كان الموقْوفُ عليه شخْصاً معيَّناً، أو جماعةً معيَّنين، فالشَّرْطُ أن يمكن تمليكُه (¬1)؛ لأنَّ الوقْفَ تمليك العَيْنِ والمنفعة إن قلنا: إنَّ المِلْكَ في الوقف للموقُوف علَيْه، وتمليكُ المنفعة، إنْ لَمْ نقل به. وقوله في الكتاب: "أهلاً للهبة منه والوصية له" ليس الغرضُ منه اعتبار هذيْن التَّصَرُّفَيْنِ خاصَّةً، بل المعتبر مطْلَقُ أهليَّةِ المِلْك، لكنَّهما أقربُ إلى الوقْفِ مِنَ البَيْعِ والمعاوضات فكأنَّه جرَى ذكرهما لذلك. وفي الفصل ثلاث مسائل: المسألةُ الأوُلى: يجوزُ الوَقْفُ على الذِّمِّيِّ من المُسْلِم والذِّمِّي، كما تجوز الوصيَّةُ له، والتصدُّق عليه، وفي الحربيِّ والمرتدِّ وجهان: أحدهما: الجوازُ كالذِّميِّ. وأصحُّهما: المَنْعُ؛ لأنَّهُمَا منقولان؛ لأنَّه لا بقاء لهما، والوَقْفُ صدقةٌ جاريةٌ، فكما لا يوقَفُ ما لا دوام له، لا يوقف على من لا دَوَام له (¬2). المسألةُ الثانيةُ: لا يجُوز الوَقْفُ عَلَى من لا يملك كالجَنِينِ، بخلاف الوصيَّة؛ لأنها تتعلَّق بالمُسْتَقْبل، والوقْفُ تسليطٌ في الحال، وكذلك لا يجوز الوقْفُ على العبْدِ نفْسه، وهذا فيما ذكره ذاكرون مُفَرَّعٌ على قولنا: إنَّه لا يملك وأمَّا إذا قُلْنَا: إنَّه يملك، ¬
صحَّ الوَقْفَ علَيْه، وإذا عَتَقَ، كان له دونَ سيده. وعلَى هذا قال صاحب "التَّتِمَّة": إذا وقَفَ عَلَى عبد فلانٍ، وقلنا: إنَّ العبد يُمَلَّك بالتمليك، فيصحُّ الوقْفُ عليه، ويكون الاستحقاقُ متعلِّقاً بكونه عبْدَ فلانٍ حتى لو باعه، أو وهَبَهُ، زال صفةُ الاسْتِحْقَاق، ولك أن تقولَ: الخلافُ في أنه، هلْ يملك بخصوصِ ما إذا ملكه السَّيِّد؟ فأمَّا إذا ملَكَه غَيْرُه، فلا خِلاَف في أَنَّهُ لا يملك، وحينئذٍ، فإذا كان الواقِفُ غيْرِ السيِّد، كان الوَقْفُ عَلَى من لا يملك، فأيُّ معنىً لقولنا: لو ملكه السيد. لملك. وأمَّا إذا أطلق الوقْفَ عليه، فهو وقْفٌ على السيِّد، كما لو وهب منه، أو أوصَى، وإذا شرطْنا القبول، جاءَ فيه الخلافُ في أنَّهُ، هل يستقلُّ بقبول الهبة والوصية أم يحتاج إلَى إذن السيِّد؟ وقد مرَّ في مداينة العبيد. ولو وقف على مكاتب هل يستقل بقبول الهبة والوصية أم يحتاج إلى إذن السيد، قال الشيخ أبو حامد: لا يجوز كما لو وقف على القنِّ، وفي "التتمة": أنا نصحِّح الوقْفَ في الحال، ونصْرِف الفوائد إليه، ونُدِيم حكمه، إذا عتَق، إنْ أطْلَق الواقِف، وإنْ قال: تُصْرَف الفوائد إليه، ما دام مكاتباً، بَطَل استحقاقه، وإن عجز، بان لنا أنَّ الوَقْفَ منقطعُ الابتداء. ولو وقَف على بهيمة وأطلق، فهلْ هو كالوقْفِ على العَبْد، حتى يكون وقْفاً عَلَى مالِكِها؟ فيه وجهان: أصحُّهما: لا؛ لأنها ليَسَتْ أهْلاً للمِلْك بحال، وهذا كما أنَّه لا يجُوزُ الهبةُ منها، والوصيَّةُ لَهَا. والثاني: نعم، كما لو وقف علَى العَبْد، وهذا ما اختارَهُ القاضي أبو الطيِّب [الطبري] في "المجرد" وذكر أنَّهُ ينفق علَيْها منْه ما بَقِيَتْ؛ وعلَى هذا، فالقَبُول لا يكون إلا من المالك، وفيما إذا أضاف إلى العبد؛ أصحُّ الوجهين: أنه لا يصح القبول من السيِّد؛ لأن الخطابَ لم يَجْرِ معه. وحكى أبو سعيد المتولِّي فيما إذا قال: وقفتُ عَلَى علف بهيمة (¬1) فلانٍ، أو علف بهائم القَرْية وجْهَيْن؛ على ما ذكرنا في صورة الإطلاق. قال: والخلافُ فيما إذا كانت البهيمَةُ مملوكةً. أمَّا إذا وقف على الوُحُوش، أو علَف الطُّيور المباحَةِ، لم يصحَّ بلا خلاف (¬2). ¬
المسألة الثالثة: في وقْف الإنْسان عَلَى نَفْسه وجهان: أصحُّهما: ويُحْكَى عن نصه: المنع؛ لأنَّ الوَقْفَ تمليكُ المنفعةِ وحْدَها، أو مع الرقبة، والإنسان لا يَمْلِكُ نَفْسَه (¬1). والثاني: وبه قال أحمدُ وأبو عَبْدِ اللهِ الزُّبَيْرِيُّ أنه جائزٌ؛ لأن استحقاقَ الشيْءِ وقْفاً غيرُ استحقاقه مِلْكاً، وقد يقصد مَنْعَ نفسه من التصرُّف المزيلِ للمِلْك، وينسب هذا الوجه إلى ابنِ سُرَيْج أيضاً. وحكى القاضي ابْنُ كجٍّ عنه أنَّه يصحُّ الوقف، ويلغو الشرط، وإضافته إلى نفْسِه، وهذا بناءٌ على أنه لو اقتَصَرَ عَلَى قوله: "وقفتُ"، صحَّ الوقف. وينبغي أن يطرد في الوقْف عَلَى من لا يجوز مطلقاً. ولو وقف على الفقراء، وشرط أن تقضي من ريع الوقْفِ زكاتُهُ وديونُهُ، فهذا وقْفٌ على نفْسِهِ وغيره، ففيه الخلافُ، وكذلك لو شَرَط أنَّ يأكل من ثماره، أو ينتفع به، وقدْ يوجه الجواز بأنَّه عثمانَ -رضِيَ الله عنه- وَقَفَ بِئْرَ رُومَة (¬2)، وقَالَ: دَلْوِي فِيهَا ¬
كَدِلاَءِ المُسْلِمِينَ (¬1). ومن منعَ، قال: ليس ذلك على سبيل الاشتِرَاط، ولكنه أخبر أنَّه للواقف أن ينتفع بالأوْقَاف العامَّة؛ كالصلاة في البقعة التي يجعلها مسْجِدَاً، وما أشبه ذلك. ولو استَبْقَى الواقِفُ القولية لنَفْسِه، وشرط أجرةً، وفرَّعنا على أنَّهُ لا يجوز أن يقِفَ على نفسه، ففي صحَّة هذا الشَّرْط وجهان مبنيَّان على أنَّ الهاشِمِيَّ، إذا انتصب عاملاً للزَّكاة، هلْ له أن يأخُذَ من سَهْم العامِلِينَ (¬2)؟ ولو وقَف على الفقراءِ، ثم صار فقيراً، ففي جواز الأَخْذ وجهان مع المَنْع من أن يقف عَلَى نفْسه؛ لأنَّه لم يقْصد نفْسَه، وإنَّما وجدت فيه الجهَةُ الَّتي وقف عليها، ويُشْبه أن يكونَ هذا أظهَر، لكن المصنِّفَ رجَّح المنعَ في "الوسيط"، ووجَّهه بأن الظاهرَ أنَّ مطْلَقَ الوقْف ينصرفُ إلى غير الواقف. وقوله في الكتاب: "فيجوز الوقْفُ عَلَى الكافر الذمِّيِّ، وعلى المرتدِّ والحربِّي [فيه] خلاف هكذا هو الصوابُ، وقد يوجد في بعض النسخُ "على الكافرِ الذمِّيِّ والمرتدِّ والحربي خلافٌ" وهو غلط. وقوله "ولا على العَبْدِ في نفْسِهِ" -يجوز أن يُعْلَمَ بالواو، لما سبق وقوله "ولا يجوز الوقْف عَلَى نَفْسِهِ" بالألف والميم أيضاً؛ لأنَّ أبَا الفرج السَّرْخَسِيَّ حَكَى عن مالكٍ مِثْلَ مذْهب أحمد، وقيل: إنَّ مذهبَه الجوازُ في اليسير دون الكَثير. وقوله: "إذ لا يتجدد له إِلاَّ مَنْع التصرُّف" أراد به أنَّ مقتَضَىَ الوقْف، حبس الرقبة، وتمليكُ المنْفَعَة، والرقَبَةُ محْبُوسَةٌ علَيْه، والمنفعةُ مملوكةٌ له، فلا يحْدُث شيء سِوَى امتناعِ التصرُّفات التي يمنعها الوَقْف. وقوله: "ففي شركته خلافٌ" -أي في شركته إيَّاهم في جواز الأخْذ، وليس المرادُ الشَّرِكَةَ في الموْقُوف؛ لأنَّ استيعابَ الفقراء غير واجب. هذا تمامُ الكلامِ في الوقْف على المعيَّن. ولو قال لرجلَيْن: وقفْتُ عَلَى أحدِكما، لم يصحَّ، وفيه احتمالٌ عن الشيخ أبي محمَّد إذا فرَّعنا على أن الوقْفَ لا يفتقر إلى القَبُول. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ كَانَ الوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ كَالمَسَاكِينِ وَالفُقَرَاءِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ قُرْبَةٌ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةٌ كَالوَقْفِ عَلَى عِمَارَةَ البَيْعِ وَالكَنَائِسِ وَكَتَبَةِ التَّوْرَاةِ وَنَفقَةِ قُطَّاعِ ¬
الطَّرِيقِ فَبَاطِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لاَ قُرْبَةَ وَلاَ مَعْصِيَةَ كَالوَقْفِ عَلَى الأَغْنِيَاءِ أَوْ عَلَى المَسَاكِينِ مِنَ الكُفَّارِ وَالفُسَّاقِ فَفِيهِ خِلاَفٌ (و). قَالَ الرَّافِعِيُّ: القُسْمُ الثَّانِي: إذا كان الوقْفُ عَلى غير معيَّن؛ كالوقف على الفقراء، والمساكين، وهذا يسمى الوقْف على الجهة؛ لأنَّ الواقفَ يَنْظُرُ إلَى جهة الفقر والمسْكَنَة، ويقصد سد خلة قوم موصوفين بهذه الصِّفَة لا شخصاً بعَيْنه، فيُنْظَرُ في الجهة, أهي معصيةٌ أم لا؟ إن كانت الجهة جهة معصيةٍ؛ كالوقْف لعمارة البَيْعِ والكنائِسِ ولقناديلها وحصْرِها, لم يصحَّ؛ لما فيه من الإعَانَة على المعصية (¬1)، وكذا لو وقف لكتابةِ التَّوْرَاة والإنْجيل؛ لأنَّهم بدَّلوا وحرَّفوا، والاشتغال بكتابتها غيرُ جائز، ولا فرْقَ بيْن أن يصدر هذا الوقْفُ من مسْلِمٍ أو ذِمِّيٍّ، فنبطله إذا ترافَعُوا إلينا. أمَّا ما وقَفُوه قبل المبْعَثَ على كنائِسِهِمُ القديمة فنقرّه حيث نقرّ الكنائس، وإن لم تكن الجهةُ جهةَ معصيةٍ، نُظِرَ؛ إنَّ كان يظهر فيها قصْدُ القُرْبة؛ كالوقْف على المساكين، [وفي سبيل الله والعُلَماء والمتعلِّمين، وعلى المَسَاجد] والمدارس والرِّبَاطَات والقناطِرِ، صحَّ الوَقْفُ، وعلى هذا النَّحوِ جرتْ أوقافُ الصحابة -رضي الله عنهم- وإن لم يظهر قصدُ القُرْبة، [كالوقف على الأغنياء، ففيه وجهان، مبنيان على أن المرعيَّ في الوقْف على الموصُوفين جهة القُرْبة] (¬2) أو التَّمْليك؟ وتحقيقهُ أن الوَقْفَ على المعيَّنين يُسْلَك به مَسْلَكُ التمليكات؛ ولذلك يجوز عَلَى من يجوز تمليكه، ثم قد يقصد الواقفُ التقرُّبَ به إلى الله تعالى؛ كالصدقة. وأمَّا الوقفُ على منْ لا يتعيَّن، فحكاية الإمامُ عن المعْظَم أنَّ المرعيَّ منه طريق القربة دُونَ التَّمْليك، ولهذا لا يجبُ استيعابُ المَسَاكِين، بل يجوزُ الاقتصار، على ثلاثةٍ منهم. وعن القفَّال أنَّ المرعى فيه ظهورُ طريق التمليك، كما في الوصيَّة، والوقْفُ على المعيَّن، وهذا ما اختاره الإمامُ وشَيْخُهُ، وطرق أصحابنا العراقيين تُوَافِقُهُ حتَّى أنَّهم ذكَرُوا أنَّ الوقْفَ على المساجد والرِّباطات تمليكٌ للمُسْلِمِين منفعةَ الوَقْف. فإن قلْنا بالأول، لم يَصحَّ الوقْف على الأغنياء، ولا علَى اليهود والنصارَى والفُسَّاق. ¬
وإن قلْنا بالثاني، جاز الكلُّ، ويجوز أن يخرَّج على هذا الأصْلِ الخلافُ في الوقْف على الطالبيَّة والعَلَويَّة وسائِرِ منْ لا ينحصِرُون، وفيه قوْلاَن، كما في الوصيَّة لهم، فإنْ راعَيْنا طريقَ القُرْبة، صحَّ الوقْف لَهُم، وإلاَّ، لم يصحَّ؛ لتعذُّر الاستيعابِ، والأشبهُ بكلام الأكْثَرِين ترجيحُ كَوْنه تَمْليكاً، وتصحيحُ الوقْف على هؤلاء؛ ولهذا صحَّح صاحبُ "الشَّامِلِ" الوقْفَ على النَّازِلينَ في الكنائس من مارَّة أهْل الذمَّة، وقالَ: إنَّه وقفٌ عليهم لا على الكنيسة، لكن الأحسن توسُّطٌ، ذهب إليه بَعْضُ المتأخرين، وهو تصحيحُ الوقْف على الأغنياء (¬1) وإبطالُ الوَقْف على اليَهُود والنَّصَارَى، وقُطّاعِ الطريق وسائرُ الفُسَّاق؛ لتضمينه الإِعانة على المَعْصِيَةِ. فأمَّا ما يتعلق بلفظ الكتاب، فإنَّه ذكَر الخلافَ في الوقْف على الكُفَّار والفُسَّاق، ولم يذْكُرْه في الوقْف؛ لنفقة قطَّاع الطريق، بل أطْلَق الحكم بالبُطْلان، ولا يُمْكِنُ أن يقدَّر فرْقٌ بينهما؛ فإنَّ القُطَّاعَ ضَرْبٌ من الفُسَّاق؛ فكأنه أراد بالوقْف لِنفقةِ قُطَّاع الطَّريق إن شرط الصرْف إلَى ما يَتَهَيَّأَ به القطع، من سلاحٍ وغيره، فيَكُون كالوَقْف لعمارةِ البَيْعِ وقنادِيلها، وبمثله لو وَقَفَ لآلاتِ سَائِرِ المعاصِي، بَطَلَ الوَقْفُ لا محالةَ. ولو وقف لتصرُّف الْغَلاَّتِ إلى القُطَّاع، وسائر الفُسَّاق لا إلَى جهةِ الفِسْق، فهو موضعُ الخِلاَف، ولا فرْق بيْن فاسقٍ وفاسقٍ. وقوله: "أو على المساكِينِ منَ الكُفَّار والفُسَّاق" أشار به إلى أنه، وإنْ نصَّ على مساكينهم، فالوقْفُ مختلَفٌ فيه، كما لو وقَف عَلَى أغنياءِ المُسْلِمِين، فإن وقَف عَلَى أغنيائهم، حَصَلَ الخلافُ منْ وجْهَيْن والله أعلم. وهذه مسائلُ أُخَرَ تليقُ بهذا الركْن، يجوز الوقْفُ على سبيل الله تعالى وهم المعنيُّون في آية الزكاة. وقال أحْمَدُ: الحَجُّ في سبيلِ الله، وعلى سبيل البِرِّ أو الخيرِ، أو الثَّوَابِ، ويُصْرَف إلَى أقارب الواقِف، فإنْ لمْ يوجَدُوا، فإلي أهل الزكاة. وذكر صاحِبُ "التهذيب" أنَّ الموقوفَ عَلَى سبيل الله (¬2) يجوزُ صَرْفُه إلَى ما فيه صلاحُ المسلمين منْ أهْل الزَّكَاةِ، وإصْلاَحِ القَناطِر، وسدِّ الثغور ودفن المَوْتَى. وغيرها وفرَقَ بعضُ أصحابِ الإمامِ، فقال: إذا وقَفَ عَلَى جهة الخير، صرف ¬
إلَى مَصَارِفِ الزَّكَاة، فلا يُبْنى به مسجدٌ ولا رباطٌ، وإذا وقف على جهةِ الثَّوابِ، صرف إلَى أقاربه، وجوابُ الأكْثَرِينَ ما قدَّمناه، قالوا: ولو جمع بين سبِيلِ الله وسبيل الثواب وسبيل الخير صرف الثلث إلى الغُزَاة، والثُّلث إلى أقاربه، والثُّلثُ إلى الفُقَرَاءِ والمَسَاكِينِ والغَارِمِين، وابْنِ السَّبيل، وفي الرِّقَاب، وهذا يخالف ما سَبَق مِنَ الخِلاَفِ. ويجوزُ الوَقْف عَلَى أكْفَان الموتَى، ومؤْنةُ الغَسَّالِينَ والحفَّارين، وإنْ كان ذلك مِنْ فروض الكِفَايات، وعلى شراء الأوانِي والظُّروف لِمنْ تكسَّرت علَيْه، وعلى المتفقِّهة، وهم المشتغلون بتَحْصيل الفِقْهِ مبتديهم ومنتهيهم، وعلى الفُقَهاء، ويدْخُل فيه من حَصَّل منه شيئاً، وإن قَلَّ (¬1). وأما الوقْفُ على الصُّوفيَّة، ففيما رأيته يخطِّ بعْض المحصِّلين أنَّ الشَّيْخَ أبَا محمَّد ¬
لم يصحَّح الوقْف على الصُّوفية أصلاً؛ إذ ليَسَ للتصوُّف حَدٌّ يوقَفُ عليه، والمشهورُ الصحَّة، وهُمُ المشتغلون بالعباداتِ في أغْلَب الأوْقَات المعْرِضُون عن الدنيا. وفَضَّل صاحبُ الكتاب في "الفتاوَى" فقَال: لا بُدَّ في الصوفيِّ من العدالة ومن تركِ الحرفة، نعم, لا بأسَ بالوِرَاقة والخِيَاطة، وما يشبههما إذا كان يتعاطَاها أحْيَاناً في الرِّبَاط لا في الحَانُوت، ولا تَقْدَحُ قدْرَتُه على الاكتساب ولا الاشتغال بالوَعْظ والتَّدْريس، ولا أن يكونَ له من المالِ قدر ما لا تجبُ فيه الزكَاةُ، أو لا يفي دخوله بخرجه، ويقْدَحُ الثروة الظاهرة، والعُرُوضُ الكثيرة. قال ولا بُدَّ، وأن يكون فى زيِّ القَوْم إلا إذا كان مُسَاكناً لهم في الرِّباط، فيقوم المخالطة والمساكنة مَقَامَ الزِّيِّ. قال: ولا يُشْترط لُبْسُ المرقَّعة من يد شيخٍ، وكذلك ذكر المتولِّي. ولو وَقَف على الأَرِقَّاء الموقوفين لسَدانَة الكعبة وخِدْمة قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففِي بعْض الشُّرُوح أنَّ أصحَّ الوجهَيْن جوازُه؛ كالوقْفِ عَلَى علَف الدواب في سَبيل الله. ولو وقَف على دارٍ وحانوتٍ، قال أبو عَبْدِ اللهِ الحناطيُّ: لا يصحُّ إلاَّ أن يَقُول: وقَفْتُ على هذه الدَّار عَلَى أنْ يأكل فوائده طارقوها، فيصحُّ على أظهر الوجْهَيْن، ولو وقَف على المَقْبرة لتصرف الغَلَّة إلَى عمارة القبور، قال في "التتمة": لا يجوز؛ لأنَّ الموتَى صائرُونَ إلى الْبِلَى، والعمارة لا تلائمُ حالَهُمْ (¬1). قَال الغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الصِّيغَةُ وَلاَ بُدَّ مِنْهَا، فلَوْ أَذِنَ فِي الصَّلاَة في مِلْكِهِ لَمْ يَصِرْ مَسْجداً، وَكَذَا إِذَا صَلَّى مَا لَمْ يَقُلْ: جَعَلْتُهُ مَسْجِداً، ولَلِصِّيغَةِ مَرَاتِبُ: (الأُوْلَى) قَوْلُهُ: وَقَفْتُ وَحَبَسْتُ وَسَبَلْتُ وَكُلُّ ذَلِكَ صَرِيحٌ. (الثَّانِيَةُ) قوله: حرَّمْتُ هَذِهِ البُقْعَةَ وَأبَّدتُهَا إنْ نَوى الوَقْف فَهُوَ وَقَفٌ، وإنْ أَطْلَقَ فَوَجْهَانِ. (الثَّالِثَةُ) قَوْلُهُ: تَصَدَقْتُ بِهَذِهِ البِقْعَةِ وَهِيَ بِمُجَرَّدِهَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ، فإنْ زَادَ وَقَالَ: صَدَقَةٌ مُحَرَّمَةٌ لاَ تُبَاعُ وَلاَ تُوهَبُ صَارَ وَقْفاً (و)، فَإنِ اقْتَصَرَ عَلَى المُحَرَّمَةِ أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَوَجْهَانِ، إِلاَّ إِذَا عَيَّنَ شَخْصاً وَقالَ: تَصَدَّقْتُ عَلَيْكَ لَمْ يَكُنْ وَقْفاً (و) بِمُجَرَّدْ النِّيَّةِ بَلْ يَنْعَقِدُ فِيمَا وَهُوَ التَّمْلِيكُ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا يصحُّ الوقْفُ إلاَّ باللَّفْظُ (¬1)؛ لأنَّه تَمْلِيكُ منفعةٍ أو عين منفعه، فأشْبه سائرَ التَّمْلِيكات، وأيضاً، فالعِتْق لا يحْصُل إلا باللفظ مع سرعة نفوذه، فالوَقْفُ أولَى. وعلَى هذا، فلو بنَى بناءً على هيئة المساجد، أو عَلَى غير هيئتها، وأذن في الصَّلاة فيه، لم يَصِرْ مسْجداً، وكذا لو أذنَ في الدَّفْن في ملكه، لم يصر مقبرةً، سواءٌ صلَّى في ذَلك أو دفن في هذا، أو لَمْ يفعل. وقال أبو حنيفة -رضي الله عنه-: إذا صلَّى فيه، صار مَسْجِداً، وإذَا دُفِنَ في المَوْضع ميِّتٌ واحدٌ صار مقبرةً، وتَمَّ الوقف. وقوله: "ما لم يَقُلْ جعلْتُه مسْجِداً" ظاهر في أنَّه إذا أتَى بهذا اللفظ يصير مسْجِداً، وإن لم يوجَدْ فيه شيْءٌ من ألفاظ الوَقْفِ الَّتي سنَذْكُرها. بل حكَى الإمَامُ أَنَّ الأَصْحَابَ تردَّدوا في استعمالِ لَفْظ الوقْف فيما يضَاهِي التجريد كما إذا قال مالكُ البقْعة: وقَفْتُها عَلَى صلاةِ المصْلِّين، وهو يبغي جعْلَهَا مَسْجِداً. وفي "التهذيب" و"التتمة": أنَّ المَكَانَ لا يصيرُ مَسْجداً بقوله: جعلْتُه مسجداً؛ لأنَّه لم يوجَدْ شيْءٌ من ألفاظ الوقْف، وبه أجاب الأستاذُ أبو طاهر، قال: لأنَّه وصفه بما هو موصوفٌ به، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً" (¬2). نَعَمْ، لو قال: جعَلْتُهُ مسْجِداً لله [عَزَّ وَجَلَّ] يصيرُ مَسْجِداً، وهذا ذَهَابٌ إلَى أنه لا بُدَّ من لفظ الوقْف، فانظر ما بين الكلامَيْن من التباعُدِ. والأشْبهُ أنَّه لا بأسَ باستعمال لفظ الوقف، وأنَّ قوله: "جعلْتُه مسْجداً" يقوم مقامه؛ لإشعاره بالمقصود واشتهاره فيه، إذا عرَفْتَ ذلك، فلنتكلم في إيجاب الوَقْف، ثم في قبوله. أمَّا الإيجابُ، فإنَّه جعَلَه عَلَى مراتب. إحداها: أن يقول: وقفتُ كذا أو حبَّسْتُ أو سَبَّلت أو أرْضِي موقوفةٌ أو محبسةٌ أو مسبلةٌ، فكل ذلك صريحٌ؛ لكثرةِ استعمالِهِ، واشتهارِهِ شَرْعاً وعُرْفاً، وقد روَيْنا في حديث عُمَرَ -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال "حَبْسُ الأَصْلِ وَسَبْلُ الثَّمَرَةِ". هذا ظاهرُ المذهَب. وعن الإصْطَخْرِيِّ: أنَّ التحبيسَ والتَّسْبِيل كنايتان؛ لأنَّهما لم يشتهرا اشتهارَ الوَقْف. وعنه رواية أخرَى: أنَّ التحبيسَ صَرِيحٌ، والتَّسْبيلَ كنايةٌ؛ لأنَّ التسبيل من السبيل، وهو مُبْهمٌ، والتَّحْبِيسَ حَبْسُ المِلْكِ في الرقبة عن التصرُّفات المُزِيلة، وهو معنَى الوَقْف. ¬
ورواية أُخْرَى رواها أبو الفرج السَّرْخَسِيُّ في "الأمالي" أنَّ شيئاً منها ليس بصريحٍ، بل لا بدَّ من ضم النية إلَى ما يستعمله فيها، أو الجمع بيْن لفظتين منها، أو التأكيد بقوله: "لا تُباعُ ولا تُورَثُ"، ويشهد لهذا على غرابته أن القاضِيَ ابْنَ كج حكى عن أبي حامد، وأبى الحُسَيْن وجهين في الألفاظ الثَّلاثة، هل هي صريحةٌ؟ ويتحرَّر من هذه الروايات فيها أربعةُ أوجُهٍ الكلُّ صريحٌ، الكلُّ كنايةٌ، الصريحُ الوقْفُ وحده، الكنايةُ التَّسْبيل وحده. الثانية: لو قال حرَّمت هذه البقْعة للمساكين، أو أبَّدتُّهَا، أو داري محرَّمةٌ أو مُؤبَّدةٌ. فإن جعْلنا الألفاظَ السابقةَ كناية فكذلك ههنا وإن جعلناها صريحةً، فوجهان: أحدُهُمَا: أنَّ التحريمَ والتأبيدَ أيضاً صريحان؛ لإفَادَتَهما الغَرَضَ أيضاً، واستعمالِهِما في التحبيس والتَّسْبِيل وأشهرهما المَنْعُ؛ لأنهما لا يُسْتَعْمَلاَن مسْتَقِلَّيْنِ، وإنَّما يؤكَّد بهما شيْءٌ من الألفاظ المقدَّمة. المرتبة الثالثة: قوله "تصدقت بهذه البقعة" ليس بصريح، فإنَّ هذا اللفظَ على تجردهِ إنَّما يستعمل في التَّمْليك المحضِ، فإنْ زِيدَ علَيْه شيْءٌ، فتلك الزيادةُ إمَّا لفظٌ أو نيةٌ. أمَّا اللفظُ، ففيه وجوه: أظهرهما: أولها أنَّه، إذا اقترن به بعضُ الألْفَاظ السَّابقة؛ بأن قال: صدَقَةٌ محرمةٌ أو محبسةٌ أو موقوفةٌ أو قرن به ذكر حُكْمُ الوقْف؛ بأن قال: صدقةٌ لا تُبَاع، ولا تُوهَبُ، التحق بالصُّرَاحِ؛ لانصرافه بما ذكر عن التمليك المحْض. والثاني: أنه لا يكْفِي قولُه: صدقةٌ محرَّمةٌ أو مؤبَّدةٌ، بل لا بُدَّ من التقييد بأنَّها لا تُبَاع ولا توهَبُ، ويُشْبِه ألاَّ يعتبر هذا القائل في قوله: صدقةٌ موقوفةٌ مثل هذا التَّقْيِيد، وأنَّ هذا قَوْلُ مَنْ ذَهَب إلَى أنَّ التحريمَ والتأبيدَ ليْسَا بصريحَيْن. والثالثُ: أنَّ لفْظاً ما لا يُلحِقُهُ بالصريح؛ لأنَّه صريحٌ في التمليك المحضْ الذي يُخَالِف مقصودُهُ مقصودَ الوَقْف فلا ينصرفُ إلَى غيره بقرينةٍ لا استقْلالَ لها. ويجوزُ أن يُعْلَم لهذا قوله: "صَارَ وقْفاً" بالواو. وأمَّا النِّيَّة، فيُنْظر؛ إنَّ أضاف اللفظ إلى جهةٍ عامَّةٍ بأن قال: تصدَّقْت بهذا على المسالِكين، ونَوَى الوقف، فوجهان: أحدهما: أنَّ النِّيَّة لا تلتحق باللفظ في الصَّرْف عن الصريح إلَى غيره. وأصحُّهما: أنها تلْتَحِق، ويكُون وقْفاً، وإنْ أضاف إلَى معيَّن، فقال: تصدَّقْتُ عليك، أو قاله لجماعةٍ معيَّنين، لم يكن وقْفاً على الأصحِّ، [هكذا] قاله الإمامُ، بل ينفذ
فيما هو صريحٌ فيه، وهو محضُ التمليك، وفيما ذكَره دلالةٌ على أن ههنا خلافاً أيْضاً، فيجوزُ أنْ يُعْلَمَ كذلك قوله: "لم يكُنْ وقفاً". بالواو. ثم لك أن تقول تجريد لفظ الصَّدَقَة عنِ القرائن اللَّفْظِيَّةِ، إن أمكن فرضُه في الجِهَاتِ العامَّة مثل أن يقول: تصدَّقْت به عَلَى فقراء المسلمين، فلا يمكن فرضُهُ في التصدق على شخص، أو جماعة معيَّنين، إذا لم يَجوِّزُ الوَقْفَ المنْقَطِع، فإنَّهُ يحتاجُ إلَى بيان المصَارِفَ بَعْد التعيين، وحينئذٍ فالمأتى به لا يحتمل إلاَّ الوقْفَ، كما أنَّ قولَهُ: تصدَّقت به صدقةً محرمةً، أو موقوفةً لا يَحْتَملُ إلاَّ الوَقْفَ. وقوله في الكتاب: "إلاَّ إذا عيَّن شخصاً وقال: تصدَّقْتُ عليك" ينصرف إلى الصُّورة الثانيَةِ، وهي الاقْتِصَارُ عَلَى مجرَّد النية. فأمَّا في القرينة اللفظيَّة، فلا فرْقَ بيْن أن يضيف التصدُّق إلَى معيَّن، أو إلَى جهةٍ عامَّة. وقولُه: "لم يكنْ وقْفاً بمجرَّد النية" [أي] لو صرح بمجرَّد النِّية، لم يضر. قَالَ الغَزَالِيُّ: أَمَّا المَوْقُوفُ عَلَيْهِ إنْ قَالَ: رَددَتُّ الوَقْفَ ارْتَدَّ (و)، وإِنْ سَكَتَ فِفِي اشْتِرَاطِ قَبُولِهِ وَجْهَانِ، وَأَمَّا البَطْنُ الثَّانِي فَلاَ يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ (و)، وَفِي ارْتِدَادِهِ عَنْهُ بَردِّهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أمَّا طُرُقُ القَبُولِ، فإن كان الموقف عَلَى جهةٍ عامةٍ كالفقراء، أو على المَسْجد والرِّبَاط، فلا يشترط لعَدَم الإمكان، ولم يَجْعَلُوا الحاكمَ نائباً في القَبُول كما جعل تائباً عن المُسْلمين في استيفَاء القِصَاصِ والأموال، ولو صارُوا إليه، لكان قريبًا ثم ما ذكرناه مفروضٌ في الوقْف، فأمَّا إذا قال: جعلْتُ هذا للمسجد. فهو تمليكٌ لا وقْفٌ، فيشترط قبول القيِّم وقبْضه، كما لو وَهَب شيئاً من صبيٍّ، وإن كان الوقْفُ على شخْصٍ معيَّن، أو جماعةٍ معيَّنين، فوجهان: أصحُّهما: على ما ذكَره الإمَامُ وآخرون: اشتراطُ القَبُول؛ لأنَّهُ يبْعُدُ دخُولُ عيْن، أو منفعةٌ في ملْكِه منْ غَيْر رضاه. وعلَى هذا، فليكنْ متَّصِلاً بالإيجاب كَمَا في البَيْع والهبَة. والثاني: أنَّهُ لا يشترط، واستحقاقُ الموقوفِ عَلَيْه المنفعةَ كاستحقاق العتيق منفعةَ نَفْسِه، وبهذا أجاب صاحِبُ "التهذيب"، وكذا القاضِي الرُّويانيُّ قال: لا يحتاجُ لزومُ الوقْفِ إلَى القَبُول، ولكنْ لا يملك غلته إلاَّ بالاختيار، ويكفي الأخْذُ دليلاً عَلَى الاختيار، وخصَّص في "التتمة" الوجهَيْن بما إذا قلْنا: إنَّ المِلْكَ في الوقْف ينتقل إلَى الموقُوف علَيْه، فأمَّا إذا قلْنا: بانتقاله إلى اللهِ -تعالى- أو ببقائه للوَاقِف، فلا يُشْتَرَط.
أمَّا عَلَى التقْدير الأوَّل، فإلحاقاً له بالإعتاق، وأمَّا علَى الثَّاني، فإنَّه إذا احتمل كونْ المنافع، والفوائدُ معدومة ومجهولة، لم يبعد أن يحتمل ترك القبول، وسواءٌ شرَطْنا القَبُول أو لم نَشْرِطْه، فلو ردَّ، بَطَلَ حقَّه، كما في الوصيَّة، وكما أنَّ الوكالَة تردُّ بالردِّ، وإن لم يشترطِ القبولِ، ووفَّى صاحبُ "التهذيب" بتشبيهه بالعِتْق، وقال: إنَّه لا يرتدُّ بردِّه، وإذا ردَّ، ثم رجع، قال القاضي الرُّويانيُّ: إنْ رجَع قبْل حُكْم الحاكم بردِّه إلى غيره، كان له، وإنْ حَكَمَ الحاكمُ به لغيره، بَطَلَ حقُّه، هذا في البطن الأول. أمَّا البَطْنُ الثَّاني والثالثُ، فلا يُشْترط قَبُولُهم فيما نقله الإمامُ وصاحبُ الكتابِ؛ لأنَّ استحقاقَهُم لا ينقل بالإيجاب، وذكروا أنَّ في ارتداده بردِّهم وجهَيْن؛ لأنَّ الوقْف، قد ثَبَت ولَزِم، فيبْعُد انقطاعُهُ. وأجْرَى أبو سعيدِ المتولِّي الخلافَ في أنَّه، هَلْ يُشْتَرط قَبُولهم، وهل يرتد بردِّهم بناءً على أنَّهم، هل يتلقَّونْ الحقَّ من الواقف أو من البطَنْ الأوَّل؟ إنْ قلْنا بالأول، فقَبُولهم وردُّهم كقَبُول الأوَّلين وردِّهم. وإنْ قُلْنا بالثَّاني، لم يعتبر قَبُولُهم ورَدُّهم، كما في المِيرَاث، وهذا أحسن، ولا يبعد ألاَّ يتَّصل الاستحقاق بالإيجاب، ومع ذلك يعتبر القبول، كما في الوصيَّة. قَالَ الغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الرَّابعُ في الشَّرَائِطِ وَهِيَ أَرْبَعٌ الأَولَى: التَّأْبِيدُ فَإذَا قَالَ: وَقَفْتُ سَنَةً فَهُوَ بَاطِلٌ. كَالهِبَةِ المُؤَقَّتَةِ، وَفِي الوَقْفِ المُنْقَطِعِ آخِرُهُ قَوْلاَنِ، كَمَا لَو وَقَفَ عَلَى أَوْلاَدِهِ وَلَمْ يَذْكُرِ مَنْ يُصْرِفُ إِلَيْهِ بَعْدَهُمْ، فَإِنْ قُلْنَا بِالصِّحَّةِ فَقَوْلاَنِ في أَنَّه هَلْ يَعُودُ مِلْكَاً إِلَى الوَاقِفِ أَوْ إلَى تَرِكَتِهِ بَعْدَ انْقِرَاضِهِمْ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لاَ يَعُودُ فَيُصْرَفُ إِلى أَهَمِّ الخَيْرَاتِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لِلمسَاكِينِ (و)، وَقِيلَ: إِنَّهُ لِلمَصَالِحِ إِذْ أَهْمُّ الخَيْرَاتِ أَعَمُّهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ضَمَن هذا الركُنَ شروطَ الوَقْف، وهيَ عَلَى ما عَدَّها أربعةٌ: أحدُها: التأبيد؛ وذلك بأنْ يَقِفَ عَلَى من لا ينقرض؛ كالفُقَراء والمساكِين، أو على من ينقرض، ثم يردّه إلَى من لا ينقرض كما إذا وقف علَى ولَدِه ثم علَى الفُقَراء والمساكين أو على رَجُلٍ ثم على عقبه، ثم على الفقراءِ، والمَسَاجد، والقَنَاطر، والرِّبَاطات كالفُقَراء والمَسَاكين، وإن عيَّن مساجدَ أو قناطِرَ، فوجهان. وفي معْنَى الفقراء العُلَماء، وفي فتاوَىَ القفال خلافٌ؛ لأنَّهُمْ قد ينقطعون، وفي الفصْل مسأَلَتَان: الأُوَلَى: إذا قال: وقَفْتَ هذا سَنَةً، فعنْ بعضهم وجْهٌ ضعيفٌ أنَّه يصحُّ، وينتهي
الوقْفُ بانتهاءِ المدَّة. والمذهَبُ المشهورُ أنَّ الشَّرط فاسِدٌ، وكذلك أصْل الوَقْف. ومنْهم مَنْ قال: إنَّ الوقْفَ الَّذي لا يُشْتَرَطُ فيه القَبُولُ لا يفْسُد بالتأقيت كالعِتْق، وبِهِ قالَ الإمَامُ، ومَنْ تابعه، وفي مطْلَق الوقْف قولٌ آخر، سنحكيه في الهبة، إنْ شاءَ الله تعالَى. المسألة الثانية: إذا قالَ: وقَفْتُ عَلَى أولادِي، ولم يذكُرْ من يُصْرَفُ إليه بعدهم، أو قال: وقَقتُ على زَيْدٍ، ثم عَلَى عَقِبِهِ، ولم يَزِدْ عليه، ففيه قولانا: أحَدُهُمَا: وهو المنصوصُ في "المختصر" وبه قال مالكٌ: أنَّه صحيحٌ؛ لأنَّ مقصودَ الوَقْف القربةُ والثَّوَابُ، فهذا بَيَّن مصرفه في الحال، سَهُل إدامَتُهُ على سُبُل الخير. والثاني: ويُحْكَى عن نصه في حرملة مع الأَوَّل: أنَّه باطلٌ؛ لأنَّ شَرْطَ الوقف التأبيدُ، وإذا لم يردَّه إلى ما لا يدُومُ، لم يؤبِّدْه، فكان كما لو قال: وقفتُهُ سنةً، وفي "التتمة" بناءُ القولَيْن عَلَى أنَّ البَطْنَ الثَّاني يتلَقَّوْن الوقْف من الواقف، أو مِنَ البطَنْ الأَوَّل، إن قلْنا بالأول، فلا بدَّ من بيان ينتهي الاستحقاقُ إلَيْه. وإن قلنا بالثاني، فلا حاجة إلَيْه، وفي هذا البناءِ كلامَان: أحدُهُمَا: أنَّ قضيته ترجيح قوْل البُطْلان؛ لأنَّ قَوْلَ التلقِّي من الواقِف أرْجَحُ وأصحُّ، وإلَى ترجيحه ذهَبَ المَسْعُودِيُّ والإمَامُ، لكنَّ الأكثرين قالُوا: أصحُّ القولَيْن صحّةُ الوقْف؛ مِنْهم القضاة أبو حامدٍ والطبريُّ والرُّويانيُّ. والثاني: أن بناء قَوْلِ المنْعِ عَلى التلقِّي من الواقف، إن ظهر بعْض الظهور، فبناء قول الصحة على التلقِّي من البطْنَ الأوَّل لا ظهور له، ولا اتجاه؛ لأنَّهم لا يتلَقَّوْنَ الحقَّ إلى المتلقِّين منهم، وليس ذلك عَلَى سبيل الإرْث، فإنَّ المَصْرُوف إلَيْهم ليْسُوا بورثةِ الأوَّلِين. وعنْ صاحبِ "التقريب" قولٌ ثالثٌ في المسألة -وهو الفَرْقُ بيْن أنْ يكونَ المَوْقُوفُ عَقَاراً، فلا يجَوز إنشاؤُهُ منْقَطِع للآخر أو حيواناً، فيجوز, لأنَّ مصير الحيوان إلى الهلاك وكما يجوز فوات الموقوف مع بقاء الموْقُوف عَلَيْه يجوز فوات الموقُوف علَيْه مع بقاء المَوْقُوف. التفْريعُ: إن قلْنا بالصِّحَة، فإذا انقرضَ مَنْ ذَكَره، فقولان: أحدُهُمَا: إنَّه يرتفع الوقْف، ويعود ملْكاً إلى الواقف، أو إلَى ورثته، إن كان قَدْ مَات؛ لأن إبقاءَ الوقْف بلا متصرف متعذِّرٌ، وإثبات مصرف، لم يتعرَّض له الواقفُ، بَعِيدٌ، فيتعيَّن ارتفاعه، ويُحْكَى هذا عنِ المُزَنِيِّ. وأصحُّهُمَا: أنَّه يبقَى وقْفاً؛ لأنَّ وضْعَ الوقْف عَلَى أنْ يدُومَ، ويكون صدقة
جارية، وذلك بما ينافيه الحكْم بانقطاعه، وأيضاً، فإنَّه صرف ماله إلى جهة قربة، فلا يَعُودُ ملكاً؛ كما لو نَذَر هَدْياً إلى "مكَّة" فلم يقبله فقراؤها. وقوله في الكتاب: "فقَوْلاَن في أنَّه، هَلْ يعودُ مِلْكاً إلى الوَاقِف أو إلى ورثته" أراد ويبقى وقْفاً ذكر أحد القَوْلَيْن وترك الآخر. التفْرِيعُ: إنْ قلْنا: إنَّه يبقى وقْفاً، ففي مصرفه أوجُهٌ، وقال: أقوال: قال الإمامُ: ولعلَّها من تخريجات ابْنِ سُرَيْج. أصحُّها: وهو المنصوصُ في "المختصر": أنَّه يُصْرَفُ إِلَى أقْرب النَّاس إلى الواقف يَوْمَ الانقراض المذكور (¬1)؛ لأنَّ الصدقةَ على الأقارب أَفْضَلُ؛ لِمَا فيه من صِلَةِ الرَّحم، فكان الصَّرْف إليهم أوْلَى. والثاني: أنَّهُ يُصْرَفُ إلى المساكين؛ لأنَّ سَدَّ الخَلاَّتِ (¬2) أهمُّ الخيرات. والثالثُ: أنَّهُ يُصْرَف إلى المصالحِ العامَّةِ مصارفِ خُمُسِ الخُمسِ، فإنها أعمُّ الخيراتِ، والأعمُّ أهَمُّ. والرابعُ: أنَّهُ يصرف إلى مستحقِّ الزكاة، حكاه في "شرح مختصر" الجوينيِّ وقوله في الكتاب "فيصرف إلَى أهمِّ الخيراتِ" ليس هذا وجْهاً برأْسِه مضموماً إلى ما بعده، بلِ المرادُ أنَّا إذا لم نَجِدْ بُدّاً من إبقاء الوقْف، وجب إبقاؤه في أهمِّ المصارف. واختَلَفَ الرَّأْيُ في أَنَّ الأهم ماذا؟ التفريعُ: إنْ قلْنا: إنَّهُ يُصْرَفُ إلَى أقرب النَّاس إلى الواقف، فالنظر إلى قربِ الرحمِ أو استحقاقِ الإرْث؟ فيه وجهان: أصحُّهُمَا: الأوَّل حتَّى يتقدَّم ابْنُ البنْت على ابْنِ العم؛ لأنَّ المرعى صلةُ الرَّحِم، وإذا الجامع جماعةٌ، فالقول في الأقرب عَلَى ما سيأتي في الوصيَّة للأقرب -إن شاء الله تعالى- وهل يختص الفقراء بالصَّرْف إليهم، أو يشتركُ فيه الفقراء والأغنياءُ، قال في "حرملة": يختصُّ، وأطلق في "المختصر" الصرف إلى الأقرب، فجعلوهما على قولَيْن: أحدهما: أنّهُ لا اختِصَاصَ؛ لأنَّ الوَقْفَ لا يختصُّ بالفقراء، ولهذا لو وَقَفَ على ¬
أولادِهِ، دَخَلَ فيه الغَنِيُّ والفقير. وأصحُّهما: الاختصاصُ؛ لأنَّ المقصد القربةُ والثوابُ، وعن ابن سُرَيْجٍ القَطْعُ بالثَّاني، وحمل المطْلَق على المقيَّد، وإذا قلنا بالاختصاص، فهو عَلَى سبيل الوجُوب أوِ الاستحبابِ (¬1). حكَى أبو الفرج السَّرْخَسِيُّ فيه وجهَيْن. وإن قلْنا: بالصَّرْف إلى المساكين، ففي تقديم جيران الواقِفِ وجْهان: أشبَهُهُمَا: المَنْعُ؛ لأنا لو قدَّمنا بالجوار، لقدَّمنا بالقرابة بطريقِ الأوْلَى أو التفريعُ عَلَى غيره. ولو قَالَ: وَقَفْتُ هذا عَلَى زَيْدٍ شهراً عَلى أن يعود إلَى مِلْكي بعد الشهر، فالمَذْهَبُ بطلانهُ وفيه قول آخَرُ؛ أنَّهُ يصحُّ، وعلى هذا فيعودُ مِلْكاً بعد الشهر، أو يكونُ كالوقْف المنقطعِ الآخر، حتى يُصْرَفُ بعدْ الشهر إلَى أقرب الناس إلى الواقِفِ. قال صَاحِبُ "التَّهذيب": فيه قولان؛ [والله أعلم]. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةُ: التَّنْجِيزُ فَإذَا قَالَ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ وَقَفْتَ لَمْ يَصِحَّ (و) فَإِنَّه تَعْلِيقٌ كمَا فِي الْهِبَةِ، وَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى مَنْ سَيُولَدُ مِنْ أَوْلاَدِي فَهُوَ مُنْقَطِعِ الأَوَّلِ فَقَوْلاَنِ كَمُنْقَطِعِ الآخِرِ، وَقِيلَ: يَبْطُلُ قَطْعاً لأَنَّهُ لاَ مَقَرَّ لَهُ في الحَالِ، وَإِنْ صَحَّحْنَا فَإذَا وَقَفَ عَلَى عَبْدِهِ أَوْ عَلَى وَارِثهِ وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ بَعْدَهُ عَلَى المَسَاكِينِ فَهُوَ مُنْقَطِعُ الأوَّلِ. قالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصْل مسأَلَتَانِ يقْتَضِي الشَّرْح تقديمَ الأخيرةِ منْهُمَا، فنُقَدِّمَها فنقول: [المسألةُ الأُولَى، وهي الثانية:] إذا قَال: وقَفْتُ عَلَى من سيُولَدُ لي، أو على مسْجِدٍ سيُبْنَى، ثم على الفقراء، أو قال: على ولدي وبعْده على الفُقَراء، ولا وَلَدَ له، فهذا وقْفٌ منقطعُ الأوَّل، وفيه طريقان: أحدهُمَا: وبه قال ابنُ أبي هُرَيْرَةَ أنَّه على القولَيْن في منقطع الآخر. قال في "التتمة": وهُمَا مبنيَّان عَلَى أنَّ البَطْنَ الثَّانِيَ ممَّن يتلقَّوْن، إنْ قلنا: في البطن الأوَّل، لم يصحُّ؛ لأنَّ الأوَّلَ إذا لم يثبُتْ له شيْءٌ، اسْتَحَال والتَلَقِّي منه. وإِنْ قلْنا: من الواقف، فهو على الخِلاَفِ في تفْريق الصَّفْقَة. والثَّاني: وبه قال أبو إسحاق: القَطْع بالبُطْلاَن، والفَرْقُ بينه وبين منقطِع الآخرِ؛ أنَّ متَّصِلَ الأوَّل وجد مُستَحَقَّاً وابتداءً صَحِيحاً يُبْنَى عليه الأخير بخلافِ العَكْسَ، ولهذا يقال في منقطعِ الأوَّل قولان مرَّتبان على القولَيْن في منْقَطِع الآخر، أولَى بالبُطْلاَن. ورأَى الإمام عكس هذا التَّرتيب، وإن منقطع الآخِر أولَى بالبطلان؛ لأنَّ وضْعَ ¬
الوقْف عَلَى أنْ يدُومَ، وليْسَ في منقطع الأوَّل إلاَّ أن مصرفه منتظر وسواءٌ أثبتنا الخلافَ في المَسْأَلة، أو لَمْ نثبته، فالظاهر البطلان، وهي المنصوصُ في رواية المُزَنِيِّ. والثاني: يقال: إنَّه مخرَّج منْقَطِع الآخر، ويقال: إنَّه منصوصٌ في حرملة التفْريعُ: إنْ قلْنا بالصحَّة، نُظِر؛ إن لم يمكن انتظارُ ما ذكره كما إذا أوقَفَ عَلَى ولده، ولا وَلَدَ له، أو عَلَى مجهولٍ، أو ميت، ثم على الفقراء، فهو في الحَالِ مصروف إلى الفُقَرَاء، وذِكْرُ الأوَّل لَغْوٌ، وإن أمكن، إمَّا انقراضاً، كما لو وقَف عَلَى عبد، ثم على الفُقَراء، وإمَّا حُصُولاً، كما لو قال وقفتُ عَلَى من سيولَدُ لي، ففيه وجهان. أحَدُهُمَا: أنَّ الغلَّة مصروفةٌ إلى الواقف حتَّى ينقرض الأوَّل؛ لأنَّه لم يثبُت الاستحقاق التالي إلاَّ بَعْدَ الأوَّلَ، والأوَّل لا يُمْكن ثبوت الاستحقاق له فيبقى للواقف، وعلى هذا ففي ثبوت الوقف في الحال وجهان. أحدهما: ثبت لأن نجزه ولكن يتأخر الاستحقاق، والثاني لا يثبت، بلْ هو ملك، وسبيله سبيل المعلَّق عتقه بصفة. وأظْهَرُهُمَا: أنَّه إذا صحَّ الوقْفُ، انقطعتِ الغلة عنِ الواقف، وعلَى هذا، فثلاثةُ أوجُهٍ فيمن تُصْرَف إليه: أَرْجَحُهَا: أنَّه يُصْرَف في الحال إلَى أقربِ النَّاسِ إلى الواقف، فإذا انقرصَ المذكورُ أوَّلاً، يصرف إلى المذكورِينَ بعده، وعلى هذا، فالقولُ في اشتراطِ الفقر وسائرِ التفاريعِ على ما سَبَق. وثانيها: أنَّه يُصْرَفُ إلى المذْكُورِين بعْده من أوَّلِ ما وَقَفَ، كما لو كان الأول فمن لا يمكن اعتبارُ انقراضِهِ. وثالثها: أنَّهُ للمصَالِح العامَّة. ولو وقف عَلَى وارثه في مرضَ المَوْت ثم على الفُقَراء، وقلْنا: إنَّه غَيْرُ صَحِيحٍ، أو صحيحٌ، وردَّه باقي الورثة، فهو وقْفٌ منقطعُ الأوَّل، وكذلك إذا وقَف عَلَى معيَّن، يصحُّ الوقْفُ عليه، ثم على الفُقَراء، فردَّه ذلك المعيَّن، وقلنا بالصحيح، وهو أنَّه يرتدَّ بالردِّ. المسألة الثانية: وهو الأولى: إِذا علَّق الوقْفَ، فقال: إذا جاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ، أو قَدِمَ فلانٌ، فقد وقَفْت كذا، لم يصحَّ، تعليق البيعِ -والهبة-. وعن بعض الأصحاب تخريجُهُ علَى الخلاف المذْكُور فيما إذا وقَفَ عَلَى مَنْ سَيُولَدُ له، قالوا: والتصريحُ بالتعليق أولَى بالفساد والله أعلم. واعْلم، أنَّ التعليق في هذه المسْألة مُصرَّحٌ به، وفي الأُولَى ضِمْنِيٌّ، فلهذه المناسبة جمع بين المسأَلَتَيْنِ،
وكذلك المسأَلَتَانِ في الشَّرْط الأَوَّل، والتأقيت في قوله: "وقفت سنَةً" فصرَّح به، وفيما إذا قال: وقفتُ على فلان، واقتصر عَليْهِ، ضِمْنيٌّ، وأن للوقْف وراءَ انقطاع الآخر مع اتصال الأول أحوالاً وبالعكس أحوالاً: إحداها: أنْ يكونَ متصل الأوَّل والآخرِ والوَسَط، فهو صحيحٌ. والثانيةُ: أنْ يكونَ منْقَطِعَهَا جَمِيعاً، فهو باطلٌ. والثالثة: أنْ يكونَ متَّصِلَ الطرفَيْن، منقطعَ الوَسَط، كما إذأن وقَف على أولادِهِ، ثم عَلَى رجُلٍ، ثم على الفُقَراءِ, فترتَّب عَلَى منقطِعِ الآخِرِ، إن صحَّحناه، فهذا أولَى، وإلاَّ، فوجهان: أصحُّهُمَا: الجوازُ، ويُصْرَف عند توسُّطِ الانقطاع إلى أقرب النَّاسِ إلى الوَاقِف، أو إلَى المَسَاكِين، أو إِلَى المصالح العامة أو إلى الجِهَة العامَّة المذَكُورة في الوقْف آخِراً فيه الاختلافات السابقة. والرابعةُ: أنْ يكونَ منْقَطِعَ الطرفَيْن معلومَ الواسط، كما إذا وقَف عَلَى رجل، ثم عَلَى أولاده، واقْتَصَرَ عَلَيْه، فترتب عَلَى منقطِعِ الأوَّل، إنْ لم نصحِّحه، فهذا أوْلَى، وإنْ صحَّحناه، فوجهان: أظْهَرُهُمَا: البُطْلانُ، وبتقدير الصِّحَّة إلَى من يُصْرَف؟ فيه الخلافُ السَّابق، أو جميعُ هذه الأحوالِ فيما إذا انقرض الواقِفُ المصرف وإلاَّ فسيأْتِي. وقوله في الكتاب: "فإنْ صحَّحناه، فإذا وقَف عَلَى عبدْه ... " إلى آخر لفْظه، فإن صحَّحناه لغو وليس المذكورُ مُفَرَّعاً على الصَّحِيح، ولو طَرَحه، وقال: إذا وقَف عَلَى عبْدٍ لحصل الغَرَضُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّالثَةُ: الإِلْزَامُ فَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنِّي بِالخِيَارِ في الرُّجُوعِ عَنْهُ وَرَفْعِ شَرَائِطِهِ فَسَدَ (و) الوَقْفُ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ الخِيَارَ في تَفْصِيلِ الشَّرْطِ مَعَ بَقَاءِ الأَصْلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَلَوْ شَرَطَ أَلاَّ يُؤَاجَرَ الوَقْفُ اتَّبعَ شَرْطُهُ، وَقِيلَ: لاَ يُتَّبَعُ إِلاَّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى السَّنَةِ، وَلَوْ خَصَّصَ مَسْجِداً بِأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَالحدِيثِ لَمْ يَخْتَصَّ (و)، وَلَوْ خَصَّصَ المَدْرَسَةَ وَالرِّبَاطَ جَازَ، وَلَو خَصَّصَ المَقْبَرَةَ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ (و). قالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصل ثلاثُ مَسَائِلَ: المسألة الأولَى: الوَقْفُ بشَرْط الخيارِ باطلَ كالعِتْقِ والصَّدَقة، وكذا لو قال: وقَفْتُ بشَرْط أنْ أبيعَه، أو أرجعَ فيه متَى شئْتُ، واحتجُّوا له بأنَّ الوقفَ إزالة ملْكُ إلى الله -تعالَى- أو إلى المَوْقُوف عليه؛ كالبيع والهبة، وعلى التقدْيرَيْن، فهذا الشَّرْطُ مُفْسِدٌ،
لكن في فتاوى القَفَّال: أنَّ العِتقَ، لا يَفْسُدُ بهذا الشَّرْط، وفَرَّقَ بيْنَهما بأنَّ العِتْقَ مَبْنيٌّ على الغَلَبَة والسِّراية. وعن ابن سُرَيْج أَنَّه قال: يحتمل أنْ تبطلَ الشُّروط، ويصحُّ أصل الوقْف، ولو وقَف عَلى ولده أو غيره بشَرْط أن يرجع إلَيْه، إذا مات، فعن البُويْطِيِّ أنَّهُ على القولين؛ أخْذاً من مسألة العُمْرَى، والمذهَبُ البُطْلاَن. ولو وقَفَ، وشَرَط لنَفْسِهِ أنْ يحرمَ من شاء، ويزيدَ مَنْ شاء، أو يقدِّم أو يؤخِّرَ، ففي صحَّة شرْطِه وجهان: أصحُّهُمَا: المَنْعُ؛ لأنَّ وَضْعَ الوقْف على اللزوم، وإذا كان الموقوفُ علَيْه يتعرض للسقوط فلا لزوم. والثاني: وبه قال ابْنُ القَطَّانِ: أنَّه يصحُّ، كما لو شرط صَرْفَ الرِّيع مدَّةً إلى هذا، ومدَّةً إلى هذا. قال الإمامُ: وموضِعُ الوجهَيْن ما إذا لَزِم الوقْفُ بالشَّرط المذكور. أمَّا إذا أطلقه، ثم أراد أنْ يغيِّر ما ذكره بِحِرْمَان أو زيادةِ مستَحَقٍّ، أو تقدم أو تأخرٍ، لم يجد إلَيْه سَبِيلاً. قال: وإذا صحَّحنا شرْطَه لنَفْسِه، فلو شرَطَه لغيره، فوجهان: أصحُّهُمَا: الفسادُ، وإن أفسدناه، فِفي فسادِ الوَقْف به خلاف مبنيٌّ على أنَّ الوقْفَ؛ كالعِتْق أم لا؟. هذا ما وجدتُّه فيما يَحْضُرُني الآن مِنْ كتُب الأصحاب، وجواب عامَّتهم بطلانُ الشَّرْط والوَقْف في الصُّوَر جميعاً، ورتَّب صاحِبُ الكتاب هذه الصُّوَر في "الوسيط" على ثلاثِ مرَاتِبَ: إحداها: أن يقُولَ؛ وقَفْتُ بشَرْط أن أرْجِعَ متى شِئْتُ، أو أحرم المستَحِقَّ، وأحوِّل الحقَّ إلى غيره، متَى شئْتُ فهو فاسد. والثانيةُ: أنْ يقولَ: بشَرْطِ أنْ أغيِّر مقادير الاستحقاقِ بحكم المصْلحة، فهو جائزٌ. والثالثةُ: أنْ يقولَ: أُبْقي أَصْلَ الوَقْفِ، وأُغيِّر بفَضْله، ففيه وجهان. وقوله ههنا: "ورفع شرائطه" يُشْبه أن يريد به التحوُّل من شخْص إلى شخص، أو جهةٍ إلى جهةٍ الذي عده من المرتبة الأولَى، وحكم فيها بالفَسَاد. واعْلَمْ أنَّ الترتيبَ الَّذي ذكره لا يكادُ يوجدُ لغيره، ثم فيه لَبْسٌ، فإنَّ التَّحْويلَ مِنْ مستحقٍّ إلى مستحقٍّ المعدود في المرتبة الأولَى، وتعتبر مقاديرُ الاستحقاقِ الذي جعلَه مثالاً للثانية، كلُّ واحد منهما مندرجٌ فيما جعله موضِعَ الوجهين، وهو إبقاءُ أصْلِ الوقْف، ويعتبر تفصيله ويجوزُ أن يُعْلَمَ قولُه في الكتاب: "فسَدَ الوَقْف" بالواو؛ لما قدَّمناه.
المسألةُ الثانيةُ: لو شَرَط الواقِفُ إلاَّ يؤَاجَرَ الوقْفُ، ففيه ثلاثة أوجه: أظْهَرُهَا: ما ذكره الإمَامُ وصَاحِبُ الكتابِ؛ أنَّه يتبَعُ شَرْطَه، كسائر الشُّروط؛ لما فيه من وجُود المَصْلَحة. والثاني: المَنْعُ؛ لأنَّه يتضمَّن الحَجَرْ عَلَى مستحقِّ المنفعة. والثالث: الفرق بيْنَ أنْ يمْنَعَ مطْلقاً، فلا يتبع أو الزِّيَادة عَلَى سَنَةٍ، فيتبع لأنَّه لائقٌ بمصلحة الوقْف، وهذا يتفرَّع على أنَّ منَ الإجَارَة في الوقْف لا تتقدر كمدة إجارة المِلْك؛ على الصَّحيح، وفيه شيْءٌ قد مرَّ في "باب الإجارة" وإذا أفْسَدْنا الشَّرْط فالقياس فسادُ الوقْف به، لكن ذكر الشيخُ أبو عاصِم العبَّاديُّ في "زياداته" أنَّه إذا شرط إلاَّ يؤجر أكثر من سنةٍ لم يخالَفُ، ثم حكَى وجْهاً أنَّهُ لو كان الصَّلاحُ في الزيادة زِيدَ، وهذا قولٌ بالصِّحَّة مع فَسَاد الشَّرْط (¬1). المسألةُ الثالِثَةُ: إذا جعل دارَهُ مَسْجداً، أو أرْضَهُ مقبرةً، أو بنَى مدرسةً، أو رباطاً، فلكلِّ واحدٍ أن يصلِّيَ ويعتكفَ في المَسْجد، وَيدْفِنَ في المقْبَرة ويسكن المدْرَسة بشَرْط الأهليَّة، وينزل الرباط، ولا فَرْق فيه بيْن الواقف وغيره، ولو شرَط في الوقْف اختصاصَ المسْجِد بأصحاب الحَدِيث أو الرأْيِ أو بطائفةٍ معلومِين، فوجهان: أحَدَهُمَا: أنَّ شرْطَه غَيْرُ مُتَّبَع؛ لأن جعل البقعة مسجداً كالتحريم فلا معنى لاختصاصه بجماعة وعلَى هذا، قال في "التتمة": يفْسُد الوقْفُ لفَسادِ الشرط. والثاني: يتبع، ويختصّ بهم؛ رعايةً لشرط الواقف، وقطْعاً للنزاع في إقامة الشعائر، ويشبه أن تكونَ الفَتْوَى بهذا، وإن كان المذكُور في الكتاب الأوَّل (¬2). ¬
ثم هذا الخلافُ فيما إذا وقَف دَاراً على أن يصلِّيَ فيها أصحابُ الحَدِيثِ، فإذا انْقَرَضَوا، فعلَى عامَّة المُسْلِمِين. أمَّا إذا لم يتعرَّض لانقراض، فقد تردَّدوا فيه (¬1). ولو شرط في المدْرَسَة والرِّباط الاختِصَاصَ، اتَّبعَ شَرْطُه، ولو شَرَط في المقبرة الاختصاصَ بالغُرَبَاء، أو بجماعة معيَّنِين مخصوصِينَ، فالوجْه أنْ تُرتَّبَ على تخصيصِ المسْجِد، إن قلْنا: يختصُّ فالمقبرة أولَى، وإلاَّ فوجهان؛ لترددها بين المدرسةِ والمسْجِدِ. والثاني: أظْهَرَ؛ فإنَّ المقابر للأموات كالمساكِينِ للأحياء، وفيما ذكرنا ما يعرِّفك أنَّ قولَه: "ولو خصص مسْجداً" ليس المرادُ منه التخصيصَ بعْد صيرورة البُقْعَة مسْجِداً، فذاك مما لا عِبْرة به بحالٍ، وإنَّما المراد منه شرط الاختصاص عنْد جعْل البقعةِ مسْجداً، وكذا القولُ في تخصيص المدرسة والمقبرة، واعْلَمْ أنَّ المسألتَيْن الأخيرتين لا تعلُّق لهما بترجمة هذا الشَّرْط، وهو الإلزامُ، ولا اختصاصَ لهما بهذا الموضَع. قَالَ الغَزَالِيُّ: الرَّابِعَةُ: بَيَانُ المَصْرِفِ وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: وَقَفْتُ لَمْ يَصِحَّ (م) عَلَى الأَظْهَرِ، وَقِيلَ: يَصِحُّ ثُمَّ يُصْرَفُ إِلَى أَهَمَّ الخَيْرَاتِ كَمَا ذَكَرنَا في مَصْرَفِ مُنْقَطِعِ الآخِرِ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى شَخْصَيْنِ وَبَعْدَهُمَا عَلَى المَسَاكِينِ فَمَاتَ أَحَدَهُمَا فَنَصِيبُهُ لِصَاحِبِهِ أوِ لِلْمَسَاكِينِ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلَو رَدَّ البَطْنَ الثَّانِيَ وَقُلْنَا: يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ فَقَدْ صَارَ مُنْقَطِعَ الوَسَطِ فَفِي مَصْرَفِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقِيلَ: إنَّهُ يُصْرَفُ إلَى الْجِهَةِ العَامَّةِ المَذْكُورَةِ بَعْدَ انقِرَاضِهِمْ فِي شَرْطِ الوَقْفِ، وَقِيلَ: يُصْرَفُ إِلَى البَطْنِ الثَّالِثِ وَيُجْعَلُ الَّذينَ رَدُّوا كَالمَعْدُومِينَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصل ثلاثُ صورٍ لاختصاص الأخيرتَيْنِ به عَلَى نَحْوِ ما ذكَرْنا في الفصل السَّابق: الصورةُ الأُولَى: لو قال: وقَفْتُ كذا، واقتصَرَ علَيْه، فقولان: أصحُّهما: عند الأكثرين: البُطْلاَن، كما لو قال: بعْتُ دارِي بعَشَرة أو رهنتها (¬2)، ولم يقُلْ لمن؛ ولأنَّه، لو قال: وقَفْتُ عَلَى جماعةٍ، لم يصحُّ؛ لجهالةِ المَصْرَف، فإذا لم يذكُرِ المصْرَف أصلاً، فأَوْلَى ألاَّ يصحَّ. والثاني: يصحُّ، وإليه مَيْلُ الشيخ أبي حامد، واختارَهُ صَاحِبُ "المهذب" والقاضي الرُّويانيُّ؛ لأنَّهُ قصدَ القربة، فإن لم يبين المَصْرَف، فأشبه ما إذا قال: لِلَّهِ عليَّ أنْ ¬
أتصدَّقَ بكذا، أو أُهْدِيَ هَدْياً، ولم يبيِّن المصْرَف، واحتجُّوا لهذا القَوْلِ بأنَّه لو قال: أوصَيْتُ بثلث مالِي، واقتصَرَ علَيْه، تصحُّ الوصيةُ، ويُصْرَفُ إلى الفقراء أو المساكِينِ، وهذا، إنْ كان متَّفَقاً علَيْه، فالفرقُ مشكِلٌ، وُيعْزَى القولان في المسألة إلى نصِّه في "حرملة"، وبعضُهم يَحْكِي الخلافَ في المسألة وجْهَيْن (¬1). وإذا قلْنا بالصحة، ففي مصرفه [الخلافُ المذكورُ في منقطع الآخر، إذا صحَّحناه، وعن تخريجِ ابنِ سُرَيْج أن المتولِّيَ يصْرِفُه] (¬2) إلى ما يراه من وجوه البرِّ؛ كعمارة المساجد، والقناطر، وسدِّ الثغور، وتجهيزِ المَوْتَى، وغير هذا. الصورةُ الثانيةُ: وقَفَ عَلَى شخصَيْن، ثم عَلَى المساكين، فماتَ أحدهما، حكَى الأئمةُ في نصيبه وجهين: أَظْهَرْهُمَا: ويحكَى عن نصِّه في "حرملة" أَنَّهُ يُصْرَفُ إلَى صاحبه؛ لأنَّ شَرْطَ الانتقال إلى المساكين انقراضُهما جَمِيعاً، ولمْ يوجَدْ، وإذا امتنع الصَّرْف إليهم، فالصرفُ إلَى من ذكره الواقف أَوْلَى. والثاني: عن أبي عليٍّ الطبريِّ: أنَّه للمساكين، كما أنَّ نصيبهما، إذا انقرضا، للمساكين، والقياسُ وجهٌ ثالث؛ وهو ألاَّ يُصْرَفَ إلَى صاحبه ولا إلى المساكين، ويقال: صار الوقْفُ في نصيب الميِّت منقطعَ الوَسَط، ولو وَقَف على شخَصيْن، ولم يذكْرُ من يَصْرِف إلَيْه بعْدَهما، وصحَّحنا الوقْف المنقطع الآخر، فمات أحدهما، فنصيبُه للآخَرِ، أو حُكْمُه حكم نصيبهما، إذا ماتا، فيه وجهان. الصورةُ الثالثةُ: لو وقَف علَى البُطُون، فردَّ البطن الثاني، وقلْنا يرتدُّ بردِّهم، فهذا وقْفٌ منقطعُ الوَسَط، وقد سَبَق ما فيه من الاختلافات. ومنها ما خصَّه بالذكر ههنا، [وهو الصَّرف إلى الجهة العامَّة المذكورة بعْد انقراض البُطُونَ جَمِيعاً، وإنَّما احتاجَ صَاحِبُ الكتاب إلَى تخصيصه بالذِّكر] (¬3) لأنَّ قولَه: وفي مَصْرَفِه ما ذكَرناه أراد ما ذكره في منْقَطِعَ الآخِرِ، وهذا القول لا مجالَ له هُناك. وفي المسْألة وجْهٌ أو قولٌ آخَرُ: "أنَّه يُصْرَفُ إلى البطن الثالِثِ، ويقَدَّر البَطْن الثانِي معْدومين. ويجوز أن يُعْلَمَ قوله في الكتاب: "فلو اقتصر على قوله: وقَفْتُ، لم يَصِحَّ" بالميم والألف؛ لأنَّ الروايةَ عنْهما الصِّحَّةُ، والله أعلم. ¬
الباب الثاني في حكم الوقف الصحيح
البَابُ الثَّاني في حُكْمِ الوَقْفِ الصَّحيحِ، وَفِيهِ فَصْلاَنِ قَالَ الغَزَالِيُّ: الفَصْلُ الأَوَّلُ فِي أُمُورٍ لَفْظيَّةٍ فَإذَا قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي وأوْلادِ أَوْلاَدِي فَهُوَ لِلتَّشْرِيكِ وَلاَ يُقَدَّمُ البَطْنُ الأَوَّلُ إلاَّ بِشَرْطٍ زَائِد، وَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي لَمْ يَدْخُلُ الأَحْفَادُ، وَدَخَلَ البَنَاتُ وَالخَناثى، وَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى البَنَاتِ أَوْ عَلَى البَنِينَ لَمْ تَدْخُلُ الخَنَاثَى، وَلاَ يَدْخُلُ تَحْتَ الوَلَدِ الجَنِينُ وَلاَ المَنْفِيُّ (و) بِاللِّعَانِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى ذُرِّيَّتي أَوْ نَسْلِي أَوْ عِقْبي دَخَلَ (م) الأَحْفَادُ، وَلَوْ قَالَ: عَلَيَ المَوَالي وَلَهُ الأَعْلَى وَالأَسْفَلُ فَهُوَ فَاسِدُ لِلاحْتِمَالِ، وَقِيلَ: يُوَزَّعُ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِالأَعْلَى لِعُصُوبَتِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا صحَّ الوَقْفُ، ترتب عليه أحكامٌ: منْها: ما يَنْشَأُ من اللفْظ المُسْتَعْمَل في الوقْف، ويختلف باختلافِ الألفاظ. ومنْها: ما يقتضيه المعْنَى فلا، يختلف باختلافِ الألْفَاظ فالكلامُ في فصلَيْنِ: الفصْل الأوَّلُ: في الأحْكَام اللفظيَّة، نشْرَحُ من صورها ما في الكتاب، ونضمُّ إليه ما يتَّفِقُ. والأصل فيها أنَّ شروط الواقِفِ مَرْعِيَّةٌ ما لم يكن فيها ما ينافي الوقْفَ ويناقِضِه، وعلَيْه جرتْ أوقاف الصَّحابة؛ وقف عمر -رضي الله عنه- وشرط أَنْ لاَ جناح عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أنْ يأكلَ منْها بالمَعْرُوف، وأنْ تَلِيَهَا حفْصَةُ في حَيَاتِها، فإذا ماتَتْ، فذوي الرأْي من أهلِها (¬1). ووقفت، فاطمةُ -رضي الله عنها- لنساءِ رسُول الله -صلى الله عليه وسلم- ولفقراءِ بَنَي هَاشِمٍ أو بَني المُطَّلب (¬2). إذا عرفْتَ ذلك، فمما يجب رعايته النَّظَر، فيما يقتضي الجَمْعَ والتَّرتِيْب. فلو قال: وقفت علَى أولادي وأولادِ أولادِي، فلا ترتيبَ، بل يُسوَّى بين الكُلِّ، ولو زاد، وقال: ما يتناسلون أو بطْناً بعدْ بطْنٍ، فكذلك، وَيُحْمَلُ على التعميم. وعن الزيادِيِّ أن قوله: بطناً بعد بطْنٍ، يقتضي التَّرْتيب، وبه أجاب بَعْضُ أصْحاب الإمام. ولو قال: علَى أولادي، ثم علَى أولادِ أولادِي، ثم على أولادِ أولادِ أولادي ما تناسَلُوا أو بطنَاً بعد بطْنٍ، فهو للتَّرتْيب (¬3)، ولا يُصْرَف إلى البطن الثاني شيْءٌ ما بقي من ¬
البطْن الأوَّل أحد، ولا إلى الثالثِ ما بَقِيَ من الثاني أحدٌ، هكذا أطلقه الجمهورُ، والقياس فيما إذا ماتَ واحدٌ من البطن الأوَّل أن يجيء في نصيبه الخلافُ المذْكُور في ما إذا وقَف عَلَى شخصَيْن أو جماعةٍ، ثم عَلَى المساكِينِ، فمات واحدٌ إلَى من يُصْرَف نصيبُهُ، ولم أر له تعرضاَ إلاَّ للشَّيْخ أبي الفرج السَّرْخَسِيِّ، فإنَّه سَوَّى بيْن الصورتَيْنِ، وحكَى فيهما وجهَيْن، لكنْ رواهما عَلَى نسَقِ آخَرَ؛ فقال: أحد الوجهين أنَّ نصيبَ الميِّت لصاحبه. والثاني: أنَّهُ لأقرب النَّاسِ إلَى الواقف، وهذا إِشارةٌ إلَى ما ذكرنا أنَّهُ القياسُ في تلْكَ الصُّورة، ثم رأيتُ لصاحب "الإفصاح" أنَّهُ يُصْرَفُ إلَى أقربِ النَّاسِ إلى الواقف ذَكَرَهُ في "كتاب الشهادات" (¬1). ولو قال: علَى أولادي، وأولادِ أولادِي الأعلَى فالأعلَى، أو الأقربِ فالأقْرَبِ، أو الأوَّلِ فالأوَّلِ، فيقْتَضِيه التَّرتيبُ أيْضاً، وكذا لو قال: عَلَى أولادي، وأَولادِ أوْلادَي عَلَى أنْ يبدأ بالأعلَى منْهم، أو على ألا حقَّ لبطنِ، وهناك معّ فوقهُمْ. ولو قال: فَمَنْ مات من أولادِي، [فنصيبه لولده، اتُّبع شرطه. ولو قال: عَلَى أولادِي]، ثم عَلَى أولادِ أولادِي وأولادِ أوْلادِ أوْلاَدِي، فيقتضيه الترتيب، بين البَطْن الأوَّل ومَنْ دونَهم والجمع بين من دونهم. ¬
ولو قال: عَلَى أولادِي وأوْلاَدِ أوْلادِي، ثم عَلَى أولادِ أوْلاَدِ أولادِي، مقتضَاه الجمعُ أولاً، والترتيبُ ثانياً. ولو قال: علَى أولادِي، وأوْلاَدِ أَوْلاَدِي، ومن، ماتَ منْهم، فنصيبُه لأولادِهِ، فإذا ماتَ واحدٌ، كان نصيبُهُ لأولاده خاصَّةً، ويشاركون الباقِين فيما عدا نصيبَ أبِيهِمْ (¬1). ومن الصّور المذكورةِ في الكتَاب: إذا وقَفَ عَلَى الأَوْلاد، هل، يدخل فيه أَوْلاَدُ الأولادِ؟ فيه وجهان: أصحُّهُمَا: وهو، المذكور في الكتابِ لا؛ لأنَّهُ يقع حقيقةً عَلَى أولاد الصُّلْب؛ ألا تَرى أنَّه ينتظم أن يُقَال: ليْسَ هذا وَلَدَه، وإنَّما هُوَ وَلَدُ وَلَدِهِ؟ والثاني: نعم؛ لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 27]. وفي "النهاية" ترتيب الخلاف في أولاد البنات علَى الخلاف في أولادِ البَنِينَ، وأولَى بعدم الدُّخُول؛ لأنَّ انتسابَهَم إلَى آبائهم، وهذا الخلافُ عند الإطْلاَق، وقد يقترن باللفظ ما يقتضي الجزمَ بخُرُوجهم، كما إذا قال: وقفتُ عَلَى أولادي، فإذا انقرضوا، فلأحفادِي الثُّلُثُ، والباقي للفقراءِ. وكذا لو وَقَفَ علَى الأولاد، ولم يكنْ له إلاَّ أولادُ الأَوْلاَدِ. ففي "التتمة" وغيرِها أنَّه يَجْعَلُ اللفْظُ عليهم؛ صيانةً لكلامِ المكلَّف عن الإلْغَاء (¬2)، ويجْرِي الخلافُ فيما إذا وقَف عَلَى أولاده، وأولادِ أولادِه، هل يدخل أولاد ¬
أولادُ الأولادِ؟ ويدخل في الوقْفِ علَى الأولاد البنُونَ والبناتُ والخَنَاثَى المُشْكِلُونَ، ولا يدْخُل الخناثَى في الوقْف على البَنِينَ، وفي دخول بني البنينَ والبَنَاتِ الوجهانِ، ويوجَّه دخولُ بني البناتِ بقَوْله -صلى الله عليه وسلم-[في الحسن] بن عليٍّ -رضي الله عنهما-: "إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ" (¬1) ومنهم من خصَّص الوجْهين ببني البَنِينَ، وجزم بأنَّ بني البناتِ لا يدْخُلُون فيه، ولو وقَف على البناتِ لَمْ يدخل الخَنَاثَى، وفي دخُول بناتِ الأوْلاَد وجهان. ولو وقَف علَى البنينَ والبَنَاتِ، فأصحُّ الوجْهَيْن دُخُولُ الخُنْثَى في مثْل هذا لأنَّهُ لا يَخْرُج عن الصنفين. والثاني: المنعُ؛ لأنَّه لا يُعدُّ من هؤلاء، ولا مِنْ هؤلاء. ولو وقَف عَلَى بني تميمٍ، وصحَّحنا مثْل هذا الوقْف، ففي دخول نسائِهِم وجهان: أحدُهُمَا: المَنْعُ، كما لو وقَف عَلَى بني زيد. وأشبههما: الدُّخُول؛ لأنَّه يُعَبَّرُ به عن القبيلة والمستحِقُّون في هذه الألفاظ، لو كَانَ أحَدُهُمْ حملاً عند الوقْف، هل يدْخُلُ حتى يُوقَفَ له شيْءٌ؟ حكَى صَاحِبُ "التتمة" فيه وجهَيْنِ: أحدُهُمَا: نعمَ، كما في الميراثِ، وَيَستحق الغلَّة لمدة الحمل. وأصحْهُمَا: لاَ؛ لأنَّهُ قبل الانفصالِ لا يُسَمَّى ولداً، وهذا ما ذكَرَه في الكتاب. وأمَّا غلَّةُ ما بعد الانفصالِ، فإنَّهُ يستحقُّها وكذا الأولاد، الحادث علوقُهُمْ بعْد الوقْف يستحقُّون إذا انفصلوا. هذا هو المشهورُ في الكُتُب، وفي "أَمَالي" أبي الفرج السَّرْخَسِيُّ خلافٌ (¬2)، والمنفيُّ باللعان لا يَسْتَحِقُّ شيئاً؛ لانقطاع نسَبِهِ وخروجِهِ عَنْ أن يكون وَلداً. وعن أبي إِسْحَاقَ أنَّه يستحقُّ، وأثر اللعان مقْصورٌ على الملاعِنِ (¬3). ¬
ولو وقَفَ عَلَى أولادِهِ وأولادِ أولادِهِ، دخل فيه أولادُ البَنِينَ والبَنَاتِ، خلافاً لمالك وأحمد في أولاد البنات. فإن قال عَلَى من يُنْتَسَبُ إِلَيَّ مِنْ أولاد أولادِي، خرج أولاد البناتِ، وحكَى القاضي ابْنُ كجٍّ وجْهاً آخَرَ؛ أنَّهُمْ يدخلون؛ لِمَا مَرَّ من حديث الحسن -رضي الله عنه-. ومنها: لو قال: وقَفْتُ على ذرِّيَّتي أو عَقِبِي أو نَسْلِي، دخل فيه أولادُ البنينَ والبناتِ قريبُهمْ وبعيدهمْ. وعن مَالِكٍ وأحْمَدَ: أنَّ أولادَ البناتِ لا يدْخُلُون. لنا قولُه تعالَى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] إلى أن ذكرِ عيسَى، وليس هو إلاَّ ولد البنْتِ، وإذا حَدَثَ حمْلٌ، قال في "التتمة": يوقَفُ نصيبه؛ لأنَّهُ من نسْلِه وعَقِبِهِ لا محالَةَ. ومنها: اسمُ المولَى يقع علَى المُعْتِقِ، ويقال: له المولَى الأَعْلَى، وعلى المُعْتَقِ ويقال له: المَوْلَى الأسْفَلُ، وإذا وقف علَى مواليه، وليس له إلا أحدهما فالوقف علَيْه، وإن وجدا جميعاً، ففيه أوجه: أحَدُهُمَا: ويُحْكَى عن أبي حنيفةَ واختيار ابنِ القَطَّان: أنَّه يصحُّ، ويقسم بينهما؛ لتناولِ الاسم لهما، وذكر في "التتمة" أنَّ هذا أَصَحُّ. والثاني: أنَّه يَبطُل الوقْفُ؛ لما في المَصْرَف من الإبهام والإجْمَال، وامْتناع حمل اللفْظِ الواحِدِ علَى المعنَيَيْنِ المختلفَيْنِ، وهذا أرجَحُ عند صاحبِ الكتابِ. والثالث: أنَّهُ للمُعْتِقِ؛ لأنَّهُ أنْعَمَ عَليه بالإعْتَاق، فهو أحقُّ بالمكافأة. والرابع: حكاه المتولِّي: أنَّه للمعتق لاِطراد العادَة بإحْسَان السادة إلى العتقاء، ومِنْ أخواتها أنَّه لو وقَفَ عَلَى عِتْرته، فعَنِ ابْنِ الأعرابيِّ وثعلب أنهم ذرِّيَّته، وعن القتيبي أنهم عشيرتُه، ففيه وجهان للأصْحَاب: أظهرْهُمَا: الثاني، وقد رُوِيَ ذلك عن زَيدِ بْنِ أَرْقَمَ -رضي الله عنه (¬1) - ولو قال: عَلَى عشيرَتِي، فهو كما لو قال: قَرَابَتِي، وإذا قال: عَلَى قرابتي أو أقْرَبِ النَّاسِ إِلَيَّ، فعلى ما سَيَأْتي في الوصيَّة إنَّ شاء الله. ¬
وفي "التتمة" أنَّه إذا قال: على قبيلتي أو عشيرَتِي، لم يدخُلْ فيه إلاَّ قرابةُ الأبِ، ثم إذا كانُوا غير محصُورِينَ في العادَةِ، فقد سبَق حكايةُ الخلافِ فيه. والحادِثُون بعْد الوقْف يشاركون الموْجُودين عند الوَقْف. وعنِ البُوَيْطِيِّ مَنْعُهُ، وُيرْعَى شرط الواقِف في الأقْدار وصفات المستحِقِّين، وزمان الاستحقاق، فلو وقَفَ على أولاده وشرط التَّسْوية، وتفضيل الذكْر على الأنْثَى كما في الميراث، أو بالعَكْس أو لتسوية، اتُّبع شرْطُه، وكذا لو وقَف على العُلَماء بشرط أن يكونوا عَلَى مذْهب كذا، أو على الفُقَراء بشَرْط الغُرْبة (¬1) أو الشَّيْخُوخة. ولو قال: وقَفْتُ عَلَى بني الفقراء، أو عَلَى بناتِي الأَرَامِل، فمَنِ استغْنَى منهم، وتزوَّج منْهنَّ، خرج عن الاستحقاق، فإذا عاد فقيراً، أو طلَّقها زوْجُها، عاد الاستحقاق (¬2). وفي "الزيادات" للعبَّادِيِّ أنَّهُ لو وقف على أمهاتِ أَوْلاَده إلاَّ من تتزوَّج منْهن، فتزوجت، خرجَتْ، ولا يعود [على] الاستحقاق إذا طُلِّقَتْ، وُيشْبِه أنْ يُقَال: ليْسَ هذا وجْهاً مُخَالِفًا للأوَّل، وُيفْرَق بينهما، إمَّا من جهة اللفظ بأنَّ هناكَ أثبت الاستحقاق لبناتِهِ، إذا كنَّ أراملَ، وإذا طُلِّقَت، حصلت الصفة، وههنا أثبت الاستحقاق لها إلاَّ أن تتزوَّجَ، وهذه، طُلِّقَتْ، صَدق عليها أنَّها تزوَّجت. وإمَّا من جهة المعنى، فإن غرض الواقف ههنا، إنَّ بقيَ له أمهاتُ أولاده ولا يختلف عليهنَّ غيره، فمنْ تزوَّجَتْ منْهِنِ، لم تكُنْ وافيةً، طُلِّقَتْ أو لم تُطَلَّقْ. ولو شَرَطَ صرْفَ غلَّة السنة الأُولَى: إلى قوم، وغلة السنة الثانية إلَى آخرين، وهكذا ما بَقُوا، اتُّبعَ شرْطُه. ولو قال: وقَفْتُ عَلَى أولادِي، فإذا انقرضَ أوْلاَدِي، وأولادِ أوْلاَدِي، فعلى الفُقَراء، فهذا وقْفٌ منقطِعُ الوسَط؛ لأنَّه لم يَجْعَلْ لأولاد الأولاد شيئاً، وإنَّما شرَطَ انقراضَهُم؛ لاستحقاق الفقراء، وفيه وجه: أنَّهُمْ يستحقُّون بعد انقراض أولادِ الصَّلْب؛ لأن اشتراط انقراضِهِمْ يشعر بإثبات الاستحقاق لهم. ولو وقَف عَلَى بنيه الأربعة على أنَّ مَنْ مات منهم، وله عَقِبٌ، فنصيبه لعقبه، ومَنْ مات، ولا عَقِبَ له، فنصيبُهُ لسائر أرباب الوَقْف، ثم مات أَحَدُهم عن ابنٍ وآخر عن ابنين، وثالث، ولا عَقِبَ له، فيُجْعَل نصيب الثالث بيْن الرَّابع وابن الأول وابني الثاني بالسَّوِيَّة. ¬
ولو قال: وقَفْتُ عَلَى بَنِيَّ الخَمْسَةِ، وعلَى مَنْ سيولد لي عَلَى ما سأفَصِّلُهُ، ثم فَصَّلَ وقال: صَنِيْعَة كذا لابْنِي فلان، وضيعة كذا لفُلاَنٍ، إلَى أنْ ذكر الخمسة، ثم قال: وأمَّا مَنْ سيُولَدُ لي، فنصيبُه إن مات من الخَمْسَة، ولا عَقِبَ له فيصرف حقه إلَيْه، فماتَ واحدٌ، ولا عَقِبَ له، وولد للواقف ولد يُصْرَفُ إليه نصيبُ مَنْ مات، ولم يعقب، وليس له أن يطلب شيئاً آخَرَ؛ لقوله أولاً: وَقَفْتُ على بَنيَّ، وعلَى مَنْ سيُولَدُ لي فإنَّ التيفصيل المذكور آخراً بيان لما أجْمَلَه أولاً، وقد جَرَتْ عادةُ الشُّروطِيِّينَ بمثله. ولو قال: وقَفْتُ عَلَى سُكَّانِ موْضِع كذا، فغابَ بَعْضُهُمْ سنَةً، ولم يبعُ داره، ولا استبدَلَ داراً، لا يَبْطُل حَقُّه هكذا ذكره الَعَبَّادِيُّ. ولو وَقَفَ عَلَى زيْدٍ بشرط أن يسكن موْضِع كذا، ثمَّ بعده على الفقراء والمساكين، فهذا وقْفٌ فيه انقطاعٌ؛ لأن الفقراء إنَّما يستحِقُّون بعد انقراضه، واستحقاقُهُ مشْروطٌ بشَرْطٍ قد يتخلَّف، والصِّفَةُ والاستثناءُ عَقِيبَ الجُمَلِ المعطوف بَعْضُها عَلَى بعْضِ يَرْجِعَان إلَى الكُلِّ. مثالُ الصفة: وقفتُ عَلَى أولادي وأحفادِي وإخْوَتي المحاوِيجِ منهم. ومثالُ الاستثناء: وقفتُ عَلَى أولادي وأحْفادِي وإخْوَتِي إلاَّ أن يفسق واحدٌ منهم، هكذا أطلقوه ورأى الإمام تقييدَهُ بقَيْدَيْن: أحدهما: أنْ يكون العَطْفُ بالواو الجامعةِ، فأمَّا إذا كان العطفُ بكلمةٍ, "ثم" قال: يختصُّ الصفة والاسشاء بالجملة الأَخِيرة. والثاني: ألاَّ يتخلَّلَ بيْن الجملَتَيْنِ كلامٌ طويلٌ، فإنْ تَخَلَّلَ كما لو قال: وقفتُ عَلَى أولادِي عَلَى أنَّ مَنْ مات منْهم وأعْقَبَ [فنصيبه بيْن أولاده {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، وإنْ لم يُعْقِبْ] (¬1) فنصيبه للذين من درَجَته، فإِذا انقرضوا، فهو مصْرُوف إلَى إخوتي، إلاَّ أن يَفْسُقَ أحدُهُم، فالاستثناء يختص بالإخوة والصفة المتقدِّمة عَلَى جميع الجُمَل مثل أن يقول: وقفتُ عَلَى محاويج أولادِي، وأولاد أولادِي، وإخْوَتِي كالمتأخرة عنْ جميعها حتَّى يعتبر الحاجةُ في الكُلِّ. قَالَ الغَزَالِيُّ: الفَصْلُ الثَّانِي في الأَحْكَام المَعْنَوِيَّةِ وَحُكْمُ الوَقْفِ اللُّزُومُ (ح) فِي الحَالِ وإنْ لَمْ يُضَفْ إِلَى مَا بَعْدَ المَوْتِ، وَتَأْثِيرُهُ إِزَالَةُ المِلْكِ وَحَبْسُ التَّصَرُّفِ عَلَى المَوْقُوفَ، ثُمَّ إنْ كَانَ مَسْجِداً فَهُوَ فَكٌّ مِنَ المِلْكِ كَالتَّحْرِيرِ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى مُعَيَّن فَهُوَ مِلْكٌ (و) لِلْمَوْقُوفَ عَلَيْه، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةِ فَالمِلْكُ مُضَافٌ إِلَى الله، وَقِيلَ بِإِطْلاَقِ ثَلاَثةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أنَّهُ لِلوَاقِفِ (ح) وَلَمْ يَزَلْ مِلْكُهُ بِدَلِيل اتِّبَاعِ شَرْطِهِ. وَالثَّانِي: ¬
أنَّهُ لِلَّهِ (م و) إِذْ لاَ تَصَرُّفَ لأَحَدٍ فِيهِ. وَالثَّالِثُ: أنَّهُ لِلْمَوُقُوفِ عَلَيْهِ (ح م) فإِنَّهُ المُتَصَرِّفُ بِالانْتِفَاع. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الأحكام المعنوية: منْها اللزومُ في الحَال، سواءٌ أضافه إلَى ما بعد الموت، أو لم يُضِفْه، وسواءٌ سلَّمة أو لم يسلِّمه، وسواءٌ قَضَى به قاضٍ أو لم يَقْضِ (¬1)، وعن أبي حنيفة -رضي الله عنه- أن الوَقْفَ كالعارية يَرْجِعُ عنْه، متى شاء إلاَّ أنَ يُوحِيَ به، فيلزم بعد الموت أو يَقْضِي به قاضٍ، فيلزم. وعن أحمد روايةٌ: أنَّه لا يلزم إلاَّ بالتَّسْليم. وإذا لَزِمَ، امتنعت التصَرُّفات القادحة في عوض الوَقْف، وشرْطُ الواقِفِ على الوَاقِف وعلَى غيره. وأمَّا رقبةُ الوقْف، فالنصُّ هاهنا أنَّه مِلْكَ الواقِفِ يزُولُ عَنْها، وأنَّ الموقوف عليه لا يَملِكُها، وإنَّما يَمْلِكُ المنفعةَ، وذكَر في "الشَّهادات" أنَّ مدَّعِيَ الوقْفُ، إذا أقام شاهداً واحداً، حلف معه، وهذا يدلُّ على أنَّه يملك الوقْفَ، فللأصحاب في المسألة طُرُقٌ؛ اختصارها أن في طُرُقُ الواقف قولَيْن: أصحُّهُمَا: وهو المنصوصُ: أنَّه مِلْكَهُ يزولُ؛ لأنَّه تصرُّف يقطْعِ تصرُّفه في الرقبة، واستحقاقه المنفعةَ، فأشْبه العِتْقَ والصَّدَقة. والثاني: وبه قال مالك: أنَّهُ لا يزولُ مِلْكُهُ؛ لأنَّ شرْطَهَ مُتَّبَعٌ، ولو زال، لَمَا اتَّبع، ويُحْكَى هذا عن اختيار القاضي الحُسَيْن، وأن ابن سُرَيْجٍ خرَّجه من نص الشافعيِّ -رضي الله عنه- في الوقْف المنْقَطِعِ؛ أنَّه يُصْرَفُ إلى أقربِ النَّاسِ إلى الوَاقِفِ ونَظَائِره. وإذا قلْنا بالأوَّل، فإلي من ينتقل؟ أظهر الطُّرْق أنَّه عَلَى قولَيْنِ: وأصحُّهُمَا: وبه قال أبو حنيفة -رضي الله عنه- أنَّه ينتقل إلَى اللهِ -تعالى- كالعِتْق، ومعناه أنَّه ينفك عن اختصاصَاتِ الآدمِيِّينَ. والثاني: وبه قال أَحْمَدُ: أنَّه ينتقلُ إلى المَوْقُوفُ علَيْه كالصَّدقة، وهذا مخرَّجٌ مأخوذٌ من النصِّ المذكور في "الشهادات". ¬
والطريقة الثانية: القطْع بالأول، وثبوتُه بالشَّاهد واليمين؛ لأن المقصودَ منْه إظهارُ استحقاقِ المَنْفَعَة، لا لأنَّ الرقبةَ مِلْكٌ له. والثالثة: عنْ روايةِ القاضِي أبي الطيِّب: القطْع بالقَوْل الثاني، وحمل ما ذكره هاهنا عَلَى أنَّه لا يملك البيع ونحوه من التصرُّفات، هذا كله فيما إذا وقَف عَلى شخْص معيَّن أو جهةٍ عامَّةٍ. وأمَّا إذا جَعَلَ البُقْعةَ مَسْجِداً أو مقبرةً، فهو فكٌّ عن المِلْك؛ كتحرير الرقبة، فينقطع عنها اختصاصات الآدمِيِّين، وليْسَ ذلك موْضِعَ الخلاف. وقوله في الكتاب: "وإنْ كان عَلَى مُعَيَّن ... " إلى آخر الأقوال الثلاثة يخرَّج منه طريقتان: إحداهُمَا: أنَّه إذا وقَفَ عَلَى معيَّن، فهو مِلْكُ الموقوف علَيْه بلا خلاف، وإن وقَف على جهةٍ عامَّةٍ، فالمِلْكُ لله -تعالَى- بلا خلاف. والثانية: أنَّ في الحالَتَيْنِ الأقوالَ الثَّلاثَة، ثم إنَّهُ اختارَ الطَّريقةَ الأُولَى، واستبعد نقل الملْك إِلَى الله -تعالَى- في الموقوف على المعيَّن؛ لأنَّه ليْسَ من القُرُبات، ونقل الملْك إلى الموقوف عليه في الجهات العامَّة؛ لأنَّ الوقف قد يكونُ على الرِّبَاطَاتِ، والقناطِرِ، وما لا يُنْسَب إليه ملْكٌ، هكذا وجِّه (¬1) في "الوسيط". واعْلَمْ أنَّ عائشة الأصحاب ساكِتُون عن الطريقة الأُولَى، وعن الفَرْق بيْن أن يوقف على معيَّن أو على جهة عامَّة. والأظهَرُ عندهم من الأقْوَال إضافةُ المِلْك إلى الله -تعالى- ولهم أنْ يقُولُوا في الجواب أمَّا أنَّ الواقف على المعيَّن، ليس من القُرُبَات، ففيه كلامٌ، وعلى التَّسْلِيم، فليس المعنَى، بكَوْن المِلك لله -تعالَى- سوى انفكاكِ المحلّ عن ملك الآدميِّين، واختصاصهم، وذلك لا يَتوقَّف على القُرْبة، وقصدها؛ ألا تَرَى أن الكافر إذا أعْتَقَ، صار العتق لله -تعالى- وإن لم يكنْ منه قربةً. وأمَّا الثاني: فقد قدَّمنا أنَّ المسجد، والرِّباط قد يكون لهما مِلْكٌ، كما يكون عليهما وقْفٌ. وقوله في الكتاب: "وقيل بإطلاق ثلاثة أقوال" لا يتعلَّق بقوله: "ثم إن قال مسْجِداً" بل الغرضُ منْه الإشارة إلَى حالَتَي الوقْف على المعيَّن، على الجِهَةِ العامَّة. وقوله في أَوَّل الفَصْل: "وتأثيره إزالة المِلْك" الأشبهُ أن تعود الكتابة إلى اللُّزوم، يعني أنَّ تأثيرَ اللزومِ إزالةُ المِلْك، ثمَّ إنْ كان المرادُ منه ملك [الرقبة، ففيه الخلافُ المذكور من بعْدُ، وإن كان المرادُ ملْكَ] التصرُّف والمنفعة، فهو قريبٌ من قوله بعده: ¬
"وحبس التصرُّف على الموْقُوف ويجوز أن يفسر قوله "وحبس التصرف على الموقوف" بقصر التصرُّف على ما يلائمُ غرَضَ الوَقْف، وينفع الموْقُوف عليه. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَيَمْلِكُ المَوْقُوفُ عَلَيْهِ الغَلَّةَ وَالثَّمَرَةَ وَالصُّوفَ وَالوَبَرَ مِنَ الحَيَوَانِ وبَدَلَ مَنْفَعَةِ البُضْعِ وَالبَدَنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ الوَطْءُ للشُّبْهَةِ، وَهَلْ يَمْلِكُ نَتَاجَهُ؟ فِيهِ خَلاَفٌ لأَنَّهُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ وَلَدِ الضَّحِيَّةِ وَهُوَ ضَحِيَّةٌ وَبَيْنَ لَبَنِ الحَيَوَانِ المَوْقُوفِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قاعدةُ الفَصْل أنَّ فوائدَ الوقْف ومنافَعه للموْقُوف علَيْه يتصرَّف فيها تصرُّفَ المُلاَّكِ في الأملاك، فإنَّ الوقْفَ كذلك يَنْشَأُ، ويفصِّلُها أنَّ الوقْفَ، إنْ كان شجرةً، ملَكَ الموقُوفُ علَيْه ثمارَهَا، لا يَمْلِكُ أغصانها، إلا فيما يعتادُ قَطْعَه؛ كشَجَرة الخلاف فأغصانها كثمارِ غيرها (¬1). وإن كان الوقْفُ بهيمةً، مَلَكَ الصوفَ والوَبَر واللَّبَن، وفي النِّتَاج وجهان: أظْهَرُهُمَا: أنَّ يملكه أيضاً؛ كاللبن والثمرة. الثاني: لا، بل يكون وَقْفاً؛ تَبَعاً للأُمِّ، كما أن ولد الأضحيَّة يكون أضحيَّة، وبالأول قطعَ أبو الفَرجِ السَّرْخَسِيُّ في النّعم. وقال: فإنَّ المطلوب منْها الدَّر والنَّسْل، والوجهان في ولَد الفَرَس والحِمَار. وحكى فيه وجهاً ثالثاً ضَعِيفاً؛ أنَّهُ لا حقَّ فيه للموقوف علَيْه، بل يُصْرَفُ إلَى أقْرَبِ النَّاسِ إلى الواقف إلاَّ إذا صرَّح بخلافه، وهذا الخلافُ في النِّتَاج الحادث بعْد الوقْف، فإن وقف البهيمةَ، وهي حاملٌ، وقلْنا: إنَّ الحادثَ بعْد الوقْف وقْفُ، فههنا أَوْلَى، إلاَّ، فوجهان بنَاءً عَلَى أنَّ الحمل، هَلْ له حُكْمٌ؟ وما ذكَرْناه في الدَّر والنسل مفروضٌ فيما إذا أطْلَقَ، أو شرطهما للمَوْقُوف عليه أمَّا إذا وقَفَ الدَّابَّةَ عَلَى ركوب إنْسَانٍ، ولم يشترط له الدّر والنّسل. قيل: حكم الذّرّ والنسل حكم وقف منقطع الآخر. وقال صَاحِبُ "التَّهْذِيبِ": ينْبَغِي أن يكون للواقِفِ، وهذا أَوْجَهُ؛ لأنَّ الدَّر وَالنسلَ ¬
لا مَصْرَفَ لهما أوَّلاً ولا آخِرَاً، بلْ هما غَيْرُ داخلَيْنَ في الوقْف، ونظيرُ المسألة في أنَّ الوقْف لبَعْضِ المنافع، والفوائد خاصَّةً، هل يجوز؟ لجوازه شواهدُ نذْكُرها علَى الأثر، وأيْضاً، فقد ذكروا أنَّه لو وقِفَ ثور؛ للإنزاء، جاز، ولا يجوز استعمالُهُ في الحراثة. ولا يجُوز ذَبْحُ البهيمةِ المَوْقُوفةِ المأكولةِ، وإنْ خرجَت عن الانتفاع، كما لا يجوزُ إعتاق العَبْد، لكن إذا صارت بحيث يَقْطَع بمَوْتها, لو لم يُذْبَح. قال في "التتمة": يجُوزُ ذبْحُها للضرورة، ويباعُ اللَّحْمُ في أحد الطريقَيْن، وَيشْتَرِيَ بثمنه (¬1) بهيمةً من جنْسِها وتُوقَفُ. وفي الثاني: إنْ قُلْنا: إنَّ المِلْكَ في الوَقْف لله -تعالَى- فعلى الحاكم ما يرى فيه المصْلحة. وإن قلْنا: للواقف أو للموقوف علَيْه، صرف إليْهما، وإذا ماتت البهيمةُ الموقوفةُ فالمَوْقُوفُ علَيْه أَوْلَى بجلدها، وإذا دبغه، ففي عَوْدِهِ وقْفاً وجْهَانِ. قال في "التتمة": الظاهرُ العَوْدُ. والمنافعُ المستحَقَّة للموْقُوف علَيْه يجوز أنْ يستَوْفِيَها بنَفْسه، ويجوز أن يقيم غيره مقامَه بإعارة منْه، أو بإجارةِ، وتُصْرَف الأُجْرَةُ إِلَيْه, هذا إذا كان الوَقْفُ مُطْلَقاً. أمَّا إذا قال: وقَفْتُ دارِي؛ ليسكُنَها من يُعَلِّم الصبيانَ في هذه القَرْيَة، فللمعلِّم أن يسكنها, وليس له أنْ يُسْكِنَ غيره بأُجْرَةٍ، ولا بغَيْر أُجْرةٍ (¬2). ولو قال: وقفْتُ داري عَلَى أنْ تستغل، وتُصْرَفُ غلَّتُها إلَى فلان، تَعيَّن الاستغلالُ، ولم يجز له أنْ يَسْكُنَهَا كذا ذكرت الصورتان فيما جُمِعَ من فتاوى القَفَّالِ وغَيْره وفيهما تخصيصُ بعْضِ المنافِع والفوائِد بالوَقْف، وفي الوقْفِ المطْلَق، لو قَالَ الموقُوفُ علَيْه؛ أَسْكُنِ الدار، فقال القَيِّمُ: أكريها؛ لأصْرِفَ الغلَّة إلَى مرمتها، فله أنْ يكري (¬3). ومتى ¬
وجب المَهْرُ بوطْء الجارية المَوْقُوفة، فهو للموقُوفِ علَيْه، كاللبن والثمرة؛ لأنَّهُ من الفوائد، وهو المراد؛ بقَوْله: "وبذل منفعة البُضْعِ وبذل منفعة البدن" هو الأُجْرَة، وقد بيَّناها (¬1). وأمَّا قوله: "وإن لم يكن الوطء للشبهة"، فاعلم أنَّ وطء الجارية المَوْقُوفة كما لا يجُوز للأجنبيِّ، لا يجوز للواقف، ولا للمَوْقُوف عَلَيْه. أَمَّا، إذا لم نثبت الملك لهما، فظاهر. وأمَّا إذا أثبَتْنَاه، فلأنَّهُ مِلْكٌ، ناقص لم يحدث نقصانه بوطءٍ سابق، فلا يفيدُ حِلَّ الوطْءِ, ويخرَّج بالقَيْد المذْكُور وطءُ أمِّ الولد، ولا يلؤمُ وطءٌ العبْدِ الجاريةَ التي ملَكَها السَّيِّد إيَّاه، حيث يجوزُ عَلَى رأْيٍ، تفريعاً على القَدِيم؛ لأنَّ المِلْكَ تم غَيْرُ ناقصٍ، وإنما الناقص المالك، فهي كجارية المَجْنُونِ يطؤها ولا يَتصرَّف فيها؛ لنقصانه، فإن وُطِئَت الموقُوفةُ، لم تَخْلُ عن أحوال: إحداها: أنْ يطَأَهَا أجنبيُّ، فإن لم يكنْ هناك شبهةٌ، فعلَيْه الحدُّ، والولدُ رقيقُ، ثم هو وقْفٌ أو ملْكٌ مطلق على وجهين، كما في نِتَاجِ البهيمة، ويجب المهْرُ، إن كانت مكرَهةً، وإن كانت مطاوِعَةً عالِمةً بالحَالِ، ففيه خلافٌ، وقد سبَق في موْضِعه. وإنْ كان هناك شبهةٌ فلا حَدَّ، ويجب المَهْرُ، والوَلَدُ حرٌّ وعليه قيمته، ويكون مِلْكاً للموقُوفِ علَيْه، إنْ جعلْنا الولدَ ملكاً، وإلاَّ فيشتري بها عبدٌ ويوقف. الثانيةُ: أنْ يطأها الموقُوفُ علَيْه، فإن لم تكن، شبهة فقد قيل: لا حَدَّ علَيْه لشبهةٍ الملْك، وهذا ما أورده صَاحِبُ "الشَّامل" والأصحُّ: أنه يُبْنَى على أقوالِ المِلْك، إنْ جعلناه له، فلا حَدَّ، وإلاَّ، فعليه الحدُّ، ولا عِبْرَةِ بِمِلْكِ المنفعة، كما لو وَطِئَ الموَصَى له بالمنفعة الجارية (¬2)، والولَدُ مِلْكٌ أو وقفٌ فيه الوجهان. وإنْ وطئ بشبهة، فلا حدَّ، والولدُ حرٌّ ولا قيمةَ علَيْه، إنْ ملكناه ولَد الموقوفه، وإن جعلْنَاه وقْفاً، فيشتري به عبداً حرّاً ويوقَفُ، وتصيرُ الجاريةُ أُمَّ ولدِ له، إن قلنا: إنَّ المِلْكَ للموقوفِ علَيْه، فتعتق بموته، وتؤخذ قيقها مِنْ تركته، ثم هِيَ لَمِنْ ينتقل الوقْف إلَيْه بعْده ملكاً أم يشترى، بها جاريةً وتُوقَف؟ فيه خلاف نذكره في قيمة العبْد الموقوف، ¬
فرع
إذا قُتِلَ، ولا مَهْرَ على المَوْقُوف علَيْه بحالٍ؛ لأنَّه لو وجَب، لوجَبَ له. الثالثة: أنْ يطأها الواقِفُ، فإنْ لم يكن الوطء بشبهة، تفرع على الخلافِ في المِلْك، إن لم نجعل المِلْكَ له، فعليه الحدُّ والولدُ رقيقٌ، وفي كونه ملكاً أو وقْفاً الوجهان، ولا تكون الجاريةُ أمَّ ولدِ لَهُ، وإن جعَلْنا المِلْكَ له، فلا حدَّ. وفي نفوذ الاستيلادِ، إن استولَدَها الخلافُ في استيلاد الراهن؛ لتعلُّق حقِّ الموقوف علَيْه بها، وهذا أولَى بالمنع، وإن وطئَ بشبهة، فلا حدَّ، والولدُ حرٌّ نسيبٌ، وعلَيْهِ قيمتُهُ، وفيما يفعل بها الوجهان، وتصير أُمَّ ولدٍ له، إن ملَّكْناه، يعْتَقُ بموته، وتُؤْخَذُ قيمتها مِنْ تركته، وفيما يفعلُ بها الخلافُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالظَّاهِرُ (و) أَنَّهُ يُمْكِنُ تَزْوِيجُهَا ثُمَّ يَتَوَلَّى التَّزْوِيجَ مَنْ نَقُولُ: إِنَّ المِلْكَ فِيهَا لَه، فَإِنْ قلْنَا: لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَلاَ يَسْتَشِيرُ أَحَداً، وَإِنْ قُلْنَا: لِلَّهِ فَالسُّلْطَانُ يَسْتَشِيرُ المَوْقُوفَ عَلَيْهِ (و). قَالَ الرَّافِعِيُّ: في تزْويجِ الجارِيةِ المَوْقُوفَةِ وجهان: أحَدُهُمَا: المَنْعُ؛ لما فيه من نُقْصانِ قيمَتِها ومَنْفَعَتها, ولأَنَّها، إذا حَبَلَتْ، ضعُفَتْ عن العَمَل، وربَّما ماتَتْ في الطَّلْق، فيتضرَّر به أربابُ الوقْف. وأظهرُهمَا: الجَوَازُ تحصيناً لها، وأيْضاً، فإنَّ النِّكَاحَ عَقُدٌ على المَنْفعة، فلا يمنع بالوقف؛ كلإجارة، وعلَى هذا فإنْ جعلْنا المِلْكَ للموقُوف علَيْه، فهو الذي يلي تزْوِيجَها, ولا يحتاجُ إلى استشارةِ أَحَدٍ. وإن قلْنا: لله تعالَى فيزوجها له السلطانُ، ويستشير الموقُوفَ علَيْه؛ لأنَّ الحقَّ في منافِعِها لَهُ وكذا إن قلْنا: إنَّهُ للواقِفِ تزوجها بإذن الموقُوفِ عَليْه، وهذا جواب المعْظَمِ، وحكى صَاحِبُ الكتاب في "الوسيط" وغيره وجهَيْن في أنَّ السُّلطانَ، هل يستشير الموقوفَ علَيْه؟ أنَّهُ، هَلْ يستشيرُ الوَاقِف أيضاً؟ ويلْزَمُ مثْلُهُ في استشارةِ الوَاقِفِ، إذا زوَّج الموقوف علَيْه، والمهْر للموقوف علَيْه بكل حال، وولَدها من الزَّوْج للموقُوفِ علَيْه مِلْكاً، أو وَقفاً على الخلاف الَّذي سبق (¬1). فَرْع: ليْسَ للموقُوف عليه أنْ يتزوَّجَ بها، إنْ قلنا: إنَّها مِلْكُهُ، وإلاَّ، فقد قيل بجَوَازِهِ. والظَّاهر: المَنْعُ؛ احتياطاً، وعلَى هذا، فلو وقفَتْ عليه زوجته، انْفَسَخَ النكاح. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَتَوْلِيَةُ أَمْرِ الوَقْفِ إِلَى مَنْ شَرَطَ لَهُ الوَاقِفُ فَإِنْ سَكَتَ فَهُوَ إِلَيْهِ أَيْضَاً لإِنَّهُ لَمْ يَصْرِفْهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَقِيلَ: يَبَنِي عَلَى الأَقْوَالِ في المِلْكِ فِهُوَ لِلْمَالِكِ، ثُمَّ يُشْتَرَطُ في المُتَوَلِّي الأَمَانَةُ (و) وَالْكفَايَةَ، وَبَتَوَلَّى العِمَارَةَ وَالإِجَارَةَ وَتَحْصِيلَ الرِّيعِ وَصَرْفَهَا إِلَى المُسْتَحِقِّ وَيأْخُذُ أجْرَتَهُ إنْ شُرِطَتْ لَهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: حقُّ التوليةِ في الأصْلِ للواقِفِ؛ لأنَّهُ المتقرِّبُ بصَدَقَتِهِ، فهو أحقُّ مَنْ يقوم بإمضائها، وصرْفُها إلَى مصارفها، وقد ثَبَت أن عُمَرَ -رَضِيَ الله عنه- كان يلي أمْرَ صَدَقَتِهِ، ثم جَعَلَهُ إلَى حَفْصَةَ، وبعْدَهَا إلَى ذَوِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا. فإنْ شرطَهَا الواقفُ لنفسه، أو لغَيْرِهِ، اتبع شرْطُهُ (¬1)، وأشار في "النهاية" إلَى خلافٍ فيما إذا كان الوقْفُ عَلَى معيَّنٍ، وشرط التولية للأجنبيِّ، هل يتبع شرطه؟ إذا فرَّعنا علَى أنَّ الملك في الوقْف للموقُوفِ علَيْه، والمشهورُ الأوَّل، فلا فرق بين أن يفوض في الحياة، وبيْن أن يوصِي في المماتَ فكلُّ منهما معمولٌ به، وإن وقَف، ولم يشترط التولية لأحدٍ، فمنهم من أطْلَقَ فيه ثلاثةَ أوْجُهٍ: أحدها: أنَّه للواقِفِ؛ لأنَّ النَّظَرَ والتصرُّف كان إليه، فإِذَا لم يَصْرِفْه عن نفسه، بَقِيَ على ما كان. والثَّاني: للموقوف عليه؛ لأنَّه النَّفْعَ والفائدةَ له. والثالثُ: للحاكمِ؛ لأنَّهُ يتعلَّق به حقُّ الموقُوفِ علَيْه ومن بَعْدَه، فصاحبُ النَّظرَ العامِّ أولَى بالنَّظَر منه. ومنهم من بَنَى الأمر فيه علَى الخلاَفِ في مِلْك الرقبة، إن قلْنا: للواقِفِ، فالتوليةُ له، وقيل: للحاكمِ؛ لتعلُّق حقِّ الغير به، وإنْ قلْنا: لله تعالَى، فَهِيَ للحاكمِ، وقيل: للواقِفِ، إذا كان الوَقْفُ عَلَى جهةٍ عامَّةٍ، فإن قيامه بأمر الوقْف من تَتِمَّة القُرْبة، وقيل: للموقُوف علَيْه، إذا كان الوقْف علَى معيَّن؛ لأنَّ الرِّيعَ والمنْفعة لَهُ، وإن قلْنا: إنَّ المِلْكَ للموقُوف عليه، فالتوليةُ له، وذكر كثيرون أنَّ التوليةَ في صورة السُّكُوت للواقف من غير حكايته خلاف ولا بناء على خلافٍ، فهذه ثلاثةُ طُرُقٍ، ونظْمُ الكتابِ يقْتَضِي ترجيحَ ¬
الثَّالثة، لكن الذي يقْتَضِي كلامُ المُعْظَم الفتوَى به أنْ يقال: إنْ كان الوقْفُ علَى جهةٍ عامَّة، فالتوليةُ للحاكم، كما في الوقْف على المَسْجِد، والرِّباط، وإنْ كان الوَقْفُ على شخْصٍ معيَّن، فكذلكَ، إنْ جعلْنا المِلْكَ لله -تعالَى- وإن جعلْناه للواقِفِ أو الموقوفَ عليه، فالتوليةُ كذلك، ثمَّ النظر في أمور: أحدُهَا: لا بُدَّ من صلاحية المتولِّي لشغل التوليةِ، والصلاحية يثبُت بصفَتيْنِ: إحداهما: الأمانَةُ. والأُخْرَى: كفاءة التصرُّف، واعتبارُهُما كَاعتبارِهِمَا في الوصيِّ والقيِّم ولا فرْقَ في اعتبارِهِمَا بيْن المنْصُوب للتَّولِيَة، وبيْن الواقِفِ، إذا قلْنا: هو المتولي عند الإطلاق في الوَقْف، ولا بيْن الواقِفِ على الجهات العامَّة، والأشْخَاص المعيَّنين، وفيهِ وَجْهٌ: أنَّهُ لا يُشْتَرَطَ العدالةُ، إذا كان الوَقْفُ عَلَى معيَّنين، ولا طِفْلَ فيهم، فإن خان حملوه على السَّداد، والمذْهب الأوَّل، حتى لو فوض إلى الموصوف (¬1) بالصفتَيْن معاً، ثم اختلَفا أو أحدُهُما ينزع الحاكمُ الوقْفَ منه. والثاني: وظيفة المتولِّي العمارة والإجارة، وتحصيل الرِّيع وقسمتها على المستحقين، وحفْظ الأُصُول والغلات عَلَى الاحْتِيَاط (¬2)، هذا عنْد الإطْلاَق، ويجوزُ أَنْ ينصب الواقِفُ متولِّياً في بعْض الأمورُ دُون بعْض، كما إذا جعل إلَى واحد العمارة، وتحْصِيل الرِّيع، وإلَى آخِر حِفْظِ الرِّيع وقسمتها على الأَرْبَاب، أو يشرط لواحد الحفْظ واليد، ولآخَرَ التَّصَرُّف. ولو فوَّض إلى اثْنَيْنِ، لم يستقلَّ أحدهما بالتصرُّف، ولو قال: وقفتُ على أولادِي عَلَى أن يكونَ النَّظَرُ لعدلَيْنِ منهم، فإن لم يكُنْ فيهم إلا عدْلٌ واحد، ضَمَّ الحاكمُ [إليه عدلاً آخر، وليس للمتولِّي أن يأخذَ مِن، مال الواقف شيئاً؛ على أن يضْمَنَه، ولو فَعَل، ضَمِن، ولا يَجُوزُ له ضم] (¬3) الضمان إلى مال الوقْف، وإقراض مالِ الوقْفُ، حُكْمُه حُكْمُ إقراض مالِ الصَّبِيِّ. ¬
والثاَّلثُ: لو شرَطَ الواقفُ للمتولِّي شيئاً من الرِّيع، جاز، وكان ذلك أُجْرَةَ عَمَلِهِ، ولم يذكُرْ شيئاً، ففي استحقاقه أجرةَ عَمَله الخلافُ المذكور فيما إذا استعْمَلَ إنساناً، ولم يذكر له أُجْرةً، ولو شرط للمتولِّي عُشْر الرِّيع أجرةً لعمله ثم عزَلَه، بَطَلَ استحقَاقُه، وإن لم يتعرَّض لكونه أجرةً، ففي فتاوَى القَفَّالِ أنَّ استحقَاقَه لا يَبْطُلُ؛ لأنَّ العُشْرَ وقفٌ علَيْه، فهو كأحدِ المَوقُوف علَيْهم. ويجوز أنْ يقالَ: إذا أثبَتنا الأُجْرَةَ بمجرَّد التفْويض؛ أخذاً من العادة، فالعادة تقْضِي بأن المشروط للمتولِّي أجرةُ عَمَلِه، وإن لم يَصِفْه بكونه أُجْرةً، ويلزم من ذلك بُطلانُ الاستحقاق بالعَزْل. الرابع: للواقِفِ أنْ يعزلَ من وَلاَّه ويُنَصَّبَ غيرَهُ، كما يَعزِلُ الوكيل ويُنصَبُّ غيره، وكان المتولِّيَ نائب عنه، هذا هو الظاهِرُ، وبه قال الإِصْطَخْرِيُّ وأبو الطَّيِّب بْنُ سَلَمَة. وفيه وجْه: أنَّهُ ليس له العَزْلُ؛ لأنَّ ملكه قد زال فلا تبْقَى ولايُتُه عليه، وقبولُ المتولِّي يشبه أن يجيُءَ فيه ما في قبول الوكيل، أو في قَبُول الموْقُوف علَيْه، ويُشْبِه أن تكونَ المسألةُ مصوَّرةً في التولية بعد تمام الوقْف دون ما إذا وقف بشَرْط أن تكُونَ التولية لفُلاَنٍ؛ لأنَّ في فتاوى صاحب "التَّهْذِيب": أنَّهُ لو وقَف مدْرسةً عَلَى أصحاب الشافعيِّ -رضي الله عنه- ثم قال لعالِمٍ: فوَّضْتُ إليك تدْريسَها أو ذهب ودرِّس فيها، كأن له تبديلُه بغيره، ولو وقَف بشَرْطِ أنْ يكون هو مُدَرِّسَهَا، أو قال في حالة الوقْف: فوَّضْتُ تدريسَهَا إلَى فلان، فهو لازمٌ لا يجوز تبديله، كما لو وقَفَ عَلَى أولاده الفُقَراءِ، لا يجوزُ التبديلُ بالاغنياء (¬1)، وهذا حسن في صيغَة الشرط وغَير متَّضِحٍ في قوله: وقَفْتُها، ¬
فرع
وفوَّضْتُ التدريس فيها إليه والله أعلم (¬1). وقوله في الكتاب: "فإن سَكَتَ، فهو إلَيْه أَيضاً" الكناية في قوله: "إليه" ترجع إلى الوَاقِفِ لاَ إلَى من شرط له الواقِفُ؛ لأنه لا شَرْط في صورة السُّكُوت لكنْ قوله "أيضاً" إِنَّما يحسن، إذا كان مَنْ إلَيْه التوليةُ في الصورتَيْن واحداً، إلاَّ أنْ يقال: المشروط له نائبٌ عن الواقف بالحق في الحالتين للواقِفِ. وقولُه: "ويأخذ أُجرية إنْ شُرِطَتْ" له ظاهره يوافِقُ القَوْل بأنَّه لا أُجْرَةَ له عند عَدَمِ الاشتراطِ، وفيه الخلافُ الَّذي قدَّمناه. فرْعٌ: في فتاوَى صاحب "التهذيب" أنه لا يُبَدَّلُ بعْد موْت الواقف القَيمُ الذي نصبه كأنَّه يُجْعَلُ بعْد موْته بمثابة الوصيِّ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَبْداً فَنَفَقَتُهُ مِنْ حَيْثُ شَرَطَ، فَإِنْ لَمْ يَشرِطْ فَمِنْ كَسْبِهِ، فَإِنْ بَطَلَ كَسَبُهُ فَعَلَى مَالِكِهِ وَيُخَرَّجُ عَلَى أَقْوَالِ الْمِلْكِ، وَلَوْ انْدَرَسَ شَرْطُ الوَقْفِ فَيَنْقَسِمُ عَلَى الأَرْبَابِ بِالسَّوِيَّةِ، فَإنْ لَمْ يَعْرِفِ الأَرْبَابَ فَهُوَ كَوَقْفِ مُنْقَطِعِ الآخِرِ في ¬
المَصْرَفِ، وَلَوْ آجَرَ المُتَوَلِّي الوَقْفَ عَلَى وَفْقِ الْغِبْطَةِ في الحَالِ فَظَهَرَ طَالِبٌ بِالزِّيَادَةِ لَمْ يُفْسَخْ علَى الأَقْيَس (و). قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصْل ثلاثُ مسائل: المَسْألَة الأوُلَى: نفقةُ العْبِد والبهيمةِ الموقُوفَيْنِ منْ حيثُ شرْطُ الواقفِ، فإن لم يذكُرْ شَيْئاً، فالنفقةُ في الأكساب وعوض المنافع، فإن لَمْ يكُنِ العبدُ كَسُوباً، أو تعطَّل كَسْبُهُ، ومنافعه لزمانه أو مرض، أو لم يفِ كَسْبُه بنفقته، فيُبْنَى عَلَى أقوالِ المِلْك، إنْ قلْنا: للموقُوفِ عليه فالنفقةُ عليه. وإن قلْنا: إنَّه لله -تعالَى- ففي بَيْت المال كما لو أعْتَقَ عَبْداً لا كَسْب له، وإن قلنا: للواقِفِ، فهي علَيْه؛ فإذا ماتَ، فَهِيَ في بيْت المال؛ لأنَّ التركة انتقلَتْ إلى الورثة، والوقْفُ لم ينْتَقِلْ إليهم، فلا يلزَمُهم مؤنَتُه، قاله في "التتمة" وقياسُ قوْلنا: إن رقبة الوقْف للواقِفِ انتقالها إلَى ورثته، فإذا مات العبد فمؤنة تجهيزُه كنفقته في حيَاتِهِ. أمَّا العَقَارُ الموقُوفُ، فعمارته من حَيْثُ شرط الواقف، فإنْ لم يشرط شيئاً، فمن غلته فإنْ لم يحصل منه شيْءٌ، لم يجب، على أحدٍ عمارَتُهُ، كالمِلْكِ الخالِصِ بخلاف الحيوانِ تصان روحُهُ. المَسْألةُ الثانية: لَوِ اندَرَسَ شرْطُ الوقْفِ، ولم يعرف مقادير الاستِحْقاق، أو كيفيَّةُ الترتيب بيْن الأرباب، قسمت الغلَّةُ بينهم بالسَّوِيَّة (¬1)، إذ ليس بعضُهُمْ أولَى بالتقديم والتفْضِيلِ منْ بعْضٍ. وحكَى بَعْضُ المتأخِّرين أنَّ الوَجْهَ التَّوقُّفُ إلَى اصطلاحهم، وهو القياسُ، ولو اختلَفَ أربابُ الوقْف في شرط الوقف ولا بينة جُعِلَتِ الغَلَّةُ بينهم بالسَّوِيَّة، فإنْ كان الواقفُ حَيّاً، رجَعْنا إلى قوله، كذلك ذكره صاحبُ "المُهَذَّبِ" و"التَّهْذِيبِ". ولو قيل: لا رُجُوعَ إلَيْه، كما لا رجوعَ إلَى قول البائع عند اختلاف المشتريين في كيفيَّة الشراء لما كان بعيداً (¬2). المسالةُ الثَّالِثَةُ: للواقِفِ، ولِمَنْ ولاَّه الواقِفُ إجارة الوقف، وإذا لم ينصب ¬
الواقفُ للتولية أحداً، فالخلافُ فيمن له التوليةُ قدْ مرَّ. فإن قلْنا: إن المتولِّي الحاكمُ، فهو الذي يُؤَجَّر. فإنْ قلْنا: إنَّهُ للموقوف علَيْه؛ بناء على أن الملك له ففي تمكينه (¬1) من الإجارَةِ وجهان. قال في "التتمة": المذْهَبُ فيهما التمكين، فإنْ كان: الوقف على جماعةٍ اشترَكوا في الإجَارَة، فإنْ كان فيهم طفلٌ قامَ وليُّهُ مَقَامَهُ. والثاني: المنْعُ؛ لأنَّهُ ربَّما يمُوتُ في المدَّة، فتبين أنَّه يصرف في حقِّ الغير، فإن كان الواقِفُ قدْ جعل لكلِّ بطْنٍ منهم الإجارة، فلهُمُ الإجارةُ لا محالَةَ، وكانَ ذلك تفويضاً للتولية إلَيْهم، إذا عَرَفْتَ ذلك، فإذا أَجَّر الموقوف عليه بحكم الملك، وجوَّزنا، فزادَتِ الأجرةُ في المدة، أو ظهر طالبٌ بالزيادة، لم يتأثَّر العقدُ به، كما لو أجَّر ملْكَه المطلق، وإنَّ أجَّر المتولِّي بحقِّ التولية، ثم حَدَثَ ذلك، فكذلك الجوابُ عَلَى أصحِّ الأوجه؛ لأنَّ العقْدَ حين جرَى كان على وجه (¬2) الغِبْطَة، فأشبه ما إذا باع وَلِيُّ الطِّفلِ مالَهُ، ثم ارتفعَتِ القيمةُ بالأسْوَاق، أو ظهر طالبٌ بالزيادة. والثاني: أنَّهُ ينْفَسِخُ العقْدُ؛ لأنَّه تبين وقوعُه عَلَى خلاف الغِبْطة في المُسْتقبل. والثالث: إنْ كانت الإجارةُ سَنَةٌ فما دونها، لم يتأثَّر العَقدُ، وإن كانَتْ أكثرَ، فالزيادةُ مردودةٌ، وهذا ما أورده أبو الفَرَجِ الزَّاز في "الأمالي". قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ تعَطَّلَ المَوْقُوفُ وَبقِيَ لَهُ أَثَرٌ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ البَاقِي هُوَ الضَّمَانَ بِأَنْ قُتِلَ العَبْدُ فَيُشتَرِي بِهِ المِثْلُ وَيُجْعَلُ وَقفاً، وَإِنْ لَمْ يوجَدْ عَبْدٌ فَشِقْصُ عَبْدٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُصْرَفُ مِلْكاً إِلَى المَوقُوفِ عَلَيْهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تعطُّلُ الموقوفِ، واختلالُ منافِعِه يُفْرَضُ من وجهَيْنِ: أحدُهُمَا: أن يَحْصُلَ بسببِ مضمونٍ، كما إذا قُتِلَ العبْد الموقوفُ، ولا يخْلُوا قتله؛ إما إلاَّ يتعلَّق به القصَاصُ أو يتعلَّق: أمَّا القِسْمُ الأوَّل؛ فينظر في القاتلِ، أهو أجنبيٌّ أو الموقوفُ عليه أو الواقفُ؟ الحالةُ الأُولى: إذَا قتَلَه أجنبيٌّ، فعليه قيمتُهُ، لبقَاءِ الماليَّة فيه؛ كأُمِّ الولد، وفيما يُفْعَلُ بها طريقان: أحَدُهما: يخرَّج مصرفها عَلَى أقوال الملك، إنْ جعلْنا المِلْكَ لله -تعالَى- فيشتري بها عبداً آخَرَ، ليكون وقْفاً مكانَهُ، فإنْ لم يوجَدْ، فشقْصُ عبْدٍ بخلاف ما إذا ¬
أُتلفت الضحيَّة، ولم يوجدُ بقيمتها إلاَّ شقْصَ شاةٍ؛ لأنَّه لا يضحَى ببعض الشاة، ويوقَفُ بعضُ العَبْدِ، وإن جعْلنا المِلكَ للموقوفِ علَيْه، أو للواقف، فوجهان: أصحُّهُمَا: إنَّ الجواب كذلك؛ كيْلاَ يَبْطُلَ غَرضُ الواقف؛ وحقُّ البطن الثاني والثالث والثاني أنها تُصْرف ملْكاً إلَى مَنْ حكَمْنا له بِمِلْك الرَّقَبَة؛ فإنها بدَلُ ملْكِهِ، وينتهي الوقف. والطريقُ الثاني: القطْعُ بشراء عبد بها؛ ليكون وقْفاً مكان الأوَّل؛ لأنَّ حقَّ الوقْف أَوْثَقُ من حقِّ الرَّهْن، فإذا كان بدلُ المرهونِ مرهوناً، فبدل الوقْف أولَى أنْ يكونَ وقْفاً، وبهذا قال الشيخُ أبو حامد، وأصحابُ الطريقَيْن متفقُونَ عَلَى الفتوَى بصرفها إلَى عبد، وإذا اشتُرِي بها عبْد، وفضل شيءٌ، فيعود ملكًا للواقِفِ، أو يُصْرَف إلى الموقوفِ علَيْه؟ في فتاوَى القَفَّال حكايةُ وجهين فيه (¬1)، ورأيتُ -في "الجرجانيَّات" لأبي العَبَّاسِ الرُّويَانِيِّ تفريعاً على ما به الفتوَى- أبحاثاً: أحدُهَا: أنَّ العبد الذي يجْعَلُه بدلاً من يشتريه، وهو مبنيٌّ على الخلاف في المِلْك، إن جعلناه لله -تعالى- فيشتريه الحاكمُ، وإنْ جعلْناه للموقُوفِ علَيْهِ، فالموقوف عليه، وإن جعلْناه للواقِفِ، فوجهان؛ لأنَّهُ لا يملك المنافع والفوائد، هكذا ذكره، ولك أن يخرجَ الوجهين في أن الموقوفَ علَيْه، هل يشتري؛ لأنَّ كونه غَيْرَ مالِكٍ للمنفعة، إن منع من الشراء، فكَوْنُه غَيْرَ مالك للرقبة أولَى أن يُمنَع منه، ولا يجُوزُ للمتْلف أن يَشْتَرِيَ العَبْدَ وَيُقِيمَه مُقَام الأوَّل؛ لأنَّ الشيْءَ، إِذا ثبَتَ في ذمَّته، فليْسَ له استيفاؤه من نفْسِه لغيره. والثاني: العبْدُ المُشْتَرَى يصير وقْفاً بالشراء أم لا بدَّ من عقْدٍ جديدٍ؟ حكَى فيه اختلافاً للأصحاب جَارِياً في بدل المرْهُون، إذا أتلف، والَّذي ذكره صَاحِبُ "التتمة" فيهما الثاني، وقال بالحاكمُ هو الذي ينشئ الوقْف، ويشبه أنْ يقال: مَنْ يباشر الشراء يحدِّد الوقْفَ (¬2). والثَّالثُ: لا يجوز شراء جارية بقيمةِ العَبْد، وبالعكْسِ، ففي جواز شراء العبْدِ الصَّغير بقيمة الكَبير، وبالعَكْس وجهان (¬3). والحالةُ الثَّانيةُ والثالثةُ: إذا قتَلَه الموقُوفُ علَيه، أو الواقِفُ، فإذا صرفنا القيمةَ إلَى أحدِهما في الحالة الأُولَى ملكًا، فلا قيمة عليه، إذا كان هو القاتل، وإلاَّ، فالحكْمُ والتَّفريعُ كما في الحالة الأُولى. ¬
وأمَّا القسْمُ الثَّاني: وهو ما يتعلَّق به القَصَاص، فإنْ قلْنا: المِلْكُ فيه للواقِفِ، أو الموقُوف علَيْه، فيجبُ القصاص، ويستوفيه المالكُ منهما. وإن قلْنا: المِلْكُ لله -تعالى- فهو كعبيد بيت المال، والظَّاهر وجُوب القِصَاص، قاله في "التتمة" ويستَوْفِيه الحاكمُ. وحُكمُ أُرُوشِ الأَطْراف والجنَايَاتِ على العبْدِ الموقُوفِ فيما دُونَ النَّفْسِ حُكْمُ قيمته في جميع ما ذكرنا. وعن صاحبِ "التَّقْرِيب" حكايةُ وجْهٍ أيضاً: أنه يُصْرَف إلى الموقُوف علَيْه على كلِّ قَوْل، وينزل منزلة المهَر والأكْسَاب، وكما تتعلَّق الجناية على العَبْد الموقُوف بالخلاف في المِلك، فكذلك تتعلَّق به جنايةُ العبْد الموقوف، وحكْمُها عَلَى الاختصار أنها إن أَوْجَبَتِ القَصَاصَ، فللمُسْتَحِقِّ الاستيفاءُ، فإنْ استوفَى فات الوقف، كما لو مات، وإنْ عفا عَلَى مال أو كانت موجبة المال، فلا يتعلَّق برقبته لتعذُّر بيع الوقْف، ولكنه يُفديه كأمِّ الولَدِ، إذا جُنَّت، ومن الذي يَفْدِي، إن جعلْنا الملْكَ فيه للواقِفِ، فهو الذي يفْدِيه، وإنْ جعلْناه لله -تعالَى- فثلاثةُ أَوْجُه: أظهرها: وبه قال أبو إسحاقَ: أنه يَفْدِيه الواقِف أيْضاً؛ لأنَّه بالوقف (¬1) منع من بَيْع، فكان كالمستولد لما منع بالاستيلاد من بَيْعها فداها. والثاني: أنَّ فِدَاهُ في بيْت المَالِ. والثالث: أنَّهُ يتعلَّق بكسبه؛ لأنَّهُ إذا تعذَّر التعليق بالرَّقَبة، فأقرب الأشياءِ إلَيْه كسْبُه، فيتعلَّق به كحقوقِ النِّكَاح. وإن قلْنا: إنَّ المِلْكَ للمَوْقُوف عليه، فجواب الأكثرين [أنَّ الفِدَاءَ عليه، وحكى الإمامُ وجهين آخرين معه. أحدهما: أنَّهُ عَلَى الوَاقِف. والثاني: أنا إنْ قلنَا: إنَّ الوَقْفَ لا] (¬2) يَفْتَقِر إلى القَبُول، فهو على الوَاقِف، وإنْ قلْنا: إنَّه يفتقرُ، فهو عَلَى المَوقُوف علَيْه؛ لأنَّهُ [بِقَبُوله] تسبب إلَى تحقيق الوقْفِ المانِعِ منَ البَيْع، وقد انضمَّ إليه كونُهُ مَالِكَاً. فرْعَانِ على إسجاب الفداء على الوَاقِف: أحدُهُما: لو كان الوَاقِفُ، قدْ مات، فَفِي "الجرجانيات" أنَّه، إن ترك مالاً، فعلى الوارِثِ الفِداءُ فيه؛ لأنَّ العبْدَ ممنوعٌ بسببٍ صَدَرَ منْه في الحياة، فلزِمَه ضمان جنايته في ¬
مالِهِ. وقال في "التتمة": لا يفدى من التركة؛ لأنَّها انتقلت إلى الوارث، والمِلْك في الوقف مَا انتقل إليه، وعلَى هذا، ففي وجْهٍ يتعلَّق بكسبه، وفي وجْهٍ يفدى منْ بيْت المال كالحر المُعْسِر الذي لا عاقِلَة له. الثاني: لو ماتَ العَبْدُ عَقِيبَ الجناية بلا فصل، ففي سُقُوط الفداء وجهان: أحدُهُمَا: يسقْطُ كما لو جَنَى القِنُّ، ومات. وأظْهَرُهُمَا: وبه قال ابْنُ الحدَّاد: أنه لا يسقط؛ لأنَّ تضمينَ الواقِف كان بسببِ كونِه مانعاً من البَيْع بالوقْف، ويخالفُ العَبْد القِنّ، فإنَّ الأَرْشَ متعلِّقٌ برقبته، وإذا مات، فلا أَرْشَ، ولا فداءَ، ويجْرِي الخلافُ فيما إذا جَنَتْ أمُّ الولد، وماتت وتكرُّرُ الجناية من العبد الموقُوف كتكرُّرها من أُمِّ الولد (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإِنْ كَانَ شَجَرَةَ فَجَفَّتْ فَقِيلَ: يَنْقَلِبُ الحَطَبُ مِلْكَاً للِوَاقِفِ، وَقِيلَ: هُوَ مِلْكٌ لِلمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِهِ شِقْصُ شَجَرَةٍ وَيُجْعَلُ وَقْفاً، وَقِيلَ: يُنْتَفَعُ بِهِ جِذْعاً وَلاَ يُبَاعُ وَلاَ يُمْلَكُ؛ لأنَّهُ عَيْنُ الوَقْفِ، وَالحَصِيرُ في المَسْجِدِ إِذَا يَلِيَ وَنَحَاتَةَ خَشَبه قِيلَ: إِنَّهُ يُبَاعُ وَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ المَسْجِدِ، وَقِيلَ: إنَّهُ يُحْفَظُ فَإنَّهُ عَيْنُ وَقَفِهِ فَلاَ يُبَاعُ، وَكَذَا القَوْلُ في الجِذْع المُنْكَسِرِ وَالدَّارِ المُنْهَدِمَةِ، أمَّا المَسْجِدُ نَفْسُهُ إِنِ انْهَدَمَ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ مِنَ البَلَدِ فَلاَ يَعُودُ مِلْكاً لأَنَّهُ يُتَوَقَّعُ أَنْ يَعُودُ إِلَيْهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الوجْهُ الثَّانِي: أن يَحْصُلَ التَّعْطُّلُ بِسَبِب غَيْرِ مضمون فإن لم يَبْقَ منه شيْءٌ، ينتفع به، كما إذا مات العَبْدُ الموقوفُ فقدْ فاتَ الوَقْفُ، فإنْ بَقِيَ كما إذا وقَف شجرَةً، فجفَّتْ، أو قلعتها الرِّيحُ، [ففيه] وجهان: أحدُهُما: أنَّ الوقْفَ ينقطع كما إذا ماتَ العَبْدُ؛ لأنَّ الوقْفَ منوطٌ باسْم الشجرة، والباقِي جُذْعٌ، أو حَطَبَ لاَ شجرةٌ، فعلَى هذا ينقلبُ الحَطَبُ ملكاً للواقِفِ. وأصحُّهُمَا: المَنْعُ، وَعَلى هذا فوجهان (¬2): أحدهُمَا: أنَّهُ يُبَاعُ ما بَقَي؛ لتعذُّرِ الانتفاعِ بشَرْط الواقف، وعلَى هذا، فالثمن كقيمة المتلَف فعلَى رأيٍ؛ يصرف إلى الموقوف علَيْه ملكاً. ¬
وعلَى رأْي؛ يشتري به شجرةً، أو شِقْصَ شجرة من جنْسِها؛ لتكون وقْفاً مكان الأول، ويجوز أن يشتري به وديٌّ يغرس في موْضِعِها. وأصحُّهما: منْعُ البيع؛ لأنَّه عينَ الوقف، والوقْفُ لا يُبَاع، ولا يُورَثُ؛ على ما ورد في الخبر، فعَلَى هذا وجهان: أحدهما: ينتفع بإجارته جِذْعاً؛ إِدامةً للوقف في عينه. والثَّاني: يصيرُ ملْكاً للمَوْقُوف علَيْه، كما ذكَرْنا في قيمة العَبْد المُتْلَف، واختار صاحب "التتمة" وغَيْره الوجه الأول، إن أمكن استيفاء. منفعةٍ منه مع بقائه. والوجهُ الثَّاني: إنْ كانت منفعتُه في استهلاكه. وزمانه العبد الموقوف كجفاف الشَّجرة (¬1). وحُصُر المَسجِد؛ إذا بَلِيَت ونحاتة أخشابه إذا نخرت وأستار الكعبة، إذا لم يبْق فيها منفعةٌ ولا جمال، ففي جواز بَيْعها وجهان: أصحُّهما: أنَّها تُبَاعَ، لئلا تضيع أوْ يَضيقُ المكانُ بها من غير فائدة. والثاني: لا تُبَاع؛ لأنَّها عين الوقْف، بل تترك بحالها أبَداً وعلَى الأوَّل قالوا: يُصْرَفُ ثَمَنُها في مَصَالِح المسجد، والقياسُ أن يشتري بثَمَن الحصير حُصُراً، ولا يُصْرَفُ إلَى مصلَحةٍ أُخْرىَ، وُيشْبِه أن يكونَ هو المرادَ مما أطلَقُوه، وجذعُه المنْكَسِرُ، إذا لم يَصْلُحْ لشَيْءٍ سوى الإحْراق، جاء فيه هذا الخلافُ، وإن أمكن أن يتخذ منه أبوابٌ وألواحٌ. قال في التتمة: يجتهد الحاكمُ ويستعملُه فيما هو أقرَبُ إلى مقصود الواقفِ، ويجري الخلافُ في الدَّار المنْهدمَة، وفيما إذا أشرف الجِذع عَلَى الانكسار، والدَّارُ عَلَى الانهدام (¬2) قال الإمام: وإذا جوَّزنا البيعَ، فالأصحُّ صَرْفُ الثَّمَنِ إلى جهة الوقْف. ¬
وقيل: هو كقيمة الموقوف، إذا أتلف، فَعَلَى هذا يُصْرَفُ الثمن إلى الموقوف علَيْه مِلْكاً على رأْيٍ. وإذا قيل به، فلو قال الموقُوفُ علَيه: لا تبيعوها، واقْلِبُوها إلَى ملكي، فالمذهب أنَّهُ لا يُجَابُ، ولا تنقلب عين الوقْف ملكاً، بل ارتفاع الوقْف موقوفٌ على البيع، وأبْعَدَ بعضُ الأصحابِ، وأجازه، وزَعَمَ، أنه ينقلِبُ ملْكاً من غير وقف عقْد. وقول ثالث ولو انهدمَ المسجِدُ نَفْسُه، أو ضربت المحلَّةُ، وتفرَّق عنها الناسُ، وتعطَّل المسجد، فلا يعودُ ملْكاً بحال، ولا يجوزُ بَيْعُهُ (¬1) كالعبْد، إذا أعتقه، ثم زَمِنَ، ولا يشبه جفاف الشجرة؛ لأنَّهُ يتوقع عوْدُ الناس والعمارة قائمة، وهذا كما لو وقَف عَلَى ثغر، فاتَّسعَت رقعة الإِسلام بحفْظِ رِيعِ الوَقْف؛ احتمال عَوْده ثغراً. وأيضاً، فالانتفاع، في الحال بالصلاة في العَرْصَة ممكنٌ، ثم المسْجد المعطَّل في الموضع الخراب إن لم يُخف من أَولى الفساد نقضه لم ينقض وإن خيف، نقض وحفظ. وإن رأى الحاكم أن يعمر بنَقْضه مَسْجداً آخر، جاز، وما كان أقربَ إليه، فهو أَوْلَى، ولا يجوز صَرْفُه إلَى، ولا يجوز صَرْفه إلَى عمارة بئر، أو حَوْض، وكذا البئْرُ الموقوفة، إذا خربت، يُصْرَف نقضها، إلى بئْراً أُخرَى أو حوْضٍ لا إلى المسجد، ويراعَى غَرض الواقِفِ ما أمكن. وجميع ما ذكرناه في حُصُر المسجد، ونظائرها فيما إذا ¬
كانتْ موقوفةً على المسجد. أمَّا ما أشتراهُ المتولِّي للمسجد، أو وهَبَه منْه واهب وقبله المتولِّي، فيجوزُ بيعه بلا خلافٍ عنْد الحاجة؛ لأنَّهُ ملك حتَّى إذا كان المشتَرِي للمسْجِدِ شِقْصاً، كان للشَّريكِ الأخْذُ بالشُّفْعة، ولو باع الشريك، فللمتولِّي الأخذُ بالشُّفعة عنْد الغبطة، هكذا ذكروه (¬1) والله أعْلَم، وبالله التوفيق. وهذه مسائلُ وفروعٌ تدخل في الباب الأَوَّلِ: إذا وقف ضَيْعةً على المُؤَنِ التي تقعُ في قرية كذا من جهة السُّلْطان، ففي "فتاوى القَفَّال" أنَّه جائزٌ، وصيغته أن يقول: تصدَّقت بهذه الضَّيْعَة صدقةً محرمةً عَلَى أن تُستَغَلَّ فما فصل من عمادتها صُرِف إلَى هذه المُؤَن، ويَجُوزُ الوقْف عَلَى أقارِبِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إذا جَوَّزنا للوقف على قَوْم غير محصورين. وعن الشيخ أبي محمَّد: أنَّه وقع في "الفتاوى" زمن الأستاذ أبي إسحاق أَنَّ رجلاً قال: وقفتُ دارِي هذه على المساكِينِ بعْد مَوْتي، فأفتى الأستاذُ بصحَّة الوقْف بعد المَوْت، وساعَدَه أئمةُ الزَّمَانِ، وهذا كأنه وصيَّة، ويدُلُّ عليه أنَّ في "فتاوى القفَّال": أنَّه لو عَرض الدَّار على البَيْع، صار رَاجِعاً عنه. وأيضاً أنَّه لو قال: جعلْتُ داري هذه خانِقاها للغُزَاة، لم تَصِرْ وقفاً بذلك. وأنَّه لو قال: تصدَّقْتُ بداري هذه صدقةً محرمةً يُصرَفُ من غلَّتها كلَّ شهر إلى فلان كذا، ولم يزد عليه، ففي صحَّة هذا الوقْف وجهان، إن صحَّ، ففي الفاضل عن المقْدَارِ أوجه: أحدُها: الصَّرْفُ إلَى أقرب النَّاس إلى الواقِف. والثاني: الصَّرْفُ إلى الفُقَراء. والثالث: أنَّه يكونُ مِلُكاً للواقِف. وأنَّه لو قال: جعلْتُ هذه الدار للمَسْجد، أو دفَع داراً إلى قيِّم المسْجِد، وقال: خُذْها للمَسُجِد، أو قال: إذا مِتُّ، فأَعْطُوا مِنْ مالي ألْفَ درْهمٍ للمسْجِد، أو فدَارِي للمسْجِد لا يكونُ شيئاً؛ لأنَّهُ لم يوجد صيغةُ وقْفٍ، ولا تمليك، ولك أنْ تقولَ: إن لم يكنْ هذا صريحاً في التمليك، فلا شَكَّ في كونه كنايةً، وأنَّه لو قال: وقفتُ داري عَلَى زيد، وعلى الفقراء، فيبنَى على ما إذا وصَّى لزيد والفقراء، فإن جعلْناه كأحَدِهم، صحَّ الوقفُ، ولا يُحرم زيْد. وإن قلنا: النَّصُفُ له، صحَّ الوقْف في نصْف الفقراء، ووقف النصف الآخر ¬
منقطعٌ الآخر، فإنْ لم يصحَّ، وَقَعَ في تفْريق الصَّفْقة. وأنَّهُ لو قال: وقَفْتُ هذه البَقَرة عَلَى رباط كذا ليُسْقِي منْ لبنها مَنْ ينزل فيه، أو يُنْفَقَ من نسلها علَيْه، جاز، وإنِ اقتصر عَلَى قوله: وَقَفْتُها علَيْه، لم يجز، وإن كنا نعْلَمُ أنَّهُ يريدُه؛ لأنَّ العبرةَ باللَّفْظ؛ وأنَّه لو قال: وَقَفْتُ على مسجد كذا، لم يصحَّ ما لم يبيَّن جهته، فيقول: وقَفْتُ عَلَى عمارته، أو يقول: وَقَفْتُ عليه، ليُسْتَغَلَّ ويُصْرَف إلَى عمارته، أو إلى دُهْن السراج ونحوهما. وقضية إطلاقِ الجُمْهور جوازُه. ومنها أنَّه لو وقفَ عَلَى مسْجد، أو رباطٍ معيَّن، ولم يذْكُر المَصْرَف إن خرب، فهُوَ منقطعُ الآخِرِ. وَفصَّلَ في "التتمة" وقال: إنْ كان في موْضِع يستبعد في العادة خرابة؛ بأن كان في وسَط البلدة، فهو صحيحٌ، وإنْ كانَ في قَرْيةٍ أو جارةٍ، فهو منقطعُ الآخِر، والله أعلم. وهذه مسائلُ وصُوَرٌ تدْخُلُ في الباب الثاني: ولو وقَفَ علَى الطالبين وجوَّزناه، كفى الصَّرْف إلَى ثلاثة، ويجُوز أنْ يكُونَ أحَدُهُمْ من أولادِ عَليٍّ -رضي الله عنه-[والثاني أولاد عَقِيل، والثالث من أولاد جعْفَرٍ -رضي الله عنهم-، (¬1) ولو وقَفَ عَلَى أولادِ عَلِيٍّ، وأولادِ عَقِيل، وأولاد جعفرٍ -رضي الله عنهم-، فلا بد من الصَّرْفِ إلَى ثلاثةٍ من كلِّ صِنْفٍ. وإذا وقَف شجَرةً، ففي دُخُولِ المغْرسَ وجهان، وكذا حكْمُ الأساس مع البناء (¬2). وإذا وقف عَلَى عمارة المسجد لم يجز صرف الغلَّةُ إلَى النقْش والتزويق. وذَكَرَ في "العِدَّةِ" أنَّهُ يجُوزُ توفيرُ أجْرة القيِّم منه، ولا يجوزُ صرْفُ شيْءٍ إلى الإمامِ والمُؤَذِّن، والفرْقُ أن القيِّم يحفظ العمارة، وأنَّهُ يشتري به البوارِي، ولا يشترِي الدَّهْن في أصحِّ الوجهَيْن، وكان الفَرْق أن القيم حافظ للعمارة، ولباس المَسْجد منْفعة الدَّهْن تختصُّ بالمصلين، والذي ذكَرَه صَاحِبُ "التهذيبِ" وأكْثَرُ من تعرَّضَ للمَسْألة [أنَّه] لا يُشترى منه الدُّهْن، ولا الحصير، والتجصيصُ الذي فيه إحكامٌ معدودٌ من العمارات، ولو وقَفَ على مصلحة المَسْجد، لم يُجِزِ النقشُ والتزويق، ويجوزُ شراء ¬
الحصر والدُّهْن، والقياس جوازُ الصَّرف إلى الإمام، والمُؤذِّن أيضاً. والموقُوفُ على الحشيش لا يُصْرَف إلى الحصير وبالعَكْس، والموقوفُ عَلَى أحدهما لا يُصْرَفُ إلى اللُّبُودُ (¬1). وبالعَكْسِ. ولو وَقَفَ على المَسْجد مطلقاً وجوَّزناه، ففي "التهذيب" التسويةُ بيْنه، وبيْن أن يقِفَ عَلَى عمارةِ المَسْجد، وفي "الجرجانيات" حكاية موجهين في جواز الصَّرْف إلى النقش والتزويق في هذه الصورة، ولو وقَفَ على النَّقْشِ والتَّزْوِيق، ففيه وجهان قَرِيبَان من الخِلاَفِ في جواز تحلية المُصْحَف (¬2). وإذا قَالَ المُتَوَلِّي: أنفقت كذا، فالظَّاهِرْ قَبُولُ قوله عنْد الاحتمال. ولا يجوز قسْمة العَقَار الموقوف لأربابِ الوقْف؛ لما فيه من تغيير شرْطِ الواقِف، ولِمَا فيه منْ إبطال حقِّ مَنْ بعدهم. وعن أبي الحُسَيْن أَنَّا إذا جَعَلْنَا القسْمَة إقراراً، جاز، فإذا انقرضَ البطْنُ الأوَّل، انتقضت، ويجوزُ لأرباب الوقْف المهايأة هكذا قاله القاضي ابْنُ كَجٍّ. ولا يجوزُ تغْيير الوقْفِ عن هيئته، ولا تجعل الدارُ الموقوفةُ بستاناً ولا حَمَّاماً وبالعكْس إلاَّ إذا جعل الواقِف إلى المتولِّي ما يرى فيه مصلحة الوَقْف. وفي "فتاوى القفال" أنَّه يجوز أن يُجْعَلَ حانوتُ القصَّارِين للخَبَّازِين، وكأنَّه احتمل تغْيير النَّوْع دون تغيير الجِنْس (¬3). ولو هَدَم الدَّارَ والبُسْتانَ مُتَعَدٍّ، أخذ منه الضَّمَان، وبنى به أو غَرَس؛ ليكون وَقْفاً ¬
مكَانَ الأوَّل، ولو انهدم البِنَاء، وانقلعت الأشجارُ تستغل الأرْض بالإجارة ممَّن يزرعها، أو يضرب فيها خيامه، ويبني ويغْرس من غلَّتها، ويجوز أن يقرض الإمام المتولِّي من بيت المال، أو يأذن له في الاستقراضِ، أو الإنفاقِ علَى العَمَارَةِ من مالِ نفْسِه بشرط الرجوع، وليس له الاستقراضُ دُون إذْن الإمَامِ. ولو تَلِفَ الموقوفُ في يد الموْقُوف علَيْه من غيْرِ تَعَدٍّ، فلا ضمانَ عَلَيْه (¬1). وإنِ انْكَسَرَ الطِّنْجيرُ (¬2) أو المرجل الموقوفان، ووجد متبرع بالإصْلاحَ، فذاك، وإلاَّ، اتخذ منها أصغر، واتفق الفضل عَلَى إصْلاَحه، فإنْ لم يُمْكِنِ اتخاذُ مِرْجَل وطنجير اتخذ منْه ما يمكن من قَصْعَة ومِغْرَفَة وغيرهما، ولا حاجَةَ ههنا إلَى تجديد وقْف؛ فإنه عين الموقوف، وإذا خرب العقَار المَوْقُوف عَلَى المَسْجد، وهناك فاضل من غلته، برئ بعمارة الموقوف على العقار، هكذا ذكره ابْنُ كَجٍّ، وقال: إذا حَصَل مالٌ كثير من غلَّة وقف المسجد، أُعدَّ منه بقدر ما لو خرب المسْجد أُعِيدَتْ به العمارة، والزائدُ يشتري به ما فيه للمَسْجِد زيادة غلة. وفي فتاوى القفَّال أنَّ الموقوفَ لعمارةِ المَسْجد لا يُشْتَرَى به شيْءٌ أصلاً؛ لأنَّ الواقف وقَف على العمارة. والوقْفُ على الفقراء، هَلْ يختص الفقراءُ بلدَةُ الواقف؟ فيه الخلافُ المذكورُ فيما إذا أوصَى للفقراء، وهلْ يجوزُ الدفْع منْه إلَى فقيرةٍ لها زوجٌ يَمُونَهَا؟ فيه خلافٌ نشرَحُه عند ذكر الخلافِ في دَفْع الزكاة إلَيْها في قسْم الصدقات إنْ شاء الله تعالى (¬3). وسُئِلَ الشَّيخُ أبو عبدِ اللهِ الحنَّاطِيُّ عن شجرة تنبت في المقْبرةَ، هَلْ للناس الأكلُ من ثمارها؟ فقال: قد قيلَ يجوزُ، والأوْلَى عندي صَرْفُهَا في مصالح المقبرة (¬4). وعَنْ رَجُلٍ غَرَسَ شجرةً في المَسْجِد، كيْف نصنَعُ بثمارها؟ قال: إنْ جَعَلَها للمسْجِد، لم يجزأ كُلُها من غيرِ عَوَضٍ، ويجبُ صرْفُ عوَضِها إلى مصالِح المَسْجد، ولا ينبغِي أنْ يغرسَ في المَسَاجد الأشْجار؛ لأنَّها تمنع من الصلاة (¬5). ¬
فروع
فروع: عن الشيخ أبي عاصم العبَّاديِّ: إذا وقَف عَلَى قنطرةٍ، فانخرق الوادِي، وتعطَّلت تلْكَ القنطرةُ، واحْتِيجَ إلى قَنْطرةٍ أُخرَى، جاز النقل إلى ذلك الموضِع، بخلافِ المَسْجد الذي باد أهْلُهُ حيْثُ تبقى عمارتُهُ، ويعمر بعدما خَرِبَ، إن أمكن أن يصلي فيه المارَّة. وإذا وقَف عَلَى عمارةِ المَسْجد، جاز أن يشتري منْه سُلَّم لصعود السَّطْح، ومكانِسُ يُكْنِس بها التراب ومساهي ينقل بها التراب؛ لأنَّ كلَّ ذلك يَحْفَظُ العمارة، ولو كان يصيبُ بابَهُ المطرُ، وُيفْسِدُه، جاز بناءُ مظلَّة منْه، وينبغي ألاَّ تضرَّ بالمارة، وإذا وقَف عَلَى دُهْن السراج للمسْجد. جاز وضْعُه في جميع اللَّيْل؛ لأنَّه أنشط للمصلِّين (¬1). وذكر الأئمة أنَّ البقْعَةَ التي جعَلَها مسْجداً، إذا كان فيها شجرةٌ، جاز للإمام قلْعها باجتهاده؛ ليتسع للمصلِّين، وبماذا ينقطع حقُّ الواقف عن الشجرة؟ قال صاحبُ الكتاب في "الفتاوى": مجرَّدُ ذكر الأرْض لا يخرج الشَّجَرة عنْ ملكه لبَيْع الأرض، وحينئذ لا يكلَّف تفريغ الأرض، ولك أن تقول: في استتباعِ الأرْض الشجر في البَيْع قولان. وإذا قال: جَعَلْتُ هذه الأرضَ مسْجداً فلا تدخل الشجرة بحالٍ؛ لأنَّها لا يُجْعَلُ مسْجداً، ولوْ جعَل الأرضَ مَسْجداً، ووقف الشَّجَرةَ عليها. فَعلَى هذه الصورةِ وَنَحْوِها يُنَزَّلُ كلامُ الأصحاب. وأفتَى صاحبُ الكتاب بأنَّه يجوز وقْفُ السُّتُور ليستر بها جدران المَسْجد، وينبغي أنْ يجيْء فيه الخلافُ المذكَورُ في النَّقْش والتَّزْويق. وأفتَى بأنَّه إذا وقف على المَسْجدُ مُطْلقاً، جاز صرْفُ الغلَّة إلى الإمام والمؤذِّنِ، وبناء منارة المسجد، وُيشْبِه أن يجُوزَ بناءُ المنارة منَ المَوْقُوف عَلَى عمارةِ المَسْجد أيضاً، والله أعلم. ¬
كتاب الهبة
كِتَابُ الهِبَةِ، وَفِيهِ فَصْلاَنِ قَالَ الغَزَالِيُّ: الأَوَّلُ في أَرْكَانِهَا وَهِيَ ثَلاثةُ: الأَوَّلُ: الصِّيْغَةُ وَلاَ بُدَّ مِنَ الإِيجَابِ وَالقَبُولِ إِلاَّ في هَدَايَا الأَطْعِمَةِ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يُكْتَفَى بِالمُعَاطَاةِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ مُعْتَاداً في عَصْرِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَلاَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ وَتَأقْيتُهُ وَتَأْخِيرُ القَبُولِ فِيهِ عَنِ الإِيجَابِ كَالبَيْعِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا عرفْتَ في أوَّل الوقْف أقسامَ العطايا، وأنَّ مِنْ أقسامِهَا التمليكاتِ المنجزةَ في الحياةِ، فاعْرِف الآن أنَّ هذا القسْمَ عَلَى ثلاثةِ أنواعٍ، وهي: الهبةُ والهديةُ، والصَّدَقَةُ. وسبيلُ ضَبْطِها أنَّه التمليكَ لا بِعَوَضٍ هبة (¬1) فإن انضم إليه حمل الموهوب منْ مكانٍ إلَى مكانِ المَوْهُوب منه؛ إعْظاماً له أو إكْرَامَاً، فهو هديَّةٌ، وإنِ انْضَمَّ إِلَيْه كونُ التمليكِ منَ المحتاج تقرُّباً إلَى اللهِ -تعالى- وطلباً لثواب الآخرة، فهو صدقةٌ، فامتياز الهدية عن الهبة بالنَّقْلَ والحَمْل من موضعٍ إلى موضعٍ. ومنْه إهْداءُ القَرابينِ إلى الحَرَمِ، وكذلك لا يَدْخُلُ لفظ الهديةِ في العَقَار بحال (¬2)، فلا يقال: أهْدَى إليه أرْضاً ولا دَاراً، وإنَّما يُطْلَق ذلك في النقولات كالثياب، والعَبِيد، ¬
فيُخرَّج من هذا أنَّ افتراق هذه الأنْواع بالعُمُوم، والخُصُوص، فكلُّ هديَّةٍ وصدقةٍ هبةٌ ولا تنعكس، ولهذا لو حَلَف ألاَّ يهب فتصدَّق حنث، وبالعَكْس لا يحنثُ. واختلَفُوا في أنَّهُ، هل يعتبر في حدِّ الهدية أن يكونَ بيْن المُهْدِي والمُهْدَى إلَيْه رسولٌ ومتوسِّط؟ فحكَى أبو عبد الله الزُّبَيْري -رضي الله عنه- وجهَيْنِ فيما إذا حَلَف ألاَّ يهدي إلَيْه، فوهَبَ منه خاتماً أو نحوه يداً بيَدٍ هل يحنثُ؟ والأشبه أنَّه لا يُعْتَبر، وينتظم أن يقول لمن حَضَرَ عنده: هذه هديَّتِي أهْدَيْتُها لك، وقدْ ورَدَ ذلك في الأخْبَار، وفي الكتاب والسُّنَّةَ ذكر الأنواع الثلاثة، والنَّدْب إليها (¬1). قال اللهُ تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] قِيْلَ: المرادُ منه الهِبَةُ. قال اللهُ تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة: 177] الآية. وقال عَزَّ مَنْ قائل: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} [الحديد: 18] وعن عائشةَ -رضي الله عنها- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "تَهَادَوْا فَإِنَّ الهَدِيَّةَ تُذْهِبُ الضَّغَائِن" (¬2). وَرُويَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "تَهَادَوْا تَحَابُّوا" (¬3). ¬
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ دُعِيَتُ إلَى كُرَاعٍ لأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ" (¬1). ولا ينبَغِي أن يستَحْقر القليل، فيَمتنعَ من أنْ يُهْدِيَ، ولا أن يَسَتنْكِفَ المُهْدَى إليْه عن قَبُول القليل. وقد رُوِيَ أنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تُحَقِّرَنَّ جَارَةٌ لِجَارِتهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ (¬2) " (¬3). إذا تقرَّر ذلك، فاعْلَمْ أنَّ الأَنْواعَ الثَّلاثةَ تفترق في أحكام وتشتركُ في أحكامٍ، وهي الأكثرُ، ونحْنُ نثبتها، إن شاء الله تعالى، جارَين عَلَى نَظْم الكتاب، وهو يشتمل عَلَى فصْلٍ في أركان الهبة، وفصْل في أحكامها. أمَّا الأركان، فالمذكور منها ثلاثةٌ: أحدُهَا: الصيغةُ. وأما الهبة فلا بدَّ فيها من الإيجاب والقَبُول باللَّفْظ، كالبيعِ وسَائِر التَّمْليكات (¬4). وأمَّا الهديَّة، فذهب ذاهِبُون إلَى أنَّهُ لا حاجَةَ فيها إلى الإيجاب والقَبُول اللَّفْظِيَّيْنِ، بلِ البَعْثُ من جهة المهدي كالإيجاب والقبض من جهة المهدي إليه كالقَبُول. واحْتَجُّوا بأن الهَدايَا كانتْ تُحْمَلُ إلَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَيَقْبَلُهَا (¬5)، ولا لفْظَ هناكِ، ¬
وعلَى ذلك جرى النَّاسُ في الأعْصَار، ولذلك كانُوا يبعثون بها عَلَى أيْدي الصِّبْيَانِ الذين لا عِبَارَةَ لهم. ومنْهم مَنِ أعتبرهما كما في الهبة والوصيَّة، واعتذَرُوا عما جرَى بأنَّ ذَلِكَ كان إباحةً لا تمليكاً؛ وأجابَ صَاحِبُّ "الشامِل" بأنَّه لو كَانَ كَذِلكَ، لما تصَرَّفوا فيه تصرُّف الملاك، ومعْلُومٌ أنَّ ما قَبِلَهُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كان يتصرَّف فيه، ويُمَلِّكُهُ غيره. والوَجْهُ الثَّاني، وهو ظاهرُ كلامِ الشيخ أبِي حامد، والمتَلقِّين عنه، لكنَّ الَّذِي عليه قرارُ المذْهَب بحسب فعل الأوَّلين، ونَقْلُ الإثبات من متأخِّري الأصحاب إنَّما هو الوجه الأول، وهو الذي أورده صَاحِبُ "التهذيبِ" و"التتمة"، واعتمده القاضي الرُّويانيُّ وغَيْرهُم. ويمكن أن يُحْمَل كَلاَمُ من اعتبر الإيجابَ والقَبُولَ على الأمر المُشْعِر بالرِّضَا دُونَ اللَّفْظْ، ويقال: الأمْرُ المشْعِر بالرِّضا قد يكونُ لَفْظاً، وقد يكون فعلاً، والصَّدقة كالهديَّة بلا فَرْق. وقوله: "إلاَّ في هداية الأطعمة" -إنَّما خصَّ الأطعمةَ بالذِّكْر؛ اتباعاً للإمام، فإنَّه لما حكَى عن بعْض الأصْحَاب الاكتفاءَ بالفِعْل في الهَدَايا؛ أخذاً بما جَرَى عليه الأولُون اعترض عليهم بأنَّ عادَتُهُمْ إنَّما اطَّردت بذلك في الأطعمة دون غيرها من الأموال. لكنَّ الصحيحَ أنَّه لا فَرْقَ وأنَّهُمْ كانوا يتهادَوْنَ الأطعمة وغيرَها، واشتهر وقوع الكسوة والدَّوابِّ في هدايا المُلُوك إلَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنَّ مارية -رضي الله عنها- أُمَّ ولَده كانت منَ الهَدَايَا (¬1). وقوله: "فقد قيل: إنَّه يكتفي بالمُعَاطاة"، لفظ المعاطاة بالحقيقة إنَّما يستمرُّ في البيع، وحيثُ يُوْجَد مِن الطرفَيْن إعطاءٌ، وأمَّا هاهنا، فهو محمول على الإعْطاء من طَرَفٍ، والأخذ منْ طَرَفٍ، وحيثُ اعتبرنا الإيجابَ والقَبُول، لم يجزِ التعليقُ بشَرْطٍ ولا التأقيتُ كما في البيع. ¬
وفيهما وجّه نذكره في الفَصْل الواقعِ عَقِيبَ هذا الفصل. والمذهبُ الأوَّل، ولذلك لا يجوز تأخيرُ القَبُول عن الإيجاب، بل يعتبر التواصل المعتاد، كما في البيع، وعن ابن سريج أنه يجوِّز تأخير القبول عن الإيجاب كما في الوصية، وهذا الخلاف حكاه كثيرٌ من الأصحاب في الهِبة، وصَاحِبُ "التتمة" خصَّصه بالهدية، ومَنَ التأخيرَ في الهِبَة جَزْماً. والقياسُ التَّسويةُ بينهما، ثُمَّ في الهدايا التي يبعث بها من موْضِع إلَى موضع إذا اعتبرنا اللَّفْظ والقبول على الفَوْر، فإمَّا أنْ يُوكَل الرَّسُولُ ليوجب ويقبلَ المبَعُوثُ إلَيْه، وإمَّا أن يوجب المهدي، ويقبل المهدي إلَيْه عنْد الوُصُول إليه. وإذا كانت الهبةُ ممَّن ليس له أهليَّةُ القبول؛ كالطفل، فيُنْظَر؛ إنْ كان الواهبُ أجنبياً قَبِلَ له مَنْ يلي أمره مِنْ وَلِيٍّ وَوَصِيٍّ وقيِّمٍ، وإن كان الواهبُ مَنْ يلي أمره، فإنْ كان غيرَ الأبِ والجدِّ قَبِلَ له الحاكِمُ، أو مَنْ ينيبه. وإن كان أباً أو جَدّاً، تولَّى الطرفين، وهل يحتاج إلَى لفظَي الإيجاب والقَبُول، أمْ يكتفي بأحدهما؟ فيه وجهان كما سبق في البَيْع. قال الإمَامُ وموْضِعُ الوجهين في سبق القبول أما إذا أتَى بلفظ مستقل؛ بأنْ يقُولَ: اشترَيتُ لِطِفْلِي أو اتَّهَبْتُ كذا، أمَّا قَوْلُهُ: قَبِلْتُ البَيْع أو الهبة، فلا يمكن الاقتصار عليه بحال. ولا اعتبار بقبول المتعهّد الذي لا ولايةَ له على الطِّفل؛ خلافاً لأبي حنيفة -رضي الله عنه-. وإذا وهَب منْ عبْدِ إنسان، فالمعتبرُ قَبُولُ العبد، وفي افتقارِه إلَى إذْن السَّيِّد خلافٌ تقدَّم (¬1). ولو وهَبَ منه شيئاً، فقبل في نصْفه أو عبْدين، فَقَبِل في أحدهما، ففيه وجهان. والفَرْقُ بينه وبَيْن البيع أنَّ البَيْعَ عقد معاوضته (¬2)، وقد يتَضَرَّر البائعُ بالتبْعِيض لانتقاص قيمة الباقِي، والهبة بخلافه. ¬
فروع: في زيادات للشيخ أبي عاصم
فُرُوعٌ: في زيادات للشيخ أبي عاصِمٍ: أحدهما: رجُلٌ في يده عبْدٌ، فقال لآخر (اين براست) (¬1) فهو هِبَةٌ يحتاج إلى القَبُول والقبض. ولو قال (توراست) (¬2)، فهو إقرارٌ ويُشْبِه أنْ يكونَ جوابُهُ في الحالةِ الأُولَى مبنياً عَلَى أنَّ هذه العقود تنعقد بالكِنَايات. الثانِي: غرس أشجاراً في أرْضٍ، وقال عنْد الغِراس: اغرسْه لابني، لم يصر للابن ولو قال: جعلتُهُ لابني، وهو صغيرٌ، صار له؛ لأنَّ هبتَهُ منْه لا تقتضي قَبُولاً، بخلافِ ما لو جَعَل لبالغٍ، وهذا إلَى ملتفت إلَى ما ذكرنا من الانعقاد بالكنايَاتِ، وإلَى أنَّ هبة الابن الصغير، هل يُكْتَفَى فيها بأحد الشِّقَّيْن؟ الثالث: لو خَتن ابْنَهُ، واتَّخذ دعوةً، فَحُمِلَتْ إلَيْه الهدايا، ولم يُسمِّ أصحابها الأب ولا الابن حَكَى فيه وجهين: أحَدُهُمَا: أنَّها للأب؛ لأنَّهُ الذي اتخذ الدعوة والخَرَاج بالضمان. والثاني: لِلابن؛ لأنَّ الدعوةَ له اتَّخذت (¬3). وفي فتاوى صاحب الكتاب أنَّ خادم الصوفيَّة الَّذي يتردّدُ في السُّوق، ويجمعُ لهُمْ شيئاً يملِكُه، ولا يلزمُه الصَّرْف إليهم، إلاَّ أنَّ المُرُوءَة تَقْتَضِي الوَفَاءَ بما تصدَّى له، ولو لم يف، فلهم مَنْعُهُ من أنْ يَظْهَر الجَمْعُ لهم والإِنفاقُ علَيْهم، وإنما ملكه لأنه ليس بولي، ولا وكيل عنهِمِ، كيْفَ، ولَيْسُوا بمعينين بخلاف هدايا الخِتَان (¬4). قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: أَعْمَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ فَإذَا مُتُّ فَهِيَ لِوَرَثَتِكَ صَحَّ (م) فَإِنَّهُ هِبَةٌ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ أَعْمَرْتُكَ لَمْ يَصِحَّ (ح م) عَلَى القَوْلِ القَدِيمِ؛ لأَنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ، ¬
وَعَلَى الجَدِيدِ يَصِحُّ وَيَتَأَيَّدُ، فَإِنْ قَالَ: فَإِنْ مُتُّ عَادَ إِلَيَّ فَهُوَ بِالبُطْلاَنِ أَوْلَى، وَكَذَا الرُّقْبَى فَهِيَ بِالبُطْلاَنِ أَوْلَى، وَهُوَ أنْ يَقُولُ: أَرْقَبْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ وَجَعَلْتُهَا لَكَ رُقْبَى أَوْ وَهَبْتُكَ عَلَى أَنَّكَ إنْ مِتَّ قَبْلِي عَادَ إِلَيَّ أَوْ مُتُّ قَبْلَكَ استَقَرَّ عَلَيْكَ. قَالَ الرَّافِعيُّ: كانت العربُ في الجاهلية تَستَعمل لفظين وهما: العمرى والرقبى أمَّا العمرى: فمأخوذةٌ من العُمْرِ، وصورتها أن يقولَ: أعْمَرتُك هذه الدار مثلاً، أو جعلتها لك عمرك، أو حياتك أو ما عشت أو حييت، أو ما بقيت، وما يفيد هذا المَعْنَى، ثم له أحوالٌ: أحداها: أنْ يقول مع ذلك: فإِذا مِتَّ، فهي لورثتك أو لعقبك (¬1)، فيصحُّ، وهي الهبةُ بعَيْنها، لكنَّه طوَّل على نفسه، فإذا ماتَ، فالدَّار لورثته. فإنْ لم يكونُوا، فلبيت المالِ، ولا يعودُ إلى المعمر بحال؛ لما رَوَى جَابرُ -رضي اللهُ عنه- أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أيما رجلٌ اعْمَرَ عُمْرَى لَه وَلِعَقِبِهِ، فَإنْهَا لِلَّذِي أعْطِيهَا لاَ تَرْجِعُ إلَى الَّذي أَعْطَاهَا؛ لأَنَّهُ أعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ المَوَارِيْثُ" (¬2) وقال مالكٌ: هذا التصرف منصرف إلى المَنَافِعُ؛ لأنَّ تمليكَ الرَّقَبَةِ لا يتأقَّت، فإذا مات المعمر، ولا وَرَثَةَ له، رجَعَتَ، إلى المعمِر، وكذا، إنْ كَانَ له ورثةٌ فَانقرضُوا، ولا يكُونُ لبَيْت المال. الثانيةُ: إذا اقتصر عَلَى قوله: جعلْتُها لك عُمْرَكَ، ولم يتعرَّض لما بعْده، ففيه قولان: الجديدُ، وبه قال أبو حنيفةَ -رضي الله عنه- وأَحْمَدُ أنَّهُ يصحُّ وحكمه حكم الهبة؛ لما رُوِيَ أنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قال: "العُمْرَى مِيْراثٌ لأَهْلِهَا" (¬3). وعن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تُعْمِرُوا وَلاَ تُرْقِبُوا فَمَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا أَوْ أرْقَبَهُ فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ المِيرَاثِ" (¬4). ¬
قال الأئمةُ: هذا نَهْيُ إِرْشَادٍ معناه: لا تعمروا طمعاً في أن يعود إليكم، واعلموا أن سبيله المِيرَاثُ، ولأنَّ مِلْكَ كلِّ أَحَدٍ يتقدر بحياته، وليس في جعله له مدَّةَ حياتِهِ مانِعاً في انتقاله إلَى ورثته من بعده، بلْ هو شرطٌ لِلانتقالِ. والقَديمُ: أنَّهُ ليْسَ كذلك؛ لما رُوِيَ عن جابِرٍ -رَضِيَ الله عنه- أنَّه قال إنَّما العُمْرَى الَّتي أجازَهَا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلِعِقتِكَ مِنْ بَعْدِكَ (¬1). واختلفوا في كَيْفِيَّة القَوْل القديم، فالظَّاهر، وهو المذْكُور في الكتاب أنَّ العَقْدَ باطلٌ مِنْ أصله؛ لأنَّهُ تمليك عَيْنِ قدَّره بمدة، فأشْبَه ما إذا قال: وهَبْتُ منْك أَو أعْمَرْتُكَ سَنَةً. وعَنْ أبي إِسْحَاقَ أنَّ في القَدِيم تكونُ الدَّارُ للمعمَّرِ حياتَهُ فإذا مات عادت إلى المُعَمِّر أو ورثَتْه كما شرَطَ، واحتجَّ له بقوله في الحَدِيثِ السَّابِق: "أَيُّما رَجُلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ، وَلِعَقِبِهِ مِنْ بَعْدِهِ" (¬2) شرَطَ في قَطْعِ الرُّجُوعِ أنْ يُعْمِرَ له وَلِعَقِبِهِ مِنْ بعده. وفي "التَّهْذيب" أنَّ أبا إِسْحَاقَ قال في القديم: إنَّها تكُونُ عَاريةً متَى شَاء، استردَّها، فإذا مَاتَ، عادَتْ إلى المُعْمِر. وهذا قريبٌ من مذهب مَالِكٍ وهو أنَّ منافع الدَّارِ لِلْمُعْمِرِ حَيَاتَهُ، فإذا مات، عادَتْ إلى المُعْمِّر، إلاَّ أنَّ العارية المؤقَّتة عنْده لازمِةٌ، فلَيْسَ له الرُّجُوعُ متَى شاء، وإذا جمعت بين الرِّوَايَاتِ حَصَلَتْ في المسْأَلة أربعةُ أقْوَالٍ، فظاهرُ المَذْهَب منها الجديدُ، وَيلِيهِ في الظُّهُورِ مِنْ رواياتِ القَدِيمِ بالبُطْلاَن. الثالثةُ: إذا قال: جَعَلْتُهَا لك عُمْرَكَ، فإذا مُتَّ، عادَتْ إِلَيَّ، أو إِلى ورثتي، إن مُتُّ، فإنْ حكمنا بالبُطْلاَن في صورة الإطْلاق، فههنا أولَى. وإن قُلْنا بالصحة والعود إلى المعمر، فكذلك ههنا وليْسَ فيه إلاَّ التَّصْرِيحُ بمقتضى الإطْلاق. وإن قُلْنا بالجديد، وهو الصَّحةُ والتأبيدُ فوجهان: أحدُهما: البُطْلاَن؛ لأنَّه شرط ما يخالِفُ مقْتَضَى المِلْك فإن من مَلَكَ شيئاً، صار بَعْدَ مَوْتِهِ لورَثَتِهِ. والثاني: يَصِحُّ ويلْغُو الشَّرْطُ، فإنَّه لم يشترط عَلَى المُعْمِر شَيْئاً، ولا قَطَع ملْكُه عليه، إنَّما شَرَطَ العَوْدَ عليه بعد الموت، وحينئذ قد صار المِلْكُ للورثة. والوَجْهُ الأول أَسْبَقُ إلى الفهم، وقد رجَّحه القاضِي ابْنُ كجٍّ وصاحبُ "التتمة" لكنَّ للأكثرين أجابُوا بالثَّاني، وسوَّوْا بيْن هذه الحالَةِ وحالةِ الإطلاق، كأنَّهُمْ أخَذُوا ¬
بإطْلاَقِ الأخْيَار، وعدَلُوا به عن قياس سائِرِ الشُّروط الفاسِدَة، والحاصِلُ مما ذكرنا عنْد الاخْتِصَار طريقان: أحدُهُما: طَرْدُ الخلافه. والثاني: التقاء الجَدِيدِ، والظَّاهِرُ مِنْ روايات القَدِيم واتفاقهما على البُطْلاَن. وأمَّا الرُّقْبَى: فهيَ أن يقولَ: وَهَبْتُ منْكَ هذه الدارَ عُمْرَكَ، على أنَّك إن مِتَّ قبلي، عادت إليَّ وإن مت قبْلَك، استقرَّتْ عليك، أو جعلت هذه الدَّار لك رقبى، أو أرقبتُها لَكَ، وهي مأخوذةٌ من الرقوب، كأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يَرتقب مَوْتَ صاحِبهِ، والحُكْمُ فيها كالحكْمِ في الحالة الثالثة منْ العُمْرَى؛ لأنَّ قَوْلَه: "إن متَ قَبلك، استقر علَيْكَ" لا أثر له في المنع، فيبقى قوله: إِن مِتّ قبْلي، عاد إلَيَّ، فيحصل فيه طريقان: أحَدُهُمَا: القَطْعُ بالبطلان. وأظهرْهُمَا: طَرْدُ القولَيْن. فعلَى الجَدِيد؛ يصحُّ، ويلغو الشَّرط لقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُعْمِرُوا وَلاْ تُرْقِبُوا ... الحديث" (¬1)، والقديمُ البطلانُ، أو الصِّحة والترقّب. وعند أبي حنيفةَ الرُّقبَى لا يُمْلَكُ بها، وإنَّما هي عارية، وللمُرْقِب الرجُوع متى شاءَ. وقال أحمدُ: تصحُّ الرقبى كالعُمرَى، وفي صحَّة شرط الرجُوعَ إلى الواهب روايتان عنْه. التفريع: إن صحَّحنا العُمْرَى والرُّقْبَى، وألغَيْنا الشَّرْط، تَصَرّفَ المُعَمَّر في المال كيْف شاء، وإنْ أبْطَلْنا العَقْد أو جعلْنَاه عاريةً، فلا يخفى أنَّه ليس له التصرُّفُ بالبَيْع ونحوه. وإن قلْنا بصحَّة العقد والشرط، فلو باع المعمَّر (¬2)، ثم مات، ذَكَرَ الإمامُ فيه احتمَاليْن: أظهَرُهُمَا عنْده: أنَّنا لا نُنَفِّذ البيع؛ لأنَّ مقتضَى البَيْع التأييدُ، وهُوَ لم يملكه إلاَّ مُؤَقَّتاً، فكيْفَ يملِّك غيره ما لَمْ يملكه؟ والثاني: تنْفيذُهُ كببع العبْد المعلِّق عتقُه قبْل وجود الصِّفَة، وهذا ما أجاب به القاضي ابنُ كجٍّ، وعلَّل بأنَّه مالكٌ في الحال، والرُّجُوع أمْرٌ يحدث بعْد المَوْت، وشَبَّهه برُجُوع نصْف الصَّداق إلى الزوج بالطَّلاق قبْل الدُّخُول، برجوع الوالدِ في الهِبَةِ منَ ¬
الولد، وهوَ بالأوَّل أشبه؛ لأنَّه لا يتعلَّق بفعْله واختياره، وإذا قُلْنا بصحَّة بيعه، فيُشْبِه أنَّه يرجعُ المعمَّر في تركته بالغُرْم رجُوعَ الزَّوْج، إذا طلَّق بعد خروج الصَّداق عن ملْكها. قال الإمامُ: وفي رُجُوع المال إلَى ورثةَ المُعْمِّر، إذا مات قبل المعمَّر استبعادُ؛ لأنَّه إثباتُ مِلْكٍ لهم فيما لم يملكه المُوَرِّث، لكنَّه كما لو نصَب شبكةً، فَتَعْقَّل بها (¬1) صيد بعْد موته يكون المِلْكُ فيه للوَرَثَة. والصحيحُ أنَّه تركةٌ تقضي منْها الديون، وينفِّذ الوصايا. ولو قال: جَعَلْتُ هذه الدَّارَ لَكَ عُمْرَى أو حياتي فوجهان: أحدهما: أنه كما لو قال: عُمْرَكَ أو حياتَكَ لشُمُول اسْم العُمْرَى. وأَظْهَرُهُمَا: المَنْعُ لخُرُوجه عن اللَّفْظ المَعْهُود في الباب، ولما فيه من تأقيت الملك لجواز موت المُعمر قبله؛ بخلافِ ما إذا قال: عُمْرَكَ أو حَيَاتَكَ؛ لأنَّ الإنْسانَ لا يَمْلِكُ إلاَّ مدَّةَ حياتِهِ، فلا تأْقيتَ فيه، وأُجْرَيَ الخلافُ فيما إذا قال: جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَ فلانٍ. وخرج من تصحيح العقد وإلغاءِ الشرط في هذه الصورة وجه: أنَّ الشَّرْطَ الفاسدَ لا يُفْسِدُ الهبة، وطرد ذلك في الوقْف أيضاً، ثم منهم من خَصَّصَ الخلافَ في هذه القاعِدَة بما هُوَ من قبيل الأوقات مثلَ أن يَقُول: وهَبْتُ مِنْك سنة أو وَقَفْتُها سنةً ومنْهُمْ من طَرَدَه في كُلِّ شرط كقوله: وهبتك بشرَطْ ألا تبيعَهُ إذَا قبضته، وما أشْبَهَ ذلك. وفَرَّقُوا بيْن البَيْعِ الهِبَةِ والوَقْفِ بأنَّ الشَّرْط في البَيْع يُورِثُ جهالةَ الثمن، ويلْزَم من جهالة الثمن فسادُ البَيْع، وهذا إذا قلْنا بالصحيح، وهو فسادُ البَيْع بالشروط الفاسدةِ عَلى أنَّا حكَينا في البَيْع قولاً أيْضاً، وظاهر المذْهَب فسادُ الهبة، والوقْف بالشُّروط التي يفسد بها البيع؛ بخلاف العُمْرَى؛ لما فيها من الأخبَار (¬2). ولو باعَ عَلَى صورةِ العُمْرَى، فقال: ملَّكْتُكَ بعَشَرةٍ عمرك. ¬
الفصل الثاني: الموهوب وما جاز بيعه
قال القاضي ابْنُ كَجّ: لا يَبْعُدْ عنْدي جوازُه؛ تفْريعاً على الجديد. وقال أبو عليٍّ الطَّبَرِيُّ: لا يجوز؛ لأنَّه تطرّق الجهالة إلى الثمن، ولا يجوز تعْليق العُمْرَى بأنْ يقولَ: إذا مات، أو قَدِمَ فلانٌ، أو جاءَ رَأْسُ الشهرِ، فقد أعْمَرْتُكَ هذه الدارَ، أو فهذه الدَّارُ لك عُمْرَى (¬1)، نعم لو علَّق بموته فقال: إذا مِتُّ، فهذه الدار لَكَ عُمْرَكَ، فهذه وصيَّةٌ يعتبر خروجُها من الثُّلُث. ولو قال: إذا مِتُّ، فهي لك عُمْرَكَ، فإذا مِتَّ عادت إلى ورثتي، فهي وصية منْه بالعُمْرَى عَلَى صورة الحالة الثالثة. ولو جَعَلَ رجلانِ كلَّ واحد منهما دَارَهُ للآخر عُمْرَهُ على أنَّهُ إن مات قَبْلَه عاد إلَى صاحب الدَّار، فهذه رُقْبَى من الجانبَيْنِ. ولو قال: دارِي لَكَ عُمْرَكَ، فإذا مِتُّ، فهي لَزيْد، أو عبْدِي لك عُمْرَكَ، فإذا مِتُّ، فهو حُرٌّ، صحَّ العُمْرَى؛ على قولنا الجديد ولغا المذكُورُ بعدها، والله أَعْلَمُ. وقولُه في الكتاب: "صحَّ؛ فإنَّه هبةٌ" يجوز إعلامه بالميم؛ لأنه يجعله عاريةً كما تقدَّم. وقولُه "لم يصحَّ على القول القديم؛ لأنَّها مؤقتةٌ، وعلى الجديد يصحُّ ويتأبَّد" هكذا الصواب وفي أكثر النسخ سيَّما القديمةُ منْها عكْسُ ذلك. ويجوز أن يُعْلَم قوله: "لم يصحَّ" بالحاء والميم والألف، وبالواو أيضاً لما حكَيْنا عن الشيخ أبي إسْحَاقَ أنَّ القديم كوْنُ المال للمُعَمَّر، ورجُوعه بعد موته إلى المُعَمَّر. وقوله: "فإن مِتّ عاد إليَّ، فهو بالبطلان أولَى الغرض منْه [أنَّ] البطلان ههنا أظْهَرُ منْه في صورة الإطْلاق عَلَى ما هو دأْبُ الترتيب لا تَرْجِيحُ البطلان على الصحَّة المقابلة له، بلِ الأظهرُ عنْد الأكثرين الصِّحَّة على ما بيَّنَّا، وكذلك في الرُّقْبَى واللهُ عزَّ وجلّ أعْلَمُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّانِي: المَوْهُوبُ وَمَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ هِبَتُهُ فلاَ يَمْتَنِعُ بِالشُّيُوعِ وَإِنْ قَبِلَ القِسْمةَ (ح)، وَلاَ يَصِحُّ (م) هِبَةُ المَجْهُولِ وَالآبِقِ، وَفِي هِبَةِ الكَلْبِ خِلاَفٌ (و)، وَهِبَةُ المَرْهُونِ هَلْ تُفِيدُ المِلْكَ عِنْدَ اتِّفَاقِ فِكَاكِه؟ فِيهِ خِلاَفٌ (و)، وَهِبَةُ الدَّينُ لاَ تَصِحُّ (و) كَمَا لاَ يَصِحُّ رَهْنُهُ إِذِ القَبْضُ فِيهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الرُّكنُ الثاني: المَوهُوبُ، وهو معتَبَرٌ بالبيع، فإنَّ الهبةَ تمليكٌ بأجرة؛ كالبيع فما جازَ بَيْعُ، جازَ هبَتُه، وما لا يجُوزُ بيعُه من مجهولٍ أو معجُوزٍ عن تسليمه، لا يجوز هِبَتُه، هذا هو الغَالِبُ، وربَّما اختلَفَا في الأقَلِّ. ¬
وفي التفصيل صُوَرٌ: منها: الشائعُ يجوزُ هبته، كما يجوز بيْعُه، ولا فَرْق بين المنقسم وغيره، ولا بيْن أنْ يَهَبَ من الشَّريك أو غيره، وبه قال مالكٌ وأحمدُ، وعند أبي حنيفة -رضي الله عنه- لا تَصحُّ هبةُ المنْقَسِم من غَيْر الشَّرِيك، وبالَغَ؛ فقال: لو وهَبَ الشَّيْءَ المنقسم منَ اثْنَيْنِ، لم يصحَّ أيضاً، وتجوزُ هبةُ الأرْض المزروعة دُون الزَّرْع، وبالعَكْسِ؛ خلافاً لأبي حنيفة -رضي الله عنه- أيضاً. وإذا وهَب منَ اثنَيْن، فقبل أحدهما في نِصْفه، فوجهان، كما في البَيْع (¬1). وجوابُ صاحب الشَّامل فيهما التصحيحُ. ومنها: لا يجوز هبة المجهول كبَيْعه، وعن مالك -صحَّتُهَا. ومنها: لا يجوز هبة الآبِقِ والضَّالِّ، ويجوز هبةُ المغْصُوب من غير الغَاصِب، إن قدَرَ على الانتزاع، وإلاَّ، فوجهان سنَذْكُر مأخذَهُما إن شاء الله تعالى. وأمَّا الهبةُ مِنَ الغاصِبِ، فقد ذَكَرْنا حُكْمَها في الرَّهْن. ويجوزُ هِبَةُ المُسْتَعَار منْ غَيْر المستعير، ثم إذا قبض الموهُوبُ منْه بالإذْن، برئ الغاصب والمستعير من الضَّمان. وتجوز هبةُ المستأجَرِ منْ غَيْر المستأجِرِ، إن جوَّزنا بيعه، وإلاَّ، ففيها الوَجْهَان. ثم ذكر الشيخُ أبو حامِدٍ وغيرُه أنَّه لو وُكَّل الموهوبُ منْه الغاصب، أو المُسْتَعِير، أو المستأْجِر بقَبْضِ ما في يده مِنْ نَفْسِه، وقَبلَ، صحَّ، وإذا مضتْ مُدَّةٌ يتأتى فيها القبْضُ، برِئ الغاصبُ والمستعيرُ من الضَّمان، وهذا يخالِفُ الأصْل المشهور فِي أنَّ الشَّخْصَ الوَاحِدَ لا يَكُونُ قابِضاً ومُقْبِضاً (¬2). ومنْها: في هبة المرهون وجهان، إن اعتبرناها، انتظرنا، فإنْ بَيعَ في الرَّهْن، بأن بطلانُ الهِبَة، وإنِ انفكَّ الرَّهْنُ، فللواهِبِ ¬
الخيارُ في الإقباض، والوَجْهان في هذه الصُّورة كلّها توجه: أحدُهُما: وهو الأَظْهَرُ بالقياس على البيع. والثاتي: بأنَّ البيع لا يفيد الملك في الحَالِ، بلْ يشترط لَهُ التَّسْليم، وليْسَتْ هي بموجبة للتسليم حتَّى يمتنع فيما يمتنع تسليمه، فيُحْتَملُ فيها ما لا يُحْتَملُ في البيع. ومنْها في هبة الكلب وجهان عَنْ رواية الشَّيخ أبِي عَلِيٍّ وغيره: أظْهَرُهُمَا: وبه قطع الشيخُ أبو محمد: المنع كالبيع. وثانيهما: الصِّحَّة؛ تنزيلاً للهبة منزلةَ الوَصِيَّة، وهما جاريانِ في جِلْد الميتة قبل الدباغ، وفي الخُمُور المحرَّمة. قال الإمامُ: وحقُّ منْ جَوَّز الهبة فيها أن يجوِّزها في المجاهيل، وفي الآبق كالوَصِيَّة (¬1). ومنها: هبةُ الدَّيْن، وهي إمَّا أن تُفْرض ممَّن عليه الدَّيْن، أو من غيره، فإنْ وهب ممَّن عليه الدَّيْن، فهو إبراءٌ، فإنْ قلْنا باعتبار القَبُول في الإبراء عَلَى ما أسلفنا حكايَتَهُ عن ابْنِ سُرَيْجٍ، فإذا جَرَى بلَفْظِ الهِبَة، كان أولَى. وإنْ قُلْنا: لا يُعْتبر، فوَجْهان، إن نظرْنا إلى اللفظ، اعتبرناه، ويُحْكَى هذا عن ابن أبي هُرَيْرةَ. وإن نَظَرْنا إلى المعْنَى، فلا. قال في "الشَّامل" وهو المذهب، وإن وهَبَ مِنْ غَيْرِ مَنْ عليه، فيبنَى على الخلاف في بَيْع الدَّيْن مِنْ غَيْر مَنْ علَيْه إنْ أبطلناه، فكذلك الهبة، وهو الأصحُّ، وإن صحَّحناه، ففِي الهبَة وجْهَان، كما ذكَرْنا في رَهْن الدَّيْن فإِن صحَّحنا، فهلْ يفتقر لزُومُها إلَى قَبْض الدَّيْن؟ فيه وجهان: أحدهُمَا: نعم؛ على قياس الهبات. والثاني: أنَّهُ لا حاجةَ إلَى القَبْضِ، وعلَى هذا، فوجهان: أحدهُمَا: أنَّه يلزم بنَفْسِ الإيجاب والقَبُول، كالحوالة؛ لأنَّ المَقْصُودَ أن يَصِيرَ المتَّهِبُ بعد الهبة كالوَاهِب قبْلَها، والواهبُ كان مستحِقّاً مِنْ غير قبض. والثاني: أنَّهُ لا بدَّ من تسليط بَعْدَ العَقْد، وإذْنٍ مجدّد، ويكونُ ذلك كالتخلية في الأعيان الَّتي لا يُمْكِنُ نقْلُها وإذا فرَّعنا عَلَى أنَّهُ يجوز رَهْنُ الدَّين، افتقر لزومه إلَى القَبْض لا محالة؛ لأنَّهُ لا يفيدُ انتقالَ المِلْك والاستحقاق. ¬
فرع
فرْعٌ: عن صاحب "التقريب": مَنْ عليه الزكاةُ، لو وهَبَ دَينَه على المسكين بنية الزكاة، لم يقع الموقع؛ لأنَّهُ إبراءٌ، وليس بتمليك، وإقامة الإبراء مقام التمليك إبْدالٌ، وإنَّهُ غيرُ جَائِزٍ في الزكوات. ولَكَ أن تقول: ذكروا وجهَيْن في أنَّ هبةَ الدَّيْن ممَّن عليه الدين تتنزل منزلة التَّمليك، أم هو مَحْضُ إسْقَاطٍ؟ وعلى هذا خرج اعتبار القَبُول فيها، فإنْ أعطَيْنَاها حكم التمليك، وجَبَ أنْ يقعَ الموقع (¬1)، ولو كان الدَّيْنُ عَلَى غيره، فوهبه للمسكين بنيَّة الزكاة. وقلْنا: تصح الهبة ولا يعتبر القَبْض، وقع عن الزكاة، والمستحقُّ يطالب المديُونَ به، واللهُ أَعْلَمُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّالثُ: القَبْضُ وَبِهِ يَحْصُلُ (م و) المِلْكُ، فَإِنْ مَاتَ الوَاهِبُ قَبْلَ القَبْضِ تَخَيَّرَ الْوَارِثُ في الأِقْبَاضِ، وَقِيلَ: يَنْفَسِخُ كَالوِكَالَةِ، وَكَمَا قَبْلَ القَبُولِ، وَلَوْ قَبَضَهَا المُتَّهِبُ دُونَ إِذْنِ الوَاهِبِ لَمْ يَحْصُلِ المِلْكُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الركنُ الثالِثَ: القَبْضُ، ولا يحْصُلُ المِلْكُ في الهبات والهَدَايَا إلاَّ بعد حُصولِ القَبْضِ. رُوِيَ أنَّ أبا بَكْرٍ -رضي الله عنه- نَحَل عائشة -رضي الله عنها- جذاذ عِشْرِينَ وَسْقاً، فلَمَّا مَرِضَ قَالَ: وَدِدْت أنَّكَ جزيته وقبضتيه. وإنّما هو اليَوْمَ مَالُ الوَارِثِ (¬2). ¬
ولوْلاَ توقُّف الملْكِ على القَبْض، لَمَا قال: "إنَّه مالُ الوَارِث". وفيه دليلٌ عَلَى أنَّ الإقْبَاض في مرَضِ المَوْتِ مِنَ الوارث بمثابة الهبة منه هذا ظاهِرُ المَذْهَب، وبه قال أبو حنيفةَ، وفيه قولان آخران: أَحَدُهُمَا: وَيُحْكَى عن رواية عِيسى بنْ أبانَ عَنِ القَدِيم أنَّهُ يَحْصُلِ المِلْكُ بنَفْسِ العَقْد، وبه قال مَالِكٌ كالوقْف. والثاني: أنَّ المِلكَ مَوْقُوفٌ إلَى أنْ يُوجَدَ القَبْض، فإذَا وُجِدَ، تَبَيَّنَّا حُصُولَ المِلْكَ منْ وقْف، العَقْد، وهذا مخرَّج مما ذكرنا في "زكاة الفطْر" أنَّهُ لو وهب عبْداً في آخِرِ رَمَضان، وقبضَه بعْد غُرُوب الشَّمْس، كانت الفطرةُ على المَوْهُوب له. ومن قال بالوقف (¬1)، قال: هذا تفريعٌ منه عَلَى مذْهَب مالكٍ. وقال أحْمَدُ: إذا وهَب قفيزاً من صُبْرة أو دِرْهَماً من دَرَاهِم، فلا بُدَّ من القبض، وإنْ وهَبَ مُعيَّناً كالثَّوْب والعَبْد فأصحُّ الروايتَيْنِ أنَّ المِلْكَ لا يَفْتَقِر إلَى القَبْض، ويتفرَّع على الأقوال أنَّ الزياداتِ الحادثَةَ بيْن العقْد والقَبض لمن تَكُون. ولو باع الواهِبُ ما وهَبَهُ منْ إنسان قَبْل القَبض-حَكَى الشَّيْخُ أبو حامد أنَّه إنْ كان يعْتَقِد أنَّ الهِبَةَ غيرُ تامَّة، صحَّ البَيْعُ، وبَطَلَتِ الهبةُ، وإن كان يعتقد تَمَامَها، وانتقالَ الملْكِ بنَفْس العَقْد، ففي صحَّة البيع قولان كالقولَيْن فيما إذا باعَ مالَ أبيه عَلَى ظَنِّ أنَّهُ حيٌّ فبان ميتاً ولو مات الواهبُ أو المتَّهب بين العقْد والقبْض فوَجْهان، ويقال: قولان: أحدُهُما: أنَّهُ يَنْفَسِخ العَقْدُ لجوازِهِ كالتَّركة والوَكَالة. وأَصَحُّهُمَا: المَنْعُ؛ لأنَّهُ يَؤُولُ إلى اللُّزوم كالبيع الجَائِزِ، بخلاَفِ الشَّركة والوكالة، فعلَى هذا، إن مات الواهبُ، يخيَّر الوارثُ في الإقْبَاض، وإنْ مات المتَّهِب، قبضَ وارثه، إن أقبضه الواهِبُ، ويجري الخلافُ فيما إذا جُنَّ أحدهُمَا أو أُغْمِى عَلَيْه (¬2). والقبضُ المستعقبُ للمِلْك هو المقرونُ بإذن الواهب، فلو قَبضَ من غير إذْنه، لم يَمْلِكْه، ويدْخُل في ضمانِهِ، ولا فَرْقَ بين أنْ يقبضَ في مَجْلِس العَقْد أو بَعْدَه. وقال أبو حنيفة -رضي الله عنه- إذا قبضه في المجلِس بغير إذْنه ملَكَه، وإنْ تأخَّر عن المجلس، احتاج إلى الإذن. لنا: قياسُ الحالة الأُولَى على الثانية. ¬
ولو كان المَوْهُوبُ في يد المَوْهُوب منه، فالحكمُ ما مَرَّ في "كتاب الرَّهْن". ولو أذِنَ في القَبْض، ثم رجَعَ عنه قبلْ القَبْض، لم يصحَّ القبض، وكذا لو أَذِنَ، ثمَّ ماتَ الآذِنُ أو المأْذُون له قبْل القَبْض، بَطَل الإذن. ولو بَعَثَ هديَّة إلَى إنسان، فمَاتَ المهديُّ إليه قبل وصولها إلَيْه، بَقِيَتِ الهديةُ عَلَى مِلْك المهدي. ولو مَاتَ المهديُّ، لم يكن للرَّسُولِ حَمْلُها إلى المهدَى إلَيْه، وكذا القادم من السَّفَر، إذا أبتاع [لأصدَقائه، هدايا] (¬1) وماتَ قبلَ وصُولِها إلَيْهم، فهيَ ميراثٌ. وكيفيَّة القبْض في العَقَار والمَنْقُول، كما قدَّمناه في "البَيْع" وحكَيْنا ثمَّ قولاً أنَّ التخليَة في المنقولات قَبْضٌ. قال في "التتمة": لا جرَيانَ لذلك القَوْل ههنا، والفرْقُ أن القبْضَ في البيع مستحقُّ، وللمشتري المطالبة، به فجاز أنْ يجعل بالتمكُّن قابضاً، وفي الهبة القَبْضُ غير مستحقٍّ، فاعتبر تحقيقَهُ، ولم يكتف بالوضع بيْن يدَيه (¬2). ولهذا لو أتْلَف المتَّهِب الموْهُوب، لم يَصِرْ قابضاً، بخلاف المشْتَرِي، إذا أتلف المَبيع، ولو أمَر الواهب المتَّهب بأكْل الطعام الموهوب، فأكَلَه، أو بإعْتَاق العَبْد الموْهُوب، فأعتقه، أو أمر المُتَّهب الواهب فاعتقه، كانَ قابضاً والله أعلم. فُرُوعٌ محكية عن نصِّ الشافعيِّ -رضي الله عنه-. إذا قال: وهَبْتُهُ له، وملَكَه، لمْ يكن إقراراً بلُزُوم الهِبَةِ؛ لجواز أن يعتقد حُصُول الملك بمجرَّد العَقْد، كما قاله مالكٌ، والإقْرار ينبني على اليَقِين. ولو قال: وَهَبْتُهُ منْه وخرجت إلَيْه منه، نظر؛ إن كان المالُ في يَد المتَّهِب، كان ذلك إقراراً منْه بالقَبْض، وإن كان في يَد الوَاهِبِ، فلا. ولو قيل له: وهَبْتَ داركَ منْ فُلاَن، وأقْبَضْتها مته، فقال: نعم، كانَ ذلك إقراراً بالهِبَة والإقْبَاض. وقوله في الكتاب: "وبه يَحْصُلُ المِلْك" يجوز إعْلامه بالميم والألف والواو؛ لما ¬
سَبَق. وقوله: "وكما قبل القبول" الحكْم بإلإنفساخِ قِيَاساً على ما قبل القَبُول فيه ضَرْبُ تَوَسُّع، فإنَّه لا انعقاد قَبْل القَبُول حتَّى يطرأ علَيْه انْفِسَاخٌ والمعْنَى أنَّه إذا ماتَ قَبْل القَبُول يلْغُوا الإيجابُ، ولا يَبْقَى له اعتبارٌ، فكذا إذا مات قَبْل القَبْض؛ لشُمُول الجَوَاز للحالَتَيْنِ. وأعلم قوله: "لم يحصْلُ المِلْك" بالحاء إشارةً إلَى ما ذكرنا منْ مذْهَب أبي حنيفة -رضي الله عنه- أنَّه إن كان القَبْضُ في المجْلِسِ، حَصَلَ الملك، وإن لم يُوجَدِ الإذْنُ، هذا شرْحُ الأركان المذكورة في الكِتَاب، واعلم أنَّ المتعاقِدَيْن معدودانِ مِنَ الأرْكَان، وكأنَّه ترك ذكرهما لوضُوح حالِهِمَا، وما يُعْتبر فيهما، وأنَّ القَبْضَ، وإنْ كان ركناً، لا بد منه في حُصُول المِلْك، وإن لم يوجد الإذْن، هذا شرح الأركان إلاَّ أن كلامه في الكتاب في أركانِ الهِبَة، وليْسَ القبضْ مِن نفْس الهِبَة؛ ألا تَرَى أنَّهُ يقال: هِبَةٌ اقترنَ بها القَبْض، وهبةُ لم يقترن، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: الفَصْلُ الثَّانِي في حُكْمِهَا وهو قِسْمَان: الأوَّل مَا قُيِّدَ بِنَفْي الثَّوَابِ فَيَلْزَمُ بِالقَبْضِ، وَلاَ رُجُوعَ فِيهِ إلاَّ لِلْوَالِدِ (ح م) فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ الوَالِدَةُ وَالجَدُّ (م) وَكُلُّ أَصْلٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالأَبِ، وَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ لِفَقْرِهِ فَفِي الرُّجُوعِ خِلاَفٌ، وَمَهْمَا تَلِفَ المَوْهُوبُ أَوْ زَالَ مِلْكُ المُتَّهِبِ فَاتَ الرُّجُوعُ، وَلاَ يَثْبُتُ طَلَبُ القِيمَةِ، وَلَوْ كَانَ عَصِيراً فَصَارَ خَمْراً ثُمَّ عَادَ خَلاًّ عَادَ الرُّجُوعُ (و)، وَكَذَا إِذَا انْفَكَّ الرَّهْنُ وَالكِتَابَةُ، وَلَو عَادَ المِلْكُ بَعْدَ زَوَالِهِ فَفِي عَوْدِ الرُّجُوعِ قَوْلاَنِ (و)، وَلَوْ حَصَلَتْ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ سُلِّمَتْ للمُتَّهِبَ وَاخْتَصَّ الرُّجُوعِ بِالأَصْلِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في هذَا الفَصْل الثاني مقصدان: أحدُهُمَا: القوْلُ في الرُّجوع في الهِبَةِ. والثاني: في اقتضائِهَا الثَّوابَ لكنه خلَط أحَدَهُما بالآخرَ، وأشارَ إلَى ضبْط ما يفي بالمقصُودَيْن، وإن لم يُصَرِّح به، ونَحْنُ نوضِّحه، ونأْتِي بمسائِلِ الكِتَاب مدرجة فيه، فنَقُول: الهِبَةُ تنْقَسِم إلَى مقيَّدة بنَفي الثَّوَاب، وإلَى مقيَّدة بإثْبَاته، وإلى مطْلَقَة. أمَّا المقيَّدة بنفْي الثواب، فإنَّها تلْزَمُ بالقبض، ولا رجُوعَ فيها إلاَّ للوالِد يرْجِعُ فيما يهب لولَده عَلَى ما سيأْتِي. وينبِغي للوَالِدِ أن يعْدِلَ في العطيَّة بيْن الأولادِ كيْلا يُفْضِي بهم المَيْلُ إلى العقوق قال: فإن ترك العَدْلَ، فقد فَعَل مكروهاً لكنْ تصحُّ الهبة. رُوِيَ عنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رضي الله عنه- أنَّ أباهُ أتَى بِهِ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فقَالَ:
إنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلاَمَاً -فَقَالَ: "أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَ هَذَا؟ قال: لا، قَالَ: "أَيَسُرُّكَ أنْ يَكُونُوا لَكَ في البرِّ سَوَاءً؟ " قَالَ: "نَعَمْ، قال: فَلاَ، إذَنْ" ويرْوَى عنه قال: "فأَرْجِعْهُ" وُيرَوَى أنَّهُ قال: "فَاتَّقُوا الله واعْدِلُوا بَيْنَ أوْلاَدِكُمْ" (¬1). ثم الأَوْلَى، والحالة هذه، أن يُعْطِيَ الآخرين بما يَحْصُل به العَدْل، ولو رَجَعَ، فلا بأسَ. وعن أحمد -رضي الله عنه- أنَّه يجبُ الرُّجُوع، وُيرْوَى عنْه أنَّهُ لا تصحُّ الهبةُ مع التَّخْصيص أصْلاً، وإذا أعطَى، وعدل، كُرِّهَ له الرجُوع، وكذا إنْ كانَ لَهُ وَلدٌ واحدٌ، فوهَبَ منْه، كره له الرجُوع، إن كان الولدُ عفيفاً بارّاً، وإن كان عاقّاً، أو كان يستعينُ بما أَعْطَاه في مَعْصِيَةٍ، فليُنْذِرْهُ بالرُّجُوع، فإنْ أصرَّ، لم يُكْرَه الرُّجوعُ. وفي طريقِ العَدْلِ في الهبةِ منَ الأولاد وجهان: أصحُّهما: وبه قال أبو حنيفةَ ومالكٌ -أَنَّ الطريق التَّسْوية بين الذكور والإناثِ؛ لما رُوِيَ أنّهُ -صلى الله عليه وسلم- قال:"سَوُّوْا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ فِي العَطِيَّةِ، وَلَوْ كُنْتُ مُفَضِّلاً أَحَداً لَفَضَّلْتُ البَنَاتِ" (¬2). والثاني: وبه قال أحمد: أنَّهُ يُعطِي للذِكر مثل حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ (¬3)، اعتباراً بالميراث، إذا تقرَّر ذلك، فالكلامُ فيمَنْ يرجع؟ وفي أنَّه إلاَمَ يَرْجِع؟ وفي أنَّ الرُجُوعَ لم يَحْصُلْ. أمَّا الراجعُ، فللأب الرجُوعُ في الهبة؛ لما رُوِيَ أنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "لاَ يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أنْ يَرْجِعَ فَيمَا وَهَبَ إلاَّ الوَالِدُ فإنَّهُ يَرْجِعُ فيما وَهَبَ لِوَلَدِهِ" (¬4). ¬
وذكر الإمامُ أنَّ الشَّيْخَ إبَا عَلِيٍّ حَكَى عن ابْن سُرَيجٍ أنَّه إنَّما يَرْجِعُ إذا قَصَدَ بهبته استجلابَ برٍّ أو دَفْعَ عُقُوقٍ، فلم يحْصُلْ غَرَضُه، أَمَّا إذا لَم يقْصِدْ ذلك، وأطْلَقَ الهبةَ، فلا رجُوع له والمشهودُ الأوَّلُ. وقال أبو حنيفة -رضي الله عنه-: لا رجوع للأبِ. وعن مالك -رحمه الله- أنه إذا رَغِبَ راغبٌ في مواصلة الولَدِ بسَبَب المال الموهوب، فزوَّج من الابن، أو تزوَّج بالبنت، فلا رجوع له، وأصحُّ الروايتَيْن عن أحْمَدَ -رحمه الله- مثْلُ مذهبنا، وفي غير الأبِ منَ الأُصُول قولان: أحَدُهُمَا: لا رُجُوعَ لهم؛ لأن الخير ورَدَ في الأب: وأصحُّهُمَا: أنَّهُم كالأب كما أنَّهُم كالأبِ في حُصُول العِتْق، ووجُوب النَّفَقَةِ وسقوط القصاص. وقطَع قاطِعُون بثبوت الرُّجُوع للأُم؛ لأنَّها كالأب في كَوْن الولَد منهما، بل ولادَتُها متيقِّنةٌ، وانتسابُهُ إلى الأب ظاهرٌ. وآخرُونَ بثُبوت الرُّجُوع للجد أبي الأب؛ لأنَّهُ كالأب في الولاية، وخصصوا الخلافَ بالأمِّ وآبائها وأمهاتها وأُمهاتِ الأبِ، وهَذا ما أورده المتولِّي. وتنساقُ هذه الطُّرُقُ إلى أربعةِ أوْجُهٍ. أختصاصه بالأب اختصاصه بالأب والأمِّ. اختصاصه بكلِّ أصلٍ [تثبت] له الولايةُ. شموله كلّ أصْل، وهُو الأصحُّ، وعن مالك أنَّه لا رجُوعَ لهم سَوى الأم، وقال أحْمَدُ: لا رُجُوعَ لها أيضاً. وأمَّا غير الأصول كالأخِ والعمِّ، وسائِر الأقارِبِ، فلاَ رجوعَ لهم كلما لا رجوع للأجانب، ووجْهُه ما قدَّمنا من الخبر، وأيضَاً، فقد رُوِيَ أنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُعْطِي عَطِيَّةً أَوْ يَهَبُ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيْهَا إلاَّ الوَالِدُ فِيما يُعْطَى وَلَدَهُ، وَمَثلُ الَّذِي يُعْطِي العَطِيَّةَ ثُم يَرْجِعُ فِيهَا كمَثَلِ الكَلْبِ يَأَكْلُ، فَإذَا شَبعَ قاء، ثُمَّ عَادَ في قَيْئهِ" (¬1). وقال أبو حنيفة -رضي الله عنه- لا رُجوعَ في الهبةِ منَ المَحْرَم، ويثبت في غير المَحْرَمَ قريبًا كان أو أجنبياً، إلاَّ في هِبَةِ أحدِ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الآخَرِ، ولا فَرْقَ في حقِّ الرجوع بَيْن أن يكون الوَالِدُ والوَلَدُ متفقَيْن في الدَّيْن، أو مختلفَيْن، ولو وهَبَ مَن عبد ولده، فلَهُ الرجوع. ¬
ولو وهَبَ مِنْ مكاتَبِ ولده، فلا، وهبة الإنسان من مكاتَبِهِ كهبته من الأجنبيِّ. ولو تداعَى اثنانِ موْلُوداً، ووهَبَا منْه، فلا رُجُوعَ لواحد منهما، فإنْ لَحِقَ بأحدِهِما فوجهان؛ لأنَّ الرجُوعَ لم يكن ثابتاً في الابتداء (¬1). وحْكمُ الرُّجُوع في الهديَّة حكُمُه في الهِبَة. ولو تصدَّق على ابْنه، فوجهان: أصحُّهما: ويُحْكَى عن نصِّه في "حرملة" أنَّ له الرُجُوعَ أيْضاً؛ لأنَّ الخبر يقْتَضِي ثبوتَ الرُّجُوعِ في الهِبَة، والصَّدَقةُ ضَرْبٌ من الهبة، ولأنَّه تبرع على الولَد فِي الحياةِ لا بُدَّ فيه من التسليم، فأشبه الهبة (¬2). والثاني: وبه قال مالك رحمه الله لاَ رجوع له؛ لأنَّ القصدَ من الصَّدقة ثَوَابُ الآخرةِ، وقد حَصَلَ. فرعان عن "التتمة": أحدهما: إذا أبرأ ابْنَه عَنْ دَيْنِهِ، يبنى على أنَّ الابراءَ إسقاط، أو تمليكٌ. إن قلنا بالأوَّل، فلا رجوعَ، وإلاَّ، ثبتَ الرُّجُوعُ (¬3). الثَّاني: لو وهَبَ مِنْ ولده، ثم مَاتَ الواهبُ ووارثه أبوه؛ لكون الولد مخالفاً في الدّين، فلا رُجُوع للجَدِّ الوارث؛ لأنَّ الحقوق لا تُورَثُ وحدَها، إنَّما تورَثُ بتبعيَّة الأموال، وهو لا يرثُ المال. أمَّا أنه إلام يرجع، فاعلم أنَّ الموهوبَ، إمَّا أن يكونَ باقياً في سلْطَته المُتَّهِب، أو لا يكون أحد القِسْمَين ألا يكون باقياً في سلطته، فإنْ تَلِفَ في يدَه، أوْ زَال ملكه عنْهُ ببيعٍ أو غَيْرِهِ، فلاَ رُجُوعَ للواهب، ولا له طَلَبُ القيمة، ويلتحقُ به ما إذا وقَف الموهُوب، أو كانَ عَبْداً فكاتبه، أو أمَةً، فاستوْلَدَها، أو رَهَنَ الموهوب وَأقْبَضَه، أو هَبَه وأقْبَضَه، أو وهَبَهُ وحكى الإمام خلافاً في أنَّ الرُجوعَ هَلْ يمتنع بالرَّهْن مبنيّاً عَلَى ما ¬
سبق في صحَّة هِبَة المَرهُون؟ فإن قلنا: لا يصحُّ، لم يصحَّ الرجوع، وإن صحَّحنا، توقَّفنا، فإنِ أنفك الرهْنُ، بأن صحة الرجوع، وذكر أيضاً فيما إذَا كاتَبَ العَبدْ تَرَدُّداً؛ بناءً عَلَى صحَّة بَيْع المكاتَب، ولا يمتنع الرجوعُ بالرَّهْن والهِبَةُ، إذا لم يقترنْ بهما القبْضُ، ولا بالتدبير وتعليق العتق بالصفة، ولا بزراعة الأرْضِ، وتزويجِ الجارَية، ولو أجَّر الموهوب، فكذلك جوابُ الأكثرين، وتبْقَى الإجارةُ بحالِهَا، كالتَّزويج. وقال الإِمَامُ: إنْ صحَّحنا بيْعَ المستأجر، فللواهب الرُّجُوع، وإن لم نصحِّحه، فإن جوَّزنا الرُّجُوعَ في المرْهُون، وتوقَّفنا ما يكون، فيصح الرجوع، في المستأجر، ولا حاجَةَ إلى التَّوقُّف، بل الرقبةُ للرَّاجع، والمستأجر يستوفى المنفعة إلى انْقِضَاء المُدَّة، وإنْ منَعْنَا الرجُوعَ في المرْهُون، ففِي المستأجر تردُّدٌ؛ لاطِّراد المِلْك فيه، واختصاص حقِّ المستأجر بالمنافع. وخرج على هذا تردُّد فيما إذا أبَقَ العبْد الموهوب منْ يد المتهب (¬1)، وهلْ يصحُّ رجوع الواهب، مع قولنا بأن هبةَ الآبِقِ لا تصحُّ؟ لأنَّ الهبةَ تمليكٌ مبتدأ، والرجوعُ بناء، فيسامَحُ فيه، ولو جنَى وتعلَّق الأرش برقبته، فهو كالمرهُون في امتناع الرجوع، لكنْ لو قال: أفْدِيه، وأرْجع فيه، مُكِّن منه، بخلافِ ما لَوْ كان مَرْهُوناً، فأراد أن يبذلَ قيمته، ويرْجِع، لما فيه مِنْ إبطال تَصرَّف المُتَّهِب. وإذا زال مِلْكُ المتهب، ثم عاد بإرْث أو شراء، ففي عَوْدِ الرُّجُوعِ وجهان، وقال صاحب الكتاب: قولان: أحدهما: يعود لأنه وجد عين ماله عنْد من له الرجوعُ فيما وهب منه. وأصحُّهما: المنْعُ؛ لأنَّ هذا المِلْكَ غيْرُ مستفادٍ منْهُ حتَّى يزيله ويرْجِع فيه. واحتجَّ أبو العبَّاسِ الرُّويانيُّ لهذا الوجْه (¬2) بأنَّه لو وهَب مِنِ ابنه، فوهبه الابنُ منْ جدّه ثم وهبه ¬
الجدُّ مِنِ ابن ابنه الموهُوب له أوَّلاً، فإنَّ حَقَّ الرجوعِ للجَدِّ الذي منه حصل هذا المِلْك لا للأب، ولا يبعْدُ أن يحكم القائل الأول بثُبُوت الرجوع لهما جميعاً. وُيعَبّر صاحب الكتاب عن الخلافِ في المسألة بالقولَيْن، كأنَّهُ يقر بها من مَسَائِل ذِكرَ فيها قولان. وكذلك بناه في "الوسيط" على أصْلٍ قد مرَّ في "البيع" وهو أنَّ الزائلَ العائد كالَّذي لم يزل أو كالذي لم يعد. وأيْضاً، فإنَّ الرويانيَّ ذكر في "الجُرْجَانِيَّاتِ" أنَّ الخلافَ في أنَّ المِلْكَ الثَّاني، هلْ ينبني على الأوَّل في رجوع الواهب، كالخلاف في عَوْد الطَّلاق والظِّهار والإيلاء؟ ولو وهَب منْه عَصِيراً، فصار خَمْراً؛ ثمَّ عاد خَلاًّ، فلَه الرُّجُوع؛ لأنَّ المِلْكَ الثابتَ في الخَلِّ سببه ملْك العصير، فكأنَّهُ الملْك الأوَّل بعينه. وقد حَكَى بَعْضُهُمْ وجْهَيْن في أنَّ المِلْكَ، هَلْ يزول بالتخمير، ووجهَيْن في عَوْد الرجوع تفْريعاً على القَوْل بالزَّوال فيجوز أنْ يُعْلَمَ لذلك قولُه في الكتاب: "عاد الرجُوع" بالواو، ولا يخفَى أنَّ المرادَ من قوله: "ولو كان خَمْراً ثم عاد خَلاًّ" أي: لو صار الموهُوبُ خمراً، وما أشبهه. ولو انفكَّ الرهْنُ والكتابةُ بأنْ عجز المكاتَبُ عن أداء النُّجُوم، ثبت الرجُوع؛ لأن المِلْكَ الذي كان لم يَزُلْ. وحَكَى الإمَامُ عنْ بَعْضِ الأصْحَاب في انفكاك الرَّهْن وجهين مُرَتَّبَيْنِ على الوجْهَيْن فيما إذا زال المِلْكُ وعاد. وفي "المجرَّد" للقاضي أبي الطيِّب ذِكْرُ وجه في الكتابة أيضاً؛ لأنَّ الكتابةَ تجعله في حُكْم من زال المِلْك عنه، وإذا انفكَّتْ، فكأنَّه حصَل ملْك جديدٌ، فليكن قوله: "وكذا إذا انفكَّ الرَّهْن والكتابة مرقوماً بالواو. لذلك: ولو أفْلَسَ المُتَّهِب، ثم حَجَر عليه القاضي، فأحَدُ الوجهين أن للواهب الرُّجُوعَ؛ لأن حقَّهُ أسبْقُ منَ الغُرَمَاء، إذِ الرُّجُوعُ يثبت بالهبة، وحقُّ الغرماء يثبت بالحَجَرْ. وأصحُّهُمَا: المَنْعُ، كالمرهون والجاني وبهما يبطُلُ توجيه الأوَّل (¬1). ولو ارتد وقلْنا: الردَّةُ لا تزيلُ المِلْك، يثْبُتُ الرجوع، وإنْ قلنا: تزيلُه، فلا رجوعَ، ثمَّ إذا عاد إلى الإسْلاَم، ثبَتَ الرجوع، ومنهم من جعله على الخلاف فيما إذا زال ملْكُهُ، ثم عَادَ. ولو وهَبَ الابْنُ المتَّهِبُ الموهوب لابنه، فهَلْ للجدِّ الرجوعُ تفريعاً على إثْبَات الرجوعُ للجدِّ؟ فيه وجهان: ¬
فرع
أحدُهُمَا: نعَمْ؛ لأنَّه موهُوبٌ مِمَّن للجَدِّ الرجُوعُ في هبته. والثاني: لاَ؛ لأنَّ المِلْكَ غَيْرُ مُسْتَفادٍ منْه. ولو باعه منْه، أوِ انتقل بمَوته إلَى ابنه، فكلامُ صاحبُ "التهذيب" يقتضي القَطْع بالمَنْع، وفي "الشامل" طرد الوجْهين في صُورة المَوْت، وفي "التتمة" الطَّرْدُ في البيع أيضاً، والأصحُّ في الكلِّ المنعُ (¬1). والقسم الثاني: أن يكونَ باقياً في سُلْطته فإن كان بحَاله أو ناقِصاً فله الرجوعُ، وليس على الابن أرْشُ النقصان، وإنْ كان زائداً، نظر؛ إن كانتِ الزيادةُ متَّصِلةَ كالسماء وتعلُّم الحرفة، رَجَعَ فيه مع الزِّيادة، وإنْ كانتْ منفصلةً؛ كالوَلَد والكَسْب، رجَع في الأصْل، وبقيتِ الزِّيادة للمتَّهِب، وإذا وهَب جاريةً أو بهيمةً حاملاً فرجع قبْل الوَضْع، رجَع فيها حاملاً. وإنْ رجع [فيها] بعد الوَضْع فإنْ قُلْنا: يعرف الحمْل (¬2)، رجع في الأمِّ والولد. وإن قلنا: لا يعرف لم يرجع إلاَّ في الأمِّ، ويرجع في الحال أمْ عَلَيْه الصَّبْرُ إلى الوضع؟ فيه وجهان حَكَاهُمَا في "التهذيب". ولو وهَبَ منْه حَبّاً، فبَذَرَه، ونَبَتَ، أو بَيْضاً، فصارتَ فَرْخاً، فلا رُجُوع؛ لأنَّ مالَه صارَ مُسْتَهْلَكاً. قالَ صاحِبُ "التهذيب": هذا إذا ضَمَّنا الغاصِبَ بذلك، وإلاَّ، فقد وجد عين ماله، فيرجَعْ فيه. ولو كان المَوْهُوب ثَوْباً، فصبَغَه الابْنُ، رَجَعَ في الثوب، والابن شريكٌ بالصَّبغ، ولو قصره، أو كان الموهُوبُ حِنْطَةً، فطحنها، أو غَزْلاً فَنَسَجَه، فإنْ لم تزدْ قيمته، فللأبِ الرجُوعُ، ولا شيْءٌ للابْن، وإن زادت، فإنْ قلْنا: القصارة عَيْنٌ، فالابنُ شريكٌ، وإن قلنا: أثر، فلا شَيْءَ له. ولو كانت أرضاً فبَنَى فيها الابْنُ، أو غَرَسَ، رجَع الأبُ في الأَرْض، وليس له قلْعُ البناءِ والغِرَاسِ مَجَّاناً، لكنَّه يتخيَّر بين الإبقاء بالأُجْرَة، أو التملك بالقيمة، أو القَلْع وغرامة النُّقْصَان، كما في العَارِية. فرع: عن أبي الحُسَيْن: إنْ وطئَ الابْنُ الجاريةَ المَوْهُوبة يمنع الرجُوع، وإن عرى عنِ ¬
الإحْبَال؛ لأنَّه يحرِّمُها على الأب، والمَذْهَبُ خلافُه. وأمَّا أنَّ الرُّجُوعَ لم يَحْصُلْ، وهذا مما لم يتعرَّض له في الكتاب، فيحْصُل الرجوعُ بقَوْله: رجَعتُ فيما وهبْتُ، وارتجعت واستردَدتُّ المَال -أو رددتُّه إلى ملكي، وأبطلْتُ الهبةَ ونقَضْتُها، وما أشبه ذلك- هكذا أطلقوه لكن حكَى أبو العباس الرُّويانيُّ في "الجُرْجَانِيَّاتِ" وجهين في أنَّ الرُّجُوع، هلْ هو نقضٌ وإبطالٌ للمِلْك في الهِبَة أم لا؟ أحدهما: لا؛ لأنَّه لو كانَ نَقْضاً لَمَلَكَ الواهبُ الزياداتِ الحَاصِلَةَ من الموهُوب. والثاني: نعَمْ، كما أنَّ الإقالةَ فَسْخٌ ونَقْضٌ للبيع، وإنَّما لا تستردُّ الزيادة، لحُدُوثها عَلَى ملك المتَّهِب، كما لا تستردُّ في الإقالة، فعلى الأوَّلِ؛ ينبغي ألا يُستعمَل لَفْظ النقض والإبطال إلاَّ أنْ يجعل كنايةَ عن [المقصودِ، وقد ذكر الرُّويانيُّ في هذا، أنَّ اللَّفظَ الَّذي يُجعَل به الرَّجُوع ينقَسِمُ إلى صَرِيح، وهو قوله: رجَعْتَ، وإلى كناية] (¬1) تفتقرُ إلى النِّية؛ كقوله: أبطلتُ الهبةَ وفَسَخْتُهَا، ولو لم يَأْتِ بلفظٍ، ولكن باع الموهوب، أو وهبه مِنْ غيره، أو وقفه، فوجهان: أَحَدُهُما: أنَّه رُجُوعٌ، كما أنَّ هذه التصرُّفاتِ في زمانِ الخيارِ فسْخ للبيع. وأصحُّهُمَا: المنْع؛ لأنَّ الموهُوبَ مِلْكُ الابن بدلَيْلِ نفُوذ تصرُّفاته فيه، فيلغُو تصرُّف الأب فيه، وهذا كما أنَّه لو ثبَتَ له الفسْخُ بالعَيْب، فتصرَّف فيه لم يحْصُل به الفسْخُ، ويخالف المبيع في زمان الخِيَار؛ بأن الملك فيه ضعيفٌ. فإن قلْنا بحُصُول الرُّجُوع، قال في، "التهذيب": في صحَّة البيع والهبة وجهان، كما في البَيْع في زمانِ الخِيار، ويجري الوجهان في حُصُول الرجوع، إذا أتلف الطَّعامَ المَوْهُوبَ، أو أعتق العَبْد أو وطئ الجَارِيَة وأشارَ الإمَامُ إلى وجّهٍ ثالَث؛ وهو أنَّ مجرَّد الوطْء ليْسَ برجوع، لكن إذا أحْبَلَها، وحَصَل الاستيلاد كان راجعاً. وعلى الصَّحيح؛ يلزمه بالإتلاف القيمة ويلْغُو الإعتاقُ، وعلَيْه بالوطْءِ مَهْرُ المثل، وبالاستيلاد القيمةُ (¬2). ولو صبَغ الثَّوْبَ الموهوب، أو خلَطَ الطعامَ بطَعَامِ نَفْسِهِ، لم يكن راجِعاً، بل هو كما لو فَعَل الغاصبُ ذلك. ¬
فروع
فروع: الرُّجُوعُ في الهِبَة حيثُ يثبت لا يفتقرُ إلَى قضاءِ القاضي، خلافاً لأبي حنيفة -رضي الله عنه- ولو رجَع ولَمْ يستردَّ المال، فهو أمانةٌ في يد الابْن، بخلافِ المبيعِ في يَد المُشْتَرِي بعْد فسْخ البيع، وفَرَقُوا بيْنهما بأنَّ المشتري أخذه على حكْمِ الضَّمان. ولو أنْفَقَ الواهبُ والمتَّهِب عَلَى فسْخ الهبةَ حَيْث لا رجوعَ، فينفسخُ كما لو تقايلا، أو لا ينفسخُ كالخُلع؟ فيه وجهان عن "الجُرْجَانِيَّات" والله أعلم (¬1). قَالَ الغَزَالِيَّ: الثَّانِي: الهِبَةُ المُطْلَقَةُ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَبِيرِ إِلَى الصَّغِيرِ لَمْ تَقْتَضِ ثَوَاباً، وَكَذَا إِنْ كَانَ مِنَ النَّظِيرِ عَلَى الأَظْهَرَ، وَلَوْ كَانَ إِلَى الكَبِيرِ مِنَ الصَّغِيرِ فَقَوْلاَنِ: الجَدِيدُ: أنَّهُ لاَ ثَوابَ (م)، والقَدِيمُ: أنَّهُ يَلزَمُهُ (ح) لِلعُرْفِ، ثُمَّ قِيلَ: إنَّهُ مَا يَرْضَى بِهِ الوَاهِبُ (م)، وَقِيلَ: قَدْرُ القِيمَةِ، وَقِيلَ: مَا يَزِيدُ (م) عَلَى القِيمَةِ وَلَوْ بِقَلِيلٍ، فَإِنْ لَمْ يُسَلَّمْ إِلَيْهِ مَا هُوَ الثَّوَابُ رَجَعَ فِيهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تكلَّمنا في أحَد أقْسَامِ الهبَة، وهو الهبةُ المقيَّدة بنَفي الثواب، وفرَّعنا على المذْهَبِ الصَّحيح في صحَّة هذه الهبة. وفيه وجّة: أنَّها لا تصحُّ، إذا أوجبنا الثوابَ بمُطْلَقِ الهبَة؛ لأنَّه شرْطٌ يخالفُ مقْتضاها. والقِسْمُ الثاني: الهبةُ المطْلَقة، ويُنْظَر فيها، إنْ وهبَ الأعلَى منْ الأدنى، فلا ثوابَ لَهُ، إذ لا يقتَضِيهِ اللفْظُ ولا العادَةُ، وإنْ كان بالعكس فقولان: أحدهما: أنه لا يلزمُ الثَّواب أيْضاً، وبه قال أبو حنيفة وأحمد -رضي الله عنهما- لأنه لو أعارَ دَاراً لا يلْزَمُ المستعير شَيْءٌ، فكذلك إذا وهَبَ؛ إلحاقاً للأعيان بالمنافع. والثاني: وبه قالَ مالكُ: يلزَمُهُ؛ لاطراد العَادَةِ به. وقد رُوِيَ عن عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّهُ قال: مَنْ وَهَبَ هِبةً يرْجُو ثوابَها، فهو ردٌّ على صاحِبِهَا ما لَمْ يَثبُتْ منها (¬2) ولا بدَّ الآن منْ معرفة أمرَيْن: ¬
أحدُهما: أنَّ عامَّة الأصْحَاب رجَّحوا القولَ الأوَّل، لكنَّ الشيخَ أبَا محمد والقاضِيَ الرُّوياِنيُّ حَكَما بأنَّ الثَّاني أصحُّ. والثاني: أنَّ القَوْلَ الأوَّلَ يَشْتَهِرُ بالجديد، والثَّاني بالقَديم، لكنَّ الثَّانِيَ مرويٌّ عن "كتاب التَّفْلِيس" من الجديد، كما هو محكيٌّ عن القديم، وفي اختلاف العراقِيِّين ذكر القولَيْن جميعاً، فإذا هما مذكوران في الجديد، إلا أنَّه لم ينقل عن القديم سوَى الثاني، فشَهِرَ بالقديم، ومقابِلُهُ الجديد. التفريع: إذا أوجبنا الثواب ففي قدره أربعة أوجه: أحدهَا: ما يَرْضَى به الواهبُ؛ لما رُوِيَ أنَّ أعرابيّاً وَهَبَ للنَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- نَاقَةً، فَأَثَابَهُ عَلَيْهَا، وقال: أَرَضَيْتَ؟ قَالَ: لاَ، فَزَادَهُ، وقَالَ: أَرَضِيْتَ؟ قال: نَعَمْ. فقال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَلاَّ أتَّهِبَ إلاَّ مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ أَنْصَارِيٍّ أَوْ ثَقِفِيٍّ" (¬1). وأرجها على ما ذكره الإمامُ والقاضِي الرّويانيُّ -أنَّه قدْرُ قيمةِ المَوْهُوب؛ لأنَّه عَقْدٌ يقتضي العِوَضَ، ولا يُشْتَرطُ فيه التَّعْيينُ والتَّسْمية، فإذا لم يسمِّ شيئاً، وجَبَ عوض المثل؛ كالنكاح، وبهذا قال مالكٌ. والثالث: ما يُعَدُّ ثواباً لِمِثْلِه في العادَة؛ لأن أصْل الثَّواب مأخوذٌ منْ العادة، فكذلِكَ قَدْرُه. والرابع: أنه يكفي أقلُّ ما يُتموُّل؛ لوقُوع اسْمِ الثواب عليه، وبعْضُهم يجعل هذه الأوْجُهَ أقوالاً مخرَّجة. وفي شرْح القاضي ابن كج أنَّ الأوَّل والثالِثَ قولان منصُوصَان، ولا يتعيَّن للثوابِ جنْسٌ من الأموال، بل الخِيَرَةُ فيه إلى المُتَّهِبْ. وإذا فرَّعنا على تقدير الثَّواب بقَدْر القيمة، فلَوِ اختلف قدْرُ القيمة، فعَنْ صاحب "التقريب" وجْهان في أنَّ الاعتبار بقيمةِ يَوْم القَبض أمْ بيَوْم بَدْل الثواب؟ والأظْهرُ الأوَّل، ¬
ثم المتهب، إن أثاب بما يصلح ثواباً، فذَاكَ، إلاَّ، فللواهب الرجُوع، إن بقي الموهوبُ بحاله (¬1)، وإن زاد زيادةً متصلةٌ، رجَع فيه مع الزِّيادة. وفي "أمالي السَّرْخَسِيِّ" وَجْةٌ آخر: أنَّ للمتَّهِب أنْ يُمْسِكَه وَيبْذُلَ قيمته دون الزِّيَادة، وإنْ زاد زيادة منفصلةً، رجع فيه دُون الزِّيادة. وإن كان الموهوب تالِفاً، فوجهان، ويقالُ: قولان منصُوصان في القَدِيم: أصحُّهُمَا: أنَّهُ يرْجع بقيمته؛ لأنَّه مملوكٌ بعوَضٍ، فإذا تَلِفَ، كان مضموناً كالبَيْع. والثاني: لا يَرْجِعُ بشَيْءِ؛ كالأب في هبة ولَده. وإنْ كان ناقصاً، رجَع إليه، وفي تغريمه المتهب أرْشَ النُّقْصان، الوجهان. وقيل: له أن يترك العَيْن ويُطَالِبَ بكمال القيمة (¬2). ولو وهبَ النَّظيرُ مِنَ النَّظير، فطريقان: أحدُهَما: التخريج على القولَين السابقَيْن؛ لأنَّ الأقران لا يتحمَّل بعضهم من بعض في العادة، بل يعوّضون. وأظهرُهُما: القَطْع بنَفْي الثواب؛ لأنَّ القَصْدَ من مثله الصِّلة، وتأكيد الصداقة، وقد حَصَلَ هذا الغَرَضُ، فأشبه الصدقة لما كان الغَرَض منها ثواب الآخرة، لم يقْتَض ثواباً في الحال. وعن صاحب "التقريب" تخريجُ القولَيْن في هبة الأعْلَى من الأدنَى أيضاً (¬3)، فجوز أن يُعَلَّمَ لذلك قولُهُ في الكتاب: "إن كانت من الكبير إلى الصغير، لم يقْتَضِ ثواباً" بالواو. وقوله: "من الكبير" يعْني إنْ كانتْ صادِرة من الكبير لا ما تُرِيد بقولك: وهبتُ مِنْ زَيْدٍ، وكذا قوله: "إلى الكَبِيرِ من الصغير". وقوله "وكذا إنْ كانت منَ النَّظير" يصحُّ حمله على المَعْنَيَيْنِ. ¬
وقوله: "لا ثواب" يجوزُ أنْ يُعْلم بالميم. وقوله: "يلزمه" بالحاء والميم والألف. وقول وقيل: "ما يَزِيدُ على القيمة ولو بقليل" هذا الوجْهُ لم أرَ روايتَهُ بهذه العبارة لغَيْر صاحب الكتاب، ولا لَهُ إلاَّ في هذا الكِتَاب، والمرويُّ مكانه أنَّ الثوابَ ما يُعَدُّ ثواباً لمثْلِه في العَادَة، ويُشْبِه أن يكونَ هو الذي أرادَهُ، وذهب إلى أنَّ العادةَ تقْتَضِي زيادةً عَلَى قدْر القيمة، فإنَّ المهَدي لو رَضِيَ به، لبَاعَهُ في السُّوق، ويجوزُ إعْلاَمُ هذا الوجّه الأوَّل بالميم، والله أعلم بالصواب. قَالَ الغَزَالِيٌّ: أَمَّا إِذَا صَرَّحَ بِشَرْطِ الثَّوَابِ فَإِنْ عَيَّنَهُ فَهُوَ بَيْعٌ وَيَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ البَيْعِ (و)، وَلَكِنْ عِنْدَ العَقْدِ أَوْ عِنْدَ القَبْض قَوْلاَنِ، وَقِيلَ: لاَ يَنْعَقِدُ لِتَنَاقُضُ اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولاً، فَإِنْ قُلْنَا: المُطْلَقُ لاَ يَقْتَضِيهَ بِحَالٍ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَإِنْ قُلْنَا: يَقْتَضِيه فَقِيلَ: إِنَّ هَذَا كَالمُطْلَقِ، وَقِيلَ: إِنَّ التَّصْرِيحَ بِالثَّوابِ يَجْعَلَهُ بَيْعاً فَيَفْسُدُ بِالجَهْلِ. قَالَ الرَّافِعِيَّ: القِسْمُ الثالث: الهبةُ المقيَّدة بإثباتِ الثَّواب، ولا يخلُو الحَالُ؛ إمَّا أنْ يكون معلُوماً، أو لا يكون. الحَالةُ الأُولَى: إذا كان معلُوماً، ففيه قولان: أصحُّهُمَا: صحَّةُ العقْد؛ أمَّا إذا قلنا إنَّ مطلَق الهبَةِ لا يقتضي الثَّوَاب؛ فلأنَّه معاوضةُ مالٍ بمالٍ؛ كالبيع، وأمَّا إذا قلْنا: يقتضيه؛ فلأنَّه إذا صحَّ العقد، والعوض الواجب مجهول، فأولَى أن يصحَّ، وهو معلومٌ. والثَّاني: أنه باطل، أمَّا إذا اقتضَتِ الهبةَ لثوابَ؛ فلانَّ مقتضاها ثوابٌ غيْرُ معلومٍ، ولا معيَّن بشرط المعْلُوم، والمعيَّن يخالفُهُ، وأمَّا إذا لم يقتضها؛ فلانَّ شرْطَ العِوَضِ يخالف مقتضاها، ولأنَّ لفظ الهبةِ يَقْتَضِي التبرُّع، فالجَمْع بَيْنَهُ وبيْنَ شَرْط العوض مُخِلٌّ به. والقول الثَّاني: هو الذي أراده صاحِبُ الكتاب بقوله: "وقِيلَ: لاَ يَنْعَقِدُ؛ لتناقُضِ اللفظ". وإذا قلْنا بالصحَّة، فالظاهر أنَّه بيْعٌ؛ اعتباراً بالمعنى، وهذا هو المذكور في الكِتَاب، وبه قطع القاضي أبو حامد فيما حكاه ابْنُ كجِّ عنْه سماعاً وفيه وَجْهٌ آخر أنَّه هبةٌ؛ اعتبارًا باللَّفظ. فإن قلْنا: بهذا لم يثبت فيه الخيارُ والشّفعة ولم يلْزَمْ قبل القبض، وإن قلْنا بالأوَّلْ تثبت هذه الأحكَامُ، وذكروا قولَيْن في أنَّها تثبت عَقِيبَ العَقْد، أو عَقِيبَ القَبْض، وأولهما أظهرُهما، والمرجِعُ بهما إلى التردُّد في كوْنِه بَيْعاً أو هبة. ولو وهَبَ منْه حُلِيَّاً بشَرْط الثَّواب أو مُطْلَقاً، وقلْنا: الهبةُ تقْتَضي الثَّوابَ، فالحكايةُ عن نَصِّه في حرملة أنه إنْ أثابَهُ قبْل التفرق بجنسه واعْتبرتِ المماثلة، وإن أثابَهُ بَعْد التفرق بعرضٍ، صحَّ، وبالنقْدِ، لا يصحُّ؛ لانَّه صَرْفٌ، وهذا مبنيٌّ عَلَى أنَّ هذا
العقْدَ بيعٌ. وفي "التتمة" أنه لا بأْسَ بشَيْءٍ منْ ذلك؛ لأنَّا لم نلْحقه بالمعاوَضَاتِ في اشتراط العِلْم بالعِوَض، فكذلك في سائِرِ الشَّرائط، وهذا يُخَرَّج على قولنا: إنَّهُ هبةٌ. والإمام -قدس الله روحه- حكَى الأوَّل عنِ الأصحاب؛ نقْلاً، وأبدَى الثَّاني احتمالاً، ووَجَّهَهُ بأنَّ باذل الثواب في حُكْم واهبٍ جَدِيدٍ، وكأنه يقابلُ هبة بهبة، ثم زيَّفه بأنَّا لا نشترط في الثَّواب لفْظَ اَلعَقْد إيجاباً وقبُولاً، ولو كانتْ هبة محددة لاشترط، وخرّج على الوجهَيْن ما إذا وهَب الأبُ منْ ابنه بثوابٍ مَعْلومٍ، فإنْ جعلْنا العقد بيعاً، فلا رُجُوعَ له، وإلاَّ، فله الرجوعُ. وإذا وجد بالثوْب عيْباً، وهو في الذمَّة، طالب بسليم، وإنْ كان معيّناً، رجَع إلى عَيْن الموهُوب، إن كَانَ باقياً، وإلاَّ طالب بقيمته، واستبعدَ الإمامُ مَجِيء الخلافِ في أنَّهُ بيعٌ أو هبةٌ ههنا، حتى لا يَرْجِعَ على التقدير الثاني، وإنْ طرد بعْضهم، وإذا جعلْنَاه هبةً، فكافأه بما دُون المشْرُوط، إلاَّ أنَّه قريبٌ منه، ففي شرْح القاضي ابن كجٍّ وجهان في أنّه، هل يُخْبَرُ على القَبُول؛ لأنَّ العادةَ فيه المسامحةُ؟ (¬1). الحالُ الثانيةُ: إذا كان الثَّوابُ مجهولاً، فإنْ قُلْنا: الهبةُ لا تقْتَضِي الثَّوابَ بَطَلَ العَقْدُ؛ لتعذُّر تصحيحه بَيْعاً وهبةً. وإن قلْنا: إنَّها تقتضِيه، صحَّ، وليْسَ فيه إلاَّ التصريحُ بمقتضىَ العَقْد، هذا ما أورده الأكْثَرُون، وحَكَى صَاحِبُ الكتاب وجْهاً آخر؛ أنَّهُ يَبْطُل؛ بناءً على أنَّ ذكْر العوض يلحقه بالبَيْع (¬2)، وإذا كان بَيْعاً، وجب أنْ يكون العِوَضُ معْلُوماً. ¬
والأوَّلُون يقولون: إنَّما يُجْعَل بيعاً عَلَى رأْيٍ، إذا تعذِّر جعلُه هبةً، وذلك إذا قلْنا: إنَّ الهبةَ لا تَقْتَضِي الثَّوابَ. أمَّا إذا قلْنا: "يقتضيه، فاللفظ والمَعْنَى متطابقان، فلا معنَى لجعله بَيْعاً. وحكَى القاضِي ابن كجٍّ عنْ نصه أنَّه، لو وهَبَ من اثنين بشرْط الثواب، فأتى به أحدُهُما دون الآخر، لم يرجع في حصَّة من أثاب، وأنَّه لو أثاب أحدَهما عن نَفْسه، وعنْ، صاحبه، ورضِيَ به الواهبُ، لم يرجع على واحدِ منهما، ثم إنْ أثاب بغير إذْنِ الشريك لم يرجع عَلَيْه، وإن أثاب بإذْنه، رَجَعَ بالنِّصْف هذا إذا كان الثوابُ ممَّا يُعْتَادُ ثواباً لِمِثْلِهِ، فإنْ زاد، فهو متطوع بالزيادة. ولو خرج الموهوب مستحقّاً بعد الثَّواب، رجع بما أثاب على الواهب، وإن خرج بعْضه مستحقّاً، فهو بالخيار بيْن أن يَرْجِعَ على الواهب بِقِسْطِهِ منَ الثَّواب، وبْين أنْ يردَّ الباقَي، ويرْجعَ بجميع الثواب، وقِيل: يبطلُ الهبةُ في الكُلِّ، كما في نظيره من البَيْع. وقال القاضي أبو حامد: لا يجيْء قوْلُ الإبْطال في الهِبَة. ولو قال الواهِبُ: وهبتُ منْكَ ببذل، وقال المتَّهب: وهبت بلا بَدَلٍ. والتفريعُ عَلَى أنَّ مطْلَق الهبة لا يقتضي ثواباً، فالمصدَّق الواهب؛ لأنَّه لم يعترفْ بزوالِ مِلْكِهِ إلاَّ ببَدَلٍ أو المتَّهب؛ لأنَّهما توافَقَا عَلَى أنَّه ملْكُهُ والأصل أنْ لا عِوَض؟ فيه وجهانُ بالأول أجاب القاضي ابْنُ كج (¬1). ونختم الكتاب بفُرُوع متعددة حامِدِينَ الله تعالى: لو دفَعَ إلَيْهِ دِرْهماً، وقال: خذْهُ وادْخُلْ به الحَمَّام، أو دَرَاهِمَ، وقال؛ اشْتَرِيهَا لِنَفْسِكَ عَمَامَةَ. في "فتاوى القفال" أنَّه، إنْ قال ذلك عَلَى سبيل البسط المعتاد، مِلْكَهُ وتصرَّف فيه، كيف شاء، وإن كان غَرَضُه تحْصِيلَ ما عيَّنه لما رأَى به من الوسخ والشعث، أو لِعِلْمِهِ بأنه مكْشُوفُ الرأس، لم يَجُز صرْفُه إلَى غيْر ما عيَّنه. وَسُئِلَ الشَّيْخُ أبو زَيْد عن رجُلٍ مات أبوه، فبَعَثَ إلَيْه إنْسانٌ ثَوْباً ليكفنه فيه، هلْ يملكه حتَّى يُمْسِكَهُ ويُكَفِّنَهُ في غيره؟ فقال: إنْ كان الميِّتُ ممن يتبرك بتكْفِينِهِ لفقه أو ¬
ورع فَلاَ، ولو كَفَّنه في غَيْره، وجَب ردُّه إلَى مالكه ولو بعَثَ إلَيه هديَّةَ في ظَرْفٍ، والعادةُ في مثْلِها ردُّ الظُّرْف، لم يكن هديَّةً، وإن كانتِ العادةُ أَلاَّ يردُّ؛ كقواصر التَّمْر، فهو هديةٌ أيضاً، وقد تميز القسمان بكونه مشْدُودًا فيه، أو غيْرَ مشْدودٍ، وإذا لم يكُنْ الظَّرْف هديةً، كان أمانةً في يد المُهْدَى إليه، وليْسَ له استعمالُهُ في غَيْر الهديَّة وإمَّا فيها، فإنِ اقتضتِ العادةُ التَّفْرِيغَ، لزمه تفريغه، وإنِ اقتضَتِ التنازل منْه، جاز التنازُلُ منه. قال صَاحِبُ "التهذيب": ويكونُ كالمستعارِ. وإذا نفذ كتاباً إلَى حاضرٍ أو غائبٍ؛ وكتَبَ فيه أن اكْتُبِ الجوابَ عَلَى ظَهرِهِ، فعلَيْه ردُّه، ولَيْسَ له التصرُّفُ فيه، إلاَّ، فَهُوَ هديّة يملكُها المكَتوبُ إلَيْه هكذا قاله في "التتمة" وذكر غيرُهُ أنَّه يبقَى على مِلْكِ الكاتِب، وللمكتوبِ إلَيْه الانتفاعُ به على سبيل الإباحَةِ. وهبةُ منافعِ الدَّارِ، هلْ هِيَ إعارةٌ لها؟ فيه وجهان في "الجُرجانيات" ولا يحْصُلُ الملكُ بالقَبْض في الهبة الفاسِدَة؛ خلافاً لأبي حنيفة -رضي الله عنه- والمال المقبوضُ مضمونٌ على المُتَّهِبِ، كالمَقْبوض بالبَيْع الفَاسِد، أو غير مضمون كالمقبوضِ في الهِبة الصحيحة؟ وجهان، ويقال: قولان (¬1)، والله أعْلَمُ. ¬
كتاب اللقطة
كِتَابُ اللُّقَطَةِ، وَفِيهِ بَابَانِ البَابُ الأَوَّلُ في أَرْكَانِهَا قَالَ الغَزَالِيَّ: وَهِيَ الالْتِقَاطُ والمُلْتَقِطُ وَاللَّقْطةُ أَمَّا الالْتِقَاطُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ أَخْذِ مَالٍ ضَائِعِ لِيُعَرِّفَهُ المُلْتَقِطُ سَنَةً ثُمَّ بَتَمَلَّكَهُ إِنْ لَمْ يَظْهَرْ مَالِكُهُ بِشَرْطِ الضَّمَانِ إِذَا ظَهَرَ، وَالأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَكِنَّهُ إِنْ وَثِقَ بِأمَانَةِ نَفْسِهِ فَمُسْتَحَبُّ (م)، وَإِنْ عَلِمَ الخِيَانَةَ فَمُحَرَّمٌ، وَإِنْ خَافَ الخِيَانَةَ فَفِي الُجَوَازِ خِلاَفٌ، كَمَا في تقَلُّدِ القَضَاءِ مِمَّنْ يَخَافُ الْخِيَانَةَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنِ الْتَقَطَ لُقَطَةً فَليُشْهِدْ عَلَيْهَا، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الإِرْشَادِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ إيجَاباً فَفِيهِ خِلاَفٌ (و)، ثُمَّ أَشْهَدَ فَليُعَرِّفِ الشُّهُودُ بَعِضِ (و) أَوْصَافِ اللُّقَطَةِ لِيَكُونَ في الإِشْهَادِ فَائِدَةٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: عَنْ زيدِ بْنِ خالدٍ الجُهَيْنيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: جَاءَ رَجُلٌ إلَى رسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَسَألَهُ عنِ اللُّقَطَةِ (¬1) - فَقَالَ: "اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، ¬
فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُها، إلاَّ فَشَأْنَكَ بِهَا"، قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَم؟ قال: هِيَ لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ، قَالَ: فَضَالَّةُ الإْبِلِ؟ قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا (¬1). وفي الباب أحاديثُ أُخرَ نأتي ببعضها في الأثناء. أمَّا اللُّقطُ المترجم به البابُ فإنَّ الأَزْهَرِيَّ (¬2) حَكَى في "شرح حروف المُخْتَصِر" عن اللَّيْثِ عَنِ الخَلِيلِ أن اللُّقَطَةَ بَتَحْريكِ القَافِ: الذي يَلْقُطُ، واللُّقْطَة بالتَّسْكِين: الشَّيْءُ المَلْقُوط، قال: وهذا هو القياسُ إلاَّ أنَّ الرُّواةَ أَجْمَعُوا على أن التَّحْرِيكَ فِي حديث زَيْدِ بْن خَالدٍ -رَضِيَ الله عَنْه- وكذلك رَوَاهُ أبُو عُبَيْدٍ عَنِ الأَحْمَرِ، وبه قال: الفَرَّاءُ وابْنُ الأَعْرَابِيِّ والأَصْمَعِيُّ وغَيْرُهُم، ثم قال: وهو الصحيحُ، فإذن المالُ المَلْقُوطُ لُقْطةٌ بِالاتفاق، وفي تسمِيَتِهِ لُقَطَةً بالتَّحْريك اختلافٌ. وَعَدَّ ابْنُ السِّكِّيتِ في الإصْلاح (¬3) اللُّقَطَةَ من الأسماء التي على فُعْلَهُ وفُعَلَة، واللّقط واللِّقَاط أيضاً الشَّيْءُ كل المَلْقُوطُ، ثم جَعَلَ حُجَّةُ الإِسلام -رحمه الله الكتاب في بابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: في الأرْكَانِ، وهي الالْتِقَاطُ وَالمُلْتَقِط واللُّقَطَةُ. أمَّا الالْتِقَاطُ: فمعناه مشهورٌ في اللُّغَة. ¬
وقولُهُ في الكتاب: "أمَّا الالتقاطُ، فهو عبارة عن أخْذِ مالٍ ضَائعٍ؛ ليُعَرِّفَهُ المُلْتَقِطُ سَنَةً، ثم يَتَمَلَّكَهُ، إنْ لم يَظْهَرْ مالِكُهُ بشَرْطِ الضَّمَان، إذا ظَهَر" إشارةٌ إلَى معناه الشرعيِّ الذي يَقْصِدُهُ الفقيهُ، لكنَّه قدْ لا يُسْتَحْسَنُ ذلك؛ لأن الأَشْبَهَ أنْ يُقَالَ: ليس للالتقاط معنًى شرعيٌّ، بل هو مقرَّرٌ على حَقِيقته، لكنَّ الفَقِيهَ يتكلَّمُ في الالتقاطِ خاصٌ، وأيضاً؛ فلانَّهُ أخَذَ المُلْتَقِطُ في تفسير الالتقاط، وأيْضاً، فلأنَّه أخَذَ التعريفَ أو قَصَدَ التعريفَ في التفسير، وذلك لاَ يلائم عدَّه التعريف في الباب الثاني منْ أحكام الالتقاطِ، وكذا القول في التملُّك، وفي الضَّمان عند ظُهور المَالِكِ، وفقْهُ الفَصْل مسألتاَن: الأُولَى: قال الشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنه- في "المختصر": ولا أُحِبُّ لأُحُدٍ تَرْكَ لُقَطَةٍ وَجَدَهَا، إِذَا كَانَ أَمِيناً. وقال في "كتاب اللُّقطَة الصغير" منْ "الأُمِّ": "ولا يَحِلُّ تَرْكُ اللُّقَطَةِ لِمَنْ وَجَدَهَا إذَا كَانَ أَمِيناً علَيْهَا" وللأصحاب فيها طريقان: قال الأكْثَرُونَ: المسألة على قولَيْن: أحَدُهما: وُجُوبُ الالتقاط؛ لأنَّه حُرْمَة مالِ المُسْلِمِ كحرمةِ دَمِهِ، فيجبُ صَوْنُهُ منْ الضَّياع. وأصحُّهُمُا: لا يَجِبُ، كما لا يجبُ قَبُولُ الوديعة، إذا عُرِضَتْ عليه. وعن ابْنِ سُرَيْجٍ وأبي إسحاقَ حَمْلُ النَّصَّيْنِ عَلَى حالَيْن، إن كانت في موضع تغْلِبُ على الظنِّ ضياعُها بأن تكونَ في ممرِّ الفسَّاقِ والخونة، وجب الالتقاط، وإلاَّ، لم يجبْ؛ لأنَّ غيرَه يأخُذُها ويحفَظُها. هذا ما رواه عامَّةُ الحملة. وفي "النهاية" طَرِيقة أخرى: أنَّه إن كان لا يَثِقُ بِنَفْسِهِ، لَمْ يجبْ الاَلتِقاطُ علَيْهِ قوْلاً واحداً، والقولانِ فيمَنْ يَغْلِبُ على ظَنَّهِ أنَّه لاَ يخونُ. وأخرَى قاطعةٌ بنفي الوجُوبِ مطْلَقاً حاملةٌ للنصِّ الآخَرِ على تأكيد الأمْرِ به. وإذا قلْنا بنفْي الوُجُوبِ، فإنْ وَثَقَ بِنَفْسِهِ، ففي الاستحباب وجهان: أصحُّهُمَا: ثبوتُهُ. قال في "النهاية": وإن لم يَثِقْ بِنَفْسِهِ، وليْسَ هو في الحالِ مِنَ الفَسَقَةِ، فلا يُسْتَحَبُّ له الالتقاطُ لا مَحَالةَ. وحَكَى عن شَيْخِه وجهين في الجواز: أصحُّهُمُا: ثُبُوتُهُ، وشبَّههما بالوجْهَيْن في أنَّ الصالح للقضاءِ، إذا لم يأْمَنْ عَلَى نَفْسِهِ، هل يجوزُ له تقلُّدُ القَضَاء؟ وسواءٌ قلْنا بوجُوب الالتقاط، أو عَدَمِهِ، فلا تُضْمَن اللقطة بالتَّرْكِ؛ لأنَّها لم تَحْصُلْ في يَدِه. هذا حكم الأمِنِ. أمَّا الفاسِقُ، فجَوابُ مُعْظَمِ الأصْحَابِ أنَّهُ يُكْرَه له الالتقاط؛ لأنَّه رُبَّما تدعوه نَفْسُه
إلَى كتمانِها، فإنْ فَعَلَ فسيأتي الكلامُ فيه. وقولُه في الكتاب: "وإنْ عَلِمَ الخيانةَ فمحرَّم" (¬1) يخالف ما أطْلَقَه الأكثرون منْ الكراهة، ويوافقُ قوله في "الوسيط" أنَّ الفَاسِقَ لا يجوزُ له الأَخْذُ، وأنَّه قدَّر أنَّ قَوْلَهُ: "وإنْ عَلِمَ الخيانَةَ فيمَنْ هو أمينٌ في الحال، لكنَّهُ يعْلَمُ أنَّهُ لو أخَذَ، لخَانَ وَفَسَق، فالحكمُ بالتَّحْرِيم أبْعَدُ. وقولُه قبله: "والأصَحُّ أنَّه ليس بواجبٍ" يجوز أنْ يُعْلَمَ بالواو؛ إشارةً إلَى قَوْلِ مَنْ قطَع بنَفْيِ الوُجُوبِ، وقولُه: "فمستحبٌّ" بالميم والألف؛ لأنَّ الحكايةَ عن مالكٍ وأحمد -رحمهما الله- كراهة الالْتِقَاط. الثانيةُ: في وُجُوبِ الإشهاد على اللُّقَطَةِ وجّهان، ويُقَالُ: قولان: أظْهَرُهُمَا: وبه قَالَ مالكٌ وأحَمَدُ -رحمهما الله- أنَّهُ لا يجِبُ كما لاَ يجبُ الإشْهَادُ على الوديعة، إذا قَبِلَهَا؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يَأْمُرْ بِهِ في حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ -رَضِيَ اللهُ عنه-. والثاني: وبه قال أبو حنيفة -رضي الله عنه- أَنَّهُ يَجِبُ الإشْهَادُ؛ لما رُوِيَ عَنْ عِيَاضِ ابْنِ حِمادٍ -رضي الله عنه- أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنِ الْتَقَطَ لُقَطَةً، فَلْيُشْهِدْ عَلَيْهَا ذَا عَدْلٍ أو ذَوَي عَدْلٍ" (¬2). ومَنْ قَالَ بالأوَّل، حَمَلَه عَلَى الاستحباب، ورُبَّما احتجَّ به للاستحباب مِنْ حيثُ إنَّه لو كان الإشهادُ واجباً، لمَا خيَّر بَيْنَ الوَاحِد والاثنين، ثم في كيفيَّة الإشهاد وجهان: أحَدُهُمَا: يُشْهِدُ عَلَى أصْلِهَا دُونَ صِفَاتِهَا؛ لِئَلاَّ ينتَشِرَ، فيتوَّسَل بها الكاذِبُ، إنِ اكْتَفَيْنَا بالصِّفَة، وبمواطأَة الشُّهود، إنْ أحَوجَنَا إلى البينةِ، وهذا أصَحُّ عندَ صَاحِب "التهذيب"-قال: ويجوزُ أنْ يَذْكُرَ جِنْسَهَا. ¬
والثاني: أنه يُشْهِدَ عَلَى صِفَاتِها أيضاً، حتى لو مات لاَ يَمْلِكْها الوارثُ، وَيشهِدَ الشُّهُود لِلْمَالِك، وأشارَ الإمامُ إلى توسُّط بيْن الوجهَيْن؛ وهو أنَّهُ لاَ يستوعبُ الصِّفَاتِ، ولكنْ يَذْكُرُ بعْضها؛ ليكونَ في الإشهاد فائدةٌ، هذا، وقولُه في الكتاب "ولِيَعرِّفِ الشُّهُود بَعْض أوْصَافِ اللُّقَطَةِ" ويجوزُ إعلامُه بالواو؛ للوجه الأوَّل. وقوله: "واحتمل أن يكونَ إرْشَاداً واستِحْباباً، واحْمَل أن يكون إيجاباً،" هذا هو الوجه، وفي أكثر النسخ، "فاحتمل أنْ يكونَ بطريقِ الإرْشَادِ، واحتمل أنْ يكونَ اسْتِحْبَاباً" هكذا يوجد في أكثر النُسَخ، وليس بصحيح في هَذَا الموضِعِ، وإنْ كان بينهما فرقٌ إلاَّ أن يُقَالَ المعْنَى بطريق الإرْشَاد إلَى رعاية الواجِب، لكنَّهُ بَشع وقولُه: "ففيه خِلاَفٌ" يجوزُ أن يُعْلَمَ بالواو؛ لأنَّ أبا الفَرجِ السَّرْخَسِيَّ حَكَى طرِيقَةً قاطعةً بنَفْيِ الوُجُوب واللهُ أعلمُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: أَمَّا المُلْتَقِطُ فَهُوَ كلُّ حُرٍّ مُسْلِم مُكَلَّفٍ عَدْلٍ لأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الأَمَانَةِ وَالوِلاَيَةِ وَالكَسْبِ، وَالأَصَحُّ أَنَّ الكَافِرَ أَهْلٌ لِلالْتِقَاطِ في دَارِ الإِسْلاَمِ كَالاحْتِطَابِ، وَفِي أَهْلِيَّةِ الفَاسِقَ وَالعَبْدِ وَالصَّبيِّ قَوْلاَنِ (و) لفَوَاتِ أَهْلِيَّةِ الوِلاَيَةِ وَالأَمَانَةِ، وَفَائِدَة المَنْعِ أنَّهُمْ لاَ يَتَمَلَّكُونَ، وَتَكُونُ فِي أَيْدِيهِمْ مَضْمُونَةً، وَلَعَلَّ الأَصَحَّ أنَّهُمْ يَتَملَّكُونَ لأَنَّ أَخْبَارَ اللُّقَطَةِ عَامَّةٌ، فَعَلَى هَذَا؛ القَاضِي إمَّا أَنْ يَنْتَزِع (ح و) منْ يَدِ الفَاسِقَ عَلَى أَحَدَ الوَجْهِيْنِ، أَوْ يُنَصَبّ (ح و) عَلَيْهِ رَقِيباً كَمَا يَرَاهُ إِلَى أن تَمْضِيَ مُدَّةُ التَّعْرِيفِ. قَالَ الرَّافِعيُّ: الركْنُ الثَّانِي: المُلْتَقِطُ، وبناءُ الكَلامِ فيه عَلَى أصْلٍ؛ وهو أنَّ اللُّقَطَةَ فيها تعني الأَمَانَةَ والوِلاَيةَ والاكْتِسَابَ. أمَّا الأمانةُ والوِلايةُ، ففي الابتداء، فإنَّ سبيلَ المُلْتَقِطِ في مدة التعريف سبيلُ الأُمَنَاءِ لا يضمَنُ المال إلاَّ بتَفْرِيط، والشَّرْعُ فَوَّضَ إلَيه حِفْظَه كالوليِّ يحفظ مالَ الصبيِّ. وأمَّا الاكتسابُ، ففي الانتهاءِ منْ حيثُ إِنَّ له التَمَلُّكَ بعْد التَّعْرِيف، وما المغلَّب؟ فيه وجهان، وَيُقَالُ: قولان (¬1): أَحَدُهُمَا: معنى الأمانةِ والوِلاية؛ لأنهَّا نَاجِزَةٌ والتَّمَلُّكُ منتظر فيُنَاطُ الحكمُ بالحَاضِر، وُيُبْنَي الآخرُ علَى الأوَّلِ. والثَّانِي: مَعْنَى الاكْتِسَابِ؛ لأنَّه مالُ الأمْرِ ومقصودُه، فالنَّظرُ إلَيْه أوْلَى؛ لأنَّ ¬
المُلْتَقِطَ مستقلٌّ بالالْتِقَاطِ، وآحادُ النَّاسِ لا يستقلُّون بالأمانات إلاَّ بائْتمانِ المَالِكَ، ولكنْ يستقلُّون بالاكتساب. إذا عَرفْتَ ذلك، فإن اجتمعَ في الشَّخْصِ أربَعُ صفاتٍ: الإسْلامُ، والحُرِّيَّةُ، والعَدَالَةُ، والتَّكْلِيفُ، فله أنْ يَلْتَقِطَ، وُيعَرِّفَ وَيتَمَلَّكَ؛ لأنَّ أهْلٌ للأمانة والولاية والاكتساب جميعاً، وإلاَّ، ففيه مسائلُ: إحْدَاهَا: في تَمْكِين الذَّمي من الالتقاطِ في دَارِ الإسْلاَمِ وجهان: أحدُهُما: لاَ يُمَكَّنُ؛ لما فيه منْ مَعْنَى الأمانةِ والولاية، ولأنَّهُ ممنوعٌ من التسلُّط في دار الإسْلاَمِ؛ ألاَ تراه أنَّه لا يُحْيي وأصحُّهما: التَّمْكِينُ؛ ترجيحاً لمعْنَى الاكتسابِ، كما أنَّه يَصْطَادُ ويَحْتَطِبُ، وقَطَعَ بعضُهُمْ بالوَجّه الثَّاني، ورُبَّما شَرَطَ في التجوِيز كونَهُ عَدْلاً في دينه، وقولُه في الكتاب: "والأصحُّ أنَّ الكافِرَ أهلٌ للالتقاط" يمكن حملُه على الأصحِّ منْ الوجهَيْنِ، فيكونُ المذكورُ طريقةَ الخِلاَفِ، وعلَى الأصَحِّ منْ الطريقَيْن، فيكونُ المذكورْ الطريقةَ القاطعةَ. فإنْ قلْنا: ليس له الالْتِقَاطُ، فالتَقَطَ، أخَذَهُ الإِمَامُ، وحَفِظَهُ إلَى ظُهُورِ مَالِكِهِ. وإنْ قُلْنَا: بِجَوَازِهِ، قالي في "التَّهْذِيب": "هُو كما لَوِ الْتَقَطَ الفاسِقُ" (¬1) وذَكَر أنَّ المرتدَّ، إنْ قُلنَا: إنَّ مِلْكَهُ زائلٌ، يُنْتَزَعُ منْ يَدِه، كما لَوِ احْتَطَبَ، يُنْتَزَعُ منْ يَدِه. إنْ قُلْنَا: مِلْكُهُ غَيْرُ زائِلٍ، فكالفَاسِقِ يَلْتَقِطُ. ولَكَ أنْ تَقُولَ: إذا قُلْنَا: إنَّ مِلْكَهُ زائلٌ، فإنَّ ما يَحْتَطِبُهُ يُنْتَزَعُ مِنْ يَدِهِ، وَيَحْكُمُ بكوْنِهِ لأهْلِ الفَيْءِ، فإن كانت اللُّقَطَة كذلك فقياسُه أنْ يجوز للإمام ابتداءُ الألتِقَاطِ لأَهْلِ الفَيْءِ ولبيتِ المالِ، وأنْ يَجُوزَ للْوَلِيّ الالْتِقَاطُ للصَّبِيِّ. وإذا قلْنا: إنَّ ملْكَهُ غَيْرُ زَائِلٍ، فهو بالذميِّ أشْبَهُ منه بالفاسِقِ، فليكن الْتِقَاطُهُ كالْتقاطِ الذِّمِّيِّ، وكذلك أورده الشَّيْخُ المتولِّي. ¬
الثانية: هلِ الفَاسِقُ أهل للالتقاط؟ عن القَفَّالِ تخريجُه على الأصْلِ المذكُور، إنْ رَجَّحنَا الأمانة والوِلاية، فلا، وما يأخُذُه حكمه حُكْمُ المغْصُوب، وإن رجَّحنا الاكتسابَ، فَنَعَمْ، وهذه الطريقةُ هِيَ التي أفردها في الكتاب، وقطعَ عامَّةُ الأصحاب بأهْليَّته، وهو الذي يدُلُّ عليه نَظْمُ "المُخْتَصر"، ويُخَرَّج عليه ما حكَيْناه عَنِ المعْظَمِ أنَّهُ يُكْرَهُ له الالتقاطُ، وعلى هذا؛ فهل يُقَرُّ المالُ في يده، إذا التقط؟ فيه قولان: أصحُّهُمَا: وهو اختيار المُزَنِيِّ: لا، بل ينتزع مِنْ يَده، ويوضَع عنْد عَدْلٍ؛ لأنَّ مال أولاده لا يقرُّ في يدِه، فكَيْف يَقرُّ مال الأجانب؟ والثاني: نعَمْ؛ لأنَّ له حَقَّ التَّمَلُّك، ولكنْ يُضَمُّ إليه عَدْلٌ يُشْرِفُ عليه، وعن أبي الحُسَيْنِ بْنِ القَطَّانِ وَجْهٌ آخَرُ: أنَّه لا يُضَمُّ إلَيْه أحدٌ عَلى هذا القولِ، وعند أبي حنيفةَ وأحْمَدَ: لا يُنْتَزَعُ مِنْ يَدِهِ، ولا يُضَمُّ إليْه أَحَدٌ. وسواءٌ قلْنا: أنَّهُ ينتزع من يده، أَوْ يُضَمُّ إِلَيْه مُشْرِفٌ، ففي التَّعْرِيفِ قولان: أَشْبَهُهُمَا: وهو ظاهرُ نَصَّهِ في "المختصَر" أنَّه لا يعْتَمَدُ في التَّعْرِيفِ؛ لأنَّهُ رُبَّما لا يَخُونُ فيه، حتى لا يَظْهَر المالِكُ، بل يُضَمُّ إلَيه نظرُ العَدْلِ ومراقبتُه. والثاني: أنَّه يَكتَفِي بتَعْرِيفهِ، فإنَّه المُلْتَقِطُ، وهذا روايةُ الربيع، ثم إذا تمَّ التعريفُ، فللملْتَقِطِ التَّمَلُّكُ. وقولُه في الكتاب: "وفي أهليَّة الفَاسِقِ، والعَبْدِ والصَّبِيِّ قولان" يجوز أن يُعَلَمَ لفظُ القولَيْنِ بالواو؛ للطريقة القاطعة بأهليَّة الفَاسِقِ، وهي جاريةٌ في الصبيِّ أيضاً، ولا تَجْرِي في العبْد باتِّفاق الأصحاب. وقولُه: "ولعل الأصحَّ أنَّهم يتملّكُون" فيه تمثيلْ [الكتاب]، لكنَّكَ قدْ عرَفْتَ أنَّه ظاهر المَذْهَب في الفَاسِق بلا تمثيل وكذا القوْلُ في الصَّبِيِّ، ثم إنَّه استأْنَسَ لذلك بالأخْبَارِ الواردَةِ في اللُّقَطَةِ، فإنَّها مُطْلَقَةٌ، لا تُفرِّق بين هؤلاء وغَيْرهم. وقوله: "إمَّا أنْ يُنْتَزَعَ مِنْ يدِ الفَاسِقِ، أو يُنَصِّبَ علَيْهِ رَقيباً" -ليس تخييراً، وإنَّما هو إشارةٌ إلَى ما قدَّمناه منْ القولَيْن، والكِنَايةُ في قولهِ كما تراه لا يَنْصَرفُ إلَى أَحَدِ الأمرَيْن، بل الوَجْهُ صَرُفها إلى الرَّقِيبِ، والمعْنَى: يُنَصِّبَ رقيبًا يختارُهُ ويستصوبه. ويجوزُ إعْلاَمُ: قوله "يَنْتَزعَ ويُنَصِّبَ" بالحاء والألف؛ لما ذكرنا منْ مَذْهَب أبي حنيفةَ وأحمدَ. وقولُه: "إلَى أنْ تَمْضِيَ مُدَّةُ التَّعْرِيفِ" -إشارةٌ إلَى أنَّه يُخَلِّى بينه وبين اللُّقَطَةِ بعْدَهَا ليتملكها، [واللهُ أَعْلَمُ].
قَالَ الغَزَالِيُّ: وللْعَبْدِ أنْ يُعَرِّفَ وَيَتَمَلَّكَ بِإذْنِ السَّيِّدِ وَيُحَصِّلُ المِلْكَ لِلسَّيِّدِ، وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ فِيهِ خِلاَفٌ (و) كَمَا في الشِّرَاء، وَإِنْ تَلِفَ في يَدِهِ قَبْلَ المُدَّةِ فَلاَ ضَمَانَ، فَإنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ بَعْدَ مُدَّةَ التَّعْرِيفِ، فَإنْ أَذِنَ السَّيِّدُ في التَّملُّكِ تَعلَّقَ الضَّمَانُ بِالسَّيِّد (و) لاَ بِرَقَبتَه كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي الشِّرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَأذنْ تَعَلَّقَ بِذِمَّةِ العَبْدِ لاَ بِذمَّةِ السَّيِّدِ وَلاَ بِرَقبَتِهِ لأَنَّهُ لاَ خِيَانَةَ مِنْهُ ولاَ إِذنَ مِنَ السَّيِّدِ، وَالمُكَاتَبُ وَمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنصْفُهُ رَقِيقٌ كَالحُرِّ عَلَى الأَصَحِّ (و) وَهُوَ المَنْصُوصُ. قالَ الرَّافِعِيُّ: المسألةُ الثالثة: في الْتِقَاطِ العَبْدِ، وهُوَ عَلَى ثلاثةِ أَضْرُبٍ: أحدها: التقاط لَمْ يأذنْ فيه السَّيدُ، ولا نَهَى عنه. وقد اختلفَ فيه قولُ الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه- فأحَدُ القولَيْن، وبه قال أبو حنيفة -رضي الله عنه- وأحمد -رحمه الله- أنَّه يصحُّ؛ لأن يدُ العَبدِ يدُ سيِّدِهِ، فكأنَّ السَّيِّدَ هو المُلْتَقِطُ، وهذا كما أنَّه إذا اصطادَ أو احتطَبَ، يُعْتَبر ويكونُ الحاصلُ للسَّيِّدِ، ولا عبرةَ بقَصْدِهِ، وهذا القَوْلُ نقله المُزَنِيُّ عمَّا وَضَعَهُ بخطَّه، قال: ولا أعلَمُه سُمِعَ منه. والثاني: وهو المنصُوصُ في "الأُمِّ" واختيارُ المُزَنِيِّ: أنَّه لاَ يَصِحُّ؛ لأنَّ اللّقَطَةَ أمَانَةٌ، وولايةٌ في الابتداء، وَتملُّكٌ في الانتهاءِ، والعبْدُ لا يَمْلِكُ، ولا هو منْ أَهْلِ الأمانةِ والوِلاَيَةِ. وقد أَشَارَ صَاحِبُ الكتابِ إلَى ترجيحِ القَوْلِ الأَوَّلِ في الفَصْل السَّابِقِ، كما في الْتقاطِ الفاسِق، لكنَّ الشَّيْخَ أبَا حامدٍ والقاضِيَ الرُّويانيَّ وَغَيْرَهُمَا حَكَوْا بأَنَّ الثانِيَ أَصَحُّ. وفي بعْضِ الشروح أنَّ ابْنَ سُرَيج قال: القولان مبنيَّان على أن العَبْدَ يَمْلِكُ، فإمَّا إذا فَرَّعنَا على الجَدِيدِ، وهو أنَّه لا يَمْلِكُ؛ فلَيْسَ له الالتقاطُ بحالٍ، و [في] هذا التباسٌ منْ جهةِ أنّهُ ليس القولانِ في أنَّ العَبْدَ، هَل يَمْلِكُ مطلَقاً، وإنَّما هُمَا في أنَّهُ، هل يَمْلِكُ بتمليك السيد، ولا تمْلِيكَ هاهنا منْ جهة السَّيِّد؟ التفريعُ: إن قلْنا: لا يَصحُّ التقاطه، لم يعتدَّ بتعريفه، ثم لا يخْلُو؛ إمَّا أن يَعْلَمَ السيد بالتقاطِه أو لا يَعْلَمَ، فإنْ لم يَعْلَمْ، فالمالُ مضمونٌ في يد العَبْدِ، والضمانُ متعلِّقٌ برَقَبَتِهِ أتلفه أو تَلِفَ بتَفْريطٍ، أو غيْر تَفْرِيطٍ كما في المَغْصُوب، وإن عَلِمَ به السَّيدُ، فله أحوالٌ: أحدها: أنَّهُ يأْخُذَ منْ يَدِهِ، وقَدَّم الإمامُ مقدِّمةَ، وهي أنَّ القَاضِيَ، لو أخذ المغصوبَ منَ الغَاصِب لِيَحْفَظَهُ للْمَالِكِ، هَلْ يبرأ الغاصِبُ منْ الضَّمانِ؟ فيه وجهان، ظَاهِرُ القياسِ منْهما الَبَرَاءةُ؛ لأنَّ يدَ القاضي نائبةٌ عن يدِ المالِكِ، إنْ قلْنا: لا تَبْرَأُ، فللقاضي أخْذُها منه، وإن قلْنا: تَبْرَأُ، فإنْ كان المالُ عُرْضَةً للضَّيَاعِ، والغاصِبُ بحيْثُ لا يَبْعُدُ أنْ يُفْلِسَ أو يغيّب وجهه، فكذلك، وإلاَّ، فوجهان:
أحدُهُما: أنَّه لا يَأخُذُ، فإنَّه أنفعُ للمَالِكِ. والثاني: يُأْخَذُ، نَظَراً لهما جَمِيعاً، وليْسَ لآحَادِ الناسِ أخْذُ المغْصُوبِ، إذا لم يكُنْ في مَعْرِضِ الضَّيَاعِ، ولا الغاصِب؛ بحيث تفُوتُ مطالَبَتُهُ ظاهراً، وإنْ كان كذَلِكَ، فوجهان: أَظهَرُهُمَا: المنعُ؛ لأنَّ القاضِيَ هو النائِبُ عن الغائِبِينَ، ولأنَّ فيه ما يُؤَدِّي إلى الفتنةِ وشَهْرِ السِّلاحِ. والثاني: الجوازُ؛ احتساباً ونَهْياً عنِ المُنْكَرِ. فعلَى الأوَّل؛ لو أَخَذ، ضمن، وكان كالغَاصِبُ مِنَ الغاصب، وعلى الثاني؛ لا يَضْمَنُ، وبراءةُ الغاصِبِ على الخلاف السَّابق، وأوْلَى بألاَّ يَبْرَأ. قال الإمامُ: ويجوزُ أنْ يُفَرَقَ بينَ أنْ يكُونَ هناكِ قَاضٍ يُمْكِن رفعُ الأمرِ إلَيْه، فلا يجوزَ، أو لا يكونَ، فَيَجُوز. إذا عُرِفَ ذلكَ، فقد قال معْظَمُ الأصحاب: إذا أخَذَ السَّيِّدُ اللُّقَطَةَ من العَبْدِ، كان أخذُهُ الْتِقَاطاً؛ لأنَّ يدَ العبدِ، إذا لكم تكُنْ يدَ اَلْتِقَاطٍ، كان الحاصِلُ في يَدِهِ ضائعاً بعْدُ، ويَسْقُطُ الضمانُ عن العبدِ لوصوله إلى نائب المَالِكِ، فإنَّ كان أهْلٌ للالتقاط كأنَّه نائبٌ عَنْهُ، وبمثله أجابوا فيما لو أخَذَه أجنبي، إلاَّ أنَّ صاحبَ "التتمةِ" جَعَلَ أخذَ الأجْنَبِيِّ على الخلافِ فيما لو تعلَّق صيْدٌ بشبَكَةِ إنسانٍ، فجاء غَيْرُه وأخَذَهُ. واستبعدَ الإمام قَوْلَهُم؛ بأنَّ أخْذَ السَّيِّدِ التقاطٌ؛ لأنَّ العبْدَ ضامنٌ بالأخْذِ، ولو كان أخذُ السَّيِّدِ التقاطاً يَسقُطُ الضمانُ عَلَيْه، وَيتَضرَّر به المَالِكُ، وهذا وجه قد أوردهُ القاضِي ابْنُ كجّ وأبو سعيد المتولِّي، وحَكَى تفْرِيعاً عَلَيْه أن السَّيِّدَ يَنْتَزِعُهُ من يدِه، وُيسلِّمُهُ إلى الحاكمِ؛ لِيَحْفَظَهُ للمالِكِ أبداً. وأمَّا الإمامُ، فإنَّه قال: إذا قلْنا: إنَّه ليْسَ بالتقاطٍ، فأراد أخْذَهُ بِنفْسِه وحفظه لمالِكِهِ فيه وجهان مرتَّبان عَلَى أخْذِ الآحادِ المغْصُوب للحِفْظ، وأولَى بعدم الجَوَازِ؛ لأنَّ السَّيِّدَ سَاعٍ لنفسِه غَيْرُ مُحْتَسِبٍ، ثم يترتَّب عَلَى جوَازِ الأخْذِ حُصُولُ البراءةِ، كما قدَّمنا، وإن استدعَى من الحاكم انتزاعه، فهذه الصورةُ أَولَى بأنْ يزيلَ الحاكمُ فيها اليَدَ العادِيَةَ، فإذا أزال، فأوْلَى بأنْ تَحْصُلَ البراءةُ؛ لتعلُّق غَرَضِ السيد بالبراءة، وكوْنِهِ غَيرَ مُنْتَسِبٍ إلى العُدْوَانِ، حتى يغلظ عَلَيْه -[واللهُ أعْلم]. الحالةُ الثَّانِيَةُ: أن يُقرُّه في يَدَهِ، وَيسْتَحْفِظُهُ علَيْه؛ لِيُعَرِّفَهُ، فإنْ لم يكُنْ العبدُ أميناً، فهو متعدٍّ بالإقرار، وكأنَّه أخَذَهُ منْه، وردَّه إليه، وإنْ كان أَمِيناً، جاز كما لو استعان به في تَعْرِيف ما الْتَقَطَ لنفسِه. وفي "النهايةِ" أنَّ في سُقُوط الضّمانِ وجْهَيْن، وأنَّ أَظْهَرهُمَا
المَنْعُ، وقياسُ كلامِ الجُمهور سُقُوطُهُ. الثالثة: ألا يَأْخُذَهُ، ولا يُقِرَّهُ، بل يُهْمِلَهُ وُيعْرِضَ عنْه، فروايةُ المُزَنِيّ أن الضمانَ يتعلَّقُ برقبة العَبْدِ، كما كان، ولا يُطَالَبُ به السَّيِّدُ في سائر أموالهِ؛ لأنَّه لا تَعدِّيَ منْه، ولا أثَرَ لعلمه، كما لو رأى عبده يُتْلِفُ مالاً، فلم يَمْنَعْهُ منه، وروايةُ الرَّبيع تعلقه بالعَبْد، وبجميع أموال السَّيِّد؛ لأنَّه مُتَعَدٍّ بتركة في يدِ العَبْدِ، وَعَكَسَ الإمامُ وصاحبُ الكتاب في "الوسيط" فَنَسَبَا الأوَّلَ إلَى رواية الربيع، والثَّانِي إلَى رواية المُزَنِيِّ، والمُعْتَمَدُ المشهور (¬1) الأوَّل، ثم اختلَفُوا فيهما عَلَى أربعة طُرقٍ. قال الأكثرون: المسألَةُ على قولَيْن: أظهرُهُمَا؛ عَلَى ما ذكره الرُّويانِيُّ وغيرُه تَعَلُّقه بالعَبْد، وسائر أقوالِ السَّيِّدِ؛ حتى لو هلَكَ العبدُ لا يَسقُطُ الضَّمان، ولو أفْلَسَ السَّيدُ، تقدم صاحبُ اللُّقطَةَ في العَبْد عَلَى سائر الغرماء. ومَنْ قال به، لم يسلِّم عدم وجوب الضَّمانِ فيما إذا رأى عَبْدَه يُتْلِفُ مالًا، فلم يَمْنعْهُ. وعن أبي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ حَمْلُ منقولِ المُزَنِيِّ عَلَى ما إذا كان العبْدُ مُمَيِّزاً، وحمل منقول الرَّبِيعِ عَلَى ما إذا كان غَيْرَ مُمَيِّزٍ. وقَطَعَ بعضُهُمْ بما رواه المُزَنِيُّ، وآخَرُون بما رواه الرَّبِيعُ، وبه قال أبو إسحاقَ، وغَلَّطُوا المُزَنِيَّ في النَّقْل، واستشْهَدُوا بأنَّهُ رَوَى في "الجامع الكبير" كما رواه الرَّبيعُ، فأشعر بغفلته هاهنا عن آخر الكلامِ. أمَّا إذا قلْنا بصحَّة التقاطِهِ، وهذا الطريق هو المذكور في الكِتابِ، فيصحُّ تعريفه، كما يصحُّ التقاطُهُ، وليْسَ له بعْدَ التَّعْرِيفِ أنْ يتمَلَّكَه لنَفْسِه، وله التملُّك للسَّيِّد بإِذْنه، وأمَّا بغَيْر إذْنه، فقد حَكَى المُصَنِّفُ فيه خلافاً، وأراد به طريقَيْن، أشار إليهما الإمامُ: أحَدَهُمَا: أنَّه على الوجْهَيْن في أنَّه هَلْ يصحُّ اتهابه دون إذْن السَّيِّدِ، أو على القولَيْن في شرائه بغير إذْنٍ. والثاني: القَطْع بالمَنْع، بخلاف الهبة، فإنَّها لا تَقْتَضِي عِوَضاً، وبخلاف الشراء، فإنَّا إن صَحَّحْنَاهُ، عَلَّقنا الثَّمنَ بذمَّةِ العبدِ، وهاهنا يبْعُد ألاَّ يُطَالِبَ مالكُ اللُّقَطَةِ السَّيِّدَ المتملِّكَ؛ لأنَّه لم يَرْضَ بذمَّةِ العَبْدِ، والأصحُّ المنعُ، سواءٌ ثبت الخلافُ أم لا. وعلَى هذا، فَعَنْ بعضِ الأصحاب أنَّهُ لا يصحُّ تعريفه دُون إذْن السِّيد أيضاً، والأصحُّ إلْحاقُ التعريفِ بالالتقاط، كما مَرَّ. قال الإمامُ: نعَمْ، إنْ قلْنا: انقضاءُ مُدّة التعريف يوجبُ المِلْكَ، فيجوزُ أن يُقَالَ: ¬
لاَ يَصِحُّ تعريفُه، ويجُوزُ أنْ يُقَالَ: يصحُّ، ولا يَثْبُتُ المِلْكُ في هذه الصُّورةِ، كما لا يثْبُتُ، إذا عرف من قصد الحفْظ أبداً، ثم لا يخلُو الحالُ، إمّا أنْ يَعْلَم السَّيِّدُ بالالتقاط، أو لا يَعْلَمَ، فإنْ لم يَعْلَمْ، فالمالُ أمانَةٌ في يدِ العَبْدِ، لكن، لو كان مُعْرِضًا عن التَّعْريفِ، فِفي الضَّمان وجهان كالوجْهَيْن في الحُرِّ إذا امتنع من التَّعْريف، أو أتَلَفَهُ العبدُ بعد مدَّة التعريف، أو تملكه لنَفْسِهِ فهلك عنده، ففي الضمانِ وجهان: أحدُهُمَا: أنَّه يتعلَّق بذمَّتِه؛ كما لو استقرض قَرْضاً فاسدًا أو أستهلَكَهُ وبهذا أَجَاب الشَّيْخُ أبو محمَّد في "الفروق". والثاني: برقبته كما لو غَصَبَ شيئاً، فتَلِفَ عنده، وليْسَ كالقَرْض، فإن صَاحِبَ المَالِ سلَّمَه إلَيْه، ولو أتْلَفَهُ في المُدَّة، فجوابُ الجُمهورِ أنَّ الضمانَ يتعلّقُ برقَبتهِ، وكذا لو تلِفَ بتقْصِيرٍ منْه، وفَرَّقُوا بيْنه وبيْن الإتْلاَف بعد المدَّةِ؛ حيْثُ كان على الخِلاَفِ السَّابق بأنَّ الإتْلافَ في السَّنَة جنايةٌ مَحْضَةٌ؛ لأنَّه لَمْ يَدْخُلْ وقتُ التَملُّكِ. فأمَّا بعدها، فالوقتُ وقْتُ الارْتِفَاق والإنفاق، فاستهلاكُ العبد بمثابة استقراضٍ فَاسدٍ. وحَكَى القاضي ابْنُ كجٍّ ما ذكَرُوه طريقةً عن أبي الحُسَيْن، ونقل عن أبي إسحاق، والقاضِي أبي حامد أنَّ المَسْألَةَ على قولَيْن: أحدُهُما: التعلُّق بالرقبة. والثاني: التعلُّقُ بالذِّمَّةِ؛ لأنَّه إذا جَوَّزنَا له الالتقاطَ، فكانَ المَالُ حَصَلَ في يدِه برضَا صاحبِه، وحينئذٍ، فالإِتلافُ لا يقتضي إلاَّ التَعْلُّقَ بالذمَّة، كما لو أُودِعَ العَبْدُ مالاً، فأتْلَفَهُ يكون الضمان في ذمته، ولمانع أن يمنع ذلك؛ لأنَّ الضمان في الوديعة أيْضاً متعلِّقٌ برقبتِهِ، عَلَى قول، وإنْ عَلِمَ به السَّيِّدُ فلَهُ أخْذُهُ منْه كَأكْسَابه الَّتي يَكْتَسِبُهَا، ثُمَّ هو كما لو التقطَ بنَفْسِه، فإنْ شاءَ، حَفِظَهُ لمالكه، وإنْ شاء، عرف وتملَّك، فإنْ كان العَبْدُ قد عرَّف بعْضَ المُدَّةِ، احتسب به وبنى، وإنْ أقره في يد العَبْد، فإنْ كان خَائِنًا، ضَمِنَ السَّيِّدُ بإبْقائه في يَدِهِ، وإنْ كان أميناً، جَازَ، ثم إن تَلِفَ المال في يده في مدَّةِ التَعْرِيف، فلا ضمانَ، وإنْ تلِفَ بعْدها، فإن أذن السيدُ في التَملُّكِ، وجرى التَّمَلُّكُ، لم يَخْفَ الحُكْمُ، وإن لم يجْزِ التملُّكُ بَعْدُ، ففي تعلُّق الضَّمانِ بالسيد وْجهان منقولان في "النهاية": أظهرُهُما: يتعلَّق؛ لإذْنِه في سَبَب الضمانِ، فصار كما لو أَذِنَ له في استيام شيْءٍ، فأخذَهُ، وتَلِفَ في يده. والثاني: لا يتعلَّقُ، كما لو أَذِنَ له في الغَصْب، فغَصَبَ، فإنْ قلْنَا بالثَّاني، فيتعلَّق الضَّمان برقبة العبد، وإن قُلْنا بالأَوَّل، فهو متعلِّقٌ بذمة العبد، حتى يطالَب به بَعْدَ
العَتْقِ، كما أنَّ السَّيِّدَ مطالَبٌ به، هكذا ذكرَه الامامُ وصاحبُ الكتاب في "الوسيط" وربَّما فهم قولُهُ في "الكتاب تعلَّق الضَّمانُ بالسَّيِّد لا برقبته" انقطاعَ الضّمَانِ عَنِ العَبْدِ مِنْ كُلِّ وجهٍ، فلْيحذرِ الغَلَط. وقوله: "كما لَوْ أَذِنَ في الشِّراء" جواب على الأظْهَرِ في أنَّ السِّيَّدَ مُطَالَبٌ بديون معاملة عبدهِ، وفيه خِلاَفٌ مذكورٌ في مَوْضَعِه أَصْلاً وشَرْطاً، فلَكَ أنْ تُعْلِمَ لما ذَكَرْنَا قَوْله: "بالسيد" وقوله "لا برقبته" وقوله: "كما لو أذن في الشراء" جميعها بالواو. وإن لم يأْذَنِ السَّيِّدُ فِي التَّملُّك، فوَجْهان في أنَّ الضَّمَانَ يتعلَّقُ بذمَّة العبْد أو برقَبَتِهِ: أظهرُهُما: وهو المذكورُ في الكتاب: أنَّهُ يتعلَّقُ بذمَّتِه؛ لأنَّه لا جنايةَ منْه. والثَّاني: برقبته؛ لأنَّه دَيْنٌ، لَزِمَ لا يُرْضِي مستحقه، ولا يتعلَّق الضَّمانُ بالسَّيِّد بحالٍ؛ لعَدَمِ الإذن. ولو أتلفه العَبْدُ بعْد المُدَّةِ، فعَلَى ما تقدَّم من الخلاف. هذا هو الكَلاَمُ في الضَّرْب الأَوَّل. وهَلْ مِنْ فرْقٍ بين أنْ يَقْصِدَ بالالتقاط نفْسِهِ أو سيِّدَهُ؟ عن صاحبِ "التقريب" أنَّ القولَيْن في المسألة مفروضان فيما إذا نوى بالتقاطَة نَفسَهُ، فأمَّا إذا نَوَى سيِّده، فيحتمل أنْ يَطَّرد القولاَنِ، ويحتمل أن يُقْطَع بالصِّحَّة. عكس القاضي ابْنِ كجّ فقَال: القَوْلان فيما إذا التَقَطَ لِيدْفَعَهَا إلَى سَيِّدِهِ، فأَمَّا إذا قصَدَ نَفْسَه، فلَيْسَ له الالتقاطُ قولاً واحداً، بلْ هو متعدٍّ بالأخذ، وحكَاهُ عن أبي إسْحَاقَ والقَاضِي أبي حامد. الضَّرْبُ الثَّانِي: الالتقاط المأذونُ فيه من جِهَةِ السَّيِّد مثلْ أنْ يقولَ: مهْمَا وجَدتَّ ضَالَّةَ، فخُذْها، وائتِنِي بهِا، ففيه طريقان: أحَدُهُمَا: القَطْعُ بالصِّحَّةِ، وإليه مَثْلُ الإمامِ، كما لو أَذِنَ له في قَبُولِ الوَدِيعَةِ، صَحّ منه قَبُولُها. والثاني: عنِ ابْنِ القَطَّان عنِ ابْنِ أبي هريرةَ طَرْدُ القولَيْن لما في اللُّقَطَةِ من معْنى الولاية، والإذْنُ لا يفيده أهليَّةَ الولاَية، وإذَا أَذِنَ له في الاكْتِسَابِ مُطْلَقاً، هَلْ يَدْخُل فيه الالتقاطُ؟ فيه وجهان واللهُ أعلمُ. الضَّرب الثالث: التقاطٌ منهيٌ عنه من جهة السَّيِّد، فعن الإصْطَخْرِيَّ: القَطْعُ بالمَنْعِ، وعن غيرِه طَرْدُ القولَيْنِ (¬1). ¬
فرع
فَرْعٌ: إذا التقَطَ لُقْطَةً، ثم أعتَقَهُ السَّيِّلُ فإن صحَّحنا التقاطهُ، فهي كسب عبده يأخُذُهَا السَّيِّدَ، ويُعرِّفُها، ويتملَّكُها، فإنْ كانَ العبْدُ قد عَرَّف، اعتد به، هذا ظاهرُ المذهبِ. وعن ابنِ القَطَّانِ وجهان في أنَّ السَّيدَ أحَقُّ بها؛ اعتباراً بوقْت الالْتِقَاط، أو العَبْدَ؛ اعتباراً بوَقْتِ الملك، وشبهها بما إذَا أعْتِقَتْ تحت عبْدٍ، ولم تفسخُ، حتى عَتَقَ العبْدُ. وإن لم نصحِّحْ التقاطَه؟ قال القاضي ابْنُ كجٍّ للسَّيِّد حَقُّ التملُّك، إذا قلنا: إنَّ للسَّيِّدِ التملُّك على هذا القَوْل. جوابُ معْظَم الأصْحَاب أنَّهُ ليْسَ للسَّيِّد أخْذُهَا؛ لأنَّ حقَّ السَّيِّدِ لم يتعلَّقْ بها؛ لكَوْنِ العبْدِ متعدِّياً، وقد زالَتْ ولايتُهُ بالعِتْقِ، وعلَى هذا، فهل لِلعَبْدِ تملُّكهَا؟ فيه وجهان: أَظْهَرُهُمَا: نعم، ويُجْعَلُ كأنه التقَطَ بعد الحُرِّيَةَ. والثاني: المنعُ؛ لأنَّه لم يكنْ أَهْلاً للأخذ، فعلَيْه تسليمُها إلى الإمَامِ. ثم في الفصْل صورتان: إحداهما: في التقاط المكَاتَبِ طريقان: أحدهما: أنَّهُ على القَوليْنِ في التقاطِ القِنِّ؛ لتعارُضِ معْنى الوِلاية والاكتسابِ. وثانيهما: القَطْعُ بصحَّتِهِ؛ لأنَّهُ مستقلٌّ بالتملُّكِ والتصرُّفِ كالحُرِّ، وله ذمَّةٌ يمْكِنُ استيفاءُ الحقوقِ منها، وهذا ظاهرُ نَصِّهِ في "المختصر"، واختيارُ صاحِب "التهذيب"، لكنَّ الأَوَّلَ أَصَحُّ عنْد الأكثرِينَ، إلاَّ أنَّ أصحَّ القولَيْن هاهنا باتِّفاقِ الناقِلينَ صِحَّتُهُ. وقوله في الكتاب: "كالحُرِّ عَلَى الأصحِّ" محتملٌ لأصحِّ القولَيْن، ولأصحِّ الطريقين؛ اختياراً للثاني، ووراءَ ذلك أمورٌ تُسْتَغْرَبُ: أَحَدُهَا: عن ابن القَطَّانِ رواية طريقةِ قاطعةٍ بالمَنْعِ، بخلافِ القِنِّ؛ لأنَّ سيِّدِه ينتزعه من يَدِهِ، والمكاتَبُ انقطعَتْ ولايةُ السَّيِّدِ عنْه عَلَى نقصانه. والثاني: حَكَى القاضي ابْنُ كَجٍّ اختلافاً في أنَّ الخِلاَفَ المَذْكُورَ في المكاتَبِ، سواءٌ صحَّت الكتابةُ أو فَسَدَتْ، أو في المكاتَب كتابة صحيحة؟ وأمَّا المكاتَبُ كتابةً فاسدةً فهو كالقِنِّ لا محالةَ، والصَّحيحُ الثَّاني. والثالث: نَقَلَ الإمامُ عن تفْريع العراقِيِّين علَى القَطْع بالصِّحَّة أنَّ في إبقاء اللّقَطَةِ
في يَده قولَيْن؛ عَلَى قياس مَا مَرَّ في الفاسق، وكُتُبُهُمْ ساكتةٌ عن ذلك إلاَّ ما شاء الله -تعالى (¬1) -. فإنْ صحَّحنا التقاطَ المكاتَبِ، عَرَّفَ اللُّقْطَةَ وتملَّكها أو يبدلها من كَسْبِهِ، وفي تقديم صاحِب اللَّقَطة بها على سائر الغرماء وجْهان مذكوران في "أمالي" أبي الفَرَج الزاز. وإذا أعْتَقَ في مدَّة التَّعْرِيف، أتم التعريف، وتملَّك، وإنْ عاد إلى الرِّقِّ قبل تمام التَّعْريف، فالنَّقْل أنَّ القاضيَ يأخذُهَا ويحفظُهَا للمَالكِ، وأنَّه ليْسَ للسَّيِّدِ أَخْذُهَا أَوْ تَمَلُّكُهَا؛ لأنَّ التقاطَ المُكَاتَبِ لا يقع للسَّيِّد ابتداءً، فلا ينصرف إلَيْه انتهاءً. وقال صَاحِبُ "التهذيب": وَجَبَ أنْ يجوز له الأَخذُ والتَّملُّكُ؛ لأنَّ الالتقاط اكتساب، وأكساب المكاتَبِ عنْد عجْزِهِ للسَّيِّد. قال: وكذا لو مات "المكاتَبُ، أو العبدُ قبل التعْرِيف، وجب أنْ يجوزَ للسيد التعريفُ والتملُّك، كما أنَّ الحُرَّ إذا الْتَقَط، ومَاتَ قبْلَ التَّعْرِيفِ، يُعَرِّف الوارث، ويتملَّك، أمَّا إذا لم نصحِّح التقاطه، فالْتَقَطَ، صار ضَامِناً، ولا يأخذ السَّيِّدُ اللُّقَطَة منْه؛ لأنَّهُ لا وِلاَيةَ له علَى المكاتَبِ، ولكنْ يأخذها القاضي ويحْفَظُهَا، هكذا ذكروه. ولَكَ أن تقولَ: ألَسْتُم ذكَرْتُمْ تفريعًا على مَنْع الالتقاط في القِنِّ أن للأجنبيِّ أن يأْخُذَهَا منْه، وَيكُونَ مُلْتَقِطاً، ولم يعتبرْ والولاية، وَليْسَ السَّيِّد في حقِّ المُكاتَب بأدنى حالاً مِنَ الأجنبيِّ في القِنِّ، وإذا أخَذَهَا الحاكمُ، برئ المُكَاتَبُ مِنَ الضَّمانِ، ثمَّ كَيْفَ الحُكْمُ؟ ذكر الشيخُ أبو حامدٍ وغيرُهُ: أنَّه يُعرِّفُها، فإذا انقضَت مدَّةُ التَّعْرِيفِ تمَلَّكَهَا المكاتَبُ، والأصحُّ: أنَّه ليس له التملُّك، فإن التّفريعَ عَلَى فَسَادِ الالْتِقَاطِ، ولكِنْ إذا أخذهَا، حَفِظَها إلَى أنْ يَظْهَرَ مالِكُها. الصورةُ الثَّانيةُ: مَن بعْضُه حُرٌّ، وبعْضُه رقيقٌ، في التقاطِهِ طريقان، كما في حقِّ المكاتَبِ؛ لاستقلاله بالمِلْك والتصرُّف، وقوّةِ ذمَّتِهِ. قال الشَّاشِيُّ في "المعتمد": ويمكن أنْ بُفصَّلَ، فيُقَالَ: يَصِحُّ التقاطُهُ بقَدْر الحرِّيَّة قولاً واحداً، والطريقان فيما سواه، وهذا الذي أبداه احْتمالاً هُوَ الذي أورده صاحبُ "التتمة". فإن قلْنا: لا يَصِحُّ التقاطُه، فهو متعدٍّ بالأخْذ ضامنٌ بقدْرِ الحرِّيَّة في ذِمَّتِهِ يؤخَذُ منه، إن كان له مالٌ، وبقَدْر الرِّقِّ في رقبته، وذكر القاضي ابنُ كجٍّ وجهَيْنِ في أنَّهُ ¬
يُنْتَزعُ منْه، أو يَبْقَى في يده، ويُضَمّ إليه مُشْرِفٌ، والظاهر الانتزاعُ، ثم وجهَيْنِ على القَوْل بالانتزاع في أنَّهُ يُسلم إلى السيد أو يَحْفَظُه الحاكمُ إلَى ظهور مالِكه. والأظهرُ الثاني: فإن سُلَّم إلى السَّيدِ فعن أبي حَفْص بْنِ الوكيلِ أنَّ السَّيِّدَ يُعَرِّفُهُ ويتملّكَهُ. قال القاضي: ويُحْتَمَلُ عنْدي أن يُقَال: يكونُ بينهما بحَسَبِ الرِّقِّ والحُرِّيَّة، وان صحَّحناه، فإن لم يكنْ بَيْنَه وبيْن السَّيِّد مهاياة، فاللُّقَطَةُ بينهما يُعَرِّفانِهَا، ويتملكانها بحَسب الرِّقِّ والحرِّيَّةِ وهما كشخصين التقطا مالاً. وعن ابنِ الوكيل أنَّ السَّيِّدَ يختص بها؛ الحاقاً لِلْقَطَةِ بلُقَطَةِ القِنِّ، وإنْ كانت بينهما مهايأةٌ، فيُبْنَى على أنَّ الأكسابَ النادِرَةَ، هلْ تدخل في المهايأة؛ لأنَّ اللّقَطَة نادرةٌ؟ وفيه قولان، ويُقَال: وجهان؛ لأنَّ القولَيْن ليْسَا بمنصوصَيْن في هذا الأصْل عَلَى إطلاقه، وإنَّما هُمَا في اللُّقَطَةٍ، ثم ألْحق غيرها بها وقد ذكرنَاهُمَا بتوجِيهِهِمَا في زَكَاةِ الفِطْرِ، ومَيْلُ العراقِيِّينَ والصيدلاني في ذلك البابِ إلى ترجيح عَدَمِ الدخول، إنَّهُمْ مع سائر الأصحاب كالمتَّفِقِينَ هاهنا عَلَى ترجيح الدُّخُول، وهو نَصُّهُ في " المختصر"، وعلى هذا، فإنْ وقعتَ اللّقَطَةُ في نَوْبَةِ السَّيِّد، عرَّفَها وتملَّكَها، وإنْ وقعت في نَوْبَةِ العَبْدِ، فكذَلِكَ، والاعتبارُ بيَوْمِ الالتقاطِ لا بوَقْتِ المِلْكِ. وأشَارَ في "النهاية" إلَى وجه آخَرَ، وهو اعتبارُ وقْتِ التَّمَلُّكِ، وأبْدَى تردُّداً فيما إذا وقَع الالتقاطُ في نَوْبَةِ أحدهما، وانقضاءِ مُدَّةِ التَّعْرِيفِ في نوبة الآخر، ولا مَعْنَى لهذا التَّردُّدِ، بل الجوابُ يختلفُ بحَسَب التفْريعِ على الوجْهَيْن. وإن قلْنا: الكَسْبُ النَّادِرُ لا يدخلُ في المُهَايَأَةِ، فالحكُمُ كما لو لم يكنْ بَيْنهما مهايأة (¬1). والمُدَبَّر، والمعلَّق عتقُهُ بِصِفَةٍ، وأمُّ الوَلَدِ كالقنِّ في الالتقاطِ، لكنْ حيثُ حكَمْنا بتعلُّق الضمانِ برقبةِ القِنّ، ففي أمِّ الولَدِ يَجِبُ على السَّيِّد، عَلِم التقاطَهَا أو لم يَعْلمْ؛ لأنَّ جنايةَ أُمِّ الوَلَدِ عَلَى سَيِّدها، وفي "الأُمّ" أنَّه إنْ عَلِمَ سيدها، فالضمان في ذِمَّتِهِ، وإن لم يعْلَمْ، ففي ذمَّتها، وهذا لم يُثْبِتوه، وقالُوا: إنَّهُ سَهْوٌ من كَاتِبٍ، أو غَلَطٌ مِنْ ناقلٍ، وربما حَاولوا له تأويلاً، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَأمَّا الصَّبيُّ فَيَنْبَغِي أنْ يَنتزِعَهُ الوَلِيُّ مِنْ يَدِهِ وَيتَمَلَّكَ لَهُ مُدَّةِ التَّعْريفِ، فَإِنْ أَتْلَفَهُ الصَّبيُّ ضَمِنَ، وَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ فَوَجْهَانِ، وَوَجْهُ الإِيجَابِ أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلاً لِلأَمَانَةِ ¬
وَلَمْ يُسَلِّطهُ المَالِكُ عَلَيْهِ، بِخِلاَفَ الإِيدَاعِ عِنْدَ الصَّبِيِّ، فَإنْ قَصَّر الوَلِيُّ ولَمْ يَنْزَعْهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى أَتْلَفَهُ الصَّبيّ أَوْ تَلِفَ فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الوَلِيّ لأنَّهُ مُلْتَزِمٌ حِفْظَ الصَّبيِّ عَنْ مُثْلِهِ. قالَ الرَّافِعِيُّ: المسألةُ الرَّابِعَةُ: في التقاط الصبيِّ طريقانِ، كما ذكَرْنَاهما في الفَاسق، الأصَحُّ صحَّتة كاحتطابه واصطياده. التَّفريعُ: إن قلْنا: يصحُّ الْتِقَاطُة، فإِنْ لم يَشْعُرْ به الوليُّ، وأتَلَفَة الصبيُّ ضَمِنَ، وإن تَلِفَ في يده، فوجهان: أصحُّهُمَا: أنَّهُ لا ضمانَ علَيْه، كما لو أَوْدَعَ مالاً، فَتَلِفَ عندَهُ. والثانِي: يَضْمَن؛ لأنَّهُ وإنْ جُعِلَ أهْلاً لِلالتقاط، فلا يُقرَّر المالُ في يده، ولا يُجْعَلُ أَهْلاً للأمانَةِ، ويُخَالِفُ لوديعةَ؛ لأنَّ المُودِعَ سلطه عليه. ومن قال بالأوَّل قال: تَسْلِيط الشَّرْعِ يغني عَنْ تَسْلِيط المالِكِ، وإنْ شَعَر به الوَليُّ، فينبغِي أنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْ يدهِ، وُيعَرِّفَهُ مُدَّةَ التَّعْرِيف، ثم إنْ رأى المصْلَحَةَ في تملكه للصَّبِيِّ جَاز؛ حيْثُ يُجوزَ الاستقراضُ عليه؛ لأنَّ تملُّكَ اللُّقَطَةِ كالاستقراض. وقال ابْنُ الصَّبَّاغِ: عنْدِي يجوزُ التملُّكُ له وإنْ كان ممن لا يجوز الاستقراضُ عليه؛ لأنَّا نُلْحِقُهُ عَلَى هَذَا القَوْلَ بالاكتساب (¬1). وإنْ لَمْ نر التملُّك له، حفظ أمانة، أو سَلَّمَة إلى القاضي، وإذَا احْتَاجَ التَّعْريفُ إلَى مُؤْنَةٍ، لم يصْرفْ من مال الصبيِّ، بَل يُرْفَعُ الأَمْرُ إلى الحاكمِ؛ ليبِيعَ جُزْءاً من اللَّقَطَةِ لِمُؤْنَةِ التعريف، ويجيْء وجْه مما سيأتِي في التقاط الغَنَم ونحوها، له أن يبيعَ بنفسه، ولا يحتاج إلَى إِذْنِ الحاكِمِ (¬2). ولو تَلِفتْ اللُّقَطَة في يد الصَّبِيِّ قَبْل الانتزاع مِن غَيْر تقصيرٍ، فلا ضمانَ، وإن قصَّرَ الوليُّ بتَرْكها في يده حتَّى تَلِفَت، أو أَتْلَفَهاَ، فعلَيْهِ الضمانُ، وشبَّهوه بما إذا احْتَطَبَ الصَّبِىُّ، وتركه الوليُّ في يده حتَّى تَلِفَ أو أتلفه، يجب الضَّمانُ على الوَلِيِّ؛ ¬
لأنَّ علَيْه حِفْظَ الصبيِّ عن مثله. قال صاحبُ "التهذيب": ثم يُعرّف التالِف، وبعد التَّعْرِيف يتملَّك الصبيُّ، إن كان النَّظَرُ فيه، ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ هَذا فيمَا إذا فرضه قبْض منْ جهة القاضي؛ ليصيرَ المقبوضُ مِلْكاً للمُلْتَقِطِ، أو إفْرازاً من جهة الوليِّ. إذا قلْنا: إنَّ من الْتَقَطَ شَاةً، وأَكَلَهَا يفرز بنفسه قيمتها مِنْ ماله، وسيأْتِي ذلك، إن شاء الله تعالى. أمَّا الضَّمانُ في الذِّمَّةِ، فلا يمكنُ تملُّكُهَا للصبيِّ. وإنْ قلْنا: لا يَصِحُّ التقاطُ الصَّبِيِّ، فلو الْتَقَطَ، وتَلِفَت اللُّقَطَةُ في يدِهِ، أو أتْلَفَها، وَجَبَ الضَّمانُ في مالِهِ، وليْسَ للوليِّ أنْ يُقِرَّهَا في يدِه، ولكنْ يسعَى في انتزاعِها من يده، فإن أمكنه رفْعُ الأمرِ إلى القاضي، فَعَل، وإذا انتزعَ القاضي (¬1) المغْصُوبَ من الغاصِبِ، وأَوْلَى بحُصُولِ البراءة؛ نَظَراً للطفل، وإن لم يمكنه رَفْعُ الأَمْر إلى القَاضِي، أخَذَه بنفسِهِ، وتُبْنَى براءةُ الصبي عن الضمان علَى الخلافِ في بَرَاءَةِ الغَاصِب بأخْذ الآحَادِ، فإن لم تَحْصُلِ البَرَاءَةُ، ففائدةُ الأَخْذِ صَوْنُ عين المال عَنِ التَّضْييع والإتْلاَف. قال في "التتَّمِة": وإذا أَخَذَهُ الوَلِيُّ، فإنْ أمكَنَهُ التَّسْليمُ إلى القَاضِي، فلم يَفْعَلْ حَتَّى تَلِفَ، فعلَيْه الضَّمانُ، وإنْ لم يُمْكِنْهُ، فقرارُ الضَّمانِ على الصبيِّ، وفي كوْنِه الوَليّ طَرِيقاً وجهان، وهذا إذا أخَذَ الوَلِيَّ لا عَلَى قَصْد الالتقاط، أمَّا إذا قَصَدَ ابتداءَ الالتقاطِ، ففيه وجهان، وليَكُونَا كالخلاف في الأخْذِ مِنَ العَبْد عَلَى هذا القصْد، إذا لم نُصحِّح التقاطَهُ، ولو قصَّرَ الوليُّ، وتركَ المالَ في يده، ففي "التتمة" أنَّه لا ضمانَ عليه، إذا تَلِفَ؛ لأنَّهُ لم يَحْصُلْ في يدِه، ولا حَقَّ للصَّبيِّ فيه، حتى يلزمَهُ الحِفْظُ له، بخلاف ما إذا فرَّعْنَا على القوْل الأوَّل، وخَصَّصَ في "النهاية" هذا الجَوَابَ بما إذَا قُلْنا: إنَّ أخْذَهُ لا يُبْرِئُ الصَّبيِّ. أمَّا إذا قُلْنا: إنَّه يُبَرِّئُهُ، فعلَيْه الضمانُ، لإبقائه الطِّفْلَ في وَرْطةِ الضمانِ، ويجوزُ أن يضمَن. وإن قلْنا: إنّ أَخْذَه لا يُبْرِئُ الصَّبيَّ؛ لأنَّ المَالَ في يَدِ الصَّبِيِّ عُرضَةُ الضَّيَاعِ، فمن حقِّه أن يَصُونَهُ. والمجنونُ كالصبيِّ في الالتقاط، وكذلك المَحْجُورُ علَيْه بالسَّفَهِ إلاَّ أنَّهُ يَصِحُّ تعريفُهُ، ولا يصحُ تعريف الصَّبيِّ والمجْنُونِ (¬2). ¬
قولُه في الكِتَاب: "وتملك له بَعْد مُدَّة التَّعْريف" مطلقٌ، لكنَّه محمُولٌ عَلَى ما إذا كان بحَيْثُ يجوز الاستقراضُ له عَلَى ما اورده المُعْظَمُ. وقولُه: "بخلافِ الإيدَاع" يمكن أنْ يكونَ المقصُودُ منْه الفَرْقَ بَيْنَ تَلَفِ اللُّقَطَةِ في يدِه، وبيْنَ تَلَفِ الوديعةِ فقَطْ، ويمكن صَرْفُهُ إلَى صُورَتَي التَّلَفِ والإِتْلاَف جميعاً، فإنَّ الوَديعةَ لو تَلِفَتْ، لا يضمنُها قَطْعاً، ولو أَتْلَفَهَا، ففيهِ خِلاَفٌ على العَكْس من اللُّقَطَة. وقولُهُ: "فقَرَارُ الضَّمَانِ على الوليِّ يُشْعَرُ بأنَّ الصَّبىَّ ضامنٌ أيْضاً علَى المَعْهُود مِنْ لَفْظِ القرار، ولكنَّ المفْهُومَ مِنْ كلامِ الأصْحَاب تَخْصِيصُ الضَّمَانِ في هذه الحالة بالوَلِيِّ، واللهُ أعلم بالصَّواب. قَالَ الغَزَالِيُّ: أما اللُّقَطَةُ فَهُوَ كُلُّ مَالٍ مُعَرَّض لِضَّيَاعِ كَانَ فِي عَامِرِ الأَرْضِ أَوْ غَامِرِهَا وذَلِكَ ظَاهِرٌ في كُلِّ جَمَادٍ وَحَيَوَانٍ صَغِيرٍ، أَمَّا الإِبِلُ وَفِي مَعْنَاهُ البَقَرُ وَالحِمَارُ إِنْ وُجِدَ في صَحْرَاءَ لَمْ يُلْتَقَط (ح) لِوُرُودِ الخَبَرِ، وَلَوْ وُجِدَ في عُمْرَان فَقَدْ قِيلَ: يُلْتَقِط لأَنَّهُ يَضِيعُ بِامْتِدَادِ يَدِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَلَوْ وَجَدَ كَلْباً الْتَقَطَهُ وَاخْتَصَّ بِالانْتِفَاعِ بِهِ بَعْدَ مُدَّةِ التَّعْرِيفِ. قالَ الرَّافِعِيُّ: الرُّكنُ الثَّالِثُ: الشَّيْءُ المُلْتَقَطُ، وهُوَ إمَّا مالٌ أو غَيْرُهُ: القسمُ الأَوَّلُ: المالُ، وهو جَمَادٌ وَحَيَوانٌ. الضربُ الأَوَّلُ: الحَيَوانُ، والكلامُ في غير الآدميِّ، ثم في الآدميِّ أمَّا غَيْرُ الآدَميِّ، فنوعان: أحدُهُمَا: ما يمتنعُ من صِغَار السِّبَاع، إمَّا بفَضْل قُوتهِ؛ كالإبلِ والخيل والبغالِ والحمير، أو بشدة عَدْوِهِ؛ كالأرَانب والظِّبَاَء المَمْلُوكَةِ، أو لطَيَرانِهِ: كالحَمامِ، فَيُنْظَرُ؛ إن وُجدتْ في مفازة، فللحاكم ومنصوبه أخْذُها للحِفْظ، وقد رُوِيَ أنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ- كانَتْ لَهُ حَظِيرَةٌ يَحْفَظُ فِيهَا الضِّوَالَ (¬1). وفي آحاد الناس وجهان: أحدهُما: أَنَّ لهم الأَخْذ؛ للحِفْظَ أيضاً؛ كيْلاَ يأخُذَهَا خَائِنٌ فَيُضيعَهَا. والثاني: المَنْعُ، إذْ لا ولايةَ للآحَادِ علَى مالِ الغَيْرِ، وهذا أظهرُ عنْد صاحِب "التهذيب"، والأَوَّلُ أظهرُ عنْد الشَّيْخ أبي حامِدٍ، والمتولِّي وغيرهما، وَيُحْكَى عنْ رواية الرَّبيع عن النَّصِّ، وأمَّا أَخْذُهَا للتملُّك، فهو غيرُ جائزٍ؛ خلافاً لأبي حنيفة -رضي الله عنه- لنا قولُهُ -صلى الله عليه وسلم- في ضَالَّة الإِبلِ "مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا سِقَاؤهَا" (¬2) في الحديثِ المذكورِ في أوَّل البَاب، والمعْنَى فيهَ أَنَّ مِثْلَ هذا الحيوان مَصُونٌ عَنْ أكثر السِّبَاع بامتناعه، مُسْتَغْنٍ بالرَّعْيِ بالنَّظَر للمالِكِ ألاَّ يتعرضَ له حتَّى يجده، والغالبُ أنَّ من أَضَلَّ شَيْئاً، طلَبَه حَيْثُ ضَيَّعَهُ، فلَوْ أخَذَها أَحَدٌ علَى قَصْدِ التَّمَلُّكِ، ضَمِنَها، ولم يَبْرَأ عن الضَّمَانِ بالرَّدَّ إلَى ذلك الموضع. وعن أبي حنيفة -رضي الله عنه- أنَّهُ يَبْرَأُ بردِّها إلَى موضِعِها إلاَّ أنْ يخلصها من نارٍ أو ماءٍ، ثم يردَّها إليه، ولو رَدَّها إلَى الحاكِمِ، بَرِئَ على أصَحِّ الوجهَيْن. وإنْ وُجِدَتْ في بلدةٍ، أو قريةٍ، أو مَوْضِعٍ قريبٍ منْها، فوجهان، أو قولان: أحدُهُما: لا يجوزُ التقاطُهَا للتملُّكِ، كما لو وُجِدَتْ في المَفَازَةِ لإطْلاَق الحديث. وأصحُّهما: وبه قال أبو إسْحَاق: أنَّهُ يجوز؛ لأنَّها في العُمْران تَضِيعُ بامتداد اليد الخائنة، بخلافِ المَفَازَةِ، فإن طُروقَ النَّاسِ بها لا تعُمُّ، ولأنَّها لا تجدُ ما يكفيها، ولأنَّ البهائِمَ في العُمْرَاتِ لا تُهْمَل، وفي الصَّحراء قد تَسْرَح وتُهْمَل، فيحتملُ أنَّ صاحِبَها لم يضلَّها. وحكَى القاضي ابْنُ كَجٍّ عنْ رواية القَاضِي أبِي حَامِدٍ طريقَيْن آخَرَيْنِ في المَسْألة: أحدُهُما: القَطْعُ بالأَوَّل. والثاني: القطعُ بالثَّاني، فإِنْ مَنعْنَا، فالْتقاطُهَا عَلَى قَصْدِ التملُكِ، كما ذكَرْنا في الْتقاطِها مِنَ الصَّحْراءِ، وإنْ جوَّزناه، فعَلَى ما سنذكره في النَّوْع الثاني، هذا إذا كانَ الزَّمَانُ زَمَانَ أَمْنٍ، فأمَّا في زَمَانِ النَّهْبِ والفَسَادِ، فيَجُوزُ التِقَاطُهَا، سواءٌ وُجِدَتْ في ¬
الصَّحارى، أو في العُمْرَانِ، كما سيأتي فيما لا يمتنعُ من صِغارِ السِّبَاعِ، ذكره صَاحِبُ "التتمةِ" وغَيْرُهُ. النَّوعُ الثَّاني: ما لا يمتنعُ من صِغَارِ السِّبَاعِ، كالكسير والغَنَمِ والعَجَاجِيل والفصْلاَن، فيجوزُ أخْذُهَا لِلتَّملُّكِ، سواءٌ وُجِدَتْ في المَفَازة، أو العُمْرَانِ؛ لأنها لو لم تُؤْخَذْ لضَاعَتَ بتناوُشِ السِّبَاعِ أو باحتيال بَعْض الخائِنِينَ، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "هِيَ لَكَ أوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ" (¬1) وعن صاحبِ "التَّقْريبِ" وجْهٌ: أنَّ ما يُوجَدَ منْها في العُمْرَانِ لا يؤْخذ؛ لأنَّ الحيوَانَ لا يَكادُ يَضِيعُ، والمَذْهَبُ الأوَّلُ، ثم إنْ وُجِدَ شيئاً منها في المفازة فهُوَ بالخيارِ بَيْن أنْ يُمْسِكَها وُيعَرِّفها ويتملَّكَهَا، وبَيْن أن يَبيعَهَا، ويحفظَ ثَمَنَها، وُيعرَّفها، ثم يَتَمَّلكَ ثمنها، وبيْنَ أن يَأْكُلَهَا، إنْ كانتْ مأكولةً، وَيغْرمَ قيمتها. وعن مالكٍ -رحمه الله- أنَّ لَهُ أَكْلَهَا مَجَّانًا. ثم الحصَّةُ الأُوْلَى أَوْلى من الثَّانِيَةِ، والثانية أَوْلَى من الثالثةِ، وإن وَجَدَهَا في العُمْرانِ، فلَهُ الإمْسَاكُ والتَّعْريفُ والتملُّك، وله البيعُ والتَّعريفُ، وَتَمَلُّكُ الثَّمَنِ، وفي الأَكْل قولان: أحدُهمَا: الجوازُ، وبه قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ، كَمَا في الصَّحْرَاءِ. [وأصحُّهُمَا عند الأكْثَرِينَ: المَنْعُ؛ لأنَّ البَيْعَ في العُمْرَانِ سَهْلٌ وفِي الصَّحْراء] (¬2) قد لا يَجِدُ مَنْ يَشْتَرِيْهَا، وَيشُقُّ نَقْلُهَا إلى العُمْرَانِ، هَذَا إذَا كَانَتْ مأكولةً، وأمَّا الجَحْشُ، وصَغَارُ مَا لا يُؤْكَلُ فحُكْمُهَا في الإمْسَاكِ والبَيْعِ حُكْمُ المأْكُولِ، وهَلْ يجوزُ تملّكُهَا فِي الحال؟ فيه وجهان: أحدُهُمَا: نعم يجوز كما يجوزُ أَكْلُ المأْكُولِ، ولو لَمْ يجز ذلك، لأَعْرَضَ عنها الواجدون ولضاعت. وأصحُّهُمَا: أنَّهُ لا يجوزُ تملّكُهَا حتى تُعرَّفَ سَنَةً عَلَى ما هُوَ دَأْبُ اللُّقَطَةِ، وإنَّما جاز أَكْلُ الشَّاةِ؛ للحَدِيثِ. ثم في الخِصَالِ الثلاثُ مسائلُ: إحداها: إذا أمْسَكَها وتَبَرَّعَ بالإنْفَاق عليها، فذاك، وان أراد الرُّجُوعَ، فلينفقْ بإذْنِ الحاكم (¬3)، فإن لم يجدِ الحاكمَ، أشْهَدَ كما ذكرنا في نَظَائره. ¬
فرع
الثانية: إذَا أرادَ البَيْعَ، فإن لَمْ يَكُنْ حاكمٌ، استقلَّ به، وإنْ كانَ، فأظُهَرُ الوجهَيْنِ، وبه قال الشيخُ أبو حامدٍ، أنَّه لا بُدَّ من استئذانه. ووجه الثاني: أنَّ المُلْتَقِطَ نابَ عن المالِكِ في الحِفْظِ، فكذلك في البَيْع، وهلْ يجوزُ بَيْعُ جُزْءٍ منْها لِنَفَقَةِ الباقي؟ قال الإمام: نعم كما تباع جميعُها. وحَكَى عن شَيْخِهِ احتمالاً أنَّه لا يجوزُ؛ لأنَّهُ يؤدِّي [إلى] أن تَأْكُلَ نَفْسَهَا، وهذا ما أوردَهُ الشيخُ أبو الفَرَج الزاز. قال: ولا يستقرض عَلَى المَالِك أَيْضاً لهذا المعنى، لكنَّهُ يُخَالَفُ ما مَرَّ من هَرَبَ الجَمَّال نحوه (¬1). والثَّالثةُ: إذا جَازَ له الأكْلُ، فأكَل، ففي وجُوب التَّعريف بعْده وجهان، وكذا في وجوب إفرازِ القيمةِ منْ مالِهِ بعْد الأَكْل خِلاَفٌ، ونذكر المسألتين بما فيهما فيما إذا الْتَقَطَ طعاماً يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الفَسَادُ وأكلَهُ. فَرْع: مَهْمَا حَصَلتِ الضَّالَّةُ في يَدَي الحاكم، فإنْ كان هناك حميّ سرَّحها، فيه، ووسَمَهَا بِسِمةٍ الضَّوَال، وَيسمُ نِتَاجَهَاَ أيضاً، وإنْ لم يكنْ فالقَوْلُ في بَيْع كلَّها أو بَعْضِهَا للنفقةِ عَلَى ما سبق، لكنْ لو توقَّع مجيء المالِكِ في طَلَبِها عَنْ قُرْبٍ بأنْ عَرِفَ أنَّها منْ نَعَمِ بَنِي فُلاَن، تأتي أيَّاماً كما يراه، هذا في غير الآدميِّ. أمَّا الآدميُّ: فإِذا وُجِدَ رَقِيقاً، نُظِرَ إن كان مُمَيِّزاً، والزَّمانُ زمانُ أَمْنٍ، لم يأخُذْه؛ لأنَّهُ يستدل على مالِكِهِ، فَيَصِلُ إلَيْه، وإن كان غَيْرَ مميِّزٍ، والزَّمانُ زمانُ نَهْبٍ، جازَ أَخْذُهُ؛ كسائر الأموالِ، ثُمَّ يجوزُ تَملُّكُ العَبْدِ والأمةِ التي لا تحلّ له كالمجوسيَّةِ، والأخْت مِنَ الرِّضَاعِ. وإن كانت مِمَّنْ تَحِلُّ له، فَعَلى قَوْليْن، كما في الاستقراض (¬2)؛ لأنَّ التَّملُّكَ بالالتقاط اقتراضٌ، فإنْ منَعْنَاه، لم يَجِبِ التعريفُ. كذلك ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أبو حامد، وينفق ¬
على الرَّقيقِ مُدَّةَ الحِفْظ مِنْ كَسْبِه، وما يبقَى من الكَسْبِ يُحْفَظَ مَعهُ، فإنْ لم يكنْ له كَسْبٌ، فعلَى ما سبَقَ في النَّوْع الثَّانِي منْ غَيْر الآدميِّ. وإذا بِيعَ، ثم ظهرَ المالِكُ، وقال: كُنْتُ أَعْتَقتُهُ: فأظهرُ القولَيْنِ: أنَّهُ يُقبَل قَوْلُه، ويُحْكمُ بفَسَاد البَيْعِ. والثَّاني: المنع، كما لو بَاع بِنفْسِهِ. الضَّرْبُ الثَّانِي منَ المَالِ: الجمادُ، وَينْقَسِمُ إلَى ما لا يَبْقَى، بلْ يتسارعُ إلى الفسَادِ، كالمَرِيسَةِ، وإلَى ما يبقى بمعالجةِ؛ كالرُّطَب يجفَّف، أو بغير معالجةٍ؛ كالذهبِ والفضةِ والثياب، فهذه ثلاثةُ أقْسَامٍ، وهي بأسرها لُقَطَةٌ مأخُوذَةٌ متملَّكة، لكنْ فيما لا يبقَى أو يبقَى بمَعالجةٍ مزيد كلامٌ نذكرُه في الباب الثاني؛ لأنَّهُ أَدْرَجَ فيه القَوْلَ في الطَّعَام الَّذي يَفْسُدُ. القِسْمُ الثَّانِي: ما لَيْسَ بمالٍ، كما إذا وَجَدَ كَلْباً يُقْتَنَى، فمَيْلُ الإمامِ (¬1) والمُتَلَقِّينَ منْه إلى أنَّهُ لا يُؤْخَذُ إلاَّ على قَصْدِ الحِفْظِ أبداً؛ لأنَّ الاخْتِصَاصَ به بالعِوَضِ ممتنعٌ، وبلا عِوَضٍ يخالفُ وضْعَ اللُّقَطَةِ. وقال أكثرهم يُعرِّفُهُ سَنَةً، ثم يختصُّ وينتفع به، فإنْ ظهر صَاحِبُهُ بعْدَ ذَلِكَ، وقد تَلِفَ، لَمْ يضمَنْهُ، وهلْ عليه أجرةُ المِثْلِ لمنفعةِ تلْكَ المُدَّة؟ فيه وجهان بنَاءً عَلَى جوازِ إجارةِ الكْلب، وهذا ما أورده في الكتابِ، لكنَّ الَّلائقَ بهذا الجَوَاب أَلاَّ يَأْخُذَ المالَ في حدِّ اللُّقَطَةِ، وقد أَخَذَهُ؛ حَيْثُ قال: "وهِيَ كلُّ مالٍ مُعرَّضٍ للضَّيَاعِ" ولا في حدِّ الالتقاط، وقد أخَذَهُ؛ حيث قال (¬2): "فهو عبارةٌ عَنْ أخْذِ مالٍ ضائعٍ". وقوله: "وذلك ظاهرٌ في كلِّ جماد وحيوانٍ صغيرٍ أراد به أنَّ ما ذكرناه في حدِّ اللُّقَطَةِ ظاهرُ الحُصُولِ في الجماد، والحيوانِ الصَّغِير وُجِدَ في العَامِر أو الغَامِرِ، ويجوزُ أنْ يُعْلَمَ لَفْظُ "الحيوانِ الصغير" بالواو؛ للوجه المَنقُولِ عن صاحب "التَّقْريب" أنَّهُ إذا وُجِدَ في العُمْرَان، لم يُلْتَقَطْ. وقولُه: "لِوُرُودِ الخبر فيه" المراد منَه الخَبَرُ الواردُ في الإِبِلِ، والبَقَرُ والحِمَارُ مُلْحَقَانِ به لم يرد فيهما خبرٌ. ¬
الباب الثاني في أحكام اللقطة
وقولُه: فَقَدْ قِيلَ: إنَّه يلتَقِطُه" هو أظهر الوجْهَيْن في المَسْألة، ويجوز إعلامُه، فقَدْ قِيلَ بالواو؛ لما سبق من القَطْع بالجوازِ في طريقة، وبالمَنْعِ في أخْرَى، ثم اعْتَبَرَ الأئمَّةُ في اللُّقْطةِ أُمُوراً لم يتعرَّضْ لها في الكِتَابِ. أَحَدُهَا: أنْ يَكُون شَيْئًا ضاعَ عَنْ مالكه لسقوطٍ أو غَفْلَةٍ، فأمَّا إذا ألْقَتِ الريحُ ثَوْباً في حجْرِه، أو ألقَى إلَيْهِ رَجُلٌ في هَرَبهِ كيساً، ولم يَعْرفْ مَنْ هُوَ، أو ماتَ مورِّثُه عَنْ ودائع، وهو لا يَعْرفُ ملاَّكَها، فهو مالٌ ضائعٌ يُحْفَظُ ولا يُتَملَّكُ. ولو وَجَدَ دَفِيناً في الأرْضِ، فالقَوْل في أنَّه رِكَازٌ، أو لُقَطَةٌ، كَمَا مَرَّ في الزَّكَاة. والثَّاني: أنْ يُوجَدَ في مَوَاتٍ أو شارعٍ أو مسجدٍ، أمَّا، إذا وُجِدَ في أرْضٍ مملوكةٍ، قال في التَّتِمَّة: لا يُؤْخَذُ للتملّك بَعْد التَّعْريف، لكنَّه لصاحب اليَدِ في الأرْض، فإنْ لم يَدَعْهُ، فلِمَنْ كانت في يده قَبْلَه، وهكذا إلن أن ينتهِيَ الأمْرُ إلىَ المُحْيِي، فإنْ لم يدَعْهُ، فحينئذ يكونَ لُقَطَةً. والثالثُ: أنَّهُ يوجد في دَارِ الإسْلاَم، أو في دَارِ الحَرْب وفيها مسلمون، أمَّا إذا لم يكنْ فيها مسلم مما يُوجُدُ فيها غنيمةٌ؛ خُمُسُهَا لأهلِ الخُمُس، والباقي للواجِدِ، ذَكَرَهُ صاحبُ "التهذيب" وغيرُه، وَحَكَمَ صاحبُ الكتاب في "السِّيَرِ" بأن اللُّقَطَةَ التي تُوجَدُ في دارِ الحرْبِ لآخِذِهَا مُطلَقاً، وسيأتِي الشَّرْحُ علَيْه إنَّ شاءَ اللهُ تَعَالَى. البَابُ الثَّاني في أَحْكَامِ اللّقَطَةِ قَالَ حُجَّةُ الإِسُلام قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ: وَهِيَ أرْبَعَةٌ: الأَوَّلُ: حُكْمُ الضَّمَانِ وَهُوَ أنَّهُ أَمَانَةٌ في يَدِ مَنْ قَصَدَ أنْ يَحْفَظَهَا أَبَداً لِمَالِكِهَا، مَضْمُونٌ مَغْصُوبٌ في يَدِ مَنْ أَخَذَهَا عَلَى قَصْدِ الاخْتِزَالِ، وَمَنْ أَخَذَهَا لِيُعرِّفَهَا سَنَةً ثُمَّ يَتَمَلَكَهَا فِهِيَ أَمَانَةٌ في يَدِهِ في السَّنَةِ، فَإذَا مَضَتْ وَكَانَ عَزْمُ التمَلْكَ مُطَّرِداً صَارَ مَضْمُوناً وإنْ لَمْ يَجْرِ بَعْدُ حَقِيقَةُ التَّملُّكِ فَإِنَّهُ صَارَ مُمْسِكاَ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ أَخَذَ عَلَى قَصْدِ الأَمَانَةَ ثُمَّ قَصَدَ الخِيَانَةَ وَلَمْ يُحقِّقْ فَفِي تَأْثِيرِ مُجَرَّدِ القَصْدِ في التَّضْمِينِ خِلاَفٌ (و) كَانَ مُجَرَّدُ قَصْدِ المُوَدَعِ في دَوَامِ يَدِهِ لاَ يُؤَثِّر لأنَّهُ مُسَلَّطٌ مِنْ جِهَةِ المَالِكِ، ثُمَّ مَهْمَا صَارَ ضَامِناً فَلَوْ عَرَّفَ سَنَةً لَمْ يَتَملَّكْهُ بَعْدَهَا، وَقِيل: إِنَّهُ يَتَملَّكِ لأَنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ عَيْنِ السَّبَبِ، وإنَّمَا المُحَرّمُ القَصْدُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقْصُودُ الباب بيانُ أحْكامِ الالتقَاطِ الصَّحيح، فمنْها حكْمُه فيما يرْجِعُ إلى الأمانةِ والضَّمَانِ، وعَلَى هذا وَنَحْوِهِ يُحْمَل قَوْلُهُ في الكِتَاب الأوَّلِ حُكُم الضمان، وإلاَّ، فَلَيْسَ حكْمُ مجرَّدِ الالتقاط الضَّمان، [بل هُوَ إلَى الأمانَةِ أقربُ،
ويختلفُ حكْمُهُ في الأمانةِ والضَّمان] (¬1) بِحَسَب قَصْدِ الآخذِ، وَلَهُ أَحوالٌ: إحداها: أنْ يَأْخذَهَا ليحفظها أَبَداً، فَهِيَ أمانةٌ في يدِهِ، وَلَوْ دَفَعها إلى الحاكِم، لَزِمَه القَبُولُ؛ بخلافِ الوديعةِ، لا يَلْزَمه القبولُ على أحد الوجْهَيْن (¬2)؛ لأنَّه قادر على الرَّدِّ إلى المَالِكِ، وكذَا مَنْ أخَذَ، للتَّملُّكِ، ثمَّ بَدَا لَهُ، ودَفَعَها إلى الحاكِم، يلزَمُه القَبُولُ، وهَلْ يجبُ التعريفُ، إذا قَصَدَ الحِفْظَ أبداً؟ فيه وجهان مذْكُورانِ من بعْدِ فإنْ لم يجِبْ، لم يضمنْ بتركه وإذَا بَدَا له قَصْدُ التملك، عَرَّفَهَا سَنَةً من يومئِذٍ، ولا يُعْتَدُّ بما عرَّف من قَبْل، وَإِنْ أوجبناه، فهو ضَامِنٌ بالترك (¬3) حتى لو ابتدأ بالتعريف بعد ذلك، فهَلَكَ في سَنَةِ التعريفِ، ضَمِنَ. الثانية: أنْ يَأْخُذَ عَلَى قَصْدِ الخيانَةِ والاختزال، فيكُون ضَامِناً غاصِباً، وفي براءتِهِ بالدَّفْع إلى الحاكم وجْهَان، كما في الغاصب فلو عَرَّف بعد ذلك، وأراد التَّملُّكَ، فجَوَابُ أكثرِهِم، وبِه قَطَعَ الشيخ أبو محمَّد؛ أنَّه لا يُمَكَّنُ منْه، كما أنَّ الغاصِبَ ليَسَ له التَّمَلُّكُ، وعنْ روايةِ الشَّيْخِ أبي علي وجْهَان: هذا أَحَدْهُما. والثانى: أنَّ لَه التَمَلُّكَ؛ لوجُودِ صُورة الالتقاط والتَّعْريف. الثالثة: أن يَأْخُذَها؛ ليُعَرِّفَها سَنَة ويتملَّكَهَا بعْد السَّنةِ، فهِيَ أمانةٌ في السَّنَةِ، وأمَّا بعدَ السَّنَةِ فقد ذكرَ صاحبُ الكتَاب أنَّها تصِيرُ مضمونةً علَيْه، إذا كان عزم التملك مُطَّرِداً، وإنْ لم تجر حقيقُته؛ لأنَّهُ صَارَ مُمْسكًا لنَفْسِه، فأشبَه المُسْتَامَ، ولا يخفَى أَوَّلاً أنَّ هذا مَبْنِيٌّ عَلَى أنَّ اللُّقَطَةَ لا تُمَلَّكُ بمضيِّ السَّنَةِ، فإنْ قلْنا: تُمَلَّك فإن تَلَفتْ تلفتْ منْه لا محالةَ، ثم لم يوافقْهُ النَّقَلَةُ عَلَى ذلك، بل صرَّح، ابْنُ الصَّبَّاغ وصاحبُ "التهذيب" بخلافِه، وقالوا: إنَّها أمانةٌ، إذا لم يختر التملُكُ قصْداً، أو لفظًا إذا اعتبرْنا اللَّفظَ، كما كانَتْ قَبْل الحَوْل، نعم، إذا اختار، وقلْنا: لا بدَّ من التصرُّفِ، فحينئذ يكون مضموناً علَيْه؛ كالقرض، وقد يُعْتَرَضُ عَلَى ما ذكره من التوجْيه؛ بأن قد تَغَيَّر القَصْدُ إلى الحفظ ما لم يتملك، فلا يكونُ ممسكاً لنَفْسِه، ولو كان قَصْدُ التَّملُّك يجعله ممسكًا لنَفْسه، لزم أن يكونَ الذي لا يَقْصِد بالتَّعْريف إلا تحقيقَ شَرْطِ التملُّكِ مُمْسِكًا لنَفسِهِ في مدةِ السَّنَة أيضاً، وإذا أخَذَ عَلَى قَصْدِ الأمانةِ، ثم قَصَدَ الخيانةَ، فأصحُّ الوجْهَيْن أنَّه لا يَصِيرُ المالُ ¬
مضْموناً علَيْه بمجرَّد القصْدِ كالمودع. ووجه الثاني: أنَّ سبَبَ أمانَتِهِ مجرَّدُ نيَّتِهِ، وإلاَّ، فَأَخْذُ مالِ الغَيْرِ بغيرِ رضَاهُ ممَّا يقتضِي الضَّمَانَ؛ بخلافِ المودَع، فإنَّه مُسلَّطْ مُؤْتَمَنٌ من جهةِ المالِك، عَلَى أنَّ في المُودَعِ -أيضًا- وجْهًا أنَّهُ يضْمَنُ بمجرَّد القَصْدِ، وقدْ ذكَره في الكتابِ في باب "الوَدِيعةِ". ويجوزُ أنْ يُعْلَمَ؛ لذلك قولُه هاهنا: "لا يُؤَثِّرُ" بالواو. وإذا قلْنا بالظَّاهِر، فلو أخَذَ الوديعةَ عَلَى قَصْدِ الخيانةِ في الابتداء، ففي كونِه ضَامِناً وجهان، ومهْمَا صَار المُلْتَقِطُ ضامِناً في الدَّوام، إمَّا بنفسِ الخيانةِ، أو بقَصْدِها، ثم أقُلَعَ وأرادَ أن يُعَرَّفَ، ويتملك، فوجهان: أحدهُمَا: المَنْعُ؛ لأنَّهُ صار مَضْموناً علَيْه بتعدِّيه، والأمَانةُ لا تَعُودُ بترك التعدِّي. ووجهُ الثاني: أنَّ التقَاطَهُ في الابتداء وقع مُفِيداً للتملُّك، فلا يَبْطُلُ حُكْمُه بتَفْرِيطٍ يطرأ، وهذا أصَحُّ عند صاحب "التهذيب"، لكنَّ إيراد، الكتابِ يُشْعِرُ بتَرْجِيحِ الأوَّل، وَيؤيَّدُه أَنَّهم شَبَّهوا الوجْهَيْن فَي المسألَة بالوجْهَيْن فيما إذا أنشأ سَفَراً مُبَاحاً، ثمَ غَيَّر قَصْدَه إلَى معْصِيَةٍ، هل يترخص؟ ومَيْلُ الأصحابِ إلى منع الترخص أشدُّ، وقد خَطَر فيما ذكروه من التشبيه بحثانِ: أحدهما: أن الوجْهَيْنِ في أنَّه، هَلْ يترخَّصُ مفروضان فيما إذا كَانَ مُقِيماً على قَصْد المعْصِيَةِ، فأمَّا إذا طرأ قصْدُ المَعْصِيَةِ، ثم تاب، يثبت الترخص، سواءٌ اعتبَرْنَا الحال أو ابتداءَ السَّفَر، والوجهان هاهنا فيما إذا تَرَكَ الخيانةَ، وأراد التعريفَ والتملُّكَ، فلا يتَّضِحُ التشبيهُ. الثاني: قضيَّة هذا التَّشْبِيه ثبوت الخلافِ في عَكْسِه، وهو أنْ يقصد الخيانَةُ، ثم يتركه، ويُرِيدَ التملُّكَ، كما رواه الشَّيْخُ أبو عليٍّ؛ تشبيهاً بما إذا أنشأ السفَرَ عَلَى قصْد المعْصِيَة، ثم تابَ، لكنَّ الظاهرَ ثُبُوتُ الرُّخْصَة من حِينئِذٍ، وهاهنا اتَّفَقُوا عَلَى أنَّ الظَّاهِرَ أنَّه لا يتملَّك. وقوله في الكتابِ: "لأنَّ التَّحْريمَ لم يَتَمَكَّنْ من عَيْنِ السَّبَب، إِنَّمَا المُحَرِّمُ القَصْدُ، معناه أن سبَبَ التمكن هُو الالتقاطُ، والتعريف غيرُ محرِّم، وإنَّما المُحَرِّمُ ما قصده ولم يتصلْ بقصده تحقيق، وهذا التوجيهُ مخصُوصٌ بما إذا كان الطَّارِئُ قَصْدَ الخيانةِ، لا نَفْسُ الخيانة، ولصاحِب الوَجّهِ الأوَّلِ أنْ يَمْنَعَ ذلك، وَيقُولَ قَصْدُ الخيانةِ يكْسُو الإمساك صفَةَ العُدْوَان كما في الابتداء. الحالةُ الرابعةُ: أنْ يَأْخُذَ اللُّقَطَةَ، ولا يَقْصِدَ خيانةِ ولا أمانة فلا تكون مضمونةً علْيه، وله التملُّكُ بَشْرطه. قال الإِمَامُ: وكذا لو احتمر أَحَدَهُمَا، ونَسِيَ ما أضْمَرَهُ، [والله عَزَّ وَجَلَّ أعْلَمُ]. قَالَ الغَزَالِيُّ: الحُكَمْ الثَّانِي: التَّعْرِيفُ، وَهُوَ وَاجِبٌ سَنَةً عَقِيبَ (ح) الالْتِقَاطِ،
ويعرِّفُ كُلَّ يَوْمٍ في الابْتِدَاءِ، ثُمَّ كُلَّ أسْبُوعٍ ثُمَّ كُلَّ شَهْرٍ بِحَيْثُ لاَ يَنْسَى أنَّهُ تِكْرَارٌ لِمَا مَضَى، وَيَذْكُرُ في التَّعْرِيفِ بَعْضَ الصِّفَاتِ لاَ كُلَّهَا لِيحْصُلَ بِهِ تَنْبِيهُ المَالِكِ، وَلاَ يَلْزَمَهُ مُؤَنَةُ التَّعْرِيفِ إِلاَّ إِذَا قَصَدَ (و) التَّملُّكَ فإِذْ ذَاكَ يَكُونُ سَاعياً لِنَفْسِهِ فِي التَّعْرِيفِ، فَإذَا قَصَدَ الحِفْظَ أَبَداً أَمَانَةً لِمَالِكِهِ فَفِي لُزُومِ أَصْلِ التَّعْرِيفِ خِلاَفٌ، وَالأظَهَرُ لُزومُهُ فَإنَّهُ كِتْمَانٌ مُفوِّتٌ لِلْحَقِّ، وَيَنْبَغِي أنْ يُعرِّفَ فِي مَوْضِعِ الالْتِقَاطِ إنْ كَانَ في بَلَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ فَيُعَرِّفَ في مَوْضِعٍ آخَرَ، وَإِنْ وَجَدَ فِي الصَّحْرَاءَ فَيُعَرِّفُ في أَيِّ بَلْدةٍ أَرَادَ قَرْبَ أم بَعْدَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُغَيِّر قصْدَهُ فَيَقْصِدَ أَقْرَبَ البِلاَدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من حَقِّ المُلْتَقِطِ أن يَعْرِفَ وُيعَرَّفَ إمَّا أنْ يَعْرِفَ فينبغِي أنْ يَعْرِفَ مِنَ اللُّقَطَةِ عِفَاصَها وَوِكَاءَهَا عَلَى مَا وَرَدَ في الخبر المذكُور في أوَّل الكتاب. والعِفَاصُ: الوِعَاءُ من جلْدٍ وخِرْقَةٍ وغيرِهما، وتُسَمَّى الجِلْدَةُ التي تَلْبَسُ رَأْسَ القَارُورَةِ العفاص والوِكَاء: هو الخَيْطُ الَّذي يُشَدُّ به، ويَعْرِفَ أيضاً جِنْسَها؛ أذَهَبٌ هِيَ أم فِضَّةٌ أم ثيابٌ؟ وِصِفَتَهَا أهَرَويَّةٌ هي أم مَرْوِيةٌ؟ وَقَدْرَهَا بِوَزْنٍ أَوْ عَدَدِ وإنَّما يَعْرِفُ هذه الأمُورِ؛ لِئَلاَّ تَخْتَلِطَ بمالِهِ، وَيَسْتَدِل به عَلَى صِدْقِ الطَّالب، إذا جاء، ويُسْتَحَبَّ تَقْييدُهَا بالكتابة. وأمَّا أن يُعَرِّف، ففيه مسائلُ: إحداها: يجب تعريفُ اللُّقَطَة سَنَةً؛ لقَوْله -صلى الله عليه وسلم- "عَرِّفْهَا سَنَةً". وليس ذلك بمَعْنَى استيعاب السَّنَةِ، بل لا يُعَرِّفُ في اللَّيَالي، ولا يَسْتَوْعِبُ الأيَّامَ أَيْضَاً، بلْ على المُعْتَادِ، فيعرِّف فَي الابتداء في كلِّ يوْمٍ مَرَّتَيْنِ في طرَفَيِ النَّهار، ثم في كلِّ يَوْمٍ مَرَّة، ثم في كلِّ أسْبُوع مرَّةً أو مرتَيْنِ، ثم في كلِّ شَهْرٍ، بحَيْثُ لا ينْسَى أنَّهُ تكْرَارٌ لما مضَى. وفي وجوبِ المُبَادرة إلَيْه وجهان عن رواية الشيخِ أبي عليٍّ: أحدهما: يجِبُ؛ لأنَّ العُثُورَ على المَالِكِ في ابتداءِ الضَّلاَلِ أقربُ. والثاني: لا يَجِبُ، بل المُعْتَبَرُ تعريفُ سَنَةٍ مُطْلَقاً، وبه ورَدَ الأَمْرُ، وهذا أَشْبَهُ بما أورده المُعْظَمَ. وقولُهُ في الكتاب: "عقِيبَ الالْتِقَاط" ظاهرُه يُفْهِم الجوابَ بالوَجْه الأوَّلِ، وبتقديرِ أنْ يكون كذلك، فَلْيَكنْ مُعْلَمَاً بالواو لكنْ يشبه أنَّهُ ما أراد ذلك؛ لأنَّه قال في "الوَسِيط": وقْتَ التَّعْرِيف عَقِيبَ الالْتِقَاط، إن عزم على التَّمَلُّكِ بَعْدَ سَنَةٍ، وإن لم يعزم علَيْه أصلاً، أو عزمَ بعد سنين فهل يلزمُه التعريف في الحال؟ وجهان، وعلى هذا، فالمعْنَى؛ وهو واجبٌ سنةً عَقِيبَ الالْتِقَاطِ، إن عزمَ على التملُّكِ بعْد سَنةٍ من وقْتِ الالتقاطِ، وهلْ يجوزُ تفريقُ السَّنَةِ بأنْ يُعَرِّفَ شهْرَيْنِ، ويتركَ شهْريْنِ وهكذا؟ فيه وجهان:
أحدُهُمَا: وبه أجاب الإمَامُ لا؛ لأنَّه إذا فَرَّق لم تَظهَرْ فائدةُ التعريفِ، فعلَى هذا إذا قطعَ التَّعريفَ مُدَّةً، وجب الاستئناف. والثانِي: وهُوَ ما أورده العراقِيُّون، والقاضي الرويانيُّ يجوزُ، كما لو نَذَر صوم سنَةِ، يجوز التَّفْرِيقُ. الثانية: لِيَصِفِ الملتقطُ بعض أوصافِ اللّقَطَةِ، فإنَّه أفَضَى إلى الظَّفر بالمالك، وهُوَ شَرْطْ أم مستحبٌّ؟ فيه وجهان؟ أظَهَرُهَما: الثَّانِي، وإذا شرطْنَا، فهل يكفي ذِكْرُ الجِنْسِ؛ بأن يقول: مَنْ ضاع منْه درَاهِمُ؟ قال الإمامُ: ما عنْدِي أنَّهُ يَكْفِي، ولكن يتعرَّضِ للعفَاصِ والوِكَاءِ، ومكانِ الالتقاط وتارِيخِهِ، ولا يستوعِبُ الصَّفَاتِ، ولا يبالِغُ فيها؛ كيلا يُعْتَمِدَها الكاذِبُ، فإنْ فَعَلَ، فَفِي صَيْرُورَتِهِ ضَامِناً وجهان: وَجْهُ المنع: أنَّهُ لا يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ إلاَّ بالبَيِّنَةِ. ووجهُ الصَّيْرُورَةِ: أنَّهُ قد دفعه إلَى مَنْ يلزمُه الدَّفْعُ [لا] إلَى الوَاصِفِ. الثالثة: إن تبرع المَلْتَقِطُ بالتَّعْرِيفِ، أو بَذَل مُؤْنَتِهِ، فذَاكَ، وإلاَّ، فإنْ أخَذَها للحِفْظِ أبداً، فإن قلْنا: لا يجِبُ التَّعْرِيفُ، والحالةُ هذه، فهو مُتَبَرِّعٌ إن عرّف. وإن قلْنَا: يجِبُ، فلَيْسَ علَيْه مُؤنتهُ، ولكنْ يَرْفَع الأمْرَ إلى الحاكِم؛ لِيَبْذُل أُجْرَتَهُ مِنْ بَيْتِ المالِ، أو يَسْتَقْرِضَ على المَالِكِ، أو يأْمُرَ المتلقطَ بِهِ لِيَرْجع، كما في هَرَب الجمَّالِ (¬1)، وإن أخذَها للتَّملُّكِ، واتَّصَلَ الأمْرُ بالتملُّكِ، فمؤنَةُ التعريفِ على المُلْتَقِط، وإنْ ظَهَر المالك، فَهِيَ على الملتَقِط؛ لقَصْده التملُّكَ، أو على المالِك؛ لعَوْدِ الفائدة إلَيْه؟ فيه وَجْهان: أَظْهَرُهما: أوَّلُهُما، وهو ظَاهرُ ما في الكتابِ، وإنْ قَصَدَ الأمانَة أبداً أَوَّلاً، ثمَّ قَصَدَ التَّمْلِيكَ، ففيه الوجْهَان؛ نَظَراً إلى منتهى الأمْر ومُسْتَقَرِّه. الرابعةُ: ما ذَكرْنا منْ وجُوب التَّعْريفِ فيما إذا قَصَدَ التَّملُّكَ، أمَّا إذا قَصَدَ الحِفْظَ أبداً، فَفِي وجُوبِه وجْهَان: أظْهَرُهما عنْد الإمام، وصَاحِب الكِتَاب: وجُوبُهُ، وإلاَّ، فهو كتمانٌ مفوِّتٌ للحقِّ علَى المستحقِّ. والثاني: وهُوَ الذي أورده الأكْثَرُون: أنَّهُ لا يجِبُ، وعلَّلوا بأن التعريفَ إنَّما يجبُ ¬
لتَحْقِيق شَرْطِ التملُّكِ (¬1). الخامِسَةُ: ليكنِ التعريفُ في الأسْوَاق، ومجامِعِ النَّاسِ، وأبواب المَسَاجِد عند خُرُوج النَّاسِ من الجماعاتِ، ولا يُعَرِّفُ في المَسَاجِدِ، كما لا يَطْلُبَ الضَّالَّةَ فِيهَا. قال الشَّاشِيُّ في "المعتمد": إلاَّ أنَّ أَصَحَّ الوجْهَيْنِ جوازُ التَّعْريف في المسْجِد الحرام؛ بخلافِ سائر المَسَاجد. ثم إذا التقطَ في بَلْدَةٍ أو قرية، فلا بُدَّ من التَّعْريفِ فيها، وليكنْ أكثرُ تعريفه في البُقْعةِ والمَحَلَّةِ الَّتي وجدَ فيها، فإنَّ طَلَبَ الشَّيْءِ في موْضع إضْلاَله أكثرُ، فإنْ حضَره سَفَرٌ، فوَّض التعريفَ إلَى غيرِه، ولا يُسَافِرُ بها. وإن التقطَ في الصَّحراءِ، فعَنْ أبِي إسْحَاق -رحمه الله- أنَّهُ، إن اجتازَتْ به قافلة، يُتْبَعُهُمْ، وُيعَرِّف فيهم، وإلاَّ، فلا فائدةَ في التَّعْريف في المواضع الخالِيَةِ، ولكنْ يُعَرِّفُ في البلدة التي يَقْصِدُهَا، إذا انتهى إلَيْها، [فإنِ بدا له الرُجُوعُ، أو قَصَدَ بلدةً أخْرَى، فكذا يُعَرِّفُ عند الوُصُولِ إلَيْها]، ولا يُكلَّف أنْ يُغيِّرَ قَصْدَه، ويعدلَ إلَى أقرب البلادِ إلَى ذلك الموْضِع، أو يرجع إلى حَيْثُ أنشأ السَّفَر منْه، حكاه الإمامُ، وتابَعَهُ المُصَنِّفُ، ولكن ذكر المتولِّي وغيرِه أنَّهُ يعدل ويُعَرِّفُ في أقْرَب البُلْدان إلَيْه، وهذا إنْ كان المراد منهُ الأَحَبَّ والأولَى فذاك، والاَّ، حَصَلَ وجْهَان في المسألة (¬2). وقوله في الكِتَاب: ولا يجوزُ له أنْ يُسَافِر به فَيُعَرِّفَ في مَوْضِع آخَرَ، ففي الجواز لا يفتقرُ إلى الأمْرَيْنِ، بل يجوزُ أنْ يُسَافِرَ به، وإن لم يتبع التَّعرِيفَ في مَوْضعٍ آخَرَ، كما لا يجوز السَّفرُ بالوَدِيعَة، ولا يجوزُ التعريفُ في مَوْضعٍ آخر، وإنْ لم يُسَافرْ به. وقولُه: "فَيُعَرِّف في أي بَلدٍ أرَاد قَرُبَ أَمْ بَعْدَ" غيْرُ مجرى عَلَى ظاهره، بل هو محمولٌ عَلَى البلدِ الَّذِي هو مَقْصِدُهُ. ¬
فرع
فَرْعٌ: ليس لِلْمُلْتَقطِ تَسْلِيمُ المالِ إلَى غيرِهِ؛ لِيُعَرِّفَهُ إلاَّ بإذْن الحاكِم، فإن فَعَل، ضَمِنَ، قالَهُ القاضِي ابنُ كجٍّ وغيْرُه. آخر: لاَ بُدَّ، وأن يكونَ المُعَرِّفُ عاقِلاً غَيْرَ مَشْهُورٍ بالخَلاَعة والمُجُون، وإلاَّ، فلا يعتمدُ عَلَى قَوْلِهِ، ولا تَحْصُل فائدةُ التَّعْريفِ (¬1) والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: ثُمَّ وُجُوبُ التَّعْرِيفِ سَنَةً في مَالِ كَثِيرٍ لاَ يَفسُدُ، أَمَّا القَلِيلُ الَّذِي لاَ يُتَمَوَّلُ فَلاَ يُعَرَّفُ أَصْلاً، وَإِنْ كَانَ مُتَمَوَّلاً عُرِّفَ مَرَّةً (ح م و) أَوْ مَرَّتَيْنِ عَلَى قَدْرِ الطَّلَبِ فِي مِثْلِهِ، وَحدُّ القَلِيلِ مَا يَفْتَرُّ مَالِكُهُ عَنْ طَلَبِهِ عَلَى القُرْبِ، وَقِيلَ: انَّهُ يُقَدَّرُ بِنِصَابِ السَّرِقَةِ، وقِيلَ: الدِّينارُ فما دُونَهُ قَليلٌ إِذْ وَجَدَ عَلِيٌّ كَرَّمَ الله وَجْهَهُ دِينَاراً فَأَمَرَهُ -صلى الله عليه وسلم- بِالاسْتِنْفَاقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: غَرَضُ الفَصْلِ والَّذي بعْدَهُ بَيَانُ أن التعريفَ سَنَةً لا يَجِبُ في كُلَّ لُقَطَةٍ، وإنَّما يجبُ عنْد اجتماع وصْفَيْنِ: أحَدُهُمَا: أن يكونَ المُلْتَقَطُ كثيراً، فإن كان قَلِيلاً، نُظِرَ؛ إنِ انتهت قِلَّتُه إلى حدٍّ يُسْقط تموُّلُهُ؛ كالحبة من الحِنْطَة، والزَّبِيية الواحِدة، فلا تعريف [على واحدة]، وله الاستبداد به، ولَكَ أنْ تقولَ: ذِكْرُ خِلاَفٍ في أنَّ مَنْ أتْلَفَ مالاً يُتَمَوَّلُ، ما هو من قبيل المثْلِيَّات، هل يَغْرَمُهُ؟ والظَّاهرُ أنَّهُ لا يَغْرَمُهُ كما لا يَجُوزُ بَيْعهُ وَهِبَتُهُ، وحينئذٍ، فليجيءُ فيه الوجْهُ المذكورُ في أنَّ الكَلْبَ لا يجوزُ الْتقاطُه لِلاخْتِصَاصِ؛ لأنَّهُ يمتنعُ الاخْتِصَاصُ به بِعِوَضٍ، وبِغَيْرِ عَوضِ كما تقدَّم. وإنْ كانَ مُتَمَوَّلاً مع القِلَّة، فيجبُ تعريفُهُ؛ لأنَّ فاقده يَطلُبُهُ، خلافاً لأبي حنيفةَ ومالكٍ -رضي الله عنهما- يُعَرِّفُ؟ فيه وجهان: أحدهُمَا: سَنَةً، لإطلاقِ الأخْبَار، وهذَا أظهَرُ عند العراقِيِّينَ. والثاني: المنعُ؛ لأنَّ الشَّيْءَ الحقيرَ لا يدوم فاقِدُهُ علَى طلبه سَنَةً، بخلاف ¬
الخطيرِ، وهَذَا أشبهُ باختيار المُعْظَم، وعلَى هذا؛ فأوْجُهٌ: أحدها: وُينْسَبُ إلى الإصْطَخْرِيِّ، أنَّه يكفي التعريفُ مَرَّةَ؛ لأنَّهُ يَخْرُجُ به عن حَدِّ الكاتِم، وليْسَ بعْدَها ضَبْطٌ يُعْتَمَدُ. والثاني: يُعَرِّفُ ثلاثةَ أيامٍ؛ لأنَّهُ رُوِيَ بعضُ الأخبارِ: "مَنِ الْتَقَطَ لُقَطَةَ يَسِيرَةً، فلْيُعَرِّفْهَا ثَلاثةَ أَيَّامٍ" (¬1). والثالثُ: وهو الأظهرُ أنَّهُ يُعَرِّفُ مدَّةً يُظَنُّ في مثْلِها طَلبُ الفاقد له، فإذا غَلَبَ علَى الظَّنِّ إعْرَاضُهُ، سقط عنه التعريفُ، ويخْتَلِفُ ذلك باختلاف قدْرِ المَال. قال القاضِي الرُّوَيانِيُّ: فَدَانِقُ الفِضَّةِ يُعَرَّفُ في الحال، ودَانِقُ الذَّهَبِ يُعَرَّف يَوْماً أو يومَيْنِ أو ثلاثَةَ أيامٍ، وبم يُفْرَقُ بين القليل المُتَمَوَّل، وبينَ الكَثير؟ فيه أوجه: أحدُها: عن الشيخ أبي محمَّد: أنَّه لا يُقَدَّرُ مقدارُه، ولكنْ ما يَغْلِبُ على الظَّنِّ أنَّ فاقدَهُ لا يُكْثِرُ أَسَفَهُ عَلَيْه، ولا يَطُولُ طَلَبُه لَهُ في الغالب، فهو قليل، وهذا أصحُّ عنْد المُصَنِّفِ، وصاحبِ "التتمة". والثاني: أنَّ القليلَ ما دُونَ نِصَاب السَّرِقَةِ، فإنَّه تافه في الشَّرْع، وقد قالَتْ عائشةُ -رَضِيَ الله عنْها-: "مَا كانَتِ الأيْدِي تُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- في الشَّيْءِ التَّافِه" (¬2) وبهذا قال مالكٌ وأبو حنيفةَ [رضي الله عنهما]. والثالثُ: عن رواية الماسرجسيِّ وغيرِه. أنَّ الدِّينار فما دونَهُ قليلٌ؛ لِمَا رُوِيَ أنَّ ¬
فرع
عَلِيّاً -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَجَدَ دِينَاراً، فَسَأَلَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "هَذَا رِزْق والله، فاشْتِرِ بِهِ دَقِيقاً وَلَحْماً" فأكَلَ منه رسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَعَليٌّ وَفَاطِمَةُ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا- ثم جَاءَ صَاحِبُ الدِّينَارِ يَنْشُدُ الدِّينارَ، فقال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا عَلِيُّ، أدِّ الدِّيْنَارَ" (¬1). والرابعُ: أنَّ ما دُونَ الدِّرْهَمِ قليلٌ، والدِّرْهَمُ فما فوقَهُ كَثِيرٌ، لما رُوِيَ عن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عنْها- أنَّهُ لاَ بَأْسَ بِمَا دُونَ الدِّرْهَم أن يُسْتَنْفَعَ بِهِ" (¬2) وأعْلَم أنْ ما ذكرْنَاه منْ تَقْسِيم القَليلِ إلَى مُتَمَوَّل، وغَيْرِ مُتَمَوَّل قدَ حكاه الإمامُ وصَاحِبُ الكتاب، وفِي كلام الشَّيْخ أبي حَامِدٍ مَا يَدُلٌ عليه، والأكْثَرُونَ لم يتعرَّضوا له، ولكنْ قَسَّموا القَليلَ إلى ما لاَ يُطْلَبُ، ولا تتبعُهُ الهمةُ، وإلى ما يطلبُ، ويُشْبِهُ أن يكونَ الاختلافُ في مجرَّد العبارة واللهُ أعلَمْ. وقولُهُ في الكتاب: "وإنْ كانَ متموَّلاً عَرّفَ مَرّةً أو مرَّتَيْن" يجوز أن يُعْلَم [بالواو والحاء والميم؛ لما تقدَّم. وقولُهُ: "إنَّهُ يتَقَدَّرُ بنصاب السَّرقة" من الألفاظِ الَّتِي أُخِذَتْ عن المُصَنِّف] (¬3) وَقِيلَ: الصَّوَابُ أنْ يُقَالَ: بما دُونَ نِصَابِ السَّرِقَةِ؛ [لأنَّ نِصَابَ السَّرِقَة] من حَدّ الكثير، لكنْ يجوزُ أن يُقَالَ: إنَّهُ لم يفسر القَلِيل به، لكن قال: يتقدَّر به، أي: هو الحدُّ الفاصِلُ فما يقعُ دونَهُ، فهُوَ قليلٌ، والحَدُّ قد لاَ يدْخُلُ في المحدود. فرع: عن "التتمة": يحلُّ التقاطُ السَّنَابِل وَقْتَ الحَصَاد، إنْ أَذِنَ فيه المالكُ، أو كانَ قَدْرَ ما لا يَشُقُّ علَيْه التقاطُهُ، وإنْ كانَ يُلْتَقط بنَفْسِه لَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ، وإلاَّ، لم يَحِلَّ والله أعلم (¬4). ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: أَمَّا مَا يَفْسُدُ كَالطَّعَامِ فَقَدْ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنِ الْتَقَطَ طَعَاماً فَلْيَأْكُلُهُ"، وَفِي مَعْنَاهُ الشَّاةُ فَإنَّهُ طَعَامٌ يَحْتَاجُ إلَى العَلَفِ، وَفِي الجَحْشِ وَصِغَارِ الحَيَوَانَاتِ الَّتِي لاَ تُؤْكَلُ خِلاَفٌ، فَقِيلَ: لاَ يَلْتَحِقُ بالشَّاةِ لأَنَّ التَّسَاهُلَ في الطَّعَامِ أَكْثَرُ، ثُمَّ في وُجُوبُ التَّعْرِيفِ بَعْدَ أَكْلِ الطَّعَامِ خِلاَفٌ (و)، وَإِنْ وَجَدَ طَعَاماً فِي بَلَدٍ فَقَدْ قيِلَ: يَبِيعُهُ وَيُعَرِّفُ ثَمَنَهُ لأَنَّ ذَلِكَ في الصَّحْرَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَقِيلَ بِخِلاَفِهِ لعُمُومِ الخَبَرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الوَصْفُ الثانِي: أن يَكُونَ شَيْئاً لا يَفْسُدُ، أمَّا مَا يَفْسُدُ، فضَرْبان: أحدُهُما: أنَّه لا [يمكِنُ] إبقاؤه كالهَرِيسَةِ والرُّطَبِ الذي لا يتتمر والبُقُول، فإنْ وجَده في بَرِّيَّةٍ، فهو بالخيارِ بَيْن أنْ يبيعَه، ويأْخُذَ ثَمَنَه، وبين أن يتملَّكَهُ في الحالِ، فيَأكَله، وَيَغْرَمَ قيمتَهُ، كما ذكرنا في الشَّاةِ، وحيث يجدُها إلاَّ أنَّ في الشاةِ خَصْلةً أخرَى، وهي إمْسَاكُهَا، وهو متعذِّرٌ ههنا وقد رُوِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ وَجَدَ طَعَاماً، فَلْيَأْكُلُهُ، وَلا يَعَرِّفْهُ" (¬1). وإن وجَدَه في بَلْدَةٍ أو قَريَةٍ؟ ذهَبَ المُزَنِيُّ إلَى أنَّ المسألةَ على قَوْلينِ: أحدُهُمَا: وهو اختيارُ المزَنِيِّ: أنَّه ليس له الأَكْلُ؛ بل يبيعُه، ويأخذ ثمَنَه لمالكه؛ لأنَّ البيعَ متيسِّرٌ في العُمْرَان. والثَّاني: أنَّه كما لو وَجَد في الصَّحْرَاءِ؛ لإطْلاَق الخبر، وهذا أَرْجَحُ عند عامَّة الأصْحَابِ، ومنْهُمْ من قطَع به، وقَضِيَّتُهُ ترجيحُ القَوْل بجواز أكْلِ الشَّاةِ، إذا وُجِدَتْ في الصَّحْراء، كما ذكَرَه الشيخُ أبو حامِدٍ، ويمكن أن يُفْرَقَ بينهما بَأنَّ الطَّعامَ قَدْ يَفْسُدُ إلَى أن يظْفَر بالمُشْتَرِي، فتمسَّ الحاجة إلَى أكْلِه، والشَّاةُ بخلافه. إذا قلْنا: لا يجوزُ الأكْلُ، فلو أخذه لِلأَكْلِ، كان غَاصِبَاً، وحيث جَوَّزنا الأَكْلَ، ¬
فأَكَلَ، ففي وجوبِ التَّعريفِ بعْدَه وجهان: أصحُّهُمَا: الوُجُوبُ، إذا كان في البَلَد، كما أنَّه، لو بَاع، يُعَرِّف، وإذا كان في الصَّحْراء قال الإمامُ: الظَّاهرُ أنَّه لا يجب؛ لأنَّه لا فائدةَ فيه في الصَّحْرَاءِ، وإذَا تأخَّر بعد العُثُور علَى المستحِقِّ، وهلْ يجِبُ إفراز القيمةِ المَغْرُومةِ منْ ماله؟ فيه وجهان -ويُقَالُ: قولان: أظْهَرُهُمَا: لا؛ لأنَّ ما في الذمَّة لا يُخْشَى هلاكُه، وإذَا أفْرَز، كان المُفْرَزُ أمانةً في يده، وربَّما احْتُجَّ له بالقياسِ علَى ما إذا أكلَ الشَّاةَ؛ حَيْثُ لا يجبُ إفرازُ القيمةِ؛ لأنَّ هناك طَرِيقَةً قاطعةً بالمنْعِ. والثاني: أنَّهُ يَجِبُ احْتِيَاطاً لصَاحِب المالِ؛ لتَقَدُّم صاحِبِ المالِ بتلْكَ القيمةِ، لَوْ أفْلَسَ المُلْتَقِطُ، وَعلَى هذا، فالطَّريقُ أن يرفَع الأَمْرَ إلَى الحاكِم؛ ليقبضَ عنْ صاحِبِ المال بالقيمة؛ فإنْ لم يَجدْ حاكماً، فهلْ للملْتَقِطِ بسلطان الالْتَقاطِ أن يُنِيبَ عنه؟ فيه احتمالٌ عند الإمام، وذكر أنه، إذا أَفْرَزَهَا، لم تصِرْ مِلْكاً لصاحبِ المالِ، لكنه أَوْلَى بتملُّكها، وبمثله أجاب المُصَنِّف في "الوسيط"، لكنَّه، لو كان كَذَلِكَ، لَمَا سَقَطَ حقُّه بهَلاَك القيمةِ المفرزة، وقد نَصُّوا على السُّقُوطِ، وأيْضاً نصُّوا على أنَّه إذا مضَتْ مُدّةُ التعريفِ، فله أن يتملَّكَ تلك القيمةَ، كما يتملَّكُ نَفْسَ اللُّقَطَةِ، وكما يتملَّكُ الثَّمَنَ، إذَا باع الطَّعَامَ، وهَذا يقتضِي صَيْرُورَتَهَا مِلْكاً لصاحبِ اللُّقَطَةِ. وإذا اختلفت القيمةُ يَوْمَ الأخْذُ، ويوم الأَكْل، ففِي بعض الشُّرُوح أنه، إن أخَذ للأكل اعتبرت قيمته يوم الأخذ، وإن أخذ للتعريف اعتبرك قيمته يوم الأكل، وإذا اختار البيع ففِي الحاجَةِ إلَى مُرَاجعةِ الحاكم ما مَرَّ في بَيْع الشَّاة. الضَّرْبُ الثانِى: ما يُمْكِنُ إبقاؤُه بالمُعَالَجَةِ والتَّجْفِيف، فإن كان الحظ لصاحبِهِ في بَيْعِهُ رُطَباً، بِيعَ، إلاَّ، فإنْ تَبَرَّعَ الواجدُ بالتجفيف، فذاك، وإلاَّ بِيْعَ بعضُه، واتَّفَقَ علَى تجفيف الباقي. ويخالفُ الحيوان حيْثُ يُبَاعُ جميعُه؛ لأنَّ النَّفقَةَ تكَرَّرُ، فيؤدِّي إلَى أنْ يأكلَ نَفْسَه، وهذا الضَّرْبُ الثَّاني لم يوردْهُ صاحبُ الكتابِ. وقولُه: "من التقطَ طعاماً، فلْيَأْكله (¬1) ... " الحديثُ بهذه اللُّقَطَةِ لا ذِكْر له في الكُتُب، وإنَّما الذي يُرْوَى ما قدَّمناه. والأكثرونَ لم يَرْوُوا في الطعام حديثاً، وإنَّما اقْتَبَسُوا حكمِهُ من الأحاديثِ المَنْقُولةِ في ضَالَّة الغنمِ، وصاحِبُ الكتابِ عَكَسَ القضية، ¬
فجَعَلَ الحَدِيثَ في الطَّعَام أَصْلاً، ثم قال: وفي مَعْنَاه الشَّاة. وقوله: "فإنَّها طعامٌ" -أي: هِيَ في حُكْمِهِ، وقريبةٌ منه، ولذلك جاز التَّبَسُّطُ فيها في دَار الكُفْرِ جَوَازَهُ في الأطعمة. وقوله: "في الجَحْشِ وَصِغَارِ الحَيَوَانَاتِ الَّتي لا تُؤْكَل فقيل: لاَ يَلْتَحِق بالشَّاة" أي: في جواز التملُّك قبل التعريف، فإنَّ الشَّاةَ تُتَمَّلكُ وتُؤْكَلُ. وقوله: "فقد قيل يبيعه". أي: يتدرَّج إلَى بَيْعِه علَى ما يقتضيه الحَالُ من الظِّفَرِ بالحَاكم وعَدَمِه. وقوله: "وُيعَرِّفُ ثَمَنَهُ" هكذا هو في لَفْظ الكتَاب، لكنَّ المَعْرُوفَ باتِّفافِ الأصحاب هُوَ المَبِيعُ دُون الثَّمَنِ، كما أنَّه إذا أكَل، يُعَرَّف المأكول دون القيمة، أفرزها -أو لم يُفْرِزْهَا-. ولذلك جَعَل بعضُهم، وُيعَرِّفه لثمنه؛ ليتملَّك الثَّمَنَ بعْد التعريف: وقوله: "وقيل بخِلاَفِهِ" يعني أي: لا يتعيَّنُ البَيْعُ، ويجوزُ الأَكْلُ كما لو وُجِدَ في الصَّحْرَاء. واعْلَمْ أنَّ قولَه في أوَّل الفصل السابق: "ثم وجُوب التعريف سَنَةً في مال كثير لا يفسد" يجوزُ أن يرادَ به اعتبارُ ثلاثةِ أُمُورٍ في التَّعْريفِ سنةً؛ وهي كونُهُ مالاً، وكثيراً، وغَيْرَ فَاسِدٍ، لكنَّه لم يفصل (¬1) ذلك، وإنَّمَا قَصَدَ اعتبارَ أمرَيْن: الكثرةُ، وعَدَمُ الفَسَادِ، على ما شرَحْناه. ولو أنَّه قَصَدَ الأوَّلَ لقال: أمَّا الذي لا يُتَمَوَّلُ، فلا يُعَرَّفُ، وأمَّا القليلُ مما يُتَمَوَّل، فَيُعَرّف مَرَّةً أو مرَّتَيْنِ، هذا، وخطُّ الحقيقةِ لا يَخْتَلِفُ، [والله أعلم]. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّالِثُ: التَّمَلُّكُ وَهُوَ جَائِزٌ بَعْدَ مَضِيِّ المُدَّةِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ مضِيِّ السَّنَةِ إِذَا تَقَدَّمَ القَصْدُ، وَقِيلَ: لاَ بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِ القَصْدِ، وَقِيلَ: لاَ بُدَّ من لَفْظٍ أيْضاً، وَقِيلَ: لاَ بُدَّ من تَصَرُّف أيْضاً مُزِيل لِلْمِلْكِ كمَا في القَرْضِ، أَمَّا لُقْطَةُ مَكَّةَ فَلاَ يَتَمَلَّكُهَا (ح م) لِقَوْلهِ -صلى الله عليه وسلم-: لاَ يَحِلُّ لُقَطَتهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ، مَعْنَاهُ عَلَى الدَّوَامِ وَإِلاَّ لَمْ تَظْهَرْ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ، وَقِيلَ: إنَّهُ يُمْلِكُ كَسَائِرِ البِلاَدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من أحكامِ اللّقَطَةِ جَوَازُ التَّمَلُّكِ بعْد التَّعْرِيف، ولا فَرْقَ بين أن يَكُونَ الملتَقِطُ غَنِيّاً أو فقيراً. وعنْد أبي حَنِيفة-رضي الله عنه- من لا تحِلُّ له الصدقةُ لا يجوزُ له التملُّكُ والارتفاقُ باللُّقَطَة، ولكنَّه، إنْ شَاء، حَفِظَها للمَالِك، وإنْ شاء، تَصَدَّقَ بها. ومَنْ يحل له الصَّدَقةُ، إنْ شاء، تَمَلَّكَهَا، وارتفقَ بها ويكونُ متصدِّقاً على نفْسِه، ¬
وإنْ شاء، تصدَّق بها علَى غيرِه، وإنْ شاء، حَفِظَها للمَالِك، ومهْما تصدَّقَ بها، ثمَّ جاء المالِكُ، فهو بالخيار بَيْن أن يجيز صَدَقَتَه وبين أن يغرمه، ويكونُ ثوابُ الصَّدقةِ للملْتَقِطِ. وعنْ مالك -رضي الله عنه-: أنَّهُ يجوزُ للغَنِيِّ تملُّكُ اللُّقَطَةِ، ولا يجوزُ للفَقِير. لنا: قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ: "فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وإلاَّ، فَشَأْنَكَ بِهَا" (¬1). ولم يَفْرِقْ بين الغنىِّ والفقير. ورُوِيَ أنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْب -رضي الله عنه- وجَدَ صُرَّةً فِيهَا دَنَانِيرُ، فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ -فَقَالَ: "عَرِّفْهَا حَوْلاً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، فَعَرَفَ عَدَدَهَا، وَوِكَاءَهَا، فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ، وَإِلاَّ، فَاَسْتَمْتِعْ بِهَا" (¬2). وكانَ أُبَىٌّ -رضي الله عنه- عنده من المَيَاسِير. وفي الفصْل مسأَلَتانِ: إحداهما: مَنِ التقَطَ للتملُّكِ، وعَرَّف، ففِيهِ وجهان: أحدُهُمَا: أنَّه يملكُ بمجرَّدِ مُضِيِّ السَّنَةِ؛ لِمَا رُوِيَ أنَّ رَجُلاً قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَجِدُ في السَّبِيل العَامِر مِنَ اللُّقَطَةِ؟ قال: "عَرِّفْهَا حَوْلاً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلاَّ، فَهيَ لَكَ" (¬3). وأصحُّهُمَا: أنَّه لا يملكُ ما لم يَخْتَرِ التملُّك؛ لَقولِهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فَشَأْنَكَ بِهَا" (¬4) فوَّض الأمْرَ إلَى خِيرَتِهِ. وعلى هذا، فثلاثةُ أوجُهٍ: أحدُها: أنَّه يَكْفِيهِ تَجْديدُ قَصْدِ التملُّكِ، ولا حاجةَ إلى اللَّفظ لأن لفْظَ التملُّكِ، إنَّما يُعْتبر حَيْثُ يكون هنَاكَ إيجابٌ. وأصحهما: أنَّه لا بد من قوْله: تَمَلَّكُتُ، وما أَشْبَهَهُ؛ لأنَّه تملّكُ مالٍ بَبَدِل، فافتقر إلَى اللَّفْظ؛ كالتملُّك بالشِّراءِ. ¬
وثالثُها: أنَّه لا يُحْكَمُ لَهُ بالمِلْك ما لَم يتصرَّف فيه تخْريجاً من القرض، فإنَّ التصرَّف باللقطة كالاسْتقْرَاضِ، وعلَى هذا، فيُشْبِه أن يجيء الخلافُ المذكورُ في القَرْضِ في أن المِلْكَ بأيِّ نَوْع منَ التَّصَرُّفِ يَحْصُل. وإنَّ قَوْلَه في الكتابِ "لا بُدَّ من تَصَرُّفٍ أيضاً" مزيلً للملِك جوابٌ بالوجه الأظهر من ذلك الخِلاَف. الثانية: في لُقَطَةِ "مكَّة" وحَرَمِها قولان: أظْهَرُهُمُا: أنَّه لا يَجُوزُ أخذُها للتملُّك، وإنما تُؤْخَذُ للحِفْظِ أَبَداً؛ لما رُوِيَ أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ هَذَا، الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلاَ يُنْفَرُ صَيْدُهُ، وَلاَ يَلْتَقِطُ لُقْطَتَهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا" (¬1) وُيرْوَى: "لاَ تَحِلُّ لُقَطَتُهُ إِلاَّ لِمُنْشَدٍ" أي لمُعَرِّفٍ، والمعْنَى عَلَى الدَّوام، وإلاَّ، فالحكمُ في سَائِر البِلاَدِ كَذَلك، فلا تظْهَر فائدةُ التَّخْصِيصِ، والمعنى فيه أنَّ مكَّةَ مثابةٌ للنَّاسِ يعُودُون إلَيْها مَرَّةً بَعْد أُخْرَى، فربَّما يعود مَنْ أضلهَا، أو يبعث في طلبها. والثَّاني: أنَّهَا كَلُقَطَةِ سَائِرِ البِقَاع، والمرادُ من الخَبَرِ أنَّهُ لا بُدَّ من تَعْرِيفهِا سَنَةً، كما في سائر البلاَدِ كيْلا يُتَوهَّم أن تَعْرِيفَهَا في المَوْسِمِ كافٍ لكَثْرَةِ النَّاسِ، وبعد العَوْدِ في طَلَبها من الآفَاقِ. ولْيُعْلَمْ قوله في الكتاب: "فَلاَ يَتَمَلَّكُهَا" بالحاء والميم؛ لأنَّ مذْهَبَهُمَا كالقَوْل الثاني، وبالألف لأنَّ أحمدَ يواَفِقُهُما في أظْهَرِ الروايتَيْن، [واللهُ عزَّ وجلَّ أعلم]. قَالَ الغَزَالِيُّ: الرَّابعُ وُجُوبُ (و) الرَّدِّ، فَمَهْمَا أَقَامَ المَالِكُ بَيِّنَةً فَإِنْ أَطْنَبَ في الوَصْفِ وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ جَازَ الرَّدُّ، وَفِي الوُجُوبِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ خِلاَفٌ، وَلَعَلَّ الاكْتِفَاءَ بِعَدْلٍ وَاحِدٍ أَوْلَى فَإِنَّ البَيِّنَةَ قَدْ تَعْسُرُ إِقَامَتُها، فَإِنْ رَدَّ إلَى الوَاصِفِ فَظَهَرَ مَالِكٌ وَأَقَامَ البَيِّنَةَ فَإِنْ شَاءَ طَالَبَ المُلْتَقِطَ، وَإِنْ شِاءَ طَالَبَ الوَاصِف، ثُمَّ القَرَارُ عَلَى الوَاصِفِ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدِ اعْتَرَفَ المُلْتَقِطُ لَهُ بِالمِلْكِ، وَلَوْ ظَهَرَ المَالِكُ بَعْدَ التَّمَلُّكِ غُرِّمَ المُلْتَقِطُ قِيمَتَهُ يَوْمَ التَّمَلُّكِ، فَإِنْ كَانَ العَيْنُ قَائِمَةً فَفِي وُجُوب رَدِّ العَيْنِ تَرَدُّدٌ (و)، فَإِنْ رَدَّ تَعَيَّنَ عَلَى المَالِكِ القَبُولُ، فَإِنْ كَانَتْ مَعِيبَةً وَضَمَّ إِلَيْهِ الأًرْشَ فَهَلْ عَلَيْهِ القَبُولُ أَمْ يَجُوزُ لَهُ المُطَالَبَةُ بِالقِيمَة؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قالَ الرَّافِعِيُّ: أَحْكَام اللّقَطَةِ رَدُّ عَيْنها، أو بَدَلِهَا عنْد ظُهُور مالكها، ويقَعُ الكلامُ فيه [في جُمْلَتَيْنِ. ¬
إحْدَاهُمَا: إذا جاءَ مَنْ يَدَّعيها، نُظِرَ؛ إنْ لم يُقِم البيِّنة] عَلَى أنَّها له، ولا وصَفَها، لم يُرْفَعْ إلَيْه شيءٌ، إلاَّ أن يَعْلَمَ الملتقِطُ أنها له، فيَلْزَمُه الدَّفْع إليه، وإنْ أقام البيِّنَةَ، رُدَّت عليه، وإنْ وصَفَها، نُظِر؛ فإنْ لم يغْلِبْ على ظَنِّ الملتقِطِ صدْقُهُ لم يدْفَعْها إلَيْه على المشْهُور، وحكى الإمَامُ تَرَدُّداً في جواز الدَّفْع، وإن غَلَبَ على ظنِّه صدْقُهُ، جاز دَفْعُها إليه، وفي وجوبه وجهان نقلهما الإمامُ، وصاحبُ الكتابِ: أحدُهما: وهو الروايةُ عن مالِك وأحْمَد -رضي الله عنهما-: أنَّه يجبُ؛ لأنَّ إقامةَ البيِّنةِ على اللّقَطَةِ قد تَعْسُرُ، وقد رُوِيَ أنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قال: "فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُها، فَعَرَّفَ عِفَاصَهَا وَعَدَدَهَا، فاَدْفَعْهَا إِلَيْهِ" (¬1). وأصحُّهما: وهو الذي يَشْتَمِلُ علَيْه كُتُبُ عامَّةِ الأصْحَاب، وبه قال أبو حنيفة -رضي الله عنه-: أنَّه لا يجبُ؛ لأنَّهُ مُدَّع، [فيحتاج إلى بَيِّنَةِ وعلى هذا فلو قال الواصِفُ: يلزَمُكَ تسلِيمُها إليَّ؛ فلَهُ أن يَحْلِفَ أنَّه] (¬2) لا يلزَمُه ذلك. ولو قَالَ: تَعْلَمُ أنَّها مِلْكِي، فلَهُ أنْ يَحْلِفَ أنَّهُ لا يَعْلَمُ؛ لأنَّ الوصْفَ لا يفيدُ العِلْم. واختار صاحبُ الكتاب شَيْئاً متوسِّطاً بيْن الوجهَيْن، فقال: الأَوْلَى أن يُكْتَفَى بِعَدْلٍ واحِدٍ؛ لحُصُول الثِّقَةِ وظاَهرُ المذْهَبِ خلافُه. وإذا دَفعها إلَى الوَاصِفِ، ثم جَاء آخَرُ، وأقامَ البيِّنةً على أنَّها له، فإن كانتْ باقيةً انْتُزِعَتْ منْه، ودُفِعَتْ إلى الثاني، وإنْ تَلِفَت عنْده، فهو بالخِيَار بيْن أن يُضَمَّنَ المُلْتَقِطُ أو الوَاصِفُ، فإن ضُمِّنَ الواصِفُ، لم يرجعْ على الملْتَقِطِ؛ للتَّلَف عنده، ولأنَّ الثانِيَ ظالمٌ بِزَعْمِه، فلا يُرْجَعُ عَلَى غير ظالمِهِ، وإنْ ضُمِّنَ الملتقِطُ رَجَعَ، إنْ لم يُقِرَّ للواصِف بالملْكِ، وإن أقرَّ، لم يَرْجعْ؛ مؤاخذةً له بقوله، هذا إذا دفع بنَفْسِه. أمَّا إذا ألزَمَهُ الحاكم الدافعْ إلى الواصِفِ، لم يكُنْ لمقيم البيِّنة تضمينُه، ولو جاء الواصفُ بعدما تملَّكَ الملتقِطُ اللُّقَطَة، وأتْلَفَها، فعرَّفها له الملتَقطُ؛ لظنِّه صدْقَه، ثم جاء آخر، وأقامَ البيِّنةَ، فلَهُ مطالبَةُ الملْتَقطِ دُونَ الواصِفِ، لأنَّ الحاصِلَ عند الوَاصِفِ مَالُ المْلتَقِط لا مَالُهُ، وإذا غَرِمَ المْلتَقِطُ، فهلْ يرجع على الواصِفِ؟ يُنْظَرُ، هل أقرَّ له بالمِلْك عند الغرامَةِ أم لا؟ كما سبق، والله أعْلَمُ. فَرْعَانِ عنْ شَرْح القاضي ابن كجٍّ -[رحمه الله]-: أحدُهُمَا: أقامَ مُدَّعِي اللُّقَطَة شاهدَيْن عدلَيْنِ عنْده، وعنْد الملتقط، وهما فاسِقَيْنِ عند القاضي، فعَنْ أبي الحَسَن وجْهان في أنَّ القاضِيَ، هل يلْزَمُه الدَّفْع؛ لاعترافهما بعْد التهمة؟ والصحيحُ المنعُ. ¬
الفرع الثاني: ادَّعَاهَا اثْنَان، وأقام كُلُّ واحدٍ بيِّنةً على أنَّها له، ففيه أقوالُ التعارُضُ (¬1). الجملةُ الثانيَةُ: إذا ظَهَر المالِكُ قبل تملّك الملْتَقِطِ، أخَذ اللُّقَطَة بزوائِدِهَا المتَّصلة والمُنْفَصِلَةِ، وإنْ ظهَر بعْد التملُّكِ، فَلِلُّقَطَةِ حالتان (¬2): الحالةُ الأولى: أن تكونَ باقيةً عنْده، فيُنْظَر، إن بَقِيَتْ بحالها، فوجهان: أحدهما (¬3): أنَّ له أخْذَهَا، ولَيْسَ للملتقِطِ أن يُلْزِمَهُ أخْذَ بدَلِها. والثاني: المَنْعُ، ولا شَكَّ في أنَّه، إذا رَدَّها المْتَقِطُ، وجَبَ على المالِكِ القَبُولُ، وهذا من الجانِبَيْنِ كما سَبَق في القَرْض. وإذا قلْنا بالأظهر، فلو باعَهَا الملتقِطُ بشَرْط الخيار، ثم جاءَ مالِكُها، حَكَى صاحبُ "المعتمد" وجهَيْنِ في أنَّهُ، هل يُفْسَخُ العَقْدُ (¬4)، ووَجَّهَ المنْع بأنَّ الفسخَ حقُّ العاقدِ، فلا يتمكَّنُ غيرُهُ منْه بغَيْر إذْنِهِ. ورَدَّ القاضي ابن كجّ الوجْهَيْن إلَى أنَّهُ، له يُجْبَرُ الملتقطُ على الفَسْخُ؟ ويجوزُ فرْضُ الوجهَيْن في الانْفِسَاخ، كالوجْهَيْن فيما إذا باع العَدْلُ الرَّهْنَ بثَمَنِ المِثْلِ، فظَهَر طالبٌ [في مجلس العقْدِ] بزيادةٍ، وإن حَدَثَتْ في اللُّقْطَةِ زيادةٌ، فالمتَّصِلُ يتبعهُا، والمنفصلُ يُسَلَّم للملتقط، فيردّ الأصل. وإن نقَصَتْ بعَيْب أو نحوه. وقلْنا: إنَّها، لو بَقِيَتْ بحالها، لم تَكُنْ للمالِك أخْذُهَا، رجَعَ إلَى بدلها سليمةً. وإن قلْنا: له أن يَأخُذَهَا، فكذلك ههنا وُيغَرِّمُهُ الأَرْشَ؛ لأنَّ الكُلَّ مضمونٌ علَيْه لو تَلِفَ، فكذلك البعْضُ، وفيه وجه؛ أنَّهُ يقنع بها، ولا يغرمه الأرْش، وهو الذي أوْرَدَه في "التهذيب"، ولو أراد الرُّجُوعَ إلَى بدلها، وقال الملْتَقِطُ: أضم إليها الأرش وأرُدُّها، فوجهان: ¬
فروع متفرقة
أظهَرُهُما: أنَّ علَى المالِك القَبُولَ؛ لأنَّ العَيْنَ النَّاقِصَةَ مع الأرْشِ كغير الناقصة، وصَارَ كالغَاصِب. والثَّاني: لَهُ الرجُوعُ إلى البَدَل؛ لأنَّ ما خَرَجَ عَنْ ملكه تغير عما كان، وعلَى هذا؛ فهو بالخيار بين البَدَلِ والعَيْن النَّاقِصَة، إمَّا مع الأرْشِ، أو دُونَه، كما سَبَق. الحالة الثانِيَةُ: أن تكونَ تَالِفةً، فعلَيْه بَدَلُهَا، إمَّا المِثلُ أو القِيمَةُ، والاعتبارُ بقيمَةِ يَوْم التَّمَلُّكِ. وعن الكَرَابِيسِىِّ من أصحَابِنا: أنَّهُ لا يطالبُ بالقِيمَةِ، ولا يردّ العَيْنَ عند بقائِها، والمذْهَبُ الأوَّلُ لِمَا رُوِيَ أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أمَرَ عَلِيّاً -رَضِيَ اللَّه عنهُ- أنْ يَغْرَمَ الدِّينَارَ الَّذِي وَجَدَهُ، لَمَّا جَاءَ صَاحِبُهُ" (¬1)، وعلَى هذا، فالضَّمانُ ثابِتٌ في ذِمَّتِهِ من يَوْم التَّلَفِ، ولولا ثبوتُهُ، لَمَا تَمَكَّنَ المالِكُ منْ طَلَبه، إذا جاء. وعن الزياداتِ علَى الشَّرحْ لأبي إسحاقَ فيما رواه أبو الطيِّب السَّاوِيُّ أنَّه لا يثْبُتُ، وإنَّما يتوجُّه عند مجيء المالِك ومُطَالَبتِه، ويجوزُ أن يُعْلَمَ؛ لِمَا حُكِيَ عنِ الكَرابِيسِيِّ قولُهُ في الكتابِ. "الحكْمُ الرَّابعُ: وجوبُ الرَّدِّ بالواو، [واللَّهُ تعالى أعلم]. فروع متفرِّقةٌ: إذا وَجَدَ رجُلاَنِ لُقَطَة يُعَرِّفانها ويتملَّكَانِهَا، ولَيْسَ لأحدَهِمِا نَقْل حقِّه إلى صاحِبِه (¬2)، كما لا يجوزُ للملْتَقِطِ نَقْلُ حَقِّهِ إلَى غيرِه. ولو تنازَعَا في لُقَطَةٍ، وقال كُلُّ واحِدٍ [منها]: أنَا الَّذي الْتَقَطْتُهُ، وأقام علَيْه بينةً، فإنْ تعرَّضَتْ بيِّنةٌ أحدهما للسَّبْق، وحُكِمَ له، وإلاَّ، فعَلَى الخلافِ لِتَعَارُض البَيِّنتَيْنِ. ولو ضاعتْ في يد الآخر، فأخَذَها غيرُه، فالأوَّل أحقُّ بها، وفي وجهٍ؛ الثاني ¬
أَحَقُّ (¬1). ولو كانا يتماشَيَان، فرأَى أحدُهُمَا اللُّقَطَةَ، فأخبر بها الآخَرَ، فأخذها، فالآخذ أولَى، ولو أراه اللُّقَطَةَ، وقال هاتِهَا، فأخذها لِنَفْسِهِ، فكذلك، وإنْ أخَذَها للآمِرِ أو لنفسِهِ، فعَلى الوجهَيْن في جواز التَّوْكِيل بالاصطياد ونحوه. ومَنْ رأَى شَيْئاً مَطْرُوحاً على الأَرْضِ، فدفعه بِرِجْلِهِ؛ ليعرفَ جِنْسَه أو قدْرَه، ثم لم يأخُذهُ حتَّى ضاعَ، لم يَضْمَنْه؛ لأنَّه لم يَحْصُلْ في يده، قاله في "التتمة". وإذا دفَعَ اللّقَطَةَ إلى الحاكم، وتَرَكَ التَّعْرِيفَ والتَّملْكَ، ثُمَّ نَدِمَ، وأراد أن يُعَرِّفَ وَيتَمَّلكَ، ففِي تَمْكِينِهِ وجْهَان، حكاهما القَاضِي ابنُ كَجٍّ (¬2). وفي "المُهَذَّب": أنَّه إِنْ وَجَدَ خَمْراً، أراقَهَا صاحِبُها، لم يَلْزَمْهُ تَعْرِيفُهَا؛ لأنَّ إراقتَها مُستَحَقَّةٌ. فإن صارَتْ عنده خَلاًّ، فوجهان: أحدُهُما: أنها لمن أرَاقَها كما لو غَصَبَها، فصَارَتْ خَلاًّ عنده. والثاني: أنَّهُ للوَاجِدِ؛ لأنَّ الأَوَّلَ أسْقَطَ حَقَّهُ منْها، بخلافِ صُورة الغَصْبِ، فإنَّها حينئذ مأخوذةٌ بغَيْر رِضَاهُ، ولك أن تقول: ما ذَكَرَهُ تصويراً أو توجيهاً إنَّما يستمِرُّ في الخمر المُحْتَرَمَةِ، وحينئذِ، فالقَوْلُ بأنَّ إراقَتها مُسْتَحَقَّةٌ ممنوعٌ أمَّا في الابتداء، فَظَاهر، وأمَّا عند الوِجْدَان، فكذلك ينبغي أن يجوزَ إمْسَاكُها إذا خلا عن قصد فاسد ثم يشْبِهُ أن يكونَ ما ذكَرَهُ مخْصُوصاً بما إذا أراقها؛ لأنَّه بالإراقَةِ مُعْرِضٌ عنها، فيكونُ كما لو أعْرَضَ عن جلد ميْتَةٍ، فَدَبَغَهُ غَيْرُه، وفيه وجّهَان مَذْكُوران في الكتابِ في "الصَّيْد والذبائح". فأمَّا إذا ضَاعت الخَمْرُ المحتَرَمَةُ منْ صَاحِبِها، فلْتُعَرَّفْ كَالكَلب والله أعلم (¬3). ¬
وقد عَرَفْتَ في الباب أنَّ البعير وما في معْنَاه لا يُلْتَقَطُ، إذا وُجِدَ في الصَّحْراء، واستثنى صاحبُ "التخليص" منْه ما إذا وَجَدَ بَعِيراً في أيَّام "منى" في الصَّحْراء مقلداً كما تقلَّد الهَدَايا فحكَى عن نَصِّ الشَّافِعِيّ -رضي الله عنه- أنَّهُ يأخُذُه، ويعرِّفه؛ أيَّام "منَى" فإن خاف أن يَفُوتَهُ وقْتُ النَّحْرِ نَحره، والأَحَبُّ أن يَرْفَعَهُ إلى الحَاكِمِ، حَتَّى يَأْمُرَهُ بِنَحْرِهِ. قال الشَّارِحُون لكتابه: إنَّه مصدَّقٌ في نقله، لكنَّ من الأصْحَاب من حكى قولاً آخر؛ أنَّه لا يجوزُ أخْذُه عَلَى ما هو قياسُ البَاب، ثم بَنَوْا القولَين على القولَيْن فيما إذا وَجَدَ بدَنَةً منحورةً غَمَسَ ما قلّدت به في ذمتها وضرب به صفحة سنامِها، هل يَجُوزُ الأكْلُ منْها؟ فإنْ منَعْنَا الأكْلَ منعنا الأخذ ههنا وإنْ جَوَّزَنَا الأَكْل؛ اعتماداً على العلامة، فكذلك التقليد علامة كون البعير هَدْياً، والظاهرُ أنَّ تَخَلُّفَهُ؛ لضَعْفِه عن المسير، والأُضْحِية المعينة إذا ذُبِحَتْ في وَقْتِ النَّحر، وقع المَوْقع، وإن لم يأذن صاحِبُها. قال الإمامُ: لكنَّ ذَبَحَ الضَّحِيَّةِ المعيَّنة وإن وقع المَوْقعِ، لا يجوزُ الإقْدَام عليه مِن غير إذن، ثم ههنا جوَّز صاحبُ "التلخيص" فيما نقل، الأخْذ والنَّحْر، ولهذا الإشْكَالِ؛ ذهَب القَفَّالُ؛ تفْريعاً على هذا القول أنَّه يجبُ رَفْعُ الأمْرِ إلى الحاكم؛ ليَنْحَرَهُ، وأَوَّلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه- وأحب ما ذكره في المسألة. ثُمَّ لَك أن تقول: الاستثناءُ غيرُ منْتَظِم، وإنْ قلْنا: إنَّهُ يُؤْخَذُ؛ لأنَّ الأَخْذَ الممنوعَ منه إنما هو الأَخْذُ للتملُّكِ، ولا شَكَّ أنَّ هذا البعير لا يُؤْخَذُ للتملك (¬1)، والله عزَّ وجلَّ أعْلَمُ بالصواب. قال حجَّةُ الإِسلامِ قدَّس الله رُوحَهُ: ¬
كتاب اللقيط
كِتَابُ اللَّقِيطِ (¬1)، وَفِيه بَابَانِ الْبَابُ الأَوَّلُ في الالْتِقَاطِ وَحُكْمِهِ قال الغَزَاليُّ: وَكُلُّ صبِيِّ ضَائِع لاَ كَافِلَ لَهُ فَالْتِقَاطُهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَفِي وُجُوبِ الإِشْهادِ عَلَيْهِ خِيفَةً مِنَ الاستِرْقَاقِ خِلاَفٌ (و) مُرَتَّبٌ عَلَى اللُّقطَةَ، وَأَوْلَى بِالوُجُوبِ، وإنْ كَانَ اللَّقِيطُ بَالِغاً فَلاَ يَلْتَقِطُ، وَإِنْ كَانَ مُمَيَّزاً فَفِيهِ تَرَدُّدٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الصَّبِىُّ الموضوعُ في الطرِيقِ الضَّائِعُ يُسَمَّى منبُوذاً باعتبار أنه يَبْدُو لَقِيطاً وَمَلْقُوطاً باعتبار أنهُ يُلْقَطُ، واستَأْنَسُوا لِأصْل الباب بِقولِهِ تَعَالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] وبِقَولِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ} [المائدة: 2]، وَبما رُوِيَ عَنْ سنين أبو جَمِيلَةَ؛ أَنَّهُ وَجدَ مَنْبُوذاً، فجاءَ بهِ إلَى عمر بْنِ الخَطَّاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-؛ فَقالَ: "مَا حَمَلَكَ عَلَى أَخْذِ هَذِهِ النَّسَمَةِ؟ "، فَقَالَ: وَجَدتُّهَا ضَائِعَةً، فَأَخَذْتُها، فَقَالَ عَريفُهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ رجل صَالِحٌ، فَقَالَ كَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اذْهَبْ، فَهُوَ حُرٌّ، وَلَكَ وَلاَؤُءُ، وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ" (¬2). ¬
وَلَمَا كَانَ التقاطُ المنبوذِ مُنَاسباً لِلُّقطَةِ، وَمُشَارِكاً لَهَا في كثيرِ مِن الأَحْكَامِ، وصل أَحَدَهُما بالآخَرِ، والكلامُ فيهِ كَمَا في اللقطة الأركانِ، والأحكامِ. ثُم الأَحكَامُ تنقسمُ إلَى ما يَطَّردُ، وإلَى ما لاَ يَطَّرِدُ، بلْ تَخْتَلِفُ بحَسَبِ حَالِ اللَّقِيطِ، وأَحْكَامِهِ، وفيهِ أكثرُ النَّظَرِ، فأدرجُ صاحبُ الكتابِ -رحمه الله- مقَاصَدَهُ في بابَيْنِ: أحدُهُما في الأَرْكَانِ والأَحْكامَ العامَّةِ، والثاني في أَحْكَامِ اللَّقِيطِ. أما الأولُ: فالأرْكَانُ ثلاثةٌ: أَحَدُهَا: في نَفْسِ الإلْقاطِ وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الكِفاياتِ (¬1)؛ صِيانةً للنَّفْسِ المُحْتَرَمَةِ عَن الهَلاَكِ، وفي وُجُوبِ الإشْهَادِ، إذَا أَخَذَ اللَّقِيطُ طريقان: أحدُهُما: أنَّه عَلى وَجْهَيْنِ أو قَوْلَيْنِ، كَمَّا قدمنَّاهُ في "اللُقَطَةِ"، وَهُمَّا فيمَّا ذَكَرَ القَاضِي ابنُ كج علَى سَبِيلِ النَقلِ والتَخريج؛ لأنَّه نصَ هَاهُنا علَى الوُجُوب، وفي "اللُقَطَةِ" عَلَى الاسْتِحبَاب، وأظهَرهمَا القطعُ بالوُجوب بخلافِ اللُقَطَةِ، فإنَّ الَمَقصُود فيها المالُ والإشهادُ في الَتصرفَاتِ المَاليةِ مستحبٌ، وفي اللَقيط يحتاجُ إلى حِفْظِ الحريةِ والنسبِ، فجازَ أنْ يَجِبُ الإشهَادُ عليهِ كمَّا في النكَاحِ. وأيضاً، فاللُقَطَةُ يَشيعُ أمرُهَا بالتَعريفِ، ولا تَعريفَ في اللَقِيطِ، وقَد يُعبَر عن الطريقتين بِترتيبِ الخلافِ علَى الخلافِ في اللُقَطَةِ، بَل ذُكِرَ في الكِتَابِ، إنْ أوجَبَنَا ¬
الإشهَادَ ثُمَّ فَهَاهُنَا أولَى، وإلاَّ ففِيهِ الخلافُ. وحَكَى الإمامُ وَجهاً ثالثًا، وهوَ الفرقُ بينَ أنْ يكونَ ظاهرُ العَدالةِ، فلا يكَلِفُ الإشهَّادَ أو مستورُهَا فيكلف؛ ليَصيرَ الإشْهَادُ قَرِينَةً تَغلِبُ على الظنِ الثقة. وإنْ أوجَبنَا الإشهَادَ، فلو تَرَكَهُ قالَ في "الوَسِيطِ": لا تَثبتُ لهُ ولايةَ الحَضانة، ويجوزُ الانتزاعُ، وهَذا يشعرُ باختصاصِ الإشهَادِ الوَاجب بابتداءِ الالتِقَاطِ (¬1)، وإذَا أشهد فَليشْهَد على اللَقيطِ، ومَا مَعَهُ، نَصَ عَليهِ (¬2). الركنُ الثاني: اللَقِيطُ، وقَد ضَبَطَهُ في الكتاب، فَقالَ: كلُ صبى ضائعٍ لا كَافلَ لَهُ، فالتِقَاطُه مِنْ فروضِ الكفايَّاتِ، فيخْرُجْ بقَيدِ الصَّبَيِّ البَالِغ، فإنَّهُ مُستغنٍ عَنَ الحضَّانَةِ والتَعَهُد، فلاَ معنى لالتِقَاطِهِ (¬3)، نَعَم لكن الوقوع في مِعرض هِلاك أعين ليتخَلَص، وفي الصَبيِ الذي بَلَغَ سن التمييزِ تَرَددٌ للإمام أحدُ الاحتمالَين: أنَّهُ لا يُلتَقَط؛ لأنَّه كَضَّالةِ الإبلِ في أنَّهُ مُستقل مُمتنعٌ، فلاَ يتولَى أمرَهُ إلاَ الحاكِمُ. وأوفقُهُما لكلامِ الأَصحَابِ أنَّهُ يُلتَقَطُ لحاجَتِهِ إلى التعهدِ والتربية. وأمَّا الضائعُ فيجوزُ أنْ يريد بهِ غيرُ المُميزِ؛ لأنَّ المُمَيزُ يتدارَكْ أمرَهُ بتَمييزِهِ، وأمَّا ¬
امتنَاعهُ، فلاَ يكونُ ضائِعاً، والأحسنُ حَمْلُهُ علَى المنبُوذِ, فإنَّ غَيرَ المنبوذِ، وإنْ لمْ يكُنْ لهُ أبٌ، ولاَ جَد، ولاَ مَضَى من جهتِهمَّا فحفظه مِنْ وظيفة القَاضي، فيسلمه إلى مَن يقومُ بهِ؛ لأنَّهُ كان لَه كافلٌ مَعلومٌ. فإذا فُقِدَ قامَ القَاضِي مقَامَهُ، كما أنَّه يَقومُ بحفظِ مالِ الغَائِبينَ المَفقُودينَ، والمنبُوذِينَ يُشبهُونَ بِاللقَطَةِ، فلمْ يُخْتَصْ حفظهم بالقَاضِي، ذَكَر ذَلكَ الشيخُ أبُو مُحَمَّد. وأمَّا قَوْلُهُ: "لا كافِلَ لَهُ"، فَالمرادُ مِن الكَافِلِ الأبُ والجَدُ، ومَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمَّا، والمُلتَقِطَ مِمَن هُوَ في حضَانةِ أحَدِ هَؤلاءِ، ولاَ مَعنىً لالتِقَاطِه إلاَ أنَّهُ لو حَصَلَ بمَضْيعَةٍ أخذ لِيُرَدُّ إلى حاضنه (¬1). وقَولُهُ في وجوب الإشْهَادِ عليه "خَشْيةً مِن الاسترقَاق" لو آخر ذكر خشية الاسترقاق عن قوله: "خلاف مرتب" كان أحسن، فإن خشية الاسترقاق عن خلاف جهة الترتيب. وقَولُهُ: وإنْ كَانَ اللَقيْطُ بَالِغاً، أيْ الذي يَقْصِدُ التِقَاطَهُ، وإلاَّ فَهُوَ غَيرُ مَلقُوطٍ، وَقَد يوجد في النُسَخْ، و"إنْ كانَ الصَبيُ بالِغاً" وَهُوَ مختل. قال الغَزَالِيُّ: وَوِلاتةُ الالْتِقَاطِ لِكُلِّ حُرٍّ مُسْلِمٍ عَدْلٍ رَشيدٍ، أَمَّا العَبْدُ وَالمُكاتَبُ إِذَا الْتقَطَا بِغَيْرِ إِذنِ السَّيِّدِ انْتُزعَ مِنْ أَيْدِيهِمَا فَإنَّ الحَضَانَةَ تَبَرُّعٌ وَلَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ، وَإنْ أَذِنَ السَّيِّدُ فَهُوَ المُلْتَقِطُ، وَالكَافِرُ يَلْتَقِطُ الصَّبِيَّ الكَافِرَ دُونَ المُسْلِم لأَنَّهُ لاَ وِلاَيَةَ، أَمَّا المُسْلِمُ فَيَلْتَقِطُ الكَافِرَ، وَأَمَّا الفَاسِقُ فَيُنْتَزَعُ مِنْ يَدِهِ، وَكَذَا المُبَذِّرُ فإنَّ الشَّرْعَ لاَ يَأْتَمِنُهُمَا، وَأَمَّا الفَقِيرُ فَهُوَ أَهْلٌ لَهُ. قالَ الرَّافِعِيُّ: الركنُ الثَالِثُ: المُلْتَقِط، وُيعتَبَر فيهِ أمورٌ: أحدُهَا: التَّكْلِيفِ، فلاَ يَصِح التِقَاطِ الصَبيِ والمجنون وهَذا أهْمَلَهُ في الكِتَابِ لوُضُوحِهِ. والثاني: الحُرِيَةُ، فالعَبْدُ إذَا التُقِطَ يُنْتَزعُ مِن يَدِهِ إنْ لمْ يأذَنْ السَيدُ, لأنَّ الحَضَانَةَ تبرع وليسَ لهُ أهْلِيَّةُ التبرعِ، وإنْ أذِنَّ السَيدُ أوْ عَلِمَ بِهِ، فأمره في يَدِهِ جَازْ، وكَانَ السيدُ المُلْتَقِطُ، وهو نائبه في الأخذِ والتربية. ¬
وَالمُكَّاتَبْ إذَا التَقَطَ بِغَيرِ إذْنِ السَيِدِ انتُزعَ أَيضاً من يَدهِ، وإنْ التَقَطَ بإذْنِهِ جَاءَ فيهِ الخِلاَّفُ في تَبَرُعَاتِهِ بالإذْنِ، لكنَّ الظاهرِ المَنعِ لأنَّ حَقَ الحَضَانَةِ ولاَيَةٌ، وَلَيسَ المكَاتَبُ من أهْلِ الولاَياتِ. وقولُهُ في الكِتَابِ: "فإنْ أذُنَ السَيدُ فَهُوَ الملتَقِطُ" ظَاهِرٌ، في العَبْدِ، فإنْ رَجَعَ إلَى المُكاتَب -أيضًا- فَهُوَ مَفروضٌ فِيمَّا لو قَالَ: التَقَطُتُه لي، ويشبِه أن يكون على الوجهين في التوكيل بالاصطياد. وأمَّا إذا قَالَ التَقطته لِنفْسِكَ، فَفيهِ مَا سَبَقَ. وذُكِرَ في "المعتمد" وجهَين: فِيمَّن نصفُهُ حر ونصفُهُ عبد إذَا التَقَطَ في يوم نَفسِهِ، هَلْ يستحِقُ الكفَالَةَ (¬1)؟ والثَالِثُ: الإسْلاَمْ، فالكَافِرُ يلتَقِط الصبي الكافرَ دُونَ المُسْلِم؟ لأنَّهُ نوعٌ ولايةٍ وتَسلْطِ، وللمُسلِم التقَاطُ الصبي المحكومِ بكُفْرِهِ، وسَتَعْرِف أنَّ اللَقيطَ مَتى يُحكَمْ له بالإسْلاَم ومتَى لا يُحكَمْ لهُ؟ والرابع: العَدَالَةُ، فليس للفاسِقِ الالتِقَاطُ (¬2)، ولَو التَقَطَ انتُزعَ مِنهُ، فإنَّهُ غَيُر مؤتمن شَرعاً، ويُخَافُ مِنْهُ الاسترقاق وسوءُ التَربيةِ، ويخالِف اللُقَطَةَ حيثُ تقر في يدهِ على رأي؛ لأنَّ فِيهَا معنَى الأكساب، ولا يَحتاجُ إلَى ردِهِ إليهِ بعدَ التَعريفِ للملِكِ، فجازَ أنْ يُتْرَك في يدهِ بشرط الاحتيَاطِ. ومن ظاهر حاله الأمانة، إلاَّ أنَّه لم يختبر فلا يُنْزَعُ من يده، لكن يوَكَل به الإمامُ يُراقِبهُ من حيث لا يَدْرِي كيلا يتأذى، فإذا وثَقَ به صار كمعلوم العدالة، وقبل ذلك لو أراد المسافرة به مُنِع وانْتُزِعَ منه؛ لأنَّه لا يؤمن أن يسترقه، وأن يكونَ إظهاره العدالةَ لمثل هذا الغرضِ الفاسدِ. واعلم أنَّ الشافعيَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال في المختصر: "وإنَّ أراد الذي التقَطه ¬
الظعن به، فإنْ كان يؤمن من أن يسترقَه فذلك له، وإلاَّ منعُه"، يعني الحاكم. واعْتُرِضَ عليه بأنَّ الفاسِقَ الذي لا يؤمن لا يقر اللقيط في يده سافر به، أم لمْ يسافر؟ فكيف خصّ المسافرَ بالمنعِ؟ وأجاب أكثرُ الأصحابِ بحمله على ظاهرِ العدالةِ المستور الحال كما سبق. ومنهمِ من سَلَّم أنَّه أراد الموثوق بعدالته ظاهراً وباطناً. وقال: قد يكونُ مأموناً في بلدة ثم يُخْشَ منه عند السفر، وهذا يسوقنا إلى خلافٍ في جواز مسافرة العدل الموثوق به باللقيط، وسيأتي من بعد، إن شاء الله تعالى. وقال بعضُهم: المرادُ ما إذا أحدث ما يغير أمانته، أو يوقع ريبة في حاله. الخامس: الرشد، فالمبذر المحجور عليه لا يُقَرُّ اللقيط في يده؛ لأنَّه ليس مؤتمناً شرعًا، وإنْ كان عدلاً. ولا يُشْتَرَط في الملتقط الذكورة؛ بل الحَضَانَة بالإناث، ولا كونُه غنياً إذ ليست النفقةُ على الملتقط، والفقير أهلٌ للحضانةِ كالغني. وفي "المهذَّب" وجهٌ آخر، أنَّه لا يقرُّ في يد الفقير؛ لأنَّه لا يتفرعُ للحضانة لاشتغاله بطلب القوت. والصحيحُ الأولُ وهو المذكور في الكتاب. قال الغَزَالِيُّ: وَلَو ازْدَحَمَ اثْنَانِ قُدِّمَ مَنْ سَبَقَ، فَإِن اسْتَوَيَا قُدِّمَ الغَنِيُّ (و) عَلَى الفَقِيرِ، وَالبَلَدِيُّ عَلَى القَرَويِّ، والقَرَوِيُّ عَلَى البَدَويِّ، وَكُلُّ ذَلِكَ نَظَراً لِلصَّبيِّ، وَظَاهِرُ العَدَالَةُ مقَدَّمٌ عَلَى المَسْتُورِ في أَقْيَس الوَجْهَيْنِ، وَإنْ تَسَاوَيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أُقْرعَ بَيْنَهُما وَسُلَّمَ اِلَى مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ. قَالَ الرَّفِعِيُّ: إذا ازْدَحَمَ اثنانِ عَلَى لَقِيطٍ، نُظِرَ: إنْ ازْدَحَمَا عَلَيه، قَبْلَ الأخْذِ وَقَالَ كلُّ واحدٍ مِنهما: أنَا آخُذُه وأحْضُنُه، جَعَلَه الحاكمُ في يدِ مَنْ رآه مِنْهُما، أو مِنْ غَيرِهِما؛ لأنَّه لا حقَّ لَهُما قبل الأخذِ (¬1). وإنْ ازدَحَمَا بعدَ الأخْذِ، فإنْ لم يكنْ أحدُهمَا أَهْلاً للالتِقَاطِ، مُنِعَ وَسُلَّم اللقيطُ إلى الآخَرِ، وَذَلِك بأنْ يَكُونَ أحدُهُما عدْلاً، والآخرُ فاسِقاً، فإنْ كانَ كلُ واحدٍ منهما أهلاً، نَظِر إن سَبقَ أحدُهما إلى الالتقاطِ، مُنِع الآخرُ من مُزَاحَمَتِه. وهل يثبُتُ السَّبقُ بالوُقوفِ على رَأْسِهِ من غيرِ أخْذ، فيه وجهانِ عن الشيخ أبي محمدٍ: ¬
أظهرُهُما: المنعُ، وإنْ لم يسبقْ واحدٌ منهما، فقد يختَصُّ أحدُهُما بصفَةِ تقَدِّمُهُ، وَقَدْ يَستَوِيانِ، والصِّفاتُ المُقَدِّمَةُ أربعٌ: أحدُها: الغِنَى، فإن كانَ أحدُهُما غَنِياً، والآخَرُ فَقيراً: فَوَجْهانِ: أحدُهَا: أنَّهما يَسْتَويانِ؛ لأنَّ الفقيرَ أهلٌ كالغَنِيِّ، وأظهرُهُما وبِهِ قَالَ أبو إسحاقَ، وَهوَ المذْكُورُ في الكِتَابِ، أنَّ الغَنِيَّ أَوْلَى، لأنّه رُبَّما يُواسِيهِ بماله، ولأنَّ الفَقيرَ قَدْ يَشتَغِلُ بِطلبِ القُوتِ عن الحضَانَةِ، وعلَى هَذَا فَلَوْ تَفَاوَتَا في الغِنَى، حَكَى الإمامُ وَجْهَيْن في أنَّه هَلْ نُقَدِّم أكْثَرُهُما (¬1) مالاً؟ الثَّانيةُ: أنْ يكونَ أحدُهُما بَلديًّا، والآخرُ قَرَويًّا، أو بَدَوِيًّا، أو أحدُهُما بلديًّا أو قَرَويًّا، والآخرُ بَدَوِيًّا. والقَوْلُ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْهم، مَبْنيٌّ على انْفِرَادِهِم بالالتِقَاطِ، ويلتحق بهما نَقلُ اللَّقيط من مَوْضِعَ الالتقاط. والثاني (¬2): أنْ نَذكرها مجموعةً من الفصل الثالثِ مِن هَذا الفَصْل؛ حيث تَكلم من نَقْلِهِ. الثَّالِثَةُ: مَنْ ظَهَرتْ عَدَالَتُهُ بالأخبار من تَقَدُّمِهِ على المسْتُورِ، وجهانِ: أحدُهُما: وبِهِ قَطَعَ الشَّيخُ أبو محمدٍ، أنَّه يتقدمُ احتياطًا للصبي. والثَّاني: أنَّهما سواءٌ؛ لأنَّ المستورَ لا يُسلَّم مزية للآخَرِ، ويقولُ: لاَ أتْرُكُ حَقِّي؛ إن لمْ تَعْرفُوا حالِي. الرَّابعَةُ: الحرُّ أَوْلَى من المُكَاتَبِ، وإنْ كانَ التقاطُه بإذنِ السَّيِّدِ؛ لأنه ناقص من نفسه وليسَ يده يد السيد، وأما إذا كان أحدهما عبدًا التقط بإذن السيد فالنَّظرُ إلى السَّيِّد والآخَرُ. ولا تُقَدَّمُ المرْأةُ على، الرَّجلِ، بخلافِ الأمِّ تتقدم على الأَبِ في الحَضَانَةِ؛ لأنَّ المراعي هُنَاكَ شفقة الأُمُومَةِ في الحضانة. وكَذا لا يتقدَّمُ المُسْلمُ على الذِمِّيِّ في اللَّقِيطِ المحكوم بكفْرِه، وفي "آمالِي أبي الفَّرَجِ" المَيْلُ إلى تقديمِ المُسْلِم ليُعَلَّمِه دِينَه. وفي بعْضِ الشُّروحِ، تقديمُ الكَافِر؛ لأنَّه على دِينِهِ. واعلم، أنَّ صاحبَ الكتاب اعتَبَر في "الوسيطِ" صفاتِ التَّرْجِيحِ، أوَّلاً، ثم قال: فإنْ تَسَاوَيَا في الصِّفاتِ، قُدِّمَ السَّابقُ إلى الآخذ، فَهَاهُنَا اعْتُبرَ السَّبقْ أوَّلاً، ثمَّ إن ¬
تَسَاوَيَا، فحينَئذٍ، نُظِرَ إلى الصِّفَاتِ المُرَجِّحَةِ. والصوابُ الموافقُ لنَقْلِ الأصحابِ ما ذكرَهُ هَاهُنَا، هَذا إذا اخْتُلِفَ في حالِ المُزْدَحِمينَ. أمَّا إذا تَسَاوَيا وتشاحا قال الشَّافعيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُقْرَعُ بَينَهُمَا ووجهه الأصحاب، بأنه -إما أن يخرجَ من أيديهما، وفيه إبطالُ حقهما الثابت في الالْتِقَاطِ، أو يُتْرَكَ في أيديهما إمَّا جميعًا، والاجْتِمَاعُ على الحضَانَةِ شاقٌ أو متعذر، وأمَّا بالمُهَايَأَةِ، وفِيهِ إضرارٌ باللَّقِيطِ لِمَا في تَبَدُّلِ الأيدي من قطعِ الإلف، واختلافُ الأغذية والأخلاق، أو يخصَ أحدَهُما بلا قُرْعَة، ولا سبيلَ إليه لتساويهما فوجب المصيرُ إلى القُرْعَة كالزوج يسافر بإحدى زوجاته، فإنَّه يُقْرَعُ. [و] قال أبو علي: هاهنا طريق الترجيح، [و] هو أن يجتهدَ القاضي، فمن رآه خيراً للقيط أمرَهُ في يده، لكن إذا تحير القاضي أو استويا في اجتهاده فلا سبيلَ إلى التوقف، ولا بد من مرجوع إليه نسب صاحبُ الكتاب هذا الوجهَ في "الوسيط" إلى ابن أبي هريرةَ والمذكور في "المهذب" وغيره حكايته عن ابنِ خيران. قال الأئمة: ولا يخيّر الصبيُ بينهما، وإن كان له سَبعِ سنين فأكثر بخلاف تخيير الصبي بين الأبوين عند بلوغِه سن التمييز، لأنَّه يعوّل هناك: على الميل الناشئ من الولادة، وهذا المعنى معدوم في اللقيط، وأبدى الإمام في "النِهاية" احتمالاً فيه. وقال: يجوز أن يُقَالَ يخيَّر، ويجعل اختياره أولى من القُرْعَة، ثم إنَّه صوَر ذلك فيما إذا التقطَه اثنان، [و] لم يتفق فصلُ الأمر بين المزدحمين حتى بلغ اللقيطُ سن التمييز، وهذا لائق به، حيث تردد في أنَّ المميزَ هل يَلتقطَ [غير الممَيز] (¬1) لكنَّ تصويرَ التوقف إلى أنْ تطولَ المدةُ وينتهي غير المميز إلى حد التمييز كالمستبعد، وظاهر ما أجراه الأصحاب الفرص فيمن التقطَ وهو مميز، وإذا خرجت القُرْعَة لأحدهما فترك حقه إلى الآخر لم يجزْ، كما ليس للمنفرد نقلُ حقِه وتسليم اللقيط إلى غيرِهِ (¬2). ولو قال قبل القُرْعَة تركتُ حقي ففي انفراد الآخر به وجهان: ¬
أصحهما: الانفراد؛ لأنَّ الحقَ لهما، فإذا أَسقَطَ أحدُهما حقَه ينتقل إلى الآخرِ، كالشفيعين. والثاني: المنعُ، كما لو تُرِكَ حقَهُ بعد خروج القُرْعَة، بل يرفع الأمرُ إلى الحاكم حتى يقرَه في يد الآخر إنْ رآه، وله أنْ يختارَ أميناً آخر فيقرع بينه وبين الذي لم يترك حقَه (¬1). وذكر الإمامُ تفريعاً على الوجه الثاني أن التاركَ لا يتركه الحاكمُ، بل يقرع بينه وبين صاحبهِ، فإن خرج عليه ألزمه القيام بحضانته (¬2) بناءً على أن المنفردَ في الالتقاط لا يجوزُ له التركُ، وسيأتي -إن شاء الله تعالى-. قال الغَزَالِيُّ: ثُمَّ مَنِ الْتَقَطَهُ يَلْزَمُهُ الحَضَانَةُ وَلاَ يَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ عَجَزَ سَلَّمَهُ إلى القَاضِي، فَإِنْ تَبَرَّمَ مَعَ القُدْرَةِ لَمْ يُسَلَّمْ إلَى القَاضِي عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لأَنَّهُ شَرَعَ في فَرْضِ كِفَايَةٍ فَيَلْزَمُهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الكلامُ في هذا الموضع إلى آخِرِ البابِ في أَحْكَامِ الالتقاطِ، فَمِنْهَا: أن الَّذِي يَلْزَمُ الملْتَقِطَ حِفْظُ اللَّقِيطِ ورعايتُهُ. فامَّا النفقةُ، فهي غيرُ واجبةٍ عَليْهِ، وسنتكلَّم في أنَّه من أَيْنَ ينفق عليه، فإنْ عجزَ عن الحِفْظِ، لأَمْرٍ عَرَضَ يسلمه إلى القَاضِي، وإن برم به مع القُدْرَة، فوجهان؛ بناءً عَلَى أنَّ الشُّرُوعَ في فروضِ الكفاياتِ، هل يلزَمُ الإتمام، وهل يصير الشارع متعيَناً، وموضِعُ الكلام فيه كتابُ "السِّيَر" والظاهرُ هاهنا أنَّ له التسليمَ إلى القاضي، ورأى القاضي ابنِ كج القَطع بِهِ بَعْدما حَكَى الوجْهَيْنِ (¬3). ¬
ولا شكَ في أنَّه يَحْرُمُ علَيه نَبْذُه وردُّهُ إلَى ما كان. وقوله: "ثُمَّ مَنِ الْتَقَطَ، يلزَمُه الحضانةُ" لفظ "الحضانة" يُستَعْمَلُ كثيراً في الباب، وكأن المرادَ منْه الحفْظُ والتربيةُ لا الأعمالُ المفصَّلةُ في الحضانة والإجَارَة؛ فإنَّ فيها مَشَقَّةَ ومؤنَةً كثيرةً، فكيف نُلْزِمُ من لا تلزمُه النفقة، وقد أوضحه صاحبُ "التهذيب" فقال: ونفقةُ اللقيطِ وحضانتُه في مالِه، إن كان له مالٌ. ووظِيفة الملتقط حفظه وحفظُ مالِه، هذا معنى كلامِه. قال الغَزَالِيُّ: وَعَلَيْهِ حِفْظُهُ في مَوْضِعِ الْتِقَاطِهِ، فَإنْ نُقِلَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى قَرْيَةٍ أَوْ بَادِيَةٍ لَمْ يَجُز لِتَفَاوُتِ المَعِيشَةِ، فَإنْ نُقِلَ مِنَ البَادِيَةِ اِلى البَلَدِ جَازَ، وَإنْ نُقِلَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ أَوْ مِنْ قَبِيلَةٍ إِلَى قَبِيلَةٍ فِي البَادِيَةِ لَمْ يَجُزْ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لأَنَّ ظُهُورَ نَسَبِهِ فِي مَحَلِّ الْتِقَاطِهِ أَغْلَبُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المُلْتقِط إمَّا حضريٌّ وإما بَدَوِيٌّ، فالبَلَدِيُّ، إذا وَجَدَ اللقيط في بَلْدَتِهِ أُقِرَّ في يده، وليسَ له أنْ ينقلَه إلى البادية، لو أراد الانتقال إليها، بل يُنْتَزَعُ مِنْهُ؛ لمعنيين: أحدهما: أنَّ عيشَ أهْلِ البوادي أخشن، والغالبُ قصورُهُمْ عن معْرفة عُلُوم الأدْيَان والصِّنَاعات التي تكتسب منها، ففي النقل إضرارٌ باللقِيط، وهذا هو المذكورُ في الكتابِ. والثاني: أن ظهور نسبه بموضِعِ الْتقاطِهِ أغلب؛ لأنَّ من ضَيَّعه، يَطلُبُهُ حيْثُ ضيَّعَه، ولو كان الموضعُ المنقول إلَيْه من البادية قريباً من البلدة، يَسْهُلُ تَحْصِيلُ ما يراد منها، فإنْ راعَيْنا خشونةَ المَعِيشةِ، لم نَمنعْ، وإنْ راعَيْنا أمر الكَسْب، فإنَّ كان أهلُ البَلْدة يختلطون بأهْل ذلك المَوْضِع، فكذلك (¬1)، وإلاَّ، منع، وكما أنَّه [ليس] له نقلُهُ إلى البادية، لَيْسَ له نقلُهُ إلى القُرَى، ولو أراد نقلُهُ إلَى بلدة أخرَى، أو التقطه غريبٌ في تلك البلدة، وأراد نقلَه إلى بلدتِه، فوجهان، بناءً على المعنَيَيْن، إن نظرنا إلَى تفاوُتِ المعيشِةِ، فالبلاد متقاربة، وإنْ راعَيْنَا أمْرَ النَّسَبِ، منَعْنَاه، وانْتَزَعْنا اللَّقِيطَ من يدِه، والأوَّلُ النصُّ، وبه أخَذَ المُعْظَمُ، قال في "التَّتِمَّة": ولا فَرْق في ذلك بين سَفَرِ النُّقْلةِ ¬
والتجارةِ والزيارةِ (¬1). والقرويُّ، إذا وَجَد اللَّقيطُ في قريتِهِ أو في قرية أخرَى، أو في بلدةٍ تُقَاسُ بما ذكرنا في البلديِّ، ولَو وَجَدَ حَضريٌّ اللَّقِيطَ في البادية، نُظِرَ؛ إن كان في مهلكةٍ، فلا بدَّ من نَقْلِهِ، وللُمُلتَقِطِ أنْ يتوجَّه إلى مقصدِه، ويَذْهَبَ به إليه. ومن قال في اللُّقطة: يَعرِّفُها في أقرب البُلْدانِ، يشبه أنْ يقولَ: لا يذهب به إلَى مقصده، رعايةً لأمر النسبِ (¬2). وإن كان في حِلَّة أو قبيلةٍ، فله نقلُهُ إلَى البلدة، والقريةِ على المشْهُور، وعن القاضي الحُسَيْن أنَّه عَلَى وَجْهَينِ مبنيين على المعْنَيَيْنِ، ولو أقام هناك، أَقَرَّ في يده لا محالةَ. [وأمَّا البدويُّ، إن الْتُقِطَ في بْلدَةٍ أو قريةٍ، فأراد المَقَامَ بها، أقر في يدهِ]، وإن أرادَ نَقْلَهُ إلى الباديةِ أو إلى قرية بلدةٍ أخرَى، فعَلَى ما ذَكَرْنَا في الحضريِّ، وإن وَجَدَه في حِلَّةٍ أو قبيلةٍ في البادية، فإنْ كان من أهل حِلَّة مقيمين في موْضِع راتِبٍ، أقر في يده؛ لأنَّه كبَلْدة أو قريةٍ، وإن كان ممَّنْ ينتقلون من بُقعةٍ إلى بقعةٍ مُنْتَجِعينَ، فوجهان: أحدُهُما: المَنْعُ؛ لِمَا فِيهِ من التَّعَبِ، ولأنَّ في النَّقْل يَضِيعُ نَسَبُهُ. والثاني: يقر؛ لأنَّ أطرافَ البادية كَمَحَالِّ البلدَةِ، والظاهر أن نسبه من أهل البادية، فيكون احتمال ظهوره إذا كان في البادية أقرب. هذا حكمُ الحضريِّ والبدوي عنْدَ الانفراد بالالتقاط، وقد تَبيَّن به موْضعُ جواز النقل عن مكان الالتقاط وعَدَمِهِ، وكنَّا وعَدْنا أنْ نَذْكُرَ معها الحُكْم عنْد الازْدِحَام، فنقول: إذا أزْدَحَمَ عَلَى لقيطٍ في البلْدَةِ أو في القريةِ مقيمٌ في ذلك المَوْضِع وظاعنٌ، أَطْلَقَ في "المختصر" أنَّ المقيمَ أَوْلَى، وفصَّلوا الأصحابُ؛ فقالوا: إن كان الظاعنُ يَظْعَنُ إلى الباديةِ، فالمقيمُ أَوْلَى، وإن كان يَظْعَنُ إلى بلدٍ آخر، فإنَّ قلْنا ليس للمنفرد الخروجُ باللقيطِ إلَى بلدٍ آخرَ، فكذلك الجواب، وإنْ جوَّزنا له ذلك، فهما سواءٌ. ولو اجتَمع على لقيطٍ في القرية قَرَوِيٌّ مُقِيمٌ بها وبلديٌّ، قال القاضي ابنُ كج: القَرَوِيُّ أَوْلَى، وهذا يخرج على منع النَّقْل من بلَدٍ إلَى بَلدٍ، فإنَّ جَوَّزناه، وَجَبَ أن يُقَال: هما سواءٌ (¬3). ¬
ولو اجتمعَ حَضَرِيٌّ وَبَدَوِيٌّ عَلَى لَقِيْطٍ في الباديةِ، نُظِرَ؛ إن وُجِدَ في حِلَّة أو قبيلةٍ، والبدويُّ في موضعٍ راتبٍ، فهما سواءٌ (¬1). وقال القاضي ابنُ كج: البدويُّ أَوْلَى إن كان مقيمًا فيهم؛ رعايةً لنَسَبِه، فإن كان البدويُّ من المنْتَجِعِينَ، فإنْ قلْنا: يُقَرُّ في يَدِهِ، لو كَانَ مُنْفَرِداً، فهما سَوَاءٌ، وإلاَّ فالحَضَرِيُّ أَوْلَى. وإن وُجِدَ في مَهْلَكَةٍ، ذكر ابنُ كج أنَّ الحضريَّ أَوْلَى، وقياسُ قولِه تقديمُ البدويِّ أو تقديمُ مَنْ كان مكانُهُ أقربُ إلى موضع الالتقاط (¬2) منهما، وإذا تأمَّلتَ ما ذكرناه، عَرَفْتَ أنَّ قولَه في الكتابِ "وعليه حفظُه في مَوْضِعِ الْتِقَاطِهِ" وقولَهُ في فَصل الازدحام "والبلديُّ على القرويِّ، وَالقرويُّ على البلديِّ" غيْرُ مُجْرَيْنِ عَلَى إطلاقهما، بل الأمر فيهما على التفصيل، وقوله "فإن نُقِلَ من الباديةِ إلَى البَلَدِ، جاز" مرقوم بالواو، وقولُه "أو من قبيلةٍ إلَى قبيلةٍ في الباديةِ" هذه الصورةُ لا ذِكْرَ لها في "الوسيط" ولم يُطْلِقْها في "النِّهاية" ولكن قال: للقبائِلِ في البَوَادِي سُنَّةٌ في التفاوت والاعتناء بالأنْسَاب، فمن راعَى أمر النسب، فلا إضرار، ومَنْ رَاعَى عُسْر المعيشة، فلا تفاوت، هذا إذا تَقَارَبَتْ، فلم ينقطعْ خَبَرُ بَعْضِها عن بَعْضٍ، أمَّا إذا نَأْتِ المسافاتُ، وانقطعتِ الأخبارُ، فحينئذٍ يَظْهَرُ التفاوُتُ في أمر النَّسَب، وحاصِلُة تخصيصُ الخلافِ بما إذا تباعَدَتْ، وأمَّا كُتُبُ سائر الأصحابِ، فلَيْسَ فيها ذكرُ الخلافِ الَّذي أوْرَدُوهُ في النقل من بلْدةٍ إلَى بلْدةٍ عَلَى تشابُهِ الصُّورَتَيْنِ، بل الذي ذَكَروه ما مَرَّ أنَّ البَدَوِيَّ المقيمَ في موْضِعٍ راتبٍ، يقر في يده اللقيطُ الذي التقطه من قبيلة أو حِلَّةٍ، ولم يَفِرقُوا بين أنْ يكونَ مِنْ أهْل القَبيلةِ الَّتِي وُجِدَ اللقيطُ فيها أو مِنْ غيرِها، وإذَا كان مِنْ غيرها وأقْرَرْناه في يدِهِ، فقد جَوَّزنا النَّقْلِ من قَبيلةٍ إلَى قبيلةٍ. قال الغَزَالِيُّ: وَأَمَّا نَفَقَةُ اللَّقِيطِ فَفِي مَالِهِ وَهُوَ ما وُقِفَ عَلَى اللُّقَطَاءِ، أَو وُهِبَ مِنْهُمْ، أَو أُوْصِيَ لَهُمْ وَيَقْبَلُهُ القَاضِي، أَوْ مَا وُجِدَ تَحْتَ يَدِهِ عِنْدَ الْتِقَاطِهِ يَكُونُ مَلْفُوفاً عَلَيْهِ أَوْ مَشْدُوداً عَلَى ثَوْبِهِ أَوْ مَوْضُوعاً عَلَيْهِ، وَمَا هُوَ مَدْفُونٌ فِي الأَرْضِ تَحْتَهُ فَلَيْسَ هُوَ لَهُ إلاَّ أَنْ تُوجَدَ مَعَهُ رُقْعَةٌ مَكْتُوَبةٌ بِأَنَّهُ لَهُ فَهُوَ لَهُ عَلَى أَظْهَرَ الوَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَ بِالقرْبِ مِنْهُ مَالٌ ¬
مَوْضُوعٌ أَو دَابَّةٌ مَشْدُودَةٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَلَوْ وُجِدَ اللَّقِيطُ في دَارٍ، فَالدَّارُ لَهُ، لأنَّهُ تَحْتَ يَدِهِ وَاخْتِصَاصِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مالٌ أَنْفَقَ الإمَامُ مِنْ بَيْتِ المَالِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ وَزَّعَهُ عَلَى مَنْ رَآهُ مِنْ أَغْنِيَاءِ المُسْلِمينَ، ثُمَّ لاَ رَجُوعَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إنَّهُ إِنْ ظَهَرَ رِقُّهُ رَجَعَ بِهِ عَلَى سَيِّدِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ حراً مُوسِراً وَكَسُوباً فَعَلَيْهِ، وإِنْ ظَهَرَ فَقِيراً قُضِيَ ذَلِكَ مِنْ سَهْمِ الفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ مِنَ الصَّدَقَاتِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: غَرَضُ الفصل بيانُ أنَّ اللَّقِيطَ مِمَّنْ ينفق عَلَيْه، ولا يَخْلُو حَالُهُ، إمَّا أن يُوجَدَ له مالٌ، أو لا يُوجَدَ، فإنَّ وُجِدَ، فَنَفَقَتُهُ في مالِهِ، ومالُهُ يَنْقَسِمُ إلى ما يستَحِقُّهُ لعمومِ كَوْنِهِ لقيطاً وإلَى ما يستحقُّهُ بخصوصِهِ. أمَّا الأَوَّلُ، فكالحاصِلِ من الأوقاف العامَّة على اللُّقَطَاءِ، قال في الكتاب: "هُو ما وُقِفَ على اللُّقَطَاءِ، أو ما وُهِبَ منهم، أو أوصي لهم"، وأُجْرِيَ الهبةُ والوصيَّةُ مُجْرى الوقف من وُقُوعِهِما لِلُّقَطَاءِ عامَّةً، ولم يذْكُرْ في "الوسيط" بِهَذِهِ اللفظة ولكنْ قال: "ومَالُهُ بالوصيَّة لِلَّقِيطِ والوقْفُ عَليْه والهبةُ منه"، وهذا أوضَحُ؛ لأنَّ الهِبَة لغير معيِّن مما تُسْتَبْعَدُ، فيجُوزُ تنزيل ما في الكتاب على ما ذَكَرَهُ هناك، وَيَجُوزُ أن تنزل الجهةُ العامَّةُ بمنزلة المسْجد، حتى يجوزَ تملكها بالهِبَةِ؛ كما يجوزُ الوقْفُ عليها، وحينئذٍ يقبلُهُ القاضي، فإنَّ كان كذلك، فالاستحقاق في الصور الثلاثة بجهةِ كَوْنِهِ لَقِيطاً، وإنْ فرض الوقْفُ عليه خاصَّةً أو الهبةُ أو الوصيَّةُ له، فهو مما يستحقُّهُ بخصُوصِهِ. وقوله "ويقبله القاضي" يعني ما لِلُّقَطَاءِ مُطْلقاً، وربَّما يُوجَدُ بَدَلَهُ و"قَبِلَهُ القَاضِي" يعني ما وُهِبَ أو أُوصِيَ، وكلاهُمَا جائِزٌ، ومما يستحقُّهُ بخصوصِهِ ما يُوجَدُ تحت يده واختصاصه، فإنَّ للصغيرِ يَداً واختصاصاً كالبالغ، والأَصلُ الحرية، ما لم يعرف غيرها، وذلك كثيابه الملفوفة عليه الملبوسة والمفروشَة تحته، وما غُطِّيَ به من لِحَافٍ أو غيرِهِ، وما شُدَّ عليه، أو عَلَى ثوبه، أو جُعِلَ في جَيْبِهِ من حُلِيٍّ أو دراهمَ وغيرها، وكذا الدابَّة التي توجد مشدودةً علَيْه، والتي عنَانُها بيده أو هِيَ مشدودتين في وسطه أو ثيابه، والمهد الذي هو فيه، وكذا الدنانيرُ المَنْثُورةُ فَوْقَه، والمصبوبة تحته، وتَحْتَ فِرَاشِهِ. وحَكَى القاضي ابنُ كج وَجْهَيْنِ في التي هي تحْتَهُ، وكذا لوْ كَان في خيمةٍ أو دارٍ لَيْسَ فيها غَيْرُهُ، فهُمَا له، وعَن "الحاوِي" وَجْهَان في البُسْتَان (¬1)، ولو كان بقربه ثِيابٌ وأمتعةٌ موضوعةٌ أو دابَّةٌ، فوجهان: ¬
أصحُّهُما: أنَّها لا تجعل له؛ كما لو كانَتْ بعيدةً عَنْه. والثانِي: تُجْعَلُ له؛ لأنَّ مِثْل هَذا يثبت اليد، والاختصاصَ في حقِّ البالغ؛ ألا ترى أنَّ الأمتعة الموضُوعَة في السُّوقِ بقُرْب الشَّخْصِ يُجْعَلُ له والمالُ المدفونُ تحته يُجْعَلُ له (¬1)؛ لأنَّه لا يقصد بالدَّفْنِ الضمَّ إلى الطفل بخلاف ما يُلَفُّ عَلَيْه، ويوضَعُ بالقُرْب منْه، لكنْ، لو وُجِدَتْ معه أو في ثيابهِ رقعةٌ فيها أن تحته دفيناً وأنه له، ففيه وجهان، حكاهما الإمامُ: أظْهَرُهُمَا عند صاحب الكتاب: أنَّه له بقرينة الرُّقْعةُ، وقد يتفق في العُرْفِ مثلُهُ. والثاني: أنّا نجري على القياس، ولا نُبَالي بالرُّقْعَة، وهذا ما يوافِقُ كلام أكْثَرِهِمْ (¬2). قال الإمامُ: ومَن عَوَّل على الرقعة، فلَيْتَ شِعْرِي؛ ما يقولُ فيما إذا أرشدتِ الرقعةُ إلَى دفينٍ بالبُعْد أو دابَّة مربوطةٍ بالبعْدِ (¬3). لو كانَتِ الدَّابَّةُ مشدودةً باللَّقِيط [وعليها راكب]. قال القاضي ابنُ كج: هي بينهما، وما سِوَى الدَّفين من هذه الأموال، إن لم يجعل لِلَّقِيطِ، فهو لُقَطَةٌ، والدفين قد يكونُ رِكَازاً، وقد يكونُ لُقْطَةً، على ما تقدَّم، هذا إذا عُرِفَ له مالٌ، فإنَّ لم يُعْرَف، فقولان: أصحُّهما، وهو المذْكُور في الكتاب: أنَّه ينفقُ الإمام عليْهِ من بيْتِ المالِ منْ سَهْم المصالح؛ لما رُوِيَ عن عُمَر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه استَشَار الصَّحابةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- في نَفَقةِ اللَّقيطِ، فَقَالُوا: من بيتِ المالِ (¬4)، ولأَنَّ البالغَ المعتبر يُنْفِقُ علَيْه من بَيْتِ المالِ، فاللَّقيطُ الْعَاجِزُ أَوْلَى. ¬
والثاني: أنَّه لا تكُونُ في بيْتِ المَالِ؛ لأنَّ مالَ بَيْتِ المَالِ يُصْرَفُ إلَى ما لا وَجْهَ له سِوَاهُ، واللَّقِيطُ يجوزُ أنْ يكونَ رقيقاً، فنفقتُهُ على سيِّده، أو حُرًّا له مالٌ، أو قريبٌ، فنفقَتُهُ في ماله، أو عَلَى قريبه، فعلى هذا، يستقرض الإمامُ لنفقَتِهِ مِنْ بَيْتِ المالِ، أو مِنْ واحدٍ من الناسِ، فإن لم يكُنْ في بيت المالِ شَيْءٌ، ولم يُقْرِضْهُ أحَدٌ من الناس، جَمَعَ الإمامُ أهْلَ الثروةِ من البَلَدِ، وقَسَّطَ عليهم نَفَقَتَهُ، ويجْعَلُ نَفْسَهُ منْهم، ثمَّ إنْ بَانَ رقيقاً، رجَعُوا عَلَى سَيِّدِهِ، وإنْ كان حرًّا له مالٌ أو قريبٌ، فالرجوعُ عليه، وإنْ بَانَ حرًّا لا قريبَ له ولا مالَ ولا كسبَ، قَضَى الإمَامُ حَقَّهُمْ منْ سَهْم الفقراء والمساكين أو الغَارِمِينَ، كما يراه (¬1). وإنْ قُلْنا بالأوَّل الأصَحّ، فلو لم يَكُنْ في بيتِ المالِ مالٌ، أو كان هناك ما هُوَ أهمُّ؛ كَسَدِّ ثَغْرٍ يَعْظُمُ ضَرَرُهُ، لو تُرِكَ، قام المُسْلِمُونَ بكفايَتِهِ، ولم يَجُزْ لهم تضييعُهُ، ثم طريقُهُ طريقُ النَّفقة، أو طَرِيقُ القَرْض؟ فيه قولان: أَحَدُهُمَا: طريقُ النَّفَقَةِ؛ لأنَّه محتاج عاجِزٌ؛ فأشْبَهَ المجنونَ والفقير والزَّمن، فعلَى هذا؛ إذا قام به بعضُهُمْ، حَصَلَ الغَرَضُ، واندفَعَ الحَرَجُ، عن الباقين، وإن امتنعوا أَثِمَ جميعُهُمْ، وطالَبَهُمُ الإمامُ، فإِن أَصَرُّوا، قاتَلَهُمْ، وعند التعذُّر، يستقرض على بيْتِ المَالِ، وينفق عليه. والثاني: أنَّ طريقَهُ طَرِيقُ القَرْضِ، حتَّى يثبت الرجوعُ؛ كما يبذل الطعام للمضطر بالعوض؛ وهذا؛ لأنَّه يجوزُ أنْ يَكُونَ رَقِيقاً، أو يَكُونَ له مالٌ أو قريبٌ، كما تقدَّم، فعلَى هذا؛ إنْ تَيَسَّرَ الاستقراضُ، فذاك، وإلا، قَسَّطَ الإمامُ نَفَقَتَهُ علَى المُوسِرِينَ من أهل البَلَدِ، ثم إن ظهرَ عبدًا، فالرُّجُوعُ على سَيِّدِهِ، وإن ظهر له مالٌ أو اكْتَسَبَهُ، فالرجوعُ عليه، فإن لم يكن شيْءٌ، قضى من سَهْمِ المساكين، أو الغارمِينَ، وإنْ حَصَلَ في بيتِ المال مالٌ، قبل بلوغه وَيسَارِهِ، قضى منه؛ لأنّا نفرِّع عَلَى أنَّه، إذا كان في بيت المالِ ¬
مَالٌ فنفقتُه مِنْهُ، وَإِنْ حَصَلَ في بَيْتِ المَالِ أو حصل للقيطِ مالٌ دَفْعَةً واحِدةً، قَضَى من مالِ اللَّقِيط، كما إذا كان لَهُ مالٌ، وفي بيتِ المالِ مالٌ، تكونُ نفقتُه في مَالِهِ، ولم يتعرَّضِ الأَصْحَابُ لطَرْدِ الخِلافِ في أنَّه إنفاقٌ أو إقراضٌ، إذا كان في بَيْتِ المَالِ مالٌ، وقلْنا: إنَّ نفقتهُ منْه، والقياسُ طَرْدُه، وما الأظْهَرُ من هذا الخلاف (¬1)؟ إيراد الكتاب يُشْعِرُ بتَرْجيحِ الأَوَّلِ؛ فإنَّه مالٌ لا رُجُوعَ عَلَيْه، وقد قِيلَ: إنَّه، إنْ ظَهَر رِقُّهُ إلى آخره، ويُحْكَى أنه اختيار القاضى الحُسَيْن، وقضيةُ سياقِ أصْحَابِنا العراقيين وغَيْرَهُمْ إنَّ الثاني أظْهَرُ. وحيثُ قلْنا: إنَّ الإمامَ يُقسِّطُ النفقةَ على الأغْنياء، فذاك عنْد إمكان الاستيعاب، فأمَّا إذا كَثُرُوا، وتعذَّر التَّوْزِيعُ عليهمِ، قال الإمامُ: يضربُها السُّلْطَانُ عَلَى من يراه منْهم، يجتهدُ فيه، فإن اسْتَوَوْا في نظره، تَخيَّر (¬2)، وإلَى هذا الكلامِ أشارَ صاحبُ الكتابِ بقوله "وزعه على من رآه من أغنياء المسلمين" ثم المرادُ أغنياءُ تلك البلدة أو القَرْيَةِ. قال الغَزَالِيُّ: ثُمَّ مَهْمَا كَانَ لِلَّقيطِ مَالٌ لَمْ يَجُزْ لِلْمُلْتَقِطِ إِنْفَاقُهُ إِلاَّ بِإِذْنِ القَاضِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَاضٍ فَلْيُشْهِدْ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَنْفَقَ دُونَ إِشْهَادِهِ ضَمِنَ، وَهَلْ يَسْتَقِلُّ بِحِفْظِ مَالِهِ دُونَ إِذْنِ القَاضِي؟ فِيهِ خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا كان لِلَّقيطِ مالٌ، فَهَلْ يستقلُّ الملتَقِطُ بحِفْظه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، بل يحتاج فيه إلَى إذْن القاضي؛ لأنَّ إثباتَ اليَدِ على المالِ يفتقر إلَى ولايةٍ عامَّةٍ أو خاصَّةٍ، ولا ولاية للملتَقِطِ. وأرجحُهما على ما يقتضيه إيرادُ "التهذيب" الاستقلالُ؛ لأنَّه مستقل بحفْظِ المالك، بلْ هو أَوْلَى به من القاضي (¬3)، فكان أَوْلَى بحفْظ مالِه ولِقُوَّة يَدِهِ. ¬
حكى القَاضِي ابنُ كج وغَيْرُهُ وجْهَيْنِ من مخاصَمَتِهِ، إذا ظهرَ للمال المخصوصِ باللَّقيطِ مُنَازعُ، والأصحُّ أنَّه لا يُخَاصَم. وسواءٌ قلْنا له: إنه يستقل بالحفْظ أو لا، فليس له إنفاقُه على اللَّقِيطِ إلاَّ بإذْن القاضي، إذا أمكن مراجَعَتُهُ، ولو أنفق، صار ضامناً ولم يكنْ له الرجوعُ عَلَى اللَّقيط، كمن في يده وَدِيعةٌ ليتيمٍ، فأنفقها علَيْه، هذا هو المَشْهُور. وفي كتاب القاضي ابنِ كج وجْهٌ غريبٌ؛ أنَّه لا يَصِيرُ ضامناً. وإذا رُفِعَ الأمرُ إلى الحاكم، قُلْنا: خُذِ المالَ منْهُ، وليسلم إلى أمينِ، لينفقَ منْه على اللَّقيطِ بالمَعْرُوف، أو يَصْرِفَهُ إلى المُلْتَقِطِ يوماً بيَوْمٍ، ثم إنْ خالفَ الأَمِينُ، وقتر علَيْهِ، مُنِعَ مِنْهُ، وإنْ أسْرَفَ، ضَمِنَ كُلُّ واحِدٍ من الأمين وَالمُلْتَقِطِ الزِّيَادَةَ، والقَرَارُ عَلى الملتَقِط، إذا كان قد سَلَّمَهُ إلَيْهِ، لِحُصُول الهَلاَك في يده، وهَلْ يَجُوزُ أنْ يَتْركَ المالَ من يده؟ وَيأْذَنُ له في الإنفاق منه؟ تُقدَّم عَليْه مسألةٌ، وهي أنَّه إذا لم يَكُنْ لِلَّقيط مالٌ، واحتيج إلى الاستقراضِ [له]، هل يجوزُ للقاضِي أنْ يأْذَنَ للملْتَقِطِ في الإنفاق علَيْه من مالِ نفسِه ليرجع؟ والنَّصُّ أنَّه يجوزُ، ونصَّ في الضالَّة أنَّه لا يَأْذَنُ لواجِدِهَا من الإنفاق عَلَيْها منْ مال نَفْسِه؛ لِيرجعَ عَلَى صاحِبها، بل يَأْخُذُ المالَ منه ويدْفَعُه إلَى أمِينِ (¬1)، ثم الأمينُ يَدفع إلَيْه كُلَّ يوْمٍ بِقَدْر الحاجة، فَتَحَزَّبَ الأصحابُ فيهما، قَال أكْثَرُهُمُ: المسألةُ على قولَيْن: أَحَدُهُمَا: المنعُ في الصورَتَيْنِ، وبه قال المُزنيُّ، وإلاَّ كان قابضاً للغَيْر من مال نفسه، ومقبضاً. وأشبههما عند الشَّيْخ أبي حامد: الجوازُ؛ لما في الأخذ والردِّ شيئاً فشيئاً من العُسْرِ والمشقَّة، ولا يَبْعُدُ أن يَجُوزَ للحَاجَةِ تولِّي الطرفين، وَيلْحَقُ الأمينَ الأبُ في ذلك، ومثلُ هذا الخلافِ قد سَبَقَ فيما إذا أنفق المالِكُ عنْد هَرَب العَامِل من المساقاة والمكري عنْد هَرَب الجِمَالِ، وأجراه أبو الفَرَجِ السَّرْخَسِيُّ في إنفاق قَيِّم الطِّفْل عليه مِنْ مال نفسِه، وأخذ حزبٌ بظاهِرِ النَّصَّيْنِ، وفَرَقُوا بأنَّ اللقيطَ لا وليُّ له ظاهرًا، فجاز أن يَجْعَلَ القاضِي المُلْتَقِطَ وَليّاً، وصاحبُ اللُّقْطَةِ قد يكونُ رشيداً لا يولّى عليه، جئنا إلى ¬
الباب الثاني في أحكام اللقيط
إذْنِ الملتقِطِ في الإنفاق على اللَّقِيط من ماله، فالأكثرون قد طَرَدُوا الطَّرِيقَيْنِ في جوازِهِ، والأحْسَنُ ما أَشَارَ إلَيْه ابْنُ الصَّبَّاغِ، وهو القَطْعُ بالجواز؛ لأنَّ ما ذكرنا [هـ]، من اتَّحادِ القابض والمُقْبض لا يتحقَّق هاهنا، بل هو كقَيِّم اليتيم، يأَذَنُ له القاضي في الإنفاق عَلَيْه من ماله، وليعد المصير إلى المنعِ؛ لما حكاه الإمامُ وجْهاً عن العراقيين -رحمهم الله- قال: لا آمَنُ أنْ يكونَ غَلْطَة من ناسخٍ؛ لأنَّ الأَمْرَ أَعْظَمُ من أن يُحْتَمَلَ ذلك، فالطُّرُق على اختلافها مشحونةٌ بالطريقين، وينْبَغي أن يجري هَذَا الخلافُ في تسليم ما استقرضه القاضي على الجِمَالِ الهَارِبِ إلى المكتري، ولا ذِكْرَ له هناك .. وإذا جوَّزنا أن يأذنَ لهُ في الإنْفاق، فأَذِنَ له، ثم بلغ اللقيطُ، واختلفا فيما أَنْفَقَ، فالقَوْلُ قَوْلُ الملْتَقِطِ، إذا كان ما يَدَّعيه قصدًا لائقاً بالحال، وقد مَرَّ في هَرَبِ الجمالِ حكايةُ وجْه آخَرَ؛ تفريعاً على هذا الوجه؛ أنَّ القولَ قولُ الجمال، والقياسُ اطراده هاهنا (¬1). وإن ادعى ما يزيد على المعروف، فهو مُقِرُّ على نفسِه بالتفريط فيضْمَنُ، ولا معنى للتحليف. قال الإمام: لكنْ لو وقع النِّزاعُ في عَيْنِ مالٍ، فزعم الملْتَقِطُ أنَّه أنفَقَها، فيصدَّق؛ ليقطع المطالبة بالعين، ثم يضمن كالغاصب، إذا ادَّعَى التلف، هَذَا، إذا أمكن مراجعةُ القاضي. أمَّا إذا لم يَكُنْ في الموضِع قاضٍ، فينفق من مَالِ اللَّقيط عليه بنفسه، أو يدفعُه إلى أمين لينفقَ عليه؟ رَوَى صاحبُ "التهذيب" وغيرْه قولَيْن: أصحُّهُما الأوَّل، وحينئذ ينظر؛ أن أشهد علَيْه، لم يضمن؛ لأنَّه موضِعُ ضرورةٍ، وفيه وجهٌ، وإنْ لم يُشْهِدْ، ضمن، وفيه وجْهٌ؛ إمَّا مُطلَقاً أو عنْد تعذُّر الإشهاد، وكلُّ ذلك كالخِلاَفِ في الرُّجُوع، إذا هَرَبَ عاملُ المساقاة أو الجَمَّالُ، وقد ترتَّب ما نحن فيه عليهما، وُيقَالُ: هذا أَوْلَى بالجواز؛ لأنَّ للملتقط نَوْعُ ولايةٍ على اللقيط، فجازَ أن يتصرَّفَ في مالِه عند العجز عن القاضي، ولأنَّ غرضهُ هاهنا أنْ يصدقَ؛ فلا يضمن، وهناك يلزمُ غَيْرُهُ بالرجوع. البَابُ الثَّانِي في أَحْكَامِ اللَّقِيط قال الغَزَالِيُّ: وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: (الأَوَّلُ: إسْلاَمُهُ) وَالإسْلاَمُ يَحْصُلُ اسْتِقْلالاً بِمُبَاشَرَةِ الْبَالِغِ، وَلاَ يَحْصُلُ بِمُبَاشَرَةِ الصَّبيِّ وإِنْ كَانَ مُمَيِّزاً (ح م) عَلَى المَذْهَبِ الظَاهِرِ، نَعَمْ إذَا ¬
وَصَفَ الإِسْلامَ حيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبوَيْهِ خِيفَةَ الاسْتدْرَاجِ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ اسْتِحْبَابٌ إنْ فَرَّعْنَاهُ عَلَى المَذْهَبِ في بُطْلاَنِ إسْلاَمِهِ، أَمَّا الصَّبيُّ الَّذِي لاَ يُمَيِّزُ والمَجْنُونُ فَلاَ يُتَصَوَّرُ إسْلاَمُهُمَا إلاَّ تَابِعاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مِنْ أحكامِ اللَّقِيطِ إِسْلاَمُهُ وكُفْرُهُ. واعْلَمْ أنَّ إسلام الشَّخْصِ قد يثبُتُ بنَفْسِهِ اسْتقلالاً، وقد يثبت بغَيْره تَبَعاً. أما القِسْمُ الأَوَّلُ: فذلك في حقِّ البابغ العَاقِلِ، فيصح منْه مباشرةُ الإِسْلام بالعبارَةِ، إن كان ناطقاً، وبالإشَارَةِ، إن كان أَخْرَسَ. وأمَّا الصَّبيُّ (¬1) المميزُ فلا يصحُّ إِسلامُهُ، على ظاهر المَذْهَب؛ لأنَّهُ غيرُ مُكَلَّف فأشْبَهَ غَيْرَ المميَّز. والمجنون فيه وجهان آخَرَان: أحدُهما، ويُحْكَى عن ابن أبي هريرة أنا نتوقَّف، فإنَّ بلغ واستَمَرَّ على كلمة الإسْلاَم تَبَّيَّنا كَوْنَهُ مُسْلِماً مِنْ يَوْمئِذٍ، وإنْ وصَف الكُفْرَ، تَبَيَّنَّا أنَّه كان لَغْواً، وقد يعبّر عن هذا بصحَّة إسْلامه ظاهراً لا بَاطناً، ومعناه أنَّا نُخْرِجُه من زمرة الكفَّارِ، ونلْحِقُهُ بزُمْرَة المسلمين في الظاهر، ولا نَدْرِي استمرارُ هذا الإلْحاق وعدمه. والثاني: أنَّه يصحُّ إسْلامُهُ، حتى يُفَرَّق بيْنَهُ وبيْن زوْجَتِهِ الكافِرَةِ، وَيرِث مِنْ قريبه المُسْلِم، لِمَا رُوِيَ أنَّ عليًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- دَعَاهُ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلَى الإِسْلاَم قَبْلَ بُلُوغِهِ، فَأَجَابَهُ (¬2). ويُحْكَى هَذَا الطريق عَن الإصْطَخْرِيّ، وبه قال أبو حنيفة، وأَحْمَدُ. ¬
وعن مالكٍ اختلافُ روايةٍ، وعلَى هذا؛ فلو أرْتَدَّ، صحَّتْ رِدَّتُه أيضاً، ولكنْ لا يُقْتَلُ، حتى يَبْلُغَ، فإن تابَ، وَإلاَّ، قُتِلَ (¬1). وإذا قلْنا بظاهر المَذْهَبِ، فقد نَصَّ الشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه يُحَالُ بيْنَهُ وبيْن أَبَوَيْهِ وأهله الكفَّارِ؛ خِيفَةَ أن يستَدْرِجُوه، وطمعاً في أن يثبتَ بعد البُلُوغ على ما وصَفَه، فإنْ (¬2) وَصَفَ الكُفْرَ بعد البلوغ، هُدِّدَ وطُولِبَ بالإسْلام، فإنْ أَصَرَّ، رُدَّ إليهم، وفي هذه الحَيْلُولَةِ وجهان مَرويَّان في "النهاية": [و] أحدهما: إيرادُ الكِتاب يقتضي ترجيحَهُ أنَّها محتومة؛ احتياطاً لأمر الإسْلام. وأشْبَهُهمَا، وهو المذْكُور في "التتمة": أنَّهَا مسْتَحَبَّةٌ، فيستعطف بوالِدَيْهِ لِيُؤْخَذَ منهما، فإنْ أَبَيَا، فلا حيلولةَ، هَذَا في أحكام الدنيا. وأمَّا فيما يتعلَّق بالآخرَةِ، فَعَنِ الشَّيْخ أبي محمد: أنَّ الأُسْتَاذَ أبَا إسحاقَ قال: إذا أَضْمَرَ الإسْلاَمَ كما أظهره، كَانَ من الفائزين بالجنَّةِ، وإن لم يتعلَّقْ بإِسْلاَمِهِ أحكامُ الدُّنيا، ويعبَّر عنْ هَذَا بأنَّ إِسْلامَهُ صحيحٌ باطِناً لا ظَاهِراً. قال الإمامُ: وفي هذا إشْكَالٌ؛ لأنَّ من يُحْكَمُ له بالفَوْز؛ لإسلامه، كيف لا يُحْكَمُ بإسلامهِ؟ وقد يُجَابُ عنْهُ بأنه قَدْ يُحْكَمُ بالفَوْزِ في الآخِرَة، وإنْ لم يُحْكَمْ بأحكام الإسْلام في الدُّنيا، كَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعوةُ (¬3). ¬
وغيرُ المميِّز والمجْنُون لا يصِحُّ إسلامُهما مباشرةً بالاتِّفاق، ولا يُحكَمُ بإسلامهما إلا على جهة التَّبعيَّة. قال الغَزَالِيُّ: وَللتَّبَعِيَّة ثَلاَثُ جِهَاتٍ: (الأُولَى) إِسْلاَمُ أَحدِ الأَبوَيْنِ، فَكُلُّ مَن انْفَصَلَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مُسْلِمَةٍ (م) فَهُوَ مُسْلِمٌ، وإِنْ طَرَأَ إسْلاَمُ أَحَدِ الأَبوَيْنِ حُكِمَ بِالإِسْلاَمِ فِي الحَالِ، وَكَذَا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الأجْدَادِ أَو الْجِدَّاتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ الاقْرَبُ حَيَّا، فَإِنْ كَانَ حَيًّا فَفِي تَبَعِيَّتِهِ تَرَدُّدٌ (و)، ثُمَّ إِذَا بَلَغَ وَأَعْرَبَ عَنْ نَفْسِهِ بالكُفْرِ فَهُوَ مُرْتَدٌ عَلَى أَصَحِّ القَوْلَيْن، وَمَا سَبَقَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ لاَ يُنْقَضُ، وَلَوْ قُتِلَ قَبْلَ البُلُوغِ لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ لِشُبْهَةِ الكُفْرِ، وَإِنْ قُتِلَ بَعْدَ البُلُوغِ وَقَبْلَ الإِعْرَاب وَجَبَتِ الدِّيَةُ، وَفِي القِصَاصِ خِلاَفٌ لأَجْلِ الشُّبْهَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إحْدَى جهاتِ التَّبَعِيَّة في الإسْلاَم إسلامُ الأَبوَينِ، أَو أحدهما، وذلك يفرض من وجْهَيْنِ: أحدُهُمَا: أن يَكونَ الأبوانِ أو أحدُهُمَا مُسْلِماً يَوْمَ الْعُلُوق، فَيُحْكَمُ بإسلامِ الوَلَدِ؛ لأنَّه جزء من مُسْلِمٍ، وإن بلغَ وأعْرَبَ عن نفسِه بالكفرِ، فهو مُرتَدُّ. والثاني: أنْ يكونَا كَافِرَيْنِ يَوْمَ العُلُوق، ثم يُسْلِما أو أحدُهُما، فيُحْكَمُ بإسلام الوَلَدِ في الحالِ، حتَّى يتعلَّق القصاصُ والدِّيَةُ بقَتْلِهِ، وُيورَثُ من قريبه المُسْلِم، ويُحْرَمُ ميراثَ قَريبه الكَافِر، ويجوزُ إعْتاقُه عن الظِّهارِ، لو كان رَقِيقاً، وهذا لا تردُّد فيه، إذا قُلْنا: إنَّ إسلاَم الصَّبيِّ لا يَصِحُّ، أمَّا إذا صحَّحناه. قال الإمامُ: تردَّد أصْحَاب أبي حنيفةَ في تبعيَّته لمن أسْلَم من أبَوَيِهْ، وهو موضعُ التردُّد؛ لأنَّ الجمْعَ بيْن إمكان الاستقلال وبين إثبات التبعيَّة بعيدٌ. وقال مالكُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لا يَتْبَعُ الأمَّ إلا إذا أسْلَمَتْ إلاَّ أنَ يكونَ جنيناً في بَطْنِهَا.
لنا القياسُ على هذه الحالةِ، وعلى ما إذا كانتْ مُسْلمةً بعد العُلُوق، وذكر صاحبُ "النِّهاية" أنَّه مهما تأخَّر إسلامُ أحَدِهمَا عن العُلُوق فلا فرق بين أن يتَّفقَ في حالةِ اجتنانِ الَولَدِ أو بعدْ انفصالِهِ، لكن يجوزُ أن يُجُعَلَ إسلامُ أحدهِما في حَالَة الاجتنان، كما لو كان مُسْلماً يوم العُلُوق؛ جواباً على أنَّ الحَمْلَ لاَ يُعْرَفُ حتَّى يلتحقَ ذلك بالوَجْه الأوَّل، وستعرف ما يفترق به الوجْهَان المفْرُوضان. [و] من معنى الأبوين الأجْدَادُ والجَدَّاتُ، سواءٌ كانوا وارِثِينَ أو لم يكونوا، فإذا طرأ إسْلامُ الجَدُّ، تَبِعَهُ الطِّفلُ، إن لم يكن الأب حَيًّا (¬1)، فإن كان حيًّا، فوجهان: أَحَدُهُمَا: أنَّه لايتْبَعُهُ، في الإسْلاَم؛ لأنَّ الجدَّ لا ولايَةَ لَهُ في حياة الأَب، والجَدَّةُ لا حضانةَ لها في حياةِ الأمِّ. وأمرَ بهما التبعية؛ لأنَّ سَبَبَ التَّبعيَّة القرابةُ، وأنَّها لا تختلفُ بحياةِ الأَبِ، وموته؛ كسُقُوط القِصَاصِ، وحدِّ القذف. وقولهُ في الكتاب "وكذا إذا أسْلَمَ أَحَدُ الأَجْدَادِ والجدَّاتِ" إلى آخره، يشتمل ما إذا كان الأَقْرَبُ متوسِّطاً بين الَّذي أسْلَم، وبين الطِّفْل، وما إذا لم يكن، وهو مجرى على ظاهره حتَّى لو أسلم الجدُّ للأمِّ، والأبُ حيٌّ، اطَّرد الوجهان، ثم إذا بلغ الصبيُّ فله حالتان: الحالة الأُولَى: إذا أعرب عن نَفْسِه بالإِسلام، فقد تأكَّد ما حَكَمْنا به، وانقطع الكَلاَمُ. الحالةُ الثانية: إذا أَعْرَبَ بالكفر، ففيه قولان: أصحُّهُما: أنَّه مرتدُّ؛ لأ [نَّه]، سَبَقَ الحكمُ بإسْلامه جَزْماً؛ فأشبه مَنْ باشَر الإِسلامَ ثم ارتَّد، وما إذا حَصَلَ العُلُوقُ في حالة الإِسْلاَم. والثاني: أنَّه كافر أصلي؛ لأنَّه كان مَحْكُوماً عَلَيْه بكُفْره أولاً، وأزيل ذلك بطريق التبعيَّة، فإذا استقلَّ، انقطعت التبعيَّةُ، فوجب أن يُعْتبَرَ بنَفْسِهِ، ويقال: إن هَذا مخرَّجٌ، ومنْهُمْ من لم يَثْبتْهُ، وقطَع بالأوَّل، فيَجُوزُ أنْ يُعْلَمَ؛ لذلك قوله: "على أصحِّ القولَيْن" بالواو. التفريعُ إن حَكَمْنا بكونه مرتدّاً، لم يَنْقُضْ شيئاً مما [حكمنا به]، وأمْضَيْنَاه من أحكام الإسْلام، وإن حكمنا: إنَّه كافرٌ أصليٌّ، فوجهان: ¬
أحدهُما: أنَّها ممضاةٌ بحالها لجريانها في حالة التبعيَّة. وأظهرهما: أنَّا نتبيَّن الانتقاضَ، ونستدرك ما يُمْكن استدراكُهُ حتى يرد ما أخَذَه من تَرِكَة قَريبِهِ المُسْلمُ، ويأخُذ من تركَةِ قريبِهِ الكافر ما حَرَمْناه منه، ونُحْكَمُ بأنَّ إعتاقَه عن الكفَّارة لَم يكن مجزئاً، هذا فيما جرَى في الصِّغَر، فأمَّا إذا بَلَغَ، ومات له قريبٌ مُسلمٌ قَبْلَ أن يُعْرِبَ عن نفسِه بشَيْءٍ، أو أعْتَقَ عن الكفَّارة في هذه الحالة، فإنْ قلْنا: لو أعْرَبَ عن نفْسِه بالكُفْر، لكان مرتدًّا، أمْضَينا أحكام الإسْلام ولا ينقض. وإنْ جعلْنَاه كافراً أصليًّا، فإنْ أَعْرَبَ بالكُفْر تبينا أنَّه لا إرْثَ له، ولا إجزاء عن الكفَّارة، وإنْ فات الإعرابُ بمَوْته أو قُتِل، فوجهان: أحَدُهُمَا: إمضاء أحكام الإسلام كما لو مات في الصِّغَرِ. أظْهَرُهُمَا: نتبين الانتقاضُ؛ لأنَّ سَبَبَ التبعيَّة الصِّغَرُ، وقد زال، ولم يَظْهَرْ في الحال حُكْمُهُ من نَفْسِه، فترك الأمر إلى الكُفْر الأصليِّ، وعن القاضي حُسَيْن أنَّه، لو ماتَ قبْل الإعْراب وبَعْد البلوغ، يرثُه قريبُة المُسْلِمُ، ولو ماتَ لَهُ قريبٌ مُسْلِمٌ، فإرْثهُ عنْه موقوفٌ. قال الإمامُ: أمَّا التوريثُ منْهُ، فيخرج على أنَّه، إذا مات قَبْل الإعْرَاب، هل يُنْقض الحِكْمُ، وأمَّا توريثُهُ، فإنْ عني بالتوقُّف أنَّه يُقَالُ: أَعْرِبْ عن نَفْسِكَ بالإسْلام، فهو قريبٌ، ويُستَفَادُ به الخُرُوج من الخلاف. [و] أمَّا إذا مات القَرِيبُ، ثم مات هو، وفاتَ الإعْرابَ بمَوْته، فلا سبيل إلى الفرق بَيْن تَوْرِيثِهِ والتَّوْرِيث عَنْه، وَلَوْ قُتِلَ بَعْد البُلُوغ، وقبل الإعْرَابُ، ففي تعلُّق القِصَاصِ بقَتْله قولان: أحَدُهُمَا: التعلُّق، كما لو قُتِلَ قَبلَ البُلوغ. والثاني: المَنْعُ؛ لأنَّ سكوتَه يحتملُ الكُفْرَ والجُحُودِ. والقَصاصُ يُدْرَأ بالشُّبْهة، ويخالفُ ما قَبْل البُلُوغ، فإنَّه حينئذٍ مَحكَومٌ بإسْلامه تَبَعاً وقد انقطَعتِ التبعيَّةُ بالبُلُوغ، والقولان مبنيَّان على أنَّه إذا أعربَ بالكُفْر، كان مرتداً أو كافراً أصليًّا، إن قلْنا بالأوَّل، وجب القِصَاصُ، وإن قلْنا بالثاني، فلا؛ لكن الظاهِرَ مَنْعُ القصاصِ، وإن كان الأظهرُ كَوْنَهُ مرتدًّا؛ تعليلاً بالشبهة. وأمَّا الديةُ؛ فالذي أطلقوه، وحكوه عن نصِّ الشافعيَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- تعلُّقُ الديةَ الكاملةِ بقَتْلِهِ، وقياسُ قوْلِنا -أنَّه لو أعْرَبَ بالكُفْر، كان كافراً أصليًّا أنه لا توجب الديَةَ الكاملةَ عَلَى رأْيٍ، كما أنَّه إذا فاتَ الإعرابُ بالموت، يُرَدُّ الميراثُ والإجْزاءُ عن الكفَّارة على رأْي (¬1). ¬
فرع
رَوَى الإمامُ عن القاضِي الحُسَيْن إجراءَ القول بمنع القَصَاصِ يمنع الحكم بأنَّه، لو أعْرَبَ بالكُفْر، كان مرتدًّا وعَدَّهُ من هفواته. وقولُه في الكتابِ: "ولو قُتِلَ قَبْلَ البُلُوغ، لم يَسْقُط القِصَاصُ؛ لشُبْهة الكُفْرُ"، يعني أنَّه لا يمتنعُ القِصَاصُ بسَبَب يوهِمُ الكُفْرَ بعْد الَبُلُوغ، إذ الإسْلاَمُ في الحال مَجْزُومٌ به. " فَرْعٌ" الصَّبِىُّ المحكومُ بكُفْرِهِ، إذا بلغَ مجنوناً، حُكْمَهُ حُكْمُ الصَّغير، حتَّى إذا أسلمَ أحدُ والدَيه، تَبعه، وإن بلغ عَاقِلاً، ثم جُنَّ، فوجهان: إن قلْنا: إنَّه إذا طرأ جُنُونُهُ، عادتْ ولايةُ المالِ إلى الأَبِ، فإذَا أَسْلَمَ، استتبعه، وهو الأَصَحُّ، وإلاَّ، فلا. قال الغَزَالِيُّ: (الْجِهَةُ الثَّانِيَة) تَبَعِيَّةُ السَّابِي المُسْلِم، وَمَنِ اسْتَرَقَّ طِفْلاً حُكِمَ بِإِسْلاَمِهِ (و)، وَإِن أسْتَرَقَّهُ ذِمِّيٌّ لَمْ يُحْكَمْ بِإسْلاَمِهِ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ، وإنْ بَاعَهُ مِنْ مُسْلِم لَمْ يُحْكَمُ أَيْضاً بِإِسْلاَمِهِ لأَنَّ مِلْكَ المُسْلِمِ طَارِئٌ وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَثَرُ الابْتِدَاءِ، وَلَوَ اسْتَرَقَّهُ مُسْلِمٌ وَمَعَهُ أبوَاهُ لَمْ يُحْكَمْ بِإِسَلامِهِ، ثُمَّ حُكْمُ هَذَا الصَّبِيِّ حُكْمُ من قُضِيَ بِإِسْلاَمِهِ تَابِعاً لأَبوَيْهِ إِذَا بَلَغَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الثانيةُ: تبعيَّةُ السَّابي، فإذا سَبَى المُسْلِم طِفْلاً منفَرِداً عن أَبَوَيْهِ، حُكِمَ بإسلامه؛ لأنَّه صَارَ تَحْتَ ولايَتِهِ، وليْسَ مَعَه مَنْ هو أقرَبُ إلَيْه، فتبعه كما تبعه الأبوَيْنِ (¬1). قال الإمامُ: وكأنَّ السَّبْي، لما أبْطَلَ حرِّيَّتَه، قلَبَهُ قَلْباً كُلِّيَّا، فعدم عما كان واستفتح لَهُ وجود تحت يَدِ السَّابي وولايتِهِ؛ فأشْبَهَ تولُّدَهُ من الأبَوَيْنِ. ¬
ولو كان السابِي ذِمِّيًّا، فوجهان: أَحَدُهُمَا: أنَّه يُحْكَمُ بإسْلامِهِ أَيْضاً؛ لأنَّه، إذا أسبيناه، صار مِنْ أهل دار الإِسْلاَم؛ لأنَّ الذمِّيَّ مِنْ أهلها، فيُجْعَلُ مُسْلِماً تبعاً للدَّار. وأصَحُّهُمَا: المنعُ؛ لأنَّ كونه من أهْلِ الدارِ، لمٍ يُؤَثِّرْ فِيهِ وفي حقِّ أولاده (¬1)، فكيف يُؤَثِّرُ في حقِّ مَسْبِيَّهِ، وتبعيَّة الدار إنَّما تُؤَثرِّ في حَقِّ من لا يُعْرَفُ حالُهُ ونَسَبُهُ، ثم لو بَاعَهُ الذِّمِّيُّ من مُسْلِمٍ، لم يُحْكَم بإسلامه (¬2) أَيْضاً؛ لأن ملكُ المُسْلِم طَرَأَ، وهو رَقيقٌ، وإنما التبعيةُ أَثَرُ ابتداءِ المِلْكِ، فإن عنده يتحقَّق تحوُّلُ الحال، وكذلك سبي الزوجَيْنِ يَقْطَعُ النكاحَ، وتَجَدُّد المِلْكِ على الرقيق لا يقْطَعُه، ولو سُبِيَ ومعه أبواه أو أحَدُهُما، لم يُحْكِمْ بإسلامه (¬3)؛ خلافاً لأحمدَ في إحْدَى الروايتَينِ [عنه]؛ لأنَّ والِدَيْهِ أقربُ إليه من سابِيهِ، فكان أَوْلَى بالاستِتْبَاعِ. وقال الإمامُ: وكان لا يَبْعُدُ أن يبالي بهما حَيْثُ أتبعناه السَّابِيَ مع وجودِ الأبوَيْنِ، إذا لم يكونَا مَعَه، وقلْنَا: كأنَّه ولدٌ جديدٌ، ولكن لم يختلف الأصحابُ في ذلك، ¬
فرع
وكأنَّهم يقولون: إذا لم نَرَهُمَا، فلا نبحث عن بقائهما، وإذا كَانَا مَعه، ثم ماتا، لم نحْكُمْ بإسلامه أيضاً لما مَرَّ من أنَّ التبعيَّةَ إنَّما تثبتُ في أبتداء السَّبْيِ (¬1). وحُكْمُ الصَّبِيِّ المحكوم بإسْلامه تبعاً للسَّابي، إذا بَلَغَ حُكْمُ الذي حُكِمَ بإسْلامه تبعاً لأَبوَيْهِ، إذا بلغ. " فَرْعٌ" إذا أعربا بالكُفْر، وجعلْناهما كافرَيْنِ أصليّين، ألْحقْنَاهُما بدَار الحرب، فإن كان كفْرُهُمَا مما يجوزُ التقْريرُ علَيْه بالجزية، قَرَّرناهما، ولو أعرب بنَوْع من الكفر غَيْر ما كانا موصُوفَيْن به، فهما منتقلان من مِلَّةٍ إلى ملَّةٍ، وفيه تفصيلٌ وخلافٌ يُذْكَرُ في "النِّكاح". آخر: [و] القولُ في تجهيزهِما والصلاةِ عَلَيْهما ودَفْنِهِمَا في مقابرِ المُسْلمِين، إذا ماتا بعْد البلوغ وقبل الإعراب يتفرَّع على القولَيْن في أنهما، لو أعربا بالكفر، كانا مرتدَّيْنِ أو كافرَيْنِ أصلِيَّيْنِ (¬2). ورأَى الإمامُ أن يُتَسَاهَلَ في ذلك ويُقَامَ فيهما شعارُ الإسْلام. قال الغَزَالِيُّ: (الجِهَةُ الثَّالِثَةُ) تَبَعِيَّةُ الدَّارِ وَهُوَ المَقْصُودُ، فَكُلُّ لَقِيط وُجِدَ في دَارِ الإِسْلاَمِ فَهُوَ مَحْكُومٌ بِإسْلاَمِهِ، وَإِنْ وُجد فِي دَارِ الحَرْبِ فَكَافِرٌ، إِلاَّ إِذَا كَانَ فِيهَا مُسْلِمٌ سَاكِنٌ مِنْ تَاجِرٍ أَوْ أَسِيرِ فَفِيهِ خِلاَفٌ، ثُمَّ إِذَا بَلَغَ وَأَعْرَبَ عَنْ نَفْسِهِ بالكُفْر فَقَدْ قِيَل: إنَّهُ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ وَلَيْسَ بِمُرْتَدِّ لأَنَّ تَبَعِيَّةَ الدَّارِ ضَعِيفَةٌ وَكَأَنَّهُ تَوَقُّفٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قالَ: فِيهِ قَوْلاَنِ كَمَا في تَبَعِيَّةِ السَّابي وَالوَالِدَيْنِ، فَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ فَفِي التَّوَقُّف في الأَحْكَامِ ¬
المَوْقُوفَةِ عَلَى الإِسْلاَمِ نَظَرٌ، وَمَالَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ إلَى التَّوَقُّفِ وَبِهِ عَلَّلَ نَصَّ الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- في سُقُوط القِصَاصِ عَنْ قَاتِلِهِ، وَلاَ خِلاَف في أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ ذِمِّيٌّ بَيِّنَةَ علَى نَسَبِهِ الْتَحَقَ بِهِ وَتَبِعَهُ في الْكُفْر فَيَدُلُّ علَى ضَعْفِ الحُكْمِ بِالإِسْلاَمِ، وَلَوِ اقْتَصَرَ الذِّمِّيُّ عَلَى مُجَرَّد الدَّعْوى، لَحِقَهُ النَّسَبُ، وَفِي تَغَيُّرِ حُكْمِ الإِسْلاَمِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَابعٌ لِلنَّسَبِ خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إنَّما قال: "هِيَ المقصودةُ"؛ لأنَّ الغَرَضَ من عَقْدِ البابِ بيانُ أحْكَامِ اللَّقِيطِ في الإِسْلاَم وغيره. والجِهَتانِ السَّابقتانِ لا تُفْرَضَان في حقِّ اللَّقِيطِ، حتى يعرِف بهما إسلامهُ، وإنَّما يُحْكَمُ بإسْلامه بهذه الجِهَةِ الثَّالثة. واللَّقِيطُ، إمَّا أن يُوجَدَ في دارِ الإِسْلاَم أو في دَارِ الكُفْرِ. وأما دارُ الإسْلاَم، فقد جعَلُوها عَلَى ثلاثةِ أضْرُبٍ: أَحَدُهَا: دارٌ يَسْكُنُها المُسْلِمون، فاللَّقِيطُ الذي يُوجَدُ فيها مُسْلِمٌ، وإن كان فيها أَهْلُ الذِّمَّةِ؛ لأنَّه إن كان المسلمون أكثرَ، فالظَّاهرُ أنَّه من أولادهم، وإلاَّ، فيحتملُ أن يَكونَ منْهُم، فيُغلَّبُ حكْمُ الإِسلام (¬1). والثاني: دارٌ فَتَحَها المُسْلِمُون؛ وأقرُّوها في يَدِ الكُفَّار بجزية بَعْدما مَلَكُوها أو صَالَحُوهُمْ، ولم يَمْلِكُوهَا، فاللَّقِيطُ فيها مُسْلِمٌ (¬2)، إن كان فيها مُسْلِمٌ، وإلا فكافرٌ. وفي "التتمة" وجْةٌ؛ أنَّه يُحْكَمُ بكونه مُسْلِماً؛ لجواز أنَّ فيهم مَنْ يَكْتُمُ إيمانَهُ، وأنَّ اللقيط وَلَدُهُ. والثالث: دارٌ كان المُسْلِمُونَ يَسْكنُونَهَا، ثم جُلُوا عَنْها، وغَلَب عليها المشركون (¬3)، فإن لم يكن فيها مَنْ يُعْرَفُ بالإسلام، فهو كافرٌ. ¬
وقال أبو إسحاقَ المروزيُّ: إنَّه مسلمٌ؛ لأنَّ الدارَ دارُ الإسْلامِ، وربَّما بَقِيَ فيها مَنْ يكْتُم إيمانَه، وإن كان فيها مَنْ يعرف بالإسْلاَم، فهو مُسْلِمٌ. وقال الإمامُ: يَجُوزُ أن تجرى هذه الدارُ مَجْرَى دار الكفْرِ؛ لغلبة الكفَّار عليها. وأعْلَمْ أن عدَّهم الضَّرْب الثالِثَ من دارِ الإِسلام يُبَيِّنُ أنَّه ليْسَ من شَرْط دارِ الإسْلاَم أن يكون فيها مُسْلِمُون، بَلْ يكْفي كَوْنُها في يَدِ الإمَامِ واستيلائه. وأمَّا عدُّهُمُ الضَّرْبَ الثَّالِثَ منْهَا، فقد يُوجَدُ في كلامِ الأصْحاب ما يُشْعِرُ بأنَّ الاستيلاءَ القديمَ يكفي؛ لاستمرار الحُكْم، ورأيتُ لبعض المتأخِّرين تَنْزِيلَ ما ذَكَرُوه على ما إذا كانُوا لا يَمْنَعُون المسْلِمينَ منها، فإنْ مَنَعُوهم، فهي دارُ كُفْرٍ. وأمَّا دارُ الكُفْرِ، إن لم يكن فيها مسلمٌ، فاللَّقِيطُ الذي يوجَدُ فيها محكوم بكفره، وإن كان فيها تُجَّارٌ من المُسْلِمِين ساكنُونَ، فوجهان: أحدُهُما: أنَّه كافرٌ، تَبَعاً للدار. وأشبههما، ويحكى عن ابن أبي هريرةَ: أنَّه مسلمٌ؛ لقيام الاحتمال؛ تغليباً للإسْلاَم، ويجري الوجْهان فيما إذا كان فيها أسَارَى، ورأَى الإمامُ ترتيب الخلاف [فيه عَلَى الخلاف] (¬1) من التُّجَّار؛ لأنَّهم تحْتَ الضَّبْطِ (¬2)، قال، ويُشْبِهُ أنْ يكونَ الخِلاَفُ في قَوْمٍ ينتشرون، إلاَّ أنَّهم ممْنُوعُون من الخروج من البَلْدة، فأمَّا المحبوسون في المطامير، فيتجه ألا يكونَ لَهُمْ أثرٌ، كما لا أثر لطرق العابرين من المُسْلمين، وحيث حكَمْنا لِلَّقيطِ بالكُفر، فَلَو كان أهْلُ البقعة أصحابَ مِلَلٍ مختلفةٍ، فالقياسُ أن يجعل [من] خَيْرِهِمْ دِيناً (¬3). وقولُه في الكتاب: "فكلُّ لقِيط وُجِدَ في دار الإسْلاَم، فهو محكومُ بإسلامه" مطلق، لكن قد عَرفْتَ بما ذكرنا أنَّ الأمْرَ فيه على التَّفْصيل، إلاَّ أن يريدَ به الضربَ الأَوَّل خاصَّةٌ، فيكون الكلامُ علَى إطلاقه. وقولُه: "إلاَّ إذا كان فيها مُسْلِمٌ ساكِنٌ" أشار [به،] إلى الطروق، والاختيارُ لا أثر له. إذا عَرَفْتَ ذلك، فالصَّبيُّ المحكومُ بإسْلامه بتبعيَّة الدار، إذا بلغ وأعْرَبَ عن نَفْسِه ¬
بالكفر، قال الشافعيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "لاَ يَتَبَيَّنُ لي أَنْ أَقْبَلَهُ وَلاَ أُجِيزَهُ عَلَى الإِسْلامِ" وللأصحاب فيه طريقان: أحَدُهُمَا: أن هذا تَردِيدُ قَوْلٍ منْهُ، وفي كونِه مُرْتدًّا أو كافراً أصلياً قولان، كما في المحكُومِ بإسْلامه تَبَعاً لإبوَيْه أو السَّابي: أَظهرُهما: القَطْعُ بأنَّه كافرٌ أصليٌّ بخلاف منْ يُحْكَمُ بإسلامه تبعاً لابُوَيْهِ، أو للسَّابي؛ لأنَّ الحُكْمَ هناك جازٍ علَى علْمٍ منا بحقيقة الحالِ، وههنا مبنيٌّ على ظاهرِ الدَّار. فإذا أعرب عن نَفْسِهِ بالكفر، تبيَّن خلافُ ما ظنننا [هـ]، وهَذا كما أنَّه، لو بَلَغَ، وأمرَ بالرِّقِّ، يُقْبَلُ، وإن كنَّا نقول بحرِّيَّتِهِ؛ بناءً على الظاهر، وإلى هذا أشارَ في الكِتاب بقَوْلِهِ: "لأن تَبَعِيَّةَ الدَّارِ ضَعِيفَةٌ" ثم احتجَّ على صحَّتها بمسأَلَتَيْنِ: إحداهما: إذا جعلْنَاه كافراً أصليًّا عنْد إعْرَابِهِ بالكُفْر، ففي التوقُّف في الأحكام الموقُوفَة عَلى الإسْلاَم وجْهَان: أظهرُهُمَا: أنَّا لا نتوقَّف، بل نُمْضِيهَا كما في المحكوم باسْلامه بأبوَيْه أو بالسَّابِي. والثاني، وإلَيْه مَيْلُ صاحب "التقريب": أنَّا نتوقَّف إلَى أن يَبْلُغَ، فَيُعْرِبَ عن نَفْسِه، فإنْ مات في صِبَاه، لم يحْكَمْ بشَيءٍ من أحكام الإِسْلام، ويجوز أن يُعْلَمَ قولُهُ في الكتابِ: "كَافِرٌ أَصْلِىٌّ" بالحاء والألف؛ لأنَّ أبا حنيفَة وأحمدَ يجْعَلاَنِهِ مرْتَدًّا. وقولُه: "وكأنَّه توقُّفٌ" أراد به التَّوَقُّفٌ في أحكام الإِسْلام، لكنَّه قد صرَّح بعد هذه اللفظة بتردُّد الأصحاب في المسألة، فلو طَرَحَهَا، لَمَا ضَرَّ. وقولُه: "وبه علَّل نص الشافعيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-" إلى آخره، أراد به أنَّ الخلافَ الَّذي نَذْكُرُه في تعلُّق القِصَاصِ بقَتْل اللَّقِيط، جَعَلَ صاحبُ "التقريب" مأْخَذَ الخِلاَفِ في التوقُّف في أحْكَام الإسْلام، والمَسْألةُ بشَرْحِها وما قيلَ في مأْخَذِ الخلافِ فيها بيْن يَدَيْكَ. وهناك يتبيَّن أنَّه هل للشافعيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نَصٌّ عَلى سقوطِ الضمان، كما ذكره أم كَيْفَ الحال؟ وليْسَ فيما حَكاهُ منْ تعليل صاحب "التقريب" في هذا الفَصْل كثيرُ غرضٍ، ويُغْنِي عنه ما في الفَصْل بَعْد هذا. واعْلَمْ أَنَّ قولَهُ في أوَّل الفَصْل "فهو محكومً بإسْلامه" ينبغي أنْ يُحْمَلَ على ما يشترك فيه الحكْمُ بالإِسلام جَزْماً، والتوقُّف في أحكام الإِسلام، وهو الامتناعُ مِنَ الحُكْمِ بكفره وما أشْبَهَهُ، وإلاَّ، فإذا حَكَمْنا بالإِسلام جزماً، كيف ينتظم هنا التردُّد في أحكامه؟! ويجوزُ أن يجعل الأول جواباً على الأظْهَرِ، ثم تبين بالآخرة أنَّ فيه خلافاً. المسألة الثانية: المحْتَجُّ بها، وهي مقصودُةُ في نَفْسِها، اللقيط الذي وُجِدَ في دار الإسْلاَم، لو ادعى ذمي نسبه، وأقام عليه بينة، لَحِقَهُ وتَبِعَهُ في الكفر، وارْتفع ما كنَّا
فرع
نظنُّهُ، وهذا يدل على أنَّ تبعيَّة الدارِ ضعيفةٌ، وإنِ اقتصر علَى مجرَّد الدعوةِ، ففيه خلافٌ، وذلك أنَّ المُزَنيَّ حَكَى في "المختصر" عن نصِّ الشافعيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه إذا قال: أحْبَبْتُ أنْ أجْعَلَهُ مُسْلِماً في الصلاة عليه، وإن أمره بالإسْلاَم، إذا بلغ من غير إجْبَار، وأنَّه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال في "كتاب الدعوى": أجعله مسلماً، فمن الأصحاب من جعلَهما قولَيْن: أحدُهما: أنَّه يُحْكَم بكُفْرِه؛ لأنَّه يلْحَقُه بالاستلحاق، وإذا ثبت نسبه، تَبِعَهُ في الدِّين، كما لو قامَتِ البينةُ على النَّسَب. وأظهرُهما: المنعُ؛ لأنَّا قد حَكَمْنا لهُ بالإسْلاَم، فلا نغيِّره بمجرَّد دعْوَى الكافر، وأيْضاً، فيجوز أن يكونَ وَلَدَهُ، ولكن من مسْلِمَةٍ؛ وحينئذٍ لا يَتْبَعُ الدِّينُ النَّسَبَ. وقال أبو إسْحَاقَ وغيره: "يَقْطَعُ بأنَّه مسْلِمٌ كما ذكره في الدعْوَى، ويُحْمَل عَلَى ما قاله ههنا عَلَى ما إذا قَامَتِ البينةُ على النَّسَب، وهذا أصحُّ الطريقَيْنِ عِند الأكثرين (¬1). والأوَّل هو الذي أورده في الكِتَاب، فليُعْلَمْ لفظُ "الخلاف" بالواو، وسواءٌ قلنا: يتبعُه في الكُفْر أو لا يَتْبَعُة في الكفر، فإنَّه يُحَالُ بينهما كما ذَكْرنا، فيما إذا وصَفَ المميِّزُ الإِسلامَ (¬2)، ثم إذا بلغ ووَصفَ الكُفْرَ، فإن قلْنا: إنهُ يتْبَعُهُ في الكُفِر يقرر، ولكنه يُهَدَّدُ ويُخَوَّف أوَّلاً، فلعلَّه يُسْلِم، فإنْ قلْنا: لا يتْبَعُهُ، ففي تقريره ما سبَقَ من الخلاف. " فَرْعٌ" قَد مرَّ أنَّ اللقيطَ المَحْكُومَ بإسْلامه يُنْفَقُ علَيْه منْ بيْت المال، إذا لم يَكُنْ له مالٌ، وأمَّا المحْكُوم بكُفْره، ففيه وجهان: أقْرَبُهُمَا: الإنْفَاقُ أيضاً (¬3)؛ إذْ لا وجْهَ لنضييعه، وفيه نظرٌ للمسلمين؛ فإنَّه إذا بلغ أَعْطَى الجزيةَ. ¬
قال الغَزَالِيُّ: (الحُكْمُ الثَّانِي) جِنَايَةُ اللَّقِيطِ، فَأَرْشُهُ عَلَى بَيْتِ المَالِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ مَاتَ فَمَالُهُ لِبَيْتِ المَالِ من غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَإِنْ جُنِيَ عَلَيْهِ فَالأَرْشُ لَهُ، وَإِنْ قُتِلَ عَمْداً فَفِي القِصَاصِ قَوْلاَن: (و) (أَحَدُهُمَا): أنَّهُ يَجِب لأَنَّهُ مُسْلِمٌ مَعْصُومٌ (وَالثَّانِي): لاَ يَجِبُ لأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ مُعَيَّنٌ، وَفِي المُسْلِمِينَ صِبْيَانٌ وَمَجَانينُ فَكيْفَ يَسْتَوْفِي، وَهَذَا يَجْرِي في قَتْلِ كُلِّ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ، وَزَيَّفَ صَاحِب "التَّقْرِيب" هَذَا لأَنَّ الاسْتِحْقَاقَ لاَ يُنْسَبُ إِلَى آحَادِ المُسْلِمِينَ وَعَلَلَّهُ بِالتَّوَقُّفِ في إسْلاَمِهِ، فَعَلَى هَذَا يَسْتَوْفِيهِ الإِمَامُ إنْ شَاءَ، أَوْ أَخَذَ المَالَ لِبَيْتِ المَالِ إنْ رَأَى المَصْلَحَةَ فِيهِ، وَإِنْ قُطِع طَرَفهُ فَيَجِبُ القِصَاصُ لأَنَّ مُسْتَحَقَّة مُعَيَّنٌ، وَعَلَى تَعْلِيلِ صَاحِبِ "التَّقْرِيبِ" إنْ كَانَ الجَانِي مُسْلِماً تَوَقَّفْنَا، فإِنْ أَعْرَبَ بِالإِسْلاَم تَبَيَّنَّا وُجُوبَهُ، وَإِنْ أَعْرَبَ بِالكُفْر تَبَيَّنَّا عَدَمَهُ، ثُمَّ إِنْ قَضَيْنَا بوُجُوبِهِ فَلاَ يَسْتَوْفِيهِ الإمَامُ (و) لأَنَّهُ تَفْوِيتٌ، وَهَلْ يَأْخُذُ الأَرْشَ نَظَرٌ، فَإِنْ كَانَ المَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَجْنُوناً فَقِيراً أَخَذَهُ، وَإِنْ كَانَ صَبِيّاً غَنِيّاً لَمْ يَأْخُذْهُ، وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُ المَعْنَيَيْنِ فَوَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَأْخُذُهُ فَبَلَغَ أَوْ أَفَاقَ وَطَلَبَ القِصَاصَ فَوَجْهَانِ، مَنْشَؤُهُمَا أَنَّ أَخْذَ المَالِ لِلْحَيْلُولَةِ أَوْ لإسْقَاطِ القِصَاصِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصودُ الفَصْل القولُ في جنايةِ اللَّقِيطِ، وفي الجناية علَيْه. أما جنايَتُهُ، إنْ كَانَتْ خَطَأً، فموجِبُها في بيْت المالِ؛ لأنَّه ليست له عاقلةٌ خاصَّةٌ، ومالُهُ، إذا مات مصروفٌ إلى بيْتِ المالِ إرْثاً. وقوله: "من غير توقُّف" يعني أنَّا لا نخرِّج الضَّرْبَ على بيْت المالِ على الخلاف في التَّوقُّف، كما لا نتوقَّف في صَرْفِ تَرِكَتِهِ إلَى بيْتِ المالِ (¬1)، ويجعل الغُرْمُ بالغُنْمِ. وإنْ كانَتْ عَمْداً نُظِرَ، إنْ كان قد بَلَغَ، فعليه القصاصُ عند اجتماع شرائِطِهِ، وإن وَقَعَتْ قبل البلوغ، فإنْ قُلْنا: إنَّ عَمْدَ الصبيِّ عَمْدٌ، فتجبُ الديةُ مغلَّظةً في ماله، فإنْ لم يكنْ له مالٌ، [فهي] ففي ذمَّتهِ إلَى أنْ يجد. وإنْ قلنا: إنَّه خطأٌ، فتجبُ مخفَّفةٌ في بيْت المالِ، ولا يخْفَى أن ما ذكَرْناه في جناية تحمل بموجبها. فأمَّا إذا أتلف مالاً، فلا يكونُ الضَّمانُ إلاَّ عَلَيْه، ولو كَانَ اللَّقِيطُ محكوماً بكُفْره، ¬
لم يضربْ بموجب جنايته علَى بيْتِ المالِ، وتركتُه فَيْءٌ. وأمَّا الجنايةُ عَليْه، فإمَّا أنْ تكونَ خَطَأً أو عَمْداً: إن كانت خَطَأً، نُظِرَ، إنْ كانتْ علَى نَفْسِهِ، أُخِذَتِ الدِّيةُ، وُوُضِعَتْ في بيْتِ المالِ، وقياسُ مَنْ قال بالتوقُّف في أحكامه ألا يوجب الديةَ الكاملةَ، ولَمْ أَرَ ذكْرهُ (¬1). وإنْ كانتْ على طرفه، فواجبها حقُّ اللقيط يستوفيه القَاضِي له، ويعُودُ فيه القِيَاسُ المذكورُ. وإنْ كانَتْ عَمْداً، فإنْ قُتِلَ، فالنصُّ في "المختصر" وجُوبُ القصاص، وقطَعَ به بعْضُ الأصحابِ (¬2) فيما رواه أبو الفرج الزاز، ولم يُثْبِتُوا فيه خلافاً. وأثبت الأكثرون فيه قولاً آخَرَ أنَّه لاَ يَجِبُ القِصَاصُ، ثُمَّ اخْتَلَف فيهِ هؤلاء في شيئين. أحَدُهُمَا في مأْخَذ القولَيْنِ: قال قومٌ: وجْهُ الوُجُوب: أنَّه مسْلِمٌ معْصُومٌ، ووَجْهُ المَنْع؛ أنَّه، لو وَجَبَ القِصَاصُ، لَوَجَبَ لعامَّةِ المُسْلِمِينَ، كما يُصْرَف ماله إليهم، وفي المُسْلِمِين صبْيَان ومَجَانِينَ. ومهما كان في الوَرَثَةِ صبيان ومجانينٌ، لا يمكن أستبقاءُ القِصَاص قَبْلَ البُلُوغ والإفَاقَة، وأيْضاً، فإنَّه لا بُدَّ مِن اجتماعِ الورثةِ على الاستيفاء، واجتماع جميعِ المسلمين متعذِّرٌ. وعن صاحب "التقريب" بناؤهُمَا على أنَّ المحكوم بإسْلامه تَجْرِي علَيْه أحكامُ الإسْلاَم، أو نتوقَّف فيه إلَى أنْ يُعْرِبَ بالإِسلام؟ فإن قلْنا بالأول، أوجَبْنَا القِصَاصَ، وإنْ قلنا بالثاني، فقد فات الإعرابُ بقَتْله، فلا يجْري علَيْه حكمُ المسلمين، وهذا لو أوصَى من ليس له وارثٌ. قال: والمأْخَذُ الأوَّل فاسدٌ؛ لأنَّ الاستحقاق يُنْسَبُ إلى جهة الإسْلام، لا إلى آحاد المُسْلمين؛ ولهذا لو أوصَى مَنْ لَيْس له وارثٌ خاصُّ لجماعةٍ من المسلمين، لا يُجْعَلُ ذلك وَصِيَّةً للورثة، فهَذَانِ مأْخَذَانِ للمسألة. وفرَّع عليهما الشيخُ أبو محمَّد، ما إذا [أ] ثبت لرَجُلٍ حَقَّ قصاص لم يستَوْفِهِ، حتَّى مات، وورثه المسلمون، فعلى المأخَذِ الأوَّلِ في بقاء القِصاصِ القولان، وعلى ¬
الثاني، يبْقَى لا محالَةَ، ولو قُتِلَ اللَّقِيطُ بعْد البلوغ والإعراب بالإسْلام، جرى الخلافُ على المأخذ الأوَّل دون الثاني، ولو قُتِلَ بَعْدَ البلوغ وقبل الإعْرَاب، جَرَى الخلافُ على المأخَذَيْنِ، [و] لكنْ بالترتيب على ما قبل البلوغ، إنْ مَنَعْنَا القِصَاصَ، ثم فههنا أَوْلَى، وإنْ أوجبنا القصاصِ ثم فههنا وجْهان؛ لقدرته على إظهار ما هُوَ عَلَيْه مِن الاختلاف. الثاني في كيفيَّة قوْل المَنْع. ففي "النهاية" نقله عن رواية البُوَيْطِيِّ، وفي "التتمة" عن رواية الرَّبِيع، والمفهوم من كلام المُعْظَم، أنهَّ غيرُ منصوصٍ علَيْه في المَسْألة بخُصُوصها، ولكنْ قال قائلون: اللقيطُ لا وَارِثَ له. وقد رَوَى البُوَيْطِىُّ قولاً: أنَّه لا قِصَاصَ بقَتْلِ مَنْ لاَ وَارِثَ له، فيتناول اللَّقِيطَ تناوُلَ العُمُوم للخُصُوص. وعن أبي الطيِّب ابن سَلَمَة والقَفَّال تخريجُهُ من أحد القولَيْن في أن مَنْ قَذَفَ اللقيطَ بعْد بُلُوغِهِ لا يُحَدُّ، ويخرَّج من هذا مأخذٌ ثالثٌ، وهو درْءُ القِصاصِ بشبهة الرِّقِّ والكُفْرِ، ثم الأصحُّ من القولَيْن وجوبُ القِصَاصِ بالاتِّفاقِ، وإنْ كانَتِ الجنايةُ على طرف اللَّقِيطِ، فَعَلَى المأْخَذِ الأوَّل يُقْطَعُ بِوُجُوبِ القصاصِ؛ لأنَّ الاستحقاقَ فيه لِلَّقِيطِ، وهو متعيِّن لا للعامَّة. وعلى المأْخَذ الثَّاني، إذا فَرَّعنا علَى قَوْلِ المنْعِ هناك نتوقَّف في قِصَاصِ الطرف، فلو بلغ وأعْرَب بالإسْلام، تَبَيَّنَّا وجُوبَه، وإلاَّ، تبينا عَدَمَهُ. وعلى المأخذ الثالث؛ يجري القولان بلاَ فَرْقٍ، وإذا كان الجاني في النَّفْسِ أو في الطُّرقِ كافراً رقيقاً، جَرَى القولان علَى المأخذ الأول دون الثانِي والثالث، هذا ما يتعلَّق بوجوب القِصاص. أمَّا استيفاؤه، إذا قلْنا بالوجوب، فقِصاصُ النَّفْس يستوفيه الإمامُ، إن رَأَى المصْلحةَ فيه، وإنْ رَأَى غيره، عدل عنْه إلى الدِّيَة، ولو لم نجوِّز ذلك، لالْتَحَقَ هَذا القِصاصُ بالحدود المتَّجِهةِ، وليْسَ له العفْوُ مجاناً؛ لأنَّه على خلافُ المصلحةِ للمسلمين. وأما قِصَاصُ الطَّرَف، فإنْ كان اللقيطُ بالِغاً عَاقِلاً، فالاستيفاء إلَيْه، وإلاَّ فَلَيْسَ للإمام أستيفاؤُه؛ لأنَّه قَدْ يُرِيدُ التَّشَفِّي، وقد لا يُريدُ العفْوَ فلا يفوت عليه. وعن القَفَّالِ: أنَّ له الاستيفاءَ في المَجْنُون؛ لأنَّه لا ينتظر لإفاقته وقْتٌ متعيَّنٌ، والتأخير لا إلى غاية قريب من التَّفْوِيت، وهذا بعيدٌ عند الأصحاب. وَأَبْعَدُ منه أنَّ أبا الفرح السَّرْخَسِيُّ حَكَى وجهاً مُطْلَقاً في جواز الاقتصاص؛ من
حيث يجوزُ له أخْذُ الأَرْشِ علَى ما سنبيِّنه؛ -إن شاء الله تعالى- لأنه أحد البدلَيْنِ، فله استيفاؤه كالثاني، والمذْهَبُ الأوَّل. وإذا لم يستَوْفِ القِصَاصَ، فهَلْ له أنْ يأْخُذَ أَرْشَ الجناية، نَظَرٌ، إن كان المجنيُّ عليه مجْنُوناً فَقيراً، فله الأخذُ؛ لأنَّه يحتاجُ، ولَيْس لزوال علته غايةٌ تُنْتَظَر، وإن كان صَبِيّاً غنيّاً، لم يَأْخُذْهُ (¬1) لأنَّه لا حَاجَةَ في الْحَالِ، وِلزَوَالِ الصبي غايةً منتظرةً، وإن كان مجنوناً غنياً أو فقيراً صَبِيّاً، فوجهان: أحدُهما: جوازُ الأخْذِ لبُعْدِ الإفاقة في الصُّورة الأولَى، وقيامِ الحَاجَةِ في الثانية. [والثاني: المنْعُ لعدم الحَاجَة في الأُولَى، وفَرْقِ الانتظارِ في الثانية،] والظاهرُ في الصورَتَيْن المَنعُ، والاعتبَارُ بالجنون والفِقر جميعاً لجواز الأخذْ، وحيثُ قلْنا: لا يجوزُ أخْذُ الأرْشِ، أو لم نَرَ المَصْلَحَةَ فيه، فيُحْبَسُ الجَانِي إلى آوانِ البُلُوغِ والإفَاقَةِ. وإذا جَوَّزنَاه، فأخَذَه، ثم بلغ الصبيُّ، وأفاق المجْنُونُ، وأراد أن يردَّه، ويقتص، ففي تمكينه منْه وجهان شبيهان بالخلافِ فيما لو عفا الوليُّ عن حقِّ شفعة الصبيِّ للمصلحة، ثم بَلَغَ، وأراد أَخْذَهُ، والوجْهان فيما ذَكَرَ صاحبُ "التَّقْريب" مبنيان علَى أنَّ أَخْذَ المالَ عفْوٌ كُلِّيٌّ، وإسْقَاطٌ للقِصَاصِ أمْ سَبَبُهُ الحيلولةُ؛ لتعذُّر استيفاء القِصَاص الواجب وقد يرجَّح التقديرُ الأوَّل بأنَّ التضحيةَ بالحيلولةِ، إنَّما ينْقَدِح، إذَا جاءت الحيلولُة من قِبَل الجاني، كما لو غَيَّب الغاصبُ المَغْصُوبَ، أو أَبقَ العَبْدُ من يده، وههنا، جاء التعذُّر من قِبَلِهِ، وأيضاً، فلو كان الأخذُ للحيلولة، لجاز الأخذُ فيما إذا كان المجنيُّ عَلَيْهِ صَبِيًّا غَنِيًّا، وما ذَكَرْنَاه في أخْذ الأرْشِ لِلَّقِيطِ، جَارٍ في كلِّ طِفْلٍ يليه أبوه أو جدُّهُ بلا فَرْق. وحَكَى الإمامُ عنْ شيخه أنَّه ليْسَ للوصىِّ أخْذُه، قال: وهذا [أ] حسنُ، إنْ جعلناه إسْقاطاً، فلا يجوزُ الإسْقَاطُ إلاَّ لوالٍ أو وليٍّ. أمَّا إذا جوَّزناه للحيلولةِ، فينبغي ألاَّ يَجُوزَ للوصيِّ أيضاً. ولْنَعُدْ إلَى ما يحتاجُ إلَى ذِكْرِه من لفظ الكتاب: قولة: "ففي القِصاص قولان" يجوز إعلامُه بالواو؛ للطريقة القاطعة بالوجُوب. قوله: "وهذا يجْرِي في قتلِ كلِّ من لا وَارِثَ له" ربما أشعر بأن أصْل القَولَيْن في اللَّقِيط ثم اطَّرَدَ في كلِّ مَنْ لا وارِثَ له تفريعاً، وقد صرَّحَ صاحبُ "النهاية" به عن الشيخ أبي محمَّدٍ، لكنْ فيما قدَّمناه ما يقتَضِي خلافَهُ. ¬
وقولُهُ: "وزَيَّف صاحبُ "التقريب" هذا" يعني توجيهَ القَوْلِ، ولك أن توجِّه الإشْكَالَ علَى مزَيِّفه منْ وجْهَيْن: أحدُهُما: أنَّ غايةَ ما يلزمُ من كلامِهِ ضعْفَ المَعْنَى الذي وجَّهوا به قَوْلَ المَنْع، والذي وجهه به ضعيفٌ أَيْضاً؛ لأنَّ قولَ المَنْع مرجُوحٌ بالاتفاق، ولا يكونُ ذلك إلاَّ لضَعْفِ دَلِيلِهِ، ولا ينكر أن الضعيفَيْنِ قد يكون أحدُهما أضْعَفَ مِنَ الآخَر، لكنَّ البحثَ إذا انتهَى إلَى مثْلِ ذلِك فلي تَرْكُهُ. والثاني: أنَّ القولَيْن يأتيان في غَيْرِ اللَّقِيطِ ممَّا لا وَارِثَ له، ولا مَجَالَ لما ذَكَرَه في غير اللَّقِيطِ، فكما جاز التوجِيهُ بما ذكروه في غير اللقيط، جاز في اللَّقِيطِ. وقولُه: "فعلى هذا" أي عَلَى قول الوُجُوبِ، وإنْ كانَ هذا اللفظ متَّصِلاً بقَوْل المَنْع. وقوله: "يَسْتَوْفِيهِ الإمامُ إنْ شَاءَ" ليْسَ على التَّشَهِّي، بل إنما يَستَوْفِيهِ، إذا رَأَى المَصْلَحَةَ فيه كَمَا صرَّحَ بِهِ في طرف أخذ المَالِ. وقولُه: "من قطع الطرف فيجب القصاص" أي: جَزْماً، بناءً على المأخذ الأوَّل. وعلى توجيه صاحب "التقريب" يَجْرِي القولان، فعلَى قولِ المنع؛ يتوفَّف. وقولُه: "إن كان الجَانِي حُرّاً مُسْلِماً" لا اختصاصَ له بهذا الموضِعِ، بل الكفاءة معتبرةٌ في النَّفْسِ والطرف جميعاً، والشَّرْطُ المعتبر في الحكْم لا يتكررَّ في كلِّ صورة. وقولُه: "فلا يَسْتَوْفيه الإمامُ" مُعْلَمٌ بالواو؛ لما سبق. وقوله: "فإنْ وُجِدَ أَحَدُ المَعْنَيَيْنِ" يعني المَعْنَيَيْن المؤثِّرين في الأخْذ، وهما الجُنُونُ والفَقْرُ. قال الغَزَالِيُّ: (الحُكْمُ الثَّالِثُ: نَسَبُ اللَّقْيطِ) فإنِ اسْتَلْحَقَهُ المُلْتَقِطُ أَوْ غَيْرُهُ أُلْحِقَ بِهِ؛ لأَنَّ إِقَامَةِ البَيِّنَةِ عَلَى النَّسَبِ عَسِيرٌ، وَإِنْ بُلِّغَ فَأَنْكَرَ فَهَلْ يَنْقَطِعُ النَّسَبُ، فِيهِ خِلاَفٌ، وَإِنِ اسْتَلْحَقَ بَالِغاً فَأَنْكَرَ لَمْ يثْبُتْ، وَلَوَ اسْتَلْحَقَهُ عَبْدٌ فَالصَّحِيحُ مِنَ القَوْلَيْنِ أنَّهُ كَالحُرِّ (و) في النَّسَبِ، وَلَوَ اسْتَلْحَقَهُ ذِمِّيٌّ أُلْحِقَ بِهِ، وَفِي الْحُكْمِ بِكُفْرِهِ تَابعاً لَهُ مَا سَبَقَ، وَإِنِ اسْتَلْحَقَتْهُ أمْرَأَةٌ ذَاتُ زَوْج لَحِقَهَا عَلَى أَقْيَسِ الوَجْهَيْنِ، وقِيلَ: لاَ لأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ اسْتِلْحَاقُهَا لُحُوقَ الزَّوْجِ، وَقِيلَ: إِنَّ الخَلِيَّةَ يَلْحَقُهَا دُونَ ذَاتِ الزَّوْجِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القولُ في نَسَب اللَّقِيطِ كما في سَائِر المَجَاهِيل، فإذا استلْحَقَهُ حُرٌّ مُسْلِمٌ، أُلْحِق به؛ لأنَّه أقَرَّ له بحقِّ؛ فأشبه ما لو أقرَّ بمال.
المسألة الأولى
وأيضاً، فإنَّ إقامةَ البيِّنةِ على النَّسَب هما يَعْسُر، ولَوْ لَم يُثْبِتْهُ بالاستلحاق، لِضاع كثيرٌ من الإنساب، وقد سَبَق في "باب الإقْرار" بالنَّسَب ما يُشْتَرَط في الاستلحاق، ولا فَرْقَ في ذلك بيْن الملتقط وغيره، لكنْ يُسْتَحبُّ أن يُقَالَ للملتَقِط: مِنْ أين هو لَكَ؟ فربما يُتَوَهَّمُ أن يد الالتقاطِ تُفِيدُ النسب (¬1). وعن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه، إن استلحقَه الملْتَقِطُ، لم يلحق به؛ لأنَّ الإنسانَ لا ينبذ ولدَه، ثم يَلْتَقِطه، إلاَّ أن يكون ممَّن لا يعيشُ لَهُ وَلَدٌ، فيُلْحَقُ به؛ لأنَّه قد يفعل مثل ذلك تفاؤُلاً ليعيش الْوَلَدُ، وإذَا أُلحِقَ بغَيْر الملتقِطِ، سُلِّم إليه؛ لأنَّ الأبَ أحقُّ بالتربية والحِفْظ من الأجنبىِّ. واستلحاقُ الكافِرِ كاستلحاق المُسْلِمِ في ثُبُوتِ النَّسَب (¬2)، لاستوائِهِما في الجهاتِ المثبتة لِلنَسَّب. وقوله في الكتاب "وفي الحُكْم بكُفْره تابعاً له ما سَبَق" لا حاجةَ إلَى ذِكْرِهِ، فإنَّ الكَلامَ الآن في النَّسَب، وأمَّا حُكْمُ الدّين، فَقَدْ تقدَّم. وقوله: وإنْ بَلَغَ وأنْكَر، وقوله"وإن استلحق بالغاً" الصورتان مكررتان، قدْ مَرَّتا بشَرْحِهِما في "باب الإقرار" بالنسب والحاجة في الفصلِ إلى شَرْحِ مَسْأَلَتَيْنِ. " الْمَسْأَلَةُ الأولى" لو استلحقه عَبْدٌ، لَحِقَه، إنْ صَدَّقه السَّيِّدُ، وَإِنْ كَذَّبه، فكذلك نصَّ عليه هاهنا. وعن نصِّه في "الدَّعاوَى" أنَّه ليس أهْلاً لِلاسْتِلْحاقِ، فحَصَلَ قولان: أحدُهُما: المَنْعُ لما فيه من الإضْرَار بالسَّيِّدِ بسبب انقطاعِ الميراثِ عَنْه، لو أعْتَقَهُ. وأصحُّهُمَا: اللُّحُوقُ؛ لأنَّ العَبْدَ كالحُرِّ في أمْر النَّسَبِ، لإمْكَان العلوقِ منْه بالنِّكَاح، وبوطء الشَبهة، ولا اعتبارَ بما ذَكَره من الإضْرَار؛ ألاَ تَرَى أنَّ مَنِ استلحق أبْناً، وله أخٌ، يُقْبَلُ استلحاقه. ¬
المسألة الثانية
وَعنْ روايةِ الشَّرِيفِ نَاصِرِ العُمَرِيِّ طريقتان أُخْرَيَان: إحداهُما: القَطْعُ بالقَوْلِ الأَوَّلِ. والثانيةُ: القَطْعُ باللُّحُوقِ، إذا كَانَ مَأْذُوناً في النِّكَاح، ومضى من الزَّمانِ ما يحتمل حُصُول الوَلَدِ، وتخْصيص القَوْلَيْنِ بما إذاً لمْ يَكُنْ مَأْذُوناً، وَيَجْري الخلافُ فيما إِذا أَقرَّ العبْدُ بأخٍ أو عَمِّ. وفي "التَّتِمَةُ"طريقةٌ أُخْرَى قاطعةٌ بالمَنْع هاهنا؛ لأَنَّ لِظُهُورِ نسَبِهِ طَرِيقاً آخَرَ، وهو إقرارُ الأَبِ والجَدِّ، ويجري الخلافُ فيما لو استلْحَقَ حرٌّ عبْدَ غَيْرِهِ، وهُوَ بَالِغٌ، فصدَّقه لما فيه من قطْع الإرْثِ المُتَوَهَّمِ بالوَلاَء. وفي "النِّهَايَةِ" أَنَّ بعْضَ الأصْحَاب قَطَعَ بِثُبُوتِ النَّسَب هاهنا وقال الحر: مِنْ أَهْلِ الاستلحاقِ على الإطْلاَقِ، ويجْرِي الخلافُ فيما لو اسْتَلحَقَ المعْتقُ غَيْرَهُ. والقَوْلُ بالمِنْع هاهنا أَبْعَدُ لاِستقلالِهِ بالنكاح والتَّسَرِّي، وَإذَا جَعَلْنَا العَبْدَ منْ أَهْلِ الاستلحاقِ، فلا يُسلمُ اللقيطُ إليه؛ لأنَّه لا يتفرَّغُ لحضانَتِهِ وتَرْبيَتِهِ، ولا نَفَقَةَ عَلَيْهِ؛ لأنَّه لا مال له، وَيجُوزُ إعْلاَمُ قَوْلِهِ في الكتابِ. "فالصَّحِيحُ مِنَ القَوْلَيْنِ" بالواو لمَا حَكيْنَاه. المسألة الثانِيَة: إذا استلحقت المرأةُ موْلُوداً، وَأَقَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةً، لَحِقَها وَلَحِقَ زوْجَهَا، إن كانَت ذاتَ زوْج، وكانَ العُلُوقُ منْهُ مُمْكِناً، ولا يَنتفِي عَنْهُ إلا باللِّعَانِ، هذا إذا قيدت البينَّة بأنها وَلَدَتَهُ عَلَى فِرَاشِهِ. أمّا إذا لم يتعرَّضْ للفراش، ففي ثبوت نسبهِ من الزَّوْج وجهانِ، حكاهما الشَّيْخُ أبو الفرج الزاز، فإن لم تُقِمْ بينةً، واقتصرَتْ علَى مجرَّدِ الدَعوى، ففيهِ ثلاثَةُ أَوْجُهٍ: أحدها: أنها تقبل، ويلْحَقُها الوَلَدُ؛ لأنَّهَا أَحَدُ الأبَوَيْنِ، فصارَتْ كالرَّجُلِ وبل أوْلَى؛ لأنَّ جِهَةَ اللحوقِ بالرجلِ النكاحُ والوطئُ بالشُبهةِ، والمرأة تشارك الرجلُ فيهما، وتختص بجهة أخرى وهي الزنا. وأظهرهما: المنعُ، وبهِ قال أَبُو حَنِيْفَةَ، وتفارِق الرَّجُل من وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّه يمكنُها إقامةُ البيِّنةِ؛ على الوِلاَدَةِ من طريقِ المُشَاهَدَةِ، والرَّجُلُ لا يمكنه، فمسَتَّ الحاجةُ إلَى إثباتِ النَّسَبِ من جِهَتِهِ بمجرَّدِ الدعْوَى. والثاني، عن صاحب "التقريب": أنَّها إذا أَقَرَّتْ بالنَّسَبِ، فكَأَنَّها تقر بحقِّ عليها وعلَى غَيْرِها؛ لأنَّها فِرَاشٌ للزَّوْجِ، وقَد بَطَلَ إِقْرَارُهَا في حقِّ الزَّوْج؛ فبطل الجَمِيعُ: لأنَّ الإقرارَ الواحِدَ، إذا بَطَل بعضُهُ، بَطَل كُلُّهُ [ويقرب من] هذا قولَهُ في الكتابِ "لا لأنه
يتضمَّن استلْحَاقُهَا لُحُوقَ الزَّوْجِ" وفيهِ إشكالٌ؛ لأنَّ من أقَرَّ عَلَى نَفسِهِ وغيرِهِ بمالٍ يلزمُهُ في حقِّ نفسه، وإن لم يُقْبَلْ في حقِّ الغَيْرِ. والثالث: أنَّها، إن كانت ذاتَ زَوْجٍ، لَمْ يُقْبَل إقرارُهَا؛ لتعذُّر الإلحاق بها دون الزَّوْجِ، وتَعَذُّرِ قُبُولِ قولها على الزَّوْجِ. وعَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ كالوَجْهِ الأوَّلِ والثَالِثِ. وإذا قبلنا استلْحَاقَها، ولَهَا زوجٌ، فَفِي اللُّحوقُ به وجهان: أحَدُهُمَا، ويُحْكَى عن أبي الطيب بن سَلَمَة؛ اللحوقُ، كما لو قامَتِ البَيِّنَةُ. وأصحُّهُما، وهو الذي أَوْرَدَهُ المُعَظَمُ: المَنْع؛ وعلَيْهِ بُنِيَ توجيهُ القولين الأخيرَيْن؛ لأنَّه يحتمل أنَّها ولدَتْهُ مِنْ وطء شبهةٍ أو [من] زَوْجٍ آخَر. واستلحاق الأمةِ كاستلحاق الحُرَّةِ، إذا جوَّزنا استلحاقَ العبد، فإن قبلناه، فَهَلْ نحكم بِرِقّ الوَلَدِ لموْلاَهَا، أثبت صاحِبُ "التهذيب" فيه وَجْهَيْنِ، والَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وتابَعَهُ المتولِّي: المَنْعُ. قال الغَزالِيُّ: وَإِنْ تَدَاعَى اثْنَانِ مَوْلُوداً لَمْ يُقَدَّمْ حُرٌّ (ح و) عَلَى عَبْدٍ، وَلاَ مُسْلِمٍ عَلَى كَافِرٍ، بَلْ يُعْرَضُ عَلَى القَائِفِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ يُقَالُ لَهُ بَعْدَ البُلُوغِ (و) وَالِ مِنْ شِئْتَ، وَيُعَوَّلُ فِيهِ عَلَى مَيْلِ الجِبِلَّةِ، فَلَوْ رَجَعَ عَنِ اخْتِيَارِهِ لَمْ يُمَكَّنْ، وَلَوْ وُجِدَ بَعْدَهُ قَائِفٌ قُدِّمَتِ القِيَافَةُ عَلَى اخْتِيَارِهِ، فَإنْ قَامَتْ بَيِّنَة قُدِّمَتِ البَيِّنةُ (و) عَلَى حُكْمِ القَائِفِ، وَإِنْ أَقَامَ رَجُلاَنِ بَيِّنَةً عَلَى نَسَبِ مَوْلُودٍ تَهَاتَرَتَا وَأُقْرعَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلٍ وَيَبْقَى مُجَرَّدُ الدَّعْوَى، وَلاَ يُقَدَّمُ صَاحبُ اليَدِ إنْ كَانَ يَدُهُ عَنِ الْتِقَاطٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُن عَنِ الْتِقَاطِ وَكَانَ قَدْ سَبَقَ اسْتِلْحَاقُهُ قُدِّم عَلَى من يَسْتَلْحِقُهُ مِنْ بَعْدُ وَإِنْ لَمْ يُسْمَعِ اسْتِلْحَاقُهُ إِلاَّ عِنْدَ دَعْوَى الثَّانِي، وَفِي تَقْدِيمِهِ بِمُجَرَّدِ اليَدِ خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تَكَلَّمنا فيما إذا اسْتَلْحَقَ اللَّقِيطِ شخْصٌ واحدٌ، أمَّا إذا ادَّعَى نسبه اثنانِ، ففيه صُوَرٌ: إحداها: لو كان أحدُهُما حُرًّا، والآخرُ عَبداً، فإن لم نقبل استلحاقَ العبد، ألحقناه بالحُرِّ، وإلا، فهما سواءٌ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما أَهْلٌ، لو انفرد فأَشْبَهَا الحُرَّيْنِ. فيجوز أنْ يُعْلَمَ قولُهُ "حُرُّ على عَبْدٍ" بالواو؛ لأنَّ المذكورَ جوابٌ على قُبُولِ استلحاقِ العبد. وعِنْدَ أبي حَنِيْفَةَ الحُرُّ أَوْلَى من العَبْد. الثانيةُ: لَوْ كَان أحدُهُما مُسْلِماً، والآخرُ كَافِراً، فهما سواءٌ؛ لاسْتِوائِهِمَا في
استلحاق النَّسَبُ، وقدَّم أبو حنيفةَ المُسْلِمَ. وأَعْلِمْ قَوْلَهُ في الكتابِ "لَمْ يُقَدَّم" بالحاء لمذْهَبِهِ في الصورَتَيْنِ. الثالثة: لو اختصَّ أحدُ المتداعيين باليَدِ، نُظِرَ؛ إنْ كَانَ صَاحِبُ اليَدِ هُوَ المُلْتَقِطَ، لم يُقَدَّم؛ لأنَّ اليَدَ لا تَدُلُّ على النَّسَب (¬1)، ولكن، إن اسْتَلْحَقَا مَعاً، ولا بينة، فيُعْرَضُ الولدُ مَعَهُما على القَافَةِ، كما سَنْذكُر، وإنِ اسْتَلْحَقَهُ الملْتَقِطَ أوَّلاً، وحَكَمْنا بالنَّسَب، ثم ادَّعاهُ آخَرُ. ذكر الشافعيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه يُعْرَضُ مع الثاني علَى القَائِفِ، فإن نفاهُ عَنْهُ، بقي لاحقاً بالملْتَقِطِ باستلحاقِهِ، وإنْ ألحقه بالثاني، عُرِضَ مع المُلْتَقِطِ عَلَيْه (¬2)، فإن نفاه عنه، فهو للثَّاني، وإن ألحقه به أَيْضاً، فقد تعذَّر العَمَلُ بقَوْل القَائِفِ، فيُوقَفُ. وإنْ كانَ صاحِبُ اليَدِ غَيْرَ الملْتَقِطِ، فقد حَكَى الإمامُ وتَابَعَهُ المُصَنِّفُ؛ أَنَّهُ، إِنْ كَانَ قد اسْتَلْحَقَهُ، وحكمَ بالنَّسَب لَهُ، ثم جَاءَ آخَرُ وَادَّعَى نَسَبَهُ، لم يُلْتَفَتْ إلَيْه، لثبوتِ النَّسبِ من الأوَّلِ، معتضداً باليَدَ، وتَصَرُّفِ الآباءِ في الأولادِ، وإنْ لم يُسْمَعِ استلْحَاقُهُ إلاَّ بَعْدَما جاءَ الثَّاني، واستَلْحَقَهُ، ففيه وجهان: أحدُهُمَا: تقديمُ صاحِب اليَدِ، كما لَمْ يُقَدَّم استلحَاقُهُ. وأَشْبَههما: التساوِي؛ لأنَّ الغالبَ مِنْ حال الأَب أن يَذْكُرَ نَسَبَ ولَدِهِ، وَيشْهَرَهُ، فإن لم يَفْعَلْ، صارَتْ يدهُ كيَدِ الملْتَقِطِ في أنَّها لا تدُلُّ على النسب. الرابعة: إذا تَسَاوَيَا، ولا بَيِّنَة، عرض الولدُ على القائفِ، فبأيهما ألحقه، لَحِقَهُ، والقَوْلُ في مستَنَدِ القِيَافَةِ، وأحْكَامها له باب مفْرَدٌ، فإنْ لم يوجَدِ القائفُ أو تحَيَّرَ فيه، أو ألْحَقَهُ بِهِمَا، أو نفاه عنهما، تُرِكَ اللقيطُ حتَّى يَبْلُغَ، فإذ بَلَغَ، أُمِرَ بالانتساب إلى أَحَدِهِمَا، ولا ينتسبُ بمجَّردِ التَّشَهَّي، بل يعول فيه على ميْل الطَّبْع الذي يَجِدُهُ الوَلَدُ على الوالدِ، والقَرِيبُ إلى القريب، بحكم الجبلة، فيه وجه أَنَّه لا يُشْتَرَطُ البلُوغُ، بل يرجعُ إِلى اخْتيارِهِ، إذا بلَغ سِنَّ التمييز، كما يُخَيَّر حِينَئِذِ بَيْنَ الإَبَوَيْنِ في الحضانة. والمَذْهَبُ الأوَّلُ، وَفَرَقُوا بأنَّ اختيارَهُ في الحضَانَةِ لا يلْزَمُ، بَلْ له الرجوعُ عَنِ الاختيارِ الأَوَّلِ، وهَاهُنَا إِذَا انْتَسَبَ إِلَى أَحَدِهِمَا، لَزِمَهُ، ولم يقْبَلْ رجُوعُهُ. والصَّبِيُّ ليْسَ من أهْلِ الأمْوَالِ الملْزِمَةِ، وعَلَيْهما النفقةُ في مدَّة الانتظارِ (¬3)، فإذا ¬
انْتَسَبَ إِلَى أَحدِهِمَا، رَجَعَ الآخرُ عليه بما أَنْفَقَ، [ولو لَمْ ينتَسِب إلَى واحدٍ منهما؛ لفَقْد المَيْلِ، بقي الأَمْرُ مَوْقُوفاً] (¬1). ولو انتَسَبَ إلَى غَيْرِهِمَا، وأدَّعَاهُ ذَلِكَ الغَيْرُ، ثبت نسبُهُ منه، وفيه وجْهٌ، أنَّه إن كان الرُّجُوعُ إلَى انتسابِهِ بسبب إلْحَاقِ القَائِفِ بهما جميعاً، لم يُقْبَلِ انتسابُهُ إلَى غيرهِما، وإذا انتسبَ إلَى أحَدِهِمَا، لفقد القائف، ثم وُجِدَ، عَرَضْنَاهُ عَلَيْهِ، فإن ألحقَه بالثَّاني، قَدَّمْنَا قوله على الانتسابِ؛ لأَنَّة حُجَّةٌ أَو حُكْمٌ، وعن أبي إسْحَاقَ فيما رواه، أنَّ الانتسابَ مُقَّدمٌ، علَى قول القائف. قال: وعلَى هذا؛ فمهما أَلْحَقَهُ القائفُ بأَحَدِهِمَا، فللآخَرِ أن ينازعه، ويَقُولَ: يُنْتَظَرُ حتَّى يَبْلُغَ، فينتسب إلَى من يميلُ إلَيْه (¬2). ولو أَلْحَقَهُ القائفُ بأَحَدَهِمَا، ثُمَّ أَقَام الآخَرُ بَيِّنَةً، قُدِّمَتِ البِّينَةَ علَى قَوْلِهِ؛ لأنَّ البينَةَ حُجَّةٌ، يعتمد عليها في كلِّ خصومة. وقولُ القائفِ، وإنْ كان مَقْبُولاً، فمُسْتَنَدُهُ حَدْسٌ وتَخْمِينٌ، وعن أبي الحُسَيْن؛ أنَّ بعض الأصْحابِ قال: لا ينقض ما حكِمَ به، ولا يعمل بالبينة. ولو تداعَت امرأتانِ نَسَبَ لَقِيطٍ أو مجهولٍ آخَرَ، ولا بَيِّنَةَ، وفَّرَعْنَا علَى أَنَّ استلْحَاقَ المرأةِ مقْبُولٌ، ففي عَرْضِ الولد معهما على القائفِ وجهان: أحدُهُما: المَنْعُ؛ لأنَّ معرفةَ الأُمُومَةِ يَقِيناً بمشاهدة الولادة ممكنةٌ. وأصحُّهما، وقدْ نصَّ علَيْهِ: أنَّه يُعْرَضُ؛ لأنَّ القائِفَ حجَّةٌ أو حكمٌ؛ فكان كالبَيِّنَةِ، وعلَى هذا تَنْبَنِي تَجرِبَةُ القائِف وامْتِحَانُهُ عَلَى ما سيَأْتي بيانه في بابه، إن شاءَ اللهُ تَعَالَى. وإذا أَلْحَقَةُ القائفُ بأحدِهِما، وهي ذاتُ زَوْج، لَحِقَ زَوْجَهَا أَيْضاً، كما لو قامَتِ البينةُ. وَحَكَى الإِمامُ وجْهاً آخَر؛ أنَّه لا يَلْحقُهُ؛ لأنَّ قَوْلَ القائِفِ لا يصْلُحُ للإلحاق بالمُنْكِرِ؛ ألا ترى أنَّ القائفَ لا يحلق المنبوذ بمَنْ لا يَدَّعِيهِ. الخامِسَةُ: إِنْ أقَامَ كُلُّ واحدٍ منهما بينةً علَى نسبِهِ، وتَعَارَضَتا، ففي التعارُضِ في الأَمْلاَكِ قَوْلاَن: أظهرُهُما: التساقُطُ، وعلَى هذا؛ فيتساقَطَانِ هاهُنَا أَيْضَاَ، ويرجعُ إلَى قولِ القائِفِ وقيل: لا يتساقطان. ويُرَجَّحُ أحدُهُما بقَوْلِ القائف، عن صاحبِ "الحاوي" روايةُ، العبارةِ. ¬
الثانية عن ابن أبي هُرَيْرَة، والعبارةِ الأولَى عَنْ أبي إسحاقَ، وهو الأشْهَرُ، على أنَّ أصلَ العَرْضِ لاَ يَخْتَلِفُ. والثاني: أنَّهُمَا يستعمَلاَنِ، إمَّا بالتوقُّفِ أوْ بالقِسْمَةِ أو بالقُرْعَةِ على ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ مَعْروفةٍ: لا سَبِيلَ إلى التوقُّف هاهنا، لما فيه من الاضْرَارِ بالطِّفل، ولا إلى القسمةِ، فلا مجال لها في النسب. وأمَّا الاقتراع، ففيه وجهان: أَحَدُهُمَا، ويحكَى عن الشيخ أبي حامد: أنَّهُ يجري هاهنا، فيُقْرَعُ، ويُقدَّم مَنْ خَرَجَتْ قرعته، وهذا ما أورده في الكتاب. وثانيهما، وبه قال القاضِي أبو الطيِّب والأكثرون: المنْعُ؛ لأنَّ القُرْعَةَ لا تَعْمَلُ في النَّسَب، وهذا ما أورده الإمامُ وصاحبُ "التهذيب" ولو اختصّ أحدُهُما باليَدِ لمْ ترجَّحَ بينةٌ باليد بخلاف الأَمْلاَكِ، كما نُقدِّم فيها بيِّنةُ ذي اليَدِ؛ لأنَّ اليَدَ تدُلُّ على المِلْكِ. وفي "الإفصاح" للمسعوديّ، و"أمالي" أبي الفرج الزاز أنَّه لو أقَامَ أحدُهُمَا البيِّنةَ علَى أنَّه في يدهِ مُنْذُ سنةٍ، والثاني علَى أنَّه في يده منذ شَهْرَيْنِ، وتنازَعَا في نَسَبِه، فالتي هي أسبق تاريخاً أولى وصاحبُها مقدم، لكنَّ هذا كلام غيرُ مُهَذَّبٍ، فإنَّ ثبوت اليَدِ لا يقتضي ثُبُوتَ النسب، وإنْ فُرِضَ تعرُّض البينتين لنَفْسِ النَّسَب، فلا مجالَ فيه للتقدُّم والتأخُّرِ، وإنْ شَهِدَتَاَ على الاسْتِلْحَاقِ [فيبنى على أن الاستلحاقَ من شَخْصٍ، هل يمنع غَيْرَهُ مِنَ الاستلحاقِ] (¬1) بَعْدَه، وقد مَرَّ. وإنْ كان التداعِي بَيْن امرأتَيْنِ، وأقامتْ كلُّ واحدةٍ منهما البَيّنَةَ: قال الشافعيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أرَيْتُهُ القَافَةَ مَعَهُما، فبأيتهما ألحقته، لحقَهَا، ولَحقَ زوْجَهَا"، فمن الأصحاب مِنْ قال: هذا جواب على قوْل الاستعمال، وترجيحٌ لِقَوْلِ القائِفِ، كما يرجَّحُ في الأملاَكِ بِالقُرْعَةِ، وهذا يوافق ما مَرَّ [من] حكايتِهِ عن الشيخ أبي حامِد، وعلَى هذا؛ فيَلْحَقُ الزَّوْجَ لا مَحَالَةَ؛ لأنَّ الحُكْمَ بالبينة. ومنْهُمْ مَنْ قال: إنَّه جوابٌ عَلَى قولِ التَّهاتُرِ، وكأنَّه لا بَيِّنَةَ، فيرجعُ إلَى قَوْلِ القَائِفِ، وعلَى هذا، ففي لُحُوقِ الزَّوْجِ ما سَبَقَ من الوَجْهَيْنِ، ولنرجِعْ إلى ما يتعلَّق بلفظ الكتاب: قولُه "بل يعرف على القائف" معْلَمٌ بالحاء؛ لأنَّ أبَّا حنيفةَ -رحمه الله- قال: لا أَعْرِفُ القاِئفَ. ¬
وقولُه: "بَعْد البُلُوغ" بالواو لِمَا سَبَقَ، وقوله: "وال من شئْتَ" هذه اللَّفْظَةُ منْقولَةُ عن عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالها لغُلاَمِ أَلْحَقَهُ القَائِفُ بالمتنازِعَيْنِ مَعاً (¬1). وقولُهُ "قُدِّمَتِ القيافَةَ" وقولُهُ "قُدَّمَتِ البَيَّنَةُ" مرْقُومَانِ بالواو. وقولُهُ "تهاترتا، أَوْ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا علَى قَوْلٍ" أي: تهاتَرتا علَى قولٍ أو أُقْرعَ بَيْنَهُمَا علَى قَوْلٍ، ويجوز إعلامُ "وأقرعُ" للوجهِ الذي أورده الأكثرون. وقولُهُ "وَيبقَى مُجَرَّدُ الدَّعْوَى" أي: قوْلِ التهاتر، وإنْ كان هَذَا الكلامُ مَوْصُولاً بذِكْرِ الإقْراع. وقولُهُ "وَلاَ يُقَدَّم صاحبُ اليَدِ" يعني إذا تعارَضَ دَعْواهُمَا، لا بَيِّنَةَ عَلَى ما تَبَيَّنَ في الصُّورَةِ الثالثة. فأمَّا إذا أقاما البَيَّنَةَ علَى دعْوَاهُمَا، فلا يُقَدَّمُ صاحبُ اليَدِ إنْ كانَ ملْتَقِطاً أو غَيْرَهُ. (فرعان): أَلْحَقَهُ القائفُ بأحدِهِمَا، ثم أَلْحَقَهُ بالثَّاني لم ينقل إليه، إذ الاجتهادُ لا يُنْقَضُ بالاجتهادِ. الثاني: وَصَفَ أَحَدُ المتداعِيَيْنِ [حالاً أو] أَثَرَ جِرَاحَةِ أو نحوه بظَهْرِهِ أو بعض [أعضائه] (¬2) الباطنة وأصابَ، لا يُقَدَّم جَانِبُهُ. وعن أبي حنيفةَ فيما رواه الشَّيْخ أبو حامد في آخَرِينَ أنَّهُ يُقدَّم، ويثبتُ النَّسَب به، ومِنَ الأصْحَاب مَنْ أَقَامَ هذا الخلافَ فيما إذا تَنَازَعا في الالْتِقاطِ، وقالَ: كُلَّ واحِدٍ منْهُمَا: أَنَا الذي الْتَقَطْتُهُ. لنا القياسُ علَى الأملاَك المتنازَعَةِ، إذا وصفها أَحَدَهُمَا، وعلى اللُّقَطَةِ. قال الغَزَالِيُّ: وَلَو تَنَازَعَا في الحَضَانَةِ بِحُكْمِ الالْتِقَاطِ فَصَاحِبُ الَيِد أَوْلَى، فَإِنْ تَعَارَضَتِ البَيِّنَتَانِ تَسَاقَطَتَا (و) وَأُقْرِعَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلٍ، وَلاَ وَجْهَه لِلْقِسْمَةِ وَلاَ لِلتَّوَقَّفِ فَإِنَّ الصَّبيَّ لاَ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ. قَال الرَّافِعِيُّ: الغَرَضُ الآن الكلامُ فيما إذَا تَنَازَعَ اثْنَانِ في الْتِقَاطٍ، وولايةِ الحِفْظِ ¬
والتَّعهُّدِ، وهذا النِّزاعُ، إنْ كان قَبْلِ الأَخْذِ أو عِنْدَما أخذَاهُ، فقد سَبَقَ حُكْمُهُ. وإنْ قال كلُّ واحِدٍ منهما: أَنَا المُلْتَقِطَ، وَأَنَا الذي عَلَىَّ حِفْظُهُ، فإمَّا أنْ يَخْتَصَّ أَحَدُهُمَا باليَدِ أو لا يختصَّ، وإنِ اخْتَصَّ، فالآخر يقول: إنَّه أخَذَه منِّى، فالقولُ قَوْلُ صاحِب اليَدِ مع يمينِهِ، فإنها تَشْهَدُ لقولهِ، وإنْ أقامَ كُلُّ واحدٍ منْهُما بيِّنةً، فَبيِّنَةُ صَاحِب اليَدِ مُقدَّمةٌ، وإنْ لم يختصَّ أحَدُهُمَا باليدِ فَيُنْظَرُ؛ إن لم يكن في يدِ واحدٍ منهما، فهُوَ كما لو أخذاه معاً، وتشاحَّا في حفظِهِ، فَيَجْعَلُهُ الحاكمُ عنْدَ من يراه أو مِنْ غيرهما، وإنْ كانَ في أيْدِيهِمَا، فإنْ نكلا أو حَلَفَا، فالحُكْمُ كما ذكرنَا فيما إذا ازْدَحَمَا علَى الأَخْذِ، وهما متساوِيا الحَالِ. وإنْ حلَفَ أحدُهُمَا دُون الآخَرِ، خُصَّ به، وسَوَاءٌ كان في يَدِهِمَا أو لم يكُنْ في يدِ واحدٍ منهما، فلو أقام كلُّ واحدٍ منهُما البَيِّنَةَ علَى ما يَدَّعِيهِ، نُظِرَ؛ إن كانت البينتان مُطْلَقَتَيْن، أو مقيَّدَتَيْنِ بتارِيخٍ واحدٍ، أو إحداهما مُطْلَقَةً، والأخْرَى مقيدةً، فهما متعارِضَتَانِ. فإن قلْنا: بالتهاتُرِ، فكأنَّهُ لا بَيِّنةَ، وإنْ قلنا بالاسْتِعْمَالِ لِم يجئ قولُ الوَقْفِ، ولا قَوْلُ القسمةِ، ويجيء قوْلُ القُرْعةِ، فنقرع، ويُسَلَّمُ إلَى مَنْ خرَجَتْ قرعَتُةُ، وإنْ قُيِّدَتَا بتارِيِخَيْنِ مختلِفَيْن، حُكِمَ لِمَنْ سبَقَ تاريُخُه بخلافِ المَالِ، حيثُ لا يُحْكَمُ بسبق التاريخ في أَصحِّ القَوْلَيْنِ (¬1). وفرقوا بأنَّ أمرَ الأموالِ مبنىٌّ عَلَى الانتقالِ، فربَّما أنتَقَلَ عن الأول إلى الثاني، ولَيْسَ كذلك الالتقاطُ، فإنَّه لا ينتقل، ما دامَتِ الأهليَّةُ باقيةً، فإذا ثَبَتَ السَّبْقُ، لزمَ اسْتِمْرَارُهُ. قال الشيخُ أبو الفرجِ الزاز: هذا إذا قلْنا: إنَّ من التقط اللَّقِيطَ، ثم نَبَذَهُ، لَمْ يَسْقُطْ حقُّهُ، فإنْ أسقَطْنَاه، فهو على القولَيْنِ في الأموال؛ لأنَّه ربما نَبَذَه الأوَّلُ، فالْتقَطَهُ غَيْرُهُ، وهذا حَسَنٌ، ويَتفرَّع علَى تقدِيم البيِّنةِ المتعرّضةِ للسَّبْقِ ما إِذَا لو كانَ اللَّقِيطُ في يَدِ أحَدِهِمَا، وأقَامَ مَنْ هو في يده البَيِّنَةَ، وأقامَ الآخَرُ البَيِّنَةَ علَى أنَّه كان في يده، انتزَعَهُ منْهُ صاحبُ اليد، فقدم بيِّنةُ مدَّعِي الانتزاعِ لإثباتها السَّبق. قاله الغَزَالِيُّ: (الحُكْمُ الرَّابعُ) رِقُّهُ وَحُريَّتُهُ، وَلَهُ أَرْبَعُ أَحْوالٍ: (الحَالَةُ الأُولَى) إِذَا لَمْ ¬
يَدَّع أَحَدٌ رِقَّهُ فَالأَصْلُ الحُرِّيَّةُ، وَيُحْكَمُ بِهَا في كُلِّ مَا يُلْزِمُ غَيْرَهُ شَيْئاً فَنُمَلِّكُهُ المَالَ وَنُغَرِّمُ مَنْ أتْلَفَ عَلَيْهِ، وَمِيراثُهُ لبَيْتِ المَالِ، وَكَذَلِكَ أَرْشُ جِنَايَتِهِ في بَيْتِ المَالِ، وَإِنْ قَتَلَهُ عَبْدٌ قُتِلَ بِهِ (و)، وَإِنْ قَتَلَهُ حُرٌّ فَقَدْ قِيلَ: يَجِبُ القِصَاصُ، وَقِيلَ: يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَاحْتِمَالِ الرِّقِّ ويَبْقَي الدِّيَةُ، وَقِيلَ: يَجِبُ أَقَلُّ الأَمْرَيْنِ مِنَ الدِّيَةِ أَو القِيمَةِ فَإنَّهُ المُسْتَيْقَنُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مِنْ أحْكَامِ اللَّقِيطِ الرِّقُّ والحُرِّيَّةُ، واللَّقِيطُ لا يخْلُو، إمَّا أن يُقِرَّ علَى نفسه بالرِّقِّ في وقْتِ اعتبار الإقْرار أو لا يُقِرَّ. وعلى التقدير الثاني؛ فإمَّا أنْ يدَّعِيَ رِقَّةَ مدَّعٍ أو لا يدَّعِيَهُ أحدٌ. وعلى التقديرِ الأوَّلِ؛ فإمَّا أن يُقِيمَ علَيْهِ بينةً أو لا يُقِيمَ، فَيَخْرُجُ من هذا التقسيمِ أربعة أحوالٍ، كما ذَكَرَ في الكتابِ: الأُولَى: إلاَّ يُقِرَّ ولا يُدعى رِقُّهُ، فظاهر حَالِهِ الحُرِّيَّةُ؛ لأنَّ الآدَمِيِّينَ خُلِقُوا ليُسَخِّروا لا لِيُسَخَّرُوا، وأَيْضاً، فأغلبُ الناسِ أحْرَارٌ (¬1). وأيضاً، فإنَّ الأحرار أهلُ الدَّارِ، والأَرِقَّاءَ. مَجْلُوبُونَ إلَيْهَا لَيْسُوا من أهْلِهَا، فكَما نحْكُم بالإسْلاَم بظاهِرِ الدَّار، نحْكُم بالحريةِ، وقد ذَكَرْنَا أنَّ مِنَ الأصْحاب مَنْ لا يَجْزِمُ بالإسْلاَم، ويذْهَبُ إلى التوقُّف، وذلك التردُّدُ فيما حكَاهُ الإمامُ يجري فيَ الحرِّيَّةِ، وهي أَوْلَى بالتردُّدِ في الإِسلامِ، لقوَّة الإسْلام، واقتضائه لِلاستتباعِ، ولذلك يتبع الوَلَدُ أيَّ الأبوَيْنِ، كان في الإِسلام دون الحُرِّيَّةِ، ويتبع المسْبِىُّ السَّابِيَ في الإِسلام دُونَ الحريَّةِ، ثم ذَكَرَ تفْصيلاً متوسِّطاَ ينحل من مقالات الأصحاب في المَسَائِل المَبْنِيَّةِ علَى هذا الأصْلِ، وهو أن نجزم بالحريَّةِ، ما لم يَنْتَهِ الأمرُ إلَى إلزامِ الغير شيئاً، فإذا انْتَهَى إليه، تردَّدْنَا، إن لم يعترف الملتزمُ بحريَّتِهِ، وهذا ما أشار إلَيْه صاحبُ الكتاب بقولِه "فيُحْكَمُ بها في كُلِّ ما يُلْزِمُ غَيْرَهُ شَيْئاً" فيخرجُ من ذلك أنَّا نحْكُمُ لَهُ بالمِلْكِ فَيما يصادِفُه معَهُ جزماً، وإذَا أَتْلَفَهُ عليه مُتْلِفٌ، أخَذْنَا الضَّمانَ وَصَرَفْناهُ إلَيْه؛ لأنَّ المَالَ المعْصُومَ مِضمونٌ، على المتلف، فلَيْس أخذُ الضَّمانِ بِسَبَب الحرِّيَّة، حتى يأتي فيه التردُّد، إذا أَخَذْنَاهُ فلا عوض للمتْلِفِ في أنْ يصرِفَهُ إلى اللقيط أَو لا يصرفه. ¬
وقوله: "وميراثُه لبَيْتِ المالِ" وكذلك "أرشُ جِنَايَتِهِ في بيتِ المالِ"، هذا قد ذكره مَرَّةً في أوَّل الحُكْم الثاني، وكَأَنَّ الغَرَضَ من إعادَتِهِ هاهنا بَيانُ أنَّه كما لاَ يمتنعُ ذَلِكَ بالتردُّدِ في إسلامِهِ، لا يمتنعُ بالتردُّد في حريتهِ. قال الإمامُ: ويُحْتَمَلُ أن يُخَرَّج على التردُّدِ المذكورِ؛ لأنَّ مال بيْتِ المَال معصومٌ مضمونٌ به لا يُبْذَلُ إلا عَنْ تَحْقِيق، وإذا قُتِلَ اللقيطُ، فَقَدْ قلنا في وُجوب القصاصِ قولَيْنِ، واختلافَ الأصحاب في (¬1) مأْخَذِهَا، وينضمُّ إليها التردُّدُ في الحريَّة، فمن لا يَجْزَمُ القولَ بإسْلامه وحريته، لا يوجبُ القِصَاص علَى الحُرِّ المسْلِم بقَتْلِهِ، ويوجبه على الرَّقيقِ الكافر، ومن يَجْزِمُ بهما، يُخَرِّج وجُوبَ القِصاصِ بكُلِّ حاَلٍ على القولَيْن؛ بناءً علَى أنَّه لَيْسَ له وارثٌ معيَّنٌ. وإن قيل خطأَ، فالواجبُ الديَةُ في أظْهرِ الوجْهَيْن؛ أَخْذاً بظاهِرِ الحُريَّةِ، وأقلّ الأمرَيْنِ من الدِّيَةِ أو القيمةِ في الثانِي؛ بناءً على أنَّ الحرية غَيْر مستَيْقَنَةٍ، فلا يؤاخَذُ الجاني بما لا يستيقن شَغْلُ ذِمَّتِهِ به. قال الإمامُ: وقياسُ هذا أنْ يوجَبَ الأقلُّ من قيميه عبداً أو ديةَ مجوسيٍّ؛ لإمكان الحمل على التمجُّس، والخلافُ كالخلاف فيما إذاً قذفِه بَعْدَ البلوغ قاذفٌ، وادَّعَى رِقَّهُ، هل يُحَدُّ، وقد يُرَتَّبُ الخلافُ في القصاصِ على الخلافِ في الدِّيَّةِ، فيقال: إنْ لم يُوجِب الديةَ، فالقصاصُ أوْلى، وإنْ أوجبنَاهَا، ففي القصاصِ وجْهان؛ لسقوطِهِ بالشُّبهة، وإذا جَمَعَ بَيْنَهُما، حَصَلَ ثلاثةُ أوجه كَما ذكر في الكِتابِ. ثالثها: وجوبُ الديةِ دون القِصاصِ وقوله: "وإنْ قتله عبدٌ قُتلَ بهِ وإن قتَلَه حرٌّ" إلى آخره يَنْبَنِي علَى وجوبِ القصاص بقتل مَنْ لاَ وَارِثَ له، فإنْ لم نوجِبْ، فلا فرقَ بين أن يكونَ القاتلُ عبداً أو حرّاً، فيجوزُ أن يُعْلَمَ قوله قُتلَ بالواو. قال الغَزَالِيُّ (الحَالَةُ الثَّانِيَةُ) أَنْ يُدَّعىَ رِقُّهُ، فَلاَ يُقْبَلُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ غَيْر صاحِبِ اليَدِ، وَلاَ مِنْ صَاحِبِ اليَدِ إِذَا كَانَ يَدُهُ عَنِ الالْتِقَاطِ، وَإِنْ لَم يَكُنْ فَيُحْكَمُ (و) لَهُ بِالرِّق ظَاهِراً، فَإِنْ بَلَغَ وَأَنْكَرَ فَفِي انْتِفَاءِ الرِّقِّ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الحالةُ الثانية أن يُدَّعَى رقُّه، وَلا بينة، وَمن ادَّعَى رِقَّ صغيرٍ لا تتيقَّنُ حرِّيَّتَهُ، سُمِعَتْ دعواهُ؛ لإمكانها، ثم لا يَخْلُو؛ إما أن يكون الصغيرُ في يده أو لا يكونَ، إن لم يكُنْ في يدهِ، لم يقبْل قوله، واحتاج إلى البَيِّنَةِ؛ لأنَّ الظَّاهِرَ الحُرِّيَّةُ، فلا يُتْرَكُ، إلا بحجَّةٍ بخلاف دعْوَى النَّسَب؛ لأَنَّ في قَبُولِها مصْلَحةً للطُّفْلِ، وإثباتَ حقٍّ له، ¬
وهاهنا في القُبُول إضرارٌ به وإثباتٌ رقٍّ عليه، ولأنَّه لا نَسَبَ لَه في الظَّاهر، فلَيْسَ في قَبُول قولِ المُدَّعِي ترْكُ أمْرٍ ظاهرٍ، والحريَّةُ محْكُومٌ بها ظاهرًا، وإنْ كَانَ الصَّغيرُ في يده، فاليَدُ، إمَّا التي عَرَفْنَا استنادها إلى الْتقاطِ المنَبُوذِ، وإِمَّا غَيْرُها، إن كانَتِ الأُولَى، ففيها قولان: أحدُهُما: أنه يُقبَل قولُهُ، ويُحْكَمُ له بالرِّقِّ، كما في غيرِ يَدِ الالتقاطِ، وكما لو التقط مالاً، وادَّعَى أنه له، وَلا مُنَازعَ، يُقْبَلُ قولُهُ، حتَّى يُجوزَ شِراؤُهُ منْهُ. وأصحُّهما: وهو المذكورُ في الكتاب: أنَّه لا يُقبلُ قوله "ويحتاج إلى البينةِ؛ لأنَّ الأصلَ الحريةُ، فلا يخالفُ بمجردِ الدعوَى، ويخالف مَا إِذَا كانَت اليدُ لاَ عن التقاط، كما سيأتي. وأما إذا ادَّعَى ملكَ المال الملتقط؛ لأنَّ المالَ مَمْلوكٌ، ولَيْسَ في دعْوَاهُ [تغيُّرُ صِفَةِ المالِ، واللَّقِيطُ حرٌّ ظاهرٌ، وفي دَعْوَاهُ] (¬1) تغْييرُ هذه الصفة، وإنْ كانَتِ الثانيةُ، فَيُحْكَمُ لصَاحِبِها بالرِّقِّ الذي يدَّعِيهِ؛ لأنَّ الظاهِرَ أنَّ مَنْ في يدِهِ، وهو متصرِّفٌ فيه تصرُّف السَّاداتِ في العَبيدِ، مَلَكَهُ، ولم يَعْرِفُ حُدُوثَها لِسَبَبٍ لا يقْتَضِي المِلْكَ، ولا فَرْقَ بين أنْ يَكُونَ الصغير مُمَيِّزاً أو غَيْرَ مُميِّزٍ، مُقّراً أو مُنْكِراً على أَصحِّ الوَجْهَيْنِ. والثاني: ويُحْكَى عن أبي إسحاقَ: أنَّه، إن كان مميزاً منْكِراً، أحتاج المدَّعي إلى البَيِّنَةِ؛ لأنَّ لكلامِهِ حُكْماً، واعتباراً في الجُمْلة. قال الشيخ أبو عَلِيٍّ: والوجهان مبينَّانِ على الوجْهَيْنِ في الموْلود، إذا ادَّعاه اثْنَانِ، ولا قائِفَ، هل يُؤْمَرُ بالانْتِسَابِ؛ لِسِنِّ التَّمْييزِ، أمْ يُنْتَظَرُ إلَى أن يبلغ؟ وفي الخُنْثَى المُشْكِل، هل يُراجَعُ؛ لسنّ التمييز أم يُنْتَظَرُ الَبُلُوغُ، ثم يحلف المدَّعَي، والحالةُ هذه؛ لخَطَرِ شأْن الحرّيَّة، وهو واجبٌ أو مستحبُّ، فيه خلافٌ، والأول, هو الذي يُحْكَى عَنِ النَّصِّ. ثم إذا بَلَغَ الصبيُّ، وأقرَّ بالرِّقَّ لغَيْرِ صاحبِ اليَد، لم يُقْبَلْ، وإن قال: أَنَا حُرٌّ, فوجهان: أحَدُهَمَا، وبهِ أجاب ابن الحدَّادِ: أنَّه لا يُقْبَلُ قولُهُ، إلاَّ أن يقيم بَينةً على الحريةِ؛ لأنَّا قد حَكَمْنا برقِّهِ في حالِ الصِّغَرِ، فلا يُرْفَعُ ذلك الحُكْمُ إلاَّ بحجَّةٍ، لكنْ لَهُ تحليف السَّيِّد، قاله في "التهذيب". والثاني، وبه قال أبو عليٍّ الثقفيُّ: أنَّه يُقْبَلُ قولُهُ، إلا أن يقيم المُدَّعِي للرِّقِّ بينةً عَلَى رقه؛ لأنَّ الحُكْمَ بالرِّقِّ، إنما جَرَى حِينَ لا قَوْلَ لَهُ، ولا منازَعَةَ، فإذا صارَ مُعْتَبَرَ ¬
فرعان
القَوْلِ، فلا بدَّ من إقْرارِهِ أو البيَّنَةِ علَيْهِ، كما لو ادَّعَى مُدَّع رِقَّ بالغ، وهما كالوجْهَيْنِ، فيما إذا استلحقَ صغيراً، فبلغَ وأنْكَرَ، والوجهان في المسألَتَيْنِ مبنيَّان عنْدَ الشَّيْخ أبي عليٍّ، والأئمَّة على القَوْلَيْنِ فيمَنْ حُكِمَ بإسْلاَمِهِ بأَحَدِ أبَويْهِ أو بالسَّابي، ثم بَلَغَ، وأَعْرَبَ بالكُفْر، يُجْعَلُ مُرْتداً، أو يجعل كافرًا أصليًّا، ويقال: إنَّه الآنَ صَارَ منْ أهْلِ القَوْلِ، فُيْرجَعُ إلَى قوله، ولا يُنْظَرُ إلَى حُكْمِنَا به من قَبْل؟ " فرعان": أَحَدُهُمَا: رَأَى صَغِيراً في يدِ إنْسَانٍ، يأْمُرُهُ وَينْهَاهُ، ويستَخْدِمُةُ، هَلْ له أن يَشْهَد له بالمِلْك؟ عن أبِي عليٍّ الطبريِّ: أنَّه عَلَى وجْهين، وعند غيره أنَّه، إنْ سَمِعَهُ يقول: هو عَبْدِي، أو سَمِعَ النَّاسَ يقولون: إنه عَبْدُهُ، شهد بالمِلْكِ، وإلاَّ، فلا (¬1). الثاني: رَأَى صغيرةً في يَدِ إنْسانٍ يدَّعي نِكَاحَها، فَبَلَغَتْ، وأَنْكَرَتْ، قُبِلَ قَوْلُها، واحتاج المدَّعي إلى البينةِ، وهل يُحْكَمُ في صِغَرِها بالنِّكاح؟ عن ابن الحدَّاد: أنَّه يُحْكَمُ، والأصَحُّ المنع، وفَرَقُوا بأنَّ اليدَ في الجملةِ دَالَّةٌ على الملْكِ، ويَجُوزُ أنْ يُولَدَ المَوْلُودُ، وهو مملُوك، ولا يجوزُ أنْ تُولَدُ، وهي منكوحةٌ، فالنِّكاحُ طارِئٌ بكلِّ حالٍ، فافتَقَرَ إلى البيَّنةِ. وقولُه في الكتاب "أن يُدَّعَى رِقُّهُ" لا يُمْكِنُ صَرْفَ الكتابةِ إِلى اللَّقِيط؛ لأنَّه لا يَنْتَظِمُ حينئذٍ التَّفْصِيلُ، والفَرْقُ بين أنْ يكُونَ اليدُ عن التقاطِ أو لا عن التقاطِ، بل هي ¬
مصروفةٌ إلَى الصّغير، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ، ويجوزُ أنْ يُعْلَم قَوْلُهُ "يُحْكَمُ لَهُ بالرِّقِّ ظاهرًا" لأنَّ القاضِيَ ابنَ كج حَكَى وجهًا؛ أنَّ دعْوَى الرِّقِّ من صاحبِ اليدِ لا [يُمْكِنُ أن] تقبل إلاَّ بالبَيِّنةِ، وإنْ لم يكنْ يَدهُ عنِ الْتقاطٍ. قال الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثَةُ) أنْ يُقيمَ المُدَّعِي بَيِّنَةَ عَلَى الرِّقِّ مُطْلَقًا، فَفِيهِ ثَلاَثةُ أَقوَالٍ: (أَحَدُهَا): أنَّهُ يَسْمَعُ كَبَيِّنَةِ المالِ (وَالثَّانِي): لاَ لأنَّهُ رُبَّمَا يَسْتَنِدُ إِلَى ظَاهرِ يَدِ الالْتِقَاطِ (وَالثَّالِثُ): أنَّهُ لا يَقْبَلُ مِنَ المُلْتَقِطِ وَيَقْبَلُ مِنْ غَيْرِهِ لِسُقُوطِ هَذَا الخَيَالِ، فَإنْ شَرَطْنَا التَّقْيِيدَ فالمُقَيَّدُ بأَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى شِرَاءٍ أَوْ إِرْثٍ أَوْ سَبْيٍ أَوْ يَقُولَ: وَلَدتْهُ مَمْلُوكَتِي عَلَى مِلْكِي، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ وَلَدَتْهُ مَمْلُوكَتِي فَقَدْ قِيلَ: لاَ يَكْفِي (و) لأنَّهُ قَدْ تَلِدُ المَمْلُوكَةُ حُرّاً، والأَصَحُّ أنَّهُ يَكْفِي إِذِ القَصْدُ قَطْعُ احْتِمالِ الاسْتِنَادِ إِلَى ظاهِرِ اليَدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الحالية الثالثة: أنْ يَدَّعِيَ رقَّهُ مُدَّعٍ أو يُقِيمَ عَلَيْه بينةً، حيثُ يحتاجُ مُدَّعِي الرِّقِّ إلى البينةِ كما فصَّلْنَاه، فهَلْ يُكْتَفَى بإقامةِ البَيِّنةِ على الرِّقِّ أو الملْكِ مطلقاً؟ فيه قَوْلانِ: أحدُهما: نَعَمْ، كما لو شَهِدَتِ البينةُ علَى الملْك في دارِ أو دابَّةٍ أو غيرهِمَا مِنَ الأموالِ، يكفي الإطْلاقُ، وهَذا ما اختارهُ المُزنِيُّ. ويُحْكَى عن نصِّه في "الدعاوى والبينات" وفي القديم والثاني، وهو المَنْصُوصُ هاهنا أنَّه لا يكتفي بها؛ لأنَّا لا نَأْمَنُ أنْ يكُونَ اعتمادُ الشاهِدِ علَى ظَاهرِ اليَدِ، وتكُون اليَدُ يَدَا الْتقِاطٍ، وإذا احْتُمِلَ ذلك، واللَّقِيطُ محكومٌ بحرِّيتِهِ بظاهِرِ الدارِ، [فلا يُزَالُ ذلك الظاهر] (¬1) إلاَّ عن تحقِيقِ، ويخالف سائرَ الأموال؛ لأنَّ أَمْرَ الرِّقِّ خَطِيرٌ، وهذا أَصَحُّ فيما ذَكَرَهُ الإمامُ وصاحِبُ التَّهْذِيب والقاضي الرُّويانيُّ وآخَرُونَ، ومنْهم مَنْ رَجَّحَ الأوَّل. قال القاضي ابنُ كج والشَّيْخُ أبوَ الفَرَج الزاز: ويؤيدَّهِ أنَّ منَ الأصحاب مَنْ قَطَعَ بالقَوْلِ الأوَّل، ولمْ يُثبِتِ الثاني، وَحَمَلَ نصَّهُ هاهنا عَلَى الاحتياطِ، ولمَنْ قَاَلَ به أنْ يَحْتجَّ بأنَّ قِيَامَ البَيِّنةِ على مُطْلَقِ المِلْكِ ليسَ بأقلَّ مِنْ دَعْوَى غَيْرِ المُلْتَقِطِ رقَّ الصغيرِ في يَدِهِ (¬2)، فإذا اكتفَيْنَا به، جاز أن يُكتَفَى يالبينةِ على المِلْكِ المُطْلَقِ. (التفْريعُ): إنْ لم نكتف بالبينةِ المطْلَقةِ شَرَطْنَا تَعَرُّضَ الشُّهود لسَبَبِ الملْكِ مِنَ الإرْثِ والشراء أو الاَّيهَابِ ونَحْوِهَا. ومن الأسبابِ أنْ يَشْهَدَ بأنَّ أَمَتَهُ ولَدَتهُ مملوكاً له، فإن اقتصرُوا عَلَى أن أمته ولَدَتْهُ ¬
أو أَنَّه وَلَدُ أمَتِهِ، فالذي نَقَلَهُ المُزنيُّ هاهنا أنَّه يكْفِي. وقال في "الدعاوَى والبَيِّنَاتِ": إنْ شَهِدَتِ البينةُ أنه ابنُ أَمَتِهِ، وَلَدَتْهُ في ملْكِهِ، قبلت، فقَالَ الأكْثَرُونَ: فيه قولان: أحدُهُما: أنَّه لا يَكْفِي ذلك؛ لأنَّه إذا اشْتَرَى جاريةً قد وَلَدَتْ أوَّلاً، فصدق أن يُقالَ: إن أمَتَهُ وَلَدَتهُمْ، ولَيْسُوا مِلكاً لَه، وأيْضاً، فإن أَمَتَهُ قد تَلِدُ حُرَّا بالشُّبهةِ، وفي نِكاحِ الغرور. وقد يَلِدُ مملوكًا للغَيْر بأن أَوْصَى بحَمْل جاريتهِ للغير، وماتَ فهو للوارث، والذي يَلِدُهُ للمُوصَى لَهُ. وَأَصَحَّهما: عَلَى ما ذكر [هـ] في الكتاب: الاكتفَاءُ بهِ؛ لأَنَّ المقْصُودَ العِلْمُ بأنَّ شَهادَتهُمْ لَم تستنِدْ إلى ظاهر اليَدِ، وقد حَصَلَ هَذا الغَرَضُ أَيْضاً، فإن الغالِبَ أنَّ وَلَدَ أَمَتِهِ مَلَكَهُ. ومنهُمُ مَن قَطَعَ بالقَوْلِ الثَّانِي، وجَعَلَ ما ذَكَرَهُ في "الدَّعَاوَى" تأكيداً، ولو شَهِدَتِ البينةُ بأنَّ أَمَتَهُ وَلَدتْهُ في ملكهِ، فإطلاق الجَمهورِ الاكتفاءُ به. وقال الإمَامُ: لا يُكْتَفَى به تَفْريعاً عَلَى وجُوب التَّعرُّضِ لِسَبَبِ الملْكِ؛ لأنَّهِ قد تَلِدُ أَمَتُهُ في مِلْكِهِ حُرّاً أو مَمْلوكاً للغَيْرِ عَلَى ما بَيَّنَّاهُ، وهذا حقٌّ، ويُشْبِهُ أَلاَّ يكونَ فيهِ خِلاَفٌ، ويكون قولُهُم "في ملْكِهِ" مصْرُوفاً إلى المولدِ بمثابةِ قَوْلِ القَائِل "وَلَدَتْهُ فِي مَشِيمَةٍ، لا إلى الولادةِ ولا إلى الوالدة"، وحينئذٍ لا فَرْقَ بينه وبَيْنَ قولِهِمْ "وَلَدَتهُ مَمْلُوكاً [لَهُ] "، وعلى القوَلْينِ تُقْبَلُ هذه الشهادةُ من رَجُلِ وأمْرَأَتَيْنِ؛ لأنَّ الغَرَضَ إثْبَاتُ المِلْكِ، وإذَا اكْتَفَيْنَا بِالشَّهادةِ عَلَى أَنَّه وَلَدَتْهُ أَمَتُهُ، فنقْبَلُ مِنْ أَربَعَ نِسوَةً أيضًا؛ لأنَّها شهادةٌ على الْوِلاَدَةِ، ثم يَثْبُتُ المِلْكُ في ضمنها، كما يَثْبُتُ النَّسَبُ في ضمن الشَّهَادة عَلَى الوِلاَدَةِ، ولو شَهِدَتْ عَلَى أنَّه مِلْكُهُ وَلَدَتْهُ أَمَتُهُ، فعَنِ القَاضِي الحُسَيْن أنَّه يَثْبُتُ المِلْكُ والولادَةُ، وذِكْرُ المِلْكِ لا يَمْنَعُ من ثُبُوتِ الولادة، ثم يَثْبُتُ المِلْكُ ضمْنًا لا بتصريحهِنَّ. لو شَهِدَتِ البينةُ لِمُدَّعِي الرِّقِّ باليد؟ قال في "المهذَّب": إنْ كان المُدَّعِي الملتقط، لم يُحْكَمْ له، وإِنْ كان غَيْرُهُ؛ فقولاَنِ: وفي "الشَّامِل" وغيرِهِ ما هو أقْوَمُ وأَحْسَنُ منْ هذا، وهو أنَّ المُدَّعِيَ، إذَا أَقامَ البينةَ علَي أنَّه كَانَ في يَدِهِ قَبْلَ أنْ يَلْتَقِطَهُ المُلْتَقِطُ، قُبِلَتْ، وثَبَتَتْ يَدُهُ، ثم يُصَدَّقُ في دَعْوَى الرِّقِّ، لما مرَّ أن صاحِبَ اليد على الصَّغِير إذا لم يعرف أنَّ يده عنِ الْتِقاطٍ، يُصَدَّقُ في دَعْوَى الرِّقِّ، وبمِثْلِهِ أَجَابَ صاحبُ "التهذيبِ" فيما إِذَا أَقَامَ المُلْتَقِطُ بَيِّنَةً على أنَّه كانَ في
يَدِهِ قَبْلَ أنِ الْتَقَطَهُ، لَكِنْ رَوَئ القاضِي ابْنُ كَج في هذه الصُّورَةِ عنِ النصِّ أنَّه لا يُرَقُّ حتَّى يقيم البَيِّنَةَ عَلَى سبب المِلْك، ووجهه بأنَّه إذا عُرِفَ بأنَّه التَقطه، فكأنَّه أقَرَّ له بالحرِّيَّة ظاهراً، فلا تُزَالُ إلاَّ عن تحقيق. جئْنا إلَى ما يتعلَّق بلفظ الكتابِ: قوله "فيه ثلاثةُ أقْوالٍ" يجوز إعلامُهُ بالواو؛ للطريقة القاطِعَةِ بالاكتفاء. وقوله "كبينةِ المالِ" يعني في سائرِ الأموال، وإلاَّ فالعَبْدُ مالٌ أيضاً. وأمَّا القَوْلُ الثَّالِثُ، وهو الفرق بَيْن الملْتَقِطِ وغَيْرهِ في الاكْتفاءِ بالبينةِ المطْلَقَة، فَهَذَا لا ذِكْرَ لَهُ في كُتُب الأصحَابِ، لكنه مخرَّج مما ذكرُوهُ، ومِنْ كَلاَم الإمَامِ لا بُدَّ من حِكايَتِهِ، وذلك أنَّه حَكَى فيما إذَا ادَّعَى المُلْتَقِطُ رقَّهُ, القَوْلَيْنِ كما قدَّمَنا، ثم قالَ: إنَّ المُزَنِيُّ لَمَّا نَقَلَ عَن الشافعيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- اشتِراطَ تَقْييدِ البينَّةِ على الملتقط، حَكَى نصّاً آخَرَ، وهو أنَّه قال: إذا التقط الرَّجُلُ منبوذاً، وجاء آخَرُ، وقَالَ: هذ اللَّقِيطُ مِلْكِي، كَانَ في يَدِي قَبْلَ الالْتقَاطِ، فأقام بَيِّنَةً عَلَى أنَّه مِلْكُهُ مُطْلَقًا، قُبِلَتِ الشهادةُ وَنَظَمَهُما قَولَيْنِ، واخْتارَ أَحَدَهُما. قال: وهَذَا مأخوذٌ علَيْهِ، فإنَّ النَّصَّ الأَوَّلَ في المُلْتَقِطَ. والثاني: في غَيْرِ المُلْتَقِطِ، وَلَيْس في حقِّ غَيْرِ المُلْتَقِطِ يَدُ الْتِقَاطٍ حتى يحدّد استناد الشهادةِ إليها، فقُبِلَت عَلى إطلاقِها، وحاصِلُهُ أنَّ البَيِّنَةَ المُطْلَقَةُ يُكْتَفَى بِها من غَيرِهِ، وفي الملْتَقِطِ قَوْلاَنِ، والجمهورُ أثْبَتُوا فيهما قولَيْنِ بلا فَرْقٍ؛ فتولَّد مِنَ النَّقْلَيْنِ قَوْلٌ فارقٌ كما في الكتابِ، ولكنْ في كلامِ الإمام توقُّفُ في الموضِعَيْنِ. أحَدُهُمَا: أنَّه حَمَلَ ما نقَلَهُ المُزَنِيُّ أوَّلاً عَلَى ما إذا ادَّعَى الملْتَقِطُ رِقَّهُ، ولَيْسَ في اللقيط ما يخصّصهُ به؛ لأنَّه قال: قال الشَّافعيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "فإذا ادَّعَى رجُلٌ اللَّقِيطَ أنَّه عبْدُهُ، لمْ أقبل حتّى يشهَدَ أنَّها رَأَتْ أمَةَ فلانٍ وَلَدَتهُ" يعْني المدَّعِي. والثاني: أنَّ لفْظَ النصِّ الأخيرُ، وقال في موْضِعٍ آخَرَ: وإنْ أَقامَ بينةً بأنَّهُ كان في يدِهِ قَبْلَ الْتِقاطِ الملتقط، أرْقَقْتُهُ لَهُ، ولَيْسَ فيه تَعَرُّضٌ لَلمِلْكِ، إلاَّ أنَّ ما ذكره الإمامُ من أنَّ هَذَا النَّصَّ قَوْلٌ بقبول الشهادةِ على المِلْكِ مُطلقاً يوافقه كَلاَمُ الأصْحابِ، وكأنَّهُمْ فَهمُوا من قُبُولِ الشَّهَادةِ على اليد الدالة على مطْلَقِ المِلْكِ قَبُولَ الشهادةِ علَى مطلَق المِلْكِ بطريقِ الأَوْلَى، لكنْ يُتَوَجَّهُ أنْ يُقَال: المِلْكُ في صُورَةِ النَّصِّ [هو] غير ثابِتٍ بالبينةِ، وإنَّما ثبتتْ بها اليَدُ والإرْقاقُ بقَوْلِ صاحِب اليَد، كما تقدَّم. وقولُهُ "فالمُقَيِّدُ بأَنْ يَسْتَنِدَ إلَى شِرَاءٍ أوْ إرْثٍ أَوْ سَبْيٍ أَوْ يَقُولَ: وَلَدَتْهُ مَمْلُوكَتِي عَلَى مِلْكِي" هذَا حكايةُ لفظَ المدَّعِي، ثم الشُّهُودُ يُطبِّقُون شهادَتَهُمْ عَلَيْهِ، ولا يُفْهَمُ مِنْ
هَذا أنَّ المُدَعِي يَجِبُ عَلَيهِ ذِكرُ سَبَبِ المِلكِ، بَلْ يَكْفِي الدَّعْوَى. وقولُهُ "هو ملكي"، ولفظ الكتاب جرى على سبيل الإيضَاح. وقولُه "فقَدْ قِيلَ: لايكْفي" يجوز أن يُرْقَمَ بالواوِ؛ للطريقة القاطِعَةِ بالاكتفاء، ولفظه "قَبْل" في الأَكْثَرِ يستعمل في وجُوه الأَصْحَابِ، ورُبَّمَا بالغَ فِيهِ الإمَامُ، فإنَّهُ حَكَى الخِلاَفَ في المسْألَةِ وجْهَيْنِ، والأكْثَرون نَقَلُوا قولَيْنِ منْصُوصَيْنِ. وقولُهُ "إذ القَصْرُ قَطْعُ احتمال الاسْتِنَادِ إلَى ظاهِرِ اليدِ" معناهُ أنَّ التعرُّضَ لِمُطْلَقِ المِلْكِ، إنَّمَا يُكْتَفَ بِهِ؛ خَوْفاً من أن يعتمد الشهودُ اليد. فإذا أَسْنَدُوهُ إلَى غير اليَدِ، فَقَدْ أَمِنَّا مِنْ ذلكَ، فلا حاجَةَ إلى التَّنْصِيصِ على تَمَامِ سَبَبِ المِلْكِ، ويؤَيِّدُهُ أن قَوْلُ الشُّهود "إنَّهُ ملْكُهُ، ولَدَتْهُ مملوكَتُهُ، جَعَلَهُ في "التهذيب" بمثابة قَوْلِهِمْ "ولَدَتْهُ مَمْلُوكَتُهُ عَلَى مِلْكِهِ" ولم يذكر فيهما خلافاً، وإنَّمَا ذَكَرَ الخِلاَفَ فيما إِذَا قالُوا: وَلَدَتْهُ مَمْلُوكَتُهُ، أو إِنَّهُ وَلَدُ مَمْلُوكَتِهِ. قال الغَزَالِيُّ: (الرَّابِعَةُ): أنْ يُقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بالرِّقِّ، فَإِنْ كانَ بَعْدَ أنْ أَقَرَّ بِالحُرِّيَةِ لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ أن أَقَرَّ بالحُرِّيَّةِ قبِلَ إِقْرَارُهُ، وَإِنْ أَقّرَّ لإنْسَانِ بِالرَّقِّ فأَنْكَرَهُ فأَقَرَّ لِغَيْرِهِ فَالنَّصُّ أنَّهُ لاَ يُقبَلُ للثَّانِي لأَنَّهُ كَالمَحْكُومِ بِحُرِّيَتِهِ يُرَدُّ إقْرَارَهُ الأَوَّلُ، وَالقَوْلُ المُخَرَّجُ أنَّهُ يُقْبَلُ، كَمَا لَوْ أَنْكَرَتِ المَرْأَةُ الرَّجْعَةُ ثُمَّ أَقَرَّتْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ مِنْهُ تَصَرُّفٌ، فَإِنْ أُقيَم بَيَّنَةٌ عَلَى رِقَّهِ تُتُبِّعَتِ التَّصَرُّفَاتِ وَجُعِلَت كَأنَّهَا صَدَرَتْ مِنْ عَبْدٍ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّد، وَإِنْ عُرِفَ رِقُّهُ بِإِقْرارِهِ فَيُقْبَل إِقْرارُهُ فِيمَا عَلَيْهِ مُطْلقاً، وَفِيما يَضُرُّ بِغَيْرِهِ أَيْضاً عَلَى أَظْهَرِ الأَقْوَالِ، وَفِي قَوْلٍ: لا يُقْبَلُ فِيما يَضُرُّ بِغَيْرِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الحالةُ الرابعةُ: أن يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالرِّقِّ، وهو عاقلٌ بالغٌ، فَيُنْظَرُ؛ إنْ كَذَّبَة المُقِرُّ له, لم يثبُتِ الرَّقُّ، ولو عادَ بعْد ذَلِكَ، فَصَدَّقَهُ، لم يلتفت إليه؛ لأنَّه لمَّا كذَّبَهُ، ثَبَتَتْ حُرِّيَتُهُ بِالأصْلِ، فلا يَعُودُ رقيقاً، وإنْ صَدَّقَهُ، فإمَّا أنْ يسبِقَ الإقرارَ ما يناقضه أو لا يَسْبِقَهُ. القسْمُ الأوَّلُ: ألاَّ يَسْبِقَهُ ما يُناقِضُه، فَيُقْبَلُ إِقْرَارُهُ، كسائر الأقَارِيرِ، وعَنْ حِكَايَةِ صاحب "التقريب" قولٌ آخرٌ؛ أنَّه لا يُقْبَلُ؛ لأنه محكومٌ بحرِّيَّته بالدِّارِ، فَلاَ ينقض، لمَا أنَّ المحكُومَ بإسْلاَمِهِ بظَاهِرِ الدَّارِ، إذَا أعْرَبَ بالكفر، لا ينقض ما حُكِم بِهِ في قَوْلٍ، بلْ يُجْعَلُ مُرْتَدّاً. والقسْمُ الثَّانِي: أن يسبقه ما يُنَاقِضُهُ، وفيه صُوَرٌ. إحداها: إذا أَقَرَّ بالحريَّة بعْد البلوغ، ثم أَقرَّ بالرِّقِّ، لَمْ يُقْبَلْ؛ لأنَّه بالإقْرار الأوَّل،
التزم أحكامَ الأحْرارِ في العِبَاداتِ وغيرِها، فلم يَمْلِكْ إسْقَاطَها، وأيضاً فإنَّ الحُكْمَ بالحُرَّيَّةِ بظاهِرِ الدَّار. قَد تأكَّد بإعرابه عن نَفسه، [فلا يُقبَلُ ما يناقِضُه، كما لو بَلَغ وأَعْرَبَ عنْ نَفْسِه] (¬1) بالإسلام، ثم وصف بالكُفْرِ، لا يُقْبَلُ ويُجْعَلُ مُرْتَدَّا. ونقل الإمَامُ وجْهًا آخَرَ أنَّه يُقْبَلُ، وذكر أنَّ الصَّيْدَلاَني، قَطَعَ به تشبهاً بما إذَا أَنْكَرَت المرأَةُ الرَّجْعَةَ، ثم أقرَّتْ، وأيْضاً، فإنَّه لو قال: هَذا مِلْكِي، ثم أَقَرَّ لغيره، يُقبَلُ والمَذْهَبُ الأَوَّلُ. الثانية: إذا أَقَرَّ بالرِّقِّ لزَيْدٍ، فكذَّبَهُ، فأقر لِعَمْرو، فعن تخريج ابْنِ سُرْيجٍ أنَّه يُقْبَلُ كما لو أقر بمالٍ لزَيْدِ، فَكَذَّبَهُ، فأقَرَّ به لعَمْرو، وأيْضاً، فاحتمال الصِّدْقِ في الثاني قائِمٌ، فَوَجَبَ قَبُولُهُ. والمذْهَبُ المنْصُوصُ المَنْعُ؛ لأنَّ إقْرارَهُ الأوَّلَ تَضَمَّنَ نَفْيَ المِلْكِ لغَيْرهِ، فإذا رَدَّ المُقَرُّ لَهُ خَرَجَ عَن كونهِ مملوكاً له أيْضاً، فصار حُرًّا بالأَصل، والحُرِّيَّةُ مَظَّنةُ حُقُوقِ اللهِ تعالَى وَالعِبَادِ، فَلا سَبِيلَ إلَى إبْطَالِهَا بالإقْرَار الثاني. الثالثةُ: إذَا وجِدَتْ منْه تصرُّفاتٌ تَسْتَدْعِي نُفُوذَها بالحُرِّيَّةِ من بيع وَنِكَاحٍ وَغَيْرَهَا، ثم أقرَّ بالرِّقِّ. قال الإمامُ: إنَّ فرَّعْنَا عَلَى ما نَقَلَهُ صاحبُ "التقريب" في الصُّورَةِ الأُولَى، فإقْرارُهُ لاغٍ مُطَّرَحٌ. نعم، لو نكح ثُمَّ أَقَرَّ بالرِّقِّ، فإقَرَارُهُ اعترافٌ بأنَّها محرَّمةٌ علَيْهِ، فلا يمكن القَوْلُ بحلِّها [و] إنْ قُلْنا بالقَبُولِ هُنَاكَ، ولا إقرارَ قَبْلَه ولا تَصَرُّفَ، فيجيء هَاهُنا الخلافُ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ، ونَحْن نُقْدِمُ علَيْهِ، أَنَّهُ، لو ثَبَتَ الرِّقُّ بالبَيِّنَةِ، والحالَةُ هذه، تنْقُضُ التصرُّفَاتِ المسْتَدعِيَّةَ للحُرِّيَّةِ، وتُجْعَلَ صادِرَةٌ منْ عَبْدٍ، لم يأْذَنْ له السَّيِّدُ، ويسترد ما دُفَع إليه من الزَّكَاةِ، والميراث، وما أنْفِقَ عليه مِنْ بَيْتِ المال، وتبُاعُ رقبته فيهما. إذا عرفت ذلك جئنا إلى الإقْرَار. قال الشافِعِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "ألزمته ما ألزمه بِهِ قَبْلَ إقْرارِه" وفي إلْزامِهِ الرِّقَّ قَوْلانِ، وللأَصْحَابِ فيما ذَكَرَهُ طَرِيقان: أَحَدُهُما، ويُحْكَى عَنْ أَبِي الطَّيَّب بْنِ سلَمَة: في قَبُولِ أصْلِ الإقْرَار قَوْلان؛ لظاهِرِ قولِهِ "وفي إلزامِهِ الرِّقَّ قولانَ"، وجْه عَدَم القُبُول: أنَّه محكومٌ بحريته بظاهر الدَّار، فلا يَمْلِكُ إسْقاطَ أحكامها، كما لو أَقَرَّ بالحريِّة ثم بالرِّقِّ، ووجْهُ القُبُولِ أنَّ ذَلِكَ الحُكمَ كانَ بِناءً على الظَّاهِرِ، فَيَجُوزُ أنْ يُغيَّر بالإقرار، كَما أنَّ مَنْ حُكِمَ بإسْلاَمه بظاهِر الدَّارِ، فَبَلَغَ، وأَعْرَبَ بالكُفْر، يُجْعَلُ كافرًا أصليًّا على الأصحِّ. ¬
وأصحُّهما: القطعُ بقُبُولِ أصْل الإِقْرَارِ، وثبوت أحكام الأرقَّاءِ له في المُسْتَقْبَلِ مُطْلقاً، وتخْصيص القولَيْنِ بأحْكَام التَّصرُّفاتِ السَّابقَةِ، فأحَدُ الَقولَيْنِ القُبُولُ في أحكامها أيضاً، سواءٌ كان مما يَضُرُّ بِهِ أو ينْفَعُ، ويضرُّ غَيْرَهُ؛ لأنَّهُ لا تهمة فيهِ، إِذ الإنْسَانُ لاَ يَرِقُّ نَفْسَهُ؛ لإلحاق ضَررٍ جَرى بالغير، وأيضاً، فلأنَّ تِلْك الأحكامَ فُرُوعُ الرِّق، فإذا قَبِلْنا إقْرَارَهُ في الرِّقِّ الَّذِي هو الأَصْلُ، وَجَبَ القُبُولُ في أحْكَامِهِ الَّتي هِيَ فروعٌ له. وأصحُّهُما: المَنْعُ في الأَحْكَامِ الَّتي تضُرُّ بغَيْرِهِ، وتَخْصِيصُ القَوْلِ بالأحْكَامِ التي تَضُرُّ بِهِ؛ كَما لَو أَقَرَّ بمالٍ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيرِهِ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ عليه ولا يُقْبَلُ عَلَى غَيْرِهِ، وبهَذا قال أبوحَنِيفةَ، وأختاره المُزَنِيُّ, وعَنْ أحمد روايتان كالقَوْلَيْن. قال الشيخُ أبو عَلِيٍّ، وَهَذَانِ القَوْلاَنِ مع القَبُول في أصْلِ الرِّقِّ، كما يَقُول فيما إذا أَقَرَّ العبْدُ بسرقةٍ توجب القَطْعَ، والمالُ في يدِهِ، يُقْبَلُ إقرارُة بالقَطْعِ، وفي المالِ خِلاَفٌ، وأصْحَابُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ قَالُوا: "وقَولُهُ وفي إلزامِهِ الرِّقِّ قَوْلاَنِ" معناه في إلْزَامِهِ أحْكَامَ الرِّقِّ. ففي قَوْلٍ؛ يلزمه الكل، وفي قول؛ يفصل، وذلك يتبيَّنُ عِنْدَ شُرُوعِهِ في تَفْصِيلِ القَوْلَيْنِ. وأمَّا قولُهُ "ألْزمتُهُ مَا لَزِمَهُ قَبْلَ إِقْرَارِهِ" ففي بعْضِ الشُّرُوحِ تفْسيرُهُ بالأحْكَامِ الَّتي تَلْزَمُ الأحْرَارَ والعَبِيدَ جميعاً. وقال المَسْعُودِيُّ: أي: لا أُسْقِطُ عَنْهُ بهَذا الإقْرارِ ما لَزِمَهُ قَبْلَهُ من حقوق الآدَميِّينَ، والأوَّل أثْبَتَهُ بنَظْمِ الكَلاَمِ. "وفي النهاية" أن بَعْضَ الأصْحَابِ طَرَدَ قَوْلَ التَّفْصِيلِ ما يَضُرُّ بهِ، وما يَضُرُّ بغيره في المُسْتَقبلِ أيضاً، ويُخَرّجُ من ذَلِكَ ثَلاَثةُ أقْوَالٍ: أحَدُها: القُبُولُ في أحْكَامِ الرِّقِّ كلِّهَا ماضياً ومُسْتَقْبِلاً. والثاني: تخصيص القُبُولِ بما يَضُرُّ بِهِ، والمَنْعُ فيما عَداهُ ماضيًا ومستقبلاً. والثالث: تخصيصُ المَنْعِ بما يضرُّ بغيره فيما مَضَى، والقُبُولُ فيما عداه. وثلاثَتُها مُتَّفِقَةٌ على القُبولِ فيما عَلَيْهِ؛ فلذلك قالَ صاحِبُ الكِتابِ "فَيُقبَلُ إقْرارُهُ فيما علَيْه مطلعاً" وخصَّصَ التَّرَدُّدَ بما يَضُرُّ بغيره، وقد تعرَّض لذكرِ الأقْوَالِ، إلاَّ أنَّهُ لم يُصَرِّحْ بتَفْضِيلِها جَميعاً، وَجَعْلُهُ القَبُولُ فيما يَضُرُّ بالغَيْرِ أَظْهَرَ الأَقْوَالِ غَيْرُ مُسَاعَدٍ علَيْهِ، بل الأصحابُ إِلى المنع أَمْيَلُ، وقَدْ صَرَّحَ بتَرْجِيحِهِ المَسْعُودِيُّ، وصَاحِبُ "التهذيب" والقاضي الروياني، وبِهِ أجابَ ابنُ الحَدَّاد، وَيَجُوزُ أنْ يُعْلَمَ. قَوْلُه "فَيُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فيما علَيْهِ مُطلقاً" بالواو؛ لأَنَّ المذْكُورَ في الكِتابِ هُوَ الطَّرِيقُ الثاني. وقولُهُ في أوَّل الفصلِ "لم يقبل على الصحِيح" يعني من الوجْهَيْنِ، وأَعْلِمْ قَوْلَهُ
"قَبِلَ إِقْرارُهُ" لما رَوَاهُ صاحِبُ "التقريب". وقولَهُ "فالنَّصُّ أنَّهُ لا يُقبَلُ" والقَوْلُ المُخَرَّجُ أنَّه يقبل المرادُ مِنْهُ ما قَدَّمْنَاهُ من تَخْرِيج ابْنِ سُرَيْجٍ، لكنَّ عامَّةَ النَّقَلَةِ حَكَوْهُ حِكايَةَ الوجُوهِ دُونَ الأقْوَالِ المخرَّجَةِ عَلَى أنَّ الأمْرَ فيه قَرِيبٌ، وتشبيهه بما إذَا أنكَرَتِ المرأةُ الرَّجْعَةَ، ثم أقَرَّتْ بَعِيدٌ عن المسألةِ، فإنَّ الإنْكار والإقْرَارَ هناك متَعَلِّقَانِ بشَخْصٍ وَاحدٍ، وحَقٍّ واحدٍ، وهاهُنا صدَر منْهُ إقراران لشَخْصَيْنِ تخلَّلَهما الإنْكَارُ من المُقَرِّ لَهُ الأوَّلِ، وموضع هذا التشبيه ما إذا أَقَرَّ بالحرِّيَّةِ، ثم أَقَرَّ بالرِّقِّ فِي توْجِيهِ ما اخْتارَه الصيدلانيُّ، عَلَى ما سَبَقَ، وكذلك ذكَرَهُ في "الوَسِيطِ" فكأنَّه أشتبه علَيْه. قال الغَزَالِيُّ: فَإنْ قُلْنَا: لا يُقْبَلُ فِيمَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ لَقِيطَةَ فأَقَرَّتْ بَعْدَ النِّكَاحِ فَالنِّكَاحُ مُطَّرَدٌ، والمُسْتَحَقُّ لِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الأَمْرَيْنِ مِنَ المُسَمَّى أَوْ مَهْرِ الْمُثْلِ، والأَوْلادُ أَحْرارٌ، وَلَوْ طَلَّقَها زَوْجُهَا فَعَلَيْهَا ثَلاَثةُ أَقْرَاءٍ (و) نَظَراً لِلزَّوْجِ، فَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ فَعَلَيْهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامِ إِذْ مَاتَ الزَّوْجُ فَلاَ مَعْنَى لِلنَّظَرِ لَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لاَ يَلْزَمُها إِلاَّ الاسْتِبْرَاءُ إنْ وطِئَتْ، فَإنَّ الزَّوْجُ قَدْ مَاتَ وَهي تَدَّعِي بُطْلاَنَ أَصْلِ النِّكَاحِ، وَالنَّصُّ هُوَ الأَوَّلُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: التفريعُ: للخلافِ المذْكُورِ فُروعٌ كثيرةٌ تتشعَّب عن التصرُّفاتِ السَّابِقَةِ علَى الإقْرَارِ، وفي الكتابِ فرعٌ وَاحِدٌ منها، وهُوَ النِّكَاح، فنشرحه ونضمُّ إليه ما تَيَسَّر، فإذا سَبَقَ النِّكَاحُ الإقْرارَ، نُظِرَ في اللَّقِيطِ، أهو أنثى أم ذَكَرٌ، إنْ كان أنْثَى، فَزَوَّجَها الحاكِمُ على الحرِّيَّةِ، ثم أقرَّتْ بالرِّقِّ -وهذا الطريقُ هو الذي أورده في الكتاب- فإنْ قلْنَا بقُبُول الإقْرَار مطلقاً، فَقَدْ تَبَيَّن أنَّ هذه جَارِيةٌ نُكِحَتْ بغَيْر إذْنِ سَيِّدها، فالنِّكَاحُ فَاسِدٌ، ولا شَيْءَ على الزَّوْجِ، إنْ لَمْ يدْخُل بِهَا، وإنْ دخَلَ، فَعَلَيْه مَهْرُ المِثْلِ للمُقَرِّ لَهُ، فإنْ كَانَ قد سَلَّمَ إلَيْهَا المَهْرُ، استردَّه، إن كان باقيًا، وإلاَّ رجع عَلَيْهَا بعْد العِتْقِ، والأولادُ منها أحرارٌ؛ لمظنة الحريِّةِ، وعلى الزوج قيمتُهم للمُقَرِّ لَهُ، ويرجع عليها بالقِيمة، إن كانَتْ هِيَ الَّتي غَرَّتْهُ، وفي الرجوع بالمهرِ قَوْلانِ: وأظهرُ الوجْهَيْنِ، وبهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أبو محمدٍ: وأنَّها تَعْتَدُّ بقُرْءَيْنِ؛ لأنَّ عِدَّةَ الأَمَّةِ بَعْدَ ارتفاع النَّكاحِ الصَّحيحِ قُرْءَانِ. ونِكَاحُ الشُّبْهَةِ في المحرمات كالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ، وهَذا ما أَوْرَدَهُ ابْنُ الصَّبَّاغ، والشَّيْخُ أبو إسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ. والثاني: أنَّه لا عِدَّةَ عَلَيْهَا؛ إذْ لا نكاحَ، ولَكِنَّهَا تَستَبْرِئُ بِقُرْءٍ واحدٍ؛ لمَكَانِ الوَطْء وهذا ما يُوجَدُ في تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أبي حامدٍ. قال الإمامُ: ويجبُ طَرْدُ هَذا التردُّدِ في كلِّ نِكَاحِ شُبْهَةٍ عَلَى أَمَةٍ، وإنْ قُلْنَا: لا يُقْبَلُ الإقْرَارُ فيما يَضرُّ بالغَيْرِ، فالكَلاَمُ في نكاحِها في أُمُور:
أحدها: لا نَحْكُمُ بانْفِسَاخِ النِّكاحِ، بلْ نطْرُدُه كمَا كَانَ. قال الإمامُ: سَواءٌ فَرَقنا بَيْنَ الماضِي والمُسْتَقْبَلِ أَوْ لَمْ نَفْرِقْ، فكأنَّا نجعل النِّكَاحُ فِي حُكْمِ المستوفي المقْبُوضِ فِيما تَقَدَّمَ، وَعلَى هذه القاعِدَةِ؛ بيَّنَّا أنَّ الحُرَّ، إِذَا وَجَدَ الطَّوْلَ بَعْدَ نكاح الأمَّةِ، لَمْ نقْضِ بارتفاعِ النِّكَاح بَيْنَهُمَا، وَاسْتَدْرَكَ القَاضِي ابنُ كج، فَقَالَ: إنْ كَانَ الزَّوْجُ مِمَّا لا يَجُوزُ لَهُ نكَاحُ الإمَاءِ، فيُحْكم بانْفِسَاخِ النِّكاح؛ لأنَّ الأَوْلاَدَ الذينَ تلدُهُمْ في المُسْتَقبَلِ أَرِقَّاءُ عَلَى مَا سَيأْتِي، فَلَيْسَ لَهُ الثبات علَيْهِ، وهذا حسنُ، لكن صَرَّحَ ابْنُ الصبَّاغ بخِلاَفِهِ (¬1). ثم أطلق الأصْحَابُ أنَّ للزَّوْج الخيارَ [فى] فَسْخِ النِّكَاح، وقَدْ نَصَّ علَيْهِ في "المختصر" ووجَّهُوة بنُقْصَانِ حَقِّهِ لِحُكْمنا بالرِّقِّ في الحالِ والمُسْتَقبَلِ، وهوَ على ما ذَكَرَهَ الشَّيْخُ أبو عليٍّ مفروضٌ فما إذا نَكَحَها في الابْتَداءِ على أنَّها حُرَّةٌ، فإنْ تَوَهَمَّ الحُرِّيَّةَ، ولم يجرِ شرطها، ففيهِ خِلاَفٌ، يُذْكَرُ في موضعه. الثَّانِي: في المَهْرِ، ومَهْمَا ثَبَتَ للزَّوْجِ الخِيَارُ، فَفَسَخَ النِّكَاحَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وإنْ كانَ بَعْدَ الدُّخولِ، فعَلَيْهِ أَقَلُّ الأمْرَيْنِ من المسمَّى أو مَهْرِ المِيْلِ [إن كان المسمَّى أقلَّ، لم يُقْبَل إقرارُهَا في الزيادَة علَيْهِ، وإن كان مهْرُ المثلِ أقلَّ] (¬2)، فالمُقَرُّ لَهُ لا يَدَّعِي أكْثَرَ مِنْهُ، وإِنْ أَجَاز؟ قَالَ: "في "التهذيب"": عَلَيْهِ المسَمَّى، فإنْ طَلَّقَها بَعْدَ الإجازَةَ وقبْل الدُّخُول، فَعَلَيْهِ نصف المسمَّى، وفيه إشْكالُ؛ لأنَّ رَغْمَ المُقَرَّ له فَسَادُ النِّكاح، فإنْ لم يكُنْ دخولٌ، وَجَبَ ألاَّ يُطالب بشَيْءٍ، وقَدْ يُشْعِرُ بِهَذَا إطْلاَق صاحبِ الكِتابَ (¬3)، والمُسْتَحَقُّ للسيد أقلُّ الأمْرَيْنِ، فإنَّه إِنَّما يَتَّضِحُ بتقديرِ الدُّخُولِ، فإنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ دَفَعَ الصَّدَاقَ إلَيْهَا، لم يُطَالِبُ بهِ ثانياً. ¬
الثالث: في الأولادِ منْها، فالَّذِينَ حَصَلُوا قَبْل الإقْرارِ أحرارٌ، ولا يَجبُ علَى الزَّوْجِ قِيمَتُهُمْ؛ لأنَّ قَوْلَهَا غيْرُ مقْبُولِ في إلْزَامِهِ، أما الحادِثُونَ بَعْدَهُ فهم أَرِقَّاءُ؛ لأنَّه وطئها عَلَى عِلْمٍ بأَنَّهَا أَمَةٌ (¬1). قَالَ الإمَامُ: هذَا ظَاهرٌ، إذَا قَبِلْنَا الإقْرَارَ فِيمَا يَضُرُّ بالغَيْرِ فِي المُسْتَقْبَلِ، أمَّا إذا لَمْ يُقْبَلْ فِيهِ مَاضِيَاً وَمُسْتَقْبَلاً، فيُحْتَمَلُ أنْ يقال بحرِّيَّتِهِمْ؛ صيانَةً لَحَقِّ الزَّوْجِ، فإنّ الأَوْلاَدَ مِنْ مقَاصِدِ النِّكَاحِ، كما أَنَّا أَدَمْنَا النَّكَاحَ، صيانةً لِحَقِّهِ في الوطء، وسَائِرِ المقاصِدِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقَالَ بِرِقِّهِمْ، وهُوَا ظاهرُ ما أطْلَقَهُ الأَصْحَابُ؛ لأنَّ العُلُوقَ أمْرٌ مَوْهُومٌ، فلا يُجْعَلُ مستَحقّاً بالنِّكَاح بخلافِ الوطْءِ، وَتَرَدَّدُوا أَيْضَاً في أنَّا، إِذَا أَدَمْنَا النِّكَاحَ نُسَلِّمُهَا إلى الزَّوْجِ تَسْلِيمَ الإمَاَءِ أوْ تَسْلِيمَ الحَرَائِرِ، ولا نُبَالِي بِتَعْطِيلِ المَنَافِعِ على المُقَرِّ لَهُ، والظَّاهِرُ الثاني، وإلاَّ، لَعَظُمَ الضَّرَرُ علَى الزَّوْجِ، وأختلَّتْ مقاصدُ النِّكَاحِ، ويخالفُ أَمْرَ الوَلَدِ؛ لما ذَكَرنا أنَّه موْهُومٌ، ويمكنُه الاحتجاجُ لِلاحتمال الثَّانِي بقَوْلِ الشَّافعيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في "المختصر": "لا أُصَدِّقُهَا عَلَى فَسادِ النِّكَاحِ، وَلا عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ". الرابع: في العِدَّةِ: أما عِدَّةُ الطَّلاقِ، فإنْ كَانَ رَجْعِيًّا، نُظِرَ؛ إنْ طَلَّقَها، ثم أَقَرَّتْ، فَعَلَيْهَا ثلاثةُ أقراءٍ، ولَهُ الرَّجْعَةُ فيها جميعاً؛ لأنَّه قَد يَثْبُتُ ذلكَ بالطَّلاقِ، فَلَيْسَ لَهُ إسْقَاطٌ بالإقْرَار. فإنْ أقَرَّتْ ثُمَّ طَلَّقَها فَوَجْهَانِ: أصحُّهُمَا، وهُوَ الَّذِي أورده الأَكْثَرُون أَنَّ الجَوَابَ كَذَلِكَ؛ لأن النِّكَاحَ أَثْبَتَ له حَقَّ الرجعة في ثلاثةِ أَقْرَاءٍ. والثاني: أَنَّها تعتدُّ بقرءين عدَّةَ الإماء؛ لأنَّه أَمْرٌ متعلِّقٌ، بالمُسْتَقْبَلِ؛ فأَشْبَهَ إرقاق الأوْلاَدِ، وهذا أصحُّ عند أبي الفَرَجِ الزاز وحَكَاهُ عَنِ ابْن سُرَيْجٍ، فإنْ كَانَ الطَّلاقُ بائِناً، فاصحُّ الوجْهين: أنَّ الحُكْمَ كَمَا في الطَّلاقِ الرَّجْعِيِّ؛ لأَنَّ العِدَّةُ فِيهِمَا لا تَخْتَلِفُ. والثاني: أنَّها تَعْتَد عدَّةَ الإمَاء على الطَّلاَقِ؛ لأَنَّها مَحْكُومٌ برقها، ولَيْسَ للزَّوْجِ غرَضُ المُرَاجَعَةِ، أَمَّا عدَّةُ الوَفَاةِ، فإنَّهَا تتربَّصُ شَهْرَيْنِ وخَمْسَ لَيَالٍ عدَّةَ الإماء، نَصَّ عَلَيْهِ، ولا فَرْقَ بَيْن أنْ تُقِرَّ قَبْلَ مَوْتِ الزَّوْجِ أو بَعْدَهُ في العِدَّةِ. والفرقُ بين عِدَّةِ الوفاةِ وَعِدَّةِ الطَّلاقِ أنَّ عِدَّةَ الطَّلاَقِ حقُّ الزَّوْجِ، وإنَّمَا وَجَبَتْ؛ صِيانَةً لمائةَ؛ ألا تَرَى أنَّها لا تَجِبُ قَبلَ الدُّخُولِ، وعدَّةُ الوَفاةِ حقُّ اللهِ تَعالَى؛ فقُبُولُ ¬
قَوْلِهَا في انتقاض عِدَّةِ الوَفَاةِ لا يُلْحِقُ ضرراً بالغَيْرِ، وفيه وجْةٌ. أَنَّها يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةُ الوَفَاةِ (¬1) أصلاً؛ لأنَّها تَزْعُمُ بُطْلاَنَ النِّكَاحِ مِنْ أَصْلِهِ، وقَدْ مَاتَ الزَّوْجُ، فَلا مَعْنَى لمراعَاةِ جانِبِهِ بخلافِ عِدَّةِ الطَّلاقِ، فَعَلَى هَذا، فَإنْ جَرَى دُخُولَ، فَعَلَيْهَا الاسْتِبْرَاءُ. قَالَ الإمَامُ: والقَوْلُ في أنَّه بقُرْءٍ واحِدٍ أو قرءين عَلَى مَا سَبَقَ في التفْريع على القَوْلِ الأوَّلِ، فإنْ لَمْ يَجْر، فَلَهُ احْتِمَالاَنِ: أحَدُهُما: أنَّها تستبرئُ بقُرْءٍ، كما إذا اشتريتَ من أمرَأة أو مجبوب. والثاني: أنه لا استبراءَ أصْلاً؛ لأنَّا كُنَّا نَحْكُمُ بالنِّكَاحِ لِحَقَّ الزَّوْجِ، قدِ انْقَطَعَتْ حُقُوقُهُ، وَهِيَ والمُقَرُّ لَهُ يَقُولاَنِ: لا نِكَاحَ وَلاَ دُخُولَ، فهم الاستبراءُ، إنْ وُطِئَتْ، ولْيُعْلَم قولَه "فَعَلَيْها ثَلاثَةُ أَقْرَاءٍ" بالواو. والثاني: هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الكِتَاب؛ حيثُ قَالَ: وقِيلَ: إنَّه لا يَلْزَمُهَا الاسْتِبْرَاءُ، إنْ وُطِئَتْ، ولْيُعْلَمْ قولَهُ "فَعَلَيْهَا ثَلاثَهُ أَقْرَاءٍ" بالواو؛ لمَا قَدَّمْنا، هذا تَمَامُ الكَلاَمِ في هذا الطَّرِيقِ. أمَّا إذَا كانَ اللَّقِيطُ ذَكَراً، فَبَلغَ وَنَكَحَ، ثُمَّ أقَرَّ بالرِّقِّ، فإنْ قَبِلْنا إقْرَارَهُ مُطْلقاً، فنكاحُهُ فَاسِدٌ؛ لأنَّه عبْدٌ نَكَحَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، فُيَفَرَقُ بَيْنَهُمَا، ولا مَهْرَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَجْرِ دُخُولٌ. وإنْ كَانَ قَد دَخَلَ بها، فعلَيْهِ مهْرُ المِثْلِ، كذلكَ جَوَابُ الأكْثَرِينَ، والَّذِي أَوْرَدَهُ في "المهذَّب"، وأبْدَاهُ الإمَامُ احتمالاً أنَّ عَلَيْهِ الأقَلَّ من مَهْرِ المِثْلِ أَوِ المسمَّى؛ لأنَّه، إنْ كانَ المسمَّى أقلَّ، فهِيَ لا تَدَّعِيَ الزيادَةَ، ثمَّ متعلَّقُ الواجِبُ ذِمَّتَهُ أَوْ رقبته؟ فيه قولاَن: أصحُّهما: الأول، وإنْ قَبِلْنا إقْرَارَهُ فيما يَضُرُّ بِهِ دُونَ ما يَضُرُّ بغَيْرِهِ، حَكَمْنَا بانْفِساخ النِّكَاحِ، ولَمْ نَقْبَل قولَهُ فِي المَهْرِ، فعَلَيْهِ نصْفُ المُسَمَّى، إنْ لَمْ يَدْخُلْ بها، وجَمِيعُهُ، إنْ دَخَلَ، وُيؤَدِّي ذَلِكَ ممَّا في يَدِهِ أو مِنْ كَسْبِهِ في الحالِ أو المُسْتَقْبَلِ، فإنْ لم يوجد، فهو في ذِمَّتِهِ إلَى أنْ يَعْتِقَ. ومن فُرُوعِ القَوْلَيْنِ: إذَا كانَتْ عَليْه دُيُونٌ وقْتَ الإقْرار بالرِّقِّ، وفي يَدِهِ أمْوالٌ، فإنْ قَبِلنَا إقرارَهُ مُطْلقاً، فالأموالُ يُسَلَّم لِلمُقَرِّ لَهُ، والديونُ في ذِمَّتِهِ. وإن قَبْلنَاه فيما يَضُرُّ به دُونَ ما يَضُرُّ بغيرِهِ، قَضَيْنا الدُّيونَ ممَّا في يدِه، فَإنَّ فَضَلَ من المالِ شَيْءٌ فَهُوَ لِلمُقَرِّ لَهُ، وإنْ بَقِيَ مِنَ الدُّيُونِ شَيْءٌ، فهو في ذِمَّتِهِ حتَّى يَعْتِقَ. ومنها: إذَا بَاعَ أو اشْتَرَى بَعْدَ البُلُوغِ ثم أَقَرَّ بالرِّقِّ، فإنْ قَبِلْنَا الإقْرَارَ مُطْلقاً فالبَيْعُ ¬
والشِّراءُ باطلانَ، وإن كَانَ مَا بَاعَهُ باقياً في يَدِ المُشْتَرِي، أَخَذَهُ المُقَرُّ له، وِإلاَّ، طَالَبَهُ بقيمته والثَّمَنِ، وإن أخذه المُقرُّ واستَهلكه، فهو في ذمَّته، يُتْبع به بعد العِتْقِ، وإنْ كانَ باقياً, رُدَّهُ مَا اشتَراهُ، إنْ كانَ بَاقِياً في يَدِهِ، ردَّه إلَى بائِعِهِ، وإلاَّ استُرِدَّ الثَّمَنُ من البائِعِ، وحَقُّ البائع يتعلَّقُ بِذِمَّتِهِ، وإنْ قلْنا بالقول الآخر، لَمْ نَحْكُم ببطلانهما لحقِّ العَاقِدِ الثاني، ثمَّ ما باعه، إنْ لمْ يَستوْفِ ثَمَنَهُ، استوفَاه المُقَرُّ لَهُ، وإنْ كَانَ قد استوْفاهُ، لم يُطَالِب المشتَرِي ثَانِياً، وما اشْتَرَاهُ، إنْ كَانَ قَدْ وَفَى ثَمَنَهُ، فَقَدْ تَمَّ العَقدُ، والبَيْعُ للمُقَرِّ لَهُ، وإنْ لم يُوَفِّ، فإنْ كَانَ في يَدِهِ مَالٌ، حِينَ أَقَرَّ بالرِّقِّ، وَفِي الثَّمَنِ مِنْهُ، وإنْ لم يكنْ، فهو كإفلاس المشتري، حتَّى يَرْجِع البائعُ إلَى عَيْنِ حالِهِ، إنْ كان باقِياً, وإنْ لم يكُنْ، فهو في ذمَّةِ المُقِرِّ حتَّى يَعْتِقَ، كما أنَّه إذا أَفْلَسَ المُشْتَرِي، والمَبِيعُ هالِكٌ يكُونُ الثَّمَنُ في ذِمَّتِهِ، [و] يُطَالَبُ بِهِ، بعد اليَسارِ. ومِنْها: جنَى على إنْسانٍ، ثم أقَرَّ بالرِّقِّ، فإن كانت الجنايةُ عَمْداً، فعليه القصاصُ، سواءٌ كان المَجْنِيُّ عَلَيْهِ حُرًّا أو عبداً. أما إذا قَبِلْنا إقراره مطلقاً، فظاهرٌ، وأمَّا إذَا قبلناه فيما يَضُرُّ بهِ دُونَ ما يَضُرُّ بِغَيْرِهِ، فإنْ كَانَ المَجْنِيُّ عَلَيْهِ حُرًّا، فلا فَضِيلَةَ للجَانِي، وإنْ كَانَ عَبْداً، أَلْزَمْنَاهُ القِصَاصَ؛ لأنَّه يضُرُّهُ، فإنْ كانَتِ الجنَايَةُ خَطَأٌ، فإنْ كَانَ في يَدِهِ مَالٌ أُخِذَ الأَرْشُ منْه، كذلك ذَكَرَه صاحِبُ "التهذيب" لكنَّهُ عَلَى خلافِ قياسِ القَوْلَيْنِ؛ لأنَّ الأرْشَ الخَطَأَ لا يتعلَّقُ بما في يَدِ الجانِي، حُرًّا كانَ أو عَبْداً (¬1)، وإنْ لمْ يَكُنْ في يَدِهِ مَالٌ، تَعلَّقَ الأَرْشُ برقبته علَى القَوْلَيْنِ. وقال القاضِي أبو الطَّيِّب: إنْ قُلْنَا بالقَوْلِ الثَّانِي، يَكُونُ الأَرْشُ في بيتِ المالِ، وأُجيبَ عَنه، بأنا على القولِ الثَّانِي إنَّما لا نَقْبَلُ إقْرَارَهُ فيما يَضُرُّ بالغَيْر، وتعلُّقُه بالرَّقبَةِ لا يضرُّ المَجْنِيَّ عَلَيْه، بل يَنْفَعُهُ، وله أنْ يَمنَعَ ذَلِكَ؛ بأنَّ قَطْعَ التعلَّقِ عَنْ بيتِ المال إضْرارٌ، فلو زاد الأَرْشُ عَلَى قِيمة الرقبة، فالزيادةُ في بَيْتِ المالِ عَلَى القوْلِ الثَّانِي لا محالة (¬2). ومنها: جَنَى عَلَيهِ بأَنْ قَطَعَ طَرَفَه، ثم أَقَرَّ بالرِّقِّ، فإنْ كَانَتِ الجنايةُ عَمْداً، والجاني عَبْداً، اقتصَّ منْهُ، وإنْ كانَ حُرًّا، لم يَقْتَّص؛ لأنَّ قولَهُ مقْبُولٌ فِيمَا يَضُرُّ بهِ، ويكُونُ الحُكْمُ كما لَو كَانَ خَطَأٌ، وإنْ كَانَتْ خَطَأً, فإنْ قبلنا إقْرَارهُ مُطْلَقاً، فعلَى الجاَنِي ¬
كَمَالُ قِيمَتِهِ، إنْ صَارَتْ قَتْلاً وإلاَّ فما تَقْتَضِيهِ جِرَاحَةُ العَبْدِ، وإنْ قبلْنَا إِقْرَارَهُ فيما يَضُرُّ بِهِ دُونَ ما يَضُرُّ بغَيْرِهِ، وَكانَتِ الجنَايَةُ قَطْعَ يد، فإن كانَ نصْفُ القيمةِ نِصْفَ الدِّيةِ، أو كَانَ نصْفُ القيمةِ أَقَلَّ، فَهُوَ الوَاجِبُ، وإنْ كانَ نصْفُ الدية أَقَلَّ، فوَجْهَانِ حكَاهُمَا الإمَامُ: أحدُهُما: أن نُوجِبُ نِصْفَ القيمة (¬1)، ونغلظ عَلَى الجانِي؛ لأَنَّ أرْشَ الجِنايَةِ يتبيَّنُ مِقْدَارُهُ بالآخِرَةِ، وقَد بَانَ رِقُّهُ، فلَوْ نَقَصْنَا منْ نِصْفِ القيمَةِ لتَضَرَّرَ السَّيِّدُ. وَأَصَحُّهُما: أنَّه لا يَجِبُ إلاَّ نِصْفُ الدِّيَّةِ؛ لأنَّ قَبُولَ قَوْلِهِ في الزِّيادةِ إضرارٌ بالجانِي، ونحْنُ نفرعُ عَلَى أنَّ قوْلَهُ لا يُقْبَلُ فِيما يَضُرُّ بالغَيْر، وعلى هَذَا؛ فالواجب أقلُّ الأمْرَيْن من نصْفِ الدِّيةِ أو نِصْفِ القِيمَةِ، وهذا كله تفريعٌ على تعَلُّقِ الديَةِ بقَتْلِ اللَّقِيطِ، وفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أسلفناه، وهو أنَّ الواجِبَ الأَقَلُّ من الديَةِ أو القيمةِ، وذلك الوجْهُ مُطَّردٌ في الطرف من غير أن يُقَرِّ بالقيمةِ. وممَّا يتفرعُ عن هذَا الخلافِ في قَبولِ أصلِ الإقْرارِ، لو ادَّعَى مدَّع رقِّهُ، فأنكَرَهُ، ولا بَيِّنة للمُدَّعِي. فإن قُلْنَا بقَبُولِ الإقرَارِ، فَلَهُ تحلِيفُه؛ رجاءَ أنْ يُقَرُّ، وإنْ منعنَاه، لم يَكنْ لَه تحليفُهُ؛ لأنَّ التَّحلِيفِ لِطَلَبِ الإقرَارِ، وإقرَارُهُ غيرُ مقبولٍ، هذا إذا جعلْنَا اليمين المردودة مع النُكولِ كإقرارِ المُدَّعىَ عَلَيه، فإنْ جَعَلْناها كالبيِّنَةِ، فلهُ التحليفُ، لعله ينكُلُ فيحلِف المدَّعِي ويستحقُ كما لو أقامَ البيِّنة. واعلمْ أنَّه لا فرقَ في جميع ما ذَكَرناهُ: بين أنْ يُقرَّ بالرِّقِّ ابتداءً، وبَيْنَ أن يدَّعِيَ رقَّهُ؛ فيصدُق المدَّعِي، ولو ادَّعَىَ إنْسانٌ رقَّهُ، فأنْكَرَ ثمَّ أقرَّ [لهُ] فَفي قَبِولِهِ وجْهانِ؛ لأنَّه بالإنكار لزمه (¬2) أحكامَ الإقرار والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: (فَرْعٌ): لَوْ قَذَفَ لَقِيطاً بَالِغاً وادَّعَى القَاذِفُ رقَّهُ وأَنْكَرَ فالأصْلُ الحُرِّيَّةُ، والأَصْلُ بَراءَةُ الذِّمَّةِ عَنِ الْحَدِّ، فالقَوْلُ قَوْلُ مَنْ؟ فِيهِ قَوْلانِ (و) لِتَقابُلِ الأَصْلَيْنِ، وَلَوْ قَطَعَ حُرٌّ طَرَفَهُ وَجَرَى النِّزَاعُ فَعَلَى القَوْلَيْنِ، وَقِيلَ: يَجِبُ القِصَاصُ قَطْعاً لأَنَّ القِيمَةَ أَيْضاً لَوْ عَدَلْنَا إلَيْهَا فَمَشْكُوكُ فِيهَا، والتَّعْزِيرُ الَّذِي يُعْدَلُ عَنِ الحَدِّ إِلَيْهِ مُسْتَيْقَنٌ بِكُلِّ حَالٍ. قالَ الرَّافِعِيُّ: إذَا قَذَفَ لقِيطاً صغيراً عُزِّرَ، [و] إنْ كانَ بالغاً حُدَّ؛ إنِ اعْتَرَفَ ¬
بحريِّتِهِ، فإن ادَّعى رِقَّهُ، وقالَ المقدوفُ: بلْ أَنا حرٌّ فقولاَنِ: أصحُّهُمَا عَلَى ما ذَكَرَ [هُ] الشيخُ أبو عَليٍّ: إنَّ المُصَدَّقَ المقذُوفَ؛ لأنَّ الأصْلَ الحريةُ، فيُحَدُّ القاذِفُ، إلاَّ أنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً على الرِّقِ، وَهذَا هُوَ اختيارُ المُزَنِيُّ. والثَّانِي: أنَّ المُصَدَّقَ القاذِفُ؛ لأنَّه يحتملُ أنْ يكونَ رقيقاً، والأصلُ براءَةُ الذمَّةِ عن الحدودِ. وقَطَعَ بَعضُهُم بالقولِ الأوَّلِ؛ لأنَّه محكومٌ بحريَّتهِ بظاهِرِ الدارِ، وحُمِلَ الثَّانِي على مجهولٍ لم تُعْرَف حُرِيَّتُه بالدارِ، فيجوز أنْ يُعَلَم لذلك قولهُ "قولانِ" بالواو، والمشهورُ طريقةُ القولَين، وُينْسَبُ الثَّانِي إلى نصِّهِ في اللِّعان، والأولُ إلى نصِّهِ في هذَا الباب لكنَّهما جميعاً مَذكُوران هاهنا في "المختصر"، وعلى هذا فلَوْ قَطَعَ حرٌّ طرفَه، وادَّعَى رقَّه وقال المقطوعُ: بل أنَا حرٌّ، فطريقان: أحدُهُما: إجراءُ القَولَينِ؛ تَخريجاً لقولِ المنعِ بِما ذُكِر في القَذْفِ، والآخرُ منصوصٌ. والثَّانِي: القطعُ بالوجوبِ، وقد سبق ذكرِ الطريقين في الحكم الثاني من أحكام اللقِيطِ، وفرَّقَ أصحابُ الطَّريقِ الثَّاني بفرقين: أحدُهُما: أنَّ المقصودَ من الحدِّ الزحرُ، وفي التَّعزِير الّذي يُعدَلُ إليه من الحدِّ، ما يحملُ بعضَ هذا الغرض، والمقصود من القصاص التشفي والمقابلة، وليس في المال المعدول إليه ما يحصل هذا الغرض، ويجوزُ أنْ يُمْنَعُ هذَا، ويُقَالُ: يَحصُلُ بالإضرار بعض غرضِ التَّشفَّي. والثَّاني: وَهُوَ المذكورُ في الكتاب، أنَّ التعزيرَ الّذِي يُعْدَلُ إليه متيقن لأنَّه بعْضُ الحدِّ، فالعُدولُ إليه عُدولٌ من ظاهرٍ أو مَشْكُوكٍ [إلى مُسْتَيْقَنٍ، وإنْ أسْقَطْنَا القِصَاصَ، عَدَلْنا إلى نصْفِ الدِّيَةِ أو القِيمَةِ، وذلِكَ مشكوكٌ] فيه؛ لأنَّ الحريَّةَ شرطُ وجوب الدِّيَةِ، والرِّقُّ شرطُ وجوب القيمةِ، فكان ذَلكَ عُدُولاً من ظاهِرٍ أو مشكُوكٍ فيهِ إلىَ مشكوكٍ فِيهْ. وعن الشيخِ أبي مُحمدٍ محاولةُ فرْقٍ ثالثَ: وهو أنَّ حدُ القذفِ أقربُ سُقُوطاً بالشُبْهَةِ من القِصاصِ؛ فلذلك افترقَا. وقولُهُ في الكتاب "لأنَّ القيمةَ أيضًا لو عدَلنا إلَيْها"، مُقْتَضاهُ العُدُولُ إلى القيمةِ، لو تركنا القِصَاصِ، وكَذلِكَ ذكَرَهُ بعضُهُم، ومُقْتَضَى كلامِ الأكثرِين العُدُولُ إلى الدِّيَةِ، وسببُ الاختلافِ: الخلافُ الَّذِي يقدَّمُ في أنَّ الواجِبَ بقتل اللقيطِ خطأً الدِّيَةُ أو الأقَلُّ من الدِّيَّةِ والقيمةِ، والظَّاهِرُ وجوبُ الدِّيةِ إلا أنّ غَرَضَ الفَرْقِ لا يختلِفُ، فإنَّ الشَّكَ في الرِّقِ والحُريَّةِ يوجِبُ الشَّكَ في القيمةِ والدَّيةِ؛ فكأنَّهم تساهَلُوا لذلِكَ ثُمَّ لا يُخفَى أنّ في
قَطْعِ اليَدِ الواحدة يكونُ النَّظرُ إلى نِصْفِ الدِّيَةِ، ونصفِ القيمةِ، ولو قَذَفَ اللقيطُ شخصاً، واعْتَرَفَ بأنَّه حرٌّ، حُدَّ حَدَّ الأحرارِ، وإنْ ادَّعى أنَّه رَقِيقٌ، وصَدَّقَهُ المقذوفُ، حُدَّ حَدَّ العَبِيدِ، وإنْ كَذَّبَهُ، فقولاَن (¬1): في أنّ يُحَدَّ حَدَّ العبيدِ، أو يُحَدَّ حَدَّ الأحرار. فَبَنُوا الأوَّلَ على قَبُولِ إقرارِهِ مُطْلقاً، والثَّاني عَلى أنَّه إنما يَقْبَلُ فِيمَا يُضرُّ بغيرِهِ، لاَ فيما ينْفَعَهُ، ويجوزُ بناؤُهما على القولَينِ فيما إذا ادَّعى قاذفُ اللقيط رقَّهُ، إنْ صدقناه صدَّقْنَا اللَّقِيطَ هَاهُنَا، وإلاَّ فَلاَ. وفي "المُعْتَمدِ" وجهٌ آخرُ: وهو أنَّهُ إنْ أقَّرَّ لِمُعَيَّنٍ قَبْلَ إقرارِهِ، وحُدَّ حَدَّ العبيدِ، وإنْ لم يُعَيِّنْ حُدَّ حدَّ الأحرَارِ (¬2)، واللهُ أعلمُ. ¬
كتاب الفرائض
كِتَابُ الفَرَائِضِ (¬1) , وَفِيهِ فُصُولٌ قال الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الأَوَّلُ في بَيَانِ الوَرَثَةِ) والتَّورِيثُ إمَّا بَسَبَبٍ أَوْ نَسَبٍ، ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَالسَّبَبُ إِمَّا عَامٌّ كَجِهَةِ الإسْلاَمِ (ح و) فِي صَرْفِ المِيْراثِ إلَى بَيْتِ المالِ، وَإِمَّا خَاصٌّ كالإِعْتَاقِ، وَلا يُوَرَّثُ بِهِ إلاَّ بالْعُصُوبَةِ، أَوْ كَالنِّكَاحِ وَلا يُورَثُ بِهِ إِلاَّ بِالفَرِيضَةِ، وَأَمَّا النَّسَبُ فَالقَرابَةُ.
الفصل الأول في بيان الورثة والتوريث
الفصل الأول في بيان الورثة والتوريث قَالَ الرَّافِعِيُّ: نَصدِّرُ الكِتابِ بَعْدَ حَمْدِ اللهِ تَعالَى بفَواتِحَ: الفاتِحَةُ الأُولَى: أصْلُ الفرائِضِ في اللِّسَانِ الْحَزُّ، والقَطْعُ، وفُرْضةُ الْقَوْسِ، وفرضَتِها: الحَزُّ الَّذِي يقعُ فِيهِ الوَتَرُ، وفُرْضَةُ الَّنهْرِ ثُلْمَتُه الَّتِي منْهَا يُسْتَقَى، والمِفْرَضُ: الحَدِيدَة الَّتي يُحَزُّ بِها، وفَرَضَ الله تعالَى، أي: أوْجَبَ، وألزمَ، وافْتَرَضَ مثلُهُ، وهوَ الفَرْضُ والفَرِيضَةُ. قال في الصِّحاحِ (¬1): والفَرْضُ العَطِيَّة الموسُومَةُ، يُقالُ: ما أصَبْتُ منْهُ فَرْضاً ولا قَرْضاً. وفَرَضْتُ الرَّجل وأفْرَضُهُ إذا: أَعْطَيْتُهُ، وفَرَضْتُ لَهُ في الدِّيوانِ، فقالَ العُلَمَاءُ: يُسمَّى العِلْمُ بقسمةِ المواريثِ "الفرائض" -فصاحِبُ هَذَا العِلْم الفَرْضِيُّ؛ لِمَا فيها مِنَ السِّهَام المُقَدَّرَةِ، والمَقَادِير المُنْقطِعَةِ المُفَضَّلَةِ، ومنْهُ قولُهُ تَعاَلَى: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء 118] أي: مُقتَطَعَاً محْدُوداً، وقُرِئَ: {أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] أيْ: فَصَّلْناهَا. وفيما جُمِعَ منْ كَلامِ ابْنِ اللَّبَان البَصْرِي وجْهٌ آخَرُ، وهو أنَّ تسميه "الفرائِضَ" منَ الوُجُوب واللُّزوم، إلاَّ أنَّ الفَرْضَ بمعنى الإيجابِ والإلْزامِ، مأْخُوذٌ من المَعْنَى الأوَّل، وهُوَ الاقتطاعُ؛ لأنَّ للفريضةِ معالِم وحُدُودًا مُقَدَّرةً، وإنْ جَازَا ذَلِكَ، جاز أن يُقَال: إنَّها مأْخُوذَةٌ من معْنَى العَطِيِّة؛ لأنَّ الاسْتِحْقَاقَ بالإرْثِ عطيَّةٌ من الشَّرْع، لكنَّهُ يُشْبهُ أنْ يُقالَ: استعمالُ هَذَا اللَّفْظِ في نَفْسِ الإعْطَاءِ مستعارٌ، وحقيقَتُهُ: قطْعُ شَيْءٍ من مالِ الدِّيوَانِ ونَحوِهِ، ومنهُ فَرَضَ له الحاكِمُ النفقةَ، وقولُهُ تَعالَى: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]، والله أعلم. [الفاتحة] (¬2) الثانيةُ: عن ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبيَ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "تَعَلَّمُوا الفَرائِضَ، وعَلَّمُوها النَّاسَ، فَإنِّي امرُؤٌ مَقْبُوضٌ، وإِنَّ الْعِلْمَ سَيُقْبَضُ، وَتَظْهَرُ الفِتَنُ، حَتَّى يَخْتَلِفَ الاثْنَانِ في الْفَرِيضَةِ، فَلا يَجِدانِ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا" (¬3). ¬
وعنْ أبي هريرَة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "تَعَلَّمُوا الفَرائِضَ فَإِنَّهَا مِنْ دِينِكُمْ، وإنه نِصْفُ العِلْمِ، وإنه (¬1) أَوَّلُ ما يُنْزَعُ مِنْ أُمَّتِي" (¬2). وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا تَحَدَّثْتُم فَتَحَدَّثُوا بِالْفَرَائِضِ، وَإِذَا لَهَوْتُمْ، فَالْهُوا بِالرَّمْيِ" (¬3). وحُمِلَ قَوْلُهُ: "نِصْفُ العِلْم، وأنه أول ما ينزع" على أنَّ للإنسانِ حَالَتَي الحَيَاةِ والمَوْتِ، وفي الفَرائِضِ مُعْظَمُ الأحْكَامِ المتعلقةَ بحالِ المَوْتِ. [الفاتِحَةُ] الثالثة: كَانُوا في الجاهِليَّة يُورِّثُونَ الرِّجَالَ دونَ النِّسَاءِ، ويجْعَلُونَ حَظَّ المرْأَةِ مِنَ الميراثِ أنْ يُنْفَقَ عَلَيْها من مَالِ [زوْجِهِا (¬4) سنة]، ويقولُونَ الرِّجالُ هُمُ الِّذينَ يتحمَّلُونَ المُؤَن، ويُقْرُونَ الأَضْيَاف، وَيلْقَوْن الحروب، وكانُوا لمِثْل ذَلِكَ يُوَرِّثونَ الكِبَارَ من الأوْلادِ دُونَ الصِّغَارِ، وكانوا يُورِّثونَ الأمَ وابْنَ الأخ [وزَوْجَةَ الأخَ] (¬5) والعَمَّ كَرْهَاً. وَعَدَّ أَبو عَلِيٍّ الزجَّاجِيُّ والقاضي الرُّوَيانيُّ [رحمهُما اللهُ تَعَالَى] وكثيرٌ مِنَ الطبريَّةِ التوارثُ بالحَلِفِ والنُّصْرَةِ منْ وجُوهِ الإرْثِ في الجاهليَّة دونَ ما كانُوا علَيْهِ في ابتداءِ الإسْلاَم، والمشهور جريانُ التوارِثُ به في ابتداء الإسْلاَمِ، وقَد حَملَ عَلَيْه قولُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] ثم نُسِخَ ذلكَ، فكَأنُوا يتوارَثُونَ بالهِجرةِ والإسْلاَمِ، فلَوْ هَاجَرَ أحد القريبينِ المسلمينِ دُونَ الثَّانِي، لَمْ يتوارثا، وهُوَ المَغْنِيُّ بقولِهِ تَعالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 72] ثمِ نُسِخَ ذَلِكَ، وجُعِلَ الإرْثُ بالقرابة على ما قَالَ تعالَى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] ويُقالُ: إنَّهُ نُسِخَ بآية الوَصيَّة، وهِيَ قولُهُ تَعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180] الآية، وكانَتْ واجِبَةٌ للوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ. وعنْ ابْنِ سُرَيْجٍ: أنَّه كانَ يَجِب على المُحْتَضِرِ أنْ يوصي لكلِّ واحدٍ مِنَ الوَرَثَةِ بما في علْمِ الله تعالَى من الفرَائَضِ، وكانَ من يُوَفَّقُ لِذلِكَ مُصِيباً، ومن يَتَعَدَّاهُ مُخْطِئاً. قَالَ الإمامُ: هذا زَلَلٌ، وَلا يَجْوزُ ثُبُوتُ مِثْلهِ في الشَّرائِعِ، فإنَّه تكليفٌ، علَى ¬
عَمايَةِ، ثُمَّ نُسِخَ وجُوبُ الوصيَّةِ، ووَرَدَتْ آيَاتُ الموَاريثِ [على ما استقَرَّ الشَّرْعُ علَيْهِ، وما عُدَّ من وُجوهِ التَّوَارُثِ] (¬1) في ابْتِداءِ الإسْلاَمِ التَّبَنِّي والمُؤَاخَاة. الفَاتحةُ الرَّابِعَةُ: الأصْلُ في الموارِيثِ قولُهُ تَعالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء:11] الآية، والتي تليها، وآيَةُ الكَلالَةِ في آخِرِ السُّورَةِ، ولم تشتملْ الآياتُ الثلاثُ علَى جَمِيعِ قواعِدِ الفَرائِضِ، لكن وَرَدَت السُّنَّةُ بأصُولٍ أخْرَى، وتَكَلَّمَ أصحابُ رسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فيما لم يجدوه منْصُوصاً عليه، وكَثُرَ اختلافُهُم فيه؛ لأنَّ مَسائِلَ الفرائِضِ غَيْرُ مَبْنِيَّةٍ عَلَى أُصُولٍ معقُولةٍ، فتَعَلَقُوا بالأَشْبَاهِ والأَمْثَالِ. وحَكَى الإمَامُ عَنِ العُلَمَاءِ بالفَرائِضِ أنَّ صَحَابَةَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- تَحَزَّبُوا فَتَكَلَّمَ أربعةٌ منْهُمْ في جَمِيع أُصُولِهَا، وهُمْ عَلِيٌّ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وابنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَهؤُلاءِ الأربعةُ، إذَا اتَّفَقُوا في مسألةٍ وافَقَتْهُمُ الأُمَّةُ، وإذا اختلَفُوا، اختلَفَتِ الأمَّةُ، ولم يتَّفِقْ في مَواضِع اخْتِلاَفِهِمْ ذَهَابُ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ إلَى مَذْهَب وذَهابَ الآخَرَيْنِ إلَى خِلاَفِهِ، ولكنْ حَيْثُ اختَلَفُوا، وقَعُوا آحَاداً، وذهَبَ ثلاَثةٌ إلَى مَذْهَبٍ، والرَّابَعُ إِلَى خِلاَفِهِ (¬2). ومنْهُمْ مَنْ تَكَلَّم فِي [مُعْظَمِها كأبي بَكْرٍ وعمر، ومعاذٍ بْن جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- ومنهُمْ مَنْ تَكَلَّم في] مسائِلَ معْدُودةٍ كابن عباس (¬3) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ثُمَّ نَظَرَ الشافعيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في مَواضِعِ الخِلافِ، فاخْتَارَ مذْهَبَ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حَتَّى تَرَدَّدَ قولُهُ حيْثُ تَرَدَّدَتِ الروايةُ عَنْ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-. قَالَ الأصْحَابُ -رَحِمَهُمُ اللهُ-: وَلَمْ يُقَلّد زيدًا، وإنما ترَّجحَ مَذْهَبُهُ عنْدَهُ مِنْ وجْهَيْنِ: أحدهما: رُوِيَ عنِ النبِّيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قَالَ:"أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ" (¬4). ¬
والثاني: قَالَ القَفَّالُ: ما تَكلَّم أحدٌ من الصحابة -رَضِي اللهُ عَنهُمْ- في الفَرَائِضِ، إلا وقَدْ وُجِدَ له قَوْلٌ في بعضِ المَسائِل هَجَرَهُ النَّاسُ بالاتَّفاقِ إلاَّ زَيْدٌ، فإنَّه لم يَقُل بقَوْلٍ مهجُورٍ بالاتِّفاقِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ كالعمومَيْنِ، إذَا وَرَدَ، وقَدْ خُصَّ أحَدُهُمَا بالاتِّفاقِ دُونَ الثَّانِي، كانَ الثَّانِي أَوْلَى، وقد يُعتَرَضُ فَيُقالُ: للكَلاَم مَجالٌ في أنَّ الوجْهَيْنِ، هل يُوجِبَانِ الرُّجْحَانَ، لَكنْ بتقدير التَّسْليم فالأخذ بما رُجِحَ عَنْدَهُ، أنه [إنْ] لَمْ يَكُن بَناهُ عَلَى الدَّلِيلِ في كلِّ مسألةٍ، لمْ يَخْرُجْ عن كونهِ تقليدًا، كالمقلَّدِ يأخُذُ بقَوْلِ مَن رَجَحَ عِنْدَهُ من المجتهدين، وإن كان بَنَاهُ علَى الدَّلِيلِ، فَهُوَ اجتهادٌ وافَقَ اجتهاداً، فلا مَعْنَى للقَوْلِ بأنَّه اختارَ مذْهَبَ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ويُجابُ عَنْه بأنَّ الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لمْ يُخْلِ مسألة عن احتجاج واستشهاد، لكنهُ اسْتَأْنَسَ بما رَجَحَ عنْدَهُ من مذْهَب زَيْدٍ، ورُبَّمَا تَرَكَ بهِ القياس الجليِّ، وعضَّدَ الخَفِيَّ. كقولِ الواحدِ من الصَّحابة، إذا انْتَشَرَ، ولم يُعْرَفْ لَهُ مخالفٌ؛ فباعتِبَار الاستئْنَاسِ، قيل: إنَّه أخَذَ بمذْهَبِ زَيْدٍ، وباعتبار الاحتجاج، قِيل: إنَّه لمْ يُقَلِّدْ، والله أعلم. الفاتحَةُ الخامِسَةُ: يُبدأ من تركة الميِّتِ بمؤنة (¬1) تجهِيزِهِ المَعْرُوفِ؛ لأَنَّهُ يحتاجُ ¬
إلَيْهَا، وإنَّما يدفعُ إلى الوَارِثِ ما يَستَغْنِي عنه المُوَرِّثُ، وهَذَا فِيمَا لَمْ يتعلَّقْ بِهِ حَقُّ الغَيْرِ، فإنْ تعلَّق كالمَرْهُونِ، والعَبْدِ الجانِي، والمبيع إذَا مَاتَ المشتَرِي (مُفْلِساً) قُدَّمَ حَقُّ الغَيرِ، ثمَّ تُقْضَى دُيُونُهُ مِنْها، وَللْوَرَثَةِ إمْسَاكُ ما تَرَكهُ وغَرامَهُ ما عَلَيْهِ مِنْ عنْدِهِمْ، كما سَبَقَ في "الرَّهْنِ" ثُمَّ تُنفَذُ وَصَاياهُ منْ ثُلُثِ الباقِي، ثمَّ يُقَسَّم الباقِي بَيْنَ الوَرَثَةِ عَلَى فرائِضِ الله تَعالَى، عَلَى ما قَالَ تَعالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] إذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ، فأعْلَمْ أَنَّ المُصَنِّفَ -رَحِمَهُ الله- أَوْدَع مقْصُودَ الكتابِ في ثلاثَةِ فصُولِ. أَحَدُهَا: في بيانِ أسبابِ التَّوْرِيثِ والوارِثينَ، ومقادِيرِ استِحْقَاقِهِمْ. الثاني: في وجوه الحرْمَانِ بعْد قيامِ سَبَبَ التَّوْرِيثِ [في التَقَدُّم والحَجْبِ]. وَالثالثُ: فيِ حِسابِ الفَرائِضِ.
أمّا الفَصْلُ الأَوَّلُ، فَهُوَ مُفْتَتَحٌ بِعَدِّ أسباب التَّوْرِيثِ، والعِبَارَاتُ فيهِ مختلفةٌ، وإنْ أدَّتْ مقْصُوداً واحِداً، وكثيراً ما يَتَّفِقُ ذَلِكَ في ضَوابطِ الفَرائِضِ، فَقالَ الأكثرُون: أسبابُ التَّوْرِيثِ ثلاثةٌ: قَرَابَةٌ، ونَكِاحٌ، وَوَلاءٌ, والأقَارِبُ يَرِثُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضِ على تفْصِيلٍ سيأتِي. قال الله تَعالَى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]: و [أما]، الزَّوْجَان فَيَرِثُ كلُّ واحدٍ مِنْهُمَا من الآخَر، قَالَ الله تَعالَىَ: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} [النساء:12] والمرادُ من الوَلاَءِ أنَّ المُعتِقَ يَرِثُ مِنَ المُعتَقِ. رُوِيَ أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "وَرَّثَ بنْتَ حَمْزَةَ من مولى لَها" (¬1)، وَعَنَى هؤلاء بما ذَكَرُوه الأَسْبابَ الخاصَّة، ووراءها سَببٌ آخرُ عامٌّ، وهو الإسْلاَم، فَمَنْ مَاتَ، ولم يخلف من يرثه بالأسْباب الثلاثةِ، فمالُهُ لبَيْتِ المال؛ يرثه المسلمون بالعُصُوبة، كما يتحملون عنه الدّيَةَ. وقد رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَنَا وَارِثُ مَنْ لا وَارِثَ لَهُ، أَعْقِلُ عَنْهُ وَأَرِثُهُ" (¬2). وفِيهِ وجْةٌ آخَرُ: أنَّه يُوضَعُ مالُهُ في بَيْتِ المالِ عَلَى سَبِيلِ المَصْلَحةِ لا إرْثاً؛ لأنَّه لا يَخْلُوا عَنِ ابْنِ عَمٍّ، وإنْ بَعُدَ فألحق ذلكَ بالمالِ الضائِعِ الذي لا يُرْجَى ظهورُ مالِكِهِ، ويُحْكَى هذَا عن أبي حنِيفَةَ، وأحْمَدَ، وأقَامَهُ القَاضِي الرُّويانِيُّ قَوْلاً عن روايةِ ابنِ اللَّبَّان، والأوَّلُ هُوَ المَذْهَبُ، ومنْهُمْ مَنْ جَمَعَ بين الجهاتِ العامَّةِ والخاصَّةِ، وقالَ: التَّوْرِيثُ ¬
يَثْبُتُ بِسَبَبٍ ونَسَبٍ، فالنَّسَبُ: القرابَةُ، والسَّبَبُ: إمَّا خاصٌ، وهو النِّكاحُ والإعْتاقُ، وإمَّا عامٌّ، وهُوَ الإِسْلاَمُ، هَذَا ما أوْرَدَهُ في الكتاب، وهؤلاءِ يَعْنُونَ بالسَّبَب ما سِوَى النَّسَب من وُجوهِ الإرْثِ، وإلاَّ فالنَّسَبُ أَحَدُ أسْبابِ الإرْثِ، وأحَدُ وجُوهِ الَوصلَةِ بَيْنَ الشَّخْصَيْنِ، فَيَكُونُ داخلاً في السَّبَبِ دُخُولَ الخصوصِ في العُمُومِ، فلا يَنْتَظِمُ التَّقْسِيمُ. وقولُهُ في الكِتَاب: (إمَّا عامٌّ كجهةِ الإسْلاَمِ) يجُوزُ أن يُعْلَمَ بالحَاء والأَلفِ والواوَ، لِما تَقَدَّم، وَلَوْ قال: "وهو جِهَةُ الإِسْلاَمِ" لكانَ أحْسَنَ؛ لأنَّ الكَافَ للتَّمْثِيلِ؛ وليس هاهُنَا سَبَبٌ عامٌّ سِوَى الإسْلاَمِ. وذَكَرَ صاحبُ "التَّتِمَّةِ" تفريعاً على الخلافِ في أنَّهُ موضُوعٌ في بَيْتِ المالِ إرْثاً أم على سَبِيلِ المصْلَحةِ؟ أَنَّا إذَا جَعَلْناهُ إرْثاً، لم يَجُرْ صَرْفُهُ إلَى المكَاتَبِينَ، ولا إلَى الكُفَّارِ، وفي جَوازِ صرفِه إلَى القاتِلِ وجهان: وجه الجواز أَنَّ تُهْمَةَ الاسْتِعْجَالِ لا تَتَحَقَّق هَاهُنَا؛ لأنَّه لا يتعيَّنُ مَصْرِفاً لمالِهِ (¬1). وفِي جواز صَرْفِهِ إلَى من أوصَى له بشَيء وجْهَانِ: فَفِي وَجْهِ لئلا يُجْمَعُ بين الوَصِيَّةِ والأرْثِ، ويخيَّر بَيْنَهُمَا. وفي وَجْهٍ: يجوز (¬2) بخلافِ الوَارِثِ المُعَيِّنِ؛ لأنَّه أَغْنَاهُ بِوَصِيَةَ الشَّرْعِ بقَوْلِهِ تَعالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} [النساء:11] عن وَصِيَّةِ غَيْرِهِ. ويجوزُ علَى الوجْهَيْنِ تخصيصُ طائفةٍ منَ المُسْلِمِينَ بهِ، ووجْهُهُ: بأنَّه استحقاقٌ بصفةٍ وهي أُخُوَّة الإسْلام، فَصَارَ، كما لَو أوصَى بثلثهِ لَقَوْمٍ موصُوفِين لا يَجِبُ استِيعابُهُمْ، وكَذَلِكَ، يَجُوزُ (¬3) أنْ يُصْرَفَ إلَى مَن وُلِدَ بَعْدَ مَوْتِهِ، أو كَانَ كافرًا فأسْلَمَ بَعْدَ مَوْتِهِ، أوْ رَقِيقاً، فَعَتَق (¬4). ¬
فصل في بيان المجمع على توريثهم
وقولُهُ في الإعْتَاقِ، (وَلا يُوَرَّثُ بهِ إلاَّ بالعُصُوَبةِ) وفي النِّكَاحِ، (وَلا يُوَرَّثُ بِهِ إلاَّ بِالْفَرِيضَةِ) مبنيٌّ، عَلَى أَصْلٍ سَيَأْتِي من بَعْدُ -إن شاءَ الله- وهو أَنَّ مِنَ الوارِثِينَ منهم من يَرِثُ بالفرضية، ومنْهُمْ مَنْ يَرِثُ بالتَّعْصِيبِ، فبين أنَّ الإِرْثَ بالأعْتَاقِ مِنَ القِسْمِ الثَّاني وبالنِّكاحِ مِنَ الأَوَّلِ، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: وَالوَارِثُ مِنَ الرِّجَالِ عَشَرَةٌ اثْنانِ مِنَ السَّبَبِ وَهُمَا المُعْتِقُ والزَّوْجُ، وَاثْنَانِ مِنْ أَعْلَى النَّسَبِ وَهُمَا الأَبُ والجَدُّ، واثْنَانِ مِنَ الأَسْفَلِ وَهُمَا الابْنُ وَابْنُ الابْنِ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى الطَّرَفِ وَهُمُ الإِخْوَةُ وَبَنُوهُمْ إِلاَّ بَنِي إِخْوَةِ الأُمِّ، والأَعْمَامُ وَبَنُوهُم إِلاَّ الأَعْمَامَ مِنْ جِهَةِ الأُمِّ وَهُمْ إخْوَةُ الأَبِ للأُمِّ، والوَارِثَاتُ مِنَ النِّسَاءِ سَبْعٌ، اثْنَتَانِ مِنَ السَّبَبِ وَهُمَا المُعْتَقَةُ والزَّوْجَةُ، واثنَتَانِ مِنْ أَعْلَى النِّسَبِ وَهُمَا الأُمُّ والجَدَّةُ، وَاثْنَتَانِ مِنَ الأسْفَلِ وَهُمَا البِنْتُ وَبِنْتُ البِنْتِ، وَواحِدَةٌ عَلَى الطَّرَفِ وَهِيَ الأُخْتُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فصل في بيان المجمع على توريثهم في حصْرِ الورثةِ طريقتان: احداهُمَا: طريقةُ خَلْطِ الذُّكُورِ بالإنَاثِ، وهِيَ أنَّ الوَرَثَةَ قِسْمان: مَنْ يرثُ بالنِّسَبِ، وهم الزَّوْجَان والمُعْتَق، ذكَراً كان أو أنثَى، ومن يرثِ بالنَّسَب والمناسَبُون قِسْمانَ: مَن يُدْلِي إلى الميِّتِ بغير واسِطةٍ، وهم الأبَوَانِ، والأولادُ، [و] كَلهم وارثُونَ، وَمَنْ يُدْلِي بواسِطَةٍ، وهُوَ إمَّا ذَكَرٌ أو أُنْثَى، وعلَى التقدِيرَيْنِ، فالتَّوسُّط إمَّا بمَحْضِ الذُّكورِ، أوْ بمحض الإنَاثِ أو بِهِمَا جميعاً، فيخرجُ مِن ذَلك ستُّ حالاتٍ: ذكر والتوسُّطُ بمَحْضِ الذُّكورِ، وكلُهُم ورثةٌ، ذكر والتوسُّطُ بمحضِ الإناثِ، ولاَ يرثْ منْهُم إِلاَّ الأَخُ للأُمِّ، ذكر والتوسُّطُ بالذُّكُورِ والإِنَاثِ، ولا يَرِثُ منهُمْ أحدٌ إلاَّ أُنثَى، والتوسُّطُ
بمَحْضِ الذُّكورِ، ولا يرثُ مِنْهُنَّ إلاَّ بنتُ الابْنِ والأُخْتُ للأب والجَدَّةُ للأبِ أُنْثَى، والتوسُّطُ بمَحْضِ الإناثِ لا يَرثْ منْهُنَّ إلاَّ الأُخْتُ للأمِّ، والجَدَّةُ للأمِّ أُنْثَى، والتوسُّطُ بالصِّفَتَيْنِ لا يَرِثُ منهُنِّ إلاَّ الجَدَّاتُ المُدْلِيَاتُ بمَحْضِ الإناثِ إلَى مَحْضِ الذُّكُور؛ كأمِّ أمِّ الأَبِ، وأمِّ أمِّ أبي الأب. الثانيةُ طريقةُ التَّمييز: وهِيَ أنَّ الوَرثَةُ صِنْفان رجالٌ ونسَاءٌ, وفي حَصْرِ كلِّ صِنْفِ عَبارَتانِ بَسْطٌ وإيجازٌ. فمنْ يَبْسُطُ بقول: الرِّجالُ الوارثُون خَمْسَةَ عَشْرَةَ: الابْنُ، وابنُ الابْن، وإن سَفَلَ، والأبُ، والجَدُّ للأب وإنْ علاَ، والأخُ للأبِ والأمِّ، والأخ للأب، والأخُ للأمِّ، وَابنُ الأخَ للأب والأمِّ، واَبنُ الأخ للأبِ، والعمُّ للأبِ والأمِّ، والعَمُّ للأب، وابْنُ العمِّ للأبِ والأمِّ, وابنُ العَمِّ للأبِ، والزَّوْجُ، والمُعْتِقُ. والنِّساءُ الوارِثاتُ عَشْرٌ: البنْتُ، وبنْتُ الابْنِ، وإنْ سَفَلَتْ، والأمُّ والجَدَّةُ للأبِ والجَدَّةُ للأمِّ، -وإن عَلَتا- والأختُ للأبِ والأمِّ، والأُخْتُ للأبِ، والأُخْتُ للأُمِّ، والزَّوْجَةُ، والمُعْتَقَةُ. ومَنْ يُوجز يقُولُ: الرجَالُ عَشَرَةٌ: الابْنُ وابْنُ الابْنِ، والأبُ، والجَدُّ، والزَّوْجُ، والمُعْتِقُ، كَمَا سَبَقَ، ويتصرَّفُ فيمنْ عَدَاهُمْ بالاخْتِصَارِ، فيُعَدُّ الأخُ واحداً، وَيدْخُلُ فيهِ الإخْوةُ مِنَ الجِهاتِ الثَّلاثِ. وأمَّا الباقُونَ، فللموجِزِينَ فيهمْ أَرْبَعُ عِبَارَاتٍ: إحداها: أَطْلَقَ بَعضُهُمْ: ابْنُ الأخِ، والعَمُّ وابْنُ العَمِّ، وهَذَا يدْخُلُ فِيهِ الأمِّيُّونُ منْهُمْ، لكنَّ تأْوِيلَهُ أَنَّ الغَرَضَ الآنَ بيانُ الجِنْسِ، ثُمّ تَبَيَّنَ عند التَّفْصِيلِ أَنَّ الشَّرْط يكونُوا من الأُمِّ، وهَذا كَما أنَّا أطْلَقْنا القَوْلَ في الجَدِّ للأبِ، وفي الجَدَّةِ، ثمَّ تبينُ أنَّ الشَّرْطَ ألا يتوسطَ بينهما وبَيْنَ الميت مَنْ لا يرثُ. والثانيةُ: قيل: وابْنُ الأخِ للأَبِ، والأمِّ أو الأب، وكَذَلِكَ في العَمِّ، وابن العم. والثالثة: قيل: وابنُ الأخِ للأبَ، وفي العَمِّ وابْنِ العَمِّ كَذَلِكَ. وصَاحبُ هذه العبارةِ يَعْنِي الانْتِسابَ إِلى الأَب بمطلقهِ، وأنَّه مَوْجُود (¬1) في الانْتِساب إلى الأبَوَيْنِ، [وصاحبُ العبارةِ الثَّانِيَةِ يَعْنِيَ الانتسابَ إلى الأب، وأنَّه غيرُ موجودٍ في انتِساب إلى الأَبوَيْن] (¬2) وهذا أشْهَرُ في الاسْتِعمالِ. والرابِعَةُ: قِيلَ: وابنُ الأخَ إلاَّ مِنَ الأُمِّ، وفي العَمِّ وابنِ العَمِّ كَذَلِكَ، والمرادُ إلاَّ مِنَ الأمِّ وحْدَهَا، وأحْسَنُ العِباراتِ هَذِهِ أو الثانِيَةُ. قال الموجِزُونَ: والنِّساءُ الوارِثاتُ سَبْعٌ: البنْتُ، وبِنْتُ الابْنِ، والأُمُّ، والجَدَّةُ من ¬
[الجِهَتَيْنِ، والأُخْتُ، والزَّوْجَةُ، والمُعْتِقَةُ، وضَمَّ الشَّيْخُ أَبُو خَلفِ السُّلَميُّ إلى المذكورِينَ في الصِّنْفَينِ: عصَبَاتِ المُعْتِقِ، ومُعتِقِ المُعتِقِ، وهَذَا] (¬1) قريبٌ لفْظاً، فإنَّ اسْمَ المُعْتِقِ لا ينتَظِمُهُما، لكنْ لو فَتَحْنا هذا البابَ، لاحتَجْنَا إلَى ضَمِّ عصباتِ مُعْتِق المعتِق، ومُعْتِقِ مُعْتِق المُعْتِق، وهَكَذا إلَى ما لا يَتَناهَى، فإذَن المُرَادُ من المُعْتِقِ مَنْ صَدَرَ منه الإعتاقُ، وكُلُّ مَنْ يُتَوَسَّلُ بِهِ. وإذَا اجْتَمَعَ الوارِثُونَ مِنَ الرجالِ لَمْ يَرِثْ منهمُ إلاَّ الأبُ، والابْنُ، والزَّوْجُ. وإذا اجْتَمَتِ الوارِثاتُ مِنَ النِّسَاءِ، وَرِثَتْ منهُنَّ خَمْسٌ: البنتُ، وبنتُ الابن، والأُمُّ، والزوجَةُ، والأُخْتُ من الأبَوَيْنِ. وإذا اجتمعَ من يُمْكِنُ اجتماعُهُمْ من الصِّنْفَينِ، ورثَ الأبَوانِ، والابْنُ، والبنْتُ، ومَنْ يُوجَدُ من الزِّوْجَيْنِ (¬2). ومَن انْفَرَدَ مِنَ الرِّجَالِ؛ جازَه جَمِيع التَّركةِ؛ إلاَّ الزَّوْجَ، والأَخَ للأُمِّ، ومَنْ يقولُ بالرَّدِّ، لا يَسْتَثْنِي إلاَّ الزَّوْجَ. ومَنِ انفردَتْ من النِّسَاءِ لم تَحُزْ جميعَ التركةِ إلاَّ المُعْتِقَةَ، ومَنْ يقولُ بالرَّدِّ يثبت لِكُلِّهِنَّ الحيازَة إلاَّ الزَّوْجَةَ (¬3). وإذا تَوَغَّلْتُ الكتاب، عَرَفْتَ صِدْقَ هَذهِ الثلاثِ، ووجُوهها. وأعْلَمْ أنَّ الفَصْلَ من أَصْله لبيان المُجْمَعِ عَلَى توريثِهِمْ مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ، ثُمَّ ¬
فصل في ذوي الأرحام
مَنْ يَقُولُ بتوريثِ ذَوِي الأرحامِ يزيدَ عليهم بكَثِيرٍ. وقولُهُ في الكِتاب "والوارِثُونَ مِنَ الرِّجَالِ عَشَرَةٌ" هُوَ عبارةُ الإِيجاز، وزَادَهَا بياناً، فقَالَ "اثْنانِ مِنْهُمْ مِنَ السَّبَبِ، وَهُمَا: الزَّوْجُ والمُعْتِقُ، والباقُونَ من النَّسَبِ اثْنَانِ مِنْ أَعْلاَهُ" يعني: أصُولَ الميِّتِ، ولم يُقَيِّدْ لفظ الجَدِّ بأبي الأب، وهو المُرادُ، ولا يَصْلُحُ قولُهُ "مِنْ أعلَى النَسَب" مُقَيَّدًا كما لا يَصْلُحُ في طرف الجَدَّةِ، واثْنَانِ من أسْفَلِهِ، يَعْنِي: فُرُوعَهُ، وأربعةً علَى الطَّرف، وهم الإخوةُ وبنوهم، والأعمامُ، وبنُوهُم. قولُهُ "إلاَّ الأعمام مِنْ جِهَةِ الأُمِّ" استثناءٌ مِنَ الأَعْمَام، واكْتَفَى به عَن الاسْتثناءِ مِنْ بينهم؛ لأنَّه إذا بَانَ أنَّ العَمَّ مِنَ الأمِّ لاَ يَرِثُ، فابنه (¬1) أولَى بألاَّ يَرِثَ. وقولُهُ "وَهُمْ إخْوَةُ الأَبِ للأُمِّ" تفسيرٌ لا تَمَسُّ الحاجةُ إليه، ولفْظُ "الأَعْمام" ينظم عمَّ المَيِّتِ، وَعَمِّ أبِيهِ وعمَّ الجدِّ إلَى حيث يَنْتَهِي، وَكَذَلِكَ حيثُ أطْلَقْنَا لَفْظَ العَمِّ في عَدِّ الوارِثينَ بخلافِ لَفْظِ الأخ، فإنَّ المُرادَ منهُ أخ الميتِ لا غَيْرَ، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: وَمَنْ عَدَا هَؤُلاَءِ كأبِ الأُمِّ، وَأَوْلاَدِ البَناتِ، وَبَناتِ الإِخْوَةِ، وَأَوْلاَدِ الأَخَوَاتِ، والعَمَّاتِ والخَالاَتِ، وَبَنَاتِ الأعْمَامِ فَهُمْ مِنْ ذَوِي الأَرْحَامِ وَلا شَيْءَ لَهُمْ (ز ح و). فصل في ذوي الأرحام قَالَ الرَّافِعِيُّ: ذَوُو الأَرْحامِ بالقَوْلِ الجُمَلِيِّ: كُلْ قَرِيبٍ يَخْرُجُ مِنَ المَعْدُودِينَ فِي الفَصْلِ السَّابِقِ. وإنْ شِئتَ قلتَ: كُلُّ قريب لَيْسَ بذي فَرضٍ ولا عَصَبَةٍ، وَهَذَا عَلَى إدخَال قَرابَةٍ الأُمَّ في مُطْلَقِ لَفْظِ القَرابَةِ، وَأَمَّا تَفْصِيلُهُم، فَفِيهِ طَريقَان: أحدُهُمَا: [إن نَقلَّت الطريقة الأُولَى في حَصْرِ الورثة] (¬2) وتقول: كُلُّ مناسِبٍ، فإمَّا أو يَتَوَسَّطَ بَيْنَهُ وبيْنَ المَيِّتِ واسطةٌ، ولَيْسَ في هَذَا القِسْمِ أحَدٌ منْ ذَوِي الأرْحَامِ أو يتوسَّطَ، فَهُوَ إما ذَكَرٌ أو أُنْثَى، وَعَلَى التقديرَيْنِ، فالتوسُّطُ إمَّا بِمَحْضِ الذكور، أو بِمَحْضِ الإنَّاثِ، أو بِهِمَا: إنْ كانَ ذكرًا، والتَّوَسُّطُ بمَحْضِ الذُّكُورِ، فلَيْسَ فيهم أحدٌ مِنْ ذَوِي الأَرْحَامِ أيضاً. وإنْ كَانَ ذَكَراً، والتوسط بمِحَضِ الإنَاثِ؛ فَكُلُّهُمْ من ذَوِي الأَرْحَامِ إلاَّ الأخَ من الأمِّ. ¬
وإن كان أُنْثَى، والتوسُّطُ بمَحْضِ الذُّكُورِ، فكُلُّهُمْ مِنْ ذَوِي الأَرْحَامِ، إلاَّ بنتَ الابْنِ، والأخْتَ للأَبِ، والجِدَّةَ للأبِ. وإنْ كانَتْ أُنْثَى، والتوسط بمَحْضِ الإنَاثِ، فَكَذَلِكَ الأخْتَ للأمِّ, والجِدَّةَ للأُمِّ. وإنْ كانَ ذَكراً أو أُنْثَى، والتوسط بالإنَاثِ والذُّكُور جميعاً، فالكُلُّ من ذَوِي الأَرْحَامِ إلاَّ الجَدَّاتِ المُدْلِيَاتِ بمَحْضِ الإنَاثِ إلَى مَحْضِ الذُّكُورِ. والثاني: أنَّ ذَوِي الأَرْحَامِ عَشَرَةُ أصْنَافٍ: الجَدُّ أبُو الأُمِّ، وكلُّ جَدٍّ وجَدَّةٍ سَاقِطَيْنِ، وأَوْلاَدُ البَنَاتِ، وبَنَاتُ الإخوةِ، وأولاَدُ الأخَواتِ، وبنُو الاخوةِ للأُمِّ، والعَمُّ للأُمِّ، وبناتُ الأَعْمَامِ والعَمَّاتِ، والأخْوَال، والخالات، ومنْهُمْ مَنْ يعدُهُّمْ أَحَدَ عَشَرَ صِنْفاً، وَيَفْصِلُ الجَدَّ عن الجَدَّةِ. ومِنْهُمْ مَنْ يَزِيدُ علَى ذَلِكَ، والمقْصُودُ لا يَخْتَلِفُ، فهؤلاء لا يَرِثُون بالرَّحمِ شَيْئاً، وبِهِ قال مالِكٌ: خِلافاً لأبي حنِيفَةَ وأَحْمَدَ؛ لما رُوِيَ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قال: "سأَلْتُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ مِيرَاثِ العَمَّةِ والْخَالَةِ فَسَارَّني جِبْرِيلُ أنْ لاَ مِيرَاثَ لَهُمَا". وُيرْوَى أنَّه -صلى الله عليه وسلم- "رَكِبَ إِلَى قباء يَسْتَخِيرُ اللهَ تَعَالَى فِي الْعَمَّةِ والْخَالَةِ، ثُمَّ قَالَ: "أُنْزِلَ عَلَيَّ أنْ لاَ مِيرَاثَ لَهُمَا". وأَيْضاً، فإنَّ العَمَّةَ لا تَرِثُ مَعَ العَمَّ، وكُلُّ أُنْثَى لا تَرِثُ مَع مَنْ في دَرَجَتِهَا مِنَ الذُّكُورِ لا تَرِثُ إِذَا انْفَردَتْ كابْنَةِ المُعْتِقِ. وأيْضًا فإنَّهُم لَوْ وَرِثُوا، لَتَقَدَّمُوا على المُعْتِقِ؛ لأنَّ القَرَابَةَ مقدَّمَةٌ علَى الوَلاَءِ، وقَدْ سَلَّم أبُو حنيفةَ بتَقَدُّمِ المعتقِ علَيْهِمْ. ولْيُعْلَمْ قَوْلُهُ في الكتاب "لاَ شَيْء لَهُمْ" بالحاءِ والألف وبالزاي والواوِ أَيْضاً؛ لأَنَّ في "التهذيب" أنَّ المُزَنِيَّ وابْنَ كج يوافِقَان أَبَا حَنيفَة في المَسْألةِ، وُيبْنَى على مَنْع التَّوْرِيثِ منْعُ الرَّدِّ، وهو أنْ يُخَلِّفَ الميتُ صاحِبَ فَرْضِ أو أصحابَ فُرُوضٍ، لاَ تَسْتَغْرِقُ المالَ، فلا يُرَدُّ البَاقي عليهِم. والذينَ ورَّثُوا بالرِّحم حَكَمُوا بالرَّدِّ عَلَى أصْحَابِ الفُرُوضِ، إلاَّ على الزَّوْجِ والزَّوْجَةِ؛ فإنَّه لا رَحِمَ لَهُمَا، ويقدِّمُونَ الرَّدَّ علَى توريثِ ذوِي الأَرْحَام الذينَ لا فَرْضَ لهُمْ؛ لأنَّ القَرَابَةَ المفيدةُ لاسْتحقاقِ الفَرْض أوْلَى، واحتَجُّوا عَلَى إبْطَال الرَّدِّ بقولِهِ تَعالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176]، جَعَلَ لَهُ الكُلِّ حيثُ جَعَلَ لَهَا النِّصْفَ. ولَوْ قُلْنَا بالرِّد، لوَرِثَتِ الكُلَّ كَمَا يَرِثُهُ الأَخُ، فيرتَفِعُ الفَرْقُ، وبَمَا رُوِيَ عَنِ النبيِّ
-صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "فَمَا أبْقَتِ الفَرائِضُ فَلأَوْلَى عَصَبَةٍ" (¬1). ومِثْلُ هَذَا الشخْصِ عَصَبَتُهُ المُسْلِمُونَ؛ ألا تَرَى أَنَّهُم يتحمَّلُون عَنْهُ الدِّيَةَ، ومَا ذَكَرْنَا مِنْ منْعِ توْرِيثِ ذَوِي الأرْحَام، ومنْعِ الرَّدِّ فيمَا إذَا انتظمَ أمْرُ بيْتِ المالِ بأَنْ وَلِيَ النَّاسَ إمامٌ عادِلٌ. أمَّا إذا لَمْ يَكُن إمامٌ، أو لم يكن مستحِقاً للإمَامَةِ، فَفِي مَالِ مَنْ لَمْ يخلِّفْ ذَا فَرْضٍ ولا عَصَبَةٍ أو خَلَّفَ ذَوِي فُرُوضِ لا تَسْتَغرِقُ المَالَ، وجهانِ حكاهما الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ والمُعْتَبَرُونَ. أظْهَرُهُما، عند أبِي حامِدٍ وصاحب "المهذَّب": أنَّه لا يُصرَفُ إلَى ذَوِي الأرحامِ ولا يُرَد عَلَى ذَوِي الفُرُوضِ أَيْضاً؛ لإنَّ الَحَقَّ فيه لِعَامَّةِ المُسْلِمِينَ، فلا يَسْقُطُ بِفِقْدانِ منْ ينُوبُ عَنْهُمْ. والثانى: أنَّه يُصْرَفُ وَيُردُّ؛ لأنَّ المَالَ مصْروفٌ إلَيْهِمْ أو إلَى بيْتِ المَالِ بالاتِّفَاقِ. فإذَا تَعذَّرت إحْدَى الجهتَيْنِ، تعينت الأخْرَى، ولو تَوَافَقَتَا، لعَرَّضْنَا المالَ للفَوَاتِ والآفاتِ، وهَذَا ما اخْتَارَهُ الق! اضِي ابنُ كَجٍّ، وأفتى (¬2) به أكَابِرُ المتأخرينَ (¬3). التفريعُ: إنْ قُلْنَا: لا يُصْرَفُ إلَيْهِمْ، وَلا يُرَدُّ، فإن كَانَ المَالُ في يدِ أمينٍ؛ قَالَ في "التتِمَّةِ": يُنْظَر: إنْ كَانَ في البَلَدِ قاضٍ، بشَرائِطِ القضاءِ، مأذونٌ في التصرُّفِ في مالِ المصالح، وَدُفِعَ إليهِ؛ لِيَصْرِفَهُ فِيهَا، وإنْ لم يَكُنْ قَاضٍ، أو لَمْ يكِنْ بشرائِطِ القَضَاءِ، صَرَفَهُ الأمِينُ بِنَفْسِهِ إلى المصالِحِ، وإنْ كَانَ هُنَاكَ قاضٍ بشَرْطِ القَضَاءِ، لكنه لم يُؤْذَنْ لهُ ¬
في التَّصَرُّفِ في مَال المَصَالِحِ، فَيُدْفَعُ إلَيْهِ أمْ يفرقه الأمينُ بنَفْسِهِ [إلى المَصالِح]؟ فيه وجْهَانِ (¬1)، وعلَى الثَّاني وُقُوفُ المَسَاجِدِ في القُرَى يَصْرِفُها صلحاءُ القريةِ إلَى عِمَارةِ المَسْجِدِ ومصالِحِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ في يَدِ أَمِينٍ، وَدُفِعَ إلَيْه ليفرِّقه. وحَكَى أَبُو الفَرَجِ الزاز وجْهاً آخَرَ، وَهُوَ: أنَّه لا يُفَرِّقُ، بَلْ يُوقَفُ إلَى أنْ يَظْهَرَ بيْتُ المَالِ، ومن يَقُومُ له بشَرْطِهِ، وإذَا قُلْنَا بالصَّرْفِ إلَى ذَوِي الأرحامِ، فَقَدْ رَوَى القاضي ابْنُ كجٍّ وجْهًا أنَّه يُصْرَفُ إلى الفُقَرَاءِ مِنْهُمْ، ويقدَّمُ الأحْوَجُ فالأحْوَجُ؛ جَمْعًا بَيْنَ المذهبَيْنِ بقَدْرِ الإمْكَانِ. والمَشْهُورُ أنَّه يُصْرَفُ [إلَى جَمِيعِهِمْ، ثُم هُوَ إرْثٌ أمْ شيءٌ على سبيل المصلحة؟ أَشْبَهُهُما بأصْلِ المذْهَب: أنَّه عَلَى سبيلِ المصْلَحةِ، وهَذَا ما اختاره القاضي الرُّويانيُّ، وَذَكَر أنَّه يصْرَفُ] (¬2) إليَهم، إنْ كانُوا محتاجين، أو إلَى غيرِهِ مِنْ أنْواعَ المصالِح، فإنْ خِيفَ على المالِ مِنْ حَاكِم الزَّمان، صُرِفَ إلَى الأصْلَح بقَوْل مُفْتِي البَلْدةِ (¬3)، وأَطْلَقَ صاحبُ "التهذيب" أنَّ شَيْخهُ القاضِيَ، حُسَيْنَ كانَ يُفْتِي بتوْرِيثِ ذَوِي الأرْحَامِ، وهَذَا يجوزُ أنْ يراد بهِ عند فَسَادِ بيْتِ المَالِ، ويَجُوزُ أنْ يكُونَ مطْلقًا كَمَا حكَاهُ عن المُزَنِيِّ وابْنِ سُرَيْجٍ. وإنْ حَكَمْنا بأنَّهُمْ يورثونهم، ويثبتُون الرَّدَّ، فلا بُدَّ من معْرفةِ كيفِيَّةِ الأمْرَيْنِ، والخَطْبُ في بيانها لَيْسَ بِهَيِّنٍ، ولا يَلِيقُ به هذَا الموْضِعُ، فتورِدُهُ في جملةِ أبْوابٍ، نأتي بها بَعْدَ الفراغِ مِنْ شَرْحِ مسائِلِ الكِتابِ، إن شاءَ الله تعالَى. قال الغَزَالِيُّ: فَنَذْكُرُ الآنَ قَدْرَ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الوُرَّاثِ (أَمَّا الزَّوْجُ) فَلَهُ النِّصْفُ، فَإنْ كانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ وَلَدٍ وارِثْ فَلَهُ الرُّبْعُ (وأَمَّا الزَّوْجَةُ) فَلَهَا الرُّبْعُ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ وَلَدٍ وَارثٌ فَلَهَا الثُّمُنُ، فَإنْ كُنَّ جَمَاعَةً اشْتَرَكْنَ فِي الرُّبُعِ أَوِ الثُّمُنِ، وَلا يَزِيدُ حقَّهُنَّ. ¬
فصل في بيان ما يستحقه كل وارث من المجمع عليهم
" فصل في بيان ما يستحقه كل وارث من المجمع عليهم" قَالَ الرَّافِعِيُّ: لَمَّا فَرَغَ من بيانِ مَنْ يَرثُ وَمَنْ لا يَرِثُ مِنَ الأَقَارِبِ، تكلَّم فِيمَا يستحقُّهُ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الوَرثَةِ، وتُقدِّم عليه أنَّ كُلَّ وارِثٍ: إمَّا أنْ يكونَ لَهُ سَهْمٌ مُقدَّرٌ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ، ويُقَالُ لَهُ: صاحِبُ فرضٍ، أَوْ لاَ يكُونَ، ويقالُ لَهُ: عَصَبَةٌ، ولكنْ بشَرْطِ، وَهُوَ أنْ يكُونَ مُجْمَعًا عَلَى توريثِهِ، فإنَّ مَنْ وَرَّثَ ذَوِي الأَرْحَامِ لا يُسَمِّيهِمْ عَصَباتٍ، وإنْ لمْ يَكُنْ لَهُمْ سَهْمٌ مُقدَّرٌ. ثُمَّ أَصْحابُ الفُرُوض صنفان: منهم منْ لا يَرِثُ إلاَّ بالفرضيَّة؛ وهُم الزَّوْجَانِ، والأُمُّ، والجَدَّةُ، وولَدُ الأمِّ، ومنهم مَنْ يَرِثُ بالتَّعْصِيبِ أَيْضاً، ثم مِنْ هؤلاء من لا يَجْمَعُ بين الجِهَتَيْنِ دَفْعةً واحِدةً، بلْ إمَّا أنْ يَرِثُ بِهَذِهِ أو بِهَذِهِ، وهُمُ البَناتُ وَبَنَاتُ الابْنِ والأخواتُ من الأبَوَيْنِ، والأخواتُ من الأبِ. ومنْهُمْ من يَرِثُ بالجهتَيْنِ جميعاً، وعلَى الانفرادِ، وهُوَ الأبُ والجَدُّ (¬1). والعَصَبَةُ عَلَى ضربَيْنِ: عَصَبَةٌ بِنَفْسِهِ، وهُوَ كُلُّ ذَكَرِ يُدْلِي إِلَى الميِّتِ بغَيْرِ واسِطَةٍ أو بتَوَسُّطِ محْضِ الذُّكُورِ، وهَؤُلاءِ يأْخُذُونَ جميع المال إذَا انفَرَدُوا. والباقي بعد أصحابِ الفرائِضِ عنْدَ الاجْتماع، ورُبَّما سَقَطُوا (¬2). وعصبة بِغَيْرِهِ، وهمُ البَناتُ وبنَاتُ الابْنِ، والأخَوَاتُ من الأبوَيْنِ، والأخواتُ من الأب، فيتَعصَّبْنَ بإخوتهن، ويتعصَّبُ الأخواتُ من الجهتين بالبناتِ وبناتِ الابْنِ أيضاً (¬3)، وقد تُجُعَلُ العَصَبَةُ عَلَى ثَلاثَةِ أضْرُبٍ: ¬
عصبةٌ بنَفْسِهِ، كَمَا سَبَقَ، وعَصَبَةٌ بِغَيْرِهِ، وهُوَ تعْصِيبُ الأصْنافِ الأرْبعَةِ بالإِخْوَةِ، وعصبةٌ مَعَ غَيْرِهِ، وهوَ تَعْصِيبُ الأخَوَاتِ من الجهَتَيْنِ بالبَناتِ وبناتِ الابْنِ، ويُفْرَّقُ بينَهُما بأنَّا إذَا قُلْنَا: عصبةٌ بالغَيْرِ، فَذَلِكَ الغَيْرُ عَصَبَةٌ، وإذَا قُلْنَا: عَصَبَةٌ مع الغَيْرِ، لَمْ يَجِبْ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الغَيْرُ عَصَبَةٌ بنَفْسِهِ، وهَذا تفاُوتٌ في الاصطلاح، والحقيقةُ واحدةٌ، فاعْرِفْ هَذِهِ الجملَةَ، وتفْاصيِلُهَا بين يديْكَ. جئْنَا إلى المقصودِ بالفَصْلِ، فَنقولُ: للزَّوْجِ نصْفُ المَالِ، إذَا لَمْ يكنْ للميتة وَلَدٌ، ولا وَلدُ ابْنٍ، ورُبعُهُ إذَا [كَانَ] لَها وَلَدٌ أو ولدُ ابْنِ مِنْهُ أو مِنْ غَيْرِهِ. وللزوْجَةِ الرُّبُعُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ للميِّتِ وَلَدٌ ولا وَلَدُ ابْنٍ، والثُّمْنُ، إذَا كانَ لَهُ وَلَدٌ، أوْ وَلَدُ ابْنٍ منها، أو مِنْ غَيْرِها، قَالَ الله تَعالىَ: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} وقالَ: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] إلَى آخِرِها، إلاَّ أنَّ النَّصَّ ساكِتٌ عَنْ وَلَدِ الابْنِ فقال قائلون: اسْمُ الوَلَدِ يَقَعُ عَلَى وَلَدِ الابْنِ أَيْضاً، فكانا مرادَيْنِ باللَّفْظِ قَدْ ذَكَرْنَا في الوَقْفِ أنَّ اسْمَ الوَلَدِ لا يتناوَل وَلَدَ الابْنِ في أَصَحِّ الوجْهَيْنِ. وقَالَ آخَرُونَ: قِسْنَاهُ علَى الولدٍ للإجْمَاعِ عَلَى أنَّه كَوَلَدِ الصُّلْب في الإرْثِ والتَّعْصِيب، والزَّوْجَتان والثَّلاثُ والأرْبَعُ يَشْتَرِكْنَ فِي الربعُ أو الثُّمُنِ، وَلا يزيدُ حَقُّهُنَّ، فلَو زِدْنَا، لاسْتَغرَقَتِ الأربَعُ المالَ، والزَادَ نصيبُهُنَّ عَلَى نَصيبِ الزَّوْجِ، وَهَذَا تَوْجِيهٌ إقْناعِيُّ، وكَفَى بالإجماعِ حُجَّةً. وقولُهُ في الكتاب "أوْ لَدُ وَلَدٍ وارِثٌ" لفظُ "وارث" نعْتٌ لـ"الولد" المضافِ، وإنَّما يَكُونُ وارِثاً، إذَا كَانَ المضافُ إليهِ ابْناً، فإنَّ ابْنَ البِنْتِ لا يَرِثُ ويَخْرُجُ عَنْهُ ما إذَا كَانَ قاتِلاً أو رَقِيقاً، فإنَّ مَنْ لا يَرِثُ بِهَذِهِ الأَسْبَاب لا يَحْجُبُ، ويجوزُ أَنْ يُجْعَلَ عَائِداً إلَى وَلَدِ الصُّلْب أيْضاً، فيكونَ بِمَثابَةِ قولهِ [تَعَالَى]: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون:50] وَلا يَجُوزُ أنْ يُقَدَّرَ "الوارِث" نَعْتاً لـ المضاف إليه؛ لأنَّ وَلَدَ البِنْتِ وَلَدٌ وارِثٌ, وأَنَّهُ لا يحجب، والله أَعْلَمْ. قال الغَزَالِيُّ: (أَمَّا الأُمُّ) فَلَهَا الثُلُثُ إِلاَّ في أَرْبَعِ مَسَائِلَ، زَوْجٌ وَأَبَوَانِ، وَزَوْجَةٌ وأَبَوَانِ، فَلَهَا المَسْأَلتَيْن ثُلُثٌ (و) مَا يَبْقَى، وَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ وَلَدٍ وارِثٌ، أَوِ اثْنَانِ مِنَ الإِخْوَةِ أَوِ الأخَوَاتِ فَصَاعِداً، فَلَهَا فِي السُّدُسُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قَالَ الله تَعالَى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11] فنصت الآية علَى أنَّ للأمِّ الثُّلُث، إذَا لَمْ يكُنْ للميِّتِ وَلَدٌ، ولا إخوة له، وعَلَى أنَّ لَها السُّدُسُ، إذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ أو إخْوةٌ.
وَوَلَدُ الابْنِ مُلْحَقٌ بالوَلَدِ، عَلَى ما ذَكَرْنَا في ميراثِ الزَّوْجَيْنِ، وإنْ كَانَ له اثْنَانِ من الإخْوَةِ والأَخَواتِ أيِّ جِهَةٍ كَانُوا، فَلَهَا السُّدُسُ أيضاً، ولفظُ الآيَةِ "الإخْوَة" وظَاهِرُهُ يقتضي ألاَّ تَنْقُصَ عَنِ الثُّلُثِ باثْنَيْنِ منْهُمْ، لكنَّ قدْ يعبر بلَفْظِ الجَمْعِ عَنْ الاثْنَيْنِ. وقَدْ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "الاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ" (¬1). وَرُوِيَ أنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ احتجَّ عَلَى عُثْمَان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقالَ: "كَيْفَ تَرِدُها إلَى السُّدُسِ بالأَخَوَيْنِ، وليسا بإخْوَةٍ، قَالَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: لا أَسْتَطِيعُ رَدَّ شَيْءٍ كَانَ قَبْلِي وَمَضَى في الُبلْدَانِ، وَتَوَارَثَ النَّاسُ بِه" (¬2). فأشارَ إلَى إجماعِهمْ علَيْهِ قَبْلَ أنْ أظهر ابْنُ عَبَّاسِ -[رَضِيَ الله عَنْهُ]- الخِلاَفَ. وأيضاً، فإنَّه حَجْبْ يتعلق بعدد، فكانَ الاثْنَان أَوَّله كَحَجْبِ البَناتِ [لِبَنَاتِ] الابْنِ، واحتَجَّ أيضاً بأنَّه فَرْضٌ يتعيَّن بعَددٍ، فَكَانَ الاثْنان فيه كالثَّلاثَةِ كفرض البناتِ، فَهَذانِ فَرْضانِ للأُمِّ، ولَهَا فَرْضٌ ثالثٌ في مسأَلَتَيْنِ: إحداهما: إذَا ماتَتِ امرأةٌ، وخَلَّفَتْ زَوْجاً وأبَوَيْنِ: فللزوجِ النِّصْفُ، وللأمِّ ثُلُثُ ما يَبْقَى، والباقِي للأَبِ. والثَانيةُ: ماتَ رجُلٌ وخلَّفَ زَوْجَةَ وأبَوَيْن، فللزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وللأمِّ الثُلُثُ ما يَبْقَى، والباقي للأب، وَوَجَّهوهُ بأنَّهُ شارَكَ الأبَوَيْنِ ذُو فَرْضٍ، فيَكُونَ للأمِّ (¬3) ثُلُثُ ما فَضَلَ عن الفَرضِ، كَمَا لَو شَارَكَتْهَا بنْتٌ، وبأنَّ كُلَّ ذَكَرٍ وأُنْثَى، لو انفَرَداً اقْتَسَما المالَ أَثْلاثاً، وإذا اجتمعا معَ الزَّوْجِ والزوجةِ، وَجَبَ أنْ يكونَ الفاضِلُ عَنْ فَرضِهِما بينهما أثْلاثاً، كالأخِ ¬
والأُخْتِ، وبأنَّ الأَصْلَ الفرائِضِ أنَّهُ إذَا اجتمعَ ذَكَرٌ وَأُنثَى في دَرَجَةٍ واحِدَةٍ، يكونُ للذَّكَرِ ضعْفُ مَا لِلأُنْثَى. فَلَوْ جَعَلْنا في زَوْج وأبَوَيْنِ للأمِّ الثُّلُثَ كامِلاً، فَقَدْ فضَّلْنَاها على الأَبِ، ولو جَعَلْنا لَهَا الثُّلُثَ في زَوْجَةٍ وأبَوَيْنِ، لم يَحْصُلْ تفضيلُ الأَبِ عَلَى النِّسْبَةِ المعهُودَةِ. قَالَ الإمَامُ: وهَذا يُشْكِلُ بمَا إِذَا اجْتَمَعا معَ الابْنِ، ويجوز أن يُحْتَجَّ في المسألَتَيْنِ باتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَبْلَ إِظهارِ ابنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الخِلاَفَ، كَمَا احتَجَّ عثمانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في المَسْأَلَةِ السَّابقةِ. وأعْلَم أنَّ ما تَأخذُهُ الأُمّ في المَسْأَلَةِ الأُولَى سُدُسُ المالِ، وفِي الثانيةِ رُبْعُهُ، إلاَّ أنَّ اللهَ -تَعَالَى- جَعَلَ لَهَا الثُّلُثَ عنْد عَدَمِ الوَلَدِ والإخوةِ، فأَحَبُّوا استيفاءَ لَفْظِ الثُّلُثِ مُوَافَقَةً للقُرْآنِ. وقولُهُ في الكتاب "فَلَهَا الثُّلُثُ إلاَّ فِي أَرْبَع مسَائِلَ" أرادَ بالمسألةِ الثَّالِثَةَ: أنْ يكُونَ للمَيِّتِ وَلَدٌ أو وَلَدُ ابْنٍ، وبالرَّابعَةِ: أنْ يكُونَ لهُ اثنانِ من الإخوةِ، والأخَوَاتِ فَصَاعِداً، وليْسَ في بناء فَرْضِهِمَا على الثُّلُثِ، واستثْناءِ المَسَائِل الأَرْبَعِ كثيرُ غَرَضٍ، ولو بني على السُّدُسِ واستَثْنَى ثلاث مسائِلَ: زوجٌ وأَبَوَانِ، وزوجةٌ أبوانِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ وَلاَ وَلَدُ ابْنٍ ولا اثنانِ مِنَ الإخْوَةِ والأَخَوَاتِ كانَ مِثْلَهُ أوْ قَرِيبًا مِنْهُ. ولَكَ أنْ تُعْلِمَ قَوْلَهُ "فَلَهَا في المَسْأَلَتَيْنِ ثُلُثُ مَا يَبْقَى" [بالوَاوِ]؛ لأنَّ الشَّيْخَ أَبَا حاتمٍ القَزوِينيَّ -رَحِمَهُ الله- لَمَّا حَكَى مَذْهَبَ ابْنِ عبَّاسٍ في زَوْجٍ وأبَوَيْنِ، وهو أنَّ للأمِّ الثُّلُث كاملًا، قَالَ: وبِهِ قَالَ شَيْخُنَا يَعْنِي أبَا الحَسَنِ بْنَ اللَّبَّانِ. ورأيت في "الإيجاز" من جمع الأَخْذَ بقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في الصورَتَيْنِ، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: (أَمَّا الجَدَّةُ) فَلَهَا السُّدُسُ أَبَدَاً وَهِيَ الَّتِي تُدْلي بِوَارِث، وَلا شَيْءَ لأُمِّ أَبِ الأُمِّ لِأَنَّها تُدْلِي بِغَيْرِ وارِثٍ، فَكُلُّ جَدَّةٍ تُدْلي بِمَحْضِ الإنَاثِ كَأَمِّ أُم الأُمِّ، أَوْ بِمَحْضِ الذُّكُورِ كَأُمِّ أَبِ الأَبِ، أَوْ بمحْضِ الإِنَاثِ إِلى مَحْضِ الذُّكُورِ كَأُمِّ أمِّ أَبِ أَبِ الأَبِ فَإِنَّها تَرِثُ (م)، وَإِذَا دَخَلَ في نَسَبِها اِلَى المَيِّتَ ذَكَرٌ بَيْنَ الأنْثُيَيْنِ لَمَ تَرِثْ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّ كُلَّ جَدَّةٍ تُدْلِي بِذَكَرٍ فَلا تَرِثُ إِلاَّ أُمَّ الأَبِ وَأُمَّهَاتِهَا مِنْ قِبَلِ الأُمِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: عَنْ قُبيصةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، قَالَ: جَاءَتِ الجَدَّةُ إلَى أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- تَسْألُهُ عَنْ مِيرَاثِهَا، فَقَالَ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللهِ شَيْءٌ، وَمَا عَلمْتُ لَكِ في سُنَّةِ
رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- شَيْئاً، فارْجِعِى، حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ، فَسَأَلَ النَّاسَ، فَقَالَ المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةُ: شَهِدتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أعْطَاهَا السُّدُسَ، فَقَالَ: هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ؟ فَقامَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلَمَةَ الأنْصَارِيُّ، فَقَالَ مِثْلُ مَا قَالَ المُغِيرَةُ، فأَنْفَذَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ السُّدُسَ. ثُمَّ جاءَتِ الجَدَّةُ الأُخْرَى إلَى عُمَرَ تَسْأَلُهُ مِيرَاثُهَا، فَقَالَ لَهَا: مَا لَكِ فِي كتابِ اللهِ شَيْءٌ، وَمَا كَانَ القَضَاءُ الَّذِي قَضَى بِهِ إلاَّ لِغَيْرِكِ، وما أنا بِزائدٍ في الفَرائِض شَيْئاً، ولكنْ هُوَ ذَلِكَ السُّدُسُ، فإنِ اجْتَمَعْتُمَا، فَهُوَ بَيْنَكُمَا، وَأَيُّكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا (¬1). وعَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- جَعَلَ للجَدَّةِ السُّدُسُ (¬2)، إذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهَا أُمٌّ. والكلامُ في الجَدَّةِ في فُصُولٍ، مِنْهَا في جهتها، وسيَأْتِي [إنْ شَاءَ الله -تَعَالَى-] في "فَصْلِ الحَجْبِ". ومِنْها بيانُ الَّتي تَرِثُ مِنَ الجَدَّاتِ، والتي لاَ تَرِثُ، فترِث أمُّ الأمِّ، وأمَّهَاتُهَا المُدْلِياتُ بمَحْضِ الإنَاثِ، وأُمُّ الأَبِ، وَأمَّهَاتُها كَذَلِكَ (¬3). وقد رُوِيَ عَن القاسِم بْن مُحمَّدٍ أنه قَالَ: جَاءَتِ الجَدَّتانِ إِلَى أبِي بَكْر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَأَعْطَى أُمَّ الأُمِّ المِيرَاثَ (¬4) دُونَ أُمِّ الأَبِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الأنْصَارِ: أَعْطيْتَ الَّتِي لَوْ ¬
مَاتَتْ، لَمْ يَرِثِهَا، ومَنَعْتَ الَّتِي لَوْ مَاتَتْ وَرِثَهَا، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- السُّدُسَ بَيْنَهُمَا (¬1). وفِي أُمِّ أب الأبِ وأمِّ من فَوْقَهُ مِنَ الأَجْدَادِ وأُمَّهَاتِهِنَّ قَوْلاَنِ للشَّافِعِيِّ [-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-]، ورِوَايَتَانِ عن زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُنَّ وَارِثَاتٌ (¬2)، وبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لِمَا رُويَ أَنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَعْطَى السُّدُسَ ثَلاَثَ جَدَّاتٍ؛ جَدَّتَيْنِ مِنْ قِبَلِ الأبَ وَوَاحِدَةً مِنْ قِبَلِ الأُمِّ (¬3)؛ وَلِأَنَّهُنَّ جَدَّاتٌ مُدْليَاتٌ بِالْوَارِثِينَ فَأَشْبَهْنَ أُمَّ الأبِ. والثَّانِي: رَوَاهُ أبو ثور عَنْ الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَبهِ قَالَ مالِكٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-؛ أَنَّهُنَّ لاَ يَرِثْنَ؛ لِأَنَّهُنَّ مُدْلِيَاتٌ بِجَدٍّ فَأَشْبَهْنَ أُمَّ أَبِ الأمِّ. وقَالَ أَحْمَدُ: لاَ يَرِثُ مِنَ الجَدَّاتِ إلاَّ ثَلاَثٌ: أُمُّ الأُمِّ، وأمُّ أم الأبِ وأُمُّ أبِ الأَبِ، وأُمَّهَاتُهُنَّ. وأمَّا الجَدَّةُ الَّتِي تُدْلِي إلى المَيِّتِ بذَكَرٍ بَيْنَ أُنْثَيَيْنِ، كأُمِّ أب الأم، فإنَّها لاَ تَرِثُ، كَما لاَ يَرِثُ ذَلِكَ الذَّكَرُ، بَل هُمَا مِنْ ذَوِي الأرْحَامِ، كَمَا قَدَّمْنَا. إِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ، فَفِي ضَبْطِ الجَدَّاتِ الوَارِثَاتِ عَلَى القَوْلِ الصَّحِيحِ عِبَارتَانِ، ذَكَرَهُمَا في الكِتَابِ: إحداهما: أَنْ يُقَالَ: الوَارِثَاتُ؛ كُلُّ جَدَّةٍ تُدْلي بِمَحْضِ الإناث أَوْ بِمَحْضِ الذكور أو بمحضِ الإناث إلى محضِ الذكورِ. والثَّانِيَّةُ: أنْ يُقَال: الَّتِي لا تُدْلِي بمَحْضِ الوَارِثينَ غَيْرُ وَارِثَةٍ والبَاقِيَاتُ وَارِثَاتٌ عَلَى مذْهبِ مالكٍ، والقَوْلُ الذي رَوَاهُ أبُو ثَوْرٍ لاَ يَرِثُ مِنَ الجَدَّاتِ مَنْ تُدْلِي بِغَيرِ وَارِثٍ، وَلاَ ¬
مَنْ وقع آخِرِ نَسَبَهَا، أبوانِ فَصَاعِداً، وعلَى مَذهب أحْمَد، ولا الَّتِي يَقَعُ في نسبها ثَلاثَةُ آباءِ. وقولُهُ في الكتاب "وهِيَ الَّتِي تُدْلِي بِوَارِثٍ" يَعْنِي أنَّ الجَدَّةَ التي لَهَا السُّدُسُ هِيَ الَّتِي تُدْلِي بوارِثٍ، أو مَا أشْبَهَهُ، وإنْ كَانَ المَذْكُورُ مُطْلَقَ الجَدَّةِ. وَيجُوزُ أنْ يُعْلَمَ قَولُهُ "فَإِنَّهَا تَرِثُ" بالمِيمِ والألفِ؛ فإنَّهُنَّ لا يَرِثْنَ جميعاً عِنْدَهُمَا، بلْ فِيهِ التَّفْصِيلُ المَذْكُورُ، والقَوْلُ المَذْكُورُ [آخِراً هوَ] الَّذِي رَوَاهُ أَبُو ثَوْرٍ. ومنها: بيانُ فرضها، وهُوَ السُّدُسُ. إذا اجتَمَعَت جَدَّتَانِ وارِثتانِ فَصَاعِداً، اشْتَرَكْنَ في السُّدُسِ، ولمْ يَزِدْ حَقُّهُنَّ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الأخْبَارِ والآثَارِ، فإنْ كَانَتْ إِحْدَى الجَدَّتَين تُدْلِى بِجِهَتَيْنِ؛ كالمرأَةِ تُزَوِّج ابْنَ بِنْتِهَا بِبِنْتِ بنتها الأُخْرَى، فَيُولَدُ لَهُمَا وَلَدٌ، فَهَذِهِ المَرْأَةُ أُمُّ أمِّ أبِيهِ، وأُمُّ أُمِّ أمِّه، فإِذَا ماتَ الوَلَدُ، وخَلَّفَ هذهِ الجَدَّةَ وجَدَّةً أُخْرَى هِيَ أُمُّ أَبِي أَبِيهِ، فالمَذْهَبُ أنَّهُ يُسَوِّى بَيْنَهُمَا في السُّدُسِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ. وعن ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي عُبَيْد بْنِ حَرْبَوَيْهِ أَنَّ ثُلُثَى السُّدُسِ لِصَاحِبَةِ القَرابَتَيْنِ، وثُلْثُهُ لِلْأُخرَى تَوْرِيثاً لَهَا بالجِهَتَيْنِ، كَمَا يَرِثُ ابْنُ العَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لأُمِّ من الجِهَتَيْنِ، ومَنْ نَصَرَ المذْهبَ قَالَ: إِنَّمَا يُوَرَّثُ بالقَرَابَتَيْنِ، إِذَا اخْتَلَفَتَا، والجُدُودَةُ قَرَابَةٌ واحِدَةٌ. ومِنْ هَذَا القَبيلِ ما إِذَا نَكَحَ ابْنُ ابن المَرْأَةِ بِنْتَ بِنْتِهَا، فَوُلدَ لَهُمَا وَلَدٌ، فالمَرْأَةُ أُمُّ أَبِي أَبِيهِ، وأُمُّ أُمِّ أُمِّهِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الوَاحِدَةُ جَدَّةً من ثَلاَثَةِ أوجُهٍ وأكْثَرَ، كَمَا إذَا نَكَحَ الوَلَدُ في المثالَيْنِ حافدةً أخْرَى لِتِلْكِ المَرْأَةِ، وَوُلِدَ لَهُمَا وَلَدٌ، تكُونُ المَرْأَة جدَّةً للوَلَدِ الثَّانِي من ثَلاثةِ أوْجُهٍ، وَيجْرِي الخَلافُ فِيهَا، فَعَلَى المَذْهَبِ يُوَزَّعُ السُّدُسُ علَى الرؤوسِ، وَعَلَى الوَجْهِ الآخَرِ يُوزَّع علَى الجِهَاتِ. ومِنْهَا القَوْلُ في تَنْزِيلِ الجَدَّاتِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ في الكِتَاب، وتَلْخِيصُ مَا قِيَل فِيهِ عَلَى طُولِهِ أنْ يقالَ: لَكَ أَبٌ، وأَمٌّ، وهُمَا الوَاقِعانِ في الدرجَة الأُولَى من درجاتِ أُصُولكَ، ثُمَّ لِأَبِيكَ أبٌ، وكَذَلِكَ لِأُمِّكَ، فالأربعةُ هُمُ الوَاقِعُونَ في الدرَجَةِ الثَّانِيةِ من دَرَجَاتِ أُصُولِكَ، وهَذِهِ الدَّرَجَةُ هي الأُولَى من دَرَجَاتِ الأَجْدَادِ وَالجَدَّاتِ، ثُمَّ أُصُولكَ في الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ ثَمَانِيَةٌ؛ لأنَّ لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ الأربْعَةِ أَباً وأُمّاً، فَتُضْرَبُ الأَرْبَعَةُ في اثْنَيْنِ، وفي الدَرجةِ الرَابِعَةِ: سِتَّةَ عَشَرَ، وفِي الخَامِسَةِ: اثنَّانِ وَثَلاثُون كمِثْلِ ذَلِكَ، والنِّصْفُ مِنَ الأصُولِ في كلِّ دَرَجةِ ذُكور، والنصفُ إنَاثٌ، وهُنَّ الجدَّاتُ، ففي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ من الأُصُولِ جَدَّتانِ، وفِي الثَّالِثَةِ أرْبعٌ، وفي الرَّابِعَةِ ثَمَانٍ، وفي الخَامِسَةِ ستةَ عَشَرَ، وهَكَذَا يتضَاعَفُ عَدَدُهُنَّ في كُلِّ درجةٍ، ثُمَ مِنْهُنَّ وارثاتٌ وغَيْرُ وَارِثَاتٍ، فإذا سُئِلْتَ عنْ عَدَدٍ
مِنَ الجَدَّاتِ الوارثاتِ عَلَى أقْرَبِ ما يُمْكِن مِنَ المِنَازِلِ، فاجْعَلْ درجهن بالعَدَد الذي سئَلْتَ عنْهُ، ومحض نسْبة الأولى إلى المَيِّتِ منْ أُمَّهات، ثُمَّ أَبْدِلْ منْ آخر نسبة الثانية أمّا بأبٍ، وفي آخِر نِسْبة الثاليةِ أُمَّيْن بأبوَيْنِ، وهَكَذَا يَنْقُصُ منْ الأُمَّهَاتِ، وتَزِيدُ في الآبَاءِ حتَّى تتمحضن نِسْبَةُ الأخيرة آباء. مثاله: سُئلْتَ عنْ أَرْبَع حَدَّاتٍ، فقُلُ: هُنَّ: أُمُّ أُمِّ أُمِّ أُمِّ، وأُمُّ أُمِّ أُمِّ الأب، وأم أم أبي أب وأم أبي أبي أب، فالأولى منْ جِهةِ أُمِّ الميِّتِ، والثانية منْ جهةِ أبِيهِ، والثَّالِثةُ مِنْ جِهَةِ جَدِّهِ، والرابعةُ مِنْ جِهةِ أبِي جَدِّهِ، وَهَكَذَا، إذاً زدتَّ، زدتَّ لكلِّ واحدةٍ أَباً. وإذا أردتَّ معرفةَ مَنْ يُحَاذى الوَارِثَاتِ مع السَّاقطَاتِ، فإنْ كَانَ السُّؤالُ عن جدتَيْنِ على أقرب ما يُمْكِنُ، فلَيْسَ في دَرَجَتِهِما غَيْرُهُمَا، وإنْ كَانَ السُّؤالُ عن أكثر، فَأَلْقِ مِنْ عَدَدِ الوَارِثَاتِ اثْنَيْنِ أبداً، وضَعِّفِ الاثْنَيْنِ بعَدَدِ ما بَقيَ مِنْهُنَّ، فما بَلَغَ، فَهُوَ عَدَدُ الجَدَّاتِ، في تِلْكَ الدرجةِ الوَارِثَاتُ والسَّاقِطَاتُ، فإذَا أَسْقَطْتَ مِنْهُنَّ الوَارِثَاتِ، فَالباقِيَاتُ السَّاقِطَاتُ. مِثَالُهُ: خُذِ مِنَ الأربعِ اثْنَيْنِ وَضَعِّفُهمَا مَرَّتَيْنِ؛ لأنَّ البَاقِي اثْنَانِ، فيبلغُ ثَمَانِيَةٌ، فَهُنَّ عَدَدُ الوَارِثَاتِ والسَّاقِطَاتِ، فإذا فَرَضْتَ ثَلاَثَ جَدات؛ فخُذ منْ الثلاثةِ اثْنَتَيْنِ وضَعِّفهُمَا مرَّة: لأنَّ البَاقِي واحدٌ، فيبلغ أربَعةً، فَهِيَ عددهُنَّ وفي هذهِ الدَرَجَة ثلاثُ وارثات، ووَاحدةٌ ساقطةٌ، واعْلَمْ أنَّ الوارثاتِ في كلِّ درجةٍ من درجاتِ الأُصُولِ بعَدَد تلْكَ الدرجَة، ففي الثانيةِ اثْنتانِ، وفي الثالثةِ ثلاثٌ، وفي الرابعة أرْبَعٌ، وهَكَذَا في كلِّ درجةٍ لا تزيدُ إلاَّ وَارِثةٌ واحدةٌ، وإنْ تَضَاعَفَ عَدَدُهُنَّ في كلِّ درجةٍ، وسَبَبُهُ أنَّ الجَدَّاتِ ما بَلَغْنَ نِصْفَهُنَّ منْ قِبَل الأُمِّ، ونِصْفَهُنَّ منْ قِبَلِ الأب، ولا يَرِثُ منْ قِبَلِ الأمِّ إلاَّ وَاحِدَةٌ، والبَاقِيَاتُ مِنْ قِبَلِ الأَبِ، فإذَا صَعَّدْنَا درجةً، تبدّلَت كلُّ واحدةٍ مِنْهُنَّ بأُمِّهَا، وزَادَتْ أُمُّ الجَدِّ الَّذِي صَعَّدْنَا إليه، ولا يُخْفَى أنَّ مُعْظَمَ مَا ذَكَرنَا مِنْ تنزيلِ الجَدَّاتِ مبنيٌّ علَى القَوْلِ الصَّحيحِ، فأمَّا عَلَى ما رَوَاهُ أَبُو ثَوْرٍ، فلا يرثِ إلا جَدَّتَانِ، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: (أَمَّا الأَبُ وَالجَدُّ) فَلِلْأَبِ السُّدُسُ بِالفَرِيضَةِ المَحْضَةِ إنْ كَانَ لِلمَيِّتِ وَلَدٌ ذَكَرٌ وَارِثٌ (م)، وَلَهُ كُلُّ المَالِ أَوْ مَا بَقِيَ بِالغُصُوبَةِ المَحْضَةِ إِذَا لَمْ يَكُنِ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ وَارِثٌ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أُنْثَى وَارِثَةٌ فَلَهُ السُّدُسُ بالفَرِيضَةِ، وَمَا يَبْقَى مِنَ الفَرَائِضِ بالعُصُوبَةِ، وَيُجمَعُ بَيْنَ الفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: للأب في الميراثِ ثَلاَثُ حالاتٍ: حالةٌ يَرِثُ فِيها بمحضِ الفَرْضِيَّةِ، وهِيَ أنْ يَكُونَ مَعَ الأبَ ابْنٌ أو ابْنُ ابْنٍ، فلهُ السُّدُسُ، قَالَ الله تَعَالَى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] والبَاقِي للابن أو ابن الابنِ، لأنَّهُمَا أَقْوَى في العُصُوبَةِ.
وحالةٌ يَرِثُ فِيهَا بمحْضِ التَّعْصِيب وهيَ ألاَّ نُحَلِّفَ غيرَهُ فلهُ جميعُ المالِ بالعُصُوبَةِ، وكذَا إذَا اجْتَمَعَ مَع ذِي فَرْضٍ، لَيْسَ بولَدٍ ولاَ ولدِ ابْنٍ؛ كزوْجٍ وأمٍّ أو جَدَّةٍ، فيَأخُذُ ذو الفَرْضِ فرْضَهُ، والبَاقِي للأَبِ بالعُصُوبَةِ. وحالةٌ يَرِثُ فيهَا بالجهتَيْنِ معاً، وهِيَ ما إذَا اجتمعَ معهُ بنْتٌ أو بنتُ ابْنٍ، فلهُ السُّدُسُ بالفَرْضِيَّةِ؛ لأنَّ الآيَةَ لَمْ تَفْصِلْ بينَ أنْ يكُونَ الوَلَدُ ذَكَرًا أو أُنْثَى، والبَاقِي بعدَ الفَرْضِ يأخذُهُ بالعُصُوبَةِ؛ لِقَوْلِهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فَمَا أَبْقَتِ الفَرائِضُ، فَلأِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" (¬1). قَالَ الإمَامُ: الجَمْعُ بَيْنَ الفَرْض والتَّعْصِيب يتَّفِقُ في صُوَرٍ: كَزَوْجٍ هُوَ مُعْتِقٌ، أَوْ ابْنُ عَمٍّ، وكابْنَيْ عَمٍّ، أحَدُهُمَا أَخٌ لَأُمّ، لكنَّهُ يسَتَنِدُ إلَى سَبَبَيْنِ مختَلِفَيْن، فأَمَّا الجَمْعُ بَيْنَهُمَا بسَبَب واحَدٍ، وهُوَ الأُبُوَّةُ، فقد امتازَ بِهِ الأبُ عَنْ سَائِرِ الوَرَثَةِ، وهَل الجَدُّ كالأَبِ؟ فيهِ؟ اختَلَفَ الفَرَضِيُّونَ فمِنْ قَائِلٍ نَعَمْ، وبهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ، ومِنْ قَائِلٍ لاَ يَقُولُ: للبنْت النِّصْفُ، والبَاقِي للجَدِّ؛ لأَنَّا إِنَّمَا جَمَعْنَا بين الجِهَتَيْنِ في حَقِّ الأَبِ (¬2) والمشهورُ أنَّه كالأبِ؛ لِظاهِرِ الآيةِ، وهَذَا الخِلاَفُ يَرْجِعُ إلى العِبَارَةِ، وما يأخذَ أنه واحدٌ. وقولُهُ في الكتَاب: "إنْ كَانَ للمَيِّتِ وَلَدٌ ذَكَر وَارِثٌ" وقولُهُ بَعْدَ ذَلِكَ "فإنْ كَانَ لِلميِّتَ وَلَدٌ أنْثَى وَارِثَةٌ" تطويلُ لفظٍ لاَ حاجةَ إليه؛ لأنَّ الابْنَ يَقُوم مَقَامَ الوَلَدِ [الذَّكَرِ، والبِنْتَ مَقَامَ الوَلَدِ] (¬3) الأنْثَى. وأمَّا الوراثة فسيأْتِي، [إنْ شَاءَ الله تَعَالَى]، أنّ من لا يَرِثُ، لاَ يَحْجُبُ [بحالٍ]، بل وجُودُهُ كَعَدَمِهِ والأصولُ الكلَّيةُ لا تتكرر في آحادِ الصُّوَرِ، وإنْ تَوَهَّمَ مُتَوهمٌ أنَّ الغَرَضَ مِنْ هَذَا اللَّفْظ أنْ يَتَنَاوَلَ وَلَدَ الابْنِ، ومَنْ وصَفَه بالإرْث أنْ يَخْرُجَ وَلَدُ البنْتِ، فَلَيْسَ بقَوم؛ لأنْ تَنَاوُلَ الوَلَدِ لِوَلَو الابْنِ كتَنَاوُلِ الابْنِ والبِنْتِ لوَلَدِ الابْنِ والبنتِ ولا فرقْ. قال الغَزَالِيُّ: وَالجَدُّ في مَعْنَى الأَب، إِلاَّ في مَسْأَلَتَيْنِ (إِحْدَاهُمَا) أَنَّ الأَبَ يُسْقِطُ الاِخْوَةُ وَالجَدُّ يُقَاسِمُهُمْ (ح) (الثَّانِيَةُ) أَنَّ الأَبَ يَرُدُّ الأُمَّ إِلَى ثُلُثِ مَا يَبْقَى إِذَا كَانَ فِي الْمَسْاَلَةِ زَوْجٌ وَأَبَوَانِ، أَوْ زَوْجَةٌ وَأَبوَانِ، وَالجَدُّ لاَ يَرُدُّهَا بَلْ لَهَا مَعَ الجَدِّ الثُّلُثُ كَامِلاً. ¬
في بيان المسائل المستثناة من مشابهة الجد الأب
في بيان المسائل المستثناة من مشابهة الجد الأب قَالَ الرَّافِعِيُّ: الجدُّ كالأب في الميراثِ إلاَّ في مسائِلَ: إحداها: الأَبُ يُسْقِطُ الإخوةُ والأَخَوَاتِ، والجَدُّ لا يُسْقِطُهُمْ، إذَا كَانُوا مِنَ الأَبَوَينِ أو منَ الأَبِ، بل يُقَاسِمُهُمْ، والكَلاَمُ في الطَرَفَيْنِ سيأتي. والثانيةُ: الأَبُ يردُّ الأمِّ إلى ثُلُثِ ما يَبْقَى في صورتَيْن: زوج وأبَوَيْنِ، وزوْجَةٍ وأبوَيْنِ، كَمَا سَبَقَ، ولَوْ كَانَ في المَسْأَلَةِ زَوْجٌ وَجَدٌّ، وأُمٌّ أو زوجةٌ وَجَدٌّ وأمٌّ، فالجَدُّ لاَ يَرُدُّهَا إلى ثُلُثِ مَا يَبْقَى بَلْ لَهَا الثُلُثُ كَامِلاً؛ لأَنَّ الجَدَّ لا يُساوِيها في الدَّرَجَةِ، فلا يَلْزَمْ تَفْضِيلُهُ عَلَيْهَا. والثَّالِثَةُ: الأَبُ يُسْقِطُ أُمَّ نَفْسِهِ، وأُمُّ كُلِّ جَدٍّ، والجَدُّ لاَ يُسْقِطُ أُمَّ الأَب، وإنْ أَسْقَطَ أُمَّ نَفْسِهِ وسيَعُودُ هَذَا في الحَجْبِ، وأبو الجَدِّ ومَنْ فَوْقَهُ كَالجَدِّ، لكنْ كُلُّ واحِدٍ يَحْجُبُ أُمَّ نَفْسِهِ، ولاَ يَحْجُبُهَا مَنْ فَوْقَهُ، وَإِذَا لَمْ يَجْمَع الجَدُّ بينَ الفَرْضِ والتَّعْصِيب، كَانَ الجَدُّ مُفَارِقاً فِيهِ أَيضاً، لكنَّ تلْكَ كل المفارقة لفَظِيَّةٌ (¬1)، ولا يَخْفَى بعد هَذَا أنَّ الاسْتِثْنَاءَ غَيْرُ مُنْحَصِرِ فِيمَا ذَكَرَهُ في الكِتَابِ، وأَنَّ قَوْلَهُ "والجَدُّ يُقَاسِمُهُمْ" غيرُ مُجْرى علَى إطلاقِهِ، ثُمَّ يجوزُ أن يُعْلَمَ بِرُقُومِ مَنْ يُخَالِفُ في مقَاسَمَةِ الجَدِّ والإِخْوَةِ وسَنَذْكُرُهُمْ. قال الغَزَالِيُّ: (أَمَّا الأَوْلاَدُ) فَالابْنُ الوَاحِدُ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ المَالِ، وَكَذَا الجَمَاعَةُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أُنْثَى فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وَلِلْبِنْتِ الوَاحِدَةِ النِّصْفُ، وَلِلْبِتتَيْنِ فَصَاعِداً الثُّلْثَانِ، وَأَمَّا أَوْلاَدُ الابْنِ إِذَا انْفَرَدُوا فَحُكْمُهُمْ حُكمُ أَوْلاَدِ الصُّلْبِ. " فصل في الأولاد" قَالَ الرَّافِعِيُّ: الابْنُ الوَاحِدُ يستغرِقُ جَمِيعَ المال بالإِجْمَاعِ، ثُمَّ استَأْنَسُوا بوجْهَيْنِ. ¬
أَحَدُهُمَا: أنَّه أَقْوَى مِنَ العَصَبَاتِ، وهَذَا شَأْنُ العَصَبَةِ إِذَا انْفَرَدُوا. والثاني: أنَّ منْ خَلَّفَ ابْناً وبنْتاً، أَخَذَا الابْنُ ضِعْفَ ما أخَذَتِ البنْتُ، إذا انْفَردَتْ تأْخُذُ النِصْفَ، والابن إذا انفردَ وجَبَ أنْ يأْخُذَ ضعْفَها، وهو الكُلُّ، وكذلك الاثنانِ والجماعةُ منَ الأبناء يستغرقُونَ المَالُ للبنْتِ الواحدَةِ النِّصْفُ؛ لقولهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] وللبنتَيْنِ فصاعداً الثُّلُثَانِ؛ لما رُوِيَ أنَّ امرأةً مِنَ الأَنْصَار أَتَتْ رسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَمَعَها ابنتان، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، هاتان ابْنَتَا سَعْدٍ بْنِ الرَّبِيع، قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَك يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَخَذَ عَمُّهُمَا مَالَهُ، ووَاللهِ، لا تُنْكَحَانِ وَلاَ مَالَ لَهُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: يَقْضِي اللهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ فَنَزَل قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] فَدَعَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- المرأةَ وَصَاحِبَهَا، فَقَالَ: "أَعْطِ البِنْتَينِ الثُّلُثَيْنِ، وَالْمَرأَةَ الثُّمُن وَخُذِ الْبَاقِي" (¬1). ولَمَّا بينت السُّنَّةُ ذلك، قيل: كلمةُ "فَوْقَ" زائِدَةٌ كقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12]، وقيلَ: المعنى اثْنَتَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا. وإذَا اجتَمَعَ البَنُونُ والبَنَاتُ، فللذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يُوصِيكمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} [النساء: 11] الآية. هَذَا حُكمُ أَوْلادِ الصُّلْب، إِذَا انْفَرَدُوا، ولَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ أولادُ الابْنِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ أولادِ الابْنِ، إِذَا انْفَرَدُوا بِلاَ فَرْقٍ، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: وَإذَا اجْتَمَعَ أَوْلاَدُ الصُّلْبِ وَأَوْلاَدُ الابْنِ فَإِنْ كَانَ في أَوْلاَدِ الصُّلْبِ ذَكَرٌ سَقَطَ أَوْلاَدُ الابْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نُظِرَ، فَإِنْ كانَتْ بنْتٌ وَاحِدَةٌ فَلَهَا النِّصْفُ، ثُمَّ يُنْظَرُ إلى أَوْلاَدِ الابْنِ فَإِنْ كانَ فِيهِمْ ذَكَرٌ فَالبَاقِي بَيْنَهُمْ {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، وإنْ لَمْ يَكُنْ ذَكَرٌ فَسَوَاءٌ كانَت بِنْتٌ وَاحِدَةٌ أَوْ بَنَاتٌ فَلَهَا أَوْ لَهُنَّ السُّدُسُ تكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مِنَ الصُّلْبِ بِنْتَانِ فَصَاعِداً فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَوْلاَدِ الابْنِ ذَكَرٌ سَقَطْنَ إِذْ لَمْ يَبْقَ منْ فُرُوضِ البَنَاتِ شَيْءٌ وَهوَ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ ذَكَرٌ فَلَهُ المَالُ، أَوْ ذَكَرُ مَعَ الأُنْثَى فَالمَالُ لَهُمْ، وَتَتَعَصَّبُ الأُنْثَى بِأَخِيهَا، وكَذَا بِذَكَرٍ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهَا كَابْنِ أَخِيهَا أَوْ ابْنِ ابْن أَخِيهَا وَإِنْ سَفَلَ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذَا اجْتَمَعَ أوْلاَدُ الصُّلْب وأولادَ الابْنِ، إِمَّا مِنْ ابْنٍ واحدٍ، أو مِنْ ابْنَينِ فصاعداً، فإمَّا أنْ يَكُونَ فِي أولادِ الصُّلْبِ ذَكَرٌ، فَلاَ شَيْءَ لأولادِ الابْن، بل يحْجُبُهُمْ لقُرْبِهِ، أو لاَ يَكُونَ، فَوَلَدُ الصُّلْبِ، إمَّا بنْتٌ وَاحِدَةٌ أو أَكْثَرُ، وإن لمْ يَكن إلاَّ بنتٌ وَاحِدَةٌ، فَلَهَا النِّصْفُ، ثُمَّ يُنْظَرَ: فإنْ كَانَ وَلَدُ الابْنِ ذَكرًا، فَالبَاقِي لَهُ، وكَذَا لَو وُجدَ ذَكَرانِ أو ذُكُورٌ، وإنِ اجْتَمَعَ ذُكُورٌ، وإنَاثٌ، فالبَاقِي بَينَهُمْ {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، وإنْ كَانَ وَلَدُ الابْنِ أنثى واحدةً، فلَهَا السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَينِ؛ لِمَا رُوِيَ عَن هزيل بن شُرَحْبيلَ -بالزاي- أنه قَالَ: سُئِلَ أَبُو مُوسَى عَنْ بِنْتٍ وَبِنْتِ ابْنِ وَأُخْتٍ، فَقَالَ: لِلْبنْتِ النِّصْفُ، وللأخت النِّصْفُ، وَائْت ابْنَ مَسْعُودٍ فسَيُتَابِعُني فسئِلَ ابْنَ مَسْعُودٍ، وأُخَبِرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذنْ وَمَا أَنَا مِنَ المُهْتَدِينَ، لأَقْضِيَنَّ فِيهَا بَمَا قَضَى النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: لِلبِنْتِ النِّصْفُ، ولبِنْتِ الابْنِ السُّدُسُ [تكملة الثلثين] وَمَا بَقِيَ فللأخت، فَأَتيْنَا أَبَا مُوسَى، فَأَخبَرْنَاهُ بقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لاَ تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحِبْرُ فِيكُمْ وبَينَكُم (¬1). وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فصاعداً، فالسُّدُسُ لَهُنَّ؛ لأنَّ البَنَاتِ لاَ يَسْتحْقِقْنَ أكْثَرَ مِنَ الثُّلُثَيْنِ، فَالبِنْتُ وبنتُ الابنِ أَوْلَى بذَلِكَ؛ لأنَّ البَنَاتِ يُسَوَّى بَينَهُنَّ، وتُرَجِّحُ البِنْتُ عَلَى بناتِ الابنِ لقُرْبِها، وإنْ كانَ منْ أولادِ الصُّلْبِ بنتَانِ فصَاعِداً، فَلَهُنَّ الثُّلْثَانِ، ولَاَ يُفْرَضُ لِبَنَاتِ الابْن شيء؛ لأنَّهُنَّ إنَّمَا يَأخُذْنَ الثُّلُثَيْنِ عِنْدَ عَدَمِ البَنَاتِ أوْ مَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثَيْنِ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ هَذَا السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، لكِنْ لَوْ كَانَ مَعَهُنَّ أوْ أسْفَلَ مِنْهُنَّ ذَكَرٌ عَصَّبَهُنَّ وكانَ البَاقِي بينهُمْ للذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ، وأمَّا تَعْصِيبُ مَنْ في دَرَجَتِهنَّ إيَّاهُنَّ، فَكَمَا يُعَصِّبُ الابنُ البَنَاتِ، والأخُ الأخَوَاتِ، والَّذِي في دَرَجَتِهِنَّ قَدْ يَكُونُ أَخاهُنَّ، وقَدْ يكُونُ أَخَا بعضِهِنَّ، ويُسمَّى [الأخ] المبارَكَ، وَقَدْ يكونُ ابْنَ عَمِّهِنَّ، وأمَّا تَعْصِيبُ منْ هُوَ أسْفَلُ مِنهُنَّ؛ فلأنَّه لاَ يُمْكِنُ إسْقَاطُهُ؛ لأنَّهُ عَصَبَةٌ ذَكَرٌ، [وَأَمَّا إذَا] لَمْ يَسْقِطْ، فَكَيْفَ يَجوزُ حرْمانُ منْ فَوْقَهُ؟ وكيفَ يُفرَدُ بالمِيرَاثِ مع بُعْدِه، ولَوْ كَانَ في دَرَجَتِهِنَّ، لَمْ يُفْرَدْ مَع قُرْبِهِ، ولهذَا لاَ يُعَصِّبُ منْ هِيَ أسفَل مِنْهُ، ولا يُعَصِّبُ التي فَوْقَهُ، إذَا أخذَتْ شَيْئاً، وذَلِكَ فيما إذَا خَلَّفَتْ بنتُ صُلْبٍ واحِدَةً، وبنتَ ابْنٍ، وابنَ ابْنِ ابنٍ، وبنْتَ ابنِ ابنٍ، فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، ولبنْتِ الابْنِ السُّدُسُ، والبَاقِي بَيْنَ الأسْفَلين أَثْلاَثاً [لأنَّ الَّتِي فَوْقَهُ غَيُر مَحْرُومةٍ، فَجَرَيْنَا علَى القِياسِ، وأَوْلادُ ابنِ الابنِ مَعَ أولادِ الابنِ، كأولادِ الابْنِ معَ أولاد ¬
فصل في الإخوة والأخوات
الصُّلْبِ، في كلِّ تفصيلٍ، وَكَذَا في كُلِّ دَرَجَةٍ نَازِلَةٍ مَعَ درجةٍ عَالِيَّةٍ] (¬1) حَتَّى؛ إِذَا خَلَّفَ بنْتَ ابْنٍ وبنْتَ ابْنِ ابْنٍ، فللْعُليا النِّصْفُ، وللسفلى السُّدُسُ، ولوْ خَلَّفَ بنتَي ابْنِ وبنْتَ ابْنِ ابنٍ، فَلِبِنْتَيْ الابنِ الثُّلثَانِ، ولَيْسَ للسُّفْلَى شيْءٌ، إلاَّ أنْ يكُونَ في دَرَجَتِهَا أوْ أسْفَلَ مِنْهَا مَن يُعَصِّبُها. وقولُهُ في الكِتَاب: "وتتَعَصَّبُ الأُنْثَى بأَخِيهَا، وَكَذَا بِذَكَرٍ هُوَ أسفَل مِنْهَا كابْنِ أخِيهَا أو ابْنِ ابْنِ أَخِيهَا، وإنْ سَفَلَ هَذَا بَعضُ صُوَرِ [التَّعْصِيبِ، ولَيْسَ يُشْتَرطُ أنْ يَكُونَ المُعَصِّبُ أَخاً أو ابْنَ أخٍ، بلْ قَدْ يكُونُ ابْنَ عَمِّهَا أو ابْنَ ابْنِ عَمِّها، كَمَا سَبَقَ. قَالَ الفَرَضِيُّونَ: ولَيْسَ في الفَرائِضِ منْ يُعَصِّبُ أُخْتَهُ و] (¬2) عَمَّتَهُ وَعمَّةَ أبيهِ وجدهِ وبناتِ أَعْمَامِهِ، وبناتِ أَعْمَامِ أبيهِ، وَجَدِّهِ إِلاَّ المستغل (¬3) منْ أَولادِ الابْنِ، واللهُ أعلمُ. قال الغَزَالِيُّ: (وَأَمَّا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَاتُ) إِنْ كَانُوا لِأَبٍ وَأُمٍّ فَحُكمُهُمْ عِنْدَ الانْفِرَادِ حُكْمُ أَوْلاَدِ الصُّلْبِ، وَكَذَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَاتُ مِنَ الأَبِ إِذَا انْفَرَدُوا فَهُمْ كَإِخْوَةِ الأَبِ وَالأُمِّ، إِلاَّ في المَسْأَلَةِ المُشْتَرِكَةِ، وَهِيَ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأَخَوَانِ لِأُمٍّ وَأَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَللأُمِّ السُّدُسُ وَلإِخْوَةِ الأُمِّ الثُّلُثُ، وَلاَ يَبْقَى لِلأخِ مِنَ الأَبِ وَالأمِّ شَيْءٌ فَيُشَارِكُ أَوْلاَدَ الأُمِّ بِقَرَابَةِ الأُمُومَةِ وَيُسْقِطُ إِخْوَةَ الأَب، وَلَوْ كَانَ بَدَلَهُ أَخٌ لِأَبٍ سَقَطَ وَلاَ يُشَارِكهُمْ إِذْ لاَ يُسَاوِيهِمْ في قَرَابَةِ الأُمِّ. فصل في الإخوة والأخوات قَالَ الرَّافِعِيُّ: الإخْوَةُ والأخَوَاتُ: إمَّا أنْ يكونُوا مِنَ الأَبَوَيْن أو مِنَ الأبَ أوْ مِنَ الأَمِّ، فهُمْ ثلاَثَةُ أصنَافٍ، والصِّنْفَان الأَوَّلاَنِ: إمَّا أن يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا أو يَجْتَمِعَا، فَأمَّا عِنْدَ انْفِرَادِهِم، فالإخْوَةُ والأَخَوَاتُ مِنَ الأَبَوَيْنِ كأولادِ الصُّلْبِ، فللذَّكَرِ الوَاحدِ جَمِيعُ المالِ، وكذَا الاثنَان فصَاعِداً، وإنْ ماتَ ولهُ أُخْتٌ، فلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ، وإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ، فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ، وإنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً ونِسَاءً فلِلذَّكَرِ مِثلُ حِظِّ الأُنْثَيْينِ بنَصِّ القُرْآنِ. والإخْوَةُ والأخَوَاتُ للأَبِ عِنْدَ الانْفِرَادِ كالْإخْوَةِ والأخَوَاتِ مِن الأبَوَيْنِ إلاَّ فِي المشرَّكَةِ (¬4)، وهِيَ: زَوْجٌ وأُمٌّ وأَخَوَانِ [لأم، وأخوان] لأبٍ وأمٍّ، فلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، ¬
وللأمِّ السُّدُسُ، وللأَخَوَيْنِ لأمِّ الثُّلُثُ، والأَخَوَانِ للأب والأمِّ يُشَارِكَانِهِمَا في الثُّلُثِ، ولا يَسْقِطَانِ، وبِهِ قَالَ مَالكُ، وقَالَ أحمَدُ [وأبُو حَنِيْفَةَ] (¬1): يَسْقُطَانِ، وحكى؛ أبُو بَكْر بْنُ لاَل قَوْلاً للشَّافِعيِّ -رَضِىَ اللهُ عَنْهُ- وقالَ: لَهُ في المَسْأَلَةِ قَوْلانِ، بحَسَب اخْتِلاَفِ الرِّوَايَةِ عَنْ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- والرَّوَايَةُ عَنْ زَيْدٍ مُخْتَلِفَةٌ، كمَا ذكَرَ، لكَنْ لمْ أَجِدْ لغيرَهُ نقل قول للشافِعيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- في المسْأَلَةِ، نعم ذَهَبَ ابن اللَّبَّانِ إلى الإسْقَاطِ. وقَالَ أَبُو خَلَفٍ، الطَّبَرِيُّ وهُوَ اختيارُ أسْتَاذِي أبي منْصُور البَغْدَادِيِّ وَوَجْهُهُ: أنَّ الإخْوَةَ مِنَ الأَبَوَينِ عَصَبَةٌ، فإذَا اسْتَغْرَقَتِ الفروضُ المَالَ، سَقَطُوا. ووجْهُ ظاهرٌ المذْهَب: أَنَّها فَرِيضَةٌ، جَمَعَتِ الإخْوَةَ مِنَ الأَبوَيْنَ، والإخْوَةَ منْ الأمِّ فوَرِثَ الصِّنْفَانِ معاً، كما لَوِ انفردَا، وبأنَّ أولادَ الأمِّ، لو كَانَ بعْضُهُمُ ابْنَ عمٍّ، شارَكَ الآخَريْنِ بقَرابَة الأُمِّ، وإنْ سَقَطَتْ عُصُوبَتُهُ، فالأخُ مِنَ الأَبِ والأمِّ أَوْلَى لأن يكُونَ كَذَلِكَ، ولَكَ أنْ تُعَلِمَ؛ لمَّا نَقَلْنَا قَوْلَه في الكِتَابِ: "فَيُشَارِكُ أَوْلاَدَ الأُمِّ" مَعَ الحاءِ والأَلِفِ بالوَاوِ. قَالَ الفَرَضِيُّونَ: ولُصُورِ (¬2) المشترِكَةِ (¬3) أرْبَعَةُ أَرْكَانٍ: أنْ يكونَ فِيها: زَوْجٌ. وأنْ يَكُونَ فيهَا منْ يَأْخُذُ السُّدُسُ منْ أُمٍّ أو جدة (¬4)، وأنْ يكونَ فِيها اثْنَانِ فصَاعِداً مِنْ أولادِ الأُمِّ، وأنْ يكونَ منْ أولادٍ الأب والأمِّ ذكَرٌ، إمَّا وَحَدَهُ أوْ مَعَ ذُكُورٍ أو إِنَاثٍ، وإنْ شِئْتَ، قُلْتَ: أنْ يكُونَ مِنْ أولادِ الأَبِ والأُمِّ عَصَبَةٌ، فإذا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الأرْكَانُ، فَهُوَ موضعُ الخِلاَفِ المذْكُورِ. أمّا إذَ لمْ يكن عَصبةً بَلْ كَانَ في المَسْأَلَةِ زَوْجٌ وأمٌّ واثنَانِ مِنَ الأَوْلاَدِ للأمِّ، وأختٌ مِنْ الأبَوَيْنِ أو مِنَ الأَب فَيُفْرَضُ لَها النِّصْفُ ولَوْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ، فَيُفْرَضُ لَهُمَا الثُّلُثَانِ وَيُقَالُ المسْأَلَةُ، ولَو كَانَ ولدُ الأمِّ واحِداً، أَخَذَ السُّدُسَ، والبَاقِي للعَصَبَةِ مِن أولادِ الأَب والأمِّ أو الأب (¬5)، ولا بُدَّ مِمَّنْ تَأخُذُ النِّصْفَ والسُّدُسَ؛ لِيَحْصُلَ الاسْتِغْرَاقُ، وتُسمَّى هذِهِ المسأَلةُ المُشْتَرَكَةِ، لِمَا فِيها مِنَ التَّشْرِيكِ بَيْنَ أولادِ الأُمِّ، وأوْلادِ الأَب والأمِّ، والحِمَارِيَّةَ؛ لأنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ لا يُوَرِّثُ أولادَ الأَبِ والامِّ، فقالُوا: هَبْ ¬
أنَّ أبَانَا كَانَ حِمَاراً، أَلَسْنَا من أُمٍّ وَاحِدَةٍ؟ فَشَرَكَهُمْ (¬1). ولوْ كانَ بَدَلَ الإخْوَةِ من الأَبِ والأُمِّ إِخوة منَ الأَب، سَقَطُوا بالاتِّفَاقِ؛ لأنَّه لَيْسَ لَهُمْ قَرَابَةُ الأُمُومَةِ، حتَّى يُشَارِكُوا أولادَ الأُمِّ فافْتَرَقَ الصِّنْفَاَنِ في هذِهِ المسْأَلَةِ. وإذَا شَرَكْنَا في الثُّلُثَ بيْنَ أولادِ الأُمِّ وأولادِ الأَبِ والأمِّ فيتقاسمُونهُ بالسَّوِيَّةِ؛ لأنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بقَرابَةِ الأمِّ فيَسْتَوِي ذَكَرُهُمْ وأنْثَاهُمْ، وكَانَ يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إذَا تقَاسَمُوا في الثُّلُثِ بالسَّوِيَّةِ، أُخِذَ مَا يَخُصُّ أَوْلاَدَ الأَبِ، والأمِّ، فَيُجْعَل بينَهم {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، كَمَا أنَّ في المعادة (¬2)، إذَا أخرَجَ نصيبُ الجَدِّ، أقْتَسَمُوا البَاقِي بينهُمْ، كَمَا يَقْتَسِمُونَهُ إذَا انْفَرَدُوا. وَإِذَا قلْنَا بالمذهبِ، فالَّذِي يَأْخذُونَهُ بالفَرْضِ، فإن الإخْوَةَ مِنَ الأبَوَيْنَ يرِثُونَ بالتَّعْصِيبِ تَارَةً، وبالفَرْضِ تارةً أُخْرَى كالأَخَواتِ مِنَ الأَبَوَيْنِ. قال الغَزَالِيُّ: وَمَهْمَا اجْتَمَعُوا فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ أَوْلاَدِ الصُّلْبِ مَعَ أَوْلاَدِ الابْنِ إِذَا اجْتَمَعُوا، وَيُنَزَّلُ أَوْلاَدُ الأَبِ وَالأُمِّ مَنْزِلَةَ أَوْلاَدِ الصُّلْبِ، وَالْأَوْلاَدُ مِنَ الأَبِ مَنْزِلَةَ أَوْلاَدِ الابْنِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، إِلاَّ فِي شَيْءٍ وَهُوَ أَنَّ بِنْتَ الأبْنِ يُعَصِّبُهَا مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهَا، وَالأخُتُ لِلأَبِ لاَ يُعَصِّبُهَا إِلاَّ مَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: عَرَفْتَ حُكْمَ الصِّنْفَيْنِ عِنْدَ الانْفِرَادِ. أمَّا إِذَا اجْتَمَعا، فَهُوَ كمَا لَو اجتَمَعَ أَوْلادُ الصُّلْبِ معَ أولادِ الابنِ، فأولادُ الابَوَيْنِ كأولاَدِ الصُّلْبِ، وأولادُ الأَبِ كَأوَلاَدِ الابْنِ، فلوْ كانَ من أولادِ الأَبَوَيْنِ ذَكَرٌ، فأولادُ الأبَوَيْنِ مَحْجُوبُونَ وإلاَّ فإن كَانَتْ أُنْثَى وَاحِدَةً، فَلَها النِّصْفُ، والبَاقِي لأوْلاَدِ الأَبِ، إنْ تَمحَّضُوا ذُكُوراً أو كانُوا ذُكُوراً وَإنَاثاً. ¬
وإنْ تَمَحَّضُوا إنَاثاً أوْ كَانَت أُنْثَى واحدةً، فلهُنَّ أوْلَهَا السُّدُسُ تكْمِلَة الثُّلُثَيْن، وإنْ كَانُوا مِنْ أولاَدِ الأَبَوَيْنِ اثْنَتَان فَصَاعِداً، فلَهُمَا الثُّلُثَانِ، ولاَ شَيْءَ لأَوْلاَدِ الأَب، إلاَّ أنْ يَكُونُوا ذُكُوراً، أوْ يكونَ فيهِمْ ذَكَرٌ يُعَصِّبهُنَّ الإنَاثَ، وهَذَا كلُّهُ كَمَا سَبَقَ في أَوَلاَدِ الابْنِ والأولادِ الصُّلْبِ، إلاَّ أنَّ بناتِ الابْنِ يُعَصِّبُهُنَّ مَنْ في دَرَجَتِهِنَّ، ومَنْ هُوَ أسْفَل منهُنَّ، والأُختُ لِلأَبِ لا يُعَصِّبُهَا إلاَّ مَنْ هو في دَرَجَتِهَا، فَلَوْ خلَّفَ أُخْتَيْنِ لأبِ وأُمٍّ، وأختاً وأخَاً لأبٍ [وابْنَ أخٍ لأبٍ]؛ فللأخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، والبَاقِي لابْنِ الأَخِ، ولا يعَصِّبُ عَمَّتَهُ، إلاَّ أَنَّ ابْنَ الأخِ لا يُعَصِّبُ مَنْ في دَرَجَتِهِ، فلا يُعَصِّبُ مَنْ فَوْقَهُ، وابْنُ الابن، وإنْ سَفَلَ، يُعَصِّبُ مَنْ فِي دَرَجَتِهِ، فجازَ أنْ يُعَصِّبَ من فَوْقَهُ، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: (وَأَمَّا الْإِخْوَة وَالأَخَوَاتُ من جِهَةِ الأُمِّ) فَلِلْوَاحِدِ مِنهُمُ السُّدُسُ، وَللْاثْنَيْنِ فَصَاعِداً الثُّلُثُ، وَلاَ يَزِيدُ حَقُّهُمْ بِزِيَادَتِهِمْ يَسْتَوِي ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ فِي الاسْتِحْقَاقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الصِّنْفُ الثَّالِثُ: الإِخْوَةُ والأَخَوَاتُ مِنَ الأمِّ، وللوَاحدِ مِنْهُمُ السُّدُسُ، ذكراً كأن أو أنثَى، وللاثْنَيْنِ فصَاعِداً الثُّلُثُ يُقَسَّمُ بَيْنَ ذُكُورِهِم وإناثِهِمْ بالسَّوِيَّةِ (¬1)، قَالَ الله تَعَالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]. والمرادُ أختٌ أو اخٌ من الأُمِّ، وكَذَلِكَ هُوَ في قَرَاءَةِ أبنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-. ¬
قال الغَزَالِيُّ: (وَأَمَّا بَنَاتُ الإِخْوَةِ) فَلاَ مِيرَاثَ (ح و) لَهُنَّ، وَبَنُو الْإخْوَةِ لِلْأُمِّ أَيْضاً لاَ مِيرَاثَ لَهُمْ (ح و)، وَبَنُو الإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالأُمِّ، وَبَنُو الاِخْوَةِ لِلْأَب فَيُنَزَّلُونَ مَنْزِلَتَهُمْ عِنْدَ عَدَمِهِمْ إِلاَّ في حَجْبِ الأُمِّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَفي مُقَاسَمَةِ الجَدِّ، وَفِي مَسْاَلَةِ المُشْرَكَةِ، وَفِي تَعْصِيبِ الأخُتِ فَإنَّهُمْ لاَ يَرُدُّونَ الأُمِّ إِلَى السُّدُسِ، وَيَسْقُطُونَ بالجَدِّ، وَيَسْقُطُونَ في مسألة المُشَرَّكَةِ لَوْ كَانُوا بَدَلَ أَبِيهِمْ، وَلاَ يُعَصِّبُونَ أَخَوَاتِهِمْ إِذْ لاَ مِيرَاثُ لِأَخَوَاتِهِمْ أَصْلاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قولُهُ: (أَمَّا بَناتُ الإخْوةِ، فلاَ ميراثَ لَهُنَّ) وكَذَا (بَنُو الْإخْوَةِ مِنَ الأُمِّ) لا حَاجَةَ إِلَيْهِ في هَذَا الموْضعِ؛ لأنَّهُ قَد ذَكَرَهُ مرَّةً في ذَوِي الأَرْحَامِ، [وأيَضاً، فإنَّ الكَلامَ هَاهُنَا فِيمَا يأْخُذُه كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الورَثَةِ، وَهُؤُلاَءِ لَيْسُوا من الوَرَثَةِ. وأمَّا بَنُو الإخْوَةِ مِنَ الأبَوَيْنِ أو مِنَ الأبِ] (¬1). فيَنزَّلُ كُلُّ وَاحدٍ مِنَ الصِّنْفَيْنِ منزلةَ أبِيهِ في حالَتَي الانفرادِ والاجتماع، حتَّى يَسْتَغْرِقَ الوَاحِدُ والجَمَاعَةُ مِنْهُمُ المَالَ عِنْدَ الانْفِرَادِ، ويأْخُذ ما فَضَلَ عَنْ أصْحَابِ الفَرائض، وعندَ الاجْتِمَاع، يَسْقُطُ ابْنُ الأخِ مِنَ الأبِ كَمَا يَسْقُطُ الأَخِ مِنَ الأبِ معَ الأخ مِن الأَبَوَيْنِ إِلاَّ أنَّهُمْ يُفَارِقونَ الإِخْوَةَ في أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أنَّ الإخْوَةَ يَرُدُّونَ الأُمَّ من الثُّلُثِ إلى السُّدُسِ، وبَنُوهُمْ لاَ يَرُدُّونَ؛ لأنَّ الله أعْطَاهَا الثُّلُثَ إِذَاَ لمْ يَكُنْ وَلَدٌ، ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]، وبنو الإخْوَة لَيْسُوا بإِخوةٍ، وفَرَقُوا بيْن ما نَحْنُ فيه وبَيْن الوَلَدِ ووَلَدِ الولدِ (¬2)؛ حيث رَدُّوا كُلَّ واحدٍ منْهما إلى السُّدُس بأَنَّ اسْم الوَلَدِ يقعُ علَى وَلَد الوِلد بالحقيقةِ أو المجاز، واسْمُ الأَخِ لا يقَعُ عَلَى ولده بحالٍ، ولأنَّ قوَّة الابن في الحَجْب أشَدُّ؛ ألا ترَى أنَّ الواحد من الأوْلادِ يَحْجُبُ، والواحدَ من الإخوة لا يَحْجُبُ، وإذا كانَتْ قوته أشدَّ جاز أن يتعدَّى الحجْبُ منْه إلَى ولده، ولهذا يَحْجُبُ ابنُ الابنِ الإِخوةَ والأَعْمَامَ والزَّوْجَ أو الزوجَةَ، كما يحجُبُهم الابْنُ، والأخُ من الأبَوَيْنِ قد يَحْجُبُ مَنْ لا يحجُبُهُ ابنُهُ، وهو الأخُ من الأبِ. والثاني: أنَّ الإخوةَ مِنَ الأبوَيْنِ ومِنَ الأب يُقَاسِمُون الجَدَّ، وبنوهم لا يقاسِمُونَه، بل يَسْقُطُون بهِ لِبُعْدِهِم، وأيْضاً، فإن الجدَّ في دَرَجَةِ الأَخِ، وبنو الأَخِ يَسْقُطُون بالأَخِ، فكذلك بالجَدِّ. ¬
والثالثُ: أنَّ بني الإخوة من الأبوَيْنِ، لو كَانُوا بدَلَ آبائِهِمْ في المُشْتَرَكَةِ، سقَطُوا؛ لبُعْدِهِمْ. والرابعُ: أن الإخْوة من الأبوَينِ أو من الأبِ يعصِّبون أخَوَاتَهُم، وبنُوهُمْ لا يعصِّبون أخواتِهِم (¬1)؛ فانَّهُنَّ غير وارثات، واعْرِفْ بعدْ هذا شيئَيْنِ: أحدُهُمَا: أن مفارقَةَ بني الإخْوة لآبائِهِمْ في الأمْر الأوَّلِ غيْرُ مخْصُوص بالإخْوَة من الأبوَيْنِ، وبالإخْوَةِ من الأَبِ، بل الحكمُ في الإِخْوة من الأم وأولادِهِمْ كذلك. والثَّانِي: أن لَفْظ الكتاب يقتَضِي مفارقَةَ كُلِّ واحدٍ منَ الصِّنْفَيْن بني الإِخوة من الأبَوَيْنِ، وبني الإِخْوة من الأَبِ لأبائِهِمْ في جميع الأُمور الأرْبَعَة، لكن المفَارقَةَ في الأمْرِ الثَّالث يختصُّ ببني الأخْوة من الأبَوَيْنِ وآبَائِهِمْ، فأما الإخوةُ من الأبِ وبَنُوهم، فيَسْقُطُون جميعاً بلا فَرْقٍ. قال الغَزَالِيُّ: وَأَمَّا أَخُ الْأَبَ وَهُوَ الْعَمُّ فَهُوَ عَصَبَةٌ، وَكَذا ابْنُهُ، وَكَذَا عَمُّ الأَبِ وَعَمُّ الجَدِّ وَبَنُوهُمْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: العم من الأبوين والعم من الأبِ كالأخِ مِنَ الجهتَيْن في أنَّ من انفرد منهمَا يأْخُذِ جميعِ المالِ، أو ما بقي من أصْحابَ الفرائِض، وإذا اجْتَمَعَا، أسْقَطَ العمُّ من الأبوين، العَمَّ من الأبِ، كما يُسْقِطُ الأخ من الأبوين من الأب، ولا يَخفَى أنَّ المراد من قوله: (أمَّا أَخُ الأَبِ وهُوَ العَمُّ) ما إذا كان من الأبوَيْنِ أو مِنَ الأَبِ. وقوله: (فهو عصبةٌ) ليسَ عَلَى معْنَى: أن المذكورِينَ قبْلَه أصْحابُ فُرُوضٍ، بل البنونَ وبنُوهُمْ وبَنُو الأخِ كلُّهم عصباتٌ، ولكن أشار بأنَّه عصبةٌ إلَى أنَّه يأخذ جميعَ المَالِ، أو ما بقي من أصحاب الفُرُوضِ. قال الغَزَالِيُّ: وَمِنْ حُكْمِ الأَخَوَاتِ أنَّهُنَّ مَعَ البَنَاتِ عَصَبَاتٌ، فَإذَا كَانَ لِلمَيِّتِ بِنْتٌ وثَلاَثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقاتٍ فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالبَاقِي لِلْأخْتِ منْ قبلَ الأبَ وَالْأُمِّ بالعُصُوبَةِ وَسَقَطَتِ الأُخْتُ لِلْأَبِ لعُصُوبَةِ الأُخْتِ لِلْأَبِ وَالأُمِّ، وَتَسْقُطُ الأُخْتُ لِلْأُمِّ بِالْبِنْتِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الأخواتُ من الأبوَيْنِ، ومنَ الأبِ مع البنَاتِ وبنَاتِ الابْنِ عصباتٌ، لما مَرَّ من حديثِ هُزَيْلِ عن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-. قال الإمامُ: والسَّببُ فيه أنَّه إذا كان في المَسْأَلَةِ بنتانِ فَصَاعداً، أو بنتا ابنَ وأخوات، وأخذتِ البناتُ الثلثَيْنِ، فلو فرضْنَا للأخواتِ، وَأَعْلنَا المسألةَ، نقص نصيبُ ¬
الفصل الثاني في التقديم والحجب
البنات، فاستَبْعَدُوا أن يزحم أولادُ الأبِ الأولادَ، ولم يُمْكِنْ إسقاطُهُنَّ فيجعلوهن عصباتٍ، ليدخل النَّقْص عليهن خاصَّة. إذا تقرَّر ذلك، فالأختُ من الأبوَيْنِ أو من الأبِ مُنَزَّلَةٌ مع البنات منزلة الأخِ، حتى لو خلَّف بنتاً وأخْتاً، فللبِنْتِ النصْفُ، والباقي للأخت، ولو خلَّفَ بنتَيْن أو أُخْتًاً أو أخواتٍ، فلهن الثُّلُثَانِ، والباقي للأخْتِ أو للأخوات بالسَّوِيَّة، ولو كانَ معَهُنَّ زوْجٌ، فللبنتَيْنِ الثلثان، وللزوْجِ الربُعُ، والباقي للأخْتِ أو للأخْوَاتِ، ولو كان معَهُمْ أمٌّ عالَتِ المسألةُ، وسقَطَتِ الأخت، كما لو كان مَعَهُم أخٌ، ولو خلَّفَ بِنْتاً وبِنت ابن وأُخْتاً، فالنصفُ والسُّدُس والبَاقي. وإِذا اجْتَمعَتِ الأُخْتُ من الأبَوَيْنِ، والأُخْتُ من الأبِ مع البنْتِ أو بنت الابن، فالباقي للأخْتِ من الأبوَيْنِ، وسقَطَتِ الأخرَى. وكذا، لو خلَّف بِنْتاً وأُختاً من الأبوَيْنِ وأَخاً منَ الأَبِ، كان الباقي للأختِ، وسقَط الأخُ بها سُقُوطَه بالأَخ من الأبوَيْنِ، لكن لو خلَّف بِنْتاً وأخاً وأُختاً من الأبوَيْنِ، كان الباقي بينهما {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، ولم نجعل معه كالأخ لأن تعصيبها، والحالةُ هذه، بالأخ دون البنْت؛ لأنَّ التعصيبَ بالبنْتِ إنَّما يُصَارُ إليه عنْد الضَّرُورة، وإذا تعصبت به، لَزِمَ تفضيلُهَا علَيْها على ما هو المعهودُ في تعْصِيب الإنَاثِ بالذكور. وإذا خلَّفَ الميِّتُ بنْتاً وثلاثَ أخواتٍ متفرِّقات، فللبنْتِ النصفُ، والباقي للأخْتِ من الأبوَيْنِ بالعُصُوبَةِ، وسقطَتِ الأختُ من الأبِ، والأختُ من الأمِّ بالبنت، وكذا الحُكُمُ في بنتٍ وثلاثةِ إِخوةٍ متفرِّقين. قال الغَزَالِيُّ: الفَصْلُ الثَّانِي في التَّقْدِيمِ وَالحَجْبِ فَإنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ إِلاَّ عَصَباتٌ فَتَرْتِيبُهُمْ أن أَوْلَى العَصَبَاتِ الْبَنُونَ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وإنْ سَفَلُوا، ثُمَّ الأَبُ، ثُمَّ الجَدُّ وَالإِخْوَةُ فَإنَّهُمْ بَتَقَاسَمُونَ (ح ز و)، ثُمَّ إِخْوَةُ الأَب وَالأُمِّ يَتَقَدَّمُونَ عَلَى إِخْوَةِ الأَبِ ثُمَّ بَنُو إِخْوَةِ الأَبِ وَالأُمِّ، ثُمَّ بَنُو إِخْوَةِ الأَبِ، ثُمَّ الْعَمُّ لِلْأَبِ وَالأُمِّ، ثُمَّ الْعَمُّ لِلْأَبِ ثُمَّ بَنُوهُمْ عَلَى تَرْتِيبِهِمْ ثُمَّ أَعْمَامُ الأَبِ، ثُمَّ أَعْمَامُ الجَدِّ وَبَنُوهُمْ عَلَى تَرْتِيبِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَالعُصُوبَةُ لِمُعْتَقِ المَيِّتِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَيّاً فَلِعَصَبَاتِ المُعْتِق، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِمُعْتِقِ المعتق، فَإِنْ لَمْ يَكُن فَلِعَصَبَاتِ مُعْتِق المُعْتِقِ إلى حَيْثُ يَنْتَهِي، فَإنْ لَمْ يَكُنْ واحدٌ مِنْهُمْ فَالمَالُ لِبَيْتِ المَالِ، وَهوَ أَيْضاً (ح) عُصُوبَةٌ (و) لِأَنَّهُ يَسْتَغْرِقُ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ، وَيَأْخُذُ مَا بَقِيَ من أَصْحَابِ الفَرَائِضِ إِذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ ذُو فَرْضٍ.
فصل في بيان العصبات وترتيبهم
فصل في بيان العصبات وترتيبهم قَالَ الرَّافِعِيُّ: أكثرُ ما يُسْتَعْمَلُ لفْظ المتقدُّم في العَصَبَاتِ وترتيبهم، ولفظ الحَجْب في ذوي الفروض، وكأنَّه لذلك جمع بين اللفظَيْنِ في ترجمة الفَصْل. أما العَصَبَاتُ، فالأقربُ منْهم يُسْقِطُ الأبْعَدَ، وقدِ اشتهر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أُلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أبقت الفَرَائِضُ، فَلأوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ" (¬1) وقد فسّر "الأولى" بالأقرب وقيل: إنه مأخوذٌ من الولي وهو القُرْب. وجملة عصباتِ النَّسب: الابنُ والأبُ ومَن يُدْلِي بهما، وأَوْلاَهُمُ الابن، وإنما يقدَّم على الأب؛ لأنَّ الله تعالَى جعَلَ للأبِ معه السُّدُس، وأعطاه الباقي، وأيْضاً، فلابن يعصب أخته، والأبُ لا يعصِّب أختَهُ، فاحتجَّ بذلك على قوَّةِ عصوبَتِهِ، ثم الأَوْلَى بعد البنين بنُوهُمْ، وإن سَفَلُوا، ثم الأب، لأنَّ سائِرَ العصَبَاتِ يُدْلُون به، وبعْده الجَدُّ والإِخوة من الأبوَيْنِ أو مِنَ الأَب في درَجَةٍ واحدةٍ، ولذلك يتقاسَمُون عَلَى ما سيأتي -إنْ شاءَ الله تعالَى- وأبو الجَدِّ، وإنْ علا، مع الأخ كالجَدِّ مع الأخ، يتقاسمون لقوَّة الجُدُودَةِ، ووقوعِ الاسم على القَرِيبِ والبَعِيدِ، هذا ما نصَّ علَيْه، وهو المذْهَب. وقال الإمامُ الذي رأَيْتُهُ في ذلك [يعني الأصحاب] أنَّ أبا الجَدِّ لا يسقط بالأخ، ولكنْ لا يقاسم الأخ، بل له السدُسُ، والباقي للأخِ، ثم قال: وفي القلب من هذا شَيءٌ، وأَبْدَى المذهبَ المنْصُوص عليه (¬2) كما يُبْدِي الاحتمالاتِ (¬3)، وإذا لم يكنْ أخٌ، فالأَوْلَى الجَدُّ ثم أَبُوه، وإنْ علا، ويسقط ابن الأخ بالجَدِّ العالي سقُوطَهُ بالجَدِّ الأدنى، ¬
وفي "النهاية" وجْهٌ ضعيف: أن [أبا الجَدِّ وابن الأخ يتقاسَمَانِ (¬1) كما يتقاسم الجَدُّ والأخُ، والمذْهَبُ الأَوَّلُ، فإنَّا إذا قدَّمنا نوعاً عَلَى نوعٍ، لا ينظر إلى القُرْب والبُعْد؛ ألا ترى أنَّ ابن الأخ، وإن سفل] (¬2) يقدَّم على العمِّ مع قربه، وإن لم يكن جَدُّ، [فالأخُ من الأبوَيْن على الأخ من الأب، ثم الأخُ من الأبِ، وإنَّما يقدَّم الأخُ من الأبوَيْنِ على الأخَ من الأب] (¬3)، لما رُويَ عن عَلِيٍّ -كرَّم الله وجهه- أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَعْيَانُ بَنِي الأمُ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي العَلَاَّت، يَرِثُ الرَّجُلُ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ دُونَ أَخِيهِ لِأَبِيهِ" (¬4). والمذكور أخيراً تفسير للمذكور أولاً، فأولاد الأعيانِ الأخوةُ والأخوات من الأبوَيْنِ، وأولاد العلات الإخوةُ والأَخَوَاتُ من الأب، وأيْضاً فالأخُ من الأبوَيْنِ أقربُ لاِختصاصِهِ بقرابتين، فكَانَ المَالُ مصْرُوفاً إلَيْهِ؛ لقوله: "فما تَرَكَتِ الفَرَائِضُ، فَلأوْلَى عَصَبَةِ ذَكَرٍ" ثم بعد الإِخوة من الجهَتَيْنِ، الأَوْلَى بنو الإخْوةِ من الأبوَيْن، ثم بنو الإِخوة من الأب، وكذلك بنوهم، وإنْ سَفَلوا، ثم العمُّ من الأَبوَيْن، ثم العمُّ من الأب، ثم بنو العم كذلك، ثم عمُّ الأبِ من الأبوَيْن، ثم عمُّه من الأب، ثمَّ بنوهما كذلك، [ثم عم الجَدِّ من الأبوَيْن، ثم عمُّه من الأبِ، ثم بنُوهما كذلك] (¬5)، إلَى حيث ينتهي، فَإِنْ لَمْ يَوجَدْ أحدٌ من عصبات النَّسَبِ، واَلميِّت عتيق، فالعصوبةُ لمعتِقِهِ، فإن لم يكن حيّاً، فلعصبَاتِ المُعْتِقِ، فإن لم يوجدوا، فلمعتِقِ المعتِقِ، ثم لعصابَتِهِ إلَى حيث ينتهون، وإنْ لم يكُنْ عتيقاً، وأبوه أو جده عتيق، ثبت الولاء عليه لمعتِقِ الجَدِّ أو الأبِ؛ على ما سيأتي من موضعه -إن شَاء الله تعالى- فإن لم يكن منهم أحدٌ، فالمَالُ لبَيْتِ اَلمال. وقوله في الكتاب: "فإن لم يكن للميِّت إلاَّ عصبات" هذا التقييد غير محتاج إليه، بلْ مَنْ خلف [ذوي فروضٍ، فالكلامُ فيمن يستحق الباقِيَ من الفُرُوض، على هذا الترتيب. وقوله: "فإنَّهُمْ يتقاسَمُون، قد أُعْلِمَ بعلامات مَنْ يخالِفُ في مقاسمة الجَدِّ والإِخوة] (¬6)، وسنذكرهم. وقوله: "عند ذكر بيت المال: و"هو أَيْضاً عصوبةٌ" يجوز أن يُعْلَمَ بالحاء والألف والواو؛ لِمَا مَرَّ في أوَّل الكتاب. ¬
قال الغَزَالِيُّ: ثُمَّ لْيُعْلَمْ أَنَّ ابْنَ الأَخِ وَإِنْ سَفَلَ مُقَدَّمُ عَلَى العَمِّ القَرِيبِ لاِخْتِلَافِ الْجِهَةِ، وَابْنَ الأَخِ لِلْأَبِ مُقَدَّمٌ عَلَى ابْنِ ابْنِ الأَخِ لِلْأَبِ وَالأُمِّ بِسَبَب القُرْبِ مَعَ أَنَّ جِهَةِ الاِخُوَّةِ فِي حُكْمِ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ ابْنَا عَمِّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِلْأُمِّ فَلَهُ بِأُخُوَّةِ الأُمِّ السُّدُسُ وَالبَاقِي بَيْنَهُمَا بِعُصُوبَةِ بِنُوَّة العَمِّ علَى السَّوَاءِ، وَلَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ بِنْتٌ وَابْنَا عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِلأُمِّ، فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَيَسْقُطُ إِخْوَةُ الأُمِّ بالبنْتِ، والبَاقِي بَيْنَهُمَا (و) بِالسَّوِيَّةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصل مسألتان: المسألة الأُولَى: البعيدُ من الجهة المقدَّمة يتقدَّم على القَرِيب من الجهة المؤَخَّرة: مثاله: ابن الابن، وإن سفَلَ يُقدَّم على الأب وابنُ الأخ، وإن سَفَل، يُقدَّم على العمِّ، وكذا ابنُ العمِّ السِّافِلِ يُقدَّم عَلَى عمِّ الأب، وإذا اتَّحدَتِ الجهة، فالمُقدَّم الأقْرَبُ، فإنِ استويا في القرب، وأحدهما يُدْلِي بقرابة الأب والأم، قُدِّم على من يُدْلِي بقرابة الأبِ وحْدَهُ. مثاله: الأخُ من الأبَوَينِ يُقدَّم على الأخ من الأب، والأخُ من الأب يُقدَّم على ابن الأخ من الأبوَيْن وابن الأخ من الأبوَيْنِ يُقدَّم على ابن الأخ من الأب، وابنُ الأخ من الأبِ يُقدَّم على ابْنِ ابنِ الأخ من الأبوَيْنِ (¬1) وكذلك القَوْلُ في بنِي العَمِّ وبَنِي عَمِّ الأَب. وقوله: "مع أنَّ جهة الأخُوَّة في حكم جنس واحدٍ" ربما أشْعَر بأن جهته الإدْلاَء في الأخوَّة بني الإِخْوة واحدةٌ، وهي الأُخُوَّة؛ لأنه ذكر عقيب تقديم ابن الأخِ من الأبِ، على ابن ابن الأخِ من الأبوَيْن، لكن الأشبه أن بَنُو الإِخوة جهة برأسها وراء الأُخُوَّة، فيكون المعنى أنَّ جهة الأخُوَّة في حكم جِنْسٍ واحدٍ، وكذلك جهة بُنُوَّة الإِخوة. المسألة الثانيةُ: إذا اشترك اثنانِ في جهةِ عصُوبةٍ، واختص أحدهما بقرابةٍ أخرى، كابني عمٍّ، أحدُهما أخ لأمِّ فينظر: إن أمكن التوريث بالقرابة الأُخْرَى؛ لفقد الحاجب، فالنص أنه يورَثُ بهما، فالأخُ للأمِّ يأخذ السدُسَ، والباقي بينهما بالعُصُوبة، ونَصَّ فيما إذا مات وخلَّف ابْنَيْ عمّ معتقه، وأحدُهُما أخو المعتق لأمِّه، أنَّ جميع المال للذي هو أَخُوهُ لأمه، وللأصحاب فيها طريقان. منْهُمْ من نقَل وخرَّج، وجعلهما على قولَيْن: أحدُهُما: أنَّه يترجح الأخُ للأمِّ، ويأخذ جميعَ المَالِ في الصورَتَيْنِ؛ لأنهما استَوَيا ¬
في جهةِ العُصُوبة، واختصَّ أحدهما بقرابةِ الأُمِّ، فأشبها الأَخَ من الأبوَيْنِ مع الأخِ من الأبِ أو العم من الأبوين مع العم من الأب. والثاني: أنَّه لا يترجَّح؛ لأنَّه أختصَّ بجهة تُفرض بها، فلا يُسقِط من يُشَارِكُه في جهة العَصوبَة كابْنَيْ عمٍّ أحدُهُما زوْجٌ، وعلى هذا؛ ففي النسب له السدس بالفرضيَّة، والباقي بينهما بالعُصُوبة، وفي الولاء لا يمكن التوريثُ بالفرضيَّة، وقد استَوَيَا في العصُوبة، فيكونُ المال يينهما بالسَّوِيَّة، وبهذا قال أبو حنيفةَ ومالِكٌ، وربَّما خرّج من نصِّه في الولاء هاهنا، ولم يعكس. والطريقة الثانيةُ، وهي الأصحُّ: القطع بالمنصوص في الموضِعَيْنِ (¬1)، والفَرْقُ: أن الأخ من الأمِّ يرث في النَّسَب، فأمكن أنْ يعطَى فرضه، ويجعل الباقي بينهما لاِستوائِهِمَا في العُصُوبة، وفي الولاء لا إرث بالفرضية، فترجح عصوبةُ من يُدْلي بقرابة الأمِّ، كما أن الأخَ من الأبوَيْنِ، لَمَّا لَمْ يأخُذ بقرابةِ الأُمِّ شيئاً ترجَّحت بها عضويتُهُ حتَّى يقدَّم على الأخ للأبِ، وهذا كلُّه مبنيٌّ على أن أخ المعتق من الأبوَيْنِ يقدَّم على أخيه من أبِيهِ، وفيه خلافٌ مذكور في الفصْل الذي يَلِي هذا الفَصْلَ، ويجري الخلاف فيما إذا خلَّف ابنَيْ عَمِّ أبِيهِ، وأحدُهُما أَخُوهُ لأمِّه (¬2)، ولو خلَّفت المرأة ابني عمّ، أحدُهُما أخٌ لأم، والثاني زوجٌ، فعلَى الصحيح؛ للزَّوْج النصفُ، وللآخَرِ السدسُ، والباقي بينهما بالسَّوِيَّةِ، وإذا رجَّحنا الأَخِ للأمِّ فالباقي كلُّه له، ولو خلَّفت ثلاثةَ أبناء أعمامٍ، أحدُهما زوجٌ، والثاني أخٌ لأمِّ فعلى الصحيح: للزَّوْج النصف وللأخ السُّدُسُ، والباقي بينهما بالسويَّة، وإذا رجَّحنا الأَخِ للأمِّ، فللزَّوْج النَصْفُ والباقي له، فهذا إذا أمْكَنَ توريثُ ¬
المخصُوص بتلك القرابةِ، أمَّا إذا لم يكن لمكانِ الحَاجِب، كما إذا خلَّف بِنْتاً وابنَيْ عَمٍّ، أحدُهُما، أخٌ لأمٍّ ففيه وجهان: أظهرهما: وهو المذكورُ في الكتَاب: أنَّ للبنت النصْفَ، والباقي بينهما بالسَّوِّية، لأنَّ إِخُوَّة الأُمِّ سقطَتْ بالبنت، فكأنها لم تكُنْ، فيرثان بِبُنُوَّة العمِّ على السَّواء، وأقواهما عند الشيخ أبي عَلِيٍّ، وهو جواب ابن الحدَّاد أن الباقِي لِلَّذِي هو أخ لأُمِّ؛ لأنَّ البنْتَ منعتْهُ من الأخذِ بقرابةِ الأُمِّ، وإذا لمْ يأْخذ بها، رجحت عُصُوبَته، كالأخ من الأبوَيْن مع الأخِ للأَبِ. واحتج ابن الحدَّاد لجوابِهِ بنفيِّ الشافعيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في صورة الولاء عَلَى ما قدَّمناه، فقال الأخ من الأبوين يتقدَّم في ولاية النكاح على الأخ من الأبِ ترجيحاً بقَرابَةِ الأمُومَةِ، وإنْ كانَتْ لا تفيد ولاية النكاح وهذا هو أصحُّ القولَيْنَ فيه. ولنَا قولٌ آخرُ: أنَّهما سواءٌ في ولايةِ النِّكاحِ نذكره في موضِعِهِ، إن شاء الله تعالَى. واعْلَمْ أن لهذيْن الوجهيْنِ ترتيباً على الخلاف، فيما إذا لَمْ يوجَدْ حاجبٌ، وكيف يترتبان؟ توجيه الوجْه الثاني يقتضي أن يقال: إنْ رجَّحنا الأَخَ من الأُمِّ هناك، فهاهنا أَوْلَى، وإلاَّ فوجهان؛ لأنَّ هناك وَرِثَ بقرابة الأُمُومَةِ، وهاهنا لم يَرِثْ، فانتهضَتْ مرجحة، وقد نصَّ على هذا ابن الحدَّاد، وتوجيهُ الوَجْه الأوَّل يقتضي أنْ يقال: إنْ لم نرجِّح الأَخِ من الأُمِّ هناك، فهاهنا أَوْلَى، وإن رجَّحناه، فوجهان؛ لأنه وُجِدَ المُسْقِطُ للجهة، فصار وجودُها كعَدَمِها، وقد وجدتُّهُ منصوصاً في كلام ابْنِ اللَّبَّان تفريعاً على قَوْلِ من يقدم الأخ هناك، والله أعلم. وإذا قُلْنا بالصَّحيح، فلو خلَّف ابْنَ عمٍّ لأبٍ وأُمٍّ وآخرَ لأبٍ، وهو أخٌ لأمٍّ، فللثاني السُّدُسُ بالأُخُوَّة، والباقي للأول، وتسقط به عصوبةُ الثاني. ولو خلَّف ثلاثةً بني أعمام متفرِّقين، والَّذي هو لأمِّ زوج، والذي هو لأبٍ أخ لأمِّ، فللزَّوْج النِّصْفُ، وللأخ السدسُ، والباقي للثَّالِثِ. ولو خلَّف أخوَيْنِ لأمٍّ [وترك سواهما] أحدُهُما ابنُ عمِّ، فلها الثلثُ بالأُخُوَّة، والباقي لابن العَمِّ منْهما بلا خلافٍ، وصورةُ ابْنَيْ عمِّ أحدُهُما أخٌ لأمٍّ: أن يتعاقب أخوانِ عَلَى امرأةٍ واحدةٍ، وتلد لكلِّ واحدٍ منهما ابْناً، ولأحدِهِمَا ابْنٌ من امرأةٍ أخرَى، فابناهُ ابْنَا عَمِّ الآخَرِ، وأحدُهُما أخُوه لأمِّه. وصورةُ أخوَيْنِ لأمٍّ أحدُهُما ابنُ عمٍّ: أن يكون للمَرْأةِ في الصُّورَة المذكورة ابنٌ من زَوْجٍ آخَرَ، فابْنُهما من الأجنبيِّ، وابنُ أحدِ الأخوَيْنِ أخٌ للآخر من الأمِّ وأحدُهُما ابْنُ عمِّهِ.
فصل في عصبات المعتق
ولو خلَّف ابْنَي عمٍّ، أحدُهما أخٌ لأمِّ، وخلَّف سواهما أخوَيْن لأمٍّ، أحدهما ابنُ عمٍّ، فالحاصِلُ أنه خلَّف أخوَيْن، هما ابْنَا عَمٍّ، وأخاً ليْسَ بابن عمٍّ، وابنَ عَمٍّ ليس بأخ، فالثلثُ للإخْوَة الثلاثة، والباقي لبني العمِّ من الثلاثة، ولابْنِ العمِّ الذي ليْسَ بأخٍ بالعُصُوبة، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: أما عَصَبَاتُ المُعْتِقِ، فإن كانَ لِلمُعْتِقِ أُمٌّ وَابْنِ فَالعُصُوبَةِ للابنِ، وَلاَ يَثْبُتُ الإِرْثُ بِالوَلاَءِ لِلْإِنَاثِ إلاَّ إِذَا كَانَتِ المَرْأَةُ مُعْتِقَةً، وَأَخُ المُعْتِقِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ يُقَدِّمُ عَلَى الأخِ لِلْأَبِ كما في النَّسبِ، وَقِيلَ: لاَ يُقَدَّمُ إِذْ لاَ أَثَرَ لِقَرَابَةِ الأُمُومَةِ في الوَلاءِ، وَلَوِ اجْتَمَعَ جَدُّ المُعْتِقِ وَأَخْوهُ فَقَوْلاَنِ (أَحَدَهُمَا): أنَّهُمَا يَسْتَوِيانِ (ح م) لاِسْتِوَاءِ القُرْبِ (وَالثَّانِي): أنَّ الأخَ مُقَدَّمٌ لِأَنَّهُ ابْنُ أَبِ المُعْتِقِ، وَالإِدْلاَءُ بِالبُنُوَّةِ أَقْوَى في العُصُوبَةِ، وَالوَلاَة يَدُورُ عَلَى العُصُوبَةِ المَحْضَةِ. " فصل في عصبات المعتق" قَالَ الرَّافِعِيُّ: قدْ مَرَّ أن من لا عَصَبَةَ له من النَّسَب فمَالُهُ، أو ما يَفْضُلُ عن الفروض لمعتِقِهِ، إنْ كان عَتِيقاً. وإنَّما يُؤَخَّر الولاءُ عن النَّسَب؛ لِمَا رُوِيَ أنَّ رجلاً أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- برَجُلِ، فقال: إني اشْتَرَيْتُهُ، وَأَعْتَقْتُة، فَمَا أمر ميراثه؟ فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إنْ تَرَكَ عَصَبَةً، فالعَصَبَةُ أَحَقُّ، وَإلاَّ، فَالْوَلاَءُ لك" (¬1). وأيضاً، فالنَّسَبُ أَقْوَى من الولاء؛ لأنَّه يتعلَّق به المحرميَّة، ووجوبُ النَّفقة، وسقُوطُ القِصَاص، وردُّ الشهادة، ونَحْوُها، ولا فرق بين أن يكونَ المعتِقُ رجُلاً أو امرأةً؛ لقولِهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الوَلاَءُ لِمَنْ اعْتَقَ" (¬2)، ولأن الإنعام بالإعْتَاقِ موجودٌ منهما، فاستَوَيَا في الإرْث، فإنْ لم يوجَدِ المعتقُ، فالاستحقاق لعصابته [من النَّسَب] الَّذين يتعصَّبُون بأنفسهم دُون من يعصبهم غيرهم، حتَّى لو ماتْ ولمُعْتِقِهِ ابنٌ وبنْتٌ، فلا حَقَّ للبنْتِ، وكذا في الأخِ والأُخْتِ. وكذا لو كان لَه أَبٌ وأُمٌّ، بل لا يَرِثُ النِّسَاء بالولاء إلاَّ ممن أعْتَقْنَ أو أعْتَقَ من ¬
أعْتَقَ أو جَرَّ الولاء إلَيْهنَّ من أعْتَقْنَ، وإنْ شِئْتَ قلت: لا تَرِثُ المرأةُ بولاء إلا من معتقها أو من ينتمي إلَى معتِقِهَا بوَلاَءٍ أو نَسَبٍ. قال ابن سُرَيْجٍ: وإنّما كان كذلك؛ لأنَّ الولاء أضْعَفُ من النَّسب المتراخي، وإذا تَرَاخَى النسب، وَرِثَ الذُّكورُ دُون الإنَاثِ؛ ألا تَرَى أن بني الأخ والعَمّ وابنه يرثُونَ دون أخواتهم، فإذا لم ترِثْ بنْتُ الأخ والعم، فبنتُ المُعْتِق أولى ألاَّ تَرِثَ. وقوله في الكتاب: "ولا يَثْبُتُ الإرث بالولاء للإنَاثِ إلاَّ إذا كانَتِ المرأةُ مُعْتِقةً" فيه تساهلٌ، والضابطُ ما ذَكَرْنَاه، ثم الذين يتعصَّبُون بأنفسهم، ترتيبُهم في الولاء كترتيبهم في النَّسَب، حتَّى يتقدَّم ابن المُعْتِق وابن ابنه عَلَى أبِيه وجَدِّه. وقال أحمَدُ: للأبِ أو الجَدِّ السدُسُ، والباقى للابْنِ، وادَّعى أنَّ كلَّ ذكرٍ يرثُ بالولاءِ، سواءٌ كان صاحبَ فَرْضٍ أو عَصَبَةً. نعم، يفترق الترتيبَانِ في مَسَائِل: منْها: في أَخٍ لأبوَيْهِ مع أخيه لأبيه طريقان: أصحُّهما: تقديمُ الأخِ من الأبوَيْنِ كما في النَّسَب. والثاني: أنَّ فيه قولَيْن: أحدُهما: هذا. والثاني: أنَّهما يتساوَيَانِ، إذْ لا أثَرَ لقرابَةِ الأمومَةِ في الوَلاَء، وقَدِ اسْتَوَيَا في قرَابَةِ الأَبِ، ومنْها إذا اجْتَمَعَ جدُّ المُعْتِق وأخُوه، ففيه قولان: أحدُهُما، وبه قال أحْمَدُ: أنَّهما يستويان كما في النَّسَب؛ لاستوائهما في القُرْب. والثاني: أن الأخَ مقدَّم؛ لأنَّه ابنُ أبي المُعْتق، والجَدُّ أبو أبيه، والبنوة أقوى من العُصُوبة، وإنما تركْنَا هذا القياس في النَّسَب؛ لإجماع الصَّحَابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَلَى أنَّ الأَخِ لا يُسْقِطُ الجَدِّ (¬1)، وأيضاً، فالولاء يدورُ على محْضِ العُصُوبة، ولا يُورَثُ فيه إلا بها، فَمَن أقَرَّ، كَانَ أقْوَى عصوبةً، فهو أَوْلَى، وبهذا القَوْلِ قال مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وأبيهما أصحُّ. قال في "التهذيب": إنَّ الأوَّل أصحُّ، إلاَّ أنَّ الشيخ أبا حامدٍ وأبا خلَفٍ الطبريَّ والأكثرين رجَّحوا الثاني، وأبو حنيفة خالَفَ القولَيْن جميعاً، وقدَّم الجد، فيجوز إعلامُ قولِهِ: "يستويان" وقولِهِ: "إنَّ الأَخِ مقدَّمٌ" بالحاء، وإعلامُ الأوَّل بالميم، والثَّاني بالألف. ¬
التفريعُ: إنْ قلْنَا إنهم يستويان، فقد روى أبو عبْد الله الحناطيُّ وغيره وجهين: أحدُهُما: أن للجَدِّ ما هو خيرٌ له من المقاسمة وغيرها، عَلَى ما سيأتي -إن شاء الله تعالَى- في النَّسَب، وأصحُّهما وهو النقْلُ المستفيض (¬1) أنه يقاسِمُهم أبداً؛ لأنَّه لا مدخل للفرْضِ المقدَّر في الولاءِ، ولو اجْتَمَعَ معَ جَدّ المعتق إِخْوَةٌ من الأبوَيْنِ وإِخْوَةٌ من الأَبِ، فالحكايةُ عن ابنِ سُرَيْجٍ: أنَّه لا معادة، والجَدُّ مع الأخ من الأبوَيْنِ يقتسمان: وفيه وجه آخَرُ، وهو اختيارُ ابنِ اللَّبَّان: أنه يعد الأخُ من الأب عَلَى الجَدِّ كما في النسب، وبالأَوَّلِ أخَذَ كثرَهُم، ويُمْكِنُ أنْ يُفْرَقَ بيْن البابَيْنِ. فأما إذَا أدْخَلْنَا أولادَ الأَبِ في الحسَاب هناك، فقَدْ يدفع إلَيْهم شيئاً، وكما لَوِ اجتمع مع الجَدِّ أختٌ من الأبوَيْنِ، وأخت من الأَب، وهاهنا لا يمكنُ صَرْف شيْءٍ إلَى ولدِ الأب أصْلاً؛ لأنَّه لا يأْخُذ بالولاء إلاَّ المذكور، ولا شيء للأخ من الأبِ مع الأخِ من الأبوَيْنِ، فيبعُدُ أن يدْخُل في القسْمَةَ مَنْ لا يَأْخُذُ بحال، وعلَى هذا القولِ، فالجَدُّ أوْلَى من ابنِ الأَخِ، كما في النَّسَب، وقيل: هما سواءٌ، وفي "التهذيب" تفريعاً عَلَى هذا القَوْل: أنَّ الأَخِ أَوْلَى من أب الجدِّ، وأنَّ أبا الجَدِّ مع ابْنِ الأخِ يَسْتَوِيان، والله أعلم وعلى القول الثَّاني، وهو تقَديمُ الأَخِ على الجَدِّ، أنَّ الأخَ أيْضاً يقدَّم عليه، وبه قال مالِكٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كما أنَّ ابنَ الَابْنِ، وإنْ سَفَل، يقدَّم على الأب، والقولاَنِ في الأخ والجد يجريان من العمِّ مع أبي الجَدِّ (¬2)، وفي كلِّ عمٍّ اجتمع مع جدٍّ، إذا أَوْلَى العم بأبٍ دون الجَدِّ، ولا خلافَ أنَّ الجَدَّ أولَى من العم. ومنها: إذا كان للمعْتِقِ ابنا عَمٍّ، أحدُهُما: أخٌ لأمِّ فالنصُّ أنه أَوْلَى بخلافِ ما في النَّسَب عَلَى ما تقدَّم. ثم إنْ لم يوجد أَحَدٌ من عَصَبَات المُعْتِقِ، فالمالُ لِمُعْتِقِ المُعْتِقِ، ثم لعصبَاتِهِ عَلَى النَّسَق المذكور من عَصَبات المعتِقِ، ثم لمُعْتِقِ مُعْتِقِ المُعْتِقِ، وعلى هذا القياس، ولا يَرِثُ مُعْتِقٌ عصبة الميت إلاَّ مُعْتِق أبيه أو مُعْتِق جَدِّه، وكذا معْتِق عصَبَةِ المُعْتِقِ إلا معتق أبِي المُعْتق أو جده. والقوْلُ في تفصيل ذلك، وفي قواعِدَ أُخَرَ ومسائِلَ عويصةٍ في الولاء، ومؤخر إلَى كتابِ "العِتْق" والله يُيَسِّرُ على الوُصُول إلَيْه. قال الغَزَالِيُّ: أَمَا مُقَاسَمَةُ الجَدِّ وَالْإخْوَةِ في النَّسَبِ فَالْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ يَسْقُطُونَ، وَأَمَّا مُقَاسَمَتُهُ مَعَ إِخْوَةَ الأَبِ وَالأُمِّ أو الإِخْوَةِ لِلْأَبِ فَصُورَتُهَا أنَّهُ إِذَا لَمْ يَكن مَعَهُمْ ذُو فَرْضٍ ¬
فَيَكُونُ الجَدُّ كَوَاحِدٍ مِنْهُمُ ما دامَتِ القِسْمَةُ خَيْراً لَهُ مِنَ الثُّلُثِ، فَإنْ نَقَصَتِ القِسْمَةُ مِنَ الثُّلُثِ فَلَهُ الثُّلُثُ كَامِلاً، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَخٌ أَوْ ثَلاَثُ أَخَوَاتٍ أَوْ أُمٌّ وَأُخْتَانِ فَالْقِسْمَةُ خَيْرٌ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَخَوَانِ أَوْ أَرْبَعُ أَخَوَاتِ أَوْ أَخٍ وَأخْتَانِ فَالْقِسْمَةُ وَالثُّلُثُ سِيَّانِ، فَإنْ كَانَ الإِخْوَةُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَالْثُّلُثُ خَيْرٌ لَهُ فَيُسَلَّمُ إِلَيْهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القَوْلُ في ميرَاثِ الجدِّ مع الإخوة بابٌ خطيرٌ في الفرَائِضِ، وقَدْ أكثر فيه الصحابةُ ومَن بعْدَهُمْ من الأئمة (¬1) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وإنَّما أورده المصنِّف في هذا المَوْضع؛ لأنَّه قد بيَّنَ في ترْتِيب العَصَبات أنَّ الجَدَّ مع الإِخوةِ والأَخَوَاتِ من الأَبَوَيْنِ، أو من الأب في درَجَةٍ وَاحِدَةٍ، لا هُوَ يُسْقِطُهم، ولا هُمُ يُسْقِطُونه، فمسَّت الحاجةُ إلَى معرفةِ أَنَّهم كيف يقْتَسِمُون المالَ. وقوله: "فالْإِخْوَةُ لِلأُمِّ يسْقُطُونَ" هذا قد أعادَهُ من بَعْدُ في فصل حَجْب الإخْوَة، ولا ضرورةَ إلَى ذكْره هاهنا؛ لأَنَّ الكلامَ من أولِ الفَصْل الثَّاني إلَى آخِرِ ما يتَعلَّقَ بالجَدِّ والإِخوة في العَصَبَات؛ ألا تَرَى أنه قَالَ في آخِرِ حُكْم العَصَبَات، والإِخوة "والأَخَوَات من الأُمِّ: لَيْسُوا مِنَ الْعَصَبَاتِ" وجملة القوْلِ في الباب أَنَّ الإخوةَ والأَخَوَاتِ من الأبوين أو من الأبِ، إذا اجتمعوا مع الجَدِّ لم يَسْقُطوا به، وبهذا قاَل مالكٌ وأحمدُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-. وقال أبو حنيفةَ والمُزَنِيُّ: إِنَّهُمْ يَسْقُطُونَ، ويُحْكَى ذلك عن اختيار ابن سُرَيْجٍ، ومحمَّدِ بنِ نَصْرٍ المَرْوَزِيِّ، وابْنِ اللَّبَّانِ وأبِي مَنْصُورٍ البَغْدَادِيِّ، ووُجِّهَ ذلك: بأنِ ابْنَ الابْنِ نازلٌ منزلة الابْنِ في إِسقاط الإخوة والأخَوَات، وغيره فلْيَكُنْ أبُ الأبُ نازلاً منزلةَ الأَبِ، ويُرْوَى هذا التوجيهُ عن ابنَ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (¬2) - وبأنَّ الجَدَّ أَقْوَى من الأخِ، بدليل أنَّه يشاركه في الإرْثِ، وينفرد بولايةِ المَالِ والنِّكَاح، وبدليلِ أنَّ الابْن ¬
يُسْقِط الإخوةَ، ولا يُسْقِطُ الجدَّ، وعنِ ابْنِ اللَّبَّانِ: أَنَّه احتجَّ بأن الجدَّ إما أن يكونَ كالأخِ من الأبَوَيْنِ، أول كالأخِ من الأَبِ، أو أضْعَف منهما أو أقوى منهما، إنْ أن كالأخِ من الأبوَيْنِ، وجب أن يسقط الأَخُ من الأب، وإن كان كالأخِ من الأبِ، وجَبَ أنْ يسقط، بالأخ من الأبوين، وإن كان أضْعَفَ منهما وجب أن يَسْقُطَ بهما جميعاً، ولما تعذرت الأقْسَامُ الثلاثة تعيَّن الرابعُ، وهو أنَّه أقْوَى منْهما، فيُسْقِطُهما. وأمَّا وجْه ظاهِرِ المذْهَب، فعَنْ عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- تشبيهُ الجَدِّ بالبَحْرِ أو النَّهْرِ الكبير، والأب كالخَلِيجِ المأخوذِ منْه، والميِّت وإخوته كالسَّاقِيتَيْنِ المُمْتَدَّتَيْنِ من الخليج، والسَّاَقيةُ إلى السَاقية أقربُ منها إلى البَحْر؛ ألاَ ترى أنه إذا (¬1) سُدَّتْ إحداهما، أخذت الأخرَى ماءَها، ولم يرجع إلى البَحْر. وعن زَيْدِ بْنِ ثابت -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: يُشَبَّهُ الجَدُّ بساقِ الشَّجرة وأَصْلِهَا، والأَبُ كغصن منها، والأخوة كغصنين تفرعا من ذلك الغُصْن، واحد الغُصْنَيْن إلى الآخَرِ أقربُ منْه إلَى أَصْلِ الشَّجَرة؛ ألا تَرَى أنه إذا قُطِعَ أحدُهما امتصَّ الآخَرُ ما كان يمْتصُّه المقْطُوع، ولم يرْجِعْ إلى السَّاق (¬2). ووجهه الأصحابُ: بأنَّ الأَخِ يُعَصِّب أخته، فلم يَسْقُطْ بالجَدِّ كالابن، وبأنَّ ولد الأب يُدْلِي بالأب، فلا يَسْقُط بالجد كأمِّ الأب، وبأنَّ الأخ أقوَى من الجدِّ من جهة أنَّه ابنُ أَبِي الميِّتِ، والجَدُّ أبو أبيه، والبنوةُ أقْوَى من الأُبُوَّة، وأَنَّهُ يُعَصِّبُ أَخَوَاتِهِ، وَالْجَدُّ لا يُعَصِّبُهُنَّ؛ فإن الإخوة والأخواتِ يَرِثُون حَسَبَ ميراثِ الأَوْلاَدِ عُصُوبةً وَفَرْضِيَّةً، والجدُّ بخلافه، وإن فرع الأخ، وهو ابن الأخ يسقط فرع الجد، وهو العَمُّ، وقوَّة الفرع تدُلُّ على قوة الأصْل، وإذا كان الأخُ أقوَى فقضيته أن يَسْقُطَ الجدُّ به إلاَّ أنَّ الإجْمَاع صدَّنا عن ذلك، فلا أَقَلَّ من ألا يسقط [بذلك] الجد إذا تقرَّر ذلك، فإما أن يجتمع مع الجدِّ أحدُ الصِّنْفَيْن منَ الاِخوة والأَخَوات من الأبوَيْنِ، والإِخوة والأخوات من الأَبِ، وإمَّا أنْ يجتمع معَه الصِّنْفَان. القسْمُ الأوَّل: إذا اجتمعَ معَهُ أحدُهما، فإمَّا ألا يكونَ معَه ذُو فَرْضٍ، وإمَّا أن يكون: ¬
الحالةُ الأُولَى: إذا لم يكُنْ معهم ذو فَرْضٍ، فللجَدِّ خيرُ الأمرَيْن من المقاسمة معهم، وثُلُثُ جميع المالِ، فإنْ قاسَمَهُمْ، كان بمثابة أخٍ منهم، وإنْ أَخَذَ الثُّلُثَ، فالباقي بينهم {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، وقَدْ يستوي الأمْرَان، فلا فَرْقَ في الحقيقة، ولكنَّ الفَرَضِيُّون يتلفَّظُون بالثُّلُث، فإنَّه أسهلُ، وإنما تكونُ القسْمَة خَيْراً له إذا لم يكُنْ معه إلاَّ أخٌ أو أخْتٌ، أو أخٌ وأختٌ أو أختان أو ثلاث أخوات، فهي خمسُ مسَائِلَ، وإِنَّمَا يستَوِي الأمْرَانِ، إذا لم يكنْ معه إلاَّ أخَوَانِ أو أخٌ وأختانِ أو أربَعُ أخواتٍ، فهي ثلاث مسائلَ، وفيما عدا ذلك الثلُثُ خير له من القِسْمة. والعبارَةُ الضَّابطة: أن الإِخْوةَ والأخواتِ، إنْ كانوا مثليه، فالقسْمةُ والثُّلُثُ سيان، وإن كانُوا دُونَ مثليه فالقسمة خَيْرٌ، وإن كانوا فَوْق المثلين، فالثلُثُ خَيْرٌ، ووجه اعتبار الثُّلُث أن الجَدَّ والأُمَّ، إذَا اجتمعا، أخَذَ الجَدُّ مِثْلَىْ ما تأخذه الأمُّ؛ لأنَّها لا تأْخُذُ إلاَّ الثُّلُث، والإِخوة يَنْقُصُون الأُمَّ من السُّدُس، فَوَجَبَ ألا يَنْقُصُوا الجدَّ من ضِعْف السُّدُس، والله أَعْلَم. قال الغَزَالِيُّ: وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ ذُو فرْضٍ سُلِّمَ لَذَوِي الفَرْضِ فُرُوضُهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ إلاَّ السُّدُسُ سُلَّمَ إِلَيَّ الجَدِّ، وَإِنْ بَقِيَ أقَلُّ مِنَ السُّدُسِ أَوْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ أُعِيلَتِ المَسْأَلَةُ وفُرِضَ للجدِّ سُدُسٌ عَائِلٌ وَسَقَطَ الإِخْوَةُ، وَإِنْ بَقِيَ أَكْثَرُ مِنَ السُّدُسَ فَيُسَلَّمُ لِلْجَدِّ، إِمَّا سُدُسُ جَمِيعَ المَالِ أَوْ ثُلُثُ مَا يَبْقَى أَوْ مَا تُوجِبُهُ القِسْمَةُ فَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ خَيْراً لَهُ خُصَّ الجَدُّ بِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الحالة الثانية: إذا كانَ مَعَهُمْ ذو فَرْضٍ وأصحابُ الفروضِ الوارِثُون مع الجَدَّ والإِخوة ستَّةٌ: البنْتُ، وبنتُ الابْنِ، والأمُّ، والجَدَّةُ، والزَّوْج، والزَّوْجَةُ. فإمَّا ألاَّ يبقَى بعد الفروض شيءٌ أو يبقى وحينئذٍ، فإمَّا أن يكون الباقي قدْرَ السدُسِ أو أقلَّ أو أكْثَرَ، فهذه أربعة تقديرات: أحدها: ألاَّ يبْقَى شيْءٌ؛ كبنْتَيْنِ، وأُمٍّ، وزَوْجٍ، فيُفْرَضُ للجَدِّ السدُسُ، ويزاد في العَوْل. والثَّاني: أن يكونَ البَاقي قدْرَ السُّدُس، كما إذَا كان مع الجدِّ والإخوةِ بنْتَانِ وأمٌّ، فيصرف السُّدُس والباقي إلى الجَدٍّ. والثالث: أن يكون الباقي دونَ السُّدُسِ؛ كبنتَيْنِ وزَوْجِ، فيفرَضُ للجَدِّ السدس، وتُقَالُ المسألةُ. وعلى التقديراتِ الثَّلاثةِ يسقط الإِخوة والأخوات.
والرابعُ: أنْ يكونَ الباقي فوْقَ السُّدُس، فللجَدِّ خيْرُ الأُمُور الثَّلاثة وهي المقاسَمَة مع الإِخوة والأَخَوات، وثُلُثُ ما يبْقَى وسدُسُ جميع المال. أما المقاسَمَةُ؛ فلمساواته إيَّاهم ونُزُولِهِ منزلةَ أخٍ، وأما ثلُثُ ما يبقَى؛ فلأنَّهُ لو لَمْ يكُنْ صاحبَ فرضٍ، لأَخَذ ثلُث جميعِ المَال، فإذا خَرج قدْرُ الفَرْضِ مستحقّاً، فأخَذَ ثلث الباقي. وأما السُدُس؛ فلأن البنتَيْنِ لا يَنْقُصُون الجَدَّ عن السُّدُس، فالإخوةُ أَوْلَى، هذا هو التَّرْتيبُ المذْكُور في الكِتَاب، ووراءه عبارتان تؤدِّيان الفَرَضَ: إحداهما: أن يقالَ: إنْ كانَ الفرْضُ دون النصف؛ لزوجٍ أو زوجَةٍ معهم، فلِلْجَدِّ خيْرُ الأمرَيْنِ من المقاسَمَةِ وثُلُثِ ما يبْقَى، وإن كان فوْقَ النِّصْف ودون الثلثَيْن؛ كبنْتٍ وزوجةٍ أو قَدْر الثلثَيْن؛ كبنتين، فله خيْرُ الأمرَيْنِ من المقاسمة أو سدُسِ جميعِ المالِ، وإن كان فوق الثلثَيْنِ؛ كبنتٍ وزوج، فللجَدِّ السدسُ، فهو خيرٌ وهو والقسمة سيان، وذلك إذا لم يكُنْ مع الجَدّ، والصورةُ هذه، إلاَّ أخْتٌ واحدةٌ. والثانيةُ: أن يُخْتَصَرُ فيُقَالَ: إذا اجْتَمَعَ معَهُمْ ذو فَرْضٍ، فلِلجَدِّ خيْرُ الأمورِ الثلاثةِ، وإذا أَردتَّ أن تعرف أن كلَّ واحدٍ منْهما في أيِّ موضعٍ يكون خيْراً، فانْظُرْ في قدْر الفَرْض، فإنْ كان قَدْرَ النِّصْف أو دُونَهُ، فالقسْمةُ خَيْر، إذا لم يكُن معه أختٌ، أو أخ، أو أخَتانِ أو ثلاثٌ، أو أخٌ وأختٌ، فإنْ زادُوا، فثلثُ الباقي خَيْرٌ، وفي هذا القسمْ تقع المسالةُ المعروفةُ بـ"الخَرْقَاءِ"، وهي: أُمٌّ، وجَدٌّ، وأُخْتٌ، فللأمِّ الثلثُ، والباقي يُقسَّم بين الجَدِّ والأُخْتِ أثْلَاثاً، وسُمِّيَتِ بـ"الخَرْقَاءِ" لتخرُّق أقوال الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وكثرة اختلافِهِمْ فيها، فعِنْدَ أبي بكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- للأمِّ الثُّلُثُ والباقي للجَدِّ. وعند عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: للأخْتِ النصْفُ، وللأم ثلثُ ما يَبْقَى، والباقي للجَدِّ. وعند عثمان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: لكلِّ واحدٍ منْهما الثُّلُثُ. وعند عليٍّ عليه السلام: للأختِ النصْفُ، وللأمِّ الثلثُ، وللجَدِّ السدُسُ وعند ابن مَسْعُودِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: النِّصْفُ، والبَاقي بيْنَ الجَدِّ والأمِّ بالسويَّة، وُيرْوَى عنْه مثْلُ مذهَبُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (¬1) -. ¬
والذي ذكرْنَاه أوَّلاً هو مَذْهَبُ زَيْدِ، وإنْ كان الفَرْضُ يفوق النصْفَ ودون الثلثَيْنِ، فالقسْمَة خيرٌ مع أخ وأختٍ وأختَيْنِ، فإنْ زادُوا فالسدس خيرٌ، وإن كان قدْرَ الثلثَيْنِ، فالقسمة خيرٌ، إن لمَ يكنْ إلاَّ أخْتٌ واحدةٌ إلاَّ فالسُّدُسُ خيْرٌ، وهَذَا التفصيل قد أَتَى به الشافعيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- في "المختصر" بأكثره، لكنَّه قال: "إِذا كان الفَرْضُ أَكْثَرَ منَ النِّصْف، ولم يجاوِزِ الثلثَيْنِ قاسم أخاً أو أختَيْنِ" (¬1). قال الشَّارِحُونَ: المرادُ: إذا لم يبلُغِ الثلثَيْنِ أيضاً؛ لأنَّه إذَا بلغ الثلثَيْنِ، فلا يقاسم أَخَاً ولا أُخْتَيْنِ، إنَّما يقاسم أخْتاً واحدةً، كما مَرَّ، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلاَّ إِخْوَةٌ لِلْأَبِ وَالأُمِّ أوْ إِخْوَةَ الأَبِ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا جَمِيعاً فَحُكْمُ الجَدِّ لاَ يَتَغَيَّرُ بَلْ هُوَ كَمَا كَانَ، وَإِنَّمَا تتَجَدَّدُ المُعَادَّةُ وَهِيَ أَنَّ أَوْلاَدَ الأَبِ نَعُدُّهُمْ عَلَى الجَدِّ في حِسَابِ المُقَاسَمَةِ وَنُقَدِّرُهُمْ وَرَثَةً، ثُمَّ إِذَا أَخَذَ الجَدُّ حِصَّتَهُ قُدِّرَ نَصِيبُ الإِخْوَةِ كَأنَّهُ كُلُّ المَالِ بَيْنَهُمْ، فَإنْ كَانَ في أَوْلاَدِ الأَبِ وَالأُمِّ ذَكَرٌ اسْتَرَدَّ جَمِيعَ مَا خَصَّ أَوْلاَدَ الأَبِ، وَإِنْ كَانَ في أَوْلاَدِ الْأَبِ وَالْأمِّ أُنْثَى وَاحِدَةٌ اسْتَرَدَّتْ مَا يَكْمُلُ لَهَا بِهِ النِّصْفُ، وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ اسْتَرَدَّتَا مَا يَكْمُلُ بِهِ لَهُمَا الثُّلُثَانَ، فَإنْ كَانَ لاَ يَتِمُّ النِّصْفُ أَوِ الثُّلُثَانِ بِاسْتِرْدَادِ الجَمِيعِ اقْتُضِرَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ للتَّكْمِيلِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القِسْمُ الثَّاني: إذا اجتمَعَ مَعَ الجَدِّ الصِّنْفَانِ الإِخوة والأخوات من الأبوَيْنِ والإِخوةُ والأخواتُ من الأبِ، فللجَدِّ خَيْرُ الأمرَيْنِ، إن لم يكُنْ معهم ذُو فَرْضٍ، وخَيْرُ الأمورِ الثلاثةُ، إنْ كان معهم ذُو فَرْض كما إذا لم يكن معه إلاَّ أحد الصِّنْفَيْنِ، لكن هاهنا أولاد الأبوَيْن يُعَادُّونَ الجَدِّ بأولادِ الأبِ، أي: يُدْخِلُونَهُمْ في العَدَدِ معَ أنْفُسِهِمْ وَيعُدُّونهم في القسْمة على الجَدِّ ثم [إذا أخذ الجدُّ حصَّتَهُ، نُظِر: إن كان ولدُ الأبوَيْنِ عصبة] (¬2) إما ذكراً أو ذُكُوراً وإما ذكوراً وإنَاثاً، فلهُمْ كلُّ الباقي، ولا شيء لولَدِ الأب، وإن لم يكنْ عصبةً، بل أنثَى أو إناثاً متمحِّضَاتٍ، فالاثنتانِ فصاعداً ¬
يَأْخُذن إلى الثلثَيْنِ، والواحدةُ تأخُذُ إلى النِّصْف، فإن زادَ شيءٌ، فهو لأولادِ الأَبَ، ذُكُوراً كانوا أو إِناثاً. أمثلتُهُ: جَدٌّ، وأخ من الأبوَيْنِ، وآخَر من الأب: يدخل الثاني في القسْمَةِ، ويأخُذُ الجدُّ الثلثَ، وهو والمقاسَمَةُ سواءٌ، والباقي للأخِ مِنَ الأبوَيْنِ. جَدُّ وأخٌ من الأبوَيْنِ، وأختٌ من الأبِ، المال على خمسة: للجَدِّ سَهْمَانِ، والباقي للأخِ. جدٌّ، وأخٌ، وأختٌ من الأبوين، وأخ وأخت من الأب، وجد، للجد الثالث، والباقي للأختين من الأبوين. أختانِ من الأبوينِ، وأخٌ، وأخْتَانِ من الأب للجَدِّ الثلُثُ، والباقي للأختَيْنِ، من الأبوَيْنِ، وهُوَ تمام فرضهما. أخْتَانِ من الأبوَيْنِ، وأختاً من الأب، وجَدٌّ: المالُ على خمْسةٍ للجدِّ سَهْمَانِ، والباقي للأختين من الأبوَينِ، وهو دُون فَرْضِهِمَا. أختانِ من الأبوَيْنِ وأخت من الأب، وزوْجٌ، وجَدٌّ، للزوج النصْفُ، ويستوِي في البَاقِي القسمةُ، وثلُثُ ما يبقى وسُدُسَ المَالِ فيأْخُذُه الجَدُّ، والباقي للأختَيْن من الأبوَيْنِ، وهو دُونَ فرضهما. أختٌ من الأبوَيْنِ، وأختان، وأخٌ من الأبِ وجَدٌّ: المالُ عَلَى خمسة أسهمٍ: للجَدِّ سهمان، وللأختِ من الأبوَيْنِ سهمان ونصفٌ، وهو قدْرُ فرضهما، والباقي لولَدِ الأبِ. أختٌ من الأبوَيْنِ، وأخواتُ من الأب فصاعداً، وجدُّ: للجَدِّ الثلُثُ، فهو خيرٌ، وللأخْتِ من الأبوَيْنِ النصْفُ، والباقي لأوْلاَدِ الأبِ. أختٌ من الأبوَيْنِ، وأخرَى من الأب وجَدٌّ: المالُ على أربعة أسهمٍ: سهمانِ للجَدِّ، والباقيان يأْخُذُهما الأخْتُ للأبوين. أخت من الأبوَيْنِ، وأخٌ من الأبِ، وجَدُّةٌ، وجَدُّ: للجدة السدُسُ، والباقي بينهم على خَمْسَةٍ: للجَدِّ سهمان، والباقِيَ تأْخُذه الأختُ، فهو نصف المال، فإن كان بدَلَ الجَدَّة زوجةٌ، أخَذَت الرَّبُع، والباقِي على خَمْسَةِ: للجَدِّ سهمان، والبَاقِي تَأْخُذُه الأخْتُ، وهو دون النِّصْف، [إذا مات]. وإذا تأمَّلْتَ ذلك عَرَفْتَ أنَّ أوْلادَ الأبِ لا يأخُذُون شيئاً إلاَّ أن يكون ولَدُ الأبوَيْنِ أنثَى واحدةً، وأنهم لا يأْخُذُون في جميع صُوَر وجُودِها، هذا مَعْنَى المُعَادَّة وطرق في صُوَرِهَا.
وأما أنَّه لِمَ قِيلَ بها؟ فقد ذكروا له نوعَيْنِ من التَّوْجِيه، واستأنُسُوا بشَيْءٍ ثالثٍ: أحدُ النوعَيْنِ: أن الجَدَّ شخصٌ له ولادةٌ تحْجُبُه عن نصيبِهِ، أخوانِ وارِثَانِ، فجاز أن يحجُبَهُ أخوانِ، وارِثٌ، وغيرُ وارثٍ؛ كالأمِّ كما يحجُبُهَا عن الثُّلُثِ أخوانِ وارِثَانِ، يحْجُبُها وارثٌ وغيرُ وارثٍ، وأيضاً، فإنَّ أولاد الأب، أخوةٌ يرثُون، لو انفردُوا معَ شَخْصٍ له ولادةٌ، فإذا اجتمَعَ مَعَهُمْ من يمْنَع الاِخوة من الإِرث، حُجِبُوا، ولم يرثوا، كأولاد الأم إذا اجتمع معهم الجدُّ. والثَّاني: أن الأَخَ من الأبوَيْنِ يقولُ للجَدِّ: أنا وأَخِي من الأَبِ بالإضافة إليك سواءٌ، وأنا الذي حُجُبُه، فأَزْحَمُكَ بِهِ وآخُذُ حصَّته، وهذا كما أنَّ الإِخوة يردُّون الأمِّ من الثلث إلى السُّدُس، والأَب يحجبهم ويأْخُذُ ما نقَصُوا من الأمِّ وفَرَقُوا بين ما نحْنُ فيه وبين ما إذا اجتمع الأخُ من الأُمِّ مع الجَدِّ، والأخُ من الأبوَيْنِ حيثُ لا يقُولُ الجَدُّ: أنا الذي أحجَبَهُ فأزْحَمُكَ به، وآخُذُ حصَّتَهُ -بأن الأُخُوَّةَ جهةٌ واحدةٌ، فجاز أن ينوب أخٌ عن أخٍ، والإخوةُ والجدودةُ جهتانِ مخْتَلِفَتَان، فلا يجوزُ أنْ يستحقَّ الجدُّ نصيبَ الأَخِ، وأَوْلَى من هذا أنْ يُقَال: ولَدُ الأب المعدود على الجَدِّ ليْسَ بمحرومٍ أبداً بَلْ يأْخُذُ قِسْطاً مما قُسِّم له في بعض الصُّورَ علَى ما بيَّنا، ولو عدّ الجد الأخ من الأمِّ على الأخِ من الأبوَيْنِ، كان مَحْرُوماً أبداً، فلا يَلْزَمُ من تلْكَ المُعَادَّةِ هذه المُعَادَّةُ. وأما الاستئناس، فقد قال القَاضِي إسْماعيلُ المَالِكِيُّ -[رحمه الله]-: يجوزُ أن يَعُدُّ الإنسانُ علَى غيره مَنْ لا يأْخُذُ شيئاً، ويأْخُذُ حصَّتَهُ؛ ألا تَرَى أنَّهُ لو أوصَى بمائةِ درهمٍ لزيْدٍ، وبما يبقى من ثلاثةٍ بعد المَائَةِ لعَمْرٍو، وبجميع الثُّلُثِ لِبَكْر، وثُلُثُه مَائَتَانِ، فإنَّ زيداً يُدْخِل عمراً في قسْمة بكْرٍ، ويقول: أوصَى لنا باَلثُّلُث، كما أوصَى لك، ثم يقُول لِعَمْرٍو: ليْسَ لك أنْ تأْخُذ شيئاً ما لَمْ أستَوْفِ المائةَ، ويأخُذُ جميع المائة، ويحرم عَمْراً، لكنْ ذكر القاضي ابن كجٍّ أنَّ مِنَ الأصحاب مَنْ منَع المسألة، وسوَّى بين زيْدِ وعمْرٍو في المائة، وسنذكُرُ الخلافَ في المسألةَ وأخَوَاتِهَا في "الوصيَّة" إن شاء الله تعالَى. وقوله في الكتاب: اسْتَرَدَّ جَميعَ مَا خَصَّ أولادَ الأَبِ، ضرْبُ استعادةٍ، وليس هناك دفْعٌ واستردادٌ محقَّقٌ، وإنما هو كلامٌ تقديريٌّ، أي: ماَ قُسِّم وجُعِلَ باسْمِهِ لا يُدْفَع إلَيْه، ويحول إلى الأخِ من الأبوَيْنِ، وعلَى هذا يقاسُ ما ذكره من استرْدَادِ النِّصْف والثلثَيْنِ، وربَّما سبق إلى الوَهْم من لفْظِ الكتَاب: أنَّ الواحدةَ تستردُّ تكملةَ النِّصْف، والاثنين تستردًّانِ تكملةَ الثلثَيْنِ، ويقرّر ما فضل على أولاد الأب، وقد يتَّفِق ذلك في الواحِدَةِ، لكنْ لا يُتصوَّر في الاثنتين، ولا يفْضُل عن الثلثَيْنِ شَيْءٌ. فَائِدَةٌ: إذا اجتمع الصِّنْفَانِ [معه] وكان غيْر القسْمة خيراً للجد، كما إذا اجتمع معه
أختٌ من الأبوين [وأَخَوَاتِ من الأبِ أو أربعُ أخواتٍ فصاعداً، فرضْنَا للجَدِّ الثلثَ، فعن بعض الفرَضِيِّينَ أنَّه يجعل الباقي بيْن ولد الأبوَيْنِ] (¬1) وولَدِ الأب، ثم يَرُدُّ ولد الأب عَلَى ولد الأبوَيْنِ قدْرَ فرضه، قال ابن اللَّبَّانِ: والصَّوابُ أن يُفْرَضُ للأختِ من الأبوين النِّصْفُ، ويجعل الباقي لولَدِ الأب؛ لأنَّ إدخالَهُمْ الحساب إنَّما كان؛ لإدخال النَّقْص على الجَدِّ، فإذا أخَذَ فَرْضَهُ، وانحاز، فلَا معْنَى للقسمة والرد، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: وَلاَ يُفْرَضُ لِلْأُخْتِ مَعَ الجَدِّ إِلاَّ فِي مَسْاَلَةِ تُعْرَفُ بِالأَكْدَرِيَّةِ، وَهِيَ زَوْجٌ وَأُمُّ وَجَدٌّ وَأُخْتٌ، فَلِلْزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلأُمِّ الثُّلُثُ وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ وَلَمْ يَبْقَ لِلْأُخْتِ شَيْءٌ فَيُفْرَضُ لَهَا النِّصْفُ، وَتَعُولُ المَسْأَلَةُ، ثُمَّ يُؤْخَذُ مَا في يَدِ الجَدِّ وَالأخْتِ وُيقْسَّمُ عَلَيْهِمَا {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، فَإِنْ كَانَ بَدَلَ الأُخْتِ أَخٌ سَقَطَ إِذْ لاَ فَرْضَ لِلْأَخِ بِحَالٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا فرْقَ بيْن أن يجتمع مع الجَدِّ محضُ الإِخوة أو الإخوة مختلِطينَ بالأخواتِ، أو مَحْضُ الأَخَوَاتِ، بل الجَدُّ في الأحوال كلها بمثابةِ أخٍ، ولهذا مَنْ لم يُسْقِط الإِخوة بالجَدِّ، اتفقوا في جِدٍّ وأَخٍ وأختٍ، عَلَى أن المال بينهم {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}. وإن كان كذلك، فالأخواتُ معَهُ، كما إذا كنَّ مع أخ، فلا يفرض لهنَّ، ولا تُعَالُ المسألةُ من أجْلِهِنَّ بخلافِ الجَدِّ، حيث ذكَرْنا أنَّه يفرض له، وتُعَالَ المسألةُ؛ لأنَّه صاحبُ فرض بجهةِ الجُدُودة، فرجع إليه عند الضَّرُورة، وهذا أصلٌ مُطَّرِدٌ إلاَّ في مسألةِ واحدةٍ تعرف بالأَكْدَرِيَّةِ، وهي: زوْجٌ، وأمٌّ، وجِدٌّ، وأختٌ من الأبوَيْنِ أو من الأَب، فللزوْج النصْفُ، وللأمِّ الثلثُ، ولِلجَدِّ السُّدسُ، ويُفْرَضُ للأختِ النِّصْفُ وتُعَالُ المسَالةُ من ستَّةٍ إلى تسعةٍ ثم يُضَمُّ نصيب الأخت إلى نصيب الجَدِّ، ويجعل بينهما أثلاثاً، وَيصحُّ من سبعةٍ وعشرينَ ويمتحن بها، فيقال فريضة عدد الوارِثينَ فيها أربعة، أخذ أحدهم ثلُث الجميع من المال، والثاني ثُلُثَ الباقي، والثالِثُ ثُلُثَ الباقي، والرابعُ البَاقِي؛ لأنَّ الزَّوْج يأخذ تسعة من سبْعةٍ وعِشْرينَ، وهي ثُلُثُها، وللأم ستة، وهي ثُلُثُ الباقي؛ وللأخت أربعةٌ، وهي ثلُثُ الباقي، والجَدُّ الباقي، وإنَّما فرض للأختِ في هذه الصُّورة؛ لأنَّ الجدَّ رجَع إلى أصْلِ فرْضِهِ، فلا سبيل إلى إسقاطَها، فرجَعَتْ هي أيْضاً إلَى فَرْضِها، وإنما قُسِّمَ المبلغان بينهما؛ لأنَّه لا سبيلَ إلَى تفضيلهما على الجَدِّ، كما في سائِر صُوَر الجَدِّ والإِخوة، ففرض لها بالرحم، وقسِّم بينهما بالتَّعْصِيب رعايةً للجانبين، ¬
هذا ما. وُجِّهت المسألةُ به، وقياسُ كوْنِها عصبةً بالجَدِّ أن تُسقطَ، وإن رجَع الجَدِّ إلى الفَرْض، ألا ترَى أنا نقول: في بنتَيْنِ، وأُمٍّ، وجَدٍّ، وأختٍ: للبنتَيْنِ الثلُثَانِ، وللأم السدُسُ، وللجَدِّ السدسُ، وتَسْقُطُ الأخت؛ لأنها عصبةٌ مع البنات، ومعلومٌ أنَّ البناتِ لا يأْخُذْنَ إلا الفَرْضَ؛ يؤيِّده أن قبيصةَ بن ذُؤَيْبٍ يُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ أَنْكَرَ قَضَاءَ زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- في الْأَكْدَرِيَّةِ بِمَا اشْتَهِرَ عَنْهُ (¬1). وأجيب عن هذه الرواية بإسْقَاطها. وقد مَرَّ أنَّ الشافعيَّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يأخُذُ بقول زَيْدٍ في الفرائِضِ، وأنَّه اختلَفَ قولُهُ حيْثُ اختلفَتِ الروايةُ عن زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فقضيَّتُهُ تخريجُ قَوْلٍ للشافعيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وإنْ لم يُنْقَلْ، وإن كان بدل الأخت أخ، سقطَ لا محالَةَ؛ إذ لا فَرْضَ للإخْوَةِ، ولو كانت أختان، فللزَّوْجِ النصفُ، وللأمِّ السدسُ، وللجَدِّ السدسُ، والباقي لهما، ولا فَرْضَ ولا عَوْلَ. ولمَ سُمِّيَتِ الْأَكْدَرِيَّةَ؟ فيه أربعة أوْجُهٍ: قيل: إنَّ امرأةً مِنْ أَكْدَرَ ماتَتْ وخلَّفتهم، فنسبت إليْها. وقيل: لأنَّ عَبدَ الملكِ بْنِ مَرْوَانَ سَألَ رجُلاً من أكْدَرَ عَنْهَا. وقيل: لتَكَدُّر أصْل زَيْدِ فيها، فإنَّه لا يفرض للأخواتِ مع الجَدِّ، وقد فَرَضَ هاهنا، ولا يُعيلُ في الجد والأخوة، وقد أعال هاهنا. وقيل: لتكدُّرِ أقوال الصَّحَابة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وكثرة خلافهم فيها. فأبو بَكْرِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يُسْقِطُ الأخْتَ، وعنْد عُمَرَ وابْنِ مسْعود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: للأم السدسُ، والباقي كما ذكَرْنا، فيكونُ العول إلى ثمانيةٍ، وعنْد عليٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يفرض وتَعال كما ذكرناه، لكن تقرّر نصيبُ الأخْتِ عليها، ولك أن تقُولَ إذا عصَّبْنا الأخواتِ بالجَدِّ، فَمِنْ حقِّنا أن نُلْحِقَ عصوبتهن بالجَدِّ لعصوبتهن بالبنْتِ وبنْتِ الابْنِ، فإنَّها من أنواع العُصُوبة بالغَيْر، وإن لم يَذْكرُوها في جملتها. قال الغَزَالِيُّ: هَذَا حُكْمُ العَصَبَاتِ (أَمَّا سَائِرُ الوَرَثَةِ) فَالزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ لاَ يُحْجَبَانِ كَالَأَبِ وَالْأُمِّ وَالابْنِ وَالبِنْتِ، لأَنْهُمْ يُدْلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، أمَّا الجَدُّ فَلاَ يَحْجُبُهُ إِلاَّ الأَبُ، ¬
القول في الحجب
وَالجَدَّةُ مِنْ قِبَلِ الأُمِّ تَحْجُبُهَا الأُمُّ، بَلْ لاَ تَرِثُ مَعَ الأُمِّ جَدَّةٌ أَصْلاً، وَأُمُّ الأَبِ يَحْجُبُهَا الأَبُ وَالأُمُّ، وَالْقُرْبَى مِنْ كُلِّ جِهَةٍ تَحْجُبُ البُعْدَى مِنْ تِلْكَ الجِهَةِ، وَالقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الأُمِّ تَحْجُبُ البُعْدَى مِنْ جِهَةِ الأَبِ، وَالْقُرْبَى مِنْ جِهةِ الأَبِ لاَ تَحْجُبُ (ح) البُعْدَى مِنْ جِهَةِ الأُمِّ عَلَى أَظْهِرِ القَوْلَيْنِ، وَالجَدَّةُ مِنَ الْجِهَتَيْنِ لاَ تَحْجُبُ الجَدَّةِ منْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ يَشْتَرِكْنَ عَلَى السَّوَاءِ فِي السُّدُسِ. " القول في الحجب" قَالَ الرَّافِعِيٌ: لمَّا تكلَّم في ترتيب العصَبَاتِ، وبيَّن المتقدِّم والمتأخِّر منهم، والَّذين يقَعُون في درجةٍ واحدةٍ، أراد أن يبيِّن سائر الورثةِ منْ لا يُحْجَبُ ومَن يُحْجَبُ وَحَاجِبَهُ، ثم أحوجه سياقُ الكلاَمِ إلَى أن يُعِيدَ بعْضَ ما يتعلَّق بترتيب العَصَباتِ، على ما بيَّنه. واعلم أن الحَجْبَ نوْعَان (¬1): حجْبُ نُقْصَانٍ: يَحْجُبُ الولَدُ الزَّوْجَ من النِّصْف إلى ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الرُّبُعِ [والزوجة من الربع إلى الثمن] والأمّ من الثُّلُثِ إلى السُّدسِ، وحَجْبُ حِرْمَانِ: وهوَ أن يُسْقِطَ الشخْصُ غيره بالكُلِّيَّة، وهو المقصودُ من هذا الفصل والذي يَليه، والورثةُ ينْقَسِمُون إلَى من لا يتوسَّط بينهم وبَيْن الميت غيرهم، وهم: الزَّوْجُ، والزَّوْجة، والأَبُ، والأمُّ والابنُ، والبنتُ، وإن اختصرْتَ، قلْتَ، الزوجَانِ، والأَبَوانِ، والأَوْلاَدِ فهؤلاء لا يحجُبُهُمْ غيرهم، وإلَى من يتوسَّط وهم ثلاثة أضْرُبٍ: الْأَوَّلُ: المنتسبُونَ إلَى الميِّت من جهة العُلُوِّ، وهمُ الأُصُول، فالجَدُّ لا يحجُبُه إلا الأبُ، وإنما حجبه الأب؛ لأنَّه مَنْ يُدْلِي بعصبة، لا يَرِثُ معه، وكذلك كلُّ جدٍّ يَحْجُبُ مَنْ فَوْقَهُ، والجَدّاتُ قد يَحْجُبُهُنَّ غيْرُهُنَّ، وقد يَحْجُبُ بعضُهن بعضاً. فأما حجْبُهنَّ بغَيْرِهِنَّ، فالأمُّ تحْجُبُ كلَّ جدةٍ، سواءٌ كانتِ منْ جهتِها أو مِنْ جهةِ الأَبِ، كما يحجُبُ الأبُ كلَّ من يرث بالأُبُوَّة. قال العلماء: وكأَنَّ الجدات يرثن السُّدسَ الذي تستحقُّه الأمُّ، فإذا أخذْتَهُ، فلا شَيْءَ، والأبُ يحْجُبُ كلَّ جدةٍ من جهته؛ خلافاً لأحمد في أصحِّ الروايتَيْنِ. لنا: أنها تُدْلِي بعصبة، فلا ترث معه، كالجَدِّ، وابْنِ الابْنِ، وأنها تُدْلِي بوَلَدِها، فلا تُشَارِكُه في الميرَاثِ، كأمِّ الأمِّ مع الأمِّ. وكذلكَ كلُّ جدٍّ يحجب كلَّ أمِّ نفْسِهِ وآبائه، ولا يحْجُب أمَّ من هو دونَهُ. والأَبُ والأجدادُ لا يَحْجُبُون الجدَّةَ من جهة الأمِّ، قريبة كانت أو بعيدةً بالإجماع. وأما حجْبُ بعْضِهِنَّ ببعضٍ فالقربَى من كلِّ جهةَ تَحجُبُ البعدَى من تلْك الجهةِ، وهذا من جهة الأُمِّ لا يكون إلاَّ والبُعْدَى مُدْلِيَةٌ بالقربَى. ومِنْ جهةِ الأَب، قد يكونُ كذلك، فالحكم كمثْلٍ، وقد لا يكونُ كأمِّ الأبِ، وأمِّ أبِي الأبِ، ففيه اختلاَفٌ عن الفرضيين.
والذي أوردَه صاحبُ "التهذيب" وغيرُهُ أنَّ القُربَى تحجُب البُعدَى أيضاً، ولو كانتِ البُعْدَى مدليةً بالقُرْبَى، لكنَّ البُعْدَى جَدَّةٌ من جهة أخرَى، فلا تَحجب. ومثالُهُ: أن يكونَ لزينب بنتان حفصةُ، وعَمْرَةُ، ولحفْصَةَ ابْنٌ، ولعمرةَ بنْتُ بنتٍ فنكح الابنُ بنْتَ بنْتِ خالَتِهِ، فأتت منه بوَلَدٍ، فلا تُسْقِطُ عمرةُ التي هِيَ أمُّ أمِّ أمَّهِ أُمَّهَا؛ لأنَّها أمُّ أمِّ أبِي المولودِ (¬1). والقربَى من جهة الأُمِّ كأمِّ الأُمِّ تحْجُبُ البُعْدَى من جهة الأب كأمِّ أم الأبِ، كما أن الأم تَحْجُبُ أمُّ الأب. والقربَى من جهة الأبِ كأمِّ الأبِ هل تحْجُبُ البُعْدَى من جهة الأم؛ كأمِّ أمِّ الأمِّ، فيه روايتانِ عن زَيْدٍ، وقولانِ للشَّافِعِي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-. أحدُهما: وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله- نعم، وحجَبَتِ القربَى من جهة الأُمِّ البُعْدَى من جهة الأب. وأظهرهما: وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله-: لا، لأنَّ الأب لا يَحْجُبُ تلك الجدَّةَ، فأمّه المُدْلِيَةُ به أَوْلَى ألا يحجُبُهَا، وعلى هذا القياسِ نقَلَ صاحب "التهذيب" أن القُرْبَى من جهةِ أمهاتِ الأَبِ، كأمِّ أمِّ الأب تُسْقِطُ البُعْدَى من جهة أباء الأب؛ كأمِّ أم أبي الأب، وأم أبي أبي الأبِ، والقربَى من جهة أباء الأَبِ؛ كأم أبي الأب، هَلْ تُسْقِطُ البعدَى من جهةِ أمهاتِ الأَبِ؛ كأم أم أم الأب، فيه القولان. وقوله في الكتاب: "وأمُّ الأبِ يحْجُبُها الأبُ" معلم بالألف. وقوله: "والقُرْبَى من جهة الأَبِ لا تَحْجُبُ البُعْدَى من جهة الأُمِّ" بالحاءِ، وأَمَّا قوله و"الجَدَةُ من الجهتين لا تُحْجُبُ الجَدَّةَ من جهةٍ واحِدَةٍ" هذه فقد صوَّرنْا في هذا الفصْل ومِن قَبُلُ الجَدَّةَ من جهتين، بَيَّنا أنَّ السُّدُسَ يكونُ بينهما ومن ضرورته ألا تكون واحدةٌ منهما حاجبةً للأخرى، ولْيُعْلَمْ قولُهُ "على السواء" بالواو؛ لوجهٍ قدَّمنا، فإن القسْمَةَ على الجهات لا عَلَى الرؤوس والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: أَمَّا ابْنُ الابْنِ فَلَا يَحْجُبُهُ إِلاَّ الابْنُ، وَأَمَّا بِنْتُ الابْنِ فَيَحْجُبُهَا الابْنُ، وَبِنْتَانِ من أَوْلاَدِ الصُّلْبِ إِلاَّ أنْ يَكُونَ مَعَهَا أَوْ أَسْفَلَ مِنْهَا مَنْ يُعَصِّبُهَا، وَالْأخُ لِلْأَبِ وَالأُمِّ ¬
لاَ يَحْجُبُهُ (ح ز و) إلاَّ الأَبُ وَالابْنُ وَابْنُ الابْنِ، وَالأُخْتُ لِلْأَب وَالْأُمِّ كَذلِكَ، وَالأَخُ لِلْأَبِ يَحْجُبُهُ مَنْ يَحْجُبُ الأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، وَالْأَخُ لِلْأَبِ وَالأُمِّ أَيْضاً يَحْجُبُهُ، وَالأُخْتُ لِلْأَبِ يَحْجُبُهَا من يَحْجُبُ أَخَاهَا، وَأُخْتَانِ من قِبَلِ الأُمِّ وَالأَبِ، وَالإِخْوَةُ وَالأَخَوَاتُ لِلْأُمِّ يَحْجُبُهُمُ الأَبُ وَالجَدُّ وَالابْنُ وَالبِنْتُ وَابْنُ الابْنِ وَبِنْتُ الابْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الضربُ الثَّاني: المنتسبون إليْهِ منْ جهةِ السَّفَل، فابن الابنِ لا يحْجُبُه إِلاَّ الابنُ، وهو كما سبق في ترتيب العَصَبَاتِ، وبنْتُ الابْنِ يَحْجُبُهَا الابنُ، وكذا بنتان من أولادِ الصُّلْب إلاَّ أن يكونَ مَعَها أو أسْفَلَ منها ذَكَرٌ يُعَصِّبُها، وكَذَا بَنَاتُ ابْنِ الابْنِ يَحْجُبُهَا ابنُ الابْنِ، ويَسقُطُن أَيْضاً، إذا استكْمَلَتْ بناتُ الابْنِ الثلثَيْنِ إلاَّ أنْ يكونَ معَهُنَّ أو أسْفَلَ منهن ذَكَرٌ فَيُعَصِّبُهُنَّ، وكذا إن كانتْ بنتٌ من الصُّلْب، وبنتُ ابْنٍ أو بناتُ ابنٍ، وعلَى هذا القياس. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: المنتَسِبُون إلَيْه على الطّرف، فالأخُ من الأبوين يحجبه ثلاثةٌ؛ الأَبُ، والابْنُ، وابنُ الابْنِ، واحتجَّ لذلك بقولِهِ تعالَى: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] الآيَةَ، لكنه احتجاجٌ يفتقِرُ إلَى مقدِّمات طويلةٍ. وفي الإجماع ما يغني عن مِثْلِهِ، ويجوزُ أنْ يُعْلَمَ قولُه في الكتاب: "لا يحجبه إلا الأبُ والابنُ وابنُ الابنِ" بالحاء والزاي والواو، ولأن مَنْ يقولُ: الجَدُّ والإخْوَةُ لا يتقاسَمُون يسقطهم بالجد، والأخت من الأبوين، كالأخ في أنَّه لا يَحْجُبُهَا إلاَ الثلاثةُ، والأخُ من الأبُ يَحْجُبُهُ الَّذين يحْجُبُون الأَخِ من الأبوَيْنِ؛ لِمَا سَبَقَ من الحَدِيثِ في تَرْتِيب العَصَبات فجملةُ حاجِبيهِ أربعةٌ، والأختُ من الأب يحجُبُهَا هؤلاء الأربعةُ، وكذلكَ إِذَا استكْمَلَتِ الأختانِ أو الأخوات من الأبوَيْنِ الثلثَيْنِ سَقَطَتِ الأخواتُ من الأبِ إلاَّ أن يكونَ معَهُنَّ مَنْ يُعَصِّبُهُنَّ. والإخوةُ والأخواتُ من الأُمِّ يحجُبُهُمْ ستَّةٌ: الأبُ، والجَدُّ، والابنُ، وابنُ الابْنِ، والبنْتُ، وبنتُ الابْنِ، وإنْ شئْتَ قلتَ: أربعةٌ: الأَبُ، والجَدُّ والوَلَدُ، ووَلَدُ الابْنِ، ووجْهُهُ قولُه تعالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء: 12] الآيَةَ، والمرادُ من الأم على ما تقدَّم. وقوله [تعالَى]: {يُورَثُ كَلَالَةً} مفسَّرٌ بأنْ يرثه غَيْرُ الوالدين والمولودين، ثم يُقَالُ: "الكَلاَلَةُ": اسمُ الميت، ويقال: اسْمُ غَيْرِ الوالدين والمولودين من الوَرَثَةِ. وعن الأَزْهَرِيِّ وقُوعُهُ عليهما جميعاً، فدلَّت الآيةُ على أنَّهُم إنَّما يرثون عند عدم الوَالِد والوَلَدِ. ومِنَ الأصحابِ من [يَخْلِطُ أصحاب الفروض بالعَصَبَاتِ، وَيعُدُّ كلِّ واحدٍ من
الورثة ومَنْ] (¬1) يَحْجُبُهُ. أما الرجال، فالابنُ لا يَحْجُبُهُ غيره, وابنُ الابْنِ لا يحْجُبُهُ إلا مَنْ يُدْلِي به. والأَبُ لا يُحْجَبُ، والجَدُّ لا يحْجُبُهُ إلاَّ من يُدْلِي به، والأَخُ من الجهات على ما تبيَّن، وابنُ الأخِ من الأبوَيْنِ يحْجُبُهُ ستَّةٌ: الابْنُ، وابنُ الابنِ، والأبُ، والجَدُّ، والأخُ من الأبَوَيْنِ، والأخ من الأب، وابنُ الأخ من للأب يحْجُبُهُ هؤلاء، وابْنُ الأَخِ من الأَبَوَيْنِ والعمُّ من الأبَوَيْنِ يحْجُبُهُ هؤلاءِ، وابنُ الأخِ من الأب والعمِّ من الأبِ يحْجُبُهُ هؤلاء والعمُّ من الأبوَيْنِ يحْجُبُهُ هؤلاءِ، والعمُّ من الأب وابْنُ العَمِّ من الأبِ يحْجُبُهُ هؤلاء. وابن العمِّ من الأبَوَيْنِ والزَّوْجُ لا يُحْجَبُ، والمِعْتِقُ يحْجُبُهُ عصباتُ النَّسَب. وأما النساءُ، فالبنْتُ لا تُحْجَبُ، وبنتُ الابْنِ يحْجُبُها الابن، وبنتُ الصُّلْبِ، إذا لم يَكنْ مَنْ يُعَصِّبها، والأمُّ لا تُحْجَبُ، والجَدَّةُ من الأمِّ لا يحْجُبُها إلاَّ الأمُّ، ومِنَ الأبِ يحْجُبُهَا الأبُ والأمُّ، والأختُ من الجهاتِ علَى ما بيَّنَّا. والزوجةُ والمعتِقَةُ كالزَّوْجِ والمُعْتِقِ. وكلُّ عصبيةٍ من هؤلاء يحْجُبُهُ أصحابُ الفُرُوض المستغْرِقَةِ للتَّرِكَةِ. قال الغَزَالِيُّ: وَمَنْ لاَ يَرِثْ لاَ يَحْجُبُ إِلاَّ في مَسْألَةٍ وَهِيَ أَبَوَانِ وَأَخَوَانِ فَإِنَّ الأخَوَيْنِ سَاقِطَانِ بِالأَبِ، ويَحْجُبَانِ الأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إلى السُّدُسِ، وَالتَّقْدِيرُ أنَّهُمَا يَحْجُبَانِ الأُمَّ أَوَّلاً ثمَّ الأَبُ يَحْجُبُهُمَا وَيَأْخُذُ فَائِدَةَ حَجْبِهِمَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: جميعُ ما ذَكَرْنا في حَحْب شخصٍ بشَخْصِ فيما إذا كان الحَاجِبُ وارِثاً من الميِّت، أمَّا إذا لم يَرِثْ، نُظِرَ إنْ كانَ امتناعُ الإرثِ لِرِقٍّ، وما في معناه من الموانِع، فَلاَ يُحْجَبُ لا حَجْبَ حرمانٍ، ولا حَجْبِ نُقْصَانٍ، أما حجْبُ الحِرْمَانِ فمُجْمَعٌ علَيْه، وأما الاخَرُ، فمَقِيسُ عليه، فلو ماتَ عن: ابْنِ رقيقٍ، وزوجةٍ وأخٍ حرين لم يحرم الأخ الابن (¬2) ولا ينقص فرض الزوجة، وإنْ كان لا يَرِثُ لتقدُّمِ غيره عليْه، فقد يحجب غيره حَحْبَ النقْصَانِ، وذلك في صُوَرٍ: إحداها: إذا ماتَ عَنْ: أبوَيْن، وأخوَيْنِ، فللأمِّ السُّدُدُ لمكانِ الأخَوَيْنِ، والباقي للأبِ, لأنهما يسقطان بالأب، وَيرْجع فائدةُ حَحْبِهِمَا إلَيْه. الثانيةُ: أمُّ وجَدٌّ، وأخَوَانِ، مِنَ الأُمِّ، الحكْمُ كما في الصورة الأُولَى. ¬
الثالثةُ: أبٌ، وأمُّ أبٍ، وأمُّ أُمِّ، تسقط أمُّ الأَبِ بالأَبِ، وفيما ترثه أم الأمِّ وجهان: أحدُهما: نصْفُ السُّدُسِ, لأنَّ الأَبَ هو الذي ححْبَ أمَّه، فترجع فائدةُ الحَجْب إلَيْه. وأَظْهُرُهُمَا: السُّدُسُ؛ لانفرَادِها بالاسْتِحْقَاق، ولَيْسَ كما سَبَق, لأنَّ الجَدَّة ترث بالفرضيَّة، فلا تناسب جِهَة استحقاق الأَب، وهِيَ العْصُوبَة، وهناك كُلُّ واحدٍ منهما يرث بالعصوبه، فأمكن ردُّ الفائدة إليه. الرابعةُ: في المعادَّة. إذا مات عن جَدٍّ وأخٍ من الأبَوَيْنِ وأخٍ من الأبِ، ينقص الأخُ من الأبِ نصيب الجد، ولا يأخذ شيئاً. وقولُه في الكتاب: "ومَنْ لاَ يَرِثُ، لا يَحْجُبُ إلاَّ في مَسْأَلَةِ" ... هذه اللفظةُ مشهورة من الفرائض مع هذا الاستِثْنَاءِ، وليس المراد منه حَجْبَ الحِرْمَانِ، فإنِّه لا استثنَاءَ منْه، وإنَّما المُرَادُ حَجْبُ النقصان، أو ما يشتركانِ فيه. وعلَىِّ التقديرَيْنِ، فالاستثْنَاءُ غيْرُ مقْصُود في المسْأَلَة المَذْكِورة، كما تَبَيَّن. فالتقدير أنهما يَحْجُبَانِ الأمَّ أوَّلاً ثم الأَبُ يَحْجُبُهُمَا ويأخذ فائدة حجبهما قضية اللفظ ترتب حجبهما على الحَجْب بهما, ولا يعرف بهما ترتُّبٌ لا بالزَّمَانِ ولا بالرُّتْبَةِ وصرف ما يفضي إلى الأب متوجه منْ غَيْر أن يُقَدَّرَ هنا الترتيب بأن يُقَالَ: ليس لها مَعَ الأخَوَيْنِ إلا السُّدُسُ بالنَّصِّ، فما يبقَى يأخُذُهُ الأبُ بالعُصُوبة، وبتَقْدِير ثُبُوت الترتيب المفْرُوضِ. فالأخوان حين حجبنا الأم لم يخرجا عن كونهما وارثين؛ لأنهما لم يحجبا بعْدُ، فلا تكونُ المسالةُ مستثناةً منْ قَوْلنا: "من لا يَرِثُ لاَ يَحْجُبُ". والله أعْلم. قال الغَزَالِيُّ: وَمَهْمَا اجْتَمَعَتْ قَرَابَتَانِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ لاَ يَجُوزُ الجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الإِسْلاَمِ قَصْداً، وَلَكِنْ لَوْ حَصَلَ بِنِكَاحِ المَجُوسِ أَوْ بِوَطْءِ الشُّبْهَةِ يَسْقُطُ أَضْعَفُ القَرَابَتَيْنِ بِأَقْوَاهُمَا وَلَمْ يُوَرَّثْ (ح و) بِهِمَا، وَالأَقْوَى يُعْرَفُ بِأمْرَيْنِ (أَحَدُهُمَا): أن تَحْجُبَ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى كَبِنْتِ هِيَ أُختٌ لأُمِّ فَتُسْقُطُ أُخُوَّةُ الأُمُّ بالبُنُوَّةِ (وَالثَّانِي): أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُمَا أَقَلَّ حَجْباً كَاُمِّ أُمِّ هِيَ أُخْتِ لِأَبٍ وَرِثَتْ بِالْجُدُودَةِ، لأَنَّ الجَدَّةِ لاَ تَسْقُطُ إِلاَّ بِوَاحِدَةٍ وَهِيَ الأُمِّ، وَالْأُخْتُ تَسْقُطُ بالأبِ وَالابْنِ وَابْنِ الابْنِ، فَإِذَا نَكَحْ الْمَجُوسِيّ ابْنَتَهُ فَوَلَدَتْ بِنْتاً فَمَاتَ المَجُوسِيُّ فَقَدْ خَلَّفَ بِنْتَيْنِ إِحْدَاهُمَا زَوْجَةٌ فَلاَ حُكْمِ لِلْزَّوْجِيَّةِ، وَلَهُمَا الثُّلُثَانِ، وَإِنْ مَاتَتِ
القول في ميراث المجوسي
العُلْيَا بَعْدَهُ فَقَدْ خَلَّفَتْ بنْتاً هِيَ أُخْتٌ لِأَبٍ فَلَهَا النِّصْفُ بِالْبُنُوَّةِ، وَسَقَطَتِ (ح و) الأُخْوَّةُ، وَإِنْ مَاتَتِ السُّفْلَى أَوَّلاً فَقَدْ خَلَّفَتْ أُمَّاً هِيَ أُخْتُ لِأَبٍ فَلَهَا الثُّلُثُ بِالأُمُومَةِ وَسَقَطَتِ (ح و) الأُخُوَّةُ، فَلَوْ أَنَّ المَجْوسِيَّ وَطِئَ البِنْتَ السُّفْلَى فَوَلَدَتْ بِنْتاً، فَإذَا مَاتَ فَقَدْ خَلَّفَ ثَلاَثَ بَنَاتٍ فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ، فَإِنْ مَاتَتِ العُلْيَا فَقَدْ خَلَّفَتْ بِنْتاً وَبِنْتَ بِنْتٍ، فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ بالبُنُوَّةِ، وَلِبِنْتِ البِنْتِ البَاقِي بِأُخُوِّةِ الأَبِ، وَأُخُوَّةُ الأَبِ فِي حَقِّ البِنْتِ العُلْيَا قَدْ سَقَطَتْ، فَلَوْ مَاتَتْ الوُسْطَى أَوَّلاً فَقَدْ خَلَّفَتْ أُمَّاً وبِنْتاً هُمَا أُخْتَا أَبٍ، فَسَقَطَتِ الأُخُوَّةُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، فَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، فَلَوْ مَاتَتِ السُّفْلَى أَوَّلاً فَقَدْ خلَّفَتْ أُمَّاً وَأُمِّ أم هُمَا أُخُتَا أَبٍ، فَلِلْأُمِّ الثُلُثِ بِالأُمُومَةِ، وَلِأُمِّ الأُم النِّصْفُ بِاُخُوَّةِ الأَبِ، وَسَقَطَتْ جُدُودَتُهَا بِالأُمِّ، هَذَا طَرِيقُ النَّظَرِ فِيهِ. القول في ميراث المجوسي: قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصودُ الفَصْلِ الكلامُ فيما إذا اجْتَمَعَا فِي شَخْصٍ وَاحدٍ قرابَتَانِ، منع الشرْعُ من مباشرةِ سَبَبِ اجتماعِهِمَا؛ كأمٍّ هي أختٌ، وذلك يقَعُ فيما بَيْن، المجُوسِي المستبِيحِينَ لنكاح المحارِمِ، وربما أسلموا بعْدَ ذَلِكَ، أو ترافَعُوا إِلَيْنَا، وقد يتفق نادراً فيما بيْنَ المُسْلِمِينَ بالغَلَطِ والاشتباه، والحُكْمُ أَنَّه لا يُوَرَّثُ بالقرابَتَيْنِ جميعاً، وَإِنَّمَا يُوَرَّثُ بأقْوَاهُمَا، وبِهذَا قال مالِكَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-. وقال أبو حنيفة وأَحْمَدُ: يُوَرَّثُ بالقَرَابَتَيْنِ جميعاً، إذا كانت القرابتان بحَيْثُ لو وُجِدَتَا في شخصَيْنِ، لَوَرِثَا معاً. وبه قال ابنُ اللَّبَّانِ، وحكاه ابْنُ الصَّبَّاغِ عن ابْنِ شُرَيْحٍ وقال الشيخ أبو عليٍّ: إِنه ذهب إِلَيْه في بعض المسائل، ولم يُطْلِق. واحتجَّ القائِلُون به بأنَّهما سبَبَانِ يُوَرَّث بكلِّ واحدٍ منْهما عنْد الانفراد، فإِذَا اجتمعا لم يُسْقِط أحدُهما الآخَرَ، كَابْنِ عمٍّ، هو أخ الأُمِّ أَو زَوْج وزوجة. ووجه ظاهر المَذْهَب أَنهما قرابتان يُوَرَّث بكلِّ واحدٍ منْهما فَرْضٌ عند الانفرادِ، فإذا اجتمعا لم يورث بهما الفرضانَ كالأخت من الأب والأمِّ, لا ترث بالقرابَتَيْنِ معاً، ويخالف ما استَشْهَدُوا بِه، فإن هناك يُوَرَّث بإحدىَ الجِهَتَيْنِ فرضاً، وبالأخرَى عصوبةً واجتماعهما معهودٌ كما في حقِّ الأبِ مع الوَلَدِ. قال علماؤُنَا -رحمهم الله تعالَى-: والأقوى يُعْرَفُ بأمرَيْنِ: أحدُهُمَا: أن تحجب إحداهما الأُخْرَى؛ كبِنْتٍ، هِيَ أُخْتٌ لأمٍّ, وذلك بأنْ يَطَأَ أمَّهُ، فتلِدَ بنتاً، فهي أختُهُ لأمِّه وبِنْتُهُ، فالْأُخُوَّةُ ساقطةٌ بالبنتية.
وأبو حنيفةَ يُوَافِق على التوريث بالأقْوَى منْ هذا الوَجْه، وإنَّمَا الخِلافُ من الأقْوَى منَ الوَجْه الثَّانِي. والثاني: أنْ يَكُونَ أحدُهُمَا أقَلَّ حجْباً أوِ لا يتطَرَّق إليهما حجْبٌ. مثالُ الأوَّلِ: أمُّ أمٍّ, هِيَ أختٌ لأبِ: وصورَتُهُ: أن يطَأَ ابنتَهُ، فتَلِدَ بنتاً، فيطأها، فتَلِدَ ولداً، فالأُولَى أمُّ أمِّ الوَلَدِ وأختُهُ لأبيه. ومثال الثاني: أمُّ, هيَ أخْتٌ لأب، وذلِكَ بَيِّنٌ من هذا التصوير، فيكون الإرْثُ بالأُمُومَة أو بالجُدُودَةِ دون الأُخُوَّة؛ لأنَّ الأم لا تُحْجَبُ، وأمُّ الأمِّ لا تحجبها إلاَّ الأمُّ. وأما الأختُ فيحجبها جماعةٌ، سبَقَ بيَانُهُ. وابنُ اللَّبَّانِ -رحمه الله تعالَى- حكَى غير هذه العبارَةِ من مَعْرِفَةِ الأقوَى والأضْعَفِ، فقال: إذا كانتْ إِحْدَى القرابَتَيْن تَسْقُط حيثُ لا تَسْقُط الأخْرَى، فالأُوْلَى ضعيفةٌ والأخرى قويةٌ، فالأمُّ التي هي أختٌ ترث بالأمومَةِ؛ لأن الأختَ تَسْقُط بالأب والابن، وابْنِ الابنِ دُون الأمِّ. قال: وهذا يُشْكِلُ بأمِّ الأمِّ التي هي أختٌ لأب، فإنَّ الجَدَّة تسقط بالأم، والأخت لا تَسْقُط، والأخْتُ تسقط بالأب والجَدَّةُ، لا تسْقُط بالأُمِّ فيلزم أنْ تَكُون كلُّ واحدةٍ من القرابَتَيْنِ أَقْوَى من الأخْرَى وأضْعَف، وأخذ يحتجُّ بذلك على إبْطَال القول بسُقُوطِ إحْدَى القرابَتَيْنِ، والعبارة مزيفة، كما ذَكَرَهُ، ولكنَّ اعتماد الأصحابِ عَلَى ما سبق. وهذا الإشْكَالُ لا يرد عليه. إذا تقرَّر ذلك، فنوضِّحه بمثالَيْن: أحدُهُمَا: وقد ذكره صاحب الكتاب -رحمه الله-: نكح المجوسيُّ ابنته فأولدها بنْتاً، ثم مات المَجُوسِيُّ، فقد خلف بنْتَيْنِ: إحداهما زوجةٌ، فلها الثلثانِ، ولا عبرةَ بالزَّوْجِيَّةُ بالاتِّفاق، كما لو ماتَتِ الكُبْرَى بعده، فقَدْ خَلَّفَتْ بنتاً هي أختٌ لأب، فلها النصف بالبنتية وسقطت الأُخُوَّة. ولو ماتَتِ الصغرَى بعده دُون الكُبْرَى، فقد خلَّفتْ أُمّاً، هي أختٌ لأبٍ، فلها الثلُثُ بالأمُومَةِ، وسقَطَتْ بالأُخُوَّة. وقال أبو حنيفةَ ومن ساعَدَهُ من الصُّورة الأُولَى: لها النِّصْف بالبنوَّة والباقي بالأخوة. وفي الثانية: لها الثلُثُ بالأمُومَةِ، والنِّصْفُ بالأُخُوة. وعن تخريج ابْنِ سُرَيْجٍ مثْلُ قوله في الصورة الأُولَى دون الثَّانية، والفرقُ أنَّ الأخْتَ مع البنْتِ تأخذ بالعصوبة، فلا يلْزَمُ الجَمْعُ بين فرضَيْنِ، وفي الثانِيَةِ يلْزَمُ.
وعنه أيْضاً: أنَّه يحتملُ أنْ يُقَال في الصُّورة الثَّانية: لها النِّصْفُ مفْهُوماً إلى الثُّلُث بخلافِ ما إذا خلَّفَتْ أُمّاً، هي أختٌ لأب وأختاً أخْرَى، حيث لا نورثها بالأُخُوَّة، ولا يلزمُنَا أنْ نردَّها إلى السُّدُس، فتكون قد حَجَبَتْ نفْسَها، وهذا لا يجُوزُ. واحتمل أبو حنيفةَ حَجْبَها بنفسها، وجعل لها السُّدُسَ بالأمومة، والثلثَيْنِ بينهما بالأُخُوَّة. ولو كانتِ المسألةُ بحالها، ووطِئَ المجوسيُّ البنْتَ الصغرَى، فولدت بنتاً، ثم مات، فقَدْ خلف ثلاثَ بناتٍ، فلهنَّ الثلثان، فإن ماتت العلْيا بعده، فقد خلَّفتْ بنتاً وبنْتَ بنْتِ، هما أختان لأبٍ، فللبنتِ النصفُ بالبُنُوَّة، ولبنْتِ البنتِ الباقي بالأُخُوَّة. وإنْ ماتَتِ الوسطَى بعدْ الأب أولاً، فقد خلَّفت أمّاً وبنتاً، هما أختانِ لأبٍ، وكلُّ واحدةٍ من الأمُومَةِ والبُنُوَّة أقوَى من الأخوة، فللأمِّ السدُسُ وللبنْتِ النِّصْف. وعند أبي حنيفةَ: الباقي بينهما بالسويَّةِ؛ لأنَّهما أختان. ولو ماتَتِ السفلَى أولاً؛ فقد خلَّفت أماً وأمَّ أمٍّ، هما أختان لأبٍ، فللأمِّ الثلثُ بالأمومةِ، ولأمِّ الأمِّ النصْفُ بالأخُوَّةِ؛ لأنه سقَطَتْ جُدُودَتُهَا بالأمِّ. ولو أنَّ في مسألة البنَاتِ الثلاث ماتَتِ العُلْيَا قبْل الأبِ، فقد خلَّفت أباً وبنْتاً وبنْتَ بنْتٍ، فهما أختان لأبٍ، فالمالُ للأب والبنْتِ. فلو مات بعدها الأبُ، فقد خلف بنتَيْنِ، ولو ماتَتِ الوسطَى دون الأبِ، فقد خلَّفَتْ أباً وبنتاً، ولو ماتَتْ بدلها السفْلَى، فقد خلَّفَتْ أباً وأمّاً، ولو كانت الوسطَى أوَّلَ مَنْ ماتَ مِنَ الأربعةِ، فقد خلَّفت: أبوَيْنِ وبنْتاً، فلو ماتَ بعْدها الأبُ، فقد خلَف بنتين ولو ماتَتْ بعدها العليا، فقد خلَّفت أباً وبنْتَ بنتٍ، هي أختٌ لأب فلا شيء لها. ولو ماتَتِ السفلَى بعْدها فقدْ خلَّفت: أباً وأمَّ أمِّ, هي أختٌ لأب، فلها السُدُس بالجُدُودَةِ، والباقي لأَبِ. ولو كانَتِ السفلَى أوَّلَ مَنْ ماتت من الأربَعَةِ، فقد خلَّفت أباً وبنتاً، وأمَّ أمِّ, هما أختان لأبٍ، فتسقط أمُّ الأمِّ وجدودَتُها بالأم وأخويها بالأَبِ، فلو ماتَ الأبُ بعْدَها، فقد خلَّف: بنتَيْنِ. وإنْ ماتَتِ العلْيا، فقد خلَّفَتْ أباً وبنتاً (¬1). وإنْ ماتَتِ الوسطَى، فقد خلَّفَتْ أبوَيْنِ. ولو ماتَتِ العُلْيَا بعْدِ مَوْتِ الأَبِ والوسْطَى، فلها بنْتُ بنتٍ، هي أختٌ لأبٍ، ولو ¬
ماتَتِ الوُسْطَى بعد موْتِ الأبِ والسفْلَى، فلها بنتٌ، هي أخت لأبٍ. ولو ماتتِ الوسطَى بعْد موْتِ الأب (¬1)، والعلْيَا، فَلَها بنْتٌ، هي أختٌ لأب. ولو ماتت بعد موتِ الأَبِ والسفْلَى، فقد خلفت أمّاً، هي أختٌ لأب، فلها الثلُثُ بالأمومة. ولو ماتتِ السفلَى بعْد موتِ الأَبَ والعلْيَا، فقَدْ خلَّفت أيضاً أمّاً، هي أخُتٌ لأب. ولو ماتَتْ بعد موْتِ الأَبِ والوُسْطَى، فقد خلَّفت أُمَّ أمٍّ, هي أخت لأبٍ، فلها السدُسُ بالجدودة. وحكَى الشَّيخ أبو عليَّ أن ابْنَ اللَّبَّان ذكَر وجْهاً آخَرَ، وهو أنَّها ترث بالأُخُوَّة، لأنَّ نصيبَ الأختِ أكْثَرُ وليحرر هذا من أخوات الصورة. المثَالُ الثَّانِي: نُكَحَ أمَّه، فأولَدَها بِنْتاً، ومات، فَقَدْ خلف أماً وبنتاً، هي أختٌ لأمِّ، فللأمِّ السدُسُ، وللبنْتِ النصْفُ، ولا شيء لها باُخُوَّةِ الأمِّ بالاتِّفَاق. ولو ماتتِ الأُمُّ بعده، فقدْ خلَّفتْ بنْتاً، هي بنتُ ابنٍ، فلها النِّصْف بالبنتية. وقال أَبُو حنيفةَ: لها مَعَ ذلكَ السُّدُس تكملَةَ الثُّلُثَيْن. ولو ماتَتِ البِنْتُ دُونَ الأمِّ، فقد خلَّفت أمّاً، هي أمُّ أبٍ، فلها الثلثُ بالأمومة. ولو ماتَتِ الأمُّ أولاً، فقَدْ خلَّفَتْ بنتاً هِيَ بنْتُ ابنٍ، فَإِنْ مَاتَ بعدها المجوسيُّ، فقد خلَّفت بِنْتاً، هي أختٌ لأمٍّ. ولو ماتتِ البنْتُ دون المجوسيِّ، فقد (¬2) خلَّفت أباً، هو أخٌ لأمٍّ، ولو ماتَتِ البنْتُ أوَّلاً، فقَدْ خلَّفتْ أبوَيْنِ، والأبُ أخٌ لأمِّ والأمُّ أمُّ أبٍ. فإنْ ماتَ المجوسيُّ بعْدَها، فقَدْ خلَّف أماً، وإنْ ماتَتِ الأم بدلَهُ، فقد خلَّفت ابناً. ولو أن المجوسيَّ، أولَدَ أمَّهُ بنتَيْنِ، ثُمَّ نكَح أحدَهُمَا فأولَدَها ابناً وبنتاً، ومات فله أمٌّ وبنتان، هما أختاه لأمِّه، وابنٌ وبنْتٌ، هما ولدَ ابْنَتِهِ وأختُهُ لأمِّه (¬3)، فللأم السدُسُ والبَاقِي بيْن الأولاد، فإن ماتَتْ بعده الأمِّ, فلها بنتان هما بنْتَا ابْنٍ، وبنتُ ابنٍ وابْنُ ابنٍ، ¬
هما ولدا بنتٍ، فللبنتين الثلثانِ، والباقي بيْن بنْتِ الابن وابنِ الابْنِ أثلاثاً، يعصِّب الذكرُ أختَهُ لأبيه وأمِّه دون أخته لأبِيهِ. قال ابن شُرَيْحٍ: ولو ماتَ الغُلاَمُ دون الأمِّ, فله أختٌ من الأبوَيْنِ وأختان مِنَ الأبِ؛ إحداهما أمُّهُ، وجده هيَ أمُّ أمه وأمُّ أبيه، فللأخْتِ من الأبوَيْنِ النصْفُ، وللأخْتِ من الأب التي هي أمُّ السدُسُ بالأمُومَةِ، وللأخرَى السُّدُس تكلملةَ الثُّلُثَيْنِ وسقَطَتِ الجَدَّة بالأم. وهذا جوَابُ أبي حنيفةَ في الأُخْت من الأبوَيْنِ والجَدَّة. وقال: للأمِّ السدُسُ، ولها باُخُوَّة الأبِ مع الأخرَى السدسُ بالشَّركة. ولو ماتَتْ أختُ الغُلاَمِ دونَهُمَا، فلها أخٌ من الأبوَيْنِ وأختان من الأبِ، إحداهما أَمٌّ وجدَّةٌ، هي أمُّ أبٍ وأمُّ أمِّ، فللأمِّ السدسُ، والباقي للأخِ. ولو ماتَتْ أمُّ الغلامِ دونَهُمْ، فلها ابنٌ وبنْتٌ هما ولدا أب وأمِّ، وأختٌ من الأبوَيْنِ، فلأمها السدُسُ والباقي بيْن ولَدَيْهَا. ولو ماتَتِ الَّتي هي خالةُ الغُلاَم دُونَهم، فلها أمٌّ وأختٌ من الأبوَيْنِ وأخٌ وأختٌ من الأَب، فلأُمِّها السدُسُ، وللأخْتِ من الأبوَيْنِ النصْفُ، والباقي بيْنَ الأَخِ والأَخْتِ أثلاثاً. وقياسُ مذْهَب أبي حنيفة حيْثُ لم نذْكُرْه بيِّنٌ وليعلم قولُهُ في الكتاب، ولم يورث بهما، بالحاء والألف والواو، ويمكن إعادة هذه العلامات في مواضعَ مِنَ الفَصْل، وقد يَخْطُر بالبَال أنه، لِمَ وصَلَ القَوْلَ من ميراث المُجُوسيِّ بفُصُول الحَجْبِ، فلعل سببه أن إِسْقَاطِ إِحْدَى القَرَابَتَيْنِ بالأُخْرَى ضرب منَ الحَجْبِ، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: وَمَا يَنْدَفِعُ بِهِ المِيرَاثُ سِتَّةُ أُمُورٍ: الأَوَّلُ: اخْتِلاَفُ الدِّينِ، فَلاَ يَتَوَارَثُ الكَافِرُ وَالمُسْلِمُ (ح و)، وَيتَوَارَثُ اليَهُودُ والنَّصَارَى وَأَهْلُ المِلَلِ، وَفِي تَوَارُثِ الذِّمِّيِّ وَالحَرْبِيِّ مَعَ انْقِطَاعِ المُوَالاَةِ بَيْنَهُمَا بالدَّارِ خِلاَفٌ (و)، وَالمُعَاهَدُ (ح) في حُكْمِ الذِّمِّيِّ عَلَى الأَظْهَرِ، لاَ فِي حُكْمِ الحَرْبِيِّ، وَقِيلَ: إنَّهُ فِي حُكْمِ الحَرْبِيِّ، وَالمُرْتَدُّ لاَ يَرِثُ وَلاَ يُورَثُ (ح) أَصْلاً، بَلْ مَالُهُ فَيْءٌ وَالزِّنْدِيقُ كَالمُرْتَدِّ. قَالَ الرِّافِعِيُّ: قد يكونُ في الشَّخْص صفةٌ أو تَعْرِضُ بينه وبيْن المُوَرِّث حالةٌ تَمْنَعُ من الإِرْثِ، ورُبَّما سماه الفَرَضِيُّون حَحْباً بالأوْصاف وما سبق ححْباً بالأشْخَاصِ، ولما كانا جميعاً مقتضِيَيْنِ للحِرْمَانِ قرن صاحبُ الكتابِ بيْنَهُما، وهَذا النَّوْع فيما عَدَّه ستةٌ أضْربٍ: الضَرْبُ الأوَّلُ: اختلافُ الدِّين، وفيه ستَّةُ مسائِلَ: المسألة الأُولَى: المُسْلِم لا يَرِثُ الكافرَ، ولا بالعَكْسِ، لِمَا رُوِيَ عن أسامةَ بْنِ
زَيْدٍ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ، وَلاَ الكَافِرُ المُسْلِمَ" (¬1) (¬2). ولا فَرْقَ بين القريبِ والمعتِقِ، ولا بَيْن أن يُسْلِمَ قَبْل القسمة، أو يستمرَّ عَلَى الْفُرَّة (¬3)؛ خلافاً لأحمَدَ من المسألَتَيْنِ؛ حيث قال: المسلم يَرِثُ عتيقه الكافِرِ، ومَنْ ¬
أسْلَم قبْلَ القِسْمَةِ وَرِثَ مِنَ المُسْلم، قال الشيخُ أبو محمَّد: والفرقُ بين الميراثَ، حيثُ لا يَرِثُ المسلمُ من كافِرٍ مَا، وبَيْن النِّكَاح، حيث يجُوزُ لَهُ نكاحُ بعْضِ الكافراتِ أن التوارث مبنيٌّ على الموالاةِ والمناصرَةِ، ولا موالاة ولا مناصرة بين المسلِمِ والكافرِ بحالٍ، ومواصلَتُنَا إيَّاهُمْ نوعُ تشريف لَهُمْ، فيختص بمَنْ لهم أصْلٌ من الاحترامِ، وهم أهْلُ الكتابِ. المسألة الثانيةُ: يَرِثُ الكفَّارُ بعْضُهُم مِنْ بَعْضٍ، كاليهوديِّ من النصرانىِّ، والنصرانيِّ من المجوسيِّ، والمجوسيِّ الحربيِّ من الوثَنِيِّ، وبالعْكوس وبه قال أبو حنيفة: ووجَّهَه: بأنَّ الكفار -على اختلافِ فِرَقِهِمْ- كالنَّفْس الواحدةِ فِي مُعَادَاةِ المُسْلِمِينَ والتَّمَالُؤِ عليهم. قال الشافعيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- المُشْرِكُون في تفرُّقِهِمْ واجْتماعِهِمْ يَجْمَعُهُمْ أعظَمُ الأُمورِ، وهو الشِّرْكُ باللَّهِ تعالَى، فجعل اختلافهم كاختلافِ المَذَاهِبِ في الإسْلاَم، وقد قال عزَّ اسْمُهُ: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}: [الكافرون: 6] وقال عَزَّ وجَلَّ: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] فأشْعَر بأنَّ الكفْر كلَّه ملةٌ واحدةٌ. وقال أحمد -رحمه الله- في أصَحِّ الروايَتَيْنِ: لا يرثُ أهْلُ ملَّة من أهْل ملَّة أخْرَى. وعن ابن خَيْرَانَ وغَيْره تخريج وجْهٍ مثْله بنَاءً عَلَى قولنا إن الكافِرَ إذَا انْتَقَلَ منْ دينٍ إلَى دِينٍ لا يُقَرُّ عليه، فإنه يقتضي أنْ يكُونَ الكفر كله مِلَلاً مختلفةً. وهذا ما اختارَهُ الأستاذ أبو منصور فيما حكاه أبو خَلَفٍ الطبريُّ، ويدلُّ عَلَيْه ظاهرُ مَا رُوِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شيء" (¬1). ¬
ومَنْ قال بالمذْهَب المشْهُور حمَلَهُ علَى الإسْلاَم والكُفْر؛ لما سبق؛ ويؤيِّده أنه رُوِيَ من بعْضِ الرِّواياتِ: "لاَ يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ؛ وَلاَ يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ" (¬1). فجعل الثاني بياناً للأوَّل، وهذا إذا كان اليهوديُّ والنصرانيُّ مثلا ذمِّيَيْنِ أو حَرْبيَّيْنِ، ولا فرْقَ بيْن أنْ يكُون الحربيَّانِ مُتَّفِقَي الدَّارِ، أو مخْتَلِفِيهَا. وقال أبو حنيفةَ: إنْ كَانَا مختلِفَي الدَّار؛ كالروم والهِنْد (¬2)، لم يتوارَثَا، وإن أتحدثْ ملتهماً، والضابطُ أن يختلفَ الملوَكُ ويرَى بعضُهم قتْلَ بعْض. أما إذا كان أحدُهما ذمِّياً، والآخَرُ حربِيّاً؛ ففي التوارُثِ بينهما قوْلان، حكاهما الإمامُ وغيره. أحدهما: جريانه، لشُمُولِ الكفر. وأصحُّهما: المَنعُ، لانقطاعِ المَوَالاَةِ بينهما. وهذا ما أورده أكْثَرُ الأصْحَاب. وربَّما نقل الفرضيُّون إجماع العلماء عليه، والمعاهد والمستَأْمن كالذِّمِّيِّ أو كالحربيِّ؟ فيه وجهان: ¬
أحدُهُما: ويُحْكَى عن ابن سُرَيْجٍ: أنه كالحربىِّ؛ لأنه لا يستوطِنُ دارَنَا، وبهذا قال أبو حنيفة. وأصحُّهما: وهو. الذي حكاه ابن اللَّبَّان عن الشَّافعيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أنه كالذمِّيِّ؛ لأنَّهما جميعاً معْصُومَانِ بالعَهْد والأَمَان. فعلى هذا يجري التوارُثُ بين الذميِّ والمستأمَنِ، وعلَى الأوَّل في (¬1) التوارثُ بينهما القَوْلان. ويجري التوارُثُ بينه وَبيْن الحَرِبيِّ، ولا بأسَ بإيراد مثالٍ من المسألة: يهوديُّ ذَمِّيٌّ مات عنِ ابْنٍ مثْله، وآخر نصرانيٌّ ذَمِّيٌّ، وآخَرُ يهوديٌّ معاهَدُ، وآخَرُ يهوديٌّ حربِيٌّ، فالمال بينهم سِوَى الأَخِيرِ على المَذْهَب (¬2). ويجيء من النصرانيِّ وجْهٌ بناءٌ على انقطاعِ التوارُثِ بيْن ملك الكفار، ومن المعاهِدَ أيضاً بناءً علَى أنه كالحربي والذِّمِّيِّ يتوارثان ويجيء في الحربِيِّ وجْةٌ أنَّه يرث؛ بناءً على أنَّ الحربِيَّ والذِّمِّيِّ يتوارثان، وليعلَمْ قولُهُ في الكتاب: "ويتوارث اليهودُ والنصارى" بالألف والواو والميم أيضاً، ففد اضطربتِ الروايةُ عَنْ مالِكٍ فيه. وقولُهُ: "والمعاهَدُ من حكم الذِّميِّ بالحاء، والله أعلم. المسالةُ الثالثة: المرتَدُّ لا يرثُ منْ أحدٍ، ولا يرثُهُ أحَدٌ لا مسلمٌ ولا مرتدٌّ ولا كافرٌ أصليٌّ، بل مالُهُ فَيءٌ لبَيْتِ المالِ، سواءٌ ما اكتسبَه (¬3) في حالِ الإسْلاَم، وما اكْتَسَبَهُ في حال الرَّدَّة، وبه قال أحمَدُ ومالكٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- إلاَّ أنَّ مالكاً يقول: إذا ارتدَّ في مرَضِهِ، واتُّهِمَ بأنَّ قصْد منع المالِ من الورثة وَرِثُوهُ. ¬
القول في الرق
وقال أبو حنيفةَ: ما اكتسبَهُ في حالِ الإسْلاَم يَرِثُهُ المسلمون من أقاربه. لنا: حديثُ أسامة بنْ زيد -رضي الله عنه- وقياسُ المتنازع فيه على المُتَّفَقِ عليه، وأبدى الإمامُ احتمالاً في توْرِيث المرتدِّ من المرتد على قولنا: أنَّ مِلْكَ المرتدِّ لا يزُولُ إلاَّ بالمَوْتِ، تخريجاً من قولنا إنَّ ولد المُرْتَدِّ من المرتدِّة مُرْتَدٌّ ولا ينزَّل التحاقه بدار الحَرْب منْزلةَ مَوْتِهِ. وقال أبو حنيفَة: ينزل منزلِةَ المَوْتِ، حتَّى يقسَّم مالُه بيْن ورثَتِهِ وتُحَلُّ ديونُهُ وُيعْتَق مدبَّرُهُ، قال: فلو رجَع مُسْلِماً ردَّ الورثة ما بَقِيَ في أيديهم، وما اسْتَهْلَكُوا وتصرَّفوا فيه، لَمْ يلزمْهُم ضمَانُهُ. هذا من المرتَدُّ الذي يظْهُرُ كُفْرُه. وكذا الحُكْم في المرتد بالزَّنْدَقَةِ الذي يُخْفي الكفرَ، ويتجمَّل بالإسلام، خلافاً لمالكٍ؛ حيث قال: مالُهُ لورثَتِه المُسْلمين، والله أعْلَم. قال الغَزَالِيُّ: الثَّانِي: الرَّقِيقُ فَلاَ يَرِثُ وَلاَ يُورَثُ إِذْ لاَ مِلْكَ لَهُ وَيَسْتَوِي فِيهِ المُكَاتِبُ (ح م) وَالمُدَبَّرُ وَأُمُّ الوَلَدِ وَالْقِنُّ، وَمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ لاَ يَرِثُ، بَلْ يُورِثُ فِي القَوْلِ الجَدِيدِ، فَإنْ قُلْنَا: لاَ يُورَثُ فَمَا مَلَكَهُ بِنِصْفِهِ الحُرِّ لسَيِّدِهِ، أَوْ لبَيْتِ المَالِ، فِيهِ خِلَافٌ (وم). " القَوْل فِي الرِّقّ" قَالَ الرَّافِعِيُّ: الرقيقُ لا يَرِثُ، واحتجَّ له بأنَّه لو وَرِثَ، لكَانَ الملك للسَّيِّد، والسَّيِّد أجنبيٌّ عن الميِّت، فلا يمكن توريثُهُ منْه، ولم يقُولُوا: إنه يرثُ العَبْد ثم يتلقَّاه السَّيِّد بحَقِّ الملك، وسواءٌ استمرَّ الرقُّ أو عَتْقَ قَبْل قسْمة التركَةِ، خلافاً لأحمد -رحمه الله-. من الحالة الثَّانيَةِ: ولا يرثُ من الرقِيقِ أحدٌ؛ لأنه لا مِلْكَ له، وِإذَا قلْنا إِنه يملك بتمليك السيِّد، فهو مِلْكٌ غيرُ مستقرِّ، يعُودُ إلى السَّيِّد، إذا زال الملْكُ عنْ رقَبَتِهِ، كما إذا باعه، ويستَوِي في ذَلِكَ القِنُّ والمكاتَبُ والمِدَبَّر، وأمُّ الولدِ، فلا يرثُونَ، ولا يُورَثُون. وعن أبي حنيفةَ ومالِك أنَّ المكاتَبَ، إذا مات عن وفاء فما يفضل عن النجُومِ لورثَتِهِ؛ لأنه يمُوتُ حرًا عنْدَهما، وأما مَنْ بعضُهُ حرٌّ وبعْضُهُ رقيقٌ، فلا يرثُ أيضاً؛ لأنَّه لو ورث لكان بعْضُ المالِ لِمَالِكِ البَاقِي، وهو أجنبىٌّ عن الميت. وقال أحمدُ -رحمه الله-: يرثُ بقَدْرِ ما فِيهِ منَ الحُرَّيَّة. وهلْ يُورَثُ عنه؟ فيه قَوْلاَن:
القديمُ، وبه قال أبو حنيفة ومالك: أنَّه لا يُورَثُ عنْهُ، كما أنه لا يَرِثُ. والجديد، وبه قال أحمد (¬1): أنه يرث؛ لأنَّ ملْكه تامٌّ على ما في يده؛ فاشْبَه الحُرَّ. فإن قلْنا بالقديمِ، فما ملكه بالبَعْض الحُرِّ، لمن يكُون؟ فيه وجهان: أظهرهما: عند أكثرهم، وحَكُوه عن نصِّه في القديم: أنَّه لمالِكِ الباقي؛ لأنَّه نقصٌ مَنَع الإرْث، فصار كما لو كان كلُّه رقيقاً. والثاني: أنَّه لبَيْتِ المالِ، ويُنْسَب هذا إلى تخريج الإِصطخريِّ. ووجهه أنَّ مالِكَ الباقِي قد أخَذَ حقَّه منْ كسْبه، وهذا مملوك بالحرِّيَّة. ونقل الفرضيون هذا الوَجْه عنِ ابن سُرَيْجٍ (¬2). وقالوا: إنه الصحيحُ؛ لأنَّه ليس لمالكِ الباقي على الجرِّ مِنَّةٌ ولا ولاء، ولا مِلْكٌ، ولا نَسَبٌ، فلا مَعْنَى لصَرْفِه إلَيْه. وإن قلْنا بالجديدِ، فهو لِمَنْ له مِنْ قريبٍ أو مُعْتَقٍ. وفي القدْرِ المَوْرُوثِ وجْهان، حكاهما ابنُ اللَّبَّان والإمَامُ: أحدُهُمَا: أنَّ ما جَمَعَهُ بنصفه الحرِّ يتقسَّط علَى مالكِ الباقي والورثة بقَدْر ما فيه مِنَ الرقِّ والحرِّيَّة، فإذا كان نصْفُهُ حُرّاً، ونصفُهُ رقيقاً، فنصفُ ما جَمَعَهُ بنصْفِه الحرِّ للسيِّد، ونصفه للورثة, لأنَّ سبب الإرْثِ الموْتُ، والموتُ حلَّ جميع بدنه، وبدنه ينقسِمُ إلى الرقِّ والحرِّيَّةِ، فينقسِمُ ما خلَّفَهُ. وأصحُّهما: أنَّه يملك جميعَ ما مَلَكَهُ بنصْفِهِ الحُرِّ؛ لأن مالِكَ الباقي قد استوفى نصيبَهُ بحق الملك؛ فلا سبيلَ لَهُ علَى البَاقِي. وقولُه في الكتاب: "ومن نصْفُه حرٌّ ونصفُهُ رقيقٌ لا يرثُ" يجوز أن يُعْلَمَ مع الألف بالواو والزاي. أما الواو؛ فلأن أبا عبْد الله الحناطيَّ روَى عن ابْنِ سُرَيْجٍ وجهاً أنه يرِثُ بقَدْر ما فيه من الحرِّيَّة. وأما الزايُ، فلأن المُزَنِيَّ، لَمَّا نقَلَ عن الشافعيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أن نصف العَبْد، إذا كان حُرّاً يرثُهُ أبُوهُ، إذا مَاتَ. قال: والقياسُ علَى قوله: أنه يَرِثُ منْ حيثُ يُورَثُ، فمن الأصحابِ مَنْ قال: قصَدَ بهذا الكلامِ الاحْتجاجَ علَى أنَّه لا يُورَثُ إذ: لو وَرِثَ، لَوَرَّث. ¬
وقال آخَرُون: أراد به كما يُورَثُ ينبغي أن يَرِثَ بقَدْر ما فيه من الحرِّيَّة وظاهرُ قَوْلِهِ تخريجُ قولٍ للشافعيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وكذلك حكَاهُ ابْنُ اللَّبَّان, والفرضيون علَى مذهب المُزَنِيِّ في جملة. ومن وَرَّث المَعْتق بعْضه، وبه قال في الصَّحَابةِ علِيُّ -كرَّم الله وجْهَهُ- وعلَى هذا؛ فلو ترك الحُرُّ ابناً له، نصْفُه حرٌّ، وأخاً حُرّاً، فالنصفُ للابن، والباقِي للأخ. ولو ترك ابنَيْن ونصفُ كلِّ واحدٍ منهما حرٌّ، وأخاً حرًا، فقد اختلفُوا في قياسِ قَوْل عليٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: فعن محمَّدِ بْنِ الحَسَنُ اللُّؤلُؤيِّ في آخرين أن قياسَهُ أنْ يجمع ما فيهما من الحرِّيَّة, وهو حرِّيَّة تامٍّ، فيسقط الأخُ، ويكون جميعُ المالِ بينهما. وقال سفيانُ الثَّوْرِيّ -رحمه الله- قياس: قولِهِ: قسمةُ المالِ بينهما. عَلَى تقديرِ كَمَالِ الحرِّيَّة، والحطّ بقَدْرِ ما فيها مِنَ الرِّقِّ. ولو كانا حرَّيْنِ، لكان جميعُ المالِ بينهما لكُلِّ واحدٍ منهما النصْفُ، فإذا كان نصْفُ كلِّ واحدٍ منهما رقيقاً، رجَع حقُّه إلَى النصف، فلكلِّ واحد منهما الرُّبُع، والبَاقِي للاخِ. وللبصريين عبارةٌ أخْرى تؤدِّي قول سفيانَ -رحمة الله عليه- وهِيَ: أن يؤخذ المالُ مثْل جزء الحرِّيَّة، ويقسَّم بينهما بحَسَب ما فيهما من الرِّقِّ والحرِّيَّة، فيأخذ في هذه الصُّورَة نِصف المال، ويجعله (¬1) بينهما نِصْفَيْن، وهذا هو الصحيحُ عنْد الفَرَضِيِّينَ؛ لأنَّ عليّاً -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: ويحجب بقَدْر ما فيه من الرِّقِّ ومِنْ جميع ما فيهما مِنَ الحُرِّيَّة لم يحجبهما عن شيءٍ، ويُشْبِه أن يذْهَب إلى الصَّحِيحِ مَنْ ورَّثه من أصحابنا. وهذه صُوَرٌ ممَّا يتفرَّع عَلَى توريثه. ابنان ثلث كلُّ واحدٍ منهما حُرٌّ، وأخ، فعلى الطريقِ الأَوَّل: لهما ثلُثَا المَالِ، وعلَى الصحيحِ: لكلِّ واحدٍ منهما ثلُثُ النصف. ثلاثة بنين، نصْف كلِّ واحدٍ منهما حرٌّ. على الطريقِ الأَوَّل فيهم حريَّةٌ ونصْفُ حرِّيَّة، فيجعل المالُ بينهم أثلاثاً، وعلى الصحيح: لو كانوا أحراراً، لاقتسموا المالَ أثلاثاً؛ فلكلِّ واحد منهم نصْفُ الثُّلُث. ¬
بنْتَانِ، نصْفُ كلِّ واحدة منهما حرٌّ: على الأَوَّل: فيهما حرِّيَّةٌ بنت فلها النصف. وعلى الصحيحِ: لو كانتا حرَّتَيْنِ، لأخذتا ثلثَي المال، فالأنَ يأخذان نصْفَ الثلثَيْن. أربعُ بناتٍ، نصفُ كلِّ واحدةٍ منهُنَّ حُرٌّ: على الأوَّل: فيهن حريَّة بنتَيْنِ؛ فلهُنَّ الثلثان. وعلى الصحيح: لو كنَّ حرائرَ، لأخَذْنَ الثلثَيْن؛ لكلِّ واحدةٍ منهن السدُسُ، فالآنَ تأْخُذ كلُّ واحدةٍ منْهنَّ نصْفَ السُّدُس. بنتانِ: نصْف إحداهما وثلُثُ الأخرى حرٌّ: على الأَوَّل: فيهما خمسةُ أسداسِ حرِّيَّةٍ؛ فلهما خمسةُ أسْدَاسِ النصفِ، يقتسمانِهَا بحَسَب حرِّيَّتهما. وعلى الصحيحِ: لو كانَتَا حرَّتَيْنِ، لكان لكلِّ واحدةٍ منهما الثلثُ، فلكلِّ واحدةٍ منهما ثلُثُ الثلث، وهو التُّسْع؛ لاشتراكهما في حريَّةِ الثلُثِ، ثم صاحبة النصْف اختصت بمزيدِ حُرِّيَّة، وهو السدُسُ، فلها مَعَ ذَلِكَ سدُسُ النصْفِ، فَلا يُنْظَرُ هاهنا إلى الثلث الَّذي تأخُذُه مع الأخْرَى بتقدير الحرِّيَّة، وإنَّما يُنْظَر إلى النصف الذي تأخُذُه عنْد الانفرادِ؛ لأنها انفردَتْ بالسدُس الزائد. بنتٌ نصفُها حرٌّ، وأخرَى ثلثها حرٌّ، وأخرَى ربُعُها حرٌّ: على الأوَّل: فيهما حريَّةٌ ونصْفُ سدُسِ حُرِّيَّةٍ، فلهنَّ بالحرية نصفُ المال، وبالزائِدِ نصْفُ سدُسِ السُّدَسِ؛ لأن حصَّةَ الوَاحِدَة، منِ النصْفِ السدُسُ، فيضمُّ ذلك إلى النِّصْفِ، ويقسَّم بينهن على ثلاثةَ عشَرَ، ست للأُولَى وأربعةٌ للثانية، وثلاثة للثالثة. وعلى الصحيحِ: لو كنَّ حرائر، لأخذَتْ كلُّ واحدةٍ منهن تُسْعَى المَالِ، وقد استَوَيْنَ من حريَّة الرْبَع، فلكلِّ واحدة منهنَّ ربُعُ التُّسْعَيْن، وذلك تمامُ حقِّ التي ربُعُهَا حرٌّ، وإذا خرجت من البنين، نظَرْنا إلى ما تأخُذُه كلُّ واحدةٍ من الباقِيَتَيْنِ بتقدير حريتهما، وانفرادِهِما، وهو الثلثُ، ولكلِّ واحدةٍ منهما نصْفُ سدسِ الثُّلُثِ؛ لاشتراكهما في حرية. نصف السُّدُس بَعد الرُّبُع، وذلك تمامُ حقِّ الَّتي ثلُثُها حُرٌّ. والثالثةُ فضَلَتْهُمَا بحُرِيَّةِ السدُسِ، ولها بتقدير الحريَّة والانفرادِ نصفُ المال، فتأخذُ سدُسَ النصْفِ، وتضمُّه إلى ما عنْدَها. ابنٌ نصْفُه حرٌّ، وآخَرُ ثلُثُهُ حرٌّ، وآخَرُ ربُعُهُ حُرٌّ: على الأوَّلِ: جميعُ المالِ بينهم علَى ثلاثةَ عَشَرَ.
وعلى الصحيحِ: لو كانُوا أحراراً، لأخذوا المالَ أثلاثاً، وقد استووا في حريَّة الربع، فلكلِّ واحد منهم ربعُ الثُّلُث، وهو تمامُ حقِّ الذي رُبعُهُ حُرٌّ. ثم الآخرَانِ لو انفردا، لكان لكلِّ واحدٍ منهما نصْفُ المال، ولو اشتركَا في حرِّيَّة نصْفِ السُّدُسِ بعْد الربع، فلكلِّ واحد منهما نصفُ سدُس النصْفِ. وهو تمامُ حقِّ الذي ثلثه حُرٌّ، ثم الآخرانِ، لوِ انفردا، لكان لكلِّ واحدٍ منهما نصف المال، وقد اشتركَا في حرِّيَّةِ نصْف السدُسِ بعد الربع، فلكلِّ واحدٍ منهما نصْفُ سُدُسِ النِّصْفِ، وهو تمام حقُ الذي ثلُثُهُ حُرٌّ، وللآخر مع ذلك سدُسُ المالِ؛ لأنه لو انفردَ، لأخَذَ كلَّ المال، وقد فضَلَهُما بحرية السدُسِ. ابنٌ وبنْتٌ، نصْفُ كلِّ واحدٍ منْهما حُرٌّ: على الأوَّل: يضمُّ نصفُ حرية البنْتِ إلَى حرية الابْنِ؛ لأن بنتَيْنِ بابْنٍ، فيحصلُ ثلاثةُ أرباعِ حريَّةٍ، فلهما ثلاثة أرباعِ المَالِ أثلاثاً. وعلى الطريقةِ الثانِيَةِ: لو كانا حرَّيْنِ، لكان المالُ بينهما أثلاثاً، فلكلِّ واحدٍ منهما الآن نصْفُ نصيبِه، لو تمَّتْ حريته. وقيل: لو كانَ الابْنُ حُراً، وهيَ رقيقةٌ، لأخَذَ جميع المال. ولو كانا حرَّيْنِ، لأخَذَ ثلثَيِ المال، بحريتها وحجبتْهُ عن ثلُثِ المال، فنصْفُ حريتها تحْجُبُه عن نصْفِ الثُّلُث، فيبقَى له خمسةُ أسْدَاسِ المالِ، وهي عشْرون سهْماً منْ أربعةٍ وعشرين سهماً، لكنْ نصفُهُ رقيقٌ، فيعود ذلك إلى عَشَرةِ أسْهُمٍ. ولو كانتِ البنتُ حرَّةً، وهو رقيقٌ، لأخذَتْ نصْفَ المال. ولو كانَا حرَّيْنِ، لأخذَتْ ثلثه فحريته حجبتها عن سدُسِ المال، فنصف حرِّيتِهِ تحجبها عنْ نصْفِ السدُسِ، فيكون لها الربُعُ والسدس، وهو عشرةٌ من أربعةٍ وعشرين، لكن نصفُهَا رقيقٌ، فيعود إلى خمسةٍ من أَربعةٍ وعشْرِينَ. وهذا الجوابُ اختيارُ ابن اللَّبَّان وغيره في هذه الصْورَة، ويُسَمَّى هذا النوْعِ من القسْمة طَريقَ المُخَاطَبَةِ والدَّعْوَى. ابنٌ وابنُ ابنٍ نصفُ كلِّ واحدٍ منهما حُرٌّ. قيل: يجمع بين الحريتَيْنِ ويجعلُ المال بينهما نصفَيْن. وعلى طريق سُفْيَانَ -رحمه الله تعالَى-: للابْنِ النصفُ، ولا شيء لابن الابنِ، لأنَّ الابْنَ يَحْجُبُ ابْنَ الابْنِ. لو كانَا حُرَّيْن فنِصْفُه يَحْجُبُ نصفَهُ. وقيل: للابْنِ النصْفُ، ولابنِ الابْنِ نصْفُ الباقي؛ لأنه لو كان حرّاً، لكان له
الباقي، فإذا كان نصْفُه حراً، كان له نصْفُ الباقي. قال الشيخُ أبو خَلَفٍ الطبريُّ: وهذا أظهر. بنتٌ وبنْتُ ابنٍ، نصفُ كلِّ واحدة منْهُما حُرٌّ. قيل علَى قياسِ محمَّدِ بْنِ الحَسَنُ: يجمع بين الحُرِّيَتَيْنِ، فيحصل حرية بنْتٍ، فلهما النصْفُ بالسوية، وسببُ التسْويةِ أنَّ بنت الابن، تقول لبنْتِ الصُّلْب: ليْسَ لكِ إِلاَّ الربُعُ، فخذيه ودَعِينِي مع العصبة ولي معهم، لو انفردت، النصفُ فآخُذُ نصْفَهُ. وعلَى طريقه سفيانَ -رحمه الله-: لو كانَتَا حرَّتَيْنِ لأخذت البنتُ النصف، وبنتُ الابْنِ السدُسَ، فيرد كلّ واحِد إلى نصْف نصيبَها. وقيل: هو اختيارُ ابْنِ اللَّبان وغيره: للبنْتِ الربع, لأنها لو كانتْ حُرَّة، لكان لها النصْفُ، ولبنتِ الابْنِ السدُسُ، وبنُوهَا عَلَى أنَّهَا، لو كانت حُرَّةَ، وكان النصْف من بنْتِ الصُّلْب حُرّاً، يكون لبنت الابن الثلث؛ لأنها تستحقُّ مع حرية البنت السدس، ومع رقها النصْفَ، فإذا حجَبَتْها حرِّيَّتُها عن الثلُثِ الزائِدِ علَى السُّدس، فيحجبها نصْفَ حرِّيَّتها عنْ نصْفِ الثلُثِ الزائدِ عَلَى السُّدُس (¬1). وإذا كانَ لَها الثُّلُث عنْد حُرِّيَّتها، فيكونُ لها السدُسُ عنْد حرية نصْفَها. والظنُّ أن أصحابَ المذْهَبَيْنِ الأولَيْنِ لا يسلمون أنَّهَا تستحقُّ الثلث عنْد تمامِ الحُرِّيَّة، واللَّهُ أعلم. أبٌ وابْنٌ، نصْفُ كلِّ واحدٍ منهما حُرٌّ: عن محمدٍ اللُّؤلُؤِيِّ -رحمه الله تعالَى- أنه يُقَسَّم المالُ بينهما نصفَيْنِ, لأنَّ كلَّ واحد منهما، لو انفردَ، لأخَذَ الكُلَّ، كأنهما جَمَعَا ما فيهما من الحُرِّيَّة، فتحصُلُ عصبةٌ كاملةٌ. وطريقة سُفْيَانَ: أنهما لو كانا حرِّيْن، كان للأبِ السدُسُ، والباقي للابن، فلكلِّ واحدٍ منهما الآنَ نصْفُ نصيبه. وقيل: للأبِ سدُسُ وثُمُنٌ، وللابْنِ سدُس ثلُثٍ، وثُمُنٌ؛ لأنه، لو كان الأبُ حراً، والابنُ رقيقاً، أخَذَ جميع المال. ولو كانا حُرَّيْنِ، أخذ سدُسَ المال، فحرية الابْنِ تحْجُبُهُ عَنْ خَمْسَةِ أسداسِ المالِ، فنصفُها يحْجُبه عن نصْفِ هذا المبْلَغ، وهو ربيعٌ وسدسٌ، فينضم ذلك إلى السُّدُسِ، فيحصل له ثلث وربع، لكن نصفُهُ رقيقٌ، فيعودُ إلَى سدُسٍ وثمنٍ. والابنُ، لو كانَ حُرّاً، والأَبُ رقيقاً، لأخَذَ جميع المال. ¬
القتل مانع من الإرث
ولو كانَا حرِّيْنِ، لأخذ خمْسةَ أسْداسِ المالِ، فحريَّةُ الأبِ تحْجُبُهُ عن سدُسِ المالِ، فنصفُهَا يحْجُبُهُ عن نصْفِ السدُسِ، فيحصُلُ له خمسةُ أسداس، ونصفُ سدسٍ، لكن نصْفُه رقيقٌ، فيرتدُّ إلَى نصْفِ هذا المبْلَغ، وهو ثُلُثُ وثُمُنٌ. قال أبو خَلَفٍ: وهذا هو الصحيحُ على قياس (¬1) عليٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وهذه صورة تفيدُ الأقيس بهذا المذْهَب، ولم نطوِّل بإيراد أخواتها؛ لبُعْد هذا المذهب من مذْهَبِنا, ولأنَّا لم نجدْ عن القائسين على مذهب عليٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- ضوابطَ منقَّحةً، فتخرَّجَ عليها الفُرُوعُ وبالله التوفيق. قال الغَزَالِيُّ: الثَّالِثُ القَاتِلُ لاَ مِيرَاثَ لَهُ إِنْ كَانَ قَتْلُهُ مَضْمُوناً إِمَّا بِكَفَّارَةٍ، أَوْ إِثْمٍ (و)، أَوْ دِيَةٍ، أَوْ قِصَاصٍ سَوَاءٌ كَانَ عَمْداً أَوْ خَطَأً (ح م و)، بسَبَبٍ كَحَفْرِ البِئْرِ، أَوْ مُبَاشَرَةٍ من مُكَلَّفٍ (ح) أَوْ غيرِ مُكَلَّفٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُوناً كَقَتْلِ الإِمَامِ فِي الحَدِّ فَقَوْلاَنِ، وَإِنْ كَانَ يسَوَّغُ قَتْلُهُ وَتَرْكُهُ كَقَتْلِ القِصَاصِ، وَدَفْعِ الصَّائِلِ، وَقَتْلِ العَادِلِ البَاغِيَ فَقَوْلاَنِ مُرَتَّبَانِ. القتل مانع من الإرث قَالَ الرَّافِعِيُّ: عن عُمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قَالَ: "لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِيرَاثٌ" (¬2). وعن ابن عَبَّاسِ -رَضِيَ الله عَنْهُمَا- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَرِثُ القَاتِلُ شَيْئاً" (¬3). ويُرْوَى: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً، لاَ يَرِثُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَه وَارِثٌ غَيْرُهُ" (¬4). ¬
وعن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أنَّه قال -صلى الله عليه وسلم-: "القَاتِلُ لاَ يَرِثُ" (¬1). والمعنَى الكليُّ أنا لو ورَّثْنَا القاتِلَ، لم نأمَنْ مِنْ مستعجِلِ الإرث أن يقتُلَ مورِّثه، فاقْتَضَتِ المصلحةُ حرْمَانَهُ (¬2). إذا تقرَّر ذلك، فالقَتْلُ ضرْبَانِ: أحدهما: المضمونُ منه، وهو موجبٌ لِلْحِرْمَانِ، سواءٌ كان مضْمُوناً بالقصاصِ أو ¬
الدِّيَةِ أو الكفَّارة، والتضمين: بمجرَّد الكفارة، كما إذا رَمَى إلى صَفِّ الكفَّار في القتَالِ، ولم يعْلَمْ أنَّ فيهم مُسْلِماً، وكان فيهم مورِّثه المُسْلِمُ، فقتله، تجب الكفارةُ ولا دِيَةَ. ولا فرْقَ بين أنْ يكونَ القَتْل عمداً أو خَطَأً، خلافاً لمالك -رحمه الله- حيث قال: الخَاطِئ يَرِثُ إلاَّ مِنَ الديَةِ الواجبَةِ بفعْلِهِ. وحكَى الحناطيُّ قولاً: أنه الخاطئَ يرثُ مطْلَقاً. لنَا: الأخبار، وأيضاً، فمن لا يَرِثُ من الديَةِ، وجبَ ألا يرث من غيرها؛ كالعامد، ولا فرْقَ بين أن يكونَ الخطأُ بالمباشرة، كما إذا كان يَرْمِي إلَى هدف أو صيدٍ، فأصاب مورِّثَه، أو بالتَّسَبُّب، كما لو حَفَر بئراً عُدْواناً، فتردَّى فيها مورِّثُه، أو نصَبَ حَجَراً في الطَّريق، فتعثر به ومات. وقال أبو حنيفة: القتْلُ بالتسبُّب لا يقتَضِي الحرْمَان، إلاَّ إذا رَكِبَ دابَّة، فرَفَسَتْ مورِّثه، ومات. لنا: أنَّه قتْلٌ يتعلَّق به الضمانُ، فيتعلَّق به الحرْمانُ كالقتل مباشرةً، ولا فرْقَ بين أن يقْصِدَ بالتَّسَبُّبِ مصلحته؛ كَضَرْب الأب والمعلِّم والزَّوْجِ للتأدِيب، إذا أفضَى إلى الموت، وكما إَذا سقَى موَرِّثَهُ الصَّبِيَّ دواءً أو بَطَّ له جُرْحاً عَلَى سبيل المعالَجَةِ، فمات أَوْ لاَ يقْصِد. وفي سَقْيِ الدواء وبط الجُرْح وجْهٌ حكاه ابن اللَّبَّانِ وغيره. وعن صاحب "التقريب" وجْهٌ في مطْلَق القَتْل بالتَّسبُّب: أنَّه لا يوجب الحرْمَانَ، والمذهب الأوَّلُ. ولا فرْقَ بين أن يصْدُرَ القتْلُ من مكلَّف أو غير مكلَّفٍ، خلافاً لأبي حنيفَة، حيث قال: القتْلُ الصادِرُ من الصبيِّ والمجنونِ والمُبَرْسم لا يقتَضِي الحرْمَانَ. لنا: الأخبارُ، وأن ما يمنع من توريثِ المكلَّف يَمْنَعُ من توْريث غيره؛ كالرِّقِّ، ولك أن تُعْلِم، لما ذكرنا قولَهُ في الكتاب: "أو خطأً" بالميم والواو، وقوله: "بسبب" بالحاء والواو، وقوله: "أو غير مكلف" بالحاء، ويجُوزُ إعْلامُه بالواو، وأيضاً؛ لأنه، إِذا كانَ لنا في الخطأِ قولٌ جاء منْه خلافٌ في الصَّبيِّ بناءً على أنَّ عمْدَهُ خطأٌ، وقوله: "مضمُوناً إِمَّا بكفارةٍ أو إِثْمٍ" لفظ التَّضْمِين بالإِثْم، كالبعيد عن الاستعمال. ثم المرادُ منْه مسألةٌ، وهي: أنَّ المكْرَه علَى قتْلِ مورِّثه، إذا قتَلَهُ لا يَرِثُهُ. وإن قُلْنا: لا قصاصَ، ولا ضمانَ؛ لأنه أَثِمَ بالقتل. [هذا ظاهرُ المَذْهب، وفيه وجهٌ آخَرُ، بناءً علَى أنَّ المكْرَه ألَةُ القَتْلِ]، وهو المذكور في الكتاب من أبواب القصاص، فيجوزُ أن يُرْقَمَ قولُهُ "أو أثم" لذلك. الضرب الثاني: غير المضْمُون مَنْ القَتْل، وينقَسِمُ إلَى: مستحقٍّ مقصودٍ وإلَى غيره.
والأوَّلُ نوعان: أحدُهُمَا: لا يُسَوَّغ تركُهُ، فإذا قتل الإمَامُ مُوَرِّثه حَدّاً بالرَّجْم، أو في المُحَارَبَةِ، ففيه قوْلاَن أو وجْهَانِ: أحدُهُمَا: عن تخريج ابْنِ سُرَيْجٍ وغيره: أنه لا يوجِب الحرْمَانَ؛ لأن الإمام مأْمورٌ به محمولٌ عليه، ويحكَى هذا عن ابن خَيْرَان. والثاني: يوجِبَهُ لإطْلاقِ الأخبار، وفيه وجْهٌ آخرُ أنَّه يُفْرَقُ بَيْنَ أن يَثْبُتَ بالإِقْرار، فلا يُحْرَمُ؛ لأنه غير متَّهَمٍ وبيْن أن يَثْبُتَ بالبينة، فيحرم؛ لاحتمال مواطأةِ الشُّهود، وبه قال أبو إِسْحَاق. والنوع الثاني: ما يُسَوَّغ تركه؛ كقتل المورِّث قِصَاصاً، ففيه خلافٌ مرتب على الخلاَفِ في قَتْل الإمَامِ حَدّاً، وهذا أَوْلَى باقتضاء الحرمان؛ لأنه مخيَّر (¬1) [في الترك والقتل]، فإذا قَتَل؛ فقد يُتَّهَم بقصْد جلْب الميراث. والقسْم الثاني: ما لا يوصَفُ بكَوْنه مستحقاً مقْصُوداً؛ كقتل الصائل والباغي، فإنَّ المقصُودَ الدفْعُ والردُّ إلى الطاعةِ لا القَتْلُ بخصوصه، ففي تعلّق الحرمانِ بقَتْل الصائل خلافٌ مرتَّب على الخلافِ في القِصَاص، وهذا أَوْلَى باقتضاءِ الحرْمَانِ؛ لأنه غير مستحقِّ، والتهمةُ منقدحةٌ؛ لاحتمال الزيادةِ علَى القَدْر المحتاجِ إلَيْه في الدفع، وكذا قتل العادِلِ البَاغِيَ. وأما قتْلُ الباغي العادلَ، فإنْ قلنا: الباغي يضْمَنُ؛ فلا ميراثَ لَهُ. وإن قلْنا: لا يضمَنُ؛ فوجْهَان مرتَّبان على الخلافِ في العكس، وهذا أَوْلَى بالحرمان؛ لأنا لا نطلِقُ له قتْلَ العادل. وإذا جمعتَ بيْنهما، قلْتَ: في جريان التوارث ثلاثةُ أقوالٍ أو أوْجُهٍ ثالِثُها؛ أن العادل يرثُ من الباغِي ولا ينْعَكِسُ. واعلم أن ظاهر قول الشافعيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- ومذهَبُه في الصُّور جميعاً إنَّمَا هو الحرْمَان، وبه قال الإمامُ أحْمَدُ. قال القاضي الرُّويانيُّ، لكن الأخبار والقياسَ أَبَّ مَا لاَ يوجِبُ الضَّمانَ لا يوجِبُ الحرمان، ولا يبعد تخصيص الأخْبار بالقياس (¬2). ¬
وقال أبو حنيفة: ما لا يوجِبُ الكفَّارة منْ أنواعِ القَتْل لا يوجِبُ الحرمان، واستثنَى علَى أصْله القتْلَ العَمْد.
فرع
ولو شهِدَ علَى مورِّثه بما يوجِبُ القِصَاصَ أو الحَدَّ، وقتل بشهادَتِهِ، ففي إرثه الخلافُ المذكورُ فيما إذا قتَلَهُ قِصَاصاً، ولو شهِدَ علَى إحصانه، وشَهِدَ غيره على الزِّنَا، فهلْ يُحْرَمُ شاهدُ الإحْصَان؟ قال ابن اللَّبَّانِ وآخرون: فيه مثْلُ ذلك الخلاف، ويُشْبِه أن يجيء فيه طريقةٌ قاطعةٌ بأنه لا يُحْرَمُ. ولو شَهِدَ علَى عدالةِ شُهُودِ الزِّنَا علَى موَرِّثه، ففيه الخلاف: " فَرْعٌ" يمكن أن يَرِثَ المقتُولُ من القاتِلِ بأنْ جرح (¬1) مورِّثه، ثم مات قَبْل أن يموتَ المجْرُوح مِنْ تِلْكَ الجرَاحةِ، والله أعْلَم. قال الغَزَالِيُّ: الرَّابعُ: انْتِفَاءُ النَّسَبِ بِاللِّعَانِ يَقْطَعُ التَّوَارُثَ بَيْنَ المُلاَعِنِ وَالوَلَدِ، وَكَذَا كُلُّ من يُدْلِي بالمُلاَعِنِ لِأَنَّهُ انْقَطَعَ نَسَبُهُ، وَيَبْقَى الإِرْثُ بَيْنِ الأُمِّ وَالوَلَدِ، وَلَوْ نَفَى بِاللِّعَانِ تَوْأمَيْنِ فَهُمَا يَتَوَارَثَانِ بِأُخُوَّةِ الأُمِّ لاَ بِالعُصُوبَةِ إِذِ الأبُوَّةِ مُنْقَطِعَةٌ، وَوَلَدُ الزِّنَا كَالمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ، فَلاَ يَرِثُ مِنَ الزَّانِي، وَتَرِثُهُ الأُمُّ وَيَرِثُهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أكثرُ الأصْحَابِ لا يعُدُّون هذا مِنْ موانِع الإرْث؛ لأنَّهم يعْنُونَ بالمانِعِ ما يجامِعُ سبَبَ الإرْث منْ نَسَبٍ وغيره؛ كالرِّقِّ، واختلاف الدِّين، وتساهَلَ صاحبُ الكتاب في "الوسيط" في تسميته مَانِعاً. وأما هاهنا، فلم يأْت بلَفْظِ المَانِعِ، ولكن قال: "وما يَنْدَفِع به الميراثُ ستَّةٌ"، والاندفاعُ قد يكُونُ للمَانِعِ، وقد يكون للسبب (¬2)، فحَسُنَ الجمْعُ بين النوعَيْن (¬3). وفقه الفصل مسأَلَتَانِ: المسألة الأولَى: اللِّعَانُ، يقْطَعُ التوارُثَ بين الملاعِنِ والوَلَدِ؛ لأنه يقطع النَّسَب بينهما، وكذلك يقطُعَ التوارُثَ بين الوَلَد، وكلِّ من يُدْلِي بالمُلاَعِنِ، كأبيه وأمِّهِ وأولادِهِ. ¬
وفي "السلسلة" للشيخ أبي (¬1) محمَّد ذكْرُ وجْهٍ مخُرَّج: أنَّ اللَّعَان لا يَقْطَع التوارث بين الوَلَد والمُلاَعِنِ، وبناءُ الخلاف في الوجْهَيْن في أنَّ الملاعن، هلْ له أن ينْكِح بنت الملاعَنَةَ التي نفاها، إذا لم يكُنْ قد دَخَلَ بأمها؟ إن قلْنا: له ذلك؛ كنكاحِ بنْتِ الزِّنَا، فلا يَرِثُ. وإن منَعْنَا منْه؛ لأن نسبها يعرض الثُّبُوت مِنْ حيثُ إنَّه قد يكذب نفْسَه، فيَرِث. قال: وبهذا قال مالك -رحمه الله- ولم نر لغيره نِسْبَةَ هذا المذهب إِلى مالِكٍ، ولا حكاية هذا الوجه، والله أعْلَم. وأما الولَدُ مع الأمِّ, فإنهما يتوارَثَانِ توارُثَ سائر الأولاد والأمَّهَات؛ والتوأمان المتعيان باللِّعَان، كيف يتوارَثَانِ؟ فيه وجهان: أصحُّهما: وهو المذكور في الكتاب، وبه قال أبو إسْحَاق: أنهما لا يتوارثان إلاَّ بأُخُوَّة [الأمِّ؛ لانقطاع نسَبِهِمَا عنِ الأَب. والثاني: يتوارَثَانِ (¬2)] بأُخُوة الأبِ والأمِّ، وبه قال مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لأنَّ اللعانَ إنَّما يؤثِّر في حقِّ المتلاعنَيْن دون غيرهما. وإذا قلْنا بالأَوَّل، فلا عصَبَةِ للوَلَدِ المنفيِّ إلاَّ من صُلبه أو من جهة الولاءِ؛ بأن يكون عتيقاً أو أمُّه عتيقةٍ، فيثبت الولاءُ لمولاها علَيْه، وعصبة الأمِّ لا يكونون عصبةً له، خلافاً لأحمد -رحمة الله عليه- فيما إذا لم يكُنْ له مُنْ صلْبِهِ عصبةٌ، حتى إذا خلَّف أُمُّهُ، وخالاً، قال: للأمِّ الثلثُ والباقي للخَالِ، وُيرْوَى هذا المذْهَبُ عن أبي حنيفة، ولا يكاد يثْبُتُ له. لَنَا: أنهم ليْسُوا عصبةٌ له في تحمّل العقل والولاية فكذلك في المِيرَاثِ. ولو نفى الولَدِ باللِّعَان، ثم استلْحَقَهُ، لحِقه فإنْ كاَن بعْد مَوْت الوَلَد، فكذلك، وتنقض القسْمَة، لو قسمت تركتُهُ، حتى لو كان علَى أمِّه ولاء، فأخذ موْلاَها ميراثه، كان للمستلحق الاسترْدَادُ، ولا فَرْقَ في اللُّحُوق بيْن أن يخلِّف الميت ولداً أو لا يُخَلِّف. وقال أبو حنيفةَ: إذا لَمْ يُخَلِّف ولداً، لم يلحقه الاستلحاقُ بعْد الموت. المسألةُ الثانيةُ: ولَدُ الزِّنَا كالوَلَدِ المنفيِّ باللعان, لأنَّ الوجه الذي حكاه الشيخ أبو محمَّد لا مساغ له ههنا، وَأَنَّ ولد الزنا لا يلْحَقُ الزانِيَ بالاستلحاق، وأنَّ التوأمَيْنِ من الزنا لا يتوارَثَان إلاَّ بإخْوَة الأمّ. ¬
وعن "الحاوِي" وجهٌ ضعيفٌ؛ أنَّهما يتوارَثَان أيضاً بأُخُوَّة الأبِ والأُمِّ، وحكاه الحناطي أيضاً (¬1). قال الغَزَالِيُّ: الخَامِسُ إِذَا اسْتُبْهَمَ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ فِي المَوْتِ، كَمَا إِذَا مَاتَ قَوْمٌ مِنَ الأَقَارِبِ فِي سَفَرٍ، أَوْ تَحْتَ هَدَّمٍ، أَوْ غَرَقٍ، فَيُقَدَّرُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ كَأَنَّهُ لَمْ يُخَلَّفْ صَاحِبَهُ، وَإِنَّمَا خَلَّفَ الأَحْيَاءِ إِذْ عَسْرَ التَّوْرِيثُ لِلْاشْتِبَاهِ، وَكَذَلِكَ نَفْعَلُ إِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ مَاتُوا عَلَى تَرْتِيبٍ وَلَكِنْ عَسُرَ مَعْرِفَةُ السَّابِقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا ماتَ المتوارِثَانِ بغَرَقٍ أو حَرَقٍ أو تَحْت هَدْمٍ أو في بلادِ الغُرْبة أو وُجِدا مقتولَيْنِ في معْركَةٍ؛ فله صُوَرٌ خَمْسٌ: إحداها: أن يعرف تلاحقُ موْتِهِمَا وعيْن السابق منْهما، وحكمهما بيِّن. والثانيةُ: أن يعلم التلاحقُ، ولكنْ لا يعلم عيْن السابِقِ منهما. والثالثة: أنْ يُعْلَم وقوعُ الموتَيْنِ معاً. الرابعة: ألاَّ يُعْلَم أتلاحقا أمْ وقعاً معاً. ففي هذه الصُّور الثلاث لا يُوَرَّث أحدُهما من صاحِبِه، بل يُجْعَلُ ما لكلِّ واحدٍ منهما لسائر ورثته، لو لم يخلِّفِ الآخر. وقال أحمد -رحمه الله-: يَرِثُ كلُّ واحد من الآخر تَلِيدَ (¬2) ما له دُون طَرِيقِهِ. والمرادُ من التَّلِيد: ما كانَ لَهُ، ومِنَ الطَّريق: ما وَرِثَهُ من الآخر. لنا: أن كلَّ واحدٍ منهما لا تتحقَّق حياته عنْد مَوْت صاحبِهِ، فلا يُورث منه؛ كالجنين، إذا انْفَصَل ميِّتاً بعْد موت مُوَرِّثه. واحتجَّ الشيخُ أبو حامِدٍ بأنَّا إذا ورثنا كلَّ واحدٍ منهما منْ صَاحِبِه، فقد حكَمْنا بالخطأِ يقيناً؛ لأنهما إِنْ ماتا معاً، ففيه توريثُ مَيِّت من ميِّت، وإِنْ ماتا علَى الترتيب، ففيه توريث مَنْ تقدَّم موْتُه عَمَّن تأخَّر موته. ولا بُدَّ هاهنا من التعرُّض لأُمُورٍ: أحدها: إيضاحُ المذهَبَيْنِ بالمثال. أخَوَانِ غريقان غَرِقَا: مالُ كلِّ واحدٍ منهما لموْلاَه. وعن أحمَدَ: مالُ كلِّ واحدٍ منهما لأَخيه، ثم يتلقَّاه منْه موْلاَه. ¬
أخٌ وأُخْتٌ غَرِقَا، وخلَّفَ الأخُ زوجةٌ وبنتاً، والأخت زوجاً وبنتاً، فيجعل كأَنَّ الأخ ماتَ عَنْ زوجةٍ وبنْتٍ لا غير، والأخْتُ عن زَوْجٍ وبنت لا غَيْرُ. وعنْدَ أحْمَدَ يميت الأخ أولاً، وتورث الأختُ من تليد مالِهِ، فيكون للزوجةِ منْه الثمُنُ، وللبنْتِ النصفُ، والباقي للأختِ، وهذا الباقِي يقسَّم علَى ورثتها الأَحْيَاء خاصَّة، بم يميت الأُخْت أوَّلاً، ويورث الأخَ من تليد مالِهَا، فيكون للزوْجِ منْه الربُعُ، وللبنْتِ النصْفُ، والباقي للأخ، وهذا الباقي للأحْياءِ مِنْ ورثَتِهِ خاصَّة. الأمر الثاني: رأى الإمامُ تخصيصَ الخِلاَف فيما إذا سَبَق موْتُ أحدهما، وأشْكَل السَّبْق، واستبعد المَصِير إلَى توريث أحدِهِما من الآخر، إذا عُلِمَ وقوعُ الموتَيْنِ معاً، لكن الشيخ أبا حَامِدٍ في آخرين حَكَوُا الخلافَ في الصُّوَر الثَّلاَثِ جميعاً. [الأمر] الثالثُ: نقل ابن اللَّبَّان عن بعض المتأخِّرين فيما إذا تلاحَقَ الموتَانِ، ولم يُعْلِمَ السابقُ، أنَّ القياسَ أن يُعْطَى كلُّ وارث ما يتيقن له، ويوقَفُ المشكوك فيه. قال أبو حاتم القَزْوِينِيُّ، وبه قال شيخُنَا أبو الحَسَنِ -يعني ابْنَ اللَّبَّان- وحكاه عن ابن سُرَيْجٍ. الصورةُ الخامِسَةُ: أن يُعْلَم من سبق موْتُه، ثم يُشْكِل الحال، وتلتبس الحالِ، فيُوقَفُ الميراثُ، حتى يتبين أو يَصْطَلَحا؛ لأنَّ التذكُّر غير ميؤوسٍ منه هذا ظاهر المذهب. وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّه كما لو لَمْ يُعْلَمِ السابقُ منهما، وإلَيْه ميلُ الإمام. وهذه الصُّوَر الخَمْس، كما ذكرنا في الجمعَتَيْنِ المقامتين في بلدةٍ واحدةٍ. قال الإمامُ: لكنْ هناك قولانِ فيما إذا عُلِم السَّبْقُ، ولم يتعين السابقُ، وههنا بحزم بمَنْع التوارُثِ؛ لأنَّ الأمْرَ بتدارُكِ الصلاة هين, ووقْفُ الميراثِ أبداً لا مَعْنَى له. وقوله في الكتاب: "وكذلك نفعل إن علمنا أنهم ماتُوا على تَرْتِيب ولكن عسر "معرفة السابق" يمكن حملُهُ على جهة اللفْظِ علَى ما إذا علِمْنا الترتيبَ، ولم يتعيَّن لنا السابقُ، وعلَى ما إذا لم يتعيَّن لنا السابقُ، ثم عرض نسيانٌ والتباسٌ، لكنِ الأقربُ الحَمْلُ على الثَّاني؛ لأن الأوَّل عين قوله أولاً "إذا استبهم التقدُّم والتأخُّر في الموت" (¬1) إِلاَّ أنْ يؤول ذلك في استبهام الترتِيبِ والمعيَّة، بأن يرد التقدُّم (¬2) والتأخُّر إلَى موت ¬
أسباب تمنع صرف المال إليه في الحال للشك في استحقاقه
الواحِدِ منهما علَى معْنَى أنه إذا استبهم أنَّ موته تقدَّم أو تأخَّر، حتَّى وقع مع موت الآخر، لكنه تكلف. وإذا كان المُرَاد المَحْمَل الثَّانِيَ، جاز أن يُعْلَمَ بالواو؛ [لما سبق، وكذلك قولُه: "وإنما خلَّف الأَحياء" يصح إعلامه بالواو] (¬1)؛ للوجْه الذي حكاه ابن اللَّبَّانِ، فأما إذا أوقَفْنا بعْضَ المالِ، لم يكُنْ كما لو لَمْ يخلِّف إلاَّ الأحياءَ. قال الغَزَالِيُّ: السَّادِسُ مَا يَمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ فِي الحَالِ، وَهُوَ الإِشْكَالُ إمَّا فِي الوْجُودِ أَوْ فِي النَّسَبِ أَوْ فِي الذُّكُورَةِ (أَمَّا الإِشْكَالِ فِي الوُجُودِ) فَصُورَتُهُ الأَسِيرُ وَالمَفْقُودُ الَّذِي انْقَطَعَ خَبَرُهُ، إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ فَلاَ يُقَسَّمُ مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَلَى مَوْتِهِ أَوْ تَمْضِ (و) مُدَّةٌ يَحْكُمُ الحَاكِمُ فِيهَا بِأَنَّ مِثْلَهُ لاَ يَعِيشُ فَيُقَسَّمُ عَلَى وَرَثَتِهِ المَوْجُودِينَ عِنْدَ الحُكْمِ، وَإِنْ مَاتَ لَهُ قَرِيبٌ حَاضِرٌ تَوَقَّفْنَا فِي نَصِيبِهِ وَأَخَذْنَا فِي حَقِّ الحَاضِرِينَ بِأَضَرِّ الأَحْوَالِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَخْذَاً بِأَسْوَإِ الأَحْوَالِ، فَمَنْ كَانَ يَنْقُصُ حَقُّهُ بِمَوْتِهِ قَدَّرْنَا فِي حَقِّ مَوْتَهُ، وَمَنْ كَانَ يَنْقُصُ حَقُّهُ بِحَيَاتِهِ قَدَّرْنَا فِي حَقِّهِ حَيَاتَهُ، وَقَدْ قيل: يُقَدَّرُ المَوْتُ فِي حَقِّ الكُلِّ، وَقِيلَ: يُقَدَّرُ الحَيَاةُ في حَقِّ الكُلِّ، ثُمَّ إِنْ ظَهَرَ خِلاَفُهُ غَيَّرْنَا الحُكْمُ. " أسباب تمنع صرف المال إليه في الحال للشك في استحقاقه" قَالَ الرَّافِعِيُّ: أَوَّلُ ما نذكره أن عدّ هذا من المَوَانِع أو الدَّوَافِعِ غيرُ مُتَّجَهٍ؛ لأن امتناع الصَّرْف في الحال ليس إلاَّ التوقُّفَ إلَى زوال الشَّكِّ في الاستحقاق علَى ما ستعرفه، وحينئذٍ إنْ تبين أنَّه ليْسَ بمستحقٍّ، فذاك، وإلاَّ، صرف إليه، والتوقُّف ليس حُكُماً بعدم التوْرِيث. والمقصود أن الموصوف بسبب الإرْث قد يمتنع صرْفُ المال إليه للشَّكِّ في استحقاقه، وهذا الشكُّ قد يكُونُ بعروض الشك في وجودِهِ، وقد يكُونُ للشَّكِّ في نسَبِهِ أو للشَّكِّ في الذكورة. أما مع الشَّكِّ في الوجودِ أو دُونه، فهذه أربعةُ أسْبَاب: أما الشكُّ في الوجود، فكمن مات وله قريبٌ مفقودٌ، لا نُعْلَمُ حياتُهُ ولا موتُهُ، ولما جرَى ذكْر المفقود، وتكلَّم في توريث الغَيْر منْه، ثم في تورِيثِه من الغير، وإن كان الشكُّ في الوجود لا يَقَعُ إلاَّ في توريثه من الغَيْر، أمَّا التوريثُ منْه، فالمقْصُودُ الذي ¬
انْقَطَعَ خَبَرُه، وجُهِلَ حالُهُ، إما في سَفَر أو حَضَرٍ، في قتالِ أو عنْد انكسارِ سفينةٍ، وغيرهما, وله مالٌ حاضِرٌ، وفي معناه الأسيرُ، إذا انقطع خَبَرُهُ. قال صاحبُ الكِتَابِ "ولا يقسَّم ما لم تقم بينة علَى موْتِهِ أو تَمْضِ مُدَّةٌ يحكم الحاكم فيها بأنَّ مثله لا يَعِيشُ". فأمَّا القسْمةُ عنْد قيامِ البَيَّنَة على موته فجائز. وأما إذا لم تَقُمْ؛ فعنِ الأستاذِ أبي مَنْصُورٍ وغيره، أن الصَّحيح أنَّه لا يقسم ماله، ولا مُدَّة ينتهي إليها؛ لاختلاف أعْمَارِ الناس في جميع الأعصار. وقد نصَّ الشافعيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- على أنَّ زوجَةَ المفْقُود تَصْبِرُ إلَى أن يعرفَ حالُهُ، فكذلك ههنا. والأكثرون أجَابُوا بما ذكَرَهُ في الكتَابِ منْهم ابنُ اللَّبَّان وصاحب "الشامل" و"المهذب" وأبو الحسن العبَّادِيُّ، ولعلَّه الأظهر. وعلَى هذا؛ فالبحثُ والنَّظَر في أمور: أحدها: ليستْ هذه المدَّةُ مقدَّرة عند الجمهور، قالوا: وهُوَ الظاهر من مذهب أبي حنيفَة ومالك -رحمهما الله- ومِنْ أصحاب مالكٍ من يُقَدِّرها بسبعينَ سَنَةً، ومِنْ أصحابِ (¬1) أبي حنيفَة مَنْ يقدِّرها بمائَةٍ وعشرِينَ سنَةً، ويرويه عنه. ومن أصحاب مالك من يقدرِّها بتسعين سنة، ومن فرائض بعْضِ المتأخِّرين أن مِنْ أصحابنا مَنْ قال به. وعن أحمدَ أنَّه ينتظر أربع سنين، فإذا مضَتْ، ولا أثر، قُسِّم ماله، ونكحت زوجته، فيجُوزُ أنْ يُعْلَم قولُهُ: "لا يقسَّم" بالألف كذلك. والثاني: أنَّه تعتبر مدة يقطع بأنَّه لا يَعيشُ أكْثَرَ منها أو مدَّة يغْلِبُ على الظنِّ أنه لا يعيشُ أكثر منها، منهم من اكتفَى بغالب الظنِّ، ومنهم من أطْلَقَ لفْظ القطع واليقين. هذا ابن اللَّبَّانِ يقُولُ: كان الشافعيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لا يقسِّم مالَهُ، حتى يُعْلَمَ موْتُهُ أو تمْضِيَ مدَّةٌ يُتَيَقَّنُ فيها بمَوْتِهِ، والأشْبَهُ الأوَّل، ويجوز أن يُحْمَلَ الثاني علَيْه؛ لأنه قد يتساهَلُ في إطْلاق لفظ اليقِينْ على الظَّنِّ الغالب؛ ألا ترَى إلى قَوْلَ الشافعيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- في أمْرأةِ المفْقُود، وأنَّها لا تُنْكَحُ ما لَمْ يَأتها يقينُ وفاتِهِ، ومعْلومٌ أن قيام البيِّنة على الوفاةِ كافٍ، وأنَّها لا تفيدُ القَطْع. الثالث: لعلَّك تقولُ: من الأصحابِ مَنْ يقول: لا يقسَّم مالُهُ حتَّى تمضي مدةٌ، ¬
يُعْلَمُ موْتُهُ فيها, ولا يتعرَّض لحكْم الحاكِم، كما نقل عن ابنِ اللَّبَّانِ. ومنْهم مَنْ يعتبر الحُكْم علَى ما ذكره في الكتابِ، فَكيْفَ الحَالُ فيه؟ والذي ينبَغِي أنْ يُقَال في الجوابِ: إن القسمة، وإن كانَتْ بالقَاضِي، فقسمته تتضمَّن الحكْمَ بالمَوْت، وإنِ أقتسَمُوا بأنْفُسِهِم، فيجوز أن يقدَّر فيه خلافٌ، إن اعتبرنا القطْع، فلا حاجة إلَيْه، وإلا، فلا بدَّ منه؛ لأنَّه في مَحَلِّ الاجتهاد. وأيضاً، فإنَّهم حكَوُا؛ تفريعاً على القول القديم من امرأةِ المفقود، وجْهَيْن في أنها، هلْ تحتاجُ إلَى حُكْمِ الحاكمِ؛ لتنكح أمْ يكْفِي مُضي المدة؟ والظاهرُ اعتبارُ الحُكْم. الرابع: إذا مضَتِ المدَّةُ المعتبرةُ وقُسِّم ماله، فهل لزوجته أن تَنْكِحَ؟ والجوابُ من مفهومِ كلامِ الأئمَّة -رحمهم الله- دَلاَلَةً وتصريحاً أن لَهَا ذلِكَ، وأنَّ المنْعَ على الجديدِ مخْصُوصٌ بما قبل هذه المدة، ألا تَرَى أنَّهم ردُّوا على القوْلِ القديمِ حيْث اكتفى بأربعِ سنين، بأنه، إذا لم يَجُزْ الحكم بمَوْتِهِ في قَسْمة أموالِهِ وعِتْقِ أمهات أولادِهِ، لم يَجُزِ الحكم به في فِرَاقِ زوْجَتِهِ. فأشعر بأنَّهم رأَوُا الحكمَيْنِ متلازِمَيْنِ. وعلَى هذا؛ فالعبدُ المنقطعُ الخَبَرِ بعْد هذه المدَّة لا تجبُ فطرته، ولا يجزئُ عن الكفَّارة بلا خلافٍ، وموضعُ القَوليْن ما قبل ذلك. ولا يبْقَى للاستناد مُتَمَسَّكٌ في نصِّه الجديدِ في مسْألة المَفْقُود. وقوله: "فيقسّم على ورثته الموجودِينَ عند الحُكْم" معناه أنَّا ننْظُرُ إلى مَنْ يَرِثُه حينَ حَكَم الحاكمُ بموته، ولا يُوَرَّثُ من مات قبْل الحُكْم، ولو بلحظة؛ لجواز أن يكونَ مَوْت المفقود بَيْنَ موْتِهِ وبيْنَ حُكْم الحاكم. وأشار العَبَّادِيُّ في "الرَّقْم" إلى أنَّه لا يشترطُ أنْ يقع حكْمُ الحاكمِ بَعْد المدة، فقال: "يضرب الإمامُ لَهُ مدَّة لا يعيشُ في الغالب أكْثَرَ من تلْك المدة، فإذا انتهتْ، فكأنه مات ذلك اليَوْمَ" هذا لفْظُه. وأمَّا توريثُه، فإذا مات للمفقودِ قبْل الحكْمِ بموته قريبٌ حاضِرٌ، نُظِرَ: إنْ لم يكُنْ له إلا المفقودُ، توقَّفْنا إلى أن يتبيَّن أنه كان حياً عنْ مَوْت الحاضر أو ميتاً، وإن كان له غير المفقُودِ، توقَّفْنا في نصيب المفْقُود، وأخذنا في حقِّ محل واحدٍ من الحاضِرِينَ بالأسْوإِ، فمن يسقط منهم بالمفقود لا يُعْطَى شيئاً إلى أن يتبيَّن حاله (¬1)، ومن ينقص ¬
حقُّه بحياته، يُقَدَّر في حقه حياتُهُ، ومن ينقص حقُّه بموته، يُقدَّر في حقِّه موتُهُ، ومن لا يختلفُ نصيبه بحياته وموته، أُعْطِيَ نصيبَهُ. ونوضِّح ذلك بالمثال: زوْجٌ مفقودٌ وأختانِ لأبٍ وعمٌّ حاضِرْونَ [فإن كان حيّاً، فللأختين أربعةٌ من سبعةٍ، ولا شيء للعَمِّ، وإن كان ميتاً] (¬1) فلهما اثنانِ منْ ثلاثةٍ، والباقي للعمِّ، فيقدَّر من حقِّهم حياته. أخٌ لأبٍ مفقود، وأخٌ مِنَ الأبوَيْنِ، وجَدٌّ حاضرٌ: فإنْ كان حيّاً، حصَل للأخ من الأبوين الثلثانِ، وللجَدِّ الثلثُ، وإن كان ميِّتاً، فالمال بينهما، بالسويَّةِ، فيقدَّر في حق الجدِّ حياتُه، وفي حقِّ الأخ موتُهُ، حتى لا يأخُذَ إلاَّ النصف أخٌ من الأبوين مفقودٌ وأختانِ من الأبويْنِ، وزَوْجٌ حاضِرُونَ، إن كان حياً، فللزوج النَّصْفُ، له والباقي بينهم؛ فيحصل للأختينِ ربُعُ المال. وإن كان ميِّتاً، حصَلَ للزَّوْج ثلاثةٌ من سبعة، وللأختَيْنِ أربعة من سبعةٍ، فيقدَّر في حقِّ الزوْجِ موْتُه حتَّى لا يأخذ إلاَّ ثلاثةً من سبعة، وفي حقِّ الأختَيْنِ حياتُهُ، حتى لا يصرف إليهما إلاَّ قدْرُ الربع. ابنٌ مفقودٌ وبنْتٌ، وزوجٌ حاضران: للزوْجِ الربعُ بكلِّ حالٍ، فيسلَّم إليه. هذا ظاهرُ المَذْهَبِ في المسْألة، ووراءه وجْهان: أحدهما: أنا نقدِّر موْتَهُ في حقِّ الكلِّ؛ لأنَّ استحقاقَ الحاضِرِينَ معْلومٌ، واستحقاقه مشكوكٌ فيه، فإنْ ظهر خلافُهُ، غَيَّرْنَا الحكم. والثاني: أنَّا نقدِّر حياته في حق الكلِّ، لأنَّ الأصل بقاءُ حياتِهِ، فإنْ ظهر خلافُهُ، غيَّرنا الحكْمَ. وقوله في الكتاب: "وأخذنا من حق كلِّ واحدٍ من الحاضِرِينَ بِأَضَرِّ الأحوال؛ فمن كان ينقص حقُّه بموته" إلى آخره كافٍ مُغْذٍ بين ذلك، والله أعْلَم. قال الغَزَالِيُّ: أَمَّا الإِشْكَالُ فِي النَّسَبِ فَهْوَ الَّذِي يَفْتَقِرُ إِلَى عَرْضِهِ (ح) عَلَى القَائِفِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ المَفْقُودِ. ¬
القول في الشك في النسب
" القول في الشك في النسب" قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا أشكلَ نَسَبُ المولدِ بأنْ وطئَ اثنانِ فَصَاعداً امرأةً بالشبهةِ، فأتَتْ بولَدٍ، يمكنُ أنْ يكون منْ هذا، ومِنْ هذا، أو تداعى اثنانِ فصاعداً مجْهُولاً، فسيأْتِي في موضعه -إن شاء الله تعالى- أنَّه لا يُلْحَقُ بهما جميعاً، بل يعرض على القَائِفِ، فلو مات في زمان الإِشكال، وقَفْنا ميراث الأب، وإنْ مات أحدُهُما، توقَّفْنا في مِيرَاثِ المولود منه، ونأخذ في نَصِيبِ كُلِّ مَنْ يرثُ معه، لو ثبت نسبَهُ بالأَسْوَإِ، كما مَرَّ في توريث المفقود. ويجُوزُ إعْلامُ المسألةِ بالحاء؛ لأنَّ عند أبي حنيفةَ لا حُكْم للقائف، ولا إشكال في النَّسَب، بل يلحق بالاثنَيْن فصاعداً، ويرث كلَّ واحد منهما ميراثَ ابْنٍ كاملٍ، ويرثان منه ميراثَ ابنٍ واحدٍ، لو مات قبلهما. فإنْ ماتَ أحَدُهما، ثم مات المولُودُ، ورِثَ الأخيرُ منْه ميراثَ أبٍ كاملٍ، قال: ولو أقام اثنانِ البيِّنَة، كلُّ واحدٍ علَى أنه ابنُهُ مِنِ امرأته، وكان ابناً للرجلَيْن والمرأتَيْن، والتوارُث بينه وبين المرأتَيْن كهُوَ بيْنَةُ وبين الرجلَيْن، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: أَمَّا الاِشْكَالُ فِي الذُّكُورَة وَالوُجُودِ جَمِيعاً فَبِأَنْ يُخَلِّفَ المَيِّتُ زَوْجَةً حَبْلَى فَنَأْخُذُ بِأَضَرِّ الأَحْوَالِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الوَرَثَةِ، وَأَقْصَى المُحْتَمَلِ (و) مِنْ حَيْثُ العَدَدُ أن يُقَدَّرُ أَرْبَعَةُ أَوْلاَدٍ. " ميراث الحمل" قَالَ الرَّافِعِيُّ: والمقصودُ بيانُ ميراثِ الحمْل؛ ونعني به كلَّ حمل، لو كان منفصلاً، لَوَرِثَ منه إمَّا مطلقاً أو عَلَى تقْدِير. وهذا الحمْلُ قد يكُونُ منَ الميِّت، ويرث لا محالَةَ، وقد يكُونُ مِنْ غيره، كما لو كانتْ أُمُّه حاملاً منْ غير أبيه أو مِنْ أبِيهِ، والأبُ ميِّت أو محجوبٌ برقِّ وما في معناه، وكذا زوْجَة ابنه أو أخيهِ أوِ جَدِّه، والحملُ من غيره قد لاَ يَرِثُ إلاَّ علَى تقدير الذُّكُورة كَحَمْلِ امْرأةِ الأخِ والجَدِّ، وقد لا يرثُ إلاَّ علَى تقدير الأنوثة؛ كما إذا مات عَنْ زوجٍ وأختٍ من الأبَوَيْنِ وحمل من الأب، وفيه فصلان: الفَصْلُ الأَوَّلُ: فيما بعد الانفصال، وإنَّما يرث بشَرْطَيْنِ: أحَدُهُمَا: أن يعلم وجوده عنْد المَوْتِ، فإذا كان الحَمْل منْه، وانْفَصَلَ لما بين موته وبَيْن أكثر مدة الحمل، ورث لثُبُوتِ نسبه، إن انفصلَ لِمَا بعْدَ ذلك، لم يَرِثْ، وإن
كان منْ غيره، نُظِرَ: إن لم يكنْ لها زوْجٌ يَطَؤُها (¬1)، فالحكْمُ كما لو كان الحَمْلُ منه، ولم يذْكُرُوا ههنا الوجْهَيْنِ فيما إذا أوصَى لحملِ امرأةِ، وانفصل الولَدُ لستَّةِ أشهرٍ فأكثر، وليسَتْ هي ذاتَ زوْجٍ أنه، هلْ يستحق؟ وسببه أنَّ النسبِ ثابت، والميراث يتبع النسب، والوصيَّة بخلافه، وإن كان لها زوْجٌ يَطَؤُهَا، فإنِ انفصَلَ قبْل تمامِ ستَّةٍ أشهرٍ من وقت الموت، فقد عُلِمَ وجوده، حينئذ، وإن انفصَلَ لستةِ أشْهُرٍ فأكثر، لم يرثْ؛ لاحتمال أنَّ العلوق حصَلَ بعْده، إلاَّ أن يعترف سائر الورثة بوجودِهِ عنْد الموت. وإذا ماتَ حُرٌّ عن أبٍ رقيقٍ تحته حرَّةٌ حاملٌ، فإن ولدَتْ قبل ستة أشهرٍ مِنْ يوْمِ الموْتِ، ورث المولودُ من أخيه، والأب الرقيقُ لا يَحْجُبُ. وإنْ ولدَتْ لستةِ أشْهر فصاعداً، لاحتمال حُدُوث العُلُوق بعْد الموت إلاَّ إذا تطابَقُوا علَى وجوده يومَئِذٍ، وينبَغِي أنْ يمسك الأَبُ عن الوطءِ حتَّى يظهر الحال. قال الإِمَامُ: ولا نقُولُ بتحْريمه. والثاني: أن ينفصل حيّاً، فإنِ انفصَلَ ميتاً، فكأن لا حَمْلَ، سواءٌ كان يتحرَّك في البطْن أو لا يتحرَّك، وسواءٌ انفصَلَ ميتاً بِنَفْسِهِ (¬2) أو بجناية جانٍ. وإنْ كانَتِ الجنايةُ توجِبُ الغرَّةَ، وتصرف الغرة إلَى ورثة الجنينِ, لأن إِيجاب الغرة لا يتعيَّن له تقدير الحيَاةِ؛ ألا ترَى إلَى قولِ الأصحابِ أنَّ الغرَّةَ إِنَّما وجبَتْ لدَفْعِ الجاني الحياةَ مع تَهَيُّؤِ الجنينِ لها، وبتقديرِ أنْ يكون وجُوبَ الغرة علَى تقدير الحياة، فالحياة مقدرةٌ في حقِّ الجاني خاصَّةً، فتقدر في توريث الغرة خاصَّةً، وإنما تشترط الحياةُ عنْد تمامِ الانفصال. فلو خرج بعْضُه حيّاً، ومات قبل تمام الانفصال، فهو كما لو خَرَج ميتاً، وكذا في سائر الأحكام، حتَّى لو ضرب ضارَبٌ بطْنَها بعْد خروجِ بعْضِهِ، وانفصل ميتاً، فالواجبُ الغُرَّة دون الدِّيَة، هذا ظاهرُ المَذْهَب، وعن القَفَّال وغيره: أنَّه إذا خَرَج بعْضُه حياً، وَرِث؛ وإنْ كان عند الانفصالِ مَيِّتاً، وبه قال أبو خَلَفٍ الطَّبَرِيُّ. وعند أبي حنيفة أنه إذا خَرَج أكْثَرُه حَيّاً، ثم مات، وَرِث، ولو ماتَ عَقِيبَ انفصالِهِ حيّاً بحياةٍ مستقرَّةٍ، فنصيبُهُ لورثَتِهِ، وتعلم الحياةُ المستقرَّة بصراحة، وهو الاستهلاَلُ، وكذلك بالبكاءُ والعُطَاس والتَّثَاؤُبِ وامتصاصِ الثَّدْيِ؛ لدلالتها علَى الحياةِ ¬
دَلاَلَةَ الاستهلال وقال مالكٌ: الاعتبارُ بالاستهلاَلِ لا غَيْرُ وحكى الإمامُ اختلافَ قول في الحركَةِ والاختلاج، ثم قال: وليْسَ موْضع القولَيْنِ ما إذا اقبض اليد وبَسَطَها، فإنَّ هذه الحركةَ تَدُلُّ على الحياة قَطْعاً، ولا الاختلاج الذي يقع مثلُه؛ لاِنْضِغَاط وتقلُّصٍ، عصب فيما أَظُنُّ (¬1)، وإنما الاختلاف فيما بيْن هاتَيْن الحركَتَيْنِ، والظاهرُ كيف ما قُدِّرَ الخلافُ أن ما لا تعلم به الحياةُ، [و] يمكن أن يكون مثلُهُ لانتشار، بسبب الخروجِ من المَضِيقِ، أو لاستواء عن التواء فلا عبرة به كما لا عبرة بحركة المذبوح. ولو ذُبح رجُلٌ، وهو يتحرَّك، فمات أبُوهُ في تلْك السَّاعة، لم يرثِ المذبُوحُ منه. وفي "تجربة" الرُّويَانِيَّ وجه آخر ضعيفٌ، أنَّه يرث، وحكَى الحناطيُّ قريباً منه عن المُزَنِيِّ (¬2). الفَصْلُ الثَّاني: فيما قبل الانْفِصَالِ، ومهما ظهرت مخايلُ الحَمْل، فلا بُدَّ من التوقُّف -كما سنفصله- وإنْ لم تظهر مخايلُهُ، وادعت المرأةُ، ووصفت علاماتٍ خفيَّةً، ففيه تردُّد للإمام. والظاهر الاعتمادُ علَى قوْلِهَا (¬3)، وطرد التَّرَدُّد فيما إذا لم تدَّعه، لكنها قريبةُ العَهد بالوطء، واحتمالُ الحَمْلِ قريبٌ. إذا عرف ذلك، فإن لم يكُنْ للميِّتِ وارِثٌ سوى الحَمْل المرتَقَبِ، وقفنا المَالَ إلى أن ينْفَصِلَ. وإن كان له وارثٌ آخَرُ، فَعَنْ أبي حنيفةَ ومَالِكِ، أنه يوقَفُ أيضاً، ولا يُصْرَفُ شيْءٌ منْه في الحالِ إلَى سائر الورثةِ. ¬
قال في "الإبانة" وبه قال بعض أصحابنا وحكاه الشيخ أبو خلف الطَّبَرِيُّ قولاً عن رواية الرَّبِيعِ. والظاهر من مذْهَبِنَا ومذْهَبِ أبي حنيفة: أنَّه لا يوقَفُ الجميع، ولكن يُنْظَر في الظَّاهِرين من الورثة فيمن يحجبه الحمل، إذا انفصل حَيّاً؛ إِما مطلقاً؛ كأولاد الأمِّ، إذا كان الحَمْلُ من الميِّت أو على بَعْضِ التقديرات؛ كأولاد الأبِ والأُمِّ لا يُدْفَعُ إلَيْه شيْءٌ، ومن لا يَحْجُبُهُ الحَمْل، وله مقدَّر لا ينقص منه، دُفِعَ إلَيْه، فإن أمكن العول دُفِعَ إلَيْه ذلك القَدْر عائلاً. مثالُهُ: زوْجَةٌ حامِلٌ وأبوانِ، يُدْفَعُ إلى الزَّوْجة ثُمُنٌ عائل، وإلى الأبوَيْنِ سدُسَانِ عائلاَنِ؛ لاحتمالِ أنْ يكُونَ الحَمْلُ بنْتَيْنِ، فإن لم يكُنْ له نصيبٌ مقدَّرٌ؛ كالأولاد، فهل يُصْرَفُ إليهم شَيْءٌ؟ يبنَى علَى أنَّه، هَلْ لِأَقْصَى عددِ الحَمْلِ ضبْطٌ؟ والأصحابُ فيه مختلفُونَ؛ فعن شَيْخَي المَذْهَبِ أبِي حَامِدٍ والقَفَّال: أنه لا ضَبْطَ لذلك، وبه قال أصحابُنَا العراقيُّون والصَّيْدَلاَنِيُّ والقاضي حُسَيْنٌ؛ لأن الشافعيَّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: أخبرني شيخ باليَمَنِ أنَّه وُلِدَ له خمْسَةُ أولادِ في بَطْنٍ واحدٍ. وعن ابن المِرْزُبَانِ أن امرأةً بالأنبار أَلْقَتْ كيساً، فيه اثْنَا عَشَرَ ولداً، وذكر صاحب "التهذيب" أن هذا أصَحُّ. وقال آخَرُونَ: أقصى الحمْل أربعةٌ، وهذا ما أوردَهُ صاحب الكتاب والقاضي ابن كَجٍّ، وجعله الفرضيون قياسَ قَوْل الشافعيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وأَرَادُوا به أنَّ الشافِعِيَّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يتبع في مثْل ذَلِكَ الوُجُودِ، وأكثر العدد الذي وُجدَ أربعةٌ. لكن هذا يشكل بما نقله الأَوَّلُون. وروى عبْدُ الله بْنُ المبَارَكِ عن أبي حَنِيْفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مثْلَ الوَجْهِ الثاني. فلو قلْنا بالأَوَّل: فلو خلَّف ابْناً وأمَّ وَلَدٍ حاملاً، لم يُصْرَفُ إلى الابْنِ شيْءٌ، ولو خلَّف ابْناً وزوجةً حاملاً، فلها الثمُنُ، ولا يُدْفَعُ إلى الابْنِ شيْءٌ، وعلى الثاني له الخُمُسُ أو خُمُس الباقي على تقدير أنَّهم أربعةٌ ذكورٌ. وعلى هذا؛ فهل يُمَكَّنُ الذين صرف إليهم حصَّتهم مِنَ التصرُّف فيها؟ عن القفَّال: أنهم لا يُمَكَّنُون منْه؛ لأنَّه قد يَهْلِكُ الموقوف للحَمْل، فيحتاج إلى استِرْدَادِ، والحاكمُ، وإن كان يَلي أمْرَ الأطْفَال، لكنه لا يَلِي أمْرَ الأجنَّة، فلا يمكن حمْل ما جَرَى على القسمة. والظاهرُ التمكن، ولَو مُنِعُوا من التصرُّف، لما دفع إليهم. ثم الموقوفُ للحَمْلِ على الوجْهِ الثَّاني، قدْ يكُونُ بتَقْدِير الذُّكُورة أكثر كما إِذا خلَّف ابْناً وحَمْلاً.
فرعان
وقد يكُونُ بتَقْدِيرِ الأنونة أكْثَرَ كما لو خَلَّفت زوجاً وأُمّاً حامِلاً من أبيها، فإنْ كان الحَمْلُ ذَكَراً أو ذُكُوراً، فإنما يحصل لهم سدس المال أو ثلثه، وإن كان اثنين فتعول المسألةُ، ويكون لهما أربعةٌ من ثمانيةٍ، فيقف أربعة من ثمانية، ويدفع إلى الأُمِّ سهْماً، وإلى الزوج ثلاثةً، فنأخذ بأَضَرِّ الاحتمالات في كلِّ صورةٍ علَى ما ذكَرَهُ في الكتاب. وقوله: "وأقصى الحَمْل منْ حيْثُ العدد" مُعْلَمٌ بالواو؛ لما بيناه، وبالألف؛ لأن عند أحمد -رحمه الله- الأقصى اثنان. فرعان: الأوَّلُ: ماتَ الكافرُ عنِ امرأةٍ حاملٍ، ووقَفْنا الميراث للحمل، فأسلَمَتْ، ثم ولَدَتْ، ورِثَ الولدُ، وإن كان مَحْكوماً بإسْلاَمه, لأنه كان مَحْكُوماً بكُفْره يوْمَ المَوْتِ. الثاني: ماتَ عَنِ ابنٍ وزوجةٍ حاملٍ، فولَدَتِ ابناً وبنْتاً، فاستهلَّ أحدُهُمَا، ووُجِدا ميِّتَيْنِ، ولم يدر المستهِلَّ أيُّهما، يعطي كلّ وارث أقلّ ما يصيبَه، ويوقَفُ الباقِي، حتَّى يصطلحوا أو تقوم بينة. وهذا الفَرْعُ ونظائرُهُ يُعْرَفُ بـ"مسائل الاستهلالِ" ولها حسَابٌ دقيق، نورده في فصول الحِسَابِ، إن شَاءَ الله تعالَى. قال الغَزَالِيُّ: وَكذَلِكَ لَوْ خَلَّفَ وَلَداً خُنْثَى فَنَأْخُذُ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ البَاقِينَ (ح و) بِأَسْوَإِ الاحْتِمَالاَتِ أَخْذاً بِالمُسْتَيْقَنِ وَتَوَقفاً فِي مَحَلِّ الشَّكِّ. " القول في ميراث الخنثى" قَالَ الرَّافِعِيُّ: الخُنْثَي: هُو الَّذِي لَهُ ذَكَرٌ وفَرْجٌ، أو لَيْسَ لَه واحدٌ منهما، وَلَه ثُقْبَةٌ يَبُولُ مِنْها، وَقَدْ مَرَّ فِي "كِتَابِ الطَّهَارَةِ" الطُّرقُ الَّتي تُعْرَفُ بِها ذُكورتُه وأُنُوثَتُهُ. وإِذَا ماتَ مدَّةِ الإشْكالِ مورِّثٌ لَهُ، فَيُنْظَرُ: إنْ لَمْ يَخْتَلِفْ ميراثُه بذكورَتِهِ وأُنوثَتِه؛ كأَولادِ الأمِّ، والمُعْتَقِ، وَرِثَ ولا إشْكالَ. وإن اخْتَلَفَ؛ فَيوخَذُ في حَقِّ الخُنْثَى، ومَنْ مَعَهُ مِنَ الوَرَثَةِ باليقينِ، وَيُوقَفُ المشْكُوكُ فيه، فَإِنْ كَانَ يرِثُ علَى أحدِ تَقْدِيرِي الذُّكُورَةِ، والأُنُوثَةِ دونَ الآخَرِ، لم يُدْفَعْ إلَيْه شَيْءٌ، وَوَقَفَ ما يرِثُه علَى ذلك التَّقْدِيرِ، وكذَلِك فيمنْ يرِثُ مَعَهُ علَى أحدِ التَّقْدِيرَيْن دونَ الآخَرِ، وإنْ كانَ يرثُ علَى التَّقْديرَيْنِ، لكنَّه يرِثُ علَى أحَدِ التَّقديرَيْنِ أقَلَّ، دُفِعَ إليه الأقلُّ، ووُقِفَ البَاقي، وكذلك في حقِّ من يرث معه علَى التقديرَيْنِ، ويختلف قَدْرُ ما يأخُذُهُ، وإن كان مَنْ مَعَه، يرث على التقديرَيْنِ، ولا يختلفُ ما يأْخُذُهُ، دفع إليه حَقُّه. وقال أبُو حنيفةَ: يُؤخَذُ في حقِّ الخُنثى باليَقينِ، ولكنْ لا يُوقَفُ البَاقِي، بل يُعْرَفُ إلَى سائرِ الورثةِ, لأنَّ سَبَبَ استحقاقِهِمْ ثابتٌ، فَلاَ يُحْجَبُون بإشكالِ حالِ الخُنْثَى، وبهِ
[أمثلة توضح مسائل الخنثى]
قَالَ بعضُ أصحابِنا، فيما رَوَاهُ الأستاذُ أبو منصورٍ (¬1)، ورَأَيْتُ ابْنَ اللَّبَّانِ نَسَبَه إلَى تخريجِ ابنِ سُرَيْجٍ، وحكَى وجهَيْنِ في أنَّه، هَلْ يُؤْخَذُ من سائرِ الوَرَثَةِ ضمينٌ. وعنْ مالكٍ، وبعضِ أصْحابِهِ: أنَّه يُؤْخَذُ بذكُورَةِ الخُنْثَى. وقالَ أحمدُ: له نِصفُ نَصيبِ الذَّكَرِ، ونصْفُ نَصيبِ الأُنْثَى. لَنَا: أنَّه أَشْكَلَ أمره فَيُوقَفُ ما تَردد فيه، كالمفقودِ، ويجوزُ أنْ يُعْلَم؛ لِمَا ذكَرْنا قولُه: " [فَنَأْخُذُ] في حَقِّه" بالميمِ والأَلِفِ، وقولُه: "في حقِّ الحاضرين" بالحاءِ والواوِ. وكانَ ينبغِي أنْ يقول بدلَ "الحاضرين" الواضحين، أو الباقين، وهُوَ المرادُ، فكأنَّ اللِّسَانَ، أو القَلَمَ سَبَقَ إلَى ذكْر الحاضرِينَ؛ لِمَا مرَّ في المفقود. [أمثلة توضح مسائل الخنثى] ولا بُدَّ من إيضَاحِ الفَصْلِ بالأمْثِلةِ: بنْتَانِ وولدُ ابْنٍ خُنْثَى وَأَخٌ للبنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، ويُوقَفُ البَاقِي. وَلَدٌ خُنْثَى، وأخٌ أو عَمٌّ: للخُنثَى النصفُ، وُيوقَفُ البَاقِي، ولا يُدْفَعُ إلى الأخِ والعمِّ شيْءٌ. ولدُ خنثَى وابْنُ: يُدْفَعُ إلى الخُنْثَى الثلثُ، وإلى الابْنِ النِّصْفُ، وُيوقَفُ الباقِي بينهما. وَلَدٌ خُنْثَى وابنانِ: يُدفَعُ إلى الخُنثَى الخُمُسُ، والابنان الثُّلثانِ (¬2). ولدٌ خنثى وبنتُ وعمٍّ: يدفعُ إلى الوَلَدَيْنِ الثُّلُثَانِ بالسويَّة وُيوقَفُ الباقِي بين الخُنْثَى والْعَمِّ. ¬
زَوْجٌ، وَأَبٌ، وولدٌ وخُنْثَى: للزَّوْجِ الرُّبُعُ، وللأَبِ السُّدُسُ، وللخُنْثَى النِّصْفُ، وُيوقَفُ الباقِي بيْن الأَبِ والخُنْثَى. زوجٌ، وأمٌّ, وولدُ أَبٍ خُنثَى: للزَّوْج النصفُ عائِلاً؛ لأنَّ علَى تَقْديرِ الأُنُوثَةِ تَعولُ المسالةُ إلى ثَمَانِيةٍ، فللأم الثلثُ عَائِلاً، ويُدْفَعُ إلى الخُنْثَى السُّدُسُ التَّامُّ مِنَ المَالِ. وإذَا اجتمعَ وَلَدَانٍ خُنْثَيَانِ، فَلَهُمَا الثُّلثَانِ، وُيوقَفُ البَاقِي. ثلاثةُ أولادٍ خَنَاثَى وعمٌّ: لِكُلِّ واحدٍ مِنْهم خُمُسُ المالِ، لاحتمالِ أنَّه أُنْثَى، والآخرانِ ذَكَرَانِ وُيوقَفُ البَاقِي إلَى تَمامِ الثُّلُثَيْنِ بَيْنَهم، وباقي المالِ بينَهُمْ وبَيْنَ العَمِّ. ابْنُ وخُنْثِيَانِ: يُدْفَعُ إلى الابْنِ الثُّلُثُ، وإلَى كلِّ واحدٍ مِنْهُمَا الخمسُ، فتكونُ القِسْمَةُ من خمسةَ عَشَرَ، ويُوقَفُ سَهْمٌ ونِصفٌ بينَ الخُنْثَتَيْنِ، والبَاقِي بَيْنَهُمَا وبَيْنَ الابْنِ. ولدٌ خُنْثَى وولدُ ابنٍ خُنْثَى وعمٌّ: للولدِ النصْفُ، وَيُوقفُ السُّدُسُ بَينَهما والبَاقي بَيْنهما وبَيْنَ العمِّ. بنتٌ وبنتُ ابنٍ، وولدُ ابْنٍ خُنْثَى وعمٌّ: للبنتِ النَّصْفُ ولوَلَدَي الابنِ السدسُ بالسَّويَّةِ والبَاقِي بينهما وبيْنَ العمِّ. ثلاثةُ أولادِ [ابنِ] خناثى بعضُهُم أسفلُ مِن بعضٍ، وعمٌّ: للأَعْلَى النِّصْفُ، ويُوقَفُ السدسُ بينَه وبَيْنَ الأَوْسَطِ، والبَاقِي بينَ الكلِّ. ثمَّ أَتَى الإمَامُ [رحمه اللَّهُ] من ميراثِ الخُنْثَى بمباحَثَاتٍ مُفِيدَةٍ: إحداها: أنَّ المالَ الموقوفَ، إلَى متَى يُوقَفُ؟ فإِنْ لَم يكنْ له غايةٌ، أفْضَى إلى تَعْطِيلِه، وإبطالِ فائدتِه وأجابَ بأنَّه لا بدَّ من التوقُّفِ؛ ما دَامَ الخُنْثَى باقياً، والبيانُ مُتَوقَّعَاً، فإذَا ماتَ، فعنِ الأُسْتاذِ أبِي منصورٍ: أنَّ أبَا ثَوْرٍ حَكَى عنِ الشَّافِعيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قولاً أنَّه لا يُوقَفُ بعدَ ذَلك، بلْ يُرَدَّ إلى وَرَثَةِ الميَّتِ الأول، وشبهه بوجه ذُكِرَ فيما إذا أسلمَ الكافِرُ على أكثرَ من أربعِ نِسوةٍ، وماتَ قبلَ الاختيار: أنَّ الرَّبعَ أَوِ الثُّمُنَ يُقَسَّمُ بينَ جميعِهِن، ولا يُوقَفُ، والمشْهُورُ في الصورَتَيْنِ خلافُه. الثَّانيةُ: لو اصطلحَ الذين وُقِفَ المالُ بينهم على تساوٍ، أو تَفَاوتٍ (¬1) جازَ قال الإمامُ: ولا بدَّ أن يجريَ بينهم تواهبٌ، وإلاَّ، بقيَ المالُ على صُورَةِ التَّوقُّفِ، وهذَا التَّواهبُ لا يكونُ إلاَّ عنْ جهالةٍ، لكنَّها تَحْتَمَلُ للضَّرُورَةِ. ¬
ولو أخرجَ بعضُهم نفسه من البَيْنِ، وَوَهبَه لهم عَلَى جهلٍ بالحالِ (¬1) جازَ أيضاً. الثالثةُ: لو قَالَ الخُنثى في أثناءِ الأمْرِ: أنَا رجلٌ أو امرأةٌ، فالَّذي ذكرَه الإمامُ: أنَّه يُقْضَى بقولِه، ولا نَظَر إلى التُّهْمَةِ؛ فإنَّه لا اطلاعَ على الحال إلاَّ مِن جِهَتِه وهَذَا ما حكاه أبو الفَرَجِ السَّرْخَسِيُّ عن نِصِّهِ هاهُنَا قال: وَنصَّ فِيما إذا جُنِيَ عليهِ، واخْتَلَفَ الجَانِي والخُنْثى من ذكورَتِه، أنَّ القولَ قولُ الجانِي، فَمِنْهُمْ من نَقَل وخَرَّجَ، ومنهم من فَرق؛ بأنا عَرَفْنَا هُنَاك أصلاً ثابِتاً، وهُوَ بِراءَةُ ذمَّة الجَانِي، فلا نَرفَعُهُ بِقَولِه، وهَاهُنَا بِخِلافِه، وإذَا قَبلْنَا قوله؟ حلَّفْنَاهُ عَلَيه (¬2). هذا شرحُ ما ذَكَرَ فِي موانَعِ الإرْثِ، وَدَوَافِعِه، ومما عُدَّ منها، أنْ يلزمَ من التوريثِ نَفْيُه، فيصيرَ الدَّوْرُ مانعاً. مثالُه: بإقرارُ الأخُ بابْنٍ لأَخِيهِ الميِّتِ ثَبَتَ نَسَبَه ولا يرثُ، والمسألةُ بِما فِيها مِنَ الخلافِ، قَدْ مَرَّتْ في "بابِ الإقرارِ". ولَوْ أوْصَى بعبده لأبِي العَبْدِ، فماتَ الأَبُ قبلَ القَبولِ وقَبلها أخوه؛ يُعْتَقُ العبدُ ولا يرِثُ، وهِيَ مذكورةٌ في "كتابِ الوصيَّةِ" ومرةً أُخْرَى في أواخِر النِّكاحِ. ولو اشْتَرَى المريضُ أباهُ، عَتَقَ، ولم يرِثْ (¬3)، وَهِيَ مَذكورةٌ في النِّكاح أيضاً. ولو ادَّعى مدَّع نَسَباً على وَرَثَةِ ميِّتٍ، فانكَرُوا ونَكَلُوا عن اليمينِ حَلَفَ وَورِثَ معَهُمْ، إنْ لمْ يَحْجُبْهم، وإنْ حَجَبَهُم، فَوَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الأُستاذُ أبو منصورٍ: أصحُّهُما: أنَّه لا يرِثُ، وإلاَّ، بَطَلَ نُكُولُهُم ويمينُه، وبِهَذا، أجابَ الاستاذُ أبو إسْحَاقَ الإسْفَرَايِينِيُّ. ولو ملَكَ أخَاه ثمَّ أقرَّ في مرضِ موتِه، أنَّه كانَ قَدْ أعتَقَه في الصَّحَةِ، قال في "التَّهذيبِ": كانَ العتق نافذاً وهلْ يرثه؟ ¬
فصل
إنّ صحَحَّنَا الإقرارَ للوارثِ، وَرِثَه، وإلاَّ لم يرِثْه؟ لأنَّ تَوريثَه يوجبُ إبطالَ الإقرارِ بحرِّيتِه، وإذا بطَلَتِ الحريَّةُ؟ بطَلَ الإرثُ، فأثبتْنا الحريَّةَ، وأسقْطنَا الإرثَ، ذكرَه في الإقرارِ. " فَصْلٌ" ثمّ إنَّ صاحبَ الكتاب، اشتغلَ بعدَ في الفصْلِ المعقودِ في الحسابِ، ولمْ يأتِ فيه بما يُقنِعُ، بلْ أحالَ مُعظَمَ ما فيهِ على "الوسيطِ"، وأهْمَلَ أيضًا أبوابًا يُعْتَنَى بِها من الفَرائِضِ مِنها: بابٌ في تَوريثِ المُطَلَّقاتِ، وبابٌ في الردِّ، وبابٌ في ذَوِي الأَرْحَام، وبابٌ في المسائلِ المَلَقَّبَاتِ، وبابٌ في مسائلِ المعاياة، وبابٌ في النَّسَبِ، ونحنُ لا نَطِيبُ قَلْبًا بإخلاءِ هَذَا الشَّرْحِ عَنْها، لكنْ نؤخِّرُ توريثَ المطلَّقاتِ إلى كتابِ الطَّلاقِ، فإنَّ طرقًا منه مذكور في الكتابِ هناك وَنَتَكلَّمُ أولًا في الردِّ وذَوِي الأَرْحام، ليتمَّ القولُ في الفتاوَى والأحكام، ثمّ نشرع في الحسابِ فنشرح ما في الكتاب، ونَضُّمُّ إليه ما يقعُ الاكتِفاءُ به، ثمّ نَخْتُم بفصولٍ في المُلقّباتِ والمعاياةِ والنَّسَبِ وبالله التوفيق الكلامُ في الردّ وذَوِي الأرحامِ أصل المذهبِ فيهمَا، وما اختارَه الأصحابُ -رحمهم الله- لضرورة فسادِ بيتٍ المالِ قد ذكرنَاهما في أول الكتَابِ. وإذا قُلنا بالردّ، فحظِّ الفَتوَى منه، أنه إن لمْ يكنْ مِمَّن يُرَدُّ إليه من ذوِي الفروضِ إلاَّ صنفٌ واحدٌ، فإن كان شخصًا واحدًا، دُفِعَ إليهِ الفرضُ، والبَاقي بالردِّ وإن كانوا جماعةً، فالباقي بينَهُم بالسَّويَّة فإنِ اجتمعَ صِنْفانِ أو ثلاثةٌ، فالفاضلُ منَ الفروضِ يردُّ عليهم بقدِرِ سِهَامِهم. وأمّا الحساب والتصحيحُ عند الردِّ، فيأْتِيَ من فُصولِ الحسابِ. " القول في ميراث ذوي الأرحام" وأمّا توريثُ ذوي الأرحامِ، فالذاهِبُونَ منَّا إليهِ، اختَلَفُوا في كَيفِيَّتِهِ، فأخذَ بعضُهُم بمذهب أهلِ التَّنزيلِ (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهَذا الَّذي أوردَه القاضِي ابنُ كجٍّ، وصاحبُ "المهذب" والإمامُ -رحمهم اللهُ- ورجَّحوا هذا المذهبَ، بأنَّ القائلين بِه ممن يُوَرِّثُ ذَوِي الأرحام في الصَّحابَةِ -رَضِيَ الله عَنهُمْ- ومَنْ بَعْدَهُم أكثرُ.
ومنهم مَن أخَذَ بمذهب أهل القَرابةِ، وبه قَالَ أبو حنيفةَ، وهذا ما أوردَه صاحبُ "التَّهذيب" وأبو سعَد المُتَوَلِّي، وإنَّما سُمِّيَ الأولونَ أهْلَ التنزيلِ؛ لأنَّهم نَزَّلُوا كلَّ فرعٍ مَنزِلةَ أصلِهِ. وسُمِّيَ الآخرون أهلُ القرابةِ؛ لأنهم يُورِّثُونَ الأقربَ فالأقْربَ، كالعَصَباتِ (¬1). والمذهبانِ متَّفِقانِ على أنّ مَنِ انفردَ مِن ذَوِي الأرحامِ، يجوزُ جميعُ المالِ، وإنَّما يظهرُ الاختلافُ عندَ اجتماعِهم، ولا بُدَّ من ذكرِ المذهَبَينِ على اختصارٍ، لاختلافِ اختِيارِ الأصحاب، والوجهُ [بناؤهما] من كلِّ صِنْفٍ منهم عندَ الانفراد، ثُمَّ فيما إذا اجتمعَ منهُم صنفانِ فصَاعِدًا. أمَّا البيانُ الأوَّلُ مِنَ الأَصْنافِ؛ أولادُ البناتِ وبناتُ الابْنِ. أمَّا أهلُ التَّنزيلِ، فَيُنَزِّلُونَهم منزلةَ البناتِ وبناتِ الابْنِ، ويُقَدِّمُون منهم من سبَقَ إلى الوارِثِ، فإنِ استوَوْا في السَّبْقِ إلى الوارِثِ، قُدِّرَ كأنَّ الميِّتَ خَلَّفَ مَن يَدْلونَ بِهِ منَ الوَرَثَةِ، واحِدًا كانَ أو جَماعةً، ثمَّ يُجعَلُ نصيبُ كل واحدٍ منهم للمُدْلِينَ بهِ عَلَى حَسَبِ ميرَاثِهِم، لو كانَ هُوَ الميتَ. وقالَ أهلُ القَرابَةِ: إنِ اخْتلفتْ درجاتُهُم فالأقرَبُ إلى الميِّتِ أَولَى ذَكَرًا كانَ أَوْ أُنْثَى، فَنُقَدَّمُ بنتُ البنتِ علَى بنْتِ بنْتِ البنْتِ، وعلى ابْنِ بنتِ البنتِ، وإن لَمْ تَخْتَلِفْ، فإنْ كَانَ فيهِم مَن يُدلِي بوارِثٍ، فَهُو أَوْلَى، فَتُقَدَّم بنتُ بنتِ الابنِ علَى بِنْتِ بِنْتِ البِنْتِ؛ لأنَّها تُدْلِي بِوارِثَة هَذا إذا أَدْلَى بنفسه بالوارث. أمّا إذَا أدْلَى بواسطةٍ، كبِنْتِ بنتِ بنت الابْنِ، مع بِنْتِ بنْتِ بنت البنتِ. فلأصحاب أبِي حنيفَة، فيهِ اختلافٌ، والصحيحُ عندَهُم، أنه لا تَرْجِيحَ. وقضيةُ مَا أورَدَه أصحابُنا، الترجيحُ كَما لَوْ أدْلَى بِنَفْسِهِ، وإن استوَوْا في الإدْلاَءِ، وَرِثوا جَميعًا، وكَيفَ يَرِثُونَ؟ قَالَ أبو يوسفَ: والنَّظَرُ إلى أبْدانِهم دُونَ مَنْ يتوسطُ بينهم مِنَ الآباءِ والأمَّهاتِ؛ فإن كَانُوا ذُكُورًا، أو إِنَاثًا، سُوِّيَ بينهم، فإنِ اختَلفوا فللذَّكرِ مثلُ حظِّ الأُنْثَيَينِ. وقالَ محمَّد: يُنظَرُ من المتوسِّطِينَ بينَهُم، وبينَ الميِّت، مِن ذَوِي الأرحامِ، فإنِ اتَّفقُوا، ذكورَةً وأُنوثَةً، فالجَوابُ كذلِكَ، وإنِ اختَلَفُوا فإمّا أن يكونَ الاختلافُ في بطْنٍ واحدٍ أو أَكْثَرَ. ¬
فرع في أمثلة توضح الفرض
إنْ كانَ في بَطنٍ واحدٍ، قَسَّمْنَا المالَ بينَ أعلى بطون الاختلافِ وجَعَلْنَا كلَّ ذكَرٍ بعدِد أولادِه الذين يُقَسِّمُ ميراثُهُم ذُكورًا، وكُلُّ أُنثَى بِعَدَدٍ أولادِها الّذينَ يُقَسَّمُ ميراثُهم إناثًا، ويقسِّمُ المالُ بينَ الذُّكُورِ والإنَاث الحاصِلينَ من هَذا التَّقدِيرِ، {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}. ثُمَّ ما أصاب كل واحدٍ مِنَ الصَّنْفَينِ، يُقَسَّمُ عَلَى أولادِه؛ {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}. وإنْ كانَ الاختلافُ في أكثرَ من بطنٍ واحدٍ، قَسَّمنَا المالَ بَينَ أعلَى بطونِ الاختلافِ، كما ذَكَرْنَا، فَمَا أصابَ كلّ واحدٍ مِنَ الصِّنْفين، قُسِّمَ عَلَى أولاده الَّذين فيهِمْ الاختلافُ، على النّحْوِ المذكورِ في البطْنِ الأَوَّلِ. وهَكَذا يُفْعَلُ حتَّى تنتهيَ القِسْمَةُ إلى الأحياءِ. قَالَ الناقِلُونَ: كلُّ واحدٍ مِن أبى يوسفَ ومحمدٍ، يدَّعِي أنّ قولَه قولُ أبِي حنيفَة، والأكثرونَ صدَّقوا محمدًا، إلاَّ أنَّ مُتأخِّرِي أصحابِهم، يُفْتُونَ بقولِ أبِي يوسُفُ. وكذلِك ذَكَر صاحِبُ "التهذيب" والتَّتِمَّةِ، إنَّه أظهرَ الرِّوايتَينِ، والقولان متفقان على تفضِيل الذَّكَرِ على الأُنْثَى؛ عَنْدَ القِسمَةِ عليهم، وفي "التَّتِمَّة" وجهٌ آخرُ؛ أنَّه يسَوَّى بينَ الذَّكر والأُنْثَى، وهو اختيارُ الأُستاذ أبِي إِسحاقَ الإِسْفَرَايينيِّ، احتجاجًا بأنَّ الأصلَ في التَّوريثِ بالرَّحِمِ أولادُ الأمِّ، ولا فرقَ بينَ ذكورِهِم وإناثِهِم. ولْنَضْرِب أمثلةً تُوضِّحُ الغَرضَ: " فرع في أمثلة توضح الفرض" بنتُ بنتٍ، وبنتُ بنتِ ابنٍ: المُنَزِّلُونَ يجعلَون المالَ بينَهما أرْباعًا بالقَرض والردِّ، كما يكونُ بينَ البنتِ وبنتِ الابنِ. وأهلُ القَرابةِ يجعلونَ الكلَّ لبنْت البنْتِ؛ لقْربِها. بنتُ ابنِ بنتٍ، وبنتُ بنتِ ابنٍ؛ المالُ للثانيةِ بالاتِّفاقِ، أمَّا على التَّنزيلِ؛ فلأنَّ السَّبقَ إلى الوارثِ هُوَ المعتبرُ. وأمّا على المذهبِ الثَّانِي فلأنه المُعتَبَر عند استواء الدَّرَجَةِ. بنتُ بنتٍ، وابن وبنت من بنتٍ أُخْرَى: المنزِّلون يجعلونَ المالَ بينَ بِنْتَي الصُّلْب؛ تَقْدِيرًا بالفُرْضِ والردِّ، ثم يقولونُ: نصف البنتِ الأُولى لِبِنتِها، ونصف الأُخْرَى لولديها أثْلاَثًا. وأهل القَرابةِ يجعلونَ المالَ بينَ ثَلاثَتِهم {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، ومحمدٌ لا
يخالفُ في هذِه الصورةِ، إنّما يخالفُ فِيما إذا اختلفت الأُصولُ الذين هُم منْ ذَوِي الأَرْحامِ. ابنُ بنتٍ، وبنتُ بنتٍ أُخرَى وثلاثُ بناتٍ بنْتٍ أُخرَى: المنزِّلُونَ يَقُولُونَ: للابْنِ الثُّلُثُ، وللبِنتِ المُفرَدَة كَذَلِكَ، وللثَّلاَثِ الثُّلُثُ أثلاثًا. وأهلُ القَرابةِ يَجعَلُونَ المالَ بينهم {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}. بنتُ بنتِ بنتٍ، وبنتُ ابن بنتٍ: عندَ المنزِّلينَ وأبِي يُوسُفَ: المالُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ. وعند محمَّدٍ: ثُلثُ المالِ للأُولَى، وثُلُثَاه للثَّانيةِ، أنَّه يُقَسَّم بين بنتِ البنتِ وابنِ البنتِ كذلِكَ، فَتُجعَلُ حِصَّة كُلِّ واحدٍ لبنتِه. بنتا بنْتِ، وثلاثُ بناتِ ابْن بِنْتٍ أُخْرَى: عَنْدَ المنزِّلينَ: النصفُ للبِنْتَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ، والنِّصْفُ للثَّلاَثِ أثْلاَثًا. وعندَ أبي يُوسُفَ: المالُ بيْنَ الخَمْسِ بِالسَّوِيَّةِ. وعنْدَ محمَّدٍ: يُقَسَّمُ المالُ بيْنَ الذَّكَرِ والأُنْثَى المُتَوَسِّطَيْنِ، ويُقَدَّرُ الذَّكَرُ ثلاثة ذكورٍ بعَدَدِ فُرُوعِهِ، والأُنْثَى اثْنَتَيْنِ بعَدَدِ فروعها، فيكون عَلَى ثَمانية حصص الذَّكرُ ستَّةٌ، وهي لبناتِه بالسَّوِيَّة، وحِصَّةُ الأُنْثَى سهمانِ، هُمَا لبنتيها. بِنْتُ بِنْتِ بنْتٍ وبنتُ بنتُ ابنِ بنتٍ وابنُ ابْنِ ابْنِ بنتٍ: عند أبي يوسُف: المالُ بينهم على أربعةٍ، وقالَ محمدٌ -رحمه الله-: يُقسَّم المالُ أولًا بَيْنَ أعْلَى بَطْنَي، الاختلاف، وفيه ابنانِ وبنْتٌ، وكُلُّ واحدٍ منهم يُعَدُّ واحدًا: لأنَّ الفُروعَ آحادٌ، فيكونُ المالَ بَينَهُمْ على خمسةٍ: حصَّةُ البنتِ سهمٌ، هُوَ لبنتِ بنتِها، وحصَّةُ الذّكَرَيْنِ أربعة أسهم، يُقسَّمُ عَلَى ولدَيْهِما للاختلافِ، وَهُمَا: ابنٌ وبنتٌ عَلَى ثَلاثَةٍ وأربعةٍ، لا تنقسم عَلَى ثلاثةٍ، فتضربُ ثلاثةٌ في خمسةٍ، تكونُ خمسةَ عَشَرَ، كان للبنتِ، في القسمَةِ الأُولى سَهمًا، فَلَها الآنَ ثلاثةٌ، وكانَ لِكلِّ واحدٍ من الابْنَيْنِ سَهْمَانِ، فيكون الآنَ سِتَّةٌ، يُجْمَعُ بينَهُما؟ فيكونُ اثنَي عشر يقسم بينَ ولدَيهِمَا، {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}. فإذن لبنتِ بنته البنتِ ثلاثةٌ مِن خمسةَ عشرَ، وللأخرَى أربعةٌ من خمسةَ عَشَرَ، وللابنِ الثمانِيَةُ الباقيةُ. ومن الأصنافِ: بناتُ الإخوةِ، وبنو الإخوةِ للأمِّ وأولاد الأخَوَاتِ: فالمنزِّلُون يُنَزِّلُونَ كلَّ واحدٍ منهم منزلةَ أبيهِ أو أمِّهِ، ويرفعونَهم عندَ التسفل بطنًا بَطْنًا، فمَنْ سَبَقَ إلَى وارثٍ، قدَّمُوه، فإنَ استَوَوْا في الانتهاء إلى الوارث، قُسِّمَ المَالُ
بَيْنَ الأُصُولِ، فما أَصَابَ كُلَّ واحدٍ منْهم قُسِّمَ بَيْنَ فُرُوعِهِ. وقال أهلُ القرابةِ: إنِ اختلفوا في الدَّرَجَةِ، قُدِّم منهمُ الأقربُ إلى الميِّتِ من أيِّ جهةٍ كانَ حتَّى تُقَدَّمُ بنتُ الأُختِ للأب أو الأمِّ على بنتِ (¬1) ابْنِ الأخَ منَ الأبِ عَلَى بنْتٍ ابن الأُختِ من الأَبوَيْنِ، وإن لم يختلَفوا في الدَّرَجَةِ، فالأقربُ إلى الوارثِ أَوْلَى من أيِّ جهة كان، حتى تتقدَّم بنت [ابن] الأخِ من الأبِ عَلَى بنْتِ ابْنِ الأختِ من الأبوَيْنِ. فإنِ استَوَوْا فيه أيضًا، فعند أبِي حنيفَة وأبِي يُوسُفَ: يُقدَّمُ من كانَ من الأبوَيْنِ، ثُمَّ مَنْ كَانَ مِنَ الأَبِ، ثُمَّ منَ كان من الأُمِّ؛ رعايةً لقوَّةِ القرابةِ، ولا يُنظَرُ إلى الأُصولِ. ومَنْ يسقطُ منهم عنْدَ الاجتماعِ ومَن لا يَسْقُطُ. وعند محمدٍ: يُقدِّمُ من كَانَ مِنَ الأبوَينِ عَلَى مَنْ كَانَ مِنَ الأب، ولا يُقَدَّمُ منْ كانَ من جهةِ الأُمِّ؛ اعتبارًا بالأُصولِ، ثُمَّ أولادُ الإخْوَةِ والأَخَواتِ من الأُمِّ، يُسَوَّى بينهم في القِسمَةِ عندَ الجُمهورِ منَ المنزلين وأهْلِ القَرَابَةِ. قال الإِمامُ: وقياسُ قولِ المُنَزَّلِينَ تفضيلُ الذَّكَرِ علَى الأُنْثَى؛ لأنَّهم يُقَدِّرون أولادَ الوارثِ، كأنَّهم يرثونَ مِنْه، وأَمَّا أولادُهم من الأبَوَيْنِ ومن الأَبِ فيُفَضَّلُ ذكورُهم عَلَى إنَاثِهِم عندَ المنزِّلِينَ. وعِندَ أبِي حنيفةَ روايتانِ: أظهرُهما، وبه قَالَ أبوُ يوسُفَ: أنَّ الجَوابَ كَذَلِك. والثَّانِيَةُ: وبِها قَالَ محمدٌ: أنَّه يُقَسِّمُ المالُ بَينَ الأُصُولِ أوَّلًا وُيؤخذُ عَدَدُهُم من الفُرُوع، فما يصيب كلِّ واحدٍ منهم، يُجْعَلُ لفروعِهِ كما ذَكَرْنَا في أَوْلاَدِ البَناتِ. الأَمثلة: بنتُ أُختٍ، وابْنَا أُخْتٍ أُخْرَى، وهما من الأَبَوَيْنِ أَوْ مِنَ الأَبِ: عندَ المنزِّلِينَ: نِصْفُ المالِ للبِنْتِ والنِّصْفُ الآخَرُ لِلابْنَيْنِ، وأهْلُ القَرَابَةِ قَالُوا: المالُ بينهُم عَلَى خَمسَةٍ: ثلاثُ بَناتٍ إخوَةٍ متفرقين. قال المنزِّلُونَ ومحمَّدٌ: السُّدُسُ لبنْتِ الأخ من الأُم، والبَاقِي لبنتِ الأخ من الأبوَينِ؛ اعتِبَارًا بالآباءِ. وقالَ أبو حنيفةَ وأَبُو يُوسُفَ: الكُلُّ لبنتِ الأخ مِنَ الأبَوَيْنِ. ثلاثةُ بني أخواتٍ مُتَفَرْقَات: قال المنزِّلون ومحمَّدٌ: المالُ بَيْنهم عَلَى خَمْسَةِ كما يكُون بيْن أمَّهَاتِهم بالفرضِ والرَّدِّ. ¬
وقالَ أبو حنيفةُ وأَبُو يوسُفَ: الكلُّ لابْنِ الأُختِ مِنَ الأبَوَيْنِ، ولو كانَ بدَلَهُمْ ثلاثُ بنات أخوات متفرقات كان جوابَ الفريقَيْنِ كَذَلِكَ. ولو اجتمعَ البنونَ الثَّلاثةُ والبناتُ الثلاثُ: قال المنزِّلونَ: المالُ بينَ أُمَّهاتِهِمْ عَلَى خمسةٍ بالفَرْضِ والرَّدِّ: نصيبُ الأُخْتِ مِنَ الأَبَوَيْنِ لوِلدَيها أَثْلاَثًا، ونصيبُ الأخت من الأَبِ كذلِك، ونصيبُ الثَّالِثَةِ لولديها بالسَّوِيَّةِ. وقالَ أبو حنيفةَ وأبوُ يُوسُفُ: الكلُّ لولَدَيَ الأُخْتِ مِنَ الأبوَيْنِ. وقال محمَّدٌ: يُجْعَلُ كأَنَّ في المَسْأَلةِ ستَّ أخَواتٍ؛ اعتبارًا بعدَدِ الفُرُوع، فيكونُ للأُخْتِ مِنَ الأمِّ الثُّلُثُ، بتَقْدِيرِها أُخْتَيْنِ، وللأختِ مِنَ الأبُوَيْنِ الثُّلُثَانِ؛ بتقدِيرَها أُخْتَيْنِ، فَحِصَّةُ كلِّ واحدةٍ لِوَلدَيْهَا، هذِهِ بالتَّفْضِيلِ، وتِلْكَ بالسَّوِيَّةِ. قَالَ الإمامُ -رحمه الله تَعالَى- قَدْ نَظَرَ محمَّدٌ -رحمه الله تَعالَى- هاهنا إلى الأُصُولِ الوارِثينَ، وَفِي [أولادِ] البَنَاتِ، لَمْ يَنْظُرْ إلى الوَارِثينَ، وإنَّمَا نَظَر إلَى بُطُونِ الاخْتِلافِ مِنْ ذَوِي الأَرْحامِ كمَا تَقَدَّمَ. ابنُ أُخْتٍ مِنَ الأبُوَيْنِ وَبِنْتُ أَخٍ كَذَلِك: عند المنزِّلِينَ ومحمَّدٍ؛ الثُّلثانِ لبنْتِ الأَخِ، والثُّلُثِ لاِبْنِ الأُخْتِ. وقالَ [أبُو حنيفَة] وأبُو يوسف ومحمد بالعَكْسِ. ومِنَ الأَصْنافِ: الأَجدَادُ الفَاسِدُونَ، والجدَّاتُ الفَاسِدَات: المنزِّلُونَ يُنَزِّلُونَ كلَّ واحدٍ منهمْ مَنزِلَةَ وَلَدِهِ بَطْنًا بَطْنًا، ويُقَدِّمُون مِنْهُم مَنِ انْتَهَى إلى الوارِثِ أوَّلًا، فإنِ استويا في الانْتِهاءِ قُسِّمَ المالُ بينَ الوَرَثَةِ الَّذينَ انْتَهَوْا إِلَيْهِم وقُسِّمت حِصَّةُ كلِّ وارثٍ بينَ المُدْلِينَ بِهِ. وقالَ أهلُ القَرابَةِ: إِنِ اخْتَلَفَتْ دَرجَاتُهم، فالمالُ للأقْرَب مِنْ أيِّ جهةٍ كانَ حتَّى يتقدَّمَ أَبُ الأمِّ عَلَى أبِي أمِّ الأَب، وأمُّ أبِي الأمِّ عَلَى أبِي أبِي أبِي الأمِّ، وإنْ تَساوَوْا في الدَّرَجَةِ، فلا يُقَدَّمُ هاهنا بالسَّبْقِ إلى الوَارِثِ على المَشْهُورِ مِنْ مَذْهَب أبِي حنيفةَ ومِنْ أصْحَابِه مَنْ قَدَّمَ بِهِ، فإنْ لَمْ يُقَدَّم بِهِ أو قُدِّمَ، واسْتَوَوْا في السَّبْقِ إلىَ الوَارِثِ نُظِرَ: إنْ كانَ الكلُّ مِن جهةِ أبِي الميِّتِ، فروايةُ أبِي سُلَيمانَ الجَوْزَجانِيِّ -وَهُوَ الأظْهَرُ- أنَّه يُجْعَلُ ثُلُثَا المالِ لِمَن هُوَ من جهةِ أبِ الأَبِ، وثُلُثُه لِمَنْ هُوَ من جهةِ أُمِّ الأَبِ. وَعلى روايةِ عِيسَى بْنِ أَبانَ: المالُ كلُّه لمن هُوَ مِنْ جهةِ أبيه، وَيسقُطُ مَن هُوَ مِنْ جِهةِ الأُمِّ، وإنْ كانَ الكلُّ مِن جهةِ أمِّ الميِّت، اطَّردتِ الروايتانِ في أنَّه يَسقُطُ مَن هُوَ من قِبَلِ أمها، أو يُجعَلُ المالُ بينَ من [هوَ من قِبَلِ أبِيها]، ومَنْ هُوَ من قِبَلِ أمِّها أثْلاثًا؟ وإن
كانَ بعضُهم من جهةِ أبي الميِّتِ، وبعضُهُم من جِهةِ أمِّه، قُسِّم المالُ بينَ الجِهَتينِ أثْلاَثًا، وجُعِلَ كُلُّ قِسْم كأنَّه كلُّ الترَّكَةِ، وأَهلُ كُلِّ جهةٍ كأنَّهم كُلُّ الورثةِ، فتجيء فيهِ الروايتانِ، ثُمَّ قِسمَةُ الثُّلُثَينِ علَي مَنْ في جهَةِ الأَبِ، {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، وقسمةُ الثُّلثِ عَلَى مَن في جهةِ الأُمِّ كمثل كذَلِكَ أوردَه في "التَّهْذيب". الأَمْثِلَةُ: أُمُّ أبي الأُمِّ، وأبُو أُمِّ الأُمِّ: عندَ المنزِّلِينَ: المالُ لأبي أُمِّ أم الأم؟ لأنَّه أسبَقُ إلى الوَارِثِ، وعلَى رِوايةِ الجَوزَجانِيِّ: الثُّلثانِ لأُمِّ أَبِي الأُمِّ والثُّلُثُ لأبِي أُمِّ الأُمِّ. وعلَى روايةِ عِيسَى: الكلُّ لأمِّ أبِي الأمِّ. أبُ أمِّ أبٍ، وأبُو أبِي أُمٍّ: عندَ المُنزِّلِينَ: المالُ للأَوَّلِ، وعلى روايةِ عِيسَى: للثَّانِي. وعلَى رِوايةِ الجوزجانِيِّ: الثُّلُثانِ للثَّانِي، والثُّلثِ للأوَّلِ. أبُ أبِي أمٍّ، وأبي أمِّ أبٍ: قَالَ المنزِّلون: المالُ للثَّانِي، وكذلِكَ الجوابُ عنْدَ مَن رجَّحَ بالسَّبْقِ إلى الوارِثِ مِن أهلِ القَرابَةِ، وأمَّا علَى الظَّاهِرِ عِنْدَهُم، فالثُّلثانِ للثَّانِي، والثُّلثُ للأوَّلِ. أبُ أُمِّ الأمِّ، وأبُ أُمِّ الأَبِ: عِنْدَ المنزِّلين: المالُ بينَهُما نصفان، كَمَا يَكونُ بَيْنَ أمِّ الأمِّ، وأمِّ الأَب فَرْضًا وردًا. وعندَ أهل القَرَابَةِ: الثُّلثُ للأوَّلِ، والثُّلُثانِ للثَّاني. أبُ أبِي الأمِّ، وأمُّ أبِي الأُمِّ، وأبُ أُمِّ أُمِّ الأمِّ: عند المنزِّلين: المالُ للثَّالِثِ. وعلى رواية عِيسَى: للأوَّلين. وعلَى رِوايةِ الجَوْزَجَانِيِّ: الثلُثانِ بين الأوَّلين {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، والثُّلُثُ للثَّالِثِ. أبو أبِي أُمِّ أب، وأُمُّ أبِي أُمِّ الأَبِ، وأبو أبِي أَبِي الأمِّ، وأَمُّ أبِي أَبِي الأَمِّ. قَالَ المنزِّلُونَ: المالُ للأَوَّلَيْنِ. وقالَ أهلُ القَرابَةِ: الأَوَّلاَنِ من جهةِ الأَب، والآخَرانِ مِن جهةِ الأمِّ، فَيُجعَلُ المالُ أَثْلاَثًا بَيْنَ الجِهَتَيْنِ. ثُمَّ عَلَى روايةِ الجَوْزَجَانيِّ: الثُّلُثانِ بين الأَوَّلَيْنِ أَثْلاثًا، والثُّلُثُ بَيْنَ الآخرين. وعلَى روايةِ عِيسَى: الثُّلُثانِ للأوَّلِ مِنَ الأَوَّلَيْنِ، لِأَنَّهُ أبُو أبي أُمِّ الأَبِ، والثَّانِي أمُّه والثُّلثُ للأوَّلِ مِنْ الأَخِيرَيْن؟ لأنَّه أبو أبِ أبِ الأمِّ، والثَّانِي أمُّهُ (¬1). ومنَ الأَصْنافِ؛ الخالاَتُ والأَحْوالُ والعمَّاتُ والأعمامُ من الأُمِّ. ¬
نزّلَ المنزِّلونَ الأَخوالَ والخالاتِ منزلةَ الأُمِّ، وقَسَّمُّوا المالَ بينهم إِذا انْفَرَدُوا عَلَى حَسَبِ ما يأخُذُونَ من تَرِكَةِ الأُمِّ، لو كانَت هِيَ الميِّتَةَ. واختلفُوا في العمَّاتِ والعمِّ للأمِّ، منهُمْ مَن نزَّلَهُم مِنزلةَ الأبِ، وهُوَ الأظْهَرُ، ومِنْهم مَنْ نزَّلَهُمْ منزلةَ العمِّ؛ لمُوافَقَةِ الاسْمَيْنِ، وهؤلاءِ اختلفُوا: فَقَيل: العمَّاتُ مِنَ الجهاتِ منزَّلاتٌ منزلةَ العمِّ مِنَ الأبَوَيْن. وقيلَ: كُلُّ عمَّةٍ تُنَزَّلُ منزلَةَ العمِّ الَّذي هُوَ أخُوها، ثُمَّ مَنْ جَعَلَ العمَّاتِ بمِنزلةِ الأَب، أَوْ بمنْزِلَةِ العمِّ مِنَ الأَبوَيْنِ علَى افْتِراقِهم، قَالَ: إذَا انفرَدْنَ، قُسِّمَ المالُ بينَهُنَّ علَى حَسَبِ اسْتِحْقاقِهِنَّ، لو كانَ الأَبُ هُوَ الميِّتَ. ومن نزَّلَهُنَّ منزلةَ الأَعْمَامِ المتفرِقِين قَدَّمَ العمَّةِ مِنِ الأبوَيْنِ، ثمَّ العمَّةَ مِنَ الأبَ، ثُمَّ العمَّةَ منَ الأُمِّ، وإِذا اجتمعَتِ العمَّاتُ والخَالاَتُ والأخْوَالُ؛ فالثُّلُثَانِ للعمَّاتِ والثُّلُثُ للأخْوالِ والخَالاَتِ، وُيعْتَبَرُ في كُلِّ واحدٍ مِنَ النَّصِيبَيْنِ ما اعْتُبِرَ في جَمِيعِ المالِ، لو انفردَ أحد الصَّنْفَينِ. وأَمَّا أهلُ القرابةِ، فإنَّهُم قالُوا: إذا انفردَتِ الخالاَتُ، فإنْ كُنَّ مِنْ جِهَةٍ واحدةٍ، قُسِّمَ المالُ بَيْنَهُن بالسَّوِيَّةِ، وإنْ اختَلَفَتِ الجهةُ، فالخالةُ منَ الأبوَيْنِ مُقَدَّمَةٌ ثمَّ الحالةُ منَ الأَبِ، والأخْوَالُ المُنْفَرِدُونَ كالخَالاَتِ. وإذا اجْتَمَعَ الأخَوالُ والخالاتُ: فإنْ كانُوا من جِهَةٍ واحدةٍ، قُسِّمَ المالُ بينهم {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، وإنْ كانُوا من جِهَة الأمِّ، وإن اخْتَلَفَتِ الجهاتُ، فمَنْ اختصَّ بقَرابةِ الأبوَين أَوْلَى، ثمَّ مَنِ اخْتَصَّ بقرابةِ الأبِ. العمَّاتُ المنفرداتُ كالخَالاَتِ. وإذا اجتمعَ الأعمامُ مِن الأب (¬1) والعمَّاتُ من الأمِّ، فالمالُ بَيْنَهُنَّ {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}. وإذا اجتمعتِ العمَّاتُ والخالاتُ، فللعماتِ الثُّلثانِ، وللخالاتِ الثُّلُثُ، سواءٌ اتفقت جِهةُ العمَّاتِ والخالاتِ، أو اخْتَلَفَتْ علَى المَشْهُورِ عندهم وعن أبِي يُوسُفَ -رحمه الله- أنه إن اختلفَتِ الجهةُ، فالمالُ لِأقوَى الصِّنْفَيْنِ جهةً، ثمَّ إذا قُسِّمَ المَالُ أَثْلاَثًا اعْتُبِرَ في كلِّ واحدٍ مِنَ النصيبَيْنِ ما يُعْتَبَرُ من جميع المالِ عند انفرادِ الصِّنْفِ المصْرُوفِ إليهِم. الأَمْثِلَةُ: ¬
فرعان
ثَلاثُ خالاتٍ متفرقات: عندَ المنزِّلين: المالُ بينهمُ علَى خمسةٍ؛ كمَا لَوْ وَرِثْنَ مِنَ الأُمِّ. وعَنْدَ أهلِ القَرابَةِ: هُوَ للخالة منَ الأَبوَيْنِ، وبمثله أَجَابُوا في ثلاثةِ أخوالٍ مُتَفَرِّقين. والمنزِّلون قالوا: للخالِ منَ الأمِّ السُّدُسُ، والباقِي للخالِ منَ الأَبوَينِ [{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}]. ولو اجتمع الأخوال متفرقين. [فالمنزِّلون قالوا: للخَالِ منَ الأمِّ السُّدسُ، والبَاقِي للخالِ منَ الأَبَوَيْن] (¬1). ولو اجتمعَ الأخْوالُ المفترِقُون والخالاتُ والمُتَفرِقَاتُ: قَالَ أهلُ القَرابَةِ: المالُ كلُّه للخالِ والخالةِ مِنَ الأَبوَينِ، [{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}] (¬2). وقال المنزِّلُونَ: ثُلُثَا المالِ لهُما كذَلِك، وثُلُثُ المالِ للخَالِ والخَالةِ منَ الأُمِّ كذَلِكَ. قال الإمَامُ: وتفضِيلُ الخالِ منَ الأمِّ علَى الخالةِ منَ الأمِّ مُشْكِلٌ مخالِفٌ للتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذُّكُورِ والإنَاثِ من أولادِ الأخ للأم. ثلاثةُ أخوالٍ متفرقينَ، وثلاثُ عمَّاتٍ متفرقات عندَ المنزِّلِينَ: ثُلثُ المالِ بينَ الخالِ منَ الأبَوَيْنِ والخالِ منَ الأمِّ عَلَى ستَّةٍ، واحدٌ للثَّانِي، والباقِي للأوَّلِ، وقِسْمَةُ الثُلُثَينِ تخرَّجُ على الخلافِ في تَنْزِيلِ العَمَّاتِ. إنْ جُعِلْنَ كالأعْمَامِ، فالثَّلثانِ للعمَّةِ مِنَ الأبوَيْنِ، وإنْ نُزِّلْنَ منزلةَ الأَب، فالثُّلثانِ بَيْنَهُنَّ عَلَى خَمسةٍ، كما يَرَيْنَ منَ الأَبِ، وقالَ أهلُ القرابةِ: الثُّلَثانِ للعمَّةِ منَ الأَبوَيْنِ، والثُّلثُ للخَالِ من الأَبوَيْنِ. " فَرْعان" الأولُ: أحدُهُما: أولادُ الأخْوالِ والخالاتِ والأعمَامِ والعمَّاتِ من الأُمِّ. عندَ المنزِّلِينَ: بمنزلة آبائِهِم وأُمَّهاتِهِم عندَ الانْفِرَادِ والاجتماعِ، ومن تَسَفَّلْ منهُمْ، رُفِعَ بطْنًا بطْنًا، فإنْ سَبَقَ بعضُهُم إلَى وارِثٍ، قُدِّمَ، وإنِ استَوَوْا فيه، قُسِّمَ المالُ بينَ الَّذين يُدْلِي بِهِم هؤلاَءِ؛ عَلَى حَسَب استحقاقِهِم من المَيِّتِ، فما أصابَ كلَّ واحدٍ مِنْهُمْ يُقَسَّمُ بينَ المُدْلِينَ به عَلَى حَسَبِ استِحْقَاقِهم مِنْهُ كما لو كانَ هُوَ الميِّتَ. وقَالَ أهلُ القرَابَةِ: الأقربُ يُسْقِطُ ¬
الأَبْعَدَ بكلِّ حالٍ، فإِنِ استَوَوْا في الدَّرَجَةِ، نُظِرَ: إنِ انْفَرَدَ أولادُ الأخْوالِ والخَالاتِ: فإمَّا أن تَخْتلفَ الجهةُ، فَيُقَدَّمَ الَّذينَ هُمْ مِنَ الأَبوَيْنِ، ثمَّ الَّذينَ هُم مِنَ الأَبِ، ثُمَّ يأْخُذُ الَّذينَ هُمْ مِنَ الأُمِّ وإما لم يختلفَ، فَيرِثُون جَميعًا. ثمَّ النَّظَر عندَ أبي يوسُفُ إِلَى أبْدَانِهم، وعندَ محمدٍ إلَى وقوعِ الاخْتِلاَفِ في آبَائِهِم وأجدَادِهِمْ، علَى مَا سَبَقَ من أولادِ الأَخَوَاتِ وبناتِ الإخْوَةِ، وأولادُ العمَّاتِ عندَ الانْفِرادِ كأولادِ الخَالاَتِ والأَخْوَالِ. وإنِ اجتمَعَ الصِّنْفَانِ؛ فَثُلثَا المالِ لِأَوْلاَدِ العَمَّاتِ، وثُلُثُه لِأَوْلاَد الأَخْوَالِ والخَالاتِ، عَلَى ما ذكرْنَا في آبَائِهِم، وُيعْتَبَرُ في كلِّ واحدٍ مِنَ النَّصِيبَيْنِ ما يُعْتَبَرُ في جَميعِ المَالِ. وإذَا اجتمعَ مَعَ هَؤلاَءِ بناتُ الأعْمَامِ منَ الأَبوَيْنِ أو مِنَ الأَبِ ولمْ تختلفِ الدَّرَجَةُ فبناتُ الأعْمَامِ أَوْلَى لِسَبْقِهِنَّ إلى الوارثِ. الثَّاني: أخوالُ الأمّ وخالاَتُها: عندَ المنزِّلينَ: بمثابةِ الجَدَّةِ أُمِّ الأُمِّ، وأَعْمَامُهَا وعمَّاتُهَا بمثابةِ الجدِّ أبي الأمِّ، وأخوالُ الأَب وخالاتُهُ بِمَثَابَةِ الجَدَّةِ أُمِّ الأَبِ، وعمَّاتُهُ عنْدَ مَن نَزَّلَ عمَّةَ الميِّتِ مَنْزِلَةَ أبيه بمنزلة الجدِّ أبِي الأَبِ. وعندَ مَن نزَّلَ عمَّةَ الميِّتِ منزلةَ عَمِّهِ، بمَثَابَةِ عَمِّ الأَبِ، فَيُقَسَّمُ المَالُ بَيْنَهُمْ، ومَا أَصَابَ كُلَّ واحدٍ مِنهُم يُجعَلُ للمُدْلِينَ بِهِ علَى حَسَبِ ما يَسْتَحِقُّونَهُ، لو كان هُوَ الميِّتَ. وعلَى هَذا القِيَاس، يَجْعَلُونَ كُلَّ خالٍ وخَالَةٍ منزِلَة الجدَّةِ، الَّتِي هِيَ أخْتُهُمَا، وكلَّ عَمٍّ وعمَّةٍ بمنزلةِ الجِدِّ الَّذي هُوَ أَخُوهُمَا. وأمَّا أهلُ القَرابَةِ، فإنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ في أَخْوالٍ الأُمِّ وخالاَتِهَا، مَا اعتَبَرُوه في أَخْوَالِ الميِّتِ وخالاَتِه، وكذلِك في عمَّاتِها؛ إذا انفَرَدْنَ، وإنِ اجْتَمَعَ أعمَامُها وعمَّاتُها، فالمَالُ بَيْنَهُمْ، {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} على المشْهُورِ. وفيهِ روايةٌ أُخْرَى: أنَّهُمْ، إنْ كَانُوا مِنَ الأَبوَيْنِ أو مِنَ الأَبِ، قُدِّمَ الأَعْمَامُ. ولو اجتمَعَ أعمامُها وعمَّاتُها وأخْوَالُها وخالاتُها فالثُّلثُ للخَالاَتِ والأَخْوَال، والثُّلُثانِ للأعمامِ والعمَّاتِ، كَمَا في عُمُومَةِ الميِّتِ وخئولتة، وخؤولَةُ الأَبِ وعمُومَتُه، كخؤلَةِ الأُمِّ وعُمُومَتِها عندَ الانفرادِ والاجْتِمَاعِ. ولو اجْتَمَعَ قَرابَاتُ الأَبوَيْنِ، فَلِقَرابَةِ الأَب الثُّلُثانِ ولقَرابَةِ الأُمِّ الثُّلُثُ، ثُمَّ يُقَسَّمُ كلُّ نَصيبٍ بينَهُم؛ كَما يُقَسَّمُ جميعُ المالِ، لو انفردُوا فثلثا الثلثين لعمَّاتِ الأبِ، وثُلثه
لأَخْوالِه وخَالاَتِه، وكذَلِكَ الثُّلثُ، ولا فَرْقَ بينَ أنْ يكونَ قَرابَةُ الأَبِ مِن جِنْسِ قَرابةِ الأُم، أو لا يكُونَ، حتَّى لو خَلَّفَ عمَّ أمِّهِ وخالةَ أبيهِ، يكُونُ الثُّلثانِ للخَالةِ، والثُّلُثُ للعمِّ. ولَوْ خلَّفَ ثَلاثَ عمَّاتٍ مُتَفَرِّقاتِ، وثَلاثَ خَالًا متفرقات لِأبِيهِ، ومثلَهُنَّ لأُمِّهِ، فعلَى الصَّحيحِ -من قولِ أهل القَرَابَةِ-: ثُلثَا الثُّلُثَيْنِ لعمة الأبَ مِنَ الأبَوَيْنِ، وثُلثُهُما لخالةِ الأبَ منَ الأَبوَيْنِ، وَثُلُثُ الثَّلُثِ لِعَمَّةِ الأُمِّ مِنَ الأَبوَيْنِ، وثُلُثُهُ لخالَةِ الأُمِّ منَ الأَبوَيْنِ، وَيسقطُ البواقي. وعند المنزِّلينَ: نصْفُ سُدُسِ المالِ بَيْنَ خالاَتِ الأَب، ومثْلُهُ بينَ خالاتِ الأُمِّ؛ لنزولهنَّ منزلةَ الجدَّتين، والبَاقي لعمَّاتِ الأَب دونَ عمَّاتِ الأم؛ لأنَّ عمَّاتِ الأبَ كأب الأَبِ وعمَّات الأمِّ كأب الأمِّ. هَذا تَمَامُ البيانِ الأَوَّلِ، وَقَدْ ظَهَرَ بِهِ كيفِيَّةُ تَوْرِيثِ الأَصْنَافِ، ومَنْ يَتَقَدَّمُ ويتأخَّرُ مِنْ أَشْخَاصِ كُلِّ صِنْفٍ. البَيَانُ الثَّاني: في تَرتِيبِ الأَصْنَافِ: قَالَ المُنزَّلُونَ: كل واحدٍ منْ ذَوِي الأَرْحامِ يُنَزَّلُ منزلةَ الوارِثِ الَّذي يُدْلِي بِهِ، ثُمَّ يُنظرُ في الوَرَثَةِ لو قُدِّرَ اجتماعُهُم، فإن كانُوا يَرِثُونَ، وَرِثَ المُدْلُونَ بِهِم، وإنْ كَانَ يَحْجُبُ بعضُهُم بعضًا، جَرَى الحُكمُ كَذَلِكَ في ذَوِي الأَرْحَامِ. وقالَ أهلُ القَرابَةِ: ذَوُو الأَرْحامِ -وإنْ كَثرُوُا- يَرْجَعُونَ إلَى أربَعَةِ أَنْوَاعٍ. المنتمونَ إلى الميِّتِ، وهُمْ؛ أولادُ البنَاتِ، وبناتُ الابْنِ، والمُنْتَمِي إلَيْهِمُ الميِّتُ وَهُمُ: الأجدادُ والجدَّاتُ الفاسِدَاتُ، والمنتَمُونَ إلَى أَبَوَي الميِّتِ، وهُمْ أوْلاَدُ الأَخَواتِ وبَناتُ الإخوَةِ، والمُنْتَمُونَ إلى أجداده وجدَّاتِهِ، وَهُمُ: العُمُومَةُ والخؤولة. ومذهَبُهُم الظَّاهِرُ تَقديمُ النَّوعِ الأوَّلِ، ثُمَّ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِث، فَما دامَ يُوجَدُ أحدٌ من فرُوعِ الميِّتِ -وإنْ كَانَ من غايَةِ السَّفَلِ- فَلا شَيءٍ لِأُصُولِه مِن ذَوِي الأَرْحامِ، وإنْ قَرُبُوا. وعلَى هذا القِياسِ. وعن أبِي حَنِيْفَةَ روايةٌ أُخْرَى، وهِيَ تَقْدِيمُ النَّوعِ الثَّانِي على الأَوَّلِ. وقدَّمَ أبُو يوسُفَ ومحمدٌ النَّوعَ الثَّالثَ علَى الثَّانِي. واتَّفَقُوا عَلَى أنَّ مَنْ كَانَ مِنَ العُمومَةِ والخُؤولة، وأولاَدِهِم ومِن وَلَدِ جَدٍّ أو جَدَّةٍ [أقربَ إلَى الميِّتِ فَهِيَ أَوْلَى بالميراثِ، فإن بُعْدَ ممنْ هُوَ من ولدُ جَدٍّ أو جَدَّة] (¬1) أبْعدُ [مِنْهُ]. وإذَا اجْتَمَعَ الأَجْدَادُ والجدَّاتُ مِنْ ذَوِي الأَرْحَامِ معَ الخَالاَتِ والأَخْوَالِ والعمَّاتِ، ¬
فرعان
فعَلَى أصْلِ أبِي حَنيفَةَ: تُقَدَّمُ الجدودة، وعندَ صاحِبَيْهِ: إنْ كانتِ العمومَةُ أو الخؤولة منْ وَلَدِ جَدٍّ أَو جَدَّةٍ، تُساوِي الجَدَّ والجدَّة الموجُودَيْنِ في المَسْألَةِ، أَوْ أَبْعَدَ مِنْهُمَا، فالأَجداد والجدَّاتُ أوْلَى، وإنْ كانُوا من أصلٍ أقرب مِنْهُمَا، فَهُمْ أوْلَى وعن أحمد -رحمة الله عليه- تقديمُ الخالِ على جميعِ ذَوِي الأَرْحَامِ. وفي البَاقِينَ، مذْهَبَهُ مَذْهَبُ المنزِّلينَ في كُلِّ فَصْلٍ. " فَرْعانِ" الأَوَّلُ: قَدْ يجتمعُ في الشَّخْص الواحِدِ مِنْ ذَوِي الأَرْحام قَرَابَتانِ، إمَّا في أولاَدِ البنَاتِ؛ بأنْ يكُونَ للرِّجُلِ بِنْتَانِ، لإحْداهُما ابْنُ وللأُخْرى بنتُ، فينكِحُ الابن بِنْتُ خالَتِهِ، فتَلِدَ لَهُ بنتًا، فَهِيَ بنْتُ بنْتِ الرَّجُلِ وبنتُ ابْن بِنْتِه، أوْ في أولادِ الإخْوَةِ والأخَوَاتِ؛ بأنْ يَنْكِحَ أَخُو زَيد لأَمِّهِ أُخْتَه لأبِيهِ؛ فَتَلِدَ له بنْتًا، فَهِيَ بنْتُ أُخْتِ زَيْدٍ لأَبِيهِ، وبنتُ أُخْتِه لأُمِّه، أَوْ فِي أَوْلاَدِ الأَخْوَالِ والعَمَّاتِ؛ بأنْ يَنكِحُ خالُ الرَّجُلِ عمَّتَه، فتلدْ بنْتًا، فَهِيَ بنتُ خالِهِ وبِنْتُ عمَّتِهِ. فالمنزِّلُونَ يُنَزَّلُونَ وُجُوهَ القَرَابَةِ؛ فإِن سَبْقَ بَعْضِ الوجوهِ إلى وارثٍ يُقدَّمُ بذَلِك الوَجْهِ عَلَى غَيرِه، وإلاَّ قدَّرُوا الوُجُوهَ أشْخَاصًا، ووَرِثُوا بها عَلَى ما تَقْتَضِيهُ الحالُ. وأمّا أهلُ القَرابَةِ، فَعِندِ محمدٍ: يُورَّثُ صاحبُ القَرَابَتَينِ بالجِهَتَيْنِ جَمِيعًا. وقالَ أبُو يُوسُفَ: إنِ اتَّفَقَ ذَلِكَ في أوْلاَدِ البَنَاتِ، جُعِلَتِ الوجوهُ كَوَجْهٍ وَاحدٍ، ولَمْ يُوَرَّث بِها. وإنِ اتَّفَقَ في أَولاَدِ الإِخوَةِ والأَخَواتِ وُرِّثَ بالجِهَةِ التي هِيَ أقوى. وإن اتَّفَقَ في أولاَدِ الخؤولة والعُمُومَةِ، وُرِّثَ بالقَرابَتَيْنِ مَعًا؛ لأنَّهما مُخْتَلِفَانِ، وهذا أظْهَرُ عِنْدَهُمْ. وعَلَى هَذا؛ فلو خَلَّفَ بنْتَ أَخٍ لأمٍّ هِيَ بنتُ أُخْتٍ لِأَبٍ كَمَا صَوَّرْنا، [وبنْتَ أختٍ أُخْرَى، أوْ بِنْتَ أخٍ أُخْرَى؛ وَرِثَتْ بإحْدَى (¬1) القَرابَتَيْنِ، وَهِيَ أنَّها بنْتُ الَأُخْتِ منَ الأَبِ. ولو خَلَّفَ بنتَ خالٍ، هِيَ بنتُ عمَّةٍ، كَمَا صَوَّرْنا، وبنتَ عَمَّةٍ أُخْرَى] (¬2) فالثُّلُثُ لبنْتِ الخَالِ، والثُّلُثَانِ بَيْنَهُمَا بالسَّوِيَّةِ. ولو كان معَهُمَا بنْتُ خالٍ أُخْرَى، فالثُّلُثَانِ لَهَا، لأَنَّهَا بِنْتُ العمَّةِ، والثُّلُثُ بينَهما بالسَّوِيَّةِ. ¬
الكلام في حساب الفرائض
الثَّاني: إذا كانَ معَ ذَوِي الأَرْحَامِ الزَّوْجُ أو الزَّوْجَةُ: قال أهلُ القرابةِ: يخرِجُ نصيبُ مَنْ وُجِدَ منهما، ويُقَسَّمُ البَاقِي علَى ذَوِي الأَرْحامِ، كَما يُقَسَّمُ الجميعُ، لَوِ انْفَرَدُوا فالمخرج للزَّوْج أوْ الزَّوجة كَدَيْنٍ يُقَدَّمُ مِنَ التَّرِكَةِ. وللمنزِّلين قولاَنِ: أظْهَرُهُما أنَّ الجوابَ كَذَلِكَ. والثَّاني: أنَّ الباقِيَ بعدُ فَرضِ الزَّوْج أَوْ الزَّوْجَةِ يُقَسَّمُ بينَهُمْ عَلَى نِسْبَةِ سِهامِ الَّذينَ يَدْلِي بِهم ذوو الأرْحامُ من الوَرَثَةِ مع الزَّوجَ أو الزَّوْجَةِ. يُعْرَفُ القائِلُونَ بالأَوَّلِ بأصحاب اعتبارِ مَا بَقِيَ، والقَائِلونَ بالثَّاني بأصحاب اعتبارِ الأَصْلِ. مثالُه: زوجةٌ وبنتُ بِنْتِ، وبنتُ أختٍ مِنَ الأَبَوَيْنِ: عندَ أهلِ القَرابةِ: للزَّوجَةِ الرُّبُعُ، والباقِي لبنتِ البِنْتِ، وأصحابُ القولِ الأوَّلِ من المنزِّلينَ جَعَلُوا لها الرُّبُعَ، والبَاقِيَ بينَ بنتِ البنتِ، وبنتِ الأُخْتِ بالسَّوِيَّةِ. ومَنْ قَالَ بالثَّانِي، قَالَ إِذا نزَّلناهُمَا، فكأن في المسألةِ زَوْجَةً وبنتًا وأُخْتًا، ولو كانَ كَذَلِكَ، لكانتِ المَسْألَةُ من ثَمانِيةٍ: نصيبُ الزَّوْجَةِ مِنْهَا واحدٌ، يَبْقَى سَبْعَةٌ، فنَحْفَظُها، ثمَّ نخرجُ نصيبَ الزَّوجَةِ بتَمامِهِ، يَبْقَى ستَّةٌ، نُقَسَّمُ بينهما أَسْبَاعًا. ولَوْ خَلَّفَت زَوْجًا وبنْتَ بِنْتٍ وخالةً وبِنْتَ عمٍّ. عندَ أهلِ القَرابةِ: للزَّوجِ النِّصْفُ [والباقِي لبنتِ البِنْتِ. وعلى القولِ الأَوَّلِ للمُنزِّلِينَ: للزَّوْجِ النِّصْفُ] (¬1)، ولبنتِ البنْتِ نِصفُ البَاقي، وللخالةِ سُدُسُ الباقِي، والبَاقِي لبِنتِ العمِّ. وقالَ أصحابُ القول الثَّانِي: إذا نَزَّلنَا، حَصَلَ في المَسْأَلَةِ مَعَ الزَّوْج بنتٌ وأُمٌّ وعَمٌّ، وحينئذٍ فهي من اثْنَيْ عَشَرَ، نُسْقِطُ نَصِيبَ الزَّوْج يَبْقَى تِسْعَةٌ فنحفظُها، ثُمَّ نُخْرِجُ النِّصْفَ التَّامَّ للزَّوْجِ، وَنُقَسِّمُ بينهمُ الباقِيَ، وهُوَ سِتَّةٌ علىَ التِّسْعَةِ المحْفُوظَةِ، والله أعلم. الكلامُ في حِسابِ الفَرائِضِ. قَالَ: قال الغَزَالِيُّ: الفَصْلُ الثَّالِثُ فِي أُصُولِ الحِسَابِ وَمُقَدَّراتُ الفَرائِضِ سِتٌّ، النِّصْفُ ¬
ونِصْفُهُ وَهُوَ الرُّبْعُ وَنِصْفُ نِصْفِه وَهُوَ الثُّمُنُ، والثُّلُثانِ وَنصْفُهُما وَهُوَ الثُّلُثُ وَنصْفُ نِصْفِهِمَا وَهوَ السُّدُسُ، أَمَّا مُسْتَحِقُّوهَا، فالنِّصْفُ فَرْضُ خَمْسَةٍ مِنَ الوَرَثَةِ في أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، والرُّبُعُ فَرْضُ اثْنَيْنِ، والثُّمُنُ فَرْضُ واحِدَةٍ، والثُّلُثانِ فَرْضُ أَرْبَعَةٍ، والثُّلُثُ فَرْضُ اثْنَيْنِ، والسُّدُسُ فَرْضُ سَبْعَةٍ، وإِذَا تأَمَّلْتَ مَا سَبَقَ عَرَفْتَ التَّفْصِيلَ، وَأَمَّا مَخَارجُ هَذِهِ المُقَدَّرَاتِ فَسْبَعَةٌ، الاثْنَانِ، والثَّلاَثَةُ والأَرْبَعَةُ، والسِّتَّةُ، والثَّمَانِيَةُ، والاثْنَا عَشَرَ، والأَرْبَعُ والعِشْرُونَ، وَزادَ آخَرُونَ ثَمانِيَةَ عَشَرَ وَسِتَّةَ وَثَلاِثينَ، وَذَلِكَ يُحْتاجُ إلَيْهِ في مَسَائِل الجَدِّ حِينَ يَطْلَبُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ بَعْدَ إِخْرَاجِ سَهْمِ ذِي فَرْضٍ، وَلا يُخْرجُ الثُّلُثُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثَةٍ، والسُّدُسُ إِلاَّ مِنْ سِتَّةٍ، والثُّمُنُ إِلاَّ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، والسُّدُسُ والرُّبُعُ مَعًا إلاَّ مِنَ اثْنَى عَشَرَ، والثُّمُنُ والسُّدُسُ مَعًا إلاَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ (أَمَّا العَوْلُ) فَداخِلٌ من جُمْلَةِ هَذِهِ الأَعْدَادِ عَلَى ثَلاثَةٍ، عَلَى سِتَّةٍ فَتَعُولُ إلَى سَبْعَةِ، وَإِلَى ثَمَانِيَةٍ، وإِلَى تِسْعَةٍ، وإِلَى عَشَرَةٍ، وَلا يَزِيدُ عَلَيهِ، وَاثنا عَشَرَ تَعُولُ بِالإِفْرَادِ إِلَى ثَلاَثةَ عَشَرَ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ، وَسَبْعَةَ عَشَرَ، وَلا تَعُولُ إلى أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَسِتَّةَ عَشَرَ، والأَرْبَعُ والعِشْرُونَ تَعُولُ مَرَّةً واحِدَةً إلى سَبْعَةٍ وعَشْرِينَ فَقَطْ، ومَعْنَى العَوْلِ الرَّفْعُ وَهُوَ أنْ يَضِيقَ المال عَنِ الأَجْزاءِ فَيُرْفَعَ الحِسَابُ حَتَّى يَدْخُلَ النُّقْصَانُ عَلَى الْكُلِّ عَلَى وَتِيرَةٍ واحِدَةٍ، كَزَوْجٍ وَأُخْتَيْنِ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَهُوَ ثَلاَئةٌ مِنْ سِتَّةٍ إِذْ المَسْأَلَةِ مِنْ سِتَّةِ، وَلِلأُخْتَيْنِ أَرْبَعَةُ فَيَكُونُ المَجْمُوعُ سَبْعَةً فَتُرْفَعُ السِّتَّةُ إِلَى سَبْعَةٍ أمَّا تَصْحِيحُ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ فَإنْ كَانَ الوَرَثَةِ كُلُّهُمْ عَصَبَاتٍ فَالْمَسَأَلَةُ مِنْ عَدَدِ رُؤُوسِهِمْ، تَصِحُّ، فَإنْ كَانَ فِيهِمْ أُنْثَى نُقَدِّرُ كَأَنَّ كل ذَكَرِ أُنْثَيَانِ، وَإِن كَانَ فِيهِمْ ذُو فَرْضٍ وَعُرِفَتِ المَسْألَةِ بِعَوْلِها ثُمَّ عِنْدَ القِسمَةِ انْكَسَرَ عَلَى فَرِيقٍ أَوْ عَلَى فَرِيقَيْنِ فَطَرِيقُ التَّصْحِيحِ ذَكَرْناهُ في المَذهَبِ البَسِيطِ والوَسِيطِ جَمِيعًا وَهَذَا الوَجِيزُ لا يَحْتَمِلُ استِقْصاءَهُ. [في أُصولِ الحسابِ ومقدَّراتِ الفَرائِضِ ستَّةٌ: النصفُ ونصفُه -وهُوَ الرَّبُعُ-، ونِصْفُ نصفِه وهُوَ الثُّمُنُ] (¬1). مقصودُ الحِسابِ في هَذا الفنِّ شَيْئَانِ: أحدُهُما: تَصْحِيحُ المسَائِلِ. والثَّاني: قِسمَةُ التَّرِكَةِ علَى الوَرَثَةِ. المَقصَدُ الأَوَّلُ: التَّصْحِيحُ. ¬
وله مقدِّمَاتٌ أوردَ بعْضُها في الكتَابِ، ولم يُورِدْ طَرِيقَ التَّصْحِيحِ: أحداها: الفروضُ المقدَّرَةُ في كِتاب الله تَعالى ستَّةٌ: النِّصفُ ونِصفُه وهو الرُّبُعُ، ونصفُ نصفِه، وهو الثُّمُنُ، والثُّلُثانِ وَنِصفُهُما وهو الثُّلثُ، ونصفُ نصفهما وهو السُّدُسُ. وقدْ تَفَضَّلَ من قبلُ بيانُ مُسْتَحقِّيهَا، وإذا جمعتهم قلت النصفُ فرضُ خَمْسةٍ وهم الزَّوجُ ولبنتُ وبنتُ الابْنِ والأُخْتُ مِنَ الأَبَوَيْنِ والأخْتُ منَ الأَبِ (¬1). والرُّبُعُ فَرْضُ اثْنَيْنِ وَهُمَا: الزَّوْجُ والواحدةُ والعددُ منَ الزَّوْجَاتِ (¬2)، والثُّمُنُ فرضُ الواحدةِ والعددِ منَ الزَّوْجَاتِ. والثَّلثَان فرضُ أرْبَعةٍ وَهُمْ: الإناثُ اللَّوَاتِي تَأخُذُ الواحدةُ منهنَّ النِّصفُ. والثُّلثُ فرضُ اثْنَينِ وهُمَا: الأُمُّ والاثنانِ مِنْ أولادِ الأُمِّ هَكَذا بقولُه بعضُهم، وعلَى ذَلِك جَرَى في الكِتَابِ. ومنهمُ منْ يقولُ: فرضُ ثلاثةٍ، ويزيد الجدُّ معَ الإخْوَةِ في بعضِ الأحْوالِ وهُوَ الأصَحُّ. والسُّدسُ فرضُ سبعةٍ وَهُمْ: الأمُّ، والجدَّةُ، والأَبُ، والجدُّ وبنتُ الابنِ معَ بنتِ الصُّلْبِ والأختُ من الأَبِ مَعَ الأخْتِ من الأَبَوَيْنِ، والواحدةُ مِنْ أَولادِ الأُمِّ. الثانية: كلُّ عَدَدَيْنِ؛ فَهُمَا إمَّا مُتَمَاثِلانِ كثَلاثةٍ وثلاثةٍ وخمسةٍ وخمسةٍ، أو غيرُ مُتَماثِلَيْنِ. فإمَّا أنْ نَفْني الأكثر بالأقَلِّ إِذَا أسْقِطَ منه مرَّتَينِ فصَاعِدًا كالثلاثةِ مع التِّسْعَةِ والخمسةِ مع العَشَرَةِ، أو لاَ نفْنِي به فإن كانَ الأوَّلُ، سُمِّيا مُتَداخِلَينِ، والمَعْنَى أَنَّ أَحدَهُمَا داخلٌ والآخرُ مدخولٌ فيه. وإن كانَ الثَّاني فإمَّا أنْ يفنيهما جميعًا عدد ثالثٍ كالستَّةِ معَ العَشَرَةِ يفنيهما الاثْنَانِ، وكالتِّسْعَةِ معَ اِلاثْنَي عشرَ يفنيهما الثَّلاثةُ. أو لا يُفْنَيَهُما عَددٌ آخرُ وإنَّما يفنيانِ بالواحدِ؛ إن كانَ الأوَّلُ سُمِّيَا مُتَوَافِقَيْنِ، وإن كانَ الثَّاني سُمِّيَا متَبايِنَيْنِ. فإذن كلُّ عددَيْنِ فهما إمّا مُتَماثِلاَن أَو مُتَداخِلاَن أو مُتَوافِقانِ أو مُتَبايِنَانِ. ¬
وكلُّ متداخلَينِ فهما مُتَوافِقانِ؛ لأن الأقلَّ إذَا أفْنَى الأكْثَرَ، كانَا متوافِقَيْنِ بإجْزَاءِ مَا في العَدَدِ الأقلِّ منَ الآحادِ. مثالُه: الخمسةُ تفنى العشرَةَ فَهُما متوافِقانِ بالأخْمَاسِ. وإذا أردتَّ أنْ تُعْلِمَ أنَّ العدَدَيْنِ هلْ يدخُلُ في الآخرَ، فأسْقِطِ الأقلَّ منَ الأَكْثَرِ [مرَّتَيْنِ فَصَاعِدًا، أوْ زدْ علَى الأقلِّ مثْلَه مرَّتَيْنِ فصَاعِدًا، فإنْ فَنِيَ الأَكْثَرُ بالأقلِّ، أو سَاوَى الأقلُّ أكثرَ بزِيَادةِ الأَمْثَالِ، فَهُمَا مُتَداخِلاَنِ وإلاَّ، فَلاَ. وإذا أردت أن تُعْلِمَ، هلْ هما متوافِقَان، فأسْقِطِ الأَقَلَّ مِنَ الأكْثَرَ مَا أمْكَنَ، فَمَا بَقِيَ، فأسْقِطْهُ مِنَ الأَقَلِّ] (¬1) فإنْ بَقِيَ منْهُ شَيْءٌ فأَسْقِطْهُ مِمَّا بَقِيَ مِنَ الأَكْثَرَ، ولاَ تَزَالُ تَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى يَفْنَى العددُ المنقُوصُ مِنهُ آخرًا، فإنْ فنِيَ بواحدٍ فلا مُوافَقَةِ بينَهُما، وإنْ فَنِيَ بعددٍ، فهُمَا مُتوافقَان بالجزْءِ المأْخُوذِ منْ ذَلِكَ العددِ، إنْ فَنِيَ باثْنَيْنِ فَهُمَا متوافِقَانِ بالنِّصْفِ، وإنْ فَنِيَ بثلاثَةٍ، فبالثُّلثِ، وإنْ فَنِيَ بعَشَرَةٍ، فبالعُشْرِ، وإنْ فَنِيَ بأحدَ عَشَرَ، فبِأَجْزَاءِ أحدَ عشرَ، وعلَى هَذا القِياسُ. مثَالَهُ: واحدٌ وعِشْرُون وتِسْعَةٌ وأرْبَعُون: تُسقِطُ الأقلَّ منَ الأكثرِ مرتين يبْقى سبْعَةً، وتسقِطُ السبعةَ مِنَ الأقلِّ ثلاثَ مراتٍ يَفْنَى بِها؛ فَهُمَا مُتَوافِقَانِ بالأَسْباعِ. مائةٌ وعِشرُونَ ومائةٌ [و] (¬2) خمسةٌ وسِتُّون: تُسْقِطُ الأقلَّ من الثَّانِي، تَبْقَى خمسةٌ وأربَعُون، فأسقِطُ هَذا العدَدَ منَ المائةِ والعِشْرينَ مرَّتَيْنِ، يبقى ثلاثون، أسقِطْه مِنَ الخمسةِ والأرْبَعِين، تَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ، أَسْقِطْه منَ الثَّلاثين مرَّتَيْنِ، يَفْنَى به الثَّلاثُونَ، فهما مُتَوافِقان بأجزاءِ خَمْسَةَ عَشَرَ ومهْما حصَلَ التَّداخلُ، انقَسَمَ الأكثرُ علَى الأقلِّ قِسْمَةً صحيحةً، وكانَ الأقلُّ غيرَ زائدٍ علَى نصفِ الأكثرِ. وإذا أفنى عددَين أكثرَ مِنْ عددٍ واحدٍ، فهُما مُتوافِقَان بأجْزَاءِ مَا في تِلكَ الأعدادِ منَ الآحادِ. مثالُه: اثنا عشرَ وثَمانِيَةَ عشرَ: تُفْنَيهُما الستَّةُ والثَّلاثَةُ، والاثنانِ فَهُما مُتَوافِقَان بالأسداسِ والأثلاثِ والأنصافِ، والعملُ والاعتبارُ في مثلِ ذلكَ بالجزءِ الأقلِّ، فَيُعْتَبَرُ في هَذا المِثالِ السُّدُسُ، وفِي المتوافِقَيْن بالأخماسِ والأعْشَارِ العشرِ. وعلَى هَذا القياسِ. الثَّالِثَةُ: في أُصُولِ مَسَائِلِ الفَرائِضِ. أصلُ المسالَةِ: هُوَ العددُ الَّذِي يَخْرُجُ منه سِهَامُهَا. ¬
ومسائلُ الفرائضِ نَوْعَانِ: أحدُهُما: أن يكونَ الورثَةُ كلُّهم عَصَبَاتٍ، فإنْ كانُوا ذكُورًا أو إناثًا [فالقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ بالسَّوِيَّةِ، وصورتُه في الإنَاثِ الممحضات: أنْ تُعتِقَ نسوةٌ رقيقًا يَمْتَلِكْنَه عَلَى التَّسَاوِي. وإنْ كانُوا ذُكورًا وإنَاثًا] (¬1)، قدَّرْنا كلَّ ذَكَرِ اثْنَيْنِ، وقسَّمْنَا المالَ، وَأَعْطَينا كلَّ ذَكَرٍ سَهْمَيْنِ وكلَّ أنْثَى سَهْمًا، فعدَدُ الرؤوس (¬2) في هَذا النَّوْعِ هُوَ أصلُ المسْأَلَةِ. والثَّاني: المسائِلُ الَّتي ورثتها أصحابُ فُرُوض أو بعضُهُم صاحِبَ فرْضٍ، فالأصول في هَذا النَّوْعِ سَبعَةٌ عندَ المتقدِّمِين، ومنَ المتَأخِّرينَ من يقولُ: تِسْعَةٌ، أمَّا السَّبْعَةُ المتفقُ عَلَيْهَا فَهِيَ: اثنانِ وثلاثةٌ وأربعةٌ وستةٌ وثمانيةٌ واثْنَا عَشَرَ وأربعةٌ وعشرُونَ، وهَذا لأنَّ الفروضَ السِتَّةَ كُسُورٌ مضافَةٌ إلى الشَّيْءِ المعْدُودِ واحِدًا، وهُوَ التَّرِكَةُ. ولا يخلُوا إمَّا أنْ يقعَ في المسألةِ واحدٌ مِنْهَا أو اثنانِ فصَاعِدًا: إنْ لَم يقعْ فيها إلاَّ واحدٌ، فالمخرجُ المأخوذ منْهُ ذَلِك الكَسْرُ هو أصلُ المسألةِ، فالنِّصفُ منِ اثنَيْنِ والثُّلثُ من ثلاثةٍ والرُّبُعُ من أربعةٍ. وعلَى هَذا، وإنْ وَقَعَ فِيها اثْنَان فَصَاعِدًا. فإنْ كَانَا من مخرَجٍ واحدٍ، فهو أصلُ المسألة، وإن كانا مختلفي المخرَج، أخذنا المخرَجَيْنِ، ونظَرْنَا فيهما فإنْ كانا متداخلَيْنِ كما إذا اجتمَع الثلُثُ والسُّدُسُ، فأكثر المخرِجَيْنِ أصْلُ المسألة، وإن كانا متوافِقَينِ، كما إذا اجتمع السدُسُ والثُمُن، ضَرَبنا وَفْقَ أحدِ المخرجَيْنِ في جميع الآخر، تحصل أربعةٌ وعشرون، فهو أصلُ المسألة. وإن كانا متبايِنَينِ، كما إذا اجتمعَ الثّلُث والرُّبُعُ ضربْنَا أحَدَ المخرَجَيْنِ في الآخرِ، وجعلْنا الحاصلَ -وهو اثنا عَشَرَ- أصْلَ المسألة. وإذا فصَّلْتَ، قُلْتَ: كلُّ مسألةٍ فيها نصفٌ، وما بَقِيَ كزَوْج وأخٍ، أو نِصْفَان، كزَوْج وأخت، فهي مِنَ اثْنَينِ وكل مسألة فيها ثلثانِ وما بَقي؛ كأختينِ من الأبوين وعمٍّ أو ثُلُثٌ، وما بَقِيَ؛ كأمٍّ وعمٍّ. أو ثلثانِ وثلثُ، كأختَيْن من الأبوَيْنِ وأختَيْن من الأمِّ، فهي من ثلاثةٍ. وكلُّ مسألةٍ فيها ربُعٌ، وما بَقِيَ؛ كزَوْج وابنٍ، أو زوجةٍ وأبٍ. أو ربعٌ ونصْفٌ وما بقي؛ كزوجٍ وبنتٍ وأخٍ، فهي من أربعة. وكلُّ مسألةٍ فيها سدُسٌ، وما بقي كأمٍّ وابن؛ أو سدسٌ ونصفٌ وما بقي، كأمٍّ وبنتِ عَمٍّ أو سدسٌ، وثلث وما بَقِيَ؛ كأمِّ وولدَيْ أُمٍّ وعمٍّ. أو نصْفٌ وثلثان؛ كزوْجٍ وأختين، أو نصفٌ وثلثٌ وما بَقِيَ؛ كأمٍّ وزوجٍ وعَمٍّ، ¬
فهي من ستَّةٍ. وكلُّ مسألةٍ فيها ثُمُنٌ وما بَقِيَ؛ كزوجة وابن، أو ثُمُنٌ ونصْفٌ وما بَقِيَ؛ كزوجةٍ وبنتٍ وعمٍّ، فهي من ثمانية. وكلُّ مسألةٍ فيها ربُعٌ وثلثانِ وما بَقِيَ؛ كزوج وبنتين وعمٍّ، أو ربُعٌ وثلُثٌ وما بقي؛ كزوجة وأمٍّ وأخ فمن ستة أو ربُعٌ وسُدَسٌ وما بَقِيَ؛ كزوج وأمٍّ وابنٍ، فهي مِنِ اثْنَي عَشَرَ. وكلُّ مسألةٍ فيها ثمُنٌ وثلثانِ وما بَقِيَ؛ كزوجةٍ وبنتَيْنِ وأخٍ، أو ثُمُنٌ وسُدُسٌ وما بقي؛ كزوجة وأمٍّ وابن، فهي من أربعة وعشْرِينَ. وإذا تأمَّلتَ، عرفْتَ أن الأصلَيْنِ الآخرَيْنِ منَ السَّبْعة لا يتولَّدان إلا مِنْ فرَضَيْنِ مختلفَيْنِ، وأن الأصْل الأوَّل لا يكونُ إلاَّ عنْد اتحاد الفرْضِ، وما عداها قد يتَّفق مع الاتِّحاد وقد يختلف مع الاختلاف. وأمَّا الأصْلاَنِ المختلَفُ من وضْعِهِما، فهما ثمانيةَ عَشَرَ، وضعفهما ستةٌ وثلاثُونَ، زادَهُمَا بعْضُ المتأخِّرين عَلَى قول زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في الجَدِّ والإِخوةِ، حيْثُ كان ثلث الباقِي بعْد الفَرْض خيرًا له من القسمة. والثمانيةَ عَشَرَ أصْلُ كلِّ مسألةٍ فيها سدُسٌ وثلث ما بقي وما يبقَى؛ كأمِّ وجدَّةٍ وإِخوةٍ (¬1). والسنَّةُ وثلاثونَ أصْلُ كلِّ مسألةٍ فيها ربُعٌ وسدُسٌ وثلُثُ وما بقي وما يبقَى؛ كزوجةٍ وأمٍّ وجدٍّ وإِخوةٍ. ¬
والمتقدِّمون قالُوا: لا يَزِيدُ علَى الأُصُول المستخْرَجَةِ من الفُرُوض المذْكُورة في كتابِ اللهَ تعالَى. وتصحيح المسألَتَيْنِ بالضرب: فالأُولَى: من ستةٍ: للأم سهم يَبْقَى خمسةٌ، ونحنُ نحتاجُ إلَى ثُلُثِ ما يبْقَى، ولَيْس للخَمْسة ثُلُثٌ صحيحٌ، فنَضرِبُ مخرج الثُّلُثِ في أصْل المسْألة، تصير ثمانيةَ عشَرَ. والثانيةُ: مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، تخرج بالفَرْض خمسةٌ، وليس للباقي ثلثٌ صحيحٌ، فيضربُ مخْرَج الثلث في اثْنَيْ عَشَرَ، تصير ستةً وثلاثين واستصوب الإمامُ وصاحبُ "التتمة" صنيع المتأخِّرين؛ لأنَّ ثلث ما يبقَى، والحالة هذه، فرْضٌ مضموم إلى السُّدُس والرُّبُع، فلتكن الفريضةُ من مخرجها. واحتج صاحبُ "التتمة" بأنَّهم اتَّفَقُوا في زَوْج وأبوَيْنِ عَلَى أن المسألةَ مِنْ سِتَّةٍ، ولوْلاَ إقامةُ الفريضةِ من الثُّلُث وثُلُثِ ما يبقَى، لقالوا: هيَ مِنِ اثْنَيْنِ، للزوج واحدٌ، يبقى واحدٌ، وليْسَ لهُ ثلُثٌ صحيحٌ؛ فنضرب مخْرَجَ الثلثِ في اثنَيْنِ، تصير ستَّة:. واعلَمْ أنَّه قد يتَّفق في صورة الجَدِّ والإِخوة نصْف ما يبقى؛ كزوجٍ أو بنتٍ وجدٍّ وإخوةٍ، فيجوزُ أنْ يقدَّر اتِّفاقهم عَلَى أنَّه منْ ستَّةٍ، كما حُكِيَ في زوْج وأبوَيْنِ، ويجوزُ أن يقدَّر في أصله الخلافُ (¬1). الرَّابِعَةُ: في العَوْل (¬2). ¬
إذا ضَاقَ المَالُ عنْ سِهَام ذَوِي الفُرُوض، تُعَالُ المسألةُ، أيْ: تُرْفَعُ سُهَمَانُهَا؛ ليدخل النقصُ عَلَى كلّ واحد بقدْر فرضِهِ؛ لأن كلَّ واحدٍ منهم يأخَذُ فَرْضَهُ عنْدَ الانْفرادِ بتمامه، فإذا ضاق المالُ عن الوَفَاءِ بها، وجب أن يقتسموا عَلَى قدْر الحقوق؛ كأصحاب الدُّيون والوصايا. وقدِ اتَّفَقَتُ الصحابة -رضِيَ اللهُ عَنهُم- علَى العَوْلِ في زمانِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وعنهم أجمعين حين ماتَتْ امرأةٌ في عهْدِهِ عَنْ زوج وأختَيْنِ فكَانَتْ أولَ فريضةٍ عائلةٍ في الإسلامِ فجَمَعَ الصَّحابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وقالَ لهُمْ: فَرَضَ الله تَعالَى للزَّوْجِ النِّصفَ وللأُخْتَيْنِ الثُّلَثين، فإنْ بدَأتَ بالزَّوج، لم يَبْقَ للأُخْتَيْنِ حَقُّهُما، وإنْ بدأتُ بالأُخْتَيْنِ لَم يَبْقَ للزَّوجِ حقُّه، فأَشِيرُوا عَلَيَّ، فأَشَارَ إليه العبَّاسُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بالعَوْلِ، وقَالَ: أَرَأَيْتَ لو ماتَ رجلٌ قدْ تَرَكَ ستَّةَ دَرَاهِمِ وَلِرَجلٍ عَلَيْهِ ثلاثةٌ ولآخَرَ أربعةٌ، أَليْسَ يجعلُ المالَ سبعةَ أَجْزَاءٍ؟ فأخذتِ الصحابةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِقَوْلِهِ، ثُمَّ أظْهَرَ ابنُ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الخِلاَفَ فيهِ بَعْدَ ذَلِكَ، ولَمْ يأخذْ بِقَولِهِ إلاَّ قليلٌ. إذا عَرَفْتَ ذَلِكَ، فالأعدادُ التسعة الَّتِي هِيَ الأصولُ المتَّفقُ علَيْهَا مِنْهَا ناقصٌ، وهو الَّذي إذَا اجتَمَعَتْ أجْزَاؤه الصحيحة كانت أقل منه وتام: وهُوَ الَّذِي إذَا اجتمعت كانت مثله وفائد وهو الذي إذا اجتمعت كانت أكثر منه فالاثنانِ والثلاثة والأرْبَعة والثمانية ناقصةٌ؛ لأنَّه ليْس للابنين للاثْنَيْنِ جزْءٌ صحيحٌ إلاَّ النِّصفُ وأنه واحدٌ، وللثلاثةُ إلاَّ الثُّلثُ وأنَّه واحدٌ، ولَيْسَ للثُّلَثانِ جزءًا آخر وإنَّما هو تَضْعِيفَ الثَّلثُ، وَجُعِلَ فَرْضًا برأسه؛ لأنَّ النَّظَرَ هُنَاكَ إلى المُقَدَّراتِ الَّتِي يَستَحِقُّها الصِّنْفُ الوَاحدُ منَ الوَرَثَةِ، والأرْبَعَةُ لَيْسَ لَها إلاَّ الرُّبُعُ والنِّصْفُ وهُمَا ثَلاثةٌ، والثَّمانِيَة لَيْسَ لَهَا الثُّمُنُ والرّبُعُ والنِّصْفُ، ومجموعُهُما سَبْعَةٌ. فأجزاءُ هذِه الأعدادُ أقلُّ مِنْهَا. والسنَّةُ تامَّةٌ؛ لأنَّ لها السُّدُسَ، والثَّلثَ والنِّصفَ والمجْمُوعُ ستَّةٌ بِلا زِيادةٍ ولا نُقْصَانٍ. والاثْنَا عَشَرَ والأربعةُ وعشرونَ زائِدَان؛ أمَّا الأَوَّلُ فَلَه السُّدُسُ والرُّبعَ والثُّلثُ والنِّصفُ، والمجموعُ خمسةَ عشرَ وأمَّا الثّاني فله الثُّمنُ والسُّدُسُ والرُّبُعُ والثُّلثُ والنِّصْفُ، والمجموعُ ثَلاثةٌ وثَلاثُون، فالنَّاقِصَةُ من هَذِه الأُصُولِ لا يَدْخُلُها العَوْلُ والتَّامةُ والزائِدَةُ وَهِيَ الستَّةُ وضِعْفُها وَضِعْفُ ضِعْفِها يَدْخُلُها العَوْلُ أمَّا الستَّةُ فَتَعُولُ أَرْبَعَ مراتٍ علَى التَّوالِي تَعُولُ بِسُدُسِها إلى سَبْعَةٍ كَزَوْجٍ وأُخْتَيْنِ، وبثُلُثِها إلى ثَمانِيةٍ كهؤلاء وأمّ وبنصفها إلى تسعبةٍ كَزَوْجٍ وأختَيْنِ لأَبٍ وأمٍّ وأُخْتَيْنِ لأمٍّ وبثلثيها إلى عشرة كهؤلاء وأمِّ وتُسَمَّى هذه المسْأَلَةُ، أُم الفُرُوج لكثرةِ السِّهَامِ العائِلَةِ فِيها و"الشُّرَيْحِيَّةُ"، لوقُوعِها في زَمَنِ شُرَيحٍ وَقَضَائِهِ فِيها.
وَمَتَى عَالَتْ إلى ثمانيةٍ أو تسعةٍ أو عشرةٍ فلا يكُونُ الميِّتُ إلاَّ امرأةً واحدة وأمَّا الاثْنَا عَشَرَ فتعولُ ثلاثَ مراتٍ بالإفرادِ؛ تَعُولُ بنصفِ السُّدُسُ إلى ثلاثةِ عشرَ كزوجةٍ وأمٍّ وأُخْتَيْن لأَبٍ، وبالرُّبُعِ إلى خمسةَ عشرَ كزوجةٍ وأُخْتَيْنِ لأَبِ وأُخْتَيْنِ لأُمٍّ، وبالرُّبُعِ والسُّدُسِ إلى سبعةَ عشرَ، كهؤلاء وأمٌّ أو جدَّةٌ. ومن صُورِ هَذا العَوْلِ مسألةُ أم الأرَاملِ، وهِيَ ثَلاثُ زَوْجَاتٍ وَجِدَّتَانِ وأربعُ أَخَواتٍ لأُمٍّ وثَمَانِ أَخَواتٍ لأَبٍ فهن سبعُ عشرة نِسْوَةٌ أيْضًا وَهِيَ مُتَسَاوِيةٌ. ولا يكونُ العَوْلُ إلى سبعةَ عشرَ إلاَّ، والميِّتُ رَجَلٌ. وأمَّا الأربعةُ والعِشْرُون، فَتعُول مرَّةً واحدةً بالثُّمُنِ إلى سبعةٍ وعشرينَ كَزَوجَةٍ وابْنَيْنِ وأَبَوَيْنِ. وهذه المسألةُ المنْبَرِيَّةُ سُئِلَ عَنْهَا علِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهُوَ علَى المنبرِ، فقال [كرم الله وجهه وهو على المنبر] على: الارتجالُ صارَ ثُمُنُها تُسُعًا (¬1)، وذلك لأنَّ ثُلُثَه من سبعةٍ وعِشْرِينِ تسْعٌ الحقيقةِ. وهذا العَوْلُ لا يكونُ إلاَّ والميِّتُ رَجُلٌ، بلِ المَسْألَةِ لا تَكُونُ إلاَّ مِن أَرْبَعَةٍ وعَشْرِين حينئذٍ؛ لأنَّه يُعْتَمدُ قيامُ الثُّمُنُ. واعلمْ أنَّ ما ذَكَرْنَاه من انقسامِ الأُصُولِ التسعةِ إلى ناقصٍ وتامٍّ وزائدٍ قَدْ تَخَبَّط فِيهِ جَماعَةٌ، تَقْسِيمًا وتَفْسِيرًا، والمُرضِي الموافِقُ لقَوْلِ الحَسَابِ مَا بَيَّنَّاه. وقولُه في الكِتَابِ: "ومَعنَى العَولِ الرَّفعُ"، لو ذَكَرَ بَدَلَ الرَّفعِ الارتِفَاعَ، لَكَانَ أَحْسَنُ. قَالَ الأَزْهَرِيُّ وغَيرُه: فَسَّرُوه بالارتفاع والزِيادَةِ وقالُوا: آلَتِ الفَرِيضَةُ أي ارتَفَعَتْ؛ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهم عَال الميزانُ فَهُوَ عائلٌ إذا مالَ وارْتَفَعَ (¬2). علَى أنَّ بَعْضَهم يقولُ: عالتِ الفريضةَ وأَعالَها فيعد به. وقولُه: "علَى وتيرَةٍ واحدةٍ" أي طريقةٍ، يُقالُ ما زَالَ، ذَلِكَ علَى وَتِيرَةٍ واحدةٍ، والمرادُ حَتَّى يدخلَ النُّقْصانُ علَى الكلِّ على حدودِ مُنَاسبةٍ وقولُه: كزوجٍ وأختينِ للزَّوجِ النِّصفُ وَهُوَ ثلاثةٌ مِن ستَّةٍ، أي عِنْدَ عَدمِ العَوْلِ، والله أعلم. هَذا تَمَامُ المُقَدِّمَاتِ. أمّا التَّصحِيحُ فَفِيهِ نَظَرَانِ: ¬
أحدُهُما: في تَصْحِيحِ فَرِيضَةِ الميِّتِ الواحِدَةِ. والثَّاني: في التَّصْحِيحِ إذْ لَمْ تُقَسَّم تَركَةُ الميِّتِ حَتَّى ماتَ مِنْ وَرَثَتِهِ ثَانٍ وثَالثٍ وأكثَر، وتُعرَفُ بـ"المُنَاسَخَاتِ" أمَّا النَّظَرُ الأَوَّلُ: فإنْ كَانَ الورثةُ كُلُّهم عَصَباتٍ، فأَمْرُ القِسْمَةِ سَهْلٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاه، وإنْ كَانُوا أصحابَ فُرُوضٍ، أَوْ كَانَ فيهم صاحبَ فرضٍ وعَرَفْتَ أَصْلَ المَسْأَلَةِ بعَوْلِها إنْ كَانَتْ عائِلَةً فالنظر في السِّهَامِ وأَصْحَابِهَا إنِ انقَسَمَتْ عَلَيْهِم جَمِيعًا خَفَّتِ المُؤنَةُ ولاَ حاجَةَ إلى الضَّرْبِ. وَذَلِكَ كَزَوجٍ وثلاثةٍ بنينَ فَهِيَ من أربعةٍ: للزَّوجِ الرُّبعُ والثَّلاثَةُ البَاقيةُ للبنينَ. وكَزَوجَةٍ وبنتٍ وثلاثةِ بَنِي ابنٍ، فَهِي من ثمانيةٍ؛ للزَّوْجَةِ واحدٍ وللبنتِ أربعةٌ والبَاقِي لَهُمْ. وإنْ لمْ تنقَسَمْ؛ فإمَّا أنْ يقعَ الكَسْرُ على صنفِ واحدٍ أو أكثر. القسم الأول إذا وقع الكسر على صنف واحد (¬1) نُظِرَ في سِهَامِهِم وعددِ رُؤوسِهم؛ إنْ كانا مُتَبايِنَيْنِ ضُرب عَدَدُ رؤوسهم في أَصْل المَسْأَلَةِ بَعَوْلِها إنْ كانتْ عائلةً، وإنْ كَانَا مُتوافِقَين ضُرِبَ جزءٌ الوفق منْ عددِ رؤوسهم في أَصْلِ المَسْأَلَةِ بِعَوْلِها، فالحاصلُ علَى التَّقْدِيرَين تَصِحُّ منه المسألةُ. مثالُ: التَّبَاين: زَوْجٌ وأَخَواتٌ وهِيَ مِن اثْنَيْنِ للزَّوْجِ واحدٌ يَبْقَى واحدٌ لا يصحُّ عليهما ولا موافقة فيضرب عَدَدِهِمَا مِن أصلِ المسألَةِ تَبْلَغُ أرَبعةٌ مِنْهَا تَصِحُّ. مثالُ: التَّوَافُقِ: أُمٌّ وأربعةُ أعمامٍ هِيَ من ثلاثةِ؛ للأمِّ واحدٌ يَبْقَى اثْنَانِ لا يَصِحُّ عَلَيْهم، لَكَنَّ العَدَدَيْنِ مُتَوَافِقَانِ بالنِّصْفِ، فَنَضْرِبُ، نصفَ عدَدِ الأعمَامِ في أصْلِ المسألةِ تَبلُغُ ستَّةً منْها تَصحُّ. وإذَا اتفق التَّوافُقُ مِن جزئين فصَاعِدًا، ضَرَبْنَا أقلَّ أجزاءِ الفرضِ في عددِ الرؤوس في أَصْلِ المَسْأَلَةِ بعَوْلِها فما بَلَغَ مِنْه تَصحُّ. مثالُهُ: زَوْجٌ وأمٌّ وستَ عشَر بنْتًا، هِي من اثنَا عَشَرَ، وتعُولُ إلى ثلاثةَ عشرَ: للبناتِ مَنْها ثمانيةٌ لا تصحُّ عَلَيْهِن، لكنَّ الثمانيةَ معَ عَدَدِهِن يَتَوافَقانِ بالنِّصفِ والرُّبُع والثُّمُنِ، فَنَأْخُذُ أقلَّ هَذه الأجْزَاءِ من عددِ الرؤوس فَنَضْرِبُ ثَمانية من أصْلِ المسألة بِعَوْلِها تَبْلُغُ ستَّةَ وعشْرِين مِنْهَا تصحُّ. القِسْمُ الثَّاني: إذَا وَقَعَ الكَسْرُ علَى أكثرَ مِن صنفٍ واحدٍ. فإمَّا أن يقعَ علَى اثنَيْنِ أوْ ثلاثةٍ أَوْ أربعةٍ ولا مَزيدَ؛ لأنّ الوَارِثين في الفَرِيضة ¬
الواحِدَةِ لا يزِيدُون علَى خَمْسَةِ أصنافٍ، لِمَا بَيَّنَّا في أوَّلِ الكِتَاب عِنْدَ اجتماع مَنْ يرثُ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ أو أحدِ الصِّنْفَيْنِ، ولا بُدَّ من صحَّةِ نَصِيبِ أحَدِ الأصنَافِ عَليْه؟ لأنَّ أحدَ الأصنافِ الخمسةِ الزَّوجُ والأَبَوَانِ، والواحدُ يصحُّ علَيْهِ ما يصيبُه لا محالةَ فَلَزِمَ الحَصْرُ (¬1). فإنْ وَقَعَ الكَسْرُ علَى صِنْفَيْنِ، نَظَرْنَا في سهامِ كلِّ صِنْفٍ وَعَدَدِ رؤوسهم، ولَهُمَا أحوالٌ ثلاثةٌ: الحالة الأولى: تَكونَ بينَ السِّهامِ وعددِ الرؤوسِ موافقةٌ في واحدٍ منَ الصِّنْفَيْنِ فتترك رؤوس الصِّنْفَيْنِ بِحَالِها. والحالةُ الثَّانِيَةُ: أن تكونَ بينَ السِّهامِ وعددِ الرؤوسِ مَوافَقَةٌ فِيهِما فترد عدد رؤوس كل صنف إلى جزء الوفق. والحالة الثَّالِثَةُ: أنْ تكونَ بينَ السِّهامِ وعددِ الرؤوسِ موافَقَةٌ في أحدِهِمَا دونَ الآخَرِ، فترد عددَ مَنْ يوافق رؤوسهم سهامهم إلى أجزاء الوفق وَنَتْرُكُ عددَ الآخَرِين بحَالِه. ثمّ عدَدُ الرؤوس في الأحْوَالِ مردُودِينَ أوْ أحدُهُمَا (¬2) أوْ غيرِ مردُودِين إمَّا أنْ يتَماثَلا فتقربُ أحدَهُمَا في أصلِ المسْأَلَةِ بِعَوْلِهَا، أو يَتَداخَلا، فتضربُ الأَكْثَرَ منهما من أصْلِ المَسْأَلَةِ بِعَوْلِها أو يَتَوافَقا، فَنَضْرِبُ جزءَ الوفق من أحدِهِمَا أو أقلَّ جُزءِ الوفق أن يَتَوافَقَا بجُزْئين في جَميع الأَجْزَاءِ، فما حصَلَ يُضْربُ في أصل المَسْألَةِ بِعَوْلِها أو تباين فتضرب أحدهما في الآخرِ فما حصل تضرب في أصل المسألة بعولها فَمَا بلغ منْه تَصحُّ المَسْألَةُ. ويخرُجُ مِنْ هَذِهِ الأَحْوَالِ اثْنَا عشرَ مَسْأَلَةً؛ لأَنَّ في كلِّ واحدةٍ مِنَ الأَحْوَالِ الثَّلاثةِ أربعَ حَالاَتٍ، والحاصلُ مِنْ ضَرْبِ ثَلاَثةٍ في أرْبَعَةٍ اثْنَا عَشَرَ ولْنُوَضِّحْ أمثِلتَها: أمثلةٌ: [الحالةِ الأُولَى: ثلاثُ بناتٍ وثَلاَثَةُ إِخوَةٍ، ثلاثُ بناتٍ وستَّةُ إِخْوَةٍ، تِسْعُ بناتٍ وستَّةُ إخْوَةٍ، ثَلاثُ بناتٍ وأَخَوانِ. أمثلةُ]: الحالةِ الثَّانِيَةِ: أَمَّ وستَّةُ إخوةٍ لأُمٍّ واثْنَا عَشَرَ أُخْتًا لِأَبٍ مِنْ ستَّةٍ، وتعولُ إلَى سبْعَةٍ، للإخْوَةِ سَهْمَانِ يُوافِقَانِ عَدَدَهُمْ بالنِّصْفِ، فيرد عَدَدُهُمْ إلَى ثَلاَثَةِ، وللأخَوَاتِ أربعةٌ، يُوافِقُ عددهُنْ، النِّصْفُ والرُّبُعَ فيرد عدَدَهُنَّ إلى ثَلاثَةٍ ردًا إلَى أقل الوَفْقَيْنِ، فيتماثل العددان المردُودَانِ. ¬
أُمٌّ وثمانيةُ إِخوةٍ لأُمٍّ وثمانِ أخواتٍ لأبٍ: يرجعُ عددُ الإِخوة إلى أربعةٍ، وعدد الأَخَوَاتِ إلى اثْنَيْنِ؛ رَدًا إلى أقلِّ الوَفْقَيْنِ وهما متداخلان. أُمٌّ واثنا عَشَرَ أخًا لأمٍّ وَسِتَّ عشْرَةَ أختًا لأَبٍ: يرجعُ الإِخوةُ إلَى [ستة، والأخواتُ إلَى أربعٍ، وهما متوافقان. أُمٌّ وستةُ إِخوةٍ لأمٍّ وثمانِ أخَواتٍ لأب: يرجعُ الإِخوة إلَى] (¬1) ثلاثةٍ، والأخواتُ إلى اثْنَيْنِ، وهما متباينان. أمثلةُ الحالةِ الثالثة: الموافقة بين السِّهَام وعدد الرؤوس في الصِّنْف الأَوَّل: ستُّ بناتٍ وثلاثُ إِخوةٍ من ثلاثةٍ: سهمان للبناتِ، وبينهما موافقةٌ بالنِّصْفِ، فيرجع عدَدَهُنَّ إلَى النِّصْف، ويماثل عدد الإخوة. أربعُ بناتٍ وأربعُ إِخوةٍ: يرجع عددُهنَّ إلى اثنَيْن، ويتداخل العددان. ثمانِ بناتٍ وستةُ إِخوةٍ: يرجع عدَدُهَنَّ إِلى أربعةٍ، ويتوافَقُ العَدَدانِ بالنِّصْف. أربعُ بناتٍ وثلاثةُ إِخوةٍ: يرجعُ عدَدُهُنَّ إلى اثنَيْنِ ويتبايَنُ العدَدَانِ. فإن وَقَع الكَسْر عَلَى ثلاثةِ أصْنَافٍ أو أربعةٍ، نظرنا أوَّلًا في سهامِ كلِّ صِنْفٍ، وعدَدِ رؤوسهم، وحيثُ وجَدْنَا الموافقةِ رَدَدْنَا عدد الرؤوس إلَى جزء الوفق، وحيث لم نَجِدْ بَقَّيْنَاهُ بِحَالِهِ؛ ثم يجيء في عدد الأصْناف الأحوالُ الأربعُ، فكلُّ عددَيْنِ متماثِلَيْن، نقتصر منهما عَلَى واحِدٍ، فإنْ تماثَلَ الكُلُّ، اكْتَفَينَا بواحدٍ، وضَربناه في أصْلِ المَسْأَلَةِ بِعَوْلها. وكلُّ عددَيْن متداخلَيْن نقتصرُ منْهما عَلَى الأكْثَر، وإِنِ اتَّفَقَ التداخُلُ بين الكُلِّ، اكْتَفَيْنَا بأكْثَرِهَا، وضربْنَاه في أصْل المَسْأَلة بِعَوْلها. وكلُّ عدَدَيْن متوافقَيْن نَضْرِب وَفْق أحَدِهما في الآخَرِ، وإنْ توافَقَ الكلُّ فللْفَرَضِيِّينَ طريقان: فالبَصْرِيُّونَ يَقِفُونَ أحدَهُمَا، ويردُّون ما عداه إلَى جزء الوفق ثم ينظرون في أجْزَاءِ الوَفْق، فيكتفون عنْد التماثُلِ بواحدٍ، وعند التداخُلِ بالأكْثَرِ، وعنْد التوافُقِ يضربُونَ جزء الوَفْق من البَعْض في البعض، وعند التبايُن نضربُ البَعْضَ في البَعْضِ، ثم يضربُونَ الحاصلَ في العَدَد الموقُوفِ ثم ما حَصَل في أصْل المسْأَلَةِ بِعَوْلها. ¬
والكوفيُّونَ يقفون أحَدَ الأعْدَاد ويقابِلُون بيْنَه وبيْن عددٍ آخَرَ، ويضربون وفْقَ أحَدِهما من جميع الآخَرِ، ثم يقابلون الحاصلَ بالعَدَد الثَّالث، ويضربون وَفْق أحدَهما من جميع الآخَر، ثم يقابلون الحَاصِلَ بالعدد الرابع، ويضرِبُون وَفْق أحَدِهما في جميع الآخرِ، ثم يضربون الحاصِلَ في أَصْل المَسْأَلة بعَوْلها. وتسمَّى صور توافق الأعْدَاد "المسائِل المَوْقُوفَات". وإنْ كانت الأعدادُ متباينةً، ضَرَبْنَا عددًا منْها في آخر [ثم] ما حصل في ثالثٍ ثم ما حصَل في الرَّابع، ثم ما حصل في أصْلِ المَسْأَلة [بِعَوْلِهَا]، وإنْ شئْنا ضرَبْنَا أحدَهُمَا في أصْل المَسْأَلة بِعَوْلها، ثم ما حصَلَ في الثاني ثم في الثالِثِ ثم في الرَّابع. وإذا لم يكُنْ بيْن السِّهام [و] عَدَد الرؤوس [ولا بيْن أعداد الرؤوس] موافقةٌ، سُمِّيَتِ المسألةُ "صَمَّاء". واعلم أنَّا لو حاوَلْنَا استيعاب هذه الأحْوَال بالأَمْثِلة، لطَالَ الشُّغْل، وقَلَّ النزل، فنقتصرُ علَى الأهَمِّ، ونرجو أن يتَّضِحَ به الباقِي: ثلاثُ جَدَّاتٍ وثلاثُ أخوات لأبٍ وستةُ إِخوةٍ لأمٍّ: هي مِنْ ستَّةٍ، وتعولُ إلَى سبعة، [و] لا موافقة في الجَدَّات والأخوات بيْن السهام والرؤوس، وفي الإِخْوة موافقةٌ، فيُرَدُّ عددُهُم إلى ثلاثةٍ، وحينئذٍ تتماثلُ الأعدادُ، فنقتصرُ منها عَلَى واحد، يضربُ في ثلاثةٍ في المَسْأَلة بعَوْلِها، يحْصُلُ أحدٌ وعشْرون، منها تصحُّ. ستُّ أخواتٍ لأبٍ وأربعُ زوْجاتٍ وأربعٌ وعشْرُونَ جَدَّةً وأربعةٌ وعشْرُونَ أخًا لأمٍّ: هي مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، وتعول إلَى سبعةَ عَشَرَ، ويرجع عدد الأخوات للأب والجَدَّاتُ إلى النِّصْف، وعَدَدُ الإخوةِ إلَى الرُّبُع؛ للموافقة بيْن السهام وعدد الرؤوس، فيحصُلُ ثلاثةٌ وستةٌ واثنا عَشَرَ وأَربعةٌ، هي عدد الزَّوْجَاتِ، وهي كلُّها داخلةٌ في الاثْنَيْ عَشَرَ، فنضربُ اثْنَيْ عَشَرَ في أصْل المَسْأَلة بعَولها، تبلغ مائتين وأربعةً، منها تصحُّ. ستّ جداتٍ وتسعُ بناتٍ وخمسةَ عَشَرَ أَخًا: وهي مِنْ ستة، ولا موافقةَ بين السهام وأعداد الرؤوس، لكنَّ أعداد الرؤوس متوافِقَةٌ. فعلَى طريقةِ البَصْرِيِّينِ نقفُ منْها ستَّةً مثلًا، ونقابل بينها وبين التِّسعةِ، فنجدهما متوافَقَيْنِ بالثُّلُث، فتَرْجِعُ التسعة إلى ثلاثةٍ، ثم نقابِلُ بيْن السِّتَّة والخمسةَ عَشَرَ، فترجع هي إلى خمسةٍ، فنجد جُزءَي الوفْقِ متباينَيْنِ، فنضربُ أحدَهُما في الآخر، تكون خمسةَ عَشَرَ، تضربها في العَدَدِ الموقُوفِ يكُونُ تِسْعِينَ، نضربُهَا في أصْل المَسْأَلة، تبلُغ خَمْسَمَائَةٍ وأربَعين.
وعلى طريقة الكُوفِيِّينَ: إذا وَقَفْنَا الستَّةَ، وقابَلْنَا بها التِّسْعة، ضربْنا وَفْقَ أحدِهِما في الآخرِ تبلغ [ثمانيةَ عَشَرَ، نقابل بينهما وبيْن الخمسةَ عَشَرَ، ونضرب وَفْق أحدِهِما في الآخَرِ، تبلغ] (¬1) تِسعِينَ؛ نضربُها في أصْل المَسْأَلة. ستُّ جداتٍ وثلاُثونَ أَخًا لأُمٍّ وأربَعُونَ أخْتًا لأَبٍ. نصيبُ الإخوةِ يوافِقُ عدد رؤوسهم بالنِّصْف، فيرجعُ إلَى خمسَةَ عشَرَ، ونصيبُ الأخَواتِ يوافِقُ عَدَدَهُنَّ بالرُّبُع، فيرجعُ إلَى عَشَرة، فمعنا إذن: ستةٌ، وخمسةَ عَشَرَ، وعشَرَةٌ، فتقفُ السِّتة، ونقابلُ بها خمْسَةَ عَشَرَ، فيرجع إلى خمسةٍ، [لموافقتهما بالثلث، وعشرة فيرجع إلى خمسة] (¬2) لموافقتهما بالنِّصْف، فَقَدْ تماثَلَ الراجِعَانِ، فنكتفي بأحَدِهِما، ونضرِبُه في السِّتَّة الموقوفة، تبلغُ ثلاثِينَ، نضرُبَها في أصْل المَسْألة بعَوْلِهَا تبلغ مائتَيْن وعشرةٌ، منها تصحُّ على طريقة البَصْرِيِّينَ. وعَلَى طريقةِ الكُوفِيِّينَ: إِذَا وقَفْنا الستَّةَ، وقابَلْنَا بها الخَمْسَةَ عَشَرَ، ضَرَبْنَا وَفْقَ أحدِهِمَا في الآخَرِ، تبلغ ثلاثين، ثم نقابل وبينها وبين العشرة، فنجد العَشَرَةَ داخلةً في الثلاثين، فنكتفي بالثلاثين ونضربها في المسألة. إحدَى وعشْرُون جدةً وخمسٌ وثلاثُونَ بِنْتًا وثلاثُونَ أُخْتًا لأب: نَقِفُ الواحدةَ والعِشْرِين ونَرُدُّ الخمْسَةَ والثَّلاثِينَ إلَى سبعها لموافَقَتِها بالسّبع، ونَرُدُّ الثلاثِينَ إلَى ثلثها؛ لموافَقَتِها بالثُّلُث، فيحصُلُ معنا خمسةٌ وعشرَةٌ، والخمْسَةُ داخلةٌ في العشرة، فنضرب العشَرَةَ في العدَدِ الموقُوفِ، تبلغ مائتَيْنِ وعشرَةً، نضربها في أصل المسألةِ، تبلغ ألفًا ومائَتَيْنِ وسِتِّينَ، منها تصحُّ. والكوفيُّون يضْرِبونَ وَفْقَ أحد العددَيْنِ من الواحِدِ والعشْرين والخمسةِ والثَّلاَثين في الآخَرِ، تبلغ مائةً وخمسةً، وهي مع الثلاثِينَ يتوافَقَانِ بأجزاءِ خمْسَةَ عَشَرَ، فيأخذون وفْقَ الثلاثين، وهو اثنانِ، ويضربُونَها في المَائَةِ والخَمْسَةِ، تبلغ مائَتَيْنِ وعَشَرةً، يضربونها في أصْل المَسْأَلَةٍ. زوجٌ وثلاثُ وستُّونَ جَدَّةً وسبعون أخًا لأُمٍّ وخمسةٌ وسبْعُونَ أُختًا لأبٍ المسألة من ستة، وتعول إلَى عشرَةٍ، تَقِفُ الخمسةَ والسبعين فالخمسة والثلاثون توافقُها بالخَمْس، فترجع إلَى سبعة، والثلاثةَ والستُّون بالثلث، فنرجع إلَى أحدٍ وعشْرِين، فيحصل معنا سبعةٌ واحد وعشرُون، وهما متوافِقانِ بالسَّبْع، فنضرب سبع أحدهما في الآخر، تبلغ اثنين وأربعين، نضربها في العدد المَوْقُوف، وهو خمسةٌ وسبعون، تبلغ ثلاثة آلاف ¬
ومائة وخمسين، نضربها في أصل المسألة بِعَولها، تبلغ أحدًا وثلاثين ألفًا وخمسمائة، منْها تصحُّ. واعْلَمْ أنَّ فيما ذكرناه مِنَ الأعْدَادِ المتوافِقَةِ لا فَرْقَ بين عددٍ وعددٍ، بل تَقِفُ أيها شئْتَ، والعدد الذي تصحُّ منه المسألةُ بَعْدَ تمامِ العَمَل لا يختلفُ، وإنِ اتَّفقَ اختلافُ، فاستَدِلَّ به على الغَلَط، وإنْ وافَقَ أحَدَ الأعدادِ الثلاثَةِ الآخرين، والآخَرَانِ متباينان. فلا يجوزُ أنْ نَقِفَ إلاَّ الذي يوافِقُهُما، ويسمى هذا الموقُوفُ المُقَيّد (¬1). مِثَالُهُ: أربعُ جداتٍ وستِ وخمسون أختًا لأبٍ وأحدٌ وعشْرُون أخًا لأمٍّ: وهي من ستَّةٍ، وتعولُ إلَى سبعةٍ، ويرجع نصيبُ الأخوات إلَى أربعَ عَشَرَ؛ لأن سهامَهُنَّ يوافِقُ عددهُنَّ بالربع، فيحصل معنا أربعةٌ وأربعةَ عَشَرَ وأحدٌ وعشْرُون والأربعةَ عَشَرَ توافق الأربعةَ بالنِّصْف، والأحَدُ والعشرين بالسبع، فتقف الأربَعَةَ عَشَرَ، ونرد الأربعةَ إلى اثنَيْنِ، والأحد والعشرين إلَى ثلاثة، ونضربُ أحدَهُما في الآخر، تكون ستة، تضربها في الأربعةَ عَشَرَ الموقوفةِ، تبلغ أربعةً وثمانين، نضربها في أصْلِ المسألة بعَوْله، تبلغ خَمْسَمائَةٍ وثمانيةً وثمانينَ، منها تصحُّ المسألة. زوجتان وثلاثُ جَدَّاتٍ وخمسُ أخواتٍ لأبٍ، وسبْعٌ لأم: هي مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، وتعولُ إلَى سبعةَ عَشَرَ، ولا موافقة بين السِّهام ولا بين أعداد الرؤوس، فنضرب اثنَيْنِ في ثلاثةٍ، تكون ستَّةً، نضربُها في خمسة، تكون ثلاثين، نضربها في سبْعةٍ، تكون مائتَيْنِ وعشرة، نضربُها في أصْل المسألةِ بعَوْلها، تبلغ ثلاثةَ آلافٍ وخَمْسَمَائَةٍ وسبعَين، منها تصحُّ. هذا بيانُ التصحيح، فإذا فَرَغْتَ مِنْه، وأردتَّ أن تَعرِفَ نصيبَ الصِّنْفِ كلِّ واحد من مما حصل من الضَّرب فلَهُ طرقٌ: ¬
أشهَرُها وأحِقُّها: أن تضرب نصيب كلِّ صِنْفٍ من أصْلِ المَسْأَلَةِ في العددِ المَضْرُوب في المَسْأَلَةِ، ويعرف بعدد المنْكَسِرِينَ، فما بلغ، فهُوَ نصيبُ ذلك الصِّنْفُ، وإذا قَسَّمْتَ المبْلَغَ عَلَى عدد رؤوسهم، فالخَارِجُ من القسْمَةِ نصيبُ كُلِّ واحدٍ من الصِّنْفِ. مِثَالُهُ: زوجَتانِ وأربَعُ جَدَّاتٍ وستُّ أخواتٍ لأبٍ: هي من اثْنَيْ عشَرَ، وتعولُ إلَى ثلاثةَ عَشَرَ، ويرجعُ عددُ الجدات إلى اثنين، وعدد الأخواتِ إلَى ثلاثةٍ، فيحصل اثنان واثنان وثلاثة، تسقط أحد المتماثلَيْنِ، وتضرب الآخر من ثلاثةٍ، تكون ستةً، تضرب في أصل المسألةِ بعَوْلها، تبلغ ثمانيةَ وسبعين، كان للزوجين من أصل المسألة ثلاثةٌ، فتُضْرِبُ في ستةٍ تبلغ ثمانيةَ عشَرَ، فهو نصيبهما، وإذا قُسِّم ذلك عَلَى عدد رؤوسهما، خرج تسعةٌ، وكان للجَدَّات سهمان، تُضْرَبُ في ستةٍ، تبلغ اثنَيْ عَشَرَ، وإذا قُسِّم عليهن، خَرَج ثلاثةٌ، وكان للأخواتِ ثمانيةٌ، تضرب في ستَّةٍ، تبلغ ثمانيةً وأربعين، يقسم على عددِهِنَّ تخرج ثمانية. الثاني: تقسَّم سهام كلِّ صنْفٍ من أصْل المسألة عَلَى عدد رؤوسهم، فما خَرَجَ من القِسْمة، يُضْرَب في المضْرُوب في أصْل المَسْأَلة، فما حصل، فهو نصيبُ كلِّ واحدٍ من الصَّنْف. ففي المثال المذْكُور يُقسَّم نصيبُ الزوجَيْنِ على عدد رؤوسِهِما، يخرج من القسْمة سهْمٌ ونصف، تضربُ في الستَّةِ المضْرُوبَةِ في المَسْأَلة، تبلغ تسعةً، فهي نصيبُ كلِّ واحدةٍ منهما، ويُقَسَّم نصيبُ الجداتِ علَيْهِنَّ، نخرج من القسْمة نصْف سهم، يُضْرَبُ في الستة، تكون ثلاثةً، فهو نصيبُ كلِّ واحدٍ منهما، ويُقَسَّم نصيبُ الجَدَّاتِ عليهن، يخرج من القسمة نصْفُ سهم، يضربُ في الستَّةِ، تكونُ ثلاثة، فهي نصيبُ كلِّ واحدةٍ منهن، وعلى هذا، فقِسِ [الأخوات]. الثالثُ: يُقسَّم العدد المضْرُوب في المَسْأَلة عَلَى عَدَدِ رؤوس كل صِنْفٍ منهم، فما خَرَجَ علَى القِسْمة، نضربُهُ في نصيب ذلك الصِّنْف، فما بَلَغَ، فهو نصيبُ الواحِدِ من ذلك الصِّنْف. ففي المثالِ المذْكُور: تُقسَّم الستَّةُ على عدد رؤوس الزوجتين، تخرج من القسمة ثلاثةٌ، نضربها من نصيبِ الزوجتين من أصْل المسألة، وهو ثلاثةٌ، تبلغ تسعةً، فهو نصيبُ كلِّ واحدةٍ منهما. وعلى القياس. الرابع: نقابلُ بَيْن نصيبِ كلِّ صنْفٍ وعدد رؤوسهم ونضبط النسبة بينهما، وتأخذ بتلك النِّسْبة في العَدَدِ المَضْروب في المَسْأَلِة، فهو نصيبُ كلِّ واحدٍ من ذلك الصِّنْف. ففي المثالِ المَذْكُور: نصيبُ الزوجَتَيْن ثلاثةٌ، وهما اثنان، والثلاثةُ مثْلُ الاثْنَيْنِ،
ومثل نصْفِهِما، فتأخذ مثل العدد المضْرُوب في المسألة، ومثل نصفه وهو تسعةٌ، فهو نصيبُ كُلِّ واحدٍ؛ منهن، ونصيبُ الأَخَوَاتِ ثمانيةٌ، وعدَدُهن ستةٌ، والثمانيةُ مثلُ السِّتَّةِ، ومثل ثلُثِها، فلكلِّ واحدةٍ منْهما مثْلُ العَدَدِ المضْرُوب، ومثلُ ثُلُثِهِ، وهو ثمانيةٌ، [وعددهُنَّ ستةٌ] ونصيبُ الجدات سهمانِ مِثْلُ نصْفِ عددِهِنَّ، فلكلِّ جدة منهما نِصْفُ العدد المضْرُوب في المسألة. الخامس: وُيعْرَفُ به نصيبُ كلِّ واحدٍ من الورثَةِ قَبْلَ الضَّرْب والتصحيح إن كان الكَسْرُ عَلَى صِنْفٍ واحدٍ، فانظر: إِن لم يوافِقْ سهامهم عددهم، فيصيبُ كُلِّ واحدٍ منهم بعدَدِ سهام جميع الصِّنْف من أصْل المَسْأَلَةَ؛ ونصيبُ كلِّ واحدٍ من الأصْنَاف الذين لَمْ يَنْكَسِر علَيْهم سهامهم بعَدَدِ رؤوس المنْكَسِر عليهم، إن كان لكلِّ واحدٍ منهم سهْمٌ واحدٌ، وإن كان أكْثَرَ منْ سَهْم، ضَرِبَ ما لكلِّ واحدٍ منهم من أصْل المسأَلَةِ في عَدَد المنكسر عليهم، فما حصل، فَهُو نصيبُ كلِّ واحدٍ منهم، وإنْ وافق سهامَهُم عددهم، فنصيبُ كلِّ واحدٍ من المنكَسِر علَيْهم بعَدَدِ وَفْق سهامهم من أصل المسأَلَةِ، ونصيبُ كلِّ واحدٍ ممن لَمْ يَنكَسِر عليهم سهامهم وفق عدد رؤوس المنكسر عليهم؛ عَلَى ما ذكرنا. المثال الثالث: زوجٌ وأخوانِ لأمٍّ وخمْسُ أخواتٍ لأبٍ: تعول من ستةٍ إلَى تسعةٍ، وتصحُّ من خمسةٍ وأربعين، ونصيبُ كلِّ أخت بعدد سهامِ جميعِهِنَّ منْ أصْل المَسْأَلَةَ، وهو أربعةٌ، ونصيبُ كلِّ واحدةٍ من الأخوَيْنِ خَمْسَة بِعَدَدِ، رؤوسِ الأخوات المنكسر عليهن، ونصيب الزوْجِ خمسةَ عَشَرَ؛ لأنه كان له أكثرُ مِنْ سهْمٍ واحدٍ، وهو ثلاثةُ، فتضربُ في عدد رؤوسهن، لو كان عدد الأخواتِ عَشَرَةً، وافق سهامَهُنَّ عددَهُنَّ بالنِّصْف، فترد عدَدَهُنَّ إلى النصف، ويكون نصيبُ كلِّ واحدةٍ بِعَدد نِصْفِ ما لجميعهن من أصْل المَسْأَلة، وهو اثنان، ويكونُ لكُلِّ واحدٍ من الأخْوَيْنِ خمسةٌ نصف عدد رؤوس الأخوات، وللزوج ثلاثةٌ مضروبةٌ من نصفْ عدَدِ رؤوسهن. وإن كان الكَسْر عَلَى صِنْفَيْنِ، ولم يكُنْ بين السِّهَام وعدد الرؤوس موافقةٌ، أو كانتْ، وَرَدَدَتَّ عدد الرؤوس إلى الوَفْق، فانْظُرْ في عدَدَ الرؤوس، [ولهما أحوال الثلاث] (¬1). الحالةُ الأولَى: إن كانا متباينَيْنِ، فالحاصلُ من ضَرْبِ كلِّ واحد من الصِّنْفَيْنِ في سهام الصنف الآخَرِ من أصل المسألة، وهو نصيبُ كلِّ واحَدٍ من الصِّنْفِ المضْرُوب في ¬
سهامِهِم، والحاصلُ من ضَرْب عَدَدِ أحد الصنفَيْنِ في الآخرِ، إذا ضربْتَهُ من نَصِيب الواحِدِ مِنَ الَّذين لم ينْكَسِرْ عليهم سهامُهُم، كان المبلغُ نَصِيبَ ذلكَ الوَاحِدِ من ذلك الصِّنْف. المثال: خمْسٌ بناتٍ وأربعُ زَوْجاتٍ وأربعُ جَدَّاتٍ وأخٌ لأبٍ: هِيَ مِنْ أربعةٍ وعشرِينَ، وتصحُّ من أربَعِمِائَةٍ وثمانِينَ، والكسر في البنات والزَّوجَاتِ، ولا موافَقَةَ بين عددَيْهِما، فإذا ضرَبْتَ عدد رؤوس البنات في سِهَامِ الزَّوجَات، حَصَل خمْسةَ عَشَرَ، فهو نصيب كلِّ واحدةٍ من الزَّوْجَاتِ، وإذا ضربْتَ عدد رؤوس البنات الزوجات من سهام البنات، حَصَل أربعةٌ وستُّونَ، فهو نصيبُ كلِّ واحدةٍ من البنات، وإذا ضربْتَ عدد رؤوس في الزَّوْجاتِ، حصل عشْرُونَ، فإذَا ضربت في نصيب كل واحدة من الجدات كان عشرين؛ لأن لكل واحدة واحد فهو نصيب كلِّ واحدةٍ منْهُنَّ، وكذلك نصيبُ الأخ، ولو كان بَدَلَ الأربع جدَّتَانِ، ضربتَ العشْرِينَ في اثنَيْنِ، فالحاصلُ نصيبُ كلِّ واحدة منهما. الحالةُ الثانيَةُ: إذا كان عدد الرؤوس متوافَقَيْنِ، سواءٌ تداخلا أم لا، فإذا ضربْتَ وَفْقَ أحد العدَدَيْنِ في سهامِ الآخَرِ، كان الحاصلُ نصيبَ كلِّ واحدٍ من الصِّنْف المضْرُوب في سهامِهِمْ، وإذَا ضربْتَ وَفقَ أحدهما في جميع الآخر، ولا تدَاخُلَ بينهما، وضربْتَ ما حصَلَ في نَصِيب الوَاحِد من الَّذِينَ لم ينْكَسِر عليهم سهامُهم، كان الحاصلُ نصيبَ الوَاحِدِ، من ذلك اَلصِّنْفِ، وإنْ تداخَلاَ، ضربْتَ أكثرهما في النَّصِيبِ، فما حَصَل، فهو نصيبُ الواحِدِ منهم. المثالُ: زوْجٌ وتسعةُ إِخوة لأمٍّ وخمسةَ عَشَرَ أُخْتًا لأب: هي من ستَّةٍ، وتعول إلَى تسعة، وتصحُّ من أربعمائةٍ، وخمسْةٍ، تضرب وَفْقِ عدد الإخوة في سهام الأخوات تكون اثْنَيْ عَشَرَ، فهو نصيبُ كُلِّ أختٍ ووفق عدد الأخواتِ في نصيبِ الإخوة، تكون عشرة، فهو نصيبٌ كل أخٍ وَفْقٍ أحَدهِمَا في جميع الآخَرِ، تبلغ خمسةً وأربَعِينَ، تضربُهُ في سهام الزَّوْج، وهي ثلاثةٌ تبلغ مائةً وخمسْةً وثلاثِينَ، فهو نصيبُ الزَّوج، فإنْ كانَ عدَدُ الإخوة اثْنَيْ عَشَرَ وعدد الأخَواتِ ستةَ عَشَر، فالسهام توافِقُ الأعداد، فترجع عددُ الإخوةِ إلَى ستَّةٍ وعدد الأخوات إلَى أربعةٍ للموافقةِ في الرُّبُع، وبَيْن العددَيْنِ موافقةٌ بالنِّصْف، فتصحُّ المسألةِ مِنْ مائة وثمانيةٍ، وإذا ضربْتَ وَفق الراجع من عدد الإِخوة، وهو ثلاثة، في وَفْقِ سهامِ الأخَواتِ، وهو واحدٌ؛ [لأن سهامهم [وافق عددهم بالربع، كان الحاصلُ ثلاثةً، وهو نصيبُ كلِّ أختٍ، وإذا ضربْتَ وَفقَ الراجعِ من عدَدِ الأخواتِ، وهو اثنان، في وَفْقِ سهام الإخوة] (¬1) وهو واحدٌ] (¬2)، كان الحاصلُ اثنَيْنِ، وهو نصيبُ كِلِّ أخٍ، ¬
وإذا ضربْتَ وفق أحد الراجعين في جَمِيعِ الآخر، حصل اثنا عَشَرَ، فإذا ضربْتَهُ في سهامِ الزَّوْجِ من الأصْلِ، حصل ستَّةٌ وثلاثون، وهو نصيبُ الزوج. الحالة الثالثة: إذا كان عدَدُ الرؤوس متماثَلَينِ، فنصيب كلِّ واحدٍ من كل صنف بعدد ما كان لجميعهم من أصل المسألة، ونصيب كل واحد ممن لم ينكسر عليهم سهامهم هو الحاصل من ضرب ما كان له في عدد أحد الصنفين المنكسر عليهم سهامهم. المِثَالُ: خمْسُ بنَاتٍ، وخَمْسُ جدَّاتٍ وأَخٌ: [هي] مِنْ ستَّةٍ، وتصحُّ من ثلاثِينَ ونَصيبُ كلِّ واحدةٍ مِنَ البَناتِ مثْلُ ما كان لجميعهِنَّ، وهو أربعةٌ، ونصيبُ واحدةٍ من الجدَّات مثلُ ما كان لجميعِهِنَّ، وهو واحدٌ، ونصيبُ الأخَ هُو الحاصِلُ منْ ضَرْبِ ما كَانَ له في خَمْسَةٍ، وهو خمسةٌ، وإنْ كان الكَسْرُ عَلَى ثلاثةِ أصنافٍ، فانظر: إن كانت أعْدادُ الرؤوسِ متباينةً، فأفرز الصِّنْفَ الَّذينَ تريد أن تَعْرِف نصيبَهُمْ، واضْرِبْ أحَدَ العَدَدَيْنِ الآخَرَيْنِ في الآخر، فما بلغ، فاضْرِبْه في نصِيبِ الصِّنْفِ الَّذِين أفرَزْتَهُمْ، فما بلغَ، فَهُوَ نصيبُ كلِّ واحدٍ منهم، [واضربْ عدَدَ رؤوسِ الأصْنَافِ الثلاثةِ بَعْضهم في بَعْضٍ، فما بلغ، فاضْرِبْه في نَصِيبِ منَ انْقَسَمَ علَيْهم نصيبُهم من أصْل المَسْأَلَة، فما بلغ، فهو نَصِيبُ كُلِّ واحدٍ منهم] (¬1). المثال: أربعُ زَوْجاتٍ، وثلاثُ جَدَّاتٍ، وخَمْسُ بناتٍ، وأختٌ لأبٍ: هِيَ مِنْ أربعةٍ وعِشْرِينَ، وتصحُّ من ألْفٍ وأربعمائةٍ وأربَعِينَ، فإذا أردتَّ [أن تعرف] نصيبَ الزَّوْجاتِ، فافْرزْهُنَّ، واضرِبْ عدَدَ رؤوس البناتِ في عَدَدِ رُؤُوس الجَدَّاتِ؛ تبْلُغ خمْسةَ عَشَرَ، اضربْهُ في نصيب الزوجَاتِ في الأَصْلِ، تبلغْ خمسةَ وأرَبعينَ، فهو نصيبُ كلِّ واحدة منهنَّ، وإذا أردتَّ نصيبَ الجَدَّاتِ، فأفرزهن، واضربْ عدد الزَّوْجات في البناتِ، تَبْلُغ عِشْرِين، اضْرِبْه في نصيبِ الجَدَّاتِ، تبلُغْ ثمانِين، فهو نصيبُ كلِّ واحدةٍ منهن، وعلى هذا القياسِ، حُكْمُ البنات. واضْرِبْ -لمعرفةِ نَصِيبِ الأُخْتِ- عدَدَ الأصْنَافِ المنكسر عَلَيْهم بعْضهم في بَعْضٍ، تبلغْ سِتِّين، اضْربْه في نصيبها مِنْ أصْل المَسْأَلة، وهو واحدٌ يكُونُ سِتِّينَ، فهو نصيبُها. فإن كانَتِ الأعدادُ متوافقةً أو متماثلةً، فالعملُ عَلَى قياسِ ما ذكرنَاهُ، في الكَسْرَيْنِ، وصورةُ التَّماثُلِ هيِّنةٌ. ¬
وأما التوافُقُ، فَكَتِسْع بناتٍ، وسِتِّ جَدَّاتٍ، وخَمْسَةَ عَشَرَ أخًا لأَبِ: هي مِنْ ستِّةٍ، وتصحُّ من خَمْسَمَائَةٍ وأرْبَعِينَ: إذا أرَدَتَّ أنْ تَعرِفَ نصيبَ البَنات، فأفرزهن، واضْرِبْ وَفْقَ أحد الصنفين مِنَ الجَدَّاتِ والإِخوة في وَفْق الآخر تكُون عَشَرَةٌ، تُضْرَبُ في نصيبِ البَنَات، تبلُغْ أربعينَ، فهو نصيبُ كلِّ واحدةٍ، منْهنَّ وكذلك تفرز الجَدَّاتِ، وَتَضْرِبُ وَفْق أحَدِ الصِّنْفَيْنِ الآخَرَيْنِ في وَفْق الثاني فتكون خَمْسَةَ عَشَرَ، تضربُ في نصيب الجَدَّات، تكون خَمْسَةَ عَشَرَ؛ فهو نصيبُ كلِّ واحدةٍ منهنَّ، وتفرز الإخوة، وتضْرِبُ وَفْق أحد الآخَرَيْنِ في وَفْق الثَّانِي تكُونُ ستَّةً تَضرِبُها في نصيبهم، تكوَن كذلك، فهو نصيبُ كُلِّ واحدٍ منهم والله أعْلَمُ بالصَّوَاب. النَّظَرُ الثَّاني: في المنَاسَخَاتِ: [أَمَّا] إذا ماتَ عَنْ جماعه منَ الوَرَثَةِ، ثُمَّ مَاتَ أحَدُهُمْ قَبْلَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ فَلِلْمَسْأَلَةِ حَالَتَانِ: الحالَةُ الأُولَى: أن تَنْحَصِرَ ورثةُ المَيِّت الثاني في البَاقِينَ. ويكونُ الإرْثُ من الثَّاني عَلَى حَسب إرثِهِم من الأوَّل، فنجعل كأَنَّ الميِّت الثاني لم يكُنْ، ونقسَّم التَّرِكَةُ علَى الباقِينَ، ويُّتصوَّر ذلك فيما إِذا كان الإرْثُ عنهما بالعُصُوبة كَمَنْ مات عَنْ إِخوةٍ وأَخَواتٍ من الأب، ثم ماتَ أحَدُهُمْ عَنِ الباقين، أو عنْ بَنِينَ وبَناتٍ ثم مات أحَدُهُمْ، وخلَّف الإخوة والأخَوَاتِ، وفيما إذا كان الإرْثُ عنهما بالفرضية، كما إذا ماتت عن زَوْج وأمٍّ وأَخواتٍ مختَلِفاتِ الآبَاءِ، ثم نَكَحَ الزَّوْجُ إحداهُنَّ، فماتت عن الباقين، وفيما إذَا كان بعْضَهُم يَرِثُ بالفرضية وبعضهم بالعُصُوبَةِ، كما إذا مات عنْ أُمٍّ وإِخوةٍ لِأُمٍّ، ومُعْتِقٍ، ثم مات أحَدُ الإِخوة عن الباقين. ولا فَرْق بين أن يرث كلُّ الباقين من الثاني أو بعْضهم؛ كما إِذا مات عن زوْجَةٍ وبَنِين، وليست الزوجَةُ أُمَّ البنين، ثم مات أحدُ البنين عن الباقِينَ. الحالة الثَّانِيَة: ألاَّ يكونَ كذَلِكَ بألا تنْحَصِر ورثةُ الثَّاني في الباقينِ، إمَّا لأن الوارِثَ غيْرهم، أو لأنَّ غيرهم يَشْرَكُهم، أو تنحصر، إلاَّ أنَّ مقاديرَ الاستحقَاقِ أو بعْضها تَتَفاوَتُ، فنصح مسألتيّ الأوَّل والثَّانِي جميعًا، ونُنْظِرَ في نصيب الثَّاني من مَسْأَلة الأوَّل، فإنِ انقَسَم نصيبُه على مسألَتِهِ، فذاك، وإلاَّ، فنقابل نصيبه بمَسْأَلتِهِ المصحَّحة، إنْ كان بَيْنهما موافقةٌ ضرب أَقَلُّ جزْء الوَفْق من مسْأَلَته في مسْأَلةِ الأوَّل، وإن لم يكن ضرب جميعُ مسْأَلتِهِ في مَسْأَلة الأَوَّل، فما بَلَغَ، تصحُّ منه المسأَلَتَان. وإذَا أَرَدَتَّ معرفةَ نَصِيبَ كلِّ واحدٍ منِ الورثَة، مما حَصَل من الضّرْب، فاعْلَمْ أنَّ [مِنَ] له شيء من المسْأَلة الأُولَى يأْخُذُه مضْروبًا فيما ضربته في المَسْأَلة الأُولَى، وهو
تمامُ المَسْأَلة الثَّانية أوفقها ومَنْ له شيْءٌ من الثانِيَةِ، يأخُذُه مضْرُوبًا في نصيب المَيِّت الثَّانِي من المَسْأَلَة الأُولَى، أو في وَفق النَّصِيبِ، إن كانَ بَيْن نصيبِهِ ومسْأَلَتِهِ موافَقَةٌ. الأمثلة: زوجٌ وأخْتانِ لأَبٍ، ماتَتْ إحداهما عن الأُخْرَى، وعن بِنْتِ الأُولَى من سبعةٍ، والثانية من اثنين، ونصيب الميِّت الثَّاني من الأوَّل اثْنَانِ. زوجةٌ وثلاثةُ بنينَ، وبنْتٌ، ثم ماتَتِ البِنْتُ عن أُمٍّ وثلاثةٍ إخْوَة، وهمُ الباقُونَ مِنْ ورثَةِ الأوَّل. المسألةُ الأُولَى من ثمانيةٍ، والثانيةُ تصحُّ من ثمانيةَ عَشَرَ، ونصيبُ الميِّتة مِنَ الأُولَى سهْمٌ لا موافقةَ بَين نصيبها ومَسْأَلَتها، فتُضْرَبُ المسألةُ الثَّانيةُ في الأُولَى، تَبْلُغْ مائةً وأربعةً وأربعين للزَّوْجة؛ منها سهمٌ مضْروبٌ في ثمانيةَ عَشَرَ، ولكلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ مضروبان في ثمانيةَ عَشَرَ، تكونُ ستةً وثلاثِينَ، وللبنْتِ ثمانيةَ عَشَرَ، للأمِّ منْها ثلاثةٌ، وهو نصيبها منَ المَسْأَلة الثَّانية مضروبًا في نصيب الميت الأُولَى، ولكلِّ أخ خمسةٌ، فيحصل للأمِّ أحدٌ وعشْرونَ، ولكلِّ واحدٍ أحدٌ وأربعون. جَدَّتانِ وثَلاثُ أخواتٍ متفرقاتٍ، ثم ماتَتِ الأختُ منَ الأمِّ، عن أختٍ لأمٍّ، وهي الأختُ مِنَ الأبوَيْنِ في المسْألة الأُولَى وعن اختَيْنِ لأبٍ وأمٍّ، وعن أُمِّ أمِّ، وهي إِحْدَى الجَدَّتَيْنِ فالأُولَى من اثني عَشَرَ، والثانيةُ من ستَّةٍ، ونصيبُ الأخْتِ الميتة من المسألَةِ الأُولَى سهمان، ونصيبها ومسألتها يَتَوافَقانِ بالنَّصْف، فتضرب نصْف مسألتها في الأُولَى، تبلغ ستةً وثلاثين، كان للجدِّتَيْنِ سهمان يأخذانهما مضروبَيْنِ في ثلاثةٍ، تكونُ ستة، وكذا الأخت من الأب، وكان للأخت من الأَبَوَيْن ستَّةٌ تأخُذُها مضْروبةً في ثلاثةٍ، تكونُ ثمانيةَ عَشَرَ، وكان لَهَا مِنَ المسألَةِ الثَّانِيَةِ سهمٌ تأخُذُه مضْرُوبًا في وفْق نصِيبِ الميتة من الأُولَى وهو سهْمٌ. وللأختَيْنِ مِنَ الأبوَيْنِ أربعةٌ مضروبةٌ في سهْم ولأمِّ الأمِّ سهمٌ مضروبٌ في سهْمٍ، فيحصل للأخْتِ الوارثةِ في المسْأَلتَيْنِ تسعةَ عَشَرَ، وللجَدَّة الوارثةِ فيهما أربعةٌ. ولو ماتَ ثالثٌ قبل قسمةِ التَّركةِ، ذلك طريقَانِ: أحدُهُما: أن تصحَّحَ المسائلُ الثَّلاثُ، وتأخذ نصيبُ المَيِّتِ الثَّالث منهما، وتقابِله بما تصحُّ منْه مسأَلَتُهُ، فإنِ انْقَسَمَ نصيبُه على مسألتِهِ، فذاك، وإلاَّ، فإنْ توافَقًا، ضُرِبَتْ وفْق مسألته فيما صحَّت منْه الأَوليانِ، وإنْ تبايَنَا، ضُرِبَتْ مسألتُهُ فيه. وعلى هذا القياس تعمل، إذا ماتَ رابعٌ وخامسٌ قبل القسْمة، ثم مَنْ كان لَهُ شيء من المسألتَيْنِ الأُولَيَيْنِ أو مِنْ إحداهما، أخَذَه مَضْروبًا في الثَّالثة أو في وَفَقْها، ومَنْ كان
له شيءٌ مِنَ الثالثة، أخذه مضْرُوبًا من نصيبِ الثَّالث مِنَ المسألَتَيْنِ الأولَيَيْنِ أو في وفقه. المثال: زوْجٌ وأمٌّ وثلاثُ أخواتٍ متفرقات، ثم ماتَ الزَّوْج عن خمسة بنين، وخَمْسِ بناتٍ، ثم مات أحدُ البنين عن أربعة بنين، وأربع بناتٍ: المسألةُ الأولَى: من تسعةٍ، والثَّانيةُ تصحُّ من خَمْسَةَ عَشَرْ، ونَصيبُ الميِّت الثَّاني من الأوَّل ثلاثةٌ، وبينهما موافقةٌ بالثُّلُث، تُضْرَبُ ثلث الخمسة عَشَرَ في الأُولَى، تبلُغْ خمسةً وأربعين، كان للأُخْت من الأبوَيْنِ من المَسْألَةِ الأُولَى ثلاثةٌ تأخُذُه مضْروبًا في خمسةٍ، تكون خمسةَ عَشَرَ، وكان للأخْتِ من الأَب سهْمٌ، تأخُذُه مضْروبًا في خَمْسَةٍ، تكون خَمْسَة، وللأخت مِنَ الأمِّ كذلك، وللأمِّ كذلك، وإن كان للزَّوْجِ ثلاثةٌ، تُضْرَب في خمْسةٍ، تكونُ خَمْسَةِ عَشَرَ، تنقسمُ عَلَى مسألته، ونصيبُ كلِّ ابنٍ سهْمَان، فإذَنْ نصيبُ الميِّت الثالثِ سهْمَانِ، وتصحُّ مسألته من اثني عَشَرَ، وبينهما موافقةٌ بالنِّصْف، فتضرب نصف الاثنَيْ عَشَرَ، فما صحَّت منه المسألتان، وهو خمسةٌ وأربعُونَ، تبلُغُ مائتَيْنِ وسبْعين للزَّوْج، منها خمسةَ عَشَرَ مضروبة فيما ضَرَبْنَاه من الخَمْسَةِ والأربعين، تبلغ مائتَيْن وسبْعِينَ، للزَّوْج منها خمسةَ عَشَرَ مضروبةٌ فيما ضرَبْناه في الخَمْسَةِ والأربَعِينَ وهوَ ستَّةٌ تكونُ تسْعينَ، وكان للأخْتِ من الأبوَيْنِ خمسةَ عَشَرَ، تضرب في ستَّة تبلغ تسعين، وللأخْتِ من الأبِ خَمْسةٌ مضروبة في ستَّةٍ تكون ثلاثِينَ. وكذلك للأخت من الأب وللأم، كان لكلِّ ابْنٍ من المَيِّت الثَّانِي سهْمَانِ، فيحصُلُ لكلِّ واحدٍ منهم اثنا عَشَرَ، اضْرِب السهمَيْن في السِّتَّة، فينقسمُ نصيبُ الميِّت الثالثِ عَلَى ورثته، كان لكلِّ ابْن من مسألته سهْمَان، فيُضْرَبَان في وَفْق نصيبِهِ منَ الخَمْسَةِ والأربعين، وهو واحدٌ، فيكون سهْمَيْنِ، ولكلِّ بنتٍ سهْمٌ، لِمِثْلِ ذلك. زوْجٌ وخمسةُ إِخوةٍ، ثم مات الزَّوْج عن اثنَيْنِ وبنْتٍ، الأُولَى تصحُّ من عشَرةٍ، والثانيةُ من خمسة، ونصيبُ الميِّت الثاني من الأولى خمسةٌ فينقسم نصيبُهُ عَلَى مسألته، ثم ماتَ أحَدُ الابْنَيْنِ عن أخ وأُخْتٍ، مسألتُهُ من ثلاثةٍ ونصيبُه اثنان، [و] لا موافقةَ بينهما، تُضْرَبُ ثلاثةٌ في المسألة الأُولَى تبلغْ ثلاثين كان للزوج من الأولَى خمسةٌ تضربها فيما ضرَبْنا [هـ] في الأُولَى تبلغ خمسةَ عَشَرَ، ولكلِّ أخ ثلاثةٌ، ثم نُقَسّمُ ما أصاب الميِّت الثانِي، وهو خمسةَ عَشَرَ، كان لكلِّ واحدٍ من ابنيه سهمان، تضربُهُمَا في الثلاثةِ، تَكُون ستَّةَ، وللبنْتِ ثلاثةٌ، ثم السِّتَّةِ الَّتي أصابَتِ الميِّت الثَّالث تنقسِمُ عَلَى ورثَتِهِ، كان للأخ سهْمَانِ، فتضربها في نصيبِ الميِّت الثالِثِ مِنَ المَسْأَلة الأُولَى، وهو سهْمَانِ، تكوَنُ أربعة، وكان للأخْتِ سهمٌ، فتضربُهُ في نصِيب المَيِّتِ، وهو سهمانِ، تكونُ سهْمَيْنِ.
الطريق الثَّاني: أن تصحِّح كلَّ مسألةٍ برَأْسِها، وتقابلَ نصِيبَ كلِّ ميِّتٍ بمسألته، فمِنَ انقسَم نصيبُهُ عَلَى مسْأَلَتَه، فلا اعتداد بمسألتِهِ، ومَنْ لم يَنْقَسِمْ حُفِظَت مسألتُهُ بتمامها، إن لم يتوافَقْ نصيبُه ومسألتُهُ، أو وفقها، إن توافقا، وفعلت بها ما يُفْعلُ بأعدادِ الأصْنَاف المُنْكَسرة عليهم سهامُهُمْ من المسألة الواحدة، فما حَصَل، ضرَبْتَه في المسْألة الأُولَى، فما حصَل قسْمَتَهُ، فتضربُ ما لكلِّ واحدٍ من الأولى في العدَد المضْرُوب فيها، فما خَرَجَ، فهو له، إن كان حيًّا، ولورثَتِهِ، إن كان مَيِّتًا. مثاله: زوجةٌ وبنْتٌ وثلاثة بني ابن، ثم ماتتِ البنتُ عند زَوْجٍ وأخٍ لأمٍّ، وأمٍّ، وهي الزوجةُ في المَسْأَلة الأُولَى [ثم مات أحدُ ابني الابْن عن زوجةٍ وبنْتِ وابْن ابنٍ، وجَدَّة، وهي الزوجةُ في المَسْألة الأولَى]، ثم مات آخَرُ عَنْ هذه الجدة، وعن خمس بَنينَ، وخَمْسِ بناتٍ. الأُولى من ثمانيةٍ، والثَّانية من ستَّةٍ، والثالثةُ من أربعة وعِشْرِين، والرابعةُ منْ ثَمانيَةَ عَشَرَ، ونصيبُ البنْتِ موافقٌ مسأَلَتَهَا بالأَنْصَاف، فتُرَدُّ مسألتها إلَى ثلاثةٍ، فَإِذن معنا ثلاثةٌ، وثمانيةَ عَشَرَ، وأربعةٌ وعشْرونَ، والثلاثةُ داخلةٌ في الأربعة والعِشْرين، فنقتصِرُ علَى الأكْثَرِ، وهو توافق الثمانيةَ عَشَرَ بالأَسْدَاس، فتضرب سُدُس أحدِهِما في الآخر، تبلغ اثْنَيْنِ وسبْعِينَ، نضربُهَا من مسألةِ المَيِّت الأوَّل، وهي ثمانيةٌ، تبلغ خمسمائةٍ وسِتَّةً وسبعين، مِنْها تصحُّ المسائلُ، فمَنْ له شيء من المسألةِ الأُولَى، تضرب نصيبه من اثْنَيْنِ وسبعين، ويقسَّم على ورثته. زوجةٌ وثلاثة إِخوة، ثم مات أحدهم عن ابنين والثاني عن ابنين وبنت، والثالث عن ابْنٍ وبنتٍ. الأُولَى من أربعةٍ، والثانيةُ من اثنَيْنِ، والثالثةُ من خمسةٍ، والرابعةُ من ثلاثةٍ، والسهامُ لا توافِقُ المسائل، فَتُضْرَبُ المسائلُ الثَّلاثُ بعْضُها في بعْضٍ، تبلغ ثلاثين، تضربُهُ في المسألةِ الأُولَى، تكونُ مائةً وعشْرين؛ للزَّوْجة منها سهْمٌ في ثلاثين، ولكلِّ أخٍ كذلك، فما للأول بين ابنيه لكلِّ واحدةٍ منْهما خمسةَ عَشَرَ، ما للثَّاني بيْن ابْنَيْهِ وبنته، لكلِّ ابنٍ اثنا عَشَرَ، وللبنتِ ستَّةٌ، وما للثالث بيْن ابنه وبنْتِهِ، لِلابْن عشْرُونَ، وللبنْتِ عَشَرَةٌ. هذا تصحيح المُنَاسَخاتِ. قال الفَرَضِيُّونَ: وقد يُمْكِنُ اختصارُ الحِسَابِ بعْد الفَراغِ من عَمَل التَّصْحِيحِ، وذلك إذا كانَتْ أنصباء الورثَةِ كلُّها متماثلةً، فترد القَسْمةُ إلَى عدد رؤوسِهِمْ، وكذلك، إذَا كانَتْ متوافقة بجزءٍ صحيح، فيُؤْخَذُ ذلك الوَقْف من نصيب كلِّ واحد منهم، ويُقَسَّم المالُ بيْنهم عَلَى ذلك العَدَدِ كزَوْجَةٍ وبنتٍ وثلاثة بنين منْها، ثم ماتَ أحدُ البنين عن
الباقين، فالأُولى من ثمانيةٍ، والثانيةُ من ستَّةٍ، ونصيبُ الميِّت الثَّاني سهْمَانِ يوافِقَانِ مسألَتَهُ بالنِّصْف، فتضربُ نصْف مسأَلَتِهِ في الأُولَى، تكون أربعةَ وعشْرين، للزوجة منْها ثلاثةٌ، وللبنتِ ثلاثةٌ، ولكلِّ ابنٍ ستَّةٌ، ومِنْ نصيب الميِّت الثاني للأُمِّ سهْمٌ، وللأختِ سهْمٌ، ولكلِّ أخٍ سهْمَانِ، فمجموعُ مَا للأمِّ أربعةُ، وللأختِ كذلك، ولكلِّ أخٍ ثمانيةٌ، فالأنصباء متوافقة [بالربع، فتأخذ ربُعَ كلِّ نصيبٍ، تبلغُ ستةً، فنقسِّم المال عليها؛ اختصاراً. أما إذا لم تكُنْ بيْن الأنصباء موافقة] (¬1)، أو لم تكنْ إلاَّ في بَعْضِهما، لم يكنْ الاختصارُ. المقصد الثَّاني: قِسْمَة التَّرِكَاتِ: وله أصْلٌ وفروعٌ متشعِّبة: أما الأصْلُ: فإنْ كانتِ التركةُ درَاهِمَ أو دنانِيرَ أو غيرهما، مما ينقسَّم بالأجزاء؛ [كالمكيلات والمَوْزُونَات، فنقسم عيْنِهَا بيْن الورثة، وإن كان مما لا يُقَسَّم بالأجزاء] (¬2)، كالعبيد والجَوَارِي والدَّوَابِّ، فنقوَّم، ثم نقسَّم بينهم بالقيمة، فما أصابَ كلَّ واحد من القيمة، فَلَهُ بقَدْرِها منَ المُقَوَّم، ولا بدَّ من القسْمة في أقامةِ أصْلِ المسألة بِعَوْلِهَا، ثم يتأتى العَمَلُ قتل التصحيح وبعْده، والأوَّلُ أسهلُ وأخَفُّ. وطريقُهُ: أن يُنظَر في التَّرِكَة، أهِيَ عدَدٌ صحيحٌ منَ الدَّراهِمِ وغيرها، أمْ عدَدٌ وكَسْرٌ؟ إنْ كانَ الأوَّل، فقابل التركة بالمسألَةِ بعَوْلِها، إن كانت عائلةً، فإنْ تماثَلاَ، فلا إِشْكَال، وإلاَّ، فإن كانا متبايِنَيْنِ، فاضرب نصيبَ كلِّ وارثٍ من أصْلِ المَسْأَلَةِ بِعَوْلِها، أو ممَّا صحَّت منه المسألةُ في عَدَد التَّركةِ، فما بلغ، فاقْسِمْهُ علَى أصْل المَسْأَلة بِعَوْلِها، وعلَى ما صحَّت منْه المسألة، [فما خرَجَ مِنَ القسْمة، فهو حصَّةٌ ذلك الوارِثِ. وإن شئت، قسَّمت التركةِ أولاً عَلَى أصل المَسْأَلة] (¬3) بِعَوْلِهَا، أو عَلَى ما صحَّت منْه المسْأَلَة، فما خَرَج من القِسْمة، فاضربه في سَهْم كلِّ وارث، فما بلغ، فهو حصَّتُهُ. وإن كانا متوافِقَيْنِ؛ فإنْ عَمِلْتَ، كما تَعْمَل في المتباينَيْنِ، حَصَل الغَرَضُ، وإن طلبت الاختصارُ فخذ وفقها، واضْربْ سَهْمَ كُلِّ وارثٍ في وَفْق التركةِ، فما بلغ، فاقْسِمْه علَى وفْق المَسْأَلة، فما خرج، فهُوَ نصيبُةُ من التَّركةِ، وإن شئْتَ، فاقْسِمْ وَفْق ¬
التركةِ علَى وفْق المَسْألة، فما خرَجَ فاضْربْهُ في سَهْم كلِّ وارث، فما بَلَغَ، فهو نصيبُهُ، وإذَا فرَغْتَ من العَمَلِ، امتحَنْتَ صحَّتَهْ؛ بأن تجمع ما أَصَابَ كلَّ واحد من الورثةِ وتنظر: هَلِ المجموعُ مثْلُ التركةِ أمْ لا؟ الأمثلة: زوجٌ، وأمٌّ وأختانِ لأَبِ، وأختانِ (¬1) لأمٍّ، والتركةُ ستَّونَ ديناراً: المسألةُ من ستَّةٍ، وتعولُ إلَى عَشَرَةٍ، فإن شئْتَ، ضَرَبَتْ سِهامَ الزوْجِ في الستِّينَ، تبلغ مائةً وثمانين، تقسمه علَى المَسْألة، تخرج ثمانيةَ عَشَرَ، فهو نصيبُ الزَّوْج، وتضرِبُ نصيب الأُمِّ في الستين، تكونُ ستِّين، تقسِّمه علَى المسألَةِ، تخرجُ ستَّةً، فهو نَصِيبُهَا، وتضرِبُ نصيبَ الأُخْتَيْنِ للأمِّ في الستِّين، تكُون مائةَ وعشْرِينَ نُقَسِّمُه على المسألة، تَخْرج اثني عَشَرَ، فهو نصيبُها، وتضربُ نصيبَ الأختَيْنِ للأبِ في السِّتِّينَ، تكونُ مائتَيْنِ وأربعينَ، نقسِّمُهُ على المَسْألة، تخْرُج أربعَةَ وعشْرِين، فهو نصيبها وإن شئت، قَسَّمت التركةَ على المَسْألة، تخْرُج ستَّةً، تضربها في سهامِ كلِّ وارثٍ، يخرج ما ذكرنا. زوْجٌ وأمٌّ وأختٌ لأبٍ، والتركةُ أربعةُ درَاهِمَ: المسألةُ تَعُولُ إلَى ثمانيةٍ، تضربُ نصيب الزَّوْج في التركة، يكون اثْنَيْ عَشَرَ، تقسِّمه علَى سهام المَسْأَلة، يخرج للواحِدِ درهمٌ ونصفٌ، وكذلك نصيبُ الأخت، وتضربُ نصيبَ الأَمِّ، وهو سهمانِ من أربعةٍ، تكون ثمانية، تقسَّم علَى سهام المَسْألة، يخرج واحدٌ، فهو نصيبُهَا. ثلاثُ زوجابٍ، وأربعة إخوة لأمٍّ، وخمسُ أخواتٍ لأبٍ، والتركة خمسةٌ وسبْعُونَ ديناراً: المسألة تَعُولُ إلَى خمسةٍ [عَشَرَ وتوافق التركة بأجزاء خَمْسَةِ عَشَرَ، فتردُّهما إلَى جزء الوفق، فتَعُود التركة إلى خمسة] (¬2)، والمسألة إلَى واحدٍ، ثم إن شئْتَ، ضَرَبْتَ سهامَ الزَّوْجَات -وهي ثلاثةٌ- في وَفْقِ التركة -وهو خمسةٌ- تبلغ خمْسَةَ عَشَرَ، فهو للزَّوْجات، وضرَبْتَ سهام الإِخوة -وهي أربعةٌ- في الخمسة، تكونُ عِشْرين، فهو نصيبهم، وسهامُ الأخوات -وهي ثمانية- في الخمسةِ، تكون أرْبَعِينَ، [فهو نصيبهن] وإن شئْتَ، قسَّمت من وفْقَ التركة -وهو خمسةٌ- علَى وفْق المسألةِ، وهو واحدٌ، يخرج خمسةٌ، [و] تضرب في سهامِ كُلِّ وارث، يكونُ ما ذكرنا. ¬
فرع
" فَرْعٌ" وإن كانت التركةُ عدداً أو كسْراً، نُظِرَ، إنْ كان الكَسْر واحداً، ضَربْت مخْرَج ذلك الكَسْر في العدد الصحيح، فما حَصَل فُرَّدُّ عليه الكَسْر، واقسم المجموع عَلَى الورثة، انقسم الصحاح. ثم اجْعَلْ ممَّا خرج من القسْمَة بعَدَدِ مخْرَج ذلك الكَسْر واحداً صحيحاً، وأضِفْ إلَيْه الباقي. المثال: زوْجٌ وأخْتَانِ، والتَّركةُ عشرَةُ دراهم ونصْفٌ: تضرب مخْرَج النِّصْف -وهو اثنان- في العَشَرة، تكون عشْرين، وتزيد على النصف واحداً، فكأن التركة أحد وعشْرُونَ من الصحاح، تعمل بها عملك بالصِّحَاح، فيخرج للزَّوج تسعةٌ من الأنصاف [وهِيَ أربعةُ دراههمَ ونصْفٌ، ولكلِّ أختٍ ستةٌ من الإنصاف] وهي ثلاثةُ درَاهِمَ. ولو كانَتِ المسألةُ بحَالِها، والتركةُ ثمانيةٌ وثلاثةُ أرباعٍ: ضربت مخْرج الربع -وهو أربعةٌ- في الثمانية تبلغ اثنين وثلاثين، تزيد عليه الكسر وهو ثلاثة تكون خمْسة [ثلاثين] (¬1)، تقسم كما يقسّم الصِّحَاح، يخرج للزَّوْج خمسةَ عَشَرَ، وهي ثلاثةُ دراهم، وثلاثةُ أرباع دِرْهَمٍ، ولكلِّ أختٍ عشَرَةٌ، وهي درهمان ونصفٌ، وإن كان مع الصِّحاح كسْران، كرُبُعٍ وسدُسٍ، أخَذْتَ مخْرَجَ مجْمُوعهما، وهو اثنا عَشَرَ، وضربْتَهُ في الصِّحَاحِ، وتمَّمْتَ العمل، كما ذكرنا (¬2). وأما الفُرُوع المتشَعِّبة، فإنَّها تتنوَّع أنْواعاً كثيرةً نورده منها مسائل: مسألةٌ: إذا أَخَذَ بعْضُ الورثة قَدْراً معْلُوماً من التركة، وأردتَّ أن تعرف حملتها، ماقم سهامَ المسْألة بِعَوْلِها، إنْ كانت عائلةً، ثم إن شئت، ضَرَبْتَ المأخُوذَ في سهام المَسْألة، فما بلغ قسْمته على سهام الأخذ، فما خرَجَ من القسْمة، فهو جملةُ التركة، وإن شئت، قسَّمْتَ المأخوذ عَلَى سهامِ الأَخْذ، وضربْتَ الخارج من القِسْمة في سَهام المَسْألة، فما بلغ، فهو التركةُ. ¬
مثالُهُ: زوْجٌ، وأمٍّ، وأخْتانِ لأبٍ، وأخذ الزوج بحقه ثلاثين ديناراً، إن شئْتَ، ضَرَبْتَ الثلاثِينَ في سهَامِ المَسْألة -وهي ثمانيةٌ- تكون مائَتَيْنِ وأربعِينَ، تقسَّم عَلَى سهام الزَّوْج -وهي ثلاثة- يخرج ثمانُونَ، فهو التركة. وإنْ شِئْتَ، قَسَّمْتَ الثلاثين عَلَى سهامه، يخرج عَشَرة، وتضرب في سهام المَسْألة تبلغ ثمانِينَ. ولك أنْ تَسْلُكَ طريقةٌ أخْرَى، وهي أن تنظر فيما بَيْن سهام الآخذ وسهام الباقِينَ منَ الورَثَةِ من النسبة وتزيد على المأخُوذِ بمثْل نِسْبة سهَامِهِمْ مِنْ سِهَامه، فهو جملةُ التركة، ففي المثال المذكُور سهَامُ باقي الورثة مثْلُ سهام الزَّوْج، ومثل ثلثيها فتزيد على الثلاثين مثلها ومثل ثلثيها، يبلغ ثمانين، والله أعلم. مسألةٌ: زوْجةٌ وأمَّ وثلاثُ أخواتٍ متفرقات، والتركةُ ثلاثون دينارا وثوبٌ، أَخَذَت الزوجةُ بنَصِيبِهَا الثَّوْبَ بتراضِي الوَرَثَةِ، كم قيمةُ الثَّوْب وجملةُ التركة؟ الطريق فيها، وفي أخواتها: أن تقيمَ أَصْل المسألةِ بعَوْلِها، إن كانت عائلةً، وهذه المسألةُ تَعُولُ إلَى خمسَةَ عَشَرَ، ثم لك طريقان: أحدهما: أن تضرب سهام الزَّوْجة من المسألة في عَدَدِ الدَّنَانِير، فتبلغ تسعين، تُقَسِّم التِّسْعِين عَلَى ما بقي من سهام المَسْألة، بعدد سهام الزوْجةِ، وهو اثنا عَشَرَ، يخرج من القِسْمة سبعةٌ ونصْفٌ، فهو قيمةُ الثَّوْب. وإنْ شئْتَ، قسَّمْتَ الدنانيرَ علَى باقي سهامِ الوَرَثة، وهو اثنا عَشَرَ، يخرج دِينَارَانِ ونصْفٌ، تضربه في سهَام الزَّوْجة، تبلغ سبعةٌ ونصْفُ دينار. وإنْ شِئْتَ، نسَبْتَ سهامَهَا إلَى سهام الباقين، فإذا هِيَ رُبُعُ سهامِ الباقين، فتأخُذُ رُبُعَ الثلاثين، وهو سبعةٌ ونصف، فهذه ثلاثةُ أوْجُه. والطريقُ الثَّاني: طريقُ الجبر، تقول: إذا أخَذْتَ بخُمُس التركةِ ثوْباً، فحملة التركة خمْسةُ أثْوابٍ، وهي تَعْدِلُ ثوباً وثلاثين ديناراً، فتسقط ثوباً بثَوْبٍ، فتبقى أربعةُ أثوابٍ في مقَابَلَةِ ثلاثين ديناراً، علمنا أن الثَّوْب الواحدَ سَبْعةٌ ونصْفُ. أو تقُولَ: خُمُسُ التركةِ خُمُسُ ثَوْب، وستةُ دنانير، وقد أَخَذَتْ بالخُمُس ثوباً، فهو يعدِلُ خُمُسَ ثَوْب، وستةِ دنانير، وتقسط الخمس بالخمس، يبقى أربعة أخماس ثوب في مقابلة ستَّةِ دنانير، فتكمل الثَّوْب؛ بأن تزيد علَى الأخْمَاس الأربعةِ رُبُعها، وتزيد على العديل رُبُعهُ، وذلك سبْعةٌ ونصْفٌ. ولو كانَتِ المسألةُ بحالها وأخذت مع الثَّوْب خَمْسَة دنانير: فعلَى الطريقِ الأَوَّل: تنقص الخَمْسَة من الثَّلاثين، تبقى خَمْسَةٌ وعشْرُون، ثم
تضرب نصيبهما من المسألة في الخَمْسَةِ والعِشْرِين، تكون خَمْسة وسبعين، تقسَّم على سهام الباقين، وهي اثنا عَشَرَ يخرج ستَّة دنانير وربع، وهو نصيبُها مِنَ التركةِ، فإذا نقصت منْها الخَمْسَةُ، يبقى دينار وربُعٌ، وهو قيمةُ الثَّوْب. وبالجبر نقُولُ: أَخَذَتْ بخُمُس التركة ثوباً، وخمسة دنانير، فجميعُ التركةِ خَمْسَةُ أثوابٍ، وخمْسَةٌ وعشْرون ديناراً، تعدل ثوباً وثلاثِينَ ديناراً، فَتُسْقِطُ ثوباً بثَوْبٍ، وخمسةً وعشرين بخمسة وعشرِينَ ديناراً، تبقى أربعةُ أثوابِ في مقابلة خمْسةِ دنانيرَ، فالثَّوْبَ الواحدُ دينارٌ وربعٌ. ولو كانَت بحالها، وأخذت الزَّوْجة الثوْبَ، وردَّت ستة دنانير: فعلى الطريق الأوَّلِ: تزاد الستَّة المردُودة على الثلاثين، وتضرب سهام الزَّوْجة في الستَّة والثلاثين، تبلغ مائةً وثمانيةً، تقسَّم على اثْنَيْ عَشَرَ، فيخرج من القسْمة تسعة، فهو نصيبُها من التَركَةِ، فإذا زِدتَّ علَى التَّسْعة ستَّةَ دنانير، فهي قيمة الثَّوْب. وعلَى طريق الجبر يقال: أَخَذَتْ بخُمُس التركةِ ثَوْباً، إلاَّ ستَّة دنانير، فجميعُ التركةِ خَمْسَةُ أثوابٍ، إلاَّ ثلاثين ديناراً، تعْدِلُ ثوباً، وثلاثين ديناراً، فتكمل الثيابُ بثلاثين دِينَاراً، ويزاد مثْلُ ذلك على العَدِيل، فتصير خَمْسَة أثواب معادلَة لِسِتَّينَ ديناراً، وثوب يسقط ثوباً بثَوْبٍ، تبقى أربعةُ أثوابٍ في مقابلة ستِّين ديناراً، فالثَّوْبُ الواحدُ خَمْسَة عَشَرَ. ولو كانَتْ بحالها، والتركةُ ثلاثُون وثَوْبٌ وعَبْدٌ وخاتَمٌ، أخذت الزوجة بنَصِيبَهَا الثَّوْبَ، والأُمُّ العبْدَ والأُخْتُ للأمِّ الخَاتَمَ: فعلَى الطَّريقِ الأَوَّل: تضرب سهامُ الزَّوْجة، وهي ثلاثةٌ، في الثلاثين، تبلغ تِسْعين، تقسمها على ثمانيةٍ، يخرج من القِسْمة أحَدَ عَشَر وربع، أو تقسَّم الثلاثين على الباقي من المسألة بَعْد سهام الزَّوْجة والأُمِّ والأخْتِ للأمِّ، وهو ثمانيةٌ، يخرج من القسْمة ثلاثةٌ وثلاثةُ أرباعٍ، تُضْرَبُ في سهامِ الزَّوْجة، تبلغ أحَدَ عَشَرَ وربعاً، فهو قيمة الثَّوْبِ، وفي سهْمَيِ الأمِّ تبلغ سبعة ونصفاً، فهو قيمةُ العَبْد، وكذلك قيمةُ الخاتَمِ. وبالجبر يقالُ: أخَذَتِ الزوجةُ بالخُمُس ثوباً، والأمُّ بثُلُثَيِ الخُمُس عبداً، والأختُ بمثله خاتَماً، بَقيَ من السهام ثمانيةٌ، وهي خُمُسَان وثُلُثَا خُمُسٍ؛ يكون ثوبَيْنِ وثُلُثَيْ ثوب، فالجملةُ ثلاثةُ أثواب، وثُلُثَا ثَوْبٍ وعبْدٌ وخاتمٌ، وهي تعدل ثوباً وعبداً وخاتماً، وثلاثين ديناراً، تسقط ثوباً بثَوْبِ، والعَبْد بالعَبْدِ والخاتَم بَالخَاتَمِ، تبقي ثوبان وثلُثاً ثوب من مقابلة ثلاثِينَ ديناراً، فالواحَدُ يَعْدِلُ أحدَ عَشَرَ وربعاً. ولو كانَتْ بحالِها، والتركةُ ثلاثون، وثوبان يتفاوتان في القيمةِ بدينارَيْنِ، أخَذَتِ الزوْجَةُ بنصيبها الثَّوْبَ الأدْنَى:
مسألة
على الطريقِ الأَوَّل: يزيد التفاوت بينهما على الدنانير، فتصيرُ اثنين وثلاثين، تضرب سهام الزَّوْجة في اثْنَيْن وثلاثِينَ، فتكون وتسعينَ (¬1)، تقسَّم على الباقي من سهام المَسْألة بَعْد إسْقَاط نصيب الزَّوْجة، وهو ثلاثةٌ، وبعْد إسْقاط مثْلِهِ للثَّوْب الآخر، والباقي تسعةٌ، يخرج من القِسْمة عَشَرَةُ دنانير وثلثا دينار، فهو قيمة ما أخذَتْةُ. وبالجبر نقُولُ: أخذَتْ بالخُمُس ثَوْباً، فالجميعُ خمسةُ أثْوابٍ، تعدل التركة، وهي ثوبَانِ واثنانِ وثَلاَثُونَ ديناراً يُسْقِطُ ثوبَين بثَوْبَيْنِ، تَبْقَى ثلاثةُ أثوابٍ، تَعْدِلُ اثنين وثلاثين ديناراً، فالواحدُ بعدلُ عَشَرَةَ وثلثين، ولو أخذت الزوْجَةُ بنصيبهَا الثَّوْبَ الأعلَى فتزيد الدينارَيْن على الثلاثينَ، تصير التركة اثنَيْنِ وثلاثِينَ ديناراً، وثوبين متساوَيَيْنِ، وقد أخذَتِ الزوْجَةُ بثلاثة أسهمٍ ثوْباً ودينَارَيْنِ، فيخص ثلاثة أسهم أخْرَى مثل ذلك، فإذا أسقَطْنَاها هي مِنْ سهامِ المَسْألة تسعةٌ، ومن التركَةِ ثمانيةٌ وعشْرُون دينَاراً، تضْرَب سهام الزَّوْجة في ثمانيةٍ وعَشْرين، تَبْلغ أربعةً وثمانين، تقسّمها على التسعة الباقية من السِّهَام، يخرح تسعة وثلُثٌ، فهو قيمةُ الثَّوب الأعلَى، وقيمة الأدْنَى سبعةٌ وثلثٌ، وجميعُ التركةِ ستَّةٌ وأربَعُونَ دينَاراً وثلثان. مسألة: ابنان، والتركةُ ثَوْبَان بينهما ديناران أخذ أحدهما ثلاثَةَ أَرْبَاع الأعلَى، كم قيمةُ كلِّ واحدٍ منهما؟ طريقُهُ: أن تزيد التَّفَاوت علَيْهما، فتجعل التركة ثوبَيْن ودينارَيْن، وحينئذٍ، فلِكُلِّ واحدٍ منهما ثوبٌ ودينارٌ، وقد أخذ أحدهما ثلاثةَ أرْبَاع ثوْبٍ وديناراً ونصفاً، فتقابل به حقّه، وهو ثوبٌ ودينارٌ، [وتسقط ثلاثة أرباعٍ ثَوْبٍ لمثلها، ودِيناراً بدِينَارٍ، يبقى ربُعُ ثوب] (¬2) في مقابلة نصْفِ دينارٍ، فالثوبُ الكاملُ يَعْدِلُ دينارَيْنِ، فهما قيمةُ الأدْنَى، وقيمة الأعلَى أربعةٌ، وجملة التركةِ ستَّةٌ. ثلاثة بَنِينَ، والتَّرِكَةُ ثلاثةُ أثوابٍ متفاوتة بدينَارَيْن، أخذ أحدُهُمْ رُبُعَ الأعلَى، وثلُثَ الأوْسَطِ ونصْف الأدْنى، قيمتها؟ نزيدُ التفاوتُ علَيْهما، لتساوِي قِيَمِ الأثْوَابِ، وتجعل التركة ثلاثةَ أثوابٍ، وستَّة دنانير؛ اثْنَان منْها لما بَيْنَ الأَوْسَط، والأَدْنَى من التفاوُتِ، وأربعة لما بَيْن الَأعْلَى والأدْنَى، فيكون لكلِّ واحد منهم ثوْبٌ وديناران، [وقدْ أخذ أحدهم برُبعِ الأعْلَى ورُبُع ثوب وديناراً] وثلث الأوسط ثلث ثوب، وثلثي دينار، وبنصْفِ الأدنَى نصْفَ ثَوْبٍ لَا غير، فالجملة ثوب ونصف سدس ثوب ودينارٌ وثلثا دينار، وهي تَعْدل ثوباً ودينارَيْن، يسقط المشترك، ويبقى نَصْفُ سدسِ ثوبٍ في مقابلة ¬
مسألة
ثلث (¬1) دينار، فالثوبُ الكاملُ يعْدِلُ أربعةً، فهي قيمة الأَدْنَى، وقيمةُ الأوْسَطِ ستَّةٌ، وقيمةُ الأعْلَى ثمانيةٌ، وجملةُ التركة ثمانيةَ عَشَرَ. مسألةٌ: زوجٌ وابنٌ، أخذ الزوْجُ بميراثه وبدَيْنٍ له على الميتة ثُلُثَ المال: المسألةُ من أربعةٍ، تسقط منها سهمُ الزوج، يبْقَى ثلاثة، تَضْربها من مَخْرَجِ الكَسْر، المذكور في السؤال، تَبْلُغ تسعةً، منْها تخرج المسألة، للزَّوْج ثلاثةٌ، وللابْنِ ستَّةٌ، وإذا كان للابن بثلاثة أسهم ستة فللزوج بسهم أثنان فاثنان إرث وواحد دَيْنٌ. وتقولُ بطريق آخَرَ: المسألةُ مِنْ أربعةِ، والدَّينُ شيء؛ فجملة التركةِ أرْبعةُ أسْهُمٍ، وشَيء منها سهْمٌ وشيء ثلثُ المالِ، وثلاثةُ أسْهُمٍ ثلثاه، والثلُثُ يَعْدُل نصْفَ الثلثَيْنِ، فإذن سهمٌ وشيءٌ، يعدل سهماً ونصْفَ سهْم، يسقط السَّهم بالسهم، يبقى شيء في مقَابَلَة نصْفِ سهْم، فعرفنا أنَّ الشيء المضْمُوم إلى السِّهام الأربعة نصْفُ سهْمٍ، فإذا بَسَطْنَاها أنصافاً، كَانَتْ تسعةً. مسألة: ابنٌ وبنْتٌ انتهبا التركةَ، ثمَّ رَدَّ كلُّ واحدٍ منهما علَى صاحبه رُبُعَ مَا انْتَهَبَ، فوَصَلَ كلُّ واحدٍ منهما إلَى حقِّه مِنَ الميراث: يجعل ما انتهبَهُ الابْنُ أربعةَ أشياءَ، وما انهبتْهُ البنت أربعةَ دَنَانِيرَ، فإذا رَدَّ الابنُ رُبُع ما انتهبه، وأخَذَ منْها رُبُع ما انتهبته، حَصَل في يده ثلاثةُ أشْيَاءَ، ودينارٌ، وفي يدها ثلاثةُ دنانيرَ وشَيءٌ، ومعلومٌ أنَّ حقَّه ضعفُ حقِّها، فضِعْفُ ما معها مثلُ ما مَعَهُ، وضعْفُ ما معها ستَّةُ دنانيرَ وشيْئَان، تعدلُ ثلاثة أشياء وديناراً، فتسقط ديناراً بدينار، وشيئين بشيئين تبقى خمسةُ دنانيرَ، تعدِلُ شيئاً، فعَرَفْنَا أن قيمة الشيءِ خمسةٌ، وقيمة الدِّينار واحدٌ وجملة التركة أربعة أشياء، وأربعة دنانير، فيكونُ أربعةً وعشرين، ما انْتَهَبَهُ الابن عشْرُون، وما انتهبتْهُ البنْتُ أربعةٌ، فإذا دفع إليها خمسةً، وأَخَذَ منها واحداً، كان معَهُ ستَّةَ عَشَرَ ومعها ثمانيةٌ. وتُعْرَفُ هذه المسْألةُ ونظائرُهَا "بِمَسَائِلِ النُّهْبى" ولنقتصرْ مِنْ قسْمة التَّرَكَاتِ علَى ما أوْرَدْنَاه ونختمُ الكلامَ في الحِسَاب بجُمَلٍ تختصُّ بأبواب قدَّمْنا فتاويها: منْها: قد مرَّ أن المفقودَ، إذا ماتَ لهُ قريبٌ، وخلَفْ ورثةٌ حاضرين، يؤْخَذُ في حقِّ كلِّ واحدٍ منهم بالاسْتواء منْ حياة المفقدد وموْتِهِ في إسقاطه، وفي دَفْع الأقَلِّ إليه، وطريقُ معرفة الأقَلِّ أن تُصَحّح المسألة علَى تقدير حياتِهِ، وتصحّح على تقدير موْتِهِ، ¬
وتضرب إحداهما في الأخْرَى، إن لم تتوافَقَا، وإنْ توافَقَتا، ضُرِبَ وَفْق أحدهما في جميع الآخر، ثم كلّ مَنْ يرث علَى التقديرَيْنِ يُضْرَب ما يَرِثُه من كلِّ مسألةٍ في الأخْرَى أو في وَفْقِها، إن توافقتا، وتصرف إلَيْه الأقلّ مما حَصَلَ من الضَّربَيْنِ. مثاله: أختانِ لأَبٍ، وعَمٌّ، وزَوْجٌ مفقودٌ: إن كان حَيّاً فهي من سبْعَةٍ، والاَّ، فمِنْ ثلاثةٍ، ولا موافقة بينهما، فتُضْرب إحداهما في الآخر يبلغ أحداً وعشرين، للأختين من مسألة الحياةِ أربعةٌ مضروبةٌ في ثلاثةٍ، تكون اثْنَيْ عَشَرَ، [ومن مسألة المَوْتِ سهْمَانِ مضروبَانِ في سبْعةٍ، تكون أربعَةَ عَشَرَ، فيصرف إليهما الأقلّ، وهو اثنا عَشَرَ، ويوقف البَاقِي] (¬1)، فإن عرف حياةُ الزَّوْج، دُفِع إلَيْه، وإن عرف موتُه، فسهمان للأختَيْن، والباقي للعَمِّ: أمٌّ وزوجٌ وأخْتَانِ منَ الأبوَيْنِ وابْنٌ مفقودٌ: إنْ كانَ حَيّاً، فالمسألةُ من اثني عَشَرَ، وإنْ كانَ مَيِّتاً، فمن ستَّةٍ، وتَعُولُ إلَى ثمانيةٍ، وهما متوافقان بالرُّبُع، فتضرب ربع أحدهما في الآخر، تبلغ أربعةً وعشْرين، للأمِّ من مسألةِ الحَيَاة سهْمَانِ مضروبان في وفْقِ مسْأَلَة المَوْت، تكون أربعةً، ومن مسألة المَوْت سهْمٌ مضروبٌ من وَفْق مسألة الحَيَاة، تكُونَ ثلاثةً، فتصرف إليها الأقلّ، وهو ثلاثة، وللزَّوْج من مَسْأَلة الحياة ثلاثَةً مضْروبةٌ من وَفْق مَسْألةِ المَوْت، تكون ستَّةً، ومِن مسألة المَوْت ثلاثة مضْرُوبة في وَفْق مسْأَلَة الحياةِ، تكُون تسْعةً، فتصرف إليه ستَّة، ويُوقَفُ الباقي. ومنْها: الطريقُ في تَصْحِيحِ مَسَائلِ الخُنْثَى علَى جميع الحالاَتِ، مطلبُ الأقلِّ المستيقَنِ أن تقيم المسألة علَى جميع الحالات، فإن كان الخُنْثَى واحداً، فله حالتان، وإنْ كان هناك خنثيان، فلهما ثلاثُ حالاتٍ؛ لأنَّهما إِما ذكَرَانِ، أو أُنْثَيَانِ أو أَحَدُهُمَا ذَكَرٌ والآخَرُ أنْثَى، ولثلاثِ خَنَاثَى أربعُ حالاتٍ؛ لأنَّهُمْ؛ إما ذكورٌ أو إناثٌ، أو أحدُهُم ذَكَرٌ، والآخران أنثَيَانِ، أو بالعَكْس، وعلَى هذا القياسِ، فهذا ضبطت أصل كل حالةٍ، فخُذْ اثْنَيْنِ منْها، وانظر، أَهُمَا متماثلان أم متدَاخِلاَنِ أم متوافقان أم متباينَانِ؟ واعمل منهما عملَكَ عنْد الانْكِسَار علَى فريقين، ثم قابِلِ الحاصلَ مَعَكَ بأصل ثالثٍ، وهكذا فافْعَلْ إلى أنْ تأتي علَى آخرها، ثم إِنْ لم يكن في المَسْألة صاحبُ فَرْضٍ، صحَّتِ القسمةُ مما عنْدَكَ، وإن كان ضربَتُه في مَخْرَجِ الفَرْضِ، ثم قَسَّمت. المثالُ: ولَدَانِ خُنْثَيَانِ، إنْ كانا ذَكَرَيْنِ، فالمسألةُ من اثنين، وإن كانا أُنْثَيَيْنِ، أو ¬
أحدُهُمَا ذكَراً، والآخَرُ أُنْثَى، فمن ثلاثة، فتسقط أحد الثلاثتين؛ للتماثل، وتضرب الأخرَى في اثنَيْنِ، تبلغ ستةً، تصرَفُ إلَى كلِّ واحدٍ منهما سهمَيْن؛ أخذاً بالأضَرِّ، وتقف سهمَيْنِ، فإنْ كانا ذَكَريْنِ، فلكلِّ واحدٍ منهما واحدٌ، وإنْ كانا أنْثَيَيْنِ، فهما لبَيْتِ المال، وإن كان أحدُهُما ذكَراً، فهما له. زوْجٌ وولدانِ خُنْثَيانِ: تُضْرَب السِّتَّةُ التي صحَّت منْها مسألتهما علَى الأحْوَال عنْد تجرُّدُّهما في مَخْرَج الرُّبُع، تبلغِ أربعةً وعشرين، للزَّوْج منها ستَّةٌ، ولكلِّ واحد منهما ستةٌ، لاحتمال أنوثته وذكُورَةِ الآخر. ابنٌ وَوَلَدَانِ خُنْثَيَانِ: إِن كانا ذكرَيْنِ، فهي منْ ثلاثةٍ، وإن كانَ أحدُهُما ذكَراً، والآخر أنثَى، فمنْ خمْسةٍ، وإن كانا أنثَيَيْنِ، فمن أربعةٍ، والأعدادُ متباينةٌ، فتُضرَبُ ثلاثةٌ في أربعةِ، تبلغ أثني عَشَر، تَضْرَبُ في خمسةٍ، تبلغُ ستِّينَ، منْها للواضح عشرون سَهْماً؛ أخذاً بالأضَرِّ عليه، وهو ذكورتهما، ولكلِّ واحدٍ منهما اثْنَا عَشَرَ، أخذاً بالأضرِّ عليه، وهو أنوثَتُهُ، وذكورةُ صاحِبِهِ (¬1)، وتوقَفُ ستَّةَ عَشَرَ إلَى أن يتبين الحالُ، ويرد بالاختصار إلَى خمسةَ عَشَرَ؛ لتوافقهما بالربع. ويقْرُبُ من ذلك تصحيحُ مَسَائِلِ الحَمْلِ؛ تفريعاً عَلَى أنَّ أكثر ¬
الحمل أربعةٌ، ومَنْ ليس له نصيبٌ مقدَّرٌ؛ كالأولاد يأخَذُون مع الحَمْلِ شيْئاً، فتقام المسألةُ علَى تقديرِ وَلَدٍ واحدٍ، وله حالتان، وعلى تقدير ولدَيْنِ، فلهما ثلاث حالات؛ لأنهما إمَّا ذَكَرَان أو أُنْثَيَانِ، أو أحدهما ذكَرٌ، والآخَرُ أنثَى، وعلَى تقديرِ ثلاثةِ أولادِ، فلهم أربعُ حالاتٍ؛ لأنَّهُم: إما ذكورٌ أو إِناثٌ أو ذكرٌ وأنثيَانِ [أو أنثَى وذكَرَان، وعلَى تقدير أربَعَةِ أولاد، لهم خمسُ حالات؛ لأنَّهُمْ: إما ذكورٌ أو إناثٌ أو ذَكَرَانِ وأُنْثَيَانِ، أو] (¬1) ذكرٌ وثلاثُ إنَاثٍ، أو أنثَى وثلاثُ ذكورٍ، ثم ينظُرُ في الأعداد، فيَكْتَفِي مما تماثل بواحد ومما تَداخَلَ بالأكثر، وممَّا توافق بجُزْء الوَفْق، وتترك الأعدَادَ والمتباينَةِ بحالها، وتضْرب ما حَصَل في الأعْدَاد بعْضَها في بَعْضِ، فما بلغ، تصحُّ منه القسمة. المثال: ابنٌ وأمَّةُ حامِلٌ: إنْ كانَتْ حاملاً بوَلَدٍ، فالمسألةُ في إحْدَى الحالتَيْن من اثنين، وفي الثانيةِ مِنْ ثلاثَةٍ، وإنْ كانَتْ حاملاً بولَدَيْنِ، فهي في حالٍ من ثلاثةٍ، وفي حالٍ مِنْ أربَعَةٍ، وفي حالٍ مِنْ خمسةٍ. فإنْ كانَتْ حامِلاً بثلاثةٍ، فهي من أربعةٍ أو خمسةٍ أو ستةٍ أو سبعةٍ، وإنْ كانَتْ حاملاً بأربعةٍ، فهي منْ خمسةٍ أو ستةٍ أو سبعةٍ أو ثمانيةٍ أو تِسْعَةٍ، فيكتفَى من الأعداد المتماثلةِ بوَاحِدٍ، يحصل معه اثنان وثلاثةٌ وأربعةٌ وخَمْسَةٌ وستَّةٌ وسِبْعَةٌ وثمانِيَةٌ وتسْعَةٌ، فبعد الرَّدِّ إلى الوفق والاكتفاءِ بالأكْثَرِ من المتداخلين تبقَى خمسةٌ وسبْعَةٌ وثمانِيَةٌ وتسْعَةٌ، تضْرَبُ بعضها في بعْض، تبلغ ألفين وخمْسمَائة وعشْرِين، للابن منْها الخُمْسُ، وهو خَمْسُمَائَةٍ وأربعةٌ؛ لأنَّ أَضَرَّ الأحوال أن تَلِدَ أربعةَ بنين، ويُوقَفُ الباقي. ويقْرُبُ منه تصحيحُ مَسَائل الاسْتِهْلاَلِ. فإذا ماتَ عَنِ ابْنٍ وزوجةٍ حاملٍ، فولَدَتْ، ابنًا وبنتاً، واستَهَلَّ أحدهم، ثم وُجِدَا ميِّتَيْن، ولم يدر مَنِ المستهلُّ، فقد سبق أنَّه يُدْفَعُ إلَى كلِّ وارث أقلُّ ما يستحقه، وطريقُ معرفةِ الأَقَلِّ أن يقال: المسألةُ الأولَى: ثصحُّ من ستَّةَ عَشَرَ، إنْ كان الابنُ هو المُسْتَهِلَّ، للزوْجةِ سهمان، ولكلِّ واحد من الابنين سبعةٌ ومسألة الابن المستهلُّ من ثلاثة، والسبعةُ لا تنْقَسِمُ على الثلاثة، ولا موافقة بينهما، فتَضْرَبُ ثلاثةٌ في ستةَ عَشَرَ، تبلغ ثمانيةً وأربعين، للزوجة منها الثُّمُنُ ستَّةٌ، ولكل واحد منهما أحدٌ وعشْرُون، منها للامِّ سبعةٌ، والباقي للأخِ، فتجتمعُ للأمِّ ثلاثةَ عَشَرَ، وللأخِ خمْسةٌ وثلاثُونَ، وإنْ كانَتِ البنتُ هِيَ المستهِلَّةِ، فالمَسْألةُ الأُولَى تصحُّ من أربعةٍ وعِشْرِينَ، للبِنْتِ منها سبعةٌ، ومَسْألتُها من ثلاثةٍ، ولا تصحُّ سبعةٌ عَلَى ثلاثةٍ، ولا موافقةَ، فتضْرَب ثلاثةٌ، في أربعةٍ وعشرين، تبلغ ¬
فرع لابن الحداد
اثنين وسبْعِين، للمَرْأة الثُّمُنُ تسْعَة، وللابْنِ اثنان وأربعون، وللبنت أحَدٌ وعشرون، للأمِّ منها سبعةٌ، وللأخ أربعةَ عَشَرَ، فتجتمع للأمِّ ستَّةَ عَشَرَ، وللأخِ ستَّة، وخَمْسُونَ، وهما متوافِقَانِ بالثُّمُنُ، فترد ما صحَّ منه. مسألة البنْت، وهو اثنان وسبعون إلَى ثُمُنِها، وهو تسعةٌ، للأمِّ سهمان، وللابن سبْعةٌ، فانتهَى الأمْرُ إلَى أنَّ المسألة على تقدير اسْتِهْلاَلِ الابْنِ، صحَّت من ثمانيةٍ وأربَعِينَ، ومسألةُ البِنْتِ من تسْعةٍ، وهما متوافِقَانِ بالثُّلُث، فتضرب ثُلُث أحَدِهِمَا في جميع الآخَر، تبلغ مائةً وأربعةً [وأربعين]، منها تصحُّ في الحالتَيْنِ، للأمِّ بتقدير اسْتِهْلاَلِ الابْنِ تسعةٌ وثلاثُونَ، وبتقدير اسْتِهْلاَلِ البنْتِ اثنان وثلاثُونَ، فتعطَى الأقلَّ، وللابن بتقدير اسْتِهْلاَلِ الابْنِ مائة [وخمسة وبتقدير استهلال البنت مائة] واثني عشر فتعطى الأقل، وتوقَفُ سبعة أسهمٍ بينهما. ولو خلَّف أمّاً وأخاً لأبٍ وأمَّ ولدٍ حامِلاً منْه، فولَدَتْ ذكراً أو أنثَى، واستهلَّ أحدُهُما، إن كان الابْنُ هو المستهلَّ، فالمسألةُ من ستةٍ، منْها خمسةٌ للابن، ومسألتُهُ من ثلاثةٍ، لأمِّه الثلُثُ، والباقي للعم، فتضرب ثُلُثه في ستَّةٍ، تبلغ ثمانيةَ عَشَرَ، للأمِّ ثلاثةٌ، ولأمِّ الولد خمسةٌ، وللعم عشرةٌ. وإنْ كانَتِ البنتُ المستهلَّةُ؛ فالمَسْألةُ الأُولَى من ستة أيضاً، نصيبُ البنْتِ منها ثلاثةٌ، ومسألتها مِنْ ثلاثةٍ، فمعنا ستةٌ وثمانيةَ عَشَرَ، وهما متداخلاَنِ، فتكتفي بالأكثر وتُصحِّح منها المسألَة في الحالتَيْنِ؛ للأمِّ ثلاثةٌ على التقديرَيْنِ، وللعمِّ عَشَرَةٌ على تقدير استِهْلَالِ الابْنِ، ولأمِّ الولد خمسَةٌ. وعلى تقدير اسْتِهْلَالِ البنْتِ: للعمِّ اثنا عَشَر، ولأمِّ الولد ثلاثةٌ، فيعطَى كلُّ واحد منهما الأقَلَّ، ويوقَفُ بينهما اثْنَانِ. فَرْعٌ لابْنِ الحَدَّاد ماتَ عن زوجةٍ حامل وأخوَيْنِ، فولَدَتِ ابناً، ثم صودف ميتاً، فقالتِ الزوْجَةُ: إنه انفصَلَ حيّاً، ثم مات، نُظِرَ: إنْ صدَّقاها، فهذا رجُل مات وخلَّف زوجةً وابْناً، ثم مات الابْنُ، وخلَّف أُمّاً وعمين، فتصحان أربعة وعشرين، وإنْ كذباها، فالقَوْلُ قولهما مع يمينهما، وتصحُّ المسألة من ثمانِيَةٍ. وإنْ صَدَّقها أحدَهُما، وكذَّبَها الآخَرُ، فيحلِفُ المكذِّبُ، ويأخذ تمام حقِّه لو كذَّبَاها، وهو ثلاثةٌ من ثمانيةٍ، والباقي، وهو خمسةٌ، يقسَّم بين المصدِّق والزوْجَةِ علَى النسبة الواقعة بين نصيبها، [و] لو صدَّقاها، وذلك لاتفاقهما علَى أنَّ المكذِّب ظالمٌ، يأخذ الزيادَة، فكأنَّها تلِفَتْ من التركة أو غُضِبَتْ. ونصيبُ الزوْجَةِ، لو صدَّقاها عشَرَةٌ من أربعةٍ وعِشْرين، ثلاثةٌ من الزَّوْج، وسبْعةٌ
الأمثلة
من الابن، ونصيبُ العَمِّ سبعةٌ، فالخَمْسَةُ بينهما علَى سبعةَ عَشَرَ، والخمسة لا تنْقَسِمُ على سبعة عَشَرَ، فتضرب سبْعةَ عَشَرَ في أصْلِ المَسْألة، وهو ثمانيةٌ، تبلغ مائة وستَّةً وثلاثين، للمكذِّب ثلاثةٌ مضروبةٌ فيما ضرَبْنَاه في المسألة، وهو سبعةَ عَشَر، يكون أحداً وخَمْسين، والباقي، وهو خمسةٌ وثمانون، تقسَّم على سَبْعَةَ عشَرَ، يكونُ لكلِّ سهْم خمسةً، فلها بعُشْرة خمسونُ، وله بسُبْعَةِ خمسةٌ وثلاثون، وقد زاد نصيبُ المكذِّب علَى نصيبَ المصدِّق بستَّةِ عَشَرَ سَهْماً: ولو كانتِ المسألةُ بحَالِها، ولكنْ ولَدَتْ بِنْتاً: قال الشيخُ أبو عَلِيٍّ تخريجاً علَى هذه القاعدة: إنْ صدَّقاها، صحَّتِ الفريضَتَانِ منْ ثمانيَةٍ وأربَعِينَ، وإنْ كذَّباها، فمن ثمانيةٍ، وإنْ صدَّقها أحدُهما، وكذَّبها الآخرِ، فمنْ مائَتَيْنِ وثمانيةٍ وأربعين. ومنْها: حِسَابُ مَسَائِلِ الرَّدِّ: قال الأئِمَّةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم-: الردُّ نقيض العَوْلِ؛ لأنَّ الردَّ ينقص السِّهَام عن سهامِ المَسْألة، والعَوْل يزيدها، ولا يخلُو الحَالُ في صُوَرِ الرَّدِّ: إمَّا أن لا يكون في الورثة من لا يُرَدُّ عَلَيْهِ أو يكُونَ: القسْم الأوَّلُ: إذا لم يكُنْ في الورثَةِ مَنْ لا يُرَدُّ عليه، نُظِرَ: إن كان شَخْصاً واحداً، فجميعُ المالِ له فَرْضاً ورَدّاً، وإنْ كانوا جماعةً من صنْفٍ واحدٍ، فالمالُ بينهم بالسَّوِيَّة، ذكُوراً كانوا أو إناثاً، وإن كانُوا صِنْفَيْنِ أو ثلاثةَ أصناف؛ جعل عدد سهامِهِمْ منَ المَسْألة، كأنه أصْل المسألة، ثم ينظر في عَدَد سهام كلِّ صِنْفٍ، وعدد رؤوسهم؛ إنِ انقسَم علَيْهم، فذاك، وإلاَّ، صُحِّح بطريقة. المثال: أمٌّ وبِنْتٌ. أصْلُ المسألةِ منْ ستَّةٍ وسهامُهَا أربعةٌ، ونجعَلُ المسألة، منها أمٌّ وبنتٌ وبنتُ ابنٍ مجموعُ سهامِهِنَّ خمسةٌ، فتجعلها أَصْلَ المسْأَلَةِ، فإن كان مع الأُمِّ والبنْتِ ثلاثُ بناتِ ابن، ضربْنَا عددَهُن في خمسةٍ، تبلغ خمْسةَ عَشَرَ، للأمِّ ثلاثةٌ، وللبنْتِ تسعةٌ، ولبناتِ الابْنِ ثلاثةً. القسْمُ الثَّانِي: إذا كان فيهِمْ مَنْ لا يُرَدُّ علَيْه، فيدفع إلَيه فرضُهُ من مخْرِجِهِ، ويجعل الباقِي لمن يُرَدُّ عليه، إن كان شخصاً واحداً، وإن كانوا جماعةً منْ صِنْفٍ واحدٍ، وإن كانوا صِنْفَيْنِ أو أصنافاً، أخَذْنَا مَخْرَجَ فروضهم وسهَامهم منْه، ونظرنا في الباقي مِنْ مَخْرَجَ فرْضِ مَنْ لا يُرَدُّ عليه، فإنِ انْقَسَمَ علَى سهامهم، فذاك، وإلا، ضرَبْنَا سهامَهُمْ في مَخْرَج فرْضِ مَنْ لا يُردُّ عليه، فما بلغ، يُجْعَلُ أصْلَ المسألة، فإنْ وقع فيه كسْرٌ أو أكثر صححنا المسألة بطريقة. الأمْثِلَةُ: زوجةٌ وأمٌّ لها الرُّبُعُ، والباقي للأمِّ.
الكلام في المسائل الملقبات
زوجٌ وستُّ بناتٍ، له الرُّبُعُ، والباقي لا يصحُّ عليهن [و] لكن يتوافَقَانِ بالثُّلُث، فتضرب وَفْقَ عددهِنَّ في أربعة، تبلغ ثمانيةً منها تصحُّ. زوجةٌ وأمٌّ وثلاثُ بناتٍ: مخْرَجُ فرْضِ الزَّوْجة ثمانيةٌ، ومسألةُ الأُمِّ والبناتِ من ستَّةِ، وسهامُهُن خمسةٌ، والسبعةُ الباقيةُ لا تصحُّ علَى خمسة، ولا يتوافقان، فنضرب خمسةٌ في ثمانيةٍ تبلغ أربعين، للزوجة خمسةٌ، والباقي بينَهُنَّ أخماساً، للأمِّ سبعةٌ، تبقَى ثمانيةٌ وعشرون، لا تصحُّ على ثلاثة، فتضرب الثلاثةُ في الأربَعِينَ، تَبْلُغ مائةً وعشرين، منْها تصحُّ. زوجٌ وبنتٌ وبنْتُ ابْنٍ: للزوْجِ الرُّبُعُ والباقي ثلاثةٌ، ومسألتُهُما من ستَّةٍ، نصيبها منْه أربعةٌ، ولا تَصحُّ ثلاثةً على أربعةٍ، ولا موافقة، فتُضْرب أربعةٌ في أربعةٍ، تبلغ ستةَ عَشَرَ، منْها أربعةٌ للزَّوْج، والباقي بينهما أرباعاً تسعةٍ للبنت، وثلاثةٌ لبنْتِ الابْنِ زوجتانِ وثلاثُ جَدَّاتٍ وسبعة إِخوة لأُمِّ: للزوجتين الربُعُ وما بقي للجَدَّاتِ والإِخوة أثْلاَثاً، للجَدَّاتِ سهْمٌ، وللأخوةِ سهمان، فتَضْرِبُ اثنَيْنِ في ثلاثة، تكون ستةً، تضربُهَا في سبْعَةٍ، تبلغ اثنتين وأربعين، تَضْرِبُها في مسألة الزوجَيْنِ، وهي أربعةٌ، تبلغ مائةً وثمانيةً وستين، للزوجين منْها اثنانِ وأربعون، وللجدات كذلك؛ لكلِّ واحدةٍ أربعةَ عَشَرَ، وللإِخوةِ أربعةٌ وثمانُونَ، لكلِّ واحدٍ اثنا عَشَرَ. فرع: إذا باعَ بعْضُ الورثة جميعَ نَصِيبِهِ منَ الباقين على قدْرِ أنْصِبَائِهِمْ، قُدِّرَ، كأنَّه لم يكنْ، وقسم المالُ علَى الباقين. مثالُهُ: زوْجٌ وابن وبنْت، باع الزوْجُ نصيبَهُ لهما (¬1) على قدْرِ حقِّهما، فكأنه لا زَوْجَ، وتقسَّم التركةُ بينهما أثْلاَثاً، ولو باع بعْضَ نصيبه، جُعِلت المسألةُ منْ عددٍ، يؤخَذُ لنصيبِ البائع منه الجزءُ المَبِيعُ، ويُقَسَّمُ ذلك علَى الباقِينَ. مثالُهُ: لو باعَ الزوْجُ في الصورة المذكُورة نِصْفَ نصيبه، تجعل المسألةَ مِنْ ثمانيةٍ، ليكون لنصيبَه منها، وهو الربعُ، نصف، لكن نصفُ رُبُعُ الثمانيةِ لا ينْقَسِمُ على البنْت والابْنِ أثلاثاً، فتُضْرَب الثمانيةُ في مَخْرَج الثلث، تبلغ أربعةُ وعشرين، للزَّوْج ثلاثة، وللابن أربعةَ عَشَرَ، وللبنْتِ سبعةٌ، وعلَى هذا القياسِ، والله أعلم. " الكَلاَمُ في المَسَائِلِ المُلَقَّبَاتِ" منها: "المشرَّكة" و"الخَرْقَاءُ" و"الأَكْدَرِيَّةُ" و"أم الفُرُوخ"، ومسأَلَةُ" الأرامل" و"المنبرية" و"الصَّمَّاء"، وقد بيَّنَّاها، وقد تُسمَّى الخَرقاءُ مسألة عثمان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- ¬
لما سبَقَ منْ مذْهَبِهِ، و"مسَدَّسَةً"؛ لأن فيها ستَّةُ مذاهِبَ عن الصَّحَابة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- علَى ما مرَّ تفصيلهما، و"مُسَبَّعَةً"؛ لأن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فيها روايَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيِ العبارةِ: إحداهما: الَّتي تقدَّمت. والأُخْرَى: أنه يُفْرَضُ للأم السُّدُس، والمَعْنَى واحد، وربَّما سميت "مخَمَّسَةً"؛ لأن منهم من يَقُول: قضَى فيها عثمانُ وعليٌّ وزيدٌ وابنُ مسعودٍ وابنُ عبَّاس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجمعين- كأنَّه لا يثبت الرواية عن غيرهم. ومنها مربَّعاتُ ابنِ مَسْعُود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وهن بنتٌ وأختٌ وجَدٌّ، قال: للبنْتِ النصْفُ والبَاقِي بينهما مناصَفَةً. وزوجٌ وأمٌّ وجَدٌّ، قال: للزَّوْجِ النصفُ، والباقي بينهما. زوجة وأمٌّ وجَدٌّ وأخٌ؛ جعل المال بينهم أَرْباعاً. وزوجةٌ وأختٌ وجَدٌّ، قال: للزَّوْجَةِ الربُعُ، وللأختِ النصْفُ، والباقي للجَدِّ. فالصور (¬1) كلُّها من أربَعةٍ، والصورةُ الأخيرةُ تُسَمَّى مُرَبَّعَة الجماعة؛ لأنهم جميعاً جعلُوها منْ أربعةٍ، وإن اختلَفُوا في بَعْض الأنصباء. ومنها: "المُثَمَّنَةُ"، وهي: زوجةٌ وأمٌّ وأختانِ لأبٍ وأمٌّ وأختانِ لأمٍّ وولدٌ لا يَرِثُ لِرِقٍّ أو قَتْلٍ؛ لأنَّ فيها ثمانية مذاهبَ، عند الجمهور: هي من اثْنَيْ عَشَرَ، وتعُولُ إلَى سبعةَ عَشَرَ. وعن ابن عبَّاس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- تفريعاً علَى إنكار العَوْل (¬2) الفاضل عن ¬
فرض الزوجة، والأمِّ وولَدَيِ الأُمِّ [لولدي الأبوين: فتصحُّ من أربعةٍ وعشْرين، وعنْده أيْضاً أن الفاضل عن فرْضِ الزَّوْجَةِ، والأم بين ولَدَيِ الأبوَيْنِ وولَدَيِ الأمِّ] (¬1) أثلاثاً، فتصح من اثنين وسبْعِين. وعن معاذٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أنَّ للأمِّ الثلُثَ؛ تفريعاً علَى أنها لا تحجب إلاَّ بالأخوَةِ، فتعُولُ إلَى تسعةَ عَشَرَ. وعن ابن مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: إِسقاطُ وَلَدِي الأمِّ، وعنه إِسقاط ولَدَي الأبوَيْن، وعنْه إِسقاطُ الصِّنْفَين جَميعاً، والباقي للعصبة، وعنه -وهو الأشْهَرُ-: أنَّ للمرأةَ الثُّمُنَ، تفريعاً علَى أن مَنْ لا يرث مَن الأولاد يَحْجُبُ الزوجة والأمّ، فتكون المسألةُ من أربعة وعشرين، وتعولُ إلَى أحدٍ وثلاثين، وتسمَّى لذلك "ثلاثينية ابْنِ مَسْعُودٍ" -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. ومنْها: "تِسْعِينِيَّةُ زَيْدٍ" -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وهي: أمٌّ وجَدٌّ، وأختٌ في الأبوَيْنِ، وأخوانِ، وأخْتٌ لأبٍ، وهي من ثمانيةَ عَشَرَ أصْلاً، أو ضرباً؛ للأمِّ ثلاثةٌ، وللجَدِّ خمسةٌ، وللأخْتِ من الأبوَيْنِ تسعةٌ، يبقى سهمٌ، لا يصحُّ عَلَى خمسةٍ، فتضرب خمسةٌ من ثمانيةَ غشَرَ، تبلغ تسعين، منْها تصحُّ. ومنْها: النِّصْفِيِّةُ، وهي: زوجٌ، وأخْتٌ من الأبويْنِ، أو مِنَ الأبِ؛ لأنه لَيْسَ في الفرائِضِ شَخْصان يرثان نصْفَيِ المال فَرْضاً إلاَّ هُمَا، وربَّما سُمَّيَتِ الصوَرتَانِ يَتِيمَتَيْنِ. ومنْها: " العُمَرِيَّتَانِ" وهُمَا: زوْجٌ، وأبَوَانِ أو وزوجة وأبوانِ؛ لأن أوَّلَ مَن قضَى فيها عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. ومنْها: "مُخْتَصَرَةُ زَيد" -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وهِيَ أمٌّ، وجَدٌّ، وأَخْتٌ مِنَ الأبوَيْنِ، وأخٌ وأُخْتٌ من الأَبِ؛ لأنها تعمل فيها على قول زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بالبَسْط تارَةً، بأنْ يُقَالَ: هي مِنْ ستَّةٍ، للأمِّ سهْمٌ، والباقي بين الجَدِّ والأخ والأختَيْنِ علَى ستَّةِ، وخمْسَةٍ لا تصحُّ عَلَى ستة، فتضرب ستَّةَ في أصْلِ المَسْألة، تبلغ ستةً وثلاثين، يبقى بعد القسْمَةِ سهْمَان لولَدَي الأب، وهما لا يصحَّان علَى ثلاثة، فتضرب ثلاثة في ستةٍ وثلاثين، تبلغِ مائةً وثمَانيةً، منها تصحُّ، السهامُ بعد القسمة تتوافَقُ بالأنصاف، فتردها إلَى أربعةٍ وخمْسِين، وبالاختصار تارَةً بأن يُقَالَ: المقاسَمَة وثلُثُ البَاقِي سواءٌ للجد، فتقسَّم من ثمانيةَ عَشَرَ، يبقَى سهمٌ لا يصحُّ علَى ثلاثةِ، فتضربُ ثلاثة في ثمانيةَ عَشَرَ، تبلغ أربعةً وخمسين. ومنْها: "مسألةُ الامْتِحَانِ"، وهي أربعُ نسوةٍ، وخمسُ جَدَّات، وسبْعُ بنات وتسعةُ ¬
إِخوةٍ لأبٍ، هي مِنْ أربعةٍ وعشرين، وتصحُّ من ثلاثينَ ألْفاً ومائَتَيْنِ وأربَعِينَ (¬1). ومنْها: الغَرَّاءُ، وقد تُفَسَّر بمُطْلَقِ العَوْل إلَى تسْعة، وقد تفسَّر بصورة خاصَّة منْه، وهي: زوْجٌ وأختانِ لأبٍ وأم وأخوان لأمٍّ، وهذه الصورةُ تُسَمَّى "مروانيةً"، لأنَّها فيما يُقالُ: وقَعَتْ في زمَنِ بَنِي أميَّة، واشتهرَتْ في النَّاس، فسُمِّيَتْ، غرَّاء، وفي المُلَقَّبَاتِ "مروانية" أخْرَى، وهي: زوجةٌ وَرِثَتْ من زوْجها ديناراً ودِرْهماً، والتركةُ عشرون ديناراً، وعشْرُونَ درْهماً، يقال: إِن عَبْدَ المَلِكِ سُئِلَ عَنْهَا، فقال: صُورَتُها أخْتَانٍ لأبٍ وأمٍّ وأخْتَانِ لأمٍّ وأربعُ زوجات، للزَّوْجَاتِ خُمُسُ المالِ؛ لمكَانِ العَوْل، والخُمُسُ أربعة دنانِيرَ، وأربعةُ دَرَاهِمَ، لكلِّ واحدةٍ دينارُ ودرهمٌ. ومنها: مسائل "المُبَاهَلَةِ"، وهي مَسائلُ العَوْل؛ لأن ابْنَ عبَّاس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أن الفَرِيضَةَ لا تَعُولُ. ومنْهَا: "الناقِضَةُ": وهي: زوْجٌ وأمٌّ وأخَوَانِ لأمٍّ؛ لأنَّها تنقض أحد أصْلِي ابْنِ عبَّاس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- إنْ أعطاهَا الثُّلُثِ، لزم العول، وإنْ أعطَاهَا السُّدُسِ، لَزِمَ الحَجْبَ بأخوين. لكن قيل: إنَّ الصَّحِيحَ عَلَى قياسِ قوله أنَّ الباقي للأخَوَيْن. ومنْها: "الدِّينَارِيَّةُ"، وهي: زوجةٌ وأمٌّ وبِنْتَانِ واثْنَا عَشَرَ أَخاً، وأخْتٌ، والتِركَةُ ستُّمائَةِ دينارٍ، فنصيب الأخْت مِنْها دينارٌ، يُرْوَى أنَّ الأخْتَ دفع إليها ديناراً، فجاءَتْ إلَى عليٍّ -كرم الله وَجْهَهُ- كالمتظلِّمة، فقال: قَدِ استَوْفَيْتِ حَقَّكِ (¬2). ومنْهَا: "المَأْمُونِيَّةُ"، وهيَ: أبوانِ وبِنْتَان، لم تقسّم التركة حتى مَاتَتْ إِحْدَى البنتَيْنِ، وخلقت الباقين. سأَلَ المأمُونُ عنْها يَحْيَى بْنَ أكْثَم، حينَ أرَادَ أنْ يُوَلِّيَهُ القَضَاءَ، فَقَالَ: بين أميرُ المؤمِنِينَ أن الميِّتَ الأوَّلَ رجلٌ أم امرأةٌ؟ فقال المأْمُونُ: إِذَا عَرَفْتَ الفَرْقَ، عَرَفْتَ الجوابَ، وذلك أنَّه إن كان رجُلاً، فالأبُ وارِثٌ في المسْأَلَة الثانية؛ لأنَّه أبُ الأبِ، والاَّ، فغَيْرُ وارِثٍ؛ لأنَّه أبُ الأُمِّ، والله أعلم ¬
الكلام في مسائل المعاياة
الْكَلاَمُ في مَسَائِلِ الْمعَايَاةِ: قالتْ حبلَى لِقَوْمٍ يقسِّمُونَ الترِكَةَ: لا تَعْجَلُوا، فإنِّي حبْلَى، إن ولدتُّ ذكراً، وَرِثَ، وإنْ ولَدتُّ أُنْثَى، لم تَرِثْ، وإنْ ولدتُّ ذكراً وأنثَى، ورث الذكرُ دون الأنثَى، هذه زوجةُ كلِّ عصبةٍ سوَى الأب والابْنِ. وإن قالَتْ: إنْ ولدت ذكراً أو أنثَى، وَرِثَا، وإن ولدتُّ أنثَى، لم ترِثْ، فهي زوجةُ الأَبِ. وفي الورثة أخْتَانِ لأَبٍ وأمٍّ أو زوجة الابْنِ، وفي الورثة بنْتَانِ مِنَ الصُّلْب. ولوْ قَالَتْ: إنْ ولدتُّ ذكراً لم يَرِثْ، وإن ولدتُّ أنثَى، ورثَتْ، فهي زوجةُ الابْنِ، والورثةُ الظاهرون زوْجٌ وأبوانِ، [وبنتٌ أو زوجةَ الأبِ، والورثةُ الظاهِرُون زوْجٌ وأمٌّ] (¬1)، وأخْتَانِ لأمٍّ. ولو قالت: إن ولدتُّ ذكراً أو أنثى، لم تَرِثْ، وإنْ ولدُّتهما، ورثا، فهي زوجةُ الأبِ، وقد مات الأبُ قَبْله، والورثةُ الظاهرُونَ أمٌّ وجَدٌّ وأختٌ من الأبوَيْنِ. إنْ ولَدَتْ ذكراً أو أنثَى، فهو أخٌ أو أختٌ لأبٍ، فيكون الباقِي بعْد فرِضْ الأمِّ بيْن الجَدِّ والأخْتِ والمولود، ثم تسترد الأختُ جميع حصة المولود، وإن ولدَتْ ذكراً وأنْثَى، أَخَذَ الحدُّ ثُلُثَ الباقي بَعْد فَرْضِ الأمِّ، فما بَقِيَ تأخُذ الأختُ منه قَدْرَ النِّصْف، فيبقى لهما شيءٌ. نَوْعٌ آخَرُ: قال: إنْ ولدت ذكراً، وَرِثَ ووُرِثَتْ، وإن ولَدَتْ أُنْثَى، لم تَرِثْ، ولا أرث، هي بنتُ ابنِ المَيِّت، وزوْجَةُ ابن ابنٍ آخَرَ، وفي المسألةِ بنْتَانِ منَ الصُّلْب، فإنْ ولدَتْ ذكراً، فهناك بنتانِ، وبنْتُ ابنٍ، وابْنُ ابْنِ ابنِ ابنٍ، فالباقي بينهما، وإنْ ولدَتْ أنْثَى، فلا شيءٌ لهما. ولو قالت: إنْ ولدتُّ ذكراً، لم يَرِثْ ولا وَرِثْتُ، وإن ولدَتْ أنْثَى ورثنا، فهي ¬
بنْتُ ابنِ ابنٍ الميتة، وزوجةُ ابْنِ ابنٍ آخَر، والورثَةُ الظاهِرُونَ زوْجٌ، وأبوانِ، وبنْتٌ، ابن وإن ولدت ذكراً، فلا شيْءٍ، له ولا لأمه. وإنْ ولَدَتْ أنثَى، اجتمع مع المذْكُورِينَ بنْتُ ابنِ ابنٍ، وهي الوالدة، وأخرَى في درَجَتِها، وهي المولودة، فيفرض لهما، وتَعُولُ المسألة. ولو قالَتْ: إنْ ولدتُّ ذكراً، فلي الثُّمُنُ، والباقي له، وإنْ وَلَدَتْ أنثَى، فالمال بيني وبينها بالسَّوِيَّة، وإن أسقطتُ ميِّتاً، فلي جميعُ المال، فهي امراةٌ أعتقتْ عبداً، ثم نكَحَتْهُ، فماتَ عَنْها، وهي حُبْلَى [منه]. نَوْعٌ آخَرُ: قال رجُلٌ: لا تَعْجَلُوا، فامرأتي غائبةٌ، إن كانتْ ميِّتةَ، ورثتُ، وإنْ كانَتْ حيَّةَ، ورثَتْ، ولم أَرِثْ، فهذا أخُو الميِّت لأبيه وزوجَتُه الغائبة أختُ الميِّت لأمِّه، وله معهما أم وأختانِ من الأَبَوَيْنِ. فإن كانَتْ ميِّتةً، فالباقي له، وإنْ كانَتْ حيَّةً، فالسدُسُ الباقي فرْضُها، ولا شيء له، ويصحُّ الجواب أيضاً في أمرأةٍ، خلَّفت زوجاً وأمّاً وأختَيْن لأمٍّ وأخاً لأبٍ، قد نكح إحْدَى أختَيْهَا، وهي الغائِبَةُ. ولو قال: إنْ كانَتْ حيَّة ورثتُ أنا دُونَها، وان كانَتْ ميِّتَةَ، فلا شيء لي ولا لها، فصورَتُهُ: امرأةٌ ماتَتْ عنْ زوْج وأمٍّ وجَدٍّ وأخت لأمٍّ، وأخٍ لأبِ، قد نكَحَها، وهي الغائبةُ، إنْ كانَتْ حيَّةً، فللزَّوْجِ النصْفُ، وللأمِّ السُّدُس، والباقي بيْن الجَدِّ والأخِ، وإنْ كانَتْ ميِّتَةً، فللزوج النصْفُ، وللأمِّ (¬1) الثلث، وللجد السدُسُ، ولا شيء للأخ. نَوْعٌ آخَرُ: امرأةٌ وزوجُها، أخذا ثلاثة أرباع المَالِ، وأخْرَى وزوْجُها أخَذَا الرُّبُعَ، صورتُهُ: أختٌ لأبٍ، وأُخْرَى لأمٍّ وأبْنَا عمٍّ؛ أحدهما أخٌ لأم، والذي هُوَ أخٌ لأمٍّ زوجُ الأخت للأب، والآخر زوجُ الأخْتِ للأمِّ، فللأخْتِ منَ الأَبِ النصْفُ، وللأخِ والأخْتِ منَ الأُمِّ الثُّلُثُ، والباقي بَيْن ابْنَيِ العمِّ بالسَّوِيَّةِ. زوجَانِ أخَذا ثُلُثَ المالِ، وآخران أخذَا ثُلُثَيْهِ، صورَتُهُ أبَوَانِ وبنْتُ ابن في نكاحِ ابْنِ ابنِ ابنٍ آخر. رجلٌ وابنتُهُ ورِثَا مالاً عن ميت نصفَيْنِ، صورَتُهُ: امرأةٌ ماتَتْ عن زَوْجٍ، هو ابنُ عَمٍّ، وبِنْتٍ منه. رجُلٌ وزَوْجَتَاهُ، وَرِثُوا المالَ أثْلاثاً، صورَتُهُ: بنتا ابنين في نكاح ابنِ أخٍ أو ابْنِ ابنِ ابنٍ. ابن زوجةٌ وسبعةُ إخوةً لها، وَرِثُوا المالَ بالسَّوِيَّة، صورَتُهُ: نَكح ابن الرجُلِ أمّ امرأته وأولدها سبعة، ومات الرجُلُ بعْد موت الابْنِ عنْ زوْجَتِه، وبني ابن، وهم إخوَتُها لأمِّ، فلها الثمنُ، ولهم الباقي. ¬
أخوانِ لأَبٍ وأمٍّ؛ ورث أحدُهُما عنْ ميِّت ثلاثةَ أرباع المال، والآخَر ربعه، صورَتُهُ: ابنا عَمٍّ، أحدهما زَوْجٌ. نَوْعٌ آخَرُ: امرأةٌ وَرِثَتْ أربعةَ أزْوَاج واحداً بَعْد واحِدٍ، فحصل لها نصْفُ أموالِهِمْ، هم أربعةُ إخوةٍ لأبٍ وأمٍّ، كان لهم ثمانيةَ عَشَرَ ديناراً، للأوَّل ثمانيةٌ، وللثاني ستَّةٌ، وللثالثِ ثَلاَثَةٌ، وللرابع دينارٌ، فنَصِيبُهَا من الأوَّل دينارانِ، ومِنَ الثانِي كذلك؛ لأنَّه كانَ لَهُ ستَّةٌ، وأصابه من الأول ديناران، ومَن الثالِثِ كذلك؛ لأنَّه كانَ لَهُ ثلاثةٌ، وأصابه من الأوَّل ديناران ومنَ الثَّانِي ثلاثَةٌ، [ونصيبها من الرَّابع ثلاثةٌ؛ لأنَّه كان له دينار، وأصابه من الأول ديناران، ومن الثاني ثلاثةٌ، ومن] (¬1) الثالثِ ستَّةٌ، فيجتمع لها تسْعَة. امرأةٌ ورِثَتْ خمسةَ أزْوَاحٍ، فحصل لها نصْفُ أموالِهِمْ. وهمُ خمسةُ إخوةٍ لهُمْ ثمانيةٌ وأربعون ديناراً، للأوَّلِ ستَّةَ عَشَرَ، وللثانِي ثلاثةَ عَشَر، وللثالِثِ تسعةٌ، وللرابعِ ثلاثةٌ، وللخامِسِ سبْعةٌ. امرأةٌ ورِثَتْ ثلاثةَ أزْوَاج، فحصل لها نصْفُ أموالهم. وهم ثلاثةُ إخوةٍ لَهُمْ مائَةٌ وثمانيةٌ وثلاثون؛ للأوَّلِ مَائَةٌ وثمانية وعِشْرُون، وللثاني ثمانيةٌ وللثَّالِثِ ديناران. نَوْعٌ آخَرُ: دخلَ صحيحٌ عَلَى مريضٍ، فقال أوص لي، فقال وإنما ترثني أنت وأخواك وأبواك وعَمَّاك، فالصحيحُ أخو المريض لأمِّه وابن عمه وأخواه أخُو المَريض لأمِّه، وأبَوَاهُ عمُّ المريض وأمّه، وعَمَّاهُ عمَّا المريضِ، والحاصلُ ثلاثةُ إِخوة لأمٍّ وأم وثلاثةُ أعْمَام. ولو قال: يرثني أبوَاكَ وعَمَّاكَ وخَالاَكَ، فالصحيح ابنِ أخي المريض لأبيهِ، وابن أخته لأمه، وله أخوان آخران لأبٍ وأَخوانِ آخَرَانِ لأمٍّ، ولو قال: تَرِثُنِي جَدَّتَاكَ وأُخْتَاكَ وزَوْجَتَاكَ وبِنْتَاكَ، فجدتا الصحيح زوجتا المريض واختاه من قِبَل الأمِّ أختاً المريض من قبل الأب، وزوجتا الصَّحِيح، إحداهما أمِّ المريض، والأخْرَى أخته من الأَبِ وبنْتَا الصَّحِيحَ أخْتَاً المريضِ منِ الأَم ولدتهما له أمُّ المريض. والحاصِلُ: زوجتان وثلاثُ أخواتٍ لأبٍ وأخْتَانِ لأمٍّ، وأمٌّ، ولو قال: تَرِثُنِي زوْجَتَاكَ، وبنْتَاكَ، وأخْتَاكَ وعَمَّتَاكَ وخَالَتَاكَ، فزوجتا الصحيح أمُّ المريض وأخته لأبيه، وبنتا الصحيح أختا المريض لأمه وأختا الصحيح لأمه أختاً المريضِ لأبيه وعَمَّتا الصَّحيحِ، إحداهما لأبٍ، والأخْرَى لأمٍّ، وخالَتَاه كذلك، وأربَعَتُهُنَّ زوجاتُ المريضِ، ¬
فالحاصل أربعُ زوجاتٍ، وأمُّ وأختَانِ لأمٍّ، وثلاثُ أخَوَاتٍ لأبٍ. نَوْعٌ آخَرُ: تَرَكَ سبْعَةَ عَشَرَ ديناراً علَى سبْعَ عَشْرَةَ امرأةً، فأخذت كلُّ واحدةٍ منهن ديناراً، صورَتُهُ مسألةُ الأَرَامِلِ. ترك أربعةً وعشرين ديناراً عَلَى أربع وعِشْرِينَ امْرأةً، وأخذَتْ كُلُّ واحدةٍ مِنْهُنَّ ديناراً، صورَتُهُ: ثلاثُ زوْجَاتٍ وأرْبَعُ جَدَّاتٍ وستَّ عَشْرَةَ بِنْتاً وأختاً لأبٍ.
الكلام في الأنساب والقرابات
الكَلاَمُ في الأَنْسَابِ والقَرابَاتِ المُتَشَابِهَةِ: ثلاثُ بناتِ ابنٍ، بعضُهُنَّ أسفل من بعض يحتمل أن تكون العليا عَمَّة الوُسْطى بأنْ تكون العُلْيَا يبنْتَ ابنٍ، والوُسْطَى بنْتَ ابْنِ ذلك الابْنِ، ويحتمل أنْ تكُونَ العُلْيَا بنْتَ عمِّ أب الوُسْطَى بأن تكون الوسطَى بِنْتَ ابنِ ابنٍ آخر، وكذلك الوسْطَى يحتمل أنْ تكُونَ عمَّةَ السُّفْلَى، ويُحتمل أنْ تكُونَ بنْتَ عَمِّ أبيها، وأمَّا العلْيا مع السُّفْلَى، فيحتمل أنْ تكون العُلْيا عمة أبي السُّفْلَى، ويحتمل أن تكونَ بنْتَ عمِّ جدها. ثلاثُ بناتٍ ابنٍ، بعضُهُنْ أسفل من بَعْضٍ، ومع كُلِّ واحدة منْهنَّ أختها، فإن كنَّ لأبٍ وأمٍّ أو لأبٍ، ففي كلِّ درجة بنتاً ابن، وإن كنَّ لأمِّ، فهن أجنبياتٌ، وكذلك لو كان مع كلِّ واحدةٍ منهنَّ بنْتُ عمها بنتُ ابْنٍ معها جدَّتُها، إن كانَت أمُّ الأمِّ، فهي أجنبيةٌ عن الميِّت، وإن كانَتْ أمّ الأب، فإنْ كان الميِّتُ رجلاً فهي زوجةُ، وإن كان امراةً، استحالَتِ المسألةُ، فإنَّ الجدَّةَ هي الميِّتَة. رجلانِ، كلُّ واحدٍ منهما عمُّ الآخر، صورَتُهُ أنْ ينكح كلُّ واحدٍ عن عَمْرٍو وزيدٍ أُمَّ الآخرِ، فوَلِدَ لكلِّ واحدٍ منهما ابنٌ، فكل واحدٍ من الاثنين عمُّ الآخَرِ لأمِّه. رجُلانِ، كلُّ واحدٍ منهما خالُ الآخر، صورتُهُ: أنْ ينكح كلُّ واحد من عمرٍو وزيدٍ بنْتَ الآخَرِ، فَوَلدَ لكلِّ واحد منهما ابنٌ، فكلُّ ابنٍ منهما خالُ الآخر. [رجلان] كلُّ واحدٍ منهما عمُّ أبي الآخر، صورَتُهُ: أن ينكحَ رَجُلاَنِ، كلُّ واحد منهما، اُمَّ أبِي الآخرِ، فَيُولَدُ لهما [ابنانِ. كلَّ واحد منهما عمُّ أمِّ الآخر، صورَتُهُ: أن ينكح رجُلاَنِ، كلُّ واحدٍ مِنْهُمَا] بنتَ ابنِ الآخَرِ، فيُولَد لهما ابْنَانِ. كلُّ واحد منهما، خال أب الآخَرِ، أنٍ ينكح ثنان، كلُّ واحد منهما، أمَّ أمِّ الآخر، فيُولَدُ لهما ابْنَانِ. كلُّ واحدٍ منهما خالُ أمِّ الآخر هو أن ينكح اثنان، كلُّ واحد منهما، بِنْتَ بِنْتِ
الآخَرُ فيُولَدُ لهما ابنانِ. رجُلانِ، أحدُهُما عمُّ الآخرِ، والآخَرُ خالُ الأوَّل، صورتُةُ: أن ينكح رجلٌ امرأةً، وينكح ابنُهُ أمَّها، فيولَدُ لكلِّ واحدٍ منهما ابنٌ، فابنُ الأبِ عمُّ ابنِ الابْنِ، وهو خالُ ابنِ الأبِ. شخْصٌ، هو خالٌ وعمٌّ، صورَتُهُ: أن ينكح أحَدُ الأخويَنْ، منَ الأَبِ، أُخْتَ الاَخَرِ من الأمِّ، فتلد له ابناً، فالأخ الآخرُ عمُّ المولود لأبيه، وخالُه لأمِّه. وأيضاً إذاً نَكَحَ أحد الأخوَيْن، من الأم، أُخْتُ الآخر لِأَبِيهِ، فولدَتْ له ابْناً، فالآخَرُ خالُ هذا الابْنِ منْ جهة الأَبِ، وعمه من جهة الأُمِّ. وأيضاً إذا نكحِ زَيْدٌ أمَّ عمْرٍو، وعمرو بنْتَ زَيدٍ، ووُلِدَ لكلِّ واحد ابْنٌ، فابنُ زيدٍ عمُّ ابْنِ عمْروٍ؛ لأنَّهُ أَخُو عَمْروٍ لأمِّه، وخال له؛ لأَنَّهُ أخو أمه من الأب، وأيضاً إذَا نَكَحَ امرأةٌ، وله بنتٌ من غيرها، ولها ابنٌ من غيره، فنكَح ابنُها بنْتَهُ فوُلِدَ للوالدَيْنِ ابنٌ وللولدَيْنِ ابنٌ، فابْنُ الوالِدَيْنِ عمُّ ابنِ الولدين منَ الأمِّ؛ لأنَّه أخو أبيه من الأمِّ، وخاله؛ لأنه أخو أمِّه من الأب، وقد نظم بعضهم المسْألة فقال: [المتقارب] وَجَارِيَة عَمُّهَا خَالُهَا ... إِذَا مَا مَشَتْ صَاحَ خلْخَالُهَا أَبِينُوا لَنَا أَيُّهَا الفارِضُو ... نَ عَنْ هَذِهِ الخَوْدِ، مَا حَالُهَا؟ وبمثل ذلك يصوَّر المصْرَاع الثَّاني منَ البَيْتِ المَعرُوف: [البسيط] حَرْفٌ أَبُوهَا أَخُوهَا مِنْ مُهَجَّنَة ... وَعَمُّهَا خَالُهَا قَوداء شمليل ويُرْوَى هذا البيْتُ عن كعْب بْنِ زُهَير بن سلمى من قصيدة مَدَحَ بها سيِّدَنا رسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وأنْشَدَهَا بيْن يدَيْهِ أوَّلُها: [البسيط] بَانَتْ سُعَادُ؛ فَقَلْبِي اليَوْمَ مَتْبُول ... مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْد مَكبُولُ (¬1) ويُرْوَى هذا البيت عن أوْسِ بْنِ حَجْرٍ أيضاً، كأنَّ أحَدَهُمَا ضمَّنَهُ. وأما قولُهُ "أبوها أخوها" فمثله يوجد (¬2) في أنكحةِ المجوس، أو بالشبهة. وذلك بأن يطأ المجوسىُّ أُمَّه، فيولدها بنتاً، فهو أَبُوهَا وأَخُوهَا لأُمِّها، واجتماع القرابَتَيْنِ المذكورَتَيْنِ في المِصْرَاعِ الأَوَّل والقرابتين المذكورتين في الثَّانِي؛ بأن يضرب ¬
فحْلٌ ابنتَهُ، فتضع حملين، فيضربها أحدُهما، فتضع ناقَةً، فالفحل الثاني أبُوهَا وأَخُوها لأمِّها، والذي كان معه عمّها؛ لأنه أَخُو أبِيها، وخالها؛ لأنه أخُو أُمِّها. و"الحرفُ": النَّاقَةُ الضامِرَةُ، ويُقَال: "الصلبة، المهجنة" بنتُ الهَجِينِ، وهو الَّذِي أبوه شريفٌ عتيقٌ، والأمُّ بخلافه، و"القَوْدَاء": الطَّوِيلَةُ، و"الشِّمْلِيلُ" السَّرِيعَةُ. رجلٌ، هو عمُّ أبيه، وعمُّ أمه، صورَتُهُ: أن ينكح أبُو أبِي أَبيه أُمَّ أبي أمِّه، فوَلَدَتْ ابناً، فذلك الابنُ عمُّ أبيه من الأب، وعمُّ أمه من الأمِّ. رجلٌ هو خالُ أبيه، وخال أمه. [صورته: أن ينكح أبُو أمِّ أمِّه، أُمَّ أمِّ أبيه، فولدَت ابناً، فذلك الابنُ [هو] خال أم الرجل لأبيه وخال أبيه لأمه] (¬1). رجُلاَنِ، كُلُّ واحدٍ مِنْهما، ابْنُ عم الآخر، وابنُ خاله، صورته: أن ينكح رجُلاَنِ، كلُّ واحد منهما، أخْتَ الآخَرِ، فيولد لهما ابنانِ، فكلُّ واحدٍ من الابنَيْنِ ابنُ عمَّةِ الآخر وابنُ خالِهِ. عن حرملة أنَّ رجُلاً دَفَعَ إلَى الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رُقْعَةً فيها: رجلٌ ماتَ، وخَلَّى رجُلاً: ابْنَ عَمِّ ابْنِ أَخِي عَمِّ أَبِيه. فكتَبَ الشَّافِعِيّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- في أسْفَلِهَا: [الرمل] صَارَ مَالُ المُتَوَفَّى كُمَّلاً ... بِاتِّفَاقِ الْقَوْلِ لاَ مِرْية فِيهْ لِلَّذِي خَبَّرْتَ عَنْهُ أَنَّهُ ... ابْنُ عَمِّ ابْنِ أَخِي عَمِّ أَبِيهْ وذلك لأن ابنَ أخي عَمِّ الأب هو الأب، فابن عمه هو ابْنُ عمِّ الأب، ويقْرُبُ من هذا قَوْلُ القائل: ورِثَ من الميت خالُ ابْنِ عمَّه دون أخيه من الأبوَيْنِ؛ وذلك لانَّ خال ابْنِ العَمَّة هو الأب والأعْمَام، والمرادُ هاهنا: الأبُ. وقول القائل: وَرِثَ من الميت عمَّةُ ابنِ خالِهِ دُون الجَدَّة؛ وذلك لأنَّ عمَّة ابْنِ الخالِ هي الأمُّ. وهذه فنونٌ لا تتناهى، وقد أتيْنَا منْها بطَرَفٍ صالحٍ، نفعَنا اللَّهُ والناظرين فيه بمنهِ وكرمه. ونرجع إلى الموضع الذي تركناه من الكتاب بعون الله وحُسْن توفيقه. تم الجزء السادس، ويليه الجزء السابع، وأوله: "كتاب الوصايا" ¬
العزيز شرح الوجيز المعروُف بالشَّرح الكبير تأليف الإمام أبي القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الرافعي القزويني الشافعي المتوفي سنة 623 هـ تحقيق وتعليق الشيخ علي محمد معوض ... الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الجزء السابع يحتوي على الكتب التالية: الوصايا- الوديعة- قسم الفيء والغنائم- قسم الصدقات- النكاح دار الكتب العلمية بيروت- لبنان
كتاب الوصايا
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الوَصَايَا، وَفِيهِ أرْبَعَة أبْوَابٍ البَابُ الْأوَّلُ في أَرْكَانِهَا وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الرُّكْنُ الأَوَّلُ المُوصِي وَيَصِحُّ الْوَصِيَّةُ مِنْ كُلِّ حُرٍّ مُكَلَّفٍ؛ لأَنَّهُ تُبَرُّعٌ، وَلاَ يَصِحُّ مِنَ المَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يُمَيِّزُ وَيَصِحُّ مِنَ السَّفِيهِ المُبَذِّرِ لِصِحَّةِ عِبَارَتِهِ في الأَقَارِيرِ، وَفِي الصَّبِيِّ المُمَيِّز قَوْلاَنِ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ مَشَابه القُرُبَات وَالتَّمْلِيكَاتِ، وَالرَّفِيقُ إِن أَوْصَى ثُمَّ عُتِقَ وَمَلَكَ لَمْ يَنفَذ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ وَالكَافِرُ يَنْفَذُ وَصِيَّتُهُ، إلاَّ أنْ يُوصِيَ بِخَمْرٍ أَوْ خَنْزِيرٍ أَوْ عِمَارَةِ كَنِيسَةٍ، وَلَوْ أَوْصَى بِعِمَارَةِ قُبُورِ أَنْبِيَائِهِمْ جَازَ لِأَنَّ عِمَارَتَهَا إحْيَاءٌ لِلْزِّيَارَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يُقَالُ أَوْصَيْتُ لفلانٍ بِكذا، ووصَّيْت، وَأَوْصَيت إليه؛ إذا جعلَهُ وصياً (¬1) ¬
واللَّفْظَةُ فيما ذكرَ الأزْهَرِيُّ (¬1) مشتقةٌ من قولِهِم وصيت الشيء أصيه ايصاء إذا وصلته به وأوصى وَاصِيَةً، أيْ: مُتصلة البنات، فَسُمِّيَ هذا التصرُّفُ وصيَّةً لِمَا فِيهِ من وصلِ القُرْبةِ الواقعةِ بَعْدَ الموتِ بالقُرُبَات المُنَجَّزَةِ في الحياةِ، ودَلاَلاَتُ الإِجْمَاعِ والكتابِ والسُّنَّةِ مُتَعَاضِدة عَلَى جَوَازِ الوَصِيَةِ؛ قال الله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء- 12] وعن أبي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَدِمَ المَدِينةَ، فَسَأَلَ عَنِ البَرَاءِ بْنِ مَعْرَورٍ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ هَلَكَ، وأَوْصَى لَكَ بِثُلُثِ مَالِهِ فَقَبَلَهُ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى وَرَثَتِهِ (¬2). وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أبي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَرِضْتُ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمَكَّةَ فجاءني رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَعُوْدُنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَلَغَ بِيَ مِنَ الْوَجَعِ مَا تَرَى وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي، أَفَأَتَصَدَّقُ؟ وَيُرْوَى: "أَفَاُوصِي بثُلْثَيْ مَالِي؟ فَقَالَ: لاَ، فَقُلْتُ: فَبِشَطْرِهِ؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَبِالثُّلُثِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كثِيرٌ" وُيرْوَىَ: "كَبيرُ؛ إنَّكَ أنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ" (¬3). وعن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّهُ قَال: "إِنَّ اللهَ أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أمْوَالِكُمْ في آخِرِ أَعْمَارِكُمْ؛ زِيادَةً في أَعْمَالِكُمْ" (¬4) قَالَ العُلَمَاءُ: وَكَانَتِ الوَصِيَّةُ وَاجِبَةً في ابْتِدَاءِ الإِسْلاَمِ؛ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيهِ قَوْلهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ...} [البقرة- 180] الآيَةَ، ثُمَّ نُسِخَ الوُجُوبُ، وَبَقِيَ الاِسْتِحْبَابُ. وَاحتَجُّوا عَلَى نَفْيِ اَلوُجُوبِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ ¬
دَيْنٍ} [النساء- 12] فنكر (¬1) الْوَصِيَّةِ؛ كما نَكَّرَ الدَّيْنَ، وَلَوْ وَجَبَتِ الوَصِيَّةُ، لَأَشْبَهَ أَنْ يَقُولَ: "مِنْ بَعْدِ الوَصِيَّةِ" وَبِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوصَ، يُقَسَّمُ جَمِيعُ مالِهِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ بِالإِجْمَاع، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً، لخَرَجَ [شَيْءٌ مِنَ] المَالِ عَنْ قِسْمَةِ اَلوَرَثَةِ، كَالدَّيْنِ، وَبِأنَّهَا عَطِيَّةٌ، فَلاَ تَجِبُ، كَالهِبَةِ فِي الحَيَاةِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا حَقِّ امْرِئٍ مُسْلم لَهُ مَالٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ (¬2) عِنْدَهُ" فَوَّضَ الوَصِيَّةَ إِلَيْهِ، وَعَلَّقَهَا بِإِرَادَتِهِ. والَّذِي رُوِيَ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقِ أَنَّه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوْصِي فِيهِ، يَبِيْتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَة عِنْدَهُ". فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: يُحْتَملُ أَنْ يَكُونَ المُرَاد ما الحزم وَالاحْتِيَاطُ إِلاَّ هَذَا، وَذَلِكَ؛ لأنَّهُ قَدْ يُفَاجِئُهُ المَوْتُ، وَمَا يَنْبَغِي أنْ يَغْفَلَ المُؤْمِنُ عَنِ اَلمَوْتِ، والاسْتِعْدَادِ لَهُ، والإِنَابَةِ إِلى الدَّارِ الآخِرَةِ، ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اَلمُرَادُ: ما الْمَعْرُوفُ في مَكَارِمِ الأَخْلاَقِ إِلاَّ هَذَا، وَهُوَ مثل مَا رُوِيَ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "حَقُّ [على] (¬3) كُلِ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ في الأُسْبُوعِ مَرَّةً" (¬4) فَظَهَرَ بِالْوُجُوهِ المذكورة أَنَّ الوَصِيَّةَ لَيْسَتْ وَاجِبَةِ. نَعَمْ، مَنْ عِنْدَهُ وَدِيعَة، أو في ذِمَّتِهِ حَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى؛ مِنْ زَكَاةٍ، أَوْ حَجٍّ، أَوْ دَيْنٍ لآِدْمِيٍّ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ فيه، إذاً لَمْ يُعْلِمْ بِهِ غَيْرَه (¬5). وأَمَّا الاسْتِحْبَابُ، فَالأَفْضَلُ تَعْجِيلُ الصَّدقَةِ في الحَيَاةِ [لِمَا رُوِيَ] عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "أَفْضَلُ الصَّدقَةِ أَنْ يَتَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الفَقْرَ، وَلاَ تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كذا" (¬6). وإِنْ أَرَادَ الوَصِيَّةَ، فَالأَفضَلُ أنْ يُقَدِّمَ مَنْ لاَ يَرِثُ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَيُقَدِّمَ مِنْهُمُ [الأَقَارِبُ] المَحَارِمَ، ثُمَّ غَيْرَ الْمُحَارِمِ، ثُمَّ يُقَدِّمُ بِالرِّضَاعِ، ثُمَّ بِاَلمُصَاهَرَةِ، ثُمَّ بِالوَلاَءِ، ¬
ثمَّ بِالجِوَارِ، كَمَا في الصَّدَقَاتِ المُنَجَّزَةِ. وفِي "أمالي" أَبِي الفَرَجَ السَّرْخَسِيِّ -رَحمه الله-؛ أَنَّ مَنْ قَلَّ مَالُهُ، وكَثُرَ عِيَالُهُ، فَالْمُسْتَحَبُّ له أَلاَّ يُفَوِّتَهُ عَلَيْهِمْ بالوصية والمَشْهُورُ الأَوَّلُ (¬1). إذاً تَقَرَّرَ ذَلِكَ، فَالْوَصِيَّة قَدْ يَكُونُ لِلإِنْسَانِ، وَقَدْ تَكُونُ إليه، والوَصِيَّةُ لَهُ قَدْ تَصِحُّ، وَقَدْ تَفْسُدُ، وَإِذَا صَحَّتْ، فَقَدْ يَسْتَمِرُّ المُوصِي عَلَيْهَا، وَقَدْ يَرْجِعُ، وَإِذَا اسْتَمَرَّ، أُمْضِيَتْ، وحِكْمَ بِمُوجِبَهَا، وَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ مَحْصُورَةٌ في الكِتَابِ في أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ: أَحَدُهَا: في أَرْكَانِ الوَصِيَّةِ، ويُبَيَّنْ فيه صحيحُهَا مِنْ فَاسِدِهَا. وَالثَّانِي: في أَحْكَامِهَا، إِذَا صَحَّتْ، واسْتَمَرَّ الفوصِي عَلَيْهَا. والثَّالِثُ: في الرُّجُوعِ عَنْهَا. والرَّابعُ: في الوَصَايَا بِأرْكَانِهَا، وَأَحْكَامِهَا. أَمَّا البَابُ الأَوَّلُ؛ فَلِلْوَصِيَّةِ عَلَى الرَّسْم الْمَعْهُودِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ: المُوصِي، والوَصِيُّ، والمُوصَى لَهُ، والمُوصَى بِهِ. والصِّيغَةُ. اَمَّا المُوصِي، فقال صَاحِبُ الكِتَابِ: "وَتَصِحُّ الوَصِيَّةُ مِنْ كُلِّ مُكَلَّفٍ حُرٍّ وفِي هَذَا الضَّبْطِ قَيْدَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّكْلِيفُ، فَلاَ يَصِحُّ وَصِيَّةُ المَجْنُونِ، وَالمُبَرْسِمِ والمَغتُوهِ الَّذِي لاَ يَعْقِلُ، والصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يُمَيِّزُ، وَفِي وَصِيَّةِ الصبِيِّ المُمَيِّز وَتَدْبِيرِهِ قَوْلاَنِ: أَرْجَحُهُمَا: عِنْدَ الأُسْتَاذِ أبي مَنْصُورٍ -رحمه الله-: أَنَّهُمَا صحيحتان؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ غُلاَمَاً مَنْ غَسَّانٍ حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ، فَأَوْصَى لِبِنْتِ عَمٍّ لَهُ، وَلَهُ وَارِثٌ، فَرُفِعَتِ، القِصَّةُ إِلَى عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَأَجَازَ وَصِيَّتَهُ (¬2). ¬
وعَنْ عُثمانَ -رضي اللَّهُ عنه- أنه أَجازَ وصيةَ غلامِ ابْنِ إِحْدَى عَشْرَةَ سنةً (¬1)؛ ولأن الوَصِيَّةَ لا تُزِيلُ مُلْكَه في الحَالِ، وتُفيدُ الثَّوَابَ بَعْدَ الْمَوتِ، فَتَصِحُّ كَسَائرِ القُرُبَاتِ، وبِهَذا القولِ قَالَ مالِكٌ وأَحْمَدٌ -رحمهما الله تعالى-. والثَّانِي، وَهُوَ الأَظْهَرُ عند الأكْثَرِينَ، وبه قال أبو حنيفةَ: أَنَّهُمَا بَاطِلاَنِ كَهِبَتِهِ وإِعتاقِهِ، وَذَلِكَ؛ لأنَّه لا عِبَارَةَ له؛ ولهذا لا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وإنْ كانَ فِيهِ غِبْطَةٌ، وفي السَّفِيه المُبَذِّرِ طَرِيقَانِ: أَحدُهُمَا: تَخْرِيجُ (¬2) وصيَّتِهِ، إذا كَانَ مَحْجُوراً عليه القَولَيْنِ في وصيَّةِ الصَّبِيِّ المُمَيِّزِ، وهَذَا ما أوْرَدَهُ صَاحِبُ "التَّتِمَّةِ" -رحمه الله-. وأصَحُّهُمَا: القَطْعُ بِالصِّحَّةِ، مَحْجُوراً كانَ أَوْ لَمْ يَكُن؛ لأنَّ عِبَارَتَهُ صَحِيحةٌ؛ أَلاَ تَرَى أَنَّ طَلاَقَهُ يَقَعُ وإقْرَارَهُ بالْعُقُوبَاتِ يُقْبَلُ. والثَّانِي: الحُرِّيَّةُ، فَلَوْ أَوْصَى الرَّقِيقُ، ومَاتَ على الرِّقٍّ، لَغَتْ وَصِيَّتُهُ، وإنْ عَتَقَ، ثُمَّ ماتَ، فَوَجْهَانِ: أَظهَرُهُمَا، وَيُحْكَى عَنْ أَبِي حَنيفةَ -رحمه اللَّهِ-: أنَّهَا لاَغِيَةٌ أيضاً؛ لأنه لمْ يَكُنْ أهلاً، حينَئدٍ. والثَّانِي: الصَّحَّةُ؛ لأنَّهُ صحيحُ العِبَارَةِ، وقد أمكَنَ تنفيذُ وصيَّتَهِ، والمُكَاتَبُ كالقِنِّ (¬3)، ويدخلُ في الضَّبْطِ المذكورِ الكَافِرُ؛ فَتَصِحُّ؛ وَصِيَّتُهُ، كما يصِحُّ إِعتاقُه وتمليكاتُةُ، نعم، يُشتَرطُ أنْ يُوصِيَ بِما يُتَمَوَّلُ أو يُقْتَنَى، فلا تَصِحُّ وصيَّتُه بالخمر والخِنْزِيرِ، وسواءٌ أوْصَى لِمُسلمٍ، أو ذِمِّيٍّ؛ وأَلاَّ يُوصِيَ لجهةِ مَعْصِيَةٍ، كما إذا أَوْصَى بعمارةِ (¬4) كنيسةِ، أو بِنَائِها، أَوْ لِكَتَبَةِ التَّوْرَاةِ والإنْجِيلِ، أو لقرائتهما وما أشبههما. ¬
وعَدُّوا من هذا الْقَبيلِ الوَصِيَّةَ لِدَهْنِ سراج البَيْعَ وَلَكِنَ قَيَّد الشَّيخُ أبو حامدٍ الْمَنَعَ بِما إذا قصد تَعَظْم البقعةِ؛ فأمَّا إذا قَصَد انتفاعَ المقيميِنَ، أو المُجْتَازِينَ، بضوئها، جازَتِ الوصِيَّةُ (¬1)، كَمَا إذا أوْصَى بِصَرْفِ شيْءٍ إلَى أهل الذِّمَّةِ، ثُمَّ هَذَا الشرطُ لا يخْتَصُّ بوصيَّةِ الْكَافِر، بلْ هو مُعْتَبَرُ في وصيَّةِ المُسْلِمِ أيضاً، حتى لو أَوْصَى ببناءِ بُقْعَةٍ لأهْلِ المَعَاصِي، لَمْ تَصِحَّ؛ لأنَّ المقصودَ من شَرْعِ الوصيَّةَ تَدَارُك ما فاتَ في حَالِ الحياةِ مِنَ الحسناتِ؛ فَلاَ يجوز أن يَكُون في وُجُوهِ المعصية، ويجوزُ للمُسْلِمِ والذِّمِّيِّ الوصيةُ لِعَمَارَةِ المسْجِدِ الأقْصَى، ولعمارَةِ قُبُورِ الأنْبِيَاءِ عليهم السلام، والعلَمَاءِ الصَّالِحِينَ رحمهم الله مَا فيها من إحياءِ الزِّيارة والتَّبَرُّكِ بها وكَذَا الوصيَّةُ لِفَكِّ أُسَارَى الكُفَّارِ من أيدي المُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ المُفَادَاةَ جَائِزَةٌ، كذا الوصيًّة بِبِنَاءِ رِبَاطٍ يَنْزِلُه أهْل الذِّمَّةِ، أو دارٍ لِتصْرَفَ غَلَّتُهَا إِلَيْهِمْ (¬2). وَقولُه في الكتابِ: "وَيصِحُّ مِنَ السَّفِيهِ المبذِّرِ" ويجوز إِعْلاَمُه بِالواو، لِطَرِيقَةِ القَوْلَيْنِ، وقولُه: "لِتَرَدُّدِهَا بين مَشَابِهِ القُرُبَاتِ والتمليكاتِ" إشارةٌ إلى تَوْجِيه القَوْلَيْنِ في وصيَّةِ الصَّبِيِّ المُمَيِّزِ، وقضيِّةُ التَّرَدُّدِ المذْكُورِ؛ أنْ يَجِيءَ في الوصيَّةِ الجهاتُ العامَّةُ الَّتِي ¬
لاَ يَظْهَرُ فيها قَصْدُ القُرْبَةِ الخِلاَفُ الَّذِي سَبَقَ ذِكرُه في "الوقفِ" على الأغنياءِ، وحينَئِذٍ فَيُشْبِهُ مَجِيئُه في الوصية لِفَكِّ أُسَارَى الكُفَّار؛ لأنَّه، وإنْ جَازَ، فلا يكادُ يَلْتَحِقُ بالمَنْدُوباتِ، والقُرُبَاتِ. ولْيُعْلَمْ قولُه: "إلاَّ أنْ يُوصِيَ بِخَمْر، أوْ خِنْزِير، وَلِعِمَارَةِ الكَنِيسَةِ، وَبِنَائِهَا". [بالحاء لأن أبا حنيفة -رحمه الله- يُجوِّز وصية الكافر بالخمر والخنزير] (¬1). واعلَمْ أنَّ هَذه المسْأَلَةَ، والتي بَعْدَهَا، كالأجنبيِّ عن هذا الرُّكْنِ، فإنَّه معقودٌ لبيانِ مَنْ تَصحُّ منه الوصيةُ. والكافرُ تَصِحُّ وصيَّتُه في الجُمْلَةِ، لكِنْ لَمَّا كانَ صدورُ هذه الوصِيَّةِ وَنَحْوِها من الكافر أَظْهَرَ، حَسُنَ إِيرَادُهَا مَعَ ذِكْرِ وصيَّةِ الكَافِرِ، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرُّكن الثَّانِي: المُوصَى لَهُ وَهُوَ كُلُّ مَنْ يُتَصَوَّر لَهُ المِلْكُ إِلاَّ القَاتِلَ وَالوَارِثَ، فَلَوْ أَوْصَى لِحَمْلٍ جَازَ بِشَرْطِ أَنْ يَنْفَصِلَ حَيّاً لِوَقْتٍ يُعْلَمُ وُجُودُهُ عِنْدَ الوَصِيَّةِ، وَهُوَ لِمَا دُونَ سِتَّةِ أَشْهرٍ، فَإِنْ كَانَ لِمَا فَوْقَهُ وَالمَرْأَةُ ذَاتُ زَوْجٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ لِظُهُورِ طَرَيَانِ العُلُوقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَأَظْهَرَ الوَجْهَيْنِ أنَّهُ يَسْتَحِقُّ، إِلاَّ أَنْ يُجَاوِزَ أَرْبَعَ سِنِينَ لِأَنَّ طَرِيَانَ وَطءِ الشَّبْهَةِ بَعِيدٌ، وَمَهْمَا انْفَصَلَ مَيِّتاً وَلَوْ بِجِنَايَةِ جَانٍ فَلاَ شَىْءَ لَهُ، وَلَوْ أَوْصَى لِحَمْلٍ سَيَكُونُ فَسَدَ في أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ إِذْ لاَ مُتَعَلَّقَ لِلعَقْدِ في الحَالِ، وَلَوْ أَوْصَى بِحَمْلٍ سَيَكُونَ صَحَّ في أصَحِّ الوَجْهَيْنِ، كَالوَصِيَّةِ بِالمَنَافِعِ وَثمَارِ الأَشْجَارِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الوصِيَّةُ إِمَّا أن تَكُونَ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ، أَوْ لِشَخْص مُعَيَّن؛ إنْ كانت لجِهةٍ عامةٍ، فالشَّرطُ ألا تكون جهة معصيةٍ، وَقَدِ انْدَرَجَ ذكرُه في الرُّكنِ الأَوَّلِ، وإنْ كانت لِمُعَيَّنِ، فينبغي أن يُتَصَوَّرَ له المِلك (¬2)، ويتعلَّقُ بهذا الضَّبْطِ مسائل دُخولاً وخروجاً. أحدها: الوصيةُ للحملِ جائزةٌ؛ لأن الوصيةَ أَوْسعُ مجالاً مِنَ الإرث؛ ألاَ تَرى أنَّ المُكَاتَبَ والكافرَ لا يَرِثانِ، ويجوز لهُمَا الوصيةُ، فهذا أثْبِتَ الميراثُ لِلْحَمْلِ، فالوصيَّةُ أَوْلَى بالْجَوَازِ. ثُمَّ يُنْظَر؛ إنْ قال: أوصيتُ لِحَمْلِ فلانةٍ، أو لحملِ فلاَنَة الموجودِ الآنَ، فلا بُدَّ لِنُفُوذِ الوصيَّةِ من شَرْطَينِ: ¬
أحدُهما: أن يُعْلَمَ وجودُهُ عند الوصيَّةِ؛ بأنْ يَنْفَصِلَ لأَقَلَّ مِنْ ستًّةِ أشهُرٍ، فإِنِ انْفَصَلَ لِستَّةِ أَشْهُرِ فَصَاعِداً، نُظِرَ؛ إِنْ كانتِ الْمَرْأَةُ فِرَاشاً لِزَوْجٍ، أوْ سَيِّدٍ، لَمْ يَسْتَحِقٌّ شَيْئاً؛ لاحْتِمَالِ حُدُوثِ العُلُوقِ بَعْدَ الوَصِيَّةِ، والأَصْلُ عَدَمُ الحَمْلِ يَوْمَئِذٍ، وإِن لَمْ تَكنْ فِرَاشَاً، بَلْ فَارَقَها مُسْتَفْرِشُهَا قَبْلَ الوَصِيَّةِ؛ فَإنْ كَانَ الانْفِصَالُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِن وقْتِ الوصيَّةِ، فَكَذَلِكَ لا يَسْتَحِقُّ شَيْئاً (¬1)؛ للعِلْمِ بأَنَّه لمْ يَكنْ مَوْجُوداً. وإنْ كَانَ الانْفِصَالُ لِمَا دُونَ ذَلِكَ، فَقَوْلاَنِ، وَقالَ صَاحِبُ الكتابِ في آخَرِينَ: وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: المنعُ، لاحتِمَالِ حُدوثِ العُلُوقِ بَعْدَ الوصيَّةِ، ويُخَالِفُ النَّسَبَ، فإنَّه يَكْفِيهِ الإمْكَانُ، وَهَذا ما اخْتَارَهُ الشَّيْخُ أبو عليٍّ، وَعزَاهُ بعضُهُمْ إلى رِوَايَةِ الرَّبيعِ، وبعضُهُمْ إلى تَخْرِيجِ ابن الْقَاصِّ. وأَظْهَرُهُمَا: عِنْدَ العِرَاقيِّينَ وَغَيْرِهِم، ومنْهُمْ صاحبُ الكتَابِ: أنَّهُ يَسْتَحقُّ وَيُكْتَفَى بأَنَّ الظَّاهِرَ وُجُودُهُ عِنْدَ الوصيِّةِ؛ لأنَّ اتفاقَ وَطَءِ الشُّبْهَةِ نَادِرٌ، وفي تَقْدِيرِ الزِّنَا إِسَاءةُ الظَّنِّ بالمُسْلِمينَ، وُينْسَبُ هَذا إلى رِوَايَةِ المُزَنِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-. وَلَوْ زادَ المُوصِي؛ فَقَالَ: أَوْصَيْتُ لِحَمْلِ فُلانَةٍ من زَيْدٍ، فَكَما يُشْتَرطُ العِلْمُ بِوجُودِهِ عِنْد الوَصِيَّةِ، يُشتَرَطُ أنْ يَكُونَ ثابتَ النَّسَبِ مِن زَندٍ حَتَّى لَوْ كَانَتِ الوصيَّةُ بَعْدَ زَوَالِ الْفِرَاشِ، فأتت بولد لِأكْثَرَ من أَرْبَعِ سِنِينَ مِن وقْتِ الْفِرَاقِ؛ لأقلَّ مِن سِتَّةِ أَشْهرٍ من يومِ الوصيَّةِ، فَلاَ يستحقُّ؛ لأنَّ النَّسَبَ غيرُ ثَابِتٍ منْهُ بِخِلاَفِ مَا إِذَا اقْتَصَرَ على الوصيَّةِ ¬
لِحَمْلِ فُلانَةٍ، وَلَوِ اقْتَضَى الحَالُ ثُبُوتَ النَّسَبِ من زَيدٍ، لكنَّه نَفَاهُ باللّعَانِ، فَعَنِ ابنِ سُرَيْجٍ وعامَّةِ الأصْحَابِ: أنَّهُ لا شَيْءَ له؛ لأنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسبهُ. وعن أبِي إسْحَاقَ واخْتَارَهُ الأُسْتَاذُ أبو مَنْصورٍ: أنَّهُ يستحق؛ لأنَّه كانَ النَّسَبُ ثَابتاً إلاَّ أنَّه انْقَطعَ باللِّعانِ، واللَّعانُ إِنَّما يُؤثِّرُ في حقِّ الزَّوجَيْنِ. وَهَذا الخِلاَفُ كَالْخِلاَفِ في أنَّ التَّوْءَمَيْنِ المُعَيَّنَيْنِ باللِّعانِ يَتَوَارثَانِ بإخْوَةِ الأُمِّ [وحْدَهَا]، أوْ بِإِخْوَةِ الأَبَوَيْنِ، لَكنَّ الحِكَايَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ هُنَاكَ: أنَّهُمَا لاَ يَتَوَارَثَانِ، إلاَّ بإِخْوَةِ الأُمِّ وذلِكَ لاَ يُلاَئِمُ قَولَه هَاهُنَا، وَيَجْرِي الْخِلاَفُ فِيما إذا أَوْصَى لِحَمْل جَاريةٍ مِنْ سيِّدِهَا، فادَّعَى السَّيِّدُ الاسْتِبْراءَ، وَرَأْيْنَا نافياً للنَّسَبِ. والشَّرْطُ الثَّانِي: أنْ يَنْفَصِلَ حَيًّاً، أمَّا إذاً انْفَصَلَ مَيِّتَاً، فَلاَ شَيْءٌ: لَهُ، وإن انفصل بِجِنَايةِ جَانٍ، وَأَوْجَبَنَا الْغُرَّةَ، لِمَا مرَّ في الميراثِ. فَرْعَانِ أحدُهُمَا: أتتِ بوَلَدَيْنِ بينَهُمَا أقلُّ مِن ستَّةِ أشهرٍ [وبين الوصية والأول أقل من ستة أشهر] (¬1) صحَّتِ الوصيَّةُ لَهُمَا -وإنْ زادَ ما بينَ الثَّانِي والوصيَّةِ على سِتَّةِ أشهُرٍ، وكانتِ المرأةُ فِرَاشاً؛ لأنَّهما حَمْلٌ واحِدٌ. والثَّاني يَقْبَلُ الوصيَّةَ للحَمْلِ مَنْ يَلِي أمْرَهُ بعد خُرُوجِهِ حيًّا، وإنْ قَبِلَها قَبْلَ انفِصَالِهِ، ثُمَّ انفصلَ حيًّا، فعنِ القَفَّال: أنَّه لا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ القَوْلِ. وقالَ غيرُه: فيه قَولاَنِ، كَمَا لَوْ باعَ مالَ أَبيهِ على ظَنِّ أنَّه حيٌّ، فَبَانَ أنَّهُ ميِّتٌ (¬2). هَذَا إذَا قَالَ: أَوْصَيْتُ لِحَمْلِهَا، أو لحملها الموجُودِ، أمَّا إذا صرَّحَ؛ فَقَالَ: لِحَمْلِها الَّذِي سَيَحْدُثُ، ويكونُ مِن بَعْدُ، فَوَجْهَانِ: أَظهَرُهُمَا: عَنْدَ أكثرِ الأصْحَابِ: بُطْلانُ الوصيةِ؛ لأنَّها تَمْلِيكٌ (¬3)؛ وتمليكُ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مُمْتَنِعٌ، ولأنَّه متعلَّق للعَقْدِ في الحَالِ، فأشْبَهَ مَا إذَا وَقَفَ عَلَى مَسْجِدٍ سُيُبْنَى. والثَّاني: وبهِ قَالَ أبو إسحاق: أنَّها صحيحةٌ، كما يصحُّ بالحَمْلِ الَّذي سَيُوجَدُ، ¬
فَإذَا جَازَ تمليكُ مَا لم يُوجَدْ، جَاز تمليكُ مَنْ لم يُوجَدْ، وهذا مَا أَوْرَدَهُ الأُستاذُ أَبو منصورٍ -رَحِمهُ الله-. وفيه وجةٌ ثالثٌ، وَهُوَ النَّظَرُ إلى حالِ المَوْتِ؛ فَإِنْ كَانَ الحملُ مَوجُوداً، حِينَئذٍ، صحَّتِ الوصيَّةُ. وإلاَّ، فَلاَ. وقولُه: "فَلَوْ أَوْصَى لحملٍ سَيكُونُ" دَخِيلٌ في هذا الرُّكْنِ، بلْ مَوْضِعُهُ الرُّكْنُ المعقودُ في الموصى به ولأن الحَامِلَ عَلَى ذَكْرِ [هِ] تَوْجِيهِ الوجهِ الثَّانِي، وَنحنُ نُؤَخِّرُ هذه المَسْألةَ، لِنَذْكُرُهَا مَعَ أخواتها، وهُنَاك؛ يُعْرَفُ أنَّ الوصيَّةَ بالمنافعِ جائزةٌ، بِلاَ خِلافٍ، وأَنَّ الوصيَّةَ بِثِمَارِ الأشْجَارِ مُخْتَلَفٌ فِيها، وأنَّ قولَه هَاهُنا "كالوصيَّة بالمنافعِ وثمارِ الأشجارِ" من طَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَمَّا العَبْدُ فَالوَصِيَةُ لَهُ صَحِيحَةٌ، ثُمَّ إنْ كَانَ حُرّاً عِنْدَ الاِسْتِحْقَاقِ فَهُوَ لَهُ، وَإلاَّ فَهُوَ لِسَيِّدِهِ، وَفِي افْتِقَارِهِ إلَى إِذْنِ السَّيِّدِ في القَبُولِ (و) خِلاَفٌ، وَكَذَا في مُبَاشَرَةِ السَّيِّدِ القُبُولَ بِنَفْسِهِ خِلاَفٌ (و)، وَإِنْ كَانَ عَبْدٌ وَارِثٌ لَمْ يَصْحَّ (م)، لِأَنَّ المِلْكَ لِلوَارِثِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اَلاسْتِحْقَاقِ حُرّاً، أَوْ فِي مِلْكِ أَجْنَبِيِّ، وَيَصِحُّ الوَصِيَّةُ لِأُمِّ الوَلَدِ، وَالمُكَاتَب، وَالمُدَبَّرِ إنْ أُعْتِقَ مِنَ الثُّلُثُ، وَإِلاَّ فَلاَ فَإنَّهُ عَبْدٌ وَارِثٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المسْأَلَةُ الثَّانِيةُ: العَبْدُ المُوصَى لَه: إمَّا أنْ يَكُونَ لأجْنَبِيٍّ، أَوْ للمُوصِي، أو لِوَارِثهِ. القِسْمُ الأَوَّلُ: إذاً كَانَ لِأَجْنَبِيٍّ، فتصحُّ الوصِيَّةُ، ثُمَّ لا يخْلُو؛ إمَّا أنْ يَسْتَمِرَّ رِقَّه، أَوْ لاَ يستمرَّ. الحَالَةُ الأولى: أنْ يَسْتَمِرَّ رِقُّهُ، فالوصيَّةُ للسيِّدِ، حَتَّى لو قتل العبدُ المُوصَى له، لم تَبْطلِ الوصيَّةُ، ولو قتله سيدُ العبد، كَانَتْ وَصيَّتُه للقاتل (¬1)؛ وفي افتِقَارِ قَبُولِ العَبْدِ ¬
إلَى إِذْنِ السَّيِّد وَجْهَانِ، وقدْ ذَكَرَهُمَا مرةً في "بابِ مُعَاملةِ العَبِيدِ" والأصحُّ المَنْعُ. وَهَلْ يصحُّ من السَّيِّدِ مُبَاشرةُ القَبُولِ بنفسِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحدُهُمَا: نَعَمْ؛ لأنَّ الاسْتِحْقَاقَ لَهُ، والفائِدَةُ تَعُودُ إِلَيْهِ. وأصحُّهُمَا: المنعُ؛ لأنَّ الخِطَابَ لَمْ يجر معه، والوَجْهَانِ فِيمَا قِيل مَخْصوصَانِ بِقَولِنا: "إنَّ قُبُولَ العبْدِ يَفْتَقِرُ إلى إذنِ السَّيِّدِ" وَيجُوز أنْ يعمَّما؛ لأَنَّ المِلْكَ للسَّيِّدِ بِكلِّ حالٍ، فَلاَ يبعد تَصْحِيحُ القُبُولِ مِنْهُ، وإنْ لَمْ يُسَمَّ في الوصيَّةِ؛ ألاَ تَرَى أنَّ وَارِثَ المُوصَى لَهُ يَقْبَلُ، وإنْ لَمْ يُسَمَّ في الوصِيَّةِ؟ وهَل قَبُولُ السَّيِّدِ الْهِبَةَ مِنَ الْعَبْدِ عَلَى هَذِيْنِ الْوجْهَيْنِ؟ قَالَ قَائِلُونَ: نَعَمْ. وقَالَ الإمَامُ: لاَ، بَلْ يَبْطُلُ لاَ مَحَالَةَ؛ لأنَّ القَبُولَ بِالْهِبَةِ كَالْقَبُولِ فِي سَائِرِ العُقُودِ، وقبولُ الوصيَّةِ بِخَلاَفِهِ؛ ألاَ تَرَى أنَّهُ يُعْتَدُّ بِهِ مُنْفَصِلاً عنِ الإيجَاب، واقِعاً بَعْدَ خُرُوجِ الموجب عَنْ أَهْلِيَّةِ الإيجَابِ، فصار من وارث المُوصَى له مع أنه لم يُخاطَبْ؟ إذا صحَّحنا قَبُول العبْدِ من غير إذْن السيِّد، فلو منعه القَبُول، قال الإمامُ -رحمه الله-: الظاهر عنْدِي الصحَّةُ، وحصول الملْك للسَّيد، كما لو نهَاهُ عن الخُلْع، فخالع، وإذا قلْنا: لا يصحُّ من غير إذنه؛ فلو ردَّ السيد، فهو أبلغُ من عَدَمِ الإذْن، فلو بدا له أن يأْذَنَ في القَبُول بعْد ذلك؛ ففيه احتمالٌ عند الإمام، قال: وإذَا صحَّحْنا القُبُول من السَّيِّد، فيجبُ أنْ يبْطُلَ ردُّ العبد، لو ردَّه. والثانيةُ ألا يستمر رقُّه، بل يُعْتَقَ، فيُنظَر؛ إن عَتَقَ قبل موت الموصِي، فالاستحقاقُ للعبد؛ لأن الوصيَّة تمليكٌ بعد الموت؛ وهو حرٌّ حينئذ، وإن عَتَقَ بعد موته، فإما أن يقبل ثم يُعْتَقَ وإما أن يُعْتَقَ ثُمَّ يُقْبَلَ، إنْ قُبِلَ ثم عَتَقَ، فالاستحقاقُ للسيِّد، وإن عَتَقَ ثم قُبِلَ، فإن قلْنا: الوصيَّةُ تُمْلَكُ بالمَوْت، أو قلْنا: يتبيَّن بالقبول الملْك من يوم المَوْتِ، فالاستحقاقُ للسَّيِّدِ أيضاً. وإنْ قلْنا: تملك بالقبول، فللعَبد.
وإذا أَوْصَى لعبدِ زَيْدٍ، فباعه من عَمْرٍو، فَيُنْظَرُ في وقْتِ البَيْعِ، ويُجَابُ بمثل هذا التَّفْصِيل. ولو أوْصَى لمن نصْفُهُ حرٌّ، ونصْفُهُ (¬1) لأجنبي؛ فأما أن يكون بينه وبين السيد مهايأة، أو لا يكون، إنْ لم يكُنْ بينهما مهايأة، وقبل بإذْن السيد، فالموصَى به بينهما بالسَّويَّةِ، كما لو احتش أو احتطب، وإنْ قبل بغير إذْنه، فيبنَى على الوجهَيْن؛ في افتقار العبد إلَى إذن السيد، إن احوجْناه إلَيْه، فالقبول باطلٌ في نصف السيد، وفي نصفه وجهان؛ لأنَّ ما يملك ينْقَسِمُ على نصفيه فيلزم دخول بعضه في ملك السيد من غير إذْنه. وإِن كانت بينهما مهايأةٌ، فيبنَى على الخلاف في أن الأكساب النادرَةَ، هَلْ تدخل في المهايأة؟ وفيه خلافٌ مذكورٌ أولاً في "زكاة الفطر" ومعادٌ ثانياً في "اللّقَطَةِ" فإنْ قُلْنا: إنَّهَا لا تدْخُل في المهايأة، فكما لو لم يَكُنْ مهايأة، وإنْ قلنا: تدْخُل، فلا حاجة إلى إذن السيد في القَبُول، ووجَّهوه: بأنه لما هَايَأَهُ، فقد أَذِنَ له في جميع الأكساب الداخلة في المهايأة ثم الاعتبارُ بأيِّ يوم؟ عن بعْضِ الأصحاب: أن الاعتبار بيوم الوصيَّة، حتى إذا وقعتِ الوصيةُ في يومه، فالوصية له، وإن كان القَبُول في يوم السيد، وإذا وقعَتِ الوصيَّةُ في يوم السيد، فهي له، وإن كان القبول في يوم العبد، وهذا كما أنَّ في اللقطة [الاعتبار] (¬2) بيوم الالتقاط. وقال المحقِّقون: ليستِ الوصيَّةُ كالالتقاطِ؛ لأنَّ الالتقاطَ سببُ ثبوت الحَقِّ، فالوصية على تجردها لا تثبت الحقَّ؛ ألا ترى أنه لو أوْصَى لعبد، فَعَتَقَ قبل موْتِ المُوصي، كانت الوصيةُ للعبد؟ ولو الْتَقَطَ العَبْدُ، ثم عَتَقَ قبل تمام الحَوْل، كان حقُّ التملُّك للسيِّد، وبنوا ذلك عَلَى أن المِلْكَ في الوصيَّة بم يثبت إنْ قلْنا: يثبتُ بموت الموصِي، أو قلْنا: يتبين بالقبول الملك من يوم الموت، فالاعتبارُ بيوم الموت. وإن قلنا: يثبتُ بالقَبُول، فوجهان؛ قال الشيخ أبو عليٍّ: ذكرهما القَفَّال وأنا مَعَهُ. أحدُهما: أن الحق الاعتبار بيوم القبول؛ لأنَّه يوم المِلْكِ. وأصحُّهما: أن الاعتبار بَيَوْم المَوْت أيضاً؛ لأنَّه يتأكَّد به حقٌّ، ويلزم، وإن لم يثبت المِلْك، كما أن في اللُّقَطَة الَاعتبارُ بيوم الالتِقَاطِ؛ لأنَّه يثبت به الحَقُّ، وإن لم يثبتِ الملكُ، والهبةُ ممَّن نصْفُهُ حرٌّ ونصْفُهُ رقيقٌ، على القولَيْنِ في دخولِ الأكْسَاب النادرة في المُهَايأة أيضاً، فإن أدخَلْناها، فإذا وقع العقْدُ في يوم أحدِهِمَا والقبض في يومِ ¬
فرعان
الآخَرِ، فيبنَى على أن المِلْكَ في الهبة المقبوضة يَسْتَنِدُ إلَى وقت الهبة، أو يثبتُ عَقِيبَ القَبْض؟ فإن قلنا؛ بالأول، فالاعتبار بيوم العَقْد، وإن قلنا بالثاني، فالاعتبار به أو بيوم القبض؟ فيه وجهان كالوجهين في الوصيَّة، أن الاعتبار بيَوْم المَوْت أم يوم القَبُول؟ تفريعاً عَلَى أن المِلْكَ يحْصُل بالقبول، لكنَّ الأظهر في الهبة الاعتبارُ بيَوْمِ القبض؛ لأن الحَقَّ لا يلْزَمُ بالهبة، وفي الوصية يلْزَمُ بالمَوْت. فَرْعَانِ: أحَدَهُمَا لو قال: أوصَيْتُ لنصفه الحرِّ، أو لنصْفِهِ الرَّقِيقِ خاصَّةً، فعن القفَّالِ: أن الوصية باطلةٌ ولا يجُوزُ أن يُوصِيَ لنصْفِ الشخْصِ، كما لا يجوز أن يَرِثَ نصفه؛ وعن غيره: أنَّها تصحُّ، وُينَزَّلُ تقييدُ الموصِي منزلةَ المُهَايأة؛ فيكون الموصَى به للسيِّدِ، إن أوصَى لنصفه الرقيقِ، وله إن أَوْصَى لنصفه الحرِّ (¬1). الثاني: تردَّدَ الإمام فيما إذا صرح بإدراج الأكساب النادرة، في المهايأة أنها تدخل لا محالة، أو يكَوُن على الخلاف؟ وفيما إذا عَمَّت الهبات، والوصَايا في قُطْرٍ، أنها تدْخُل لا محالة، كالأكساب العامة، أو هِيَ علَى [الخلاف] (¬2) لأنَّ الغالِبَ فيها الندُور (¬3). القسم الثاني: إذا كان العبْدُ الموصَى له، للموصى، نُظِر؛ إن أوصَى لعبده القِنِّ برقبته، فهذه الصورةُ لها ذكْرٌ في القسْمِ الثانِي من الباب الثانِي في الكتاب، وسنَذْكرها إن شاء الله تعالى، وإن أوصَى له بجزءٍ من رقبته، نَفَذَتِ الوصيةُ فيه، وَعَتَقَ ذلك الجُزْءُ, وكذلك لو قال: أوصيتُ له بثُلُثِ مالِي، ولا مال له سواه. ولو قال: أوصيتُ له بكُلِّ ما أملك من رقبةٍ، وغيرها من أموالِي، نَفَذَتِ الوصيةُ في ثلثه، وبقي باقيه رقيقاً للوَرَثَةِ؛ فتكُونُ الوصيَّة له بالثُّلُث من سائر أمواله وصيَّةٌ لمن بعضُه حرٌّ وبعْضُه رقيق للوارث، وحكمهما سيأتي. ولو قال: أوصيتُ له بثلث ما أملِكُ، أو بثُلُثِ أموالي، ولم ينصَّ عَلَى رقبته، فوجهان. ¬
أظهرهما: وهو جواب ابن الحَدَّاد: أن رقبته تدْخُل في الوصيَّة؛ لأنها من جملة أمواله. والثاني: لا تدْخل؛ لأن قوله: "أوصَيْتُ لك بثلث أموالي" يُشْعِر بالمغايرة بين الموصَى به، وبَيْن الموصَى له، وبأن المراد ما سِوَى رقبته، فعلَى هذا؛ لا يعتق منه شيء، والوصيةُ له وصيةٌ للعبد بغير رقبته، وعلى الأول الحكْمُ كما لو قال: أوصيتُ له بثُلُثِ رقبته، وبِثُلُثِ سائر أموالي، وقد بيَّنَّاه، هكذا ذكر [هـ] الشيخ أبو عليٍّ. وفي "التهذيب" وجهٌ آخرُ؛ وهو أن تجمع الوصية في رقبته، فإنْ خرج كلُّه من الثلث، عَتَقَ، وإن كان الثلث أكثر من قيمة رقبته، صُرِفَ الفضْلُ إليه، وإن لم يخرُجْ كلُّه من الثُّلُث، عَتَقَ منْه بقَدْر ما يخْرُجُ (¬1)، وإِنِ أوصَى له بعين مال، أو قال: أعطُوهُ من مالي كذا، فإن مات، وهو مِلْكُه، فالوصيةُ للورثة، وإن باعه الموصي، فهو للمشتري، وإن أعتقه، فهو للعتيق (¬2). ولو أوصَى له بثُلُث جميع أمواله، وشرط (¬3) تقديم رقبته، عَتَقَ جميعُهُ، ودُفِعَ إلَيْه ما يتم به الثُّلُث. ويجوز أن يُوصِىَ الإنسان لأمِّ ولده؛ لأنَّها حرةٌ بعْد موته، ثم هِيَ تَعْتِقُ من رأس المال، والوصيةُ تُعْتَبَرُ من الثلث، وكذا المكاتَبُ؛ لأنه مستقلٌّ بالملك، ثم لو عَجَزَ ورَقَّ، صارت الوصيةُ للورثة، وكذا المدَبَّر، والعِتق والوصيةُ معتبران من الثلث، فإن وَقَّى بهما، عَتَقَ [ونَفَدَتِ الوصيَّةُ، وإن لم يف الثلث بالمدبَّر، عَتَقَ منه] (¬4) بقَدْر الثلث، ¬
وصارتِ الوصيةُ لمن بعْضُه حرٌّ، وبعضُه رقيقٌ للوارث، وإن وَفَّى الثلث بأحد الأمرين من المُدَبَّر، أو المُوصَى له، كما إذا كان المُدَبَّر يساوِي مائة، والوصيَّةُ بمائَة، وله سواهما مائة، فوجهان (¬1): أحدهما: تقدم رقبته، فيُعْتَقُ كلُّه، ولا شيْءَ له من الوصية. والثاني: يُعْتَقُ نصفه، والوصية [وصية] (¬2) لمن بعضه [حرٌّ] وبعضُهُ رقيقَ للوارث، وهذا أصحُّ عند صاحب "التهذيب" وبالأول أجاب الشيخ أبو عَلَيٍّ (¬3). القسم الثالث: إذا كان العبْدُ الوارث المُوصَى، بأن باعه قبل موت الموصي، فالوصيةُ للمُشْتَرِي، وإن أعتقه، فللمُعْتِقِ، إنِ استمر في ملكه، فهي وصيةٌ للوارث، وسيأتي حكمها إن شاء الله تعالى. وكذلك لو أوصَى لعبْدٍ أجنبيٍّ، واشتراه وارثُهُ، ثم مات الموصي. ولو أوصَى لمن نصفُه حرٌّ، ونصفه لوارثه، فإن إن لم تكنْ بينه وبين السيد مهايأة أو كانت بينها مهايأةِ، وقلنا: إنَّ الوصيَةَ لا تَدْخُل في المهايأة، فهي كالوصيَّةِ للوارث؛ لأنَّ ما يثبت له بالوصيَّة، يكون نصفه للوارث، ولهذا قُلْنا: إنَّه لا يَرِثُ: لأنه لو وَرِثَ شيئاً، لَمَلَكَ السيدُ نصْفَهُ، وهو أجنبيٌّ عن الميِّتِ. قال الإمامُ: وكانَ يحتمل أن يعضَّ الوصية، كما لو أوصَى بأكثر من (¬4) الثلث. وإن جرَتْ بينهما مهايأة، وقلْنا: إنَّها تدخْلُ في المهايأة، فقد قدَّمنا أن العبرة بيوم المَوت عَلَى ظاهر المذهب، فيُنْظَرُ يوم موت الموصِي، إن مات في يوم العبد، فالوصيةُ صحيحة، وإلاَّ، فهي وصية لوارث، ولا فَرْقَ بين أن يكُونَ بينهما مهايأة يوم الوصية أو لا يكون، ثم يحدثانها قبل موت الموصي، [هكذا] قاله الشيخ أبو عليٍّ -رحمه الله-. ولو أوْصَى لمكَاتَب وَارِثهِ، فإنْ عَتَقَ قبل موت المُوصِي، نفَذَتِ الوصيةُ، وكذا لو عتَقَ بعده بأداء النُّجُوم، وإن عجز، ورَقَّ، صارَتْ وصيته للوارث، والله أعلم. ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَمَّا الدَّابَّةُ فَالوَصِيَّةُ لَهَا بَاطِلَةٌ إنْ أَطْلَقَ أَوْ قَصَدَ التَّمْلِيكَ، وإنْ فُسِّر بِالصَّرْفِ في عَلَفِهَا صَحَّ، وَهَل يُفْتَقَرُ إلى قُبُولِ المَالِكِ؟ فَوَجْهَانِ، وَإِنْ قَبِلَ فَهَلْ يَلْزَمُ صَرْفُهُ إِلَى الدَّابَّةِ، أَم هُوَ كَالوَصِيَّةِ لِلْعَبْدِ؟ فَوَجْهَانِ، وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيتُ لِلمَسْجِدِ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ كَالدَّابَّةِ، وَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ إِذَا فُسِّرَ بِالصَّرْفِ إلى مَصَالِحِهِ، وَالظَّاهِرُ تَنْزِيلُ المُطْلَقِ عَلَيْهِ لِلْعُرْفِ بِخِلاَفِ الدَّابَّةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المسألة الثالثة: إذا أوصَى لدابَّة الغير، وقصد تمليكها، فالوصيَّة باطلة، وبمثله أجابوا فيما إذا أطلق؛ لأن مطْلَقَ اللفظ للتَّمْلِيك، والدَّابَّة لاَ تُمْلَكْ، وَفَرَقُوا بين الوصيَّة المطلقة للدابة وبين الوصيَّة المطْلَقَةِ للعَبْدِ، بأن العبد ينتظمُ الخطابَ معه، ويتأتَّى القبول منه؛ وربَّما يُعْتَقُ قبل موت الموصِي، فيثبُتُ المِلْك له، بخلاف الدابَّة، لكنه قد مرَّ في "الوقْف" ذكر وجْهَين؛ فيما إذا أطلق الواقِفُ عليها أنَّه، هَلْ يكون وَقْفاً عَلَى مالكها، فيشبه أن تكون الوصيَّة على ذلك الخِلاف؟ وقد يُفْرَقُ بينهما بأن الوصيَّة تمليك محضٌ، فينبغي أن يُضاف إلَى من يُمَلَّكُ. والوقفُ ليس بتمليكٍ محضٍ، بل ليس بتمليلكٍ، إذا قلنا: إن الملك فيه يزول إلى الله تعالَى، فيجوز أن تحتمل فيه الإضافةُ إلَى من لا يملك. ولو فُسِرَ الوصية للدابَّةَ بالصَّرْف في عَلَفِها، صحَّت الوصية؛ لأن صرف علف الدابة على مالِكِهَا، فالقصدُ بهذه الوصية المالك، هكذا نقل المصنِّف وصاحب "التهذيب" وغيرهما. لكنا ذكَرْنا في "الوقْف"؛ أن أبا سعْدٍ المتولِّي -رحمه الله- حكَى فيما لو وقفَ على علف بهيمة الغَيْر وجْهين؛ في صحَّة الوقْف، ويشبه أن يكون هذا في مَعْناه، وإذا قُلْنا بالصحَّة، وهو الظاهر، ففي اشتراط القبول وجهان: أحدهما: واختاره أبو زيد: أنَّه لا يُشتَرطُ وتجعل هذه الوصية للدابَّة، "ففي كلِّ كَبدٍ حَرَّى (¬1) أَجْرٌ". ¬
وأصحُّهما: وبه قال "صاحب التلخيص": الاشتراطُ كسائر الوصايا، وهي وصيةٌ للمالك؛ كما لو أوصَى بعمارة داره، بتقدير أن يكون وصيَّةَ للدابَّة، فيبعد حدوث الاستحقاق، لملكه من غير رضَاهُ. وإذا قبل، فهل يتعيَّن صرفه إلَى جهة الدابة؟ فيه وجهان: قال صاحب "التلخيص": نعم؛ رعايةً لغرض الموصي، وعلى هذا فيتولى الإنفاق الوَصِيُّ، فإن لم يكن وصيٌّ، فالقاضي أو مَنْ نأمره به من المَالِكُ وغيره. وعن القفَّال: أنَّه لا يتعيَّن، بل له أن يمسكه، وينفقَ على الدابَّة من موضع آخر، وقضية إيراد الناقِلِينَ ترجيحُ الأول، وليعرف هاهنا شيئان: أحدهما: قد تكرر في خلاف الكَلاَمِ أنَّ الوصيَّة عَلَى رأي وصيةُ للبهيمة نَفْسِها، وحينئذ فلا يتَّجِه فرقٌ بين البهائم المملوكة، وبين الوحُوش، وَالصُّيود المباحة، وهذا يَعْتَرضُ على ما قَدَّمنا عن صاحب "التتمة" في الوقْف؛ أنَّه لو وقف عَلَى عَلَفِ الطيورِ المباحةِ، والوُحُوشَ، لم يصحَّ، بلا خلاف، وأن موضع الخلافِ ما إذا كانَتِ البهيمةُ مملوكةً. والثاني: إذا انتقلتِ الدابَّةُ من مالكها إلَى غيره، فقياسُ كون الوصية للدَّابَّة الاستمرارُ (¬1) لها، وقياسُ كونها للمالك اختصاصُها بالمنتَقَلِ عَنْه؛ والله أعلم. وإذا وصَّى للمسجد، وفسّر بالصرف إلى عمارته، ومصلحته، صحَّت الوصية، وإن أطلق، فوجهان. أحدهما: البطلانُ، كالوصية للدابَّة. وأظهرهما: الصحَّة؛ لأن مقتضَى العُرْف تنزيلُه على المصرف إلَى عمارته، ومصلحته، والقَيِّمُ يصرف إلى الأهم، والأصلحِ باجتهاده. وإن قال: أردتُّ (به) (¬2) تمليك المسجد، فقد ذَكَر بعضُهم أن الوصية لاغيةٌ، ولك أن تقول: قد سيق أن للمَسْجد ملكاً وعليه وقفاً، وذلك لقتضي صحَّة الوصية وثبوت (¬3) الملك، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَمَّا الحَرْبِيُّ فَيَصِحُّ (ح) الوَصِيَّةُ لَهُ عَلَى ظَاهِرِ المَذْهَبِ، كَالهبَةِ ¬
وَالبَيْعِ، وَكَذَا المُرْتَدُّ، وَقيلَ: لاَ يَصِحُّ لِأَنهُ تَقَرُّبٌ إِلَى مَنْ أُمِرَ بِقَتْلِهِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِهِ لِلِذِّمِيِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المسألة الرابعةُ: في الوصية لأهل الحَرْب من الكُفَّار وجهان: أحدهما: الجواز، وبه قال أحمد رحمه الله، كما يجوز البَيْع، والهبةُ، منْهم، وعلَى هذا؛ يخرَّج ما قدمنا من الوصية؛ لمفاداة أَسْرَاهُمْ من أيدي المُسْلِمِينَ. وثانيهما: المنع، وبه قال أبو حنيفة، وابن القاصِّ؛ لقوله تعالَى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} [الممتحنة: 8] أشعر ذلك بالنَّهْيِ عن بِرِّهمْ، إذا قاتلونا، وأيضاً، فإنَّا مأمورون بقَتْلِهِمْ، فلا معنى للتقرب إليهم بالوصية، والظاهر من الوجهين الثاني عند الأستاذ أبي منْصُور، والأول عند الجمهور، وهو منصوصٌ عليه في "عيون المسائل" (¬1). وفي الوقْف على الحَرْبِيِّ ذكرنا أن أصحَّ الوجهين المنْعُ، وفَرَقُوا بوجهين: أحدهما: أن الوقف صدقةٌ جاريةٌ، فاعتبر في الموقوف عليه الدوام؛ كما اعْتُبِرَ في الوقْف. والثاني: أن معنى التمليك في الوصيَّة أظهرُ منْه في الوقف؛ ألا ترَى أن المُوصَى له يملك الرقبة، والمنفعة، والتصرُّف، كيف شاء والموقوفُ عليه بخلافه؟ فأُلْحِقَتِ الوصيةُ بسائر التمليكات، والوجهان في الوصية للحربي جاريان في الوصيَّة للمرتَدِّ، وبنَى بعضهم الخلافَ في الوصيَّة له على الخلاف في ملكه. وتجوز الوصية للذمي، بلا خلاف، كما يجوز التصدق (¬2) عليه، وقد رُوِيَ "أن صفيةٌ -رضي الله عنها- أوْصَتْ لِأَخِيْهَا بِثَلاَثينَ ألْفَاَ، وكان يَهُودِيّاً" (¬3). قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَمَّا القاَتِلُ فَفِي الوَصِيَّةِ لَهُ ثَلاثةُ، أَقْوَالٍ، يَصِحُّ (ح)، وَلاَ يَصِحُّ, ¬
وَيُفْرَق فِي الثَّالِثِ بَيْنَ الوَصِيَّةِ لِلْجَارحِ وَبَيْنَ الوَصِيَّةِ قَبلَ الجَرْحِ فَإنَّهُ مُسْتَعْجِلٌ لِلإِرْثِ، وَالمُسْتَوْلَدَةُ إذا قَتَلَتْ سَيِّدَهَا فإنَّ اسْتَعْجَلَتِ عَتَقَتْ، وَكَذَا مُسْتَحِقُّ الدَّيْنِ المُؤَجَّلِ إِذَا قَتَلَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ حَلَّ أَجَلُهُ، وَالمُدَبَّرُ مُرَدَّدٌ بَيْنَ المُوصَى لَهُ وَبَيْنَ المُسْتَوْلَدَةِ فَفِيهِ خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المسألة الخامسةُ: في الوصية للقاتل قولان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة: أنَّها غيْرُ صحيحةٍ؛ لِمَا روِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَيْسَ لِقَاتِلٍ وَصِيَّةً وأيضاً فإنه استحقاقٌ يثبت بالمَوْت، فيمتنع بالقَتْل كالميراثِ. وأظهرهما: عند العراقيين، وتابعهم الإمام، والرُّويانيُّ [أيضاً] أنَّها صحيحةٌ؛ لأن التمليك بالوصية تمليك بإيجاب وقَبُولٍ فأشبه التمليك بالبيع والهبة، وبهذا قال مالك -رحمه الله- وُيرْوَى عنه تخصيصُ الجوازِ بما إذا كان القَتلُ خطأ، وعن أحمد -رحمه الله- روايتانِ كالقَوْلين. ولا فرْقَ عندنا على القولَيْن بين أن يكُون القَتْل عمداً، أو خطأً، وتكلَّموا في موضعهما من وجْهَيْنِ: أحدهما: هل من فَرْقٍ بين أن يكون القتل بحقٍّ كالقصاص، أم لا يكون؟ سكت أكثرون عَنْه، وقال صاحب "التلخيص": تجوز الوصية للقاتل بالحَقِّ، والخلافُ في غيره، وأدار الوصية على الإرث وقال القفال: إن ورثت القاتل بالحق جوزنا الوصية له، وإلا، ففيه الخلاف. والثاني: أن من الأصحاب من قال: القولان فيما إذا أوصى المجروحُ لجارِحِهِ، ثم ماتَ، فأما إذا أوصَى لإنسان، فجاء وقَتَلَهُ، بَطَلَتِ الوصِيةُ قولاً واحداً؛ لأنه مستعجلٌ بالقتل؛ فيُحْرَمُ؛ كالوارث، ومنهم من عَكَسَ؛ وصحَّح الوصية جزماً فيما إذا أوصَى لجارحه، وخصَّص القولَيْن بما إذا أوصَى لإنسان، فجاء وقتله، والأكَثرون طَرَدُوا القَوليْن في الحالتين، فإذا اختصرْتَ، تحصَّلْتَ عَلَى ثلاثة أقوال، كما في الكتاب تصح، لا تصح، تصحُ إن تقدَّمتِ الجراحة، ويُبْطُل، إن (¬1) تأَخَّرت. والمستولَدَةُ، إذا قتَلَتْ سيدها، عَتَقَتْ، وإن استعجلَتْ؛ لأنَّ الإحبال يُنَزَّلُ منزلة الإعْتَاق؛ ألا تَرَى أنَّ الشريك، إذا أحبل الجارية المشتَرَكَةَ، سَرَى الاستيلاد إلَى ¬
(نصيب) الشريك، كما لو أَعْتَقَ نصيبه، وإذا كان كالإعتاق، لم يقدح القتل فيه، كما إذا أعتق العَبْد، ثم جاء العبدُ وقتله، وكذلك مستحِقُّ الدَّين المؤَجَّل، إذا قتل مَنْ عليه الدَّينُ, حلَّ أجله؛ لأنَّ الأجل حقُّ مَنْ علَيْه الحق، أثبت ليرتفق به بالاكتساب في المدَّة، فإذا هَلَك، فالحَظُّ له في التعجيل؛ لتبرأ ذمته. وإذا قتل المدبَّر سيده، فَيُبنى على أن التَّدبير وصيَّة، أو تعليقٌ عتق بصفة؟ إن قلنا بالأول، فهو كما لو أوْصَى لإنسانِ، فجاء وقتله، وإنْ قلنا بالثاني، عَتَقَ؛ كالمستولدة، وقال في "التهذيب": إن صحَّحنا الوصية للقاتل، عَتَقَ المُدَبَّر، إذا قتل سيده، وإن لم يصحِّحها, لا يُعْتَقُ، ويبْطُل التدبير، سواءٌ جعلنا التدبير وصيَة، أو تعليقاً للعِتْق؛ لأنه، وإن كان تعليقاً، فهو في حكم الوصية, لأنه يُعْتَبَرُ من الثلث، وهذا إثباتٌ للخلاف، سواءٌ جعلناه وصيَّة، أو تعليقاً وإذا أوصَى لعبدِ جارِحِهِ، أو لمُدَبَّرِهِ، أو لمسْتَوْلَدَتِهِ، فإن عَتَقَ قبل موت الموصِي، صحَّت الوصية له، وإِن انتقل منه إلَى غيره، صحَّت الوصية لذلك الغيرُ، وإلاَّ، فهي وصيةٌ للجارح، ولو أوصَى لعبد بشيء، فجاءه العبد، وقتله، لم تتأثر به الوصيةُ، وإن جاء [السيد]، وقتله، فهي وصيةٌ للقاتل. ولو أوصى لمكاتَبٍ، فقتل المكاتَبُ الموصِيَ، فإن عَتَقَ، فهي وصية للقاتل، وإن عجز، فالوصيةٌ صحيحةٌ للسيد وإن جاء سيِّد المُكَاتَب، فقتله، فالحكم بالعكس، وتجوزُ الوصيَّة للعَبْد القاتل؛ لأنها تَقَعُ للسيد. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَأَمَّا الوَارِثُ فَلاَ وَصِيَّةَ لَهُ لِقَوْلهِ -صلى الله عليه وسلم- أَلاَ لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثِ، وإنْ أَجَازَ الوَرَثَةُ وَصِيَّةَ الوَارِثِ وَالقَاتِلِ وَصِيَّةَ الأَجْنَبِيِّ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ نَفَذَتْ في أَصَحِّ القَوْلَيْنِ وَكَانَ تَنْفِيذاً أَوْ اِمْضَاءً، وَفِي القَوْلِ الثَّانِي هُوَ ابْتِدَاءٌ (ح م) عَطِيَّةٍ مِنَ الوَرَثَةِ، فَإِنْ كَانَ عِتْقَاً فَلَهُمْ الوَلاَءُ، وَلَوْ أَوْصَى لِكُلِّ وَارِثٍ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ فَهُوَ لَغْوٌ، فَإِنْ خَصَّصَ كُلَّ وَاحِدٍ بِعَيْنٍ هِيَ قَدْرُ حِصَّتِهِ فَفِي الحَاجَةِ إلَى الإِجَازَةِ فِيهِ خِلاَفٌ، وَالأَظْهَرُ: أنَّهُ يَحْتَاجُ إِذْ يَظْهَرُ الغَرَضُ في أَعْيَانِ الأَمْوَالِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُبَاعَ عَيْنُ مَالِهِ مِنْ إِنْسَانٍ يَنْفَذُ (ح و)، وَلاَ خِلاَف أنَّهُ لَوْ بَاعَ في مَرَضِ المَوْتِ عَيْنَ مَالِهِ من وَارِثِهِ بِثَمَنِ المِثْلِ نَفَذَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المسألةُ السادسةُ: الوصيةُ للوارث، وتُقدَّم عليها أن الإنسانَ لا ينْبَغِي أن يوصِيَ بأكثر من ثُلُثِ ماله (¬1)؛ لخَبَرِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- المذْكُورِ في أول ¬
الكتاب، فإن فَعَل، فإمَّا أن يكونَ له وارثٌ خاصٌّ، أو لا يكونَ، إنَّ كان، وردَّ الوارث، ارتدَّتِ الوصيةُ في الزِّيَادة على الثلث، وبطَلَتْ، وإن أجاز دَفْعَ المال إلى الموصَى له، وما حَالُ إجارته، أهِيَ تنفيذٌ وإمضاءٌ؛ لِتصرُّف الموصِي، أم ابتداءٌ عطيةٍ من الوارث؟ فيه قولان: أحدهما: أنها ابتداءُ عطية تُصرُّفُ الموصِي لاغٍ في الزيادة على الثلث؛ لأنَّه منهيٌّ عنه، والنهْيُ يقتضي الفساد، وأيضاً، فإن الزيادة متعلِّق حقِّ الورثة، فيلغو تصرُّفُه فيها، كتصرُّف الراهن في المرهون. وأصحُّهما: أنَّه تنفيذ وإمضاءُ لتصرُّف المُوصِي، وتصرُّفُهُ موقوفٌ عَلَى الإجازة؛ لأنَّه تصرُّف مصادف للملك، وحقُّ الوارث إنما يثبت في ثاني الحال، فأشبه بَيْع الشِّقْصِ المشْفُوع، ويدل على انعقاده أنه لو برأ من مرضه، نفذت تصرفاته، ولم يفتقر إلَى الاستئناف، وقد يُعبَّرُ عن الغرض بعبارةٍ أخرَى، وهي أن الوصية بالزيادة، (على الثلث) (¬1) غيرُ نافذةٍ إنَّ لم يجز الوارث، وإن أجاز، ففي نفوذها بالإجازةِ قَوْلاَن. فإن لم يكن له وارثٌ خاصٌّ، فوصيته بالزِّيَادة على الثلث باطلة؛ لأنَّه لا مجيز، ¬
والمالُ للمسلمين. وعند أبي حنيفة -رحمه الله- أنها صحيحةٌ، وبه قال أحمد في أصحِّ الروايتَيْنِ عنه، وفي "شرح أدب القاضي" لأبي عاصمٍ العبَّادِيِّ وجهٌ مثله. وقال في "التتمة" للإمام: رد هذه الوصية. وهلْ له إجارتها ليُبْنَى عَلَى أن الإمام، هلْ يُعْطَى حكْمَ الوارث الخاصِّ؟ إذا عُرِفَ ذلك، ففي الوصية للوارِثِ طريقان: أصحهما: أن الحكُمَ، كما لو أوصَى لأجنبيٍّ بالزيادة على الثلث، حتَّى يرتدَّ بردِّ سائر الورثة، وإن أجازوا، فعلى القولَيْن، وقد نصَّ عليهما في "الأم": أحدهما: أن إجازتهم ابتداءُ عطيةُ والوصية باطلة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله قَد أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، إِلاَّ لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثِ" (¬1). والأصحُّ، وبه قال أبو حنيفةً، ومالك، وأحمد -رحمهم الله- إنها تنفيذٌ لما فعله المُوصِي، وللذي فعَلَهُ. انعقادٌ واعتبارٌ؛ لما رُوِيَ عنِ ابنِ عبَّاس -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تَجُوزُ الوَصِيَّةُ لِوَارِثِ إِلاَّ أنْ يُجيزَهَا الوَرَثَةُ". وُيرْوَى: "لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ" (¬2). والطريقُ الثانِي: أنَّها باطلةٌ، وإن أجاز الورثة، بخلافِ الوصيَّة للأجنبيِّ بما زاد على الثلث، والفرق أن المنع من الزيادةِ لحَقِّ الورثة، فهذا رضُوا، جوَّزنا، والمنع هاهنا لتغيير (¬3) الفروض التي قدَّرها الله تعالَى للورثة عَلَى ما أشْعَرَ الخبر، فلا أثَرَ ¬
لِرِضَاهم، وتُحْكَى هذه الطريقةُ عن المُزَنِيِّ، وعن ابن أبي هريرة -رحمهما الله-. وقوله في الكتاب: "أما الوارثُ، فلا وصيَّةَ له" لم يُرِدْ به الجواب على هذه الطريقة، وإنَّما أرادَ بُطْلانَها عنْدَ رَدِّ الباقين؛ ألا تراه يقول على الأثر "فإن أجاز الورثة" إلى آخره وعلى مثل هذا ينزل قوله في فَصْل الوصية للعبد "وإن كان عبْدٌ وارثٌ، لم يَصِحَّ" ويجوز أنْ تُعْلَمَ هذه الكلمة بالميم؛ لأن عند مالك -رحمه الله- إن لو أوصَى لعبدِ وارِثهِ بشيء يسير، صحَّت الوصية، ووقعت للعَبْدِ، وإن أوصَى بمالٍ كبيرٍ، فهي كالوصيَّة للوارث، وقوله: "نفذَت على أصحِّ القَوليْن" عَنَى به أن الوصيَّة منعقدةٌ، موقوفةٌ، فإن أجازوها، أمضيناها، ونفَّذْنَاهَا، بإجازَتِهِم وفي القول الثاني: هي لاغيةٌ، فيكون إجازتهم ابتداءَ عطيَّةٍ منهم، وأمَّا قوله "والقاتل" فالخلاف في الوصية للقاتل عند الإجازة عَلَى ما حكاه الإمام، كالوصيَّةِ للوارثِ عنْد الإجازة، فتجيء فيها الطريقان؛ وذلك إذا لم نُطْلِق القَولَ بِصِحَّتها أمَّا إذا صحَّحناها، فلا خِيَرَةَ للوارث، ولا حاجَةَ إلَى إجازته، ويجوز أن يُعْلَمَ قوله "عَلَى أصحِّ القَوْلَينِ" بالواو، للطريقةِ القاطِعَةِ بالبطلان في الوصية للوارث، والقاتلِ، ثم الكلام في التفريع على القولَيْن في كيفية الإجازة، وفي مسائل وقواعد تنسلك في الفصْلِ: أما التفريع: فإن قلنا: إنها تنفيذٌ وإمضاءٌ، كَفَى لفظ الإجارة، ولا حاجة إلى هبة وتجديدِ قبولٍ، وقبض من الموصَى له، وليس للمجيز الرجوعُ، وإن لم يحْصُلِ القبض بعد أن جعلْنَاها ابتداءَ عطيةٍ منهم، فلا يكفي قبولُ الوصية أولاً، بل لا بد من قبولٍ آخَرَ فِي المجلس، ومن القبض، وللمجيز الرجوعُ قبل القبض، وهلْ يُعْتَبَرُ لفظ التمليك، ولَفْظ الإعْتَاق؟ إذا كان الموصَى به العِتْقَ، فيه وجهان: أحدهما: لا، بل يكفي لفظ الإجازة، لظاهر الخبر. وأظهرهما: نعم، ولا يكفي لفظُ الإجازة كما لو تصرَّف تصرُّفاً فاسداً من بيعٍ، أو هبةٍ، ثم أجازه ويُنْسَبُ هذا الوجه إلى مالك، وهو الاختيار المَزَنيِّ -رحمه الله-. وإذا خلَّف زوجةً، هي بنت عمه، وأباها، وكان قد أوصَى لها، وأجاز أبوها الوصية، فلا رجوعَ له، إن جعلْنا الإجازةَ تنفيذاً. وإن جعلناها ابتداءَ عطيةٍ، فله الرجوع. وإذا أعتق عبداً في مرضه، أو (أوصى) (¬1) بعتقه، ولا مالَ له سواه، أو زادَتْ ¬
قيمته على الثلث، فإنْ جعلْنا الإجازةَ ابتداءَ عطيةٍ من الورثة، فولاءُ ما زاد على الثلث للمجيزين، ذكورهم وإناثهم بحسب استحقاقهم، وإن جعلْناها تنفيذاً، فولاءُ الكلِّ للميت؛ فيرَثه ذكور العصبات لا غير. وحكَى الأستاذُ أبو منْصُورٍ عن بعض الأصحاب أنَّه يُحْتَمَلُ أن يكون الولاءُ للميِّت على القولَيْن جميعاً؛ لأنا، وإنْ جعلْنا إجازتهم ابتداءَ عطيةٍ، وقلنا: إنه ملكهم، فإجازتهم إعتاقُ الميت، كإعتاقِهِمْ عن الميت بإذنه، ومن أعتق عبده عن غيره بإذْنِهِ والتماسه، كان الولاءُ للآذن، وُينْسَبُ هذا الوجهُ إلى ابن اللَّبَّان، إلاَّ أن اعتبار الإذْنِ بعد موت الآذِنِ كالمستبعد. ولو أعتَقَ العبْدَ في مرض الموْتِ، ومات العبدُ قبل موته، فيموتُ، كلُّه [حرٌّ أمْ] (¬1) كَيْفَ الحالُ؟ [فيه خلاف مذكورٌ في الكتاب] في "كتاب العتق". أما المسائِلُ؛ فمنها: الهبة في مرض الموت من الوارث، والوقْفُ عليه، وإبراؤه عما عليه من الدَّيْنِ، كالوصيَّةِ له، ففيها الخلاف. ومنها: لا اعتبار بردِّ الورثة، وإجازتهم في حياة الموصِي، وإذا أجازوا في الحياة، وأذنوا له في الوصيَّة، ثم أرادوا الردَّ بعد الموت، فلهم ذلك؛ لأنه لا يتحقَّقُ استحقاقُهُم قبْل المَوتِ؛ لِجَوَازِ أن يبرأ المَرِيضُ، أو يموتوا قَبْل موْتِهِ. وعَنْ مالك -رحمه الله- أن الإجازة قبل الموت تلزم، إلا أن يكونَ الوارثُ في نفقته، وعنه أيضاً: أنهم، إنْ أذِنُوا له في الوصية، وهو صحيحٌ، فلهم الرجوعُ، وإنْ أذِنُوا، وهو مريض، فلا رجوعَ لهم، ولو أجاوزا بعد الموْتِ، وقبل القسمة؛ قال الأستاذ أبو منصور: في تنزيلها منزلة الإجازَةِ قبل الموت قولان مخرَّجان للأصحاب، والظَّاهِرُ لزومها. ومنْها: ينبغي أن يعرف الوارثُ مقدارَ الزائدِ عَلَى الثلث، ومقدارَ التَّركة، فإن لم يَعْرِف قدر الزائد، أو قَدْرَ التركة، لم تصحَّ الإجازة، وإن جعلْناها ابتداءَ عطيَّةِ، وإنْ جعلْناها تنفيذاً، فهي كالإبراءِ عَنِ المجهول. ولو أجاز الوصيَّة بما زادَ عَلَى الثلث، ثُم قال: كنت أعتقدُ أن التركة قليلةٌ، فبانت أكثر مما ظَنَنْتُ، فعن نصِّه في "الأم" أنه يحلف، وتنفذ الوصية في القَدْر الذي كان يتحقَّقه. ¬
قال الأصحاب: وإنَّما يُحْتَاجُ إلى اليمين، إذا حصل المال في يد الموصَى له، أما إذا لم يحْصَل، فلا حاجة إلى اليمين، إذا جعلناها ابتداءَ هبة؛ فإنَّ الهبة قبل القبض لا تلزم، وفي "التتمة" أن التنفيذ في القدر الذي يتحقَّقه مبنيٌّ على أن الإجازة تنفيذ فتتنزل منزلة الإبراء، أما إذا جعلْناها ابتداءَ هبة، فإذا حلف، بَطَل في الكلُّ، واللفظ المحكيٌّ عن النص ينازع فيما إذا ادعاه. ولو أقام الموصَى له بيِّنَةً على أنَّه كان عارفاً بقَدْر التركة عند الإجازة، لزمت، إن جعلْناها تنفيذاً، وإن جعلْناها ابتداءَ هبةٍ، لم تلزم، إذا لم يوجَدِ القبضُ، ولو كانتِ الوصيةُ بعبدٍ معيَّن، وأجاز الوارثُ، ثم قال: كنْتُ أظنُّ أن التركةَ كبيرةٌ، وأن العبد خارجٌ من ثلثها، [فتبينت] (¬1) خلافه، أو ظهر دَيْنٌ لم أعلمه، أو تبيَّن لي أنه تَلِفَ بعضها، فإن جعلْنا الإجازة ابتداءَ عطيَّةٍ، صحت. قال في "التتمة": لأن العبد معلومُ الجهالةِ في غيره، بخلافِ ما إذا كانت الوصيَّةُ بالجزء المشاعِ. وإن جعلْناها تنفيذاً وإمضاءً، فقولانِ نقلهما صاحب "الشامل" وغيره: أحدهما: الصحَّة للعلم بالعقد. والثاني: أنه يحلِفُ، ولا يلزم إلاَّ الثلث، كما في الوصيَّة بالمشاع، وهذا ما أورده المتولِّي (¬2). ومنها: العبرة في كونه وارثاً بيوم الموت، حتى لو أوصَى لأخيه، ولا ابْنَ له ثم وُلِدَ له ابْنٌ قبل موته، فالوصيةُ صحيحة. ولو أوصَى لأخيه، وله ابن، فمات الابن قبل موْتِ الموصِي، فهي وصية للوارث؛ وقد ذكَرْنَا في الإقرار للوارث خلافاً؛ في أن العبرة بيوم الإقرار، أو بيوم الموت، والفرق أن استقرار الوصية بالموت، ولا ثبات لها قبله. ومنها: قال صاحب الكتاب: "إذا أوصَى لكلِّ واحدٍ من ورثته بقَدْر حصَّته من التركة، لَغَتْ وصيته؛ لأنهم مستحِقُّون لها، وإن لم يوص ويجيء فيه وجهٌ آخر؛ لأن ¬
صاحب "التتمة" حكَى وجهين فيما إذا لم يكُنْ له إلا وارثٌ واحدٌ، فأوصَى له بماله: المذهبُ منهما أنه تلْغُو الوصيةُ، ويأخذ التركة بالإرْثِ. والثاني: أنَّه يأخُذُها بالوصية، إذا لم ينقضها، قال: وفائدةُ الخلافِ تظْهَر فيما إذا ظهر دين، إن قلْنا: إنَّه يأخذ التركة إرثاً، فله إمساكُها، وقضاءُ الدَّين من موضع آخر، وإن قلنا: إنَّه يأخُذُها بالوصية، قضاه منها, ولصاحب الدَّين الامتناعُ لو قضَى من غيرها، ومعلومٌ أنه لا فرْقَ بين أن يتحد الوارث (¬1)، أو يتعدَّد. ولو أوصَى لكلِّ واحد من الورثة بعينٍ، هي قَدْرُ حصته من ثوب وعبد وغيرهما، فهل تحتاج هذه الوصيَّةُ إلى الإجازة أم لا؟ ويختص كل واحد منهم بما عينه؟ فيه وجهان: أظهرهما: الحاجةُ؛ لأنَّ الأغراض تتفاوتُ بأعيان الأموال، والمنافع الحاصلة منْها. والوجه الثاني: أن حق الورثة يتعلَّق بقيمة التركة، لا بعينها؛ ألا ترَى أنه لو باع المريضُ أعيانَ التركة بأثمان [مثلها]، صَحَّ، وحقوقُهُمْ في القيمة موفَّاة هاهنا؟ وذكر صاحب "التهذيب" في هذا الموضع صورتين؛ كالمستشهد بهما للوجهين. إحدى الصورَتَيْن: إذا أوصِى بأن يُبَاعَ عين ماله من إنسان، فالوصية صحيحةٌ؛ لأن الأغراض يتعلق بالعين، كما يتعلَّق بالقدر، فتصحّ الوصية بها، كما تصحُّ بالقدر، وفي "التتمة"، "والمعتمد" للشَّاشِيِّ وجه آخر؛ أنها لا تصحُّ، وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-: لأنَّه لو باع ماله في مرض [الموت] (¬2)؛ لا يُعْتَبَرُ من الثلث، ولو صحَّت الوصية، لاعْتِبُرَ من الثلث. والثانية: بيع المريض مالَه من وارثه بثَمَن المثل نافذ، خلافاً لأبي حنيفة، حيث قال: إنَّه وصية، يُوقَفُ عَلَى إجازة سائر الورثة. لنا: أنَّه لا تبرُّعَ فيه؛ ألا ترى أنه يجوز بيع الزائد على الثلث بثمن المِثْل من الأجنبيِّ. والصورةُ الثانيةُ: يشهد لوجْهِ الاستغناء عن الإجازة فيما إذا أوصَى لكلِّ واحدٍ بعينٍ هي قَدْرُ حصَّته، والأَوْلَى تشهد لوجه الحاجة إليها، قكذلك قال، وكذلك لو ¬
أوصَى بأن يباع عين ماله من إنسان، نفذ، لكن لا خلافَ إلَى آخره، إلاَّ أن الاستشهاد إنما يَحْسُن إذا كان المستشهَدُ به مُتَّفَقَاً عليه، أو كان الحكْمُ فيه أظهر منه في موضع الكلام. وادعَى صاحب "التتمة" أن الخلاف في الصورة الأولَى مبنيٌّ على الخلاف في الحاجة إلى الإجازة وإذا أوصى لكلِّ واحدٍ بعين، هي قدرُ حصته، إن قلنا بالحاجة هناك، صحَّت الوصية هاهنا، وإلاَّ، فلا، فإن كان كذلك، فالأحسنُ أن يقرأ، وكذلك لو أوصَى بأنْ تُبَاعَ عينُ ماله من إنسان، نفذ؛ ليكون عطفاً على أظهر الجوابَيْنِ في المسألة السابقة، وهذا يوجد في بعض النسخ. ومنها: أوصَى بثلث ماله لأجنبيٍّ ووارثِ، إن صحَّحنا الوصيَّة للوارث، وأجاز سائرُ الورثة، فالثلث بينهما، وإن أبطَلْناها، أو ردها سائر الورثة، فقد ذُكِرَ وجْه: أنَّها تبْطُل في حقِّ الأجنبيِّ، أيضاً؛ أخذاً من منع تفريق الصفقة، لَكنَّهُ ضعيف؛ لأن العقْدَ مع شخصين كعقْدَيْن، بل للأجنبيِّ السدس (¬1). وعن أبي حنيفة: أنَّ له تمامَ الثُّلث، ولو أوصَى لهذا بالثلث، ولهذا بالثلث، فإنِ اعتبرنا الوصية للوارث، وأجاز سائر الورثة، فلكلِّ واحد منهما الثلث؛ وإن أبطلناها، أو ردوا فلا شيء للوارث، ثم يُنْظَرَ في كيفية الرد؛ إن ردُّوا وصية الوارث، سُلِّمَ للأجنبيِّ تمامُ الثُّلُث، وفيه وجهٌ بعيدٌ؛ أنَّه لا يُسَلَّم إلاَّ السُّدُس. وإن قالوا: ردَدْنا ما زاد على الثُّلث من الوصيَّتَيْنِ، فوجهان: أحدهما: وهو الذي ذكره الشيخ أبو حامد، ونسبه أبو الفَرَجِ الزاز إلى اختيار القَفَّال: والشيخ أبي عليٍّ -رحمه الله- أنَّه ليس للأجنبيِّ إلاَّ السدس، فإنَّ الزيادةَ قد بَطَلَتْ بالرد؛ فكأنه أوصَى بالثلث ولهما. وأرجحُهُمَا عند كثرهم، وهو الذي أورده في "التهذيب": أنَّ له تمَامَ الثلث، ووجِّه بأن القائل للرَّدِّ في حقِّ الأجنبي الزائدِ على الثُّلُث، وفي حقِّ الوارث الجميع، فكان الانصراف إلَى نصيب الوارث أوَلَى. ¬
ومنها: إذا أوصَى إلى أحد ورثته بقَدْر نصيبه من التركة، أو بما دُونه، وأجاز الباقون، سُلِّمَ له المُوصَى به، والباقي مشتركٌ بينهم. قال الإمام -رحمه الله-: وذلك القدْرُ خرج عن كونه موروثاً باتِّفاق الورثة، أما الموصَى له؛ فلأنه أوقعه عن جهة الوصيةِ، حيث قبلها، وأمَّا غيره؛ فلأنه أجازها. ولو أوصَى لبعض الورثةِ بأكْثَرَ من قَدْر نصيبه، فوجهان: أصحُّهما: أن الجواب كذلك. والثاني: أنَّ الباقي لمن لم يُوصَ له؛ لاحتمال أنَّ غرَضَه من الوصيَّة تخْصيصُه بتلْك الزيادة، لا بجميع الموصَى به، ويخرَّج على هذا الأصل ما إذا أوصَى لأجنبيٍّ بنصف ماله، ولأحدِ ابْنَيْهِ الجائزين بالنِّصْف، وأجاز الوصيتَيِن، فللأجنبيِّ النصف. وأمَّا الابنُ الموصَى له، ففيما يستحقه وجهان: أحدهما: النصف. والثاني: الربع، والسُّدُس، والباقي، وهو نصْفُ السُّدُسِ للَّذي لم يُوصَ له، ونسب الإمام وغيره الوجه الأوَّلَ إلَى جواب القَفَّال، والثاني إلَى ابن سُرَيْجٍ، ورأيت الأستاذ أبا منصورٍ حَكَى الأوَّل عن ابن سُرَيْج، ووجّهُ خروجها على الأصلَ المذكور، أن الثلث مُسلَّم للأجنبيِّ، لا حاجة فيه إلى إجازة الاثنين، والباقي بينهما لو رُدَّ لكل واحد منْهما الثلث، فإذا أوصَى لأحدهما بالنصف، فقد زاد على ما يستحقُّه سدساً، فإن قلنا: الباقي بعد الوصية لهما جميعاً، فالسدس بينهما، لكنهما إذا أجَازَا، لَزِمَ كلّ واحد منهما أن يدْفع نصف سدس إلى الأجنبيِّ؛ ليتم له النصف، وحينئذ فيعودُ ما كان للموصَى له إلى النصف، ولا يبقَى للآخر شيْء، وهذا هو الوجه الأوَّل وإن فإنْ قلنا: إن السُّدُس الباقي يختصُّ به الذي لم يُوصَ له، فيعودُ بإجازتهما وصية الأجنبيِّ نصف الابن الموصى له، إلى ربع، وسدس وسدس الابن الآخر إلى نصف سدس، وهذا هو الوجه الثاني. ولو أجاز الابنُ الذي لم يُوصَ له الوصيتين جميعاً، ولم يُجِزِ الموصَى له وصيَّة الأجنبيِّ؛ فالمسألة تصحُّ؛ من اثْنَيْ عَشَرَ للأجنبيِّ الثلث؛ أربعةٍ بلا إجازة، ويأخُذُ سهماً آخر من نصيب الذي أجاز، فيجتمع له خمسة، وللابن الموصَى له سبعة؛ ستةٌ منها بحُكْم الوصية، وواحدٌ؛ لأنَّه لم يُجِزْ وصيَّة الأجنبيِّ، هكذا حكاه الأستاذ عن ابن سُرَيْجٍ، وهو قياس الوجه الأوَّل. وقياس [الوجه] (¬1) الثاني أن يأخذ الابنُ الموصَى له ستة أسهم، ويبقَى للابن ¬
الآخر سهم، ولو لم يجز الابن الذي لم يُوصَ له وصية الأجنبي، فللموصى له خمسة، ثم على قياس الوجه الأول: لابن الموصَى له ستة، وللآخر سهم، وعلى قياس الثاني: للموصَى له خمسة، وللآخر سهمان. ومنها: أوصَى لأجنبيٍّ بثلث ماله، ولأحدِ ابنيه الجائزين بالكل، وأجازا الوصيتين، فللأجنبيِّ الثلث كاملاً، والثلثان للابن الموصَى له، وليس له زحمة الأجنبيِّ في الثلث، فإن الوصية بالثلث للأجنبيِّ مستغنية عن الإجازة، وفيه احتمالٌ للمتأخِّرين، [وإن ردِّ] (¬1) فثلث الأجنبيِّ بحاله، ولا شيء للابن الموصَى له بالوصية، ولو أوصَى للأجنبي بالثلث، ولكل واحد من ابنيه بالثلث، فردَّا، لم يؤثِّر ردُّها في حق الأجنبيِّ، وفيه وجه؛ أنه ليس له إلا ثلثُ الثُّلُث بالشيوع. ومنها: وقف داراً في مرض موته على ابنه الجائز، فإن أبطلنا الوصيَّة للوارث، فهو باطل، وإن اعتبرناها موقوفةً على الإجازة، فعن ابن الحَدَّاد؛ أنَّه [إذا احتملها] (¬2) ثلث ماله، لم يكن للوارث إبطالُ الوَقْف في شَيْء منها؛ لأنَّ تصرُّفَ المريض في ثُلُث المال نافذ، فهذا تمكَّن من قَطْع حقِّ الوارث [عن الثلث] بالكُلِّيَّة؛ فَلَأَنَّ يتمكَّن من وقْفِهِ عليه، وتعْليق حقِّ الغير به، كَانَ أَوْلَى، وإن زادَتْ على الثلث، لم يبْطُلِ الوقْفُ في قدر الثلث، وأما الزيادةُ، فليس للمريض تفويتُ مِلُكِها على الوارث. وللوارِثِ الردُّ، والإبطال، فإن أجاز، فإجازته وقف منه على نفسه، إن جعلنا إجازة الوارثِ ابتداءَ عطيَّةٍ منه، وإِنْ جعلناها تنفيذاً منه، لزم الوقْفُ. وفي "التتمة": أن القفَّال قال: له ردُّ الوقْف في الكل؛ لأن الوصيَّة بالثلث في حقِّ الوارث كَهِيَ بالزيادة في حقِّ غير الوارث؛ ألا ترى أنه لو أوصَى لأحد الوارِثَيْنِ بشَيْءٍ قليلٍ، كان للآخر الرد؟ فإن أجاز الابن فالحكْمُ في الكلِّ على الخلاف في كيفية الإجازة. وأجاب الشيخ أبو عليٍّ عن هذا التوجيه بأنا إنَّما جوَّزنا لأحد الوارثَيْنِ إبطالَ الوصية على الثاني؛ لأنه بالوصية فَضَّلَه عليه، ونقص حقّ الذي لم يُوصَ له عن عطيَّة الله تعالَى، وهاهنا لا تفضيل. والتفريعُ عَلَى جواز الوصيَّة للوارث في الجملة فلينفذ تصرفه في الثلث المستَحقِّ له، والنقل المشهورُ هو المَحْكِيُّ عن ابن الحدَّاد، وعليه تفريعُ الصور المذكورة مِنْ بَعْدُ، ثم ذكر الإمام أن المسألة مصوَّرة فيما إذا نجَّز الوقْف في مرض موته أما إذا كان ¬
الابنُ طفلاً، فقبله له، ثم مات فحاول الابن الردَّ، والإجازة، لكنه لا حاجة إلَى هذا الفرض؛ لأنه، وإن كان بالغاً، وقبل بنفسه، لم يمتنع علَيْه الردَّ بعد الموت (¬1)؛ إذ الإجازة المعتبرةُ هي الواقعة بعد الموت، ولو كان له ابنٌ، وبنتٌ، فوقف ثَلثَي الدار على الابْنِ، والثلث على البنْتِ، فلا ردَّ لهما، إن خرجت الدارُ من الثلث؛ لَأنه لم يُفَضِّلُ، ولم يغير عطيَّة الله تعالَى, وإن زادَتْ على الثلث، فلهما ردُّ الوقْف في الزيادة. وإن وقَفَها عليهما نصفَيْن، والثلث يحتملها، فإنْ رَضِيَ الابْن، فهو كما لو وقف، وإلا، فظاهرُ جواب ابن الحدَّاد أن له رد الوقف في ربع الدار؛ لأنه لما وَقَف عليه النصف، كان من حقِّه أن يقف علَى البنت الرُّبُع، فإذا زاد، كان للابْنِ ردُّه، ثم لا يصير شيْءٌ منه وقفاً [عليه] فإنَّ الأب لم يقف عليه إلا النصف، بل يكون الربع المردُودُ بينهما أثلاثاً ملكاً، وتقع القسمة من اثنَيْ عَشَرَ؛ لحاجتهِ إلَى عدد لربعه ثلاثاً، فتسعةٌ منها وقْفٌ عليهما، وثلاثةٌ مِلْكٌ، وكلاهما بالأثلاث. وقال الشيخ أبو عليٍّ: عندي ليْسَ للابْنِ إبطالُ الوَقْف إلاَّ في سُدُس الدار؛ لأنه إنَّما يحتاج إجازته فيما هو حَقُّه، وحقُّه منحصرٌ في ثلثي الدار، وقد وقف عليه النصف، فله استخلاصُ تمامِ حَقِّه، وهو السدُس، أما الثلث الآخر، فهو حقُّها، فلا معنَى لتسليطه على إبطالَ الوقْف فيه، نعم، يَتَخيَّر هي، إن شاءت، أجازت، فيكون كلُّه وقَفَها عليها، وإن شاءت، ردَّت الوقْف في نصف سدس الدار، وحينئذ فتكون القسمةُ عَلَى ما سبق، والنسبة بين وقْفِها وملكها، كالنسبة بين وقفه (¬2) وملكه. ولو وقف الدارَ عَلَى ابنه، وزوجته نصْفَيْن، ولا وارث له سواهما. قال ابن الحدَّاد؛ قد نقَصَ المريضَ عن حقِّ الابن ثلاثة أثمان الدار [وهي ثلاثة أسباع حقه؛ لأن سبعة أثمان الدار] (¬3) له ولم يقف عليه إلاَّ أربعة أثمانها، وهي أربعة ¬
أسباع حقِّه، فله ردَّ الوقف في حقِّها من الدار، وهو الثمن إلى أربعة أسباعه؛ ليكون الوقْفُ عليها من نصيبها، كالوقف عليه من نصيبه، فيكون الباقي بينهما أثماناً ملكاً، فتكون القسمةُ من ستة وخمسين؛ لحاجتنا إلى عدد لثمنه سبع؛ فيكون أربعةَ أسباعِ الدار كلّها، وهي اثنان وثلاثونَ وقفاً؛ ثمانية وعشرون منْها وقْفٌ على الابن، وأربعةٌ على الزوجة، والباقِي، وهو أربعة وعشرون، ملكاً بينهما: منها أحدٌ وعشرون للابْنِ، وثلاثةٌ للزوجة. وقال الشيخ أبو عليٍّ ليس له ردُّ الوقف إلاَّ في قيمة حقِّه، وهو ثلاثة أثمان الدار، وأما الثمن، فالخيار فيه للزوجة ولو وقف ثُلُثَ الدار على ابنه، وثلثيها على أمه، ولا وارث له سواهما، فالجوابُ على قياس ابْنِ الحدَّاد؛ أنَّه نقص من نصيب الأب ثلث الدار لأنَّه يستحق ثلثيها, ولم يقف عليه إلاَّ الثلث، وذلك نصف نصيبه (¬1)، فله ردُّ الوقف في نصف نصيبها، وهو سدُسُ الدار، والباقي بينهما أثلاثاً ملكاً، وتقع القسمة من ستة؛ لأنَّا نحتاج إلَى عدد لثلثه نصْف، فيكونُ نصف الدار وقفاً ونصفها ملكاً أثلاثاً وعلَى قياس الشَّيْخ: لا يُرَدُّ الوقف إلا في تَتِمَّة نصيبه، وهو الثلث ولها الخيارُ في السدس. والله أعْلَم. ولفظ ابن الحدَّاد في "المولدات" في هذا الباب يُمْكِنُ تنزيلُه عَلَى ما ذكره الشيْخُ؛ فيرتفع الخلافُ، لكنه يُحْوِج إلَى ضرب تعسُّفٍ. فرْعٌ: الوصيَّة للميت باطلة، سواءٌ علم الموصِي بموته (¬2) أو لم يَعْلَم؛ لأن الوصيَّة تمليك، ولا يمكن تمليك الميت. وقال مالك -رحمه الله- إن عَلِمَ موته، صحَّت الوصية، وكان الموصَى به من تركَتِهِ، وفي لفظ الكتاب في أوَّل الركْنِ الثانِي حيث قال: "وهو كُلُّ من يُتصوَّر له المِلْك" ما ينبه على هذا الفرع. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الثَّالِثُ في المُوصَى بِهِ وَتَصِحُّ الوَصِيَّةُ بِكُلِّ مَقْصُوب يَقْبَلُ النَّقْلَ بِشَرْطِ أَلاَّ يَزِيدَ عَلَى الثُّلُثِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ كَونُهُ مَوْجُودَاً أَوْ عَيْناً إِذْ يَصِحُّ بالحَمْلِ، وَثَمَرَةِ البُسْتَانِ وَالمَنْفَعَةِ، وَلاَ كَوْنُهُ مَعْلُومَاً وَمَقْدُوراً عَلَيْهِ إِذْ يَصِحُّ بِالحَمْلِ وَالمَغْصُوبِ ¬
وَالمَجَاهِيلِ، وَلاَ كَوْنُهُ مُعَيَّنَاً (و) إِذْ تَصِحُّ بِأحَدِ العَبْدَيْنِ وإنْ لَمْ يَصِحَّ لِأَحَدِ الشَّخْصَينِ عَلَى الأَظْهَرِ فَرْقَاً بَيْنَ المُوصَى لَهُ وَالمُوصَى بِهِ، وَلاَ كَوْنُهُ مَالاً إِذْ يَصِحُّ بِالكَلْبِ المُنْتَفَعِ بِهِ وَجِلْدِ المَيْتَةِ وَالزِّبْلِ وَالخَمْرَةِ المُحْتَرَمَةِ وَكُلِّ مَا يَنْتَقِلُ إِلَى الوَارِثِ، إِلاَّ القَصَاصَ وَحَدَّ القَذْفِ فَإنَّهُ لاَ أَرَبَ فِيهِ للمُوصَى لَهُ بِخِلاَفِ الوَارِثِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: نورِدُ فقْهَ مسائل الفَصْل، ثم نعودُ إلَى ما يتعلَّق بالضَّبْطِ. فِمَنَ المسائل الوصيَّةُ بالحمل، وهِيَ إما أن يكون بالحَمْل الموجودِ في الحال، أو بالحَمْل الذي سيحدث، فإن كانت (¬1) بالحمل الموجود في الحال، فإنْ أطلق، قال: أوصَيتُ بحَمْلِ فلانةٍ، أو قيَّد؛ فقال: بحَمْلِها الموجُودِ في الحال؛ فهي جائزةٌ، كما يجوز إعتاقُ الحمل، ثم الشرط، أن ينفصل لوَقْتٍ يعلم وجودَهُ عند الوصية، وأن ينفصل حيّاً عَلَى ما سبق في الوصية للحَمْل. نعم، لو انفصل ميِّتاً مضموناً بجنايةِ جانٍ، فقد ذُكِرَ أن الوصيَّة لا تَبْطُلُ، وتَنْفذُ مِنَ الضَّمَان؛ لأنه انفصل متقوَّماً، بخلاف ما إذا أوصَى لحمل، وانفصل ميِّتاً بجناية جانٍ، حيث تَبْطُل الوصية علَى ما سبق؛ لأنَّ المعتبر هناك المالكية (¬2)، وهل يصح قبول الموصَى له قبل الوَضْع؟ فيه خلافٌ مبنيٌّ عَلَى أن الحملِ، هل يُعْرَفُ؟ وإن كانت الوصية بالحمل الَّذِي سيكُونُ، فوجهان: أحدهما: ويُحْكَى عن أبي حنيفة: أنها باطلةٌ؛ بناءً على أن الاعتبار بحال الوصيَّة، ولا ملك يومئذ، بل لا وجود، والتصرُّف يستدْعِي مُتصرِّفاً فيه. وأصحهما: الصحَّة، كما تصحُّ الوصية بالمنافع؛ وهذا لأنَّ الوصيَّةَ إنَّما جوزت؛ وفقاً بالناس، وكذلك احْتمِلَ فيها وجُود الغرر، فكما تَصحُّ بالمجهول، تصح بالمعْدُوم. ومنْها: الوصيةُ بثمار البُسْتَان الحاصلةِ في الحَال، صحيحةٌ، وبالتي ستحدث طريقان: أظهرهما: أنها علَى الوجْهَيْن في الحَمْل الذي سيحْدُث. والثاني: القطْعُ بالصحة، كالوصية بالمنافع؛ لأنها تحْدُث من غَيْر إحداثِ أمْرٍ في أصْلِهَا، والولد لا يحْدُثُ إلا بإحداث أمر في أصله، ولهذا تجوز المساقاةُ على الثمار التي ستحْدُث، ولا تجوزُ المعاملةُ على النتاج الذي سيحْدُث والوصيةُ بصُوف الشاة ولبنها، كالوصيةُ بالثمار. ومنْها: الوصية بمنافع الدار، والعبد، صحيحةٌ؛ لأن المنافع أموالٌ مقابلة بالعوض، فأشبهت الأعيان، وتصحُّ الوصية بها مؤبدة، ومؤقَّتة، والإطلاق يقتضي ¬
التأبيد. ومنها: الوصيةُ بما لا قدْرَةَ عَلَى تسليمه، كالمغصوب، والآبِقِ، والطَّيْرِ المنفلِتِ، صحيحةٌ، وكذا الوصية بالمجهول، مثل أن يقول: أعطوه ثوباً، أو عبداً؛ لأن الله تعالَى أعطانا ثُلُث أمْوَالِنَا في آخر أعمارنا، وقد يشبه علينا قدْرُ الثلث، إمَّا لكثرة المال، أو غيبته، فدعت الحاجة إلى تجويز الوصيَّة بالمجهول. ومنها: لو أوصَى بأحد العبْدَيْنِ، صحَّت الوصية؛ لأنَّها محتملةٌ للجهالة، فلا يقدح الإبهام، ولو أوصَى لأحد الشخصين، فأحد الوجهين أن الجواب كذلك. وأظهرهما: المنعُ كما في سائر التمليكات، وقد يُحْتَمَلُ في الموصَى به ما لا يُحْتَمَلُ في الموصَى له، ولذلك كان الأظهرُ في الوصية بحَمْل كُوِّنَ (¬1) الجواز، وفي الوصية يحمل سيكون المنع؛ لأنَّ الإبهام في الموصَى له، إنَّما يُمْنَعُ إذا قال: أوصيتُ لأحدِ الرجلين، أما إذا قال: أعْطُوا هذا العبدَ أحدَ الرجلين، ففي "المهذب" و"التهذيب" وغيرهما: أنه جائز؛ تشبيهاً بما إذا قال لوكيله: بعْهُ من أحد الرجلين، وإذا أبْهَمَ الموصَى به، عيَّنه الوارث وإن أبْهَمَ الموصَى له، وجوَّزناه، فحكمه مذكورٌ في الكتاب من بعد. ومنها: الوصيةُ بما يحلُّ الانتفاع به من النجاسات، كالكلب المُعلَّم والزيت النجِس، والزِّبْل، وجِلْدِ الميتة، والخَمْر المحترمة صحيحة لثبوت الاختصاص فيها، وانتقالها من يَدٍ إلَى يدٍ بالإرث، وغيره، قال في "التتمة": ومن هذا القبيل شَحْمُ الميتة، لدهن السفن، ولحمُها إذا جوزنا الانتفاع به؛ وفي الجرو الذي يقع الانتفاع به وجهان؛ بناءً على أنه، هل يجُوز إمْسَاكُه، وترتيبُه، لما يتوقع في المُسْتَقْبَلِ. والأظهر الجواز وأمَّا ما لا يحل اقتناؤه، والانتفاعُ به؛ كالخَمْرُ، والخِنْزير والكلب العَقُور فلا يجوز الوصيَّة (¬2) به، ونقل الحناطيًّ وجهاً أنه يجوز الوصيَّة بالكَلْب الذي لا ¬
يجُوز اقتناؤه أيضاً، وقولاً: أنه لا يجوز الوصيَّةُ بالمقتَنى المنتفع به من الكِلاَب، كما لا تجوز هبته علَى رأي، وهما غريبان. وتصحُّ الوصية بنُجُوم الكتابة؛ وإن لم تكنْ مستقرَّةَ، فإنْ عجز، فلا شَيْء للموصَى له، وتصحُّ برقبة المكاتَب، إن جوَّزنا بيعه، وإلا، فقد قال في "التتمة": هي كما لو أوصَى بمال الغير، فإذا أَوصى بمال الغير؛ فقال: أوصيتُ بهذا العبد، وهو ملك لغيره أو بهذا العَبْد، إن ملكته، فوجهان: أحدهما: أنَّها صحيحةٌ؛ لأنَّ الوصيَّةَ بغير الموجُود جائزةٌ، فغير المملوك أَوْلَى. والثاني: المنعُ؛ لأنَّ مالكهُ يتمكن من التصرُّف بالوصية، والشيء الواحدُ لا يجُوزُ أن يكون محلاً لِتصرُّف شخْصَيْنِ، وبهذا أجاب صاحبُ الكتابِ في "الوسيط" (¬1). والوصيَّة بالأصنام، والسلاح للذميِّ، والحربيِّ، وبالعبدِ المُسْلِم، والمَصَاحِفِ للكافر، بمثابة بَيْعها (¬2)، هذه مسائل الفَصْل وما يتعلَّق بها. وأما ضبط الموصَى به، فصاحب الكتاب -رحمه الله- اعتبر فيه ثلاث أُمور: أحدها: أن يكون مقصوداً، فَيَخْرُج عنه ما لا يُقْصَدُ (¬3)، ويلتحقُ به ما يَحْرُم اقتناؤه، والانتفاع به، والمنفعة المحرمة كالمعْدُومة. والثاني: أن تقبل النقل من شخص إلى شخص، فما لا يمكن نقلُه لا تصحُّ الوصية به، ويخرج بهذا القيد القصاصُ، وحدُّ القذف (¬4)؛ فإنهما إنِ انتقلا بالإرْث، لا يتمكن مستحقهما من نقلهما إلَى غيره، فلا جرم، لا تجوز الوصيةُ بهما؛ والسبب أن القِصَاص، وحدَّ القذف شُرِعَا للمنتقم المستشْفِي باستيفائهما, وليس الموصَى له في ذلك كالوارث. وكذلك لا تجوز الوصيَّة بالحقوق التابعة للأموال، كالخيار، وحقِّ الشُّفعة، إنْ لم تبْطُلْ بالتأخير لتأجيل الثمن. والثالث: ألاَّ يزيد على الثُّلُثِ، على ما سيأتي. ¬
ونزيد أمراً رابعاً وهو اختصاصه بالموصِي، إذا قلْنا: لا تجوزُ الوصية بمال الغير. وقوله: "ولا يُشْتَرَطُ كونُه موجوداً، أو عيناً إذ تَصحُّ بالحمل، وثمرة البستان" أراد به العمل الذي سيُوجَد، والثمرة التي ستَحْدُث، وأجاب فيهما بالأظهر، ويجوز أن يُعْلَمَ بالواو؛ لما فيهما من الخلافِ، وشرط في "الوسيط" أن يكون الموصَى به موجوداً، وذلك إمَّا أن يحمل عَلَى ما إذا اقتضى اللفظ الوجودَ عند الوصية، كما إذا قال: أوصيتُ لك بحَمْلِ فلانةٍ، ولم يصرِّحْ بالحمل المستقبل، أو يُقَال: إنه جوابٌ على أنه لا تصحُّ الوصية بالحَمْل الذي سيُوجَدُ على خلاف الجواب هاهُنَا. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ أوصى بِكَلْبٍ وَلاَ كَلْبَ لَهُ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ شِراءَهُ مُتَعَذِّرٌ، وَإِنْ كَانَ كِلاَبٌ لَهُ لاَ مَالَ لَهُ سِوَاهَا فَوَجْهُ اعْتِبَارِهِ مِنَ الثُّلثُ تَقْدِيرُ القِيمَةِ (و) لَهَا، وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ بِعَدَدِ الْرُؤُوسْ، وَقِيلَ: يُقَدَّرُ بِتَقْوِيمِ المَنْفَعَةِ، وَكِلاَ الوَجْهَيْنِ مُتَعَذِّرٌ فِيمَنْ لاَ يَمْلِكُ إِلاَّ كَلْباً وَطَبْلَ لَهْوَ وَزِقَّ خَمْرٍ وَأَوْصَى بِوَاحِدٍ مِنْهِا، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ نَفَذَ وَإِنْ قَلَّ المَالُ لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ ضِعْفِ الكَلْبِ الَّذِي لاَ قِيمَةَ لَهُ، وَقِيلَ: يُقَدَّرُ كَأَنَّهُ لاَ مَالَ لَهُ وَيُرَدُّ إلَى ثُلُثِ الْكِلاَبِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصْلِ فرعان متعلِّقان بالوصيَّة بالكلب: أحدهما: إذا قال: أعطوه كلباً من كِلابي؛ وله كلابٌ يحل الانتفاع بها من كلْبِ صيدٍ، وزرعٍ، وماشيةٍ، أُعْطِيَ واحداً منها (¬1). ولو قال: كلباً من مالي، فكذلك، وإن لم يكن الكلب مالاً؛ لأن المنتفع به من ¬
الكلابِ مما يقتني وتعتوره الأيدي كالأموال، فقد يُسْتَعَار له اسْم المال. ولو قال: أعطوه كلباً من كلابي، أو من مالي، ولَيْس له كلْبٌ يُنْتَفَعُ به، بطَلَتِ الوصيَّة، بخلاف ما إذا قال: أعطُوه عبداً من مالي، حيث يُشْتَرَى العبدُ، والكَلْب يتعذر شراؤه (¬1). ويمكن أن يُقَال: لو تبرَّع متبرِّع، وأراد تنفيذ وصيته من عنده، يجوز كما لو تبرَّع بقضاء دينه. والثاني: من لا مال له، وله كلْبٌ، فأوصى به، لم تَنْفُذِ الوصية، إلاَّ في الثلث؛ لأنه شيء منتفع به؛ فلم يكن له تفويتُ جميعه على الورثة كالأموال وإن أوصَى ببعضه، أو كان له كلابٌ، فأوصى ببعضها، ففي "أمالي" أبي الفرج الزاز وجّهٌ: أنه لا يُعْتَبَرُ خروجُ الموصَى به من الثلث؛ لأنها غير متقومة، ويكفي أن يَتْرُكَ شيئاً للورثة، وإن قلّ والمشهور اعتباره كما في الأموال، وعلى هذا؛ فإن لم يكن إلاَّ كلْبٌ واحدٌ، لم يخْفَ اعتبار الثلث منه. وإن كان له كلاب، ففي كيفيته وجوه: أحدها: وبه قال صاحب "التلخيص": أنه يُنظر إلى قيمتها بتقدير المالية فيها، كما يُقدَّر الرِّقُّ في الحُرِّ عند الحاجة، وتنفذ الوصيَّة في الثلث بالقيمة. والثاني: أنَّه يُنْظَرُ إلى عدد الرؤوس وتنفذ الوصيةُ من ثلاثة (¬2) في واحد، وكلام الناقلين يشعر بترجيح هذا الوجّه، ومنهم من لا يَذْكُر غيره. والثالث: أنَّه تُقوَّم منافعها؛ لأنه لا مالية للدوابِّ، ويؤخذ الثلث من قيمة المنافع، ومن لم يملك إلاَّ كلباً، وطَبْلَ لَهْو، وزقَّ خَمْرٍ محترمة، فأوصَى بواحد منها، وأردْنا اعتبار الثلث، لم يجز الوجه الثاني، ولا الثالث (¬3)؛ لأنه لا تناسب بين الرؤوس، ولا بين المنافع؛ فتعيَّن اعتبار القيمة. فإذا إذا لم يكن للموصِي بالكلْب مالٌ، أما إذا كان له ¬
مال، وكلاب، فأوصَى بجميعها، أو بعضها، ففيه وجهانِ مذكُوران في الكتاب. ووجه ثالث: أظهرهما: نفوذُ الوصية، وإن كثرت وقلَّ المال؛ لأنَّ المعتبر أن يبقَى للورثة ضعْفُ الموصَى به، والمالُ، وإن قلَّ خيرٌ من ضِعْف الكلب الذي لا قيمة له، ويُحْكَى هذا عن أبي علي بن أبي هريرةَ والطَّبَرِيِّ والشيخ. والثاني: وبه قال الإِصطخريُّ: أن الكلاب ليست من جنس الأموال، فيقدَّر كأنه لا مال له، وتَنْفُذُ الوصيَّةُ في ثلث الكلاب، على ما مر وهذا كما أن الوصية بالمال، والصورة هذه، تُعْتَبَرُ من ثلث المال، وتقدر كأنه لا كلاب له. والثالث: أنَّه تُقوَّم الكلاب، أو منافِعُها على اختلاف الوجهَيْن السابقَيْن، ويُضَمُّ إلى ماله من المال، وتَنْفُذُ الوصيةُ في ثلث الكُلّ لمن له أعيان، ومنافع أوصَى له بها، فإن ثلثه يُعْتَبَرُ من الأعيان والمنافع جميعاً. ولو أوصَى بثلث ماله لرجل، وبالكلاب لآخَرَ؛ فعلَى قول الإصطخريِّ يُعَتَبَرُ ثلث الكلاب وحْدها، وأَما على الوجه الأوَّل، فَعن القاضي أبي الطيب: أنه تنفُذُ الوصيَّة بجميع الكلاب؛ لأن ثلثي المال الذي يبقْى للورثة خيْرٌ من ضعف الكلاب، واستبعده ابن الصباغ؛ لأنَّ ما يأخذه الورثة من الثلثَيْنِ هو حصَّتُهم بحسب ما نفَذَتِ الوصية فيه، وهو الثلث، فلا يجوز أن يُحْسَبَ عليه مرَّة أخرى [كما] (¬1) في الوصية بالكلاب، فعلَى هذا يلتقي (¬2) الوجهان، وقياسُ الوجه الثالث، أن تُضَمَّ قيمة الكلاب، أو منافِعِهَا إلى المال، ويَدْخُلُ المالُ في حساب الوصيَّة بالكلاب، [وإن لم تدخل الكلابُ في حساب الوصيَّة بالمال. وقوله في الكتاب] (¬3) ولا مال له سواها، وكذا "فإن كان له مال سواها" فيه تساهل؛ لأنها ليست بمال؛ حتى يُستثنى، والحمل فيه على مثل ما ذكرنا في قول المُوصِي بكَلْبٍ من مالي. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَإذَا أوْصَى بِطَبْلِ لَهْوٍ فَسَدَتْ إِلاَّ إِذَا قَبِلَ الإِصْلاحَ لِحَرْبِ مَعَ بَقَاءِ اسْم الطَّبْلِ، وَإِنْ كَانَ رُضَاضُهُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ عُودٍ فَيَكُونُ هُوَ المَقْصُودَ فَيُنَزَّلُ عَلَيْهِ (و) فَكَأَنَّهُ أَوْصَى بِرُضَاضِهِ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: اسم الطبل يقع على طَبْلِ الحرب، الذي يُضْرَبُ للتهويل، وعلَى طبل الحجيج والقوافل، الذي يضرب لإعلام النزول، والارتحال، وعلى طبل العطَّارِين، وهو سَفَط (¬1) لهم، وعلى طبل اللَّهو، وقد فُسِّر بالكوبة التي يضرب بها المخنَّثُون، وسطُها ضيِّقٌ، وطرفاها واسعان، وهي من الملاهي، ولعل التمثيل بها أولَى من التفسير. فإنْ أطلق الوصيَّةَ بالطبل، فقد ذكره في الباب الثاني، وإن عيَّنَ ما سِوَى طبل اللهو، صحَّ؛ وإن عين طبل اللهو، نُظِرَ؛ إن صَلُحَ للحرب أو للحجيج، أو منفعة مباحة، إما على الهيئة التي هو عليها, أو بعد التغيير الذي يَبْقَى معه اسم الطبل، فالوصية صحيحةٌ أيضاً، وإلاَّ، فهي غير صحيحة، ولا نَظَر إلى المنافع المتوقعة بعد زوال اسم الطبل؛ لأنه إنما أوصى بالطبل، هذا ما أورده عامة الأصحَابِ في المسألة وذكر الإمام، وصاحب الكتاب؛ أنه إذا لم يصلُحُ لغرض مباحٍ مع بقاء اسم الطَّبْل، وكان لا يَنتَفعُ إلا برضَاضِهِ لم تصحَّ الوصية؛ لأنَّه لا يقصد منه الرضاضُ، إلاَّ إذا كان من شيْءٍ نفيس كذهب، أو عُودٍ، فتنزل الوصيةُ عليه، وكأنه أوصَى برضاضه، إذا كسر، والوصيَّة قابلة للتعليق. واعلم أن في بيع الملاهِي التي يُعَدُّ رضاضها مالاً ثلاثةَ أوجُهٍ، بيناها في "كتاب البيع". ثالثُها: الفرق بين أن تكون متَّخَذَةُ من جوهر نفيس، أو من غيره، فإن اكتفينا بمالية الرُّضَاض لصحَّةِ البيع في الحال، فكذلك في الوصيَّة. إذ هي أولَى بالصحة، وإلاَّ فكذلك في الوصيَّة، [فإنَّ] (¬2) ما ذكره عامة الأصحاب [مع ما ذكراه وجهان في المسألة وكما أطلق عامة الأصحاب] (¬3) المنع في اِلبيع فكذلك منعوا الوصية، والإمام، وصاحب الكتاب اختارا صحة البَيْع، إذا كانت مُتَّخَذةً من جواهِرَ نفيسةٍ، وبمثله أجابا في الوصيَّة. وليعلم لذلك قولُه: "فينزل عليه" والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وُيُشْتَرطُ أَلاَّ يَكُونَ المُوصَى بهِ زَائِداً عَلَى ثُلُثِ الْمَالِ المَوْجُودِ عِنْدَ المَوْتِ لِقَوْلهِ -صلى الله عليه وسلم- لِسَعْدِ بنِ أَبىِ وَقَّاصِ "والثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، وَكُلُّ تَبَرُّعٍ فِي مَرَضِ المَوْتِ فَهُوَ مَحْسُوبٌ مِنَ الثُّلُثِ وَإِنْ كَانَ مُنَجَّزاً، وَكَذَا إِذَا وَهَبَ في الصِّحَّةِ ثمَّ أَقْبَضَ فِي المَرَضِ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد سبق أن الموصَى به لا ينبغي أن يزيدَ عَلَى ثلث المال؛ لحديث سَعْدٍ -رضي الله عنه- بل الأحسن أن ينقص من الثلث؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- "والثُّلُثُ كَثِيرٌ (¬1) وعن عليٌّ -كرم الله وجهه- أنه قال: "لأنْ أُوصِيَ بالخُمُسِ أحَبُّ إِلَيّ من أن أُوصيَ بِالرُّبُعِ، وَلَأنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالثُّلُثِ (¬2) فمن أوصى بالثلث لم يترك وقيل إن كان ورثته أغنياء استوفى الثلث (¬3) وإلا نقص، وبأي يوم يُعْتَبَرُ المال؟ فيه وجهان: أحدهما: بيوم الوصية، كما لو نذر التصدق بثلثِ ماله، ينظر إلى يوم النذر. وأصحُّهما: وهو المذكور في الكتاب أن الاعتبار بيَوْم الموت؛ لأنَّ الوصيةِ تمليكٌ بعد الموت، وحينئذ يلزم، فعلَى هذا؛ لو زاد ماله بعد الوصيةُ تعلَّقت الوصيةُ به [وكذا لو هلك ثم كسب مالاً تعلقت به ولو أوصى بعشرة ولا مال له ثم استفاد مالاً تعلقت الوصية به] (¬4) وعلَى الأول كلُّ ذلك بخلافه. ومنْهم مَنْ جعل الاعتبارَ في القَدْر بيوم المَوْت جزماً، وخصَّص الخلاف بما إذا لم يملك شيئاً أصلاً، ثم ملكه (¬5). ثم الثلثُ الذي تُنَفَّذُ فيه الوصيةُ هو الثلثُ الفاضل عن الدُّيون، والديونُ مقدَّمةٌ على الوصايا؛ لما رُوِيَ عن عليٍّ -كرم الله وجهه- أنه قضَى بالدَّيْنِ قَبْلَ التَّرِكَةِ (¬6)، وأيْضاً فالدُّيُون مقدَّمة على حق الورثة، فأولَى أن تقدم على حقِّ الموصَى له؛ لأنه أضعف. فلو كان عليه دَيْنٌ مستغرِقٌ، لم تنفذ الوصيةُ في شيء، نعم، يُحْكَمُ بانعقادِهَا في الأصْل حتَّى ينفذها, لو تبرَّع متبرِّعٌ بقضاء الدَّين، أو أبرأ (¬7) المستحِقَّ. ¬
وقوله في الكتاب "ويُشْتَرَطُ ألاَّ يكون الموصَى به زائداً علىَ ثُلُث المال" أي يشترط هذا في لزومِ الوَصيَّة، وأما أصل الصحَّة فيبنى على أن إجازة الورثة ابتداءُ وعطية منهم، أو تنفيذٌ، وقَد مرَّ. وكما أن التبرُّعات المعلَّقةَ بالمَوْت، وهي الوصَايَا، معتبرةٌ من الثلث، سواء أوصَى به في الصحَّة، أو في المَرَض؛ فكذلك التبرُّعات المُنَجَّزَة في مرض الموت، تُعْتَبَرُ من الثلث، وفي قوله -صلى الله عليه وسلم- "إِنَّ اللهَ أعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ في آخِرِ أَعْمَارِكُمْ (¬1) ما يشعر به، وإذا وهب في الصحَّة، ثمَّ أقبض في المَرض، كان كما لو وهب في المرض؛ لأن تمام الهبة بالقبض، وحديث أبي بكر وعائشة -رضي الله عنهما- فيه مشهورٌ (¬2). إذا عُرِفَ ذلك، فهذه [القاعدة] (¬3) يحتاج فيها إلى معرفة ثلاثةِ فُصُول: أن المرض المَخُوف، ماذا؟ وأن التبرُّعاتِ، والتصرُّفاتِ المحْسُوبَة من الثلث، ما هي؟ وأنها كيف تُحْسَبُ منه، إذا تكرَّرت وتعدَّدت؟ وصاحبُ الكتاب أوْرَدَ هذه الفصُولَ في معرض الأسْئلة والأجْوِبَةِ، [والله أعلم]. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (فَإنْ قِيلَ): وَمَا المَرَضُ المُخَوِفُ؟ (قُلْنَا): كُلُّ ما يَسْتَعِدُّ (ح) الإنْسَان بِسَبَبِهِ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ كَالقُولَنْجِ، وَذَاتِ الجَنْبِ، وَالرِّعَافِ الدَّائِمِ، وَالإِسْهَالِ المُتَواِترِ مَعَ قِيَامِ الدَّمِ، وَالسُّلِّ في انْتِهَائِهِ (و)، وَالفَالَجِ في ابْتِدَائِهِ، وَالحُمَّى المُطْبِقَةِ، أَمَّا ابْتِدَاءُ السُّلِّ وَآخِرُ الفَالَجِ وَالجَرَبُ وَوَجَعُ الضِّرْسِ وَحُمَّى يَوْمٍ أَوْ يَوْمَينِ فَلَيْسَ بِمُخَوفٍ، وَمَهْمَا أَشْكَلَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حُكِمَ فِيهِ بِقَوْلِ مُسْلِمَيْنِ طَبِيبَيْنِ عَدْلَيْنِ حُرَّيْنِ، وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ مَخُوفاً حَجَرْنَا عَلَيْهِ في التَّبَرُّعَاتِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ، وَإِنْ سَلِمَ تَبَيَنَّا الصِّحَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَخُوفاً لَمْ نَحْجُرْ، فإِنْ مَاتَ مَوْتاً قِيلَ إِنَّهُ مِنْ ذَلِكَ المَرَضِ وَكُنَّا لاَ نَظُنُّهُ مَخُوفاً تَبَيَّنَ البُطْلاَنُ، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى الفَجْأَةِ فلاَ، وَمَهْمَا الْتَحَمَتِ الفِرْقَتَانِ في القِتَالِ، أَوْ تُمَوَّجَ البَحْرُ، أَوْ وَقَعَ فِي أَسْرِ كُفَّارِ عَادَتُهُمُ القَتْلُ، أَوْ قُدِّمَ لِلقَتْلِ في الزِّنَا، أَوْ ظَهَرَ الطَّاعُونُ فِي البَلَدِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِبَدَنِهِ فَفِي هَذِهِ الأَحْوَالِ وَالْتِحَاقِهَا بِالمَرَضِ المَخُوفِ قَوْلاَنِ (و)، وَإِنْ قُدِّمَ لِلْقِصَاصِ فَالنَّصُّ أَنَّهُ قَبْلَ الجَرْحِ غَيْرُ مُخَوِفٍ، وَقِيلَ: هُوَ كَالأَسِيرِ، وَالحَامِلُ قَبْلَ أَنْ يَضْرِبَهَا الطَّلْقُ لَيْسَ بِمَخُوفٍ، فَإذَا ضَرَبَهَا فَهُوَ مَخُوفٌ، وَقِيلَ: إِنَّ السَّلاَمَةَ مُنْهُ أَغْلَبُ فَلَيسَ بِمَخُوفٍ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: مَقْصُودُ الفَصَلِ بَيَانُ المَرَضِ (¬1) المَخَوْفِ، والأَحْوَالِ التي هِيَ في معناه، وبيان الطريق إلَى معرفته عنْد الإشكال، وبيان ما يحكم به للمخوف، وغير المخوف، فهذه ثلاثة أمور: أمَّا الأوَّل: فما بالإنسان من مرض وعلَّة. إمَّا أن ينتهيَ إلَى حالةٍ يُقْطَعُ فِيها بمَوْتِهِ منه عاجلاً؛ وذلك بأن يشْخَصَ بَصَرَهُ عند النَّزْع، وتبلغ الروحُ الحنجرة، أو يُقْطَعَ حلقُومُه، ومريئه، أو يُشَقَّ بطنُهُ وتَخْرُجَ حشوته. قال الشيخ أبو حامد: أو يغرق في الماء، ويغْمُرَه، وهو لا يحسنُ السباحة، فلا اعتبار بكلامه في الوصيَّة وغيرها، حتى لا يصحَّ إسلام الكافر وتَوْبَة الفاسق، والحالةُ هذه؛ لأنه قد صار في حَيِّز الأموات، وحركَتُهُ كحركة المذبوح (¬2). وإما ألاَّ ينتهي إليها، فأما أن يُخَاف منه الموتُ عاجلاً، وهو المخُوفُ الذي يقتضي الحَجْر في التبرعات، أو لا يكون كذلك، فحكمه حكم حالة الصحة، وتكلَّم الشَّافعي -رضي الله عنه- والأصحاب -رحمهم الله- في أمراضٍ خاصَّةٍ مخوفةٍ، وغير مُخوفَةٍ. فمن الأمراض المُخوفَةِ القُولَنْجُ (¬3) وهو أن تنعقد إخلاط الطعام في بعض الأمعاء؛ ¬
فلا ينزل، ويصعد بسببه البخار إلى الدماغ؛ فيؤدي إلى الهلاك. ومنْها: ذات الجنب؛ وهي قُروحٌ تحْدُث في داخل الجنب بوجع شديد، ثم ينفتح في الجنب ويسكن الوجع، وذلك وقْت الهلاك، وكذلك وجع الخَاصِرة (¬1). ومنها الرّعَاف الدائم؛ لأنه نزف الدم، ويسقط القُوَّة، وابتداؤه ليس بمخوف. ومنها: الإِسهال، إن كان متواتراً، فهو مَخُوفٌ؛ لأنَّه ينشِّفُ رطوباتِ البَدَن، وإن كان يوماً، أو يومَيْنِ، ولم يدم، فليس بمخُوفٍ، إلاَّ إذا انضمَّ إليه أحد أمور: الأوَّل: أن ينخرق البطْنُ؛ فلا يمكنه الإمساك، ويخرج الطَّعَامُ غير مستَحِيلٍ. والثاني: أنْ يكُونَ معه زحير وهو أن يخرج بشدة ووجع؛ أو تقطيع، وهو أن يخرج كذلك، ويكون مقطعاً، وقد يُتوهَّم انفصالُ شَيْء كثير، فإذا نُظِرَ، كان قليلاً. والثالث: أن يُعْجِلَهُ، ويمنعه النَّوْم. والرابع: إذا كان معه دَمٌ، نقل المُزَنِيُّ أنَّه ليس بمَخُوف، وفي "الأمِّ": أنه كان يوماً، أو يومَيْن، ولا يأتي معه الدم، لا يكون مخوفاً، وهذا يُشْعِر بالتقييد بما إِذا لم يكن [معه] (¬2) دمٌ؛ فمن الأصحاب من قال: سها المزني وخروجُ الدم مَخُوفُ: لأنه يُسْقِط القوة، وإِلى هذا ذهب المسعوديُّ، وأَوَّلَ الأكثرون، فحَمَلُوا ما رواه المُزَنِيُّ عَلَى دم يَحْدُث من المخْرَجِ من البواسير ونحوه، وما رواه الربيع على دم الكَبِد وسائر الأعضاء الشريفة، فإذا مخوفٌ، وذلك غير مخوفٍ. ومنها: السِّلُّ (¬3): هو داء يصيبُ الرئة، ويأخذ البدن منه في النقصان والاصفرار، ¬
وقد أَطْلَقَ في "المختصر" أنه ليس بمخوف، وبهذا الإطلاق أخذ آخذون، حتى صرح أبو عبد الله الحَنَّاطِيُّ بأنه ليس بمخوف، لا في أوله، ولا في آخره، ووجَّهوه بأن السُّلَّ، وإن لم يسلم منه صاحبُه غالباً، فإنه لا يخشى منه الموت عاجلاً، فيكون بمثابة الشيخوخة والهرم. وحكَى الشيخ أبو إسحاق الشيرازيُّ [وصاحب الكتاب] (¬1) أن السُّلَّ في انتهائه مخُوفٌ، وفي ابتدائه ليس بمخوف. وكان سببه أنه أن تتطاول مدته، فابتداؤه لا يخَافُ الموْتُ منْه عاجلاً، فإذا انتهى، خِيفَ، لكنَّ هذا المعنَى يقتضى أن يكون آخر الفَالِجَ مخوفاً أيضاً، وعكس البغوي في "التهذيب"؛ فقال: ابتداؤُه مخوفٌ، فإذا استمرَّ، فليس بمخوف؛ لأنَّ الغالِبَ أنَّه إذا دام لا يقتل عاجلاً، ويبقى مدة، فهو كالهرم، وهذا كما سنذكره في الفَالَجِ، فحَصَلَتْ، فيه ثلاثة مذاهب كما تَرَى. وأشبهها بأصل المذهب: الأول. ومنها: الدِّقُّ مخوف؛ وهو داءٌ يصيبُ القَلْب، ولا تمتد معه الحياةُ غالباً. ومنها: الفالَجُ (¬2)؛ وسببه غلبةُ الرُّطُوبة، والبلغم، وابتداؤه مَخُوف؛ لأنه إذا هاج رُبَّما أطفا الحرارة الغريزية، وأهلك، فإذا استمر لم يُخَفْ منه الموتُ عاجلاً، فلا يكون مخوفاً، وفيه وجه: أنه إذا استمر مع ارتعاش، لم يكُنْ مخوفاً؛ وإلاَّ فهو مخوف. ومنها: الحمَّى الشديدةُ؛ وهي ضَرْبَانِ: مطبقة، وغير مطبقة. فالمُطْبِقَةُ: هي اللازمة التي لا تبرح، فإن كانت حمَّى يوم أو يومَيْن، لم تكن مخوفاً، وإن زادَتْ، صارت مخوفة، وفيه وجه آخر أن الحمَّى من أول حدوثها مخوفة، وهذا الخلاف فيما نقل أبو الحسن العباديُّ، وغيره ناشئ من الاختلاف في قراءة لفظ ¬
الشافعيِّ -رضي الله عنه- ومن المَخُوفِ منه -يعْني من المرض- إذا كانت الحمى بدأَتْ بصاحبها ثم إذا تَطَاوَلَ، فهو مخوف، إلاَّ الربع، فقرأ بعضهم: بدأَتْ، وقرأ بعضهم تَدْأَبُ أي: تتعبه، فمن قرأ: بدأت، قال: هي من أول حدوثها مخوفةٌ، والمشهور الأوَّل، وعلى هذا، فلو اتصلَ المَوْتَ بحمَّى يوم أو يومين، نُظرَ في عطيته، إن كان قبل أن يَعْرَقَ فهي من الثلث، وقد بَانَ أنها مخوفة، وإن كانت بعد العرق، فهي من رأس المال؛ لأن أثرها قد زال بالعرق، والموت بسبب آخر، كذلك ذكره صاحب "التهذيب" و"التتمة". والضرب الثاني: غير المطبقة، وهي أنواع: الورد: وهي التي تأتي كلَّ يوم. والغِبّ: وهي التي تَأتِي يوْماً، وتُقْلِعُ يوماً. والثِّلث: وهي التي تأتي يومَيْن، وتُقْلِع يوماً. حمَّى الأخوَيْن: وهي التي تأتي يومَيْنِ، وتقلع يومين. والرِّبع: وهي التي تأتي يوماً، وتُقْلِعُ يومين (¬1). فما سوى الرّبع والغِبِّ من هذه الأنواع مخوفٌ. والربع على تجرُّدها غير مخُوفَةٍ (¬2)؛ لأن المحموم يأخُذُ القوة في يومَيِ الإقلاع. وفي الغبِّ وجهان (¬3)، قال قائلون: هي مخوفةٌ، وبهذا أجاب في "التهذيب". وقال آخرون: لا، وبه أجاب في "الشامل" أما الحمَّى اليسيرةُ، فهي غير مخوفةٍ بحال. ومنْها: قال الشافعيُّ -رضي الله عنه-: "مَنْ سَاوَرَهُ الدَّمُ حتَّى تغير عقله أو المراد أو البلغم، كان مخوفاً". وقال أيضاً: "الطاعونُ -نعوذ بالله منه- مخوفٌ حتى يذهب". قوله: "ساوره" أي: واثبه وهاج به المراد الصفراء، فهيجان الصفراء والبلغم مخوفٌ، وكذلك هيجان الدَّم، بأن يَثُور، وينصب إلَى عُضْوٍ من يد، أو رِجْلٍ، فتحمر وتنتفخ وقد يذْهب العضْو، إن لم يتدارك أمره في الحال، وإن سلم الشخص، وقوله "حتى تغير عقله" ليس مذكوراً على سبيل الاشْتِرَاط، بل هو مخوفٌ، وإن لم يتغيَّرِ العَقْلُ نصَّ عليه في "الأم". ¬
والطَّاعُون فسَّره بعضُهُم بهذا الذي ذكَرْناه من انْصِبَابِ الدَّمِ إِلَى عضو (¬1). وقال أكثرهم: إنه هيجانُ الدَّم في جميع البدن وانتفاخه. قال في "التتمة" وهو قويبٌ من الجذام من أصابه، تآكلت أعضاؤه، وتساقط لحْمُه. ومنها: الجراحة، إن كانت على مقتل، أو نافذةٍ إلى جوف، أو في موضع كثير اللَّحْم، أولها ضَرَبانٌ شَدِيدٌ، أو حصل معها تآكلٌ، أو ورمٌ، فهي مخوفةٌ، وإلاَّ، فلا. وذكر بعض الشارِحِينَ أن الوَرَمَ وحْدَهُ لا يُوجِبُ كونه مخوفةً وإنَّمَا يوجبه الورم مع التآكُلِ. واحْتَجَّ عليه بأن الشافعيَّ -رضي الله عنه- قال في "المختصر" ولم يتآكل، وورم فهو غير مخوف، ولم يقل: ولم يرم. ومنْها: القَيْءُ، إن كان معه دم، أو بلغم، أو غيرهما من الأخلاط، فهو مخوف وإلاَّ، فغير مخوف إلاَّ أن يدوم. ومنها: البِرْسام (¬2) وهو مخوفٌ، وأما الجَرَبُ، ووجَعُ الضرس، ووجع العين، والصداع، فهي غير مخوفة (¬3) هذا هو الكلامُ في الأمراض المخوفة، وقد تَعْرِضُ أحوالٌ تشبه الأمراض في اقتضاء الخوف، وفيها صور: إحداها: إذا الْتَقَى الفريقَانِ، والْتحم القتالُ بينهما، واختلط بعْضُهم ببعض. والثانية: إذا كان في السَّفينة، واشتدَّت الرياح، وهاجَتِ الأمواج. والثالثة: إذا وقع في أسر الكفار وعادتهم قتل الأسارَى. والرابعة: قُدِّمَ؛ ليُقْتَلَ قِصاصاً، ولم يُجرح بعدُ فالحكاية عن نصِّ الشافعيِّ -رضي الله عنه- في الصور الثلاث: الأُولَى أنها تلتحقُ بالمرض المخوف، وعن نصِّه في ¬
"الإملاء" في الصورة الرابعة: المَنْع، وللأصحاب فيهما طريقان (¬1): أظهرهما: وبه قال المزني أنَّها جميعاً عَلَى قَولين بالنقل والتخريج: وأحدُهما: أنَّها غير ملتحقةٌ بالمرض المَخُوف؛ لأنه لم يُصبْ بدَنَهُ شيْءٌ. وأظهرهما: وبه قال أبو حنيفة، ومالك، والمزنيُّ -رحمهم الله- الالتحاقُ بها، لأنها أحوالٌ تستعقب الهلاك غالباً. والثاني: الجريانُ عَلَى ظاهر النصين، والفرق بين الصُّور الثلاث. والرابعة: أنَّه إذا التحم القتال لا يَرْحَمُ بعضُهم بعضاً، والبحر لا يحابِي، والكافرُ لا يَرْحَمُ المسلم لكن مستحِقّ القصاص لا تَبْعُدُ منه الرحمة، والعفْوُ بعد القُدْرة إما طمعاً في الثواب، أو في المَالِ. وعن صاحب "التقريب" أنه إنْ كَان هناك ما يغْلِبُ على الظَّنَّ أنَّه يقبض من شدَّة حقد، أو عداوةٍ شديدة، فهي مخوف، وإلاَّ، فلا، ثم موضع الخلاف فيِ صورة التحامِ القِتَالِ ما إذا كان الفريقانِ متكافِئَيْن، أو قَرِبَيْنِ من التكافؤ، وإلاَّ، فلا خوْفَ في حقِّ الغالب، بلا خلاف، ولا خلافَ أَيضاً فيما إذا لم يلتحمِ الحرب، ولم يختلط الفريقان، وإن كانا يتراميان بالنِّشاب والحراب، ولا فيما إذا كان البحر ساكناً، ولا في الأسير في يد الكفار الدين لا يقتلون الأَسَارَى كالرُّوم (¬2). الخامسة: إذا قُدِّم؛ ليقتل رجماً في الزنا أو ليُقتل في قطع الطريق فالحكم كما في صورة التحام القتالِ ونَظَائِرِها؛ لأنَّه ليس في موضع العفْوِ والرَّحْمَةِ بخلاف ما إِذا قُدم للقصاص، فعلَى طريقه فيه القولان، وعلى الثاني يقطع بكونه مَخُوفاً، ومنهم من فَرَقَ بين أن يَثْبُت الزنا بالبينة أو بالاقرار؛ لاحتمال الرجوع. ¬
السادسة: إذا وقع الطاعونُ في البلد وفشا الوباء، فهَلْ هو مخوفٌ في حقِّ من لم يُصِبْه؟ فيه وجهان مخرَّجان من الخلاف في الصورة السابقة، والأصحُّ أنَّه مخوفٌ قاله صاحب "التهذيب". السابعة: الحاملُ قبل أن يضْرِبَها الطَّلْق، ليست في حال خَوْف. وقال مالكٌ -رحمه الله-: إذا بلغت ستة أشهر؛ دَخَلت في حال الخوف، واحتج الأصحاب بأنَّها ما دامَتْ حاملاً لا تخاف الموت، وإنما تخافُة عند حدوث الطَّلْق، وإذا ضربها الطلق، ففيه قولان: أصحُّهما: أن الحال حالُ خَوْفٍ؛ لصعوبة أمر الولادة. والثاني: المنعُ، وُينْسَبُ إلَى رواية الشيخ أبي حامد؛ لأن الغالب السلامة، وإذا وضعَتَ، فالخوف باقٍ إلَى أن تنفصل المشيمة، فإذا انفصلتْ، زال الخوف، إلاَّ إذا حصل من الولادة جراحَةٌ، أو ضَرَبَانٌ شديدٌ، أو ورمٌ أو إلقاءُ المضْغَةِ، أو العَلَقَةِ. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: لا خوْفَ منهه؛ وفي "التتمة" أن إِلقاء المُضْغة كالولادة، وموت الولد في البَطْن يوجِبُ الخوف (¬1)، هذا، [هو] أحد مقاصِدِ الفَصْل، وهي كثيرة. والثاني: إذا، أشكل الحال في مرض؛ فلم يدر، أهو مخوفٌ أم لا؟ فالرجوعُ فيه إلَى أهل الخبرة [والعلم بالطِّبّ، ولا بدّ في المرجوع إليه من الإسلام والبلوغ والعدالة والحرية] (¬2)، ولا بد من العدد أيضاً وقد ذكرنا وجهاً في جواز العدول من الوضوء إلى التّيمم بقول الصبيِّ - المراهق والفاسِق، ووجهاً في أنه لا يُشْتَرَطُ فيه العددُ، وعن أبي سليمان الخطابيِّ وجْهٌ لم نَذْكُرُه في ذلك الباب، أنه يجوز العدُولُ من الوضوء إلى التيمم يقول الطبيب الكافر، كما يجوز شُرْب الدواءِ من يده، وهو لا يَدْري أنه دواء، أو داء ولا يبعُدُ أن تطرد هذه الاختلافات هاهنا، وقد قال الإمام: الذي أرى أنه يلحق بالشهادات [من كُلِّ وجه]، بل يلحق بالتَّقْويم وتعديل الأنصباء في القسمة، حتى يختلف الرأْيُ في اعتبار العدد (¬3). ¬
وإذا اختلف الوارثُ والمتبرِّع عليه في كون المَرَضِ مَخُوفًا بعدْ موْت المتبرِّع، فالقولُ قولُ المتبرع عليه؛ لأنَّ الأصْلَ السلامةُ عن المرض المخوف، وعلى الوارث البيِّنةُ، ولا تثبت دعْوَاه إِلَّا بشهادَةِ رجلَيْن، ولا يقبل قولُ رجلٍ وامرأتين؛ لأنها شهادة على غير المال، وإن كان المقصودُ المال، نعم، لو كانت العلة بامرأة على وجه لا يتطَّلعُ عليه الرجال غالباً، فتقبل شهادةُ رجُلَينِ، ورجل وامرأتَينِ، وأربع نسوة، ويُعْتَبَرُ في الشاهدين العِلْمُ بالطّبّ قاله في "التهذيب". والثالث: إذا وجدنا المرضَ مَخُوفًا، حجَرْنا عليه في التبرُّع فيما زاد على الثلث ولم ننفذه لكنَّه، لو فعل، ثم سلم وبرأ، تبيَّن [صحة] التبرُّع، وأن ذلك المرض لم يَكُنْ مخوفًا، ومن هذا القبيل [ما] إِذا الْتَحَمَ القتَالُ، وحكَمْنا بأنَّه مخَوَفٌ، ثم انقضى الحَرْب وسلم، وإِذا رأينا المرَضَ غَيْرَ مخوف، فاتصل به الموت، نُظرَ؛ إن كان بحيث لا يُحَال عليه الموتُ بحال؛ كوجع الضِّرْس ونحوه، فالتبرُّع نافذٌ، والموت محمولٌ على الفجأة وإن كان غيره كإسْهال يوم، أو يومَيْن، فتبيَّن باتصال الموت كونُهُ مَخُوفًا وكنَّا نظُنُّ أن القوة تحتمله، فَبَانَ خلافه، وكذلك حمَّى يوم، أو يومين فيما رواه صاحب الكتاب في "الوسيط" وقد حكَيْنا من قبلُ الفَرْقَ بين أن يعرق، أو لا يعرق في هذه الصورة والله أعلم. ونعود الآن إلى ما يتعلَّق بلفظ الكتاب: أما تغيير التَّرْتيب في بعض مسائل الفَصْل، فسببه أنا أَرَدْنا أن نذْكُر الأمراض المُخَوفة، والأحوال الملتحقة بها مجْمُوعَةً، ثم نأخذ في نوع آخَرَ من الكلام، وأمَّا قوله: "كُلُّ ما يستعد الإِنسان بسببه لما بعد الموت" فمعناه أنه يتهيأ للموت، ويعد أسباب التجهيز، وما ينفعه بعد الموت من توبة، ووصية، ورد مظلمة، وفي هذه اللفظة ما يُشْعِرُ بإخراج الفَالَجِ، إذا امتدَّت مدته عن الأمراض المخوفة؛ لأن المفلوج لا يستعدُّ للموت، وما بعده، ويجوز أن يُعْلَم [قوله] (¬1) بالحاء؛ لأن الأستاذ أبا منصور وغيره حَكَوْا عن أبي حنيفة وأصحابه أن المرض المخوَف ما يمنعه من أن يجيء، ويذْهَب، وما لا يمنعه من التردُّد، فهو غير مخوف، ورُوِيَ عنهم أن المخُوفَ هو الذي يجُوزُ القُعُود له في صلاة الفَرْض. ¬
فرع
وقوله "والإسهال المتواتر مع قيام الدم" إن أراد بالمتواتر ظاهِرَ مفهومه، وهو الدائم الممتدُّ، فلا حاجة إلى اعتبار قيام الدم، كما سبق، وإن أراد بالمتواتر [في] (¬1) اليوم، واليومَيْنِ، فَيُعْتَبَر؛ لكونه مخوفًا قيامُ الدم، أو شيْءٌ مما في معناه، وقوله "والسل في انتهائه" ينبغي أن يُعْلَمَ بالواو؛ لما عرفته فيه، وقوله: "ففي إلحاقها بالمرض المخوف قولان" المشهور من الخلاف، في صورة ظُهُور الطَّاعون وجْهَان، لا قولان، لكنَّ القولَيْن الحاصلَيْنِ من التصرُّف بالنقل والتخريج يَقْرُبَان من الوجْهَين، فجاز التساهل، ويجوز إعلام لفْظِ القولَيْن بالواو؛ للطريقة الجازمة، وقوله: "فالنص أنه قيل الجَرح غير مخوف" مُعْلَمٌ بالحاء والميم والزاي، وقوله في مسألة العمل وقيل: إن السلامة أغلب" قول لا وجه. فَرْعٌ: قال الإمام: لا يُشتَرَطُ في المرض المخوف أنْ يكون الموتُ منْه غالباً، بل يكفي أن يكون نادرًا بدليلِ البرسام، ولو قال أهل البَصَر: هذا المرض لا يخَافُ منه الموت، لكنه سببٌ ظاهرٌ في أن يتولَّد منه المرض المخُوفُ، فالأول مخوفٌ أيضاً، وهذا يشكل بالحامل قبل أن يأخذها الطَّلْق، وإن قالوا: يُقْضِي إلى المرض المَخُوفِ نادرًا، فالأولُ ليْسَ بمَخُوفٍ (¬2). قَالَ الْغَزَالِيُّ: (فَإن قِيل): فَمَا حَدُّ التَّبرُّعِ (قُلْنَا): هُوَ إِزَالَةُ المِلْكِ عَنْ مَالِهِ بِغَيْرِ ثَمَنِ المِثْلِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ كَالعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ وَالهِبَةِ، أَمَّا قَضَاءُ الدُّيُونِ وَالزَّكَوَاتِ (ح) وَالكَفَّارَاتِ (ح و) الوَاجِبَةِ فَمِنْ رَأْسِ المَالِ (ح م) أَوْصَى (و) بِهَا أَوْ لَمْ يُوصِ، وَاِذَا بَاعَ بِثَمَنِ المِثْلِ مِنْ وَارِثٍ (ح) أَوْ مِنْ بَعْضِ الغُرَمَاءِ نَفَذَ مِنْ رَأْسِ المَالِ، فَلَوْ كانَ بِمُحَابَاة فَقَدْرُ المُحَابَاةِ مِنَ الثُّلثِ، وَإِنْ نَكَحَ بِأَكْثَرَ من مَهْرِ المِثْلِ فَالزِّيادَةُ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِنْ نَكَحَ بِأَقَلَّ من مَهْرِ المِثْلِ فَلاَ حَرَجَ (و) فَإِنَّ ذَلِكَ امْتِنَاعٌ مِنَ الاكْتِسَابِ وَالبُضعُ لاَ يَرِثُهُ الوَارِثُ، فَإن آجِرَ دَوَابَّهُ أَوْ عَبِيدَهُ بِأَقَلَّ من أُجْرَةِ المِثْلِ فَالمُحَابَاةُ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِنْ آجَرَ نَفْسَهُ فَلاَ لِأَنَّهُ لاَ يُعَدُّ مَطمَعًا لِلوَرَثَةِ، وَفِيهِ وَجهٌ أَنَّهُ كَمَنْفَعَةِ العَبْدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفصل الثاني في بيان التبرع المحْسُوب من الثلث، وقد ضبَطَهُ في ¬
الكتاب فقال: "هو إزالةُ المِلْك عن مالي بغير ثمن [المثل] (¬1) من غير استحقاق [كالعتقُ والهبة والوقف والصدقة وغيرها] " (¬2). وفيه أربعةُ قُيُود: إزالة الملك، وكونُهَا إِزالةَ عن مالٌ وكونها بغير ثمن المثل، ومجانًا، وبغير استحقاق. وفيما يدخل فيها، وَيخْرُج منها مسائلُ: إحداها: ما يستحق عليه من ديون الآدَمِيِّينَ، وديون الله تعالَى؛ كالزكاة، وحَجَّة الإِسلام، تُوَفَّى بعد موته، وتكون من رأس المال أوصَى بها، أو لم يُوصِ وقال أبو حنيفة: إنْ أوصَى بالزكوات والكفارات، يُؤَدَّى من الثلث، وإن لم يوص بها، فقد ذكرنا عنه، وعن مالك في "كتاب الحج"؛ أنَّهَا تسقط، فيُعْلَمُ قوله في الكتاب "فمن رأس المال" بالحاء والميم، ويجوز أن يُعْلَمَ قوله "أوصى" بالواو؛ لوجهٍ سيأتِي في الباب الثانِي؛ أنه إذا أوصى بها بحُسْبَ من الثلث. وقوله في الكتاب "والكفارات الواجبة" ينبغي أن يُعْلَمَ بالواو أيضاً؛ لأن الذي يجعَلُه من رأس المال -بلا خلاف- ما يَجِبُ بأصْل الشرع أيضاً كالحجِّ، والزكاة، فأما ما يتعلَّق بالتزام العَبْد من نذر، ومباشرةٍ بسبب يقتضي الكفارة، ففيه خلافٌ مذكورٌ في الباب الثاني، ولو قضَى في مرضه ديونَ بَعْضِ الغرماء، فلا يزاحمه غيره، إن وَفَّى المالُ بجميع الديون، وإلاَّ، فكذلك على المذهب المشهور. وفيه وجْهٌ آخرُ: أن للباقين مزاحمته، وهو قول أبي حنيفة -رحمه الله-، كما لو أوصَى بتقديم بعض الغرماء، لا تنْفُذُ وصيته. الثانية: البيع بثمن المثل أو أكثر نافذٌ من رأس المال؛ سواءٌ باع من الوَارِث، أو من أجنبيٍّ غريم، أو غير غريمٍ، وقد ذكَرْنا خلافٌ أبي حنيفة في البَيْع من الوارثِ منْ قبل، وإن باع محاباة، فإن كانَتْ يسيرةً يتسامح بمثلها، فكما لو باع بثَمَنِ المثل، وإن كانَتْ أكثر من ذلك، فإن كانت مع الوارِثِ، فهي وصيةٌ للوارث، وإلاَّ، فهي معتبرةٌ من الثلث، فهذا لم تخرج من الثلث، فإن أجاز الوارث، نفذ البيعُ في الكلِّ، وإلاَّ، بطل فيما لا يَخْرُج من الثلث، وفيما يخرج طريقان، وإذا لم تبطل، ففي كيفية صحة البيع قولان، وكلُّ ذلك ذكرناه في "باب تفريق الصفقة" (¬3) من البيع، ثم المحاباة المعتبرةُ من الثلث كلُّ ما يزيدُ عَلَى ثمن المثل أم ما يَزِيدُ عَلَى ما يتغابَنُ الناس بمثله. ¬
الذي ذكره الأستاذ أبو منصور، وأبو عبد الله الحناطيُّ هو الاحتمال الثانِي، وهذا كله إذا باع بثَمَنٍ حالٍّ، فإن باع بثَمَن مؤجَّلٍ، ولم يحل الأجلُ، حتى مات، فيعتبر من الثُّلُث، سواء باع بثمن المثل، أو أقَلَّ، أو أكثر, لما فيه من تفويت اليَدِ علَى الورثة، وتفويتُ اليدِ ملحق بتفويت المالِ؛ ألا تَرَى أن الغاصِبَ يضْمَنُ بالحيلولة، كما يضمن بتفويت المال؟ فليس له تفويت اليد عليهم، كما ليس له تفويت المال، فإن لم يخرج من الثلث، ورد الوارث ما زاد، فالمشتري بالخيار بَيْن فَسْخ البيع، والإجازة في الثلث بثُلُث الثمن، فإن أجاز، فهل يزيد ما يَصحُّ فيه البيع، إذا أدَّى الثلث؟ فيه وجهانِ منقُولاَن في "التَّهذِيب": أصحهما: لا؛ لاَرتفاع العَقْد بالرَّدِّ. والثاني: نعم؛ لأنَّ ما يحصل للورثة ينبغي أَن نصحح الوصية في نصفه، فعلَى هذا يصحُّ البيع في قدرِ نصف المؤدَّى، وهو السُدُسُ بسُدُسِ الثمن، فإذا أدَّى ذلك السُّدُس، زيد بقَدر نصف النصف، هكذا إلى أن يحصل الاستيعاب. الثالثةُ: نكاحُ المريض صحيح، وعن مالك -رحمه الله- منعه لنا: أن معاذًا -رَضِيَ الله عَنْهُ- قَالَ في مَرَضِ [مَوْتِهِ] زَوِّجُوني حتَّى، لاَ أَلقَى اللهَ تَعَالَى أعْزَبَاً" (¬1)، وأيضاً، فإنه استباحةُ بُضْعٌ فيستوي فيه حالُ الصحَّة والمَرَض، كشراءِ الجوارِي، وإذا نكح، فَيُنْظَرُ، إن كان بمهر المثل، أو أقلَّ، اعْتُبِرَ من رأس المال، كما لو اشترى شيئاً بثَمَن مثله، وإن كان بأكثر من مهر المثل، فيستحقُّ مهر المثل، فالزيادة تبرُّعٌ على الوارث، وقد سبق حكْمُه؛ فإن لم تكن وارثةً كالذمية، والمكاتَبَةِ، فالزيادةُ محسوبةٌ من الثلث، إن خرَجَتْ منه، نفَذَ التبرع بها, ولو ماتت الزوجةُ قبله، فإن كانت الزيادةُ تخرج من الثلث، فيسلَّم لها؛ لأنه لا يلزم الجمع بين التبرع والميراث، وإن لم يخرج، دارت المسألةُ، ونذْكُرُها في "باب الدَّوْر" إن شاء الله تعالى. ولو نَكَحَتِ المريضةُ بأقلَّ من مهر المثل، فالنقصان تبرع على الوارث، فللورثة ردُّه وتكميل مهر المثل، فإن لم يكن وارثًا، كما إِذا كان عبداً، أو مُسْلِماً وهي ذمِّيَّةٌ، لم يكمل مهر المثل ولم يُعْتَبَرْ هذا النقْصَان من الثلث، وإنما جُعِلَ ذلك وصيَّةً في حقِّ الوارث، ولم يُجْعَلْ وصيةً في الاعتبار من الثلث؛ لأن المريض، إِنَّمَا يُمْنَعُ من تفويت ما عنْده، وهذا ليس بتفويت، وإنما هو امتناعٌ من الاكتساب. وأيضاً، فإنَّ المنع فيما يُتوهَّم بقاؤه للوارث، وانتفاعه به، والبُضْع ليس كذلك، ¬
هذا هو المشهور في المسألة، وفي "التتمة" وجهٌ أنه يُعْتَبَرُ من الثلث، وفرق بينه وبين ما إذا آجَرَه نفسه بأقلَّ من أجرة المثل، حيث لا يُعْتَبَرُ من الثلث، مع أن كلَّ واحد منهما لا يبْقَى للورثة بوجْهَيْنِ: أحدهما: أن النكاحَ من غَيْر ذكْر المهر يقتضي مَهْر المثل، فإذا قال الولي زوجتها، وذكر ما دون مهر المثل، فكأنَّه أسْقَطَ العِوَضَ بعْد وجوبه، فكان كالإبْرَاء، وأما الإجارة، فإنها لا تنعقد من غير ذكْر العِوَض. والثاني: أن المحاباة في المَهْر تُلْحِقُ نَوْع عارٍ بالورثة، فأثبت لهم ولايةَ الدَّفْع، بخلاف المحاباة في الإِجَارَةِ (¬1). الرابعة: إجارة العبيد والدوابِّ وسائِرِ الأموال بما دون أجرة المِثل معتبرةٌ من الثلث، وكذلك إعارتُهَا حتَّى لو انقضتْ مدة الإجارة، أو الإعارة في مرضه، واستردَّ العين، اعتبر قدر المحاباة في الإجارة، وجميع الأجرة في الإعارة من الثلث، ولو آجر نفسه بمُحَابَاةٍ، أو عَمَلٍ لغيره متبرِّعًا، فوَجْهَان: أحدهما: الاعتبارُ من الثلث أيضاً؛ لأن منافعه مال. وأصحُّهما: المنع؛ لأن منافعه لا تَبْقَى للورثة، وإن لم يتبرَّع، ولا تمتد إليها أطماعُهم. وقوله في الكتاب: "وهو إزالةُ الملْك عن مال نفسه" لفظ "الإزالة" ألا تكون الإعارة معتبرةٍ من الثلثِ, لمَا مَرَّ أن الاعارة لَيْسَتْ إزالة ملك وأن المستعيرَ مستبيحٌ، لكنَّا حَكيْنا أن الإعارةَ معتبرةٌ من الثلث، فإذن اللفظ محمولٌ على تفويت المال المملوك أو نحوه وقوله [في الكتاب] (¬2) بغير ثمن الَمثل أراد عوض المِثْل، لا خُصُوصَ العوض في البيع، ولفظ "الوسيط" "إزالة الملك عن مالٍ مجانًا" وهو أحسنُ. وقوله "كالعتق، والصدقة، والهبة" لفظ الصدقة ينتظم الوقف، وصدقة التمليك، وكلاهما من هذا القبيل وقوله: "إن نِكِحَتْ بأقلَّ من مهر المثل فلا حرج" مرقوم بالواو؛ لما حكينا [هـ] عن "التتمة" ثم هو غير مُجْرًى على إِطلاقه؛ بل إِذا كان الزوْجُ وارثًا، فلباقي الورثةِ التكميلُ، وهو الغالب، وقد يشكل الضبطُ المذْكُور بما إذا بَاعَ بثَمَنِ المثل نسبة فإنه يُعْتَبَرُ من الثلث مَعَ أنَّه فقد أحد [القيود] (¬3) الأربَعَةِ. فُرُوعٌ: باع بالمحاباةِ بشَرْطِ الخيار، ثم مَرِضَ في زمان الخيار، وأجاز العقد، إِنْ ¬
قلنا: إن الملك في زمان الخيار للبائع، فقدْر المحاباة من الثلث، وإلا، فلا (¬1)؛ لأنه ليس بتفويت، وإنَّما هو امتناعٌ من الاكتساب، والاستدراك، فصار كما إذا أفلس المشتري، والمبيع قائمٌ عنده، ومَرِضَ البائع فَلَمْ يفسخ، أو قدر عَلَى فسخ النكاحَ بعَيْبِ فيها، فلم يفعْل حتَّى مات، واستقر المهر، فإنه لا يُعْتَبَرْ من الثُّلُث. وكذا لو اشترَى بمحاباة، ثم مرض، ووجد بالمبيع عيبًا، ولم يرد مع الإمكان، لا يُعْتَبَرُ قدر المحاباةِ مِنَ الثلث (¬2)، ولو وجد العيب، وتعذَّر الرد بسبب، فأعرض عن الأرش، اعتُبِرَ قَدْرُ الأرش من الثلث، وقدْرُ المحاباة في الإقالة يُعْتَبَر من الثلث، كما في البيع والشراء، وخُلْعُ المريض، لا يُعْتَبَرُ من الثلث؛ لأنَّ له أن يُطَلِّقَ مجانًا، ولأن الوارث لا ينتفع ببقاء النِّكَاح، وأما خلع المريضة، فمذكور في الكتاب في "باب الخلع". قَالَ الْغَزَالِيُّ: (فَإِنْ قِيلَ): فَكَيْفَ يُحْسَبُ مِنَ الثُّلْثِ (قُلْنَا): إنْ كَانَتِ التَّبَرُّعَات مُنْجَزَةٌ علَى التَّرْتِيبِ قُدِّمَ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، وَإِنْ تَقَدَّمَ هِبَةٌ وَإِقْبَاضٌ فَهِيَ أَوْلَى مِنَ العِتْقِ بَعْدَهَا، وَإِنْ أَعْتَقَ عَبِيدًا وَضَاقَ المَالُ أُقْرعَ (ح) بَيْنَهُمْ، وَإِنْ وَهَبَ عَبِيدًا نَفَذَ فِي بَعْضِ كُلِّ عَبْدٍ لَأَنَّ التَّشْقِيصَ في العِتْقِ مَحْذُورٌ لِوُرُودِ الخَبَرِ فِيهِ، وَإِنْ أَضَافَ الْكُلَّ إلي المَوْتِ فَفِي تَقْدِيمِ العِتْقِ عَلَى غَيْرِهِ قَوْلاَنِ، وَلاَ يُقَدَّمُ (و) الْعِتْقُ عَلَى الوَصِيَّةِ بِالعِتْقِ، وَهَلْ تُقَدَّمُ الكِتَابَة عَلَى الهَبَاتِ؟ خِلاَفٌ (و)، وَالكتَابَةُ مَحْسُوبَةَ (ح) مِنَ الثُّلُثِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفصلُ الثالثُ في كيفيَّة الاحْتِسَاب من الثُّلُثُ، إذا وُجِدَ تبرُّعان فَصَاعِدًا، وضاق عنهما الثُلُث، فهي إما منجَّزةٌ، أو معلَّقة بالموت، أو هي من النوعَيْنِ جميعاً: ¬
القسم الأول: التبرعات المنجزة، كالإعْتَاق، والإِبْرَاء، والوقْف، والصَّدَقة، والهِبَة مع الإقباض، والمُحَابَاة في العُقُود، وهيَ إِمَّا أن تترتَّب، أو توجَدَ دفعةً واحدةً، وإن ترتبت؛ فيقدم الأولُ فالأول إِلى استغراق الثلث، وإِذا تَمَّ الثلثِ، نِيط أمر الزائِدِ بإجارة الوَرَثَةِ عَلَى ما مرَّ. وإنما كان كذلك؛ وإن الأولي لازِمٌ لا يفتقر إلى رضا الورثة، فكان أقوى، ولا فرق بين أن يكُونَ المتقدِّمَ والمتأخِّر من جنس واحد، أو من جنسَيْنِ، ولا إذا كان من جِنسَيْن بَيْن أن يَتقدَّم المحاباةُ على العِتْق، أو يتقدَّم العتقُ على المحاباة. وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: إذا تقدَّمتِ المحاباةُ على العتق، يُسَوَّى بينهما، ويُقَسَّمُ الثلث عليهما. لنا: أنها عطيةٌ منجزةٌ لازمةٌ، فلا يساويها ما بعدها، كما لو تقدَّم العتق، أو ترتَّبت محاباةُ، وإن وجدتْ دفعةً واحدةً، فإما أن يتحد الجنس، أو يختلف: إن اتَّحَدَ كما إذا قال لعبيد [له]: أعتَقْتُكُم، أو وهب عبيداً من جماعة، أو أبرأ جماعةً عن ديونه علَيْهِمْ، فلا يتقدَّم البعض على البعض، ولكن في غير العتق يقسَّط الثلث على الكُلِّ؛ باعتبار القيمة على ما يقتضيه الحال من التساوي أو التفاضل. وفي العتق يُقْرَعُ بين العبيد، ولا تفرق الحريةُ وعند أبي حنيفة -رحمه الله- لا يُقْرَعُ بينهم، بل يُعْتَقُ من كلِّ واحد منهم ثلثه ويستسعى في الباقي ومَعْتَمَدُنَا في الفَرْق بَيْن العِتْق وغيره: ما رُوِيَ عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنِ -رضي الله عنه- أنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ عِنْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ فَدَعَاهُم رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَزَّاهُم أَثْلاثًا، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةَ (¬1)، وَفَرَقُوا من جهة المَعْنَى؛ بأن المقصود من الإعتاق تخليص الشخْص من الرقِّ، وتكميل حاله، وهذا الغرض لا يحْصُل مع التشقيص لبقاء أحكام الرِّقِّ. والمقصودُ من الهبة، وما في معناها التمليكُ والتشقيص لا ينافيه، فإِن اختلف الجنسُ؛ بأنْ وكل بكل تبرُّع وكيلًا، فتصرَّفوا دفعةٌ واحدةٌ، فإن لم يكُنْ فيها عتقٌ، فيقسَّط الثلثُ على الكلِّ باعتبار القيمة، وإن كان فيقسط أو يقدَّم العتْق؟ فيه قولان، كما سنذكر في التبرعات المعلَّقة بالمَوْتِ. القسم الثاني: التبرُّعات المعلَّقة بالموت، كالوصايا، وتعليق العتْق؛ فلا يقدَّم عتق ¬
عبْدٍ على عتق غيره، ولا في غير العِتْقِ تبرُّعٌ على غيره، وإن تقدَّم بعض الوصايا، وتأخَّر بعضها، بل في العتق يُقْرَعُ، وفي غيره يقسَّط الثلث على الكلِّ؛ باعتبار القيمة، وفي العِتْق في هذا القِسْم وجه أنه لا يُقْرَعُ، بل يُقسَّط الثلث عليهم، وإنما القرعة من خاصِّيَّة العتْق المنجز؛ لوُرُودِ الخبر، وهذا الوجْهُ مذكورٌ في الكتاب في "باب العتق" والمذهب الأول، ثم ذلك عند إطلاق الوصية، أما إذا قال: أعتقوا سالمًا بعد مَوْتي، ثم غانِمًا، أَوِ ادْفَعُوا إلى زيد مائةً، ثم إلَى عمرو مائةً، فيقدَّم ما قدمه لا محالة، وإذا اجتمع في هذا القسم العتْقُ وغيره، فقولان: أحدهما: يقدَّم العتقُ؛ لِمَا رُوِيَ عن ابن عُمَرَ -رضي الله عنْهُما- أنه قال: يُبْدَأُ في الوَصَايَا بالعْتْقِ (¬1)، وعن ابن المسيِّب -رحمه الله- أنه قال: مَضَتِ السُّنَّةُ أنْ يُبدَأَ بِالعَتَاقَة في الوَصِيَّةِ، ولأن العتق أقوى؛ لتعَلُّق حق الله تعالى، وحق الآدمي به ولأن له سرايةٌ وقوةٌ ليست لغيره. وأصحهما: التسويةُ: لما رُوِيَ عن ابن عُمَرَ (¬2) -رضي الله عنْهما- أنه: "حكم الرجل أن يوصي بالعتق، وغيره بالتحاص (¬3)، ولأن وقْتَ لزومِ الجميع واحدٌ، وهذا في وصايا التمليك مع الوصية بالعتق، أما إذا أوصَى للفقراء بشَيْءٍ، وبعتق عبد، قال في "التهذيب": هما سواءٌ؛ لأنَّ كُلاًّ منهما قربةٌ. والذي أورد [هـ]، الشيخ أبو عليٍّ طرد القولَيْن؛ اعتماداً على أَن سبب تقديم العتق ما له من القوة والسراية. وإذا قلْنَا بالتسوية، فما يخص العبيد المعْتَقِينَ، إذا ضاق عنهم يُقْرَعُ بينهم فيه. وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: إن كان في الوصايا الأمرُ بزكاةٍ واجبةٍ، أو حجٍّ تُقدَّم تلك الوصية عَلَى سائر الوصايا، وإلاَّ، فيقدَّم ما ابتدأ به لفظاً. القسم الثالث: إذا صدَرَتْ منه تبرعاتٌ منجَّزةٌ وأخرَى معلَّقة بالموت، تقدَّمت المنجَّزةَ؛ لأنَّها تفيدُ المِلْك في الحال، ولأنها لازمةٌ، لا يتمكن المريضُ من الرجُوع عنها. وعن أبي حنيفة: أنه إذا أعتق، وأَوصَى بالعتق، فهما سواء. وقوله في الكتاب: "ولا يقدَّم العتق على الوصية بالعتق" المراد منْه ما إذا علق عتق عبْد عند الموت، وأوصى بإعتاق آخر فلا يتقدم أحدهما على الآخر؛ لأن وقت استحقاقهما واحد، وقد اشتركا في قوة العتق. ¬
وفي "الشامل" وغيره وجه آخر؛ أن المدبر أولى بالعتق؛ لأنه يسبق الآخر من حيث إن الآخر يحتاج إلى إنشاء عتقه بعد الموت. وقوله قبل ذلك: "وإن تقدمت هبة وإقباض"، بين بذكر "الإقباض" أن تقديم الهبة وحدها، غير كاف؛ لأن تمام الهبة بالقبض. حتى لو وهب، ثم أعتق أو حابى في بيع، ثم أقبض الموهوب تقدم العتق، أو المحاباة؛ لتأخر القبض عنهما. ولا تفتقر المحاباة الواقعة في بيعٍ ونحْوِه إلَى قَبْضٍ؛ لأنَّها في ضِمْن مُعَاوَضَةٍ. وقوله: "لأن التشقيص في العتق محذورٌ أشار به إلى أن التشْقِيص لا يفيد التخلُّص من الرق وأحكامه، والخَبَر المُجْمَلُ ذكْرُهُ هو حَدِيثُ عِمْرَانَ -رَضِيَ الله عنه-. وفي تقديم الكتابة عَلى الهبات وسَائِرِ الوصايا طريقَانِ: أشبههما: أنه على القولَيْن في تقدم العتقْ عليها. والثاني: القطْعُ بالتسوية؛ لأنَّها ليس لها من القوة والسراية ما للعِتْق. وأما قوله: "والكتابةُ محسوبةٌ من الثلث" فهذه المسألة أولاً -ليست من شرط الفصل، بل موضعُها الفَصْل السابق، ثم فقهها أنه إذا كاتب في مرضه عبداً أو أوصَى بكتابته، تعْتَبَرُ قيمته من الثلث، خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- إذا كاتبه على قَدْرِ القيمة أو أكثر. واحتجَّ الأصحاب بأنَّ المكاتبَ تقابل ملكه بملْكِهِ، وهو كسبه فيَكُونُ تفويتًا على الورثة لا معاوضةً، وبتقدير أن يكونَ مُعَاوَضَةً، فالعوضُ مُؤَخَّر، فأشبه البيع نسيئةً، ولو كاتَبَ في الصحَّة، واستوفَى النجوم في المرض، لم تعتبر قيمته من الثُّلُث؛ لأنه بالكتابة كالخَارج عن ملكه، ولو أعتقه في المرض، أو أبرأه عن النُّجُوم، اعتبر منَ الثُّلُثِ أقَلْ الأمْرَيْنِ، قيمته أو النُّجُوم لأنه، إن كانت القيمةُ أقلَّ، فربما كان يُعْجِزُ نفسه، فيسقط النجوم، وإن كانت النجومَ أقلَّ، فربما كان يؤديها، فلا يحْصُلُ للوارث غيرها. والاستيلادُ في المرض لا يُعْتَبَرْ من الثلث، كما يستهلكه من الأطعمة اللَّذِيذَة، والثياب النفيسة، ويُقْبَلُ إقرارُ المريض بالاستيلاد؛ لقدرته على الإنشاء، ولا يُعْتَبَرُ قيمتها من الثلث، وعند أبي حنيفة -رحمه الله- تُعتبر قيمتها من الثلث في صورة الإقرار، ولو قال لعَبْده: أنتَ حرٌّ قبل موتي بيومٍ، أو شهرٍ، ثم مرض، ومات؛ لم يعتبرْ من الثلث، وإن قَالَ: قبل مَوْتِي بشَهْرٍ، فإن نقص مرَضَهُ عن شَهْر، فكذلك الجواب، وإلاَّ، فهو كما لو عَلَّق عتق عبْدٍ في الصحة، ووجدت الصفة في المَرَض، وفيه قولان. فرُوعٌ: قال في مرضه: سالِمٌ حرٌّ، وغانِمٌ حُرٌّ، وفائقٌ حُرٌّ، فهذا من صُوَر ترتيب التبرعات المنَّجزة، ولو قال: سالِمٌ، وغانمٌ، وفائقٌ، أحرارٌ، فهو من صور وقوعها دفعةً
واحداً، ولو علَّق عتقهم بالموت، أُقرعَ بينهم، سواء قال: [إذا مت] (¬1) فسالم حر وغانمٌ حرٌّ، وفائقٌ حرٌّ، أو قال: فَهُم أحرارٌ ولو قال: إذا مِتُّ، فسالمٌ حُرٌّ، وإن مِتُّ من مرضي هذا، فغانم حرٌّ، فإن مات من ذلك المرض، ولم يف الثُّلُثُ بهما، أُقْرعَ بينهما، وإن برأ ومات بعده، بَطَل التدبيرُ المقيد، وعَتَقَ سالم [والله أعلم]. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدَانِ فَقَالَ لِغانِم: إنْ أَعْتَقْتُكَ فَسَالِمٌ حُرٌّ ثُمَّ أَعْتَقَ غانِمَاً وَالثُّلُثُ لاَ يَفِي إِلاَّ بِأحَدِهِمَا تَعَيَّنَ غانِمٌ لِلْعِتْقِ وَلاَ قُرْعَةَ فإنَّهَا إِنْ خَرَجَتْ عَلَى سَالِمٍ فَكَيْفَ يُعْتَقُ وَلَمْ تُوجَدْ فِي حَقِّهِ الصِّفَةُ الَّتي عُلِّقَ عَلَيْهَا عِتْقُهُ وَغَانِمٌ كَانَ السَّبَبَ وَسَالِمٌ كَانَ المُسَبِّبَ فَكَيْفَ يُقَدَّمُ المُسَبَّبُ عَلَى السَّبَبِ، وَإِذَا وَصَّى بِعَبْدٍ هُوَ ثُلُثُ مَالِهِ وَثُلْثَا وماله غائِبٌ لَمْ يتسَلَّطِ المُوصَى لَهُ عَلَيْهِ، وَفِي تَسْلِيطِهِ عَلَى الثُّلُثِ خِلاَفٌ (و)، وَوَجهُ المَنْعِ مَعَ أنَّهُ مُسْتَحِقٌّ بكُلِّ حَالٍ أَنَّ حَقَّ الوَارِثِ أَن يَتَسَلَّطَ عَلَى مِثْلَى مَا يَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ المُوصَى لَهُ وَهُوَ غَيرُ مُمْكَّنِ هَاهُنَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصل مسألتان: إحداهما: له عبدانِ؛ سالم، وغانم، فقال: إنْ أعتقتُ غانمًا، فسالمٌ حرٌّ، ثم أعتق غانمًا، في مرض موته، فإن خرجا من الثلث، عَتَقًا، وإن لم يخرُجْ إلاَّ أحدهما، ففيه وجه ضعيف، أنه يُقْرَعُ بينهما، كما له قال: أعتقْتُكُمَا، والمذْهَبُ أنه لا يُقْرَعُ، بل يتعيَّن للعتق غانم؛ لأنا لو أقرعنا، فربما تخرج القرعة عَلَى سالم، فيلزم إرقاق غانم، وإذا رَقَّ غانم، لم يحصل شرط عتق سالم، وبعضهم يقول في التوجيه: إن عِتْقَ سَالِمٍ مرتَّبٌ على عِتْقِ غانِمٍ، والأسبق أولَى بالنفوذ، لكن سيأتي -إن شاء الله تعالى- في "أبواب الطلاق" أن مثل هذا الترتيب لا يقْتَضِي سبقًا زمانيًّا وإنما تثبت الأولويةُ لما هو أسبق إذا سبق بالزمان، فالتوجيه الأول أوضَحُ. ولو قال: إن أعتقتُ غانمًا، فسالمٌ حرٌّ في حال إعتاقي غانمًا، ثم أعتق غانمًا في مرَضَهِ، فالجواب كذلك، ولا فرْقَ، وعلى هذا؛ لو قال: إنْ أعتقتُ غانمًا، فسالمٌ وفائقٌ حُرَّانِ، ثم أعتق غانمًا، والثلثُ لا يَفي إلاَّ بأحدهم، تعيَّن للعتق غانم، ولا قرعةَ، وإن فَضَل من الثلث شيءٌ أُقْرعَ بيْن الآخرَيْنِ، فمن خرجَتْ له قرعةُ الحرَّيةِ، عَتَقَ كلُّه، إن خرج كلُّه، وبعضُه، إن لم يخرج إلاَّ بعضُهُ، وإن كان يخرج أحد الآخرَيْن من الثلث بعْض [الثالث] (¬2) فالذي خرجَتِ القرعةُ له، يُعْتَقُ كلُّه، وُيعْتَقُ من الآخَر بعضه. ولو قال لعبده: إن تزوَّجْتُ، فأنْتَ حُرٌّ، ثم تزوج في مرض الموت، فقد ذكرنا ¬
أن مَهْر المثل محسوبٌ من رأس المال، وأن الزيادة من الثلث، وإن اقتضى الحالُ تنفيذ الزيادة على مهر المثل، نُظِرَ؛ إِن خرجَتِ الزيادةُ، وقيمة العبد من الثلث، نفذ، وإلاَّ، فيقدَّم المهر، كذا ذكره توجيهًا بأن المَهْر أسبقُ، فإنه يجب بالنكاحِ، ثم يترتَّب عليه العتْقُ، لكن قضية قولنا: إن المرتّب، والمرتَّب عليه يقعان معاً، ولا يتلاحَقَانِ من حيثُ الزَّمانُ إلاَّ يتقدَّم أحدهما على الآخر، بل يُوَزَّع الثلث على الزيادة، وعلى قيمة العبد. وقد صرَّحوا بأنه لو قال: إن تزوَّجْتُ، فأنتَ حُرٌّ في حال تزويجي، أنه يُوزَّعُ الثلث كذلك؛ لأنه لا يترتب فكذلك عند الإطلاق، إذا لم يكن ترتيب زمانيٌّ، ثم الفرْقُ بين التعليق، بالتزويج، وبيْن مسألة العبْدَيْنِ، حيث لا يوزع هناك، كما لا يُقْرَعُ أنَّ العِتْق هاهنا معلق بالنكاح، والتوزيع لا يَرْفَع النكاح، ولا يقدح فيه، وهناك عِتْقُ سالمٍ معلَّقٌ بعتق غانم كاملاً، وإذا وزَّعنا، لا يُكمَلُ عتق غانم، فلا يمكن إعتاق شيء من سَالِمٍ. ولو قال لجاريته الحامل: إن أعتقتُ نصْفَ حَملِكِ، فأنتِ حرَّةٌ، ثم أعتق نصْفَ حملها في مرض موته، فقضيَّته عِتْق ذلك النصف سرايته إِلى النصف الآخر، وعتق الأم بسبب التعليق، فإن خرجا من الثلث، عَتَقَا جميعاً، وإن لم يخرُج من الثلث مع النصف المعتق إلا الأم، أو النصف الآخر [كما إذا كان جميع ماله ثلاثمائة، والأم منها خمسون والولد مائة فيقرع بينْ الأم والنصف الآخر] (¬1) فإن خرجت على [النصف] الآخر عَتَقَ جميع الولد فإن خرَجَت على الأم، لم تُعْتَقْ كلُّها؛ لأن الحمل في حُكم جزء منها يتبع عتقَهُ عُتْقُهَا فتُوزَّع قيمة الثلث، وهي خمسون، على الأم، وعلى النصف الباقي بالسوية؛ فيعتق من الأم نصفها، ومن النصف الباقي نصفُهُ، فيكون ثلاثةُ أرباعه حرًا، ولو كانت الصورةُ كما ذكرنا إلاَّ أن قيمة الأم أيضاً مائةً، وخرجَتِ القرعةُ على الأم، وُزِّعَ الخمسون علَيْها، وعلَى النصف الباقي أثلاثًا؛ فيعتقُ منْها ثلثُهَا، وهو ثلث الخمسين، ومن النصف الباقي ثُلُثه، وهو ثُلُث الخَمْسِينَ، وسدُسُ الجُمْلَةِ، فيكون الحرية من الأم الثُّلثَ، ومن الولد الثُّلُثَينِ. المسألة الثانية: إذا أوصَى بعبد، أو ثَوْبٍ يخرج من ثلث ماله، وباقي ماله غائب، لم يُدْفَع كلُّه إلى الموصَى له، ولم يسلط على التصرُّف فيه، ما لم يحضر من المال الغائب ما يخرج الموصى به من ثلثه؛ لأن ما يحصل للموصَى له ينبغي أن يحْصُل للوارث مثلاه وربما يتلف المالُ الغائِبُ وهل يتسلط الموصَى له على التصرُّف في ثلثه؟ فيه وجهان: أَحدهما: نعم؛ لأن استحقاقه لهذا القَدْر مستيقنٌ. ¬
وأصحهما: المنع؛ لأن تسليط الموصَى له يتوقَّف على تسليط الورثة على مِثْلَى ما تسلَّط عليه، ولا يمكن تسليطهم على الثُّلُثَيْنِ؛ لأنه ربما يسلم المال الغائب، ويخلص الموصَى به للموصَى له، فكيف يتصرَّفون فيه؟ فلو أنهم تصرَّفوا في ثُلُثَيْ الحاضر، قال أبو الفرج السرخسيُّ في "الأمالي": إن بَانَ هلاكُ المالِ الغائِب، فتبيَّن نفوذ تصرُّفهم؛ ولك أن تقول: وَجَبَ أن يخْرُجَ ذلك على وقْف العقود (¬1). قال: وإن سلم، وعاد إليهم، فتبين بطلان التصرُّف. أم لا؟ ويغرَّم للموصى له الثلثين؛ فيه وجهان؛ الثاني منْهما ضعيف. واعلم أنَّ هَذَا الوَجْهَ الثَّانِيَ قَرِيبٌ من قَوْلِ مَالِكِ -رحمه الله-: إِنَّ الْوَرَثَةَ يتمكَّنُونَ مِنْ خَلْعِ الوَصِيَّةِ في العَينِ المُوصَى بِهَا، وجعلها شائعة في ثلث المال. ولو أعتق عبداً، هو ثُلُث ماله، أو دَبَّرَهُ، وباقِي مالِهِ غائبٌ، ففي نفوذ العتق والتدبير في ثلثه الخلافُ المذكورُ في الوصيَّة، هكذا ذكره في "الوسيط" وغيره، وسيأتي في التدبير، وقد يستبعد التردُّد في حصُول العِتْق في الثلث، فإنَّ المال الغائب إمَّا باقٍ، فجميعُهُ حُرٌّ أَو هالكٌ، فالثلثُ حُرٌّ، بل الوجه الجزْمُ بالوصيَّة أيضاً بإثبات الملك في الثلث، ورد الخلاف إلى أنه، هل ينفذ تصرُّفه فيه، أو يمْنَعُ من التصرُّف إلى أن يتسلط الوارثُ على مثليه، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الرَّابعُ: الصِّيغَةُ وَلاَ بُدَّ مِنَ الإِيجَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوْصَيْتُ أَوْ أَعْطُوهُ أَوْ جَعَلْتُهُ لَهُ، فَإنْ قَالَ: هُوَ لَهُ فَهُوَ إِقْرَارٌ يُؤَاخَذُ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَقُولَ: هُوَ مِنْ مَالي لَهُ، وَلَوْ قَالَ: عَيَّنْتُهُ لَهُ فَهُوَ كِنَايَةٌ فَيَنْفذُ مَعَ النِّيَّةِ، وَالقُبُولُ شَرْطٌ (و)، وَلاَ أَثَرَ لَهُ في حَيَاةِ المُوصِي، وَلاَ يُشْتَرَط الفَوْرُ بَعْدَ المَوْتِ، وَإنْ مَاتَ المُوصَى لَه انْتَقَلَ حَقُّ القَبُولِ وَالمِلْكِ إلى الوَارِثِ، وَإِنْ أَوْصَى لِفُقَرَاءِ وَمَنْ لاَ يَتَعَيَّنُ لاَ يُشْتَرَطُ القُبُولُ، وَالمُعَيَّنُ إِنْ رَدَّ بَعْدَ القُبُولِ وَقَبَلَ القَبْضِ فَفِي نُفُوذِهِ خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الكلاَمُ في "الصيغة" في طَرَف الإيجاب، ثم في القُبُول: أما الإيجابُ، فلا بد منه، وذلك بأن يقول: أوصيتُ له بكذا، أو أعطُوه، أو ادْفَعُوا إليه بعْد موتي كذا، أو هُوَ له، أو جعلْتُهُ له بعد موتي، أو ملَّكته، أو وهبته منه بعد موتي، أما إذا اقتَصَرَ عَلَى قوله: وهبت منْه، ونوى الوصيَّةَ، فأظهر الوجْهَيْن: أنه لا يكون وصيةً؛ لأنه أمكن تنفيذه في موضوعه الصريح، وهو التمليك النَّاجِزُ. ¬
ولو قال: هُوَ لَهُ؛ فهذا إِقرارٌ يُؤاخَذُ به، ولا يجعل كنايةً عن الوصية، إلاَّ أن يقول: هو له من مالي، أو يقولَ: عبدي هذا لفلانِ، فيصح كنايةً عن الوصية؛ لأنه لا يَصْلُح (¬1) إقرارًا. ولو قال: عينته له، فهذا كناية؛ لأنه لا يحتمل التعيين للتمليك بالوصية، والتعيين للإِعارة، والإفهام في الحال، فلا يَنْصَرِفُ إلى الوصية إلاَّ بالتعيين. وقوله في الكتاب "تنفذ مع النية" فيه وفي كلام الإمام وغيره إشعارٌ بأن الوصيَّة تنْعَقِدُ بالكنايات جزمًا، وأنه لا يجيءُ فيه الخلافُ المذكورُ في البيع ونَحْوه، ووجِّهَ ذلك بأنا ذكَرْنا في أول "البَيْع" أن ما يَقْبَلُ مقصودُهُ التعليقَ بالإغرار كالكتابة، والخُلْع -ينعقد بالكناية مع النية، والوصيَّة في نفسها تَقبَلُ التعليقَ بالإغرار (¬2) فأولَى أن تنعقد، ولأنها إذا قبلت التعليق بالإغرار، فَلأَن تَقْبَلَ الكنايات أولَى، وبأن الوصية لا تفتقر إلى القبول في الحال، فيشبه ما يستقلُّ به الإِنسان من التصرُّفات. ولو كتب: إِنِّي أوصيتُ لفلانْ بكذا، قال في "التتمة": لا ينعقد، إذا كان الشخْصُ ناطقًا، كما لو قيل له: أوصيتَ لفلان بكذا، فأشار أن نَعَمُ (¬3). ولو وُجِدَ له كتابُ وصيةٍ بعد موته، ولم يَقُمْ بينة عَلَى مضمونه، أو كان قد أشهد جماعةً أن الكتاب خَطِّي، وما فيه وصيَّتي، ولم يُطْلِعْهم على ما فيه، فجواب عامة الأصحاب أنه لا تَنْفُذُ الوصيةُ بذلك، ولا يُعْمَلُ بما فيه حتى يشهد به الشهودُ مفصلًا، وذكر أن نَصْرَ بن أحْمَدَ من أُمَرَاء خُرَاسَانَ أراد أن يُوصِيَ، ولا يُطْلِعَ عَلَى وصيته أحداً، فشاور العلماء، فلم يُفتُوا له بذلك، إلاَّ محمَّد بن نَصْرِ المَرْوَزِيَّ، فإنه قال فيما روى الإمامُ، والمتولِّي: يَكفِي الإشهادُ عليه مبهماً، وفيما روى أبو الحسن العَبَّادِيُّ أنه يكفي ¬
الكتاب من غير الإِشهاد، واحتج بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عنْدَهُ" أشعر ذلك باعتبار الكتابة. واعلم أن انعقاد الوصيَّة بالكتابة ليس ببَعيدٍ، وإن استبعَدَهُ؛ لأن الكتابة [بمثابة] كنايات الألفاظ، وقد سبق في "البيع" ذُكْرُ الخلاف في انعقاد البيع ونَحْوه بالكناية، وذكرنا الآن أن الوصيَّة أشدُّ قبولًا للكنايات، فإذا كتب وقال: نويتُ الوصيَّة لفلانٍ أو اعترف الورثةُ به بعد موته، وَجَبَ أنْ يصحَّ. ولو اعتقلَ لِسَانُهُ، صحَّت وصيته بالاشارَةِ والكتابةِ، وقد رُوِيَ أن أمامة بِنْتَ أبي العَاص أُصْمِتَتْ، فقيل لها: لفلانٍ كذا, ولفلانٍ كذا، فأشارتْ أنْ نَعَمْ، فجُعِلَ ذلك وصيةً (¬1). وأما القبول، فإن كانت الوصيةُ لغَيْر مُعَيَّنٍ؛ كالفقراء والمساكين، لزمت بالموت، ولم يُشْتَرطْ فيها القبول، وإن كانت الوصية لمُعَيَّنٍ، فلا بُدَّ من القبول، كما في الهبة، ويجيء فيه خلافٌ من قولٍ، سنذكره في أن الموصَى به يُمْلَكُ بالموت، فإن صحة الوصية على هذا القول مستغنيةٌ عن القُبُول. ولا يصحُّ قبول الوصية، ولا ردُّها في حياة الموصي وله الردُّ، وإن قَبِلَ في الحياة وبالعكس، وذلك لأنه لا حَقَّ له قبل الموت؛ إذْ هي إيجابُ مِلْكٍ بعد الموت، فأشبه إسقاط الشفعة قبل البيع، وعن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه إذا قبل في الحياة لم يكن له الرد بعد الموت [وإذا رد في الحياة، كان له القُبُول بعد الموت، ولا يشترط القبول في الفور بعد الموت وإنما] (¬2). يُشتَرَطُ ذلك في العقود الناجزة، التي يُعتَبَرُ فيها ارتباطُ القَبُول بالإيجاب، ثم للردِّ بعد الموت أَحوال. أحدها: أن يقع قبل القبول، فترتد الوصية، ويستقر الملْكُ للورثة، إن كان الموصى (¬3) به عَيْنَ مالٍ أو منفعته، فالعين للورثة، ولو أوصَى بالعين لواحدٍ، وبالمنفعة لآخر، فردَّ الموصَى له المنافع، فهي للورثة، أم للموصَى له الآخَرِ؟ فيه وجهان؛ أشبههما: الأول، ولو أوصَى بخدمة عبد لإنسانٍ سنَةً، وقال: هو حرٌّ بعد سنة، فرد الموصَى له، لم يعتق قبل السنة، خلافًا لمالك -رحمه الله-. الثانية: أن يقع بعد القَبُول وقَبْض الموصَى له، فلا تصحُّ، فان رضي الورثةُ، فهو ابتداءُ تمليكٍ إِيَّاهُم. ¬
والثالثة: أن يقع بعد القَبُول وقبل القبض، ففيه وجهان: أحدهما: صحةُ الرَّدِّ؛ لأنه تمليكٌ من آدميٍّ بغير عوض، فيصح ردَّه قبل القبض، كالوقْف ويُحْكَى هذا عن ظاهر نصه في "الأم". وأظهرهما: المنع لأن الملك حاصلٌ بعد القبول، فلا يرتفع بالردِّ، كما في البيع، وكما بعد القبض، فهذا قال الموصَى له: رددتُّ الوصية لفلان، يعني أحد الورثة، فعن "الأم" أنه إن قال: أردت لرضاه، كان ردًا على جميع الورثة، وإن قال: أردتُّ تخصيصه بالردِّ عليه، فهو هبة له خاصَّة. قال الأئمة -رحمهم الله-: وهذا مفرَّع على تصحيح الردِّ بعد القبول، وإلاَّ فما، لا يملكه لا يمكنه أن يملكه غيره، ثم لم يُعتَبَر لُفظ الهبة والتمليكِ، وقال القاضي أبو الطيب -رحمه الله-: لا بدَّ منه، وهو القياسُ، ولو مات، ولم يبيِّن ما أراده، جُعِلَ ردّاً عَلَى جميع (¬1) الورثة، وإذا لم يقبل المرضى له، ولم يُرِدْ، فللوارث مطالبته بأحَدِ الأمرين، فإن امتنع، حُكِمَ عليه بالرد. ولو مات الموصَى له قبل موت الموصِي، بَطَلَتِ الوصية، ولو مات بعد موته، قام وارثه مَقَامَهُ في القَبُول والرد. وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: تلزم الوصية بموته، ويجُوزُ أن يُعْلَم؛ لذلك قوله: "انتقل حقُّ القبول" بالحاء؛ واحتج الأصحاب بأن وارث الموصَى له فَرْعٌ له، فإذا لم يَملِكِ الأصل بغَيْر قبول، فالفرع أولَى، ولفظ "الملك" في قوله: "انتقل حق القبول والملك" يريد به حقَّ التمليك، ويجوز أن يُحْمَلَ على نفس الملك، تفريعًا عَلَى أن الموصَى به يملك المَوْتِ. ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالأَصَحُّ (ح م) مِنَ الأَقْوَالِ أَن المِلْكَ قَبْلَ القُبُولِ مَوْقُوفٌ، فَإنْ قَبِلَ تَبَيَّنَّا المِلْكَ مِنْ وَقْتِ المَوْتِ، وَإِنْ رَدَّ تَبَيَّنَّا الانْتِقَالَ إلَى الوَرَثَةِ بِالمَوْتِ، وَيُمَلَّكُ بالمَوْتِ في قَوْلٍ ثَانٍ (ح)، وَبِالقَبُولِ في قَوْلٍ ثَالِثٍ، وَنَتَوَقَّفُ فِي أَحْكَامِ المِلْكِ كَمَا تَوَقَّفْنَا فِي المِلْكِ كَالزِّيَاةِ الحَادِثَةِ وَالنَّفَقَةِ وَزَكَاةِ الفِطْرِ وَالمَغَارِمِ وَانْفِسَاخِ النِّكَاحِ إنْ كَانَ المُوصَى بِهِ زَوْجَةَ الوَارِثِ أَوِ المُوصَى لَهُ وَالعِتْقِ إنْ كَانَ قَرِيبَ المُوصَى لَهُ أَوِ الوَارِثِ، وَلَوْ كَانَ المُوصَى بِهِ ابْنَ المُوصَى لَهُ وَمَاتَ قَبْلَ القَبُولِ وَقَبِلَ أَخُوهُ الوَارِثُ عَتَقَ الابْنُ بِطَرِيقِ التَّبْيينِ مِنْ وَقْتِ (و) مَوْتِ المُوصِي، ثُمَّ لاَ يَرِثُ إِذْ فِيَ تَوْرِيثِهِ حِجَبُ الأَخِ وَإبْطَالُ قُبُولهِ فَفِي تَوْرِيِهِ إبْطَالَ تَوْرِيثِهِ، وَكَذَا إنْ كَانَ القَابِلُ ابْنَ المَيِّتِ إِذْ يَرْتَدُّ حَقَّهُ إلَى القُبُولِ في النِّصْفِ وَمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ لاَ يَرِث أَيضًا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مَتَى يملك الموصَى له الموصَى به؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: عن رواية ابن عبد الحَكَمِ المِصْرِيِّ، وأبي ثَوْرٍ: أنه يُمْلَكُ بالموت؛ لأنَّ استحقاقه يتعلَّق بالموت، فأشبه المِيرَاثَ. والثاني: وبه قال أبو حنيفة، ويروى عن مالك، وأحمد -رحمهم الله- أنه يُملَكُ بالقبول؛ لأنه تمليكٌ بعقد، فيتوقَّف الملك فيه على القَبُول، كما في البيع ونحوه، وعلى هذا فالملكُ قبل القبول، للوارث أو يبقى للميت؟ فيه وجهان: أصحُّهما: الأول، والثالثُ، وبه قال المزنيُّ، وهو الأصحُّ، أنا نتوقَّف في الحال، فإن قَبِلَ، تبيَّنَّا أنه مِلْكٌ من يوم الموت، وإلاَّ، تبيَّنَّا أنه كان ملكَاً للوارث من يَومَئِذٍ؛ لأنه لو ملك بالمَوْتِ، لما ارْتَدَّ بالرد، كالميراث، وبتقدير أن يرتدَّ، وجب أن يكون انتقالُه إِلَيْهِمْ بحسب الهبة (¬1) منْهم، لا بحَسَب الإرث من الموصِي، ولو ملك بالقَبُول، فإما أن يكون قبل القُبُول للميت، واستمرار الملك مع المَوْت بعيد أو للوارثِ، وحينئذ، فالموصَى له يتلقَّى الملك عن الوارث، لا عن الموصِي، وهو بعيدٌ أيضاً. وأيضاً، فالإرث يتأخر عن الوصايا، كما قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] وإذا بطَلَ الجزْمُ بالأقسام، وجب التوقُّف ولو أوصَى بعتق عبْدٍ معيَّنِ بعد موته، فالملك في العبد إلَى أن يُعْتَقَ للوارث، ولا يُجْعَلُ على الخلاف، وفَرَقُوا بأن الوصيَّة تمليك للموصَى له، فيبعُدُ الحكم بالملك لغَيْر مَنْ أوجب له الملك، ¬
والعتق ليس بتمليك. ثم يتفرَّع على الأصل المذْكُور مسائل: أحدها: كسبُ العبدِ، وثمرةُ الشَّجَرة، وسائرُ زوائدِ الموصَى به، إن حصَلَتْ قبل موت الموصي، فهي له، والوصيَّةِ لا تتناولُهَا، وإن حصَلَتْ بعده، وبعد القبول، فهي للموصَى له، وإن حصَلَت بعد موته، وقَبْلَ القبول، فإن قلنا: إنَّ الملك يحْصُل بالموت، فهي للموصَى له، قَبِلَ الوصيةَ أوردَّها، وفيما إذا ردَّها وجْهٌ: أن الزوائد ترتدُّ أيضاً؛ لأنه تبين أن سبب الملك لم يستقرّ. وإن قلنا: يحصُلْ بالقبول، فلا تكون الزوائدُ للموصَى له، قَبِلَ الوصيَّةَ أو رَدَّهَا، لأنها حدثَتْ قبل حصول ملكه، وفيما إذا قبلها وجهٌ: أنها تكون للموصَى له؛ لأن حقَّ التمليك من وقْت المَوْت، فهي حادثةٌ على محلِّ حقه، وإن قلْنا: بالتوقُّف، فهي موقوفةٌ أيضاً، إن قَبِلَ الوصية، فهي له، وإلاَّ، فلا. وحيث قلْنا: إنَّ الزوائدَ ترتدُّ فإلى مَنْ ترتدُّ؟ فيه وجهان: أحدهما: إلى المُوصِي، حتى تكونَ من جملةِ تَرِكَاتِهِ، يقضي منها ديونه، وتنفذ وصاياه، كالأصل. وأصحُّهما: أنها تكون للوارث؛ لحدوثها بعد زوال ملْك الموصِي؛ وعلى هذا الخلافِ ولَدُ الجارية، ونتاج [البهيمة] (¬1) الموصَى بهما، ويتعلَّق بها تفاصيلُ وأحمامٌ أخَر نذكرها موضَّحَة على الأثر -إن شاء الله تعالَى-. ومنها: فطرة العبد الموصَى به، إذا وقع وقْتُ وجوبها بين المَوْت والقُبُول، على من تجب يخرج، على هذا الخلاف. وقد أوردناه في "زكاة الفطرة". وقوله في الكتاب "والمغارم" أراد به النفقة والمؤَنَ المُحْتَاج إلَيْها بين الموت والقُبُول، وحكمها حكم الفِطْرة؛ وذَكَرَ في "الوسيط"؛ أنها على الموصَى له، إن قَبِلَ عَلى كلِّ قول، وعلى الوارث، إن ردَّ على كلِّ قول، ولا يعودُ فيها الوجهُ المذكور في الزيادات، وإن كان يُحْتَملُ أن يقال: الغُرْمُ في مقابلةِ الغنم؛ لكن إدخال شيء في الملك قهراً هو أهونُ من التزام مؤنة قهراً، هكذا قاله، لكن فيما قدَّمناه في "زكاة الفطر" طَرْد ذلك الوجه. والله أعلم. وإذا توفف المُوصَى له في القَبُول أو الرد، أُلْزِمَ النفقة، فإن أراد الخلاصَ ردَّه. ومنْها: إذا كان قد زَوَّج أمته من حرٍّ، وأوصَى له بها، فإن ردَّ الوصية، استمرَّ النكاح، إلاَّ إذا قلنا: إن الموصَى له يَمْلِكُ بالموت، فينفسخ النكاح من يوم الموت، ¬
وإن كان المِلْكُ ضعيفاً؛ لأن الملك والنكاح لا يجتمعان، وإن قَبِلَ انفسخ، ويكون الانفساخ من يوم القَبُول، إن قلْنَا: إن الملك يَحْصُلُ بالقبولُ من يوم المَوْت، على سبيل التبيين، إن قلنا بالتوقُّف. وإن كان قد زوَّجَهَا من وارثه، ثم أوصَى بها لغيره، فإن قَبِلَ الموصَى له الوصيَّةَ، استمر النكاح، إلاَّ إذا قلنا: إن الملك يحصُل بالقبول؛ وإنه قبل القبول للوارث، فيه وجهان: أظهرهما: الانفساخُ، ووجه الثاني أن الملْكَ ضعيفٌ يتعلَّق باختيار الغير، بخلاف جانب الموصَى له، على أن صاحب "التتمة" أشار إلَى وجهٍ هناك أيضاً [وإن در، انفسخ النكاح، وفي استناد الفسخ إلى حالة الموت لضعف الملك] (¬1)، هذا الخلاف، هذا إذا خرجَتِ الأَمَةُ من الثُّلث، فإن لم تخْرُج، ولم يُجِزِ الورثة، انفسخ النكاح؛ لدخول شيء مما يَزيدُ على الثلث في ملْك الزوج، وإن أجازوا، وقلْنا: يحصل الملك بالموت، أو قلْنا بالتوقُّف، فهل ينفسخ؛ إن قلْنا: إن إجازتهم تنفيذٌ لما فعله الوصيُّ، وإن قلنا: ابتداءُ عطيةٍ، فنعم؛ لكونها في مِلْكِهِمْ إلى أن أعطوه. ومنها: أوصَى بجاريةٍ، فولَدَتْ؛ فإما أن تلد قبل موت المَوصَى له، أو بعده؛ فهذه ثلاثة أقسام: القسم الأول: إذا ولدت قبل موت الموصِي، فَيُنْظَرُ؛ إنْ تَقَضَّي أقلُّ مدة الحَمْل من يوم الوصيَّة، وهي ستة أشهر، فالولدُ غَيْرُ متناوَلٍ بالوصية؛ لأن حدوثه بعد الوصيَّة مُحْتَمَلٌ، والأصلُ عدَمُ العمل. [يومئذ،] فلا يُجْعَلُ الموصَى به بالشَّكِّ، والاحتمال، وإن لم ينقص، عُلِمَ وجوده يوم الوصية، فيبنى على الخلاف في أنَّ الحمل، هل يُعْرَفُ، وُيعْطَى حكمًا قبل الانفصال؟ إن قلنا: لا، فإنما النظَرُ إلَى حالة الانفصال؛ فالولد غير متناوَلٍ أيضاً، بل هو زيادةٌ حدثت في ملك الموصِي، فيكون لورثته، وإن قلنا: نعم، فهو كما لو أوصَى بالجارية، وولدها بعد الانْفِصَالِ، فيُنْظَرُ؛ أيقيلهما الموصَى له، أم يردُّهما، أم يقبل أحدهما دون الآخر؟ وفي هذه الحالة مزيد بحث، موضُعُه أول الباب الثاني عند قوله: "وعند الإطلاق هل يتناول الحَمْل باسم الجارية؟ فيه خلاف". وإذا كان الموصَى له زوْجَ الجارية، وقَبِلَ الوصية في الوَلَد، عَتِقَ عليه بالملك، وله ولاؤُهُ ولا تصير الجاريةُ أمَّ ولدٍ له؛ لأنها علقت منه برقيق. ¬
القسم الثاني: أن تَلِدَ منه بعد مَوْت الموصِي، وقبل قبول المُوصَى له، فإما أن تلد بعد انقضاء أقل من مدة العمل من يوم موت الموصِي، أو قبله وحينئذ إما أن تلد بعد انقضاء هذه المدة من يوم الوصة، أو قبلها فهذه أحوال ثلاث. إحداها: إذا ولَدَتْ بعد انقضاء أقلِّ مدة الحمل مِنْ يوم الموت، فالولَدُ غير موصى به؛ لاحتمال حدوثه بعْدَ الموت، إن كان الموصَى له زوْجَ الجارية، بُنَى حكم الولد عَلَى أَن الوصيَّة، بم تُمْلَكُ؟ إن قلْنا بالقبول، وإنَّها قبل القبول لورثة الموصِي، فالولدُ لَهُمْ، لا إرْثًا عن الميت، بل لحدوثه من [مللهم] (¬1)، وان قلْنا تمليك بالموت، أو توقفنا، فَقِبِلَ، فيكون العلوق في ملك الموصَى له، فينعقد الولدُ حرًّا، لا ولاء علَيْه؛ وتكون، الجاريةُ أمَّ ولدٍ له. الثانية: إذا ولدت قبل أقلَّ مدة الحمل من يوم المَوْت، وبعد انقضاء هذه المدة من يوم الوصية، فهذا لا يجوز أن يكون حدوثُهُ بعد الموت، ويجوز أن يكون بعد الوصيَّة، فيجعل كأنه حَدَثَ بعْدها، فإن قلنا: الحملُ يُعْرَفُ، فالولدُ زيادةٌ حدثَتْ في ملك الموصِي، فهو له ولورثته بعده، وإنْ قلنا: لا يُعْرَفُ، ولا يعطَى حكمًا، فينبني على أن الوصيَّة، بم يُمْلَكُ؟ إن قلنا بالقبول، وإنها للورثة قبل القَبُول، فالولد حادث في ملكهم، وإن قلنا بالموت أو توقَّفْنا، وكان الموصَى له زوج الجارية، فَقَبِلَ، عَتَقَ الولدُ عليه بالمِلْك، وله الولاءُ، ولا تصير الجاريةُ أمَّ ولدٍ له؛ لأن العلُوقُ حَصَلَ وهو مملوك. الثالثة: إذا ولدَتْ قبل انقضاء مدة الحمل من يومَي الموت والوصيَّة جميعاً، فإن قلْنا: الحمل يُعْرَفُ، فكأنه أوصَى بالجارية والحملِ جميعًا، وإلاَّ، فعلَى الخلاف في أنَّ الوصيَّة، بم تُمْلَكُ؟ على ما ذكرنا في الحالة الثانية. القسم الثالث: أن تَلِدَ بعد الموت والقبول، فله أحوال: إحداها: أن تَلِدَ بعد انقضاء أقلِّ مدة الحمل من وقت القبول، فالولدُ للموصَى له، وإن كان الموصَى له زوج الجارية، انعَقَدَ الوَلَدُ حُرًّا، وصارت الجاريةُ أمَّ ولدٍ له. والثانيَةُ: أن تَلِدَ قبل انقضاء هذه المدَّة من وقت القبول، وبعد انقضائها من وقْت المَوْت، فإن قلْنا: إنَّ الوصيَّة تُمْلَكُ بالموت، أو توقَّفنا فقَبِلَ فالحكم كما في الحالة الأولَى. وإن قلنا: تُملَك بالقبول، وإنها قبل القبول للورثة، فإن قلنا: إنَّ الحمل يُعْرَفُ، فهو زيادةٌ في ملك الوَرَثَةِ، وإلاَّ، فللموصَى له، وإذا كان الموصَى له زوْجَ ¬
الجاريةَ، عَتَقَ الولدُ عليه، ويثبت له الولاءُ، ولا تصير الجاريةُ أمَّ ولد. والثالثة: أن تَلِدَ قبل انقضاء هذه المدة مِنْ وقْت القبول والمَوْتِ جميعاً، أو بعد انقضائِهَا من يوم الوصية، فإن قلْنا: إن الحَمْل يُعْرَفُ، فالولدُ غير متناوَلٍ بالوصيَّة، فإن قلنا: لا، واعتبرنا حالَةَ الانْفِصَالِ [فالانفصالُ] (¬1) حصَلَ في ملك الموصَى له، فيكون الوَلَدُ له، ويُعْتَقُ عليه، إن كان الموصَى له زوْجَها, ولا استيلاد. والرابعةُ: أن تلد قبل انقضائها من يوم الوصية أيضاً، فإن قلنا: إنَّ الحمل يُعْرَفُ، فهو داخلٌ في الوصية، وإلاَّ، فهو حاصلٌ في ملك الموصَى له، فيكون له، فإن كان زوْجَها، عَتَقَ عليه بالملك ولا استيلاد. وتناج سائر الحيواناتُ يُقَاسُ بما ذكرناه، وُيرْجَعُ في مدَّة حمْلِها إلَى أهل الخبرة، فإنها تختلِفُ. ثم تذنب المسألة بتذنيبات. أحدها: قال الشيخ أبو الفرج الزاز: حيث حكَمْنا بِمَصِيرِ الجارية أمَّ ولد، فيعتبر حقيقةُ الإصابة من وقْت الملْك، أم يكْفِي إمكان الإصابة؟ وفيه وجهان. والثاني هو الملائِمُ لإيرادِ المُعْظَم. الثاني: قال: حيثُ بَقَّينَا الولَدَ عَلَى ملك الوارث، فالمعتبر من الثلث قيمةُ الجارية وحْدَها، وإذا لم تسبقه، فالمعتبر من الثلث ما كان موجودًا يَوْمَ موت الموصِي، فإن كانت حائلًا، اعتبرنا قيمتها وحْدَها، وإن كانت حاملاً، اعتبر قيمتها مع قيمة الحَمْل؛ وحينئذ فالنَّظَر إلى قيمتها حاملاً يوم موت الموصِي، عند عامة الأصحاب. قال ابن سُرَيْجٍ: تُعْتَبَرُ قيمتها يَوْمئذ، لو كانت حائلًا، وتُعتَبر قيمة العمل في أول حَالِ الانفصال، وإذا قوَّمناهما، فخرجا من الثلث، فذاك، وإلاَّ، فلا يُقْرَعُ، ولكن ننفذ الوصية في القَدْر الذي يحتمله الثُّلُثُ منهما عَلَى نسبة واحدةٍ. الثالث: روى المزنيُّ في "المختصر" [أنه] (¬2) لو أوصَى بأمةِ لزَوْجها، فلم يَعْلَمْ حتى وضَعَتْ له بعْدَ موت سيِّدها أولادًا، فإن قَبِلَ، عُتُقُوا، ولم تكن أمهم أمَّ ولدٍ، حتى تلد منْه بعْد قبوله لستة أشهر، وفيه إشكال من وجهين: أحدُهُما: أنه لم اعتبر عدمَ العلم بالوصيَّة، وهل يَفْتَرِقُ الحالُ بينَ أنْ يعلمَ أو لا يعلمَ؟ ¬
والثَّاني: أنه حكمَ بحريَّةِ الأولاَدِ، وبأنَّها لا تصيرُ أمَّ ولدٍ له: فَإِنْ فرع على أنَّ المِلكَ يحصلُ بالموتِ، أو على قول التوقُّفِ، فَلِمَ اعتبرَ مُضِيَّ الأشهرِ في مصير الجاريةِ أمَّ ولدٍ له؟ وإنْ فرَّع على الحصولِ بالقُبولِ، فَلِمَ يحَكَمَ بحريَّةِ الأولادِ في الحالِ؟ أمَّا الأوَّل: فعنِ الخضري ما يقْتضي الفرقَ بينَ العلمِ وعدمِه، واحتجَّ عليه بأنَّ الشَّافِعِيَّ -رضي الله عنه- حَكَمَ فيما إذا وَطِئ أَمَةَ الغَيْرِ على ظنَّ أنَّها زوجتُه الحرَّة، بحريَّةِ الولدِ، ولو ظنَّ أنَّها زوجتُه الرقيقةُ، يكونُ الولدُ رَقِيقًا. فاختلفَ الحُكْمُ باعتقادِهِ. والظَّاهِرُ: أنَّه لا فرقَ في ثُبوتِ أمِّيَّةِ الولدِ في أميَّةِ، بينَ أن يكونَ عالماً، أو لا يكونَ، حتى لو وَطِئَ أمتَه على ظَنِّ أنَّها لغيره، أو أنَّها حرةٌ وأحبلَها، ثبت أميَّة الولد، [فإِذَنْ] قولُه: "ولم يعلم" كأنَّهُ خَرَجَ مَخرَجَ الغالِب؛ فإنَّ الغالبَ أن الوصيَّة لا تبقى المدةَ الطويلةَ معلَّقةً غيرَ مردودةٍ، ولا مقبولةٍ، إلاَّ إذا لم يعلم المُوصَى له بالوصيَّة؛ لغَيْبَةٍ، أو نَحْوِهَا. وأمَّا الثَّاني: فقد قيل: إنَّه تخليط من المُزَنِيِّ -رحمه الله- فقوله: "عتقوا" تفريع على أَن المِلْكَ يحصُلُ بالموتِ، وقولُه: "لا تصيرُ أَمّ ولدٍ له" تفريعٌ عَلَى أنَّه يحصُلُ بالقُبُول. وقال الأكثرون: بل هو تفربعٌ علَى قولِ التوقُّفِ، وَيتَبَيَّنُ حُصولُ المِلكِ بالموتِ، وأرادَ بالقُبولِ في قولِه: "بعد قَبُولِهِ" الموتَ سمَّاهُ قَبُولًا؛ لأنَّه وقتُ القُبُول. ومنْهُمْ من قال: لفظُ الشَّافعيِّ -رضِيَ اللهُ عنه- "المَوْتُ" لكنَّ المُزَنِيَّ غَلِطَ فيه، وبالجُمْلةِ، فهذا من المواضِعِ الَّتي أضْبَ فيها الشَّارِحُونَ "المُخْتَصَر" وحظُّ الفقه ما سبق. ولو كانتِ الجاريةُ المُوصَى بِهَا زوجةَ المُوصَى له، كما صوَّرنا، وماتَ المُوصَى له قَبْلَ القُبولِ والرَّدِّ، فقد مرَّ أن ورثَتَه قائِمُون مَقامَهُ في الردِّ والقَبُولِ، فإنْ قَبِلُوا، فعلى الخلافِ في أنَّ المِلْكَ بمَ يحْصُل؟ إنْ قُلْنا بالموتِ، أو قلْنا: هو موقوفٌ، فَقَبُولُهم كقَبُولِ الموصَى له في عتقِ الأولادِ بالمِلْك، وفي انعقادِهِمْ على الحرَّيةِ، وفي مصيرِ الجاريةِ أمَّ ولدٍ، وفي بقائِهِمْ ممالِيكَ لورَثَةِ المُوصِي، على اختلافِ الأحوالِ المذكورةِ في المسألةِ، ولا فرقَ إلاَّ أنَّهم، إذ عُتِقُوا بقبول الموصَى له وَرِثُوه، وإذا عتقوا بقَبُولِ الوَرَثةِ، لم يَرِثُوا؛ عَلَى ما سيأتي، إن شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وإن قلنا يحصُلُ المِلكُ بالقَبُول، فإنْ كانَ بين الوارِثِ والأولادِ قرابةٌ تقتضي العِتْقَ؛ بأنْ كانَ وارثُ المُوصَى له أباه، فيُعْتَقُونَ عَلَيْهِ؛ لأنَّهم حَفَدَتهُ، وإلاَّ، فوجْهَانِ،
وإذَا لمْ يحصُل العتْقُ، فهل يُقْتَضَى ديونُ الموصَى لَهُ منْها، أم تُسَلَّمُ للورثة؟ فيه وجْهَانِ، سنُبَيِّنُ ماَخَذَهَما. ومنْها: إذا أوصَى لإنسان [بابنه أو أبيه] (¬1)، لم يجبْ عليه قبولُ الوصيَّةِ، كما لا يجبُ عليه شِراؤه، إِذا قَدَرَ عليه، بل له الردُّ، وعن مالكٍ -رحمه الله- أنَّه يجبُ عليه القبولُ، وفيه وجهٌ أنه ممتنعٌ الرَّدِّ، إذا فَرَّعْنَا عَلَى أنَّ المِلْكَ يحصلُ بالموتِ؛ لأنه يُعْتَقُ عليه، وهذا ما أوردَه صاحبُ "التَّتِمَّةِ" تفريعًا على ذلك القولِ، لكنَّ المذهبَ خلافُه، فإنَّه لا يُعْتَقُ عليه قَبْلَ القَبُولِ. إذا عرفت ذلك، فإنْ ردَّ، فذاك، فإنْ قَبِلَ، وقلنا: إن المِلْك يحصُلُ بالقَبولِ، عَتَقَ عليه حينئذٍ، وإن قُلْنا بالموتِ، أو قلْنا بالتَّوَقفِ، تبيَّنَ أنَّه عَتَقَ عليه يومَ الموت. ولو ملَك ابنَ أخيه، فأوصَى به لأجنبيٍّ، ووارثُه أخوه فقَبِلَ الموصَى لَهُ الوصيَّةَ، فَهُوَ للأجنبيِّ، وإن قلنا بالتوقُّفِ، أو بحصول المِلْكِ بالموتِ، وإنْ قُلْنَا: بحصوله بالقَبُولِ، وجَعَلْنَاه قبل القَبُولِ للوارثِ، فقضيَّةُ العِتْق على الوارثِ يومَ الموتِ، لكنَّ الحكايةَ عن الأصحاب أنَّه لا يُعْتَقُ علَيْه؛ كيلا تَبْطُلَ الوصيَّةُ، هذا في ردِّ المُوصَى له وقَبولِهِ بنَفْسِهِ. أمَّا إذا أَوصَى لإنسان بابنه، وماتَ المُوصَى له بَعْدَ موتِ المُوصِي، وَقَبْل القبول ففيه وجْهَانِ مرجُوحَان، ووجهٌ ثالثٌ وهو المذهبُ: أحدُ الوجْهينِ المرجُوحَيْنِ: ما قدَّمْنَا؛ أنَّ الردَّ يُمْتَنِعُ، لِعتْقِه على الموصَى لَهُ، بِنَاءً على أن المِلْكَ يحصُلُ بالموتِ. والثَّاني: حكاه الشيخُ أبو عليٍّ؛ أنَّه لَيْسَ للوارِثِ القَبُولُ؛ لما فيه من العتقِ على الميت من غيرِ إذنهِ، وإثباتِ الولاَءِ لهُ، وإنَّما يجِيءُ هذا على قولِنا: إنَّ العِتْقَ، إِذَا حصلَ وقع [على] (¬2) الميِّتِ وستَعْرف الخلافَ فيه. والوَجْهُ الثَّالثُ: أنَّ الوارثَ قائم مقامَه في الردِّ والقَبولِ لنَائِبِه عنه في حقوقِه، فإن قَبِلَ: فَهُوَ كَما لَو قَبِلَ الموصَى لَهُ بنَفْسِهِ، إن قُلْنا بالتوقُّفِ، أو بحُصولِ المِلْكِ بالموتِ، وإنْ قُلنا بحْصُولِه بالقَبُولِ، نُظِر؛ إنْ لم يكنْ بينَ الموصَى به، ووارِثِ الموصَى له قرابةٌ تقتضي عِتْقَه علَيْه، بأن كانَ الوارثُ أخًا للمُوصَى له، أو ابْنَ أخِيه، فهل يُحكَمُ بعتقه؟ فيه وجْهَانِ: ¬
أحدُهُمَا: لا؛ لأنَّ القبول، الَّذي يترتبُ عليه العِتقُ وُجِدَ من الوارثِ؛ فيثبتُ المِلْكُ لَهُ ابتداءً، لا تلقِّيَاً من الوارثِ، كما لوْ ورِثَ حقَّ الشفْعةِ، فَأَخَذَ بِهَا، ينتقلُ المِلْكُ إليه من المُشْتَرِي لا مِن مُوَرِّثه، وهذا ما أوردَه صاحبُ "الشَّامِل" وآخَرُون. وأظهرُهُما: نَعَم، وهو الَّذي ذكره الشَّيْخُ أَبو عليٍّ، وصاحبُ الكِتَاب؛ لأنَّ المُوصِيَ إنَّما أوجَبَ المِلْكَ للمُوصَى له فلا يثبتُ لِغَيْرِه، وإنَّما اعْتُبِرَ القَبولُ للوارثَ عَلَى سبيل النِّيَابَةِ، وهكذا كَما لو [نصب] (¬1) شبكةً في حياتِه، وتعلق بِهَا صيدٌ بَعدَ موتِه، فإِنا نحكم بثبوتِ المِلْكِ لَهُ. وإنْ كانَ بين الموصَى بهِ وبَيْنَ وارثِ المُوصَى له قرابةٌ تقْتَضِي العِتْق؛ بأنْ كانَ الوارثُ أباً للمُوصَى له [فنحكم بعتق الموصى به لا محالة، ويعود الوجهان في أنه يعتق على الموصى له] (¬2)، أو على وارثه، وإنَّ الولاء لمن يَثبُتْ، وإذا لم يُحكمْ بالعِتْقِ، فَهَل تُقْضَى منه ديونُ المُوصَى لَهُ، أم يسَلَّمُ للوارِث؟ فيه وجْهَانِ عن روايةِ القاضِي أبي الطَّيِّبِ في "المُجَرَّدِ" وجهٌ. الثاني: أن الوارِثَ ملك لا من جِهَةِ المُوصَى لَهُ، [والوجه] (¬3) الأوَّلِ، وهُوَ الأظْهَرُ: أنَّ الوارثَ مَلَكَ بسبب يتعلقُ بالمُوصَى لَهُ، فَهُوَ كالدِّيَةِ الواجبةِ بقَتْلِهِ، تُقْضَى منها ديونُه، وإنْ قُلْنا: إنَّها تثبت للوارثِ ابتدأ، هذا حكمُ العتقِ، وهل يرث الَّذي عَتَقَ مِنَ الموصَى لَه؟ أمَّا إذا قَبِلَ بنفسه، فيُنْظَرُ؛ إن قَبِلَ في حالِ الصِّحَّةِ، فَنَعَمْ، وإنْ قَبِلَ في مرضِ الموتِ، فإرثُه مبنيٌّ عَلَى أنَّ عِتقَهُ، إذاً حَصَلَ المِلْك [فيه] لاَ بِعِوَضٍ. بَل بِإرْثٍ، أو هِبَةٍ، أو قَبولِ وصيَّةٍ، يُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ، أَوْ من رأسِ المالِ، وفيه وجْهَانِ مذكورانِ في الكتاب في "بابِ العتقِ" إن اعتبرنَاه من الثُّلُثِ، لم يَرِثهُ، وإلاَّ وَرِثَهُ، قالَهُ في التَّهذِيبِ، وهُوَ الَأصحُّ. أمَّا إذَا ماتَ قَبَلَ القَبولِ، وَقَبلَ وارِثهِ، فإنْ حَكَمْنَا بحصولِ الحريَّةِ عند القَبولِ، لم يرِثْ من المُوصَى لَه؛ لتأخُّرِ عتِقه عنْدَ موتِه، وإِنْ حَكَمْنا بحصولِها عند الموتِ، فإِنْ كانَ القابلُ مِمَّنَ يحجبه المُوصَى بِهِ كالأخِ، لم يرْث؛ لأنَّه لَوْ وَرِثَ، يحجُبُ الأخَ، وأخرجَه عنْ أنْ يكونَ وارِثًا، وإذَا خرَج عنْ أن يكونَ وارِثًا، بَطَلَ قَبولُه؛ فَيَبْقى رَقِيقًا، فَيَمْتَنَعُ تَوْرِيثُه فإذن في توريثِه إبطالُ توريثِه. وإذا كانَ القابل ممن لا يحجُبُه الموصَى بِه كابن أخ، ففيه ثلاثة أوجهٍ: ¬
أحدُها: أنَّه يرثُ؛ لأنَّ توريثَه لا يؤدِّي إلى حِرمانِ القابِل، فصار كَما لو ماتَ عن ابْن مشهورِ النَّسِب، وأقرَّ بابنٍ آخرَ يرثان معاً. ولو ماتَ عن أخٍ، فأقرَّ بابن للميِّتِ، ثبتَ نسبُه ولَمْ يَرِثْ. وأظهرُهُما: وهو المذكورُ في الكتاب: المنعُ؛ لأنا لَوْ ورَّثْنَاه؛ لارتدَّ حقٌّ القابل من القَبولِ في الكلِّ إلى القبولِ في النِّصفِ، ولا يصحُّ من المُوصَى بِهِ أن يقبلَ نصيبَ نَفْسِه؛ لأنَّه إنَّما يقبلُ إذا كانَ وارِثًا، وإنَّما يكونُ وارِثًا إذا عُتِقَ، وإنَّما يُعْتَقُ إذا قَبِلَ، فإذا يَبَقَّى نصفَه رقيقاً، ومَنْ بعضُه رقيقٌ، لا يرثُ، كمن كلُّه رقيقٌ. قال الشَّيخُ أبو عليٍّ: ويفارقُ هذا إقرارُ الابنِ بابنٍ آخرَ؛ لأنَّهما حينئذٍ مُقِرَّانِ بأنَّهما ابنَا الميِّت، فورثا المال. وهاهُنَا العتقُ في جميعِه لا يصحُّ إلاَّ بقبولِ من يجوز جميع التَّرِكَةِ، ولا مدخل [للمقبول] (¬1) في القبولِ، فإنه لم يكنِ الأولُ جَائزاً، بَطُلَ القَبولُ من أصلِهِ. والوجهُ الثَّالثُ: عن الدَّاركي: أَنَّه إن ثَبَت القبولُ للمَوصَى له، وهو مريضٌ، لم يرِثْه؛ لأنَّ قبولَ ورثته كَقَبُولِه، ولو أنَّه قَبَلَه لكانَ وصيَّةً والإرثُ والوصيَّةُ لا يجْتَمِعَانِ. وإنْ ثَبَت، وهو صحيحٌ ورِثَهُ ولا يَخْفَى بعد هذا الحاجةِ إلى إعلامِ قولِه: "عتقُ الابنِ" بالواوِ. وقولُه: "بطريق التبيين هن وقتِ موتِ الموصِي"، جوابٌ على قولِنا: "إن المِلكَ يحصلُ بالموتِ، أو يتبينُ بالقَبُولِ حصولُه من وقتِ الموتِ"، فأمَّا إذا قلنا: "إنَّه يحصلُ بالقَبولِ"، وحكَمنا بوقوعِ العتقِ عن الموصَى لَهُ، فلفظُ الإمامِ أنَّه يسند العتقَ إلى أَلْطَفِ حِينٍ (¬2) قبل موتِ الموصَى لَه، فيجوز أن يُعلَم لذلِك قوله: "من وقت موت الموصى بالواو". وفي "مُولِّداتِ" ابنِ الحدَّادِ وشروحِها فروعٌ تتعلقُ بالاختلافِ في وقتِ الملكِ: أحدُها: أوصَى بأمتِه الحاملِ مِن زوجِها لِزوجِها, ولابنِ لها حُرٌّ، وماتَ وخرجَتْ هي كلُّها من الثُّلثِ، فقَبلا الوصيَّةَ، وهما موسران، يُنظَر؛ إن قَبلاَها معاً، عُتِقَت الأمةُ كلُّها؛ على ابنَها النصفُ بالمِلْكِ، والباقي بالسرايةِ وعلى الزوج نصفُ قِيمتِها، وُيعتَقُ الحملُ عليهما بالسَّوِيَّةَ. أمَّا نصيبُ الزوج؛ فلأنَّه ولدُه، وأمَّا نصيبُ الابنِ؛ فلأنَّ الأمَّ عُتِقتْ علَيه، والعتقُ يَسري في الحامل إلىَ ما يملكُه المُعتِقُ من حملِها, ولا يقومُ نصيبُ واحد منهما على الآخرِ؛ لأنَّ العتقَ حصل عليهما [حصل] دفْعةً واحدةً، فأشْبَه ما إذا اشترى ابنان أباهُما وأمَّهُمَا عُتِق عليهما ولا تَقْويمَ وإن قَبِل أحدُهُمَا، قَبْلَ الآخرِ، فإنْ قلنا: يحصلُ المِلْكُ بالموتِ، أو قُلْنا بالتوقُّفِ، فالجوابُ كذلِك؛ لأنَّ وقتَ المِلْكِ واحدٌ. ¬
وإن اختلفَ وقت القَبولِ، وإنْ قُلنا: يحصلُ المِلْكُ بالقَبولِ، فإن تَقَدَّمَ قَبولُ الابنِ، عَتَقَتْ الأمَة بالمِلْك والحمل بسرايةِ العتقِ من الأمِّ إلى الحملِ، وعَلَيْهِ للزوجِ نصفُ قيمتِها، فإن تقدَّمَ قَبولُ الزَّوجِ، عَتَقَ جميعُ الحملِ، عليه النِّصْفُ بالمِلْكِ، والنصفُ بالسِّرَايةِ، فَيَغْرِم نصفَ قيمتِه يومَ الوِلاَدَةِ. للابنِ، ولا يعتق عليه من الأمَةِ شيءٌ. وإذا قبلَ الابن عَتَقَ عليه جميعها بالمِلْكِ والسرايةِ، وغرَّم للزوجِ نصفَ قيمتِها، وإن قَبِلَ للزوج وحدَه عَتَقَ عليه الحمل النصفَ بالملك، والنصفُ بالسراية، فَيَغْرَم نصفَ قيمتِه لورثَةِ الموَصِي ولا يسري العتقُ في الحملِ إلى الأمِّ؛ لأنَّ الحملَ تبعٌ لها وليست هيَ تَبَعًا له، فإن قبل الابن وحدَه عَتَقَا عليه، وغرَّم نصفَ قيمتِها لورثةِ الموصَي. الثَّاني: أوصى لإنسانٍ بمن يعتق عليه، وماتَ الموصَى لَه عن ابنين فالقولُ في قَولِهما تفريعًا على الأقوالِ في وقت المِلْكِ، كما سبق والظَّاهرُ صحته ووقوعُ العِتقِ عن الميَّتِ، فإنْ قَبِلَ أحدُهُما دونَ الآخر يصحُ القبول في النِّصفِ، ويعتق على الميِّت ثم قال ابنُ الحدَّادِ وآخرونَ: يُنظرَ إن ورثَ القابلُ من الموصِى له ما يفي بباقِي قيمةِ العبْدِ، قُوِّمَ عليه البَاقِي فيما وَرِثَه وإلاَّ لمْ يُقَوَّمْ عليه، ولا اعتبارَ بيسارِ القابلِ في نفسِه، ولا يثبت [التقويم] في نصيب الذي لم يقْبَلْ من التَّرِكَة. أما أنَّه لا اعتبارَ بيساره في نَفْسِه؛ فلأن العتقَ وقعَ عن الميِّتَ، فلا يكون التقويمُ على غيرِه، وإمَّا أنَّه لا يثبتُ في نصيب الَّذي لم يقبل؛ فلأنَّ سبَب العتقِ القبول؛ فالَّذي لم يقبلْ لم يُنْسَبْ إليه. ولَكَ أن تقول: هبْ أنَّه لم يُنسبْ لكنَّه غيرُ منْكَرٍ، عِتْقَ نصيبَ القابِل، واقتضائه التَّقويمَ والتقويم كَدَيْنِ يلحقُ التَّركة، وقال الشَّيخُ أبو عليٍّ: يجب ألاَّ يقوَّم على الميِّتِ، ويقتصر العتق على القدْرِ المقْبُلِ لِمَعْنَيَيْنِ. أحدُهُما: أنَّ المِلْكَ حصل للميِّتِ بغيرِ اختيارِه، بلْ بقَبولِ الوارثِ، فأشبَهَ ما إذا ورثَ شَخْصًا شقصًا مِن عبدٍ، فعتق عليه لا يقوّمُ عليه البَاقِي. والثَّاني: أن العِتَقَ يحصُلُ بعدَ موتِه، ولا مالَ لَه حينَئذٍ، فأشبَه ما إذا أعتقَ شقصًا من عبدٍ بعدَ الموتِ، لا يقوّمُ عليهِ البَاقِي، قال: وقَدْ رأيتُ هذا لبعضِ الأصْحَابِ، وللأولينَ أن يَقُولُوا: نحنُ إنَّما حكَمنا بالعتقِ على الميِّتِ؛ لِجَعْلِنَا الوارثَ نَائبًا عنْه، وكيفَ ينتظمُ مع القول بالنيابةِ، نفي اختيارِ المَنوب، نَعَم، كلاهما حُكْميانِ، وأمَّا الثَّانِي، فلا يُسَلِّمُ أنَّ العتقَ يَحْصلُ بعدَ الموتِ، بلْ يستندُ إلى مَا قبلَ الموتِ، كَما تَقَدَّمَ، ثُمَّ ولاءِ ما عَتَقَ منه للميِّتِ، ويشتَرِكُ فيه الابنان أم ينفردُ به القابلُ؟ فيه وجهان: وجه الثاني: أنه انفردَ باكتسابِهِ فأَشْبَهَ مَا إذَا شَهِدَ شاهدٌ بدَينٍ للميِّتِ، وحَلَفَ معه أحدُ الابنين فإنَّه ينفردُ الحالفُ بنِصْفِهِ، ولا يشارُكُه الآخز فيه وَلَكَ أنْ تقولَ: المنفردُ بالاكتِسَابِ في هذهِ الصُّورَةِ لم ينْفَرِدْ إلاَّ بنَصِيبِه، فما أثبتَه للميِّتِ، فوجَبَ
أنْ يكونَ هاهُنَا كَذلِك. ولو أَوْصى لإنْسَانٍ بِبَعْضِ مَنْ يَعْتِقُ علَيْه، ومات الموصَى لَه، وقَبِلَ وارثُه الوصيَّة، فالقولُ في عِتْقِه على الميِّتِ، وتقويم الْبَاقِي عَلَيْهِ عَلَى ما ذكَرْنَاه في هَذِه المَسْألةِ. الثَّالثُ: أَوْصَى بِأمَةٍ لابْنِهَا من غيره نظر، إن كَانَتْ تَخرُجُ من الثُّلثِ، وقَبلَ المُوصَى لَهُ الوصيَّة، عَتَقَتْ عَلَيْهِ، وإنْ رَدَّ بَقِيَتْ للوارِثِ، وإنْ لَم تخُرُجْ، فالْجَوابُ في قدرِ الثُّلثَ كذلك، وأمَّا الزَّائدُ عليه فلو أَعتقَه الوارثُ، وهو مُوسِرٌ، عَتَقَ علَيه، ثُمَّ إنْ لم يقبلِ ابنُها الوصيَّةَ، فقدْ بيَّنا أنَّ جميعَهَا للوارِثِ، فيسرِي العتقُ من البعضِ الَّذي أعتقَه إلى الْبَاقِي، وإنْ قَبِلَ عُتَقَ عليه ما قَبِل. قال ابنُ الحدَّادِ: ولا يُقَوَّمُ نصيبُه على الوارث ولا نصيبُ الوارثِ عَلَيه، أمَّا أنَّه لا يُقوَّمُ نَصيبُ؛ الوارثِ عليه؛ فلأنَّه أعتَقَ نصيبَه قبلَ قَبُولِهِ، وأَمَّا أنَّه لا يقوَّمُ نصيبُه على الوارِثِ؛ فلانَّا نتبينُ بالقَبُولِ حُصُولَ مِلكِه بالموتِ، وتقدَّمَه على إعتاقِ الوارثِ [الزيادةَ]. قال الشيخ أبو علي: والصواب عند الأصحاب أن يُقال: إن قلنا بحصول الملك بالموت ابتداءً، أو تبيناً فيقوم نصيب الوارث عليه؛ لأنا تبينا استناد عتقه إلى وقت الموت وعتق الوارث متأخر عليه؛ لأنه لا بد فيه من مباشرة الإعتاق، وإن قلنا بحصوله بالقبول فيعتق [الكل على الوارث لأنه يرى من نصيبه إلى قدر الثلث والقبول بعده كإعتاق الشريك الثاني بعد إعتاق الأول وهو موسر، هذا إذا حكمنا بحصول السراية بنفس] (¬1) الإعتاق، وإن قلنا: إنها لا تحصل إلاَّ بعد أداء القيمة، فقبوله كإعتاق الشريك الثاني نصيبه قبل أخذ القيمة، وفيه وجهان: أحدهما: النفوذ؛ لأنه ملكه ما لم يأخذ القيمة. وأصحهما: المنع؛ لأن الأول بإعتاق نصيبه استحق تقويمه عليه للإعتاق، فصار كما لو استولد أحد الشريكين الجارية المشتركة، وهو موسر تصير أم ولد له، وليس للآخر إعتاق نصيبه، فعلى هذا له قيمة نصيبه على الوارث، وكأنه فوته بإعتاق نصيبه. ولو كانت المسألة بحالها، ووارث الموصي ابن له من هذه الأمة، فإن رد الموصى له عُتقِت على الابن الذي هو وارث السيد، وإن قبلها فيُنظرَ: إن خرجت من الثلث عُتِقَت على الموصى له، وإن لم تخرج فالزائد على الثلث منها. أطلق ابن الحداد أنه يُعتَق في الحال على الوارث، وفصل الشارحون فقالوا: إن لم يجز الوارث الزيادة على الثلث، فالجواب ما ذكروا وإن أجاز فعتقه مبني على أن إجازة الوارث ابتداء عطية ¬
الباب الثاني في أحكام الوصية الصحيحة
منه، أو تنفيذ إن قلنا بالأول، فقد حكمنا للوارث بالملك قبل أن يُعطَى فيعتق عليه، وإن قلنا تنفيذ لم يُعتَق؛ لأنا على هذا القول لا نجعل الزائد على الثلث للوارث، بل نقفه على الرد والإجازة فإذا أجاز تبين أنه لم يملكه وأما قدر الثلث فإنه يعتق على الموصى له، ولا يقوم نصيب أحدهما على الآخر. وأما أنه لا يقوم على ابن السيد؛ فلأنه ملك بالإرث، وعتق الشقص المملوك بالإرث لا يقتضي السراية. وأما أنه لا تقويم على ابنها الموصى له؛ فلأن نصيب شريكه عُتِق قبل عتق نصيبه، وإن قلنا: إنه يُملَك بالقبول، ومع عتق نصيبه إن قلنا: إنه يُملكَ بالموت، ولا تقويم على التقديرين. الرابع: أوصى بعبد لشخصين؛ أحدهما قريبه الذي يعتق عليه، فإن قبلا الوصية معاً عُتِق جميعه على القريب، إن كان موسراً، النصف بالملك، والباقي بالسراية، ويُغرَمْ للأجنبي نصف قيمته. وإن قبل القريب أولاً، فكذلك حكم العتق. ويكون غرم النصف للأجنبي، إن قبل الوصية بعد ذلك، والوارث الموصي إن لم يقبل، وإن قبل الأجنبي أولاً ملك نصيبه ونصيب القريب موقوف إلى أن يقبل أو يرد فإن أعتق الأجنبي نصيبه قبل قبول القريب، ثم قبل فإن قلنا: الملك في الوصية يحصل بالقبول، قوم نصيبه على الأجنبي، فكان كما لو أعتق الشريك نصيبه، وهو موسر، ثم أعتق الثاني نصيبه فإن قلنا: يحصل بالموت، أن عتق الأجنبي غير نافذ، وأنه عتق جميعه على الوارث، وعليه نصف القيمة للأجنبي والله أعْلمُ. البَابُ الثَّانِي في أَحْكَامِ الوَصِيَّةِ الصَّحِيحَةِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهِيَ تَنْقَسِمُ إِلَى لَفْظِيَّةٍ وَإِلَى حُكمِيَّةٍ وَإلَى حِسَابِيَّة أَمَّا اللَّفْظِيَّةُ فَلَهَا طَرَفَانِ: الأَوَّلُ في المُوصَى بِهِ، وَإِذَا أَوْصَى بِجَارِيةٍ دُونَ حَمْلِهَا، وَبِالحَمْل دُونَ الجَارِيةِ صَحَّ، وَعِنْدَ الإِطْلاَقِ هَلْ يتَنَاوَلُ الحَمْلُ بِاسْمِ الجَارِيةِ؟ فيهِ خِلاَفٌ، فَإِنْ تَنَاوَلَهُ فَلاَ يَنْقَطِعُ بِالأنْفِصَالِ بَلْ يَبقَى مُوصًى بِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إِذا استجمعتِ الوصيَّةُ مما يفتقر إلَيْه صحَّتها، صحَّت، ووقع النَّظَر بعد ذلك في أحكامها، والنَّظَر فيها تارةً يكون من جهةِ اللَّفْظ؛ كنظرنا في أن الشَّاة، والدَّابَّة، والفرس عَلاَمَ تَحْمُلُ الوصيَّة بها، وتارة من جهة المعنَى؛ كنظرنا في أحكام الوصية بالمنافع، بأيَة لفظة قُدِّرتِ الوصيةُ ثم كمية الموصَى به قد تُعْرَفُ من غير حساب، وقد يحتاج فيها إلى أعمالِ فِكْرٍ، وضَرْب حسابٍ جَلِيٍّ أو خَفِيٍّ، فلذلك جعل أحكامها ثلاثةَ أنْوَاعٍ لفظيَّة، ومعنويَّة، وحسابيَّة:
القسم الأول: اللفظية
القسم الأول: اللفظيَّة، واللفظ المبحوثُ عنْه، قد يُسْتَعمَلُ في الموصَى به، وقد يستعملُ في الموصَى له: الطرف الأول في الموصَى به. فمن مسائله: أنه لو أوصَى بجاريةٍ حاملٍ، واستثنَى حمْلَهَا لنفسه، جاز بخلاف البيع، وكذلك تجوزُ الوصية بالحمل وحده، على الشَّرط الذي سَبَق، بخلاف بيعه ولو أوصَى بالحمل لرجل، وبالجارية [لآخر] (¬1) صَحَّت الوصيتان، ولو أطلق الوصيَّة بالجارية، ففي دخول العمل وجهان: أحدهما: الدخولُ، كما لو باع الحامل. والثاني: المَنْع؛ لأنه ليس جُزْءًا منْها، والأول أظهرُ فيما دلَّ عليه كلام الأئمة، ولكن لا تبعد الفتوَى بالثاني، بخلاف البَيْع؛ لأن الحمل لا يُفْرَدُ بالبيع، فجعل تَبَعًا، وُيفْرَدُ بالوصيَّة، فلا معنَى لجعله تَبَعًا؛ ولأن الأصْلَ التنزيلُ على الأقل المستيقن ولأن الوصيَّة عقْدٌ ضعيفٌ لا يليق بحالِهَا الاستتباع، فإن قلْنا بدخوله، فلا تنقطع الوصيَّة بانفصال الحَمْل، بل يبقى موصى به، والانفصال زيادة حصَلَتْ فيه، وقد ذكرنا من قبلُ فيمن أوصَى بجارية، فولَدَتْ بحيث يعلم وجوده عند الوصية أمَّا إن قلْنا: إن الحَمْل لا يُعْرَفُ، فالولدُ غير متناوَلِ، بل هو لورثة الموصِي، وإن قلنا: إن الحَمْل يُعْرَفُ، فهو كما لو أوصَى بهما، وتلك المسألةُ هي المسألة المذكورةُ هاهنا، بعينها؛ لأنه لو تعرَّض [في الوصية] (¬2) بالحَمْلِ والجارَيةِ معاً، ارتفع الخلافُ؛ كما لو أوصَى بالجارية لواحدٍ، بالحَمْلِ لآخَرَ، ولا ينقدح تشبيهُ التنصيص عَلَى الحَمْل؛ تفريعًا على أن الحَمْلَ لا يُعْرَفُ بالتنصيص فيما إذا قال: بعْتُ هذه الجاريةَ وحَمْلَها وأنه غيرُ جائز في أصحِّ الوجْهَيْنِ، حتى يجيء الخلافُ هاهنا مع التنصيص، وذلك لأن الحملَ لا يجُوزُ إفراده بالبيع، ولا يجوز جعلُه أحَدَ مقصودَيْهِ، ويجوز إفرادُهُ بالوصيَّة. وقوله وبالحمل دون الجارية، صحَّ هذه المسألة قد ذكَرَهَا في الباب الأول، والغَرَضُ الآن التنبيهُ عَلَى توجيه المسألة السَّابِقة، أي: كما تجوزُ الوصيَّة بالحَمْل وحْدَهُ، تجوز الوصية بالحَامِلِ وحْدَها بخلافِ البَيْعِ، والله أعلم. قَالَ الْغَزَلِيُّ: وَلَوْ أَوْصَى بِطَبْلٍ مِنْ طُبُولِهِ وَلَهُ طَبْلُ لَهوٍ وَطَبْلُ حَرْبٍ نُزلَ عَلَى طَبْلِ الحَرْبِ مَيلاً إلى التَّصْحِيحِ، وَلَوْ أَوْصَى بِعُود مِنْ عِيدَانِهِ وَلَهُ عُودٌ لِلَّهوِ وَالْبِنَاءِ وَالقَوْسِ بَطَلَ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ لِلَّهْوٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُنَزلُ عَلَى عُودِ البِنَاءِ أَوِ القَوْسِ، كَمَا إِذَا قَالَ: عُودٌ مِنْ ¬
عِيدَانِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلاَّ عُودُ القَوْسِ وَالبنَاءِ، وَلَوْ أَوْصَى بِقَوْسٍ حُمِلَ عَلَى مَا يُرْمِى بِهِ النِّشَابُ دُونَ قَوْسِ النَّدْفَ وَالجَلاَهِقِ إلاَّ إذَا قَالَ قَوْسِ مَنْ قِسِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِلاَّ قَوْسُ النَّدْفِ وَالجُلاَهِقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه ثلاثُ صُوَرٍ: احداها: الطَّبْل أنواعٌ، أسلفنا ذِكْرَها، وبيَّنَّا أنَّ طَبْلَ اللهو، إن صَلُح لمنفعة مباحةٍ، إما على هيئته، وإما بعْد التغْيير الذي لا يُبْطِلُ اسْمَ الطبل، صحَّتِ الوصية، وإلاَّ فَلا، إذا تذكَّرْتَ ذلك، فلو أطلق، وقال: أعطُوه طبلًا من مالي، ولم يكن له طبلٌ يَحِلُّ الانتفاع به اشتُرِيَ، ودُفِعَ إلَيْه، وإن قال: طبلاً من طبولي، فإن كان له طبْلٌ يحلُّ الانتفاع به؛ كَطَبْل الحرب، وطَبْل اللَّهْو لا تصحُّ الوصية به ونزل على طبل الحرب ونحوه؛ ميلاً إلى التصحيح؛ لأن الموصِىِ يقْصِدُ حيازة الثَّوَاب، فالظاهرُ أنه يقْصِدُ ما تصحُّ الوصية به، وإن لم يكن له إلا طبُولٌ، لا تصحُّ الوصيةُ بها، فالوصيَّة باطلة فهذا صحَّتِ الوصيةُ بالطبل، فالجِلْدُ الذي عليه، يُدْفَعُ إلى المُوصَى له، إن كان لا يقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الطبل دُونَ الجِلْدِ، والدُّفُّ تجوز الوصيَّةُ به، فإن كان علَيْه شيْءٌ من الجَلاَجِل وحرَّمْنَاها نزعت، ولم يُدْفَعْ إلَيْه إلا حَتى أن يَنُصَّ عليها. الثانِيَةُ: اسم العُودِ يقَعُ عَلَى هذا الَّذِي يُضْرَبُ به، وهُوَ عود اللَّهْو، وعلى الواحدِ مِنَ الأَخْشَاب، منْها التي تستعمل في البناء، والتي تصْلُحِ لِلْقِسِيِّ والعِصِيِّ؛ والوصيةُ بعُودِ اللَّهْوِ، كَهِيَ بطَبل اللَّهْو، فَيُنْظَرُ؛ هل يَصْلُحُ عَلَى هيئته؛ لمنفعةٍ مباحةٍ، أو بعد التَّغْيِيرِ الَّذي لا يَبْطُلُ اسم العُودِ، أو لا يَصْلُحُ؟ وإذا صحَّتِ الوصيةُ به، لم يُدْفَع إلَيْه الوَتَرُ، والمِضْرَابُ؛ لأنه يُسَمَّى عُودًا دونهما. وإن قال: أعْطُوه عُودًا من عيداني، نُظِرَ؛ إن لم يكُنْ إلاَّ عيدان القسي والبناء، فيُعْطَى واحداً منها، وكذا لو كان مَعَها عيدانُ اللهو, لكنها تصلُحُ لمنفعة مباحةٍ، فيعطيه الوارثُ ما شاء من الكُلِّ، وإن كان له عيدان اللهو، الَّتي لا تصْلُحُ لمنفعة مباحة، وعيدانِ القسيِّ، والبناء، فوجهان: أحدهما: تنزيل الوصيَّة عَلَى عيدان القِسِيِّ، والبناءِ كمثله في الطَّبْل، وكما لو لم يكُنْ إلاَّ عيدان القسيِّ والبناء، فيعطَى واحداً منها. وأظهرهما: وهو المنصوص: أن الوصية تُنَزَّلُ على عيدان اللهو، فيُبطل؛ لأن اسْمَ العُود عند الإطلاق لهذا الذي يُضْرَبُ به، واستعمالُهُ في غيره مرجُوحٌ، والطَّبْلُ يقع على طَبْل اللَّهو وغيره وقوعًا واحداً، وليس كما لو قال: عوداً من عيداني، ليس له إلاَّ أعوادُ البناء والقسي؛ لأن هناك التقييد منَعَنا من الأخْذ بالإطْلاَق، وهاهنا فوائدُ:
إحداها: لصاحب الوجْه الأول أن يمنع ظُهُور اسْمِ العُود في الذي يُضرَبُ به، ويقُولَ: لفظُ العُودِ مشتركٌ، يستعمل وفي الذي يُتَجَّرُ به، وفي الواحِد من الأخْشَاب بحَسَب الحاجة، ولا ترجيحَ، ثم له أن يقول: إنْ كانَ الاستعمالُ في عُود اللهو أظْهَرَ، فكما ينصرف اللفظ إليه، إذا كان واحداً، يَنْصَرِف إذا كان جميعاً؛ فيلزم أن ينصرف قوله: "عُودٌ من عيداني" إليه، فحينئذ وجَبَ أن تلغو الوصيةُ، إذا لم يكُنْ له عيدان لهو، وإن كان له ما يَصْلُح للأبنية والقسي. الثانية: إِذا أوصى بعُودٍ، ولا عودَ لَهُ فَقَضِيَّةُ تنزيل مطْلَقِ العودِ عَلَى عود اللهو إبطالُ الوصية، أَو أن يُشتَرَى له عُودُ لَهوٍ يصلُحُ لمنفعة مباحة، وأطلق في "التتمة" أنه يُشْتَرَى مَا لو كان موجودًا في ماله، أمكن تنفيذ الوصية بالعُود به. الثالثة: وقوعُ الطَّبْل على أنواعه، ليس كوقوع العُود عَلَى معلنيه المذكورةَ، بل الطبلُ موضوعٌ للمشترك بين الأنواع، وليس مشتركًا بينهما، والعُودُ مشتركٌ بين الخشب، والذي يُضْرَبُ به، والذي به، ثم هو بالمعْنَى الأَول غَيْرُ مشترَكٍ بَيْنَ ما يستعمل في الأبنية، ويصْلُح للقِسِيِّ بل للمشترَكِ بينهما. الرابعةُ: لو أوصَى بعُودٍ من عيدانه، وليس له إلاَّ عودٌ واحدٌ من أعواد اللهو، وواحدٌ مما يصْلُح للبناء، وواحدٌ مما يصلح للقِسِيِّ، فإن جَعَلْنا لفظ العيدان على هذه الآحاد، حملنا اللفظ المشتركَ عَلَى مَعْنَيَيهِ معاً، وفيه نَظَرٌ للأصولِيِّينَ؛ فإن منع، فهذه الصورةُ كما لو أوصَى بعود من عيدانه، وليس له إِلَّا واحدٌ من أعواد اللهو، أو لا عُودَ له، وجب حمْلُ قوله في الكتاب "وله عودُ اللَّهْو، والقَوْسِ، والبِنَاءِ" على الجنس دون الآحاد. فَرْعٌ: الوصيةُ بالمزْمَار كالوصيَّة بعود اللهو، وإذا صَحَّ، لم يلزم تسليم الجَمِيع، وهو الذي يجعله الزَّامِرُ بين شفتَيْهِ؛ لأن الاسْمَ لا يتوقَّف عليه. الصورة الثالثة: اسْمُ القَوْسِ يقع على العربيَّة، وهي التي يُرْمَى بها النَّبْل، وهي السِّهَام العربية، وعلى الفارسيَّة، وهي الَّتي يُرْمَى بها النِّشَابُ، وعلى القِسِيِّ التي لها مجْرَى تنفذ فيها السِّهام الصِّغار، وتسمَّى الحسبان، وعلى الجُلاَهِقِ، وهو ما يُرْمَى بها البندق، وعلى قوس النَّدَّافين، والسابق إِلى الفَهْم من لفظ القوس أحدُ الأنواعِ الثلاثةِ الأُولَى، فلو قال أعْطُوه [ما يسمى] قَوْسَاً حمِلَ على أَحدِهَا دون قَوْس النَّدْف، والجُلاَهِق، ولو قال: أعطُوه ما يسمَّى قوساً، ففي "التتمة" أن للوارث أن يُعْطِي ما شاء
من الأَنواع الثلاثة وغَيْرها، ويشبه أن يكون كما لو قال: أعطوه قوساً إِلاَّ أن يقول ما يُسَمَّى قوسًا غالباً، أو نَادِرًا، أو ما أَشبه ذلك، ولو قال: أعطوه قوسًا من قِسِيِّ، وله قِسِيٌّ من كلِّ نوع، أُعْطِيَ ما يرمي به النبل، أو النِّشابِ، أو [الحسبان] (¬1) دون قَوْس النَّدْف والجُلاَهِقِ، وكذلك لو كان له شَيْء من الأنواع الثَّلاثة، فإن لم يَكُنْ له إلاَّ قوسُ الجُلاَهِقِ، أو قوس الندف [حمل اللفظ عليه؛ للتقييد والإضافة، وإن كان له الجُلاَهِقُ وقوْسُ النَّدْف] (¬2) جميعاً، أُعْطِيَ الجُلاَهِقَ؛ لأن الاسم أسبقُ إِلَيْه، وكل هذا عند الإِطلاق، فلو قال أعطُوه قوسًا يقاتِلُ بها، أو يَرْمِي الطير، أو يندق، فقد أبان الغَرَضَ، وهل يستتبع الوصيَّة بالقوس الوَتَر؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن الانتفاعَ يتوقَّف عليه. وأصحُّهما: لا؛ لخروجه عن مُسمَّى القوس، وصار كما أن الوصيَّة بالدابَّة لا يستتبع السرج، ويشبه أن يجيء الوجهان في بَيْع القَوْس، والنصلُ والرِّيشُ يدْخُلاَن في السَّهْم؛ لثبوتهما، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ أَوْصَى بِشَاةٍ دُفِعَ اِلَيْهِ الصَّغِيرُ وَالكبِيرُ وَالمَعِيبُ وَالسَّلِيمُ والذَّكَرُ وَالأُنْثَى وَالضَّأْنُ وَالمَعْزُ، وَلاَ يُعْطَى الكَبْشَ عَلَى النَّصِّ، وَقِيلَ: يُعْطَى إِذْ لَيْسَ التَّاءُ فِيهَا لِلتَّأْنِيثِ، وَاسْمُ البَعِيرِ في تَنَاوِلِهِ النَّاقَةَ كَالشَّاةِ في تَنَاوُلهَا الكَبْشَ فِيهِ خِلاَفٌ وَالجَمَلُ لاَ يَتَنَاوَلُ النَّاقَةُ، وَلاَ النَّاقَةُ الجَمَلَ، وَلاَ الثَّوْرُ البَقَرَةَ، وَلاَ عَكْسُهَا، وَلاَ الكَلْبُ الكَلْبَةَ، وَلاَ الحِمَارَ الحمارة، وَلاَ الدَّابَّةُ الخَيْلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ، فَإِنْ خَصَّصَ عُرْفُ بَلْدَةٍ بِالفَرَسِ فَقِيلَ يُحْكَمُ بِالعُرْفِ، وَقِيلَ: يُنَزَّلُ عَلَى الوَضْعِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إحدَى صُور الفَصْل: اسمُ الشاة يَنْتَظمُ صغيرةَ الجثَّة، وكبيرتَهَا، والسَّليمةَ، والمعيبَة، والصحيحةَ، والمَرِيضةَ، والضأْنِيَّة، والماعزةَ، وأما الكِبَاشُ، والتُّيُوسُ، فنصَّ الشَّافعيّ -رضي الله عنه- في "الأم" أن اسْمَ الشاةِ لا يتناولُهَا، وإنما هو للإناث بالعُرْف، ومن الأصحاب من قال: إنه يتناول الذَّكَر والأنثَى؛ لأنه اسْمُ جنْسٍ كالإنسان، وليست التاء فيه للتأْنيثِ، يدُلُّ عليه قولُهِم: لَفْظُ الشاةِ يذكَّر ويؤنَّث، ولهذا حُمِلَ قوله -صلى الله عليه وسلم-: "في أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةُ" على المذكور والإِناث، وبهذا الوجْهِ أجابَ صاحب "التهذيب" وذكر أبو عبد الله الحناطيُّ مصير الأصحاب [أكثرهم] (¬3) إليه، ويؤيِّده أنَّا ذكرنا ¬
وجهين في جواز إخْراج الذَّكَر عن خَمْسٍ من الإبل، وبيَّنَّا أن الأصَحَّ الجوازُ؛ لشمُول الاسم، وفي السَّخْلَة والعتاقِ وجهان: أظهرهما: أنَّ اسْمَ الشاة لا يقَعُ عليهما. والثاني: يقع؛ بناءً على أنه اسم جنس، فمن قال بالأوَّل، حَمَلَ قوْلَ الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- صغيرة أو كبيرة على صِغَرِ الجُنَّة، وكِبَرِها، وبه قال الصيدلانيُّ -رحمه الله- ومن قال بالثاني، حمَلَهُ علَى السنِّ. إذا عُرِفَ ذلك، قلو قال أعطُوه شاةً من شيَاهِي، أو من غنمي؛ نُظِر؛ إن لم يكن له غنم، فالوصيةُ باطلةٌ، وإن كان له غَنَمٌ، أُعْطِيَ واحدة منها سليمةَ، أو معيبةَ، من الضأن، أو المعز، وإذا كانت كلها ذكُورًا، أُعْطِيَ ذَكرًا، وإن كانتْ كلُّها إناثًا، أُعْطِيَ أنثَى، وان كانت ذكورًا وإناثًا، جاز أَنْ يُعْطَى أنثى، وفي الذَّكَر الخلاف المذكورُ في تناوُلِ الشاةِ الذَّكَرَ، وكان يجوز أن يُقَالَ؛ تفريعًا على أن اسم الشاة لا يَقعُ على الذكر: إن الوصيَّة تلْغُو، إِذَا كان جميع غنمه ذُكُورًا، كما إِذا قال: شاةٌ من غنمي، ولا غَنَمَ له. ولو قال: أعطُوهُ شاةً من مالي، أُعْطِيَ واحدةٌ يتناولها الاسم؛ فإن ملك غنماً، فللوارث أن يعْطَى على غَيْر صفة غَنَمِهِ، وإن لم يمْلِك غنماً، اشترَى له شاة، بخلاف ما لو قال: من غَنَمي، ولا غَنَمَ له، ولو قال: اشْتَرُوا له شاةَ، حكَى صاحب "التهذيب" أنه لا يجوز أن يشتري معيبةً؛ لأن إطلاق الأمر بالشراء يَقْتَضِي السليم، كما في التوكيل بالشراء، وأيْدَى فيما حكاه احْتمالًا. ولو قال: أعطُوهُ كَبشًا، أو تَيْسًا أو شاة [ليتريها] (¬1) على غنمه، فالوصيَّةُ بالذكَر، ولو قال: نعجةً، أو شاةً يحلبها، أو ينتفعُ بدرِّها ونَسْلِها، فهي (¬2) بالأنثَى. وقد تَجِدُ في لفْظ الكتاب في المسألة "دُفِعَ إلَيْه الصغير والكبير والسَّلِيم، والمُعِيبُ، والذَّكَر، والأنثَى، والضأْنُ، والمَعْزُ"، وقد تطرح بعض النُسخَ لفظ الذكر، والأنثى، وهو الصوابُ؛ لأن الخلافَ في الكَبْش مذكورٌ على الأثر، فكيف يذكُر المسألة مرَّةً بلا خلاف، ومرةً عَقِبَها مع الخلاف؟! فَرْعٌ: الظباء قد يقال لها: شياهُ البَرِّ، والثَّوْرُ الوحشيُّ قد يُسَمَّى شاةً في اللُّغة، لكن مطلَقُ الوصية بالشَّاة لا يحمل عليهما، نعم، لو قال: أعطُوهُ شاةً من شيَاهِي، ¬
وليس له إلاَّ ظباءٌ ففيه وجهان في "المعتمد" (¬1). الثانية: البعير والجَمَلُ والناقة أسماءٌ تشمل السليم والمعيب والبُخَاتِيَّ، والغِرَابَ، ولا يتناول الجملُ الناقةَ، ولا الناقةُ الجَمَلَ، والبعيرُ، هل يتناول الناقَةَ؟ فيه مثل الخلاف المذكور في أن الشاة، هَلْ تتناول الذكرَ؟ فالحكايةُ عن النصِّ المَنْعُ وتنزيلُ اسم البعير منزلةَ الجَمَل، والأظهرُ عند الأصحاب التناوُلُ؛ لأنه اسم جنسِ في اللغة، وسُمِعَتِ العربُ تقول: صرعتني بَعِيرِي، وحلَبَ فلانٌ بَعِيَرَهُ، وربما أفهمك كلام الأصحاب توسُّطًا بينهما، وهو أن يُنَزَّلَ النصُّ على ما إذا عَمَّ العُرْفُ باستعمال البعير بمعنى الجَمَل، والعمل بقضيَّة اللغة، إذا لم تعم. واسم الثور للذَّكَر، وفي البقرة وجْهان: أصحهما: أنها لا تتناول الذَّكَر ووجه الثاني: حَمْلُ الهاء على التَّوْحيد، كقولنا ثمرةٌ، وزَبِيبَةٌ، وبهذا قال أبو حنيفة -رحمه الله- وكذا الخلافُ في اسم البَغْلَة. ولو قال: أعطُوهُ عَشرًا من الإبل أو البَقَرِ، أو الغنم، جاز الذَّكَر والأنثَى، ولو قال: عشرة أَيْنُقٍ، أو بقراتٍ، لم يُعْطَ إلاَّ الإِناثَ، ولا فرْق بين التصريح بالأَيْنَقِ، والبقراتِ بَيْن أن يقول: عَشْرَاً أو عشرَةً، وهذا في البقراتِ جَوَابٌ على الصحيح، وهو أن البقرة للأنثَى. ولو قال: أعطُوهُ عَشْراً من الإبل، أو عشَرةً، جاز الذكر والأنثى؛ لتناول الإبل النوعين [وفي "أمالي" أبي الفرج السرخسيِّ وجّهٌ: أنه إن قال: عشرةٌ، فهي للذكور،] (¬2) وإن قال: عَشْراً، فللإنَاث، وإن قال: أعطوهُ رأْسًا من الإِبِلِ أو البقر أو الغنم، جاز الذكَرُ والأنثى. ولو أوصَى بكَلْبٍ، أو حمارٍ، حكَى صاحب الكتاب وغيره أنَّهما لا يتناولاَنِ الأنثَى؛ لأنهم ميَّزوا، فَقالوا: كلبٌ، وكلبةٌ، وحمارٌ، وحمارةٌ، ويشبه أن يُقَالَ: إنَّهما للجِنْس، وإن هذا التمييزَ لَيْسَ مستمِرًّا، متقرّرًا في اللُّغة، ولذلك قال صاحب "الصَّحَاح" (¬3) وربَّما قالوا للأتان حِمَارةٌ، فرواه روايةَ الشَّيْء الغَرِيب، وبتقدير استمرارِهِ، فلا شكَّ أن العرف استمر بخلافه، وقد قال بعض الأصحاب: لهذا يتبع العُرُفَ. فَرْعٌ: تكميل البقر بالجواميسِ في نُصُب الزكاة، دخول الجواميس في البَقَر وكونُهما نوعَيْ جنْسٍ واحدٍ. ¬
وقال في "المعتمد": الجواميسُ لا تدْخُل في البقر إلاَّ إذا قال: من بَقَرِي، وليس له إلاَّ الجواميسُ، فوجهان، كما ذكرنا في الظِّبَاء. الثالثة: الدابَّةُ في اللغة اسْمٌ لما يدِبُّ على وجه الأرض، ثم إنه اشتهر استعماله فيما يُرْكَبُ من البهائم، والوصيةُ تنزل عَلَى هذا الموضع الثاني، فلو قال: أعطُوهُ دابَّةً حمل على الخيل والبغال والحمير، فيما نصَّ عليه الشَّافعيُّ -رضي الله عنه-. واختلف الأصحابُ -رحمهم الله- فعنِ ابْنِ سُرَيْجٍ أن الشَّافعيَّ -رضي الله عنه- إنما ذكَرَ ذلك عَلَى عادَةِ أهْلِ مصْرَ في ركوبها جميعاً، وباستعمال لفظ "الدابة" فيها، فأما في سائر البلادِ، فحَيْثُ لا يستعمل اللفظُ إلاَّ في الفرس، لا يعطَى إِلاَّ الفرَسَ، وعن أبي إِسحاق، وابن أبي هريرة، وغيرهما أن الحُكْمَ في جميع البلاد، كما نص عليه، هذا ما أشار إليه صاحبُ الكتاب بقوله: "فقد قيل: يُحْكَمُ بالعرف، وقيل: يُنَزَّلُ على الوَضْع" يعني الوضْعَ الثاني، وهذا أظهر عند الأئمة، وعلى هذا؛ فلو قال: دابَّةً من دَوَابِّي، وله جنْسَانِ من الأجناس الثلاثة، يخير الوارث، فإن لم يكن له إلاَّ جنْسٌ واحِدٌ، تعيَّن، وإن لم يكن له شيء منها، فالوصية باطلةٌ. ويدخل في لفظ "الدابَّة" الذكر والأنثَى، والسليم والمعيب، والصغير والكبير، هذا عند الإطلاق. أما إذا قيد؛ فقال: دَابَّةً للكَرِّ، والفَرِّ أو للقتال، حُمِلَ على الفَرس، ولو قال: لينتفع بظهرها ونَسلِها [ودَرِّها]، فكذلك، ولو قال: يظَهْرِها، ونَسْلِها، حُمِلَ على الفرس، والحمار، ولو قال: للحَمْل، حُمِل على البغَال والحَمير، إِلاَّ أن يكون في بلد [حرث] جرت عادتهم بالحَمْل على البراذين، فيدخُلُ الكُلُّ. قال في "التتمة": بل لو كان المعهودُ في ذلك البلد الحَمْلَ على الجمال والبقَرِ، فيجوز أن يُعطَى حَمَلاً أو بقَرَةً، ولك أن تقول: هذا كلامٌ لم يصدُرْ عن تأمُّل، فإنا إِذا نزَّلنا الدابَّةَ عَلَى الأجناس الثلاثةِ، لا ينتظم منَّا حمْلُها عَلَى غير هذه الأجناس، بل نصفها بصفة، أو تقييدها بقَيْدٍ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالرَّقِيقُ يَتَنَاوَلُ الصَّغِيرَ وَالكَبِيرَ وَالمَعِيبَ وَالسَّلِيمِ وَالذَّكَرَ وَالأُنْثَى وَالخُنْثَى، وَإِنْ قَالَ: أَعْطُوهُ رَأْساً مِنْ رَقِيقِي وَمَاتَ وَلَهُ وَاحِدٌ تَعَيَّنَ، وَإِنْ مَاتُوا أَوْ قُتِلُوا قَبْلَ مَوْتِهِ انْفَسَخَتِ الوَصِيَّةُ، وَإِنْ قُتِلُوا بَعْدَ مَوْتِهِ انْتَقَلَ حَقُّ الوَصِيَّةِ إلى القِيمَةِ، وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقُوا عَنِّي عَبْدًا جَازَ المَعِيبُ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِالسَّلِيمِ لِعُرْفِ الشَّرْعِ في العِتْقِ، وَإِنْ قَالَ: أَعْتِقُوا عَنِّي رِقَابًا فَأقَلُّهُ ثَلاَثةٌ، فَإنْ وَفَّى الثُّلُثُ بِاثْنَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ اشْتَرَيْنَا البَعْضَ عَلَى الأظْهَرِ (و)، وَإِنْ وَفَّى بِنَفِيسَيْنِ أَوْ خَسِيسَيْنِ وَبَعْضِ الثّالِثِ فَفِي الأوْلَى تَرَدُّدٌ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: اسْمُ الرقيقِ بالوضع يتناول الصَّغير، والكَبِيرَ، والسَّليم، والمَعِيبَ والمسلَم، والكافِرَ، والذَّكَر، والأُنْثَى، والخنثَى، وفيه مسائل: إحداها: إذا قال: أوصيتُ برأْسٍ من رقيقي، أو أعْطُوه رأْسًا من رقيقي، نُظِر؛ إن لم يكن له رقيقٌ يوم الوصية، ولا حدَثَ من بَعْدُ، فالوصية باطلةٌ، وكذا لو قال: أعطُوه عبْدِي الحَبَشِيَّ، أو العبد الذي صفته كيت وكيت، [ولا عبد له بتلك الصفة يوم الوصية ولا حدث بعده، وإن حدث له أرقَّاءُ] (¬1) له إرثًا بعد الوصية، ففيه الوجهان السابقان في أن الاعتبار بيَوْمِ الوصية، أو بيَوْم المَوْت، وعليهما يُخرَّج ما إذا كان له أرقاءُ يوم الوصيَّة وحدث آخرُونَ بعْده؛ هلْ للوارث أن يُعْطِيَه رقيقاً من الحادثين، أم يتعين الأولون؟ ولو لم يملك إلا رقيقًا واحداً، وقال: أعطُوه رأسَيْنِ من رقيقي، فتبطل الوصيةُ، أم تصحُّ ويُدْفَعُ إليه ذلك الواحِدُ؟ فيه وجهان مذكوران في "التتمة" والمذهبُ عَلَى ما حكاه من تلقَّف عَن الإمام هو الثاني. وإن كان له أرقاءُ أعطاه الوارثُ منْهم مَنْ شاء، نعم، في الخنثَى وجهان: أصحهما: الجواز أيضاً؛ لوقوع الاسمِ عَلَيْه، فإنه إمَّا ذكرٌ أو أنثى. والثاني: المنع؛ لانصرافِ اللفْظ إلى الغالب المعْهُود، ويشبه ذلك بما لو أوصَى بدابَّة ينْصَرِفُ إِلى الَمعهود دون ما يَدِبُّ عَلَى وجه الأرض، ولا يجوز أن يُعْطَى غير أرقائه بدلاً إلا برضَى الموصَى له، ولا دون رضاه، أما دون رضاه، فظاهِرٌ، وأما بالرضَى؛ فلأِنَّ حقه غير متعيَّن، والمصالَحَةُ عن المجِهول غيرُ جائزة. الثانية: له أرقاء، وأوصَى بواحدة منهم، فماتوا، أو قُتِلُوا قبل موت المُوصِي، بطَلَتِ الوصيَّةُ، وإن بَقِيَ واحدٌ، تعيَّنَ ذلك الواحِدُ، وكذا لو أعتقهم إلاَّ وَاحِدًا؛ وليس للوارثِ أن يُمْسك الذي بَقِيَ، ويدفع إِليهِ قيمةَ واحِدٍ من المقتولين، وإن قتلوا بعد موته، وبعد قَبُول الموصَى له، انتقل، حتى الوصية إِلى القيمة، فيصرف الوارثُ قيمةَ مَنْ شاء منهم إليه، وإِنْ قتلوا بعد الموت، وقبل القبول، فكذلك إنْ قلْنا بالوقف أو قلنا تملك الوصيَّة بالموت، وإن قلْنا إِنَّها تُمْلَكُ بالقبول، بطَلَتِ الوصية، وإن ماتَ واحدٌ منهم، أو قُتِلَ بعد موت المُوصِي، وقَبُول الموصَى له, فللوارث التَّعْيِينُ فيه حتى يجب [التجهيز] (¬2) على الموصَى له، وتكون القيمة له، إِذا قتل، وإن كان ذَلِكَ بَعْدَ المَوْتِ، وَقَبْلَ القبول، فكذلك أيضاً، إن قُلْنا: تُمْلَكُ الوصيَّة بالموت، أو توقَّفْنا، وإن قلنا: تملك بالقبول، فيُعْطَى واحداً من الباقِينَ، كما لو كان ذَلِك قبل موت المُوصِي. الثالثة: لو أوصَى برقيقٍ من ماله، ولم يضف إلَى أَرقائه، فإن لم يكُنْ له رقيق، ¬
يشتري من ماله، وإن كان فللوارث أن يعطيه واحداً من أَرقائه، وَيشْتَرِيَ له كما يشاء، وإن قال: اشْتَرُوا له مملوكًا، فكما ذكَرْنا في قوله "اشْتَرُوا له شاةً" ولو قال: أعطوه شاة، ولم يَقُلْ من مالي، فالجواب في "التهذيب" أنَّ ذلك لا يكُونُ وصيَّةً، وحكى المتولِّي فيه وجْهَيْنِ؛ هذا أحدهما. والثاني: تصحيحُ الوصيَّة، وجعْلُها كما لو قَالَ: مِنْ مالي؛ لأنه المرادُ ظاهراً، وهذا هو المَذهب. الرابعة؛ لو قال: أعْطُوه عبداً، لم يُعْطَ أمةً ولا خُنْثَى مشكلًا ولو قال: أَعْطوهُ أمةً، لم يُعْطَ عبداً، ولا خنثَى مشكلًا وفي الواضح الوجْهان المذْكُوران من قَبل، ولو قال: رقيقًا يستمتع به، أو يَحْضنُ ولده، فهو كما لو قال: أمةً، ولو قال: رقيقاً يخْدمه، فهو كما لو أطْلَقَ. الخامسة: أَوْصَى بأَن يعتق عنه عبداً، فأظهر الوجْهَيْن: أنه يعتق عنه ما يَقع علَيْه الاسم، كما لو قال: أعطو فلاناً رقيقًا. والثاني: واختاره الماسرجسيُّ: أنه لا يعتق إلاَّ ما يجْرِي في الكفارة؛ لأن للشَّرْع عرفاً معْلُومًا في العتق، فَينزَّل لفظ الموصِي علَيْه بخلاف العَطَايا والتمليكات فإِنه لا عرف فيها. فرع: قال اشتَرُوا بثُلُثِي عبداً، وأعتقُوهُ عنِّي فامتثل الوارث ما رَسَمُهُ، ثم ظَهَر عليه دَيْنٌ مستغرِقٌ، قال الأئِمةِ: إن اشتراه في الذمَّة، وقع عنه، ولزمه الثمن، ويكون العتْقُ عن الميت؛ لأنه أعتق عنه، وإن اشتراه بَعَيْنِ التركة، بَطَل الشراء، والعتق؛ لأنه تبين أنَّهُ تُصْرَفُ فيما يتعلَّق به حق الغير، فأشبه التصرُّف في المرهون، هكذا أطلقوه، ولم يذْكُروا فيه خلافاً؛ لكنه قد سبَقَ تفْصِيلٌ في تصرف الوارث في التركة مع قيام الدَّيْن، وذكرنا على تقدير البُطْلان خلافاً في أنه إذا تَصرَّف فيه، ثُمَّ ظَهَر دَيْنٌ، تبيَّن بطلانه، أم لا؟ وهذا ينبغي أن يكون على ذلك الخِلاَفِ. السادسةُ: إذا قال: أعتِقُوا عنِّي رقابًا، أو قال: اشترُوا بثُلُثِ مالي رِقَابًا، وأعتقُوهُمْ، فأقلُّ عدد يَقَع علَيْهِ اسمُ الرِّقَاب ثلاثةٌ، فَيُنْظَرُ؛ إن تيسَّر شراءُ ثلاثِ رقابٍ فصاعدًا، بثلثه فعل، قال الشَّافعيُّ -رضي الله عنه-: والاستكثارُ مع الاسترْخَاص أولَى من الاستقلال مع الاستغْلاَءِ؛ ومعناه أن إعتاقَ خَمْسِ رقاب قليلةِ القيمة، أولَى من إعتاق أربعِ كثيرةِ القيمةِ؛ لما فيه من تخْلِيصِ رقبةٍ زائدةٍ عنَ الرِّقِّ، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَة أَعْتَقَ اللهُ بِكُل عُضْوٍ مِنْهَا عُضْواً مِنْهُ مِنَ النَّارِ" (¬1) ولا يجوزُ صرْفُ الثلث، ¬
والحَالَة هذه، إلى رقبتَيْنِ، أو رقبة، فإن صرفه إلَى رقبتَيْن، قال الشيخ أبو الفرج الزاز: يضمن الوصيُّ الرقبةَ الثالثَةَ، وضمانُهُ ثلثُ ما نفذ فيه الوصية، أو أقلُّ ما يَجِدُ به رقبةً؟ فيه خلافٌ، كما لو دفع نصيب أحد أصناف الزكاة إلى اثنين، وإن لم يتيسَّر شراءُ ثلاثِ رقابِ بالثلث، فيُنْظَرُ؛ إن لم يوجَدْ به إلاَّ رقبتان، اشتريناهُمَا، وأعتقناهما، وإن وجدْنا رقبتين، وفضل شيء، فهل يشتري بالفَاضِل شِقْصًا؟ فيه وجهان: أحدهما: وَيُحْكى عن أَبي إِسحاق: نعم؛ تكثيرًا للعتق؛ ولأنه أقرب إلَى غرض المُوصِي. والثاني: وبه قال ابن سُرَيْجٍ: لا؛ لأن الشِّقْص ليْسَ برقبة، فصار كما لو قال: اشتَرُوا بثُلُثِي رقبةً وأعتقوه، فلمَ يجد به رقبةً، لا يشتري الشقص ولأن نفاسة الرقبة مرْغُوبٌ فيها، رُوي أنه -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عن أفْضَل الرِّقَاب، فَقَالَ: "أَكْثَرُهَا ثَمَنًا، وأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا" (¬1) فيراعيها إذا ألزمنا محذور التَّشقيصَ، والوجه الأولُ أظهرُ عند صَاحِبِ الكتاب، والثاني أظُهَرْ عند عامَّة الأصْحَاب، وهو ظاهر النَّصِّ، فإن قلْنا: لا يشتري الشَّقْص، اشترينا رقبتين نفيسَتَيْنِ، يستغرق ثمنهما الثلث، فإنْ فَضَلَ عن أَنْفس رقبتينِ، وجدناهما، بطلت الوصية فيه، ويرد على الورثة، وإن قُلْنَا: يشتري الشِّقْص، فذاك، إذا وجد شقْص يشتري بالفَاضِل، وزاد عَلَى ثمن أنفس رقبتين شيء. أما إذا لم يكُنْ شراء شقُصٍ بالفاضل، إما لقلَّتِه، أو لِفِقْدَانِ الشِّقْص، فيشتري رقبتان نفيستان، فإن فَضَل شيءٌ عن أنفس رقَبَتَيْنِ وجدناهما، بطَلَتِ الوصيةُ فيه، وفيه وجه أنَّه يُوقَفُ إلَى أن يوجد شِقْص، وإن لم يزد على ثمن أنفس رقبتين شَيْءٌ؛ بل أمكن شراءُ رقبتَيْنِ نفيسَتَيْنِ، وأمكن شراءُ خسيستين، وشِقْصٌ من ثالثة فأيُّ الطريقتين أولَى؟ فيه وجهان: أحدهما: الأوَّل لمعنَى النَّفَاسَة. وثانيهما: الثاني؛ لما فيه من كَثْرةِ العِتْق، وهذا أشبه بمأْخَذَ الوَجْه الذي عليه نفرع، ولو كان لفظ الموصِي: اصْرِفُوا ثُلُثِي إلى العتق، فلا خلاف في أنَّا نشتري الشِّقْصَ، ولو قال: اشْتَرُوا عبداً بألف، وأعتقوه، فلم يخْرُج الألف من ثلثه، وأمكن شراءُ عبْدٍ بالقدْر الذي يخرج، فيشتري وُيعْتَقُ كما لو أوصَىَ بإعتاق عبد، فلم يخرج جميعُهُ من الثلث فيتعين، إعتاق القدر الذي يخرج، وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: لا يشتري وتَبْطُلُ الوصية. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الطَّرَفُ الثَّالِثُ في المُوصَى لَهُ فَإذَا قَالَ: لِحَمْلِ فُلاَنةٍ، كَذَا فَأتَتْ ¬
بِوَلَدَينِ وُزَّعَ عَلَيْهِمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَاسْتَوَى الذَّكَرُ وَالأُنْثَى فِي المِقْدَارِ، فَلَوْ خَرَجَ حَيٌّ وَمَيِّتٌ فَالْكُلُّ لِلْحَيِّ، وَقيلَ يَسْقُطُ الشَّطْرُ، وَلَوْ قَالَ: إنْ كَانَ حَمْلُهَا غُلاَمًا فَأَعْطُوهُ فَوَلَدَتْ غُلاَمَيْنِ أَوْ غُلاَمًا وَجَارِيَةً لَمْ يَسْتَحِقَّ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ في بَطْنِهَا غُلاَمٌ فأَعْطُوهُ اسْتَحَق الغُلاَم دُونَ الجَارِيةِ، وإنْ كانَا غُلاَمَينِ فَثَلاَثةُ أَوْجُهٍ، قِيلَ: يُوَزَّع عَلَيْهِمَا، وَقِيلَ: خِيَارُ التَّعْيِينِ إِلَى الوَارِثِ، وَقِيلَ: يُوقَفُ بَيْنَهُمَا إلى الصُّلْحِ بَعْدَ البُلُوغِ، وَكَذَا الحكْمُ إِذَا أَوْصَى لِأَحَدِ الشَّخْصَيْنِ وَمَاتَ قَبْلَ البَيَانِ إنْ جَوَّزنَا الإِبهَامَ في المُوصَى لَه وَصَحَّحْنَا هَذِهِ الوَصِيَّةَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من المواضِع التي يُبْحَثُ فيها عن اللَّفْظ المستعْمَل في المُوصَى له والوصيَّة للحَمْل، وقد سبق شرطُ صحَّتِها، والنَّظَرُ الآن في قضية اللَّفْظُ باعتبار العدد، والذُّكُورة، والأنَوثَة، وفيه صورتان: إحداهما: إذا قال: أَوْصَيْتُ لحملِ فلانَة بكذا، فأتت بولدَيْنِ، وُزِّعَ عليهما بالسَّوِيَّة، ولا يفضل الذكر على الأُنْثَى، كما لو وَهَبَ من رجُلٍ وامرأةٍ شيئاً، وإنما التفضيلُ في التَّوْريث بالعُصُوبة، نعم، لو فضل صريحًا فقال: إن كان في بطنها ذَكَرٌ فله كذا، وإن كان في بطْنِها أنثى فكذا، كان الأمر عَلَى ما ذكر، ولو خرج حيٌّ وميِّتٌ، فوجهان: أظهرهما: أن الكلَّ للحيِّ والميت كالمعدوم؛ ألا ترى أن الواحد، إذا انفصل مَيّتاً، تبطل الوصيةُ، ولا يُصْرَفُ إلَى ورثته شيء، وصار كالميراث الموقُوف للحَمْل؟ وفيه وجهٌ؛ أنَّه يسْقُط الشطْرُ، ويكون للوارث، ويصرف النصفُ إلى الحيِّ أخْذاً بالأسوأ في حقِّه. الثانية: لو قال: إنْ كان حملُها غلامًا، فأعطوه كذا، وإن كان جاريةً فكذا، أو اقتصر على أحد الطرَفَيْنِ، فإن ولدتْ غلامًا، أو جاريةً، فعلَى ما ذكرنا، وإن ولدتْ غلامًا وجارية، فلا شيء لواحدٍ منهما؛ لأنَّه شَرَطَ صفة الذكورة أو الأنوثة في جُمْلة الحَمْل، ولم يحْصُل، وإن ولدت غلامَيْن، فالجوابُ في الكتاب أنه لا شَيْءَ لهما؛ لأن التنكير يُشْعِر بالتوحيد. وَيصْدُق أن يُقَالَ: بأن حملها غلامان، لا غلام، لكنه ذكر في "الطَّلاق"؛ أنه لو قال: إن كان حملُكِ ذَكَراً، فأنتِ طالقٌ طلقةٌ، وإن كان أنثَى، فأنت طالقٌ طلقَتَينِ، فولدَتْ ذكَرَيْن، وجْهَيْن: أحدهما: أنها [لا] (¬1) تُطلَّقُ؛ لهذا المعنَى. والثاني: تُطلَّقُ واحدةً والمعنَى، إن كان جنس حملِكِ ذَكَرًا، ولا فرْقَ بين البابَيْنِ، ¬
فيجيء وجه آخُر؛ أنه يقسم المذكور بينهما، وهذا ما أجاب به الشيخ أبو الفرج الزاز، قال: وبمثله لو قال: إن كان حملها ابناً، فله كذا، وإن كان بنتاً فكذا، فولدَتِ ابنين، فلا شيء، لهما، [وفرق] بأن الذكر والأنثى أسماء جنس، فيقع على الوَاحِد والعَدَد، بخلاف الابن والبنت، وهذا ليس بمتضح، والقياسُ ألاَّ (¬1) فَرْق. ولو قال: إنْ كان ما في بَطْنِهَا غلاماً، والذي في بطنها، فهو كما لو قال: إن كان حمْلُها غلاماً. ولو قال: إنْ كانَ فِي بَطْنِهَا غلامٌ، فأعطوه كذا، فولدَتْ غلاماً وجاريةً، استحق الغلامُ ما ذكره؛ وإن ولدَتْ غلامَيْن، فوجهان منقولان في "التتمة": أحدهما: بُطْلاَنُ الوصية، وهذا يخرَّج على قولنا: "إن التنكير يقتضي التوحِيدَ". أظهرهما: وهو المذكور في الكتاب: أنها [لا] (¬2) تبطُلُ، وعلَى هذا؛ فثلاثة أوجه: أحدها: أنه يوزَّع عليهما، فليس أحدهما أولَى من الآخر. وأشبههما: أن الوارِثَ يتخيَّر، فيصرفه إلَى من شاء منهما، كما لو وقع الإبهام في المُوصَى به يرجع إلى الوارث. والثالث: أنه يوقَفُ بينهما إلَى أن يبلغا، فيصطَلِحَا، وتجري الأوْجُه فيما إذا أوصَى لأحد الشخصين، وجوَّزنا الإبهام في الموصَى له ومات قبل البيان ففي وجّهٍ: يُوَزَّعُ، وفي آخر تَعْيِينِ الوارث، وفي آخر يوقَفُ بينهما إلى أن يصطلحا. ولو قال: إن كانتْ حاملاً بغلام، أو إن ولدَتْ غلاماً، فهو كما لو قال: إن كان في بطْنِها غلامٌ، ولو قال: إن ولدت ذكراً، فله مائتان، وإن ولدت أنثَى، فلها مائة، فولدت خنَثَى، دُفِعَ إلَيْه الأقلُّ، وإِن ولدت ذَكَراً وأنْثَى (¬3)، فلكل واحد منهما ما ذُكِرَ، ولو ولدَتْ ذكَرَيْن وأنثيين جاءَ الوجهان، ثم الوجوهُ الثلاثةُ في كلِّ واحدٍ من الصنفين، وقد عرفتَ ممَّا بيَّنَّا أن جوابَ صاحب الكتاب، فيما إذا قال: إن كان حَمْلُها غلاماً فأعطوه كذا، فولدَتْ غلامَيْن، لا يلائم جوابه فيما إذا قال: إنْ كان في بَطْنِها غلامٌ، فولدَتْ غلاَميْن. وقوله: "إن جوَّزنا الإبهامَ في المُوصَى به، وصحَّحنا هذه الوصية" بَسْطٌ في العبارة، وأحدُهُمَا مغْنٍ عن الآخر، والله أعلم. ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَإِذَا أَوْصَى لِجِيرَانِهِ أُعْطِيَ لِأَرْبَعِينَ (ح و) جاراً مِنْ أَرْبَعَةِ جَوَانِبَ قُدَّامٍ وَخَلْفٍ وَيَمينٍ وَشِمَالٍ لِلحَدِيثِ، وَاسْمُ القُرَّاءِ لِمَنْ يَحْفَظُ جَمِيعَ القُرْآنِ، فَإنْ لَمْ يَحْفَظْ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ فَوَجْهَانٍ، وَالعُلَمَاءُ يُنَزَّلُ عَلَى العُلَمَاءِ بِعُلُومِ الشَّرْعِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ التَّفْسِيرُ وَالحَدِيثُ وَالفِقْهُ، وَلاَ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَسْمَعُ الحَدِيثَ فَقَطْ وَلاَ عِلْمَ لَهُ بِطَرِيقِ الحَدِيثِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصل صور: إحداها: لو أوصَى لجيرانه، فالمشهورُ من المذْهَب أنه يُصْرَفُ إلى أربعين داراً مِن كل جانب من الجوانب الأربعةِ؛ لِمَا رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "حَقُّ الْجِوَارِ أَرْبَعُونَ دَارَاً هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا وأَشَارَ قُدَّاماً، وَخَلْفاً، وَيميناً، وَشِمَالاً" (¬1). وعند أبي حنيفة -رحمه الله- الجار هو الذي يلاصق دارُه دارَهُ، وحَكاه بعضُهم وجهاً لنا. وقال الأستاذ أبو منصورٍ: من يلاصق دارُه دارَهُ من الجوانب جارٌ، وفيمن ليس بملاصقٍ كالذي بابُ دارِهِ حذاء بابِ دارِهِ، والذين هم في زقاقٍ واحدٍ غير نافذ -اختلافٌ للأصحاب (¬2). وقال أحمد -رحمه الله- فيما روى صاحب "التهذيب" وغيره: إن جيرانه الَّذين يحْضُرُون مسْجِدَه، والمشْهُور عنه كالمَشْهور من مذْهَبِنا. الثانية: إذا أوصَى للقُرَّاء، لم يُصْرَفْ إلَى من يقرأ بعْضَ القرآن، بل إلى الَّذينَ يقرؤون الجميع؛ لأنهم الذين يقع الاسم عليهم في العَادَةِ، وهلْ يدْخُلُ فيه من لا يحْفَظ، ويقرأ من المُصْحَف؟ فيه وجهان؛ يُنْظَرُ في أحدهما إلى الوضع، وفي الثاني إلى العُرْف، وهو الأظهر، ولك أن تقول: اسم القراء، والمقرِئِينَ في هذه الأعْصَارِ يُطْلَقُ على الحُفَّاظ، وعلى الذين يَقْرَؤُونَ بالألحان. وبالمعنَى الثاني لا يُشْتَرطُ لإطلاق اللَّفْظ الحِفْظُ، ولا قراءة جميع القرآن، فيجوز أن يُقَالَ: إنْ كان هناك قرينةٌ تُفْهِمَ أحد المعنَيَينِ، فذاك، وإلاَّ، فهُوَ كما لو أوصَى ¬
للموالِي (¬1). الثالثةُ: إذا أوصَى للعلماء، أو لأهل العلْم صُرِفَ إلى العُلَماء بعُلوم الشرع التفسير والحديث والفقه، ولا يدخل في هذا الاسم الذين يَسْمَعُون الحديثَ، ولا علْم لهم بطُرُقِه لا بأسامي الرواة، ولا بالمُتُون، فإنَّ السماع المجرَّد ليس بعْلم، وكذلك لا يدْخُل فيه المقرئون، والمعبّرون، والأُدَبَاء، والأَطِبَّاء، والمَنجِّمُون، والحُسَّاب، والمُهَنْدِسُون، وهكذا ذكر أكثرهم في المتكلِّمين، وفي "التتمة" أن الكلام يدْخُلُ في العلوم الشرعية، وهذا قريبٌ (¬2)؛ لأن إطلاق اسم العلماء في الفُقُهَاء عُرْفٌ مشهور، وهو بالفارسيَّة في ¬
لفظ دَانَسُمَنَدانَ (¬1) أظهر لكن لا يُعْرفُ في العُرْف فَرْقٌ بين المفسِّىر، والمحدِّث، وبين المتكلِّم، فليدخل الكلُّ، أو ليخرُجِ الكلُّ. ولو أوصَى للمتفقهة، أو الفقهاءِ, أو الصُّوفية، فعلَى ما ذكرنا في الوقْفِ؛ لكن لفظ صاحب "التهذيب" لا يقنع؛ بما مر في تفسير الفقهاء؛ لأنَّه قال: ولو أوصَى للفقهاء، فهو لِمَنْ يُعْلَم أحكام الشَّرْع من كلِّ نوعٍ شيئاً، وفي "التتمة": أن الرجوع فيه إلى العادة فمن يُسمَّى فقيهاً يدخل فيه، ثم حكى وجهاً في أَن مَنْ حَفِظ أربعينَ مسألةً، فهو فقيهٌ؛ لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ حَفِظ عَلَى أُمَّتِي أَرْبَعِينَ حَدِيثاً، كُتِبَ فَقِيها" (¬2) ولا يقْوَى هذا لِلاحتجاج؛ لأن حفظ الشيء غيرُ حفْظِهِ على الغَيْر، وأيضاً، فلا دلالة لَهُ على اعتبار أربعين مسألةً، فقد تجتمع أحاديث كثيرة في المسألة (¬3) الواحِدَةِ. ولو أوصَى لأعقل النَّاس في البلد، صُرِفَ إلَى أزهدهم في الدُّنْيا، حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم عن الرَّبيع، عن نصِّه، ولو أوصَى لأجهلِ النَّاس، روى القاضي الرُّويانىُّ أنه يُصْرَفُ إلى عبدة الأوثان، فإن قال: من المسلمين، قال: مَنْ يسبُّ الصحابة -رضي الله عنهم- وفي "التتمة" أنه يُصْرَفُ إلى الإماميَّة المنتظرة للقائم، وإلَى المشبِّهَة الذين يثبتون لله تعالَى الجوارحَ والأعْضَاءَ (¬4). قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ أَوْصَى لِلْفُقَرَاءِ دَخَلَ المَسَاكِينُ، وَلِلمَسَاكِينِ دَخَلَ الفُقَرَاء إذْ يُطْلَقُ الاسْمَان عَلَى الفَرِيقَيْنِ، وَلَوْ أَوْصَى للفُقَرَاءِ وَالمَسَاكينِ وَجَبَ الجَمْعُ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ، ¬
وَإِنْ أَوْصَى لِسَبِيلِ اللهِ فَهُوَ لِلغُزَاةِ، وَلِلرِّقَابِ فَهُوَ لِلمُكَاتَبِينَ (م) بِعْرفِ الشَّرْعِ، ثُمَّ لاَ يَجِبُ الاسْتِيعَابُ، وَأَقَلُّ مَا يَكْفِي مِنْ كُلِّ جِنْسٍ ثَلاَثةٌ (ح)، وَلاَ يَجِبُ التَّسْوَيةُ بَينَ الثَّلاَثِ إِلاَّ إِذَا أَوْصَى لِثَلاَثةِ مُعَيَّنِينَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يدْخُل في الوصيَّة للفقراءِ المساكينُ، حتَّى يجوز الصرفُ إلَى هؤلاء، وإلى هؤلاءِ، وكذلك يدخل في الوصية للمساكين الفقراءُ، ويجوز الصَّرْفُ إلى الصِّنْفَيْنِ؛ لأنَّ كلَّ واحد من الاسمَيْنِ يقع على الفَرِيقَيْنِ عنْد الانْفِرَادِ؛ وعن أبي إسحاق المَرْوَزِيُّ روايةُ قَوْلٍ: أنَّ ما أوصَى به للفقراءِ, لا يجوز صرْفُه إلى المساكين، وبالعَكْس، يجوز؛ لأن حاجة الفقراء أشدُّ، وهذا في "الرقْم" منسوبٌ إلَى رواية عصام ابن يوسُفَ عن الشَافعيِّ -رضي الله عنه- ولو جمع بينهما، فأوصَى للفقراء والمساكينِ، يجب الجمع بينهما، كما في الزكاة. ولو أوصَى لسبيل الله؛ وقال ضَعُوا ثُلُثِي في سبيل الله، فهو للغزاةِ الَّذين تُصْرَفُ إليهم الزكاةُ، ولو أوصَى للرقاب أو قال: ضَعُوا ثُلُثِي في الرقاب، فللماكتَبِينَ، فإن دُفِعَ إلَى مكاتَبٍ، فعاد إلى الرِّقِّ، والمالُ باقٍ في يده، أو في يد السيِّد، استرد، ولو أوصَى للغارمين، أو لابن السبيل، فلمن تُصرَفُ إليه الزكاة منهم؟ وبالجملة فالحُكْمُ في هذه المسائلِ كما في الزكاة؛ أخذاً بعْرَفِ الشرع فيها؛ ولذلك يقول: لو أوصَى للفقراء والمساكين، يُجْعَلُ المالُ بين الصنفَيْنِ نصْفَيْنِ، ولا يُجْعَلُ، كما لو أوصَى لبني زَيْدٍ، بني عمْرو؛ حيث يقسم [المال] (¬1) عَلَى عدَدِهِمْ، ولا ينصَّف، ولا يجب الاستيعاب. ويكفي الصَّرْف من كلِّ صنْفٍ إلى ثلاثة، ولا يجب التسويةُ بين الثلاثة، ولو صرف إلى اثنَيْنِ، غرم، إما الثلث، أو أقلَّ ما يُتَمَوَّل؛ على الخلاف المذكُورِ في "قسم الصدقات" ثم ليس له دفْعُ ما يغرمه إلى ثالث، بل يسلِّمه إلى القاضي؛ ليدفع بنفسه، أو يردَّه إليه، ويأتمنه في الدفع. والوصيةُ للعلماء وسائر الموصُوفِينَ كالوصيَّة لأصناف الزكَاة في أنه لا يجِبُ الاستيعابُ، ويقتصر على ثلاثةٍ، والأَولَى استيعابُ الموجُودِينَ عند الإمكان كما في الزَّكَاة. ولو أوصَى لفقراءِ بلدةٍ بعينها، وهُمْ عددٌ محصُورُون، فيشترط استيعابُهم، والتسويةُ بينهم؛ لتعيُّنهم بل يشترط القبول [في] هذه الوصية بخلاف الوصية لمطلق الفقراء، ذكره صاحب "التهذيب" وغيره، واعلم أنا سنذكر الخلافَ في أنَّ ما أوْصَى به للفقراء أو المساكينِ، هل يجوز نقلُهُ من بلدةِ المَال إلى غيره؟ فإذا قلْنا: لا يجوز، ¬
وجب أن يكون قولُه "أوصيت للفقراء" وفقراءُ البلدة محصورُونَ، بمثابة قَوْلِهِ "أوصيت لفقراءِ هَذِهِ البلدة وهم محصُورُونَ" ويدلُّ عليه أن الأستاذ أبا منصورٍ ذَكَر في الوصيَّة للغارمين أنه يعطَى لثلاثة منهم، إن كانوا غَيْرَ محصُورِين. وإن كانوا محصورين، استوعبوا، فإن اقتصر الوصيُّ على ثلاثة، فيجزئه أم يضمن حصَّة الباقين؟ جعله على جوابَيْنِ، إن قلْنا بالثاني، فالحساب عَلَى ديونهم، أم على عدد رؤوسهم؟ فيه وجهان (¬1). ولو أوصَى لثلاثةٍ معينين، وجب التسوية بينهم، بخلاف الثلاثة المصْروفِ إلَيْهم من الفُقَراء وسائر الأصناف، فإنا عرفْنا ذلك من معْهُود الشَّرْع في الزكاة، وهاهنا الاستحقاق مضافٌ إلَى أعيانهم. ويجوز أن يُعلَمَ قولهِ: "دخل فيه المَسَاكِين" بالواو، وقوله: "فهو للمكاتَبِين" بالميم، وقوله: "وأقل ما يكفي من كلِّ جنسٍ ثلاثة" بالحاء والألفِ, لأن الحُكْم هاهنا كما في الزَّكَاة، وسنذكر مذْهَبَهُم في "قسم الصدقات". ولو أوصَى لسبيل البر، أو الخَيْر، أو الثَّواب؛ فعلَى ما ذكرنا في الوَقْف؛ ولو قال: ضعْ ثُلِثي حيث رأيْتَ، أو فيما أراكَ الله، لا يضَعُه في نفْسِهِ، كما لو قال بعْ بكذا، لا يبيعه من نَفْسِهِ، والأَولَى صرفُهُ إلى أقارب المُوصِي الذين لا يَرِثُون منه ثم إلَى محارمه من الرِّضَاع، ثم إلَى جيرانه (¬2) والله أعلم. ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ وَلِلفُقَرَاءِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ القِيَاسُ أنَّهُ كَأَحَدِهِمْ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ أنَّهُ لَوْ أَعْطَى أَرْبَعَةً أَوْ خَمْسَةً فَيُعْطِيهِ الخُمُسَ أَوِ السُّدُسَ فَيَكُونُ كَأَحَدِهِمْ (و)، وَقِيلَ: يَكْفِيهِ (م ح) أَقَلُّ مَا يُتَمَوَّلُ إِذْ لَهُ ذَلِكَ في آحَادِ الفُقَرَاءِ، وَقِيلَ: يُعْطِيهِ الرُّبُع (خ) إِذْ أَقَلُّ عَدَدِ الفُقَرَاءِ ثَلاَثَةً، وَقِيلَ: النِّصْفَ (م) لِزَيْدٍ وَالنِّصْفَ لِلفُقَرَاءِ لِلمُقَابَلَةِ في الذِّكْرِ وَهُوَ خِلاَفُ النَّصِّ، وَلَوْ أَوْصَى لِلعَلَوِيِّينَ أَوْ الهَاشِمِيِّينَ أَوْ قَبِيلَةٍ عَظِيمَةٍ فَفِي صِحَّةِ الوَصِيَّةِ قَوْلاَنِ، وَوَجْهُ الإبْطَالِ عُسْرُ الاسْتِعَابِ، مَعَ أَنَّهُ لاَ عُرْفَ في الشَّرْعِ يُخَصِّصُ بِثَلاَثَةٍ بِخِلاَفِ الفُقَرَاءِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذا الفصْلُ، والذي بعْدَه، ليس لهما كثير اختصاص [بهذا الموضع]، ولعل ركْنَ الموصَى له، أو ركْنَ الصيغة، أحقُّ بهما، ثم فِقْه الفصْل مسألتان: إحداهما: إذا أوصى لزيد، ولجماعةٍ معه؛ فإما أن يكونوا موصوفين أو معينِينَ: القسم الأول: إذا كانُوا موصُوفينَ غيْرَ محْصُورِينَ، كالفقراءِ والمساكينِ، ففي المسألة وجه أن الوصيَّةِ في حقِّ زيد باطلةٌ؛ لجهالةِ ما أُضِيفَ إليه، حكاه أبو الفرج [الزاز] (¬1) في "الأمالي" وهو ضعيف بمرَّةٍ، والصَّحيحُ صحَّتُها، وعلَى هذا، فوجهان، وُيقال: قولان: أظهرهما: ما روى المُزَنِيُّ عن الشافعيِّ -رضي الله عنه- في بعْض كتبه: أنه قال: القياسُ أنه كأحدهم ووجه التشبيه بما إذا أوصَى لزيد، ولأولاد عَمْرٍو، فإن زيداً يكون كأحدهم، ثم اختلفوا في تَفْسِير ما ذكَرَهُ على وجوه: أحدها: أن معناه أن الوصِىَّ يعطيه سهماً من سهام القِسْمَة، إنْ قَسَّم المالَ على أربعة من الفقراء، أعطاه الخمس؛ لأن جملة المصْرُوف إليهم خمسةٌ، وإن قسَّمه علَى خمسةٍ منهم، أعطاه السدُس، وعلَى هذا القياس، وهذا ما قرره الأستاذ أبو منْصُور. ¬
وأظهرهما: أنه كواحدٍ منهم في أنه يجوز أن يُعْطَى أقلَّ ما يُتَموَّلُ إلاَّ أنه لا يجوز حرمانُهُ للنصَّ عليه، ويُعطَى غنياً كان، أو فقيراً. والثالث: وبه قال مالك [رحمه الله]: أنَّ لزيدٍ الربع، والباقي للفقراء؛ لأن أقلَّ مَنْ يقع عليه اسمُ الفقراء ثلاثةٌ، فكأنه أوصَى لزيد، ولثلاثةٍ معَهُ، ثم نصيبُ الفقراء يقسَّم بينهم على ما يراه الوصىُّ من تَسَاوٍ وتفاوُتٍ، ولا بدَّ على اختلاف الأوجُهِ من الصَّرْف إلَى ثلاثةٍ من الفقراء، وربما أفهم لفظ صاحب "الشامل" تفريعاً على الوجه الأوسط وجوز الاقتصار على اثنين منْهم، إذا كان زيدٌ فقيراً. والوجه الثاني: وبه قال أبو حنيفة، وأحمد -رحمهما الله -: أن النصف لزيد، والنصف للفقراء؛ لأنه قابل بينه وبينهم في الذِّكْر، فأشبه ما إذا أوصَى لزيد وعمرو، وعن أبي إسحاق أن زيداً إن كان فقيراً، فهو كأحدهم، وإلاَّ، فله النصفُ، حكى البندنيجي عنه؛ أنه ذكره في الدَّرْس، ونقله إِلى الشَّرْح، فهذا وجه ثالثٌ. وفي "التَّتمة" أنه إن كان غنياً، فله الربع؛ لأنه يدخل في الفقراء، فهم ثلاثة، وهو رابِعُهم، وإن كان فقيراً، فله الثُلُث؛ لدُخُوله فيهم، وهذا وجهٌ رابعٌ. هذا كلُّه فيما إذا أطلق ذكْر زَيدٍ، أما إذا وصَفَه بمثل صفة الجماعة، فقال: لزيد الفقيرِ، وللفقراءَ، جرى الخلاف فيما لزيد، إن كان فقيراً، ومنهم من خصص الأوجه بهذه الحالة، ونفى القول بكونه كأحدِهِمْ عند الإطلاق، وإن كان غنيّاً، لم يُصْرَفْ إلَيْه شيءٌ، ونصيبه للفقراء، إن قلنا: إنَّه كأحدهم، وإلاَّ، فهو لورثة المُوصِي، وإن وصف زيداً بغير صفة الجماعة؛ فقال: لزيدٍ الكاتبِ، وللفقراءِ. قال الأستاذِ أبو منصور: له النصْفُ قولاً واحداً، ويشبه أن يجيءَ فيه القوْلُ بأن له الربُعُ إن لم تجئْ باقي الاختلافات. ولو أوصَى لزيدٍ بدينارٍ، للفقراءِ بثُلُثِ مالِهِ، لم يُصْرَفْ إلى زيد غَيْر الدينار، وإن كان فقيراً؛ لأنه قطع اجتهاد الوصيِّ بالتقدير، ولك أن تقول: إذا جاز أن يكون التنصيص علَى زَيْدٍ في قوله: "لزيد وللفقراء؛ لئلا يُحْرَمَ زيدٌ، جاز أن يكون التقدير هاهنا: لئلا ينقص المصروف إلَيْه عن دينار، وأيضاً، فيجوز أن يقصد عيْن زيد بالدينار، وَجهه الفقراء بالباقي، فيستَوِي في غرضه الصَّرْف إلى زيد وغيره. ولو أوصَى لزيد، وللفقراء، والمساكين، فإن جعلناه كأحدهم في الصورة السابقةِ، فكذلك هاهنا، وإن جعلْنا له النصْفَ هناك، فله الثلثُ هاهنا، وإن جعلْنا له الربُعَ هناك، فله السبُعُ هاهنا. القسم الثاني: إذا كانوا معينين، نُظِر؛ إن لم يكونوا محصُورِينَ كالعَلَوِيِّينَ
والطَّالِبِيِّينَ، فسنذكر الخلافَ في صحَّة الوصيَّة لهم وإن صحَّحنا، فالحُكْم كما إذا كانوا موصُوفِينَ، وإن لم نصحح، قال المسعوديُّ: هو كما لو أوصَى لرجل وللملائكة، وإن كانوا محصُورِينَ، فهو كأحدهم أم له النصف قال الأستاذ أبو منصور: فيه احتمالان أظهرهما الثاني، ثم حكى اختلافاً للأصحاب في أن النصْفَ الذي هو لهم (¬1) يُقَسَّمُ بين جميعهم، أم يجُوزُ صرْفُه إلى ثلاثة منهم؟ والمشهورُ لزومُ القسْمة على الجَمِيعِ. فَرْعٌ: له ثلاثُ أمهاتِ أولادٍ، وأوصى لأمهاتِ أولادِهِ، وللفقراءِ، والمساكين. قال المتولِّي: ظاهر المذْهَب قسمةُ المال علَى الأصنام أثلاثاً، وعن أبي علي الثقفيِّ: أنه يُقسَّمُ على خمسة؛ لأن أمهاتِ الأولادِ محصوراتٌ، ويجب استيعابُهُنَّ، والفقراءُ، والمساكينُ غيرُ محصورين، فَيُجْعَلُ كلُّ واحد من الصنْفَيْنِ مصرفاً وكلُّ واحدةٍ من أمهات الأولاد مصرفاً، [والله أعلم]. المسألة الثانيةُ: في الوصية لجماعةٍ معينين غيرِ محصُورين؛ كالعلوِيَّة، والهَاشِمِيَّة، والطالِبِيَّة، قولان، ويُقَال: وجهان: أصحُّهما: وبه قال أحمد -رحمه الله- أنها صحيحةٌ كالوصية للفقراء، والمساكين. والثاني: وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله- أنها باطلة؛ لأن التعميم يَقْتَضِي الاستيعاب، وأنَّه ممتنعٌ بخلاف الفقراء، فإنا عرَفْنَا هناك عرفاً مخصصاً للشرع بثلاثة، فاتَّبَعْناه. ومَنْ نَصَرَ الأول، قال: ذلك العرف إنَّمَا يثبت في الفقراء، وأصناف الزكاة، ثم ألحق به العلماء ونحوْهم بالاتفاق، فجاز أن يلحق به العَلَوِيَّة، ومن في معناهم لتعذُّر الاستيعاب، فإن قلنا بالأول، لم يجب الاستيعابُ، ويجوز الاقتصارُ عَلَى ثلاثةٍ منهم، ولا يجبُ التسوية، كما في الفقراء، ولا يُشْتَرَطُ القبول. ومهْما أوصَى لبني فلان، فإن عدوا قبيلة كبني تميم، وبني هاشم، فهي كالوصيَّة للعلَوِيَّة، وفي جواز الصرف إلى [أبنائهم] (¬2) وجْهان، ذكرناهما في "الوقْف" عَلَى بني تميم؛ والأظهرُ الجوازُ: فإن لم يُعَدُّوا قبيلةً؛ كبني زيْدٍ، وبني عَمْرٍو، فيشترط القبول، والاستيعابُ، والتسويةُ، ولا يجوزُ الصَّرْف إلى الإناث. وأما لفظ الكتاب فقوله: "وإذا أوصَى لزيْد، وللفقراء"، أجرى ذكر زيد من غَيْر وصْف بالفَقْر، ولا غيره، فيجوز أن يريد به المشترك بين صورة تجريد ذكْر زيد، ووصفه ويجوز أن يريد صورةَ التجْريد علَى التقْدِيرَيْنِ، فيجوز أن يُعْلَم قولُهِ: "قال ¬
الشافعيُّ -رضي الله عنه-: "القِيَاسُ أنَّهُ كَأَحَدِهِمْ" لما ذكرنا أن بعضهم لمْ يُثْبِتْ هذا القول في صورةِ التجريد، وحَمَلَ لفظ الشافعيِّ -رضي الله عنه- على ما إذا أوصَى لزيد الفقير، وللفقراءِ، ويجوز أن يُعْلَمَ ما سوَى وجه "النصْف" بالحاء والألف؛ لأنهما يقولان بذلك الوجه، وما سوى وجه "الربع" بالميم؛ لأن مالكاً يقول به، وقوله: "أو قبيلة عظيمة" يعني التي تنحصر، لا التي تكثر. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ وَلِجِبْرِيلَ فَالنِّصْفُ (و) لِزَيْدٍ وَالبَاقِيَ بَاطِلٌ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: لِزَيْدٍ ولِلرِّيحِ، وَقِيلَ: الكُلُّ لَهُ إِذْ الْإضَافْةُ إِلَى الرِّيحِ لاَغِيَةٌ بِخِلاَفِ جِبْرِيلَ، وَلَوْ أَوْصَى لِزَيْدِ وَلِلَّهِ قِيلَ: الكُلُّ لِزَيْدٍ، وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى تَأَكِيدٌ لِقُرْبَةِ الوَصِيَّةِ، وَقِيلَ: المُضَافُ إِلَى اللَّهِ لِلفُقَرَاءِ فَإِنَّهُمْ مَصَبُّ الحُقُوقِ. قَال الرَّافِعِيُّ: إذا أوصَى لزيد وجبريل عليه السلام فوجهان: أصحهما: أن النصْفَ لزيد، وتبطُلُ الوصية في الباقي، كما لو أوصَى لزيد، ولأحد ابْنَيْهِ، يكون لزيد النصْفُ، وتبطل في الباقي، إن لم نصحح الوصيَّةَ للوارث، أو صحَّحناها، ورُدَّ بسائر الورثة كما لو أوصَى لابْنِ زيدٍ، وابْنِ عمْرٍو، ولم يكن لعمرٍو ابْنٌ، أو لزيدٍ وعَمْرٍو، وابْنَيْ بَكْرٍ، ولم يكن لبكرٍ إلاَّ ابنٌ، يسمى زيداً يكون النصفُ للموجود، ويبطل الباقي. والثاني: وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-: أن الكلَّ لزيد، ويلْغُو ذكْرُ من لا يثبت له الملك ويفارِقُ تلك الصورة؛ فإن المذكور هناك ممَّن يثبت له الملْكُ، ولم يذكر صاحب الكتاب في المسألة سِوَى الوجه الأول، وذكر الوجْهَيْن فيما إِذا قال: لزيد وللرِّيح، وأوهم القطْعَ بما ذكر في الصُّورة الأولى؛ فرقاً بأن جبريل حيٌّ قادرٌ، والإضافة إلى الرِّيح لاغيةٌ مِنْ كل وجه، والأكثرون نقلوا فيهما وجْهَيْن بلا فرق، وطردُوهما في كلِّ صورة. أَوْصَى لزيدٍ، ولمَنْ لا يُوصَفُ بالملك؛ كالشيطان (¬1)، والبهيمة، والحائط، وغيرها, ولو أوصَى لزيد وللملائكة، أو لزَيْدٍ وللرياحِ، أوله وللحيطانِ، فإن جعلنا الكلَّ لزيدٍ، فذاك، وإلا، فله النصف، أو الربعُ، أو للموصِي أن يعطِيَهُ أقلَّ ما يُتَمَوَّلُ على الخلافِ المذكورِ فيما إذا أوصَى لزيد، وللفقراء، أو لو أوصَى لزيد وللَّهِ تعالَى، فوجهان: أحدهما: أن الكلَّ لزيد، وذكْرُ اللَّه تعالَى للتَّبَرُّك؛ كقوله تعالَى في آيتَي الفَيْءِ، ¬
والغَنِيمَةِ: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال- 41]. والثاني: أن النصفَ لزيد، والباقي للفقراء؛ فإنَّهم مَصَبُّ الحقوق المضافة إلى اللَّهِ تعالَى. قال الأستاذ أبو منصور: وهذا أصحُّ الوجهَيْن، لكنه لم يخصَّص النصف الباقي بالفقراء، بل [لو] قال: إنه في سَبِيل اللَّه، يُصْرَفُ إلَى وجوه القُرْب، وفيه وجه ثالثٌ عن ابن القاصِّ، أن النصفَ يُرْجَعُ إلَى ورثة الموصِي. واعلم أنا حكَيْنا فيما إذا أوصَى لأجنبي، ووارث يطلب الوصيةُ في حقِّ الوارث وجهاً أنها تبطل في حقِّ الأجنبيِّ أيضاً، بناءً على أن تفريق الصفقة لا يجوز، وذلك الوجهُ علَى ضعْفه يلزم طَرْدُه في نَصِيبِ زيْدٍ في هذه الصُّورة. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ أَوْصَى لِأَقَارِبِ زَيْدٍ دَخَلَ فِيهِ الوَارِثُ وَالمَحْرَمُ وَغَيْرُ المَحْرَمِ (ح)، وَلاَ يَدْخُلُ الأَبُ وَالابْنُ فَلاَ يُعَرَّفَانِ بِالقَرِيبِ، وَيدْخُلُ الأَحْفَادُ وَالأَجْدَادُ، وَقِيلَ: لاَ يَدْخُلُ (ح) الأُصُولُ وَالفُرُوعُ، وَقِيلَ: يَدْخُلُ (ح)، وَلاَ يُرْتَقَى فِي بَنِي الأَعْمَامِ مِنَ الأَقَارِبِ إِلاَّ إلى أَقْرَبِ جدٍّ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِأَقَارِبِ الشَّافِعِيِّ في زَمَانِهِ ارْتَقَيْنَا إلى بَنِي شَافِع لاَ إلى بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي المُطَّلِبِ، وَفِي زَمَانِنَا لاَ يُصرَفُ إِلاَّ إِلَى أَوْلاَدِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ لاَ إِلَى بَنِي شَافِعٍ، وَقَرَابَةُ الأُمِّ تَدْخُلُ فِي وَصِيَّةِ العَجَم، وَلاَ تَدْخُلُ في وَصِيَّةِ العَرَبِ عَلَى الأَظْهَرِ لِأَنَّهُمْ لاَ يَعُدُّونَ ذَلِكَ قَرَابَةً، إِلاَّ إِذَا أَوْصَى لِلأَرْحَامِ فَإِنَّ لَفْظَ الرَّحِمِ لاَ يُخَصُّونَ بِهِ، وَلَوْ أَوْصَي لِأَقَارِبِ نَفْسِهِ خَرَجَ وَرَثَتُهُ لِقَرِينَةِ الشَّرْعِ، وَكَانَتِ الوَصِيَّةُ كُلُّهَا لِلآخَرِينَ، وَقِيلَ: يُوَزَّعُ فَيَبْطُلُ نَصِيبُ الوَارِثِ وَيَصِحُّ البَاقِي. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الكلامُ في هذا الموضِعِ إلَى آخر الطَّرَف في الوصيَّة للقرابة، وتشتمل مسألتَيْنِ: إحداهما: إذا أَوْصَى لأقارِب زَيْدٍ، فيتضح الحكم بذِكْرِ جُمَلٍ: إحداها: يدخل في هذا اللفظ الذكَرُ والأنْثَى، والفقيرُ والغنيُّ، والوارثُ وغيرُ الوارثِ، والمحرمُ وغير المحرم، والقريبُ والبعيدُ، والمسلمُ والكافرُ, لأن الاسم ينتظم الجميع. وقال أبو حنيفة: لا يدْخُل الغنيُّ، ولا غيرُ المَحْرَمِ، ولا يسوى بين القريبِ والبَعِيدِ، بل يُقدَّمُ الأقربُ، فالأقربُ، ولا يصرف إلى العَمِّ شيءٌ مع ولَدِ الأخِ، ولا إلى ابن العم مع العمّ. وقال مالِكٌ -رحمه الله-: لا يدخل غير الوارث، وعن أحمَد -رحمه الله- أنه لا يدخلُ الكافر، ولو أوصَى لأقارب نفسه، ففِي دخول الورثة وجهَان.
أحدهما: أنهم لا يدْخُلون لقَرينَة الشَّرْع، لأنَّ الوارث لا يُوصَى له، خاصَّة، ولا يدخُلُ في عموم اللفظ، فعلَى هذا تختصُّ الوصية بالباقين، هذا ما يُحْكَى عن الصَّيْدَلانِيِّ، ولفظ الكتاب يقتضي ترجيحَهُ، ولم يذكر في "التتمة" غيره. والثاني: يدخُلُونَ؛ لوقوع الاسْمِ عليهم، ثم يبطل نصيبهم، ويصحُّ الباقي لغير الورثة. ولك أن تقولَ: وجَبَ أن يختص الوجهان بقولنا: إنَّ الوصيةَ للوارِث باطلةٌ، أما إذا قلْنَا: إنَّها موقوفةٌ على الإجازة، فليُقْطَعْ بالوجّهِ الثاني. الثانية: في دخول الأصُولِ والفُرُوعِ أوجُهٌ: أحدها: وبه قال أبو حنيفة وأبو إسحاق -رحمهما الله-: إن الاُبَوَيْنِ، والأولادَ لا يدْخُلون، ويدخل الأحفادُ، والأجدادُ؛ لأن الولد والوالد لا يُعَرَّفَانِ بالقريب في العُرْف، بل القريب من ينتمي إلَيْهِ بواسِطَةٍ. [والثاني: أنه لا يدخلُ واحدٌ منْ الأصول والفروع؛ إذ: لا يُسَمُّوْنَ أقارِب] (¬1). والثالث: يدخلُ الكلُّ وهذا ما أورده المتولِّي، ورجَّحه الشيخ [أبو الفرج] الزاز، ولهما أن يمنعا ما زَعَمَهُ صاحب الوجّه الأوَّل في تفسير القَرِيب، وأنْ يحتجا بأنَّ الأب والابن يدخلان فيما إذا أوصَى لأقرب الأقارب، فكيف يكون الشخص أقْرَبَ الأقارب، ولا يكون من الأقارب، وعلى هذا؛ فالأوَّلُ أظهرُ من جهة النقل، كما يشعر به نظْمُ الكتاب، حتى أن الأستاذ أبا مَنْصُورٍ ادَّعَى إجماع الأصحاب عَلَى أنه لا يدْخُلُ الأبوان والأوْلاَد. الثالثة: يعتبر أقربُ جدٍّ يُنْسَبُ إليه الرجُلُ، ويعدُّ أصلاً، وقبيلة في نفسه، فيرتقي في بني الأعمام إليه، ولا يعتبر من فوقه حتَّى لو أوصَى لأقارب حَسَنِيٍّ، أو أوصى حَسَنِيٌّ لأقارب نفسه، لم يدخُلِ الحسينيون. وكذلك وصيَّة المأموني لأقاربه، والوصية لأقارب المأمونيِّ لا يدخل فيها أولاد المعتصم، وسائر العباسية، والوصية لأقارب الشافعيِّ -رضي الله عنه- في زمَانِهِ يُصْرَفُ إلَى أولاد شافِعٍ، ولا يدخل فيها أولادُ عَلِيٍّ، والعبَّاسِ، وإن كان شافعٌ, وعليٌّ، وعبَّاسٌ، كلُّهم أولادُ السائِبِ بنِ عُبَيْدِ، والشافعيُّ هو مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ بْنِ العَبَّاسِ، بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شَافِعِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. ولو أوصَى مُوصٍ لأقارِبَ بَعْض أولادِ الشافعيِّ -رضي الله عنه- في هذه الأزمنة، دخَلَ فيه أولادُ الشافعيِّ -رضي الله عنه- دون غيرهم منْ أولاد شافِعٍ، وعلَى هذا القياس. ¬
وعن أَحمد -رحمه الله- أنه يُنْظَرُ إلَى الأب الثالث، فتُصرَفُ الوصيةُ إلى أولاده، دون أولاد الأب الرابع، ومن فوقه. الرابعة: وصية العجَمِ، يدْخُلُ فيها قرابةُ الأب، والأمِّ في وصية العَرَبِ وجهان: أظهرهما: عند المصنِّف وصاحب "التهذيب": أن قرابة الأمُّ لا تدخلُ، وبه قال أحمد -رحمه الله- لأن العرب لا تعدُّها قرابةَ، ولا تفتخر بها، وإنما تفتخر بمَنْ ينتمي إلَيْهم منْ جهة الأبِ. والثاني: وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله- وهو ظاهر النص في "المختصر": الدخولُ كما في وصية العجم، والذي ادعاه صاحبُ الوجه الأول ممنوعٌ؛ ألا تَرَى إِلى ما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "سَعْدٌ خَالِي فَلْيُرِني امْرُؤٌ خَالَهُ" (¬1) وبهذا أَجَاب أَصحابُنا العراقيُّون، وهو الأقوى. الخامسةُ: لا فَرْقَ بين أن يقول: أوصيتُ لأقاربي، أو لقرابتي، أو لذِي قرابَتِي، أو ذي رَحِمِي، أو ذَوِي قرابَتِي، أو ذَوِي رَحِمي، في جميع ما ذكرنا، لكن قرابة الأمِّ عَلَى ما هو ظاهرُ النصِّ يدخل في لفظ الرَّحِم، بلا خلاف، في وصية العرب والعَجَم، جميعاً؛ لأن لفظ الرحِم لا يختص بطرف الأب، وإذا لم يوجَدْ إلاَّ قريبٌ واحدٌ، صُرِفَ المال إليه، إن أوصَى لذوي قرابته، أو ذي (¬2) رحمه، أو لقرابته، فإن القرابة مصدرٌ يوصَفُ بها الواحدُ والجميعُ، أما إذا كان اللفظ: لأقارِبِي، أو أقربائي، أو ذوي قَرَابَتِي، أو ذوي رحمي، فوجهان في أنه، هل يكون له الكُلُّ: أظهرهما: نعم؛ لأن الجميع ليْسَ مقصوداً هاهنا، وإنما المقصود الصَّرْف إلَى جهة القرابة، هكذا وجه الإمام، لكنه لو كان كذلك، لَمَا وجب الاستيعابُ؛ كالوصية للفقراء، وإذا قلْنا: لا يكونُ الكلُّ لذلك الواحد، فله الثلثُ، ويبطُلُ الباقي، وحكى الأستاذ أبو منصور وجّهاً آخَرَ؛ أنَّه يكون له النصفُ، إن كان هناك جماعةٌ محصُورون، فَيُقَسَّمُ المالُ بينهم بالسوية، ولا بد منْ استيعابهم، خلافاً لأبي حنيفة - رحمه الله- حيث جَوَّزَ صرْفَ المال إلَى ثلاثة منهم. وحكَى الحناطيُّ وجهاً مثْلَهُ، وقد مضَى نحوٌ منه عن رواية الأستاذ أبي منصور، ¬
وإن كانُوا غيْرَ محصُورَيْنَ؛ كالوصية للعَلَوِيَّة، والقَبَائِلِ العظيمة، وقوله في الكتاب "ارْتَقَيْنَا إلى بَنِي شَافِعٍ، لا إِلَى بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَبَنِي المُطَّلِبِ" هؤلاء كلهم أجدادُ الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه- عَلَى ما ذكرنا نسبه، لكن شافعاً أقربهم منْه، وإليه انتسابه. وقوله "وفي زماننا لا يُصْرَفُ إِلاَّ إلَى أولادِ الشافعيِّ" أي: إذا أوصَى لأقارب بعض أولاد الشافعيِّ، وقولهِ: "لأن لفظ الرَّحِم لا يخصِّصُونه" يعني أنهم لا يخصِّصون هذا اللفظ بقرابة الأبِ، بخلاف لفْظ القَرِيب واَللَّه أعْلمُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ أوْصَى لِأَقْرَبِ أَقَارِبِهِ دَخَلَ فِيهِ الأَبُ وَالابْنُ، ثُمَّ لاَ تَرْجِيحِ بِالذُّكُورَةِ، فَيَسْتَوِي الأَبُ وَالأُمُّ، وَالأَخُ وَالأُخْتُ، وَالأَخُ مِنَ الجَانِبَيْنِ أَوْلَى مِنَ الأَخِ مِنْ جهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالأَحْفَادُ وإِنْ سَفَلُوا يُقَدَّمُونَ عَلَى الإِخْوَةِ، وَكَذَا بَنُو الإِخْوَةِ عَلَى الأَعْمَامِ لِقُوَّةِ الْجِهَةِ، وَلاَ يُقَدَّمُ ابْنُ ابْنِ الأَخِ لِلْأَبِ وَالأُمِّ عَلَى الأخِ لِلْأَبِ، وَلاَ عَلَى ابْنِهِ لِأَنَّ جِهَةَ الأُخُوَّةِ وَاحِدَةٌ فَيُرَاعَى قُرْبُ الدَّرَجَةِ، وَيُقَدَّمُ ابْنُ البِنْتِ عَلَى حَفَدَةِ الابْنِ لِلْقُرْبِ وَلاَ يُنْظَرُ إِلَى الْوِرَاثةَ، وَفِي الجَدِّ مَعَ الأَخِ لِلْأَبِ قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَوِيَانِ، وَالثَّانِي: الأَخُ أَوْلَى لِقُوَّتِهِ، وَفِي الجَدِّ مَعَ ابْنِ الأَخِ قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا: الجَدُّ أَوْلَى لِقُرْبِهِ، والآخَر: ابْنُ الأَخِ أَوْلَى لِقُوَّةِ البُنُوَّةِ، وَالجَدُّ أَبُ الأُمِّ مَعَ الأَخِ لِلْأُم كَأَبِ الأَبِ مَعَ الأَخِ لِلْأَبِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المسألة الثانية: إذا أوصَى لأقرب أقارب زَيْدٍ، دَخَلَ فيه الأبوانِ، ثم في الأب والابنِ، إذا اجتمعا وجّهَانِ، وعن رواية القاضِي أبَي الطَّيِّب قولان: أحدهما: أنه يسوَّي بينهما؛ لاستوائهما في الرتبة، وعلى هذا؛ يُقدَّم [الأب على ابن الابن. وأظهرهما: ولم يورد طوائف سواه: أنه يُقدَّم] (¬1) الابن لقوة إرْثِهِ وعصوبته، وعلَى هذا؛ فالأولادُ يُقَدَّمُونَ عَلَى مَنْ عداهم، ويليهم البطْنُ الثاني، ثم الثالثُ إلى حيث انْتَهَوْا ويستوي أولادُ البنين، وأولادُ البنات. وقد يُقَالُ: إذا اقتضَتْ قوَّةُ الإرث، والعُصُوبَةِ في الابن، تقدمه على الأبِ، فهلاَّ اقتضى أصْلُ الإرث بالعُصُوبة في أولادِ البَنِينَ تقدُّمَهم على أولاد البنات فإنْ لم يكُنْ أحد من الأولاد والأحفادِ، فيُقدَّمُ الأبوان، وبعدهما الأجدادُ والجداتُ، إن لم تُوجَدِ الإِخْوَةُ والأخواتُ، عَلَى شرط تقديم الأقرب فالأقرب منْهم، أو الإِخوة والأخوات، إن لم تُوجد الأصول. ¬
وإذا اجتمع الجدُّ والأخ. فأظهر الطريقَيْنِ أن المسألة على قَوْلَيْنِ: أحدهما: أنهما يستويان؛ لاستوائهما في الدرجة. وأصحهما: تقديمُ الأخ؛ لِقُوَّة البنوُّة وهما كالقولَيْنِ فيما إذا اجتمع جَدُّ المعتق، وأخوه. والطريق الثاني: القطْع بالقول الثاني، فإن قلنا بالتسوية، فالجد أولَى من ابن الأخ؛ لقربه، وإن قدمنا الأخ؛ فكذلك يُقدَّم ابن الأخ، وإن سَفَل، وأُجْرِيَ الخلاف في ابن الأخ مِنْ أبِ الجَدِّ، والظاهرُ تقديمُ ابن الأخِ، ثم يقدم بعدهم أولادُ الأخوةِ والأخَوَاتِ، ثم الأعمامُ والعَمَّات، ويُساويهم الأخوالُ والخالاتُ، ثم أولادُ هؤلاءِ, والأخ من الجهتين يُقدَّم على الأخ من جهةٍ واحدةٍ؛ لزيادة قرابته. وحكى الإمامُ في "باب النكاح" أنَّ بعض الأصْحَاب أثبت في تقدمه (¬1) قولَيْنِ؛ كما في ولاية التزْويج، وهكذا نذكر الحناطيُّ، والأخ من الأب والأم، والأخُ من الأمِّ يستويان فيه، وكذا القولُ في أولاد الإخوة، والأعمام، والأخوال، وأولادِهِمْ، وفي تقدم الجدَّة من الجهتَيْنِ، على الجَدّ منْ جهةٍ واحدةٍ وجهان، وهما كالوجهَيْنِ في الميراث؛ أنَّ السدس بينهما أم تفضل صاحب الجهتين ويخرَّج مما ذكرنا أنه إذا اجتمع أولادُ إِخْوة مفترقين (¬2)، وأولاد أخوات مفترقات، فالمالُ لولدِ الأخ من الأبوَيْنِ، وولد الأختِ من الأبوَيْنِ، وإن لم يوجَدْ أولادُ الإخوة والأخوات من الأبَويْنِ، وأولادُهُمْ من الأب، وأولادُهُمْ منْ الأمِّ سواءٌ، هذا إذا استوَتِ الدرجة، فإن اختلفت، قُدِّم الأقربُ منهم مِنْ أي جهة كان، حتى لا يُقدَّم ابنُ ابْنِ الأخ من الأبوين عَلَى الأخ من الأب، ولا على ابنه، بل يُقدَّمان عليه، وكذا يُقدَّم الأخ من الأم، وابنه؛ لأن جهة الأخُوَّة واحدةٌ، فيراعَى من قرب الدرجة، فإذا (¬3) اختلفتِ الجهة البعيدةُ من الجهة القَرِيبَةِ، تُقدَّم على القَرِيبِ من الجهَة البَعِيدَةِ، حتى يُقدَّم ابنُ ابنِ الابْنِ على الأخ، وابنُ ابنِ الأخِ، وإن سَفَلَ عَلى العم. ولا ترجيح في هذا الباب بالذُّكُورة، ولا ينظر إلى الورثة بل يستوي في الاستحقاق الأبُ والأمُّ والابنُ والبنتُ، والأخُ والأختُ، كما يستوي المُسْلِم، والكَافِر، ويُقدَّمُ ابْنُ البنتِ على ابن [ابن] (¬4) الابنِ، وكلُّ ذلك؛ لأن الاستحقاق منوطٌ بزيادة القرب. ¬
فَرْعَانِ: الأولُ: لو أوصَى لجماعةٍ من أقرب أقاربَ زَيْدٍ، فلا بدَّ من الصرف إلى ثلاثةٍ، فإن كان له في الدرجةِ القربَى ثلاثة، كبنين، أو بناتٍ، أو إِخوةٍ، دفعَ إليهم، وإن كانوا أكثر من ثلاثة، ففي وجوب تعميمهم وجّهَان. أحدهما: أنه لا يجبُ؛ لأن الجماعة تَحْصُل بثلاثة، فيختار الوصيُّ ثلاثة منْهم، كما لو أوصَى للفقراء. والثاني: وهو الذي اختاره صاحب "الشامل" وحكاه عن القاضي أبي الطيب في "المجرَّد": أنه يجبُ التعميم، وإلاَّ صارَتِ الوصيَّة لغير معيَّن، بخلاف الوصيَّة للفقراء؛ لأن المعتبر هناك جهةُ الفقر، وإن كانُوا دون الثلاثة، تمَّمنَا الثلاثة، ممَّن يليهم، وإن كان له ابنان وابنُ ابنٍ، دُفِعَ إليهم، وإن كان له ابن، وابنُ ابنِ، وابنُ ابنِ ابنٍ، دُفِعَ إليهم، وإن كان له ابنٌ وابنا ابْنٍ، فكذلك، وفي ابنٍ، وابنِ ابنٍ، وابْنَي ابنِ ابنٍ، يُدْفَعُ إلَى الابنْ، وابْنِ الابنِ، وواحد من الذين هم في الدرجة الثالثة، أم يعممون؟ فيه الوجهان، وإذا قلنا: يعممون، فالقياس التسويةُ بين كلِّ المدفوع إليهم، وفي "تعليق" الشيخ أبي حامد أن الثُّلُثَ لِمَنْ في الدرجة الأُولَى، والثلث لمن في الثانية، والثلث لِلَّذِينَ هم في الثالثة، هذا ما نقل عن النَّصِّ وكلام الأصحاب في الفَرْع، وكان الأشبه أن يُقَالَ: إنَّها وصيةٌ لغير معيَّنٍ؛ لأنَّ لفظ الجماعةِ منكر فصار كما لو أَوْصَى لأحد الرجُلَيْنِ، أو لثلاثةٍ لا على التعيين من جماعة معيَّنِين. الثاني: لو أوصَى لأقربِ أقاربِ نَفْسِه، فالترتيبُ عَلَى ما بينا، لكن لو كان الأقربُ وارثاً، صُرِفَ إلى من يليه ممَّن ليس بوارث، إن لم نصحح الوصية للوارث، أو صححناها, ولم يُجزْ سائرُ الوَرَثَةِ، هكذا نقل صاحب "التهذيب" (¬1) وغيره، وهو جواب عَلَى قولنا: إنه لو أوصَى لأقارب نفسه، لم تُدْخُلِ الورثةُ بقرينة الشَّرْع، أما إذا قلْنا: إنهم يَدْخُلُون، ويوزَّع المال عليهم، وعلَى من ليس بورثة، فهاهنا تبطُلُ الوصية، إلاَّ أن يتعدَّد الأقربون، ويكون فيهم وارثٌ، وغَيْرُ وارثٍ. وأما لفظ الكتاب، فقد تغير ترتيب بعض مسائل الكتاب (¬2) فيما ذكَرْناه ولا بأسَ بمثله عند الحاجَةِ، وقوله: "فيستوي الأبُ والأُمُّ" وكذا قوله: "والأخ من الجانبين أولَى من الأخ من جهة واحدة" فإنَّ هذا اللفظ ينتظم الأخَ من الأبِ، والأخَ من الأمِّ وكلاهما جواب على أنَّ قرابة الأم يدْخُلُون في الوصية مطلقاً، وعلَى ذلك؛ يتفرَّع ما بيناه في شرح الفَصْل، فإنْ قلنا: إنهم لا يدْخُلُون في وصيَّة القرب، فلا استحقاق للأخ من الأم بحال، وقوله: "وفي الجَدِّ مع الأخ للأبِ قولان" يجوز إعلام لفظ القولَيْن بالواو؛ ¬
للطريقة القاطعة، بتقديم الأخ، ويمكن إعلام قولُه "يستويان" وقوله: "الأخ أولَى" بالحاء؛ لما ذكر الأستاذ أبو منصور أن قياس قول أبِي حَنِيْفَةَ -رحمه الله- في الميراث تقديمُ الجَدِّ على الأخ، وذلك خلافُ القولَيْنِ جميعاً، وعلى هذا، يمكن إعلام قوله: "ابنْ الأخِ أولَى" بالحاء أيضاً. وأما قوله: "والجدُّ أبُ الأمِّ مع الأخ للأمِّ كالجَدُّ أبِ الأبِ مع الأخِ للأبِ" فينبغي أن يُعْلَمَ بالواو لأنه يتفرع عَلَى إدخال قرابة الأمِّ في الوصيَّة، ثم لا شَكَّ عَلَى هذا الوجْه في مجيء القولَيْن في الأخ للأم مع الجد للأم لكنَّ إيرادَ الكتَابِ مع التقييد أولاً في قوله وفي الجَدِّ مع الأخ للأبِ يشعر إشعاراً ظاهراً بتقديم الجِدِّ أَبِ الأبِ على الأخِ للأمِّ جَزْماً، كما في الإرث، لكن الذي ذكره أصحابُنا العراقيُّون، وصاحب "التهذيب"، و"التتمة" -رحمهم الله- أنه لا فَرْقَ وَيجْرِي القولان في الجَدِّ أبِ الأبِ مع الأخِ للأَمِّ، وفي الجدِّ أبِ الأمِّ مع الأخِ للأبِ، وهذا هو قياس الباب. ثم إنَّا نخْتُم هذا القسم بفُرَوع تليق به [ونوردها أتباعاً] (¬1) بتوفيق اللَّه تعالَى، مقْتَصِرِينَ عَلَى بيان الألفاظ المستعملة في الموصَى لهم، فنقول: آل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو المُطَّلِبِ أمْ جَمِيعُ أمته. فيه وجهان ذكَرْنَاهما في "الصلاة"، والأصحُّ الأولُ، وعن مالك: آله أصحابُهُ ولو أوصَى لآلِ غَيْرِهِ، فوجهان: أحدهما: بطلانُ الوصية؛ لإبهام اللفظ؛ وتردُّدِه بين القرابة وأهل الدِّين وغيرهما. وأشبههما: الصحَّةُ؛ لظهور أَصْلٍ له في الشَّرِيعَةِ؛ وعلى هذا قال الأستاذ أبو منْصُور: يُحتمل أن يكون كالوصيَّة للقرابة، ويُحْتَملُ أن يُفَوَّضَ إلى اجتهادِ الحَاكِم، فإن كان هناك وصيٌّ فالمتبع رأيُ الحاكم، أو الوصيِّ؟ حكى الإمام: فيه وجهين، ولم يذكروا أن الحاكم والوصيَّ يَتَحَرَّيَانِ مُرَادَ الموصِي، أم أظهر معاني اللفظ بالوَضْع، أو الاستعمالِ، وينبَغِي أن يُقَالَ: المرعِيُّ مرادُهُ، إن أمكن العثُورُ علَيْه بقرينةٍ، وإلاَّ فأظهر المعاني (¬2). وفي أهل بَيْت الرَّجُل وجهان: أحدهما: الحمْلُ على ما يُحْمَلُ عليه الآلِ. والثاني: دخولُ الزوجة أيضاً، وكأنه أشبه، وفي أهله دون لفظ البَيت وجهان أيْضاً: ¬
أحدهما: الحَمْلُ على الزوجة خاصَّةً، وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-. والثاني: عَلَى كلِّ مَنْ تلزُمُه نفقتُهُ، فعلى الأول؛ لو صدَرَتِ الوصيةُ منْ امرأة بطلت (¬1). وآباء فلان: أجداده منْ الجهتين، وأمهاته جدَّاته منْ الجهتين، هكذا ذكره الأستاذ أبو منصور وغيره، وحكى الأستاذ عن أصحاب الرأْيِ أن الأجّدَادَ منْ جهة الأمِّ لا يدْخُلُون في الآباءِ والجَدَّاتُ من جهة الأب لا يدْخُلْنَ في الأمهات. وجعل الإمام المذْهَبَيْنِ وجّهَيْن، ورأى الأظهر ما نسب إلَى أهل الرأْي، ولا خلافَ في شُمُول الأجدادِ والجَدَّاتِ منْ الجهتين، ولا يدخل في الإِخْوَة والأَخَوَاتِ والأحفاد. والأَخْتَانُ أزواج البنات، ولا يدخل في أزواجُ العَمَّات، والخالاَتِ، وفي أزواج الأخوات وجهان: أصحُّهما: عند الإمامِ المنْعُ، ويدخلُ أزواج الحوافد، وإن قُلْنَا بدُخُول الأحفاد في الوصيَّة للأولاد، عن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه يدخل زَوْج كلِّ ذات رَحِمٍ محرم، وللأصحاب وجه مثله، ثم الاعتبارُ بكونه زوجاً عند الموت، فلو كانت خليَّةً يوم الوصية، منكوحةً يوم الموت، استحَقَّ زوجُها. ولو كانتْ مزوَّجةَ يوم الوصية، مطلَّقةً يوم الموت فإن كان الطَّلاَقُ رجعياً، فالاستحقاقُ بحاله، وإلاَّ، فلا شَيْء له، وإنْ طلق بيْن المَوْت والقَبُول، استحق، إن قلنا: إن المِلْكَ في الوصيَّة يحْصُل بالموت، أو توقفنا فإن قلنا: يحصل بالقبول، فعلى وجهين. ويجْري الخلافُ فيمن تزوَّجت بعد مَوْت المُوصِي، ثم قتل زوجها. وأحماء الرَّجُل أَبوا زوجته، وفي دخول أجدادها وجَدَّاتها تردُّد، حكاه الإمام -رحمه الله -، ولا يدْخُل أبوا زوْجَةِ الأب، وأَبَوا زَوَجَةِ الابْنِ، والأصهارُ كالأحماءِ، هذا ما نقله الأستاذ أبو منْصُور، وتابعه إمام الحَرَمَيْنِ. وفي "أمالي" أبي الفرج السرخسيِّ: أن كلَّ رجُلٍ من رجال المحارم، وأبو زوجته حَمُو، وأن الأصهار تشمل الأختان والأحماء (¬2). ويدخل في المحارم كُلُّ محَرَّمٍ بالنَّسَب، وبالرِّضَاع، أو بالمُصَاهَرة، والأولاد، والذُّرِّيَّة، والنَّسْل، والعَقِب، والعِتْرَة، عَلَى ما ذكرنا في الوَقْف. ¬
ولو قال: لورثةِ فُلاَنٍ، فلمن وَرِثَهُ مِنْ ذَكَرِ، وأنثَى ينسب أو سبَبٍ بالسوية، لا على مقادير الإرْثِ، فإن لم يكُنْ له وارثٌ خاصٌّ، وصرف ماله إلَى بيت المال، بَطَلتِ الوصيَّة. وإِن ورثته بنتُ واحدةٌ ولم يحكم بالرد، فتستحق جميع الوصية، أم بعضها؟ فيه وجهان: أصحهما: عند الأستاذ: أوَّلُهما, ولو مات الموصي، والذي أوصَى لورثته، أو لعَقِبِهِ حىٌّ؟ فالحكايةُ عن بعض الأصحاب بُطْلاَنُ الوصية, لأن الإنسان لا يرثه، ولا يعقبه أحدٌ، وهو حىٌّ، وقال صاحب "النِّهاية" الظاهرُ عِنْدي صحَّةُ الوصيَّة في لفظ العَقِب، إن كان له أولادٌ؛ لأنهم يسمون أعقاب الشَّخْص في حياته. قال: ومثل هذا محتمل (¬1) في لفظ الورثة، وعلَى هذا؛ فيوقَفُ إلى أن يموتَ، فيتبين من يرثه (¬2). ولو أوصَى لعصبة فلانٍ، لم يُشْتَرطْ في الاستحقاق كون فُلاَنٍ ميتاً يوم موت الموصِي، بخلاف ما ذكَرُوه في لفظ الورثة، والعَقِب، ثم أَوْلاَهم بالتَّعْصيب أولاهم بالوصيَّة. للمَوَالِي؛ على ما ذكرنا في "الوقْف"، ولو كان له موالٍ من الأعلى والأسفل، ففيه الوجوه، وعن رواية البُوَيْطِىِّ قولٌ آخر؛ أنه يوقَفُ إلَى الاصْطلاَحِ؛ وإن لم يكن إلا أحدُهُما، فيُصرَفُ المال إليه، وهاهنا كلامان: أحدهما: قد يبحث عَنْ موضع الأوْجُه، فنَقُول: إن قصد أحدهما، وجب أن يُحْمَلَ اللفظُ عليه، ولا يجيء فيه الخلافُ، وإن فرض الكلام، فيما إذا لم يَقْصِدْ واحداً منهما، فلا معنى لقولنا: إن الظاهر الإحْسَانُ إلى المُعْتَقِ مكافأَة، أو أن العادة الإحسانُ إلى المَمَالِيكِ، بل لا تتجه إلاَّ القسْمَةُ عليهما، أو الإبْطَالُ. والثاني: إذا لم يوجَدْ إلاَّ أحدُهما، فينقدِحُ أن يُفَرَّعَ على الأوجه فيُقَالَ: إنْ قلْنا بالقسمة، فينبغي أن يُصْرَفَ الآن إلَى الذي وَجَدَ النِّصْف، وإن قلنا بالحمل على المعتق، أو العتيق فإن كان المَوْجُود، هُوَ المحْمُولَ عليه، فذاك، وإلاَّ، بطَلَتِ الوصية، وإن قلْنا بالبطلان، فكذلك هاهنا؛ لأن إبهام اللَّفْظ لا يختلِفُ بين أن يوجد مجاملة، أو ¬
لا يوجد، ثم إذا اقتضَى الحالُ الحَمْل على الموالي من الأسفل، أو صَرَّحَ الموصى به، ثبت الاستحقاق لكل منْ عَتَقَ عليه، سواءٌ تبرَّع بإعتاقه، أو أَدَّى به كفارة أو نَذْراً أو أُعْتِقَ علَيْه بالملك. وفي أُمهاتِ أولادِهِ، ومدِّبريه وهم الذين يُعْتَقُون بموته وجهان (¬1). ويتامى القبيلة الصبيانُ الفاقِدُون لآبائهم، وهل يُشْتَرَطُ الفَقر للاستحقاق؟ فيه وجهان. أشبههما: ما قيل في سهم الفَيْء والغنيمة: نعم، ولا بدَّ منْ تعميم المستحِقِّين، هذا إذا انحصَرُوا، [وأما] إذا لم ينْحَصِرُوا، فيجوز الاقتصارُ حينئذ على ثلاثةٍ، وجزم الأُستاذُ باشتراط الفقر فيهم، لكن الوجهين مشهورانِ في خُمْس الخمس مع عدم الانْحِصَار. والعمْيَانُ والزَّمَنى كالأيتام في التفْضيل والخِلاَف (¬2). واسمُ الأراملِ يقَعُ على اللواتِي ماتَ عنْهُنَّ الأزوَاجُ، وعلى المختلعات، والمبتُوتَاتِ دُون الرجْعِيَّات، والأيامَى غير ذوات الأزواج، هذه عبارة الأستاذ [أبي منصور]، وبها أخذ الإمام -رحمه الله- وقال: الفَرْقُ أنَّ الأرملةَ التي كانتْ لها زوجٌ والأيِّمُ لا يُشْتَرَطُ فيها تقدُّم زوج، ويشتركان في اعتبار الخُلُوِّ عن الزوج في الحال، وعبارة صاحب "المهذب" والشيخ القراء لا يُعْتَبَرُ تقدُّم الزوج في تفسير الأرامل، وذكروا في دُخول مَنْ لا زَوجَة له من الرجال في لَفَظِ الأرامل (¬3) وجّهَيْنِ؛ لأن الاسم في العُرْف للنساء، لكن الشاعر قال [البسيط]: كُلُّ الأَرَامِلِ قَدْ قضيَتْ حَاجَتَهُمْ ... فَمَنْ لِحَاجَةِ هَذَا الأرْمَلِ الذَّكَرِ وفي اشتراط الفقر الوجّهَان المذكُورَان في الأيتام، وبالاشتراط أجاب الأستاذ هاهنا. والمعتَبَرُون من الأقارب الَّذين يعترَّضون، ولا يسألون، وذو القنوع الذين، يسألون. ¬
وثيب القبيلة: النساء دُون الرِّجَالِ على أظهر الوجّهَيْن، وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-. والثاني: أنه يدْخُل الرجَالُ الذي أصابُوا، وفي الأبكار هذا الخلافُ. وغِلْمَان القَوْم وصبيانُهُمْ، وكذا الأطفال، والذَّرَارِي، واختلف الجوابُ في الشيوخ، والفتيان، والشبان ففي "المهذب" و"التهذيب" أن الشيوخَ الذين جاوَزُوا الأربَعِينَ، والفتيان والشُّبَّان الذين جاوَزُوا البلُوغَ إلى الثلاثين، والمفهومُ منه أنَّ الكُهُول هم بين الثلاثِينَ والأربَعِينَ، فرواية الأستاذ عن الأصْحَابِ الرُّجُوع في ذلك إلى اللُّغَة، واعتبارُ كَوْن الشَّعْر في السواد، والبياض، والاختلاط، ويختلف ذلك باختلاف أمزجة الأبدان (¬1). ¬
[القسم الثاني: في المسائل المعنوية]
[القسم الثاني: في المسائل المعنوية] قَالَ الْغَزَالِيُّ: القِسمُ الثَّانِي في الْمَسَائِلِ المَعْنَوِيَّةِ: أَوَّلُهَا الوَصِيَّةُ بِمَنَافِعِ الدَّارِ وَغَلَّةِ البُسْتَانِ وَثَمَرَتِهِ نَصَّ الشافِعِيُّ -رضي الله عنه- عَلَى صِحَّتِهِ، وَكَذَا مَنَافِعُ العَبْدِ وَهُوَ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةِ بَعْدَ المَوتِ لاَ مُجَرَّدُ (ح) إِبَاحَةٍ حَتَّى إِذَا مَاتَ المُوصَى لَهُ وُرِثَ (ح) عَنْهُ، وَيصِحُّ (ح) إِجَارَتُهُ، وَلاَ يَضْمَنُ إِذَا تَلِفَ العَبْدُ في يَدِهِ، وَيَمْلِكُ جَمِيعَ اكْتِسَابِ العَبْدِ مِنَ الاصْطِيَادِ وَالاختِطَابِ، ولا يَمْلِكُ وَلَدَ الجَارِيةِ وَلاَ عُقْرَهَا، وَلاَ مَا يَمْلِكُهُ العَبْدُ بِالاتِّهَابِ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ، وَهَل يَمْلِكُ المُسَافَرَةَ بِهَا دُونَ رِضَا المَالِكِ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد سبق أنَّ الوصيَّة بمنافع العبْد والدَّار صحيحةٌ مؤبَّدةً، ومؤقتةً، وكذا بِغَلَّة الدار، والحانوت، وكذا بثمار البستانِ الَّتِي ستحدُثُ على الأصحِّ، ولو أوصَى بخدمة عبد سنةً من السنين، ولم يعيِّن، [فيجعل] التعيين إلى الوارث [وصحت الوصية]؛ قاله الخُضَرِيُّ، وغيره ويجوز أن يجعل له ثمرة بستانه [فإن لم تثمر فثمرة] (¬1) العام القابل، أو خدمة عبْده العَام، فإن مرض، فخدمة العام الثاني، وكذا يجوز أن يُوصِيَ بخدمة عبده لإنسان مدةَ حياةِ زيد. إذا تقرَّر ذلك، فالغرض الآن الكلامُ في فروع الوصية بالمنافع، ويبنى علَى أصل، وهو أن هذه الوصيَّة تمليكٌ للمنافع بعد المَوْت، وليست مجرَّد إباحة. كما أن الوصيَّة بالأعيان تمليكٌ لها بعد الموت، فلو مات الموصَى له، وَرُثْتُ عنه؛ كسائر حقوقه، وله الإجارة، والإعارةُ، والوصية بها, ولو تلف العبد في يَدِه، لم يضمَنْه، كما لا يضمَنُ المستأجر. قال في "التهذيب" وليس عليه مؤنةُ الرَّدِّ. وعن أبي حنيفة: أنها عاريَّةٌ لازمةٌ لا مِلْكَ فيها, ولا يُورَثُ عنه، وليس له الإجارة، هذا إذا أطلق الوصيَّة بالمنافع، أو قيَّدها بالتأبيد، والمرادُ من التأبيد استيعابُ ¬
الوصيَّة بمنفعة العبد مدةَ حياتِهِ، وكذا الحكمُ فيما إذا أوصَى بمنفعته مدةً مقدرةً من شهر أو سنةٍ، وحُكِيَ عن رواية أبي علي الطبريِّ؛ وغيره وجّهٌ آخرُ؛ أنها لا تنتقل إلَى وَارث الموصَى له لا عند الإطلاق ولا إذا قدر بمدَّة معْلُومَة، ومات الموصَى له قبل انقضائها، والمذهبُ المشهورُ الأوَّلُ. أما إذا قال: أوصيتُ لك بمنافعه مدة حياتِكَ، فهو إباحةٌ، وليس بتمليكٍ، فليس له الإجارة، وفي الإعارة وجهان (¬1). وإذا مات الموصَى له، رجع الحقُّ إلى ورثة الموصِي، ولو قال: أوصيتُ لك أن تَسْكُنَ هذه الدار، أو بأن يخدمك هذا العبْدُ، فهو إباحةٌ أيضاً، لا تمليكٌ؛ بخلاف قوله: "أوصيتُ لكَ بسُكْنَاها أو خدمته" هكذا ذكره القَفَّال وغيره، لكنا ذكرنا وجهَيْن فيما إذا قال: اسْتَأْجَرْتُكَ لتَفْعَلَ كذا، أنَّ العقْدَ الحاصلَ إجارةُ عَيْنٍ، أم إجارةٌ في الذِّمَّة؟ فإنْ قلنا: إنه إجارة في الذِّمَّة، فينبغي ألا يفرق هاهنا بين قوله: "بأن يسْكُنَهَا، أو بِسُكْنَاهَا". وفي "فتاوى القفَّال": أنه لو قال: أطعموا فلاناً كذا مَنَّاً منْ الخبزِ منْ مَالِي، اقتضى تمليكَهُ، كما في إطعام الكفارة، ولو قال: اشتَرُوا الخُبْزَ، واصرفوه إلَى أهْل محلتي، فسبيله الإباحةُ، هذا هو الأصل. وأما الفروع: فمنها ما يتعلق بجانب الموصَى له فيملك إثبات اليد على العبد الموصَى بمنفعته أو منافعه، وإكسابه المعتادَةِ من الاحتطاب والاصطياد، وأجرة الحِرْفَة؛ فإنها أبدال منافعه، وفي الأكساب النادرة؛ كالموهوب والملتقط وجهان: أظهرهما: المنع، فإنَّها لا تقصد بالوصية، وذكر الحناطيُّ، أبو الحسنِ العباديُّ الوجهَيْنِ في مطلق الأكساب، وسيأتي في آخر الفصل ما يحقِّق روايتهما. ¬
ولو أتت الجاريةُ الموصَى بمنفعتها بولدٍ منْ زوج، أو زنًى، فوجهان: أحدهما: أنه يملكه الموصَى له؛ كالأكساب، وقد روي أنه -صلى الله عليه وسلم- سَمَّى وَلَدَ الرَّجُلِ كَسْبه. وأصحهما: أنه لا يملكه، وعلَى هذا، فوجهان: أحدهما: أنه ملك لورثة الموصِي؛ لأن استحقاق المنفعة لا يتعدَّى إلَى الولد، كما في الإجارة. والثاني: أن حكمه حكم الأمِّ, رقبته للورثة، ومنفعته للموصَى له؛ لأنه جزء من الأمِّ, فيجري مجراها، وبهذا أجاب العراقيُّون، وصاحب "التهذيب" وإذا وُطِئَتْ بشبهة، أو زُوِّجَتْ، فلِمَنِ المهْرُ؟ فيه وجهان؛ جواب العراقيين بأسرهم: أنه للموصَى له، توجُّهاً بأن المهر من نماء الرَّقَبَة وغلتها، فكان كالأكساب، وتابعهم عليه صاحب "التهذيب". والمنسوبُ إلى المرَاوِزَةِ: أنه لورثة الموصِي؛ لأنه بدل منفعةِ البُضْع، ومنفعةُ البُضْع لا تجوز الوصية بها، فبدلها لا يستحق بالوصية، وإذا تَعَذَّر ذلك كان تابعاً للرقبة؛ وهذا أشبه وأظهرُ عَلَى ما ذكره صاحب الكتاب، وهو الذي أورده أبو سعدٍ المتولِّي، ولا خلاف أنه ليس له وطؤها, لكن لو وطئها, لم يُجَدَّ للشبهة، وفيه وجه: أنه يُحَدُّ، كما لو وطئ المستأجر، ولو أولدها بالوطء لم تَصِرْ أمَّ ولد له، لكن الولد حرٌّ للشبهة. وحكى العباديُّ وجْهَاً؛ أنه يكون رقيقاً، فإذا قلنا بحريته، فإنْ جعلنا الولد المملوك كالكسب، فلا قيمة عليه، وإلاَّ، فعلَيه القيمة، ثم هل هي لمالك الرقَبَة أم يشتري بها عبداً تكون رقبته لمالك الرقبة ومنفتُهُ للموصَى له فيه وجهان، هذا ما ذكروه في هذه الصورة، ولم يَفْرِقُوا بين أن يقول: أوصَيْتُ بمنفعة العبد، أو بغلته، أو بكسبه، أو بخدمته، أو بمنفعة الدار، أو سكناها، أو غلَّتِهَا، وكان الأحسن أن يُقَالَ: الوصيةُ بالمنفعة تُفِيدُ استحقاق الخدمة في العبد، والسكنى في الدار، والوصية بالخدمة، والسكنى لا تفيد استحقاق سائر المنافع؛ ألا ترى أنه إذا استأجَرَ عبداً للخدمة، لم يملك تكليفه البناء، والغراس، والكتابة؟ وإذا استأجر دَاراً للسُّكْنَى لم يكن له أن يعمل فيها عمل الحدَّادِين، والقصَّارين، ولا أن يطرح الزيل فيها؟ ولا يبعْدُ أن يكون المرادُ هذا. وإن أطلقوا الكلام إطلاقاً، وأجرَوُا الصُّوَرَ مُجْرًى واحداً، بل ينبغي أن يُقَالَ: الوصيةُ بالغَلَّة، والكَسْبِ، لا تفيدُ استحقاق السكْنَى، والركوب، والاستخدام، والوصية بواحد منها لا تُفيد استحقاقَ الغلَّةِ، والكسْبِ، والغَلَّةُ، فائدةُ عينيةٌ، والمنفعة تُطْلَقُ في مقابلة العَيْن، فيُقَالُ: الأموالُ تنقسم إلى الأعيان والمنافعِ، وهذا يوافق ما حكاه وجّهاً؛ أن الموصَى له بالمنفعة لا يستحقُّ مطلق الكسب.
وهل ينفرد الموصَى له بالمسافرة بالمُوصى بمنفعته؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، كما لا يجوز لزوج الأمةِ أنْ يُسَافِر بها، رعايةً لحق المالك. وأظهرهما: نعم، وإلا، فيتبعض عليه الانتفاع، وليس كالزَّوْج مع السيد، فإن المنفعة هناك للسيد، ولذلك يستقلُّ بالمسافرة وملك الرقبة، هاهنا لا يستقل. وقوله في الكتاب في مبدأ الفصل "الوصيةُ بمنافعِ الدارِ، وغلَّةِ البُسْتَانِ، وثمرتِهِ لفظ الغلَّة" بالدار أليق منه بالبستان، فلو قال: بمنافع الدار، وغلَّتها، وثمرة البُسْتَانِ كان أولَى، وهكذا هو لفظ الشافعيِّ -رضي الله عنه- في "المختصر" قال: "ولو أوصَى بخدمة عبده، أو بِغَلَّةِ دارِهِ أو ثمرة بستانه". قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالوَارِثُ يَمْلِكُ إِعْتَاقَهُ، ثُمَّ يَبْقَى (و) مُسْتَحِقَّ المَنَافِعِ بَعْدَ العِتْقِ، وَيَلْزَمُهُ (ح) الإِنْفَاقُ قبْلَ العِتْقِ، فَإِنْ أَرَادَ الخَلاَصَ فَلْيُعْتِقْ، وَقِيل الإِنْفَاقُ عَلَى المُوصَى لَهُ، كَمَا أَنَّهَا عَلَى الزَّوجِ، وَقِيلَ: إنَّهَا في كَسْبِهِ، وَلاَ يَمْلِكُ الوَارِثُ بَيْعَهُ إن أَوصَى بِمَنْفَعَتِهِ مُؤَبَّداً، وَإِنْ كَانَ مُؤقَّتاً فَهُوَ كَبَيْعِ المُسْتَأْجِرِ، وَهَلْ يَمْلِكِ كِتَابَتَهُ وَلاَ كَسْبَ لَهُ إلاَّ الصَّدَقَاتُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَالمَاشِيَةُ المُوصَى بِنِتَاجِهَا لِلغَيْرِ يَجُوزُ بَيْعُهَا لِبَقَاءِ بَعْضِ المَنَافِعِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ومن الفروع ما تتعلق بجانب وارِثِ المُوصِي، وهي أربعة: إحداها: الوارثُ يملك إعتاقَ العَبْدِ المُوصَى بمنفعته؛ لأن رقبته خالصةٌ له، وأشار صاحب "الرقم" وغيره إلَى خلاف (¬1) فيه؛ والمذهب الأول؛ وحكى الإمام وجهَيْن في جواز إعتاقه عن الكفارة. وأصحهما: المنع؛ لأنه عاجزٌ عن الكسب لنفسه، فأشبه الزَّمَنِ، ثم إذا أُعْتِقَ، فوجهان: أصحهما: وهو المذكور في الكتاب: بل في معْظَم كتب الأصحاب: أن الوصيَّةَ تبقَى بحالها، وتكونُ المنافعُ مستحقَّة للموصَى له، كما كانت؛ كما إذا أعتق العبد المستأجر، ولا يرجع العتيق على المعتق بقيمة المنفعة، بخلاف ما إذا آجر عبده، ثم أعتقه، حيث قلنا: عَلَى رأيٍ: إنه يرجع بقيمة المنفعة للمدَّة الباقية؛ لأنه أتلف عليه منفعتَهُ بعْد العتق، بعقد قبله، وأخذ عوضَهَا، وهاهنا مِلْكُ الرقبة مسلوب المنفعة، ولم يفوت عليه شيئاً. والثاني: نقله أبو الفرج الزاز أن الوصيَّةَ تَبْطُلُ، ويبعُدُ أنْ يكون الحُرُّ مستحِقَّ ¬
المنفعة أبد الدهْرِ، وعلى هذا؛ فهل يرجع الموصَى له على المعْتِقِ ببدل المَنَافِع؟ فيه وجهان، وهل للوارِثِ كتابةُ هذا العبد؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا؛ لأن أكسابه مستحَقَّةٌ للغير فلا تنصرف إلَى جهة الكتابة. والثاني: نعم؛ اعتماداً على ما يأخذه من الزكاة. الثاني: إن كانت الوصيةُ بمنفعةٍ مدةً معلومةً، فنفقته على الوارث؛ لأنه مالك الرقبة. كما إذا آجر عبده، وإن كانت الوصية بها على التأبيد، لثلاثة أوجه: أصحهما: أن الجواب كذلك، فإن كان يتضرَّر بذلك فخلاصُهُ في أن يعتقه. والثاني: وبه قال أبو حنيفة -رضي الله عنه- والإِصطخريُّ: أنها على الموصَى له؛ لأنه ملك منفعته عَلَى التأبيد، فأشبه الزَّوْجَ. والثالث: أنَّها في كسبه، فإن لم يكُنْ له كسْبٌ، أو لم يَفِ بها، ففي بيت المال (¬1)؛ لأن الإيجاب على الوارث، ولا فائدة له في العبد وإجحافٌ به، والموصَى له، لا يملك الرقَبَةَ، حتى نوجب عليه، فتعيَّن ما ذكرناه، والفطرة عَلَى ما ذكره أبو الفرج السرخسيُّ، وطائفة، كالنفقة، ففيها الخلاف. وعلى ما أورده صاحب "التهذيب" القطعُ بوجوبها عَلَى مالك الرقبة، وهو كما حَكَيْنَا عن أبي الفضل بنْ عبدان في "باب الفطرة" فيما إذا أوصَى برقبة عبده لرجل، وبمنفعته لآخر، وعلفُ البهيمةِ كنفقة العبد، وعمارة الدار الموصَى بمنافعها وسقي البستان الموصى بثماره، إنْ تراضيا عليه، أو تطوَّع به أحدهما، فذاك، وليس للآخر منعه، وإن تنازعا، لم يُجْبَرْ واحدٌ منهما، بخلاف النفقة؛ لحرمة الحيوان. وأشار بعضُهم إلَى طرد الخلاف المذكور، في العمارة، وسائر المؤنات (¬2). الثالث: بيع الموصَى بمنفعته مدةً؛ كبيع المستأجر، وإن كان مَوَصًى بمنفعته عَلَى التأبيد، ففي بيع الوارِثِ الرقبَةَ وجوه: أحدها: الصحة؛ لكمال المِلْكِ فيها. ¬
والثاني: المنْعُ؛ لاستغراقِ المنفعةِ بحَقِّ الغير. والثالث: أنه يصحُّ بيع العبد، والأمة، دون البهائم والجمادات؛ لأنه يُتَقَرَّبُ إلى الله تعالَى بإعتاقها. والرابع: أنه يصحُّ البيع من الموصَى له، ولا يصحُّ البيع من غيره؛ إذْ لا فائدة [له] فيه، وهذا أرجح عَلَى ما يدُلُّ عليه كلام الأئمة -رحمهم الله-؛ ومنهم منْ قَطَعَ بالمنع، إذا باع منْ غير الموصَى له. والماشية الموصَى بنتاجها للغير، يجوز بيعها؛ لبقاء بعض الفوائد، والمنافع؛ كالصوف واللبن والظهر، وإنما الخلافُ فيما إذا استغرقت الوصيةُ المنافع، وهذه الفروع الثلاثةُ هي المذكورةُ في الكتاب، والمواضعُ المحتاجَةُ إلى العَلاَمَاتِ منها غيرُ خَافِيَةٍ. وقوله: "ولا يملك الوارث بيعه إن أوصَى بمنفعته مؤبداً ظاهره الجوابُ بنَفْي الصحَّة مطلقاً، لكنه عَلَى ما يدل عليه كلامُهُ في "الوسيط" أراد الوجه الفارِقَ بين ما إذا بَاعَ من الموصَى له، أو من غيره؛ والمعنى إلاَّ أن يبيع منْ الموصَى له. وقوله: "ولا كسب له إلاَّ ما يأخذ من الصدقات" فيه إشارة إلى توجيه الوجْهَيْن، ويمكْنُ أن تجعل مجموعةً وجْهاً للمنع، أي لا كسب له إلاَّ ما يأخُذُ مِن الصَّدقاتِ، وأنها عارضةٌ لا اعتماد عليها، فلا للتصحيح. الفرع الرابع: ليس للوارث وطء الجارية الموصَى بمنفعتها، إن كانَتْ ممن تَحْبَلُ؛ لما فيه من خوف الهلاك بالطَّلق، والنُّقصان والضَّعْف بالولادة والحَمْل، وقد يوجه أيضاً بأنه غير تامِّ الملك فيها، وإن كانت ممَّنْ لا تحمل، فعلَى وجهين، كما ذكرنا في وطء المراهق الجارِيَةَ المرهونةَ. وقطع صاحب التَّتِمَّةِ بالجواز، وإن كانت ممَّنْ لا تحبل، وذكر وجهين فيما إذا كانت ممَّنْ تَحْبَلُ، فيحصل من ذلك ثلاثة أوجُهٍ في المسألة؛ فإن حرمنا الوطء، فوطئ، فلا حد؛ لظهور الشبهة، ووجوب المهر يُبْنَى عَلَى أنها لو وُطِئَت بالشبهة؛ لمن يكون المَهر؟ إنْ جعلناه للوارِثِ، لم يجب عليه المهْرُ هاهنا، وإلاَّ، وجب. فإن أولدها، فالولدُ حرٌّ، وعليه قيمته، وتكون القيمةُ للموصَى له، أم يشترى بها عبداً يخدم الموصَى له، ورقبتُهُ للوارِثِ؟ فيه وجهانِ كالوجهَيْن فيما إذا ولدَتْ ولداً رقيقاً، وتصير الجاريةُ أمَّ ولد له، وتعتق بموته، مسلوبة المنفعة، وفيه وجهٌ ضعيف؛ أنها لا تصيرُ أمَّ وَلَدٍ. قَالَ الغَزَاليُّ: إِذَا قُتِلَ العَبد فَلِلوَارِثِ اسْتِيفَاءُ القِصَاص، وَيَحْبُطُ حَقُّ المُوصَى لَهُ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى القِيمَةِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الوَارِثَ يَختَصُّ بِهَا، وَقِيلَ: يُشْتَرَى بِهَا عَبْدٌ فَيَقُومُ
مَقَامَهُ، وَقِيلَ: يُوَزَّعُ عَلَى الرَّقَبَةِ مَسْلُوَبةَ المَنْفَعَةِ وَعَلَى المَنْفَعَةِ، وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الاعْتِبَار، وَإِنْ جَنَى هُوَ تَعَلَّقَ الأَرْشُ بِرَقَبَتِهِ، فَإذَا بِيعَ بَطَلَ حَقُّ المُوصَى لَهُ، وَإِنْ فَدَاهُ الشَّيِّ، اسْتَمَرَّ حَقُّهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ طَرِيقَ احْتِسَابِهِ مِنَ الثُّلُثِ أن يُعتَبَرَ مَا نَقَصَ منْ قِيمَتِهِ بِسَبَب الوَصيَّةِ بِمَنْفَعَنِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في هذه البقيَّة ثلاثُ مسائلَ: إحداها: في الجناية على العبد الموصَى بمنفعته، فإن قُتِلَ، نُظِر؛ إنْ كان قتلاً يوجب القصاص، فلمالك الرقبة الاقتصاص، وإذا اقتصَّ، حبط حق الموصَى له، كما لو مات، أو انهدمَتِ الدار، وبطَلَتْ منافعها، وإن كان مما يوجب المال، أو رجع إلَيْه، ففي القيمة المأخوذةِ أوجه: أحدها: أنه للوارث، بحق ملك الرقبة، ولا شيء لمستحِقِّ المنفعة، كما لا حَقَّ للمستأجر في بدل المستأجر، ولا لزوج الأمة في بدَلِها. والثاني: ويُحْكَى عن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه يشترَى بها عبدٌ يقوم مقامه، فتكون رقبته للوارِثِ، ومنفعته للموصَى له؛ لأن القيمة بدلُ الرقبة ومنافعها، فتقوم مقامها، وهذا أصحُّ عند الشيخ أبي حامد والإمام -رحمهما الله تعالى-. والثالث: أنها توزع على الرقبة مسلوبة المنافع، وعلى المنفعة وحدها وطريقه أن يُقومَ الرَّقبة بنافعها، ثم تقوم بلا منفعة، ولا بدُ، وأن يكون لها قيمة؛ لما في إعتاقها من الثواب، وجَلْب الولاء، فقدر التفاوتِ هو قيمةِ المنفعة، فما هو حصَّةُ الرقبة من القيمة، فهو للوارث، وما هو حصَّةُ المنفعةِ، فللموصَى له، وهذا الوجه والذي قبله مأخذهما واحدٌ، وافتراقهما في أن القيمة تُصْرَفُ إلى عبدٍ آخَرَ، أو تُقَسَّمُ بحالها. ولولا ما سنذكره من الإشكال في تقويم المنفعة، لاقتضى القياسُ ترجيحُ الثاني، كما في غرامة سائر المتلفات، وإنما يتوجَّه تحصيل عبد آخر في "الوقف". والرابع: أنها للموصَى له خاصَّةَ؛ لأن تقويمه بمنافعه، والمنافع حقُّه؛ ويخرج على هذا الخلاف [فيما] إذا قتله الوارث، أو الموصَى له؛ فلا شيء على مَنْ لو كان القاتل غيره، لكَانَتِ القيمةُ مصروفة إليه، وإن جنَى عليه بقَطْع بعض أطرافه؛ فمنهم منْ طرد الأوجه الثلاثة الأُوَلَ في الأرش، وذكر أنه يُشتَرَى به على الوجه الثاني، ولا يَبْعُدُ تخريجُ الوجْه الرابع عَلَى هذه الطريقة؛ تشبيهاً له بالولد، والزيادات العينية، ومنهم مَنْ قَطَعَ هاهنا، يكون الأرش للوارث، واتفقوا على ترجيحه، وإنْ ثَبْتَ الخلافُ، وكان سببه أن العبْدَ بقي منتفعاً به، ومقادير المنفعة لا تنضبط، وتختلِفُ بالمرض والكبر، وكأنَّ حقُّ الموصَى له باقياً بحاله.
الثانية: في جنايته، فإنْ أتَى بما يوجِبُ القصاص، واقتُصَّ منه، فقد ضاع حقُّ المالك، والموصَى له جميعاً، وإن وجب المال، تعلَّق برقبته، فإن لم يفدياه، بِيعَ في الجناية، وبَطَل حقهما، ويتقدم حق المجنيِّ عليه علَى حقهما، فإنْ زاد الثمن على الأرش، قال أبو الفرَجَ السرخسيُّ: يُقَسَّمُ بينهما على نسْبَة حقِّهما، وينبغي أن يجيءَ فيه الخلافُ السابِقُ، وإن فدياه، استمر الحقَّان، وإن فداه مالك الرقبة فكذلك، وإن فداه الموصَى له، فوجهان في لزوم الإجابة على المجنيِّ عليه: أحدهما: لا يلزم؛ لأنه أجنبىٌّ عن الرقبة. وأشبههما: اللزوم؛ لظهور غرضه فيه، وهذا فيما إذا فَدَى أحدهما العبْدَ بمنافعه، فإن فدَى حصته، قال أبو عبد الله الحناطىُّ: يُبَاعُ نصيب صاحبه، وفيه إشكال؛ لأنه إنْ فدَى مالك الرقبة، فكيف تباع المنافع وحْدَها؟ وإنِ فدَى الموصَى له، واستمر حقُّه فَبَيْعُ الرقبة يكُونُ على الخلاف الذي مَرَّ في أن الوارث، هلْ يبيح الرقبة؟ وقوله في الكتاب: "فإن فداه السيد اسْتمرَّ حقُّه" يعني حقَّ الموصَى له، وتخصيص السيد بالذِّكْر يمكن أن يكون إشارةً إلى الخلاف في أن فداء الموصَى له، هل تلزم إجابته، أو والاختيار أنها لا تلزم. الثالثة: كيف يُحْسَبُ الوصية بالمنفعة منْ الثُّلُث؟ إن أوصَى بالمنفعة أبداً، فوجهان، ويُقَال: قولان: أحدهما: أنه يُعتبر الرقبةُ بتمام منافِعِها من الثلث، كما لو باع بثَمَنٍ مؤجَّلٍ يعتبر قيمته من الثلث، وهذا؛ لأنه حَالَ بينها وبين الوارث، والحيلولة كالإتلاف؛ ألا تَرَى أن الغاصِبَ يضمن بها؟ وأيضاً فإن منافع الرقبة وفوائِدَها قد بطَلَتْ على الوارث، فكأنه قد فوَّتها بالكلية. والثاني: خرَّجه ابن سُرَيْجٍ: أن المعتبر ما بين قيمتها بمنافعها وقيمتها مسلوبة المنفعة؛ لأن الرقبة باقيةٌ للوارث، فلا معنى لاحتسابها على الموصَى له، وهذا أصحُّ عند صاحب الكتاب وطائفة، والأولُ أصحُّ عند الأكثرين، وهو نصه في اختلاف العراقِيِّينَ في "الإملاء"، وبه أجاب ابن الحدَّاد، ووجه أيضاً بأن المنفعة أبداً هي التي أوصَى بها، والمنفعة أبداً لا يمكن تقويمُها؛ لأن المنفعة أبداً يُعْنَى بها منفعةُ مدة العمر، ومدةُ العمْرِ غَيْرُ معلومةٍ، فمنفعة مدةِ العُمْرِ غيرُ معلومةٍ، وما لم يُعْلَمْ ولا يضبط لا يمكن تقويمُهُ. وإذا تعذَّر تقويم المنافع وحدها، تعيَّن تقويم الرقبة؛ وحُكِيَ هذا الوجهُ عن أبي إسحاق.
واعلم أنَّا ذكرنا ما قيل في طريق تقويم المنفعة من قبل، ويشبه أن يُقَالَ: إنَّه غيرُ صَالحٍ لتقويم منفعة الموصَى بها (¬1) كما ذكره أبو إسحاق، لكنه صالح المعرفة ما فات على الورثة، أمَّا الأول؛ فلأنَّا إذا قوَّمنا الرقبةَ مع منافعها، فلا يُعْتَبَرُ فيه إلاَّ صفاتُ الرقبة في الحال، ولا ينظر إلى تأبدها, ولا تأقتها، كما لا يُنْظَرُ في الذَّات إلَى مدة بقائها، والموصَى به ليس له مجرَّدُ المنفعة، بل منفعة مدة العمر، فإِذنِ الطريق المذكور، لو أفاد، إنما يُفِيدُ معرفة قيمة المنفعة، لا قيمة المنفعة أبداً، وهي التي أوصَى بها. وأما أنه صالِحُ المعرفة ما فات على الورثة؛ فلأنا إِذا قوَّمناه منتفعاً به، ومسلوب المنفعة، عَرَفْنا أن ما نَقَصَ هو الذي فوته على الورثة، فأمكن أنْ يقال: إنه المعتبرُ منْ الثلث، ويجوز أن يفوت على الورثة بوصيته ما لاَ يَحْصُل للموصَى له، كما لو أوصَى بأحد مصراعَي الباب، وزوْجَيِ الخُفِّ. والذي ينبَغِي أن يُعْتَبَرَ منْ الثُّلُثِ هو الذي نقص من قيمتها، فإن قلنا: إن المحسوب منْ الثُّلُثِ قدر التفاوت، فهل يُحْسَبُ قيمة الرقبة منْ التركة أم لا تُحْسب على الوَارِثِ، كما لا تُحسب على الموصَى له؟ فيه وجهان: أظهرهما: الأول، ولنوضِّحْ ذلك بالمثال: أوصَى بمنفعة عبد، قيمته بتمام منَافِعِه مائة، ودون المنافع عَشَرةٌ، فعلى المنصوص يُعْتَبَرُ منْ الثلث المائة، ويشترطَ أن يكون له سوى العبد مائتان، وعلى الثاني المعتبر التسْعُونَ، فيشترط أن يبقَى للورثة ضعْفُ التسعين مع العَشَرة على وجه، ودونها على وجه، هذا إذا أوصَى بمنفعته أبداً، وإن أوصَى بها سنة أو شهراً، ففيه طرق: أحدها: أن الحكم كما في الوصية المؤبَّدة، نقله بعض الشارِحِينَ. والثاني: عن الخُضَرِيِّ: إنِ اعتبرنا تفاوُتَ ما بين القيمتَيْنِ هناك، فهاهنا أَولَى، وإن اعتبرنا قيمة الرقبة، فهاهنا وجهانِ؛ بناءٌ على جواز بيع المستأجر. إن جوزناه، اعتبرنا منْ الثلث قدر التفاوت، وإلاَّ، اعتبرنا قيمة الرقبة؛ لأنها كالتالفة، ويمكن على هذا القياس أن يُبْنَى الخلاف فيما إذا أوْصَى بمنفعته أبداً على الخلاف في أنَّ الوارث، هل يتمكَّنُ منْ بيعه؟ والثالث: أن المعتبر الثُّلُثُ منْ قيمة منفعةِ تلْكَ المدة، وهي أجرة المثل، واستبعده في "الوسيط" لأن المنافع تحدُثُ بعد الموت، فليس الموصي مفوتاً لها مِنْ ملَكه. ¬
والرابع: وهو الأظهر: أنه يقوم العبد بمنافعه، ثم يقوم مسلوبَ المنفعة في تلْكَ المدة فما نقص، فهو المعتبرُ منْ الثلث، وقيمة الرقبة في هذه الحالة محسوبةٌ من التركة بلا خلاف. ويتفرَّع على الخلاف المذْكُور صُوَرٌ: إِحداها: إذا أوصَى بمنفعةِ عبدِهِ ثلاثَ سِنِينَ، ولا مالَ له سواه، إن اعتبرنا قيمة الرقَبَة منْ الثلث، صحَّت الوصية في منافع الثلث، ورُدَّتْ في الباقي، وإن اعتبرنا ما نقَصَ بسَبَب الوصية، وكان النقصان نصف القيمة، فتُرَدُّ الوصية في سُدُسِ العبد، أو ينقص منْ آخِرِ المدَّة سدُسُها؟ فيه وجهان. أظهرهما الأول؛ لأن قيمة المنافع تختلفُ باختلاف الأوقات. والثانية: أوصَى برقبته لإنسان، وبمنفعته لآخَر، إن قلنا: يُعْتَبَرُ منْ الثلث كمال القيمة، فَيُنْظَرُ فيما سواه من التَّركة، ويسلم إلَى كلَّ واحد حقُّه كاملاً أو غَيْرَ كامل، وإنْ قلنا: المعتبر التفاوتُ، فإن حسبنا الرقبة على الوارث [إذا بقيت له هاهنا يحسب كمال القيمة عليهما وإن لم تحسب الرقبةُ على الوارث] (¬1)، فكذلك لا تحسب على الموصَى له بها، وتصحُّ وصيته من غير اعتبار الثلث، كذلك ذكره في "التتمة". والثالثة: أوصى بالرقبة لإنسان، واستبقى المنفعة للورثة، فإن قلنا: المعتبر منْ الثُّلُث كمال القيمة، لم تعتبر هذه الوصية من الثلث، لجعلنا الرقبة الخالية عن المنفعة كالتالفة، وإن قلنا: المعتَبَرُ التفاوُتُ فإن حسبنا قيمة الرقَبَةِ على الوَارِثِ، فهاهنا تُحْسَبُ قيمة الرقَبَةِ على أرباب الوَصَايَا، وندخلها في الثلث، وإن لم تحسب قيمة الرقبة على الوارث، فهاهنا يحسب قدر التفاوت على الوارث، ولا يحسب قيمة الرقبة على أرباب الوصايا. الرابعة: العبد الموصَى بمنفعته، لو غصبه غاصب، فلمن تكون أجرة المدة التي كانَتْ في يد الغاصب؟ قال في "التتمة": إن قلنا: المعتَبَرُ منْ الثلث جميعُ القيمة، فهي للموصى له، فكأنه فَوَّت الرقبة على الوَارِثِ، وإن قلنا: المعتَبَرُ التفاوُتُ، فوجهان: أحدهما: الأجرة لمالك الرقبة، كما لو غَصَبَ العبد المستأجر. وأظهرهما: أنها للموصَى له؛ لأنها بدل ملكه، وتخالف الإجارة لأن الإجارة تنفسِخُ في تلك المدَّة، فتعود المنافع إلَى ملك مالك الرقبة. والخامسة: لو أوصَى بثمرة بستانه، خرج على الخلاف، ففي وجهِ: تُعْتَبَرُ جميع قيمة البستان منْ الثلث، وفي وجهٍ: ما بين قيمته بمنافعه وفوائده، وبين قيمته مسلوب ¬
المنفعة (¬1)، فإنِ احتمله الثُّلُث، فذاك، وإلاَّ، فللموصَى له القدرُ الذي يحتمله والباقي للوارث، فإن لم يحتمل إلاَّ النصف، فله منْ ثمرة كُلِّ عام النصف، والباقي للوارث. فَرعٌ: لابْنِ الحَدَّادِ -رحمه الله- إذا أوصَى لرجلٍ بدينارٍ كلِّ شَهر منْ غلة داره، أو كسب عَبْدِهِ، وجعله بعده لوارثه، أو للفقراءِ والمساكينِ، والغلةُ، والكَسْبُ عَشَرَةٌ مثلاً؛ فاعتبَارُ هذه الوصية منْ الثلث كاعتبارِ الوصيَّة بالمنافع مدَّةً معلومةً؛ لبقاء بعض المنافع لمالِكِ الرقبة، فيكون الظاهر فيهما أنَّ المعتَبَرَ قدرُ التفاوت بين القيمتَيْنِ، ثم يُنْظَرُ؛ إن خرجتِ الوصيةُ منْ الثلث، قال ابن الحدَّاد: ليس للورثة أن يبيعوا بعض الدار، ويدعوا ما يحْصُل منه دينار؛ لأنَّ الأجرة تتفاوت؛ فقد تتراجَعُ، وتعود إلى دينار وأقل، وحينئذ، فيكون الجميع للموصى له، وهذا إذا أرادُوا بيع بعضها عَلَى أن تكون الغلَّةُ للمشتَرِي، فأما بيع مجرَّد الرقبة، فعلَى ما سبق منْ الخلاف في بيع الوارثِ الموصَى بمنفعته، وإن لم يخرج منْ الثلث، فالزائد على الثُّلُث رقبة، وغلة للوارث يتصرَّف فيه كيف يشاء، وإن كانت الوصية بعُشْرِ الغلة في كلِّ سنة، فما سوى العُشْر يخلص للوارث، يتصرَّف فيه كما يشاء، والفَرْقُ ظاهر (¬2). فَرْعٌ: أوصَى لإنسانٍ بدينارٍ كلَّ سنة، حكَى الإمام أنَّ الوصيَّةَ تصحُّ في السنة الأولى بدينار، وفيما بعدها قولان: أحدهما: الصحة؛ لأن غاية ما فيها الجَهَالَةُ، وأنها لا تمنعُ صحَّة الوصيَّة، وأيضاً، فالوصيَّةُ بالمنافع صحيحةٌ لا إلَى نهايةٍ، فكذلك هاهنا. ¬
وأظهرَهُمَا: البطلانُ؛ لأنه لا يعرف قَدْر الموصَى به حتَّى يخرج من الثلث؛ فإنْ صحَّحناها (¬1)، فإن لم يكُنْ هناك وصيَّة أخْرَى، فللورثة التصرُّف في ثُلُثَيِ المال لا مَحَالة، وفي ثلثه وجهان: أحدهما: نفوذُ التصرُّف بعد إخراج الدِّينار الواحِدِ؛ لأنا لا ندْرِي استحقاق الموصَى له في المستقبل. والثاني: أنه يوقف؛ لأن الاستحقاقَ قد يثبت بقبول الوصية، إلَى أن يظهر قاطع، وإن قلنا بالتوقف، وبقى الموصَى له إلى أن استوعب الدنانير الثلث، فذاك، وإن مات، فعن صاحِبُ "التَّقْريب" أن بقية الثلث تُسلَّم للورثة. قال الإمام: وفيه نَظَر؛ لأن هذه الوصية، إذا صحَّحناها كالوصيَّة بالثمار بلا نهاية، فوجب أن ينتقل الحقُّ إلى الورثة، وإن نفَّذنا تصرفهم فَكُلَّمَا انقضت سنة، طالب الموصَى له الورثَة بدينار، وكان ذلك كوصية تظهر بعد قسمةِ الورثةِ التركة، وإن كان هناك وصايا أُخَرُ، قال صاحب "التقريب" يغض الثلث بعد الدينار الوَاحِد على أَرباب الوصايا, ولا يتوقف فإذا انقضت سنةٌ أخرَى، استرد منهم بدينار ما يقتضيه التقسيط. قال الإمام: وهذا بيِّنٌ، إذا كانت الوصية مقيَّدةٌ بحياة الموصَى له، أما إذا لم نقيد وأقمنا ورثته مقامَهُ، فهو مشكلٌ لا يهتدى إليه. فَرْعٌ: لو انهدَمَتِ الدَّارُ الموصَى بمنافعها، فأعادها الوارِثُ بآلاتها، هل يعود حقُّ الموصَى له؟ فيه وجهانِ محكيَّان في "المعتمد". ولو أراد الموصَى له إعادَتَهَا بآلاتها، فعلى الوَجْهَيْن (¬2). قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةُ: إِذا أوْصَى بِالحَجِّ عَنْهُ نُظِرَ، إِنْ كَانَ تَطَوُّعاً صَحَّتْ إن جَوَّزْنَا الاسْتِنَابَةَ بِتطَوُّعِ الحَجِّ، ثُمَّ هُوَ مَحْسُوبٌ مِنَ الثُّلُثِ، وَلَكِنْ يَتنَزَّلُ مُطْلَقُهُ عَلَى حَجِّهِ مِنَ المِيقَاتِ، أَوْ منْ دُوَيرَةِ أهْلِهِ فِيهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ كَانَ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ فَلاَ حَاجَةَ إِلَى الوَصِيَّةِ فإنَّه دَيْنٌ يَخْرُجُ منْ رَأْسِ المَالِ وَإِنْ لَمْ يُوصَ بِهِ كَالزَّكَوَاتِ وَسَائرِ الدُّيُونِ، وَلَكِنْ إِنْ قَالَ: حُجُّوا مِنْ ثُلُثِي كَانَ فَائِدَتُهُ زَحْمَةَ الوَصَايَا بالمُضَارَبةِ، وَلاَ يُقَدَّمُ الحَجُّ عَلَى الوَصَايَا في الثُّلُثِ عَلَى الصَّحيحِ (و)، ثُمَّ إِنْ لَمْ يُتَمَّمِ الحَجُّ بِمَا حَصَلَ مِنَ المُضَارَبَةِ كُمِّلَ مِنْ رَأْسِ المَالِ، أَمَّا الحَجَّةُ المَنْذُورَةُ فَفِيهَا وَفِي الصَّدَقَةِ المَنذُورَةِ وَفِي الكَفَّارَاتِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّهَا دَيُونٌ كَالزَّكَوَاتِ (وَالثَّانِي) أَنَّهَا كَالتَّطَوُّعَاتِ لِأَنَّهُ مُتَبَرَّعٌ بِالتِزَامِهَا، فَإِنْ أَوْصَى ¬
احْتُسِبَ مِنَ الثُّلُثِ (وَالثَّالِثُ) أَنَّ الْتِزَامَهَا كَالوَصِيَّةِ فَيُؤَدِّى مِنَ الثلُثِ وَإِنْ لَمْ يُوصَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الحجُّ ضَرْبَانِ: متطوَّع به، ومفرُوُضٌ: الضرب الأوَّل: المتطوَّع به، وصحة الوصية [به] مبنيةٌ عَلَى دخول النيابة فيه، وفيه قولانِ مذكُورانِ في "كتاب الحج"، أصحُّهما الجواز، ثم هو محسوبٌ من الثُّلُث (¬1)؛ كسائر التبرعات، وُيحجُّ عنه منْ الميقات، إنْ قيد به، ومن بلده، إنْ قيد به، وعند الإطلاق فيه وجهان: أحدهما: من الميقات؛ حَملاً عَلى أقل الدَّرَجَات. والثاني: منْ بَلَدِهِ؛ لأن الغالبَ التجّهِيزُ للحَجِّ، والنهوض له من البلد، وإلى الأول ميل أكثرهم؛ لكن في "عيون المسائل" عن نصَّه: أنه إذا أوصَى أن يحج عنه متطوعاً، فبلغ ثلثه الحج منْ بلده، أحج عنه من بلده، وإن لم يبلغ أحج عنه من حيث بلغ ثلثه؟ وربَّما حُمِلَ ذلك على ما إذا قيد به، وهل يقدم حجُّ التطوُّع في الثلث على سائر الوصايا [عن القفَّال: أنه على القولين في تقديم العتق على سائر الوصايا] (¬2) لأن الحج قربةٌ كالعتق. قال الشيخ أبو على -رحمه الله-: ولم أرَ هَذَا لأحدٍ منْ أصحابنا، وجعلوا الوصيَّة به مع سائر الوصَايَا على الخلافِ فيما إذا اجتمع حقُّ اللهِ تعالَى وحقوق الآدميين (¬3). وإذا لم يف الثلث، أو حصة الحَجِّ منه بالحج، بَطَلَتِ الوصية. وكذا لو قال: أحجوا عني بمائة من ثلثي، ولم يمكن أن يحج بها, ولو قال: أَحجُّوا عني بثُلُثي، صُرِفَ ثلثه إلى ما يُمْكِنُ منْ حجتين، وثلاث فصاعداً، فإن فَضَلَ مَا ¬
لا يُمكِنُ أن يَحُجَّ به، فهو للورثة (¬1). ولو قال: أحِجُّوا عني بثلثي، حجةً صُرفَ ثلثه إلَى حجةٍ واحدةٍ، ثم إن كان الثلُث قدْرَ أجرة المثل، أو دُونَها، فسواءٌ رغب وارث، أو أجنبيٌّ، وإن كان أكثر من أجرةِ المِثْلِ، لم يستأْجِرْ به الأجنبيُّ؛ لأن الزيادةَ محاباةٌ، فلا تجوز للوارث. الضرب الثاني: المفروضُ، وهو حجَّة الإِسلام أو غيرها. أما حجَّة الإِسلامِ، فمن مات، وهي في ذمته، قُضِيَتْ من ماله، وإن لم يوص بها، كالزكوات، وسائر الديون، ويجوز أن يُعْلَم بالواو [قوله في الكتاب] "فإنه دين يخرج منْ رأس المال" بالحاء والميم؛ لما ذكرنا في "باب الحج" أن أبا حنيفة ومالكاً -رحمهما الله تعالى- قالا بأنَّهَا تسقطُ بالموت، ولو أوصَى بحجة الإِسلام، نُظِرَ: إن إضافها إلى رأس المال، فهي تأكيدٌ وتذكير منه، وكذلك يفعل، لو لم يوص، وإن أضاف إلى الثلث، قضى منه، كما لو أوصَى بقضاء دينه منْ ثلثه، وتتضمن هذه الوصية ترفيه الورثة بتوفير الثلثين علَيْهم. وفي تقديم الحجِّ عَلَى سائر الوصايا وجّهَان. وقال الشيخ أَبو عليٍّ: قولان للشافعيِّ -رضي الله عنه- يجريان فيما لو أوصَى بقضاء دَيْنِهِ منْ الثلث: أحدهما: التقدُّم؛ لأنه لو لم يُوص، كان الحجُّ مقدَّماً في جميع المال على الوَصَايَا، وإذا جعَلَهُ في الثلث، تقدَّم فيه على الوصايا. والثاني: لا يتقدَّم، بل يزاحمهما بالمضاربة؛ لأنه لما علَّقه بالثُّلُث الذي هو محلُّ الوصايا، كان سبيلُهُ [سبيلها] (¬2) وهذا أصحُّ عند صاحب الكتاب، ثم إن لم يفِ الثلُثُ بالحَجِّ على الوجه الأول، أو الحاصل منْ المضاربة علَى الوجْه الثاني، كُمِّلَ منْ رأس المال، كما لو قال: اقْضُوا دَينِي منْ ثُلُثِي، فلم يف الثلث به، وحينئذ فالمسألة تَدُورُ وسنوضِّح في الفصل مِثَالَ ذلك. وإنْ أطلق، ولم يضف إلى الثلث، ولا إلَى رأس المال، فالجوابُ عَلَى الاختصار، أنه يُحَجُّ عنه منْ رأس المال عَلَى المذهَب، وقيل منْ الثلث، وفي "البسيط" ¬
أن المُزَنِيَّ قال في "المختصر": ولو أوصَى أن يَحَجَّ عنه، ولم يَحُجَّ حجة الإسلام، فإن بلغ ثلث حجةً من بلدة، أُحِجَّ عنه منْ بلده، وإن لم يبلغُ أُحِجَّ عنه منْ حيْثُ بلغ، وظاهره يقتضي أن يُحَجَّ عنه منْ ثلثه، فعن أبي الطيِّب بن سلمة، وأبي حفص بن الوكيل في آخرين: أنهم أثبتوه قَوْلاً، وقالوا: لما أوصَى به، أخرجهُ مُخْرَجَ الوصايا، فجعله منْ الثلث، كما لو صرح به. والجمهور منَعُوا منه، وقطَعُوا بأنه منْ رأس المال، كما لو لم يوص، وقالوا: ليس في هذه الوصيَّة إلاَّ تذْكِيرُ الورثة، ثم هؤلاء فريقَانِ: فريق خَطَّؤوهُ في النقل، وقالوا: الصوابُ نقْلُ الربيعِ، وهو ما نسبناه إلَى "عيون المسائل" وذلك في تطوُّع الحج وآخرون أَوَّلُوا، فعَنِ اَبْنِ سُرَيْجٍ حمْلُ ما نقله المُزَنِيُّ عَلَى ما إذا كانَتْ عليه حَجَّةُ الإسلام، وأوصَى بحجة أخرَى تَطَوُّعاً، ومنهم مَنْ حمله علَى ما إذا قال: أَحِجُّوا منْ ثلثي، ولو قرن بالوصية بالحج ما هو منْ الثلث، كما لو قال: أحِجُّوا عني أو أعتقوا، أو تصدَّقُوا, ولم يتعرَّض للثلث، ولا لرَأْسِ المال، فمن جعل الحجَّ منْ الثلث عند تجرُّد الوصية عن القرينة، فهاهنا أَوْلَى، وأما غيرهم، فعن ابن أبي هريرة: أنه منْ الثلث بالقرينة المضمومة إليه، واستمر عامتهم علَى جوابهم؛ لأن المقترنين لفظاً قَدْ يختلفان حكماً، ورأى الإمام تخْصيصَ هذا الترتيب، بما إذا قال: أوصيتُ إليكم لتُحِجُّوا عني، وتُعْتِقُوا، فإن لم يجر لفظ الوصية، وقال: أَحِجُّوا وأعتقوا، قال: هو كما لو تجرَّد ذكر الحَجِّ، والأشهر ألا نرق ثم مهما (¬1) جعلنا الحج منْ رأس المال، فيُحَجُّ عنه منْ الميقات؛ لأنه لو كان حيّاً، لم يلزمه إلاَّ ذلك, حتى لو كان في سَفَرِ تجارةٍ، ثمَ بَدا له الحجُّ حتى انتَهَى إِلى الميقات، جاز. وإنْ جعلناه منْ الثلث، إما لتصريحِهِ بالإضافة إلَى الثلث، أو في صورة الإِطْلاَق، فوجهان كما في حَجِّ التطوُّع: أحدهما: وبه قال أبو إسحاق: يُحَجُّ عنه منْ بلده؛ لأنَّ الأصل وجوبُ الإحرام منه، قال الله تعالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة - 196] وعن عمر وعلِيٍّ -رضي الله عنهما- أن إتمامها أن تحرم بهما منْ دُوَيْرَةِ أهلك (¬2)، لكن رخُّص في ترك الإحرام إلى الميقات، فيقي السعْيُ منْ البلد واجباً، وعلى هذا قال أبو إسحاق: إِنْ أوصى بالحَجِّ منْ الثلث، فجميعه منْ الثلث، وإن أطلق، فوجهان، فإن جعلناه من الثلث، فالذي هو من الثُّلُثِ مؤنةُ ما بَيْنَ البلد إلى الميقات، فهو من رأس المال. وأظهرهما: أنه يُحَجُّ عنه من [الميقات لأنه الذي استقرَّ وجوبه في الشَّرْعِ، وعلى ¬
هذا، فلو أوْصَى بأن يحجَّ عنه منْ بلده] (¬1)، فلم يبلغ ثلثه حَجَّةً منْ بلده، حُجُّ عنه منْ حيث أمكن، وإن لم يبلغ الحجُّ من الميقات، تُمَّمَ منْ رأس المال ما يتم به الحج منْ الميقات، هذا في حجة الإِسلام. وأما الحجة المنذورةُ: ففيها وجهان متأيِّدَانِ بتردُّدِ قولٍ محكِيَ في "الأمِ". أظهرهما: أنها كحَجَّة الإِسلام، والزكوات، والدّيون؛ لوجوبها. والثاني: أنها كالتطَوُّعات؛ لأنها لا تلْزَمُ ابتداءً، وإنما تتعلَّق بالتزامه، فعلَى هذا؛ إن لم يوص بها, لم تقض، وإن أوصَى، كانت منْ الثلث (¬2)، وعلى الأول؛ إن أوصَى بها، فكما أوصَى بحجة الإسلام؛ فيُنْظَر في إطلاق الوصية وتقييدها، وإن لم يوصِ بها، فتقضي من رأس المال أو الثُلُث فيه؟ وجهان: أصحهما: من رأْس المال؛ لوجُوبِها. والثاني: من الثلث؛ لأنه بالنَّذر متبرّع، فجعل نذره كالوصيَّة، ولأنها لو قُضِيَتْ منْ رأس المال، لم يؤمَنْ أن تَسْتَغْرِقَ بالنَّذْر أمواله، ويخرج منْ ذلك ثلاثةُ أوجُهٍ كما في الكتاب، ويجّرِي الخلاف في الصدقة المنذورَةِ والكَفَّارات (¬3). فَرْعٌ: أوصَى بأن يُحجَّ عنه حجَّة الإِسلام من الثلث، وأوصَى لإنسانٍ بمائةٍ، وجملة التركةِ ثلاثمائة، وأجرةُ الحَجِّ مائةٌ، فإن قدمنا الحج عَلَى سائر الوصايا، صُرِفَ الثلث إلَى الحَجِّ، وإن لم يُقدَّم، ووزعنا الثلث، دارت المسألة؛ لأن حصَّةَ الحجِّ تكَمَّلُ منْ رأس المال، وإذا أخذنا شَيْئاً منْ رأس المال، نَقَصَ الثلث، وإذا نقص الثلث، نقَصَتْ حصة (¬4) الحج، فلا تعرف حصة الحج مَا لَمْ يُعرَفِ الثلث، ولا يُعْرَفِ الثلثُ، ¬
ما لم يُعْرَفِ المأخوذ منْ رأس المال، ولا يُعْرَفُ ذلك حتَّى تُعْرَفَ حصَّةُ الحج، فالطريقُ أن تأخذَ منْ التركة شيئاً لإكمَالِ حصَّة الحجِّ، يبقى ثلاثمائة إلا شيئاً، يفرز ثلثه، وهو ماثةٌ إلاَّ ثُلُث شيء، يُقَسَّمُ بين الحجِّ والموصَى له نصْفَيْنِ، فنصيبُ الحجِّ خمسون، إلاَّ سدس شيء، فيُضَمُّ الشيءُ المُفرز إليه، يبلغ خمسين وخمسة أسداس شيء تعدل مائة، وذلك تمام الأجرةِ فيسقط الخَمْسِينَ بخَمْسِينَ، يبقَى خمسة أسداس شيء في مقابلة خمسين، وإذا كانت خمسة أسداس الشيء خمسين، كان الشيء ستين فعَرَفْنَا أن ما قرَّرْنَاه سِتُّونَ، فنأخذ ثلث الباقِي وبعد الستين، وهو ثمانُونَ، ونقسِّمه بَين الوصِيَّتَيْنِ، يخص كل واحدة أرْبَعُون والأربعون مع الستين تمام أجرة الحَجِّ. فَرْعٌ: أوصَى بأن يُحجَّ عنه تطوُّعاً، أو حجة الإِسلام منْ ثلثه بمائة، وأوصَى بما يبقى منْ ثلثه بعد المَائة، لإنسان، وثلث ماله لآخر، ولم تُجز الورثة ما زادَ عَلَى الثُّلُثِ، فيقسَّم الثلث بين الموصَى له بالثلث، وبين الوصيَتَيْنِ، الأخْرَيَيْنِ نصْفَيْن؛ لأن الوصية له بمثْلِ الوصيَتَيْن الأخريين، فإذا كان ثلث المال ثلاثمائة، كان للموصَى له بالثلث مائة، وخمسون، والباقي بين الحجِّ والموصَى له بالباقي، وفي كيفية القسْمَة بينهما وجهَان: أحدهما: ويُحْكَى عن ابن خَيْرانَ: أنه يُصرَفُ خَمْسُون إلَى الحجِّ، ومائةٌ إلى الموصَى له بالباقي؛ رعايةً للنسبة بين الوصيَتيْن على تقدير الإجازة، وأيضاً فإن الموصى له بالباقي، يقول للحاج أوصَى لي بالثُّلُث ولك أثلاثاً، ثم دخل علينا الموصَى له بالثلث، فليس لك أن تُدْخِلَ عَلَيَّ ضرراً بدُخُوله علَيْنا. وأصحُّهما: أنه يصرف مائة إلى الحَجِّ، وخمسُون إلى الموصَى له بالباقي؛ لأنه لم يوص إلاَّ بما يزيدُ على مَائَةِ الحجِّ. ولو كان الثلثُ مائتين، فللموصى له بالثلثُ مائة، ويدخل الموصَى له بالباقي في الحساب، ويعدُّ على الموصى له بالثلث، ثم المائةُ الثانيةُ تُصْرَفُ إلى الحَجِّ في أصحِّ الوجهَيْنِ، ولا شيْءَ للموصَى بالباقي، ونظيره المعادة في الفرائِضِ، وفي الوجّهِ الثاني المائة، الثانية، بين الحجِّ والموصَى له بالباقي في الحساب بالسويَّة. ولو كان الثلثُ مائةً؛ فيقسم بين الحج والموصَى له بالثلثِ نِصْفَيْنِ، ولا يدْخُلُ الموصَى له بالباقي في الحساب؛ لأنَّ الثلث غَيْر زائدٍ عَلَى ما عيَّنه للحجِّ؛ ولا شيء للموصى له بالباقي، وإن لم تُوجدِ الوصية الثالثَة، بخلاف ما، إذا كان الثُّلُث فوق المائة. ولو كانَتِ الوصايا بحَالِها؛ لكنه أوصَى أولاً بالثلث لإنسان، ثم أوصى بالحجِّ بمائة، ثم، لآخرَ بما يبقى منْ الثلث بعد المائة، فعن أبي إسحاق أن الوصيَّة بالباقِي منْ الثُّلُث بعد المائة باطلةٌ؛ لأن الوصيَّةَ الأولَى قد استغرقَتِ الثُّلُث.
وقال ابنُ أبي هريرة وعامة الأصحاب -رحمهم الله تعالى-: لا فرق بين التقديم والتأخير، والوصيَّة بالمائة، وبما يبقَى من الثلث بَعْد المائة، وصيَّة بثلث آخر، وهذا الشخْصُ قد أوصَى بالثلثين، ولولاَ ذلك، لحَكْمنا فيما إذا أوصَى لزَيْدٍ بالثلث، ثم لعَمْرو بالثلث ببطلان الوصية الثانية، ولما وزَّعنا الثلُثَ عليهما. وهذا كلُّه جواب على أن الحجَّ لا يُقَدَّمُ في الثلث عَلَى سائر الوصايا، وإنَّما قدَّمنا مائةَ الحَجِّ عَلَى وصيَّةَ الموصَى له بالباقي؛ لأنَّ موصى قدَّمها لفظاً. فأما إذا قدَّمنا الحجَّ على سائر الوصايا، فإن كان الثلث ثلاثمائة، والمائةُ المقررةُ للحَجِّ أجرةَ مثْلِ الحج، فتؤخَذُ المائة من رأس الثلث؛ وكيف يُقَسَّمُ الباقي بين الموصَى له بالباقي، والموصَى له بثلث جميع المال. قال ابن الحدَّاد: يُجعَلُ بينهما نصفَيْن؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما، لو انفرَدَ مع الحج لأخَذَ ما زاد على المائة، وغلَّطه عامَّةُ الأصحاب، وقالوا: يُقسَّم الباقي بينهما على قدْرِ وصيتهما، والوصية للموصى له بالباقي بما تبيَّن، وللموصَى له بالثلث بثلاثمائة، فيُقَسَّم الباقِي بينهما على خَمْسَة أسْهُمٍ؛ للموصَى له بالباقي ثمانُون لسهمَيْن، وللآخر مائةٌ وعشْرُون بثلاثةَ أسْهُم، وإن كان أجر مثل الحجَّ خمسين، والصورة بحالها، أُخِذَ من الثُّلُث خمسون أولاً، ثم قال ابن الحدَّاد: ويُجْعَلُ الباقِي بين الموصَى له بالثلث، وبين الحج والوصية الأخْرَى نصفين؛ للموصَى له بالثلث مائة وخمسة وعشرون، ويُصْرَف من الباقي خمْسُون إلى الحجِّ بالوصية، والباقي للموصَى له الآخر. وقال الآخَرُونَ: بل يُقَسَّمُ الباقي بعد أجرة مثل الحجِّ عَلَى أحدَ عَشَرَ سهماً؛ لأن الوصية في هذه الصورة للموصَى له بالثلث بثلاثمائة والحج، وللموصى له الآخر بمائتين وخمسين، والنسبةُ بينهما ما ذكرنا، فللموصَى له بالثُّلُث ما يخص ستة، والباقي يقدم الحاجّ منه بخمسين؛ لأنَّ حقَّ الموصَى له الآخر مؤخَّر عن مائة الحج، والباقي له. ولو كان الثُّلُثُ مائتين، فإن كان أجرة مثل الحجِّ مائةً، أُخِذَ من رأس المال، ثم عَلَى قول ابن الحدَّادِ يُجْعَلُ الباقِي بينهما نصفين، وعلى الصَّحِيح يُجْعَلُ بينهما عَلَى ثلاثة أسهُمٍ؛ لأن الوصية لهذا بمائة، ولهذا بمائتين. ولو كان أجرة مثله خمسين، فيُؤخَذُ خمسون أولاً، والباقي عَلَى قول ابن الحدَّادِ بين الموصَى له بالثلث، وبين الوصيتين الآخريين بالسَّوِيَّة، ثم يقدم الحاجُّ بخمسين من حصتهما. وعلى الصحيح: يُجْعَلُ المال بعد الخمسين عَلَى سبعة أسهم؛ لأنه أوصَى لأحدهما بمائتين، وللحج، وللآخر بمائةٍ وخمسينَ، فللموصَى له بالثلث ما يخصُّ أربعة، والباقي يُؤخَذُ منه خمسون للحج، والباقي للموصَى له الآخر.
ولو كان الثلثُ مائةً، فإن كان أجرة مثل الحجِّ مائةً، فلا شيء للموصَى لهما وإن كان أجرة مثله خمسين، أُخِذَ للحجِّ خمسون، ثم عَلَى ما ذكر ابن الحدَّاد؛ الباقي بين الحجِّ والموصَى له بالسويَّة، وعلَى الصَّحيح الباقي بين الحجِّ والموصى له بالثلث على ثلاثة؛ للحجِّ واحدٌ؛ لأن الوصيَّة في هذه الصورة للحجِّ بخمسين، وله بمائةٍ، وإذا لم تَفِ حصَّةُ الحج في هذه الصورة بالحَجِّ، فإن كانت الموصية بَحَجِّ التطوع، بَطَلت، وإن كانَت بحَجَّة الإِسلام، كمَّلنا من رأس المال، وقد بينا طرِيقَهُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: ثُمَّ الكَفَّارَةُ مَهْمَا أَخْرَجَهَا الوَارِثُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ وَقَعَتْ عَنْهُ تَشْبِيهَاً بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ العِتْقُ وَالإِطْعَامُ، وَأَمَّا الأَجْنَبِيُّ إِذَا تَبَرَّعَ بِهِ فَفِي نُفُوذِهِ عَنْهُ وَجْهَان، وَلاَ يَجُوزُ التَّبَرُّعُ بِالعِتْقِ الَّذِي لَيْسَ بِلاَزِمِ عَلَى المَيِّتِ لِلوَارِثِ وَلِغَيْرِهِ، وَلَوْ أَوْصَى بِالعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ مخَيَّرَة وَالثُّلُثُ لاَ يَفِي بِهِ فَهُوَ كَالتَّبَرُّعِ، وإنْ كَانَ إِحْدَى خِصَالِ الوَاجِبِ، أَمَّا الدُّعَاءِ للمَيِّتِ يَنْفَعُهُ بِدَلِيلِ الخَبَرِ، وَكذَا الصَّدَقَةُ، وَأَمَّا الصَّلاةُ عَنْهُ قَضَاءِ لِمَا فَاتَهُ فَلاَ تنفَعُهُ (و)، وَالصَّوْمُ أَيْضًا لاَ يَقَعُ عَنْهُ عَلَى القَوْلِ الجَدِيدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: جرت العادَة بذكرِ ما يقع عن الميِّت بفعل الغَيْر في هذا المَوْضِعِ لمناسبة الحَجِّ عنه؛ إما بالوصية، أو دونها؛ فالحجُّ يؤدى عنه، إن كان فَرْضاً، ثم إن عَيَّن شَخْصًا، أو أوصَى إليه فيه، فعله عنه وارثًا كان، أو أجنبياً، ولو قال: أحِجُّوا عني، ولم يُعَيِّن، فللوارثِ أن يَحُجَّ عنه بنفسه، وله أن يأمر أجنبيَّاً بذلك، وإن لم يُوص به أصلاً، فللوارثِ أن يَحُجَّ عنه، وكذا للأجنبي، إن أذن الوارث، ودون إذْنه، وجهان: أظهرهما: الجوازُ، كما لو كان عليه دَيْنٌ، فقضاه عنه. والثاني: المنْعُ؛ لأن الحجَّ عبادة تفتقر إلَى النية، ولا تصح النية إلاَّ باستنابته أو باستنابة نائبة، وأما حجُّ التطوع، ففي جريان النيابَةِ فيه خلاف، قد سَبَق، فإن أجريناهما، ففي "أمالي" السرخسيِّ، أن للوارث أن يُنِيبَ فيه، وأنه إذا أوصَى الميت إلَى معيَّن، فعل، ولو استقل به أجنبيُّ، فوجهان: أصحهما: المنع وفي هذا الإيراد تجويز الإنابة للوارث، وتجويز، فِعْله بنفسه، وإن لم يوص [الميت به، لكن العِرَاقيُّون، أطلقوا أنه إن لم يوص بحجِّ التطوَّع] (¬1)، لم يحج عنه، والزكاة المؤداة عنه، كالحجِّ الواجب حتى يجُوز للأجنبيِّ أن يؤدِّي عنه زكاة المال؛ وزكاةَ الفِطْر علَى الأظهر، وقد حكاه الرويانيُّ في "التجربة" عن النص. ¬
وأما الكفَّارةُ، فإن كانت مرَّتبةً، فللوارث أنْ يؤدي الواجِبَ المالِيَّ من التركة، ويحصل الولاء للميِّت إذا أعتق، وإن كانت مخيَّرة، فله أن يطعم، ويكْسُو، وفي الإعتاق وجهان: أحدهما: المنْعُ؛ لأنه لا ضرورةَ إِلَيْه. وأصحهما: الجوازُ، والوارثُ نائبه شَرْعاً، فإعتاقه كإعتاقه، ولو أدَّى الوارثُ من مال نَفْسه، ولا تركه، فالظاهر الجوازُ، وفيه وجهان. آخران: أحدهما: المنعُ؛ لبعد العبادَاتِ عن النيابة، وإنَّما جوَّزنا هناك؛ لِمَكانِ التركة. والثاني: تخصيصُ المنع بالإِعتاق؛ لبُغدِ إِثبات الوَلاَء للمَيِّت، وإذا قُلْنا: بالجواز، فلو تبرع الأجنبيُّ بالطعام، أو الكسوة، وأدى عنه؛ فوجهان: أحدهما: أنه لا يقع عنه؛ لأنه عبادةٌ، فلا بد من نيته أو نية وارثه،؛ بخلاف ما لو قَضَى دينه. وأشبههما: الجوازُ، كما في قضاء الدُّيون؛ ووجَّهه الإمام بأنه، لو اشترط الوراثةَ لاعْتبرَ صدوره من جميع الورثة، كالاقرار بالنَّسب، ولا يُعْتَبَر، بل يستبدُّ به كلُّ واحد من الوَرَثةِ، ولو تبرَّع بالعتق؛ فمنهم مَنْ جَعَله على الوجْهَيْن، وهو قضيَّة إطْلاق الكتاب هاهنا، وقَطَع قاطِعُون بالمنع (¬1)، وهو الذي أورده صاحِبُ الكتاب في "باب كفارة اليمين". فقال هناك: والأجنبيُّ لا يُعْتَقُ عنه متبوعًا"؛ لاجتماع عدم النيابة وبُعْدِ إثبات الولاءِ للمَيِّتِ، واذا لم يكُنْ على الميت: عِتْقٌ أصلاً، فأعتق عنه معتِقٌ؛ لم يُجْز، وارثًا كان أو أجنبيَّاً؛ على قياس العبادات، ويختصُّ منها بما ذكَرْنَا من معنى الوَلَاءِ، بل يكون العتْقُ والولاءُ للمُعْتِق. ولو أوصَى بالعتق في الكفارة المُخَيَّرة، وزادَتْ قيمة الرقبة عَلَى قيمة الطعام والكسوة؛ ففيه وجه: أن الوصية تعتبرُ من رأس المَال؛ لأنه أداءُ واجب، والأصحُّ اعتباره من الثلث؛ لأنه غير متحتم عليه، وتحصل براءةُ الذمَّة بما دُونَه، وعلَى هذا، فوجهان، قال في "التهذيب": قولان: أحدهما: أنه تُعْتَبَرُ جميع قيمته من الثلث، وإن لم يَفِ الثلثُ به، عُدِلَ إلى الإطعام. ¬
وأقْيَسُهُمَا: أن المعتَبَرَ من الثُّلُثُ ما بين القيمتَيْنِ من التفاوت؛ لأن أقلَّ القيمتين لازمٌ لا محالة، ويجري الخلافُ فيما إذا أوصَى بأن يكسو عنه، والكسوة كبرُ قيمة من الطعام، والمسألةُ معادة في "كتاب الإيمان". وسنذكُرُ هناك ما يزيدُ به هذا الخلاف وضوحًا -إن شاء الله تعالى- ولو أعتقَ في مَرَضِ الموتِ مَنْ عليه كفارةٌ مخيَّرة، فقد أطلق في "التتمة" أنه لا يُعْتَبَرُ قيمة العَبْد من الثلث؛ لأنه مؤدٍّ فرضاً؛ وهذا كأنه جوابٌ علَى الوَجْه الذي قُلْنا: إنه لو أوصَى به، اعتبر من رأس المال. وقوله في الكتاب فيما إذا أخْرَجَ الوارثُ الكفَّارةَ من مال نفْسِه "وقعت عنه" مُعْلَمٌ بالواو؛ لما مر، وقوله: "ويستَوِي فيه العتْقُ والإطْعَام" كذلك؛ للوجه الفارق بينهما، وقوله: "ولم يَكُنْ له تركةٌ" تَدْعُو إلى البَحْث عما إذا كانَتْ له تركةٌ، ويشبه أن يُقَالَ: الوارثُ حينئذٍ كالأجْنَبِيِّ، وقوله: "تشبيهاً بقضاء الديون"، ويؤيد ترجيح الوَجْه الذاهِب إلَى أنه يجوزُ للأجنبيِّ الإخراجُ؛ لأنه لا فَرْقَ في قضاء الدَّين بَيْن الوارِثِ والأجنبيِّ. وأما الدعاءُ للمَيِّت، فإنه ينفعه، قَالَ الله تعالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10] أثنَى عليهم بالدُّعَاء للسابِقِينَ، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا مَاتَ ابنُ آدم، انقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ من ثَلاَثٍ؛ صَدَقَةٍ جَارَيةٍ، أو عِلم يُنْتَفَعُ بهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِح يَدْعُوا لَهُ" (¬1)؛ والصدقةُ عنه تنفعه أيضاً؛ لما روِيَ أن رجُلاً قال للنبى -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَبِي مَاتَ وَتَرَكَ مَالاً، ولمْ يُوصِ، فَهَل يُكَفِّرُ عَنْهُ أن أَتَصَدَّقَ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ" (¬2) يستوي في الصدقة والدعاء الوارثُ والأجنبيِّ، قال الشَّافعيُّ -رضي الله عنه-: "في وُسْعِ اللهُ تَعالَى أن يُثِبَ المُتَصَدِّقَ أيْضاً". وعلَى هذا قال الأصحابُ: يُسْتَحَبُّ أنْ ينوِيَ المتصدِّقُ الصدقَةَ عن أَبَوَيْهِ، فَإِن اللهَ تعالَى "ينيلهما الثواب ولا ينقص عن أجره شيئاً" (¬3) وذكر صاحب "العُدة"؛ أنه لو ¬
أنبط عيناً، أو حَفَر نَهْرًا، أو غرس شَجَرة، أو وَقَف مُصْحَفًا في حال حياته، أو فَعَل غيره عَنْهُ بعد موته، يُلحَقُ الثواب بالميِّت. واعلم أنَّ هذه الأمُورَ إذا صَدَرَت من الحيِّ، فهي صدقات جاريةٌ يلحقه ثوابُهَا، بعد الموت، كما ورَدَ في الخَبَرِ. وإذا فعَلَ غيره عنْه بعْد موته، فقد تصدَّق عنه، والصدقة عن الميت تنفعه، ولا ينبغي أنْ يخصَّص الحكم بوَقْف المُصْحَف، بل يُلْحَقُ به كلَّ وقف، وهذا القياسُ يقتضي جوازَ التَّضْحِيَة عن الميت؛ فإنها ضرْب من الصدقة، وقد رأيت أبا الحَسَنِ العبَّاديَّ أطلَقَ القَوْلَ بجَوَازِ التضحيَةِ عن الغَيْرِ. ورَوَى فيه حديثاً (¬1)، لكن في "التهذيب": أنه لا تجوزُ التضحيَةُ عن الغَيْر بغَيْر إذْنه، وكذلك عن الميِّت إلا أن يكُونَ قد أوصَى به، والله أعلم. وما عَدَا هذه القُرَب تَنْقَسِمُ إلَى صومٍ وغيره: أما الصومُ، فلا يتطوع به عن الميِّت. وفي قضاء فَائتةٍ عنه قولان، سبق ذكْرُهُما في "كتاب الصوم". الجديد: المنع، والقديم أن لوليه أن يصومَ عَنْه؛ وعلَى هذا فلو أوصَى إلى أجنبي ليصومَ، كان بمثابة الولي ولو مرض بحَيْث لا يُرْجَى برؤهِ، ففي الصوم عنه وجهان، تشبيهًا بالحج. ¬
وأما غير الصوْمِ؛ كالصلاة عنه قضاء، أو غير قضاء، وقراءة القرآن عنه: فلا تنفعه، واستثنى صاحب "التلْخِيصِ" عن الصلاة ركعتَيِ الطواف، وقال: يأتي بهما الأجيرُ عن المحجوج عنه، ووافَقَهُ بعضُ الأصحاب، وقالوا: [إنه] يقع عنه تبعاً للطَّواف، ومنهم من قال: هِيَ عنِ الأجير وَتَبرَأُ ذمة المحجوج عنه بما يفعل، كما لو ارتكَبَ محظورًا، ولزمه الدَّمُ، أو الصَّوْم. والظاهر الأوَّلُ، ويمكن أن يُعْلَمَ قوله: "وأما الصلاةُ عنه قضاءً لما فاته لا تنفعه" بالواو لتخريج من الصوم أشرنا إليه، وقد ذكرناه في "باب الصوم". والذي يعتاد من قراءة القرآنِ عَلَى رأس القُبُور قد ذكرنا في "باب الإجارة" طريقين في عَوْدِ فائدتها إلى المَيِّت، وعن القاضي أبي الطيِّب طريقٌ ثالثٌ، وهو أن الميت كَالحَيِّ الحاضِرِ، فتَرجى له الرحمة ووصُولُ البركة إليه، إِذا أَهْدَى الثوابَ إلى القارئ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثَةَ إذا مُلِكَ قَرِيبُهُ فِي مَرَضِ المَوْتِ بِالإِرْثِ عَتَقَ (و) مِنْ رَأْس المَالِ، وَإِنْ مُلِكَ بالشِّرَاءِ عَتَقَ مِنَ الثُّلُث، فَمَا زَادَ لَمْ يُعْتَقْ، وَإِنْ مَلِكَ بُقَبُولِ وَصِيَّةٍ أَوْ هِبَةٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَقَدْرُ المُحَابَاةِ مِنَ المَبِيعِ كَالمَوْهُوبِ، ثُمَّ إذَا عَتَقَ مِنَ الثُّلُثِ لَمْ يَرِثْ (ح وم) إذْ يَنْقَلِبُ العِتْقُ تَبَرُّعًا عَلَى وَارِثٍ فَيَمْتَنِعُ، وَإِنْ عَتَقَ مِنْ رَأَسِ المَالِ وَرِثَ (و) لِأَنَّهُ وَقَعَ مُسْتَحَقًا شَرْعًا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ضمن هذا الفصل فروعاً متفرَّقة: أحدهما: إذا مَلَكَ في مرض موته من يُعْتَقُ عَلَيْهِ، نُظِر: إِن ملكه بالإرث، فوجهان في أنَّه يعتق من الثلث أو من رأس المال: أحدها: من الثُّلُثِ؛ لأنه حَصَل في ملِكْهِ، ثم زال، فأشبه ما إِذا أَعْتَقَ عَبْداً وَرِثَهُ في مَرَضِهِ، وما إذا وَرِثَ مالاً، فاشْتَرَى به مَنْ يُعْتَقُ عليه. والثاني، ويحكَى عن مالك -رحمه الله-: أنَّه يُعْتَقُ من رأس المال؛ لأنه لم يقْصِدْ تملُّكاً ولا إزَالَةَ ملْكٍ، بل حصل بغير اختياره، وأَيضًا لم يبذُلْ في مقابلته مالاً فيتضرر به الورثة، وبهذا الوجه أجابَ صاحِبُ الكتاب هاهنا، ونقل الوجهَيْنِ في كتاب "العِتْق" وما الأصحُّ منهما؟ قال في "التَّهْذِيب": الأول أَصَحُّ وذكر المتولِّي أنه ظاهرُ النَّصِّ وأَن الثانِيَ من تخريج ابْن سُرَيْجٍ، لكن الأَشبه ترجِيحُ الثاني عَلَى ما أجاب به في الكِتَابِ؛ لأن في كَلامِ الشيخ أَبِي عليٍّ وغيره ما يقتَضِي الجَزْمَ به ورفع الخلاف، وأَيضًا فلم يُورِد الأُستاذ أَبو منصور غيره. ولو وهب منْهُ مَنْ يعتق عليه، أَو أَوصَى له به، فإن قلْنا: إِنه لَوْ وَرِثَه، لَعَتَقَ من
الثلث، فهاهنا أَولَى وإنْ قلْنا يعتق من رأْس المال هناك، فها هُنَا وجهان: أَحدهما، وبه قال أَبو حنيفة: أنه يعتق من الثلث، كما لو وهَب منْه مَنْ لا يُعْتَقُ عليه، فقَبِلَهُ وأعتقه، ويُجْعَلُ قصْدُه إلى تملُّك من يعتق علَيْه، كابتداء العِتْق في المرض. وأظهرهما: وبه قال ابن الحدَّاد والأستاذ أبو منصور: أنه يُعْتَقُ من رأْسِ المال؛ لأنه لم يبذل في مقابلته مالاً، والزوالُ حصَلَ بغير اختياره، فإنْ قُلْنا: يُعْتَقُ من رأْس المال، عَتَقَ، وإنْ لم يكُنْ له مالٌ سواه، وكذا لو كان عليه دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ، وكذا المفْلِسُ المحجُور علَيْه، إذا قَبل، ولا سبيل للغرماء علَيهِ] (¬1) وإن قلنا: إِنَّه يُعْتَقُ من الثلث، فلو لم يكُنْ له مالٌ سواه، لم يُعتَق إلاَّ ثلثه، ولو كانَ علَيْهِ دَيْنٌ، لم يُعْتَقْ، وبِيع فَي الدَّيْن، وكذا في المفْلِسِ المحجور عليه، ولو اشترى المريضُ من يُعْتَقُ عليه، فإما أن يكون علَيْه دَيْنٌ أَو لا يكونَ، فإن كانَ، ففِي صحة الشراء وجهان، ويقال: قولان. وجه المنع: أنه لو صحَّ، لملكه، ولو ملكه، لَعَتَقَ عليه، وفيه تضييعُ حُقُوقِ الغُرَمَاء. وأصحُّهما: الصحَّة؛ لأنَّه لا خَلَلَ في الشراء، فيثبت مقتضاهُ، وهو المِلْك لأنه لا يُعْتَقُ لحقِّ الغرماء، وبهذا أجاب ابن الحدَّاد، وذكر الشيخ أَبو عليٍّ أَن الخلافَ مبنيٌّ على قولَيْن منصوصَيْنِ فيما إِذا أوصَى لصبيٍّ ببَعضِ مَنْ يعتَقُ عليه، والصبيُّ موسرٌ، هل للوليِّ القبولُ؟ في قول: لا، وإلاَّ، لعَتَقَ، وقُوِّمَ عليه الباقي، فيه إتلافُ مالِ الصبيِّ، وفي قولٍ: نعم، ولا يُقَوَّم عليه، فعلى هذا: يصحُّ الشراء، ولا يُعْتَقُ، وعلى الأول: لا يصح، وإن لم يكن عليه دَيْنٌ، فيعتبر عتقُهُ من الثلث؛ لأَنه لا يملك بالاختيار، وبذل في مقابلته المال، فإِنْ خرَجَ كلُّه من الثلث، صحَّ الشِّرَاء وعَتَقَ كلُّه، وإلا، ففي صحة الشِّراء فيما زادَ عَلَى الثُّلُث مثْل الخلاف فيما إِذَا كَانَ عليه دَيْنٌ، فإن قلْنا: لا يصحُّ، ففي قدْرِ الثلث الخلافُ المذكورُ في "تفريق الصَّفقة"، وإن قلْنا: يصحُّ، عَتَقَ من الثلث، ولم يعتق ما زاد، وعلَى هذا، ينطبق قولُة في الكتاب "وإن ملك بالشراء، عَتَقَ مِنَ الثلُث، فَمَا أزاد لَمْ يُعْتَق" وروى الأستاذ أبو منصُور وجهًا مطلقاً أَنَّ شراء الْمَرِيضِ أَباه باطِلٌ؛ لأنه وصيَّةٌ والوصيةُ موقوفةٌ علَى الخروج. من الثلث أو الإِجازةِ، والبيعُ لا يصحُّ موقوفاً، وجميعُ هذا فيما إذا لم يكن محاباة، أما إذا اشتراه محاباةً، كما لو كانتْ قيمتُه مائةً، فاشتراه بخَمْسِينَ، كان قدر المحاباةِ، كالموهوب فيَجيءُ الوَجْهَان في أَنَّه يُعْتَبَرُ من الثلث أَوْ مِنْ رأس المال فإِنِ اعتبرنا الموهُوبَ من الثُّلُث، فجميعُ المائةِ مِنَ الثُّلث، وإِلاَّ، فالمعتبر منْه خمسون، ثم مهما حكَمْنا بأنَّه يعتق من الثلث، فلا يرث ¬
العتيقَ؛ لأن عتْقَهُ وصيَّةٌ، ولا سبيل إلى الجَمْع بين الوصيَّة والميراث، فلو وَرِثَ، لصَارَتِ الوصيَّةُ وصيَّةٌ للوارث، فيُبطل، واِذا بَطَلَ العتْقُ، امتنع التوريثُ، فإذن في توريثه عَدَمُ توريثه، هكذا أَطلقوه حكمًا وتعليلاً، وكأنه مبنيٌّ على أَن الوصيَّة للوارث باطلةٌ، فإن وقفاها على الإِجَازَةِ، فلا يمتنع الجَمْعُ بين الوصية والميراث، فيحتمل أَن يُوقَفَ الأَمْرُ على الإِجازة، ويحتمل خلافُهُ (¬1)، وحَكَى الأَستاذُ وجهاً: أَنه يرث؛ لأنَّه لا ¬
يملكُ رقبته، حتى يقال: أوْصَى له بها، وإنما ينتفع بالعِتْق، فهو كانتفاع الوارث بمَسْجِدٍ، وقنطرة بناهما المورِّثُ، وذلك لا يمنع الميراثَ، فلْيُعْلَم؛ لهذا قوله في الكتاب "لم يرث" بالواو، ويجوز أن يعلم بالحاء والميم أَيْضًا؛ لأنَّهما ذهبا إلَى توريثه، ويُحْكَى عن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه يسعَى في قيمته، حتَّى يخرج عتقه عن أَن يكُونَ وصيَّةً، ومهما حكَمْنا بأنَّه يعتقُ من رأْس المال، فوجهان: أصحهما: أنه يرث (¬1)؛ لأن العِتْقَ، والحالةُ هذه، ليس بوصيَّة، بل هو مستحَقٌّ شرعاً، فلا يلزم الجمع بين الميراث والوَصِيَّة. والثاني: وبه قال الإِصطخريُّ: لا يرث، ويُجْعَل عتقه وصيَّةً في حقه، وإن لم يُجْعَلْ وصيَّةً في حق الوارث، كما لو نكَحَتِ المريضةُ بدُونِ مَهْر المِثْل، تصحُّ المحاباة منْ رأْس المال، إِن لم يكِنِ الزَّوج وارثًا، وإِن كَانَ وارثًا، يُجعَلَ وصيةَ، فتبطُلُ، ويجِبُ مَهْرُ المثل. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقُوا عَبْدِي بَعْدَ مَوْتِي لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى قُبُولِ العَبْدِ لِأَنَّ لِلَّهِ ¬
حَقّاً في الْعِتْقِ، وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِرَقَبَتِهِ فَفِي اشْتِرَاطِ القُبُول وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيَّ: الثاني: إِذا قال: أَعْتِقوا عبْدِي بعْد مَوْتِي، لم يفتقر إِلَى قبول العبد؛ لأن لله تعالَى حقَّاً مؤكَّدًا في العِتْق، فكان كالوصيَّة للجهات العامَّة وبناء المسجد والقَنْطَرَة، ولو قال: أوصَيْتُ له برقبته، فهذه الوصيةُ صحيحةٌ، ومقصودُها الإِعتاقُ، وهل يفتقرُ إلى قبوله؟ فيه وجهان: أَحَدُهُمَا: لا؛ لأنَّه في المعْنَى كقوله: "اعْتِقُوا عَبْدِي". وأصحُّهما: وبه أجاب الشيخ أبو عليٍّ: أنَّه يفتقرُ إلَيْه؛ لاقتضاء الصِّيغة القَبُول، وصار كَمَا لو قال لعَبْدِهِ: وهبتُ منْكَ نَفْسَكَ، أَو ملكتك نَفْسَك، فإنه يحتاجُ إِلى القبول في المَجْلِس، وعند أبي حنيفة -رحمه الله-: لا حاجة إلى القَبُول من شيء مِنْ هذه الصور، ولو قال: وهَبْتُ نفْسَك، لا على طريق التمليك، بل نَوَى وبه المعْتِقُ عتق مِنْ غَيْرِ قُبُولٍ (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ أَعْتَقَ ثُلُثَ الْعَبْدِ بَعْدَ مَوْتهِ وَلَيْسَ فِي المَالِ مُتَّسَعْ لَمْ يَسْرِ لِأَنَّهُ مُعْسِرٌ وَالمَالُ لِغَيْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الثالِثُ: لو قال: إذا متُّ فاعتقوا ثُلُثَ عبْدِي، أو قَالَ: ثُلُثُ عَبْدِي حُرّاً، إِذا متُّ، لم يُعْتَقْ إذا مات أَكثر من ثلثه؛ لأَن إعتاق بَعْض الرقيق، إنَّما يَسْرِي إِلى الباقي، إِذا كان المعْتِقُ مالكاً للباقي، أو لم يكن مالكاً إِلاَّ أَنَّه موسِرٌ بقيمته، وإذا مات، زَالَ ملْكُه عن الباقي وعن سائر أَملاكه، فلا هو حينَ العِتْقِ مالكٌ للباقي، ولا هو موسِرٌ بقيمته، ويخالف ما لَوْ أعتق المريضُ بعْضَ عبده، حيث يَسْرِي إلى الباقي، إِذا وفَّي الثلث به؛ لأنه مالك للبَاقِي، ولو ملك ثلاثةَ أَعْبُدٍ مُتَسَاوِي القِيمَةِ، لا مَالَ له سوَاهُمْ، فأعتقَ في مرضه ثُلُث كلِّ واحد منهم، فقال: أثلاث هؤلاءِ أحرارٌ، وثلثُ كُلِّ واحدٍ حُرٌّ، ففيه وجهان: أحدُهُما: أنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ واحدٍ منهم ثُلُثُه، كما ذكرنا. وأَصحُّهما: أنه يُقْرَعُ بينهم؛ لتجتمع الحريةُ في واحِدٍ، فإِن عَتَق المالكُ، لا يتجزَّأُ، وإعتاقه بعض مملوكه كإعتاقِهِ جميعَهُ، فكأنه قال: أعتقْتُ هؤلاء، ولو قال ذلك ¬
لأقْرَعْنَا بينهم بسهمي رق وسهم عتق، فمن خَرَجَ له سَهْمُ العِتْقِ، عَتَقَ، فكذلك هاهنا. ولو قال: أَعْتَقتْ ثُلثَكُمْ، أو ثُلُثُكُمْ حُرٌّ، فهو كما لو قال: أعتقتُكُمْ أو أعتقْتُ واحداً منْكُم، فيُقْرَعُ بينهم، ولا يجيءُ الوَجْهَان، ومنْهُمْ مَنْ جاء بالوجْهَيْن، وجعل الصيغَتَيْنِ، كما لو قال: أثْلاثُ هؤُلاءِ أحرارٌ، ولو أضاف إِلى الموت، فقال: أثلاثُ هؤلاءِ أحرَارٌ بعد موتي، أو ثُلُثُ كلِّ واحدٍ منهم، فيُعْتَقُ مِنْ كُلِّ واحدٍ منْهم ثلُثُه، ولا يُقْرَعُ؛ لما ذكرنا أَنَّ العتق بعْد المَوْت لا يَسْرِي، نعم، لو زَادَ ما أعتق على الثلث، فيُقْرَع لردِّ لزيادة لا للسِّراية، وفي "التهذيب" وغيره وجْهٌ [آخر] أنَّه يُقْرَع، كما لو نجز في مرض الموت، فمَن خَرَجَ له سَهمْ العِتْق، عَتَقَ وَرَقَّ الآخران، والصَّحِيحُ الأَوَّل، وبه أجاب ابن الحدَّاد، وفَرَّع عليه بما أوضَحَه، فقال: لو قال للأعْبُدِ الثلاثةِ: النِّصْفُ مِنْ كلِّ واحدٍ منكم حرٌّ بعد موتي، فقد عَتَقَ نصْف ماله، فإن لم تُجز الورثةُ، لقُرعَ بين العبيد بسَهْم رِقٍّ وسَهْمَيْ عِتْقٍ، فالذي أصابه سَهْمُ الرِّقِّ يرقُّ واللذان أصابَهُما سَهْمَا العِتْقِ، يَعْتِقّ مِن كلِّ واحدٍ منهما نصْفُه، ولا يَسْرِي، ولو أَعتق الانصاف في مَرَضهِ، فمن عتق منه شيءٌ، لا بد وأن يسري إلَى باقية إلَى أَن يتمَّ الثلث، فيقرع بينهم بسهمي رقٍّ، وسهْمِ عتقٍ، فمن خرج له سهمُ العِتْق، عَتَقَ كلُّه، وهو ثلثُ المالِ، ولو لم يَمْلِكْ إِلاَّ عبدَيْنِ قيمتهما سواءٌ، فقال: نصفُ غانِم حرٌّ بعد موتي، وثلثُ سالِم حرٌّ بعد موتي، فقد أعتَقَ خمسة أسداس العبد، وليس له إلاَّ إعْتَاق ثُلُثَيْ عَبدٍ، فيقرع بينهما؛ لردِّ الزيادة، فإن خَرَج سهْمُ العِتْقِ لغانم، عَتَق نصْفُه، وعَتَقَ سدس الآخر، لِيَتِمَّ الثلثُ، وإن خَرَجَ لسالمٍ، عَتَقَ ثلثِه، وعَتَقَ ثلُثُ غانم، وإن أَعتق نصْفِّ واحد منهما في مرضه، أُقْرعَ بينهما، فمن خَرَجَ له سهْمُ العتقِ، عَتَقَ ثلثاه، ورَقَّ باقيه مع جميع الآخر، وهذا كلُّه مفروضٌ فيما إِذا أعْتَقَ الأَبعاضَ في المَرَض معاً؛ بأن قال: أثلاثُ هؤلاء أحرار، ونصف كلِّ واحدٍ منهما حرٌّ، فأما إِذَا قدّم وأَخَّر، فيقدَّم الأسبق، فالأسبقُ، حتى لو قال: نصف غانم حِرٌّ وثلثُ سَالمٍ حرٌّ، يعتق من غانم ثلثاه ولا قُرْعَة. قَالَ الغَزَاليِ: وَإِنْ أَعْتَقَ الجَارَيةَ دُونَ الحَمْلِ فَفِي السِّرَايَةِ اِلَى الحَمْلِ بَعْدَ المَوْتِ وَجْهَانِ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مِنَ الأَصْلِ كَعُضْو مُعَيَّنٍ لاَ يَقِفُ العِتْقُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا اسْتَثْنَى الجَنِينَ صَرِيحاً عَنِ الحُرِّيَةِ فَفِي صِحَّةِ الاسْتِثْنَاءِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الرابع: لو أعتق جاريتَهُ بعد الموت، وهي حاملٌ، ففي الحملِ وجهَان: أحدهما: لا يعتق؛ لما مرَّ أَنَّ أعتق الميِّت لا يسري. وأصحهما: أنه يعتَقُ لأنَّ الجنينَ كعُضْوٍ من الأمِّ، والعتقُ لا يثبت في بعض
الأعضاء دون عضوٍ؛ لأن الأُم، تستتبع الحمْلَ، كما في البيع، وهذا المعنَى أقوَى؛ لأَنَّ الأَول يشكل بما، إِذا أُعتِقَ الحملُ لا تعتق الأُمّ ولو كان كعُضْو منها، لعَتَقَتْ، ولو استثنَى الحَمْل صريحاً، فقال: هي حُرَّةٌ بعد موتِي إلاَّ جنينُها [أو دون جنينها] (¬1) ففي صحة الاستثناء وجهان: أحدهما: الصحَّةُ؛ لأنه يعرض الانفصال، والاستثناء يجعله كالمُنفَصِل. والأشبه: المنعُ كاستثناءِ الأعْضَاء وقد قيل: إنَّ الوجه الصائِر إلَى أنه لا يعتقُ عند الإطلاق مخرج من القَوْل بصحْة الاستثناء. وقوله في الكتاب "وإن أعتَقَ الجاريةَ دُون الحَمْل" أي: أعتقها ولم يتعرَّض للحَمْل، فأما إذا قال دُون الحَمْل، فهذه صورةُ التصْرِيحِ بالاستثناء. وقوله "لا يقف العتق عليه" أي: على الأَصلِ بَلْ يسرِي هذا إذا أَعّتَقَ الحامِلَ بعد الموت، فأَمَّا إذا نجز عتْقَهَا في الحياة، ففي "التهذيب" وغيره: أنَّ الحمْلَ يعتق أَيضًا، فإن الاستثناء لا يصحُّ، ولم يذكروا فيه خلافاً، ووجَّهوه بأن الاستثناء في البَيْع لا يصحُّ، فكذلك هاهنا، إِلا أنَّ البيع يبطُلُ من أصله، والعتق ينفذ فيهما؛ لغلبته، ولو كانَتِ الأمُّ لواحدٍ، والحملُ لآخرَ فأعتق مالك الأم الأم، وعتقَتْ دون الحمل؛ لأنَّ اخلافِ الملكِ يَمْنَع الاستتباع. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ أوْصَى بِثُلُثِ عَبْدِهِ فَاسْتُحِقَّ ثُلْثَاهُ نَزَلَتِ الوَصِيَّةُ عَلَى ثُلُثِهِ الَّذِى بَقِيَ، وَقِيلَ: لاَ يَبْقَى لِلْوَصِيَّةِ إِلاَّ ثُلُثَ الثُّلُثِ بِحُكْمِ الشيُوعِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الخامسُ: أوصى بثلُثِ عبدٍ معيَّنٍ أو دارٍ أو غيرهما، فاستُحِقَّ ثلثاه، نُظِرَ: إن لم يملك شيئاً آخر فللموصِى له ثلث الثلث الباقي [وإن ملك غيره، واحتمل ثلثه الثُّلُثَ الباقي، فقد قال في "المختصر" له الثلُثُ البَاقِي،] (¬2) وروي قولُهُ "إنّ له ثلث الباقي" وهذا نسبه صاحب "التهذيب" إلَى رواية الربيعِ والمتولِّي إِلى بعض نُسَخِ "المختصر" وللأَصحاب في المسألة طريقَانِ: أصحهما: أن فيها قولَيْنِ: أظهرهما: أن الوصيَّة تنزل على ثلُثِ الباقي، وتصح فيه لأَن المقصودَ من الوصيَّة إِرفاقُ الموصَى له، فإِذا أَوصَى بما احتمله الثلث، أمكن رعايةُ عِرْضِهِ منْها، فيصار إِليه. ¬
والثاني: وهو اختيار ابن سُرَيْجٍ، ويُحْكَى عن أَبي حنيفة ومالكٍ والإِصطخريِّ -رحمهم الله- أن له ثُلَثَ الثُّلُثِ الباقي؛ لأن الوصية بالثُلثِ الشائع، فإذا خرج الثلثان بالاستحقاقِ بَقِيَتِ الوصيةُ في ثلث الباقي، وهو تُسْعُ الجملة، وصار كما لو أوصَى بثلث ماله، فاستُحِقَّ ثلثاه، لا يكون من الباقي إلاَّ الثُّلُث. والطريق الثاني: القطْعُ بأَنَّ له ثلثَ الثُّلُث الباقي، وحمل ما رواه المزنيُّ عَلَى ما إِذا لم يتلفَّظْ بالثلث، ولكن كان له ثلاثونَ من الغَنَم مثلاً، في الظاهرِ، فقال: أعطُوهُ عَشَرةً منْها، ثم استحقَّ عشرون منْها بعَيْنها أَو عَلَى ما إِذا أَوصَى بأحد أثلاثِ العَبْدِ المعيَّن، فاستحق ثلثاه، أو على ما إِذا أوصَى بثلث معيَّن من الدار، فاستحق باقيها أو عَلَى ما إذا اشترَى ثلُثَها من زيْد وثلثيها من عمْرو وأَوْصَى بما اشتراه من زيْدٍ، واستحق ما اشتراه من عمرو، فإن في هذه الصور [ة] يكونُ له الثلثُ الباقي، واعلم أنَّ أصحاب الطريقة الأولَى مَنْ يعبِّرُ عن الخلاف بالوجْهَيْن أو بالمنصوص والمُخَرَّج، وربما وجَّهوا الأظْهَر بأنَّ الظاهر أنَّه إنما يوصَى ويُتصرَّف فيما يملكه، وقد اشتهرَ الخلاَفُ في العَبْد المشتَرَكِ بين اثنين بالسويَّة، إِذا قال أحدُهُما، بعت نصفَهُ أَنَّ البيعَ ينْصَرِف إلَى نصفه أو يشيع، ولا فَرْق في ذلك بين البَيْع والوصيَّة، فينتظم أَن يبنى أحد الخلافَيْن على الآخَرِ أو يقال: هو هو، ثُمَّ عن ابن سُرَيْجٍ أَن الوصيَّةَ إِنَّما تنتفي في ثلث الثلثِ الباقي، إِذا كان قد قال: أوصيتُ له بثُلثِ هذا العبد، فأما إِذا قال: أعْطُوه ثلثه، دفع إِليه الثلث الباقي كاملاً، لا محالة، ولو أوصَى بأثلاث الأعبد الثلاثة، واستحق اثنان منهم، فلا شكَّ أَن الوصية تنفد إِلاَّ في ثلث العبد الباقِي، ولو أَوصَى بثلث صُبَّرة، فتلف ثلثاها، فله ثلث الباقِي بلا خلاف؛ لأَنَّ الوصيةَ تناولتَ التالف، كما تناولَتِ الباقِيَ، وهاهنا لا تتناول المستحقّ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَرْعٌ إِذَا مَنَعْنَا نَقْلَ الصَّدَقَاتِ فَفِي نَقْلِ مَا أَوْصَى بِهِ في بَلَدِهِ لِلمَسَاكِين وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ما أوصَى به للمساكين، هل يجوز نقله إِلى مساكين غير بلد المَال فيه طريقان (¬1): أحدهما: أنه على قولَيْن، كما في نقل الزكاة؛ تنزيلاً للفظ المطْلَق عَلَى ما ورد به الفرْع. والثاني: ترتيب الوصيَّة على نقل الزكاة، إن جوَّزنا نقل الزكاة، ففي الوصية ¬
القسم الثالث في المسائل الحسابية
أولَى، وإن منعْنَاه ففي الوصيَّة وجهان. والفَرْق أن الزكاةَ مطمح نظر الفقراء؛ من حيث إِنَّها موظَّفة دارِهِ، والوصية بخلافه، ولهذا يجوز تقييدُ الوصيَّة بمساكين سائر البلاد. والطريق الثاني: وهو المذكور في الكتاب، لكنِ الاكثرُونَ أوردُوا الأول، وهو الذي يدُلُّ عليه نص الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- فإنَّه نصَّ في "المختصر" ههنا على منع النقل، وهو جواب منه على أحد القَوليْن، وإذا قَلْنا: لا يجوز النقل، فلو لم يكُنْ في تلك البلدة فقير، فتنتقل كالزكاة أو تبطُلُ الوصية؟ فيه وجهان في بعض الشُّروح، ولو عين فقراء بلده، ولم يكن فيه فقيرٌ، بطَلَت الوصيةُ (¬1) كما لو أوصَى لولدِ فلانٍ، ولا وَلَدَ له، والله أعْلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: القِسْمُ الثَّالِثُ فِيَ المسَائِلِ الحِسَابِيَّةِ، إِذَا قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِمثْلِ نَصِيبِ ابْنَيَّ أَوْ بِنَصِيبِ (ح و) ابْنَيَّ وَلَهُ ابْنٌ وَاحِدٌ فَهُو وَصِيَّةٌ بِالنِّصْفِ (و)، وَلَوْ كَانَ لَهُ ابْنَانِ وَأَوْصَى بِنَصِيبِ وَاحِدٍ فَهُوَ وَصِيَّةٌ بِالثُّلُثِ (م)، وَإِنْ كَانُوا ثَلاثَةً فَبالرُّبُعِ (م) وَبِالجُمْلَةِ يَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ البَنِينَ في القِسْمَةِ، وَكَذَا إِذَا أَوْصَى بِنَصِيبِ ابْنٍ ثَالِثٍ لَوْ كَانَ وَلَمْ يَكُنْ فِي الحَالِ فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِهِ، وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ أعْطِيَ مِثْلَ سَهْمٍ أَقَلَّهِم نَصِيبًا (م)، وَلَوْ أَوْصَى بِضِعْفِ نَصِيبِ وَلَدِهِ أُعْطِيَ مِثلَ مَا أَعْطَى وَلَدَهُ مَرَّتَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المسائلُ الحسابيَّةُ من الوصايا طويلةٌ كثيرةُ الاِنْشِعَاب، ولذلك جعَلُوها مع سائر المَسَائِلِ الدَّوْرِيَّةِ؛ عِلْمًا برأسه، وأَفردوه بالتدْرِيس والتصنيف، ولم يورد صاحب الكتاب في هذا القِسْم إلاَّ مسائل معدودة، فالوَجْه أنْ نشْرَحَها ونضُمَّ إِليها ما لا بُدَّ منْه في الباب من الإيجاز وبالله التوفيق. فمما ذكره: إذا أوصَى بمثل نصيبِ ابنه، وله ابن واحدٌ لا يرثه سواه، فالوصيةُ ¬
بالنصف (¬1) فإن لم يجز، ردَّت إلى الثلث، وكذا لو كان له ابنان أَو بنون، فأَوْصَى بمثل: نصيبهما أو نصيبهم. وعن مالك -رحمه الله-: أَن الوصية في الصُّورة وصية بالكل، واحتج الاصَّحابُ بأنَّ الوصية بمثل نصيب الابنِ تقتَضِي أَن يكون للابنِ نصيبٌ، وللموصَى له نصيبٌ، وأن يكون النَّصِيبَان مثلين، فيلزم التسويةُ، وربما قالوا: الابنُ يأْخذُ الكلَّ؛ لولاء الوصية، فإِذا نزّل الموصَى له منزلته، فقد أثبت الكلَّ له أَيضًا، والمبلغ إِذا عالَ بمثْله، كان الزائدُ مثْلَ المزيد علَيْه، ولو لم يكن له ابن أو لم يكن له وارثًا لرق، وغيره، فالوصية باطلةٌ، لأنه لا نصيب للابن، ولو قال: أَوصَيْتُ له بنَصِيبِ ابْنِي، ولم يذكر لفْظ المِثْل، فوجهان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة: أَن الوصيَّةَ باطلةٌ؛ لورودها عَلَى حقِّ الغَيْر، وهذا أصحُّ عند أصحابنا العراقِيِّينَ وتابعهم صاحب "التهذيب". والثاني: وبه مالك -رحمه الله-: أنها صحيحةٌ، والمعنى بمثل نصيب ابْني، ومثله كثير في الاستعمال، وهذا ما أَورده الأُستاذ أَبو منصور، وهو الأَصحُّ عند الإمام والقاضي الرُّويانيِّ -رحمهم الله تعالى- وغيرهما، وقالوا: إن الوصية واردةٌ على مال الموصِي، وليس للابن نصيبٌ قبل موته، وإِنما الغرضُ التقدير بما يستحقُّه من بعدُ. ويجري الوجهان، فيما لو قَالَ: بعْتُ عبدي منْك بما باع به فلانٌ فَرَسَهُ، وهما يعلمان قدْرَهُ، فإن صحَّحنا، فهيَ وصيةٌ بالنِّصْف، كما لو قال: أَوْصَيْتُ بمثل نصيب ابْنِي، وفي "التهذيب" وجه آخر: أنها وصيةٌ بالكل، ولو كان له ابنان، فأوصَى بمثل نصيب أحدِهِما أو بمثل نصيب ابْنٍ، فالوصية بالثُّلُث، ولو كانوا ثلاثةً، فبالربع، وإن كانوا أَربعةً، فبالخمس، وعلىَ هذا القياسُ ويجعل الموصَى له كابنٍ آخَرَ معهم. وعن مالك -رحمه الله- أن الوصية في صورة الاثْنَيْنِ بالنِّصْف، وفي الثلاثة بالثُّلُث، وعَلَى هذا؛ فالضابط عنده أن يعتَبَرَ نَصِيبُ الموصَى بنصيبه؛ لو لم تكن وصية، وعنْدنا يعتبرُ بعد الوصية، فتقام فريضةُ الميراث، ويزاد عليها مثْل سهم الموصَى بنصيبه، حتى لو كانت له بنتٌ، وأوصَى بمثل نصيبها، فالوصيةُ بالثلث؛ لأن المسألة ¬
من اثنين، لو لم تكن وصيةً (¬1) فتزيد على الاثنين سهمًا وتعطيه سهماً من ثلاثة أسْهُمٍ. ولو أوصَى، وله بنتان بمثل نصيب إحداهما، فالوصية بالربع؛ لأنَّ المسألة من ثلاثةٍ؛ لأن الوصية لكلِّ واحدة منهما سهمٌ، فتزيد للموصَى له سهماً، فتبلغ أربعةٌ. ولو أَوصَى بنصيبهما معاً، فالوصية بخمسَي المال؛ لأنهما من ثلاثةٍ، ولهما سهمانِ من الثلاثة، فتزيد على الثلاثة سهمَيْن، يبلغ خمسةً. ولو أوصَى، وله ثلاث بنات وأخٌ بمثل نصيب واحدة منْهن، فالوصية بسهمَيْن من أَحَد عشر سهماً؛ لأن المسألةَ من تسْعَة، لولاء الوصية، ونصيب كلِّ بنتٍ منْهما سهمان، فتزيد على التِّسْعَة سهمَيْن، يكون أحدَ عَشَرَ، وكذا إذا أَوصَى، وله ثلاثةُ بنينَ، وثلاثُ بناتٍ بنصيب ابْنِ، ولو أَوصَى، وله ثلاثةُ بنينَ وبنْتٌ بمثل نصيب البنْتِ، فالوصيةُ بالثمن؛ لأنَّها منَ سَبْعَة، لو لم تكن وصيَّة للبنت، منها واحد فيزيد على السَّبْعة واحدٌ. ولو كان له ابن وثلاثُ بناتٍ وأبوانِ وأَوْصَى بمثل نصيب الابن، فالمسألة تصحُّ من ثلاثين، لو لم تكن وصيةٌ، نصيب الابن منْها ثمانيةٌ، فتزيد ثمانيةٌ على الثلاثين، ونقول: الوصيةُ بثمانية أَسهُمٍ ثمانيةٌ وثلاثينَ سَهْمًا، تروَى هذه الصورة عن عَلِيٍّ -رضي الله عنه- (¬2). ثم في الفصل مسألتان: إحداهما: أَوْصَى، وله ابن، بمثل نصيب ابن ثانٍ لو كان، أو أَوْصَى، وله ابنانِ، بمثل نصيب ابن ثالثٍ، لو كان فالحكْمُ في الصورة الأُولَى، كما لو كان له ابنانِ، وأوصى بمثل نصيب أحدهما، فتكون الوصيَّةُ بالثلث، وفي الثانية كما لو كان له ثلاثةُ بنين له، وأوصَى بمثل نصيب أحدهم، فتكون الوصيَّةُ بالربع، وحكى الامامُ عن شَيْخه أَنَّ الأُستاذ أَبا إِسحاق كان يقول: هذه الوصيةُ تتضمَّن إِقامة الموَصَى له مُقَام الابن المقدر، فتكون الوصيةُ في الصورة الأُولَى بالنصف، وفي الثانية بالثلُثِ، وهل من فرقٍ بين أن يحذف لفظ "المثْلِ"، فيقول: "بنصيب ابن ثان أو ثالثٍ، لو كان"، وبين ألاَّ يحذفه؟ القياسُ أَنَّه على الوجهَيْن فيما إذا أَضاف إِلى الوارث الموجود، وحكى الأَستاذ أَبو منصورِ عن الأصحابِ أنَّهم فَرَقُوا هاهنا بين اللفظين، وإن لم يَفْرِقُوا فيما إِذا أَضاف إِلى الوارث الموجودِ، وقالوا: إِذا أَوصَى بمثل نصيبه، دفع إِليه نصيبه، لو كان مزيدًا على سهام الفريضة، وإذا أوْصَى بنصيبه، دفع إِلَيْه نصيبه، لو كان من أَصْل سهام ¬
الفريضة، فعلَى هذا لو أوْصَى، وله ابنان بنصيب ابن ثالث، لو كان، فالوصيَّة بالثلث، أولو قال بمثل نصيب ابن ثالث لو كان، فبالربع، كما سبق، ولو أَوصَى وله ثلاثة] (¬1) بنين، بمثل نصيب بنتٍ، لو كانت، فالوصية بالثُّمن، وعلَى ما حُكِيَ عن الأستاذ أبي إِسحاقَ بالسُّبع. وقوله في الكتاب "وكذا إِذا أَوصَى بنصيب ابنٍ ثالثٍ لو كان" إلى آخره ينطبق على القول بالتسوية بين أَنْ يذكر لفْظ "المثل" أو يُحذفَهُ، وهو الذي أَورده في الوَارِثِ الموجودِ أيضاً. ويجوز أن يُعلَمَ قوله "فهو كما لو كان، فأوصَى بمثل نصيبه" لما حكيناه عن كلِّ واحدٍ من الأُستاذَيْنِ، وقوله: "ولم يكن في الحال" كالمستغْنَى عنه وفي لفظه "لو كان" ما يشعر به. فرع: لابْنِ سُرَيْجٍ: له ابنانِ، فأوصَى لزيدٍ بمثل نصيبِ ابْنٍ رابعٍ، لو كان، ولعَمْروٍ بمثل نصيبِ ابنٍ خامسٍ، لو كان، فللحساب طريقان: أحدهما: أن يقال: المسألةُ من اثنين، لو لم تكُنْ وصيَّة، ومن أربعةٍ، لو كانوا أربعةً، ومِن خمسة كانوا خمسة، فههنا اثنانِ وأربعةٌ وخمسةٌ، والاثنان والأربعةُ متداخلاَنِ، فتسقط الاثنين تبقى أربعةٌ وخمسةٌ، يضربَ أحدها في الآخر، تبلغ عشرين، وهذا العددُ ينقسم على الاثنَيْنِ بلا وصية، وعلى الأربعة، لو كانوا، ونصيب كلِّ واحدٍ خمسةٌ، وعلى الخمسة، لو كانوا، ونصيبُ كلِّ واحد أربعةٌ، فيأخذ الخمسة والأربعةَ ونزيدهما على العشْرين، تبلغ تسعة وعشرين لزَيْدٍ، خمسةً من تسعة وعشرين ولعمرو أَربعة، والباقي للاثنين. والثاني: أن يقال: لو لم تكُنْ إِلاَّ وصيةُ زيْدٍ، لكان له سهْمٌ من خمسة، فيقسَّم الباقي على خمسةٍ؛ لوصيته لعمرو بمثل نصيبِ ابْنٍ خامس، فيخرج من القسمة أَربعةُ أخماسٍ، وهو نصيبُ كلِّ ابنٍ، لو كانوا خمسةً، فتزيد على الخمسة، لعمرو أَربعة أَخماس، يكون خمسة، وأربعة أخماس لزيدٍ، منها واحدٌ، ولعمرو أربعةُ أخماسٍ، والباقي للاثنين، فإذا بسَطْنَاها أَخماسًا، كانت تسعةً وعشرين. وإنْ شئْتَ، قلت: لو لم تكُنْ إِلاَّ وصيةُ عمرو، لكان له سهْمٌ من ستة، فيقسم الباقي على أربعة؛ لوصيته لزيدٍ بمثل نصيب ابنٍ رابعٍ، فيخرج من القسمة واحدٌ وربعٌ، وذلك نصيب كلِّ ابن، لو كانوا أَربعة، فتزيد على الستة؛ لزيد واحداً وربعًا، يكون سبعةٌ وربعًا لعمرو منها واحدٌ، ولزيدٍ واحدٌ وربعٌ، وإِذا بسطناها أَرباعًا، كانت تسعةً وعشرين. ¬
ولو كانتِ المسألةُ بحالِهَا، وأوصَ لزَيْدٍ بمثل نصيبِ ابنٍ ثالثٍ، لو كان، ولعَمْرو بمثل نصيبِ ابْنٍ رابعٍ، لو كان، فعَلَى الطريق الأَول، نقول: المسألةُ من اثنين ومن ثلاثة، لو كاَنُوا ثلاثةً، وأَربعةً، لو كانوا أَربعةً، فهنا اثنان وثلاثةٌ وأربعةٌ، يسقط الاثنان؛ لدخولهما في الأربعة، يبقَى ثلاثةٌ وأربعةٌ، تضرب أحدهما في الآخر، تبلغ اثني عشَرَ، وهذا العدد ينقسِمُ عَلَى الاثنين، وعلى الثلاثة، ونصيبُ الواحدِ أربعةٌ، وعلى الأربعة، ونصيبُ الواحدِ ثلاثةٌ، فنزيد الأربعة والثلاثةَ عَلَى الاَثنَيْ عَشَرَ، يكون تسعةَ عَشَرَ، فلزَيْدٍ منها أربعةٌ، ولعمرو ثلاثةٌ، والباقي بين الاثنين. وعلى الثاني نقول: لو لمْ تكنْ إلاَّ وصيَّةُ زيد، لكان له سهمٌ من أربعة، يقسَّم الباقي على أربعة، للوصية الأُخْرَى يخرج من القسمة ثلاثةُ أرباعٍ، فهي نصيبُ كلِّ واحد، لو كانوا أربعةً، فيزيد ثلاثة أَرباع على الأَربعة لعمرو، منها تصحُّ القسمة، وإِذا بسطْتَها أَرباعًا، كانت تسعَةَ عَشَرَ أو تقول: لو لم تكنْ إِلاَّ وصية عمرو، لكان له سهْمٌ من خمسةٍ، يقسَّم الباقي على ثلاثَةٍ للوصية الأُخرَى، يخرج من القسمة واحدٌ وثلُثٌ، وذلك نصيبُ كلِّ واحد، لو كانوا ثلاثةً، فتزيد واحداً وثلثاً على الخمسة لزَيْدٍ، تبلغ ستةً وثلثاً، منْها تصحُّ القسمةُ، وإِذا بسطتها أثلاثًا، كانت تسعةَ عشَرَ. المسألة الثانيةُ: أوصى لإِنسانٍ بمثل نصيب أحد ورثته، أُعطِيَ مثلَ سَهْمِ أقلَّهم نصيبًا، والطريقُ أن تقام سهامُ الورثةِ بلا وصيَّة، ويزاد عليها مثْل سهم أقلِّهم نصيبًا، ثم تُقَسَّم، فلو كان له ابنٌ وبنْتٌ، فالفريضة بلا وصيةٍ من ثلاثة، للبنْتِ منْها سهْمٌ، فتزيد على الثلاثة سهماً، ونقول: الوصية بالرُبع، فيقسمُ المالُ، كما يقسم بين ابن وابنتين، ولو كان له زوج وأم وأختانِ من الأب، فَالفريضة بلا وصيةٍ من ثمانية للأُمِّ وهي أَقلُّهم نصيبًا، سهْمٌ منْها، فنزيد على الثمانية سهماً، ونقول: الوصية بالتُّسْع، وفي بنتين وثلاثِ زوجاتٍ وأخٍ الوصيَّة يجزء من خمسةٍ وعشرين، وفي بنْتٍ وبنتِ ابنٍ وأخٍ الوصيةُ بسُبْع المالِ، ولو كانتْ صيغةُ الوصيَّةِ في هذه الصورة "أوصيتُ لفلانٍ بمثل نصيبِ أحدِ ولدَيَّ" قال الشَّافعي -رضي الله عنه- في "المختصر" أعطيتُهُ سُدُسُاً، واعْرِفْ فيه شيئَيْنِ: أحدهما: أنه أراد سدُسًا عائلاً، وهو السُبُع لا سُدُسًا كاملاً، وحينئذ فالجوابُ، كما لو كانَتْ صيغةُ الوصية "بنصيب أَحد وَرَثَتِي". والثاني: أَنَّ في وقوع اسم الولدِ عَلَى ولد الولد خلافاً سَبَقَ في "الوَقْف" فإن وقع عليه، فالتصوير ظاهرٌ، وإِلاَّ، فَالمنعُ عند الأِطلاق، فأما هاهنا فالنية في قوله: "أحَدَ وَلَديَّ" قرينة تبين إرادتهما جميعاً. وعن مالك -رحمه الله-: أنه إذا أوْصَى بمثل نصيب أحدِ الورثة، اعْتبر عدَدُ رؤوسهم، ولا ينظر إلَى صفاتهم، ولا أنصبائهم، فيجوز أن يُعْلَم؛ لذلك قوله: "أُعْطِيَ
مثْلَ سهم أقلِّهم نصيبًا، ولو أَوصَى بمِثْلِ نصيبِ أكثر الورثة نصيبًا، أقيمتْ سهام الورثة بلا وصيَّةٍ، فتزيد علَيْهَا مثْلَ سهام أكثرِهِمْ نصيبًا، ثم يقسَّم؛ فلو كان له ابْنٌ وبنْتٌ، فالمسألة من ثلاثَةٍ للابن منها سهمان، نزيد على الثلاية سهمَيْن، ونقول: الوصية بخُمسَي المال. فرع: له ابنانِ، وأوصَى لزيْدٍ بمثل نصيب أحدهما؛ ولعَمرو بمثل نصيب الثاني، فإذا أجاز الوصيتَيْنِ، قسم المالُ بينهم أَرباعًا، وإن رد الوصيَتَيْنِ، ارتدتا إلى الثُّلث، وكان الثلث بينهما بالسوية، وإن أجازا إحداهما، وردّا الأخرى، فظاهر المذْهب أَنَّ كلَّ واحد منهما يأخذ سدُسَ المال؛ استحقاقًا، ويأخذ الذي أجاز له، ذلك نصف سدس آخر؛ اعتباراً بحال من أجاز وصيته بما لو أجاز الوصيتَيْن، وبحال الآخر، بما لو ردَّاهما، وتصحُّ المسألة من أربعةٍ وعشرينَ للذي أجاز وصيته ستَّة، وللآخر أربعةٌ، ولكلِّ ابنٍ سبعةٌ، وعن تخريجِ ابن سُرَيْج: أَن الذي أَجاز له يُضَمُّ سدسُهُ إلى ما لِلِاثنَينِ، ويقسمونه أَثْلاثًا، والذي رد وصيته يأخذ السدُسَ وتصحُّ من ثمانيةَ عَشَرَ، وإن أجاز أَحد الابنين لأحدهما دون الآخر، ورد الثاني الوصيتَيْنِ، فعلَى المذْهَب: المساَلة من أَربعةٍ وعشرِينَ لمَنْ لم يُجزْ له أَربعةٌ، والذي أَجاز له يستحقُّ أربعةٍ بلا إجازِةِ، والباقي إِلى تمام وصيَّته سهْمَان، فيأخذ سهماً ممَّن أَجَاز له، فيَحْصُلُ له خمسةٌ، وللمجيز سبعةٌ، وللرادِّ ثمانيةٌ، وعلَى ما حُكِيَ عن ابن سُرَيْجٍ هي من ثمانيةَ عَشَرَ؛ للموصى لهما ستةٌ؛ استحقاقًا لكلِّ واحدٍ ثلاثةٌ يبقَى لكلِّ ابنٍ ستةٌ، يَدْفَعُ المجيز مما في يده سهماً إلَى من أَجاز له؛ لأنهما لو أَجازا لَهُ، لكان لكلِّ واحدٍ منهم خمسةٌ، فإذا أجاز أحدُهما، أعطاه نصْفَ ما بَقِيَ، وهو سهمٌ، فيحصل له أَربعةٌ، وللابن المجيزِ خمسةٌ، وللآخر ستةٌ، وللموصَى له الآخر ثلاثة. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ أَوْصَى بِضِعْفَيْنِ أُعْطِيَ مِثْلَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ (ح م)، وَإِنْ أَوْصَى بِثَلاَثَةِ أَضْعَافِهِ أُعْطِيَ مَثْلهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَإِنْ أَوْصَى بِحَظٍّ أَوْ نَصِيبٍ أَوْ سَهْمٍ أُعْطِيَ أَقَلَّ مَا يُتَمَوَّلُ (ح م و)، وَلَوْ أوْصَى بِالثُّلُثِ إِلاَّ شَيئًا نَزُلِّ عَلَى أَقَلِّ مَا يُتمَوَّلُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصل مسألتان: إحداهما: الضِّعْفُ عبارةٌ عن الشَّيْء ومثله، روي أنه أضعف عمر -رضي الله عنه- الصدَقَةَ عَلَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِب (¬1) ومعلوم أنه كان يأخذُ قدْر الصدقة ومثله، فلو أوصَى بضِعْفِ نصيبِ ابنه، وله ابنٌ واحدٌ، فهذه وصيةٌ بالثلثين، ولو قال: بضعف [نصيب] (¬2) ¬
أحد أولادِي، أَو أحد وَرَثَتِي، أُعْطِيَ مِثْلَ نصيب أقلهم نصيبًا، فإن كان له ثلاثة بنين، فيجعل المال عَلَى خمسة أسهم، لكلِّ ابن سهم، وللموصَى له سهمانِ، ولو أوصَى لزيدٍ بمائةٍ، ولعمرو بضعفها، فالوصيةُ بمائتين، وضِعْفَا الشيء عبارةٌ عن قَدْر ذلك الشيْءِ ومثله، وإِن شئْتَ قلت: ثلاثة أمثاله، ولو أوصَى بضعفَيْ نصيبِ ابنِهِ، وله ابنٌ واحدٌ، فالوصية بثلائةِ أَربع المَالِ، ولو أوْصَى بضِعْفَي نَصيب، أَحد بنيه، وله ثلاثةُ بنِينَ قُسِّم المالُ عَلَى ستة، لكَلِّ واحد منهم سهْمٌ، وللموصَى له ثلاثة أسهم ولو، أوصَى لزيدٍ بمائةٍ، ولعمرو بضِعْفِها، فالوصيَّةُ بثلاثمائةٍ، وعلى هذا ثلاثةُ أضعافِ الشيْء أَرْبعةُ أَمثالِهِ، وأَربعة أَضعافِ خمسةُ أَمثاله. وقوله في الكتاب "أُعْطِيَ مثلَهُ ثلاَثَ مَرَّاتٍ" معلم بالحاء؛ لأن عن أَبي حنيفة إِذا أَوصَى بضعفَي الشيْء، أُعْطِيَ مثلَهُ أَربع مراتٍ، وفي بعض الشروح نسبته إلَى مالك، فيجوز أَن يُعْلَمَ بالميم أيضاً، واحتج الأَصحابُ بأنه، إذا كان الضِّعْف أَن يزاد على الشيْء مثله، كان الضعفان أَن يزاد عليه مثْلاه، وربما قالوا: المرادُ من الضعفَيْنِ أَنْ يضعف مرةً بعد مرةٍ، واللفظ محتملٌ له، فوجب أن ينزل على الأَقلِّ. الثانية: إذا أوصى بجزء من مالِهِ أَو نصيبٍ أَو حظٍّ أَو قسْطٍ أَو شيْءٍ أَو قليل أَو كَثِيير أو سَهْمٍ، رجعنا في التفْسِير والتقْدِير إلى الورثة، ويقبل منهم التفسيرُ بأقلٍّ ما يُتموَّل؛ لأن هذه الألفاظَ تقَعُ علَى القليل والكثير؛ أَلاَ تَرَى أنَّ الشريك في الدار بأدنى جزء [كان،] (¬1) يصدق أن يقال: إنه له سهمٌ في الدار، ولهذا لو قال: بعتُكَ سهماً من الدار، لم يصح؛ لأنه غير مضبوط، وساعدنا أبو حنيفة وأحمد -رحمهما الله- في لفظ الخَبَر والنَّصِيب والحَظِّ والقِسْط. وقال أبو حنيفة: لو قال: أعطُوه كثيراً مِنْ مالي، أَو عظيماً، لم يُقْبَلِ التفسيرُ بأقلِّ ما يُتموَّلِ بلِ الحكُمُ كما سبق في "الإِقرار"، وعنه في لفظ السهْم روايتان: أظهرهما: أَن للموصَى له أقلَّ الأمرَيْنِ من نصيبِ أقلِّ الورثة نصيبًا أَو سُدُس ماله. والثانية: له أكثر الأَمرَيْن من السدُسِ أَو نصيب أَقلهم [نصيبًا] (¬2)، وعن أحمد ثلاثُ روايات: اصحها: أن له السدُسَ. والثانيةُ: نصيب الأقلِّ من نصيب [أقل] (¬3) الورثة نصيبًا أو الثُّلُث. ¬
والثالثةُ: أنه يزاد على سهام الفريضَةِ بعد تصحيحها سهم للموصَى له، وعن أصحاب مالك -رحمه الله تعالى- اختلافٌ، منهم من قال: له السدسُ، ومنْهم من قال: الثمن، وسوَّوْا بين السهم والحظِّ والنَّصيب، وحكى أبو الفرج الزاز عن ابن سُرَيْجٍ أَنَّه يحتملُ أنْ يكون الجوابُ في لفظ السهمْ، كالرواية الثانية عن أحمد، فيجوز أَن يُعْلَمَ قوله في الكتابُ "أُعْطِيَ أَقلَّ ما يُتموَّل" بالحاء والميم والألف والواو، وإِذا عرف ذلك، فلو عين الورثة قدرًا من المالِ وادَّعى الموصَى له أَن الموصِيَ أراد أكثر من ذلك. قَالَ الأكثرُونَ، منْهم الأستاذ أبو منصور، والحناطيُّ والمسعُودِيُّ يحلف الوارث على أَنّه لا يعْلَم إرادته الزيادة، وحكى صاحب "التهذيب" أنه لا يتعرض للإرادة، وإنَّما يحلفُ عَلَى أنَّه لا يعلم استحقاق الزيادة، وسلم أَنه لو أقرَّ بمبهم، ومات، وجرَى مثل هذا النزاع بَيْن المقَرِّ له، وبين الوارث، حلف الوارثُ عَلَى نفي إرادة المورث، وفرق بأن الإقرار إخبار، والوصيَّة إِنشاءُ أمير على الجهالةِ، وهذا قد ذكرناه في "باب الإقرار" وللأولين أن يقولوا: نعم، الوصيةُ إنشاءٌ، لكن قد يخبر الموصِي الوارِثَ بما أَراد، إِما قبل الإِنشاء أَو بَعْده، فإذن احتمال الإطلاع قائم في الصورَتَيْن، ورد صاحب "التتمة" افتراق البابين إلَى شيء آخر، فقال: الوارث هاهنا يحلف على أَنَّه لا يعْلَم أَن الموصِيَ أراد الزيادة، [ولا يحلف] (¬1) على أنه أراد هذا القدْر، وفي "الإِقْرار"؛ يحلف على أَنه لا يَعْلَم الزيادة، وعلى أنه [أراد] (¬2) هذا القدْر. والله أعلم. ولو أوصَى بثلث ماله، إِلاَّ شيئاً، قُبِلَ تفسيرُ الموصَى به، وتنزيله عَلَى أَقلِّ ما يُتموَّل، وحمل الاستثناء عَلَى مالٍ كثير، وذكر الأستاذ أبو منصورٍ -رحمه الله- في "القضايا" أن هذه وصيةٌ بنصف الثلُثِ؛ فيكون المستثنى دون النصْفِ، فعلَى الوارث أن يعطيه السُدُسَ، ويزيد ما يشاء، قال: وكذا لو قال: أعطوهُ ثلث مالِي إِلاَّ قليلاً، ولو قال: أعطوه الثُّلُثَ إِلاَّ كثيراً، جاز أن يعطيه الوارِثُ أقلَّ من النصْف، والمشهورُ الأول. فروع: لو قال: أعطوه من واحدٍ إلَى عشَرَةٍ، فعلى الأَوجُه المذكورة في "الإقْرَار"، وحكى الأستاذ أَبو منْصُورٍ عن بعض الأَصحاب أَنه إن أراد الحسابَ، فللموصَى له خَمْسَةٌ وخمسون، وهو الحاصلُ من جمع واحدٍ إِلَى عَشَرةٍ، على توالي العدَدِ، وإِن لم يرد الحساب، فله المستيقن، وهو ثمانيةٌ، ولا شكَّ في اطراد هذا في الإقْرار (¬3). ¬
ولو قال: أعطوه واحداً في عشَرَةٍ أَو ستة في خمسة، أَطلق الأُستاذ بثبوت ما يقتضيه الضَّرب، وذكرنا فيه تفصيلاً في "الإقرار" (¬1). لو قال: أعْطُوه أكثر مالي، فالوصيَّةُ بما فوق النصْف، ولو قال: أَكثر مالِي ونصفه، فالوصيةُ بما فوق ثلاثةِ أرباع، ولو قال: أكثر مالي ومثله، فبالجَمِيع. ولو قال: أعطوه زهاء أَلفِ درهمٍ أو معْظَم الألف أو وعامَّتَه، فالوصيَّة بما فوق النِّصْف (¬2). ولو قال: أعطُوه دراهِمَ أَو دنانيرَ، فأَقَلُّ ما يعطَى (¬3) ثلاثة، ولفْظُ "الدراهم والدنانيرِ" عنْد الإِطلاق يُحْمَل على النقْدِ الغالِب، كما في "البيع"، وليس للوارِث التفْسِير بغيرِه، فإن لم يكن غالِبٌ، فالرجوع إِلى الوَارث، وإِذا قال: أعطوه كذا، وقال: كذا وكذا، أَو قَالَ: كذا درهماً أَو قال: كذا وكذا درهماً، فعلَى ما ذكرنا في "الإِقْرار". ولو قال: مائة ودرهماً أَو ألفاً ودِرْهَماً، لم يلزم أن تكون المائةُ والأَلف دراهمَ، ولو قال مائةً وخمسِيْن درهماً أَو مائةً وخمْسَةً وعشرين درْهماً، فعلى الخلافِ المذكور هناك. قال في "التهذيب": ولو قال كذا وكذا من دنانيري، يعطَى ذينارًا، ولو قال: كذا، وكذا، وكذا من دنانيري، يعطى دينارَيْنِ، ولو قال: كذا، وكذا من دنانيري، يعطى حبةً، ولو قال: كذا وكذا من دنانيري، فحبتان، ولك أَن تقول: لصاحب الدنانير دينار ودنانير، وكل ما هو دينار، فهو من دنانيره، فهذا جاز حمْلُ قولِهِ "كذا من ديناري" على حبةٍ، وجَبَ مثله في قوله "كذا من دنانيري". قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَإِذَا أوْصَى بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ وَلَهُ وَرَثَةٌ فَطَرِيقُ تَصْحِيحِ الوَصِيَّةِ أنْ يُنْسَبَ جُزْءُ الوَصِيَّةِ إِلَى مَا يَبْقَى مِنَ الْمَالِ الَّذي هُوَ مَخْرَجُ الوَصِيَّةِ وَيُزَادُ مِثْلَ نِسْبَتِهِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْوَرَثَةِ فَمَا بَلَغَ فَمِنْهُ تَصِحُّ المَسْأَلَتَانِ، وَبَيَانُهُ أوْصَى بِثُلثُ مَالِهِ وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ وَبِنْتَيْنِ فَمَسْأَلَةُ ¬
الوَصِيَّةِ من ثَلاَثةٍ وَمَسْأَلَةُ الوَرَثَةِ مِنْ سِتَّةِ وَنسْبَةُ جُزْءِ الوَصِيَّةِ وَهُوَ وَاحِدٌ إِلى مَا بَقِي مِنْ مَخْرَجِهَا وَهُوَ الثَّلاَثةُ مِثْلَ النِّصْفِ إِذِ البَاقِي بَعْدَ إِخْرَاجِ الوَاحِدِ اثْنَانِ وَالوَاحِدُ مِثْل نِصْفِ الاِثْنَيْنِ فَيُزَادُ عَلَى مَسْأَلَةِ الوَرَثَةِ وَهِيَ مِنْ ستَّة مِثْلُ نِصْفِهَا لِيَصِيرَ تِسْعَةٌ وَيُعْطَى الْمُوصَى لَهُ الثُّلُثَ ثَلاَثةُ يَبْقَى سِتَّةٌ تَصِحُّ عَلَى الوَرَثَةِ، أَمَّا إِذَا أوْصَى بمَا يَزِيدُ عَلَى الثُّلُث وَرَدَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَطَرِيقُهُ أنْ يَعْرِفَ نِسْبَةَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ أَرْبَابِ الوَصَايَا حَالَةَ الإِجَازَةِ وَيُقَسِّمَ الثُّلُثَ بَيْنَهُم عَلَى تِلْكَ النِّسْبَةِ، فَلَوْ أوْصَى لِوَاحِدٍ بِنِصْفٍ، وَلآخَرَ بِثُلُثٍ فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ سِتَّةٍ عِنْدَ الإِجَازَةِ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ ثَلاَثةٌ وَللْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمَانِ، وَالمَجْمُوعُ خَمْسَةٌ وَالنِّسْبَةُ بَيْنَهُمَا بِالأخْمَاسِ، فَنَطْلُبُ مَالاً لِثُلُثِهِ خُمْسٌ يُضْرَبُ ثُلُثُهُ في خُمْسِهِ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَيصْرَفُ ثَلاَثةٌ مِنَ الخَمْسَةِ اِلَى المُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ وَسَهْمَانِ اِلَى المُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فَهَذَا طَرِيقُهُ، وَهَدَا الوَجِيزُ لاَ يَحْتَمِلُ أكْثَرَ من هَذَا البَيَانِ في الْحِسَابِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من له ورثَةٌ، إذا أوصَى بالجزء الشائع وأَوردْنا قسْمة التركَةِ بين الورثة والموصَى له فإِما أَن يوصِيَ بالثلث فما دُونَهُ أَو بأَكثر من الثُّلُث. القسم الأَول: إِذا أوصَى بالثلث فما دونَهُ، فله حالَتَانِ: إِحداهما: أن تكونَ الوصيَّة بجزءٍ واحدٍ، فتصحَّح مسألة الميراث عائلةً أَو غيْرَ عائلة، وينظر في مخْرَج جزء الوصيَّة، ويخرج منه جزء الوصيَّة، ثم إن القسم الباقِي عَلَى مسألة الورثة، صحَّت المسألتان، وذلك كما إذا أَوصَى بربع ماله، وخلَّف ثلاثةَ بَنِينَ، فمخرج جزء الوصيَّة أربعة، والباقي بعْد إِخراج الرُبْع ينقسم على البنِينَ، وإن لم يقسَّم، فلك طريقان: أحدهما: أن تنظر في الباقِي وفي مسألة الورثة، فإِن تبايَنَا، ضربت مسألة الورثة في مخْرَج الوصية، وإنْ توافقا، ضربْتَ وفَقْ مسألةِ الوَرَثَةِ في مخْرَج الوصية، فما بلغ، تُصحَّح منه القسمةُ، ثم مَنْ له شيْءٌ من مخرج الوصيَّة، أخذه مضروبًا فيما ضربته في مَخْرَج الوصيَّة، ومن له شَيْءٌ مِن مسألة الورثَة، [أخذه] مضروبًا فيما بقي من مخرَجِ الوصيَّة بعد إِخراج جزء الوصية، إِن كان الباقي مع مسألة الورثة متباينَيْنِ، وإن كانَا متوافقَيْنِ، ففي وَفْقِ الباقي. والثَّانى: وهو المذكورُ في الكتاب: أن تَنْسُبَ جزءَ الوصيةِ إلى البَاقِي من مَخْرَجِها بعدَ الجزءِ، وتزيدَ بمثلِ تلك النسبةِ علَىَ مسألةِ الورثةِ، فما بلغَ، فمنه القسمةُ، فإن كانَ فيهِ كسرٌ، ضربتَه في مخرجِ الكسرِ، فما بلغ تَصحُّ منه القسمةُ. المثالُ: ثلاثةُ بنينَ وأوْصَى بثلثِ مالِه: مسألةُ الورثةِ من ثلاثةٍ، ومخْرَجُ الوصيةِ
ثلاثةٌ أيضاً، والبَاقِي بعدُ جزء الوصيةِ اثنانِ لا ينقسمانِ عَلَى ثلاثةٍ فعلَى الطَّريقِ الأوَّل؛ لا موافقةَ بيْنَ الاثنينِ والثلاثةِ، فتضرِبُ ثلاثةً في مخرجِ الوصيَّةِ؛ تبلغُ تسعةً، منها تصحُّ القسمةُ، كان للمُوصَى لَهُ سهمٌ، فيأخذه مضروبًا في الثلاثةِ الَّتي ضرْبنَاها في مخرجِ الوصيةِ، وكانَ لكلِّ ابنٍ سهمٌ من مسألةِ الورثةِ، فياخذُه مضروبًا في البَاقِي من مخرجِ الوصيَّةِ بعدَ إخراجِ جزءِ الوصيَّةِ، وهو اثنانِ، وعلَى الطريقِ الثَّاني؛ تقول: جزءُ الوصيَّةِ نصفُ البَاقِي من مخرِجهَا، فتزيد على مسألةِ الورثةِ نصفَها، تكونُ أربعةً ونصفًا، تبسطُهَا أَنْصافًا؛ تبلغُ تسعةً. أبوان وخمس بنات، وأوْصَى بخُمْسِ ماله؛ مسأَلةُ الورثةِ: من ستةٍ، وتصحُّ من ثلاثينَ، ومخرجُ جزءِ الوصيةِ خمسةٌ، والبَاقِي بعدَ إخراجِ جزءِ الوصيَّةِ أربعةٌ لا تصِحُّ عَلَى الثلاثِينَ؛ فعلَى الطريقِ الأوَّلِ هما متوافقانِ بالنِّصْفِ، فتضربُ نصفَ مسألةِ الورثةِ، وهو خمسةَ عَشَرَ، في مَخْرَج الوصيَّةِ؛ تبلغُ خمسةً وسبعينَ، كانَ للموصى له سهمٌ من مخرج الوصيَّةِ يأخذُه مضروبًا في خمسةَ عشَرَ، وكانَ لكلِّ واحدٍ من الأبَويْنِ خمسةَ من مسألةِ الورثةِ، يأخذه مضروبًا في نصفِ الأربعةِ البَاقِيةِ من مخرج الوصيَّةِ، تكون عَشَرةً، وكانَ لكلِّ واحدةٍ من البناتِ أَربعةٌ، تأخذُها مضروبةً في نصفِ الأربَعةِ، تكونُ ثمانيةً. وعلَى الطريقِ الثَّاني، تقول: الجزءُ المُخْرَجُ مثلُ رُبْعِ البَاقِي، فتزيد على الثلاثين ربعَها، وهو سبعةٌ ونصفٌ، نبسطها أنصافًا، تكون خمسة وسبعينَ. أبوانِ وبنتانِ، أو ابنانِ وبنتانِ، وأوْصَى بالثُّلثِ، وهذا المثالُ مذكورٌ في الكتاب مسألةُ الوصيةِ: من ثلاثةٍ، ومسألةُ الورثةِ من ستةٍ، والبَاقِي بعدَ إخراجِ الجزءِ سهمانِ لَا ينقسمانِ عَلَى ستةٍ؛ فعلَى الطريقِ الأوَّلِ نقولُ: هما مُتَوافقَانِ بالنصفِ، فنضرب نصفَ الستةِ، وهو ثلاثةُ في مخْرَجِ الوصيةِ؛ تكونُ تسعةً، كانَ للموصَى لَه سهمٌ من مخرجِ الوصيةِ، يأخذه مضروبًا في ثلاثةٍ، وكان لكلِّ ابنٍ سهمانِ من مسألةِ الورثةِ، يأخذُهُما مضروبين في نصفِ البَاقِي من مخْرَجِ الوصيَّةِ، وهوَ واحدٌ، وكانَ لكلِّ بِنْتٍ سهمٌ، تأخذه مضروبًا في واحدٍ. وعلَى الطريقِ الثَّاني تقولُ: جزءُ الوصيَّةِ نصف البَاقِي من مخرجِها، فتزيد عَلَى مسألةِ الوَرَثةِ نصفَها، تكون تسعةً وعَبَّرَ بعضُهُمْ عنِ الطَّريقَةِ الثانية بعبارةٍ أَقْصَرَ؛ فقالَ: يُزَادُ عَلَى مسأَلةِ الوَرثةِ مثلُ الجزءِ الَّذي هُوَ قبلَ جزءِ الوصيَّةِ، فإن كانتِ الوصيَّةُ بالثُّلُثِ، يزادُ علَيْهَا النصفُ، وإنْ كانَ بالربعِ، فالثُّلثُ، وإنْ كانَ بالخُمُسِ، فالرُّبُعُ، وعلَى هَذا. الحالةُ الثانيةُ: أن تَكُونَ الوصيةُ بجزئَيْنِ فصَاعِدًا، فيُؤخَذُ مخرجُ الجزْئَيْنِ بالطَّرِيقِ الَّذي بيَّنَّاه في أصولِ مسائلِ الفرائضِ، ثمَّ العَمَلُ علَى ما تبين في الحالةِ الأُولَى: المثال: أَبوَانِ، وأَوْصَى بثُمُنِ مالِهِ لرَجُلٍ، وبخُمُسِهِ لآخَرَ: مَسألةُ الورثةِ من ثلاثةٍ،
ومخرجُ الجُزئَيْنِ أربعُونَ، يُخْرَجُ منهمَا الخُمُسُ ثمانيةً، والثُّمنُ خمسةً، تَبقى سبعةٌ وعشرونَ، وتصحُّ علَى ثلاثةٍ. ثلاثةُ بنين، وأصَى برُبعِ مالِهِ لرجلٍ وبنصف سدسه لآخَر: مسألةُ الورثةِ من ثلاثةٍ ومخرَجُ الوصيتين: اثنا عشرَ، ومجموعُ الجزئَيْنِ أربعةٌ، إذا أخْرَجْنَاها، يَبْقَى ثمانيةُ، لا تصحُّ عَلَى ثلاثةٍ. فعَلى الطريق الأوَّلِ نقول: لا موافَقَةَ، فنضربُ ثلاثةً في اثْنَيْ عَشَرَ تبلُغُ ستَّةً وثَلاَثِينَ، منْها تصحُّ القِسْمَةُ. وعلَى الثَّانِي نقول: ما خَرَجَ بالوصِيَّتَيْنِ نصفُ البَاقِي من مخرجهما فنزيدُ على مسألةِ الوَرَثَةِ نِصْفَهَا، يبلغُ أربعةً ونصفاً، نبسطُها أيضاً أنْصَافًا، فتكونُ تسعةً، لكن نصيب المُوصَى لَهُمَا من مخرجِ الوصيَّتَيْنِ أربعة، والَّذي يصيبُهُما من التِّسْعَةِ ثلاثةٌ، وثلاثةٌ لا يَنْقَسِمُ عَلَى أربعةٍ ولا موافقةَ، تُضْرَبُ الأربعَة في تسعةٍ، تبلغُ سِتَّةَ وثَلاَثِينَ، ولَو كَانَ البنونَ ستةً، والوِصيَّتَانِ بحالِهِمَا؛ فعلَى الطَّرِيقِ الأوَّلِ نقولُ: البَاقِي، وهُو ثمانيةٌ لا يصحُّ عَلَى ستةٍ، ولكنْ يتوافَقَانِ بالنِّصفِ، فَنَضرِبُ نصفَ السِّتَةِ في اثْنَيْ عشَر، تبلغُ ستةً وثَلاثينَ، والطريقُ الثَّاني كَمَا سَبَقَ. القسمُ الثانِي: إِذا أوْصَى بأكْثَرَ منَ الثُّلُثِ فيُنْظَرُ: إِنْ كانَتِ الوصيةُ لِشَخْصٍ واحدٍ أو لجماعةٍ يشترِكُونَ فيه: إِمَّا بجزءٍ؛ كالنِّصفِ، أوْ بجزئَيْنِ؛ كالنِّصفِ والرُّبع، فمدارُ المسألة كما سبق فيِ إِجازةِ الوَرَثَةِ وردِّهم، وقدْ سبقَ بيانُ الحُكْمِ والحساب، وَإنْ أوْصَى لواحدٍ بجزءٍ، ولآخَرَ بجزءٍ، فهَا هُنَا يزدادُ النَّظَرُ في الحسابِ، فإنْ أجاَزَ الورثةُ، دُفِعَ إلَى كلِّ واحدٍ منهم ما سُمِّيَ له، وقُسِّمَ البَاقِي بينَ الوَرَثَةِ، وطريقُ القِسْمَةِ ما مرَّ فِي القِسْمِ الأَوَّلِ وإنْ رَدُّوا ما زادَ علَى الثُّلُثِ، قُسّمَ الثُّلُثُ بينَهُم عَلَى قدر نسبة أنصبائِهِمْ بتقدِير الإجازَةِ، ولا فَرقَ بينَ أن يزيدَ على أحدِ الجُزْئَيْنِ وحده علَى الثُّلُثِ كالنِّصْفِ والثُّلُث، أو لاَ يزيدَ واحدٌ منْهما؛ كالثُّلُثِ والربع. وقالَ أبو حنيفةَ -رحمه الله-: إنْ لَمْ يكن في الأجْزَاءِ ما يزيدُ علَى الثُّلُثِ يُقَسَّمُ هكَذا على التَّفَاوُتِ، وإنْ كانَ فيها ما يزيدُ عَلَى وحده على الثُّلُث، فلا نعتبرُ الزيادَةَ في القِسْمَةِ عنْدَ الرَّدِّ، حتَّى لو أوصَى لواحدٍ بالنِّصْفِ، ولآخَرَ بالثُّلُثِ، وردَّ الورثةُ، قُسِّم الثلثُ بينهمَا بالسَّويَّة. لنا: أنَّه أوْصَى بجزئَيْنِ مختلفَيْنِ لشخصين، فإذَا ارتدَّتِ القسمةُ إلى الثُّلُثِ، رُوعِيَ تفاوتُ الجزَئْينِ، كَما لو أوْصَى بجزئَيْنِ لا يرتد واحدٌ منهما على الثُّلثُ. المثالُ: أبوانِ وابْنانِ، وأوْصَي لواحدٍ بنصفِ مالِهِ، ولآخَرَ بالثُّلثِ، وأجَازُوا
الوصِيَّتَيْنِ، فمسألَةُ الورثة من ستَّةٍ، ومخرجُ الوصيَّةِ من ستةٍ أيضاً، والبَاقِي بعدَ إخراج جُزْءَي الوصيَّةِ لا ينقسِمُ عَلَى ستةٍ، فسبيلُ القِسْمَةِ على الطَّرِيقِ الأوَّل: أنْ تُضْرَبَ الستَّةُ في مخرجِ الوصيَّتَيْنِ، تصيرُ ستةً وثلاثينَ. وعلى الثَّانِي أنْ نقولَ: جزءُ الوصيَّةِ خمسةُ أَمثالِ البَاقِي من مخرَجهَا، فيزادُ على مسألةِ الورثةِ خمسةُ أَمثالِها، تبلغ ستةً وثَلاَثِينَ، فمنها تصحُّ القِسْمةُ، وإِنْ رَدُّوا الوصيَّتَيْنِ إِلى الثُّلُثِ، قَسَّمْنَا الثُّلُثَ بينُهمْ على خمسةٍ؛ لأَنَّ نَصِيبَهُمَا بتقديرِ الإِجَازَةِ خمسةُ أَسهمٍ من ستةٍ، ولَك طريقَانِ: أَحَدُهُما: أَن تَنْظُرَ إلى ما زادَ من جُمْلةِ الوَصايا علَى الثُّلثِ، وَتَنْقُصَ بتلكَ النِّسْبَةِ عن نصيب كلِّ واحدٍ من المُوصَى لَهُمْ، ونسبةِ ما زادَ في هَذِه الصورةِ ثلاثةُ أَخْماسِ لأَنَّ مجموعَ اَلوصيَّتَيْنِ بخمسةِ من ستةٍ، لكنَّ مخرجَ الوصيَّتَيْنِ لاَ خُمْسَ لَه، ونصيبُ كلِّ واحدٍ منهما لا خُمْسَ له، فنضربُ مخرجَ الخُمُسِ في ستةٍ، يكونُ ثَلاَثِينَ، منها خمسةَ عشرَ للموصَى له بالنِّصفِ، وعشرةٌ للمُوصَى له بالثُّلثِ، فينقصُ كلُّ واحدٍ من النَّصِيبَيْنِ ثلاثةُ أَخماسِهِ، يبْقَى للأوَّل سُتَّةٌ، وللثَّانِي أربعةٌ، والبَاقِي عشرونَ للوَرَثَةِ، وهَذِه الأنصباء مُتوافقةٌ بالنِّصفِ، فتردها إلى أنصافِها، وتُقَسَّمُ من خمسةَ عشرَ. والثَّانِي: أنَّا إذا كنَّا نقسمُ الثُّلثَ بينهما أَخْمَاساً، فالستَّةُ الَّتي هِيَ مخرجُ الوصيَّتَيْنِ، لا تنقسم ثلُثُها أَخماسًا فنطلب مالاً لثلثه خمس فنَضرِب مخرجَ الثلثِ في مَخْرَجِ الخُمُس، يكونُ خَمْسَةَ عَشرَ، يُدفَعُ ثُلثُهَا إِليهِمَا: ثلاثةً إِلى المُوصَى له بالنِّصفِ، واثنينِ إلى الآخرِ؛ تَبقَى عَشَرَةُ للورثةِ، ومسأَلتُهُم من ستَّةٍ، وعَشَرةٌ لا تصح على ستةٍ، لكنْ يتوافقانِ بالنِّصفِ، فنضرب نصفَ الستَّةِ، فمَا صحَّتْ منه الوصيَّتانِ، وهو خمسةَ عشر، يكون خمسةً وأربعينَ، منْها تصحُّ القِسْمَةُ، هَذا إذا لَمْ تستغرِق الوصيَّةُ المَالَ، بلْ بَقِيَ منه شيءٌ، فإِنِ استغرقتْ، وأَجازَ الورثةُ قَسْمَ الماَلِ بين أَربابِ الوَصَايَا، وإنْ ردُّوا قُسِّمَ الثُّلُثِ بينَهُم على نسبةِ أنْصِبَائِهم بتقديرِ الإجَازَةِ، وإِن زادَتِ الَوَصِيَّةُ على المَالِ، كَمَا إِذا أوصَى لواحدٍ بجميعِ مالِهِ، ولاَخَرَ بثُلثِهِ، فَإِنْ أجَازُوا، فقد عَالَتِ المسألَةُ بثُلِثها إِلى أَرْبعةٍ فيقسَّمُ المالُ بينَهُمَا عَلَى أربعةٍ: للمُوصَى له بالجميع ثلاثةٌ، وللآخر واحدٌ، وإنْ رَدُّوا، قُسِّمَ الثلثُ بينَهُمَا على أربعةٍ، وتكونُ قسمةِ الوصَيَّةِ مِن اثنَيْ عَشَرَ، قال أبو حنيفَةَ -رحمه الله-: وإنْ ردُّوا، قُسِّمَ الثلثُ بينهُمَا بالسَّويَّةِ، وإنْ أجَازوا ففيهِ رواياتٌ: مِنْهَا أَنَّ صاحبَ الجميع ينفردُ بِدَعْوَى الثُّلثينِ، فيسلَّمُ له الثُّلثَانِ، ويتزاحَمَانِ معاً في الثُّلث، فيشترِكَانِ فيهِ، فيكَونُ لصاحِبِ الجميعِ خمسةُ أَسداسٍ، وللآخر سدسٌ. ومنها: أنَّ الوصِيَّةَ بالثلثِ لازمةٌ فيستويانِ فيه، ثمَّ المُوصَى له بالجميعِ يأخُذُ نصفَ المالِ؛ لأنَّه لا مُنَازعَ فيهِ، يبقَى من المالِ، سدسٌ يتنازَعانِ فيه فيكونُ بينَهُمَا،
فيحصلُ للأوَّل ثلاثةُ أرباعٍ، وللآخرِ ربعٌ وَلَوْ أوْصَى لواحدٍ بنصفِ مالِهِ، ولآخَرَ بالثُّلُثِ ولآخرَ بالرُّبع؛ فإنْ أَجَازَ الورثةُ، قُسِّم المالُ بينهُمْ عَلَى ثلاثةَ عشرَ سهماً، وإنْ رَدُّوا، قُسِّمَ الثُّلُث عَلَى ثلاثةَ عَشَرَ، وقال أَبو حنيفَة -رحمه الله- إنه إنْ أَجَازُوا، سُلِّمَ لصَاحِبِ النِّصْفِ السدسُ الَّذي يفضلُ به على [صاحب]، (¬1) الثُّلُثِ، ثمَّ كُلُّ واحدٍ من صاحبِ النِّصْفِ، وصاحب الثُّلثِ، يفضُلُ صاحبَ الربع بنصِفِ سدسٍ، فيأخُذُ كلُّ واحدٍ منهِمَا نصفَ سدسِ المَالِ، ثُمَّ يُقَسَّمُ البَاقِي بينَهُمْ أَثلاثًا وإنْ رَدُّوا، فالمُوصَى به بأكثرَ من الثُّلثِ لاَ يضربُ إِلاَّ بالثُّلُثِ، وُيقَسَّمُ الثُّلثُ بينَهُمْ عَلَى أحدَ عشرَ سهماً: لصاحِبِ النِّصف أَربعةٌ، ولصاحبِ الثُّلثِ كَذلك ولصاحبِ الربعِ ثَلاَثةٌ. ولو أوْصَى لإِنْسَانٍ بعَبْدٍ قيمتُه مائةُ وللآخَرَ بدارٍ قيمتُها ألفٌ، ولِآخَرَ بخمسمائةِ وثُلثُ مالِهِ ثَمَانِمَائةٍ، فقد أوْصَى بثلثَيْ مالِهِ، فإِنْ أجاز الورثةُ، فذَاكَ، وإِلاَّ، فالزَّائدُ عَلَى الثلثِ مثلُ نصف جميع الوَصَايَا، فتردُّ كلُّ وصيَّةِ إلى نصفِهَا، ويُخَصُّ كلُّ واحدٍ منهُمْ بنِصْفِ ما عُيِّنَ لَهُ. ولو أوْصَى لزيدٍ بعَشَرَة، ولعبدِ اللهِ بعَشَرةٍ، ولخالدٍ بخمسةٍ، وثلثُ مالِه عشرونُ، ولمْ يُجِزِ الورثةُ، قُسِّمَ العشرونَ بينَهُمْ عَلَى خمسةِ أسهُمٍ: لكلِّ واحدٍ من الأوَّلَيْنِ ثمانيةٌ، ولخالدٍ أربعةٌ: وذَلِكَ لأنَّهم لو أجَازوا، لكانَ الخمسةُ والعشرونَ بينهم عَلَى خمسةِ أَسهمٍ، ولَوْ كَانَتِ المسألَةُ بحالِها، وقالَ: قَدِّموا خالداً عَلَى عبدِ اللهِ؛ قَالَ ابنُ الحدادِ - رحمَه الله- لزيدٍ ثمانيةٌ، ولعبدِ اللهِ سبعةٌ، ولخالدٍ خمسةٌ؛ وذلك لأنَّه قدَّمَ خالدًا على عبدِ الله، فتممنا لهُ الخمسةَ الَّتي كان يأخذُهَا، لو أُجيزتِ الوصَايَا، وأدْخَلْنَا النَّقْصَ عَلَى عبدِ اللهِ ولو قال؛ قَدِّمُوا خالداً عليهما، فنتم له الخمسة، ويُدْخِلُ النَّقْص عليهما بالسَّويَّة، فيكونُ لكلِّ واحدٍ سبعةٌ ونصف. ولو أُوْصَى بعبدٍ لزيدٍ، ولعمرو بما بَقِيَ من ثلثِ مالِه، نَظَرْنَا في مالِهِ عند الموتِ: فإِنْ خَرَجَ العبد من [الثلث دفعنا إلى زيد ودفعنا إلى عمرو الباقي من] (¬2) الثلث، فإنْ بَقِيَ شيءٌ، وإلاَّ، بَطَلَتِ الوصيَّةُ له، وإِنْ ماتَ العبدُ قبلَ موتِ المُوصِي، لم يُحْسَبْ من التركةِ، ويُنظر في سائرِ أموالِهِ، فَيُحَطُّ من ثلثِهَا قيمةُ العبدِ، ويدفعُ البَاقي إلَى عمرو، فإِنْ لم يبقَ شيءٌ، فالوصيَّتَانِ لاغِيَتَانِ، وإنْ ماتَ بعدَ موتِ المُوصِي، عُدَّ من التركةِ وَحُسِبَتْ قيمتُه من الثُّلثِ، فإنْ بَقِيَ شَيْءٌ، دُفِعَ إلى عمرو ولو لمْ يكنْ له مالٌ سوى العبدِ، فأوْصَى لزيدٍ به، ولعمرو بثلاثةٍ، أو بثلثِ مالِهِ، ولمْ يجر لفظُ "يَقْتَضِي" الرجوعَ عن الوصيَّةِ الأولَى، فإنْ أَجَازَ الورثةُ، قُسِّمَ العبْدُ بينَهُمَا أَرباعًا: لزيد ثلاثةُ أرياعِهِ، ¬
ولعمرو ربعُهُ، وإنْ لمْ يُجِيزُوا، قسِّم الثلثُ كذلِكَ، وإنْ كانَ له مالٌ آخَرَ، والوصِيَّتَان هكذا، كَمَا إِذا كانَ له سواه ألفَانِ، وقيمةُ العبدِ ألفُ: فإن أجَازَ الورثةُ، جُعِلَ العبدُ بينَهُمَا أرباعًا، ولعمرو مع ربع العبدِ ثلثُ الألْفَيْن، وإذا كانَ العبدُ الَّذي هو ثلثُ المَالِ أربعةً، كانَ الألِفَانِ، وهما ثُلثَاه ثمانيةً؛ لكنْ لَيْسَ للثمانيةِ ثلثٌ، فنضرِبُ مَخْرَج الثُّلثِ في اثني عَشَرَ، يكونُ ستَّةً وثَلاثِينَ؛ العبدُ منها اثنا عشرَ، تسعةٌ منه لزيدٍ، وثلاثةٌ مع ثمانيةٍ من البَاقِي لعمرو، والبَاقِي للورثةِ، وإنْ رَدَّ الورثَةُ، قُسِّمَ الثلثُ بينَهُمَا علَى عشرينَ سهماً؛ لأنَّ جملةَ سِهَام الوَصايَا حالةَ الإِجَازَةِ عِشْرُونَ، وإِذا كانَ العبدُ، وهو ثلثُ المالِ عشرين، كانَ الجميعُ ستينَ، لزيدٍ تِسْعَةٌ من العبدِ، ولعمرو ثلاثةٌ منه، وثمانيةُ أَسهم من البَاقِي، كَما كانَ في حالِ الإجازة؛ يَبقَى للورثةَ ثَمَانيةُ أَسهمٍ من العبدِ، واثنانِ وثَلاثونَ من البَاقِي، وذلكَ أربعونَ ضعْفِ سهام الوصيَّة، وجميعُ ما ذكرَنا فيما إِذَا جَازَ جميعُ الورثةِ جميعَ الوصَايَا، أَورَدَّ جميعُهم إِلىَ الثُّلثِ، وَوَرَاءَهُمَا حالاتٌ خَمْسٌ. إِحْدَاهَا: أن يُجِيزُوا جميعاً بعضَها، دونَ بعضٍ. والثَّانِية: أَن يجيزَ بعضُهُم جميعاً، ويردَّ بعضُهُم جميعاً. والثالثةُ: أَن يجيزَ بعضُهُم جميعاً، وبعضُهُم بعضاً دون بعض. والرابعةُ: أنْ يردَّ بعضُهُم جميعاً، وبعضهم بعضاً دون بعض. الخامسةُ: أَن يجيزَ بعضُهُم بعضاً، وبعضُهم البعضَ الآخرَ. والطريقُ في هذه الأحوالِ أنْ يُصحَّحُ المسألةُ على تقديرِ الإِجازَةِ المطلقَةِ، وعلى تقدير الردِّ المطلق، فإنْ تماثلتِ المسألتانِ، اكتفَيْتَ بواحدةٍ منْهُمَا، وإنْ تداخَلَتَا، اكتفيتَ بالأكَثرِ، واسْتَدعَيتَ عنَ الضَّرْبِ، وإنْ تَبَاينَتَا، ضَرَبْتَ إحداهُمَا في الأُخْرَى، وإنْ توافَقَتَا، ضَرَبْتَ جزءَ الوَفْقِ من إِحَداهِمَا في الأُخْرَى، ثمَّ يقسَّمُ المالُ بينهُمَ عَلَى تقديرِ الإِجازَةِ، والردِّ جميعاً من ذلكَ العددِ، ويُنْظَرُ في الحاصلِ لكلِّ مجيزٍ عَلَى التقديرَيْنِ، فيكَونُ قدرُ التَّفاوتِ بينهِمَا لمنْ أَجَازَ له. المثالُ: ابنانِ، وأَوْصَى لزيدٍ بنصفِ مالِهِ، ولعمرو بالثَّلثِ المسألةُ عَلَى تقدير الإِجازَةِ: من اثْنَيْ عشرَ، وعلَى تقديرِ الردِّ: من خمسةَ عشرَ، وهُمَا متوافقانِ بالثُّلثِ، فنضربُ ثلثَ إحداهِمَا في الآخرِ، تبلغُ ستِّينَ: لزيدٍ منها؛ عَلَى تقديرِ الإجَازَةِ المطلقةِ: ثلاثونَ، ولعمرو: عشرونَ، ولكلِّ ابنٍ خمسةٌ، ولزيدٍ؛ عَلَى تقديرِ الردِّ المطلقِ: اثنا عشَرَ، ولعمرو: ثمانية، ولكلِّ ابنٍ عشرونَ، والتفاوتُ بين نصيبِ كلِّ ابنٍ بخمسةَ عشرَ، وإنْ أجازُوا وصيةَ زيدٍ، فقدْ سامحَه كلُّ واحدٍ منهِمَا بتسعةٍ فيتم له ثلاثونَ؛ ويبقَى لكلِّ واحدٍ أحدَ عشرَ، وإن أجازَا وصيةَ عمرو، فقد سامَحَهُ كلُّ واحدٍ بستةِ، فيتم له
عشرونَ، ولكَلِّ واحدٍ أربعةَ عشرَ، وإنْ أَجَازَ أحدُهمَا الوصيَّتَيْنِ، وردَّهُما الآخرُ فقد سامحَ المجيزُ زيدًا بتسعة، وعمرًا بستةٍ، فيكونُ لزيدٍ أحدٌ وعشرون، ولعمرو أربعةَ عشرَ، وللمجيزِ خمسةٌ، وللآخرِ عشرونَ، وإنْ أَجَازَ أحدهُمَا الوصيَّتَيْنِ، وردَّهُمَا الآخرُ، فقد سامحَ المجيزُ زيداً بتسعةٍ، وعمرًا بستةٍ، فيكونُ لزيدٍ أحدُ وعشرون، ولعمرو أربعةَ عشرَ، وللمجيزِ خمسةٌ، وللآخرِ عشرونُ، وإِنْ أَجازَ أَحدُهُمَا الوصيَّتَيْنِ، وأجَازَ الآخرُ، وصيةُ زَيْدٍ، تم لزيدٍ ثلاثونَ، وإنٍ أجازَ الآخرُ وصيةَ عمرو، تَمَّ له عشرونُ، وإنْ أجازَ أحدهُمَا وصيةَ زيدٍ، والآخرُ وصيةَ عمرو، فهذا سامحَ زيدًا بتسعةٍ، وذاك سامحَ عمراً بستةٍ، فيكونُ لزيدٍ أحدُ وعشرون، ولمجيزِ وصيَّتِه أحدَ عشر، ولعمرو أربعةَ عشر، ولمجيزِ وصيَّتِه، مثْلُ ذلِكَ. ابنان، وأوْصَى لزيدٍ بجميع مالِهِ، ولعمرو بثلثِ مالهِ؛ عَلَى تقديرِ الإجازَةِ المطلقَةِ، من أربعةٍ: ثلاثةٌ لزيد، وواحدٌ لعمرو؛ عَلَى تقدير الردِّ المطلَقِ: من اثنَيْ عشرَ: لزيدٍ ثلاثةٌ، ولعمرو وواحدٌ، ولكلِّ ابنٍ أربعةٌ، والأربعةُ داخلةٌ في الاثنَيْ عشر، فنكتفي بهَا، إن أجازَ وصيَّتة زَيْدٍ، فقَدْ سامحَه كلُّ واحدٍ منهما بثلاثةٍ، فيتمُّ له ثلاثةُ أرباعِ المالِ، وإِنْ أجَازَ وصيةَ عمرو، فقدْ سامَحَه كلُّ واحدٍ منهما بسهْمٍ، فيتم له [ربع] (¬1) المالُ، وإنْ أجازَ أحدُهُمَا وصيَّةَ زيدٍ، والآخرُ وصيةَ عمرو، فالَّذيَ أجازَ لزيدٍ سامحَه بثلثه؛ يبقَى له واحدٌ، ويحصُلُ لزيدٍ ستةٌ، والَّذي أجَازَ لعمرو، وسامحَه بسهمٍ، يبقَى له ثلاثةٌ، ويحصلُ لعمرو سهمانِ، وَقِسي غلى هَذا ما أردتَّ، وباللهِ التوفيقُ، فهَذَا شرحُ ما في الكتَاب. وأمَّا قسَّم الحساب [من] (¬2) المسائلَ الَّتي يُحْتَاجُ فيها إِلى الجَبر والمقابلةِ؛ من الوصَايَا وغيرِها: فإنَّ من صاحبَ الكتاب لم يُورِدْ شيئاً منها، ونحنُ لاَ نجدُ من النفسِ إِهمالَهَا لكنَّ إشباعَ القولِ فيها يُحْوِجُ إلىَ ذكرِ المسائلِ السِّتِّ الجبريةِ وأُصُولِها، وأُصولُ طريقةِ الخطائين وغيرِها، وَينْجَرُّ إلى ما يطولُ الخَطْبُ فيه، وهو مَنّ برأْسِه، وإِنَّما يحسبُ البسطُ فيه، إذا أُفرِدَ، واحداً قصداً فاقتَدَيْنَا بعامَّةِ الأصحاب في سلوكِ مَسْلَكٍ وسَطٍ، وأوْرَدنَا من كلِّ نوعٍ منها فُصُولاً في ثلاثةِ أبوابٍ؛ مقتصرينَ عَلَى استعمالِ ما يتفقُ من طريقِ الحُسَّابِ في كُلِّ مسألةٍ، دونَ أن نَسْتوعبَها؛ أو نَتَكلَّمَ في أصولِها، وَمَأَخْذِهَا. أحدُ المسائلِ الدوريةِ: من الوَصَايَا. والثاني: في المسائلِ الدوريَّةِ، في سائرِ التصرُّفَاتِ الشرعيةِ. والثَّالث: في مسائلِ العَين والدَّيْنِ، والاستعانةُ بالله تعَالَى. ¬
الباب الأول في الدوريات من الوصايا
الْبَابُ الأَوَّلُ فِي الدَّوْرِيَّاتِ مِنَ الْوَصَايَا فَصْلٌ في الوصيَّةِ بنصيبِ أحدِ الورثةِ وبجزءٍ شائعٍ من المال الجزءُ الشائعُ قد يكونُ مضافاً إلى ما يبقى من المالِ بعدَ النَّصيبَ، وقد يكونُ مضافاً إلى جميع المالِ، فإنْ كانَ مضافاً إلى جميع المالِ، نُظِرَ: إنْ لم يزدْ جملةُ المُوصَى به علىَ الثُّلثِ جُعِلَ المُوصَى لَه النصيب؛ كأَحدِ الورثةِ، وصُحِّحَتْ مسألةُ الورثةِ، ثم يؤخذُ مخرجُ الوصيَّةِ، وُيخْرَجُ منه جزءُ الوصيَّةِ، وينظرُ، هل ينقسم البَاقِي على مسألةِ الورثةِ، إِنِ انقسَمَ، فذاكَ، وإلاَّ، فطريقُ التَّصحيح ما سبقَ، وإن زادت على الثلثِ، وأجازَ الورثةُ، فكذلك الحسابُ والجوابُ (¬1)، وإنْ لمَ يُجِيزوا، قُسِّمَ الثُّلثُ على نسبةِ القِسمةِ عندَ الإِجازةِ. المِثالُ: ثلاثةُ بنينَ، وأوصَى بمثلِ نصيبِ أحدِهم، ولآخَرَ بعُشْرِ الْمَالِ؛ فمسألةُ الورثةِ والمُوصَى لَه بالنَّصيب من أربعةٍ، ومخرجُ الجُزْءِ عَشَرَةُ يبقَى منها بعدَ إخراجِ الجزءِ تسعةٌ، لا تنقسِمُ على أَربعةٍ، ولا موافِقَة، فَتُضْرَبُ أربعةً في عَشَرَةٍ، تبلغُ أربعينَ، للمُوصَى لَه بالعُشْر أربعةُ، ولكلِّ واحدٍ من البنينَ والمُوصَى لَه بالنَّصيب تسعةٌ، وجملة الوصيَّتَيْنِ ثلاثةَ عشر، وإنْ أردتَّ استخراجَه بطريقِ الجَبْرِ، فَخُذْ مالاً، وأَسقِطْ منه نصيبًا؛ يَبْقَى مالٌ سوَى نصيبٍ، أَسْقِطْ منْه عُشْرَ جَمِيعَ المالِ للوصيَّةِ الأُخْرَى، تبقَى تسعةُ أعشَارِ مالٍ سوى نصيبٍ، يعدل ثلاثة أنصباء، تُجِبرُ وتقابل، يكون تسعةَ أعشارِ مالٍ معادلةَ لأربعةِ (¬2) أنصباءَ، فاضرِب الأربعةَ في مالٍ له عُشْرةٌ، وأقلُّه عشرة، يكون أربعين، كما خرج بالطَّريق الأوَّل، وإن كانَ الجزءُ مضافاً إلى ما تبقى من المالِ بعدَ النَّصيبِ؛ مثل أنْ يختلفَ ثلاثةُ بنين، ويوصى لزيدٍ بمثل نصيب أحدِهم، ولعمرو بسدُسِ ما تبقَّى من المالِ بعد النصيبِ، فالمقصودُ من هذه المَسْأَلَةِ وما في معناها، يُعْرفُ بطريقٍ. ومنها طريقةُ الجبرِ، ولها وجوهٌ: أسهلُها أن تاخذَ مالاً، وتُسقطُ منه نصيبًا لزيدٍ، ويبقى مالُ سوى نصيبًا، يسقُطُ سدسُه لعمرو، تبقَّى خمسةُ أسداسِ مالٍ إلاَّ خمسةَ أسداسٍ نصيبِ، يعدِلُ أنصباءَ الورثةِ، وهي ثلاثة فَتُجْبَرُ وتُقَابَلُ، فيكونُ خمسةَ أسداسِ مالٍ مُعَادِلَةً لثلَاثةَ أنصباء وخمسة أسداسِ نصيبٍ، فَتُضربُ ثلاثةٌ وخمسةُ أسداسِ مالٍ في أقلِّ عددٍ له سُدُسٌ، وهو ستَّةٌ، تكونُ ثلاثةً وعشْرين: النَّصيبُ من ذلكِ خمسةٌ، تَبقَى ثمانيةَ عَشَرَ، سُدُسُهَا لعمرو، تبقَى خمسةَ عَشَرَ؛ لكلِّ ابنِ خمسةُ، وهذا ما كان يستعملُه الحَسنُ بْنُ أحمدَ بْنِ حَسَّانٍ الفَرائِضِيُّ القَزوِينيُّ، وهو من المتقدِّمين. ¬
ومنهما: أن يُجْعَلَ المالُ كلُّه دينارًا وستةَ دراهم، والوصيةُ بالسدسِ تجعلُ الدينارَ نصيبَ زيدِ، ودرهماً من الستةِ لعمرو؛ يبقَى خمسةُ دراهمَ للبنَين؛ لكلِّ واحدٍ منهم درهمٌ وثلثانِ؛ فعلمنا أنَّ قيمةَ الدينارِ درهمٌ وثلثانِ، وكنَّا جعلنا المالَ دينارًا وستة دراهم، فَهُو إذن سبعةُ دراهمَ وثلثانِ، فنبسطها أثلاثا، تكونُ ثلاثةً وعشرينَ، وتسمَّى هذه الصورة طريقةَ الدينارِ والدراهم. قال الأستاذُ أبو منصور: ربما سُمِّيَتِ العُثْمَانِيَةُ؛ لأنَّ عثمانَ بْنَ أَبِي ربيعةَ الباهِليَّ (¬1) كانَ يستعْمِلُهَا. ومنْهَا: مسألةُ الوَرثةِ من ثلاثةِ سهامٍ، فيكونُ لزيدٍ سهمٌ مثلُ واحدٍ منها، ويزيدُ على كلِّ واحدٍ من سهامِ البنينَ مثلُ خمسةٍ؛ لأنَّه أوصَى بسدسِها، وسُدُسُ كلِّ شيءِ مثْلُ خمسِ الباقِي بعدَ إخراجِ السُّدُسِ، فيكونُ جميعُ المالِ أربعةَ سهامٍ، وثلاثةَ أخماسٍ، نبسطُهَا أخماسًا، تبلغُ ثلاثةً وعشرينَ، وهَذه تُسمَّى طريقةَ القياسِ. ومنْها: تُقَسَّمُ سهامُ الورِثة وهي، ثلاثةٌ وتصنيف: سَهُمًا لزيدٍ، يكونُ أربعةً، نضرِبها في مخرجِ السُّدُسِ، يكونُ أربعةً وعشرينَ، يسقُطُ منها الحاصلُ من ضرب الجزءِ الموصَى بهِ بعدَ النصيبِ في النصيب، وهو واحدٌ، يَبْقَى ثلاثةٌ وعشرونَ، فهيَ المالُ، فإن أردتَّ النصيبَ؛ أَخَذْتَ سهْمًا منها، وضربتَهُ في مخرج السدسِ، يكون ستةً، تسقطُ منْهَا ما أُسقطته من المالِ؛ يبقى خمسةٌ، فهي النصيبُ، وهذه تشتهرُ بطريقةِ الحَشْوِ، وُيسَمَّى هذا الذي يُسْقَطُ سَهْمَ الحَشْوِ، ويقالُ: كانَ محمدٌ بنْ الحسنِ يعتمدُ علَيها، وسمَّاها ابْنُ حسَّان القزويني حسابَ اليتم (¬2). ومِنْهَا: تَأْخذُ سهامَ الورثةِ، وتضربُها في مخرجِ السدسِ، يكونُ ثمانيةَ عَشَر تصرف سُدُسُهَا إلى عمرو؛ تبقَى خمسةَ عشرَ؛ لكلِّ ابن خمسةٌ، وإذَا بانَ أنَّ النَّصيبَ خمسةٌ، فيزيدُ خمسةٌ على الثمانيةِ عشر، يكونُ ثلاثةً وعشرين. ومِنْهَا: أن يقالَ: المالُ كلُّه ستةٌ، ونصيبُ النَّصيبِ لزيدٍ، وسهمٌ لعمرو، يبقى خمسةٌ، لا تصحُّ على ثلاثةٍ، ولا توافق تَضْرِب ثلاثةً في ستةٍ، تكونُ ثمانيةَ عشرَ، مع النصيب المجهولِ، سدسُ الثمانيةَ عَشَر لعمرو، والبَاقِي بينَ البنينَ؛ لكلِّ واحدٍ خمسةٌ، فَعَرَفْنَا أَنَّ النصيبَ المجهولَ خمسةٌ، وأنَّ المالَ ثلاثةٌ وعشرونَ. مَسْأَلَة: ثلاثةُ بنينَ، وأوصَى لزيدٍ بمثلِ نصيب أحدِهِم، ولعمرو بثلثِ ما يبْقَى من المالِ بعدَ النَّصيب استخراجها بطريقِ الخَطَائِيْنِ: يُقَدَّرُ المَالُ، إنْ شِئْنَا أربعةً؛ لعلمِنَا أنَّ ¬
فصل
هُنَا نَصِيباً وثلثاً بعدَ النَّصيب، ويجعلُ النَّصيبُ واحداً، ويدفعُ ثلثُ البَاقِي إلى عمرو؛ يبقَى اثنانِ، ونحنُ نحتاجُ إلَىَ ثلاثةٍ؛ ليكونَ لكلِّ ابنٍ مثلُ النَّصيبِ المفروضِ، فقدْ نَقَص عن الواجبِ واحدٌ، وهَذَا هُوَ الخطأُ الأوَّلُ. ثمَّ نجعَلُ المالَ خمسةً، ونجعلُ النصيبَ منها اثنَيْنِ، وندفعُ ثلثَ البَاقِي إلَى عمرو، يبقَى اثنانِ، ونحنُ نحتاجُ إلَى ستة؛ ليكونَ لكلِّ ابن مثلُ النصيبِ المفروضِ، فقدْ نَقَص عن الواجبِ أربعةٌ، وهو الخطأُ الثَّاني، والخطآن جميعاً ناقصان، فسقَط أوَّلُهما من أكْثرِهما، يبقَى ثلاثةً؛ فنحفظُهَا، ثمَّ نضربُ المالَ الأَوَّلَ في الخَطَأ الثَّاني، يكونُ ستةَ عشرَ ونضربُ المالَ الثَّانِيَ في الخطأ الأوَّل، يكونُ خمسةً يسقطُ الأقلُّ من الأكثر يبقَى أحدَ عشرَ سهماً، نُقسِّمُها على الثلاثةِ المحفوظةِ، يخرجُ من القِسْمَةِ ثلاثةٌ وثلثانِ، نَبْسُطُهَا أثلاثًا بالضَّرب في ثلاثةٍ، يكونُ أحدَ عشرَ، فهُوَ المالُ، ثمَّ نضربُ النَّصِيبَ الأوَّلَ في الخطأ الثَّانِي، يكونُ أربعةً، ونضربُ النَّصيبَ الثَّانِي في الخطأ الأوَّلِ يكونُ اثنينِ، يسقطُ الأقلُّ من الأكثرِ؛ يبقَى اثْنَانِ، نقسِّمها على الثلاثةِ المحفوظةِ، يخرجُ من القسمةِ ثُلُثَانِ، وإذا بَسَطْنَا، كانا اثنينِ، فهما النصيب فتدفع اثنين من أحدَ عشرَ إلَى زيدٍ، وثلثُ الباقي ثلاثةٌ إلى عمرو؛ يبقَى ستةٌ لكلِّ واحدٍ اثنانِ، وهذا إذا أجَازَ الورثةُ، فالوصيَّتَانِ زائدتَانِ على الثُّلُثِ، وتُسَمَّى هذه الطريقة "الجامِعَ الكَبِيرَ من طرقِ الخطأين". وبطريقةِ الباب: نقولُ: سهامُ البنينَ ثلاثةٌ، وقد أوْصَى بثلثِها؛ فيبقَى لكلِّ ابني ثُلُثَا سهمٍ، فتبيَّن أنَّ النصيب المُوصَى به لزيدٍ ثُلُثَا سهمٍ، ثم نضم الثلثُ المخرجَ، إذ بينّا النَّصيبَ إلى أنْصبَائِهِم، فيكونُ جملةُ المالِ ثلاثةَ سهامٍ وثُلَثَي سهمٍ نبسطُها أثلاثاً؛ تكونُ أحدَ عشَرَ. وبطريقِ المقاديرِ: يُعْطَى المُوصَى لَهُ بمثلِ النصَّيب نصيبًا من المالِ؛ يبقَى منه مقدارا تُدْفَعُ ثُلثُه إلَى عمرو، ويبقَى ثُلُثَا مقدارٍ نُقَسِّمُها بيَنَ البَنِينَ؛ يَحْصُلُ لكلِّ واحدٍ تُسُعَا مقدارٍ، فَنَعلَمُ بذَلك أنَّ ما أخذَهُ المُوصَى له بالنَّصِيبِ تُسُعَا مقدارٍ، فالمالُ كُلُّه إذن مقدارٌ وتُسُعَا مقدارٍ، نبسطُها أتْسَاعًا، يكونُ أحدَ عَشَر، وتَخْرُجُ المسألةُ السابقةُ بهذِه الطرقِ الثلاثِ خروجَ هذه المسألةِ بتلك الطُّرُقِ الستِّ. فَصْلٌ وَقَدْ تكونُ الوصيةُ بجزءٍ من جزءٍ من المالِ، فما بَقِيَ يُعَدُّ النَّصِيبَ أو بَعْضَهُ؟ مثالُه: ثلاثةُ بنينَ، وأوْصَى لزيدٍ بمثلِ نصيب أحدِهم، ولعمرو بثُلُثِ ما تبقَّى من ثُلْثِ المالِ بعدَ النَّصيب: يُقَدَّرُ ثلثُ المالِ عدداً لَه ثُلُث؛ لقولِهِ بثلثِ البَاقِي من الثُّلثِ وليكن ثلثه، فيزيدُ عليه واحداً للنَّصيبِ، فيكونُ أربعةً، وإذَا كانَ الثلثُ أربعة، كانَ
الثلثانِ ثمانيةً وجملةُ المالِ اثنا عشرَ تدفع إلى زيدٍ واحداً، وإلى عمرو واحداً وهو ثلثُ الثَّلاثَةِ الباقيةِ من ثلثِ المالِ، يبقى سهمانِ، تضُمُّهُمَا إلَى ثُلُثَي، المَالِ تكونُ عشرةً، وكانَ ينبغي أن يكونَ ثلاثةً؛ ليكونَ لكلِّ ابنٍ مثلُ النَّصيب المفروضِ، فقدْ زادَ علَى ما يحسبُ سبعةً، وهو الخطاُ الأوَّلُ. ثم يُقدَّرُ الثلثُ خمسةً، ويُجْعَلُ النصيبُ اثنين وتَدفعُ إلى عمرو واحداً، يبقى سهمانِ، يزيدُهُما على ثلثَيْ المالِ، وهو عشرةٌ، علَى هذا التقديرِ، يبلغ اثني عشرَ، وكانَ ينبغي أن يكونَ ستةً؛ ليكونَ لكلِّ ابن سهمانِ، فزادَ علَى الواجبِ ستةً، وهو الخطأ الثَّانِي. ثمَّ نقولُ: لمَّا أخذَنا أربعةً؛ زادَ على الواجب سبعةٌ ولمَّا زدْنا سهماً، نَقَصَ عن الخَطأ سهمٌ؛ فعلمنَا أنَّ كلَّ سهمٍ يزيدُ، ينقصُ به من الخطَأ سهمٌ، وقد بقي من الخطأ سِتَّةُ أسهمٍ، فنزيدُ لها ستة أسهم، يكوَنُ أحدَ عشرَ سهماً، فهو ثلثُ المالِ؛ النَّصيبُ منها ثمانيةٌ، وجميعُ المالِ ثلاثةٌ وثلاثون، وتُسَمَّى هذه الطريقةُ "الجامعَ الصَّغِيرَ من طرقِ الخطأين". مسألةٌ: ابنانِ، وأوصَى بمثلِ نصيبِ أحدِهِمَا لزيدٍ، وأوْصَى لعمرو بنصفِ ما تبقَّى من الثلثِ بعد النَّصيبِ: استخراجُهَا بطريقِ الهَنْدَسَةِ: أن يُجْعَلَ المالُ كلُّه خَطَّ أب، ويُقَسَّمَ ثلاثةَ أقسامٍ متساوية، هي خطوطُ أح حد دب، ثمَّ ناخذُ خطَّ أح، ونقتطعُ منه بمقدارِ أهـ نسمِّيه، ونُقَسِّمُ الباقيَ بقسَمْينِ متساوِيَيْنِ، وهمَا خَطَّا هو وج، فيُعْطِي زيدًا النصفَ، وعمرًا خطَّ هو يبقَى منه خطُّ وح، وإذَا كانَ خطُّ أح نصيبًا وقسَمْينِ متساوِيَيْنِ، كانَ خطُّ ح ب نَصِيبَيْنِ وجملةَ أربعةِ أقسامٍ متساويةٍ؛ إذا ضَمَمْنَا إليه القِسْمَ الثَّاني من خطِّ أج، كانَ المبلغُ نصيبَيْنِ وخمسةَ أقسامٍ؛ يقَسَّمُ بينَ البنينَ، لابنينِ نصيبانِ، وللثالثِ خمسةُ أقسام؛ فَبَانَ أنَّ النصفَ الَّذي اقتطعْنَاه خمسةٌ، والقسمانِ الباقيانِ منهُ سَهْمانِ، فجميعُ خطِّ أح سبعةٌ، وهو ثلثُ خطِّ أب، فخطُّ أب أحدٌ وعشرون، وهو صورتُه أهـ وح د، وخمسةٌ لزيدٍ، يبقَى اثنانِ: أحدُهما لعمرو، ويبقى واحد يضمُّها إلى أربعةَ عشرَ؛ يكونُ خمسةَ عشرَ للبنينِ؛ لكلِّ واحدٍ خمسةٌ. مسألةٌ: أربعةُ بنينَ، وأوْصَى لزيدٍ بمثلِ نصيبِ أحدِهم، ولعمرو بربع ما بَقِيَ منَ الثُّلُثِ بعد النصيبُ بأحدِ أربعةِ أسهمٍ؛ لقولهِ: "بربعَ ما بَقِيَ" ويزيدُ عليه النصَيبُ واحداً، ويجعلُ الخمسةُ ثُلُثَ المالِ، فندفعُ منها سهماً بالنَصيب إلَى زيدٍ، وسهمًا بربِعِ ما تبقَّى إلى عمرو، تبقَى ثلاثةٌ، نُضمُّها إلَى ثلثي المالِ عَشَرة، تبلغُ ثلاثةَ عشر، وكان ينبغي أن يكونَ أربعةٌ، فزادتْ تسعةٌ، وهو [الخطأ] (¬1) الأوَّلُ. ثمَّ تُضَعِّفُ ما كنَّا أخذنَاه أولاً، فنأخذُ ثمانيةً، وتزيدُ عليها النصيبَ مثلَ ما ذكرنَاهُ ¬
أولاً، وهو واحدٌ، ونجْعَلُ التسعةَ؛ ثُلُثُ المالِ: واحداً منها لزيدٍ، وسهمانِ هما ربعُ البَاقِي لعمرو؛ يبقَى ستةٌ، نضمُّها إلَى ثُلُثَي، المالِ؛ تكونُ أربعةً وعشرين، وكانَ ينبغي أن يكونَ أربعةً، فزاد عشرونَ، وهو الخطأ الثَّانِي، والتفاوت بينَ الخطأيْنِ أَحَدَ عَشَرَ، فهُو النصيبُ، ثم نضربُ المالَ الأولَ، وهو خمسةٌ في الخطأ الثَّانِي، وهو عشرونَ؛ تكونُ مائةً؛ ونضربُ المالَ الثَّاني، وهو تسعةُ في الخطأ الأوَّلِ، وهو تسعةٌ؛ يكونُ أحداً وثمانينَ، والتفاوتُ بينَ المبلَغَيْنِ تسعة عشر (¬1)، فهُو ثلثُ المالِ: لزيدٍ منه أحدَ عشرَ، يبقى ثمانيةُ، ربعُها لعمرو سهمانِ، يبقى ستةٌ، نضمُّها إلى مائةٍ وثلاثينَ، يكونُ أربعةٌ وأربعينَ؛ لكلِّ واحدٍ أحدَ عشرَ بثلثِ النصيب، وتسمَّى هذه الطريقةُ الجامعَ الأكبرَ مِن طرق الخطائين. وبطريقةِ المقاديرِ؛ نأخذُ ثلثُ المَالِ، وتُسْقِط منه نصيبًا لزيدٍ، يبقى منه مقدارٌ، وقدْ بَقِيَ من المالِ ثلثاه، فنصرفُ من كلِّ ثلثٍ نصيبًا إلى ابنٍ؛ يبقَى من كلِّ ثلثٍ مقدارٌ، ويُعْلَمُ أنَّ عمرًا لاَ يستحقُّ إلاَّ ربعَ مقدارِ، فجميعَ الباقِي مقدارانِ، وثلاثةُ أرباعٍ: مقدارٌ يكونُ للابنينِ اللَّذَيْن لَمْ يأَخُذَا شيئاً، فيكونُ النصيبُ مقدارًا وثلاثةَ أثمانِ مقدارٍ، والنصيبُ منه مقدارٌ وثلاثةُ أثمانِ مقدارٍ، نبسطُها أثمانًا؛ فيكونُ الثُّلثُ تسعةَ عشرَ، والنصيبُ أحدَ عشرَ، وبطريقةِ الدينار والدِّرْهَمِ: نجعل المالَ ديناراً، ومن الدراهمِ عدداً له ربعٌ، وليكنْ أربعةَ دراهم، ولنصرفِ الدينارُ بالنصيبِ إلى زيدٍ، ودرهماً إلى عمرو، ويبقَى ثلاثةُ دراهمٍ، نزيدُهَا على ثلثَيْ المالِ؛ يبلغُ دينَارين وأحدَ عشرَ درهماً، يعدلُ أربعةَ دنانيرِ [فنلقَى دينارين بدينارين] (¬2) يبقى ديناران في مقابلةِ أحدَ عشرَ درهماً، فالدينارُ الواحدُ يعدلُ خمسةَ دراهم ونصفَ درهم، وكنَّا جعلنَا الثلاثَ دينارًا وأربعةَ دراهم، فهوَ إذن تسعة دراهم ونصف، نبسطُها أنصَافًا؛ يكون تسعةَ عشرَ، فهي الثلث والدينارُ الَّذي هو النصيبُ أحدَ عشرَ. مسألةٌ: أبوان وبنتانِ، وأوصَى لزيدٍ بمثلِ أحدِ الأبَوَيْنِ، ولعمرو ثلاثةِ أخماسِ ما يبقَى من الثلثِ: استخراجُهَا بطريقةِ الحشْوِ أن يقالَ: مسألةُ الورثةِ من ستَّةٍ؛ تزيدُ عَلَيْها مثلَ نصيب أحدِ الأبوَيْن تبلغ سَبعةً، تُضْرَبُ في مَخْرَجِ الأخماسِ؛ يكونُ خمسةً وثلاثينَ، يسقُطُ منها الحاصلُ من ضرب الأجزاءِ المُوصَى بها بَعْد النصيب، وهي ثلاثةٌ في النصيبِ، وهو واحدٌ؛ يكون ثلانةَ [نسْقِطُها من الخمسةَ والثلاثين] (¬3)، يبقى اثنان وثلاثون فهي ¬
فصل
ثلثُ المالِ، فإنْ أردْنَا النصيبَ، أخذْنَا سهماً، وضرَبْنَاهُ في مَخْرَج الأخْمَاسِ؛ يكونُ خمسةً، نضربُها في مخرج الثلثِ، يكونُ خمسةَ عشر، نُسقِطُ منها ما أسقطْنَا من الأوَّلِ، يكونُ اثني عشَرَ، فهو النصيب، فإذا دَفَعنَا اثني عشرَ إلَى زيدٍ، يبقى من الثلثِ عشرون تدفع ثلاثةَ أخماسِه إلَى عمرو، يبقى ثمانيةٌ، نضمُّها إلَى ثلثي المالِ أربعةِ وستينَ؛ يكونُ اثنين وسبعينَ؛. لأحدِ الأبَويْنِ منهَا السدسُ اثنا عشرَ؛ كالنَّصيبِ المفروضِ. وبحساب الجَبرِ: نأخذُ ثلثَ المالِ، ونُسْقِطُ منه نصيبًا؛ يبقَى ثلثُ مالٍ غيرَ نصيبٍ، نُسْقِطُ ثلاثةَ أخماسهِ لعمرو، ويبقى خُمُسَا ثُلثِ المالِ سوى خُمُسَي نصيبٍ، نضمُّها إلَى ثُلُثَي المالِ، يبلغُ ثلثَيْ مالٍ، وخُمُسَيْ ثلثِه سوى خُمُسَيْ نصيبٍ، يعدلُ سهامَ الوَرَثةِ، وهيَ ستةٌ، تُجْبَرُ وَتُقَابلُ؛ فتكونُ ثُلثاً مالِ وخُمُسَا ثلثِه معادلاً لستةٍ أيضاً، وخُمُسَيْ نصيبٍ، فَنَضْرِبُ الستةَ والخمسينَ في أقلِّ عددٍ له خُمسٌ، وهو خمسةٌ؛ يكونُ اثنينِ وثلاثينِ، فهو الثُّلثُ. مسألةٌ: ثلاثةُ بنينَ، وأَوْصَى لزيدٍ بمثل نصيب أحدِهم، ولعمرو بثلثِ ما بَقِيَ منَ الثُّلثِ بعدَ نصفِ النصيب، خُذْ ثلثَ مالٍ، وأَسْقِطْ منه نصيبًا، يبقَى ثلثُ مالٍ سوى نصيبٍ، وأُسْقِطْ منه ثلث البَاقِي بعدَ نصفِ النَّصيب، وهو تُسُعُ مالٍ إلاَّ سُدسَ نصيبِ، فيبقَى تُسُعَا مالٍ إلاَّ خَمْسَةُ أسداسِ نصيبٍ، زِدْه عَلى ثلثَي المال؛ فيكونُ ثمانيةَ أتساع مالٍ إلاَّ خمسةَ أسداسِ نصيبٍ، يعدِلُ ثلاثةَ أنصباءَ فاجبر وقابل تعدل ثمانية أتساع مال ثلاثة أنصباء؛ وخمسةَ أسداسِ نصيبٍ، فاضْرِبْ ثلاثة وخمسة أسداسٍ في تسعةٍ؛ تبلغُ أربعةً وثلاثينَ ونصفاً، أبْسُطْهَا أنصافاً، تكونُ تسعةً وستينَ، فهي المالُ: لزيدٍ منها بالنصيب ستةَ عشرَ، ولعمرو خمسةٌ، وهو ثلثُ البَاقِي من الثلثِ بعدَ نصفِ النَّصيبِ، وهو ثمانيةٌ، يبقَى سهمانِ ردهم على ثُلُثَي، المالِ، يبلغُ ثمانيةً وأربعينَ؛ لكلِّ ابنٍ ستةَ عشرُ كالنَّصيب. فَصْلٌ في الوصيَّةِ بنصيب أَحدِ الورثةِ مع الوصيةِ بجزئين أحدهُمَا بجميع المالِ، والآخرُ بما يبقَى، مثالهُ: بِنْتٌ وَأخٌ، وأوصَى لزيدٍ بمثلِ نصيب أحدِهِما، ولعمرو بربعِ المَالِ، ولثالثٍ بنصفِ البَاقي، يُعَدُّ ذلكَ الحسابُ بطريقِ القياس: أنَّا نعلَمُ أنَّه إذَا أَخَذَ عمروٌ ربعَ المالِ، وزيدٌ نصيبًا، ينبغِي أنْ يكونَ للباقِي نصفٌ، وأَقَلُّ عددٍ لَه نصفُ اثنانِ، وللثالثِ واحدٌ منهِمَا؛ يبقَى واحدٌ، لكلِّ واحدٍ من الوارثين نصف سهمٍ، فعلِمَنا أنَّ النصيبَ نصفُ سهمٍ، فيكونُ البَاقي من المالِ بعدَ الربعِ سهمَينِ ونصفَ سهمٍ، وذلك ثلاثةُ أرباعِ المالِ، تزيدُ عليهِ ثلثَه، وهو خمسةُ أسداسٍ، يبلغُ ثلاثةً وسُدُسَينِ، نبسطهَا أسداسًا، تكونُ عشرينَ: لزيدٍ ثلاثةٌ ولعمرو خمسةٌ يبقَى اثنا عشرَ للثالثِ ستةٌ ولكلِّ واحدٍ من
فصل
الوارثينَ ثلاثةٌ؛ كالنَّصيب المفروضِ، ولو كانتِ الصورةُ بحالِهَا إلاَّ أنَّ وصيةَ عمرو بِخُمُسِ المَالِ، ووصيةَ الثَّالِثِ بِثُلُثِ البَاقِي، فالمالُ خمسةٌ، والنصيبُ وَاحدٌ. فَصْلٌ فيما إذَا كانَ الجزآن مَعَ النَّصيبِ أحدُهُما بعدَ الآخرِ: مثالُة: أمٌّ وعمَّانِ، وأَوْصَى لزيدٍ بمثلِ نصيب أحدِهِم، ولعمرو بربع ما تبقَّى من المالِ بعدَ النصيب ولثالث بثلث ما تبقَّى من المالِ بعدَ ذَلِك والرابع بِنصفِ ما يبقَى بعدَ ذلكَ، نأخذُ مالاً وتُلْقَى منه نصيبًا؛ يبقَى مالٌ إلاَّ نصيبًا، تلقى من هَذا الباقِي ربعُه، يبقَى ثَلاثةُ أرباع مالٍ إِلاَّ ثلاثةَ أرباعٍ نصيب تُلقَي من البَاقِي ثلثُه؛ ويبقَى نصف مالٍ إلاَّ نصفَ نصيبٍ، تُلْقِيَ من البَاقي نصفه، يبقَى ربعُ مالٍ إِلاَّ ربع نصيبٍ تعدلُ ثلاثةَ أنصباءٍ، تُجبرُ، وتُقَابل، فربعُ مالٍ يعدل ثلاثةِ أنصباءٍ، وربعُ نصيبٍ، فنضرب الثلاثةَ والربعَ في أربعةٍ، تكونُ ثلاثةَ عشرَ، النصيبُ منه واحدٌ، يبقَى اثنا عَشَرَ: لعمرو رُبُعُهُ ثلاثةٌ يبقَى تسعةُ، للثالثِ الثلثُ يبقَى ستةُ، للرابعِ نصفُه ثلاثةٌ، يبقَى ثلاثةٌ لكلِّ واحدٍ من الورثةِ واحدٌ؛ كالنصيبِ. مسألةٌ: ثلاثةُ بنينَ، وأوْصَى لزيدٍ بنصيب أحدِهِم، ولعمرو بنصف البَاقِي من الثُّلثِ، ولثالثٍ بثلث الباقي من الثلث بعد ذلك، يجعلُ ثلثُ المالِ ديناراً، ومن الدراهِم عدداً له نصفٌ، ولنصفهِ ثلثٌ، وليكن ستةً، نُعْطِي زيدًا الدينارَ، ونصفَ الدَرَاهِمِ عمرًا، تبقَى ثلاثةٌ نُعْطِي ثلثَها للثالثِ؛ يبقَى سهمانِ، نزيدهُما على ثلثَي، المالِ، وهو دينارانِ، واثنَيْ عشرَ درهماً، تبلغُ دينارَينِ وأربعةَ عشرَ درهماً، وذلك يعدل ثلاثةَ دنانير تُلْقِي دينارَيْنِ بدينارَيْنِ قِصَاصًا، يَبْقَى دينارٌ يعدلُ أربعةَ عشرَ درهماً، وكانَ الثلثُ دينارًا وستةً، فهُوَ إِذَن عشرونَ، والنَّصيبُ أربعةَ عشرَ يدفعُ أربعةَ عشرَ إلَى زيدٍ، تبقَى ستةٌ، لعمرو نصفُهَا، تبقى ثلاثةٌ، للثالث ثلثُها، يبقَى سهمانِ، تضُمُّها إلى ثلثَي المالِ، تبلغُ اثنينِ، وأربعين، لكلِّ ابنٍ أربعةَ عشرَ. فَصْل في الوصيَّة بنصيبَيْنِ مع الوصيةِ بجزءٍ بعدَ كلِّ نصيبٍ: مثالُه: ثلاثةُ بنينَ، وأوْصَى لزيدٍ بمثلِ نصيبِ أحدِهِم، ولعمرو بثلث ما تبقَّى من الثلثِ، ولثالثٍ بمثلِ نصيب أحدِهِم ولرابع بنصف ما تبقَّى من الثلثِ بعْدَ النصيبِ، فأخذ أحدُ أثلاث المال، فتدفع مِنه نصيبًا إلى زيدٌ، يبقَى منه مقدارٌ يدفعُ ثلثُه إلَى عمرو، يبقَى معنا ثلثا مقدارٍ، ونَأخُذُ ثلثاً آخر، فنُدفُع منه نصيبًا إلى الثالثِ، يَبقَى مقدارٌ، يُدفع نصفَهُ إلى الرابعِ، يبقَى نصفُ مقدارٍ، فيضمُّ الباقِي من الثلثِ، وهو مقدارٌ وسدسُ مقدارٍ
فصل
إلى الثلثِ الثالثِ، وهو نصيب ومقدار، يكونُ نصيبًا ومقدارَيْنِ وسُدُسَ مقدارٍ، وذلك يعدل أنصباءِ الورثةِ، وهو ثلاثةٌ تُسقط نصيبًا بنصيبٍ؛ يبقَى مقدارانِ وسدُسُ مقدارٍ، في معادلةِ نصيبَيْن فالنصيب الواحدِ مقدارٌ ونصفُ سدسٍ مقدارٍ، وكنَّا فَرضْنَا كُلَّ ثلثٍ نصيبًا ومقدارًا، فهو إذن مقدارانِ ونصفُ سدسٍ مقْدَارٍ نبسطُهُا بالضَّربِ في اثنَيْ عشرَ، تكونُ خمسةً وعشرينَ، وجملةُ المالِ خمسةٌ وسبعونَ والنَّصيبُ ثلاثةَ عَشَرَ، لزيدٍ ثلاثةَ عَشَر، ولعمرو أربعة وللثالثِ ثلاثةَ عشر، وللرابعِ ستةٌ، وجملةُ ذلك ستةٌ وثلاثون، تَبْقَى تسعة وثلاثونَ للبنينَ، لكلِّ واحدٍ ثلاثةَ عشر؛ كالنصيبِ. ولو كانتِ الصورةُ بحالِها إلا أنَّه أوْصَى للرابع بنصفِ ما تبقَّى من الثلثَيْنِ بعدَ النَّصيبِ الثَّانِي، فنأخذُ ثلثًا، ونجعلُ منهِ نصيبًا لزيدٍ؛ يبقَى مقدارٌ، تَجْعَلُ ثلاثةً لعمرو، ونَأخذُ ثلثًا آخرَ، فتَدْفَعُ نصيبًا منه إلى الثالثِ، يبقَى مقدارٌ نضمُّه إِلى الثلثِ الثالثِ، يبلغُ نصيبًا ومقدارَيْنِ؛ يُدْفَعُ إِلى الرابعِ نصفُه، وهو نصفُ نصيبٍ ومقدار، ويبقَى معنَا نصفُ نصيبٍ ومقدار، وكانَ قدْ بَقِيَ من الثلثِ الأوَّلِ ثلثاً مقدارٍ، يعدِلُ كلُّ ذلك أنصباءَ الورثةِ، وَهِيَ ثلاثةٌ، فَتُلْقِي نصفَ نصيبٍ بنصفِ نصيبٍ؛ يبقَى مقدار وثُلُثَا مقدارٍ في معادلةِ نصيبَيْنِ ونصفِ نصيبٍ، فيكونُ النصفُ ثلَثيْ مقدارِ؛ فإذن كلُّ ثُلُث مقدارٌ، وثُلُثُ مقدارٍ نبسطُهَا أثلاثًا، يكونُ خمسةً، والمالُ خمسةَ عَشَر، والنصيبُ اثنانِ، لزيدٍ اثنانِ، ولعمرو واحدٌ، وللثالثِ اثنانِ، وللرابعِ أَربعةٌ. تبقَى ستَّةُ لِلاِبْنَيْنِ. فَصْلٌ في الوصيَّةِ بالنصيب وبجزءٍ شائعٍ عَلَى شرطِ ألاَّ يضامَ بعضُ الورثةِ، أي: لاَ يدخُلُ النقْصُ علَيْهِ. مثالُه: ابنانِ، وأوْصَى لواحدٍ بربع المالِ، ولآخرَ بنصيب أحدِ الابنَيْنِ عَلَى ألاَّ يضامَ الثَّانِي بالوصيَّتَيْن، هي من أربعةٍ لذِكْره الربعِ: واحدٌ للموَصى له بالربعِ، واثنان للابنِ الَّذي شَرَطَ إلاَّ يضامَ [يبقى] (¬1) واحدٌ للموصَى له الثَّانِي، وللابنِ الثَّانِي لاَ يصحُّ علَيْهِمَا، فَنضْرِبُ اثنانِ في أربعةٍ. مسألة: ثلاثةُ بنينَ، وأَوْصَى من ثلثِ مالهِ لزيد بنصيب أحدهم، ولعمرو بثلثِ ما تبقَّى من الثلثِ (¬2)، وشَرَطَ ألاَّ يضام بَكْرٌ منهم: نأْخُذُ ثلثَ المالِ، ونَدفَعُ منه نصيبًا إِلى زيدٍ؛ يبقَى مقدارٌ، ندْفَعُ ثلثَهُ إِلى عمرو، يبقَى ثلثاً مقدارٍ، نَضُمُّه إِلى الثلثَينِ، وهما نصيبانِ ومقدارانِ، وذلكَ كلُّه يعدل ثلثَ المالِ بتمامِهِ ونصيبينِ، أمَّا ثلثُ المالِ، فهو ¬
فصل
الَّذي توفيه بَكْرَاً غَيْرَ منقوصِ، وأَمَّا النصيبانِ، فهما نصيبَا الابنَيْنِ الآخَرينِ، وذلكَ ثلاثةُ أنصباءٍ ومقْدَارٌ، فَنُسقط نصيبَيْنِ بنصيبَيْنِ، ومقدارًا بمقدارٍ؛ يبقَى نصيبٌ في معادلةِ مقدارٍ، وثلثَيْنِ، فعرَفْنَا أَنَّ النصيبَ مقدارٌ وثلثانِ، وأنَّ الثلثَ مقدارانِ وثلثانِ، نبسطُهِمَا أَثلاثاً، فيكونَ ثمانيةَ، وهي ثلثُ المالِ، والنصيبُ منهما خمسةٌ، وجملةُ المالِ اربعةٌ وعشرون، لزيدٍ خمسةٌ، ولعمرو واحد، ولبكرٍ الَّذي شَرَطَ ألاَّ يُضَامَ ثمانيةٌ تَبْقَى عشرةٌ، للآخرينَ؛ لكلِّ واحدٍ خمسةٌ؛ كالنَّصيبِ. فَصْل في الوصيَّةِ بالنصيبِ مع استثناءِ جزءٍ من المالِ عنْهُ. مِثَالُهُ: ثلاثةُ بنينَ أوْصَى بمثلِ نصيبِ أَحَدِهِم إلاَّ ربعَ جميع المالِ، نأخذُ مالاً ونُسقِطُ منه نصيبًا، يبقَى مالٌ ناقصٌ بنصيبٍ نزيدُ عليه ربعُ المالِ المُسْتَثْنَى، يبلغُ مالاً، ورُبُعَ مالِ إلاَّ نصيبًا وذلك يعدل ثلاثةِ أَنصباءٍ وهي أنصباءُ تُجْبَرُ، وتُقَابَلُ؛ فإذن مالٌ وربعُ يعدلُ أربعةَ أنصباءٍ، نبسطُها أرباعاً، ونقلبُ الاسم، فالمالُ ستةَ عشرَ، والنصيبُ خمسةُ؛ نَدْفَعُ إلى المُوصَى له خمسةً وتسترجع منه رُبُعَ المالِ أربعةً، يبقَى مَعَنَا خمسةَ عشرَ؛ لكلِّ ابنٍ خمسةٌ؛ كالنَّصيبِ. وبطريقة الخطأينِ: يَجْعَلُ المالَ أربعةً، والنصيبَ اثنين، يُدْفَعُ إلى المُوصَى له اثنين، ونَسْتَرْجَعُ رُبعَ المالَ واحداً؛ يبقَى معنا ثلاثةٌ، وكانَ يجبُ أنْ يبقَى ستةٌ؛ ليكونَ لكلِّ ابن مَثلُ النصيبِ، فقدْ نَقَصَ عنَ الواجبِ ثلاثةٌ، وهذا هو الخطأُ الأَوَّلُ. ثم نجعلُ المالَ ثمانيةً، والنصيبَ ثلاثةً، نَدفعُها إليه، ونَسترجِعُ اثنين ربعَ المالِ، يبقَى معنَا سبعةٌ وكانَ ينبغِي أنْ يَكونُ تسعةً، فقد نَقَصَ اثنانِ، وهذا هو الخطأ الثَّانِي. وهما ناقصانِ، فَنُسْقِطُ منَ الأكثرِ؛ يبقَى واحدٌ نحفظُه، ثم نضرِبُ المالَ الأوَّلَ، وهو أَربعةٌ في الخطأ الثَّانِي، وهو اثنانِ، تكونُ ثمانيةً، ونضربُ المالَ الثَّاني، وهو ثمانيةٌ في الخطأ الأوَّلِ، وهو ثلاثةٌ، يكونُ أَربعةً وعشرينَ، فَنُسْقِطُ الأقلَّ من الأكثرِ، يَبْقَى ستةَ عشرَ، نُقَسِّمُهُ على الواحدِ المَحْفُوظِ، يكونُ ستةَ عشرَ، فَهُوَ المالُ، ونضرِبُ النصيبَ الأَولَ، وهو اثنانِ في الخطأ، الثاني يكونُ أربعةَ، والنصيبُ الثَّاني، وهو في الخطإِ الأوَّلِ، وهو ثلاثةٌ، يكونُ تسعةً، نُسْقِطُ الأقلَّ من الأكثرِ، ونقسِّمُ الحاصلَ على الواحدِ المحفوظِ، يكونُ خمسةً، فهُو النصيبُ. وبالدينارِ والدرهم نجْعَلَ المالَ ديناراً، وأَربعةَ دراهم، وَندْفَعُ الدينارَ بالنصيب إلى المُوصَى له، ونُسْتَرْجِعُ منه رُبُعَ جميع المالِ، وهو ربعُ دينارٍ ودرهم، يحصلُ معنَا خمسةُ دراهمَ، [وربع دينار، وذلك يعدل ثلاثة دنانير، ونسقط ربع دينار بربع دينار،
فصل
وتبقى خمسة دراهم] (¬1) في معادلةِ دينارَيْنِ، وثلاثةِ أرباعِ دينارٍ، فإِذا قسَّمْنَا عددَ الدراهِمِ عَلَى عددِ الدنانيرِ، خرجَ الدينارُ خمسةَ أجزاءٍ من أحدَ عشرَ جزءاً، نَجْمَعُ بين هَذَيْن العدَدَيْنِ، يكونُ سِتَّةَ عَشَرَ، فهو المالُ. مَسْأَلَةٌ: ابنٌ، وأوْصَى بمثلِ بنصيبٍ إِلاَّ نصفَ المالِ، نَأْخذُ مالاً ونُسْقِطُ منه نصيبًا، ثمَّ نَسْترجِعُ من النصيب نصفَ مالٍ، يحصُل معنا مالٌ ونصفٌ غيرَ نصيبٍ، يعدِلُ نصيبًا واحداً، تُجْبَرُ وتُقابلُ، فيَكونُ مالٌ ونصفٌ، يعدِلُ نصيبَيْنِ، نبسطُهُمَا أنصافًا ونَقْلِبُ الاسمَ، فيكون المالُ أربعةَ، والنصيبُ ثلاثةً، تدفع إلى المُوصَى له ثلاثة وتُسترجِعُ منه اثنينِ، يبقَى عنده واحدٌ، وهو مثلُ نصيبِ الابنِ ناقصًا بنِصِفْ المالِ. مسألةٌ: ابنٌ، وأوْصَى بنصيب ابنٍ رابعٍ، لو كانَ إِلاَّ عُشْرَ المالِ، نقولُ: لو كانَ البنونَ أَربعةَ، لَقُسِّمَ المالُ بينهمُ على أرَبعةٍ، فنأخذُ مالاً، ونُلْقِي منه نصيبًا، ونسترجِعُ منه عُشْرَ المالِ، يكونُ معنَا مالٌ وعشرُ مالٍ سوى نصيب، يعدِلُ أَربَعةَ أَنصباءٍ فيُجْبَرُ ويُقابلُ؛ فإذن مالٌ وعشرُ يَقابِلُ خمسةَ أنصباءَ، فنبسطُها أَعشارًا، ونَقْلِبُ الاسمَ، فالمالُ خمسونَ، والنَّصيبُ أَحدَ عشرَ، ندْفَعُ إلى المُوصَى له أحدَ عشرَ؛ ونستَرْجِعُ منه عُشْرَ المالِ، وهو خمسةٌ؛ يبقَى للمُوصَى له ستةٌ، ونَأْخُذُ للابن أربعةً وأربعينَ، ولو كانوا أَربعةً، لَأَخَذَ كلُّ واحدٍ أحدَ عشرَ؛ كالنَّصيبِ. فَصْلٌ في الوصيَّةِ بالنصيب، مع استثناءِ جُزْءٍ مِمَّا تبَقَّى من المالِ، هَذا: إِمَّا أنْ يُفْرَضَ مع تَقْييدِ المُوصِي الاستثناَءَ بجزءٍ ممَّا تَبقَّى من المالِ بعْدِ النَّصيب، أوْ معَ التقييدِ بجزءٍ ممَّا تبقَّى من المالِ بعدَ الوصيَّةِ، أو يُفْرَضَ معَ الإِطلاقِ وإهْمَالِ كُلِّ واحدٍ منَ القَيْدَينِ، فهذهِ ثلاثةُ أقسامٍ. أَمَّا القِسْمُ الأوَّل فمثالُهُ: ثلاثةُ بنينَ، وأوْصَى بمثلِ نصيبِ أحدِهِم إِلاَّ ربعَ البَاقِي من المالِ بعدَ النَّصيبِ: نأْخُذُ مالاً، ونُسْقِطُ منه نصيبًا؛ يبقَى مالٌ ناقصٌ بنصيب نَزيدُ علَيه ربعَهُ، وهُوَ الَّذِي يسترِدُّهُ من جملةِ النَّصيبِ ورُبُعُهُ ربعُ مالٍ إِلاَّ ربعُ، نصيبٍ، فيَبلُغُ مالاً وربعَ مالٍ إِلاَّ نصيبًا، ورُبُعُ نصيبٍ، يعدلُ ثلاثةَ أنصباءٍ، فيُجْبَرُ، وُيقَابَل، فإِذن مالٌ وربعُ مالٍ يَعْدِلُ أربعةَ أنصباءٍ ورُبُعَ نصيبٍ، فنبسطُها أرباعًا، وُيقْلَبُ الاسمُ، فالمَالُ سبعةَ عَشَرَ، والنصيبُ خمسةُ نَدْفَعُ إِلى المُوصَى له خمسةً، يبقَى اثنا عشرَ، يَسْتَرجِعُ من الخمسةِ ربعَ ¬
البَاقِي، وهو ثلاثةٌ، يبقَى عندَ المُوصَى لَه سهمانِ، ونجْعَلُ للبنينَ خمسةَ عشرَ، لكلِّ واحدٍ خمسةٌ، وبالمقاديرِ نَدْفَعُ إِلى المُوصَى له نصيبًا، يبقَى مقدارٌ، نَسْتَرْجِعُ رُبُعَهُ من النصيبِ، ونزيده على المقدَارِ، يبلغُ مقداراً وربعَ مقدار، يعدلُ أنصباءَ الورثةِ، وهِيَ ثلاثةٍ، فالنَّصيبُ ثلثُ مقدارٍ، وثلثٌ وربعُ مقدارٍ؛ لِأنَّه إِذا قُسِّمَ المقدارُ والربعُ عَلَى ثلاثةٍ، يخرجُ من القسمةِ ما ذكرنَا، والمالُ مقدارٌ وثلثُ مقدارٍ وثلثُ وربعُ مقدارٍ نبسطُها بأجزاءِ ثلثِ الربعِ، وذلك بالضَّرْبِ في اثْنَيْ عشر، فيكونُ المالُ سبعةَ عشرَ، والنصيبُ خمسةٌ. وبالقياسِ: علمنَا أَنَّ الباقيَ، من المالِ بعدَ النصيب عددٌ له ربعٌ فيكونُ أربعةً، وقدِ استثنَى الربعُ، فنزيدُ ربعُ الأربعةِ علَيْهَا، يكونُ خمسةً، للبنينَ لكلِّ واحدٍ سهمٌ وثلثانِ؛ فعلمنَا أنَّ النصيبَ سهمٌ وثلثانِ، فنزيدُه علَى الأربعةِ، يبلغُ خمسةً وثلاثينَ، نبسطُهَا أثلاثاً فالنصيب خمسةٌ، والمال سبعةَ عشرَ. مسألةٌ: الصورةُ بحالِها, لكنَّه قَالَ: إلاَّ ربُعَ البَاقِي من المالِ بعدَ نِصْفِ النصيبِ، نَأخذُ مالاً ونُسْقِطُ منه نصيبًا، يبقَى مالٌ ناقصٌ بنصيب، نزيدُ علَيه رُبُعَهُ بعدَ نصفِ النَّصيب، وهُوَ رُبُعُ المالِ إلاَّ ثُمُنَ نصيبٍ، فيبلغُ مالاً ورَبُعَ مالٍ إلاَّ نصيبًا، يعادلُ أربعةَ أَنصباءٍ وثُمُنَ نصيب، فَنَبْسُطُهَا أثْمَانًا، وَنَقْلِبُ الاسمَ، فالمالُ ثلاثةٌ وثَلاثونَ والنصيبُ عَشَرةٌ [تخرِج عشرة] (¬1) وننظر في الباقي من المالِ بَعْدَ نِصْفِ العشرةِ، فإذا هو ثمانيةُ وعُشرونَ، نسترجِع رُبُعَهَا، وهو سبعةٌ من العَشَرَةِ، يبقَى للمُوصَى له ثُلُثهُ الباقي ثلاثونَ، لكلِّ واحدٍ عشرةٌ؛ كالنَّصيب. مسألةٌ: زوجَةٌ، وأَبوانِ، وابنانِ، وأَوْصَى بمثلِ نصيبِ أحدِ الابنَيْنِ إِلَّا جزءَ ما تَبقَّى من المالِ بعدَ النَّصيب: مسألةُ الورثةُ تصحُّ من ثمانيةٍ وأربعينَ، ونجعلُ الوصيةَ ديناراً، نضمُّهَا إلى هذِهِ السِّهام، ثم نُسقِطُ نصيبَ ابنٍ، وهو ثلاثةَ عشرَ سهماً، يبقَى خمسةٌ وثلاثونَ سهماً وديناراً، نَأخُذُ خمُسَهَا، وهو سبعةُ أسهمٍ، وَخُمُسُ دينارٍ، ونُسْقِطُة من نصيب الابْنِ، يبقَى ستةُ أَسهِم إِلاَّ خُمُسَ دينارٍ، وذلِك (¬2) يعدل المضمومِ إلى السِّهام، فَإذَا أَجْبَرَنا وقابلَنَا، عادلَتْ ستةُ أسهمٍ ديناراً، وخُمُسَ دينارٍ، فيكون الدينارُ الواحد خمسةَ أسهمٍ، فتبينَّا أنَّ المضمومَ إِلى سهام الورثةِ خَمسةٌ، وأنَّ جميع المالِ ثلاثةٌ وخمسونَ سهماً، يخرجُ منها ثلاثةَ عشرَ فيبقَى أربعونَ نَسترجعُ من الثلاثةَ عشرَ مثلَ خُمُسِ الأربعينَ، وهو ثمانيةٌ؛ يبقَى مع المُوصَى له خمسةُ أسهم، والبَاقِي ثمانية وأَرْبعُونَ للورثَةِ. ¬
القسم الثَّانِي: ما إِذَا قُيِّدَ الاستثناءُ بِجُزْء ممَّا يبقَى منَ المالِ بعدَ الوصيةِ، قَالَ المعنيُّون بهذَا الفَنِّ: الجَزءُ من باقِي المالِ بعدَ الوصيةِ مثْلُ الجزءِ الَّذي يقعُ تَحْتَه من باقِي المالِ بعْدَ النَّصيبِ، فعُشْرُ البَاقِي بَعْدَ الوصيَّةِ كتسع الباقِي بعدَ النَّصيبِ [وتسع الباقي بعد الوصية، كثمن الباقي بعد النصيب] (¬1) وعلَى هَذَا القياسُ؛ حتَّى ينتهيَ إلَى ثلثِ البَاقِي بعدَ الوصيَّةُ، فهُوَ كنصفِ الباقِي بعدَ النَّصيب، وخرَّجُوا صُوَرَ هذَا القِسْمِ بطريقَيْنِ. أَحَدُهُمَا: البناءُ علَى القاعدةِ المذْكُورَةِ؟ فإذَا أوْصَى، وله ثلاثةُ بنين بنصيب أحدِهِمْ إلاَّ [ربع ما يبقى من المال بعد الوصية، فهو كما لو أوْصَى بنصيب أحدهم إلاَّ] (¬2) ثُلُثَ ما يبقَى بعدَ النَّصيب، فَنأْخُذُ مالاً، ونُلقِي منه نصيبًا؛ يبقَى مالٌ ناقصٌ بنصيب نزيدُ عليه ثلثَه؛ للاستئناءِ، وهو ثلثُ مالٍ إلاَّ ثلث نصيبٍ، يبلغُ مالاً وثلثَ مالٍ إِلاَّ نصَيبًا وثلثَ نصيبٍ، يعدلُ ثلاثةَ أنصباءٍ، فيجبرُ ويقابل؛ فإذن مالٌ وثلثُ مالٍ يَعْدِلُ أربعةَ أَنصباءٍ وثُلُثَ نصيبٍ، نبسُطُهَا أثلاثاً ونقلبُ الاسمَ، فالمالُ ثلاثةَ عشر والنصيبُ أَربعةٌ نُدْفَعُ إِلى المُوصَى له أَربعةً، ويبقَى تسعة تَستردُّ من الأربعةِ ثلثَ التِّسعَةِ الباقيةِ، يبقَى عندَه سهمٌ، ويحصلُ للبنينَ اثنا عشرَ؛ لكلِّ واحدٍ أربعةٌ، فالَّذي أَخذَه المُوصَى له مثلُ النصيب إِلاَّ ثلثَ البَاقِي بعدَ النَّصيب، ومثلُ النَّصيبِ إِلاَّ ربعَ البَاقِي بعدَ الوصيَّةِ؛ لأنَّ البَاقِيَ بَعدَ الوصيَّةِ اثنَا عشرَ، وربعُهَا ثَلاثةٌ. والثاني: أنَّا نَعلَمُ أَنَّ باقيَ المالِ في الصورةِ المذكورةِ بعدَ الوصيَّةِ أنْصِبَاءُ البنينَ، وهي ثلاثة وربعُهَا ثلاثةُ أَرباعِ نصيبٍ، فهو المُسْتَثْنَى من نَصيبِ أَحدِ البنين، يبقَى ربعُ نصيبٍ، وهو الوصيةُ، فَنَزِيدُ على أنضباءِ البنينَ، تبلغُ ثلاثةَ أَنصبَاءٍ ورُبُعَ نصيبٍ، نَبْسُطْهَا أَرباعًا بالضَّرْبِ في أَربعةٍ، يكونُ ثلاثةَ عشرَ، والوصيةُ سهْمٌ. القسمُ الثالثُ: ما إِذَا إَطلقَ الاستثناءَ، فقالَ: أوصيتُ لَه بمثلِ نصيب فُلاَن إِلاَّ رُبُعَ ما تَبقَّى من المالِ، ولم يقلْ بعدُ النَّصيبِ، ولاَ بعدَ الوصيَّةِ، حكى الأُسَتاذُ أبو منصورٍ فيه وجهَيْنِ عن الأصحَابِ: أحدُهما: أنَّه يُحْمَلُ علَى البَاقِي بعدَ النَّصيبِ، لِأَنَّ المذكور، هو النصيبُ، فينصرفُ الاستثناءُ إليه. والثَّاني: وبه قَالَ أكثُرهم: أنَّه يُحْمَلُ علَى البَاقِي بعدَ الوصيَّة؛ لأنَّ البَاقِي بعدَ الوصيَّةِ أكثرُ من البَاقِي بعدَ النَّصيبِ، فيكون جزءُ المُستثنَى من النَّصيبِ أَكثرَ؛ فيكونُ البَاقِي للمُوصَى له أقلَّ، وقد تقرَّر تنزيلُ الوصَايَا والأقاريرِ علَى الأقلِّ المستيقَنِ، ثمَّ ¬
فصل
طريقِ الحِساب عَلَى ما سبقَ، هذا هو النقلُ في الأقْسَام الثلاثةِ، وكان يحتمل أَن يُجْعَلَ الاستثناءُ منَ البَاقِي بعدَ الوصيَّةِ صريحًا كالاستثناءِ من الَبَاقِي بعدَ النَّصيب [لأن الموصى به هو النصيبُ، فسواءَ، قال بعد الوصية أو بعد النصيب] (¬1) إلاَّ، أنَّهم قالُوا: لفظُ "النَّصيبَ" لا يَحْتَمِلُ إِلاَّ ما يأخُذُه الوارثُ ولفظُ "الوصيةِ" يَحتَمِلُ ما دونَه، فإذَا صحَّحْنا والمسألَةَ عَلَى ما مضَى، فقدْ وفيْنَا بالمستيقَنِ من قضيةِ اللفْظِ، فصارَ كَمَا لَوْ أَوصَى بمالٍ، ينزَلُ علَى الأقلِّ. فَصلٌ " في الوصيَّةِ بالنصيبِ مع استثناءِ جزءٍ ممَّا تبقَّى من جزء من المالِ". هذا يَجيءُ فيه الأَقْسَامُ المبينةُ في الفصلِ السابِقِ، والقسمُ الثَّالثُ فيه الوجْهَانِ، وإنْ صرَّحَ بذِكِرِ النصيب، فأوْصَى، وله ثلاثةُ بنينَ بمثلِ نصيبِ أحدِهِم إلاَّ ثلثَ ما تبقَّى من الثُّلثِ بعدَ النَّصيبِ، فنأخذُ ثلثَ مالٍ وتلقِيَ منه نصيبًا؛ يبقَى ثلثُ مالٍ سوى نصيبٍ، نزيد علَيْهِ ثلثَه، وهو تُسُعُ مالٍ، إلاَّ ثُلُثَ نصيبِ الاستثناءِ، فيبلغُ أَربعةَ أَتْساعِ مالٍ سوى نصيبٍ، وثلثَ نصيبٍ، فنزيدُه علَى ثلثَي المالَ، كمال وتسعِ مالٍ سوَى نصيبٍ، وثلثِ نصيبٍ، يعدلُ أنصباَءَ الورثةِ، وهيَ ثلاثة فتُجْبَرُ وتُقَابلُ: فمالٌ وتسعُ مالٍ يعدلُ أَربعةَ أَنصباءٍ وثلثَ نصيبٍ، نبسطُهَا أَتساع، وتقلب الاسمَ فالمالُ تسعةٌ وثلاثونَ، والنَّصيبُ عشرةٌ نأخذُ الثلث ثلاثة عشر، فنسقطُ منه نصيبًا، وهو عشرةُ تَبْقَى ثَلاثةٌ، نسترْجِعُ ثلثَها بالاستثناءِ، يبقَى تسعةٌ، نُسقِطُها من المالِ؛ يبقَى ثلاثونُ لكلِّ ابنٍ عشرةٌ. وبطريقٍ آخَرَ، نقولُ: ثلثُ المالِ نصيبٌ وثلاثةُ أسهمٍ، نَدفعُ النَّصيبَ إِلى المُوصَى له، ونَستردُّ منه بقدرِ ثلثِ البَاقِي، وهُوَ واحدٌ، ونضمُّه إلى الثلاثةِ الَّتي معنَا، يكونُ أَربعةً نضمُّها إلى ثلثَي، المالِ، وهو نصيبانِ، وستةُ أَسهمٍ، يبلغُ نَصِيبَيْنِ وعشرةَ أَسهم، [تدفع النصيبين إلَى ابنين، تبقى عشرة للابْنِ الثالثِ، فعرفنا أن النصيب عشرةَ أسهمُ] (¬2) وأن الثلث ثلاثة عشرَ سهماً. ولو كانتِ المسألةِ بِحَالِها، إلاَّ أَنَّ البنينَ خمسةٌ، فالخطائين تأخذُ ثلثَ المالِ اثنينِ مثلاً، وتجعلُ النصيبَ سهماً، فنسترجعُ ثلاثة من النَّصيب، ونضمُّ السَّهمَ، والثلُثَ إلى ثلثَي المالِ، وهو أَربعةٌ، تبلغُ خمسةً وثلثًا، وكانَ ينبغِيَ أنْ يكونَ خمسةً؛ ليكونَ لكلِّ ابنٍ كالنَّصيب، فأخطَأنا بثلثِ سهمٍ، وهو الخطأُ الأوَّلُ. ثم نَجعلُ ثلثَ المالِ ثلاثةً، والنصيبَ سهمَيْنِ، يبقَى سهمٌ نسترْجِعُ ثلثَه من ¬
النَّصيب، ونضمُّ السَّهْمَ، والثَّلثَ إلى ثلثَي، المالِ، وهو ستةٌ يبلغُ سبعةً وثلثاً، وكانَ ينبغِي أَن يكونَ عشرةً، فقدْ نقَصَ اثنانِ، وثلثانِ، وهُو الخطأُ الثَّانِي. وهذا ناقصٌ والأَولُ زائدٌ، نجمعُ بينَهُمَا، تبلغُ ثلاثةَ نحفظها، فهي المقسومُ علَيْهَا، ثم نَضْربُ ما أخذْنَاه أوَّلاً، وهُوَ الاثنانِ من الخطإِ الثَّاني، يبلغ خمسةً وثلثًا، ونضْرِبُ ما أخذْنَاه ثانيًا، وهو ثلاثة (¬1) في الخطأ الأوَّلِ، وهو ثلثٌ، يكونُ سهماً نجمع بينهُمَا، يكونُ ستةً وثلثًا، نبسطُها أثلاثاً، يكونُ تسعةَ عشرَ، فلو قَسَمْنَاها على الثلاثةِ المحفوظةِ، خرجَ من القسمةِ ستةٌ وثلثٌ، واحتَجْنا إلَى البَسط ليزولَ الكَسرُ، فينزِل القسمةُ، ونقول: الثلث تسعةَ عَشَرَ، ونَضْرِبُ النَّصيبَ الأوَّلَ في الخطإِ الثَّاني، يكونُ اثنين وثلاثينَ، والنَّصيبَ الثَّانِيَ في الخطإِ الأوَّلِ وهو ثُلُثٌ، يكونُ ثَلاثينَ، ومجموعُهُمَا ثلاثَةُ وثلثٌ، نبسطُها أثلاثاً؛ ونترك القسمة، فالنصيبُ عشرةٌ، نأخذُ ثلثَ المالِ تسعةَ عشرَ، ونُسقُطُ منه النصيبَ، وهو عشرةٌ تبقَى تسعةٌ، نسترْجِعُ ثلثَها من النَّصيب، يبقَى عند الموُصِي سبعةٌ، نسقِطُها من جملةِ المَالِ؛ يبقَى خمسةٌ للبنينَ. مسألةٌ: أربعة بنينَ، وأوْصَى بمثلِ نصيب أحدِهِم، إلاَّ رُبُعَ ما بقِيَ من الثُّلثِ بعدَ ثلثِ النَّصيب، نَأْخُذُ ثلثَ مالٍ، ونُسقِطُ منهَ نصيبًا يَبقَى ثلثَ مالٍ سوء نصيبٍ، ثُمَّ تسترجعُ من النصيبِ ربعَ البَاقِي من الثلثِ بعدَ ثلثِ النصيبِ، وهو نصف سدسِ مالٍ إلاَّ سدُسٍ (¬2) نصيبٍ، ونُضَمُّ إلى مَا معنَا، تبلغُ خمسةَ أجزاءٍ مَن اثنَيْ عشرَ جزءاً من مالِ إِلاَّ نصيباً، وجزءٌ أن اثنَيْ عشرَ جزءاً من نصيب، نزيدُه علَى ثُلثَي المالِ، يبلغُ مالاً وجزءًا مِنِ اثْنَيْ عشرَ جزءاً من مالِ إِلاَّ نصيبًا، وجزءًا من اثنَيْ عشرَ جزءاً من نصيبٍ يعدلِ أنصباءِ الورثةِ، وهِيَ أربعةُ، تُجْبُرُ وتقابلُ فإذن مالٌ وجزءٌ منْ اثنيْ عشرَ جزءًا من مالٍ يعدل خمسةِ أنصباءِ وجزءًا من اثني عشرَ جزءًا من نصيبٍ، ثم إنْ شئتَ، فقلْ: نبسطُها بأجْزَاءِ اثنَيْ عشرَ، ونقلب الاسمَ، فالنصيبُ ثلاتَةَ عشرَ، والمالُ أحد وستون وإن شئتَ، فقلْ: تضربُ خمسةً وجزءًا من اثني عشرَ في اثني عشرْ يبلغُ أحدَ وستين، فهو المالُ، ولكنَّ ليسَ لأحَدٍ وستينَ ثلثٌ؛ فنضربها في ثلاثةٍ، تبلغ مائةً وثلاثةً وثمانينَ، فهوَ المالُ والنصيبُ؛ تسعةٌ وثلاثونَ، نأخذ ثلثَ المال؟ وهو أحدٌ وستونَ، ونَعزِل منه تسعةً وثلاثين للنَّصيبِ، ثم نَسترْجِع منه اثنَيْ عَشَرَ؛ لأنَّ البَاقِى من الثُّلُثِ بعدَ ثلثِ النصيب ثمانيةٌ وأربعونَ، وربعُهُا اثنا عشرَ يبقَى للمُوصَى له سبعةٌ وعشْرونَ، نُسقِطها من المالِ، يبقَى مائةٌ وستةٌ وخمسونَ؛ لكلِّ ابنٍ تسعةٌ وثلاثونَ. فَرْعٌ: لو أوْصَى بمثلِ نصيبِ أحدِ الورثةِ إلاَّ ثُلُثَ ما يبقَى، ولم يزدْ علَيْه، فعنْ ¬
أبي حنيفةَ: أنَّه يُجْعَلُ كأنَّه قَالَ: إلاَّ ثلثَ ما يبقَى من الثلثِ بعدَ النصيب، وعندنَا: كأنَّه قال: إلاَّ ثلثَ ما يبقَى من المالِ بعدَ الوصيةِ؛ لأنَّه الأقلّ المستيقَنُ، فإذَا كانَ له ابنانِ، والصورةُ هذه، فنحنُ نعطِيه واحداً من تسعةٍ؛ لأنَّ لكلِّ واحدٍ من الابنينِ والمَوصَى له ثلاثةً، ثم نسترجعُ منه بقَدْرِ ثلثِ الباقِي، وهو سهمانِ، يبقى معنا واحدٌ، وعلَى قولهم يُعْطَى تمامُ الثلثِ؛ لأنَّه إِذَا أعْطِيَ ثلاثةً، لم يبقَ من الثلثِ شيءٌ؛ حتَّى يستثنى ويضمَ إلى ما للورثة، ذَكَرَ الفرعَ هكذا صاحبُ "التَّتِمَّةِ" وفيه خَبْطٌ، واللهُ أعلمُ. وأَمَّا إِذَا صرَّح بذكْر الوصيةِ، والباقِي من الجزءِ فقَال، وله ثلاثةُ بنينَ: أوْصَيْتُ بمثلِ نصيبِ أحدِهم، إلاَّ ثُلُثَ ما يبقَى من الثلثِ بعدَ الوصيةِ، فطريق الحساب فيهِ عَلَى قياسِ ما سبَقَ؛ لكنْ يستعملُ بدلَ ثلثِ البَاقِي من الثلثِ بعد الوصيةِ؛ نصف البَاقِي من الثلثِ بعدِ النصيب؛ كما مرَّ في الفصلِ السَّابِقِ، ونجْرِي في الصورةِ المذكورةِ طريقَيْنِ: إحداهما: طريقةُ المقاديرِ: فنأخُذُ ثُلُثَ، ونُسقطُ منه نصيبًا، يبقَى ثلثُ مقدارٍ، فنزيدُ علَيه نصفَه؛ للاستثناءِ يحصلُ معَنَا مقْدَار ونصفُ مقْدارٍ، فندفع من كلِّ ثلثٍ نصيبًا إلى أنْ يبقَى من كلِّ ثلثٍ مقدارٌ نضمَّه إِلى ما معنَا من الثلثِ الأَوَّلِ، فيحصُلُ معنَا ثلاثةُ مقاديرَ ونصف مقدارٍ، فهُو للابنِ الثالثِ، فعلْمنَا أنَّ النصيبَ ثلاثةٌ مقاديرَ ونصفُ مقدار، وكانَ الباقِي من الثلثِ بعدَ النصيب مقدارُ، فيكونُ جميعُ الثلثِ أربعَةَ مقاديرَ، ونصفَ مقدارٍ، نبسطُها أنصافًا، تبلغُ تسعةَ وجميعُ المالِ سبعةُ وعُشرون، والنصيبُ سبعةٌ، فإذَا أخذَنا ثلثَ المالِ، وهو تسعةٌ عزْلَنا (¬1) منه سبعة، تبقى اثنانِ، نَسترجِعُ نصفَها من النصيبِ، وهو واحدٌ (¬2) يبقَى مع المُوصَى له ستةٌ، ومعَ البنينُ أَحدٌ وعشرونُ، لكلِّ واحدٍ سبعةٌ، كالنَّصيب، وإِذَا خرجتِ المسألةُ، هكذا، فما أخذَه الموصَى له، كما أنَّه مثلُ النصيب إِلاَّ نِصْفَ ما يبقَى من الثلثِ بعدَ النصيب، فهو مثلُ النصيبِ وإلاَّ ثلثَ ما يبقى من الثلثِ بعدَ الوصيَّةِ؛ لأَنَّ الثلثَ تسعةٌ، والوَصيةَ ستةٌ، فالبَاقي ثلثة، والستَّةُ ناقصةٌ عنِ النصيبِ بثلث الثلاثةِ. والثانيةُ: أنْ يقَالَ: ثلثُ المالِ نصيبٌ ناقصٌ، وثلاثةُ أسهم فجميع المالُ ثلاثةُ أنصباء وتسعةُ أسهم، لكن تعلمُ أَنَّه لا نقصانَ في نصيبَيْنِ؛ لأنَّهما لابْنَيْنِ، وإنَّما النقصانُ في نصيب المُوصَى له، فرجعتِ السِّهام إلَى سبعةٍ، ندفعُ نصيبَيْنِ كامَلَيْنِ إِلَى اثنينِ، يبقَى سبعةُ أَسهم، نأخذُها للابن الثَّالث، فعرْفَنا أنَّ النصيبَ الكاملَ سبعةُ أَسَهمٍ، وأَنَّ النصيبَ النَّاقصَ ستةٌ، لأنَّه كَمُلَ بسهم فإذن الثلثُ الَّذي قلْنا: إِنَّه نصيبٌ ناقص وثلاثةُ أسهمٍ، والمالُ سبعةٌ وعشرونَ، وهذه الطريقةُ حكاها إمامُ الحرَميْنِ عن ¬
فصل
الصيدَلاَنِيِّ وذَكَرَ أَنَّ الصيدلانِيَّ وغيَرَه، لم يتعرَّضُوا للوجُوهِ الثلاثةِ التي فصَّلنَاها في الاستثناء ولا بدَّ منه، وربَّمَا اعتضدْ بما حكاه الاحتمالُ الذي قدَّمناه في أنَّ التصْريحَ في الوصية لهو بالنصيب. فَصْلٌ في الوصيَّةِ بجزءٍ من المالِ وبالنَّصيبِ مع استثناءِ جزءٍ من باقِي المالِ البَاقِي من المالِ، قد يقيد بما بعد النصيب وقد يقيَّدَ بما بعدَ الوصيةِ، وقدْ يُطْلَق كما مرَّ؛ فإنْ جرَى ذكرُ النصيب؛ بأنْ أوْصَى، وله ابنان، لزيدٍ بربع المالِ، ولعمرو بمثلِ نصيبِ أحدِهِما، إِلاَّ ثُلُثَ ما تبقَّى من المالِ بعدَ النصيبِ، فنأخذُ مالاً، ونجعلُ رُبُعَهُ لزيدٍ، يبقى ثلاثةُ أرباع مالٍ، نَصْرِفُ منْهَا نصيبًا إِلى عمرو، يبقَى ثلاثةُ أَرباعِ مالٍ إِلاَّ نصيبًا، نسترجِعُ من النصيب مثلَ ثلثِ هذا الباقي، وهو ربعُ مالٍ إلاَّ ثلثَ نصيبٍ، نزيدُه على ما معنَا يبلغُ مالاً إِلاَّ نصيبًا، وثُلُثَ نصيب، وذلِكَ يعدُلُ نصيبَيْنِ، فتُجْبَرُ وتُقَابلُ: فإذن مالٌ يعدلُ ثلاثةَ أَنصباءٍ، وثلثَ نصيبٍ، فنبسطُها أثْلاثاً، وتقلب الاسم، فالمالُ عشرةٌ والنصيبُ ثلاثةٌ، نصرفُ ربعَ العشرةِ إِلى زيدِ، يبقى سبعةٌ ونصفُ، نعزِلُ منها ثلاثةً لعمرو يبقَى أربعةٌ ونصفٌ نرْجِعُ ثلثَها من الثلاثةِ، وهو واحدٌ ونصفٌ، ونضمُّه إِلى ما معنَا يبلغُ ستةً، لكلِّ واحدٍ ثلاثةٌ كالنصيب، فإِنْ أَردْنَا إِزَالةَ الكسرِ، بسطْنَا العشرةَ أنصافاً، وقلنا: المالُ عشرونَ، والنصيبُ ستةٌ وبطريقِ المقادير: نجعلُ المالَ عدداً له بعدَ الربع والنصيبِ ثلثٌ، فليكنْ ثلاثةٌ، نزيدُ عليها ثلثَها، يكونُ أربعةً، نقسِّمُها بين الاثنين، لكلِّ واحدٍ منهما سهمانِ فإذن: النصيبُ سهمانِ، نزيدُهُما على الثلاثةِ، تبلغ خمسةً، وهي ثلاثةُ أرباع المالِ، فنزيدُ عليها ثلثَها؛ لنكملَ المالَ، تبلغ ستةً وثلاثينَ، نبسْطُهُا أثلاثاً، يكونُ عشرون، وبالخطائين يجعل المالَ ثمانيةً مثلاً، ونسقطُ ربعَها لزيدٍ، ثمَّ نجعلُ النصِّيب ثلاثةً، ونسترجعُ منها ثلثَ البَاقِي، وهوَ واحدٌ يبلغُ ما معنا أَربعةً، وكانَ ينبغِي أنْ يكونَ ستةً، ليأخذَ كلُّ واحدٍ منها ثلاثةً، فقد نقصَ اثنانِ، وهو الخطأُ الأوَّل. ثم نجعلُ المالَ اثنَيْ عشرَ، ربعُهُا لزيدٍ، ونجعلُ النصيبُ ثلاثةً، ونسترجعُ منها ثلثَ الباقِي، وهو اثنانِ يكونُ معنا ثمانيةٌ، وكان ينبغِي أَنْ يكونَ ستةً، فقد زادَ اثنانِ، فجمعَ بينَ الخطأيْن؛ لأَنَّ أَحدَهُمَا زائدٌ، والآخرَ ناقصٌ، يبلغ أربعةً فتحفظها، ثمَّ تَضربُ المالَ الأوَّلَ في الخَطإِ الثَّاني، يكونُ ستةَ عشرَ، وتضربُ المالَ الثَّاني في الخطإِ الأوَّلِ، يكونُ أربعةً وعشرينَ، ونجمعُ بينهما، يكونُ أربعينَ، نُقَسِّمُهَا على الأربعةِ المحْفُوظةِ؛ يخرجُ عشرةٌ فهو المالُ، ويبلغُ بالبسط عشْرينَ وهذا إِذَا قُيِّدَ بالنَّصِيب، أمَّا إذا قُيِّد بالوصيةِ، فأوْصَى، وله ابنَانِ، بربع المالِ، ولآخرَ بمثلِ نصيب أَحدِهِما، إِلاَّ ثلثَ ما يبقَى من المال بعدَ الوصيةِ، فهو بمثابةِ ما لو قال: إِلاَّ نصفَ ماَ يبقَى من المالِ
فصل
بعدَ النصيبِ؛ عَلَى ما أسلفنا، وحينئذٍ: فنأخذُ مالاً، ونجعلُ لزيدٍ ربعَه، تبقَى ثلاثةُ أَرباعِ مالٍ، ندفعُ منها نصيبًا إلى عمرو، يبقَى ثلاثةُ أَرباعٍ سوَى نصيبٍ، نسترجعُ منه نصفَ هَذا الباقي، وهو ثلاثةُ أثْمانِ مالٍ سوى نصفِ نصيبْ، ونزيدُه على ما معنا، فيبلغُ مالاً وثُمُنَ مالٍ إِلاَّ نصيبًا، ونصفَ نصيبٍ، وذلك يَعْدُلُ نصيبينِ، فإذَا جبرنَا وقَابَلْنَا، فمالٌ وثُمُنُ مالٍ يعدلُ ثلاثةَ أنصباءٍ، ونصفَ نصيبٍ، نبسطُها أَثلاثًا، والمالُ ثمانيةٌ وعشرون، والنصيبُ تسعةٌ، تدفعُ ربع المالِ إِلى زيدٍ، وهو سبعةٌ، تبقى أَحد وعشرونَ تفرز منها [تسعة] (¬1) لعمرو؛ يبقَى اثنا عشرَ، نَسترجعُ منها نصفَها، وهو ستة من التسعةِ، ونضمُّها إلى ما معنَا، تبلغُ ثمانيةَ عشرَ لكلِّ ابنٍ تسعةٌ؛ كالنصيب، فالثلاثةُ السالمةُ لعمرو، كما أنَّها مثلُ النصيب إلاَّ نصفَ البَاقِي من المالِ بعدَ النصيبِ، فهُوَ مثلُ النصيبِ إِلاَّ ثلثَ البَاقِي من المالِ بعدَ الوصيةِ؛ لأنَّ البَاقِيَ من المالِ بَعْدَ الوصيةِ ثمانيةُ عَشَرَ، والستةُ المستثناةُ ثلثُها. فَصْلٌ " في الوصيَّةِ بجزءٍ شائعٍ من المالِ وبالنصيب مع استثناءِ جزءٍ ما يبقَى من جزءٍ من المال". مثالُه: خمسةُ بنينَ، وأوْصَى لزيد بثمن مَاله، ولعمرو بثلثِ ما تبقَى من الثلثِ بعدَ الثُّمنِ، والنصيب، نأخذ ثلثَ مالٍ، وتَلقِي منه ثمن جميعِ المالِ، يبقَى خمسةٌ من أَربعةٍ وعشرينَ جزءاً من المالِ، تُفرز منه نصيبًا لعمرو؛ يبقَى خمسةٌ من أَربعةٍ وعشرينَ جزءاً، سوى نصيبٍ، نسترجعَ من النصيب ثُلُثَ هذا الباقِي، ولَيْسَ للخمسةِ ثلثُ صحيحٌ، فنضربُ المالَ في ثلاثةٍ، يكون اثنينِ وسبعينَ، ويكونُ معنا خمسةَ عشرَ جزءاً من اثنينِ وسبعينَ جزءاً من المالِ، سوى نصيب نزيد ثلث هذا المبلغ عليه يكونُ عشرينَ من اثنين وسبعينَ جزءاً من المالِ، سوى نصيب وثلث نصيب تزيده على ثلثَي المالِ، وهو ثمانيةُ وأربعونَ، يكونُ ثمانيةً وستِّينَ جزءاً من اثنينِ وسبعينَ جزءاً سوَى نصيبٍ وثلثِ نصيب، يعدلُ أنصباءَ الورثةِ، وهي خمسةٌ، فإِذَا جَبَرْنَا وقابلْنا؛ فثمانيةٌ وستونَ تَعْدِلُ ستةَ أنصباءَ، وثلثَ نصيبٍ، فنبسطُها بأجزاء، اثنين وسبعينَ، ونقلبُ الاسمُ، فالمالُ أربعمائةٍ وستةٌ وخمسون، وَالنصيبُ ثمانيةٌ وستونَ، نَأخذُ ثلثَ المالِ، وهو مائةٌ واثنانِ وخمسونَ ونُلقِي منْها ثُمُنَ المالِ، وهو سبعةٌ وخمسونَ، يبقَى خمسةٌ وتسعونَ؛ نلقي منه نصيبًا، وهُوَ ثمانيةٌ وستونَ؛ يبقَى سبعةٌ وعشرون، وتسترجعُ من النصيبِ ثلثَهَا ونزيدُها على السبْعَةِ والعشرينَ، تبلغُ ستةً وثلاثينَ، نزيدُها على ثُلثَيِ المالِ وهو [ثلاثمائة وأربعة أسهم تبلغ ¬
فصل
ثلاثمائة، (¬1) وأربعينَ، لكلِّ ابنٍ ثمانيةٌ وستونَ؛ كالنصيبِ، هذا إِذا صرَّح بذكر النصيب. فإنْ كانتِ المسألةُ بحالِها، إِلاَّ أنَّه أوْصَى لعمرو بثلثِ ما يبقَى من الثُّلُثِ بعْدَ الثمنِ، وبعدَ وصيَّتِهِ، فالحسابُ كما مضَى ولكنْ نجعلُ بدلَ استثناءِ ثلثِ البَاقِي من الثلثِ بعدَ الوصيَّةِ نصفَ الباقي من الثلثِ بعدَ النصيب، ونستخرجُ المسألةَ، فنأخذُ ثلثَ مالِ، ونسقِطُ منه ثمنَ جميعِ المالِ؛ يبقَى خَمْسةٌ من أربعةٍ وعشرينَ جزءاً من المالِ، نُقرِّرُ منه نصيبًا لعمرو، ونسترجعُ من النصيب نصفَ البَاقِي، وليسَ للخمسةِ نصفٌ صحيحَ، فنضرِب المالَ في اثنينِ، تكونُ ثمانيةً وأربعينَ، ويكونُ معنا عشرةُ أجزاءٍ من ثمانيةٍ وأربعينَ جزءاً من المالِ سوى نصيبٍ، نزيدُه عليه نصفَه، يكونُ خمسةَ عشرَ جزءاً من ثمانيةٍ وأربعينَ سوَى نصيب، ونصفِ نصيبٍ نزيدِه عَلَى ثلثي المالِ، وهو اثنانِ وثلاثونَ من ثمانيةٍ وأربعينَ جزءًا، يبلغُ سبعةَ وأربعينَ جزءاً من ثمانيةٍ وأربعينَ، سوى نصيبٍ ونصفِ نصيبٍ يَعْدِلُ أنصباءَ الورثةِ، وهي خمسةٌ، فتجبرُ وتقابلُ فسبعةٌ وأربعونَ جزءاً من ثمانيةٍ وأربعينِ تَعْدِلُ ستةَ أنصباءٍ ونصفِ نصيبٍ، نبسطُها بأجزاء ثمانيةٍ وأربعينَ فالمالُ ثلاثمائةٍ واثني عشرَ، والنصيبُ سبعةٌ وأربعينَ، نأخذُ ثلثَ المالِ، وهو مائةٌ وأربعةٌ ونُسقِطُ منه ثُمَنُ المالِ، وهو تسعةٌ وثلاثونَ، يبقَى خمسةٌ وستونَ، فنُسقِطُ منه النصيبَ سبعةً وأربعينَ يبقى ثمانيةَ عشَرَ، نسترجعُ من النصيبِ نصفَها، تسعةً، ونزيدُها علَيْهَا، تكونُ سبعةً وعشرينَ، نزيدُها علَى ثلثِي المالِ، وهو مَائتانِ وثمانيةٌ، تبلغ مائتين وخمسةَ وثلاثينَ لكلِّ ابنِ سبعةٌ وسبعون فالتسعةُ التي هي نصفُ البَاقي من الثلثِ بعد الثُّمنِ، والنصيبُ ثلثُ الباقي من الثلثِ بعدَ الثمنِ والوصيةِ، فإنَّ الثُّمُنَ تسعةٌ وثلاثونَ، والذي يُسلَّمُ لعمرو ثمانيةٌ وثلاثونَ، يبقَى سبعةٌ وعشرونَ. فَصْلٌ في الوصيَّةِ بمثْلِ نصيب وارثٍ أو عدد من الورثة، إِلاَّ بمثل نصيب وارثٍ آخَر، وعدد منْهم، هذه الوصيةُ إما أنْ تتجرَّد عن الوصية بجزء شائع من المالِ، والوصيةُ بجزءٍ مما تبقَّى من المال أو بجزء من جزءٍ مما تبقَّى أَوْ لا يتجرَّد. أَمَّا الحالة الأُولَى: فلا حاجةَ فِيهَا إِلى الطُّرُق الجبْرِيَّة، ولكن تقام مسألة الورثة، وتؤخذ سهام من أَوصَى بمثل نصيبه، فينقص منها نصيبه من استثنَى مثل نصيبه، ويزاد ما بَقِيَ علَى مسألة الورثة، فمنه تصحُّ: المثالُ: زوجةٌ وأختٌ وعمٌّ، وأوصَى بمثل نصيب الأخت إِلاَّ مثل نصيب الزوجة، ¬
هي من أربعة، ونصيب الأختِ سهمان، ينقص منهما نصيب الزوجة، وهُوَ سهْمٌ، يبقى سهمٌ، نزيدُهُ على الأَربعة، فيكون خمسةً، واحدٌ، منها للموصَى له، والباقي للورثة. زوجة وثلاثُ أخواتٍ متفرِّقات، وأوْصَى بمثلِ نصيب الزوجةِ، إِلاَّ مثلَ نصيبِ الأختِ للأمِّ، فالمسألةُ تعولُ إلَى ثلاثةَ عشر، ومنها تصحُّ للزوجةِ، منها ثلاثةٌ نُسْقِطُ منها نصيبَ الأخْتِ للأمَّ يبقَى واحدٌ، نزيدُه على الثلاثةِ، فإنْ أوْصَى مع ذلِكَ الآخَر بمثلِ نصيبِ الأختِ للأب والأمِّ إِلاَّ مثلَ نصيبِ الزوجةِ، أخذْنَا نصيبَ الأخْتِ للأب والأمِّ, وهي ستَةُ، ونقَصْنَاَ منها نصيبَ الزوجةِ، وهو ثلاثةٌ؛ يبقَى ثلاثةٌ، نزيدُها أيَضاً علَى الثلاثةَ عشرَ، يكون الكلِّ سبعةَ عشرَ، واحدٌ للمُوصَى له الأولِ، وثلاثةٌ للثَّانِي، والباقي للورثةِ، ولو أوْصَى بمثلِ نصيبِ بَعْضِ الورثةِ إِلاَّ نصيبَ وارثٍ آخرَ، لو كانَ، فيقامُ سهامُ الفريضةِ من عددٍ، يصحُّ عَلى الموجودِينَ، وعليهِم معَ ذلك للوارثِ المقدَّر، ثم نأخذُ نصيبَ الذي أوْصَى بمثلِ نصيبِهِ، ونسقِطُ منه نصيبَ المستثنَى مثلَ نصيبِه، فما بَقيَ، يزادُ عَلَى ذلك القددِ وتصحُّ منه. مثالُه: ثلاثةُ بنينَ وزوجٌ، وأوصت بنصيبِ الزوجِ، إلاَّ نصيبَ ابنِ سادسٍ، لو كانَ، فمسألةُ الموجودِينَ من أربعةٍ، ولو كانَ البنونَ ستةً مع الزوجِ، لصحَّتْ من ثمانيةٍ، نجعلُها من ثمانيةٍ، ونأخذُ نصيبَ الزوج، وهما سهمان فنقصُ منها نصيبَ الابنِ السادسِ، لو كانَ؛ يبقَى سهمٌ نزيدُه على الثمانيةِ. الحالةُ الثانيةُ: إذا لم يتجرَّدْ، وفيه صورٌ: إحداها: أنْ يوصَى مع ذلكَ بجزءٍ شائعٍ من المالِ: مثاله: أبوانِ، وأوْصَى لزيدٍ بربع مالهِ، ولعمروِ بمثل نصيب الأب إِلاَّ مثلَ نصيبِ الأمِّ، فالحسابُ أنْ يُنْظَرَ في مسألةِ الورثةِ وهي من ثلاثةٍ، فَأخُذُ مَالاً، فَنلقى رُبُعَهُ لزيدٍ؛ يبقَى ثلاثةُ أرباعٍ، نلقَى منها نصيبَيْنِ مثلَ نصيب الأب ونَسْتَرْجِعُ نصفَها مثلَ نصيب الأمِّ؛ فيبقَى ثلاثةُ أرباع مالٍ سوَى نصيب يَعدِلُ ثلاثَةَ أَنصباءٍ، هي سهامُ الورثةِ، فتجبرُ وَتقابلُ: فثلاثةُ أرباعِ مالٍ تَعْدِلُ أربعةَ أنصباءٍ، نبسطُها أرباعًا، وتقلب الاسمَ، فالمال ستة عشر، والنصيبُ ثلاثة، وإذا أَخذنا ستة عشر، وأسقطنا رُبعها، بقي اثنا عَشَر، نسقط منها نصيبين، وهما ستة؛ ونسترجع نصيبًا، وهو ثلاثةٌ يبقى للموصَى له ثلاثةٌ، فإذا أسقطنا الوصيتَيْنِ من المال، يبقى تسعة؛ للأَبِ ستة، وللأُم ثلاثة، ولو كان مع الأبوين زوْجٌ، وأوصت لزيدٍ بثلث ماله، ولعمرو بمثَلِ نصيب الزوج، إلاَّ مثل نصيب الأب، فنقسم مسألة الورثة من ستةٍ، ثم نأخذ مالًا، ونلقي عليه ثلاثةً لزيَدٍ؛ يبقى ثلثا مال؛ نسقط منه ثلاثة أنصباء، هي سهامُ الزوج، ونسترجع نصيبَيْن مثْلَ سهمَي الأب، فيبقَى ثلثا مال إلاَّ نصيبًا، يعدل ستة أنصباءَ، فتجبر وتقابل: فثلثا مال يَعْدِلُ سبعة أنصباء، فنبسطها أثلاثًا،
فصل
ونقلب الاسم، فالمال أحد وعشرون، والنصيب اثنان، نأخذ أحداً وعشرين، ونسقط ثلثها, لزيد؛ يبقى أَربعة عشر، نأخذ منها ثلاثة أنصباء مثل نصيب الزوج، وهي ستة ونسترجع منها أربعةٌ، يبْقَى لعمرو سهمان، فإذا أسقطنا الوصيَتيْن، من أحد وعشرين؛ يبقى اثنا عشر، للزوج ستةٌ، وللأب أربعة، وللأم سهمان. والثانية: أن يوصى مع تلك بجُزْءٍ ممَّا تبقَّى من المال: مثاله أبوانِ، وأوصَى لزيد بمثْلِ نصيبِ الأب إِلاَّ مثل نصيب الأمِّ، ولعمرو بربع ما يبقَى من المال، نأخذ مالًا، ونُلْقي منه نصيبين، هما نصيبُ الأب من مسألة الورثة، ونسترجع نصيبًا، وهو نصيب الأمِّ؛ فيبقى مالٌ سوى نصيب، ندفع رُبُعَهُ إلَى عمرو، وهو ربع مال إِلاَّ ربع نصيب، نلقي (¬1) ثلاثة أرباع إلاَّ ثلاثة أرباع نصيب، تَعْدل ثلاثة أنصباء، هي سهام المسألة، فنجبر ونقابل، بثلاثة أرباع مال، تعدل ثلاثة أنصباء، وثلاثة أرباع نصيب، فَنَبْسُطُها أرباعًا ونقلب الاسم، فالمال خمسة عشر، والنصيب ثلاثة، نأخذ خمسة عشر، ونسقط منه نصيبين، وهما ستة، ونسترجع نصيبًا، وهو ثلاثة يبْقَى اثنا عشر، رُبُعُهَا لعمرو، يبْقَى تسعة، ستة للأبِ، وثلاثةٌ للأم. والثالثة: إن يوصِيَ مع ذلك بجُزْءٍ من جزء مما تبقَّى من المال: مثاله: أبوان، وأوصَى لزيدٍ بمثل نصيب الأب، إلاَّ مثل نصيب الأم، ولعمرو بربعِ ما يبقَى من ثلثي المال، نأخذُ ثلثيْ مال، ونسقط منه نصيبَيْنِ ونسترحع منه نصيبًا؛ يبقَى ثلثا مال، سوى نصيب؛ نسقط ربعة لعمرو، وهو سدس مال، إلاَّ ربع نصيب؛ يبقَى نصف مال إلاَّ ثلاثة أرباع نصيب، يزيد على ثلث مال، يبلغ خمسة أسداس مال، إِلا ثلاثة أرباع نصيب، تعدل ثلاثة أنصباء، هي سهام المسألة، فنجبر ونقابل، فخمسةُ أسداسِ مالٍ تعدل ثلاثة أنصباء وثلاثة أرباع نصيبٍ، نَبْسُطَها [بأجزاء] (¬2) اثني عشر، ونقلب الاسم، فالمال خمسة وأربعون، والنصيبُ عشرة، نأخذ ثلثي المال، وهو ثلاثون ونسقط منها نصيبين، وهما عشرون ونسترجع نصيبًا، يبقَى معنا عشرون، ونسقط ربعه لعمرِو، يبقَى خمسة عشر، نزيدها عَلَى ثلث المالُ، يكون ثلاثين، للأبِ عشرون وللأم عشرةٌ. فَصْلٌ في الوصيَّة بالنصيب، مع استثناء نصيبٍ وارثٍ آخر منه وجزء شائع أيضاً، الجزء المستثنَى مع النصيب قد يكون من جميعِ المالِ، وقد يكونُ من باقِي المالِ، وقد يكونُ ¬
من جزءٍ من الباقي: مثال الأوَّل: أبوانِ، وأوصَى بمثل نصيب الأبِ إِلاَّ مثل نصيب الأمِّ وإلاَّ عشر [جميع] (¬1) المال، نأخذ مالاً، وتلقى منه نصيبين، ونسترجع نصيبًا وعشر جميع المال، يبقَى مالٌ وعُشْرُ مالٍ إلاَّ نصيبًا يعدل أنصباء الورثة، وهي ثلاثة، فنجبر ونقابل، فمالٌ وعشرُ مالٍ يعدل أربعة أنصباء، نبسطها أعشارًا، ونقلب الاسم، فالمال أربعون، والنصيب أحدَ عَشَر، نأخذ أربعين، ونسقط منها نصيبَيْن، وهما اثنان وعشرون، ونسترجع منها نصيبًا، وهو أحدَ عشَرَ وعُشْرُ جميع المالِ، وهو أربعةً، فيسلم للموصَى له سبعة، يبقى ثلاثة وثلاثون، اثنان وعشرون منْها للأب، واحد عشر للأُمِّ. ومثال الثاني: المسألة بحالها إلاَّ أنه استثنى مثْل نصيب الأُمِّ وعُشْر ما تبقَى من المال بَعْدَ نصيب الأم تأخذ مالاً، وتلقَى منه نصيب الأب، وهو نصيبان من ثلاثة أنصباء، هي سهام المسألة، ونسترجع منه نصيبًا، يبقى مالٌ إلاَّ نصيبًا، نزيد عليه مثل عُشره، وهو عُشْرُ المال إلاَّ عُشْر نصيب، يبلغ مالاً وعُشْر مال إِلاَّ نصيبًا وعُشْر نصيب، يعدل ثلاثة أنصباء، هي سهام المسألة؛ فنجبر ونقابل، ونبسطها أعشارًا، ونقلب الاسم، فالمالُ أحد وأربَعُون، والنصيب أحدَ عَشَرَ، نأخذ أحداً وأربعين، ونسقط منه نصيبين، وهما اثنان وعشرون، وتسترجع نصيبًا، فيكون مَعَنَا ثلاثون، تسترجع عُشْرَ الثلاثين مِنْ ذلك النصيب أيضاً، وهو ثلاثة، وتزيده عَلَى ما مَعَنا، يبلغ ثلاثةً وثلاثين، للأبِ اثنانِ وعشْرُون، وللأم أحَدَ عَشَرَ. ومثال الثالِثِ: المسألةُ بحالها إلاَّ أنَّه استثنَى منه نصيب الأم، وثمن ما تبقَى من ثلثَي المال بعد نصيب الأم، فتأخذ ثلثَيْ مالٍ، وتسقط منه نصيبين، وتسترجع نصيبًا، يبقى ثلثا مالٍ سوَى نصيب، تسترجع ثمن هذا المبلغ أيضاً من النصيب، وهو نصف سدسِ مال إِلاَّ ثمن نصيب، ونزيده عَلَى هذا المبلغ، يكون ثلاثة أرباع مالٍ إلاَّ نصيبًا وثمن نصيب، نزيده عَلَى ثلثِ مالٍ، يبلغ مالاً ونصفَ سدسِ مال، إلاَّ نصيبًا وثمن نصيبٍ، وذلك يعدل أنصباء الورثة، وهي سهام المسألة، فتجبر وتقابل، فمالٌ ونصف سدس مال، يعدل أربعة أنصباء وثمن نصيب، فتبسطها بأجزاء أربعة وعشرين، وبها التفاوُتُ بين الثمن ونصف السدس، وتقلب الاسم، فالمال تسعة وتسعون، والنصيب ستةٌ وعشرون، تأخذ ثلثَي المال، وهو ستة وستُّون، وتسقط منه نصيبين، وهما اثنان وخمسون، وتسترجع نصيبًا، يبقَى معنا أربعون، ونسترجع ثمنه من النصيب أيضاً، وهو خمسة وتزيده على الأربعين، يكون خمسة وأربعين، تزيده على ثلث المال، وهو ثلاثة ¬
فصل
وثلاثون، تبلغ ثمانية وسبعين للأب بنصيبين اثنان وخمسون، وللأم بنصيب ستة وعشرون، ولو كانت المسألة بحالها, لكن قال: وإلاَّ ثمن ما يبْقَى من ثلثَي المال بعْد نصيب الأب؛ فتأخذ ثلثِي المال، وتسقط منه نصيبين، وتسترجع نصيبًا يبقَى ثلثا مال سوَى نصيب، وتسترجع أيضاً من ثلثِي المال بعد النصيبين، وهو نصف سدس مال إِلاَّ ربع نصيب، نزيده عَلَى ثلثَيْ مالٍ سوى نصِيب يبلغ ثلاثة أرباع مالٍ إِلاَّ نصيبًا وربع نصيب، نزيده عَلَى ثلث مال، يبلغ مالاً ونصف سدس مال، إِلاَّ نصيبًا وربع نصيب، يعدل أنصباء الورثة، فتجبر وتقابل، فمالٌ ونصفُ سدسِ مالٍ يعدل أربعة أنصباء وربع نصيب، فتبسطها بأجزاء اثنَيْ عَشَرَ، وتقلب الاسم، فالمال أحد وخمسون، والنصيب ثلاثةَ عَشَرَ، نأخذ ثلثَي المال، وهو أربعة وثلاثون، يسقط منه نصيبين، وهما ستة وعشرون، وتسترجع نصيبًا يبقَى للموصَى له ثلاثةَ عَشَرَ، تسترجع منه أيضاً ثمن الباقي من الأربعة والثلاثين بَعْد النصيب، وهو واحدٌ يبقَى له اثنا عشَرَ، يسقطها من جميع المال، يبقَى تسعة وثلاثون، للأب نصيبين ستة وعشرون، وللأم بنصيب ثلاثةَ عَشَرَ. فَصْلٌ في الوصايا بالتكملة، والمرادُ منها: البقيَّة التي يبلُغُ بها الشيء حدَّاً آخر، فلا تخْلُو الوصيَّة بالتكملة: إِما أَن تتجرَّد عن الوصية بغيرها، والاسشاء فيها أَو لا تتجَرَّد: القسم الأول: فالوصية إِما أن تكون بتكملة واحدةٍ أو بتكملتين فصاعداً: مثال الأول: أَربعةُ بنين، وأوصَى بتكملة ثلثِ ماله بنصيب أحدهم، فتأخذ مالاً، وتصرف ثلثه إلى الموصَى له، وتسترجع منه نصيبًا، فيحصل معنا ثلثا مال ونصيب، وذلك يعدل أنصباء الورثة، وهي أربعة، فتلقى نصيبًا بنصيب قصاصًا، يبقَى ثلثا مال في معادلة ثلاثة أَنصباء، نبسطها أثلاثاً، وتقلب الاسم، فالمال تسعةٌ، والنصيب اثنان، والتفاوت بين النصيب والثلث بواحد، فهو التكملة يدفع إِلى الموصَى له، يبقى ثمانية، لكلِّ واحد سهمان. وبطريق الدينارِ والدِّرْهم: تجعل ثلث المال دينارًا ودرهماً، وتجعل الدينار نصيبًا، والتكملة درهماً تدفعه إلى الموصَى له، يبقَى من المال ثلاثة دنانير ودرهمان، يأخذ ثلاثة بين ثلاثة دنانير فيبقَى درهمان، يأخذه الابن الرابع فعلمنا أن قيمة الدينار درهمان، وأنَّ ثلث المال ثلاثةُ دراهم، والنَّصيب درهمان وبالقياس نقول: إِذا أخذ الموصَى له وصيتَهُ، كان الباقي مقسومًا على أربعة، فيجعل الباقي عدداً له ربع، وأقله أربعة، فإذا ضمَمْنا سهماً منْها إِلى التكملة، كان ثلث المال، وذلك يعدل ثلث تكملة، وسهمًا، وثلث سَهْم؛ لأنَّ جملة المال تكملة، وأربعة أسهم، فثلثها ثلث تكملة وسهم وثلث؛
فنسقطُ ثلث تكملةٍ بثلث تكملة، وسهماً بسهم قصاصًا، يبقى ثلثا تكملة تَعْدِلُ ثلث سهم، فالتكملة الواحدة تعدل نصف سهم، فالسهم مثلاً التكملة، فالسهم اثنان، والتكملة واحدٌ، فثلث المال ثلاثة أسهم، فجميع المال تسعةٌ. ومثال التكملتين أربعةُ بنين وبنت، وأوصى بتكملة ثلث ماله بنصيب ابن، ولآخر بتكملة ربع ماله بنصيب البنت: الوصية الأُولَى: ثلث مال سوى نصيبين، والثانيةُ: ربع مال سوَى نصيب؛ لأن لكل ابنٍ سهمين، وللبنت سهماً، وكل سهم في مثل ذلك يسمى نصيبًا، فتأخذ مالاً، وتسقط منه الوصيتين، يبقى خمسةُ أسهم من اثنَيْ عَشَرَ سهماً من مال وثلاثة أنصباء تعدل أنصباء الورثة؛ وهي تسعةٌ تسقط ثلاثة أنصباء بثلاثة أنصباء قِصَاصًا؛ يبقى خمسة أسهم من اثني عشر سهماً من مال في معادلة ستة أنصباء، ثم إن شئت، قُلْتَ: نبسطها بأجزاء اثنَيْ عَشَرَ، ونقلب الاسم، فالمال اثنان وسبعون، والنصيب خمسة، وإِنْ شئت، قُلتُ: إذا كانت خمسة من اثني عشر تَعْدِلُ ستة، فالمال بتمامه، يعدل أربعةَ عَشَرَ وخُمسين، نبسطها أخماسًا، تبلغ اثنين وسبعين، نأخذ ثلث المال، وهو أربعةٌ وعشرون، ونسقط منه نصيبين، وهما عَشَرَةٌ؛ يبقى أربعة عشر؛ فهي الوصية الأولَى، ونأخذ ربعه، وهو ثمانية عشر، نسقط منه نصيبًا واحداً، وهو خمسة؛ يبقى ثلاثةَ عَشَرَ، فهي الوصيةُ الثانية، فَتُسْقِطُ الوصيتَيْن من المال؛ يبقى خمسة وأربعون؛ لكلِّ ابنٍ عشرةٌ، وللبنت خمسة. وأما القسمُ الثاني: فيصوَّر عَلَى وجوه: منها الوصية بالتكملة مع الوصية بجزء شائع من المال. مثاله: ثلاثة بنين، وأوصى لزيد برُبُعِ ماله، ولعمرٍو بتكملة النصف بنصيب أحد البنين، نأخذ مالاً، ونلقي منه ربعه لزيد، ثم نلقي نصفه لعمرو، ونسترجع منه نصيبًا، يبقى معنا ربع مال ونصيب، وذلك يعدل ثلاثة أنصباء، ونسقط نصيبًا بنصيب؛ يبقَى ربع مال في معادلة نصيبين نبسطُهَا أَرباعًا، ونقلب الاسم، فالمالُ ثمانيةُ والنصيب واحد تأخذ ثمانية، فتعزل ربعها لزيد، ثم تأخذ نصف الثمانية لعمرو، وتسترجع منه واحداً؛ يبقى معنا ثلاثة؛ لكلِّ واحدٍ من البنين واحدٌ. وبطريق القياسِ نقول: ربع المالِ ونصفُهُ يستحقُّها زيد، وعمرو، وأَحَدُ البنين، فتأخذ مالاً له ربع ونصف، وهو أربعةٌ، فتسقط منها الربع والنصف، يبقَى واحد، تقسمه بين الاثنين الآخرين، فلكلِّ واحد منهما نصفٌ، فعلمنا أن النصف نصفُ سَهْمٍ، تسقطه من الثلاثة التي أسقطناها من المال، يبقى اثنان ونصف، وتسقط منها ربع جميع المال، يبقى واحدٌ ونصفٌ، فهو التكملة، تبسط الجميع أنصافًا، لزوال الكسر فالنصيب
واحد، والتكملة ثلاثة، والربع اثنان، والمال ثمانية، وبالدنانير والدراهم يُجْعَلُ نصف المال دينارًا ودرْهَماً، ويدفع الدرهم بالتكملة إلَى عمرو، ويبقى ديناران ودرهم، تسقط منها ربع المال، وهو نصف دينارٍ، ونصفُ درهم، يبقى دينار، ونصف دينار، ونصف درهم، وذلك يعدل ثلاثة دنانير، تسقط الجنس بالجنس فيبقى دينار ونصف، في معادلة نصف درهم، نبسطها أنصافًا، ونقلب الاسم، فالدينار واحدٌ، والدرهم ثلاثةٌ، وهو التكملة. ومنها الوصيَّةُ بالتكملة، مع الوصية بجزء مما تبَقَّى من المال. مثاله: أربعةُ بنين، وأوصَى لزيد بتكملةِ ثلُثِ ماله بنصيب أحدهم، ولعمرو بربع ما تبقَّى من المال، نأخذ مالاً، وندفع ثلثه إِلى زيد، ونسترجع منه نصيبًا، ونزيده عَلَى باقي المال، فيحصل معنا ثلثا مال، ونصيب؛ يخرج ربعه لعمرو، وذلك سدس مال، وربع نصيب يبقى نصف مال، وثلاثة أرباع نصيب، يعدل أنصباء الورثة، وهي أربعةٌ، فنسقط ثلاثة أرباع نصيب بثلاثة أرباع نصيب، يبقى نصف مال في معادَلَةِ ثلاثة أنصباء، وربع نصيب؛ فنبسطها أرباعًا، ونقلب الاسم، فالمال ثلاثةَ عَشَرَ، والنصيبُ سهمان؛ لكن ليس لثلاثة عَشَرَ ثلُثٌ؛ فنضربها في ثلاثة؛ تبلغ تسعةً وثلاثين، فهي المال، والنصيب ستة، نأخذ ثلثها، وهو ثلاثة عشر، ونسقط منه نصيبًا؛ يبقى سبعةٌ، فهي التكملة، ندفعها إلى زيد، يبقى من المال اثنان وثلاثون، ندفع ربعها إِلى عمرو، وهو ثمانية، يبقى أَربعة وعشرون للبنين؛ لكلِّ واحدٍ ستة. بطريق الخطائين: يجعل المال خمسةَ أسهم، والتكملة واحداً منها تدفعه إِلى زيد، وتدفع ربع الأربعة الباقية إِلَى عمرو، يبقى ثلاثةِ للبنين لكلِّ واحدٍ ثلاثة أرباع، فهذا ضممناها إلَى التكملة، كان الحاصل واحدًا وثلاثة أرباع، وكان يجب أن يكون واحداً، وثلثين؛ لأن ذلك ثلث الخمسة التي قَدَّرْنَا أنها المال، فقد زاد نصف سدس، وهذا هو الخطأ الأول، ثم يجعلُ المال ستةً، والتكملة اثنين، فنخرجهما، وربع الباقي، يبقى ثلاثة؛ لكلِّ واحد منهم ثلاثةُ أرباع، نضمها إِلى التكملة؛ يكون اثنين وثلاثة أرباع، وكان يجب أن تكون اثنين، فقد أخطأنا بثلاثة أرباع، وهذا الخطأ زائدٌ أيضاً؛ فنسقط الأقل من أكثر، يبقى ثلثا سهم، فنحفظه، ثم نضرب المال الأول في الخطأ الثاني، يحصل ثلثه، وثلاثة أرباع، ونضرب المال الثاني في الخطأ الأول؛ يحصل سهم يسقط الأقلُّ من أكثر؛ يبقى ثلاثة وربع، يقسم على ثُلُثَيْ سهم، يخرج من القسمة سهمان وسدس، يبسط أسداسًا، يكون ثلاثة عشر، فهو المال، وينتهي إلى تسعة وثلاثين؛ كما سبق. ومنها الوصيةُ بالتكملة، مع الوصية بجزء ممَّا يبقى من جزء من المال: مثال: ثلاثةُ بنين، وأوصَى لزيدٍ بتكملة ثلث ماله بنصيب أحدهم، ولعمرو بِثُلُثٍ ما يبقَى من الثلث، نأخذ ثلث مَالٍ، ونلقي منه نصيبًا؛ يبقى ثلث مال إلاَّ نصيبًا، ندفعه
إلى زيد؛ فإنه التكملة؛ يبقَى من الثلث نصيبٌ، فيدفع ثلثه إلَى عمرو؛ يبقى ثلثا نصيبٍ، نضمه إلى ثُلُثي المال، وذلك يعدل أنصباء الورثة، فهي ثلاثة، تسقط ثلثي نصيب بثلثَيْ نصيب، يبقى ثلثا مال يعدل نصيبين، وثلث نصيب، ثم إن شئنا، قلنا: نبسطها أثلاثًا، ونقلب الاسم، فالمال سبعةٌ، والنصيب اثنان، وإن شئْنَا، قلنا: إِذا عادل ثلثا مال نصيبين، وثلُثَ نصيبٍ، فالمالُ كلُّه معادِلٌ ثلاثة أنصباء، ونصف نصيب؛ نبسطها أَنصافًا؛ يكون سبعةً؛ لكن ليس لسبعة ثلثٌ صحيحٌ، فنضربها في ثلاثة؛ يبلغ أحدًا وعشرين؛ فهو المال، والنصيب ستة، نأخذ ثلث المال "سبعة"، تلقى منه النصيبُ "ستة"، يبقى واحدٌ، فهو التكملة، وتدفع ثلُثُ الستة إلَى عمرو، يبقى أربعة، نضمها إلَى ثُلُثَي المال، يكون ثمانية عشر؛ لكل ابنٍ ستةٌ. قال إمام الحَرَمَيْنِ: هكذا ذكروه؛ لكن لو تجردت الوصيةُ الأُولَى في هذه، فأوصى له ثلاثة بنين بتكملة ثلث ماله بنصيب أَحدهم، فالوصيةُ باطلةٌ؛ لأن نصيبَ كُلِّ ابن مستغرقٌ للثلث؛ فلا تكملة؛ وحينئذٍ: يمكن أن يقالَ هاهنا: الوصية الأولَى باطلةٌ، والثانية فرعها [فتبطل أيضاً]؛ ووجه ما ذكروه أَنَّ الوصيةَ الثانَيَةَ تَنقُصُ النصيبَ عن الثلث، ويظهر بها التكملة، قال: ويجب أَن تخرج من المسألة وأخواتها على الوجهين في أن العبرة باللفظ، أو بالمعنَى، كما إِذا قال: بعتُكَ بلا ثمن، ونحوه [وذلك أَن يخرجه على الخلاف فيما إِذا قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً إِلاَّ ثلاثاً إِلاَّ واحدةً؛ فإنا على وجهٍ: نقول: الاستثناء الأول باطلٌ، والثاني فرعٌ عليه، فيبطل أيضاً، وعلى وجه نَقُولُ: الاستثناء الثاني أخرج الأوَّلَ عن أن يكون مستغرقًا، ولعله إلى هذا المأخذ أقرب] (¬1). ومنها الوصية بالتكملة مع الوصية بالنصيب. مثالُهُ: ثلاثةُ بنين، وأوصَى لزيدٍ بمثل نصيب أحدهم، ولعمرو بتكملة ثلث ماله، نأخذ ثلث مال، فندفع منه نصيبًا إِلى زيد، والباقي إِلى عمرو، يبقى معنا ثلثا مال، يعدل أنصباء الورثة، وهي ثلاثة نبسطها أثلاثاً، ونقلب الاسم، فالمال تسعة، والنصيب اثنان، نأخذ ثلث التسعة، ثلاثةً، ندفع منها اثنين، إِلى زيد، وسهمًا إلى عمرو، وهو التكملة يبقى ستة للبنين. طريقة أخرَى: ينظر في مسأَلة الورثة، وهي من ثلاثة، فيزيد عليها مثل نصفها، يبلغ أربعة ونصفها نبسطها أنصافًا، يكون تسعة. فهذا أردنا أن نعرف قدر التكملة، نظرنا في مجموع ما تصحُّ منه المسألة، وما زدنا عليه، فالتكملة ما تزيد منه عَلَى ما تصحُّ منه المسألة مضْمُومًا إِليه؛ مثل نصيب الموصي بنصيبه، فإِن لم يزد عليه شيء، فالوصية ¬
بالتكملة باطلةٌ، ففي الصورة المذكورة: المجموعُ أربعةٌ ونصفٌ، والزائد على ما تصحُّ منه المسألة مضمومًا إليه نصيبُ نصف سهم قبل البَسْط، وسهم بعده، فهو التكملة؛ وعلى هذا القياس: لو أوصَى، وله خمسة بنين، بمثل نصيب أحدهم، ولآخر تكملة الخمس فنقول: الفريضة من خمسة، يزاد عليها ربُعُهَا، تبلغ سنة، وربعها تبسط أَرباعًا، يكون خمسة وعشرين، نأخذ خمسها خمسة، التكملةُ منه واحدٌ، والنصيب أربعة. ولو أوصَى، وله عَشَرَةُ بنينَ، بنصيب أحدهم، ولآخر بتكملة السدس، فهي من عشرة، يزيدُ عليها خمسها، تبلغ اثني عشر نأخذ سدسها، اثنين، التكملةُ واحدٌ، والنصيب واحدٌ. ولو ترك اثنين، وأوصَى بمثل نصيب أحدهما ولآخر تكملة الثلث، فالوصية الثانية باطلةٌ؛ [لأَنا إِذا زدنا نصف ما تصحُّ منه المسألة عليه، لا نزيد شيء منه، عَلَى ما تصحُّ منه المسألة مضمومًا إِلَيْه النصيب]، وكذا لو أوصَى، وله ثلاثة بنين؛ بمثل نصيب أحدهم، ولآخر بتكملة الربع. ومتها: الوصية بالتكملة مع استثناء جُزْءٍ من المال: مثاله: ثلاثة بنينَ، وأوص بتكملة نصف ماله، بنصيب أحدهم إِلاَّ ثُمُن جميع المال؛ طريقة أَنْ يقال: نصفُ المال نصيبٌ، وتكملةٌ، والتكملةُ شيء، وثمن جميع المال يدفع الشيء إِلى الموصَى له، يبقى من النصف نَصيبٌ وثمن جميع المال، نَضُمُّهَا إلى النصف الثاني، يحصل معنا خمسة أثمان المال ونصيب، يعدل أنصباء الورثة، وهي ثلاثة تسقط نصيبًا بنصيب، يبقى خمسة أثمان المال، تعدل نصيبين، فنبسطها أَثمانًا، ونقلب الاسم، فالمال ستة عشر، والنصيب خمسة، نأخذ نصف المال، وهو ثمانية، يسقط منه النصيبُ خمسة؛ يبقى ثلاثة، يسقط منها ثمن جميع المال، وهو اثنان؛ يبقى واحد، وهو التكملة؛ يسقط من جميع المال، يبقى خمسة عشر للبنين. صورةٌ أُخرَى: عشرة بنين، وأوصى بتكملة ثلث ماله بنصيب أحدهم إلاَّ تسع جميع المال: [ثلث المال نصيبٌ وتكملة، والتكملة شيء، وتسع جميع الماَل] (¬1)، يدفع الشيء إلى الموص له، يبقى من الثلث نصيبٌ وتسع جميع المال، نَضمها إلى ثلث المال، يحصل تسعة أتساع مال، ونصيب يعدل أنصباء الورثة، وهي عشرة؛ نسقط نصيبًا بنصيب؛ يبقى سبعة أتساع مال، يعدل تسعة أنصباء، فنبسطها أتساعاً، ويقلب الاسم، فالمال أحد وثمانون، والنصيبُ سبعة، نأخذ ثلث المال، وهو سبعة وعشرون، فَنُسْقِطَ منها النصيبَ سبعةً، يبقَى عشرون، نسقط منها تُسْعَ جميع المال، وهو تسعة، ¬
يبقى أحد عشر: للموصى له؛ تسقط أحد عشر للموصَى له، يبقى سبعون؛ لكلِّ ابن سبعةٌ؛ كالنصيب. ومنْها الوصيةُ بالتكملة مع استثناء جُزْءٍ مما يبقَى من المال: ستة بنين، وأوصَى بتكملة ثلث ماله بنصيب أحدهم، إِلاَّ ثمن ما تبقَى من المال، نأخذ ثلث المال، ونسترجع منه نصيبًا؛ يبقى ثلث مال، إلاَّ نصيبًا، فهو التكملة، يبقَى معنا ثلثا مال، ونصيب، تسترجع من التكملة ثمنه، وينتظم الحساب من أربعة وعشرين، لذكر الثلث والثمن؛ فالذي معنا ستة عشر، ونصيب، وثمنه اثنان وثمن نصيب، نزيده عليه؛ يبلغ ثمانية عشر جزءاً من أربعة وعشرين جزءاً من مالٍ ونصيبًا وثمن نصيب، يعدل (¬1) أنصباء الورثة، وهي ستةٌ، تسقط المثل بالمثل، يبقى ثمانية عشر جزءاً من أربعة وعشرين جزءاً من مال يعدل أربعة أنصباء وسبعة أثمان نصيب، نبسطها بأجزاء المال، وهي أربعةٌ وعشرون، ونقلب الاسم، فالمال مائةٌ وسبعةَ عَشَرَ، والنصيب ثمانيةَ عَشَرَ، نأخذ ثلث المال، وهو تسعة وثلاثون، ونسقط منها نصيبًا؛ يبقى أحد وعشرون، هو التكملة إِذا أسقطناه عن جميع المال، يبقى ستة وتسعون؛ ثمنه اثْنَا عَشَرَ، نسقطه من التكملة؛ يبقَى تسعة، فهي التي يأخذها الموصَى له؛ يبقى مائة وثمانية للبنين؛ لكلِّ ابنٍ ثمانيةَ عَشَرَ. ومنْها: الوصيةُ بالتكملة، مع استثناء جزءٍ مما تبقَّى من جزء من المال. سبعة بنين وأوصى بتكملة ربع ماله بنصيب أحدهم إلاَّ ثلث ما تبقَّى من الثلث، نأخذ ربع مال، ونلقى منه نصيبًا؛ يبقى ربع مال، سوى نصيب، وهو التكملة، نلقيها من الثلث، يبقَى نصف سدس مال، ونصيب، تلقى ثلث ذلك من التكملة، وينتظم الحساب من ستة وثلاثين؛ فإنه أقلُّ عددٍ لنصفِ سُدُسِهِ ثُلُثٌ؛ فإذن الذي معنا من الثلث ثلاثة ونصيب، نسترجعُ ثلاثة (¬2) من التكملة، وهو واحدٌ، وثلثُ نصيبٍ؛ يبقى للوصية ثمانية أجزاء من ستة وثَلاَثِين جزءاً من مال إلاَّ نصيبًا وثلث نصيب نسقطها من المال وثلث نصيب يبقى ثمانية وعشرون جزءاً من ستة وثلاثين جزءاً من مال [ونصيب وثلث نصيب وذلك يعدل سبعة أنصباء تسقط المثل بالمثل] (¬3) في معادلة خمسة أنصباء وثلثي نصيب نبسطها بأجزاء ستة وثلث وينقلب الاسم، فالمال مائتان وأربعة، والنصيبُ ثمانية وعشرون [تأخذ ربع المال، وهو أحد وخمسون، وتسقط منه النصيب؛ يبقى ثلاثة وعشرون] (¬4) هي التكملة، نلقيَها من ثلث المال، وهي ثمانية وستون؛ يبقى خمسة ¬
وأربعون، نسترجع ثلثها، وهو خمسةَ عَشَرَ من التكملة؛ يبقَى ثمانية، فهي الوصية، نسقطها من المال؛ يبقى مائةٌ وستةٌ وتسعونَ للبنين؛ لكل واحدٍ ثمانيةَ وعشرون. ومنها: الوصية بالتكملة مع استثناء تكملة أخرَى: ثلاث بنينَ، وأوصَى بتكملة نصف مال [بنصيب أحدهم إلاَّ تكملة ثلث ماله بنصيب أحدهم؛ نأخذ نصف مال وتأخذ منه نصيبًا، فالباقي هو تكملةُ النصف، ثم تأخذ ثلث مال، ونسقط منه نصيبًا، فالباقي هو تكلملةٌ،] (¬1) الثلث تسقط تكلملة الثلث من تكملة النصف؛ يبقى سدس مال، بلا استثناء، فالوصية إِذًا: بسدس المال؛ يبقى خمسة أسداس، تعدل ثلاثة أنصباء، فنبسطها أَسداسًا، ونقلب الاسم، فالمال ثمانيةَ عَشَرَ، والنصيب خمسة؛ نأخذ نصف المال تسعة، ونسقط منها النصيب؛ يبقَى أربعة، فهي تكملة النصف، ثم نأخذ ثلثه ستة، ونسقط منها النصيب؛ يبقَى واحد، فهو تكملة الثلث. نسقط واحداً من أربعة؛ يبقَى ثلاثة؛ فهي الوصية نسقطها من جميع المال، يبقَى خمسة عشر للبنين؛ لكلِّ واحدٍ خمسةٌ. ومنْها: الوصيةُ بالتكملة مع الوصية بالنصيب وبجزء مما تبقَّى من المال: خمسة بنين، وأوصَى لزيد بمثل نصيب أحدهم، ولعمرو بتكملة ربع ماله، بنصيب أحدهم، ولثالث بثلث ما يبقَى بعد ذلك، نأخذ ربع مال، وتنقص منه نصيبًا، والباقي هو تكملة للربع، تدفعه إلَى عمرو، وتدفع النصيبَ إلى زيد، فانصرف الربع إلى الوصيتين؛ يبقى ثلاثة أرباع المال، تدفع منها واحداً إِلَى الثالث؛ يبقَى رُبُعَانِ يعدلان أنصباء البنين، وهي خمسة، نبسطها أرباعًا، ونقلب الاسم؛ فالمال عشرون، والنصيب اثنان، نأخذ ربع المال خمسة؛ تدفَعُ منها اثنين إلَى زيد، وثلاثة إلَى عمرو؛ يبقى خمسة عشر، ثلثها خمسةٌ للثالث، والباقي للبنين. وبطريق الخطائين: يقدر المال ثمانيةٌ، ويجعل النصيب واحداً، والتكملة كذلك؛ يبقى سنة: اثنان منْها للثالث؛ تبقى أربعة، وكان ينبغي أن يكون خمسة، فقد نقص واحدٌ، وهذا هو الخطأ الأول. ثم يجعله اثني عَشَر، فالنصيب منها اثنانِ، والتكملة واحدٌ؛ تبقى تسعةٌ؛ ثلاثةٌ منْها للثالث؛ يبقى ستةٌ، وذلك ينبغي أنْ يكون عشرةٌ، فقد نقص أَربعة، وهذا هو الخطأ الثاني، ينقص الأقَلُّ من أكثر، يبقى ثلاثة، فنحفظها، ثم نضرب المال الأول في الخطأ الثاني، يكون اثنين وثلاثين، ونضرب المال الثاني في الخطأ الأول، يكون اثني ¬
عشر، تسقط الأقل من الأكثر؛ يبقى عشرون، فهو المال، ثم نضرب النصيب الأول في الخطأ الثاني، يكون أربعة، ونضرب النصيب الثاني في الخطأ الأوَّلِ، يكون اثنين، تسقط الأقل من الأكثر، يبقى اثنان، فهو النصيبُ. ومنها: الوصيةُ بالتكملة، مع الوصية بالنصيب وبجزءٍ مما تبقَّى من جزء من المال: خمسة بنين، وأوصَى لزيد بمثل نصيب أحدهم، ولعمرو بتكملة الربع بالنصيب، ولثالث بثلث ما تبقَّى من الثلث بعد الوصيتين، يحتاج إلَى مال له ربعٌ وثلثٌ، والباقي من الثلث بعد إسقاط الربع ثلث، وأقله ستة وثلاثون، تأخذ ربعه، وهو تسعة، فنصرفها إلى الوصيَّة بالتكملة، والنصيب، وإذا أسقطنا تسعةً من الثلث؛ يبقَى ثلاثة، نصْرِفُ منها واحداً إِلَى الثالث؛ يبقى اثنان، تزيدهما على ثلثَي المال، يكون ستة وعشرين، تعدل أنصباء الورثة، وهي خمسة، نبسطها بأجزاء سنة وثلاثين، ونقلب الاسم، فالمال مائة وثمانون، والنصيب ستة وعشرون؛ نأخذ ثلث المال، وهو ستون، وتلقى منه ربعه، وهو خمسة وأربعون بالوصيتين الأُولَيَيْنِ، ستة وعشرون بالوصية بالنصيب، والباقي بالوصية الأُخرى؛ يبقَى من الثلث خمسة عشر، نصرفُ ثلثها إِلى الوصية الثالثة؛ يبقى عشرة تزيدها على ثلثَي المال، تبلغ مائة وثلاثين، لكلِّ واحد ستة وعشرون. ومنْها: الوصيةُ بالتكملةِ مع الوصية بالنَّصِيبِ مستثنًى منه جزءٌ مما تبقَّى من المال. أربعة بنين، وأوصى لزيد بتكملة الثلث بنصيب أحدهم، ولعمرو بمثل نصيب أحدهم إلاَّ خمس ما يبقى من المال نأخذ ثلث المال، ونصرفه إِليهما بالنصيب والتكملة، ونسترجع من النصيب خمس الباقي، ولنقرر المال خمسة عشر؛ ليكون الباقي بعد الثلث خمس فالثلث المخرج بالنصيب والتكملة؛ إذن خمسة نسترجع من النصيب خمس الباقي، وهو اثنان؛ فالحاصل معنا اثنا عشر جزءاً من خمسة عشر جزءاً من المال، وذلك يعدل أنصباء الورثة، وهي أربعة، نبسطُهَا بأجزاء خمسةَ عَشَرَ، ونقلب الاسم، فالمال ستُّون، والنصيبُ اثنا عشر، نأخذ ثلث المال، وهو عشرون، ونلقى منْها النصيب اثنَيْ عَشَرَ؛ يبقى ثمانية، وهي التكملةُ، وندفعها إلى زيدٍ، ونسترجع من النصيب خُمس الباقي، وهو ثمانية، يبقى لعمرو أربعة، فالوصيتان جميعاً اثنا عشر؛ يبقى ثمانية وأربعون للبنين؛ لكل واحدٍ اثنا عَشَرَ. ومنها الوصية بالتكملة، مع الوصية بالنصيب مستثنى منه جزءٌ مما تبقى من جزء من المال: خمسة بنين، وأوصى لزيد بتكملة الربع بنصيب أحدهم، ولعمرو بمثل نصيب أحدهم، إِلاَّ ثلث ما تبقَّى من الثلث بعد ذلك، نحتاج إِلى مال له ربعٌ وثلثٌ، وللباقي من الثلثَ بعد إسقاط الربع ثلُثٌ، وأقله ستة وثلاثون، نأخذ ربعه، وهو تسعةٌ،
فصل
فتصرفُهَا إلى الوصيتين، وتسترجعِ من النصيب ثلُثَ ما تبقَّى من ثلث المال، وهو واحد تزيده عَلَى الباقي من الثلثُ يبقَى أربعةً، نزيدها عَلَى ثُلُثَيِ المال، تبلغ ثمانية وعشرين جزءاً من ستة وثلاثين جزءاً من مال، وذلك يعدل أنصباء الورثة، وهي خمسة، نبسطها بأجزاء ستة وثلاثين، ونُقْلِبُ الاسم؛ فالمال مائة وثمانون، والنصيب ثمانية وعشرون، نأخذ ربع المال، وهو خمسة وأربعون، فنلقي منه نصيبًا، وهو ثمانية وعشرون؛ يبقَى سبعة عشر، فهي التكملة، ثم نلقي الربع من الثلث جميع المال، وهو ستون، يبقى خمسةَ عَشَرَ؛ نسقط ثلثها من النصيب؛ يبقَى لعمرو ثلاثةٌ وعشرونَ، والوصيتان معاً أربعون؛ يبقى مائة وأَربعون للبنين؛ لكلِّ واحدٍ ثمانيةٌ وعشرون. فَصْلٌ في الوصيَّة بالنصيب مستثنىً من التكملة: ثلاثة بنينَ، وأوصَى بمثل نصيب أحدهم، إلاَّ تكملة ثلث ماله بالنصيب، نَجْعَلُ ثلث المال دينارًا ودرهمًا، ونجعل النصيب ديناراً، ندفعه إِلى الموصى له، ونَسترجع منه درهماً؛ لأَنَّ التكملة درهمٌ يبقى من الثلث درهمان، تزيدهما على الثلثين تبلغ دينارين وأربعة دراهم، تعدل أنصباء الورثة، وهي ثلاثة دنانير، فتسقط المثل بالمثل؛ يبقى أربعة دراهم في معادلة دينار، فنقلب الاسم، ونقول: الدينار أربعة دراهم والدراهم واحد فالثلثُ خمسةٌ، والمال خمسةَ عَشَرَ، تأخذ ثلث المال، وهو خمسة، ندفع منها إلى الموصَى له نصيبًا، وهو أربعةٌ، وتسترجع واحداً، وهو التكملة؛ يبقَى للموصَى له ثلاثةٌ، تطرحُهَا من المال، يبقى اثنان عَشر؛ لكلِّ واحدٍ من البنينَ أَربعةٌ. فَصْلٌ في الوصايا المتعرضة للجُذُور، والكعاب. الجَذْرُ: كلُّ مضروب في نفسه، والحاصل من الضرب يُسَمَّى مالاً، ومجذوراً، ومربَّعًا والكَعْبُ كل ما ضرب في مثله، ثم ضرب مبلغه فيه، والحاصل من الضربين يُسمَّى مكعَّبًا، فالواحدُ جذْره، وكَعْبُه الواحدُ. والأعداد ضربان: أحدهما: ماله جذرٌ صحيحٌ، فينطق به؛ كالأربعة؛ جَذْرُها اثنان، والتسعة جَذْرُها ثلاثة، والمائة جذرها عشرة. والثاني: ما ليس له جَذْرٌ، ينطق به، وإنما يُسْتخرجُ جذره بالتقريب؛ كالعشرة، والعشرين، ويقال له الأصمُّ، وفي التسبيحات: سُبْحَانَ مَنْ يَعرِفُ جذْرَ
الأَصَمِّ (¬1). وكذلك من الأَعداد: ماله كَعْبٌ ينطق به، كالثمانية كَعْبها اثنان، والسبعة والعشرون كعبها ثلاثة: ومنها: ما ليس له كعبٌ ينطق به؛ كالعَشَرَةِ والمائةِ، وإنما يستخرج كعبه بالتقريب، وقد يكون العدد منطوقًا بجذره وكعبه؛ كالأَربعة والستِّين، جذرها ثمانيةٌ، وكعبها أَربعة، وقد يكون أَصمَّ في الجذر، دون الكتب؛ كالسبعة والعشرين، أو في الكتب، دون الجذر؛ كالأَربعة، والتسعة، أَو فيهما كالعشرة (¬2). إِذا عرف ذلك، فتعرض الوصية للجذر والكعب يفرض من وجوه: منْهَا: الوصية بجذْر، المال، قال الأستاذ أبو منصور: تفرض المسألة من عدد مجْذُور، إذا سقط منه جذره، انقسم الباقي صحيحاً عَلَى سهام الورثة، فإذا أَوْصَى بجذر ماله، وله ثلاثة بنين، فإِن جعلت المال تسعةً، فللموصى له ثلاثة، والباقي بين البنين لكلِّ [ابن سهمان، وإن جعلته ستة عشر فللموصى له أربعة والباقي للبنين لكل] (¬3) واحدٍ أربعةٌ، ولو أوصَى بكعب ماله، والورثة هؤلاء، يجعل المال عدداً مكعباً إذا سقط منه كعبه انقسم الباقي على سهام الورثة بلا كَسْر، فإذا جعل المال ثمانية، فاثنان للموصَى له، والباقي بين البنين، وإن جعلته سبعة وعشرين، فثلاثةً للموصَى له، والباقي بين البنين، وقضى الإمام العَجَبَ مِنْ إرساله الكَلاَمَ هكذا؛ لاستحالة أن يكون الأمر في ذلك عَلَى التخيير، والفرض كيف شاء الفارض، فإنَّ الأقدار تختلف باختلاف العدد المفروض، فهذا كان المال تسعةً، فالجذر ثلاثة المال، وإن كان ستةَ عَشَرَ، فالجذر أربعة. وفيه إشكالٌ آخرُ: وهو أن كلَّ عددٍ مجذورٌ إِلاَّ أنَّ من الأعداد: ما لا ينطق بِجذرِهِ، ومنْها: ما ينطق على ما سبق، وليس في اللفظ إِلاَّ جَذْر المال، فلم حمل على مجذور صحيحٍ؟! ولم شرط أَن ينقسم الباقي عَلَى الورثة صحيحاً؟ فإِذَنْ: كلام الأُستاذ؛ عَلَى ما بينه الإِمام، محمولٌ على ما إِذا قيد الموصى وصيَّته بما يقتضي الحمل عَلَى عدد معيَّن من الأعَداد المجذورة، فإِذا قال: نزلوا مالٍ على أوَّلِ مجذورِ صحيحٍ، إذا خرج جذره، انقسم الباقي على سهام ورثتي بلا كسر، تعيَّن الحمل في الصورة المذكورة عَلَى تسعة، وكانت الوصية بثلث المال، وإِن عين مرتبة أخرَى، تعينت. قال الإمام: فإن أطلق الوصيةَ بالجذر، ولم يقيد بشيء من ذلك، لكن أَراد بالجذر ما يريد الحُسَّاب، فإِن كان مالهُ مقَدَّرًا بِكَيْلٍ، أو وزنٍ، أو زَرْعٍ؛ كالأرض، أو ¬
عددٍ؛ كالجوز -نُزِّلَ عليه، ثم إِن كان جذره مما ينطق به، فذاك، وإلاَّ فالقَدْرُ المستيقَنُ يسلم للموصَى له، والقدر المشكوك فيه يفصل أمره بالتراضي، وإِن لم يكن المال مقدَّرًا بِشَيْءٍ من ذلك؛ كعبد وجارية، قُوِّمَ ودُفِعَ جذر القيمة إِلى الموصَى له. ومنْها: الوصيةُ بجَذْر النصيب، فلو أوصَى من خلف ثلاثة بنين يجذر نصيب أحدهم: قال الأستاذ: يجعل نصيبُ كُلِّ ابنٍ عَدَدًا مجذورًا، ثم يجمع أنصباء البنين، ويزاد عليها جذر نصيب أحدهم، فما بلغ تصحُّ منه القسمة، فإن جعلنا نصيب كلِّ ابنٍ واحد، فأنصباؤهم ثلاثةٌ، تزيد عليه واحداً، تبلغ أربعة، تصح منه القسمة، وإن جعلنا النصيب أربعةً، فأنصباؤهم اثنا عشر، تزيد عليها اثنين، يبلغُ أربعة عشر، تصحُّ منه القسمة، ولو أوصَى بجذرَي نصيب أحدهم، وفرضنا النصيب أربعةً، فأنصباؤهم اثنا عشر، تزيد عليها جذري النصيب، تبلغ ستة عشر، منها تصحُّ القسمة، ولو أوصى بكعب نصيب [أحدهم جعلنا النصيب مكعبًا وجمعنا الأنصباء، وردْنَا عليها كعْبَ نصيبٍ] (¬1) قال الإمام: وليكن هذا الجوابُ فيما إِذا تَقَيَّدَتِ الوصيةُ، كما ذكرنا، وفيما إِذا قال السائل: كيف يصوِّر عدد تصحُّ منه الوصية والميراث؛ فيجاب بأنه يمكن فيه وجوه؛ منْها: كيت وكيت، أَما إِذا أطلق الوصيَّة بجذر النصيب، فقد ذَكَر فيه احتمالين: أظهرهما: أَنه ينظر في حصة ابن مِنَ التركة، فيؤخذ جذره منطوقاً به، أو أصم، كما ذكرنا في جذر جميع المال، فيزاد على مسألة الورثة. والثاني: أنه يُنْظر في نصيب كل واحد من سهام المسألة، فيُؤخَذُ جذره، ويزاد على مسألة الورثة، وعلى هذا، فنصيب كلِّ ابن هاهنا واحدٌ، فيزاد على السهام الثلاثةِ واحدٌ، ويصير الحكم كما لو أوصَى بنصيب أحدهما. ومنْها: الوصية بجذْر [النصيب وجذرِ المال معاً، فَلَوْ أَوصَى من خلّق ثلاثةُ بنين بجَذْر] (¬2) نصيب أحدهُمْ لزيد، ولعمرو بجذر جميع المال، فالمفهوم من كلام الأستاذ: أنْ يقال: إذا كَان وصية زيدٍ جذْرَ نصيب ابن، فنصيب كلِّ ابنٍ مالٌ، ثم يجعل المال أَموالًا لها جذور صحيحة، فإنْ شئت جعلتها أَربعة أموال، فتكون وصية عمرو جَذْرَيْنِ، كما أن جذر أربعة من العدد اثنان، فتكون الوصيتان ثلاثة أجذار، نسقطها من المال؛ يبقى أربعة أموال، إلاَّ ثلاثة أجذار، تعدل أنصباء الورثة، وهي ثلاثة أموال، فتجبر وتقابل، فأربعة أموال تعدل ثلاثة أموال، وثلاثة أجذار، فتسقط الجنس بالجنس، فمال يعدل ثلاثة أجذار، فالجذر ثلاثةٌ، والمال تسعةٌ، وتقدير الكلام: مالٌ يعدلُ ثلاثة أجذاره؛ حينئذٍ: فالتركة ستةٌ وثلاثونَ؛ لأنها أربعة أموال، ونصيب كل ابن تسعة يأخذ ¬
زيدٌ جذر النصيب، وهو ثلاثة، وعمرو جذْرَ المال، وهو ستةٌ، يبقَى سبعةٌ وعشرون للبنين، وإِن شئت جعلْتَهَا تسعةَ أَموال، فيكون وصية عمرو ثلاثة أجذار، كما أن جذر تسعة من العدد ثلاثة، فتكون الوصيتان أربعة أجذار، نسقطها من المال، يبقى تسعة أموال إِلاَّ أربعة أجذار، تعدل أنصباء الورثة، وهي ثلاثة أموال، فتجبر وتقابل، فتسعة أموال تعدل ثلاثة أموال وأربعة أجذار تسقط الجنس بالجنس، فستة أموال تعدل أربعة أجذار، فمال يعدلُ ثُلُثَيْ جذر، فالجذر ثلثا درهم، والمال أربعة أتساع، وقد كان المال تسعة أموال، فهي إِذن أربعةُ دراهم، والنصيب أربعة أتساع: لزيدٍ، جذرُ النصيب، وهو ثلثا درهمٍ، ولعمرو جذر المالِ، وهو درهمان؛ يبقى درهم وثلث بَيْن البنين؛ لكلِّ واحدٍ أربعة أتساع، ولو أوصَى لزيد بجَذْر نصيب أحدهم، ولعمرو بجَذْر ما تبقى (¬1) من المال، فوصية زيد جذرٌ، وكل نصيب مالٍ، ويجعل المال بعد وصية زيد أموالًا لها جذورٌ صحيحةٌ، فإن شئت جعلتها أربعة أموال، فتكون وصية عمرو جَذْرَيْنِ، وجملة المال أربعة أموال، أو جذوراً، فإذا أسقطت الوصيتين من المال يبقَى أَربعةُ أموال إِلا جذرين، تعدل ثلاثة أَموال، فتجبر وتقابل فأربعَة أموال تعدل ثلاثة أَموال وجذرين، فتسقط الجنس بالجنس، فمال يعدل جذرين، والجذر اثنان، فالمال أربعة، وقد كان جميع المال أَربعة أَموال وجذراً؛ فهو إذَنْ: ثمانية عشر؛ اثنان منْها لزَيْدٍ؛ يبْقَى ستة عشر: جَذْرُها لعمرو، وهو أَربعة، يَبقَى اثنا عشر للبنين، وإن شئت، جعلتها بعد وصية زيد تسعةَ أَموالٍ، فتكون وصية عمرو ثلاثةَ أجذارٍ، وجملة المال تسعة أَموال وجذر، فإذا أَسقطت الوصيتين، يبقَى تسعة أَموال إِلاَّ ثلاثة أَجذار، تعدل أنصباء الورثة، وهي ثلاثة أموال، فبعد الجبر، والمقابلة، وإسقاط الجنس بالجنس، يبقَى ستة أموال في معادلة ثلاثة أجذار، فالمال الواحدُ يعدِلُ نصف جذر، فالجذر نصف درهم، والمال ربع، وكأنَّ جميع التركة تسعة أموال وجذراً؛ فهو إِذَنْ: درهمان، وثلاثة أَرباع درهم؛ لزيد جذر النصيب، وهو نصف درهم؛ يبقَى درهمان وربع، لعَمْرو جذره، وهو درهم ونصف، يبقَى ثلاثة أَرباع درهم للبنين، قال الإمام: وهذه المسائل كلُّها وضعيَّة، وطريق تطبيقها على الفقه ما سَبَقَ. ومنها: الوصية بالنصيب والجَذْر، فإذا أَوْصَى، وله ثلاثُ بنين بمثل نصيب أحدهم، ولآخر بجذر المال؛ فيقدر كأن البنين أربعة، وأوصَى بجذر المال وحده، وقد بَانَ طريقُهُ. ومنها: الوصية بالنصيب وبجزء شائع وبجذر شائع والجذر كما إِذا حلَّف ثلاثة ¬
بنين، وأوصَى بمثل نصيب أحدهم، ولآخر بجذر المال، ولآخر بثلث ما يبقَى من الثلث، فنأخذ ثلث مال، فنلقي منه نصيبًا وجذرًا، يبقَى ثلث مال إِلاَّ جذراً ونصيباً، ونسقط ثلثه للوصية الثالثة، فيبقَى من الثلث تُسعا مال إلاَّ ثلثَي جذرٍ وإلاَّ ثلثي نصيب، نزيده على ثلثي المال، يبلغ ثمانية أتساع المال إلاَّ ثلثَيْ جذر، وإلاَّ ثلثي نصيب، يدل ثلاثة أنصباء، فتجبر، وتقابل؛ فيعدل ثمانية أتساع مال ثلاثة أنصباء، وثلثي نصيب، وثلثي جذر، فاجعل النصيب بعد ذلك أيَّ عدد شئت؛ بشرط أن نزيده على ضعف الجذر؛ فإن جعلته ثلاثة أمثال الجذر، فمعك مما انتهت المعادلة إِليه ثلاثة أنصباء، فيكون تسَعة أجذار، وثلثا نصيب؛ فيكون جذرين، وثلثا جذر؛ فالمبلغ أحدَ عَشَرَ جزءاً، وثلثا جذر؛ فإذن ثمانية أتساع مال تعدِلُ أحد عشر جذرًا، وثلثي جذر، فتكمل أجزاء المال بأن يزيد عليها ثمنها، ويزيد على عديلها مثله، تبلغ ثلاثة عشر جذراً وثمن جذر، فإذن مال يعدل ثلاثة عشر جذرًا وثمن جذر، فالجذر ثلاثة عشر وثمن، نضربه في مثله، يبلغ مائة واثنين وسبعين درهماً، وسبعةَ عَشَرَ جزءاً، من أَربعة وستين جزءاً من درهم فهو المال، نأخذ ثلثه، وهو سبعة وخمسون درهماً، وسبعة وعشرون جزءاً من أربعة وستين جزءاً من درهم، فنسقط منه جذر المال، ونسقط منه النصيب أيضاً، وقد فرضناه ثلاثة أمثال الجذر، فالحاصل أربعة أمثال الجذر، وهي اثنان وخمسون درهماً، ونصف درهم؛ يبقى من الثلث أربعةُ دراهمَ وتسعةٌ وخمسون جزءاً من أَربعة وستين جزءاً من درهم، يدفع ثلثها إِلى الموصَى له الثالث، وهو درهم واحد واحد وأربعون جزءاً من أربعة وستين جزءاً من درهم، فجملة الوصايا أَربعة وخمسون درهماً، وتسعة أجزاء من أَربعة وستين جزءاً من درهم، إذا أسقطها من المال، وهو مائتان، واثنان وسبعون درهماً، وسبعة عشر جزءاً من أربعة وستين جزءاً من درهم، وهي ثمن درهم، يقسم بين البنين، لكلِّ واحدٍ منهم تسعة وثلاثون درهماً، وثلاثة أثمان درهم، وهو ثلاثة أمثال الجذر، كما قررناه، هذا إِذا فرض النصيب عند المعادلة زائداً عَلَى ضعف الجذر، فإن فرض ضعْف الجذر أو أقَلّ، استحالت المسألة: بيانه: إِذا فرضْنَاه ضعْفَ الجذر، فالذي معنا، وهو ثلاثة أنصباء، وثلثا نصيب، يكون سبعة أجذار، وثلث جذر ومعنا أيضاً ثلثا جذر، فالمبلغ ثمانية أجذار تعدل ثمانية أتساع مال، فإن زدنا على كلِّ واحد منهما ثمنه، صَارَ مال يعدل تسعة أجذار، فيكون الجذر تسعةً، والمال أحداً وثمانين، نأخذ ثلثه، وهو سبعة وعشرون، ونسقط منه جذر المال، وهو تسعة؛ يبقى ثمانية عشر، نسقطها النصيب (¬1)، لأنَّا فرضناه ضعْفَ الجذر؛ فلا يبقى للوصية الثالثة شيْءٌ. ومنْها: الوصيةُ بالجزاء والنصيب مع استثناء الجُذُور منها: ¬
المثال: أَوصى، وله ثلاثة بنين بثلث ماله إِلا جذر جميع المال، يدفع إلى الموصى لمثلث المال، ونسترجع منه جذراً، يكون معنا ثلثا مال وجذر، يعدل أنصباء الورثة، وهي ثلاثة، فيجعل المال عدداً له ثلُثٌ صحيحٌ بشرط أن ينقسم ثلثاه زائداً عليه جذْرُهُ عَلَى ثلاثة وأقل، وليكن ذلك ستة وثلاثون، فندفع ثلثه إلى الموصَى له، وتسترجع منه جذر المال، وهو ستة، يَبْقَى عنده ستةٌ، فقد أخذ ثلث المال إلا جذر المال، يبقى ثلاثون للبنين، ولو أَوصَى بمثل نصيب أحدهم إلاَّ جذر جميع المال، نأْخذ مالاً، ونسقط منه نصيبًا، ونسترجع من النصيب جذر المالَ؛ يبقى مال وجذر إِلاَّ نصيبًا يعدل أنصباء البنين، فيجبر، ويقابَلُ، فمال وجذر يَعْدِل أَربعة أَنصبَاء، فيجعل المال عدداً مجْذُورًا، إِذا زيد عليه جذْرُهُ، انقسم عَلَى أَربعة، وليكن ستة عَشَرَ إِذا زيد عليه جذره، كان عشرين، إذا قسم على أربعة، يخرج من القسمة خمسة، فإذا نَقَصْتَ من النصيب جذرًا المال، يبقى واحد يدفع إلى الموصَى له، يبقى خمسة عشر للبنين، ولو أوصَى بمثل نصيب أحدهم إلاَّ جذر نصيب أحدهم، فالنصيب عدد مجذورٌ، فإِن جعلته أَربعة، فالوصيَّة اثنان، والأَنصباء اثنا عشر، وجملة المال أربعة عشر، إِذا دفعْتَ إلى الموصَى له اثنين، فقد أخذ مثل نصيب أحدهم إِلا جذر نصيب أحدهم، وإن جعلته تسعةً، فالأنصباء سبعةٌ وعشرون، والوصيَّةُ ستةٌ. ومنها: الوصية بالجُذُور المضافة إِلى الجُذُور: المثالُ: ثلاثةُ بنينَ، وأوصَى لزيدٍ بجذر نصيب أحدهم، ولعمرو بجَذر وصية زيد، ولثالث بجذر وصية عمرو: فاجعل وصية الثالث ما شئْتَ من الأَعداد، فإن جعلته اثنين، فوصيَّة عمرو أربعة، ووصية زيد ستة عشر، ونصيب كل ابن مائتان [وستة] (¬1) وخمسون، وجملة المال سبعمائة وتسعون، ولو أوصى لزيدٍ بجذر نصيب أَحدهم، ولعمرو بجذر باقي النصيب، فالنصيب مال، فاجعل وصية عمرو أيَّ عدد شئْتَ إِلاَّ جذرًا، فإن جعلته ثلاثة إِلاَّ جذرًا، فاضربها في مثلها، يحصل تسعة أعداد ومالٍ، إلاَّ ستة جذار؛ أَلا ترى أَنك إِذا أردتَّ بالجذور واحداً، كان الحاصل ضرب اثنين في اثنين، والمبلغ أربعة، ولا فرق بين أن يقول: أربعة، وبين أن يقول: تسعة من العدد ومال، وهو واحدٌ إلا ستة جذور، وهي ستة، والمبلغ المذكور، وهو تسعة ومال إلاَّ ستة أجذار يعدلُ الباقي من نصيب الابن بَعْدَ وصيَّة زيد، وهو مال إِلاَّ جذراً، فيجبر ما في هذا الجانب ستة أجذار، ويزيد عليه ستة أجذار؛ فإذن: تسعة من العدد ومالٌ يعدلُ مالاً وخمسة أَجذار، يسقط المال بالمال، يبقى تسعة من العدد في معادلة خمسة ¬
أَجذار، فالجذر الواحد درهم وأَربعة أَخماس، تضربه في مثله، فيكون أحدًا وثمانين جزءاً من أَجزاءِ خمسة وعشرين جزءاً من درهم، فهي ثلاثةُ دَرَاهِمَ وستة أجزاء من خمسة وعشرين جزءاً من درهم، وذلك نصيب ابن، ينقص منه وصية زيد، وهي جذْرٌ، ودرهم، وأربعة أخماس؛ يبقى ستة وثلاثون جزءاً من أَجزاء خمسة وعشرين، ينقص منها وصية عمرو، وهي جذر هذه الستة والثلاثين، وهو درهم وخمس، فالوصيتان مقابلته دراهم، والتركة اثنا عشر درهماً، وثمانية عشر جزءاً من خمسة وعشرين جزءاً من درهم. ومنها: الوصية الجامعةُ بين الجَذْر والتكملة: المِثَال: أَوصى بتكملة ثلث ماله بجَذْر نصيب أحدهم: يجعل ثلث المثال مالاً وجذرًا، ويدفع المال إِلى الموصى له، يَبْقَى جذره، نزيده على ثُلُثَي المال، يبلغ مالين وثلاثة أَجذار، وذلك يعدل أنصباء البنين، وهي ثلاثة أَموال، فنسقط مالين بمالين؛ يبقى ثلاثة أَجذار في معادلة مال؛ فالجذر ثلاثة، والمال تسعة ثلث المال اثنا عشر، والوصيةُ تسعةٌ، نسقطها من المال؛ يبقى سبعة وعشرون للبنين، وقد أَخذ الموصَى له ثلث المال، إِلاَّ جَذْر نصيب أحدهم، ولو أَوصى لزيدٍ بتكملة ربع ماله بجذر نصيب أَحدهم، ولعمرو بجذر ما يبقَى من ثلثه، فيجعل النصيب مالاً وثلث التركة مالاً ووصية زيد، وهي ربع التركة إِلاَّ جذراً، نسقط منه وصيَّة عمرو، وهي جذره؛ يبقَى من الثلث مال إِلاَّ جذراً نزيده عَلَى ثلثى التركة، وهو مالان ونصْفُ تركة إِلاَّ جذْرَيْنِ، يبلغ ثلاثة أَموال ونصف تركة، إِلاَّ ثلاثة أجذار يُعدل أَنصباء البنين، وهي ثلاثة أَموال فتجبر ما معنا بثلاثة أجذار، وتزيد على عديله مثلها، فثلاثة أموال ونصف تركة تعادل ثلاثة أموال وثلاثة أجذار، فتسقط الأَموال بالأموال؛ يبقى نصف تركة، في معادلة ثلاثة أَجذار؛ فالتركة إِذَنْ ستة أَجْذَارٍ، وثلثها جَذْرَان، وربعها جذْرٌ ونصف، وقد كان ثلث التركة مالاً وربع تركة إِلاَّ جذرًا، فإذا خرج جذر من ربع التركة؛ بالاستثناء، كان الباقي نصف جَذْرٍ، فهو وصية زيْدٍ، نسقطها من ثلث المال، وهو جذران؛ يبْقَى جذر ونصف، وذلك يعدل مالاً؛ لأنَّا جعلنا باقي الثلث مالاً، والجذر درهمٌ ونصفٌ، والمال درهم وربع، وهو نصيبُ كلِّ ابن، والتركةُ ستة أجذار، فهي تسعة دراهم، نأخذ ثلثها ثلاثة، ونسقط منه ربع التسعة إِلاَّ جذر نصيب، وهو ثلاثة أرباع درْهَم، وهي وصية زيد؛ يبقى من الثلث درْهَمَان وربع، نأْخذ جذره، وهو درهمٌ ونصفٌ لعمرو، ويبقى من الثلث ثلاثة أَرباع درهم، نزيدها على ثُلُثَي المال، وهو ستة؛ يكون ستة دراهم، وثلاثة أَرباع بين البنين؛ لكلِّ واحدٍ درهمٌ وربعٌ.
فصل
فَصْلٌ الوصايَا المتعرضة لمقدَّر من المال من دِرْهَمٍ، ودينار، وغيرهما: منْها: الوصيةُ بالنَّصِيبِ وبدرهم: المثال: أَربعةُ بنين، وأَوصَى بمثل نصيب أَحدهم، وبدرهم. قال الأُستاذ: اجعل التركة أَيَّ عددٍ شئْتَ بعد أَن يكون بحيث إِذا عزلت منْها درهماً، وقسمت الباقي بين البنين والموصَى له، على خمسة، كان النصيب الواحد مع الدرهم مثْلَ ثلث التركة أو أقلَّ، فإن جعلت التركة أحد عَشَرَ درهماً، فأسقط منها درهماً، يبقى عشرة، لكلِّ واحد سهمانِ، وإن جعلتها ثلاثة عشر، أسقطت درهماً، وقسمت البَاقِي بينهم فيخرج من القسمة اثنان وخُمْسان رُد على الخارج الدِّرْهَمَ المنقوصَ، يكون ثلاثة وخمسين للموصَى له، فإن أردتَّ أَن يزول الكسر، فانقص الدرهم من ثلاثة عشر، واضْرِب الباقي في خمسة، يكون ستين، لكلِّ ابن اثنا عشر؛ لأنه كان له اثنان وخُمُسان، فإِذا ضرب ذلك في خمسة، حصل اثنا عشر، وللموصى له مثل ذلك بزيادة درهم، واستدرك الإمام؛ فقال: القدر المدفوع إِلى المُوصَى له يختلف باختلاف الأعداد المفروضة، والفتوىَ لا تحتملُ التخيير بين القليل والكثير، فليحمل ما قاله الحُسَّاب على مثل ما مر في الفصل السابق، أَما إِذا أَطلق الوصيَّة، فتنزل على ما يوجد في التركة تعزل منها درهم، ويقسَّم الباقي بين البنين، والموصَى له، ثم إن انحصرت الوصية في الثلث، نفذت وإلاَّ اعتبرت الإجازة، وهذا الاستدراك لا بُدَّ منه في أكثر أنواع الفصل. ومنْهَا: الوصيةُ بالنصيب مع استثناء درهم. فإِذا أَوصَى بمثل نصيب أَحد البنينَ الأربعة إِلاَّ درهماً، فإن جعلْتَ للموصَى له درهمين، فاجعل لكلِّ واحد من البنين ثلاثة، واجعل التركة من أحد وعشرين، وإن جعلْتَ له ثلاثة، فاجعل لكلِّ واحد من البنين أَربعة، واجعل التركة من خمسة عشرة. ومنها: الوصية بجزءٍ شائعٍ وبدرهم، فإذا أوصَى، وله ثلاثة بنين بسُدُس ماله، وبدرهم، يخرج سدس التركة ودرهم، ويقسم الباقي بين الورثة، وبطريقة الجبر قالوا: نأخذ مالاً، وتسقط منه سدسه ودرهماً، يبقى خمسة أَسداس مال، إِلاَّ درهماً، يعدل ثلاثة أَنصباء، فيجبر، ويقابل، فخمسة أَسداس المال تعدل ثلاثة أَنصباء ودرهمًا فتكمل أجزاء المال؛ بأن يزيد عليها مثل خُمسها، ويزيد على العديل خمسة، فمال يعدل ثلاثة أنصباء، وثلاثة أخماس نصيبٍ ودرهمًا، وخمس درهم، فاضرب الأنصباء الثلاثة، وأخماس النصيب في عدد يبلُغُ الحاصل منه مزيداً عليه الدرهم والخمس عدداً صحيحاً
وذلك بأن نضربها في ثلاثة فيحصل عشرة دراهم وأربعة أخماس درهم إذا زدت عليه الدرهم والخُمُس يبلغ اثنَيْ عَشَرَ درهماً فمنها تصح القسمة: لصاحِبِ السدُس والدرهم ثلاثةٌ، ولكل ابن ثلاثة. ومنها: الوصيةُ بجزء شائعٍ مع استثناء درهم، فإذا أَوصَى، وله ثلاثة بنين بسدس ماله إِلاَّ درهماً، فيأْخذ مالاً، ونسقط منه سدسه، ونسترجع من السدس درهماً، يحصل معنا خمسة أسداس مال ودرهم، يعدل ثلاثة أَنصباء، فتكمل أَجزاء المال بأَن تزيد علَيْهَا خمسها، وتَزيدَ الخمس عَلَى كل ما في المعادلة، فمالٌ ودرهم وخمسُ درهمٍ يعدل ثلاثة أنصباء، وثلاثة أَخماس نصيب، فتضرب هذه الأَنصباء والأَخماس في عدد، إِذا نقص من الحاصل من الضرب درهمٌ وخمس، كان الباقي عدداً صحيحاً، وهو سبعة، فإِنه إِذا ضرب سبعة في ثلاثة وثلاثة أَخماس، حصل خمسةٌ وعشرون وخمس، فإِذا نقص منه درهم وخمس، كان الباقي أَربعة وعشرين، منها تصحُّ المسألة، ندفعُ سدسها إلى الموصَى له، ونسترجع منه درهماً؛ يبقى أَحد وعشرون للبنين. ومنها: الوصية بالنصيب، وبجُزْءِ، وبدرهمٍ، أَو دراهم، أَو مع استثناء درْهَمٍ أو دراهم: المثال: خمسة بنين، وأوصى لزيد بمثل نصيب أحدهم ودرهم، ولعمرو بثلث ما يبْقَى من ثلثه ودرهم، نأْخُذُ ثلث المال، وتسقط منه نصيبًا ودرهمًا؛ يبقَى ثلث مال إِلاَّ نصيبًا ودرهمًا تسقط لعمرو من هذا الباقي ثلثه ودرهماَ آخر، يبقى تُسْعَا مال إِلا ثلثَيْ نصيب، وإلا درهماً، وثلثي درهم، نزيده عَلَى ثلثي المال، يكون ثمانية أَتساع مال إِلا ثلثي نصيب، واِلا درهماً، وثلثي درهم، يعدل خمسة أَنصباء، فيجبر، ويُقَابل، فثمانية أَتساع مال تعدل خمسة أَنصباء وثلثي نصيب ودرهمًا وثلثيْ درهم، تكمل أَجزاء المال بأن تزيد عليها ثمنها، ويزيد عَلَى كل ما في المعادلة ثمنه، فمال يعدل ستة أَنصباء وثلاثة أَثمان نصيب ودرهمًا، وسبعة أَثمان درهم، فنطلب عدداً، إِذا ضرب في ستة وثلاثة أثمان، يكون الحاصل منه مزيدًا عليه درْهَمٌ، وسبعة اثمان عدداً صحيحاً، وهو ثلاثة، إِذا ضربناها في ستة وثلاثة أَثمان، حصل تسعة وعشر وثمن، إِذا زيد عليه درْهَمٌ، وسبعة اثمان كان أحداً وعشرين، فمنه القسمة، والنصيب ثلاثة، تُضْرَب الأنصباء في ثلاثة، نأْخذ ثلث المال، وهو سبعة، فندفع منها إِلى زيد أَربعةً بالنصيب والدرهم، يبْقَى ثلاثةُ تدفع ثلثها ودرهماَ آخرَ (¬1) إلَى عمرو؛ يبقى درهم، نزيدُهُ عَلَى ثلثَي المال، يكون خمسة عشر للبنين الخمسة. ¬
ولو أَوصَى، وله ستة بنين بِمِثْلِ نصيب أحدهم، ولآخر بسدس ماله إِلا درهماً، فنأخذ مالاً، وتسقط منه نصيبًا لأحدى الوصيتَيْن، وسدسه إلا درهماً للوصية الأخرَى؛ يبقى خمسة أَسداس مال ودرهم إِلا نصيبًا، يعدل ستة أَنصباء، فيجبر، ويقابل، وتكمل أَجزاء المال بزيادة خُمسها، وتزيد عَلَى كلِّ ما في المعادلة خَمسةٌ، فمال، ودرهم وخُمس درهم يعدل ثمانية أَنصباء، وخُمُسَيْ نصيب، فتضرب الأنصباء الثمانية والخمسين في عدد إِذا نقص، فما يحصل من الضرب درهم وخمس، كان الباقي عدداً صحيحاً، وهو ثلاثة، إِذا ضربناها في ثمانية وخمسين يحصل خمسة وعشرون، وخمس درهم، إِذا نقص منه درهمٌ وخمس، بقي أَربعة وعشرون، فمنها القسمةُ، والنصيبُ ثلاثة يدفع إِلى الموصَى له بالسدس السدس إلا درهماً، وهو ثلاثة، وإلى الموصَى له الآخر ثلاثة، يبقَى ثمانية عشر للبنين الستة. ومنْها: الوصية المعترضة للتكملة والدرهم، وما في معناه من الأَموال المقدَّرة. المثال: أَربعةُ بنين، وأَوصَى بتكملة ثلث ماله بنصيب أَحدهم، وبدرهمٍ، والمرادُ من الوصية الثلث إِلاَّ نصيب أَحدهم، وإلاَّ درهماً. استخراجها بالخطائين: أن نجعل المال خمسة عشر والنصيب ثلاثة، فنأخذ ثلث المال خمسة، ونسقط منها النصيب، ونسقط درهماً أيضاً؛ يبقَى واحد، هو الوصية، نسقطه من المال؛ يبقى أَربعةَ عَشَرَ، وكان ينبغي أن يكون اثنَيْ عشر، فقد زاد اثنان، وهو الخطأ الأَوَّلِ. ثم يجعل المال ثمانيةَ عَشَرَ، والنصيب أَربعة، فأخذ ثلثه ستة، ونسقط منه النصيب أربعة، ونسقط درهماً أيضاً، يبقى واحدٌ، وهو الوصية، إذا أَسقطناه مِنَ المال، يبقى سبعة عشر، وكان ينبغي أَن يكون ستة عشر، فقد زاد واحدٌ، وهو الخطأ الثاني، يسقط الأَقلُّ من أكثر، يبقى واحدٌ، نحفظه، ثم نضرب المال الأَول في الخطأ الثاني، يكون خمسة عشر، ونضرب المال الثاني في الخطأ الأول، يكون ستة وثلاثين، ونسقط الأقل من الأكثر، يبقى أحد وعشرون، فهو المال، ونضرب النصيب الأَول في الخطأ الثاني، يكون ثلاثة، ونضرب النصيب الثاني في الخطأ الأول، يكون ثمانية، نسقط الأقلَّ من الأكثر، يبقى خمسة، فهي النصيب، نأخذ ثلث المال، وهو سبعة، ونسقط منه النصيب خمسة ودرهمًا آخر، يبقى واحد، فهو الوصية، نسقطها من المال، يبقَى عشرون للبنين الأربعة. أربعة بنين، وأوصَى بتكملة ثلث ماله بنصيب أحدهم، ولآخر بسدس ماله إِلاَّ درهماً بقَدْرِ المال اثنَيْ عَشَرَ، والنصيب اثنين، فنأخذ ثُلُثَهُ، وهو أربعة، ونسقط منه النصيب اثنين، يَبْقَى للموصى له الأول اثنان، ونأخذ سدسه اثنين، ونسقط منه واحداً؛
يبقى للوصية واحدٌ، ينقص الوصيتين من المال، يبقى تسعة، وكان ينبغي أن تكون ثمانية، فقد زاد واحد، وهو الخطأ الأول، ثم نجعل المال ثمانيةَ عَشَرَ، والنصيب أربعة، فنأخذ ثلثه ستة، ونسقط منه النصيب؛ يبقَى الوصية اثنان، نأخذ سُدُسَهُ بثلثه، ونسقط منه واحداً؛ تبقى الوصية اثنان أيضاً، نسقطهما من المال، يبقَى أربعة عشر، وكان ينبغي أن تكون ستة عشر، فقد نقص اثنان بجميع بين الخطأين، يبلغ ثلاثة، نحفظها، فهي المقسُوم علَيْهَا. ثم نضرب المال الأول، وهو اثنا عشر في الخطأ الثاني، وهو اثنان، تكون أربعة وعشرين، ونضرب المال الثاني في الخطأ الأول، تكون ثمانية عشر، نجمع بينهما، تبلغ اثنين وأربعين، نقسمه على الثلاثة المحفوظة، تخرج من القسمة أربعة عشر، فهو المال،] (¬1) ثم نضرب النصيب الأول في الخطأ الثاني، يكون أربعة، ونضرب النصيب الثاني في الخطأ الأول، يكون أربعة؛ نجمع بينهما، يبلغ ثمانية، نقسمهما على الثلاثة، يخرج من القسمة درْهمَان وثلثان، فهو النصيب، نأخذ ثلث المال، وهو أربعة وثلثا درهم؛ فنسقط منه نصيبًا، نبقي درهمان للموصي الأول، ونأخذ سدسه، وهو درهمان وثلث درهم ونسقط منه درهماً يبقى درهم وثلث للموصى له الثاني، نجمع بين الوصيتين، ونسقطهما من المال، يبقَى عشرة وثلثا درهم للبنين؛ لكلِّ واحدٍ منهم درهمان وثلثان. فَرْعٌ: ابنان وأوصى لزيدٍ بمثل نصيب أحدهما, ولعمرو بمثل ما تبقى من النصف وبدرهم، والتركة عشرون درهماً: نأخذ نصف التركة عشرة، ونسقط منه نصيبًا لزيد، يبقى عشرة إِلاَّ نصيبًا تسقط من هذا الباقي نصفه ودرهمًا لعمرو، وهو ستة إِلاَّ نصف نصيب؛ يبقى من العشرة أَربعةٌ إِلا نصف نصيب، نزيدها على نصف المال، يبلغ أَربعة عشر درهماً إِلاَّ نصف نصيب، يَعْدِل نصيبي الابن، يجبر، ويقابل، فأَربعة عشر تعدل نصيبين ونصف نصيب، نبسطها أنصافاً، فالمال ثمانية وعشرون، والنصيب خمسة، يُقَسَّم المالُ على النصيب، يخرج من القسمة خمسة دراهم، وثلاثة أخماس درْهَمٍ، فهو النصيب، نأخذ عشرة، وندفع منها إلَى زيدٍ خمسة دراهم وثلاثة أخماسٍ؛ يبقى منها أَربعة دراهم وخمسان، ندفع نصفها، وهو درهمان وخمسٌ، ودرهمًا آخَرَ إلَى عمرو؛ يبقى من العشرة درهمٌ وخمس، تزيده على العشرة الأخرَى، يكون أحد عشر وخمسًا للابنين، لكلِّ واحدٍ خمسةُ دراهم، وثلاثة أَخماسِ درهمٍ. آخَرُ: ابنانِ، وأوصَى لزيد بمثل نصيب أحدهما، إِلاَّ ثُلُثَ جميعِ المالِ، ولعمرو ¬
فصل
بثلث ما يبقَى من الثلث، وبدرهم، والتركةُ ثلاثون درهماً، فنأخذ ثلث المال، وهو عشرة، ونسقط منه نصيبًا، ونسترجع من النصيب ثلث المال، وهو عشرة، يَحْصل معنا عشرون إِلاَّ نصيبًا، نَدْفَعُ ثلثه، وهو ستة دراهم، وثلثا درهم إِلاَّ ثلثَ نصيبٍ، ودِرْهَمَاً آخَرَ إلى عمرو؛ يبقى اثنا عشر درهماً، وثلث درهم إِلاَّ ثلثي نصيب، نزيدهَ على ثلثي المال، يبلغ اثنين وثلاثين درهماً، وثُلُثَ درهمٍ إلاَّ ثلثي نصيب يعدِلُ نصيبين، فتجبر، وتقابل، فاثنان وثلاثون درهماً وثلث درهم تَعْدِلُ نصيبين وثلثَيْ نصيب، فنبسطها أَثلاثاً، فالنصيب ثمانيةٌ، والمال سبعة وتسعون، تُقَسَّم أَجزاءُ المال عَلَى أجزاء النصيب، يخرج من القسمة اثنا عشر درهماً، وثمن درهم، فهو النصيبُ، نأخذ اثنَيْ عشر درهماً وثمن درهم، نسترجع منه ثُلُثَ المالِ، فهو عشرة يبقَى معه درهمان وثمن درهم هي وصيةٌ، نسقطها من ثلث المال، يبقَى سبعة دراهم وسبعة أَثمان، ندفع ثلثها ودرهماً إلى عمرو، وذلك ثلاثة دراهم وخمسة أثمان درهم؛ يبقى أَربعة دراهم وربع درهم، نزيدها عَلَى ثلثي المال، وهو عشرون؛ تبلغ أَربعة وعشرين درهماً وربع درهم للابنين، هذا طريق الحساب فيه. وقال الإمام: لو انفردتِ الوصيةُ الأُولَى، لبطلَتْ؛ لكون الاستثناء مستغرقاً إِلاَّ أَنه لما اقترنت بهاَ الوصيةُ الأخرَى، أَخْرَجْتهَا عن الاستغراق، فيجيء تردد في صحتها، وقد سبق في نظائره. فَصْلٌ في نوادِرِ الفُصُول المتقدِّمَةِ: مسألة: ثلاثةُ بنين وبنتٌ: وأوصَى لزيدٍ بمثل نصيب البنت، وثلث ما أوصَى به لعمرو ولعمرو بمثل نصيب أحد البنين وربع ما أوصى لزيد، فتجعل وصية زيدٍ عدداً له ربعٌ، وليكن أربعةَ دنانير، وصيَّة عمرو عدداً له ثلثٌ، وليكن ثلاثة دراهم، وليعلم أَنَّا إِذا نقصنا من وصيَّة زيد ثلُثَ وصيَّة عمرو، وهو درهم، بَقِيَ أربعة دنانير، إلا درهماً، وذلك نصيب البنت؛ لأن جملة وصية زَيْد مثل نصيب البنت وثلث وصية عمرو، وإذا نقَصْنا من وصية عمرو رُبُعَ وصية زيد، وهو دينار بَقِيَ ثلاثةُ دراهم إِلا ديناراً، وهو نصيب الابن، وإِذا تبيَّن أَن نصيب البنت أَربعة دنانيرَ، إِلا درهماً، ونصيب الابن ثلاثة دراهم إِلاَّ ديناراً، فيقابل بين الجملتين، فيضعف نصيبُ البنت؛ ليعادلَ نصيب الابن، وضعفه ثمانية دنانير إِلاَّ درهمين، تعدل ثلاثة دراهم إِلاَّ ديناراً، فنجبر كل واحد من الاستثنائين، ونقابل فتسعة دنانير تقابل خمسة دراهم، فالدينار خمسةُ أَسهم، والدرهم تسعة أَسهم، وكانت وصية زيد أَربعةَ دنانير، فهي إذن عشرُونَ، ووصية عمرو ثلاثةُ دراهم، فهي إِذن سبعة وعشرون، ونصيبُ كلِّ ابنٍ اثنان وعشرون؛ لأنه ثلاثةُ دراهم،
وهي سبعةٌ وعشرون إلاَّ ديناراً، وهو خمسةٌ ونصيب البنت أحدَ عَشَرَ؛ لأَنه أَربعة دنانير، وهو عشرون إِلاَّ درهماً، وهو تسعة، فوصيةُ زَيْدٍ مثلُ نصيب البنت، وهو أَحَدَ عَشَرَ مثل ثلث وصية عمرو، وهي تسعة، ووصية عمرو مثلُ نصيب ابنٍ، وهو اثنان وعشرون، مثل ربع وصية زَيْدٍ وهو خمسة. مسأَلة: أَربعةُ بنين وبنتٌ: وأَوصى لزيد بمثلِ نصيب ابنٍ إِلاَّ ثلث ما يبقَى من أربعة بعد النصيب، ولعمرو بثلث ما يبقَى من ثلثه بعد الوصَية الأولَى، نأخذ ربع مالٍ، ونُلقِي منه نصيبين لأنا نسمي كلّ سهم من سهام المسألة نصيبًا، ولكل ابنٍ سهمان، فيبقَى ربع مال إِلاَّ نصيبين يزيدُ عليه ثلاثة للاستثناء، فيبلغ ثلث مال إِلاَّ نصيبين وثلثَيْ نصيب، وهذا هو الباقي من الربع بعد الوصية الأُولَى، ونحن نحتاج إلَى معرفة الباقي، من الثلثَ بعْد الوصيَّة الأولَى؛ لندفع إلى عَمْرو ثلاثة، فنزيد عليَه ما بَيْن الثلث، والربع، وهو نصف سدس، فيبلغ ربع قال وسُدُس مال، إِلاَّ نصيبين وثلثي نصيب، فيدفع ثلثه إلى عمرو، وتبقى عشرةُ أجزاء من ستة وثلاثين جزءاً من المال، إلاَّ نصيبًا، وسبعة أَتساع نصيبٍ نزيدها على ثلثَي المال، تبلغ أَربعةً وثلاثين جزءاً من ستة وثلاثين جزءاً من المال، إِلاَّ نصيبًا وسبْعَة أتْسَاع نصيب، فنضربها تعدل أنصباء الورثة، وهي تسعة، فتجبر وتقابل فأربعة وثلاثين جزءاً من ستة وثلاثين جزءاً من مال يَعْدِلُ عشرة أنصباء وسبعة أتساع نصيب، فنضربها في ستَّة وثلاثين، نقلب الاسم فيهما، فالنصيب أَربعة وثلاثون، والمال ثلاثمائة وثمانية وثمانون، لكن ليس له ثلثٌ صحيح، فنضربه في ثلاثة، يبلغُ ألفًا ومائة وأَربعة وستين، ويكون النصيب مائةً واثنين، نأخذ ربع المال، وهو مائتان، واحد وتسعون، فنلقي منه نصيبين، وهو مائتان وأربعة، تبقَى سبعة وثمانون، نأخذ ثلثها، وهو تسعة وعشرون، فنلقيه من النصيبين، فيبقَى مائة وخمسة وسبعون، فهي الوصية الأَولَى، فنسقطها من ثلث المال، وهو ثلاثمائة وثمانية وثمانون، يبقَى مائتان وثلاثة عشر، ندفع ثلثها إِلَى عمرو، وهو أَحد وسبعون يبْقَى مائة واثنان وأربعون، نزيدُها على ثلثَي المال، تبلغ تسعمائة وثمانية عشر؛ لكل ابن مائتان وأَربعة، للبنت مائة وسهمان. مسألة: ثلاثةُ بنين، وأوصَى بمثل نصيب أحدهم إِلاَّ ما انتقص من أحدهم بالوصيَّة، فنقول: لو لم تكن وصية، لكان لكلِّ ابن ثلث المال، وقد انتقص منه بالوصية شيءٌ، فثلث المال نصيب وشيء، والمالُ كلُّه ثلاثة أنصباء وثلاثة أشياء، ندْفَعُ إِلى الموصَى له نصيبًا إِلا شيئاً؛ يبقَى معنا نصيبان وأربعة أشياء، تعدل ثلاثة أنصباء، نسقط نصيبين بنَصِيبَيْنِ؛ يبقَى نصيبٌ يعدلُ أربعة أشياء فالنَّصيب أربعة أسهم، فالشيء سهم، وكانت التركة ثلاثة أنصباء وثلاثة أشياء، فهي إذن خمسة عشر سهماً، والوصية نصيب إِلاَّ شيئاً، فهو ثلاثة أسهم، يبقَى اثنا عشر للبنين، وقد أخذ الموصَى له مثلَ
نصيب أحدهما، إلا ما نقص بالوصية، وهو سهمٌ من خمسة عشر؛ لأنَّه لولا الوصيةُ، لكان لكلِّ واحد منهم خمسة من خمسة عشر. ولو أوصَى، وله ثلاثة بنين بربع ماله، إِلاَّ ما انتقص من أحدهم بالوصيَّة، فثلث المال عَلَى ما ذكرنا نصيبٌ وشيء، وجملة المال ثلاثةُ أنصباء وثلاثة أشياء، نأخذ ربُعَهَا، وهو ثلاثة أرباع نصيب، وثلاثة أرباع شيء، فنسقط منه قدْر النقصان، وهو شيء، يَبْقَى ثلاثة أَرباع نصيب إِلاَّ ربع شيء، نسقط ذلك للموصَى له من جملة المال، وهو ثلاثة أَنصباء وثلاثة أَشياء؛ يبقَى نصيبان وربع نصيب، وثلاثة أَشياء وربع شيء يُعدل ثلاثة أنصباء، فنسقط المثل بالمثل يبقَى ثلاثة أرباع نصيب، تعدل ثلاثة أَشياء وربع شيء، فالنصيب الكاملُ يعدل أَربعة أَشياء، وأَربعة أَجزاء من اثنَيْ عشر جزءاً من شيء، فنبسطها بأجزاء [خمسة عشر،] (¬1) ونقلب الاسم، فالشيء اثنا عشر، والنصيبُ اثنان وخمسون، وجملة المالِ مائةٌ واثنان وتسْعون، نأخذ ربع المَالِ، وهو ثمانية وأربعون، ونسقط منه ما انتقص من نصيب أَحدهم، وهو اثنا عشر؛ لأَنه لولا الوصية لأَخَذَ كُلُّ واحدٍ منهم أَربعةً وستين؛ يبقَى ستة وثلاثون، هي الوصية، نسقطها من المال؛ يبقَى مائة وستة وخمْسُون، لكلِّ واحد اثنان وخمسون. مسألةٌ: ثلاثةُ بنينَ، وأوصَى لزيدٍ بمثل نصيب أَحدهم، إِلا ربع ما يبقَى من ماله بَعْد جميع الوصايا, ولعمرو بمثلِ نَصيبِ أَحدهم، إِلا خمس ما يبقَى من ماله بَعْد الوصايا, ولثالثٍ بمثل نصيب أحدهم إِلاَّ سدسَ ما يبقَى من ماله بَعْد الوصايا، فيعلَمُ أَن الباقِيَ من المال بعد الوصايا كلِّها ثلاثةُ أَنصباء، فوصيَّة زيدٍ نصيبٌ إِلا ربع ثلاثة أنصباء، وهو ثلاثة أَرباع نصيب؛ يبقَى وصية بربع نصيب، ووصية عمرو نصيب إِلاَّ خمس ثلاثة أنصباء، وهي ثلاثة أَخماس نَصِيب؛ يبقَى وصيةٌ بخمس نصيب، ووصيةُ الثالثِ بنصيب إِلا سدسَ ثلاثةِ أَنصباء، وهي نصفُ نصيب، فوصيته بنصفِ نصيبٍ، فجملة الوصايا ربُعُ نصيبٍ وخمسا نصيب، ونصف نصيب، وهي نصيبٌ وثلاثة أَجزاء من عشرين جزءاً من نصيب؛ فيبقَى مال إِلا نصيبًا، وثلاثة أَجزاءٍ من عشرين جزءاً من نصيب، وذلك يعدل ثلاثة أَنصباء، فيجبرُ ويُقابَلُ: فمال يعْدِلُ أَربعة أَنصباء، ثلاثة أَجزاء من عشرين جزءاً من نصيب، نَبْسُطها بأجزاء عشرين، ونقلب الاسمَ، فالمال ثلاثةٌ وثمانون، والنصيبُ عشرون؛ نلقى الوصايا كلَّها وهي ثلاثةٌ وعشرون؛ يبقَى ستون للبنين، ولزيد نصيب إلا ربع ما يبقَى من المال بَعْدَ الوصايا، وهو خمسةَ عَشَرَ، فله خمسةٌ، ولعمرو نصيبٌ إِلا خمس ما يبقَى بعد الوصايا، وهو اثنا عشر، فلَهُ ثمانية، وللثالث نصيب إِلا ¬
سدس ما يبقَى بعد الوصايا، وهو عُشْرٌ، فله عشرة. مسألةٌ: خمسة (¬1) بنينَ وأوصَى بمثل نصيب أحدِهِمْ إِلاَّ سدس ما يبقَى من ماله بَعْد الوصية، وإِلاَّ ثلث ما يبقَى من ثلثه بعد الوصية، فيجعل الوصية شيئاً، والباقي أَنصباء الورثة، فالمال شيء وثلاثةُ أَنصباء، فتسقط الوصية [ونأخذ سدس الباقي وهو نصف نصيب فتحفظه ثم تأخذ ثلث المال وهو نصيب وثلث شيء فتسقط منه الوصية] (¬2) وهي شيء؛ يبقَى نصف نصيب إِلا ثلثَيْ شيء، نأخذ ثلثه، وهو ثلث نصيب إلاَّ تسعي شيء وهو من النصيب، فتضمُّه إلى نصف النصيب المحْفوظ، يصير خمسة أسداس نصيب، إِلا تُسْعَيْ شيء، وهو المستثنَى من النصيب، فتضمُّه إِلى الوصية، وهي شيء؛ لنكملَ النصيب، فيبلغ خمسة أَسداس نصيبٍ، وسبعة أَتساع شيء، وذلك يعدِلُ نصيبًا وتسقط خمسة أَسداس نصيب بمثلها؛ يبقَى سدس نصيب في معادلة سَبْعة أَتساع شيء، فالنصيبُ الكاملُ يعدل أَربعةَ أَشياء، وثلثَيْ شيء، نبسطها أثلاثاً، ونقلب الاسم؛ فالنصيب أَربعة عشر، والشيء ثلاثةٌ، والمال كلُّه خمسة وأربعون؛ لأَنه ثلاثة أَنصباء وشيء، تُلقي الوصيَّة من المال؛ يبقَى اثنان وأربعون، تأخذ سدسها سبعة، وتحفظها، وتلقى الوصية من ثلث المال أيضاً، وهو خمسة عشر؛ يبقى اثنا عشر؛ نأخذ ثلثها، وهو أَربعةٌ، ونضمُّها إلى السبْعَة المحفوظة، يبلغ أَحد عَشَرَ، تلقيها من النصيب، فيبقى ثلاثة. مسألةٌ: خمسُ بنين، وأوصَى بمثل نصيب أحدهم إِلاَّ ثلث ما تبقَى عن قدْر الوصيَّة من ربع ما يبقَى عن الوصيَّة بالمال شيء هو الوصيَّة وخمسة أنصباء، نأخذ ربع الباقي بَعْد الشَّيْء، وهو نصيبٌ وربع نصيب، نسقط منه الشيء، يبقَى نصيب وربع نصيب إِلاَّ شيئاً، نأخذ ثلثه، وهو ربع نصيب وسدس نصيب، إلاَّ ثلث شيء، وهو المستثنَى من النصيب، فتضمه إِلى الشَّيء، ليكمل النصيب، وإذا ضممناه إِلَيْه، بلغ ربع نصيب وسدس نصيب، وثلثي شيء، وذلك يعدلُ نصيبًا، نسقط الربع والسدس بمثلها، يبقَى ثلثا شيء في معادلة ثلث نصيب وربع نصيب، فعرفنا أَنَّ النصيب مثْلُ الشيء وسبعةً، فالنصيب ثمانيةٌ، والشيء سبعة، والمالُ كلُّه سبعة وأَربعون؛ لأنه خمسة أنصباء وشيء، نأخذ ربع المال بَعْدَ الوصية، وهو عشرة، ونسقط منه الوصيَّة؛ يَبْقَى ثلاثة، نأخذ ثلثها وهو واحدٌ نسقطه من النصيب يبقى سبعة، فهي الوصيَّة، وإذا أسقطناها من المال؛ يبقَى أربعون لكلِّ واحدٍ من البنين ثمانيةٌ. مسألَةٌ: ثلاثةُ بنين، وبنتٌ؛ وأوصَى لزيد بمثل نصيب البنت إِلاَّ ثلث ما أَوصَى ¬
لعمرو، ولعمرو بمثل نصيب أحدِ البنين إِلاَّ ربع ما أوصَى لزيد، فنجعل وصية زيد عدداً له ربع، وليكن أربعة دنانير، ووصية عَمْرِو عدداً له ثلثٌ، وليكن ثلاثة دراهم، ويعلم أَنا إِذَا أخذنا ثلُثَ وصية عمرو، وضممناه إلَى وصية زيد بلغ أربعة دنانير ودرهماً، وذلك مثْلُ نصيب البنت، فنصيب كلِّ ابنٍ ضعفه، وهو ثمانية دنانير ودرهمان وإِذا أَسقطنا من ذلك، ربع وصية، وهو دينار, يبقَى سبعة دنانير ودرهمان، وهي وصيةُ عمرو, ونقابل بها الدراهم التي جعلناها وصيَّة أَولاً، فنسقط درهمين بمثلهما، يبقَى سبعة دنانير في مقابَلَة درهم واحد، فالدينار واحدٌ، والدرهم سبعة، كانَتْ وصية زيدٍ أَربعة دنانير، فهي إِذَنْ أَرْبَعَةٌ وكانت وصية عمرو ثلاثةً [دراهم] (¬1)، فهي إذن أحد وعشرون، ونصيب البنت أربعة دنانير ودرهم، فهو إذن أحد عشر، ونصيبُ كلِّ ابن اثنان وعشرون، فما أخذه زيدٌ مثل نصيب البنت إِلاَّ ثلث وصية عمرو، وما أَخذه عمرو مثلُ نصيب ابن إِلاَّ ربع وصية عمرو. مسألة: زوجة وأبوان وابن، وأوصَى لزيد بتكملةِ ثلثِ ماله بنصيب أحدِ الأبوين، ولعمرو بتكملة ربع ما تَبْقَى من ماله بنصيب الآخر، فنجعل الوصيتين شيئاً واحداً، فيكون المال شيئاً وسهام الورثة، وهي أَربعة وعشرون، نأخذ ثلثها، وهو ثلث شيء وثمانيةُ أَسهم، فنسقط منه نصيبَ أحد الأبوين، وهو أربعة؛ يبقى أربعة وثلث شيء، فهو وصية زَيْدٍ، نسقطها من المال؛ يبقَى عشرون وثلثان نأخذ ربعه، وهو خمسة وسدسي شيء، نسقط منه نصيب أحد الأبوين، يبقى سهْمٌ وسدس شيء، فهو وصيةُ عمرو تجْمَعُ بين الوصيتَيْن، يبلغ خمسة ونصف شَيْء، وذلك يعدلُ الشيء الذي جعلناه أولاً مجموع الوصيتين، نسقطُ نصف شيء بنصف شيْء؛ يبقى خمسةٌ في معادلة نصف شيء، فالشيء عشرة (¬2) نزيدها عَلَى سهام الورثة، تبلغ أربعة وثلاثين، كان لزيد أربعةٌ، وثلث شيء، فهي سبعة وثلث، وهي مع نصيب أحد الأبوين ثلث جميع المال، وكان لعمرو سهم وسدس من شيء، فهو سهمان وثلثان، وذلك مع نصيب أحد الأبوين ربع الباقي من المال بَعْدَ وصية زَيْدٍ؛ تبقَى بعد العشرة أربعةٌ وعشرون للورثة. ولو كانت المسألةُ بحالها، وأوصَى لثالث بتكملة نصْفِ ما يبقَى بعد الوصيَّتَيْن الأوليينِ بنصيب زوجة، فنجعل مجموعَ الوصايا شيئاً، ونسقط من المال وصيتَي زَيْد وعمرو، وكما بينا؛ يبقَى تسعة عشر، ونصف شيء، بأخذ نصفها، [وهو تسعة، ونصف سهم، وربع شيء، نسقط منه نصيب الزوجة،] (¬3) وهو ثلاثة؛ يبقَى ستة ونصفُ ¬
سهم وربع شيء، فهي وصية الثالث، نضمها إِلى الوصيتَيْن الأوليين؛ تبلغ أحد عشر سهماً، ونصف سهم، وثلاثة أرباع شيء، وهذا يعدل الشيء الَّذي جعلناه مجموع الوصايا؛ نسقط ثلاثة أرباع شيء بثلاثة أرباع شيء، يبقَى ربع شيء في معادلة أحد عَشَرَ سهماً، ونصف سهم، فالشيء الكامل يعدِلُ ستة وأربعين، نزيدها على سهام الورثة، يبلغ سبعين، كان لزيد أربعة وثلث شيْء، فله تسعة عشر وثلث، وهو مع نصيب أحد الأبوين ثلثُ جميع المال، وكان (¬1) لعمرو سهم وسدس، فله ثمانية وثلثان، وهو تُسْعُ نصيب أحد الأبوين ربع الباقي بعد وصية زيد، وكان للثالث ستَّة، ونصف سهم، وربع شيء، فله ثمانية عشر، وهي مع نصيب الزوجة نصفُ الباقي بَعْد الوصيتين، وجملة الوصايا ستة وأربعون؛ يبْقَى أربعة وعشرون للورثة. مسألة: سبعة بنين، وأوصَى بتكملة ربع ماله بنصيب أحدهم إلاَّ بتكملة سدس ما تبقَّى من ماله بعد الوصية بنصيب أحدهم، فنَجْعَلُ الوصية شيئاً، وبنصف من المال يبقَى مال إِلاَّ شيئاً، نأخذ سدسه، وهو سدس مال، إِلاَّ سدس شيء، وهذا السدُسُ الناقص سدس شيء مثل ربع المال إِلاَّ شيئاً؛ لأَن الربع الناقص شيء ما هو إِلاَّ نصيب من تكملة سدس الباقي المستثناة، وسدس الباقي نصيبٌ، وتلك التكملة، فإذن سدس مال إِلاَّ سدس شيء يعدِلُ ربع المال إِلاَّ شيئًا، فيجبر الربع بشيء، ويزيد الشيء على عديله، فإذن ربع مال يعْدِلُ سدس مال، وخمسة أسداس شيء، نسقط المثل بالمثل، يبقَى نصف سدس مال في معادلة خمسة أَسداس شيء، فالمال يعدل عشرة أَشياء، والشيء عشر مال؛ يبقى تسعة أَعشار مال بَيْن البنين، وتسعة لا تنقسم على سبعة، ولا موافقة بينهما، فنضْرِبُ عدد البنين في مخْرِج العشر، يكون سبعين، والنصيبُ تسعةٌ، نأخذ ربع المال، وهو سبعة عشر، ونصف، فنلقي منه نصيبًا، وهو تسعة؛ يبقى ثمانية ونصف، فهي تكملة ربع المال بالنصيب، ثم نسقط الوصية، وهي سبعة من المال؛ يبقى ثلاثة وستون، نأَخذ سدسها، وهو عشرة ونصف، فنسقط منها النصيب؛ يبقَى سهم ونصف، هو تكملة سدس الباقي من المال بَعْد الوصية، نسقِطُهَا من تكملة ربع الباقي من المال، وهي ثمانية ونصف؛ يبقَى سبعة، وهي الوصية، فإِذا أسقطناها من المال، يبقَى ثلاثة وستون، لكلِّ ابنٍ تسعةٌ. مسألةٌ: ابنٌ وبنْتٌ وأَوصَى بوصية، إِذا زدتَّ عليها أَربعةَ دراهم، كانت مثلَ نصيبِ البنْت، فإِذا زدتَّ عليها تسعة دراهم، كانت مثل نصيب الابْنِ، فيجعل نصيب البنت شيئاً، وأَربعة دراهم، ونصيب الابن شيئاً وتسعة دراهم، ثم نُضَعِّف نصيب البنت، ¬
يكون شيئين وثمانية دراهم، وذلك يعدلُ نصيب الابْنِ، فتسقط شيئاً بشيء، وثمانية دراهم بثمانية دراهم؛ يبقَى شيء يَعْدِلُ درهماً، فهو الوصية، فهذا زدتَّ درهماً عَلَى أربعة، بلغَتْ خمسةً، وهي نصيب البنت، فإذا زدتَّ درهماً عَلَى تسعة، بلغَتْ عشرةً، وهي نصيبُ الابن، وجملة التركة ستَّةَ عَشَرَ، ولو أَوصَى بوصية، إِذا زدتَّها على نصيبِ البنْت، بلغ أَربعةً, وإذا زدتَّها على نصيب الابْنِ، بلغ سبعة، فتجعل الوصية شيئاً، ونلقيه من أربعة، يبْقَى أَربعة إِلاَّ شيئاً، فهي نصيبُ البنت، ونلقيه من سبعة؛ تبقَى سبعة إِلاَّ شيئاً، فهي نصيبُ الابن، ثم نضعِّف نصيب البنت ثمانية إِلاَّ شيئَيْن، وذلك يعدل نصيبَ الابْنِ، فيجبر الثمانية بشيئين، ونزيدهما على التعديل، فثمانية تعدِلُ سبعة وشيئًا، يسقط سبعة بسبعة، يبقَى واحدٌ يعدل شيئاً، فالشيء واحد، وهو الوصية، ونصيب البنت ثلاثةٌ، ونصيب الابن ستَّة، وجملة التركة عشرةٌ. مسألةٌ: ابنان وبنتٌ وأَوصَى لكلِّ واحدٍ من زَيْد وعمرو بوصيَّة، إِذا زدتَّ عَلَى وصية زيْد أربعةَ دراهم، كانت مثْلَ نصيب البنْت، واِذا زدتَّ عَلَى وصية عمرو تسْعَة دراهم، كانت مثلَ نصيب ابن، والوصيتان جميعاً عشْرُون، كَمِ التركةُ، وكم الأنصباء، وكلُّ وصيةٍ، فنجعل نصيب البنْت شيئاً؛ فيكون نصيب الابن شيئين، ويكون وصية زيْدٍ شيئاً، إلا أربعة دراهم، ووصية عمرو شيئين إلاَّ تسعة، فالوصيتان ثلاثة أشياء إلاَّ ثلاثة عشر درهماً، وذلك يعدِلُ عشرين درهماً، فيُجبَرُ وُيقَابَلُ: فثلاثة أشياء تعدِلُ ثلاثة وثلاثين، فيكون الشيء أحد عشر، فهو نصيبُ البنْت ونصيبُ كلِّ ابنٍ اثنان وعشْرُون، فإِذا نقصت في أحد عشر أَربعةٌ، بَقِيَ سبعة، فهي وصيةُ زَيْد، وإِذا نقصت من اثنين وعشْرين تسعةٌ؛ بقي ثلاثة عشر، فهي وصيةُ عمرو، فالوصيتان معاً عشرون، والتركةُ خمسة وسبْعُون. ولو قيلَ: كانَتْ وصيةُ زيدٍ إِذا نقصت من خمسة عشر، بقي مثْلُ نصيب البنت، ووصية عمْرو إِذا نقصَتْ من أربعين، بقيَ مثل نصيب ابنٍ، والوصيتان عشرون، كمِ التركةُ؟ وكم الأنصباءُ؟ وكل واحدة من الوصيتين؟! فجعل نصيب البنت شيئاً، ونصيب الابْن شيئين، وينقص نصيب البنت عن خمسة عشر؛ يبقَى خمسة عشر إِلاَّ شيئًا، فهو وصية زيد، وينقص نصيب الابن مِنْ أربعين؛ يبقَى أربعون إِلاَّ شيئين، فهو وصيَّة عمرو، فالوصيَّتان خمسة وخمسون، إِلاَّ ثلاثة أَشياء، وهي تعدلُ عشرين، فتجبر وتقابل: فخمسة وخمسون تعدلُ عشرين، وثلاثة أَشياء تسقُطُ عشرين بعشرين، يبقَى خمسة وثلاثون في معادلة ثلثا شيء، فالشيء يعدل أحد عشر وثلثين، وهو نصيب البنتان أنقصته من خمسة عشر؛ يبقَى ثلاثة وثلثين، فهي وصية زيْدٍ، ونصيب الابن ثلاثةٌ وعشرون وثلث، إِذا نقصته من أربعين؛ يبقَى سبعة عشر، وثلثانِ، فهي وصيةُ عمْرو، فالوصيتان عشْرُون، والتركة ثمانيةٌ وسبعون وثلث.
مسألةٌ: ثلاثةُ بنينَ، وأوصَى لثلاثة أشخاصٍ بوصايا، هي مثلُ نصيبِ أحد البنين، ووصية زيد وعمرو معاً أكثر من وصية بَكر بثلاثة دراهم، ووصية عمرو وبكر معاً أكثر من وصية زيد بسَبْعَة دراهم، ووصية زيد وبكر معاً أكثر من وصية عمْرو باثْنَيْ عشر درهماً، كم التركةُ، وكم كلُّ وصية؟ تجعل نصيبَ كلِّ ابنِ شيئاً، فتكون الوصايا كلُّها شيئاً، تسقط منه فضْلَ وصية زيد وعمرو وعلى وصية بكر وهو ثلاثة؛ يبقى شيء إِلاَّ ثلاثةَ دراهم، نأخذ نصفَهُ، وهو نصف شيء إِلاَّ درهماً ونصفاً، فهو وصية بكْر، ثم تسقط منْه فَضْلَ وصيَّة عمرو وبكر علَى وصية زيد، وهو سبعة؛ يبقَى شيء إِلا سبْعةَ دَراهم، نأخذ نصفه، وهو نصْفُ شيء إِلا ثلاثة دَرَاهِمَ ونصف درهم، فهو وصية زيْدٍ ثمَّ تسقط منه فضل وصية زيد وبكر على وصية عمرو، وهو اثنا عشر، يبقَى شيء إِلاَّ اثنَيْ عشر، نأخذ نصفه، وهو نصفُ شيء إِلاَّ ستة فهُو وصية عمرو، وجميعها عند الأصمِّ شيء ونصف شئ إِلا أحد عشر درهماً، وذلك يعدِل شيئاً، فيجبر ويقابل: فشيءٌ ونصفُ شيء يعدِلُ شيئاً وَأَحَد عشر، يسقط الشيء بالشَّيْء، فالنصف يعدل أحد عَشَرَ، والشيء الكاملُ يعدِلُ اثنين وعشرين، فعرفنا أنَّ نصيب كلِّ ابنٍ اثنان وعشرون، وكذلك جميع الوصايا، فإن أردنا أن نعرِفَ كلَّ وصية أسقطنا من مبلغ الجميع فضْلَ وصيتَيْ زيد وعمرو، علَى وصيةُ بكْرٍ، وهو ثلاثة؛ يبقَى تسعة عشر، نأخذ نصفها، وهو تسعة ونصف، فهي وصيةُ بكر، ثم أسقطنا منْه فضْلَ وصيتَيْ عمرو وبكر عَلَى وصية زيْد، وهو سبعةٌ؛ يبقَى خمسة عشر، نأخذُ نصْفَها، وهو سبعةٌ ونصفُ درهمٍ، فهي وصية زيْدٍ، ثم أسقطنا منه فضل وصيتَيْ زيد وبكر علَى وصية عمرو، وهو اثنا عشر، يبقَى عشرة، نأخذ نصفَها خمسة، فهي وصية عمرو، وجملتها اثنانِ وعشرُون، والتفاوُتُ كما وقع السؤال عنه، ولما كانت الوصايا في هذه الصورة ثلاثاً، وكانت كلُّ اثنين منْها تفضُلُ الثالثة بعَدَدٍ، كانت كلُّ مفضولة نصف الباقي من جملة الوصايا بَعْدَ إِسقاط الفضل، ولو كانت الوصايا أَربعاً، وكلُّ ثلاث يفضل الرابعة بعَدَدٍ، فتكون المفضولة ثلُثَ الباقي من جملة الوصايا بَعْدَ إسقاط الفضل، ولو كانت الوصايا خمساً، وكلُّ أربع منها يفضل الخامسة بعدد، فتكون المفضولةُ ربع الباقي من جملة الوصايا بَعْدَ إسقاط الفَضْل، وعلَى هذا القياس. مسألة: ابنان، وأوصَى لزيدٍ بمثل نصيب أحدهما، ولعمرو بثلثِ ما يبقَى من النصف وبدرهم، وترك ثلاثين درهماً، فنجعلُ الوصيتَينِ شيئاً، ونلقيه من التركة؛ يبقَى ثلاثون درهماً، إِلاَّ شيئاً، لكلِّ ابنٍ خمسةَ عشَرَ إِلاَّ نصفَ شيء، فهو النصيبُ، ثم نأخذ نصفَ المال، وهو خمسةَ عَشَرَ، فنسقط منها نصيباً، وهو خمسة عشَرَ إِلاَّ نصف شيء، يبقَى نصف شيء، نأخذ لعمرو ثلاثة، وهو سدُسُ شيء، ونضم إِليه درهماً، فالوصيتان معاً ستةَ عَشَرَ إِلا ثلث شيء، وذلك يعدل شيئاً، فيجبر ويقابل: فستة عشر درهماً،
تعدل شيئاً وثلُثَ شيء، فالشيء يعدل اثنَيْ عشر درْهَماً، وهي جملةُ الوصيتَيْن، يبقَى ثمانية عشر للابنين نأخذ نصف المال، وهو خمسة عشر درْهماً فنسقط نصيباً، وهو تسعة، تدفعه إلَى زيد؛ يبقَى ستة نأخذ ثلثها ودرهماً، لعمرو؛ يبقَى ثلاثة نزيدهَا على النصف الآخر، تبلغ ثمانية عشر؛ لكل ابنٍ تسعةٌ. مسألةٌ: ستة بنينَ، وأوصَى لزيد بمثل نصيبِ أحدهم، ولعمرو بثلثِ ما يبقَى من الثُلث، والتركة ثلاثةَ عَشَرَ درهماً، وثوب فأخذ زيَد الثوب بحقه كم قيمته فجعل الثوب شيئاً فتكون التركة ثلاثة عشر درهماً وشيئاً، نأخذ ثلثها، وهو أربعة دراهم، وثلث درهم، وثلث شيء، فيُسقط منه بالنصيب شيئاً، يبقَى أربعة دراهم، [وثلث درهم، إلا ثلثي شيْء فنسقط من ذلك ثلاثة، وهو درهم] (¬1)، وأربعة أَتْساع درهم، إِلاَّ تُسُعَيْ شيء؛ يبقَى درهمان، وثمانية أتساع درْهَمٍ، إلا أربعة أتساع شَيْء، نزيده علَى ثلثي المال وهو ثمانية أتساع درهم إِلاَّ أربعة أتساع شيء، نزيده على ثلثي المال، وهو ثمانية دراهِم، وثلثا درهم، وثلثا شيء يبلغ أحد عشر درهماً وخمسة أَتساع درْهَم، وتسعَيْ شيء، وذلك يعدل ستَّة أشياء، فنسقط تسعَيْ شيء، بِتُسُعَيْ شيء؛ يبقَى أَحد عشر درْهَماً وخَمْسة أتساع درهم، في معادلة خمسة أشياء، وسبعة أتساع شيء، فنبسطها أتساعاً، فتكون الأَشياء اثنين وخمسين، والدراهم مائة وأربعة؛ فالشيء الواحد يعدل درهمين، فعرفنا أن قيمة الثَّوْب درهمان، نأخذ ثلث المال، وهو خمسة دراهم، يدفع الثَّوْب منها إلى زَيْدٍ بدرهمين، يبقى ثلاثة، يدفع منها واحداً إِلَى عمرو، يبقى اثنان، نزيدهما على ثلثي المال، يبلغ اثني عشر، لكلِّ واحد درهمان، ولو كان البنُونَ ثلاثة، فالعمل علَى ما ذكرنا إلَى أن يعادل أحد عشر دِرْهماً. وخمسة أتساع درهم، وتسعا شيء، ثلاثة أشياء تسقط تُسْعَيْن بتُسْعَيْن، فأحد عشر درهماً، وخمسة أتساع، يعدل شيئين، وسبعة أتساع نبسطها أتساعاً، فالأشياءُ خمسةٌ وعشرون، والدراهم مائةٌ وأربعة، فالشيء يعدل أربعة دراهم، وأربعة أجزاء من خمسة وعشرين جزءاً من درهم، فهو قيمة الثوب، وجملة التَّرِكَة سبعة عشر درهماً، وأربعة أجزاء من خمسة وعشرين جزءاً من درهم، نأخذ ثلثه؛ وهو خمسة دراهِمَ وثمانية عشر جزءاً من خمسة وعشرين جزءاً من درهم، فنسقط منه لزيد أربعة دراهم وأَربعة أجزاء من خمسة وعشرين جزءاً من درهم؛ يبقَى درهم، وأربعة عشر جزءاً من خمسة وعشرين جزءاً من درهم، نأخذ ثلاثة، وهو ثلاثة عشر جزءاً من خمسة وعشرين جزءاً من درهم [يبقى درهم وأربعة عشر جزءاً من خمسة وعشرين جزءاً من درهم، نأخذ ثلثه، وهو ثلاثة عشر جزءاً من خمسة وعشرين جزءاً من درهم؛] (¬2) يبقى درهم وجزءٌ من خمسة ¬
وعشرين جزءاً من درهم، تزيده على ثلثي المال؛ وهو أحد عشر درهماً، واحد عشر جزءاً من خمسة وعشرين جزءاً من درهم، يبلغ اثنَيْ عَشَرَ درهماً، واثني عشر جزءاً من خمسة وعشرين جزءاً من درْهَمٍ لكلِّ واحدٍ أربعةُ دراهمَ وأربعة أجزاء من خمسة وعشرين من دِرْهَمٍ. مسألة: اثنان، وأوصَى بوصية، إِذا نقصتها من نصيب أحدهما، بَقِيَ مثْلُ الوصيَّة وربع جميع المال، كم الوصية، وكم النصيب؟ نجعل ربع المال شيئاً، وتعلم أنه إذا انضمت إليه وصية، كانت مثل نصيب أحد الابنين، إلاَّ وصية، فنصيب كل ابن شيءٌ ووصيتان، ثم نأخذ المال أكله، وهو أربعةُ أشياءَ؛ لأنا جعلنا الربع شيئاً، فنسقط منه الوصية، يبقَى أربعة أشياء إلا وصيَّة، وهو يعدل نصيبَيْ الابنين، وهما شيئان وأربع وصايَا؛ لأنَّ كلَّ نصيب شيْءِ ووصيتان، فتجبر وتقابل؛ فاربعة أشياء تعدل شيئَيْنِ وخمس وصايا، نُسْقِطُ شيئين بشيئين، يبقى شيئان في معادلة خمس وصايا، فنقلب الاسم، فتقول: الشيء خمسة، والوصية اثنان، فكان المال أربعةَ أشياء، فهو إذن عشرون، ونصيب كلِّ ابن شيء ووصيَّتَان، فهو إذن تسعةٌ، فإذا نقَصْنا الوصيةَ، وهي اثنان من النصيب، تبقَى سبعة، وهي مثل الوصية وربع جميع المَالِ. مسْاَلَةٌ: ابنٌ وبنْتٌ، وأَوصَى بثلاث وصايَا لثلاثةِ أشْخَاصٍ، وكان إذا جمعت وصيتا زيد وعمرو، كان المبلغُ مثْلَ نصيب الابن، وإذا جمعت وصيتا زيد وبكر، كان مثل ثلث التركة، فيُجْعَلُ وصية عمرو شيئاً، ويسقطه من نصيب الابن؛ يبقَى نصيبان إلاَّ شيئاً، فهو وصية زيدٍ، ويسقط الشيء من نصيب البنت، يبقَى نصيب إلاَّ شيئاً، فهو وصيَّة بكْرٍ، ثم يجمع وصيتي بكر وزيد، وهما ثلاثة أنصباء إلا شيئَينِ، وذلك ثلث المال؛ فالمال إذن تسعة أنصباء إلا ستة أشياء، فتلقى منه الوصايا كلَّها، وهي ثلاثة أنصباء إلاَّ شيئاً؛ لأن وصية زيد نصيبان إلاَّ شيئاً، ووصية عمرو شيْء، ووصية بَكْرٍ نصيب إِلاَّ شيئاً. وإذا أسقطنا ذلك من المال، بقي ستة أنصباء إلاَّ خمسة أشياء، تَعْدِلُ أنصباء الورثة؛ وهي ثلاثة، فتجبر وتقابل، فستة أنصباء تعدل ثلاثة أنصباء، وخمسة أشياء تسقط ثلاثة أنصباء بمثلها؛ يبقَى ثلاثة أنصباء تعْدِلُ خمسة أشياء، فيقلب الاسم، ونقول: الشيءُ ثلاثة، والنصيبُ خمسة، فللابن عشَرَةٌ وللبنت خمسةٌ، ووصية زيد سبعةٌ؛ لأنها نصيبان إلاَّ شيئاً، ووصية عمرو ثلاثةٌ؛ لأنها شيْءٌ، ووصية بكر اثنان؛ لأنها نصيب إلاَّ شيئاً، والتركة تسعة وعشرون. مسألة: ابن وبنت، وأوصَى لزيد وعمرو بوصيتين، فكانت وصية زيد ضعْفَ وصية عمرو، وكانتا معاً سدس المال، وإذا ضربْتَ كلَّ واحدة منهما في نفسها،
وأسقطت الأقلَّ من الأكثر، كان الباقي مثْلَ نصيب البنت؛ فيُجْعَلُ وصية عمرو شيئاً، ووصية زيد شيئين، وهما معاً سدس المال، فالمالُ ثمانية عشر شيئاً، ثم نضرب وصيَّة عمرو في نفسها، فيُجْعَلُ مال. ووصية زيد في نفسها يجعل أربعة أموال، تسقط الأقل من الأكثر؛ تبقَى ثلاثة أموال، فهي نصيبُ البنت. فنصيبُ الابْنِ ستة أموال، نزيد الوصيتين على مجموعهما، تحصلُ تسعة أموالٍ وثلاثة أشياء، وهي تعدل جميع المال، وهو ثمانية عشر شيئاً، يسقط ثلاثة أشياء بمثلها، تبقى تسعة أمو الذي معادلة خمسة عشر شيئاً، فالشيء واحدٌ وثلثان، وهو وصية عمرو، ووصية زيد ثلاثة وثلث، وهما جميعاً سدس التركة، فهي إذن ثلاثون، وإذا ضربت درهماً وثلثَيْ درهم في نفسه، حصل درهمان وسبعة أتساع، وإذا ضربت ثلاثة دراهم وثلث درهم في نفسه، حصل أحد عشر درهمًا وتسع درهم، وإِذا أسقطت الأَقلَّ من أكثر، يبقَى ثمانية دراهم وثلث؛ وهي مثل نصيب البنت والابن ستة عشر وثلثان. مسألة: زوجٌ، وأم، وأخ وأوصَى لزيدٍ بمثل نصيب الأخ، ولعمرو بثلث ما يبقَى من الثلث، وشرط ألاَّ تُضَامَ الأم، فمسألة الورثة من ستة، ونَجْعَلُ ثلث المال سهماً، وثلاثة دراهم، أما سهما فلانٍ الأخ الموصَى بمثلَ نصيبه، له سهم من مسألة الورثة، وأما ثلاثة دراهم، فلذكره ثلث ما يبقَى من الثلث، فندفع سهماً إلَى زيد؛ يبقى ثلاثة دراهم، يُدْفَعُ منها واحدٌ إلى عمْرٍو يبقَى درهمان، نزيدهما عَلَى ثلثي المال، وهو سهمان وستة دراهم، يكون سهمين وثمانية دراهم، وذلك يعدل ثلث المال وأربعة أسْهُمٍ؛ لأن الأمَّ، إذا لم تُضَمْ، أخذَت ثلُثَ المال كاملاً. وللزوج والأخ أربعة أسهمٍ، وثلث المال سهمٌ وثلاثةُ دراهم، فإذن: سهمان وثمانية دراهم تعدِلُ خمسة أسهم وثلاثة دراهم، يسقط المثل بالمثل، فتعود السهام إلى ثلاثة، والدراهم إلى خمسة، وتقلب الاسم، ويعول السهم خمسة، والدرهم ثلاثة، وكان ثلث المالِ سَهْماً وثلاثة دَرَاهِمَ، فهُوَ إذن أربعة عَشَر، [تعزل] (¬1) منها نصيب الأخ، وهو خمسة لزيد، وثلث الباقي، وهو ثلاثة لعمرو، يبْقَى ستة، نزيدها على ثلثي المال، يبلغ أربعة وثلاثين؛ من ذلك ئلث المال للأمِّ، وهي أربعة عشر، يبقَى عشرون للزوج بثلثه خمسة عشر، وللاخ بواحدٍ خمسة، والمسألة ونظائرها تُفْرَضُ فيما إذا أجاز من عليه الضَّيْم لمن لاضَيْمَ عليه. ¬
الباب الثاني في المسائل الدورية من سائر التصرفات الشرعية
البَابُ الثَّانِي فِي المَسَائِلِ الدَّوْرِيَّةِ مِن سَائر التصرُّفات الشرعية ونوردها على ترتيب أبوابها في الفقه. فمنها البيعُ: وقد ذكرنا في تفريقِ الصفقة مسائل؛ منه يفرض لها الدّور. فمن تلك المسائل أن يبيع المريض قفيزاً جيداً من الحنطة، قيمته عشرون بقفيزٍ رديءٍ، قيمته عشرة، وبيَّنا أن هذا البيع باطل أصلاً عَلَى أحد القولَيْن، وإذا بَطَلَ البيع على ذلك القوْل، بَطلَتِ المحاباة التي هِيَ في ضمنه، وليس للمشتري أن يقول: رددتُّ البيع، فسلموا إليَّ قدْر المحاباة. وعلى القول الثاني يصحُّ البيع في بعض القفيز ببعض القفيز، واستخرجنا بالجَبْر وغيره: أن ذلك البعض هو ثلثان، ولو باع كُّرّا قيمته خمسون بكُرِّ قيمته ثلاثون، وله سواه عشَرَةُ دراهمَ، صحَّ البيع في جميع الكُرِّ؛ لأنه رجع إليه ثلاثون، وعنده عشرة، فيبقى لورثته أربعون، ولم يُحَاب إِلاَّ بعشرين، ولو كانت قيمة الكُر الجيد خمسين، وقيمة الكر المقابل خمسة عَشَرَ، وله عشرة، فنقول: صحَّ البيع في شيْءٍ من الكر الجيد، وقابله من الثمن ثلاثة أعْشَار ذلك الشيء، فبقيت المحاباةُ سبعة أعشار شَيْء مع الورثة؛ عشرة دراهم أيضاً، وهي عُشْرا كُرِّ، فيجتمع معهم كر وعُشْر كُرِّ إلاَّ سبعة أعشار شيْء، وذلك يعدل ضعْفَ المحاباة، وهي شيء وأربعة أعشار شَيْء؛ لأن المحاباة سبعة أعشار شيء، فيجبر، ويقابل فكر وعُشر كُرِّ يعدل شيئين وعُشْر شيء، نبسطها أعشاراً، ونقلب الاسم، فيكون الكر أحداً وعشرين، والشيء اثنَيْ عَشَرَ، فيصح البيع في اثني عشر جزءاً من أحد وعشرين جزءاً من الكر. وذلك يعدل أربعة أسباعه بأربعة أسباع الكر الرديء، وهي بالقيمة ثلاثة أعشار المبيع من الكر الجيد، فيُجْعَل الكر عدداً له سُبْع وعُشْر، وأقله سبعون، فيصحُّ البيع في أربعة أسباعه، وهي أربعون بثلاثة أعشار الأربعين، وهي اثنا عشر، فبقيتِ المحاباةُ بثمانية وعشرين. ومع الورثة مما بَطَلَ البيع فيه ثلاثون وعُشْر كر، وهما أربعة عشر، بأجزَاءِ السبعين، فيجتمع عندهم ستة وخمسون، ضعْف المحاباة، وبطريق النسبة والتقدير: نقول: ثلث الكر والعَشَرة المتروكة عشرون، والمحاباة بخمسة وثلاثين. والعشرون أربعة أسباع الخمسة والثلاثين، فيصحُّ البيع في أربعة أسباع الكر.
فصل في بيع المريض بالمحاباة مع حدوث زيادة، أو نقصان في المبيع.
ولو باع كراً قيمته مائة، بكَرٍ قيمته خمسون، وعليه عَشَرَة دراهم دَيْناً، فنَحُطّ العشرة من ماله، ويُقَدَّر كأنه لا يملك إلا تسعين، وثلثها ثلاثون، والمحاباة بخمسين، والثلاثون ثلاثة أخماس الخمسين، فيصحُّ البَيْع في ثلاثة أخماس الجيد، بثلاثة أخماس الرديء، فيخرج من ملكه ستون، ويعود إليه ثلاثُونَ؛ ويبقى مما بَطَل فيه ثلاثون، وذلك ضعف المحاباة. وإذا كان على المريض دَيْن، وله قال سوى ما باع تركةٌ، فيقابل الدين بالتركة، فإن تساويا؛ فكأنه لا دين، ولا تَرِكَة، وإن زاد أحدهما، اعتبرنا الزائد على ما بيناه. وهذا في بيع الجنس بالجنس من الربويات. أما إذا باع كر حنطة قيمته عشرون، بكر شعير قيمته عشرة، فإن قلنا: نصحُّ البيعُ في البعض بقسْطِه من الثمن، فالجواب كلما لو باع الحنطة الجيدة بالرديئة، فيصحُّ البيع في ثلثي الحنطة، بثلثي الشعير، وإن قلنا: يصح فيما يحتمله الثلث، وفيما يوازي، الثمن بجميع الثمن، فيصح البيع في خمسة أَسداس الحنطة بجميع الشعير؛ لأنه يصحُّ في قدر الثلث، وفيما يوازي الشعير بالقيمة، وهو النصف، ولا بأس بالمفاصلة في الكيل هاهنا. فَصْلٌ في بيع المريض بالمحاباة مع حدوث زيادة، أو نقصان في المبيع. أما الزيادة: فالاعتبار بالقدر الذي يصح فيه البيع بيوم البيع، وزيادته للمشتري غير محسوبة عليه، والاعتبار في القدر الذي يبطل فيه البيع، ويبقى للورثة بيوم الموت، ولا فَرْقَ بين أن تكون الزيادةُ لمجرَّد ارتفاع السوق، أو لصفقة تزيد في القيمة، فإذا باع عبداً قيمته عشرون بعشرة، ثم زادَتْ قيمته، فبلغت أربعين، وصحَّحنا البيع في بعضه على ما بيناه في تفريق الصفقة؛ فإن صحَّحنا البيع في بعضه بجميع الثمن، فللمشتري بالعشرة نصف العبد، وهي قيمته يوم الشراء، يبقى نصف العبد وقيمته يوم الموت عشرون، تضمه إلى الثمن يبلغ ثلاثين، فله من ذلك شيء بالمحاباة، وشيء يتبع المحاباة؛ بسبب زيادة القيمة غير محسوب عليه. يبقَى ثلاثون درهماً إِلاَّ شيئين، يعدل ضعف المحاباة؛ وهو شيئان، فيُجْبَر، ويقابَلُ، فثلاثون درهماً تعدل أربعة أشياء، فالشيء ربع الثلاثين، وهو سبعة دراهم ونصف درهم، وهذا ما يجوز التبرُّع فيه، وهو ثلاثة أثمان العبد يوم البيع، فيُضَمُّ إلى النصْفِ الذي ملكه المشتري بالثمن؛ فيحصُلُ له بالتبرع، والثمن سبعة أثمان العبد، يبقى للورثة ثمنه، وهو خمسة يوم الموت، والثمن، وهو عشرة، وهما ضعف المحاباة.
وإن صحَّحنا البيع في بعضه بقسطه من الثمن؛ فنقول: صحَّ البيع في شيء من العبد بنصف شيءٍ من الثمن؛ فيكون المحاباة بنصف شيء ويبطل البيع في عبد إِلاَّ شيء، وقيمته عند الموت أربعون درهماً إِلاَّ شيئين، وإنما استثنى شيئين؛ لأن الاستثناء يزيد بحسب زيادة المستثنى منه، فيُضَمُّ إِليه الثمن، وهو نصف شيء، يبقى أربَعُون إلاَّ شيئاً ونصف شيء؛ وذلك يعدل ضعْفَ المحاباة، إليه الثمن، فَيُجْبَرُ، ويقابَلُ. فأربعون تعدل شيئين ونصف شيء، فالشيء خُمسا الأربعين، وهما ستة عشر، وهي أربعة أخماس العبد يوم البيع، فللمشتري أربعة أخماس العبد بأربعة أخماس الثمن، وهي ثمانية؛ [فتكون المحاباة بثمانية، وللورثة أربعة أخماس الثمن، وهي ثمانية] (¬1) وخمس العبد وقيمته يوم الموت ثمانية، فالمبلغ ستة عشر؛ ضعف المحاباة. ولا اعتبار بالزيادة الحادِثَةِ بعد موت المريض، بل وجودُهَا كعدمها. وأما النقصان: فإما أن يحدث في يد المشتري، أو في يد البائع المريض: القسم الأول: إذا حدث النقصان في يد المشتري؛ فإما أن يحدُثَ قبل مَوْت البائع، أو بَعْدَهُ: أما الحالة الأُولَى فمثالها: أن يبيع عبداً قيمته عشرون بعشرة، ثم تعود قيمته إلَى عشرة، ثم يموت البائع، فإن صحَّحنا البيع في بعض العبد بجميع الثمن، فنقول: يملك المشتري نصف العبد بالعشرة، ويُضَمُّ نصفه الآخر يوم الموتِ، وهو خمسةِ إلى الثمن، يبلغ خمسة عشر، فللمشتري شيء من ذلك بالمحاباة، وذلك الشيء محسوبٌ عليه بشيئين؛ لأن النقصان بالقسْط محْسُوب على المتبرّع عليه، فيبقى للورثة خمسة عشر إِلاَّ شيئاً، يعدل ضعف المحسوب علَيْه من المحابَاةِ، وهو أربعة أشياء، فيُجبَرُ، وُيقَابَلُ، فخمسة عشر تعْدِلُ خمسة أشياء، فالشيء ثلاثةِ، وهي ثلاثة أعشار العبد يوم الموت، وإذا انضم إليها النصْف الذي ملكه بالثمن، وهو خمسة يَوْمَ المَوْت، كان المبلغ ثمانية، وهي أربعة أخماس العبد [يوم الموت، فيصحُّ البيع في أربعة أخماس العبد،] (¬2) وهو ستة عشر بجميع الثمن، وهو عَشَرة؛ يبقى التبرع بستة، وللورثة خمس العبد، وهوَ دِرْهَمَان، والثمن، وهُوَ عَشَرة، وجملتها اثنا عشر ضعْف المحاباة. وإن صحَّحنا البيع في بعضه بالقِسْط فنقول: يصحُّ البيع في شيء من العبد، بنصف شيء من الثمن، ويبطُل في عبد ناقص بشيء، وقيمته يوم الموت عشرة إلاَّ نصف شيء [فنضم الحاصل من الثمن، وهو نصف شيْء] (¬3) إليه، فيكون عشرة دراهم ¬
بلا استثناء، وهي تعدل ضعْفَ المحاباة، وهو شيء، فالشيء عشرة دراهم، وهي نصف العبد يوم البيع، فيصحُّ البيع في نصفه، وهو عشرة بنصف الثمن، وهو خمسة، فالمحاباة بخمسة دراهم، وللورثة نصْف العَبْد يوم الموت، وهو خَمْسة، ونصف الثمن، وهو خمسة، وجملتها ضعف المحاباة. وفقه هذه الحالة: أن ما يصحُّ فيه البيع، فحصته من النقصان محسوبةٌ على المشتري؛ لأنه مضمون عليه [بالقبض، وما بطل فيه البيع، فحصته من النقصان غير مضمونة] (¬1) على المشتري؛ لأنه أمانة في يده؛ لأنه لم يتعدَّ بإِثبات اليد عليه، ولا قبضه لمنفعة نفسه. واستدرك الإمام، فقال: إنْ كان النقصانُ مجرَّد انخفاض السوق، فهذا صحيح؛ لأن نقصان السوق لا يُضْمَنُ باليد مع بقاء العين، وأما إذا كان النقصان في نفس العبد؛ فيحتمل أن يقال: إنه مضمون على المشتري؛ لأنه مقبوض على حكم البيع، حتَّى لو برأ المريض، كان البيع لازماً في الجميع. وإذا كان المقبوض بالبَيْع الفاسِد مضموناً على المشتري لاِعتقادِ كَوْنِه مبيعاً، فهذا أولَى؛ فعلى هذا: يصير المشتري غارماً لقدر من النقصان، مع الثمن، ويختلف القدر الخارج من الحِسَاب. الحالةُ الثانيةُ: أَن يحدث النقصان بعد موت البائع؛ فظاهر ما أورده الأستاذ أبو منصور: أنه كما لو حَدَث قبل الموت؛ حتَّى يكون القدر المبيع هاهنا، كالقدر المبيع فيما إذا حدث قبل موته، قال الإمام: وهذا خطأٌ، إن أراد هذا الظاهر؛ لأن النَّظَر في التركة، وحساب الثلث والثلثين، إلى حالة الموت، ولا معنى لاعتبار النقصان بَعْده؛ كما لا يعتبر الزِّيَادَة. القسم الثاني: إذا حدث النقصان في يد البَائِع، بأن باع المريض عبداً يساوي عشرين بعشرة، ولم يسلمه؛ حتى عادَتْ قيمته إلى عشرة؛ ذكر الأستاذ: أنه يصحُّ البيع في جميعه؛ لأن التبرُّع إنما يتم بالتسليم، وقد بان قبل التسليم أنه لا تبرع، وأنه باع الشيء بثمن مثله، وبمثله أجاب، لو عادت القيمة إلَى خمسة عشر؛ لأن التبرُّع يكون بخمسة، والثلث واف بها، واعترض الإمام بأن التبرُّع الواقع في ضمن البيع لا يتوقَّف نفوذه، وانتقال الملك فيه على التسلِيم؛ فوجب أن ينتظر إلَى وقت انتقال الملك، وَأَلاَّ يفرق بين النقصان بعد القبض وقبله، وَهذه الاعتراضات بَينِّه. فرع: النقصان الحادث في يد المشتري، إن كان بانخفاض السوق، لم يُرْفَع خيار المشتري بتبعض الصفقة عليه، وإن كان لمعنًى في نفس المبيع، فقد شبَّهُوهُ بالعَيْب الحادث، مع الاطلاع علَى العَيْب القديم. ¬
فصل
فَصْلٌ محاباة المشترِي تُعْتَبَرُ من الثلث؛ كمحاباة البائع؛ لأن كلَّ واحد منهما مفوِّت للملك على الورثة، فهذا اشترى المريضُ عبداً، قيمته عشَرةٌ بعشرين، لا يملك غَيْرَها، فثلثُ مالِهِ سنة وثلثان؛ والمحاباة عَشَرة، وستة، وثلثان ثلثا العشرة، فيصحُّ الشراء في ثلثَي العَبْد؛ وهو ستة، وثلثان بثلثي الثمن وهو ثلاثة عشر وثلث، يبقى مع الورثة ثلث الثمن وهو ستة وثلثان -وثلثا العبد- وهو ستة وثلثان، وذلك ضعف المحاباة. هذا إذا أجاز البائع البَيْع، وله أن يفسخ، ويسترد العبد؛ لتبعض الصفقة عليه، ولو اشترى عبداً، قيمته عشرة، بعشرين، فزادت قيمة العَبْدِ في يده، أو في يد البائع، فصارت خمسة عشر، فقد زادَت خمسة في تركتِهِ، فإن قلنا: يصحُّ الشراء في بعض ما حابى فيه بجميع ما يقابله، فيضم الخمسة الزائدة إلى الثمن؛ فيصير جميع التركة خمسة وعشرين، وثلثها ثمانية وثلث، فيقال للبائع: ثلث ماله ثمانية وثلث، وقد حاباك بعشرة، فإما أن يفسخ العقد، وتسترد العبد، وإما أن تردّ ما زاد على الثلث، وهو درهم وثلثان، فإن رد، فمع الورثة العبد، وقيمته يوم الموت خمسة عشر، ومعهم درهم وثلثان، وهما ضعف المحاباة، وإن قلْنا: يصحُّ الشراء في بعضِهِ ببعض ما يقابله، فنقول: يصحُّ الشراء في شيء من العبد بشيئَيْنِ من الثمن؛ فتكون المحاباة بشيء. يبقَى عشرون درهماً إلاَّ شيئين؛ يُضَمُّ إليه المُشتَرى من العَبْد، وكان شيئاً فصار شيئاً ونصفاً، يبلغ عشرين إلاَّ شيئاً، ونصف شيء، وذلك يعدل ضعف المحاباة، وهو شيئان، فيُجْبَرُ وُيقابَلُ فالعشْرِون، تعدل شيئين ونصف شيء، فالشيء ثمانية؛ وهي خُمُسا العشرين، وأربعة أخماس العبد، فيصحُّ البيع في أربعة أخماس العبد، وهي ثمانية بأربعة أخماس الثمن، وهي ستة عشر؛ فتكون محاباةُ المشتري بثمانية، يبقى لورثته خمس الثمن؛ وهو أربعة وأربعة أخماس العبد، وهي اثنا عشر يوم الموت فالجملة ستة عشر، ضعْفَ المحاباة. ولو اشترَى كما ذكرنا، ثم نقص العبد في يد المريض، فعادَتْ قيمته إلى خمسة، فإن قلْنا. بالأول من القولين، فقد كانت تركته عشْرِين، وصارت بالآخرة خمسةَ عَشَرَ، وثلثها خمسة، فيقال للبائع: إما أن ترد على الورثة خمسة؛ ليكون معهم العبد، وهو والدراهم الخمسة (¬1)، فيكون لهم ضعْف الخمسة، وإما أن تفسخ البيع، وتردَّ الثمن بتمامه، وتستردَّ العبد ناقصاً، ولا ضمان للمشتري، وإن قلْنا بالتقسيط، فقد ذكر الأستاذ ¬
أبو منصور: أن المُشْتَرِي يضمن قسْط ما بطل البيع فيه من النقصان، وينقص ذلك من التركة؛ كدَيْن يلزمه قضاؤُه، قال الإِمامُ: هذا رجوعٌ إلَى ما قدمنا أن المأخوذ على أنه مبيع، يكون مضموناً عليه، ومناقض لما ذكر الأُسْتَاذُ أنَّ ما لا يصحُّ فيه البيع أمانة في يد المشتري، ثم حسابه أن يُقال: صحَّ الشراء في شيء من العبد، بشيئين من الثمن، وبَطَلَ في عبد ناقص، بشَيْءٍ، قيمته بالتراجع خمسة دراهم، إلا نِصْفَ شيء، فينقص القدر الذي نقص من التركة، تبقَى خمسة عشر درهماً إلا شيئاً ونصف شيء؛ تضم إليه الشيء المشتري من العبد، وقد رجع إلى نصف شيء، فيكون الحاصل خمسة عشر [درهماً إلا شَيْئاً يعدل ضعْف المحاباة، وهو شيئان فتجبر وتقابل فخمسة عشر] (¬1) تعدل ثلاثة أشياء. فالشيء ثلث الخمسة عشر، وهو نصْف العبد، فيصحُّ الشراء في نصف العبد بنصف الثمن، فتكون المحاباة بخَمْسَة؛ يبقَى للورثة نصف الثمن، وهو عَشَرة، ونصف العبد، وهو اثنان ونصف، يسقط من المبْلَغِ قسط ما بَطَلَ العقد فيه من النقصان، وهو اثنان ونصف شيء، يبقى في أيديهم عشرة ضعْف المحاباة. فرع: اشترى المريض عبْداً يساوي عشرة بعشرين، وله ثلاثون درهماً، وقبض العبد، وأعتقه، فالمحاباة بعشرة، وهي ثلث ماله، قال ابن الحدَّادِ: إن كان ذلك قَبْل توفية الثمن على البائع نفذ العتق، وبطَلَتِ المحاباة، والبائع يأخذ قَدْر قيمة العبد، بلا زيادة، وعلل بأن المحاباة في الشِّرَاء. كالهبة، فإذا لم تكن مقبوضةً حتَّى جاء ما هو أقوَى منها، وهو العتق، أبطلها. وإن كان بعد توفية الثمن، بطل العتق؛ لأن المحاباةَ المقْبُوضَة قد استغرقَتِ الثلث. قال الشيخ أبو عليٍّ: قد أكثر ابن الحدَّاد التبجح (¬2) بهذه المسألة، وهو غالطٌ فيها عند الأصحاب كلِّهم، وقالوا: لا فرق في المحاباة بين أن تكون مقبوضَةً، أو لا تكون مقبوضة؛ لأنها متعلَّقة بالمعاوضة [والمعاوضات] (¬3) تلزم بنفس العقد، ولهذا يتمكَّن الواهب من إبطال الهبَةِ قبل القَبْض، ولا يتمكن من إِبطال المحاباة. وقد أجاب ابن الحدَّاد في "باب الصداق" بهذا، إذا أصدق المريض المرأة أكثر من مَهْرِ مثلها، وإذا لم يفترق الحال بين أن تكون مقبوضة، أو غير مقبوضة فالجواب في الحالتين تصحيحُ المحاباةِ المتقدِّمة، وإبطال العتق المتأخِّر، قال: وأما قوله: "إن البائع يأخذ قيمة العبد بلا زيادة"، فهذا لا يجوز أن يلزم، ويكلَّف به؛ لأنه لم يَزُلْ ملكُهُ إِلاَّ بعشْرِين، ولكن يُخَيَّرُ بين ما ذكروه، وبين أن يفسخ البيع ويبطل العِتْق. ¬
فصل في إتلاف المريض المحابي، أو صاحبه ما أخذه
فَصْلٌ في إِتلاف المريضِ المُحَابِي، أو صاحِبِه ما أخذه باع المريض عبداً، يساوي عشرين، بخمسةٍ، وأتلف الثمن الذي أخذه؛ فإن قلنا: يصحُّ البيع في بعض ما حابَى فيه بجميع ما يقابله، فقد ملك المشتري ربع العَبْدِ بالخمسة، وأتلف البائع الخمسة من ماله، فعادَتِ التركَةُ إلى خمسة عشر للمشتري من ذلك شيء بالمحاباة، يبقَى للورثة خمسة عَشَر إلاَّ شيئاً يعدل ضعف المحاباة، وهو شيئان، فَيُجْبَرُ، ويُقَابَلُ؛ فخمسة عشر تعدِلُ ثلاثة أشياء؛ فالشيء خمسة، وهو ربع العبد؛ فيحصل للمشتري نصْف العبد، ربعه بالثمن، وربعه بالتبرُّع، وهو خمسة؛ يبقى للورثة عَشَرة ضعْف المحاباة. وإن قلْنا بالتقسيط، صحَّ البيع في ثلث العبد بثلث الثمن، وقد بينا ذلك بطريقة الجبر وغيرها، فيما إذا باع قَفِيزَ حنظة يساوي عشرين، أو ثلاثين، بقفيز يساوي عشرةً في "باب تفريق الصفقة" وهذا الجوابُ مطَّرِدٌ، كيف فُرِضتْ قيمة الجيد والرديء على اختلاف الأقدار، وبُيَّنَ ذلك بطريقتين أخريتين والتصوير فيما إذا كان الجيِّدُ يساوي عشْرين، والرديءُ عَشَرَةً. إحداهما: بطريقة الخطائين، فقدر القفيز الجيِّد خمسة أسهم، وتصحيحُ البيع في سَهْم بنصف سهم، فتكون المحاباةُ بنصْف سهم؛ يبقَى أربعة أسهُمٍ ونصْف سهم، يقضي منْهَا القفيز الرديء، وهو سهمان ونصف، ويبقَى في يد الورثة سهمان، وكان ينبغِي أنْ يكُونَ سهماً، ولو ضعف المحاباة فأخطأنا بسهم واحد، ثم نعود ونصحَّح البيع في سهمٍ وثلث سهم من الخمسة بنصْفه، وهو ثلثا سهْم؛ فتكون المحاباةُ بثلثَي سهم، تبقَى في يد الورثة أربعَةٌ وثلث. نقضي منها القفيزَ الرَّدِيء، وهما سهمان ونصْف، يبقَى سهم وخمسة أسداس سَهْم، وكان ينبغِي أَنْ يكون سهماً وثلثاً، فأخطأنا بنصف سهم، فنقول: لما زدْنَا ثلُث سَهْم، ذهب نصف الخطأ. فلو زدنا ثلثَيْ سهم، ذهب جميع الخطأ، فإذن ما يصحُّ البيع فيه من الخمسة سهم وثلثان، وذلك ثلث الخمسة. والثانية: طريقة الدينار والدرهم، نُقدِّر القفيزَ الجيِّد ديناراً ودرهماً، ونصحِّح البيع في الدينار، ويعود إليه نصفه، فتبقى المحاباة بنصف دينار، ويكون عنده درهم ونصف دينار، وهو العائد إليه، وقد أتلف الرديء، وهو نصف درهم ونصف دينار، فينقصه مما بقي للورثة، يبقى نصف درهم، يعدل بنصْف المُحَاباة، وهو دينار، فعرفنا أن الدينار نصْفُ درهم، وهو ثلث القفيز. ولو أتلف المريض بعْضَ القفيز الرديء، كأنه أتلف نصفه، وقيمة القفيز الجيِّد عشرون، فبطريق النسبة والتقدير يقول: مالُ المريضِ عشْرُون، لكنه أتلف خمسة،
فَنَحُطُّ مِنْ ماله، يبقى خمسة عشر؛ ثلثها خمسة، والمحاباة عشرة، والخمسة نصف العشرة، فيصحُّ البيع في نصف العبد، بنصف الثمن، فيكون المحاباة بخمسة، يبقَى للورثة نصْف العبد، وهو عشرة، ضعْف المحاباة. وبطريق الدينار والدرْهَمِ: يجْعَلُ القفيزَ الجيِّد ديناراً ودرهماً، نصحح البيع في الدينار بمثل نصفه، يبقَى درهم ونصف دينار؛ يُقضَى منه الدَّين، وهو ربع دينار وربع درهم؛ لأنَّ الرديء نصْفُ دينارٍ، ونصفُ درهم، والمتلف نصف الرديء، فيبقَى مع الورثة ثلاثة أَرباع درْهَمٍ وربع دينار، يعدل ضعف المحاباة، وهو دينار، فنسقط ربع دينار بربع دينار؛ يبقَى ثَلاثة أرباع درهم، يعدل ثلاثة أرباع دينار، فالدينار مثل الدرهم، فعرفنا صِحَّةَ البيع في نصْفِ القفيز بنصْفِ القفيز. فروع أحدها: باع المريضُ قفيز حنطةٍ، قيمته خمسة عشر لأخيه، بقفيز قيمته خمسة، فمات أخوه قبله، وخلف بنتاً، وأخاه البائع، ثم مات البائع، ولا مال لَهُمَا سوى ما تصرَّفا فيه، فيصحُّ البيع في شيء من القفيز الجيد، وُيرْجَعُ بالعوض ثلث شيء؛ يبقَى معه قفيز إِلاَّ ثلثي شيء، فالمحاباة بثلثي شيء، ويحصل مع المشتري شيء من القفيز الجيد، والباقي من قفيزه، وهو قيمة القفيز الجيد، ثلث قفيز إلاَّ ثلث شيء، فهما معاً ثلث قفيز وثلثا شيء، يُرْجَعُ نصفه بالإِرث إلَى البائع، وهو سدس قفيز وثلث شيء، فنزيده عَلَى ما كان للبائع، فالمبلغ قفيز وسدس قفيز إلا ثلث شيء، وهذا يعدل ضعف المحاباة، وهو شيء وثلث شيء، فيُجْبَرُ وُيقابل. فقفيز وسدس قفيز يعدل شيئاً وثلثي شيء، فنبسطها أسْدَاساً، ونقلب الاسم، فالقفيزُ عَشَرة، والشيء سبعة، فيصحُّ البيع في سبعة أعشار الجيد، وهو عشَرَةٌ ونصف، بسبعة (¬1) أعشار الرديء، وهو ثلاثة ونصف فتكون المحاباة بسَبْعَة، يبقَى مع البائع من قفيزه أربعةٌ ونصْفٌ، وقد أخذ بالعوض ثلاثة دراهم، ونصفِ درْهَم، فالمجموع ثمانية، وللمشتري من قفيزه دِرْهَمٌ ونصف ومن القفيز الجيِّد عَشَرة ونصف، يكون اثنَيْ عشر درهماً، يُرُجَعُ نصفه إلى البائع، وهو ستة، يبلغ ما عنده أربعة عَشَر، وهي ضعْف المحاباة. ولو كان القفيز الرديءُ بالقيمة نصْفَ الجيد، والجيد يساوي عشرين، صحَّ البيع في الجميع؛ لأنه يكون المحاباة بعَشَرة، فيبقَى عنده عشرة، ويُرْجَعُ إِليه بالإرث عشرة. الثاني: باع المريض عبداً، يساوي عشرين، بعشرة، فاكتسب العبد عشْرين في يد البَائِع، أَو في يد المشتَرِي، ثم مات المريض، فإن ترك عشرَة سوَى ثمن العبيد، نفذ ¬
البيع في جميع للعبد، وكان الكسب للمشتري، وإن لم يملك شيئاً آخَر، بطل البيع في بعض العبد؛ لأن المحاباة لا تَخْرُجُ عن الثلث. ثم حكى الإمامُ عن الأستاذ: أن الكسْبَ بتمامه للمشتري؛ لأنه حصل في ملكه، ثم عرض الفسخ والرد، وكان كما لو اطَّلَعَ المشتَرِي عَلَى عيب قديم بَعْد الكسب، فإنه يرده، ويبقى الكسب له، قال: وهذا زللٌ عظيمٌ؛ بل الوجه القطْعُ بأن الكسب تبعَّض بتبعُّض العبد، كما في العتق، وليس هذا فسخاً؛ ورداً للبيع في بعض العبد، بل نتبيَّن حصول الملك للمشتري في بعْض العَبْد دُون البَعْض، وصحة البيع، وهذا حقٌّ؛ لكنّ الأستاذ غير مبتدئ بهذا الكلام، ولا مبدله من عند نفسه يعدل عليه، وإنما رواه عن جواب ابن سُرَيْجٍ وأكثر الأصحاب. ثم حكَى عن بعضهم: أن الكَسْب كالزِّيادة الحادثة في قيمته؛ وعلَى هذا: فيكون الحكْمُ التبعيض، كما في الزيادة، ولو اشترَى المريضُ عبداً، قيمته عشرة بعشرين، فاكتسب، فالكسْبُ كالزيادة في القيمة؛ لأنَّ التركة تزدَادُ به، وحكم الزيادة ما سبق. الثالث: لو اشترى المريضُ عبداً بعَشَرة، وترك سواء بعشرين، وأوصَى لرجل بعَشَرة، ثم وجد بالعبد عيباً ينقصه خمسة، فاختار إمساكه، جاز، وكأنه حاباه بخمسة. والمحاباة مقدّمة على الوصية، وللموصى له باقي الثلث، وهو خمسة، وإن وجد الورثة العَبْد معيباً، وأمسكوه، للموصَى له العشرة، وما نقص بالعيب، كأنهم أتلفوه؛ لأنهم لو شاءوا لفَسَخُوا، واستردوا الثمن، ولو اشترى عبداً بثلاثين، فأعتقه، وخَلَّف ستين درهماً، ثم وجد الورثة به عَيْباً، ينقصه خمسة دراهم، رجعوا على البائع بالأرش ولو وهبه وأقبضه، لم يرجعوا؛ لأنه ربما يعود إلَيْهم، فيردوه، هذا جواب الأستاذ: وفيه وجه آخر مشروحٌ في موضعه، ولو لم يخلف غير العبد، وكان قد أعتقه، عَتَقَ منه خمساه، وهو عشرة دراهم، يرجع الورثة بالأرش، وهو خمسة على البائع، ولهم مع ذلك ثلاثة أخماس العبد، وهي خمسة عشر؛ فتكون عشرين ضعْف المحاباة. قال الأستاذُ: وللبائع أن يأخذ ثلاثة أخماسِ العَبْد، ويرد ثلاثة أخماس الثمن، ويُغَرَّم أرش خمسيه وهو درهمان، ولو كان قد وهبه، وأقبضه بَدَلَ الإعتاق، فالخمسةُ الناقِصَة تُحْسَبُ من الثلث؛ لأن المريض هو الذي فَوَّتَ الرجوع بالأرش بما أنشأ من الهبة، وللموهوب له خُمسه، وهو خمسة، وللورثة أربعة أخماسه وهي عشرون. الرابع: ترك عبداً قيمته ثلاثون، وأوصى بأن يُبَاعَ من زيد بعشرة، فثلث ماله عشرة، وأوصَى بأن يُحَابَى بعشرين؛ فإذا لم يُجِزِ الورثة، بيع منه عَلَى قولٍ ثلثا العبد بجميع العشرة؛ لتحصُلَ له المحاباة بقَدْر الثلث؛ وللورثة ضعفه. وعلى قَوْلِ التقسيط يُبَاعُ منه نصْف العبد بنصف الثمن، ولو أوصَى مع ذلك بثلث
ماله لعمرو، فالثلث بينهما على ثَلاثةٍ؛ لزيد سهمان، ولعمرو سهم، [قال الأستاذ: فعلَى أحد القولين: يُبَاعُ من زيد خَمْسَةُ أتساع العبد، وهي ستة عشر وثلثان، عشرة] (¬1) بالثمن، والباقي محاباةٌ بجميع العشرة، ويُدْفَعُ إلَى عمرو ثلاثة وثلث، يبقى (¬2) عشرون للورثة، وعلى الثاني: يُبَاع ثُلُثُ العَبد، وهو عشرة، بثلث الثمن، وهو ثلاثة وثلث، ويُدْفَعُ إلَى عمرو ثلاثة وثلث، والباقي للورثة وهو عشرون. ومن التصرُّفات التي يعتريها الدَّوْر السَّلَم، فإذا أسلم المريضُ عشرة في قَدْر من الحنطة مؤجلاً، يساوي عشرَةً، ومات قبل أن يحلَّ الأجل، فللورثة الخيار؛ إن أجازوا، فالسلم بحاله، وإن قالوا: لا نَرْضَى بالأجل في محلِّ حقنا، وهو الثلثان، فلهم ذلك على ما ذكَرْنَا في بيع الأعيان، بثمن مؤجل، وحينئذ فالمُسلَّم إليه بالخيار؛ إن شاء، فسخ السَّلَم، ورد رأس المال بتمامه، وإن شاء، ردَّ ثلثي رأس المال؛ وفسخ العقد في الثلثين، وبقي الثلُثُ عليه مؤجَّلاً، وإن شاء عجَّل ثلث ما عليه، ويبقى الثلث مُؤَجَّلاً عليه، فأيهما اختار، سقط حقُّ الورثة من الفسخ. ولو أسلم عشرة في قَدْر يساوي ثلاثين، فللورثة الخيار أيضاً مع الغِبْطة بسَبَبِ التأجيل، وللمسلم إليه الخيارُ كما ذكرنا، فيكفيه أن يعَّجل مما عليه ثلثي العشرة، وذلكَ تسعاً ما عليه من الحنطة، فيكون الباقي عليه إلى انقضاء الأَجَلِ، وإنما كفاه تعَجِيل هذا القدر؛ لأنه يقول: عليه الأمر؛ أنه وهب منى العشرة، وأنتم رددتُّمْ تبرُّعه في ثلثيها؛ فلا يحصل لكم إلاَّ ما أعجله، ولو أسلم ثلاثين في قدر يساوي عشرة، فللورثة الاعتراضُ هاهنا من جهة التأجيل، ومن جهة أنه تبرُّع بما فوق الثلث، فهذا لم يجيزوا، فالمسلم إلَيْه بالخيار؛ إن شاء، فسخ السلم، وردَّ رأس المال، هان شاء، فسَخه في الثلاثين، ورد ثلثي رأس المال، ويكون الباقي عليه إلَى أجله، وإن شاء، عجَّلَ ما عليه؛ مع ما زاد من المحاباة على الثلث. ولا يكْفيه تعجيلُ ما عليه هاهنا؛ لأنه يحصُلُ للورثة ثلثا المال، ولو عجَّل نصف ما عليه مع نصف رأس المال، وفسخ السلم في النصف، كفى، ولو أسلم المريض إلَى رجلين ثلاثين درهماً في قفيز من الحنْطَة، قيمته عشرة إلَى أجل؛ ولم يجز الورثة، واختار المسلَّم إليهما إمضاء السَّلَم فيما يجوز فيه السَّلَم، فإنْ فرعنا عَلَى أن العقد يصحُّ في بعض ما حابَى فيه بقسْطِه مما يقابله، صحَّ لهما السَّلَمُ في نصْف المسلم فيه، وقيمته خمسة دراهم، بنصف رأس المال، وهو خمسة عشر؛ فتكون المحاباة بعشرة وللورثة نصْف المسلَّم فيه، وهو خمسة، ونصف رأَس المال، وهو خمسة عشر، وذلك ضعْفُ ¬
المحابَاةِ فلو غاب أحدُهُما بعد الاختيار، وصار معْسِراً، وتعذر تحصيل المال منه، فلابن سريج وجهان: أحدُهما: أنهما إذا رَضِيَا بالمسلم فيما يستحقُّه الغائب من المحاباة، يُجْعَلُ كأنَّه قَبَضَهُ؛ فيدخل في حساب التبرع، وما عليه في الحال جُعل كالتالف، وكان ما في يد الحاضر كل التركة، فيصح السَّلَم في ثلاثة أعشار نصْف المسلم فيه لنحاضر بثلاثة أعشار نصف الثمن، وحسابه أن يُقالَ: صحَّ السلم لهما في شيء من المسلَّم فيه بثلاثة أشياء من الدراهم، فتكون المحاباة بشيئين، فيؤدي الحاضر نصْف الشيء بشئ ونصف، ويرد باقي الدراهم التي قبضها، وهو خمسة عَشَر إلاَّ شيئاً ونصف شيء، فيضمه الورثة إلَى ما أخذوا من المسلَّم فيه، فيكون خمسة عَشَر درهماً إِلاَّ شيئاً، وذلك يَعْدِلُ ضعف المحاباة، وهو أربعة أشياء، فيُجْبَرُ، ويُقَابَلُ. فخمسة عَشَرَ تعدل خمسة أشياء، فالشيء خمسي الخمسة عشر، وهو ثلاثة، وهي ثلاثة أعشار القفيز، يؤدي الحاضر نصف ذلك، وهو ثلاثة أعشار نصف القفيز، وقيمتها درهم ونصف، بثلاثة أعشار نصف الدراهم، وهي أربعة ونصف، فتردُّ باقي النصف من الدراهم، وهي عشرة ونصْف، يضمُّه الورثة إلَى ما أخذوا، يبلغ اثني عشر، وهي ضعْفُ محاباته، ومحاباة صاحبه الغائب، وكلُّ ما يحصل بالمحاباة له، يحصل صاحبه مثله. ثم إذا حضر الغائب، وأحضر ما عليه، صحَّ لهما السلم في النصف، فيؤدي الغائب ربع القفيز، ونصف ما قبض من الدراهم، ويؤدي الحاضر تتمة الربع، ويسترد من الورثة ثلاثة دراهم. والوجه الثاني: أنا نقدر كأن الميت [لم] (¬1) يعامل إلاَّ الحاضر، وكأنه أسلم خمسة عشر في نصف قفيز، قيمته خمسة، فيصحُّ السلم في ربع قفيز، بنصف رأس المال، ثم إن تلف ما عَلَى الغائِبِ، فالذي جرَى ماضٍ على الصحة، وإن حضر الغائب أدَّى ربع القفيز، ونصف (¬2) ما قبض من الدراهم، هذا على قول التِّقْسيط. أما إذا قلْنا: يصحُّ العقد في بعض ما حابَى فيه بجميع الثمن. قال الأستاذ: إذا اختار إمْضَاء العَقْد، صح السلم في جميع القفيز بثلثَيْ رأس المال؛ فيؤديان القفيز، ويردَّان عشرة دراهم، وإن كان أحدهما غائباً، وأجاز الحاضر، جعلت الثلث سهمين بين الحاضر والغائب، وللورثة الثلثان، يسقط سهم (¬3) الغائب؛ ¬
لأنه يأخذ مما عنده، ويقسم الحاضر من التركة، وهو خمسة عشر بين الورثة والحاضر على خمسة أسهم، للحاضر منها سهم؛ وهو ثلثه، وهي وصية؛ فيؤدَّى نصف القفيز وقيمته خمسة بتمامه؛ ثلاثة منها محاباة، ويرد سبعة دراهم؛ فيكون للورثة نصفُ القفيز، وسبعة دراهم، وذلك اثنا عَشَرَ ضعف ما يحْصُلُ لهما من المحاباة. وعلى الوجه الأول الذي تقدَّر أن الميت لم يُعَاملْ غير الحاضر، فيردي نصف القفيز، ويرد خمسة دراهم. ومنها الضمان، والإقرار، والشُّفْعَة: وقد ذكرنا مثال الدَّوْر فيها، في أبوابها، ومن صوره في الإقرار، إذا قال زيد لعمرو عليَّ عشرة، إلاَّ نصف ما على بكر، وقال بكر لعمرو: عليَّ عشرةٌ، إلا نصف ما على زيد: فعلى كلَّ واحد من زيد، وبكر عشَرةٌ إلاَّ شيئاً، نأخذ نصف ما عَلَى أحدهما، وهو خمسة إلاَّ نصف شيء، وذلك يعدل الشيء الناقص من العشرة؛ لأنا نعلم أن ما عَلَى كل واحد منهما إذا زيد نصفه على عشرة إِلاَّ شيئاً، كان المبلغ عشرةً؛ فإذن: خمسةٌ إلا نصف شيء، يعدل شيئاً، فيُجْبَرُ ويُقَابَلُ فخمسةٌ تعدل شيئاً ونصفاً، فالشيء ثلثا الخمسة، وهو ثلاثةٌ وثلُثٌ، فهي الشيء، تسقطها من العشرة، يبقى ستة وثلثان، فهي التي يجبُ عَلَى كل واحد منهما. ولو قال: كلُّ واحدٍ: عشرة إلا ربع ما على الآخر، قلنا: على كل واحد عشرة إِلا شيئاً، نَأْخُذ ربُعَ، ما على أحدهما، وهو درهمان ونصف، إِلاَّ ربع شيء، وذلك يعدل الشيء الناقِصَ، فيُجْبَرُ، ويُقَابَلُ، فيقع درهمانِ ونصْف في معادلة شيء وربع، شيء فالشيء درهمان، يسقطهما من العَشَرَة، يبقَى ثمانية، فهي التي تجبُ عَلَى كلِّ واحد منهما. ولو قال أحدهما: عَشَرة إلاَّ نصف ما على الآخر، وقال الآخر: عشرةٌ إلاَّ ثُلُث ما عَلَى الآخر، فعلَى أحدهما ثلاثة أَشياء لذكر الثلث، يسقط ثلثها من العشرة، تبقَى عشرة إِلاَّ شيئاً، فهي التي على الآخر، نأخذ نصفها، وهو خمسة إِلاَّ نصف شيء، فنزيدها عَلَى ما على الآخر، وهو ثلاثة أَشياء، فتكون خمسة دراهم وشيئين ونصف شيء، وذلك يعدل عشرة، يسقط الخمسة بخمسة، يبقَى خمسة دراهم في معادلة شيئَيْنِ ونصف، فالشيء الواحد درْهَمَان، وكان عَلَى أحدهما ثلاثةُ أشياء، فهي ستة دراهم، وعلى الآخر عشرة إِلاَّ شيئاً، فهي ثمانية. ولو قال كلُّ واحدٍ منهما: له عشرةٌ ونصْفُ ما على الآخر، فنقول على كلِّ واحدٍ منهما عشرةٌ وشيء، ونأخذ نصْفَ ما عَلَى أحدهما، وهو خمسة ونصف شيء، وذلك يعدل الشيء الزائد على العشرة، فيسقط نصف شيء بنصف شيء؛ يبقَى نصف شيء في معادلة خمسة دراهم، فالشيء عشرة دراهم وعلى كل واحد عشرون، ولو قال كل واحد: عَشَرةٌ وثلث ما على الآخر [فيزاد على العشرة نصفها تبلع خمسة عشر فهي
فصل
الواجب على كل منهما ولو قال وربع ما على الآخر] (¬1) فَيُزَادُ على العشرة ثلثها، ويُقَال: على كل واحد منهما ثلاثة عشر وثلث، وعلى هذا التنزيل. ومنها الهبة، وفيها فصْلاَن: فَصْل إذا وهب المريض عبداً مثلاً من غيره، ثم رجع الموهوب، أو بعضه إلى الواهب بهبة، أو غيرها، دارت المسألة؛ لأن التركة تزيدُ بحَسَب قدْر الراجِع، وإذا زادتِ التركةُ، زادَتِ الثلث، وإذا زاد الثلث، زاد الراجع وزادَتِ التركة، وتضمن الفصْل مسائل. مسألة: وهب المريضُ عبداً، فأقبضه، ثم وهبه الثاني من الأوَّل، وهو مريضٌ أيضاً، وماتا، ولا مال لهما سوَى العَبْد، فبالجبر: نقول: صحَّت هبة الأوَّل في شيء من العَبْد، فبقي عبد إلاَّ شيئاً؛ وصحَّت هبة الثاني في ثلث ذلك الشيء، فيرجع إلى الأوَّل ثلث شيء، ويكون عنده عبد إلا ثلثَيْ شيء وذلك يعدل ضعف ما صحَّت هبته فيه، وهو شيئان، فبعد الجبر؛ عبد يعدل شيئين وثلثَيْ شيء، نبسطها أثلاثاً، ونقلب الاسم. فالعبد ثمانية، والشيء ثلاثة؛ فتصحُّ هبة الأول في ثلاثة أثمان العبد، وتبطلُ في الباقي، وتصحُّ هبة الثاني في ثمن من الأثمان الثلاثة؛ فيبقَى مع ورثة الثاني ثمنان، وهما ضعْف هبته، ومع ورثة الأول ستة أثمان العبد، وذلك ضعف هبته. وبطريق السهام: تطلب عدداً له ثلث، ولثلثه ثلث؛ لمكان الهبتين، وأقلُّه تسعة، فتصحُّ هبة الأوَّل في ثلاثة، وُيرْجَعُ من الثلاثة واحد إلَى الأَول، وهذا هو سهم الدَّوْر، يسقطه من التسعة، يبقَى ثمانية، تصحُّ الهبة في ثلاثة منها، كما سبق، فإن كان الباقي صحيحاً، صحَّت هبة الأول في شيء من العبد؛ فيبقى عبد إلاَّ شيئاً. ثم يرجع ذلك الشيء بالهبة إلَيْه، فعنده عبْد كامل، يعدل ضعف ما صحَّت فيه الهبة، وهو شيئان، فنقلب الاسم، ونجعل العبد اثنين، والشيء واحداً؛ فتصحُّ الهبة في نصفه، وُيرْجَعُ إليه، فيكون عنده عبد تام ضعْف ما وهب ولو وهب الثاني من مريضٍ ثالثٍ، وأقبضه، ثم وهب الثالث من الأول، فتصح هبة الأول في شيْءٍ من العبد، وهبة الثاني في ثلث ذلك الشيء، وهبة الثالث في ثلث ثلاثة، وهو تُسْعٌ، فيرجع إليه تسع ذلك الشيء، يبقى معه عبد إلا ثمانية أَتساع شيء، وذلك يعدل شَيْئَيْن، فبعد الجبر: عبد يعدل شيئين، وثمانية أتساع الشَّيْء. ¬
فنبسطُها أَتساعاً، وتقلب الاسم، فالعبد ستة وعشرون، والشيء تسعة، فتصحُّ هبة الأول في تسعة أجزاء من ستة وعشرين جزءاً من العبد، وهبة الثاني في ثلاثة منْهَا، يبقَى مع ورثته ستة، هي ضعف هبة الثالِثِ في واحِدٍ، يَبْقَى مع ورثته سهْمَان، وتضم جزءاً إلَى ما بقي مع ورثة الأوَّل، يكون ثمانية عشر، وهي ضعْفُ ما صحَّتْ فيه هبته. وبالسِّهَام تطلب عدد له ثلث، ولثلثه ثلث، ولثلث ثلثه ثلث، لاجتماع الهبات الثلاث، وأقلُّه سبعة وعشرون، يسقُطُ منه سَهْم الدَّوْر، يبقى ستة وعشرون، عَلَى ما ذكرنا، ولو أن المريض الثاني وهَبَهُ من المريض الأوَّل، ومن مريض ثالث معاً، ثم وهب الثالث ما صار له من الأول، ثم مَاتُوا: فتصحُّ هبة الأوَّل في شيء، يبقَى عبد ناقص بشيء، ويصح هبة الثاني من ثلث الشيء، لكل واحد من الموهوب لهما سدس شيء، وتصحُّ هبة الثالث في ثلث السدس الذي صار له، وهو جزءٌ من ثمانية عشر، فَيَرْجِعُ إلى الأول من الثاني سُدُسُ، ومن الثالث ثُلُثُ سدس شيء، فيكون عنده عبد إِلاَّ أربعة عشر جزءاً من ثمانية عشر جزءاً من شيء. وذلك يعدِلُ شيئين، فبعدَ الجَبْر، والمقابلة، والبسط بأجزاء الثمانية عشر، وقلب الاسم يكون العبد خُمْسَيْن، والشيء ثمانية عشر، فتصحُّ هبة الأول في ثمانية عشر من خمسين من العبد، وهبة الثاني في ثلثه وهو ستة، وهبة الثالث في ثلث ما صَارَ له، وهو واحد، فيُرْجَعُ إلى الأول من الثاني ثلاثة، ومن الثالث واحدٌ، يجتمع معه ستة وثلاثون، ضعف ما صحَّتْ هبته فيه. مسألة: إذا كان للواهب شيء من التركة سوَى المَوْهُوب، كأن وهب عبداً، قيمته مائةٌ، وأقبضه، ثم وهبَهُ الموهوب منه، وهو مريضٌ أيضاً من الأول، ثم ماتا، للأول خمسون سوَى العَبْدَ. فطريق الدينار والدرهم نقول: العبد دينارٌ ودرهمٌ تصحُّ هبة الأول في درهم، ويُرْجَعُ إليه بهبة الثاني ثلُث درهم، يبقَى معه من العبد دينارٌ، ومما سواه نصْفُ دينار، ونصف درهم، فإنه مثلُ نصف العبد، ومما رجع إليه ثلث درهم، فالمبلَغُ دينار ونصف دينار، وخمسة أسداس درهم، وذلك يعدِلُ ضعْف المحاباة، وهو درهمان، يسقط خمسة أسداس درْهَم بخمسة أسداس درهم، يبقَى دينار ونصف دينار في معادلة درهم وسدس درهم، فنبسطُهَا أسداساً، ونقلب الاسم. فالدرهم تسْعةٌ، والدينار سبعة، وكان العبد درهماً وديناراً؛ فهو إِذَنْ: ستة عشر؛ تصحُّ الهبة في تسعة منها، وترْجَعُ إليه بالهبة الثانية ثلاثة، ومعه تركة مثلُ نصفْ العبد فالمبلغ ثمانية عشر، ضعْف التسعة، ولو كان على الواهِب الأوَّل دَين، ولا تركة سوى العَبْد، فإن كان الدَّيْن مثل العبد، أو أكثر، فالهبة باطلة، وإن كان أقل؛ بأن وهب عبداً،
قيمته مائة، وعليه عشرون ديناراً، فتصحُّ هبة الأول في شيء، وُيرْجَعُ إليه ثلث شيء، فيبقى عبد إلا ثلثي شيء، يُقْضَى منه الدَّيْن، وهو خمس العبد، يبقى أربعة أَخماس العبد إِلاَّ ثلثَيْ شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر: أربعة أخماسِ عبدٍ يَعْدِلُ شيئين، وثلثي شيء، فنبسطُهَا بأجزاء الثلُثِ، والخمس بأن نضربهما في خمسة عشر، ونقلب الاسم، فالعبد أربعون، والشيء اثنا عشر؛ تصحُّ هبة الأوَّلِ في اثني عشر، من أربعين من العبد، وتعود إليه أربعة، يبقى اثنان وثلاثون، يُقْضَى منه الدين، هو ثمانية أجزاء، مثل خمس العبد؛ يبقَى أَربعة وعشرُون، ضعْف الهبة. ولو كان للمريضِ الثاني تركةٌ سوى العبد؛ بأن كان العبد مائةٌ، وللثاني خمْسُون سوى العبد، ووهب جميع ماله؛ فتصحُّ هبة الأَول في شيء من العبد، ويكون مع الثاني نصْف عبد وشيء، يُرْجَعُ ثلثه إِلى الأوَّل، وهو سدس عبد وثلث شيء، فيجتمع عنده عبْدٌ، وسدُسُ عَبْدٍ، إلا ثلثي شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر عبْدٌ وسدسُ عبدٍ يعدل شيئين وثلثي شيء؛ فنبسطها أسداساً. ونقلب الاسم، فالعبد ستة عشر، والشيء سبعة، وسع الثاني نِصْف عبد، وهو ثمانيَةٌ، [مع الشيء وهو سبعة] (¬1) فالمبلغ خمسة عشر، يُرْجَعُ إلى الأول من هبته خمسة، فالمبلغ أربعةَ عَشَر، ضعف الهبة، ولو كانت الهبتان، كما ذكرنا، ولا شيء لهما سوَى العَبْد، وعلى الثاني خمْسَة وعشْرُون ديناراً، فيُجْعَلُ العبد دينارًا ودرهماً، وتصحُّ هبة الأول في الدراهم، ويُقْضَى منه دَيْن الثاني؛ وهو ربع دينار وربع درهم؛ لأن الدَّيْن ربع العبد، فيبقَى ثلاثة أرباع درهم إِلاَّ ربع دينار؛ وبعود ثلثه بالهبة الثانية إِلى الأول، فيجتمع معه خمسة أسداس دينار، ونصف سدس دينار، وربع درهم، وذلك يعدل درهمين، فيَسْقُط ربع درهم بمثله، يبقَى خمسة أسداس دينار، ونصف سدس دينار في معادلة درهم، وثلاثة أرباع دِرْهم. فنبسطها بأجزاء نصف السدس، ونقلب الاسْمَ؛ فالدرهم أحد عشر، والدينار أحد وعشرون، وكانَ العَبْد ديناراً ودرهماً، فهو اثنان وثلاثون؛ يُقْضَى من أحد عشر دَيْن الثاني، وهو ثمانية؛ لأنه رُبُع العبد، يبقَى ثلاثة، يعود منها إِلى الأول واحدٌ، يكون اثنين وعشرين ضعْف الهبة، ولو كان لكلِّ واحدٍ منهما خمسون سِوَى العبد، فتصحُّ هبة الأَول في شيء من العَبْد، ومع الثاني خمسون، وهو نصْفُ عبد، فيجتمع معه نصف عبْدٍ وشيء، يُرْجَعُ ثلاثة إلى الأول، وهو ثلث عبد وثلث شيء، ومعه عبد ونصف إِلاَّ شيئاً، فالمبلغ عبد وثلثا عبد إلاَّ ثلثي شَيْء، فبعد الجبر: عبدٌ وثلثا عبد يعدل شيئين وثلثَيْ شيء. ¬
فنبسطها أثلاثاً، وتقلب الاسم؛ فالعبد ثمانية، والشيء خمسة، فتصحُّ الهبة في خمسة أثمان العبد، وسع الثاني نصْف عبد، وهو أربعة، فالمبلغ تسعة أَجزاء، تصحُّ هبته في ثلاثة منها، فيحْصُلُ مع الأول هذه الثلاثة الراجعة، والثلاثةٌ الَّتي بقيتْ عنده نصف عبد، وهو أربعة، فالمبلغ عَشَرةٌ، ضعْف هبتِهِ. مسألة: وهب المريض عبداً، قيمته مائة، فمات في يد المتهب، ثم مات الواهب، ولا مال له، فعن ابن سُرَيْجٍ وجهان: أحدهما: تصحُّ الهبة في جميع العبد؛ لأنه لَمْ يَبْقَ شيء، يُورَثُ عنه، فتُجْعَلُ هبته؛ كهبة الصَّحِيحِ. وأصحُّهما: أنها باطلة (¬1)؛ لأنها في معنى الوصيَّة، ولا تثبت الوصيَّة في جزء، ما لم يثبتِ الإِرْثُ في جزأين، فإن قلْنا بالبطْلاَن، ففي وجوب الضمان على المتَّهب وجهان: وجه الوجوب أنه قبض لنفسه، فكانت يده كيد المستعير، والأشبه المنع، فليس كالمستَعِير؛ فإنه قبض ليرد، فإذا كان مضمونَ الردَّ، كان مضمون العين، فإِن أوجبنا الضمان، قال الأستاذ: يضمنُ ثلثي قيمته لورثة الواهب. وقياس بطلانِ الهبة أَنْ يضمن جميع القيمة، ولو اكتسب العبْد في يد المتهب مائة، ثم مات، فإن صحَّحنا الهبة في الجميع، فالكَسْب للمتَّهب، وإن أبْطَلْنَاها في الجميع، إذا لم يكَن كَسْب، فهاهنا تصحُّ الهبة في شيء من العبد، ويكون للمتَّهِب شيء من الكسب، غير محسوب علَيْه من الوصية، وللورثة باقي الكسب، وهو مائةٌ إِلاَّ شيئاً يعدلُ شيئين، فبعد الجبر والمقابلة: [مائة] (¬2) تعدلُ ثلاثة أشياء، فالشيء ثلث المائَةِ، فتصحُّ الهبة في ثُلثِ العبد، وتبطُلُ في ثلثه، ولورثةِ الواهب ثلثا كسبه، وذلك ضعْفُ ما صحَّت الهبة فيه، ولم يُحْسَبْ ثلثا العبد على ورثة الواهب؛ لأنه تلف قبل موت الواهب، وحسبنا على المتَّهب ما تلف من وصيته؛ لأنه تلف تحت يده. مسألةٌ: وهب من أخيه عبداً، لا مال له سواه، فمات الأخ قبله، وخلَّف بنتاً، ¬
وأخاه الواهب، ثم مات الواهب، فتصحُّ الهبة في شيء من العبد، وُيرجَعُ بالميراث نصفه، فالباقي عبدٌ إِلاَّ نصف شيء، وذلك يعدل شيئين فيُجْبَرُ وُيقَابَلُ، فعبد يعدل شيئين ونصف شيء، فالشيء خمسا العبد؛ فتصحُّ الهبة في خمسيه، وتبطل في ثلاثة أخماسه، وُيرجَعُ بالميراث أحد الخمسين، فيحصلُ للورثة له أربعة أخماسه، وهو ضعْفُ ما صحَّت الهبة فيه. ولو خلف الواهب مائة درهم، سوَى العَبْد، وقيمة العبد مائةٌ أيضاً، فتصحُّ الهبة في شيء من العبد، وُيرْجَعُ بالإِرث [نصف] (¬1) شيء ومعه مثل العبد، فيجتمع عبدان إِلاَّ نصف شيء، فبعد الجبر عَبْدَان يعدلان شَيْئَيْنِ ونصف شيء. فنبسطُها أنصافاً، ونقلب الاسم؛ فالعبد خمسة، والشيء أربعة، تصحُّ الهبة في أربعة أخماس العبد، فيُرْجَعُ بالإرثِ خُمسان، وقد كان معه خُمس، ومثل العبد، فهي ثمانية أخماس ضعْف الهبة، ولو مات، ولا مال له سوى العبد، وعليه خمسُونَ ديناراً، فتصحُّ الهبة في شيء، وُيرْجَعُ نصف شيء، تبقَى عبد إِلا نصف شيء، وُيقْضَى منه الدَّيْن، وهو نصف عبد، يبقَى نصف عبد إلاَّ نصف شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر: نصف عبد يعدلُ شيئين، ونصف شيء، فالشيء خمساً نصف عبد، فهو عشراً عبد كامل، فتصح الهبة في عُشْرَيْهِ، وَيرْجعُ بالإرث أحدهما، يبقى عبد، إلاَّ عُشْراً، يُقضَى منه الدَّيْن، وهو نصف عبد؛ يبقَى أربَعة أعشار عبد، ضعف الهبة. ولو خلف المتهب مائةً، سوى العبد، فتصحُّ الهبة في شيء، فينضم إلى ما للمتهب، وهو مثل العبد، فيجتمع عبد وشيء، يُرجَعُ نصفه بالإرث، وهو نصف عبد ونصف شيء، فيحصلُ عبد ونصف عبد إِلا نصْفَ شيء، يعدلُ شيئين، فبعد الجبر: عبد ونصف عبد، يعدل شيئين ونصْف شَيْء؛ فنبسطها أنصافاً، ونقلب الاسم؛ فالعبد خمسة، والشيء ثلاثة، تصح الهبة في ثلاثة أخْمَاس العبد، ومع المتهب مثل العبد، وَيرجع نصف الجملة بالإرث، وهي أربعة أخماس؛ وقد بقي مع الواهب خمسان، فالمبلغ [ستة] (¬2) أجزاء، ضعف الهبة. فلو مات ولا وارث له سوى الموهوب، وعليه خمسةٌ وعشرون ديناراً؛ فتصحُّ الهبة في شيء، يُقضَى منه دَيْن المتهب، وهو ربع عبد؛ يبقى شيئين إلاَّ ربع؛ يُرْجَعُ نصفه بالإِرْث، وهو نصف شيء إِلا ثُمُن عبد، فيجتمعُ سبعة أثمان عبد إِلاَّ نصف شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر، سبعة أثمان عَبدْ يعدل شيئين ونصف شيء. فنبسطها أثماناً، ونقلب الأسم، فالعبد عشرون، والشيْء سبعة، تصحُّ الهبة في ¬
سبعة أجزاء من عشرين جزءاً من العبد، يُقْضَى منها دَيْن المتهب، وهو خمسة، يبقَى جزءان، يُرجَعُ أحدهما بالإرْث إلى الواهب، فيجتمع أربعة عشر جزءاً، ضعْف الهبة. ولو خلَّف كلُّ واحد منهما خمسين سوَى العبد، صحَّت الهبة في شيء؛ فيكون للمتَّهب شيء، ومثل نصف العبد، يرجع نصفه إلى الواهب [وهو] (¬1) نصف شيء وربع عبد، فيجتمع مَعه عَبْدٌ وثلاثة أَرباع عبد، تعدلُ شيئين إِلاَّ نصف شيء، يعدل شيئين، فبعد الجَبْر: عبدٌ وثلاثةُ أرباعٍ يعدلُ شيئين ونصف شيء، فنبسطُها أرباعاً، ونقلب الاسم؛ فالعبد عشرة، والشَّيْء سبْعَة، فتصحُّ الهبة في سبعة أعشار، مثل خمسة أعشاره، فهي اثنا عشر جزءاً، يُرْجَعُ نصفها إلى الواهِب، وقد بَقِيَ معه ثلاثة أعشار، ومثل خمسة أعشار، فالمبلغ أربعةَ عَشَرَ جزءاً، ضعْف الهَبة. مسألَةٌ: أخٌ وأخْتٌ مريضان، وَهَبَ كلُّ واحد منهما من الآخر عبداً لا يملكُ غيره، وهما متساويا القيمة، ثم مات الأخ، وخلَّف بنتين، والأخت الواهبة، أو ماتتِ الأختُ، وخلَّفت زوجاً، والأخَ الواهبَ، فإن ماتت الأختُ أولاً، صارتْ هبتها للأخ وصيَّةً لوارث، وأما هبة الأخِ فتصحُّ في شيء، ويُرْجَعُ إلَيْه بالإرث نصف شيء مع نصف العبد الذي كَانَ لَهَا، فيجتمع لورثته عبدٌ ونصفُ عبدٍ إلا نصْف شيء، وذلك يعدلُ شيئين، فبعد الجَبْر عبدٌ ونصف عبْدٍ يعدل شيئين ونصْف شيء، فنبسطها أنصافاً، ونقلب الاسم؛ فالعبد خمسة، والشيء ثلاثَةٌ، تصحُّ الهبة في ثلاثة أخماس العبد، وُيُرْجَعُ إليه بالإرث، نصْفُها ونصف العبد الذي لها، وهو أربعةُ أخماس، فينضم إلى الخمسين الباقيين له، فيكون ستة أجزاء ضعْف الهبة. ولو مات الأخُ أولاً، صارتْ هبته للأخت وصية لوارث، وتصحُّ هبة الأخت في شيء من العبد، ويُرْجَعُ إليها ثلثها مع ثلث العبد الَّذِي كان له، فيجتمع لورثَتِها عبدٌ وثلُثُ عبد، إلا ثُلُثَيْ شيء، يعدل شيئين، فَبَعْدَ الجبر: عبدٌ وثلثُ عبدٍ يعدلُ شيئين وثلثَيْ شيء؛ فنبسطُهَا أثلاثاً، ونقلب الاسْم، فالعبد ثمانية، والشيء أربعة، وهي نصْفها، فتصحُّ الهبة في نصف العبد، وتنضمُّ إلَى ماله، وهو عبد؛ فالمبلغ عبد ونصف، يعود ثلثها إلى الأخت، وهو نصْفُ عبد، فيجتمع لورثتها عبْدٌ، ضعف الهبة، ولو عمى موتهما، ولم يرث واحدٌ منهما من الآخَر، صحَّت هبة كلِّ واحدٍ منهما في نصْف عبْدِهِ. مسألةٌ: وهب مائة لاَ يَمْلِكُ غيرها من زوجته، واْقبضها، وأوصَتْ هي بثلث مالها، ثم ماتَتْ قبل الزوج، فتصحُّ هبته في شيء من المال، وتصحُّ وصيتها في ثلث ¬
ذلك الشيء، وُيرْجَعُ إِلى الزوج بالاِرْث نصف الباقي، وهو ثلث شيء، فيحصُلُ عند الزوج مائة إِلا ثلثَيْ شيء، وذلك يَعْدِلُ شيئين، فبعد الجبر مائة، تعدل شيئين وثلثَيْ شيء. فنبسطُها أثْلاثَاً، وتقلب الاسم، فالمائة ثمانية، والشيء ثلاثة، فتصحُّ الهبة في ثلاثة أثمان المائة، وتصِحُّ الوصية في ثمن، وُيرْجَعُ بالارث ثمن إلى الزوج، فيحصل عند ورثته ستة أثمان، وهي ضعْفُ الهبة ولو أنَّ الزوج بعد الهبة [أوصى] (¬1) بثلث مالِهِ لإنسانٍ، فالهبة لو لم تكنْ وصيَّة، تصحُّ في خمس المائة؛ لأنها تصحُّ في شيء، ويُرْجَعُ إلى الزوج نصْفه، يبقَى مائة إلاَّ نصف شيء، يعدل شيئين، فبعد الجَبْر: مائةٌ تعدلُ شيئين ونصف شيء، فالشيء خمسا المائة، وُيُرجَعُ إلى الزوج أحدهما، فيجتمع له أربعةُ أخماسها، وهي ثمانون، فإذا جرت الوصيةُ، فعن ابن سُرَيْج: أنه يُصْرَفُ إلى الوصية من الثمانين تتِمَّة ثلث المائة، فيكون لورثة الزوج ستةٌ وستون وثلثان، وللموصَى له ثلاثةَ عَشَرَ وثلث، ولغير الزوج من ورثة الزَّوْجَة عشْرُون. وقال الأستاذ أبو منصور: هذا غَلَطٌ؛ لأنَّ الهبة المقبوضة مقدَّمة على الوصية، وقد استغرقت الهبَةُ الثلث، والوصية بعد استغراق الثلث باطلةٌ، فكأنه لا وصيَّة. قال إِمام الحَرَمَيْنِ: وليس قول ابْنِ سُرَيْج مع هذا استدراكاً ساقطاً عنْدي؛ لأنه أوصَى بثلثٍ مرسَلٍ، والاعتبار في الوصايَا بمَالِهَا، وإذا استقرَّتْ له أربعةُ أخماسِ المال أجزاء، لم يبْعد تنفيذُ الوصية فيما يبقَى من الثلث بعد الهبة، وإن لم يزاحم الهبة. ولو وهب المريض عبداً من مريض، وأقبضه، ثم وهب الثاني من الأول وأقبضه، ولا مال لهما غيره، ثم أعتقه الأول، وماتا؛ قال ابن سُرَيْج: المسألة تصحُّ من أربعة وعشرين، لورثة الواهب الأول ثلثاه، ولورثة الثاني ربعه، ويُعتَق منه باقي الثلث، وهو نصف سدسه. قال الأستاذ: هذا خطَأ عند حُذَّاقِ الأصحاب، والعتق باطلٌ؛ لأنه قدّم الهبة على العتق، وهي تستغرقُ الثلث، وإِذا بطَلَ العتْقُ، صحَّت هبة الأول في ثلاثة أثمان العبد، وُيرْجَعُ إليه بالهبة الثانية ثمنه، فيجتمع عند ورثته ستة أَثمان، وهي ضعف الهبة. وصوَّب الإمام ابن سُرَيْجٍ، فقال: إذا اجتمع للأوَّلِ ستة أثمانه، ثم أعتق، فتنفيذ العتق في تمام الثلث لاَ يَتقُصُ حقّ ورثته عن الثلثين، ولا حتى الموهوب له، فيتعيَّن المصيرُ الَيْه؛ وحينئذٍ: فلا بد من تعديل الثلث والثلثين، ورعاية الأثمان، فنضرب ثلاثة في ثمانية، تبلغ أربعة وعشرين، كما ذكره، نَعَمْ، لو أعتقه قبل هبة الثانِي، ثم وهب الثاني، فهذا عتق لا يُصَادِف محلاًّ، فيلغوا إلا أن يحتمل الوقف. ¬
فَرْعَانِ: أحدهما: وَهَبَ المريضُ من أخيه عبداً قيمته مائة فاكتسب في يده خمسين، ثم مات المتهب، وخلَّف بنتين، وأخاه الواهب، ثم مات الواهب، فتصحُّ الهبة في شيء من العَبْد، ويتبعه، من الكسب مثل نصفه، وهو نصف شيء؛ يبقَى لورثة الواهب عبْدٌ إلا شيئاً، ومن كسبه نصْف عبد إلاَّ نصْفَ شيء، يَرْجِعُ إِليهم بالإِرث ثلث ما حَصَل للمتَّهِب، وهو نصف شيء، فالمبلغ عبد ونصف إلا شيئاً، يعدل شيئين؛ فبعد الجبر: عبدٌ ونصفٌ يعدلُ ثلاثة أشياء؛ فالشيء نصف العَبْد؛ تصح الهبة في نصف العبد، ويتبعه من الكسب نصفه، وهو قدر ربع عبد غير محسوب عليه، فجملة ما يحصُلُ للمتهب ثلاثة أرباع عبد، يبقَى لورثة الواهب نصْف عبد ويتبعه من الكسب نصْفُه، وهو ربع عبد، وُيرْجِعُ إليهم بالإرث، وثلث ما للمتهب وهو ربع عَبْدٍ، فالمبلغ عبد تَامٌّ ضعف الهبَةِ. والثاني: في زيادة الموهوب، ونقصانه كالزيادة والنقصان في العبد المُعْتَقِ، لكنْ ما يُحْسَبُ هناك للعَبْد المعتق أو عليه، تُحسَبُ هاهنا للمتهب أو علَيْه، وما يُحْسَبُ على ورثة المُعْتَقِ، يَحْسَبُ هاهنا على ورثة الواهب، وسنوضِّحه في "العتق". فرْعٌ ثَالِثٌ: وُهِبَ المريضُ من أخيه عبد، ثم وهب المَتهب منه نصف العبد، وهو صحيح، ومات قبل المريض، وخلَّف بنتاً وأخاه الواهب، ففيه قولان: أصحهما: عند الأُستاذ أبي منصور: أن هِبَةَ الثَّانِي تنْحَصِرُ فيما ملكه بهبة الأول، وتصحُّ في جميعه، والحساب أن هبة المريض تصحُّ في شيء، وُيرجَعُ بالهبة الثانية ذلك الشيء كله؛ لأن الواهب الثاني صحيحٌ، فيكون معه عبدٌ يعدلُ شيئين، فالشيء نصف عبد؛ فتصحُّ الهبة في نصف العبد، ثم يُرْجَعَ إِليه، فيكون لورثته عبدٌ تامٌّ ضعف الهبة. والقوْلُ الثَّانِي: أنها تشيع لمصادفتها ما ملك، وما لم يملك، فتصحُّ في نصف ما ملك، والحساب أن هبة المريض تصحُّ في شيء من العبد، وُيرْجَعُ بهبة الثاني نصف ذلك الشيء، ثم يُرْجَعُ بالإِرث نصف ما بقي، وهو ثلاثة أرباع شيء، يبقَى عبدُ إلا ربعَ شيْءٍ، يعدلُ شيئين، فبعدَ الجبر: يعدل شيئين وربْعَ شيء، فنبسطُها أرباعاً، ونقلِبُ الاسم؛ فالعبد تسعة، والشيء أربعة، فتصح الهبةُ في أربعة أَتساع العبد، وُيرْجَعُ إِلَيْه بالهبة تُسْعَان، وبالإِرث تسع آخر، فيجتمع عنْد ورثته ثمانيةُ أتساعٍ، ضعْف الهبة. ولو كانت الصورةُ بحالها، إلاَّ أن الثاني وُهِبَ من الأول ثلُثَ العبد، فعلى القول الأول؛ تصحُّ الهبة في شيء من العبد، وَيرْجِعُ إليه من ذلك الشيء ثُلُث عبد، بالهبة، فيحْصُلُ عبد وثلث عبْدٍ إِلاَّ شيئاً، ويبقَى للمتهب شيء إِلاَّ ثُلُثَ عبْدٍ، وَيرْجِعُ نصفه بالارث، وهو نصف شيء إِلاَّ سدُسَ عبد، فالحاصل وعنده عبْدٌ وسدسُ عبد إِلاَّ نصفَ شيء، يعدلُ شيئين، فيُجْبَرُ وُيقابَل؛ فعبد وسدس عبد يعدلُ شيئين ونصْفَ شيء،
فصل فيما إذا وطئت الجارية الموهوبة وطئا يوجب المهر
فنبسطُها أسداساً، ونقلب الاسم؛ فالعبد خمسة عشر، والشيء سبعة، وتصحُّ الهبة في سبعة من خمسة عشر، وَيرْجِعُ بالهبة ثلثُ العبد، وهو خمسة، وبالإرث سهم آخر، وقَدْ كَانَ بقي عنده ثمانية، فالمبلغ أربعةَ عَشَرَ، ضعْف ما صحَّت فيه الهبة، وعلى القول الثاني؛ تصحُّ الهبة في شيء من العبد، وَيرْجِعُ بالهبة مثلُ ثلثه، ثم يَرْجِعُ نصف الباقي، فجملة الراجح ثلثا شيء؛ يبقَى عبد إلا ثلُثَ شيء، يعدلُ شيئين، فبعد الجبر: يعدل شيئين وثلُثَ شيء؛ فنبسطها أثلاثاً، ونقلب الاسم، فالعبد سبعة، والشيء ثلاثة؛ تصحُّ الهبة في ثلاثة أسباع العبد، وَيرجِعُ منها سبع بالهبة، وسبع بالإرث، فيجتمع ستة أسباعٍ، ضعْفَ الهبة. فَصْلٌ فيما إذا وُطِئَتِ الجاريةُ الموهوبةُ وَطْئاً يوجب المهر إنْ وطئها أجنبىٌّ بالشبهة قبل موت الواهب، فالمهر كالكسب، يُقَسَّمُ على ما يَصِحُّ فيه الهبة، وعلَى ما لا يصح، فحصَّةُ ما تصح فيه الهبة لا يُحْسَبُ على المتَّهِب، وحصة ما لا تصحُّ فيه الهبة تُحْسَب على ورثة الوَاهِب. وإن وَطِئها الواهب في يد المتَّهب، ومهرها مثل قيمتها، فتصحُّ الهبة في شيء، ويستحقُّ المتهب على الواهب مثْل ذلك الشيء من المهر، فيقضي مما بقي، يبقى جاريةٌ إلا شيئَيْن، يعدل شيئين، فبعد الجبر [جارية] (¬1) تعدل أربعة أَشياء، فالشيء ربع الجارية، وتصحُّ الهبة في ربع الجارية، وثبت على الواهب مثل رُبُعِها، يُقْضَى من الجارية، يبقَى مع الورثة نصْفها، وهو ضعف الموهوب. فإنْ وطئها المتَّهب، ومهْرُ مثلها مثلُ قيمتها، فتصحُّ الهبة في شيء، وتبطُلُ في جارية سوى شيء، وثبت للواهب على المتَّهب مثلُ ما بطَلَتْ فيه الهبة، وهو جاريةٌ إلا شيئاً، فيحصُلُ له جاريتان إلاَّ شيئين [يعدلان شيئين] (¬2) فبعد الجبر: جارَيتَان تعدلان أربعة أشياء، فالشيء نصف جارية؛ فتصحُّ الهبة في نصفها، وشمتحق بالوطء مثل نصفها، فيحصل للورثة جاريةٌ تامةٌ، وهي ضعفُ الموهوب. وإن كان مَهْرُ مثلها نصْفَ قيمتها، فتصحُّ الهبة في شيء، وتبطُلُ في جارية سوَى شيء، ويستحق الواهب على المتَّهب مثْل نصْف ما بَطَلَتْ فيه الهبة، وهو نصف جارية إلاَّ نصف شيء، فيجتمع عند الواهب جاريةٌ ونصْف إلا شيئاً، ونصف شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر: جاريةٌ ونصف تعدلُ ثلاثة أشياء ونصفاً؛ فنبسطها أنصافاً، ونقلب ¬
الاسم، فالجارية سبعةٌ، والشيء ثلاثةُ؛ تصحُّ الهبة في ثلاثة أسباع الجارية، وتبطُلُ في أربعة أسباعها، ويُغرَّم المتهب منَ مهْرها مثْل سُبُعَيْ قيمتها، فيجتمع مع ورثة الواهب ستة أسباعها، ضعْف الموهوب. وإنْ وطئِها الواهِبُ والمتهب جميعاً، ومهرها مثل قيمتها، فتصحُّ الهبة في شيء، ويثبت للمتهب على الواهِب مثل ذلك الشيء؛ يبقَى جارية إِلا شيئين، يثبت للواهِبِ على المتَّهب مثْلُ ما بطَلَتْ فيه الهبة، وهو جاريةٌ إِلا شيئاً، فتضم إلَى ما يبقَى للواهب، يبلغ جاريتين إلاَّ ثلاثة أشياء، وذلك يعدل شيئين، فبعد الجبر: جاريتانِ يَعْدِلاَنِ خمسة أشياء؛ فالشيء خمس الجاريتين، وهو خمسا جارية، فتصحُّ الهبة في خمسها، ويثبت للمتهب على الواهب خمسان آخران، فالمبلغ أربعة أخماس، ثم يسترجع الواهب مثْلَ ما بطلت فيه الهبة، وهو ثلاثة أخماس، فيجتمع لورثته أربعة أخماسٍ، وهو ضعف الموهوب. ولو كان مهرها نصف قيمتها، تصحُّ الهبة في ثلاثة أثمانها، وتبطل في خمسة أثمانها، وثبت للمتهب على الواهب ثمن ونصف ثمن، فيجتمع له أربعة أثمان ونصف ثمن، ثم يسترجع الواهب نصف ما بطلت فيه الهبة، وهو ثمنان (¬1) ونصف، فيجتمع لورثته ستة أثمان، ضعْف الموهوب. ومنْها: الصدَاقُ والخُلْع وقد مَرَّ أنَّ المريض إذا نَكَح بمَهْر المثل، جُعِلَ ذلك من رأس المَالِ، وإن نكح بأكثر، فالزيادة من الثلث، وإن كانت وارثة، فالتبرُّع على الوارث، وذكرنا أنه، إنْ ماتت الزوجةُ قبله، وورثها الزوجُ، وقع الدَّوْر؛ لأنه لا يرث منْها؛ فنزيد بالدَّوْر، وإذا زاد ماله، زاد ما ينفذ فيه التبرُّع؛ وإذا زاد ذلك، زاد ما يرث منها، إذا تذَّكرت ذلك، فَفِي الفصل مسائل: إحداها: أصدقَ المرأةَ مائةً، ومَهْرُ مثلِها أربعون، فماتَتْ قبله، ولا مال لهما سوى الصَّدَاق، فلها مهر مثلها أربَعُون من رأس المال، ولها شيء بالمحاباة، فيبقَى مع الزوج ستُّون إلا شيئاً، وَيرْجِعُ إِليه بالإرث نصف ما للمرأة، وهو عشرون، ونصفُ شيء، فالمبلغ ثمانون إلا نصْفَ شيء، يعدل شيئين، ضعْفَ المحاباة، فبعد الجبر: يعدلُ ثمانونَ شَيْئَيْنِ ونصف شيء؛ فالشيء خمسا الثمانين، وهو اثنان وثلاثون، فلها اثنان وسبعون؛ أربعون مهْرُ مثْلٍ، والباقي محاباة، يبقى مع الزوج ثمانيةٌ وعشرون، ويُرْجَعُ إليه بالإرث ستة وثلاثون؛ فيجتمع لورثته أربع وستون، ضعْفَ المحاباة. فإن كان لها ولدٌ، فالراجعُ إِليه بالإِرث رُبُعُ مالِهَا، وهو عشرة، ورُبُعُ شيء؛ ¬
فيحصلُ للزوج سبعة إلاَّ (¬1) ثلاثةَ أرباع شيء، وذلك يعدل شيئين؛ فبعد الجبر؛ سبعون تعدل شيئين وثلاثة أرباع شيء، فنبَسطُها أرباعاً، فيكون الدرهم مائتين وثمانين، والأشياء أحد عشر، تُقَسَّم الدراهم على الأشياء، يخرج من القسمة خمسة وعشرون، وخمسة أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم، فهذا قدر المحاباة، فيكون لها بالمَهْر والمحاباة خَمْسة وستون درهماً وخمسة أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم، يُرْجَعُ إلى الزوج ربع ذلك، وهو ستة عشر درهماً، وأربعة أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم [فيجتمع مع ورثته خمسون درهماً وعشرة أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم] (¬2) وذلك ضعْفُ المحاباة. ولو كانت الصورةُ بحالها، وعلَى الزوْج عشرةُ دراهمَ دينار، فإن ورث منها النصف، فلها أربعون من رأس المال، ولها بالمحاباة شيءٌ يبقَى للزوج ستون إِلاَّ شيئاً، فيرجع إليه بالإرث نصف مالها، وهو عشرون، ونصف شيء، فالمبلغ ثمانون إِلاَّ نصفَ شيءٍ، يُقضَى منه دَيْنه، وهو عشرة؛ يبقَى سبعون إِلاَّ نصف شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر؛ سبعون تَعْدِل شيئين ونصف شيء، فالشيء خمسا السبعين، وهو ثمانية وعشرون، فهو المحاباة، فلها بالمهر والمحاباةِ ثمانيةٌ وستون، يَرْجِعُ إليه نصفه، أربعة وثلاثون، وكان قد بَقِيَ له اثنان وثلاثون، فالمبلغ ستة وستون؛ يُقضَى منه عشرة، يبقَى ستة وخمسون، نصف المحاباة. وإن ورث منها الربع، فالراجِعُ بالإرث رُبُعُ مالها، وهو عشرة وربُعُ شيء، فالمبلغُ سبْعُون إِلاَّ ثلاثة أرباع شيء؛ يُقْضَى منها الدَّين؛ يبقَى ستون إلاَّ ثلاثة أرباع شيء، تعدِلُ شيئين، فبعد الجَبْر: ستون تعدل شيئين وثلاثة أَرباع شيء، نبسطُها أَرباعاً، فالدراهمُ مائتان وأربعون، والأشياء أحدَ عَشَرَ، يقسَّم الدراهم على الأَشياء، يخرج من القسمة واحد وعشرون، وتسعة أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم؛ فهو محاباة، فلها إذن بالمهر والمحاباة أحدٌ وستون درهماً وتسعة أَجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم، يَرْجِعُ إلى الزَّوْج ربعه، وهو خمسة عشر وخمسة أجزاء. وكان قد بَقِيَ له ثمانية وثلاثون درهماً وجزءان من أحد عشر جزءاً، فالمبلغ ثلاثةٌ وخمسون، وسبعةُ أجزاءٍ من أحد عشر جزءاً، يُقْضَى منها الدَّيْن عَشَرة، يبقى ثلاثةٌ واْربعون درهماً وسبعة أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم، وذلك ضعْف المُحَابَاةِ. ولو كانت بحالها، وعلَى المرأة عشرَةُ دراهِمَ دَيْناً، ولا شيء على الزَّوْج، فلها أربَعُون من رأس المال، ولها بالمحاباة شيء، فذلك أربعُونَ وشيء، يَقْتَضِي منها ¬
الدَّيْن، يبقَى ثلاثون وشيء، للزوج نصفُه إذا اقتضى الحالُ النصْف، وهو خمسة عشر، ونصف شيء، فيكون له خمسة وسبعونَ إلاَّ نصف شيء، وذلك يعدِلُ شيئين، فبعد الجبر: خمسةٌ وسبْعُون تعْدل شيئين ونصف شيء، فالشيء خمسا الخمسة والسبعين، وهو ثلاثون، فهو المحاباة، ولها بالمهر والمحاباة سبْعُون، يُقضَى منها الدَّيْنُ عشرة، يبقَى ستون، يَرْجِعُ نصفها إِلى الزوج، وهو ثلاثون، وقدْ كان بَقِيَ له ثلاثون، فالمبلغُ ستُّونَ، ضعْف المحاباة. ولو كانت بحالها، وعلَى كلِّ واحد منهما عشرةٌ دَيْناً، فلها أربعون، ولها بالمحَابَاة شيء، فيقضي من ذلك دَيْنها؛ يبقَى ثلاثون وشيء، وَيرْجِعُ بالإرث نصفُهُ إلَى الزوجِ، وهو خمسة عَشَرَ ونصْفُ شيء، فيحصُلُ له خمسة وسبعون إلاَّ نصف شيء، يُقْضَى منها دَيْنه؛ يبقَى خمسة وستون إِلاَّ نصف شيء، وذلك يعدِلُ شيئين، فبعد الجبر: خمسة وستون تَعْدِلُ شيئين وَنِصْفَ شيء، فالشيء خمساً الخمسة والستين، وهو ستة وعشرون، فهُوَ المحاباة، ولها بالوجهين ستة وستون؛ ويُقْضَى منها دينها، يبقَى ستة وخمسون، يُرْجَعُ نصفه إِلى الزوج، يبقَى ثمانية وعشرون، وكان قد بَقِيَ له أربعة وثلاثون، فالمبلغ اثنان وستون، يُقضَى منها الدَّيْن، يبقَى اثنان وخمسون، ضعْفَ المحاباة، وهذا كلّه فيما إذا لم يكن لهما شيء سِوَى الصداق. فإن كانت الصورة بحالها، وخلف الزوج سوى الصداق مائَةَ درْهَمٍ، ولا دَيْن، نَفَذَت المحاباةُ بالشَّيْئَيْنِ؛ لخروجها من الثلث، ولذلك لو ملك سبعين سوى الصداق؛ لا يملك المائة بالمهر والمحاباة، وَيرْجِعُ إِليه بالإرْث خمسون، فيجتمع لورثة الزوْج مائةٌ وعشرون، ضِعْفَ المحاباة. فإن كان لها ولد، لم تنفذ المحاباة كلُّها، ولكن لها أربَعُون، ولها بالمحاباة شيء، يبقى للزوج ستون إِلاَّ شيئاً، ويرجع إليه بالأِرثَ عَشَرة إِلاَّ ربع شيء، وله سبعون سوى الصَّداقِ، فالمبلغ مائة وأَربعون إلاَّ ثلاثة أَرباع شيء، يعدلُ شيئين، فبعد الجبر: مائة وأربعون تعدل شيئين، وثلاثة أرباع شيء، فنبسطها أَرباعاً، بالدَّرَاهم خمسمائة وستون، والأشياء أحد عشر، تقسَّم الدراهم على الأشياء، يخرج من القسمة خمسون درهماً وعشرة أجزاء من أَحد عشر جزءاً من درهم، وهو المحاباة، فإذن لها بالمهر والمحاباة تِسْعُون درهماً وعَشَرة أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم، يبقى [مع الزوج] (¬1) تسعةُ دراهم وجزءُ من أحد عشر جزءاً من درهم، وسبعون سوى الصَّداق، يَرْجِعُ إليه بالإرْث اثْنان وعشْرُون درهماً وثمانية أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم، ¬
فالمبلغ مائةُ دراهِمَ، وثمانية أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم، وذلك ضعْفُ المحاباة. وإن خلفت المرأة شيئاً دون الزوج، فإن كان ما خلفته قدراً، إِذا ضُمَّ إليه الصدَاق، كان الراجع إلى الزوج ضعْفَ المحاباة، نفذت المحاباةُ بتمامِهَا، وإِلا، لم تنفذ بتمامها. مثاله: إِذا كان ما خلفته في الصورة المذكورة عَشَرَةَ دراهم، فلها أربعُون من رأس المال، وشيء بالمحاباة، والعشرة المخلفة، فجملتها خمسون درهماً وشيء، فإذا اقتضى الحَالُ رجوع النصف إلَى الزوج، فجملة ما يحصُلُ له خمسة وثمانون إلاَّ نصف شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر: يظهر أن الشيء خُمسا خمسة وثمانين، وهو أربعة وثلاثون، فلها أربعة وسبعون من الصداق، والعشرة المخلفة، يُرْجِعُ نصف المبلغ إلى الزوج، وهو اثنان وأربعون، وكان قد بقي له ستة وعشرون، فالمبلغ ثمانيةُ وستون، ضعْفَ المحاباة. وإن خلَّف كل واحد منهما عشرَةً سوى الصداق، فمبلغ مالها خمسونَ وشَيْء، يَرْجِعُ إِلى الزوج نصْفُه، وهو خمسة وعشرون ونصف شيء، وله عشرة سوى الصداق، وستون إلا شيئاً من الصداق، فالمبلغ خمسةٌ وتِسْعُون إِلاَّ نصْفَ شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر، الشيء خُمساً خمسة وتسعين، وهو ثمانية وثلاثون، فلها من الصداق ثمانية وسبعون، ولها عشرة سوى الصداق، يُرْجِعُ نُصف المبلغ بالإرث، وهو أربعة وأربعون، فله من باقي الصداق اثنان وعشرون، وعشرة سوى الصداق، فالمبلغ ستةٌ وسبْعُون، ضعْفَ المحاباة. فَرْعٌ: وصية الزوج، أو الزوجة، أو كليهما بثلث المال، كدَيْنٍ عليهما، أو عَلَى أحدهما، وقياس الحساب ما ذكرنا. المسألة الثانية: أَعتق المريضُ جاريةً، ونكَحَهَا عَلَى مهْرٍ مسمَّى، نُظِر: إن لم يملك غيرها، فالنكاحُ باطلٌ؛ لأنه لا يعتق جميعها، والنكاحُ والمِلْك لا يجتمعان، ثم إن لم يدخل بها، فلا مَهْرَ لها، وإن دخل فالوطء وطء شبهة، فلها من المهر بقسط ما عتق منها، وَيقَعُ فيه الدَّوْر؛ لأَنَّ القَدْرَ الذي يلزمه من المَهْر كدَيْنٍ يلحق التركة، فيوجب نقصان ما عَتَقَ، وإِذا نقص ما عتق، نقص ما يلزم من المهر، وإذا نقص ما يلزم، زاد ما يعتق. فإذا كانت قيمتُها مائةً، والمهرُ خمسين، فيعتق منها شيء، ولها بالمهر نصْفُ شيء؛ لأن المهر نصْفُ القيمة، تبقَى جاريةٌ إلا شيئاً ونصْفَ شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر، جاريةٌ تعدلُ ثلاثة أشياء، ونصْفَ شئ، فالشيء سبعاً الجارية، فينفذ العتق في سبعيها، ويبطُلُ في خمسة أسباعها، فيصرف سبعٌ منْها إِلى مهر السبعين، يبقَى للورثة أربعةُ أسباعها، ضعْفَ ما عَتَقَ به؛ ثم السبع المصروفُ إلى المَهْر، إن رضيت به بدلاً عما لها من المهر، فذاك، ويعتق عليها حين ملكته، لا بالإعتاق الأول، وإِن أبت بيْع سَبُعِهَا في مهرها هذا إِذَا لم يملك غَيرها.
وإن ملك مالاً آخر، وكانت الجاريةُ قَدْرَ الثلث؛ بأن خلف مائتين سواها، فإن لم يدخلْ بها، فلا مهر لها؛ لأنها لو استحقَّت المهر للحق دين بالتركة، وحينئذ: فلا يخْرُج جميعُها من الثلث، وإذا لم يخرج جميعها من الثلث، بَطَلَ النكاح، فيسقُطُ المهر، وهذه الحالة من أَحوال المسألة مذكورةٌ في الكتاب في "باب النكاح". وإن دخلَ بها، قال الشيخ أبو علي: تُخَيَّرُ: إن عفت عن مهرها، عتقت، وصحَّ النكاح، وإن لم تَعْفُ، فلها ذلك؛ لأنه أتلف منفعةَ بُضْعِهَا؛ وحينئذٍ يتبين أن جميعها لم يُعْتَقْ، وأن النكاح فاسدٌ، ولها مهرها ما عتق منها، وطريقُ استخراجه أن يُقَالَ: عَتَقَ منها شيءٌ: ولها بالمهر نصْفُ شيء، يبقى للورثة ثلاثمائة إِلاَّ شيئاً ونصْفَ شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر: ثلاثمائة تعدلُ ثلاثة أشياء ونصْفَ شئ، فمائةٌ تَعْدِلُ شيئاً وسدُسَ شيء، نبسُطُها أسداساً، ونقلبُ الاسم، فالشيء ستة، والمائةُ سبعة، فالشيء ستة أسباعِ الجارِيَةِ. الثالثةُ: سبق القولُ في أنَّ حلع المريض [بأقل من مهر المثل] (¬1) لا يُعْتَبَرُ من الثلث، وأن المريضةَ لو نُكِحَتْ بأقلَّ من مهر المثل، جاز، ولا اعتراض للورثة، إذا لم يكن الزوج وارثاً وسيأتي -إن شاء الله تعالى- في الخُلْع: أن المريضة، لو اختلعت بأكثر من مهر المثل، كانت الزيادة معتبرةً من الثلث، إذا تمهد ذلك. فلو نكح في مرضه امرأةً بمائة، ومهرها أربعون درهماً، ثم خالَعَتْهُ في مرضها بمائة، وماتا من مرضهما، ولا مال لهما إلاَّ مائة، فإما أن يكون الخُلْع بعد الدخول، أو قَبْلَه: الحالة الأولى: إذا كان بعد الدخول، فللمرأة أربعون من رأس المال، ولها شيء بالمحاباة، ثم يَرْجِعُ إِلى الزوج أربعون بالخُلْع، فله ثلث شئٍ بالمحاباة، فيحصُلُ لورثة الزوج مائة إلا ثلثي شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر: مائةٌ تعدل شيئين وثلثَيْ شيء، فالشيءُ ثلاثةُ أثمان المائة، وهو سبعةٌ وثلاثون درهماً ونصْف درهم، وهي المحاباة فللمرأة بالمهر والمحاباة سبعةٌ وسبعون درهماً ونصْفُ درهم، ثم يأخذ الزوج من ذلك أربعينَ درهماً بِعَوَضِ الخلع، وبالمحاباة ثلث الباقي، وهو اثنا عشر ونصْف، وكان قد بَقِيَ له اثنان وعشرُون ونصْف، فالمبلغ خمسةٌ وسبْعُون، ضعْفَ المحاباة. هذا إذا جرى الخُلْع بمائة في ذمتها، أما إذا جرى بعين المائة التي أصدقها، فقد خالَعَهَا على مملوك، وغير مملوك. قال الأستاذ أبو منصور جواباً على أن المسمَّى يبْطُلُ، ويرجع إلَى مهر المثل: لها ¬
أربعون من رأس المال، وشيء بالمحاباة، وللزوج عليها أربعونَ بالخُلْع، ولا شيء له بالمُحَاباة؛ لأن المسمى، إذا بطل، بَطَلَ ما في ضمنه من المحاباة، فيكون لورثة الزوجِ مائةٌ إلا شيئاً، يعدل شيئين، فبعد الجبر والمقابلة تبين أن المسمى ثلث المائة، وهو ثلاثةٌ وثلاثون درهماً وثلُثُ درهم، فلها بالمهر والمحاباة ثلاثةٌ وسبعُون درهماً وثلث درهم، يأخذ الزوج من ذلك أربَعِينَ، فيجتمع لورثته ستةٌ وستونَ وثلثان، ضعْفَ المحاباة. الحالة الثانية: إذا جرى الخُلْع قبل الدخول، فنُشْطَرُ الصداق، فالحاصلُ للمرأة نصف مهر المثل مِنْ رأس المال، وهو عشرون درهماً وشَيْءٌ بالمحاباة، للزوج من ذلك مهْرُ المثل أربعون؛ يبقى شيء إلا عشرين درهماً، له ثلاثة بالمحاباة، وهو ثلث شيء إلا ستَّةَ دَراهم، وثلثي درهم، يبقى لورثتها ثلثا شيء إلا ثلاثة عشر درهماً، وثلث درهم؛ [فيجتمع عند ورثة الزوج مائة وثلاثة عشر درهماً وثلث درهم،] (¬1) إلا ثلثَىْ شيء، وذلك يعدل ضعْفَ المحاباة شيئَيْنِ، فبعد الجبر: مائةٌ وثلاثة عَشَرَ وثلُثٌ، تعدِلُ شيئين ثلثي شيء، فالشيء ثلاثة أثمان. هذا المبلغ، وهو اثنان وأربعون درهماً ونصف درهم، وهي المحاباة، فللمرأة نصف المهر، والمحاباةُ اثنان وستون درهماً ونصف درهم، يبقَى للزوج سبعةٌ وثلاثونَ درهماً ونصف درهم، ونأخذ مما صار لها بعوض الخُلْع أربعين، فيأخذ أيضاً ثلث الباقي، وهو سبعة دراهم ونصف، فالمبلغ خمسةٌ وثمانون، ضعْفَ المحاباة. هذا ما أجاب به الأستاذ، واعترض الإمام؛ بأَنَّ مهر المثل مع المحاباة الصَّدَاق؛ فوجب أن يَرْجِعَ شطرُ الجميع إلى الزوج، وألاَّ يفرد المحاباة عن مهر المثل؛ وعلَى هذا: فطريق الحساب: أن يُقَالَ: لها من رأس المال أربعون، والمحاباة شيء، يبقَى للزوج ستُّون إِلا شيئاً، وَيرْجِعُ إليه شطر ملكته صداقاً، وهو عشرون ونصْف شيء. فللزوجِ ثمانون إلاَّ نصف شيء، ثم يأخذ مما بقي لها أربعون؛ يبقَى لها نصف شيء إلاَّ عشرين درهماً، تأخذ بالمُحَاباة ثلث هذا الباقي، وهو سدس شيء إلاَّ ستة دراهم، وثلثي درهم، فيجتمع عند ورثته مائةٌ وثلاثةَ عشر درهماً وثلث درهم، إِلا ثلث شيء، وذلك يعدل شيئين، فبعد الجَبْر والمقابلة: تبين أن الشيء ثلاثة أسباع، مائة وثلاثة عشر درهماً وثلث درهم، وهو ثمانية وأربعون درهماً، وأربعة أسباع درهم، يبقَى للزوج أحد عشر درهماً وثلاثة أسباع درهم، ويُرْجِعُ إليه بالتشطير أربعة وأربعون [درهماً وسبعان، ويأخذ من الشطر الآخر، قدر مهر المثل، وهو أربعون،] (¬2) وثلث الباقي، ¬
وهو درهم وثلاثة أسباع، فالمبلغ سبعة وتسعون درهماً، وسبع درهم، وذلك ضعْفُ المحاباة، يبقَى الورثة المرأة دِرْهَمَان وستة أسباع درهم، وعلَى جواب الأستاذ يَبْقَى لهم خمسةَ عَشَرَ. ثم لتعرف في المسألة أموراً: أحدها: لا فرق فيها بين أن يموت الزوْجُ قبل المرأة، أو بالعكس، أو معاً؛ لانقطاعِ الميراث بالاخْتِلاَعِ. والثاني: الدَّوْرُ في المسألة، إنما يقَعُ في جانب الزوج، دُون الزوجة؛ لأنه لا يعودُ إِلَيْهَا شيء مما يخرج منها. والثالث: المسألة في الحالة الثانية تتعلَّق بأصولٍ تُشْرَحُ في موضعها، منْهَا القولان في تفريق الصفقة، ومنها القَوْلاَنِ في الحَصْر، والشيوع، ومنها القولان في أَنَّ الرجُوعَ عنْد فساد الصَّداق إِلى بدله، أو إلى مهر المثل؟ وَيظْهَر حينئذ: أن الجوابَ المذكور ها هنا، علام يتخرَّج من الأبواب التي يقع فيها الدَّوْر الجنايات؟ فإذا جنى عبد عَلَى حرٍّ خطأَ، وعفى المجنىُّ عليه، ومات، لم يكن العفوُ وصيَّةً لقاتل؛ لأن فائدته تعودُ إلى السيد، فإن أجاز الورثة فذاك، وإلاَّ نفذ في الثلث، وانفك ثلث العبد عن تعلُّق الأرش، وأشار الإمام فيه إلى وجه آخر؛ [أنه لا ينفك] (¬1) كما أن شيئاً من المرهون لا ينفك، مَا بَقِيَ شيء من الدين، والظاهر الأوَّل، ثم السيد بالخيار؛ بَيْنَ أن يسلم ثلثيه للبَيْع، وبين أن يفديه، فإِن سلمه، فلا دور، بل يُبَاعُ، وُيؤدَّى من ثمنه ثلثا الأرش، أو ما تيسَّر، وإن فداه، فيفدي الثلثين بثلثَي الأرش، كم كان، أم بالأقل من ثلثي القيمة، أو ثلثَي الدية؟ فيه قولان، فإذا كان الفداءُ بثلثَيْ قيمته، فلا دور، وإذا كان الفداء بالدِّيَة، لزم الدور، فيقطع الحساب. مثاله: قيمةُ العبدِ ثلاثمائة، وقوَّمْنَا الإِبِلَ، فكانت أَلْفاً، ومَائتَيْنِ، فيصح العفْوُ في شيء من العبد، ويبطُلُ في عبدٍ ناقصٍ بشيء يفديه السيد بأربعة أمثاله؛ لأن الدَّيَة أربعة أمثال القيمة، وأربعة أمثاله، أربعة أعبد إِلا أربعة أشياء، فيحصُلُ لورثة العافي أربعة أعبد إلاَّ أربعة أشياء، وذلك يعدل شيئين، فيُجْبَرُ وُيقَابَلُ؛ فأربعة أعبد تعدِلُ ستة أشياء، فنقلب الاسم. ونقول: العبدُ ستَّة، والشيء أربعة، وهي ثلثا الستة، فيصحُّ العفو في ثلثي العبد، وهو مائتان، ويفدي السيد ثلثه بثلث الدية، وهو أربعمائة، فيحصل لورثة العافي ضعف ¬
المائتين، هذا إِذا لم يترك العافي سوى ما يستحقُّ من الدية، فإن ترك شيئاً آخر، نُظِرَ، إن كانت القيمة أقلَّ من الدية، وكان ما تركه ضعفَ القيمة صحَّ العفْو في جميع العبد لأن السيد لو اختار تسليمَ العَبْد، يتحصَّلْ ورثة العافي إلاَّ على قيمته، وإن كان ما تركه دونَ ضعْف القيمة، فيُضَمُّ ما تركه إلى قيمة العبد، وتصحَّح العفو في ثلث الجملة من العبد، وإن كانت القيمة أكثرَ من الدية، فيُجْمَعُ بين ما تركه، وبين الدية، ويصحَّح العفو في ثلث الجملة من الدية، ونوضِّح هذه الأحوال بالأمثلة مَصْبُوبَةً في قَالَب الصُّورة المذكورة: مثال الحالة الأولى: المتروك ستمائةٍ، يصحُّ العفْوُ في جميع العبد؛ لأنَّ عبد ورثة العافِي ضعفه. ومثال الثانية: المتروك ثلاثمائة، فإن سلم السيد العبْدَ بالقيمة والتركة معاً، ستمائة للسيد، ثلثها مائتان، وذلك مثل ثلثَي العبد، فيصحُّ العفو في ثلثيه، ويُبَاعُ ثلثه، وُيُصْرف ثمنه إلى ورثة العافي، ومعهم ثلاثمائة، فالمبلغ ضعْفُ ما صحَّ العفو فيه. وإن اختارَ الفِدَاء، وقلنا: الفداءُ بالأقلِّ من الدية، أو القيمة، فالجوابُ كذلك؛ ويُدْفَعُ إليهم مائة. وإن قلنا: الفدَاءُ بالدية، فيصحُّ العفو في شيء من العبد، وُيفْدَى باقيه بأربعة أمثاله، وهي أربعةُ أعبدٍ إلاَّ أربعة أشياء، تُضَمُّ إليها الثلاثمائة، يبلغُ خمسة عشر إلاَّ أربعة أشياء، وذلك يعدل شيئين، فبعد الجبر، وقلب الاسم، يكون العبد ستة، والشيءُ خمسةَ، فيصحُّ العفو في خمسة أَسداس العبد، ويُفْدَى سدسه بأربعة أمثاله، ومع الورثة مثل العبد، فالمبلغ عَشَرَةُ أسداسِ، ضعْفَ ما صحَّ فيه العفْو. فُرُوعٌ: أحدُها: لو لم يترك سوى ما يستحقُّ من الدية، وعليه مائتان دَيْناً، وسلمه للبيت، واختار الفداء، وقلنا: الفداءُ بأقلِّ الأمرين، فيسقطُ الدَّيْن من قيمة العبد، يبقَى مائة للسيد؛ ثلثها، وهو ثلاثةٌ وثلاثون درهماً وثلث درهم، وذلك تسع العبد، فيصحُّ العفو في تسعة، ويُبَاعُ ثمانية أتساعه، أو يفديه السيد بثمانية أتساع قيمته، وهي مائَتَان وستة وستون دَرهماً، وثلثان، يُقْضَى منها الدَّيْن، يبقَى ستة وستون وثُلُثان، ضعْف ما صحَّ فيه العفو. وإن قلنا: إن الفداء بالدية، فيصحُّ العفو في شيء، وُيفْدِي السيد الباقي بأربعة أمثاله، وهي أربعة أغبد، إِلا أربعة أشياء، يُحطُّ منها قدر الدين، وهو ثلثا عَبْد؛ يبقَى ثلاثة أعبد وثلث عبد، إلا أربعة أشياء؛ تَعْدِلُ شيئين، فيُجبَرُ ويُقَابَلُ: فنبسطُها أثلاثاً، ونقلب الاسم. فالعبدُ ثمانيةَ عَشَر، والشيء عَشَرة، وهي خمسةُ أتساعِهَا، فيصحُّ العفْو في خمسة أتساع العبد، وهي مائةٌ وستة وستُّون درهماً وثُلُثان، ويَفْدِي السيد بَاقِيَةُ، وهي مائة
وثلاثة وثلاثون درهماً، وثلث درهم بأربعة أمثاله، وهي خمسمائة وثلاثة وثلاثون وثلث، يُقْضَى منها الدَّين، يبقَى ثلاثمائة وثلاثةٌ وثلاثون وثلث درهم، ضعْفَ ما صحَّ فيه العفو. الثاني: جنَى عبدان خطأً عَلَى حُرٍّ فعفا عنهما، وماتَ، ولا مالَ له سِوَى ما يستحقُّ من الدية، فإن اختار السيِّد أن يسلمها، أو اختار الفداءَ، وقلنا: الفداءُ بأقلِّ الأمرين، صحَّ العفو في ثلث كل عبد، وبيع ثلثاه، أو فَدَى سيده ثلثيه بثلثَي القيمة. وإنْ قلنا: الفداءُ بالدِّية، فلو كانَت قيمة كلِّ عبد ثلاثمائة، وقيمة الدية ألفٌ ومائتان، كما قدمنا، فيصحُّ العفْو في شيء مِنْ كُلِّ واحد منهما، وفداه السيد باقيه بضعفه؛ لأن نصف الدية، هو الذي يتعلَّق بكلِّ واحد منهما، ونصف الدية ضعْف، كلِّ واحد منهما، فيحصُلُ لورثة العافي أربعةُ أعبد إلاَّ أربعة أشياء [وذلك يعدل ضعف ما جاز فيه العفو، وهو أربعة أشياء،] (¬1). فبعد الجبر، أربعةُ أَعْبُدٍ تعدلُ ثمانية أشياء، فنقلبُ الاسْمَ، ونَجْعَلُ العبد ثمانية، والشيء أربعة، وهي نصفُها، فيصح العفو في نصف كلِّ عبد، ويفدي كلُّ سيد نصْفَ عبده، بعبد، فيحصُلُ للورثة عبدان، ضعْفَ ما صحَّ العفو فيه دماِن اختار أحدُهما الفداءَ، والآخر التسليمَ، وقلنا: الفداءُ بالدّية، صحَّ العفو في شيء من كلِّ واحد من العبدين؛ فيسلَّم الأول عبداً إلا شيئاً، ويفدي الثاني باقِي عبدِهِ بِضِعْفه، وهو عبدان إلاَّ شيئين، فيجتمع عند وَرَثَةِ العافي ثلاثة أعبد إلاَّ ثلاثة أشياء، تعدل ضعْفَ ما صحَّ العفو فيه، وهو أربعة أشياء، فبعد الجَبْر، وقَلْب الاسم، يكون العبد سبعة، والشَّيْء ثلاثة، فيصحُّ العفو في ثلاثة أسباع كُلِّ واحد منهما، ويسلَّم للأول أربعة أسباع عبده، ويفدي الآخر أربعة أسباع عبدهِ بِضِعْفِها، وهو ثمانيةُ أسباعٍ، فيجتمع لورثة العافِي اثنا عَشَر سبعاً، ضعْفَ ما صحَّ العفو فيه. ولو مات أَحَدُ العبدَيْنِ قَبْل أن نفصل الأمر، ففيه جَوَابَانِ عن الأصْحَاب: أحدهما: أنَّ المَوْتَ لا يُحْسَبُ على الورثة، ولا على الموصَى له، ويقدر كأن لم يكن، فعلَى هذا، إن اختار السيدُ تسليمَ العَبْد الثاني، نفذنا العفو في ثلثه، وبعنا ثلثيه، وإنِ اخْتَار الفداء، وقلنا: الفداء بالأرش، فيصحُّ العفو في نصْف العَبْدِ بِنِصفِ الدية. والثاني: أنه يُحْسَبُ حصَّة العبد الذي مات من العَفْو؛ لأن العفْوَ توجَّه نحوهما جميعاً، فعلَى هذا، يتبعض العفْو في حقِّ الحىِّ؛ لأنه يصحُّ العفو في شيئين منْها، وقد ¬
تعذَّر تحصيل التركة من الذي مات، فيحصُلُ من الآخر، فإن سلمه سيِّده للبيع بهذا العبد إلاَّ شيئاً يعدل ضعْفَ العفْو في العبدين، وهو أربعة أشياء، فبعد الجبر والمقابلة؛ عبدٌ يعْدِلُ خمسة أشياء، فنقلب الاسم، فالعبد خمسة، والشيء خمسة، فيصحُّ العفو في كل خُمْس كلِّ واحد منهما، ويسلَّم صاحبُ العبد الثاني أربعة أخماسه للبيع، وهو ضعف الخمْسَيْنِ اللَّذَيْنِ نَفَذَ فيهما العفْو؛ فإن اختار الفداء، وقلنا: الفداء بالدين، فدَى باقي عبده، وهو عبْدٌ إِلاَّ شيئاً، يضعفه، وهو عبدان إلاَّ شيئين، وذلك يعدل أربعة أشياء، فبعد الجَبْر: عبدانِ يعْدِلاَن ستة أشياء، فنقلِبُ الاسم، فنقول: العبْدُ ستة، والشيء اثنان، وهما ثُلُث الستة، فيصحُّ العفْو في ثلث كلِّ واحد منهما، يفدي سيد الثاني ثلثه (¬1) بضعفهما، وهي أربعة أثلاث، ضعف ما صحَّ العفو فيه. الثالث: قَتَلَ عَبْدٌ حرَّيْنِ خطأً، تعلَّقت برقبته الديتان، فإن اختارَ سيَّده التسليم، بيع ووزِّع الثمن عليهما، وإن اختار الفداء، وقلنا: الفداء بالقيمة، وُزّعت القيمة، وإن قلنا: الفداءُ بالدية، فداه بالديتين، فإن عناء أحدهما في مرضه، فعن ابن سُرَيْجٍ: أنه يُدْفَعُ إلى ورثة العافي ثلثا نصفه، إلى ورثة الذي لم يَعْفُ بتمام النصف، كأَنَّ حقَّ كل واحد منهما متعلّق بنصف ثمنه، فينفذ عفو العافي في ثُلُثِ محلِّ حقه. قال الأستاذ أبو منصور: هذا لا يستقيم على أصْل الشافعيِّ -رضي الله عنه- بَلِ الديتان متعلِّقتان بجميع العبد، وإذا عفا أحدهما، سقط ثلث الدية، فورثَتُهُ وورَثَةُ الآخر يتضاربون؛ هؤلاء بثلثَيْ دية مورِّثهم، وهؤلاء بتمامِ دِيَةِ مورِّثهم. ومنها العتْقُ: إذا أعتق المريضُ عبداً، فاكتسب مالاً قبل موت المعتق، يوزَّع الكسب على ما يَعْتِقُ منه، وعلَى ما يَرِقُّ، وحصة ما عَتْق؛ لا يحسب عليه، وحصة ما رق تزيدُ في التركة، وإذا زادت التركة، زاد ما عَتَقَ، فيزيد حصته من الكسب، وإذا زاد حصة ما عتق، نقصت حصة التركة، فينقُصُ ما عتق، فيزيد المال، فيزيدُ ما عتق، وهكذا تَدُورُ زيادته عَلَى نُقْصانه، ونقصانُه على زيادَتِهِ، فَيقطَعُ الدَّوْر بالطرق الحسابية، وفيه مسائل: مسألة: اكتسب العبدُ مثْلَ قيمته، فيعتق منه شيء، ويبعه من الكسب شيء غَيْر محسوب عليه، يبقى للورثةِ عبدان إلاَّ شيئين، وذلك يعدل ضعْفَ ما عَتَقَ، وهو شيئان، فبعد الجَبْرِ: عبدانِ يعدلان أربعة أشياء، فنقلِبُ الاسم، فالعبدُ أربعة، والشيء اثنان، والاثنان نصف الأربعة، فعلمنا أنه يعتق من العبد نصفه، وتبعه نصف الكسب غير محسوب عليه، يبقَى للورثة نصْف العبد، ونصف الكسب، وذلك ضعْفُ ما عَتَقَ. ¬
وبطريقِ السهام نأخُذُ للعتق سهماً، ولما تَبِعَهُ من الكسب سهْماً، ونأخذ للورثة ضعْفَ ما أخذنا للعِتْق، وهما سهمان، فيجتمع معنا أربعةُ أسهم، ثم تأخذ الرقبَةَ والكسْبَ، وهما مثلان، فنقسمهما على الأربعة، يخرج من القسمة نصْفٌ، فعلمنا أن الَّذي عَتَقَ نصف الرقبة. وبطريق الخطائين: نجعل العبد ثلاثة أسْهُم، ونجيز العتق في سهم؛ يبقَى للورثة سهمان، ولهم من الكسْب سهمان، فالمبلغ أربعةً، وكان ينبغي أن يكون اثنين، فقد زاد اثنان، وهو الخطأ الأَوَّلُ. ثم نجعله خمسةً، ونجيز العتق في سهم؛ يبقَى للورثة أربعةٌ، ولهم من الكَسْب أربعة، فالمبلغ ثمانية، وكان ينبغِي أن يكُونَ اثنين، فقد زاد إذن ستةً، وهو الخطأ الثاني. يسقط الأقلُّ من الأكثر؛ يبقَى أربعةٌ، نحفظها، ثم نضرب المال في الخطأ الثاني، يكون ثمانيةَ عَشَرَ، والمال الثاني في الخطأ الأوَّل، يكون عشرة، يسقط الأقل من الأكثر؛ يبقَى ثمانية، نقسمها على الأربعة المحفُوظَة، يخرج من القسمة اثنان، فعلمنا أنَّ العبد يجب أن يُقَسَّمَ على سهمين، ثم نضرب ما أجزنا العتق فيه أوَّلاً الخطأ الثاني؛ يكون ستة، وما أجزنا فيه العِتْق ثانياً في الخطأ الأول؛ يكون اثنين، يسقط الأقل من الأكثر، يبقى أربعة، نقسِّمها على الأربعة المحفوظة، يخرج من القسمة واحدٌ، فهو الذي يُعْتَقُ والواحد، من الاثنين نصف، ولو اكتسب العبد، وقيمته تسْعُون، مثْلَ قيمته، ومثل نصفها، فيُعْتَقُ منه شيء، ويتبعه من الكسب شيء ونصف، غير محْسُوب عليه؛ يبقَى للورثة عبدان ونصْف إلاَّ شيئين ونصف شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر: عبدان ونصف، يعدل أربعة أشياء ونصْف شيء، فنبسطُهَا أنصافاً، ونقلب الاسم، فالعبد تسعة، والشيء خمسة، فيعتق منه خمسةُ أتساعه، وقيمتها خمسُونَ، ويتبعها خمسة أتساع الكسب، وهي خمسة وسبعون؛ يبقَى للورثة أربعةُ أتساعِ العَبْد، وهي أربعون وأربعةُ أتساعِ الكَسْب، وهي ستون، وهما مائة ضعْف ما عَتَق وَبالسهام يأخذ للعِتْق سهماً، ويتبعه من الكسب سهْمٌ ونصف سهم، ونأخذ للورثة ضعْف العتق، وهو سهمان؛ فالمبلغ أربعةٌ ونصف يُقَسَّم عليها قيمة الرقبة والكَسْبُ هي مائتان وخمسة وعشرون؛ فنبسطُهُا أنصافاً، فيكون المقسُوم عليه تسعة، والمقسوم أربعمائة وخمسين، يخرج من القسْمَة خمْسُون، فذلك قيمةُ ما عَتَقَ منه، وهو خمسة أتساعه. ولو كانت الصورةُ الثانيةُ بحالِهَا، وعلى السيد مثْلُ قيمة العبد دَيْناً، فيعتق منه شيء، وتبعه من الكسب شيءٌ ونصْف؛ يبقَى عند الورثة عبْدَان ونصف عبد، إلاَّ شيئين ونصف شيء، يسقط منه عبدٌ للدَّيْن؛ ويبقَى عبد ونصف إلاَّ شيئين ونصف شيء، يعدلُ
ضعْفَ ما عتق، وهو شيئان، فبعد الجَبْر: عبدٌ ونصف يعدِلُ أربعة أشياء ونصف شيء. فنبسطها أنصافاً، ونقلِبُ الاسمُ فالعبْدُ تسعة، والشيء ثلاثةٌ، يعتق من العبد ثلاثةُ أتساعه، وتبعه من الكَسْب ثلاثة أتساعه، يُقْضَي الدين من الباقي؛ يبقَى عند الورثة ضعْفُ ماعَتَقَ. وبطريق الدينار والدرْهم؛ يُجْعَلُ العبد ديناراً ودرهماً، والكَسْب ديناراً ونصْفَ دينار، ودرهماً ونصْفَ درهم، ويُعْتِقُ من العبد ديناراً، ويتبعه من الكسب دينارٌ ونصْف شيء؛ يبقى مع الورثة دينار ونصف، يسقط منه الدَّيْن ديناراً ودرهماً، يبقَى درهمٌ ونصْفُ إلاَّ ديناراً يعدل ضعف ما عتق، وهو ديناران، فبعد الجبر: يعدل درهم ونصف ثلاثة دنانير، فنبسطها أنصافاً، ونقلب الاسم، فالدينار ثلاثة، والدرهم ستة، وجملة العَبْد تسْعَةٌ، فإن كانت بحالها، إلاَّ أنه لا دَيْنَ على السيد، وله سوى العبد، وكسبه تسعون، فيعتق منه شيء، ويتبعه من الكَسْب شيء ونصف، يبقَى مع الورثة عبدان ونِصْف إلاَّ شيئين ونصْف شَيْء، ومعهم مثل قيمة العبد، فيجتمع عنْدَهم ثلاثة أعبد ونصف عبدْ إلاَّ شيئين ونصْف شيء، يعدِلُ شيئين، فبَعْدَ الجبر: ثلاثةُ أعبدٍ ونصفُ عبد، يعدل أربعة أشياء ونصف شيء، فنبسُطُها أنصافاً، ونقلب الاسم، فالعبد تسعة، والشيء سبعةٌ، فيعتق منه سبعةُ أتساعه، وهو سبْعُون، ويتبعه من الكَسْب سبعةُ أتساعه، وهو مائةٌ وخمسون، يبقَى للورثة تسعاه عشْرون، وتسعا الكسب ثلاثون، ومعهم تسعون، أيضاً فالمبلغ مائةٌ وأربعون، ضعْفَ ما عتق. ومنهما ترك السيد ضعْفَ قيمة العبد، عتق جميعه، وتَبِعَهُ كسْبُه، ولا دَوْر، وإذا كان عليه دَيْن، وله سوى العبد، وكسبه مال، قُوبِلَ الدَّيْن بذلك المالِ، فهذا تساويا، فكأنَّ لا دَيْنَ، ولا مَالَ، وإن زاد الدَّيْن فكأَنَّ قَدُرُ الزائد هو الدَّيْنَ، وإن زاد المال، فكان القَدْرُ الزائد هو المترُوكَ. والموْهُوبَ من العبد وأرشُ الجناية عليه كالكَسْب. فَرْعَانِ: أحدُهُما: قيمته تسْعُون، واكتسَب مثْلَ قيمته بَعْد العِتْق، فاستقرضها السيد منه وأتلفها ثم مات، فعتق منه شيْءٌ، ويستحقُّ على السيد شيئاً، هو دَيْنٌ عليه، يبقَى للورثة عبد إلاَّ شيئين، يعدل ضعْفَ ما عتق، فبعد الجَبْر: عبد يعدل أربعة أشياء، فنقلبُ الاسْم، ونقول: عَتَقَ منه رُبُعُهُ، ويتبعه ربعه، كربع كسبه، يبْقَى للورثة نصفه، وهو ضعف ما عَتَقَ، ثم ربع الكسب الذي هو دَيْن، إن أداه الورثة من عندهم، جاز، واستمرَّ ملكهم على ثلاثة أرباعِهِ، ومَلَكَ هو ما سلَّموا إليه بربعه الحُرِّ، وإن تراضَوْا مع العبد عَلَى أن يكُونَ ربع رقبته بدلاً من ربع الكسب، جاز، وعَتَقَ منه ربعُهُ عَلَى نفسه. ثم عن ابن سُرَيْج: أنَّ ولاء ذلك الربع يكُونُ لبيت المال، وعن غيره من
الأصحاب: أنه لا ولأَ علَيْهِ، وإن أراد الورثة بيعه من غيره، وقال العَبْد آخذُهُ بدلاً عن الدَّيْن، فقد ذكر الأستاذ: أنه أحقُّ بنفسه من الأجانب. قال الإمامُ: وهذا مَحْمولٌ على الأولويَّة دون الاستحقاق. الثاني: ماتَ العَبْد المعتق قَبْلَ موت السيد، فهل يموت حرًا، أو رقيقاً، أو ثلثه حرّاً، وثلثاه رقيقاً؟ فيه ثلاثة أوجه مذكورة في الكتاب في "باب العتق" وهو كالخلاف الذي أسلفناه في موت العَبْد الموهوب، قبل مَوْت الواهِبِ المَرِيضِ. قال الأستاذ أَبو منصور: والمشهورُ من المَذْهب الوجه الأوَّل، والثاني، تخريجُ ابْنِ سُرَيْج، وإنْ كان العبدُ قد اكتسب ضعْفَ قيمته، ولم يخلف إِلاَّ السيد، فيموت حرّاً بلا خلاف، أما إذا قلنا: إنه يموت حرّاً، إذا لم يخلف شيئاً، فهاهنا أولَى، وإن قلنا: إنه يموت رقيقاً، هناك فلأن سببه: أنه لم يخلف شيئاً، وههنا يرثُ السيدُ بالولاء كَسْبَهُ، فيحصل لورثته ضعْفُ العبد، وإِن كان الكسبُ مثْلَ قيمته، فإن قلنا: لو لم يخلّف شيئاً، لمات حرّاً، فهاهنا أولَى؛ وإن قلنا: مات رقيقاً، فهاهنا لا يرث جميعه؛ لأنه خلَّف شيئاً، ولا يعتق جميعُهُ؛ لأنَّ الكسب ليس ضعْفَه. وإنْ قلنا: إن مَنْ بعضُه حرٌّ، وبعضُه رقيقٌ، يُورَثُ، فيُعْتَقُ نصفه، فيكونُ جميع كسبه للسيد، النصف بحقِّ الملك، والنصف بحق الإِرْث بالولاء، فيحصُلُ لورثته ضعْفُ ما عَتَق، وإن قلنا: إنه لا يُورَثُ، قال الاِمام: يُعْتَقُ منه شيء، ويتبعه من الكَسْب شيء، يُصْرَفُ ذلك الشيء إِلى بيت المال، فيبقَى عبد ناقص بشيء، يعدل ضعْفَ ما عتق، وهو شيئان، فبعد الجبر: عبدٌ يعدل ثلاثة أشياء، فالشيء ثلث العبد، فيعتق ثلثه، ويتبعه من الكسب ثلثُهُ؛ يبقَى للسيد ثلثا كسبه بحَقِّ الملك، وهو ضعف ما عَتَقَ، فإن كان الكسْبُ ضعْفَ القيمة، وخلَّف العتيق مع السيد بنتاً، فإن قلنا: لو لم يخلَّف بنتاً، لمات حرّاً، فكذلك هاهنا، والكسب بين البنت والسيد بالسوية. وإنْ قلنا: يَمُوتُ رقيقاً، فإن قلنا: مَنْ بعضُه حرٌّ، وبعضُه رقيقٌ، يُورَثُ، فيعتق منه شيء، ويتبعُهُ من الكسب شيئان، يرث البنت أحدهما، والسيد الثاني، فيحصل لورثة السيِّد ضعف العبد إلا شيئاً، وذلك يعدل شيئين، فبعد الجبر عبدان يعدلان ثلاثةَ أشياء. فالشيء ثلث العبدين، وهو ثلثا عبدٍ، فَيُعْتَقُ من العبد ثلثاه، ويتبعه ثلثا الكَسْب، ثم يرجع أحدُهُما بالإرث إلى السيد، فيحصل لورثة السيِّد ثلثا الكسب، وهما ضعف ما عَتَقَ. وإِنْ قلنا: إنَّ مَنْ بعضُه حرٌ، وبعضه رقيق، لا يورَثُ، فلا ترث البنت منه؛ لأنها لو ورثت، لَمَا خرج جميعه من الثلث، فيرقُ بعضه، فإِذا رَقَّ بعضه، لم يورث، فيؤدّي توريثها إلَى إبطال توريثها، وهذه من الدوريات الحكمية، وإذا لم ترث، فكأنَّه لم
يخلف إِلا السيد، فيموت حرّاً، ويكُونُ جميع الكَسْب للسَّيِّد كما مَرَّ. وإن كانت الصورةُ بحالها، وخلَّف بدل البنت ابناً فإن قلنا: إنه يموت حرّاً، لو لم يخلف شيئاً، فكذلك هاهنا، والكسب للابن، وإن قلنا: يموت رقيقاً هناك، فإنْ قلنا: من بعضُه حر، وبعضه رقيق، يُورَثُ، فيعتق منه شيْءٌ، ويتبعه من الكسب شيئان، هما للابن، يبقَى لورثة السيد باقي الكسب، وهو عبدان إلاَّ شيئين، فبعد الجبر: عبدان يعدلان أربعة أشياء، فالشيء ربع العبدين، وهو نصف عبْدٍ، فيعتق نصف العبد، ويتبعه من الكسب نصفه، يفوز به الابن، يبقَى لورثة السيد نصْف كسْبه بحقِّ الملك,. وهو ضعْفُ ما عتق، وإن قلنا: إنَّ مَنْ بعضه حر، وبعضه رقيق، لا يُورَثُ، فيموت حرّاً، وجميع الكسب للسيد، ولا يَرِثُ الابنُ للدَّوْر، ولو لَمْ يَمُتِ المعتق، لكنْ كان له ابن حُرٌ، فمات قبل موت السيد، وترك أضعاف قِيمَةِ أبيه، وليس له إلا أبوه، وسيَّد أبيه، فلا يرث منه أبوه؛ لأنه لو ورث، لاَسْتَغْرق، ولم يحْصُلْ للسيد شيء؛ وحينئذ: فلا يعتق جميعه، فلا يرث، وإذا لم يرث حُكِمَ بحريته، وورث السيَّدُ مال ابنه بالولاء. ولو كانت تركة الابن مثْلَ قيمة المعتق، فيعتق منه شيْء، ويثبت للسيد الولاء بقَدْر ما عَتَقَ على الابن، فيرث من تركته شيئاً، ولا يرثه أبوه؛ لِأَنَّ مَنْ بعضه رقيق لا يَرِثُ، فيحصل لورثة السيد عَبدٌ إلا شيئاً، والشيء الذي ورثه السيد بالولاء، فيتمُّ لهم عَبْد؛ لأن تركته مثْلُ العبد، وذلك يعدِلُ شيئين، فالشيء نصْفُ العبد، فيعتق نصفه، ويكون للورثة نصفه، ونصْفُ تركة ابنه، وهما ضعْفُ ما عَتَقَ. مسألة: من الأصول المقررة: أن المريض إذَا أعتق عبيداً، لا يملك غيرهم، معاً، أُقْرعَ بينهم، وإن أعتقهم على الترتيب، بُدِئَ بالأوَّل فالأول، فإن زاد الأوَّل على الثلث، عَتَقَ منه قَدْرُ الثلث، فلو أعتق عبداً، فاكتسب مثْلَ قيمته، ثم أعتق عبداً آخر، ولا مال سواهما، وهما متساويا القيمة، فيعتَقُ من الأول شيْء، ويتبعه من الكسب شَيْء غير محسوب عليه، يبقَى للورثة ثلاثةٌ أعبد إِلاَّ شيئين، فبعد الجبر: ثلاثةُ أعبدٍ تعدلُ أربعة أشياء، فالشيء ثلاثة أرباع العبد، فيعتق من الأول ثلاثة أرباعه، ويتبعه ثلاثة أرباع الكسب، يبْقَى عبد ونصف، وهما ضعْفَ ما عتق. ولو اكتسب الثاني مثْلَ القيمة دون الأول، عَتَقَ الأول وبقي الثاني، وكسبه للورثة، وإن اكتسب كلُّ واحد منهما مثْلَ قيمته، عَتَقَ الأول، وتبعه كسبه، وبقي الثاني وكسبه للورثة، وإن اكتسب الأوَّلُ مثل قيمتهما، عَتَقَ منه شيء، وتبعه من الكسب شيئان، يبقَى للورثة أَربعة أَعبد إلاَّ ثلاثة أشياء، تعدِلُ شيئين، فبعد الجبر يكونُ الشَّيء خُمْس أربعة أعبد، وهو أربعة أخماس عبد، يعتق من الأول أربعة أخماسه، ويتبعه أربعة أخماس الكَسْب، يبقَى للورثة خمسة، وخُمُس كسبه، والعبد الآخر، وإن اكتسب الثانِي
مثْلَ قيمتهما، عَتَقَ الأول، ومن الثاني شَيْء، ويتبعه من الكسب شيئان؛ يبقَى للورثة من الثاني وكَسْبه ثلاثة أعبد، إلاَّ ثلاثة أشياء، تعدل ضعْفَ ما عَتَق، وهو عبدان وشيئان؛ لأنَّ الذي عَتَقَ عبدٌ وشيء، فبعد الجَبْر: ثلاثةُ أَعبد تعدلُ وعبدين وخمسة أشياء، تُسْقِطُ عبدين بعَبْدين؛ يبقَى عبدٌ في معادلة خمسة أَشياء. فالشيء خُمْسَ العبد، فالذي عَتَقَ من الثاني خُمْسُه، وكذلك الحكم، لو اكتسب كلُّ واحد منهما مثل قيمتهما, ولو أعتق العبدَيْن معاً أُقْرعَ بينهما، فمن خرجت له القرعة، فكأن السيد قدَّمه، والحسابُ في الصورة على ما ذكَرْنا. ولو أعتق المريضُ ثلاثة أعبد معاً، لا يملك غيرهم، فاكتسب أحدُهم قَبل موته مثْلَ قيمته، وقيمتهم متساويةٌ، يُقْرَعُ بينهم بسَهْم عِتقٍ، وسهمَيْ رِقٍّ، فإن خرج سهم العِتْق على المكتسب، عَتَقَ، ويتبعه كسبه، والآخران للورثة؛ وإن خرج لأحد الآخرين، عَتَقَ، ثم تُعَادُ القرعة؛ لاستكمال الثُّلُث، فإن خرج للآخر، عَتَقَ ثلثه، وكان ثلثاه مع المكتسب، وكسبه للورثة، ولا دَوْر، فإن خرج سهم العِتْق في القرعة الثانية للمكتسب، دخله الدَّوْر، فنقول: يُعْتَقُ منه شيء، ويتبعه من الكسب شيءٌ، يبقَى للورثة ثلاثةُ أعبد إلاَّ شيئين، يَعْدِلُ ضعْفَ ما عَتَقَ، وهو عبدان وشيئان، فبَعد الجبر: ثلاثةُ أعبدٍ تعدلُ عبدين وأربعة أشياء، فتُسْقِطُ عبدين بعَبدَين؛ يبقَى عبد في معادَلَةِ أربعة أشياء. فالشيءُ رُبُع العبد، فيعتق منْه رُبُعه، ويتبعه ربع كسبه؛ يبقَى للورثة ثلاثة أرباعه، وثلاثة أرباع كَسْبه، والعبد الآخر، وذلك عبدان ونصفُ، وهو ضعْفَ ما عتق. وإن كانت الصورةُ بحالها، وعلى السَّيِّد من الدَّيْن مثل قيمة أَحدهم، فَيُقْرَعُ بين العَبْد بسَهْمٍ دَيْنٍ، وسَهْمَي تركة، ولسهم الدين حالتان: إحداهما: أنْ يخرج لأحدِ اللذين لم يكْتسبا، فيُبَاعُ في الدَّيْن، ثم يُقرَعَ بين الآخرين؛ لإعتاق الثلث بعد قضاء الدَّيْن بسهم رِقٍّ، وسهم عِتْقٍ، فإن خرج سهْمُ العِتْق للذي لم يكتسب، عَتَقَ، والمكتسبُ وكَسْبُه للورثة، وإن خرج المكتسبُ، دخلَهُ الدَّوْر، فيعتق منه شيء، ويتبَعُهُ من الكسب شيء، يبقَى للورثة ثلاثة أعبدٍ إِلاَّ شيئين [تعدل شيئين فبعد] (¬1) الجبر ثلاثة أعبد، تعدل أربعة أشياء، فالشيءُ رُبُعٌ إلا عَبْد، وهو ثلاثة أرباع عبد. الحالة الثانية: يخرج سهْم الدَّيْن للمكتسب، فيباع منه ومِنْ كسبه بقَدْر الدَّين، والدَّيْن مثل نصفها، فيباعُ في الدَّيْن نصْف رقبته، ونصف كسبه، ثم يُقْرَعُ بين الباقي ¬
وبَيْن الآخرين بسهم عتْقٍ، وسهمَيْ رِقٍّ، فإن خرج سهم العتْق لأحدِ الآخرين، عَتَقَ، والآخر ونصف المكتسب وكَسْبُه للورثة، وإن خرج للمكتسب، عَتَقَ نصْفُه الباقي، ويتبعه الكسب غَيْر محسوب، ثم تُعادُ القُرْعَة بين الآخرين؛ لاستكمال الثلث، فإنا لم نعتق إِلاَّ نصْفَ عبد، وقد بقي عبدان، فلأيهما خرج العتق، عَتَقَ ثلثه، فيكون جملةُ ما عَتَقَ خمسَةَ أَسداسِ عبد، يبْقَى للورثة عبْدٌ وثلثا عبد، ضعْفَ ما عَتَقَ. ولو كانتِ الصورةُ بحالها إلاَّ أن قيمتهم مختلفةٌ؛ فأحدهم يساوي مائة، والثاني مائتين، والثالثُ ثلاثمائة، والكَسْب لكلِّ واحدٍ منهم مثلُ قيمته، فيُقْرَعُ بينهم، فإن خرج سَهْمُ العتق على الأعلى، عَتَقَ، وتبعه كسبه، والآخران وكَسْبُهما للورثة، وذلك ضعْف الأعلَى، هذه حالة، ووراءها حالتان: إحداهما: إذا خرج على الأدنَى، عَتَقَ، وتبعه كسبه، وتُعادُ القُرْعة، لاستكمال الثلث، فإن خرج سهْمُ العتق للأوسَطِ؛ عَتَقَ، وتبعه كسبه، ويبقَى الأعلَى، وكَسْبُه للورثة، وذلك ضعف العتيقين، وإن خرج للأعلى، عَتَقَ منه شيء، ويتبعه من الكسب مثله، يبقى للورثة باقية وباقي كسبه، والعَبْد الأوسط وكسبه، وجملة ذلك ألفٌ إِلا شيئين، يعدل ضعْفَ ما عتق، وهو مائتان وشيئان، فبعد الجبر: ألفٌ تعدلُ مائتين وأربعةَ أشياء، يسقط مائتين بمائتين، يبقَى ثمان مائة تعدل أربعةَ أشياء، فالشيء مائتان، وذلك ثلثا الأعلَى، فيعتق منه ثلثاه، ويتبعه ثلثا الكسب، يبقَى للورثة ثلثه وثلث كسبه، والعبدُ الأوسطُ وكسبُهُ، وذلك ستُّمائةٍ، ضعْفَ ما عَتَقَ من الأدنَى، وما عتق من الأعلَى. الحالة الثانية: إذا خرج سهم العتق على الأوسَط، عَتَق، وتبعه كسبه، وتُعَادُ القُرْعة، فإن خرج سهم العِتْق للأدنَى، عَتَق، وتبعه كسبه، والأعلَى وكَسْبه للورثة، وإن خرج للأعلَى، عَتَقَ ثلثه، وتبعه ثلث كسبه، والباقي مع الأدنَى للورثة، وطريق الحساب ما بيناه. مسألة: أعتق المريضُ جاريةً، لا يملك غيرها، فَوُطِئَتْ بالشبهة قبل مَوْت السيِّد، فلها مهر ما عتق منْها غير محسوب من الثلث، وللسيد مهْرُ ما رَقَّ منْها، فإن كان مهرها مثل ثلث قيمتها، فيعتق منها شيء، ويتبعه من المهر ثلثي شيء، وباقيها للورثة، وهو جاريةٌ ومثل ثلثها إلاَّ شيئاً، وثلث شيء، يعدل شيئين، فبعد الجبر: جاريةٌ وثلث، تعدل ثلاثة أشياء وثلث شيء، فنبسطها أثلاثاً، ونقلب الاسم، فالجاريةَ عشرة، والشيء أربعة، فيُعْتقُ أربعة أعشارها [ويتبعها أربعة أعشار المهر، يبقى للورثة، ستة أعشارها] (¬1)، وستة أعشار مهرها، وستة أعشار مهرها عُشْراً رقبتها، فيجتمع لهم مثل ¬
ثمانية أعشار الرقَبَة، ضعْفَ ما عتق منها. فإن أحبلها الواطئُ، وولدَت قبل موت السيد ولَداً، قيمته يوم الولادة ثلث قيمتها، فعلى الواطِئِ مع العفْو قيمةُ الولد، بِقَدْرِ ما رَقَّ منها؛ لتقوية رِقِّهِ على السيد، فيعتق منْهَا شيء من الولد، ثلث شيء غير محسوب من الثلث، ولها من المهر ثلث شيء، يبقى للورثة جاريةٌ ومثل ثلثها، إِلا شيئاً وثلث شيْءٍ، وذلك يَعْدِل شيئين. فبعد الجبر: جارية وثلثا جاريةٌ تَعْدِل ثلاثة أشياء وثلثي شيء، فنبسطها أثلائاً، ونقلِبُ الاسم، فالجارية أحَدَ عَشَرَ، والشيء خمسة، فيعتق منها خمسة من أحد عشر [ويتبعها خمسةٌ من أحد عشر من الولد، ولها خمسة من أحد عشر] (¬1) من المهر، يبقَى للورثة ستةٌ من أحد عشر من الرقبة، وستة من أحد عشر من المهر، وستة من أحد عشر من قيمة الوَلَد، والشيئَانِ جميعاً كأربعةٍ من أحدَ عَشَرَ من الرقبة؛ فيجتمع للورثة مثلُ عشرة من أحَدَ عشر من الرقبة وهي ضعف ما عَتَقَ. فإن كان الواطئُ مُعسِراً، فلم يحصُلْ منه مهر، ولا قيمة لم يتجزأ، لاَ عِتْقُ ثلثها، وثلثاها للورثة؛ فإن أيسر، وحصَلَ منْه المهر والقيمة، أتممنا عِتْقَهَا عَلَى ما يقتضيه الحساب، وتسترد الجاريةُ من كسبها مقدارَ ما عَتَقَ منها زائداً على الثلث؛ لنبين العتق فيه. وعن ابن سُرَيْجٍ تخريجُ وجهٍ أنها لا تسترد، فإن كان الواطئُ هو المعْتِقَ، فعلَى ما ذكرنا في وطء الواهب المَرِيضِ بعد الهبة، والإقباض. مسألة: وإذا زادَتْ قيمة المعتَق قَبْلَ موت السيد، دخل المسألةَ دَوْرٌ؛ لأن زيادة القيمة بمثابة الكَسْب، فقسْط ما عَتِقَ، لا يحسب على العبد، وقُسِّطَ ما رَقَّ، تزيد به التركة. وكذا نقصان القيمةِ يوزَّع، فقسط ما عَتَقَ يُحْسَبُ على العبد، كأنه شيء قبضه وأتلفه، وقسط ما رق كأنه تلف من مال المُعْتِق، وإذا نقص المال، نقص ما يعتق منه، ويحتاج في استخراج المسألة إلى الطرق الحسابية. مثال الزيادة: أعتق عبْداً، قيمته مائة، لا مَالَ له غيره، فبلغت، فيمته قبْلَ موت السيد مائة وخمسين، فنقولُ: يُعْتَقُ منه شيء، وذلك الشيء محسوبٌ عليه بثلثَيْ شيء، فيبقَى مع الورثة عبْدٌ إلا شيئاً، يعدل ضعْفَ المحسوب على العبد، وهو شيء وثلث شيء، فبَعْدَ الجبر: عبْدٌ يعدل شيئين وثلث شيء. فنبسطها أثلاثاً، ونقلب الاسم، فالعبد سبْعة، والشيء ثلاثة، ظيعتق منه ثلاثة أسباعه، وقيمتها يوم الموت أربعةٌ وستُّون وسبعان، والمحسوب عليم منها قيمةُ يوم ¬
الإعتاق، وهي اثنان وأربعُونَ وستة أسباع، يبقَى للورثة أربعةُ، أسباعِ العبد، وقيمتُهَا خمسةٌ وثمانون، وخَمْسَة أسباع، وهي ضعْفُ المحْسُوب على العبد. ومثال النقصان: كانَت قيمته مائةً، فعادَتْ إلى خمسين، فيعتق منه شيْءٌ، وهو محسوب عليه بشيئين، فالباقي وهو عبدٌ إِلا شيئاً يَعْدِلُ ضعْفَ المحسوب، وهو أربعة أشياء، فبعد الجَبْر: عبد يعدل خمسة أشياء، فالشَّيْء خمس العبد، فيعتق منه شيء، وهو خمسة، وقيمته يوم الموت عشرة، ويحسب عليه بعِشْرِين؛ لأن قيمتَهُ يَوْمَ الموْت عشرون، يبقَى للورثة أربعةُ أخماسه، وقيمتها أربعون، ضعْفَ المحاباة. ومنها الكتابة: فإذا كاتَبَ في مرضه عبداً، لا يمْلِكُ غيره، ولم يؤدِّ شيئاً من النُّجُوم في حياة السيد، فثلثه مكاتَبٌ، فإذا أدى نجوم الثلث، عَتِقَ وهل يُزَادُ في الكتابة؛ لأن التركة قد زادت بما أدى؟ فيه اختلاف يجيء في الكتابة -إن شاء الله تعالى- فإن زيدَتْ، فقد ذكر في طريق الحساب: أن الكتابة تصحُّ في شيء من العبد، ويؤدِّي المكاتِبُ عنه شيئاً، والفرض فيما إذا كانت النجومُ مثل القيمة، فيحصُلُ للورثة من الرقبة، ومال الكتابة مثْل عبد، وذلك يعدل ضعْفَ ما صحَّت فيه الكتابة، وهو شيئان، فالشَّيء نصف العبد، فإذا أدَّى نجوم النصف، عَتَقَ نصفه، واستَرَدَّ من الورثة كَسْبَ سدسه، فيحصل للورثة نصْفُ الرقبة، ونصْف النجوم، وذلك ضعْفُ ما صحَّت الكتابة فيه. ولو كاتَبَ عبْدَهُ في الصحَّة، ثم أعتقه في المرض، أو أبرأه عن النُّجُوم، نُظِر إن عجَّز نفْسَه، عَتَقَ ثلثه، ورَقَّ ثلثاه، وإن استدام الكتابة، فإنَّ كانت النجُوم مثْلَ القيمة، فوجهان: أظهرهما: أنه يُعْتَقُ ثلثه ويبقى الكتابة في الثلثين. والثاني: أنَّه لا يُعْتَقُ ثلثه؛ حتَّى يسلم الثلثان للورثة، إما بالعجز، أو بأداء نُجُوم الثلثين, لأنَّ ما يعجز العتق فيه، ينبغي أن يجصل للورثة مثْلاَه، فإذا كانت الكتابة مستمرةً في الثلثين، والنجُومُ في الذمة، لم يحْصُلْ في يدهم شيء. ومن قال بالأول: قال: لو لم يعتقه، لكانَ جميعه مكاتباً، وكانت الحيلولةُ قائمةً؛ فالإعتاقُ ورَدَ على محلٍّ فيه حيلولة، فليثبت العتْق في الثلث، وليبْقَ الباقي بحاله، وإن كان بين النجوم والقيمة تفاوُتٌ، فقد سبَقَ أن المعتبر من الثلُثِ أقلُّ الأمرين، فإن كانتِ النجومُ أقلَّ؛ بأن كانت مائة، والقيمة مائتين، فيعتق ثلثُهُ، ويسقط ثلث النجوم، وهو المحسوب من الثلث؛ يبقَى للورثة ثلثا النجومُ، إن أدَّى؛ وثلثا الرقبة إن عجزوا، إن كانت القيمة أقلَّ بأن كانت مائةً، والنجومُ مائتين، دخله الدور؛ لأنا نحتاج إلَى أن يعتق منْه شيئاً محسوباً من الثلث؛ ويسقط ثلثه من النجوم، غير محْسُوب من الثُّلُث.
وحسابه أن يقالَ: عَتَقَ منه شيْءٌ، وسقط من النجوم شيْئَان، يبقَى للورثة من النجوم مائَتَا درهم إلا شيئَيْن، وذلك يعْدِلُ ضعْفَ ما عَتَقَ، وهو شيئان؛ فبعد الجبر: مائتان يَعْدِلاَن أربعة أشياء، فالشيْءُ ربع المائتين، وهو نصْفُ العبد، فعلمنا أن الذي يعتق نصف العبد، وأنَّه يُسْقِط نصْف النجوم. قال الأستاذ: فإن عجَّل ما عليه من النجوم، عَتَقَ نصْفه؛ وإن لم يؤدِّ شيئاً، لم يحكم بعتق شيء، ثم كلما أدَّى شيئاً، حُكِمَ بعتق نصْف ما أدَّى؛ حتى يؤدي نصْف الكتابة، ويستوفي وصيته. هذا ما اتفق إيراده الآن من المسائل الدورية في أبواب الفقه، وكما أوردنا طَرَفاً منها في بعض الأبواب الَّتي تتقدَّم على الوصايا، فربما نورد طرفاً في بعض الأبواب الَّتي يتأخَّر عنها إذا انتهينا إلى فقْهها -بمشيئة الله تعالى- ونختم الباب بمسائل يتولَّد الدَّوْر فيها من ازدواج أصلين. مسألة: أعتق المريض عبداً، لا يملك غيره، ثم قتله، فينفذ العتق في جميعه؛ لأنه لا تَرِكَة، أو لا يعتق منه شَىْء؛ لأنه لا يبقَى للورثة ضعْف المحكوم بعتقه فيه خلافٌ سبق في نظائِرِه؛ قال الأستاذ أبو منصور: قياس مذهب الشافعيِّ -رضي الله عنه- الثاني، فإنْ ترك السيد مالاً، إذا قضيت الدية منه، كان الباقي ضعْفَ قيمته، فهو حرٌّ، وإن ترك من المال دون ذلك، عَتَقَ بعضه، ورَقَّ بعضه، ووجب على السيد قسْط ما عَتَقَ من الدية، ولا يرث السيِّد من دِيَتِهِ؛ لأنه قاتل له، بل إذا كان له وارثٌ أقربُ من السيد، فهي له، وإلا فهو لأقرب عَصَبَات السيد. مثاله: قيمته مائة، وقيمة إبل الدية ثلاثمائة، وترك السيد ئلاثمائة، فنقول: يعتق منه شيء، وعلى السيد من الدية ثلاثةُ أمثاله، وباقي العبد الذي بَطَلَ العتق فيه، قد أتلفه بالقَتْل، ولم يتركْ إلا ثلاثمائة، وهو مثل ثلاثة أعبد، يقضي منْهَا ما وَجَبَ من الدية، يبْقَى ثلاثة أعبد إلا ثلاثةَ أشياء، تعدل ضعْفَ ما عَتَقَ، وهو شيئان، فيجْبَرُ ويُقَابَلُ، فثلاثة أعبدٍ تَعْدِلُ خمسة أشياء، فنقلب الاسم، فالعبدُ خمسة، والشيء ثلاثة، يعتَقُ منه ثلاثةُ أخماسه، وهي ستُّون، ويجب عليه ثلاثةُ أخماس الدية، وهي مائة وثمانون، يبقَى مائة وعشرون، ضعْفَ ما عتق، وبطريق السهام: تأخذ العبد بالعتق سهماً، ويتبعه من الدية ثلاثة أسهم، ولورثة السيد سَهْمَان، ضعْف سهم العتق، فالمبلغ ستة أسهم، ونسقِطُ منها سهماً، وهو الذي تلف من العبد، يبقَى خمسة أسهم، فهي سهام العبد، يعتق منها مثْلُ سهام التركة. طريقةٌ أخرَى: تضربُ قيمة العبْدِ في ثلاثة؛ تكونُ ثلاثمائة، وتردُّ عليها الدية، تبلغ ستمائة، ينقص منها قيمةُ العبد؛ لأنه تلف؛ يبقَى خمسمائة، نسب إليها التركَة،
وهي ثلاثمائة، يكون ثلاثة أخماسه، فالذي يعتق من العبد ثلاثةُ أخماس، ولو قُطِعَ يدُهُ، فنقص من قيمته خمسُونَ دينارًا ودية اليد، لو كان حرّاً يساوي مائة دينار، وترك السيد مائة دينار، فيعتق منه شيء، ويجب على السيد من الدية شيء، وقد ترك السيد مائة دينار، وهو مثل عبد وما بَطَلَ فيه العتْقُ من العبد، وهو عبد إلا شيئاً، وقد نقص منْه نصفه، وهو نصْفُ عبد إِلاَّ نصف شيء، فالحاصل عبْدٌ ونصْفٌ إلا نصْفَ شيء، نسقط منه بالدية شيئاً؛ يبقَى عبد ونصف إلاَّ شيئاً ونصف شيء؛ وذلك يعدل ضعف ما عَتَقَ، وهو شيئان، فبعد الجبر: عبدٌ ونصف يعدِلُ ثلاثة أشياء، ونصف شيء، فنبسطُها أنصافاً، ونقلب الاسم، فالعبد سبعةٌ، والشيء ثلاثة، فيُعْتَقُ منه ثلاثة أسباعه، وهي اثنان وأربعون ديناراً، وستة أسباع؛ يبقى منه سبعةٌ وخمسونَ ديناراً وسبُعْ دينار، ولكنه نقص نصْفه، فعاد هذا الباقي إلَى ثمانية وعشرين. ديناراً، وأربعة أسباع دينار، ومع الورثة من التركة مائة، يؤدَّى ما وجب من الدية، وهو مثل ما عتق، يبقَى خمسة وثمانون ديناراً، وخمسة أسباع دينار، وذلك ضعْفُ ما عَتَقَ. ولو أعتق المريضُ عبداً، قيمته ستون، لا يملك غيره، فقطع أجنبيٌّ يده، ودية اليد، لو كان حرّاً مائةٌ وثمانون، ونقص من قيمته عشرة، فيعتَقُ منه شيء، ويجب على الجانِي للعَبْدِ ثلاثة أشياء، يبقَى للسيد من رقبته عبد إِلا شيئاً، فيستحقُّ به نصفه، وهو نصف عبد إلاَّ نصف شيء؛ لأن خراج العبد من قيمته كخراجِ الحُرِّ من ديته، فيجتمع له عبدٌ ونصْفُ عبد إلاَّ شيئاً ونصْف شيء. لكنَّه نقص سدُس العبد، فينقص مما كان له سُدُس عبْد إِلاَّ سدس شيء، فيعود ما عند ورثته إلى عَبْد وثلث عبد، سوى شيء وثلث شيء، وذلك يعدل شيئين، فبعد الجبر: عبدٌ وثلثُ عَبْدٍ، يعدل ثلاثة أشياء وثلث شيء، فنبسطها أثلاثاً، ونقلب الاسم، فالعبد عشرة، والشَّيْء أربعة، يعتق منه أربعة أعشار؛ يبقَى للسيد ستة أعشار، يستحقُّ به ثلاثة أَعشار؛ لكنه نقص من ستة أعشار واحدٌ، فالمبلغ ثمانية أعشار، ضعْفَ ما عَتَقَ، ولو كانت قيمة العبد والدية كما ذَكَرْنا، وقتله أجنبىٌّ، وخلف العبد بنتاً وسيده المعتق [فيعتق] (¬1) منه شيء، ويستحقُّ من الدية ثلاثة أشياء، يبقَى للسيد عبد إلاَّ شيئاً، فيستحقُّ به مثله على القاتل؛ لأن المُسْتَحَقَّ للسيد القيمة؛ فيحصُلُ له عبد إلا شيئاً، وله نصف ما استحقه العبد، وهو شيءٌ ونصْفٌ، فيجتمع للورثة عبْدٌ ونصْفُ شيء، وذلك يعدِلُ شيئين، فنْسقِطُ نصف شيء بنصف شيء؛ يبقَى عبد يعدلُ شيئاً ونصف شيء؛ فالشيء ثلثا العبد، فيعتق منه ثلثاه، وهو أربعون، ويجبُ به على الجاني مائةٌ وعشْرُون، يبقَى ¬
للسيد عشرون، ويرث من المائة والعشْرِين شيئين، فالمبلَغُ ثمانون، ضعْفَ ما عَتَقَ. والمسألة تتفرَّع علَى توريث مَنْ بعْضُهُ رقيقٌ. مسألة: أعتق المريضُ عبداً، فَجَنَى العبْدُ علَى أجنبيٍّ بقَطْع، أو قَتْلِ، ولا مال للسيد غيره، نُظِرَ: إن كان أرش الجناية مثْلَ قيمة العبد، أو أكثر، لم يعتق منه شيء؛ لأن الأرْشَ دين يتعلق بالرقبة، والدَّيْن يتقدَّم على الوصايا، وإن كان دُونَها، كما إذا كان العبد يساوي مائة، والأرش خمسة وسبعين، فيعتق منه شيء، ويرق الباقي، والأرش يتوزَّع عليهما فحصَّة ما عَتَقَ، يتعلَّق بذمة العبد، وحصته ما رَقَّ، يؤدي منه، إن أراد السيد التسليمَ والأرْش ثلاثة أرباع القيمة، فعلَى السيد تسليمُ ثلاثة أرباع مَا رَقَّ، وهو ثلاثة أرباع عبْدٍ إِلاَّ ثلاثة أرباع شيء، يبقى مع ورثته رُبُع عبدٍ إلاَّ ربع شيء، يعدل شيئين، فبعد الجَبْر: ربع عبد يَعْدِلُ شيئين، وربع شيء. فنبسطها أرْبَاعاً، ونقلب الاسمَ، فالعبد تسعة، والشيءُ واحدٌ، فيعتق منه سبعة، ويرق الباقي، فيسلم في الجناية ثلاثة أرباعه، وهي ستة أتساع؛ يبقَى مع الورثة تُسْعَانِ، ضِعْفَ ما عتق. مسألة: أعتق عبداً قيمته ستون، وآخَرَ قيمته أربعون، ولا مَالَ له غَيْرهما، ثم قتل السيد الذي قيمته ستون، وديته لو كان حُرّاً تساوي ثمانين، فيقرع بين العبْدَيْن، فإن خرجت القرْعةُ للحيِّ، عَتَقَ ثلثه، ورَقَّ ثلثاه، ومات المقتول رقيقاً على الأظهر، وإن خرجت للمقتولِ، دَارَت المسألة؛ فيعتق منه شيء، ويرقُّ الباقي، وهو عبد إلاَّ شيئاً، [وثلثُه شَيْءٍ يعدل شيئَيْن، فبعد الجَبْر ثلثا عبد يعدل ثلاثة أشياء وثلث شَيْء] (¬1) وقد تلف ما عَتَقَ، وما رَقَّ بَقِيَ مع السيد عبْدٌ، قيمته ثلثا عبد، يُقْضَى منه ديةُ ما عتق من المقتول، وهو شيء وثلث شيء؛ لأن الدية مثل القيمة، ومثل ثلثها؛ يبقَى ثلث عبد إِلاَّ شيئاً وثلث شيء. فنبسطها أثلاثاً، ونقلب الاسم، فالعبدُ عَشَرة، والشيء اثنان، فيعتقُ منه عشراه، وهما اثنا عشر، وعلى السيِّد من الدية عشراها، وهما ستة عشر، يُقْضَى من الحيَّ، يبقَى منه أربعةٌ وعشرون، ضعْفَ ما عتق. ولو أعتقهما، كما ذكرنا. وَقُتِلَ الذي قيمته أربعون، وقطع يد الآخر، فنقص من قيمته عَشَرة، ودية كلِّ واحد منهما، لو كان حرّاً يساوي ثمانين، فيُقْرَع، إِن خرجت القُرْعَة للمقْطُوع، عَتَقَ ¬
ثلثه، ورَقَّ ثلثاه، وإن خرجت للمقتول، فيعتق منه شيء، ويرق الباقي، لكنه أتلفه فالذي يَبْقَى، لورثة العبد المقْطُوِع، وهو بعد ما نقَص مثل عبد وربع عبد، يُقضى منه ما لزمه من الدية، وهو شيئان؛ لأنَّ الدية ضعْف القيمة، فيبقَى عبد وربع عبْدٍ إِلاَّ شيئين، يعدل شيئين، فبعد الجبر عبد وربع عبد يعدِلُ أربعة أشياء، فنبسطها أرباعاً، وتقلب الاسم، فالعبد ستةَ عَشَرَ، والشيء خمسة، فيعتق من العبد خمسةُ أجزاء من ستة عشر جزءاً، وقيمتها اثنا عشر ونصف، تركة السيد خمسون؛ يُقضَى منها ما لزمه من الدية، وهو ضعف ما عَتَق؛ يبقى منها خمسةٌ وعشرون، ضعْفَ ما عتق. مسألة: وهب المريضُ عبداً لا يملك غيره، وأقبضه، فقتل العبد الواهب خطأً، نُظِرَ: إن كانت قيمته مثل الدية، صحَّت الهبة في نصفه، ويُبَاعُ ذلك النصْف في الجناية، أو يفْدِيه الموْهُوب له، فيحْصُل لورثة الواهب قَدْر نصفه، وقد بَقِيَ لهم النصْف وهما ضعف ما صحَّت الهبة فيه، ويهدر نصف الجناية؛ لأن جناية المملوك على المَالِكِ مهْدَرة. وإن كانتِ القيمةُ أكثر، كَمَا إِذا كانَ العبد يساوِي ثلاثمائة، والدية مائة، فتصحُّ الهبة في شيء من العبد، وتبْطُل في الثاني، ويَرْجِعُ بالجنايةِ إلَى ورثة السيِّدِ ثُلُثُ شيء، فيبقَى معهم عبْدٌ إلا ثلثَيْ شيء، يعدل شيئين؛ فبعد الجبر عبدك يعدل (¬1) شيئين، وثلثي شيء. فنبسطها أثلاثاً، ونقلب الاسمَ، فالعبد ثمانية، والشيء ثلاثة، فتصحُّ الهبة في ثلاثة أثمانِ العبدِ، وَيرْجِعُ إلى ورثَةِ الواهب ثُلُث ما صحَّت الهبة فيه، وهو ثمن، فيجتمع لهم ستَّة أَثمان، ضعْف ما صحَّت الهبة فيه. وإن كانتِ القيمةُ أقلَّ، فإِن قلنا: إن الفداء بالأقلِّ من القيمة، أَو الدية، فكذلك الجوابُ، وإن قلْنا: إنَّ الفداء بالدية، فإن كانت القيمة مثْلَ نصف الدية، أو أقلَّ، صحَّت الهبة في جميعه، فإِذا فَدَاهُ، كان عندهم ضعْف ما صحَّت الهبة فيه أَو أَكثر، وإن كانتْ أكثرَ من نصف الدية؛ كما إذا كانت القيمة مائَتَيْنِ، والدية ثلاثمائة، فتصحُّ الهبة في شيء من العبد، ويفديه بمثله، ومثل نصفه، فيحصل للورثة عبد ونصف شيء، يعدل شيئين، فيسقط نصف شيء بنصف شيء؛ يبقى عبد يعْدِلُ شيئاً ونصْفَ شيء، فالشيء ثلثا العبْد، فصَحَّت الهبة في ثلثيه، يبْقَى للورثة من الرقبة ثلث، ومن الفداء مثْل عبْدٍ، فيجتمع عبد وثلث عبد وثلث. ضعف ما صحت الهبة فيه. فإن عفا الواهبُ عن الجناية، فالهبةُ سابقةٌ على العفْو، فيقدَّم، ثم ينظَرُ إن كانت القيمة مثْلَ نصف الدية، أو أكثرَ، بَطَلَ العفْو, لأن الهبة تستغرِقُ الثلث، فلا يبقَى شيء ينفذ العفْوُ فيه. ¬
الباب الثالث في مسائل العين والدين
وإن كانتِ القيمة أقلَّ من نصف الدية، نُظِرَ: إن سلم الموهوب له العَبْدَ، أو فداه، وقلنا: الفداء بأقلِّ الأمرين، فكذلك الجوابُ، وإن قلنا: الفداءُ بالديَةِ فالفاضلُ من الثلث عن الهبة يُصْرَفُ إلى العَفْو. مثاله: القيمةُ مائةٌ، والدية ثلاثمائة، فتصحُّ الهبة في جميع العبد، ويصحُّ العفْو في شيء منْه، ويفدى الباقي، وهو عبد إلاَّ شيئاً بثلاثة أمثاله، وهي ثلائةُ أعبُدٍ إِلاَّ ثلاثة أشياء، وذلك يعدل ضعف ما صحَّ بالهبة، والعفو، وهو عبدان وشَيْئَان، فبعد الجبر: ثلاثة أعبد تَعْدِلُ عبْدَيْنِ وخمسة أشياء، يسقط عبدين بعبدين، يبقَى عبد في معادلة خمسة أشياء، فالشيء خمس العبد، فيصحُّ العفو في خُمسَه، وهو عشرون فقد صحَّت الهبة في جميعه وهو مائة، فالمبلغ مائة وعشرون، يبطُلُ العفو في أربعة أخماسه، وهي ثمانون، يفديها الموهوبُ بأربعَةَ أخماس الدية، وهي مائتان وأربعون، ضعْف ما صح فيه العفو والهبة، وهذه الصُّوَر وأوضاعُهَا لا تتناهَى، فتقنع بهذا القدر واللهُ يَنفَعُ به. البَابُ الثَّالِثُ في مسائل العَيْن والدَّيْن بناء الباب عَلَى أن يخلف الميت عَيْناً، ودَيْناً عَلَى بعض الورثة، أو على أجنبيٍّ، فيصيب الوارث بعض ما عليه بالإِرث، أو الأجنبيّ بعض ما عليه بوصية تُفْرَضُ له، وأول ما نذكره أن الميت، إذا لم يخَلف إلاَّ دَيْناً عَلَى بعض الورثة، فالذي عليه يبرأ من حصته، ولا يتوقَّف براءته على توفير حصَّةِ الآخرين؛ لأن الملْك بالإرْث لا يتأخَّر والإنسان لاَ يستحِقُّ على نفسه شيئاً. ولو خلَّف عيناً ودَيْناً عَلَى بعض الورثة، نُظِرَ: إن كان الدَّيْن، من غير جنس العين، أو من غير نَوْعه، فيقسَّم العين بين الورثة، فما أصاب من لا دَيْن عليه، دفع إِليه، وما أصاب المديون فعند أبي حنيفة [لا يدفع إليه، ويوقف عند من لا دين علَيْه، على سبيل الرَّهْن؛ حتى] (¬1) يؤدي نصيب من لا دَيْنَ علَيه، من الدين، وعندنا لا تتوقف، بل إن كان مقرّاً مَلِيئاً، دُفِعَ إليه، وإن كان جاحداً، أو مُعسِراً، فالآخر مستحق، ظفر بغير جنس حقه، وحكمه مذكورٌ في موضعه. وإن كان الدَّيْن من ذلك الجنْسِ، وذلك النوع، كما إذا حَلَّفَ عَشَرَةً عيناً، وعَشَرَةً دَيْناً، على أحد ابنيه الحائزين، فجواب الأستاذ أبي منصور: أن الذي لا دَيْنَ عليه يأخذ العَشَرة، نصْفها إِرثاً، ونصفْها قصاصاً، عما يصيبه من الدين، وفي كيفية القِصَاصِ: الخلاف المذكورُ المعْرُوف. ¬
قال الإمام: وهذا بعيد، والأقوال في تقاص الدينين، لا في تقاص الدَّيْن والعَيْن، بل المذهب أن الإرْثَ يثبت شائعاً في العين والدين، وليس لمن لا دَيْن عليه الاستبدادُ بالعشَرة التي هي عَيْن، إن كان المديون مقراً مليئاً؛ فإن تراضيا، أنشأً عقداً، وإن كان جَاحِداً، أو مُعْسِراً، فله أن يأخذها على قَصْد التملك؛ لأنه ظفر بجنس حقه ممن تعذَّر تحصيله منه. وإذا خَلَّف دينًا وعيناً، وأوصَى بالدَّيْن لإنسان، وهو ثلث ماله، أو أقلُّ، فحقه منحصرٌ فيه، فما نَضَّ، دُفعَ إليه ولو أوصَى بثلث الدَّيْن، فوجهان: أحدهما: أن ما نضَّ منه يُضَمُّ إلى العين، فإن كان ما نضّ ثلث الجميع، أو أقلّ، دُفِعَ إلى المُوصَى له؛ لاحتواء يد الورثة عَلَى مثليه. وأصحُّهما: أنه كلما نض منه شيء، دُفِعَ إلَيه ثلثه إلى الموصَى له، وثلثاه إِلى الوَرَثَةِ؛ لأنَّ الوصيَّة شائعةٌ في الدين. إذا تقرَّر ذلك، فالدين المختلَفُ مع العَيْنِ من جنْسِهِ وَنوْعِهِ، إِما أن يَكُونَ عَلَى وارث، أو أجنبيٍّ، أو عَليْهما: القسم الأول: أن يكُونَ على الوارث، فنصيبُهُ من جملة التركة: إما أن يكُونَ مثل ما علَيْه من الدَّيْن، أو أكثر، أو أقلّ. الحالة الأولَى: إذا كان نصيبُه مثْلَ ما عليه، فتصحح المسالةُ، وتطْرح، فما تصحُّ منه المسألة نصيبُ المديون، وتُقسَّم العين على سهام الباقين، ولا يُدْفَعُ إِلى المديون شيء، ولا يؤْخَذُ منه شيء. مثاله: زوج وثلاثةُ بنين، وترك خمسةً دَيْناً عَلَى أحد البنين، وخمسَة عَشَرَ عَيناً، فجملة التركة عشرون، ونصيبُ كلِّ ابنٍ خمسةٌ، فما على المديون مثلُ نصيبه، فتصحح المسألة من أربعة، وتطرح منها نصيب ابن، يبقَى ثلاثة، تقسم عليها العين، وهي خمسة عشر، يخرج من القسمة خمْسَة، ونصيب المديونِ، يقع قصاصاً بما عليه، هكذا أطلقوه؛ قال الإمام: وهو محمولٌ على ما إذا أوصَى المديون بذلك، أو عَلَى ما إذا كان جاحداً، أو مُعْسِراً؛ والباقون من الورثة ظافرون بحبس حقوقهم من ماله؛ فيأخذونه، ويقسمونه بينهم، وعلى ذلك ينزل الجواب المطلق في جميع هذه المسائل. الثانية: إذا كان نصيبه أكْثَرَ مما عليه، فيقسم التركة بينهم فما أصاب المديون، يطرح منه ما عليه، ويأخذ الباقي من العَيْن. مثاله: الدَّيْن في الصورة المذكورة ثلاثةٌ، والعين سبعةَ عَشَرَ، نصيب كلِّ ابن من التركة خمسةٌ، وما على المديون ثلاثة، يسقطُها من الخمسة، يبقى اثنان. ياخذهما من العين.
الثالثة: إذا كان نصيبه أقلَّ مما عليه، فَيُقَامُ سهام الفريضة، فيطرحُ منْها نصيبُ المديون، وتقسم العَيْن على الباقي، فما خرج من القسمة يضرب في نصيب المَدْيُون، الذي طُرحَ فما بلغ، فهو الذي حَيّ من الدَّين، والمراد من هذه اللفظة أن ما يقع في مقابلة العين من الدَّين، كالمستوفي في المقاصة؛ فكأنه حي من الدَّين فلولا المُقَاصَّة، فالدَّيْن على المفلس ميت فائت، ثم الباقي من الدَّيْن بعد الذي حي يسقط منه شيء، ويبقى شيء، يؤدَّيه المديون إلَى سائر الورثة. والطريق في معرفة السَّاقط والباقي؛ أن يُقَسَّم جميع التركة بين الورثة، فما أصاب المديون يُطْرَحُ مما عليه من الدَّيْن، فما بَقِيَ هو الذي يؤديه المديون، فيقسمه سائر الورثة عَلَى ما بقي من سهام الفريضَةِ بعد إسقاط نَصِيبِ المديون. المثالُ: الدَّين في الصورة المذكورة ثمانية، والعين اثنا عشر؛ يُقَسَّمُ سهام الفريضة من أَربعة، ويُطرح منها نصيبُ المديون، ويُقَسَّم العين على الباقي؛ يخرج من القسمة أربعة، نضربها في نصيب المديون هو واحدٌ، يكون أربعة، فكذلك هو الذي حَي من الدَّين؛ يبقَى منه أربعة، تأخذ نصيب المديون من التركة، وهو خمسة، فنَطْرَحْها مما عليه يبقَى ثلاثة، فالثلاثة هي التي تبقَى من الدَّين، ويسقط واحدٌ, وتلك الثلاثة مقسومة بينهم على السهام مما يصح منه المسألة، وهي ثلاثة، وهذا إذا لم تكن وصية، فإنْ كانت؛ كما لو خلَّف ابنين، وترك عَشَرة عيناً، وعشرة دينًا، عَلَى أحدهما، وأوصَى بثلث ماله لرجُلٍ، ففيه وجهان: أحدهما: وينسب إلى ابن سريج: أنا ننظر إلى الفريضةَ الجامِعَةِ للوَصيَّة والمِيراثَ، وهي ثلاثة، للموصَى له سهم، ولكلِّ ابنِ سهمٌ، فيأخذ المديون سهمَهُ، مما عليه، ويُقَسِّم الابن الآخر، والموصى له العَيْن نَصْفَيْن، وقد حَيّ من الدَّيْن خمسة، يبقَى خمسة، للمديون ثلاثة، يبقَى ثلاثة، وثلث، إذا أداها اقتسمها الابْن الآخر، والموصَى له نصْفَيْن؛ ووجهه أن الإرثَ والوصية ثابتان على الشيوع، فلكلِّ واحد من الابنين والموصَى له ثلُثُ الدَّين، وثلُثُ العَيْن، فيبرأ المديون عن ثلث الدَّين، ويجعل نصيبه من العين قصاصاً بثلث الدَّين، فما يستحقانه على ما بينا كيفيةَ المُقَاصَّة يَبْقَى ثُلُثُ الدَّيْن لهما عليه بالسَّويَّة. والثاني: وينسب إلَى أبي ثَوْرٍ: أَن الموصَى له يأخذ ثلث العين، والابْنُ الذي لا دَيْنَ علَيْهِ، يَأخُذُ ثلثها إِرْثاً، والثلث قصاصاً، فيبرأ المدْيُون عن ثلثَي الدَّين بالإِرث، والمُقَاصَّة؛ يبقى عليه ثلث الدَّين، يأخذه الموصَى له، ومَالَ الأستاذُ إلى هذا الوجه، ووجهه بأنه لو كان الدَّيْن عَلَى أجنبيٍّ، لم يكن للموصَى له من العين إلاَّ الثلث، فكذلك، إذا كان عَلَى أحد الابنين، لكنَّ الجمهورَ أجابُوا بالأوَّل، وبه
قال [أصحاب] (¬1) الرأي. وما ذكره الأستاذ مقلوبٌ عليه، فإنَّه لو كان الدَّين عَلَى أجنبيٍّ، لم يكن لأحدِ الابنين إلاَّ ثلث العين، فكذلك إِذا كان عَلَى أحد الابْنَيْن. ولو كانت الصورةُ بحالها، إِلاَّ أنه أوصَى بربع ماله، فعَلَى الوجه الأوَّل الفريضةُ الجامعةُ من ثمانية؛ للموصَى له سهمان، ولكلِّ ابنٍ ثلاثةٌ، تسقط سهام المديون، يبقَى خمسة، يقسم عليها العَين، وهي عشرة، يخرج لكلِّ واحدٍ سهمان، فيكون للموصَى له أربعة، وللابنِ ستة، وقد حي من الدَّين، يبقَى من الدَّين أربعة، يسقط منها حصَّة المديون، وهي درْهَم ونصْف؛ لأنَّ لكلِّ ابنٍ ثلاثة من ثمانية، يبقَى درهمان ونصف، إِذا أدَّاها اقتسمها الابن الآخر، والموصَى له على خمسة؛ لهذا ثلاثة، ولهذا سهمان، فيكمل للموصَى له ربُعُ المال. وعلى الوجه الثاني: يأخذ الموصَى له ربع العين، وثلاثة أرباعها للابن الذي لا دَيْنَ عليه بالإرث، والمقاصَّة، وتبرأ ذمة المديون عن ثلاثة أرباع الدَّيْن، يبْقَى عليه ربعه للموصَى له، ولو كانت بحالها، إلاَّ أنه أوصَى بالنصف؛ فإن لم يُجزْ الابنان ما زاد على الثلث، فكما لو أوصَى بالثلث، فإن أجاز، فعلَى الوجه الأول: الفريضةُ الجامعةُ من أربعةٍ، للموصَى له سَهْمَان، ولكل ابنٍ سهمٌ، يأخذ الغريم سهمه مما عليه، ويقسم الابن الآخر، والموصى له العَيْن عَلَى ثلاثة؛ للموصى له ثلثها, وللابن ثلثها، وقد حي من الابن ثلثه، وثلث يبقَى ستة وثلثان؛ للمديون ربعها، يبقى خمسة، كلما أدَّى منها شيئاً، اقتسمه الابن الآخر، والموصَى له ثلثًا وثلثَيْن. وعلى الوجه الثانِي يأخذ الموصَى له نصْفَ العَيْن، ونصفها للابْنِ الذي لا دَيْن عليه بالإرْث، والمقاصَّة، ويبرئ المديون عَنْ نصف الدين، يبقَى عليه نصفه، للموصَى له؛ وإن أجاز الابْن المدْيُون دون الآخر؛ ذكر الأستاذ تفريعاً على الوجه الأول أن نصف العين للمُوصَى له، ونصفها للابن الآخر؛ كما لو كانت الوصيَّة بالثلث، وللموصَى له على المديون ثلاثة وثلث، وللآخر عليه درْهَم وثلثان، فيحصل للمُوصَى له ثمانيةٌ وثلُثٌ، وللآخر ستة وثلثان، ويسقط من الدين (¬2) خمسة، وهو ربع الشَّرِكَة الذي يستحقُّه حيث أجاز، وتفريعاً على الوجه الثاني: أن للموصَى له ثلث العين، والباقي يأخذه الذي لا دَيْنَ عليه، وللموصَى له خمسة على المَدْيُون. وأَما تفريع الوجه الثاني فبين، وأما الأول: فإِن للإمام وجهاً ينصف العين بينهما؛ بأن المسألة مبنية على المُقَاصَّة، وهي على ما ذكرنا مخصوصةٌ بحالة الإِفْلاَس، وليس ¬
للمُفْلس إبطالُ حقِّ المستحق الذي للدين بنزعه، مبتدئاً كان أو مجيزاً، وكان كلُّ واحد منهما يأخذ نصْف العين، لو كانت الوصيةِ بالثلث، وإن أجاز الابْنُ الذي لا دَيْن عليه دُيُون المديون، فعلى الوجه الأول يأخُذُ الموصَى له من العَيْن خمسة دراهم، وخمسة أسداس؛ لأنهما لو أجاز الأخذ، [لأخذ] (¬1) الثلثين، ولو كانت الوصية بالثلث، لأخذ النصف، فإذا أجازا أحدهما دون الآخر، بنصف ما بَيْن النصْف والثلثين، وهو درهم وثلثان؛ فنصفه خمسة أسداس، والباقي؛ وهو أربعةٌ وسدسٌ، يأخذه الابن الآخر بالاِرث والمقاصَّة، يبقَى للموصَى له عَلَى الابن المدْيُونِ درْهَمان ونصف، وللابن الآخرَ عليه خمسة أَسداس، ويسقط عنه ستةٌ وثلثان. وعلى الوجه الثانِي يأخذ الموصَى له من العَيْن خمسة؛ لأن الذي أجاز يلزمه أن يؤدّي إِليه نصف ما عنده، وله على المديون ثلاثةٌ وثلث؛ وللابن المجيز نصفُ العين إِرثاً وقصاصاً، وهو قدر حقِّه، ولو كانت بحالها إلاَّ أنه أَوصَى بخمسة دراهم من ماله، حكى الأستاذُ تفريعاً على الوجه الأول: أنه يدفع إلى الموصَى له من العَيْن خمسة، ويأخذ الذي لا دَيْن عليه الخمسة الباقية؛ نصفها بالارث، ونصفها قصاصاً، عما له على المديون، ويبرأ المديون عن نصف الدَّيْن بالميراث، ومن ربعه بالقصاص، يبقى عليه ربع [الدين الآخر] (¬2)، وتوقف الإمام في هذا؛ لأن الاعتبار في الوصايا بما لها. وإذا كان المالُ بحاله؛ حتى ماتَ، فالتركة عشرون، والخمسة ربع العشرين، فليكن الحكم، كما لو أوصَى بربع ماله، ولو أوصَى كذلك، لم يكن للموصَى له نصْف العين، بل خمساها، كما سبق، وعلى الوَجّه الثَّاني: للموصَى له ثلث العين، فيكون الباقي من الدَّيْن. ولو خلفت زوجاً، وثلاثة بنين، وخمسة دَيْناً على أحد البنين، وخمسة عشر عيناً، وهو المال المذكور أولاً، وأوصت بثلث مالِهَا. فعلى الوجه الأوَّلِ الفريضةُ: الجامعةُ من ستة؛ للموصَى له سهمان، ولكلِّ واحد من الزوج والبنين سهم، يسقط نصيبُ المَدْيُون، يبقَى خمسة، يقسم عليها العَيْن، يخرج من القسمة ثلاثة، وللموصى له ستة، ولكلِّ واحدٍ منهم سوى المديون ثلاثة، وقد حي من الدَّين ثلاثة، يبقى من الدَّين درهمان، يسقط منها حصَّة المديون، وهو ثلث درهم؛ لأن لكلِّ ابن سهمان من ستة، يبقَى درهم وثلثان، إذا أدَّاها، واقتسموها عَلَى خمسة، للموصَى له ثلثان، ولكلِّ واحد من الابنين والزَّوْج ثلث. وعلى الوجه الثاني، للموصَى له ثلث العين، وهو خمسة، وللزوج والابنين الدين لا دَيْنَ عليهما الباقي بالتسوية؛ لكلِّ واحد درهمان ونصف، بالإرث، وخمسة أسداس ¬
بالمقاصَّة، [ويبرأ المديون عن سدس الدَّين بالإرث، وعن درهمين ونصف بالمقاصَّة] (¬1) يبقى عليه درْهم وثلثان للموصَى له. القسم الثاني: إذا كان الدَّيْن على أجنبيِّ؛ فيُنظَرُ: إن لم يكن وصيَّة، فالورثَةُ يشتركون في العَيْن والدَّيْن، ولا إشكال، وإن كانت، فهي إما: أن تكون لغير المديون، أو للمَدْيُون، أولهما: إن كان لغير المديون، كما إذا خلف ابنين، وترك عشرة دراهم عيناً، وعشَرَةً دينًا على رجل، وأوصَى لرجل بثلث ماله، فالابنان والموصى له يقتسمون العين أثلاثاً، وكلما حصل شيء من الدين، اقتسموه كذلك، ولو قيد الوصيَّة بثلث الدَّيْن، اقتسم الابنان العَيْن، وأما الدين، فقد سبق حكايته وجهين فيه: أحدهما: أن الحاصِلَ من الدَّين يُضَمُّ إلى العين، ويدفع [ثلث الدين,] (¬2) حصل إِلَى الموصى لَهُ، ويشهر هذا بوجه الحَصْر؛ لأنه حصر حق الموصَى له فيما يَنْجَزُّ من الدين. وأصحُّهما: أن ما يحْصُلُ من الدَّين يُدْفَع إليه ثلثه، ويشتهر هذا بوجه الشيوع، ولو أوصَى، والصورة ما ذكرنا، لزيدٍ بثلثِ العَيْن، ولعمرو بثلث الدَّين، فلزيد ثلث العين، وأما عمرو، فإذا حَصَلَ من التركة خمسة، فعلَى وجهِ الشيوع: يُدفَعُ إلَيْه ثلثها، وهو درهم وثلثان، وعلى وجّهِ الحصْر: إن أجاز الورثة، دُفعَ إليهَ من الخمسة ثلث الدين، وهو ثلاثة وثلث، وإن لم يجيزوا، لم يُدْفَعْ إليه ثلث الدين تامّاً؛ لأن الموصَى له بالعَيْن قد أخذ ثلث العين، فلو أخذ عَمْرو ثلث الدين، لا يصرف إلى الورثة ستة وثلثان، ولم يحصل فيم يد الورثة بَعْدُ إلا ثمانية وثلُث، وذلك دون الضِّعْف. وإذا تعذَّر ذلك، فكم يُدْفَعُ إلى عمرو؟ قال الأستاذ أبو منصور: على تخريج أبي ثَوْر يُدفع إليه ثلث الخمسة الحاصلة، فيكون المصروف إلى الوصيَّتَيْن خمسة، وفي يد الورثة عشرة، وعلى تخريج ابن سريج: تُضَمُّ الخمسةُ إلى العشرة التي هي عين، وُيؤخَذُ ثلث المبلغ، وهو خمسة، يضارب فيها زيد وعمرو بجزئين متساويين، فيكون حصَّة عمرو درهمين ونصف درهم، واحتج الأستاذُ بهذه المسألة على ترجيح قول أبي ثَوْرٍ؛ لأنا إذا دَفَعْنا إلى عمرو درْهَمَيْن ونصفاً، وقد أخذ زيد ثلاثةً وثلثا، وكان المبلغ خمسةَ دراهم وخمسة أسداس، وليس في يد الورثة ضعْفُ ذلك. قال الإمام: وجه العصر في أوله ضعف، فليحتج بما يلزم منه من محذور على ¬
فساده، لا عَلَى فساد قول ابن سُرَيْجٍ؛ عَلَى أن القياس التفريعُ عليه عَلَى قول ابن سُرَيْجٍ، رد نصيب زيد إلَى درهمين ونصف [أنصافاً] (¬1)، فلا يلزم المحذور المذكور، فإن كانت الوصيةُ للمديون، فيُنْظَر فيما يستحقُّه بالوصية: أهو مثل الدين، أو أقل، أو أكثر؟ ويقاس بما ذكرنا فيما إِذا كان الديْنُ على وارث، وإِن كانت الوصية لهما؛ كما إذا أوصَى، والصورة ما سبق، بثلث العين لزيد، وللغريم بما عليه، ورد الابنان الوصيتَيْن إلى الثلث؛ فيكون الثلث بينهما على أربعة؛ لزيد سهم، وللغريم ثلاثة. فعلَى الوجه المنسوب إلى ابن سُرَيْج، الفريضة [الجامعة] (¬2) من اثني عشر، للوصيَّتين أربعة، وللابنين ثمانية، فيقسم زيْد والابنان العين على قدر سهامهم، وهي تسعة؛ لصاحب العين سهمٌ وتُسْع، ولكل واحد منهما أربعة، وأربعة أتساع، ويبرأ الغريم عن ثلاثة أرباع الثلث، وهي خمسة دراهم؛ يبقَى عليه خمسةٌ، كلما أدَّى شيئاً، جُعلَ بين زيد والابنين، وعلى تسعة، فيحصل لزيد خمسة أتساع درهم، فيتم له ربع الثلث، وهو درهم وثلثان، وللابنين أربعةٌ وأربعةُ أتساعٍ، فبلغ مالهما ثلاثة عشر درهماً وثلث درهم، وذلك ثلثا المال، ثم ليكنِ المصروفُ إلى زيد عنْد خُرُوجِ الدين من العين، إن كانت باقيةً. وعلى الوجه المَنْسُوب إلى تخريج أبي ثور، لزيد ربع الثلث، وهو درهم وثلثان، يأخذه من العين، والباقي من العين للابنين، ويبرأ الغَرِيمُ من خمسة، يبقى عليه خمسة، إِذا أَدَّاها، فيقتسمها الابنان. ولو خلَّف ابنين، وعشرين درهماً عَيْناً، وعشرة دَيْناً على رَجُلٍ، وأوصَى للغريم بما عليه، ولزيدٍ بعَشَرة من العين، ولم يجز الابنان ما زاد على الثلث، فيجعل الثلث بينهما نصفين، ثم حكى الأستاذ فيه وجهَيْن عن ابن سُرَيْج: أصحهما: أن الفريضة الجامعةَ من ستة؛ للوصيتين اثنان، وللابنين أربعةٌ، فيقسم زيد والابنان العشْرين عَلَى قدر سهامهم، وهي خمسة؛ فَيَحْصُل لزيد أربعة، ولكلِّ ابنٍ ثمانيةٌ، ويبرأَ الغريم عن نصف الثلث، وهو خمسة، يبقَى عليه خمسة، إذا حَصَلَ منها شيء، جُعِلَ بينهم أخماساً حتى يتم لزيد خمسة، ولهما عشرون. والثاني: أنه يُدْفَعُ إِلى زيد من العين نصف وصية، وهو خمسة، ويبرأ الغريم من نصف ما علَيْهِ وهو خمسه، [وللابنين بَاقِي العَيْن] (¬3)، وهو خمسةَ عَشَرَ، ويقتصان باقي الدَّيْن، وهو خمسة؛ لأن في أيديهما من العَيْن ضعْفَ ما أُخِذَ منهما والدَّيْن لم يؤخذ ¬
الباب الثالث في الرجوع عن الوصية
منهما، وإنما برئ الغريمُ مما عليه، قال الإمام: وهذا الوجّهُ عَلَى ضعفه يجْرِي فيما سَبَقَ. القسم الثالث: إِذا كان الدين على وارث وأجنبي [كما إذا خلف ابنين وترك عشرة عيناً وعشرة دينًا على أحدهما وعشرة دينًا على أجنبي] (¬1) وأوصى بثلث ماله؛ فعلى قياس تخريج ابن سريج الفريضة الجامعة من ثلاثة، يُجعل سهم للمديون ما عليه، ويقتسم الابن الآخر والموصى له العين، نصفين. وإذا حصَّل ما على الأَجنبي اقتسماه كذلك وعلى الوجه الثاني، يأخذ الموصى له ثلث العين، والباقي للابن الذي لا دين عليه [ويبرأ الابن المديون عما عليه وإذا حصل ما على الأجنبي أخذ الموصى له ثلثيه والابن الذي لا دين عليه ثلثه] (¬2). فرعٌ: ترك عشرة دَيناً عَلَى أحد ابنيه الجائرين، وعرضاً يساوي عشرة، وأوصَى بثلئه، فلكل واحدٍ من الابنين والموصَى له ثلث الدَّيْن، وثلث العرض، فيبرأ المديون عن ثلث الدَّين، وُيؤخَذُ منه ثلثا الدَّيْن لهما، فإن لم يملك إلا ثُلُث العرض أعطاهما ذلك عن حقِّهما، فإن لم يفعل باعه الحاكم، ودفع الثمن إلَيْهما. ولو ترك عشَرةً عَلَى أحدهما، وعبداً يساوِي عَشَرة، وثوباً يساوي عَشَرة، فهَلْ يمنع المديون من التصرُّف في حقِّه من العين؛ حتَّى يؤدِّيَ نصيب أخيه من الدَّيْن، أم هو مطلق اليد فيه؟ حكى الأستاذ أبو مَنْصُورٍ فيه وجهَيْن، وَقَضَى على الوجْهَيْنِ بِنُفُوذِ إعتاقه في نصف العبد، لكن إذا قلنا: إنَّه ممنوعٌ من التصرُّفِ، بيعَ نصيبُهُ من الثوب، ودُفِع ثَمنه إلَى أخيه عن جهة الدَّيْن، ويُرَقُّ نصْفُ العبد له، وإن أطلقنا يده، فإن كان موسراً، قَوَّمنا عليه الباقي، فإن لم يملك إلاَّ نصيباً من الثوب، بِعْناه، وقضينا بنصف ثمنه، بنصف ما عليه لأخيه، وأعتقنا بنصفه رُبع العبد، ويرق ربعه، كأنا إِذا أنفذنا تصرُّفه، جعلنا إعتاقه مُلْزِماً غرم التقويم، فيُضَمُّ ذلك إلَى ما عليه من الدَّيْن، فيوزَّع ما يملكه عليهما، وإن لم ينفذ تصرُّفه، لم تعتبره في غرم التَّقْويم، وكان يجُوزُ أن يلحق إعتاقه بإعتاق الراهِنِ، إذا معناه من التصرُّف؛ حتى يجيء في عتق نصْفه الخلافُ، وهذا وقتُ العَوْد إلى شَرْح الكتاب. البَابُ الثَّالِثُ في الرُّجُوعِ عَنِ الوَصِيَّة قَالَ الغَزَالِيُّ: وَيصِحُّ الرُّجُوعُ عنهَا قَبلَ المَوْتِ لِأَنَّهُ جَائِزٌ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ القَبْضُ، وَللرُّجُوعِ أَسْبَابٌ: أَوَّلُهَا: صَرِيحُ الرُّجُوعِ كَقَوْلِهِ: نَقَضْتُ وَرَجَعْتُ وَفَسَخْتُ وَهَذَا ¬
لِوَارثي، فلَوْ قَالَ: هُوَ تَرَكَتِي فَالظَّاهِرُ أنَّهُ لَيْسَ بِرُجُوعٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يجوزُ للموصِي الرجوع عن الوصية؛ لأنه عقد تبرُّع، لم يتصل القبْض به، فأشبه الهبة قبل القبض، وأيضاً: فإن القبول المعتبر في الوصية، إنما هو القَبُول بَعْد المَوت، وكلُّ عقد لم يقترن بإيجابه القبول المعتبر، فللموجب فيه الرجوع، وقد رُوِيَ عن عُمَرَ -رضي الله عنه- أنه قال: "يُغَيَّرُ الرَّجُل عَنْ وَصِيَّتِهِ ما شاء" (¬1). وعن عائشة -رضي الله عنْها- مثله (¬2). وكما يجوز الرجُوعُ عن جميع الوصية، يجوز عن بعْضِها، كما لو أوصَى لعبد، ثم رجع عن نصفه ويعم جواز الرجوع كل تبرع معلَّق بالموت؛ كقوله: إذا متُّ، فلفلان كذا، ما دفعوا إليه، أو عبْدي، أو فهو وقف تَعَمْ في الرجوع عن التَّدْبِيرِ صريحاً خلاَفٌ يُذْكَرُ في بابه، ولا رجوع عن التبرعات المنجَّزة في المرض (¬3)، وإن كان في الاعتبار من الثلث؛ كالمعلقة بالموت، ثم الرجوع يَحْصُل بطرق: منْهَا: أن يقول: نقَضْتُ وصيتين، أو أبطلْتُها، أو رددتُّها، أو رفعْتُها، أو فسَخْتُها، أو رَجَعْتُ عنها: ولو سُئِلَ عن الوصية، فأنكرها كان رجوعاً عَلَى ما مر في جحود الوكالة (¬4)، ولو قال: لا أدري، لم يكن رجوعاً؛ خلافاً لأبي حنيفة، فيما حكاه الأستاذ أبو منصور، وأشار إلَى خلاَفِ الأصحاب، فيما إذا قال: هو حرامٌ على الموصَى له، والمشهورُ أنه رجوعٌ، كما لو حرَّم طعامه على غيره، لم يكن له أكله، ولو قال: هذا لو أَرِثِي بعد موتي، أو هو ميراثٌ عني، حَصَلَ الرجُوعُ؛ لأنه لا يكون ¬
للوارث، إذا انقطع تعلُّق الموصى له عنه، هكذا قيل. لكن سنذكر: أَنه إِذا أَوصى بشيء لزيد، ثم أوصَى به لعمرو، ولم يكن رجوعاً، بل يشترك بينهما، وكان يجوز أن يقدر التشريك هاهنا أيضاً. ويقال ببطلان نصف الوصية، ولو قال: هو تركتي فوجهان؛ أحدهما: أنه رجوع؛ إِذ التركةُ للورثة. وأظهرهما: لا؛ فالوصيَّة من التركة. وقوله في الكتاب: "لأنه جائز لم يتصل به القبض" لا يكاد يفسر العقد الجائز إلاَّ بما يجُوزُ إبطاله، والرجوع عنه؛ وحينئذٍ: فلا يحسن تعليل جواز الرجُوعُ به، فليجعل كنايةً عن التبرع، أو ما أشبهه. وقوله: "وللرجوع أسباب" سبيل ضبْطِها، عَلَى ما ذكره: أن ما يحْصُلُ به الرجوع: إما قول، أو فعل: والقول ينقسم إلَى لفظٍ يستعمله الموصي لغرض الرجوع، وإلى لفظٍ يستعمله لغَرَضِ آخر، لكن يقع من لوازمه الرجوع، وإلَى غيرهما: والفعل ينقسم إلَى ما يشعر [بقصد] التصرُّف الذي يقع من لوازمه الرجوع، وإلَى ما يبطل اسم الموصَى به، وإلى غيرهما: والثالث مِن كل نوعٍ لا أثر له، بقي القسمان الأوَّلاَن من كُلِّ نوع، وهي الأربعة المذكورة في الكتاب. ولا ينبغي أن يُحْمَلَ قوله: "صريح الرجوع" على اللفظ الدالِّ على الرجوع بالوضع؛ لأنه عَدَّ من هذا القبيل قوله: "هذا لوارثي" معلوم أنه غير موضوع للرجوع، بل صريحُ الرجوع محمُول على ما لا يقصد استعماله، إلاَّ الرجوع، وما يتضمن الرجوع؛ على ما يقصد به غير الرجوع، إلاَّ أنه يلازمه الرجوع، كما سبق، ولا بأس بأن يفسر لفْظُ الرجوع في قوله: "وللرجوع أسباب" بالبطلان والانتقاص؛ لأنه أدرج في مسائل الباب انهدامَ الدَّار الذي لا فِعْل للموصى فيه، ولا اختيار، ومثل هذا لا يجوز أن يُعَدَّ رجوعاً منه، لكن يجوز أن يؤَثِّر في البطلان. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّانِي: مَا يَتَضَمَّنُ الرُّجُوعَ؛ كَالبَيْعِ وَالعِتْقِ وَالكِتَابةَ وَالاسْتِيلاَدِ وَالوَصِيَّةِ بِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ ضِدُّ الوَصِيَّةِ، أَمَّا إِذَا أوْصَى بِعَبْدٍ لِزَيْدٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِعَمْرو فَهُوَ تَشْرِيكْ بَينَهُمَا كَمَا لَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُمَا، وَلَوْ قَالَ: الَّذِي أَوْصَيْتُ بِهِ لِزَيْدٍ فَقَدْ أَوْصَيْتُ بِهِ لِعَمْرو فَهُوَ رُجُوعٌ، وَلَو أوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَبَاعَ جَمِيعَ مَالِهِ لَمْ يَكُن رُجُوعاً لِأَنَّ الثُّلُثَ المُرْسَلَ لاَ يَنْحَصِرُ في العَيْنِ الحَاضِرَةِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: إِزالة الملْكِ عن الموصَى به بالبيع، أو الإصداق، أو الإعتاق، أو جَعْله أجرةً في إِجازة، أو عوضاً في خلعٍ، رجوعٌ عن الوصيَّة؛ لأنه نافذ التصرُّف فيه؛ لمصادفته خالِصَ ملكه؛ والوصيَّة تمليكٌ عند الموت، فإذا لم يبْقَ في ملكه ما تنفذ الوصية فيه، بطَلَتْ؛ كما لو هلك الموصَى به. والهبة مع القبض رجوعٌ أيضاً، ودون القبض وجهان: أصحُّهما: أنها رجوعٌ، لظهور قصد الصرْف عن الموصَى له، والرهن كالهبة، لهذا المعنَى، وفيه وجه: أنه لَيْسَ برجوع؛ لأنه لا يزيل الملك، وإنما هو نَوْعُ انتفاع؛ كالاستخدام، والكتابةُ رجوع، وكذا التدبير؛ لأنه أقوَى من الوصية؛ ألا ترَى أنه لا يحتاج إلى الَقبول، والوصيَّة تحتاج؟ وقيل: إنْ جعلنا التدبير وصيةً، فهو كما لو أوصَى بمال لزيد، ثم أوصَى به لعمرو، فيصير نصفه مدبَّراً، وتبقى الوصية في نصفه. ولو أوصَى بالبيع، أو غيره مما هو رجوعٌ، فالمشْهُور المنصُوصُ أنه رجوعٌ عن الوصية الأولى لما مر وحكى أبو الفرج الزاز وجهاً أنه كما لو أوصَى لزيد، ثم أوصَى لعمرو؛ لأن كليهما وصية، وفرَّق صاحب الكتاب في "الوسيط" بين الصورتَيْن؛ بأن الموصَى به ثانياً هاهنا ليْسَ من جنس الأول؛ حتَّى يحمل على التشريك، ولذلك لا ينتظمُ الجَمْع بينهما في صيغة التشريك؛ بأن يقول: "أوصيتُ به لفلان"، وأعتقوه؛ بخلاف قوله: "أوصيت به لهما" لكن هذا غير مُجْدٍ لما سنَذْكُر أنَّ معنَى قوله: "أَوْصَيْتُ لهُمَا به، أوصيت بالنصف لهذا، أَوِ بالنصف لهذا" فالجمع هكذا منتظم مع اختلاف الجنس؛ بأن يقول: "أوصيت بنصفه لفلان، وبإعتاق نصفه". والوجهان أوردَهُما أبو بكْر الشاشِيُّ صاحب المُعْتَمَدِ، فيما إذا أوصَى بعبد لإنسان، ثم أوصَى بعتقه، فعلَى وجه: يُعْتَقُ، وتبطْلُ الوصية الأولى، وعلَى وجه يُعْتَقُ نصفه، ويدفع إلى الموصَى له نصُفُه. ولو أوصَى بعتقه، ثم أوصَى به لإنسان، فالقياس أن يُصْرَفُ إلى الموصَى له علَى الأول، وأن ينصف على الثاني، لكنه قال: أحد الوجهين: أنه يتعيَّن العتق، وتبطل الوصية الثانية، والثاني التنصيف، والتوكيل بالتصرُّفات المذْكُورة، كالوصية بها. واستيلادُ الجارية الموصَى بها رجوع؛ لخُرُوجِها عن قبول النقل، ولو أقر بأن العبد الموصَى به مغصُوبٌ، أو حُرّ الأصل أو قال: كنت أعتقته. قال الأستاذ أبو منصور: تبطُلُ الوصية، وذكر أنه لو باعه، ثم فسخ بخيار المجْلِس، فإن قلنا: إن الملك يزُولُ بنفس العقد، يحصل الرجوع، وإن قلْنا: يحصل بانقطاع الخيار، فلاَ.
ولك أن تقول: عَلَى كلِّ حال هو أقوى من الرَّهْن والهبة، قبل القبض، فإذا كان الظاهر فيهما حصول الرجوع، فهاهنا أولَى، وتعليق العتق رجوعٌ، لتنجزه، قاله العبَّادِيُّ في "الرقْم" ويشبه أن يجيء فيه الخلافُ المذكور فيما لا يزيل الملك. وإذا أوصَى بعين مال لزيد، ثم أوصَى بها لعمرو، ففي "التتمة" وجهٌ: أن الوصية الثانية رجوعٌ عن الأولى كما لو وهب مالاً من زيد، ثم وهبه من عمرو قبل القبض، والمذهب المنصوص المشهور: أنها ليست برجوع، وبه قال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد رحمهم الله، ووجَّهوه بأنه يجوز أنه قصد الجمع والتشْرِيكَ دون الرُّجُوع، فيشرك بينهما، وتنزل الوصيتان منزلةَ ما لَوْ قال دُفْعَةً واحدةً: "أوصيتُ به لهما" وليس ما ذكروه من جَوَازِ قَصْد التشريك من جهةِ اقتضاءِ اللَّفْظ التشريك، كما يقتضيه قَوْلُهُ: "أوصيت به لهما" أَلاَ ترَى أَن الأَصحابَ قَالُوا: إِذا قال: أوصيتُ لكما بهذا العبد" فرد أحدهما، لم يكن للآخَرِ الاَّ نصفه؛ لأنه لم يوجِبْ له إِلاَّ النِّصْف؟ [ولو أوصى به لزيد ثم أوصى به لعمرو] (¬1) هاهنا إِذا ردَّ أحدهما كان للآخَر أخذ الكل، ولو أوصَى به لأحدهما، ثم أوصَى بنصفه للآخر، فإنْ قبلاه فثلثاه للأول، وثلثه للثاني، وإن رَدَّ الأول، فنصفه للثاني، وإن ردَّ الثاني، فكلُّه للأول (¬2)؛ فظهر أن اللَّفظ لا يقتضي التَّشْريك، ولكنَّ وجهه أنه لما أوصَى لهذا بَعْدَ ما أوصَى لذاك، فكأنه أراد أن يشرك بينهما؛ لأنه ملك كل واحد منهما جميع العبد عند المَوْت، ولا يمكن أن يكون جميعه لكلِّ واحد منهما، فيتضاربان فيه، كما لو أوصَى بجميع ماله لزيد، ثم أوصَى بجميعه، أو ثلثه لعمرو. ¬
وعلَى هذا: فقوله في الكتاب: "فهو تشريك بينهما" معناه أن حُكْمَنا فيه التشريك، كما لو قال: أوصَيْتُ به لهما؛ إلاَّ أن قضية اللفظ التشريكُ، ولو قال: الذي أوصيتُ به لزيد، فقد أوصيت به لعمرو، أو قال: [لعمرو] (¬1) أوصيتُ لك بالعبد الذي أوصيْتُ به لزيدٍ، فهو رجوع؛ لاشعاره الظاهِرِ بالرجوع، وفيه وجه؛ أنه ليس برجوع، كالصورة السابقة. وفرقوا عَلَى المذهب؛ بأنَّ هناك يجوز إرادة التشريك؛ كما بيَّنَّا، ويجوز أنه نسي الوصية الأُولَى، فاستصحبناها بقدر الإمْكان، وهاهنا بخلافه، ولو أوصَى به لزيدٍ، ثم قال: بيعُوه، واصرفوا ثمنه إِلى الفقراء، فهو رجوعٌ؛ بناءً على ما سبق؛ أن الوصية بالبيع رجوعٌ عن الوصية للشَّخْص، ولو أوصَى ببيعه، وصرف ثمنه، إلى الفقراء، ثم قال: بيعُوهُ، واصرفوا ثمنه إلى الرقاب، جُعِلَ الثمنُ بين جهتين؛ لأن الوصيتين متفقتان عَلَى البيع. وإنما الزحمة في الثمن، ولو أوصَى له بدار، أو بخاتم، ثم أوصَى بأبنية الدار، وبفَصّ الخاتَم لآخر، فالدار أو الخاتم للأول، والأبنيةُ والفَصُّ بينهما؛ تفريعاً على المذهب المشهور. ولو أوصَى له بدار، ثم أوصَى لآخر بسكناها؛ أو بعبد، ثم أوصَى بخدمته لآخر، نقل الأستاذ أبو منصور: أن الرقبة للأول، والمنفعة للثاني، وكان يجوز أن يشتركا في المنفعة؛ كما في الفصِّ والأبنية. وهذا كلُّه في الوصية الواردة عَلَى مال معيِّن، فأما إِذا أوصَى بثلث ماله، ثم تَصَرَّفَ في جميع ما يملكه ببيع، أَو إعتاق، أو غيرهما، لم يكن رجوعاً، وكذلك لو هلك جميعُ ماله، لا تبطُلُ الوصية؛ لِأَن ثلث المال مطلقاً لا يختصُّ بما عنده من المال حَالَ الوصية، بل المعتبر ما يملكه عنْدَ الموت زاد، أو نقص، أو تَبَدَّلَ. قَالَ الغزَالِيُّ: الثَّالِثُ: مُقَدِّمَاتُ هَذِهِ الأُمُورِ كَالعَرْضِ عَلَى البَيْعِ، وَمُجَرَّدُ الإِيجَابِ في الرَّهْنِ والهِبَةِ رُجُوعٌ في أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ لِدَلالتِهِ عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ، وَتَزْوِيجُ العَبْدِ وَالأَمَةِ، وَإجَارَتُهُمَا، وَخِتَانُهُمَا، وَتَعْلِيمُهُمَا لَيْسَ بِرُجُوعِ، وَالوَطْءُ مَعَ العَزلِ لَيْسَ بِرُجُوعٍ، وَمَعَ الإنْزَالِ دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ فَإِنَّهُ تَسرِّ، وَلَوْ أوْصَى بِمَنْفَعَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ آجَرَ سَنَةً وَمَاتَ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ إِنْ بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ الوَصِيَّةِ شَيْءٌ عِنْدَ انْقِضَاءِ الإِجَارَةِ سُلِّمَ إِلَى المُوصَى لَهُ بَقِيَّة السَّنَةِ، وإلاَّ فَلاَ شَيْءَ لَهُ، وَقِيلَ: إنَّهُ يُسْتَأْنَفُ لَهُ سَنَةً كَامِلَةً بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الإِجَارَةِ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسائل: إحداها: في [أن] التوسُّل إلى الأَمر الذي يَحْصُلُ به الرجوع، هل يكون رجوعاً؟ مثاله: العرض على المبيع؛ فيه وجهان؛ كالوجهين في التوكِيل بالبيع، والأظهرُ أنه رجوعٌ، وكذا العَرْضُ على الهبة، ويجري الوجهان في مجرَّد الإِيجاب في الرَّهْن، والهبة، والبيع. الثانية: تزويجُ العبد والأمة الموصَى بهما، وإجارتهما [وختانهما،] (¬1) وتعليمهما: ليس برجوع، وكذلك الإعارة، والإِذْنُ في التجارة، والاستخدام وركوب الدابة، ولبس الثوب؛ لأن هذه التصرفَات لا دلالَة لها على الرجوع بل هي: إِما انتفاع، وله المنفعة بالرقبة قبل الموت، وإِما استصْلاحٌ محض، وربما قَصَد به إِفادةَ المُوصَى له. واعلم أن هذه المسألة لا اختصاصَ لها بهذا المَوْضِع، وكان الأحسن أن يذكر أسباب الرجوع بتمامها، ثم يذكر ما ليس برُجُوع. الثالثة: وطء الجارية الموصَى بها مع العَزْل ليس برجوع؛ كالاستخدام، وإن أنزل الماء في الفرج، ولم يعزل؟ ففيه وجهان؛ قال ابن الحدَّاد: هو رجوع؛ لأن الظاهر أنه أراد الإيلاد، والتسرِّي، فكان كالعَرْض على البيع، وسائر ما يدلُّ على الرجوع، واسششهد عَلَى هذا بأن الشافعيِّ -رضي الله عنه- قال: في "الإملاء": لو خلف ألا يتسرَّى، فوطئ جاريةً من جواريه، وعزل، لم يحنَثْ، وإن لم يعزل، حنث؛ لأنه قد طلب الولد، وطلب الولد هو التسرِّي، وهذا ما أورده صاحِبُ الكتاب. وقال أكثرهم: لا يكون رجوعاً، ولا اعتبار بالعزل وتَرْكِهِ، فقد ينزل ولا تَحْبَلَ، وقد يعزل، فيسبق الماء، وربما اعتذروا عن العَرْض على البيع ونحوه؛ بأن اقتضاء العَرْض على البيع إلى البيع أظْهَرُ وأقرب من إفضاء الوطء إلى الولد. وأما مسألة اليمين، فعن ابن سُرَيْج في التسرِّي ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لو وطئ من غير عزل على ما ذكره ابن الحَدَّاد. والثاني: أن التسرِّيَ هو مجرَّد الوطء. والثالث: أنه الوطء مع المنع من الخروج، وعلى هذين الوجهين: لا فَرْقَ بين أن يَعْزِلَ أو لا يَعْزِلَ. الرابعة: إذا أوصى بمنفعة عبد، أو دار سنةً، ثم أجَّر الموصى به سنةً مثلاً. نُظِرَ: ¬
إن مات بعد إنقضاء مدة الإجارة، فالوصية بحالها، وإن مات قبله، فوجهان: أرجحهما: على ما يقتضيه إيراد الكتاب وغيره [أنه] (¬1) إن انقضت مدة الإِجارة قبل انقضاء سنة مِنْ يَوْمِ الموت [فالمنفعة بقيَّة السَّنة للموصَى له، ويُبْطُل الوصيَّة فيما مضَى، وإنِ انقضَتْ بعد انقضاء سنة من يَوْم المَوْتِ] (¬2) فالوصية باطلةٌ؛ وذلك لأن المستحق للموصَى له منفعة السنة الأولَى، فإِذا انصرفَتْ منفعتها إِلى جهة أُخرَى، بطلَتِ الوصيَّة. والثاني: أنه يستأنف للموصَى له سنة من [يوم] (¬3) انقضاء مدة الإِجارة, لأن الوصيَّة بمنفعة سنة، وإنما يُصْرَفُ إليه السنة الأولَى مبادرة إلى توفية الحق، فَإذا منع منه مانع، تداركْنَا بسَنَةٍ أُخرى، فإن كان الموصِي قد قيد وصيَّته بالسنة الأولَى وجب ألا يجيء الخلاَفُ، ثُمَّ قضية التوجيهين: أن يُقَالَ: لو لم يسلّم الوارث [حتى انقضت سنة] (¬4) بلا عُذر، فعلى الوجّه الأوَّل يغرم قيمة المنفعة، وعلى الثاني: يسلَّم سنة أخْرَى. وقوله في الكتاب: "إنْ بقي من مدة الوصية شيْء" يعني به سنة من يوم الموت، لكن هذه اللَّفظة تتفرع على أنَّ المستحَقَّ بالوصيَّة منفعةُ السَّنة الأولَى، وصاحب الوجّه الثَّاني لا يسلِّمُه، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرَّابعُ: مَا يَبْطُلُ بِهِ اسْمُ المُوصَى بِهِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى بِحِنْطَةٍ فَطَحَنَهَا، أَوْ دَقِيقٍ فَعَجَنَهُ، أَوْ غَزْلٍ فَنَسَجَهُ، انْفَسَخَتِ الوَصِيَّةُ، وَلَوْ أوْصَى بِخُبْزٍ فَجَعَلَهُ فَتِيتاً، أَوْ بِلَحْمٍ فَقَدَّدَهُ، أَوْ بِرَطَبٍ فَجَفَّفَهُ، أَوْ بِقُطْنٍ فَحَشَا بِهِ الفِرَاشَ، أَوْ بِدَارٍ فَانْهَدَمَتْ حَتَّى بَطَلَ اسْمُ الدَّارِ، أَوْ بِعَرْصَةٍ فَبَنَى فِيهَا أَوْ غَرَسَ، أَوْ بِثَوْبٍ فَقَطَعَهُ قَمِيصاً، أَوْ بِخَشَبٍ فَاتَّخَذَهُ بَاباً، أَوْ بِشَيْءٍ وَنَقَلَهُ مِنْ مَوْضِعِ المُوصَى لَهُ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ فَفِي الكُلِّ وَجْهَانِ، فأَمَّا إِذَا أوْصَى بِصَاعِ حِنْطَةٍ، فَخَلَطَهَا بِغَيْرهَا كَانَ رُجُوعاً، وَإِنْ أوْصَى بِصَاعٍ مِنْ صُبرَةٍ، فَصَبَّ عَلَيْهَا صُبْرَةً مِثْلَهَا، لَمْ يَكن رُجُوعاً؛ لأنَّهَا زِيادَةٌ لَمْ تَدْخُلْ في الوَصِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ أَرْدَأَ فَوَجهَانِ. قَالَ الرَّافعِيُّ: إذا أوصَى بحنطة، فطحنها، أو اتخذ منها سويقاً، أو بذَرَها، أو بدَقِيقٍ، فعجنه بَطَلتِ الوصيةُ، وكان ما أتى به رجوعاً منه؛ لمعنيين. ¬
أحدهما: أن اسم الموصَى به قد بَطَلَ قبل استحقاق الموصَى له، وكانت الوصيةُ متعلِّقة بذلك الاسم، فإذا بَطَلَ، بَطَلَ الاستحقاق. والثاني: أن الوصيَّة تمليكٌ بعد الموت، فلو كان عَلَى قصده الأوَّل، لاستدام الموصَى به، وهذه التصرُّفات مشعرةٌ بالصَّرْف عنه، فإن الحنطة تُطْحَنُ، والدقيق يُعْجَنُ للأكل، والاستهلاك. ونسب الشيخ أبو حامد المعْنَى الأول إلى الشافعيِّ -رضي الله عنه- والثانِي إلَى أبي إسحاق -رحمه الله- وليس [بطلان الوصية] (¬1) ببطلان الاسم واضحاً كلِّ الوضوح؛ ألاَ ترَى أن العصير المرهون، إذا تخمَّر وتخلل قَبْلَ القبض، لا يبطل الرَّهْن فيه عَلَى رأي؟ بل يكون الكل مرهوناً مع بطْلاَن الاسم، والرهْنُ قبل القبض والوصية متقاربان، ثم قضيَّته أنْ يُفَرَّق بين قوله: "أوْصَيْتُ بهذا الطعام" وبين أن يقول: "أوصيت بهذا" ويقتصر عليه، أو يقول: "أوصيتُ بما في هذا البيت" ولو عرضت الأحوال المذكورة من غير إذْن الموصِي، فقياس المعنى الأوَّل بطلانُ الوصية، وقياس الثاني بقاؤُها وقد نصَّ الأئمة عَلَى وجهين في بعضِها، والباقي ملحق به، وألحقوا بهذا الصورة، إذا أوصى بشاةٍ، فذبحها، أو بعجينٍ فخبزه، لكن خبز العجين ما ينبغي أن يكون كعجين الدقيق، فإن العجينَ يَفْسُدُ، لو تُرِكَ، فيحتمل أنه قصد الاستصلاحَ، والحَفْظَ على الموصَى له. وألحق أبو الحسنِ العبَّادِيُّ بها ما إذا أوصَى بجلد، فدبغه، أو ببيض، فاحضنه الدَّجَاج، ولك أن تقول: قياسُ المعنى الأول ألا يكون الدبْغُ رجوعاً؛ لبقاء الاسم، وكذا الإحضان إلَى أن يتفرَّخ، ثم الكلام في صُوَرٍ: منها: إذا أوصى بخبز فجعله فتيتاً: فيه وجهان. أشبههما: أنه رجوعٌ؛ لإشعاره بالصَّرف عن الوصية؛ لأن الخبز يفتت ويدق ليؤكل. والثاني: لا؛ لأنه يقال: "خبز مدْقُوقٌ" ولم يبطل الاسم بالكلية، وقاسوا الوجه الأول على ما لو ثَرَدَهُ؛ لأنه ينتظم أنْ يقال: "خبز مثرودٌ" فليجر فيه الخلافُ، وعلى الوجهين: ما إذا أوصى بلَحْم فقدَّدَه لأنه لا يسمَّى لحماً على الإطلاق، لكن يقال: لحم قديدٌ. ولم يذكروا خلافاً فيما إذا طَحَنَه، أو شوَاهُ، أنه رجوعٌ مع صحة القول: بأنه لحم ¬
مطبوخ. ولو أوصَى برطَبٍ فتمره، فوجهان أيضاً؛ لأن اسم الرَّطَب قد زال؛ لكنَّه صيانة له عن الفساد، فلا يشعر بتغيُّر القصد، والأشبه ألا يُجْعَلَ هذا رجوعاً، وكذا تقديد اللحْم، إذا كان تعرض للفَسَاد. ومنْها أوْصَى بقطن، فغزله، أو بغزل فنسجه، فهو رجوعٌ وحكى ابن الصَّباغ -رحمه الله- في نسج الغزل وجهاً آخر، ولو حشا بالقُطْن فِرَاشاً، أو جُبَّة، فوجهان؛ لأنَّ الاسم باق، لكنه يشعر بقصد الصرف عن الوصية، والأظهر أنه رجوعٌ. ومنها: أوصى بدار، فهدمها؛ حتى بطل اسم الدار، فهو رجوعٌ في الأخشاب والنُّقْض، كذا في العَرْصة؛ على أصح الوجهين. والثاني: أن وصيَّته تبقَى في العَرْصة؛ لأن الهدْمَ ورد على الأبنية دون العَرْصة؛ وإن انهدمت، قال صاحب التتمة: في النقض وجهان. أصحهما: بطلانُ الوصية فيه؛ لزوال اسْمِ الدار. والثاني: بقاؤُها؛ لأنه لم يوجَدْ منه فعْلٌ وتصرّف؛ وأما العَرْصة، فتبقى الوصيَّة فيها، وفيه وجه أيضاً، وإن كان الانهدامُ بحَيْث لا يَبْطُلُ اسم الدار، وبقيَتِ الوصيةُ فيما بَقِيَ بحاله، وفي المنفصل وجهان (¬1)، حكاهما صاحب المُعْتَمَدِ. وإذا قلْنا في الانْهِدَامِ: إن الوصيَّة لا تبقَى في النقض، فلو فرض الانهدام بعد الموت وقبل القبول، فطريقان: أحدهما: التخريجُ عَلَى أقوال المِلْكِ. وأصحهما: القطْع بأنه للموصَى له؛ لأن الوصية تستقرّ بالموت، وكان اسم الدار باقياً يَوْمَئِذٍ. ومنها: أوصَى بعَرْصَةٍ، فزرعها, لم يكن رجوعاً؛ كلُبْس الثوب، ولو بنَى فيها، أو غَرَسَ، فوجهان: أحدهما: أن الجوابَ كذَلِك. وأصحهما: أنه رجوع؛ لأنه للدوام؛ فيُشْعِر بأنه قصد إِبقائها لنفسه، وأبطل قصْده الأول، فإن لم نجعله رجوعاً، فموضع البناء والعْرَاسِ كالبياض المتخلل؛ حتى يأخذه الموصى له، إن زال البناء والغراس يوماً، أو تبطل الوصية فيه، ويصير تبعاً للبناء؟ فيه وجهان، ومطلق عمارة الدار ليس برجوع، لكن لو بَطَلَ الاسم؛ بأن جعلها خاناً، فهو رجوع، وإن لم يبطُلْ؛ ولكنْ أحدث فيها بناءً وباباً من عنده، فعلى الوجهين فيما لو بنَى ¬
في الأرض، فإن لم نجعله رجوعاً، فالبناء الجديدُ لا يدْخُل في الوصية، وفيه وجهٌ أنه لا يدخل؛ لأنه صار من الدار. ومنها لو أوصَى بثوب، فقَطَعَهُ قميصاً، ففيه وجهان: أظهرهما: أنه رجوعٌ، ولا يخفى مأخذهما مما تقدَّم، ولو غسله لم يكن رجوعاً؛ كتعليم العبد، ولو صبغه، فالأظهر، وهو المذكور في "التهذيب": أنه رجوع، وفيه وجهٌ آخر؛ كما في عمارة الدار؛ ولو قصَّره، فإن قلنا القصارة أثرًا محضاً، فهو كالغسل، وإلاَّ فكالصبغ، ولو أوصَى بثوب مقطوع، فخاطه، لم يكن رجوعاً، وعن أبي حنيفة خلافُهُ. واتخاذ الباب من الخَشَب الموصَى به كاتخاذ القميص من الثوب. ومنْها: لو أوصَى بشيء، ونقله من بلد الموصَى له إلَى مكان بعيد، ففيه وجهان؛ لأنه لو كان على قصد صرْفه إِليه، لَمَا بعَّده عنه، والأظهر المَنْع؛ ويشبه أن يكون الخلافُ مخصوصاً بما إذا أشْعَرَ التبعيد بتغيُّر القَصْد. فأما إذا أوصَى صحيح البدن بدابة، ثم أَركبها رجلاً أو حمل عليها إلَى بلد بعيد، فلا إشْعَار (¬1). ومنْها: لو أوصَى بصاعِ حنطة بعينه، ثم خلطها بحنطة أخرَى فَهُوَ رجوع؛ لأنه أخرَجَهُ عن مكان التسليم، وذكر أبو الفرج الزاز أَن الشيخ أبا زيد فَصَّل؛ فقال: إن خلطها بأجودَ منها، فهو رجوع، وإن خلطها بمثلها، أَو بأردأ منها, لم يكن رجوعاً؛ لأنه إذا خلطه بالأجود، حدثت فيه زيادة بجودة الخلط، والوصية لم تتناولْها، وإن خلط بالمثل، أو بالأردأ، فلا زيادة، والأول هو المشْهور والمَنْصُوص. وإن أوصَى بصاع من صُبْرة، ثم خلطها بغَيْرها، نُظِر: إن كان الخلْطُ بالمثل، لم يكن رجوعاً؛ لأن الموصَى به هاهنا مخلوطٌ بغيره، شائعٌ فيه، فلا تضر زيادة الخلط، ولا يختلف فيه الغرض، وإن كان الخلط بالأجود، فهو رجوعٌ؛ لأن الزيادة الحاصلة لم تتناولها الوصية، وقد ذكرنا في البناء المستَحْدَثِ في الدار وجْهاً؛ أنه يدخل في الوصية؛ لأنه صار من الدار، وذلك الوجه هاهنا أقرب منه في البناء، وإن لم يذكروه، وإنْ كان الخلط بالأردأ فوجهان: أحدهما: أنه رجوع لتغير الموصى به عما كان. كما لَوْ خَلَطَ بالأجود. وأظهرهما: المنع؛ لأن التغير فيه بالنقصان، فأشبه ما لو عيب الموصَى به، أو ¬
الباب الرابع في الوصاية
أتلف بعْضه، ولو اختلطت بالأجود بِنَفْسها، فعلى الخلافِ السابِقِ في نظائره، وإذا أبقينا الوصية، فالزيادةُ الحاصلة بالجَوْدة غير متميزة؛ فتدخل في الوصية. ولو أوصَى بصاع من حنطة، ولم يعين الصاع، ولا وصف الحنطة، فلا أثر للخلْط؛ ويعطيه الوارث مما شَاءَ من حنطة التركة، ولو وصفها، وقال: حنطتي الفلانية، فالوصْفَ مَرْعيٌّ، فإن بَطَلَ بالخَلْط، بطَلَتِ الوصية، وإن قال: منْ مالي حَصَّلَه الوارث. فرعٌ: لو أوصى له بمائة معينة، ثم بمائة معينة، فله المائتان، وإن أطلق إحداهما، حملت المطْلَقة على المعينة، وكذا لو أطلقها, لم يكن له إلا مائةٌ؛ ولو أوصَى بخمسين، ثم بمائة، فله المائة، ولو أوصَى بمائة، ثم بخمسين، فوجهان: أحدهما: أن له مائةً وخمسِينَ (¬1). وأشبههما: أنه لا يدفع إلَيْه إلا خمسون؛ لأنه يحتمل أنه قصد تقليل حقه، والرجوعُ عن بعض الوصية الأولَى، فلا يُعطَى إلاَّ اليقينَ. البَابُ الرَّابعُ في الوِصَايَةِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالنَّظَرُ في أَرْكَانِهَا وَأَحْكَامِهَا: (أَما الأَرْكَانُ) فَأرْبَعَةٌ: الأَوَّلُ الوَصِيُّ وَشَرَاِئطُهُ خَمْسَةُ التَّكْلِيفُ (م ح)، وَكَمَالُ الحُريَّةِ، وَالإسْلاَمُ (ح)، وَالعَدَالَةُ (ح) وَكفَايَةُ التَّصَرُّفِ، وَفِي جَوَازِ التَّفْوِيض إِلَى الأَعْمَى وَجْهَانِ، وَيجُوزُ التَّفويضِ إلى النِّسَاءِ، وَالأُمُّ أَوْلَى من يُنَصَّبُ قَيِّماً، فَإِنْ لَمْ تُنَصَّبْ فَلاَ وِلاَيَةَ لَهَا، وَلَوْ أَوْصَى إلى مُسْتَوْلَدَتِهِ أَوْ مُدَبَّرِهِ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ، مَنْشَؤُهُ أَنَّ المُرَاعى حَالَةُ المَوتِ أَوْ حَالَةُ العَقْدِ، وَلَوْ أوْصَى الكافِرُ إلى كَافِرٍ فَي أَوْلاَدِهِ الكُفَّارِ جَازَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إِذا عرفت في أَول الكتاب: أن هذا الباب معقودٌ للوِصَايَةِ بأركَانِهَا، وأحكامها، وهي مستحبةٌ في ردِّ الظالم؛ وقضاء الديون، وتنفيذ الوصايا، وأمور الأَطفال (¬2): [رُوِي أن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أَوْصَى؛ فَكَتَبَ أنَّ وَصِيَّتِي إِلَى اللهِ تَعَالَى، وإلَى الزُّبَيرِ وابنه عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما] (¬3) - فإِن لم يوصِ إلى أحد، نصب القاضي من يقُومُ بها. ¬
وأغْرَبَ الأستاذ أبو منصورٍ، فحَكَى عن بعض الأصحاب: أنه: إذا كان في الورثَةِ رشيدٌ، قام بهذه الأمور، وإن لم ينصبه القاضي، ولا شَكَّ أن في هذا العَقْد شخصاً، يُوصَى إليه، وشخصاً يُوصِي، وشيئاً يُوصَى به وصيغة يوصَى بها، وهذه الأمور هي التي سماها أركاناً، الأول الوصي وله شروط. أحدها: التكليفُ فالصبي والمجنون، لا يوصَى إليهما؛ لأنهما لا يملكان التصرف لأنفسهما؛ فكيف يتصرفَّان لغيرهما؟ ولأن في الوصاية معنى الأمانة، ومعنى الوكالة؛ من حيث إِنَّهَا تعتمد تفويضاً من الغير، ومعنى الولاية من حيثُ إِن الموصِي يتصرَّف لعاجز، وهما لا يتأهلان لهذه المعاني. والثاني: الحرية؛ فلا تصحُّ الوصية إلى العبد؛ لأنه لا يتصرَّف في مال ابنه فلا يصلح وصيّاً لغيره؛ كالمجنون، ولأنها تستدعِي فراغاً، وهو مشغولٌ بخدمة السيد. والمكاتَبُ ومَن بعضُه حُرٌّ -كالقن، وكذا المدبَّر، وأمُّ الولد، نَعَم، في مستولدته ومدبَّره خلافٌ مبنيٌّ على أن صفات الوصيِّ تعتبر حَالَةَ الوصايَةِ، أم حالة المَوْت، وسيأتي -إن شاء الله تعالى-. وقال مالك وأحمد: تصحُّ الوصية إلى العبد. وقال أبو حنيفة: لا يُوصِي إلَى عبد غيره؛ ويجوز أن يُوصِيَ إلَى عبد نفسه، إذا لم يكن في ورثته رشيد، وجَوَّز الوصاية إلى المُكَاتَبِ. والثالث: الإِسلام؛ فلا يجوزُ أن يوصِيَ المسلم إلى الذمِّيِّ، وفي وصاية الذمِّيِّ إلى الذِّمِّيِّ وجهان. أحدهما: المنعُ؛ كما لا يجوز شهادةُ الكافِرِ للمسلم ولا للكافر. وأظهرهما: الجوازُ، وبه قال أبو حنيفة؛ كما يجوز أن يكون وَليّاً لأولاده، وهذا ما ذَكَرَهُ في الكتاب. ويجوز وصاية الذمِّيِّ إلى المسلم، كما يجوز شهادة المسلم على الذمِّيِّ، وقد تثبت له الولايةُ على الذمِّيِّ؛ ألا تَرَى أنَّ الإمام يلي تزويجَ الذِّمِّيَّات؟ والرابع: العدالةُ؛ فلا تجوز الوصايةُ إلى الفاسق؛ لما فيها من معنى الأمانة، والولاية، وبهذا قال أحمد -رحمه الله- في إحدى الروايتين. والثانية: يجوزُ ويُضَمُّ إليه أمينٌ، وعند أبي حنيفة -رحمه الله- تصحُّ الوصاية إليه، ولو تصرَّف نفَذَ، ولكنَّ القاضي لا يقرُّه عليها، وفرق الشافعيُّ -رضي الله عنه- بين الوصاية والوكالة؛ حيثُ يجوز توكيل الفاسق؛ بأن الوصاية في حق الغير، وفي مثله في الوكالة تشترط العدالة أيضاً؛ حتَّى لا يُوَكِّلَ الأبُ فاسقاً في مال ولده، ولا يودِعَ
المودع إِلاَّ عند أمين، وإن كان يجوزُ أن يُوكِّل الفاسق في ماله ويودِعَهُ إِياه. والخامس: كفايةُ التصرُّف؛ فلا يجوزُ الوصاية إلَى من يَعْجَزُ عن التصرُّف، ولا يهتدي إليه لسفه، أو هرم، أو غيرهما، هذا هو الظاهُر، وقد تعرَّض له الحنَّاطِيُّ، فقال: لا يجُوزُ الوصاية إلى محْجور. والقاضي الرويانيُّ، فقال: لا يجوزُ أن يكون الوصيُّ مغفَّلاً، وربما دَلَّ كلامُ الأصحاب عَلَى أن هذا الشرطَ غير مرعيِّ، ويوافقه ظاهرُ قولهم: أنَّ شروط الوصيِّ خمسة؛ الإسلام، والعقْل، والبلوغ، والحرَّية، والعدَالة. وفي جواز التفويضِ للأعمى وجهان وجه المنع: أنَّه لا يقدر على البَيْع والشِّرَاء لنَفْسِه، فلا يحسن أن يفوَّض إليه أمر غيره. والأظهرُ: الجواز، وبه قال أبو حنيفة، ويوكّل فيما لا يتمكَّن من مباشرته، فعلى الأول: تصير الشروط ستةٌ. وزاد الرويانيُّ وآخرونَ شرطاً سابعاً؛ وهو ألاَّ يكون الوصيُّ عدوّاً للطفل الذي يفوض إليه أمره. وحصروا الشروطَ جميعاً بلفظ مختصرٍ، فقالوا: ينبغي أن يكون الوصيُّ بحيثُ تُقْبَلُ شهادته على الطِّفْل (¬1)، وكلُّ ما اعتبر من الشروط، ففي وقتِ اعتباره ثلاثةُ أوجه: أظهرهما: وبه قال ابن سُرَيْج، وأبو إسحاق -رحمهما الله-: يعتبر حالة المَوْت؛ كما أن الاعْتبار في الوصيَّة بحالة الموت، وكما أنَّ الشاهد تعتبرُ صفاتُه عند الأداء. والثاني: أنه يُعْتَبَرُ عند الوصاية والمَوْت جميعاً، فتلك حالةُ التفويض، وهذه حالةُ الاشتغال بالتصرُّف. والثالث: أنه يُعتَبَرُ في الحالتين، وفيما بينهما؛ لاحْتِمَالِ المَوْتِ والحَاجَة إلى التصرُّف. ¬
ولا يُشْتَرَطُ في الوصي الذكورةُ، بل يجوز التفويضُ إلى النساء، رُوِيَ أن عُمَرَ -رضيَ الله عنهُ- أوصَى إلَى حَفْصَةَ -رضي الله عنها- (¬1). فإذا حصلت الشروط في أم الأطفال، فهي أولَى من ينصب قَيِّماً، ولكن لا ولاية لها بالأمومة، كما بيناه في "الحجر" وعن أبي حنيفة: أنَّ لها ولايةَ الحِفْظ والإنْفَاق، دون البيع والشِّراء. وذكر الحنَّاطيُّ -رحمه الله- وجهاً أنه لا تجوز الوصَايَةُ إلَيْها، إذا أفرَّعْنَا على ظاهر المذهب، وهو أنَّها لا تلي، وهذا غير بعيدٍ من جهة المعنَى؛ نظراً إلَى أن في الوصاية ولايةً، وحقُّهُ الطَّردُ في جميع النساء. واحتجَّ بعضهم على أنَّ للمرأة ولايةَ المَال في الجملة؛ بأن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال لهنْدٍ: "خُذِي مَا يَكفِيكِ وَوَلَدَكِ بالْمَعْرُوفِ". وإذا وقفت عَلَى شرح الفصْل، أَعْلَمْتَ قوله في الكتاب "وكمال الحرية" بالحاء والميم والألف، وفي لفظ "الكمال" إِشارةٌ إِلى أن المكاتب، ومَنْ بعضُه حرٌّ، لا يُجْعَلُ وصيّاً. وقوله: "والعدالة" بالحاء والألف. وقوله: "ويجوز التفويض إلى النساء" بالواو ولفظ "القيِّم" في منصوب القاضي أشهر إلاَّ أنَّه بالحقيقةِ يشمل الوصيَّ، ومنصوب القاضي وقوله: "أولى من ينصب قيماً" يفيد أولوية الوصاية، إليها، ونصب القاضي إِيَّاها. وقوله: "فإن لم تنصب فلاَ ولايةَ لها" معلم بالواو والحاء؛ لوجْهٍ حكيناه عن الإصطخريِّ في "كتاب الحجر"، والمسألة مُكَرَّرَةٌ، وقد ذكَرَهَا هناك (¬2)، وإذا عاد، فلو لمَ يذكر "فإن لم ينصبِّ"، وقال: "لا ولايةَ لها", لحصل الغرض وقوله: "ولو أوصَى الكافر إلى كافر في أولاده الكفار جاز" مُعْلَمٌ بالواو، ولما سبق، وشرَطُوا على وجه الجواز أن يكون عدلاً في دينه، وقصد بقوله: "في أولاده الكفار" أنهم لو كانوا مسلمينَ، لم يجُزْ أن يلي المفوَّض إليه أمرهم، لكن لو لم يتعرَّض له، لم يَضرَّ؛ لأنه ذكر منْ بعْد أنَّه يشترط في الموصىَ أن تكون له ولاية على الأطفال، ولا ولاية للكافر على أولاده المسلمين. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ كَانَ الوَصِيُّ أَمِيناً فَطَرَأَ الفِسْق انْعَزَلَ، فَإِنْ عَادَ أَمِيناً لَمْ يَعُدْ ¬
وَصِيّاً، وَكذَلِكَ القَاضِي يَنْعَزِلُ ثُمَّ لاَ يَعُودُ بالتَّوْبَةِ، وَالأَبُ يَعُودُ وليّاً بِالتَّوْبَةِ، وَلاَ تَعُودُ وِلاَيَةُ القَاضِي وَالوَصِيِّ بِالإفاقَةِ بَعْدَ الجُنُونِ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ، وَالإمَامُ لاَ ينْعَزِلُ بالفِسْقِ لِأَجْلِ المَصْلَحَةِ الكُلِّيَّةِ، وَلَكِنْ لَوْ أَمْكَنَ اَلاسْتِبْدَالُ بِهِ مِنْ غَيْرِ فِتْنَةٍ فعَلَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: غرض الفصْلِ الكلامُ فيما إذا تغيَّر حال الوَصِيِّ، وذلك: إمَّا أن يكون قبل موت الموصِي، أو بعدَه، إن كان قبله: فيبني على ما ذكرنا في أنَّ الشُروطَ في أيَّ وقتٍ تُعْتَبَرُ، وإن تغير بعد موته، نظر إن فسق: إما بتعدِّ في المال، أو بسبب آخرَ، بطلت ولايته. وفي "المجرد" للحنَّاطِيِّ وجهٌ أنها لا تبْطُلُ؛ حتى يعزله الحاكم، والمشهور الأول؛ وفي معناه قَيِّمُ الحاكم. وفي بطلانِ ولاية القاضِي بالفِسْق وجهان. أصحُّهما: وهو المذكورُ في الكتاب: أنها تبطُلُ أيضاً؛ لزوالِ الشَّرْط. والثاني: لا تبطُلُ، كالإمام الأعظم، والأب، والجَدِّ، إذا فسقا، انتزع الحاكم مال الطفل منهما, ولا تبطل ولايةُ الإمامِ الأعظم بالفسْق؛ لتعلُّق المصالح الكلية بولايته، بل تجوز توليةُ الفاسق ابتداءً، إذا دعت إِليهاَ ضرورةٌ، نَعَمْ، لو أمكن الاستبدالُ به، إذا فسق من غير فتنة، استبدل. وفيه وجه: أنها تبطُلُ أيضاً، وهذا ما أورده أقْضَى القُضَاةَ [الماوَرْدِيُّ] في الأحكام السلطانية (¬1). ولو فرضت توبة، وصلاح حال، بعد الفِسْق، هل تعود الولاية؟ أما الوصيّ [والقيم]، فلا تعودُ ولايتهما [والأب والجد تعود ولايتهما] (¬2). وفي أمالي الشيخ أبي الفرج وجهٌ غريبٌ: أنها تعودُ؛ كالأب، والجَدِّ، إذا تابا بعد الفسْق، والمذهب الفرق؛. لأن ولايتهما شرعية، وولاية القاضي والقيِّم مستفادةٌ من التولية والتفويض، فإذا ارتفعتْ لم تعد، إلا بتفويض جديدٍ، والقاضي إذا عزلناه بالفسْقِ ¬
كالوصي، هاذا كان الوصيُّ قد أتلف مالاً، فلا يبرأ عن ضمانه؛ حتَّى يدفعه إِلى الحاكم، ثم يردَّه الحاكم عليه، إن ولاه، وفي مثله للأبِ أن يقبض الضمانَ من نفْسِهِ لولده، وليس من التعدِّي أكْلُ الأب والوصيِّ مالَ الطفَلِ للضَّرورة، لكن إذا وجب الضمانُ، فطَرِيق البراءة ما ذكَرْنا، وتصرفات الوصيِّ بعد ما انعزل بالفسْقِ مردودٌ. قال القَفَّالُ: لكن رد الغصوب، والعواري والودائع وقضاء الديون من جنسها في التركة -لا ينقض, لأن أخذ المستحقِّ فيها كاف. وإن جُنَّ الوصيُّ أو أُغْمِيَ عليه، أقام الحاكمُ غيرهُ مُقَامَهُ، فإن أفاق، فَوَجْهَان: أحدهما: أنه على ولايته، كالأب والجَدِّ، والإمام الأعظم، إِذا أَفاقوا. وأظهرهما: المَنْع؛ لأنه يلي بالتفويضِ كالتوكيل، بخلاف الأب والجد بخلافِ الإمام للمصْلَحَة الكلِّيَّة. ويجري الوجْهَان في القاضي، إِذا أفاق وإذا أفاق الإمام الأعظم بَعْد ما وُلِّيَ غيره، فالولاية للثاني إلاَّ أن تثُورَ فتنَةٌ، فهي للأول، قاله في "التهذيب"، وإذا اختلَّت كفاية الوصيَّ؛ بأن ضعُفَ عن الكتابة، والحساب، أو ساء تدبيرُهُ؛ لِكِبرٍ، أو مرضٍ، فيضم القاضي إِليه من يعينه ويُرْشِدُه، ولو عوض ذلك لقيِّم القاضي عزله؛ لأنه الذي نصبه، فيأتي بخير منه، أو مثلهُ. ومنصوب الأب يُحْفَظُ ما أمكن. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِي: المُوصِي وَهُوَ كُلُّ مَنْ لَهُ وِلاَيَةٌ عَلَى الأَطفَالِ شرْعاً كَالأَبِ وَالجَدِّ، أَمَّا الوَصِيّ فَلَيْسَ لَهُ إِلايصَاءُ إِلاَّ إِذَا أَذِنَ لَهُ الوَليُّ في الإيصَاءِ فَلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَصَحِّ القَوْلَيْنِ، كَمَا إِذَا اشتَرَطَ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهُ وَصِيّاً بَعْدَ البُلُوغِ إِذْ يَتَحَوَّلُ الوِصَايةُ إِلَيهِ، وَلَوْ أَوْصَى إلَى رَجُلَيْنِ وَشَرَطَ اسْتِقْلاَلَ أَحَدِهِمَا عِنْدَ مَوْتِ الثَّانِي، صَحَّ شَرْطُهُ، وَلاَ يَجُوزُ نَصْبُ الوَصِيِّ عَلَى الأَولاَدِ البَالِغَينَ، نَعَمْ يُنَصَّبُ وَصِيّاً في قَضَاءِ الدُّيُونِ وَتَنفِيذِ الوَصايَا، وَلاَ يجُوزُ نَصْبُ الوَصِيِّ في حَياةِ الجَدِّ فَإنَّهُ وَليٌّ شَرْعَاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الرُّكْنُ الثاني: الموصِي. فإن كانت الوصايةُ في قضاء الدُّيُون، وتنفيذِ الوَصَايا فتصحُّ من كل حرٍّ مكلَّف. وأما في أمور الأطفال، فيُشْتَرَطُ مع ذلك أنْ يكون للموصِي ولايةً على الأطفالِ ابتداءً من الشرع، لا بتفويضٍ (¬1)، وشرطٍ، وفيه مسائل: ¬
إحداها: في أن الوصي، هَلْ يوصي؟ وفيه صور: إحداها: ليس للوصي في الوصَايةِ المطْلَقة: أنْ يُوصِيَ إلَى غيره، وبه قال أحمد -رحمه الله-. وقال أبو حنيفة، ومالك -رحمهما الله-: إن له أن يُوصِيَ. لنَا: أنَّ الوليَّ لم يَرْضَ بالثاني، وأيضاً: فإنه يتصرَّف بالتولية والتفْوِيضِ؛ فلا يملك التفويض إلَى غيره؛ كالوكيل. الثانية: لو قال: أوصيتُ إلَيْكَ، فإذا متَّ، ففلانٌ وَصِيِّ، أو فقد أوصيتُ إليه، أو قال: أوصيتُ إلَيْك، إلى أن يبلغ ابْنِي فلانٌ، أو يَقْدَمَ من سفره، فإذا بلغ، وقَدِمَ، فهو الوصيُّ. أو قال: أوصيتُ إليكَ إلَى سنه، فإذا مَضَتْ، فوصيِّ فلانٌ، جاز؛ لأنَّ المُوصِيَ هو الَّذِي أوصَى إليهما، ورضيهما، إلاَّ أن الوصاية إلى الثاني مشروطةٌ بشرط. وقد رُوِيَ أن فاطمة بنْتَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضي عنهما- أوصَتْ في وقفها إلى عَلِيٍّ عليه السلام فإن حدَّث به حادث، فإلى ابنيها -رضي الله عنهما (¬1) -. وأيضاً فإن الوصايةَ قريب من التأمير، ومن المشْهورِ أن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أمر زيداً -رضي الله عنه- وقال: "إنْ أصِيبَ، فَجَعْفَر، فَإِنْ أُصِيبَ، فَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ" (¬2) هذا ظاهرُ المذْهَبِ، ويحتمل الوصيةُ التعليقَ، كما تحتمل الجهالات، والأخطار. وحكى أبو عبد الله الحنَّاطِيُّ، وآخرون فيها خلافاً أحداً من الخلاف في تعليق الوكالة. وبالمنْعِ أجاب القاضي الرويانيُّ؛ فقال: لو قال: إذا متُّ، فقد أوصَيْتُ إليك لا يجوز بخلافِ قوله: أوصيتُ إليك، إذا مت، ولو قال: أوصيتُ إليك. فإذا حَدَثَ بك حدَثُ الموت، فقد أوصيت إلَى من أوصَيتَ إليه، فوصيك وصيي روى المزني [عن نصه] (¬3) المنع وحَكَى عن اختلاف العراقيين قولاً آخر: أن الوصاية صحيحةٌ، وللأصحابِ في هذه الصورةِ ثلاثةُ طرقٍ؛ أشهرها أنَّ فيها قولَيْنِ: أحدهما: الصحة؛ لأَنَّ الوصاية إِلى الأَول والثاني صادرةٌ من الموصِي، فهي كالصورة السابقة. وأظهرهما: على ما ذكره "صاحب التهذيب" والشيخ أبو الفرج وغيرهما: المنع؛ لأن الموصَى إليه مجهولٌ هاهنا. والطريق الثاني: القطْعُ بالمنْع، وحمل القول الآخر عَلَى ما إذا أوصَى وأَذِنَ ¬
للوصي في أنْ يوصِيَ إلَى مَنْ يرى، وهكذا وجدت التصوير في اختلاف العراقيين، وحكى أبو الفرج هذه الطريقة عن القَفَّال. والثالث: في بعض الشروح أنَّ منهم من قَطَعَ بالجواز، وغَلَّطَ المُزَنِيَّ. الثالثة: أوصَى إلى إنْسان، وأذن له في الوصاية إلَى غيره، فينظَرُ: إنْ لم يعيّن، بل قال: أوص بتَركَتِي إلَى من شئت، فأوصَى بها إلَى رجلٍ، فطريقان: أصحهما (¬1): أنَّ في صحة الوصاية قولَيْن: أحدهما: المنع، وهو ظاهر قوله في "المختصر" لأنَّ إِذنه قد بَطَلَ بالموت، فلا يجوز أنْ ينصب عليه نائب حَيْثُ لا إِذْنَ، كما لو وَكَّلَ وكيلاً، وأَذِنَ له في التوكيل، فعزله، ثمَ وكَّلَ الوكيلَ عنه، لا يجوز. وأصحُّهما: عند صاحب الكتاب: الصِّحَة، وهو اختيار أبي إسحاق والقاضي [أبي الطيب وابن الصباغ -رحمهم الله- ووجَّهه أن للأب أن يوصي، فله أن يستنيب] (¬2) في الوصاية، كما في الوكالة، وأيضاً: فإنَّ نظره للأطفال بَعْد الموت متَّبَعٌ؛ بدليلِ اتباع شرطه، فيما إذا أوصَى إلى رجلٍ إلَى أن يبلغ ابنه، وفي نظائره، وكذا لو أوصَى إلى رجلَيْن، وشرطُ استقلال أحدهما، إذا مات الثاني يتبع شرطه، وهذا القولُ يوافق مذهب أبي حنيفة ومالك. والطريق الثاني: القطْعُ بالصحَّة (¬3)، وحمل ما في "المختصر" على أنه قصد الردَّ على أبي حنيفة؛ حين قال: لو أوصى الوصي في أمر نفسه، كان وصيته وصية للموصي، فقال: لا يكون كذلك؛ حتى يتعرَّض لتركة الموصِي، وأمر أطفاله، وإِنْ عين، فقال: أوصي بتركتي إلى فلانٍ، فمنهم: مَنْ طرد القولَيْن، ومنهم: من قطع بالصحَّة؛ لأنَّه قطَع نظَرَ الوصي واجتهاده، فصار كما لو قال: أوصيتْ بعده إِلَى فلان. فَرْعٌ: لو أَطلق، فقال: أوص إِلى مَنْ شئت، أو إِلى فلان، ولم يضفْ إلى نفسه، فتحمل على الوصاية عنه؛ حتى يجيء فيه الخلافُ، ويقطع بأنَّه لا يوصِي عنه وحكى "صاحبُ التَّهذيبِ" -رحمه الله- فيه خلافاً للأصحاب، وقال: الأصحُّ الثاني. المسألة الثانية: لا يجوزُ نصْبُ الوصيَّ على الأولاد البالغين؛ لأنَّه لا يَلِي ¬
أمرهم (¬1)، نعَمْ: له أنْ ينصب وصيّاً في قضاء الديون، وتنفيذ الوصايا، فإذا نصب وصيّاً لذلك، لم يتمكَّن من إِلزام الورثة تسليمَ التركة؛ ليباع في الدَّيْن، بل لهم الإمساكُ وقضاءُ الدينِ منْ مالهم، لكن لو امتنعوا من التسليم والقضاءِ من عندهم، ألْزَمَهُمْ أحدَ الأمرَيْنِ (¬2)؛ تبرئةً لذمة الموصِيَ. هذا إذا أطلق الوصايةَ بقضاء الدَّيْن، فإنْ قال: ادفع هذا العبْدَ إليه؛ عوضاً عن دَيْنه، فينبغي ألا يكون للورثة إمساكُه؛ لأنَّ في أعيان الأموال أغراضاً، ولذلك قيل: لو أوصى بأنْ يُبَاع عين ماله من فلان، نفدت الوصيةُ، ولو قال: بعه واقض دَيْنه من ثمنه، فيجوز ألا يكون لهم الإمساك أيضاً؛ لأنه قد يكون أطيب (¬3) وأبعد عن الشبهات، ولا ¬
يجوز نصب الوصيِّ في حياة الجَدِّ؛ فإنَّ الجد بدله شرعاً، فليس له نقل الولاية عنه؛ كولاية التزويج. وقال أبو حنيفةَ: يجوز، وبه قال بَعْضُ أصحابنا: لأنه أوْلَى من الجَدِّ, فكذلك نائبه، وهذا في أمر الأَطفال، فأمَّا قضاءُ الديون، وتنفيذ الوصايا، فله نصب الوصي، ويكون الوصيَّ أولَى من الجد، ولو لم ينصب وصيّاً، فأبوه أولَى بقضاء الدين، وأمر الأَطفال، والحاكم أولَى بتنفيذ الوصايا، وكذلك حكاه "صاحب التهذيب" وغيره. المسألة الثالثة: ليس للأخِ والعمِّ، وغير الأب والجد الوصايةُ في أمر أطفال الورثةِ؛ لأنهم لا يلون أمرهم، فكيف ينيبون فيه، وهل للأمِّ الوصاية ينبني على أنَّها، هلْ تلي، فعَلَى قول الإصطخريِّ لها الوصايَةُ. وأمَّا لفظُ الكتاب، فقوله: "وهو كلُّ مَنْ له ولايةٌ على الأطفال شَرْعاً" المراد منه اعتبار هذا الشرْطِ في الوصاية في أمر الأطفال، لا في مطلق الوصاية؛ كما سبق، ثم الحكْمُ غيرُ مَنُوطٍ بخصوص الطفوليَّة، بل الولدُ المجنونُ كالصغير في أنَّه يجوزُ الوصاية في أمره والمُعْتَبَر أن يكونَ له ولايةٌ على الذي يوصي في حقِّه، وقوله من بعد "على الأولاد البالغين" يعني العقلاء ومواضعُ العلاماتِ لا تَخْفَى بعد ما تقدَّم، ومن جملتها قوله: "على أصحِّ القولَيْن" للطريقة النافية للخِلاَفِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثُ: المُوصَى فِيهِ وَهُوَ التَّصَرُّفَاتُ المَالِيَّةُ المُبَاحَةُ، وَلاَ يَجُوزُ الإيصَاءُ في تَزوِيجِ الأَولاَدِ إِذْ لاَ غِبْطَةَ فِيهِ، وَلاَ في بِنَاءِ البِيعَةِ، وَكَتَبَةِ التَّورَاةِ فَإِنَّهَا مَعْصِيةٌ. قَالَ الرافِعِيُّ: قوله في ضبطِ الموصَى فيه: "وهو التصرفات المالية المباحة" يدخل فيه الوصاية بقَضَاء الديون، وتنفيذ الوصايا، وأمور الأطفال، وفيه تعرُّض لقَيْدَيْنِ: أحدُهما: كونُ التصرُّف ماليّاً، فلا تجوزُ الوصاية في تزويج الأطفال؛ خلافاً لمالكٍ وأحمد -رحمهما الله- لأنَّ الوصيَّ لا يتغير بدخول الدنيء في نسبهم، فالغِبْطةُ والاحتياطُ تفويضُهُ إلَى من يتعيَّن أو إلَى من يختصُّ بقوة النظر والاجتهاد، وهو السلطَانُ، وأيضاً: فإنَّهم، إنْ كانوا بالغين لم تجز الوصاية في حقهم، وإنْ كانوا صغاراً، فغير الأبِ والجدِّ لا يزوِّج الصغير والصِّغِيرة. والثاني: كونه مباحاً، فلو أوصَى إلى رجل في بناءِ بيعة أو في كتابة التوراة، فهذا في الحقيقة وصيةٌ ووصاية، وهما باطلتان، وذكر طائفةٌ، منهم الإمام: أن الوصاية لا تَجْرِي في رد الغصوب والودائع، ولا في الوصية بعين لمعين؛ لأنَّها مستحقة بأعيانها، فيأخذها أصحابها، وإنَّما يوصي فيما يحتاج إلَى نظرٍ، واجتهاد كالوصية للفقراء، وهذا
موضعُ التوقُّف نقلاً ومعنًى، أما النقل؛ فلِمَا سيأتي في بقية الباب، وفي "كتاب الوديعة"؛ حيث قال "صاحب الكتاب": ولو أوصى إلَى فاسق، ضمن، وأما المعنَى؛ فلأنَّه قد يخاف خيانة الوارث (¬1)، فيحتاج إلى الاستعانة بأمين، وبالله العصمة والتوفيق. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرَّابعُ: الصِّيغَةُ وهِيَ أن يَقُولَ: أَوصيتُ إِلَيْكَ لِتَتَصَرَّفَ في مَالِ الأَطْفَالِ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ التَّصَرُّف لَمْ يَنْزِلْ مُطْلَقِ الإيصَاءِ إلاَّ عَلَى مُجَرَّدِ الحِفْظِ في أَحَدَ الوَجْهَيْنِ، وَمَهْمَا اعْتَقَلَ لِسَانُهُ، فَقُرِئَ عَلَيْهِ كِتَابُ الوَصِيَّةِ، فَأشَارَ بِرَأسهِ كَفَى (ح). قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا بُدَّ في الوصاية مِنَ الإِيجاب؛ بأنْ يقول: أوصيت إليك وفوَّضْتُ، أو أقمتُكَ مقامِي وما أشبه ذلك، ويجوز فيها التأقيتُ، كما سبق من جواز التعليقِ، وذلك نحو أن يقول: أوصيتُ إليك إلى سنةٍ أو إلَى أن يبلِغ ابني فلان، أو يوصي إلَى زوجته إلَى أنْ تنكح، وأما القبولُ: فالظاهر اشتراطه، وأشار بعضهم إِلى خلافٍ فيه، وحَكَى، الأستاذ أبو منصور وجهين؛ في أنَّ عمل الوصيِّ، هل يقوم مقام لفْظِ القبول، وكلُّ هذا مأخوذٌ من الوكالة، ولا يشترط وقوعُ القبول في حياة الموصِي، وهلْ يعتد به في حياته وجهان: أظهرهما: ويحْكَى عن، ابنِ سريج -رحمه الله-، لا؛ كما لو أوصَى بمالٍ يُشترط وقوعُ القبول بَعْد الموت. والثاني: نعم، كما لو وَكَّلَهُ بعملٍ يتأخر وقته، يكون القَبُول في الحال والامتثال في المسْتَقْبَلِ، والرد في حياة الموصِي عَلَى هذين الوجهين، فعلى الوجه الأول، لو ردَّ في حياته، وَقِبَلَ بعد موته، جاز، ولو ردَّ بعد الموت، لغت الوصاية. ثم إن فصل الموصِي، فقال: أوصيتُ إليك في قضاء دُيُوني، وتنفيذ وصاياي والتصرُّف في مال أطفالِي، والقيام بمصالحهم، أو ذَكَر بعْضَ هذه الأعمال، فذاك وإن، اقتصر عَلَى قوله: "أُوصيتُ إِليكَ فهو لغو، كما لو قال: وكَّلْتُكَ، ولم يبيِّن ما فيه التوكيل، ولو قال: أوصيت إِليك، أو أقمتك مقامِي في أمر أطفَالِي، ولم يذكر التصرُّف، فوجهان: أحدهما: أنه ليس له إِلاَّ حفظُ أموالهم؛ تنزيلاً على الأقلِّ. ¬
والثاني: أنَّ له الحفْظَ والتصرُّف؛ اعتماداً عَلَى العُرْف. قال صاحب "التتمة": والمذهَبُ هذا، وذكر بدل الوجْه الأوَّل وجهاً: أنَّ الوصاية لا تصِحُّ؛ حتى يبين ما فوضه إِليه، فحصل في المسألة ثلاثةُ أوجهٍ، وقد عرفت بما ذكرنا أنَّ قوله في الكتاب "فإن لم يذكُر التصرُّف ... " إلى آخره، ليس المرادُ منه ما إذا اقتصَرَ عَلَى قوله: "أوصيتُ إليكَ، فلا خلافَ فيه، وإنَّما المرادُ ما إذا قال: أوصيتُ إِليك في أمور أطْفَالِي، ولم يتعرَّض للتصرف، ولو اعتقل لسانه، فأوصى بالإشارة المفهمة، أو قُرِئَ عليه كتابُ الوصية، فأشار برأسه أنْ نَعَمْ، صحَّت؛ لأنَّه بالعجْزِ، صار كالأخْرَسِ، وعن أبي حنيفة: أنَّها لا تصحُّ، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ أَوْصَى إِلَيْهِ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ لَمْ يَتَعَدَّ (ح) مَا رَسَمَهُ لِأنَّهُ مُتَصَرِّفُ بِالإِذْنِ، وَلَوْ أوْصَى إِلَى رَجُلَيْنِ، فَمُطْلَقُهُ مُنَزَّلٌ عَلَى التَّعَاوُنِ؛ حَتَّى لاَ يَسْتَقِلَّ أَحَدُهُمَا بِشَيْءِ إِلاَّ إِذَا صَرَّحَ بِإِثْبَاتِ الاسْتِقْلاَلِ، فَإِنْ لَمْ يَثبُتْ الاسْتِقْلاَلُ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَنْفَرِدِ الثَّانِي حَتَّى يُنَصِّبَ القَاضِي بَدَلاً عَنِ المَيِّتِ فَإِنَّهُ مَا رَضِيَ بِرَأْيٍ وَاحِدٍ، وَلَو أَوْصَى إلى زَيْدٍ ثُمَّ أَوْصَى إلى عَمْرٍو، فَإِنْ قَبِلاَ جَمِيعاً كَانَا شَرِيكَيْنِ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ أَحْدَهُمَا بِالتَّصَرُّفِ، وَإِنْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآخَرِ، انْفَرَدَ بِالتَّصَرُّفِ، وَلَو أَوْصَى إلى زَيْدٍ ثُمَّ قَالَ: ضَمَمْتُ إِلَيْكَ عَمْراً، فَقَبِلَ عَمْرُو دُونَ زَيْدٍ، لَمْ يَكُنْ لِعَمْرٍو الانْفِرَادُ حَتَّى يَضُمَّ القَاضِي إِلَيْهِ أَمِيناً آخر؛ لِأَنَّ لَفْظَ الضَمْ لِلشَّرِكَةِ، وَمَهْمَا اخْتَلَفَ الوَصِيَّانِ فِي تَعْيينِ مَنْ يُصْرَفُ إِلَيْهِ الوَصِيَّةُ مِنَ الفُقَرَاءِ أَوْ في حِفْظِ المَالِ تَوَلَّى القَاضِي الأَمْرَ المُتَنَازَعَ فِيهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يُقَسَّمُ المَالُ بَينَهُمَا إِذَا قَبِلَ القِسْمَةَ مَهْمَا تَنَازَعَا في الحِفْظِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصْلِ مسائلُ: إحداها: إذا أوصَى إليه في بَعْض التصرُّفات، لم يتعداها؛ خلافاً لأبي حنيفة؛ حيثُ قال: إذا أوصَى إليه في شيءٍ مما يُوصَى فيه، صار وصيّاً في جميع ما يُوصَى فيه. لنا: أنَّه متصرِّف بالإذن والتولِيَة فأشبه الوكيل والحاكمُ لا يتصرَّفان في غير ما فوض إليهما، وأيضاً: فالوصيُّ أمينٌ، لا يثبت أمانته في غير المؤتمن فيه؛ كالمودع. الثانية: يجوز أنْ يُوصِيَ إلى اثنين، فصاعداً؛ كما يجوزُ أن يُوكِّلَ اثنين، ويجوز أنَّ يُوصِيَ إلى واحدٍ، وينصب عليه مشرفاً، فلا يتصرَّف الوصيّ إِلاَّ بإِذنه، ثم إِذا أوصَى إلى اثنين، نُظِرَ: إن كانتِ الوصايةُ في ردِّ الودائع، والغُصُوب، والعواري، وتنفيذ الوصية المعيَّنة، وقضاءِ الديون الَّتي تشملُ التَّرِكة عَلَى جنسه، فلكلِّ واحدٍ منهما الانفرادُ به؛ لأنَّ صاحِبَ الحقِّ مستقلٌّ بالأخذ في هذه الصُّورة، فلا يَضُرُّ الانفرادُ هكذا نقل
صاحبُ "التهذيب" وغيره، ولك أن تقول: هذا أحدُ المواضع الَّتي صرَّحوا فيها بجريان الوصاية في ردِّ الغصوب، والودائع، خلافَ منا ذكره تلْكَ الطائفةُ، ثم وقوع المدفوع موقعه وعدَمُ الردِّ والنقص عند إنفراد أحدهما بَيِّنٌ، لكنَّ تجويزَ الانفرادِ لكلِّ واحدٍ منهما ليس ببَيِّنٌ، فإن تصرفهما في هذه الأموال مستفادٌ من الوصاية، فليكنْ بحسب الوصاية، ولتجيء فيه الأحوالُ التي نذْكُرها في سائِرِ التصرُّفات، وستَجِدُ في كلامِ الأصحاب ما هو كالصريح في أنَّ الحكم كما ذكرتُهُ، وإنْ كانتِ، الوصايةُ في تفرِقَهِ الثلث، وأمور الأطفال، والتصرُّف في أموالهم فلها أحوالٌ ثلاثٌ: إحداها: أنْ يثبت الاستقلال لكلِّ واحدٍ، فيقول: أوصيتُ إليكما، أو إلَى كلّ واحدٍ منْكُمَا، أو يقول: كلُّ واحدٍ منكما وصي في كذا: قال: "أبو الفرج الزاز -رحمه الله- أو يقول: أنتما وصياي في كذا، فلكلِّ واحدٍ منهما الانفرادُ بالتصرُّف، وإِذا مَاتَ أحدُهُما أو جُنَّ أو فَسِقَ، أو لم يقبل الوصاية، كان للآخر الانْفرادُ، وإنْ ضَعُفَ نَظَر أحدِهِمَا، فكذلك للآخرِ الانفراد، وللحاكم أن يضم إلى ضعيف النَّظَرَ مَنْ يعينه، كما لو أوصى إلَى واحدٍ، فضعف نَظَرُهُ. الحالة الثانية: أنْ يشترط اجتماعهما على التصرُّفِ، فليس لواحدٍ منهما الانفرادُ، وإنِ انفرَدَ، لم ينفذ البيع والشراء والإعتاق، ويضمن ما أنفق على الأطفال وإنْ مات أحدُهُما، أو فَسَقَ أو جُنَّ، أو غَابَ، أو لم يقبل الوصية نصب الحاكم بَدَلاً عنه، ليصرُّف مع الآخر، وهل له إِثباتُ الاستبداد للآخَرِ؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ كما ينصب القيِّم الواحد، ابتداءً. وأصحُّهما: لا؛ لأنَّه لم يرضَ برأيه وحْده، ولو ماتا معاً، فهل للحاكم نصْبُ واحدٍ، أم لا بُدَّ من اثنين اتِّباعاً لرأيه في التفويض إلَى اثنين، فيه الوجهان: قال إمام الحرمين: وليس المرادُ من اجتماعهما على التصرُّف تلفظهما بِصِيَغِ العقود معاً، بل المرادُ صدورُه عن رأْيهما، ثم لا فَرْقَ بين أنَّ يباشِرَ أحدُهُما، أو غيرهما بِإِذْنِهِمَا. الحالةُ الثالثةُ: أنْ يطلق قوله: أوصيتُ إليكُمَا، ويقتصِرُ عليه، فالحُكْم كما لو قيَّد بالاجتماع، والتعاوُنِ؛ لأنَّه محتمل (¬1)، فينزل عليه؛ أخذاً بالأقلِّ، وبهذا قال مالك وأحمد -رحمهما الله-: وجوز أبو حنيفة لكلِّ واحدٍ منهما الانفرادَ بشراءِ الكَفَن ومواراة الميِّت وقضاء الديون، وتنفيذ الوصايا، وردِّ الودائعِ، والإِنفاق على الصغار، وقَبُول الهبة، لهم والخُصُومة عن الميت، وَمَنع مِنْ شراءِ العقار، وسائر التصرُّفات، وقَاسَ الأصحابُ ما جوَّزه عَلَى ما منعه، وعلَى ما إذا وَكَّلَ اثنَيْن، وأطلق حَيْثُ لا يُفَرَّدُ ¬
أحدهما بشيء من التصرُّفات. وقوله في الكتاب: "فإنْ لم يَثْبُتْ الاستقلال، فمات أحدُهُما، لم ينفردِ الثانِي، حيث ينصب القاضِي بدلاً عن الميت" يوافق الوجه الذاهِب إلَى أنَّه لا يجوزُ إِثبات الاستقلال للثاني، ويمكن إِعلامه بالواو؛ للوجه الآخر. المسألة الثالثَةُ: إذا قال: أوصيتُ إِلَى زيدٍ، ثم قال: أوصيتُ إلَى عمرو، لم يكنْ قوله الثاني عَزْلًا للأولِ، ثم إنْ قَبِلا، فهما شريكان، وليس لأَحدهما الانْفراد بالتصرُّف، وإنْ قَبِلَ أحدُهما دون الآخر، انفرد بالتصرُّف ولو قال للثَّانِي: الَّذي أوصَيْتُ به إلَى فلان، فقد أوصيتُ به إلَيْك، فهو رجوعٌ، وهذا كلُّه كما مَرَّ فيما إذا أوصَى بمالٍ لزيدٍ، ثم أَوصَى به لعَمْرٍو، وفي التَّهذِيبِ: أنَّه ينفردُ كلُّ واحدٍ منْهما، إذا قال: أوصيتُ إلَى زيد، ثم قال: أوصيتُ إلَى عمرو، والاعتمادُ عَلَى الأول، وهو المذكورُ في "التتمة"، ولو أوصى إلى زيد، ثم قال: ضممتُ إليك عمراً، أو قال لعَمْرو: ضمَمْتُكَ إلى زيدٍ (¬1)، فإن قبل عمرو، دُونَ زيدٍ، لم ينفردُ بالتصرُّف، ولكن يضم القاضي إِلَيْه أميناً؛ لأنَّه لم يفرده بالوصاية، بل جعله مضموماً إلَى غيره، وذلك يقتضي الشركةَ، وينبغي أنَّ يجيء في إِثبات الاستقلال له الوجّهَانِ، وإنْ قبل زيدٌ دون عمرو، فالَّذي حكاه المتولِّي وصاحبُ الكتاب في "الوسيط" أنَّه ينفردُ بالتصرُّفِ؛ لأنَّه أفرده بالوصاية إلَيْه، ويشبه أن يُقَالَ: إنْ ضمَّ عمرو إِلَيْه بسلب استقلاله؛ لأنَّ الضمَّ كما يشْعِر بعدم الاكتفاء، فالمضموم يُشْعِر بعدم الاكتفاء بالمضموم إليه، فليصر عمْرو مشرفاً لزيد، وإنْ قَبِلاَ جميعاً، فلفظ "الوسيط" أنَّهما شريكانِ، ويشبه أنَّ يقالَ: زيدٌ وصَّى وعمروٌ مشرفٌ عليه. المسألة الرابعة: إذا أوصَى إلَى شخصين، فاختلفا في التصرُّف، نُظِر: إنْ كانا مستقلَّيْن، وقال كلُّ واحدٍ [منهما] (¬2): أنا أتصرُّف، حكى الشيْخُ أبو حامد -رحمه الله-: أنَّه يقسم بينهما؛ حتَّى يتصرُّف كلُّ واحدٍ منهما في نصفه، فإنْ كان الشيءُ ممَّا لا يَنْقَسِمُ، ترك بينهما؛ حتَّى يتصرفا فيه؛ لأنَّه ليس أحدُهما بأولَى من الآخر. وقال غيره: لا حاصلَ لهذا الخلاف، ومن سبق، نفذ تصرُّفه (¬3) وإنْ لم يكونا مستقلين، أمرهما الحاكم بما يَرَى المصلحةَ فيه، فَإِنِ امتنع أحدُهُما، ضَمَّ القاضي أميناً إلى الآخر، وإن امتنعا، أقام مُقَامَهُما آخْرَيْنِ، ولا ينعزلان بالاختلافِ، بل الآخران نائبان عنهما، وإنِ اختلفا في تعيين من تُصْرَف إليه الوصيَّةُ من الفقراء، عَيَّنَ القاضي من يراه، وإنِ اختلفا في الحفظ، قال الشافعيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: يقسَّم بينهما واختلفوا في موضع النَّصِّ، فَعَنْ أبي إسحاق -رحمه الله-: أنَّه أراد ما إِذا كَانَا مستقلِّيْنِ، فيقسم ¬
ولكلِّ واحدٍ منهما التصرُّف فيما في يده، وفي يد صاحبه، أَما إِذا لم يكونا مستقلَّيْنِ، فلا ينفرد واحدٌ منهما بحفظ شيء، وقال أكثرهم يُقَسَّمُ، سواءٌ كانا مستقلَّيْنِ، أم لا؛ لأَنَّه إذا كان المالُ في يدهما، كان النصفُ في يدِ كلِّ واحدٍ منْهما، فجاز أنْ يعين ذلك النصف، فحَصَل في القسْمة، إذا لم يكونا مستقلَّيْن وجّهان، ثم إذا قسم، وتَنَازَعَا في عين النصْفِ المحْفُوظ، فوجهان، في أنَّه يقرع بينهما، أو يُعَيِّن القاضي الأوَّلَ منهما، وهو الذي أورده الحنَّاطِيُّ -رحمه الله-: هذا إذا كان المالُ المتنازعُ فيه ممَّا ينقسم [أما إذا لم ينقسم] (¬1) فيحفظانه معاً إِمَّا أنَّ يجعلاه في بيتٍ، ويقفلا عليه، أو بأنْ يرضَيَا بثالث يحْفَظُه من جهتهما، وإلاَّ تولى القاضي حفْظَه، وهكذا الحكْمُ، إذا كان مما ينقسم، وقلنا: إنَّه لا ينقسم عند عدم الاستقلال، ثم ذكرَ صاحبُ "التَّهْذِيبُ" أنَّ التفصيلَ المذكورَ فيما إذَا جَعَل إليهما التصرُّف، واختلفا في الحفظ إِلى التصرُّف، فأمَّا إذا جعل الحفظ [إلى اثنين، لم ينفرد أحدهما بحال، وقوله في الكتاب: "ومهما اختلف الوصيَّان" ظاهر اللفظ يقتضي التصوير في المستقلَّيْن، لكنه ذَكَرَ عند الاختلاف في الحفظ] (¬2) وجهين؛ في أنَّ القاضي يتولاه، ويقسّم، وليس عن الأصحاب هذا الخلاَفُ، إلاَّ في صورةَ عَدَم الاستقلال، فليحمل الوصيان (¬3) على الموصَى إليهما، وقوله: "مهما تنازعا في الحفظ" أشار به إلَى أنَّ وجّهَ القسمةِ مخصوصٌ بالاختلاف في الحفظُ ولا مجالَ له، وفيما إذا اختلفا في تعيين الفقير وعلى ما حكينا [هـ]، عن الشيخِ أبي حامد أنَّه يُقَسَّمُ هناك أيْضاً، هذا تمام النَّظَر في الأَركان، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَما أَحْكامُ الوِصَايَةِ فَإِنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ، وَلِلوَصَيِّ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ (ح) مَهْمَا شَاءَ، وَلَهُ أنْ يَقْضِيَ دُيُونَ الصَّبيِّ، وَأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ بِالمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ لَهُ أنْ يُزَوَّجَ الأَطْفَالَ، وَلَهُ تَزْوِيجُ إِمَائِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ عَلَى الأَظْهَرِ، وَلَيْسَ لَهُ أنَّ يَتَوَلَّى طَرَفَي العَقْدِ، وَأَنْ يَبِيعَ من نَفْسِهِ بِخِلاَفِ الأَبِ، وَلَيْسَ لَهُ أنْ يَشْهَدَ لِلْأَطْفَالِ بِمَالٍ، إِذْ يَسْتَفِيدُ بِهَا وَلاَيَةَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَصِيّاً إلاَّ في الثُّلُثِ اسْتَفَادَ اتِّسَاعَ التَّصَرُّفَ اتِّسَاعَ الثُّلُثِ، وَمَهْمَا نَازَعَهُ الصَّبِيُّ في قَدْرِ النَّفَقَةِ وَنَسَبَهُ إِلَى الزيَادَةِ فِيهَا أَوْ نَسَبَهُ إِلَى الخِيَانَةِ في بَيْعٍ فَالقَوْلُ قَوْلُ الوَصِيِّ فَإنَّهُ أَمِينٌ وَالأَصْلُ عَدَمُ الخِيَانَةِ، وَإِنْ نَازَعَهُ في تَارِيخِ مَوْتِ الأَبِ أَوْ تَكْثِيرِ النَّفَقَةِ أَوْ فِي دَفْعِ المَالِ إِلَيْهِ بَعْدَ البُلُوغِ فَالقَوْلُ قَوْلُ الصَّبِيِّ، إِذ الأَصْلُ عَدَمُ الرَّدِّ وَالمَوْتُ وَإِقَامَةُ البَيِّنَةِ عَلَيْهِما مُمْكِنٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: منْ أحْكَامِ الوصايةِ الجوازُ، فللموصِي الرجُوعُ مَتى شاء، وللوصيِّ ¬
عزْلُ نفْسِهِ، متَى شاء (¬1). وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: ليْسَ له عزْلُ نفْسِه بعْد موْت الموصِي، ولا في حياتِهِ إلاَّ بحُضُوره لنا: أَنَّه متصرِّفٌ بالتولية والتفويض، فأشبه الوكيلَ وقيِّم الحاكم. ومنْها: الوصيُّ (¬2) يقضي ديون الصبيِّ من الغرامات، والزكوات، وكفارة القتل، وفي الكفارة وجّهٌ [لأنها ليست على الفور وينفق عليه وعلى من عليه نفقته كما ذكرنا في التتمة في "بابِ الحَجْر" ولينفق بالمعروف، وهو ألا يكون فيه إسرافٌ ولا تقتير (¬3)، فإنْ أسرف، ضَمِنَ الزيادةَ، ويشتري له الخادِمُ عند الحاجة، إذا كان مثلُه يخدم. وإذا بلغ الصبيُّ، ونازعه في أصْلِ الإنفاق، صُدَّق الوصي بيمينه؛ لأنَّه يعسر إقامة البينة علَيْه، ولو قال: أسرفت في الإِنفاق، فإِنْ كانَ ذلك بعْد تعيينهما قدْرَ النفقة، نُظِر فيه، وصدِّق من يقتضي الحالُ تصديقَهُ، وإنْ لم يعينا، فالمصدَّق الوصيُّ؛ لأنَّه يدعي ¬
خيانته، والأصلُ عدمُ الخيانةِ، وفي "التهذيب" أنَّ مِنْ الأصحاب مَنْ جعل في قبولِ قولهِ في قَدْر ما ينفق عليه وجّهَيْن، وهذا، على غرابته، يجيءُ فيَ أصل الإِنفاق (¬1)، بطريق الأولَى، ولو ادَّعَى على الوصيِّ: أنَّه خان في بيع ماله، بأَنْ باعه من غيرِ حاجةٍ ولا غِبْطَة، فالَّذي في الكتاب إِطلاقُ القولِ بتصديقِ الوصيِّ توجيهاً بأنَّ الأصْلَ عدم الخيانةِ، وقد ذكرنا في "باب الحَجْر" أنَّ من الأصحاب من جَعَلَ المسألةَ عَلَى وجهين، ومنْهم مَنْ قال: لا يصدّق في العقار، وفي غيره وجهان، ورجَّحوا وجه المنع، عَلَى خلافِ جوابِ الكتاب، وربما يُعَارَضُ قوله: "إذ الأصلُ عدم الخيانة" بأنْ الأصْلَ عدمُ الحاجةِ والغبْطَةِ وبأن الأصلَ عدم استمرارِ ملكه. ولو تنازعا في تاريخ مَوْت أَبيه، فقال: مات منذُ خمس سنين، وقال الوصيُّ منذ ستٍّ، وهما متفقان على اتفاقه من يوم الموتِ، فعنِ، الإصطخريِّ -رحمه الله-: تصديق الوصيِّ، والأصحُّ خلافه، وهو المذكور في الكتاب؛ لأنَّ الأصلَ عدم الموت في الوقت الَّذي يدعيه، وإقامة البينة عليه هينةٌ بخلاف الإنفاق ولو ادَّعَى الوصيُّ دفْعَ المال إِليه بَعْد البلوغ، وأنكرَ، فهو المصدَّق بيمينه، وعلى الوصيِّ البينة، وفيه وجه أنَّه يُصدَّق الوصيُّ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد -رحمهما الله تعالى- والمسألةُ مذكورةٌ مرة في "الوكالةِ" مشروحةٌ هناك، نعم، لفظ الكتابِ في "الوكالةِ": القَيِّم وحكم الوصيِّ وقيِّم الحاكمِ واحدٌ في ذلك ويُقبل قولهما في دعوى التَّلَفِ بالغَضْبِ، والسرقةِ، والنزاع بَيْن الوصيِّ، والمجنونُ بَعْدَ الإفاقةِ في جميع ذلك، كنزاعِ الصبيِّ، إذا بلغ، وإذا بلغ الصبيُّ مجنوناً أو سفيهاً، استمر ولاية الوصيِّ عَلى ما سَبَقَ في "باب الحَجْر" ثم يُنْظَرُ: إنْ رأى أنْ يَدفعَ إلى المبذر نفقة أسبوع فعل، فإنْ كانَ لا يَثِقُ به دَفَعَها إلَيْه يومًا بيومٍ، ويكسوه كُسْوة مثله، فإنْ كانَ يخرقها، هدده، فإنْ لم يمتنعِ، اقتصر في البيت علَى إزار، فإِذا خَرَجَ كساه، وجعل عليه رقيباً. وَمِنْهَا: ليس للوصي تزويجُ الأَطْفَالِ، ذكر الموصى له ذلك أو لم يذكر؛ لما مرَّ، وإِبلغ الصبيُّ سفيهاً، استمرَّ نظر الوصيِّ، واعتبر إذنه في نكاحه، عَلَى ما سنذكر حكْمَ نكاحِ السفيه في موضعه -إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى- وذَكَر القاضي الرويانيُّ في "الحليةِ" أن الوصيَّ يزوِّجه بإذن الحاكم، واعتبارُ إذْنِ الحاكم لا مَعْنَى له. وأمَّا قولُهُ في الكتاب: "وله تزويجُ عبيدِهِمْ وإِمائِهِمْ علَى الأظهرِ" هذا مبنيٌّ على أنَّ تزويجَ عبدِ الصغير وأمته، هل يجوزُ، وموضِع بيانه "كتاب النكاح" وهناك تبين أنَّه غير مساعد على ترجيح وجّهِ الجواز. ¬
ومنْهَا: لا يبيع مال الصبيِّ من نفسه، ولا مال نفسه منه، ولا يتولَّى الطرفين في بيع مال صغير من صغير، بخلاف الأبِ؛ لقوَّة ولايته، وعن أبي حنيفة -رحمه الله-: أنَّ له أنْ يبيعَ مالَ الصَّبيِّ من نفسه بأَكثر من ثمن المثل ويتولَّى الطرفين. لنا: أنَّهُ متصرِّف بالتفويض، فلا يبيع المالَ من نفسه؛ كالوكيل، ويجيء فيما تقدَّم من نظائر المسألة في الوكالة وجهٌ في أنَّه يبيع من نفسه، ويتولَّى الطرفين. وَمنْهَا: تجوز شهادةُ الوصيِّ على الأطفال، ولا يَجُوزُ أنْ يشهدَ لهُمْ بمالٍ؛ لأَنَّه يثبت لنفسه ولاية التصرف، وكذا: لو لم يكن وصيّاً إِلاَّ في تفرقة الثلث؛ لأنَّه إذا زاد المال، اتَّسَعَ الثلُثُ الَّذي هو محل التصرُّف، ولو كان وصيّاً في مال معيَّن، فشهد بمال آخر، جاز. هذا شرح ما في الكتاب. ويجوز أنْ يوكِّل الوصيُّ فيما لم تجر العادةُ بمباشرته لمثله، ولا يبيع شيئاً من مال كبار الورثة [بغير إذنهم] (¬1) وعن أبي حنيفة -رحمه الله- أنَّه إِذا كان بيع جميعِ، العينِ أَصلح للصَّغير والكبير، فله البيعُ من غير إِذْنِ الكبير، وإِذا أَوصَى بثلثِ ماله، وليس له إِلاَّ عبدٌ، لم يَبع، الوصيُّ إِلاَّ ثلثه، وجوَّز أبو حنيفة -رحمه الله- بَيْع الجميعِ، ولو كان الوصيُّ والصبىُّ شريكَيْن، فلا يستقلُّ بالقسمة؛ لأنَّها، إنْ كانت بيعاً، فليس له تولِّي الطرفين، وإنْ كانت إفراز حقٍّ، فليس له أنْ يقبض لنفسه من نفسه. وفي "فتاوى القفَّال" -رحمه الله-: أنَّه ليس له خلْطُ حنطتِه بحِنْطَة الصبيِّ ولا دراهمه بدَارَهِمِهِ؛ وقوله تعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} [البقرة: 220]، محمولٌ عَلَى ما لا بدَّ منه للإرفاق، وهو خلطُ الدقيقِ بالدَّقيق، واللحم باللحم؛ للطَّبخِ ونحو، وأنَّه لو أَوصَى إلَى رجل، فقال: بيع أرضِي الفلانيةِ، واشترِ مِنْ ثمنها رقبةً، فأعتقها عني [وأحج عني] واشتر من الخبز مائةً منٍّ، فأطعمه الفقراءَ فباع الأَرض بعَشَرة، وكانَ لا تُوجَدُ الأرض بأقَلَّ من عشرة، ولا يوجد الحجُّ بأقلَّ من عشرَةٍ، ولا يُباعُ الخبزُ بأقلَّ من خمسةٍ، فتوزع العشَرةُ عليها عَلَى خمسة أسهمٍ، ولا يحصُلُ الإِعتاق والحَجُّ بحصتهما، فيضم إلَى حصةِ الخُبْز تمامُ الخمسة، وتنفذ فيه الوصيةُ ويردُّ الَباقي على الوَرَثَةِ؛ كما لو أَوصَى لكلِّ واحدٍ من زيد وعمرٍو بعَشَرة، وكان ثلاثة عشر، ورد أحدهما يدفع العَشَرة إلى الآخر، ولو قال: اشتَرِ مِنْ ثلثِي رقبةً، فأعتقها، وأحج عني، واحتاجَ كلُّ واحدٍ منهما إلى عشرة، فإن قلنا: يقدَّم العتقُ، صُرِفَتِ العشرةُ إلى العتْق، وإِلا، فينبغي أنْ يُقْرَع بينهمالأولا يُوزَّع، إذُ لو وُزِّعت العَشَرة، لم يحصلْ واحدٌ منهما، وفي "الجرجانيات" ¬
لأبي العَبَّاس الرويانىِّ حكايةُ وجهين في أنَّ الوصيَّ، وهل يجبُ عليه الإشهادُ في بيع مال اليتيم؟ والأصحُّ المنعُ، ووجهين في أنَّ الوليَّ، لو فسق قبل انبرام البَيْع، هل يبطُلُ البيع (¬1)؟ ووجهين في أنَّ الوصاية، هلْ تنعقدُ بلفظ الولاية بأنْ يقولَ: وليتكَ كذا بَعْد (¬2) موتي؟ وذكر الأستاذ أبو منصور -رحمه الله-: أنَّ للوصيِّ أن يضارب بمال اليتيم؛ بشرط إِلاَّ يخرج من البلد، فإن دفعه مضارَبَةً إلى عن يخرج به، ضَمِنَ، وهذا جوابٌ عَلَى منع المسافرة بمال اليتيم،، وقد سَبَقَ في "باب الحَجْر" (¬3) أنَّ الأظهر خلافُهُ عند أمْن الطريق، والله أعلم. ولو أوصَى إلى الله تعالَى، إلى زيدٍ، فقياسُ ما سبق فيما إذا أوصَى لله تعالَى، ولزيدٍ مجيء وجهين: أحدهما: أن الوصايةَ إلَى زيد. والثاني: أنَّ الوصايةَ إلَى زيدٍ، وإلى الحاكم (¬4)، ويدلُّ عليه ما رَوَيْنَاه في أوَّل البابِ منْ وصاية ابن مسعود -رضي الله عنه-. ولو أوصَى بشيء لرجل لم يذكره، وقال: سمَّيته لوصيِّ، فللورثَة ألا يصدقوه وفي شرح "أدب القضاء" لأبي عاصم العبَّادِيِّ -رحمه الله-: "أنَّه لو قال: سميته لوصيِّ زيْدٍ وعمرو، فعيَّنَا رجلاً، استحقه، وإن اختلفا في التعْيِين، فقدلان في أنَّه تبْطُلُ الوصية" أو يحلف كلُّ واحدٍ منهما مع شاهده وفي الزياداتِ لأبِي عاصم: "أنَّه إذا خافَ الوصيُّ أنَّ يستولِيَ غاصبٌ علَى المال، فله أنْ يؤدِّيَ شيئاً؛ لتخليصه والله يعلم المفْسِدَ من المُصْلِح (¬5). ¬
كتاب الوديعة
كِتَابُ الوَدِيعةِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَحَقِيقَتُهَا اسْتِنَابَةٌ في حِفْظِ المَالِ، وَأَرْكَانهَا كَأَرْكَانِ الوِكَالَةِ، وَصِيغَتُهَا كَصِيغَتِهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: استأنس العلماء في الباب بقوله تعالَى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وبقوله تعالَى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] وبما روِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ" (¬1). والوديعةُ: هي المالُ الموضوعُ عند الغيْر؛ ليحفظه (¬2)، والجَمْعُ "الودائع"، واستودعه الوديعة، أي: استحْفَظَهُ إياها. وعن الكسائي -رحمه الله تعالى- يقال: "أودعْتُهُ كذا، إذا دفَعْتُ إليه الوديعة، وأودعته كذا، إذا دَفَعَ إليك الوديعةَ، [فقبلتها] فهي من أسماء الأضداد، والمشهورُ في الاستعمال المعنَى الأول، وقد ذكر أنَّ اللَّفْظ مشتقٌّ من الدعة، وهي الحفظ والرَّاحَةُ، ويقال: وَدَعَ الرجلُ، فهو وديعٌ ووادع؛ لأنَّها في دَعَةٍ عند المودَع، لا تبدَّل ولا ¬
تستعمل، أو مِنْ قولهم: يدع كذا أي: يَتْرُكُهُ؛ لأنها متروكَةٌ مستقرة عنْد المودَعِ (¬1)، ومَنْ أَودَعَ وديعةً، وهو عاجزٌ عن حفظها، لم يَجُزْ له قبولُها (¬2)، وإنْ كان قادراً، لكنه لم يَثِقْ بأمانة نفسه، فمنهم: مَنْ يقول: لا يجُوزُ له القَبُول (¬3)، ومنْهم: من يقول: يُكْرَهُ، وإن كان قادِراً عَلَى حفظها واثقاً بأمانةِ نفسه، فيستحَبُّ له القبول، فإِن لم يكن هناك غيره، فقد أطلق مطلِقُون تعْيينَ القبول عليه، وهو محمولٌ عَلَى ما بينه الشيخُ أبو الفرَجِ في "الأمالي" وهو أنَّه يجب أصْلُ القبول، دون أنَّ يتلف منفعة نفسه، وحرزه في الحفظ، من غير عوَضٍ وقوله في الكتاب: "وحقيقتها استنابةٌ في حفظ المالِ" ظاهرُ ¬
النظم يقتضي عَوْدَ الكتابة إلى الوديعة، [لكن الوديعة] (¬1) في تفسير الفقهاءِ واللُّغَوِيِّينَ هي المالُ نفسه، والذي ذكره حقيقةُ الإِيداع، فليتناول (¬2) اللفظ وفي لفظ "المال" ونحوه ما يبين أن الخمر ونحوها لا تودع، وإذا كان الايداعُ عبارةٌ عن الاستنابة في الحفْظ، كان توكيلاً خاصَّاً، فلذلك قال: "وأركانُها كأرْكَانِ الوكالة" وأركانُ الوكالة على ما بينت في بابها أربعةٌ: ما فيه التوكيل؛ وهو الحفظُ هاهنا، والوكيل، والموكل، وُيسَمَّيَانِ في هذا التوكيل: المُودِعُ، والمودَعُ، والصيغةُ، ولا بدَّ من جهة المودع من صيغة دالة على الاستحفاظ؛ كقوله: استودعْتُكَ هذا المالَ، أو أودعتُكَ، أو استحفظتك، أو أنبتك في حفظه، أو أحفظه عندك، أو هو وديعةٌ عندك، وما في معناها (¬3)، وهلْ يُعْتَبَر القبول باللفظ من المودَعِ؟ قيل: لا، ويكتفي بالقبض بكيفيته في العقار والمَنْقُول، وقيل: نعم، وقيل: يفَرَّق بين أنَّ يقول: أودَعْتُكَ، وما هو علَى صيغ العُقُود، وبين أن يقول: احفظه أو هو وديعةٌ عندك؛ وهي بعينها كما ذكرنا في الوكالة، والأظْهَرُ الأوَّل، وإِلَى هذه الجملة أشار بقوله "وصيغَتُها كَصِيغَتِها" ولو قال: إِذَا جاءَ رأْسُ الشهر، فقد أَودعتك هذا، فجواب القاضي الرويانيِّ في "الحلية" الجوازُ، والقياسُ تخريجُه على الخلاف في تعليق الوكالَةِ، ولو جاء بماله ووضعه بَيْن يَدَيْ غيره، ولم يتلفَّظْ بشيء، لم يَحْصُلِ الاِيداعُ، فلو قبضه الموضوعُ عنده، ضَمِنَهُ، وكذا لو كان قَد قال مِنْ قَبْلُ: أريد أن أودعك، ثم جاء بالمالِ، وإن قال: هذا وديعَتِي عنْدك، أو احفظه، ووضَعَهُ بين يديه، فإن أخذه الموضوع عنده، تَمَّت الوديعة، إذا لم يعتبر القبولُ اللفظيُّ، وإن لم يأخذه، نُظِر: إن لم يتلفظ بشيء، لم تكن وديعةٌ، حتى لو ذهب وتركه، فلا ضمانَ عليه، نعم: يأْثَمُ، إن كان ذهابُه بَعْد ما غاب المالِكُ، وإن قال: قبلْتُ أوضعه فوضعه، كان إيداعاً، كما لو أخذه بيده، كذا قال في "التهذيب" وقال في "التتمة": أنَّه لا يكونُ وديعةً، ما لم يقبضه، وفي فتاوى صاحب "الكتاب" -رحمه الله- أنه إنْ كان الموضِعُ في يده، فقال: ضعْهُ، دخل المال في يَدِهِ لحصولِهِ في الموضع الَّذِي هو في يَدِهِ، وإنْ لم يكُنْ كما لو قال: انْظُرْ إلَى متاعي في دكاني، فقال: نعم، لم يكنْ (¬4) وديعةً، وعلى الأول: لو ذهب (¬5) الموضوع عنده، وتركه، فإن كان المالك حاضرًا بعد، فهو ردُّ للوديعة، وإن ¬
غاب المالك، ضَمِنَهُ، والله أعلم قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالتَّكْلِيفُ شَرْطٌ في العَاقِدَيْنِ، فلَوْ أَخَذَ الوَدِيعَةَ مِنْ صَبِيٍّ ضَمِنَ إِلاَّ إِذَا أَخَذَ تَخْلِيصاً عَلَى وَجهِ الحِسْبَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَلَوْ أَوْدَعَ عِنْدَ صَبيٍّ فَأَتْلَفَهُ الصَّبِيُّ لَمْ يَضْمَنْ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ، لأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَقْرَضَهُ أَوْ بَاعَهُ، وَكَذَا الخِلاَفُ في تَعْلِيقِ الضَّمَانِ بِرَقَبَةِ العَبْدِ إِذَا أَوْدَعَ فَأَتْلَفَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا يصحُّ الإيداع إِلاَّ من مكلَّف، فلو أودعه صبيٌّ أو مجنونٌ مالاً، لم يقبله، وإن قبله، ضمن، ولا يزولُ الضمانُ إِلاَّ بالردَّ إلى الناظر في أمره، نَعَمْ، لو خاف هلاكه، في يده، فأخذه على وجه الحسبة صوناً له، ففي الضمان وجْهَانِ، كالوجهين فيما إذا أخذ المُحْرِم صَيْداً من جارحةٍ ليتعهده، والظاهر أنَّه لا يَضْمَنُ (¬1)، ولا يصحُّ الإيداع إِلاَّ عند مكلَّف؛ لأنه استحفاظ، والصبيُّ والمجنونُ ليسا من أهْلِ الحفْظِ فلو أودع مالاً عند صبيٍّ، فتلف عنده، لم يضمن؛ إذ ليس عليه حفظه فأشبه ما لو تركه عند بالغٍ من غير استحفاظ، فتلف، وإنْ أتلفه، فقَوْلاَنِ، ويقال: وجهان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة: أنَّه لا يضمن لأنَّ المالك سلَّطه عليه، فصار كما لو أقرضه أو باعه منه، وأقبضه، فأتلفه، فلا ضمانَ علَيْهِ. والثاني: وبه قال أحمد -رحمه الله-: "أنَّه يضمن، كما لو أتلف مال الغير من غير سَبْقِ استحفاظ" ولا تسليط على الإتلاف (¬2). ¬
قال ابن الصبَّاغ وغيره: "وهذا أظهر" وليس الإيداعُ كالبيع والإقراض؛ لأنَّ ذلك تمليكٌ وتَسْليطٌ على التصرف، والإيداعُ تسليطٌ على الحفظ دون الإتلاف والتصرف. ولو أودع ماله عبْداً، فتلف عنده، فلا ضَمَان، وإن أتلفه فهل، يتعلَّق الضمان برقبته، كما لو أتلف ابتداءً أو بذمَّته دون الرقبة، كما لو باعه؟ فيه الخلافُ المذكور في الصبيِّ، وِإيداعُ السفيه، والإيداعُ عنده كإيداعِ الصبيِّ، والأيداعِ عنده، وإذا تأمَّلْتَ هذه الصور، عَرَفْتَ أنَّ التكْلِيفَ في العاقدين غير مكتفي به، بل يُعْتَبَرُ مع ذلك جوازُ التصرُّف، ولو قلْتَ: يشترط فيهما جوازُ التصرف، استغنيْتَ عن التعرُّض للتكليف. واستنبطُوا من الخلاَفِ المذْكُور في الصبيِّ والعبْد أصلاً في الباب، وهو أنَّ الوديعة عَقْدٌ برأسه أم إِذْنٌ مجرَّد، إن قلْنا: إِنه عَقْدٌ، لم يضمنه الصبيُّ، ولم يتعلَّق برقبة العبد، وإنْ قلنا: إِذْنٌ مجرَّد، ضمنه الصبيُّ، وتعلَّق برقبة العبد، وخَرَّجُوا عَلَى هذا الأصل وَلَدَ الجارية المودعة، ونِتَاج البهيمة، فإِن جعلناها عقداً، فالولد وديعةٌ كالأم، وإلا لم تكن وديعةٌ بل أمانة شرعية في يده يجب ردها في الحال؛ حتَّى لو لم يرد مع التمكُّن، ضمنه على أظهر الوجهين، هكذا أورده صاحب "التهذيب" وقال: أبو سعيد المتولي: إنْ جعلناها عقداً، لم يكن وديعةً، بل أمانةً؛ اعتباراً بعَقْد الرَّهْن، والإجارةِ، وإلا فيتعدَّى حكْمُ الأمِّ إلى الولد، كما في الضحيَّة أو لا يتعدَّى، كما في العارَّية؟ فيه وجهان، وعلى الأصل المذكور خرَّج بعضُهُم اعتبارَ القَبُولِ لفْظاً، إن جعلناها عقداً، اعتبرناها، وإلا اكتفينا بالفِعْلِ. واعلم أنَّ الموافق لإطْلاَقِ الجمهور كَوْنُ الوديعة عَقْداً (¬1)، وعلَئ ذلك تنطبقُ عبارةُ صاحب الكتاب في مواضع؛ نحو قوله: والتكليفُ شرطٌ في العاقدين، وقوله بعد هذا: "إنها عقد جائز" ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَمَّا حُكْمُ الوَدِيعَةِ فَهُوَ عَقْدٌ جَائِزٌ مِنَ الجَانِبَيْنِ يَنْفَسِخُ بِالجُنُونِ، وَالإِغْمَاءِ، وَالمَوْتِ، وَبِعَزْلِهِ نَفْسَهُ، وَإِذَا اَنْفَسَخَ بَقِيَ أَمَانَةً شَرْعِيَّةً في يَدِهِ كالثَّوْبِ تُطَيِّرُهُ الرِّيْحُ إِلَى دارِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الوديعةُ تَرْتَفِعُ بجنون المودِع، أو المودَع، وبالموت والإغماء (¬1)؛ لأنَّها إن كانت مجرَّد إذْن في الحفْظ، فالمودِعُ بعروض هَذه الأحوال يبطل إذْنُه، والمودَع يخرج عن أهلية الحفظ، وإن كان عقداً، فقد ذكرنا أنَّه توكيلٌ خاصٌّ والوكالة جائزة، ومتَى أراد المودِع الاسترداد، لم يكن للمودَع رده ومتَى أراد المودَع [الردَّ، لم يكن للمودعِ أنَّ يمتنع من القبول؛ لأنه متبرع بالحفظ، ولو عزل المودَعُ نفسه] (¬2)، ففيه وجهان؛ تخريجاً عَلَى أن الوديعة مجرَّد إِذنٍ أم عقدٌ؟ إن قلنا: بالأول، فالعَزْل لغْوٌ، كما لو أذن في تناول طعامه للضِّيفان، فقال بعضهم: عَزَلْتُ نفْسِي يلغو قوله: "ويكون له الأكلُ بالإذْنِ السابق" فعلَى هذا تبقى الوديعةُ بحالها، وإن قلنا: إنَّها عقدٌ، ارتفعت الوديعة، ويبقَى المَالُ أمانةً شرعيَّةً في يده كالريح تُطَيَّرُ الثَّوب إلَى داره، وكاللُّقَطَةِ في يد الملتِقِط بعد ما عرف المَالِكَ، فعليه الردُّ عند التمكُّن، وإِن يطلب لم على أظهر الوجهين، فإن لم يفعل، ضمن وهذا ما أورده في الكتاب ويجوز إعلام قوله: "عقد جائز" بالواو، وقوله: "ويعزله نفسه" بل قوله: "ينفسخُ" لأن لفظ الانفساخ؛ إنما يستمر على تقدير كونها عقداً. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلِلوَدِيعَةِ عَاقِبَتَانِ ضَمَانٌ عِنْدَ التَّلَفِ، وَرَدٌّ عِنْدَ البَقَاءِ أَمَّا الضَّمَانُ فَلاَ يَجِبُ إِلاَّ عِنْدَ التَّقْصِيرِ، وَلِلتَّقْصِيرِ سَبْعَةُ أَسْبَابٍ: الأَوَّل أَنْ يُودِعَ عَنْدَ غيْرِهِ سَوَاءٌ أَوْدَعَ زَوْجَتَهُ أَوْ عَبْدَهُ أَوْ أَجْنَبِيَّاً، إِلاَّ أنْ يُودِعَ عِنْدَ القَاضِي فَإنَّهُ لاَ يَضْمَنُ، وَلَوْ حَضَرَهُ سَفَرٌ فَسَافَرَ بِهِ ضَمِنَ لِأَنَّ حَرْزَ السَّفَرِ دُونَ حِرْزِ الحَضَرِ، إِلاَّ أنَّ يُودِعَ في حَالَةِ السَّفَرِ، فَطَرِيقُهُ عِنْدَ السَّفَر: أنَّ يُرَدَّ إِلَى المَالِكِ، فَإنْ عَجَزَ فَإِلَى القَاضِي، فَإِنْ عَجَزَ فَعِنْدَ أَمِينٍ، فَإِنْ تَرَكَ هَذَا التَّرْتِيبَ مَعَ القُدْرَةِ ضَمِنَ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الكُلِّ فَسَافَرَ بِهِ تَعَرَّضَ لِخَطَرِ الضَّمَانِ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ، وَمَهْمَا تَبَرَّمَ بِالوَدِيعَةِ فَسَلَّمَهَا إِلَى القَاضِي عِنْدَ العَجْزِ عَنِ المَالِكِ، فَفِي لُزُومِ قَبُولِهِ وَجْهَانِ، جَارِيَانِ في الغَاصِبِ، وإِذَا حَمَلَ المَغْصُوبَ إلَى القَاضِي، وَفِيمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنِ، وَإذَا حُمِلَ الدَّيْنُ إِلَيْهِ، وَمَنْ حَضَرَتُهُ الوَفَاةُ فَلَمْ يُوصِ بِالوَدِيعَةِ ضَمِنَ إِلاَّ أنْ ¬
يَمُوتَ فَجْأَةً، وَلَوْ أوْصَى إِلَى فَاسِقٍ ضَمِنَ، وَلَوْ أوْصَى فَأجْمَلَ وَلَمْ يُمَيِّزِ الوَدِيعَةِ ضَمِنَ، كَمَا إِذَا قَالَ: عِنْدِي ثَوْبٌ وَلَمْ يصفْهُ وَلَهُ أثواب ولو قَالَ: عَنْدِي ثَوبٌ فَلَمْ يُصَادِفُ في تَرِكَتِهِ فَلاَ ضَمَانَ تَنْزِيلًا عَلَى التَّلَفِ قَبْلَ المَوْتِ، وَلَوْ وُجِدَ في تَرِكَتِهِ كِيسٌ مَخْتُومٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ إنَّهُ وَدِيعَةُ فُلاَنٍ لَمْ يُسَلَّمْ إِلَيْهِ فَلَعَلَّهُ كَتَبَهُ تَلْبِيِساً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الأصلُ في الوديعة الأمانة؛ لما رُوِيَ عن عَمْرِو بنِ شُعَيْبِ، عن أبِيه، عنْ جَدِّهِ أَنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيْسَ عَلَى المُسْتَوْدَعِ غير المغل ضَمَانٌ" (¬1) وُيرْوَى: "مَنْ أُودِعَ وَدِيعَة فلا ضَمَانَ عَلَيْهِ" (¬2) وعن أبي بكر، وعَليٍّ، وابنِ مسعود وجابر -رضي الله عنهم- "أنَّها أَمَانَةٌ" (¬3) ولأن المودَعَ يحفظها للمالك، فيده كيده، ولو ضمن المودِعُ، لَرَغِبَ الناسُ عَنْ قبول الوَدَائِعِ، وإذا تقرَّر ذلك، فنذكر فقْهَ الفَصْل مجرَّداً، ثم نرجع إِلَى ما يتعلَّق بالنظْم والترتيب، أما الفقْه: فمسائل: إحداها: المودع، إذا أودع غيره بغَيْر إذْنِ المالك، فإِما أنَّ يودع من غَيْر عُذْر، أو بعُذْرٍ: الحالة الأولى: إذا أَوْدَعَ من غير عُذْرٍ فيضمن لِأَنَّ المالكَ، لم يَرْضَ بيد غيره وأمانته، ولا فَرْقَ بين أنَّ يكون ذلك الغَيْر عبده، أو زوجته، أو ابنه، أو أجنبيّاً وعن مالك -رحمه الله-: أنَّ له أنَّ يُودِعَ زوجته وقال أبو حنيفة -رحمه الله- وأحمد له أو يُودِعَ من عليه نفقته من ولد، ووالد، وزوجة، وعبد. لنا: القياسُ عَلَى من سلموه، وإذا أودع غيره، فالكلام في تضمين المالك المودع الثاني إِياها قد مَرَّ في الرَّهْن والغَضْب، هذا إذا أودع عند غير القاضي، فأما إن أودع عند القاضي، فوجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد -رحمه الله- فيما إِذا وجد المالك، ¬
وقدر على الردِّ عليه، وفيما إِذا لم يجِدْ أحدهما: أنَّه لا يضمن، أما إذا كان المالِكُ حاضرًا؛ فلأنَّ أمانة القاضي أظْهَرُ منَ أمانة المودَع، فكأنه جعل الوديعةَ في موضِع أحرز، وأما إذا كان غائباً؛ فلأنه لو كان حاضراً، لأَلزمه المودِعُ الرَّدَّ، فإِذا كان غائباً، ناب القاضي عنه. وأظهرهما عند الأكثرين: أنَّه يضمن، أما إذا كان المالكُ حاضرًا فلأنه [لا ولاية للقاضي على الحاضر الرَّشِيدِ، فأشبه سائر الناس، وأما إذا كان غائباً؛ فإنه] (¬1) لا ضرورة بالمودع إلى إخراجها من يده، ولم يرض المالك بيد غيره، فليحفظه إلى أن يجد المالك أو يسنح له عذر، وإذا جوزنا الدفْعَ إِلى القاضي، فهل يجبُ على القاضي القبولُ، إذا عرفها عليه أما إذا كان المالكُ حاضَراً، والتسليم إليه متيسِّراً، فلا وجه لوجوبه عليه، وأما إذا لم يكنْ كذلك، ففي إِيجاب القَبُول، وجهان: أحدهما: المنع؛ لأنَّه التزمَ حفْظَه، فيؤْمَرُ بالوفاء به. وأظهرهما: الإيجابُ لأنه نائبُ الغائبين، ولو كان المالك حاضرًا، لألزم القَبُول، والغاصب إذا حمل المغصوبَ إلى القاضِي، ففي وجوب القَبُول الوجهان، لكنَّ هذه الصورةَ أوْلَى بعدم الوجوب؛ ليبقى مضموناً للمالك، ومن علَيْهِ الدَّيْن، إذا حمله إليه نظر إن كان بحيث لا يجبُ على رب الدين القبولُ، لو كان حاضراً، فعلى القاضِي أَوْلَى، وحيثُ يجبُ، يجري فيه الوجهَانِ، وهذه الصورةُ أَوْلَى بعدَمِ الوجوب، وهو الأظهر؛ لأنَّ الدَّيْن في الذمَّة لا يتعرَّض للتَّلَف، وإذا تعين تعرض له، ولأن مَنْ في يدِهِ العَيْنُ قد يثقل عليه حفظُهَا وجميع ما ذكرنا فيما إذا استحْفَظَ الغَيْر وأزال يده ونظره عن الوديعة، أما إذا استعانَ به في حَمْلِهَا إلى الحرز، فلا بأْس، كما لو استعان في سقي البهيمة وعِلَفَها ذكره ابن سُرَيْجٍ، وتابعه الأصحاب عليه. قال القَفَّال: وكذا لو كانتْ خزانَتُهُ وخزانةُ ابنه واحدةً، فدفعها إِلَى ابنه؛ ليضعها في الخزانة المشتركة. وفي "النهاية": أن المودَعَ، إِذا أراد الخروجَ لحاجاته فاستحفظ من يشق به مِنْ متصليه، وكان يلاحظ المَخْزَنَ في عوداته، فلا بأس، وإن فوض الحِفْظ إِلى بعضِهِمْ، ولم يلاحظِ الوديعةَ أصلاً، ففيه تردد، وإن كان المَخْزَنُ خارجاً عن دارِهِ التي يأوي إليها، وكان لا يلاحِظُه أصلاً، فالظاهر تضمينه. الحالةُ الثانيةُ: إذا كان هناك عُذْر، كما إِذا عزم على السَّفَر، فينبغي للمودع، إذا ¬
عرض له هذا العذْر: أن يرد الوديعة إلَى مالكها أو إلَى وكيله، إِن كان له وكيلٌ؛ إِما في استرداده خاصَّةً، أَو في عامَّة أشغاله، فإن لم يظْفَرْ بالمالك؛ لغيبته أو توارِيهِ، أو حَبْسِه وتعذَّر الرسول إلَيْه، ولا ظفر بوكيله، فيدفَعُها إلى القاضي، وعليه قَبُولُها، فإنْ لم يجدِ القاضي، دفعها إلَى أمينٍ، ولا يكلّف تأخير السَفَرِ، وقد رُوِيَ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "كَانَتِ عِنْدَه وَدَائِعِ؛ فَلَمَّا أَرَادَ الهِجْرَةَ، سلَّمها إلَى أمِّ أَيْمَنَ، وَأَمَرَ عَلِيّاً -رضيَ الله عَنْهُ- بِرَدِّهَا" (¬1) فإن ترك هذا الترتيب، فدفعها إلى الحاكم أو إلى أمينٍ مع إمكان الدفْعِ إلى المَالِك، أو وكيله، ضَمِنَ، ويجيء في الحاكِمِ الخلافُ المذْكُور من قبل، وإن دفع إلَى أمينٍ، وهو يجد الحاكم، فوجهان: أحدهما: وبه قال أحمُد وابن خَيْرَان والإصطخريُّ: أنَّه يضمن (¬2)، لأَنَّ أمانة الحاكم ظاهرةُ متَّفقٌ عليها، فلا يُعْدَلُ عنها، كَما لا يُعْدلُ عن النصِّ إلى الاجتهاد، وأيضاً: فإن الحاكمَ نائبُ الغائبين، فكان كالوكيل. والثاني: لا يضمن، وبه قال أبو إسحاق، ويُحْكَى عن مالك؛ لأنه أودَعَ بالعُذْر أَميناً، فأشبَهَ الحاكم، وذكر القاضي الرويانىُّ: أنَّ هذا أظهرُ في المذهب، ولكنَّ الشيخ أبا حامدٍ -رحمه الله- رجَّح الأول، وبه قال صاحبُ "التهذيب" وغيره، وقد يعبر عن الخلافِ بالقولَيْنِ؛ لأنَّ الشافعيَّ -رضي الله عنه- قال في باب "الرَّهْن" فيما إذا أراد العَدْل الرَّهْن، لو دفعه، يعني: إلَى عدل، بغير أمْرِ الحاكم -ضمن وقال هاهنا في "ردِّ الوديعة": ولو لم يكن حاضرًا، يعني رَبَّ الوديعة، فأودعها أميناً، يودِعُه ماله- لم يضمن، فلم يفرق بين أن يجد الحاكمَ أوْ لا يجدَ. ونقل المتولِّي وغيره طريقةً قاطعةً بأنه يضمن، ويحمل ما ذكره هاهنا عَلَى ما إذا لم يَجِدِ الحاكم وفي بعض الشروح طريقةٌ قاطعةٌ بأنه لا يَضْمَنُ، ويحمل ما ذكره في الرهْن عَلَى ما إذا كَانَ المالِكُ أو وكيله حاضراً في البلد وحكى الشيخ أبو حاتِمٍ القزويني -رحمه الله- وجْهاً أنَّه يُشْتَرَطَ أن ¬
يكون الأمين الذي يودِعُه بحَيْثُ يأتمنه ويودِعُ ماله عنده لظاهر قوله: "يودِعُه مالَهُ" والظاهر خلافه، فإنَّ ذلك مسوق على سبيل التأكيد والإيضاح، ولو أنَّه حِينَ عَزَم على السفَرِ، دَفَنَ الوديعةَ في مَوْضِعٍ، وسافر، ضَمِنَها إن دَفَن في غَيرِ حَرْزٍ أو في حِرْزٍ، ولم يعلم بها أميناً أو أعْلَمَ أميناً، حيث لا يَجُوز الايداعُ عند الأمين، أو حيث يجُوزُ إِلاَّ أنَّ الذي أخبره لا يسكن ذلك الموضِع، وإنْ كَانَ يسكنه، فالجوابُ كذلك في أحد الوجّهَيْن؛ لأنَّه إعلامٌ لا إيداعٌ، ولا يضمن في أظهرهما؛ لأنَّ الموضِعَ وما فيه في يَدِ الأمين، فالإِعلام كالإيداع، هكذا فَصَّل الأكثرون. وجعل الإمام -رحمه الله- في معنى السُّكْنَى أنْ يراقبها من الجوانب، أو من فَوْقُ مراقبةَ الحارس (¬1)، ومنْهم: من جعل الأعلام كالإيداعِ مِنْ غير فَرْق بَيْن أن يسكن الموضع أو لا يَسْكنه، ثم نقل صاحب "المعتمد" وغيره وجْهَيْنِ في أن سَبِيلَ هذا الإعلامِ الإشهادُ أو الائتمانُ؟ فعلى الأوَّل: لا بدَّ من إعلام رجلَيْنِ أو رجلٍ وامرأتينِ، والظاهرُ الثَّاني، وكما يجوز إيداعُ الغَيْر بعذر السفَرِ على ما تبيَّن، فكذلك سائر الأعذار، كَمَا لو وَقَعَ في البُقْعة حريقٌ أو نهب أو غارَةٌ أو خاف الغرق، وليكُنْ في معناها: إذا أشرف الحِرْز على الخراب، ولم يجدْ حِرْزاً آخر، يَنْقُلُها إِليه. المسألة الثانية: إذا أَودع مسافراً، فسافر بالوديعة أو منتجعاً، فانتجع بها، فلا ضمان؛ لأنَّ المالكَ رَضِيَ به؛ حيث أودعه، وإِن أودع حاضراً، لم يكُنْ له أن يسافِرَ بها، فإن سافر، ضمن؛ لأن حِرْزَ السَّفَرِ دون حِرْز الحَضَر، وفي الخبر: "إنَّ المُسَافِرَ وَمَتَاعَهُ لعلي قُلْتُ إِلاَّ ما وقى الله، وفيه وجه أنَّه إذا كان الطريق آمِناً، لا يضمن، وكذا لو سافر في البَحْر، إذا كان الغالب منه السلامة، والمذهَبُ الأوَّل، وعند أبي حنيفة ¬
وأحمد -رحمهما الله-: له المسافرةُ بها، إذا كان الطريق آمناً، ولم يصرح المالك بالمنع، وإن سافر بها لعذر، كما لو اتَّفَقَ جَلَاءٌ لأهل البلد، أو وقع حريقٌ، أو غارةٌ، فلا ضمانَ، والشَّرْط أنَّ يعجز عن الرَّدِّ إلى المالك أو وكيله، أو الحاكم أو عن الإيداع عند أمينٍ، ويلزمه المسافرةُ بها، والحالة هذه؛ وإلاَّ فهُوَ مضيَّعٌ، ولو عزم على السفر في وقْتِ السلامة، وعجز عن المالك ووكيله، وعن الحاكم، والأمين، فسافر بها، فوجهان: أحدهما: أنه يضمنها؛ لأنه التزم الحفْظَ في الحضر، فليؤخر السَفر أو يلتزم خطر الضمان. والثاني: المنعُ، وإلا فينقطعُ عن السفر، وتتعطَّل مصالحُهُ، وفيه تنفيرٌ عن قَبُولِ الودائِعِ. والأوَّل أظهُر عند صاحب الكتاب، والثانِي أظْهرُ عند المعْظَم، وشرطوا لجواز المسافرة بها: أنَّ تكُونَ الطريق آمناً، وإلا، فيضمن، وهذا ظاهرٌ في مسألة الوجهَيْنِ، فأما عند وقوع الحَرِيق ونحوه، فكان يجوز أنَّ يُقَالَ: إذا كان احتمالُ الهلاكِ في الحَضَرِ أقربَ منه في السفر، فله أن يسافِرَ بها، قال في "الرَّقْم": وإذا كان الطريق آمناً، فحدث خَوْفٌ، ولو هجم القطَّاع، فألقى المَالَ في مضيعة؛ إخفاءً له فضاع، فعليه (¬1) الضمان. الثالثة: من مرض مرضاً مخوفاً، أو حُبِس، ليقتل، وعنده وديعةٌ، فعليه أو يوصِيَ بها، فلو سكت عنها، وتركها بحالها، ضَمِنَ؛ لأنه عَرَّضَها للفوات؛ إذِ الوارثُ يعتمدُ ظاهِرَ اليد، ويدَّعيها لنفسه، فكان ذلك تقصيراً مضمناً، وهاهنا كلمتَانِ: إحداهما: أنَّ التقصير إنَّما يتحقَّق بترك الوصاية إلى المَوْتِ، فلا يحصُلُ التقصير، إِلاَّ إذا مات، لكن كأنا نتبيَّن عند الموت أنَّه كان مقصِّراً من أول مرضه فضَمَّنَّاه أو يحلف التلَف، إذا حَصَل بعد الموت بالتردِّي بَعْد المَوْت في بئرٍ، حَفَرَها متعدِّياً. والثانية: ربَّما أفهم كلامُ الأئمةِ أنَّ المراد من الوصيَّة بها تسليمها إلى الوصيِّ ليدفَعَهَا إلى المالك، وهو الإيداعُ بعَيْنه، لكن المُعْتَمَدَ أنَّ المراد الإِعلامُ، والأمر بالردِّ [من غَيْر أنَّ يخرِجَهَا من يده، وأنه، والحالَةُ هذِهِ، مخَير بين أن يودع، وبين أن يقتصر على الإعْلام، والأمر بالرد؛] (¬2) لأن وقْتَ الموت غير معلوم، ويده مستمرةٌ على ¬
الوديعةِ، ما دام حيّاً، وهذا بيِّنٌ مما ذكره صاحِب الكتاب في "الوسيط" حيثُ قال: "يودع الحاكِمَ أو أميناً، إن عجز عن الحاكم، أو يُوصِيَ إلى وارثه" ويشهد عليه صَوْناً لها عن الإنكار. ثم يعتبر في الوصية بها أمُورٌ: أحدها: أن يعجز عن الردِّ إِلى المالك أو وكيله، وحيئذٍ، فيودع عند الحاكم أَو يُوصِي إِليه، فاِن عجز، فيودع عند أمينٍ، أو يوصي إلَيْه، هكذا رتَّب الجمهور، كما إذا عزم على السَّفَر، وفي "التهذيب" أنَّه تكفي الوصية، وإن أمكنه الردُّ إِلى المالك؛ لأنَّه لا يَدْرِي متَى يَمُوتُ. والثاني: أنَّ يوصي إلَى أمينٍ، فإن أوصى إِلى فاسقٍ، كان كما لو لم يوصِ (¬1)، فيضمن ولا بَأس أنِ يوصي إلَى بعض ورثَتِهِ، وكذا الإِيداعُ حَيْثُ يجوز أن يُودِعَ أميناً. والثالث: أن يبيِّن الوديعة، ويميِّزها عن غيرها بالإشَارَة إلَى عينها، أو بيان جنْسِها، وصفتها فلو لم يبيِّن الجنْسَ، بل قال: عنْدِي وديعةٌ، فهو كما لو لم يُوصِ، ولو ذكر الجنْسَ، فقال: عنْدي ثَوْبٌ لفلانٍ، ولم يصفه، نُظِرَ؛ إن لم يوجَدْ في تركته جِنْسُ الثوب، فوجَهْان: أحدُهُما: أنَّه يضمن، فيُضَارب ربَّ الوديعة. الغُرَمَاءَ بقيمتها؛ لتقصيره بترك البيان. والثاني: وبه قال أبو إسحاقَ: لا يضمن؛ لأنَّها ربَّما تَلِفَتْ قبل المَوْت، والوديعةُ أمانةٌ، فلا تضمن بالشَّكِّ، وهذا الثانِي هو الذي أوردَهُ صاحبُ الكتاب، والأوَّل ظاهر المذْهَب عند عامة الأصْحاب، وإن وجد في تركته جنْسُ الثوب، فأما أن يوجد أثوابٌ أو ثَوْبٌ واحدٌ، إن وجد أثوابٌ ضمن؛ لأنَّه إذا لم يميِّز، فكأنه خَلَطَ الوديعةَ بغَيْرها، وإن وجِدَ ثَوْبٌ واحد، ففي "التهذيب" "والتتمة": أنه ينزل كلامُهُ عليه، ويدفع إلَى الذي ذكره، ومنْهم من أطلَقَ القول: بأنه إذا وجد جنْس الثوب ضمن ولا يدفع إلَيْه عين الموجود، وأما الضمَانُ، فللتقصير يترك البيان، وأما أنَّه لا يدفع إلَيْه عيْنُ الموجود؛ فلاحتمال أنَّ الوديعةَ قَدْ تَلِفَتْ، والموجود غيرها، وهذا أحسنُ، وفي المسألةِ وجهٌ آخرُ: أنه إنما يضْمَن، إذا قال: عنْدِي ثَوْبٌ لفلان، وذكر معه ما يقتضي الضَّمَانَ، فأما إذا اقتصر عليه، فلا ضمان. ¬
فَرْعٌ: قال الإمام -رحمه الله-: "ولو لم يُوصِ، فادَّعَى ربُّ الوديعة أنه قَصَّر، وقال الورثةُ: لعلَّها تلفت قَبْلَ أنَّ ينسب إلَى التَّقْصِير، فالظاهرُ براءةُ الذِّمة" (¬1) ثم جميع ما ذكرنا [هـ]، فيما إذا وَجَدَ فرضة الإيداعِ أو الوصيَّة، أما إذا لم يَجِدْ بأن ماتَ فجأةً، أو قتل غيلةً، فلا ضمان. الرابعة: إذا مات، ولم يذكر أنَّ عنده وديعةً، لكن وجد في تركته كيس مختوم أو غير مختوم مكتوب عليه أنَّه وديعةُ فلان، أو وجد في جريدتِهِ أنَّ لفلانٍ عندي كذَا وكَذَا، وديعة، لم يجبْ على الوارث التسليمُ، بهذا القَدْر؛ لأنه ربما كتبه هو أو غَيْرُه تلبيساً، وربما اشْتَرَى الكيسَ بَعْدَ تلْك الكتابة، ولم يمحهَا، أو ردَّ الوديعة بَعْدَ ما أثبت في الجريدَةَ، ولم يمحهُ، وإنما يكلَّف الوارث التسليم؛ إما بإقراره أو إقرار المورث ووصية أو بقيام البينة والله أعلم. ¬
ونرجع الآنَ إلَى ما يتعلَّق بنظم الكتاب وترتيبه. وقوله: "وللوديعةِ عاقبتان" تدرُّجٌ لطيفٌ إلى فقْهِ الباب، فإذا حصلَتِ الوديعةُ عند المودع، فإما أنْ تهلك عنده أَو تبقى إن آل أمرها إلى الهلاك، فإنْ لم يكنْ منه تقصيرٌ، فلا ضمان، وقد انقطعَ الكلامُ، أو تبْقَى، وإن كان، فعلَيْه الضمان، ويحتاج فيه إلَى معرفةِ ما يصيرُ به مقصِّراً، وإن بقيت، فيرد. وقوله: "وللتقصير سبْعَةُ أسبابٍ" عدَّها في "الوسيط" ثمانيةً، فجعل الإيداعَ من الغَيْر [سبباً، والمسافرة بالوديعة سبباً، وهاهنا خلط أحدهما بالآخر وعدهما،] (¬1) سبباً واحداً، وما في "الوسيط" أحسنُ، ولو جَعَلَ تَرْكَ الإيصاء سبباً آخَرَ، لاسْتَقَامَ. وقوله: "إِلاَّ أنَّ يودِعَ عند القاضي" مُعْلَمٌ بالواو؛ لما حكينا من الوجّهِ المانِعِ من إيداعِ القاضِي، إذا لم يكُنْ سفرَ عُذْر، سواء وجد المالك أو وكيله، أو لم يجدْ، وَلفظ الكتاب في نَفْي الضَّمَان بإِيداع القاضي، وإن كان مطلقاً إِلاَّ أنَّه أرادَ مَا إِذَا لم يجدِ المالكُ أو وكيلُهُ عَلَى ما هو مبيَّن في "الوسيط" ومع ذلك، فأكثر الأئمة عَلَى خلافِ الجواب المذْكُورة في الكتابِ، كما قدَّمنا، وساعَدَهُ أبو سعيدٍ المتولِّي على اختيار ذَلِكَ الجوابَ، وقوله: "فسافر به ضمن" معلَمٌ بالحاء والألف والواو. وقوله: "إِلاَّ أنَّ يودع في حالة السفر" أي: يودِعَ، وهو مسافرٌ، فله إدامةُ السَّفَر، والسَّيْرُ به. وقوله: "أن يرد إلى المالك" يعني أو وكيله، وقوله: "وإن ترك هذا الترتيبَ، ضمن" معلَمٌ بالواو والميمِ؛ لما سبق، وقوله: "وسافَرَ به تعرَّض لخَطَرِ الضمانِ عَلَى أظهر الوجّهَيْن" بيَّنا أنَّ الأظهرْ عند المعظَم خلافُ ما ذكره، وفي قوله: "فسافَرَ به" تعرُّضٌ، كالإشارة إلَى أنَّه لا يكلَّف ترك السفر، والكلام في أنَّ التجويزَ، هل هو مشروطٌ بسلامة العاقبة، وإذا لم يكلَّف ترك السفر، فسَافَر، فلا بد، وأن يسافر به، وإِلاَّ فهو مضيّع، والحالة هذه. وقوله "ومهما تبرم بالوديعة ... " إلَى آخره مبنىٌّ على تجويز الرفْع إلى القاضِي من غيْر سَفَر وعُذْر منه، وفيه ما قد عرفْتَه وقولُه: "ومن حضرته الوفاة" ليس بمحمولٍ على المحْتَضر، بل كلُّ مريض بخيفة مرضه، كالمحتضر في ذلك لا يلحق بالمرض الكِبَر والشَّيْخُوخة، وقوله: "فلا ضَمَان" تنزيلاً على التَّلَف قبل الموت خلافُ ما رويناه عن عامة الأصْحَاب: أنهم جعلوه ظاهِرَ ¬
المَذْهب، وقالوا: التلَفَ، وإِن حَصَلَ قبل المَوْت، حصل، وهو مقصر بترك البيان، ولا يمكن فرض التَّلَف قبل الوصيَّة؛ لأنَّ قوله: "عتنْدي ثَوْبٌ" يقتضي حصوله في الحال. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّانِي نَقْلُ الوَدِيعَةِ مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ إِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ ضَمِنَ بِالسَّفَرِ، وَإِنْ لَمْ يكُنْ فَإِنْ نَقَلَ مِنْ قَرْيَةِ أهْلِهِ، ضَمِنَ، لِأَنَّ قَرْيَةِ أَهْلِهِ أَحْرَزَ في حَقِّهِ، وَلَوْ كَانَ بِالعَكْسِ لَمْ يَضْمَنِ إِلاَّ إِذَا ظَهَرَ نُقْصَانُ الحِرْزِ في القَرْيَةِ الآهِلَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا أودعه في قرية، فنقل الوديعةَ إلَى قريةٍ أخرَى، نُظِرَ: إنْ كان بينَهُمَا مسافةٌ تُسَمَّى الضرْبُ فيها سفراً، ضمن بالسَّفَر بها، وبعضهم لا يقيد، ويقول: إن كان بينهما مسافةٌ، ضمن كأنه يجعل مطلق المسافة مصححاً اسْمَ السَّفَر، وظاهر الكتَاب يوافِقُ هذا؛ لأنه أراد الأوَّل عَلَى ما قيَّده في "الوسيط" وهو الظاهرُ، وحكى الشيخ أبو حاتم القزوينيُّ وغيره وجهاً: أنَّه إذا كانت المسافةُ دون مسافة القَصْر، وكانت آمنةً، والقريةُ المنقولُ إلَيْها أحرز، لم يضمن، وهذا مصيرٌ إلَى أنَّ المسافَرَةَ بالوديعَةِ، إنما تضمن بشَرْطِ طُول السَّفَرِ، وهو بعيدٌ، فإنَّ خَطَرَ السفَر، لا يتعلَّق بالطُّول والقِصَر، وإنْ كانتِ المسافةُ بحَيْثُ لا تصحِّح اسم السفر، فإِن كان فيها خَوْفٌ، ضمن، وإلاَّ فوجهَانَ: أحدهما: أنَّ الجوابَ كذلك؛ لأنَّ حدوث الخَوْف في الصَّحراء غير بَعيدٍ. وأظهرهما: أنَّه كما لو لَمْ يكُنْ بينهما مسافةٌ أصلاً، بل اتصلتِ العماراتُ، وحينئذٍ: فإِن كان المنقولُ عنها أحْرَزَ، ضَمِنَ، فإنَّ المالك، إذا أودعها، فيها يعتمد حفظه فيها، وإنْ كان المنقولُ إليها أحرَزَ، أو تساويا، فلا ضمانَ، واعلم أن كَوْنَ القرية أحرز له أسبابٌ: منْها حصانَتُهَا في نفسها، أو انضباطُ أهلها، وانقطاع الأيدي الفَاسِدَةِ عنها. ومنْهَا: أنَّ تكون عامرةً كثيرةَ الأهل. ومنْهَا: تكونَ مسكَنَهُ ومسْكَنَ أقاربه، وأصدقائه، فلا يتجاسر أُولُو الغرامة على الهجوم عليه، ولا تمتد أطماعهم وأيْدِيهِمْ إليه، وبهذا الاعتبِارِ: يجُوزُ أن يقرأ لفظ الكتاب عَلَى إضافة "القرية" إلى "الأهل"، فيقال: "من قريةِ أَهلِهِ إلَى قرية غير أهله [وبالاعتبار الذي قبله: يجوز أنَّ يقرأ على الصفة، فيقال: "من قرية آهلةٍ، إلى قرية غير آهِلَةٍ"] (¬1). ¬
والمنزل الآهِلُ: العامِرُ الذي فيه أهله، وهذا الثاني. يوافِقُ لفظ الشافعيِّ -رضي الله عنه- إِلاَّ أنَّ الأشبَهَ بقول صاحب الكتاب الأوَّلُ؛ إِذ الموجودُ في أكثر النُّسَخِ القديمةِ عند تعليلِ الضَّمَان؛ لأنَّ قرية آهِلة أحرزُ في حقه، وقد يوجَدُ في بعْضِها إدخالُ الألف واللام؛ حتَّى يصير: "لأنَّ القريةَ الآهِلَةَ أحرزُ" لكن كلمة "في حقِّه" لا تحسُنُ في هذا الموضع، حينئذ، ولو أراد ذلك لاقتصر علَى قوله: "لأنَّ القرية الآهِلَةَ أحرزُ"إِلاَّ أنَّ يقدِّر عَوْدَ الكناية في لفظة "حقه" إلى المال. وقوله: "إلا إِذا ظَهَر نقصانُ الحِرْزِ في قرية أهله يستمرُّ فيه القراءتان، فيجوز أنَّ يكون الموضعُ مسكنه ومسكن أقاربه، أو عامِراً فيه أهله إِلاَّ أنَّ غيره أحرزُ منْه؛ لمعارض راجح، وحيثُ منعنا من النَّقْلِ، فذلك إذا لم تكن ضرورةٌ، فإنْ وقعتْ ضرورةٌ، فكما ذكرنا في المسافرة، وإذا أراد الانتقال، ولا ضرورةَ، فالطريقُ ما سبق؛ فيما إذا أرادَ السَّفَر والنَّقْل من محلَّةٍ إلى محلَّةٍ أو من دارٍ لي دارٍ كالنقل من قرية إلى قرية متصلتَي العمارةِ، وأما إذا نَقَل من بيت إلَى بيت في دارٍ واحدةٍ، أو خانٍ واحدٍ، فلا يضمن، وإن كان الأوَّلُ أحرزَ منهما، كان الثانِي حِرْزاً أيضاً، ذكره في "التهذيب" وجميع كلام الفصْل مفروضٌ فيما إذا أطْلَقَ الأيداعَ، أما إذا أمر بالحفْظِ في موضعٍ (¬1) معينٍ فسيأتي إن شاء الله تعالَى. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثُ التَّقصِيرُ في دَفْعِ المُهْلِكَاتِ، فَإِنْ تَرَكَ عَلَفَ الدَّابَّةِ أَوْ سَقْيَهَا ضَمِنَ إِلاَّ إِذَا نَهَاهُ المَالِكُ فَإنَّهُ يَعْصِي وَلاَ يَضْمَنُ، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَرِّضِ الثَّوْبَ الَّذِي يُفْسِدُهُ الدُّودُ لِلرِّيحِ ضَمِنَ، فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ إِلاَّ بِاللّبْسِ لَزِمَ اللُّبْسُ، إِلاَّ إِذَا نَهَاهُ المَالِكُ، وَمَهْمَا أَمَرَ صَاحِبَةُ بِعَلَفِ الدَّابَّةِ أَوْ سَقْيِهَا لَمْ يَضمَن عَلَى الأَظْهَرِ؛ لأَنَّ ذَلِكَ مُعْتَادٌ، وَكَذَا لَوْ أَخْرَجَهُ للسَّقْيِ وَالطَّرِيقُ آمِنٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَضْمَنُ لأَنَّهُ إِخرَاجٌ مِنَ الحِرْزِ بِغَيْرِ عُذْرٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يَجبُ عَلَى المودَع دفْعُ مهلكات الوديعةِ على المُعْتَادِ؛ لأنَّه من أصُولِ الحفْظِ، وفيه مسألتان: إحداهما: إذا أودعه دابَّةٌ، فله أحوال: إحداها: أن يأمره بالعَلَفِ والسقْي، فعليه رعايةٌ المأمور، فإنِ امتنعَ؛ حتَّى مضتْ مدةٌ يموتُ مثلها في مثل تلْكَ المدَّة نَظَرَ: إن ماتَتْ، ضمنها، وإن لم تَمُتْ، دخلت في ضمانه، وإن نقصتْ، ضمن النقصان، وتختلف المدةُ باختلاف الحيوانات، وإن ماتتْ قبل مُضِىِّ تلك المدة، لم يضمنْها، إن لم يكُنْ بها جوع، وعطش سابق، وإن كان، ¬
وهو عالم به، ضمن، وإِلاَّ فوجهان، كالوجهين فيما إذا حَبَسَ مَنْ به بعضُ الجوع، وهو لا يعلم به؛ حتَّى مات وهو لا يعلم، قال في "التتمة": "والأظهر أنَّه لا ضمانَ"، وإذا أوجهْنَا الضمان، فضمن الكلّ أو بالقسط حكى أبو الحَسَنِ العبَّادِيُّ فيه وجهين، كما لو استأْجَرَ بهيمةً، ليحملَ عليها مائة مَن فَزَادَ. والثانيةُ: إن نهاه عن العَلَفِ والسقْي، فيعصى، لو ضيَّعها لحرمة الروح، وفي الضمان وجّهَان، قال الإِصطخريّ: "يجبُ، لحصولِ التعدِّي في الوديعة". وقال الجمهور: "لا يجبُ، كما لو قال: اقتل دابتي، فقتلها وعن الشيخ أبي زيد -رحمه الله-: تخريجُ الخلاف، فيما إذا قال: اقتلْنِي، فقتله، هل تجبُ الدية؟ ولم يرتَضُوا هذا البناءَ؛ لأنا إذا أوجبنا الديَةَ، أوجبناها للوارث، ولم يوجد منه إذن في الإِتلاف، وهاهنا بخلافه. الثالثة: أن يطْلق الإيداع فلا يأمر بالعَلَف، والسقْي، ولا ينهي، فعلى المودع القيامُ بهما؛ لأنه التزم حفْظَها. وقال أبو حنيفةَ: لا يلزمُ ذلك. ثم الكلام في مسألتين: أحدهما: لا شك أن المودع لاَ يَلْزَمه العلَفُ من ماله، ولكنْ إن دفَع إلَيْه المالكُ ما يعلِفُها منه، فَذَاكَ، ولو قال: اعْلِفْهَا من مالِكَ، فهو كما لو قال: اقض ديني. والظاهر: أنَّه يرجع علَيه، وإن لم يذكر شيئاً، فيراجع المالكُ أو وكيلُهُ، ليستردَّها، أو يعطي علفها، فإن لم يظْفَرْ بهما، رفع الأمر إلى الحاكِمِ، ليستقرضَ على المالك، أو يبيع جزءاً منْها، أو يؤجِّرها، ويصرف الأجرة إِلى مؤنتها، والقول فيه وفي تفاريعه عَلَى ما سبق في هَرَبِ الجمال، وعلف الضالة، والإِنفاقِ على اللَّقِيطِ ونحوها. والثاني: إنْ عَلَفَهَا وسَقَاها في دارِهِ أَو إِصْطَبْلِه، حيث يسقي ويعلف دوابَّهُ، فقد وَفَّى الحفْظَ حقه، وإن أخرجها من موْضِعِهَا، فإن كان يفعل ذلك في دوَابٌ نفسه؛ لضِيقِ الموضِعِ وغيره، فلا ضمان، وإن كان يسْقِي دوابَّه فيه، فقد قال الشافعيُّ -رضي الله عنه- في "المختصر": "وإن أخرجها إلَى غير داره [وهو يسقي في داره] (¬1) ضمن واختلف الأصحابُ فيه، فأخذ الإصطخريُّ بظاهِرِهِ، وأطلق وجوبَ الضَّمَان؛ لأنه أخرج الوديعة عن الحِرْز بغير ضرورة، وحمله طائفةٌ عَلَى ما إذا كان ذلك الموضِعُ أَحرز، فأما إذا كان الموضِعُ المخْرَجُ إليه أحرَزَ أو تساوياً، فلا ضمان، وحمله أبو إسْحَاق، وآخرون عَلَى ما إذا كان في الإخْراج خوفٌ، فإِن لم يكن، لم يَضْمَن، لاطِّراد العادة به هذا هو ¬
الأظهر؛ ثُمَّ إن تولى السقْيَ والعَلَف بنفسه أو أمر به صاحبَه وغلامه، وهو حاضرٌ، لم تزل يده، فذاَك، وإن بعَثَهَا عَلَى يده لسقْيِها، وأمره بعلفها أو أخرجها من يده، نُظِر: إن لم يكن صاحبُه أميناً، ضمن، وإن كان أميناً، فوجهان: أظهرهما: أنَّه لا يَضْمَن للعادة، والوجهان عَلَى ما ذكر في "الوسيط" مخْصُوصان بمن يتولَّى ذلك بنفسه، فَأَما في حقِّ غيره، فلا ضمان قطعاً، وإذا كان النهْيُ عن العلف لعلَّةٍ تقتضيه، كالقَوْلَنْجِ، فعلَفَهَا قبل زوال العلَّة، فماتت، ضمن، والعبدُ المودَعُ كالبهيمةِ في الأحوالِ المذكورةِ، ولو أودعه نخيلًا؛ حكى الحنَّاطِي فيه وجهين: أحدهما: أنَّ سقْيَها كسَقْيِ الدابة. والثاني: أنه لا يضْمَن بتَرْكِ السقْيِ، إذا لم يأمره (¬1) بالسقْيِ. المسألة الثانية: ثيابُ الصوفِ التي يفسدها الدُّودُ يجبُ على المودَعِ نشرُها وتعريضُها للريح، بل لُبْسُها، إذا لم يندفِعْ إِلاَّ بأن تلبس وتعبق بها رائحة الأدميِّ. فإن لم يفْعَل، ففسدت، ضمن، سواءٌ أمره المالكُ أو سكَتَ عنه، نعم لو نَهَاه عنْه، فامتنع، حتَّى فسدَتْ، كره، ولا يضمَنْ، وأشار في "التتمة" إلَى أنَّه يجيءُ فيه وجهُ الإِصطخريِّ (¬2)، ولو كان الثوبُ في صندوق مقْفَلٍ ففتح القفل، ليخرجه وينشره، قال في التهذيب: فيه وجهان: أصحهما: أنَّه لا يضمن، وهذا كلُّه فيما إذا علم المودَعُ، أما إذا لم يعلَم؛ بأن كان في صندوقٍ أو كيسٍ مشدودٍ، ولم يعلمه المالكُ، فلا ضمان. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرَّابعُ الانْتِفَاعُ فَإِذَا لَبِسَ الثَّوْبَ أَوْ رَكِبَ الدَّابَّةَ ضَمِنَ إِلاَّ أَنْ يَرْكَبَ لِدَفْعِ الجُمُوحِ عِنْدَ السَّقْي، أَوْ يَلْبَسُ لِدَفْعِ الدُّودِ عِنْدَ الحَرِّ، وَكَذَا إِنْ أَخَذَ الدَّرَاهِمَ لِيَصْرِفَهَا إِلَى حَاجَتِهِ (ح) ضَمِنَ، وَإِنْ نَوَى الأَخْذَ وَلَمْ يَأخُذ لَمْ يَضْمَنَ، بِخِلاَفِ المُلْتَقِطِ ¬
فَإنَّهُ يَضْمَنُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ إِذْ سَبَبُ أَمَانَتِهِ مُجَرَّدُ نِيَّتِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ المُودِعَ أَيْضاً يَضْمَنُ، ثُمَّ مَهْمَا تَرَكَ الخِيَانَةَ لَمْ يَعُدْ (ح) أَمِيناً، فَلَوْ رَدَّ عَيْنَ الدِّرْهَم ذَلِكَ إِلَى الكِيس، وَاخْتَلَطَ بِالبَاقِي لَمْ يَتَعَدَّ الضَّمَانُ إِلَى البَاقِي عَلَى أَقْيَسِ الوَجْهَيْنِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا رَدَّ بَدَلَهُ إِلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ خَلْطُ مِلْكِهِ بمْلِكِ الغَيْرِ، وَمَهْمَا أتْلَفَ بَعْضَ الوَدِيعَةِ لَمْ يَضْمَنِ البَاقي إلاَّ إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ، كَمَا إِذَا قَطَعَ طَرَفَ العَبْدِ أَوِ الثَّوْبِ فَإنَّهُ يَضْمَنُ الكُلَّ لِخِيَانَتِهِ، فَإِنْ كَانَ مَخِيطاً لَمْ يَضْمَنْ إلاَّ المُفَوَّتَ عَلَى أَسَدِّ الوَجهَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: التعدِّي باستعمالِ الوديعةِ والإنتفاع بها كلُبْس الثوب، ورُكُوب الدابَّة خيانةً مضمنةً، نعم: لو كان هناك عُذْرٌ بأنْ لبس؛ لِدَفْعِ الدودِ، كما ذكرنا، أو ركِبَ الدابةَ، بحيْثُ يجوز إخراجُها للسَّقْيِ، وكانت لا تنقاد إِلاَّ بالركوب، فلا ضمان، وإن انقادتْ من غَيْرِ ركوبٍ، فركب، ضمن، ولو أخذ الدراهمَ، ليَصْرِفَها إلَى حاجته أو الثَّوْبِ، ليلبسه أو أخرج الدابَّة من مكانِها، ليركبها، ثم لم يستعمل، ضمن؛ لأنَّ الإخرَاجَ عَلَى هذا القصْدِ خيانةٌ. وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: "لا يضمنُ؛ حتى يستعمل" ولو نوى الأخْذَ، [لنفسه] (¬1) ولم يأْخذ، فوجهان: قال ابن سريج -رحمه الله-: يضمن، كما يضْمَنُ الملتقط، إذا أخذ بنية الاختزال، وكما إذا أخذ المودَعُ ابتداءً على قصْدِ الخيانة، وقال الأكثرونَ: لا يضمن؛ لأنه لم يُحْدِثْ فعلاً مع قَصْد الخيانة، وفي اللُّقْطَةِ أحْدَثَ الأخْذَ، مع قصد الخيانة، وأيضاً، فللفرق الذي مرَّ في "باب اللُّقَطَةِ" وقد أعاده هاهنا في الكتاب وأمَّا إذا أخذ الوديعةَ عَلَى قصْدِ الخيانة، فقد حكينا في اللُّقَطَةِ: أنَّه عَلَى وجهين، فإن قلنا: إنه يَضْمَن، وهو الظاهر، فالفرقُ أنَّ الأَخذ فعلٌ أحدثه مع قَصْد الخيانة، والوجهان جارَيانِ فيما إذا نَوى أَلَّا يرد الوديعةَ بعد طَلَب المالك، والحكايةُ عن القاضي أبي حامِد، وعن أقضى القضاة المَاوَرْدِيِّ -رحمهما اللهَ تعالى-: أنَّه يضمن ها هُنَا، ولا يضمن فيما إِذا نَوَى الأَخْذَ، ولم يأخُذْ؛ لأنه إذا نَوَى ألا يردَّ، صار ممسكاً لنفسه، وبنية الأخذ، لا يصير ممسكاً لنفسه. ويجري الوجهان فيما إذا كان الثوبُ في صندوق غير مقْفَلٍ، فرفع رأسه، ليأخذ الثوب، ويلبسه، ثم بَدَا لَهُ؛ لأنه لم يُحْدِث في الثوب فعلاً، ولو كان الصُّنْدوق مقفلًا، والكيسُ مختوماً، ففتح القفل، وفَضَّ الخَتْمَ، ولم يأخذ ما فيه، فأحْدُ الوجهين، وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله- أنَّه لا يضمن ما فيه وإنما يضمن الختم الذي تَصَرَّف فيه". ¬
وأصحُّهما: أنَّه يضْمَنُ ما فيه؛ لأنه هتَكَ الحرْزَ، وعلَى هذا؛ فهل يضمن الصندوقَ، والكِيس، فيه وجهان؛ لأنه لم يقصد الخيانةَ في الظَّرْف، ولو خرق الكيس، نظِرَ: إنْ الخَرْق تحت موضع الخَتْم، فهو كفَضِّ الختم، وإن كان فوقه، لم يضْمَن، إِلاَّ نقصان الخَرْق (¬1)، ولو أودعه شيئاً مدْفُوناً، فنبشه، فهو كَفَضِّ الختم، ولا يلتحق بفتح القُفْل، وفض الختم حَلُّ الخيط الَّذي يشدُّ به رأْسُ الكيس، أو رزمة الثياب؛ لأنَّ القصْدَ منه المنعُ من الانْتِشَار لا أن يكون مكتوماً عنه وعن الحاوِي: نقلُ وجهين؛ فيما إذا كانت عنْده دراهمُ، فوزنها، أو عدَّها، أو ثيابٌ، فذرعها ليعرف طُولَها وعرضَهَا، أنَّه، هَلْ يضمن؟ ويشبه أنَّ يجيء هذا الخلافُ في حلِّ الشَّدِّ (¬2). وأما قوله: "مهما ترك الخيانة" إلى قوله: "على أحد الوجهين" هذا شرحُه، ثم في الفصل ثلاثُ مسائِلَ: إحداها: إذا صارت الوديعةُ مضمونةً على المودَعِ، بانتفاعِ، أو إخراجٍ من الحَرْزِ، أو غيرهما من وجوه التقْصيرِ، ثم إِنه ترك الخيانةَ، وردَّ الوديعة إلَى مكانهَا، لم يبرأ، ولم تعُدْ أمانته. وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: "يبرأ، ويعود أميناً" إِلاَّ أنَّه سلم أنَّه لو جَحَدَ الوديعةَ، وضَمِنَها بالجُحُود، ثم أقر بها، لا يبرأ فقاس الأَصحاب سائِرَ أسباب الضمانِ عليه، وأيضاً: فلو ردَّ السارقُ المسروقَ إلى موضعه، لا يبرأ، فكذلك هاهنا، ولو ردَّها هنا إلى المالِك، ثم إنه أودعه ثانياً، فلا شك في أنَّه يعود أميناً، ولو لم يردَّها، ولكن أحدث المالِكُ له استئماناً، فقال: أذنْتُ لك في حفْظِها أو أودعتكها أو استأمنتك، أو أَبرأتك عن الضمان، فوجهان: أحدهما: ويحكى عن ابن سُرَيْج: أنَّه لا يعود أميناً، لظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم- "عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تؤدِّيه" (¬3). وأصحُّهما: وهو ظاهر نصِّه في باب العارية عودُهُ أميناً؛ لأنَّ التضمين لحقِّ المالك، وقد رضي بسقوطه، وروى بعضهم الأولَ عن نصِّه في الأمِّ فعلَى، هذا: يجوزُ التعبيرُ عن الخلاَفِ بالقولَيْنِ، وهو كالخلافِ فيما إذا حَفَرَ بئراً في ملْكِ غيره عُدْواناً، ثم أبرأه المالكُ عن ضمان الحَفْر، ولو قال في الابتداء: أودعتك كذا، فإِن خنت، ثم ¬
تركت الخيانة، عدتَّ أميناً لِي، فخان، ثم تركَ الخيانةَ. قال في التتمة: "لا يعودُ أميناً، بلا خلاف"؛ لأنه لا ضمانَ حينئذٍ حتَّى يسقطه، وهناك الضمانُ ثابتٌ، فيصحُّ إسقاطه، وفي هذا شيءٌ آخرُ، وهو أن الاستئمان الثانِيَ معلَّق وقد سبق الكلامُ في تعليق الوديعة. فَرْعٌ: له شبه بما نحن فيه لو قال: "خذْ هذا وديعةً يوماً، وغير وديعة [يوماً فهو وديعة أبداً ولو قال وديعة يوماً وعارية يوماً فهو وديعةٌ] (¬1) في اليوم الأوَّل، وعاريةً في اليوم الثانِي ثم لا تعود وديعةً أبداً، حكاه القاضي الرويانيُّ عن وفاق الأصحاب (¬2) -رحمهم الله- في "التجربة". المسألة الثانية: إذا خلط الوديعةَ بمالِ نفسه، وارتفع التمييزُ، ضمن، [وإن خلَط] بالمثل، أو الأجودِ، [فعن مالك أنَّه] لا يضمن، وإن خلطها بمال آخر للمالك كما لو كانتْ له دراهُم في كيس فخلط ما في أحدهما بالآخر، فيضمن أيضاً عَلَى أظهر الوجهين؛ لأنه ربما ميَّز بينهما لغَرَضٍ دعا إليه فالخلْطُ خيانة، ولو كانتْ عنده دراهمُ، فأخذ منها درهماً، فأنفقه ثم ردَّ مثله إلَى موضعه، لا يبرأ من الضمان، ولا يملكه ربُّ الوديعة إِلاَّ بالدفْعِ إليه، ثم إن كان المردُودُ لا يتميز عن الباقي، صار الكُلُّ مضموناً علَيْهِ، لخلْطِه الودَيعةَ بمالِ نفْسه، وإن كان يتميَّز، فالباقي غيرُ مضمونٍ عليه، وإن لم ينفقِ الدراهمَ المأخوذةَ، ورده بعينه، فلا يبرأ عن ضمان ذلك الدَّرْهم، ولا يصير الباقِي مضموناً عليه، إِن كان يتميَّز ذلك الدرْهَم عن غَيْرِه، وإلا فوجهان: أحدهما: أن الجواب كذلك؛ لخَلْطِ المضمونِ بغَيْرِ المضمون. وأصحُّهما: المنْعُ؛ لأنَّ هذا الاختلاطَ كان حاصلًا قبل الأخذِ، فعلَى هذا، لو تلفَتِ العشْرَةُ، لم يلزمْهُ إلا درْهَمٌ، لو تلف منه خمسةٌ، لم يلزمه إلا نصْفُ درهم، وقد يعبَّر عن الخلافِ بالقَوليْن؛ لأنَّ الثاني -ظاهر نصِّه في "المختصر" والأول ينسب إِلَى رواية الربيع -رحمه الله- وهذا كله فيما إذا كانَتِ الدراهمُ غير مختومةً، ولا قُفْلَ عليها، أو قلنا: إِن مجرد الفضِّ والفَتْح لا يقتضي الضمانَ، أما إذا فَرَّعنا عَلَى أنه يقتضيه، وهو الأصحُّ، فبالفَضَّ والفَتْح يضمن الجميعَ. المسألة الثالثة: إذا أتلف بعْضَ الوديعة، ولم يكُنْ له اتصالٌ بالباقي، كأحد الثوبَيْنِ؛ فلا يضمن إِلاَّ المُتْلَفَ، وإن كان له اتصالٌ؛ كتخريق الثوب، وقَطْع طرف العَبْد، والبهيمة، نُظِرَ: إن كان عامداً، فَوَجْهَان على الكلِّ، فيضمن، وإن كان مخطئاً، ¬
ضمن المُتْلَفَ، وفي الباقي وجْهَان: أحدهما: يضمنه أيضاً، ويسوِّي بين العبد والخطأ فيه، كما سوَّى في القَدْر التَّالف. وأصحُّهما: المنْعُ؛ لأنه لم يتعدَّ، وإنما ضمن المتْلَفَ لفواته. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الخَامِسُ: المُخَالَفَةُ فِي كيْفِيَّةِ الحِفْظِ فَإذَا سَلَّمَ إِلَيْهِ صنْدُوقاً فَقَالَ: لاَ تَرْقُد عَلَيْهِ فَرَقَدَ عَلَيْهِ فَقَد زَادَ خَيْراً فَلاَ يَضْمَنُ إِلاَّ إِذَا أَخَذَ اللُّصُوصُ مِنْ جَنْبِ الصُّنْدُوقِ فِي الصَّحْرَاءِ فإِنَّهُ يَضْمَنُ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ المُخَالَفَةِ جَائِزَةٌ بِشْرْطِ سَلاَمَةِ العَاقِبَةِ، وَلَو سَلَّمَ إِلَيْهِ دَرَاهِمَ وَقَالَ: ارْبِطْهَا في كُمِّكَ فَأَخَذَهَا في يَدِهِ فَأَخَذَهَا غَاضِبٌ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّ اليَدَ هَهُنَا أَحْرَزُ، فَإِنِ اسْتَرْخَى بِنَوْمٍ أَوْ نِسْيَانٍ، ضَمِنَ، وَإِنْ رَبَطَ في كُمِّهِ امْتِثالًا لَهُ وَجَعَلَ الخَيْطَ الرَّابِطَ خَارجَ الكُمِّ فَأَخَذَهُ الطَّرَّارُ ضَمِنَ لِأَنَّ ذَلِكَ إِغْرَاءٌ لِلطَّرَّارِ، فَإِنْ ضَاعَ بِالاسْتِرْسَالِ لَمْ يَضْمَنُ وإِنْ جَعَلَ الخَيْطَ دَاخِلَ الكُمِّ فَالحُكْمُ بِالعَكْسِ مِنْ هَذَا، وَإِنْ قَالَ: احْفَظْ فِي هَذَا البَيْتِ وَلَمْ يَنْهَ عَنِ النَّقْلَ فَنَقَلَ إِلَى مَا هُوَ دُونَهُ فِي الحِرْزِ ضَمِنَ، وَإِنْ نَقَلَ إِلَى مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ فَوْقَهُ لَمْ يَضْمِنْ، إِلاَّ إِذَا هَلَكَ بِسَبَبِ النَّقْلِ كَانْهِدَامِ البَيْتِ المَنْقُولِ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مُكْتَرِي الدَّابَّةِ إِذَا رَبَطَهَا في اَلأِصْطَبْلِ فَمَاتَتْ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنِ انهَدَمَ عَلَيْهَا ضَمِنَ، وَإِنْ نَهَاهُ عَنِ النَّقْلِ فَنَقَلَ ضَمِنَ لِصَرِيحِ المُخَالفَةِ، وَإِنْ كَانَ المَنْقُولُ إِلَيْهِ أَحْرَزَ إِلاَّ إِذَا كَانَ النَّقْلُ لِضَرُورَةِ غَارَةٍ أَوْ حَرِيقٍ، وَلَوْ نَقَلَ مِنْ صُنْدوقٍ إِلَى صُنْدوقٍ وَالصَّنَادِيقُ لِلمَالِكِ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُودِعِ فَهُوَ كَالبَيْتِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا أمره بحفْظِ الوديعةِ عَلَى وجْهٍ مخصوصٍ، فعَدَلَ عنه إلَى وجهٍ آخر، وتلفَتِ الوديعةُ، فإن كان التلَفُ بسبب الجهةِ المعْدُولِ إِلَيْها، ضمن، وكانتِ المخالفةُ من أسباب التقصير؛ لأنه لو راعَى الوَجّه المأمورَ به، لم يتحقَّقِ التلَفُ، ولو حصل التلَفُ بسببٍ آخرَ، فلا ضمان، وهذه جملة يفصِّلها صُوَرٌ: الصورة الأُولَى: أودعه مالاً في صندوقٍ، وقال: لا ترقُدْ عليه، فرقَدَ علَيْه، نُظِرَ: إن كان تلف بالرقود، بأن انكسر رأْسُ الصندوق بثقله أو تلف ما فيه، وَجَبَ الضمان، وإلا، فإن كان في بيت محرز، وأخده اللُّص، أو في صحراء، وأخده اللُّص من رأس الصندوق، فعن مالك -رحمه الله-: أنه يضمن، وبه قال بعض الأصحاب؛ لأَن الرقود عليه يوهِمُ السارقُ نفاسَةَ ما فيه، فيقصدُهُ، والمذْهَب: أنَّه لا يضمن؛ لأنه زاد احتياطاً وحفْظاً، والتلف ما جاء مما أتَى به ويجري هدا الخلاَفُ فيما إذا قَالَ: لا تقفل عليه، فأقفل، أو لا تَقْفِل عليه، إِلاَّ قُفْلاً واحداً، فأقفل قُفْلَيْن، أَو لا تَغْلِق باب البيت، فأغلقه، وإِن كان في الصحراء، وأخَذَ اللُّص من جنب الصندوق، فوجهان منقولان في "التتمة":
أحدهما: أنه لا يضمن؛ لأنه إذا كان فَوْق الصندوق، يطلع على الجَوَانِب كلِّها، فيكون أبلغ في الحفْظِ. وأظهرهما: وهو المذكورُ في الكتاب: أنه يضمن؛ لأنَّه إذَا رقَدَ علَيْه، فقد أخلى جنْب الصندوق، وربما لم يتمكَّن السارقُ من الأَخذ، لو كان بجَنْبه، وإِنما يظْهَر هذا، إذا فرض الأخْذ من الجانب الَّذي لو لم يرقُدْ عليه، لكان يرقُدُ هناك، وذلك بأنْ كان يرقُدُ قُدَّام الصندوق، فتركه فانْتهَزَ السارق الفرصَة، أو قال المالِكُ: أرقد قُدَّامه، فرقد عليه، فأخد السارقُ المالَ من قُدَّامه، وقد تعرض لهذا القَيْد متعرَّضون. وقوله في الكتاب "فقد زاد خيراً" في بعض النُّسَخ: "فقد زاد حِرْزاً" وهو لفظ الشافعيِّ -رضي الله عنه-. وقوله: "فلا يضمن" مُعْلَمٌ بالواو والميم. وقوله: "يضمن" بالواو، وقوله: "لأن مثل هذه المخالفة جائزةٌ، بشرط سلامة العاقبة" يعني به ما بينا أنه لا بأس بالعُدُول من جِهَةِ حفْظٍ إِلَى مثلها، لكن لو أفضَى المَعْدُول إلَيْه إِلى التلف، وجب الضَّمَان وإذا أمره بدَفْنِ الوديعة في بَيْته. وقال: لا تَبْنِ عليه، فبنَى، فهو كما لو قال: لا ترقُدْ علَيْه فرقد، ثم هو عند الاسترداد منقوض غير مغروم على المالك، كما لو نقل الوديعة عند الضرورة لا يرجع بالكراءِ على المالك؛ لأنه متطوع، نصَّ عليه في "عيون المسائل". الثانية: إذا سلم إلَيْه دراهم، أو غيرها، وقال: اربطْهَا في كُمِّكَ، فأمْسَكَها في يده، فالنصُّ في "المختصر": أنه لا ضمان، وعن رواية الربيع -رحمه الله-: أنه يضمن، وحكى العراقيِّون وغيرهم فيها طريقَيْن: أحدهما: إن المسألة عَلَى قولَيْن: وجْهُ الأول: أن اليد أحرزُ من الكُمِّ لأنَّ الطَّرَّاز يَأخُذ من الكم، ولا يتمكَّن من الأَخد من اليد، ووجه الثاني: أنَّ ما في اليد يضيعُ بالنِّسْيَان، وَبَسْطِ اليدِ، وما في الكم لا يضيع. وأصحُّهما: تنزيل النَّصيَّن على حالَتَيْن، وفيه طريقان: أحدهما: أنه، إنْ لم يَرْبِطْها في الكُمِّ، واقتصر على الإِمْسَاك باليد، ضمن، كما نقله الرَّبيع، وروايةُ المزنىِّ محمولةٌ عَلَى ما إذا أمسك باليد بَعْدَ الربط في الكم. وأصحُّهما: وهو المذكورُ في الكتاب، واختارَهُ الشَّيْخ أبو حامد: أنَّ رواية المُزَنِيِّ محمولةٌ على ما إذا تلفت بأخْذِ غاصبٍ، فلا يضمن؛ لأنَّ اليَدَ أحرزُ بالإضافة إليه، وإن سقطت بنوم، أو نسيان، ضَمِنَ؛ لأنها لو كانَتْ مربوطةً في الكم، ما ضاعت بهَذَا السَّبَب، فالتَّلَف حَصَل بسبب المخالَفَة، ولفظ النَّصِّ في "عيون المسائل" مصرِّح بهذا
التنزيل ولو لم يربطْها في الكُمِّ، وجعلَهَا في جَيْبِهِ، لم يضمن؛ لأنه أحْرَزُ إِلاَّ إذا كان واسعاً غير مزرور. وفيه وجه ضعيفٌ: أَنَّهُ يضمن، وبالعَكْس يضمن لا محالة لو أَنه امتثلَ أَمْرَهُ، فرَبَطَهَا في كُمِّه، فلا يحتاج في ذلك إِلى الإمساك باليَدِ، ثم ننظر: إنْ جعل الخَيْط الرابط خارجَ الكُمِّ، فأخذها الطَّرارُ، ضمن؛ لأن فيه إظهارَ الوَدِيعة، وذلك يتضمن تنبيه الطرار، وإغراءَهُ، وأيضاً: فإن قطْعه، وحَلَّه يكون أسهل على الطَّرَّار، وإن ضاع بالاسترْسَالِ، وانحلال العقدة، لم يضمن إذا كان قد احتاطَ في الربْط؛ لأنها إِذَا انحلَّت بقيت الدراهمُ في الكمِّ، وإن جعل الخيْط الرابط دَاخِلَ الكم، انعكس الحكم، فإنْ أخذه الطَّرَّار، لم يضمن، وإن ضاع بالاسترْسَالِ، ضمن؛ لأنَّ العقْدَةَ، إِذَا انحلَّت، تناثَرَتِ الدراهمُ، هذا ما قاله الأصحابُ، وهو مشكِلٌ لأنَّ المأمورَ به مطلَقُ الربْطِ، فإذا أَتَى به، وجَبَ ألا ينْظُرَ إلَى جهاتِ التَّلَف بخلاَفِ ما إِذا عَدَل عن المأمور به إلَى غيره، فأفضَى إِلَى التَلفِ، وقضيَّة هذا أن يقال إِذا قال: احفظ الوديعة في هذا البَيْت، فوضَعها في زاويةٍ منه، فانهدمَتْ عليها، يضمن؛ لأنَّها لو كانَتْ في زاوية أخَرى، لسلمت ومعلُومٌ أنَّه بعيدٌ ولو سلم إِليه دراهمُ في السُّوق، أو طريق، لم يقُلِ: اربطْهَا في كمك، ولا امْسِكْها في يدك، فربَطَها في الكُمِّ، وأمسكها باليد، فقد بالَغَ في الحفظ، وكذا لو جعَلَها في جَيْبهِ، وهو ضيِّقٌ أو واسِعٌ مزرور، فإن كان واسعاً غَيْر مزرورٍ، ضمنها؛ لسهولةِ تناوُلهاَ باليد. ولو أمسكَهَا بيده، ولم يربطْها في الكُمِّ، لم يضْمَنْ، إن تلفت بأخْذِ غاصبٍ، وضمن إنْ تلفت بغفْلِة أو بنَوْمٍ، ولو ربطها، ولم يمسكْها بيده، فقياسُ ما سَبَق النَّظَرُ إِلَى كيفية الربط، وجهة التلف. ولو وضَعَها في الكُمِّ، ولم يربطْ فسقطت، فإن كانَتْ خفيفةً، لا يَشعُرُ بها، ضَمِن؛ لتفريطِهِ في الإحْرَاز، وإن كانَتْ ثقيلةً، يشْعُر بها، لم يضْمَنْ، ذكره في "المهذب" وقياسُ هذا؛ يلْزَمُ طَردُهُ فيما سبَقَ من صُور الاسْتِرْسال كلِّها، ولو وضعها في كُورِ عمامَتِه، ولم يشدَّ، ضمن، ولو أودَعَه في السوق، وقال: احفَظْ وديعتِي في بيتِكَ، فينبغِي أن يَمْضِيَ إلَى بيته، ويحرزها فيه، فإنْ أخَّر من غير عُذْر، ضمِن (¬1) وإن أودعه في البَيْت، وقال: احفَظْها في البَيْت، فربَطَها في الكم، وخرج بها، صَارَتْ مضمونةً عليه، وكذا لو لم يخْرُجْ بها، وربَطَها في الكُمِّ مع إِمكان إحْرَازها في الصندوق ونَحْوِهِ وإن كان ذلك لقفل تعذَّر فتْحُه، أو ما أشبه ¬
ذلك، لم يضْمَن، قال في "المعتمد": "وإن شدَّها في عَضُدِهِ، وخَرَج بها، فإنْ كانَ الشَّدُّ مما يلي الأَضْلاَعَ، لم يضْمَنْ؛ لأنه أَحْرَزُ من البَيْت، وإن كان الشدُّ من الجانب الآخَرِ، ضمن؛ لأن البيت أحرز منه، والله أعلم. وفي تقييدهم الصورةَ بما إذا قَالَ: "احفْظهَا في البيت" ما يُشْعِرُ بأنه لو أودعه في البَيْت، ولم يَقُلْ شيئاً، يجوز أنْ يخرج بها مربوطةً، ويشبه أن يكُونَ الرجُوعُ إلَى العَادَةِ. الصورة الثانية: إذا عين للوديعةِ مكاناً؛ بأن قال: احْفَظْها في هذا البَيْت، أو في هذه الدار، فإما أن يقتصَر علَيْهِ، أو ينهاه مع ذلك عَنِ النَّقْل، فإن اقتصر علَيْه، فنقلها إلَى ما دُونَه في الحرز، ضَمِن، وإن كان المنقولُ إِليه حِرْزاً لمثْلِها، وإن نقلها إلَى بيتٍ مثْلِ الأوَّل، أو أحرز منه، لم يضمن، ويحمل التعيينُ عَلَى تقدير الحِرْز به، لا دون التخصِيص الَّذي لا غَرَضَ فيه، كما إذا أجَّر أرضاً لزراعةِ الحنْطَةِ، يجوز أن يزرعها، وما ضَرَرهُ مثْلُ ضَرَرْها، نَعَم: لو كان التلف بسبب النقْل، كما إذا انْهَدَم علَيْه البيتُ المنقولُ إلَيْه، فيضمن؛ لأنَّ التلَفَ هاهنا جَاءَ من المخالَفَةِ. وقوله في الكتاب وكذلك مكتري الدابَّة للرُّكُوب، إذا ربَطَها في الإصْطَبْلِ، فماتَتْ، لم يَضْمَنْ، وإن انهدم عليها، ضمن المسألةُ مذكورةٌ في الإِجارةِ، والغرضُ هاهنا الاستشهادُ، والسرقةُ من البَيْت المنْقُولِ إليه كالانهدام فيما ذكَره صاحب "التهذيب" و"التتمة" فلفظ الكِتَابِ في الإِجَازَةِ يقتضي إلحاقَ السَّرِقَةِ والغَصْب بالمَوْت، وكذا أورده بعْضُهمِ، وإن نهاهَ عن النَّقْل، فقال: احفَظْهَا في هذا البيت، ولا تنْقُلْها، فإن نقل من غير ضَرُورَةٍ، ضمن؛ لصريحِ المخَالَفةِ من غَيْر حاجة، سواء كان المنقولُ إليه أحْرَزَ، أو لم يكنْ وقال أبو سعيد الإِصطخريُّ إن كان مثل الأوَّلُ أحرزَ، لم يضمن، كما لو لم يَنْه، وإن نقل ضرورة غارةٍ أوَ غلبةِ أو حريق اللصوصِ لم يضمن، إذا كان المنقولُ إليهِ حِرْزاً لمثْلِها، ولا بأس بكَوْنه دُونَ الأوَّل، إذا لم يجدْ أحرَزَ منْه، ولو ترك النقْلَ، والحالَةُ هذه، فأصحُّ الوجهين: أنه يضمن؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أنَّه قَصَدَ بالنهي عن النَّقْلَ نوعاً من الاحْتِيَاطِ، فإذا عرضَتْ هذه الأحوالُ، فالاحتياطُ النقْلُ، وإن قال: "لا تَنْقُلْها، وإن حدثَتْ ضرورةٌ" فحدثَتْ ضرورةٌ، فإن لم ينقلْ (¬1)، لم يضمَنْ، كما لو قال: "أَتْلِفْ مالِي" فأتلفه، وفيه وجه عن الإِصطخريِّ -رحمه الله- وإن نقل فوجهَان: أصحهما: أنه لا يضمن أيضاً؛ لأنه قصد الصيانةَ والإصْلاحَ، وحيثُ لا يجوزُ النقْلُ إِلاَّ بضرورةٍ، فلو اختلَفَ في أنَّه، هَلْ كان ضرورةً، فإن عرف هناكَ ما يدَّعيه ¬
المودَعُ صُدِّقَ بيمينه، وإِلاَّ طولب بالبينة، فإن لم يكن بينه صدق المالك بيمينه. وحكى أبو الفرج الزاز -رحمه الله- وجهاً أنَّ ظاهِرَ الحال يغنيه عن اليَمِين، وحكَى أيضاً وجهاً غريباً فيما إذا لم يَنْهَ عن النَّقْلَ، فَنَقَلَ إلَى ما دونه: أنَّه لا يَضْمَن فيجوز أن يعلم لذَلِكَ قولُهُ في الكَتاب: "فنقل إلَى ما دُونَه في الحِرْزِ، ضمن" بالواو، وقوله: "فإن نهاه عن النقْلِ، فنقل، ضَمِنَ" معلَمٌ بالواو؛ لما سبق، وبالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة أنَّه لا بأس بالنقل من بيت إِلَى بيتٍ آخر من الدار، [وسلم أنه لا يجوزُ النقْلَ من دار] (¬1) إِلَى دارٍ أخرَى، إذا نهَى عن النقل. ثم ذكر الأئمة: أنَّ جميعَ هذا فيما إذا كان البَيْتُ المعيَّن والدارُ المعيَّنة للمودَعِ، أمَّا إذا كان للمالك، فليس للمودَعِ إخراجُهَا عن ملكه بحالٍ إِلاَّ أن تعرض ضَرورةٌ. الصورة الثالثة: إذا نقل الوديعة من ظرف إِلَى ظرف كخريطة إلَى خريطةٍ، وصندوقٍ إِلَى صندوق، فَقَدْ أطلَقَ صاحبُ الكتاب أنَّه إن كانت الظروفُ للمالكِ، لا يضمن، وأطْلَقَ مطْلِقُون، والحالةُ هذه؛ أنَّه يضْمَن، كما لو نقَلَها من بيته. والَّذي يتلخص فيه من كَلامِ الأصحاب عَلَى اضطرابه [أنَّه] إنْ لَمْ يُجِرْ فَتْحُ قُفْلٍ، ولا فَضَّ خَتْم، ولا خَلْط، ولم يعيَّنِ المالَكُ ظرفاً، فلا يضمن بمجرَّد النقْل، سواءٌ كانت الصناديقُ للمودَعِ أو للمالكِ، وإذا كانَتْ للمالكِ، فحُصُولها في يد المودَعِ قد يكونُ بجهة كونِهَا وديعة، أيضاً إما فارغةٌ أو مشغولةٌ بالوديعةِ، وقد تكون بجهةِ العَارِية، وإنْ جرَى شيء من ذلك، فأما الفضُّ، والفَتْح، والخَلْط، فَقَدْ مَرَّ أنها مضمنةٌ، وأما إن عَيَّن ظرفاً، نُظِر: إن كانَتِ الظروفِ للمَالِك، فوجهان: أحدُهُمَا: أنه يضْمَن؛ لأن التفتيشَ عن المتاعِ المَوْضُوعِ في الصنْدُوقِ، والتَّصَرُّفَ فيه بالنَّقْل لا يليقُ بحالِ المُودَع. وأصحُّهما: المَنْعُ؛ لأنَّ الظرف والمظْرُوف وديعتَانِ، وليس فيه إِلاَّ أنَّه حفْظُ أحدِهِما في حرزٍ، والآخر في غيره، فعلَى هذا: إن نقل إلَى المثل، أو الأحرز، فلا بأْسَ، وإن نقل إلَى ما دُونَه، ضمن، وإن كانَتِ الظروفُ للمودَعِ، فهو كالبُيُوتِ بلا خلاَفٍ. ومما يناسب صور الفصل، لو قال: احفَظْ وديعتِي في هذا البَيْتِ، ولا تدخل عليها أحداً، أو لا تستعن عَلَى حفْظِها بالحارسِينَ فخالف فإن حصل التلف؛ بسبب المخالفة؛ بأن سَرَق الدين أدخَلَهُم أو الحارِسُون، ضمن، وإن سرق غَيْرُهم، أو وقع ¬
حَرِيقٌ، فلا، ولو أودَعَه خاتماً، وقال: اجعلْهُ في خِنْصَرِكَ، فجعله في البِنْصَرِ، فهو أحرزُ لأنَّها أغلط، لكنْ لو انكسر، لِغِلَظِهَا، ضمن، وكذا لو أمسكه في أنحلته العلْيَا، لأنه في أصْلِ الخنْصر أحْرَزُ، ولو قال: اجعله في البنْصِر، فجعله في الخنْصر، إن كان لا ينتهِي إلَى أصلِ البنصرِ، فالذي فعله أحرزُ، فلا يضمن (¬1)، وإن كان ينتهي إِلَيْهِ، ضمن؛ لأن ما يثبت في البنْصِر، إذا جعل في الخنْصر، كان يعرض السقوط، ولو أودعه الخاتَمَ، ولم يذكر شيئاً، فإن جعله في غير الخنْصر، لو يضْمَن إِلاَّ أنَّ المرأة قد تختم في غَيْر الخنْصر، فيكون غير الخنْصر في حقِّها، كالخنصر إن كانت مودعة، وإن جعله في الخنْصر، ففيه احتمالانِ عن القاضِي الحُسَيْنِ وغيره: أحدهما: ويحْكى عن أبي حنيفة -رحمه الله-: أنَّه يضْمَن؛ لأنه استعمالٌ. والثاني: أنَّه إنْ قصد الحفْظَ، لم يضمن، وإن قَصَد الاسْتعمال، ضمن وفي "الرَّقم" لأبي الحَسَنِ العبَّادِيِّ: أنَّه إن جعلَ فصَّه إلَى ظهر الكف، ضمن، وإلاَّ (¬2)، فلا؛ كأنه استدلَّ بجعله إلَى ظهرِ الكَفِّ عَلَى قصد الاستعمالِ، لكن من آداب الختم: أن يجعل الفَصُّ إلَى بطْنِ الكَفِّ، وأنه يقدح في هذا الاستدلالِ والجواب المطْلَقِ فيما إذا قَالَ: اجعلْهُ في البنْصِر، فجعله في الخنْصر، يُنْظَر إلَى هذا الخلَاف، ولو أودعه، وقال: لا تخبر بوديعتي أحداً، فخالف فسَرَقَها مَنْ أخبره، أو من أخْبَرَ من أخبره، ضمن المودَعُ؛ لاقضاء الإخْبَار إِلَى السرقة، ولو تلفَتْ بسببٍ آخَرَ، لم يضمن ذكره الشيخ أبو الفَرَج. وزاد العباديُّ على هذا؛ فقال: لو أنَّ رجلاً من عرضِ الناس سأل المودع، هل عندك لفلانٍ وديعةٌ، فأخبره بها، ضَمِنَها؛ لأنَّ كتمانِهَا من حِفْظِها، فإذا أخبره، فقد ترك الحِفْظَ، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: السَّادِسُ: التَّضْيِيغ وَذَلِكَ أَن نُلقِيَهُ في مَضْيَعَةٍ، أَو يَدُلَّ عَلَيْهِ سَارِقَاً، أَوْ يَسْعَى بِهِ إِلى مَنْ يُصَادِرُ المَالِكَ فَيَضْمَنُ، وَلَوْ ضَيَّعَ بِالنِّسْيَانِ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ سَلَّمَ مُكْرَهَاً فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الظَّالِمِ، وَفِي تَوَجُّهِ المُطَالَبَةِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ، وَمَهْمَا طَالَبَهُ ¬
الظَّالِمُ فَعَلَيهِ أنْ يُخْفِيَ، وَلاَ بَأْسَ أنْ يَخلُفَ كَاذِبَاً لِلْمَصْلَحَةِ، فَإِنْ خَيَّرَ بَيْنَ الحَلِفِ بالطَّلاَقِ أَوِ التَّسْلِيمِ فَإِنْ سَلَّمَ ضَمِنَ، وَإِنْ حَلَفَ طُلِّقَتْ زَوجَتُهُ لِأَنَّ الخِيَارَ فِي التَّعْيِينِ إِلَيْه. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مِنْ أسباب التَقْصيرِ التضْيِيعُ، فإنَّ المودَعَ مأمورٌ بحفْظِ الوديعةِ، حيثُ يكونُ حرزاً لمثْلِها وبالتَحرُّز عن أسباب التَّلَفَ، فلو أخر إحرازَهَا مع الإمكان، ضمن، ولو جعَلَها في مضْيَعَةٍ أو في غيرِ حِرْزٍ مثلها، فكلذلك، ولو جعلها في أحْرَزَ من حرزٍ مثلها، ثم نَقَلَها إِلَى حرزِ المثلِ، فلا بأس، إذا عُرِفَ ذلك، ففيه صورٌ: الأولَى: لو سعَى بالوديعة إلَى من يصادِرُ المالك، ويأخذ أموالَهُ، ضمنها؛ بخَلافِ ما إذا كانَتِ السعايةُ من غير المودَعِ، فإنه لم يلتزم الحفْظَ، ولو أخبر اللصوصَ بالوديعة، فسرقوا؛ إِن عَين الموضِعَ، ضمن، وإلا فلا، وكذلك فَصَّل صاحب "التهذيب" وقد يُشْعِر به لَفْظُ الكتاب؛ حيثُ قال: أو يَدُل عليه سارقاً. الثانية: لو ضيَّع الوديعةَ بالنِّسيان. فأحد الوجهين: أنه لا يَضْمَن؛ لأن الناسِيَ غير متعدٍّ، والمودع إنَّما يضمن بالتعدِّي. والثاني: يضمن؛ لأن التضْييع سَبَبُ التقصير، فيستوي فيه النِّسْيان وغيره، كالإتلاف، وبالأوَّل أجاب بَعْضُ الَمتأخِّرين، ونسب إِلَى الخضريِّ؛ لأنه سُئِلَ عن امرأةٍ، سلمت خلخالَهَا إلَى زوجها، ليدفعه إلَى صائغٍ، فدفعه، ونَسِيَ الصائغ، فقال: إن أشهد لم يضمن، وإلاَّ ضَمِن، لكن الأشبه رجَحانُ الثاني لأنه نصَّ في "عيون المسائل": أنَّه إذا أودعه إناءَ من قوارير، فأخذه المستودعُ بيده، ليُحْرِزُه في منزِلِهِ، فأصابه شيء من غيرِ فعْلِهِ، فانكسر، لم يضمن، ولو أصابَهُ بفعْلِه مُخْطِئاً أو عامِداً قَبْل أن يصيرَ إِلَى البَيْت أو بَعْدَ ما صار إِلَيْه، فهُوَ ضامنٌ، والخطأ والنسيانُ يجريان مجْرَى واحداً وأيضاً: فإن أبا سعد المتولَّي -رحمه الله- ذكر أنَّ الوجّهَيْن في النسيان مبنيَّانِ عَلَى أنَّ المأمور بالفِعْل، إذا تركه ناسياً، هل يعدُّ مفرطاً، كما لو نَسِيَ الماء في رَحْلِهِ وتيَمَّم، هل يقضي الصلاةَ؟ فيه قولان، والظاهرُ في ذلك الأصْل وجوب القضاء، ولأنه ذكروا أنه لو انتفع بالودِيعَةِ، ثم ادَّعى الغلَطَ، وقال: ظننته مِلْكي، لا يُصَدَّق، ومعلومٌ أن هذا احتمالٌ قريبٌ، وكأن الجوابَ مبنىٌّ على أنَّ الغَلَط غيرُ دافِعٍ للضمان. الثالثة: إذا أخذ الظالِمُ الوديعةَ قَهْراً، فلا ضمانَ عَلَى المُودَع، كما لو سُرِقَتْ منه، وإن أكرهه؛ حتى سلَّمها بنَفْسِه، فللمالِكِ مطالبةُ الظالِمِ بالضَّماَن، ولا رجوعَ له، إذا غرم، وهَلْ يطالب المودَعَ؟ فيه وجهان:
أظهرهما: نعم؛ لتسليمه، ثم يَرْجِع هُوَ على الظالِمِ، وهما كالوجهين في أنَّ المكره عَلَى إتلاف مال الغَيْر، هل يطالب؟ وقوله: "فقرار الضمانِ على الظَّالم وفِي تَوَجُّهِ المطالَبةِ علَيْه وجهان" مَسَاقُهُ يقتضي [الجزم بالقرار علَيْهِ بيع الوجهين وفي مُطَالبة المُودَع] (¬1) لكنَّ المعنِيَّ بالقرار في هذه المواضِعِ الاَّ يرجع الشخْصُ، إذا غُرم، ويرجع عليه غيره، إذا غرم، وهذه الحقيقةُ تعتمدُ توجيهَ المُطَالبة عَلَى شخْصَيْن، فلا ينتظم الحُكْم بالقرار عليه، إِلاَّ إذا قلنا بوجُّه المطالبة [على المكره، فلا يكون مجزوماً، به مع الخلاف في المُطَالَبَةِ] (¬2) ومهما طالبه الظالم بالوديعَة فعليه دفعه بالإِنكار والإخفاء والامتناعِ، ما قَدَر عليه، فإن ترك الدَّفْعِ مع القدرة، ضمن، وإن أنْكَر، فَحلفه، جاز له أنَّ يَحْلِفَ لمصلحةِ حفْظِ الوديعةِ، ثم يُكَفِّرَ (¬3)؛ لأنه كاذبٌ. وفي "التتمة": أن وجُوبَ الكفارة يُبْنَى على أنَّه، إنْ أكره على تطليق إحدى امرأتَيْهِ، فطلَّقها، هل يَقَعُ أم لا فإن قلْنا: لا يقع، فيمينه لا ينْعَقِدُ، هذا لفظه، وإن أُكْرِهَ عَلَى أن يَحْلِفَ بالطلاق، أو العتاق فحاصُلُه التخييرُ بين الحَلِفِ، وبين الاعتراف والتسليم، فإِن اعترف، وسلَّم، ضمن؛ لأنه فَدَى زوجته بالوديعةِ، وإن حَلَفَ بالطلاق، طلقت زوجته؛ لأنه قَدَرَ على الخَلاَصِ بتَسْلِيم الوديعةِ، ففدَى الوديعةَ بالطَّلاق. وفي "التَّتِمَّة": أنا إن قلنا: إنَّ مَنْ أكره عَلَى طلاقِ إحْدَى امرأتَيْهِ، فطلَّق، لا يَقَعُ، فهاهنا إنْ حَلَفَ بالطلاق، لم يَقَعْ، وإن اعترف بالوديعةِ، وسلَّمها، كان كما لو سلَّمها مكرهاً، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: السَّابِعُ: الجُحُودُ وَهُوَ مَعَ غَيْرِ المَالِكِ غَيْرُ مُضَمَّن، وَمَعَ المَالِكِ بَعْدَ مُطَالَبَتِهِ مُضَمَّنٌ، وَبَعْدَ سُؤَالِهِ دُونَ المُطَالَبَةِ وَجْهَانِ، وَمَهْمَا جَحَدَ فَالقَوْلُ قَوْلُهُ، فَإنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ البيِّنةُ فَادَّعَى الرَّدَّ مِنْ قَبْلُ فَإنْ كَانَ صِيغَةُ جُحُودِهِ انْكَاراً الِأَصْلِ الوَدِيعَةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ بغَيْرِ بَيَّنَة، وَفِي قَبُولِهِ مَعَ البَيِّنَةَ وَجْهَانِ لِتَنَاقُضِ كَلاَمَيْهِ، وَإِنْ كَانَ صِيغَةُ جُحُودِهِ أنَّه لاَ يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ شَيْءٍ إِلَيْكَ قُبِلَ قَوْلُهُ في الرَّدِّ وَالتَّلَفِ؛ إِذْ لاَ تَنَاقُضَ بَيْنَ كلاَمَيْهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصل مسألتان: إحداهما: مَنْ في يدِهِ وديعةٌ، إذا قال: لا وديعةَ لأحدٍ عندِي، إما ابتداءَ أو في ¬
جوابِ سؤالِ غير المالك، سواءٌ جرَى ذلك بحُضُور المَالِكِ أو في غيبته، فلا يضمن؛ لأنَّ الوديعة يسْعَى في إخفائها؛ فإنه أقرب إِلى الحفْظِ، وإن طلبها المالكُ، فجحَدَ، فهو خائنٌ ضامنٌ، وإن لم يطلُبْ، لكن قال: لي عندَكَ وديعةٌ، فإن سكت، لم يضْمَنْ، وإن أنكر، فوجهان: أحدهما: يضمن؛ كما لو جَحَدَ بعْد الطلَبِ. وأشبههما: لا؛ لأنه لم يمسكْهَا لنفسه؛ بخلاف ما بعد الطَّلَب لأنه قد يعرض له في الإنْكَار والإِخفاء غرض صحيح، ولو قال بعد الجُحُود: كُنْتُ غلطْتُ أَو نَسِيتُ الوديعةَ، فالمنقولُ أنَّه لا يبرأ عن الضمان إِلاَّ أن يصدقه المالك. الثانية: من أَنكر وديعة ادُّعِيت عليه، صدَّق بيمينه، فلو أقام المدعي بينةً على الإيداع، أو اعترَفَ به المدعى عليه، طُولِبَ بها، فإن ادعَى ردَّها أَو تلفَهَا بعْدَ الجحودِ أَو قَبْلَه، نِظِرَ في صيغة جحودِهِ: إِن أنكر أصْلَ الإيداع، لم يصدَّق في دعْوَى الردِّ، لتناقض كلاَميْهِ، وظهورِ خيانَتِهِ، وأما في دعوى التَّلفَ، فيصدَّق لكنه كالغاصِبِ، فيلزمه الضمان، وهَلْ يتمكَّن من تحليف المالك؟ وَهَلْ تسمعُ بينته عَلَى ما يدَّعِيه من الردِّ أو التَّلَف؟ فيه وجهان: أَحدهما: المنع، لأنه بإنكارِ أصْلِ الإيدَاعِ مكِّذبٌ لقوله الثَّاني، وللشُّهُود. وأظهرهما: ويحْكَى عن اختيار القَفَّال، والشيخ أبي عليٍّ: أنها تسمع؛ لأنه ربما كان ناسياً، ثم تذكر الوديعةَ، والردَّ، وهذا كما لو ادَّعَى، وقال: لا بينةَ لِي، ثم جاء ببينةٍ، تُسْمَعُ، فعلَى هذا؛ إن قامتِ البينةُ علَى الرد أو على الهلاك قبَل الجُحُود، سقطَتِ المطالبة، وإن قامَتْ على الهلاك بعد الجُحُود، ضمن لخيانته. واعلم أنَّا حكينا في ألفاظ المرابحةِ، إِذا قال: اشتريتُ بمائةٍ، ثم قال: اشتريتُ بمائةٍ وخمسين: أن الأصحابَ فَرَّقوا بين أن يذكر وجهاً محتملًا في الغَلَط أَوْ لاَ يذكره، ولم يتعرَّضوا لمثله هاهنا، والتسويةُ بينهما (¬1) متَّجِهةٌ، وإِن كانت صيغةُ جُحُودة أن ألا يلزمُنِي تسليمُ شيءٍ إِليك، أو مَا لَكَ عنْدِي وديعةٌ، أو شيء، صُدِّق في دعوى الرَّدِّ والتلف؛ لأنها لا تناقض كلامه الأول، فإِن اعترف أنَّه كَانَ باقياً يوم الجحود، لم يصدَّق في دعوى الردِّ إِلاَّ ببينة، وإِن ادعى الهَلَاك، فهو كالغاصِبِ، إذا ادَّعاه، فالمذهَبُ أنَّه يصدَّق بيمينه، ويؤخَذُ منه الضمان. ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: العَاقِبَةُ الثَّانِيَةُ رَدُّ العَيْنِ عِنْدَ بَقَائِهِ وَهُوَ وَاجِبٌ مَهْمَا طَلَبَ المَالِكُ، فَإِنْ أَخَّرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ ضَمِنَ، وَإِنْ أَخَّرَ لاِسْتِتْمَامِ غَرَضِ نَفْسِهِ بِأَنْ كَانَ فِي حَمَّامٍ أَوْ عَلَى طَعَامٍ، جَازَ بِشَرْطِ سَلاَمَةِ العَاقِبَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تكلَّمنا فيما إِذا آل أَمْر الوديعةِ إلَى الهلاك في يَدِ المودَعِ، فأما إذا كانت باقيةً، فعلَى المودَعِ الردُّ، إِذا طَلَبَ المالكُ، وليس المرادُ أَنَّه يجبُ علَيْه مباشرةُ الرَّدِّ، أَو تحمُّل مؤنته، بلَ هِيَ على المالكِ، والذي يجب على المودَعِ رفْعُ اليدِ عنه، والتخليةُ بين المالك ومالِهِ، فإن أَخَّر من غيرُ عُذْر، دخلَتِ الوديعةُ في ضمانه، والتحق ذلك بما مَرَّ من أسباب التقصير، وإِن كان هناك عذر لا يمكن قطْعُه أَو بعَسَّر بأن كان طالبه في جنح الليل، والوَدِيعةُ في خزانةٍ لا يتأتَّى فتح بابها في الوقْتِ أو كان مشغولاً بصلاة، أَو قضاء حاجة، أو طهَارَةٍ، أو في حمامٍ، أو على طعام، فأَخَّرَ؛ حتَّى يفرّغ، أو كان ملازماً لغريمٍ يخافُ هربه أو كان يجيء المَطَر والوديعة فيً البيت، فأخَّر؛ حتَّى يقلع ويرجع إِلى البَيْت، وما أَشبه ذلك، فهو جائزٌ، لا محالة، ثم المذكورُ في "التتمة": أَنه لا يضْمَن، لو تلفت الوديعةُ في تلك الحالة؛ لأَنه لا يعدُّ مقصِّراً بهذا التأخِير، وهذا قضيةُ إِيراد "التهذيب" ولفظ صاحب الكتاب في "الوسيط" يُشْعِر بتفصيلٍ، وهو أنه إِن كان التأخيرُ لتعذُّر الوصولِ إِلى الوديعةِ، فلا ضمانَ، وإِن كان لعُسْرٍ يلحَقُه، وغرضِ يفوته، فيضمن (¬1). وقد ذكر القسم الثانِي في الكتاب، فقال: "وإن أخَّر؛ لاستتمام غَرَضِ نفسْهِ؛ بأن كان في حمامٍ أَو على طعامٍ إلى آخره. وقوله: "جاز، بشرط سلامة العاقبة" لفظٌ يكثر استعمالُهُ في مثل هذا المقام، وليس المراد منه اشتراطَ السلامةِ في نَفْس الجواز؛ حتَّى إِذا لم تَسْلِم الوديعةُ، يتبين عدم الجواز، وكيف والسلامة أو عدُمها تتبين أجزاء، ونحن نجوز له التأخِير في الحال، ولكن المراد أَنَّا نجوِّز له التأخير، ونشترط عليه التزامَ خَطَر الضمان. ولو قَالَ المودَعُ: لا أردُّ؛ حتَّى يشهد المالك أَنَّه قبضَ، هَلْ له ذلك؟ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، سبق ذكْرها في "الوكالة" ووجه رابعٌ، وهو أنه إن أشهد عليه المالك عنْد الإِيداع، فله أَيضاً طلَبُ الإشهاد عند الرد؛ ليدفع التهمةَ عن نَفْسِهِ، وإلاَّ، فلا، ويشترط أنْ يكوَنَ المردُودُ عليه أَهلَاً للقَبْضِ، فلو حَجَر علَيْه بالسفه، أو كان نائماً، فوضعه في يده، لم يَجُزْ، ولو أَودع جماعةً مَالاً وذكروا، أَنه مشتركٌ بينهم، ثم جاء بعضُهُمْ يطلبه، ¬
لم يكن للمودَع القسمةُ، ولا تسليمُ الكلِّ، بل يرفع الأَمر إِلى الحاكم، ليقسِّمه، ويدفع إليه نصيبَهُ واللهَ أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَإنْ قَالَ: رُدَّ عَلَيَّ وَكِيلِي فَطَلَب الوَكِيلَ وَلَمْ يَرُدَّ ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ وَلَكِنْ تَمَكَنَّ مِنَ الرَّدِّ وَلَمْ يَرُدَّ فَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ جَارِيَانِ فِي كُلِّ أَمَانَةٍ شَرْعيِّةٍ، كَالثَّوْبِ إِذَا طَيَّرَهُ الرِّيحُ إِلَى دَارِهِ، وَمَهْمَا رَدَّ عَلَى الوَكِيلِ وَلَمْ يَشْهَدْ فَأنْكَرَ الوَكِيلُ لَمْ يَضْمَنْ بِهَذَا التَّقْصِيرَ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَينِ، بِخِلاَفِ الوَكِيلِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فإنَّهُ يُضْمَنِ بِتَرْكَ الإِشْهَادِ لأَنَّ حَقَّ الوَدِيعَةِ الإِخْفَاءُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال للمودَعِ: رُدَّ الوديعةَ عَلَى وكيلي فلانٍ، فطلب الوكيلَ، ولم يردَّ، فهو كما لو طَلبَ المالكَ، فَلم يردَّ، لكنْ له التأخيرُ، ليشهد المدفوعُ إلَيْه على القبض؛ لأنه لو أَنكر المدفوع إلَيْه، صُدِّق بيمينه، هاِن لم يطلب الوكيلَ، فإن لم يتمكَّن من الرد، لم تَصِرْ مضمونةٌ علَيْه، وإِن تمكن، فوجهاَن؛ لأنَه لمَا أَمره بالدَّفْعَ إلَى وكيله، فكأنه عزله، فيَصِيرَ ما في يده كالأمانات الشرعية، مثْلُ الثوبِ تطيِّره الريح إلَى داره، وفيها وجهان: أَحدهما: أَنه يمتد إِلى المطالبة، كالوَدَائِعِ. وأظهرهما: أنه ينتهي بالتمكُّنِ مِنَ الردِّ، قال القاضي ابن كِج: ويجرِي الوجهانِ فيمَنْ وجَدَ ضالَّةً، وهو يعرِفُ مالكها. وذكر إمام الحَرمَيْنِ في "الأساليب": أنه لو قال: رُدَّ الوديعةَ عَلَى من قدَرْتَ عليه من وكَلاَئِي، ولا تُؤَخِّر، فقدر على الردِّ عَلَى بعضهم، وأخَّر ليرده على غيره، فهو ضامنٌ عاص بالتأْخير، وأنه لو لم يقل: ولا تُؤَخَّر يضمن بالتأخير، وفي العِصْيان وجّهان، وأنه لو قال: رُدَّها عَلَى من شِئْتَ منْهم، فلم يردَّها على واحد ليرد على آخر لا يقضي وفي الضمان وجهان، وهل يجبُ عليه الإشهادُ عند الإيداع؟ فيه وجهان، وكذا لو دفع إِليه مالاً؛ ابتداءً، وأَمره بإيداعه أحَدِهما، يجبُ كما لوَ أَمره بقَضَاءِ دَيْنهِ، يلزمه الإِشهاد. والثاني: لا يجبُ؛ لأنَّ الوديعة أَمانةٌ، وقول المودع مقبولٌ في الردَّ والتلف، فلا يغني الإِشهاد (¬1)، ولأن الودائع حقُّها الإخفاءُ؛ بخلافِ قضاء الدين، وهذا أَظهر عند صاحب الكتاب، وفي "التهذيب" أَنَّ الأَول أَصحُّ، ويُحْكَى عن أَبي إِسحاق، فإِذا قلنا به، فالحُكْمُ عَلَى ما بيناه في الوكالة، أنه إن دفع في غيبة المالك من غير إِشْهاد، ضمن، وإِن دُفِع، وهو حاضرٌ، لم يضمن، عَلَى الأَصحِّ، وقوله في الكتاب "بخلاف ¬
الوكيل بقضاء الدَّيْن؛ فإنه يَضْمَنِ بِتَرْكِ الإِشْهَاد" غير مجرى عَلَى إِطلاقه، بلْ هو منزَّلٌ على ما ذكرناه. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَرْعَانِ: أَحَدُهُمَا لَوْ طَالَبَهُ بالرَّدِّ فَادَّعَى التَّلَفَ، فَالقَوْلُ قَولُهُ مَعَ يَمِينِهِ، إِلاَّ أَنْ بَدَّعِيَ تَحْرِيقاً أَوْ غَارَةً فَإِنَّهُ لاَ يُصَدَّقُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ أَو اسْتِفَاضَةٍ، وَلَوِ ادَّعَى الرَّدَّ فَالقوْلُ قَوْلُهُ، إلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ الرَّدَّ عَلَى غَيْرِ مَنْ ائْتَمَنَهُ كَدَعْوَى الرَّدِّ عَلَى وَارِثِ المَالِكِ، أَوْ دَعوَى وَارِثِ المُودع عَلَى المَالِكِ، أَوْ دَعْوَى مَنْ طَيَّرَ الرَّيحُ الثَّوْبَ فِي دَارِهِ، أَوِ المُلْتَقِطِ، أَوْ دَعْوَى المُودَعِ الرَّدَّ عَلَى وَكِيلِ المَالِكِ فَإنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى البَيَّنَةِ فِي كُلِّ ذَلِكَ؛ إِذْ لاَ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ إلاَّ عَلَى مَنِ اعْتُرفَ بِأَمَانَتِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفَرْع مسألتان: إحداهما: إِذا طالبه المالكُ بالردِّ، فادعى التَّلَف، فإِما أَن يذْكُر سبب التلَفِ، أو لاَ يذْكُرَه؛ إِن ذكر سببه، نظر: إن كان سبباً خفيّاً؛ كالسرقة قبل قوله مع يمينه؛ لأَنه قد ائتمنه فليصدقْه، وإِن كان سبباً ظاهراً؛ كالحريق، والغارة، والسيل، [بتلك البقعة لم يقبل قوله، بل يطالب، بالبينة على ما يدَّعيه] (¬1)، فإن لم يعرف ما يدَّعيه ثم يقبل قوله مع يمينه في حصول الهَلاَكِ به، وإِن عرف ما يَدَّعِيه بالمشاهدة، أَو الاستفاضة، فإِن عرف عمومه، صدَّق بلا يمين، وإِن لم يعرف عمومُهُ، واحتمل أَنه لم يصب الوديعةَ، صُدِّق باليمين، وإِن لم يذْكُر سبب التلف، صُدِّق بيمينه، ولا يكلَّف بيان سبب التلف، وإِن نَكَل المودَعُ عن اليمين، حَلَف المالكُ على نَفْي العلْمِ بالتلف، واستحَقَّ، وعَدَّ في "التتمة" موت الحيوانِ من الأسباب الظاهرة، وكذلكَ الغَصْب، وفي "التهذيب" إلحاقُ الغَصْب بالسَّرقة، وهو الأقرب. الثانية: ادعَى [أَنه] ردَّ الوديعةِ، فإِما أَن يدَّعِيَ ردَّها على [من ائتمنه، أو عَلَى غيره؛ إن ادعَى ردَّها] (¬2) عَلَى الذي ائتمنه، وهو المالكُ، صدِّق (¬3) بيمينه، كما ذكرنا في التلف، فلو ماتَ قَبْل أَن يحلفَ نَابَ عنه وارثُهُ، وانقطعت المطالبةُ لِحَلفِهِ، وعن مالك -رحمه الله- أنه: إِنْ لم يشهد عليه بالإيداع، صُدِّق في دَعْوَى الرد، وإِن أشهد ¬
عليه لم يُصَدَّق، وإِن ادَّعى الردَّ عَلَى غير من ائتمنه، فيطالب بالبينةِ؛ قياساً؛ فإنَّ الأَصْلَ عدمُ الرد، [وإنْ أشهد علَيْه، لم يصدَّق، وإِنِ ادَّعى الردَّ عَلَى غيره] (¬1) وهو لم يأتمنه، فلا يكلَّف تصديقه، وتفصيلُ ذلك بصورٍ: منْها: إِذا مات المالكُ، فعلى المودَعِ الردُّ عَلَى ورثته؛ حتَّى لو تلف في يده بَعْد التمكن من الردِّ فأصحُّ الوجهين أنه يضمن، فإن لم يجدِ الورثةَ، دفَعَها إِلى الحاكم، وفي "العُدَّة" تقييدُ هذا الجواب بما إِذا لم يَعْلَم الورثةُ بالوديعةُ، أَما إِذا علموا، فَلاَ يجبُ الرد، إِلاَّ بعد طلبهم، والموطألبه الوارث، فقَال: ردَدتُّه على المالِكِ، أَو تلف في يدي في حياته، صُدِّق بيمينه، وإِن قال: رددتُّه عليك، وأنكر، فالمصدَّق عليه الوارثُ، وإِن قال: تلف في يدي قَبل تمكُّني من الردِّ، فالمُصَدَّق الوارث كما في دعوى الردِّ، أم المودَعُ لأن الأصل براءة ذمَّتِهِ، فيه وجهان (¬2). ومنْهَا: إِذا مات المودِّع، فعلى وارِثِه ردُّ الوديعة، فلو تلفت في يده بَعْد التمكُّن من الردِّ، ضمن في أَصحِّ الوجهين (¬3)، وإِذا كان المالكُ غائباً، سلَّمها إلى الحاكِم، فإن تنازعا، فقال وارثُ المودَع. رَدَّ عليكَ مورثي لو تلفت في يده، ففي "التتمة": أَنه يطالب بالبينة؛ لأَنَّ المالكَ لَم يأْتمنه؛ حتَّى يصدقه، وفي "التهذيب": أَنه يصدَّق بيمينه، وهو الوجه؛ لأنَّ الأصَل عدمُ حصولها في يده، ولو قال: أَنا رددتُّها عليك، وأَنكر المالكُ، فالمصدَّق المالكُ، ولو قال: تلف في يدي قَبْل التمكُّن، فعلَى الوجهين. ومنْها: لو قال مَنْ طَيَّر الريحُ الثَّوْبَ في داره: "رددتُّ على المالك" أَو ادعاه الملتقطُ، لم يُصَدَّقَا إِلا بالبينة. ومنْهَا: إذا قال المودَعُ للمالك: أَودعتُهَا عنْد وكيلِكَ فلانٍ بأمرك، فللمالك أحوال: إحداها: أن يُنْكَر الإِذن الوكالة (¬4) فيصدَّقَ بيمينه، فاِذا حَلَف، نُظِر: إِن كان فلانٌ مقرّاً بالقَبْض والوديعةُ باقيةٌ، فتردَ على المالك، فإِن غَابَ المدْفُوعِ إِلَيْه، فللمالك ¬
تغريمُ المودعِ، فإِذا قدم، أَحَدْها وردَّها على المالك، واستردَّ البدل، ذكره الشيخ أَبو حامد وغيره، وإِن كانت تالفةً، فللمالك تغريمُ من شاء منْهُما، وليس لِمَنْ غرم منهما أَن يَرْجِعَ عَلَى صاحبه؛ لزَعْمِهِ أَن المالك ظالمٌ بما أَخذ، وإِن كان فلانٌ منكراً، فهو مصدَّق بيمينه، ويختصُّ الغرم بالمودع. الثانية: أَن يعترفَ بالإِذْن، وينكر الدَّفْع، ففيه وجه أَنه يصدَّق المودع، ويجعل دعوى الردِّ على وكليل المالِكِ؛ كدعْوَى الردِّ على المالك، ويحكَى هذا عن أبي حنيفة، والأَصحُّ تصديق المالِكِ؛ لِأَنَّ المودَعَ يَدَّعي الردَّ عَلَى من لم يأتمنه، ولو وافق فلانٌ المودَعَ، وقال: إِنها تَلِفَتْ في يدي، لم يُقْبَل قوله على المالِكِ، بل يحلف المالك، وَيضْمَنُ المودع. الثالثة: أنْ يعترف بالإذْن والدفع معاً، لكنه يقول: إنك لم تَشْهَد عليه، والمدفوع إِليه منكر، فيبني على الخَلافِ الذي مَرَّ في وجوب الإِشْهَاد على الاِيدَاعِ إِن أَوجبنا، فالحكْمُ ما سَبَقَ في الوكالة في نَظِيرِ هذه الصورة، إِذا قال: اقْضِ دَيْنِي، وإِن لم نوصه، لم يكن له تغْريمُه، ولو توافقوا جميعاً على الدَّفْع إِلى الأمين الثاني، وادعى الثاني: أَنه ردَّ على المالك أو تَلِفَ في يده، صدق بيمينه، وهذا إِذا عَيَّنَ المالك الثاني، فأما إِذا أَمره بأنْ يودع أَميناً، ولم يعيِّن، فادعى الثانِي التلَف، صُدِّق، وإِن ادعَى الرَّدَّ على المالك، وأَنكر المالك، فهُوَ المصدَّق؛ لأَنه يدَّعِي الردَّ على غير من ائتمنه، هكذا ذكروه، ولو قيل: أمينُ أمينِهِ أمينُةُ، كما تقول على رأي وَكِيلُ وكيله وكيلُهُ، لم يَبْعُدْ (¬1). ومنْها: إِذا أراد المودَعُ سفراً، فاودعها أَميناً، فادعَى ذلك الأمينُ التلَفَ، صُدِّق، وإن ادعى الردِّ على المالك، لم يصدَّق لأَنه لم يأتمنه، وإن ادعى الردَّ على الأول، صدِّق؛ لأنه ائتمنه، كذلك ذكره المتولِّي، وصاحب الكتاب في "الوسيط" وهذا ذهابٌ إِلَى أن الأَول، إِذا عاد من السَّفَر، له أَن يستردَّها، وبه أَجاب العبَّادِيُّ وغيره، لكنْ حكَى عن كلام الاِمامِ أَن الأَليقَ بمَذْهَب الشافعيِّ -رضي الله عنه- منْعُه من الاستردادِ بخلاَفِ المودعَ؛ يستردُّ من الغاصب في وجْه؛ لأَنه من الحفظ المأَمورِ به، ولو كان المالكُ قد عَيَّنَ أميناً، فقال: إذا سافَرْتَ، فاجعلها عنْدَ فلانٍ، فَفَعَلَ، فالجوابُ على العَكْسِ، إِن ادَّعى الردَّ على المالك، صُدِّق، وإن ادعى الردَّ على الأول، لم يصدَّق. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِي: ادَّعى رَجُلاَنِ وَدِيعَةً عَلَيْهِ فَقَالَ: هُوَ لِأَحَدِهِمَا وَقَدْ نَسِيتُ عَيْنَهُ، فَإِنْ صَدَّقْاهُ في النِّسْيَانِ فُصِلَتِ الخُصُومَة بَيْنَهُمَا بِطَرِيقِهَا وَجَعلَ المَالُ في أَيْدِيهِمَا، ¬
وَإِنِ ادَّعَيا العِلْمِ عَلَى المُودَعِ فَيَحْلِفُ لَهُمَا يَمِيناً وَاحِدَةً عَلَى نَفْيِ العِلْمِ، فَإِنْ نَكَلَ وَحَلَفَا عَلَى عِلْمِهِ ضَمِنَ القِيمَةَ وَجُعِلَتِ القِيمَةُ وَالعَيْنِ فِي أَيْدِيِهِمَا، وَإِنْ سَلَّمَ العَيْنَ بِحُجَّةٍ لِأَحَدِهِمَا رَدَّ نِصْفَ القِيمَةِ إِلَى المُودَعِ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الثَّانِي الرَّدُّ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهَا بِيَمِينِهِ وَلَمْ يَعُدْ عَلَيْهِ المُبْدَلُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مالٌ في يد رجلٍ، جاء اثنانِ، وادَّعَى كلُّ واحدٍ منهما أَنه له، أودَعَه إِياه، فالجواب يفرض عَلَى وجوه: أحدها: إِن أكذبهما، وقال: المالُ لِي، حَلَف لكلِّ واحدٍ منهما أَنَّه لا يلزمه تسليمُهُ إِلَيْه. والثاني: إِذا أَقَرَّ بِهِ لأَحدهما بعَيْنه، دفع إِليْه، وهل للآخر تحليفُهُ، يبنَى عَلَى أَنه إِذا أَقرَّ بمالٍ لزيد، ثم أَقرَّ به لعمرٍو، هل يغرَّم لعمرو، إنْ قلنا: لا، فلا، وإِنْ قلنا: نعم، عرضت اليمين علَيْه، فإِن حلف، سقَطَتْ عنه دَعْوى الآخر، وإِن نكل حلف الآخر، ثم يوقف المالُ بينهما إلَى أَن يصطَلِحَا، أَو يقسم بيْنَهُما، كما لو أَقر لَهُمَا أَو يغرم المدَّعى علَيْه القيمة له، فيه ثلاثة أَوجهٍ عن ابنِ سُرَيْجٍ، قال ابن الصبَّاغ: والمذهبُ الثالثُ (¬1)، وهذا الخلافُ ناظرٌ إِلَى أَن اليمينَ بعد نكولِ المدَّعَى عليه كإقرار المدعى عليه أو كالبينة من جهة المدعي، وعبر في "التهذيب" عن الغرض بعبَارَةٍ أُخرى، فقال: إِذا أَقرَّ لأحدهما، هل للآخر دعْوَى القيمة يبنَى على الخلاف في الغرم، لو أَقر للثاني، إِن قلنا يغرَّم، فنعم، وإِن قلْنا لا، فيبنَى على أنَّ اليمين بعد النكُول كالإقرار، أَو كالبينة، إِن قلنا: كالإقرار، لم يَدَّعِ القيمة، وإِن قلنا: كالبينة، فله دعْوَاها، فإن حلَف، بَرِئَ، وإن نكل، حَلَف المدعي، وأَخَذَها، ولا تنتزع العَيْنُ من الأَوَّل؛ لأَنَّها، وإِن كانت كالبَيِّنة، فليست كالبينة في حقِّ غير المتداعييْنِ. والثالثُ: إِذا قال: هُوَ لَكُمَا، فهو كمالٌ في يد شخصين يتداعَيَانِهِ، فإِن حلف أَحدُهُما، قضَى له، ولا خصومة للآخَرِ مع المودعَ لنكوله، وإِن نَكَلاَ، جعل بينهما، وكذا لو حَلَف، وحكم كلُّ واحدٍ منهما في النصْفِ الآخر كالحُكْم في الكلِّ في حقِّ غير المُقَرِّ له، وقد بيناه. ¬
والرابع: وهو المذكورُ في الكتاب: إِذا قَالَ: هو لأحدكما، وقد نَسِيُتَ عَيْنه، فإِن ضمنا المودَعُ بالنسيان، [فهو ضامنٌ، وقد قصر الكلامَ، وإن لم يضمنه بالنِّسيان، طال التفريح، فيُنْظر: إِن صدَّقاه في النسيان، فلا خصومةَ لهما معه، وإِنما الخصُومَةُ بينهما، فإِن اصطلحا عَلَى شيْءٍ فذاك، وإلاَّ فيُجْعَل المالُ، كأَنه في أَيديهما يتداعَيَانِهِ؛ لأَن صاحب اليَدِ يقُولُ: إِن اليد لأحدِهِمَا، وليس أَحدهما بأوْلى من الآخر، وفي "الوسيط" وجه آخرُ عن المحامِلِيِّ: أَنه كَمَالٍ في يدِ ثالثٍ يتداعَاهُ اثنان؛ لأَنه لم يثبُتْ لأَحدهما يدٌ عليه، فعلَى الأَوَّل، لو أَقام كلُّ واحد منهما بيِّنة، أَو حَلَفَا، أَو نَكَلاَ، فهو بينهما، وإِن أَقام أَحدُهما البينة، أَو حَلَف، ونكَلَ صاحُبُه، قُضِيَ له، وعلى الثاني: لو أَقام كل واحدٍ منهما بينةٌ، فهو على الخلاف في تعارُضِ البينتين، وإِن نكلا أَو حَلَف، وُقِفَ المالُ بينهما، وسواءٌ قلنا بالوجّهِ الأَولِ، أَو الثانِي، فيترك المالُ في يد المدَّعَى عليه إلى أَن تنفصل الخصومة بينهما أو ينتزع منه، فيه قولان: أحدهما: يترك؛ لأنه لا بد من وَضْعِهِ عند أَمينٍ، وهو أمينٌ، لم يظْهر منه خيانةٌ. والثاني: وهو الذي أَورده صاحبُ "التهذيب" وغيره: أَنه ينتزعُ، لأَن مطالبتها بالردِّ يتضمَّن عزله، قال في "التتمة": والقولان فيما إِذا طَلَب أَحدُهُما الانتزاعَ، والآخر الترْكَ عنده، أَمَا إِذا اتفقا على أحدِ الأَمرَيْنِ، فيتبع الحاكم رأَيهما، ويمكن أَن يكون هذا مبنيّاٌ على أنَّه يجعل المال، كأنه في يدهما، وإلا فيتبع الحاكم رأْيه، هذا إِذا صدَّقاه في النِّسْيان، وإِن كذَّباه، وادعَى كلُّ واحدٍ علمه بأَنه المالكُ، فالقولُ قول المودَعِ مع يمينه، ويكفيه يمينٌ واحدةٌ عَلَى نفي العلْمٍ؛ لأَن المدَّعَى شيءْ واحدٌ، وهو علمه، عند أَبي حنيفة -رحمه الله-: أنه يحلفُ لكلِّ واحدٍ منهما يميناً، وهلْ للحاكم تحليفُهُ على نفي العلم، إذا لم يدعه الخصمانِ، وذكروا فيه (¬1) وجهَيْنِ، ثم إِذا حلف المدَّعَى عليه، فالحكمُ كما لو صدَّقاه في النسيان، وذكر بعضهم: أنه ينتزع المالُ من يده هاهنا، وإن لم ينتزَعْ هناك؛ لأَنه خائن عنْدَهما بدعْوَى النسيان، وإِن نَكَلَ، فتردُّ اليمينُ عليهما، فإِن نَكَلاَ، فالمالُ مقسومٌ بينهما، أَو موقوفٌ حتَّى يصَطلحا علَى ما تقدَّم، وإِن حلف أَحدهما، دون الآخر، قُضِيَ للحالف، وإِن حلفا، فقولان، ويقال وجهان: أَحدهما: أَنه يوقَفُ بينهما؛ حتَّى يصطلحا؛. لأَنهما يمضيانِ تَعَذَّر الجَمْعُ بينهما. وأَصحُّهما: أَنه يقسم لأَنَّه في أَيديهما، وعلَى هذا، فيغرَّم القيمة، ويقَسَّم بينهما أَيضاً؛ لأَن كلَّ واحد منهما أَثبت بيمينِ الردِّ جميع العَيْن، ولم يحْصُل له إلاَّ نصفها، ¬
هذا أشْهَرُ ما قيل فيما إِذا نَكَلَ المودَعُ، وأَظْهَر، وفيه وجه أَنَّه لا يغرَّم القيمةَ مع العَيْن، إِذا حلفا، وفي "أَمالي" الشيخ أَبي الفَرَج وجةٌ أَنه إِذا نَكَلَ لا تُرَدُّ اليمينُ عليهما، بل يوقَفُ، بناءَ عَلَى أَنهما لو حَلَفا يوقَفُ المال بَينَهُما، فلا معنَى بعرض اليمينِ، وذكر وجهين؛ تفريعاً على ردِّ اليمين: أَنه يقْرَعُ بينهما أَو يبدأ الحاكم بمن رأى منهما، وقال: الأَصحُّ الثانِي، وإِذا حلفا، وقَسَّمنا بينهما العَيْنَ والقيمةَ، فإِن لم ينازع أحدهما الآخر، فلا كَلاَمَ، وِإن نازعه، وأَقام البينة عَلَى أَنَّ جميع العَيْن له، سلَّمناها إِليه، وردَدْنَا القيمة على المودَعِ، وإِن لم تكن بينة، ونكل صاحبُهُ عن اليمين، فحلف، واستحقَّ العيْنِ، فيردّ نصف القيمة الذي أخذه، لأنَّه عاد إِلَيْهِ المبدل والناكل، لا يردُّ ما أَخذ؛ لأَنه استحقَّه بيمينه على المودَعِ، ولم يعد إِليه المبدل، ونكوله كانَ مع صاحِبهِ لا مَعَ المودع، هكذا فرق صاحب "التتمة" بين أن تسلم العينُ لأَحدهما بالبينة، وبين أَن تُسلَّم باليمين المردودةِ، وكذلك الجواب في بَعْض نسخ "التهذيب" وقضية قوله في الكتاب، "وإن سلمت العين بحُجَّة لأَحدهما ... " إِلَى آخره ألاَّ يرد الثاني ما أَخَذهُ، سواءٌ سلمت العين بالبَيِّنة أَو باليمينِ، وقد صرَّح في "الوسيط" بذلك، فيجوز أن يعلم قولُهُ ولم يجبْ على الثاني الردُّ بالواو؛ للنزاع فيما إِذا سلمت بالبينة، وليعلم قولُه: "وجعل المال كأَنَّه في أيديهما" بالواو، وقوله: "يميناً واحداً" بالحاء، وقوله: "وحلقا عَلَى علمه" بالواو، وكذا قوله:"ضمن القيمة" لما قدَّمنا. فَرْعٌ: ادَّعى اثنان غصْبَ مالٍ في يده، كُلُّ واحدٍ منهما يقُولُ: غَصَبْتَهُ مني، فقال: غصبته من أحدكما، لا أَعرفه بعينه، فعليه أَن يَحْلِفَ لكلِّ واحدٍ منهما على البَتِّ أنه لم يغْصبْ، فإِذا حَلَفَ لأحدهما تعين المغصوب للثاني، فلا يَحْلِفُ له. والخامس: إِذا قال في الجواب: هو وديعةٌ عندي، ولا أدْرِي، أهو لكما، أو لأحدكما، أو لغيركما، وادعيا عليه العلْمَ، على نَفْي العلْم يترك في يده إلى أَنْ تقوم بيِّنة، وليس لأحدهما تحليفُ الآخر؛ لأنه لم يثبت لوَاحدٍ مَنهما فيه يدٌ، ولا استحقاقٌ بخلافِ الصورةِ الأولَى، والله أعلم. ونختم الكتابَ بفروعٍ منثورةٍ: إذا تعدَّى في الوديعةِ، ثم بقيتْ في يده مدةً، لزمَةُ أَجرةُ مثلها، وفي "فتاوى" القَفَّال: أَنه لو دَخَل خاناً، فترك حماره في صَحْن الخان، فقال للخانِيِّ: احفظه كَيْلا يخرج، فكان الخانِيُّ ينظرِ إليه، فخَرَجَ في بعض غَفَلاَته، فلا ضمان عليه؛ لأَنه لم يقصر في الحفْظِ المعتادِ، وأَنَّ المودَعَ إذا وقع في خزانته حريقٌ، فبادَرَ إلى نقل الأمتعة، وقدم أمتعته على الوديعة، واحترقَتَ الوديعةُ، لم يضمن، كما لو لم يكُنْ فيها إِلا ودائعُ، فأخذ في نقلها، فاحترقَ ما تأخَّر نقله، وأنه لو ادعَى ابنُ المالِكِ موْتَ أبيه، وعلم المودَعُ بذلك، وطلب الوديعةَ، فله تحليفُ المودَعِ عَلَى نفي العلْمِ، فإِن نَكَلَ،
حلفَ المدَّعي، وأَنه إِذا ماتَ المَالِكُ، وطلب الوارثُ الوديعةَ، فامتنع المودَعُ، ليفحص هَلْ في التركة وصيَّة، فهو متعدَّ ضامنٌ، وأنَّ من وجد لُقَطَةً، وعرف مالكها، فلم يخبره؛ حتى تلفت، ضمن، وكذا قيم الصبيَّ والمسجد، وإذا كان في يده مالٌ، فعزل نفسه، ولم يخبر الحاكمَ، حتَّى تلف في يده المال ضمن، وهذا كما قدمنا أَنَّه يجبُ الردُّ عند التمكن، أَو هو هُوَ، وأن من صُوَر تعدَّي الأمناء ألا يبيع قيبم الصبيَّ أَوراقَ فرصادة؛ حتَّى يمضي وقتُهَا، فيلزمه الضمانُ، وليس من التعدِّي أن يؤخِّر البيع؛ لتوقع زيادة، فينفق رخص، وكذا قيم المسجد في أشجاره، وهذا أشبه بتعريض الثوب الذي يُفْسِده الدود للرِّيح. وفي "الزيادات" للعبَّادِيَّ: لو بعث رسولاً إلى حانوته، ودفع خاتمه إِليه علامةً، وقال: رُدَّهُ عَليَّ، إِذا قبضت المأمور بقبضه، فَقَبَضَهُ، ولم يردَّ الخاتم، ووضعه في حرزه، فلا ضمان، كأن المعنى فيه: أنه ليس عليه الردُّ، ولا مؤنته، وإِنما عليه التخلية. وعن "فتاوى" القاضي الحسين: أَن الثيابَ في مسلخ الحمام، إِذا سُرِقَتْ، والحمَّامِيُّ جالسٌ في مكانه، مستيقظ، فلا ضَمَان عليه، وإِن نام أَو قام من مكانه، ولا نائب هناك، ضَمِنَ، وفي قوله: "ولا نائب هناك" بحث من جهة أن المُودعَ لا يُودِعُ غيره، ويجبُ على الحمَّاميَّ الحفْظُ، إِذا استحفظ، وإن لم يستحفظ، حكى القاضي عن الأَصحاب -رحمهم الله- أنه [لا يجب عليه لحفْظُ قال: وعنْدِي يجبُ للعَادَةِ، وعنْ بعْضهمْ أَنَّه] (¬1) لو أَودَعَ إِنساناً قُبَالَةَ (¬2) وقال: لا تردَّها إِلى زيدٍ؛ حتَّى يدفع ديناراً، فردَّها قبله فعليه قيمة القُبَالة مكتوبة الكاغد وأجره الوراق (¬3). ¬
كتاب قسم الفيء والغنائم
كِتَابُ قَسْمِ الفَيْءِ وَالغنَائِمِ، وفِيهِ بَابَانِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: البَابُ الأوَّلُ في الفَيْءِ وَهُوَ كُلُّ مَالٍ فَاءَ إلَى المُسْلِمِينَ مِنَ الكُفَّارِ بِغَيْر إيجافِ خَيْلٍ وَرِكَابِ كَمَا إِذَا انْجَلَوا عَنْهُ خَوْفاً، أَوْ بَذَلُوهُ لِنَكُفَّ عَنْ قِتَالِهِمْ فَهُوَ مُخَمَّسٌ، وَكَذَا مَا أُخِذَ بِغَيْرِ تَخْوِيفٍ؛ كَالجِزْيَةِ وَالخَرَاجِ، والعُشْرِ، وَمَالِ المُرْتَدْ، وَمَالِ من مَاتَ، وَلاَ وَارِثَ لَهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المال (¬1) المأخوذُ من الكفَّار ينقسمُ إلى ما يحصُلُ من غير قتالٍ، وإِيجافِ خيلٍ، وركابٍ، وإِلى ما يحْصُلُ بذلك: ويسمَّى الأول فيئاً؛ لرجوعه (¬2) من الكفار إِلى المُسْلِمِين، يقال فَاءَ أيْ؛ رَجَعَ الثاني ويسمَّى غَنيمة (¬3)؛ لأَنه فضْلٌ وفائدةٌ ¬
محْضَةٌ ثم ذكر المسعوديُّ وطائفةٌ: أَن اسم كلِّ واحدٍ من المالَيْنِ يقع على الآخر، إِذا أُفرد بالذَّكْر، فإِذا جمع بينهما، افترقا؛ كاسمَيْ الفَقِيرِ والمِسْكِين. وقال الشيخُ أَبو حاتم القزوينيُّ وغيره: اسمُ الفَيْءِ يشملُ المالَيْن، واسمُ الغنيمةِ لا يتناوَلُ الأوَّلَ، وفي لفظ الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- في "المختصر" ما يُشْعِر به، وبيانُ قسمةِ المالَيْنِ تقع في بابين: أَحدهما: في الفيء، والأَصْلُ فيه قولُهُ تعالى: {مَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] فمنه ما جلى عنه الكفار خَوْفاً من المسلمين، إِذا سمعوا خَبَرَهُمْ، وما جلوا عنه؛ لضُرٍّ أَصابهم، وجزية أَهل الذِّمَّة، وما صولِحَ عليه أَهْلُ بلدٍ منهم،
وعشور تجاراتهم المشروطة عليهم، إِذا دخلوا دار الإِسْلاَم، ومال من مات أَو قتل على الردَّة، ومال من مات من أَهلِ الذمَّة عنْدَنا، ولا وارث له، فكلُّ ذلك مخمَّسٌ عَلَى ما سنفصله، هذا ما عليه قَرَارُ المذهب. وحُكِيَ عن القديم أَن مَالَ المُرتدِّ لا يخمَّسُ، فمنهم من خَصَّص هذا القَوْلَ المرتَدِّ، وقطعَ بتَخميس سائر الأَنواع المذكورةِ؛ فرقاً بأنَّ المرتدَّ يستصحب فيه حكْم الإِسْلام، كما يؤمَّر بقضاء الصلوات وتلزمه الحدودُ. ومال المسلم، إِذِا ماتَ، ولا وارث له، لا يخمَّس، ومنْهم مَنْ قال: ما تركُوهُ؛ خَوْفاً من المسلمينَ يُخمَّسُ، قطعاً وفيما عَدَاه يَطَّرِدُ القولُ القديم فيه، ومنهم من أَطلق في مال الفَيْء قولين: الجَدِيد: أَنهُ يخمَّس؛ كالغنيمة، والقديمُ: المنعُ؛ لأَنه لم يقاتل عليه، كما لو صُولِحُوا على الضيافة، لاَ حَقَّ لأَهْلِ الخمس في مال الضيافة، بل يختصُّ به الطارِقُون نقل الطريقة هكذا صاحبُ "التهذيب" قال: وحيثُ قلنا: لا يخمَّس، فحُكم جميعِ المالِ حكْمُ الأَخماسِ الأَربعةِ عَلَى قوْلِنَا بالتخمِيسِ، وفيه خلافٌ سيأَتي، واحتج لظاهر المذهب بأنَّ آية الفَيْءِ نزلَتْ في بني النَّضِير، وقد روي أَن النبىَّ -صلى الله عليه وسلم- صالَحَهُمْ عَلَى أَن يتركوا الدُّور والأراضِيَ، وتحملوا كلَّ صفراءَ وبيضاءَ، وما يحمله الركاب. وأَيضاً: فإنه مال مأَخوذٌ من الكفار، فيخمَّس؛ كالغنيمة. وقوله في الكتاب: "فهو مخمَّس" يجوز إعلامه بالواو للطريقة المرويَّة في "التَّهذيب". وقوله: "وكذا ما أخذ بغَيْر تخويفٍ؛ كالجزية" قد يخطر فيه أولاً أن الجزية أيضاً مأخوذةٌ بتخويف، قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} (¬1) إلى أن قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ولو لم يخافُوا، لم يؤدُّوا، وهذا صحيحٌ، ولكَنَّ المرادَ منْه التخويفُ الناجز في الحال، والجزية لا تؤْخَذُ بتخويفٍ حالٍّ، بل يعقد لها استفادة للعصْمَة دائماً، ثم يؤدي المال شيئاً فشيئاً، كدَيْن منجم. ثم أعْلمْ قوله: "وكذا" بالواو في كثير من النسخ جَرْياً على الطَّريقة المخصِّصة للخِلاَف بما أخذ من غير تخويف القاطعة بالتَّخْميس فيما تركَوهُ؛ خوفاً، وهِيَ التي أوردَهَا الأكثرون ولفظ صاحب الكتاب في "الوَسِيط" يشْعُر يكون المَبذُول ليَكفَّ عن قتالهم فيئاً مخمَّساً بلا خلافٍ، لكن المبذول ليكفَّ عن قتالهم، إِن كان المرادُ منه ما ¬
يبذلونَهُ؛ ليصالحهم، ولا يستعمل بقتالهم، فهذا قد طَرَدُوا فيه الخلافَ، ولم يلحقوه بما تَرَكَهُ الكفار؛ خوفاً، وإِنْ كان المرادُ: ما يبذلونَهُ بعد إِيجافِ الخَيْل والركابِ، وقريباً منهم ليتصرَّف، ففي "حِلْيَةِ" القاضي الرويانيِّ ما ينازع في عَدِّهِ من الفَيْءِ؛ لأَنه قال: إِذا صالَحُونا على مالٍ عنْد القتال، فهو غَنِيمَةٌ (¬1). قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَخُمْسُ هَدَا المَالِ مَقْسُومٌ بِخَمْسَةِ (ح) أَسْهُمِ بِحُكْمِ نَصِّ الكِتَابِ السَّهْمُ الأَوَّلُ المُضَافُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَرَسُولهِ -صلى الله عليه وسلم- مَصْرُوفٌ إلَى مَصَالِحِ المُسْلِمِينَ (و) إِذْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَيَاتِهِ وَالأَنْبِيَاءُ لاَ يُورَثُونَ، وَمَصَالِحُ المُسْلِمِينَ سَدُّ الثُّغُورِ وَعِمَارَةُ القَنَاطِرِ وَأَرْزَاقُ القُضَاةِ وَأَمْثَالُهُ. قَالَ الرَّافِعِىٌّ: مَالُ الفَيْءِ يقسَّم عَلَى خمسةِ أَسْهُمٍ متساوية ثم يؤْخَذ منْهَا سهْمٌ، فيقسَّم خمسةِ أَسهُم متساويةٍ فأربعة يأتي بيان مصرفها، فتكون القسْمة من خمسةٍ وعشرينَ سهماً، هكَذا كان يقسِّمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬2): أَحدُها السَّهْم المضافُ إِلى الله ¬
تعالَى وإِلَى رسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى: {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] كان رسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ينفق منه على نفسه وأهله ومصالِحِهِ (¬1)، فما فَضَلَ، جعَلَه في السِّلاَح عدَّة في سبيل الله، وفي سائر المصالِحِ، والإِضافة إِلى الله تعالَى، قيل: إِنَّه عَلَى سبيلِ التبرُّك والابتداء باسْمِه تبارَكَ وتعالى، وقيل: إِنها إشارةٌ إلى أنَّ مصارفه مصارفُ القرب أَو إِلَى قطعه عما كانَتِ الملوكُ تعتَادُهُ قبل المبعث من الاستبْدَادِ بالخُمْس ونحوه أو إلَى أَن سبيلَهُ سبيلُ المصالحِ، ولم يكنْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يملكُهُ، ولا ينتقِلُ منه إلى غيره إِرْثَاً، بل ¬
ما يملكه الأَنْبِيَاء -عليه السلام- لا يورث عنْهم، كما اشتهر في الخَبَر، وأَما بعده -صلى الله عليه وسلم- فإِنَّه يصرف هذ السَّهْم إِلَى مصالِح المسلِمِين، كسدِّ الثغور، وعمارة الحُصُون، والقناطِرِ، والمَسَاجِدِ، وأَرزاق القضاةِ، وَالأَئِمَّة، ويقدَّم الأَهَمُّ فالأهُّم منْها. ونقل الشافعيُّ -رضي الله عنه- عن بَعْضِ أَهل العلْمِ: أَنَّ هذا السهْمَ بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُرَدُّ عَلَى أَهل السهمان التي ذَكَرَهَا الله تعالَى معه، وقد جعلَ بعض الأَصحاب هَذَا فيما رواه أبو الفرجَ الزاز قولاً للشافعيِّ -رضي الله عنه- لأنه بعد ما نقله اسْتَحْسَنَهُ، والمذهبُ الأَوَّلُ، وبجوز أن يُعْلَمَ لهذا قوله في الكتاب "فخمس هذا المال مقسومٌ بخمسة أَسهم" بالواو، وأَيضاً بالحاء، والألف، والميم؛ لأن عند أبي حنيفة وأحمد -رحمهم الله-: أنه لا يخمس الفيْءُ لا جميعه للمصالِحِ. ومن أَصحابنا مَنْ يروِي عن أبي حنيفة: أَنَّه يقسَّم جميع الفيء عَلَى ثلاثةِ أَسهمٍ؛ لليتامَى، والمساكين، وابن السبيلِ، كما يقوله في خُمْس الغنيمة، ويروَى عنه أَنَّ خمس الفيء والغنيمة يقسَّم عَلَى أَربعةٍ: ثلاثةٍ لهؤلاءِ، وواحد للفقراء من ذوي القُرْبَى، وعن مالك -رحمه الله- أَنه لا يلزم تخْميسُ الفيء، بل يصرفُهُ الإِمامُ إلَى حيثُ يرَى المصْلَحَةَ فيه وقوله "بحكم نصِّ الكتابِ" المراد منه أصلُ القسْمة بالأَسهم الخَمْسة، وهو المنصوصُ عليه لا قسمة الخُمْس بالأَسهم الخَمْسة، أَمَّا أنَّ ظاهر الآية يقتضي قسْمَةَ جميع الفَيْء بالأسْهُم الخمسة، فسنتكلَّم فيه. وقوله "مصروف إِلَى مصالِحِ المسْلِمِينَ" مُعْلَمٌ بالواو؛ لأن في "الوسيط" حكايةَ وجهٍ عن الأَصحاب: أَن سهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُصْرَفُ إِلَى الإمام؛ لأنه خليفته، والأكَثرون نقلوه مذهباً لبعض النَّاس، ولم ينسبوه إِلى الأصْحَاب. قَالَ الْغَزَالِيُّ: السَّهْمُ الثَّانِى لِذَوِي القُرْبَى وَهُمْ أَقَارِبُ رَسُولِ اللهِ كَبَنِي هَاشِمُ وَبَنِي المُطَّلِبُ، دُونَ غيرِهِمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ، وَيَشْتَرِكُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ الغَنِيُّ وَالفَقِيرُ وَالصَّغِيرُ وَالكَبِيرُ وَالرَّجُلُ وَالمَرْأَةُ وَالغَائِبُ وَالحَاضِرُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الانْتِسَابُ لِجِهَةِ الآبَاءِ، وَلاَ يُفَضَّلُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ بِالذُّكُورَةَ: فَإنَّهُ يَضْعُفُ بِهِ الحَقُّ كَمَا في المِيرَاثِ. قَالَ الرَّافِعِىُّ: المرادُ "مِنْ ذوي القُرْبَى" أَقاربُ رسُول الله -صلى الله عليه وسلم- المنتسبون إلَى هاشمٍ، وإلَى المطَّلِب ابنَيْ عَبْدِ منافٍ دون غيرهم مَن بني عَبْدِ شَمْسٍ، ويَنِي نَوْفَلِ، وإِن كان عبْدُ شمسٍ، ونوفلٌ ابنَيْ عبد مناف أَيضاً؛ لما رُوِيَ عن جُبَيْرِ بن مُطْعَمٍ -رضي الله عنه- قال: "لَمَّا قَسَّمَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- سَهْمَ ذَوِي القُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِم، وَبَنِي المُطَّلِبِ، أَتَيتُ أنا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رضي الله عنه- رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَّا بَنُو
هَاشِم، فَلاَ نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ؛ لمكانك الذي رفعك الله به منهم، فَمَا بَالُ إِخْوَانِنَا مِنْ بَنِي الَمطَّلِب، أَعْطَيْنَهُمْ، وَتَرَكْتَنَا، وإنَّمَا قَرَابَتُنَا وَقَرَابَتُهُم وَاحِدَةٌ؟ فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الَمُطَّلِب شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ" (¬1) وَرُوِيَ أَنَّه قال: "لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ، وَلا إِسْلاَمٍ" وكان عثمان -رضي الله عنه- مِنْ بني عبد شمسٍ وجبير بن مطعم من بني نَوْفَل، وأَشَار النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-[بما ذكره] إِلى شأْن الصَّحِيفَةِ القاطعة الَّتي كتبها قريشٌ، وتبايَعُوا عَلَى ألا يجالس بني هاشم، ولا يبايِعُوهم، ولا يناكحوهم، وَبَقُوا عَلَى ذلك سنَةً، لم يْدخُلْ في بيعتهم بنو المطلب، بل خرجوا مع بني هاشم إلى بَعْضِ الشِّعَابِ، ثم فيه مسائل: إِحداها: يشترك في استحقاق هذا السَّهمْ الغَنِيُّ والفقيرُ؛ لأَن العباس -رضي الله عنه- كان يأخُذُ منه، وهو غنيٌّ، وكذلك الكبيُر والصغيرُ، والذَّكَر والأنثى، ويروى أَنَّ الزُّبَيْر -رضي الله عنه- كان يأْخُذُ لأمِّه (¬2)، ويعمم بالعطاء الغائِبَ عن مَوْضِعِ حصولِ الفَيْء، والحاضِرَ فيه. وقال أَبو إسحاق -رحمه الله-: يُدْفَعُ هذا السَّهْمُ مما يحْصُلُ في كلِّ إقليمٍ إلى من فيه منْ ذوي القُرْبَى، فالحاصل من كفار الرُّومِ يُدْفَعُ إلى من في الشامِ والعراقِ من ذوِي القربَى، والحاصلُ من التُّرْك يُدْفَعُ إلى مَنْ بخراسان؛ لما في النقل من المشقَّة، ووجَّه ظاهِرِ المذْهَب بعموم الآية، وبأنه سهم يستحقُّ بالقرابة، فيستوي فيه القاضي والدَّاني؛ كالميراث، وأَما المشقَّة، فإِن الإمام يأمر أمناءه في كل إقليمٍ بضَبْطِ مَنْ فيه من ذوي القربَى، ولا يلزم نقْلُ كلِّ ما يحصُلُ من إقليم إلَى من في سائر الأَقاليم، بل الحاصلُ في كلَّ إِقليم يفرِّقه عَلَى ساكنيه، وإِن لم يتفق في بعْضِها شيءٌ، أَو لم يَفِ بمن فيه، إِذا وزع جميعُ السَّهْم عليهم، فحينئذٍ: ينقل بقدر الحاجة وذلك مما لا تعظم فيه المشقَّة. قال إِمام الحرمين: ولو كان الحاصلُ من الفَيْء قدراً لَوْ وُزِّع عليهم، لم يسدَّ مسداً، فيقدَّم الأحوجُ فالأحوجُ، ولا يستوعب للضَّرورة، وتصيرُ الحاجة مرجَّحة، وإِن لم تكن معتبرةً في استحقاق هذا السَّهمْ. الثانية: يشترط أَنْ يكون الانتسابُ بجهةِ الآباء، ولا يُدْفِع إلى أولادِ البَنَاتِ شَيْء، وكذلك فعل الأولون وعن القاضي الحسين -رحمه الله-: أن المُدْلِيَ بجهتَيْن يفضَّل على المدْلِي بجهةٍ واحدةٍ، كما يقدَّم الأخ من الأَبوَيْن على الأخ من الأب قال صاحب ¬
الكتاب وغيره: هذا يدلُّ عَلَى أن للإدْلاَءِ بالأمِّ أَثراً في الاستحقاق، وحينئذٍ: فلا يبعُدُ عن القياس تأثيرُهُ عند الانفراد. الثالثة: لا يفضل أَحدٌ، عَلَى أَحدٍ من ذوي القربَى إِلاَّ بالذكورة، فللذَّكَر سهمان، وللأنثى سهم؛ لأَنه مستحقٌّ بقرابة الأَب، فأشبه الميراثَ، وعند المزنيِّ -رحمه الله- يُسمَّى بينهما في الوصيَّة للأقارب. وقوله في الكتاب "ولا يفضل أَحدٌ على أَحدٍ" يجوز أنْ يُعْلَمَ بالواو؛ لما نقل عن القاضي من تفضيل المُدْلِي بجهتين. وقوله "إلاَّ بالذكورة فإنه يضعف بها الحق" بالزاي والحاء؛ لأَن أَبا حنيفة في الرواية الَّتي أثبت لذوي القُرْبَى حقّاً لم يفضل الذَّكَر على الأُنثى. وقوله: "أَقارب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كبني هاشم وبني المطلب" لو قال بدله: "بنو هاشم وبنو المطلب" على البدل من الأَقارب، لَكَانَ أحسن؛ لأن الكاف للتَّمْثِيل، لا مستحق سِوَاهُم؛ حتى يمثلِ بِهِمْ. قَالَ الغَزَالِيُّ: السَّهْمُ الثَّالِثُ: اليَتَامَى وَهُوَ كُلُّ طِفْلٍ لاَ كَافِلَ لَهُ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ فَقِيراً عَلَى أَظْهَر الوَجْهَيْنِ لِأَنَّ لَفْظَ اليَتِيمِ يُنْبِئُ عَنْهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أحدُ سهامِ الخمس لليتامَى، ولا بد من الصِّغَر في تحقيق اسْمِ اليتيم، رُوِيَ أَنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يُتْمَ بَعْدَ الحُلُمَ" (¬1). ثم قال الأكثرون: اليَتِيمُ الصَّغيرُ الذي ليس له أَبٌ، فاكتفوا بِفِقْدَانِ الأَبِ، وهذا ما أَوردناه في الوصيَّة. ومنْهم؛ من أَضافَ إِليه الجَدَّ، فقال: الَّذي لاَ أَبَ لَهُ، ولاَ جَدَّ. وقوله في الكتاب: "وهو كلُّ طفلٍ لا كافِلَ له" أَعمُّ من ذلك، فالمفْهُوم من الكافِلِ الَّذي يقوم بنفقته ومؤناته، ومقتضاه اشتراطُ فِقْدَانِ الأُصولِ، لكنَّ غالب الظَّنِّ خلافُه، بل الوضعُ والعُرْف يُوجِبُ الاكتفاءَ بِفِقْدَانِ الأَب. وقد صرَّح به بعض شارِحِي المِفْتَاحِ، وظاهر المذْهَب: أَنه يشترط الفقْرُ، ووجه بأن استغناءه بمالِ أبيهِ، إِذا منع من الاستحقاق، فاستغناؤه بمالِ نَفْسه أَولى أَن يمنع، وبأَن ¬
لفظ "اليتيم" يُشْعِر بالضَّعْف والحاجَةِ، وكأَنهم أَعطوا بدلاً عما فاتَهُمْ من كفالة الآباء. وعن ابن القاصِّ، والقفَّالِ الشَّاشِيَّ، فيما روى الحليميُّ عنه؛ نَقْلُ قَوْلِ آخر: أَنه لا يُشْتَرَطُ الفقْرُ، ويشترك فيه الغَنِيُّ والفقير؛ لشمول الأسم، فحصل في المسألة قولان. ومنهم من يُعبِّرُ عن الخلاف فيها بالوجّهَيْن، وعلى ذلك جَرَى صاحب الكتاب. قَالَ الْغَزَالِيُّ: السَّهْمُ الرَّابعُ: لِلْمَسَاكِينِ السَّهْمُ الخَامِسُ: لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَبَيَانُهُمَا في تَفْرِيقِ الصَّدَقَاتِ، والمُستَحِقُّونَ بِالحَاجَةِ تَتَفَاوَتُ حُقُوقُهُم بِتَفَاوُتِ الحَاجَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القَوْلُ في معنى المسْكِين وأبناء السَّبيل يأتي فِي قَسْم الصدقات، ولكلِّ واحدٍ من هذَيْن الصَّنْفَيْن سهمٌ من الخمس بالآية، ويعم اليتامَى والمساكِين، وأَبناء السبيل، أمْ يختصُّ الحاصلُ في كلِّ إقليمٍ وناحيةٍ بمن فيها؟ منْهم حكى الشيخ أَبو حامد وغيره: أَنه على الخلافِ المذْكُور في ذوي القُربَى، وقد مرَّ في باب الوصية: أَن عند الانفرادِ يدْخُل في اسم الفُقَرَاء المساكينُ، وبالعكْسِ، ولفظ "المساكين" مفرد هاهنا: فيدخل فيه الفقراءُ، وحينئذ، فقضيةُ القَوْل تُوجِبُ التعميمَ في مساكينِ النَّاحية، أو المساكينِ كلِّهم، يتناول الفقراء أَيضاً، وإيراد بعض الأئمة يوافِقُ هذه القضية. ومنْهُم مَنْ يقول: يجوز الصَّرْف للفقراء؛ لأَنهم أَشدُّ حاجةً، وهذا الإيرادُ (¬1) لا يوافِقُهَا، ويجوز أَن يفاوت بين اليتامى (¬2)، وكذا في المساكين (¬3)، وأَبناء السبيل؛ لأَنَّ هؤلاءِ يستحقُّون بالحاجة، فيراعي حاجاتُهم، بخلاَفِ ذوي القربَى؛ فإنهم يستحقُّون بالقرابة، ولا يشترط أَنْ يكُونَ هؤلاء الأَصنافُ الثلاثةُ من المرتزقَةِ عَلَى المشهورِ، وعن القَفَّال اختصاصُ الاستحقاقِ بيتامى المُرْتزقة، وذكر أَقضَى القُضَاةِ المَاوَرْدِيُّ مثله في المَسَاكِين، وأَبناء (¬4) السبيل، فقال: يُصْرَف سهم إِلَى مساكينِ أَهْلِ الفَيْء، وسهم إِلَى أَبناء السبيل منهم، ¬
قال: وأَهلُ الفَيْء هم الذابون، عن البَيْضة، والمجاهدون للعَدُوِّ، وقد يحتج له بظَاهِرِ قول ابن عَبَّاسِ -رضي الله عنهما- أن أهْلَ الفَيْءِ كانُوا في زمانِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمَعْزِلٍ عن الصَّدَقة، وأهْل الصَّدَقَة بمعزلٍ عن الفَيْء، وإِذا فقد بعض الأَصناف، وُزِّع نصيبه على البَاقِين، كما في الزَّكَاة، إِلاَّ سهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه مصرُوفٌ بعده إِلى المَصَالحُ كَما تقدَّم، ولا يجوز الصَّرْف إِلى كافر؛ كالزكاة، ولا يجُوزُ الاقتصار عَلَى إِعطاء ثلاثةٍ من المساكين، وأبناء السَّبيل، وبمثله أَجابوا في الزكاة، إِذا كان الإِمامُ هو الذي يقسِّم عَلَى ما سيأتي (¬1). قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَمَّا الأَخْمَاسُ الأَرْبَعَةُ فَقَدْ كَانَتْ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَيَاتِهِ، وَبَعْدَهُ ثَلاَثةُ أَقْوَالٍ (أَحَدُهَا): أَنَّه لِلْمَصَالِحِ كَخُمْسِ الخُمْسِ (وَالثَّانِي): أَنَّهُ يُقَسَّمُ كَمَا يُقَسَّمُ الخُمْسُ فَيَكُونُ جُمْلَةُ الفَيْءِ مَقْسُوماً بِخَمْسَةِ أقْسَامٍ كَمَا دل ظَاهِرُ الكِتَابَ عَلَيْهِ (وَالثَّالِثُ): وَهُوَ الأَظْهَرُ أنَّهُ لِلْمُرْتَزِقَةِ المُقَاتِلِينَ كَأرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الغَنِيمَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد تبيَّن مَصْرف خُمْس الفَيْء، فأَما أَربعة أَخْمَاسه، فإِنَّها كانَتْ لرسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته مضمومة إِلَى خمس الخمس، فجملةُ ما كان -صلى الله عليه وسلم- احَدٌ وعشْرُونَ سَهْماً من خَمْسَة وعشْرِين سهماً، هكذا ذكر الأكْثَرُون. ومنهم: من قال: إِنَّ جميع الفَيْء كانَ له -صلى الله عليه وسلم- وقد نقله "الوسيط" مع أنه قال فيه: إِن خُمْسَ الخُمْسِ كان له، وإِن أربعة أَخماس الفَيْء كانت له، ولا معنى لتَخْصِيصها بالذِّكْر مع القول بأَنَّ الكلَّ كان له ثُم ذكر أَبو العَبَّاس الرويانيُّ هاهنا شَيْئَيْنِ: أَحدهما: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كانَ يَصْرفُ الأَخماس الأربعة إِلى المَصَالح، وهل كان ذلك واجباً علَيْه أَو تفضُّلاً منه، قيل: فيه طريقانِ، وهذا الخلافُ يوجِبُ الخلاف في قَوْلِنا: إنها كانت له. والثاني: حَكَى خلافاً في أَنه، مِنْ أَين كانَ يأْخُذُ قوته، وقُوتَ عياله، ففي وجهٍ: يأَخذه من أَربعةِ أَخماس الفَيْء، وفي وجهٍ: من خمس الفيء، والغنمية، فهذا حكمها في حياته. ¬
وأَما بعده -صلى الله عليه وسلم- فقد نَقَلَ صاحب الكتاب وآخرون: أن فيها ثلاثَةَ أَقْوَالِ والمشهورُ الأَولُ والثالث: أَحدها: أَنها للمصالح؛ لأنها كانت للنبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَمصْرِفُها بعده للِمصَالِح؛ كخمس الخمس. والثاني: أَنها تقسَّم كما يقسَّم الخمْس وعَلَى هذا فينْقَسِم خُمْس الفيء بخَمْسَة أَسْهُمْ، كما دَلَّ عليه ظاهرُ قوله تعالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7]، وما قدَّمنا أَن القسْمَة تصحُّ من خمسة وعشرين يتفرَّع على غير هذا القول. والثالث: وهو الأَصَحُّ: أَنها للمرتزقةِ المترصِّدين للجهاد؛ لأَنَّها كانت للنبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لحُصُول النُّصْرة به، كان منصوراً بالرُّعْب على مسيرة شهر، وبعده جند الإِسْلاَم، فهم المترصدُون للنّصرة، وإِرعاب الكفار، هذا وجه القول به، لكنه يُشْكِلُ بخمس الخمس. وقوله في الكتاب "كأربعة أَخماسِ الغَنِيمَةِ" يعني أَنها مصروفةٌ إِلى المقاتِلِينَ، فكذلك أربعةُ أخماسِ الفَيْء، والغرضُ التشبيهُ الجُمَلِيُّ، ثم التفاصيلُ مختلفةٌ، وأَما ظاهر الآيَةِ، فإِذا علم أَن الأخْمَاس الأرَبعةَ كانتِ لِرَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فهُوَ مَعْمُول به، ليس فيه إلاَّ أَنَّ الاستحقاق على التفاضلَ، فللنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أحَدٌ وعشرون من خمسة وعشْرين، ولكلِّ واحدٍ من الأصناف سهْمٌ، والإضافة عند التفاضُل، والتساوي شائعةٌ، وإذا فَرَّعنا على القوْلِ الأَوَّل، وهو أنها للمصالِحِ، فيبدأ بالأهمِّ فالأهَمِّ والأهَمُّ تعهُّدُ المرتزقة، فإنَّهم القائمون بحفْظِ بَيْضَة الإِسلامِ، هكذا ذكره الأَصحاب، وكذلك يكون الحُكْمُ في خُمْس الخُمْس، وبهذا يَهُونُ وَقْعُ البَحْث عن الأصَحِّ من القولَيْن المشْهُورين؛ لأَن المَصْرِف المرتزقةُ على القولَيْن، وإنما يختلف التفريعُ فيما يفْضُل عنْهم، ولنتكلَّم الآن في كيفية الصَّرْف إليهم. قَالَ الغَزَالِيُّ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي لإِمَامِ أَنْ يَضَعَ دِيواناً يُحْصِي فِيهِ المُرْتَزِقَةَ بأَسْمَائِهِمْ، وَيُنصَبِّ عَلَى كُلِّ عَشَرَةِ عَرِيفاً يَجْمَعُهُمْ، وُيسَوِّي (و) بَيْنَهُمْ فِي الإِعْطَاءِ فَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْر حَاجَتِهِ، وَيُعْطِي (و) لِوَلَدِهِ وَعَبْدِهِ وَفَرَسِهِ وَزَوْجَتِهِ وَإنْ كُنَّ أَرْبَعَاً، وَلاَ يَزِيدُ عَلَى عَبْدٍ وَاحدٍ إِذْ لاَ حَصْرَ فِيهِ، وَيُعْطِي الصَّغِيرَ والكَبِيرَ، وَكُلَّما زَادَتْ حَاجَتُهُ بالكِبَرِ زَادَ فِي حِصَّتِهِ، وَيُقَدِّمُ في الإعْطَاءِ قُرَيْشاً، وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ بَنُو هَاشِم وَبَنُو المُطَّلِبِ، ثُمَّ مَنْ بعْدَهُمْ عَلَى تَرْتِيبِ القُرْب، ثُمَّ يُعْطِي العَجَمَ بَعْدَ العَرَبِ، ثُمَّ يُقَدِّمُ بِالسِّنِّ أَوِ بِالسَّبْقِ في الإِسْلاَمِ، وَلاَ يَثْبِتُ فِي الدَّيوَانِ اسْمَ صَبِيٍّ وَلاَ مَجْنُونٍ وَلاَ عَبْدٍ وَلاَ ضَعِيفٍ، بَلِ اسْمَ المُسْتَعِدِّينَ
القول في كيفية الصرف إليهم
لِلْغَزْوِ، فَإِنْ طَرَأَ الضَّعْفُ وَالجُنُونُ فَإِنْ كَانَ يُرْجَى زَوَالُهُ فَلاَ يَسْقُطُ الاسْمُ، وَإِلاَّ فَيَسْقُطِ، وإذَا مَاتَ فَالأَظْهَرُ (و) أنَّهُ يُعْطِي لِزَوْجَتِهِ وَأَوْلاَدِهِ مَا كَانَ يُعْطِيهِم فِي حَيَاتهِ، أَمَّا الزَّوْجَةُ فَإلَى التَّزَوُّجِ، وَأمَّا الأوْلادُ فَإِلَى الاسْتِقْلاَلِ بِالكَسْبِ أَوِ الجِهَادِ، وَيُفَرِّقُ أَرزَاقَهُمْ فِي أَوَّلِ كُلِّ سَنَةٍ، فَلَوْ مَاتَ وَاحِدٌ بَعْدَ جَمْعِ المَالِ وَانْقِضَاءِ السَّنَةِ فَحَقُّهُ لِوَرَثَتِهِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الجَمْعِ وَالحَوْلِ فَلاَ حَقَّ لَهُ (و)، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الجَمْعِ وَقَبْلَ الحَوْلِ فَقَوْلاَنِ: " القول في كيفية الصرف إليهم" قَالَ الرَّافِعِيُّ: للإِمامِ في القَسْم على المرتزقة بَيَانُ وظائِفَ: إِحداها: يضَعُ ديواناً، قال في "الشَّامِلِ"، وهو الدَّفْتر الَّذي يثبت فيه الأَسماءَ (¬1)، ويُحْصِي فيه المرتزقة بأَسمائهم، ويُنَصِّب لكلِّ قبيلةٍ أو عَدَدٍ يَرَاهُ، عَرِّيفاً ليعرض عليه، أَحوالَهُم ويجمعهم عند الحاجة، ويثبت فيه أَقدار أَرزاقهم (¬2)، وكل ذلك للتسهيلِ، ولَفْظ "العشرة" في الكتاب جَرَى التقريب دون التقدير، فله أَن يزيد وَينقُصَ عَلَى ما يقتضيه الحالُ عَلَى أَنه يوافِقُ ما روي عن عمر -رضي الله عنه- ورُوِيَ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه عَرَّفَ عام خَيْبَرَ عَلَى كل عشرة عريفاً، وذلك في استطابته قلوبَهُمْ في سَبْيِ هَوَازِنَ (¬3). الثانية: يُعْطِي كُلَّ واحدٍ قَدْرَ حاجته، فيعرف حاله، وعدد مَنْ في نَفَقَتِهِ ويقف عَلَى قدر نفقاتهم، وكسوتهم، وسائر مُؤْنَتِهِمْ، ويراعى الزمانَ والمكَانَ، وما يَعْرِضُ من رُخْصٍ أو غلاءٍ، وحال الشخص من مروءته وضدِّها، وعادة البلد في المطاعم، فيكفيه المؤناتِ، ليتفرَّغ للجِهَاد، وهذه: جملةُ تفصيلِهَا صُوَرٌ: إِحداها: يعطيه لأولاده الَّذينَ هُمْ في نفقته، أَطفالاً، كانوا أَو كباراً، وكلَّما زادَتِ الحاجةُ بالكِبَرِ، زاد في حصته ونقل الحنَّاطِيُّ، وأبو الفرج الزاز وجّهاً غريباً: أَنه لا ¬
يُعْطِي للأولادِ شيئاً؛ لأَنهم لا يقاتلون، وعلى الصحِيحِ: فيدفع إِلَيْه ما يتعهَّد منه للأَولادِ، أَو يتولَّى الاِمام تعهُّدهم بنفسه، أَو بمن ينصبه لذلك، ذكروا فيه قولَيْن، أَشبَهُهُما أوَّلُهُمَا. الثانية: إِذا كان لَهُ عبْدٌ يقتنيه للزِّينة، أَو للتِّجَارة، لم يُعْطَ له، وإن كان يقاتِلُ معه، أَو يحتاج إِليه في الغزو؛ لسياسة الدوابِّ ونحوها، أعْطِيَ له، وكذا لو كان لَهُ عبدٌ يخدمه، وهو ممن يخدم، بل لو لم يكُن له عبْدٌ، واحتاج إِلَيْه، فيعطيه الإمامُ عبداً، ولا يُعْطَى إلاَّ لعبد واحد، وفي الزوجات يعطَى الزائدَةَ على الواحدةِ؛ لأَن نَهايَتهُنَّ أَربعٌ، والعبيد لا حَصْر لهم، وكان هذا في عَبِيدٍ الخدْمة، فأما الذين يتعلَّق بهم مصلحةُ الجهاد (¬1)، فينبغي أَن يُعْطَى لهم، كم كَانُوا (¬2). الثالثَةُ: يعطى المرتزق مؤنة فرسه، بل يعطى الفرس، إِذا كان يقاتِلُ فارساً، ولا فَرَسَ له، ولا يعطَى الدَّوابَّ الَّتي يتَّخِذُها للزينة وَنْحوِها. الرابعةُ: يُعْطَى للزوجةِ الواحدةِ والزوجات، وإذا نكح جديدةً، زاد في العطاءِ. وقوله: "في الكتاب ويسوي بينهم في الإِعطاء" أَي في أَن يعطي كل واحد منهم بقدر حاجته لا في القدر المعطى، ولا يفضل بعضهم على بعض لشرف النسب والسبق في الإِسلام والهجرة وسائر الخصال المرضية، بل يسوى بين الشريف وغيره كما يسوى في الإِرث بين البار والعاق، وفي الغنيمة بين الجريء والجبان؛ وهذا لأنهم يعطون بسبب ترصدهم للجهاد، وكلهم مترصدون له، وإلى التسوية ذهب أَبو بكر، وعلي -رضي الله عنهما- وكان عمر -رضي الله عنه- يفضل، وعن عثمان -رضي الله عنه- مثله (¬3). وحكى أَبو الفرج السرخسي أَن من أَصحابنا من قال بالتفضيل إِذا كان في المال سعة فيجوز أَن يعلم لهذا قوله في الكتاب "ويسوي بينهم في الإِعطاء فيعطي كل واحد ¬
على قدر حاجته" بالواو. ويجوزُ أَن يُعْلَمَ قوله: "يعطي لولده" للوجْهِ الغَرِيب في الأَولاد، ويجْرِي ذلك عَلَى بُعْدِه في العَبِيد والزَّوْجات والله أعلم. الوظيفةُ الثالثةُ: يُقَدَّم الإمامُ في الإعْطاء، وفي إِثباتِ الاسْمِ في الديوان قُرَيشاً عَلَى سائر الناسِ عَلَى ما قال -صلى الله عليه وسلم-: "قَدَّموا قُرَيْشاً" (¬1) وهم ولدُ النَّضْر بن كِنَانَة بنْ خُزَيْمة بْن مُدْرَكَة بن الْيَاس بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدٍّ بْنِ عَدْنَانَ. قال الأستاذ أَبو منصور -رحمه الله-: هذا قول أَكثر النسابين، وبه قال الشافعيُّ -رضي الله عنه وأصحابه -رحمهم الله تعالى- وهو أصحُّ الأَقوال. ومنْهم مَنْ قال: هم ولدُ إلياس بْن مُضَرَ. ومنْهم مَنْ قال: هُمْ ولدُ مضَرَ بْنِ نِزَارٍ وفي "المهذَّب": أَن بعض الناس قَالَ: هم ولَدُ فِهْرِ بْنِ مَالكِ بْنِ النضْرِ بْنِ كنانةَ. ثم يقدِّم من قريش الأَقربَ فالأقربَ إِلَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مُحَمَّد بن عبد الله بْنِ عَبْدِ المطَّلِبِ بْنِ هَاشِم بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيَّ بْنِ كلاب بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤيِّ بْنِ غَالِب بْنِ فَهْرٍ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، فيقدِّم بني هاشم، وبني المطَّلب عَلَى سائر قُرَيْش أَما تقديم بني هاشم؛ فلأَن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم، وأَما تقديمُ بني المطلب، فلتسوية النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بينهما، كَما سبق ثم يقدَّم بعدهما بني عبد شمس وبني نوفل أَخوَيْ هاشم، ويقدِّم منهما بني عبد شمس لأن عَبْدَ شَمْسِ أخو هاشم من الأبوين، ونوفل أخوه من الأب، ثم يقدم بعدهم بني عبد العُزَّى، [وبني عبد الداد، وهما ابنا قُصَيِّ، ويقدِّم منهما بني عبد العزَّى] (¬2) لأنهم أصهارُ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنَّ خديجةَ -رضي الله عنها- مِنْ بنِي أسدٍ بْنِ عَبْدِ العزَّى. وأيضاً، فإنَّهم من المُطَيَّبينَ، وكان لقريشٍ حلْفانِ قَبْل المَبْعَثِ والحلْفُ العَهْد، والبيعة: أحدُهُما: أنه وقع تنازُعٌ بيْنَ بني عبد مناف، وبني عَبْد الدَّار فيما كان إلى قُصَيِّ من الحجابة، والسقاية، والرقادة، واللواء، فتبع عبدُ منافٍ قبائلَ، منْهم أَسدُ بن عبدِ العَزَّى وتيمٌ، وزهرة، وبنو الحارث بْن فهو، وتحالَفُوا عَلَى أَلا يتخاذَلُوا، وعَلَى أَن ينصروا المظْلُومين، ويدْفَعُوا الظالمين، وتبع عبد الدار جُمَعُ، وسَهْمٌ، ومخْزومٌ، وعَدِيٌّ، وتحالفوا أَيضاً وهَؤُلاَء يُسَمَّوْن بالأحلاف، وعبد مناف ومن معهم يسمون المطَّيبين؛ لأَنهم أَخرجوا جفنةً مملوءةً طيباً، وكانوا يَغْمِسُون أَيديهم فِيهَا، ويتبايعون. ¬
وقيل: لأنهم أَخرجُوا من طيب أَموالهم، وأَعدُّوه للأضياف. والثاني: أَنه كان في قريشٍ مَنْ يَسْتَضْعِفُ الغريبَ، فيظلمه، ويأخذ مالَهُ، فأَنكروا ذلك وَتَبَايَعُوا على منع الظالم من الظلم في دار عبد الله بْنِ جُدْعَان واجتمع عليه بنُو هاشِمٍ، وبنو المطلب، وأسد ابن عبد العزَّي، وزهرة وتيم، ويسمَّى هذا حلْفَ الفُضُول. قيلَ: لأَنهم أَخرجوا فُضُولَ أموالهم للأضياف. وقيل: لأَنه قام بأمره جماعةٌ، اسمهم الفَضْلُ منهم الفَضْلُ بن الحارث، والفضْلُ ابن وَدَاعَةَ، والفضلُ بن فَضَالَةَ، فجُمِعُوا على فُضُولٍ؛ كسَعْدٍ وسُعُودٍ، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معَهُمْ في حِلْفِ الفضول (¬1)، وكذلك في الحِلْفِ الأَول، وكان مع المطَيّبين، ثم بعد بني عبد العزى يُقَدِّم بني عبد الدار، ثم بني زهرة بْنِ كلاب، وهو أخو قُصَيٍّ، ثم بني تيم وبني مخزُومٍ، وهما أَخوا كلاب، تقدِّم منهما بني تيم، لمكان أبي بكْرٍ، وعائشةَ -رضي الله عنهما- من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم تقدم بني جُمَعَ، وبني سَهْم، وهما ولد هُصَيْص بن كَعْب، وبني عدي بن كعب وهصيص وعدي أخوا مرة بن كعْب، وقدَّم عُمَرُ -رضي الله عنه- من هؤلاء القَبَائِلَ الثلاث من بني جمح، وسوَّى بين بني سَهْمٍ، وبني عَدِيًّ، كما يسوّي بين بني هَاشِم وبني المطلب، قال الشافعيُّ -رضي الله عنه- وقدم المهديُّ -رضي الله عنه-[أميرُ المؤمنينَ في زمانه بني عديٍّ علي بني جمح، وبني سهْم لمكان عُمَرَ] (¬2) والذي فعله عُمَرُ -رضي الله عنه- كان تواضُعاً منه، ثم يقدِّم بني عامر بن لُؤيٍّ، وهو أخو كعْبٍ، ثم بني الحارث بن فِهْرٍ، وهو أَخُو غالِبِ. وإِذا فَرَغَ من قريشٍ، بدأ بالأنصار (¬3)، لآثارهم الحميدةِ في الإِسْلاَم، ثم يعطي سائِرَ (¬4) العَرَب، ¬
هكذا رتَّب الأَصحاب، وظاهر لَفْظ الشَّافعي -رضي الله عنه- يوافقه. وفي "أَمالي" أبي الفرج السرخسيِّ حمله على الَّذِينَ هُمْ أَبْعدُ من الأَنصار، فأَما سائرُ العَرَب الذين هم أَقرَبُ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأَنصار فيقدَّمون عليهم، وإِذا تساوَى اثناَن في القُرْب، قُدِّم أسنهما، فإِن استويا في السِّنِّ، فأَقدمهما إِسلاماً، وهجرةً (¬1)، ثم يعطِي العَجَمَ بَعْد العَرَب، ثم في "المهذب" و"التهذيب": أَنَّ التقديم فيهم بالسِّنِّ والفضائِلِ، ولا يقدم بعضهم علَىَ بعضٍ بالنسب، وفيه كلامان: أحدهما: أن المعتبر في العَرَب القُرْبُ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والعَجَم قد يعرف نسبهم، فينبغي أَن يعتبر في معروفي النَّسَب منْهم القرب والبعد أَيْضاً. والثاني: أن النسب في بَابِ الصَّلاة بالجماعةَ من الأَسباب المقدمة، [و] حكينا أَن هناك عن كلامِ الإِمام -رحمه الله-: أَن الظاهرَ رعايةُ كلِّ نسب يعتبر في الكفاءة في النِّكاح، وسنذكرَ إنْ شَاء الله -تعالَى جَدُّه- أَن نسب العَجَمِ مرعيٌّ في الكفاءة عَلَى خلافٍ فيه، فليكُنْ ذلك هاهُنَا (¬2) قال الأَئمة: وجميعُ الترتيبِ المذْكُور في هذه الوظيفةِ مستحَبٌّ، لا مستحق (¬3) واعلم أَنه قد سَبَق في خصال التقديم للصَّلاَة ذكْرُ خلافٍ في أَن المقدَّم من السنِّ والنَّسَب أَيهما، ولم يذكروه هاهنا، بل أَطلقوا تقديمَ شَرَفِ النَّسب على السِّنِّ، فليتأَمل في الفرق. الرابعةُ: لا يُثْبِتُ في الديوانِ اسْمَ الصبيانِ، والمجَانِينِ، والنِّسْوَان، والعبيد، والضُّعَفَاء الَّذِين لا يصلُحُون للغَزْو نَحْو العميان والزمْنَى، وإِنما هم تَبَعٌ للمقاتل، إذا كانوا في عياله، يعطي لهم كما مَرَّ، وإِنما يُثْبِتُ في الديوانِ اسْمَ الرجالِ المكلَّفيَن المستعِدين للغزو، وإِذا طَرَأ على المقاتل مَرَضٌ أَو جُنُونٌ، نظرَ: إِن كان يرجَى زوالُه، أُعْطِيَ، ولَمْ يسقط اسمه من الديوان، وإلاَّ لرغب الناس عن الجهاد، واشتغلوا بالكَسْب، فإنهم لا يأَمنون هذه العوارِضَ، وإِن كان لا يرجَى زواله، فيسقط اسْمُهُ، وهل يعطَى، فيه الخلافُ المذكورُ عَلَى الأثر في زوجة المقَاتِلِ وأَولاده بعد موته، وهو ¬
أَولَى بأن (¬1) يعطَى، وإِذا ماتَ واحدٌ من المرتزقة، ففي زوجَتِهِ وأَولاده وَجْهَان، ويقال: قَوْلاَنِ، وهو الأَظْهَر: أَحدهما: أَنَّهم لا يرزقون؛ لأَنهم ليْسُوا بمقاتِلِين ولم يَبْقَ من كانوا تَبَعاً له. وأَظهرهما: عَلَى ما ذكره في الكتاب: أَنهم يرزقون؛ لئَلاَّ يشتغلَ المجَاهِدُون بالكَسْب، إِذا علموا ضَيَاعَ عيالهم، فيتعطَّل أَمر الجهاد، فعلَى هذا ترزَقُ الزوجةُ إلَى أَن تتزوَّج، فتستغنِي بالزوج الثَّاني، وأَما الأولادُ، فإِلَى أن يبلغوا، ويشتغلوا بالكَسْب، أو يرغبوا في الجِهَاد، فيثبت اسمهم في الديوان، ومَنْ منهم، وهو أعمَى أو زَمِنٌ، رزق عَلَى هذا القَوْل، كما كان يرزق قبل البلوغ، هذا في ذكور الأَولاد. أما الإِناثُ: فقضيَّة ما في "الوسيط": أَنهنَّ يرزقْنَ إلى أن يُنْكَحْنَ، والله أعلم. وقوله في الكتاب "فالأظهر أنه يُعْطِي لزوجته وأولاده ما كَانَ يعطيهم في حياته" لفظة "يعطيهم" [يوافق] (¬2) ظاهرها القَوْل الثاني بينما روينا أن الأِمامَ تعهَّدهم بنفسه ولا يدفع موتاهم إِلى المقاتل، والله أعلم. الخامسةُ: يفرق الأرزاق في كل عام مَرَّةَ، ويجعل له وقتاً معلوماً، لا يختلف والتقديرُ بالعام؛ لِئَلاَّ يشغلهم بالأَخْذِ كلَّ أسبوع أَو كلَّ شهر عن الجهاد، ولأَن الاعتماد في أمْر الفيء على الجزية الدارةِ، وهي تُؤْخَذُ في السنَةِ مرةً؛ فلذلك يفرق مرةً، نعم لو رأى الإِمامُ المصلحةَ في أَن يفرق مشاهرةً ونحوها، أَتبع المصلحة، وإِذا اقتصر في السنة على الَمَرَّة الواحدةِ، فيشبه أَن يقال: يجتهدُ فيما يقتضيه الحالُ، ويتمكن فيه من الإِعطاء في أَول السنة، أَو في آخرها يأَتي به؛ وعلَى ذلك ينزل قوله في الكتاب: "ويفرق أَرْزَاقهم في أوَّلِ كلِّ سنة" وقول آخرين أنه يفرقها في آخر كل سنة وإِذا مات واحدٌ من المرتزقة بَعْد جمع المال، وانقضاء الحَوْل، فيصرف نصيبه إِلَى ورثته؛ لأنَه حقٌّ لازمٌ، له، فينتقل إلى ورثته، ولا يسقط هَذا الحَقُّ بالإِعراض عنه، على الظاهر، هكذا قاله (¬3) ¬
الإمام -رحمه الله- وإِن ماتَ بَعْدَ جمع المالِ، قَبْلَ تَمامِ الحَوْل، فقولان، ويقال: وجهان: أظهرهما: أن قِسْطَ ما مَضَى، يُصْرَف إلى ورثته، كالأُجْرَة في الإِجَارةِ. والثاني: المَنْعُ كالجعل في الجَعَالة، لا يستحق قَبْل تمام العَمَل، وإِن مات قَبْل جَمْع المال، فإن انقضى الحَوْلُ، ثم مات، فظَاهِرُ النصِّ أَنه لا شَيْء للوارث، وبه أَخذ القاضي أبو الطَّيِّب وآخرون، وقالوا: إنما يثبت الحقُّ بحصول المال، وهذا ما أورده في "التهذيب". وقال الشيخ أبو حامد: إن عطاءه يصرف مما سيحصل إلَى ورثته وادعى ثبوت الحَقِّ له بمضيَّ المُدَّة، والحقُّ إِذا ثبت لمعيَّن، انتقل بموته إلى ورثته، وقَيْدُ التعْيينِ للاحتراز عما إِذا مَاتَ الفقيرُ بعد تمامِ الحَوْل ووجوب الزكاة، حيث لا شَيْء لورثته؛ لأن ذلك الفقيرَ غَيْر متعيّن للزكاة؛ حتَّى لو لم يكن في القرية إِلاَّ ثلاثةٌ من الفقراء ومنعنا نقل الصدقة، فعن نَصِّه في "الأُمِّ" أن الحَقَّ ينتقلُ إلَى الورثة، كان لم يتمَّ الحول، فإن قلْنا: لو مات بَعْد انقضائه، فلا شَيْء للوارِثِ، فهاهنا أوْلَى وإنْ قلْنا: إن عطاءه يصرف إِلَى ورثته هناك، ففي قِسْط ما مَضَى الخِلاَفُ المذكورُ فيما إذا مَاتَ بعد جمع المال، وقبل تمام الحَوْل، كذلك رتَّب الشيخ أبو الفرج السرخسيُّ، وقد أحسن فيه، ويجوز أن يُعْلَم لذلك قولُه في الكتاب "وإِن مات قبل الجَمْع والحَوْل، فَلاَ حق له" بالواو، وما ذكرناه من انقضاء الحَوْل وعدَمِهِ، فهو مبنىٌّ على ما إِذا كان الإمامُ يعْطَى في الحول مرةً واحدةً، وقد عيَّن له وقعاً، فإن رأى العطاءَ مرتَيْنِ، فصاعداً، فالاعتبار بمضيِّ المدة المضروبة. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَإنْ كَانَ في جُمْلَةِ الفَيْءِ أَرْضٌ فَخُمُسُهَا لِأَهْلِ الخُمُس، وَالبَاقِي يَكُونُ وَقْفاً هَكَذَا نَصَّ الشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَقِيلَ: أَرادَ بِهِ وَقْفاً شَرْعِيّاً لِأنَّهُ المَصْلَحَةُ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ التَّوقُّف عَنْ قِسْمَةِ الرَّقبةِ، وَقِيلَ فُرِّعَ (و) عَلَى أنَّهُ للمَصَالِحِ، وَإلاَّ فَعَلَى القَوْلِ الثَّانِي تَجِبُ قِسْمَتُهُ، وَإِذَا فَضُلَ شَيءٌ مِنَ الأَخْمَاسِ الأرْبَعَةِ عَنْ قَدْرِ حَاجَتِهِمْ وُزِّعَ عَلَيْهِمْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفَصْل مَسْأَلَتَانِ: إحداهما: أن جميع ما ذكرناه في المَنْقُولاتِ من أموال الفَيْء، فأما الدُّور
والأراضِي، فقد قال الشافعيُّ -رضي الله عنه-: هي وقْفٌ للمسلمين تستغل، وتقسَّم غلتها في كل عام كذلك أبداً، والوجهُ أَنْ نورد مقالاتِ الأصْحَاب في أربعة أخْمَاسِهَا أولاً، ثم في خُمُسِها: فأما أربعةُ أَخماسِها، فمِنْهم: من يقول: الحكم بأنَّها وقفٌ مفرَّعٌ عَلَى أن أربعة أخماسِ الفَيْء للمَصَالح. فأما إذا جعلناها للمرتزقة، فيُقسَّم بينهم، كالمنقولاتِ، وكأربعة أَخماس الغَنِيمةَ، ومنْهم: من يقول هذا الحكْمَ، سواءٌ جعلناها للمصالح أو للمرتزقة خاصَّةٌ؛ لتبقى الرقبةُ مؤبَّدة، وينتفع بغلَّتها المستحقُّون كلَّ عام، وتفارق المنقولات؛ لتعرُّضها للهَلاَك لو بَقِيَتْ، وتفارق أربعة أخماس الغنيمة؛ لأنها بعيدةٌ عن نظر الإمام، واجتهادِهِ، لتأَكُّد حقِّ الغانمين فيها، وأربعة أخماس الفَيْء فيها بحال النظر والاجْتِهَاد؛ فإنَّه يجتهد في تعرُّف حاجاتهم ومقادِيرِها، وهذا أصحُّ، وإِذا قلنا بالوقْف: إِما تفريعاً عَلَى أنَّها للمصالح أو على القولَيْن جميعاً، فوجهان: أحدهما: أن المرادَ منْه التوقُّف عن قسمة الرقبة، دُون الوقْف الشرعيِّ المانع من البَيْع ونَحْوه. وأظهرهما: أنَّ المراد الوقْفُ الشرعيُّ للمصلحة، وعلَى هذا، فوجهان: أحدهما: أنه يصيرُ وقْفاً بنفس الحصول، كما يرقِّ النساء والصبيان بنَفْس الأَسْر. وأصحُّهما: المنع، لكن الإِمام يقفها، وإن رأى قسمتها أو بيعها، أو قسمة ثمنها فله ذلك ذكره في "التهذيب". وقول الشَّافعي -رضي الله عنه-: "هي وقْفٌ" أي تجعل (¬1) وقفاً، وأَما خمْسُها، فقد قال في الكتاب: إِنه لِأهلِ الخمس، هكذا ذكر في "التهذيب" والاقتصار علَيْه لا يغنِي، بلْ لا بد من تفصيل سهَامِهِ فأما سهمُ المصالِحِ، فلا سبيلَ فيه إِلى القسْمَة، بل الطريقُ: إما الوقْفُ وصرْفُ الغلَّة إِلى المصالح، أو البَيع، وصرف الثَّمن إِلَيْها، والوقف أولَى، ويجيء الوجهُ السَّابق في أَنه يصيرُ وقفاً بنَفْسِ الحصول، وأما سهم ذوي القربَى، فعلى الخلافِ المذكورِ في الأخماس الأربعة؛ تفريعاً على أنَّها للمرتزقة، وسهم اليتامَى والمساكين، وأبناء السبيل يرتَّب على سهم ذي القُربَى، إِن قلنا: إنه وقْفٌ، فهذه السهامُ أولَى؛ لأن ذوي القربَى يتعيّنون بخلافِ هؤلاء الأصناف، وإن لم نجعلْه وقفاً، ففي هذه السهام وجهَان: ¬
أحدهما: أن الجوابَ كذلك. وأظهرهما: أنَّها وقفٌ أيضاً، وإِذا تأمَّلْت هذه الاختلافاتِ المذكورةَ في الأخماس الأربعَةِ، ثم في الخمس، عَرَفْتَ أن الظاهِرَ في الكلِّ الوقْفُ، وهو الموافِقُ لنصِّ الشافعيَّ -رضي الله عنه- الذي أوردناه في أوَّل المسألة. الثانية: الأخماسُ الأربعةُ، إذا فضلْت عن حاجاتِ المرتزقةِ، فإن قلْنا: إنها للمرتزقَةِ، وهو الأصحُّ، يصرف الفاضلُ إِلَيْهم أيضاً، ويقسّم بينهم عَلَى قدر مؤناتهم، وهَلْ يجوز أن يُصْرَف شيءٌ منه إلَى إصلاح الحُصُون، وإلى الكُرَاع والسِّلاَح، ليكون عُدَّة لهم؟ فيه وجهان: أظهرهما: نَعَمْ، وإنْ قلنا: إنها للمصالِحِ، فما فضل مَصْرُوفٌ إلَى سائر المصالِحِ، كإِصْلاح الحُصُون، والكُرَاعِ، والسَّلاح، فإن فضل شيءٌ؛ ففي جوازِ صَرْفه إلَيْهم وجّهان (¬1)، وَلا خلافَ في جَوَاز صرفه إلَيْهم عن كفاية السَّنَة القابلة. وقوله في الكتاب وزع علَيْهم مفرَّع على القول الأَصحِّ، فيجوز إعلامُه بالواو؛ للقول الآخَر. ثم الباب مختومٌ بفروع ومسائِلَ: مِنْ شَرْطِه؛ إِذا جاء رجَلٌ وطالب إِثبات اسمه في الديوان، أجابه الإِمامُ، إن في المال سعَةٌ، وفي الطالِب أَهليَّةٌ، وإلاَّ لَمْ يجبْهُ، ولا يحبس شيئاً من مالِ الفَيْء؛ خوفاً من أَن تنزل بالمسلمينَ نَازلةٌ، بل يفرِّق الجميع عند مجيء الوَقْت المعيَّن، ثم إِذا نزلَتْ نازلةٌ، فعلى كافة المسلمِينَ القيامُ بأمْرها، وإِن غشيَهُمْ العدوُّ، فعلى جميعهم أَن يَنْفُروا، وذكر الشافعيُّ -رضي الله عنه- أَنه يَرْزُقُ من مال الفَيْء الحُكَّام ووُلاَة الأحْدَاثِ والصَّلاَة، وكل من قام بأمْر الفَيْءِ منْ والٍ وكاتبٍ وجنديٍّ لا يستغْنِي أهْلُ الفيء عنهم، والمرادُ مِن الحكام: الَّذينِ يحْكُمُون بَيْن أَهْل الفيء في مغزاهم، ووُلاةُ الأحداث: قيل: هُمُ الذين يعلِّمُونَ أحداثَ أهل الفيء الفُروسِيَّةَ والرمي. وقيل: الذين يَنْصبون في الأطراف لتولية القُضَاة، وسُعَاة الصَّدَقة، وعزلهم، وتَجْهِيز الجيوش إلى الثُّغور، وحفظ البلاَدِ من أهل الفساد ونحوها مِنَ الأحداث، وولاَةِ الصَّلاَة الخُطَبَاء الَّذِين يُقِيمُون لَهُم الجُمُعَات، والجَمَاعَات، وكذلك يرزق عرفاء أهل الدفئ، وإِذا وجد من يتطوَّع بهذه الأعْمَال، لم يرْزُقُ عليها غَيْرَه، ويجوز أن يكون عَامِلُ الفيء من ذوي القُرْبَى. قال أقْضَى القُضَاة المَاوَرْدِيِّ -رحمه الله- وعاملُ الفَيْء إِن ولي وَضْع أموال الفيء ¬
الباب الثاني في قسمة الغنائم
وَتقْدِيرَهَا، وتقريرها فَيُشْتَرَطُ أنْ يكُونَ مسلماً، حُرّاً، مُجْتَهِداً، عارفاً بالحِسَاب والمسَاحَةِ، وإِن ولي جباية أَموالها بَعْدَ تقرُّر جهاتها، سقَطَ اعْتِبارُ الشَّرْطِ الثالث، وإنْ ولي جبايةَ نَوْعٍ، خاص من أموال الفَيْء، نُظِرَ: إِنْ لم يستغْنِ فيه عن استنابةٍ، اعتبر فيه الإِسْلاَم، والحرية، والاضْطِلاعُ بشَرْط ما ولي من حسَابٍ أو مساحةٍ؛ لما فيه من معْنَى الولاية، وإِن استغنى عن الاستنابة، جاز أَن يكُونَ عبداً؛ لأَنه كالرسول المأمور، فأما كونه ذمِّيّاً، فإن كانَتْ جبايَتُهُ من أَهلِ الذِّمَّة؛ كالجزية، وعشر التجار، جاز أَن يكون ذِمِّيّاً، وإِن كانَتْ من المسلمين؛ كالخَرَاج الموضوع عَلَى رقاب الأَرضِينَ، إِذا صارَتْ في أيدي المسْلِمِينَ، ففي جواز كَوْنه ذِمِّيّاً وجهان، وإِذَا فسدَتْ ولايةُ العامِلِ، وقبض المال مع فسادِها برئ، الدافع؛ لأن الإِذنَ يبقَى، وإِن فسدت الولايةُ، نعم، لو نَهى عن القبض بَعْد فسادِها، لم يبرأ الدافع بالدَّفْعِ إِليه، إن علم بالنَّهْي، وإن لم يعلم النهي، فوجهان؛ كالوكيل (¬1)، ذكر ذلك كلَّه المَاوَرْديُّ، والله أعلم. البَابُ الثَّانِي في قِسْمَةِ الغَنَائِمِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالغَنِيمَةُ كُل مَالٍ أَخَذَهُ الفِئَةُ المُجَاهِدَةُ عَلَى سَبِيلِ الغَلَبَةِ، فَخُمُسُهَا مَقْسُوم كَخُمُسِ الفَيْءِ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِلغَانِمِينَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد ذكَرْنا أنَّ الغنيمةَ: هيَ المَالُ الَّذي يأخذه المسلِمُون من الكُفَّار بإيجاف الخَيْل والرِّكَابْ. قال في "التَّهذيب": سواءٌ ما أَخَذَوهُ من أيديهِمْ قَهْراً، وما استولوا عليه بَعْد ما هزمناهم في القتال فتركوا المَالَ، وما كانَتِ الغنائمُ تَحِلُّ للأنبياء -عليهم السلام- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم إِنَّهَا أحلت له، ولأمته، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "أُعْطِيتُ خَمْساً لَم يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي" فذكر منها إحْلاَلَ الغنَائِمِ (¬2)، وكانت في أَولِ الأمرِ له خاصَّةً يصْنَعُ بها ما يشاء، وفي ¬
ذلك نَزَلَ قولُهُ تعالَى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] لمَّا تنَازَعَ فيها المهاجِرُون والأنْصَار (¬1) -رضي الله عنهم- يَوْمَ بَدْرٍ، وعليه يحمل إعطاؤُهُ مَنْ لم يشهد الوقعة، ثم نُسِخَ ذلك، فَجُعِل خُمُسُهَا مقْسُوماً بخمسة أسهم كالفيء (¬2)؛ قال الله تعالَى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] الآيةَ، جعل أربعة أخماسِهَا للغانِمِين رُوِيَ أنَّ اَلنبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الوَقعَةَ" (¬3). قَالَ الغَزَالِيُّ: وَيَتَطَرَّقُ إِلَيْه النَّفَلُ وَالرَّضْخُ وَالسَّلَبُ، ثُمَّ القِسْمَةُ بَعْدَهُ أَمَّا النَّفَلُ فَهُوَ زِيَادَةُ مَالٍ يَشْتَرِطُهُ أَمِيرُ الجُيُوشِ لِمَنْ يَتَعَاطَى فِعْلاً مُخَطَّرا كَتَقَدُّمِهِ عَلَى طَلِيعَةٍ أَوْ تَهَجُّمِهِ عَلَى قَلْعَةٍ، وَمَحلُّهُ مَالُ المَصَالِحِ أَوْ خُمُسُ الخُمُسِ مِمَّا سَيُؤْخَذُ مِنَ الكفَّارِ، وَقَدْرُهُ مَا يَقْتَضِيهِ الرَّأْيُ بِحَسَبِ خَطَرِ الفِعْل، أمَّا ثُلُثُ خُمُسِ الخُمُسِ أَوْ رُبُعُهُ أَوْ ثُلُثُ مَا يَأْخُذهُ أَوْ رُيُعُهُ كمَا يَرَاهُ الإِمَامُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: نفرض في مال الغنيمة النَّظَرَ في ثلاثة أمور: أحدها (¬4): النَّفَلُ وهو زيادةُ مال عَلَى سَهْمِ الغنِيمَةِ يشرطه الإِمامُ أو أميرُ الجَيْشِ ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لِمَنْ يَقُومُ بما فيه نكايةٌ زائدةٌ في العَدُوِّ، أو توقُّعُ ظَفَر أو دَفْعُ شَرٍّ، وذلك كالتقدم على طليعةٍ، أو التَّهَجُّم على قلعةٍ، أو الدَّلالة عليها، أو كحفظ مكمن، وتجسُّس حالٍ، وما أشبهها، وإنما ينفل الإمام إذا مَسَّتِ الحاجةُ إلَيْه لكثرةِ العَدُوِّ، وقلَّةِ المسلمينَ، واقْتَضَى الرأْيُ بعْثَ السرايا، وحفْظ المكامِنِ، ولذلك نَفَلَ رُسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في بعض الغزوات دُونَ بَعْضٍ (¬1). ثُمَّ الكلامُ فيمن يشرط له، وفي محلِّ المَشْرُوط وقَدْرِهِ. أما الأَول: فيجوز أنْ يكُونَ المشْرُوطُ له شخصاً معيَّناً، أو جماعةً معيَّنين، ويجوز أنْ يُطْلَق؛ فيقول: مَنْ فَعَلَ كذا، فله كذا. وأما المحَلُّ: فيجوزُ أنْ يشترطَ النَّفْل من مال المصالِحِ المرصدة عنده في بيت المالِ، وَحِينَئِذٍ فيشترط كونه معلوماً، ويجوز أنْ يشرطه مما سيغنم، وُيؤْخَذُ من الكُفَّار في هذا القتال، وَحِينَئِذٍ [فيذكر جزء من] (¬2) ثلث وربع وغيرهما، ويحتمل فيه الجهالة للحاجة، وإذا نفل من المأْخُوذْ فيمن نفل، فيه ثلاثَة أوْجُهٍ، ويقال: ثلاثة أقوال، ويقال: قَوْلاَنِ وَوَجْهٌ: أظهرهما: أنه ينتفل من خُمُسِ خُمُسِهِ؛ لما رُوِيَ عن سَعِيد بْنِ المُسَيِّب -رَضِيَ اللهُ عَنْه- قال: كان النَّاسُ يعطون النفلَ من الخُمُس (¬3). والثاني: أنه ينفل مِنْ رأَسِ مال الغنيمةِ، ويجعل ذلك كأجْرَةِ الكيَّال، وما في معْنَاها، ثم يقسم الباقِي، ونُسِبَ هذا إِلى رواية القاضي الحُسَيْن -رحمه الله- عن القديم. والثالثُ: أنه ينفل مِنْ أربعةِ أخماسِ الغنيمةِ، ثمَّ يُقْسَّمُ الباقي منها بين أصحاب النفل، وسائر الجَيْش، وأمَّا القدْرُ فليس له حَدٌّ مضْبُوطٌ، ولكنْ يجتهدُ الإمامُ فيه، ¬
ويجْعَلُه عَلَى قَدْر العمل وخَطَرِهِ، وقد رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِت -رضي اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- "نَفَلَ في البداءة الرُّبُعَ وفي الرَّجْعَةِ الثُّلُث" (¬1) وفَسَّرَ بعْضُهُمْ "البداءة" بالسرية الأولى "والرجعة" بالثانية، والمشهور أنَّ البداءة ابتداء السفر، والمراد [بالبداءة] (¬2) بالسَّرِيَّة: الَّتي بعَثَها الإمامُ قَبْل دخوله دَارَ الحَرْب مقدّمة له، والرَّجْعة: الَّتي يأمرها بالرجُوعِ بَعدَ توجُّه الجَيش إلى دار الإِسلام، وإنما زاد النَّفَلَ في الرَّجْعَةِ؛ لأنهم في البداءة مسترِحُون لم يَطُلْ بِهِم السفر؛ ولأنَّ الكفَّار في غفلة منْهُمْ؛ ولأنَّ الإمام مِنْ ورائهم فيستظهرون به، وكل ذلك في الرَّجّعَة بخلافه، واختلفوا في المراد منَ الخَبَر، بحَسَب اختلافِهِمْ في مَحَلِّ النَّفَل: فَمِنْ قائل: إِنَّ المرادَ ثُلُثُ خُمُسِ الخُمُسِ؛ أو ربعه، ومِنْ قائلٍ: إِنَّ المراد ثُلُث الجميع أو رُبُعُهُ، ومِنْ قَائلٍ: إِنَّ المراد ثلث أربعةِ أخماسها أو رُبُعها. وقيل: إنه أراد أنه يزاد حصة كلِّ واحدٍ من الغنيمة مثل ثلثه أو مثْل رُبعه، ويجوزُ الزيادَةُ على الثُّلُث، والنُّقْصَان عن الرُّبُع بالاجتِهَاد، والله أعلم، هذا هو الفِقْهُ. أَما لَفْظُ الكتاب فقوله: "أو يتطرَّق إليها" يعني إلى الغنيمة، وقوله: "ثم القسمة بعده" فظاهر صرف الكناية إلى "المتطرَّق إِليها، لكن في كون القِسْمة بَعْدَ هذه الأمور توقُفٌ واختلافٌ شديدٌ، سواءٌ قدَّرنا أن المرادَ قسْمةُ الغنيمةِ خُمُساً وأربعة أخماس، أو قُسمة الأخْمَاس الأربعةِ على الغَانِمِينَ، أمَّا في النَّفَل، فعلَى قولِنا: إِنه، ينفل من الخمس، فلا تكُونُ القسْمَة بعده، وأما في الرَّضْخ والسَّلَب، فسيأتي. وقوله: "ومحله مالُ المصالِح" يعني الحاصِلَ في بيت المالِ، وقوله بعده: "أو خُمُس الخُمُس، مما سَيُؤْخَذُ من الكُفَّار" ظاهره يُشْعِرُ بتخيير الإمام، وربما صرَّح به، والأشبه أنَّه يجتهدُ، ويراعي المصلَحَةَ. وقوله: "أما ثلث خمس الخمس أو ربعه" يعني خمس الخمس مما سيؤخذ منهم. وقوله: "أو ثلث ما يأخذه أو رُبُعُه" يحتمل أنْ يفسَّرَ بما يأخذه الإمَامُ، ويغنمه من هذا القتال، ويحتمل أنْ يفسَّر بحصته الَّتِي يأخذها من الغنيمة، ولو لم يقل كما يراه الإِمامُ، لجعلنا الترديد إشارة إلَى وجهين للأصْحَابِ قد أسْلَفْنَاهما، فالمحتمَلُ الأوَّل: ¬
هو الوجّهُ الثانِي منَ الوجوه المذكورة في محلِّ النَّفَل، والمحتملُ الثاني: هو الوجّهُ الآخر من الوجوه المذكورة في تَفْسير حَدِيثِ البداءة، وإذا ذكره، فظاهر المفْهُومِ منه التخييرُ والتَّفْوِيضُ إلَى رأي الاِمامِ، وأنَّه شَيْءٌ زائدٌ على ما قال الأصْحَاب. فَرْعٌ: إذا قال الأَمير: "من أَخَذَ شَيئاٌ، فهو لَهُ" فعلَى قولَيْن، أشارَ الشافعيُّ -رضي الله عنه- إلَيْهِما: أحدهما: أنه يَصِحُّ شَرْطُه؛ لما رُوِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ ذلك يَومَ (¬1) بدر، وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد -رحمهما الله- ويروى أيضاً عن مالك -رحمه الله-. وأصحُّهما: المَنْعُ كما لا يجوزُ شّرْط شيء من الغنيمة لغَيْرِ الغانِمِينَ، والحديث مما تكلَّموا في ثبوته، وبتقديرِ ثُبُوته، فإِنَّ غنائمَ بَدْرٍ كَانَتْ له خاصَّةَ يضعها حيْثُ يشاء. آخر: من ظهر منه في الحرب مبارزة، وحُسْن إِقدامٍ، وأثرٌ محمودٌ، أُعْطِيَ سهمَهُ من الغنيمة وزِيدَ منْ سهم المَصَالِحِ ما يليق بالحال. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَأَمَّا الرَّضْخُ فَهُوَ مَالٌ تَقْدِيرُهُ إِلَى رَأْيِ الإِمَامِ بشَرْطِ أَلاَّ يَزِيدَ عَلَى سَهْمٍ وَاحِدٍ مِنَ الغَانِمِينَ بَلْ يَنْقُصَ، وَيُصْرَفُ إلى العَبِيدِ وَالصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ، وَنُقْصَانُهُ عَنِ السَّهْم لِنُقْصَانِ حَالِهِم، وَكَذا الكَافِرُ (و) إِنْ حَضَرَ بِإذنِ الإِمَامِ (و) يُرْضَخ لَهُ، وَفي مَحَلِّهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالِ: (أحَدُهَا) أنَّهُ مِنْ أَصْلِ الغَنِيمَةِ كَأُجْرَةِ النَّقْلِ وَالحَمْلِ (وَالثَّاني): أنَّهُ مِنْ خُمُسِ الخُمُسِ كَالنَّفْلِ (وَالثَّالِثُ): أنَّهُ مِنَ الأَخْمَاسِ الأَرْبَعَةِ لِأَنَّهُ سَهْمٌ مِنَ الغَنِيمَةِ إِلاَّ أنَّهُ دُونَهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الأمر الثاني (¬2): الرَّضْخ: فالعَبِيدُ والصِّبْيَان والنِّسَاء والخَنَاثَى والزَّمْنَى ¬
وأهْلُ الذمة، لا يُسْهَمُ لهم من الغنيمة؛ رُوِيَ أنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهما-؛ "سُئِلَ عَنْ النِّسَاءِ: هَلْ كُنَّ يَشْهَدْنَ الْحرْبَ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهل كان يضرب لهنَّ بسَهْمٍ، فقال: كنَّ يشْهَدْنَ الحرْبَ (¬1) فأما أنْ يُضرَبَ لَهُنَّ بِسَهْمٍ، فلا" ولأنَّهم ليسوا من أهْل فَرْض الجهَادِ، فلا يشاركون أهل الكمال في استحقاق السهْم، لا وجه لحرمانهم، إذا ¬
كَثَّروا السَّوَاد، وأعانوا المسلمين، فيرضخ لهم بشيء وحَكَى أبو الفرج الزاز قولَيْن: في أنه مستحَبٌّ أَو مستحَقٌّ، والمشهور الاستحقاقُ، لم يتركْ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الرَّضْخَ قطْ، ولنا فِيهِ أسوةٌ حسنةٌ، ثم يجتهد الإِمامُ في تقديره، ولا يبلغْ به سهْمَ واحدٍ من الغانمين، فلا يبلغ به سهم راجلهم؛ إنْ كان من يُرْضَخُ له راجلاً، وإنْ كان فارساً، فهل يجوز أَن يبلغ به سهْم راجِلِهمْ؟ فيه وجهان؛ بِناءً على أنه، هَلْ يجوز أنْ يَبْلُغَ تعزيرُ الحُرِّ حَدَّ (¬1) العبيد، ولا فَرْقَ بين أنْ يَكُونَ حضُورُ العبيد بإذْنِ السَّادَةِ والصِّبْيَان والنِّسَاء، بإذْنِ الأولياءِ والأزواجِ، أو بغَيْر إِذْن، أما الذِّمِّيُّ: إذا حضر بغير إِذنِ الإمام؛ فإنَّه لا يستحقُّ شيئاً؛ لأَنه متَّهَمٌ بموالاة أهْلِ دينه، بل للإمامِ تعزيرُهُ، إذا أدَّى اجَتهادُه إِلَيْه، وفيه وجةٌ: أنه يستحقُّ الرضْخَ، والمَسألةُ بما فيها من الخلاَفِ مذكورة في كتاب "السِّيَرِ"، وإنْ حضر بالإذْنِ، فإنْ كان قد اسْتَأجَرَهُ، فليس له إلاَّ الأجْرَةُ، وإِلاَّ فلَهُ الرضْخُ، وفي بعض الشُّرُوح وجّةٌ: أَنَّه لا شَيْءَ له، وعن أبي إسْحَاقَ: أنَّه إِنَّما يستحقُّ الرضْخَ، إذا قاتل؛ بخلاف سائر مستحقِّي الرضْخِ؛ لأَن المدفوعَ إلَيْه في معْنَى الأجرةِ فلا بدَّ من العمل، ونساءُ أهْلِ الذمةِ، إِذا خَرجْنَ بإذْنِ الإمام، لهُنَّ الرضْخُ على أصحَّ الوجهَيْن؛ كنساء المسلمين، ويفضل الإمامُ بين أهل الرَّضْخِ عَلَى حَسَب ما يرَى من غنائمهم؛ فيزيد المقاتِلَ، ولمن قتاله أكثَرُ عَلَى غيره [والفارس على الراجل] ويفضل المرأة التي تداوِي الجَرْحَى، وتسقي العطشَى على التي تَحْفَظُ الرَّجُلَ بخلاف سَهْم الغنيمة، حيْثُ يسوّي فيه بين المقاتل، وغيره، وفرق بعض بينهما بأن الغنيمة: منصوص عليها [والرضخ مجتهد فيه، فجاز أن يختلف كلدية الحرِّ، لما كان منصوصاً علَيْه] (¬2) لم يختلف، وقيمة العبد مجتهدٌ فيها، فاختلفت، ومن أين يُرضَخُ لهم؛ أما العبيد والنساء والصبيان، ففيه ثلاثة أقوالٍ، وربما قِيل: أوجه: أحدها: مِنْ أصْلِ الغنيمة؛ كأجرةِ النَّقْلِ، والحَمْلِ، والحِفْظ؛ لأنَّ حضورهم لمصلحة الغَنِيمَة، والغانمي؛ فإنَّهم يسقون الماءَ، ويحفظون الرحل، ويكفون المؤَن، فيتفرَّغ الغازون لشأنهم. والثاني: من خُمُس الخُمُسِ بسهم المصالح؛ لأنهم ليْسُوا من أهل أربعةِ أخماس، الخمس، ولا هُمْ عَلَى صفات الغانمين؛ فكان الدفْعُ إِلَيْهم من المصالح. ¬
والثالث: وهُوَ الأصحُّ: أنَّه من الأخماس الأربعةِ المقْسُومة بَيْن الغانِمِينَ؛ لأنه سَهْمٌ من الغنيمة مستَحَقٌّ بحضور الوقْعَة إِلاَّ أنه ناقِصٌ. وأما أهل الذِّمَّةِ، فأصَحُّ الطريقين: أَنَّ رَضخَهم كرضْخِ العبيد. والثاني: القَطْع بأنَّهم يُعْطَوْنَ من خُمُس الخُمُس؛ لأنهم يُعْطَوْن لمجرَّد المصْلَحة وغيرهم بحضور الوقْعَة، ومنْهم مَنْ خصَّص هذا القَوْلَ برَضْخِ أهل الذِّمَّة، ولم يثبت في حقِّ غيرهم إلاَّ القَوْل الأوَّل والثَّالث، وحيْثُ قلْنا: إنَّ الرضخ من أصْلِ الغنيمة، فيبدأ الإِمَامُ به، كما يبدأ بالسَّلَب، ثم يقسم الباقِي خُمُساً وأربعة أخْمَاسٍ. وأما لفْظُ الكتابِ، فقوله: "وأما الرضْخُ: فهو مالٌ تقديرُه إلَى رأي الإمام تمام الكلام بعد قوله: "يصرف إلى العَبِيدِ والصبيانِ والنساء" كأنه قال: الرضْخُ: مالٌ يصرف إلَيْهِم، وقدْرُه يتْبَعُ فيه رأي الإمام، وُيشْتَرَطُ ألا يزيد عَلَى سَهْمٍ واحدٍ من الغانمين، وإنما قال: بَلْ ينقص؛ لأنه قال: أَوَّلاً بشرط ألا يزيد، ولا يكتفي بأنْ لاَ يزيدَ فاحتاج إلَى استدراكٍ، ولو قال: بشرط ألا يبلغ سَهْمَ واحدٍ من الغانمين، لاستغنَى عن الجَمْع بين الكلمَتَيْنِ، ثم ظاهرُ لفظه يُوافِق الوجّهَ الذاهِبَ إلى أنَّ سهْمَ ذي الرَّضْخِ، وإنْ كان فارِساً، لا يبلغ سهْمَ الرَّاجل من الغانِمِينَ، كما لا يبلغ سَهْم الفارِسِ منْهم، وأنهُ مُطْلقٌ، وبذلك أجاب الماوَرْدِيُّ -رحمه الله-. وقوله: "وكذا الكافِرُ، إنْ حَضَر بإذْنِ الإمامِ، يُرْضَخُ لهم" يجوز أنْ يُعْلَمَ بالواو؛ لِمَا سَبَقَ، ثم في التقييد إِشارةٌ إلَى أنَّه حضَر بغَيْر إذن الإمام، لم يرضخ له، وهو الظاهرُ، ولكن يجوز أنْ يعلم بالواو؛ لما سَبَق وقوله: "من خمس الخُمُس، كالنفل" يعني على الأصحِّ من الخلاف الَّذي مَرَّ في النفل. فُرُوعٌ: أحَدُهَا: إذا انفردَ العبيدُ، والنِّسَاء، والصِّبيَان بغَزْوةٍ، وغنموا، خمست ثم في الباقي ثلاثةُ أوجهٍ محكيَّةٍ في "الشَّامل" عن أبي إسحاق، وهو الأصحُّ عند القاضي أبي الطيِّبِ، أنه يقسم بينهم، كما يقسَّم الرضْخُ عَلَى ما يقتضيه الرأْيُ من التسْوية والتَّفضِيل. والثانى: يُقَسَّم كما تقسَّم الغنيمةُ للفَارِس ثلاثةُ أسهم، وللراجل سَهْم. والثالث: يُرْضَخ لهُمْ، ويجعل الباقِي في بيت المالِ، وخصَّص هذا الوجه في "التَّهذيب" بالصِّبْيَان والنساءِ، ولم يذكر في العبيد إلاَّ أنَّه لسادَاتِهِمْ، وحكى أنَّه لو سُبِيَ مراهِقُون ومجانِينُ صغاراً، حكم بإسلامهم تبعاً لهم، ولو كان مع أهل الرضْخ واحدٌ من أهْلِ الكَمَال، فيرضخ لهم، والباقي لذلك الواحدِ، ولا يُخمَّسُ ما أخذه الذمِّيّون من أهل الحَرْب؛ لأنَّ الخمس حقٌّ يجب على المُسْلمين؛ كالزَّكَاةَ (¬1). ¬
والثاني: مَنْ قاتل من أهل الكَمَال أكْثَرَ من غيره، فيُرْضَخُ له مع السَّهْم، كذلك ذكره المَسْعُودِيُّ، وصاحب "التهذيب" ومنْهم: مَنْ ينازع كلامه فيه، وقيل: يزاد من سهم المصالح ما يَلِيقُ بالحال. الثالث: لو زَالَ نقصانُ أَهْلِ الرضْخِ فيعتْقِ العبد، واسلمَ الكافر، وبلغ الصبي قَبْل انقضَاءِ الحَرْب، أسهم لَهُمْ، وإنْ كان بعد انقضاءِ الحَرْب، فقد أطلق القاضي المَاوَرْديُّ: أنه ليس لهم إلاَّ الرَّضْخ، وينبغي أنْ يجيء في الزَّوال بَعْد انقضاءِ الحَرْب وقبل حيازة المالِ [الخلافُ الذي سنذكره في استحقاق مَنْ حضر بَعْدِ انقضاء الحَرْبِ وقبل حيازة المال] (¬1). قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَمَّا السَّلَبُ فَهُوَ ما يُوجَدُ مَعَ القَتِيلِ مِنْ ثِيَابِهِ وَسِلاَحِهِ وَزِينَتِهِ يَسْتَحِقُّهُ قَاتِلُهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ القَتِيلُ مُقْبِلاً وَالقَاتِلُ رَاكِبَاً لِلغَزْوِ، فَلَوْ رَمَى مِنْ حِصْنٍ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ الصَّفِّ وَقُتِلَ، أَوْ كَانَ القَتِيلُ مُنْهَزِماً أَوْ غَافِلاً فَقُتِلَ لَمْ يَستَحِقَّ، وَيسْتَحِقُّ بالإِثْخَانِ، فَإِن قَتَلَهُ غَيرُهُ فَالسَّلَبُ لِلمُثْخِنِ، فَإنْ اشْتَرَكَا في الإِثْخَانِ فَالسَّلَبُ لَهُمَا، وَإذَا أَسَرَ كَافِراً اسْتَحَقَّ سَلَبَهُ (و)، وَفِي اسْتِحْقَاقِ رَقَبَتِهِ إِذَا رُقَّ، أَوْ بَدَلِهِ إِذَا فَادَى نَفْسَهُ قَوْلاَنِ، وَالذِّمِّيُّ لاَ يَسْتَحِقُّ (و) السَّلَبَ، وَفِي مُسْتَحِقِّ الرَّضْخِ إِذَا قُتِلَ خِلاَفٌ، وَالخَاتَمُ وَالسِّوَارُ والمَنْطِقَة مِن السَّلَبِ عَلَى الأَظْهَرِ (و)، وَالحَقِيبَةُ المَشْدُودَةُ عَلَى فَرَسِهِ، وَكَذَا الجَنِيبَة لَيْسَ مِنَ السَّلَبَ عَلَى الأشْهَرِ، وَفِيمَا مَعَهُ مِنَ الدَّنَانِيرِ قَوْلاَنِ، وَالأَشْبَهُ بِالحَدِيثِ أَنَّهُ لاَ يَخْرُجُ الخُمُسُ مِنَ السَّلَب. قَالَ الرَّافِعِيُّ (¬2): السَّلَبُ للقاتل؛ لما رُوِيَ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: أُعْطَى سَلَبَ مَرْحَبٍ يَوْمَ ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
خَيْبَرٍ مَنْ قَتَلَهُ (¬1)، وعن أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: خَرَجْنَا مع رسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ حنين فَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنَ المُشْرِكِينَ عَلاَ رَجُلاً مِنَ المُسْلِمِينَ، فَاسْتَدَرْتُ لَهُ حَتَّى أَتَيتُهُ مِنْ وَرَائِهِ، فَضَرَبْتُهُ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ ضَرْبَةً، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ، فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدتُّ فِيهَا رِيحَ المَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ المَوْتُ، فَأَرْسَلَنِي إلَى أَنْ مَات، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَتَلَ قتيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبْهُ؛ فَقُمْتُ، فَاقتَصَصْتُ عَلَيهِ القِصَّة، فقال رَجُلٌ: صَدَقَ يا رَسُولَ الله، وسَلَبُ ذَلِكَ القَتِيل عِنْدِي، فقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ" فأعْطَانِيهِ فَابْتَعْتُ بِهِ مخرفاً في بني سلمة فإنه لأَوَّلُ مال تأثلثة في الإِسْلام. والكَلاَم في سببِ استحقاقِ السَّلَب، وفي المستحِقِّ، وفي السَّلِب نفسه، وفي كيفية إخراجه من الغَنَائِم: أما سبب الاستَحقاق: فقد قال في "الوسيط" في ضبطه: هو ركوبُ الغرر في قهر كافِرٍ مُقْبِلِ على القتال بما يَكْفِي شَرَّهُ بالكُلِّيَّة، وفيه قيودٌ: أحدها: ركوبُ الغرر، فلو رَمَى مِنْ حصنٍ إلَى كافرٍ أو من وراءِ الصَّفِّ، وقتل لم ¬
يستحِقَّ، وكذا لو رَمَى من صفِّ المسلمين إِلَى صفِّ الكفار، فأصاب واحداً منْهم، فقَتَلَهُ لأَنَّ السلب في مقابلةِ احْتمالِ الخَطَرِ. والثاني: إِقْبالُ الكافرِ على القِتَال، وليس المرادُ منْه اشتغالَهُ بالقتالِ حينَ قُتِلَ؛ لأنهما لو تقاتَلاَ زماناً، ثم هَرَبَ، فقتَلَهُ المسلمُ في إدباره، قال الأصحاب: يستحقُّ سلبه، ولا يشترط أيضاً أنْ يكون مقاتلته مع قاتله، بل لَو قَصَدَ كافرٌ مُسلِماً، فجاءَ مسلمٌ آخَرُ من ورائه، وقتله، استحَقَّ سلبه كما دلَّ عليه حديثُ أبي قتادة، بل المَرْعِيُّ ما ذكره أصحابُنَا العراقيُّون -رحمهم الله-: وهو أنْ يقتلهُ مُقبِلاً أو مُدْبِراً، والحربُ قائمةٌ، فأما إذا انهزم جَيْشُ الكافرين، فاتبعهم، وقَتَلَ واحداً منْهم، لم يستحقَّ سلَبَهُ؛ وذلك لأنهم، لِما انهزموا، فقد اندفع شرهم، وما دامت الحربُ قائمةً، فالشر متوقَّعٌ، والمولَّي لا يؤمَنُ كَرَّتُهُ، ولو قُتِلَ الكافرُ، وهو أسيرٌ في يده، أو نائمٌ، أو مشغولٌ بأكْلٍ ونحوه، أو مثخَنٌ زائلُ الامتناع، لم يستحقَّ سلبه؛ [لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-] لم يُعْطَ ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- سَلَبَ أبِي جَهْلٍ؛ لأنه كان قد أثْخَنَهُ فِتيَانٌ مِنَ الأنْصَارِ، وهما: مُعَاذٌ ومُعَوَّذٌ ابْنَا عَفرَاءَ (¬1). وقوله في الكتاب بشرط أنْ يكونَ القتل مُقْبِلاً، والقَاتِلُ راكباً للغزو إشارةٌ إلَى هذَيْن القَيْدَيْن، ويمكن أنْ يستغنَى بأحدهما عن الثاني، فإنه إذا كان القتيل مقبلاً على القتال، كان القاتل راكباً للغزو، وإنما يكون القاتل راكبًا للغزو، إذا كان القتيلُ مقبلاً ولفْظُ الشافعيِّ -رضي الله عنه- لا يتعرَّض إلاَّ لإقْبَالِ الكافِرِ، وقيامِ الحَرْب. القيدُ الثَّالِثُ: قَهْرُهُ بما يكْفِي شَرَّهُ بالكلية، إِما بالقَتل أو بالإثْخَان، أو إزالةِ الامْتناع؛ بأنْ يعميه أو يقطع يَدَيْه ورجْلَيْه، ولا يلحق به قَطْع يدٍ واحدةٍ أو رجْلٍ واحدةٍ، وإنْ قَطَعَ يَدَيْهِ أو رِجلَيهِ أو يداً ورجلاً، فقولان: أحدهما: أنه ليس بإثْخَانٍ؛ لأنه لا يكفِي شرّه بالكلية، فإنه بعد قطع الرجْلَيْنِ قد يُقَاتِل راكباً بيديه، وبعد قَطْع اليَدَينِ قد يَهْرُبُ، ويجمع القَوْم. وأشبههما: أنه إثخانٌ، كما لو فقأ عَيْنَيْهِ، وهذا ما أورده المزنيُّ، وبه أجاب ¬
جماعةٌ من الأصحاب منهم القاضي الرُّويانيُّ، ولو اشترك اثْنَانِ فصاعداً في الإثخان أو القتل، فالسَّلَبُ مشتركٌ. وحكى أبو الفرج الزاز وجهاً: أنه لو وقع فيما بين جماعة، لا تُرْجَى نجاتُه منْهم، لم يختصَّ قاتله بسَلَبِهِ؛ لأنه صارَ مكْفيَّ الشَّرِّ بالوقوع فيما بينهم، وذكر أنه لو أمْسَكَهُ واحدٌ، وقتله آخَرُ، كان السَّلَبُ بينهما؛ لأنَّ كفايةَ شَرِّه حصلَتْ بهما ويخالف القِصَاصُ، فإنه مَنُوطٌ بالقَتْلِ؛ وكأن هذا التصويرُ فيما إذا مَنَعهُ من أنْ يذْهَب لوجهِه، ولم يضبطه، فأما الإِمسَاكُ الضابطُ، فإنه أسْرٌ، وقتلُ الأسيرِ لا يُسْتَحَقُّ به السَّلَبُ، ولو أثخنه واحدٌ، ثم قتله آخر، فالسَّلَب للمثخن (¬1)، ولو جَرَحَهُ، ولم يثخنه، ثم قتله آخرُ، فالسَّلَبَ للثاني، وإذا أُسِرَ كافِرٌ، هل يستحق سلبه؟ فيه قولان: أحدهما: لا لأنَّ شره كلُّهِ لا يندفع بالأسر. وأصحُّهما: وهو اختيار الشيخ أبي حامد والقَفَّال -رحمهما الله تعالَى- نعم؛ لأنَّ الأسْرَ أصعَبُ من القتل، وأبْلَغُ في القَهْر، ولأنه إذا أُسِرَ، تمكَّن الإمامُ من القَتْل وغيره، ثُمَّ الإمامُ يتخيَّر في الأسير الَّذي لَيْس من الذُّرِّيَّة بين القتل، والاسترقاق، والمَنِّ، والمفادَاةِ عَلَى ما سيأتِي في مَوْضِعه -إن شاء الله تعالى- فإنْ أرقَّهُ، هلْ لمن أسره رَقَبَتُهُ، وإنْ فاداه، هَل له مالُ الفداءِ؟ طُرِدَ فيه القولان، ومنهم: من يَقول: فيه وجهان، ويشبه أنْ يكونَ الأظهر هاهنا المَنْعَ؛ لأن اسم السَّلَب لا يَقَعُ عليه وأمَّا مستحِقُّ السَّلَب، فمن يستحق سَهْمَ الغنيمة يستحقُّ السلب، وأما من لا يستحقه؛ كالعبد والصبي والمرأة، ففيه وجهان، ويقال: قولان: أحدهما: الاستحقاقُ لعُمُومِ الخبَر؛ لأنهم كَفُّوا الشرَّ. والثاني: المنِع؛ لأنَّ استحقاق الغنيمة آكد مِن استحقاق السلب، فإذا لم يستحقَّ الغنيمة، فالسلب أوْلَى، وعلى هذا، فلو كان القاتِلُ خنثَى يوقف السلَبُ إلَى أنْ يتبين حالُهُ، وفي الذِّمِّيِّ طريقان: أحدُهُما: طَرْدْ الخلافِ، وهذا ما ذكره العراقِيُّون. والثاني: القَطْعُ بالمَنْع، والفرق أنَّ الصبيَّ والمرأة والعبد أشْبَهُ بالغانمين؛ ألا تَرَى أنهم يستحقُّون بالحُضُور والكَافِر لا يأْخُذُ إِلاَّ عَلَى سبيل الأجْرة، وفي "التهذيب": أنَّه إنْ قلْنا: يرضخُ له من الغنيمة، فهو كالعبد، وإنْ قُلْنَا: من مالِ المَصَالِحِ، فلا سَلَبَ له، وهذا إذا حَضَر الذمِّيُّ بإذْن الإمَام، أما إذا حَضَرَ بغَيْر إذْنه، فلا سلب له، وكذا ¬
المخذْل، لا سَلَب له، كما لا سَهْم له، والذي أجاب به صاحبُ الكِتَاب في حقِّ الذميِّ المَنْعُ، وفي الصبيِّ والمرأةِ، اختار القاضِي الرُّويَانِيُّ الاستحقاقَ، ويلزَم مثله في العَبْدِ بطريق الأولى؛ لزيادة العناء فيه؛ ولذلك جزم العبَّادِيُّ في "الرَّقْمِ" بثبوت الاستحقاقِ في العَبْد، وخصَّص الوجهين بالصبيِّ والمرأة والتاجر إذا قُلْنَا: إِنه لا يستحقُّ السهْمَ بالحُضُور، كالصبيِّ في استحقاق السَّلَب، هذا في طرف القاتِل، أما الكافر المقتولِ، إنْ كان صبيّاً أو امرأةً، نُظِرَ: إنْ كان لا يُقَاتِلُ، لا يستحق سَلَبَهُ؛ لأنَّ قتله مَنْهِيٌّ عنْهُ، وإنْ كان يُقَاتِلُ، استحق عَلَى أصحِّ الوجهين، والعبدُ يلحق بالصبيِّ والمرأةِ في "التهذيب" وامتنع بعْضُهم عن ذكر الخلافِ فيه، كما ذكرنا فيما إذَا كان قاتلاً. وأما السَّلَب، فَهُو ما عليه من ثياب البَدَنِ مع الخُفِّ والرانين (¬1)، وما عليه من آلاتِ الحَرْب؛ كالدرع والمِغْفَرِ، والسلاح ومركوبِهِ الَّذي يُقَاتِلُ عليه، وما عليه من السَّرْج واللِّجَام، والعُقُود وغيرها، وكذا لوَ كان مُمْسِكَاً بعنانه، وهو يقاتل راجلاً، وفيما عليه من الزينة، كالطوق، والسوار، والمنطقة، والخاتم، وفي الهميان، وما فيه من دراهم النَّفقة، قولان، ويقال وَجْهان: أحدهما: أنها لَيْسَت من السَّلَب؛ كثيابِهِ وأمتعته المخلَّفة في خيمته. وأصحُّهما: فيما ذكره الشيخ أبو حامدٍ وغيره: أنها من السَّلَب؛ لأنها مسلوبةٌ ومأخوذة من يده، وطمع القاتِل يمتدُّ إلَى جميع ما في يدِهِ، وربما أشعر إيرادُ بعْضِهِمْ بإخراج المنْطقة من الخلاف؛ لأنَّها تَبَعٌ للسِّلاحَ المعلَّق بها والجنيبة التي تُقَادُ بين يدَيْهِ، وفيها طريقان (¬2): أحدهما: القَطْع بالمَنْع؛ كالدوابِّ الَّتِي يَحْمِلُ عليها أثقاله. ¬
وأظهرَهُمَا: وبه قال القاضي الماوَرْدِيُّ، والشيخ أبو حامد: طَرْدُ الخلاف؛ لأنه قَدْ يَحْتَاج إلَيْها، فهيَ كمركوبه الَّذِي أمْسَكَ بعنانه، وهو يقاتل راجِلاً، والحقيبة المشدودة عَلَى فرسه وما فيها من الدَّرَاهِم والأمتعة، طرد بعضهم الخلاف فيها، وقَطَع آخَرون بالمَنْع، وهو الأظهر. وأما كيفية إِخراج السَّلَب ففي تخميسه قولان: أحدُهُما: أنه يخمَّس؛ كسائر أموال الغنيمة، فيدفع خمسة [إلَى أهْل الخُمُس، والباقي للقَاتِلِ، وعلى هذا يخرج خُمُسُه] (¬1) أولاً، ثم يدفع السَّلَب إلى القاتِلِ، ثم يقسَّم الباقي. وأصحُّهما: المنع؛ لظَاهِرِ قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُه" (¬2) وعن عَوفِ بْنِ مَالِكِ الأشجَعِيِّ، وخَالِدِ بْنِ الوَلِيد -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- "قضَى بالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ، وَلَمْ يُخَمِّسْ السلب (¬3) ولا فرق في استحقاق السَّلَب بَين أنْ يُقْتَلَ الكَافِر في المبارزة، وبين أنْ ينْغَمِس في صفِّ العَدُوَ، فيقتله، ولا بَيْنَ أن ينادِيَ الإِمامُ؛ فيقول: "من قتل قتيلاً، فله سَلَبُهُ" أو لاَ يُنَادِي، وبه قال أحمدُ في أصحِّ الروايتَيْنِ، والروايةُ ¬
الأخرَى وبها قال مالكٌ وأبو حنيفةَ: أنه ليس للقاتِلِ السَّلَبَ إِلاَّ إذا نادَى الإمامُ وشرطه. لنا حديثُ أبي قتادَةَ -رضيَ اللهُ عَنْه- المذْكُورُ في أوَّل الفَصْلِ، فإنَّ قتله المشْرِك، كان قَبْلَ النداء، وقد دفع إليه سَلَبُهُ، ثم السَّلَبُ معدودٌ من أصْل الغنيمة. وعن مالك -رحمه الله-: أنه يحْسب من خمس الخُمُس المَصْروف إلى المصالح، فإنْ كان بقَدْرِه، فذاك، وإنْ زاد السَّلَب، دفع إلى القاتل قَدْرُ خُمُس الخُمُس، والباقي للمصالح، وإنْ زاد خُمُس الخُمُس، دُفِع إليه السَّلَب، والباقي للمصالح، ولنرجع إِلَى ما يتعلَّق بلفظ الكتاب، والله أعلم. قوله: "يوجَدُ مع القتيل" إِشارة فيه إلى أنَّ ما خلفه في خيمته من الثِّيَاب والسِّلاح لا يُعَدُّ من السَّلَبِ، وقوله: "وزينته" ينطبق عَلَى أظهر القولَيْن في الخاتم والسِّوار، وقد ذكر فيها الخلاف من بعد، وقضية لَفْظِهِ هَاهُنَا إخراجُ الدنانيرِ الَّتي معه؛ لأنَّها ليْسَتْ من الثياب، والسلاح ولا الزينة وقوله: "أو كان القتيلُ منهزماً" محمولٌ على ما إذا نهزَمَ مع الجيش دُون أنْ ينهزم، والصفُّ بحاله، كما بيناه وقوله: "وإنْ أَسَرَ كافراً، استحق سَلَبَهُ" مُعْلَمٌ بالواو، وكذا قولُه: "والذمِّيُّ لا يستحِقُّ السَّلَب" لما مَرَّ وقوله: "وفي مستحقِّ الرَّضْخ" أي: سوى الذِّمِّي، وقوله: "الحقيبةُ المشدودةُ عَلَى فَرَسِهِ، وكذا الجنيبة لَيْسَتْ مِنَ السَّلَبِ على الأشْهَر" هكذا هو في بعض النُّسَخِ، وهو صحيحٌ، والخلافُ ثابتٌ في كلتيهما عَلَى ما حكَيْنَا وقَطَعَ بعضُهم الجنيبة عن الحَقِيبَة، وألحق بينهما كلمةُ "فَصَار" والحقيبة المشْدُودة عَلَى فَرَسِهِ ليست من السَّلَب، والجنيبةُ إلى آخره، ولعلَّ الحاملَ عليه أنَّ صاحِبَ الكتاب حكَى في "الوسِيط": اتفاقَ الأصْحَاب عَلَى أنَّ الحقيبةِ ليْسَتْ من السلب، ثم عن القاضي: أنَّه لا بُدَّ؛ من أجل الخلافِ فيها، ولَوْ جمع بَيْن الخاتَم والسِّوَار الحَقِيبةَ، والجنيبة، والدَّنانير، وحكي الخلافَ في الجميع -لكان صحيحاً، لكنه فَصَلَ بينهما، ليتبيَّن الظاهر في السِّوَار، وما في معناه أنَّه من السَّلَب، وفي الحقيبة المَنْعُ، ورأى القولَيْن في الدنانير كالمتقاوِمَيْنِ، فأطلقهما إطلاقًا، وقرب الجنيبة من والحقِيبَة في ظهور المَنْع، فقال: "على الأشْهَر" لكن ذكر القاضي الرُّويانيُّ وغيره: أنَّ الأصحَّ عد الجنيبة من السَّلَب ثم ذُكر أبو الفرج الزاز: "أنا إذَا جعلْنا الجنيبةَ من السَّلَب، لم يستحقَّ إلاَّ جنيبةَ واحدةً" وعلَى هذا، فيبقَى النَّظَر فيما إذا كان يقودُ جنيبتن فصاعداً في أنَّ السلب أيهما، أيرجع فيه إلى تعيين الإِمَامِ، أم يُقْرَعُ (¬1)؟ وقوله: "والأشبهُ بالحَدِيث" يجوز أنْ يريدَ بالحديث، قولُه "من قتل قتيلاً، فله ¬
سَلَبُهُ" ويجوزُ أنْ يريدَ ما رُوِيَ عن خالِدِ بْنِ الوَلِيدِ، وعوف بن مالكٍ -رضي الله عنهما- وَهُوَ الذي يَدُلُّ عليه سياقُ "الوسيط" وليعلم قوله: "ولا يخرج الخُمُس" بالميم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَمَّا قِسْمَةُ الغَنِيْمَةِ فَفِيهَا مَسَائِلُ: الأولى إِذَا مَيَّزَ الإمَامُ الخُمُسَ وَالسَّلَبَ وَالرَّضْخَ وَالنَّفَلَ قَسَّم البَاقِيَ عَلَى الغَانِمِينَ بِالسَّويَّةِ عَقَاراً كَانَ أَوْ مَنْقُولاً، وَلاَ يُؤَخِّرُ القِسْمَةَ (ح) إِلَى دَارِ الإِسْلاَمِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القول فِي قسمة الغنيمة وأحكامها يتوزَّع عَلَى هذا الباب، وعلَى كتاب "السير" نحن نشرح كلَّ قسمٍ منْها في موضعه -إِن شاء الله تعالَى- فما يتعلَّق بهذا المَوْضِع أنه إذا أراد الإمامُ أو أميرُ الجيشِ القسْمَة، بدأ بالسَّلَب، فيدفعه إلى القاتل؛ تفريعاً على المصحيح، وهو أنَّ السلَبَ لا يخمَّس، ثم يخرج المُؤَن الَّتي تلزم من أجْرَةِ الحمَّال والحافظ وغيرهما، ثم يجعل الباقِي خمسةَ أقسامٍ متساوية ويأخذ خَمْسَ رِقَاعٍ فيكتب على واحدةٍ: للهِ تعالَى، أو للمصالح، وعلى أربعةٍ للغانمين، ويدرجها في بَنَادِق متساويةٍ، ويجففها، ويخرج لكلِّ قسم رقعة، فما خرج عليه اسمُ الله تعالَى، جعله بين أهْلِهِ على خمسة أسهمٍ، وفيه يقع النَّفلُ على الظاهرِ مِنَ الخلافِ المذْكُور فيه، ويقسَّم الباقي على الغانمين، ويقدَّم قسمته على الغانِمِينَ عَلَى قسمة الخُمُس؛ لأنهم حاضِرُونَ مَحْصُورون، وفيه يقع الرضخ على الظَّاهِرِ من الخَلافِ فيه، ولا فَرْقَ بين المنقول والعَقَار من أموالِ الكُفَّار؛ لإطلاق القرآنِ والأخبار. وقال أبو حنيفة وأحمد -رحمه الله- يتخيَّر الإمام في العَقَار بَيْن القسْمَة؛ كالمنقول، ويين أنْ يرده على الكفَّارِ، ويضرب عليه خراجاً، فتصير حقّاً عَلَى رقبة الأرض، ولا يسقط بالإسْلامِ، وبين أن يقفه على المُسْلمين. وقال مالك -رحمه الله- تصير وقْفاً بنَفْس الاغتنام، وعند أحمد -رحمه الله-: إنْ رأَى الإمام أن الأصْلَحَ قسمتها، قسمها، وإن رأَى وقفَهَا وَقَفَهَا، وكلٌّ نَزَّلَ أمْرَ سوادِ العراقِ على مذهبه، وسيأتي ذلك في "السير" -إن شاء الله تعالى- ويجوز قِسْمَة الغنائِمِ في دارِ الحَرْب من غير كراهة (¬1) لأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَسَّم غنائمَ بَدرٍ بشِعْبِ مِنْ شِعَاب الصَّفْراء قَرِيبٍ من بَدْرٍ، وقسم غنائمَ بني المُصْطَلِقِ عَلَى مياههم، وقسم غَنائم حنين بَأوْطَاس، وهو وادي حنين (¬2). ¬
وقال أبو حنيفة -رحمه الله- لا تُقسَّم الغنيمة في دار الحرب، وقوله في الكتاب: "إذا مَيَّز الامامُ الخُمُس والسَّلَب والرَّضخ والنَّفَل" يعني على ما فيها من الاختلاف الَّذي مَرَّ في التقديم والتأخير، وقوله: "بالسوية" يعني إذا لم يوجَدْ سببُ التفضيل، وهو مبين [من] بَعدُ في المسألة الرابعة. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالغَانِمَ مَنْ شَهِدَ الوَقْعَةِ لَنُصْرَةِ المُسْلِمِينَ، فَلَوْ شَهِدَ آخِرَ الوَقْعَةِ اسْتَحَقَّ، وَلَوْ حَضَرَ بَعْدَ انقِضَاءِ القِتَالِ فلاَ (ح)، وَإِنْ حَضَرَ بَعد انْقِضَاءِ القِتَالِ وَقَبْلَ حِيَازَةِ الغَنِيمَةِ فَقَوْلاَنِ، وإذَا غَابَ في آخِرِ القِتَالِ إنْ كَانَ بِانْهِزَامٍ سَقَطَ حَقُّهُ إِلاَّ إِذَا قَصَدَ التَّحَيُّزَ إلى فِئَةٍ أُخْرَى، وَإِذَا أتُّهِمَ فَالقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ مَاتَ لَمْ يَسْتِحِقِّ السَّهْمَ، وَإِنْ مَاتَ فَرَسُهُ اسْتَحَقَّ سَهْمَهُ لأَنَّ المَتْبُوعَ قَائِمٌ هَذَا هُوَ النَّصُّ، وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ والتَّخْرِيجِ، وَالمَرَضُ الَّذي لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ كَالمَوْتِ، وَقيلَ: طَرَيَانُةُ لاَ يُسْقِطُ السَّهْمَ لِحَاجَتِهِ إِلَى نَفَقَةِ العِلاجَ وَالإِيَابِ، أَما المُخَذِّلُ لِلجَيْشِ فَيَخْرُجُ مِنَ الصَّفِّ، فَإِنْ بَقِيَ فَلاَ يُعْطَى شَيْئاً أَصْلاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من شَهِدَ الوقْعَةَ عَلَى نية الجهادِ، ونُصْرَةِ المسلمين، استحقَّ الغنيمة، قَاتَلَ أو لم يُقَاتِلْ؛ لما رُوِيَ مَرْفُوعاً عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَمَوْقُوفاً على أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا-: "أَنَّ الْغَنيمَةَ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ" (¬1) ويتعلَّق بهذا الأصلْ صُوَرٌ: إحداها: مَنْ حَضَر قبل انقضاء القتالِ، استحَقَّ الغنيمة؛ لأنَّه شَهَدَ الوقعة، وإِنْ حَضَرَ بعد انقضاء القتال، نُظِرَ: إنْ كان بعد حيازةِ المالِ، لم يستحقَّ شيئاً، وإنْ لم يدخُلُوا بَعْدُ دَارَ الإِسلام؛ خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- فيمن لَحِقَ في دارِ الحَرْب قَبْل قسمة الغنيمة، حيثُ قال: "إِنَّهُمْ يشاركون" وإن كان قبل حيازَتِهِ، فوجّهَان في رواية بَعْضِهِمْ، وقولان في رواية آخرِينَ: أصحهما: أنَّ الجوابَ كذلك؛ لعدَمِ شهود الوقعة. والثاني: أنه يثبت الاستحقاقُ؛ لأنه لَحِقَ قَبلَ تمام الاسْتيلاَءِ، وحكى القاضِي ابنُ كج عن بعض الأصحابُ: "أنَّه إنْ كان لا يُؤْمَنُ رجعةُ الكفارِ، استحَقَّ الذي لَحِق؛ ¬
لانتفاع الأوَّلِينَ بحضوره، وإنْ كان يُؤمَنُ، لم يستحِقَّ فهذا وجهٌ ثالثٌ، وعلى قياسِ المسألَة، قال الحَنَّاطِيُّ -رحمه الله-: "إذا أقاموا عَلَى حصْنٍ، وأشرفوا عَلَى فتحه، فَلَحِقَ مَدَدٌ قَبْلَ الفتح، شاركوهم في الغنيمة، وإن فَتَحُوا، ودخلوا آمِنِينَ، ثم جاءَهُمُ المدَدُ، لم يَشارِكُوهم". الثانية: إذا غاب بعضُهُمْ في أثناء القتال منْهزِمَاً، لم يَعُدْ حتَّى انقضَى القتالُ، فلا حقَّ له وإنْ عاد قبل انقضائه، استحَقَّ من المحوز بعد عَوْدِهِ، دون المحوز قبل عَوْده، هكذا ذكره في "التهذيب" وقياسه أن يُقَالَ فيمن حَضَر قبل انقضاءِ القتال. إِنَّه لا حقَّ له في الغنيمةِ المحوزةِ قبل حضوره، وكذلك نقله أبو الفَرَج الزاز عن بعض الأصحاب، وإنْ أطلقنا في المسألة السابقةِ (¬1)، أنه يستحِقُّ، ولم يفصل، وإنْ وَلى مُتَحَرِّفَاً لقتال أو مُتَحَيِّزَاً إلَى فئة، لم يبطُلْ حقُّه عَلَى تفصيل مذكور في "السير" ومن هَربَ ثم ادَّعَى أنه كان مُتَحَرِّفاً أو متَحَيِّزاً، فالجواب في الكتاب أنَّه يصدَّق بيمينه، وقال في "التهذيب": إنْ لم يَعُدْ إلاَّ بعد انقضاء القتال، لم يصدَّق؛ لأنَّ الظاهرَ خلافُهُ (¬2)، وإنْ عاد قبله، صُدِّق بيمينه، فإِنْ حَلَف، استحَقَّ من الكُلِّ، وإنْ نَكَلَ، لم يستحقَّ إلا من المحوز بَعْدَ عوده (¬3). الثالثة: إذا ماتَ واحدٌ من الغانمين قبل الشُّرُوع في القتال، فلا حَقَّ له، وإذا مات فَرَسُهُ، فليس له سهْمُ الفرس، وإنْ كان ذلك بَعْدَ دخوله دارَ الحَرْب فارساً، ولو سرق فرسه، أو عار، أو خرج من يده ببيعٍ أو هبة، فهو كما لو ماتَ، وفيما إذا عار وجهٌ: أنه يستحقُّ سهمه، نقله الشيخ أبو حامد، وضعفه. وقال أبو حنيفة -رحمه الله-:"إذا دخل دارَ الحَرْب فارساَ، ثم مَاتَ الفرسُ، استحق سَهْمَ الفرس". وعنْه فيما لو باعه أو وَهَبَهُ روايتان، واحتجَّ الأصحابُ بأنَّه حيوانٌ يُسْهَمُ له، فإذا مات قبل الشُّرُوع في القتال، لم يُسْهَمْ له كالفارس، لكن أقضى القضاة المَاوَرْدِيُّ روي عن أبي حنيفة -رحمهما الله- في: "الأحكامِ السُّلْطَانِيَّةِ": أنه إذا ماتَ هو، أو فرسَهُ بعد دخول دار الحَرْب، "يُسْهَمُ له" فسوَّى بين موت الفارِسِ ومَوْتِ الفرس، ولو مات واحدٌ منهم بَعْدَ انقضاءِ القتالِ، وحيازةِ المَالِ، انتقل حقُّه إِلَى ورثته وإنْ لم يدْخُلوا بَعد دارِ الإسْلاَم؛ خلافاً لأَبي حنيفة -رحمه الله- ولو مات فرسُهُ في هذه الحالةِ، استحَقَّ سهم الفرس، وَلو مات الغانمُ بعد انقضاء القتالِ، وقبل حيازة المال، فوجهان قال في "التهذيب": ¬
أصحهما: انتقال حقِّه إلَى ورثته أيضاً، ويجري الوجهانِ فيما إذا مات فرسُهُ في هذه الحالة هلْ يستحقُّ سهم الفرس لحُصُولِ الغنائم بحضوره فارساً، وإنْ مات في أثناء القتالِ، فالحكاية عن النصِّ سقوطُ حقه، وفيما إذا مَات فرسه في أثناء القتالِ: أنه يستحِقُّ سهم الفرس، وللأصحابِ فيها طُرُقٌ: أظهرها: تقريرُ النصَّيْن؛ فرقاً بأنَّ الفارس متبوعٌ، فإذا مات فات الأصل، والفرس تابع؛ فإذا مات، جاز أنْ يبقَى سهمه للمتبوع. والثاني: أنَّ فيهما جميعاً قولين: وجْه الاستحقاقِ: شهودُ بعْضِ الوقعة، ووجْهُ المَنْع: اعتبارُ آخر القتال؛ فإنَّه وقت الخَطَر؛ والظَّفر. وعن الشيخ أبي زيد: أنه إنْ حصَلَتْ حيازة المال بنصب قتالٍ جديدٍ، فلا استحقاقَ، لا في موت الفرس، ولا في موت الفارس، وعليه يُحْمَلُ نصه في موت الفارسِ، وِإنْ أفضَى ذلك القتالُ إلى الحِيَازَةِ، ثبت الاستحقاقُ في الصورتَيْنِ، وعليه يحمل لَهُم في صورة الفَرَسِ. الرابعةُ: إذا شهد الوقْعَةَ صحيحاً، ثمَّ مرضَ نُظِر: إنْ كان مرضاً لا يمتنع معه القتالُ؛ كالحُمَّى الخفيفةِ، والصُّدَاعُ أو كان يرجَى زوالُه، لم يبطُلْ حقُّه، وإنْ كان غير ذلك؛ كالزَّمَانة، والفَالج، والعمَى، فقولان، أو وجهان: أحدهما: يبطُلُ، لخروجه عن أهليَّةِ القتالِ، كما لو مات. والثاني: المَنْع؛ لأنه يُنْتَفَعُ برأيه ودُعَائِهِ بِخِلاَفِ الميِّت؛ ولأنه يحتاج إلى العلاج والإياب؛ بخلاف الميت، وفي إبطالِ حقِّه ما يمنعه عن الجهادِ، وهذا أصحُّ عند صاحب "التهذيب" وغيره وإيراد الكتاب يُشْعِرُ بترجيح الأول؛ وهو الذي أورده القاضي ابن كج، ولو جُرحَ في الحَرْب، ففي "التهذيب" يُنَزَّلُ منزلةَ المرضِ، فينظرُ في الجراحةِ، وحصول الأثخان بها، وعدمه، وفي "الشَّامل" وغيره ترتيبُ الجراحةِ على المَرضَ، إنْ قلنا: يستحقُّ المريضُ، فالمجروحُ أولَى، وإلا، ففيه خلافٌ؛ لأنَّ ما أصابه إنَّما أصابه بسبب الحرب، فلا يحسُنُ حرمانُهُ، ثم الأكثرون أطلَقُوا القَوْل في رجاءِ الزوال وعدمه، وحكَى بعض أصحاب الإمام: أنَّ المعتبر رجاءُ الزوال قبل انْجِلاءِ القتال (¬1)، وإذا لم يستحقَّ المريضُ، فَيَرْضَخُ له، وكذلك ذكره الحَنَّاطِيُّ وآخرون، والمريض بعد إنقضاء القتال؛ وقَبْلَ حيازةِ الغنيمةِ، على الخلافِ الَّذي سَبَقَ في المَوْت. الخامسة: المُخَذِّلُ للجَيشِ يُمْنَعُ من الخروج مع الناس، والحُضُور في الصفِّ، ¬
فإن حضر، لم يُعْطَ شيئاً، لا السَّهْم، ولا الرَّضْخ؛ لأنَّ ضرر حضورِهِ فَوْقَ ضرر انهزامِ المُنْهَزِمِ؛ والمخذِّل هو الذي يُكثِرُ الأَراجِيفَ؛ وَيُكَسِّر قُلُوبَ الناسِ، وَيُثَبطهُم، فيقول: لا تنفروا في الحر؛ وإنَّ في العَدُوّ كثرةٌ، وما أشبه ذلك، ولا يلحق الفاسقُ بالمُخَذِّل، وذكر القاضي ابن كج: أنَّ أبا الحُسَيْن حكَى وجْهاً: "أنه لاَ يُسْهَمُ له؛ لأنه لا يُؤْمَنُ منه الغَدْرُ والتخْذِيل" (¬1). قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةُ إِذَا وَجَّهَ الإِمَامُ سَرِيَّة فَغَنِمْتَ شَيْئاً يُشَارِكُ فِي اسْتِحْقَاقِهَا جَيْشُ الإمَامِ، إِذَا كانُوا بِالقُرْب مُتَرَصِّدِينَ للِنُّصْرَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لو بعث الإمامُ أو قائدُ الجيشِ سريَّةَ إلَى دار الحرب، وهو مقيمٌ في بلده، فَغَنِمَتْ شيئاً، لم يشركْهُمُ الإمام ومَنْ معه من الجَيْش (¬2)؛ كانت السرايَا تَخْرُج من المدينة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتغنم، فلا يشاركُهُمُ المُقيمونَ بها، ولو بعث سريتَيْنِ إلى جهتين، فلا تشارك إحْدَاهما الأخرَى فيما تغْنَمُ، نعم؛ لو أوغلنا في ديار الكفر، والتقتا في موضع، فيَشْتَرِكَانِ فيما يغْنَمَانِ بعد الاجتماع، ولو بعثهما إلَى جهةٍ واحدةٍ، فإن أَمَّرَ عليهما أسيراً واحداً أو كانت إحداهُمَا قريبةً من الأخرى؛ بحيث تكونُ إحداهما عَوْناً للأخرَى، فيشتركان في الغنائم، وإلا، فلا، ولو دخل الإمامُ دارَ الحَرْب، أو دخَلَها قائدُ الجَيْش، فوجَّه سريةً إلَى ناحيةِ فغنِمَتْ شاركهم جيشُ الإمام، ولو غنم الجيش، شاركته السريةُ؛ لاستظهارِ كلِّ فرقة منها بالأخْرَى، وقد رُوِيَ أنَّ جيش المسلمين تَفَرَّقُوا، فَغَنِمَ بعضُهم بـ"أوْطَاس" ومنهم بخيبر فشركوهم، ولو وجه سريتَيْنِ إلَى جهةٍ واحدةٍ، اشترك الكلُّ فيما يغْنَمُ كلُّ منهم، ولو وجههما إِلَى جهتين، فكذلك في ظاهر المَذْهَب؛ لأنَّ كل واحدةٍ منهما تستظهرُ بجَيْش الإمام، وهو كالجامِعِ لهما؛ بخلاف ما لو بعثهما إلَى جهتين، وهو في بلدِهِ، حيث لا تُشَارك إِحداهما الأخْرَى؛ لأنه لا جامِعَ هناك، ولا تستظهر واحدةٌ منهما بالأخُرَى، وفيه وجهٌ: أنه لا مشاركةَ بين ¬
فرع
السريَتَيْنِ هاهنا أيضاً، وأشار في "الشامل" إلَى خلافٍ في التشريكِ هناك أَيْضاً، ثم ذكر القاضِي ابن كج والإمام -رحمهما الله تعالى-: أنَّ شرط الشركةِ أن يكُونُوا بالقُرْب مترصِّدين للنُّصْرة، وحَدُّ القربِ أن يبلغَهُمُ الغوث والمَدَدُ منْهم، إنْ احتاجوا، وعلَى ذلك جَرَى في الكتاب، ولم يتعرَّض أكثرهم لذلِكَ، واكتفوا باجتماعهم في دار الحرب (¬1) وهكذا حكاه صاحب الكِتاب عن القَفَّال، واستبعده، فعلى الأول؛ ولو كانت إِحداهما قريبةً، والأخرَى بعيدةً، اختصَّت القريبةُ بالمشاركة. " فَرْعٌ": بعث الإمامُ جاسوساً، فَغَنِمَ الجَيْشُ قبل رجوعه: فأحد الوجهَيْنِ: أنه لا يشاركهم؛ لأنَّه لم يشْهَدِ الوقعة. وأشبَهُهُمَا: وبه قال الدَّارِكِيَّ -رحمه الله- أنه يشاركهم؛ لأنه فارقهُمْ؛ لمصلحتِهِم، وخاطَرَ بما هو أعظَمُ من شهود الوَقْعَةِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثَةُ مَنْ حَضَرَ لاَ لِقَصْدِ الجِهَادِ كَالأَجِيرِ لِسِيَاسَةِ الدَّوَابِّ إِنْ لَمْ يُقَاتِلْ لَمْ يَستَحِقَّ (و)، وَإِنْ قَاتَلَ فَثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ، فِي الثَّالِثِ يُخَيَّرُ بَيْنَ إِسْقَاطِ الأُجْرَةِ مِنِ ابْتِدَاءِ القِتَال وَبَيْنَ إِسْقَاطِ الغَنِيمَة، وَفِي التَّاجِرِ هَذَانِ القَوْلاَنِ وَلاَ يَجْرِي الثَّالِثُ، وَأَمَّا الأَجِيرُ للِجِهَادِ فَإِنْ كَانَ كَافِراً اسْتَأْجَرَهُ الإِمَامُ اسْتَحَقَّ الأُجْرَةَ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِماً فَلاَ، وَلاَ يَسْتَحِقُّ الغَنِيمَةَ أَيْضاً عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، لأَنَّهُ أَعْرِضَ عَنْهَا، وَأَمَّا الأَسِيرُ إنْ كَانَ مِنْ هَذا الجَيْشِ وَعَادَ اسْتَحَقَّ قَاتِلَ أَوْ يُقَاتِلْ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جَيْشٍ آخَرَ وَلَمْ يُقَاتِل فَقَوْلاَنِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ والْتَحَقَ بِجُنْدِ الإِسْلاَمِ اسْتَحَقّ وإنْ لَمْ يُقَاتِل عَلَى الأَظْهَرِ (و). قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصودُ المسأَلَةِ الكلامُ في صُوَرٍ: إحداها: إذا شَهِدَ الأجيرُ مع المستأْجِرِ الوقْعَة، نُظِر: إنْ كانتِ الإجارةُ لعَمَلٍ في الذمَّة من غير تعِيينِ مدَّةٍ؛ كخياطة ثَوْبٍ، وبناءِ حائِطٍ، فخرج، وشَهِدَ الوقعةَ، فله السَّهْمُ بِلاَ خلاَفٍ، والعمل المستأجر علَيْهِ دَيْنٌ في ذمته، وإن تعلَّقت الإجارة بمدة معيَّنةٍ، كما إذا استأْجَرَ لسياسَةِ الدوابِّ، وحفْظِ الأمتعة شَهْراً، وخرج به، نَقَلَ جماعةٌ منهم المصنِّفُ، وصاحب "التهذيب" أَيْضاً؛ أنه إنْ لم يقاتِلْ، لم يستحقَّ السَّهْم، وإنْ قاتَلَ، فثلاثة أقوال، وأطلَقَ المسعودِيُّ وآخرون الأقوال من غير فصل بين أن يقاتل أو لا يقاتل، وكذلك أطلقها الشافعيُّ -رضي الله عنه- في "المختصر". ¬
أظهرها: أن له السهْمَ؛ لَشُهودِ الوقعة. والثاني: المنع؛ لأنَّ منفعته مستحَقَّةٌ للغَيْرِ، وكان كالعبد، إذا شَهِدَ الوقْعَةَ وعلى القولَيْنِ يستحقُّ الأجرةَ بمقتضَى الإِجَارَةِ. والثالث: أنه يخيَّر بين الأُجْرَةَ، و [بين] سَهْمِ الغنيمة، فإنْ اختار الأجْرَةَ، فلا سَهْمَ لَهُ، وَإِنِ اختارَ السَّهْم، سقَطَتِ الأجرة؛ ليخلصَ سعيه للجهادِ وقد توجه له، و [قد] احتج له بأن التسليم الواحدَ لا يوجِبُ بدَلَيْنِ مختلفَيْنِ، وأيهما اختَارَ سَقَطَ الآخَرُ؛ كالقِصَاص، والدِّية، وهذا القول الثالثُ موضِعُ البحث من جهَةِ أنَّ الإِجارة عقْدٌ لازمٌ، فكيف يخيَّر الأجير فيها، وبتقدير التخْيِير، فإذا اختار السَّهْم سقط أجرة جميع المدة، أم كَيْفَ الحالُ؟ ومتَى يخيَّر، قبل شهودِ الوقعة، أو بعده؟ فالجواب: أما الأَوَّلُ: فعن صاحب "الإفصاح": "أنَّ القولَ الثَّالِثَ فيما إذا استأجر الإِمَامُ؛ لِسَقْيِ الغزاة، وحفْظِ دوابِّهم مِنْ سَهْم الغزاةِ مِنَ الصَّدَقات، فشهد الأجيرُ الوقْعَة، فيخيره فالإمام فأما أجيرُ آحادِ النَّاس، فلا يجيء فيه هذا القَوْلُ؛ لأنَّ الإجارة لازمةٌ إلاَّ أن يكون الجارِي بينهما صورةَ الجَعَالَةِ، وأيضاً فإِن أجير الآحاد يسلم الأجرة للمستأجِرِ، وُيؤْخَذ السهم من الغانمين، وهو بَعِيدٌ، والذي استأجَره الإمامُ؛ لمصلحةِ الغُزَاة: إِن اختَارَ السهْمَ، سلمت الأجرة للغُزَاةِ، وإن اختار الأجرةَ، سلم السهم لهُمْ، والأكثرون أَجرُوه في الأجيرين، كما أطلقه الشافعيُّ -رضي الله عنه- وقالوا: "لزوم الإجارةُ لا يختلف في الصورتَيْنِ" وأما سلامةُ الأجرةِ للمستأْجِرِ، فلا يُعَدُّ فيما إذا مرض إذ الغرض أنْ يُخْلِص عمله للجِهَاد، وللقربة، فليقدِّر الغانِمُونَ أنه لم تجر إجارة، وأما ما يَسْقُطُ من الأجرةِ، إِذا اختار السهْمَ ففيه وجْهَان: أحدهما: أنَّها تسقُطُ منْ وقتِ دخولِ دَارِ الحَرْبِ. وأظهرهما: مِنْ وَقْتِ شهودِ الوَقْعة؛ لأنَّ استحقاقَ الغنيمةِ يتعلَّق به، فلا يجبُ معه الأجرة، فأما فيما قَبْلَهُ، وبَعْدَه، فلا يجمع الحقَّان، وأمَّا أنه متَى يخيَّر، ففي "الشامل": أنَّ الأصحابَ قَالُوا: يُخيَّر قبل القِتَالِ وبَعْدَه، فيقال قَبْلَه: إنْ أردت الجهادَ، فاطَّرِح الأجرة،. وإنْ أردتَّ الأجرةَ، فاطَّرِحِ الجهاد، ويقال بعده: إنْ كنتَ قَصَدَتَّ الجهادَ، فلا أجرة لك، وإن قصدتَّ الأجرةَ، فَخُذْهَا، ولا سَهْمَ لك والمراد أنَّ الغَرَضَ يَحْصُلُ بكلِّ واحدٍ منهما إلا أنه يخير في الحالَتَيْنِ جميعاً، والله أعلَمُ. وإذا قلْنا: يُسْهَمُ للأَجيرِ، فله السَّلَب، إذا قَتل، وإن قلْنا: لا يُسْهَمُ له، فوجْهَانِ، وله الرَّضْخُ؛ كالعبيد والمرَأة، وحكى القاضِي ابن كج وجهاً: "أنه لا يُرْضَخُ له"؛ لأنه لم يُسْهَمْ له، وهو من أهله، فلا يُرْضَخُ له، هذا في سائر الأُجَرَاءِ، وأما الأجيرُ للجهادِ، فالكَلاَمُ في استئْجَارِ المُسْلِمِ واستئْجَارِ الذِّمِّيِّ للجهاد مؤخر إلَى كتاب "السير" وإذا
صحَّتِ الإجارةُ، فللأجير الأجرةُ، ولا سَهْم، ولا رضخ وينبغي أنْ يجيء عَلَى وجهٍ ذُكِرَ في صحَّة استئْجَارِ المُسْلِم على الجهادِ الأقوالُ الثلاثةُ، وإذا لم تصحَّ الإجارة، فلا أجْرَةَ له، وفي سلم الغنيمة، فوجهان: أحدُهُما: أنه يستحقُّه لشهودِ الوَقْعَة. والثاني: وهو المذكورُ في "التهذيب": المنْعُ، قاتل أو لم يقاتل؛ لأنه أعرضَ عَنْه بالإجارة، ولم يحضُرْ مجاهداً، والوجهانِ فيما ذكر الشيخ أبو محمَّد -رحمه الله- مبنيَّانِ على القولَيْنِ فيما إذا أحْرَم الأجيرُ عن المستأجِرِ، ثم صرف النية إلَى نفسه، هل يستحقُّ الأجرة، وهما شبيهانِ بالوجْهَيْنِ فيما إذا شَرَطَ في المضاربة كلَّ الربح للمالِكِ، هل يستحقُّ الأجرة، قوله في الكتاب: "إنْ لم يقاتِلْ، لم يستحق"، يجوز إعلامه بالواو؛ للطريقة المطْلقة. وقوله: "وبيْنَ إسْقَاط الأجْرَةِ من ابتداءِ القتالِ، وبين الغنيمة" أي: وبين إسقاطِ الغَنِيمَةِ، وإلاَّ فإسقاطُ الأجرةِ إثباتُ الغنيمةُ، فلو لم يضمن في الغنيمةِ الإسْقَاط، لم يكُنْ فيه تعرض للطَّرَفَينِ، وقوله: "من ابتداء القتال" مرقومٌ بالواو؛ للوجه الآخر، وقوله: "وإنْ كان كافراً، اسْتَأجَرَهُ الإمام" أشار به إلَى أنَّ استئجار الآحادِ ممنوعٌ منه، وفيه خلافٌ مذكورٌ في السير وقوله: "وإن كان مسلِماً فلا" يجُوزُ إعلامه بالواو لشيء يُذكَرُ هناك. الثانية: تُجَّار العَسْكر وأهْلُ الحِرَفِ، كالسَّرَّاجين الخياطين البزازين والبقالين، وكلَّ من خرج لغَرَضِ تجارةٍ أو معاملةٍ، إذا شهد الوقعةَ، هل يُسْهَمُ له؟ فيه قولانِ؛ كما في الأجير، ولا يجيءُ فيهم قولُ التخيير، وفي موضعِ القولَيْنِ طُرُقٌ: أظهرها: أنَّ القولَيْنِ فيما إذا قاتلوا، فإنْ لم يقاتِلُوا، لم يستحقُّوا قولاً واحداً، وهذا ظاهر لفظ "المختصر" وهو الذي يقتضيه نَظْمُ الكتاب. والثاني: وهو الذي قال به القاضي أبو حامد: "أنَّ القولَيْنِ فيما إذا لم يقاتلوا، وأما إذا قاتَلُوا، استحقُّوا بلا خلاف، لأنَّا عرفنا بقتاله أنَّ قصْده لمْ يَكُنْ لمحْضِ التجارةِ، فصار كما لو خرج للجِهَاد، وحمل مع نفسه متاعاً يبيعه. والثالث: وبه قال أبو إسحاق، وابْنُ القطان -رحمهما الله تعالَى- أنهما يُطْرَدَانِ في الحالَتَيْنِ، وبهذا أجاب القاضي الرُّويانيُّ -رحمه الله- في "الحلية" وقال: أصحُّ القولَيْنِ: أنه يُسهَمُ للتاجر؛ لتكثيره سوادَ المُسْلِمين" وإذا قلنا: لا يُسْهَمُ للتاجر، فهل يُرْضَخُ له؟ فيه وجهانِ، كما في الأجير؛ الأصحُّ: نعم. الثالثةُ: لو أفلت الأسيرُ من يد الكافِرِ، وشهد الوقعةَ مع المسلمين؛ فإِنْ كَانَ من
هذا الجيش استحَقَّ السهْمَ، قاتل أو لم يقاتل؛ لأنه خرج للجهاد وقَهْرِ العَدُوِّ بالإفلات، وشهد الوقعة، وإنْ كان من جيش آخَرَ، أسر من قبل، فقوْلان؛ وجه المنع: أنه لم يَقْصِدِ الجهاد، ووجْهُ الاستحقاقِ: شهودُ الوَقْعة، وفي محلِّ القولَيْن طريقان عن أبي إسحاقَ وغيره، طَرْدُ القولَيْنِ فيما إذا قَاتَلَ أو لم يقاتل [فأظهرهما، وهو المنصوصُ في "المختصر": أن القولين فيما إذا لم يقاتل] (¬1) فإن قاتل، استحقَّ بلا خلاف؛ لأنه قد بانَ بالقتال أن قصْدَه الجهادُ، وأنَّ الخلاصَ لم يتمحَّض عوضاً له، فصار كما لو اختلط أن أحاط المشركون بأهل قرية لا يُسْهَمُ للمقيمين بها، حتَّى يقاتلوا؛ ليمتاز المجاهِدْ عن المقيم، حُكِيَ هذا التوجيهُ والشبه (¬2) عن أبي يعقوب الأبيوردي، هذا إذا أفلت قبل الحرب، وحيازة الغَنِيمَةِ، وإنْ أفلَتَ بعد الحرب، وقبل الحِيَازة، فعلى ما مَرَّ في لحوق المَدَدِ، وإنْ أفلت بعد الحيازة، قال في "الشامل": إن قلنا: تملك الغنيمة بالحيازة، فلا سهم لَه، وإلا فَهُوَ كما لو أفْلَتَ قبل الحيازة ولم يقاتِلْ، وإذا لم نَجْعَلْ للأسير السهْمَ، ففي الرضْخِ الخلافُ السابِق وعند أبي حنيفة -رحمه الله- حكمُ الأجيرِ والتاجِرِ والأسيرِ واحدٌ، إن قاتلوا، استحقُّوا السهْمَ، وإلا فلا. الرابعة: لو أسلم كافرٌ، فالتحقَ بجُنْدِ الإِسلام، استحَقَّ السهم، قاتل أو لم يقاتل؛ لأنَّه قصد إعلأَ كلمةِ الله تعالَى بالإِسلام، وشهودِ الوَقْعَة فيقبح حرمانُهُ. وقوله: "استحقَّ السهْمَ وإنْ لم يقاتل علَى الأظْهَر" هكذا هو في متْن الكتاب، وقضيته إثباتُ خلافٍ في المسألة وخطَّ بعض المعنيين بهذا الكتاب عَلَى كلمة "على الأظهر" لأنه لم يذكر في "الوسيط" خلافاً فيه، بل قال: "يستحقُّ السهْمُ قَاتَلَ أو لم يُقَاتِلْ" لكن يجوز أنْ يترك بحالها لأنَّ أبا الحسن العباديَّ قال في "الرقم لو أسلم كافرٌ، وحضر المعسكر إنْ قاتَلَ، استحق، وإنْ لم يقاتِلْ، لم يستحق" قال: وأصْلُ هذه المسائِلِ إنَّ القصْدَ إلى الجهَادِ، هل هو شرطٌ يعني من الابتداء، واختلافُ جوابِ الأئمةِ يُوجِبُ الخلاف. واعْلَمْ أنَّ الحكم في هذه الصُّوَرِ بالترتيب، فالكافِرُ الذي أسْلَم أولَى بالاستحْقَاقِ، ويليه الأسيرُ لما في الإفْلاَتِ من قهْرِ الكفار، ويليهما التاجِرُ والأَجير والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرَّابِعَةُ يُسَوَّى (ح م) بَيْنَ الجَمِيعِ فِي القِسْمَةِ إلاَّ لِأَصْحَابِ الرَّضْخِ فإنَّهُمْ يَنْقُصُونَ، وَإلاَّ الفَارِسَ فَإنَّهُ يُعْطَى (ح) ثَلاَثَةَ أَسْهُمٍ وَللِرَّاجِلِ سَهْمٌ، وَلاَ يُعْطَى إلاَّ لِرَاكِبِ الخَيْلِ، ثُم لاَ فَرْقَ فِي الفَرَسِ (و) بَيْنَ العَرَبيِّ وَالعَجَمِيِّ وَالتُّركِيِّ، وَلاَ يُعْطَى ¬
الضَّعِيفُ وَالأَعْجَفُ عَلَى أَقْيَسِ القَوْلَيْنِ، وَلَوْ أَحْضَرَ فَرَسَيْنِ لَمْ يُعْطَ (و) إِلاَّ لأحَدِهِمَا، وُيعْطَى لِلفَرَسِ المُسْتَعَارِ وَالمُسْتَأْجِرِ، وَكَذَا المَغْصُوبُ، (و) وَلَكِنَّهُ لِلغَاصِبِ، أَوِ للمَالِكِ فَقَوْلاَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قدْ مَرَّ أنَّ المَالَ المغنوم يبدأُ منه بالسَّلَب والمُؤَن، ثم يقسَّم الباقي خمسةَ أقسامٍ، ويجعلُ أربعةُ أخماسِهَا للغانِمِينَ، يُسوَّى بينهم في ذلك، ولا يُفَضَّل بعضُهُم على بعضٍ إلاَّ بشَيْئَيْنِ: أحدُهُما: النُّقْصَان المقْتَضِي للرَّضْخِ، عَلَى ما سبق، وهذا مفرَّع عَلَى أنَّ الرضْخَ من الأخماس الأربعة. والثاني: أنَّ الفارسَ يُفضَّل على الراجِلِ، ويعطَي الفارسُ ثلاثةَ أسهُم؛ سهماً له، وسهمين لفرسه، ويعطي الراجل سهماً، لمَا رُوِيَ عن ابن عُمَرَ -رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "ضَرَبَ لِلْفَرَسِ بِسَهْمَيْنِ، وللفارس بسهم" (¬1). وعند أبي حنيفة -رحمه الله-: للفارس سهمان؛ سهمٌ له، وسَهْمٌ لفرسه، وللراجِلِ سهْمٌ واحدٌ، ويتعلَّق بهذا الأصْلِ مسائلُ. إحداها: لا يلحقُ راكبُ البعير، والفِيلِ، والحِمَارِ، والبَغْلِ براكب الخَيْل؛ لأَنَّ هذه الدوابَّ لا تصلُحُ للحَرْبِ صلاحَيَةَ الخَيْل، ولا يتأتى منْها الكَرُّ والفَرُّ، ولكنْ يعطَى للراكب سهْمٌ، ويرضَخُ لهذَه الدوابِّ، ويجْعَلُ رضْخُ الفيل أكثر من رضْخِ البَغْل، ورَضْخُ البغْلِ أكثَرَ من رَضْخِ الحمَارِ، ولا يبلغ رضخُهُمَا سهْمَ الفَرَس (¬2). الثانية: لا فرق في الخَيْلِ بين الَّذي أَبَوَاهُ عربيَّانِ، ويقال: له العَتِيقُ، والذي أبواه عَجَمِيَّانِ، ويقال: له البِرْذَوْنُ، والذي أبوه عَرَبِيٌّ، وأمه عجميةٌ، وهو الهَجينُ، والذي أبوه عجميٌّ، وأمه عربيَّةٌ، وهو المقرف؛ لأن الكَرَّ والفر يجيء من هذه الأنواع، وقد روي أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "الخَيْلُ مَعْقُودٌ في نواصِيَها إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" الأجر والمغنم (¬3)، ¬
فأطلق لَفْظَ الخيل، وفيه قول: أنه لا يسهم للبِرْذَوْنِ، بل يُرْضَخُ له؛ لأنَّه لا يعمل عَمَلَ العربيِّ، ومن قال بالظَّاهِر شبه تفاوتهما بتفاوُتِ الراكب القَوِيِّ، والراكِب الضعيف، وعن أحمد -رحمه الله- في أصحِّ الروايتين: "أنَّه يجعل لما سِوَى العربيِّ سهْمٌ لا سَهْمَانِ". الثالثة: ليتعهد الإمامُ الخيلَ، إذا أرادَ دُخُول دارِ الحَرْب، فلا يُدْخِلُ إلاَّ فرساً شديداً، ولا يُدْخِل حطماً وهو قحماً وهو الهرم الفاني ولا ضرعاً، وهو الصغيرُ الضعيفُ، ولا أعجف رازحاً والأعجف الهزولُ والرازح البين الهزال (¬1)، فلو أدْخَلَ بعضُهم شيئاً منْها، نُظِرَ: إن نهى الإمامُ عن إدخاله، وبلغه خبر النَّهْيِ، لم يسهم لفرسه، وإن لم يَنْه الإمام أو لم يبلُغْهُ خَبَرُ النهْيِ، فقولان: أحدهما: أنه يُسْهَمُ لهُ، كما يُسْهَم للشَّيْخ الضعيف، إذا حَضَر. وأصحُّهما: المَنْع؛ لأنه لا فائِدَةَ فيه، بل هو كلٌّ عَلَى صاحبه، بخلاف الشيْخِ، فإنَّه ينتفع برأْيِهِ. ودعائه، وعن أبي إسحاق أنه لا خِلاَف في المسألة، بل القولُ الأوَّل محمولٌ عَلَى ما إذا أمكَنَ القتَالُ عَليه، والثانِي عَلَى ما إذا لم يُمْكِنْ. الرابعةُ: من حَضَرَ بفرسَيْنِ، لم يُسْهَم إلا لواحدٍ، لما رُوِيَ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَمْ يُعْطِ الزُّبَيْرَ -رضي الله عنه- إلا لفَرَسٍ واحدٍ، وَقَدْ حَضَرَ يَوْمَ خيبر (¬2) بأفراس". وقال أحمد -رحمه الله-: "يعطي لفرَسَينِ" ولا يزادُ لحديثٍ وَرَدَ (¬3) فيه، ورواه راوُونَ قولاً عن الشافعيِّ -رضي الله عنه-. ¬
فرع
الخامسةُ: يُسْهَم للفَرَسِ المستعارِ والمستأْجَرِ، ويكونُ ذلك للمستعِيرِ والمستأْجِرِ، وعن رواية: ابن القَطَّان -رحمه الله- وجه: أنه يكونُ سَهْمُ الفرسِ المستعارِ للمُعِير، وأما الفرسُ المغْصُوب، فوجهان في أنَّه، هل يسهم له: وجْه المنع: أنَّ ركُوبَهُ وإحضارَهُ حرامٌ شرعاً، فكان كالمعدومِ، والأصحُّ الإثبات؛ لحصول الغناء به، وعلى هذا، فهو للمالِكِ (¬1) أو للغَاصِب الراكِب فيه قولان، ويقال: وجهَان؛ وجه الأَوَّل: أنَّ منافعَ الفَرَسِ وفوائِدَهُ للمالِكِ، وَالأصحُّ الثانِي؛ لأنه الذي أحْضَرَهُ، وشَهِدَ به الوقعةَ، وفي "تعليق" الشيخ أبي حامد -رحمه الله- "بناءُ هذا الخلافِ عَلَى أنَّ ربح الدراهِمِ المغْصُوبَة، للمالك أو للغَاصِب" وقد عرفْتَ بما ذكرنا أنَّ قوله في الكتاب يُسَوَّى بين الجميعَ في القسْمَة يعني قسْمَةَ الأخماس الأربعةِ، ولو حمل عَلَى جميع الغنيمة، لاحتيج إلى استثناء أصْحَاب النَّقَل والسَّلَب أيضاً، ثم هو مُعْلَمٌ بالحاء والميم؛ لأن عندهما يجوز للإمام تفْضيلُ بعض الفارِسين عَلَى بعض، وبعض الراجلين على بعض، كما يراه، وجوز مالك -رحمه الله-: أن يعطي غَيْرَ مَنْ شَهِدَ الوقعة أيضاً. وقوله: "إنه يعطي ثلاثة أسهم" معلَمٌ بالحاء، ويجوزُ أن يعلم قوله "إلا لراكب خَيْل" بالألف؛ لأن عند أحمد: يجعلُ للبَعِير سهم. وقوله: "ثم لا فَرْقَ في الفَرَسِ" مُعْلَمٌ بالألف والواو، وكذا قوله: "لم يُعْط إلاَّ لأحدهما"، وقوله: "وكذا للمغصوب" بالواو، ويمكِنُ أنْ يعلم قوله "فقولان" بالواو؛ لأنَّ صاحِبَ "الشامل" رأَى القَطْعَ بأنه للغَاصِبِ. فَرْعٌ: إذا كان القتالُ في ماءٍ أو حصنٍ، وقد أحضر الفرس، أسْهم لفرسه؛ لأنَّه قد يحتاج إلى الركوب، حكى ذلك عن نَصِّه في "الأمِّ" وحمله القاضي ابن كج: "عَلَى ما إذا كَانُوا بالقُرْبِ من السَّاحِل" واحتملَ أنْ يَخْرُجَ، ويَرْكَبُ، فأما إذا لم يَحْتَمِلِ، الحالُ الرُّكُوبَ، فَلاَ معنَى لإعطاءِ سَهْمِ الفَرَسِ. ولك أن تقولُ: قضيةُ التوْجِيهِ المذْكُور أنْ يسْهِمَ لفرَسَيْنِ وأكثر؛ لأنَّه قد يحتاجُ إلَى ركوب الثانِي والثالِثِ، وقد التزم مؤنتهما، وُيرْضَخُ للصبيِّ والذميِّ والفارسين أكثَرَ مما إذا كَانَا راجِلِينَ، ولو أحضر اثنان فرساً مشتركاً بينهما، فلا يعطَيَانِ سهْمَ الفرس؛ لأنه لم يَحْضَر واحدٌ منهما بفرس تام، أو يعطَى كلُّ واحدِ منهما سَهْمَ فرس؛ لأنَّ معه ¬
فرساً، قد يركبه أو يُعْطَيَانِ سهم فرس مناصَفَةً؟ فيه ثلاثة أوجه (¬1) مذكورة في "أمالي أبي الفرج السرخَسِيِّ" -رحمه الله- ولو ركب اثنان فَرَساً وشهدا الوقْعَةَ، حكى القاضي ابن كجٍّ عن أبي الحُسَيْن عن بعض الأصحاب: "أنَّهُمَا كفارِسَيْنِ، يجعل لهما ستَّةُ أسهم" واستبعَدَهُ، وعن بعْضِهِمْ أنهما كراجِلَيْنِ، لتعذُّر الكرِّ والفرِّ، قال: "وعندي يجب أنْ يُجْعَلَ لهما أربعة أسهمٍ، سهمان لهما، وسهمان للفرس" (¬2) والله أعلم. ¬
كتاب قسم الصدقات
كِتَابُ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ وَفِيه بَابَانِ البَابُ الأوَّلُ في بَيَانِ الأَصْنَافِ الثَّمَانِيةِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: الصَّنْفُ الأَوَّلُ الفَقِيرُ وَهُوَ الَّذِي لاَ يَمْلِكُ أَصْلاً وَلاَ يَقْدِرُ (ح) عَلَى كَسْبِ يَلِيقُ بِمُرُوءَتِهِ، أَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى كَسْبِ وَلَكِنْ يَمْنَعُهُ الاشْتِغَالُ بِهِ عَنِ التَّفَقهِ وَهُوَ مُتَفِّقَةٌ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُهُ عَنِ اسْتِغْرَاقِ الوَقْتِ بِالعِبَادَاتِ، فَلاَ يُعْطَى سَهْمَ الفُقَرَاءِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الزَّمَانَةُ، وَلاَ التَّعَفُّفُ عَنِ السُّؤَالِ فِي استِحقَاقِ هَذَا السَّهْمِ عَلَى الجَدِيدِ (و). قَالَ الرَّافِعِيُّ: اسم الصَّدَقَاتِ يشملُ الزكَوَاتِ والتطوُّعات، والكِتَابُ وافٍ بالنَّوْعَينِ، وأنَّهما إلَى من يصرفان؟ وكيف يُصْرَفَان؟ إلاَّ أنَّ النوعَ الثانِيَ لا يطُولُ الكلامُ فيه، فرسه مسألةً في آخر الباب الثاني، وحقُّه أنْ يقطعَ عنِ النَّوْع الأول بالكلِّيَّة، ولا يجعل مسألةً في فصوله، أما الزكاةُ: فالقَوْلُ فيما تُؤَدِّي وَتُؤَدَّى منه، ومَنْ عليه مستوفًى في "كتاب الزكاة"، وأما الذي تؤدَّى إليه، فله عَقْدُ هذا الكتاب، ثم من الأصحابَ مَنْ يُورِدُ مقْصُود هذا البَابِ في "كتَابِ الزكاة" مَقْروناً بسائِرِ فُصُولهَا، والشافعيُّ وأكثر الأصْحَاب -رضي الله عنهم- أوردُوهُ هاهنا مقروناً بقسم "الفيء والغنيمة"، ولكلِّ وجهٌ؛ فالأول ظاهِرةٌ، وأما الثانِي؛ فَلأَنَّ كلَّ واحدٍ من هذه الأموالِ يتولَّى الإمامُ جَمْعَها، ثم تفريقَهَا، وقِسْمَتَها عَلَى من يضرب فيها بسَهْم إلاَّ أنَّ ذلك يحصُلُ من الكفار، وهذا من المسلِمِينَ، والأصلُ فيه قولُهُ تعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة-60] الآية، ولا بدَّ من بيان الأصنافِ الثمانيةِ، وكيفية الصَّرْف إليهم فأودعهما في بابين. أما الأول: فالصِّنْف الأَوَّل: "الفقيرُ"؛ وهو الذي لا مَالَ له، ولا كَسب يقع موقعاً من حاجته فالمالُ الذي لا يقع موقعاً؛ كما إذا كان يحتاجُ إلَى عشرةٍ، وهو لا يملك إلاَّ درهَمَيْنِ أو ثلاثةً، لا يُسْلَبُ اسم الفقير، وكذا الدَّارُ التي يسكُنُها، والثوبُ الَّذي يلبسُهُ متجمِّلاً به، ذكره صاحب "التهذيب" وغيره، ولم يتعرَّضوا لِعَبْدِهِ، الَّذي يحتاجُ إلَى خدمته، وهو في سائر الأصُولِ ملحقٌ بالمسكن (¬1) ولو كان عليه دَيْنٌ، فيمكن أنْ يقال: ¬
القَدْرُ الذي يؤدَّى به الدَّيْنُ لا عبرةَ به في مَنْع الاستحقاق؛ كما لا عبرة به في وجُوبِ نفقة القريب، وكذا في زكاة الفِطْرِ على الوَجْهِ الذي مَرَّ في موضعِهِ، وفي "فتاوى" صاحِب "التهذيب": أَنه لا يُعْطَى من سهم الفقراءِ حتَّى يُصْرَفَ ما عنده إلى الدَّيْنِ (¬1)، قال: "ويجوز أخذ الزكاةِ لِمَنْ مالُهُ عَلَى مسافةِ القَصْر إلَى أنْ يصل إلى ماله، ولو كان له دَيْنٌ مؤجَّلُ عَلَى إنسانٍ، فكذلك يأخُذُ ما يكفيه إلَى حلول الأجلِ، وقد يتردَّد الناظرُ في اشتراطِ كونه عَلَى مسافة القَصْر. وإنَّما اعتبر العجْز عن الكَسْب؛ لأن القدرة على الكَسْب بالحِرْفَة بمثابة المَالِ في حصول الكِفَايَة، وقد رُوِي: "أَنَّ رَجُلَيْنِ أَتَيَا رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- لِيَسْأَلاَنِهِ الصَّدَقَةَ، فَقَالَ: إنْ شِئْتُمَا أعطيتكما ولاحظ فيها الغنيِّ، ولا لذِي مرَّةٍ سَوِيٍّ"؛ وهي القُوَّة، وُيرْوَى: "ولا لِذِي قُوَّةٍ مكتسب (¬2). وعند أبي حنيفةَ: "لا يُعْتبرُ العجْز عن الكَسْب، ويكفي ألا يملك نِصاباً من النقدين ولا ما قيمته نصابٌ، ثم المعتبر العجز عن كسب ما يقع موقعاً من حاجته، لا عَنْ أصل الكَسْب، كما ذكرنا في المال، والمعتَبَرُ الكَسْب بحرْفَةٍ تليق بحاله، ومروءته، دون ما لا يليقُ بحاله، ولو قَدَر على الكَسْب إلاَّ أنه مشغولٌ بتحصيلِ بَعْضِ العلوم الشَّرْعية، ولو أقبلَ عَلَى الكسْب، ولا نقطع عن التحْصِيل، تَحلُّ له الزكاة؛ لأنَّ تحصيلَهَا من فروض الكفايات، وأَما المُعَطَّل المعتكفُ في المدْرَسَةِ، ومن لاَ يتأتَّى منه التحصيلُ، لا يَحِلُّ لهما الزكاةُ مع القُدْرة على الكَسْب (¬3)، ومن أقبل عَلَى نوافِلِ ¬
العباداتِ، وكان الكَسْب يمنعه عَنْها أو عَنِ استغراقِ الوَقْت بها، فلا تَحِلُّ له الصدقة؛ لأن الكسْبَ وقَطْع الطمع عما في يد الناس أولَى من الإقبالِ على النوافِلِ مع الطَّمَع، وإذا لم يجدِ الكَسُوبُ مَنْ يستعملُهُ، حَلَّ له الزكاةُ، وهل يشترط في الفقير الزمانة، والتعفُّف عن السؤال؟ فيه طريقان: أشهرهما: أنه عَلَى قولَيْنِ: القديمُ: نعم؛ واحتجَّ له بأنه إذا سأل، أُعْطِي: وإذا لم يكن زَمِناً، كان له نَوْعٌ كَسب؛ فيكون مسكيناً لا فقيراً، وبأنَّ الفقيرَ مشتقٌّ من كسر الفِقَارِ الذي هو مُهْلِكٌ، وقضية هذا الاشتقاقِ عدَمُ القدْرةِ على الإطْلاَق، والجديدُ لا بل الزَّمِنُ وغير الزمن والسَّائل وغير السائل سواءٌ في الاستحقاق؛ لأن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "أَعْطَى من سأل الصَّدَقَةَ، وهو غير زمن (¬1)، ولأن استحقاقَ الفَقِيرِ بالحاجَةِ، والحاجةُ موجودةٌ، وإن لم يكن زَمِناً، إذا لم تكن له حرفة، أو كانَتْ ضعيفةً، لا وقْعَ لَهَا في حقِّ السائل أيضاً، وبهذا قال المُزَنِيُّ. والثاني: القَطْعُ بعدم اشتراطِهَا، وإليه مال المُعْتَبَرُونَ، وأَولَّوُا ما نقل عن القديم، ومنَعُوا التوجيه المذكورَ. وقوله في الكتاب: "وهو الَّذِي لا يملك شَيْئًا أصْلاً" غيْرُ معمولٍ بظاهره، بل المعنَى: أنه لا يملك شيئاً أو لا يملك إلاَّ مالاً، وقع له بالإضافةِ إلَى حاجته، وكذا قوله: "ولا يَقْدِرُ عَلَى كسب يليق بمروءته" وليعلم بالحاء؛ لما ذكرنا، وقوله: "على الجديد" بالواو؛ للطريقة الأخْرَى. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالمَكْفِيُّ بِنَفَقَةِ أَبيه هَلْ يُعْطَى فِيهِ وَجْهَانِ، وَلاَ يَجُوزُ لِلأَبِ إِعْطَاؤُهُ قَطْعاً، لأنَّه يَدْفعُ النَّفَقَةَ عَنْ نَفسِهِ، وَالمَكْفِيَّةُ بِنَفَقَةِ زَوْجِهَا لاَ تُعْطَى عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ، لأَنَّ نَفَقَتَها كَالعِوَضِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصودُ الفَصْلِ الكلامُ في أَنَّ المكتفِيَ بإنفاق أبيه أو غيره؛ ممَّن يلْزَمُهُم النفقةُ والفقيرة الَّتِي ينفق علَيْهَا الزوجُ الغَنِيُّ (¬2)، هل يعطيانِ من سهم الفقراء؟ ¬
ويقدَّم على المسألتين أنَّه لو وَقَفَ عَلَى فقراء أقاربه أو أوصَى لهم بمالٍ، وكانا في أقاربه، هل يستحقَّانِ سهماً من الوقفِ والوصية؟ وفيه أربعة أوجهٍ، حكاها الشيخ أبو عَلِيٍّ في الشرح: أحدها: وبه قال ابن الحَدَّاد: نَعَمْ؛ لأنهما فقيرانِ في نفسهما، إلاَّ أنَّ هناك من يَمُونُهُمَا. والثاني: ويُحْكَى عن أبي زيد، والخُضَرِيِّ لا؛ لأنهما غنيان بالنَّفقة المستحَقَّة لهما، فصَارَ كمن حَصَلَتْ كفايته في كسبه أَو من ضيعة موقوفة عليه. والثالث: عن الأودني فيما نقله الفقيه أبو يعقوبَ عنه: أنْ مَن في نفقةِ القَرِيبِ يستحِقُّ دون الزوجة، والفرق أنها تستحق النفقة عوضاً، وهي تستقرُّ في ذمَّة الزوج، فتكون غنيةً به، كدَيْنٍ في ذمَّةِ الغَيْرِ حَالٍّ أو مؤَجَّلٍ، يكون صاحبه غنياً به والقريبُ يواسِيهِ القريبُ يوماً يوماً، ولا يستقرُّ له في ذمَّتِهِ شيء، يكون غنيّاً به. والرابع: أنَّ الزوجةَ تستحِقُّ دون مَنْ في نفقة القريب، والفرقُ: أَنَّ القريبَ يلزمُهُ كفايةُ أمْرِ القريب من كُلِّ وجهٍ، حتَّى الدواء وأجرة الطبيب، فاندفَعَتْ حاجاته بالكلِّية، والزوجة ليسَ لها إلاَّ مُقَدَّر، وربما لا يكفيها، فتبقَى محتاجة. إذا تقرَّر ذلك، جئْنَا إلَى الزكاة، فإنْ قُلْنا: لاَ استحقاقَ لَهُما في قدر الوَقْف والوصيَّة، فلا يعطيان من الزكاة؛ لعَدَمِ الحاجة، وهو الأصحُّ عند الشيخ أبي علي وغيره، وإنْ قلنا: إنَّ لهما حقّاً هناك، فهاهنا وجهان: أصحهما: أنَّ الجواب كذلك. والثاني: المنْعُ، وبه قال ابن الحدَّاد، والفَرْق. أنَّ الاستِحقَاق في الوَقْفِ باسْم الفقيرِ، ولا يزولُ اسم الفقير بقِيَام غيره بأمره، والاستحقاق في الزكاة بالحَاجَةِ، ولاَ حاجة مَعَ توجُّه النفقة على الغَيْر، فأشبه المكتسب الَّذي يكتسبُ كل يومٍ قدْرَ كفايتِهِ، حيثُ لا يجوز له الأخْذ، وإن كان معدوداً في الفقراء، ومَنْ قال بالأوَّل، مَنَعَ هَذا، وقال: الاستحقاقَانِ منوطَانِ بالفَقْر، فوجب التسويةُ بين البابين، كما أنَّ الوصيَّة لأبناء السبيل محمولةٌ عَلَى ما يحمل عليه ابن السبيل في آية الزكاة، ثم الوجهانِ في مسألة القَرِيب، فيما إذا أعطاهُ غَيْر من ينفق عليه من سَهْمِ الفقراء والمساكين، ولا كَلاَمَ في أنه يُعْطِيهِ من سائر السهام، وأما المتفق عليه، فلا يعَطيه مِن سَهْمِ الفقراء والمساكين، لا محالة؛ لمعنيين: أحدهما: كونه غنيّاً بتلك النفقة، عَلَى ما ذكرناه. والثاني: أنه بالصَّرْف إليه يجرُّ نفعاً إلَى نفسه، وهو دفع النفقة، عن نفسه وله أن
يعطيَهُ مِنْ سَهْم الغارمينَ، والعاملين، والمكاتِبينَ والغُزَاة، إذا كانوا (¬1) بهذه الصِّفَات (¬2)، وكذا مِنْ سهمُ المُؤَلَّفة إلاَّ أنْ يكون فقيراً؛ فإنَّه حينئذٍ يسقط النفقة عَنْ نَفْسه، ويجوز أنْ يعْطِيَه مِنْ سَهْم أبناء السبيل قَدْرَ مؤنة السَّفَر، دون ما يحتاج إلَيْه سفراً وحَضَراً، فإنَّ هذا القَدْر هو المستحَقُّ عليه، وأما في مسألة الزوْجَةِ، فالوجهان في أنَّ غيْر الزَّوْج، هَلْ يعطيها مِنْ سَهْم الفقراء والمساكين، بجريان في الزوج أيضاً؛ لأنه بالصَّرْف إلَيْها لاَ يَدْفَعِ النفقة عن نَفسِه، بل نفقتها عوضٌ لازمٌ، غنيةً كانت أو فقيرةً، فصار كما لو استأجَرَ فقيراً، يجوز له صَرْفُ الزكاة إليه مع الأجرة، فإنْ منعنا، فلو كانت ناشزةً، ففي "التهذيب" أنه يجوز أنْ يُعْطِيَها؛ لأنَّه لا نفقةَ لها، وجوابُ الشيخ أبي حامد والأكثرين: المنع، لأَنها قادرةٌ عَلَى ترك النُّشُوزْ والعَوْد إلى الطاعة، فأشبهتِ القادِرَ على الاكتساب، ويجوز للزَّوجِ أنْ يعطيَهَا مِنْ سهم المكاتبين والغارمين، قال في "التتمة": "وكذا من سَهْمِ المؤلَّفة". وفي "تعليق الشيخ أبي حامد" أنَّ المرأة لا تكون مِنَ المؤلَّفة، والأول هو المقْبُولُ، ولا تكون المرأةُ عاملةً، ولا تصلُحُ للجهاد، وأما سهْمُ ابنِ السبيل، فإنْ سافرَتْ مع الزوجِ، لم تُعْطَ منه؛ لأنَّها إنْ سافرت بإذْنِهِ، فهي مكفيَّة المؤنة، وإنْ سافرَتْ بغَيْر إذنه، فالنفقة عليه؛ لأنها معه، هكذا ذكروه، ولا تُعْطَى مؤنة السفر؛ لأنها (¬3) عاصيةٌ بالخُرُوج، وإنْ سافرتْ وحْدَها، نُظِرَ: إنْ خرجت بإذْنِهِ، فإنْ أوجبنا نفقتها، فتُعْطَى من سهم ابْنِ السبيل مؤنةَ السَّفَر، وإن لم نوجِبْها، فتعْطَى جميعَ كَفَايَتَهِا، وإن خرجَتْ بغير إذنه، لم تُعْطَ منه؛ لأنها عاصيةٌ، ويجوز أن تُعطَى هذه من سهْمِ ¬
الفقراء والمساكين؛ بخلاف النَّاشِزَة؛ لأنَّها تَقْدِر على العود إلَى يده وطاعته والمسافرة لا تَقْدِر، فإنْ تركَتْ سفرها، وعزمت عَلَى أنْ تعُودَ إلَيه، فتعطَى من سهم ابن السَّبيل، وقوله في الكتاب: "والمكفي بنفقة أبيه، هل يعطَى"، يعني من سهم الفقراء والمساكين، ونصَّ في مسألة الزوجةِ عَلَى أن أظهر الوجهين: المَنْعُ، وفي المسألة الأولَى: "أرسل الوجهين إشارةً إلَى ترتيب الخلافِ في الزوجة على الخلاَفِ في القريب، وأولويَّة المنع فيه؛ لأنَّ نفقتها عوضٌ، عَلَى ما مر، وقَدْ صرَّح بذلك في "الوسيط". قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِي: الْمِسْكِينُ وَهُوَ كُلُّ مَنْ لاَ يَمْلِكُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ وَإِنْ مَلَكَ وَقَدَّرَ عَلَى الكَسْبِ، وَالفَقِيرُ أَشَدُّ حَالاً مِنْهُ (ح م و). قَالَ الرَّافِعِيُّ: الصِّنْفُ الثاني المِسْكِينُ؛ وهو الذي يمْلِكُ من المال ما يَقَعُ موقعاً من حاجَتِهِ، وكفايته، لكنه لا يكْفِيه، كما إذا احْتَاج إلَى عشرة، وهو يملك سبْعةً أو ثمانيةً وفي معناه مَنْ يقدِرُ على كَسْبٍ ما يقع موقعاً، ولا يكفي، ولا فَرْقَ بين أنْ يكونَ ما يمْلِكُه من المال نِصاباً أو أقلَّ أو أكْثَرَ، (¬1) وعن أبي حنيفة: إذا ملك نِصَاباً من الأثمان، لم يُعْطَ شيئاً من الزكاة، وكذا إذا مَلَكَ شيئاً قيمته نِصابٌ فاضلاً عن مسكنه وخادمه. وقال أحمد: "إنْ ملك خمسينَ دْرهماً، لم يُعْطَ شيئاً مِنَ الزَّكَاةِ". واحتجَّ الأصحاب بما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ إِلاَّ لِثَلاثةٍ" (¬2) فذكر رجُلاً أصابته جائحة، فاجتاحَتْ ماله، فحلَّت له الصدقة، حتَّى يصيب سداداً من عَيْشٍ، ومن لم يجدْ ما يكفيه، لم يصب سداداً من عيش، ولا يعتبر في المسكين السُّؤَال، قطع به أكثر الأصْحَاب، ومنْهم: من نَقَل عن القَدِيمِ اعتبارَهُ، ولفظ المزنيِّ في "المختصر" يُمْكِنُ تنزيله على الطَّريقَيْنِ، وإذا عرِف تفسير المسكين والفَقِيرِ، عرف أنَّ الفقير أشدُّ حالاً من المسْكِينِ، وبه قال أحمدُ. وقال أبو حنيفة: "المسكينُ أشدُّ حالاً من الفقير" وعكَسَ التفسيرَ، وبه قال أبو إِسحاق المروزيُّ، واحتج الأصحاب بقوله تعالَى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف- 79] الآيةَ، سمَّى الذين لَهُمُ السفينةُ يعملون في البَحْرِ مساكينَ، فدلَّ على أن المسكين مَنْ يملِكُ شيئاً، وأيضاً: فإنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "اسْتَعَاذَ من الفقر"، وقال: "أحيني ¬
فرع
مسكيناً (¬1) ولِمَنْ قال بالأوَّلِ أن يقول: فسَّرْتم المسكينَ بمَنْ له شيءٌ، يقع موقعاً من كفايته، لا بمُطلَق من يملك شيئاً؛ فلِمَ قلتم: إنَّ السفينة كانت تقع موقعاً من كِفَايَتِهِمْ، وأما الثاني، فكما نقل "أحيني مسكيناً" نقل الفقير، فجرى ونحوه والخلافُ مع أبي حنيفة في الفقير والمسكينِ لا يظهر أثَرُهُ في الزكاة؛ لأنَّه يجوزُ عنده الصَّرْف إلى صنفٍ واحدٍ، ولكنه يظهر فيما إذا أوصَى للفقراء دُونَ المَسَاكِين، أو بالعَكْس، أو نَذَر، أو حَلَفَ أنْ يتصدَّق عَلَى أحدهما، دون الآخر، ويجوز أن يُعْلَمَ قوله في الكتاب: "والفقيرُ أَشَدُّ حالاً منه" مع الحاء والواو بالميم؛ لأنَّ الحكاية عن مالك مثل قول أبي حنيفة. واعْلَمْ: أنَّ المعتبر من قولنا يقع موقعاً من كفايته وحاجته أو لا يقع: المطْعَمُ، والمسْكَنُ، والمَلْبَسُ، وسائرُ مَا لا بُدَّ منه، عَلَى ما يليق بالحالِ، من غير إسرافٍ، ولا تقتير، لنَفْسِ الشخْصِ، ولمن هو في نفقتِهِ. " فَرْعٌ": سُئِلَ صاحبُ الكتاب عن القَوِيِّ من أهل البيوتات الَّذين لم تَجْرِ عادتهم بالتكسُّب بالبدن، هل له أنْ يأخذ من الزكاة فأجاب أنْ: نعم، وهو مستمرٌّ عَلَى ما سبق أنَّ المعتبرَ الكسْبُ بحرفة تليقُ بحاله (¬2)، وكما لا يعْتدُّ بالحرفة التي لا تلِيقُ بحاله، لا يعتد بأصل الحرفة في حقِّ من لا يليقُ به. ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثُ: العَامِلُ عَلَى الزَّكَاةِ كَالسَّاعِي وَالكَاتِبِ والقَسَّامِ وَالحَاشِرِ وَالعرِّيفِ، أَمَّا الإمَامُ وَالقَاضِي فَرِزقُهُم مِنْ خُمُسِ الخُمُسِ، لأَنَّ عَمَلَهُم عَامٌّ، وَأُجْرَةُ الكَيَّالِ عَلَى المَالِكِ فِي أَحَدِ الوَجْهَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الصِّنْفُ الثالثُ العامِلُ (¬1) على الزكاة، ويجب عَلَى الإمام بعْثُ السُّعَاة؛ لأخذ الصدقات، كما فعله النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- والخلفاءُ بعده ايصالاً للحَقِّ إِلى المستحِقّ؛ فإنَّ من أرباب الأموال مَنْ لا يعرِفْ الواجب ومصْرِفَهُ، ومنهم من يَبْخَلُ، أو يتوانى؛ فيضيع المال ومن العاملين على الزكاة سوى الساعي (¬2) فالكاتب والقسام والحاشر الَّذي يجمع أربابَ الأموال والعَرِّيف (¬3)، وهو كالنَّقِيب للقبيلةِ، والحاسب وحافظ المال، قال المسعوديُّ: وكذا الجنديّ، فيسهم من الزكاةِ لهؤلاءِ ولا حق فيها للإمامِ، ولا لوالي الإقليم، ولا للقاضي، بل رزقهم، إذا لم يتَطوَّعوا من خُمُس الخُمُس المرصَدِ للمصالح العامة؛ لأنَّ عملهم عامٌّ، وقد روي أن ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنه- "شَرِبَ لَبَنَاً، فَأَعْجَبَهُ، فَأُخْبِرَ أنَّهُ من نَعَمِ الصَّدَقَةِ، فأدْخَلَ أُصْبُعَهُ في حَلْقِهِ وَاسْتَقَاهُ (¬4). وفي أجرة الكَيَّالِ والوَزَّان، وعادِّ الغَنَم وجهان: ¬
قال أبو إسحاق: إنها مِنْ سَهْم العاملين؛ لأنهم من العامِلِينَ ولأنَّا لو ألزمناها المَالِك، لزدْنا في قَدْر الواجِب، والأَصحُّ، وبه قال ابن أبي هريرة: أنَّهَا على المالك؛ لأن الكيل والوزن والعَدَّ؛ لتوفية الواجب، والتوفية على المَالِكِ، فصار كأجرةِ الكَيَّال والوَزَّان في البيع؛ فإنها على البائع (¬1)؛ لأنَّ عليه التوفيةَ، وإذا لم تَقَعِ الكفايةُ بعامِلٍ واحدٍ من ساعٍ أو كاتبٍ أو غيرهما، زِيدَ بحَسَب الحَاجَة. قَالَ الغَزَالِيُّ: الرَّابعُ: المُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، وَلاَ يَجُوزُ أنْ يُعْطَى هَذَا السَّهْمُ لِكَافِرٍ تَأَلُّفاً عَلَى الإِسْلاَمِ إِذْ لاَ صَدَقَةِ لِكَافِرٍ، أمَّا المُسْلِمُ إِذَا كَانَ ضَعِيفَ النِّيَّةِ في الإِسْلاَمِ فَهَلْ يُتَألَّفُ تَقْرِيراً لَهُ عَلَيهِ بِإعْطَاءِ مَالٍ؟ فِيهِ قوْلاَنِ، وَكَذا مَنْ لَهُ نُظَرَاءُ في الكُفْرِ يُنْتَظَرُ في إِعْطَائِهِ إِسْلامَهُم أَحَدُ القَوْلَيْنِ أنَّهُمْ لاَ يُعْطَوْنَ لاِسْتِغْنَاءِ الإِسْلاَمِ عَنِ التَّألُّفِ، وَالثَّانِي: نَعَمْ تَأَسِّياً بِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلاَنِ: (أَحَدُهُمَا:) أنَّهُ يُعْطَى مِنَ المَصَالِحِ (وَالثَّانِي:) مِنَ الزَّكَاةِ إِذْ هُوَ المُرَادُ بِالمُؤَلَّفَةِ، وَأَمَّا مَنْ يُتَأَلَّفُ عَلَى الجِهَادِ مَعَ الكُفَّارِ أَوْ مَعَ مَانِعِي الزَّكَاةِ إِنْ كَانَ تَأَلُّفُهُمْ بِمَالٍ أَهْوَنَ عَلَى الإمَامِ مِنْ بَعْثِ جَيْشٍ لِقُرْبِهِمْ مِنَ المَقْصُودِينَ بِالْقِتَالِ فَهَؤلاَءِ يُعْطَوْنَ قَطْعَاً، وَفِي مَحَلِّهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، وَقِيْلَ: قَوْلاَنِ: (أَحَدُهَا): أنَّهُ مِنَ المَصَالِحِ (والثَّانِي:) مِنْ سَهْم المُؤلَّفَةِ (والثَّالِثُ:) مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللهِ فَإِنَّهُ تَأَلُّفٌ عَلَيَ الْجِهَادِ (وَالرَّابعُ): (و) إِنْ رَأي الإِمامُ أَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ سَهْمِ المُؤَلَّفَةِ وَسَهْمِ سَبِيلِ اللهِ فَعَلَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الصنف الرابع المؤلَّفة، وهم ضربان كفارٌ ومسلمون: أما الضرب الأول: فهم الذين يميلون إلى الإِسلام، فيرغبون فيه بإعطاء مال، والذين نخاف شرهم، فيتألفون لدفع الشر، وهؤلاء لا يُعْطَوْنَ شيئاً من الزكاة؛ إذ لا حق فيها لكافر، واحتج له بأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال لمعاذ -رضي الله عنه- "أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرائِهِمْ" (¬2). وقال أبو حنيفة: "يجوز دفع صدقة الفطر إلى الكافر"؛ واعلم كذلك قوله في الكتاب: "إِذْ لاَ صَدَقَةَ لِكَافِرٍ"، وأما مُنْ غير الزكاة، فقولان: ¬
أحدهما: يُعْطَوْنَ من خمس الخمس؛ لأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُعْطِيهِمْ (¬1)؛ ولنا فيه أسوة حسنة، وقد تدعوا الحاجة إليه. وأصحهما: المنع؛ لأن الله تعالى أعزَّ الإِسلام وأهله، وأغنى عن التألُّف، وقد رُوِيَ أنَّ مشركًا، جاء إلى عُمَرَ -رضي الله عنه- يلتمس مالاً، فلم يعط، وقال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف- 29] وأيضاً، فخمس الخمس كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل فيه ما شاء؛ بخلاف من بعده، وأشار بعضهم إلى رفع الخلاف، وقال: لا يُعْطَوْنَ إِلاَّ أنْ تنزل بالمسلمين نازلة، أو تمس إليه الحاجة. الضرب الثاني: مؤلَّفة المسلمين، وهم أصناف: صنف دخلوا في الإِسلام، ونيتهم ضعيفة، فيتألفون ليثبتوا، وآخرون لهم شرف في قومهم يَبْتَغِي بتألفهم رغبةُ نظرائهم في الإِسلام، ففي هذين الصنفين قولان: أحدهما: أنهما يعطيان تأسِّياً برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه أعطى بالمعنى الأول عُيَيْنَة بن حُصَنْ، والأقرع بن حابِسٍ، وأبا سفيان بن حَرْب، وصفوانَ بْنَ أمية (¬2)، وبالمعنى الثاني عديَّ بْنَ حاتم، والزِّبْرِقَانَ بْنَ بدر (¬3). ¬
والثاني: المنع لما ذكرنا من استغناء الإِسلام عن التألُّف، ولم ينقل عن عمر، ولا عن عثمان، ولا عن علي -رضي الله عنهم- الإعطاءُ بذلك، فعلى الأوَّل من أين يُعْطَوْنَ، فيه قولان: أحدهما: من سهم المصالح؛ لأنه من مصالح المسلمين. وثانيهما: من الزكاة؛ وعليه يحمل قوله تعالَى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة- 60] ورُوِيَ أنَّ أبا بكر -رضي الله عنه- أعطى عديّاً، كما أعطاه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- (¬1). قال الأئمة: والغالب على القلب أنه كان من الزكاة. وصنف يبغي بتألفهم أن يجاهدوا من يليهم مِنَ الكفارِ، ومِنْ مانِعِي الزكاة، ويأخذوا زكاتهم، فهؤلاء يُعْطَوْنَ لا محالة؛ كيلا يحتاج الإمام إلى بعث جيش إليهم، إذا ثقلت المُؤْنة، وبَعُدَتِ الشُّقَّة، ومن أين يعطون؟ فيه أربعة أقوال: وقال صاحب الكتاب وجماعةٌ: أربعة أوجه: أحدها: من خمس الخمس سهم المصالح؛ لأنه من سهم مصالح الإِسلام. والثاني: من سهم المؤلَّفة؛ لأن المقصود تألَّفُهم واستمالتهم. والثالث: من سهم سبيل الله من الزكاة؛ لأنه تألُّف على الجهاد. ¬
والرابع: قال الشافعيُّ -رضي الله عنه-: يُعْطَوْنَ من سهم المؤلفة وسهْمِ سبيل الله، والأصحابُ فرقتانِ في معناه: فرقةٌ قالت: أراد به الجمع بين السهمين، وذهب إلى أن الواحد يجوز له أنْ يجمع بين سهمين. وفرقة منعت من الجمع، واختلف هؤلاء، فقيل: المراد؛ أنه إن كان التألُّف لقتال الكفار، يُعْطَون من سهم سبيل الله، وإنْ كان التألف لقتال مانعي الزكاة، يعطون من سهم المؤلفة؛ وعلى هذا، فليس في المسألة إلاَّ الأقوال الثلاثة السابقة. وقال آخرون: يتخير الإمام، إنْ شاء أعطاهم من هذا السهم، وإنْ شاء أعطاهم من هذا السهم، وربما قيل: إن شاء جمع له بين السهمَيْنِ، وهذا ما أورده صاحب الكتاب، وفي المسألة وجه آخر، وهو: أنَّ المتألَّف لقتال مانعي الزكاة وجمعها يُعْطَى من سهم العاملين، وعن أبي حنيفةَ ومالك: أنه لا شيء للمؤلَّفة اليومَ وأنَّ حكمهم قد نسخ. فإن بحثت عن الأظهر في إعطاء الصنفين الأولين من مؤلفة المسلمين، وعن الأظهر من الخلاف في أنَّهما من أين يعطيان إِنْ أُعْطِيَا، وعن الأظهر من الخلاف في أنَّ الصنفين الآخرين منهم من أين يعطَيَان. فالجواب: أنَّ الأكثرين أرسلوا ذكر الخلاف في هذه الصور، وسكتوا عن الترجيح، ورأيت الشيخ أبا حامد في شرذمة قالوا: "الأصحُّ مِنَ القولين في الصنفين الأولين؛ أنهما لا يعطيان شيئاً، لكن قياس من صار إليه ألا يعطي الصنفين الآخرين من الزكاة؛ لأنَّ الأولين أحق باسم المؤلفة وسهمها من الآخرين لأن في الآخرين معنى الغزاة والعاملين، ولذلك اختلف الأقوال في أنهم من أين يعطون؟ وحينئذٍ يسقط سهم المؤلفة بالكلية، وقد أطلق القولَ به من تأخِّري الأصحاب القاضي الرويانيُّ وجماعة، إلاَّ أنَّ الموافق لظاهر الآية، ثم لسياق الشافعيِّ -رضي الله عنه- والأصحاب -رحمهم الله- إثباتُ سهْمِ المؤلَّفة، وأنه يستحقه الصنفان الأولان، وأنه يجوز صرفه إلى الآخرين أيضاً، وبه أجاب أقضى القضاة الماورديُّ في الأحكام السلطانية (¬1)، وقوله في الكتاب: "وَكَذَا مَنْ لَهُ نُظَرَاءُ في الكُفْرِ" مطلقٌ يشمل الأشراف وغيرهم، ولكلٍّ نظرٌ؛ وسائر الأصحاب نقلوا القولين في الأشراف الذين لهم نظراء من الكفر، وقيدوا، فيجوز أنْ يقال: أراد ما أرادوه، ويجوز أن يُقَالَ: لا فرق إلا أنَّ الأشراف هم الدين يبحث عن حالهم، ويتحدث بأخبارهم، فلذلك صوروا الكلام فيهم وغيرهم في معناه، إذا فرض بلوغ خبرهم إلى أمثالهم وتوقُّع إسلامهم. ¬
وقوله: "والرابع إن رأَي الإمَامُ" يجوز إعلامه بالواو؛ لقول من منع من الجمع، وأول النص قد بيناه. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الخَامِسُ: الرِّقَابُ فَيُصْرَفُ ثَمَنُ الصَّدَقَاتِ إِلَى المُكَاتِبِينَ (م) العَاجِزِينَ عَنِ النُّجُومِ، وَطَرِيقُهُ الصَّرْفُ إِلَى السَّيِّدِ بِإذْنِ المُكَاتَبِ، وَالصَّرْفُ إلى المُكَاتَبِ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ جَائِزٌ أَيْضاً، وَيجُوزُ إِعْطَاؤُهُ قَبْلَ حُلُولِ النَّجْمِ عَلَى أَظْهَر الوَجْهَيْنِ، فَإِنْ أَعْطَينَاهُ فَاسْتَغنَى عَنْهُ بِتَبَرُّعِ السَّيِّدِ بِإِعْتَاقِهِ أَوْ بِتَبَرُّعِ غَيْرِهِ اسْتُرِدَّ عَلَى الصَّحِيحِ (و)، إِلاَّ إِذَا تَلِفَ قَبلَ العِتْقِ فَلاَ يُغَرَّمُ (و)، وَإِنْ صُرِفَ إِلَى سَيَّدِهِ فَرَدَّهُ إلى الرِّقِّ لِعَجْزِهِ بِبَقِيَّةِ النُّجُومِ يُسْتَرَدُّ (و). قَالَ الرَّافِعِيُّ: الصنف الخامس: الرِّقَاب، والمرادُ المكاتَبُون (¬1)، فيدفع إليهم ما يعينهم على العتق. وقال مالك: المرادُ أنه يشتري عبيداً، فيعتقون. وعن أحمد: مثله، وعنه تجويز الطريقتين معاً. واحتج أصحابنا بأن قولَهُ تعالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة- 60] كقوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة- 60] وهناك يدفع المال إلى المجاهدين، فليدفع هاهنا إلى الرقاب، ويشترط ألا يكون في يد المكاتَبِ ما يفي بنجومه، فإن كان، لم يُعْط؛ لأنه لا حاجة إليه، وليس له أنْ يَصْرِف زكاته إلىَ مكاتَب نفسه؛ لعودَ الفائدة إليه، وفي "شرح مُختَصَرِ الجُوَيْنِيِّ" أن ابن خيران جوَّزه، ولا بد وأن تكون الكتابة صحيحة، فأما الفاسدة فلا استحقاق بها. وقوله: "فَيَصْرَفُ ثَمَنُ الصَّدَقَاتِ" مبني على ما إذا وجد جميع الأصناف، وإلاَّ فقد يختلف القدر، ثم ذكر مسائل هي من شرط الباب الثاني؛ لأنها تتعلَّق بكيفية الاستحقاق: إحداها: الأحوَط الصرف إلى السيد؛ بإذن المكاتَبِ، ولا يجوز بغير إذن المكاتَبِ لأن الاستحقاق له، ولكن يسقط عن الكاتَب بقدر المصروف من النجوم؛ لأنَّ من أدى دَيْنَ غيره بغير إذنه، برئت ذمته ويجوز الصرْفَ إلى المكاتَبِ بغير إذن السيد. الثانية: في جواز الصرف قبل حلول النجم (¬2) وجهان: ¬
وجه المنع: أنه لا مطالبة له في الحال. والأظهر: الجواز؛ لأن التعجيل متيسر في الحال، وربما يتعذر عليه الأداء عند المحل. الثالثة: إذا استغنى المكاتَبُ عما أعطيناه، وعَتَقَ بتبرُّع السيد بإعتاقه أو بإبرائه عن النجوم، أو بأنْ يتبرع غيره بأداء النجوم عنه، أو بأن أدى النجوم من مال آخر، ومالُ الزكاة باقٍ في يده، ففي استرداده وجهان، ويقال: قولان: أحدهما: لا يسترد؛ كما لو استغنى الفقيرُ بالمدفوع إليه. والثاني: يسترد؛ لأن المقصود حصولُ العتق بالمال المدفوع إليه، ولم يحصل، وهذا أظهر، ومنهم من قطع به، لكن ادعى في "التتمة" أنَّ الظاهرَ الأول، ويجري الخلاف في الغارم، إذا استغنى عما أخذ بإبراء ونحوه، وإن كان قد تلف المال في يده، نُظِرَ إنْ تلف قبل أنْ يعتق، فالمذكور في الكتاب، وفي "التهذيب": "أنه لا يُغَرَّم". قال في "الوسيط": "وكذا لو أَتْلَفَهُ" وفي "أمالي أبِي الفَرَجِ السرخسيِّ" وجه آخر: "أنه يغرَّم"، وإنْ تلف بعد العتق، فإنه يغرَّم، وإن عجز المكاَتب، نُظِرَ إنْ كان المال باقياً في يده، فيسترد؛ لأنَّ العتق لم يحصلْ، ولم يصرف المأخوذ إلى الجهة المأمور بها، وإن كان تألفاً، ففي الغرم وجهان: أصحهما: الوجوب، وعلى هذا ففي "الأمالي" أن الضمان يتعلَّق بذمته لا برقبته؛ لأن المال حصل عنده برضا صاحبه، وذكر بعضهم أنه يتعلق (¬1) برقبته، وإن كان قد دفعه إلى السيد وعجز ببقية النجوم، ففي الاسترداد من السيد مثل الخلاف الذي سبق في الاسترداد من المكاتب، وفي الغرم إن كان تالِفاً عنده الخلافْ السابقُ أيضاً، ولو نقل السيد الملك في المأخوذ إلَى غيره، لم يسترد منه، لكن يغرمه السيد على قولنا (¬2) بتغريمه. وقوله: في الكتاب: "استردَّ على الصحيح" يجوز أن يريد من الوجهين أو القولَيْن، ويجوز أن يريد من الطريقتين؛ لما ذكرنا أنه قطع بالوجه الثاني قاطعونَ، والطريقتان مذكورتانِ في "الوسيط". وقوله: "فلا يغرَّم" مُعْلَم بالواو. وقوله: "يسترد" في المسألة الأخيرة كذلك؛ لأن الخلاَفَ مطَّرد، وصاحب الكتاب لم يتعرَّض للخلاف فيه، مع تعرضه فيما إذا استغنَى عنه بتبرُّع السيد ونحوه كأنه ¬
فرع
رأى الاسترداد فيها أظهر، وذكر في "التهذيب" الخلافَ فيه، ولم يذكره في صورة بقاء المال في يد المكاتب، كأنه رأى الاسترداد في تلك الصورة أظهر، ولكلٍّ وجه؛ فوجه ما يقتضيه الكتاب: أنه إذا لم يحصل العتقُ، لم يستحق العبد ولا السيد المأخوذَ؛ إذ لا تحل لهما الزكاة. ووجه ما يقتضيه "التَّهْذِيب": أنَّ المكاتِبَ صرف الزكاةَ هاهنا إلى من أمر بصرفه إليه، وفي تلك الصورة بخلافه. فرع: للمكاتب أنْ يتجر بما أخذه طلباً للزيادة، وإيفاء تمام النجوم، كذا حكاه صاحب "الإِفْصَاح" وآخرون، والغارم كالمكاتب. آخَرُ: نقل بعض أصحاب الإمام أنَّ المكاتب يتخير، إن شاء، استنفق ما أخذه، وأدى النجوم من كسبه، ويجب أن يكون الغارم كالمكاتب (¬1). قَالَ الْغَزَالِيُّ: السَّادِس: الغَارِمُ وَالدَّيُونُ ثَلاَثةُ: دَيْنٌ لَزِمَهُ بِسَبَبِ نَفْسِهِ فَيَقْضَى مِنَ الصَّدَقَاتِ بِشَرْطِ أن يَكُونَ مَعْسِراً (و) وسَبَبُ الاَسْتِقْرَاضُ مُبَاحاً، فَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةَ وَهُوَ مُصِرُّ لاَ يُعْطَى، وَإِنْ كَانَ تَائِبَاً أُعْطِيَ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ (الثَّانِي): مَا لَزِمَ بِسَبَبِ حَمَّالَةِ تَبَرُّعِ بِهَا تَطِفئَتهُ لَنَائِرَةِ فِتْنَة فَيُقْضَى دَيْنُهُ وَإِنْ كَانَ مُوسِرَاً (ح) إِلاَّ إِذَا كَانَ غَنِيّاً بِالنَّقْدِ فَفِيهِ وَجْهَانِ (الثَّالِثُ) دَيْنُ الضَّامِنِ فَإِنْ كَانَا مُعْسِرَينِ أَعْنِي الأَصِيلَ وَالكَفِيلَ قُضِيَ، وَإِنْ كَانَا موسِرَينِ أَوْ كَانَ المِضْمُونُ مُوسِراً فلاَ يُقْضَى لأَنَّ فَائِدَتَهُ تَرْجِعُ إلى الأَصِيلِ، وَإِنْ كَانَ الأَصِيلُ مُعْسِراً وَالكَفِيلُ موسِراً فَوَجْهَانِ: (أَحَدَهُمَا): نَعَمْ كَالحَمَّالَةِ (وَالثَّانِي): لاَ إِذْ صَرْفُهُ إلى الأَصِيلِ مُمْكِنٌ، وَبِهِ يَحْصُلُ بَرَاءَةُ الضَّامِنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الصنف السادس: الغارِمُونَ، والديون ثلاثة؛ لأنه: إما أنْ يستدين لمصلحة نفسه، أو لمصلحة غيره، ومصلحة الغير: إما كُلِّية؛ كما إذا استدان تَطْفِئَةً لثائرة فتنة، أو جُزْئِيَّة؛ كما إذا اسْتَدان دَيْناً عن غيره. الأول: دَيْن لزمه لمصلحة نفسه، فيعطى من الزكاة ما يقضي به؛ بشروط: أحدها: أنْ يكون به حاجة إلى قضاء ذلك الدين، فإنْ وجد ما يقضيه به؛ من نقد ¬
أو عرض، فقولان: القديم؛ أنه يقضي؛ لعموم الآية، وأيضاً، فقد روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تَحِلُّ الصَّدقَةِ إِلاَّ لِخَمْسَةٍ" (¬1) وذكر منهم الغارم، وأيضاً: فالغارم لإصلاحِ ذات البين يعطَى مع الغني، فكذلك هاهنا، والأصح المنع؛ لأنه يأخذ لحاجته إلينا، فاعتبر فقره كالمكاتب وابن السبيل، ويخالف الغارم لإصلاح ذات البين، فإنه يأخذ لحاجتنا إليه؛ لتطفئة الفتنة؛ وعلى هذا فلو وجد ما يتهضي به بعضَ الدين، لم يعط إلاَّ ما يقضي به الباقي، ولو لم يملك شيئاً إلا أنه كسوب يقدر على قضاء دينه من كسبه، فوجهان: أحدهما: لا يُعْطَى؛ تنزيلاً للقدرة على المكسب منزلةَ ملْكِ المال؛ كما في سَهْم الفقراء والمساكين. وأشبههما: أنه يعطَى؛ بخلاف الفقير والمسكين؛ لأن حاجتهما تتحقَّق يوماً فيوماً، والكسوب يحصل في كل يوم ما يكفيه، وهاهنا الحاجة حاصلة في الحال؛ لثبوت الدَّيْن في ذمته وإنما يقدر على اكتساب ما يقضي به الدَّين بالتدريج، ويجري الوجهان في المكاتب، إذا لم يملك شيئاً، لكنه كسوب، ومن المهمِّ البحثُ عن معنى حاجته إلى قضاء ذلك الدَّين، وعبارة أكثرهم تقتضي كونه فقيراً لا يملك شيئاً، وربما صرحوا به، وفي بعض شروح "المفتاحِ": أنه لا يعتبر المسكن والملبس والفراش والآنية، وكذا الخادم والمركب، إذا اقتضاهما حاله، بل يقضي دينه، وإن ملكها، ويقرب منه قولُ بعْض المتأخِّرين؛ أنا لا نعتبر الفقر والمسكنه هاهنا، بل لو ملك قدر كفايته، ولو قضى دينه، لنقص ماله عما يكفيه فيقضي من دينه قدر ما ينقص عن الكفاية، والمقصودُ أنه يترك معه ما يكفيه ولا يدخل في الإِعْسَار، وهذا أقرب، والله أعلم. والثاني: أن يكون دَيْنه في طاعة، كسفر حجٍّ أو جهادٍ، أو في مباح؛ كما يستقرضه للإنفاق على نفسه وعياله، وكخسرانٍ يلحقه في معاملة؛ أما إذا استقرض في معصية؛ كثمن خمر، والإسرافِ في الإنفاق، فلا يعطَى من سهم الغارمين على المشهور (¬2). وفيه وجه غريبٌ رواه الحَنَّاطيُّ، وهذا إذا كان مصرّاً على المعصية، فإن تاب، فوجهان معروفان: أصحهما: عند ابن الصباغ وصاحب "التهذيب"، وبه قال ابن أبي هريرة: "أنه لا ¬
يُعْطَى؛ لأنه استدان في معصية، فلا يؤمن أنْ يعود، ويتخذ التربة ذريعة". والثاني: يعطى، كلما لو خرج في معصية، ثم أراد الرجوع يعطَى من سهم ابن السبيل، وبهذا قال أبو إِسحاق، وهو الأصح عند أبي خلف السلميِّ، والقاضي الروياني، وهو الجواب في "الإفصاح" (¬1) ولم يتعرَّضوا هاهنا للاستبراء ومضِّي مدةٍ [بعد تَوْبَةٍ] (¬2) يظهر فيها صلاح الحال، إلاَّ أنَّ الرُّويانيَّ لما ذكر أنه أصح الوجهين، قال: هذا إذا غلب على الظنِّ صدْقُه في توبته، فيمكن أنْ يحمل عليه. والثالث: وهو غير مذكور في الكتاب: أن يكون الدَّيْن (¬3) حالاً، فإن كان مؤجَّلاً، فعلى وجهين؛ لأنه واجب في الحال، لكن لا مطالبة، وهما كالوجهين في النجوم، إذا لم تَحُلْ بعد، وقد ترتب الخلاف في الغارم على الخلاف في المكاتَبِ، ثم تارةً يجعل الغارم أولَى بأنْ يعطَى؛ لأن ما عليه مستقرٌّ، وما على المكاتب متزلزلٌ، وتارةً يجعل المكاتب أولَى بأن يعطى؛ لأن له التعجيلَ لَغَرَضِ الحرية، وفضل بعضهم، فقال: "إن كان الأجلُ يحل في تلك السنة، فيعطى وإلاَّ فلا يعطَى من صدقات تلك السنة" (¬4). الدَّيْن الثاني: ما استدانه لإصلاح ذات البين (¬5)، وذلك بأن يخاف شرّاً وفتنةً بين شخصَيْن أو قبيلتين، فيستدين طلباً للإصلاح، وإسكان الثائرة؛ فينظر إن كان ذلك في دمٍ تَشَاجَرَ فيه قبيلتان، ولم يظهر القاتلُ، فتحمل طالبُ الصلاح الدية، فيقضي دينه من سهم الغارمين، إن كان فقيراً، وكذا لو كان غنيّاً بالعقار؛ لأن بيع العقار يَعْسُر، وقد يهتك المروءة، فلو أحوجنا إليه، لامتنع الناس من هذه المكرمة، ولو كان غنيّاً بأحد النَّقْدَيْن، فكذلك الجواب على أصحِّ الوجهين؛ لعموم ما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلاَّ لِخَمْسةٍ؛ لِغَازٍ في سَبِيلِ اللهِ أَوْ لِعَامِل عَلَيْهَا، أوْ لِغارِم، أوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أوْ لِرَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، فَأَهدى الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ" (¬6). ¬
والثاني: المنع؛ لأن النقدين معدان للإخراج، وليس في صرفهما إلَى قضاء الدين ما يحتشم منه ويهتك المروءة. ولو كان غنيّاً بالعروض، فالمشهور أنه كالغني بالعقار، ولفظ الكتاب يوافقه، وفي "أمالي" أبي الفرج السرخسيِّ: "إلحاقه بالغنيِّ بالنقد وطرد الوجهَيْن فيه" ولو كان الشرُّ متوقَّعاً في مال، فتحمل قيمة المتلف، ففي قضاء دينه مع الغنَى وجهان: أصحهما: القضاء؛ لما فيه من المصلحة الكليَّة. والثاني: المنع؛ لأن فتنة الدم أشدُّ، وبنى صاحب "التتمة" الوجهَيْن عَلَى أنَّ من قصد مال إنسان، هل يباح له الدفْعُ بالقتل؟ إنْ قُلْنا: نعم، جعلْنا المال كالدَّمِ. الدين الثالث: ما التزمه بالضَّمان من غيره، فله أحوال: إحداها: إذا كان الضامن والمضمون عنه معسَريْن، فيعطى الضامن ما يقضي به الدَّين. قال المتولي: "ويجوز صرفه إلى المضمون عنه"، وهو أولَى؛ لأن الضامن فرعه، وأيضاً فإنَّ الضامن إذا أخذ وقضى الدَّين بالمأخوذ، ثم رجع إلى المضمون عنه، احتاج الإمام إلى أنْ يعْطِيَه ثانياً، وهذا ممنوعٌ، بل إذا أعطيناه، فلا يرجع وإنما يرجع الضامن إذا غرم من عنده. والثانية: إذا كان موسرَيْنِ، فلا يعطى؛ لأنه إذا غرم، رجع على الأصيل، فلا حاجة إلى أنْ نعطيه من عندنا، وإن ضمن بغير إذنه، فوجهان (¬1)؛ على ما سنذكر في الحالة الرابعة. والثالثة: إذا كان المضمون عنه موسراً، والضامن معسراً، فإن ضمن بإذنه لم يعطَ؛ فإنه إذا غرم، رجع على المضمون عنه، وإن ضمن بغير إذنه أُعْطِيَ. والرابعة: إذا كان المضمون عنه معسراً، والضامن موسراً، فيجوز أن يعطى المضمون عنه، وفي الضامن وجهان. قال في "التهذيب": لأنه دَيْنٌ لزم بسبب الغير، فهل يقضي به مع اليسار؟ فيه وجهان، وألحقهما صاحب "التتمة" بالوجهين في أنَّ من تحمل بدل مُتْلَف من الأموال، هل يعطى من الزكاة؟ فأطلق صاحب "التهذيب" (¬2) وقيد صاحب التتمة، فإن أراد "صاحب التهذيب" بالمطْلَق المقيَّد، فهما شيء واحد، وإلاَّ ففي كل منهما كلام. ¬
أما الأول: فلأن دين من تحمل لإصلاح ذات البين مقضيٌّ مع اليسار لا محالة؛ إنما الخلاف في أنه هل يقضي مع اليسار بكل نوع من المال؟ وهاهنا لا تفصيل. وأما الثاني: فلأن ذلك الخلاف فيمن تحمل لإصلاح ذاتِ البين، وفيه مصلحة عامَّة، بخلافه، فلا يحسُنُ الإلْحَاق. ووُجِّه أحد الوجهين في الكتاب: بالقياس على الحَمَّالة؛ لأنه محتمل لمصلحة الغير. والثاني: بأن الصرف إلى الأصل ممكنٌ، وإذا برئ الأصل، برئ الكفيل؛ فلا حاجة إلى الصرف إلى الضامن، وقد ظهر الفرق بينه وبين الحَمَّالة، وهذا أشبه، وبه أجاب الحَنَّاطِيُّ وغيره وقوله في الكتاب: "دَيْنٌ لزمه بسبب نفسه فيُقْضى"، وقوله: "فيقضَى دَينُهُ" في هذه اللفظة المتكررة تنبيه على أن الغارم، إنما يعطَى عند بقاء الدَّيْن، فأما إذا أداه من ماله، فلا يقضى؛ لأنه لم يبق غارماً، وبهذا يعرف أنه في الابتداء لو بذل ماله فيه، لم يعط بخلاف ما لو اسْتَدَان، وربما أوهم نظم "التهذيب" خلافه؛ لأنه قال: إذا كان دَينُه لإصلاح ذاتِ البين؛ بأن كانت بين فتْنَتَيْن ثائرةٌ؛ فاستدان مالاً في تسكينها، أو تحمَّل مالاً لتسكينها، ثم ساق الكلام، والمعتمد الأول. وقوله: "بسبب حَمَّالة الحَمَّالة" بالفتح: ما يتحمَّل عن القوم من دية أو غرامة. وقوله: "وإن كان موسراً" مُعْلَمٌ بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة لا تصرف الصدقة إلَى غنيٍّ أصلاً. فرع: ألحق أبو الفرج السرخسيُّ ما استدان لعمارة المسجد وقِرَي الضيف حكْمَ ما استدان للنفقة وسائر مصالح نفسه، وحكى الرويانيُّ في "الحِلْيَة" عن بعض الأصحاب: أنه يعطَى من الصدقات مع الغَنَى بالعقار، ولا يعطَى له مَعَ الغنَى بالنقد، قال: "وهذا هو الاخْتِيَار". واعلم: أنَّ القول، بأنه يُقْضَى مع الغنَى بالعقار، ولا يقضَى مع الغنى بالنقد، يوجب انتهاض هذا الدَّيْن مرتبةً متوسطةً بين ما استدانه لنفسه، وبين ما استدانه لإصْلاح ذات البين؛ لمَا سبق أن الظاهر في النوع الأوَّل؛ أنه لا يقضي مع الغناء بالعقَارِ، وفي الثاني؛ أنه يقضي مع الغناء بالنقد. آخَرُ: يجوز صرف سهم الغارمين إلى المديون بغير إذن ربِّ الدين، ولا يجوز صرفه إلى رب الدين بغير إذن المديون، لكن يسقط من الدين قدْرُ المصروف على ما مَرَّ في سهم الرقاب، ويجوز صرفه إليه بإذن المديون، وهو أولَى إلا إذا لم يكن وافياً بالدَّيْن، وأراد المديون أنَّ يتَّجِرَ فيه.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: السَّابعُ: سَهْمُ سَبِيلِ اللهِ وَالمُرَادُ بِهِ المُتَطَوِّعَةُ مِنَ الغُزَاةِ الَّذينَ لاَ يَأْخُذُونَ مِنَ الفَيْءِ، فأَمَّا مَنْ يَأْخُذُ مِنَ الفَيْءِ وَاسْمُهُ فِي الدِّيوَانِ فَلاَ يُصْرَفُ إِلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَالغَازِي يُعْطَى وَإِنْ كَانَ غَنِياً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الصِّنْف السابع: الغُزَاةُ، وهمْ ضربان: ضربٌ يغزون، إذا نشطوا، وهم مشتغلون بالحِرَفِ والصناعات، وسمَّاهم الشافعيُّ -رضي الله عنه- الأعرابَ؛ لأن أكثر هذا الصنف عَلَى عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا من الأَعْراب وضرب رتَّبوا أنفسهم للجهاد، وتجرَّدوا له، ويسمَّوْن المرابطين، وهم المرتزقة الدين يأخذون من الفيء، والمراد من "سَبِيلِ اللهِ" في آية الصدقة الضَّرْبُ الأول؛ وهم المتطوِّعة الذين لا يأخذون من الفيء (¬1)، ولا يصرف شيء من الصدقات إِلى المرتزقة؛ كما لا يصرف شيء من الفيء إلى المتطوِّعة، وعلى ذلك جرى الأمر في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنْ لم يكن مع الإمام شيء للمرتزقة (¬2)، واحتاج المسلمون إلى من يكفيهم شرَّ الكفار، فهل يعطى ¬
المرتزقة من الزكاة؟ فيه قولان: أحدهما: نعم؛ من سهم سبيل الله؛ لأنَّهم غزاة. وأصحهما: لا؛ كما لا يصرف الفيء إلى مصارف الصدقات، فعلى هذا يجبُ على أغنياء المسلمين إعانتهُم، ويعطى الغازِي، غنيّاً كان أو فقيراً، خلافاً لأبي حنيفة في الغَنِيِّ. وقوله في الكتاب: "سهْم سبيلِ الله" فيه توسُّع؛ فإن الكلام من أول الباب مسوقٌ لبيان الأصناف دون السهام، ويجوز إعلام قوله: "والمراد به المتطوعة" بالألف؛ لأن أصح الروايتين عن أحمد: أنه يجوز صرف هذا السهم إلى الحَاجِّ. وقوله: "فإن كان غنيّاً" مُعْلَم بالحاء؛ لما سبق، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّامِنُ: ابْنُ السَّبِيلِ وَهُوَ الَّذِي شَخَصَ (ح م) مِنْ بَلَدٍ لِيُسَافِرَ أَوِ اجْتَازَ بِهِ يُصْرَفُ إِلَيْهِ سَهْمٌ إِنْ كَانَ مُعْسِرِاً بِشَرْطِ لا يَكُونَ السَّفَرُ مَعْصِيَةً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الصنف الثامن "ابن السبيل" (¬1)، فله من الصدقات سهم، ويقع هذا الاسم على شخصَيْن: أحدهما: الذي شَخَص من وطنه أو من بلد كان مقيماً به منشئاً للسَّفَر؛ وعن أبي حنيفة، ومالك: "أنه ليس بابن سبيل"، والأصحاب قاسوه على المجتاز؛ لأنه مريدٌ للسفر، محتاجٌ إلى أسبابه. والثاني: الغريبُ المجتازُ بالبلد، وفيه طريقان: أحدهما: أنه على الخلاف في جواز نَقْلِ الصدقات، فإن جوزنا، جاز الصرف إليه، وإلاَّ فلا؛ كيلا يزدحم الغرباء؛ فيضيِّقوا على البلدين، وبالمنع أجاب المسعوديُّ. وأصحهما: الجواز بكل حال؛ لأنه ابن سبيل، حاضرٌ في الحال. وإذا عرفت ذلك، أَعْلَمْتَ قوله: "وهو الذي شخص" بالحاء والميم، وقوله: "أو اجتاز بِهِ" بالواو، ثم إنا نُعْطِي ابنَ السبيل بشرطَيْن: أحدهما: ألاَّ يكون معه ما يحتاجُ إليه في سفره، ويدخل فيه مَنْ لا مال له أصلاً، ومن له مالٌ في غير البلد الذي ينتقل عنه، ولفظ "المعسر" في الكتاب محمولٌ على المعسر يداً. والثاني: إلاَّ يكون سفره سفر معصية، فيعطَى في سفر الطاعة مفْروضاً كان؛ ¬
كالحجِّ والجهاد، أو مندوباً؛ كزيارةِ قبر النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وفي السفر المباحِ؛ [كسفر التجارة]، وطلب الآبِقِ وجهان: أحدهما: لا يعطَى؛ لأن عنده غنيةٌ، وعلى هذا، فلا يكفي ألا يكون معصيةً، بل يعتبر أن يكون طاعةً. وأصحهما: أنه يعطَى؛ كما أنَّ سفر المباح وسفر الطاعة يستويان في الترخَّص، وذكروا في سفر النُّزْهة خلافاً مع الإعطاء في سفر المباح؛ لأنه ضرب من الفُضُول، والظاهر أنه يعطَى أيضاً فإنه نوع من السفر المباحِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَهَؤُلاءِ هُمُ المُسْتَحِقُّونَ بِشَرْطِ أَلاَّ يَكُونَ المَوْصُوفُ بِصِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ كَافِراً، وَلاَ مِنَ المُرْتَزِقَةِ ثَابِتَ الاسْمِ في الدِّيوَانِ، وَلاَ هَاشِمِياً فَالصَّدَقَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى هَؤُلاءِ، وَفِي مَوْلَى الهَاشِمِيِّ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الغرض الآن التعرُّض للصفات المشروطة في الأصناف جميعاً، فمنها: إلاَّ يكون المدفوع إليه (¬1) كافراً، وقد إندرج ذكره في المؤلفة. ومنها: ألا يكون المدفوع [إليه] المغازي من المرتزقة الذين أُثْبِتَتْ أسماؤُهُم في الديوان، وقد ذكره مرة في سهمْ سَبِيل اللهِ] (¬2). ومنها: ألا يكون المدفوع إليه هاشميّاً ولا مُطَّلِبيّاً، فالزكاة محرَّمة عليهما، لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّمَا هَذِهِ الصَّدَقَاتُ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَإِنَّهَا لاَ تَحِل لِمُحَمَّدٍ وَلاَ لآلِ مُحَمَّدٍ" (¬3). وقال أبو حنيفة: "لا تُحرَّم علي بني المطَّلِب". لنا: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "نَحْنُ وَبَنُوا عَبْدِ المُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحدٌ، وَشَبَّكَ بَيْنَ ¬
أَصَابِعِهِ (¬1). ولو استعمل هاشميٌّ أو مطلبيٌّ، فهل يحل له سهْمُ العاملين؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه أجرة عمله، وهذا أصحُّ عند أبي الحسن العباديِّ. وأصحهما: عند صاحب "التهذيب": لا؛ كما لو كان غارماً أو غازياً، وأيضاً: فقد رُوِيَ أنَّ الفضْلَ بن عباس، وعبد المطلب بن ربيعة -رضي الله عنهما- سألا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- أنْ يُؤَمِّرهما عَلَى بَعْض الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: "إنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلاَ لِآلِ مُحَمَّدٍ، إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ (¬2). ويجري الخلافُ فيما إذا جعل بعض المرتزقة عاملاً، وفي موالي النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وموالي بني هاشم، وبني المطلب وجهان، ويقال: قولانِ: وجه الحلِّ؛ أنهم لا يستحقون خمس الخمس، والمطلبيون والهاشميُّون، أخذوا خمس الخمس، فاستغنوا عن الزكاة، والأصح: المَنْعُ؛ لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث عاملاً فقال لأبي رافع مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اصْحَبْني كَيْمَا نُصِيبَ مِنَ الصَّدقَةِ، فَسَأَلَ أبُو رَافِعِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "إِنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَحِلُّ لَنَا، وإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ من أَنْفُسِهِمْ" (¬3). فرع: إذا انقطع خمس الخمس عن بني هاشم وبني المطلب؛ لخلُوِّ بيت المال عن الفيء والغنيمة، أو لاستبداد الظلمة بها: قال الإصطخريُّ: "يجوز صرف الزكاةِ إليهم؛ لأنَّ الخمس عوضٌ عنها"؛ على ما أشار إليه في الحديث: "أَلَيْسَ في خُمُسِ الخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ عَنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ"؟ فإذا لم يحصل لهم الغرض، كفيت مؤناتهم بالزكاة، وهذا ما اختاره (¬4) القاضي أبو سعد الهرويُّ فيما حكاه سماعاً عنه الشيخ الإمام [ملكداد بْنُ عَلِيٍّ] (¬5) القزوينيُّ شيخ والدي، وبه كان يفتي الإمامُ محمَّد بن يحْيَى -رحمهم الله جميعاً- والأكثرون طردوا القوْلَ بالتحريم، وقالوا: "ليست المقابلةُ بين المال والمَالِ، وإنما المقابلة بين التحْرِيمِ والاستحقاق". ¬
الباب الثاني في كيفية الصرف إليهم
البَابُ الثَّانِي في كَيْفِيَّةِ الصَّرْفِ إِلَيْهِمْ، وَفِيهِ مَسَائِلُ قَالَ الْغَزَالِيُّ: الأُولَى: فِيمَا يُعْرَفُ بِهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ أَمَّا الخَفِيُّ كَالفَقْرِ وَالمَسْكَنَةِ فَيُصَدَّقُ فِيهِ مُدَّعِيهِ، وَيَحْلِفُ إِذَا اتُهِمَ اسْتِحبَاباً، أَو إِيجَاباً فِيهِ خِلاَفٌ، وَأَمَّا الجَلِيُّ كَالغَازِي وَابْنِ السَّبِيلِ فَيُعْطَيَانِ بِقَوْلِهِمَا، فَإنْ لَمْ يُحَقِّقَا المَوْعُودَ اسْتُرِدَّ مِنْهُمَا، وَأَمَّا المُكَاتَبُ وَالغَارِمُ فَيُطَالَبَانِ بِالبَيِّنَةِ لإِمكَانهَا، وَالإِقْرَارُ مَعَ حُضُورِ المُسْتَحِقِّ كَالبَيِّنَةِ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ، وَالاسْتِفَاضَةُ كَالبَيِّنَةِ، وَالمُؤَلَّفُ قَلْبُهُ إنْ قَالَ: نِيَّتِي فِي الإِسْلاَمِ ضَعِيفَةٌ صُدِّقَ (و)، وَإِنْ ادَّعَى كَوْنَهُ شَرِيفاً مُطَاعاً، طُولِبَ بِالبَيِّنَةِ لإِمْكَانِهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: كلام الباب مودعٌ في مسائل: إحداها: فيما يعوَّل عليه في صفات المستحِقِّين: قال الأصحابُ: من سأَلَ الزكاة، وعرف الإمام؛ أنه ليس بصفة الاستحقاق، لم يجز صرف الزكاة إليه، وإنْ عرفه بصفة الاستحقاق، جاز، ولم يخرجوه على الخلاف في أنَّ القاضي، هل يقضي بعلمه؟ وللتهمة مجالٌ هاهنا أيضاً، وإنْ لم يعرف حاله، فالصفات قسمان: خفية وجلية: القسم الأول: الخفي، وهو الفَقْر والمَسْكَنة، فلا يطالب مدعيهما بالبينة؛ لعُسْر إقامتها، نعم، لو عرف له مالٌ، فادعى هلاكهُ، طولِبَ بالبينة، لسهولتها، ولم يفرقوا بين أن يَدَّعِي الهلاك بسبب ظاهرٍ؛ كالحريق، أو خفيٍّ؛ كالسرقة كَصَيغَتِهِمْ في الوديعة ونحوها، ولو ادَعَى له عيالاً لا يفي كسبه بكفايتهم، فيه وجهان: أظهرهما: أنه يُطَالَبُ بالبينة أيضاً، ولو قال: لا كسب لي، وحاله يشهد بصدقه بأن كان شيخاً كبيراً أو زَمِناً، أُعْطِيَ بلا بينة ولا يمين، وإن كان قويّاً جَلْداً أو قال: لا مال لي، واتهمه الإمام، فوجهان: أحدهما: أنه يحلف؛ لأن الظاهر خلافُ ما يدعيه. والثاني: لا يحلف؛ لما روي أن رجلين سألا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنْ شِئْتُما أعْطيتكما (¬1)، وَلاَ حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلاَ لِذِي قُوَّةٍ مُكْتَسِبٍ" (¬2) وأعطاهما من غير تحليف. قال في "التهذيب": وهذا أصحُّ، ثم من الأصحاب من يورد الخلاف هكذا، ويقتصر عليه، ومنهم من يقول: تحليفُهُ عند التهمة واجبٌ، أو مستحبٌّ، فيه وجهان، ويشبه أن يكون المراد منهما شيئاً واحداً، لكن صاحب الكتاب جمع بينهما في ¬
"الوسيط"، فقال: "في تحليفه وجهان، وإن حلَّفْنَاهُ، فهل هو واجبٌ، أو مستحب؟ فيه وجهان، وإذا أوجبنا اليمينَ، فنكل، لم يعْطَ، وإن قلنا مستحبة، فيجوز أن يعطى". القسم الثاني: الجلي، وهو على ضربين: ضرب يتعلَّق بالاستحقاق فيه معنًى في المستقبل، وذلك في المغازي وابن السبيل، فيعطيان بقولهما من غير بينة ولا يمين، ثم إنْ لم يحققا الموعود، ولم يخرجا [في السفر،] يسترد؛ لأن جهة الاستحقاق، لم تَحْصُل، وإلى متَى يحمل تأخير الخروج، أهمل المعظم التعرُّض له، وفي "أمالي أبي الفرج السرخسيِّ": أنه يجوز تأخيرُ الخروج يومين وثلاثة أيام، فإِنِ انقضتِ الثلاثةُ، ولم يخرج حينئذٍ يستردُّ، ويشبه أن يكون هذا على التقريب، وأنْ يعتبر ترصُّده للخروج، وكون التأخير لانتظار الرفقة، إعداد الأهبة وغيرهما والله أعلم. وضرب يتعلَّق الاستحقاق فيه بمعنى في الحال، وتقع فيه بقية الأصناف في هذا الضرب، فالعامل إذا ادعى أنه عمل، طولب بالبينة، وكذا الغارمُ والمكاتَبُ يطالبان بالبينة؛ لأن الأصل العدمُ، وإقامة البينة هينة عليهم، وإن صدقهما ربُّ الدَّيْن أو السيد، فوجهان: أحدهما: لا يعطَى؛ لاحتمال التواطئ. وأظهرهما: أنه يعطي؛ لظهور الحق بالإقرار. وقوله في الكتاب: "مع حضورِ المُسْتَحِقِّ"؛ أراد به الحضورَ مع التصديق، فإن مجرد الحضور لا عبرةَ به، ولو كذبه المقرُّ له، لغا الإقرارُ، والمؤلَّف قلبه، إنْ قال: نِيَّتي في الإِسلام ضعيفةٌ قِبلَ قوله؛ لأن كلامه يشهد لصدقه (¬1)، وإنْ ادعَى كونه شريفاً مطاعاً في قومه، طولب بالبينة، هكذا فصَّل عامة الأصحاب، ونسب الشيخ أبو الفرج هذا التفصيل إِلى صاحب "التلخيص" وذكر: أنَّ من الأصحاب من أطلق الجواب؛ بأنه يطالب بالبينة، فيمكن أن يُعلَم لهذا قوله في الكتاب: "صدق" بالواو. وأما قوله: "الاستفاضة كالبينة" فالمراد منه أن اشتهار الحال بين الناس قائمٌ مقام البيِّنة؛ لحصول العلم، أو غلبة الظن، وعلى ذلك حمل قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديثِ قَبِيصَةَ بْنِ المُخَارِقِ؛ حتى يشهد أو يتكلَّم ثلاثة من ذوي الحِجَا من قومه؛ وذلك أن قبيصة قال: "تَحَمَّلْتُ حَمَّالَةَ، فَأَتيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: تُؤَدِّيهَا أو نخرجها عنك عَنْكَ إِذَا قَدَّمْتَ نَعَمَ الصَّدقَةِ يَا قَبيصَةُ، إِنَّ المَسْأَلَةَ حُرِّمَتْ إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ: رَجُلٍ تَحَمَّل حَمَّالَةً فَحَلَّتْ لَه المَسْأَلَةُ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا أَوْ يُخْرِجَهَا (¬2)، ثُمَّ يَمْسِكُ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ أَوْ حَاجَةٌ حَتَّى يَشهَدَ أَوْ يَتَكَلَّمَ ثَلاثَةٌ من ذَوِي الحِجَا مِنْ قَوْمِهِ؛ أَنَّ بهِ فَاقَةً أَوْ حَاجَةً، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْألَةُ، حَتَّى يُصِيبَ سَدَاداً مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَوَاماً مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ، أَوْ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ ¬
فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ حَتَّى يُصِيبَ سَدَاداً أَوْ قَوَاماً مِنْ عَيْش، ثُمَّ يُمْسِكُ" (¬1) فَقِيلَ: القَصْدُ مِنْ ذِكر الثلاثة الإشارةُ إلى الاستفاضة، فإنَّ أدنى الاستفاضة يقع بثلاثةٍ. وقوله: "يؤدِّيَهَا أَو يُخْرِجَهَا" شكٌّ من الراوي، وكذلك "فاقة أو حاجة"، "وكذا يُشهد أو يتكلم"، وكذا "سداداً أو قَوَاماً"، ويشهد لما ذكرنا من اعتبار غلبة الظن ثلاثةُ أمور: أحدها: قال بعض الأصحاب: لو أخبر عن الحال واحدٌ يقع الاعتماد عَلَى قوله، يكفي. والثاني: قال الإمام في "النهاية" رأيتُ للأصحاب رمزاً إلى التردُّد في أنه إذا حصل الوثوق بقول من يدعي الغُرْمَ، وغلب على الظن صدْقُه، هل يجوز الاعتماد عليه. والثالث: حكى بعض المتأخرين ما لا بدَّ من معرفته هاهنا، وهو أنه لا يعتبر في البينة في هذه الصور سماعُ القاضي، وتقدُّم الدعوى، والإمكان، والاستشهاد، بل المرادُ إخبار عدلَيْن على صفات الشهود، ثم سياق الكلام هاهنا وفي "الوسيط": "قد يوهِمَ أنَّ إلحاقَ الاستفاضةِ بالبينة مختصٌّ بالمكاتَبِ والغارِمِ، ولكن الوجّهَ تعميمُ ذلك في كل من يطالب بالبينة من الأصناف. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةُ: في قَدْرِ المُعْطَى، وَالغَارِمُ وَالمُكَاِتبُ يُعْطَيَانِ قَدْرَ دَيْنِهِما، وَالفَقِيرُ وَالمَسْكِينُ مَا يَبْلُغَانِ بِهِ (ح) أَدْنَى الْغِنَى وَهُوَ (و) كِفَايَةُ سَنَةٍ، فَإنْ كَانَ لاَ يُحْسِنُ إِلاَّ التِّجَارَةَ عَلَى ألف دِرْهَمٍ أَعْطِي لِيَشْتَغِلَ بِالكَسْبِ، وَالمُسَافِرُ يُعْطَى قَدْرَ مَا يُبَلِّغَهُ إلى المَقْصِدِ أَوْ إِلَى مَوْضِعِ مَالِهِ، وَالغازِي يُعْطَى الْفَرَسَ وَالسِّلاَحَ عَارِيَّةً أَوْ تَمْلِيكاً أَوْ وَقْفاً ممَّا وَقَفَهُ الإِمَامُ بَعْدَ أنْ اشْتَرَاهُ بَهَذَا السَّهْمِ، وَيُعْطَى مِنَ النَّفَقَةِ مَا زَادَ بِسَبَبِ السَّفَرِ، وَهَلْ يُعْطَى أَصْلَ النَّفَقَةِ؟ وَجْهَانِ، وَالمُؤَلَّفُ قَلْبُهُ يُعْطَى مَا يَرَاهُ الإِمامُ، وَالعَامِلُ يُعْطَى أَجْرَ مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَنُ الصَّدَقَةَ زَائِداً عَلَى أَجْرِ المِثْلِ رُدَّ الفَضْلُ عَلَى الأَصْنَافِ، وَإِنْ كانَ نَاقِصاً كُمِّلَ مِنْ بَقِيَّةِ الزَّكَاةِ (و)، إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي بَيْتِ المَالِ وَرَأى الإِمَامِ التَّكْمِيلَ مِنْهُ فَلَهُ أن يُكمِّلَ مِنْهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصود المسألة بيان أن كلَّ واحد من الأصناف كمْ يعطَى؟ أما الغارِم والمكاتَبُ، فيعطيان قدر دَيْنِهِمَا، فإنْ قَدَرَا على بعض ما عليهما، أعطيا الباقي. وأما الفقير والمسكين، فيعطيان ما تزول به حاجتهما، وتحصل كفايتهما، ويختلف ذلك باختلاف الناس والنواحي، فالمحترف الذي لا يجد آلة حرفته يعطي ما يشتريها به، قلَّت قيمتها أو كثرت؛ ليكتسب، والتاجر يعطى رأس المال ليشتري به من ¬
النوع الذي يحسن التجارة والتصرُّف فيه، ويكون قدره ما يفي ربحه بكفايته غالباً. وأوضحوه بالمثال، فقالوا: البقليُّ يكتفي بخمسة دراهم، والباقلاني بعشرة، والفواكهي بعشرين، والخبَّاز بخمسين، والبَقَّال بمائة، والعَطَّار بألف، والبَزَّاز بألفين، والصَّيرِفيُّ بخمْسَة آلاف، والجوهريُّ بعشرة آلاف. من لا يحسن الكسب بالحرفة ولا بالتجارة؛ قال العراقيُّون، وطائفة سواهم: يعطَى كفاية العمر الغالب، ولا يتقدَّر بالشهر ولا بالسنة، وروى آخرون، منهم صاحب "التهذيب" والمصنف: تقديره بكفاية السنة توجيهاً بأن الزكاة تتكَّرر كل سنة (¬1)، فيحصل بها الكفاية سنةً سنةً، وقضية التقدير كونُ المسألة عَلَى وجهين، وأشار في "التتمة" إلَى رفع الخلاف وتنزيل الكلامين على حالين، إن أمكن إعطاء ما يحصُلُ منه كفايته، أعطاه، وإلاَّ إعطاه كفاية سنة، وهذا غير متَّجِهٍ؛ لأنه لو لم يقدر على أن يعطيه كفاية سنة، فلا بد وأن يعطيه كفايةَ ما دونها، وحينئذٍ فلا معنى للضبط بالسَّنَة، وإذا قلنا: يعطى كفاية العمر فما طريقه؟ قال في "التتمة" وغيره: يعطَى ما يشتري به عقاراً يستغلُّ منه كفايته، ومنهم من يُشْعِرُ كلامه بأنه يعطَى ما ينفق عليه في حاجته، والأول أقرب، وإذا عرفت ذلك، أعْلَمْتَ قوله: "وهو كفاية سَنَةٍ" بالواو، ويجوز أنْ يعلم قوله: "ما يبلغانِ به أدْنَى الغَنَاء" بالحاء والألف؛ لأن عند أبي حنيفة لا يعطَى نصاباً، وإنْ لم تزل به حاجته، وعند أحمد لا يعطَى أكثر من خمسين درهماً. لنا: أنه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "حَتَّى يُصِيبَ سَدَاداً مِنْ عَيْشٍ" (¬2) وهو ما يسدُّ به ثَلَمَةَ الحاجةِ، اعتبر الكفاية ولم يقدِّر. وأما ابنُ السبيلِ: فيعطى ما يبلِّغه إلى مَقْصِدِه أو إلَى موضِع ماله، إن كان له في الطريق مال، فيعطَى من النفقة، وكذا الكسوةُ، إن كان محتاجاً إليهما؛ بحسب ما يقتضيه الحال صيفاً وشتاءً، ذكره ابن الصَّبَّاغ وغيره، وكذا يُهَيَّأ له المركوب، إن كان السفر طويلاً، أو كان الرحل ضعيفاً لا يقدِرُ على المشْي، وإن كان السفر قصيراً، أو الرجل قوياً، فلا، ويعطى ما ينقل به زادَهُ ورحْله أيضاً، إلا أن يكون قدر ما يعتاد مثله أن يحمله بنفسه. ثم في "أمالي أبي الفرج السرخسي" في كيفية تهيئة الركوب؛ أنه إن ضاق المال، فيعطَى كراء المركوب، وإن اتسع اشترى له المركوب، فإذا تم سفره، ¬
حكى في استرداد الدابَّة وجهَيْن، جوابُ عامة الأصحاب فيهما: الاسترداد، وكما يعطى للذَّهَاب، يعطى للرجوع أيضاً إن كان يريد الرُّجُوع، وليس في مقصده مالٌ؛ لشمول الحاجة، وفيه وجهان آخران: أحدهما: أنه لا يعطَى للرجوع في ابتداء السفر؛ لأنه سفر آخر، وإنما يعطَى إذا أراد الرجوع. والثاني: عن أبي زيد؛ أنه إن كان على عزم أن يصل الرجوعَ بالذَّهاب أعطى للرُّجُوع أيضاً، وإن كان على أن يقيم هناك مدة، لم يعطَ، ولا يعطَى لمدة الإقامة في المقصد إلاَّ مقام المسافرين، إذا لم يكن له مال هناك؛ بخلاف المغازي حيث يعطى للمُقَامِ في الثَّغْر، وإن طال؛ لأنه قد يُحْتَاج إليه لتوقُّع الفتح، ولأنه لا يزولُ عنه الاسم بطول المقام، بل يتأكد، وهاهنا يزول، وعن "صاحب التقريب" أنه إن أقام لحاجةٍ يتوقَّع زوالها، أعطى، وإن زادت إقامته على إقامة المسافربن. والذي يدفع إلى ابن السبيل يكون تمام مؤنته، أو ما زاد بسبب السفر، فيه وجهان: أصحهما: أولهما، وهما كالقولين في عامل القراض، إذا سافر، وفي الولي إذا حج بالصبيِّ، وأنفق عليه من ماله، كم يضمن، وأما الغازِي فيعطي النفقة والكُسْوة مدةَ الذهاب والمقام في الثغرة، وإن طال، ومدة الرجوع، ويكون المعطَى تمام مؤنتهما (¬1)، أو ما يزيد بسبب السفر، دون أصل المؤنة، فيه وجهان؛ كما سبقا في ابن السبيل، وربما أشعر نظم الكتاب بتخْصيصِ هذا الخلاف بالغازِي، ولا فرق، ويعطَى ما يشتري به الفرس، إن كان يقاتل فارساً، وما يشتري به السلاحَ وآلاتِ القتالِ، ويصير كل ذلك ملكاً له، ويجوز أن يستأجر له الفَرَسُ والسلاحُ، ويختلف الحال بحسب كثرة المالِ وقلَّته، وإن كان يقاتل راجلاً، فلا يعطَى ليشتري الفرس، وأما ما يحمل عليه الزاد ويركبه في الطريق، فعلى ما مَرَّ في ابن السبيل. فَرْعٌ: إنما يعطى الغازِي، إذا حَانَ وقت خروجه؛ ليهيئ منه أسبابَ الخروج (¬2)، ¬
فإن أخذ، ولم يخرج، فقد ذكرنا أنه يستردُّ، فإن مات في الطريق، أو امتنع من الغزو، استرد ما بقي، وإنْ غَزَا ورجع، وعنده بقية، فإن لم يقتِّر على نفسه، وكان الباقي شيئاً صالحاً، فكذلك الجواب؛ لأنه تبين أن المعطَى فوق الحاجة، وأنه أخطأ في الاجتهاد، وإن قتَّر على نفسه، أو لم يقتِّر إلاَّ أنَّ الباقي شيءٌ يسير، فلا يستردُّ وفي مثله في ابن السبيل يستردُّ على المشهور؛ لأنا دفعْنَا إلى الغازِي ما يكفيه؛ لحاجتنا إليه، وقد تحصلنا على العوض، لَمَّا غزا، وابن السبيل إنما يدفع إليه لحاجته، فإذا تم السفر، فقد زالت حاجته، ولم يتحصل منه على عوض، فيدفع الباقي إلى محتاج، وفي ابن السبيل وجه آخر؛ أنه لا يسترد منه أيضاً، وهذا أبداه الحَنَّاطيُّ احتمالاً، ونسبه الشيخ أبو الفرج إلى النصِّ. فَرْعٌ: في بعض شروح المفتاح: أنَّه يأخذ نفقته ونفقة عياله ذَهَاباً ومُقَاماً ورجوعاً وسكت المعظم عن نفقة العيال (¬1)، لكن تجويز أحدهما ليس ببعيد؛ أليس ينظر في استطاعة الحجِّ إِلى نفقة العيال؛ حتى يعتبر استغناؤه لعياله؛ كما يعتبر استغناؤه لنفسه، كذلك يجوز أن ينظر إِليها هاهنا؛ حتى يستغنى بما يأخذ لعياله؛ كما يستغنى لنفسه. وقوله في الكتاب: "والغَازِي يُعْطي الفَرسَ والسلاحَ عاريَّةَ أو تمليكاً أو وقفاً ممَّا وقَفَه الإمامُ بعد أنِ اشْتراهُ بهذا السَّهْم"؛ أراد أن الأمر فيه موكولٌ إلى رأي الإمام، إن شاء أعطاه الفرس والسلاح تملكاً، وإن شاء استأجره له، وله أن يشتري أفراساً، ويجعلها وقفاً في سبيل الله فيعيرهم إيَّاها عند الحاجة فإذا انقضت استردتْ. وذكر الحَنَّاطِيُّ وجهاً آخر؛ أنه لا يجوز أنْ يشتري لهم الفرس والسلاح قبل وصول المال إليهم، وهذا قضية ما في تعليق الشيخ أبي حامد -رحمه الله- ثم في قوله: "عارية أو تمليكاً أو وقفاً" نظر من جهة اللفظ، وذلك لأنه لا يعطيه وقفاً بحال، وإنما يملكه ما اشتراه، أو يعيره مما اشتراه ووقَفَه، فليس الوقف قسماً، والعاريَّة قسماً، بل إذا جوزنا الشراء، يشتري ويقف ثم يُعِيره. أما من يؤلف قلبه، فيعطي ما يراه الإمامُ، قال المسعوديُّ: "يجعله عَلَى قدر كفايتهم وكلفتهم". وأما العاملُ: فاستحقاقه بالعمل؛ حتى لو حمل أرباب الأموال زكاتهم إلى وَالِي البلدة، أو إلى الإمام، فهل أنْ يأتيهم العامل، فلا شيء للعامل، وإذا كان الاستحقاق بالعمل، فالمدفوع إليه أجرة المثل لعمله ثم الإمام يخير بعد بعث السعاة بَيْنَ أن يبعث من غير شرط، ثم يعطى المبعوث أجرة مثل عمله، وبين أن يُسَمِّيَ له ما يكون قدْرَ أجرته على سبيل الإجارة أو الجَعَالة، ثم يؤديه من الزكاة، ولا يسمِّي له أكثر من أجْرة ¬
المثل، فإن فعل، فتفسد التسمية من أصلها أو يكون قدر أجرة المِثْل من الزكاة، وما زاد في خالص مال الإمام فيه وجهان (¬1) مرويَّان في "أمالي أبي الفرج السرخسيِّ". ومهما كان سهْمُ العاملين زائداً على أجرة المثل، رد ما فَضِلَ على سائر الأصناف، وإن نقص، فعن نص الشافعيِّ -رضي الله عنه-؛ أنه يكمل من بيت المال، ولو قيل: يكمل من سهم بقية الأصناف، فلا بأس، وفيه طرق للأصحاب: أظهرهما: أن في المسألة قولَيْن: أصحهما: أنه يكمل من مال الصدقة، ثم يقسم الباقي؛ كما أن أجرة قيم اليتيم في مال اليتيم، وأيضاً فإنه لو زاد دفع الزائد إلى سائر الأصناف، فإذا نقص أخذ منهم. والثاني: يكمل من خمس الخمس سهْمُ المصالح، ولا ينقص نصيب سائر الأصناف لظاهر الآية. والثاني: عن أبي إسحاق؛ أنها ليست على قولين، لكن الإمام يتخيَّر بحسب ما يظهر له من المصلحة. والثالث: إن بدأ بسهم العاملين، كمَّل من الصدقة، وإن بدأ بسائر الأصناف، ثم أعطى العامل، وكان فيه نقص، كمَّل من مال المصالح؛ لعسر الاسترداد منهم. والرابع: إن فضل عن حاجة سائر الأصناف، كَمَّل من الصدقة، وإلاَّ فمن بيت المال، وكلُّ واحد من صاحبي الطريقتين حمل تردد القولَيْن على ما ذكره من الحالين. وليعلم قوله في الكتاب: "كَمَّل من بقيَّة الزكاة" لما حكينا، وقوله: "إلاَّ أنْ يكُونَ في بَيْت المالِ سَعَة، ورأى الإمامُ التكميلَ منه، فله أن يكمِّل منه" هذه اللفظة قضيَّتها تجويزُ التكميل منه في هذه الحالة، وذلك يشعر بلزوم التكميل من بقية الزكاة في غير هذه الحالة، لكنهم لم يختلفوا في جواز التكميل مِنْ سهم المصالح مطلقاً؛ بل لو رأى الإمامُ أن يجعل أجرة العامل كلَّها من بيت المال، جاز ويقسم الصدقة على سائر الأصناف، ذكره ابن الصَّبَّاغ وغيره، وإنما الخلاف في تَجْويز التكميل من الصدقة. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَرْعٌ: مَنِ اجْتَمَعَ فِيهِ صِفَتَانِ هَلْ يَسْتَحِقُّ سَهْمَيْنِ؟ فِيهِ قَوْلاَنٍ، يُنْظَرُ فِي أَحَدِهِمَا إِلَى اتِّحَادِ الشَّخْصِ، وَفِي الآخَرِ إلى تَعَدُّدِ الصِّفَةِ، وَقِيلَ: إنْ تَجَانَسَ السَّبَبَان؛ كَالفَقْرَ وَالغُرْمِ لِغَرَضِ نَفْسِهِ، فلاَ يُجْمَعُ، وَإِن اخْتَلَفَ؛ كَالغَزْو وَالفَقْر فَيُجْمَعُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا اجتمع في شخص صفتا استحقاقٍ، هل يعطَى بهما؟ نصَّ في ¬
الباب الثاني من قسم الصدقات عَلَى المنع، وذكر في المؤلَّفة قولاً قدَّمناه، وأنهم يعطَوْنَ من سهم المؤلَّفة، وسهم سبيل الله، وللأصحاب ثلاثة طرق: أظهرهما: أن فيها قَوْلَيْن: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة: أنه يجوز أن يعطَى بهما؛ لأن للفقير سهماً، وللغارم سهماً، وهذا فقير وغارم، وأيضاً: فإن المغازي إذا كان من ذوي القربَى يأخذ بالوجهين. والثاني: لا يعطَى بهما، بل بما يختار منهما؛ لأنه شخصٌ واحدٌ، فلا يأخذ بسهمين من مال واحد؛ كما لو لم يكن فيه إلا صفة واحدة، وأيضاً: فإن الله تعالَى عطف المستحقِّين بعضهم على بعض، والعطف يقتضي التغاير، وكلام الشافعيِّ -رضي الله عنه- والأصحاب إلى هذا القولِ أميلُ. والطريقُ الثاني: القطْع بالمنع، وتأويلُ ما ذكره في المؤلَّفة؛ على ما تقدَّم. والثالث: إن كان السببان من جنس واحد؛ كما لو كان فقيراً غارماً لغَرضِ نفسه، فلا يعطَى بهما؛ لأن الفقير وهذا الغارِمَ يعطيانِ لحاجتهما إلَيْنا، وكذا لو كان غازياً وغارماً لإصلاحِ ذات البين، فإنهما يعطيان لحاجتنا إليهما، وإن اختلف السببان، كما لو كان غازياً وغارماً لغرض نفسه، أو كان غازياً وفقيراً، فيعطَى، بهما لأن استحقاق الغازي لحاجتنا إليه واستحقاق هذا الغارم والفقير لحاجته إلينا، وشبَّهوه بالميراث، إذا اجتمع في الشخص جهتا فرضٍ لا يعطى بهما، وإن اجتمع جهةُ فرض، وجهةُ تعصيب، يعطَى بهما، فإن قلنا: بالمنع، فلو كان العامل فقيراً، فوجهان، بناءً على أنَّ ما أخذَه العامل أجرة؛ لأنه إنما استحق بالعمل أو صدقة؛ لأنه معدود في مستحقِّ الصدقة، وفيه وجهان، لأن جوزنا أن يعطى لمعنيين، فيجوز أن يعطَى لمعانٍ أيضاً، قال الحناطيُّ (¬1): "ويحتمل إلاَّ يعطَى إلا لمعنَيَيْن". قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثَةُ يَجِبُ (ح م و) اسْتِيْعَابُ الأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ عَنْدَ القُدْرَةِ فَإنْ فُقِدَ صِنْفٌ رُدَّ نَصِيبُهُ إِلَى البَاقِينَ، وَلاَ يَجِبُ اسْتِيعَابُ آحَادِ الأَصْنَافِ، بَلْ يَجُوزُ الاقْتِصَارُ عَلَى الثَّلاثةِ فَإنَّهُ أَقَلُّ الجَمْعِ، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى اثْنَيْنِ غُرِّمَ لِلثَّالِثِ أَقَلُّ مَا يُتَمَوَّلُ؟ لِأَنَّ التسوِيةَ بَيْنَ آحَادِ الصِّنْفِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَإنَّهُ لاَ حَصْرَ لَهُمْ، بِخِلاَفِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُغَرَّمُ الثُّلُثَ، وَإِنْ عُدِمَ في بَلَدٍ جَمِيعُ الأَصْنَافِ فَلاَ بُدَّ مِنْ نَقْلِ الصَّدقَةِ، وإِنْ ¬
فُقِدَ البَعْضُ فَيُرَدُّ عَلَى البَاقِينَ، أَوْ يُنْقَلُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَظْهَرُهُمَا الرَّدُّ عَلَى البَاقِينَ لِعُسرِ النَّقْلِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المسألة تتضمَّن صوراً: إِحداها: استيعاب الأصناف الثمانية واجبٌ عند القدرة (¬1)، ولا يجوز تخصيصُ بعضهم بإعطاء الزكاة. وقال أبو حنيفة وأحمد -رحمهما الله- يجوزَ تخصيصُ بعض الأصناف، وبعضُ آحادِ الصنف. وعن مالك: أنه يجوز الصرْفُ إلَى من هو أشدُّ حاجةً من الأصناف. لنا: أنَّ الله تعالَى أضاف الصدقاتِ إلى الفقراء والمساكينِ (¬2) وغيرهما بحرف "اللام" كما يقول القائل: هَذِهِ الدَّارٌ لزيْدٍ، ولعمرو، ولبكر، أو يوصى للفقراء والمسَاكينِ والغارمينَ، وذلك يمنع تخصيصَ بعض المذكورين، فكذا هاهنا، هذا إذا قسم الإمامُ، وكان هناك عاملٌ، فإن قسم المالك بنفسه، أو لم يكن عاملٌ، سقط سهم العامل، ويقسم على الأصناف السبعة، وروى الحَنَّاطيُّ عن النص: "أنه إذا قسم بنفسه، سقط سهم المؤلَّفة أيضاً، وتكون القسمة على ستة أسهم"، وهكذا هو في "فتاوى القتال" -رحمه الله-، والأول النقلُ الظاهر، وكذا سائر الأصناف ومهما فُقِدَ بعضهم، يقَسَّم الصدقة على الباقين (¬3)، وليس كما لو أوصى لرجلَيْن، فرد أحدهما، يكون المردود للورثة دون الباقي؛ لأن المال للورثة، لولا الوصية، والوصية تبرُّع رُخِّصَ فيه، فإذا لم ¬
يتم، أخذ الورثة المالَ، والزكاةُ دينٌ لزمه، يرتدُّ إليه، ولهذا لو لم يوجد المستحِقُّون لا تسقط الزكاة، بل توقف؛ حتى يوجدوا (¬1) أو يوجد بعضهم. فلْيُعْلَمْ لِمَا روَيْنا في الكتاب قوله: "يجب استيعابُ الأصنافِ الثمانية" بالحاء والميم والألف، ويجوز أن يُعْلَم بالواو أيضاً؛ لأن أبا عبد الله الحَنَّاطِيَّ حكَى عن الاِصطخريِّ -رحمه الله-: "أنه يجوز الصرف إلَى ثلاثة من الفقراء، إذا قسم المالك"، ثم نقل بعضهم تجويزَ ذلك في صدقة الفطْر خاصَّة، فهذا هو الذي شهر عن الإِصطخريِّ، والله أعلم. الثانية: إذا قسم الإِمام، فعليه استيعاب آحاد الصنف، ولا يجوز الاقتصار على بعضهم، فإن الاستيعاب لا يتعذَّر عليه، كذلك رواه ابن الصَّبَّاغ وغيره، وليس المراد أنه يستوعب في زكاة كل شخصٍ الآحاد، ولكن يستوعبهم من الزكوات الحاصلة في يده، وله أنْ يخصِّص بعضهم بنوعٍ من المالِ، وآخرين بنَوْعٍ، وإن قسم المالك، فينظر إن أمكن الاستيعاب؛ بأن كان المستحِقُّون في البلد محصورين (¬2)، يفي بهم المال (¬3)، فقد أطلق في "التتمة" وجوبَ الاستيعاب أيضاً، وفي "التهذيب": أنه يجب إن لم يجوِّز نقل الصدقةِ، وإن جوزناه، لم يجب؛ لكنه ليستحب وإن لم يمكن الاستيعابُ، سقط الوجوب والاستحباب، ولكن لا ينقص الدين ذكرهم الله تعالَى بلفظ الجمع من الفقراء وغيرهم عن ثلاثة (¬4)، نعم يجوزُ أنْ يكون العاملُ واحداً فيقتصر عليه، وفي ابن السبيل وجْهَانِ: أحدهما: أنه يجوز الاكتفاء بواحد أيضاً؛ لأنه لم يذكر بلفظ الجمع. وأصحهما: المنعُ؛ كما في سائر الأصناف، واللفظ للجنْسِ، وقال بعض شارِحي "المخْتَصَر": ولو طرد الوجهانِ في الغزاة، لم يبعد؟ لقوله تعالَى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة- 60] وإذا صرف ما عليه إلى اثنين مع القدرة على الثالث، غرم للثالث، وفي قدره قولان: المنصوصُ منهما في الصدقات؛ أنه يغرم قدر الثلث من نصيب ذلك الصنف؛ لأنه لثلاثة وقد تعدَّى في نصيب واحد، والقياس أنه يغرم قَدْرَ ما لو أعطاه في الابتداء، لخرج عن العهدة؛ لأنه الذي فرط فيه، ولو صرفه إلى واحد، فعلى الأول ¬
يغرَّم الثلثين، وعلى الثاني أقلَّ ما يجوز صرفه إليهما (¬1). ولو لم يوجدُ إلا دون الثلاثة، والصنفُ ممن يجب إعطاءُ ثلاثة منهم، فيعطى من وُجِدَ، والباقي يرد عليه ما لم يخرجْ عن حد الاستحقاق أو ينقل إلى بلدة أخرى؟ قال المتولِّي: "هو كما لو لم يوجدُ بعضُ الأصنافِ في بَلَدٍ (¬2)، وسيأتي". الثالثة: التسوية بين الأصناف واجبةٌ، وإن كانت حاجةُ بعضهم أشدَّ إلا أنَّ العامل لا يزاد على أجرة مثله؛ كما مر، وأما التسوية بين آحاد الصنف، استوعبوا أو اقتصر على بعضهم، فمستحبُّ عند تساوي الحاجات (¬3)، ولكن لا يجب، وفرقوا بين الفصلين بأنَّ الأصناف محصورة، فيمكن التسوية بينهم، والعدد من كل صِنْفٍ غيرُ محصور؛ فيسقط اعتبار التسوية. قال في "التهذيب": "وليس هذا كما لو أوصى لفقراء بلدة بعينها، وهم محصورون"؛ حيث يجب تعميمهم [والتسوية بينهم، وهاهنا إذا كانوا محصورين يجب التعميمُ] (¬4)، ولا تجب التسوية؛ لأن الحقَّ في الوصية لهم على التعيين؛ حتى لو لم يكن هناك فقيرٌ تبطل الوصية، وهاهنا لم يثبت الحقُّ لهم على التعيين وإنما تعينوا لفقد غيرهم، ولهذا لو لم يكن في البلدة مستحِقُّون، لا تسقط الزكاة، بل تنقل إلى بلد آخر، فمن حيث إنهم محصورون وجب التعميم، ومن حيث إنه لم يثبت لهم على التعيين، لم تجب التسوية، وهذا إذا قسم المالك، فإن قسم الإمام؛ قال في "التتمة": "لا يجوز له تفضيلُ بعضهم على بعض عند تساوي الحاجات"؛ لأن عليه التعميمَ، فيلزمه التسوية، والمالك لا تعميم عليه، فلا (¬5) تسوية، وإذا ¬
تأملت ما أوردناه، عرفت أن الصور الثلاث في الكتاب غَيْرُ مُجرَاةٍ على إطلاقها، ولا هي مقيدة بقَيْدٍ بل تستمر فيها (¬1) وإنما يجبُ استيعابُ الأصناف الثمانية، إذا قسم الإمام، وإنما لا يجب استيعاب آحَاد الصنف، والتسوية بينهم، إذا قسم المالك، وفي مثل هذا يقع التباس عظيمٌ. الرابعة: إذا عدم في بلد جميعُ الاصنافِ، فلا بد من نقل الزكاة، وليكنِ النقلُ إلى أقرب البلاد إليهَ، وإلاَّ فهو على الخلاف في نقل الصدقات، وإن عدم بعضهم، نُظِرَ إنْ عدم العامل، سقط سهمه، وإن عدم غيره، فإن جوزنا نقل الصدقات، نقل نصيب الباقين، وإن لم نجوزه، فوجهان (¬2): أحدُهما: ينقل أيضاً، ولا يرد إلى الباقين؛ لأن استحقاق الأصناف منصوصٌ عليه، فيقدم على رعاية المكان الذي يثبت بالاجتهاد. وأصحُّهما: الردُّ على الباقين؛ لأن عدم الشيء في موْضعه [كالعدم المُطلَق؛ أَلاَّ ترَى أن عدم الماء في الموضع] (¬3) يرخِّص في التيمم، وإن وجد في سائر المواضع، وإن قلنا: تنقل، فلتنتقل، إلى أقرب البلاد، فإن نقل إلى غيره، أو لم ينقله، وردَّه على الباقين، ضمن، وإن قلْنا: لا تنقل فلو نقل، ضمن، فلو وجد الأصناف وقسم بينهم، فينقص نصيب بعضهم عنِ الكفاية، وزاد نصيب بعضهم على الكفاية، فيصرف ما زاد إلى ما نقص نصيبه أو ينقل إلى ذلك الصنف بأقرب البلاد إليه فيه مثل هذا الخلاف، وإذا قلنا بالرد على الدين نقص سهمهم عن الكفاية، فيرد عليهم بالسوية، فإنِ اكتفى بعضهم ببعض المردود، قسم الباقي بين الآخرين بالسوية، ولو زاد نصيبُ جميع الأصناف على قَدْر الكفاية، أو نصيب بعضهم، ولم ينقص نصيب الآخرين، نقل ما زاد إلَى ذلك الصنف، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرَّابِعَةُ: في نَقْلِ الصَّدَقَاتِ ثَلاَثةُ أَقْوَالٍ: (أَحَدُهَا): الجَوَازُ (م) لِعُمُومِ الآيَةِ (وَالثَّانِي): المَنْعُ لِمَذْهَبِ مُعَاذٍ (وَالثَّالِثُ): لاَ يَجُوزُ النَّقْلُ وَلَكِنْ تَبَرَّأُ ذِمَّتُهُ إِذَا نَقَلَ، ¬
وَقِبلَ: يَطَّرِدُ هَذا الخِلاَفُ في الكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَالوَصَايَا، وَالأَظْهَرُ فِيهَا جَوَاز النَّقْلِ، وَصَدَقَةُ الفِطْرِ كَسَائِرِ الزَّكَوَاتِ فِي مَنْعِ النَّقْل وَوُجُوبِ أسْتِيعَابِ الأَصْنَافِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: للشافعيِّ -رضي الله عنه- في نقل الصدقة مِنْ بلد الوجوبِ مع وجود المستحِقِّين إلي بلد آخر قولان (¬1): أحدهما: الجوازُ، وبه قال أبو حنيفة -رضي الله عنه- لأن قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوية- 60] مطلقٌ، وأيضاً: فإن الكفارة لا تختصُّ ببلد الوجوب، فكذلك الزكاة، وأيضاً: فقد رُوِيَ عنْ معاذٍ -رضي الله عنه- أنه قال لأهل اليمن: "ائْتُونِي بِكُلِّ خَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ آخُذُهُ مِنْكُم مَكَانَ الصَّدَقَةِ، فَإِنَّهُ أَرْفَقُ بِكُمْ وَأَنْفَعُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ بِالمَدِينَةِ" (¬2). وأصحهما: المنع، ويُحْكَى عن مالك وأحمد -رحمهما الله-؛ لما روِيَ أَنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ معاذاً إلى اليمنِ فقال: "أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَة تُؤْخَذُ من أغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِم" (¬3) دل على أن صدقة كلِّ صنف لفقرائهم، وأيضاً: فإن طمع المسكين في ¬
كل بلدة يمتدُّ إلى ما فيها من الأموال، فالنقل يوحشُهم، واختلفت طرق الأصحاب في موضع القولَيْن من وجهين: أحدهما: ذهب ذاهبون إلى أن القولين في أنه، هل يجوز النقل؟ وفي أنه إذا نَقَلَ، هل يسقط الفَرْض؟ وقيل: لا خلافَ في أنه لا يجوز النقل، والقولان في أنه لو نقل، هلْ يسقط الفرض؟ ففي قول: لا يسقط؛ لأن النقل منهيٌّ عنه. وفي آخر: يسقطُ بعود المنفعة إلى الفقراء. وقيل: لا خلاف في أنه لو نقل يسقط الفرض، والقولان في أنه هَلْ يجوز النقل؟ فهذه ثلاثةُ طرقٍ: وأصحُّهما: عند الأئمة أوسطُها. والثاني: قال قائلون: القولانِ فيما إذا نقل إلَى مسافة القصر فما فوقها، فأما إذا نقل إلى [ما] دون مسانة القصر، فلا بأس كما لو نقل في البلد الكبير من مَحَلَّه إلَى مَحَلَّة، وطرد آخرون الخلاف (¬1)، وهو الصحيح. وليعلم قوله في الكتاب: "الجواز لعُمُومِ الآية" بالميم والألف. وقوله: "المنع" بالحاء؛ لما ذكرنا. وقوله: "لمذْهَب مُعَاذٍ" -رضي الله عنه- لم يرد به حديثَ بعثه إلَى اليمن؛ لأنه قال في "الوسيط": لمذهب معاذ ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أخْبِرْهُم أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أغْنِيَائِهِمْ ... " الخَبَرَ، وكأنه أراد أنَّ معاذاً -رضي الله عنه- صار إلى منع النقل؛ لما رُوِيَ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنِ انْتَقَلَ من مِخْلاَفِ عَشِيرَتِهِ إلى غَيْرِ مِخْلاَفِ عَشِيرَتِهِ، فَصَدَقَتُهُ وعشرة في مِخْلاَفِ عَشِيرَتِهِ" (¬2) وأراد ما إذا انتقل عنه، وترك ماله فيه، والأقوال الثلاثةُ عَلَى ما نظمها تتولد من الطرق المذكورة من قَبْل. ثم في الفَصْلِ صورتان: إحداهما: إذا أوصى للفقراء والمساكينِ وسائرِ الأصنافِ، هل يجوز نقله إلى بَلَد آخر؟ فيه طريقانِ، شرَحْنَاهما في "باب الوصية": أحدهما: أنه على الخلاف في "الزكاة"، وهذا ما حكاه هاهنا. والثاني: ترتيب الوصية على الزكاةِ، والوصيةُ أولَى بالجوازِ، وهذا ما ذكره هناك، ولو لم يذكر الصورةَ إلاَّ في موضع واحد، وجمع فيه بين الجوابين، كان أحسن، ¬
وألحَقَ بالوصية الكفاراتِ والنذورَ، والظاهرُ فيهما جميعاً جوازُ النقل؛ لأن الأطماع لا تمتدُّ إليها امتدادَهَا إلى الزكاة. الثانية: [صدقة الفطر كسائر الزكوات في جواز النقْل، ومنعه، وكذلك في وجوب] (¬1) استيعابِ الأصنافِ الثمانيةِ، فإن شقت القسمة جمع جماعة فطرتَهُمْ، ثم قسموها، وقال الإِصطخريُّ: "يجوز صرفُها إلى ثلاثةٍ من الفقراء"، ويروى من الفقراء والمساكين، ويروى من أي صنف اتفق، ورأيت بخط الفقيه أبي بكرِ بْنِ بدران الحلوانيِّ؛ أنه سمع أبا إسحاق الشِّيرازيَّ يقول في اختياره ورأيه: "يجوز صرفُهَا إلَى النَّفْسِ الواحدة" (¬2). قَالَ الْغَزَالِيُّ: ثمَّ النَّظَرُ إِلَى المَالِ وَقْتَ حَوَلاَنِ الحَوْلِ فَتُفَرِّقُ الصَّدَقَةُ عِنْدَهُ، وَفِي صَدَقَةِ الفِطْرِ يُنْظَرُ إِلَى مَوْضِعِ المَالِكِ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ، وَأَهْلُ الخِيَامِ إِنْ كانُوا مُجْتَازِينَ فَمُسْتَحِقُّ صَدَقَتِهِمْ مَنْ هُوَ مَعَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا مُسْتَحِقّاً فَيَنْقُلُونَ إِلَى أَقْرَبِ بَلَدٍ إِلَيْهِمْ عِنْدَ تَمَامِ الحَوْلِ، وَإِنْ كَانُوا نَازِلِينَ في الخِيَامِ فَيَجُوزُ النَّقْلُ إِلَى مَا دُونَ مَسَافَةِ القَصْرِ، إلاَّ إِذَا كَانَتِ الحِلَّةُ مُنْقَطِعَة عَنِ الحِلَّةِ، فَقَد قِيلَ: كُلُّ حِلَّةٍ كَقَرْيَةٍ فلاَ يَجُوزُ النَّقْلُ، وَقِيلَ: الضَّبْطُ بِمَسَافَةِ القَصْرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصْلِ فرعانِ من فروع منع النقْلِ: أحدهما: لو كان المالُ ببلدٍ، والمالكُ ببلدٍ آخر، فالنظر إلى بلد المال (¬3)؛ لأنه سبب الوجوب، ونظر المستحِقِّين إليه يمتدُّ، فيصرف العشرِ إلى فقراء بلد الأَرض الَّتي حصل منها المعشر، وزكاة النقدين والمواشِي وأموالِ التجارةِ إلَى فقراء البلد الذي تم فيه حولها، فإن كان المال عند تمام الحولِ في باديةٍ، صُرِفَ إلَى فقراء البلاد إليه (¬4)، ولو كان ماله في مواضعَ متفرِّقة، قسم زكاة كل طائفة من ماله ببلدها، ما لم يقع تشقيصٌ، فإن وقع كما لو ملك أربعين من الغنم؛ عشرين ببلد، وعشرين بآخر، فأدى ¬
شاةً في أحد البلدين، فعن نص الشافعيِّ -رضي الله عنه- أنه قال: "كَرِهْتُهُ، وَأَجْزَأَهُ". قال أبو حفصِ بْنُ الوكيل -رحمه الله-: هذا جوابٌ على جواز نقل الصدقة، وإلا فيؤدي في كل بلد نصْفُ شاة، والظاهرُ جوازه على القولَيْن، وعلَّلوه بمعنيين: أحدهما: أن له في كلِّ بلدة مالاً، فيخرج فيما شاء منهما. والثاني: أنَّ الواجبَ شاةٌ، فلا شِقْص، ويتفرع عليهما ما لو ملك مائةً ببلد آخر، فعلى الأول: له إخراجُ شاتين في أيهما شاء، وعلى الثاني: لا يجزئه ذلك، وهو الأصحُّ، وفي صدقة الفطر لو كان الشخصُ ببلد، والمال بآخر، فوجهان: أحدهما: أن الاعتبار ببلد المال لأنها تؤدي بالمال. وأصحُّهما: الاعتبارُ ببلد (¬1) المالك؛ لأن الوجوب بسببه؛ فإنها صدقة البدن. والثاني: أرباب الأموال صنفان: أحدهما: المقيمون في بلدةٍ أو قريةٍ أو موضعٍ من الباديةِ، لا يظعنون [عنه] (¬2) شتاءً ولا صيفاً إلاَّ لحاجة، فعليهم صرف صدقاتهم إلَى من في ذلك الموضع من الأصناف لا يخرجُونَها عنه، ويستوي فيه المقيمون والغُرَبَاء. والثاني: أهل الخيامِ الذي ينتقلُونَ من بقعة إلى بقعة، فينظر إنْ لم يكن لهم قرارٌ، بل كانوا يطوفون في البلاد أبداً، فيصرفون صدقتهم إلى من معهم من الأصناف، فإن لم يكن معهم مستحق، نقلوه إلى أقرب البلاد إليهم عند تمام الحَوْل، وهؤلاءِ هم الدين أرادهم صاحب الكتاب بقوله: "إنْ كانُوا مجتازين" وإن كان لهم موضعٌ يسكنونه وربَّما ارتحلُّوا عنه منتجعين، ثم عادُوا إليه، فإن لم يتميَّز البعضُ عن البعْضِ، ولم ينفردُوا بماءٍ ومرعَى، فيصرفون صدقتهم إلَى من هو فيما دون مسافة القَصْر من موضع المال، فإنهم جميعاً حاضرون عنْده، ولهذا عَدِّدْنَا مَنْ كان فيما دون مسافة القصر من حاضري المسْجد الحرام، والصرف من هؤلاء إلى اللذين يظْعَنُون بظَعَنِهِمْ، ويقيمون بإقامتهم أَولَى؛ لأنهم آكَدُ جواراً، وإن تميَّزت الْحِلَّة عن الْحِلَّة، وانفردتْ بالماء والمرعَى على عادة قبائل العرب، فوجهان: أحدهما: حوازُ الصَّرْف إلَى من هو في مسافة القَصْر، كما في الصورة الأُولَى. ¬
والأقيس: أنَّ كل حِلَّة كقرية [فلا] يجوز النقلُ عنها. فرع: حيث يجوز النقلُ أو يجبُ، فالمؤنة على ربِّ (¬1) المال، ويمكن أن يخرج فيه الخلافُ المذكورة في أجرة الكَيَّال. واعلم أن الخلاف في جواز النقل وتفريعه ظاهر فيما إذا فرق رب المال الزكاة، أما إذا فرق الإمام، فربما اقتضى كلام الأصحاب فيه طَرْدَ الخلاف فيه، وربما دلَّ على أنه: يجوز له النقل والتفرقة كيف شاء، وهذا أشبه (¬2)، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الخَامسَةُ يَجُوزُ لِلمَالِكِ تَوَلِّي الصَّرْفِ (ح م) بِنَفْسِهِ، وَلاَ يَجِبُ التَّسْلِيمُ إِلَى الإِمَامِ، وَفِي المَالِ الظَّاهِرِ قَوْلٌ قَدِيمٌ؛ أنَّهُ يَجِبُ، وَأَمَّا الأَفْضَلُ فَفِيهِ قَوْلاَنِ، إلاَّ إِذَا كَانَ الإمَامُ جَائِراً فَالأَوْلَى التَّوَلِّي بِنَفْسِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد مرَّت المسألة مشروحةً في "باب الزكاة"، والذي لا بدَّ من ذكره هاهنا معاداً وغير معادٍ؛ أنَّ قوله: "يجوز للمالِكِ تولِّي الصرْفِ بنَفْسِهِ" يصحُّ إعلامه بالحاء والميم؛ لأنه أراد التجويز في الأموال الباطنة والظاهرة جميعاً؛ ألا تراه قال عَقِيبَه: "وفي المالِ الظاهرِ قولٌ قديمٌ"، وقد حكينا هناك عن مذهبهما المنْعُ في الأموال الظاهرة. وقوله: "وأما الأفضل، ففيه قولان: المشهورُ في المسألة وجهان، ويخصَّص الخلاف بالأموال الباطنةِ، كما بينا في الزكاة. وقوله: "إذا كان الإِمامُ جائراً" مُعْلَمٌ بالواو لما تقدَّم وجهه. ولو طلب الإمام زكاةَ الأموالِ الظاهرة، وجب التسليم إليه بلا خلاف بذلاً للطاعة، فإن امتنعوا، قاتلهم الإمام، ونقل الماورديُّ عن أبي حنيفة -رحمهما الله- المنع من قتالهم، إذا أجابوا إلى إخراجها بأنفسهم، فإن لم يطلب الإمام، ولم يأت الساعِي، فيؤخرون المال، ما دام يرْجُو مجيء الساعي، فإذا أيس، فقد ذكرنا في "الزكاة"؛ أنه يفرِّق بنفسه، وهو نصُّ الشافعيِّ -رضي الله عنه- نعم، من الأصحاب من قال: هذا جواب على أن له أن يفرِّق زكاة الأموال الظاهرة بنفسه، ومنهم من قال: هذا ¬
جوابٌ على القولين؛ صيانةً لحق المستحِقِّين عن التأخير والتفويت، ثم إذا فرق بنفسه، وجاء الساعي مطالباً، فيصدَّق رب المال بيمينه، واليمينُ واجبة أو مستحبة فيه وجهان؛ فإن قلنا: واجبة فنكل، أخذت الزكاة منه؛ لأنَّها كانتْ واجبةً عليه، والأصل بقاؤها، لا بالنكول، وأما الأموالُ الباطنة. قال أقضى القضاة الماورديُّ -رحمه الله-: ليس للولاة نظرٌ في زكاتها، وأربابُها أحقُّ بها، فإن بذلُوها طوعاً، قَبِلَها الوالِي، وكان عوناً لهم في تفريقها، وإن عرف الإمامُ من رجل أنَّه لا يؤدِّيها بنفسه، هل أن يقول له: إما أن تدفع بنفسك، أو تدفع إليَّ؛ حتى أوصل؟ فيه وجهان في بعض الشروح، ويجريان في المطالبة بالنُّذُور والكفارات. قَالَ الْغَزَالِيُّ: ثمَّ الإمَامُ إِذا نَصَّبَ سَاعِياً، فلَيَكُنْ جَامِعاً شَرَائِطَ الوِلاَيَةِ، وَمِنْ شَرَائِطِهِ أَنْ يَكُونَ فَقِيهاً بأَبْوَابِ الزَّكَاةِ وَلْيُعَلِّمَ السَّاعِي في السَّنَةِ شَهْراً يأْخُذُ فِيهِ صَدَقَةَ الأَمْوَال، وَلْيُسَمِّ الصَّدَقَاتِ وَيَكْتُبْ عَلَيْهَا للهِ، وَعَلَى نَعَمِ الفَيْءِ صِغَاراً لِيَتَمَيَّزَ أَحَدَ المَالَيْنِ عَنِ الآخَرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه ثلاثُ مسائلَ: إحداها: من نصبه الإمام ساعياً، فيشترط أن يكون مسلماً مكلَّفاً عدلاً حرّاً؛ لأنه نوع ولاية وتصرُّف في مال الغير، ويشترط أن يكون فقيهاً بأبواب الزكاة، يعرف ما يأخذ، ومن يدفع إليه، هذا إذا كان التفويض (¬1) عاماً، أمَّا إذا عين الإمامُ شيئاً يأخذه، لم يعتبر الفقْه (¬2)؛ قال الماورديُّ: "وكذا لا يعتبر الإِسلامُ والحرية (¬3)؛ لأنه رسالةٌ ولا ولايةٌ"، وهل يجوز أن يكون العامل هاشميّاً أو من المرتزقة؟ فيه خلافٌ سبق، وفي "الأحكام السلطانية" للماورديِّ -رحمه الله-؛ أنه يجوز أن يفوَّض إلَى من تَحْرُمُ عليه الصدقة من ذوي القربَى، لكن يكون رزقه من سهم المصالح [وإن قال الأخذ وحْدَهُ أو القسمةَ وحدها، لم يتولَّ، إلا ما قلد، فإن] أطلق التقليد، تولي الأمرين، وأنه إذا كان العامل جائزاً في أخذ الصدقات، عادلاً في قسمتها، جاز كتمها عنه، وأجزأ دفعها إليه، وإن كان عادلاً في الأخذ جائراً في القسم، وجب كتمها عنه، فإن أخذها طوعاً أو كرهاً، لم تجزئ، وعلى أرباب الأموال إخراجُهَا بأنفسهم، وهذا خلافُ ما ذكره في "التهذيب" أنه إذا دفع إلى الإمام الجائرِ، سقط الفرض عنه، وإن لم يوصله إلى ¬
المستحِقِّين إلا أنْ يفرق بين الدَّفْع إلى الإمام، والدفع إلى العامل (¬1). الثانية: سبق في الزكاة أنه يعلم في السنة شهرٌ يؤخذ فيه الصدقات، وذكر بعض المتأخرين: أن ذلك واجبٌ، وصرَّح صاحبُ الكتاب في "الزكاة": بالاستحباب، وهو الوجه، ثم إنه أضاف الإعلام هاهنا، وقال في كتاب الزكاة: "إلى الساعي"، فقال هاهنا: "وليعلم السَّاعي" وقال هناك: "ويستحب للساعي أن يعلّم الساعي في السنة شهراً ومنهم من نسبه إلى فعل الإمام والأمر فيه قريب، والإمام يعين الساعي، والسَّاعِي يعلِّم القَوْمَ". الثالثة: وسم النَّعَم مباحٌ في الجملة، ورَسْمُ نَعَمِ الصدقة والفيء إلَى أن تفرَّق مسنُونٌ؛ خلافاً لأبي حنيفةَ -رحمه الله- حيث كرهه. لنا: ما روي عن أنس -رضي الله عنه- قال: "غَدَوْت إلى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِعَبْدِ اللهِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ لِيُحَنكِّهُ، فَوَافَيْتُهُ [وَ] في يَدِهِ المَيْسَمَ يُسَمُّ ابِلَ الصَّدَقَة" (¬2). وفيه فائدةُ تميُّزِ هذه النَّعَم عن غَيْرها، وأنْ يردَّها واجدُها، لو شردت وضلَّت وأن يَعْرِفها المتصدِّق، فلا يعودَ إليَها؛ فإنه يكره أن يتصدَّق بشيء، ثم يشتريه، هكذا قاله الشافعيُّ -رضي الله عنه- واعترض عليه بأنه وإن عرف أن صدقةٌ، [فلا يعرف أنه صدقته، والمكروه أنه يشتري ما يتصدق لا مطلق الصَّدَقَة، والجواب: أنه إذا عَرَفَ أنه صدقة] (¬3)، احترز؛ لئلا يقع في المكروه احتمالاً، وهذه فائدةٌ، ثم إنه إذا عرف أنه صدقةٌ، فقد يعرف أنه صدقته؛ لاختصاص التصدق بذلك النوْع به، وليكن الوسمُ عَلَى موضع صلْب ظاهر، لا يكثر الشعْر عليه والأولى في الغنم الآذان، وفي الإبل والبقر: الأفخاذُ، ويكره الوسم على الوجْهِ (¬4)، وقد ورد النهْيُ عنه في روايةِ جابر -رَضِيَ الله ¬
عنه (¬1) - ويجعلُ ميسم الغنم ألْطَفَ من ميسم البقر، وميسمُ البقر ألطفَ من ميسم الإبل؛ بحسب تفاوت جثتها، ويميز نعم المصدَّقة عن نعم الفيء، فيكتب على نعم الجَزْيَة: "جزية أو صَغَارٌ"، وعلى نعم الصدقة "صَدَقَة أو زَكَاة أو لله تعالى". ونص الشافعيُّ -رضي الله عنه-: على سمة لله واستبعده بعْضُ مَنْ شرح هذا الكتاب؛ لأن الدوابَّ تَمَعَّك في النجَاسات، وتضرب أفخاذها بأذنابها وهي نجسة، فَلْيُنَزَّهُ اسم الله تعالى عنها، وقد رأيتُ هذا الاستبعادُ لبعض المتقدِّمين، مِمَّن شرح "المختصر"، وذكر إِشكالاً آخر، وهو أن الوسم تعذيبٌ للحيوان، والغرض منه التمييزُ، وأنه يحصلُ بحرف واحدٍ؛ فوجب أن يقنع به، ويجوز أن يجاب عن الأوَّل؛ بأنَّ إثبات اسم الله تعالَى هاهنا لغرضِ التمييزِ والإعلام، لا على قصد الذِّكْر والتبرك، ويختلف التعظيم والاحترام بحسب اختلافِ المَقصود؛ ألا ترى أن الجنب يحْرُمُ عليه قراءة القرآن، ولو أتى ببعض ألفاظه، لا على قصد القراءة لا يحرم. وعن الثاني: بأن الغرض ظهوره وسهولةُ الوقوف عليه؛ وذلك لا يحصل بالحرف الواحد، وكما يجوز الوسْمُ للحاجة، يجوز أن يخصَى ما يؤكلُ لحمه في الصغر؛ لأنه يؤثر في طيب اللحمِ، ولا يجوز في الكِبَر، ولا أن يخصَى ما لا يؤكل لحمه (¬2). قَالَ الْغَزَالِيُّ: السَّادِسَةُ صَدَقَةُ التَّطَوعِ غَيْرُ محَرَّمَةٍ عَلَى الهَاشِمِيِّ، وَصَرْفُهَا سِرّاً وَإِلى الأَقَارِبِ وَالجِيرَانِ أفْضَلُ، وَالاسْتِحْبَابُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ آكَدُ، وَمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ لِنَفَقَةِ عِيَالِهِ فَلاَ يُسْتَحَب لَهُ التَّصَدُّقُ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ وَوَجَدَ مِنْ نَفسِهِ مُنَّةَ الصَّبْرِ عَلَى الإِضَافَةِ اسْتَحِبَّ لَهُ التَّصَدُّقُ بِالجَمِيعِ، وإلاَّ فَلاَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ لِأَحَادِيثَ وَرَدَتْ في البَابِ اسْتَقْصَيْنَاهَا في البَسِيطِ وَالوَسِيطِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. تَمَّ رُبْعُ المُعَامَلاَتِ وَيَلِيهِ رُبْعُ المُنَاكَحَاتِ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ والصَّلاةَ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: صدقة التطوُّع مستحبةٌ؛ قال الله تعالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة- 245] الآيةَ، وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "لِيَتَصَدَّقِ الرَّجُلُ من دِينَارِهِ، وَلْيَتَصَدَّقْ من دِرْهَمِهِ وَلْيَتَصَدَّقْ من صَاع بُرَّهِ" (¬1)، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"يَمْتَنِعُ مِنْ قَبُولِ الصَّدَقَةِ" (¬2) وهل كانت محرَّمة عليه؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد والقَفَّال: أحدهما: لا؛ لأن الهديَّة لا تحرُمُ عليه، فكذلك الصدقة لذوي القربَى، وكانَ امتناعه ترفُّعاً وتورعاً. وأظهرهما: نعم؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّا أَهْلُ بَيتٍ لاَ تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ" (¬3) وأما ذو القربَى، فالمشهور أنه لا يحرم عليهم صدقةُ التطوُّع، روي عن جعفرِ بنِ محمَّدٍ عن أبيه -رضي الله عنهم-: "أنَّه كَانَ يَشْرَبُ من سِقَايَاتِ بِئْرِ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَشْرَبُ مِنَ الصَّدقَةِ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْنَا الصَّدَقَةَ المَفْرُوضَةَ" (¬4). وفي "التتمة" حكايةُ قول آخر: أنه يَحْرُمُ الصدقة عليهم؛ لظاهر قوله: "لا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ"، وتحل الصدقة للأغنياء والكفار، وصرفها سراً أفضلُ؛ قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة:271] الآية. وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ" (¬5) وصرفها إلى الجيران أفضلُ، وإلى كل من هو أقربُ جواراً أفضلُ؛ روي عن عائشة -رضي الله عنها-: "أَنَّها قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّ لِي جَارَيْنِ، فإلَى أيُّتهما أَهْدَي؟ فَقَال -صلى الله عليه وسلم-: "إِلَى ¬
أقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَاباً" (¬1)، وصرفها إلى الأقارب أفضلُ؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "الصَّدَقَةُ عَلَى المِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِم ثِنْتَانِ؛ صدَقَةٌ، وَصِلَةٌ" (¬2) وكذلك الصلةُ المفروضةُ، والكفارات، صرفها إلى الأقارب أولَى، إذا كانوا بصفةِ الاسْتحقَاق، ولم يُلْزَمْ نفقتَهُم، والأَوْلَى أن يبدأ بذي الرحِمِ المَحْرَم؛ كالإخوة، والأخوات، والأعمام، والأخوال؛ ويقدَّم منهم الأقرب فالأقرب، وألحق بعضهم الزوجَ بهؤلاء، ثم يبدأ بذوي الرحِمِ غير المَحْرَم؛ كأولاد الأعمام والأخوال، ثم بالمُحَرَّم بالرِّضَاع، ثم بالمحرَّم بالمصاهرة، ثم بالمولَى، قال في التتمة: "من الأعلَى، وَمِنَ الأسفل" ثم بالجَار، وإذا كان في البلد أقاربُ وأجانبُ مستحِقُّون، فالأقاربُ أَولَى، وإن كان الأجانب [أَقرب] دوراً وإن كان الأقاربُ خارجينَ من البلد، فإن منعنا نقل الصدقات، فالأجانب أولَى، وإلاَّ فالأقاربُ الخارجون أولَى، وكذا في أهل البادية، إذا اعتبرنا مسافة القصر، [إن كان الأجانب والأقارب دون مسافة القَصْر] (¬3)، فالأقارب أولَى، وإن كانت دُورُهم أَبْعَدَ، وكذا لو كانوا جميعاً فوق مسافَةِ القَصْر، وإن كان الأجانبُ دون مسافة القَصْر، والأقارب فوقها، إن منعنا نقل الصدقات، فالأجانب أولَى، وإلاَّ فالأقارب. ويكره التصدُّق بالرديءِ، وبما فيه شبهة، وَاسْتِحْبَابُ التصدُّقِ في شهر رمضانَ آكد (¬4)؛ كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَتَصَدَّقُ فَأَجْوَدُ مَا يَكونُ في شَهْرِ رَمَضَانَ (¬5)، ومن له عيالٌ يلزمه نفقتهم، أو عليه دَيْن يحتاج إلى قضائه، فلا يستحبُّ له التصدُّقُ، وربما يقال: يُكرَهُ إلى أن يؤدِّيَ ما عليه، وما فَضَلَ عن حاجته وحاجة عياله، هل يتصدَّق بجميعه؟ حكى أبو سعد المتولِّي فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا يكره له ذلك، بل يستحب؛ لأن الصَّدِّيقَ -رضي الله عنه- تصدَّقَ بجميعِ ماله، والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قبله منْهُ" (¬6). ¬
والثاني: لا يستحبُّ؛ لما روي أنَّ رجلاً جاء إلَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِمِثْلِ البَيْضَةِ مِنَ الذَّهَب، وَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ خُذْهَا، فَهِيَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَمْلِك غَيْرَهَا، فأعْرَضَ عَنْهُ رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى أن أَعَادَ القَوْلَ عَلَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَخَذَهَا، وَرَمَاهُ بِهَا رَمْيَةً، لَوْ أَصَابَتْهُ، لَأَوْجَعَتْهُ، ثمَّ قَالَ: يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ، فَيَقُولُ: هَذِهِ صَدَقَةٌ، ثُمَّ يَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ وُجُوهَ النَّاسِ، خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهِرِ غِنًى" (¬1). وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب: أنه إن كان المتصدِّق قويّاً يجد من نفسه قوة الصبر على الإضافة، فيستحب له التصدُّق بالجميع، وإلاَّ لم يستحب (¬2)، بل ¬
يستبقي لنفسه ما يتعلل به؛ وعلى ذلك تُحْمَلُ الأحاديث المختلفة ظواهرها في الباب والله أعلم. وقد نجز الفراغ بعون الله تعالى من شرح ما تضمَّنه الكتاب ونردفه بمسائلَ مِنْ قسْم الصَّدَقات متفرِّقة ينبغِي للإمام والسَّاعِي وكلِّ من يفوَّض إِليه أمرُ تفريقِ الصدقاتِ أن يعتنِيَ بضبطِ المستحِقِّين، وبمعرفة أعدادِهِمْ، وأقدار حاجاتهم؟ بحيث يقع الفراغ من جميع الصدقات بَعْدَ معرفة أحوالِهِم أو معها؛ ليتعجل حقوقهم، وليأمن هلاك المال عنده. وينبغي أنْ يبدأ في القسمة بالعللين؛ لأن استحقاقهم أقوى، فإنهم يأخذون على وجه العوض، وأيضاً، فليتبين أن سهمه يوافق أجرته أم لا، ولا يجوز للإمام ولا للساعي أنْ يبيع ما يجتمع من مالِ الزكاةِ عنده، بل يوصِّلها بحالها إلى المستحِقِّين، إلا إذا وقعت ضرورةٌ؛ بأنْ أشرفَ المواشِي على الهلاك، أو كان في الطريق خطراً أو احتاج إلَى رد جبران أو إلى مؤنة النقل، فيبيع حينئذٍ، وإذا وجبتْ ناقةٌ أو بقرةٌ أو شاةٌ، فليس للمالك أن يبيع، ويقسم الثمن، بل يجمعهم ويدفع إليهم، والإمامُ أيضاً هكذا يفعل في جواب الأكثرين، وفي التهذيب؛ أنَّ الإمام إنْ رأى، فَعَلَ ذلك، وإن رأَى أنْ يبيع، باع وفرَّق الثمن عليهم (¬1). وإذا دفع الزكاة إلى من ظنه بصفة الاستحقاق، فَبَانَ غنياً أو من ذوي القربَى، أو عبداً أو كافراً، فالفرض ساقطٌ عن المالك بالدفْع إلى الإمام الَّذي هو نائب المستحِقِّين، ولا يجب الضمان على الإمَامِ فيما إِذا بأن غنيّاً؛ لأنه لا تقصير منْه ويستردُ من المدفوع إليه، سواءٌ أعلمه أنه زَكاة أم لا، فإد كان قد تلف غرمه، وصرف الغرم إلى المستحِقِّين، وفي سائر الصور المذكورة قولان: أصحُّهما: أنه لا يضمن أيضاً، كما لو بان الغِنَى. ¬
والثاني: يضمن، والفرق أنَّ الغِنَى مما يخفَى، ويعسر الوقوف على حقيقته، وسائر الصفات يمكن الوقوف عليها، فكان مقصِّراً بترك البحث، ولأن سائر الصفات أشدُّ منافاةً للزكاة من الغِنَى؛ لأن الكافر والعبد والهاشِميَّ لا يعطَوْنَ بحال، والغَنِيُّ يعطي بالغزْوِ وغيره، ومنهم من قطع بالقول الأول، وحكى الحَنَّاطيُّ قطع آخرين بالثاني، ولو دفع المالك بنفسه، ثم بأن أن المدفوع إليه كافر أو عبد أو من ذوي القربى، لم يسقط (¬1) الفرض. وفيه وجه ضعيف، وإنْ بَانَ غنيّاً، فقولان: أحدها: وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-: يسقط؛ لأن الغِنَى لا يتحقَّق، فيتعذَّر؛ كما لو دفع للإمام. وأصحهما: المنع؛ لأنه دفع ما عليه من الحق إلَى غير مستحِقِّه، فيضمن؛ كالدَّيْن يدفعه إلى غير مستحِقِّه، وليس كالإمام، فإنه نائب الفقراء وأمينُهم. وأيضاً: فالمالك بسبيل من أنْ يدفعه إلى الإمام، فتبرأ ذمته بِيقينٍ، والإمامُ بخلافه، وإذا لم يسقطِ الفرضُ، فإن كان قد ذكر أن المدفوع زكاةٌ، استرد إن كان باقياً، وغرِّم المدفوعُ إليه، إن كان هالكاً، ويتعلَّق بذمة العبد، إن بأن المدفوعُ إليه عبداً، وإن لم يذكر أنه زكاة، لم يستردَّ، ولا غرم، بخلافِ الإمام يستردُّ مطلقاً؛ لأن ما يفرقه الإمام يستردُّ مطلقاً؛ لأن ما يفرِّقه الإمام على الأصناف هو الزكاةُ غالباً، وغيره قد يتطوَّع بالصدقة، وهكذا فرَّقوا بينهما، والحكم في الكفارة إذا بَانَ المدفوعُ إليه غير مستحِقٍّ؛ كما في الزكاة. ومتَى يستحق أهلُ السُّهْمان الزكاةَ قال الشافعيُّ -رضي الله عنه-: "يستحقُّون يوم القسمة إلا العامل، فإنه يستحقُّ بالعمل"، وذكر في موضع آخر؛ "أنهم يستحِقُّون يوم الوجوب"، قال الأصحاب: وليس في المسألةِ اختلافُ قولٍ، لكن النصَّ الثاني محمولٌ على ما إذا لم يكنْ في البلد إلا ثلاثةٌ أو أقلُّ، ومنعنا نقل الصدقة، فيستحقُّون يوم الوجوب؛ حتى لو مات واحدٌ منهم، دفع نصيبه إلى ورثته، وإن غاب، أو أيسر، فحقه بحاله، وإن قدم غريبٌ، لم يشاركهم، والنصُّ الأول محمولٌ على ما إذا لم يكونوا محصورِينَ في ثلاثة، أو كانوا محصُورِينَ، وجوَّزنا نقْلَ الصدقات، فيستحقُّون بالقسمة حتَّى لا حقَّ لمن مات، أو غاب، أو، أيسر بعْدَ الوجوب، وقبل القِسْمَة، وإن قدم غريبٌ، شاركهم. ¬
وفي "فتاوى القفال -رحمه الله-: "أن الإمام لو لم يفرق ما اجتمع عنده من الزكَوَاتِ من غَيْر عُذْر، حتى تلف، ضمن والوكيل بالتفريق لو أَخَّرَ حتَّى تلف، لم يضمن؛ لأن الوكيل لا يجبُ عليه التفريقُ، بخلاف الإمام (¬1)، وأنه لو كانت له حنطةٌ عند غيره وديعة، فقال للمودَع: كُلْ منها كذا لنَفْسِكَ، ونوى كونه زكاةً، ففيه وجهان؛ لأن المالك لم يَكِلْهُ عليه، وَكِيْلُهُ لنفْسِه لا يُعْتَبَرَ، ولو كان قد وكَّلَه بشراءِ ذلك القَدْر، فاشترى، وقبض، ثم قال له المُوَكِّل: خذ لنفْسِك، ونوى كونه زكاةً، جاز؛ لأنه لا يحتاج أن يكيل لنفسه، وأنه لو كان له دَيْنٌ على غيره، فقال للمدْيُون: [اقض ما عليك على أنْ أرده إليك عن زَكَاتِي، فقضاه، صحَّ القضَاءُ، لم] (¬2) يلزْمه ردَّه إليه، ولو دفع إلى المديون دراهمَ زكاتِهِ عَلَى أن يردَّها إليه قضاءَ لدينه، لم يَجْزِه عن الزكاة، ولم يصحَّ قضاء الدَّين بها، وكذلك ذَكَر هذه الصورة "صاحب التهذيب" -رحمه الله- في "باب الشرْطِ في المَهْر" قال: "ولو قال المديونُ: ادفع، ديناراً من الزكاة، حتى أقضِيَ به دَينَكَ، ففعل، جاز عن الزكاة"، وهو بالخيار في أداء الدَّين منه، وفي "البحر" للقاضي الرويانيِّ: "أنه لو دفع الزكاة إلَى مسكينُ وأعده أن يردَّها إليه بالبيع أو الهبة، أو ليصرفَهَا المزكي في كسوة المسكين ومصالحه، ففي كونه قبْضاً صحيحاً احتمالان لأن التخليةَ لم تحصُل على التمام، وأنه لو دفع الزكاة إلى مسكين، وهو غير عارف بالمدفوع؛ بأن كان مشدُوداً في خرقةٍ أو كاغدٍ، لا يعرف جنسه وقدْرَه، فتلف في يد المسكين، ففي سقوط الزكاة احتمالانِ (¬3)؛ لأن معرفة القابض لا تشترط، فكذلك معرفة ¬
الدافع، وذكر الإمام -رحمه الله- في "النهاية"؛ أنه لو أقام مدَّعى الغُرْم بينةً، على الغُرْم وأخذ الزكاة، ثم بَانَ كذب الشهود، ففي سقوط القرض القولانِ فيما إذا دفع الزكاةَ إلَى من ظنه فقيراً، فَبَانَ غناه، وفي فتاوى صاحب "التهُذِيب": أنه لو استقرضَ المكاتَبُ وأدَّى النجوم، فعَتَقَ، لم يُصْرَف إليه سهْمُ الرقاب، ولكن يصرف إليهم سهْمُ الغارمين؛ كما لو قال لعبده: أنتَ حُرٌّ على ألْفٍ، فقبل، عَتَقَ، ويعطي الألف من سَهْم الغارمين. والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب. وهذا آخر ربع المعاملات من شرح الوجيز (¬1) (¬2) يتلوه ولله المشيئة في الذي يليه كتاب النكاح والحمد لله أولاً وأخيراً وظاهراً وباطناً حمداً كثيراً طيباً مباركاً، صلَّى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وسلَّم تسليماً كثيراً كثيراً، وحسبُنا الله ونِعْم الوكيل ¬
كتاب النكاح
كِتَابُ النِّكَاحِ (¬1) وَالنَّظَرُ في خَمْسَةِ أَقْسَامِ: (القِسْمُ الأَوَّلُ: في المُقَدِّمَاتِ) وَهِيَ خَمْسٌ: (الأُولَى) خَصَائِصُ رَسُولِ اللهِ. صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.، وَقَد خُصَّ مِنَ الوَاجِبَاتِ بِالضُّحَى، وَالأَضْحَى (و)، وَالوَتْرِ (ح)، وَالتَّهَجُّدِ (و)، وَالسِّوَاكِ (ح). قال الرَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ الله-: الأَصْلُ في النِّكَاحِ بَعْدَ إِجْمَاعِ أَهلِ الْمِلَلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وقولهُ تعالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] ونحو هذا من من الآيات، ومَا رُوِيَ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قَالَ: "تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا" (¬1)، وَقَالَ- صَلَّى الله عَلَيهِ وَسلَّمَ-: "النِّكَاحُ سُنَّتِي، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ ¬
سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي" (¬1)، ونحوهما من الأَخْبَارِ. ¬
وَفِقْهُ الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- في الكتابِ مُفْتَتَحَ من "الْمُختَصَرِ" بذكر خَصَائِصِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النِّكَاحِ، وأضيف إليه خصائصه في سَائِرِ الأُمُورِ. وَسَبَبْ تَخْصِيصِ النِّكَاح بذكرها أَنَّ خصائصه في النِّكَاحِ أكثر، وأشهر، ثم هو مُثَنَّى بباب "التَّرْغِيبِ فِي النِّكَاحِ"، وطَرَفٍ من أحكام النَّظَرِ، الذي هو من مقدِّمات النِّكَاحِ، ثم للنِّكَاح أَرْكَانٌ، لا بُدَّ من اجتماعها، وموانع لاَ بُدَّ من ارتفاعها، ليصحَّ، وإذا صَحَّ، فقد يعرض ما يوجب الخِيَارَ، وقد لا يعرضُ، فَرَتَّبَ الْمُصَنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- مَسَائِلَ الكتاب علَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: فِي قَوَاعِدَ تجري مجرى المقدِّمَات. وثانيها: في الأرْكَان. وثالثها: في المَوَانِعِ. ورابعُها: فِي مُوْجِبَاتِ الْخِيَارِ. وأما الخامسُ: فهو مَعْقُودٌ لبيان فُصُولٍ تَنْخَرِطُ في الباب سُبِّبَتْ عن الأقسام الأربعة. القسمْ الأَوَّل: في المقَدِّمَاتِ: منها بَيَانُ خَصَائِصِ رسولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في النِّكَاحِ وغيره. قال الأَئِمَةُ- رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى-: وهي تتنوع أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ: أحدها: ما اخْتَصَّ به-صلى الله عليه وسلم- من الواجبات، والحكمة فيه زيادةُ الزُّلْفَى في الدرجات، فلم يتقرَّبِ المتقربُونَ إلى الله بمثل أداء ما افْتُرِضَ عَلَيْهِمْ (¬1). ¬
فمنها: صَلاَةُ الضُّحَى (¬1). رُوِيَ عنْ رَسُول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّه قال: "ثَلاَثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ، وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمُ: السِّوَاكُ، وَالْوَتْرُ، وَالأُضْحِيَةُ" (¬2) وفي "الجُرْجَانِيَّاتِ" لأبي العبَّاسِ الرويَانِيِّ وجهٌ آخَرُ: أنها لم تكن واجبةً عليه. ومنها: الوِتْرُ والتهجُّد (¬3). ¬
قال اللهُ تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] أي: زيِادةً على الفرائض. وعن عائشةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "ثَلاَثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرِيضَةٌ، وَهُنَّ لَكُمْ سُنَّةٌ: الْوِتْرْ، والسِّوَاكُ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ" (¬1). وفي قيام اللَّيل وجْهٌ: آخرُ أنه نُسِخَ وجوبُهُ في حقِّهِ، كما في حقِّ الأُمَّةِ، وهذا ما أورده الشيخُ أبو حامدٍ، وفي الوَتْرِ، أيضاً وجهٌ حكاه أبو العباس الرُّوَيانيُّ: أنه لم يَكُنْ واجباً عليه. واعلم أن مقْتَضَى الخبرِ الَّذي نقلناه عن رواية عائشةَ -رضي اللَّهُ عنها-، وكلامِ الأئمةِ هنا أنَّ الوِترَ غيرُ التهجد (¬2) المأمور به، وذلك يخالِفُ ما مَرَّ في "باب صلاة التَّطَوُّعِ" أنه يُشْبِه أن يكون الوتر هو التهجُّدَ، ويعتضد به الوجه المذكور هناك عن رواية القاضي الرُّويَانيِّ، وكأنَّ التغايُرَ أظْهَرُ. ومنها: السِّوَاكُ. كانَ وَاجِباً عَلَيْهِ؛ للخبرِ، وفيه وَجْةٌ آخَرُ: أنه كان مُسْتَحَبّاً (¬3)، كما في حقِّ الأُمَّةِ. وليعلَم من لفظ الكِتَاب: "الأَضْحَى" "والوِتْر"، و"التهجد"، و"السِّوَاك": أربعتها، بالواو، لما ذكرنا. ¬
ومما عُدَّ من مأموراته: المُشَاورة، كما قال الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي اْلأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وهَلْ كانَتْ واجبةً، أو مستحبة؟ فيه وجهان: أظهرهما: أولهما. وكان يَجِبُ عليه، إذا رأَى منكراً أن ينكر عليه، وُيغَيِّرَهُ؛ لأنّ اللَّهَ تعالى وعده بالعِصْمة، والحفْظ (¬1). وكان يجبُ عليه مصابَرَةُ العَدُوِّ، وإن كثر عَدَدُهم، والأمة إنما يلزمها الثبات، إذا لم يزدْ عدد الكفار على الضِّعْف. وكان يجب عليه قضاء دَيْنِ مَنْ ماتَ من المسْلمين مُعْسِراً. وحكَى الإِمَامُ وجهاً آخرَ: أنه لم يكُنْ واجباً علَيْه، وإنما كان يقضيه تكرُّماً، وهل كان على الأئمة قضاء دَيْنِ المُعْسِرِ من مال المصالح؟ فيه وجهانِ عن رواية الشيخ أبي علي (¬2). وقيل: كان يجبُ عليه، إذا رأَى شيئاً يعجبه أن يقول: لَبَّيكَ إِنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرَة. [و] هذا في غير النِّكاحِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَتَخْييرِ نِسَائِهِ (و) بَيْنَ اخْتِيَارِ زِينَةِ الدُّنْيَا أَوِ اخْتِيَارِهِ، وَمَنِ اخْتَارَتْةُ هَلْ يَحْرُمُ طَلاَقُهَا؟ فِيهِ خَلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أمَّا في النِّكَاحِ، فقد أوجب اللَّهُ تعالى عَلَى رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تخييرَ نِسَائِهِ بيْن مفارقته، واختيار زينة الحياة الدُّنْيَا (¬3)، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ¬
قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} الآيَتَيْنِ [الأحزاب: 28]. والمعنَى فيه أنَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اثَرَ لنفسهِ الفَقْر، والصَّبْر عليه، فأمر بِتَخْيرِهِنَّ؛ كيلا يكون مُكْرِهاً لَهُنَّ على الضَرَ والفقر. وحكى الحنَّاطِيُّ وجهاً: أن التخييرَ لم يَكنْ واجباً عليه، وإنما كان مندوباً، والمشهورُ الأَوَّلُ. ثم إِنَّ رسولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما خَيَّرَهُنَّ، اخْتَرْنَهُ، والدَّارَ الآخِرَةَ، فَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التَّزَوُّجَ عليهن، والتَبَدُّلَ بِهِنَّ؛ مُكَافَأَةً لهن عَلَى حُسْن صَنِيعِهِنَّ، فقال تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] ثم نَسَخَ ذلك؛ لتكون المِنَّةِ لرسول الله -صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتركِ التَّزَوُّجِ عليهن، فقال تعالَن: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50]، وقالت عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عنها-: "مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ"، تعني: اللاتي حُظِرْنَ عليه. وعن أبي حَنِيْفَةَ -رضي الله عنه- أنه دام ذلك التحريم، ولم ينسخ، وهل حُرِّمَ علَى رسولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَلاَقُهُنَّ (¬1) بعد ما اخْتَرْنَهُ؟ فيه وجهان: أحدهما: نَعَمْ؛ كما لو رغبت عنه امرأة، حُرِّمَ عليه إمساكُهَا. والثاني: لا؛ كما لو أرادَ الواحدُ من الأمَّةِ تطليقَ زوجته، لا يُمْنَعُ منه، وإنْ رَغِبَتْ فِيهِ. قال الإمام -رَحِمَهُ اللَّهُ- وهذا أظهرُ، وخَصَّ بَعْضُهُمُ الوجهين بِالطَّلاف، عَقِيبَ اختيارهن إياه، وقطع أنه لا حجر في الطلاق الْمُنْفَصِلِ عن التَّخْيِيرِ وجوابه. ولو قُدِّرَ أن واحدةً مِنْهُنَّ اختارتِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، هل كان يحصل الفراقُ بنفس الاختيار؟ فيه وجهان: أحدهما: نَعَمْ؛ كالواحدِ من الأمة، إذا خَيَّرَ زوجته، وَنَوَى تَفْويضَ الطَّلاق إليها، فاختارَتْ نفسها. ¬
وأصحُّهما: لاَ؛ لقوله تعالَى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28] فلو حصل الفراق باختيارها الدنيا، لما كان للتسريح معنى؛ ولأنه تخييرٌ بين زينة الدنيا والآخرة، فلا يحصل الفراق باختيار الدُّنْيَا، كما لو خُيَّرَ الْوَاحِدُ من الأمة زوجته، بَيْنَ الدُّنْيَا والآخرة، فاختارتِ الدُّنْيَا. وهل يعتبر أن يكون جوابُهُنَّ على الفور؟ فيه وَجْهَانِ مبنيَّانِ على الوجهين في حُصُول الْفِرَاقِ بنَفْس الاختيار. فإن قلْنا بحصوله، وَجَب أن يَكُونَ على الْفَوْرِ. وإن قلْنا لا يحصل، جاز فيه التَّرَاخِي. وهذا ما أورده القاضِي ابنُ كَجٍّ؛ واحتج لهذا الْوَجْهِ بأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما أنزلت آية التخيير، بَدَأ بِعَائِشَةَ -رضي اللهُ عنها -؛ وقال: "إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرَاً، فَلاَ تُبَادِرِينِي بالْجَوَابِ؛ حَتَّى تسَتأمري أَبَوَيْكِ" (¬1). واعترض الشيخُ أبو حَامِدٍ بِأَنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَرَّحَ بِمَدِّ خِيَارِهَا هُنَاكَ، إِلَى مُرَاجَعَةِ اْلأبَوَينِ، والْكَلاَمُ فِي التَّخْييرِ الْمُطْلَقِ. فإن جعلناه على الْفَوْرِ، فيمتدُّ بامتداد المَجْلِسِ، والمعتبر ما يُعَدُّ جواباً في الْعُرْفِ. حكى القاضي أبو سعيد الهَرَوِيُّ فيه وجهين، وفي "الْجُرْجَانِيَّاتِ" لأبي الْعَبَّاسِ الرُّوَيانِيِّ، ذَكَرَ وَجْهَيْنِ في أنَّه، هل كان يجوز للنبي -صلي اللَّهُ عليه وسلم- أن يجعل الاختيار إلَيْهِنَّ قبل المشاورة معهن؟ فيه وجهين في أنه، هل كان قَوْلُهَا: اخترت نفسي، تصريحاً بالْفِرَاقِ؟ ووجهين في أنَّه، هل كان يحل له التزوُّج بها بعد الفِرَاقِ؟. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: (وَأَمَّا المُحَرَّمَاتُ) فَقَدْ حُرِّمَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَالصَّدَقَةُ، وَأَكْلُ الثَّوْمِ عَلَى وَجْهٍ، وَالأَكْلُ مُتَّكِئاً عَلَى وَجْهٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: النوْعُ الثَّاني: ما اختصَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- به من الْمُحَرَّمَاتِ، وَهِيَ قِسْمَانِ. أحدهما: المحرمات من غير النِّكَاحِ، فمنها: الزكاة، ويشاركُهُ في حرمتها أُولُو الْقُرْبَى؛ لكنَّ التحريمَ عليهم بسببه أيضاً، فالخاصيَّة عَائِدَةٌ إليه. ومنها: الصَّدَقَةُ، على أظهر القولَيْنِ؛ على ما سبق في قسم الصَّدَقَاتِ (¬1). ومنها: أَنَّهُ كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهَ وَسَلَّمَ- لا يأْكُل الثومَ، والبَصَل، والكُرَّاثَ (¬2)، وهل كان حَرَاماً عليه؟ فيه وجهان. أشبههما: لا؛ لكنه كان يمتنع منه كيلا يتأذَّى به الْمَلَكُ. ¬
رُوِيَ أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيْهَا بُقُولٌ، فَوَجَدَ لَهَا رِيْحاً، فَقَرَّبَهَا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: "كُلْ؛ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لاَ تُنَاجِي" (¬1). ومنها: أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان لا يأكل مُتَّكِئاً (¬2)، وروي عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قَالَ: "أَنَا آكُلُ كَمَا تَأْكُلُ الْعَبِيدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا تَجْلِسُ الْعَبِيدُ" (¬3)، وهل كان ذلك حراماً عليه أو مكروهاً كما في حَقِّ الأمة؟ فيه وجهان. أشبههما: الثاني. ومما عُدَّ من الْمُحَرَّمَاتِ: الخَطّ (¬4) والشِّعر. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال الله تعالى: {وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] وقال عزّ وجلّ: {وَمَا
عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، وإنما يتجه القول بتحريمهما ممن يقول: إنه -عليه السَّلامُ- كان يحسنهما وقد اختلفوا فيه. فقيل: كان يحسنهما لكنه كان يمتنع منهما، وااْلأَصَحُ: أنه كان لا يحسنهما. ومنها: كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ- يُحَرَّمُ عليه إذا لبس لأُمَتَهُ (¬1) أَنْ ينزعها، حتى يَلْقَى العدوَّ، وَيُقَاتِلَ. ¬
وعن رواية الشَّيخِ أبي علي أنه كان ذلك مكروهاً لا محرماً، والمشهورُ الأَوَّلُ. قال في"التهذيب": وقد قيل بناءً عليه إنه كان -عليه السَّلامُ- لا يَبْتَدِئُ تطوعاً إلاَّ لزمه إتمامه (¬1). ومنها: قال في "الإِنصاح": كان لا يجوزُ له مَدُّ الْعَيْنِ إِلى ما متع به الناس، قال الله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} الآية [طه: 131]. ومنها: خَائِنَةُ الأَعْيُنِ، مُحَرَّمَةٌ عليه، قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا يَنْبَغِي لِنَبيٍّ خَائِنَةُ الأَعْيُنِ" (¬2) وَفَسَّرُوهَا بالإِيماء إلى مباح من ضرب أو قتل على خلاف ما يظهر ¬
ويشعر به الحال، وإنما قِيلَ له: خَائِنَةُ الأَعْيُنِ؛ لأنه يشبه الخيانة من حيث إنه يخفى، ولا يحرم ذلك على غيره إلاَّ في مَحْظُورٍ. واستدل صاحب "التَّلْخِيصِ" بتحريم خائنة الأَعْيُنِ على أنه لم يكن له أن يخدع في الحرب، وخالفه المعظم لما اشتهر أنه كان إذا أراد سفراً وَرَى بغَيْرِهِ (¬1). وفي "الْجُرْجَانِيَّاتِ" ذَكَرَ وَجْهَيْنِ في أَنَّهُ هل كان يجوز له أن يصلي على من عليه دَيْنٌ؟. وطريقين في أنه هَلْ يَجُوزُ له أَن يَصَلِّي مَعَ وُجُودِ الضَّامِنِ (¬2). قال: ولم يكن له ¬
أن يَمُنَّ ليستكثر، قال اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] أي لا تعط شيئاً، فتأخذ أكْثَرَ منه. قال الْمُفَسِّرُونَ: وهذا خاصة للنَّبِيِّ -صَلَّىَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإِمْسَاكُ مَنْ كَرِهَتْ نِكَاحَهُ، وَنِكَاحُ الحُرَّةِ الكِتَابِيَّةِ وَالأَمَةِ عَلَى وَجْهٍ. قال الرَّافِعِيُّ: القسم الثاني: المُحَرَّمَات المتعلقة بالنِّكَاحِ. فمنها: إمساك من كَرَهَتْ نِكَاحَهُ، ورغبت عنه، واستشهد له بأن النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نكح امْرَأَةً ذَاتَ جَمَالٍ، فَلُقِّنَت أَن تقول لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَعُوَذُ باللَّهِ مِنْكَ. وقيل لها: إِنَّ هذا كَلاَمٌ يُعْجِبُهُ، فلما قَالَتْ ذلك، قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَقَدِ اسْتَعَذْتِ، بِمُعَاذٍ، الْحَقِي بِأهْلِكِ " (¬1). ومنها: هل كان يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ؟ فيه وَجْهَانِ: ¬
أَحَدُهُمَا: ويحكى عن أبي إِسْحَاقَ-: نَعَمْ، كالأَمَةِ، وكما كان يحل له ذَبَائِحُ أهل الكتاب. وأصحهما: المنع، وبه قال ابن سُرَيجٍ والقاضي أبو حامدٍ والإِصْطَخْرِي؛ رحمهم الله تعالى لأنها تكره صحبته؛ ولأنه أَشْرَفُ من أن يضع ماءه في رحمهما، وهي كَافِرَةٌ؛ ولأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "زَوْجَاتِي فِي الدُّنْيَا، زَوْجَاتِي فِي الآخِرَةِ" (¬1)، والجنة مُحَرَّمَةٌ على الكافرين، لكن القائل الأول قال: لو نكح كتابية لهديت إلى الإِسلام كرامة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ويجري الوجهان في التَّسَرِّي باْلأَمَةِ الكتابية. وهل كان يحل له نكاح الأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ؟ فيه وجهان: أحدهما: وَيُحْكَى عن ابن أبي هُرَيْرَةَ-: نعم، كما يحل للأمة، والنكاح أوسع عليه من الأمة. وأصحهما: المنع، وقد قطع به قاطعون. ووجه المنع بأن نكاح الأمة (¬2) هنا مَشْرُوطٌ بالخوف من العَنَتِ، والنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَعْصُومٌ، وبفقدان طول الحرة ونكاحه -صلى الله عليه وسلم- مستغن عن المهر ابتداءً وانتهاءً، ولأن من نكح أَمَةً كان ولده منها رقيقاً، ومنصب النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَنزَّهٌ عن مثل ذلك. لكن من جَوَّزَ له نكاح الأَمَةِ قال: خَوفُ الْعَنَتِ، إنما يشترط في حَقِّ الأَمَةِ، وفي اشتراط فقدان الطُّولِ تَرَدَّدَ عن الشيخ أبي مُحَمَّدٍ وغيره. وأما رق الولد ففي التزامه وَجْهٌ مُستَبعَدٌ، والصحيحُ أنه لو نكح أُمَةً كان لا يرق ولده منها (¬3)، وإن قلنا بجريان الرِّقِّ على العرب، وفيه قولان يذكران في موضعهما. وعلى هذا فعن أبي عَاصِمٍ العبادِيِّ: أن عليه الْقِيْمَةَ رِعَايةً لحق المولى. ¬
وعن القاضي حُسَيْن: أنه لا يلزمه قيمة الْوَلَدِ بخلاف ولد المغرور؛ لأن هناك فات الرِّقُّ عليه، وهاهنا لا يمكن تقدير الرق ويوافق هذا ما حكاه الإِمَامِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنه لو قدر نكاح غرور في حق النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يَلْزَمْهُ قيمة الْوَلَدِ؛ لأنه مع العلم بالحال لا ينعقد رقيقاً، ولا ينتهض الظَّنُّ دافعاً للرق، وَطَرَدَ الحناطيُّ الوجهين: في أنه هل كان يحل له نِكَاحُ الأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ؟. وأما وَطْؤُهَا بملك اليمين، فأظهر الوجهين: حِلَّهُ، وبه أجاب الشَّيْخُ أبو حامدٍ. وقوله في الكتاب: "وإمساك من كَرهَتُ نِكَاحَهُ، ونكاح الحرة الكتابية والأمة، على وجه" لم يردْ به عود الوجه إلى المسائل الثلاث، وإنما أراد الخلاف في المسألتين الأخيرتين، لكن يمكن رده إلى المسألة الأولى أيضاً؛ لأن في شرح الجويني ذُكِرَ وَجْهٌ غَرِيْبٌ أنه كان لا يحرم عليه إمساك من كَرِهَتْ نكاحه، وإنما يفارقها يكَرُّمَاً. قَالَ الغَزَالِيُّ: (أَمَّا التَّخْفِيفَاتُ) فَقَدْ أُحِلَّ لَهُ الوِصَالُ وَصَفِيَّةُ المَغْنَمِ، وَالاسْتِبْدَادُ بِالخُمْسِ، وَدُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْر إحْرَامٍ، وَجَعْلُ مِيرَاثِهِ صَدَقَةً. قال الرَّافِعِيُّ: النوع الثالث: التخفيفات والمباحات، وما أبيح له دون غيره قسمان أيضاً: أحدهما: القسم الأول: ما يتعلق بغير النكاح، فمنه الوِصَالُ في الصَّومِ فهو مُبَاحٌ (¬1) للنبي -صلى الله عليه وسلم- مَكرُوهٌ للأمة على ما مَرَّ في الصَّوْم". ومنه: اصطفاء ما يختاره من الغنيمة قبل القسمة من جارية وغيرها (¬2)، ويقال: ¬
لذلك الْمُخْتَارُ: الصفِيُّ والصَّفِيَّةُ، والجمع: الصَّفَايَا. ومن صفاياه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ، اصطفاها، وأعتقها، وتزوجها، وَذُو الفَقَار. ومنه خمس خمس من الفيء والغنيمة، كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-. والاستبدادُ (¬1) بأَرْبَعَةِ الأخماس من الفيء كانت له -أيضاً- على ما ذكرنا من"قسم الفيء والغنيمة". ومنه: دُخُولُ مَكَّةَ بغير إحْرَامٍ، كان مباحاً له، نقله صَاحِب "التَّلْخِيصِ" وغيره، وفي حقِّ الأَمَةِ خِلاَفٌ مذكور في "الحج" ومنه: أنَّ ماله لا يورث روي عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نوْرَثُ " (¬2). ثم حكى الإِمامُ وجهين: أحدهما: أن ما تركه بَاقٍ على ملكه ينفق منه على أهله، كما كان ينفق منه في ¬
حياته. قال: وهذا هو الصَّحِيحُ. والثاني: أن ما خلفه سبيله سبيل الصدقات؛ لما رُويَ أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ" وهذا ما أورده أبو العبَّاسِ الرُّوْيانِيُّ في "الْجُرْجَانِيَّاتِ"، ثم حكى وجهين في أنه هل يصير وقفاً على ورثته؟ ووجهين لو صار وقفاً من أنه هل هو الواقف بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا تَرَكْنَاهُ صُدَقَةٌ"، ويجوز أن يعلم في الكتاب بالواو، لما ذكرنا (¬1). قوله في الكتاب: "وجعل ميراثه صدقة"، ثم صاحب الكتاب جعل هذه الخَصْلَةَ من جملة التخفيفات، وكان المعنى فيه أنْ جعله صدقة لا يورث زيادة للقربة (¬2)، ورفعة للدرجات (¬3). والأكثرون عدوها من الكرامات وهي من النوع الرابع من خصائصه -صلى اللهِ عليه وسلم-[لا] مما اختص به من التخفيفات. وكان له أن يقضي بعلم نفسه (¬4)، وفي غيره قولان مشهوران، وأن يحكم لنفسه ولولده (¬5)، وأن يشهد لنفسه ولولده (¬6)، وأن يقبل شهادة من يشهد له. ونقل أبو العبَّاسِ الرُّويَانِيُّ في حكمه لنفسه ولولده وجهين. وكان له أن يحمي لنفسه (¬7)، والأئمة بعده لا يحمون لأنفسهم، كما سبق في "إحياء الْمَوَاتِ"، وأن يأخذ الطعام والشراب من المالك، وإن احتاج إليهما (¬8)، وعليه البذلُ، ويفدي بمهجته مهجة رسول الله -صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لأنَّ رسول الله - ¬
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وكان لا ينتقض وُضُوءَهُ بالنَّومِ (¬1). وذكر أبو العباس فيه وجهاً آخَرَ غريباً، وكذلك حكى وجهين في انتقاض وضوئه باللمس (¬2)، وفيما حكى صاحب "التلخيص" أنه كان يجوز له أن يدخل المسجد جُنُباً، لم يسلمه القَفَّالُ، وقال: لا أخاله صحيحاً (¬3)، وأنه كان يجوز له القتل ¬
بعد الأمان (¬1)، وخطئوه فيه. وقالوا: من يحرم عليه خائنة الأعْيُنِ كيف يجوز له قَتْلُ من أَمَّنَهُ؟!. وأنه كان يجوز له لَعْنُ من شاء من غير سَبَبٍ يقتضيه؛ لأن لعنته رحمة، واستبعده الأئمةُ أيضاً. نعم روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عنِ النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ- قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدَاً لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَإِنَّمَا أنَا لَبَشَرٌ، فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ آذَيْتُةُ أَوْ شَتَمْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ، فاجْعَلِهَا لَهُ صَلاَة، وَزِكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (¬2). فمن شتمه، أو لعنه جعل ذلك قربة له بدعائه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا قَرِيبٌ من جعل الْحُدُودَ كفارات لأهلها (¬3)، واللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: والزِّيَّادَةُ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَفِي الزِّيَّادَةِ عَلَى التِّسْعِ خِلاَفٌ، وَكَذَا فِي في انْحِصَارِ طَلاَقِهِ فِي الثَّلاَثِ، وَيَنْعَقِدُ نِكَاحُهُ بِلَفْظِ الهِبَةِ وَبِغَيْرِ مَهْرٍ، وَإِذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى امْرَأَةٍ فَرَغِبَ فِيهَا وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ طَلاَقُهَا لِيَنْكِحَهَا، وَفِي انْعِقَادِ نِكَاحِهِ بَغَيْرِ وَلِيٍّ وَشُهُودٍ وَفِي الإِحْرَامِ خِلاَفٌ (و)، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ القَسْمُ فِي زَوْجَاتِهِ. قال الرَّافِعِيُّ: القسم الثاني من التخفيفات مما يتعلق بالنكاح: فمنه: الزيادة على أَرْبَعِ نِسْوَهٍ: ¬
مات رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عن تسع (¬1) وهل كان له الزيادةُ على تسع (¬2)؟ فيه وجهانِ: ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أحدهما: لا؛ لأن الأَصْلَ استواء النبي -صلى الله عليه وسلم- والأمة في الحكم إلاَّ أنه ثبت جواز الزيادة إلى تِسْعٍ، فيقتصر عليه. وأصحهما: الجواز؛ لأنه مَأَمُونٌ الجور، وقطع بعضهم بهذا الوجه وفي انحصار طلاقه في الثلاث وجهان، كالوجهين في انحصار عدد زوجاته، ورأى صاحب "التَّهْذِيبِ" الصَّحِيْحُ الانحصار كما في حَقِّ الأمَةِ.
ومنه في انعقاد نكاحه بلفظ الهبة (¬1) وجهان: أحدهما: المنع، كما في حَقِّ الأَمَةِ. وأظهرهما: وهو المذكور في الكتاب: الانعقاد؛ لقولِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} الآية [الأحزاب: 50]. وعلى هذا لا يجب الْمَهْرُ بالعقد، ولا بالدخول كما هو قضية الهبة، وَهَلْ يُشْتَرَطُ لَفْظُ النِّكَاحِ من جِهَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ في وجه: لا يشترط كما لا يشترط من جهة الواهبة. وفي وجه: يشترط لظاهر لقوله تعالى: {أَنْ يَسْتَنْكَحَهَا} [الأحزاب:50]، وهذا أرجح عند الشيخ أبي حَامِدٍ، هذا في انعقاده بلفظ الهبة. قال الأَصْحَابُ: وينعقد نكاحه بمعنى الهبة؛ حتى لا يجب المهر ابتداءٍ ولا انتهاءً. وفي "المجرد" للحَنَّاطيِّ وغيره وجه غريب أنه يجب المهر، وخاصية النبي -صلى الله عليه وسلم- هي الانعقاد بُلفظ الهبة (¬2). ومنه: إذا رغب النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- في نكاح امرأة فإن كانت خَلِيَّةً فعليها الإِجَابَةُ، ويحرمُ على غيره خِطْبَتِهَا، وفيه وَجْهُ، نقله القاضي ابن كَجٍّ. وإن كانت ذات زَوْجٍ، وجب على الزوج طلاقها؛ لينكحها وفي شرح "الجويني" وجةٌ: أنه لا يجب، وهو كوجه القاضي ابنِ كَجٍّ في الْخَلِيَّةِ واسْتَثْهَدَ صَاحِبُ "الْكِتَابِ" في "الْوَسِيطِ" على وجوب التطليق على الزوج بِقِصَّةِ زَيْدٍ -رضي ¬
اللَّهُ عنه (¬1) - قال، ولعل السِّرَ فيه من جانب الزَّوْجِ امتحان إيْمَانِهِ بتكليفه النُّزُولَ عن أَهْلِهِ، ومن جانب النَّبِيِّ -صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابتلاؤه ببلية التَّسْرِيَةِ، ومنعه من خَائِنَةِ الأَعْيُنِ، ومن الإِضمار الذي يخالف الإِظْهَارَ، ولا شَيءَ أَدْعَى إلى غَضِّ البصر من هذا التكليف. قال: وهذا مما أورد في التخفيفات، وعندي أنه غَايَةُ التَّشْدِيدِ؛ إذ لو كلف بهذا آحاد الناس لما فتحوا أعينهم في الشوارع والطرق. ومنه: في انعقاد نكاحه بغير وَلِيٍّ ولا شهود وَجْهَانِ: وَجْهُ الْمَنْعِ عموم قوله -صلى اللَّهُ عليه وسلم-: "لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ" (¬2). وأصحهما: الانعقاد؛ لأن اعتبار الولي المحافظة على الكَفَاءَة، ولا شك أنه فوق الأكفاء، واعتبار الشهود للأمن من الجحود، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يجحد، ولو جَحَدَتْ هي لم يلتفت إلى قولها على خلاف قوله. ومنه: في انعقاد نكاحه في الإِحرام وجهان: في وجه: ينعقد لما رُوِيَ أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "نكح مَيْمُونَةَ محرماً" (¬3). وفي وَجهٍ: لا، كما لا يحل له الوطء في الإِحرام، وَنِكَاحُ مَيْمُونَةَ في أكثر الروايات جَرَى، وهو حَلاَلٌ. وكلام النَّقَلَةِ بترجيح الأول أشبه. ومنه: في وجوب القسم عليه في زوجاته وجهان: أحدهما: وبه قال الإِصْطَخْرِيُّ -لا يجب لقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51] الآية. والآخر: أنه يجب؛ لأنه كان يُطَافُ به في المرض على نسائه، وكان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "هَذَا فَسَمِي فِيْمَا أَمْلِكُ، فَلاَ تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لاَ أَمْلِكُ" (¬4). ¬
والأول: هو المذكور في الكتاب، لَكِنَّ الثَّانِي أصبح عند الشيخ أبي حَامِدٍ والعراقيين، وتابعهم صاحب "التَّهْذِيبِ"، وحملوا قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51] على إباحة التَّبَدُّلِ بِهِنَّ بعد التحريم. وأكثر هذه المسائل، وأخواتها يتخرج على أصل اختلف فيه الأصحاب، وهو أنَّ النِّكَاحَ في حَقِّهِ هل هو كالتُّسَرِّي في حقنا؟. إنْ قُلْنَا: نَعَمْ، لم يَنْحصِرْ عدد منكوحاته ولا طلاقه، وانعقد نكاحه بلفظ الهبة. ومعناها: بغير ولي، وشهود وفي الإِحرام. ولم يجب عليه الْقَسَمُ، وإلاَّ انعكس الحكمُ، ويجوز أن يعلم لفظ الخلاف من قوله: "وفي الزيادة على التِّسْعِ خلاف"، بالواو لقطع من قطع بالجواز. وأن يعلم قوله: "وينعقد نكاحه بلفظ الهبة، وبغير الْمَهْرِ" بالواو. وكذا قوله: "وجب على الزوج طلاقها". وقوله: "ولم يجب عليه القسم في زوجاته". هذا شَرْحُ ما في الكتاب من الْمَسَائِلِ. ومما يدخل في هذا القسم، أنه كان يجوز للنَّبِيِّ -صلى اللَّهُ عليه وسلم- تزويج الْمَرْأَةِ مِمَّنْ شاء بغير إذنها وإذن وليها، ويزوجها من نفسه، ويتولى الطرفين بغير إذنها وإذن وليها. قال الحنَّاطِيُّ رحمه الله: ويحتمل أن يُقَالَ: لا يجوز إلاَّ بإذنها، وكان يحل له نكاح الْمُعْتَدَّةِ في أحد الوجهين (¬1). وهل كان يلزمه نفقات زوجاته؟. فيه وجهان (¬2): بناءً على الخلاف المهر. وكانت المرأة تحل له بتزويج الله تعالى، قال الله تعالى في قِصَّةِ زَيْنَبَ -رضي اللَّهُ عنها-: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، وقيل: إنه نكحها بنفسه وقوله تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا} أي: أحللنا لك نكاحها. وأعتق النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَفِيَّةَ -رضي الله عنها- ونكحها، وجعل عِتْقَهَا صَدَاقَهَا (¬3)، فمن الأصحاب من قال: أعتقها على شرط أن ينكحها، فلزمها الوفاء بخلاف ما في حقِّ الأَمَةِ. ¬
وقيل: جعل نفس العتق صداقاً، وجاز له ذلك بخلاف ما في حق الأَمَةِ (¬1). ورأيت بخط بعض الْمُصَنِّفِينَ عن أبي الحسين بن الْقَطَّانِ [في] أنه هل كان يجوز له الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها، بناءً على أن المخاطب هل يدخل في الخطاب، وأنه كان لا يَجُوزُ له الجمع الأختين، لأن خطاب اللَّهُ -جل اسْمُهُ- يدخل فيه النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأمته وذكر الحنَّاطِيُّ وجهاً بعيداً في الجمع بين الأُخْتَينِ أيضاً، وكذا في الجمع بين الأُمِّ وَابْنَتِهَا. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَنِسَاؤُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ مُحَرَّمَاتٌ عَلَى غَيْرِه لأَنَّهُنَ أُمَّهَاتُ المُؤْمِنِينَ، وَمُطَلَّقَةُ المَدْخُولُ بِهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَغَيْرُ المَدْخُولِ بِهَا مُحَلَّلَةٌ. قال الرَّافِعِيُّ: النَّوْعُ الرَّابعُ مما اختصِ به رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الفضائل والكرامات. فمن خصائصه في النِّكَاح أنَّ زوجاته اللاتي تَوَفَّى عَنْهُن في النِّكاحِ مُحَرَّمَاتٌ على غيره أبداً، قال اللَّهُ تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53]. وفي التي فارقها في حياته كالتي وجد بكشحها بَيَاضاً فَرَدَّهَا (¬2) وَكَالْمُسْتَعِيْذَةِ ثلاثة أَوْجُهٍ: ¬
أَحَدُهَا: أنها محرمة أيضاً، لقوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] ويحكى هذا عن نَصِّهِ في "أحكام القرآن"، وبه قال ابنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. والثاني: لا تحرم لإِعراض النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنها، وانقطاع الاعتناء بها. والثَّالِثُ: وَبِهِ قال الشيخ أَبو حَامِدٍ وَذَكَرَ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ أنه الصحيح (¬1): إِنْ كانت مَدْخُولاً بها حُرِّمَتْ، وإلاَّ فلا؛ لما روي في الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمان عُمَرَ -رضي اللَّهُ عنه-، فَهَمَّ برجمهما، فَأُخْبِرَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فارقها قبل أن يَمَسَّهَا فخلاهما. وهذه الأوجه في غير المُخَيَّرَاتِ، وأما المخيرات لو قدر اختيار بعضهن زينة الدنيا ففارقها، فهل يحل للأزواج؟ طَرَدَ أصحابنا العراقيون فيه الأوجه الثَّلاَثَةَ. وقال أبو يَعْقُوبَ الأيبوردي وآخرون: نحل لا محالة، والاَّ لم يتمكن من غرضها من زينة الدنيا، ولما كان للتخيير معنى، وبهذا أخذ الإِمَامُ وصاحب الكتاب رحمهما الله. وإذا قلنا بتحريم من فارقها، ففي أَمَتِهِ الموطوءة إذا فارقها بالموت، أو غيره وجهان: ومنها: أن زوجاته أمهات المؤمنين سواء فيه من ماتت تحت النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي تحته، وذلك في تحريم نِّكَاحِهِنَّ ووجوب احترامهن، وطاعتهن، لا في النظر إليهن والخُلْوَةِ والمسافرة بهن، ولا يقال: لِبَنَاتِهِنَّ: إنهن أخوات المؤمنين؛ ألا ترى أنهن لا يحرمن على المؤمنين. وكذلك لا يُقَالُ لآبائهن وأمهاتهن: أجداد المؤمنين وجداتهم، ولا لإِخواتهن وأخواتهن: أخوال المؤمنين وخالاتهم، وحكى أَبُو الْفَرَجِ الزاز وجهاً: أنه يطلق اسم الأخوة على بَنَاتِهِنَّ، واسم الخئولة على إخوَانِهِنَّ وأخواتهن، لثبوت حُرْمَةِ اْلأُمُومَةِ لهن، وهذا كما أن المسلمات كلهن أخوات أحد المسلمين بالإِسلام، وذلك لا يوجب تحريم ¬
النكاح، وهذا ظاهر لفظ "المختصر" (¬1). ومنها: تفضيل زوجاته على سائر النساء (¬2)، وجعل ثوابهن وعقابهن على الضِّعْفِ، قال في "التهذيب": ولا يَحِلُّ لأحد أن يسألهن شيئاً إلاَّ من وراء حجاب، لقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] [الآية] وأما غَيْرهُنَّ، فيجوز أن يُسْأَلْنَ مُشَافَهَةً (¬3). ومن فضائله وخصائصه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غير النكاح أنه خاتم النبيين -صَلَوَاتُ اللهِ عليه- وَأُمَّتُهُ خَيْرُ الاُمَم، وأن شريعته نَسَخَتِ الشَّرَائِعَ وجعلت مؤبدة وجعل كتابه معجزاً بخلاف كتب سائر الأَنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وحفظ عن التحريف والتبديل، وأُقيم بعده حجة على الناس، ومعجزات سائر الأنبياء صلوات الله عليهم انْقَرَضَتْ بانْقِرَاضِهِمْ، وَنُصِرَ بالرُّعْبِ على مسيرة الشهر، وَجُعِلَتْ له الأَرْضُ مسجداً، وَتُرَابُهَا طَهُوراً، وأحلت له الغنائم (¬4)، ويشفع في أهل الكبائر (¬5)، وَبُعِثَ إلى النَّاسِ ¬
عامة (¬1)، وهو سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يوم القيامة (¬2)، وَأَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُ عَنْهُ الأَرْضُ وأول شافع ومشفع، وَأَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ (¬3)، وهو أكثر الأنبياء عليهم السَّلامُ تبعاً، وأمته ¬
مَعْصُومَة لا تجتمع على الضَّلاَلَةِ (¬1)، وصفوفهم كصفوف الملائكة، وكان لا ينام قَلْبُهُ، ويرى من وراء ظهره كما يرى من قُدَّامِهِ (¬2)، وتطوعه بالصلاة قاعداً كتطوعه قائماً، وَإنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، وفي حَقِّ غيره ذاك على النصف من هذا (¬3). ويخاطبه الْمُصَلِّي بقوله: "سَلاَمٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةٌ اللَّه" ولا يخاطب سائر الناس، وكان لا يجوز لأحد -من الآدميين- رفع صوته فَوْقَ (¬4) صَوْتِهِ، وأن يُنَادَى مِنْ ¬
وَرَاءِ الْحُجَرَاتِ، ولا أن يناديه باسمه (¬1) فيقول يا مُحَمَّدُ يا أحمد ولكن يقول يا نبيَّ اللَّهِ [أو] يا رسول الله [أو] يا خيرة الله، وكان يُسْتَسْقَى به، يُتَبَّركُ (¬2) بِبَوْلِهِ وَدَمِهِ، ومن زَنَا بحضرته أو استهان به كَفَرَ (¬3)، ويجب على المصلي إذا دعاه أن يجيبه ولا تبطل صلاته كما تقدم في "كتاب الصلاة". وحكى أبو الْعَبّاسِ الرّويَانِيِّ وجهاً آخَرَ، أنه لا يجب، وتبطل به الصلاة (¬4) وأولاد بَنَاتِهِ يُنْسَبُونَ إليه، وأولاد بنات غيره لا ينسبون إليه، في الكفاءة وغيرها (¬5). [و] قال -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ سَبَبِيْ وَنَسَبِيْ" (¬6). ¬
قيل: معناه أنَّ أمته يُنْسَبُونَ إليه في القيامة، وأمم سائر الأنبياء لا يُنْسَبُونَ إليهم. وقيل: لا ينتفع يومئذٍ بِسَائِرِ الأَنْسَابِ، وينتفع بالنسبة إليه. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "تَسَمَّوْا باسْمِي وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي" (¬1) فعن رواية الربيع عن الشَّافِعِىِّ -رضي اللَّهِ عنه- أَنه ليس لأحَدٍ أن يكتني بأبي القاسم سواء كان اسمه محمداً أو لم يكن، ومنهم من حمله على كراهة الجمع بين الاسم والكنية، وجوزوا الإِفراد، ويشبه أن يكون هذا أظهر؛ لأن الناس ما زالوا يكنون به في جميع الأمصار والأعصار من غير إنْكَار (¬2) والله أعلم. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِيَةُ): يُسْتَحَبُّ النِّكَاحُ لِمَنْ تَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَيْهَا، وَمَنْ لاَ فَالعِبَادَة لَهُ أَوْلَى (ح)، وَأَحَبُّ المَنْكُوحَاتِ البِكْرُ الوَلُودُ النَّسِيبَةُ الَّتِي لَيْسَتْ لَهُ قَرَابَةٌ قَرِيبَةٌ المَنْظُورُ (و) إِلَيْهَا قَبْلَ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَهُمَا. قال الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: الشخص إما تائق محتاج إلى النكاح، وإما غير تائق، والأول إما أن يجد أُهْبَتَهُ وعدته، أو لا يجد إن وجدها فيستحب له (¬1) النكاح تَحْصِيْناً للدِّينِ، سواء كان مُقْبلاً على العبادة، أو لم يكن، وإن لم يَجِدْهَا فالأولى ألا يتزوج ويكسر شهوته بالصوم؛ لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةِ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرَجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعُ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" (¬2) فإن لم تنكسر بالصوم لا يكسره بالكافور ونحوه، ولكن يتزوج. ¬
وأما غير التائق فإن لم يجد أُهْبَتَهُ، أو كان به مَرَضٌ، أو عَجْزٌ من جب، أو عُنة أو كِبَرٌ فَيُكْرَهُ له النكاح؛ لما فيه من الالتزام بما لا يقدر على الوفاءِ بمُقْتَضَاهُ من غير حَاجَةٍ، وإن وجد الأُهْبَةَ ولم يكن به عِلَّةٌ فلا يكره له النكاح، ولكن التخلي للعبادة أفضل فإن لم يكن مشتغلاً بالعبادة فوجهان. حكاهما ابنُ الْقَطَّانِ وغيره: أصحهما: أن النكاح أفضل، كيلا تفضي به البَطَالَةُ والفراغ إلى الفواحش. والثاني: إِنَّ تركه أفضل للخطر بالقيام بواجبه. وقال أبو حَنْيفَةَ -رضي اللَّهِ عنه-: النِّكَاحُ أفضل من الاشتغال بالعبادة، وفي "تعليق" الشيخ علي القزويني عن القاضي أبي سعيد الْهَرَويّ أنَّ للأصحاب وجهاً مثله، والمسألة، مشهورة في الخلاف، ويجوز أن يعلم قوله: "يُسْتَحَبْ النِّكَاحُ لمن تاقت نفسه إليه" بالواو؛ لأن في "شرح مختصر الجويني" أن بعض الأصحاب قال: إن خاف الزنا وجب عليه النِّكَاحُ، وأيضاً فإنَّ القاضي أبا سَعِيدٍ قال: ذهب بعض أصحابنا بالعراق إلى أنَّ النِّكَاحَ فرض على الكفاية، ولو أنه امتنع منه أهل قطر أُجْبِرُوا عليه (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الثانية: إذا أراد النكاح فالبكر أولى من الثَّيِّب إذا لم يكن عذر به لما رُوِيَ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لجابر -رضي الله عنه-: "هَلاَّ بِكْراً تلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ" (¬1). والولود، أولى؛ لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ فَإِنِّي مُكاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ" (¬2)، والنسيبة أولى؛ لما رُوِيَ أنه -عليه السلام- قال إِيَّاكُمْ وَخَضْرَاءَ الدَّمْنِ، قيل يَا رَسُوْلَ اللَّهِ وَمَا خَضْرَاءِ الدّمْنِ؟ قَالَ: "الْمَرْأَةُ الْحُسْنَاءِ فِي الْمَنْبَتِ السُّوءِ" (¬3). والتي ليست لها قرابة قريبة أولى، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تَنْكِحُوا الْقَرَابَةَ الْقَرِيْبَةَ، فَإِنَّ الْوَلَدَ يُخْلَقُ ضَاوِياً" (¬4) أي: نحيفاً، وذلك لضعف الشهوة. ¬
وذات الدِّين أولى (¬1)؛ لقوله -عليه السَّلامُ-: "تُتكَحُ المَرأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَحسَبِهَا وَدِيْنِهَا وَجَمَالِهَا فَاظْفَرُ بذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ" (¬2). وليكن منظوراً إليها قبل النِّكاحِ، على ما سنذكر في الفصل الذي يلي هذا الفصل. واعلم أنَّ المقدمات الْمُودَعَة في هذا القسم معدودة في بعض النُّسَخِ ثَلاَثٌ: إحداها: في خصائص رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-. والثانية: في الترغيب في النكاح، وأحب المنكوحات -ويقع فيه الكَلاَمُ في النَّظَرِ إلى المنكوحة وفي النَّظَرِ جملة. والثالثة: في الخُطبة والخِطبة، وهي في بعض النُّسَخ معدودة خمساً وكذلك في "الوسيط". إحداها: الخصائِصُ. والثانية: ما شرحناه في هذا الفصل وبعده. ¬
والثالثة: في النَّظَرِ إليها إذا وقعت الرَّغْبَةُ في نكاحها وأحكام النظر جملة، ثم يتصل به، فلا ينظر إلاَّ إلى وجهها. والرابعة: في الخطبة. والخامسة: في الخِطبة والمقصود لا يختلف. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثَةُ): النَّظَرُ إِلَيْهَا إِذَا تَحَقَّقَتِ الرَّغْبَةُ في نِكَاحِهَا، وَنَحْنُ نَتَعَرَّضُ في هَذَا المَوضِعِ لأَحْكَامِ النَّظَرِ جُمْلَةً، وَلاَ يَنْظُرُ (ح م و) إِلاَّ إِلَى وَجْهِهَا، وَلاَ يَحْتَاجُ إلَى إِذْنِهَا (م). قال الرَّافِعِيُّ: إذا رغب في نكاح امْرَأَةِ نَظَرَ إليها؛ لما رُوِيَ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال لِلْمُغُيرَةَ وقد خطب امْرَأَةَ: "انْظُر إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا" (¬1)، أَي يجعل بينكما المودة والألفة. يُقَالُ: "أَدَمَ الله بينكما" أي "جعل". وعن جابر- أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ الْمَرْأَةَ فَإِنْ استطاع أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ" (¬2) قال: فخطبت جارية وكنت أَتَحَبَّأُ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها، وهذا النَّظَرُ مُسْتَحَبٌ، أو مُبَاحٌ مجرد؟. حكى الإِمَامُ فيه وجهين: ¬
الأَوَّلُ: أصح؛ لما وُرِدَ فيه من صيغة الأمر، ويجوز أنْ يعلم للثاني قوله في "الكتاب": "المنظور إليها قبل النِّكاح" بالواو؛ لأنه جعل نكاحها أحب، ويجوز له تكرار النَّظَرِ إليها ليتبين هيئتها، ولا يندم بعد النكاح، ولا فَرْقَ بين أن يكون النظر إليها بإذنها أو بغير إذنها خلافاً لمالك -رضي اللهُ عنه- حيث اعْتَبَرَ إذنها دليلاً، لإطلاق الخبر، وأيضاً فإنه لو راجعها لزينت نفسها فيفوت الْمَطْلُوبُ من النظر. فإن لم يتيسر النظرُ إليها بعث إليها امْرَأَة تتأملها وتصفها له (¬1). روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث أم سليم إلي امرأة وقال: "انْظرِي إلي عُرْقُوبِهَا وشمُي مَعَاطِفَهَا" (¬2). والمرأَة أيضاً تنظر إلى الرجل إذا أرادت التزوج، فإنه يعجبها منه ما يعجبه منها، قاله عمر (¬3) -رضي الله عنه- ثم الكلام في المنظور إليه، وفي وقت النظر أما المنظور إليه منها، فهو الوجه والْكَفَّافِ ظَهْرَاً وبَطْناً. واعلم أنا سنذكر وجهين في جواز النَّظَرِ إلى وجه الأجنبية وَكَفَّيْهَا من غير عُذْرٍ وسبب. فقال الإِمَامُ -رَحِمَهُ الله-: مَنْ حَرَّمَ هناك أباح هنا، لغرض التزويج، ومن أباح هناك فإنه يقول: إن كان يخاف الفتنة، فهو حَرَامٌ وهنا لا يحرم معِ خوف الفتنة لهذا الغرض، ولا يَنْظُرُ إلى ما سوى الوجه والكفين لأنه عَوْرَةٌ، وهي تُعَدّ أجْنَبِيَّةُ. وَذَكَرَ الحنَّاطِيُّ وجهين في "المِفْصَل" الذي هو بين الكف والمِعْصَمِ. وفي "شرح مختصر الجويني" وَجهٌ: أنه يَنْظُرُ إليها نظر الرجل إلى الرجل. وعن مالك -رضي الله عنه- أنه يَنْظُرُ إلى الوجه والكفين والقدمين وبعض الذِّرَاعِ. وعن أَبِي حَنِيْفَةَ -رضي الله عنه-: ينظر إلى الوجه والكفين والقدمين بناءً على أن القدمين ليسا من العورة، ويجوز أن يعلم كذلك قوله في الكتاب: "إلاَّ إلى وجهها" بالحاء والميم والواو، ولم يذكر الكفين لَفْظاً ولا بُدَّ منه. وأما وقت النظر فإنه ينبغي أن يكون بعد العزم على نكاحها إن ارتضاها وقبل الخطبة؛ لأنه لو كان بعد الخطبة وتركها ¬
شَقَّ عليها وأوحشها، هذا هو الأظهر، وفيه وجهان آخران: أحدهما: عن رواية الماسرجسي أنه ينظر إليها حين تأذن في عقد النكاح؛ لأنه وقت الحاجة. والثاني: عند ركون كُلِّ وَاحدٍ منهما إلى صاحبه، وذلك حين تحوم الخطبة على الخطبة (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلاَ يَحِلُّ للِرَّجُلِ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ المَرْأَةِ إِلاَّ إِذَا كَانَ النَّاظِرُ صبِيّاً، أَوْ مَجْنُوناً، أَوْ مَمْلُوكاً (ح و) لَهَا، أَوْ كَانَتْ صَبِيَّةً (و)، أَوْ رَقِيقَةً (و)، أَوْ مَحْرَماً فَلْيَنْظُرْ إلَى الوَجْهِ وَاليَدَيْنِ فَقَطْ. قال الرَّافِعِيُّ: جَرَتِ الْعَادَةُ بذكر حكم النظر هنا، وذاك إِمَّا أن إلاَّ تمس إليه الحاجة أو تمس: الحالة الأولى: إذا لم تمس إليه الحاجة وهو على أرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: نَظَرُ الرجل إلى المرأة وبالعكس، وَنَظَرُ الرَّجُلِ إِلى الرجل وَنَظَرُ المرأة إلى المرأة. القسم الأول: نَظَرُ الرَّجُل إلى المرأة ويحرم عليه أن ينظر إلى ما هو عورة منها وكذا إلى الوجه والكفين إن كان يخاف من النظر الْفِتْنَةَ قال اللهُ تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] وإن لم يَخَفْ فوجهان. قال أَكْثَرُ الأصحاب -لا سيما المتقدمون: لاَ يَحَرَّمُ؛ لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]- وهو مُفَسَّرٌ بالوجه والكفين، نَعَمْ يُكرَة ذلك -ذكره الشيخ أبو حَامِدٍ وغيرُهُ (¬2). ¬
والثَّانِي: يحرم ويحكى ذلك عن الأِصْطَخْرِيِّ في رواية الدَّارِكِيِّ وعن أبي علي الطَّبَرِي، واختاره الشيخ أبو محمَّد والإمام رحمهما الله ووجهه باتفاق المسلمين على منع النساء من أن يخرجن سَافِرَاتِ، ولوَ حل النظر لنزلن منزلة المُرْد، وبأن النظر إليهن مظنة الفتنة، وهن محل الشهوة فاللائق بمحاسن الشَّرْعِ حسم الباب والإعراض عن تَفَاصِيلِ الأَحْوَالِ كَالْخُلْوَةِ بالأَجْنَبِيَّةِ (¬1)، هذا ما ذكره في الكتاب وبه أَجَاَبَ صاحب "المهذب" والقاضي الرُّويانيُّ وليس المراد من الكف مجرد الرَّاحَةِ، بل اليد من رؤوس الأَصَابعِ إلى المِعْصَمِ وفيه وَجْهٌ [آخَرُ] أَنَّهُ يختص الحكم بالراحة، وأخمصا القدمين على الخلاف الْمَذْكُورِ في سِتْرِ الْعَوْرَةِ من "باب شرائط الصَّلاةِ"، وصوتها ليس بعودة على أَصَحِّ الوجهين لكن يحرم الإصْغَاءُ إليه عند خوف الْفِتنَةِ وإذا قرع عليها الباب، فلا ينبغي أن تجيب بصوت رخيم، بَلْ يَنْبَغِي أن تغلظ صوتها (¬2). هذا إذا كان الناظر إليها بَالِغاً فَحْلاً، والمنظور إليها حُمَّرة كَبِيْرَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ. ثُمَّ الكلام في سِتِ صُوَرٍ: إحداها: الطفل الذي لم يظهر على عورات النِّسَاءِ لا حجاب منه قال الله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] وفي المراهق وَجْهَانِ: أحدهما: وبه قال أبو عبد الله الزُّبَيْرِيُّ: أن له النظر كما له الدخول من غير استئذان إلاَّ في الأوقات الثلاثة. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ...} [النور: 58] الآية -وعلى هذا فنظره كنظر البالغ إلى الْمَحَارِمِ. والثاني: إنَّ نظره كنظر البالغ إلى الأجنبيات لظهوره على العورات، وهذا أصح ¬
فيما ذكره أبو الفرج الزَّازُ وغيره ونزَّل الإِمام أمر الصَّبِي على ثَلاثِ دَرَجَاتٍ: إحداها: أَلاَّ يبلغ مبلغاً يحكى ما يراه. والثانية: أن يبلغه، ولا يكون فيه ثَوَرَاتُ شَهْوَةٍ وتشوُّق. والثالثة: أن يبلغه، فالذي في الدرجة الأولى حضوره كغيبته، ويجوز التَّكَشُّفُ له من كل وجهُ، الذي في الثالثة كالْبَالِغِ في النظر، والذي في الثانية يَنْزِلُ منزلة المحارم. واعلم أن الصبي لا تكليف عليه، وإذا جعلناه كالبالغ فمعناه يلزم المنظور إليها الاحتجاب منه كما أنه يلزمها الاحتجاب من المجنون قطعاً. والثانية: في الممسوح وجهان: قال الأكثرون: نَظَرُهُ إلى الأجنبية كنظر الفعل إلى المحارم (¬1)، وعليه يحمل قوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: 31]. والثاني: إنه كنظر الفعل إلى الأجنبية؛ لأنه يحل له نكاح التي ينظر إليها فكيف يجعل كالمحرم. والمجبوب الذي بقي أنثيياه والخصي الذي بقي ذكره كالفحل وكذا العنين، والمخَنَّث المُتَشَبِّهُ بالنساء والشَّيخُ الهرم كذلك (¬2) أطلق أكثرهم. وقال في "الشامل": الخصي لا يحل له النظر إلاَّ أن يكبر ويهرم وتذهب شهوته، وكذا المخنث. وَحَكَى أبو مخلد البصري -وهو من مَتأخِرِي الأَصْحَابِ- في الخصي والمخنث، وجهين على الإِطلاق (¬3). والثالثة: مَمْوكُ المرأة -هل يكون محرماً لها؟!. فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لقوله -تعالى-: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31]، وعن أنس -رضي الله عنه- أن النَّبيَّ -صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أَتَي فاطِمَةَ -رَضْيَ اللهُ عَنْهَا- بعَبْدٍ قَدْ وَهَبَة لَهَا وَعَلَى فَاطِمَةَ ثَوْب إِذا قَنَعَتْ بِهِ رَأْسَهَا لَمْ يَبلُغْ رجلها وَإِذَا غَطَّتْ بِهِ رِجْلَهَا لَمْ يَبْلُغْ رَأْسَهَا فَلَمَّا رَأْىَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا تلقى قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكِ بَأْسٌ إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلاَمُكِ" (¬4). ¬
والثَّانى: وبه قَالَ أبو حَنِيْفَةَ: لا لأنه لو ثبت المحرمية لاستمرت كما في الرِّضَاعِ. وفي "تعليق" الشَّيْخِ أبي حَامِدٍ: إن هذا أصح لكن الأكثرون رَجَّحُوا الأوَّلَ (¬1). والرابعة: إذا كان الْمَنْظُورُ إليها أَمَةٌ فَثَلاثةُ أَوْجُهٍ: أحدها: أنها كالحرة. والثاني: يحرم النظر إلى ما لا يبدو منها عند المهنة وتفصيل ما يبدو مذكور في "سِتْرِ الْعَورَةِ". والثالث: أنَّ المحرم النَّظَرُ إلى ما بين السُّرَّةِ والرُّكْبَةِ لا غير، وهذه الأوجه قريبة من الوجوه المذكورة، فيما يجب عليها سترة في الصَّلاةِ، ولكن الوجه الأول لا يكاد يوجد هكذا إلاَّ لصاحب الكتاب في "الوسيط" (¬2). وأما الثاني والثالث فمشهوران (¬3)، وهما متفقان على جواز النظر إلى ما يبدو منها عند المهنة واختلافهما فيما زاد على ذلك (¬4) إلاَّ ما بين السرةِ إلى الركبَةِ، والأصح فيما ذكره صاحب "التهذيب" والقرضي الرُّويَانِيّ جواز النظر إليه لكنه يكره. والخامسة: من النظر إلى الصَّبِيَّةِ وجهان منقولان في "الوسيط". أحدهما: المنع؛ لأنها من جنس الإِنَاثِ. وأصحهما: الجواز؛ لأنها ليست في مظنة الشهوة، ولا فرق بين حد العورة وغيره، نعم لا ينظر إلى فرجها (¬5)، وألحق في "الوسيط" العجوز بالشَّابَةِ؛ لأن الشهوات لا تنضبط، وهي محل الْوِطْءِ. ¬
وقال القاضي الرَّويَانيُّ: إذا بلغت المرأة من السِّنِّ مبلغاً تأمن الافتتان بالنَّظَرِ إليها جاز النظر إلى وجهها وكفيها، ويدل عليه قوله تعالى {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} [النور: 6] الآية. [و] السادسة: للرجل أن ينظر من المحرم إلى ما يبدو عند المهنة، ولا يحل النظر إلى ما بين السرة والركبة، وفيما بينهما وجهان: أظهرهما: ولم يتعرض كثير من الأصحاب لغيره-: أنه يحل النظر إليه أيضاً واحتجوا بقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور: 31] الآية -وبأن المحرمية معنى يوجب حرمة المنَاكَحَة أبداً فليكونا كالرَّجُلَيْنِ وكالمرأتين. والثاني: المنع؛ لأن لا ضرورة إليه، والثَّدْيُ في زمان الإِرضاع مواضع الوجهين، أو يلحق بما يبدو عند المهنة فيه طريقان، والثاني منهما مُؤَبَّدٌ بالحاجة، ولا فرق في ذلك بين المحارم بالنَّسَبِ وبين المحارم بالمصاهرة والرضاع. وفي "شرح الجويني" وَجْهٌ: أن في المحارم بالمصاهرة، والرضاع لا ينظر إلى ما يبدو عند المهنة، والصحيح الأول. إذا عرفت ذكرنا فتأمل في لفظ الكتاب. واعلم قوله: "ولا يحل للرجل النظر إلى شيء من بدن الْمَرْأَةِ" بالواو -للوجه المشهور في جواز النظر إلى الوجه والكفين وقوله: "إلا إذا كان الناظر صَبِيَّاً" إن حمل على الطفل الذي لم يظهر على العورات خاصة، فلا حاجة إلى إعلامه بالواو وإن جرى على إطلاقه فليعلم بالواو لأحد الوجهين في المراهق أنه كالبالغ. وقوله: أَو مَجْبُوباً قد يتبادر إلى لسان القارئ قراءته بنونين لاقترانه بالصبي، والصبي والمجنون يستويان في كثير من الأحكام لَكِنْ لا سبيل إليه تكون الصورة المذكورة مُسْتَثْنَاةُ من نفي الحل فلا بدّ من ثبوته فيها، والحل بمعنى الخطاب بأنه لا حرج عليك، أو بالتخيير ونحوه [و] لا يمكن إثباته في حق المجنون، ولا في الصبي؛
لأنهما لا يخاطبان وبمعنى أَنَّهُ لا حَرَجَ فيه لا يختص بالوجه واليدين، وقد قال: "فينظر إلى الوجه واليدين فقط" وإذا رددنا الْكَلاَمَ إلى أنَّ الُمَنْظُورَ إليها هل يلزمهما الاحتجاب فهذا في الصبي على التفصيل الذي سبق، وأما المجنون فلا شك في وجوب الاحتجاب منه كالعاقل، بل أولى فليقرأ "أو مجبوباً" ببائين وحينئذٍ فيجب تقييده بالممسوح لما مر ثم ليعلم بالواو لأحد الوجهين المذكورين في الممسوح. وقوله: "أو مملوكاً له" معلم بالحاء والواو لما سبق. وقوله: "أو كانت رقيقة أو صبية" بالواو، ثم الحكم بأنه لا ينظر في الصور المستثناة إلاَّ إلى الوجه واليدين خلافاً للمذهب الظاهر، أمَّا في المحرم؛ فلأنهم لم يذكروا خلافاً في جواز النظر إلى ما يبدو عند المهنة. وقالوا: الأصح جواز النظر إلى جميع أعضائها إلا ما بين السُّرَّةِ والركبة وكذا في الرقيقة، وأما في الصَّبِيَّةِ فمن جَوَّزَ النَّظَرَ عَمَّمَهُ في أعضائها بعد اجتناب الفرج كما بيناه وأما في عبد المرأة والممسوح فإذا جَوَّزْنا النظر إليه جعلناه كالنظر في المحارم فإذن في الفصل خبط ولا سائر من الأصحاب إلى جوازه. قَالَ الغَزَّالِيُّ: وَالعَوْرَةُ مِنَ الرَّجُلِ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ فَقَطْ، وَيُبَاحُ نَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ، وَالمَرْأَةِ إلَى المَرْأَةِ، وَالمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ عِنْدَ الأَمْنِ مِنَ الفِتْنَةِ إلاَّ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ. قال الرَّافِعِيُّ: قوله: "العورة من الرَّجُلِ ما بين سرته وركبته" مكرر مذكور مرة في "سِتْرِ العورة"، ولا حاجة إلى إعادته في هذا الموضع وإذا عاد فليعلم بالعلامات المذكورة هناك [ثم نرجع إلى الترتيب الذي كنا فيه] (¬1) فنقول: القسم الثاني: نظرُ الرجل إلى الرجل وهو جائزٌ في جميع البدن إلاَّ ما بين السُّرَّةِ والرُّكْبَةِ. نعم يحرم النظر إلى الأَمْرَدِ وغيره بالشهوة وكذا النظر إلى المحارم، وسائر المذكورات في الفصل السابق بالشهوة حرام لا يحرم النظر إلى الأمرد بغير الشهوة إن لم يخف فتنة وإن خاف فوجهان: قال أكثرُهُمْ: يحرم تَحَرُّزاً عنها (¬2). وعن صاحب "التقريب" واختاره الإِمامُ: أنه لا يحرم، وَإِلاَّ لأُمِرُوْا بالاحْتِجَابِ كَالنِّسْوَةِ. ورُوِيَ أنّ وَفْداً قدموا على رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وفيهم غُلاَمٌ حَسَنُ الْوَجْهِ فَأَجْلَسَهُ ¬
مِنْ ورائه وَقَالَ: "أَمَا أَخْشَى مَا أَصَابَ أَخِي دَاوُدَ". وكان ذلك بمرأى من الحاضرين، فَدَلَّ على أنه لا تحريم. القسم الثالث: نظر المرأة إلى المرأة: وهو كما ذكرنا في نظر الرَّجُلِ إلى الرَّجُلِ إلاَّ في شيئين. أحدهما: أن الإِمام حكى وجهاً في أن نظر المرأة إلى المرأة كنظر الرجل إلى المحارم، والأصح أنه لا فرق. والثاني: في نظر الذِّمِّيَّةِ إلى المسلمة وجهان: أحدهما: كنظر المسلمة إلى المسلمة. والثاني: المنع لقوله تعالى جده: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] وليست الذمية من نسائنا والأول أصح عند صاحب الكتاب، والثاني أصح فيما ذكره صاحب "التهذيب" (¬1). وإذا قلنا بالثاني لم تدخل الذِّمِّيَّاتُ المسلمات مع الحمام وما الذي ترى الذمية من المسلمة؟!. قال الإمام: لا ترى منها إلا ما يراه الرجل الأجنبي. وقيل: لا ترى إلا ما يبدو عند المهنة دون غيره وهذا أشبه (¬2). القسم الرابع: نظر المرأة إلى الرَّجُلِ -فيه ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ: أحدها: أنها تنظر إلى ما يبدو عند المهنة دون غيره إذ لا حاجة إليه. والثاني: أنها لا ترى من الرجل إلاَّ ما يرى الرجل منها تسوية بينهما (¬3). والثالث: وهو الأصح: أن لها النظر إلى جميع بدنه إلاَّ ما بين السرة والركبة، وليس كنظر الرجل إلى المرأة؛ لأن بدنها صورة في نفسه، وكذلك يجب ستره في ¬
الصَّلاةِ؛ ولأنهما لو استويا لأمر الرجال بالاحتجاب كالنساء. هذا في الأجانب. فأما نَظَرُهَا إلى الْمَحَارِم فهو كنظر الرجل إلى المرأة المحرم قال الإمام، والمحققون: على أن ما فوق السُّرَّةِ، وتحت الرُّكْبَةِ من الرجل كما يبدو عند المهنة في المرأة، ولا يجوز للمرأة النَّظَرَ إلى الرَّجُلِ عند خوف الفتنة، وقد رُوِيَ عن أمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- أنها قالت: كُنْتُ مع مَيْمُوْنَةَ عند رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إذ أقبل ابن أم مَكْتُومٍ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "احْتَجَبَا مِنْهُ" فقلت: يا رَسُولَ اللهِ: أليس هو أَعْمَى لاَ يُبْصِرُنَا؟! فقال: "أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانَهُ" (¬1). فمن قال بالوجه الثاني احتج بظاهره، ومن قال بالثالث حمله على الاحتياط. قَالَ الغَزَّالِيُّ: وَالعُضْوُ المُبَانُ كَالمُتَّصِلِ بِهِ، وَالنِّكَاحُ وَالمِلْكُ يُبِيحَانِ النَّظَرَ إِلَى السَّوْءَتَيْنِ مِنَ الجَانِبَيْنِ مَعَ كَرَاهَةٍ، وَالمَسُّ كَالنَّظَرِ. قال الرَّافِعِي: في الفصل ثَلاَثُ مَسَائِلَ: إحداها: ما لا يجوز النظر إليه وهو متصل كالذكر، وَسَاعِدِ الْحُرَّةِ، وشعر رأسها، وما أشبهها هل يحرم النظر إليه بعد الانفصال؟. فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن النظر إليه بعد الانفصال لا يخاف منه الفتنة (¬2). وأصحهما: استمرار التحريم، وبه أجاب أبو علي الشَبُوِّي مفتي "مرو" وفيما يحكى أن أبا عبد الله الخِضْري سئل عن قُلاَمَةِ الْمَرْأَةِ -هل يجوز للرجل الأجنبي النظر إليها؟. فاطرق الشيخُ متفكراً وكانت تحته بِنْتُ أبي علي فقالت: سَمِعْتُ أبي يقول: إن كانت قلامة يدها فله النظر إليها، وإن كانت قلامة الرجل فلا. ¬
والتفصيل مبنى على أَنَّ يَدَهَا ليست بِعَوْرَةٍ. واقتصر في الكتاب هاهنا على الوجه الثاني، وتعرض لهما في "باب الصَّلاةِ" كما ذكرنا وَرَوَى الإمام تفصيلاً في العضو المُبَان من المرأة، وهو أنه إن لم يتميز بصورته وشكله عما للرجل كالقلامة والشعر والجلدة المنكشطة لم يحرم النظر إليه وإن يتميز حرم (¬1). الثانية: يجوز للزوج النظر إلى ما شاء من بدن زوجته إلا أنَّ في النظر إلى فرجها وجهين: أحدهما: المنع وإليه ميل أبي عبد الله الزُّبَيْرِيُّ -لما روي عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "النَّظَرُ إلَى الْفَرَجِ يُورِثُ الطَّمْسَ" (¬2) أي: العمى. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب: الجواز؛ لأن له الاستمتاع به فالنظر أَوْلَى، فالخبر إن صَحَّ محمول على الكراهة، والكراهة في باطن الفرج أشد، وكذلك يكره للإنسان أن ينظر إلى فرج نفسه من غير حاجة ونَظَرُ السَّيِّدِ إلى أَمَتِهِ التي يجوز له الاسَتمتاع بها، كنظر الزوج إلى الزوجة سواء كانت قِنَّةً، أو مُدَبَّرةً، أو أم ولد، أو عرض مانع قريب الزوال كما لو كانت حائضاً أو مرهونة فإن كانت مُرْتَدَّةً، أو مجوسية، أو وثنية، أو مزوجة أو مكاتبة، أو مشتركة (¬3) بينه وبين الغير فهي كَأَمَةِ الغير. لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -رضي الله عنهم- أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا ¬
زَوَّجَ أَحَدُكُمْ جَارَيتَه أَوْ أَجِيْرَهُ فَلاَ يَنْظُرُ إِلَى مَا بِيْنَ السُرَّةِ وَالرُّكْبَةِ" (¬1). وإذا كانت المنكوحة مُعْتَدَّةً عن وطء شبهة، فقد حكى القاضي أبو سعيد الهَرَويُّ أنها كالمكاتبة، ونظر الزوجة إلى الزوج كنظره إليها، وقطع بعضهم بجواز نظرها إلى ذَكَر الزوج. وقال الخبر ورد في الفرْجِ، وهو الشِّقُّ. الثالثة: حيث يحرم النظر يحرم المس (¬2)، بطريق الأَوْلَى؛ لأنه أقوي في التلذذ والاستمتاع، ولهذا لا يبطل الصوم بالإِنزال بمجرد النظر، ويبطل بالإِنزال بالملامسة ولا يجوز للرجل ذَلكَ سوأة الرجل، ويجوز ذلْكُ فخذه من فوق الإِزَارِ إذا لم يخف فتنة، وقد يحرم المسُّ حيث لا يحرم النظر، فلا يجوز للرجل مَسُّ وجه الأجنبية، وإن جَوَّزْنَا النظر إليه، ولا مَسَّ كل ما يجوز النظر إليه من المحارم والإِماء، بل لا يجوز للرجل أن يمس بطن أمه وظهرها، ولا يغمز ساقها ورجلها، ولا أن يقبل وجهها -حكاه العبادي في "الرقم" عن الْقَفَّالِ. قال: وكذلك لا يجوز أن يأمر ابنته، أو أخته أن تغمز رجله وعن القاضي حسين: أنه كان يقول: العجائز اللاتي يكحلن الرجال يوم عاشوراء مرتكبات للمحظور الناس يَحْسَبُونَ أنهن مقيمات للسُّنَّةِ. وعن أبي حَنِيْفَةَ: يجوز مس ما يجوز النظر إليه من المحارم والإِمام، ولا يجوز أن يضاجع الرجل الرجل، ولا المرأة المرأة، وإن كان كلُّ واحد منهما في جانب من الفراش (¬3). لما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لاَ يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ في الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، وَلاَ تُفْضِي المَرأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ في الثَّوبِ الْوَاحِدِ" (¬4). وإذا بلغ الصبي والصبية عشر سنين، وجب التفريق بينه وبين أُمِّهِ وأبيه وأخيه وأخته في المَضْجَع. قال -صلى الله عليه وسَلَّمَ- "وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرَّقُوْا بَيْنَهُمْ فِي المَضَاجِعِ" (¬5) ويستحب مصافحة الرجل الرجل ما رُوِي أنه -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عن ¬
الرجل يلقى أخاه أو صديقه -أينحني له؟ قَالَ: "لاَ" -قيل: أفيلتزمه ويقبله؟ .. قَالَ: "لاَ". قيل أفياخذه بيده ويصافحه؟ -قال: "نَعَمْ" (¬1). وَمُصَافَحَةُ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ في معناها. قال في "التهذيب": ويكره المعانقة، والتقبيل إلاَّ تقبيل الولد للشفقة، ورأيت لأبي عبد الله الزُّبَيْريِّ في مختصر له في ستر العورات أنه لا بأس بأن يقبل الرجل رَأْسَ الرجل، أو ما بين عينيه عند قدومه من غيبته، أو تباعد لقائه (¬2) هذا تمام الكلام فيما إذا لم تمس حاجة إلى المس والنظر. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهُمَا مُبَاحَانِ لِحَاجَةِ المْعَالَجَةِ، وَلَكِنَّ النَّظَرَ إلَى السَّوْءَة لِحَاجَةٍ مُؤَكَدَةٍ، وَيُبَاحُ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ المَرْأَةِ لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وإلَى الفَرْجِ لِتحَمُّلِ (و) شَهَادَةِ الزِّنَا. قال الرَّافِعِيُّ: الحالة الثانية إذا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إلى الْمَسِّ والنظر -ويفرض من وُجُوهٍ: منها: أن يريد نكاح امرأة، فينظر على ما سبق. ومنها: أن يريد شراء جارية -وقد مر في "البيع". ومنها: إذا عامل امرأة ببيع وغيره أو تحمَّل شهادة عليها جاز له النظر إلى وجهها؛ ليعرفها (¬3) عند الحاجة، ولا ينظر إلى غير الوجه، وإذانظر إليها، وتحمل الشهادة كلفت ¬
الكشف عن وجهها عند الأداء فإن امتنعت أمرت امرأة بالكشف عنه. ومنها: أنه يجوز النظر والمس للفَصْد والحجامة والمعالجة لعلة وليكن ذلك بحضور مَحْرَمٍ (¬1)، ويشترط في جواز نظر الرجل إلى المرأة ألا يكون هناك امرأة تعالج. وفي جواز نظر المرأة إلى الرّجُلِ ألا يكون هناك رجل يعالج (¬2). كذلك ذكره أبو عبد الله الزُّبَيْرِيُّ والقاضي الرُّويَانيُ أيضاً وعن ابن القاص خلافه (¬3). ثم أصل الحاجة كافٍ في النظر إلى الوجه واليدين ولذلك جاز النَّظَرُ بسبب الرغبة في النكاح وفي النظر إلى سائر الأعضاء يعتبر التأكد، وضبطه الإِمام فقال: ما يجوّز الانتقال بسببه من الماء إلى التراب وفاقاً أو خلافاً، كَشِدَّةِ الضنى وَما في معناها يجوز النظر بسببه. وفي النظر إلى السَّوْءتَيْنِ يعتبر مزيد تأكُّد. قال في "الوسيط": وذلك بأن تكون الحاجة بحيث لا يعد التكشف بسببها هَتْكاً للمروءة، ويعذر في العادات (¬4). وإلى هذا التَّرتِيب أشار في الكتاب بقوله: "وليكن النظر إلى السوءتين لحاجة مؤكدة". ومنها: يجوز النظر إلى فَرْجِ الزَّانَيْينَ لتحمل شهادة الزنا، وإلى فَرْج المرأة لتحمل الشهادة (¬5) على الولادة، إلى ثدي المرضعة للشهادة على الرضاع لظهور الحاجة. هذا هو الصحيح وفيه أوجه: أحدها: قال الإصْطَخْرِيُّ: لا يجوز، أَمَّا في الزِّنَا فلأَنة ندب إلى سترة، وأما في الولادة والرضاع، فشهادة النساء مقبولة، فلا حاجة إلى تعمد الرجال النظر. والثاني: يجوز في الزنا دون غيره؛ لأنه بالزنا هتك الحرمة فجاز هتك حرمته. والثالث: يجوز في غير الزِّنا، ولا يجوز في الزِّنَا، لأن الحد مبني على الإِسقاط. فرع: في الخُنْثَى المشكل وجهان: ¬
أظهرهما: الأَخْذُ بالاحتياط، فيجعل بالإِضافة إلى النساء رجلاً، وبالإِضافة إلى الرجال امرأة. وعن القَفَّالِ: الحكم بالجواز استصحابًا لما كان في الصغر حتى يظهر خِلاَفُهُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الرَّابِعَةُ): الخِطْبَةُ مُسْتَحَبَّةٌ. وَالتَّصْرِيحُ بِخِطْبَةِ المُعْتَدَّةِ حَرَامٌ، وَالتَّعْرِيضُ جَائِزٌ فِي عِدَّةِ الوَفَاةِ، وَحَرَامٌ في عِدَّةِ الرَّجْعيَّةِ، وَفِي عِدَّةِ البَائِنِ وَجْهَانِ، وَيحْرُمُ الخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ الغَيْر بَعْدَ الإِجَابَةِ، وَالسَّكُوتُ كَالإِجَابَةِ عَلَى قَوْلٍ، وَيَجُوزُ الصِّدْقُ في ذِكرِ مَسَاوِي الخَاطِبِ لِيُحْذَرَ. قال الرَّافِعِيُّ: قوله: "الخِطْبَة مُسْتَحَبَّةٌ" ممكن أن يحتج له بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وما جرى عليه الناس لكن لا ذكر للاستحباب في كتب الأصحاب، وإنما تكلموا في الجواز. واعلم أن المرأة إما خَلِيَّةٌ عن النكاح والعدة، فيجوز خطبتها تعريضاً وتصريحاً، أو منكوحةً فيحرم خطبتها تعريضاً وتصريحاً، أو مُعتَدَّةً فيحرم التصريح بخطبتها، وأما التعريض فيحرم أيضاً في عدة الرجعية؛ لأنها في معنى المنكوحات، ولا يحرم في عدة الوفاة على ما قال الله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235]. وفرقوا بينه وبين التصريح، بأنه إذا صرح بخطبتها تحققت رغبته فيها، وربما تكذب في انقضاء العدة لغلبة شهوة، أو غيرها وإذا عرض لم تتحقق الرغبة، وفي بعض الشُّروحِ حكايته وجه: أن المتوفى عنها زوجها إن كانت تعتد بالْحَمْلِ لم تخطب خوفاً من أن تتكلف إلقاء ولدها. أما البائنة، ففي التعريض بخطبتها قولان: وقال الإِمام وصاحب "الكتاب" وجهان: أصحهما: وهو نصه في "البُوَيطِىِّ": أنه يجوز لانقطاع سلطنة الزوج عنها وحصول البينونة. والثاني: المنع؛ لأن لصاحب العدة أن ينكحها فأشبهت الرجعية والمفسوخ نكاحها بسبب من الأسباب المقتضية للفسخ، كالبائنة والتي لا تحل لمن منه العِدَّةُ كالمُطَلَّقَةِ ثلاثاً والمفارقة باللعان، والرضاع كالمعتدة عن الوفاة، ومنهم من جعلها على الخلاف في الثانية، ثم في الصور التي لا فرق على المشهور بين أنْ تكون معتدة بالأَقْرَاء أو بالشُّهور. وقيل: بتخصيص الْخِلاَفِ بذواتِ الأشهر وبالقطع بالمنع في فوات الأقراء؛ لأنها قد تكذب في انقضاء الْعِدَّةِ لِرَغْبَتِهَا في الخاطب، وفي الْمُعْتَدَّةِ عن وطء الشبهة طَرِيْقَانِ أَحَدُهُمَا: طَرْدُ الْخِلاَفِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بالْجَوَازِ؛ لأَنَّ من منه العِدَّةُ ليس له عليها حَقُّ نِكَاحٍ، وَرُبَّمَا بني الخلاف في هذه الصُّوَرِ خلافاً ووفاقاً عَلَى أَنَّ المقتضي للتحريم في الرَّجْعِيَّةِ ماذا؟
فقالت طَائِفَةٌ: المقتضي أنها تعرض أن تراجع فقد تَحْمِلُهَا الرَّغْبَةُ في الْخَاطِبِ عَلَى أَنْ تَكْذِبَ في انْقِضَاءِ العِدَّة دَفْعاً للرَّجْعَةِ. وَقَالَ آخَرْونَ: المقتضي أَنَّها مَجْفُوَّةٌ بالطَّلاَق، فَعَسَاهَا تكذب، إِذا وَجَدَت رَاغِباً مُسَارَعَةً إلى الانْتِقَام من الزَّوْجِ، والمعنيان مَفْقُودَانِ، في الْمتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فَجَازَ التَّعْرِيضُ بِخِطْبَتِهَا. وفي البائنة وجد المعنى الثاني دون الأولِ، فكان على الخلاف والقائلون بهذا البِنَاءِ طردوا الْخِلاَفَ في المطلقة ثلاثاً وَفِي الْمَفْسُوخِ نِكَاحُهَا. وقيل: إِنْ فَسَخَ الزَّوْجُ فعلى الْخِلاَفِ، وإِن فَسَخَتْ هي لم يَجَزْ التَّعْرِيضُ بِخِطْبَتَهَا قولاً واحداً، لأَنَّهَا رغبت عن صُحْبَتِه، فلا يؤمن كذبها في انقضاء الْعِدَّةِ إِذَا وَجَدَتَ رَاغِبًا. والتَّصْرِيحُ في الخِطْبَةِ: أن يقولَ: أُرِيْدُ أَنْ نكاحك أو: إِذَا انْقَضَتْ عِدَتُكِ نَكَحْتُكَ، وإذا حللت فلا تفوتي على نفسك. والتَّعْرِيضُ ما يحتمل الرغبة في النكاح (¬1) وغيره: كقوله: رُبَّ رَاغِبٍ فِيْكِ من يجد مثلك، وَأَنْتِ جَمِيْلَةٌ، وإذا حللت فأذينني وَلَسْتُ بِمَرغُوبٍ عَنْكِ، ولا تبقين أيِّمًا، ورُبَّ راغِبٍ في نِكَاحِكِ، وإنَّ اللهَ لَسَائِقْ إِلَيْكِ خَيْراً، وما أشبه ذَلِكُ. وَحُكْمُ جَوَابِ المَرأَةِ تَصْريحًا وَتَعْرِيْضَاً في هذه الصُّوَرِ حكم الخطبة، وجميع ما ذكرنا، فيما إذا خَطَبَهَا غَيْرُ صَاحِبِ العِدَّةِ، فأَمَّا إِذَا خطبها صَاحِبُ العِدَّةِ الَّتِي يَحِلُّ له نِكَاحُهَا، فله خطبتها صريحاً وتعريضاً، ثُمَّ في الْفَصْلِ مَسْألَتَانِ: إحداهما: تَحْرُمُ الخِطْبَةِ على خِطْبَةِ الْغَيْرِ بَعْدَ صريح الإِجَابَةِ إلاَّ إِذَا أَذن ذَلِكَ الْغَيْرُ أو تركها (¬2)، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابنِ عُمَرَ -رَضِي اللهَ عَنْهُ- أنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه ¬
وَسَلَّمَ- قَالَ: "لاَ يَخْطِبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيْهِ" (¬1). وَيُرْوَى "إِلاَّ بِإِذْنِهِ" وَصَرِيحُ الإجَابةِ أن يَقُولَ: أجبتك إلى ذلك. أو تأذن لوليها في التزويج منه وهي ممن يعتبر إذنها، وإن لم تصرح بالاِجابة وَلَكِنْ وَجَدَ مَا يُشْعِرُ بالرِّضَا والإِجَابَةِ [مثل أن تقول لا رغبة عنك] (¬2) فقولان القديم: أنَّ الخِطْبَةَ لا تحرم أيضاً لإِطلاق الْخَبَرِ، وَيُحْكَى هذا عَن أَبِي حَنِيْفَةَ وَمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللهُ. وَالْجَدِيدُ: الْمَنْعُ: لأن خطبة الثاني لا تبطل شيئاً مقرراً، ولو ردت الخطبة فللغير خطبتها لا محالة، وإن لم تُوجَدْ الإجَابَةُ، ولا الرَّدُّ فمن الأَصْحَابِ مَنْ قَطَع بِجَوَازِ الْخِطْبَةِ، وَلَمْ يَجْعَلْ للسكوت أَثَراً، ومنهم من طرد فيه القولين، وَجَعَل السُّكُوتَ في الباب من أَمَارَاتِ الميل أو التأمل والاستشارة، وأقام مقيمون كَلاَمَ الفريقين طريقين في الْمَسْأَلَةِ، ويمكن ألا يَجْعَلَ هذا خلافاً محققاً، ويحمل الأول على سكوت لم يقترن به ما يُشْعِرُ بالرِّضَا. قال الأَئِمَّة: والْمُعْتَبَرُ ردُّ الْوَلِيَّ، وإجابته إنْ كانت بِكْراً، والْوَليُّ الأب أو الجد دون رَدِّهَا، وإجابتها ورد المرأة وإجابتها إنْ كانت ثَيِّباً أو بِكْراً، وَالْوَليُّ غيرهما دون رَدِّ الْوَلِيِّ، وإجابته وفي الرَّقِيْقَةِ: المعتبر رَدُّ السَّيِّدِ، وإجابته. وفي الْمَجْنُوْنَةِ رد السلطان، وإجابته. ¬
واعلم أنَّ السَّابِقَ إلي الْفَهْمِ من إطلاقِ الأَكْثَرينَ، أن يكون سكوت الولي عن الجواب على الخلاف الذي مَرَّ، لكن ذكر بَعْضُهُم أنَّ سُكُوتَ الولي لا يمنع الخطبة قَطْعاً، كما أنّ السُّكُوتَ لا يمنع السَّومَ على السَّوم بخلاف سكُوتِ الْمَرْأَةِ؛ لأنها مَجْبُولَةٌ على الْحَيَاءِ فلولا الرِّضَا عند السُّكُوتِ لَبَادَرَتْ إلىَ الرَّدِّ. وعن الدَّارِكِيِّ: أَنَّ الْخِلاَفِ في سكُوتِ الْبِكْرِ، أما الثَّيِّبُ فإن سُكوتَهَا لا يمنع الْخِطْبَةَ بحال. فَرْعٌ: يَجُوزُ الْهُجُومُ عَلَى الْخِطْبَةِ للذي لم يدر أنها أخُطبت أم لا، ولم يَدْرِ أن الْخَاطِبَ أجيب أم رد ولذلك الجواب (¬1) واحتج له بخبر فَاطِمَةَ بنت قَيْسٍ، وَذَلِكَ أن زوجها طَلَّقَهَا فَبَتَّ طلاقها، فَأَمَرَهَا النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ تَعْتَدَّ في بيت ابن أُمِّ مَكْتُومٍ وقال لها: "إِذَا حَلَلْتِ فَأْذَنِيْنِي" فلما حلت أخبرته أن معاوية وأبا جهم قد خطباها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لاَ مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلاَ يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ انْكِحِي أُسَامَةَ" (¬2). والاستدلال أنه خطبها لأسامة بعد خطبة غيره لما لم يعلم أنها أجابت أوردت. فَرْعٌ: وَلاَ فَرْقَ بين أن يكون الْخَاطِبُ الأَوَّلُ مُسْلِماً أو ذمِّيّاً وهذا إذا كانت المخطوبة ذمية. وعن أبي عِيْدِ بنِ حربُوْيَه: أنَّ الْمَنْعَ مَخْصُوصٌ بما إذا كان مُسْلِماً، أَمَّا الذِّمِّيُّ فتجوز الخطبة على خطبته، وبمثله أجاب في السَّومِ على السَّومِ (¬3). الثانية: يجوز الصِّدقُ في ذكر مَسَاوِئ الْخَاطِبِ، ليحذر (¬4)، بدليل خَبَرِ فَاطِمَةَ ¬
بِنْتِ قَيْسٍ -رضي الله عنها- فإن النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمُ- تعرض للخاطبين بما يكرها، ومعاوية الذي خَطَبَهَا هو ابن أبي سُفْيَانَ على المشهور، وقيل: بل غيره. وقوله: لاَ يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ. قيل: كناية عن كَثْرَةِ الضَّرْبِ، وَسُوءِ الْخُلُقِ. وقيل: عن كثرة السَّفَرِ. وَعَن أبي بَكْرِ الصَّيْرَفِىُّ: أَنَّهُ كِنَايَةٌ عن كثرة الْجِمَاعِ، واسْتُبْعِدَ ذلك؛ لبُعْدِ اطِّلاَعِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على هذه الْحَالَةِ من غيره، ثم لبعد ذكره عن خلقه وأدبه، ثم؛ لأن المرأة لا ترغب عن الخاطب بذلك، وليس هذا من الغيبة المحرمة إنما الغيبة المحرمة ذكر مَثَالِب النَّاسِ وإضحاك النَّاس بها وهتك أسْتَارِهِمْ، وذكر مساوئ الإِنْسَانِ بين يدي عدوه تَقَرُّبَاً إليه، وما أشبه هذه الأَغْرَاضَ الْفَاسِدَةَ (¬1). وأما إذا أراد نصيحة الْغَيْرِ ليحترز عن وصلته بالنِّكَاحِ، والشركة ونحوهما، فلا منع. ¬
وقد رُوِيَ أنه قَالَ -صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ- قال:" إِذَ اسَتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَنْصَحُهُ" (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: (الخَامِسَةُ): يُسْتَحَبُّ الخُطْبَةُ عِنْدَ الخِطْبَةِ، وَعِنْدَ العَقْدِ، وَحَسَنٌ أَنْ يَقُولَ الوَلِيُّ: الحَمْدُ للهِ وَالصَّلاةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُولِ اللهِ زَوَّجْتُ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَقْبَلُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّفْرِيقَ بَيْنَ الإِيجَابِ وَالقَبُولِ لاَ يَضُرُّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لِمَنْ خَطَبَ امْرأَةً أن يقدم بين يدي خِطْبَتهِ خُطْبَةً، فَيَحْمَدَ اللهَ، ويثني عليه، ويُصَلِّي على رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويوصي بتقوى اللهِ تَعَالَى، ثم يقول: جئتكم خاطباَ كَرِيْمَتَكُمْ ويخطب الولي أيضاً كذلك ثم يقول: لست بمرغوب عَنْك وما في معناه ويُسْتَحَبُّ خطبة أيضاً عند العقد. رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ -رضي اللهُ عَنْهُ- النَّبِيَّ -صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ¬
"كُلُّ كَلاَم لاَ يُبْدَأُ فِيْهِ بِالْحَمْدِ للهِ فَهُوَ أجْذَمُ" (¬1) ويروى "كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأ فِيْهِ بِحَمْدِ اللهِ فَهُوَ أبْتَّرٌ". وسواء خطب الولي، أو الزوج، أو أجنبي يحصل الاستحباب وإذا قال الولي: الحمد لله، والصلاة على رسول الله زوَّجت منك، فقال الزوج: الحمد لله والصلاة على رسول الله قبلت، هل يصح النكاح؟ فيه وجهان: أحدهما: لا -لأنه تخلل بين الإِيجاب والقبول ما ليس من العقد. وأصحهما: الصحة؛ لأن المتخلل من مصالح العقد، ومقدمات القبول، فلا يقطع الموالاة بينهما كالإِقامة بين صلاتي الجمع، وكطلب الماء والتيمم، وبهذا الوجه أجاب أكثر الأصحاب من العراقيين وغيرهم، وقالوا: للنكاح خطبتان مستويتان: إحداهما: تتقدم العقد. والثانية: تتخلله وهو أن يقول: الولي بِسْمِ اللهِ، والْحَمْدُ للهِ، والصلاة على رسول الله أوصيكم بتقوى الله. زوَّجتك فلانة، ويقول الزوج مثل ذلك [ثم يقول قبلت، وعلى هذا ينطبق قوله في الكتاب ثم يقول الزوج مثل ذلك بعد قوله] (¬2) وعلى هذا ينطبق قوله وحسن أن يقول الولي إلى آخره، ثم هنا كلمتان: إحداهما: قال الأئمة -رحمهم الله-: موضع الوجهين ما إذا لم يطل الذكر بينهما، فإنْ أَطَالَ قطعنا ببطلان العقد (¬3)، وكان يجوز أنْ يُقَالَ إذا كان الذّكْرُ مقدمة للقبول وَجَبَ ألا تضر إطالته؛ لأنها لا تشعر بالإِعراض. والثانية: لو كان المتخلل كلاماً لا يتعلق بالعقد ولا يستحب فيه، فإيراد بعضهم يقتضي الجزم بالبطلان. وحكى الإِمَامُ وجهين فيه أيضاً: وَجْهُ البُطْلاَنِ فيه أنَّ الكلامَ الأجنبي، وإن كان يسيراً فهو كالسُّكُوتِ الطويل ألَّا ¬
ترى أنّ الكلامَ اليسير يبطل الموالاة في الفاتحة، كالسكوت الطويل (¬1) واستشهد للوجه الثاني بنصِّ الشَّافِعِيِّ -رحمه الله- في مسألة نذكرها في آخر الباب الأول من كتاب "الْخُلْعِ" إن شاء الله -تعالى- فعلى هذا لا فرق في جريان الوجهين، وكان الفرق في الأظهر منهما، ويتأيد ما ذكرناه بأن مقدار الإقامة مما ليس من مصلحة الطلاق لا يبطل الموالاة بين صلاتي الجمع، فالحكم يدار على كون المتخلل يسيراً، لا على كونه مصلحة الصلاة (¬2) واستحب الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه- أن يقول الولي: أنكحتها على ما أَمَرَ اللهُ تَعَالَى من إمساك بِمَعْرُوفٍ، أو تَسْرِيحٍ بإحسان، وهذا إذا ذكراه قبل العقد، فذاك، وإن قيد الولي الإِيجاب به وقبل الزوج مطلقاً أو مكرراً له فوجهان: أحدهما: أنه يبطل النكاح؛ لأنه نكاح بشرط الطلاق على أحد التقديرين، وهذا ما اختاره الشَّيخُ أبو مُحَمَّدٍ. وأصحهما: الصحة؛ لأن كُلَّ زوجٍ مأخوذ به بموجب الدّين فليس في ذكره إلاَّ التعرض لمقتضى العقد، وفصّل الإمام فقال: إن أجرياه شرطاً ملزمًا، فالوجه البطلان، وإن قصدا الْوَعْظَ دون الإلْزَامِ لم يضر، وإن أطلقا احتمل واحتمل وَقَرِيْنَةُ الْحَالِ تدل على قصد الْوَعْظِ، وتبركَ الأئمة بخطبة النِّكَاح بما روي عن ابنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- موقوفاً ومرفوعاً: قال: إذا أراد أحدكم أن يخطب لحاجة من النكاح أو غيره فليقل: الحَمْدُ للهِ. نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم قرأ هذه الآيات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]. وعن القَفَّالِ: أنه كان يقول بعد هذه الخُطْبَةِ: أما بعد فإنّ الأمور كلها بيد الله يقضي فيها ما يشاء ويحكم ما يريد لا مُؤَخَّرَ لِمَا قَدَّمَ، وَلاَ مُقَدِّمَ لِمَا أَخَّر، ولا يجتمع اثنان، ولا يفترقان إلاَّ بقضاء الله، وقدره وفي كتاب قد سبق، وإن مما قضي الله وقدر أن خطب فلانٌ بنُ فلانٍ فُلانَةَ بِنْتَ فُلاَنٍ على صداق كذا، وسيزوجها وليها، أو وَكِيْلُ ¬
القسم الثاني في الأركان
وَلِيِّهَا على ما سمى من الصدقات على ما أخذ الله للمؤمنات على المؤمنين من إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. أقول: قولي هذا وأستغفر اللهَ لي ولكم أجمعين. وزاد القاضي الرُّوَيَانِيُّ وغيره بين كلمتي الشهادة وبين الآيات الذي أرسله بالهدى، ودَيْنِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّيْنِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهِ الْمُشْرِكُونَ، ثم اعلموا أن الله تعالى أَحَلَّ النكاح، وندب إليه وحرم السِّفَاحَ وأوعد عليه فقال تعالى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]. وقال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] الآيتين. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوْا" وقال: "النِّكَاحُ سُنَّتِي ... " (¬1) الحديثين وَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ للزوجين بعد العقد رُوِيَ أنه -عليه السَّلامُ- كان يقول للإنسان إذا تزوج "بَارَكَ اللهُ لَكَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ" (¬2) وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال لي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا جَابِرُ تَزَوَّجْتَ؟ فَقُلْتَ: نَعَمْ. فَقَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ" (¬3). قَالَ الغَزَالِيُّ: (القِسْمُ الثَّانِي في الأَرْكَانِ) وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: (الأَوَّلُ الصِّيغَةُ) وَهِيَ الإِنْكَاحُ وَالتَّزْوِيجُ، وَلاَ يَقُومُ (ح م و) غَيْرُهُمَا مَقَامَهُمَا إلاَّ تَرْجَمَتَهُمَا (و) بِكُلِّ لِسَانٍ في حَقِّ القَادِرِ وَالعَاجِزِ جَمِيعاً، وَلاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالكِنَايَةِ لأَنَّ الشَّاهِدَ لاَ يَعْلَمُ النِّيَّةَ، وَلاَ البَيْعُ عَلَى وَجْهٍ لأَنَّ المُخَاطَبَ لاَ يَعْلَمُ، وَيَصِحُّ الطَّلاَقُ وَالإِبْرَاءُ وَالفَسْخُ وَمَا يَسْتَقِلُّ بِهِ، وَهَلْ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ قَبِلْتُ ¬
القول في أركان النكاح
أَوْ لاَ بُدَّ أَنْ يَقُولَ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَالنَّصُّ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالإِسْتِيجَابِ وَالايجَابِ، وَالخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ العَمْدِ وَالكتَابَةِ أَوْلَى بِالانْعِقَادِ، وَفِي البَيْعِ قَوْلاَنِ، وَقِيلَ بِطَرْدِ القَوْلَيْنِ فِي الجَمِيعِ وَهُوَ القِيَاسُ. " القول في أركان النكاح" قال الرَّافِعِيُّ: عد أركان النِّكَاح أربعة: أحدها: الصيغة إيجاباً وقبولاً فيقول الولي: زوجتك أو نكحتُك، ويقول الزوج: تزوجت، أو نَكَحْتِ، أو قبلت تزويجها، أو نكاحها، أو يقول الزَّوْجُ أولاً: تزوَّجتُها أو نَكَحْتُها فيقول الوليُّ: زوَّجتُك أو أنكحتُكَ. واللفظ المعتبر في الباب هو الإِنكاح والتزويج، فلا ينعقد بسائر الألفاظ سواء منها ما يقتضي التمليك (¬1) كالبيع والهبة والصدقة (¬2)، أو لا يقتضيه كالإِحلال والإِباحة وسواء إن جرى ذكر المهر، أو لَمْ يَجْرِ. ¬
وقال أَبُو حَنِيْفَةَ: ينعقد بما يقتضي التمليك دون الإِحلال والإِباحة، وعنه اختلاف رواية في لفظ الإِجارةِ. وقال مالك -رضي الله عنه-: ينعقد بسائر الألفاظ بشرط ذكر الْمَهْرِ، واحتج الأصحاب للمذهب بأن ما ينعقد به غير النكاح لا ينعقد به النكاح؛ كالإِحلال والإِباحة، فإن النكاح ينزع إلى العبادات لورود الندب فيه، والأذكار في العبادات تُتَلَقَّى من الشرع، والقرآن ورد بهذين اللفظين دون غيرهما، وهل ينعقد بمعنى اللفظين بالعجمية، وسائر اللغات؟! فيه طريقان: أحدهما: إنه إن كان يحسن الْعَرَبِيَّةَ، ويقدر على التكلم بها، فلا ينعقد؛ لأنه عدل عن النكاح، والتزويج مع القدرة فصار كما لو عدل عن البيع والتمليك وَيُحْكَى هذا عن أحمد. وإن لم يحسنها فوجهان: أحدهما: أنَّ الجواب كذلك؛ لأن العربية لما كانت شرطاً عند القدرة لم يَجُزْ غيرهما عند الْعَجْزِ كقراءة الفاتحة، وعلى هذا فيصبر إلى أن يتعلم، أو يوكل. وأصحهما: الانعقاد؛ لأنه لفظ لا يتعلق به إعجاز، فاكتفى بترجمته عند العجز كالتكبير وعلى هذه الطريقة جَرَى الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وآخرون. وأظهرهما: أنه إن لم يحسنها انعقد النكاح وجهاً واحدًا ولا يكلف التعلم والعقد، بغير لغته كما في سائر العقود، وإن أحسنها فوجهان: أصحهما: الانعقاد أيضاً اعتباراً بالمعنى وليس كلفظ البيع والتمليك، لاختلاف المعنى، وتحكى هذه الطريقة عن ابن أبي هُرَيْرَةَ والقاضيين أبي حَامِدٍ وأبي الطَّيِّبِ، وإذا أطلقنا الكلام، واختصرنا حصل في المسألة ثَلاثَةِ أَوْجُهٍ: ثالثها: الفرق بين أن يُحْسِنَ العربية، أو لا يحسنها وينسب هذا إلى الإصْطَخْرِيِّ ومنهم من ينسب إليه المنع المطلق وترجمه اللفظين بالعجمية أن يقول: ["بزنى توداذم"] (¬1) ويَقُولُ الزَّوجُ: [بزني كردم] (¬2)، [أو] (¬3) نحو ساتم [بزنى، أو ¬
يديرافتم بزنى] (¬1) ولا يكفي أن يقول [بتوداذم] (¬2) فيقول [بنيرافتم] (¬3)، لأنه معنى الهبة دون النكاح، وإذا أتى أحد المتناكحين بالعربية والآخر بغيرها لم يخف التخريج على الخلاف المذكور، وإذا صححنا فذلك إذا فهم كل واحد منهما كلام الآخر، فإن لم يفهم ولكن أخبره ثقة عن معنى لفظ الآخر، ففي الصحة وجهان (¬4)، ولا يُشْتَرَطُ اتفاق اللفظين من الجانبين. بل لو قال: أنكحتك فقال الزوج: تزوجت، أو قال: زوجتك. فقال: نكحت جاز كما سبق نظيره في "البيع" ثُمَّ في الفصل مسألتان: المسألة الأولى: لا ينعقد النكاح بالكنايات وينعقد بما يستقل به الشَّخْصُ كالطلاق والفسخ والإِبراء، وفي "البيع" وجهان. وكل ذلك قد ذكرناه في "البَيْع" فإذا قال الولي: زوجتكها فليقل الزوج: قبلت نكاحها أو تزوجتها أو قبلت هذا النكاح، فإن اقتصر على قوله: قبلت فالنص في "الأم" أنه لا يصح النكاح، وهو ظاهر كلامه في "المختصر" ونصه في "الإِملاء" الصحة، وفيهما طرق للأَصْحَابِ: أصحها: أنَّ الْمَسْألَةَ على قولين: أحدهما: الصحة، وبه قال أبو حنيفة وأحمد؛ لأن الْقَبُولَ ينصرف إلى ما أوجبه الولي، فكان كالمعاد لفظاً. وأظهرهما: المنع؛ لأنه لم يُوْجَدْ منه التصريح بواحد من لفظي النِّكَاحِ والتزويج، والنِّكَاحُ لا ينعقد بالكنايات. والثاني: القطع بالمنع، والمطلق في "الإملاء" محمول على المقيد في "المختصِر". والثالث: القطع بالصحة، وينزل ما في "الأم" و"المختصر" على التأكيد، ولو قال: قبلت النكاح، ولم يضف النكاح إليها، أو قال: قبلتها، ولم يذكر النكاح، ففيه خِلاَفٌ مرتب على الخلاف فيما إذا اقتصر على قوله: "قبلت"، وهاتان الصورتان أولى ¬
[بالصحة] (¬1) للتصريح بالنكاح في الأولى والإضافة إلى المنكوحة في الثانية، وأجرى مجرون الْخِلافِ فيما إذا قَالَ: زَوَّجْنِي، أو أنْكَحْنِيْ، فقال الْوَلِيُّ: قَد فَعَلْتُ ذَلِكَ، أَوْ نَعَمْ اكتفى بلَفْظِ النِّكَاحِ في أحد الطرفين، وفيما إذا قال الوَلِيُّ: زوجتكها أو أنكحتكها. أَقَبِلْتَ؟ قَالَ: نعم. وكذا لو قال: نعم من غير قول الولي: أقبلت؟. ومنهم من قطع بالمنع، كما لو قال أتزوجني ابنك؟. فقال: نعم. فقال: قبلت. والأول أقيس، وفي نظائر هذه الصور من البيع ينعقد البيع وكذا لو قال: بعت منك كذا فاقتصر في الجواب على قوله: قبلت على ما سبق في "البيع". وحكى الحنَّاطِيُّ وجهاً: أنه لا ينعقد كما في النكاح، وقد ذكرنا في "البيع" خلافاً فيما إذا كتب إلى غَائِبٍ بالبيع ونحوه مِنَ التَّصَرّفَاتِ، وَأَمَّا في النِّكَاحِ ففيما علق عن القاضي أبي سعد الهَرَوي إثبات وجهين أيضاً؛ لأن الْغَائِبَ يخاطب بالكتاب، وَقَطَعَ بالْمَنْعِ فِيْمَا إِذَا كانا حاضرين فَتَنَاكَحَا بالكتابة؛ لأنه لاَ ضَرُورَةَ، والْمَشْهُور الْمَنْعُ في الغائب أيضاً؛ لأن الكتابة كناية والنكاح لا ينعقد بالكناية. قال في "التَّهْذِيْبِ": ولو خاطب غائباً بلسانه فقال: زوَّجتُك ابنتي، ثم كتب فبلغه الكتابة أو لم تبلغه أن بلغه الخبر فقال: قبلت نكاحها فيلغو؛ لتراخي الْقَبُولِ عَنِ الإيْجَابِ، أَوْ يصح ويجعل كَأنَّهُ خاطبه حين أتاه الكتاب، أو الخبر. فيه وجهان وقد يُسْتَبْعَدُ خِطَابُ الغائب بقوله: زوجتك ابنتي؛ لأن مكالمة الغائب بخطاب الحاضر ضربُ سَفَهٍ. ولو قال: زوجت ابنتي من فلان، وجب أن يكون على هذا الخلاف وقد حكينا في نظيره من "البيع" الصحة، ثم إذا قلنا بصحة النكاح، إما بمجرد الكتاب، أو ¬
عند التَّلَفُّظِ، فالشَّرْطُ أن يقبل في مجلس بلوغ الخبر، وَأَنْ يَقَع الْقُبُولُ بمحضر شاهدي الإِيجاب (¬1) فإن حضر غيرهما لم يصح. فَرْعٌ: قال القاضي الرُّويَانِيُّ: إذا استخلف القاضي فقيهاً في تزويج امرأة لم يَكْفِ الكتاب، بل لا بدّ من اللفظ. وفي "المجرد" للحَنَّاطِيِّ: أنه على وجهين وهل للمكتوب إليه اعتماد الخطِّ الظاهر المنع (¬2). وفيه وَجْهٌ متفرع من الخلاف في جواز الاعتماد على منشور تولية القاضي. المسألة الثانية: إذا قال: زوجني -فقال الولي: زوجتك فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ بعده: قبلت- فلا كلام في صحة النكاح، وإن لم يقل فالنَّصُّ الصحة أيضاً لوجود الاستدعاء الجازم. وقد رُوِيَ أَنَّ الأَعْرَابِيَّ الَّذِي خَطَبَ الواهبة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: زَوَّجْنِيْهَا فقال: "زَوَّجْتُكَهَا" ولم ينقل أنه قال بعد ذلك: قبلت (¬3). وهذا ظاهر المذهب؛ وبه قال أبو حَنيْفَةَ -رضي الله عنه- وحكى الإِمَامُ أن من الأصحاب من أثبت فيه الْخِلاَفَ الذي سبق في "البيع". ذكره. والخلع، والصلح عن الدم والإِعتاق على المال أولى بأن ينعقد بالاستيجاب والإِيجاب فإذا قالت: طلقني أو خالعنيَ على أَلْفٍ، فأجابها الزوج طلقت ولزمها الألف، ولا حاجة إلى قبول بعده. وكذا لَوْ قَالَ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ: أعتقني على كذا، فأجابه إليه، أو قال من عليه القِصَاصُ: صالحني على كذا، فقال المستحق: صالحتك عليه، وإنما كانت أَوْلَى بالانعقاد؛ لأن الْغَرَضَ الأَصْلِيَّ من هذه العقود الطلاق، والعِتْقُ والعَفُّو، وهذه المقاصد يمكن تحصيلها بلا عِوَضٍ، وإن ذكر عوض فهو على سبيل الاقتداء والتبعية ولهذا صح ¬
بدل المال على الطلاق، والعتاق من الأجنبي -وأما النِّكَاحُ فَإنَّهُ لاِ يخلو في وَضْعِهِ على العِوَضِ إلاَّ في غاية النُّزورِ، فكان أشبه بالبيع والمْعَاوَضَاتِ، ويحققه أن هذه العقود تصح بِصَيْغَةِ التَّعْلِيقِ بِخِلاَفِ الْمُعَاوَضَاتِ، وإذا عَرَفْتَ أن هذه العقود أولى بالانعقاد، فالقاطعون بأن النِّكَاحَ ينعقد بالاستيجاب والإِيجاب أولى بالقطع هاهنا والمثبتون للخلاف هناك امتنع أكثرهم من طرده هنا. وعن الشَّيْخِ أبي محمد رواية طريقة طاردة للخلاف في هذه العقود، واستحسنها الإِمام وصاحب "الكتاب" من جهة القياس وتردد الشَّيْخُ أبو محمد في أَنَّ الكتابةَ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْخُلْعِ [والعتاق] (¬1) حتى نقطع بانعقادها بالاستيجاب والإِيجاب، أو منزلة النكاح حتى يجيء فيه الطريقان؛ لأن الْكِتَابَةَ مترددة بين الإِعتاق والمعاوضات، والاحتمال الأول هو المذكور في الكتاب، وجميع ما ذكرنا فيما إذا كانت صيغة الاستدعاء: زوجني وخالعني وأعتقني ونحوها. أما إذا قال الزوج قل [زوَّجتُكَها] (¬2) منك قال الشَّيْخُ أبو محمد رحمه الله: ليس ذلك في معنى الاستيجاب؛ لأنه اسْتِدْعَاءُ للفْظِ دون التزويج، فإذا تلفظ أشبه أن يقتضي القبول، كما كان يقتضيه إذا لم يستدع شيئاً. ولو قال الوَلِيُّ: لا تتزوج ابنتي، فقال الزَّوْجُ: تزوجت فهو كما لو قال الزوج: زوجني فقال الولي: زوجت، هذا هو الجواب المعروف، وقد حكينا في "البَيْعِ" عَنْ بَعْضِهِمْ الْمَنْعَ ويمكن أَن نقول بمثله هنا. ولو قال: أتزوجني ابنتك، أو زوجت منى ابنتك فقال الولي: زوجت لم ينعقد إلاَّ أن يقول الخاطب بعده: تزوجت. وكذا لو قال الولي: أتتزوج ابنتي؟ أو تزوجتها؟ فقال: تزوجت [لا ينعقد إلاَّ أن يقول الولي بعده: زوجتك؛ لأنه استفهام، ولو قال المتوسط للولي: زوجته ابنتك من فلان، فقال: زوجت] (¬3) ثم أَقْبَلَ على الخاطب فقال: قبلت نكاحها فوجهان كما ذكرنا في "البيع". أحدهما: لا يصح لعدم الْخِطَابِ بين المتعاقدين. وبه قال القَفَّالُ. وأصحهما: الصحة -لوجود الإيْجَاب والقَبُولِ، وارتباط أحدهما بالآخر، أما لفظ الكتاب فقوله: "الصيغة -وهي الإنكاح والتزويج ليس من ضرب (¬4) قوله في [أول] (¬5) "البيع" "الصيغة وهي الإيجاب والقَبُوَلُ"، بل المُرَادُ هاهنا أنَّ الصِّيْغَة إيجاباً وقَبُولاً تُعْتَبَرُ مِنْ هَذَيْنِ اللَّفْظَينِ وقوله: "لا يقوم غيرهما مقامهما" معلم بالحاء والميم وقوله: "إلاّ ترجمتهما" ¬
بالواو. وقوله: "في حقِّ الْقَادِرِ كذلك" إشارة إلى الوجه الفارق بين القادر والعاجز. وقوله: "فيه وجهان" بالواو للطريقين القاطعين على ما قَدَّمْنَا، ثم الخلاف على المشهور قولان لا وجهان. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلاَ يَقْبَلُ النِّكَاحُ التَّعْلِيقَ فَلَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ وَلَدِي أُنْثَى فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا لَمْ يَصِحَّ (و) وإنْ كَانَتْ أُنْثَى، وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَني ابْنَتَكَ وَيضَعَ كُلُّ وَاحِدٍ صَدَاقَ الأُخُرَى لَمْ يَصِحَّ، لأن الشِّغَارُ المَنْهِيُّ عَنْهُ، وَلأَنَّهُ إِشْرَاكٌ فِي البُضْعِ فَإِنْ تَرَكَ جَعَلَ البُضْعَ صَدَاقاً فَفِي الصِّحَّةِ وَجْهَانِ، وَلاَ يَجُوزُ تَأْقِيتُ النِّكَاحِ وَهُوَ المُتْعَةُ. قال الرَّافِعِيُّ: فيه مسائل ثلاث: المسألة الأولى: النِّكَاحُ لا يقبل التعليق. مثل أَنْ يَقُولُ: إذا جاء رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ زَوَّجْتُكَ؛ لأن البيع والمعاوضات لا تقبل التعليقات، والنكاح مع اختصاصه بوجه الاحتياط أولى لو أخْبِرَ بِمَوْلُودٍ فقال لجليسه: إن كانت بنتاً فقد زوجتكها. أو قال: إن كانت بنتي قد طلقها زوجها، أو مات عنها، وانقضت عدتها، فقد زوجتكها، أو كانت تحته أربع نسوة، فقال له غيره إن مَاتَت وَاحِدَةٌ: مِنْهُنَّ فقد زوجتك ابنتي. أو قال: إن مات أبي ورثت منه هذه الْجَارِيَةَ، فقد زوجتكها وَبَانَ لأمر كما قدر (¬1) فقد تثبت هذه الصورة ونظائرها على أنه إذا زوج أمة أبيه، أو باعها على ظنِّ أنه حيٌّ، فَبَانَ أنه كان ميتاً يوم العقد. هل يصح العقد؟. فيه قولان ذكرناهما في أَوَّلِ "الْبَيْعِ". فإن قلنا: لا يصح الْعَقْدُ هناك مع أَنَّهُ أَطْلَق، فهاهنا مع التعليق أولى، وإن قلنا: يصح عند الإِطلاق ففي هذه الصورة وجهان: ¬
القول في حكم نكاح الشغار
أحدهما: أنَّ النِّكَاحَ صَحِيْحٌ؛ لأن التصحيح، وإن جزم به على تقدير هذا التعليق، فإذا صَرَّحَ به فقد صَرَّحَ بمقتضى العقد، وَيُحْكَى هَذَا عَنْ أبِي حَنيْفَةَ رحمه الله. وأصحهما: وهو الذي أورده الأكثرون: أنه لا يَصِحُّ لِفَسَادِ الصِّيْغَةِ، وذكر في "التهذيب" (¬1) أنه لو بُشِّرَ ببنت فقال: إنْ صَدَقَ الْخَبَرُ، فقد زوجتكها صح، ولا يكون ذلك تعليقاً، بل هو تَحْقِيقْ، كما لو قال: إن كنتِ زَوْجَتِي، فَأَنْتِ طَالِقٌ يكون تَنْجِيْزاً للطلاق ويكون "إن" بمعنى "إذ"؛ لقوله تعالى: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]. وكذا لَوْ أخْبِرَ: من له أَرْبَعُ نُسْوَةٍ بموت إحداهن، فقال لرجل: إن صَدَقَ الُخَبَرُ فقد نكحت ابنتك، وقال ذلك الرَّجُلُ: زوجتكها، صَحَّ ويجب أَنْ يكون هذا الْجَوَابُ مفروضاً فيما إذا تيقَّنْ صدق المخبر، وإلاَّ فكلمة "إن" للتردد فيما إذا دَخَلَتْ عليه تعليق واشتراط (¬2). " القول في حكم نكاح الشغار" المسألة الثانية: إذا قال: زوَّجتُك ابنتي، أو أختي، أو أمتي على أن تزوجني ابنتك، أو أختك على أن يكون بضع كل واحدة منهما صداقاً لِلأُخْرَى وقبل الآخر، أو قال: زوجتك ابنتي، وتَزَوَّجْتُ ابْنَتَكَ، أو أختك على أن يكون بضع كل واحدة منهما صداقاً للأخرى. فقال المخاطب: تزوجت وزوجت على ما ذكرت، فهذا نكاح الشِّغَارِ (¬3) وُسُمِّيَ بِهِ إِمَّا من قَوْلُهُمْ شَغَرَ الْبَلَدُ عَنِ السُّلْطَانِ إذا خلا لخلوه عن المهر. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويقال: لخلوه عن بعض الشرائط. وإما من قولهم شَغَرَ الكَلْبُ: إذا رفع رجله لِيَبُولَ؛ لأن كُلَّ وَاحِدٍ منهما كأنه يقول: لا ترفع رِجْلَ ابْنَتِي مَا لَمْ أَرفَعْ رِجْلَ ابْنَتِكَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ نِكَاحٌ رُفعَ عَنْهُ الْمَهْرُ. وفي بعض "الشُّرُوحِ" أَنَّ الْكَلْبَ إذا كان يَبُولُ من حيث يصل من غير مُبالاة قيل: شَغَرَ الْكَلْبُ بِرِجْلِه، فَسُمِّيَ شغاراً لعدم المبالاة فيه بالمهر، وهو فاسد؛ لما رُوِيَ عن ابن عُمَرَ -رضي اللهُ عنه- أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عن نِكَاحَ الشِّغَارِ والشِّغَارُ وَهُوَ أن يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوَجَهُ الآخَرُ ابْنَتَهُ [ليس لهما صداق] (¬1) ويروى: وبضع كل واحد منهما مهر الأخرى (¬2). قَالَ الأَئِمَّةُ: وهذا التفسير يجوز أن يكون مرفوعاً، ويجوز أن يكون من عند ابنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- وذكروا في طريق المعنى شيئين. أحدهما: إِنَّ فيه تشريكاً في البضع؛ لأن كُلَّ واحد منهما جعل بضع مولاته مورداً للنكاح، وصداقاً لِلأُخْرَى، فأشبه ما لو زوج امرأة من رجلين لا تصِحُّ النِّكَاح، وربما شبه ذلك بما إذا نكحت الحرة عبداً على أن تكون رقبته صداقاً لا يصح النِّكَاحُ، فكما لا يجوز أنْ يكون الرجل ناكحاً وصداقاً لا يجوز أن تكون الْمَرْأَةُ مَنْكُوْحَةً وصداقاً، وقد يعترض فيقال: المفسد هو الشَّرِيكُ من جهة واحدة، وذلك إذَا زوجها من رجلين هاهنا الشريك بجهتين مختلفتين، فَأَمْكَنَ أَنْ يَلْحَقَ بِمَا إِذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ، ثُمَّ بَاعَها، أو أصدقها امرأة. ¬
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُخْرَى فسبب الْبُطَلانِ فيها ملك الزوجة الزوج، وهذا المعنى لو عرض فَسَدَ النِّكَاحُ، فهذا قارن ابتداءً منع الانعقاد. والثاني عن القَفَّالِ: أَنَّ سبب الفَسَادِ التعليق والتوقيف كَأنَّهُ يقول: لاَ يَنْعَقِد لَكَ نِكَاحُ ابنتي، حَتَّى ينعقد لي نِكَاحُ ابْنَتِكَ، أَو زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي، أَوْ زَوَّجْتَنِي ابْنَتَكَ، وَكَانَتْ [لِلْعَرَبِ] (¬1) أَنْفَهُ وَحِمْيَّةٌ، وَجَاهِلِيَّةٌ، ولا يرضون بِأَنْ يُزَوِّجُوا حَتَّى يُزَوَّجُوْا. وَلَوْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ: زوَّجتُك ابنتي على أنْ تزوجني ابْنَتَكَ وَقَبَلَ الآخَرُ، ولم يجعلا البضع صداقاً ففيه وجهان: أصحهما: الصِحة؛ لأَنَّ تَفْسِيرَ الشِّغَارِ الذِي ورد في الخبر لم يُوْجَدْ، ولم يتحقق التَّشْرِيْكُ، وَلَيْسَ فيه إلاَّ شرط عقد في عقد، وأنَّهُ لا يفسد النكاح، فعلى هذ يصح [النكاحان] (¬2) ولكل واحدة مَهْرُ المِثْلِ. والثاني: لا يصحُّ لمعنى التعليق والتوقيف، وخصص الإِمام الوجهين بما إذا كانت الصيغة هذه ولم يذكرا مَهراً وقطع بالصحة فيما إذا قال: زوجتك ابنتي بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِيْ ابْنَتَكَ. قال: وليس الْفَرْقُ لذكر الْمَهْرِ، بل؛ لأنه رُوِيَ في بعض الروايات أنه -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عن نِّكَاحِ الشِّغَارِ وهو أن يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَه، عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهَ صَاحِبُهُ ابْنَتَهُ فَفُسرَ بهذا القدر من غير مزيد، ولك أن تقول هذا التفسير حاصل سواء ذُكِرَ المهر، أو لم يذكره إذ ليس فيه تعرض لترك المهر، كما ليس فيه تعرض لذكره، فلا يصلح مستنداً للفرق، وإذا قلنا بالوجه الأول؛ فلو قال: زوَّجتُك ابنتي على أن تزوجني ابنتك وبضع ابنتك صداق لابنتي فقبل: صح الأول وبطل الثاني ولو قال: وبضع ابنتي صداق لابنتك بطل الأول، وَصَحَّ الثَّاني وهذا نظر في معنى التَّشْرِيكِ، ولو سيما لهما، أو لأحدهما مهراً مع جعل البضع صداقاً، بأن قال أحدهما: زوَّجتُك ابنتي بِألْفٍ على أن تُزَوِّجَنِي ابْنَتَكَ بِأَلْفٍ، وبِضْعُ كُلِّ واحدةٍ منهما صداق للأخرى، أو قال: على أن تزوِّجني ابنتك. وَبِضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ صَدَاقُ الأخْرَى وألف، أو قال: زوَّجتُك ابنتي على أن تزوجني ابنَتَكَ، ويكون بِضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ وألف درهم صداقاً للأخرى فوجهان: أحدهما: وهو ظاهر لفظ "المختصر": أنه صحيحٌ؛ لأنه ليس على صورة تفسير لفظ الشِّغَارِ؛ ولأنه لم يخل عن الْمَهْرِ. وأصحهما: البطلان -لقيام معنى التَّشْرِيكِ والتوقيف، ويحكى هذا عن نَصِّه في ¬
القول في تأقيت النكاح
"الإِملاء" ونص "المختصر" مَحْمُولٌ على ما إذا ذكر المهر، ولم يجعلا البضع صداقاً. وقوله في الكتاب: "لم يصح" معلم بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة -رضي الله عنه- نكاح الشغار صحيح وللمرأة مهر المثل وساعدنا مالك وأحمد على فساده. واعلم أن اقتضاء التوقيف والتعليق البطلان ظاهر؛ لكن ليس في صورة نكاح الشِّغَارِ المشهور لفظة تعليق، وإنَّما هي لفظة الاشتراط، ولذلك قال صاحبُ "الكتاب" في "الوسيط" عند تصوير الشِّغَارِ: "وصورته الكاملة: أن يقول: زَوْجْتُكَ ابْنَتي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ بِضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهِمَا صداقاً للأخرى، ومنهما انعقد لك نكاح ابنتي انعقد لي نكاح ابنتك"، وهذا فيه تَعْلِيقٌ، وشرط عقد في عقد وَتَشْرِيْكٌ في البِضْعِ، ويشبه أن يُقَالَ: كانت الْعَرَبُ يفهمون منه التعليق، أو يستعملون لفظه. فُرُوْعٌ: لو قال: زوَّجتك ابنتي بمتعة جاريتك صح النكاح صَحَّ النِّكَاحُّ وَفَسَدَ الصَّدَاقُ. ولو قال: زوَّجتك جاريتي على أن تزوجني ابنتك وتكون رقبة جاريتي صداقاً لابنتك. قال في "الشَّامِلِ": يصح النِّكَاحَانِ؛ لأنه لا تشريك فيما يرد عليه عقد النكاح، ويفسد الصداق، ولكل واحدة مهر مثلها ويجيء على معنى التعليق والتوقيف أن يحكم ببطلان النكاحين. ولو طَلَّقَ امْرَأَتهُ على أن يزوجه صاحبه ابْنَتَه ويكون بضع امْرَأَتِهِ صَدَاقاً لها، فَيُزَوِّجَهُ صاحبه على ذلك. حكى الْقَاضِيُ ابنُ كَجٍّ فيه وجهين عن أبي الحسين: أحدهما: يفسد النِّكَاحُ لِخُلُوِّهِ عَنِ الصَّدَاقِ. والثاني: إنه يَقْتَصِرُ الْفَسَادُ عَلَى الصَّدَاقِ. ولو طَلَّقَ امْرَأَتَهُ على أن يعتق صاحبه عبده ويكلون طلاق امرأة هذا عِوَضاً عن عتق عبد هذا. ذكر أبو عبد اللهِ الحِنَّاطِيُّ أنه يقع الطلاق، ولا رجوع بالمهر على أحد، وفي عتق العبد وجهان فإن عتق فلا رُجُوعَ بقيمته. وقال القَاضِيُ ابنُ كجٍّ: عندي يقع الطلاق ويحصل العتق ويرجع المطلق على المعتق بمهر امرأته والمعتق على المطلق بقيمة عبده. " القول في تأقيت النكاح" المسألة الثالثة: النِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ بَاطِلٌ سواء كانت المدة معلومة بأن نكحها إلى
شهر أو سنة أو مجهولة بأن نكحها إلى قدوم زيد (¬1)، لما رُوِيَ عن علي -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسَلَّمَ- نهى عام خَيْبَرٍ عن نِّكَاحِ الْمُتْعَةِ (¬2) -ونكاح ¬
المتعة (¬1) هو المؤقت- سمي به؛ لأن العِوَضَ منه مُجَرَّدُ التَّمَتُّعِ دون التوالد، وسائر ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أغراض النِّكَاحِ، وكان ذلك جائزاً في ابتداءِ الإِسْلاَمِ ثم نُسِخَ. وإذا وطئ في نِكَاحِ الْمُتعَةِ جاهلاً بفساده، فلا حَدَّ فإن كان عالماً فقد بني أمر الحد على ما رُوِيَ عن ابنَ عَبَّاسِ -رَضِيَ اللهُ عنه- أنه كان يجوّز نِكَاحَ الْمُتْعَةِ، ثم
رَجَعَ (¬1) عنه فإن صَحَّ رُجُوعُهُ وجب الحد لحصول الإِجماع، وإن لَمْ يَصِح رجوعه، ¬
فيبنى على أنه لو اختلف أهل عَصْرٍ في مَسْأَلَةٍ، ثم اتفق من بعدهم على أحد القولين فيها هل يصير ذلك مجمعاً عليه -وفيه وَجْهَانِ أصوليان: إن قلنا: نعم وجب الْحَدُّ، وِإلاَّ فلا، كالوطئ في سائر الأَنْكِحَةِ المختلف فيها، وهو الأصَحُّ ولك أن تقول: نقلوا في المسألة عن زفر أنه يلغو التَّأْقِيتَ وَيصِحُّ النِّكَاحُ مؤبداً فليسقط الْحَدُّ لذلك وإِنْ صَحَّ رجوع ابن عَبَّاسِ -رضي الله عنهما- وحيث لا يجب الْحَدُّ يجب الْمَهْرُ والعدة ويثبت النَّسَبُ.
القول في الركن الثاني من أركان النكاح
ولو قال: نكحتها متعة، ولم يَزِدْ على هذا -حَكَى الحَنَّاطِيُّ في صحته وجهين- هذا شرط مَا أَوْرَدَهُ صاحب "الكتاب" في ركن الصيغة ويختمه بصور تعتبر: الموالاة بين الإيجاب والقَبُولِ على ما مَرَّ في "البيع"، ونقل القاضي أبو سعد الهَرَوِي: أنَّ العراقيين من أصحابنا اكتفوا بوقوع القَبُولِ في مَجلِس الإِيْجَاب، وقالوا حكم نهاية المجلس حكم بدايته، وإِذَا وجد أحد شقي العقد من أحدَ العاقدينَ فَلاَ بُدَّ من إصراره عليه، حَتَّى يوجد الشق الآخر، فلو رَجَعَ عَنْهُ لغى وكذا لو وجب ثُمَّ زَالَ عَقْلُهُ بجنون، أو إِغماء لغى، وامتنع الْقَبُولُ. وكذا لو أذنت المرأة في تزويجها، حيث يعتبر إِذنُهَا، ثم أغمي عليها قبل العقد بَطَل إذْنُهَا. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الثَّانِي: المَحَلُّ) وَهِيَ الْمَرَأَةُ الخَلِيَّةُ عَنِ المَوَانِعِ مِثْلُ أن تَكُونَ مَنْكُوحَةَ الغَيْرِ أَوْ مُرْتَدَّةً، أَوْ مُعْتَدَّةً، أَوْ مَجُوسِيَّةً، أَوْ زِنْدِيقَةً، أَوْ كِتَابِيَّةً، بَعْدَ المَبْعَثِ، أَوْ رَقِيقَةً (ح) وَالنَّاكِحُ قَادِرٌ عَلَى حُرَّةٍ، أَوْ مَمْلُوكَة النَّاكِحِ بَعْضَهَا أَوْ كُلَّهَا، أَوْ مِنَ المَحَارِمِ أَوْ بَعْدَ الأَرْبَعَةِ، أَوْ تَحْتَهُ مَنْ لاَ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، أَوْ مْطَلَّقَةَ ثَلاَثاً لَمْ يَطَأْهَا زَوْجٌ آخَرُ أَوْ مُلاَعَنَةً، أَوْ مُحَرَّمَةً بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ ثَيِّباً صَغِيرَةً (ح)، أَوْ يَتِيمَةً (ح)، أَوْ زَوْجَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " القول في الركن الثاني من أركان النكاح" قال الرَّافِعِيُّ: يشترط في المنكوحة أن تكون خلية عن موانع النكاح، والكلام في الموانع مَبْسُوطٌ في مواضعه لا سِيَّمَا في الْقِسْم الثَّالِثِ مِنَ الْكِتَابِ الْمَعْقُودِ لِبَيَانِ الْمَوَانِع وهاهنا اقتصر على عد تراجمها وهي أن تكوَنَ منكوحة الْغَيْرِ، فالمنكوحة لا تنكح، وأن تكون في عدة الغير (¬1)، وفي اللَّفْظِ تنبيه على أَنَّهَا لو كانت في عدته لم يحرم عليه نكاحها، وأن تكون مرتدة، أو زنديقة، أو كتابية دخلت في دينهم بعد مبعث رسولِ اللهِ -صَلى اللهُ عليه وَسَلَّمَ- أو بعدما بدلوا وَحَرَّفُوْا على أظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ. وأن تكون رقيقة والنَّاكِحُ حُرَّاً قَادِراً على مهر حرة أو غير خَائِف من الْعَنَتِ. ¬
وأن تكون بعضها أو جميعها مملوكاً للنَّاكِحِ، فالنكاح والملك لا يجتمعان. وأن يكون مُحَرَّماً. أو تكون خامسة، أو يكون في نكاحه أختها أو من لا يجمع بينها وبينها. وأن تَكُونَ مُطَلَّقَةٌ ثلاثاً لم تحلل. وأن تكون مُلاَعَنَةً. وأن تكون مُحَرَّمَةً بحجة أو عمرة. وأن تكون ثَيِّباً أو صغيرة. وأن تكون يتيمة، وهي الَّتِي لا أب لها، ولا جد. وأن تكون زوجة رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. واعلم أنَّ هذه الموانع منها ما يوجد في المرأة ويختص بها مثل كونها مَنْكُوحَةً أَوْ مُعْتَدَّةً، ومنها ما لا يختص بها مثل كونها محرماً، ومحرمة وخامسة فما كان من القسم الأول حَسُنَّ ذِكْرَهُ في هذا السياق واشتراط خلو المرأة عنها، وما كان من القسم الثَّاني، فلا اختصاص لهذا الرُّكْنِ بذكره؛ لأنه كما يشترط ألاَّ تكون المرأة محرماً ومحرمة يشترط في الزوج أيضاً ذلك، وكما يشترط فيها ألا تكون خامسة ألا يكون تحته أختها، يشترط في الزوج ألا يكون تَحْتَهُ أَرْبَعٌ ولا أختها ويجوز أن يعلم من الفصل مَوَاضِعَ نُبَيِّنُهَا عِنَّد الْبَسْطِ. قاعدة: يشترط في كل واحد من الزوجين أن يكون معيَّناً فلو قال: زوَّجت منك إحدى ابنتي أو من أحداكما أو إحدى ابنتيك لم يصح، ولو كانت له بنت واحدة فقال: زوجتك بنتي صح، وإن لم يسميها (¬1). ولو كانت حاضرة فقال: زوجتك هذه كَفَى وفي معناه ما إذا كانت في الدار فقال: زَوَّجْتُكَ الَّتِي في الدَّارِ وليس فيها غيرها (¬2). ولو قال ولا بنت له إلاَّ واحدة: زَوَّجْتُكَ بنتي فُلانَةً وَسَمَّاهَا بغير اسْمِهَا ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح النِّكَاحُ؛ لأنه ليس له بنت بذلك الاسم. ¬
وأصحهما: الصحة؛ لأن البنتية صفة لازمة مميزة فتعتبر ويلغى الاسم المذكور بعده، وصار كما لو أشار إليها، وَسَمَّاهَا بغير اسْمِهَا، فإنه يصح النِّكَاحُ وتلغو التسمية، ويشبه أن يمنع صاحب الوجه [الأولى] (¬1) هذه الصورة أيضاً؛ ألا ترى أنهم شبهوا الوجهين في المسألة بالوجهين فيما إذا قال: بِعْتُكَ [فَرَسِي] (¬2) هذا، وهو بغل هل يَصِحُّ؟ فأثبتوا الخلاف مع الإشارة، والظاهر الصحة في الصورتين، حَتَّى لو قال: زَوَّجْتُكَ هَذَا الْغُلاَمَ وأشار إلى ابْنَتِهِ. حكى الْقَاضِيُ الرُّوَيانِيُّ في "التجربة" عن الأصحاب أنه يصح النِّكَاحُ تعويلاً على الإِشارة. ولو قال: بعتك داري هذه وَحَدَّهَا وغلط في حدودها يصح الْبَيعُ بخلاف ما إذا قال: بعتك الدَّارَ التي في محلة كذا وَحَدَّهَا وغلط، لأنَّ التَّعْوِيْلَ هنا على الإِشارة. ولو قال: بعتك داري ولم يقل هذه وحدها وغلط، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ دَارٌ سِوَاهَا، وَجَبَ أنْ يصح تفريعاً على أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، فيما إِذَا قال زَوَّجْتُكَ بنتي فُلانَةً، وَذَكَرَ غَيْرَ اسْمِهَا، ولو كان اسم بنته الواحدة فاطمة فقال: زَوَّجْتُكَ فَاطِمَةَ، ولم يقل بنتي، لم يصح النِّكَاحُ لكثرة الفواطم. نَعَمْ لو نَوِيَاهَا صَحَّ، هكذا أجَابَ أصحابنا العراقيون وتابعهم صاحب "التَّهْذِيبِ" واعترض ابن الصَّبَّاغ بأن النِّكَاحَ عَقْدٌ يفتقر إلى الشهادة والشهود إنما يشهدون ويطلعون على اللَّفْظِ دون النِّيَةِ، وهذا متين ولهذا الأصل حكمنا بأنَّ النِّكَاحَ. لا ينعقد بالْكِنَايَاتِ (¬3). ولو كانت له بنتان فصاعداً، فلا بُدَّ من تمييز الْمَنكُوحَةِ بالتَّسْمِيَةِ، أو بالإِشارة بأن يقول بنتي هذه، أو بالوصف بأن يقول: بنتي الْكُبْرَى، أَو الْوُسْطَى وَهُنَّ ثَلاَثٌ. قال المكتفون بالنِّيَةِ، أو بأن يَنْوِيَا واحدة بعينها، وإن لم يجر لَفْظٌ مُمَيَّزٌ. ولو قال: بنتي الْكُبْرَى وَسَمَّاهَا باسم الصُّغْرَى صَحَّ النِّكَاحُ عَلَى الْكُبْرَى اعتماداً عَلَى الْوَصْفِ بالكبر، ويجيء على قِيَاسِ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ في الواحدة أن يبطل النِّكَاحُ، ¬
القول في الركن الرابع
ولو لم يتعرض للكبر والصِّغَرِ لكن قال: زَوَّجْتُكَ بنتي فلانةً، فذكر اسم الكبيرة مثلاً، وَقَصَدَ تَزْوِيجَ الصَّغِيْرَةَ أو بالعكس، وَقَصَدَ الزَّوْجُ الَّتِي قَصَدَهَا الْوَلِيُّ صَح النِّكَاحُ عَلَى الَّتِي قصداها. ولغت التسمية وفي الاعتماد على النِّيَةِ الإِشْكَالُ الَّذِي سَبَقَ. ولو قال الزَّوجُ قصدت الكبيرة فالنِّكَاحُ في الظاهر منعقد عليها وإن صدق الوليُّ على أنه قصد الصَّغِيْرَةَ لم يصح النِّكَاحُ؛ لأنه قبل غير ما أوجب؛ كذلك ذكره العراقيون، وصاحب "التَّهْذِيْبِ" المعتبرون للنيَّةِ، وهذا يخالف الجوابَ المنقول في فَرْعٍ آخَرَ وهو أنَّ زيداً خَطَبَ إلى قَوْمٍ وعمراً إلى آخرين ثم جاء زَيْدٌ إلى الآخرين وعمر إلى الأولين وزوج كل فريق من جاءه. فعن أبي الحسين بن القطَّان أنه وقع في زمان أبي السَّائِب ببغداد فأفتى الفُقَهَاءُ فيها بِصِحَّةِ النِّكَاحَينِ، وَمَعْلُومَ أنَّ كُلَّ وَلِيٍّ أَوْجَبَ لغير من قَبِل. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الثَّالِثُ): الشُّهُودُ فلاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ إِلاَّ بِحَضْرَةِ عَدْلَيْنِ (م) مُسْلِمَيْنِ (ح) حُرَّيْنِ بَالِغَينِ سَمِيعَيْنِ بَصِيرَيْنِ ذَكَرَيْنِ (ح) مَقْبُولَي الشَّهَادَةِ لِلزَّوْجَيْنِ وَعَلَيْهِمَا، لَيْسَا بِعَدُوَّيْنِ وَلاَ ابْنَيْنِ وَلاَ أَبوَيْنِ لَهُمَا، وَيُكْفَى حُضُورُ مَسْتُورَي العَدَالَةِ دُونَ مَسْتُورَي الرِّقِّ، فَإِنْ بَانَ كَوْنُهُ فَاسِقاً عِنْدَ العَقْدِ تَبَيَّنَ البُطْلاَنُ عَلَى قَوْلٍ، وَإِنَّمَا يُتَبَيَّنُ بِحُجَّةِ، أَوْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ فَاسِقٌ لاَ باعْتِرَافِ المَسْتُورِ، فَإِذَا عَرَفَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِسْقَهُ عِنْدَ العَقْدِ لَمْ يَنْعَقِد، فَإنْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِأنَّهُ عَرَفَ فِسْقَهُ وَأَنْكَرَتْ بَانَتْ مِنْهُ وَوَجَبَ شَطْرُ المَهْرِ إِنْ كَانَ قَبْلَ المَسِيسِ، وَتَوْبَةُ المُعْلِنِ عِنْدَ العَقدِ تلْحِقُهُ بِالمَستورِ عَلَى رَأيِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الإِشْهَادُ عَلَى رِضَا المَرْأَةِ. القول في الركن الرابع قال الرَّافِعِيُّ: ذكر صاحب "الكتاب" في "الوسيط" أن في حضور الشهود شرط لَكُنَّا تَسَاهَلْنَا بتسميته رُكْناً، والْكَلاَمُ في تفسير الرُّكنِ والشَّرْطِ وكيفية افتراقهما قد مَرَّ، فلا نعيده، وبالجملة فَحُضُورُ الشُّهُودِ مُعْتَبَرٌ في الأَنْكِحَةِ. روي عن عمران بن الحصين أنَّ النبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ" (¬1). والمعنى فيه الاحتياط للإبضاع، وَصِيَانَةُ الأَنْكِحَةِ عَنِ ¬
الْجُحُودَ (¬1). ¬
وعن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أنَّ الشَّرْطَ الإِعْلاَنَ وترك التراضي بالكتمان دُونَ الشّهَادَةِ حَتَّى لو تواصوا بالْكِتْمَانِ لم ينعقد وإن حَضَرَ الشهود، ويعتبر في شهود النِّكَاحِ صِفَاتٌ. منها: الإِسلام، وعن أبي حَنيْفَةً -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ نِكَاحَ الذِّمِّيَّةِ يَنْعَقِدُ بشهادة ذميين. لنا: أن ما لا ينعقد به نكاح المسلمين لا ينعقد به نِكَاحُ الْمُسْلِمِ والذِّمِّيَّة كالعبدين. ومنها: التَّكْلِيفُ وَالْحُرِّيَةُ فَلاَ يَنْعَقِد بحضور الصِّبْيَانِ والْمَجَانِينَ وَالْعَبِيْدِ لأنَّهُ لا يثبت بهم لو فرض جحود. ومنها: العدالة: فلا ينعقد النِّكَاحُ بحضور الفاسقين خلافاً لأبَي حَنِيْفَةَ (¬1). ¬
لنا الحديث، وأيضاً فإن النِّكَاحَ لا يثبت بشهادتهما فلا ينعقد بحضورهما كَالْعَبْدَينِ. ومنها: السَّمَعُ وَالْبَصَرُ -فلا ينعقد بحضور الأَصَمِّ الَّذِي لا يَسْمَعُ أَصلاً، وفي الأَعْمَى وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الانعقاد؛ لأنه عَدْلٌ فَاهِمٌ. وأصحهما: الْمَنْعُ -كما في الأَصْمِّ؛ لأنَّ الأقوال لا تثبت إلاَّ بالمعاينة والسَّمَاعِ، وفي الانعقاد بحضور الأخْرَسِ وجهان بِنَاءً على الخِلاَفِ في قَبُولِ شَهَادَتِهِ وطرد الخلاف في الانعقاد بشهادة ذوي الحِرَفِ الدَّنِيَّةِ. وذكر القاضيُ ابنُ كَجٍّ الخلاف في الصَّبَّاغِيْنَ والصواغين كأنه ألحقهم بذوي
الحرف الدَّنِيَّةِ، ولا ينعقد بشهادة الأَعْجَمِي الذي لا يعرف لِسَانَ المتعاقدين، فإن كان يضبط اللَّفْظَ فقد حكى أبو الحسن العبادي فيه وَجَهْينِ؛ لأنه ينقله إلى الحاكم، ولا ينعقد بشهادة الْمغَفَّلِ: الَّذِي لا يضبط، فإن كان يَحْفَظُ وَينْسَى عند قَرِيبٍ فينعقد. ومنها: الذُّكُورَةُ فَلاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِرَجُل وَامْرَأَتَينِ ولا بأربع نسوة خلافاً لأبي حَنيْفَةَ (¬1) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وأحمد ينعقد بشهادة رجل وامرأتين، لنا ظاهر الخبر فإن لفظ "الشاهدين" يقع على ذَكَرَيْنِ وَعَلَى ذَكَرٍ وَأُنْثَى. والثَّاني غير مراد بالاتفاق فيتعين الأول، ولو كَانَ الْحَاضِرَانِ عدوّي الزوجين، أو عدوّي أحدهما، أو أحدهما عدو أحدهما والثّاني عدو الثاني ففي انعقاد النِّكَاحِ أَوجُهٌ: أصحها: على ما ذكر صاحب "التَّهْذِيْبِ" الانعقاد اكتفاءً بالعدالة والفهم وثبوت الأنكحة بقولهما في الجملة. والثَّاني: المنع لِتَعَذُّرِ الإِثبات بشهادتهما إذا كان عدوين لهما، أو أحدهما عدو لهذا، والآخر عدو لهذا، وإذا كانا عَدُوَّيْنِ لأحدهما فَلا يُمْكِنُ الإثبات بشهادتهما إلاَّ إذا كان الجحود من غير العَدُوِّ والاحْتِياطُ والتَّوْثيقُ مَقْصُودٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ. ¬
والثَّالِثُ: الفرق بين أن يكونا عدويهما، أو يكون كل واحد منهما عدواً لأحدهما، فلا ينعقد وبين أن يكونا عدوي أحدهما، فينعقد لإمْكَانِ الإِثبَاتِ فَهُمَا في الجملة، وقطع بعضهم بالانعقاد في هذه الصُّوْرَةِ وخص الخلاف بالصورتين الأوليين، وفي ابني الزوجين وابني أحدهما وابن أحدهما مع ابْنِ الآخَرِ .. هذه الأوجه، ومنهم من قال: يختص الخلاف بهذه الصورة، وفي العدوين ينعقد لاَ مَحَالَةَ والْفَرْقُ أنَّ الْعَدَاوَةَ قد تزولُ، ويجري الْخِلاَفُ فيما لو حضر جد الزوج وجد الزوجة أو أبواه وجدها أو أبوه وابنها وأما أبوها فَهُوَ وَلِيٌّ عَاقِدٌ، فلا يكون شاهداً كالزَّوْجِ ولو فرض أنه وكل وكيلاً لم يَنْعَقِد بحضوره أيضاً؛ لأَنّ الْوَكِيْلَ نَائِبُ الموكل. واختار بَعْضُ المتأخرين وجهاً رابعاً ذكره في "الوسيط" وهو أنه ينعقد بابني المرأة وعدوي الزوج؛ لأنَّ الزَّوْجَ يقدر على الإثبات بشهادتهما، ولا ينعقد بابني الزوج وعدوي المرأة؛ لأنه لا يقدر عليه والمرأة لا تحتاج إلى الشَّهَادَةِ لإِثبات الْحَلِّ، فإنه يَنْدَفِعُ يِإنْكَارِ الزَّوْجِ. نَعم قد يحتاج إلى إِثبَاتِ الْمَهْرِ والنفقة لكن الْمَقْصُودَ الأصلي من النِّكَاحِ الحل، والشهادة إنما شرطت لإِثباته ثم في الفصل صور: إحداها: هل ينعقد [النكاح] (¬1) بشهادة المستورين (¬2)؟. قَالَ الإصْطَخرِيُّ: لاَ بَلْ لاَ بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ العَدَالَةِ بَاطِنَاً ليمكن الإِثبات بشهادتهما والمذهب الانعقاد؛ لأن النِّكَاحَ يَجرِي فيما بين أَوْسَاطِ النَّاسِ وَالْعَوَامِ، وَلَو كُلِّفُوْا مَعْرِفَةَ الْعَدَالَةِ الباطنة لَطَالَ الأَمْرُ، وَشَقّ بخلاف الحكم حيث لا يجوز بشهادة المستورين؛ لأنه يسهل على الحاكم مراجعة المزكين، ومعرفة العدالة الباطنة ويعني بالمستورين: من يعرف بالعدالة ظاهراً لا باطناً، وربما قيل: المستور من يجهل حاله في الفسق والعدالة ويشبه ألا يكون بينهما اخْتِلاَفٌ، وأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ من العبارة الثانية من يجهل حاله في الفسق والعدالة الباطنة دون العدالة الظاهرة، وذكر في "التَّهْذِيْبِ" أنه لا ينعقد النكاح بشهادة من لا يعرف عدالته ظاهراً، وهذا كَأنَّهُ مصور فيمن لا يعرف إِسْلاَمَهُ، وإلاَّ فَالظَّاهِرُ من حال الْمُسْلِمِ الاحتراز عن أسباب الفِسْقِ (¬3). ¬
ولا ينعقد بمن لا يظهر إسلامه وحريته بأن يكون في موضع يختلط فيه المسلمونَ بالكُفَّارِ والأحرار بالأرقاء ولا غالب. وعن الشَّيْخُ أبي مُحَمَّدٍ تردد جواب فيمن لا تظهر حُرِّيَّتُهُ ويكون مَسْتُورُ الْحَالِ حرية ورقاً، والظاهر الأول بل لا يكتفي بظاهر الحرية والإسلام بالدَّار، حَتَّى يعرف حاله فيهما باطناً، هذا ما يقتضيه كَلاَمُ صَاحِبِ "التَّهْذِيبِ" وغيره وفرقوا بأن الحرية يسهل الوقوف عليها بخلاف العدالة والفسق. ولو أخبر عدل عن فسق المستور فهل يزيل إخباره الستر حتى لا ينعقد النكاح بحضوره، وإن زال فيجيء بإخباره نحو الروايات، أو يقول هو شهادة، فلا نعتبر إلاَّ قول من يجرح عند القاضي تردد فيهما الإمام رحمه الله (¬1). الثَّانِيَةُ: لَوْ بَانَ كَوْنُ الشَّاهِدِ فاسقاً عند العقد فطريقان: أحدهما: أنه يتبين بطلان النِّكَاحِ؛ لأنه بَانَ فوات شَرْطِ الْعَدَالَةِ فأشبه ما إذا كانا كَافِرَينِ أَو رَقِيْقَينِ. والثَّانِي: أنه على قَوْلَين: وَجْهُ الْمَنْعِ الاكْتِفَاءُ بِالسِّتْرِ يومئذٍ، وهما كالطريقين فيما إذا حكم الحاكم بشهادة شاهدين ثم بَانَا فاسقين. هل ينقض الحكم؟. وَالأَصْحُ تبين البطلان، وإن أثبتنا الخلاف وإنما يتبين الفسق ببينة تقوم عليه، أو بتصادق الزوجين، وتوافقهما عليه ولا اعتبار بقول الشَّاهِدَيْنِ: كنا فاسقين يومئذٍ كما لا ¬
اعتبار بقولهما كنا فَاسِقَيْنِ بعد الحكم بشهادتهما، وهكذا لو تقارّبا الزَّوْجَانِ على وُقُوعِ الْعَقْدِ في حالة الإحرام أو العدة أو الردة تبين بطلان العقد وَلاَ مَهْرٌ إلا إذا كان بعد الدُّخُولِ، فيجب مَهْرُ الْمِثْلِ (¬1). ولو نكحها يوماً ملك عليها ثلاث طلقات، ولو اعترف الزَّوْجُ بشيء من ذلك، وأنكرت الْمَرْأَةُ لم يقبل قوله عليها في المهر، حَتَّى يجب نصف المسمى إن كان قبل الدخول وتمامه إن كان بعد الدخول ويفرق بينهما بقوله: وكيف سَبِيلُ هَذَا التَّفْرِيقِ؟ ذَكَرَ أَصْحَاب الْقَفَّالِ أنه طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ حَتَّى لَوْ نكحها يوماً عادت إليه بطلقتين. قالوا: وَهَذَا مَأْخُوذٌ من نَصِّ الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فيما لو نكح أَمَةً، ثم قال: نكحتها وأنا واحد طول الحرة أنها تَبين منه بطلقة، واحتج له بأنها فرقة [غير] (¬2) متأبدة حصلت بقول الزَّوْجِ من غير بَدَلٍ، وَلاَ عَيْبٍ، فكانت كما لو صرح بِالطَّلاَقِ والاحتراز بغير المتأبد عن فرقة الرَّضَاعِ، وبغير بَدَلٍ عَنِ الخُلْعِ وَعَنِ الشَّيْخِ أبي حَامِدٍ، والعراقيين: أنها فرقة فسخ لا ينتقص بها عدد الطلاق كما لوَ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالرَّضَاعِ؛ لأنه لم ينشئ طلاقاً، ولا أقر به وإلى هذا مَالَ الإِمام، وصاحب "الكتاب" رحمهما الله، وإن لم ينقلاه، وهؤلاء أنكروا نَصَّهُ في مَسْألَةِ نِكَاحِ الأَمَةِ ولإنكارهم وجه ظاهر، وَذَلِكَ أَنه قال في "عيون المسائل": إذا نكح الأَمَةَ، ثُمَّ قال: نكحتها وأنا أجد طولاً لحرة فصدقه ¬
مولاها فسخ النكاح بلا مهر، فَإنْ كان أَصَابَ فعليه مَهْرُ، مِثلها وإن كذبه فسخ النكاح بإقراره، ولم يصدَّق على الْمَهرِ دَخَلَ أو لم يدخل. هَذَا لَفْظُهُ في "العيون" وإنه يوافق ما ذهب إليه العراقيون (¬1) لا ما ذهب إليه الأولون ولك أن تَبْنِي الْمَذْهَبِيْنِ عَلَى وجهين ذكرناهما فيما إذا جرى بينهما بيع، ثم ادَّعَى أحدهما اقتران مفسد به فإن صدقنا من يدعي الفَسَادَ لم نجعل هذه الفرقة طلاقاً، وإلاَّ جعلناها طلاقاً؛ لأن ظاهر النكاح الجاري الصحة فيوفر عليه حكم الصحيح، وهذا يقتضي جريان الخلاف فيما إذا ادَّعَى الرَّضَاعَ، وَأَنْكَرَتِ الْمَرْأَةُ. واللهُ أعْلَمُ. الثَّالِثَةُ: استنابة المستورين قبل العقد احتياطاً واستظهاراً وتوبة المعلن بالفسق حِيْنَئِذٍ هل نلحقه بالمستور؟ فيه تردد للشيخ أبي مُحَمَّدٍ -رحمه الله- والأظهر المنع؛ لأنها تصدر عن عادة لا عن عزم مُحَقَّقٍ فإن حكمنا بأنه كالمستور. قال الإِمَامُ: فلو عادوا إلى فجورهم على القرب فالظاهر أنَّ تلك التَّوْبَةَ تصير ساقطة الأَثَرِ، وفيه احْتِمَالٌ. الرَّابِعَةُ: الاحتياط الإشهاد على رِضَى الْمَرْأَةِ حَيثُ يعتبر رضاها لكنه ليس بشرط في صحة النِّكاحِ (¬2)، وإنه ليس من نفس النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا هو شرط. ولنعد إلى لفظ الكتاب. ¬
قوله: "الشهود" علم بالميم لما حكيناه من مذهبه أنه لا يعتبر حضور الشهود، وكذا قوله: "ولا ينعقد" ولفظ "العدلين" و"المسلمين" معلمان بالحاء، ولفظ "البصيرين" بالواو ولفظ "الذكرين" بالحاء والألف. وقوله: ليسا "بِعَدُوَّين" إلى آخره تفسيراً لقوله "مقبولي الشَّهَادَةِ للزوجين، وعليهما" وهذا اختِيَارٌ منه للوجه الثاني من الوجوه المذكورة في مَسْأَلَةِ العدوين وهو اختلاف اختيار الأكْثَرِينَ، أَمَّا العراقيون فإنهم اختاروا الْوَجْهُ الثَّالِثَ واكتفوا بمكان الإِثبات بشهادتهما في الجملة. وأما صاحب "التَّهْذِيب" فإنه رجح الْوَجْهَ الأَوَّلَ على ما قَدَّمْنَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عليه في "الأُمِّ" فليعلم قوله: "مقبول الشهادة للزوجين وعليهما". وقوله: "ولا أبوين لهما" محمول على أبي الزَّوْجِ وجد الزوجة، أمَّا أبوها فَهُوَ وَلِيٌّ، فلا يكون شاهداً كما مَرَّ. وقوله: "ويكفي حضور مستوري الْعَدَالَةِ" معلم بالواو وكذا قوله: "دون مستوري الرق" التردد المنقول عن الشَّيْخُ أبي مُحَمَّدٍ، وكان الألْيَقُ أنْ يَقُولَ: "دون مستوري الحرية" كما قال: "مسْتُوري الْعَدَالَةِ لاَ مَسْتُوري الفِسْقِ". وقوله: "على قول" يجوز إعْلاَمُهُ بالواو للطريقة النَّافية للخلاف وقوله: "إنما يتبين بحُجَّةٍ أو تَذَكّر" أشَارَ بلفظ التَّذَكُر إِلى ما ذَكَرَ الإمَامُ أن صورة الخلاف في تقارب الزَّوْجَيْنِ أما إذا قالا: لم نعرف عين الشَّاهِدَينِ عند العقد فلما عرفناهما عرفنا أنهما كَانَا فَاسِقَيْنِ وَفِي مَعْنَى هذا أن يكونا ناسيين لفسقهما عند الْعَقْدِ، ثم يذكرا، فأَمَّا إِذَا قَالاَ: كُنَّا عَالِمِينَ بِفِسْقِهِمَا حينئذٍ فنقطع تبيين البطلان؛ لأنهما لم يكونا مستوري الحال عند الزوجين، وعليهما التَّعْوِيلُ في التَّحْرِيمِ والتحليل، وكذا لو اعترفا بعلم أَحَدِهِمَا حِيْنَئذٍ، وعلى هذا ينزل قوله في الكتاب: "وإِذَا عَرَفَ أَحَدُ الزَّوْجَينِ فسقه عند العقد لم ينعقد". وقوله: "بانت" يعني بينونة طلاق على ما أفصح به في "الْوَسِيْطِ" فيجوز أنْ يعلمَ بالواو للوجه الآخر واللهُ أَعْلَمُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الرَّابعُ: العَاقِدُ) وَهُوَ الوَلِيّ وَالزَّوْجُ إِذْ لاَ عِبَارَةَ لَهَا في شِقَّيْ عَقْدِ النِّكَاحِ وَكَالَةً وَوِلاَيَةً وَاسْتِقْلاَلاً من كُفْءٍ وَغَيْرِ كُفْءٍ، دَنِيئَةً كَانَتْ أَوْ شَرِيفَةً، وَإِقْرَارُ البَالِغَةِ مَقْبُولٌ (وم) في الجَدِيدِ إِنْ أَضَافَتِ التَّزْوِيجَ إلَى الوَلِيِّ وَصَدَّقَهَا، فَإِنْ لَمْ تُضِفْ إِلَيْهِ
القول في الركن الرابع
وَكَذَّبَهَا فَفيهِ خَلاَفٌ (و)، وَإِنْ كَانَ الوَلِيُّ غَائِباً سُلِّمَتْ في الحَالِ إِلى الزَّوْجِ لِلضَّرُورَةِ، وَإقْرَارُ الوَلِيِّ المُجْبِرِ نَافِذٌ إِذَا أَقَرَّ فِي حَالِ القُدْرَةِ عَلَى الإِجْبَارِ، وَيَجِبُ المَهْرُ بِالوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِلاَ وَلِيٍّ، وَلاَ حَدَّ للِشُّبُهَةِ (و)، وَلاَ يُنْقَضُ قَضَاءُ الحَنَفِيُّ بِصِحَّةِ هَذا النِّكَاحِ. القول في الركن الرابع قال الرَّافِعِيُّ: لَفْظُ العَاقِدِ ينظم الموجب والقابل والقابل هو الزَّوجُ، أَو مَنْ يَتُوبُ عنه. والموجب هو الولي، أو وَكِيْلُهُ ولا تَصِحُّ عِبَارَةُ الْمَرْأَةِ في النِّكَاحِ إيجاباً وَقبُولاً، فلا تزوج نفسه بإذن الْوَلِيِّ ودون إذنه ولا غيرها لا بوكالة، ولا بولايةٍ ولا تقبل النِّكَاحَ لا بولاية، ولا بوكالة، ولا فَرْقَ بَيْنَ أن تزوج نفسها من كفء، أو غير كفء، ولا بين الشَّرِيْفَةِ والدَّنِيَّةِ (¬1). وقال أَبُو حَنِيْفَةَ- رَحِمَهُ الله تَعَالَى-: تزوج البالغة العاقلة الحرة نفسها وابنتها الصغيرة وتتوكل عن الغير لكن لو وضعت نفسها تحت من لا يكافئها فلأوليائها الاعْتِرَاضُ. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: الدَّنِيَّةُ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا والشَّرِيْفَةُ لاَ تُزوج. لنا ما روي عن أبي موسى الأَشْعَري وابن عَبَّاس رَضِيَ الله عنهما -أنَّ النَّبِيَّ -صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَال: "لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ" (¬1). وعن عَائِشَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- قَالَ: "أيَّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَت نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَليِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا فَإِنِ اشْتَجَرُوْا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ من لاَ وَلِيَّ لَهُ" (¬2). ولو وَكَّلَ ابنته بأن توكل رجلاً بتزويجها، فَوَكَّلَت؛ نَظَرَ إنْ قَالَ وَكِّلِي عَنْ نَفْسِكِ ¬
لم يصح وإن قال: وَكِّلِي عَنِّي أو أطلق فوجهان؛ لأنَّهُ ليس يتعلق بها إلاَّ سفارة بين الولي والوكيل. واعلم أَنَّهُ لو خرج خلاف في تَوْكِيلِ الْمَرْأَةِ، فَالنِّكَاحُ إيجاباً وَقَبُولاً وإن لم تَمْلُكْ تَزْوِيْجَ نَفْسِهَا، ولا غيرها بالولاية لم يكن بعيداً لأن الأخبار لم تتعرض لصورة الوكالة وقد لا يستقل الإِنسان بالشيء ويجيء في توكيله فيه الخلاف كالخلاف في توكيل الْعَبدِ والْفَاسِقِ في إِيْجَاَبِ النِّكَاح مَعَ الْحُكْمِ بأنَّ الْفَاسِقَ لا يلي، ويؤيده أَنَّ الْمَرْأَةَ لا تملك الطَّلاَقَ، وَيجُوزُ أَنْ يُوَكِّلْهَاَ الإنْسَانُ بتطليق زوجته على الأصح وكل ذلك قد مَرَّ في "الوكالة". واعلم أيضاً أن ما روي عن يونس بن عبد الأعلى أن الشَّافِعِيّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: إذا جمعت الرفقة امرأة لا ولِيّ لها فولت رَجُلاً أمرها حتى زوجها يجوز وليس قولاً في تجويز النكاح بلا ولي؛ لأن أبَا عَاصِمٍ العبادي لما حَكَى هذا النَّصَّ في "طبقات الفقهاء" ذكر أنَّ مِنْ أصحابنا من أَنْكَرَ هذه الرواية، ومنهم قبلها، وقال إنه تحكيم فإن لم تثبت فذاك وإن ثبتت فهذا نكاح بولي وهذا المحكَّم المقام مقام (¬1) الحاكم. وإذا جرى الوطء في النِّكَاحِ بلا وَلِيٍّ وجب مَهْرُ الْمِثْلِ، ولم يجب الحد سواء صدر ممن يعتقد تحريمه أو إباحته باجْتِهَادٍ أو تقليد، أو حسَبان مجرد لشبهة اختلاف الْعُلَمَاءُ وتعارض الأَدِلَّةُ إِلاَّ أَنَّ مُعْتَقَدَ التَّحْرِيْمِ يُعَزَّرُ. وقال أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِي: يجب الْحَدَّ على معتقد التَّحْرِيم، لما رُوِيَ أَنَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لاَ تَنْكِحُ الْمَرْأَةُ المَرْأَةَ وَلاَ نَفْسَهَا إِنَّمَا الزَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي تَنْكِحُ نَفْسَهَا" (¬2). وإن امرأة كانت في مركب فجعلتَ أمرها إلى رَجُلٍ فزوجها فَجَلَدَ عُمَرُ - ¬
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الناكح والمنكح (¬1)؛ ولأن شَارِبَ النَّبِيْذِ يُحَد مع الاختلاف في إباحته. وَيُحْكَى هَذَا عَنِ الإصْطَخرِيِّ وأبي بكر الفارسي أيضاً وأجاب من نصر ظاهر المذهب عن الأول بأنَّ الْمُرَادَ تشبيهها بالزَّانِيَةِ في تَبَرُّجِهَا واستقلالها بضم نَفْسِهَا، ولهذا قال: "الزانية هي التي تنكح نفسها" ولم يقل: التي تنكح نفسها زانية. وعن الثَّاني: بأنَّ الْمُرَادَ التعزيرُ؛ ألا ترى أنه جلد المنكح ولا حد عليه بالاتفاق. وعن الثالث: بأن أدلة تحريم النَّبِيْذِ أظهر وأيضاً فَإِنَّ الطبع يدعو إليه، فيحتاج إلى الزَّجْرِ، ولهذا نوجبه على من يعتقد إباحته أيضاً، وهنا بخلافه، ولو رُفِعَ النِّكَاحُ بَلاَ وَلِيٍّ إلى قَاضٍ يصححه فقضى بصحته، ثُمَّ رُفِعَ إلينا لم ننقض قضاءه كمعظم المسائل المختلف فيها. وقال الإِصْطَخْرِي: ينقص أيضاً؛ لظهور الأخبار، وَلَوْ طلق في النكاح بلا وَلِيٍّ لم يقع ولا يحتاج إلى المحلل، ولو طلق ثلاثاً؛ لأن الطَّلاَقَ إنما يقع في النِّكَاحِ الصَّحِيْحِ. وقال أَبُو إِسْحَاقَ: يقع ويحتاج إلى المحلل احتياطاً للأبضاع وهذا كوجهين نقلهما أبو الحسن العبادي عن القفَّال في: أنها إذا زوجت نفسها -هل للولي أن يزوجها قبل تفريق القاضي بينهما؟ قال: وبالمنع أجاب القَفَّالُ الشَّاشِيُّ؛ لأنها في حكم الْفِرَاشِ لَهُ وَهُوَ تَخْرِيْجِ ابْنُ سُرَيْجٍ واللهُ أَعْلَمُ ولما تكلم في إنشاء المرأة النكاح أدرج في الفصل الكلام في إقرارها بالنِّكاح وقد يحتج بالإِقرار من يجوز لها الإِنشاء، وشرحه أن الْحُرَّةَ البالغة العاقلة إذا أقرت بالنِّكَاح ففيه قَوْلاَنِ: الجديد -وهو المذكور في الكتاب: أنَّ إقرارها مع تَصْدِيْقِ الزَّوْجِ مقبول مغن عن البينة؛ لأنَّ النِّكَاح حَقُّ الزَّوْجَينِ فثبت بتقارهما كالبيع والإِجارة وغيرهما، ولا فَرْقَ على هذا الْقَوْلِ بين الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَا بلديين أَوْ غَرَيبَّيْنِ. والقديم -وبه قال مَالِك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أنهما إن كانا غريبين ثَبَتَ النِّكَاحُ بتقارهما وإلاَّ طُولِبَا بالْبَيِّنَةِ؛ لأنه يسهل عليهما إقامة البَيِّنَةِ، والنِّكَاحُ مما يحتاط فيه، فإن قلنا بالجديد فيكفي إطلاق الإِقرار أم لا بُدَّ وأن نفصل فنقول: زَوِّجْنِي مِنْهُ وَلِي بحضور شاهدين عدلين، ورضاي إن كانت ممن يعتبر رضاها فيه وجهان بِنَاءً على الخِلاَفِ في أنَّ دَعْوَى النِّكَاحِ تسمع مطلقة، أو يجب التفصيل. وَالأَصَحُ الثَّانِي. ثُمَّ إِذَا أَقَرَّتْ وَكَذَّبَهَا الْوَلِيُّ ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يُحكم بإقرارها؛ لأنها كالمُقِرَّةِ عَلَى الْوَلِيِّ بِالتَّزْوِيْجِ، فَلاَ يُقْبَلُ ¬
قَوْلُهَا عليه، وَيُحْكَى هَذَا عَنِ الْقَفَّال. وأظهرهما: وبه أجاب ابن الْحَدَّادِ والشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: أنه يحكم؛ لأنها تقر بحق على نفسها. وعن القاضي حسين: الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَفِيْفَةُ والْفَاسِقَةُ. ولا فَرْقَ في هذا الخلاف بين أن تفصِّل الإِقرار وتضيف التزويج إلى الولي فيكذبها، وبين أن تطلق إذا قبلنا الإقرار المطلق وَقَالَ الْوَلِيُّ: لاَ وَلِيَّ لَكَ غَيْرِي وَأَنا [ما] (¬1) زَوْجَتُكَ. ويجري أَيضاً في تكذيب الشَّاهِدَيْنِ إذا كَانَتْ قد عَيَّنَتْهُمَا؛ لأنه يورث تُهْمَةً في الإِقرار، والأبضاع جديرة بالاحتياط. والظاهر أَنَّهُ لا يقدح لاحتمال النِّسْيَانِ أو الكذب، فإن قلنا بِأنَّ تَكذِيبِ الْوَلِيِّ يمنع من الحكم بإقرارهما فإنْ كان غائباً لم ينتظر حُضُورُهُ بل يسلم إلى الزَّوْجِ في الْحَالِ للضَّرُورَةِ فَإِنْ عَادَ وكذب، فَيُحَالُ بينهما لزوال الضرورة، أَو يُسْتَدَامُ ما سَبَقَ فيه وجهان ورجح في "الْوَسِيْطِ" الأول وَرَجَّحَ غَيْرُهُ الثَّانِي. وإذا فرعنا على القديم فجرى الإِقرار في الغربة، ثم رجعا إلى الوطن فهل يحال بينهما؟. فيه مثل هذا الْخِلاَفِ. قال الإِمامُ: ولا شَكَّ أَنَّهُ لو قضى قاضٍ بالإِقرار لم ينتقص قضاؤه، هذا حكم إقرارها، وأمَا إقرار الولي فَيَنْظُرُ إن كان له إنشاءُ النِّكَاح المقر به عند الإِقرار من غير رضاها فيقبل إقراره لقدرته على الإِنشاء. وحكى أبو عَبْدِ اللهِ الحَنَّاطِيُّ وجهاً آخَرَ: أنه لا يقبل حتى تساعده البالغة كالوكيل إذا ادَّعى أنه أتى بما وُكِّلَ به وإن لم يكن له إنْشَاءُ النِّكَاحِ المقر به عند الإِقرار من غير رضاها إما؛ لأنه خير مُجْبَرِ، أو لأن الحال غير حال الإِجبار، أو لأن الزَّوْجَ ليس بكفءٍ لها لم يُقْبَلْ إقْرَارُهُ عليها ولو قال: وهي ثَيِّبٌ كنت زَوْجُهَا في حال بكارتها لم يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ أيضاً واعتبر وقت الإِقرار. كذلك أطلق الإِمام وهو الظاهر لكن يمكن أن يجعل على الخلاف في العبد إذا أَقَرّ بعد الحجر بدينَ أسنده إلى حال الإِذن، وفيما إذا أَقَرَّ المريض بأنه وهب من وارثه في الصحة. فَرْعٌ: أقرت لزوج وأقر وليها المقبول إقراره لآخر فالمقبول إقرارها أو إقراره؟. حكى أبو الحسن العبادي فيه وجهين عن الحليمي عن القَفَّالِ الشَّاشِيِّ والأَوْدَنِيِّ. ¬
بيان أحكام الأولياء
وقوله في الكتاب: "لا عِبَارَةَ لَهَا" معلم بالحاء والميم. وقوله: "إقرار البالغة مَقبُولٌ" بالواو والميم لما بَيَّنْاهُ. وقوله: "وصدقها". يقتضي اعتبار التَّصْدِيقِ لكن المفهوم من كلام الأئمة أنه لا يكفي ألا يكذبها فإذا كذبها ففيه الخلاف المذكور وقوله: "ولا حَدَّ للشبهة، ولا ينقص" معلمان بالواو ويجوز أن يعلم -أيضاً- قوله: "ويجب الْمُهْرُ"؛ لأنَّ من يُوْجِبُ الْحَدَّ لا يوجب الْمَهْرَ واللهُ أَعْلَمُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَفِي بَيَانِ أَحْكَامِ الأَوْلِيَاءِ بابان (البَابُ الأَوَّلُ في الأَوْليَاءِ، وَفِيهِ فُصُولٌ ثَمَانِيَةٌ) (الفَصْلُ الأَوَّلُ: في أَسْبَابِ الوِلاَيَةِ) وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: (الأَوَّلُ) الأبُّوَّةُ وَفِي مَعْنَاهَا الجُدُودَةُ وَتُفِيدُ وَلاَيَةَ الإِجْبَارِ عَلَى البِكْرِ وَإِنْ كانَتْ بَالِغاً (ح و) لاَ عَلَى الثَّيِّبِ وَإِنْ كانَتْ صَغِيرَةً (ح) سَوَاءُ ثَابَتْ بِالزِّنَا (م ح و)، أَوْ بِوَطْءٍ حَلاَلٍ، وَلاَ أَثَرَ لزَوَالِ الجِلْدَةِ بِالسَّقْطَةِ (و)، وَلَوِ الْتَمَسَتِ البِكْرُ البَالِغَةُ التَّزْوِيجَ وَجَبَتِ الإِجَابَة وَإِنْ كَانَتْ مُجْبَرَةً، فَإِنْ عَضَلَ زَوَّجَ السُّلطَانُ، وَالكُفْءُ الَّذِي عَيَّنَتْ أَوْلَى مِمَّنْ عَيَّنَهُ الوَلِيُّ عَلَى وَجْهٍ. (الثَّانِي: العُصُوَبةُ) كالأخُوَّةِ وَالعُمُومَةِ، وَلاَ يُفِيدُ إلاَّ تَزْوِيجَ البَالِغَةِ العَاقِلَةِ بِرِضَاهَا الصَّرِيحِ إِنْ كَانَتْ ثَيِّباً، وَبِسُكُوتِهَا إِنْ كَانَتْ بِكْراً عَلَى رأْي (ح). " القول في بيان أحكام الأولياء" قال الرَّافِعِيُّ: لما بيّن في الفصل السابق أنَّ النِّكاحَ إنما يعقده الولي مست الحاجة إلى بَيَان أحكام الأولياء ولا شك أنَّ الولايةَ تثبت لشخص على شَخْص فعقد بابين: أحدهما: فيمن له الولاية. والثاني: فيمن عليه. أما الأول: فاعلم أن للولاية (¬1) أسباباً وموانع، والذين توجد فيهم سَبَبُ الْوِلاَيَةِ ¬
من غير معارضة مانع تارة يترتبون وتارة يستوون وقد يعرض لهم تزاحم حينئذٍ، ثم ما يتوظف على الولي إما أن يباشره بنفسه، أو يوكل فيه ترتب كلام الباب على [ثمانية] (¬1) فصول فَصْلٌ في أسباب الولاية، وفَصْلٌ في موانعها وسوابها، وفصل في ترتيب الأولياء، وفصل في تزاحمهم عند الاستواء، وفصل فيما يجب ويتوظف على الولي، وفصل في التوكيل. فهذه ستَّةُ فُصُولٍ. وأما فصلاً تولى الطرفين والكفاءة، فليس لهما كثير اختصاص بالباب إلا أن فيه ما ينساق إليهما؛ ألا ترى أنَّا نقول السلطان يزوج في مواضع منها: إذا أراد الْوَلِيُّ أن يتزوج ¬
الفصل الأول: في أسباب الولاية
بها ويقول: إنما يجب عليه الإجابة إذا طلبت التزويج ممن يكافئها، فنحتاج إلى معرفة أن الواحد لا يتولى طرفي العَقد، وأَنَّ الكَفَاءَةَ كيف ترعى وفيهم تُرْعَى فضم هذين الفصلين إلى الفصول الستة. الْفَصْلُ الأَوَّل: فَي أَسْبَابِ الْوِلاَيَةِ وقد عَدَّهَا أَرْبَعَةً: أَحَدُهَا: الأبوة والجدودة -وهي أقوى الأَسْبَابِ لكمال شفقة الأب والجد، وللأب تزويج ابنته البكر -صغيرة كانت أو كبيرة- من غير إذنها أو مراجعتها، ولكن يُسْتَحَبُّ أن تُرَاجعُ البالغة وَيَسْتَأْذِنَهَا، ولو لم يفعل وأجبرها على النِّكَاح صَحَّ وبه قَالَه مَالِكٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وكذا أحْمَدُ في أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ لما رُوِي أَنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الثَّيِّبُ أَحَقُ بِنَفْسِهَا مِنْ وَليِّهَا وَالْبِكْرُ يُزَوِّجْهَا أَبُوهَا" (¬1) نعم لو كان بين الأب وابنته عداوة ظاهرة قال الْقَاضِيُ ابن كَجٍّ في كتابه: ليس له إجبارها على النِّكَاحِ وهكذا نقله أبو عبد الله الحَنِّاطِيُّ عن ابن المرزبان. قال: ويحتمل جوازه وعند أبي حنيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ليس للأب إجبار [البكر] (¬2) البالغة وأما الثَّيِّبُ فلا يزوجها الأب إلاَّ بإذنها فإن كانت صَغِيْرَةً فلا [اعتبار لإذنهما] (¬3) فلا تُزَوَّجُ حَتَّى تَبْلُغَ. ¬
وَقَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: إنْ كَانَتْ صغيرة، فله تزويجها دليلنا ما رُوِيَ -أَنَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَيْسَ لِلوَلِيُّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ" (¬1) والجد كالأب في جميع ما ذكرناه على ظاهر المذهب المشهور. وَحَكَى أبُو عَبْدِ اللهِ الحَنَّاطِيُّ قولاً: أَنَّ الجد لا يجبر البكر البالغة كالأخ. ويروى هذا عن مالك، وهو فيما حَكَى الْمُوَفَّقُ بْنُ طَاهِرٍ اختيار ابن القَاصِّ، وأبي الطيب بن سلمة. وعند أحمد: لا يجوز إجبار الصغيرة ولا الكبيرة، وهذه رواية عند مالك، ووجه ظاهر المذهب أن له ولادة وعصوبة فأشبه الأب، وأيضاً فإنه كالأب في ولاية الْمَالِ وفي وجوب النَّفَقَةِ وحصول العتق فكذلك هنا. ثم هنا مسائل: الأولى: لا فرق بين أن تحصل الثيوبة بوطء حلال، أو بوطء شبهة، أو بزنا، وفي هذه الأحوال أيضاً يعتبر إذنها. وقال أَبُو حَنِيْفَةَ: المصابة بالفجور حكمها حكم الأبكار، وعن مالك مثله. وفي شرح "المختصر" الجويني أن أبا إسْحَاقَ اختاره وحكاه عن القديم. وعن أحمد؛ روايتين كالمذهبين. لنا أنها ثَيِّبُ، بدليل دخولها في الْوَصِيَّةِ للِثَّيْبِ فيعتبر نطقها للإخبار وإن زالت البكارة بالسقطة، أو الإِصبع أو حدة الطَّمْثِ، أو طول التعنيس فظاهر المذهب أنَّها كَالأبْكَارِ؛ لأنها لم تمارسَ الرِّجَالَ وهي على غباوتها وحيائها. وعن أبي علي بن خيران، وابن أبي هُرَيْرَةَ: أنها كالثَّيِّبِ لزوال العُذْرَةِ. وحكى الْقَاضِيُ ابنُ كَجٍّ عن القاضي أبي حَامِدٍ سماعاً: أن التي وطئت مجنونة، أو مكرهة، أو نائمة حكمها حكم الأبكار لنفاذ الحياء وهذا خلاف ظاهر المذهب. وفي المصابة في غير المأتي وجهان: أصحهما: أن حكمها حكم الأبكار. الثانية: إذا التمست البكر البالغة التزويج وقد خطبها كفؤ فعلى الأب، أو الجد ¬
إجابتها تحصيناً لها كما يجب إطعام الطفل، إذا استطعم، فإن امتنع أثم، وللسلطان أن يزوجها. ويروى عن عَليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "ثَلاَثٌ لاَ تُؤَخِّرُوهَا: الصَّلاةُ إِذَا أَتَتْ، وَالْجَنَّازَةُ إِذَا حَضَرَتْ، وَالأَيِّمُ إِذَا وَجَدَتْ لَهَا كُفْؤاً" (¬1). وفيه وجه: أنه لا يجب الإجابة، ولا يأثم بالامتناع؛ لأن الغرض يحصل بتزويج السُّلْطَانِ وأيضاً فإنها مجبرة من جهة الأب والجد، فكيف يخبرهما على النِّكَاحِ. الثالثة: إذا عينت كفئاً، وأراد الأبُ تزويجها من كفءٍ آخر حَكَى الإِمَامُ فيه خلافاً للأصحاب أحد الوجهين: أن عليه تزويجها ممن عينته إعفافاً لها (¬2). واظهرهما: أنه لا يتعين، ولو زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِهِ جاز لأنها مُخَيَّرَةٌ وليس لها اختيار الأزواج وهو أكمل نظراً منها، وتبين بما ذكرنا أن قوله في الكتاب "والكفء الذي عينته أولى ممن عينه الولي على وجه" لَيْسَ المُرَادُ منه وضع الخلاف في الأولوية وكأنه أراد أن من عينته أولى بأن يتعين. وليعلم قوله في أول الْفَصْلِ "وفي معناها الجدودة" بالميم والألف والواو. وقوله: "وإن كانت بالغة" بالحاء والميم. وقوله: "وإن كانت صغيرة" بالحاء. وقوله: "بالزِّنَا" بالواو والميم والحاء. وقوله: "ولا أثر" بالواو وكذا قوله: "وجبت الإِجابة" بالواو وكل ذلك لما سبق، ولفظ "البالغة" في قوله: "ولو التمست البكر البالغة التزويج" [هل] (¬3) هو للتقييد. ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الصَّغِيرَةَ أيضاً إذا التمست التزويج، وَجَبَتْ الإِجابة إذا كانت في أوان إمكان الشهوة فعلى هَذَا لَيْسَ هو للتقييد واللهُ أَعْلَمُ. ¬
قال: العصوبة كما لأخوة والعمومة. السبب الثاني: عصوبة من على حاشية النَّسَبِ كالأخ والعم وبينهما ولفظ "العصوبة" في الكتاب منزل على هذا، وإلاَّ فالأب والجد لهمَا عصوبة أيضاً، فيدخلان فيه، وهي لا تفيد تزويج الصغيرة بكراً كانت أو ثيباً خلافاً لأبي حَنِيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حَيْثُ قال: لهم تزويجها إلاَّ على أنه لا يلزم فلها الرَدُّ إذا بلغت بخلاف تزويج الأب والجد. دليلنا ما روي أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لاَ تَنْكِحُوْا الْيَتَّامَى حَتَّى تَسْتَأْمِرُوهُنَّ" (¬1) ونحوه من الأخبار. وأما البالغة فإن كانت ثَيِّباً فلهم تزويجها بإذنها الصريح، ولو زوجت بدون رضاها لم ينعقد. وقال أَبُو حَنِيْفَةَ: ينعقد موقوفاً على إجازتها، وإن كانت بكراً فلهم تزويجها إذا استأذنوها، وهل يشترط صريح نطقها أم يكتفي بسكوتها؟. فيه وجهان: أحدهما: أنه لا بُدَّ من النطق كما في الثَّيِّب. وأصحهما: وبه قال أبو حَنِيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: الاكتفاء بالسُّكُوتِ؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تُسْتَأَمَرُ في نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا" (¬2). وَحُكِيَ وَجْهُ: أنه لا حَاجَةَ إِلى الاستئذان أيضاً بل إذا جرى التزويج بين يديها، ولم تنكر كان ذلك رضاءً كما إذا جرى فعل بين يدي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فلم ينكر عليه- فإذا اكتفينا بالسكوت، فيحصل الْغَرَضُ ضَحَكَتْ أَوْ بَكَتْ إلاَّ إذا بكت مع الصِّيَاحِ وضرب الْخَدِّ فلا يكون ذلك رضىً ولو أراد الأبُ تزويج ابنته البكر من غير ¬
فروع
كُفْءٍ، فاستأذنها فيشترط النُّطْقُ أم يكفي السكوت؟. فيه الوجهان (¬1): وقوله في الكتاب: "ولا يفيد إلا تزويج العاقلة البالغة" معلم بالحاء لما ذكرنا أنه جوز للعم والأخ تزويج الصغيرة، وإنما قيد بـ"العاقلة" لأن الأَخَ ومن في معناه لما لا يزوجون الصغيرة ولا يزوجون المجنونة على المذهب كما سَيَأْتِي في الباب الثَّانِي إلاَّ أَنَّ الْفَصْلَ كُلَّهُ مَوْضُوعٌ في العواقل، ولو وجبت التقييد هاهنا لوجب في قوله من قبل "لا على الثَّيِّبِ وإن كانت صغيرة". وفي قوله: "ولو التمست البكر البالغة التزويج"، فلا اختصاص لهذا بالموضع بالحاجة إلى التقييد. فروع: أحدها: لو قال: أزوجك من شخص فسكتت. قال بعض المتأخرين: هذا لا يكون رضىً عند أبي حَنِيْفَةَ -رحمه الله- وهو بمذهبنا أَلْيَقُ؛ لأن الرضا بالمجهول لا يتصور عندنا ولك أَنْ تقول: هذا يخرج على أنه لا بُدّ في الإذن من تعيين الزَّوْجِ، وعلى الأَصَحِّ أنه لا حَاجَةَ إليه كما سيأتي، فلا يضر الْجَهْلُ بِهِ، ثَم لا يخفى أن التصوير مبني على الاكتفاء بالسكوت. الثاني: إذا قال: أيجوز أنْ أزوجك؟ فقالت: لِمَ لاَ يَجُوزْ؟ أو قال: أتأذنين؟ فقالت: لم لا آذن؟. حكى بعضهم أنه لا يكون إذناً (¬2)، ولك أن تقول: ما ذكره الولي إن صلح مراجعة واستئذاناً فالَّذِي صدر منها يشعر بالإِذن والرضا، فإذا اكتفينا بالسكوت على الأظهر فأولى أن نكتفي بلفظ مشعر. وَإِنْ قيل: إنه لا تصلح مراجعته استئذاناً، فهذا مما يأباه الطَّبْعُ وبتقدير أن يكون كذلك فالمعتبر أن يقول الْوَلِيُّ ائذني لي في تزويجك أو أزوجك من فلان فائذني لي ولو قال: أزوجك فقالت بالفارسية: "شايد" (¬3) وجب أن يكون إذناً، كما في "فتاوى القَفَّال" أنه لو قال: أنا أدفع الزكاة عنك فقالت بالفارسية: "شايد" يكون ذلك إذناً وتوكيلاً. الثالث: لو قالت: وكلتك في تزويجي. فالذين لقيناهم من الأئمة لا يعتدون به ¬
إذناً؛ لأن توكيل المرأة في [النِّكَاحِ] (¬1) بَاطِلٌ لكن الفرع غير مسطور، ويجوز أن يعتد به إذناً لما ذكرنا في "باب الوكالة" أنها وإن [فسدت] (¬2) فالأصح أَنَّهُ ينفذ التَّصَرُّفُ بحكم الإِذن (¬3). الرابع: كثيراً ما يقول أهل "قزوين" عند الإِذن والتوكيل [انح توكني أو كرده اى من كردة أم] (¬4) ولا شك في أنه يصلح كناية فإن اكتفينا بالسكوت على الأظهر فالاكتفاء به أولى، بل ينبغي أن يكتفِ به وإن لم يكتفِ بالسكوت. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثُ: المُعْتِقُ) وَهوَ كَالعَصَبَاتِ (الرَّابعُ: السُّلْطَانُ) وِإنَّمَا تُزَوِّجُ البَالِغَةَ عِنْدَ عَدَمِ الوَلِيِّ أَوْ عَضْلِهِ أَوْ غَيْبَتِهِ (ح)، أَوْ أَرَادَ الوَلِيُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنَفْسِهِ كَابْنِ عَمٍّ أَوْ مُعْتِقٍ أَوْ قَاضٍ، وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ (ح) تَزْوِيجُ الصَّغِيَرَةِ، وَلاَ لِلوَصِيِّ (م) وِلاَيَةٌ وَإِنْ فُوِّضَ إِلَيْهِ (ح). قال الرَّافِعِيُّ: كان اللائق أن يقول: الثالث الإِعتاق. والرَّابعُ: السلطنة كما قال الأول الأبوة والثاني العصوبة؛ لأن الْكَلاَمَ في أسباب الولاية والسبب الإِعتاق والسلطنة لا المعتق والسلطان. والفقه أن المعتق وعصباته يزوجون بحق الولاية لتزويج الأخ والعم، وكذا السلطان يزوج بالولاية العامة البوالغ بإذنهن، ولا يزوج الصغائر خلافاً لأبي حَنِيْفَةَ كما سبق في الأخ والعم، ثم السلطان يزوج في مواضع: أحدها: عدم الولي الحاصل كما سيأتي في "ترتيب الأولياء". والثاني: عضله فإذا عضل من يلي أمرها بقرابة، أو إعتاق واحداً كان أو جَمَاعَةٍ مستويين زَوَّجَهَا السُّلْطَان؛ لأن التزويج حَقُّ عليه، فإذا امتنع وفاه الحاكم كما لو كان عليه دَيْنٌ، وامتنع من أدائه. وحكى الإِمَامُ خلافاً في أَنَّ السُّلْطَانَ والحالة هذه يزوج بالولاية أو بالنِّيَابَةِ عن ¬
الولي، وأجرى هذا الخلاف في جميع صور تزويج السلطان مع قيام الولي الخاص، وأهليته وإنما يحصل العضل إذا ادعت البالغة العاقلة إلى تزويجها من كُفْءٍ فامتنع فأما إذا دعت إلى غير الكُفْءِ، فَلَهُ أن يمتنع، ولا يكون عاضلاً وإذا حصلت الكفاءة فليس له الامتناع بعلة نقصان الْمَهْرِ لأن المهر يتمحض حَقَّاً لها خلافاً لأبي حَنِيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولا بُدَّ من ثبوت العضل عند الحاكم [ليزوجها] (¬1). قال في "التَّهْذِيْبِ" ولا يتحقق العضل، حتى يمتنع بين يدي الحاكم وذلك بأن يحضر الخاطب والمرأَة والولي ويأمره الحاكم بالتزويج فيقول: لا أفعل، أو يسكت، فحينئذٍ يزوجها القاضي، وكان هذا فيما إذا [تيسر] (¬2) إحضاره عند القاضي فأما إذا تعذر بتعزُّز أو توارٍ وجب أن يكون الإِثبات بالْبَيِّنَةِ كما في سائر الْحُقُوقِ. وفي "تعليق" الشَّيخ أبي حَامِدٍ ما يدل عليه وعند الْحُضُورِ لا معنى للبَيِّنَةِ، فإنه إن زَوَّجَ نقد حصل الغرض، وإلاَّ فَهُوَ عضل. الثالث: غيبة الولي على ما سنذكره في الفصل الثالث من الباب الرابع إذا أراد أن يتزوج بنفسه، وسنينه في الفصل الرابع. هذه أسباب الولاية، ولا تلحق بها الوصاية، فليس للوصي ولاية التزويج سواء أطلق الموصي الوصاية، أو تعرض لتزويج البنات لِمَا مَرَّ في "باب الوصاية"، فلو لم نورد المسألة هنا اكتفينا بما ذكر في الوصاية لجاز. وقال أَحْمَدُ: للوصي التزويج. وعند مالك -رضي اللهُ عنه-: إذا أوصى إليه في التزويج فإن كانت البنت كبيرة زوجها الوصِيُّ بإذنها وإن كانت صغيرة وعين الموصي الزوج زوجها الوصي منه وإنْ لَمْ يعين انتظر بلوغها لتأذن. وقوله في الكتاب: "وإنما يزوج البالغة" يجوز إعلامه بالحاء؛ لأن عنده يزوج الصغيرة أيضاً وفي هذا ما يغني عن قوله من بعد "وليس للسلطان أن يزوج الصغيرة". وقوله: "أو غيبته، أو أراد الولي أن يتزوج بنفسه" معلمان بالحاء لما سيأتي في الفصلين المحال عليهما. وقوله: "ولا للوصي ولاية" معلم بالحاء والألف. ونختم الفصل بكلامين: أحدهما: أَنَّهُ عَدَّ أَسْبَابَ الْوِلاَيَةِ أربعة، وسيجيء الْخِلاَفُ في أن المالك يزوج أَمَتَهُ بحكم الملك، أم بحكم الولاية؟ فإن قلنا بالثاني صارت الأسباب خمسة. ¬
الفصل الثاني في ترتيب الأولياء
والثاني: التعرض لمواضع تزويج السلطان كالخارج عن مقصود الفصل؛ لأنه مسبوق لبيان الأسباب وما يفيده كل واحد منهما، وهذا الغرض يحصل لإلحاق تزويجه بتزويج العصبات كما فعل في المعتق على أن تزويجه في كلِّ مَوْضِع منها مَعْلُومٌ لما ذكره في غير هذا المقام أما عند عدم الولي فلما ذكره في ترتيب [الأولياء] (¬1) وأما العضل، فلقوله في السبب الأول "فإن عضل زوج السلطان"، فأما عند الغيبة ورغبة الولي في نكاحها فلما سيأتي في الفصل الثالث والرابع. واللهُ أَعْلَمُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّانِي في تَرْتيبِ الأَوْليَاءِ) وَالأَصْلُ القَرَابَةُ ثُمَّ الوَلاَءُ ثُمَّ السَّلْطَنَةُ، وَمِنَ الأَقَارِبِ الأَبُ ثُمَّ الجَدُّ (م) ثُمَّ الأَخُ ثُمَّ ابْنُهُ ثُمَّ العَمُّ ثُم ابْنُهُ عَلَى تَرْتِيبِهِمْ فِي عُصُوبَةِ المِيرَاثِ، وَالأَخُ مِنَ الأَبِ وَالأُمِّ لاَ يُقَدِّمُ (ز ح م) عَلَى الأَخَ مِنَ الأَبِ في النِّكَاحِ عَلَى قَوْلٍ وَإنْ قُدَّمَ في المِيرَاثِ وَصَلاَةِ الجَنَائِزِ وَالوَصِيَّةِ لِلأَقْرَبِ، وَالابْنُ لا يُزَوِّجُ أُمَّهُ بِالبُنُوَّةِ، وَلاَ تَمْنَعُهُ البُنُوَّةُ عَنِ التَّزْوِيجِ بِالوَلاَءِ وَغَيْرِهِ. قال الرَّافِعِيُّ: الْجِهَاتُ المعيذة للولاية تقدم منها القرابة ويليها الولاء ويليها السَّلْطَنَةُ. أمَّا تَقَدُّمُ الْقَرَابَةِ على الولاء، فلاختصاص الأقارب بزيادة الاهتمام والشفقة، وأما تَقدِيمُ الْوَلاءِ على السَّلْطَنَةِ فلإلتحاق الولاء بالنسب على ما قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الوَلاَءِ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةُ الْنَسَبْ" (¬2) ثم السلطنة ويدل عليه قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "الْسُلْطَانُ وَلِيُ مَنْ لاَ وَلِيَ لَهُ" (¬3). ثم يقدم من الأقارب الأب؛ لأن سائر الأولياء يدلون به، ثم الجد، ثم أبوه إلى حيث ينتهي؛ لأن له ولادة وعصوبة فيقدم على من ليس له إلاَّ عصوبة، ثم الأخ من الأبوين، أو من الأب، ثم ابنه وإن سفل ثم العم من الأبوين، أو من الأب، ثم ابنه وإن سفل، ثم سائر العصبات والترتيب في التزويج كالتَّرُتيبِ في الميراث إلا في ثَلاَثِ مَسَائِلَ: الأولى: الجد والأخ يستويان في اسْتِحْقَاقِ الإرث وهاهنا تقدم الجد؛ لأن التزويج ولاية، واحتكام، والجد لزيادة شفقته أولى بالولاية، ولهذا اختصّ بولاية الْمَالِ. والثانية: الأخ من الأبوين يقدم على الأخ من الأب في الميراث وهاهنا قولان: ¬
القديم -وبه قال أحمد-: أنهما سواء؛ لأن أخوة الأم لا تفيد ولاية النكاح، فلا يرجح بخلاف الإِرث، فإنَّ أخوة الأم تفيده. وأصحهما -وَهُوَ الْجَدِيْدُ وبه قَال أَبُو حَنِيْفَةَ ومالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- والمزني: أنه يقدم كما في الميراث لزيادة القرب والشفقة، وليس كُلُّ ما لا يفيد لا يرجح؛ ألا ترى أنَّ الْعَمَّ من الأبوين يُقَدَّمُ على الْعَمِّ من الأب في الميراث، وإن كان العم من الأم لا يرث، ويجري القولان في ابني الأخ والعمين، وابني العم إذا كان أحدهما من الأبوين، والآخر من الأب وامتنع الإِمام من طرد الخلاف، فيما إذا كان [لها] (¬1) ابنا عم أحدهما أخوها من الأم أو ابنا ابن عم أحدهما ابنها، توجيهًا بأن المعتمد في تقديم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب أن اجتماع القرابتين قد يوجب قوة عصوبته، وهي عصوبة تفيد ولاية التزويج، وأخوة الأم في ابن العم لا تفيد عصوبة أصلًا، والبنوة في الصورة الأخرى تفيد قوة العصوبة، لكنها عصوبة لا تفيد ولاية التزويج، والأكثرون اكتفوا في طَرْدِ الْخِلاَفِ بزيادة القرابة الموجبة لزيادة الشفقة. وقالوا في الجديد: يقدم الأخ والابن [ولو كان] (¬2) لهما ابنا عم أحدهما من الأبوين، والآخر من الأب، لكنه أخوها من الأم، فالثاني أولى؛ لأنه يدلي بالأم، والأول يدلي بالجد والجدة، ولو كان لها ابنا ابن عم أحدهما ابنها والآخر أخوها من الأم، فالابن أولى؛ لأنه أقرب من الأخ، ولو كان لها ابنا معتق أحدهما ابنها، فهو مقدم على الآخر. وبهذا أجاب ابن الحداد لكنه ذكر في التفريع أنه لو أراد المعتق نِكَاحَ عتيقته وله ابن منها وابن من غيرها زوجها منه ابنه منها دون ابنه من غيرها، وهذا غلط عند مُعْظَم الأَصْحَاب مِن جهة أن ابن المعتق لا يزوجها في حياة المعتق؛ لأنه يدلي به؛ كما لا يزوج ابن الأخ مع الأخ، فهذا خطبها المعتق زوجها السُّلْطَانُ، وإنما يفرض من ابنه التزويج بعد موته، وهذا كله في الجديد. وفي القديم: يسوى في الصور. الثالثة: الابن في الميراث أولى الْعَصَبَاتِ، وفي التزويج لا ولاية له بالبنوة خلافًا لأبي حنيفة -ومالك وأحمد -رحمهم الله-؛ لأنه لا مشاركة بين الأم والابن في النسب، ولا يعني بدفع العار عن النسب؛ ولهذا لم نُثبت الولاية للأخ من الأم، فإن كان هناك مشاركة بأن كان ابنها ابن ابن عمها، فله الولاية، وكذا لو كان معتقًا أو قاضيًا، أو فرضت قرابة أخرى تتولد من أنكحة الْمَجُوسِ، أَوْ مِنْ وطء شُبْهَةٍ بأن كان ابنها أخاها أو ¬
ابن أخيها أوابن عمها، ولا تمنعه البنوة عن التزويج بالجهة الأُخْرَى. وقوله في الكتاب: "ثُمَّ الْجَدُّ، ثم الأخ" يجوز أن يكون عليه ميم؛ لأن صاحب الشَّامِلِ حكى عن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ الأخ مُقَدَّمٌ على الجد. وقوله: "على ترتيبهم في الميراث"، لا يمكن رده إلى جميع المذكررين؛ لأن الأخ في الميراث لا يتأخر عن الجد، وإنما يُرْجِعُ إلى من بعدهما. وقوله: "لا يُقَدَّمُ على الأخ من الأب" معلم بالحاء والميم والزاي. وقوله: "وإن قدم في الميراث، وصلاة الجنازة، والوصية للأقرب" [التقديم في الميراث لا خلاف فيه، وفي صلاة الجنازة والوصية للأقرب] (¬1) طريقان ذكرناهما في البابين، فيجوز أن يعلما بالواو. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَأَمَّا المُعْتَقُ إِذَا مَاتَ فَعَصَبَاتُهُ، ثُمَّ مُعْتِقُهُ ثُمَّ عَصَبَاتُ مُعْتِقِهِ، وَتَرْتِيبُ عَصَبَاتِ المُعْتِقِ كَعَصَبَاتِ القَرَابَةِ، إِلاَّ أَنَّ أَخَ المُعْتِقِ يُقَدَم عَلَى جَدِّهِ عَلَى رَأَيٍّ وَيُسَاوِيهِ عَلَى رَأَيْ، وَابْنُ الأَخ أَيْضًا يُقَدَّمُ في وَجْه، وَيؤَخَّرُ في وَجْهٍ لِبُعْدِهِ، وَابْنُ المُعْتِقِ مُقَدَّمٌ عَلَى أَبِيهِ لأَنَّهُ العَصَبَةُ، وَإِذَا أَعْتَقَتِ المَرْأَة فَلَهَا الوَلاَءُ، وَتَزْوِيجُ العَتِيقَةِ إِلَى وَليِّ السَّيِّدَةِ، وَلاَ يُفْتَقَرُ إِلَى رِضَا السَّيِّدَةِ عَلَى الأَشْهَرِ، وَيُزَوِّجُهَا أبو السَّيِّدَةِ في حَيَاتِهَا، وَابْنُهَا (و) بَعْدَ وَفَاِتِها. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَأَمَّا المعتق إِذَا مَاتَ فَعَصَبَاتُهُ ثُمَّ مُعتَقَةٌ ثُم عَصَبَاتُ مُعتَقَهِ الَّتي لَيْسَتْ لَهَا أَحَدٌ مِنْ عَصَبَاتِ النَّسَبِ وَعَلَيْهَا وَلا ينظر فيها إِنْ كَانَ قد أعتقها رَجُلٌ فولاية التزويج له فإن لم تكن أو لم يكنَ بصفة الولاء، فلعصباته، ثم لمعتقه، ثم لعصبات معتقه، وهكذا على ترتيبهم في الميراث، وترتيب عصبات المعتق في التزويج كترتيب عصبات النَّسَبِ إلا في صوَرٍ: إحداها: جد المرأة أولى من أخيها وفي جد المرأة المعتق وأخيه قولان كما ذكرنا في الميراث: أحدهما: أنهما يستويان. والثاني: يتقدم الأخُ والتوجيه، والترجيح على ما بيناه هناك، وإذا اجتمع جد المعتق وابن أخيه، فإنْ قَدَّمْنَا الأخ على الجد فيقدم ابن الأخ أيضًا لقوة البنوة، وإن سوينا بين الأخ والجد، فيقدم الجد على ابن الأخ للقرب، وقد ذكرنا في الميراث وجهًا ¬
في التفريع على هذا القول، أنهما يستويان، فيجوز أن يطرد هنا. والثانية: ابنُ الْمَرْأَةِ لا يلي تزويجها وابن المعتق يلي ويتقدم على أبيه عند الاجتماع؛ لأنه العصبة والأب معه صَاحِبُ فَرْضٍ. الثالثة: ذكرنا في النَّسَبِ قولين في الأخ من الأبوين، والأخ من الأب أنهما يستويان أو يتقدم الأخ من الأبوين، وإذا اجتمع أخو الْمُعْتَقِ من الأبوين وأخوه من الأب فطريقان: أحدهما: طرد القولين. وأظهرهما: وبه أجاب الشَيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: القطع بتقديم الأخ من الأبوين؛ لأن التزويج بالولاء يتعلق بمحض العصوبة، وبالقرابة لا يتعلق بمحض العصوبة؛ ألا ترى أنَّ ابنَ الْمَنْكُوحَةِ لا يزوجها، وابن المعتق يلي التزويج، وَيتَقَدَّمُ عَلَى الأبِ، والأخ من الأبوين أقوى عصوبة بدليل الميراث. وفي "النِّهَايَةِ" بدل هذه الطريقة طريقة قاطعة باستوائهما؛ لأن قرابة الأم لا أثر لها في الولاية [والولاء] (¬1) وقد استويا في قَرَابَةِ الأَب هذا إذا أعتقها رجل فإن أعتقتها امرأة، فلا ولاية لها، وإن كان لها الوَلَاءُ، لأنه لا عَبارة للنِّسَاءِ في النِّكَاحِ ومن يزوجها إن كانت [المعتقة] (¬2) حَيّةً فعن صاحب "التَّلْخِيْصِ" أنَّ السُّلْطَانَ يزوجها؛ لأن من له الولاء ليس له التزويج، فكيف يزوج من يدلي به. والمذهب المشهور أنه يزوجها من يزوج المعتقة، ويجعلى الولاية عليها تبعًا للولاية على المعتقة، وعلى هذا فيزوجها أبو المعتقة، ثم جدها على ترتيب الأولياء، ولا تزويجها ابْنُ الْمُعْتَقَةِ، ويشترط في تزويجها رضاها وفي رضي المعتقة وجهان: أصحهما: أنه لا حَاجَةَ إليه؛ لأنه لا وَلاَيَةَ لَهَا وَلاَ إجْبَارَ. والثَّانِي: يشترط؛ لأن الولاء لها والعصبات يزوجون [لإدْلاَيهِمْ] (¬3) بها فلا أقل من مراجعتها، فعلى هذا إن [عضلت] (¬4) ناب السُّلْطَانُ عَنها في الإِذن والتزويج إلى أوليائها، وَأَمَّا إذا ماتت المعتقة، فَمَنْ لَهُ الْوَلاَءُ على العتيقة من عصبات المعتقة هو الذي يزوجها، ويتقدم الابن علي الأب عند الإجتماع، وتعود الصورة المذكورة في مفارقة عصبات الولاء عصبات النسب فيما إذا كان المعتق رجلًا هذا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ في طريق حياة المعتقة وموتها، ووراءه وجهان: ¬
أحدهما: أَنَّ أَبَا الْمُعْتَقَةِ هُوَ الَّذِي يُزَوِّجُهَا وَإِنْ مَاتَتْ الْمُعْتَقَةُ؛ لأنه كان أولى بتزويج المعتقة، فَيُسْتَدَامُ هذا الْحُكْمُ في حق العتيقة. والثَّاني: حكاه الشَّيْخُ أبُو الْفَرَج السَّرْخَسِيُّ: أنه يزوج العتيقة في حياة المعتقة أيضًا ابنها؛ لأنه أحقّ بالعصوبة والولاء، وَهذا قد نقله الإِمَامُ أيضًا عن رواية الشَّيْخ أبي علي فَقَالَ: إنه حَكَى وَجْهَيْنِ فيما إذا كانت المعتقة حية أنه يزوج العتيقة أيضًا أبوها أو ابنها لكنه يتبين عند إمعان النَّظَرِ في كلام الشَّيْخُ أنه أراد حكاية الوجهين عند موتها لا في حياتها، وليعلم لما شرحناه. قوله في الكتاب: "وتزويج العتيقة إلى ولي السيدة" بالواو وكذا قوله: "أبو العتيقة" -وكذا قوله: "وابنها بَعْدَ مَوْتِهَا". فروع: مهما اجتمع عدد من عصبات المعتق في درجة كالبنين والأخوة، فهم كالأخوة في النَّسَبِ إذا زوجها أحدهم برضاها صح، ولا يُشْتَرَطُ رضي الآخرين. ولو أعتق الأَمَةَ اثنان، فلا بدّ من رضاهما، فإما أن يوكلا أو يوكل أحدهما الآخر، أو يباشرا العقد معًا؛ لأن كُلَّ وَاحِدٍ مِنِ المُعْتَقِيْنَ إنما يثبت له الولاء على بعضها بحسب الملك، فكما يعتبر اجتماعهما على التزويج قبل الإِعتاق يعتبر في التزويج بعده. وإذا كَانَ المعتق واحدًا، فالولاء على الجميع له، وَكُلُّ وَاحِدٍ من ابنيه قائم مقامه في تزويج عتيقته. ولو أراد أحد المعتقين أن يتزوج بها لم يجز إلاَّ بموافقة السلطان للآخر. ولو مات أحدهما عن ابنين، أو أخوين كفي موافقة أحدهما المعتق الآخر. وَلَو مَاتَ كُلُّ وَاحِدٍ منهما عن ابنين كفي موافقة أحد ابني هذا أحد ابني ذلك. ولَوْ مَاتَ أحدهما وورثه الآخر استقل بتزويجها؛ لأنه استحق الولاء على جميعها. فَرْعٌ: لو كان المعتق خُنْثَى مشكلًا ينبغي أن يزوجها أبوه بإذنه، ليكون قد زوجها وكيله بتقدير المذكورة، أو وليها بتقدير الأنوثة. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالرَّقِيقَةُ نِصْفُهَا يُزُوِّجُهَا المَالِكُ مَعَ الوَليِّ أَوْ مَعَ الْمُعْتِقِ أَوْ مَعَ القَاضِي فَفِيهِ ثَلاَثةُ أَوْجُهٍ. قال الرافِعِيُّ: في التي بعضها حر وبعضها رقيق وجهان: أصحهما: أنه يجوز تزويجها وعلى هذا فالبعض الرقيق يتعلق تزويجه بمالكه، وفيمن يُزَوَّجُ معه اختلاف مبني على أنَّ مثل هذا الشَّخْصِ هل يورث؟. وفيه قولان قدمناهما -فإن قلنا بالجديد- وهو أنه يورث؛ فوجهان: أصحهما: وبه أجاب ابنُ الْحَدَّادِ: أنه يزوجها معه الولي القريب فإن لم يكن
الفصل الثالث في سوالب الولاية
فمعتق البعض الحر فإن لم يكن فالقاضي وفاءً بِحَقِّ الحرية. والثاني: أَنَّ الْقَرِيبَ لا يزوجها؛ لأن القرابة لا يجوز أن تثبت مع بعض الشخص دون بعض، فكذلك الولاية المرتبة عليها لا تتبعض. وعلى هذا فوجهان: في وَجْهٍ: يزوجها معه معتق البعض؛ لأن الولاء قد ثبت على بعض الشخص فجاز أن تتبعض الولاية الثانية بها، وهذا أظهر عند الإِمَامِ. وَفِي وَجْهٍ: يزوجها معه السُّلْطَانُ، والقريب يمنع المعتق من التزويج كما يحجبه عن الميراث. وأما السُّلْطَانُ فإنه يزوج بالولاية العامة إذا تعذرت الأسباب الخاصة، وإن قلنا: إنه لا يورث فيبني على أن ما ملكه ببعضه الحر يكون لمالك البعض، أو لبيت المال -وفيه وجهان سَبَقَ ذِكْرُهِمَا. فإن قلنا: إنه لمالك البعض فوجهان مرويان في "الشَّامِلِ": أحدهما: أنه ينفرد المالك بتزويجها كما يجوز مَالها. والثاني: يزوجها معه معتق البعض بالولاء. وإن قلنا: إنه لبيت المال فيزوجها معه السُّلْطَانُ. والوجه الثاني: في أصل الْمَسْأَلَةِ: أنها لا تزوج أصلًا لضعف الملك والولاية لتبعض الرق والحرية. وهذا كقول يُرْوَى في أنَّ السَّيِّدَ لا أم الولد يزوج لضعف الملك فيها فإذا تركت البناء واختصرت قلت: في الْمَسْأَلَةِ خَمْسَةُ أوْجُهٍ لا تزوج يزوجها مالك البعض استقلالًا يوافقه القريب موافقة معتق البعض يوافقه السلطان، ويجوز أن يعلم قوله في الكتاب "يزوجها المالك" بالواو للوجه الثاني، ولفظ "الولي" أراد به القريب وَإِلاَّ فالاسم ينظم المعتق والقاضي أيضًا. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّالِثُ في سَوَالِبِ الوِلاَيَةِ) وَهُوَ أَرْبَعَةٌ: (الأَوَّلُ: الرِّقُّ) فَلاَ وِلاَيَةَ لِرَقِيقٍ، وَلَهُ عِبَارَةٌ فِي القَبُولِ، وَفِي التَّزْوِيج بِالوَكَالَةِ (و) بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَغَيْرِ إِذْنِهِ. القول في موانع الولاية قال الرَّافِعِيُّ: من موانع الولاية "الرق" لما في الرقيق من النقصان وعدم تفرغه للبحث والنظر، ويجوز أن يتوكل عن غيره في قَبُولِ النِّكَاحِ إذا أذن السَّيِّدُ، وإن لم يَأْذَنْ فكذلك في أَصَحِّ الوجهين وقد ذكرنا الْمَسْأَلَةَ في "الوكالة"، ولو توكل في التزويج ففيه وَجْهَانِ أوردهما صَاحِبُ "الكتاب" في "الوكالة" وَادَّعَى أَنَّ الأَظْهَرِ الجواز وَبِهِ أجَابَ هُنَا، وَنَحْنُ قد بَيَّنَا هناك أنَّ الأَظْهَرَ عند عامة الأصحاب المنع؛ لأنه لا ولاية له على ابنته فلا ينوب فيها عن غيره، فليعلم قوله: "وفي التَّزْوِيجِ بالوكالة" بالواو. وليعلم أنَّ
الأَظْهَرَ خلافه وَأَمَّا قوله: "وله عبارة في القَبُولِ" فيمكن أن يفصل عما بعده، وحينئذٍ فيكون الْمُرَادُ أَنَّ عبارته في القبول صحيحة في الجملة، ويمكن أن يجعل متصلًا بما بعده فيكون المعنى أن عبارته في القَبُولِ والإيجاب معًا بالوكالة صحيحة، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يجوز أن يعلم قوله: "وغير إذنه" بالواو للوجهين في جواب قبوله بغير إِذْنِ السَّيِّدِ. وقوله في أول الْفَصْلِ الأَوَّلِ: "الرق" كان من حق لفظ "السوالب" أن يقول: الأولى والثانية: لأنها جَمْعُ سَالِبَةٍ إلاَّ أنه ذكر على المعنى وَاللهُ أَعْلَمُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِي مَا يَسْلُبُ النَّظَرَ) كَالصَّبَا وَالجُنُونَ وَالعَتَهِ وَالسَّفَهِ وَالسُّكْرِ، والمَرَضِ الشَّدِيدِ المُلْهِي يَنْقُلُ الوِلاَيَةَ اِلَى الأَبْعَدِ، وَالإِغْمَاءِ يَنْقُلُهَا بَعْدَ ثَلاَثةِ أَيَّامِ إِلَى السُّلْطَانِ، وَالجُنُونُ المُتَقَطِّعُ يَنْقُلُ (و) إِلَى الأَبْعَدِ، وَالعَمَى لاَ يَقْدَحُ عَلَى وَجْهٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ومن موانع الوَلاَيَةِ مَا يَسْلُبُ النَّظَرَ وَالْبَحْثَ عَن حَالِ الأزواج واختيارهم، وَفِيْهِ صُوَرٌ: إحداها: الصِّبَا يمنع الولاية؛ فهذا كان الأقرب صبيًا زوجها الأبعد، ولا يخفى أن هذا إنما يتصور في غير الأب والجد، والجنون المطبق كالصَّبِي في منع الولاية ونقلها إلى الأبعد، وفي الْجُنُونِ الْمُنَقَطَّعِ وَجْهَانِ: أحدهما: أَنَّ الجوَابَ كذلك، ويزوجها الأبعد في يوم جُنُونه لبطلان أَهْلِيَّتِهِ وزوال ولايته في نفسه وماله، وَهَذَا أَصَحُّ عَنْدَ الْقَاضِي ابنِ كَجٍّ والإِمام، وهو المذكور في "الكتَابِ". والثاني: أنه لا يزيل الولاية؛ لأنه يشبه الإغماء من حَيْثُ إنه يَطْرَأُ ويزول وَهَذَا أَصَحُّ عَنْدَ صَاحِب "التَّهْذِيْبِ" وعلى هذا فعن الحَنَّاطِيَّ وغيره وجه: أنه يزوجها الحاكم كما في الغيبة واَلمشهور أَنه ينتظر حتى يفيق وَالْخِلاَفُ جار في [الثَّيِّب] (¬1) المنقطع جنونها. فعلى رأي: تزوج في حال الجنون. وعلى رَأْيٍ: ينتظر إفاقتها لتأذن. ولو وكل هذ الولي في نوبة إفاقته فيشترط أن يقع عقد الوكيل قبل معَاوَدَةِ الْجُنُونِ، وكذا إذا أذنت الثيب يشترط تقدم العقد على معاودة الجنون. قال الإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ: وإذا قصرت نوبة الإِفاقة جدًا لم يكن الحال حال تقطع الْجُنُونِ؛ لأنَّ السُّكُوتَ اليسير لا بدّ وأن يعرض مع إطباق الجنون، ونقل وجهين للأصحاب فيما إذا أفاق وبقيت فيه آثار من الخبل يحتمل مثلها ممن لا يعتريه الْجُنُونُ على حدة في الخلق أنه تعود الولاية، أو يُسْتدامُ حكم الجنون إلاَّ أن يصفو حاله عن الخبل. ¬
الصورة الثانية: اختلال العقل والنظر إما لهرم أو لخَيَلٍ جبلي أو عارض يمنع ثبوت الولاية للعجز عن اختيار الأزواج، وعدم العلم بمواضع الحظ، وتنتقل الولاية إلى الأبعد وَالمُفْلِسُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ ولي لكمال نظره، والحجر عليه لحق الغرماء لا لنقصان فيه. وَأَمَّا السَّفِيْهُ المحجور عليه فالمشهور أنه لاَ يَلِي لأَنَّ الْحَجْرَ عليه لنقصانه، فلا [يحسن أن يفوض إليه] (¬1) أمر غيره. وَحَكَى صَاحِبُ "الْمُهَذَّب" مع هذا وجهًا جيدًا: أنه يلي لأنه كامل النظر في مصالح النِّكَاحِ، وإنما حُجِرَ عَلَيْهِ لئَلاَّ يضيع ماله، وإذا قلنا بالمشهور ففيه مُبَاحَثَةٌ وهي أن الحجر على السفيه قد يتعلق بِالْفِسْقِ كما يتعلق بالتَّبْذِيرِ حَتَّى لَو بلغ مفسدًا لماله وفي دينه يستمر الحَجْر عليه ولو بلغ مصلحًا لهما ثم عاد الفسق، أو التبذير ففي إعادة الْحَجْرِ خِلاَفٌ مذكور في موضعه، وِاذَا حَصَلَ الْفِسْقُ وَقُلنَا أَنَّهُ يَسْلُبُ الولاية، فَلاَ أَثَرَ للِتَّبْذِيْرِ ولا للحجر، وَإِنَّمَا يظهر أَثَرُهِمَا إِذَا لَمْ يوجد الْفِسْقُ أَوْ لَمْ يجعله سَالِبًا للولاية، وَإِذَ وجد التبذير المقتضي للحجر ولم نحجر عليه بَعْدُ، فما ينبغي أن تزول الولاية. الصورة الثالثة: الإِغماء إن كان مما لا يُدُومُ غالبًا كهيجان المرة الصفراء، أو الصَّرَعُ فهو كالنَّوْمِ فينتظرَ إفاقته ولا يزوجها غيره، وَإِنْ كان مما يدوم يومًا أو يومين أو أكثر فوجهان: أَحَدُهُمَا: نقل الولاية إلى الأبْعَدِ كالجنون. وأظهرهما: المنع؛ لأنه قَرِيْبُ الزَّوَالِ، وعلى هذا ففي "التَّهْذِيبِ" وغيره: أنه ينتظر إفاقته كالنَّائِمِ ينتظر استيقاظه. وقال الإمَامُ: ينبغي أن تعتبر مدته بالسَّفَر فإن كانت مدته مدة معلومة ينتظر فيها مراجعة الولي الغائب وقطع المسافة ذهابًا وإيابًا، فينتظر إفاقته، وإن كانت مدة لا يؤخر التزويج فيها لمراجعة الغَائِب ذِهَابًا وَإيابًا قيل يزوجها الحاكم فَكَذَا هنا، والرجوع في معرفة مُدَّتِهِ إلى أهل الخبرة، فإذا قالوا: إنه من القسم الثاني جاز تزويجها في الْحَالِ. الصورة الرَّابِعَةُ: السُّكْرُ إن حَصَلَ بسبب يفسق به وقع الكلام في أَنَّ الفَاسِقَ هل يلي؟. إن قلنا: لا يلي، فذاك. وإن قلنا: يلي أوَ حَصَلَ بسبب لا يفسق به بأن كَانَ مُكْرَهًا أو غالطًا فإن لم ينفذ تصرف السَّكْرَانُ فالسُّكْرُ كَالإِغْمَاء، وإن جَعَلْنَا تَصرُّفَهُ كتصرف الصَّاحِي، فمنهم من صَحَحَ تَزْوِيْجَهُ، ومنهم من مَنَعَ لإختلال نظره وبه قال الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ. ¬
والظاهر من ذلك كُلِّه أنه لا يزوج، وَأَنَّهُ ينتظر إفاقته وبه أَجَابَ في "التَّهْذِيْبِ" ثم الخلاف فيما إذا بقي له تمييز، ونظر فأما الطامح الذي سَقَطَ تَمْيْيزُهُ بِالْكُلِّيَّةِ فكلامه لَغْوٌ. الصورة الخامسة: الأسقام والآلام الشديدة الشاغلة عن النظر ومعرفة المصلحة تمنع الولاية وتنقلها إلى الأَبْعَدِ كالجنون. هَذَا نَصُّهُ -وبه أخذ الأَصْحَابُ، لكن ليس سكون الألم الشديد بَأبْعَدَ من إفاقة الْمُغْمَى عليه، فإذا انتظرنا الإفاقة في الإِغماء وَجَبَ أَنْ ينتظر السكون هاهنا وبتقدير عدم الانتظار يجوز أن يقال: يزوجها السلطان لا الأبعد كما في صورة الغيبة؛ لأن الأهلية باقية وشدة الألم مانعة من النَّظَرِ كالغيبة. الصورة السَّادِسَةُ: للأعمى أن يتزوج بِلاَ خِلاَفٍ وهل له أن يزوج بالولاية؟. فيه وجهان: أحدهما: لا -لأَنَّهُ نقص يؤثر في الشهادة، فأشبه الصِّغَرَ. وأصحهما: نعم؛ لأن المقصود يحصل بالبحث عن الغير والسَّمَاعِ منه، وإنما [لم] (¬1) تقبل شهادته لتعذر التَّحمُّلِ عليه، ولهذا تقبل شهادته فيما تحمله قبل العمى. واحتج له أيضًا بأن شعيبًا عليه السَّلاَمُ زوج وهو مَكْفُوفٌ البصر (¬2)، وَيَجْرِي مِثْلَ هَذِيْنِ الوَجْهَيْنِ في أَنَّ الأخْرَسَ هل يلي ومنهم من قَطَعَ بِأنَّهُ يَلِي، وَالْخِلاَفُ فيما إذا كانت له كناية، أو إشارة مُفْهَمَةٌ، فإن لم يكن فليس له التزويج، وَأَمَّا لَفْظُ الْكِتَابِ فقوله: "وَالْعَتَهُ" أَرَادَ به الْحَالَةُ الموجبة للإختلال في الرأي والنظر في اختيار الأزواج، وصاحب هذه الحالة قد يُحَافِظُ عَلَى المَالِ، وَالْمُرَادُ من "السَّفَهِ" التبذير المحوج إلى الحجر وقوله: "تنقل الولاية إلى الأبعد" ممكن رده إلى قوله أولًا. ¬
الثاني: ما يسلب النظر، وعطف المرض الشديد على الصفات المذكورة قبله، ويمكن قطع المرض عما قبله والاكتفاء بفهم المقصود من عد ما قبله مما يسلب النظر، وَعُدَّ مَا يَسْلَبُ النَّظَرَ من سوالب الولاية، وقوله: "والإغماء ينقلها بعد ثلاثة أيام" -أَيْ للِسُّلْطَانِ- معلم بالواو للوجه المذكور في أنه تنتقل إلى الأَبْعَدِ وَأَرَادَ بقوله "بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ" أنه ينتظر هذه المُدَّةَ بعدما عرض الإِغماء، وَهَذَا شَيءٌ اخْتَارَهُ صَاحِبُ "الْكِتَابِ" عنده على ما بينه في "الوسيط"، ولم يتعرض له غيره. وقوله: "والجنون المنقطع ينقل الولاية إلى الأبعد" معلم بالواو للوجه الذاهب إلى أنه ينقل إلى السلطان وللوجه الذاهب إلى أنه لا ينقل عنه أصلًا. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثُ) الفِسْقُ (ح) يَسْلُبُ الوَلاَيَةَ عَلَى أَضْعَفِ القَوْلَيْنِ، وَالكُفْرُ لاَ يَسْلُبُهَا (و) بَلْ وَلِيُّ الكَافِرَةِ كَافِرٌ، وَإنَّمَا يَسْلُبُهَا اخْتِلاَفُ الدِّينِ لِسُقُوطِ النَّظَرِ. قال الرَّافِعِيُّ: فيه مَسْأَلَتَانِ: المسألة الأولي: اختلف إشعار ألفاظ الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في ولاية الْفَاسِقِ، وللأصحاب فيه طُرُقٌ: أشهرها: إثبات قولين: أحدهما: وبه قَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ ومالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّهُ يلي؛ لأَنَّ الْفَسَقَةَ لم يمنعوا من التزويج في عصر الأولين (¬1). ¬
والثاني: المنع؛ لأن الْفِسْقَ نقص يقدح في الشهادة، فيمنع الولاية كالرِّقِّ. وقد روي عن ابنِ عَبَّاسِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- أَنَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَي عَدْلٍ" (¬1). وبهذا قَالَ أَحْمَدُ في أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. والطريق الثاني: القطع بالمنع وهو قضية إيراد أبي عَلِيٍّ بن أَبِي هُرَيْرَةَ والطَّبَرِي وابن الْقَطَّان. والثالث: القطع بأنه يلي -وهو اختيار القاضي أبي حَامِدٍ، وبه قال القَفَّالُ، والشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ. والرابع: أن الأب والجد يليان مع الفسق، ولا يلي غيرهما والفرق كمال شفقهما وقوة ولايتهما. والخامس: قال أبو إِسْحَاقَ -رحمه الله- الأب والجد لا يليان مع الفسق وغيرهما يلي، والْفَرْقُ أنهما مُجْبَرَانِ فربما وضعاها تحت فاسق مثلهما. وغيرهما يزوج بالإِذن، فَإِنْ لَمْ يَنْظُرْ لَهَا نَظَرَتْ هِيَ لنَفْسِهَا قال الإِمام: -رَحِمَهُ اللهُ-: وقياس هذه الطَّرِيقَةِ أن يزوج الفاسق ابنته الْبِكْرَ برضاها، وَإِنْ لَمْ يجبرها. والسَّادِسُ: إن كان فسقه يشرب الخمر لم يَلِ لاضطراب نظره، وغلبة السُّكْرُ عليه، وَإِنْ كَانَ بسبب آخر فَيَلِي. وذكر الحَنَّاطِيُّ وجهين في أن من يستسر بفسقه هل يلي تفريعًا عَلَى أَنَّ الفَاسِقَ المعلن لا يلي، فيخرج من هذا طريق سابع فارق بين المعلن وغيره وأصحاب الطرق الأربع الأخيرة يحملون اختلاف [الألفاظ] (¬2) على اختلاف الحالين، ثُمَّ في الْمَسْأَلَةِ فُرُوْعٌ: الأَوَّلُ: عَنِ الشَّيْخِ عن أبي عَلِيٍّ والقاضي حُسَيْن. وغيرهما إجراء الخلاف في ولاية المال بلا فَرْقٍ، ومنهم مَنْ [يدل كلامه] (¬3) على القطع بالمنع؛ لأنهم احتجوا لقول ¬
المنع بالقياس على ولاية المال، وَالظَّاهِرُ فيها المنع؛ وإنْ ثَبَتَ فيه الخلاف؛ لأَنَّ الْمَالَ محل الخيانات الخفية وَلأَنَّ أمر النِّكَاحِ خَطِيرٌ فالاهتمام بشأنه، وإن كان الشخص فاسقًا أقرب. الثّاني: في انعزال الإِمَامِ الأَعْظَمِ [بالفسق] (¬1) وجهان قَدَّمنَاهُما [و] الصحيح المنع، وَحِيْنَئِذٍ ففي تزويجه بناته، وبنات غيره بالولاية العامة وجهان تفريعًا على أَنَّ الْفَاسِقَ لا يَلِي. أحدهما: أنه لا يزوج كغيره من الفسقة ويزوجهن من دونه من الولاة والحكام. وأصحهما: أنه يزوج تفخيمًا لشانه، ولذلك لم يحكم بانعزاله (¬2). الثالث: إذا تاب الفاسق -ذكر صاحب "التهذيب" في هذا الباب أنَّ لَهُ التَّزْوِيجَ في الحال، ولا يشترط معنى مدة الاستبراء والقياس الظاهر، وَهُوَ الْمَذْكُورُ [في الكتاب] (¬3) في "الشهادات" -أنه يعتبر الاستبراء لعود الولاية حَيْثُ يعتبر لقبول الشهادة وَسَنفَصِّلُهُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى (¬4). الرَّابعُ: في "تعليق" الشيخ ملكداد القزويني عَنِ الْقَاضِي أبي سعد وجه: أنه إِذَا لَمْ نُلْبِثِ الْوَلاَيَةَ لِلْفَاسِقِ لم يكن له أن ينكح لنفسه أيضًا، وَالصَّحِيْحُ خِلافُهُ؛ لأنَّ غايته أن يضر بنفسه، وَيُحْتَمَل في حَقِّ نَفْسِهِ مَا لاَ يُحْتَمَلُ في حَقِّ غَيْرِهِ، وَلهَذَا يقبل إقراره عَلَى نَفْسِهِ، ولا تقبل شهادته على غيره. الْخَامِسُ: ذَكَرَ أبُو الْحَسَنِ العبادي وجهين في أنّا هل نثبت الولاية لذوي الْحِرَفِ الدَّنِيَّةِ إذا لم نثبتها للفاسق. وقوله في "الْكِتَابِ": "والفسق يَسْلُبُ الولاية" معلم بالحاء والميم. ¬
وقوله: "عَلَى أَضْعَفِ الْقَوْلَيْنِ" [معلم] (¬1) بالواو للطرق النافية للخلاف وسماه أضعف القولين؛ تَرْجِيحًا لقولنا أَنَّ الْفَاسِقَ يلي وبه يفتي أكْثَرُ مَتَأَخِرِي الأَصْحَاب لا سيما الخُرَاسَانِيُّونَ وَاخْتَارَهُ القاضي الرُّوْيَانِيُّ بعدما ذَكَرَ هُوَ وَغَيْرُهُ أَنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ لا وَلاَيَةَ لَهُ، وَاحْتَجَّ مَنْ نصر إثبات الولاية بأن العضل فسق. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى أَنَّهُ تنتقل الولاية إلى الْقَاضِي دُونَ الأَبْعَدِ وقد يعترض عليه من وُجُوهٍ: أحدها: أن الحَنَّاطِيَّ حكاه في كتابه وجهًا: أَنَّ الْفِسْقَ أيضًا ينقل الولاية إلى السُّلْطَانِ. والثَّاني: أَنَّ المذكور في العضل رُبَّما كانَ جَوَابًا عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ يلي. والثالث: أَنَّ الْفِسْقَ إِنَّما يتحقق بارتكاب الكَبِيْرَةِ أو الإِصرار على الصَّغِيْرَةِ والعضل ليس من الكبائر، وَإِنَّما يفسق به إذا عضل مرات أقَلها فيما حَكى بعضهم ثلاث، وَحِيْنَئِذٍ فالولاية للأَبْعَدِ إِذَا جَعَلْنَا الْفِسْقَ سَالِبًا لِلْوَلاَيَةِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الكافر يلي تَزْوِيجُ ابْنَتِهِ الْكَافِرَةِ؛ لأنَّهُ أَقْرَبُ نَاظِرٍ، وهذا إذا كان لا يرتكب محظور في دينه، فإن كان يرتكبه فتزويج ابنته كتزوِيج الْمُسْلِمِ الفاسق ابنته وعن الْحَلِيْمِيِّ: أَنَّ الْكَافِرَ لا يلي التزويج، وَإِذَا أرَادَ مسلم أنْ يتزوج بذمية زوجها منه القاضي. والمذهب الأول -وفرقوا بين الولاية والشهادة حيث لا تقبل شهادة الكافر، وَإِنْ كَانَ لا يَرْتَكِبُ مَحْظُورَ في دِيْنِهِ بأن الشهادة تخص ولاية على الغير، فلا يؤهل لها الكافر والولي في التزويج كما يرعى حظ المولية يرعى حق نفسه أيضًا بتحصينها ودفع الْعَارِ عَنْ النَّسَب، واختلاف الدِّيْنِ يمنع الموالاة والتوارث فلا يمنع يزوج المسلمة قريبها الكافر، بل يزوجها الأَبْعَدُ من أولياء النَّسَبِ أو الولاء أو السلطان (¬2). ¬
ولا يزوج الكافرة قريبها المسلم، بل الأبعد الكافر وإن لم يكن زوجها قاضي المسلمين بالولاية العامة، فإن لم يكن هناك قاضٍ للمسلمين. حكى الإِمام عن إشارة صاحب "التَّقْرِيْبِ" أنه يجوز للمسلم قبول نِكَاحِهَا من قاضيهم والظاهر المنع. وهل يزوج اليهودي النصرانية يمكن أن يلحق بالميراث ويمكن أَنْ يَمْنَعَ؛ لأن اختلاف المِلَلِ وإن كانت باطلة منشأ العداوة وسقوط النظر، والمرتد لا ولاية له على [المسلمة] (¬1) ولا على الكافرة وَلاَ عَلَى الْمُرْتَدَّةِ -قَالَهُ في "التتمة" (¬2). قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرَّابِعُ) الإِحْرَامُ يَسْلُبُ (ح م) عِبَارَةَ العَقَدْ رَأْسًا، وَهَلْ يَمْنَعُ مِنَ الانْعِقَادِ بِشَهَادَةٍ وَمِنَ الرَّجْعَةِ وَبَعْدَ التَّحَلُّلِ الأَوَّلِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ، وَقِيلَ: إنَّهُ لاَ يَسْلُبُ بَلْ يُنْقَلُ إِلَى السُّلْطَانِ كَالغَيْبَةِ (ح م) إِلى مَسَافةِ القَصْرِ عَلَى وَجْهٍ، أَوْ مَسَافَةِ العَدْوَى عَلَى وَجْهٍ حَتَّى لاَ يَنْعَزِلَ وَكِيلُ المُحْرِمِ، كَمَا لاَ يَنْعَزِلُ وَكِيلُ الغَائِبِ، وَإِنْ كَانَ الأَظْهَرُ أَنَّ الوَّكِيلَ لاَ يتَعَاطَى فِي حَالَةِ إِحْرَامِ المُوَكِّلِ بَلْ بَعْدَهُ. قال الرَّافِعِيُّ: هَذَا الْكَلاَمُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَسْأَلَتَينِ: إحداهما: إحْرَامُ المتعاقدين، والمرأة يمنع صحة النِّكَاحِ خلافًا لأبي حَنِيْفَةَ -رَحِمَه اللهُ- (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وعن مالك -رَضِي اللهُ عَنْهُ- أنه ينعقد ثم يفرق بينهما بطلقة. دليلنا ما رُوِي عَن عُثْمَانَ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لاَ يَنْكِحُ الْمُحْرِم وَلاَ يُنْكَحُ" (¬1). وَهَذَا إِذَا كَانَ المزوج غير الإِمام والقاضي وفيهما وجهان: أحدهما: أَنَّ لَهُمَا التزويج في الإِحْرَامِ لِقُوَّةِ وِلاَيَتهِمَا. وَأَصَحُّهِمَا: الْمَنْعُ (¬2) لإِطْلاَقِ الخبر. ¬
ثم أثر الإِحرام ماذا. فيه وجهان: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَثَرَه سلب الولاية، وَنَقَلَهَا إلى الأبعد كالجنون. وأظهرهما: أَنَّ أَثَرَهُ مجرد الامتناع دُونَ زَوَالِ الوَلاَيَةِ لبقاء الرُّشْدِ وَالنَّظَرِ، وعلى هذا فيزوج السلطان كما في صورة الغيبة ولا فَرْقَ بَيْنَ أنْ يَكُونَ الإِحْرَامُ بالحج، أَوْ بالْعُمْرَةِ، ولا بين أنْ يَكُونَ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا. وحكى الحَنَّاطِيُّ وجهًا: أنَّ الإِحْرَامَ الْفَاسِدَ لا يمنع صحة النِّكَاحِ وفي انعقاد النِّكَاحِ بشهادة المحرم وجهان. قال الإِصْطَخْرِيُّ: لا ينعقد، لأَنَّهُ روي في بعض الروايات: "لا ينكح المحرم ولا يشهد" (¬1). وَالأَظْهَرُ الانْعِقَادُ؛ لأنَّهُ ليس بعاقد ولا مَعْقُودٍ عليه لَكِنَّ الأَوْلَى أن لا يحضر، وَفِي جَوَازِ الرَّجْعَةِ فِي الإِحْرَامِ وجهان: أحدهما: الْمَنْعُ كَابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وأصحهما: الْجَوَازُ؛ لأَنَّها استدامة، فَأَشْبَهَتِ الإِمْسَاكُ في دَوَام النِّكَاحِ، وقد يبنى هذا الخلاف على أَنَّ الرَّجْعَةَ هل تفتقر إلى حُضُورِ الشُّهُودِ، فَإِنْ قلنا: نعم -أجريناها مَجْرَى الابتداء. وفي جَوَازِ النِّكَاحِ بين التحللين قَوْلاَنِ مَذْكُورَانِ في "الحج" بشرحهما. وَلَوْ أَنَّ صَاحِبَ "الكِتَاب" اكتفى بما سبق عن إعادته هنا لَجَازَ ومن فاته الحج، فهل له أن ينكح قبل التحلل بعمل عمرة، فيه وجهان رَوَاهُمَا الحَنَّاطِيُّ، ولو وكل حلال حلالاً بالتزويج، ثم أحرم أحدهما، أو أحرمت المرأة، ففي انعزال الوكيل وجهان بناءً على الخلاف السَّابِقِ في أَنَّ الإِحْرَامَ هل يزيل الولاية أم لا، والظاهر أنه لا [ينعزل] (¬2)، حَتَّى يَجُوزَ لَهُ التزويج بعد التحَلل بالوكالة السابقة، وَهَلْ لَهُ التزويج قبل تحلل الموكل أثبت صَاحِب "الْكِتَابِ" فيه وجهين حَيْثُ قَالَ: "وإن كان الأظهر [أن الوكيل] (¬3) لاَ يَتَعَاطَى في حالة إحرام المَوكل بل بعده"، وَلَمْ أَرَ للخلاف ذكرًا، فيما عثرت عليه مِنْ كُتُبِ الأَصْحَاب، ولم يتعرض له في "الوسيط"، ولا ذكره الإمام وإنما قَالاَ: قال الصَّيْدَلاَنِيّ لا يزوج الوكيل؛ لأن تنفيد تصرف النائب مع عجز الأصل بعيد، وهذا لا يوجب الخلاف، ولو جَرَى التَّوْكِيل في حال إحرام الموكل أو الوكيل أو المرأة، فينظر إن وكل ¬
ليعقد في حال الإِحرام لَم يَصِحْ وَإِنْ قال ليزوج بعد التحلل [صَحَّ] (¬1)؛ لأن الإِحرام يمنع العقد دُونَ الإِذْنِ، ومن ألحق الإِحرام بالجنون لم يصححه في حال إحرام الموكل. وَلَو أَطْلَقَ التَّوْكِيلُ، فَهُوَ كالتقييد بما بعد التحلل، وَلَو قَالَ: إذا حَصَلَ التَّحْلُّلُ، فَقَد وَكَّلْتُكَ فهنا تعليق الوكالة، وقد سبق الخلاف فيه وإذن المرأة في حال إحرامها على التفصيل المذكور في التوكيل، ولو وكل حلال محرمًا ليوكل حلالاً بالتزويج، فَأصَحُّ الوجهين الجواز؛ لأنه سفير محض لَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَقْدِ شَيء: واعلم أَنَّ إيْرَادَ الْكِتَابِ يشعر بترجيح الوجه الصائر إلى أن الإِحرام يزيل الولاية، ويوجب النَّقْلَ إلى الأبعد وانعزال الوكيل، والأقرب عند الأكثرين خلافه كما بَيَّنَّا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذا لم يكن الولي الأَقْرَبُ حاضرًا ينظر، فَإنْ كَانَ مفقودًا لا يعرف مكانه ولا موته ولا حياته، فيزوجها السلطان، لأَنَّ نِكَاحَهَا قَدْ تُعَذَّرَ من جهته، فَأشْبَهَ ما إذا عضل، وإِذَا انتهى الأَمْرُ إلى غاية يحكم فيها بالموت، ويقسم ماله بين ورثته على ما بَيَّنَّا في "الفرائض"، فَلا بُدَّ من نقل الولاية إلى الأبعد، وإن كان غائبًا يعرف مكانه، فان كانت الغيبة إلى مسافة تقصر فيها الصلاة، فيزوجها السُّلْطَانُ أيضًا، ولا يزوج الأبعد؛ لأن الغائب ولي بدليل: أَنَّهُ لو كان له وَكِيْلٌ لا ينعزل ويصح تزويجه في الغيبة، والتَّزْوِيجُ حَقٌّ عليه، فإذا تعذر استيفاؤه منه ناب عنه القاضي. وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ فيما روى الحَنَّاطِيُّ أنَّ الغَيْبَةَ تنقل الولاية إلى الأَبْعَدِ كالجنون. وَحَكَى القَاضِي ابنُ كَجٍّ عن القاضي أبي حَامِدٍ سماعًا: أنه يفرق بين الملوك وأكابر الناس، فتعتبر مراجعتهم، وبين التُّجَّارِ، وأوساط الناس فلا تعتبر، وظاهر المذهب الأول. وإن كانت الغيبة إلى مسافة لا تَقْصُرُ فيها الصَّلاَةُ فوجهان: أحدهما: أَنَّ الْحُكْمَ كما في المسافة الطويلة؛ لأنَّ التزويج حق لها، وَقَد يَفُوتُ الكُفْء الراغب بالتأخير، فتتضرر به وهو ظاهر لَفْظِ "الْمُخْتَصَرِ" فإنه قال: "وإن كان أولاهم مفقودًا أو غائبًا غيبة بعيدة كانت، أو قريبة زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ". وأظهرهما: ويحكى عن نَصِّهِ في "الإِملاء": أنها لا تزوج حَتَّى تُرَاجَعَ فتحضر، أو توكل؛ لأنَّ الغيبة إلى المسافة القصيرة كالإِقامة، ولو كان مقيمًا في الْبَلَدِ لم يُزَوِّجْهَا الحاكم، فكذلك هاهنا ولفظًا "الْمُخْتَصَرِ" محمول عَلى بعد مدة الغيبة وقربها دون المسافة. هكذا ذكر العراقيون من الوجهين أصحابنا وأخرون وفضل مفصلون فقالوا: إن غاب إلى حيث لا تُقْصَرُ فيه الصَّلاَةُ نُظِرَ إن كان بحيث أن يتمكن المبكر إليه من الرجوع ¬
إلى منزله قبل مجيء الليل فَلا بُدَّ من مراجعته قطعًا، والوجهان فيما يجاوز ذلك، وهذا ما أورده صَاحِبُ "الْكِتَابِ" وإذا جمعت بين الطرفين تحصلت على ثلاثة أَوْجُهٍ ثَالِثُهَا الْفَرْقُ. وقال أَبُو حَنِيْفَةَ وَأَحْمَدُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: إن كانت الغيبة منقطعة انتقلت الْوَلاَيَةُ إلى الأبعد، والغيبة المنقطعة [أن تكون] (¬1) بحيث [تصل القوافل] (¬2) إليه في السنة إلاَّ مَرَّةً، وفي تفسيرها رِوَايَاتٌ أُخَرُ. وقَوْلُهُ في الْكِتَابِ: "كَالْغَيْبَةِ إِلى مَسَافَةِ الْقَصْرِ على وجه، أو على مسافة العدوى على وجه" ومسافة العدوى، فيما فَسَّرَ الإِمام غيره، وهي التي يمكن قطعها في اليوم الواحد ذِهَابًا وإِيَابًا كما قدمنا، وَأَمَّا لَفْظُ "العدوى" -ففي "الصِّحَاحِ" أنه الاسم من الإِعداء وَهِي الْمَعُونَةُ. يُقَالُ: أعدى الأَمْيِرُ فلانًا على فُلاَنٍ، أي: أَعَانَهُ عَلَيْهِ -وَالْعَدْوَى أَيْضًا ما يعدى من جرب وغيره وَهُوَ مُجَاوزته من صاحبه إلى غيره، فَقِيْلَ لهذه المسافة مسافة العدوى؛ لأنَّ الْقَاضِي يعدي من استعداه على الغائب إليها، فيحضره ويمكن أنْ يُجْعَلَ مِنَ الإعْداء بالمعنى الثَّانِي لسهولة المجاوزة من أَحَدِ الموْضِعَيْنِ، إلى الآخر. وإذا عرف ذلك، فمن حق هذا التَّفْسِيْرِ أن نقول: أو فوق مَسَافَةِ العدوى في وجه؛ لأَنَّ الغيبة إلى الحد المذكور لا عبرة بها على هذا الوجه، وَقَدْ ألحق لفظة فوق في النسخ المحدثة باللفظ. وَقَالَ فِي "الْوَسْيِطِ": السُّلْطَانُ يزوج إذا كَانَتْ الغيبة فوق مسافة الْقَصْرِ، ولا يزوج إِذَا كَانَتْ دون مَسَافَةِ العدوى، وفيما بينهما وجهان، ولفظة "دون" على التَّفْسِيرِ المذكور مَطْرَحُةُ. ولفظة "فوق" في مسافة الْقَصْرِ غير محتاج إليها. فَرْعٌ: عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ السُلْطَانَ لا يزوج الَّتِي تدعي غيبة وليها، حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ لَيْسَ لهَا وَلِيٌ حَاضِر، وأنها خَلِيَّةٌ عَنِ النِّكَاحِ والعدة، وَاخْتَلَفَ الأَصْحَابُ. فمن قائل أَنَّهُ واجب احتياطاً للأبضاع إذ لا يؤمن أن يكون الولي قد زوجها في غيبته. من قائل إنه مجبوب ويجوز التَّعْوِيلُ على قولها، فإنَّ الرُّجُوعَ في العقود إلى قول أَرْبَابِهَا وعلى هذا فلو ألحت على المطالبة، ورأى السُّلْطَانُ التَّأْخِيرَ هَلْ لَهُ وَذَلِكَ. فيه وجهان: رواهما الإِمَامُ عَنِ الأُصُولِيِّينَ، وَلاَ يُقْبَلُ فِي هَذَا الْبَابِ إلاَّ شَهَادَةُ من يطلع على باطن حالها كما في شهادة الإِعْسَارِ، وحصر الورثة، وإن كَانَ الولي الغائب ¬
الفصل الرابع في تولي طرفي العقد
ممن لا يزوج إلاَّ بالإِذن فقالت: ما أذنت له، فَلْلِقَاضِي تَحْلِيفُهَا عَلَى نَفْي الإِذْنِ (¬1) والأولى أن يأذن الْقَاضِيُ للأبعد إِذَا غَابَ الأَقْرَبُ الْغَيْبَةَ الْمُعْتَبَرَةَ، حَتَّى يزوج أو يزوج القاضي بإذن الأَبْعَدِ للخروج من الخلاف، واللهُ أعْلَمُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الرَّابعُ فِي تَوَلِّي طَرَفَي العَقْدِ) وَالأَبُ يَتَوَلَّى طَرَفَي العَقْدِ فِي مَالِ طِفْلِهِ، وَلاَ يَتَوَلَّى الجَدُّ (ح م) طَرَفَي النِّكَاحِ عَلَى حَافِدِيهِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لِلتَّعَبُّدِ، وَالقَاضِي وَالمُعْتِقُ وَابْنُ العَمِّ لَيْسَ لَهُمْ (ح م و) تَوَلِّي طَرَفَي النِّكَاحِ، وَلاَ يَكْفِيهِمُ التَّوْكِيلُ بَلْ يُزَوَّجُ مِنْهُمُ الحَاكِمُ، وَالإِمَامُ الأَعْظَمُ يَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ عَلَى وَجْهٍ وَالوَكِيلُ مِنَ الجَانِبَيْنِ لاَ يَتَوَلَّى طَرَفَي البَيْعِ وَالنِّكَاحِ (ح). قال الرَّافعِيُّ: قوله: "الأب يتولى طرفي العقد في مال طفله" قد ذكره من قبل، ولم يتولاهما. قيل: لقوة ولايته وكمال شفقته وقيل: لِعُسْرِ مُرَاجَعَهِ السُّلْطَانِ في كُلِّ بَيْعٍ وشراء. وقيل لمجموع المعنيين والجد في ذلك كالأب. ثُمَّ في الفصل مَسَائِلُ: إحداها: هل يتولى الْجَدُّ طرفي النِّكَاحِ في تزويج بنت ابنه الصغيرة أَوِ الْبَالِغَةِ من ابن ابن آخر فيه وجهان: أحدهما: نَعَمُ -لِقُوَّةِ وِلاَيَتِهِ. والثَّانِي: لا؛ لأَنَّ خطاب الإِنسان مع نفسه لا ينتظم، لاانما جوزنا في البيع لكثرة وقوعه، وأيضًا فقد رُوِيَ مرفوعًا وموقوفًا أنَّهُ لا نِّكَاحَ إلاَّ بأرْبَعَةٍ: خَاطِبٌ وَوَليٌّ وَشَاهِدَينِ. والوجه الأولى: هو اختيار ابن الْحَدَّادِ والقَفَّالِ وَصَاحِبِ "الشَّامِلِ". والثاني: اخْتِيَارُ صَاحِبِ "التَّلْخِيصِ، وجماعة من المتأخرين (¬2). فإن قلنا إنه يتولى الطرفين، فيشترط الإِتيان بشقي العقد أم يكفي أحدهما؟. فِيْهِ خِلاَفٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْخِلاَفِ فِي الْبَيْع إذا تولى طرفيه، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ في كتاب "الْبَيْعِ" وَالنِّكَاحِ أَوْلَى باعتبارهما لما خص به من التعبدات، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابنُ الْحَدَّادِ. فإن قلنا: لا يتولاهما فإن كانت بالغة فيزوجها السلطان بإذنها ويقبل الجَدُّ النِّكَاح ¬
وإن كانت صغيرة وَجَبَ الصَّبْرُ إلى أن تبلغ فتأذن أو يبلغ الصغير فيقبل. وكذلك حَكَى الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وغيره وَذَكَرَ الإِمَامُ تفريعًا على مَنْعِ التَّوْكِيلِ أَنَّهُ يرفع الأمر إلى السُّلْطَانَ، حَتَّى يتولى أحد الطرفين ويحتمل أَنْ يُقَالَ: يتخير ويتولى ما شاء منهما، ويحتمل أن يقال: يأتي بما يستدعيه الْوَلِيُّ. وهذا إن كان مَفْروضًا فيما إذا كان ابنُ الابنِ صغيرًا، فَهُو مخالف للأصل المقرر أن غير الأب وَالْجَدِّ لا يزوج الصغيرة والابن الصغير ولكن يمكن فرضه فيما إذا كانت الولاية عليه بسبب الجنون، وَهَلْ لِلْعَمِّ تَزْوِيجُ بِنْتِ أَخِيْهِ وَلابْنِ الْعَمِّ تزويج بِنْتِ الْعَمِّ مِنَ الابْنِ الْبَالِغِ فَيْهِ هنا وَجْهَانِ: أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ؛ لأنَّهُ لَمْ يُوجَدْ تَوَلِّي الطَّرَفَيْنِ. والثَّانِي: لا؛ لأنَّهُ متهم في حَقِّ وَلَدِهِ وَرُبَّمَا عَرَفَ فِيْهِ مَنْفَعَةً فأخفاها، ومنهم مَنْ قَطَعَ بِالأَوَّلِ وَاسْتَشْهَدَ بهِ لِلْوَجْهِ الذَّاهِبِ إِلَى تَجْويْزِ بَيْع الوكيل المطلق من ابنه، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ في "الوكالة" وَهَذَا إذا أَطلقت الإِذن وَجَوَّزْنَاهُ، فأَمَّا إذا أذنت في التزويج منه فلا كَلاَمَ في جَوَازِهِ وإن زوجها من ابنه الطفَل، فإن لم نجيز في البالغ فَهَا هُنَّا أوْلَى، وَإنْ جَوَّزْنَا هناك فهاهنا وجهان. والظاهر: المنع؛ لأنه نكاح يحضره أربعة. المسألة الثَّانِيَةُ: ولي الْمَرْأَةِ إذا كان يجوز له نِكَاحُهَا كابن العم والمعتق والقاضي، وَرَغَب فِي نِكَاحِهَا لم يجز له أن يزوجها من نفسه، فيتولى الطرفين لما مرَ من الخبر، وَلَكِنْ يزوجها من في دَرَجَتِهِ كما إذا كان هناك ابنُ عَمِّ آخَرَ، وإن لم يكن في دَرَجَتْهِ غيره زَوَّجَهَا مِنْهُ الْقَاضِي، وإذا كَانَ الرَّاغِبُ القاضي زوجها منه من فوقه من الولاة، أو خرج إلى قاضي بلدة أُخْرَى ليزوجها منه، أو اسْتَخْلَفَ خَلِيْفَةً إذا كان له الاستخلاف فيزوجها منه -هذا هو ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ، وهو المذكور في الكتاب هاهنا، وفي ابن العم وَجْهٌ آخَرُ أنه يتولى الطرفين وقد أورده صاحب "الْكِتَاب" في "باب الوكالة"، ويجيء مِثْلُهُ في المعتق وفي القاضي أيضًا وَجْهٌ بَعِيْدٌ، ويقال إِنَّ أبَا يَحْيَى البلخي ذَهَبَ إليه وأنه حين كان قاضيًا بِدِمَشْقَ تزوج امْرَأَةً ولى أمرها من نفسه، وفي الإِمام الأعظم وجهان معروفان: أحدهما: أنَّ له تولي الطرفين؛ لأنه ليس فوقه من يزوجها. وَأَصَحُّهُمَا: المنع فيزوجها القاضيُ منه بالولاية كما يزوج خليفة القاضي من القاضي. ولو أَرَادَ أحد هؤلاء تزويجها من ابنه الصَّغِيْرِ، فَهُوَ كما لو أراد تزويجها مِنْ نَفْسِهِ، وَحَيْثُ جوزنا لأحدهم التزويج من نفسه، فَذَاكَ إذا سمته في إذنها، فأما إذا طَلَبَتِ الإذْنَ وجوزنا، ففيه وَجْهَانِ حكاهما الحَنَّاطِيُّ.
فروع
المسألة الثالثة: من منعناه من تولي الطرفين لو وكل في أحد الطرفين، أو وَكَّلَ شخصين بالطرفين فيه وجهان: أَحَدُهِمَا: أنه يجوز؛ لأن المقصود رِعَايَةُ التعبد في صورة العقد، وقد حصل. وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ؛ لأن فعل الوكيل فعل الموكل، وليس ذلك كتزويج خليفة القاضي من القاضي والقاضي من الإِمام الأعظم، فإنهما يتصَرَّفَانِ بالْوِلاَيَةِ لا بالوكالة، ومنهم من جَوَّزَ للجَدِّ التَّوْكِيلَ، ولم يجوزه لابن الْعَمِّ وَمَنْ في مَعْنَاه؛ لأن الجَدَّ ولي تام الولاية من الطرفين، وابن العم وَليٌّ من طرف وخاطب من طرف. ولو وكل الولي رجلاً ووكله الْخَاطِبُ أيضًا ليتولى التزويج، والتزوج فَفِيْهِ خِلاَفٌ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في "باب الوكالة"، وكذا في "الْبَيْعِ" لَو وَكَّلَ البَائِعُ والمشتري رجلاً، فالأصَحُّ المنع، وبه أَجَابَ هنا، ويجري الْخِلاَفُ فيما لو وكل رجلًا بِأنَّ يزوج ابنته من نفسه. واعلم قوله في الكتاب: "والأب يتولى طرفي البيع" بالحاء؛ لِمَا رُوِيَ عَن أبي حَنيْفَةَ أنَّ الْوَليَّ وَالْوَكِيلَ يتوليان طرفي النِّكَاحِ دون الْبَيْعِ. وقوله: "لا يتولى الجَدُّ طرفي النِّكَاحِ" بالحاء والميم؛ لأَنَّ عندهما يجوز للجَدِّ تولي طرفي النِّكَاحِ. وكذا قوله: "ليس لهم تولي طرفي النِّكَاحِ" بالواو أيضًا لما قَدَّمْنَاهُ. وقوله: "ولا يكفيهم التَّوْكِيلُ"بالواو والألف؛ لأنَّ عند أَحْمَدَ يكفيهم التَّوْكِيلُ. وقوله: "وَالْوَكِيلُ من الجانبين لا يتولى" بالواو. وقوله: "والنِّكَاحُ" بالحاء. فُرُوعٌ: أحدها: هل للسَّيِّدِ تَزْوِيجُ أَمَتِهِ مِنْ عَبِدِهِ الصَّغيرِ؟. إِذا جَوَّزنَا له إجباره فيه وجهان، كتولي الجدَّ طرفي النكاح. الثاني: ابنا عَمِّ أحدهما لأب، والآخر لأب وأم، وَأَرَادَ الأَوَّلُ نِكَاحَهَا يزوجها منه الثاني، وَإِنِ أَرَادَ الثَّانِي نِكَاحَهَا، فَإنْ قُلْنَا إنَّهُمَا يستويان يزوجها منه الأول، وإلاَّ فالقاضي. الثالث: إِذَا قَالَتْ لابْنِ العَمَّ أو المعتق: زَوِّجْنِي أو زوجي مِمَّنْ شئت لم يكن للقاضي تزويجها منه بهذا الإِذن؛ لأنَّ الْمَفْهُومُ منه التزويج من الغير، فَإِنْ قَالَتْ: زَوَّجْنِي مِنْ نَفْسِكَ. حَكى صَاحِبُ "التَّهْذِيبِ" عن بعض الأصحاب: أنه يجوز للقاضي تزويجها منه بذاك الإِذن.
الفصل الخامس في التوكيل
قال: وعندي لا يجوز؛ لأنها إنما أذنت له لا للقاضي. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الخَامِسُ في التَّوْكِيلِ)، وَلِلْمُجْبِرِ أنْ يوَكِّلَ وَعَلَيْهِ تَعْيِينُ الزَّوْجِ في قَوْلٍ، وَإِذَا أَذِنَتْ لِغيْرِ الْمُجْبِرِ مِنْ غَيْرِ تَعْيينِ زَوْجٍ جَازَ في أَقْوَى القَوْلَيْنِ، وَإِذَا قَالَتْ: زَوِّجْنِي مِمَّنُ شِئْتَ لَمْ يُزَوِّجْ إِلاَّ مِنْ كُفْءٍ، وَإِذَا مَنَعَتْ غَيْرَ الْمُجْبِرِ مِنَ التَّوْكِيلَ لَمْ يُوَكَّلْ، وَإِنْ أَطْلَقَتِ الإِذْنَ كانَ لَهُ التَّوْكِيلُ فِي أَحَدِ الوَجْهَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: التَّوْكِيلُ بالتزويج، وَالتَّزْوُجُ جائِزٌ لِمَا مَرَّ في كتاب الوكالة، ثم الولي لا يخلو إما أن يكون متمكناً من الإِجبار، أو لا يكون فإن تمكن من الإجبار، فَلَهُ التَّوْكِيلُ من غير إذن الْمَرْأَةِ. وفي كتاب الحَنَّاطِيِّ وجه: أنه لا بُدَّ من إذنها وعلى هذا فلو كانت صغيرة امتنع التوكيل بتزويجها، وهكذا حَكَى القَاضِي ابنُ كَجٍّ عن رواية القاضي أَبِي حَامِدٍ وَالْمَذْهَبُ الأَوَّلُ. وإذا وكل فهل يشترط تَعْيِينُ الزوج؟. فيه قولان -ويقال وجهان: أحدهما: ويحكى عن نصِّهِ في "الإِملاء"-: نَعَمْ لإختلافِ الأَغْرَاضِ باختلاف الأزواج، وليس للوكيل شفقة داعية إلى حُسْنِ الاخْتِيَارِ. وأصحهما: أنَّهُ لا يشترط؛ لأنه يَمْلِكُ التَّعْييْنَ في التوكيل، فيملك الإِطلاق كما في "البيع"، وسائر التصرفات، وشفقته تدعوه إلى ألا يوكل إلاَّ من يثق بنظره واختياره، وأجرى هذا الخلاف في إذن الثَّيِّب في النِّكَاح وفي إذن الْبِكْرِ لغير الأب والجد هل يشترط فيه التعيين. ومنهم من قطع هاهنا بعَدَمِ الاشْتِرَاطِ فرقًا بِأَنَّ الأِذْنَ للولي يصادف من يعتني بدفع الْعَارِ عن النَسَبِ، ويحافظ على المصلحة، والتفويض إلى الوكيل بخلافه قَالَ الإِمَامُ: وَظَاهِرُ كَلاَمِ الأَصْحَابِ يقتضي طَرْدُ الْخِلاَفِ، وإن رَضيتِ الْمَرْأَةُ بترك الكفاءة لكَن الْقِيَاسَ تخصيص الخلاَفِ فيما إذا لم تَرْضَ به، فَأَمَّا إذا أسقطت الْكَفَاءَةَ، ولم تطلب الحظ، فلا معنى لإعتبار التعيين، وإن جَوَّزْنَا التَّوْكِيلُ الْمُطْلَق فَعَلَى الْوَكِيلِ رِعَايَة النَّظَرِ، فَلَو زَوَّجَ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ لَمْ يَصْح. وفي كِتَاب القاضي ابنُ كَجٍّ وَجْهٌ آخَرُ: أنه يصح، ولها الْخِيَارُ فإن كانت صغيرة خُيِّرَتْ عَنْدَ البُلُوغ، ولو خطب كفئان وأحدهما أشرف فزوج من الآخر لم يصح، وإذا جوزنا الإِذن المطلق فلو قالت: زوجني مِمَّنْ شِئْتَ، فهل له تزويجها من غير كُفْءٍ فيه وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: نَعَمْ -كما لو قالت: زَوِّجْنِي مِمَّن شِئْتَ كُفئًا كان، أو غير كفء، وهذا أظهر عند الإمام، وأبي الْفَرَجِ السَّرْخَسِيِّ وَغَيْرِهِمَا. والثَّانِي: وهو المذكور في الكتاب: أنه لا يجوز؛ لأنَّ الكْفَاءَةَ لا تهمل ظاهرًا، وَكَأنَّهَا قالت: زَوِّجْنِي مِمَّنْ شِئْتَ من الأكفاء وهذا إذا كان الولي متمكنًا من الإِجبار، فأمَّا إِذَا لَمْ يَكُن إمًا؛ لأنه غَيرُ الأبَ والجد، أَوَ لأَنَّهَا ثَيِّب فهاهنا صور: إحْدَاهَا: إذا نهت عن التوكيل لم يكن له التوكيل؛ لأنها إنما تزوج بالإِذن، ولم يأذن في تزويج الوكيل. والثَّانِيَة: أذنت في التزويج، وفي التوكيل في التزويج فله كل [واحد] (¬1) منهما. والثَّالِثَةَ: قَالَتْ وكل بتزويجي واقتصرت عليه فله التوكيل وهل له أن يزوج بنفسه؟. فيه خلاف، وجه الجواز أنه يَبْعُدُ مَنْعُهُ مما له التوكيل فيه، وَكَانَ هَذَا أَظْهَرُ؛ لأنه قال في "النّهَايَةِ" لو قالت: أذنت لك في التوكيل بتزويجي، ولا تزوجني بنفسك، فَالَّذِي ذَهَبَ إليه الأئَمَّةُ أَنَّهُ لا يَصِحُّ الإِذْنُ على هذا الوجه؛ لأنَّهَا مَنَعَتِ الْوَلِيَّ، وَرَدَّتِ التَّزْوِيجُ إلى الوكيل الأجنبي، فأشبه التفويض إليه ابتداء. والرابعة: أذنت له في التزويج هل له التوكيل؟. فيه وجهان: أحدهما: المنع؛ لأنه مَنْصَرِفٌ بالإِذن، فلا يوكل إلاَّ بالإِذن كالوكيل. وأصحهما: نعم؛ لأنه متصرفُ بالولاية فأشبه الوصي، والقيم يتمكنان من ولاية التوكيل من غير إذن، ولو أنه وكل من غير مراجعة المرأة واستئذانها فَوَجْهَانِ: أصحهما: على ما ذكر صَاحِبُ "التَّهْذِيبُ" [وغيره] (¬2) أنه لا يجوز؛ لأنَّهُ لا يملك التَّزْوِيْجَ بِنَفْسِهِ حِيْنَئِذٍ فكيف يوكل غيره. والثاني: يجوز؛ لأنه يلي تزويجها بشرط الإِذن، فَلَهُ تَفْوِيضُ ماله إلى غيره، وعلى هذا فيستأذن الولي أو الوكيل للولي، ثُمَّ يزوج، ولا يَجُوزُ أن يستأذن لنفسه، ثُمَّ إِذَا وَكَّلَ غَيْرُ المجبر بعد إذن المرأة هل يشترط تعيين الزوج إن أطلقت المرأة الإِذن، ففيه وجهان كما في توكيل المجبر. قال الإِمَامُ -رحمه الله-: وإذا كَانَتْ قَدْ عَيَّنَتَ الزَّوْجَ [سَوَاءً] (¬3) اعْتَبَرْنَا التَّعْيِيْنَ في ¬
[فصل في بيان لفظ الوكيل في عقد النكاح]
الإِذن أو لم نعتبره، فليذكر الولي للوكيل الزوج؛ فإن لم يفعل وزوج الوكيل من غيره لم يصح، وإن اتفق التزويج منه. قال: الأَظَهَرُ عندنا أنَّهُ لاَ يَصِحُّ التَّزْوِيجُ؛ لأَنَّ التفويض مطلق، والمطلوب معين فاسد، وَهَذَا كما لو وكل الولي ببيع مَالِ الطِّفْلِ بما عَزَّ وَهَانَ، فباع بالغبطة، فإنه لا يصح لفساد صيغة التفويض، ولك أن تفرق بينهما بأن قوله "بما عَزَّ وَهَانَ" إذن صريح في البيع الممتنع شرعاً. وقوله: وَكَّلْتُكَ بتزويجها لا تصريح فيه بالنِّكَاحِ الْمُمْتَنَعِ وَإِنَّمَا هُوَ لَفْظٌ مُطْلَقٌ، وكما يتقيد بالكفء جاز أن يتقيد بالكفء بالمعين وليعلم قوله في الكتاب: "وللولي الْمُجْبَرِ أن يوكل" بالواو. وقوله: " [أقوى] (¬1) في القولين" بالواو للطريقة [القاطعة بِعَدَمِ الاشْتِرَاطِ، وقوله: "لم تزوج إلاَّ مِنْ كُفْءٍ" بالواو] (¬2) أيضًا وكل ذلك لما قدمناه وقوله: "وإن أطلقت الإِذن"، أي: في التزويج أما إذا أَذَنَتْ في التَّوْكِيل فَلَهُ التَّوكِيلُ لاَ مَحَالَةَ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلْيَقُلِ الوَلِيُّ لِلْوَكِيلِ بالقَبُول: زَوَّجْتُ مِنْ فُلاَنٍ وَلاَ يَقُولُ: زَوَّجْتُ مِنْكَ، وَيقُولُ الوَكِيلُ: قَبِلْتُ لِفُلاَنٍ فَلَوْ قَالَ: قَبِلْتُ لَمْ يَكْفِ فِي أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَلَوْ قِبَلَ نِكَاحًا وَنَوَى مُوَكِّلَهُ لَمْ يقَعُ لِلمُوَكِّلِ بِخِلاَفِ البَيْعَ. [فصل في بيان لفظ الوكيل في عقد النكاح] قال الرَّافِعِيُّ: مَقْصُودُ الْفَصْلِ بَيَانُ لَفْظِ "الْوَكِيلِ" في عَقْدِ النِّكَاحِ، فَإِذَا كان يزوج وكيل الولي من الخاطب، فيقول: زَوَّجْتُ بِنْتَ فُلاَنٍ مِنْكَ، وإذا كان يزوج الولي ويقبل وكيل الخاطب، فيقول: زَوَّجْتُ بِنتِي مِنْ فُلاَنٍ، ويقول الْوَكِيلِ: "قَبْلِتُ نِكَاحَهَا له"، فلو لم يَقُل "لَهُ"، فعلى الوجْهَيْنِ الْمَذْكُورَينِ فيما إذا قَالَ الزَّوْجُ: "قَبِلْتُ" ولم يَقُلْ "نكاحها أو تزويجها". ولو قال: زَوَّجْتُ بِنْتِي مِنْكَ، فقال: "قَبِلْتُ نِكَاحَهَا لِفُلاَنٍ" لم ينعقد وَإِنْ قَالَ: "قَبِلْتُ نِكَاحَهَا" وقع العقد لِلْوَكِيلِ، وَلَمْ يَنْصَرِفْ بِالنِّيَّةِ إِلَى المُوَكِّلِ. وَلَو جَرَى النِّكَاحُ من الوكيلين، فقال وكيل الولي: زَوَّجْتُ فُلانَةً مِنْ فَلاَنٍ، وقال وكيل الْخَاطِبِ: قَبلِتُ نِكَاحَهَا لِفُلاَنٍ يصح وفي "البيع" يَجُوزُ أنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِوَكِيلِ الْمُشْتَرِي: بعت منك، ويقول [الوكيل] (¬3) اشتريت، وينوي موكله، فيقع العقد له، وإن لم يسمه وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِوَجْهَيْنِ: ¬
أحدهما: أنَّ الزَّوْجَيْنِ في النِّكَاح بمثابة الثَّمَنِ والمثمن في البيع وَلاَ بُدَّ من تسمية الثَّمَنِ والمثمن في الْبَيْعِ فَلاَ بُدَّ من تَسمِيَةِ الزَّوْجَيْنِ في النِّكَاحِ. والثاني: أَنَّ الْبَيْعَ يرد على المال وأنه يقبل النقل من شَخْصٍ إلى شَخْصٍ، فيجوز أن يَقَعَ الْعَقْدُ للوكيل، ثم ينتقل إلى الموكل والنِّكَاحُ يرد على البضع، وأَنه لا يقبل النقل، ولهذا لو قبل النِّكَاحَ وِكَالَةً عن غَيْرِهِ، وأنكر ذلك الغير الوكالة لا يصح النِّكَاحُ. ولو اشترى بالوِكَالَةِ وَأَنْكَرَ الوِكَالَةَ وَقَعَ الْعَقْدُ لِلْوَكِيلِ. ولو قال وَكِيلُ الزَّوْجِ أَوَّلاً: قَبِلْتُ نِكَاحَ فُلانَةٍ مِنْكَ لِفُلاَنٍ. ثم قال وَكِيلُ الوَلِيِّ: زوجتها من فُلاَنٍ جاز، ولو اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ زَوَّجْتُهَا ولم يقل مِنْ فُلاَنٍ، فَعَلَى الخلاف السابق، وإذا قَبِلَ الأَبُ النِّكَاحُ لابنه بالوِلاَيَةِ فيقول المُزَوِّجْ: زوجت فلانة من ابنك ويقول الأب: قَبِلْتُ النِّكَاحَ لابني، وهذا كله؛ لأَنَّ التزويج يقع من الموكل والوالي، عليه لا مِن الْخَاطِبِ، والبيع يتعلق بالمخاطب دون من له العقد كما بَيَّنَّا في "الوكالة". ولهذا لو قال: زوجها من زيد، فقبل النِّكَاحَ لِزَيْدٍ وكيله صَحَّ، ولو حَلَفَ ألاَّ ينكح فقبل له وكيله يحنث، فلو قال: بع من زيد فَبَاعَ من وكيل زيد لا يصح، ولو حلف لا يشتري فاشترى له وكيله لم يحنث. وَهَذِهِ صُوَرٌ أُخَرُ، فيما يتعلق بالتوكيل إذا كانت ابنته منكوحة أو معتدة، فقال: إِذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، وانقضت عِدَّتُهَا، فقد وكلتك بتزويجها، ففي "التَّهْذِيْبِ" أنه على القولين كما لو قال: إذا مضت سَنَةٌ فقد وَكَّلْتُكَ بتزويجها واللهُ أَعْلَمُ. وهذا جواب على أنه لو قال: وكلتك بتزوج ابنتي إذا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا يصح كما إذا قال زوجها: إذا مضت سَنَةٌ؛ لكن في صحة هذا التوكيل وَجْهٌ آخَرُ: وقد ذكرنا حالهما في "الوكالة". ولا يشترط في التوكيل بِالتَّزْوِيجِ ذكر الْمَهْرِ لكن لو سمى قدرًا لم يصح التزويج بما دونه كما لو قال: زوجها في يوم كذا، أو في مكان كذا، فَخَالَفَ الْوَكِيلُ لَم يَصِحْ. ولو أطلق التوكيل فزوج الوكيل بما دون مَهْرِ الْمِثْلِ، أَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمَهْرِ أو نفاه، فيه خلاف نورده في آخر الباب الثاني من "كتاب الصداق"؛ لأن صاحب "الكتاب" ذَكَرَ ما يُقَارِبُ الْمَسْأَلَةَ هناك. ولو وَكَّلَ رجلًا بقبول نِكاَحِ امرأة وسمى مَهْرًا لم يصح القبول بما زاد عليه، وَإنْ لَمْ يسم فليقبل نكاح امرأة تكافئه بمهر المثل، أو أقل فإن قَبِلَ نِكَاحَ من لا تكافئه لم يصح، وإن قبل بأكثر من مهر المثل أو بغير نقد البلد أو بعين من
الفصل السادس فيما يجب على الولي
[أعيان] (¬1) أموال الموكل أو من مال نفسه فوجهان: أحدهما: يَصِحُّ النِّكَاحُ وعلى الموكل مَهْرُ الْمِثْلِ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ. وبه قال أَبُو حَنِيْفَةُ -رَحِمَهُ اللهُ-. والثاني: لا يصح كما لو باع الوكيل [بالبيع] (¬2) بغير نَقْدِ الْبَلَدِ أو بأقل من ثمن المثل. هكذا فَصّلَ الْمَسْأَلَةَ صَاحِبُ "التَّهْذِيبِ" ولك أن تَتَوَقَّفَ فِيْ مَوْضِعَيْنِ: أحدهما: إِطْلاَقُ التوكيل في [قبول] (¬3) نِكَاحِ امرأة؛ لأنه قَدْ مَرَّ أَنَّهُ لو وكله بشراء عَبْدٍ أو ثَوْبٍ، فلا بُدَّ من أن يُفَصِّلَهُ، ويبين نوعه إذا لم يكف الإطلاق هناك فلأن لا يكفي هاهنا بل أولى. والثَّانِي: الحكم بالبُطْلاَنِ إذا قبل نِكَاحَ من لا تكافئه؛ لأنا سنذكر أنَّ للولي أَنْ يزوج من الصغير من لا يكافئه، وإذا جاز ذلك للولي، فليجز للوكيل عند إطْلاَقِ التَّوْكِيلِ. وَلَوْ قَالَ: إقبل لي نِكَاحَ فُلانَةٍ على عَبْدِكَ هذا فَقَبِلَ فالنِّكَاحُ صَحِيْحٌ، وَفِي العَبْدِ وَجْهَانِ: أصحهما: أنَّ الْمَرْأَةَ لا تملكه، بل على الزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ. والثاني: تملكه، وعلى هَذَا فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الزَّوْجِ، أو مَوْهُوبٌ منه ففيه وَجْهَانِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ السَّادِسُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الوَلِيِّ)، وَيجبُ (و) عَلَى الأَخِ الإِجَابَةُ إِذَا طَلَبَتَ النِّكَاحَ إنْ كَانَ مُتَعَيَّنًا، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَخٌ آخَرُ لَمْ يَجَبْ في وَجْهٍ، وَإِنْ عَضَلُوا زَوَّجَ السُّلْطَان، وَعَلَى المُجْبِرِ تَزْوِيجُ المَجْنُونَة إِذَا تَاقَتْ، وَلاَ يَجُوزُ تَزْوِيجٌ مِنَ الصَّغِيرِ، وَلاَ تَزْوِيجُ الصَّغِيرَةِ قَبْلَ البُلُوغِ. قال الرَّافِعِيُّ: الولي إما مجبر أو غيره: إن كان مجبرًا فقد ذَكَرْنَا أنَّ عَلَيْهِ الإِجَابَةَ إلى التزويج إذا الْتَمَسَتِ الْمَرْأَةُ، ويجب عليه تَزْوِيجُ الْمَجْنُونَةِ، والتزويج من المَجنون عَنْدَ مَسِيْسِ الْحَاجَةِ إمَّا بظُهُورِ أَمَارَاتِ التَّوَقَانِ، أو بتوقع الشِّفَاءِ عَنْدَ إِشَارَةِ الأَطِبَّاءِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّزْوِيجُ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ، ولا يزوج البنت الصغيرة؛ لأنَّه لاَ حَاجَةَ في الحَالِ لكن لو ظَهَرَتِ الْغِبْطَةُ في تزويجها، ففي الوجوب نَظَرٌ للإمَامِ، وجه الْوُجُوبِ أنَّهُ يجب عليه بيع مَالِهِ إذا طَالَبَ بزيادة، فكذلك هاهنا، وَقَد يُحْتَجُّ لَه بِمَا رُوِيَ أنَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِعَلِيٍّ -رَضِيَ ¬
اللهُ عَنْهُ: "لا تؤخر أَرْبعًا" (¬1) وذكر منها تَزْوِيجَ "الْبِكْرِ إذا وجدت لها كُفْئًا"، وأجرى التردد في التَّزْوِيجِ من الصَّغِيرِ عَنْدَ ظُهُورِ الْغِبْطَةِ؛ لكن الوُجُوبَ فيه أبعد لما يلزمه من المؤن، وَأمَّا غير المجبر فإن كان متعينًا كأخ واحد وعم واحد، فَعَلَيْهِ الإِجَابَةُ إذا التمست التزويج، كالمجبر ويجيء فيه الْخِلاَفُ المذكور هناك، فيجوز إعْلاَمُ قوله، ويجب على الأخ الإجابة بالواو، وإن لم يكن متعينًا كالأخوة والأعمام والتمست التزويج من بعضهم، ففي الإِجابة وجهان كالوجهين فيما إذا كان في الواقعة شهود، فدعي بعضهم إلى أداء الشهادة، والأظهر وُجُوبُ الإِجَابَةِ وإذا عَضَلَ الوَاحِدُ أو الجماعة، يزوج السُّلطَانُ كما سبق قوله "قبل البلوغ" ضائع. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَيجِبُ حِفْظُ مَالِ الطِّفْلِ وَاسْتِنْمَاؤُهُ قَدْرًا لاَ يَأْكُلُهُ النَّفَقَةَ، فَإنْ تَبَرَّمَ الوَلِيُّ بِهِ فَلَهُ أنْ يَسْتَأجِرَ مَنْ يَعْمَلُ، وَلَهُ أَنْ يَأخُذ أُجْرَةَ يُقَدِّرُهَا القَاضِي لَهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ البَيْعُ إِذَا طَلَبَ مَتَاعَهُ بِزِيَادَةٍ، وَكَذَلِكَ الشِّرَاءُ إِذَا بِيعَ رَخِيصًا إِذَا لَمْ يَشْتَرِ لِنَفْسِهِ، وَإِذَا قَبِلَ النِّكَاحَ لابْنِهِ لَمْ يَصِرْ ضَامِنًا لِلمَهْرِ في الجَدِيدِ، وَإذَا تَبَرَّعَ أَجْنبيُّ بِحِفْظِ مَالِ الطِّفْلِ لَمْ يَكُنْ لِلأَبِ (و) أَخْذُ الأُجْرَةِ، ولَلأُمِّ أُجْرَةُ الإِرْضَاعِ وَإنْ وَجَدْنَا (و) أَجْنَبِيَّةً مُتَبَرِّعَةَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذه المَسَائِلُ وإن كانت متعلقة بتصرف الولِي للطفل؛ لكن لا اختصاص لها بباب النِّكَاحِ إلاَّ بمسالة واحدة وهي: أن الأب إذا قَبِلَ النِّكَاحَ لابْنِهِ هَلْ يَكُونُ ضَامِنًا للِمَهْرِ ولنقدمها فنقول: إذا قَبِلَ لابنه الصغير أو المجنون نكاح امرأة بصداق من مَالِ الابن، فإن كان عينًا فذاك، ولا تعلق له بالأب وإن كان دينًا فقولان: القديم: أنَّ الأَبَ يكون ضامنًا للمهر بالعقد للعرف. والجديد: أَنَّهُ لا يكون ضامنًا إلاَّ أَنْ يَضْمَنَ صريحًا كما لو اشترى لطفله شيئًا يكون الثمن عليه لا على الأب، وتكلموا في موضع القولين من وجهين: [أحدهما] (¬2) قال القَاضِي ابنُ كَجٍّ -رَحِمَهُ اللهُ-: القولان فيما إذا أطلق، فأَمَّا إذا شرط كونه على الابن، فهو على الابن لا غير. والثَّانِي: العراقيون والشيخ أبو علي وعامة الأصحاب خَصُّوْا القولين بما إذا لم يكن للابن مَالٌ، وقطعوا فيما إذا كان له مَالٌ بأن الأب غير ضامن، وَمِنْهُم من طَرَدَ القَوْلَيْنِ في الحالين وهو الموافق لإِطلاق لفظ الكتاب. التفريع: إذا قلنا بالجديد، فلو تبرع بالأداء لم يرجع وكذا الأجنبي وإن ضمن ¬
صريحًا وغرم فقصد الرجوع هاهنا ينزل منزلة إذن المضمون عنه، فَإِنْ ضمن على قصد الرجوع وغرم بقصد الرجوع يرجع، وإلاَّ فعلى الخلاف المذكور في الضَّمَانِ بغير الإِذن، والأداء بغير الإِذن، وإن ضمن بشرط براءة الأصيل فعن القاضي الحَسْين أنّا إن لم نصحح الضمان بشرط براءة الأصيل فهذا ضَمَانٌ بشرط فَاسِدٌ شرط في عقد الصداق، وقد سبق ذكر القولين في أنَّ شَرْطِ الضَّمَانِ الْفَاسِدِ وَالرَّهنُ الْفَاسِدُ في العقد هَلْ يَتَضَمَّنُ فَسَادَ الْعَقْدِ؟ وإن صححنا الضمان بشرط براءة الأصيل فهاهنا يجب أن يكون الشرط فاسدًا؛ لأن العقد يستدعي ثُبُوتَ الْعِوَضِ في ذِمَّةِ الْمَعْقُودِ له، وفي غير هذه الصُّورَةِ الدِّينُ ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌ، فلا يبعد سقوطه، وإذا فسد الشرط ففي فساد الضمان وجهان مذكوران في "الضَّمَانِ". وإذا قلنا بالقديم فغرم. فجواب الشَّيْخِ أبي علي أنه لا يرجع به على الابن كما لا ترجع العاقلة على الجاني؛ لأن كُلَّ وَاحِدٍ منهما غرم لزم بالشَّرْعِ ابتداء. ويحكى مثله عن القاضي الحسين واعترض الإِمام بأن الأب نُصِّب للنظر ورعاية مصلحة الابن، فكيف نجعل نظره وتصرفه موجبًا للمغارم الثقيلة عليه وليس كذلك العاقلة مع الجاني، وتحقق الْفَرْقُ أنه تتوجه المطالبة على الابن ولا تتوجه على الجاني، فعلى هذا يرجع إن قصد الرجوع عند الأداء، وهذا ما أورده صاحب "التَّهْذِيبِ" ولو شرط الأب ألا يكون ضامنًا فعن القاضي الحسين أنه يبطل العقد على القديم. قال الإِمَامُ: وَهَذَا وَهُمٌ مِنَ الآخِذِيْنَ عنه، فإن النِّكَاحَ لا يفسد بمثل ذلك، ولعله قال: يبطل الشرط ويلزم الضمان. ثم في الفصل مَسْأَلَتَانِ: المسألة الأولى: يجب على الولي حفظ مال الطفل وصونه عن أسباب التَّلَفِ، وعليه استنماؤه قدر ما تأكل النفقة والمؤن المال إن أمكن ذلك، ولا يجب عليه المبالغة في الاستنماء، وطلب النهاية فيه، وإذا طلب متاعه بأكثر من ثمنه وجب بيعه. ولو كان شيء يباع بِأَقَلَ مِنْ ثَمَنِهِ، وللطفل مال، وجب أن يشتريه إذا لم يرغب فيه لنفسه. هكذا أطلق الإمام وصاحب "الْكِتَابِ" في الطرفين، ويجب أن يتقيد ذلك بشرط الغِبْطَةِ، بل بالأموال التي هي معدة للتجارة، أما ما يحتاج إلى عينه، فَلاَ سَبِيْلَ إلى بَيْعِهِ، وإن ظَهَرَ طَالِبٌ بالزِّيَادَةِ، وكذا العقار الذي يحصل منه ما يكفيه، وكذلك في طرف الشِّرَاءِ قد يؤخذ الشيء رخيصًا؛ لكنه عرضة للتَّلَفِ أولاً يتيسر بيعه لقلة الرَّاغِبينَ فِيهِ، فيصير كَلاًّ على مَالِكِهِ.
القول في الكفاءة في النكاح
المسألة الثَّانِيَةُ: إِذَا تَبَرَّمَ مَالُ الأَب بِحِفْظِ مَال الطِّفْلِ والتصرف فيه، فله رفع الأَمْرِ إلى القاضي، لينصب قيماً بأجرة، وله أَن ينصب بنفسه. ذكره في "النِّهَايَةِ". ولو طلب من القاضي أن يثبت له أجرًا على عمله، فالذي يوافق كلام أكثر الأصحاب أنه لا يجيبه إليه غنيًا كان أو فقيرًا، إلاَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فَقِّيرًا ينقطع عن كَسْبِهِ فَلَهُ أنْ يأكل منه بالمعروف على ما سبق في "الحَجْر"، وقد ذكر الإمام أن هذا هو الظَّاهِرُ. قال: ويجوز أنْ يُقَالَ: يثبت له أجرًا؛ لأَنَّ له أَنْ يَسْتَأْجِرَ من يعمل فإذا جاز له بذل الأجرة لغيره جاز له طلب الأجرة لنفسه، وبهذا الاحتمال أجاب صَاحِبُ "الْكِتَاب": وَمَنْ قَالَ بِهَذَا قَالَ: لاَ بُدَّ مِن تَقْدِيرِ الْقَاضِي وَلَيْسَ لَهُ الاسْتِقْلاَلُ به، وهذا إذا لم يَكُنْ هناك متبرع بالحفظ والعمل، فإن وجد متبرع وطلب الأب الأجرة، فَقَدُ أَشَارَ في "النَّهَايَةِ" إلى وَجْهَيْنِ أيضًا: أَظْهَرُهُمَا: أَنَّه لا يثبت له أُجْرَة لحُصُولِ الْغَرَضِ مَعَ حِفْظِ مَالِ الطِّفْلِ عَلَيْهِ. والثَّانِي: يثبت لزيادة شفقته، كما أنَّ الأمَّ تَأْخُذُ أُجْرَةَ الإِرضاع عَلَى قَوْلٍ، وَإِنْ وجدت متبرعة أجنبية. وَاعْلَم أَنَّ صَاحِبَ "الْكِتَاب" أَطْلَقَ الْقَولَ هاهنا بأن للأُمِّ أُجْرَةَ الإِرضاع، ولم يحك فيه خلافًا، لكنه حَكَى فيه قولين في كتاب "النَّفَقَاتِ" ونحن نشرح الْمَسْأَلَةَ وكيفية الْخِلاَفِ فيها هناك إن شَاءَ اللهُ تَعَالَى. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ السَّابعُ فِي الكَفَاءَةِ) وَهِيَ مَرْعِيَّةٌ في خَمْسِ خِصَالٍ (ح م و) النَّقَاءُ مِنَ العُيُوبِ الَّتِي تُثْبِتُ الخِيَارَ وَالحُرَّيَّة وَالنَّسَب إِلَى شَجَرَةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَإِلَى العُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ المَشْهُورِينَ دُونَ الخَامِلِينَ، وَالصَّلاحُ في نَفْسِ النَّاكِحِ دُونَ الاشْتِهَارِ، وَالتَّنَقِّي مِنَ الحِرَفِ الدَّنِيئَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى خِسَّةِ النَّفْسِ، وَاليَسَارُ (ح) لاَ يُعْتَبَرُ في أَشْهَرِ الوَجْهَيْنِ، وَالجَمَالُ لاَ يُعْتَبَرُ أَصْلاً، وَلاَ يُجْبَرُ فَضِيلَةُ نَسَبِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِفَضِيلَة أُخْرَى، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَقَد تَقْضِي العَادَةِ بِجَبْرِ نَقِيصَةٍ بِفَضِيلَة بِحَيْثُ يَنْتَفي العَارُ. " القول في الكفاءة في النكاح" قال الرَّافِعِيُّ: الْكَلاَمُ في خِصَالِ الكفاءة، ثم في أَثَرِ فُقُدَانِهَا. أمَّا الْفَصْلُ الأَوَّلُ -في خِصَالِهَا: وهي التَّنَقِّي مِنَ الْعُيُوبِ المثبتة للخيار؛ لأنَّ النَّفْسَ تُعَافُ صُحْبَةَ مَنْ بِهِ تِلْكَ العيوب وقيل بها مقصود النكاح، واستثنى صاحب
"التهذيب" من العيوب المثبتة للخيار "العُنة" وقال: إنها لا تتحقق فَلاَ نَظَرَ إليها في الكفاءة. وفي "تعليق" الشيخِ أَبِي حَامِدٍ وغيره التَّسْوِيَةِ بين العُنة وغيرها صريحًا، وإطلاق الأكثرين يوافقه. إذا عَرَفَ ذَلِكَ، فمن به بعض تلك العيوب لا يكون كفئًا للسليمة عنها، ولو كان لكل واحد منهما عيب منها فإن اختلف العيبان فلا كفاءة أيضًا، وإن اتفقا وما بالرجل أفحش، أو أكثر فكذلك، وإن تساويا، أو كان ما بها أكثر فوجهان بناءً على أنه هل يثبت الخيار والحالة هذه؟. ويجري الوجهان فيما إذا كان مَخبُوبًا والمرأة رَتْقَاءُ. وزاد القاضي الرُّوْيانِيُّ على العيوب المثبتة للخيار فقال: والعيوب التي تنفر النَّفْسُ منها كالعمى والقطع وتشوه الصورة تمنع الكفاءة عندي، وبه قال بَعْضُ أَصْحَابِنَا، واختاره الصيمري. ومنها الحرية؛ لأنَّ الْحُرَّةَ تتعير بكونها فراشًا للعبد وتتضرر بأنه لا ينفق إلاَّ نفقة المعسرين، فالرقيق لا يكون كفئًا للحرة أصلية كانت، أو عتيقة، والعتيق لا يكون كفئًا للحرة الأصلية، ولا من مس الرق أحد أبائه للتي لم يمس الرق أحدًا من أبائها، ولا من مس الرق أبًا أقرب في نسبه للتي مس الرق أبًا أبعد من نسبها ويشبه أن يكون جريان الرق في الأمهات أيضًا مؤثرًا ولذلك تعلق به الولاء (¬1). ومنها: النَّسَبُ فالعجمي ليس كفئاً للعربية، ولا غير القرشي من العرب للقرشية، ولا غير الهاشمي والمطلبي من قريش للهاشمية والمطلبية، وبنو هاشم وبنو المطلب أكفاء لقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "نَحْنُ وَبَنُو المُطَّلِب شَيءٌ وَاحِدٌ" (¬2) وفي قريش بعضهم من بعض. وَجْهٌ آخَرُ وبه قَالَ أَبُو حَنِيْفَةٌ -رضي اللهُ عَنْهُ-: أنَّهُمْ جميعًا أكفاء كما أنهم يستوون في الأَهْلِيَّةِ للإِمامة. والصحيح الأول؛ لما روي أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيشٍ بَنِي هَاشِمٍ" (¬3) وكما يعتبر النسب في العرب يعتبر في العجم. ¬
وعن القَفَّالِ، والشيخ أبي عَاصِمٍ: أنه لا يعتبر النسب في العجم؛ لأنهم لا يعتنون بحفظ الأنساب، ولا يَدَوُنُوَنَهَا، والظَّاهِرُ الأول، وقضيته للاعتبار فيمن سُوَى قُرَيشٍ من العَرَب أيضًا، لكن ذكر ذاكرون أنَّهُمْ أكفاء (¬1)، وَاحْتَجُّوا بما رُوِيَ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ قُبَيْلَةٌ لِقِبَيْلَةٍ، وَحَيٌّ لِحَيٍّ، وَرَجُلٌ لِرَجُلٍ إِلاَّ حَائِكًا، أَوْ حجامًا" (¬2). والاعتبار في النسب بالأَبِ فالذي أبوه أَعْجَمِيٌّ، والأم عربية ليس بِكُفْءٍ للتي أبوها عربي، والأم عجمية. ومنها: الدِّينُ والصَّلاَحُ: فالكافر ليس بِكُفْءٍ للمسلمة، وَالَّذِي أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ ليس بِكُفْءٍ للتي لها أبوان، أو ثلاثة في الإِسلام. وعن القاضي أبي الطَّيِّبِ وغيره وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُمَا كفئان، واختاره القاضي الرُّويانِيُّ، وذكر بعض المتأخرين أنه لا ينظر إلاَّ إلى إِسْلاَمِ الأَبِ الأَوَّلِ والثاني، فيمن له ¬
أبوان في الإِسْلاَمِ كُفْءٌ لِلَّتِي لَهَا عَشْرَةٌ آبَاءٍ في الإِسلام؛ لأنَّ الأَبَ الثَّالِثَ لا يذكر في التعريف، فلا يلحق العار بسببه، وَالظَّاهِرُ الأَوَّلُ، والفاسق ليس كُفْئًا للعفيفة ولا ينظر إلى الشهرة، بل الذي لا يشتهر بالصلاح كفئًا للمشهورة به وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْفَاسِقُ كَفْئًا للعفيفة فالمبتدع أولى ألا يكون كفئًا للنسيبة وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الْقَاضِي الرُّويَانِي. ومنها الحرفة: فأصحاب الحرف الدَّنِيَّةِ ليسوا بأكفاء للأشراف ولا لسائر المحترفة، ويدل على اعتبارها اللفظ الذي تقدم إلا "حائك أو حجام"، فالكناس والحجام وقيم الحمام والحارس والراعي لا يكافئون ابنة الخياط، والخياط لا يكافئ ابنة التَّاجِرِ والبَزَّازِ ولا المحترف ابنة القاضي، والعالم، وذكر في الحلية أنه يراعي العادة في الحرف والصناعات؛ لأن في بعْضِ الْبِلاَدِ التِّجَارَةُ أولى من الزِّرَاعَةِ، وفي بعضها الأمْرُ بالعكس. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحِرَفَ الدَّنِيَّةَ في الأَبَاءِ، والاشْتِهَارُ بِالْفِسْقِ مما يُعَيَّر به الولد، فيشبه أن يكون حال الذي كان أبوه صاحب حرفة دنية، أو مشهورًا بالفسق مع التي أبوها عدل كما ذكرنا في حَقِّ من أَسْلَمَ بنفسه مع التي أبوها مسلم، وَالْحَقُّ أن تجعل النظر في حال الآباء دينًا وسيرة وحرفة من حيز النسب، فَإِنَّ مَفَاخِرَ الأَبَاءِ وَمَثَالِبَهُمْ هي التي يدور عليها أمر النَّسَبِ، وهذا يؤكد اعْتِبَارَ النَّسَبِ في حَقِّ العُجْمِ، ويقتضي ألاَّ تُطْلَقَ الكفاءة بين غير قريش من العرب. ومنها اليسار: وهل هو من خِصَالِ الْكَفَاءَةِ؟. فيه وجهان: أظهرههما: لا؛ لأن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اخْتَارَ الْفَقْرَ (¬1)؛ وَلأَنَّ الْمَالَ غادٍ ورائَحٌ، ولا يفتخر به أهل المروءات والبصائر. والثاني: نَعَمْ؛ لأنه إذا كان مُعْسِرًا لم ينفق على الولد، وينفق عليها نَفَقَةَ المعسرين فتتضرر به. وعلى هذا فوجهان: ¬
أحدهما: أَنَّ المُعْتَبَرَ الْيَسَارُ بقدر النفقة، وَالْمَهْرِ، فإذا أيسر بهما فهو كفء كصاحب الأُلُوفِ. وأظهرهما: أَنَّهُ لاَ يَكْفِي ذَلِكَ ولكن الناس أصناف: غني وفقير ومتوسط، وَكُلُّ صَنْفٍ أكفاء، وإن اختلفت الْمَرَاتِبُ. وليس من الخِصَالِ الْمُعْتَبَرَةِ في الكفاءة الْجَمَالُ ونقيضه نعم. ذَكَرَ الْقَاضِي الرُّويَانِيُّ أَنَّ الشَّيْخَ لا يكون كفئًا للشابة على المختار من الوجهين (¬1)، وذكر أيضًا أنَّ الْجَاهِلَ لا يكون كفئًا للعالمة، وهذا فَتْحُ بَابٍ وَاسِعٍ، فَهَذِهِ خِصَالٌ الكفاءة، وهل يقابل بعضها ببعض؟. قَضِيَّةُ كَلاَم الأكْثَرِينَ الْمَنْعُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ "التَّهْذِيبِ" وأبو الفرج السَّرْخَسِي، حَتَّى لا يزوج سليمة من العيوب دنية من معيب نسيب، ولاَ حَرَّةً فَاسِقَةً من عَبْدٍ عَفِيْفٍ، وَلاَ عَرِبِيَّةٌ فَاسِقَةٌ مَن عَجَمِيٍّ عَفِيفٍ، ولا عفيفة رقيقة من فاسق حُرٍّ، ويكفي صفة النقص مانعة من الكفاءة. وفضل الإمام فقال: السَّلاَمَةُ من العيوب لا تقابل بسائر فضائل الزوج، ولذلك يثبت بها حَقّ الْفَسْخِ، وإن كان في المعيب فضائل جَمَّةٍ، وكذا الحرية لا تقابل بفضيلة أخرى، وكذا النَّسَبُ، نِعْمَ الصِّفَةُ الظَّاهِرَةُ في الزَّوْجِ هل تنحاز دناءة نسبه؟. فيه وجهان: أظهرهما: المنع. قال: والتنقي من الْحرفِ الدَّنِيَّةِ يعارضه الصَّلاَحُ، وفاقاً واليسار إن اعتبرناه يعارض بِكُلِّ خِصْلَةِ من خِصَالِ الْكَفَاءَةِ، وَالأَمَةُ الْعَرَبِيَّةُ -جوابًا على استرقاق العرب- إذا زُوِّجَتْ من الْحُرِّ العجمي كان على هذا الخلاف في حصول الانحياز والله أعلم. وَلْنَعُدِ الآن إلى ما يتعلق بألْفَاظِ الْكِتَابِ قوله: وهي مرعية في خَمْسِ خِصَالٍ -أراد به الْخِصَالَ الْمَعْدُودَةَ قَبْلَ اليسار، ومنهم من يضيف إلى الخمس الإِسلام، وَقَدْ يُعَبَّرُ بالدِّيْنِ عَنِ الإِسْلاَمِ والعدالة جميعًا، ولم يدرج صَاحِبُ "الْكِتَاب" الإِسلام في خِصَالِ الكفاءة، وَلَهُ وَجْهٌ، وهو أنَّ الفَضَائِلَ الْمُعْتَبَرَةَ في الْكَفَاءَةِ هي التي يحتمل فواتها عند التَّرَاضِي، وَإِسْلاَمُ الزَّوْجِ لاَ يَحْتَمِلُ فوَاتُهُ، فحَسَنَ ألاَّ يُعَدَّ مِن خصال الكفاءة، ويجوز ¬
أَنْ يعلم قوله: "في خَمْسِ خِصَالٍ" بالحاء؛ لأنَّ أَبَا حَنَيْفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- لا يعتبر السَّلاَمَةِ عن العيوب، وحكى بعض أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لا يعتبر الحرفة أيضًا وبالميم والواو؛ لأن صَاحِبَ "الشَّامِلِ" حكى عن مالك -رَضِي اللهُ عَنْهُ- أنَّ الْكَفَاءَةَ في الدِّينِ وَحْدَهُ، وذكر أَنهُ قَوْلٌ للشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَن البُوَيْطِيِّ وبالألف؛ لأَنَّ في رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: لا يَعْتَبِرُ إلاَّ الدِّينَ والنَّسَبَ، والأصح عنه مثل مذهبنا. وأما قوله: "والنَّسَبُ إلى شَجَرَةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-" إلى آخره. فاعلم أنَّ كَلاَمَ أَكْثَرِ الأصْحَابِ في النَّسَبِ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَذَكَرَ الإِمَامُ قَدَّسَ اللهُ رَوحَهُ أَنَّ شَرَفَ النَّسَبِ يَثْبُتُ مِنْ ثَلاَثِ جِهَاتٍ. إحداها: الانتماء إلى شَجَرَةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ويرعى القرب والبعد منه وعليه بني عُمَرُ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- دَيْوَانَ المُرْتَزِقَةِ. والثانية: الانتماء إلى العلماء، فإنهم وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ (¬1) صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيهِمِ، وبهم رَبَطَ اللهُ تَعَالَى حِفْظَ الْمِلَّةِ. والثالثة: الانتماء إِلَى أَهْلِ الصَّلاَحِ والتَّقْوَى -قال الله تعالى عَزَّ اسْمُهُ: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82]. فبين شرف الانتساب ويعتبر أن يكون من إليه الانتماء مشهورًا بين الناس بالصَّلاَحِ، فالشرف حِيْنَئِذٍ يحصل، ولا عبرة بالانْتِسَابِ إلى عَظَمَاءِ الدُّنْيَا والظلمة المستولين على الرِّقَابِ، وإن كَانَ النَّاسُ قد يَتَفَاخَرُونَ بهم. وَنَحَا صَاحِبُ "الْكِتَاب" نحو هذه الطريقة وفيها تصريح بأن الانتساب إلى كل واحد من هذه الجهات يقتضي الفضيلة برأسه وعلى هذا فلا يمكن إطلاق القول بأنا العجم أكفاء، وكذا من سُوَى قُرَيْشٍ من العرب، وكذ بنو هَاشِمٍ، وما ذكر أن الانتساب إلى عظماء الدُّنْيَا لا عَبْرَةَ بِهِ فَكَلاَمُ النَّقَلَةِ لاَ يُسَاعِدُهُ هَذَا. واعلم أنَّ صَاحِبَ "التتمة" يقول: وللعجم عُرْفٌ في الكفاءة فيعتبر عُرْفُهُم. وَقَوْلُهُ: "وإلى الصُّلَحَاءِ المشهورين" لفظ "المشهورين" يمكن رده من جهة النظم إلى الْعُلَمَاءِ أيضًا، لكنه أَرَادَ الرَّدَّ إلى الصُّلَحَاءِ خاصة عَلَى مَا هُوَ مبين في "الوسيط" و"النهاية". وقوله: "واليسار لا يعتبر" معلم بالألف؛ لأن أحمد يعتبر اليسار وبالحاء؛ لأن أَبَا حَنِيْفَةَ يعتبره بقدر الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ. ¬
واعلم قوله: "والتنقي من العيوب". وقوله: "والتنقي من الحرف" بالحاء لما ذكرنا. وقوله: "وما وراء ذلك، فقد تقتضي العادة بجبر نقيصة بفضيلة" ظاهرة تقتضي انجبار بعض الصفات ببعض بعد الاشترك في النسب، لَكِنَّ هَذَا الظَّاهِرَ غيرُ مَعْمُولٍ بِهِ لا على تفصيل الإمام، وَلاَ عَلَى إِطْلاَقِ غَيْرِهِ، وَقَد بَيَّنَّا الطَّرِيْقَيْنِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالكفَاءَةُ حَقُّهَا وَحَقّ الأَوْلِيَاءِ، فَإِنْ رَضُوا بِتَرْكَهَا جَازَ (ح)، فَيَحَلُّ لِغَيْرِ العَلَوِيِّ نِكَاحُ العَلَوِيَّةِ، وَإِنْ رَضِيَ الأَوْلِيَاءُ فَلِلْمَرْأَةِ الِإبَاءُ، وَإِنْ رَضِيَتِ المَرْأَةُ وَوَليٌّ وَاحِدٌ فَلِلبَاقِينَ فَسْخُ النِّكَاحِ (ح) فِي قَوْلٍ، وَلاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ أَصْلًا (ح) فِي قَوْلٍ، وَلاَ يَصِحُّ تَزْوِيجُ الأَبِ الصَّغِيرَةِ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، وَفِيهِ قَوْلٌ أَنَّهُ يَصِحُّ وَلَهَا الخِيَارُ إِذَا بَلَغَتْ (ح)، وَيَجُوزُ أَنْ يُزَوِّجِ مِنَ الصَّغِيرِ غَيْرَ كُفْءٍ. قال الرَّافِعِيُّ: تَقَدَّمَ الْكَلاَمُ في الْفَصْلِ الأَوَّلِ في خِصَالِ الكفاءة، والكلام الآن في الفصل الثاني من أثر فقدان الكفاءة، والكَفَاءَةُ حَقُّ الْمَرْأَةِ، ومن يلي أمرها واحدًا كان أو جَمَاعَةً مستويين في الدَّرَجَةِ، فَإِنَّ زَوْجَهَا وَلِيُّهَا مِنَ غيْرِ كُفْءٍ برضاها، أو أحد الأَوْلِيَاءِ برضا الآخرين ورضاها صَحَّ النِّكَاحُ، حَتَّى يَجُوزَ لغير الْعَلَوِيِّ نِكَاحُ الْعَلَوِيَّةِ، وليست الْكَفَاءَةُ شَرْطٌ للِصَّحَةِ خلافًا لأَحْمَدَ في أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. وُيرْوَى عَن مَالِكٍ أيضًا اشتراطها، دليلنا أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: "انْكِحِي أُسَامَةَ" (¬1) فنكحته وهو مولى وهي قرشية. وُيرْوَى أنَّ بلالاً -رَحِمَه اللهُ- نَكَحَ هَالَةَ بِنَتِ عَوْفٍ أُخْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ (¬2). وإذا زوج الأقرب من غير كفء برضاها لم يكن للأبعد الاعتراض، فَلَوْ كَانَ الَّذِي يَلِي أَمْرَهَا السُّلْطَانُ، فَهَلْ لَهُ تَزْوِيجُهَا مِنْ غَيْر كُفْءٍ إِذَا الْتَمَسَتْهُ الْمَرْأَةُ؟. فيه قولان أو وجهان: أحدهما: نعم، كالولي بالولاء والنسب، وَقَطَع بهذا الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ وقال: لاَ يَرْجِعُ إِلَى الْمُسْلِمِيْنَ مِنْهُ عَارٌ. ¬
وأظهرهما: المنع؛ لأنه كالنَّائِب النَّاظِرِ لأولياء النَّسَبِ، فلا يترك ما فيه الحظ، ولو زوجها أحد الأولياء من غَيْرِ كُفْءِ برضاها دون رضَى الآخرين، فقد ذكر في "المختصر" و"الأم" أَنَّ النِّكَاحَ لا يثبت. وَعَنْ نَصِّهِ في الإِمْلاَءِ أن للباقين الرَّدَّ وللأصحاب طَرُقٌ: أظهرهما: أَنَّ في الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ: أصحهما: أنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ؛ لأنهم أَصَحَابُ حُقُوقٍ في الكفاءة، فاعتُبِرَ إذنهم كإذن المرأة. والثَّانى: يصح ولهم الخيار؛ لأن النقصان يقتضي الخيار لا البطلان كما لو اشترى شيئًا معيبًا. والطريق الثاني: القطع بالقول الأول وحمل ما في "الإملاء" على أنَّ لَهُمْ الْمَنْعَ من التزويج من غَيْرِ الْكُفْءِ. والثالث: القطع بالقول الثاني. وقوله: "لا يثبت"، أي: لا يلزم ولا يستمر. وعند أَبِي حَنِيْفَةَ: يلزم النِّكَاحُ ولا اعتراض للآخرين، فَخَالَفَ القولين جميعًا، وأجرى صاحب "الْمَهَذَّبِ" القولين فيما إذا زوجها أحدهم بغير رضاها [أو زوجوها بغير رضاها] (¬1) وكان التَّصْوِيَرُ فيما إذا أذنت في التزويج من غير تعيين الزوج، وَجَوَّزَنَاهُ، ووجه البُطْلاَنِ بأنه عقد في حق غيره بغير إذنه، فلم يَصِحْ كبيع مال الغير بغير إذنه، وإذا زَوَّجَ الأَبُ أَوِ الْجَدُّ الْبِكْرَ الصَّغِيْرَةَ، أو البالغة من غير كفء بغير إذنها، فالقولان في الصَّحَّةِ معروفان، والأَصَحُّ البطلان؛ لأنه خلاف الغِبْطَةِ، وإذا لم يَصِحِّ التَّصَرُّفُ في المال على خلاف الغبْطة، فالتصرف في البضع أولى. وَرَوَى القاضي ابنُ كَجٍّ طَرِيْقَةً أُخْرَى: وَهِي تَنْزِيلُ القولين على حالين إن علم الولي عدم الكفاءة، فالنِّكَاحُ باطل، وإلاَّ فَصَحِيْحٌ. وعن أبي إسحاق وَأَبِي حَامِدٍ: القطع بالبطلان علم [الولي] (¬2) أو لم يعلم، وإذا قُلْنَا بالصَّحَةِ، فللمرأة الخيار إن كانت بالغة، وإن كانت صغيرة فإذا بلغت تَخيَّرَتْ. وحكى الإِمَامُ وَجْهًا: أَنَّهَا لا تتخير، وعليها أن ترضى بعقد الأب، وهل للولي الخيار في صغرها؟. ¬
فيه وجهان. وفي رواية القاضي أبي الطَّيِّب قَوْلاَنِ: أحدهما: نَعَم، كما لو اشترى الصغير معيبًا. الثاني: لا؛ لأنه يتعلق بالشهوة والطبع، فلا تجزئ فيه النيابة. وهذا الْخِلاَف فَيْما رَوَى الْحَنَّاطِيُّ وصاحب "التَّهْذِيبِ" ورأى الإِمام مخصوص بما إذا جهل الولي حال الزوج، فإن علم فلا خيار، وطرده الَقاضي ابنُ كَجٍّ، وآخرون في حالتي الْجَهْلِ وَالْعِلْمِ وقالوا: إنه لَيْسَ عاقدًا لنفسه، حَتَّى يَلْزَمَ حكم علمه. وليعلم قوله في الكتاب "ولا ينعقد النِّكَاحُ أصلًا" مع الحاء بالألف؛ لأن مَذْهَبَ أَحْمَدَ كالقول الأول. وقوله: "ولا يجوز تزويج الأب الصغيرة من غير كُفْءٍ" بالحاء، وكذا قوله: "ولها الخيار إذا بلغت"؛ لأن عَنَ أَبِي حَنِيْفة -رضي الله عنه- أنه يصح النِّكَاحُ، ولا خيار، لها إذا بلغت، وسائر المواضع المحتاجة إلى العلامات بينة مما قدمنا، ثم صاحب "الكتاب" خَتَمَ الْفَصْلَ بأن قال: ويجوز أن يزوج من الصغير من غير كفء، وليس الأمر على هذا الإِطلاق، بل ينظر فيما لم يوجد فيها من خصال الكفاءة، فإن قَبِلَ لابنه الصغير نكاح معيبة بالعيوب المثبتة للخيار، فعلى قولين كما في تزويج البنت الصغيرة من غير كفء. والصحيح أنَّهُ لا يصح النِّكَاحُ. وعن بعضهم: القطع [بالبطلان] (¬1) في قبول النكاح الرَّتْقَاءِ والقرناء لما فيه من بذل الْمَالِ في [مقابلة] (¬2) البضع الذي لا ينتفع به، بخلاف تزويج الصغيرة من المجنون، فإن قَبِلَ له نكاح أمة لم يصح؛ لأنه لم يؤخذ خوف العنت، وإن قَبِلَ له نكاح من لا تكافئه بجهة أخرى فوجهان كالقولين في تَزْوِيج الْبِنْتِ الصَّغِيْرَةِ ممن لا يكافئها، لكن الأشبه هاهنا الصِّحَّةُ، وهو الموافق لما في الكتابَ؛ لأن الْمَرْأَةَ تتعير بأن يَسْتَفْرِشُهَا من لا يكافئها والرجل لا يتعير بأن يستفرش من لا تكافئه. وإذا قلنا بالصِّحَّةِ، فالتفريع كما مَرَّ هناك وإن قَبِلَ له نكاح عمياء ففي كتاب القاضي ابنُ كَجٍّ إثبات الوجهين فيه. ونقل "صاحب التَّهْذِيبِ" إجراءهما فيما لو قبل نِكَاحَ عَجُوزٍ أو مفقودة بعض الأطراف، ويجب أن يَكُونَ من تزويج الصَّغِيْرَةِ من الأعمى والأقطع والشيخ الهم مثل هذا الخلاف. ¬
ولو قبل لابنه المجنون نِكَاحَ أَمَةٍ جاز إن كان معسراً، وكان يُخْشَى عليه الْعَنَتُ وفيه وجه: أنه لا يجوز؛ لأنه لا يخشى وطئاً يوجب حداً، أو إِثماً وإن كان النقصان بسببٍ آخرَ، فعلى ما ذكرنا في القبول للصغير، وإن زوج ابنته من خنثى، أو قبل لابنه نِكَاحَ خُنْثَى فإن أثبتنا الخيار بهذا السبب فهو كالتزويج من المجنون، وقبول نكاح المجنونة وإلا فَكَالأَعْمَى (¬1). فَرْعٌ: للسيد أنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ من الرقيق، ودَنَيَّ النَّسَبِ، ولا يزوجها ممن به عيب من العيوب المثبتة للخيار، ولا ممن لا يكافئها بسَبَبٍ آخَرَ فإن فعل فيبطل أو يصح، ولها الخيار فيه مثل هذا الخلاف السابق، وفيه وَجْهٌ آخَرُ ضَعِيْفٌ: أنه يصح ولا خيار لها وإن زوجها ممن به عَيَبٌ برضاها لم يكن لها الامتناع من التمكين منه، وله بيعها ممن به بعض تلك العيوب؛ لأن الشراء لا يتعين للاستمتاع، ثم هل لها الامتناع من التمكين؟ فيه وَجْهَانِ؛ لأن الوطء في ملك اليمين بِمَثَابَةِ نَفْسِ النِّكَاحِ (¬2). تم الجزء السابع، ويليه الجزء الثامن وأوله: القول في اجتماع الأولياء ¬
القول في اجتماع الأولياء
بسم الله الرحمن الرحيم القول في اجتماع الأولياء قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّامِنُ فِي تَزَاحُم الأَوْلِيَاءِ) فَإذَا أجْتَمَعَ إِخْوَةُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ أنْ يَنْفَرِدَ بِالتَّزْوِيجِ منْ كُفْءٍ بِرِضَاهَا لَكِنَّ الأَوْلَى التَّفْوِيضُ إِلَى الأَسَنِّ وَالأَفْضَل، وَإنْ نَزَاحَمُوا أَقْرعَ بَيْنَهُمْ، فَإنْ بَادَرَ مَنْ لَمْ تَخرُجْ قُرْعَتُهُ انْعَقَدَ. قال الرَّافعيُّ: إذا اجتمع لِلْمَرْأَةِ أولياء في درجة واحدة كالإِخوة وَبَنِيْهِم والأعمام وبنيهم، فَألأَوْلَى أن يزوجها أشبههم وأفضلهم بالفقه أو بالورع برضا الآخرين، أَمَّا تقديم الأَسَنَّ فلزيادة تَجْرِبَتِهِ، وَأَمَّا الأورع فإنه أشفق وأحرص على طلب الْحَظِّ، وأما الأفقه فإنه أعلم بشَرَائِطِ النِّكاح، وأما رِعَايَهِ رضا الآخرين فلتجتمع لآراء، ولا يتأذَّى بعضهم باستثار البعض. وإذا تعارضت هذه الخِصَالِ، فيقدم الأَفْقَهُ، ثُمَّ الأَوْرَعَ، ثم الأَسَنَّ، ولو زوج منهم غير الأسن والأفضل برضا الْمَرْأَةِ من كفء صح، ولا اعتراض للباقين، وليست هذه الولاية كولاية القِصَاصِ حيث يشترط اتفاق الأولياء على الاستيفاء؛ لأَنَّ القِصَاصَ مبني على الدرء والإِسقاط، والنَّكَاحُ مَبْنِيٌّ على الإِثبات والإِلزام، ولهذا لو عضل واحدِ من الأولياء زوج الآخرون، ولو عفا واحد عن القِصَاصِ سقط حَقُّ الكل، ولو أنهم اشتجروا وأراد كل واحد منهم أن يزوج نظر إن تعدد الخاطب، فالتزويج ممن ترضاه المرأة، فإن رضيتهما جميعاً نَظَرَ الْقَاضِيُ في الأصلح وأمر بالتزويج منه .. ذكره "صَاحِبُ التَّهْذِيبِ" وغيره. وإن اتحد الخاطب، وتزاحموا على العَقْدِ أُقْرعَ بينهم، فمن خرجت قُرْعَتُهُ زوجها، وإن بادر غيره وزوجها. فوجهان: أحدهما: أنه لا يصح النِّكَاحُ ليظهر فائدة القرعة، وهذا الوجه يختص بما إذا أخرجوا القرعة من غير ارتفاع إلى مجلس الحكم، أم يختص [بقرعة
ينشئها] (¬1) السلطان؟ فيه تردد للإمام. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب أنَّ النِّكَاحَ صَحِيْحٌ وليست الْقُرْعَةُ لسلب ولاية البعض، وإنما هي لقطع المنازعة، وهذا إذا كانت قد أذنت لكل واحد منهم على الانفراد، وفي معناه أن تقول: أذنت [في تزويجي] (¬2) من فلان فمن شَاءَ من أوليائي زَوَّجَني منه ولو قالت: زَوَّجَونِي منه. فهل يشترط اجتماعهم؟. فيه وجهان: أظهرهما: نعم، ولو قالت: راضيت أن أُزَوَّجَ، أو رضيت بفلان زوجاً، فأحد الوجهين: أنه ليس لأحد منهم تزويجها؛ لأنها لم تأذن لجميعهم بلفظ عام، ولا خاطبت واحداً منهم على التَّعَيْينِ، فأشبهت ما إذا قالت: رضيت بأن يباع مالي. وأظهرهما: أنه يكتفي به، ولكل واحد منهم تزويجها؛ لأن الأولياء متعينون للتصرف شرعاً، والمشروط الرضا من جهتها وقد وجد. وعلى هذا فلو عَيَّنَتْ بعد ذلك واحداً هل ينعزل الآخرون؟. فيه وجهان؛ لأن في التخصيص اشعاراً يرفع الأِطلاق. والمذكور من الوجهين في "الرقم" انعزال الآخرين. وفي "التَّهْذِيْبِ" مقابله، ورأى بعض متأخري الأصحاب بناء الوجهين على أن المفهوم هل هو حجة أم لا؟. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإنْ بَادَرَ اثْنَانَ وَعَقَدَا مَعَ شَخْصَيْنِ فَالصَّحِيحُ السَّابِقُ، وَإِنْ أَمْكَنَ وُقُوعُهُمَا مَعاً انْدَفَعَا، فَإِنْ سَبَقَ وَاحِدٌ ونَسِينَا السَّابِقَ بَقيَ النِّكَاحُ (و) مَوْقُوفاً أبَداً، وَإنْ يُعْرَفِ السَّابِقُ مِنْهُمَا أَصْلاً يُفْسَخُ النِّكَاحُ لِلتَّعذُّرِ في قَوْلٍ، وَيَتَوَقَّفُ فِي قَوْلٍ، وَالقَاضِي يُنْشِئُ الفَسْخَ، وَقِيلَ: لِلمَرْأةِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: لِلزَّوْجَيْنِ أَيْضاً ذَلِكَ، وَعَلَيْهِمَا النَّفَقَةُ (و) قَبْلَ الفَسْخِ لِلحَبْسِ، وَلاَ مَهْرَ لِعَدَمِ اليَقِينِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا أَذِنَتِ الْمَرْأَةُ لأحد الوَليَيْنِ في التزويج من زيد، وللآخر في التزويج من عمرو، أو أطلقت الإذن لهما وجوزناه فزوجها أحدهما من زيد، والآخر من عَمْرو، أو وكل الولي المخير رجلاً بالتزويج، فزوجها الوكيل من زيد، والولي من عمرو، أو وَكَّلَ اثنين فزوج أحدهما من زيد، والآخر من عمرو فللمسألة خَمْسُ صُوَرٍ: إحداها: أنْ يسبق أَحَدُ النَّاكِحِيْنَ، فالصحيح السابق والثاني: باطل سواء دخل بها الثاني، أو لَمْ يَدْخُلْ. ¬
وقال مالك -رَضِي اللهُ عَنْهُ-: إنْ دَخَلَ بها الثَّاني، فهي زوجة الثاني. لنا: ما روي عن سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا أَنْكَحَ الْوَلِيَّانِ فَالأَوَّلُ أَحَقُّ" (¬1) ويروى: "أَيُّ امْرَأَةِ زَوَّجَهَا وَليَّانِ فَهِيَ للأَوَّلِ مَنْهُمَا" وإنما يعرف السبق، إما بالتقار أو ببينة تقوم عليه. الثانية: إذا وقعا معاً، فهما باطلان فإنَّ الجمع ممتنع، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فأشبه ما لو نكح أختين في عقد واحد. فَرْعٌ: لو اتَّحَدَ الْخَاطِبُ، وَأَوْجَبَ كُلُّ وَاحِدٍ من الوليين النِّكَاحَ معاً، فأظهر الوجهين: الصحة، ويقوي كل واحد من الإِيجابين بالثاني وحكى أبو الحسن العبادي عن القاضي وغيره: أنه لا يصح؛ لأنه ليس أحدهما أولى بالاعتبار من الثَّاني فتدافعا. الثالثة: إذا لم يعلم السبق، ولا المعية، واحتمل الأمران معاً فالنكاحان باطلان؛ لأنهما إنْ وَقَعا مَعاً تَدَافَعَا، وإن كان بينهما تَرَتُّبٌ، فلا اطِّلاَعَ على السَّابِقِ منهما، وإذا تعذر إمضاء العقد لغا، وأيضاً فإن المعية محتملة، والأصل في الأَبضاع الْحُرْمَةُ فيستدام إلى أن يتيقن النكاح هكذا أطلقه الأكثرون ونقل الإِمام وغيره وجهاً: أنَّهُ لا بُدَّ من إنشاء فسخ؛ لأن الترتيب محتمل، وبتقدير الترتيب فالسابق من العقدين صحيح، فيحتاج إلى الفسخ ليرتفع، وشبه هذا الخلاف بالخلاف في أنَّ البيع بعد تحالف المتبايعين يَنْفَسِخُ، أو يُفْسَخُ. الرابعة: إذا سبق واحد معين، ثم التبس، وأشكل الأمر، فيوقف حتَّى يتبين الحال، ولا يجوز لواحد منهما غشيانها، ولا لثالث نكاحها قبل أن يطلقاها، أو يموتا أو يطلق أحدهما، ويموت الثاني (¬2) وعن الشيخ أبي مُحَمَّدٍ وغيره: أن من الأصحاب مَنْ أَجْرَى القولين المذكورين في الصُّورَةِ الخامسة من هذه الصورة إذا تحقق اليأس باليقين. الخامسة: إذا عرف سبق أحدهما، ولم يعلم أيُّهما سَبَقَ فالنَّصُّ وظاهر المذهب أَنَّ الحكم كما لو احتمل السبق، والمعية لتعذر الإِمضاء، والعلم بتقدم أحدهما لا يُغني إذا لم يعلم المتقدم. وهذا كما أن المتوارثين إذا غرقا وماتا لا يفترق الحال بين ألاَّ يعرف السبق والمعية، وبين أن يُعرفَ سبقُ أحدهما من غير تعيين، وقد سبق في ¬
الجمعتين في مثل هذه الصورة ذكرُ قولين: أحدهما: بطلانهما واستئناف جمعة، وهو كالمنصوص هاهنا. والثاني: أَنَّ الْحُكُمَ كما لو عرفت السابقة ثم اشتبهت فيعيدون جميعاً الظهر، فمن الأصحاب من خرج هذا القول في النَّكَاحَينِ أيضاً. وقال بالتوقف كما في الصورة الرابعة، ومنهم من أباه فرقاً بأن الجمعة بعد تمامها على الصحة لا يلحقها البطلان، والنِّكَاحُ يلحقه الفسخ بأسباب وأعذار، وإذا ألحقنا هذه الصورة بما إذا احتمل السبق والمعية فيبطلان، أو لا بدّ من إنشاء الْفَسْخ فيه الخلاف المذكور هناك، فإن أحوجنا إلى إنثاء الفسخ فيه ففيمن يفسخ ثلاثة أَوْجُهٍ مَنْقُولَةً في "النهاية". أشبهها: أنه لا ينشئ الفسخ إلاَّ الحاكم، أو المحكم إذا جَوَّزْنَا التحكيم؛ لأن في الواقعة إشكالاً والتباساً، فيحتاج فيها إلى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ. والثاني: أَنَّ للمرأة الْفَسْخَ غير مراجعة الحاكم، كما تفسخ تحت الزوج. والثالث: أَنَّ للزوجين الفسخ أيضاً كم يفسخ الزوج برتق الزوجة، ثم نختم الصور بجملتين: إحداهما: حيث حكمنا ببطلان النكاحين، فلا مَهْرَ على كُلِّ واحد منهما إلاَّ أن يفرض دخول، فيجب مَهْرُ المِثْلِ، وإذا قلنا بالبطلان عند احتمال السبق والمعية، وفيما إذا سبق أحدهما، ولم يعلم السابق على أحد القولين كيف الحال -أنقول بالبطلان ظاهراً وباطناً؟ أم نقول به ظاهراً لا باطناً؟. ذكروا فيه وجهين: إن قلنا بالأول، فلو ظهر وتعين السابق يوماً من الدهر فلا زوجية، ولو كانت قد نكحت ثالثاً فيه زوجته، وإن قلنا بالثاني فالحكم بخلافه ويشبه أن يقال هذا الخلاف، والخلاف المذكور في أنهما يبطلان ويرتفعان بنفسهما، أو يحتاج إلى الرفع والفسخ شيء واحد، والاختلاف إنما هو في الْعِبَارَةِ لكن قال في"التَّهْذِيبِ": الاحتياط أن يَقُولَ الْحَاكِمُ: فَسَخْتُ نِكَاحَ مَنْ سبق لهاذا فسخ، أو لم يفسخ، فلا نكاح بينهما في الظاهر، وفي الباطن وجهان. هذا لفظه واللهُ أعلم بالصواب. الثانية: إذا قلنا بالتَّوَقُّفِ فلو مات أحدهما، وقفنا من تركته ميراث زوجته، ولو ماتت هي وقفنا ميراث زوج بينهما، حتى يصطلحا أو يتبين الحال، وهل يطالبان بالنفقة؟. فيه وجهان: أحدهما: لا، لأَنَّ الأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، ونحن لا نتيقن وجوب النفقة على واحد منهما، ولأن كل واحد منهما يقول: إن كانت في نكاحي فمكنوني من الاسْتِمْتَاعِ بها، فإن تعذر ذلك فلاَ أُنْفِقُ. والثاني: نَعَمْ؛ لجريان صُوْرَةِ الْعَقْدِ، وعدم النُّشُوزِ، وكونها في حَبْسِهِمَا والأول أَظْهَرُ عند الإِمام، وبالثَّانِي أَجَابَ الْقَاضِيُ ابنُ كَجٍّ، وعلى هذا فيوزع عليهما، وإذا ظهر
السَّبْقُ لأحدهما، وتعين رجع الآخر عليه بما أنفق عليه. قال الشَّيْخُ أبْو عَاصِمٍ: ويحتمل أن يُقَالَ: إنما يرجع إذا كان قد أَنْفَقَ بغير إذن الحاكم، وَبهَذَا جزم الْقَاضِي ابنُ كَجٍّ، وأما المهر فلا يطلب به واحد منهما لمكان الإِشكال، ولا سَبِيْلَ إلى إلزام مَهْرين ولا إلى قسمة مَهرٍ عليهما، ونعود إلى ألفاظ الكتاب. اعلم أن الصُّوَرَ الخَمْسَ مَذْكُورَةٌ في الكتاب سُوَى الثَّانيةُ، وإنما تركها لوضوحها. وقوله: "والصَّحِيحُ السابق" -يجوز إعلامه بالميم لما ذكرنا من مَذْهَبِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عند دخول الثاني. وقوله: " [يبقى] (¬1) النكاح موقوفاً" بالواو. وقوله: "يفسخ النِّكَاحُ للتعذر ويوقف في قول" يجوز أن يعلم القولان بالواو إشارة إلى الطريقة القاطعة، ولفظ "الفسخ" ظاهرة يقتضي ألاَ يَرْفَعَ النِّكَاحَ ولا يَنْفَسِخُ بنفسه، ولكن ينشئ فسخه وقد ادَّعى في "الْوَسِيْطِ" أنه الأصح فكأنه جرى هاهنا على ما رجحه. وقوله: "من قبل وإن أمكن وقوعهما معاً اندفعا" يجوز إعلامه بالواو، وإن كَانَ الْمُرَادُ الْبُطْلاَنُ والارتفاع، ونظم الكتاب حيث اقتصر في هذه الصُّورَةِ على هذا القدر، وتكلم في صورة القولين في الفسخ وفيمن ينشئه ربما أوهم الْفَرْقَ بينهما في الحكم، وفي الحقيقة لا فرق إذا لم يقل بالتوقف في صورة القولين. وقوله: وعليهما النَّفَقَةُ قبل الْفَسْخ للحبس أراد به لو تأخر الفسخ حَيْثُ رأينا إنشاء الفسخ، فالنفقة مَقْسُومَةٌ عليهما، وهذا الحكم لا يختص بهذا التَّقْدِيرِ، بل يجري حَيْثُ قلنا بالتوقف إلى أن يتبين الأمر، وفيه وضع الإِمام الكلام، ثم هو معلم بالواو للوجه المذاهب إلى أنه لا نفقة على وَاحِدٍ مِنْهُمَا. قَالَ الغَزَالِيُّ: فَإِنِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ عَلَيْهَا العِلْمِ بِالسَّبْقِ فَعَلْيهَا أنْ تَحْلِفَ، فَإِنْ حَلَفَتْ بَقِيَ التَّدَاعِي بَيْنَهُمَا، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآخَر ثَبَتَ النِّكَاحُ لَهُ، وَإِن أَقَرَّتْ لِوَاحِدٍ فَلِلثَّاني أَنَّ يُحَلِّفَهَا عَلَى أَصَحِّ القَوْلَيْنِ لأَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ لِلثَّانِي لَغَرَمَتْ لَهُ، وَإِنْ نكَلَتِ اسْتَحَقَّ الثَّانِي باليَمِينِ المَرْدُودَةِ الغُرْمَ، وَفِيهِ قَوْلٌ: أنَّهُ يَسْتَحِقُّ الزَّوْجِيَّةَ، وَكَأَنَّ إِقْرَارَهَا لِلاَوَّلِ أوْجَبَ الحَقَّ بِشَرْطِ أن تَحْلِفَ للِثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ وَاحِدٌ العِلْم عَلَيْهَا لَكِن ادَّعى عَلَيْهَا زَوْجِيَّةَ مُطْلَقَةً فَفِي سَمَاعِ مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى وَجْهَانِ، وَلَوِ ادَّعَيَا عَلَى الولِيِّ فَفِي سَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَى الَوَليِّ وَتَحْلِيفِهِ وَجْهَانِ عَلَى الإِطْلاَقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: جميع ما تقدم فيما إذا تصادقوا في كيفية جريان العقد، أما فرض ¬
نزاع فَزَعَمَ كُلُّ واحدٍ من الزَّوْجَيْنِ أَنَّ نِكَاحَهُ سابق وأنها زوجته فينظر إن لم يوجَّها الدعوى عليها فلا عبرة بقولهما ولا تسمع دعوى أحدهما على الآخر، ولا يُحَلِّفَ أحدهما الآخر؛ لأن الْحُرَّةَ لا تدخل تحت اليد، وليس في يد واحد منهما ما يدعيه الآخر، هذا ما قاله أكثرهم. وعنِ الصَّيْدَلاَنِيَّ -وهو جواب العبادي في "الرَّقْمِ": أنهما يحلفان فلعله يظهر الْحَقُّ. قال الإِمَامُ: وهذا لاَ مَجَالَ لَهُ إن كانا يزعمان علم المرأة بالحال، بل تراجع هي، نعم لو اعترفا بأنها لا تعلم فهو محتمل وينقدح (¬1) في البداية تخير القاضي أو الإقراع، فإن حَلَفَا أو نكلا، فهو كما لو اعترفا بالإِشكال ولو حلف أحدهما دون الآخر قضى للحالف، وإن ادَّعيا على المرأة، فذلك يصور على وجهين: أحدهما: أن يَدَّعِيَا عليها العلم بالسبق، فإن كانت الصيغة أنها تعلم سبق أحد النكاحين لم تسمع الدعوى للجهل، وإن قال كل واحد: هي تعلم أن نكاحي سابق ذكر صاحب "التَّقَرِيبِ" والشيخ أبو مُحَمَّدٍ وغيرهما من الأئمة، أنه يبني على القولين في أن إقرار المرأة بالنكاح هل يقبل؟. وفيه قولان قدمناهما فإن قلنا: لا يقبل لم تسمع الدعوى عليها لأن غاية ما في الباب أن تُقِرَّ وهو غير مَقْبُولٍ على هذا الْقَولِ، وإن قلنا: يقبل -وهو الصحيح- فتسمع الدَّعْوَى عليها، وحينئذٍ فإمَّا أن تنكر أو تُقرُّ. الحَالَةُ الأُوْلَى: إذا أنكرت العلم بالسبق، فتحلف عليه، ويكفي يمين واحدة أم لا بدّ من يمينين؟ -أطلق في "التَّهْذِيبِ" أنها تحلف لكل واحد يميناً. وعن القَفَّالِ: أنهما إن كانا حاضرين في مجلس الحكم وادَّعيَا حلفت لهما يميناً واحدة، وهذا ما يَدُلُّ عليه كَلاَمُ القَاضِي ابنِ كَجٍّ ويطابقه إيراد الإِمام، إِلاَّ أنه اعتبر مع الحضور الرِّضَى فقال: إن حضرا ورضيا بيمين واحدة حلفت يميناً واحدة وإن حضر أحدهما وادعى فحلفت له، ثم حَضَرَ الآخَرُ وَأَرَادَ تَحْلِيفَهَا. هَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ حكى فيه وجهين: وجه أحدهما: تَمَيُزُ حق كل واحد منهما عن الثَّانِي، ووجه الآخر أن الْوَاقِعَةَ وَاحِدَةً، ونفي العلم بالسبق يشملهما جميعاً، فلا معنى للتكوير، وأجرى هذا الْخِلاَفَ في كُلِّ خِصْمَينِ يدعيان شَيْئاً واحداً، ثم إذا حلفت كما ينبغي، فَمِنْهُم مَنْ قَالَ: لا تحالف بين الزوجين وقد أَفْضَى الأَمْرُ إلى الإِشْكَالِ، واستضعفه الإِمَامُ وقال: إن حلفت هي على نفي العلم بالسَّبْقِ، ولم تنكر جريان أحد العقدين على الصحة، فوجب أن يبقى التداعي والتحالف بينهما، وإنَّما الَّذِي أنكرناه التَّحَالُفَ ابتداء من غير رَبْطِ الدَّعْوَى بها، وهذا هو المذكور في الكتاب، وإن نكلت هي رددنا اليمين عليهما، فإن حلفا أو ¬
نكلا جاء الإِشكال وإلاَّ قضى للحالف، وإذا حلفا أو نكلا، فلا شيء لهما على المرأة. وفي كتاب الحَنَّاطِيَّ ذِكْرُ وَجْهٍ: أنهما إذا حلفا واندفع النِّكَاحَانِ فلكل واحد منهما عليها مَهْرُ الْمِثِلِ، ويمينها حلفت أو نكلت تكون على البت دون العلم، ولا حَاجَةَ إلى التعرض لعلمها. الحالة الثانية: إذا أقرت لأحدهما بالسبق، فيثبت النِّكَاحُ للمقَرِّ له وهل تسمع دعوى الثاني عليها -وهل له تحليفها؟. فيه قولان مبنيان على أنها لو أَقَرَّتْ للثَّانِي بعد ما أَقَرْت لِلأَوَّلِ. هل تَغرُمِ للثاني شيئاً؟. وفيه القولان المعروفان فيما إذا قال: هذه الدَّارُ لِزَيْدٍ، لا بل لِعَمْرٍو، وقد مرا بشرحهما فإن قلنا: تغرم سمعت دعوى الثَّانِي وله التحليف رجاء أن يُقِرُّ فيغرمها وإن لم تحصل له الزوجية، وإن قلنا لا يغرم فقولان مبنيان على أن يمين المدعي بعد نكول المدعى عليه، كإقرار المدعى عليه، أو كإقامة البيَّنَةِ من جهة المدعي، وفيه قولان يذكران في موضعهما إن قلنا كالإِقرار لم تسمع دعواه؛ لأن غاية ما في الباب أنْ يقر أو ينكل فترد اليمين عليه فيحلف فيكون كما لو أقَرَّتْ، ولا فائدة فيه على الْقَوْلِ الذي عليه يقرع، وإن قلنا: كَالْبَيِّنَةِ فله أن يدعي وتحلف فإذا حلفت، فإما أن تحلف فتسقط دعوى الثاني، أو تنكل فترد اليمين عليه، فإن نكل فكذلك، وإن حلف فيبنى على أَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ كالإقرار، أَوْ كَالْبَيِّنَةِ إن قلنا كالإِقرار، وهو الأصح فوجهان: أحدهما: أَنهُ يَنْدَفِعُ النِّكَاحَانِ لتساويهما في الْحُجَّة. أما الأول فقد أقرت له، وَأَمَّا الثَّانِي؛ فلأنه حلف اليمين المردودة، وهي كالإِقرار، فَصَارَ كما لو أقرت لهما معاً، وهذا حكاه القاضي أَبُو حَامِدٍ والشيخ أبو مُحَمَّدٍ عن نصه في "الْقَدِيمِ". وأصحهما: استدامة النِّكَاح الأول؛ لأنه قد مَضَى الْحُكْمُ به بإقرارها، فلا يرفع بِنُكُولِهَا المحتمل للتورع عن اليمين الصادقة، فيكون كما لو أقرت للاول، ثم للثاني، وإن قلنا: إنها كَالْبَيِّنَةِ، فقد قيل بحكم النِّكَاحِ الثاني؛ لأن البينة تقدم على الإِقرار، وهذا هو المذكور في "الْمُهَذَّبِ" وقال الصَّيْدَلاَنِيُّ وآخرون: إنها منكوحة الأول؛ لأن اليمين المردودة إنما تُجْعَلُ كالبينة في حَقِّ الْحَالِفِ وَالنَّاكِل لاَ في حَقِّ غيرهما، وإذا تركت الأصل المبنى عليه، واقتصرت قلت: يندفع النكاحان أم تسلم للأول أو للثاني؟. فيه ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ: إن سلمت للأول غرمت للثانى، وحيث تغرم، فالواجب عليها هو الواجب على شهود الطلاق إذا رجعوا، وفيه خِلاَفٌ يجيء في موضعه إن شَاءَ اللهُ -تَعَالَى-.
فَرْعٌ: لو كانت خَرْسَاءُ، أو خَرَسَتْ بَعْدَ التَّزْوِيج، فأقرت بالإشارة بسبق نِكَاحِ أَحَدِهِمَا لزمها الإِقرار، وإلا فلا يمين عليها، والحال حال الإِشكال. يحكى هذا عن نَصِّهِ. آخر: لو حلفت لأحد المدعيين أنها لا تعلم سبق نكاحه لم تكن مقرة بسبق نكاح الآخر، ولو قالت لأحدهما: لم يسبق نكاحك تكون مُقِرَّةٌ: لِلآخَرِ. ذكره الاِمام وصاحب "التَّهْذِيبِ" وكان الْمُرَادُ إذا جرى ذلك بعد إقرارها بسبق أحدهما، وإلاَّ فَيَجُوزُ ألا يسبق هذا، ولا هذا بأن يقعا معا. الوجه الثاني: أن يدعيا عليها زوجية مطلقة، ولا يتعرضا للسبق، ولا يعلمها بالسبق، فهذا ينبني على أنْ دَعْوَى النِّكَاح هَلْ يَشْتَرَطُ فَيهَا التَّفْصِيلُ وذكر الشرائط؟ وأنه هل يفرق بين أن يدعي ابتداء النِّكَاحِ فيقول: نكحت هذه. أو دوامه فيقول: هذه زوجتي وبيانه موكول إلى كتاب "الدَّعَاوَى" والله ييسره فإن سمعنا دعوى النِّكَاح مطلقة، أو فصل القدر المحتاج إليه، ولم يتعرضا للسبق، فعليها الجوابُ البَاتُّ، ولا يكفيها في هذه الْمَسْألَةِ نَفْيُ الْعِلم بالسَّابِقِ من النِّكَاحِينِ، لكنها إذا لم تعلم فَلَهَا الْجَوَابُ البَابُّ وَالْحَلِفُ على أَنَّهَا ليست زوجته، وهذا كما أَنه لو ادعى على إنسان أنَّ أَبَاهُ أتلف عليه كَذَا، وَأَرَادَ تَغْرِيمَهُ من الْتِّركَةِ. قالوا فالوارث يحلف على أَنَّهُ ما يعلم من أبيه إتْلاَفاً. وَلَوِ ادَّعَى أنَّ عليه تسليم كذا من التركة، فيحلف أَنَّهُ لا يلزمه التسليم، وعدم العلم يجوز له الْحَلِفُ الْبَاتُّ، هذا كُلُّهُ فيما إذا كانت الدَّعْوَى عَلَى الْمَرأَةِ. فَأمَّا إذا ادعيا على الولي نظر إن لم يكن مجبراً لم تسمع الدعوى عليه، ولم يحلف؛ لأنه لو أقرَّ لم يقبل إقراره، وإن كان مجبراً فوجهان: أحدهما: أنَّ الجواب كذلك؛ لأنه عاقد كالوكيل والعقد لغيره. وأظهرهما: سَمَاعُ الدَّعْوَى عليه؛ لأن إِقْرَارَهُ مَقْبُولٌ كما مَرَّ، ومن يقبل إقراره يتوجه عليه الدَّعْوَى واليمين، وَعَلَى هذا إن كانت المدعي نكاحها بكراً صغيرة، فيحلف الأب، وَإِن كَانَتْ بِكْراً بَالِغَةً فوجهان: أَحَدُهِمَا: لا يحلف؛ لأنا نقدر على تحليفها، وهي أَوْلَى بِالْيَمِينِ. وأشبههما: نَعَمْ، ثم إنْ حَلَفَ الأَبُ كان للمدعي أن يحلف البنت أيضاً، فإن نكلت حَلَفَ الْيَمِينَ المردودة، ويثبت النِّكَاحُ. وفي "التَّهْذِيبِ": أنَّ الْمَرْأَةَ إن كانت بالغة بكراً، أو ثَيِّباً تكون الدعوى عليها، -واللهُ أعلم-. وقوله: "وعليها أن تحلف"، أي: على نَصّ الْعلمِ إِنْ أَنْكَرَتْ.
الباب الثاني في المولي عليه
وقوله: "نَفْيُ التَّداعِي بينهما" معلم بالواو. وقوله: "على أَصَحَّ القولين؛ لأنها لو أقرت للهاني لغرمت له"، فيه إشارة إلى مبني القولين كما بَيَّنَّا، ويجوز إعلام قوله: "لغرمت لما" للقول الثاني. وقوله: "وكأن إقرارها إنما أوجب الحقَّ بشرط أن تحلف للثاني" معناه أنا إذا حكمنا بالنكاح للثاني عند حلفه اليمين المردودة لم يفد إقرارها للأول حق النكاح مطلقاً، بل يشترط ألاَّ تنكل عن يمين الثاني قوله: "وفي سَمَاع هَذِهِ الدَّعْوَى" إشارة إلى أنَّ الْخِلاَفَ في سماع دَعْوَى الزَّوْجِيَّةِ مطلقة مطرداً لا اختصاص له بصورة جريان العقدين وقوله: "فَفِي سَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَى الْوَلِيِّ" يعني: الْوَلِيَّ المُجْبَرَ. وقوله: "وجهان على الإِطلاق" -المقصود منه: بيان أنَّ الْخِلاَفَ في الدَّعْوَى على الولي لا يختص بما إذا فُرِضَ عقدان ومدعيان، وهذا تمام الباب الأول. البَابُ الثَّاني في المَوْلِيِّ عَلَيْهِ قَالَ الغَزَالِيٌّ: وَلاَ يُوَلَّى في النِّكَاحِ إلاَّ عَلَى نَاقِصٍ بِصِغَرِ أَوْ جُنُونٍ أَوْ سَفَهٍ أَوْ رقٍّ أَوْ أُنُوثَة وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُ الأُنُوثَةِ وَالصِّغَرِ (أمَّا المْجنُونُ الكَبِيرُ) فَللأَبِ التَّزْوِيجُ مِنْهُ عِنْدَ ظُهُورِ الحَاجَةِ، وَلاَ يَزِيدُ عَلَى وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَ لَه أنْ يُزَوِّجَ مِنَ الصَّغِيرِ العَاقِلِ أَرْبعاً (و)، وَلاَ يُزَوِّجُ مِنَ المَجْنُونِ الصَّغِيرِ في وَجْهٍ. " نقصان الولاية ونكاح المجنون" قال الرَّافِعِيُّ: لاَ شَكَّ أَنَّ الشَّخْصَ إنما يُوَلَّى عَلَيْهِ لِنْقْصَانٍ فيه، وَقُصُورٍ في النَّظَرِ والأهلية، والنقصان المقتضي لنصب الولي خمسة: الصِّغَرُ، والأُنُوْثَةُ، والْجُنُونُ والسَّفه والرِّقُ، وقد سبق حكم الأَوَّلَيْنِ [و] الثالث: الجنون. وَالْكَلاَمُ في التزويج من المجنون، وفي تزويج المجنونة. أمَّا المجنون فإن كَانَ كبيرًا، فلا يزوج منه إن لم تدعُ الحْاجَةُ إليه، لما فيه من لُزُومِ الْمَهْرِ والنفقة عليه من غَيْرِ حَاجَةٍ تدعو إليه، وليس كالصغير؛ لأَنَّ للصَّغِيرِ غاية يتوقع بعدها كماله، فلا يُرَاعَى في نكاحه إِلاَّ المْصَلَحَةُ، فإن دعت إليه حاجة فتزوج منه. والحاجة تقع من وجهين: أحدهما: أن تَظْهَرَ رَغبَتُهُ في النِّسَاءِ بأن يَحُومَ حَوْلَهُنَّ وَيَتَعَلَّقَ بِهِنَّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. والثاني: أنْ يحتاج إلى امرإة تتعهده وتخدمه، ولا توجد من محارمه من يقوم بهذا الشُّغْلِ، وتكون مؤنة النِّكَاحِ أَخَفَّ من مؤنة شراء أَمَةٍ.
هكذا ذكر صَاحِبُ "التَّهْذِيبِ" وآخرون، ولك أن تقول: إذا لم يجب على الزوجة خدمة الزوج وتعهده، فكيف تزوج منه لهذا الغرض، وربما تمتنع المرأة من أن تخدمه، ولا تفي وإن وعدت وربما يلحق بالوجهين ما إذا توقع شفاؤه بالنِّكَاحِ، وإذا جاز التزويج من تولاه الأَبْ أو الجَدُّ، فَإِنْ لم يكونا فالسلطان دون سائر العصبات كما أنه يلي ماله. وأما المجنون الصغير: ففي وجه يزوج منه كما يزوج من العاقل، وعلى هذا فلا يتولاه إلاَّ الأَبُ وَالْجَدُّ، وَالمْذْهَبُ الظَّاهِرُ مَنْعُ التَّزْوِيجِ منه؛ لأنه لاَ حَاجَةَ إليه في الحال، وبعد البلوغ لا يدري كيف يكون الأمر، بخلاف الصغير العاقل فإن الظاهر حاجته إلى النِّكَاحِ بعد البُلُوغِ، وَلاَ مَجَالَ لِحَاجَةِ التَّعَهُّدِ والخدمة فإن الأجنبيات يجوز أن يَقُمْنَّ بخدمته. وعن الشَّيخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: أنه خرّج على هذين الوجهين التزويج من الصغِيرِ الْمَمْسُوحِ، ومتى جَازَ التَّزْوِيجُ مِنَ الُمَجْنُونِ فَلاَ يزوج منه إلا امرأة واحدة؛ لأن الْحَاجَةَ تندفع بها. وفي الصغير العاقل وجهان: أحدهما: أنَّ الحُكْمَ كَذَلِكَ كيلا تكثر المؤنة عليه مع وقوع الكفاية بالواحدة. وأظهرهما: جَوَازُ الزِّيَادَةِ، وهو الْمَذْكُورُ في "الْكِتَابِ"؛ لأنَّ المَرْعيَّ في نكاحه المصلحة، وقد تكون له فيه مصلحة وَغِبْطَةٌ، والمختل كالمجَنون في النِّكَاح، وَهُوَ الَّذِي في عَقْلِهِ خَلَلُ، وَفِي اعْضَائِهِ اسْتِرْضَاءُ، وَلاَ حَاجَةَ بِهِ إِلَى النِّكَاحِ غَالِباً. وقوله في "الْكِتَاب": "فللأب التزويج منه عند ظُهُورِ الْحَاجَةِ" ليس للتخصيص بالأب بل الجد والسُّلْطَاَنُ في معناه كما تبين، واللهُ أَعْلَمُ. قَالَ الغَزَالِيٌّ: وَأَمَّا الْمَجْنُونَةُ فَيُزَوَّجُهَا بِمُجَرَّدِ المَصْلَحَةِ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً بِكْراً كَانَتْ أَوْ ثَيِّباً، وَفِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ وَجْهٌ أَنَّهُ لاَ يُزوِّجُهَا وَاِذَا بَلَغَتْ عَاقِلَة ثُمَّ جُنَّتْ عَادَتِ الوِلاَيَة للأبِ في الأصَحِّ، وَاليَتِيمَةُ البَالِغَةُ الْمَجْنُونَة يُزَوِّجُهَا (و) السُّلْطَانُ عِنْدَ ظُهُورِ الحَاجَةِ، وَيُشَاوِرُ أَقَارِبَهَا، وَالمُشَاوَرَةُ وَاجِبَةٌ في أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَقِيلَ: يُزَوِّجُ بِمجَرَّدِ المَصْلَحَةِ دُونَ الحَاجَةِ قَالَ الرَّافِعِيُّ: ظَاهِرُ الْمَذهَب أَنَّ الأَبَ وَالْجَدَّ عِنْدَ عَدَمِهِ يزوجان المجنونة، كما يزوجان الصغيرة، ولا فَرْقَ بين أن تَكون صَغِيْرَةً، أَوْ كَبِيْرَةً بِكرًا، أَو ثَيِّباً ووراءه وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يَسْتَقِلُّ الأبُ بتزويج الْكَبِيْرَةِ الثَّيِّبِ، بَل يَفْتَقِّرُ إِلَى إِذْنِ السُّلْطَانِ بَدَلاً عَنْ إِذْنِهَا.
والثَّانِي: أنَّهُ لا يزوج الثيب الصغيرة كَمَا لَوْ كَانَتْ عَاقِلَةٌ، وَالْفَرْقُ عَلَى الْمَذْهَبِ أنَّ لِلْبُلُوغِ غَايَةً ترتقب، فيمكن انتظارها لتأذن، وَالإفَاقَةُ بخِلاَفِهِ، ثمِ لا يشترط في تزويجها ظهورَ الحاجة، بل يكفي ظُهُورِ الْمَصْلحَةِ بخلاَف الْمَجْنُونِ؛ لأَنَّ النَّكَاحَ يفيدها المهر والنفقة، ويغرم المجنون، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الَّتِي بَلَغَتْ مَجْنُونَةً، وَبَيْنَ الَّتِي بَلَغَتْ عَاقِلَةً، ثم جُنَّت بناءً على أن من بلغ عاقلاً، ثم جُنَّ تكون الولاية في ماله لأبيه، وَهُوَ الأَصَحُّ. وإن قلنا: إِنَّهَا تكون للسُّلْطَانِ فكذلك أمر التزويج، والخلاف المبني عَلَيْهِ مَذْكورٌ في " [كتاب] (¬1) الْحِجْرِ". وَأَمَّا الْمَجْنُونَةُ التِي لاَ أَبَ لَهَا، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيْرَةً لم تزوج؛ لأنه لاَ حَاجَةً في الْحَالِ، وغير الأب، والجَدُّ لا يملك الإِجبار، وَإنْ كَانَتْ بَالِغَةً، ففي مَنْ يَلِي تَزْوِيجُهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: القريب من الأخ والعم؛ لأَنَّ النَّسيبَ [أَشْفَقُ] (¬2) وَأَوْلَى مِنَ السُّلْطَانِ. وَأَظْهَرُهُما: وَهُوَ الْمَذْكُورُ في الكِتَاب: السُّلْطَانُ؛ لأنَّهُ ليس في أقاربها من له كمال الشفقة فيفوض الأَمْرُ إِلَى مَنْ لَهُ الْوَلاَيَةُ الْعَامَّةُ. وأيضاً فَإنَّهُ الذِي يَلِي مَالَهَا في هذه الحالة، فكذلك أمر التزويج فإن قلنا بالوجه الأول، فَلاَ ينفرد القريب، ولكنه يحتاج إلى فرَاجَعَةِ السُّلْطَانِ، فيقوم إِذْنُ السُّلْطَانِ مَقَامَ إِذْنِهَا، فإن المتنع القريب زوج السلطان كما في صورة الفضل، وإن قلنا بالْوَجْهِ الثَّانِي، فالسلطان يراجع أقاربها، وَهَذِهِ الْمُرَاجَعَةُ واجبة أو مستحبة؟. فيه وجهان: أَحَدُهُمَا: مستحبة وفاءً بتفويض الأمر إلى السُّلْطَان، وإنما يراجعهم تطييباً لقلوبهم. وهذا كما أنَّ الشَّافِعِيَّ -رِضَي اللهِ عَنْهُ- استحب في صورة غيبة الولي، وسائر صُوَرِ تزويج السُّلْطَانِ أن يشاور ذوي الرأي من أقاربها، فإن لم يكن فيهم وَلِيٌّ شاور خَالَهَا، وأبا أُمِّهَا. والثاني: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ؛ لأنَّ الأقارب أعرف بحالها، وأحرص على طلب الحظ لها، فإن شاورهم فلم يشيروا بشيء استقل السلطان، وهذا الوجه استضعفه الإِمام وذكر في "التَّهْذِيبِ" أنَّهُ الأَصَحُّ، والوجهان في وجوب المشاورة جَارِيانِ في التَّزْويجِ من المجنون، ثم من يَلِي أمْرَ نِكَاحِهَا من السُّلْطَانِ، أو القريب يزوج عند ظهور الْحَاجَةِ، ¬
وذلك بأن يتبين فيها مَخَايَلُ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ، أو يشير أرباب الطِّبِّ بأن في تزويجها توقع الشفاء، أمَّا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ وَأَرَادَ التَّزْوِيجَ لكفاية النفقة، أَوْ لمَصْلَحَةٍ أُخْرَى فَوَجْهَانِ: أحدهما: أَنَّهُ يَجُوز كَمَا أنَّ الأَبَ يزوج بمجرد المصلحة. وأصحهما: المنع؛ لأنَّ تزويجها يقع إجباراً وغير الأَبِ وَالْجَدِّ لا يملك الإِجبار أيضاً؛ لأن الإجبار إنما يُصَارُ إليه للحاجة النَّازِلَةِ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ حَتَّى قَالَ اْلإمَامُ: وكنت أَوَدُّ لو استنبط مستنبطِ من الخلاف في أن الثيب الصغيرة المجنونة هل يزوجها أبوها؟ أنه هل يكتفي بمجرد المصلحة كما في البالغة أم تعتبر الحاجة؟. لكن اتفق الأصحاب على الاكتفاء بالمصلحة. وقوله في الكتاب: "وَالْيَتِيمَةُ الْبَالِغَةُ الْمَجْنُونَةُ" لا يخفى أَنَّ الْمُرَادَ من اليتيمة التي لا أَبَ لَهَا ولا جَدَّ، لكن الجمع بين الوصف باليتم والبلوغ غير مستحسن مع ما اشتهر "أَنَّهُ لاَ يُتْمَ بَعْدَ حُلْمٍ" (¬1). وقوله: "يزوجها السلطان" -معلم بالواو. فَرْعٌ: البالغ المنقطع جنونه لا يجوز التزويج منه إلى أن يفيق فيأذن ويشترط وُقُوعَ الْعَقْدِ في وقت الإِفاقةِ، حَتَّى لو عاد الجنون قبل العقد لُغِيَ الإذن كما تُبْطلُ الوَكَالَةُ بالجنون، وكذلكَ الثَّيِّبُ المنقطع جنونها، وَالْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ بِمَرَضٍ أَصَابَهُ ينتظر إفاقته، فإن لم نتوقع الإِفاقة، فهو كالمجنون. قَالَ الغَزَالِيُّ: (وَأَمَّا السَّفِيهُ) فَلاَ يُجْبَر لأَنَّهُ بَالِغٌ وَلاَ يَسْتَقِلُّ لأَنَّهُ سَفِيهٌ لَكِنْ يَتَزَوَّجُ بِإذْنِ الوَلِيَّ بَعْدَ تَعَيْينِ الوَلَّي المَرْأَةَ، ثُمَّ يَتَقَيَّدُ بِمَهْرِ المِثِل، وَلَوْ قَدَّرَ الوَلِيُّ المَهْرَ وَزَادَ السَّفِيهُ سَقَطَتِ الزِّيَادَةُ وَصَحَّ العَقْدُ (و)، وَإِنْ لَمْ يُعَيَّنِ المَرْأَةَ صَحَّ الإِذْنُ فِي وَجْهٍ، ثُمَّ عَلَيْهِ أن يَنْكِحَ بِمَهْرِ المِثْل بِشَرْطِ (و) أَنْ لاَ يَنْكِحَ عَلَى خِلاَفِ المَصْلَحَةِ شَرِيفَةً يَسْتَغْرِقُ مَهْرُ مِثْلِهَا مَالَهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الرابع: السَّفِيْهُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ لايستقل بالتزويج (¬2) لأن ¬
النَّكَاحَ يشتمل على مُؤَنٍ مَالِيَّةِ، ولو استقل به لم يؤمن أن يفني ماله في الْمَهْرِ والنفقة، فلا بُدَّ له من مُرَاجَعَةِ الْوَلِيِّ وحينئذٍ فَإِمَّا أَنْ يَتَزَوَّجَ بإذن الْوَلِيِّ، أو يقبل له الولي النِّكَاحَ. الطَّرِيقُ الأَوَّلُ: تزويجه بإذن الولي وهو جَائِزٌ؛ لانَّهُ مُكَلَّفٌ صَحِيْحٌ العبارة، وإنما حَجَرَ عَلَيْهِ حِفظاً لِمَالِهِ. وفي شرح "مُخْتَصَرِ الْجَويْنِيِّ" عن أبي الطَّيِّبِ بنِ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِ: أنه لا يأذن له الوَليُّ في النِّكَاحِ؛ لأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فأشبه الصَّبِيَّ. والمذهب الأَوَّلُ: وحينئذٍ فَإِمَّا أَنْ يُعَين له امرأة ذاتا بأن يقول: تزوج بفلانة أو نوعًا بأن يقول: تزوج من بني فُلاَنٍ، أو إحدى بَنَاتِ زَيْدٍ أو يقدر مهراً، أو يجمع بين تعيين الْمَرْأةِ، وتقدير الْمَهْرِ، وإما أن يطلق الإِذن. القسم الأول: الإذن المقيد، فإن عين امرأة لبم يجز له نكاح غيرها، ولينكحها بِمَهْرِ الْمِثْلِ أو بِمَا دُونَهُ، فإن زَادَ، فَعَن ابْنِ الْقَطَّانِ: أنَّ بَعْضَ الأَصْحَاب خَرَّجَ قَوْلاً: أنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، والمذهب الصحة، والخلل في الصداق لا يوجب الخَلل في النِّكَاحِ، وَعَلَى هَذَا فتسقط الزِّيَادَةُ الّتِي لا يملك التصرف فيها، وَيجِبُ مَهْرُ الْمِثْلُ. وَقَالَ ابنُ الصَّبَّاغِ: القياس بُطْلاَنُ الْمُسَمَّى، والرجوع إلى مَهْرِ المِثْلِ وَالْفَرْقُ أنَّ على التَّقْدِير الأوَّلِ تستحق الزَّوْجَةُ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ من المعين، وعلى الثَّانِي يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ في الذِّمَةِ. وَلَوْ قَالَ: انكح امرأة من بني فُلاَنٍ نكح وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بمَهْرِ الْمِثْلِ هكذا ولو قدر المهر فقال: انكح بألف، ولم يعين امرأة، فنكح امرأة بألف، فإن كان مَهْرُ مِثْلِهَا ألفاً، أو أكثر فَالنِّكَاحُ صَحِيْحٌ، بالمسمى.
وإن كان أقل من ألف صح النِّكَاحُ بِمَهْرِ المِثْلِ، وَسَقَطَتِ الزِّيَادَةُ؛ لأَنَّهَا [تبرع] (¬1) وَلاَ مَجَالَ لِلتبَرُّعِ في مَالِ السَّفِيْهِ. وَإِنْ نَكَحَ امْرَأَةً بألفين، فَإنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَلفٍ لَمْ يَصِحِّ النِّكَاحُ؛ لأَنَّ الْوَلِيَّ لم يأذن في الزيادة على الألف، وفي الرَّدِّ إلى الألف إضْرَارٌ بالمرأة؛ ولأنه دُونَ مَهْرِ الْمِثْلِ، وإن كان مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفاً، أو أقل صَحَّ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَسَقَطَتِ الزِّيَادَةُ. وعن تخريج ابنِ الْقَطَّانِ وابن خيران: أنَّهُ إذا زاد على ما أذن الولي بطل بِكُلَّ حَالٍ كَمَا لَوْ قَالَت لِلْوَكِيلِ: خَالِعْنِي بِعَشْرَة فَخَالَعَ بَعِشْرِينَ، فإنه يبطل الْخُلْعُ. ولو جمع بين تعيين المرأة وتقدير المهر وقال: انكح فلانة بألف، فإن كان مَهْرُ مِثْلِهَا دون الألف، فالإذن بَاطِلٌ، وإن كان مهر مثلها ألفاً، فإن نكحها بألف، أو أقل صَحَّ النِّكَاحُ بالْمُسَمَّى، وإن زاد سَقَطَتِ الزِّيَادَةُ، وإنْ كان مهر مثلها أكثر من ألفٍ، فإن نَكَحَ بِألْفٍ صَحَّ النِّكَاحُ بِالمُسَمَّى، وإن زَادَ لَمْ يَصِحِّ النِّكَاحُ، قاله في "التَّهْذِيبِ". القسم الثاني: الإِذن المطلق، وفيه وجهان: أحدهما: ويُروى عن أبوي علي بن خيران والطَّبَرِيِّ وَعَنْ أبي الْقَاسِمِ الدَّارِكِيِّ: أنه يلغو، وَلاَ بُدَّ من تعيين امرأة أَو مِنْ نساء قبيلة، أو من يقدر المهر، واحتج له بأن لو اعتبرنا الإذْنَ الْمُطْلَقَ لَمْ يَأْمَنُ أن يَنْكِحَ شَرْيفَةً يَسْتَغْرِقُ مَهْرُ مِثْلِهَا مَالَهُ، وَذَلِكَ يعكر عَلَى مَقْصُودِ الْحَجّرِ بالإِبطال. وَأَصَحُّهُمَا: وَبِهِ قَالَ ابنُ الْقَطَّانِ: أنه يكفي، وَلاَ حَاجَةَ إلَى التَّقْييدِ كَمَا لَوْ أَذَنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ في النِّكَاح يَكْفِي الإِطْلاَقُ وفي بَعْضِ "التَّعَالِيقِ" حِكَايَة طَرِيْقَةٍ قَاطِعَةٍ بالوجه الأول، وإذا قُلْنَا بالثَّاَنِي فلو تزوج امْرَأَةً بِأكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ صَحَّ النِّكَاحُ، وسقطت الزِّيَادَةُ، وإذا تَزَوَّجَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، أَو أَقْلَّ صَحَّ النِّكَاحُ بِالمُسَمَّى. نَعَمْ لَوْ نكَحَ شَرِيفَةً يستغرق مَهْرَ مِثْلِهَا ماله. ففيه وجهان حكاهما القاضي ابنُ كَجٍّ اختيار الإِمام منهما، وهو الْمْذْكُورُ في "الْكِتَابِ": المنع وأنه لا يَصِحُّ نِكَاحُهُ إلاَّ إذا وَافَقَ الْمَصْلَحَةَ. وَذَكَرَ ابنُ كَجٍّ أيضاً تفريعًا على اعتبار الإذْنِ المطلق وجهين فيما لو عين [الولي] (¬2) امرأة، فَعَدَلَ السَّفِيْهُ إلى غيرها، ونكحهَا بمثل مهر المعينة؛ لأنه لا غرض للولي في أعيان الأزواج. ¬
فرعان
فرعان: الأول: لو قال: انْكَحْ مَنْ شِئْتَ [بما شئت] (¬1) ذكر بعضهم أنه يبطل الإِذن؛ لأنه رَفَعَ الْحَجْرَ بِالْكُلِّيَّةِ. الثاني: قال ابنُ كَجٍّ: الإِذن للسَّفِيهِ في النِّكَاحِ لا يفيده جَوَازُ التَّوكِيلِ؛ لأنه لم يَرْفَعِ الْحِجرَ إلاَّ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ. الطريق الثاني: قَبُولُ الْوَلِيِّ النِّكَاحَ له هَلْ يشترط فيه إذن السفيه؟ قال قائلون: لا؛ لأنه فَوَّضَ إليه رعاية مصالحه فإذا عَرَفَ حاجته زوجه كما يكسوه ويطعمه وعلى هذا ينطبق كَلاَمُ الشَّيخِ أبي حَامِدٍ، وَأَصْحَابِنَا العراقيين. وقال آخرون: نعم؛ لأنه حر مُطَلَّقٌ، فلا بدّ من استئذانه، وهو الأصح واعلم أنَّ الشَّافِعِىَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ذَكَرَ في "الْمُخْتَصَرِ" أنَّ السَّفِيْهَ يزوجه وليه، وَرُبَّمَا استأنس الأولون بظاهره والآخرون يحملونه على أصل التزويج، ثُمَّ تراعى شرائطه وقد نقل عن رواية الربيع أنه لا يزوجه وليه، واتفعَوا على أنَّهُ لَيْسَ اخْتِلاَفُ قَوْلٍ، ولكن حَمَلَ بَعْضُهُمْ مَا فِي رِوَايَةِ الرَّبِيع على القيّم الذي لم يأذن له الحاكم في التزويج، وبعضهم على ما إذا لم يحتج السَّفِيْهُ إلى النِّكاح، وإذا قبل الولي النِّكَاحَ له، فليقبل بمهر المثل، أو دونه، فإن زاد كما لو قبل الأب لابنه بأكثر من مَهْرِ الْمِثْلِ. ففي قول: يَبْطُلُ النِّكَاحُ وفي آخَرَ يَصِحُّ [بمهر المثل] (¬2) وهو الأصَحُّ. وإذا عَرَفْتَ جميع ذلك [عَلِمْتَ] (¬3) قَوْلَهُ في الكتاب: "فلا يجبر" بالواو. وكذا قوله: "ولكن يتزوج بإذن الولي". وقوله: "وصح الْعَقْدُ". وقوله "بِشَرْطِ إلاَّ يُنْكِحَ عَلَى خِلاَفِ الْمَصْلَحَةِ" إِلَى آخِرَهُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإِنْ نَكَحَ بِغَيْر إِذْنٍ فَسَدَ، وَلَمْ يَجِبِ الْمَهْرُ بِوَطْئِهِ كَمَا لَوِ اشْتَرَى شَيْئاً وَأُتْلِفَ، وَقِيلَ: يَجِبُ تَعَبُّداً، وَقِيلَ يَجِبُ أَقَلُّ مَا يُتَمَوَّلُ، فَإِذَا الْتَمَسَ النِّكَاحَ فَأَبَى الوَلِيُّ أَذِنَ السُّلْطَانُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَحَّ اسْتِقْلاَلُهُ عَلَى وَجْهٍ، وَلَهُ أَنْ يُطَلِق بِكُلِّ حَالٍ، وَلاَ يَدْخُلُ تَحْتَ الحَجْرِ طَلاَقٌ. قال الرَّافِعِيُّ: فيه ثَلاَثُ مَسَائِلَ نَشْرَحُهَا، ونضم إليها ما لا غنى عن معرفته. ¬
إحداها: الأولى: إذا نَكَحَ السَّفِيْهُ بغير إذنِ الولي بَطَلَ النِّكَاحُ، ويفرق بينهما (¬1)، فَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بها فَلاَ حَدَّ لِلشُّبْهَةِ، وفي الْمَهْرِ أَوْجُهٌ: أصحها: أنه لا يجب كما لو بِيْعَ منه شيءٌ فأتلفه، وهذا؛ لأن مُعَاقَدَتَهُ والتسليم إليه تسليط له على التصرف في الإتلاف، وفي هذا إِشْكَالٌ من جهة أن الْمَهْرَ حَقُّ الزوجة، وقد تزوج وَلاَ شُعُورَ لَهَ بحالَ الزَّوْجِ، فكيف يبطل حَقُّها. والثاني: يَجِبُ مهر المثل؛ لأن تَعُرِيَةَ الوطء عن الحد والمهر جميعاً، لا سبيل إليه. والثالث: يجب أقل ما يتمول رعاية لحق السَّفِيهِ، ووفاءً لحق التعبد إِذْ بِهِ يتميز عن السَّفَاحِ. الثانية: ذكر الأكثرون أنَّهُ يُشْتَرَطُ في نكاح السَّفِيهِ حاجته إليه، وإلاَّ ففيه إتلافُ مَالِهِ، فيما لا يحتاج إليه، وبنوا على هذا أنه لا يُزَوَّجُ منه إلاَّ واحدة، كما مَرَّ في المجنون. قالوا: والحاجة إلى النِّكَاحِ بأن تغلب شهوته، ويلحق به ما إذا احتاج إلى من تخدمه ولم تقم بخدمته محرم، وكانت مَؤُنَةُ الزَّوْجَةِ أَخَفَّ من ثمن جارية، ومؤنها ولم يكتفوا في الحاجة يقول السفيه لأنه قد يقصد إتلاف المال، بل اعتبر ظهور الأمارات الدالة على غلبة الشَّهْوَةِ. وروى الإِمَامُ وَجْهاً: أنه يجوز التزويج منه بِالْمَصْلَحَةِ كالصَّبِيِّ؛ لأن العاقل لا يبعد أن تحنكهَ التجارب بخلاف المجنون، فَإِنَّ إِفَاقَتَهُ بعِيْدَةٌ، ولم يعتبر ظهور أمارات الشهوة، واكتفى فيها يقول السفيه وتابعه صاحب "الكِتَابِ" فيما ذكره، ولك كَلِمَاتٌ: إحداها: لو اعتبرت الحاجة في نِكَاحِهِ لما اعتبر إذنه كالمجنون كما لو عرف جوعه فإنه يطعم، وإن لم يطلب الطعام لخبله. الثانية: إذا اعتبرنا إذنه ومراجعته، وجب أن يكتفي بقوله: ولا يعتبر ظُهُورُ الأمارات؛ لأنه صحيح العبارة في الجملة فصار كالمرأة إذا التمست التزويج. الثالثة: في التزويج لغرض الخدمة إشكال سبق، ثم قضيته أن تجوز الزِّيَادَةُ على وَاحِدَةٍ إذا لَمْ تَكْفِ واحدة للخدمة. إذا تقرر ذلك فإذا التمس السفيه النِّكَاحَ مع ظُهُورِ أَمَارَةِ الْحَاجَةِ إن اعتبرناه، أو ¬
دونه إن لم نعتبره، فعلى الولي الإِجَابَةُ فإن امتنع فتزوج السفيه بنفسه أطلق الأصحاب فيه وجهين: أصحهما: عن الشَّيْخ الْمُتَوَلِّي: أنه لا يصح النِّكاحُ، كما لو تزوج العبد بنفسه إذا لم يأذن له السَّيِّدُ. والثاني: يَصِحُّ؛ لأنه حَقٌّ ثبت على الولي، فإذا لم يوفه استقل صَاحِبُ الْحَقِّ باستيفائه، كالدَّيْنِ على المديون، واستدرك الإِمام وتابعه صاحب "الْكِتَاب" فقالا: "إذا امتنع الولي، فيجب على السَّفِيْهِ مراجعة السلَطان، كالمرأة إذا عضِل وليها فإن خفت الحاجة وتعذرت مراجعة السلطان، فحينئذٍ في استقلال السَّفِيْهِ الوجهان". المسألة الثالثة: للمحجور عليه أن يطلق، وهي مذكورة مرة في "الْحَجْرِ" فإن كان مطلاقاً سُرِيَ بِجارِيَةٍ. [المسألة] الرَّابعَةُ: الكلام في الَّذِي يَلِي أمر السَّفِيْهِ [و] قد سَبَق في "بَاب الْحَجْرِ" وذكر أبو الفرج الزاز أنَّهُ إن بلغ رشيداً، ثم طَرَأَ السَّفَهُ، فَأَمْرُ نِكَاحِهِ يتعلق بالسُّلْطَانِ، وإن بلغ سَفِيْهاً، فيفوض إلى السلطان، أو إلى الأب والجد، فيه وجهان. وأطلق القاضي ابنُ كَجٍّ أنه يُزَوِّجَهُ الحاكم، وأنه إِنْ جَعَلَهُ في حِجْرِ إنْسَانٍ زوجه الَّذِي هُوَ في حِجْرِهِ. وقال الإِمَامُ: إنْ فوض إلى القيم التزويج زُوَّجَ، وإلاَّ فَلاَ. فَرْعَان: الأول: قال في "التَّهْذِيبِ": إقرار السَّفِيْهِ عَلَى نَفْسِهِ بالنَّكَاحِ لا يصح؛ لأَنَّهُ لَيْسَ ممن يباشر بنفسه، وهذا قد يشكل بإقرار الْمَرْأَةِ وما فيه من التفصيل. والخلاف الثاني: المحجور عليه [بالْفَلَس لَهُ] (¬1) أن ينكح لكن ما في يده كالمرهون بحقوق الْغُرَمَاءِ، فلا يصرف لمؤن النِّكَاحِ وَإِنَّمَا هي فيما تكتسب. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَأَمَّا الرَّقُّ فلِلسَّيِّدِ إِجْبَارُ الأَمَةِ، وَلَيْسَ لَهُ (م ح) إِجْبَارُ العَبْدِ فِي قَوْلٍ وَإِنْ كَانَ صَغِيراً فَإذَا طَلَبَ الرَّقِيقُ النِّكَاحَ لَمْ يَجِبِ الإِجَابَةُ عَلَى الأَصَحِّ (و)، وَالصَّحِيحُ هَذَا: التَّصَرُّفِ الْمِلْكُ حَتَّى يُزَوِّجَ الفَاسِقُ أَمَتَهُ، وَيُزَوِّجَ المُسْلِمُ أَمَّتَهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الخامس الرِّقُّ، فنكاح الْعَبْدِ بغير إذن السَّيِّدِ بَاطِلٌ. ¬
وقال مَالِكٌ: يَصِحُّ وَللسَّيِّدِ فَسْخُهُ. وأبو حنيفة يقفه على إجازة السَّيِّدِ. لنا: مَا رُوِيَ أنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أيُّمَا مَمْلُوكٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوْلاَهُ، فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ" (¬1). وُيرْوَى: "هُوَ عَاهِرٌ" (¬2) ولو نكح بإذن السيد، صَحَّ؛ لأنَّ عبارته صَحِيحَةٌ. وإنما المنع، لتحصيل رضا السَّيِّدِ، حَتَّى لو أذنت المرأة لِعَبْدِهَا في النِّكَاحِ، فَنَكَحَ، صَحَّ، وإن لم يكن لَهَا عِبَارَةٌ في النِّكَاح، ويجوز أَنْ يَكون إذن السَّيِّدِ مُقَيَّداً بأمْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا، أو بِوَاحِدَةٍ من الْقَبِيلَةِ أو البلدة، ويجَوز أن يكون مُطْلقاً، وإذا قيَّد، فعدل العبد عن النِّكَاحِ المأذُونِ فيه، لَم يصحَّ. وَحَكَى الْحَنَّاطيُّ وجْهاً: أنه لو كان قد نَصَّ على المهر فنكح غير المعينة بذلك المهر، أو أَقَلَ؛ صَحَّ النِّكَاحُ، وإذا أطلق الإِذن، فله نكاح حُرَّةٍ أو أمَةٍ في تلْكَ البلدة أو غيرها، لكن للسيد مَنْعُهُ عن الخروج إلى الْبَلْدَةِ الأُخْرَى، ولو قَدَّرَ مَهْراً، فزاد، فالزِّيَادَةُ تكون في ذِمَّتِهِ يُتبَعُ بها، إذا أعتق، ولو نكح بما قدَّرَ امرأةً بمهر مِثْلِهَا أو دونه. فقد ذَكَرَ الحَنَّاطيُّ فيه ثَلاَثَ احْتِمَالاَتٍ: أظهرها: صِحَّةُ النِّكَاحِ ووجوب الْمُسَمَّى في الحال. والثَّانِي: أن الزيادة على مهْر المثل يتبع بها إذا أعتق. والثالث: بُطْلاَنُ النِّكَاحِ، ولو رجع عن الإِذن، ولم يعلم به العبد حَتَّى نكح، فهو على الخلاف في الوكالة، ذكره ابنُ كَجٍّ، ولو طَلَّقَ الْعَبْد بَعْدَ مَا نَكَحَ بإذن السَّيِّدِ، لم ينكح أُخرى إلاَّ بإذنٍ جَدِيدٍ، ولو نكح نكاحاً فاسداً، فهل له أن ينكح أخْرَي؟. فيه خلافٌ مبنيّ على أن الإِذن، هل يتناول الْفَاسِدَ، أم يختص بالصحيح، وهذا أصْلٌ سيأتي، إِن شَاءَ اللهُ تَعَالَى. ¬
إذا تقرَّر ذلك ففي الفصل مسائل: المسألة الأولى: هل للسَّيِّد إجبارُ الْعَبْدِ الْبَالِغِ على النِّكَاحِ؟. فيه قولان: أحدهما: وهو القديم: نعم، وهو قَالَ أبو حنِيْفَةَ وَمَالِكٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهِمَا- لأَنَّهُ مَمْلُوكٌ، فأشبه الأُمَةَ. والجديد: المنع، وبه قال أَحْمَدُ؛ لأنه يملك رفع النكاح بالطلاق، فكيف يجبر على ما يملك رفْعَه، وأيضاً، فإنَّ النكاح عقد يلزم ذمة العبدْ مالاً، فلا يجبر عليه كالكتابة، ويخالف الأمة؛ فإنه يملك منفعة بُضْعَها، فيورد العقْد علَى ما يملكه فهاهنا بخلافه، وإن كان العبد صَغِيراً فَطَريقَانِ: أَظْهَرُهُمَا: طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ. والثَّانِي: القطع بجواز الإِجبار، وهو اختيار الْقَاضِي ابنِ كَجٍّ. وإن شئت، قلت: إِن أجبر العبد البالغ، فالصغير أولى، وإلاَّ فقولان أَو وجهان: والفرق: أن الإِجْبَارِ بحال الصّغَبر أَلْيَقُ كما في حَقِّ البنين، ومن طرد الخلاف في الصغير، فقد يثبته على المعنيين المذكورين في أَن البالغ لا يجبر، إِنْ علَّلنا أنه يملك رفع النكاح بالطلاق، فالصَّغِيرُ لا يملكه، فيجبر، وإن علَّلنا بأَنه يُلْزمُ ذمته مالاً، فلا فَرْق، وقد يقول الْمُخْتَصَرُ في إجبار الْعَبْدِ ثَلاثَةُ أَقوالِ، ثالثها الفرق بين الصغير والكبير، والعبد والمجنون كالصغير، وإذا فرَّعنا على جواز الإِجبار للسيد، فللسيد أن يقبل النِّكَاحَ للعبد الْبَالِغِ، وله أنْ يكرهه على القبول، ويصح؛ لأنَّهُ غير مبطل في الإِكراه، قاله في "التَّهْذِيبِ". وفي "التتمة" إن قبوله بالقهر لا يصحُّ، ويقبل إقرار السيد على العبد كإِقْرار الأب في حق ابنته، ويجوز أن يزوِّج أمته من عبده الصغير، أو البالغ، وحينئذ، فلا مهر، وفي استحباب ذكْرِهِ قولان، الجديد أنَّه لا يستحب ويقال وجهان ولو طلب العبد النكاح من السيد [هل يجب الإِجابة؟. فيه قولان، ويقال وجهان] (¬1): أَحدهما: نعم، وبه قال أَحْمَدُ، كما يجب إجابة السَّفِيهِ إذا طلب، ولأنَّ في المنع توريطاً له في الحرام. ¬
وَأَصَحُّهُمَا: المنع، وبه قال أبو حَنِيْفَةَ وَمَالِكٌ -رَحِمَهما اللهُ تَعَالَى- لأنه يُشَوِّشُ عليه مقاصد المِلْك وفوائده، وإذا قلْنا بالأول، فلو امتنع السيد، زوَّجَه السلطان كما لو عضل عن نكاح موْلاته، ولو نكلح بنَفْسه، قال الإمام هو (¬1) كما لو طلب السَّفِيهُ، وامتنع الوليُّ، فَنَكَحَ بِنفْسِهِ. واعلم: أنّ أبا الفرج السَّرْخَسِيَّ بني الْخِلاَفَ في جواز إِجبار العبد على النِّكاحِ على الْخِلاَفِ في وجوب الإِجَابَةِ على السَّيِّدِ، إذا طلب العبد، إن أوجبنا الإِجابة، جعلنا النِّكَاحَ حَقَّ الْعَبْدِ، فلا يجبر عليه، وإلاَّ، أُجْبِرَ كالأَمَةِ، ومنهم منْ عكسَ الأمر، فبني الخلاف في وجوب الإِجابة على السَّيِّدِ على الخلاف في جواز إجبار العبد، إن أجبر حيث لم يجب إجابته [وإلا، وجبت] (¬2) وأشار بَعْضَهُمُ إلى تَخْصِيصِ الخِلاَفِ في وجوب الإِجابة بقولنا: إنَّ السَّيِّدَ لا يُجْبرُ عَبْدَهُ عَلَى النِّكَاح، أما إذا أجبره، فيبْعُدُ أن يقال: إنَّ العبد أيضاً يجبر السيد، والأصحّ ترك البناء منْ الَطرفَيْنِ وإجراء الخلاف في وجوب الإِجابة سواءٌ قلْنا بوجوب الإِجبار، أو لم نقل، ولا يبعد الإِجبار منْ الطرفينٍ، كما يجبر الأب ابْنَتَهُ الْبِكْرُ، وهي أيضاً تطلب، ويجب عليه الإِجابة والمُدَبَّرَةُ والمعلَّق عتقُهُ، بصفةٍ كالقن، ومَنْ بَعْضُه حرٌّ، وبعضه رقيقٌ لا يُجْبَرُ علىَ النكاح، لبعضه الحر، ولا يستقلُّ به لبعْضِهِ الرَّقيق، وهل يجاب إذَا طلَبَ؟ فيه الْخِلاَفُ المذكور في القن والمُكَاتِبُ لا يستقل بالنكاح، ولا يجبره السيد؛ لخروجه عن تصرفه، ولو نكح بِإِذْنِ السَّيِّدِ فطريقان: أحدهما: أنَّه على الخلاف في تبرُّعاته بإذن السَّيِّدِ. وأصحُّهما: القطْعُ بالصحة؛ لأن مُؤَنَ النكاح، وإن تعلَّقت بكسبه، فلها عوض ينتفع به، فصار كالطَّعَام يشتريه، ويأكله وعلَى هذا، فلو طلب من السيد النكاح، فوجوب الإِجابة على الخلاف في القنِّ وأولَى بأن يجب، لأنه لا يتضرَّر بنكاحه؛ لانقطاع حقِّه عن اكتسابه في الحال، والعبد المشترك هل لسيِّدَيهِ واجبارُهُ، وهل عَلَى سيدَيْهِ إِجابَتُه؟ فيه الخلاف المذكور في الطرفين. ولو دعاه أحدُهُما إلى النكاح وامتنع الآخر والعبد، فلا إجبار، ولو طلب أحدُهُما مع العبد وامتنع الآخر؟ فعن الشيخ أبي حَامِدٍ، أنَّ جنبته قَوِيَتْ بموافقة أحد الشريكين السّيِّدَيْنِ، فيكون كالمكاتَبِ. وقال ابنُ الصَّبَّاغِ: هَذَا يَبْطُلُ بمَنْ نصفُهُ حرٌّ، إذا طَلَبَ النِّكَاحَ، فَإِنْ الحُرِّيَّةَ فيه آكَدُ مِنْ مُوَافَقَةِ الآخر. ¬
المسألة الثانية: للسيِّدِ إجبار الأمة على النِّكَاح صَغِيرَةً كانت أو كَبِيرَةً، بِكْراً كانت أو ثَيِّبٍّ، عَاقِلَةً [كانت] أو مَجنُونَةً؛ لأن النَّكَاحَ يَرِدُ عَلى منافع البُضْعِ، وهي مملوكة له، وبهذا يفارق العبد، وأيضاً، فإنه ينتفع بنكاح الأَمَةِ باكتسْابِ الْمَهْرِ والنفقة، وإن الْتمسَتِ الأمة النِّكَاحَ، لم يجب على السيِّد الإِجابةُ، إن كانت ممَّن تحْلُّ له، لما في نكاحها من نقصان قيمتها، وَتَفْوِيْتِ الاستمتاع عليَه، وإنْ كانَتْ ممَّنْ لا تحل له، بأن كانَتْ أختَهُ من الرَّضَاعِ، فوجهان: أَحَدُهُمَا: الوجوب؛ لأنها لا تتوقع منه قضاءَ الشَّهْوَة، ولا بدّ من إعفافها، والأصحُّ المنع؛ لما فيه منْ نقصان القيمة، ولو ملك اختين، ووطئَ إحداها فطلبت الأخرَى تزويجَهَا، لم تَجِبِ الإِجابَة، وإن كانت مُحَرَّمَةٌ عليه؛ لأن تحريمها عارِضٌ، والمُدَبَّرَة والمعلَّق عتْقُهَا بصفة كالقِنَّةِ، وفي تزويج أم الولد خِلاَفٌ مَذكُورٌ في "كتاب أَمِّهَات الأَوْلاَدِ" والظاهر أنها تجبر أيضاً، ومَنْ نصفُها حرٌّ لا تجبر، وإذا طلبت النكاح، فالظاهر أنها لا تجاب، والمكاتَبَةُ لا يجْبُرُهَا السيد، ولا تنكح دون إذنه، وإذا طلبتْ، ففي وجوب الإِجابة وجهان: وجه الوجوب تمكينُها منْ اكتساب المَهْرِ والنفقة. والوجه الآخر: أنها ربما عَجَزَتُ نَفْسُهَا، فتعود إليه ناقصة القيمة، وفيها وجهٌ أَنَّها لا تزوَّج أصلاً؛ لأن ملْك المولَى محتملٌ، وهي غير مالكة لأمرها. فَرْعٌ: لا يزوِّج السيد أمة مُكَاتِبَهِ ولاَ عَبْدِه، ولا يزوجها المكاتَبُ والعبْدُ بغير إِذْنِ السَّيِّدِ فإنْ توافقا، فقولان كما في تبرعاته. فَرْعٌ آخرٌ: إذا كان لعبده الماذُونِ له في التجارة أمةٌ، فإما إلاَّ يكون عليه دَيْن، يكون، فإن لم يكن عليه دَيْنٌ، فهل له تزويجُها بغير إذن العَبْد؟. فيه وجهان: أصحُّهما: نعم. والثاني: لا إلاَّ أن يعيدَ السَّيِّد الحَجْرَ عليه. قال الشَّيخُ أبُو مُحَمَّدٍ: وهذا الخلاَفُ مَبْنِيٌّ على أنَّ السيد لو أعتق عبده المستأجر في أثناء مدة الإِجارة، هل يرجع على السيد بأجرة بقية المدة؟ إن قلْنا: لا يرحع؛ لأن العقْدُ كان في زمان الملك فههنا له التزويجُ بغير إذن العبْدِ، إن قلْنا: يرجع؛ لأنَّ منافعه في باقي المدَّة تتلف عليه في حريته، فليس له التزويجُ هنا بغير إذن العبد؛ لأن النِّكَاحَ ينقص قيمتها، فربما لا يفي ما في يده بذمته، إن حَدَثَ دَيْنٌ، فيطالب ببقيَّة العين، إذا عتق، وإن كان عليه دين، فإن زوَّجها بِإِذْنِ العبد والغرماء، صح، لأنّ الْحَقَّ لا
يعدوهم، وَإِنْ زَوَّجَهَا بإذن العبد دون الغرماء، أو بإذن الغُرَمَاءِ دون الْعَبْدِ، لم يصحَّ؛ على أصح الوَجْهَيْنِ؛ لأنهم يتضرَّرون به، أما العبد، فَلأنَّ التزويجَ ينْقُصُ قيمتها، فالباقي من الدَّيْن يتعلَّق بذمته، وأما الغرماء؛ فلأنهم مَا رَضُوا بتأخُّر حقوقهم وتعلُّقها بذمته إلَى أن يُعْتِقَ، وبيعُ السيد وهبته، ووطْؤُهُ هذه الجارِيةَ كالتزْوِيجِ في حالة قيام الدَّيْن وعَدَمَهِ، وإذا وطئَ بِغَيْرِ إذن الغرماء، فَهَلْ عَلَيْهِ الْمَهْرِ؟ فيه وجهان: في وجه: لا يجب، كما لو وطئ الراهنُ المرهونة. وفي الثاني: يَجِبُ؛ لأن منفعة المَرْهُون للرَّاهن، ومنفعة رقيق المأذون الذي عليه دَيْنٌ لا تكون للمالِكِ. ولَوْ أَحْبَلَهَا، فالولد حُرٌّ، والجارية أم ولد، إن كان مُوسِراً، وإن كان مُعْسِراً، لم تَصِرْ أمَّ ولد، وتباع في الدَّيْن، فإن ملكها بَعْدَ ذلك، فالحكم كما مَرّ في المرهونة، وكذا الحكم في استيلاد الجارِيةِ الْجانِيَةِ، وفي استيلاد الوارث جاريةَ التَّرِكَة إذا كان على الموروث دَيْن، وإِذا لم نحكم بثبوت الاستيلاد في الحال وجب قيمة الولد في جارية العَبْدِ المأذون، وفي جارية التركة، ولا يجب في الجارية، المرهونة وَالْجَانِيَةِ؛ لأَنَّ حَقِّ المجنيِّ عليه والْمُرْتَهَنِ لا يتعلَّق بالولد. ولو أعتق عبده المأذون، وعلى المأذون دَينٌ، أو أَعْتَقَ الوارثُ عَبْداً منْ التركة، وعلى المَوْرُوث دَيْن. قال صاحب "التَّهْذِيب" قيل في نفوذ العِتْقِ قولان، كما في إعتاق الْمَرْهُونِ، والمذهب أنه، إن كان معسراً لم يَنْفُذِ العتق، وإن كان مُوسِراً، نَفَذَ، كالاستيلاد، وعليه أَقَلُّ الأمرين من الدَّيْنِ وقيمة العبد، كما في إعْتَاقِ الْعَبْدِ الْجَانِي، وتزويج الَّتِي تعلَّق المال برقبتها دون إذن المجنيِّ عليه، لا يجوز إن كان السيدُ مُعْسِراً، وَإِنْ كَانَ مُوسِراً فأحد الوجهين: أنه يجوز، ويجعل اختيارًا للفداء واللهُ أَعْلَمُ. المَسْأَلَةُ الثالثة: تزوج السيد أمته بالمِلْك أو بالولاية؟ فيه وجهان: أظهرهما: أنه بالمِلْكِ؛ لأنه يملك الاستمتاع بها، كما يَمْلِكُ تزْويجهَا والتصرُّف فيما يملك استيفاءه وَنَقْلُهُ إلى الغَيْر يكون بحُكْم الملك كاستيفاء المنافع ونقلها بالإِجَارَة. والثاني: أنه بالولاية؛ لأن عليه النَّظَرَ ورعَايَةَ الْحَظِّ لها؛ ألا ترى أنه لا يجُوزُ تزوْيجُها من مجنون بغَيْر رضَاها. وَيتَفَرَّعُ علَى هذا الأصلِ صُوَرٌ. منها: إذا سَلَبْنَا الْوِلاَيَةَ بالفسْق، فالفاسقُ لا يزوج أمَتَهُ، إذا جعلنا هذا التزويجَ
بالولاية، فإن قلنا: إنه بالمِلْك، فيزوِّجها كما يبيعها. ومنها: إذا كان للمسلم أَمَةٌ كِتَابِيَّةٌ، فَظَاهِرُ الْمَذْهَب أنَّ له تزويجها بالملك، كما أنَّ له بَيْعَها وإجارَتَهاَ، هَذَا، مَا نَصَّ عَلَيْه في "الْمُخْتَصَرِ" فقال: ولا يكون المُسْلِم ولياً لكافرةٍ، إلا على أمتِهِ. وفيه وجه: أنَّه لا يجوز له تزويجُهَا، كما لا يجوز له تزويجُ ابنته الكافرة، والقائل به أَوَّلَ النَّصِّ من وجهين: أحدهما: أنَّ المعنَى "ولا على أمته، لقوله تعالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً} يعني "ولا خطأ". والثَّاني: أنَّ المعنَى "إلا على أمته" في البيع والإِجارة ونحوهما" لا في النِّكَاحِ وإذا قُلْنَا بالظاهر، فهي لا تصلح للحُرِّ الْمُسْلِمِ وإنما تزوجَها من الحُرِّ الكتابي، أو من العبد الْمُسْلِمِ، وهذا إذَا جوَّزنا لهما نكاحَهَا على ما سيأْتِي بيانُ الخلاف فيه، فإن لم نجوِّز لم يُتصوَّر من المسلم تزويجُها، وهذا في تزويج الأمة الكتابية، أما المجوسية والوثنية، فسنتكلم فيهما. وَمِنْهَا: إذا كان للكافرِ أمةٌ مسلمةٌ أو أمّ ولدٍ، فَوَجْهَانِ: أحدهما: وَبِهِ قَالَه ابنُ الْحَدَّادِ: أنَّه يزوِّجها بحقِّ الملك كما يُزَوِّجُ الْمُسْلِمُ أَمَتَهُ الْكَافِرَةَ. وأظهرهما: المنْعُ، والفرق من وجهين: أحدهما: أنَّ حقَّ المسلم في الولاية آكَدُ، ألا ترَى أنَّه يثبَتُ له الولايةُ على الكافراتِ بالجِهَة العامَّة. والثاني: أنَّ الْمُسْلِمَ يملك الاستمتاع ببُضْعِ الْكَافِرَةِ، فيملك تزويجَهَا والعَكْسُ بخلافه. ولو كان للمسْلِم أمَةٌ مَجُوسِيَّةٌ أو وَثَنِيَّةٌ، فهل له تزويجُهَا فيه وجهان مبنيان على الفرقَيْنِ إن قلنا بالأول، فله تزويجها أيضاً، وإن قلنا بالثاني، فلا، وهذا هو المذكور في "التَّهْذِيب" والأولُ أصَحُّ عند الشَّيخِ أبي عَلِيّ، واستشهد عليه بأن مَنْ ملك أخته من الرَّضَاعة، أو النَّسب، كان له تزويجها، وإن لم يكن له الاستمتاعُ بها. قَالَ الإِمَامُ ورأيْتُ لبعض الأصحاب تشبيبَا بمنعه أيضاً، وما ذكرناه من الخلافِ في أن تزويج الأَمَةِ بحق الملك أو بالولاية لا يجري في تزويج العبد، إذا قلنا: إنَّ للسيد أنْ يجبره، قلو كان لكافر عَبْدٌ مُسْلِم، ورأينا الإِجبار، ففي إجباره إيَّاه الْخِلاَفُ الْمَذْكُورُ في أنَّه، هل يزوج أمته المسلمة؟ وإن لم نَرَ الإِجبار لم يستقل العبد، ولكن يأذن له السيد؛ ليسقط حقه، فيستقل العبد، حينئذٍ، كما أنَّ الْمَرْأةَ تأذَنُ لعبدها، فيتزوج، وإن لم تكُنْ هي من أهلِ التَّزْوِيجِ. ومنها: قال في "التتمة" للمكاتَبِ تزويجُ أَمَتِهِ، إن قلنا: إنَّهُ تصرُّفٌ بالمِلْك، وإن
قلنا: بالولاية، فلا؛ لأنَّ الرقَّ يمنع الولاية. وقوله في "الكتاب" وليس له إجْبارُ "الْعَبْدِ" معلَمٌ بالحاء والميم، وقوله "لم يجب الإجابة" بالألف؛ لما عرفت من الشرْحِ، وَيجوز أن يعلم قوله "على الأصح" بالواو؛ لأَن في بعض "التعاليق" طريقَةً قَاطِعَةً بأنه لا يَجِبُ علَى السيد الإِجابةُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَللوَلِيِّ تَزْوِيجُ رَقِيقِ الطِّفْلِ بِالمَصْلَحَةِ فِي أَحَدَ الوَجْهَيْنَ، وَأَمَةُ المَرْأَةِ يُزَوِّجُهَا وَليُّهَا بِرِضَاهَا، وَقِيلَ: السُّلْطَانُ يُزَوِّجُهَا، وَلاَ يَكْفِي سُكُوتُ البِكْرِ فِي حَقِّ أَمَتِهَا، وَالْمُعْتَقَةُ فِي المَرَضِ يُزَوَّجُهَا قَرِيبُهَا، وَقِيلَ: لاَ تُزَوِّجُ لإِمْكَانِ عَوْدِهَا رَقِيقَةً بِالمَوْتِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في هذه البقيَّة ثَلاَثُ صُوَرٍ: إحداها: عبد الصبي والمجنون والسَّفِيْه لا يجبره وليُّهم؛ لما فيه من انقطاع أكسابه وفوائده عنهم. وفيه وجه: أنه يجوز؛ لأن المصلحة قد تقتضيه، والظاهر الأول، وإن طلبتْ عندهم التزويجَ، فإن لم نوجِبُ على السيد الرشيدِ الإِجابةَ، لم يجز لوليهم الإجابةُ، وإن أوجبناها، فعلَى وليهم الإجابة، فإن الوليَّ قائمٌ مقام الموليَّ عليه، وأما أمةَ الصبيِّ والمجنونِ والسَّفيهِ، فهل يزوِّجَها أوليائهم؟. فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه ينقص قيمتها، وقد تَحْبَلُ، فتهلك. وأظهرهما: وبه قَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ وأبو إسْحَاقَ: نَعَم، إذا ظَهَرَت الغِبْطَةُ اكتساباً للمهر والنفقة، وفي بعض "الشُّرُوحِ" وجه: أن أمة الصبية تزوَّج، وأمة الصبي لا تزوَّج؛ لأنه قد يحتاج إليها بعد البلوغ، فإن جوَّزْنا، قَالَ الإِمَامُ: يجوز تزويج أمة الثيب الصغيرة، وإن لم يجز تزويجُها، ولا يجوز للأبِ تزويجُ أمة ابنته البكرِ البالغةِ قَهْراً، وإن كان يزوجُها قَهْراً، ويجوز للسلطان تزويجُ أمَةِ الصغير، إذا ولي ماله، وهذا يوافق وجهاً للأصحاب في أنَّ وليَّ المال يزوّج أمة الصغير والمجنون، نسيباً كان أو وصياً أو قيماً، كسائر التصرُّفات المالية، والأظهر وَجْهٌ آخرُ، وهو: أن الذي يزوِّجها وليُّ النِّكَاح الذي يلي المالَ، وعلى هذا؛ غَيْرُ الأب والْجَدِّ لا يزوجها؛ لأنه لا يزوِّج الصغيرةَ والصغيرَ، والأبُ لا يزوِّج أمة الصغيرة، وإن كانت مجنونةً تزوَّج، وإن كان لسفيه، فلا بدّ من إذنه. وقوله في الكتاب: " [وللوليَّ تزويج رقيق الطفل] " (¬1) اللفظ ينظم العبد والأمة، وهو ¬
مستمرٌّ على ظاهره؛ لثبوت الخلاف فيهما، ثم الظاهرُ في العَبْدِ المنع، وفي الأَمةِ الجوازُ. الثَّانِيَةُ: أمَةُ المرأة، يُنْظَر في حالها، إن كانت مالكتها محْجُوراً علَيْها، فقد سبق، وإلاَّ، فيزوجها وليُّ المرأة تَبَعاً لولايته على المالكة، ولا فرْقَ بين الوليِّ بالنسب وغيره، ولا بَيْن أن تكون الأَمَةُ الْمُزَوَّجَةُ عَاقِلَةً أو مَجْنُونَةً، كَبِيرَةً أو صَغِيرَةً. وذكر الإِمام؛ أن صَاحِبَ "التَّلْخِيصِ" قال: لا يزوِّجها الأولياءُ بالأسباب الخاصَّة؛ لأنه ليس بينهمَا وبينهم سَبَبٌ، ولا نسب، ولكن يزوِّجها السلطان بالولاية العامة، وهذا غَيْرُ مَشْهُورٍ عنه، ولا مذكور في "التَّلْخِيصِ"، وإنما المشهور والمذكُور أن معتقة المرأة يزوِّجها السلطان، وَقَد حكَيْنا ذلك عنه من قبل، ثم لا حَاجَة في نِكَاح الأمة إِلَى إذنها، ولا بُدَّ منْ إذْن المالكة لفظًا، ولا يكفي ثبوت الْبِكْر في نكاح أمتها؛ لأنها لا تستَحِي في نكاح أمتها (¬1). الثالثة: أعتق في مرضه أمَة، قَالَ: ابن الْحَدَّادِ: لا يجوز لوليِّها الْحُرِّ من الأب والأخ أو غيرهما تزويجُها، حَتَّى يَبْرَأَ أو يموت، وتخرج هي من الثلث؛ لأنها إنما تَعْتِقُ بتمامها على هذَيْن التقديرَيْنِ، فلا يجوز نكاحُهَا حَتَّى تعرف حريتها، وهذا كما لو أسْلَمَ الكافر وتخلفت زوجته، نَصَّ الشَّافِعِي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- على أنه لا يجوز له أن ينكح أختها لاحتمال أن المتخلفة تُسْلِمُ قبل انقضاء العدة، وساعده بَعْضُ الأصحاب عَلَى ما ذكره، وهو الذي أورده القاضي ابنُ كَجٍّ. وقال الأكثرون، منْهم ابن سرَيجٍ وأبو زَيدٍ: يجوز لوليِّها تزويجُها؛ لأنا في ظاهر الحالِ نحْكُم بحريتها، فلا يمتنع العقْدُ بالاحتمال، ولهذا لَوْ مَاتَ، وخرجت من الثلث، نحكم بعتقها، ويجوز تزويجها، وإن كان يحتمل أن يظهر عليه دَيْنٌ، يمنع خروجها من الثلث، وليس هذا كَنِكَاحِ أختِ المُشْرِكة، فإن الظَّاهِرَ هناك بقاءُ النِّكَاحِ، ولهذا لو أسلَمَتْ في العدَّة، تبين دوام النِّكَاح، وهنا المريض هو المالِكُ والأصل بقاؤه، ويعود العتقُ، علَى أن أبا زيد جعل نِكَاَحَ أختِ المشركة على قولَيْن، فيسوي بين الصورتَيْن، ويقرب بين المسألتَيْن نكاح المرتابة بالحمل، وسيأتِي في كتاب "العِدّةِ" إن شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فإن حكمنا بالصحَّة، فهو حكم بالظاهر، وحقيقة الأمر تتبين آخراً، فإن تحققنا نفوذ العتْق، تحقَّقنا مضيَّ النِّكَاح على الصحَّة، وإلاَّ، فينظر في إجازة الورثةِ ورَدَّهم، إن ردُّوا بَانَ فَسَادُ النِّكَاحِ، وانَ أجازوا، فإن جعلْنا الإِجازة ¬
القول في موانع النكاح
إنشاءَ [تَبَرُّع] (¬1) منهم، فكذلك الجواب؛ لأن العتْقَ كان متبعِّضاً إِلَى أن أجازوا وإن جَعَلْنَاهَا تَنْفِيذاً، فهو كما لو خرجَتْ منْ الثُّلُثِ، ثم في الْمَسْأَلَةِ كَلاَمَانِ: أَحَدُهُمَا: صَوَّرَ الإمَامَ -رَحِمَهُ اللهُ- الْمَسْأَلَة فيما إذا لم يكُنْ للمعتِقِ مالٌ سواها، ثم قال: إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ حَمٌّ، بَقِيَ ثُلُثُهُ بقيمتها، يجوز أن يُقَالَ؛ على قياس كلام ابنِ الْحَدَّادِ: النِّكَاحُ مَحْمُوْلٌ عَلَى الصِّحَّةِ بِنَاءً على كَثَرَةِ الْمَالِ، ويجوز خلافُهُ لضَعْفِ ملك المريض، وكون الْمَالِ عرضةً للأقَارِبِ، وهذا ما يقتضيه كَلاَمُ ابنِ الْحَدَّاد في المولَّدات، وَعَامَّةُ النَّاقِلِينَ، فَإنهم أرسلوا التصوير، ولم يقيِّدوا بما إذا لم يكن له مَالٌ سِوَاها. والثاني: ادَّعَى الإِمَامُ أَنَّ الشَّيْخَ أبا عَلِيٍّ ذكر في "الشَّرْحِ" أن فحوى كلام ابنِ الْحَدَّاد يدل على أَنَّ السَّيِّدَ لو أعتقها كما صوَّرنا وتزوَّجها بنَفْسِه، نفذ ذلك؛ لأنها، إنْ رقت، فهو سيِّدها، وَإلاَّ، فله ولاؤها، واعترض عليه بأنَّا إذا قدَّرنا نفذ العتق، فالمعْتِقُ لا يملك التزويج بالولاء مع وجود الأب أو الأخ، وهذا الذي ادعاه شَيْءٌ سَبَقَ إليه الْوَهْمُ والنِّسْيان، وإنما ذَكَرَ الشَّيْخُ ذلك فيما إذا لم يكُنْ لها وليٌّ نسيبٌ، فقال: ومفهوم ما قاله ابنُ الْحَدَّاد؛ أنه إذا لم يكُنْ لها وَلِيٌّ غير السيد، فزوَّجها هو، صح؛ لأنها إن لم تخرج من الثلث، فهو وليُّ ما عتق بالولاء، ومالِكُ ما لم يُعْتَقْ، هذا لفظه في "الشَّرْح" فَأَمَّا إذا زوَّجها السيِّد، ولَهَا وليٌّ نسيبٌ، وجب ألاّ يصح على الوجهين، وإن كان بإِذْنِ النَّسِيبِ، وجب أن يَصِحَّ على الوجهين والله أعلم. وهذا وقت الفَرَاغ مِن القسم الثاني منْ كتاب النكاح -بتوفيق الله تعالى-. قَالَ الغَزَالِيُّ: (القِسْمُ الثَّالِثُ) مِنَ الكِتَابِ في المَوَانِعِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ (الأَوَّلُ): المَحْرَمِيةُ بِقَرَابَةٍ أَوْ رِضَاعٍ أَوْ صِهْرٍ (أَمَّا القَرَابَةُ) فَيَحْرُمُ مِنْهَا سَبعَة: الأُمَّهَات وَالبَنَاتُ وَالأَخَوَاتُ وَبَنَاتُ الإخْوَةِ وَالأخَوَاتُ وَالعَمَّاتُ وَالخَالاَتُ، وَلاَ يَحْرُمُ أَوْلاد الأَعْمَامِ والأَخْوَالِ، وَأُمُّكَ كُلُّ أُنْثَى يَنْتَهِي إلَيْهَا نَسَبُكَ بِالوِلاَدَةِ وَلَوْ بِوَسَائِطَ، وَبَنُوكَ مَنْ يَنْتَهِي إِلَيْكَ نَسَبُهُمْ وَلَوْ بِوَسَائِطَ، وَالضَّابِطُ أنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أُصُولُهُ وَفُصُولُهُ، وَفُصُولُ أَوَّلِ أُصُولهِ، وَأَوَّلُ فَصْلٍ مِنْ كُلِّ أَصْلٍ وَإِنْ عَلاَ (ح و)، وَلاَ يَحْرُمُ الوَلَدُ (ح) مِنَ الزِّنَا إلاَّ عَلَى الأُمِّ، وفي المَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ وَجْهَانِ. " القول في موانع النكاح" قال الرَّافِعِيُّ: مقصود الفصْل القولُ في "موانع النكاح" وترجمتها المعدودة في ¬
الركن الثاني من القسم الثاني وتبلغَ سَبْعَةَ عَشَرَ، ثم منها ما هو أوضَحُ منْ أن يفتقر إلى تطويل؛ لكونها منكوحة الغير ومنها ما نتكلَّم فيه في غير هذا الباب لكونها ملاعنة، ومعظمها المحتاجُ إلَى الشَّرْحِ والْبَسْطِ يَقَعُ في هذا القسم، وقد حَصَرَهُ الْمُصَنِّفُ في أربعة أَجْنَاسٍ: أَحَدُهَا: المَحْرَمِيَّةُ، وهي الوصلة المُحَرِّمَة للنكاح أبداً، وَلَهَا ثَلاثةُ أَسْبَابٍ القَرَابَةُ، وَالرَّضَاعُ، وَالْمُصَاهَرَةُ. السَّبَبُ الأَولُ: القَرَابَةُ، ويحرم منها سبعةٌ، وهي الْمَذْكُورَاتُ في قَولِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إِلَى قوله: {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء: 23] ولا يحرم بنات الأعمام وَالْعَمَّاتِ والأخْوَال والخالاتِ، قَرُبْنَ أم بَعُدْنَ، وأمُّك كلُّ أنْثَى ولدَتْكَ أَوْ وَلَدَتْ منْ ولَدَتْكَ، ذكراً كان أو أُنْثَى، بواسطة أو بغَيْر واسطة، وإن شِئْتَ قلتَ: كلُّ منْ ينتهي إلَيْها نسبُكَ بالولادة، بواسطة أو بغير واسطة (¬1)، وبنتك كل أنثى ولدتها، أو ولدت من ولدها ذكراً كان أو أنثى بواسطة، أو بغير واسطة، وإن شِئْتَ قُلْتَ: كُلُّ أُنْثَى ينتهي إليك نَسَبْهَا بالولادة بواسطة، أو بَغَيْرَ واسِطَةٍ. وأختُكَ: أنثى وَلَدَهَا أبَوَاكَ أَو أحدُهُما، وبنتُ أختِك منْهما [كبنتك] (¬2) منك، وعمَّتُكَ: كل أنثى هي أختُ ذكَرٍ وَلَدَكَ بواسِطة، أو بغير واسطة، وقد تكون من جهة الأم كأختِ أبِ الأمِّ، وخالتُكَ: كُلُّ أنثَى هي أخت أنثَى ولدتْكَ بواسطة، أو بغير واسطة، وقد تكون منْ جِهَةِ الأب، كأخت أم الأب، وضبطهن الأصحاب بعبارتين: إحداهما: قال الأستاذ أَبُو إسْحَاقَ الإسْفَرايِينيُّ: يحرم على الرجُلِ أصولُهُ وفصولُهُ وأصولُ أوَّلِ أصوله؛ وأوَّلُ فصْلٍ منْ كَل أصل بعده، أي: بعد أول الأصول، فالأصول: الأمهاتُ، والفصول: البنات، وفصول أول الأصول: الأخواتُ وبناتُ الأخِ والأختِ، وأوَّلُ فصْلِ من كل أصل بعد الأصل الأول: العماتُ والخالاتُ، وَهَذهِ العِبَارَةُ هِي الْمَذْكُورَةُ في الكتاب، لكنه قال: "وَأَوَّلُ فَصْلٍ منْ كُلِّ أصْلٍ وإن عَلاَ"، وهذا يدخل فيه الأخواتُ مرةً أخرَى؛ لأن الأبَ والأمَّ منْ الأصول، وهن أول فصولهما، فالأحْسَنُ التقييد كما ذكره سائر الأئمة. ¬
ولو حمل قوله "وكل أصل، وإن عَلاَ" عَلَى كُلِّ أَصْلٍ عَالٍ، خَرَجَ الأَبُ وَالأُمُّ، فَإنَّهُمَا أصلاَنِ سافِلاَنِ، وليسا بعالِيَيْنِ، وَحِيْنَئذٍ يتوافَقُ الَّلفْظَانُ في إفادَةِ الْغَرَضِ. وَالعِبَارَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ الأُسْتاذِ أَبِي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِي أَنَّ نِسَاءَ الْقَرَابَاتِ مُحَرَّمَات إلاَّ مَنْ دَخَلَ في اسْمِ وَلَدِ الْعُمُومَةِ، وولد الخُئُولَةِ، ثُمَّ قف عَلَى فَوَائِدَ: إحداها: ذكرنا في "الوقفْ" خِلاَفاً في دخول بَنَاتِ الأَوْلاَدِ في اسْم الْبَنَاتِ، وفي الْوَصِيَّةِ خِلاَفاً في دخُولِ جَمِيع الْجَدَّاتِ في اسْم الأُمَّهَاتِ فَإِن قلْنا بالدخول، فالذي ذكرنا الآن في تفسير البنات والأَمهات حقيقةُ اللفظَيْن وإن لم نَقُلْ بالدُّخُولِ، فهو تعريف المُرَادِ ثُمَّ يَقَعُ اللَّفْظُ عَلَى بَعْضِهِنَّ حقيقة، وعلى بعْضِهِنَّ مجازاً، وعلَى هذا جرى أَئِمَّتُنَا العراقيُّون، فقالوا: تحرم البنت بالحقيقة والمجاز، وكذا سائر المذكورات إلاَّ الأخت، فلا مجازَ فِيهَا، وإذا قلْنا بهذا، فيمكن أن يقال: المراد من الآية التفسيرُ المذكورُ، ويمكن أن يُقَالَ: المراد الحقيقةُ، وصوَرُ المجاز مقيسةٌ بها. الثانية: إذا قُلْنَا بوقوع اسم الأب على الأجداد، احتجنا أن نقيِّد تفسير الأخت، فنقول: هي التي ولَدَهَا أبواك الأدْنيانِ أَو أبواك بلا وَاسِطَةٍ. الثالثة: فَسَّرَ مُفَسِّرُونَ العمَّة والخالَةَ بما لا تشْمَلُ المحرَّمات من الصِّنْف، وهذا الإِمام يقول: كلُّ من ولَدَها أجدادُكَ وجدَّاتُكَ مِن قِبَلِ الأب، فهي عمَّةٌ، ومن ولَدَها أجَدادُكَ وجدَّاتُكَ من قِبَل الأم، فهي خالَةُ، فتخرج عن الأول عمة الأم، وهي أخت أبي الأم، وعن الثاني خالة الأب، وهي أخت أم الأب، وهما مُحَرَّمَتَانِ. الرابعة: لك أن تُرَجِّحَ مِنَ الْعِبَارَتَينِ الثانية بإيجازها، وبأن الأولى لا تنصُّ على الإِناث، فإن لفظ الأصول والفُصُول يقع على المذكور والإِناث، وبأنَّ اللائق بالضابط أنْ يكَون أقْصَرَ المضبوط، ليَسْهل حفظه، والأمر في العبارةَ الأُولَى بخلافه، ثم في الفصل فَرْعَانِ: الأَوَّلُ: إذا زنا بِامْرَأَةٍ، فولدَتْ بنتاً، فيجوزُ للِزَّانِي تَزَوُّجُهَا ويُكْرَهُ، أما الجواز، فلأنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ عنْه، بدليل أَنَّهُ لا يثبت سائر أحكَامِ النَّسَبِ، وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ، فقد اختلف الأَصْحَابُ في سبَبِها، فمنهم مَنْ قال: سببها الخروجُ منَ الخلاف بيْنَ العلماء، ومنْهم مَنْ قال: السببُ احتمالُ كَوْنِهَا مخلوقةً من مائه، فعلى المَعْنَى الثَّانِي، لو تَيَقَّنَ أنها مَخْلُوقَةٌ من مائه، حُرِّمَ عليه أن ينْكحِهَا، وهذا اختيار جَمَاعَةٍ، منْهم الْقَاضِي الرُّويَانِيُّ، وعلى الأول؛ لا تَحْرُمُ مع التيقن، وهو الأَصَحُّ من المذهب، وعن ابن القاص وَجْهٌ مُطْلَقٌ أنه لا يَجُوزُ للزَّانِي نِكَاحُهَا، وهو قَوْلُ أبي حَنِيْفَةَ وَأَحْمَدَ، وَسَاعَدَنَا مَالِكٌ على الْجَوَازِ، وَلاَ شَكَّ أَنَّهَا لَوْ وَلَدَتِ ابْناً حُرَّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْكِحَها.
القول في الرضاع
الثاني: البنْت المنفيَّةُ باللِّعان لا يجوز للملاعِنِ أن ينكحها إن كان قد دخل بالْمُلاَعَنَةِ؛ لأنها ربيبة امْرَأَةٍ مَدْخُولٍ بها، وإن لم يَدْخُلْ بها، فوجهان، وحكايةُ الوجهين في "الْكِتَابِ" وإن كانت مطْلَقَةً، لكنِ المرادُ هذه الحالة: أحدهما: الجوازُ كَبْنِتِ الزِّنَا؛ لأنها منفيَّة أيضاً. وأصحهما: الْمَنْعُ؛ لأنَّهَا لا تنتفي عنْه قَطْعاً؛ ألا تَرَى أنه لو أَكْذَبَ نَفْسَهُ لحقتْهُ قال في "التَّتِمَّة" وعلَئ هذا، ففي وُجُوبِ القِصَاصِ بِقَتْلِهَا، والحَدِّ بِقَذْفِهَا، والْقَطْعِ بِسَرِقَةِ مَالِهَا، وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ لَهَا وَجْهَانِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَيْحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وَكُلُّ امْرَأَةٍ أَرْضَعَتْكَ أَوْ أَرْضَعَتْ مَنْ أَرْضَعَتْكَ أَوْ أَرْضَعَتْ مَنْ يَرْجِعُ نَسَبُكَ إِلَيْهِ فَهِيَ أُمُّكَ، وَكَذَلِكَ كُلّ امْرَأَةٍ يَرْجِعُ نَسَبُ المُرْضِعَةِ إلَيْهَا، وَأُخْتُ المُرْضِعَةِ خَالَتُكَ، وَأَخُوهَا خَالُكَ، وَكذَلِكَ في سَائِرِ أَحْكَامِ النَّسَبِ، وَلَوِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُ رَضَاعِ بِأهْلِ قَرْيَةٍ جَازَ أنْ يَنْكِحَ وَاحِدةً مِنْهُنَّ، وَإِنْ كُنَّ مَحْصُورَاتِ العَدَدِ في العَادَةِ لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. " القول في الرضاع" قال الرَّافِعِيُّ: السَّبَبُ الثَّانِي: الرِّضَاعُ قَالَ الله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وَعَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّه قَالَ: "يَحْرُمُ مِنَ الرِّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلاَدَةِ" (¬1) ويُرْوَى "مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ". ولْنبيِّنِ الأصْنَافَ السَّبْعَةَ مِن الرَّضَاعِ، فَكُل: امْرَأَةٍ أَرضعتْكَ، أو أَرْضَعَتْ مَنْ أرضعَتْكَ، أو أَرْضَعَتْ مَنْ وَلَدَكَ بواسطة أو بغير واسطة، فهي أمُّكَ، وكذا كُلُّ امْرَأَةٍ وَلَدَت المرضعة أو الفحل، وَكُلُّ امْرَأَةٍ أَرْضَعَتْ بِلَبَنِكَ أو بلبن من ولدته، أو أرضعتها امرأةٌ ولدتها، أنت فَهِي بنتُكَ، وكذلك بناتُها مِنَ النَّسَب والرَّضَاعِ، وَكُلُّ امْرَأَةٍ أَرْضَعَتْهَا أمُّكَ وأرضعت بلبن أبيك، فهي أختك، وكذلك كُلُّ امْرَأَةٍ ولدتْهَا المرضعة، أو الفحلُ أو أَخَوَاتُ الْفَحْلِ، والمرضعةُ وأخواتُ منْ ولدهما من النَّسَبَ وَالرَّضَاع، عماتُكَ وخالاتُكَ، وَكِذَلِكَ كُلُّ امْرَأَةٍ أرضعَتْها واحدةٌ من جداتك أو أرضعَتْكَ بلبنٍ وَاحدٍ مِنْ أجْدَادِكَ مِنَ النَّسَبِ والرَّضَاعِ، وبناتُ أَوْلاَدِ الْمُرْضِعَةِ وَالْفَحْلِ مِنَ الرَّضَاعِ وَالنَّسَبِ بِناتُ ¬
أَخيكَ وأختكَ، وكذلك كُلُّ أُنْثَى أَرْضَعَتْهَا أُخْتُكَ أو أرْضِعَتْ بلبن أُخْتِكِ وبناتها بنات أولادها من الرَّضَاع وَالْنَّسَبِ بناتُ أخيك وأختِكَ، وبناتُ كُلِّ ذَكرٍ أَرْضَعَتهُ أُمُّكَ أو أرْضَعَتْ بلَبَنِ أَخِيكَ وبناتِ أَولادِهِ منْ الرَّضَاع والنَّسَب بناتُ أَخيكَ، وبناتُ كُلِّ امْرَأةٍ؛ أَرْضَعْتَهَا أمُّكَ أو أرْضِعَتْ بلبن أبيكَ وبناتِ أولَادِهَا منَ النَّسَبِ والرَّضَاعِ بناتُ أخيكَ. وأربعُ نِسْوَةٍ يَحْرُمْنَ في النَّسَبِ، وَفي الرَّضَاعِ قَد يَحْرُمْنَ، وَقَدْ لا يحْرمَن. إحداهن: أم أم الأخ والأخت من النَّسَب حَرَامٌ؛ لأنها أمُّ، أو زوِجة أب، وفي الرَّضَاعِ، وإن كانت كذلك حَرُمت أيضاً، وإن لم تكُنْ كما إذا أرضعَتْ أجْنَبِيَّةٌ أَخَاكَ أو أُختَكَ، لم تحْرُمْ. الثانية: أم نافلتك في النسب حَرَامٌ؛ لأنها إما بنتك أو زوجةُ ابنِكَ، وفي الرَّضَاع قد لا تكون بنتاً ولا زوجة ابن بِأنْ أَرْضَعَتْ أجنبيةً نافلتك. الثالثة: جَدَّهُ وَلَدِكَ في النَّسَبِ حَرَامٌ؛ لأنها أم أمك أو أمُّ زوجتك، وفي الرَّضَاعِ قَدْ لاَ تَكُونُ كَذَلِكَ كما إذا أرضعت أجنبيةٌ ولدَكَ، فإنَّ أمَّها جدتُهُ، وليسَتْ بأمك ولا أُمَّ زوجتك. الرابعة: أختُ ولَدِكَ في النَّسَبِ حرامٌ عليك؛ لأنها إما بنتك أو ربيبَتُكَ، وإذا أرضعتْ أَجْنَبِيَّةٌ وَلَدَكَ، فبنتها أختُ وَلَدِكَ، وليستْ بنتك ولا ربيبةً ولا تحرم أخت الأخ في النَّسَبِ، ولا في الرَّضَاعِ وصورته في النَّسَبِ أن يكون لك أخٌ لأب وأختٌ لأمٍّ، فيجوز لأخَيك منْ الأبِ نكَاحُ أختِكَ من الأم، وهي أختُ أخيه، ومن الرَّضَاع امرأةٌ أرضعْتكَ وأرضعَتْ صَغَيرةً أَجْنَبِيَّة مِنْكَ، يجوز لأخيك نِكَاحُهَا، وهي أختك من الَرَّضَاع والصُّوَرُ الأَرْبَعُ مستثناةٌ من قولنَا "إنَّهُ يَحْرُمُ منْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ (¬1) ثُمَّ الفَصْلُ ¬
مَخْتُومٌ بِمَسْألةٍ تَجْرِي في المحارم بالنَّسَبِ والمصاهرة جَرَيَانَهَا في الرَّضَاعِ، وهي أنَّهُ إِذَا اختلَطَ محرمة باجنبيات، هَلْ لَهُ أن يَنْكِحَ واحِدَةً مِنْهُنَّ. قَالَ الأَصْحَابُ: إن كان الاختلاطُ بعُذْرِ لا ينحصر، كنِسْوَة بَلَدٍ، أو قَرْيَةٍ كَبِيرَةٍ، فله نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَإلاَّ انحسم عليه بَابُ النِّكَاحِ، فإنه، وإن سَافَرَ إلى بَلْدَةٍ أُخْرَى، لم يؤْمَنْ مسافرتها إلَى تلك الْبَلَدَةِ أيْضاً، وهذا كما إذَا اختلط صَيْدُ مَمْلُوكٍ بِصُيُودٍ مبَاحَةٍ لا تنحصر، لا يَحْرُم الاصْطِيَادِ. وقال الإِمَامُ: وَهَذَا ظَاهِرٌ، إِنْ عَمَّ الالْتِبَاسُ، فَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَهُ نِكَاحُ امْرَأَةٍ لا يتمارَى فيها، فيحتمل أن يُقَالَ: لا ينكح اللواتي يَرْتَابُ فِيهِنَّ، والظَّاهِرُ أنه لا حَجْر؛ ولو كان الاختلاطُ بنسوة معدُوداتٍ، فليجتنبهن؛ لأن بَابَ النِّكَاحِ لا ينحسم هاهنا، وأيضاً، فاحتمالُ أن تكون المحرمة هي التي نَكَحَهَا لا يَبْعُد هنا بعده فيما إذا كنَّ غير محصُوراتٍ، فلو خَالَفَ، ونَكَح إحْدَاهُنَّ. قال الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: فيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أنه يَصِحُّ النِّكَاحُ؛ لأن النِّكَاحَ قَدْ وُجِدَ ظَاهِراً، وسَبَبُ الْمَنْعَ في الْمَنْكُوحَةِ مَشْكُوكٌ فِيْهِ. وَالأَصَحُّ: المنع تَغْلِيباً للتحريم، ولا مدْخلَ للتَّحَرِي في الباب على ما مرَّ في "الطَّهَارَاتِ". قوله في الْكِتَاب "وإن كُنَّ مَحْصُورَاتِ الْعَدَدِ في العادة" فيه إِشَارَةٌ إلى ما ذكره الإِمَامُ أنَّا نَعْنِي بِعَدَمِ الانْحِصَارِ عُسْرَ عَدِّهِن على آحاد الناس، وإلاَّ، فَلَو أرَادَ وَالي بَلْدَةٍ كَبِيْرَةٍ أن يَعدَّ سُكَّانَهَا، منه وَقَالَ المُصَنِّفُ في "الإِحْيَاءِ": كُلُّ عَدَدٍ لو اجتمعوا منْ بَعِيدٍ وَاحِدٍ، يَعْسُرُ على النَّاظِرِ عدُّهم بمجرَّد النَّظَرِ، كَالألْف وَالألْفَينِ، فهو غَيْرُ مَحْصُورٍ، وإِنْ سَهُلَ؛ كَالْعَشَرَةِ وَالْعِشْرِينَ، فَهُوَ مَحْصُورٌ، وبين الطرفين أَوساطٌ يلحق بأحدهما بالظَّنِّ، ما وقع لك فيه الشكُّ فلتستفْتِ فيه الْقَلْبَ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (وَأَمَّا المُصَاهَرَةُ) فَيَحْرُمُ مِنْهَا بِمُجَرَّدِ النِّكَاحِ الصَّحيحِ أُمَّهَاتُ الزَّوْجَةِ مِنَ الرَّضَاعِ وَالنَّسَبَ وَزَوْجَةِ الابْنِ وَالحَفَدَةِ وَزَوْجَةُ الأَبِ وَالجَدِّ، وَيَحْرُمُ بَنَاتُ الزَّوْجَةِ بِالوَطْءِ لاَ بِمُجَرَّدِ النِّكَاحِ، وَالوَطْءُ بالشُّبْهَةِ يُحَرِّمِ الأَرْبَعَ دُونَ الزِّنَا، وَيكْفِي الاشْتِبَاهُ عَلَى الزَّوْجِ في وَجْهٍ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ وَالْعِدَّة بِالاشْتِبَاهِ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ المَهْرُ بِالاشْتِبَاهِ عَلَيْهَا، وَلاَ يَكُونُ اللَّمْسُ كَالْوَطْءِ في الْمُصَاهَرَةِ عَلَى أَصَحِّ القَوْلَيْنِ.
القول في المصاهرة
" القول في المصاهرة" قال الرَّافِعِيُّ. السَّبَبُ الثَّالِثُ الْمُصَاهَرَة، وَيحرُمُ مِنْهَا عَلَى التَّأْييدِ أربعٌ: إحداهن: أُمُّ الزَّوْجَةِ، قَالَ الله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] وأم زوجتك منها كَأُمَّكَ مِنْكَ، وَقَد عَرَفْتَ تَفسِيرَ "الأُمِّ" ويستوي في التَّحْرِيمِ أُمَّهَاتُ النَّسَبِ والرَّضَاعِ. والثانية: زَوْجَةَ الابْنِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء: 23] ويشمل التحريم حَلاَئِلَ الأَحفَادِ وإن سَفَلُوا، وسواءٌ كانوا من النَّسَبِ، أو مِنَ الرَّضَاع، والمقصود منَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23] بَيَانُ أنَّه لا يَحْرُمُ عَلَى الإِنْسَانِ زَوْجَةُ مَنْ تَبَنَّاهُ. والثالثة: زَوْجَةُ الأَب، قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] وما في معنَاها زوجاتُ الأَجْدَادِ، وَإِنْ عَلَوْا من قِبَلِ الأُمَ وَالأَبِ جَمِيعاً، وَتَحْرُمُ زَوْجَةُ الأَبِ مِنَ الرَّضَاعِ أيضاً. الرَّابِعَةُ: بنت الزَّوْجَةِ، وبنتُ زوجَتِكَ منها كبنتك منْكَ، وسواءٌ كُنَّ منْ النَّسَبِ أو من الرَّضَاعَ، وتحرم الثلاثُ الأُولَيَاتُ بمجرَّد النِّكَاحِ؛ بشرط أن يَكُونَ صَحِيحاً فَأَمَّا النِّكَاحُ الْفَاَسِدُ فَإنَّهُ لا يتعلَّق به الحُرْمَةُ؛ لأَنَّهُ لا يفيد الحل في الْمَنْكُوحَةِ والحرمة في غيرها فرع الحل فيها. وَأَمَّا الرَّابِعَةُ: وهي بِنْتُ الزَّوجَةِ، فلا تَحْرُمُ بالنِّكَاحِ، وإنَّما تَحْرُمُ إذَا دخل (¬1) بالزَّوْجة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] وذكر الحجور جرياً على الْغَالِبِ. ¬
وَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهِ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: "مَنْ نَكَحَ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أن يَدْخُلَ بِهَا، حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أمَّهَاتُهَا، وَلَمْ تُحَرَّمْ عَلَيهِ بِنْتُهَا" (¬1). وَعَنِ مَالِكٍ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- أَنَّ الربيبة إنما تَحْرُم إذا رُبِّيَت في حِجْرِهِ. وَيَجُوزُ أنْ يُعْلَمَ قوله في الْكِتَابِ "ويحرم منها بمجرَّد النِّكَاح الصحيح أمَّهَاتُ الزَّوْجَةِ"؛ بالواو لأن الشَّيْخِ أَبا عَاصِمٍ الْعَبَّادِيَّ وابنه أَبَا الْحَسَنِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- رَوَيَا ذهاب أبي الحَسَن أحمد بن مُحَمَّدٍ الصَّابُونِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا إلى أَنَّ أُمَّ الزوجة لا تحرم إلاَّ بالدْخُولِ كالربيبة. ولا يحرم على الرَّجُلِ بِنْتُ زوج الأُمِّ، ولا أُمُّهُ، ولا بِنْتُ زَوْجِ الْبِنْتِ، ولا أمُّه، وَلاَ أُمُ زَوْجَةِ الأَبِ ولا بنتُها وَلاَ أُمُّ زَوْجَةِ الابْنِ، ولا بِنْتُهَا لأولا زَوْجَةُ الرَّبِيبِ، ولا زَوْجَةُ الرَّابِّ. ثم فيه مَسَائِلُ: المَسْأَلَةُ الأُولَى: [تجرد ملك اليمين لا يثبت نسباً منْ هذه المحرمات لكن الوطء] (¬2) يثبتها حَتَّى تَحْرُمَ الْمَؤْطُوءَةُ عَلَى ابْنِ الْوَاطِئِ وأبيه، وَتُحْرَمَ عَلَيْهِ أُمُّ الْمَوْطُوءَةِ وبنتها، وَاحْتَجَّ لَهُ بِأنَّ الوطء في مِلْكِ اليَمِينِ نَازِلٌ مَنزِلَةَ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَلِهَذَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ وطء الأختين في المِلْك، كما يَحْرُمُ الْجَمْعُ في النِّكَاح، وَلاَ يَحْرُمُ الْجَمْعُ في مِلْكِ الْيَمِينِ والوطء بِشُبْهَة، والنِّكَاحُ الفَاسِدُ والشراء الْفَاسِدُ ووَطء الْجَارِيَةِ المشتركةَ، ووطء جارية الابن يثبتُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ، كما يُثْبِتُ النَّسَبَ، ويوجب العدَّةَ، وفي "شَرْح الفُرُوعِ وغيره قَوْلٌ ضعِيفٌ أنَّ الوطء بالشُّبْهَةِ لاَ يُثْبتُ حُرْمَةَ الْمُصَاهرَةِ؛ كالزِّنَا، وَالْمَذْهَبُ الأَوَّلُ، وذلك إذا شملت الشبهةُ الواطِئَ والمَوطوءة، وَأمَّا إذَا اخْتَصَّتِ الشُّبْهَةُ بِأحَدِهِمَا، والآخَرُ زانٍ، بأن أَتَى الرَّجُلُ فِرَاشٍ غَيْرِ زَوْجَته غَلَطاً فَوَطِئَهَا، وَهِيَ عَالِمَةٌ، ¬
وَأتَتْ غَيْرَ زَوْجِهَا غَالِطَةً، وَهُوَ عَالِمٌ، أَوْ كَانَتْ هي جاهلةً أو نَائِمَةً أو مُكْرَهَةً، وَهُوَ عَالِمٌ، أو مَكَّنَتِ الْبَالِغَةُ الْعَاقِلَةُ مَجْنُوناً أو مُرَاهِقاً، فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهمَا: أن الاعْتِبَارَ بِالرَّجُلِ، حَتَّى تَثبُتَ حُرْمَةِ المُصَاهَرَةِ، إِذَا اشْتَبَهَ الْحَالُ عَلَيْهِ، كَمَا يَثبُتُ النَّسَبُ وتجب العِدَّةِ ولا يثبت، إِذَا لَم يَشْتَبِه عَلَيْهِ، كَمَا لا يثبت النَّسَبُ والْعِدَّةُ. والثَّانى: أَنَّ الشُّبْهَةَ في أيهِمَا كَانَتْ تُثْبِتُ حُرْمَةَ المُصَاهَرَةِ، عَلَى هَذَا فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّها تختصُّ بمَنِ اختصَّتُ به الشُّبْهَةُ، حَتَّى لَوْ كَانَ الاشْتِبَاهُ عَلَيْهِ يُحَرِّمُ عَلَيْهِ أمَّهَا وابنتها وبنْتَهَا، ولا تحرم [هي على أبيه وابنه] (¬1) ولو كان الاشتباه عليها، حُرِّمَتْ على أبيه وابنه، ولا تَحْرُمُ عليه أُمُّهَا وابنتُها. والثاني: أنها تعمُّ الطرفين كالنَّسب ثم الوطء في النكاح، وملْك اليمين، كما يوجب الْحُرْمَةَ، يوجب الْمَحْرَمِيَّة، حَتَّى يَجُوزَ للواطِئِ المسافرةُ بأمِّ الْمَوْطُوءَةِ وابنتها، ولابنه وأبيه الخلوةُ بها والمُسَافَرَةُ بها، وفي وطءِ الشُّبْهَةِ وَجْهَانِ، وَيُقَالُ: قَوْلاَنِ: أَحَدُهِمَا: أنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ؛ لأن الوطْءَ بالشُّبْهَةِ يثبت النسب، ويوجب الْعِدَّةَ، فكذلك المحرميةُ. والثاني: الْمَنْعُ؛ لأنَّهُ لا يَجُوزُ له الخُلْوَةُ والمسافَرَةُ بالموطوءة، فبأمِّها وابنتها أولَى، وليس كالوطء في النِّكَاحِ وملك اليمين؛ لأنَّ أم الموطوءة وبنتها يدخلان عليها، ويشقُّ عليها الاحتجاب عن زوجها، ومثل هذه الحاجة مفقودةٌ هُنَا، والأصحُّ الأوَّلُ عند الإِمام، والثاني عِنْدَ عَامَّةِ الأصحاب، وحَكْوه عن نَصِّه في "الإِملاَءِ". المسألةُ الثانيَةُ: الزِّنَا لا يُثْبتُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ، حَتَّى يجوز للزاني أن ينكح أمَّ المزنيِّ بها وينتها، وحتى يجوز لابنه وأبيه أن يَنْكِحَها؛ لأنَّ حرمة المصاهرة نعمةٌ من اللهِ تَعَالَى، فلا تثبت بالزنا، كما لا يثبت به النَّسَبُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ وَأَحمَدُ -رَحِمَهُمَا اللهُ- يثبتها، وَلَوْ تَلَوَّطَ بِغُلاَمٍ، لم يحُرُم على الفاعِلِ أمُهُ وابنتُهُ، وَعَنْ أَحْمَدَ: خلافُهُ، ولو ملك جاريةً محرمةً عليه برضاعٍ أو مصاهرةٍ، فوطئها، فإن لم نوجبْ به الحدَّ، أثبتنا حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ، وإنْ أوجبناه، فهو كَالزِّنَا، واللهُ أعْلَمُ. المسألة الثالثةُ: المُفَاخَذَةُ وَالتَّقْبِيلُ واللمس، هل هو كالوطء، حَتَّى يُثْبِتَ حِرمةَ المصاهرة عند الشبهة، وحتَّى يُحَرَّمَ الربيبةَ في النِّكاح؟. ¬
فيه قولان: أَحَدُهِمَا: وبه قَالَ أبو حَنِيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَمَالِكٌ: نعم؛ لأنه تلَذُّذ بمباشرة فأشْبَهَ الوطء، ولأنه استمتاعٌ يوجبُ الْفِدْيَةَ على المُحْرِم؛ فكان كالوطء، وهذا أَصَحُّ عند صاحب "التَّهْذِيبِ" واختاره القاضي الرُّويَانِيُّ. والثاني: لاَ، وبه قَالَ أَحْمَدُ؛ لأنه لا يوجِبُ العدَّة، فكذلك لا يثبت الحُرْمة، وأيضاً، فقد قَالَ تَعَالى: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] شرط الدخول في التحريم، وهذا أَصَحُّ عند الإِمام، وَيُحْكَى عن اختيار ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ وابْن القَطَّانِ وغيرهما، والقولان فيما إذا جَرَى ذلك بشَهْوَةٍ فأما اللَّمْسُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فإنه لا أَثر له في التحريم نَصَّ علَيْه المُعْظم. قَالَ الإِمَامُ: ومنْهم منْ أرسل ذِكْرَ الْمُلُاَمَسَةِ، ولم يقيَّده بالشَّهوة، فيجوز أن يُقَالَ: يكفي صورة الملامسة، كما يَكْفِي في نقض الطَّهَارَةِ، والنَّظَرُ بالشهوة لا يقتضي حرمة المصاهرة، ومنهم مَنْ حَكى فيه قولاً آخَرَ ضعيفاً، ثم خصَّصه بَعْضُهُم بالنظر إلى الْفَرْجِ، وهو مَذْهَبُ أَبِي حَنْيِفَةَ، ومنهم منْ لم يفرِّقْ بين الْفَرْجِ وَغَيْرِهِ. ويثبت المصاهرةَ إذا اسْتَدْخَلَتِ الْمَرْأَةُ ماء زَوْجِها، أو ماءَ أجْنَبيٍّ بالشُّبْهة (¬1)، كما يثبت النَّسَب، وتجب العدة، ولكن لا يَحْصُل به الإِحْصَانُ والتحْلِيل، وفي تقرير الْمَهْرِ ووجوبه للمفوِّضة وثبوت الرجْعة ووجوب الْغُسْلِ ووجوب الْمَهْر في صورة الشُّبْهَةِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهِمَا: المنع (¬2)، وإن أنزل الأجنبيُّ بزناً، لم يثبت النسب باستدخال مائه، ولا حرمَةُ المصاهرة، وإن أنزل الزوْج بالزِّنَا حَكَى صَاحِبُ "التَّهْذِيبِ" أنه لا يثبت النسب، وَلاَ حُرْمَةُ المصاهرة، ولا تجب العدَّةُ، وقال من عند نفسه: وجب أن تثبت هذه الأحكام، كما لو وطئ زوجته عَلَى ظَنِّ أنه يَزْنِي، وَأعْلَمْ أَنَّ ما يُثْبِتُ التحريمَ المؤبَّدَ، إِذا طَرَأَ على النِّكَاح، قطَعَه، حتى لو نكح امرأةٌ، ثم وطِئَها أبُوه أوابنه بشُبْهَةٍ، أو وطئ ¬
هو أمَّها وابنَتَها بشبهة، انفسخ نِكَاحُهَا. وفي "المولَّدات" فرعان؛ يتعلَّقان بهذا الأَصْلِ: الأول: نكح الرجل امرأةً، ونكح ابنُهُ بنْتَها، ووطئ كلُّ واحدٍ منهما زوجةَ الآخَرِ غالطاً، فينفسخ النِّكَاحَانِ؛ لأن زوجة الأب موطوءةُ ابنِهِ، وأمُّ موطوءته بالشُّبْهة، وزوجةَ الابْنِ موطوءةُ أبِيه، وبنتُ موطوَءتِهِ بالشبهة، وهذا جَوَابٌ على الصَّحيح في أنَّ الوطء بِالشُّبْهَةِ في الملك، وَيجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ منْهما مَهْرُ الْمِثْلِ للَّتِي وَطِئَها بالشبهة، ثُمَّ لا يخلو، إما أن يترتب الوطآن أو يقعا معاً، إنْ ترتَّبا، نُظِرَ، إن سبق وطء الأب، فعليه لزوجته نصْف المسمَّى؛ لأنَّه الذي رفَعَ نكاحَهَا، فهُو كَما لو طلَّقها قبل الدخول، وهلْ يجب عَلَى الابن لزوجته شيْء؟. قال ابنُ الْحدَّادِ: لا؛ لأن نكاحها لم يرتفعْ بسببِ منْ جهته، وَإِنَّما ارتفع بوَطْءِ الأَبِ السَّابقِ. وقال آخرون من الأصحاب يجب عليه نِصْفُ ما سَمَّى لَهَا؛ لأنه إن لم يكُنْ للزوج صُنْعٌ غير في النكاح، فلا صُنْعَ لها فيه أيضاً، فلا ينبغي أن يَسْقُطَ مهرها. وتوسَّط الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، فقال: إنْ كانَتْ زوجةُ الابْنِ نائمةً أو مُكرَهَةً أو صَغِيرَةً لا تعْقِل، فلها نصْفُ المسمَّى على الزوج؛ لأن الانفساخ، والحالةُ هذه، غير منسوب إليها، فصارت كما لو كانت تحته صغيرةٌ وكبيرةٌ، فأرضعَتِ الكبيرةُ الصغيرةَ، ينفسخ نكاحها، والصغيرةِ نِصْفُ الْمُسَمَّى على الزَّوْج، وإن كانتْ زوجةُ الابنِ عاقلةً، وطاوعت الأب ظانَّة أنه زوْجُها، فلا مَهْرَ لَهَا، كَمَا لو اشترت الحرَّةُ زوْجَها قبل الدخول يَسْقُطُ مَهْرُهَا، وإذا أوجبنا على الابْن نِصْفَ الْمُسَمَّى، فيرجع على أبيه؛ لأنه فوَّت نكاحها عليه، وبم يرجع بمَهْرِ المثل أَو بنصفه أو بما غرم فِيْهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ؛ تُذْكَرُ في "الرَّضَاعِ" إن شاء الله -تَعَالَى-، وإن سبق وطء الابن، فعليه لزوجة نِصفُ المسمَّى، وَهَلْ يجِبُ عَلَى الأب لزوجته نِصْف الْمُسَمَّى؟. فيه الاختلافُ السابقُ، فإن قلتا: نَعَمْ، فله الرجوع كما ذكرنا، وإن وقع الوطآن معاً، فعلى، كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ ما سمَّى لزوجته، وهل يرجع على الآخر بشيء؟. عن الشيخ أبي مُحَمَّدٍ عَنِ الْقَفَّالِ أن زوجة كُلِّ واحد منهما [حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بفِعْله وفعْل صاحبه، فيرجع كلٌّ منهما] (¬1) عَلَى صاحبه بنصْفِ ما كان يَرِجْعُ به، لو انفرد، ويهدر نصف كما في الاصطِدَام. وقال الشَّيْخُ أبو عَلِيٍّ، لا يرجع واحدٌ منهما علَى الآخر؛ لأن النكاحَ ارتفَعَ بفعلهما جميعاً، فينسب الفراقُ إلى الزوج، كما لو اشترى ¬
امرأته، أو خالعها، وليس كالاصطدام؛ لأن فعل كُلِّ واحد منهما، هاهنا لو انفرد، لحَرُمَت به زوجتُه وزوجةُ صاحبه، ولا يمكننا أن نقول في الاصطدام: لو انفرد كل واحد منهما بفعله، لحصل ذلك الأثَرُ. الفرع الثاني: نكح امرأتَينِ في عَقْدٍ واحِدٍ، ثُمَّ بَانَ أنَّ إِحداهما أُمُّ الأخرى، فالنكاحان باطلان، ولا يجب المسمَّى، ولا شيء منه لواحدةٍ منهما، نعم، لو وطئها أو واحدةً منهما، وجب مهر المثل، ولو نكحهما فِي عقدَيْنِ، ووطئ إحداهما، ثم بَانَ أن إحداهما أُمّ الأُخْرَى، فينظر؛ أسبق نِكَاحُ الأُمِّ، أَمْ نِكَاحُ البِنْتِ، إن سبق نكاح الأمِّ، فإن كانت هي المَوْطُوءَةَ، فنكاحُهَا بحاله والأخرى ربيبةٌ محرمةٌ، وإنْ كانَتِ البنتُ هي الموطوَءةَ، فالنكاحَانِ باطِلاَنِ، أما نكاحُ البنتِ، فلأنَّهُ نكَحَها، وتحته أمها، وأما نكاح الأم؛ فلأنها أم مَوْطُوءَتِهِ بالشُّبْهَةِ، وله أن ينكح الْبِنْتَ مَتَى شَاءَ؛ لأنها ربيبة امرأة لم يدخُلْ بها، ويجب للبنت مَهْرُ الْمْثِلِ، وللأمِّ نصفُ المُسَمَّى؛ لأن النكاح ارتفع بصنع الزوج، وإن كان السَّابِقُ نِكَاحَ الْبِنْتِ، فإن كانتْ هي الموطوءةَ، فنكاحُها بحاله، والأمُّ مُحَرَّمَةٌ على التأبيد، وإن كانت الموطوءةُ الأمَّ، بَطَلَ النكاحان، وحُرِّمَنَا على التأبيد، أما الأمّ، فبنكاح البنت، وأما البنتُ فبوطء الأم بشُبْهَةِ النِّكَاح، ويجب للأمِّ مَهْرُ المثل، وللبنت نِصْف المسمَّى، وإن اشتبهت الموطوءةُ، وعرفت التي سَبَقَ نِكَاحُهَا، فنكاح الَّتَي سبق نكاحُها ثابتٌ؛ لأنه يحتمل أن تكون السابقةُ هي الموطوءةَ، ولا يؤثر الوطء في نكاحها، ويحتمل أن تكون الموطوءةُ الأخْرَى، فيفسد نكاح الأوَلى، وإذا وَقَعَ الشَّكُّ، فالأصل الاستمرارُ، وليس له نكاحُ الثانية؛ لأن الأُولَى، إن كانت بنتاً، فالثانيةُ أمُّ امرأته، فتَحْرُم على التأبيد، وإن كانَتْ أُمَّاً، فليس له نكاحُ البنْتِ، والأمُّ تحته، فإن كان ارتفع نكاحُ الأم بطلاقٍ أو غيره، لم يحلَّ له نكاحُ واحدةٍ منهما؛ لأن إِحداهما محرَّمةٌ على التأبيد، فأشبه ما إذا اختلطت أخته من الرضاع بامرأةٍ أخرَى لا ينكح واحدةً منهما، وإن اشتبه السابقُ منْ النكاحَيْن، وعرفت الموطؤةُ، فغَيْر الموطؤءةِ محرَّمة أبداً؛ لأنها أم الموطوءة بالشبهة أو بنت الموطوَءةِ، وأما الموطوءة، فإن كانت هي المنكوحة أولاً فَنِكَاحُها مستمرٌّ، وإن كانت المنكوحةُ أولاً الأخْرَى، فنكاحها غير منعقد، فيوقف أمرها، ويمنع منْ نكاح غيره، وإن طلبت الفسخ للاشتباه، فُسِخَ النكاح كما في تزويج الوليَّيْن، وإن اشتبه السابِقُ من النكاحَيْن، واشتبهت الموطوءةُ أيضاً، فيوقف عنهما؛ لاحتمال أنه سَبَقَ نكاحُ البِنْت، وقد دَخَل بالأمِّ، فيحرَّمان عليه، وليس له أن يَنْكِحَ وَاحِدَةً منْهُما؛ لأن إحداها محرّمةٌ عليه على التأبيد، وَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بحالها، [لَكَانَ وَطِئْهِمَا] (¬1) جميعاً، بطَلَ نكاحهما ويُحَرَّمَان على التأبيد، ثم إن وطئ أولاً الَّتي نكَحَها ¬
أولاً، فللأولَى، مهرها المسمَّى، وللثانية مَهْرُ المِثل، وإن وطئ أولاً التي نكَحَها آخراً، فلها مَهْرُ مثلها؛ لأنَّه لم ينعقد نِكَاحُهَا وللمنكوحةِ أولاً نصْفُ مهرها المسمَّى وجميع مهْرِ المثل، أما نصْفُ المسمَّى، فلارتفاع نكاحها بسبب من جهة الزَّوْج، وهو وَطْءُ المنكوحة آخراً، وأما جميع مهْرِ المثل؛ فلأنه وَطِئَها بعد ارتفاع النِّكَاح وطءَ شبهة. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِي): مَا لاَ يُوجِبُ حُرْمَةً مُؤَيَّدَةً وَيَتَعَلَّقُ بِعَدَدٍ وَهِيَ ثَلاَثَةٌ: (الأَوَّلُ): نِكَاحُ الأُخْتِ عَلَى الأُخْتِ لاَ يَجُوزُ مَا لَمْ يُطَلِّق الأُولَى طَلاَقاً بَائِناً وَلاَ يَجُوزُ الجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَلاَ بَيْنَ امْرَأَتيْنِ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ أَوْ رَضَاعْ لَوْ كَانَ أَحَدُهَمَا ذَكَرَاً حَرُمَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ المَرْأَةَ وَأُمَّ زَوُجِهَا أَوْ بِنْتَ زَوْجِهَا وَإِنْ كَانَ لاَ يَصِحُّ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهِمَا ذَكَراً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تكلَّمنا في المحْرَمِيَّة المقتضية للتحْرِيم المؤبَّد، وأمَّا ما يقتضي التحريم لا بصفة التأبيد، فَمِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بعددٍ، ومنه ما يتعلَّق بصفةٍ؛ كالرِّقِّ والكُفْر، والَّذِي يتعلَّق بالعدد ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ: الأول: الجمع بين الأختين من النَّسَب أو الرَّضَاع سواءٌ كانتا أختين من الأبوين أو من أَحَدِ الأبوين، قَالَ الله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] فلو نكح أختين معاً، فالنكاحان باطلان، وإن نكحهما على الترتيب، فنكاح الثَّانِيَة باطلٌ، فَإِنْ وطئها جاهلاً بالحكم، فلها مَهْرُ الْمِثْل، وعليها العدة، ويجوز أن يَطَأ الأُولَى والثانية في العدة، لكن الأَوْلَى ألاَّ يفعل، رُوِيَ أَنَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:"منْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ، فَلاَ يَجْمَعَنَّ مَاءَهُ في رَحِمِ أُخْتَيْنِ" (¬1). وَإِذَا طَلَّقَ الأُولَى طَلاَقاً بَائِناً، فَلَهُ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ؛ لأَنَّهَا بَائِنٌ مِنْهُ فَجَازَ له العقْدُ على أختها، كما لو طلَّقها قبل الدخول. وقال أَبُو حَنِيْفَةَ وَأحْمَدُ -رحمهما الله- تعالى: لا يجوز له نكاح أُخْتِها ما دامَتْ هي في العدة، وكذا لو وطئَ امْرَأَةً بالشُّبْهَةِ، فما دامت في العِدَّةِ لا يجوز التزويج بأختها عِنْد أَبِي حَنِيْفَةَ، ولو كان الطَّلاَقُ رَجْعِيَّاً، لم يجز نكاح أختها ما لم تنقض عدتها؛ لأن الرَّجْعِيَّةَ في حكم المنكوحات، ألا تَرَى أنه يجري التوارث بينهما، ويلزمها ¬
عدة الوفاة إذا مات عنها ويصح، إيلاؤه عنهما، والظهارُ منها. لو ادَّعى الزَّوجُ أنَّها أخبرته بانقضاء العدة، والوقتُ محتمل وَأَنَكَرَتِ المرأة، وقالت: لم تنقضِ عدتي بعد، فله نِكَاحُ أختها؛ لزعمه انقضاء عدتها، ولو طلَّقها، لا يقع الطَّلاَقُ، ولو وطئها يجب الحد. وعن الْحليميِّ وَالْقَفَّالِ: أنه ليس له نكاح أختها؛ لأن القول قولها في بقاء العدة، وعلى هذا، فلو طلقها يقع، ولو وطئها، لا يحدُّ، والأول أظهر، وهو المحكيُّ عن نَصِّهِ في "الإِملاء" وتجب النفقة لا محالة، ولا يقبل قوله في سُقُوطِ حَقِّهَا؛ ولو طلق زوجته الرقيقة طلاقاً رجعياً، ثم اشتراها، فَلَهُ نِكَاحُ أختها في الحال، وكذا لو اشتراها قبل الطلاق؛ لأن ذلك الفراش قد انقطع، وكما يحرم الجَمْعُ بين الأختين، يَحْرُم الجمع بين المرأة وبنت أخيها وبنات أولاد أختها، وكذلك بَيْنَ المرأة وبنت أخيها وبنات أولاد أختها، سواءٌ كانَتِ العمومةِ والخُئُولَة من النسب أو الرضاع. وَرُوِيَ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلاَ الْعَمَّةُ عَلَى بِنْتِ أَخِيْهَا، وَلاَ الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا، وَلاَ الْخَالَةُ عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا، وَلاَ الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى" (¬1) وأراد الكُبْرَى والصغرى في الدرجة، لا في السن، والصغرى بنت الأخ وبنت الأخت، والكبرى العمة والخالة، وضبط تحريم الجمع بعبارات: ¬
إحداها: وهي المذكورة في الكتاب: "يحرم الجمع بين كلِّ امرأتين بينهما قَرَابَةٌ أو رَضَاعٌ، لو كانت إحداهما ذكراً، لَحَرُمَتِ المناكحة بينهما". والثانية: تحريم الجَمْع بين كل امرأتين بينهما قرابة أو رضاعٌ يقتضي المحرمية. والثالثة: يحرم الجمع بين كُلِّ امرأتين بينهما وصلةُ قرابةٍ أو رضاعٍ، لو كانت تلك الوصلة بينك وبين امرأة، لَحَرُمَتُ عليك، وقصَدُوا بقيد القرابة والرضاعِ الاحترازَ عن الجَمْع بين المرأة وأم زوجها وبنت زوجها وإن شئت قُلت: بين الْمَرْأَةِ وزوجة ابنها، وعن الجمع بين المرأة وبنت زوجها، وإن شئت قلت: بين المرأة وزوجة أبيها، فإنَّ هذا الجمع غير مُحرَّم، وإن كانت يَحْرُم النكاح بينهما، لو كانت إِحداهما ذكراً؛ لأنا لو قدَّرنا أم الزوج ذكراً، حَرْمَتُ عليه زوجة الابن، ولو قدرنا بنت الزوج ذكراً حرمت عليه زوجة الأب، لكن ليس بينهما قرابةً، ولا رضاع، وإنما ذلك التحريم بِسَبب الْمُصَاهَرَةِ، والمعنى أن سبب تحريم الجمع ما فيه من قطيعة الرحم المُوحِشَة، والمنافسَة القوية بين الضرتين رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنَّهَ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَالَ: "إِنَّكُمْ إِذَا فَعْلْتُمْ ذَلِكَ قَطَّعْتُمْ أَرْحَامَهُنَّ" (¬1) والرَّضاع في معنى القرابة؛ لأنه يُثْبت اللحم وُينْشِزُ العظم، وأما المصاهرةُ، فليس فيها رحم، حَتَّى يُفَوَضَ قطعه، وقد يستغنَى عن قيد القرابة والرضاع؛ بأن يقال: يحرم الجمع بين كل امرأتين أيهما قدرت ذَكَراً حرمت الأخرَى عليه، فتخرج الصورتان المذكورتان؛ لأن أيَّتَهُمَا قدرت ذكراً لا تحرم عليه الأخرَى؛ لأن أم الزوج، وإِن كان تحرم عليها زوجة الابن لكن زوجة الابن لو قدرت ذَكَراً لا تحرمِ عَلَيْهِ الأُخْرَى، بل تكون أَجْنَبِيَّةً عنه، وَيجُوزُ الجَمْعُ بِيْنَ بِنْتِ الرَّجُلِ وَرَبِيْبَتِهِ، وَبَيْنَ الْمَرْأةِ وَرَبيْبَةِ زَوْجِهَا مِنْ امْرَأَةٍ أُخْرَى، وبين أخت الرَّجُلِ من أبيه وأخته من أمِّهِ؛ لأنه لا يحرم المنَاكحة بتقدير ذكورة إحداهما، ويحرم الجمعِ بين الأمِّ وابنتها قضيِّةً للضابط المذكور، حَتَّى لو نكحهما مَعاً، بَطَلَ النِّكَاحَانِ، ولو نَكَحَهُمَا في عقْدَيْن فالثاني باطل، ثُمَّ لَوْ كَانَتِ الثَّانِيَّةُ البنْتَ، ولم يدخلْ بالأم، جاز أن يعقد على الثَّانِيَّةِ. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَو اشْتَرَى أُخْتَيْنِ فَوَطِئَ إِحْدَاهُمَا حَرُمَتِ الأُخْرَى حَتَّى يُحْرِّمَ المَوْطُوءَةَ عَلَى نَفْسِهِ بِبَيْعٍ أَوْ تَزْوِيجٍ (ح) أَوْ عِتْقٍ أَوْ كِتَابَةٍ (ح)، وَلاَ يَكْفِي طَرَيَانُ تَحْرِيمِ الحَيْضِ وَالعِدَّةِ والإحْرَامِ، وَهَل يَكْفِي الرَّهْنُ وَالبَيْعُ بِشَرْطِ الخِيَارِ؟ فِيهِ خَلاَفٌ، وَلَوْ وَطئَ أَمَةً وَنكَحَ أُخْتَهَا صَحَّ النِّكَاحُ وَحُرِّمَتِ المَوْطُوءَةُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: كُلُّ امرأتين لا يَجُوزُ الْجَمْعُ بينهما في النِّكَاح؛ لا يجوز الجمع بينهما في الوطء بملك اليمين، ولكن يَجُوزُ الْجَمْعُ بينهما في نفس الملك، أمَّا أنه لا يَجُوزُ الْجَمْعُ في الوطء فَلَمَا رُوِيَ أَنَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَلْعُونٌ مَنْ جَمَعَ مَاءَهُ في رَحِم أُخْتَيْنِ" وَيُرْوَى: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ، فَلاَ يَجْمَعُ مَاءَهُ في رَحِم أُخْتَيْنِ" (¬1) وأيضاً فإن الوطء في ملك اليمين بمثابة النكاح في حرمة المصاهرة، وكذَلك هاهنا أيضاً، فإنها بالوطء، تصير فراشاً له، فيمتنع استفراش الأخرى، كما أنه إذا صارت إحداهما فراشاً بالنكاح، امتنع نكاح الأخرى، وأما أنَّه يجوز الجمع في المِلْك، فَلأنَّ الملك قد يقصد به غير الوطء ولهذا يجوز أن تملك من لا تحل له، كالأخت من النَّسَبِ، وَالرَّضَاعِ والنِّكَاح، وإنما يقصد به الوطء ولهذا لا يجوز أنْ يَنْكِحَ من لا تحل له، وإذا لم يتعيَّن الملكَ للوطء لم يُفْضِ الجمع فيه إلى التباغض والتقاطع، وإذا تقرر ذلك، ففي الفصل مسألتان: [المسألة الأولى] (¬2): لو اشْتَرَى أختين، أو امرأةً وعمتها، أو خالتها معاً، أو على التعاقب، صح الشراء وله وطءُ أيتهما شاء، وإذا وطئ إحْدَاهُمَا، حُرِّمَ عليه وطء الأخرى، لكن لا يجب به الحدُّ لقيام الملك وكونه بسبيل من استباحتها بخلافٍ ما لو وطئ أَمَتهُ الَّتِي هي أخته من الرضاع؛ حَيْثُ يجب الحدُّ على أحد القولَيْن؛ لأنه لا سبيل إلى استباحتها بحال، ثم الثانية تبقى حراماً كما كانت، والأولَى حَلاَلاً كما كانت، ولا يحرِّم الحرامُ الحَلاَلَ، لكن يُسْتَحبُّ ألاّ يطأ الأُولَى، حَتَّى تستبرئ الثانية. وعن أبي مَنْصُورِ بنِ مِهْرَانَ إسناد الأوْدَنِي، أنه إذا أحْبَلَ الثَّانِيَّةَ، حلَّت وحرُمَتِ الموطوءة، ولا تزال غير الموطوءة محرَّمة عليه، حتى تحرم الموطوءة على نفسه، أما إزالة الملك ببيع كلها أو بعضها، أو بالهبة، أو مع الإقباض، أو بالعتق، أو بإزالة الحل بالتزويج، أو بالكتابة، وَعَنْ أَبِي حَنِيْفَة -رَحِمَهُ اللهُ- أنه لا يكفي التزويج والكتابة، ولا يكفي عروض الحيْضِ والإِحرام والعدة عن وطء شبهة؛ لأن هذه الأسبابَ عارضةٌ، ولم يَزُلِ المِلْكُ ولا الاستحقاق، وكذا عروض الردة لا يفيد حِلَّ الأخرى، وفي الرَّهْنِ وَجْهَانِ: ¬
أحدُهُما: أَنَّهُ يَكْفِي كَالْكِتَابَةِ والتَّزْوِيجِ. وأصحُّهما: وبه أجاب في "الشَّامِلِ" المنْع؛ لأنه لا يفيد استقلالاً، كما لا يفيده الكتابة ولا حلاًّ، للغير كما يفيده التزويج، ولا يزيل الْحِلّ، ألا ترى أنه لو أذن فيه المرتهن، جاز مع بقاء الرَّهْن، وَلَوْ بَاعَ بشرط الْخِيَارِ، فحيث يجوز للبائع الوطء، لا يُحِلُّ به الثَّانِيَةَ، وحيث لا يجوز، فوجهان، قَالَ الإِمَامُ: الوجه عندي القطْعُ بحل الأخرى، لثبوت الملك للمشتري ونفوذ تصرفاته، ولا يكفي لِحِلَّ الأخرَى الاستبراء عن الأولى؛ لأنه لا يزيل الفراش. وقد رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ -عليه السَّلاَمُ- أنه قال: "من وَطِئَ إحدى الأختين، فلا يَطَأَ الأخرَى، حَتَّى تخرج الموطوءة عن ملكه" وعن القاضي الحسَيْنِ -رحمه الله- أن القياس يقتضي الاكتفاءَ بالاستبراء لِحِلِّ الأخَرى؛ لأنه يدل على براءة الرحم، وذكر القاضي ابنُ كَجٍّ؛ أن القاضي أبا حَامِدٍ قال: غَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فقال: إذا قَالَ حَرَّمْتهَا عَلَى نَفْسِي، حرمت عليه، وحلَّت الأخرَى، وإذا حرمها بالأسباب المعتدِّ بها، ثم عاد الحل، كما إذا باعها فرُدَّتْ عليه بعيب أو إقالَةٍ أو زَوَّجهَا، فطلَّقها الزوج أو كاتَبَها، ثم عجَزَتْ، لم يجز له أن يَطَأَهَا قبل أن يستبرئها لملكه الحادث، وإذَا استبرأها، فَإن لم يَطَأَ الثانية بعد تحريم الأولَى، فيطأ الآن أيتهما شاء، وان كان قد وطئها، لم يكن له أن يطأ التي عادت إليه، حَتّى يحرم الأخرَى على نفسه؛ لأن الثانية، والحالةُ هذه، كالأولَى في الحالة الأولَى. فروع: الإثنان في المَوْضِع المكروه كالوطء في أن الأخرَى تحرم به، وفي اللمس والقبلة والنظَرِ بشهوة، مثل الخلاف المذكور في حُرْمَةِ المُصَاهَرَةِ، ولو ملك أختين، إحداهما مجوسيةٌ أو أخته من الرَّضاع، فوطئها بشبهةٍ، جاز له وطء الأخرَى؛ لأن الأولى محرمة، ولو ملك أُمَّاً وابنتها، ووطئ إحداهما حرمت الأخرَى على التَّأْبِيدِ، فَلَوْ وَطَئَ الأخْرَى بَعْدَهُ نُظِرَ؛ إن جهل التَّحْرِيمَ، حُرِّمَتِ الأولَى أيضاً على التَّأْبِيدِ، وإن كان عالماً، فهل عليه الحد لو وطئ الثانية قولان: إن قلْنا: لا حُرِّمَت الأولى [أيضاً] (¬1) على التَّأْبِيدِ، وَإِلاَّ، فَلاَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذا ملك إحدى الأخْتَينِ، وطئها، أو لم يَطَأْهَا ثُمَّ نَكَحَ أختها أو عمتها أو خالتها صَحَّ النِّكَاحُ، وَحَلَّتِ الْمَنْكُوحَةُ، وحرمت المملوكة، واحتَجَّ له، بأنَّ الاسْتَفْرَاشَ وَالاسْتِبَاحَةَ في باب النِّكَاحِ أقوى؛ ألا ترى أنه يتعلق به الطَّلاَقُ، والظِّهَارُ، والإِيْلاَء واللّعَانُ، والميراثُ، وسائر الأحكام وإذا كان فراش النِّكَاحِ أَقْوَى، لَمْ يَنْدَفِعْ بالأضعف، وكذا لو كانت في نكاحه إحدْى الأختين، فملَكَ الأخرَى، فالمنكوحةُ ¬
حَلاَلٌ، كما كانت، والتي ملكها حَرَامٌ عليه؛ لأن الأقوى يدفع الأضْعَفَ، وعن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في إحدى الروايتين: أن النِّكَاحَ لا يَصِحّ، إذا تَقَدَّمَ الملك، وبه قَالَ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَ أَبُو حَنِيْفَةَ النِّكَاحَ، لكنه قال: لا تحل المنكوحةُ حتى تُحرَّم الموطوءة على نفسه، وليُعْلَمْ لذلك قوله في الكتاب "صَحَّ النِّكَاحُ" بالحاء والميم والألف. فرع: إذا ارتدَّتِ المنكوحةُ بعد الدخول، لم يجز نكاح أختها، ولا أربعٌ سواها إلى أنْ تنقضي العدةُ كالرَّجْعِيَّة. قال ابنُ الْحَدَّادِ: ولو قال لها، وقد ارتدت: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثاً، فله في الحال نكاح أختها، الحصول البينونة بكل حَالٍ وكذا الحكم، لو ارتدت، وخالعها في الردة. ولو كانت تحته صغيرةٌ وكبيرةٌ مدخولٌ بها، فارتدَّتِ الكبيرةُ وأُرْضعت أمُّها في عدتها الصغيرةَ وقف نكاح الصغيرة، فإِن أصرَّت الكبيرةُ، وانقضت العدة، بقي نكاح الصغيرة بحاله، وإن رجَعَتْ إلى الإِسلام، بطَلَ نكاح الصغيرة؛ لأنها صارت أختاً للكبيرة، واجتمعت معها في النكاح وفي بطلان نكاح الكبيرة قولان؛ يأتي ذكرهما في نظير المسألة في "باب الرَّضَاعِ": أظهرهما: عند الشَّيخ أبي عليٍّ: أنه لا يبْطُل، بل هوكما لو نكح أختاً على أختٍ، لا يبطل نكاح الأُولَى، وكذلك الحكم لو كانت المرضعة أختاً للكبيرة، لاجتماعها مع الخالة في النِّكَاح، وعلى الزوج للصغيرةِ نصف الْمُسَمَّى، وللكبيرة تمامُهُ، ويرجع الزوْجُ على المرضعة بنصف مَهْرٍ مثل الصغيرة على أظَهْرِ الأَقْوَالِ، وتمامه على الآخر، وبِجَمِيعِ مهر مثل الكبيرة على أظهر القَوْلين، إذا قلنا ببطلان نكاحها. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ الزِّيَادَة عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَتَحِلُّ الخَامِسَةُ بِطَلاَقٍ بِائنِ لِوَاحِدَةٍ مِنَ الأَرْبَع دُونَ الرَّجْعِيِّ، وَالعَبْدُ لاَ يَزِيدُّ (م) عَلَى اثْنَتَيْنِ، وَلَوْ نَكَحَ الحُرُّ خَمْساً في عَقْدَةٍ وَفِيهِنَّ أخْتَانِ بَطَلَ فِيهِمَا، وَفِي البَوَاقي قَوْلاً تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. قَالَ الرَّافِعيُّ: النوع الثاني: الزيادة على أَرْبَع نِسْوَةٍ، فلا يجمع الحرُّ في النكاح بين أكثر من أربع نسوة، روي أن غَيْلاَنَ أسلم وتحته عَشْرُ نُسْوَةٍ، فقال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- "اخْتَر أَرْبَعاً وَفَارِقُ سَائِرَهُنَّ" (¬1)، وأن نَوْفلَ بْنَ مُعَاوَيةَ أسْلَمَ وَتَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوةٍ فَقَال: "أَمْسِكْ ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أَرْبَعاً وَفَارِقِ الأُخْرَى" (¬1). ولو جمع بين خَمْسٍ، فصاعداً، نُظِرَ؛ إِن نكحهن في عَقْدٍ وَاحِدٍ، بَطَل نِكَاحُ الكل، وإن نكحهن على الترتيب، بطَل نكاحُ الزائدات على الأربع الأوليَّات، ولو نكح خمساً في عقد، وفيهن أختان، بَطَل فيهما، وفي البواقي قوْلاً تفريقِ الصَّفقةِ، وقد مَرّ شَرْحُهُمَا في "البيع"، والأظهر الصحَّةُ؛ لأن الأَظْهَرَ في البيع الصحَّةُ فيما يحل، والنكاح أولى بالصِّحَّةِ لِمَا سَبَقَ هُنَاكَ. ولو نكح سَبْعاً فيهن أُخْتَانِ، بَطَلَ نِكَاحُ الْكُلِّ، وكذا لو نكَحَ أرْبَعاً أختَيَنْ وأختَيْن، وإذا كان في النكاح أَرْبعٌ، فأبانهن، فله أن ينكح أربعاً بَدَلَهُنَّ، وإن كُنَّ في الْعِدَّةِ، ولو أبان واحدةً، فَلَهُ نِكَاحُ أخرَى، وإِنْ كانتِ المبانةُ في عدته، وكذا لو وطئ امرأةً بالشبهة، له أن ينكح في، عدتها أرْبعاً، وخالف أَبُو حَنِيْفَةَ وَأَحْمَدُ فيه على ما ذكرنا في نِكَاحِ الأُخْتِ في عدة الأخْتِ، ولا خلاف في المنع إذا كانت الْمُفَارَقَةُ رَجْعِيَّةً. وَالْعَبْدُ ينكح اثنينِ، ولا يزيد، وعن مالك -رَضِي اللهُ عَنْهُ- أنه يجوز له أن يَنْكِحَ أَرْبَعاً. لنا: ما روي عن الحَكَم بن عُيَيْنَةَ، قَالَ: أَجْمَعَ أصْحَابَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألاَّ ينكح الْعَبْدُ أكْثَرَ من اثنتين (¬2). فرْعُ: لابن الْحَدَّادِ إذا نكح سِتَّ نسْوَةٍ ثلاثاً في عَقْدٍ، واثنتين في عَقْدٍ، وواحدةً في عقد، ولم يُدر أن المتقدِّم من العقود ماذا، فنكاح الواحدة صَحِيْحٌ لاَ مَحَالَةَ، أما إذَا سَبَقَ نِكَاحُهَا، فَظَاهِرُ وأما إذا سبق إحدى العقدين نكاحها، فإنها تكون ثالثة أو رابعةً، فيصح نِكَاحُهَا، وأما إذا سَبَقَ العقدان معاً نكاحهما، فإن العقدة الثانية تَبْطُلُ لزيادة المجموع على الأربع؛ وحينئذٍ يصحُّ نكاحُ الواحدةِ بعدهما؛ لأنها إما ثالثةُ أو رابعةٌ، وأما البواقي، فَقَدْ قَالَ ابنُ الْحَدَّادِ: لا يثبت نكاحهن؛ لأن كل واحدة من عقدتي الاثنتين والثلاثِ يحتمل أن يكون بعد العقدة الأُخُرَى، فيبطل، وإذا وَقَعَ الشَّكُّ، فالأَصْلُ العَدَمُ، وأطنب الشَّيخُ أبو عَلِيٍّ في "الشَّرحِ" فقال: أولاً: ما ذكره ابن الْحَدَّادِ ¬
غَلَطٌ عند عَامَّةِ الأصْحَابِ، بل يصح مع نكاح الواحدة نكاحُ الاثنتين أو الثلاث؛ لأنه إن سَبَقَ نِكَاحُ الاثنتين على الثلاث، يصحُّ سواءٌ كان قبل الواحدة أو بعدها، وإنْ سَبَقَ نِكَاح الثَّلاَثِ على الاثنتين، فكذلك، لكن لا يعرف أَنَّ الصَّحِيحَ هذا أم ذاك فيوقف الأمر، ويسأل الزوج، فإنِ ادّعى سبق نكاح الاثنتين وصدقناه، يثبت نكاحهما مع الواحدة، وَإنِ ادَّعى سبق نكاح الثلاث، وصدقناه، فكذلك، وإن قَالَ الزَّوْجُ: لا أَدْرِي أو لم يبيِّن، فلهن طلب الفسخ، وإنَ رضيْنَ بالضرر ينفسخ، وعلى الزوج نفقةُ جميعهن في مدة التوقُّف، فإنْ مَاتَ قبل البيان، اعتدت من لم يدخل بها عدَّةَ الوفاة، ومن دخل بها أقصَى الأجلَيْن من عِدَّةِ الْوَفَاةِ أو الأقراء، ويدفع إلى المفردة رُبُعَ ميراث النَّسْوَةِ من الربع أو الثمن؛ لأنَّ غاية الممكن صحة نكاح الثلاث معها، ثم يجوز أن يكون الصحيحُ مع نكاحها نكاحَ [فلا يستحق إلاَّ الربع الذي أخذت ويحتمل أن يكون لصحيح نكاح الثلاث] (¬1) ويحتمل صحة نكاح الاثنين فيستحق الثُّلُث من نصيب النِّسْوَةِ، فيتوقف ما بين الثلث إلى الرُّبعِ، وهو نصف السدس من الواحدة، والثلث لا حق للاثنتين فيه، ويوقف الثلثان مَن نصِيبِ النُّسْوَةِ بين الاثنتين، والثلاثُ لا حق للواحدة فيه، فبان الصلْحَ قبل البيان، فالصلح في نصف السدس بين الواحدة، والثلاثُ لا حَاجَةَ إلى رضا الاثنتين، وفي الثلثين بين الاثنتين والثلاث لا حَاجَةَ إلى رضا الْوَاحِدَةِ فيه. وأمَّا المهر، فللواحدة المفردة المسمَّى، والبواقي، إِن دخل بهن جميعاً قابلنا المسمَّى لأحد الفرقتين ومهر المثل للأخرَى بالمسمى للفرقة الأخرَى، ومهر المثل للأُولى، وأخذنا أكثر القدرين من التَّرِكَةِ، وَدَفَعْنَا إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ الأَقْلَّ مِنَ الْمُسَمَّى وَمَهْرُ الْمِثْلِ، ووقفنا الباقي. مثاله سمى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِائَةً، ومهر مثل كلِّ واحدةٍ خمسون، فالمسمى للثلاث، ومَهْرُ المثل للاثنتين أربعمائة، وهي أكثر من المسمى للاثنتين ومهر مثل الثلاث، فتأخذ أرْبَعَمائة، وَنَدْفَعُ إلى كُلِّ وَاحِدَةٍ خَمْسِينَ مِنْها، ونوقف الباقي وهو مِائَةٌ وخمسون منْها مِائَةٌ بين الخمس، وخمسين بين الثلاث والورثة، فإن بَانَ صحَّة نكاح الاثنتين، فالمائة لهما والخمسون للورثة، وإن بَانَ صِحَّةُ نكاح الثلاث، فلهن المائة والخمسون، وإن لَمْ يَدْخُلْ بواحدة منهن، فنأخذ من التَّرِكَةِ أكثر المسمَّيَيْن، ولا يدفع في الحال شَيْئاً إلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، والأكثر في المثال المذكور ما سُمِّيَ للثلاث، فنأخذ، ونقف منه مائتين بين الثلاث والاثنين، ومائة بين الثلاث وللورثة، وإن دَخَلَ بإحدى الفرقتين، أخذنا الأكْثَر من مسمَّى المدخول بهن وحْدَه، ومن مهر مثْلِهِن مع مسمَّى اللواتي لم يدخل ¬
بهن، ويدفع إلى اللَّوَاتي دَخَلَ بِهِنَّ الأقلَّ من المسمى ومَهْرَ المثل، ففي المثال المذكور، وإن دخل بالاثنتين، فمهر مثلهن مع مسمَّى الثلاث أربعُمائة، وذلك أكثر من مسمَّى الاثنتين، فنأخذ أربعمائة، ويدفع منها إلى كُلِّ واحدةٍ من الاثنتين خمسين، ويقف مائة بينهما وبين الثلاث، ومائتين بين الثلاث وبين الورثة، وَإن بَانَ صَحَّةُ نِكَاحِ الاثنتين، دفعنا إليهما المَائَةَ، والباقي للورثة، وإن بَانَ صَحَّةُ نِكَاحِ الثَّلاَثِ، دفعناها مع المائتين إليهن، وإن دَخَلَ بالثلاث، فمهر مثلهن مع المسمى للاثنتين ثلثمائة وخمسون، وذلك أكثر من المسمى للثلاث، فيأخذ ثلثمائة وخمسين، فيدفع إلى كُلِّ وَاحِدَةٍ من الثَّلاَثِ خمسين، ويقف الباقي، وهو مائتان، منها مِائَةٌ وخمسون بين الاثنتين والثلاث، والباقي بين الاثنتين والورثة، إن بَانَ صحة نكاح الثلاث، دَفَعْنا إليهن مِائَة وخمسين، والباقي للورثة، وإن بَانَ صَحَّةُ نكاح الاثنين، دَفَعْنَا إِلَيْهِنَّ المائتين. قَالَ الشَّيخُ: فَإنْ كَانَتِ الْمَسْألَةُ بحالها، ونكح أربعاً أُخَرَ في عقد رَابعٍ ولم يعرف الترتيب، فلا يحكم بثبوت نكاح الواحدة، لجواز وُقُوعِهِ بَعْدَ الأَرْبَعِ، وإَن مَاتَ قَبْلَ البيان، وقفنا الربع والثمن، ولم ندفع شيئاً منه إلى واحدة منهن، وأما المهر، فَإنْ دَخَلَ بِهِنَّ جَمِيْعاً، أَخَذنَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ منْهُنَّ الأَكْثَرَ من مُسَمَّاهَا وَمهْرَ مِثْلِهَا، وَدَفَعَنَا إِلَيْهَا الأَقَلَّ مِنْهُمَا، وَوَقَفْنَا الْبَاقِيَ بينهما وبين الورثة، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، فيحتمل أن يكون الصحيحُ نكاحَ الأَرْبَعَ، ويحتمل أن يكون الصحيحُ نكاحَ الواحدة مع الثلاث، أو مع الاثنتين، [فَيُنْظَر إلى مهر الأربع وحده وإلى مهر الواحدة مع الثلاث، ثم مع الاثنتين] (¬1) فيؤخذ أكثر المقادِيرِ الثلاثة، ويوقف، وإن دخل ببعضهن دون بعض، فيؤْخَذُ لمن دَخَل بها أكْثر مهريها، ويدفع إليها أقلّهما، ويوقف الباقي بينهما وبين الورثة، ولمن لَمْ يدخلْ بها مهرها المسمَّى، ويوقَف بينهما وبين الورثة، هذا مُخْتَصَرُ كَلاَمِ الشَّيْخُ -رَحِمَهُ الله تَعَالَى-. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالمُطَلَّقَةُ ثَلاَثاً لاَ تَحِلُّ حَتَّى يَطَأَهَا زوْجٌ آخَرُ في نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَلاَ يَكْفِي وَطءُ الشُّبْهَةِ، وَيكْفِي إيلاجُ الحَشَفَةِ أَوْ مِقْدَارُهَا من مَقْطُوعِ الحَشَفَةِ، وَيكْفِي وَطْءُ الصَّبِيِّ وَالعِنَّينِ، وَلاَ يَشْتَرَطُ انْتِشَارُ الآلَةِ، وَلَوْ زَوَّجَهَا الزَّوْجُ مِنْ عَبْدِهِ الصَّغيرِ فَاسْتَدْخَلَتْ آلَتَهُ ثُمَّ بَاعَ مِنْهَا لِيَنْفَسِخَ النِّكَاحُ جَازَ في قَوْلٍ جَوَازُ إِجْبَارِ العَبْدِ عَلَى النِّكَاحِ وَحَصَلَ بِهِ دَفْعُ الْغِيْرَةِ، وَلوْ نُكِحَتْ بِشَرْطِ الطَّلاَقِ فَسَدَ العَقْدُ في وَجهٍ وَلَمْ يَحْصُلِ التَّحْلِيلُ (و)، وَهَلْ يَفْسُدُ النِّكاحُ بِشَرْطِ عَدَمِ الوَطْءِ؟ فِيهِ خِلافٌ، وَيفْسُدُ إِذَا تَزوَّجَ بِشَرْطِ أَلاَّ يَحِلَّ، وَلَيْسَ ¬
الشَّرْطُ السَّابِقُ عَلَى العقْدِ كَالمُقَارِنِ فِي الإِفْسَادِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: النوعُ الثالث: استيفاءُ عدد الطلاق، فإذا طَلَّقَ الْحُرُّ زوجته ثلاثاً في نِكَاحٍ وَاحِدٍ، أو أكثر دَفْعَةً وَاحِدَةً، أو أكثر قبل الدخول، أو بعده لم يحل له نكاحها، حتى تَنْكِحَ زوجاً غيره، ويدخل بها، ويفارقها وتنقضي عِدَّتُهَا (¬1) منه، قَالَ اللهُ تَعَالَى جَدُّهُ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] والمُرَادُ الطّلقة الثالثة. وقالت عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- "جَاءَت امْرَأَةُ رِفَاعَةَ القُرَّظِيَّ إِلَى رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ القُرظِيَّ، فَطَلَّقَنِي، فَبَتَّ طَلاَقِي، فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرحْمَنِ بْنَ الزُّبَيرَ -رَضِي الله عنهما- وإنما مَعَهُ مِثْلُ هَدْبَةِ الثَوْبِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ: "تُرِيْدِينَ أنْ ترْجِعِي إلى رِفَاَعةَ، لاَ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيذُوقَ عُسَيْلَتَكِ" (¬2). والعبدُ، إذا طلَّق زوجته طلقتين، كالحرِّ، إذا طلق ثلاثاً؛ لأنه استوفَى ما يملكه من الطَّلاَقِ، ولو عرضت الحريةُ بعد ذلك، لم تؤثر، هذه قاعدةٌ. الفصل: وَفِيهِ مَسَائِلُ مذكورةٌ في الكتاب وغير مذكورة. المسألة الأولى: يشترط أن تكون الإِصابةُ في نِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَالوطْءُ بملك اليمين لا يحلل، وفي الوطء بالنكاح الفاسد قولان. أصحُّهما: وبه قَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ وَمَالِكٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وهو المذكور في الكتاب: أنه لا يحلِّل أيضاً؛ لأن إطلاق اسم النكاح ينصرف إلى الصَّحيحِ. والثّاني: ويُحْكَى عن القديم: أنه يحلل؛ لأنه حُكْمٌ من أحكام الوطء يتعلَّق بالوطء في النكاح الصحيح، فيتعلَّق الوطء في النِّكاح الفاسد؛ كَالْمَهْرِ والعدة، وقرب ¬
هذا الخلاف من الخلاف في أنَّ السَّيِّدَ إذا أذِنَ لعبده في النكاح، فنكح نكاحاً فاسداً، ووطئ فيه، هل يتعلق المهر بكسبه؟. وحكَى أبو الْفَرَجِ الزاز طريقةً قاطعةً بالقول الأول، والوطء بالشُّبهَةِ من غير نِكَاح بأن ظنَّها ظانٌّ أنها زوجَتُه، فوطئها لا تحلِّل؛ لأن اللهِ تَعَالَى قَالَ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ولم يوجدْ نكاحٌ صحيح [ولا فاسد، وطرد لشيخ أبو حاتم القزوينيُّ وآخرون القوْلَ فيه] (¬1) وربما بني ذلك على أنا، إذا أثتبنا الحلَّ بالوطء في النِّكَاحِ الفاسد، لم نثبْتُه، وفيه معنيان: أحدهما: شمولُ اسْم النكاح. والثاني: مشاركة الوطء في النكاح الفاسد للوطء في النكاح الصحيح في الأحكام، فعلى الأول الوطءُ بالشبهة لا يحلل، وعلى الثَّانِي يحلل. المسألة الثانية: الْمُعَتَبرُ في التَّحْلِيلِ تِغْييب الْحَشَفَةِ وبه تناط أحكام الوطء كُلُّها وقال في "المُهَذَّبِ" إن كانت بِكراً، فأقلُّ الإِصابةَ الافتضاض بآلته، ومقدارُ الحشَفَةِ من مقطوع الحشفة بمثابة الحَشَفةِ. قَال الإمَامُ: وعلى هذا، فالمعتبرُ الحشَفَةُ الَّتي كانتْ لهذا العضْو المخصوص، وحكَى عن رواية العراقيين وجهاً أن جميع الباقي من مقطوع الحشفة بمثابة الحشفة] (¬2) فلا بدّ من الإيقال، وإذا كان الباقي أقلَّ من قدر الحشفة، لم يحصل به التحليل، كالسليم إذا غيب بعض الحشفة، ولا فرق بين أن يكون الزوجُ قويَّ الانتشار، أو ضعيفه، فاستعان بإصبعه أو بإِصْبَعِها، أمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ انْتِشَارُ أَصلاً، إمّا لِعُنَّةٍ أو لشَلَلٍ في الذِّكَر، فَعَنِ الشَّيخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وغيره؛ الاكتفاء به، لحصول صورة الوطء وأحكامه، وهذا ما أورده في الكتاب، والمشهور في كتب الأصْحَاب الْمَنْعُ، لعدم ذوق العسَيْلَة، واسْتِدْخَالُ الذَّكَرِ يفيد الحلَّ سواء كان الرجلُ نائماً أو منتبهاً، واستدخال الماء لا يفيد الحل (¬3). المسألة الثالثة: لا فرق بين أن يكون الزوجُ الثانِي عاقلاً أو مجنوناً حُرَّاً أو عبداً خصيّاً، أو فَحْلاً مسلماً أو ذِمِّيّاً، إذا كانت المطلَّقة ذمية سواءٌ كان المطلَّق مسلماً أو ذمياً والمعتبر أن يكون وطء الذمي في وقت، لو ترافعوا إلَيْنا لقَرَّرَّناهم على ذلك النكاح (¬4)، والمراهقُ والصبيُّ الذي يَتَأتَّى منه الجماع، كالبالغ خلافاً لمالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفي ¬
"التتمة" أن للشَّافِعِيَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قولاً مثلَهُ، وأما الطفل الذي لا يتأتَّى منه الجماع، ففي الاكتفاء بتغييبه وجهان: المذكور في الكتاب الاكتفاء، يحكى عن اختيار (¬1) القَفَّالِ؛ والأصح المنع، وهما كالوجهين في اشتراط الانتشار، أو هما هما. وحكى الإمام عن اتفاق الأئمة على الاكتفاء بوطء الصبي، كما إن وطئ الصبية المطلقة في الصَغر يكتفي (¬2) به، ولكن الشَّيخَ أَبا الْفَرَجِ حَكَى الوجهين في الصَّبيَّة الَّتِي لا تْشُتهَى أيضاً. ويتعلَّق بهذا الأصل ما قال الأئمة: إنَّ أسْلَمَ طريقٍ في البابِ وأدْفَعَهُ للعارِ والغيرة أن تُزَوّج من عبد مراهق، أو طفلٍ للزوج، أو غيره، وتستدخل حشفته، ثم تتملكه ببيع أو هبة، فينفسخ النِّكَاحُ، ويحصل التحليل، إذا اكتفينا بوطء الصغير، ويتعلَّق بأصل آخر، وهو إجبار العبد على النكاح، فإن لم نجوِّز للسيد أن يزوِّج من العبد الصغير، امتنع ذلك وإنما كان أسلم الطرق؛ لأنه لا يوثَقُ بطلاقِ الزوج؛ ولأن البالغ قد يُحْبِلُها، فيطول الانتظار، وأما أنه أدفعُ للعار والغيرة، فظاهر. المسألة الرابعة: وطء الزوج الثاني في إحرامه أو إحرامها أو حيضها أو في نهار رمضان، أو على ظن أنه يطأ أجنبيةً يفيد الحلَّ؛ لأنه أصابه زوج في نكاح صحيح، وكذا لو وطئها بَعْدَ مَا حُرِّمَتْ عليه بالظِّهَارِ والعود، وكذا لو وطئها، وهي في العدة عن وطء شبهة، وقع بعد نكاحه إياها في أصحِّ الوجهين، ووطئه بعد ارتدادها أو ارتداده. نَصَّ الشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهِ- على أنه لا يفيد الحِلَّ، وإن فُرِضَ الرجوعُ إلى الإِسلام؛ لاضطراب النِّكاح بخلاف سائر أسباب التحريم، فإنَّها لا توجب اختلال النَكاح، واعترض المُزَنِيُّ بأنه، إنْ دخل بها قبل الردة، فقد حصل الحل، وإلا، فتبين بنفس الردة، فلا معنى للرجوع، وأجاب الأصحاب بتصوير العدة من غير فرض الدخول، إما بالخلوة على القديم، أو بأن يطأ فيما دُوَن الْفَرْجِ، فيسبق الماء إلى الفرج؛ بأن تستدخل ماءه أو بأن يأتيها في غير المأْتَي، فتجب العدة بهذه الأسباب، ولا ¬
يحصل (¬1) الحِلُّ. المسألة الخامسة: إذا نكحها الزوج الثاني بشرط أنه إذا وطئها بَانَتْ منه، أو نكحها إلى أن يطأها أو على ألاَّ نكاح بينهما إذا وطئها، فهذا النِّكاحُ بَاطِلٌ؛ لأنه ضرب من نكاح المتعة، وقد روي أنه عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: "لَعَنَ اللهُ المُحَلَّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ". فإن نكحها على شرط أنه، إذا وطئها، طلَّقها، ففيه قولان فيما روى الجمهورُ، وقال صَاحِبُ "الكتاب" وَجْهَانِ: أصحهما: أنه باطل؛ لأنه شرط يمنع صحة دوام النكاح، فأشبه التأقيت. والثّاني: يصح العقد، وبه قَالَ أَبُوحَنِيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ويفْسُدُ الشرط، كما لو نكحها بشَرْطِ ألَّا يتزوَّج عليها، أو لا يسافر بها، وعلى هذا يسقط المُسَمَّى، ويجب مَهْرُ الْمِثْلِ، وإن لم يجر شرط، ولكن كان في عزمه أن يطلقها، إذا وطئها كره، وصح العقد خِلاَفاً لمالك وأحمد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- ولو نكحها على ألاّ يطاها إلا مرَّةً، أو على أن لا يطأها نهاراً، فالحكاية عن نَصَّ الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهِ- في مواضعَ: أنه يصح النكاح، ويلغو الشرط، وفي موضع آخر: أنه لا يصح النكاح، وللأصحاب طريقان، نقلهما الشَّيخُ أبو مُحَمَّدٍ في "السِّلْسلَةِ". أحدهما: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ على قولَيْن، وجْهُ الأولِ القياسُ عَلَى ما إذا شرط إلاَّ يتزوج عليها، ولا يسافر بها، ووجْهُ الثاني إخلاُل هَذَا الشَّرْطِ بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ. وأصحُّهما: وبه قال الرَّبِيعُ أَنهُمَا محمولانِ عَلَى حالتين، فَحَيْثُ قال: يَبْطُلُ النكاح، أراد ما إذا شرطَتِ الزوجةِ ألاَّ يطأها، وحيث قال: يصح، أراد ما إذا شرط الزوج ألا يطأها، والفرق أن الوطء حَقٌّ له، فله تركه، والتمكين حقٌّ عليها، فليس لها تركُهُ. ولك أن تقول: إذا شرط أحد المتعاقدين شرطاً، فإن لم يساعده صاحبُه، لم يتمَّ العقد، وإن ساعده، فالزوج بالمساعدة تاركٌ لحقه، فهلا كَانتْ مُسَاعَدَتُهُ كاشتراطه، وَهِيَ بالمُسَاعَدَةِ مَانَعِةٌ حَقَّهُ فَهلاَّ كانتْ مساعدتها كاشتراطها لحقها، ولو تزوّج امرأةً عَلَى أَلاّ تحل له، ففي "النهاية" أنه يجب أن يلتحق ذلك بالخلاف في شرط الامتناع عن ¬
الوطء، وقال في "الْوَسِيْطِ" ينبغي أن يفسد؛ لما فيه من التناقض (¬1)، وجميع ما ذكرناه فيما إذا جرتْ هذه الشروطُ في نفس العقد، فأما إِذا تواطأ عَلَى شيءٍ منها قبل العقد، وعقدا على ذلك القصد، فهل هو كالمقرون بالعقد؟. فيه وجهان؛ أخذاً من مسألة مَهْرِ السِّرِّ والعلانية، والأصحُّ المنعُ، وَعَنْ مالِكٍ -رضي الله عنه- أنه كالمَشْرُوط في العَقْد. المسألة السادسة: إذا قالَتِ المطلَّقةُ ثلاثاً: نكَحْتُ زوجاً آخر، ووطِئَني وفارقني، وانقضت عِدَّتِي منه، فيقبل قولها عند الاحتمال، وإن أنكر الزوْجُ الثاني (¬2)، وصُدِّق في أنه لا يلزمه إلا نصف المهْرِ، وذلك؛ لأنها مؤتمنة في انقضاء العدة، والوطء مما يُتعذَّر إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عليه، ثُمَّ إن غلب على ظَنَّهِ صدْقُها، فله نكاحها من غير كراهة، وإنْ لم يَغْلِب، فالأَوَلى ألا ينكحها، وإنْ قال: هي كَاذِبَة، لم يكن له نكاحُهَا، فإن قالَ بعد ذلك: تبيَّنْتُ صدْقَها، فله نكاحها (¬3) لأنه ربما انْكَشَفَ له خلافُ ما ظنه. المسألة السابعة: طلق زوجته الأمة ثلاثاً ثم ملكها، لم يحل له وطؤها بملك اليمين إلا بعد زوجٍ، وإصابة لظاهر (¬4) الآية، وفيه وجه؛ أنها تحل؛ لأن الطَّلَقَاتِ الثَّلاَثَ لا تمنع المِلْك، فلا تمنع الوطء بالملك بخلاف النكاح، واللهِ أعْلَمُ. ثُمَّ لا بَأْسَ بالتَّنْصِيصِ على المواضع المستحقة للعلامات على ما هو رسْمُ الكتاب، فقوله: "ولا يكفي نكاح الشبهة" معلم بالواو، والمرادُ منه النكاح الفاسد. ¬
وقوله: "أو مقدارها" معلم بالواو. وكذا قوله "ويكفي وطء الصبي والعنين". وكذا قوله "ولا يشترط انتشار الآلة"، والظاهر خلاف ما في الكتاب على ما مَرَّ، وقوله "ولو زوجها الزوْجُ" أي: تسبب في التزويج، وحمل أولياءها عليه. وقوله: "فسد العقد" مُعْلَمٌ بالحاء. وقوله: "في وجه" بالواو؛ لأن أبا الفَرَجِ السَّرْخَسِي حَكَى عَنْ بَعْضِ الأصْحَابِ الْقَطْعَ بِالْفَسَادَ. وقوله "ولم يحصل التحليل" جواب على الأصح، وهو أن الوطء في النكاح الفاسد لا يفيد الحِلِّ. وقوله "فيه خلاف" مُعْلَمٌ بالواو إحدى الطريقتين المذكورتين من قبل، وكذا قوله "يفسد إذا تزوج". وقوله "وليس الشرْطُ السابق علَى العقد كالمقارن في الإِفْسَادِ" معلم بالواو والميم. قَالَ الغَزَاليُّ: (الْجنْسُ الثَّالثُ) مِنَ المَوَانِعِ المِلْكُ وَالرِّقُّ فَلاَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أنْ يَنْكحَ أَمَتَهُ وَلَوْ مَلَكَ مَنْكُوحَتَهِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَلاَ لِلْحُرَّةِ أَنْ تَنْكِحَ عَبْدَهَا، وَلَوْ تَمَلَّكَتْ زَوْجَهَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الْجِنْسُ الثَّالِثُ من الموانع رقُّ المرأة، وهِيَ إما أن تكون له، وهو الذي أراد بِإِطلاَقِ "المِلْك" أو لغيره، وَهُوَ الَّذِي أرَادَ "بالرِّقِّ". أمَّا القِسْمُ الأَوَّلُ: فَلَيْسَ للرَّجُلِ أن ينكح أَمَتَهُ؛ ولا الَّتِي يَمْلِكُ بعضها، ولو ملَكَ زوجته أو بعْضَها، انفسخ النكاح، واحتجوا له بأنَّ مِلْكَ اليمين أَقْوَى النِّكَاحِ؛ لأنه يملك به الرقبة والمنفعة، والنِّكَاحُ لا يملك به إلاَّ ضرباً من المنفعة، فيسقط الأضعفُ بِالأَقْوَى، وَهَذَا القدر من التوجيه يُشْكِل بما إذا بَاعَ المستأجِرُ من المستأجر، فإنه لا تنفسخ الإِجَارَةُ عَلَى الأَصَحِّ مع وجود هذا المعنى، لكن ذَكَرْنَا في الإِجَارَةِ ما فَرَّقوا به بين البابَيْن، ولا يجوز للْمَرْأةِ أنْ تَنْكِحَ عَبْدَهَا، وَلَوْ مَلَكَتْ زَوْجَهَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ أَحْكَامَ النِّكَاحِ. والمِلْك تَتَنَاقَضُ؛ لأَنَّهَا تُطَالِبُهُ بِالسَّفَرِ إِلَى الشَّرْقِ؛ لأنه عَبْدُهَا، وَهُوَ يُطَالِبُهَا بالسَّفَرِ مَعَهُ إِلَى الغَرْبِ؛ لأنها زوجته، وَإِذَا دَعَاهَا إِلَى فِراشِهِ بِحَقِّ النِّكَاحِ بعثته في بعض أشْغَالها بحقِّ الملكَ، وإذا تعذر الْجَمْعُ بينهما بَطَلَ الأَضْعَفُ، وَثَبَتَ الأَقْوَى. قَالَ الغَزَاليُّ: وَلاَ يَنْكِحُ الحُرُّ المُسْلِمُ مَمْلُوكَةَ الغَيْرِ إِلاَّ بِأَرْبَعِ شَرَائِطَ وفَقْدِ الْحُرَّة تَحْتَهُ، وَفَقَدْ طَوْلِ الحُرَّةِ (ح)، وَخَوْفُ العَنَتِ (ح)، وَكَوْنُ الأَمَةِ مُسْلِمَةً (ح)، فَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ رَتْقَاءُ أوْ هَرِمَةٌ أَوْ حُرَّةٌ كِتَابيَّةٌ أَوْ غَائِبَةٌ لَمْ ينْكِحِ الأَمَةَ مَا لَمْ يُطَلِّقْهَا، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى نِكاحِ حُرَّةٍ رَتقَاءَ أوْ غَائِبَةٍ غَيْبَةً بَعِيدَةً نَكحَ الأَمَةَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَرَ عَلَى حُرَّةٍ كِتَابِيَّةٍ في
وَجْهٍ، فَلَوْ وَجَدَ حُرَّةً فغَالَتْهُ في المَهْرِ بِمِقْدَار يُعَدُّ قَبُولُهُ إسْرَافاً نكَحَ الأَمَةَ (و)، وَللْمفْلِسِ نِكَاحُ الأَمَةِ، وَلَوْ وَجَدَ حُرَّةً تَرْضَى بِمَهْرٍ مُؤَجَّلٍ فَإنْ قَنِعَتْ بِدُونِ مَهْرِ المِثْلِ لَمْ يَنْكِح الأَمَةَ عَلَى الأَصَحِّ إِذ المِنَّةُ فِيهِ هَيَّنَةٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القسم الثاني: مَمْلُوكَةُ الغَيْرِ، إِنَّمَا يَنْكحُهَا الْحُرُّ بِشُرُوطٍ: أَحَدُهَا: إلاَّ تكون تحته حُرَّةٌ فإن كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ نَظِرَ؛ إنْ تَيَسَّرَ الاسْتِمْتَاعِ بِهَا، لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ الأِمَةِ مُسْلِمَةً كَانَت الحُرَّةُ أو كِتَابيَّةً؛ لِمَا رُوِيَ أنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "نَهَى أنْ تُنْكَحَ الأَمَة عَلَى الْحُرَّةِ" ويروى ذلك عَنْ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ موْقوفاً -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- (¬1). وَحَكَى الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ وَجْهَيْنِ في وُجُودِ الْحُرَّةِ الكتابية، هَل يُمْنَعُ نِكَاحُ الأَمَةِ؟. وهما كالوجهين الآتيين في أنَّ الْقدْرَةَ عَلَى نِكَاحِ الكِتَابيَّةِ الْحُرَّةِ، هل يمنع نِكَاحَ الأمَةِ؟ وإن لم يتيسَّر الاستمتاع بها، كما إذا كانت صغيرةً أو هرمة أو غائبةً أو مَجنُونَةً أو مجذومة، أو بَرْصَاءَ، أَؤ رَتْقَاءَ، أَو مُضْنَاةً لا تتحمَّلُ الجماع فوجهان: أَحَدُهِمَا: أَنه يصح نِكَاحُ الأَمَةِ؛ لأَنَّهُ لا غناء في الحُرَّةِ الَّتِي تَحْتَهُ، ولا استغناء بها، وَهَذَا أَصَحّ عند صاحب "الْمُهَذَّبِ" وبه أجاب ابنُ الصَّبَّاغِ وطائفة من العراقيين، واختَارُهُ الْقَاضِي حسين. والثاني: المنع؛ لظاهر النَّهْي؛ ولأن نكاح الصَّغيرة والغائبة كنكاح البالغة والحاضرة في منع نكاح الأخت، فكذلك في مَنْع نِكَاح الأَمَةِ، وهذا هو المذكور في "الْكِتَاب" وفي "النَّهَايَةِ" "والتَّهْذِيبِ" وعلى هذا، فَلاَ يَصِحُّ نِكَاحُ الأَمَةِ، حَتَّى تُطلَّقُ الحُرَّةُ طَلاَقاً بَائِناً أو رَجْعيّاً، وَتَبِيْنَ مِنْهُ. الثاني: ألاَّ يقدر على نِكَاحِ حُرَّةٍ، إما لأنه لا يوجد صداقها أو أنه لا يجد حُرَّةً ينكحها، فإن قدر لم يحلَّ له نكاح الإِماء، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا ¬
أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] الآية والطَّوْلُ: السَّعَةُ وَالْفَضْلُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ -رَضي اللهُ عَنْهُمَا- وَلَمْ يعْتَبرْ هَذَا الشَّرْطْ أبو حَنِيْفَةَ وَفِيهِ مَسَائِلُ. المسألة الأولى: الْقَادِرُ عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ رَتْقَاءَ أَوْ قرْنَاءَ هَلُ لَهُ نِكَاحُ الأمَةِ. فِيْهِ وَجْهَانِ يوجه إحدهما بِحُصُولِ بَعْضِ الاسْتِمْتَاعَاتِ. والثَّانِي: بِأَنَّ مَا هُوَ الأصْلُ لاَ يَحْصُلُ، وفي "التَّتِمَّة" أَنَّ هذا الخلاف مبنيٌّ على الخلاف فِيْمَا إِذا كانت رَتْقَاءَ أَوْ قُرْنَاءَ، إن قلنا إن وجودها يمنع نكاح الأمة، فكذا الْقُدْرَةُ عَلَيْهَا، كَمَا أَنَّ الْقُدْرَةَ على استعمال الْمَاءِ يمنع التَّيمُّمَ، فإن قُلْنَا: إنَّ وجودَهَا لا يمنع القدرة عليها أولَى ألاَّ يُمْنَعٍ، لكنَّ الجواب في "الْكِتَاب" وَالتَّهْذِيب" أنه يَجُوزُ نِكَاحُ الأمَةِ هاهنا مع الجواب بأنَّ وجودَهَا يمنعه، وَيجْرِي الْخِلاَفُ فيما لو قدر على نكاح مرة وضيعة، وأولَى بَجَوَازِ نِكَاحِ الأَمَةِ لِفَوَاتِ الاسْتِمَتَاعِ بتوابعه، ويجري في المجنونة والمجذومة، وأولى بالمنع لإِمْكان الاستمتاع، ولو كانت الحرةُ الَّتِي يقْدِرُ على نكاحها معتدَّةً عن الغير. حَكَى الْقَاضِي الرُّوَيانِيُّ عَنْ وَالِدِهِ أَنَّ لَهُ نِكَاحَ الأَمَةِ، وَهُوَ جَوَابٌ عَلَى أَحَدِ الْوَجهَين والله أعْلَمُ. وفرّع المتولِّي على الوجهَيْن في هذه المسائل أن المستَجْمِعَ لشرائط نكاح الأَمَةِ هَلْ يَنْكِحُ أمَةً صَغِيرَةً؟. إن قلنا: إن وجود الحرَّةِ الصغيرة في نكاحِهِ لا يمنع نكاح الأَمَةِ، فلا ينكح الأَمَةَ الصَّغِيرَةَ؛ لأنه لا يأْمَنُ بها من العنت، وإن قُلْنَا: إنهُ يَمْنَعُ نِكَاحَ الأَمَة، فله أن ينكحها إلحاقاً للصَّغِيرَةِ بِالكبِيرَةِ في الجواز كما أُلْحِقَتْ بها في المنع. قَالَ: والأوَّلُ أظهر. ولو قدر على نكاح حرَّةٍ غائبةٍ عن بلده، فقد أطلق في "الْكِتَاب" أن له نكاحَ الأَمَةِ، وفصل أكثر أصحابنا، فقالوا: إن كان يخاف الْعَنَتَ في مدَّةِ قطع المسافة أو يلحقه مشقة ظاهرةٌ بالخروج إلَيْها، فله نِكَاحُ الأَمَةِ، وإلاَّ، فَلاَ، وضبط الإِمام المشقَّة المعتبرة بأن ينسب متحمِّلَها في طلب زوْجَّةٍ إلى الإِسراف ومجاوزة الحد. المسألة الثانية: لو قدر على صَدَاقِ حُرَّةٍ كِتَابيَّةٍ، فَوَجْهَانِ عن حِكَايَةِ أَبِي إسْحَاقَ أو وتخريجه: أحدهما: أنه يجوز له نِكَاحُ الأَمَةِ؛ لأن الشَّرْطَ في الآية ألا يستطيع طَوْلَ المؤمنات، وقد يحصل. وأصحهما: المنع؛ لأنه مستغنٍ بها عن إرقاق وَلَدِه؛ ولهذا لو كان تحته كتابيةٌ،
لم يجز له نِكَاحُ الأَمَةِ، كما لو كان تحته مسلمة، وذكر المؤمنات في الآية الأخرى جرياً على الأغلب، فإنَّ الغالب أنَّ المسلم، إنما يرغب في المؤمنات، وأيْضاً، فالغالب أنَّ من لا يَقْدِرُ عَلَى طَوْلِ المؤمنة لا يَقْدِرُ عَلَى طول الْكِتَابيَّةِ؛ لأن الكتابيَّة لا ترضَى بالمسلم إلاَّ بِمَهْرٍ كَبِيرٍ، وعن أبِي الطَّيِّبِ الساوي أن أَبا إسْحَاقَ قَطع آخراً بالوَجْه الثاني. المسألة الثالثة: لو لم تَرْضَ الحُرَّةُ التي يَجِدُها إلا بأكثر من مَهْر مثلها، وهو واحدٍ لما يغَالى به، فالمنقول في "التَّهْذِيب" أنه لا ينكح الأمة وفي "التَّتِمَّةِ" أنه ينكحها، كما لو بيع الماء بأكثر من ثمنِ المِثْلِ، لهَ العدول إلى التّيمم. وَتَوَسَّطَ الإمَامُ وصاحب "الْكِتَاب" فقالوا: إن كانت المغالاةُ بقدر كبيرٍ يُعَد بَذْلُهُ إسْرَافاً، فله نِكَاحُ الأمَةِ، وإلا، فَلاَ، وفَرَقُوا بين مسألة التَّيَمُّمِ، وبين ما نَحْنُ فيه من وجهين: أحدهما: أنّ الحاجة إلى الماء تتكرَّر. والثاني: أن النكاح تتعلَّق به أعراضٌ كليةٌ لا يعدُّ باذلُ المالِ في مثلها مَغْبُوناً (¬1)، ولو بِيعَتِ الرقبةُ بثمنَ عالٍ، والمكفِّر واجد له، فَهَلْ يعْدِلُ إِلَى الصَّومِ؟. اختلف فيه كَلاَمُ صَاحِبِ "التَّهْذِيب" قال: هاهنا لا يعدل، وَقَالَ في الكفارات يعدل، وذكر ما أورده هاهنا ذكر من ينقل وجهاً بعيداً، أو تخريجاً غريباً. المسألة الرابعة: إذا لم يَجِدِ المهر، لكن هناك حرةٌ ترضى بمهر مؤجَّلٍ، وهو يتوقَّع القدرة عليه عند الحُلُول، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له نكاحُ الأَمَةِ، لتمكنه من نكاح حُرَّةٍ. أظْهَرُهُمَا: الجواز، وهو المذكور في "الْكِتَاب" وفي "الشَّامِلِ"؛ لأن ذمَّته تصيرُ مشغولةً في الحال، وقد لا يصدق رجاؤُهُ عند توجُّه الطلب عليه، ويجري الوجْهَان فيما لو بِيعَ منه نسيئه ما يفي بصداقها، أو وجد من يستأجره بأجْرَةٍ معجَّلةٍ وأجراهما مُجْرُونَ فيما إِذَا أقرض مهر حرة، والأَوْلَى ما نقله صاحب "التَّتِمَّةِ" وهو القَطْع بأنه لا يجب القبول؛ لأن القرض لا يلحقه الأجل، وربما يطالب في الحال، ولو رضيت حُرَّةٌ بأن ينكحها بلا مهر، لم (¬2) يمتنع به نكاح الأَمَةِ؛ لأنها تطالبه بالفرض. وفي شرح الشيخ أَبِي عَلِيٍّ وَجْهٌ آخَرُ أنه يمتنع، ولو رَضِيَتْ بدون مهر المثل، ¬
وهو يجده فوجهان: أصحهما: وبه قطع بعْضُهِم: أنه لا يجوز له نكاح الأَمَةِ لقدرته على نكاح الحرة، وهذا كما أنَّه لا يتيَّمم، إذا وَجَدَ الماء بثمن بَخْسٍ. والثاني: يجوز؛ لِمَا فيه من المنَّةِ، وَمَنْ قَالَ بالأوَّل، قَالَ: الْمهْرُ مما يُتسامَحُ فيه، ولا يتعلَّق به كَبيرُ مِنَّةٍ، ولو وُهِبَ له مالُ أو جاريةٌ. لم يلزمه القبول (¬1)، وجاز له نكاحْ الأمة، ولْيُعْلَمَ من لفظ "الكتاب" قوله "فَقْدُ طَوْلِ الحُرّةِ" بالحاء، وكذا قوله: "وخوفِ العنت" لما سنذكره، وقوله: "لم ينكح الأمة بالواو، وكذا قوله: نكح الأمة بالواو وقوله: وللمفلس نكلاح الأمة، وقوله: على الأصح لقطع بعضهم بأنه لا ينكحها". فَرْعٌ: ذَكَرَ القاضي ابنُ كَجٍّ وجهَيْن في أنه، هَلْ يَجُوزَ لَهُ نِكَاحُ الإِماء مع ملْكِ المسكن والخادم أم عليه بَيْعُها وصرْفُها إَلى طَوْلِ الحُرَّةِ (¬2)؟. والمال الغائبُ لا يمنع من نكاح الأَمَةِ، كما لا يمنع ابن السبيل من أخذ الزكاة، والمُعْسِر الذي له ابنٌ مُوسِرٌ يجوز له نِكَاحُ الأَمَةِ، إِن لم نوجتْ على الابنِ الإِعفاف، وإن أوجبناه، فوجهان؛ لأنه مستغن بِمَالِ الابن (¬3). قَالَ الغَزَالِيُّ: وَأمَّا خَوْفُ الْعَنَتِ فَإنَّمَا يَتِمُّ لِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ وَضَعْفِ التَّقْوَى، فَإنْ قَوَيَتِ التَّقْوَى وَأَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ ينْكِحْ، وَالقَادِرُ عَلَى سِريَّةٍ لاَ يَخَافُ العَنَتَ فَلاَ يَتَرَخَّصُ عَلَى وَجْهٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الشرطُ الثالث خوف الْعَنَتِ (¬4)، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ ¬
الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] والعنت؛ المشقَّة الشديدة، ويقال: إنَّه الهلاك، والمراد هاهنا الزنا سمي به؛ لأنه سبب المشقَّة والهلاك بالحد في الدنيا، والهلاك في الآخرة بالعقوبة. وَقَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لا يشترط خوف الْعَنَتِ، وفي الفصل مسألتان: الأولى: في أنَّ هذا الشرطَ بم يتحقَّق. قال الإِمام: ليس الذي يَخَاف الزنَا، هو الذي يغلب على ظنه الوقوعُ فيه، بل المرادُ الَّذِي يتوقَّعه لا عَلى سبيل الندور وليس غَيْرُ الخائف هو الذي، يعْلَم الاجتناب عنه، لكن غلبة الظن بالتقْوَى والاجتنابِ ينافي الخوْفَ، فمن غلبت شهوته [ورق تقواه، فهو خائف، ومن ضعفت شهوته، وهو] (¬1) يستبدع الوقوع في الزنا لدين، أَو مروءةٍ أَو حياء، فهو غير خائف، وإن غلبت شهوته، وقوى تقواه، ففيه احتمالان للإِمام أظهرهما وهو المذكور في "الكتاب" أنه لا يجوز له نكاح الأَمَةِ؛ لأنه لا يخاف الزنَا، فلا يجوز له أن يَرِقَّ ولده لقضاءِ وطَرِ أَو كَسْرِ شهوة. والثاني: إِنْ كان تَرْكُ الْوُقاع يجرُّ ضَرَراً أَوْ مَرَضاً يَجُوزُ لَهِ نِكَاحُ الأَمة، والْمَجْبُوبُ لا يتصورُّ الوطء منه مُبَاحاً، ولا حراماً، ففي "النِّهَايَة" و"التتمة" أنه لا ينكح الأمة، وذكر صاحب "التَّتِمَّةِ" تفريعاً عليه أنه، لو نكح حُرٌّ أمَةً، فوجدتْهُ مجبوباً، وأرادت الفسخ، فقال الزوج: جُبَّ ذكرى بعد النكاح، فإن لم يكن ما يقولُهُ محتملاً، بأن كان الموضع مُنْدَملاً، وقد عقد النكاح أمس، فالنكاح فاسدٌ، وإن كان محتملاً، فإن صدقته فذاك، وإنْ كذبته، بطل دعواه؛ لأن قضيَّة قولها فسادُ النكاح من أصله، وقال الْقَاضِي الرُّوَيانِيُّ في "البحر" [أن] للخصيَّ والمجبوب نِكَاحَ الأَمَةِ عند خوف الوقوع في الفعل المأثوم به؛ لأن العنت هو المشقَّةُ (¬2). الثانية: في القادر عَلَى شراء أَمةٍ يتسرّى بها وجهان: أحدهما: أنَّ له نكاحَ الأمَة؛ لأنه لا يستطيعُ طَوْلَ الْحُرَّةِ؛ وهذا هو المذكور في "التَّتمَّةِ" "وَالتَّهْذِيبِ" ويحكى القَطْعُ به عن القاضي الحسين. ولو كانت في ملكه أمةٌ لَمْ ينكح الأمة، وفي كتاب الحَنَّاطِيَّ الخلافُ فيه، وإذا قلْنا بالصحيح، فلو كانت الأمة التي يملكها غَيْرَ محلَّلة له، نُظِرَ، إن وفت قيمتها بمهر حرة أو ثمن أمة يتسراها، لم ينكح الأمة، وإلاَّ، نكحها، واللهُ أعْلَمُ. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: فَإذَا تَرَخَّصَ فَلاَ ينْكحُ إلاَّ مُسْلِمَةً، أمَّا الكِتَابِيَّة فَلاَ تَحِلُّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْكحَ أَمَةً مُسْلِمَةً لِكَافِرٍ عَلَى الأَصَحِّ، وَالحُرُّ الكتَابِيُّ ينْكِحُ الأَمَةَ الكتَابِيَّةَ، وَالعَبْدُ المُسْلِمُ لاَ يَنْكِحُهَا، فَقِيلَ في الْمَسْأَلَتَينِ قَوْلاَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لفظ الترخيص يشير إلى أَن نكاح الأمةِ، إنما يجوز عند الضَّرُورَةِ، أو شدَّةِ الحاجة، علَى ما هو سبيلُ الرُّخَص، وأراد بقوله: فإذا ترخص الحرَّ المسلم، وقد سبق ذكره عند قوله: "ولا ينكح الحرُّ المسلمُ مملوكةَ الغَيْرِ إلا بأَرْبَع شَرَائِطَ"، والشرط الرَّابعُ أن تكون الأَمَةُ المنكوحةُ مسلمةً، أما الكتابيةُ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ نِكَاَحُهَا خِلاَفاً لأَبي حَنِيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-. واحتج الأصْحَابُ بأن اللهَ تعالَى شرط في نكاح الأَمَةِ الإِسلامَ، حيثُ قَالَ: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] وفي نكاح الكتابية الحُرّيَّةُ حيث قال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] فدلَّ على أَنه لا ينكح الأمة الكتابية، وبأنه اجتمع فيه نقصان [لكل واحدة منهما أثر في المنع من النكاح] (¬1) ولا يجوز للحر المسلمِ نكاحُها كالحرَّة المجوسية والوثنية، والزيادةُ والنقصانُ في الفَرْع الكُفْرُ والرِّقُّ، وفي الأصل الكُفْرُ، وأنه لا كتاب لها، وهل يجوز [له] أن ينكح أَمَةً مُسْلِمَةً لِكَافِرٍ؟. فيه وجهان منقولان في "النَّهَايَةِ": أصحهما: الجوازُ، لحُصُولُ الإِسَلام في المنكوحة. والثاني: المنع؛ لما فيه من إرقاقِ الولَدِ المسْلِمِ للكافر، وفي نِكَاحِ الْحُرَّ الْكِتَابِيَّ الأَمَةَ الكِتَابيَّةَ وَجْهَانِ، ويقال: قولان: أحدهما: المنع، كما يمنع الحرُّ المسلمُ من نكاحها. وأصحهما: الجوازُ، كما أن الحرَّ المسلمَ ينكح الأمة المسلمة، وظاهر المذهب، وهو نصّه في "الْمُخْتَصَرِ" أن العبد المسلم لا ينكحها؛ لأن المنع من نكاحها الكفر، فيستوي فيه الحرُّ والعبدُ، كالمرتدة والمجوسية، وفيه قَولٌ آخَّرُ، أنَّ له نكاحُهَا؛ لأنه لا تفاوُتَ بينهما في الرِّقِّ والحُرِّيَّة، وإنما يتفاوتان في الدِّين، وأنَّه لا يمنع النكاح؛ ألا ترَى أن الحرَّ المسلِمَ ينكح الحرَّةَ الكتابية، وينسب هذا القول إلى رواية صاحب "الإِفْصَاح" عن القول القديم، ورواية ابن أبي هريرة، والأستاذ أبي طَاهِرٍ الروياني، وهو في الجديدِ أشهرُ، ورأَيت الاِمام نقل الخلافَ في الصورتَيْن في حكاية أسندها إلى أبي الحسن ¬
الْمَاسرْجَسِيَّ عن تخريج ابن أبي هُرَيْرَةَ تارةً، وابن خيران أخرى، واللهُ أَعْلَمُ ووجهه بعضهم الجواز في الصورتَيْن بأنه لم يجتمع النقصانُ بالإضافة إلى الناكح؛ لأن الكفر ليس نقصاً في حق الكافر، وكذا الرقُّ في حق العبيد، وَالعبْدُ الكتابيُّ هَلْ يَنْكِحُ الأَمَةَ الْكِتَابيَّةَ، إن قلْنا: للحر الكتابيِّ أن ينكحها، فنعم بطريق الأوْلَى، وإلا، فوجهان، والأصح الجواز (¬1) أيضاً لتَكَافِئِهِمَا فأَمَّا القول في نكاح العبْدِ المسْلِم الأمةَ المسلمة، فنذكره في "باب نكاح المشركات" حيث قال: "لأن الأمة في حَقّه كالحرَّةِ". ويجوز للمسلم وطءُ كتابيَّةٍ بمِلْكِ اليمين دُونَ المجوسيَّة والوثنية اعتباراً بالنِّكَاحَ، ولْيُعْلَم قوله في "الكتاب" "فلا ينكح إلا مسلمة" بالحاء؛ لما سبق. وكذا قوله: "والعبد المسلِمُ لا ينكحها"؛ لأنه إذا جوز للحرِّ نكاحَها، فالعبد أولَى بالتجويز. وقوله: "والحر الكتابيُّ ينكح الأمة الكتابية، والعبد المسلم لا ينكحها" أراد به أن الشَّافعيَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نَصَّ في المسألتَيْن هكذا، أما أنَّ العبْدَ لا ينكحها، فمصرح به في "المختصر" وأما أنَّ الحرَّ الكتابيَّ ينكحها، فمأخوذٌ من قوله في "باب الولادة" ولا يكون المسلم وَلِيّاً لكافر إلا علَى أمته، فإن تزويجها من المسلِمِ ممتنع، ولا بُدَّ وأن تكون ولايته في التزويج من الكافر، والأولى أن يقرأ قوله بعد ذلك فقيل: في المسألتين "قولان" بالفاء؛ ليكون ذلك إشارةً إِلَى تصرُّف الأصْحَابِ في النصَّيْن، وجعل المسألتين على قولَيْن، ولو"وقيل" قرئ بالواو؛ لاقتضى إثبات طريقين. أَحدهما: يحرُمُ بالنفْيِ في المسألة الثانية، وبالإِثْباتِ في الأُولَى. والآخر: يُثبِتُ قولَيْن في المسألتين، وليس في كتب الأَئمَّةِ ذِكْرُ طَرِيْقَةٍ جَازِمَةٍ، نَعَمْ، ربما اقتصروا على النفْيِ في الثانية، والإِثباتِ في الأُولَى؛ لأن السكوتَ عن الخلافِ ليس جزماً بنفيه. فَرْعٌ: التي تبعض فيها الحريَّة والرق، كالرقيقة الَّتِي لا يَنْكِحُها الحرُّ إلا عند اجتماع الشرائط المذكورة، إذا قَدَرَ عَلَى نكاحها، فهل له نكاحُ التي تمحضَّت رقيقةً؟ تردَّدَ فيه الإمام؛ لأن إرْقَاقَ بَعْضِ الولد أهونُ من إرقاق كُلِّه (¬2). ¬
وَحُكِيَ عَنْ بعض الأصحاب أنَّ من تُبعَض فيه الحُرِّيَّة والرق كالرقيق، حَتَّى يَنْكِحَ الأَمَةَ مع القُدْرة عَلى نِكَاحِ الْحُرَّةِ؛ لأن ما فيه من الرِّقَّ أخْرَجَه عن الولاية والنَّظر للولد. آخر ولد الأمة المنكوحةِ رقيقٌ لمالكها سواءٌ كان الْحُرُّ الذي نكَحَها عربياً، أو غيرَ عربيّ، وفي "القديم" قولٌ أن الرِّقَّ لا يجْرِي على العَرَب، فإنْ كان الناكح عَرَبِيَّاً، يكون الولَدُ حُرّاً، وهل على الناكِحِ قيمته، كما في صورة الغُرورِ، أم لا شيء عَلَيْهِ؛ لأنَّ السَّيِّدَ رَضِيَ بِهِ، حيث زوَّجها من العربيِّ؟ فيه قولان، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ نَكَحَ أَمَةً ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الحُرَّةِ وَنكَحَهَا لَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُ الأَمَةِ بَلْ لاَ يُرْعَى الشَّرْطَ إِلاَّ في الابْتِدَاءِ، وَلَوْ جَمَعَ القَادِرُ حُرَّةً وَأَمَةً في عَقْدٍ، بَطَلَ نِكَاحُ الأَمَةِ، وَفِي الحُرَّةِ قَوْلا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: الأول: إذا نَكَحَ الحُرُّ أمَةً [بشروطه] ثم أَيْسَرَ لا ينفسخ نكاحُ الأمة؛ لأن قضية الآية اشتراطُ الإِعْسَار في الابتداء، ولا يلزمُ من كونه شرطاً في الابتداء، أن يكون شرطاً في الدوام لقوَّة الدوام، وهذا كما أنَّ خوْفَ العنَتِ يُشترطُ في الابتداء دون الدَّوَام، وكما أن العِدَّةَ والرِّدَّةَ والإِحرام يمنع ابتداءَ النِّكَاح دون دوامه، وكما أنَّ الإِسلام يمنع ابتداء السبْي دون دوامه، وكذلك لو نكح حُرَّةً بعْدَ ما نكح الأمة، لا ينفسخ نكاح الأَمَة. وَقَالَ المُزَنِيُّ: ينفسخُ النكاح في الصورتَيْن، وعن أَحْمَدَ في الصورة الثانية مِثْلُهُ. الثانية: لو جمع الحرُّ بين حرة وأمة في عقد واحدٍ، نُظِرَ؛ إن كان مِمَّنْ لا يحل له نكاحُ الإِماء، فنكاح الأمة باطلٌ، وفي نكاحِ الحُرَّةِ قولان مذكوران في الجديد: أصحهما: وهو المنصوص في "القديم": أنه يصحُّ، وبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ، والْمُزَنِيُّ، واختاره ابنُ الْحَدَّادِ، والقولانِ مرتَّبانِ على القولَيْن، فيما إذا بِاع عبده، وعبْدَ غيره صفقةً واحدةً، ومبنيَّان على أنه، إنْ بَطَلَ في بيع عبده (¬1) بَطَلَ؛ لأن العقْدَ الواحد لا يتبعض، أو لجهالة العوض، وكل ذلكَ قد بيَّنَّاه في "باب تفريق الصَّفْقَة". وإن كان ممن يحِلُّ له نكاحُ الإِماء بأن وَجَدَ حُرَّةً [تَسْمَحُ] (¬2) بِمَهْرٍ مُؤَجَّلٍ، أو بما دُونَ مَهْر المثل، أو بدون الْمَهْرِ، أو وَجَدَ طَوْلَ حُرَّةِ كِتَابيَّةٍ، وقلْنا: إنَّ هذه المعانِيَ لا تمنع صحَّةَ نكاح الأَمَة، فمثل هذا الشخْصِ، إذا نكحَ حُرَّةَ وَأَمَةً في عقْدٍ، لم يصحَّ نكاح الأمة أيضاً؛ لأنه لو صحَّ، لصحَّ نكاحُ الحرَّة، والأمةُ لا تُقارَنُ بالحرَّة، كما لا تدخل عليها، وفي نكاحِ الحرَّة طريقان: ¬
أظهرهما: عند الإِمام، وبه قال صَاحِبُ "التَّلْخِيصِ": أنَّه على قَولَيْن، كما في القسم الأول، وَقَالَ ابنَ الْحَدَّادِ، وأبو زيد وآخرون: يَبْطُلُ جزماً؛ لأنه جمع بين امرأتين، لا يجوز له الجمْعُ بينهما، ويجوز له نِكَاحُ كُلِّ وَاحِدَةٍ منهما وحْدَها، فيبطل النكاحان، كما لو جمع بين الأختين. وقال مَنْ نصر الأول: قال ليس هذا كنكاح الأختَيْن؛ لأنه ليس نكاحُ أخْتٍ بأَقْوَى من نكاح أخت، هاهنا نكاحُ الحُرَّة أقوى؛ ألا تَرَى أن نكاحها إذا سبَقَ مَنَعَ نكاحَ الأمةِ، والعكْسُ بخلافه، ولو جَمَعَ بَيْنَ مُسْلِمَةٍ، وَوَثَنِيَّةٍ، أوْ أجنبيةٍ ومحرم، أو خَلِيَّة، ومعتَدَّة أو منكوحةٍ، فهو كما لو جَمَع بين حُرَّةٍ وَأَمَةٍ، وإذا صَحَّحْنَا نكاحَ مَنْ تحِلُّ له، فَقَدْ قدَّمنا في "تفريق الصفقة" روايةٍ قَوْلٍ أنها تستحِقُّ جميع المسمَّى، ويعزى هذا إلى أبي حَنِيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وذكرنا هناك أن المذْهَب أنها لا تستحِقُّ جميعه، ولكن تستحِقُّ مهْرَ المثلِ في أحد القولَيْن، وما يخصُّ مهر مثلها من المسمَّى إذا وزع على مهر مثلها ومهْر مثل الأخرَى في القول الثاني، وبَنْوا هذَيْن القولَيْن على القولين في أن مَنْ نَكَحَ امْرَأَتَيْنِ على صَدَاقٍ وَاحِدٍ، يجب لكلِّ واحدةٍ منهما مهْرُ مثلها، أو يوزَّع المسمَّى على مهرَيْهما، وسيأتيان في "كتاب الصداق" إن شَاءَ اللهُ تَعَالَى فإن قلنا: إنها تستحقُّ جميع المسمَّى، فللزوج الْخِيَارُ في فسخ الصداق، والرجوع إلى مَهْرِ المثل، كما ذكرنا في "باب التفريق"، وإن قلْنا: تستحقُّ مهْرَ الْمِثْلِ، فلا فسخ لَلزوج؛ [إذ لا فائدة فيه] لأنه، وإن فسخ، فالرجوع إلى مَهْرِ المثل، وإنْ قلنا: تستحقُّ حصَّةَ مَهْرِ المثلْ من المسمَّى، فعن الشيخ أبي عليٍّ: أنَّه، إنْ كان المسمَّى مما تمكن قسمتُهُ كالحبوب، فلا خيار، وإن كان ممن لا تمكن قسمته؛ كالعبد والدابة، فله الخيار؛ لتضرُّره بالتشْقيص، وإن فَسَخَ، فَعَلَيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَاعْلَمْ أنَّ الجَمْع بيْنَ من تَحِلّ له، وبين من لا تحِلُّ له، قد يُصوَّر فيما إذا كان الزوْجُ وَلِياً لَهُما، كما إذا زوج أمته وابنته، وفيما إذا كان وَكِيلاً من جهة [الوِليَّيْن، وفيما إذا كان ولياً لإِحداهما وكيلاً من جهة] (¬1) وليَّ الأخرَى، وموضع الخلاف فيما إذا قال: زوَّجْتُكَ هذه وهذه بكذا، فقال: قبلْتُ نكاحهما بكذا، فأما إذا قال: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي هذه، وزوَّجْتُكَ أَمَتِي هذه، فَقَالَ قَبِلْتُ نِكَاحَ ابْنَتَكَ، وقبلتُ نكاح أَمَتِكَ، أو اقتصر عَلَى قبول نكاحِ البنْتِ، فنكاحُ البنتِ صحيحٌ لا محالة، ولو فصَّل المزوِّج، وقال: الخاطبُ قبلتُ نكاحَهُما، فالحكم كما لو فصَّلا جميعاً أو كما لو جَمَعَا جَميعاً؟ وفيه اختلاف للأصحابُ والأصح عند الإِمام الأول، والخلافُ جارٍ فيما لو جمع المُوجب، وفصَّل ¬
القابل، ولو جمع بين أختَيْن وَأَمَةٍ، وهو مِمَّن يِحْلُّ له نكاح الأَمَةِ، فنكاحُ الأَختَيْنِ بَاطِلٌ، وفي نكاح الأمَةِ الخلافُ، ولو قال: زوجتك بنتي، وبعتك هذا الزق من الخمر بكذا فقبلهما، فمنهم من طَرَدَ القولين في النكاح، والأصح القطع بالصحة؛ لأنهما عقدان مختلفان، وصفتان مختلفان ولو قال: زوجتك ابنتي وابني، أو فرسي، أو زوجتك ابنتي، وهذا الزق من الخمر، فمنهم من طرد القولين في نكاح البنت، والأصح القطع بالصحة؛ لأن المضموم لا يقبل النكاح فلغا ذكره، وإذا قلنا بصحة نكاح البنت فلها مهر المثل إن قلنا فيما إذا جمع بين امرأة محللة وأخرى محرمة أنَّ الواجب للمحللة مهر المثل، وإن قلنا: إن الواجب هناك حصة مهر المثل من المسمى، ففي "التَّهْذِيبِ" أن هاهنا يجب جميع المسمى لتعذر التوزيع (¬1) والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الجِنْسُ الرَّابعُ) الكُفْرُ وَهُمْ ثَلاَثةُ أَصْنَافٍ (الكِتَابِيُّ)، وَتَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ وَبُقرُّونَ بِالجِزْيَةِ وَالوَثَنِيّ وَالمُعَطِّلُ وَالزَّنْدِيقُ لاَ تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ وَلاَ يُقرّونَ بِالجِزْيَةِ، وَالمَجُوسُ لاَ يَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ لَكِنْ يُقرُّونَ بِالجِزْيَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الجنس الرابع: من موانع النكاح الكفر والكفار ثلاثة أَصْنَافٍ: أحدها: الكتابيون، فيجوز للمسلم مناكحتهم (¬2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الذينَ أُوتُوْا ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] ولا فرق في الجواز بين أن تكون الكتابية حربية، أو ذمية، أو مستأمنة، لكن يكره نكاح الحربية (¬1)؛ لأن الإِقامة فيما بين أهل الحرب ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يكثر سوادهم، وأيضاً فيخاف من الميل إليها الفتنة في دينه وَأيضاً، فقد تُستَرَقُّ وهي حَامِلٌ منه، ولا يقبل قولها في أن حملها من مسلم، وإن كاتب ذمية، فالكراهية أخفُّ، لفقدان بعض هذه المعاني. وفيه وجهٌ: أنَّه لا كراهية في نكاح الذمِّيَّة، وهذا ما أورده الإِمام وصاحب "التَّتِمَّةِ": أيْضاً، والظاهر الأول، وُيرْوَى عن مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- مثله، والمراد من الكتابيين اليهودُ والنصارى، فأما الذين يتمسَّكون بكتب سائر الأنبياء -عليهم السلام- الأَوَّلِينَ كَصُحُفِ شيث وإدرِيسَ -عليهم السلام- وإبراهِيمَ -عليه السلام- أو بالزَّبُورِ، فلا تحلّ مناكحتهم، واختلفوا في سببه، فمن قائل إنها لم تنزل عليهم بنظم يُدْرَسُ ويُتْلَى، وإنما أوحى إليهم معانِيهَا، ومن قائل: إنَّها كانت حكماً ومواعظَ، ولم تتضمَّنْ أحكاماً وشرائع. وفيه وَجْهٌ آخَرُ نذْكُره في "الجزية" إن شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
والصِّنْفُ الثاني: الذين لا كتابَ لهم، ولا شبهةَ كتاب؛ لَعَبَدَةِ الأوْثَانِ والشمس والنجوم والصور التي يستحسَنونها ومعطلة والزنادقة، والباطنية، لَعَنَهُمُ اللهُ، فلا تحلُّ مناكحتهم لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221] قَالَ صَاحِبُ "الكتاب" في "الإِحْيَاءِ": ومن هذا الصِّنْفِ المعتقدون لمَذْهَبِ الإِباحة، وكلِّ مذهبٍ يَكْفُرُ معتَقِدُه. والصِّنْفُ الثالث: الَّذينَ لا كتابَ لهم، ولكنْ لهم شبهةُ كتاب، وهم المجوس، وَهَلْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ: أحدهما: لا؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّة أَهْلِ الْكِتَابِ" (¬1) وَهَذَا يشعر بأنَّهم ليسوا بأهل كتاب. وأشبههما: نَعَمُ، لِمَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه كان لهم كتاب، فبدلوه، فأصْبَحوا، وقد أُسْرِيَ به (¬2)، وعلى كلا القولين لا تَحِلُّ مناكحتهم، أما علَى ¬
فروع
الأوَّل، فظاهر، وأما على الثَّانِي، فَإنَّهُ لا كِتَابَ بأيديهم اليوم، ولا نتيقَّنه من قبل، فنحتاط، وأيضاً، قد رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَن بنِ عَوْفٍ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "أنه قَالَ: "سُنُّوْا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَاب، غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ، وَلاَ آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ" (¬1). وعن أبي إسْحَاقَ وأبي عُبَيْدِ بْنِ حَرْبَوَيْه؛ أنه تحلُّ مناكحتهم على قولنا: إنه كان لهم كِتَابٌ، وهذا ضَعيفٌ عند الأصحاب، وإنما ينقدح على ضعفه، إِذا قال: من أثبت لهم كتاباً أنه كان متلواً، أو متضمناً للأحكام، وإن قنع من قال به بأصل الكتاب، لزمه مثله في صُحُف إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وما في معناها. فُرْوعٌ: في نكاح الكتابية هي كالمسلمة في النفقة والقَسْم والطلاق وعلمة أحْكَامِ النِّكَاح، نعم لا توارُثَ بينهما، ولا تُغَسِّل الزوَج، إذَا اعتبرنا النِّيَّة، في غُسْل الميت بناءً على أنه لا يصحُّ منها النية، وإذا طهْرَتْ عن الحيض والنفاس، أَمَرَهَا الزَّوْجُ بالاغتسال، فإن امتنعت، أجبرها عليه (¬2)، واستفاد الحلَّ، وإن لم يوجَدُ منها النية للضرورة، كما تجبر ¬
المسلمة المجنونة، وعن الحليميَّ تخريجٌ على الإِجبار على الغُسْل؛ أن للسيد إجبار أَمَتِهِ المجوسية، والوثنية على الإِسلام؛ لأنَّ حل الاستمتاع يتوقَّف عليه، والمذهَبُ خلافه؛ لأن الرقَّ أفادها الأمانَ من القَتْل، فلا تُجْبَرُ كالمستأمنة، وليس كالاغتسال، فإنه لا يعظم الأمر فيه، ولا يعتبر فيه تبديلُ الدِّين، وأيضاً، فإن غسلها غسلُ تنظيفٍ لا غسلُ عبادة؛ ألا ترى أنَّها، إذا أسْلَمْتْ، لا تصلِّي بذلك الغسل؛ والتنظيفُ حقُّ الزوج، فَجَازَ أن يجبرها عليه، والإِسلامُ ليس حَقّاً له، حَتَّى يجْبُرَها عليه، وفرَّق الشيخ أبو عَاصِمٍ بأن المجوسيَّة دخَلَتْ في ملكه، ولأجْله فاشبه ما لو اشترَى جاريةً قد أحرمت، أو شرَعَتْ في الصوم بأْذَنُ السَّيِّدُ، ليس له تحليلها، وههنا كانت الزوجة الكتابيةُ حلالاً له، ثُمَّ طَرَأَ الحيضُ المُحَرِّم، فأمرت برفع أَثَرِه، لكن هذا يخدشه ما إذا نكحها، وهي حَائِضٌ، واختلف كَلاَمُ الشَّافِعِيَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في أنَّه هل يَجْبُر زوجتَهُ الكتابيَّةَ على الغسل من الجنابة، فقال أكثر الأصحاب: هما قولان؛ في قول: يجْبُرها عليه، كما يجبرها على إزالة النجاسات، وفي قَوْلٍ: لا؛ لأنها لا تتعدَّى، ولا يمنع الاستمتاع، ومنْهم من حمل الإِجبار على ما إذا طَالَتِ الْمُدَّةُ، وكانَت النفسُ تعافُهَا، والمنعُ على غير هذه الحالة، وأَما المُسْلِمة فهِيَ مجْبُورةٌ على الغسل من الْجَنَابَةِ، هكذا أطلقه في "التَّهْذِيبِ" (¬1) وتجبر المسلمة والكتابية على التنظيف بالاستحداد، وقلم الظفر، وإزالة شعر الإِبِطِ والأوْسَاخِ، إذا تفاحش شَيءٌ من ذلك، حَتَّى نفر التواق، وإذا كان بحيث لا يمنع أَصْلَ الاسْتِمْتَاع، ولكن يمنع كمالَهُ، فقولان، كما في غسل الجنابة، ويجرِيَانِ في منْع الكتابيةِ مِنْ أكْلِ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ للاستقذار، وفي كل ما يمنع كَمَالَ الاستمتاع، والأصحُّ أنَّ للزوج المَنْعُ منه، وعلى هذا الخلاف المَنْعُ من أكل كل ما يَتَأَذَّى برائحته، كالثّوم والكرَّات، ومنْهُمْ من قَطَع بجواز المَنْع منه، وله المَنْعُ من شرب ما تَسْكَرُ به؛ لأنها حينئذٍ لا تردُّ يدَ لامِسٍ، وتلتحقُ بالمجنونة، فيختل الاستمتاع، وفي القَدْر الذي لا يُسْكُرِ القولان، ويجريان في منع المسلمة من هذا القَدْر من النبيذ، إذا كانت تعتقد إباحته، ومنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بجواز المنع مُطْلَقاً؛ لأنَّ ذلك القَدْرَ لا ينضبط، فإنَّ مِنَ الناس من يتأثر باليسير منه، ومهما تنجس فمها أو عضو آخر، فلا خلاف أنه يجبرها على غسله، ليمكنه [من] الاستمتاع، ويمنعها من لُبْسِ جلد الميتة قبل الدباغ، ولبس مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيْهَةٌ كَأَكْلِ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ ويمنع الكتابيةُ من البِيعَ والكنائِسِ، كما تُمْنَعُ المسلمةُ من الجماعات ¬
والمساجِدِ، قوله في الكتاب "والمجوس لا تحل مناكحتهم" أُعْلِم بالواو، وقد ذكر هناك من يقر بالجزية من الأصناف الثلاثة، ومن لا يقر، وهذا سيعود في "كتاب الجزية" إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. قَالَ الغَزَالِيُّ: لَكِنْ إنَّمَا يَجُوزُ نِكَاحُ كِتَابِيَّة هِيَ مِنْ أَوْلاَدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَآمَنَ أَوَّلُ آبَائِهَا قَبْلَ التَّحْرِيفِ، فَإنْ فَقِدَ النَّسَبُ فَفِيهَا قَوْلاَنِ، وَلَوْ آمَنَ آبَاؤُهَا بَعْدَ التَّحْرِيفِ أَوْ شُكَّ فِيهِ فَفِيهَا قَوْلاَنِ، وَإِنْ آمَنَ بَعْدَ المَبْعَثِ أَوْ شُك فِيهِ لَمْ تُنْكَحُ، والتَّهَوُّدُ بَعْدَ بَعْثِ عِيسَى صلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَهُوَ بَعْدَ مَبعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهٍ، وَالصَّابِئُونَ وَالسَّامِرَةُ إِنْ كَانُوا مُلْحِدَة عِنْدَ اليَهُودِ وَالنَّصَارِى لَمْ يُنَاكَحُوا، وإنْ كَانُوا مُبْتَدِعَةً حَلَّ نِكَاحُهُمْ، وَقِيلَ قَوْلاَنِ مُطْلَقاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: في صفة الكتابية الَّتي يَنْكِحُها المسلم، الكتابية؛ إما ألاّ تكون من أولاد بني إِسرائيل، أو تكون منهم. القسم الأول: الكتابيَّةُ التي ليست من أولاد بني إسرائيل ولها أحوال: الحالة الأولى: أن تكون من قَوْمٍ يعلم دخولهم في ذلك الدين قبل تَطَرُّقِ التحريف والنَّسْخ إليه، ففي نكاحها قولان، بَنوْهَما على أن الإِسرائيليَّاتِ يُنْكَحْنَ لفضيلتَي الدِّينِ، والنسب جميعاً، أو لفضيلة الدِّين وحدها، والأصحُّ الجوازُ؛ لتمسُّكهم بذلك الدين حين كان حقًّا، ومنهم من قطع بهذا، ولم يُثُبِت الخلاف، وهؤلاءِ يقرُّون بالجزية لا محالة، وحلُّ الذبيحة يجري مجرى المناكحة. الحالةُ الثانية: إذا كانتُ من قومٍ يُعْلَمُ دخولَهُم في ذلك الدِّينِ بعد التحريف وقبل النسخ، فإن تمسَّكوا بالحق منه، وتجنّبوا المحرَّف، فكما في الحالة الأُولَى، وإن دخَلُوا في المحرَّف، فمنهم من قال: في نكاحها قولان أو وجهان، وجه الجواز؛ أن الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- تزوَّجوا مِنْهُنَّ، ولم يبْحَثُوا (¬1)، وجه المنع بطلانُ الفضيلةِ ¬
بالتحريف، ومنْهُم: من قطع بالمنع، والظاهرُ المنع، ثبت الخلاف، أو لم يثبت، وهل يُقَرُّ هؤلاء بالجزية قَالَ في "التَّهْذِيبِ" لا، وقال غيره: نعم، كالمجوس، وهو أوْلَى للشبهة. الحالة الثالثة: إذا كانَتْ من قومٍ يُعْلَمُ دخولُهم في ذلك الدِّين بعد التحريف والنسخ، فلا يُنْكَح؛ لسقوطِ فضيلته وحرمته بالنسخ، فالَّذينَ تهوَّدوا أو تنصَّروا بعد بعثة نَبيِّنا محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم- لا يناكَحُون، وفي المتهوِّدين بعد بعثة عيسَى -عليه السلام- وجهان: أصحهما: أن الحكم كذلك، ومن قال بالثاني، فإنه يزعم أنا لا نعْلَمُ كيفية نَسْخ شريعةِ عيسَى -عليه السلام- شريعةَ مُوسَى -عليه السلام- وأنها نُسِخَتْ كلّها أو بعْضُها؟ وهؤلاءِ كما لا يناكحون لا يُقَرُّون بالجزية. الحالة الرابعة: إذا كانتْ من قوم لا يُعْلَمُ أنهم دخَلُوا في ذلك الدِّينِ بعد التحريف أو قبله، أو قبل النسخ أو بعده، فيُؤْخَذ في نكاحهم بالأغلظ، ويجوز تقريرُهُم بالجزية تغليباً للحُقَن، وبذلك حكمت الصَّحَابَةُ -رضي الله عنهم- في نصارَى العَرَب، وهم بهراء وتنوخ وتغلب هذا شرح ما ذكره في الكتاب، وكذلك أطلقه عامَّةُ الأَصْحَابِ من المتقدِّمين والمتأخِّرين، وتركوه عَلى إطلاقه وفيه شيْءٌ لا بُدَّ من معْرفته، لكنْ موْضِع بيانه الفصل التالي لِهَذَا الفَصْلِ. القسم الثاني: الْكِتَابيَّةُ الإسْرَائِليَّةُ، والذي تناقله الأصْحَابُ في طرقهم جواز نكاحها على الإِطلاق من غير نظرَ إلى آبائها أنَّهُم دخَلُوا في ذلك الدِّينِ قبل التحريف، أو بعده، وليس ذلك لأنه ليس كل إسرائيلية يفرض آباؤها (¬1) داخِلُون في دِينِهَا قبل التحريف، وإن أشعر به كلام جماعةٍ من الأئمة -رَحِمَهمَ اللهُ- وذلك؛ لأن إسرائيلَ هو يعقوبُ -عليه السَّلامُ- وبيْنَه وبيْنَ صاحب التوراة موسَى -عليه السلام- زمانٌ طويلٌ، ولا نحيطُ علماً بأنَّ بني إسرائيل عَلَى كثرتهم دخَلَ كلهم في زمانِ مُوسَى، أو بعده قَبْلَ التحريف، بل في القصص ما يدُلُّ على استمرار بعْضِهِم على عِبَادة الأوثان والأديان الفاسدة، وبتقدير أنْ يستمَّر هذا في اليهوديَّات، فلا يستمرُّ في النَّصْرانيَّات؛ لأنَّ بنِي إِسرائيلَ بعد بعثة عيسَى -عليه السلام- افترقوا، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ، ومنْهُم مَنْ صَدَّ عَنْهُ ¬
فأصر على دِينِ موسَى -عليه السلام-، ثم من المصرين من تنصر على تعاقب الزمانِ قبل التحْريف وبعده، ولكن كأْنَّ الأصحابَ اكْتَفْوا بشرف النَّسَب، وجعَلُوه جابراً لنُقْصَانِ دخُول الآباء في الدِّين بعد التحريف، حتى فَارَقَ حُكْمُهُنَّ حكْمَ غير الإِسرائيليات، إذاَ دَخَل آباؤهن في الدِّين بعد التحريف واللهُ أَعْلَمُ. وأما الدخول فيه بَعْدَ النَّسْخ وبعثة نبيِّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلا يُفْرَّقُ فيه بين الإِسرائيليةً وغيرها، على ما سيَتَّضِح بعد هذا الفصل -إن شاء الله تعالى-. وقوله في الكتاب: "إنما يَجُوْزُ نِكَاحُ كتابيَّةٍ هي من أولاد بني إسرائيل" ظاهره يقتضي النظر إلى حال الآباء في الإسرائيليَّات أيضاً، حتى يكونُ نكاحُ الإِسرائيلية التي دَخَلَ أولُ آبائها في ذلك الدِّينِ بعد التحريف علَى قولين، كنكاح غير الإِسرائيلية التي دَخَل آباؤها فيه قبل التحريف ونظم "الوسيط" يقتضي مِثْلَ ذلك أيضاً، لكنُ كلامُ الأصحاب لا يوافِقُه، فاعرفه، وانْظُرْ؛ كيف يمكنك تنزيلُ لفظ الكتاب على منقول الأصحاب، وأرادُوا بقوله "أول أبائها" الآباءَ الداخلين في ذلك الدِّين، ويجوز أن يُعْلَم قوله "فإن فُقِدَ النسب"، ففيها قولان للطَّرِيقَةِ القاطعة بالجواز، وكذا قوله: "في الصورة الأخرَى قولانِ" للطريقة القاطعة بالمنع. المسألة الثانية: الصابِئُونَ طَائِفَةَ تُعَدُّ من النصارى، والسامرة (¬1) طائفة تُعَدُّ من اليهود، وقد نقل عن الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- توقف [في جواز مناكحتهم، وليس ذلك عند جماهير الأصحاب باختلاف قول لكن أمرهم على] (¬2) التفصيل، والمنصوص عليه في "الْمُخْتَصَرِ" أنه إن كانوا يخالفون اليهود والنصارى في أصل دينهم، ولا يُبَالُونَ بنصِّ كتابهم، فلا يناكَحُونَ كالمجوسي، وإن كانوا يخالفونهم] (¬3) في الفروع دُونَ الأُصول، ويُؤَوِّلون نصوصَ كتابهم، فيجوزُ مناكحتهم، وحيث توقف إنما تُوقف، ليعرف مقالتهم، والصابِئُونَ (¬4) على ما نقل فِرْقَتان؛ فرقةٌ توافقُ النصارَى في أصول ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الدِّين، وأُخْرَى تخالفهم، فتعْبُدُ الكواكب السبعة، وتضيف الآثار إليها، وتنفي الصانِعَ المخْتَارِ، وهم الذين أَفْتَى الإصْطَخْرِيّ بقتلهم؛ لَمَّا استفتى الْقَاهِرُ الْخَلِيْفةُ الْفُقَهَاءَ فيهم. وعن رواية الشيخ أبي عَلِيٍّ: أن بعض الأصحاب أطْلَقَ قولَيْنِ في مناكحةِ الصابِئِينَ والسَّامِرة، وهذا ما أورده في الكتاب بقوله: "وقيل قولان مطْلقا" قال الإِمامُ -رحمه الله-: ولا مجال للتردُّد في الذين يُكَفِّرُهُمُ اليهود والنصارى، ويخرجُونَهُم من جُمْلَتِهم، نعمْ يمكن التردُّد في الذين ينزلونهم منْزِلَةَ المبتدعة فِينَا، ولا يكفِّرونهم. قال: ولَيْسَ هذا تَعْرِيضاً بتحريم نكاح المبْتدعَةِ فِينَا لكوْننا لم نكفِّرْهم بالسَّمْع ولم يثبت سمع في المبتدعة الأوَّلِينَ، وإذا شَكَكْنا في جماعةٍ أنهم يخالفونَهُمُ في أصول الدِّينِ، أو فروعه، لم نناكِحْهم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (فَرْعٌ) لَوْ تَنَصَّرَ يَهُوديٌّ يُقَرُّ فِي قَوْلٍ، وَلاَ يُرْضَى مِنْهُ إلاَّ بِالسَّيْفِ (ح) أَو الإِسْلاَمِ في قوْلٍ، وَيُرْضَى بِالإسْلاَمِ أَوِ العَوْدِ إِلَى التَّهَوُّدِ فِي قَوْلٍ، فَإِنْ قُلْنَا: لاَ يُقَرُّ فَهَلْ يُلْحَقُ بِمَأْمِنَهِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَوَثَّنَ يَهُودِيُّ تَجْرِي الأَقْوَالُ إِلاَّ أنَّهُ لاَ يُقَرُّ عَلَى التَوَثَّنِ بِحَالِ وَيُقْنَعُ مِنْهُ بِالتَّنَصُّرِ عَلَى قَوْلٍ، وَلَوْ تَنَصَّر وَثَنِيٌّ فَلاَ يُقْنَعُ مِنُهُ إلاَّ بِالإِسْلاَمِ، وَلَوِ ارّتَدَّ مُسْلِمٌ فَلاَ يُقْنَعُ مِنْهُ إلاَّ بِالإِسْلاَمِ أَو السَّيْفِ، وَتَتَنَجَّزُ الفُرْقَةُ بِهَا قَبْلَ المَسِيسِ (ح)، وَيتَوقَّفُ بَعْدَ المَسِيسِ إِلَى انْقِضَاءِ العِدَّةِ، فَإِنَّ أسْلَمَ قَبْلَهَا دَامَ النِّكَاحَ وَإلاَّ فَتَتَبَيَّنُ الفُرْقَةِ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ. (¬1) قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصود الفصل الكلامُ في الانتقال من دِينٍ إلى دِينٍ، وذلك، وإنْ لم يختصَّ بالنكاح، لكن للنكاح مَنْهُ حَظُّ ظَاهِرٌ، فنَذكره في بيان حظِّ النكاح منه، فنقول: الانتقال؛ إما أن يفرض من دِينٍ باطِلٍ إلى دين بَاطِلٍ، أو من الحَقِّ إلى الباطل، أو بالعكس. ¬
أما القسم الأوَّل: الانتقال من دينٍ باطِلٍ إلى دِينٍ بَاطِلٍ فإمَّا أنْ يَكُوَن الانتقالُ من دينٍ يُقَرُّ أهله عليه إلى دين يُقَرُّ أهله عليه، أو ممَّا يُقَرُّ عليه إلى ما. لا يقر، أو بالعَكْسِ، فهذه ثَلاثةُ أَضْرُبٍ، ولا غرض لَنَا في الرابع الذي يُؤدِّي إليه التقسيم. أمَّا الضَّرْب الأوَّلُ: فَإذَا تنصَّر يهوديٌّ، أو تَهَوَّدَ نَصْرَانِيٌّ، فَهَل يُقِرُّ بِالْجِزْيَةِ، على ما انْتَقَلَ إليه؟ فِيهِ قَوْلاَنِ: أحَدُهُمَا: لا؛ لأَنَّهُ أَحْدَثَ دِيناً بَاطِلاً بعد اعترافه ببطلانه، فلا يُقَرّ عليه، كما إذا ارتدَّ المسلم. والثَّانِي: يُقَرُّ، لتساوي الدِّيَنَيْنِ بالتقْرير بالجزية، وفي كونهما على خِلاَفِ الْحَقَّ، وليس كالمسلم يرتد؛ لأنه تَرَكَ الدِّينَ الْحَقَّ، وهذا أَصَحُّ عند القاضي أَبِي حَامِدٍ وَصَاحِبِ "التَّهْذِيبِ" وبه قال أَبُو حَنِيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو نصه في "الْمُخْتَصَرِ" والقولان فيما ذَكَرَتْ طائفةٌ، منهم صَاحِبُ "التَّتِمَّةِ" مبنيان عَلى أن الكفْرَ ملةٌ واحدةٌ، أو مِلَلٌ مختلفةٌ، إنْ قُلنَا: مَلِلٌ، لم يُقَرَّ، وإن قُلْنَا: مِلَّةٌ واحدةٌ، أُقِرَّ كما يقر المسلم، إذا انتقل من مذْهَب إلى مَذْهَبٍ، ولك أن تَقُولَ: لو كان هذا أصْلاً لِمَا بَنَى عليه هذان القولان، لأَثْبَتْنَا مثْلَهُمَا قولَيْن في التوارُثِ بين اليهود والنصارى، وليس كذلك على ما بيَّنَّا في "الفرائضِ"، ثمَّ حكَيْنا هُنَاكَ أنَّ بعْضَهم خَرَّج وَجْهاً في منْع التوارث من قوْلِنا: أنه لا يقر واستدل به على أن الكفر ملل مختلفة، وفرق بين أن يستدل بقولنا لا يُقَرُّ على اختلاف، وبين أن يبني قولنا لاَ يُقَرّ على الاختلاف، ويُجْعَلُ ذلك أصلاً راسخاً. التفريع: إن قلنا يُقَرّ فذبيحته حَلالٌ، ولو كان هذا الانتقالُ من امرأة، حلَّ للمسلِمِ نكاحُها، ولو انتقلتُ في دوامِ نكاحِ مسلمٍ، فلا يتأثر به، وإن قلنا: لا يُقَرُّ، لم تحلَّ الذبيحة، ولا النكاح، ولو انتقلت في دوام نَكاح فسلم، فهي كالمسلمة ترتد فتتنجز الفرقة، إن كان قبل الدخول وتتوقَّف على انقضاء العدة، إن كان بَعْدَه، وعلى هذا فقولان: أَحَدُهُمَا: أنَّه لا يقبل منه إلا الإسلاَمُ لأنه أقرَّ ببطلان المنتقل عنه، وكان مقرا ببطلانِ المُنْتَقَلِ إِلَيهِ. والثاني: أنه، لو عاد إلَى ما كان عليه قيل: لتساوي الدينين في الحكم، والأولُ أظهرُ عند الإمام؛ توجيهاً بأن ذلك الدِّينَ قد زال، فعَوْدُه إليه انتقالُ منه إليه، فلو منَعْنا منْه بالانتقالَ إليه، لأَقْرَرْنَاهُ عَلَى ما انتقل إلَيه أولا، فإن أبى الإسلامَ على القول الأول، أو الإِسلام وَالعَوْدَ على ما كان علَيْه جميعاً على القول الثاني، فقولان، ويقال: وجهان: أَحَدُهُمَا: أنَّه يقتل كالمُسْلِم يرتد، ويشهد له ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ".
وأشبههما: لا، بل يُلْحَق بِمْأمَنِهِ كَمَنْ نَبَذَ الْعَهْدَ إِلَيْنَا، ثُمَّ هُوَ حَرْبٌ لَنَا، إِن ظَفِرْنَا بِهِ، قَتَلْنَاهُ، وإنْ انْتَقَلَ يَهُودِيٌّ، أو نَصْرَانِيٌّ إلى المجوسية، هَلْ يُقَرُّ بالجزية. فيه القولان، وَحَكَى أَبُو الفَرَجِ الزاز طَرِيْقَةَ قَاطِعَةً بالمنع لكون المُنْتَقَلِ إلَيْه دون الأَوَّل، فَإِنْ قلْنا: لا يُقَرُّ، ففي القناعة منه بالعود إلى ما كان عليه القولان، وإذا أَبَى، ففي القَتْلِ أو الإِلحاقِ بِالْمَأمَنِ، الِقولان، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فلا تَحِلُّ ذَبِيْحَتُهُ، ولا النِّكَاحُ، إن كان هَذَا الانتقال من امْرَأَةٍ، ولو كانت في نكاح مسلم، تنجزت الفرقة، إن كان قبل الدخول، وَإِلاَّ، فَإِنْ أسلمت قبل انقضاء العدة، أو عادت إلى ما كانت عليه وقنعنا به دام النكاح بينهما، وإلاَّ، بانَ حُصُولِ الفُرْقَة من وقت الانتقال، ولو تمجَّست كتابيةٌ تحت كتابي، فَإِنْ كانوا لا يعتقدون جوازَ نكاحِ المجوس، فكما لو تمجَّسَت تحْت مسْلِم، وإلاَّ، فنقرِّرُهما، إِذَا أسْلَمَا، ولو تهوَّد أو تنصَّر مَجُوسِيٌّ، ففي التقرير القولان، وإذا لم نقرَّر، فالتفريع كما سبق، ولا تحلّ ذبيحته، ومناكحَتُهُ بحال؛ لأن الانْتِقَالِ، من دِينٍ بَاطِلٍ إِلَى دِينٍ بَاطِلٍ لا يفيد فَضْيِلَةَ لم تكن، وعند أَبِي حَنِيْفَةَ يفيدها. الضرب الثاني: لو [توثن] (¬1) يهوديٌّ، أو نصرانيٌّ، لم يُقَرَّ عليه؛ لأن الانتقالَ من دينٍ، بَاطِلٍ إِلَى دِينٍ بَاطِلٍ، يُبْطِلُ الفضيلة التي كانَتْ، وهل يقنع منه بالعَوْد إِلَى ما كان عليه أم لا يُقْبَلُ منه إلا لإِسلام؟ فيه القولان السابقان، وهاهنا قَوْلٌ ثَالِثٌ، وهو أنه يُقْنَعُ منه بالانتقال إلَى دِينٍ آخَرَ يساوِي المنتقل عنه؛ بِأَنْ كان يهودياً، فَتَنَصَّرَ الآن، أو بالعَكْس، وإذا وجد هذا الانْتِقَالَ من كتابيَّة تحت مسْلِم، انفسخ النكاح، إِن كان قبل الدخول، وإن كان بعْده، فإن رجَعَتْ إلى الإِسلام قبل انقضاء العدة، أو إلَى ما انتقلتْ عنه في القوْلِ الثاني، أو إلَى ما يساويه في القول الثالث، [استمر] (¬2) النكاح، وتبين الفراقُ من وقْت الانتقال، ولو تَوَثَّنَ مَجُوسِيٌّ، لم يُقَرَّ عليه، وفي القناعة منه بالعَوْد إلى ما كان عليه القولان، وقِيَاسُ الْقَولِ الثَّالِثِ في الصورة الَّتي مَضَتْ أنْ يقنع منه بالتَّهَوّدِ، والتَّنَصّرِ؛ لأن كُلاًّ عنهما خَيْرٌ من التمجُّس. الضرب الثالث: لو تهوَّد أو تنصَّر أو تمجَّس وَثَنِيٌّ، لم يُقَرُّ عليه، يُقْبَلْ مِنْهُ إلا الإِسْلاَمُ؛ كالمرتد (¬3)؛ لأنه كان لا يُقرُّ، فلا يستفيدُ هذه الفضيلةَ من الدِّين الباطلِ الذي انتقل إِليه. ¬
وإِذا تأمَّلْتَ حكم هذه الأَضْرُب عَرَفتَ أنَّ الانْتِقَال من دِينٍ بَاطِلٍ إِلَى دِينٍ بَاطِلٍ، يُبْطِلُ الفضيلة التي كانت في الأول ولا يفيد فضيلة لم تكن في الأول ولكن تبقى الفضيلة الَّتي يشرّك فيها الدينان على قوْلنا بالتقرير، وعرفت أن كلامَهُم المطْلَقَ في الفصل الذي تقدَّم أنَّ مَنْ دَخَلَ في التهوُّد والتنصُّر بعد النَّسْخ والتَّبْدِيل لا يناكح، ولا يُقَرُّ بالجزية، غَيْرُ مستمِرٍّ على إطلاقه؛ لأن من تهوَّد أو تنصَّر اليوم، فَقَدْ دَخَلَ في ذلك الدِّينِ بعْد الفسخ والتبديل، فقد بَانَ الْخِلاَفُ في أنَّه هل يناكح؟ وهل يُقَرُّ بالجزية مهْما كان الُدُّخُول في دِينِ يُقَرُّ أهلُه عليه؟ فإذن إطلاقهم هناك وجزمهم بالمنع محمولٌ على ما إذا كان الدُّخُولُ منه في دِينٍ لا يُقَرُّ عليه، كالتَّوَثُّنِ، وهذا هو البيانُ الذي سبق الوَعْدُ به. وقوله: في الكتاب "ولا يرضى منه إلا بالسيف أو الإِسلام"، مُعْلَم بالحاء، لما مَرَّ أَنَّ أبَا حَنِيْفَةَ يقول بالقول الأوَّل. وقوله: "ونرضى بالإِسلامِ أَو بالعَوْد إلى التهوُّد" معناه أنا نقْنَع، ونكفُّ عنه بالعود إلى التَّهوُّدِ، وإلا، فكيفَ نرضى بالكفر، ولا نقول في شيء من هذه الصور: أسْلَمْ أو عُدْ إلَى ما كنت عليه، بل لا نأمُرُهُ إلاَّ بالإِسلام، لكن نتركه لو عاد إلى غيره. القسم الثاني: الانتقالُ من الدين الْحَقَّ إلى دين باطل بأَن يرتدُّ المسلم، والعياذ بالله عَزَّ وَجَلَّ، فلا يُقْبَلُ منه إِلاَّ الإِسلامُ، فإن أبَي، قُتِلَ علَى ما سيأْتي في الجنايات، إن قَدَّرَ اللهُ عزّ وجلّ، ولا يحلُّ نكَاج المرتدة لا لِلْمُسْلمين ولا للكفار، أمَّا للمسلمين؛ فلأنها كافرةٌ لا تُقَرُّ، وأَمَّا للكفار؛ فلبقاء عُلْقَة الإِسلام فيها، وإذا ارتَدَّ في دوام النكاح أَحدَّ الزوجَيْنِ نُظِرَ إنْ كان قبل المَسِيسِ تنجَّزت الفُرْقة، وإِن كان بعده يُوقَف النِّكَاح على انقضاء العدة، فإِن جمعهما الإِسلام قبل انقضائها، استمر النِّكاحُ، وإلاَّ، تبين الفرقة من وقت الردة، وبهذا قَالَ أَحْمَدُ وقال أَبو حَنِيْفَةَ -رحمه الله- تنجز الفُرْقة، سواءً كان ذلك قبل المسيس، أو بعده وعن مالك -رَضِي اللهُ عَنْهُ- روايتان كالمذهبين. لنا: أَنه اختلافُ دِين طرأ بعد المَسِيسِ، فلا يوجب الفسْخَ في الحال؛ كإِسلام أحد الزوجَيْنِ الكافرَيْنِ، ولو ارتدَّا معاً، فالحكم كما لو ارتد أَحدهما، وبه قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-. وَقَالَ أبو حَنِيْفَةَ -رَحِمَه اللهُ- يستمر النِّكَاحُ بينهما، كما لو أَسلم الزوجان الكافران. واحتجَّ الأَصْحَابُ بأَنها ردَّةٌ طَرَأَتَ على النكاح، فتعلّق بها الفسخُ كارتداد أَحدهما، وبأنَّ ردَّتهما أفحشُ من ردَّة أحدهما، فَأولَى أَن يتأثر بها النكاح.
قالوا: وليْسَتُ رَدَّةُ الزوجين كإسْلاَمهما؛ لأنَّهما إذا أسْلَما، مكنا من الوطء بخلاف ما إِذا أَسلم أَحدهما، وإذا ارتدَّا، لم يمَكَّنا، كما لو ارتدَّ أَحدهما، فخالف حكم إسلامهما حكم إِسلامِ أَحدهما، ولم يخالفْ حكم [ردتها حكم ردة أحدهما] (¬1). إذا عرف ذلك، فمهما حَكْمنا بالتوقُّف، لم يجز الوطء لكن لو جَرَى، لم يجب الحدُّ، ووجبتِ العِدَّةِ، وهما عدتان من شَخْصٍ وَاحِدٍ، فهو بمثابة ما لو طَلَّقَ امْرَأةٌ، ثم وطئها في العِدَّةِ، وسيأتي حكْمُهُ في "باب العدة" إن شاء الله تعالى، وليكنِ اجتماعُهُمَا في الإِسْلام ههنا بمثابة الرجعة هناك، حَتَّى يَسْتَمِرَّ النكاح إذا جمعهما الإِسلام في الحالات التي يحكم فيها بثبوتِ الرَّجْعة هناك، والقولُ في أنه، هل يجب مَهْرٌ بهذا الوطء في حكم مهْرِ النكاح، إذا انفسخ بالردَّة، قد تعْرِض له في الكتاب في غير هذا الموضع، ولو طلَّقها في مدة التوقّف، أو ظاهر منْها أَو آلي تَوَقَّفْنَا، فإِنْ جمَعَها الإسْلامُ قبل انقضاء مدة العدة، تبيَّنَّا صحَّتَها، وإِلاَّ، فَلاَ، وليس للزَّوْج، إِذا ارتدَّتِ الزوجة أَن ينكح في مدة التوقُّف أختها، ولا أَربعاً سواها ولا أَن ينكح أَمَةً، وإن كان ممَّن يجوز له نكاح الإِماء؛ لاحتمال عودها إلى الإِسْلاَمِ واستمرار النكاح، فإِن طلَّقها ثلاثاً في مدة التوقُّف، أَو خالَعَها، جاز له ذلك لأنها إِن لم تعُدْ إِلى الإِسلام فقد بانت ينقض نكاحها من وقت الرِّدَّةِ، وإنْ عادَتْ، فمن وقت الطلقات الثلاث، أَو الخُلْعِ. القسم الثالث: الانتقالُ من دِينٍ بَاطِلٍ إِلى دينٍ حق، وفيه يقَعُ "بَابُ نِكَاحِ المشركات" الَّلاتِي عَلَى الأثَر. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ تَوَلَّدَ بَيْنَ مَجُوسِيِّ وَيَهُودِيِّ وَلَدٌ لَمْ يُنْكَحْ في قَوْلٍ؛ لِغَلبَةِ التَّحْرِيم، وَنُظِرَ إلَى جَانِبِ الأَبِ فِي قَوْلٍ، وَيَتَصِّلُ بِهَذَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: منَ أَحدُ أَبويه كتابِىُّ، والآخرُ وثنيٌّ أو مجوسي يَقَرُّ بالجزية على الصحيح من خلاف سيأْتِي في "كتاب الجزية" إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، أَمَّا مناكحته، أَو مناكحة مَنْ أَحَدُ أَبويه يهوديُّ أَو نصرانيٌّ، والآخر مجوسيٌّ، فيُنْظر؛ إِن كان الأَبُ كتابياً، فقولان: أحدهما: ويُحْكَى عن مَالِكٍ - (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) - أَنَّها تَحِلُّ؛ لأَن الانتساب إلى الأبِ، والأبُ كتابيّ. وأصحهما: المنع، وبه قال أَحمد؛ تغليباً للتَّحْرِيم، كما أَن المتولِّد بين المأَكول وغير المأكول حرامٌ وإِنْ كانَتِ الأُمُّ كتابيَّةً، لم تحلَّ؛ قولاً واحدًا وبه قال أَحَمْد. وقال أَبو حنيفة: تحلُّ، سواءٌ كان الأَب كتابياً، والأُمُّ كتابيةً، ويجعل تبعاً لخير ¬
باب نكاح المشركات
الأَبوين دِيناً، كما لو كان أَحدُ الأَبَوْيِن مُسْلماً يحكم بإسلامِ الوَلَد. [و] قال الأَصحاب: الِفرْق أَن الإِسلام يعْلو ويغلب سائر الأديان، وسائر الأَديان تتقاوم، ولا تَغْلِبُ بعَضُها بعضاً، ولهذا قُلْنا: إِنَّ الكفر كلَّه ملةٌ واحدةٌ، وعبر الشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن هذا المعْنَى بأنَّ الإِسْلامَ لا يَشْرَكُه الشَّرْك، والشَّرْكُ يشركه الشرك، والحُكْمُ في حلِّ الذبيحة كهو في حل المناكحة، ثم ما ذكرنا من المنع جزماً، فيما إذا كانت الأَمُّ كتابيَّة، وعلى أَحد القولين، إِذا كان الأَب كتابياً في صفر المتلوِّد منهما، أمَّا إِذا بلغ وتَديَّن بدِينِ الكتابيِّ من أَبويه، فعن الشَّافِعِيَّ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- أَنه يحلُّ مناكحته وذبيحته، واختلف فيه الأَصحاب على ما نقله صاحب "التَّهْذِيبِ" منْهم من أثبته قولاً، ووجَّهه بأَن فيه شعبةً مِنْ كلِّ واحد منهما، لكنَّا عَلْينا التحريمُ ما دام تبعاً لأَحدِ الأبَوَيْنِ، فإذا بلغ واستقل، واختار الكتابية، قَوِيَتْ تلك الشعبة. ومنهم من قَالَ: لا تحلُّ ذبيحته ومناكحته بعْد البلوغ أيضاً، كالمتولِّد من المجوسيَّيَن وحَملوا مَا نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ: -رَضِي اللهُ عَنْه- على ما إذا كان أَحد أبَوْيِهِ يهوديّاً، والآخَرُ نصرانياً، فبلغ، واختار دِينَ أَحدهما، والمتولِّدُ من يهوديِّ ومجوسية، إذا بلغ واختار التمجس، فالحكاية عن القَفَّالِ أَنه يُمَكَّنُ منه، ويجري عليه حكْمُ المجوس، بخلاِف من تولَّد من مسلمٍ ويهودية؛ حيث يلزمه التمسُّك بالإِسلام بعد البلوغ. وقَالَ الإِمام: لا يُمنع أَن يقال: إِذا أثبتنا حكم اليهود في الذبيحة والمناكحة، فنِمنعه من التمجُّس، إذا منعنا الكافر من الانتقال من دين إِلى دِينٍ. وقولهُ في الكتاب: "ولو تولد من بين مجوسية ويهوديٍّ ولَد من كذا" هو في بعَض النسخ، وفي بعضها من "بين مجوسيٍّ ويهوديٍّ" وهما صحيحان. أَما الأَول فظاهر وأَما الثاني، فالتقدير من بين شخصٍ مجوسيٍّ، والآخر يُهوديٌّ، وذلك يشمل ما إِذا كان الأَبُ يهودياً وما إِذا كانت الأُمُّ يهوديَّةً، وَنَحْنُ في قَوْلٍ نحكم بالتحريم في الطَّرَفين، وفي قول، ننظر إلى الأَب، ونثبت حكْمَه في الولد، واللهُ أَعلَمُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: ويتصلُ بهذا: بَابُ نِكَاحِ المُشْرِكَاتِ، وَفِيهِ فُصُولٌ (الأَوَّلُ فِيمَا يُقَرُّ عَلَيْهِ الكَافِرُ مِنَ الأنْكِحَةِ) وَمَهْمَا أسْلَمَ كَافِرٌ عَلَى كِتَابِيَّةٍ قرَّرَ عَلَيْهِ، وَإنْ أَسْلَمَ عَلَى وَثَنيَّةٍ أَوْ مَجُوسيَّةٍ، فَإِنْ أسْلَمَتْ مَعَهُ قَبْلَ المَسِيسِ اسْتَمَرَّ النِّكَاحُ، وَكذَلِكَ (م ح) إنْ أسْلَمَتْ بَعْدَ المَسِيسِ وَقَبْلَ انْقِضَاءِ العِدَّةِ، وَكذَلِكَ الحُكْمُ لَوْ كَانَتْ هِيَ السَّابِقَةَ إِلَى الإِسْلاَمِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: عَرَفْتَ كيفيَّة اتصالِ الباب بما سبق، وترجمته بـ"نكاح المشركات" ليست أَولَى من ترجمته نكاح المشركين، والشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأكثر الأصحاب ترجموه بـ"نِكاح المشرك" ومقصوده مُودَعٌ في فصولٍ: الفصل الأول: فيما يُقَرُّ عليه الكافرُ، إِذا أسلم من الأَنكحة الجارية في الكفر، فإِذا أَسلم كافِرٌ، وتحته كتابيةٌ أَو اثنتان إلى أربع، استمر النكاح؛ لجواز نكاح الكتابية في الإِسْلاَم ابتداءً، ولا فرق في ذلك بين اليهوديِّ والمجوسي ولا بين الحربىِّ والذميِّ. وِإن أَسلمَ، وتحته مجوسية أَو وثنية، أَو مَنْ لا يجوز له نكاحُها من الكافرات، وتخلَّفت هي، نُظِرَ؛ إِن كان ذلك قبل المسيس، تنجزَّتَ الفرقة بينهما، وإِن كان بعْده، فإِن أَسلمتُ قبل انقضاء مدة العدة، استمر النكاح، وإِلاَّ تَبَينَ حصول الفرقة من وقْت إِسْلام الزوج. ولو أَسلمتِ المرأْةُ، وأَقَرَّ الزوج على الكفر، أيَّ كفر كان، فالحكم كما لو أَسلم الزوج، وأَصرَّتْ هي على التمجُّس أو التوثُّن، فقيل: المسيس تتنجز الفرقة، وبعده يُنْظَر؛ إن أَسلم الزوْجُ قبل أَن تنقضي مدة العدة، استمر النكاح، وإلاَّ تبينَّ حصول الفرقة من وقت إِسْلاَمها. ولو أَسلم الزوجَانِ الكافران معاً، لم يقْتَضِ تبديلُهُما الدِّين ارتفاعَ النكاح، ويَسْتَوِي فيه جميعُ أنواع الكُفْر وما قبل المسيس وما بعده، والاعتبارُ في الترتيب والمعيَّة بآخر كلمة الإِسلام لا بأولها. وقال مالك - (رضي الله عنه) -: إِن سبقَتِ المرأَةُ إِلى الإِسْلامِ، فالحكم على ما ذكرنا، وإنْ سبَقَ الرجُلُ عرض عليها الإِسْلام في الحال، فإن أَسلمت، استمَرَّ النكاح، وِإلا، انفسخ في الحال. وعند أَبي حَنِيْفَةَ: إِذا أَسلم أَحدهما، وهما في دار الإِسلام، يُعْوَضُ الإِسلام ثلاثاً على المتخلِّف منهما، فإِن أَبي، فُرِّقَ بينهما، ويتكون الفُرْقة طلاقاً إِن كان الإباء من الزَّوجِ؛ وفسخاً، إِن كان من الزوجة، وإِن كانا في دار الحرب، وقف إِلى انقضاء ثلاثِ حيضٍ، إِن كانت المرأةُ من ذوات الأقراء أَو ثلاثة أَشهرٍ، إِن لم تُكُن، وإن لم يجتمعا على الإِسلامِ إِلى انقضائها، حَصَلَت الفرقة وتستأنف العدة، إن كان مدخولاً بها، وإذا دَخَلَ الذي أسْلَم منْهما دار الإِسلام، والمتخلف في دار الحرب، حَصَلَتِ الفُرقةُ في الحال؛ لاختلاف الدارَيْن، وكذَا، لو كانا في دار الإِسْلام، فالتحق الكافرُ بدارِ الحرب. قال: وكذلك، لو الْتحَقَ الذميُّ بدار الحرب ناقضاً للعَهْد؛ وامرأته في دار الإِسلام، حصَلَتِ الفُرْقة بينهما، وكذلك لو كانَ الزوْجَان في دار الحربِ، فدخل الزوج
دار الإِسلام، وعقد الذمة لنفسه، والمرأةُ في دار الحَرْب، تحصُل الفرقة بينهما، ولا فَرْقَ عنده فيما قبل المسيسِ، ولا ما بَعْده، وعن أَحْمَدَ روايتان: أَظهرهما: مساعَدَتُنا. والثانية: انه إِذا أَسلم أَحدهما دون الآخر، انفسخ النكاح؛ سواءٌ كان ذلك قبل الدخول أَو بعده، واحتج الأَصحابُ علَى مَالِكٍ - (رَضِي الله عَنْهُ- بالقياسِ علَى إِسلام الزوجة، وعلَى أَبي حنيفة بما رُوِيَ أَن أَبا سفيانَ وحَكِيم بْنَ حزام أَسْلَمَا بِمَرَّ الظَّهْرَانِ، وَهُوَ مُسْكَرُ المُسْلِمِينَ، وَامْرَأَتَاهُمَا بِمَكَّةَ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ دَارُ حَرْبٍ ثُمَّ أَسْلَمَنَا مِنْ بَعْدُ وَأُقرَّ النِّكَاحُ، وبَأَنَّ صفوانَ بْنِ أَمِيَّة، وَعِكْرَمَة بْنَ أَبِي جَهَل -رضيَ الله عنهما- هَرَبَا كَافِرَيْنِ إِلَى السَّاحِلِ حِينَ فُتِحَتْ مَكَّةُ وَأَسْلَمَت امْرَأتَاهُمَا بِمَكَّةَ وأخذتا الأَمَانَ لِزوْجَيْهِمَا، فَقَدِمَا، وَأَسْلَمَا، فَرَدَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- امْرَأَتَيْهِمَا" (¬1). ولو نكح الكافر لابنه الصغير صغيرة، فإسلام الأبَوَيْنِ أَو أَحدهما قبل بلوغهما فهو كإسلام الزوجَيْن أو أحدِهِما. ولو نكَحَ لابنه الصغير بالغةً، وأَسْلَمَ أَبو الطِّفْل والمرأةُ معاً؛ قال في "التَّهْذِيبِ": يَبْطُلُ النكاح؛ لأَن إِسْلاَمَ الولَدِ يَحْصُلُ عَقِيبَ إِسلام الأَب، فتقدّم إِسلامهما إِسلام الزوج، لكنْ ترتُّبُ إِسلام الابن عَلى إِسلام الأَب لا يَقْتَضِي تقدُّماً ولا تأخُّراً بالزمان، فلا يظهر تقدُّم إِسلامهما عَلى إسلام الزوج (¬2). قال: وإن أَسلَمَتْ عَقِيبَ إِسلام الأَب يبطل أَيضاً؛ لأَن إِسلام الولد يحصل حكماً وإسلامها يحصل بالقول، والحُكْمِيُّ يكون سابقاً على القوليّ، فلا يتحقَّق إسلامهما معاً. وحيث توقَّفنا في النكاح، وانتظرنا الحال إِلى انقضاء مدَّة العدَّة، فلو طلَّقها قبل ¬
تمام العدة، فالطَّلاق موقوفٌ أَيضاً، فإن اجتمعا على الإِسْلام في العدَّة، تبيَّن وقوعه، وتعتدّ من وقت الطلاق، وإلاَّ، فلا طلاق. وَحَكَى الأَمَامُ أَن من الأَصحاب مَنْ جعَل الطلاقَ عَلَى قولَيْ وقْفِ العُقُود، وقال: لا يقَعُ في قول، وإنِ اجتَمَعَا على الإِسْلاَم [قبل انقضاء العدة] وأَجراهُمَا فيما إِذا أَعْتَقَ عبد أبيه على ظنِّ كَوْنِهِ حَيًّا، فَبَانَ ميتاً، كما لو باع عَلَى ظنِّ أنه حيٌّ فَبَانَ ميتاً، والمذهب الأَول، فإِنَّ الطَّلاَقَ والعتاق يقبلان صريحِ التعليق، فأوَلى أَن يقبلا تقدير التعليق، وكذا يتوقَّف في الظهار وفي الإِيلاء، ولو قذَفَها، فإن لم يجْتَمِعا على الإسْلاَم في مدَّة العدَّة، لم يلاعن، وَيُعَزَّر إن كَان التخلّف من الزوجة، ويُحَدُّ إِنْ كان هو المتخلَّف وإِن اجتمعا عَلَى الإسْلاَم، فله أَن يلاعِنَ لدَفْع الحد أَو التعْزِيرِ ولو أَن الزوْجَ حين سَبَقَ إِلى الإِسَلام، والزوجةُ وثنيةُ نَكحٌ في زمان التوقُّف أُختها المسلمة أَو أَربعاً سواها، لم يصحَّ، وكذا لو كان طلَّقها طلقةً رجعيةً في الشِّرْكِ، ثم أسْلَم، ونكح في العدَّة أُختها المسلمة أَو أَربعاً سواها؛ لأَنَّ زوال نكاحها غير متيقن، فلا ينكح من لا يجوز له الجمعُ بينهما وبين المتخلِّفة. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يتوقَّف في نكاح من ينْكِحُها، كما يتوقَّف في نكاح المتخلِّفة، فإن أَسلمتِ المتخلِّفة، تبيَّن بطلانُ نكاح الثانية، وإِن أَصرَّتْ، حتى انقضتِ العدَّة، تبيَّن صحَّتُهُ، وتوافقه طريقةٌ حكاها الإمام عن بعْضِ الأَصحاب، وهي أَنَّا نجْعل هذا النكَاحَ على قولَيْ وقْفِ العقود، فإن قلْنَا بالتوقُّف، توقَّفنا، كما ذكره الْمُزَنِيُّ، والمشهورُ منْ كَلام الأَصحاب القطْعُ بالمِنعَ، وهو نَصُّ الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفرَّقوا بينه وبين ما إذا باع مال أبيه على ظن أنه حيٌّ أَو زوَّج جاريته [على ظن أنه حيُّ] (¬1)، ثم بَانَ ميتاً؛ بأن هناك المغنَى المجَوِّزُ للتصرُّف قائمٌ في الحال، لكنْ لم يعلَمْه المتصرِّف، وإصرار المتخلِّفة إِلى انقضاء العدَّة ليس حاصلاً في الحال، وإنَّما هو متعلِّق بالاستقبال والله العالمِ به وهذا المعنى، إن اقتضى الفرق بين ما نحن فيه، وبين ما إذا باع مالَ أَبيه علَى ظن أنه حيٌّ، فإنه لا يقتضي الفرق، وبين ما إِذا باع مال الغير، [فإنا نوقفه] (¬2) على الإِجازة في قول، وهي أَمرٌ يتعلَّقِ بالاستقبال، ويُشْبِه أَن يكون الذي ذكره الأَصْحَابُ مُفَرعاً عَلَى ظاهر المَذْهَب، وهو أن العْقُود لا تتوقَّف على الإِجَازَةِ ولو سَبَقَتِ المرأةُ إِلى الإسْلاَمَ، ونكح الزوْجُ في تخلُّفه أَختها المُشْرِكَة، ثم أَسلم مع الثانية، فإن كان ذلك بعد انقضاءَ عدةِ السَّابقة، أُقِرَّتِ الثانيةُ تحته، واِن أَسلم قبل انقضاء عدتها، فله أن يختار منْهما ما شاء. ¬
كما لو أَسلَمَ، وتحْته أُخْتان أَسلمتا، معه، ولَيْسَ كالصورة السَّابقة، فإنه مُسْلمٌ عند نكاحِ الثانية، فلا ينكح الأُخت على الأَخت، وههنا النكاحان وَقَعَا في الشِّرْك، ويمكن أن يُعْلَم قوله في الكتاب، "وكذلك إن أَسلمت بَعْدَ الْمَسِيس وقبل انقضاء الْعِدَّةِ" بالميم والألف. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَاِذَا أسْلَمَا لَمْ نَبْحَثْ عَنْ شَرْطِ نِكَاحِهِمَا بَلْ نُقرُّهُمَا عَلَى النِّكَاحِ بِلاَ وَلِيٍّ وَلاَ شُهُودِ وَفِي العِدَّةِ إِلاَّ إِذَا أسْلَمَا أَوْ أَحَدُهُمَا قَبْلَ انْقَضَاءِ العِدَّةِ فَإنَّ المفْسِدَ قَدْ قَارَنَ الإِسْلاَمَ فَيَنْدَفِعُ النِّكَاحُ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُمُّهُ أَوِ ابْنَتُهُ، وَنُقَرِّرُهُمْ عَلَى النِّكَاحِ المؤَقَّتِ إِنِ اعْتَقَدُوهُ مؤَيَّداً، وَإِن اعْتَقَدُوهُ مُؤَقَّتاً أَوْ فَاسِداً لَمْ نُقِرَّهُمْ، وَلاَ نُقِرُّهُمْ عَلَى مَا هُوَ فَاسِدٌ عِنْدَهُمْ إِلاَّ إِذَا كَانَ صَحِيحاً عِنْدَنَا، وَلَوُ اعْتَقَدُوا غَصْبَ المَرْأَةِ نِكَاحَاً قَرَّرْنَاهُمْ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ، وَكَأنَّهُم إِذَا أسْلَمُوا لاَ يُؤَاخَذُونَ بِشَرْطِ الإسْلاَمِ رُخْصَةً لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِفَيْرُوزَ الدَّيْلَمِي وَقَدْ أسْلَمَ عَلَى أُخْتَيْنِ: "اخْتَرْ إِحْدَاهُمَا" فَإِنَّهُ لَمْ يُعَيِّن الأوُلَى لِلصِّحَّةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: غرض الفصل السابق هُوَ الكلامِ الجُمَلِيُّ في مواضعِ استمرارِ النِّكَاح، والتقريرُ عليه بَعْدَ الإِسلام، وفي مواضع عدم الاستمرارِ، كما بيّن، والمقصود الآن بَيَانُ شرط الاستمرار، فَنقول: إِن لم يقترن شيء من مفسدات النكاح، فالعقد البخاري في الشرك باقٍ بحاله، ولا يقدح فيه عروضُ الإِسلام، فهو مقرَّر عليه مستمرٌّ، وإن كانوا يعتقدون فسادَ شَيْء من ذلك، لم نُبَالِ باعتقادهم، وأَدَ مْنَا ما هو صحيح عندنا في دِينِنا، وإِن اقترن شيءٌ من المفسدات، نُظِرَ؛ إِن كان زائلاً عند الإِسلام، وكانت بحيث يجُوزُ نكاحُها حينئذٍ ابتداءً، فكذلك الحْكُم، إِلا، إِذا كانوا يعتقدون فَسَادَهُ وانقطاعه وإِنَّما حَكْمنا بالاستمرار مع اقتران المُفْسد بالعَقْد على سبيل الرخصة والتخفيف، وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لِفَيْرُوزِ الدَّيلَمِيَّ وَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى أخْتَيْنِ: "اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ" (¬1) ولو أُخذوا بحكم الإِسلام وشرطه، لبحث كيفية النكاحين، وحكم ببطلانهما إنْ جريا معاً، وبصحَّة الأول، إِن تعاقبا، وإِنْ كان المُفْسِد باقياً وقت الإِسلام، وكانت بحيثُ لا يجوز ابتداءُ نكاحها، فلا تقرير، بل يندفِعُ النِّكاح، ويتخرَّج علىَ هذا الضبْطِ مسائلُ: المسأَلة الأولى: العقد البخاري في الكُفْر بلا وليٍّ، وَلاَ شُهُودٍ، يُقَرُّ عليه بَعْدَ الإِسْلاَمِ؛ لأنه لا مفسد عند الإِسلام، ونكاحُها ابتداءٌ جائزٌ وكذلك لو أَجبر ¬
[البكر] (¬1) غير الأَب والجد، أَو أُجبرت الثَّيِّبُ، أَو راجع الرجعيَّة في القرء الرابعِ، وهم يعتقدون امتدادَ الرَّجْعَة إِلَيْه، ولو كان قد نكح أمه أو بنْتَهُ أَو زوجَةَ ابنِهِ أو أبِيهِ، اندفع عنْد الإِسْلام، وكذا لو كان قد نَكَح الَّتي طلقها ثلاثاً قَبْل أَن تنكح زوجاً غيره؛ لأنه لا يجوز ابتداءً نكاحُها وقت الإِسْلاَم. المسألة الثانية: لو جَرَى العَقْد، وهي في عدة الغَيْر، فإن كانت العدَّةُ باقيةً عند الإِسلام، اندفع، وإِن كانت منقضيةً استمر؛ لأَنها إِذا كانت منقضيةً، جاز ابتداء نِكاحَها، فجاز التقرير، وِإذا كانت باقيةً، لم يجز ابتداء النكاح، فلم يجزِ التقريرُ، وخصص في الرَّقْم هذا التفصيل بعدة النكاح، فأَما إِذا نكح معتدَّةَ عن الشبهة، ثم أَسلم، والعدَّة باقية، قَالَ: [يقرّان] (¬2) على النكاح؛ لأن الإِسلام لا ينفي دوام النكاح مع عدَّة الشبهة، فلا يُعْترَضُ عليه إِذا لاقاه، ولم يَتعرَّض لهَذا الفرق أكثرُهُمْ، والإِطْلاقُ يوافِقُ اعتبار التقرير بالابتداء كما سبق. ولو كان قد نكَحَها بشرط الخيار للزوجَيْن، أَو أَحَدِهِما مدَّة قدَّراها، فيُنْظَر عند الإِسلام، هل المدة باقية أَم لا ويكون الحكم كما في العدة، إِن انقضت المدة قبل الإِسلام، استمر النكاح، وإِلا اندفع؛ لأَنهما لم يعْقِدَاه عَلى صفة الدوام في المدة التي شَرَطا فيها الخيار، ونَحْنُ، إِن لم نراعِ في عقودهم الجارية في الشِّرْك شرائطَ الإِسلام، فلا نثبت ما لم يثبتوه، ولا فرْقَ بين أن يقارن بقيةُ العدة، أو مدَّةُ الخيار إِسْلاَمَهمَا أو إِسلاَمَ أَحدِهِما، حتى لو أَسلم أَحدُهما، والعِدَّة أَو مدةُ الخيار باقيةٌ، ثم أَسلم الآخر، وقد انقضَتْ، فلا تقرير، هكذا حكاه الإمام عن الصيدلانيَّ ووافقه عليه، وبه أَجاب صاحب "التَّهْذِيبِ" والمصنِّف، ووجه بأنَ المفسد لاقى إِسلام. أَحدهما: فيغلب الفساد. وعن القاضي الحسين أَن اقترانه بإسلامهما هو المؤثِّر، أَما إِذا لم يقترن إِلا بإِسْلاَم أَحدِهِما، فلا يندفِعُ النكاح؛ لأن وقْتَ الاختيار والإمْسَاكَ هو الاجتماع على الإِسلام، فليكن النَّظَرِ إِلَيْهِ. المسألةُ الثالثةُ: النكاحُ المؤقَت، إِن اعتقدوه مؤبدَّاَ قرَّروا عليه، وإِن اعتقدوه مؤَقَّتاً لم يقرِّروا عليه، سواءٌ كان الإِسلامُ بعد تمامِ المدَّة أَو قبله، أَما بعْدَهُ؛ فلاعتقادهم أَنه لا نكاح، وَأَمَّا قبله كما لو أَسلما، والعدةُ باقية، وأَيضاً، فإِنهم لا يعتقدون إِلا نكاحاً مؤقتاً ومثل ذلك لا يبدأُ في الإِسلام. المسألة الرابعة: لو كان قَدْ غَصَب امرأةً، واتخذها زوْجةً له، وهم يعتقدون ¬
غصْبَ المرأة نكاحاً فعن القَفَّالِ أَنه لا يُقَرَّر عليه، إِذ لا عَقْدَ. والصحيحُ المشهورُ التقْريرُ؛ لأَنه ليس فيها إلا إِقامةُ الفعل مُقَام القَوْلِ، فأَشبه سائر وجوه الفَسَاد، وهو في حَقِّ أَهل الحرب، وأَمَّا الذِّمِّيّونَ، فلا يُقَرُّون، بعد الإِسلام؛ لأَنَّ على الإمام أَن يدفع قهر بعضهم عن بعض، بخلاف أهْلِ الحرب، والمستأمنين (¬1) ليسوا كأَهل الذمة في ذلك؛ إِذْ ليس على الإمَامَ مَنْعُ بعضهم عن بعض، وإِنَّما يلزمه بحكم الأمان أَن يَمْنَع عنهم من يَجْرِي عليه أَحْكَامُ الإِسلام. وقوله في الكتاب: "وإذا أَسْلَمَا، لم نَبْحَثْ عن شرط نكاحهما" أَي: في ابتداء العَقْد، ويحتج له بأَنه أَسلم خَلْقٌ كَثْيِرٌ، فلم يسألهم النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن شروط أَنْكحَتِهِمْ وَأقرَّهم عليها، وأَما في حَالِ، الإسْلاَمِ، فالوجه الاحتياطُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَأَمَّا المُفْسِدُ الطَّارِئُ بَعْدَ العَقْدِ لاَ يُؤَثِّرُ كَمَا لو كَانَتْ عِنْدَ الإسْلاَمِ مُعْتَدَّةً عَنْ شُبْهَةٍ أوْ سَبَقَتْ وَأَحْرَمَتْ قَبْلَ إِسْلاَمِهِ، وَلَكِنْ لَوْ نَكَحَ أَمَةً ثُمَّ حُرَّةً وَأَسْلَمَ ¬
عَلَيْهِمَا انْدَفَعَتِ الأَمَةُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أسْلَمَ عَلَى أَمَةٍ وَهُوَ مُوسِرٌ بِيَسَارٍ طَارِئً، وَقيلَ: يَنْدَفِعُ أَيْضاً بِالْعِدَّةِ الطَّارِئَةِ وَالإِحْرَامِ، وَيكُونُ حَالُ الإِسْلاَمِ كَابْتِدَاءِ العَقْدِ مُطْلَقاً، وَلَوْ أسْلَمَتْ وَارْتَدَّتْ ثُمَّ أَسْلَمَ الزَّوْجُ انْدَفَعَ نِكَاحُهَا إن لَمْ تَرْجِعْ قَبْلَ العِدَّةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: بيَّنَّا الحكم فيما إِذا لم يقترنْ بالعقد الجَارِي في الشِّرْك، ولا بالإِسلام مفسد، وفيما إذا اقترن بالعقد مفسدٌ، وَهَذَا الفَصْلُ لِبَيَانِ قِسْمٍ ثَالثٍ، وهو ألاَّ يقترن بالعَقْد مُفْسِدِ لكن يطرأ بعْد مُفْسِدٌ ويقترن بالإِسلام، وفيه مَسَائِلُ بناها جماعةٌ من الأئمة على أن الاختيار والإِمساك بعَقْدٍ جرى في الشِّرْك جارٍ مجرى استدامة النكاح، أَو مجرى ابتدائه، قالوا: وفيه قولان مستنبطان: أَحَدُهُمَا: أنه جَار مَجْرَى الاستدامة؛ بدليل أَنه لا يحتاج إِلَى صيغة النكاح، ولا يشترط فيه الوليُّ ولا الشهودُ ولا رضا المرأة؛ ولأنه استدراك عقْدٍ أَشرف على الزوال، فأَشبه الرجعة. والثاني: أَنه جَارٍ مَجْرَى الابتداء؛ لأَن حال الإِسْلام هو حالُ التزامهم حُكْمَ الدين، ولم يكونوا مُلْتزِمِينَ للأَحكام عند العَقْد، فيقام حال إسلامهم مقام ابتداء العَقْد، وينظر إلى حصول الشرائط حينئذٍ، ولذلك قلْنا: إِذا نكح الكافرُ معتدَّةً [وأسلم والعدة] (¬1) باقية يندفع النكاح، كما يمنع ابتداء نكاحها، وهي في العدة. قال صاحب "التَّتِمَّةِ" وهذه القاعدة في التحْقِيقِ مبنيَّةٌ علَى أَن أنكحتهم في الشِّرْك صحيحةٌ أَم لا، وفيه خلافٌ سيأتي، فإنْ قلْنا: إِنَّها صحيحةٌ، فالاختيار استدامته، وإِلا فهو جار مَجْرى الابتداء، لكن هذا الَبناء يقتضي أن يكونَ جريانُها مَجْرى الاستدامة أَظهر؛ لأَن الصحيح صحَّةُ أَنكحتهم. والمشْهُورُ في كلام الأَصحاب تَرْجِيحُ جريانه مَجْرى الابتداء، ورَدُّوا على من قال بالاستدامة، ونسبوه إلَى مذهب أبي ثَوْرٍ. إذا عُرفَ ذلك، [فإحدى المسائل] (¬2) إِذا أَسلم الرجُلُ، ووْطِئَتِ المرأة بالشبهة ثم أسلمت، فالمشهور والمحكيُّ عن نصه في رواية الربيع استمرارُ النكاح، وكذا لو أَسلمتِ المرأَةُ، فوُطِئَت بالشبهة في زمان التوقّف، ثم أسلم الزوْجُ قبل انقضاء مدة العدة، يستمر النكاح، وإِن كان لا يجوز ابتداءُ نكاحِ المعتدَّة؛ لأَنَّ عدَّة الشبهة إِذا طَرَأت على نكاح المسلِمِين، لم تقطعْه، فأَوَلى ألا تقطع الأَنكحة الجارية في الشِّرْك، وهذا ما قطع به الصَّيْدَلاَنِيُّ. ¬
ومن أَصحابنا من قال: يندفع النكاحُ، لا يجوز ابتداءُ النكاح في العدَّة، وينسب هذا إِلى القَفَّالِ، ويُرْوى عنه نزَاعٌ في عروضِ عدَّة الشبْهة من جهةِ أَن أحد الزوجَيْن، إذا أَسلم، والآخر متخلِّف، جَرَتِ الْمَرْأةُ في عدَّة النكاح، وعدة النكاح تتقدَّم على عدة الشبهة. وإِذا أَسَلم الآخر، كان إِسلامه في عدة النكاح، لا في عدة الشبهة، نعم، أحبلها الواطئُ بالشُّبْهَة تقدمت عدة الشبهة، وأمكن اقترانها بإِسلام الآخر، وحينئذٍ، فيندفع النكاحُ؛ اعتباراً بالابتداء، وأَجابُوا عن هذا النزاع بوَجْهين: أَحدهما: أَن عُرُوضَ هذه الشُّبْهة لا يختصُّ تصويره بما إذا أَسْلَم أَحَدُهُما قبل الآخر، بل لو وُطِئَتْ في الشبهة، وشَرَعَتْ في العدة، ثم أَسلما معاً، كان ذلك صورةَ المسألة. والثَّانِي: أَن أَحَدَ الزوجَيْنِ إذا أسلم، وتخلَّف الآخر، فإنا لا نستيقن جريانها في عدَّة النكاح؛ لأنه لو أَسلم المتخلِّفَ قبل انقضاء مدَّة العدة، يستمر النكاح، وتبيَّن أَن ما مضَى، لم يكن عِدَّةَ عن النكاح، وحينئذٍ، تكون في عدة الشُّبْهة، نعم، لو أصر المتخلِّف، تبين أَن تلْك العدَّة كانت عدة النكاح، وعليها أَن تعتدَّ للشبهة، إذا تصرَّمت تلك العدة. المسألة الثانية: لو أَسلم الرجُلُ، وأَحرم، ثُمَّ أَسلمت المرأة في العدَّة، فعن النَّصِّ يجوز إِمساكها في حال الإحرام، وَكَذَا لو أَسلم، وتحْتَه أَكثر من أَربعِ نُسْوَةٍ، ثم أَسْلَمْنَ وَهُوَ مُحْرِمٌ؛ له اختيار أَربعٍ منهن، واختلف الأصْحَابُ على طريقين: أَحدهما: القطع بالمنع، كما لو أَسلم، وتحْتَه أمة، وهو موسِرٌ لا يجوز له إمساكها، كما سيأتِي، وهؤلاء حملوا النصَّ على ما إِذا أسلما معاً ثم أَحرم الزوِجُ، له الاختيار؛ لأَنَّ الاختيار هاهنا يَثْبُت قبل الإحرام، وممن رُوِيَ عَنْهُ هَذَا التَّأْوِيلُ الأنْمَاطِيُّ وابن سَلَمَة. وعن القَفَّالِ: أَنِ أَنكر هذا النص مِنْ أَصله، وقال: تَفَحَّصْتُ كُتُبَ الشَّافِعِيِّ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- فَلَمْ أَجِدْهُ. وأَشْهَرُهما: أَن المسألة على قولَيْن، مختار أَكثر الأَصحاب منْهما الأَخَذُ بظاهِر ما نُقِل عن النص توجيهاً بأَن عُرُوض الإِحرام لا يؤْثَرُ، كما في أَنكحة المسْلِمِين، وبأَنَّ الإِمساك استدامةٌ للنكاح، فجاز مع الإِحْرام كالرَّجْعَةِ. والثاني: المنع، إِلحاقاً للدَّوَام بالابتداء، ويُحْكَى هذا عن اختيار صاحب "الإِفْصَاحِ". المسأْلة الثالثة: نكح في الكفر حُرَّةً وَأَمةً، ثم أَسلم، وأسلمتا معه، فظاهر المذهب أَن الحرَّة تتَعيَّن للنكاح، ويندفع نكاحُ الأَمة، ولا فرْقَ في ذلك بين ما إِذا نكَحَهما معاً، وبيْن ما إِذا نكح إحداهما قَبْلَ الأخرَى؛ لأَنا لا ننْظُر في نكاح الأَختَيْن
حال التقدم والتأخر وكذلك في نكاح الحرة والأَمة، وكما يندفع نكاحُ الأَمة بالحرَّة الطارئة، يندفع باليسار الطارئ، إذا قارن الإِسلامَ، ولو اقترنَ اليَسَارُ بالعَقْدِ الجاري في الشِّرْك، ودام إِلى الإِسلام، فالاندفاع أولَى، وخرَّج بعضهم اندِفَاع [نكاح] (¬1) الأمة على القولَيْن، بناءً علَىَ هَذا الأَصل السابِقِ، وينسب هذا إِلى اختيار القاضِي الحسين، والظاهرُ الأَولْ؛ لكنه مخالفٌ لما مرَّ من تجويز الإِمساك في العدة والإحرام الطارئَيْنِ، فإنَّ ذلك تنزيلُ الإِمساك منزلةَ الاسْتدامة، وهذا تنزيلٌ له منْزلَةَ الابتداء، وفرق بين الفصلَيْن بأَنَّ الإمساكَ فيه مشابهةُ الاستدامة، ومشابهة الابتداء، فرجَّحنا في العدَّة والإِحرامِ مشابهةَ الاسْتدامة، كما في نكاح المُسْلم، إِذا طرأَ عليه أَحْدُهما وههنا راعَيْنا مشَابهة الابتداء، لأَن نكاح الأَمة بدَلٌ يُعْدَل إلَيْه عند تعدُّر نكاح الحرة، والابدال أضيق حكمَاً من الأَصول، فجرينا على [التضييق] (¬2) اللائق به، والحاصلُ للفَتْوَى أنه متى أَسَلَم الكافرُ، وتحته أمة، وأسلمت معه، أو جمعت العدَّة إسلامهما، وهي مدخول بها، فإن كان مِمَّنْ يَحِلُّ له نكاحُ الإماء، أَمسكها، وإن كان ممَّنْ لا يحل له نكاحُهُنَّ، إِما لليسَار، وإِما للأَمْنِ من العَنَت، اندفع نكاحُها. المسألة الرابعة: إذا أسلَمَتِ الزوجةُ بعْد الدخول، وارتدَّتْ، نُظر؛ إِن لم يُسْلِمِ الزَّوْجِ، حتى انقضتْ مدَّةُ العدَّة، بانت باختلاف الدِّين أَولاً، وتكون العدة من يومئذٍ، وِإن أسلم قبل انقضائها، سقَطَ حكم العدة من يومئذٍ، ويتوقَّف، إِن عادت إلى الإِسلام قَبْل انقضاء مُدَّة العدة من وقت رِدَّتها، استمر النكاح، وإِلاَّ، انقطع من يوم الردة. وكذا لو أَسلم الزَّوْج بعد الدخول، وارتدَّ، إن لم تُسْلِم المراة إِلى انقضاء مدَّة العدَّة من يوم إسلامه بانَتْ منه، وإن أَسلمت، توقَّفَنا، إِن عاد الزوْجُ إِلى الإِسلام قبل انقضاء مدَّةِ العدَّة من وقْت ردَّته، استمر النِّكَاحُ، وإلا حصلت الفُرْقَة من يومئذٍ. وذكر الإِمام أن القَفَّالَ حَكَى عن النصِّ أنه يندفع النكاحُ في إِسلام أَحد الزوجَيْن وارتداده، ولا يتوقَّف، وأَنه احتج بذلك باندفاعه بالعدَّة والإِحرام الطارئين كما حكَيْنا عنه، والظاهر التوقُّف، وعلى هذا قال صاحب "التَّهْذِيبِ" وغيره: الردَّةُ يفترق فيها حكْمُ الابتداء والاستدامةِ؛ لأَن ابتداءَ نكاح المرتد باطلٌ غير منعقدٍ على التوقُّف، وفي الدوام توقَّفنا، فالتحقت الردَّةُ بالعدَّةِ للشبهة والإِحرام، وِإنما قيل بالتوِقُّف في الردة، لم نجوِّز الاختيار فيها، بخلاف الإِحرام والعدة؛ لأَن منافاة الرِّدَّة للنكاح أشدُّ؛ ألا تَرَى أنَّها تقطع النكاح على الجملة، وهمَا لا يقطعان النكاح، وكذلك لا يجُوزُ الرَّجْعة في الرِّدَّة، وتجوز في الإِحرام على الأَظهر ولو أَسلم، وتحْته فوق العدد الشرعيَّ؛ وارتد ثم ¬
أَسلمتِ النسوةُ في العدَّة أَو أَسلم، وأسلمْنَ معه، ثم ارتدَّ قبل الاختيار، لم يجُزْ أَن يختار أَربعاً منْهن في الردة فإِن عَادَ إِلَى الإِسلام في العدة، فَلَهُ الاختيار حينئذٍ وليُعْلَمُ قوله في الكتاب "اندفعت الأَمةُ" بالواو وكذا قوله "كذلك لو أَسلم على أمَة" لما بيناه. قوله "لو أسلمت، ثم ارتدت، وأسلم الزوج، اندفع نكاحها" هذا القدر هو الموجودُ في أَكثر النسخ، وهو يوافق إيراد، "الوسيط" ومنقول الإِمام، وهو الاندفاع المطْلَق، وزيد في بعض النسخ "إن لم ترجع قبل العدة"، وهذه الزيَادة تُشْعِرُ بالتوقُّف، وهو الأَظهر في المسألة، والله أعلَم. قَال الغَزَالِيُّ: ثُمَّ هذِهِ المُفْسِدَاتُ إِنْ قَارَنَتْ إسْلاَمَ أَحَدِهِمَا كَفَى (و) إِلاَّ في الْيَسَارِ فَإِنَّهُ لاَ يَنْدَفِعُ إلاَّ إِذَا وُجِدَ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا في الإِسْلاَمِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الواقفُ على ما أَوردناه يتبيَّن له أن المُفْسِدَ للنكاح عند الإِسلام منه ما كان حاصلاً عند العَقْد، واستمر، كما لو نكح معْتدَّةً، وكانت عند الإِسلام بَعْدَ العدة، ومنه ما طرأ بعْد العَقْدِ، كما لو أسلم، وتحته حرةٌ طارئةٌ على أمةٍ، أَو أَسلم على أمَة، وقد طرأ له اليسار هل يُشْتَرط أَن يقارن المفسد إِسلامَهُمَا مَعاً، أَم يكفي للفساد اقترانُه بإِسلام أَحدهما؟ فيه اختلاف. أَما في الْقِسمِ الأَول: فقد بَيَّنَّا الخلاف فيه، وذكرنا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنه يكفي الاقتران بإسلام أَحدِهِما، وهو الذي ذكره في الكتابِ، حَيْثُ قال منْ قبل: "إِلا إِذا أَسلما أَو أَحدُهُما قبلْ انقضاء العدَّة". وأما في القسم الثاني، فقد عرفْتَ في الفصل السابق: أَن ظاهر المَذْهَب أَنه إِذا أَسلم، وتحتَه حرةٌ وأمَةٌ، يندفع نكاح الأَمة، وتتعيَّن الحرَّة. وكذلك يَكُونُ الحكُم أَسلمتِ الحُرَّة المدْخُولُ بها معه أَو بعده قبل انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثم أَسلمتِ الأَمةُ قبل انقضاء العِدَّةِ، ولو أَصرَّتِ الأَمَة حَتَّى انقضت العدَّةُ، فاندفاعها بتبديل الدِّينِ، ومنْه تحتسب العدة. وَلُو مَاتَتِ الْحُرَّةُ بَعْدَ إسْلاَمِهَا أو ارْتَدَّتْ، ثم أَسلمتِ الأمَةُ، اندفع نكاحها أيضاً، وكفى اقترانُ إِسْلامِ الحُرَّةِ بإِسلام الزَّوج. ولو أَسلمُ وتحْتَه، أَمة، وهو موسِرٌ، ثم تلف ماله، وأَسلمت الأَمة، وهو معسِرٌ، فله إمساكها، وإنما يؤثر اليسار في الدفع، إِذا قارن إِسلامهما جميعاً. وحَكى الْقَاضِي ابنُ كَجٍّ عَنْ أَبِي حَامِدٍ نزاعاً في الصورة الأوُلى. وعن بعضهم في الثانية؛ أَن اقتران اليسار بإِسْلاَمه يكفي للاندفاع، وليس له
إمساكُهَا، وِإن كان معسِراً عند إِسْلامَها، وُيرْوَى هذا عن أَبي يَحْيىَ الْبَلْخيِّ قَالَ: وعلى عكسه، لو أسلم، وهو مُعْسِرٌ، ثم أَسلمتُ، وهو موسِرٌ، فله إِمْسَاكُها، نظراً إِلى وقت إِسلامه. وعن ابن خَيْران: أَن في اليسار الزائل قَوْلَيْن، فحصل في الصورتين الخلافُ كما ترى، وهو كما ذكر صَاحِبُ "التَّتِمَّةِ" متولد من ضرب جواب إِحدى الصورتين بجواب الأخرى، والظاهر في صورة الحرة والأمة اندفاع نكاح الأَمة وإن ماتت الحرَّةُ وفي صورة (¬1) زوال اليسار عند إِسلامها عدَمُ الاندفِاع، واعتبارُ اقترانه بإِسْلاَمِهِا جميعاً، والسبَبُ في اعتبار الاقتران بإِسلامهما معاً؛ أن وقت الاجتماع في الإِسلام هو وقْتُ جواز نكاح الأَمة؛ لأَنه، إِن تقدَّم إِسلامه، فالأمَةُ الكافرةُ لا تحلُّ للمسَلم، وِإن تقدَّم إِسلامها، فالمسلمة لا تحلّ للكافر فكان اجتماعهما في الإِسلام شبيهاً بحالِ ابتداءِ نكاحِ الأمة، واليسارُ السابقُ على نكاح الأَمة لا يَمْنَعُ جواز نكَاحها، وهذا المعنَى يقتضي جواز إِمْسَاكِ الأَمة في الصورة الأولى، وهي ما إِذا ماتَتِ الحرَّةُ بعد إِسلامها، ثم أَسلمتِ الأَمةُ، لكنْ فرَّقوا بينهما من وجوه. منها: أن أَثر نكاح الْحُرَّةِ بَاقٍ بَعْدَ مَوْتِهَا؛ أَلا ترى أَنه يرثُها، وأَن له غسلها، وعليه مؤْنةُ تجهيزها على رأْي، فكأنَّ النكاح باقٍ، واليسارُ بخلافه. ومنها: أَن المرأة، إِذا أَسلمت، وتعيَّنت، حسبتْ على الزوج، ولم يؤَثِّرْ موتها بعد ذلك ألا تَرَى لو أَسلم، وتحته خمس نسوة، وأسلمت واحدةٌ، فاختارها، ثم ماتت، ثم أسلمت البواقي، لم يكن له إِمساكُهُنَّ، وإِنما يُمْسِكُ ثلاثاً منهن. ومنها: قال الإِمام: الحُرَّةُ لا تنزل منزلة اليَسَار، بل الأَمر فيها، وفي اشتراطِ عَدَمِها لهم وأعظم ألَا ترى أنه لو كان في نكاحه حُرَّةٌ؛ رتقاءُ أَو غائبةٌ، لم ينكح الأَمة، ولو كان مالُهُ غائباً، لا يصل إِليهِ إِلاَّ بعد زمانٍ طويلٍ يجوز له نكاح الأمة والله أعلم. ولا يَخْفَى بعْدَ ما ذكَرْنا الحاجَةِ إِلَى إِعلام قوله "كفى" بالواو، وكذا قوله "فإِنَّهُ لاَ يَدْفَعُ". قَالَ الغَزَالِيُّ: وَاِذَا طَلَّقَ الكَافِرُ زَوْجَتَهُ ثَلاَثاً ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يَنْكَحِهَا إِلاَّ بِمُحَلِّلٍ فِي قَوْلٍ -وَلاَ يُحْتَاجُ إِلَى المُحَلِّلِ في قوْلٍ فَإِنَّا نُصَحِّحُ أَنْكَحَتَّهُمْ مُطْلَقاً فِي قَوْلٍ، وَنُفْسِدُهَا فِي قَوْلٍ إِلاَّ عِنْدِ الإسْلاَمِ، وَنَتَوقَّفُ فِي قوْلٍ، فَمَا يُقَرَّرُ عَلَيْهِ في الإسْلاَمِ نَتَّبيَنُ صِحَّتَهُ، وَمَا يَدْفَعُهُ نَتَبَيَّنُ فَسَادَهُ حَتَّى لاَ يَثْبُتَ المَهْرُ عَلَى هَذَا الَقْوِلِ لِلَّتي يَدْفَعُ الإِسْلاَمُ نِكاحَهَا، وَلاَ عَلَى قَوْلِ الإِفْسَادِ، وَيَثْبُتُ عَلَى قَوْلِ الصِّحَّةِ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: ذكروا في الأَنكحة الجارِيَةِ في الشِّرْك ثلاث مقالات: أصحُّهما: أنها محكوم لها بالصحَّة (¬1)، لقوله تعالَى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] وقال تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 9] وَعَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "وُلِدتُّ مِنْ نِكَاحٍ لاَ مِنْ سِفَاحٍ"؛ ولأنهم لو ترافَعوا إِلينا، لا نبطِلُه، ولا نفرَّق بين رجالهم ونسائهم، وأيضاً، فإنه يقرر عليه بعد، الإسلام، والفاسد لا ينقلب صحيحاً بالإِسلام، والتقريرُ على الفاسِد محالٌ. والمقالة الثانية: أَنها فاسدة؛ لأَنهم لا يراعون حدود الشَّرْع وشروطه، لكن [نفرق] (¬2) لو ترافَعُوا إِلَيْنا رعايةً للعهد والذِّمَّة، وِإذا أَسلموا، نُقرِّرهم تخفيفاً وعَفْواً. المقالة الثَّالثة: أنا لا نحْكُم لها بصحَّة ولا فساد، ولكنُ نتوقَّف إِلى الإسْلاَم فما يقرِّر عليه إِذا أسلموا تبين لنا صحته، وما لا يقرر تبين فساد، وُيرَوى عنَ القَفَّالِ ما يَقْرُب من هذا وهذه المذاهب حكاها صَاحِبُ الْكِتَابِ أقوالاً، وأكثر من أَوردها في نقل الوجوه، نعم في "التَّتِمَّةِ" المصيرُ إلى الْفَسَادِ قولٌ قديمٌ، وبه قَالَ مَالِكٌ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- ومِنَ الأَصْحَابِ مَنْ قَطَعَ بصحة أَنكحتهم، ونفي الخلافَ في المسأَلة، إِذا ثَبَتَ الخلاف، فهو مَخْصُوصٌ بالعقود التي يَحْكُمُ بفساد مثلها الإِسلامُ أَو يجْرِي في مطْلَقِ عقودهم؟. قضيَّة كَلام أَبي سعد الْمْتَوَلِّي، وغيْرِهِ الأَولُ في "النهاية" "أَن من يحكم بفساد ¬
أنكحتهم يلزمه ألاَّ يفصل بين ما وَقَعَ منْها عَلَى شرط الشَّرْع، وبين ما يُخَالِفُه، والمصير إِلى أَن نكاحاً يعقدونه على شرط الشرائع كلِّها فاسد مذهب لا يعتقده ذو حاصل" (¬1) ذكره في تزييف الحكم بالفساد، واستقرب التوقُّف بعْضَ الاستقراب، ويُسْمَى على هذا الأَصْلِ المذكور مسألتان: إحداهما: إِذا طَلَّقَ الْكَافِرُ زَوْجَتَهُ ثَلاَثاً: ثم أَسْلَما، فعلَى الصحيح، وهو صحَّةُ أَنكحتهم لا تحل له إِلا بمحلِّل، وهذا هو المنصوصُ في "المختصر" وإِنْ قلنا بفسادها فالطَّلاق في النكاح الفاسدِ لا يحوج إِلى المحلِّل، وإِذا قلْنا بالصحيح، فلو نَكَحَتِ المطلَّقةُ في الشِّرْك زوجاً آخر، وأَصابها، وطلَّقها، ثم أسلمت، فتزوجها الأَوَّل بعد إسلإمه حَلَّت لَهُ، وكذلك يحْصُلَ التحليل بوطء الكافر، إذا نكح الذمية التي طلَّقها المسِلُم ثلاثاً، سواءٌ كان حَرْبيّاً أو ذِمِّيّاً. والثانية: التي تَقَرَّرَ نكاحُها بعْد الإِسلام، لها المهْرُ المسمَّى فإن كان صحيحاً، وِإن كان فاسداً، كخمرٍ أو خنزيرٍ، فسيأْتي حكْمُ مهورهمُ الفاسدةِ والتي يندفعُ نكاحُها بالإِسلام، ينظر؛ إِن لم تكن مدخولاً بها، فإِن صحَّحنا أنكحتهم، وجب نصف المهر، إِنَ كان الاندفاع بإِسلام الزوج، وإِنْ كان فاسداً، وجب نصف مهْرِ المثل، وإِن لم يسمَّ شيءٌ، وجب المتعة، وإن كان الاندفاعُ بإِسلامهما، فلا شيء لها من المَهْر؛ لأَن الفراق جاء من جهتها. وَعَنِ الشَّافعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في "سِيَرِ الْوَاقِدِيَّ" ما يُشْعِر بوجوب نصْف المهر، وأَقامه بعض الأصَحاب قولاً آخر، ووجِّهه بأنها محسنَةٌ بالإِسلام، فكان من حقِّه أَن يوافِقِها، فإِذا امتنع، انْتسَبَ الفراق إِلى تخلُّفه، والظاهر الأَولُ وإِن لم نحكُمْ بصحة أَنكحتهم، فلا مَهْرَ لها؛ لأَن الْمَهْرَ لا يجب في النِّكَاح الْفَاسِدِ بلا دُخُولِ، وإن كانت مدْخَولاً بها، فإِن صحَّحنا أَنكحتهم، وجب المسمَّى، إِن كان صحيحاً، وإِن لم ¬
نصحِّحْها، وجب مهر المثل، ثُمَّ عن القَفَّالِ: أَنه عدَّ من صور الاندفاع ما إذا نكَحَ المِشْركِ مَحْرَماً له، ثم أسلم، وجعل وجوب نصفْ المهْرُ علي القولَيْن، ورأىَ الإِمَامُ القطْعَ بأَنه لا شيء للمَحْرِم من المهر وقال: لا نقول بأنه انعقد العَقْد عليها، ثم انْدَفَعَ، وانفسخ في الإِسلام، وإنَّما ذلك في الأُختِ المفَارَقَةِ من الأُخْتَيْنِ، وفي الزائداتِ على الأَربع، والمواَفق لإِطلاقُ الكتابِ وغيره الأَول. وقوله في الكتاب مسألة الطلاق في الأَصل المبنى عليه "في قول" يجوز إِعلامه بالواو؛ لقطع من نفي الخلافُ فيهما. وقوله "حَتَّى لا يثبت الْمَهْرُ عَلَى هَذَا الْقَولِ أَراد به ما إِذا لم يَجْرِ" دخول. وقولُه "يثْبُت على قول الصحة" أَي شيء منه، وهو النصف، لا أَنه يثبت كلُّه، ولا يمكن إِجراء اللفظ على إِطلاقه في حالَتَيْ وجودِ الدُّخُول وعدمه؛ لأَنه إِذا وْجِدَ الدخولُ يَثْبُتُ المهر، وصحَّحنا أنكحتهم أو لم نصحِّح، إن صَحْحْنَا فالمسمَّى، وإِلاَّ، فمهر المثل، فكيف نقولُ: لا يثبت المهر إِلى آخره. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ نَكَحَ أُخْتَيْنِ وَطَلَّقَ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلاَثاً فَإِذَا أسْلَمُوا فَعلَى قَوْلِ التَّصْحِيحِ حَرُمَتَا عَلَيْهِ إلاَّ بِمُحَلَّلٍ، وعلَى قَوْلِ الإِفْسَادِ يَخْتَارُ وَاحِدَةً وَلاَ مَهْرِ لِلثَّانِيَةِ، وَعَلَى قَوْلِ التَّوَقُّفِ يَخْتَارُ وَاحِدَةً فَيَنْفُذُ فِيهَا الطَّلاَق الثَّلاَثُ وَيَحْتَاجُ إِلَى مُحَلَّلٍ وَتَنْدَفِعُ الثَّانِيَةُ وَلاَ يُجْتَاجُ فِيهَا إلى مُحَلِّلٍ. قَالَ الرَّافِعِي: هذا فرْعٌ لابنِ الْحَدَّادِ يَدْخُلُ في "مسألة الطلاق" المذكورة في الفصل السابق، وصورته: مشْركٌ نكح أختَيْن، وطلَّقهما ثلاثاً، ثم أسلم وأَسلمتا، قال: يُخيَّر بينهما، كما لو أَسْلَموا، ولا طلاقَ، فإذا اختار إحداهما، يثبت نكاحها، ونَفَذَ فيها الطلقاتِ الثلاثُ، ولا بدّ فيها من المحلِّل، وَاندفعت الأخْرَى بِحَقِّ الإِسْلاَم، ولا يُحتاجُ فيها إِلى المحلِّل. قَالَ الأصْحَابُ بعده: يُبْنَى الفَرْعُ على أَن أنكحتهم صحيحةٌ أم لا؟ إن صحَّحناها، نفذت الطلقات فيهما، ولم ينكح واحدةً منهما إلا بمحلل، وان أفسدْنَاها، فلا نِكَاحَ، وَلاَ طَلاَقَ، وَلاَ حَاجَةَ إِلى المحلِّل في واحدةٍ منهما، وإن قلنا بالتوقف، فلو لم يكن طلاقٌ، لكان يَخْتَارُ إحداهما ويتبين بذلك صحَّةُ نكاحِهَا، وفسادُ نكاح الأُخرَى، فإِذا طلَّقهما أُمِرَ بالاختيار، لينفُذَ الطلاق في المنكوحَةِ منْهما، فَجَوابُ ابنُ الْحَدَّادِ يتخرَّج علَى قول التَّوَقُّفِ، ولذلك قيل بأن ميله في أنكحتهم إلى التوقُّف، ولو أَنه أسْلَمَ مع الأختين، وهما تحته، ثم طلق كل واحدة منْهما ثلاثاً، فَالجَوَابُ هاهنا التخييرُ لا غير؛ لأَنَّهم لَمَّا أسْلَمُوا، اندفع نكاحُ إحْدى الأختَيْن، وإِنما ينفذ الطلاقُ في المنكوحة، ولو
أسْلَمَ هو دُونِهمَا، أو أسلمتا هما دونه، وكذلك يخير الزوج؛ لأَنه، والحالة هذه، لا يُمْسِكُ إِلا إحْدَاهما وينفسخ نكاحُ الأُخْرَى من وَقْتِ إسْلاَم من تقدَّم إِسْلامُه منهم، ولو كان تحْت الشرك أَكثر من أربع، [و] طلقَّهن ثلاثاً ثَلاثاً ثَم أسلموا، فعلى التصحيح [تَنْفَذُ الطلقات منهن جميعاً على التوقُّف يختار أربعاً منهن فينفذ فيهن] (¬1) الطلقات الثلاثُ دون البواقي. وذكر الشيخ أَبُو عَلِيٍّ على قياس الفَرْع؛ أَنه، لو كانت تحته خرَّةٌ، أو أَمَةٌ، فطلَّقها ثلاثاً ثلاثاً، ثُمَّ أَسْلَموا، لم يجُزْ له أن ينكح واحدةً منهما إلا بمحلِّل، ولو أَسلموا، ثُمَّ طلَّقها ثلاثاً، ثلاثاً، وقَع الطَّلاَقُ على الحُرَّة؛ لأنَّها تتعيَّن بالإسْلام، ويندفع نِكَاحُ الأَمة، ولا يحتاج في نكاحها إِلى المحلِّل، وكذا لَوْ أسْلَمَتَا، فطلَّقهما ثلاثاً، ثم أسْلم الزوْجُ أو أَسلم الزوج، وطلَّقها ثلاثاً ثلاثاً، ثم أَسْلَمَتَا؛ لأَن الإِسْلام، لَمَّا جمع الكلَّ، بان اندفاع نكاح الأَمة من وقْتِ إِسلام من تَقدَّم إِسلامه منْهم، واعْلَمْ أن ابنَ الْحَدَّادِ ذَكَرَ فيمَنْ أسلم عَلَى أخْتَينِ، لم يَدْخُلْ بهما، واختار إحداهما أَنه يجبُ للأُخْرَى المفارقة نصْفُ المسمَّى، فإن لم يسم شيئاً، فالمتعةُ، وهذا على ما قدمنا أَن حكْمَ المهْر مبنيٌّ على صحة أَنكحَتهم، وجوابه في مسألة الطلاق خُرِّجَ على قول التوقُّف دون الصحة، فأخذت عليه ذلك. وقيل: كان من حقِّه أن يجري فيهما على طَرِيقٍ وَاحِدٍ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَمهْمَا أَصْدَقَهَا خَمْراً وَقَبَضَتْ قَبْلَ الإِسْلاَمِ فَلاَ مَهْرَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ تَقْبِضْ رَجَعَ إِلَى مَهْرِ المِثْلِ، وَإِنْ قَبَضَتِ البَعْضَ رَجَعَ إِلَى بَعْضِ مَهْرِ المِثْلِ بَاعْتِبَارِ قِيمَةِ الْخَمْرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إِذا أَصدق الكافر امرأته صداقاً فاسداً كخمر وخنزيرٍ، ثم أَسلما، نُظِرَ، إن أسلما بعْدَ قبض ذلك الفاسدِ، فلا شيْء لها؛ لانفصال الأمر بينهما، وانتهاء النكاح إلى حالة انقطاع الطلبة، وما مضَى في الكفر لا يتبع. وإِن أَسْلَما قبل قبضْه، وجب مهر المثل؛ لأنَّها لم تَرْضَ إِلاَّ بالمهر، والمطالبة بالخمر في الإِسلام ممتنعةٌ، فيرجع إِلى مهْر المِثْل، ويُجْعَلُ كما لو نَكَحَ المُسْلِمُ على خَمْر. وعن صَاحِب "التَّقْرِيبِ" والشيخ أَبي محمد حكايةُ قولٍ فيما إذا أَسْلَمَا بعْد القبض؛ أَن لها مهْرَ المثل، لفَسادِ القبض الجارِي في الشِّرْك، وقول فيما إِذا أسْلَمَا قبل القبض؛ أَنه لا شيْءَ لها؛ لأَنها قد رضِيَتْ بالخمر، فيدَامُ عليها حكم رضاها، وقد تعذَّر قبْضُ الخَمْر بعد الإِسلام، فسقَطَتِ المطالبة، والمذهب المشهورِ الفَرْقُ بين الحالتين ¬
كما تقدَّم، ولا فرق بين أَن يكون المسمَّى خَمْراً في الذمة، أو خمراً معيَّنة، وعن أَبِي حَنِيْفَةَ -رضي الله عنه- أَنّ في الخَمْرِ المُعَيَّنَةِ، لَيْسَ لَهَا إلاَّ الْمُسَمَّى، ولا رُجُوعَ إِلى مَهْرِ الْمِثْلِ. ولو أَصْدَقَها حُرّاً مُسْلِمًا استرقُّوه، ثم أسلَما إما قبل القبض أَو بعده، فلا نقرِّه في يدها، بل يَبْطُل ما جرَى، ويوجب مهْرَ المِثْلِ، هكذا (¬1) ذكروه، وقياس ما سبق أَن يَخْرُجَ من يدها، ولا ترجع بشيء كما تراق الخمر المقبوضة، ولا ترجع بشيء، وإِن قبَضَت بعض الصداق الفاسد دون بعض، ثم أَسلما، وجب من مهر المثْل بقسْطِ ما لم يقبض، ولا يجوز تسليم الباقي من الفاسد، وليس كما لو كاتب الذمَّيُّ عبده علَى عوض فاسد، وقبض بعْضَه، ثم أسلما حيث يُسلِّم إِلى المكاتِبُ ما بقي من الفاسد، ليحصل العتق، فإنَّ العِتْقَ في الكتابة يَحْصُلُ بحصول الصفة، ثم يلزمُهُ تمام قيمته، ولا يحطُّ منها قسْطَ المقبوض في الكفر؛ لأَن العتْقَ يتعلَّق بأداء آخر النجوم، وأنه وقع في الإِسلام، فكان بمثابة ما لو كاتَبَ المُسْلِمُ علَى عوض فاسد يَحْصُل العتْقُ بوجودِ الصِّفَة، ويجب عَلَى المكاتَب القيمةُ، وطريقُ تقسيطِ مهْرِ المثْل على المقبوض، وغير المقبوض أَن ننظر إِن سميا جنساً واحداً، ولم يكنْ فيه تعدُّد، كما لو أَصْدَقَهَا زِقَّ خَمْر، وقبضت نصفه، أَو ثلثه، ثم أسْلَمَا، فيجب نصْفُ المهر، أَو ثلثاه، وإِن تعدَّد المسمَّى، كزِقَّيْ خَمْرٍ، قبضت أَحدهما، فإِن تساوَيَا في القَدْر، فذاك، وإِلا فوجهان: أحدهما: وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَنه لا يُنْظَر إِليه، ويعتبر العَدَد. وأقْيَسُهما: النَّظَرُ إِلى القَدْر، وعلَى هَذَا؛ فالذي يوجَدُ في كلام أكَثرهم أَنَّه يعتبر الكَيْل، وفيه وجه [آخر] (¬2)؛ أَنه يعتبر الوزن؛ لأَنه أَحصر، ولو أَصدقها خِنْزِيرَيْنِ، وقبضت أَحدهما، فإن اعتبرنا العدَدَ، لم يخْفَ [الحكمُ] (¬3)، وإن نظَرْنا في الخَمْر إِلى القَدْر، فههنا تُقدَّر قيمتهما بتقدير ماليتها، ويُقسَّط مَهْرُ الْمِثْل عَلَى الْقِيَمَتَيْنِ، ويرْوَى هذا عن ابْنِ سُرَيْجٍ، وإنْ كانا قد سَمَّيَا جنسَيْنِ، فصاعداً كزِقَّى خمر [وكَلْبَيْنِ] (¬4) وثلاثة خنازير، وقبضت إحدى الأَجناس فثلاثة أوجه: أَحدها: أنه يُنْظَر إِلى الأَجناس، ويقال: قد قبضت ثُلُثَ المَهْر. ¬
والثاني: أَن النَّظَر إِلى المعْدُودات، فإِن قبضت الخمر، أَو الكَلْب، جُعِلَتْ قابضةً سُبْعَيِ الصداق، وإِن قبضَتِ الخنازيرَ، كانتْ قابضةً لثلاثة أَسباعه. والثالث: وهو الأَقرب: أنها تقُومُ بتقْدِيرِ ماليتَّهما، ويقسَّط مهر المثل على القيمة، وحيث قلْنا بالتقويم، وتقدير المالية، فكيف السبيلَ فيه قيل: يُقدَّر الخمر خَلاًّ، والكلبُ شاةً، والخنزيرُ بقرة وقيل: يقدَّر الكلبُ، فَهْذا؛ لاشتراكهما في الصيد، والخنزيز حيواناً يقاربه في الصورة والفائدة. وقيل: يعتبر قيمتها عند من يَجْعَلُ لها قيمةً، ويقدَّر كأَنَّ الشرْع جعلها مالاً، كما تقدَّر الحرُّ رقيقاً في الحكومات، ويشبه أَن يكون أَولَى من اعتبارهما بجنس آخر من الحيوانات. وقوله في الكتاب "باعتبار قيمة الخمر" محمولٌ على ما إذا كان هناك تعدُّدٌ، فأما الزق الواحد، فيضبط المقبوض، وغير المقبوض منه بالجزئية، ثم لْيُعْلَمْ بالواو؛ لوجه اعتبار العدد، ولو ترابى كافران، فباع هَذَا دِرْهماً من ذاك بِدْرهَمَيْن، أو أقرضه درْهماً بِدرْهَمَيْن، ثم أسلما، أو ترافعا إِلينا قبله، فإن جرى التقابُضُ من قبلُ، لم نتعرَّض لما جَرَى، ولم يلزم الرد، وإِن كان قبل القبض، أَلْغيْنَاه، وإِن كان بعد قبض الدرهَمَيْنِ، راجعنا المؤَدِّي، وسألنْاه أقصد، أداءه عن الرِّبْح، أو عن رأس المال، وقدْ ذكَرْنا التفْصيل فيه في أواخر "كتاب الرَّهْنِ" وجميع ما ذكرناه، فيما إِذا جرى القبضُ عن تراضٍ، فأما إِذا جرى القَبْضُ بإِجْبَارِ قاضيهم في [ترابيهم] (¬1) وفي تسلُّم الصداق الفاسد، وفي ثمن الخَمْر، إِذا باعوها، ثم أَسلموا لم نُوجِب الرَّدَّ، فالإِسْلام يَجُبُّ ما قبله، وإِن ترافعوا إِلَيْنا، وهمْ علَى كفرهم، فقولان، ويقال وجهان: أَحدهما: أَنَّا نكلِّفهم الردَّ؛ لأَن المؤدِّي، كان مُجْبَراً، والترافُعُ لا يَجُبُّ ما قبله. وأَصحهما: أَنَّ لحكم كما لو جَرَى القبض عن تراضٍ، وكما لو أسلموا. وعن الشيخ أَبي مُحَمَّدٍ طَرْدُ الخلاف، فيما إِذا أَسلموا، وقد جرى القبض بإِجبار قاضيهم. وقال الإِمام: وهو منقَاسٌ؛ لأَن الالتزامَ بالتَّرافُعِ أَضعفُ من الالتزام بالإِسْلاَم، وإِذا ألزمنا المتَرافِعَيْن حكم الإِسلام، فَلأنْ نلزمه للمسلمين، كان أَولَى. فرع: لَوْ نكح الكافرُ على صورة التفويض، وهم يعتقدُونَ أنْ لا مَهْرَ للمفوّضة بحال، ثم أسلم، فلا مهْرَ، وإِن كان الإِسلام قبل الْمَسِيسِ، لأَنه قد سبق استحقاق ¬
وطء (¬1) بلا مهر، واللهُ أعلم بالصواب. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَمَهمَا تَرَافَعُوا إِلَيْنَا في أنْكِحَتِهِمْ أوْ غَيْرِهَا جَازَ لَنَا الحُكُمْ بِالحَقِّ، وَهَلْ يَجِبُ؟ قَوْلاَنِ، وَإِنْ تَعلَّقَ الخُصُومَةُ بِمُسْلِمٍ وَجَبَ الحُكْمُ، وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَي المِلَّةِ وَجَبَ عَلَى الأَصَحِّ، وَلاَ يَجِبُ في المْعَاهَدَيْنِ، وَلاَ نَحْكُمُ إِلاَّ إِذَا رَضِيَ الخَصْمَانِ جَمِيعاً بِحُكْمِنَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إِذا ترافع إِلينا ذمِّيَّان في نكاح أو غيره، إِن كانا متَّفِقَي الملَّة، ففيه قولان: أَحدهما: انه يجب الحُكمُ بينهما؛ لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ولأنه يجب على الإِمام [أن] (¬2) يمنع الظُّلْم عنهم، فيجب أَن يحكُمَ بينهم كالمسلمين، وُيرْوَى هَذَا عن أَبي حَنِيْفةَ -رضي الله عنه- واختيار المُزَنِيِّ. والثاني: وبه قَالَ مَالِكٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنه لا يجبُ؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] وعلى هذا فلا يتركهما علَى النزاعِ، بل يحْكُم أو يردُّهما إِلَى حاكم ملتهم (¬3)، ورجَّح الشَّيخُ أَبو حامد وابن الصَّبَّاغِ القول الثانِيَ، وأَكثرهم علَى ترجيح الأوَّلِ، منْهم الإمام، وصاحب "التَّهْذِيبِ" والقاضي الرُّوَيانِيُّ، وفي محلِّ القولَيْن ثَلاثَةُ طُرُقٍ: ¬
أَحدها: أنَّ القولَيْن في حقوق الْعِبَادِ، فأَما في حُقُوقِ اللهِ تَعَالَى، فيجب الحكم؛ لئَلاَّ تضيع، فإِنه لا مطالب بها. والثاني: أَن القولَيْن في حقوق الله تَعَالَى، فأَمَّا في حُقُوقِ الْعِبَادِ، فَيَجِبُ؛ لبنائها على التضييق. وأظهرها: على ما ذكره الشيخ أَبو حَامِدٍ: طَرْدُ القولَيْنِ في النوعَيْن، وإِن كانا مختلفَيِ الْمِلَّةِ كاليهوديِّ والنصرانيِّ، فطريقان: أَحدهما: وبه قال أَبُو إِسْحَاقَ: طرد القولَيْن. وأصحهما: وبه قال ابنُ أَبي هُريْرَةَ: القطْعُ بوجوب الحكم؛ لأَنَ كُلَّ وَاحِدٍ منْهما لا يرضى بحاكم ملة الآخر، فيدوم النزاع بينهما، ولو ترافَعَ إِلَيْنا معاهَدَانِ، لم يجب الحكْمُ؛ سواءٌ اتفقت ملتهما أَو اختلَفَتْ؛ لأَنهم لم يلتزموا الأحَكام، ولا [التزمنا] (¬1) دفع بعضهم عن بعض بخلاف أَهل الذِّمَّة. وقيل: بِإلْحَاقِهِما بالذِّمِّيَّين. وقيل: إِنْ كانا مختلفِيَ الملة [وجب] (¬2) وإِلاَّ، لم يجب، والأَظهرُ الأَول. ولو ترافع إِلينا ذمِّيٌّ ومعاهَدٌ، فطريقان: أَظهرهما: أَنهما كالذمِّيينْ، فيعود القولان. والثاني: القطْعُ بوجوب الحُكُم كالذمِّيَّيْن المختِلَفِي الملة، وِإن كان أَحدُ الخصمين مسلماً، والآخر ذمياً أَو معاهَداً، وجب الحكم لا محالة؛ لمنع الظلم عن المسلم، أو منْعِهِ عن الظلم، وأَيضاً، فإن المسلم لا يمكنه النُّزولُ على حُكْم حاكم الكفار، فلا بُدَّ من فصل الخصومة بحكمنا وقوله في الكتاب "إِنْ كَانَا مختِلَفِي الْمِلَّةِ، وَجَبَ على الأَصَحِّ أي: من الطريقين، ويجوز مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ أَنْ يُرِيدَ على الأصح من القولين، جواباً على إِثبات الخلاف" وقوله: "ولا يجبُ في المعاهِدِينَ" معلم بالواو. وأَما قوله "لا نحكم إِلا إذاً رَضِيَ الخَصْمَان جميعاً بحكمنا"، فالسابق إلى الفهم منه أنا حيْثُ قلْنا بوجوب الَحكم ف في الصورة السابقة، فذلك، إذا حصَلَ رضا المتخاصِمَيْنِ ولفظه في "الوسيط" يقتضي نَحْوَ ذلك، لكنه لا يلائم نقل [الأصحاب] (¬3) لأنهم على اختلاف طبقاتهم فرَّعوا على القولَيْن، فقالوا: إِنْ قلنا بوجوب الحُكْم، فإذا استعدَى خصم على خَصْم، وجب إِعداؤه، وِإحْضَارُ الخَصْم؛ ليحكم بينهما، ووجب ¬
على المستعدي عليه الحضورُ، وإِن قلْنا: لا يجب الحكم، لم يجب الإِعداء، [ولا يلزمه الحضور] وإِذا أعدى، كان المستعدي عليه بالخيار في الحُضُور، ولا يحْضُر جَبْراً، وفي "التَّهْذِيبِ" وغيره أَن الذِّمِّيَّ، إِنْ أَقر بالزِّنَا، يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ جَبْراً، إِن قلْنا بِوُجُوب الْحُكْم بَيْنَهُمْ، وكذا لو سَرِقَ مَالَ مُسْلِمٍ أَو ذِمَّيٍّ، يقطع جبراً، وإن قلْنا: لا يجب اَلحكم بينهم، فلا يقام الحدّ إِلا برضاه، واعتبرا الرِّضَا على قولِ عَدَم الوجوب، وإِن لم يعتبروه علَى قول الوجوب، ويمكن على أَن يجعل قولُه، "ولا نحكم إِلا إِذا رضي الخَصْمَانِ جميعاً بحُكْمنا"؛ من تتمة قوله "ولا يجبُ في المعاهِدِينَ، فيستمر الكلام من غير مخالفةٍ". قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَو طُلِبَتْ نَفَقَةٌ في نِكَاحِ بَلاَ وَلِيٍّ وَلاَ شُهُودٍ حَكَمْنَا، وَإِنْ طُلِبتْ في نِكَاحِ مُحرَّمٍ أَوْ مُعْتَدَّةِ في الحَالِ لَمْ نَحْكُمْ، وَفِي المَجُوسِيَّةِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مَقْصُودُ هذه البقية بَيَانُ أنَّ الْحُكُمَ بينَ أَهل الذِّمَّةِ أَوْجَبْنَاهُ أَو لم نُوجِبْ إِنَّما يكون على مُوجِبِ الإِسْلام، وإِذا ترافَعُوا إِلَيْنا في أَنكحتهم، فنقرِّرهم على ما نقرِّرهم عليه، أو أَسلموا، أَو نبطلْ ما نبطله، لو أسلموا؟ فإذا كان الكافرُ قد نكح امْرَأَةً بلا وَلِيٍّ، ولا شُهُودٍ، أَو ثَيِّباً بغير رضاها، وترافَعُوا إِلينا، قرَّرناهم، وحكَمْنا في هذا النكاح بالنَّفَقَة، وكذا لو نَكَحَ معتدَّةً، والعدَّةُ منقضية عنْد الترافُعِ، وإِنْ كانَتْ معتدَّةً بعدُ، ألغيناه، ولم نحكم بالنفقة ولو نكح المجوسيُّ محرماً، وترافَعَا في طلَبِ النفقة، فكذلك (¬1)، ولو طلبتِ المجوسيةُ النفقة من الزوج المجوسِّي، أو اليهوديِّ، فوجهان، وكذا في تقريرِهِمَا على النِّكَاح. الظاهر التقريرُ، والحكم بالنفقة، كما لو أسلما، والتزما أحكام الدين. والثاني: الْمَنْعُ، وَبهِ قَالَ الإِصْطَخْرِيُّ واختاره القاضي حسين، ورجَّحه الإِمام؛ لأنَّ الْمَجُوسِيَّةَ لا يجوز نكَاحُها في الإسْلاَم، فَكَذَلِكَ لا يجوز تقرير نكاحِها، ولو جاءنا كافراً وتحته أُخْتَانِ وَطَلَبَتا فرض النفقة. قال الإمام: فيه تردُّدٌ؛ لأَنا نحكم بصحَّة نكاحهما، وإِنَّما تندفع إحداهما بالإِسلام، قاَل: والذي أَرى القَطْعَ به المنْعُ؛ لقيامِ المانع، وحيثُ لا نقرِّر في هذه الصورة، فالقاضِي المرفوع إِليه مُعْرِضُ عنهما، أَو يُفرِّق بين الزوجين؟ فيه وجهان: ¬
أَرجحُهما: عند الإِمام: الإِعراضُ، وإِنَّما يُفَرِّق، إذا رَضُوا بحكمنا. وَوَجْهُ الثَّاني: أَنهم بالترافُع أَظْهَرُوا ما خالَفَ الملة، فأَشبه ما إِذا أَظْهَروا خمروهم. وإذا التمسوا من حاكِم المسلمين ابتداءَ نِكَاحٍ، أجَاب إِنْ كانتِ المرأةُ كتابيةً، ولم يكنْ لها وليٌّ كافرٌ، ولا يزوجّ إِلا بشهود مسلمين. وعند أَبي حَنْيِفَة -رَحِمَهُ اللهُ- إِنْ كَانَ الْخَاطِبُ ذِمّيّاً، يجوز أن يعقد النكاح بشهادة أَهْلِ الذِّمَّةِ. فَرْعٌ: من "التَّتِمَّةِ" لو لم يترافَع المجوسيُّ إِلينا، ولكن عَلِمْنا فيهم مَنْ نكح مَحْرَماً، فالصحيحُ، وبه أخذ أَبُو حَنِيْفَةَ أَنه لا يُتعرَّض له؛ لأَن الصحابة عَرَفُوا من حال المجوسيِّ أَنهم ينكحون المحارم، ولم ينقرضوا لهم. وَحَكى الزُّبَيْرِيُّ قولاً: أَن الإمام، إِذا عَرَفَ ذلك، فَرَّقَ بينهما، كما لو عرف أَن المجُوسِيِّ نكح مسلمةً أو مرتدةً. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّانِي فِي زَيادَةِ العَدَدِ الشَّرْعِيَّ) فَإِنْ أَسلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ اخْتَارَ أرْبَعاً (ح)، وَانْدَفَعَ نِكَاحُ البَاقِيَاتِ، وَلاَ مَهْرَ لَهُنَّ إِلاَّ عَلَى قَوْلِ التَّصْحِيحِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفَصْلُ معقودٌ لِبيان الحُكْم فيما إِذا أَسْلَمَ الكافر، وتحْتَه عددٌ من النِّسَوَةِ لا يُجْمَع بينهن في الإِسلام، وفيه صور الأُوَلى: إذا أَسلم، وتحته أَكثر من أَربع نسوة، فأَسلَمْنَ معه، أَو تخلَّفْنَ، وهنَّ كتابياتٌ، اختار أَربَعاً منهن واندفع نكاح البواقي، ولو كنَّ مجوسياتٍ أَو وثنياتٍ، وهنَّ مدخولٌ بهن، فتخلَّفْنَ ثُمَّ أسلَمْنَ قبل انقضاء عِدَّتهن منْ وقْت إسلام الزَّوْج، فكذلك الْحُكْمُ، ولا فرق في ذلك كُلَّه بيْن ما إِذا نكَحَهُنَّ معاً، أو نكحَهُنَّ على الترتيب، إِذا نكحهن على التَّرتِيبِ، فله إِمساكُ الأُخريَاتِ، ومفارقة الأُوَلَيَاتِ، وبه قال مَالِكٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَحْمَدُ وقال أَبو حنيفة: إِذا نكحهنَّ معاً، بَطَلَ نكاحُهُنَّ جميعاً، وإِن نكحهُنَّ على التَّرتيب، تعيَّنَت الأُولياتُ. ودليلنا (¬1) ما رُوِيَ أَنْ غَيْلاَنَ أَسْلَمَ وَتَحْتُهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَقَالَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَمْسِكْ أَرْبَعاً، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ" (¬2). ورُوِيَ أَنَّ نُوفَلَ بنَ مُعَاويَةَ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ فقال النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فَارِقْ وَاحِدَةً وَأَمْسِكْ أَرْبَعاً" قَالَ: "فَعَمَدتُّ إِلَى أَقْدَمِهِنَّ فَفَارَقْتُهَا" (¬3) ولو أَسلم عَلى أَكثر من أَربع وهنَّ غيْرُ مدخولٍ بهن وأسلمت معه أَربعٌ تقرَّر نكاحهن، وأرْتَفَعَ ¬
نكاح المتخلِّفات، ولو كان قَدْ دَخَلَ بهن، فاجتمع إِسْلام الزَّوْج مع إسلام أَربعٍ منْهن لا غير في العدة، تعيَّن النكاح، حتَّى لو أَسلمتْ أَربعٌ من ثَمَانٍ تحْته [أو متن في الإِسلام، ثم أسلم الزوج وأسلمت] (¬1) الباقيات في عدتهن، تعينت الأُخرَيَاتُ، ولو أسلمتَ أرْبَعُ، ثم أَسْلَمَ الزَّوْج قبل انقضاء عدَّتهن، [وتخلفت الباقيات حتى انقضت عدتهن من إسلام وقت إسلام الزوج أو متن على الشرك تعينت الأوليات ولو أسلم أربع] (¬2) ثم أسلم الزوج قبل انقضاء عدتهن ثم أسلمت أخريات قبل انقضاء عدتهن من وقت إِسلام الزوج اختيار أربعاً من الأوليات والأخريات كيف شاء، فإِن ماتَتْ الأوليات أو بعضُهُنَّ، جاز له اختيارُ المَيْتَات، ويرث منهن. وقوله: في الكتاب "اختار أربعاً" مُعْلَمٌ بالحاء؛ لأَن عند أَبي حَنِيْفَةَ على الترتيب أو معا على ما تبين (¬3). وقوله: "فلا مهر لهن إلاَّ على قول التصحيح" مكررٌ مذكورٌ من قبل. فرع: قبل الكافر لابنه الصغير نكاح أَكثر من أَربع نسوة، ثم أَسلم، وأسلمن، اندفع نكاح الزيادة على الأربع، لكنَّ الصبيَّ ليس من أهل الاختيار، والوليُّ لا يقوم مقامه فيه، فإِن طريقه التنهي فيه فيوقف إلى أن يبلغ نفقتهن ويكون من ماله؛ لأَنَّهنَّ محبوساتٌ بسببه، وكذا لو أسلم الرَّجُلُ، وجُنَّ قبل أن يختار. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإِنْ أَسْلَمَ عَلَى امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا وَكَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا اخْتَارَ إِحْدَاهِمَا في قَوْلٍ، وَتَعَيَّنَتِ البِنْتُ عَلَى الأَصَحِّ؛ لأَنَّ نِكَاحَهَا يَدْفَعُ نِكَاحَ الأُمَّ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ وَطْءٍ البِنْتِ تَعَيَّنَتِ البِنْتُ وَانْدَفَعَتِ الأُمُّ، وإِنْ كَانَ بَعْدَ وَطْءِ الأُمِّ انْدَفَعَتِ البِنْتُ وَبَقِيَ نِكَاحُ الأُمِّ إنْ أَفْسَدْنَا أنْكِحَتَهُمْ وإلاَّ انْدَفَعتْ أَيْضاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الصورةُ الثانيةُ: إِذا أَسلم الكافر، وتحته أُمٌّ وابنتها قد نكَحَهُما معاً، أَو على الترتيب، وأسلمتا معه، أَو لم يُسْلِمَا، وهما كتابيَّتان، فأمَا، إِنْ كان قد دخَلَ بهما، أو لَم يدخُل بواحدةٍ منهما، أَو دخَلَ بالبنْتِ دون الأُمِّ أو بالعَكْس. الحالة الأولَى: إِذا كان قدْ دَخَل بهما، فهما مُحرَّمتان على التأبيد، أما الأَمُّ؛ فلأنه عقد على البنت، ودخل بها، وأَما البنْتُ، فلأنه دخَلَ بالأَمِّ، ولكل واحدةٍ منهما المسمَّى، إن جرت تسميةٌ صحيحةٌ، وإِلا، فمهْرُ المثل. الحالية الثانية: إِذا لم يدْخُلْ بواحدةٍ منهما، فقولان. ¬
أَحَدُهُمَا: أنه يختار أيَّتهما شاء، كما لو أسلم، وتحته أُختان، فإن اختار البنت، استقر نكاحُها، وحُرَّمت الأُمّ على التأبيد، وإِن اختار الأُمِّ لم تُحَرَّمِ البنتُ على التأبيد، بل لو فارق الأمَّ قبل الدخول، حَلَّ له نكاح البنت. والثاني: وهو اختيار المُزَنِّي: أَن البنْتَ تتعيَّن وتندفع الأم؛ لأن نكاح البنْتِ يدفع نكاح الأُم، ولا ينعكس، وقد يُعبَّر عن الغرض بعبارة أخْرَى، فيقال: له إِمساكُ البنْتِ لا محالة، وهلْ له إمساكُ الأمَ؟ فيه قولان، والقولان مبنيانِ عند أَكثر الأئمَّة على الخلاف في صحَّة أنكحتهم، إن صحَّحناها، تعيَّنتِ البنْتُ، وحرمت الأم أبداً وإِلا تخير وقضية هذا البنَاءِ ترجيحُ القول الذي اختاره المُزَنِيُّ، وهو تعْيِينُ البنت، وإِلَيْه ذهب الشَّيْخَانِ أبُو عَلِيٍّ وَالصَّيْدَلاَنِيِّ، والإِمَامُ، وَصَاحِبُ "التَّهْذِيبِ"، وصاحب "الكتاب" وغيرهم. ورجَّحِ الشيخ أَبُو حَامِدٍ ومن تابعه قوْلَ التخيير، ووافقهم الشيخ أَبو إِسْحَاقَ الشَّيْرَازِيُّ وفَرَّع ابنُ الحداد حُكْمَ المهر على القولَيْن هنا فقال: إِن قلنا بالتخيير، فللمفارقة نصْفُ المهر؛ لأَنه دفَع نكاحَها بإِمساك الأخَرى وإِن قلْنا بتعيين البنْت، فلا مهر للأم؛ لأنَّ نكاحها انْدفعَ بغَيْر اختياره وصنيعه. وقال القَفَّالُ وغيره: الحكْمُ بالعكس، إِن خيَّرناه، فلا مهر للمفارقة؛ لأَن التخْيير مبنيٌّ على أَن أَنكحتهم فاسدة، [فالتي] (¬1) فارقها، كأَنه لم ينكحها قطٌّ، حتَّى جوَّز الأَصْحَابُ لابنه وأبيه نكاحَهَا؛ تفريعاً على هذا القول، وإِذا لم يَكُنْ نِكَاحٌ، ولا دخُولٌ فلا مهر، وإِن عَيَّنَّا البنْتَ، فللأم نصْفُ المَهْرِ لصحَّة نكاحها، واندفاعه بالإِسْلاَم، ومالَ الإِمامُ إِلَى أَنه لا يجبُ المَهْر [على هذا القول أيضاً] (¬2)؛ لأنَّه صحَّ نكاح البنت، فتصير الامُّ محرماً، وإِيجاب المَهْرِ للمحرم بعيدٌ، وقد سبق نظير هذا. الحالة الثالثة: إِذا دخَلَ بالبنْتِ دون الأُمِّ، فيقرر نكاح البنت؛ لأَنه لم يدْخُلْ بالأم، والعقد عليها لا يُحَرِّمُ البنت، ويحرم الأَم على التأبيد بالعَقْد على البنت أو الدخول، ولا مَهْرَ لها على قَوْله ابنِ الْحَدَّادِ، وعلى طريقة القَفَّالِ: يجِبُ نصف المهر إِن صحَّحنا أَنكحتهم. الحالة الرابعة: إِذَا دَخَلَ بالأُمِّ دون البنت، حرمت البنت على التأبيد بالدخول بالأَم، وهل له إِمساكُ الأَم؟ يُبْنَى على القولين فيما إِذ لم يدْخُلْ بواحدةٍ منهما، إن خيَّرناه، فله إِمساكُ الأَم هاهنا، وإِن عيَّنَّا البنت، فلا، لأَن نكاح البنْتِ يحرِّمها، قال في "التهذيب": ولها مَهْرُ الْمِثْلِ بالدخول. ¬
وقوله في "الكتاب"؛ لأَن نكاحها يدفع نكاح الأُمِّ وقوله بعد ذلك: "إِن أفسدنا أنكحتهم" بيان لمأخذ القولَيْن، وهو الخلاف في صحَّة أَنكحتهم على ما قدَّمناه. قَالَ الغَزَالِيُّ: وإنْ أَسْلَمَ الحُرُّ عَلَى إِمَاءٍ اخْتَارَ وَاحِدَةً إنْ كَانَ عَاجُزاً عِنْدَ الالْتِقَاءِ فِي الإِسُلاَم، فَإِنْ أَسْلَمَ عَلَى ثَلاثٍ وَأَسْلَمَت وَاحِدَةٌ وَهُوَ مُعْسرٌ وَأَسْلَمَتِ الثَّانِيَةُ وَهُوَ مُوسِرٌ وَالثَّانِيَة وَهُوَ مُعْسِرٌ انْدَفَعَتِ الثَّانِيَةُ وَيُخُيَّرُ بَيْنَ الأُولَى وَالثَّالِثَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الصورةُ الثالثةُ: قد مَرَّ أنه لو أَسلم الكافر، وتحته أمَةٌ، وأَسلمت معه، يجوز له إمساكُها، إِن كان ممَّنْ يحل له نكاحُ الإِماء، ولا يجوزُ إِن كان ممن لا تَحِلُّ له، وان تخلَّفت، نُظِرَ؛ إِن كان قبل الدخول، تنجزت الفرقة، سواءٌ كانَت كتابيةً أَو غير كتابية؛ لأن المسلم لا ينكح الأَمةَ الكتابيةَ، كما لا ينكح الوثنيةَ، وإِن كان بَعْدَ الدخول، وجَمَعَتِ العدةُ إِسْلامَهْما، فهو كما لو أَسلَمَتْ معه، وإِن كانَتْ كتابيةً، وَعَتَقَتْ في العدَّة، فله إِمْسَاكها، إِنْ لم تسلم، ولا عتقت أَو كانَتْ وثنيةً، ولم تُسِلْمْ إِلى انقضاء مدَّة العدَّة، فتبيَّن اندفاع النكاح من وقْت إِسلامه وإسلامهن [وإن كان تحته إماء وأسلم وأسلمن معه] (¬1) فيختار واحدةً مِنْهُنَّ، إِن كان ممن يحل له نكاحُ الإِماء عند اجتماع إسْلامه وإِسلامهن، وإِلا، فيندبع نكاحهن جميعاً، ولا فرق بين أَن يُسْلِمَ أَولاً أَو يسلمن أَوَّلاً، ولو أَسلم، وتحته ثلاثٌ، فأَسلمت معه واحدةٌ، وهو معْسرٌ خائفٌ من العَنَت، ثم أَسلمَتِ الثانيةُ في عدَّتها، وهو مُوسِرٌ، ثم أَسْلَمَتِ الثالثة، وَهُوَ مُعْسِرٌ خائف من العنت، فيندفع نكاحُ الثانية، لِفِقْدان الشَّرْط عند اجتماع إِسْلامه وإِسلامها، ويُخيّر بين الأَولَى والثالثة، وهذا مبنيٌّ على أَن ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ في اليسار أَنه إِنَّما يؤْثَرُ في اندفاع النكاح، إِذا اقترن بإِسلامهما جميعاً، وقد سَبَق أَنَّ من الأَصحاب مَنْ يَنْظُر إلَى وقت إِسلامه، ويكتفي به، فعلَى هذا لا تندفع الثانية أَيضاً [بل تدخل في التخيير] ويجُوزُ لذلك إِعلامُ قوله في الكتاب "اندفعت الثانية" بالواو وأَيضاً فقد حَكَى الإِمَامُ عن أَبيه أَنه إِذا حَلَّ له نكاح أَمة فأمَة أُخرَى في معناها، وإِلَيْه الخيرةُ فيهن جميعاً. وقوله "وان كان عاجزاً عند الالتقاءِ" أي عن طَوْلِ الحُرَّةِ، ويعتبر مع ذلك خَوْفُ الْعَنَتِ. فرْعٌ: أَسلم، وتحته إماءٌ، أَو أَسلمتْ معه واحدةٌ منْهنَّ، فله أَن يختار الَّتي أَسلمت، كما لو أَسْلَمْنَ جميعاً، وله أَن يتوقَّف، وينتظر إلى إسْلامِ الباقيات، فقد يكونُ بعضُهُنَّ آثر عنده، ثم إِن أَصْرَرْنَ على الشِّرْك، تبيَّن أَنهن بِنَّ من وقْتِ اختلاف الدِّين، وأَن عدَّتهن قد انقضَتْ، وإِن أَسَلَمْنَ العدَّة، فيُنْظَر؛ إِن كان قَدِ اختار الَّتي أَسْلَمَتْ أَولاً، ¬
فتكون بينونتهن باختياره إِيَّاها، وإِنْ كان متوقِّفاً منتظراً، فأَسْلَمْنَ، اختار واحدةً منهن، وانْدَفَعَ نكاح الأُخْرَيَاتِ، ولو طلق التي أسلمت [أولاً] (¬1) كان الطلاق متضمِّناً اختيارَهَا، ثم إِنْ أَصرت الباقيَاتُ، حتى انقضتِ العدَّةُ، بأن [أنهُنَّ بِنَّ] (¬2) باختلاف الدِّين، وإِن أَسلمن في العدَّة، بَانَ أنهن بِنَّ من وقْتِ الطَّلاَقِ، فإنه وقْتُ الاختيار، وإِن فسخ نكاح الَّتي أَسلمتْ أَولاً، لم ينفذ؛ لأنَ الباقياتِ متخلفاتٌ وإنما ينفسخ النكاح، إِذا زدْنَ على العدد الجائِزِ إِمساكُهُ [وليس في الحال زيادة] ثم إِنْ أصررنَ اندفَعْنَ باختلاف الدِّين، ولزمه نكاحُ الأُولَى، وإن أَسلمن في العدَّة، اختار مَن شَاء من الْكُلِّ، وفيه وجه أنه بإِسلام الباقيات تبيَّن نفوذ الفسخ فيها، فلا يخْتَارُها، ولكنْ يختارُ واحدةً من الباقيات، والظَّاهِرُ الأول. قَالَ الغَزَالِيُّ: وإنْ أَسْلَمَ عَلَى حُرَّةٍ وَإِمَاءٍ انْدَفَعَ نِكَاحُ الإِمَاءِ إلاَّ إِذَا تَخَلَّفَتِ الحُرَّةُ وَأَصَرَّتْ، فَإنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ عِدَّتِهَا انْدَفَعَ نِكاحُ الإِمَاءِ إِلاَّ إِذَا عَتَقْنَ قَبْلَ إِسْلاَم الحُرَّةِ فَيَلْتَحِقْنَ بِالْحَرَائِرِ الأصْلِيَّاتِ، وَلَوْ أسْلَمَ عَلَى إِمَاءٍ وَتَخَلَّفَتْ وَاحِدَةٌ ثُمَّ عَتِقَتْ وَأسْلَمَتْ قَبْلَ الْعِدَّةِ تَعَيَّنَتْ كَالْحُرَّةِ وَانْدَفَعَتِ الإِمَاءُ السَّابِقَاتُ، وَلَوْ أَسْلَمَ عَلَى أَمَتَيْنِ وَتَخَلَّفَتْ أَمَتَانِ فَعَتَقَتْ وَاحِدَةٌ مِنَ المُتَقَدِّمَتَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمَتِ المُتخَلِّفَتَانِ انْدَفَعَ نِكَاحُهُمَا إِذْ تَحْتَ زَوْجِهِمَا عَتِيقَةٌ وَاخْتَارَ وَاحِدَةً مِنَ المُتَقَدِّمَتَيْنِ؛ إِذْ كَانَ عِتْقُهَا بَعْدَ إسْلاَمِهِمَا، وَإِسْلاَمُ الأُخْرَى لاَ يُؤَثِّرُ فِي حَقِّهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الصورةُ الرابعة: إذا أسْلَمَ وتحته في نكاحه حُرَّةٌ وأربع إِماء -مثلاً- وأَسَلَمْنَ، نُظِرَ، إِن أَسلمت الحرَّةُ معه، أو كانَتْ مدخولاً بها، فأسلَمَتْ بعده في العدَّة، تعيَّنت الحرَّةُ، واندفع نكاحُ الإِماء، سواءٌ أَسلمن قَبْلَ إِسلامها، أَو بعْده، أَو تبيَّن إِسلامُ الزَّوْج والحُرَّة؛ لأَن القُدْرة على الحرَّة يمنع من اختيار الأمَةِ، وإِذا تأَخَّر إِسلامهن، فإِن أسلَمن في العدة، بِنَّ من وقتِ اجتماع إِسْلاَمِ الزَّوْج والحُرَّة، وعدَّتُهن من ذلك الوقْتِ، وإِن لم يُسْلِمَن، حَتَّى انقضت العدَّةُ، فبينونَتُهْنَّ باختلافِ الدِّين، إن لم يجتمعُ إِسلامُ الحُرَّة مع إِسلامه في العِدَّةَ، بأن أسلم الزوْجُ، وأَصرَّتْ هي إِلى انقضاء العدَّة، أو ماتَتْ في العدَّة، أو أسلمت هي أولاً، وتخلَّف الزوج إِلى أَن انقضَتْ عدتها، أَو ماتَتْ، فالحكْمُ كما لو لم يَكُنْ في نكاحه حُرَّةٌ، فيختار وَاحِدَةٌ من الإِماء على الوجه الذي سَبَقَ، وفي مدَّة تخلُّف الحُرَّة المدْخُول بها، لا يختار واحدة من الإِماء سواء (¬3) أسلمن ¬
معَهُ، أَو بعْدَهُ في العَدَّة، حَتَّى يَقَعَ الْيَأْسُ منها بالْمَوْتِ أو انقضاء العدة، فإِن اختار واحدةً قبل اليأس، ثم ماتَتِ الحُرَّة، أو انقضَتِ العدَّة وهي مصرَّة (¬1) فقد نقل الْمُزَنِيُّ - (رَحِمَهُ اللهُ) - ما يُشْعر بنفوذ الاختيار السابق، وبأَنه في الابتداء موقوفٌ إلى أَن يظهر حال الحرَّةِ في الانتهاء. وحكى الإِمامُ؛ أَن بعض الأصحاب غلَّطه، والصحيحُ تصحيحُ النقل، وحَمْلُهُ على أَحدِ القولَيْنَ في وقْته العقود، كما صوَّرنا في أول البيع، ومنْهم مَنْ يجعل الخلافَ في المسألة وجهَيْن، وجميع ما ذكرنا فيما إذا لم يَطْرأ على الإماء عِتْقٌ، فإِن طرأَ العتْقُ، قبل اجتماع إِسْلامِهِنَّ وإسلام الزوجِ، بأن عَتَقْن، ثم أسلم الزوج، وأَسلمن، أو أَسلَمْنَ، ثم عَتَقَنَ، ثم أَسلم الزوج، أو أَسلم الزوج ثُمَّ عَتَقْنَ، ثم أسلَمْنَ، فيلحقْنَ بالحرائر الأَصليَّاتِ، حتى لو أسلمتِ الحرَّةُ، ثم أسلمت الإِماء المتخلفات بعدما عَتَقْن، فهو كما لو أسْلَمَ على حرائر، فيختارُ منهنَّ أَربعاً كيْفَ شاء، وفي كتاب القاضي ابنِ كَجٍّ أَنَّ أبا الحسين القطان حَكَى وَجْهاً فيما إذا أَسلم، وتحْتَهُ حرائرُ وإماءٌ، وعتَقَتِ الإِماءُ، ثم أَسلَمْنَ أنه لا يجوز له إلاَّ اختيارُ الحِرائرِ الأصلياتِ، ولو تخلَّفت الحرةُ، واجتمع إِسلامه وإِسلامُهن، وهنَّ عتيقاتٌ، فله أن يختارهن، ثم يُنْظر، إن أَسلمتِ المتخلِّفة في العدَّة، بَانَتْ باختياره الأربع، وإن لم تُسْلِم، بَانَتُ باختلاف الدِّينِ، وإِن أَخَّرَ الاختيار انتظاراً لإِسلام المتخلفة. ذكر الشيخ أَبُو حَامِدٍ أنه جائِزٌ وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغ عنْدِي لا معْنَى لتأَخير اختيار الكُلِّ، فإِنَّه يلزمه نكاح ثلاثٍ منهن لا محالَةَ، فيختار ثلاثاً، ثم إِن أَسلمتِ المتخلِّفة في العدَّة، اختارها، أو الرابعة من العتيقات، وإِنْ لَمْ تُسْلِم، لزمه نكاح الرابعة من العَتِيقات، ولو أسْلَمَ، وليس في نكاحه إِلا الإِماءُ، وتخلَّفْنَ، وَعَتَقْنَ، ثم أَسلَمْنَ في العدَّةِ،. اختار مِنْهُنَّ أرْبَعاً، كالحرائر الأَصليات، ولو أَسَلَمْنَ معه إلا واحدةً، ثم أَسَلَمَتِ المتخلِّفة في العدَّة بعْد ما عتَقَتْ، تعيَّنت [للنكاح] (¬2) كالحرَّة الأَصليَّة، وَلُوَ كانتْ تحْتَه أَربعُ إِماء، فأَسَلَمتْ معه اثنتان، وتخلَّفت اثنتان، فعتَقَتْ واحدةٌ من المتقدِّمتين، ثم أَسلمَتِ المتخلِّفات على الرِّقَّ، اندفع نكاحهما؛ لأن تحْتَ زوجهما عتيقةٌ عند اجتماع إِسلامهما وإِسلام الزوج، ولا تندفعُ الرقيقةُ المتقدِّمة؛ لأَن عتْقَ صاحبتها كان بعْد اجتماع إسلامها، وإِسلام الزوج، فلا يَؤثَّر في حَقِّها، بل يختار واحدةً منهما (¬3). ¬
ولو كانَتْ تحْتَه إماءٌ فأَسلم الزوْجُ مع واحدةٍ، ثم عَتَقَتْ، ثم عتَقَ الباقياتُ، وأسلمْنَ، اختار أَربعاً منهن لالتحاقهن بالحرائر الأَصليات، وليس له اختيار الأُولَى؛ لأَنها كانَتْ رقيقةً عند اجتماع الإِسلاميين، فيدفع الباقيات العتيقات عند اجتماع الإِسلاميين لو كانَتْ تحته أربعُ إماءٍ، فأَسلمت معه اثنتان، ثم عتقتا، وعتقت المتخلِّفتان، ثم أَسلمتا، يتعيَّن الأخُريات للامساك؛ لحريتهما عند اجتماع الإِسلاميين، ولا يجوز إِمْسَاك الأوليين، لِرِقِّهما عند اجتماع الإِسلاميين، واندفاعهما بالعتقين (¬1). ولو أسلم الزوْجُ وتخلَّفْنَ، ثم عتَقَتْ الاثنتان، ثم أَسلمتا، وأسلَمَتِ الأخريات، ثم عتقتا، يتعيَّن الأُوليان للإمْسَاك، ويندفعُ بهما الأُخْرياتُ، والنظر في جميع ذلك إِلى حالة اجتماع الإِسلاميين لَأنها حالة إمكان الاختيار، هذا كما أن النَّظَرَ في اليسار والإِعْسار، وفي خوف العَنَتِ، الأَمن منه إِلى حالة اجتماع الإِسلاميين. وقوله في الكتاب: "اندفع نكاح الإِماء" يمكن إعلامه بالواو؛ بوجه قدَّمناه في أَن نكاح الأَمة لا يندفع بالحرة، وعلى ذلَك الوجْهِ يُمْسِكُ الحرَّة، ويختار واحدةً من الإِماء؛ (والله أعلم). وقوله: "فإن أَسلمْتَ قبْلَ عِدَّتِهَا، اندفع نكاحُ الإِمَاء" يفيده قولُه أَولاً "اندفع نكاح الإِماء إِلا إِذا تخلفت وأَصرت" وإِنما أَعادهِ لِيَسْتَثْنِي منه؛ ما إِذا أَعْتَقن، كأَنه يقول: وإِنَّما يندفع نكاحُهُنَّ، إِذا استمر رِقّهن، أما إذا أُعْتِقْنَ، فلا. وقوله: "ولو أسلم على أَمَتَيْنِ، وتخلَّفت أَمتان" وفي بعض النسخ، ولو أَسلم على أربع، وتخلَّفتِ اثنتان وكلُّ واحدةٍ منهما مؤدٍّ للغرض. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلاَ خِيَارَ لَهَا إلاَّ إِذَا أُعْتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ، وَلَهَا تَأْخِيرُ الْفَسْخِ لِعُذْرِ انْتِظَارِ إسْلاَمِ الزَّوْجِ إِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ، فَإنْ فَسَخَتْ نَفَذَ، وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ لَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ ¬
فَتَكُونُ عِدَّتهَا مِنْ وَقْتِ الْفَسْخِ فَإِنْ أَجَازَتِ ابْتَنَى عَلَى وقْفِ العُقُود، وَأمَّا العَبْدُ إنْ أَسْلَمَ عَلَى حُرَّةٍ فَلاَ خِيَارَ لَهَا. قال الرَّافِعِيُّ: أَصْلُ الفَصْل أَنَّ عِتْقَ الأَمَّة تَحْتَ الْعَبْدِ من الأسَباب المبيِّنة للخِيَار على ما سيأتي، وقد تعتق المنكوحة في "مسائِلِ المُشْرِكَات" مع عروض الإِسلام، والغرضُ الآن بيان حُكْمه وفيه مسألتان: الأُولى: إِذا نكح العبدُ الكافرُ أمةً في الكُفْر، ثم دَخَلاَ في الإسْلاَمَ وعتَقت الأُمةُ، فينظر؛ إِن عتقت بعد اجتماع الإِسلاميين، فهي كسائِرِ الإِمَاءِ يُعْتَقْنَ تحْت العبد، وليس ذلك من صُورَ الباب، وإن عتَقَتْ قبل اجتماع الإِسلاميين، فللمسألة حالتان، [والغرض فيما إذا كانَتْ مدخولاً بها] (¬1). الحالة الأُولَى: أَن تسلم هي أَولاً، ويتخلَّف الزوج، فلَيْسَ لها الإجازةُ سواءٌ عَتَقَتْ، ثم أَسْلَمَتْ، أَو أَسلمت ثم أَعْتَقَتْ لأَنَّها تعرض البَيْنُونة، فلا يَلِيقُ بِحَالِها اختيارُ الإقامة، لأَنها مسْلِمَةٌ فكيف تقيم تحْتَ كافرٍ، ولا يبْطُلُ بهذه الإِجازة حقُّها ومن الفَسخ، وإِن [اختارت] (¬2) الفسخ في الحال. يجوز؛ لأَنه يلائم حالَها، ولا يلزمها الانتظارُ إلَى أَن يظهر حالُ الزَّوْج من الإِسلام والإِصرار على الكُفْر، لأَنَّها، لو أَخرت الفَسْخ إِلَى ما بعد إِسلام الزَّوْج كانت عِدَّتْهَا من يومئذٍ، فيدفع بالتعجيل طُولُ التربُّص، ثُمَّ إِذا فسخت، فإِن أسلم الزوج قبل أَن تنقَضِيَ مدَّة عدتها، فالعدَّةُ من وقْت الفسْخ، وتعتدُّ عدةَ الحرائر، وإِن لم يُسْلِمْ إِلى أَن انقضتِ المدَّة فعدتها من وْقت إِسْلامها، ويلغو الفسْخُ؛ لحُصُول الفِراقِ قبله؛ وتعتدّ عدَّةَ الحَرائرِ، إِن عتَقَتْ، ثم أَسلمت، وِإن أَسلمت، ثُمَّ عتقت، فهذه أمة عتقت في أثناء العدَّة، فتكمل عدَّة الحَرَائر، أَم تقتصر على عدة الإِماء؟ فيه طريقان للأصحاب. أقربهما: إِلَى قضية نَصَّ الشَّافِعِيِّ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- وهو الجواب في "الشَّامِلِ" وغيره أَنها كالرجعيَّة تُعْتَقُ في أَثناء العدَّة. والأظهر: أَنها تكمل عدة الحرائر. والثاني: أَنها كالبائنة تُعتق في أثناء العدة، والأظهر؛ فيها: الاقتصار على عدَّة الإِماء. وموضعُ الخلاف فيهما "كتاب العدة ووجه الإِلحاق بالرجعية تمكين الزوج من استيفاء النكاح، واستدراك الأمر بالإِسلام يمكنه هناك بالرجعة، ووجه الإِلحاق بالثانية أن البائنة لا تكونُ بينونتها بانقضاءِ العدَّة، وكذلك هذه التي أَسلَمَتْ، ثم عتقت، وأصر ¬
الزوج، فإنا نحْكُمُ بحصول البينونة من وقْتِ إِسلامها، بخلافِ الرجْعيَّة، فإِنهَّا تَبينُ بانقضاء العدة، ولو أَرادتْ تأْخِيرَ الفَسْخِ إلَى أَن يتبيَّن حال الزوج، يجوز، ولاَ يَبْطُلُ خِيَارُهَا كالرَّجْعِيَّة إِذا عتَقَتْ في العدة، والزوَج رقيق، يجوز لها التأخيرُ، ثم إِن لم يسلم الزوج إِلَى أَن انقضت مدة العدة، سقط الخيار، وعدتُها من وقْتِ إِسلامها، وتعتدُّ عدةَ الحرائر، إِن عَتَقَتْ، ثم أَسلمت، [وإن أسلمت] (¬1) ثم عتقت، فعدتها عدَّةُ الحرائر أم عدة الإِماء فيه الخلاف السابق، وإِن أَسلم الزوج، فلها الفسخ، وتعتد من وقْتِ الفسخ عدَّةَ الحرائر. الحالة الثانية: إذا أَسْلَمَ الزَّوْجُ أوَّلاً، وتخلَّفت [وَعَتَقَتْ] (¬2) فظاهر المذْهَب ثبوتُ الخيارِ لتضررها برق الزوج وفي "التَّتِمَّةِ" أَن من الأَصحاب مَنْ لم يُثْبِتْ لها الخيار؛ لأَن خيار العِتْق من أَحكام الإِسلام، وهي كافرةٌ، فلا يثبت لها حُكْم الإِسْلام، وأما إِذا قلْنا بالظاهر فلها تأخير الفسَخ والإجازة، ثم إن أسلَمَتْ قبل مضيَّ مدَّة العدَّة، وفسختِ، اعتدَّتْ من يوم الفسخ عدَّةَ الحرائر، وإِن لم تسلم، حتى انقضَت عَدَّتها، بانَ حصولُ الفراقِ منْ وقْت إِسلام الزَّوْجِ، وتعتدُّ عدَّة الحرائر أم عدة الإِماء، فيه الخلاف السابق [و] قَالَ الإِمَامُ: والظاهرُ هاهنا إِلحاقُهِا بالبائِنَةِ؛ لأَنه لَيْسَ بيد الَزَّوْج شيءٌ، إِذا كانت هي المتخلِّفَةَ، ولو أَجازتْ قبل أَن تُسْلِمَ، لم تَصِحَّ الإِجازة؛ لأَنها لا تلائم حالَهَا؛ لأَنَّها تَعْرِضُ البينُونَةَ، وفي النِّهاية أَنَّ بعض الأئَمَّة حكى عن صاحب "التَّقْرِيب" أنها صحيحة، قال: ولم أَره في طريقه ولو فسخت فظاهر ما نقله المُزَنِيُّ (¬3) أَنه لا يصحُّ أَيضاً؛ لأنه حَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ولو لم يتقدَّم إِسْلاَمُهُنَّ قبل إِسلامه، واخترن فراقه أَو المقام معه، خُيَّرْنَ حين أَسْلَمْنَ وألغى اختيار الفراق كاختيار المقام، وقد أَخذ بَهَذا الظاهر بعض نَفَرٌ من الأَصحاب، منْهم أبُو الطَّيِّب بنُ سَلَمَةَ ووجوهه بأنه لا حَاجَةَ بِهَا إلى الفْسْخ؛ لأَنها تنتهي إلى البَيْنُونَة، وإسْلاَمَها بيدها، إن أَسْلَمَتْ، فسخت، وإلاَّ، بَانَتْ وَقْتِ إسلامه، وليس كما إذا تخلَّف الزوج، فإن إسلامه لا يتعلَّق باختيارها، فلا يأمنُ أن يُسْلِمَ في مدة العدة. وَقَالَ أكْثَرُ الأصْحَابِ يَنْفُذ الْفَسْخُ، كما في الحالة الأُولَى. والإِسْلام وَاجبٌ، عَلْيها في الْحَالِ، فليس لها تأخيرُهُ إِلى انقضاء مُدَّةِ الْعِدَّةِ ثم من هؤلاء من لم يُثبِتِ النَّقْلَ عن الشَّافِعِيَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-. ¬
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: المسألة مذكورةٌ في "الأم" وليس فيها اختيار الفسخ، وإنما المذكور اختيارُ المقام، فلا أدْرِي مِنْ أَين زاد الْمُزَنِيُّ اختيار الفَسْخ ومنهم من أوّل فقال قد ذكر اختيار الفسخ والمَقَام معاً؛ لكنَّه أجاب عن اختيار المقام خاصَّة وقد يفعل الشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِثْلَ ذَلِكَ. المسألة الثانية: أسلم الزوْجُ الرقيقُ، هَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِزَوْجَتِهِ الْكَافِرَةِ؟. فيه وجهان: أظهرهما: على ما ذَكَرَ الإمَامُ وَالْمُتوَلِّي: المنعُ، وبه قَالَ ابنُ أبي هُرَيْرَة: لأنها رَضِيَتْ بِرِقِّهِ أولاً، ولم يحدُثْ فيهَا عِتْقٌ. والثاني: يثبت، وبه قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ؛ لأنَّ الرِّقَّ نَقِصِ في الإِسلام من حَيْثُ إن الرقيق لا يساوي الحرَّ في الإِسلام وفي الشرك يتميز الحرُّ عن الرقيق، وَهَذَا ظَاهِرُ النَّصِّ؛ لأنه قال "في الْمُخْتَصَرِ": ولو كان عبد عنْده إماءٌ وحرائرُ مسلماتٌ وكتابياتٌ ولمْ يَخْتَرْنَ فراقَهُ، أمْسَكَ اثْنَيْنِ بشَرْطِ ألا يخترن فراقه، ومن قال بالأول، ادَّعَى أنَّ الجواز يرجع إلى الإمَاء خاصَّة، والمراد ما إذا قال الدَّارِكِي: وهذا الخلاف في حَقِّ أهل الحرب، فأما الذِّمَّيةُ مع الذِّمِّيِّ، فَلاَ خِيَارَ لَهَا؛ لأنَّها رَضِيَتْ بأحكامنا، وقوله في الكتاب "وإن جازت ابْتَنَى على وقْفِ العقود" جهة الوقْف أن الإِجازة إنما تفيد بتقدير إسلام الزوج، أما إذا أصر فلا يُتَصوَّر إقامةُ المسلمةِ تَحْتَ الكافر، لكن تُخرَّجُ المسألة على وقْف العقود، ولم يذْكُرْه سائر الأصحاب، ولا تعرَّض له صاحبُ الكتاب في "الْوَسِيطِ" بل أطلقوا القول بِالْبُطلاَنِ عَلَى مَا مَرَّ. وقولُهُ: "وَأَمَّا الْعَبْدُ، إِنْ أَسْلَمَ عَلَى حُرَّةٍ" قَدْ يُوهِمُ اختصَاصَ الكلام في الحرَّة، وأورد في "الوسيط" الوجهَيْنِ فيما إذا أسلَمَتِ الحُرَّة، ولا اختصاصَ لها بِالحُرَّة ولا بما إذا أسْلَمَتْ، بل هما جاريان في الحرَّة والأمة، وفيما إذا أسَلَمَتِ الزَّوْجة، وفيما إذا لم تُسْلِم، إذا كانتُ كتابيةً، لِذَلِكَ ذَكَرَهُ صَاحِبُ "التَّهْذِيبِ" وغيره، وقوله "ولا خيار لها" معْلَمٌ بالواو. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ اثْنَتَيْنِ أبَداً مِنَ الحَرَائِرِ وَالإِمَاءِ؛ لأَنَّ الأَمَةَ في حَقِّهِ كَالْحُرَّةِ، فَإنْ عَتَقَ قَبْلَ إِسْلاَمِهِنَّ الْتَحَقَ بِالحُرِّ فَلاَ يَخْتَارُ مِنَ الإِمَاءِ إلاَّ وَاحِدَةً وَيخْتَارُ مِنَ الحَرَائِرِ أَرْبَعاً، وَإِنْ كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَإِمَاءٌ انْدَفَعَ نِكَاحُ الإِمَاءِ، وَإِنْ أسْلَمَ مَعَهُ حُرَّتَانِ ثُمَّ عَتَقَ فأسْلَمَتِ البَاقِيَاتُ مِنَ الحَرَائِرِ فَلاَ يَزِيدُ عَلَى اثْنَتَيْنِ، لأَنَّهُ وَجَدَ كَمَالَ عَدَدِ العَبِيدِ قَبْلَ الحُرِّيَّةِ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ فَعَتَقَ ثُمَّ أَسْلَمَ البَاقِيَاتِ اخْتَارَ أَرْبَعاً؛ لأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ كَمَالُ العَدَدِ قَبلَ الحُرِّيَّةِ، وَلَوْ أَسْلَمَ عَلَى أَرْبَعِ إِمَاءٍ فَأَسْلَمَتْ ثِنْتَانَ، ثُمَّ عَتَقَ فَأَسْلَمَتِ المُتَخَلِّفَتَانِ
يَخْتَارُ الأُوْليَيْنِ وَلاَ يَخْتَارُ المُتَخَلِّفَتَيْنِ، وَهَلْ يَخْتَارُ وَاحِدَةٌ مِنَ الأَوْلَيَيْنِ وَوَاحِدَةٌ مِنَ الأخْرَيَيْنِ؟ فَوَجْهَانِ، وَقِيلَ: يَخْتَارُ الأُخْرَيَيْنِ أَيْضاً إنْ شَاءَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: العبْدُ الكافرُ، إذا أسلم، وتحْتَه أكثر من امرأتين، وأسلمن معه، أو بعده في العدَّة، إن كان قد دَخَلَ بِهِنَّ يَخْتَارُ اثنتين منهنَّ، سواءٌ كُنَّ حرائر، أو إماءً، وإن كُنَّ حرائرَ وإماءً، فإن شاء، اختار حُرَّتَيْن، وإنْ شاء، أَمَتَيْنِ، وإن شاء، حُرَّةً وأمَةً، ولو سَبَقْنَ إلى الإِسْلام. ثم أسلم قبل انقضاء عِدَّتِهِنَّ، فكذلك الحكْمُ، ولو طرأ العِتْقُ عليه، وكان قد تزوَّج في الشِّرْك بعدد من النِّسْوة، فيُنْظر؛ إن عتق بعْد اجتماع الإِسلامين، لم يختر إلاَّ اثنتين، ولم يُؤَثِّرِ الْعِتْقُ في اختياره، زيادةً، وإن عَتَقَ قبل اجتَماعَ الإِسلامين؛ بأن عَتَقَ قبل إسلامه وإسلامِهِنَّ، أو بين إسلامه وإسلامِهِنَّ، تقدَّم إسلامه أم تأَخَّر، فحكمه حكْمُ الأَحرار، وللزَّوْجَاتِ أحوالٌ ثلاث: الحالة الأولى: أن يتمحض حرائر، فيختار أربعاً منْهُنَّ، ولو أسلمتْ منهن ثنتانِ معه ثم عَتَقَ، ثم أَسْلَمَتِ الْبَاقِيَاتُ، فليس له إلا اختيار ثنتين؛ إما الأُوِليين أو ثِنْتَيْنِ من الباقيات، أو واحدةً من الأوليين، وواحدةً من الباقِيَاتِ، وإن أسلمتْ معه واحدةٌ، ثم عَتَقَ، ثم أسْلَمَ الباقياتُ، فله اختيارُ أربعٍ مِنْهُنْ، والفرقُ: أَنَّه إذا لم يُعْلِمْ معه إلاَّ واحدةٌ لم يكمل عدد العبيد، وإذا أسلمتُ اثنتان، ثم عَتَقَ، كَمْلَ عدد العبيد قَبْل العِتْق فحدوث الحرية من بعْد لا تفيد زيادةً عليه، وشبَّهوا الصورتَيْنِ بما إذا أطلَّق العبْدُ امرأة طلقَتَيْنِ، ثم عَتَقَ لم يملكْ بالعِتْق طلقةً ثالثةً، ولم يَجُزْ لَهُ نِكَاحُهَا إلاَّ بِمْحَلِّلٍ، ولو طلقها طَلْقَةً، ثم عَتَقَ، ونكحها، أو راجَعَها، ملَكَ طلقتين، وبما إذا عتقتِ الأمةُ في القرءين تُكْمِلُ ثلاثة أقراء، وإن عتَقت بعْد تمامها، لم يلزمْها شيْءٌ آخرُ، وبما إذا كانَتْ تحته حُرَّةٌ وَأَمَةٌ، يقسم للحرَّةِ لِيلَتَيْنِ، وللأمة ليلَةً، ثم عَتَقَتِ الأمةُ، إن عتقت بعْد تمام ليلتها، لم تستحقْ زيادةً، وإن عَتَقَتْ قبل تمامِهَا، كمَّل لها ليلَتَيْنِ. وذكر الأصحاب عِبَارَةً جامعةً لهذه المسائِلِ، فقالوا: الرِّقُّ والحُرِّيَّةُ، إذ تبدَّل أحدهما بالآخر، فإنْ بَقِيَ من العدَدِ المعلَّق بكل واحد من الزائِلِ والطَّارئ شيْءٌ، أثَّر الطارئُ، وكان الثابتُ العددَ المعلَّقَ به زائداً كان أو ناقصاً، وإن لم يَبْقَ شَيْءٌ منهما جميعاً، لم يؤثِّر الطارئُ، ولم يغيِّر حكماً، فإذا أسْلَم معه حُرَّتَانِ، ثم عَتَقَ، لم يبْقَ من العدَدِ المعلَّق بالزائدِ شيْءٌ، وبقي العدَدُ المعلَّق بالطارئ اثنتان، فلم يَثْبُتِ العددُ المعلَّق بالطارئ، وإذا أسلَمَتْ معه واحدةٌ، بَقِيَ من العدد المعلَّق بالزَّائِلَ شيْءٌ ومن العدد المعلَّق بالطارئ شيْءٌ، فأثَّر العتْقُ، وثبَتَ حكْمُه، وعلَى هذا قياسُ باقي المسائِلِ، وعلَى هذا الأصْلِ؛ قَالَ ابنُ الْحَدَّادِ: لو طلَّق الذِّمِّيُّ زَوْجَتَة طلْقَتَيْنِ، ثم الْتَحَقَ بدارِ
الحَرْب ناقضاً للْعَهْد، فسُبِيَ واسْتُرِقَّ، ونكح تلْكَ المرأة بإذْن مالكه، يَمْلِكُ عليها طلْقةً؛ لأنه بَقِيَ من عدد الزائل شيْءٌ، ولم يبْقَ من العدد الطارئ شيْءٌ، فلم يؤثِّرِ الطارئُ، ولو كانَ قَدْ طلَّقها طلقةً، فإذا نَكَحَهَا، لا يَمْلك عليها إلا طلْقةً؛ لأنه قد بقي من العددِ الزائلِ طلْقَتَانِ، ومن العدَدِ الطارئ طلقةٌ، فكان للثابت حكمُ الطَّارئ، وهو الرِّقُّ هاهنا، وهذه الصورةُ مع صورة حدُوثِ العِتْق بعْد تطليق العَبْد طلقةً أو طلقتيْن مذكورتان في الكتاب في كتاب "الطلاق"، واعْرِفْ بعد هَذَا شيئَيْنِ: أحدهما: أنَّ القاضِيَ ابْنَ كَجٍّ ذَكَرَ أن أبا الحُسَيْن، حَكَى وَجْهاً؛ أنَّه إذا أسلَمَتْ معه واحدةٌ، ثم عَتَقَ، ثم أسْلَمَتِ الباقياتُ لا يختار إلا اثنتين، كما لو أسلَمَتْ معه اثنتان، وفي شَرْحِ الشَّيْخِ أبي عليٍّ حكايةُ وجهٍ في صُورَةِ ابنِ الْحَدَّادِ؛ أنه إذا طلَّق طلقتين، ثم سبق واسترق لم يكن له أن ينكحها إلاَّ بمحلِّل، وَهُمَا غَرِيبَانِ. الثَّانِي: قال الإِمام -رَحِمَهُ الله-: المسائلُ المستَشْهَدُ بها قَدْ تنفصل في نظَرِ الفقيه عن هذه الْمَسْألَةِ، وذَلك؛ لأن العبد إذا طلَّق طلقتين، وقع الحكمُ بالتحريم المحْوِج إلى المحُلِّل، فحصولُ العتق بعْده لا يؤثِّر في رفْعِهِ فإذا مضَى قرءان، وقع الحكْمُ ببراءة الأمة، وبحلِّها للأزواج، وكذا في باقي النَّظَائِرِ، وههنا لا يَصِيرُ مستوفياً لحقِّه بإسلام اثنتين معه، وإنَّما يصير مُتَمَكِّناً من الاستيفاء، والتمكن من الشيء، لا يحلُّ محلَّ الشيء لكن المنقولُ ما تقدَّم. الحالةُ الثَّانيةُ: أن يتمحَّضْنَ إماءً، فإنْ كُنَّ قد عَتَقْنَ عنْد اجتماع الإِسْلامين، اختار مِنْهُنَّ أَرْبَعاً، وإلاَّ، فَلاَ يَخْتَارُ إِلاَّ وَاحِدَةً بِشَرْطِ الإعْسَار وخوْفِ الْعَنَتِ، ولو كان تحْتَه أربعُ إماءٍ، فأسلمَتْ معه اثنتانِ، ثم عَتَق، ثم أسلمتِ المتخلِّفتان، لم يكن له إلاَّ اختيار اثنتين؛ لأنه وجد كمال عدد العَبِيد قَبْل العتق، ويجُوزُ اخْتِيَار الأُوليين؛ لأنَّه كانَ رقيقاً عنْدَ اجتماع إسْلامه وإسْلاَمِهِما، ولا يَجُوزُ اخْتِيَارُ المتخلِّفتَيْن؛ لأنه كان حُرّاً عنْد إسْلاَمِهِما، ولا يجُوز للحُرِّ إمساكُ الأمة، وفي حكْم نكاحِهِ حرَّةٌ، وَهَلْ يختار واحدةً من الأُوَلييْنِ وواحدةً من الأُخريين؟. حَكَى الْفُورَانِيُّ فِيهِ وَجْهَيْن: أصحهما: المنع، وعن القاضي حُسَيْن؛ أنَّه يجوز اختيارُ الأخريين أيضاً؛ لأنَّهُما اجتمعتا معَهُ في الإِسْلام قَبْل انقضاءِ العدَّة، فأشبهتِ الأوليين، ولو أن المتخلِّفتين عَتَقَتَا بعْد عتقه، ثم أسْلَمَتا، فله اختيار الأخريين، وله اختيارُ واحدةٍ من الأوليين وواحدةٍ من الأخريين؛ لأنهما، والحالةُ هذه، حرَّتانِ عند اجتماع إسْلامه وإسْلاَمِهِما، فصار كما لو كانَتْ تحته أربعُ حرائر، وأسلمتْ معه اثنتانِ، ثم عَتَق، ثم أسلَمَتِ الأُخريان، يختارُ اثنتَيْنِ، كيف شاء، ولو أسلمتْ معَه واحدةٌ من الإِمَاءِ الأَرْبَعِ، ثم عَتَقَ، ثم أسلَمَتِ
البواقي قَالَ في "التَّتِمَّةِ" لا يختار إلاَّ واحدةً على ظاهِرِ المذْهَب، وهذا هو الجواب في "التَّهْذِيبِ" لكن قياس الأصْلِ الذي سبق أن يجُوزَ له اختيارُ اثنتين؛ لأنه لَمْ يَسْتَوْفِ عدد العبِيدِ قبل العتق. وإذا قلْنا: إنه لا يختار إلاَّ واحدةً، فيتعيَّن الذي سبَقَ إسلامها. كذا ذَكَرَ صَاحِبُ "التَّهذِيبِ" "والتَّتِمَّة". قَالَ في "التَّتِمَّةِ" وعلَى طريقَةِ القاضي؛ يختار في الجُمْلة واحدةً، وعكَسَ الإمام فحكى عن القاضي أن الأُوَلى تتعيَّن، وعدها هَفْوةً منه. وعن سائر الأصْحَاب: أنه يختار من الجُمْلة واحدةً، ولو عتَقَتِ البواقِي في صُورة إسْلام الواحدةِ معه، ثم أَسْلَمْنَ؟ قَالَ صَاحِبُ "التَّهْذِيبِ": له إمساكُ الكلِّ؛ لأنَّه لم يستَوْفِ عدد الرِّقِّ قبل العتق، فله إمساك الأُولَى؛ لأنه كَانَ رَقِيقاً عند اجتماعِ إِسْلاَمِهِ وإِسْلامِهِنَّ، والبواقي كُنَّ حرائِرَ عند اجْتماعِ إسْلاَمِهِ وإسْلاَمِهِنَّ، فله إمساكُهُنَّ؛ لأنَّ إدخالَ الحَرَائِرَ عَلَى الإِماء جائز. الحالة الثالثة: إذا كُنَّ حَرَائرَ وإماءً، فيندفع نكاح الإِماء، ويختار من الحَرَائر أربعاً، إن زدْنَ على أربعٍ، وإلاَّ، فَيُمْسِكُهنَّ، ولو كان قد نَكَحَ حُرَّتَين [وأمتين] (¬1) وأسلَمَتْ معه حُرَّة [وأمة] (¬2) ثم عَتَق، ثم أسلَمَتِ المتخلِّفتان، فلا يختارُ إلاَّ اثْنتَيْنِ؛ لاستيفاء العدَدِ قبل العتق، وله اختيار الحرَّتَيْنِ، واختيار الأمة الأولَى مع حرَّة، وليس له اختيارُ الثانية معَ حُرَّة؛ لأنَّه كان رَقِيقاً عند اجتماع إسلامه وإسلام الأولى وحراً عند اجتماع إسلامه وإسلام الثانية، ولا يجوز له اختيارُ الأمة، وفي حُكمِ نكاحِهِ حرةً. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الْفَصْلُ الثَّالِث في الاخْتِيَارِ) وَلَهُ طَرَفَانِ: (أَحَدُهُمَا: أَلْفَاظُهُ) وَلاَ يَخْفَى صَرِيحُهُ، وَلَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً تَعَيَّنَتُ للِنِّكَاحِ، وَلَوْ ظَاهَرَ أَوْ آلَى لَمْ تَتَعَيَّنْ، وَلَوْ قَالَ: فَسَخْتُ نِكاحَهَا وَفُسِّر بِالطَّلاَقِ تَعَيَّنِ للِنِّكَاحِ، وَإِنْ أَطْلَقَ حُمِلَ عَلَى تَعْيينَها لِلْفِرَاقِ، وَإِنْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَقَدِ اخْتَرْتُكِ لِلنِّكَاحِ أَوْ لِلِفِرَاقِ لَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيقُ، فَلَوْ قَالَ: فَأَنْتِ طَالِقٌ صَحَّ وَحَصَلَ الاخْتِيَارُ ضِمْناً، وَالوَطْءُ هَلْ يَكُونُ كَتَعْيينِ النِّكَاحِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ، وَلَوْ قَالَ: حَصَرْتُ الْمُخْتَارَاتِ في سِتَّةٍ مِنَ الجَمَاعَةِ انْحَصَرَتْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: عَقَد الفصل؛ لبيان ألفاظ الاختيار وأحْكَامِهِ. أما الألفاظ، فمثل أن يقول: اخْتَرْتُ نِكَاحَكِ، أو تقريرَ نكاحِكِ، أو حَبْسَكِ، أو ¬
عَقْدَكِ، أو اخترتُكِ، أو أمسكْتُ نكاحَكِ، أو [أمْسَكْتُكِ] (¬1) أو ثَبَتَ نكاحُكِ، أو ثَبَّتُّكِ، أو حَبَسْتُكِ على النِّكَاح، وإيراد الأئمة يُشْعر بأنَّ جميع ذلك صريحٌ، لكنَّ الأقرب أن يُجْعَلَ قوله: اختَرْتُكِ، وأَمسَكْتُكِ من غير تعرُّض للنكاح كِنَايَةٌ (¬2)، وإذا كان تحته ثَمَانِ نِسْوَةٍ مثلاً، وأسلمن معه، فاختار أَرْبَعاً منْهنَّ للفسخ، وهو يريدُ حلَّه بلا طلاقٍ، لزم نكاح الأربع البواقي، وإن لم يتلفَّظْ في حَقِّهِنَّ بشيءٍ ولوْ قَالَ لأربعٍ: أريدُكُنَّ، أو لأربعٍ: لا أريدُكُنَّ، قَالَ في "التَّتِمَّةِ": يحصُلُ التعْيينُ بذلك، وقياسُ ما سبَقَ حصُولُ التعْيين بمجرَّد قوله: أريدُكُنَّ (¬3)، ثم فيه صورٌ: الأولَى: إذا طلَّق واحدةً أو أربعاً مِنْهُنَّ، كان ذلك تَعْييناً للنكاح؛ لأن المنكوحة هي الَّتي تخاطَبُ بالطَّلاَق، ويقع عليها الطَّلاق، وينقطعِ نكاحُ الأرْبَعِ المطلَّقات بالطَّلاق، ويندفع نكاحُ الباقياتِ [بالفسخ] بالشَّرْع، ولو طلَّق أرْبعاً لا على التَّعْيينِ، أُمِرَ بالتعيين، وإذا عيَّن، فالحكم ما ذَكرْنا، هذا هو المشهور. وفي "التَّتِمَّةِ" وَجْهٌ آخَرُ: أنَّ الطلاق ليْسَ تَعْييناً للنِّكاح؛ لأنه روى في قصة فيروز الدَّيْلَمِيِّ أنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ: "طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ" (¬4) ولو كان الطَّلاقُ تعييناً للنكاحِ، لَكَانَ ذلك تَفْوِيتاً لنكاحهما علَيْه. ولو ظَاهَر آلَى من واحدةٍ أو عَدَدٍ، فوجهان: أحدُهما: أَنَّ ذلك تعيينٌ للنكاح؛ لأنهما تصرُّفان مخْصُوصان بالنكاح كالطَّلاَق. وأصحُّهما: وهو المذْكُور في الكتاب: المَنْع؛ لأن الظِّهَارَ وَصْفُ، بالتحريم، والإِيلاء حلف على الامتناع من الوطْءِ وكُلُّ واحدٍ من المعنَيَيْنِ بالأجنبية ألْيَقُ منه بالمنْكُوحة، وعلى هَذَا، فَإِنِ اخْتَارَ التي ظاهَرَ منْها أو آلَى للنكاح، صَحَّ الظِّهارُ والإِيلاَءُ، وَيكُونُ ابتداءُ مدَّة الإِيلاَءِ من وقْتِ الاختيار، وحينئذٍ، يصيرُ عائداً، إن لَمْ يفارقها. ولو قذَفَ واحدةً منهنَّ، فعلَيْه الحدُّ، إن كانتْ محْصَنَةً، ولا يسقط إلا بالبينة، إن اختار غَيْرَ الْمَقْذُوفَةِ، وإنِ اختارها، سَقَطَ بِالْبَيِّنَةِ وباللِّعَان. الثانية: لو قال: فَسَخْتُ نِكَاحَ هَذه، أَوْ نِكَاحَ هَؤُلاَءِ الأَرْبَعِ، وَأَرَادَ الطَّلاَقَ، فهو ¬
اختيارٌ للنكاح، وإنْ أَرَادَ الفراق، أو أطْلَقَ حُمِلَ على الاختِيار للفراق، وأُلْحِق بما إذا قال: فسَخْتُ نكاحَ هذا قوله "اخترت هذه للفسخ". وقوله: "هذه للفسخ" من غير لفظ الاختيار، ولو قال لواحدة: "فارقتك" (¬1) فَعَنِ القاضي أَبِي الطَّيِّب أنَّهُ كقوله "طلقتك"؛ لأن الْفِرَاقَ صَرِيحٌ في الطَّلاَقِ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: يكون فَسْخَاً، كما لو قال: اخترتُ فراقَهَا أو لا أريدُهَا وهذا أظهر عند صاحب "الشَّامِلِ" والْمُتَوَلِّي وغيرهما، واحتجوا له بما رُوِيَ أَنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِغَيْلاَنَ "اخْتَرْ أَرْبَعاً وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ". فَرْعٌ: لو اختار الجميعَ للنِّكاح، فهو لغْوٌ؛ لامتناع الجمع بَيْن الزيادَةِ عَلَى أربع، ولو اختار فَسْخَ نكاح الجَمِيعِ، فكذلك؛ لأنَّ النكَاحَ مقرَّرٌ في أربع لا سبيل إِلَى فسخه، مندفعٌ في البواقي، وإنما الذي إليه التَّعْيين، ولو خاطَبَ الجميعَ بالطَّلاق، وقَع الطَّلاق على الارْبَع المنكوحاتِ، وتبْقَى الحاجَةُ إلى التَّعْيين. الثالثة: إذا قال إن دخلْتِ الدَّارَ، فقد اخترتُكِ للنكاح أو الفَسْخِ، لم يَصِحَّ؛ لأن تعليق الاختيار لا يجوز؛ لأنَّه، إن نُزِّلَ منزلة الابتداء، كان تعليقه كتعَليق النكاح، وإن نزل منزلة الاستدامة، فإن تعليقه كتَعْلِيقِ الرَّجْعَةِ، وأيضاً، فإنه مأمور بالتَّعْيين، والاختيار المعلَّق ليس بتعيين. وحكَى أَبُو الْفَرَجِ السَّرْخَسِيُّ وَجْهاً أن تَعْليقَ الاختيار للفَسْخ يجوز تَشْبِيهاً بالطَّلاَقِ، فإنَّ كلَّ واحدةٍ منهما سببُ الفراق، والظاهر الأول، ولو قال: إنْ دخلْتِ الدَّارَ، فَأنْتِ طَالِقٌ، فقد ذُكِرَ وجهٌ: أنه لا يجوز؛ لأن الطلاق اختيارٌ للنكاح، وتعليق الاختيار ممتنعٌ، والصحيحُ جوازُه، تغليباً، لحكم الطلاق، والاختيار يحصل ضمناً، وقد يُحْتَمَل في العقود الضمنية ما لا يُحْتَمَل عند الانفراد والاستقلال، وهذَا كما أن تعليق الإِبْرَاء لا يجوز، ولو علَّق عتق المكاتب، يجوز، وإن كان ذلك مُتَضَمِّناً للإبراء، وكما أن تعْلِيقَ التمليك لا يجوز، ولو قَالَ: اعْتِقْ عبدك، إذا جاء الغدُ على كذا، ففعل، صحَّ، وإن كان ذلك متضمناً للتمليك، ولو قال: إنْ دخلْتِ الدَّارَ، فنكاحُكِ مَفْسُوخٌ، إن أراد الطلاق، نفَذَ، وإلا، ونظيرُ هذه الصورة ما إذا أسلم الزَّوْجُ، وهنَّ متخلِّفاتٌ، فقال: كلَّما أسلمتْ واحدةٌ مِنْكُنَّ، فقد اخترتها للنِّكَاحِ، لَمْ يَصِحَّ، ولو قال: فقد طلَّقْتها، يجُوزُ على الأَصح، ولو قال: فقد فسخْتُ نكاحَهَا، فإن أراد حلَّه بلا طلاق لم يجُزْ؛ لأنَّ تعليق الفسخ لا يجوز، وأيضاً، فإنَّ التعْيينَ للفَسْخُ، قبل استيفاء العدَدِ الجائزِ غيرُ جائز، وإن أراد الطلاقَ، جاز، وإذا أسلمتْ واحدةٌ طُلِّقت، وحصل ¬
اختيارها ضِمْناً، وهكذا إلَى تمام الأرْبَع، ويندفع نكاح الباقيات. وحكى الإِمَامُ وَجْهاً آخَرَ؛ أن تفسير الفسخ بالطلاق غيرُ جائز (¬1). الرابعة: الوطْء، هل يكون اختيارًا للموطوءة؟. حَكَى الشَّيخُ أبُو عَلِيٍّ فيه طريقين: أظهرهما: أنه علَى وجهين كالوجهين أو القولين فيما إذا طلَّق إحدَى زوجتَيْهِ، علَى الإِبْهَامِ، ثم وَطِئَ إحداهما، هل يكون ذلِكَ تعييناً للنِّكاح فيها، وللطلاقِ في الأخْرَى. والثاني: القطع أنَّه لا يكونُ اختياراً؛ لأنَّ الاختيارَ في "باب نكاح المُشْرِكات" حكمُهُ حُكْمُ الابتداء، ولا يصحُّ ابتداءُ النكاح إلاَّ بالقول، بل إمساكه واستدامته لا تحصل إلا القَوْلِ؛ ألا تَرَى أن الوطْء لا تحصل به الرجعة، والظاهر أنَّه ليس باختيارٍ، وإنْ أثبت الخلاف، ولو وَطِئَ الجميع، وجعلْنا الوطْءَ اخْتِياراً، كَانَ مُخْتاراً للأُوَلَيَاتِ، وعليه المهْرُ للأُخْرِيَاتِ، وإن لم نجعلْه اخْتياراً، اختار منْهُنَّ أَرْبَعاً، ويغرم المهر للباقيات. الخامسة: إذا قال: حصَرْتُ المختاراتِ في هؤلاءِ السِّتِّ أو الخمْسِ انْحَصَرْنَ وهذا، وإن لم يكنْ تعييناً تامّاً، لكنه يُقيدُ ضَرْباً من التَّعْيين، ويزول به بعْضُ الإبهام، وَينْدَفِع نكاحُ الباقيات، وهذا كما أنه لو أبْهَم الطَّلاق بَيْن أَرْبَعِ نِسْوة، ثم قال: الَّتي أردتُّهَا بالطلاق إحدَى هاتين، يعتبر هذا القوْلُ، وتتعيَّن به الأخريات للزوجيَّة، والمواضع التي تستحِقُّ العلامة بالواو من الفَصْل لا تخفى على المتأَمِّل. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ أَسْلَمَ مَعَهُ أَرْبَعٌ وَتَخَلَّفَ أَرْبَعٌ فَعَيَّنَ الأَولَيَاتِ للِنِّكَاحِ صَحَّ، وَلِلْفَسْخِ لاَ يَصِحُّ إِذَا كَانَتِ المُتَخَلِّفَاتُ وَثَنِيَّاتٍ، وَقِيلَ: يَصِحُّ مَوْقُوفاً، وَلَوْ عَيَّنَ المُتَخَلِّفَاتِ لِلفَسْخِ يَصِحُّ، وَللنِّكَاحِ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ عَلَى وَجْهِ الْوَقْفِ، وَلَوْ أَسْلَمَتِ الثَّمَانِيَةُ عَلَى تَرَادُفٍ وَهُوَ يُخَاطِبُ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِالْفَسْخِ عِنْدَ إِسْلاَمِهَا تَعَيَّنِ للِفَسْخِ الأَرْبَعُ المُتَأَخِّرَاتُ، وَعَلَى وَجْهِ الوَقْفِ يَتَعيَّنُ الأَرْبَعُ المُتَقَدِّمَاتُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وإذا أسْلَمَ، وتحته ثمانِ نسوةٍ وثنيات، وأسلَمَتْ معه أربعٌ منهن، وتخلَّفَت الباقيات، فعيَّن الأوليات للِنّكاح، صحَّ التعْيين، والمتخلِّفات إنْ أصرَرْنَ، اندفعنْ مَنْ وقت إسلامه، وإن أسْلَمْنَ في العدَّة، فلَفْظُ صاحِب "التَّهْذِيب" أن الفُرْقَة تقَعُ بيْنَه وبيْنَهُن بالاختيار الأُولَيَات، وقال الإِمام: يتبيَّن أيضاً اندفاعُ نكَاحِهِنَّ باختلاف ¬
الدِّين؛ لكن يتبيَّن تعيينُهنَّ من وقْت تعْيينِهِ للأوائل، وهذَا هو الموافِقُ لأُصُولِ الباب، وإن طلَّق الأولَيَاتِ، صَحَّ، وتضمَّن اختيارهن، وينقطع نكاحُهُنَّ بالطَّلاق، ونكاح الأخْرَيَات، [بالفسخ] (¬1) بالشَّرْعِ، وإنْ قال: فسختُ نكاحَهُن، فإن قال أردتُّ به الطلاق، فكذلك، وإن أراد به حلاً بلا طلاق، فهو لَغْوٌ؛ لأن الحِلَّ هكذا إنَّمَا يجُوزُ فيما زَادَ على الأربع، وعدد المسلمات لم يَزدْ على أربع فإنْ لم يُسْلِم المتخلِّفاتُ، تعيَّنت الأوليات، وإنْ أسلَمْنَ، أختار من الكُلِّ، أَرْبَعاً، وللمُسْلِمات أنْ يَدَّعين؛ أنك أردت الطلاق وبِنَّا منك ويحلِّفْنَهُ، وللمتخلِّفات أيضاً أن تدَّعين إرادةَ الطَّلاق [وبينَونتهنَ] (¬2) بالَفسخ بالشَّرْع، ويحلفنه وفيه وجه أنَّ الفسْخَ لا يلغو، ولكِنَّهُ مَوْقُوفٌ، وإن أَصْرَرْنَ على الكُفْر إلى انقضاء العدَّة، لَغَا وَإِنْ أسلَمْنَ في العدَّة، تبيَّن نفوذ الفسْخ في الأُولَيَات، وتعيَّنت الأُخْرَيَاتُ للنكاح، وهذا مأخوذٌ من الخلاف في وقْفِ العُقُود، ولو عيَّن المتخلِّفات للفَسْخ، صحَّ، وعُيِّنت الأوليَاتُ للزوجيَّة، وإن عيَّنهن للنكاح، لم يَصِحَّ لأنهنَّ وثنياتٌ، وقدْ لا يُسْلِمْن، وعلى وجْه الوَقْف؛ ينعقد الاختيارُ موقوفاً، فإن أسلمن، بانت صحته، ولو أسلم، وتحْته ثمانِ وثنياتٍ، فتخلَّفْنَ، ثم أسلمن على تعاقبٍ في عُدَدِهِنَّ، وهو يقول: لكلِّ واحدةٍ تُسْلِمُ: فسخَتُ نكاحَكِ، فإنْ أرادَ الطَّلاقَ، صار مختاراً لِلأُوَليَاتِ، وإن أراد حِلاًّ بلا طلاق، فَهُوَ علَى ظاهِرِ المَذْهَب لغوٌ في الأربع الأوائل، نافذٌ في الأربع الأواخر؛ لأن فسْخَ نكاحِهِنَّ وقَعَ وراء العدد الكامل، فنفذ، وعلَى وجه الْوَقْفِ، إذا أسلَمَتِ الأواخر يَبيَّنَ نفوذ الفسْخِ في حقِّ الأوائل، ولو أسلمَتْ معه من الثمان خَمْسٌ، فقال: فسخْتُ نكاحَهُنَّ، فإن أراد الطَّلاَقَ، صَارَ مُخْتَاراً لأربع مِنْهُنَّ، وَبِنَّ بالطلاق، فعليه التعْيين وإن أراد حلَّه بلا طلاق، انْفَسَخَ نكاحُ واحدةٍ لا يعينها، فإذا أسلمتِ المتخلِّفات في العدَّة، يختار من الجميع أرْبَعاً، ولو قال: فسخْتُ نكاحَ واحدةٍ منكن، وإن أراد الطلاق، صَارَ مَخْتَاراً لواحدةٍ لا يعينها، فَيُعَيِّنُها، ويختارُ للنِّكاح من الباقيات ثلاثاً، وإنْ أراد حِلَّهُ بلا طلاقٍ، يُعَيِّنُهَا، ويختار من الباقيات أربعاً، وإن فسخ نكاح اثنتين منهن لا على التَّعْيين، وأراد حلَّة بلا طلاق، انْفسَخَ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ، فَيُعَيِّنها، ويختار ممَّنْ عداها أَرْبعاً وإنْ عين اثنتين منْهن، انفسخ نكاحُ واحدةٍ منهما، [فيُعيِّنها]، وله اختيارُ الأخْرَى مع ثلاث أخَرَ، ولو اختار الْخَمْسَ جميعاً، تعيَّنت المنوحاتُ فيهن فيختارُ منهن أَرْبعاً. وقوله في الكتاب "والفسخ لا يصح إذَا كَانَتِ المتخلِّفاتُ وثنياتِ" يعني أَنَّهُنَّ قَدْ لاَ يُسْلِمْن في العِدَّةِ، فلا يصلُحْنَ لنكاحه بخلاف ما إذا كانتِ المتخلِّفاتُ كتابيابٍ، وفي بعض النَّسْخِ إلاَّ إذا كانت المتخلِّفات غيْرَ وثنياتٍ، والمعنى واحدةٌ قال: الطرف الثاني ¬
في وجُوبِ الاختيار، وإذا أسلم الرجُلُ على ثمانِ نسوة، مثلاً وأسلمن معه تعين عليه الاختيار. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَمَهْمَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنِ التَّعْيينِ حُبِسَ، فَإِنْ أَصَرَّ عُزِّرَ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ التَّعْيينِ اعْتَدَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِأَقْصَى الأَجَلَيْنِ وَوُقِفَ رُبُعُ الْمِيرَاثِ أَوِ الثُّمُنُ لَهُنَّ إلَى أَنْ يَصْطَلِحْنَ، وَقِيلَ: يُوَزَّعُ عَلَيْهِنَّ بِالسَّويَّةِ لاسْتِوَائِهِنَّ وَحُصُولِ اليَأْسِ بِخِلاَفِ مَا إِذَا طَلَّقَ وَاحِدَةٍ مِنَ النِّسَاءِ وَاَلْتَبَسَ عَلَيْنَا فَإِنَّ الوَاحِدَةَ في عِلْمِ اللهِ مُتَعَيِّنَةٌ لِلْفِرَاقِ، وَلَوْ أَسْلَمَ عَلَى ثَمَانِ كِتَابِيَّاتٍ فَأَسْلَمَ أَرْبَعٌ وَمَاتَ قَبْلَ البَيَانِ لاَ يُوقَفُ شَيْءٌ، مِنَ الْمِيرَاثِ لَهُنَّ لأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَتِ المُفَارَقَاتُ المُسْلِمَاتِ فَلاَ يَتَعَيَّنُ حَقّ الزَّوْجِيَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ تَحْتَهُ كِتَابِيَّةٌ وَمُسْلِمَةٌ فَقَالَ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَمَاتَ وَلَمْ يُعَيِّنُ لَمْ يُوقَفْ لَهُمَا مِيرَاث للِشَّكِّ في الأَصْلِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذه اللفظة أَعْنِي قولَنا الطرف الثاني في جوب الاختيار ألحق بالكتاب؛ لأنه قال في أول الفصْلِ وفيه طرفان، ثم لم يَنُصَّ على الطَّرف الثاني، وإن أتَى بمسائله، والفقه: أنَّ مَنْ أَسْلَمَ على أكثرَ من أربعِ نسوةٍ، وأسلمن معه، أو بعده في العدَّة، أو أصرَرْنَ، وهُنَّ كتابياتٌ، تقع الفرقة بينه وبين الزيادة على الأربع بالإِسلام، وعليه الاختيار والتعيين، فإن امتنع حبس، وإن أصر، ولم يُغْنِ الحبس، غُرَّرَ بَمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ مِنَ الضَّرْبِ وغيره. وَحَكَى أَبُو الْفَرَج السَّرْخَسِيُّ عن ابْنِ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُ لا يُضَمُّ الضَّرْبِ إلى الحَبْسِ، ولكنْ يشدَّد عليه الحَبْسُ، فَإِنْ أَصَرَّ عُزِّرَ ثانياً وثالثاً إلَى أن يختار، فإنْ جُنّ أو أُغْمِيَ عليه في الحَبْس، خُلِّيَ إلَى أن يفيق، ولا يختار الحاكِمُ على الممتنع بخلاف المُوْلِى، إذا امْتَنَعَ من الطلاق، والفيئة حيث يطلق القاضي عليه على الصحيح؛ لأن هذا اختيارُ شهوة، ولا يَدْرِي القاضي أنَّه إلى أيتهن أميل؛ ولذلك لا يَجُوزُ التوكيلُ فيه، ولو مَاتَ قبل الاختيار لا يقوم وارثُهُ مَقَامَه، وأيضاً، فإن حَقَّ الفراقِ لاَ يَثبُتُ لمعيَّنه، وهُنَاكَ، يثبت الحقّ لمعيَّنة فينُوبُ القاضي عنه في توفيته. قَالَ الإِمَامُ: وإذَا حبس، فلا يعزَّر على الفَوْر، فلعلَّ له، في التَّعْيينِ فِكْراً، وأقْرَبُ مُعْتَبَر فيه مدَّةُ الاستتابة، واعتبر القَاضِي الرُّوَيانِيُّ في "الإمْهَالِ" الاستنظار، فَقَالَ ولو استنظر، أنظره الحاكِمُ إِلَى ثلاثةِ أيَّامٍ، ولا يَزِيدُ ويجبُ عليه نفقتُهُنَّ جميعاً إلى أن يختار؛ لأنَّهنَّ في حبسه وخيالته، ثم في الفصل مسألتان: المسألة الأولى: إذا ماتَ قَبْلَ التَّعْيينِ، فإن لم يكنْ قَدْ دخل بِهِنَّ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ أن تعتدَّ بأربعة أَشْهُرٍ وعَشْر؛ لأن كلَّ واحدةٍ تحتملُ أن تكونَ زوجةً، وإنْ كان قدْ دخَلَ بِهِنَّ، فمَنْ هي حاملٌ منْهن، فعدَّتها بوضع الحمل، والتي هي حائلٌ، ينُظْرَ فيها، إن
كانتْ من فوات الأشهر، فتعتدُّ بأربعة أشهر وعشر، وإن كانتْ من فوات الأقراء، فعليها أن تعتدَّ بأقصى الأجلَيْنِ من أربعة أشهر وعشرٍ أو ثلاثةِ أقراءٍ، فإن رأتِ الأقراءَ قبل تمام هذه المدَّةِ، أكملت المدَّة، وإن مضت المدة قبل تمام الأقراء، فتصير إلى انقضاء العدة بالأقراء، وذلك؛ لأن كلَّ واحدة تحتملُ أنْ تكونَ زوْجَةً، فعلَيها عدَّةُ الوفاة، ويحتمل أن تكونَ مفارقةً في حال الحياة، فعَليْها أن تعتدَّ بالأقراء والأشهُرُ تعتبر من وقت المَوْت، وفي الأقراء وجْهان، ويقال: قولان: أحدهما: أنَّهَا تعْتَبَرُ من وقْتِ المَوت أيضاً؛ لأنَّها لاَ تتيقَّن قبل ذلك [شروعها] (¬1) في العِدَّة. وأصحهما: الاعتبارُ مِنْ وقْت إسْلاَمِهِما، إن أسلما معا، ومنْ وقْتِ إسلامِ مَنْ سَبَق إسلامه، إن أسلما على التعاقُبِ؛ لأن الأقراءَ إنَّما تجب لاحتمال أنَّها مفارقةً منفسخة النكاح، والانفساخُ يَحْصُلُ من يومئذٍ. المسألة الثانية: إذا مَاتَ قَبْلَ التعيين، وقَفَ لَهُنَّ رُبُعَ الْمِيرَاثِ أو الثُّمُنَ عائلاً، أو غَيْرَ عَائل، على ما يقتضيه الحالُ إِلَى أن يصطلِحْنَ، فيقسم بينهن على حسب اصْطِلاَحهنَّ من التساوِي أو التَّفَاضُل، وفي "النَّهَايَةِ" أنَّ صاحب "التَّقْرِيبِ" حَكَى عَن ابْنِ سُرَيجٍ أن الرُّبُع أو الثمُنَ يوزَّع بينهن؛ لأن البَيَانَ غيْرُ متوقع، وهنَّ جَميعاً معترفاتٌ بشمولِ الإِشْكَال، وبأنه لا مَزِيَّة لبعضْهِنَّ على بعض، ولَيْسَ هذا كما إذا قال لإحدى زوجَتَيْهِ إنْ كان هذا الطَّائِرُ غُرَاباً، فَأَنْتِ طَالِقٌ. وقال للأخرَى إن لم يكن غراباً فأنت طالق، وأشكل الحال، فإن هناك الالتباس علينا، واللهُ تَعَالَى يَعْلُمُ حَالَ الغُرَابِ، ويعلم الطَّالِقَ مِنْهُمَا، وهاهنا لا يمكن أن يقال إنه يعلم المختارات مع أنه لم يوجد منه اختيار، نعم يعلم أنه من كان يختار لو اختار، وإلى هذا الوجْهِ مَيْلُ الإمام، والمشّهُورُ الأول، وإنْ كان تَحْتَه ثمانِ نسوةٍ مثلاً، وَفِيْهِنَّ صَغِيرَةٌ، أو مَجْنُونَةٌ، صَالَحَ الولِيُّ عنها، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: أنه لا يصالِحُ على ما دُونَ رُبُعِ الموقوف؛ لاحتمال أَنَّها زَوْجَةٌ. وأصحهما: أنه يجوز أن يَنْقُصُ عن الربع؛ لأنا لا نَتيقَّنَ لَهَا حَقَّاً، لكنَّها صاحبةُ يدٍ في ثمن الموقوف، فإنه موقوف بين ثَمَانٍ، فلا يجوز أن ينقص عن الثمن؛ وهذا إذا اصْطَلَحْنَ جميعاً، وَلَوْ طَلَبَ بعضهن شيئاً، ولم يصْطَلِحْنَ جميعاً، فلا يدفع شيئاً إلى الطَّالِب إلاَّ [باليقين] (¬2)، ففي ثمانِ نِسْوَةٍ، لو طلبت واحدةٌ لا يدفع إلَيْها شيْء، ¬
وكذلك، لو طلبتِ اثنتانِ أو ثَلاَث أو أربعٌ (¬1)؛ لاحتمال أن الزَّوجات غَيْرُهن، فإن طلبت خمس، دَفَعَ إليهن رُبْعَ الموقوف؛ لعلمنا بأن فيهن زوجة، وإن طلبتْ ستٌّ، فالنصف، ولهن قِسْمَةُ ما أخذْتَهُ والتصرُّف فيه، وهل يُشترطُ في الدفع أن يبرأْنَ عن الباقي؟. فيه وجهان عن القاضي وغيره: أحدهما: وَقَدْ نَسَبَهُ الْقَاضِي ابنُ كَجٍّ إلى النص نعم، وإنما يتجزأ شيئاً من الموقوف؛ لقَطْع الخصومة عاجلاً وآجلاً، وإنَّما يَحْصُلُ ذلك بالإِبْرَاء. وأصحُّهما: لا؛ لأنا نَتيقَّن أنَّ فيهن مَنْ يستحقُّ القَدْرَ المدْفُوعَ، فكيف نكلِّفُهنَّ بدَفْع الحقِّ إلَيْهنَّ إسقاطَ حقٍّ آخر، إن كان، وإذا قلْنا بالوجه الأول، فيدفع الباقي إلَى الثلاث ويرتفع الوَقْفُ، وكأنَّهنَّ اصطَلَحْنَ على القسمة هكذا، وجميع ما ذكرناه فيما إذا عرف استحقاق الزوجات الميراث إما إذا أسلَمَ عَلَى ثَمَانِ نُسْوَةٍ كِتَابيَّاتٍ وأسلمت معه أربعٌ، أو كانتْ تحته أَرْبَعُ كِتَابِيَّاتٍ وأربع وثنيات، وأسلَمَتْ معه الوَثنياتُ، وماتَ قَبْلَ البيانِ والاختيار فَوَجْهَانِ: أظهرهما: وهو المنصوصُ، والمذكور في الكتاب: أنه لا يوقَفُ شيء للزوجات، بل تقسم التركةُ بين سَائِرِ الورثة؛ لأن استحقاقَ الزَّوْجات للإِرْثِ غَيْرُ مَعْلُوم [لجوازِ أن تكونُ الزَّوْجَاتُ الْكِتَابِيَّاتُ. والثَّانِي: يُوقَفُ؛ لأن اسْتِحَقَاقَ سَائِرِ الورثة قَدْرَ نصيب الزَّوْجَاتِ غَيرُ مَعْلُومٍ] والشَّكُّ في أصْل الاسْتحقاق لا يمنع الوقْفَ بدليلِ مسائلِ الحَمْل ونحوها، وهذا ما ارتضاه ابنُ الصَّبَّاغِ، وهو قريب من القياس ويجري الوجهانِ فيما إذا كان في نكاحِ الرَّجُل مسلمةٌ وكتابيةٌ، فقال: إحْداكما طالق، ومات قبل البيان، وعن صاحب "التَّقْرِيب" تخصيصُ الخلاف بهذه الصورة، والجزم بأن لا وقف في "مسألة الكتابيات" قال الإِمام: ولا يَتَوقَّعُ الفقيهُ فرقاً بينهما. وقوله في الكتاب "بخلاف ما إذا طلق واحدة" ليس المرادُ ما إذا أبْهَمَ، فقال: إحدى زوجاتِي طالقٌ، وإنما المراد مسألةُ الغرابِ ونَحْوِها، وقوله "لا يوقف" معلم بالواو، [وكذا قوله بعده "كم يوقف"] (¬2). فَرْعٌ: مَاتَ الذِّمِّيُّ عن أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَع نِسْوَةٍ، خرَّج صَاحِبُ "التَّلْخِيصِ" أن الربع أو الثمن لهن جميعاً. وقال آخرون: لا يرثُ منهن إلا أربعٌ، فيوقَفُ بينهن إلى أن يصطَلِحْن، ويجعل ¬
الترافُعُ إلينا بِمَثَابَةِ ما إذا أسلموا. وعن القَفَّالِ: أنَّه بني الخلاف على صحة أنكحة الكفَّار، إن صحَّحْناها، ورث الكل، وإلا، لم يَرِث إلا أربعٌ. وَلَو نَكَحْ الْمَجْوسِيُّ أُمَّهُ أو ابْنَتَهُ، ومات قال في "التَّهْذِيبِ": منهم من بني التوارُثَ على هذا الخلافِ، والمذهبُ الجَزْمُ بالمنع؛ لأنه ليس بنكاح في شيْءٍ من الأديان، ولا يُتصوَّر التقرير عليه في الإِسلام. فرع آخر: المتعيِّنات للفراقِ، إذا أسْلَمَ عَلَى أكْثَرَ من أَرْبَع، تحسب عدَّتُهُن من وقْتِ الاختيار، أو مِنْ وقت إسْلام الزوجَيْن، إن أسلما معاً، وإسْلاَم متقدم الإِسلام منهما إنْ أسلما على التعاقب؟ فيه وجهان، قَرَّبَهُمَا في "التَّهْذِيب" مِن الوجْهَيْنِ فيَما إذا طلَّق إِحْدَى امرأَتَيْهِ، لا يُعَيِّنُهَا، ثم عيَّنها، تكونُ عدَّتُها من وقْتَ التَّعْيين، أو من وقْتِ التلَفُّظ بالطلاق. وذُكِرَ أنَّ الأَصَحَّ الاعتبارُ منْ وقْت الاختيارِ، لكنَّ الرَّاجِحَ عنْدَ عامَّةِ الأَصْحَابِ الاعتبارُ من وقْتِ الإِسلام؛ لأنَّ سَبَبَ الفُرْقَة اختلافُ الدِّينِ، فتعتبر مدة العدَّة منه من وقْت الإِسلام، قالوَا: والاعتبارُ من وقْت الاختيارِ أُخِذَ من قَوْلِ الشَّافِعِيِّ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- فيمن نَكَحَ نكاحاً فاسداً، ووطئَ أن العدة تُحْسَب من وقْت التفْرِيقِ بيْن الزوجَيْن لا من الوطأة الأخيرة. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الرَّابعُ في النَّفَقَةِ) وَإذَا تَخَلَّفَتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ لَمْ تَسْتَحِقَّ النَّفَقَةِ لِمُدَّةِ التَّخَلُّفِ عَلَى الْجَدِيدِ؛ لأَنَّهَا أَسَاءَتْ، وَلَوْ سَبَقَتْ ثُمَّ أسْلَمَ اسْتَحَقَّتْ لِمُدَّةِ التَّقَدَمُ عَلَى المَذْهَبِ؛ لأَنَّهَا أَحْسَنَتْ، وَلَوْ أَصَرَّ الزَّوجُ لَمْ تَسْتَحِقَّ لِمُدَّةِ الْعِدَّةِ لأَنَّهَا بَائِنَةٌ، وَقِيلَ: تَسْتَحِقُّ كالرَّجْعِيَّةِ لأَنَّ لِلزَّوْجِ قدْرَةً عَلَى تَقْرِيرِ النِّكَاحِ عَلَيْهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: عقد الفصل للكلام في النفقة عند تجدد الإِسلام، ثم خَلَطَ به طرفاً مِنَ الْكَلاَمِ في الْمَهْرِ، أما النَّفقةُ، فإن أسلم الزوجانِ مَعاً، استمرَّتِ (¬1) النفقةُ كما يستمر النكاح، وإن أسْلَمَا على التعاقب بعد الدخولِ، والفَرْضِ فيما إذا كانت الزوجةُ مجوسيةً أو وثنيةً، فأما أن يُسْلِمَ الزَّوجُ أو هي أولاً: الحالة الأولى: إذا أَسْلَمَ الزَّوجُ أَوَّلاً، وتخلَّفت هي، فإن أَصَرَّتْ إلى انقضاء عدتها، فلا نفقة لها؛ لأنها نَاشِزَةٌ بالتخلف ممتنعةٌ (¬2) من التمكين، وإن أَسْلَمَتْ في الْعِدَّةِ، اسْتَحَقَّتِ النَّفَقَةَ من وقت الإِسْلام؛ لاستمرار النِّكَاحِ، وفي نفقة زمانِ التخلّف قولان: ¬
القديم: أنَّهَا تسْتَحِقُّهَا؛ لأنها ما أحدثَتْ شيئاً والزوجُ هو الذي بَدَّلَ الدِّينَ. وأصحُّهما: وهو الجديد (¬1): الْمَنْعُ؛ لأنَّها أساءَتْ بالتخلُّف والامتناع عمَّا هو فرضٌ عليها، فأشبه ما إذا سافَرَ الزوْجُ، وأراد مسافَرَتَهَا، فتخلَّفت، وعلَى هذا فلو اختلفا، فقال الزوج: أسلَمْتِ الْيَوْمَ أو منذ عشرة أيام، وقالت: بل أسلَمْتُ منذ شهر [فعلَيْكَ نفقةُ شهرٌ] (¬2) فالقول قول الزَّوج مع يمينه؛ لأنَّ الأصْلَ استمرارُ كُفْرِها، وبراءةُ ذمَّته عن النفقة، وكذا إذَا فرَّعنا على القدَيم، واختلفا، فقال الزَّوْج: أسَلَمْتِ بعد العدَّة، فلا نَفَقَةِ لَكِ، وقالَتْ: أسلَمْتُ في العدَّة، فالقولُ قولُه مع يمينه. الحالة الثانية: إذا أسلمتِ الزوجَةُ أولاً، نُظِر، إن أسلم الزوْجُ قبل انقضاء مدة العدَّة، فلها النفقة لمدَّة التخلُّف، ولما بعدها؛ لأنها ادَّتْ فرضاً مضيَّقاً عليها، فلا يَسْقُطُ به النفقة، كما لو صلَّتْ وصامَتْ شهر رمضان، وَحَكَى ابنُ خيران قولاً وصاحب "الإفصاح" وغيره وجهاً أنَّه لا نفقةَ لها مدَّةِ تخلُّفه؛ لأنَّهُ استمرَّ علَى دينه، وهي الَّتي أحْدَثَتِ الْمَانِعَ مِنَ الاسْتِمْتَاع، والمذهب الأول، وإن أَصَرَّ الزوج إلَى انقضاءِ العدَّة، فهلْ تستحقُّ نفقة مدَّة العدة؟. فيه وجهان: أحدُهُما: المنع؛ لأنه إذاً أصرَّ الزوْجُ، تبيَّن حصول البينونةِ منْ وقْت إسلامِهَا. والثانية: لا تستحقُّ النفقة. والثاني: أنها تستحقُّ؛ لأنها أحْسَنَت بالإِتيانِ بما عَلَيْهَا، والزوْجُ قَادِرٌ عَلَى تَقْدِيرِ النِّكَاحِ بِأَنْ يسلم، ونزلت منزلة الرجعية. قال في "التَّتِمَّةِ": ويخالفُ ما إذا سبَقَتْ إلى الإِسْلاَم قبل الدخول، حيث يسقُطُ المَهْر، وإن أحسنت؛ لأن الْمَهْرَ عوَضُ العقد، والعِوَضُ يسْقُط بتفويت العَاقِدِ المعقود عليه، إن كان معذوراً، كما لَوْ بَاعَ طَعَاماً، ثُمَّ أَكَلَهُ، وَهُوَ مُضْطَرٌّ إليه، والنفقةُ في مقابلَةِ التمكين، وإنما تسْقُط عند التعدِّي، ولا تعدِّي ههنا ثم إيرادُ صاحب الكتاب يَقْتَضِي تَرْجِيحَ وَجْه الْمَنْعِ، وإليه ذَهَبَ الإِمَامُ، لكن الأكثرين رجحوا الاستحقاق، وهو الذي نص عليه في "الْمُخْتَصَرِ". ¬
وإذا اختلفا في سبق الإِسلام، فَقَالَ الزَّوجُ: أسلَمت أَوَّلاً، فلا نَفَقَةَ لَكِ، وقالَتْ هي: بَلْ أَسْلَمت أَوَّلاً، فوجهان: أحدهما: أنَّ القوْلَ قوْلُ الزَّوْج مع يمِينِه؛ لأنَّ الأصْلَ براءةُ ذمَّته عن النفقة، ويُحْكَى هَذَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ. وأصحُّهما: وهو المذكور في "التَّهْذِيبِ" والْمَحْكِيُّ عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أن القوْلَ قوْلُ الزوجة مع يمينها؛ لأَنَّ النَّفَقَةَ كانت واجبةً، وهو يَدَّعِي المُسْقِطَ، فأشبه ما إذَا ادَّعَى عَلَيْهَا النُّشُوزُ وأنكرت، هذا حكْمُ النفقة عند تجدُّدِ الإِسْلاَمِ. أما حكْمُها عِنْدَ الرِّدَّةِ، فيُنْظَر؛ إن ارتدَّتِ المرأة بعد الدُّخُول، فلا نَفَقَةَ لهَا في زَمَانِ الرِّدَّةِ؛ لإِساءتها ونشوزها، ولا فرق بين أَنْ تَعُودَ إِلَى الإِسْلاَمِ في العِدَّةِ أو لا تعود ولا يجيء فيه الْقَولُ الْقَدِيمُ الْمَذْكُورُ (¬1) فيما إذا أسلمت بعد إسْلاَم الزَّوْج؛ لأنَّها أقامَتْ عَلَى دينها هناك، ولم تُحْدث شيئاً، وههنا أحدثت الردة، وإن ارتدَّ الزَّوجُ، فعليه النفقةُ لمدَّة العدة (¬2)، وإن ارتدَّا معاً، قَالَ صَاحِبُ "التَّهْذِيبِ" هو كما لو ارتدَّت المرأة، ويشبه أن يجيء فيه الخلاف، كما لو ارتدَّا معاً قبل الدخوَل، فَفِي وَجْهٍ يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ (¬3) كما لو ارتدَّ لزوج، وفي وجه: لا يجب شيْءٌ كَمَا لَوِ ارْتَدَّت هِيَ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ سَبَقْتِ بِالإِسْلاَمِ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَأَنْكَرَتْ فَالقَوْلُ قَوْلُهَا، لأَنَّ الأَصْلَ بَقَاءُ المَهْرِ، وَلَوْ قَالَ: أَسْلَمْنَا مَعَاً وَالنِّكَاحُ بَاقٍ فَالقَوْلُ قَوْلُهُ: لأَنَّ الأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ، وَقِيلَ: بَلِ القَوْلُ قَوْلُهَا؛ لأَنَّ التَّسَاوُقَ في الإِسْلاَمِ نَادرٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: حُكْمُ الْمَهْرِ، إِذَا أَسْلَمَ أحدُهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، قدْ ذَكَرْنَاه عند الكلام في أنَّ أنكحة أَهْلِ الشِّرْكِ، هل يحكم لها بالصحة أم لا؟. فلو اختلفا، فَقَالَ الزَّوْجُ: سَبَقْتِ إلى الإِسلام قبل الْمَسِيسِ، فَلاَ مَهْرَ لَكِ. وقالتْ: بل أَسْلَمْتُ أولاً، فعلَيْكَ شَطْرُ المهر، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مع يمينها؛ لأنَّ الأَصْلَ بَقَاءُ شَطْرِ الْمَهْرِ، ولو قالت في جَوَابِهِ: لا أدري أيُّنا سبق إلى الإِسلام أَوَّلاً، لا تتمكَّن من طَلَب المَهْر، فإن عادت، وقالت: قد تبيَّنت أنه أسلم أولاً، صُدِّقَتْ بيمينها، وطَلَبت شَطْرَ الْمَهْرِ، ولو اعترف الزوْجَانِ بالجَهْل بمن سَبَقَ إِلَى الإسْلاَمِ، فَلاَ نِكَاحَ ¬
بَيْنَهُمَا؛ لاتفاقهما على تعاقُب الإِسلامِ قبل الدخول، ثم إنْ كَانَ ذلك قبل قبْضِ الصَّدَاقِ، لم تتمكَّنْ من طلبة؛ لاحتمال أنَّهَا السَّابِقَةُ وإن كان بَعْدَ الْقَبْضِ، لم يتمكَّنِ الزوج إلاَّ من اسْتِرْدَادِ الشَّطْرِ؛ لاحْتِمَالِ أَنَّهُ السابقُ، والنِّصْفُ الآخر يُقَرُّ في يدها إلى أن يتبيَّن الحال، ولو اختلفا في بقاء النِّكَاح، فقال الزوج: أسلمْنَا معاً، فالنكاح بَاقٍ وقالت: بل أسْلَمْنا على التعاقُبِ ولا نكاح، فقولان: أصحهما: على ما ذكره القاضي ابْنُ كَجٍّ، وَصَاحِبُ "التَّهْذِيبِ": أن القول قَولُ الزَّوجِ، لأَنَّ الأصل بَقَاءُ النِّكَاحِ، وهذا ما اختاره المُزَنِيُّ وَأَبُو إِسْحَاقَ. والثاني: أن القوْلَ قولها؛ لأن الظاهر (¬1) مَعَها، فإنَّ وقوع الإِسلامين معاً بعيدٌ نادرٌ ومِنْ هذه المسْأَلة، استُنْبِطَ حدُّ المدَّعِي والمدَّعَى عليه، والمسألة وكيفية الاستنباط يأتيان بالشرح في كتاب "الدعاوى"، إن شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وإن قلنا: إنَّ القولَ قولُها فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَج الزاز: أنه يُنْظَر في كيفية دعْوَاها، إن قالَتْ للزوج: أسْلَمْتَ قبْلِي، حَلَفَتْ على الْبَتِّ؛ أنَّهِا ما أسلمت يوم إسلامه ولو قالت: أسلمْتُ قَبْلَكَ، حَلَفَتْ علَى نفي العلم بإسلامه يوم إِسْلاَمِهَا، ولو اختلفا على العكْسِ، فقالت: أسلَمْنَا معاً وقال: بَلْ عَلَى التَّعَاقُب، فلا نِكَاحَ لقوله، وهي تدَّعي نِصْفَ الْمَهْر، وفي المصدَّق منهما القولان، ولو قالا: لا نَدْرِي؛ أوَقَعَ إسلامُنا معاً أمْ على التعاقُبِ أَسْتَمَرَّ النِّكَاحُ بينهما. ولو أَسْلَمَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ، ثُمَّ أَسْلَمَ الزَّوجُ، وأخْتَلَفَا، فادعى الزَّوجُ أَنَّ إسْلامَهُ سبق انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، وَادَّعَتْ هي أن انقضاءَ العدَّة سبق إسلامه، فهذا يفْرضَ على وُجُوهٍ: أحدها: أن يتفقا علَى وقْتِ انقضاء العدَّة [كغُرَّة] (¬2) رَمَضَانَ مَثَلاً. وَقَالَ الزَّوجُ أسلمْتُ في شَعْبَانَ، وقالتْ: بَلْ في الْخَامِسِ من رَمَضَانَ، فالقولُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ مَعَ يمينها؛ لأنَّهما اتَّفَقَا عَلَى وقْت انقضاء العدَّة، والاختلافُ في تَقَدُّم الإِسْلاَمِ وتَأخُّر، والأصل بَقَاءُ الْكُفْرِ. والثاني: أن يَتَّفِقا علَى وقْت الإسْلاَم كغرة رمضان. وَقَالَ الزَّوُج: انقضتْ عِدَّتُكِ في الخامِسِ من رمضان. وَقَالَتْ: بَلْ في شَعْبَانَ، فالقوْلُ قولُهُ مع يمينه؛ لأَنَّ وقْت الإِسلام مُتَّفَقٌ عليه، والْخِلاَفُ في أَن الْعِدَّةَ، هل انقضت قبله والأصلُ بَقَاؤُهَا. ¬
والثالث: إذا لم يتَّفِقا علَى شَيْءٍ، واتفق الزوْجُ علَى أن إسلامي سبق، والزوجة على أنَّ انْقِضَاءَ عِدَّتِي سَبَقَ، فالنَّصُّ أن الْقَولُ قولُ الزوج، ونص فيما إذا ارتدَّ الزوج، ثم عَادَ إلَى الإسْلاَمِ واختلفا، فَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ عَادَ في الْعِدَّةِ، وادَّعَتِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ قبل عوْدِهِ إِلىَ الإِسْلام، وفيما إذا اختلف الزَّوْجَانِ في الرجْعَة وانقضاء العدَّة. فقال: راجَعْتُكِ في عدَّتِكِ. وقالت: بَلْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِي؛ أن القوْلَ قول الزوجة. وللأصحابِ طَرِيقَانِ: أحدهما: التَّصَرُّفُ في الجوابَيْنِ، وجعل المسائل على قولَيْن، وَبِهِ قَال الْقَاضِيَانِ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو الطَّيَّبِ: أحد القولَيْن: تصديق الزوج، وَالأَصْلُ بَقَاءُ النِّكَاحِ. والثَّاني: تصديق الزوجة؛ لأن الأصْلَ عدم الإِسْلاَم والرَّجْعَة. وأصحُّهما: تنزيلُ النَّصَّيْن علَى حَالَيْن، واختلف القائِلُونَ به. قَالَ بَعْضُهُم: حيثُ قال: القول قول الزوج، أراد ما إذا اتفقا على وقت الإِسلام، واختلفا في أنَّ الْعِدَّةِ، هل انقضَتْ قبله؟ وكذلك الْحُكْمُ في المسألتَيْنِ الأخيرَتَيْنِ. وحيث قال: القولُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ أَرَادَ ما إِذَا اتَّفَقَا علَى وقت [انقضاء العدة] (¬1)، وَاخَتَلَفَا في أَنَّه هَلْ عَادَ إِلَى الإسْلاَم، أو راجَعَ قبله؟ وكذلك الحكم في المسألة التي نحْنُ فيها، وقال آخرون: حيثُ قَالَ: القول قول الزوج؛ أرادَ ما إذا كَانَ هُوَ السَّابِقَ إِلَى الدَّعْوَى وَحَيث قَالَ: الْقَولُ قَوْلُهَا؛ أَرَادَ مَا إِذَا كانت هي السَّابِقَةَ، ويُحْكَى هذا عن ابنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إسْحَاقَ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، أنه لا يجيء على الْمَذْهَبِ غيره، ووجَّهوا هذا التفصيل من وَجْهَينِ: أَحَدُهُمَا: أنَّها إذا قالَتْ أولاً: انْقَضَت عِدَّتي، فَلاَ بُدَّ من تَصْدِيقها، فَإِنَّهَا مؤتمَنَةٌ في رَحِمِها، فإذا صدَّقْناها، لم يُلْتفتْ إِلَى مجرَّد دعْوَى الإِسْلام، والرجْعة بعد الَحكم بانقضاء العدَّة، وإذا قال الزَّوْجُ أولاً: أسلمْتُ قبل انقضاء العدَة أو راجَعْتُ، فنصدِّقه ونديم النكاح بينهما ظاهراً؛ لأن الأصل بقاءُ العدَّة، فمجرَّد دعواها بعْدَ ذلك لا يُغيِّر الْحُكْمَ. والثاني: وبه قَالَ أبُو سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي: أن من أَقَرَّ بشيْءٍ، يُجْعَل كأنه أنشأه حينئذٍ، وكذلك يُشْترطُ في قَبُولِ الإِقْرَارِ كونُهُ أهلاً للإنْشَاء، فَقْولُ الزَّوْج أولاً: أسلَمْتُ، كأنه ¬
أَنْشَأَ الإِسلام في الحال، وقولها بعد ذلك انقضتْ عدَّتي من قبلُ، يقتضي الحُكْمَ بانقضاء العدَّة في الحال، فيتأخَّر انقضاءُ العدَّة عن الإسْلاَم، وقول المرأة أولاً: أنْقضتْ عدتي قَبْلَ إسْلاَمِهِ، يقتضي الحكْمَ بانقضاء العدَّة في الحال، وقولُه بَعْدَ ذلك: أَسْلَمْتُ من قبلُ، كأنه أنشأ الإِسلام في الحال، فيقع بعد العدة، وليس هذا بخَلِيٍّ عن الإِشْكال، وهذا التَّفْصِيلُ هُوَ الَّذِيَ رَضِيَهُ صَاحِبُ "التَّهْذِيبِ" وغيره جواباً في المسائل الثلاث، وزاد في "التَّهْذِيبِ" شيئاً آخر، فيما إذا سبق دعْوَى الزوج، فقال: إنْ مَضَى زَمَان من دعْوى الزَّوْج، ثُمَّ ادَّعَت المرأةُ انقضاءَ العدَّة من قَبْل، فالقول قول الزَّوْج، فأمَّا إذا اتَّصَل كلامها بكلامه، فالْقَوْلُ قَوْلُها، أيضاً لأنَّ إنْشَاء الإِسْلام والإِقرار به قولاَنِ، فيمكن أنْ ينزل الإقْرَار منزلةَ الإِنْشَاء، وقولها: انقضت عدَّتِي؛ لا يمكن أنْ يكون إنشاءً؛ لأن انقضاءَ العدَّة ليس بقَوْلٍ، وإذا لم يكُنْ إنشاءً، كان إجباراً، فيتقدَّم الانقضاء عليه، وحينئذٍ، فيكون مقارناً لقوله: أسلمتُ أو متقدماً عليه، ولا يكون الإِسلام وَاقِعاً في العِدَّةِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ طُرُقٌ: وَفَوَائِدُ أُخَرُ نُورِدُها في "كتاب الرّجْعَةِ" إنْ شَاءَ الله تَعَالَى. فَرْعَان: فَرْعٌ: الأوَّل: عَنِ الشَّافِعِيّ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- أنَّه لو أَقَامَ الزَّوْجُ شَاهِدَيْنِ على أنَّهما جميعاً أسْلَمَا حِينَ طَلَعَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ كَذا، أو حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قُبِلَت شهادَتُهما، وحُكِمَ بَقاءِ النِّكَاح، ولو شَهِدَا بأنَّهما أسلما مَعَ طُلُوع الشَّمْس، أو مَعَ غروبها، لَمْ يُحْكَمْ بهذه الشَّهَادَةِ، وَفَرَقُوا بينَهُما بأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ حِينَ طَلَعَتِ الشَّمْس، أو غربتُ، يتناولُ حالَ تمامِ الطُّلُوع، أو تمامِ الغَروب، وأنَّها حالَةٌ واحدةٌ، وقوله "مع الطُّلُوعِ أو مع الغروب" يصدق من حين تأخذ الشمس في الطُّلُوعِ أو الغُرُوب، فيجوز أنْ يكُونَ إسْلاَمُ أَحدِهِما مقارناً لطُلُوع أوَّلِ القُرْصِ، وإسلام الآخر مقارناً لطلوع آخره (¬1)، واللهُ أَعلَمُ. الفرع الثاني: نَكَحَتْ في الكُفْرِ زوجَيْن، ثُمَّ أَسْلَمُوا، فإن ترتَّب النكاحان، فهي زوجةُ الأوَّل، وإن مَاتَ الأَوَّلُ، ثم أسلَمَتْ مع الثاني، وهمْ يعتقِدُون جَوَازَ التَّزْوِيجِ ¬
[القول في موجبات عيوب الخيار]
بزوجَيْن، ففي جواز التقرير وجهان (¬1)، وإن جرى النِّكَاحَانِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، لَمْ تقر مع وَاحِدٍ مِنْهُمَا، سواءٌ اعتقدوا جوازَهُ، أو لم يعتَقِدُوا، وفيما إِذا اعتقَدُوا وجه أنه تُخيَّر المرأةُ حَتَّى تَخْتَارَ أَحَدَهُمَا، كما لو أسلم الكافِرُ علَى أُختين، وَهَذَا آخِرُ الْكَلاَمِ في الْبَابِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الْقِسْمُ الرَّابعُ مِنَ الْكِتَابِ في مُوجِبَاتِ الْخِيَارِ) وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْعَيْبُ وَالْغُرُورُ وَالْعِتْقُ وَالْعُنَّةُ (السَّبَبُ الأَوَّلُ: العَيْبُ) وَيَثْبُتُ (ح) لِكُلِّ واحد مِنَ الزَّوْجَينِ الْخِيَارُ بِالْبَرَص وَالجُذَامِ وَالجُنُونِ، وَيثْبُتُ (ح) لَهَا بِجَبِّهِ وَعُنَّتِهِ، وَلَهُ بِرَتْقِهَا وَقَرَنِهَا، وَفِي الرَّدِّ بِالبَخَرِ أَوِ الصُّنَّانِ وَالعَذْيوطِ الَّذِي لاَ يَقْبَلُ العِلاجَ خِلاَفٌ، وَكَذَلِكَ في جُمْلَةٍ مِنْ آحَادِ العُيُوبِ الَّتِي تُنَفِّرُ تَنْفِيرَ الْبَرَصِ وَتَكْسِرُ سَوْرَةَ التَّوَّاقِ، لَكِنَّ المَشْهُورَ أَنَّهُ لاَ يُرَدُّ إلاَّ بِالعُيُوبِ السَّبْعَةِ المَذْكُورَةِ أَوَّلاً، وَفي رَدِّ الْخُنْثَى أَيْضاً خِلاَفٌ. [القول في موجبات عيوب الخيار] قال الرَّافِعِيُّ: السببُ الأَوَّلُ: الْعَيبُ، وَيَثْبُتُ لكلِّ واحدٍ من الزوجَيْنِ الخيارُ بالبَرَصِ، والجُذَامِ، والجُنُونِ، ويثبت لها بجبِّهِ، وُعُنَّتِهِ، وله بِرْتْقِهَا، وَقَرَنِهَا، وفي البَخَر والصُّنَانِ، والعَذْيوطة الذي لا يقبل العلاجَ خلافٌ، وكذلك في جُمْلةٍ من آحادِ العْيُوب الَّتِي تُنَفِّرُ تنفير البَرَصِ، وتكسر شهْوة التوَّاقِ لَكِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ لا يُرَدُّ إلاَّ بالعُيُوبِ السبعةِ المذْكُورةِ أولاً، وفي رد الْخُنْثَى أيضاً خلافٌ. عَرَفْتَ أوَّلِ "كتاب النكاح" وقوعَ مسائِلِهِ في خَمْسَةِ أَقسَام، وقد فَرَغْنَا من ثَلاثة أَقْسَامٍ، مِنْهَا وَهَذَا القِسمُ الرَّابعُ في مُوجِبَاتِ الْخِيَارِ وَعَدَّهَا أَرْبَعَةَ وَهِيَ: الْعَيبُ، والْغرُورُ، والعِتْقُ، والْعُنَّةُ، وَفِيهِ كَلاَمَانِ: الأَوَّلُ: أن الْعُنَّةَ أَحَدُ الْعُيُوب المثبتة لِلْخِيَار إلاَّ أَنَّهَا تختصُّ بأحكام؛ كضَرْب المدَّة وغيره، فبيّن الأَصْحَابُ في "فَصْلِ الْعُيُوب" أَنَّهَا أَحَدُ أَسْبَابَ الْخِيَارِ، وأفرْدَوُا لها مَوْضِعاً للكلام في أحكامِهَا الخاصَّة. والثَّاني: يمكن أن يقال: موجباتُ الخيارِ تَريدُ عَلَى هذه الأَرْبَعَةِ؛ أَلاَ تَرَى أنَّ الْلأَبَ والجَدَّ، إذا زَوَّجَا الْبِكْرَ منْ غير كُفْءٍ، وصحَّحنا النكاح ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ، وكذا لو نَكَحَ الصَّغِيرُ مَنْ لا تكاَفِئُهُ، ثبت له الخيارِ، إذَا بَلَغَ، حَيْثُ يُحْكَمُ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ، وكذا لو ظنها مُسْلِمَةً، فإذا هِيَ كِتَابِيَّةٌ، ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ علَى رَأْي. السببُ الأَوَّل الأوَّلُ الْعَيْبِ، والعيوبُ المثبتةُ للخِيَارِ: مِنْهَا ما يشترك فيه الرِّجَال ¬
والنِّسَاء، وهي ثلاثة: الْبَرَصُ، ولا يلتحق به الْبَهَقُ، والجُذَامُ، وهو عِلَّةٌ صَعْبَةٌ، يحمُّر منها الْعُضْوُ، ثم يَسوَدُّ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ ويتناثر (¬1)، نسأل الله العَافِيَةَ، وتُتصوَّر ذلك في كلِّ عُضْوٍ، لكنَّه في الوجْهِ أغلبُ. ثمَّ حَكَى الإِمَامُ عن شيخه -رَحِمَهُ الله- أنَّ أوائل البَرَصِ والجُذَامِ لا يثب الخيار، وإنَّما يثبت الخيار، إذا استحكمها، وأنَّ اسْتِحْكَام الجُذَامُ إِنَّمَا يَحْصُل بالتَّقطُّع، وتردد في هذا وَقَالَ: يجوز أن يكتفي باسْوِدَادِ العُضْو، وحكم أهل الْبَصَائِرِ باستحكام العلة (¬2). والجُنُونِ منقطعاً كان أو مطبقاً، ولا يلحق به الإِغماء بزوال العَقْل بالمَرَض إلاَّ أَنْ يزول المرض، وَيَبقَى زَوَالُ الْعَقْلِ. قال الإِمامُ: ولم يَتعرَّضوا في الجنون؛ لاستحكامِهِ، ولم يُرَاجِعوا أَهْلَ الْبَصِيرَةِ، أهو مرجو الزوالِ أم لا؟. ولو قيل به، لكان (¬3) قريبًا، فإذَا وَجَدَ أَحَدُ الزَّوجَيْنِ بالآخر أَحَدَ هذه العُيُوب ثَبَتَ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ، قَلَّ ذلك العَيْبُ أو كثر، وإذا تَنَازَعَا في قُرْحَة، هَلْ هِيَ جُذَامٌ أوَ في بياض، هَل هو بَرَصٌ، فالقول قول المنكِر، وعلى الْمُدَّعِي الْبيِّنَةُ، ويشترط أن يكون الشَّاهِدَان عالَمَيْنِ بِالطِّبِّ. ومنها: ما يختص بالرجل وهو الْجَبُّ (¬4)، ¬
والعُنَّة (¬1)، وإنما يُؤَثِّر الجَبُّ إذا لَمْ يَبْقَ ما يَمْكِنُ الْجِمَاعُ بِهِ علَى ما سنبينه في فصل العُنَّة إنْ شَاءَ الله تَعَالَى. ومنها: ما يختصُّ بالمرأة وهو الرتَّقْ والْقَرَن (¬2)، والرَّتق إرْتَاقُ مَحَلِّ الْجِمَاعِ بِاللَّحْم، ويخرج بَولُ مِثْلِ هَذهِ من ثقبة ضيقة كَإحْلِيلِ الرَّجُلِ، والقَرَن عَظْمٌ في الْفَرْجِ يَمْنَعُ الْجِمَاعَ، وَيُقَالُ: هو لَحْمٌ ينبت فيه، والدَّائِرُ على أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ في لَفْظ القَرَنِ، بتحريك الراء، وهو في كُتُب اللُّغَةِ بالتَّسْكين (¬3)، وليس للزوج إجبار الرَّتْقَاءِ على شَقِّ المَوْضِع، ولو فعلت هي، وَأَمَكَنَ الَوطء، فلا خيار، هكذا أطلقوه، ويمكن أن يجيء فيه الخلافُ المذكُورِ، فيما إذا اطَّلعَ على عَيْب المَبِيِعِ (¬4)، بَعْدَ زواله فجملة هذه العيوب سَبْعَةٌ، والممكنُ فرْضُه في كلِّ واحدٍ من الزوجين خَمْسَةٌ. قَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ لا يفسخ النِّكَاحُ بشيء من هذه العيوب، إلاَّ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذا وَجَدَت زَوْجَهَا مجْبُوباً أو عِنِّيناً تَرْفَعُ الأمْرَ إلى الْحَاكِمِ، حَتَّى، يُفَرَّقَ بَينَهُمَا بطلقةٍ، وساعدنا على قولنا مَالِكٌ وَأَحْمَدُ -رَضِي اللهُ عَنْهُمَا-. دليلُنا ما رُويَ عَنِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ تزوَّج بامرأةٍ، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ ¬
رأَى، بكَشْحِهَا بياضاً، فَرَدَّهَا إلى أَهْلِهَا، وقال: "دَلَّسْتُمْ عَلَيَّ" (¬1) وأيضاً فالنكَاحُ معاوضةٌ تَقْبَلُ الانفِساخ، فَجَازَ فَسْخُهَا بالعَيْب، كالعيب بالبَيْعِ إلاَّ أن المقْصُود في البَيْع الماليَّةَ، فيؤثِّر فيه كُلُّ عَيْبٍ يقْدَحُ في المالية، والمقصود ههنا الاستمتاع، فيعتبر ما يحلُّ به إما بأن يمنع منه حقيقةً؛ كالجَبِّ والرَّتْقِ أو يُنفِّر نفرةً قويةً، إمَّا للخَوْفِ على النَّفْس والمال، وَذَلِكَ بسبب الجُنُونِ، أو لعيافةِ الطَّبْع، وخوفِ التعدِّي، كما في الجُذَامِ ثُمَّ في الْفَصْلِ مَسْألَتَانِ: الأولَى: ظاهر المذهب أن ما سِوَى هَذَهِ الْعُيُوب المذكورة لا يُثْبتُ الخيارُ (¬2)، وعن الشَّيخِ زَاهِرِ السَّرْخَسِيِّ (¬3): أن البَخَرَ والصُّنَانَ إَذا لم يَقْبَلاَ [العَلاج] (¬4) يُثْبِتَانِ الخيار؛ لأنهما يُوْرثَانِ النُّفْرَةَ، ويجري الخلافُ، فِيْمَا إِذا وَجَدَهَا عَذْيُوطَة، أو وجدته، عِذْيُوطاً، والعِذْيُوطُ هو الذي يَخْرَى عِنْدَ الْجِمَاعِ وزاد القَاضِي حُسْيْنُ وَغَيْرُهُ، فأثبتوا الخِيَارَ بالاسْتِحَاضَةِ، والعُيُوبُ الَّتِي [تجتمع؛ فتنفِّر تنْفِيرَ] (¬5) البَرَصِ، وتكسر شهوة التَّائِقِ؛ كالقرُوحِ السَّائِلَةِ، وما في مَعْنَاهَا، ويقال: إنَّ الشَّيخَ أَبَا عَاصِمٍ حَكَاهُ قَوْلاً عَن الشَّافِعِيِّ -رَضِي اللهُ عَنْهُ-. الثَّانِيَةُ: إذَا وَجَدَ أَحَدُ الزَّوجَينِ الآخَرَ خُنثَى؟ فِيهِ قَوْلاَنِ: أحَدُهُمَا: أنَّ لَهُ الخِيَارَ لتعيره بالمقام معه، ولنفرة الطَّبْعِ. وأصحهما: على ما ذكره المحَامِلِيُّ وغيره: أنه لا خِيَارَ؛ لأنه لا يفوِّت مقصود النكاح، وَذَلِكَ سلْعةٌ أو ثُقْبة زائدةٌ. وفي مَحَلِّ الْقَولَينِ طُرُقٌ: أَصَحُّهُمَا: أَنَّ القولَيْن فيما إذا اختار الذكورة، فَنَكَحَ امرأةَ أو الأنوثةَ، فَنَكَحَتْ رَجُلاً، فَإِنَّهُ قد تبيَّن خلافُ الاختيار، أمَّا إِذَا اتَّضَحَ الْحَالُ بِالْعَلاَمَاتِ الدَّالَّةِ على الذكورة أو الأنوثة، فَلاَ خِيَارَ. ¬
والثَّانِي: أنَّ القولَيْن جاريانِ أيضاً، فيما إِذَا اتَّضَحَ الْحَالُ بِعَلاَمَةٍ مَظْنُونَةٍ، فَإِنْ كَانَ مَقْطُوعاً بها كالولادَةِ، فَلاَ خِيَارَ. والثالث: طرد القَوْلين، وإنْ كَانَتِ الْعَلاَمَةِ مَقْطُوعاً بها لمَعْنَى النُّفْرة، ولا يثبت الخيار بكَوْنِها عَقِيماً، ولا بكَوْنِهَا مُفْضَاةً، والإِفْضَاءُ: رَفْعُ مَا بَيْنَ مَخْرَجِ الْبَوْلِ ومحل مدخل الذَّكَرِ. فَرْعَانِ: الأولُ (¬1): إِذَا ظَهَرَ بكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوجَينِ عَيْبٌ (¬2) مِنَ الْعُيُوب المثبِتَة للخيار، فإن كَانَا من جنسَيْن، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ منْهما الخِيَارُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مَجْبُوباً، والْمَرْأَةُ رَتْقَاءَ، فَهُمَا كالجِنْسِ الواحِدِ، كذلك ذَكَرَهُ الحَنَّاطِيُّ والشَّيخ أبُو حَامِدٍ وَالإِمَامُ. وَحَكَى فِي "التَّهْذِيبِ" طَرِيقَةً أخرى قَاطِعَةً بأنَّهُ لا خيار؛ لأنه، وإنْ فَسَخَ، لا يصل إلَى مقصود الوطء، وقضيَّةُ إيرادِهِ ترجيحُ هذه الطريقة، وإنْ كَانَا من جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لتساويهما. وَأَصَحُّهِمَا: ثبُوتُ الْخِيَارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ منْهما؛ لأنَّ الإِنْسَانَ يَعَافُ من غيره ما لاَ يُعَافُ من نَفْسِهِ، وهذا في غير [الجنون] (¬3) أمَّا إِذَا كَانَا مجنونَيْنِ، فَلاَ يمكن إثباتُ الخيارِ لِوَاحِدٍ منهما، ثم ليكن الوجْهَانِ، فيما إذا تَسَاوَى العَيْبَانِ في القَدْرِ والفُحْش، فإِنْ كَانَ في أَحَدِهِمَا أكْثَرَ أو أفْحَشَ، وجب أن يثبت الخيارُ للآخَرِ مِنْ غير خِلاَفٍ. الثاني: لو نكَحَها، وهوَ عالِمٌ بعَيبِها، أو نَكَحَتْه، وَهِي عَالِمَةٌ بعَيبِهِ، فَلاَ خِيَارَ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى [شيئاً]، وهو عالم بعيب المبيع وَهَذَا في غير العُنَّة، وفي العُنَّة كَلاَمٌ سيأتِي من بَعْد، فَلَوِ ادَّعَى من بِهِ الْعَيْبُ عِلْمَ الآخر به، فأنكر فالمصدَّق المُنْكِر، [بيمينه] وفي "أمالي" أبي الفرج السَّرْخَسِيِّ وَجْهٌ، أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ هَذَا الاخْتِلاَفُ بعد الدُّخُول، فالقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ (¬4). ¬
فَرْعٌ ثالثٌ: لو جَبَّتِ المَرأَةُ ذَكَرَ زَوْجِهَا، هَلْ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ؟. فيه وجهان: أَحَدُهُمَا: لا، كما لو عَيَّب المشتري المبيعَ قَبْل القبض. وَأصَحُّهِمَا: نَعَمْ، كما لو [خرب] (¬1) المستأجر الدَّارَ المستأجرة، ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ، وهذا؛ لأن الْمَرْأَةَ بالجَبِّ لا تصير قابِضَةً لحقِّها، كالمستأجِرِ لا يصيرُ قابضاً لحقِّه بالتَّخْرِيبِ، والمشتري بالتعيب قَابضٌ لحَقِّهِ واللهُ أَعْلَم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَهَذَا فِيمَا يُقَارِنُ العَقْدَ، وَإِنُ طَرَأَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْمَسِيسِ ثَبَتَ لَهَ الخِيَارُ، وَبَعْدَ المَسِيسِ وَجْهَانِ، إِلاَّ العُنَّةَ فَإنَّهَا لاَ تؤَثِّرُ بَعْدَ المَسِيسِ، وَيَثْبُتُ للِزَّوْجِ أَيْضاً بعَيْبَها الطَّارِئِ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إِنْ كَانَ العَيْبُ مقارناً لعقْدِ النِّكَاح، فالحُكْم ما بيَّنَّاه، وإنْ حَدَثَ بعْد العَقْد ما يثبت الخيارُ، لو كان مقارناً، فأما أن يحدُث بالزوج أو بالزوجَة، إن حدث بالزوج، فيُنَّظر، إن كان قبل الدخول، فَلَهَا الْخِيَارُ، لحصول الضرر، كما لو كان مقارناً، وإن كان بعد الدُّخُول، فإن كان الحادِثُ الجُنُونَ أو الجُذَامَ أو البَرَصَ. فقد حَكَى صَاحِبُ الكتاب فيه وجهَيْن، وَكَأَنَّ الدُّخُولَ في وجه ينزل منزلة قبض المبيع، والعَيْبُ الحادِثُ بعد القرض لا يثبت الخيار، ولم نَرَ لغيره نقل الوجهين في المَسْألة، لكن أَطْلقوا الْجَوَابَ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ. وقالوا: حَقُّ الاستِمتَاع يُشْبِه حَقَّ الانِتِقَاعِ في الإِجارةِ، والعَيْبُ الحادِثُ في العَيْن المستأجَرَةِ يُثْبِت الخيار، فكَذلك، ههنا، وإنْ حَدَثَتِ العُنَّةُ، فَلاَ خِيَارَ لها؛ لأنَّهَا عَرَفَتْ قُدْرَتُهُ، ووصَلَتْ إلى حَظِّهَا، وإن حدث الجَبُّ، فوجهان، ويقال: قولان: أَحَدُهُمَا: أنه كالعُنَّة. وَأَصَحُّهُمَا: أنه يثبت الخيار؛ لأن الجَبَّ يُورِثُ الْيَأْسَ عن الْوَطْءِ والعُنَّةُ قد يُرْجَى زوالُهَا، وإن حدث العَيْبُ بالزوجة، إمَّا قبل الدُّخُول أو بَعْده، فقولان: الجديد: أنه يثبت للزَّوْج الخيار، كما يَثْبُتُ لَهَا إذَا حَدَثَ الْعَيْبُ بِهِ. والقديمُ: المنْعُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لأنه لا تدليس منها، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ من تَخْلِيصِ نَفْسِهِ بالطَّلاَقِ، وغيرُ [مضطرٍّ] (¬2) إلى الْفَسْخِ، واللهُ أَعْلَمُ. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَأَمَّا الأَوْلِيَاءُ فَلاَ خِيَارَ لَهُمْ بِالْعَيْبِ الطَّارِئِ، وَيَثْبُتُ فِي المُقَارِنِ بِالجُنُونِ، وَلاَ يَثْبُتُ بِالجَبِّ وَالعُنَّةِ، وَفِي البَرَصِ وَالجُذَامِ وَجْهَانِ، وَقِيلَ: في الجَمِيعِ عَارٌ فَيَثْبُتُ لَهُمُ الخِيَارُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أوْليَاءُ الْمَرْأَةِ لَيْسَ لَهُمْ [خيار الفسخ] (¬1) بالعيوب الْحَادِثَةِ بالزَّوج، لأنَّ حَقَّهُم في الكفاءة، إنما يُرَاعَى في ابتداء الْعَقْدِ دون الدَّوَامِ؛ أَلاَّ تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَو رَغِبَتُ في نِكَاح عَبْدٍ، كان لأوليائها المَنْعُ، ولو عَتَقَت أَمَةٌ، تَحْتَ عَبْدٍ، ورَضِيَتْ بالمقام مَعَهُ، لم يكن للأولِيَاء الفسْخُ. وأما والعيوب المقارِنَة للعَقْدِ، ففي الْجُنُونِ، لَهُمْ الْفَسْخُ، وإن رضيتِ المرأة؛ لأنهم يتعيَّرون به، وفي الجَبِّ والعُنَّةِ لا فَسْخَ لَهُمْ؛ لأنه لا عَارَ عَلَيْهِمْ بجبِّه وعُنَّته، وإِنَّما الْفَائِت بِذَلِكَ الاستمتاع، وضَرَرُه يعود إليها، وفي الجُذَامِ والبَرَصِ وجهان: أحدهما: أنه لاَ خِيَارَ لَهُمْ؛ لأنَّ جهة الضَّرَرِ فِيهِمَا صُحْبَةُ مَنْ تعافُ النفسُ منه، وهذا المعنى يختص بها. وَأَشْبَههُمَا: ثُبُوتُ الْخِيَارِ كَمَا في الْجُنُونِ؛ لأنَّ فيهما نُقْصَاناً ظَاهِراً، ويتعيَّرون بمواصلة مَنْ به ذلك؛ ولأن العلَّةَ قد تَتعدَّى إلَيْها وإلَى نسلها، وَمِنَ الأَصْحَابِ مَنْ حَكَمَ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُمْ في جميع العيوب المقارنة، [وَادَّعَى] (¬2) أنهم يتعيَّرون بجميع ذَلِكَ. وحُكِيَ عَنِ الْقَفَّالِ: أَنَّ هَذَا أَظْهَرُ الطَّرِيقَيْنِ، وَعَلَى هَذَا؛ يُخَرَّجُ حُكْمُ ابْتِدَاءِ التَّزْوِيِجِ، فَإِنْ دَعَتْ إلَى تَزْوِيجِهَا من مَجْنُونٍ، فَلَيْسَ عَلَى الأَوِليَاءِ الإِجَابَةُ وإن دَعَتْ إلَى تزويجها من مَجْبُوبٍ أو عِنِّينٍ، فعليهم الإجابة، فإِن امتنعوا، فَهُمْ عَاضِلُونَ، وَإِنْ دَعَتْ إِلَى تَزْوِيجِهَا من مَجْذُومٍ أَوْ أبْرَصٍ فَعَلَى الَوجهَيْنِ. وعلَى ما حُكِيَ عَنِ الْقَفَّالِ: لَيْسَ عليهمُ الإِجَابَةُ في شَيْءٍ من هَذِهِ الْعُيُوبِ، وإِذَا أطلقت الكلام، ولم تفصل، قلْت: فيه ثَلاَثةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ لَهُمْ إلاَّ يُجِيبُوا. والثاني: لَيْسَ لَهم الْمَنْعُ إلاَّ في الْجُنُونِ. والثالث: لهم المنعُ في الجُذَامِ والبَرَصِ أيضاً، وَيُحْكَى هَذَا عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. والثاني: عن أَبِي إِسْحَاقَ، ونَقَلَ الحَنَّاطِيُّ في العَيْبِ الحادِثِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَجْهاً غَرِيباً أَنَّ لِلأَوْلِيَاءِ إجبارها على اختيار الفراقِ، حَيْثُ قُلْنَا: الْمَنْعُ في الابْتِدَاءِ. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلِهَذَا الخِيَارُ عَلَى الفَوْرِ وَهُوَ مُسْقِطٌ لِلمَهْرِ قَبلَ الْمَسِيسِ وَإِنْ كَانَ الفَسْخُ مِنْهُ، وَفِيمَا بَعْدَ الْمَسِيسِ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ مِنَ الرِّدَّةِ أَنَّ المُسَمَّى يَتَقَرَّرُ، وَفِي الرِّدَّةِ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ مِنْ هَهُنَا، وَمَهْمَا كَانَ العَيْبُ طَارِئاً كَانَ تَقْرِيرُ المُسَمَّى أَوْلَى، وَلاَ رُجُوعَ (م) بِالمَهْرِ المَغْرُوم عَلَى الْوَلِيِّ عَلَى الجَدِيدِ وَلاَ نَفَقَةَ وَلاَ سُكْنَى لَهَا في الْعِدَّةِ كَمَا لاَ مَهْرَ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلاً فَلَهَا النَّفَقَةُ إنْ قُلْنَا: إنَّهَا لِلحَمْلِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الْكَلاَمَ الآنَ في أحْكَامِ هَذَا الخِيَارِ، [والغَرَضُ] (¬1) يتهذَّب بِرَسْمِ مَسَائِلَ: الأُولى: هَذَا الْخِيَارُ عَلَى الْفَوْرِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ في البيع ولا ينافي كَوْنُهُ على الْفَورِ ضَرْب الْمُدَّةِ في العُنَّةِ، فإنَّها حينئذٍ تَتحقَّق، وإنَّمَا يُؤْمَرُ بالمُبَادَرَةِ إِلَى الَفَسْخِ بَعْدَ تَحَقُّقِ [العَيبِ] (¬2)، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَعَن الشَّيخِ أبِي عَلِيٍّ في شَرْح "التَّلْخِيصِ": أن مِنَ الأصْحَابِ مَنْ أجْرَى فِيْهِ قَوْلَيْنِ آخَرَيْنِ، كَمَا في خِيَارِ العِتْق: أَحَدُهُمَا: أَنَّه يَمْتَدُّ ثلاثة أَيَّامٍ. والثاني: أنَّهُ يبقَى إلى أن يوجَدَ صريح الرِّضَا بالمقام معه، أو ما يَدُلَّ عليه، وفرق على الطريقة الأُولَى بِأنَّ الأئمة تَحْتَاجُ إلى النَّظَرِ والتَّرَوِّي، وههنا، يختص النقصان بِالإطَّلاعَ عَلَى الْعَيبِ فلا يحتاج إلى مُهْلَةِ النَّظَرِ، وليس هَذَا الْفَرْقُ بِوَاضِحٍ، وَهَلْ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَينِ بالفسخ، أم لاَ بُدَّ من [الرفع] (¬3) إلى الْحَاكِم. أما العُنَّةُ، فَلاَ بُدَّ فِيْهَا من الرَفع إلى الْحَاكِمِ، [وَفيمَا] (¬4) سِوَاهَا من العُيُوبِ فيه وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الانفرادُ بالفَسْخ كفَسْخِ البيعِ بالعَيْبِ، وَهَذَا مَا أَجَابَ بهِ الإِمَامُ، وَرَجَّحَهُ مُرَجِّحُونَ. والثانى: لاَ بُدَّ من الرفع؛ لأنَّهُ مجتهدٌ فيه فَأَشْبَهُ الْفَسْخَ بالإعسار، وَهُوَ أَقْرَبُ، وَهُوَ الَّذِي أوْرَدَهُ الشَّيخُ أَبُو حَامِدٍ وَصَاحِبُ "الشَّامِلِ" قَالَ فِيَ "التَّهْذِيبِ" [وعلي الوجهين] (¬5) لو أخر إلى أن يَأْتِيَ الْحَاكِمُ، ويفسخ بحضرته، يجوز، ولو وطئها الزَّوجُ، وَظَهَر بِهَا الْعَيْبُ، فَقَالَت: وُطِئْتُ مع العلم، وَأَنْكَرَ أَو كان العَيْبُ به، فقال: مكنت مع العِلْمِ، وأنكرت، فالقول قَوْلُ الْمُنْكِرِ، وعن أبي الْحُسَيْنِ بنِ القَطَّانِ: أنَّ الْقَولَ قَوْلُ ¬
صَاحِبِهِ؛ لأن المُنْكِرَ يبغي الفسخ، والأَصْلُ دَوَامُ النِّكَاحِ. الثانية: الفسخ بالعيب المقارن للعقد، إِمَّا أنْ يَتَّفِقَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، إِنِ اتَّفَقَ قبل الدخول، فليس لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، ولا متعة؛ لأنه، إنْ كان العَيْبُ به، فهي الفاسخةُ للعَقْد، وَإِنْ كَانَ الْعَيبُ بِها فَسَبَبُ الْفَسْخِ معْنًى وُجد فيها، فكأنَّها هي الفاسِخَةُ، وإن اتفق الفسخُ بعْد الدخول، فَالنَّصُّ وَظَاهِرُ الْمَذْهَب أَنَّ لَهَا مَهْرَ المِثْلِ، ويسقط المسمَّى، لمعنيين: أَحَدُهُمَا: أن الفسخ كمعنًى مقرونٌ بالعقد، فيرفع التسمية من أصْلِها؛ لأنَّ الزوج إنَّما بَذَلَ المُسَمَّى عَلَى ظَنِّ السَّلاَمَةِ، ولم تحصل، فكأن العقْدُ جرى بِلاَ تسمية، فيجب مَهْرُ المثل. والثاني: أَنَّ قضية الفسْخ أن يرجع كُلُّ واحدٍ من المتعاقِدَيْنِ إلَى عين حَقِّهِ، إِنْ بَقِيَ، وإلى بَدَلِهِ إنْ تَلِف، والعَقْدُ جرى على البُضْعِ بالمسمَّى، فعند الفسخ يرد إلَى الزوج عين حقِّه، ويدفع إليه بَدَل حَقِّهَا، وهو مَهْرُ المثل؛ لفوات الحق بالدخول، وفيه قَولُ، مخرَّجٌ أنه يستقر المسمَّى، ولا رُجُوعَ إلَى مَهْرِ المثل، لأَنَّ الدُّخولَ جَرَى في عقْدٍ صحيحِ مشتملٍ على تسميةٍ صحيحةٍ، فأشبه الردَّةَ بعد الدخول، ومنْها خُرِّجَ هذا القَوْلُ. قَالَ الأَئِمَّةُ: وَهَذَا قريبٌ من القياس، فإنَّ الفسْخَ عندنا لا يَسْتَنِدُ إلَى أَصْلِ الْعَقْدِ، وفي "التَّتِمَّةِ" وَجْهٌ: أنه إن فَسَخ الزَّوْج بعيبها، فعليه مَهْرُ المثل، وإنْ فسخت هي بعَيْبِهِ، فالواجبُ المسمَّى، والفرْقُ إِذَا كان العَيْب بها، فالزوْج يقول: كنْتُ أبذلُ المسمَّى؛ ليكون لي البُضْعُ سليماً، فهذا لم يسلم، لا أبذله، وأُغْرِمَ ما فَوَّت، وإذا كان العيْبُ به، فقد سلمت ما يقابل العِوَضَ سليماً، فيسلم لها العِوَض، وَأَمَّا الفسْخُ بالعَيْبِ الحادثِ بعْد العقد، فإنْ كان قَبْل الدُّخُول، فلا مَهْرَ، وإن كان بعده. فإن قُلْنَا: إنَّ الْوَاجِبَ عند الفَسْخ بالعَيْب المقارِنِ المسمَّى، فكذلك ههنا وإنْ قلنا: إنَّ الواجِبَ هناك مَهْرُ المِثْلِ، فههنا ثَلاثة أَوْجْهٍ: أَحَدُهَا: أنَّ الواجب مَهْرُ المِثْلِ أيضاً؛ لأنه لم يسلم له ما طَمِعَ فيه، فلا يكلَّف ما التزمه. والثاني: أَنَّ الواجِبَ المسمَّى؛ لأن المثبت للخيار حَدَثَ بعْد العقد، ووجوب المسمَّى [بالعقد] فلا يُؤَثِّرُ فيه. الثالث: وهو الأصح: أنَّه، إنْ حَدَثَ قبْلَ الدُّخُول، ثُمَّ دَخَلَ بها، وهُو غَيْرُ مطَّلِع على الحال، وجَب مَهْرُ المِثْل، وجعل اقترانه بالوطء المقرَّر للمَهْر، كالاقترانِ بالعَقْد، إن حَدَثَ بعْد الدخول، فالواجِبُ المسمَّى؛ لأنَّ الدخول قد قرَّره قبل أن يُوْجَد سَبَبُ
الْخِيَارِ (¬1) وَقَولُه في "الكِتَاب وفيما بعد المسيس قول مُخرَّج من الردة: أنَّ المسمَّى يتقرَّر ولا يرجع إلى مهر المثل" اكْتفى بالقَوْل المُخرَّج عن ذِكْرِ المنْصُوص؛ لأنَّ فيه إشْعاراً بأنَّ المنْصُوصِ عكسه. وقولهُ: في الردة قولٌ مخرَّج من ههنا التخريج من هذا الطرف لم يتعرَّض له أكثرهم، وقالوا: الردَّةُ لا تستند إلَى ما تقدَّم بحالٍ، فلا يُؤثِّر فيما سبَقَ وجُوبُهُ، نعم، قَالَ الإمَامُ: [رَأَيْتُ] (¬2) في تعليقي عن شَيْخِي، وفي تعليقِهِ عَنْ شَيْخِهِ، ذكر وجه في الردَّة أنَّه يسقط المسمَّى، ويجب مهْرُ المثل، ثم استبعدَهُ، وقال: [أخشى] (¬3) ألاَّ يصح فيه نقل. فرع: حَكَى الحَنَّاطِيُّ فِيمَا إذا اطَّلَعَ أَحَدُ الزَّوجَينِ على عَيْبِ الآخَرِ وَمَاتَ الآخَرُ قَبْل الْفَسْخِ وجهَيْن في أنَّه، هَلْ يَفْسَخ بَعْد الموت، والظَّاهِرُ: أنَّه لا يَفْسَخ، ويتقرَّر المسمَّى بالمَوْتِ، ولو طلَّق زوْجته قَبْل الدخول، ثم أطَّلَعَ على عيْبٍ بها، لم يسقط حَقُّهَا من نصْف المَهْر؛ لأَنَّ الفرقة حَصَلَتْ بالطلاق. الثالثة: إذا فَسَخ النِّكاح بعَيْبُ الزَّوجة، وغرم المهر، فَهَلْ لَهُ أن يَرْجِعَ بِمَا غَرِمَ عَلَى مَنْ غَرَّهُ وَدَلَّسَ عَلَيْهِ. فيه قولان: الجديد: المنع، وبه قَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- لأنَّهُ شَرَع في النِّكَاح عَلَى أنَّ يتقوَّم عليه البُضْع، فَإذا استوفَى منفعته، تَقَرَّرَ عَلَيْهِ عِوَضُهُ. والقديم: وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ -رَضِي الله عَنْهُ-: أنّ له الرجُوعَ عليه، لما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنه قَالَ: أيُّمَا رَجُل تَزَوَّجَ أمْرَأَةً، وَبهَا جُنُونٌ، أو جُذَامٌ، أو بَرَصٌ، فَمَسَّهَا، فَلَهَا صَدَاقُهَا وذلك لزوْجِهَا غُرْمٌ عَلَى وليِّهَا (¬4)، ومحلُّ القولَيْن ما إذا كان العَيْبُ موجوداً عند العقْد، أمَّا العيب الحادثُ بعْد العقْد إذا فسخ به، فَلاَ رجُوع بالمَهْر بحالٍ؛ لأنه لا تدْلِيسَ منه، وفي "التَّتِمَّة" أنَّ محلَّهما ما إذَا كان المغْرُومُ مهْرَ ¬
المثلِ أما إذا أوجبنا المسمَّى غرمه، فلا رجوع به؛ لأنَّ المسمَّى، بدل ما ملك بالعقد، وسلم له، وهو الوطأة الأولَى، فَإِنَّ الْمُسمَّى تَقَرَّرَ بِهَا. والأشبه ما في "التهذيب" وهو التسوية بين أنْ يكون المغْرُوم مهْرَ المثل، وبين أنْ يَكُونَ المغروم المسمَّى، ورأى الإمَامُ ترتيبَ القولَيْن ههنا على القولَيْن في الرجوع عنْد التَّغْرِيرِ بالحُرِّيَّة علَى ما سنذْكُرُهما، فإنْ قُلْنا: لا رُجُوع ثَمَّ، فههنا أَوْلَى، وإن قُلْنَا بالرجوع هناك، ههنا قولان: وجه التَّرْتِيب: أن التغرير هناك بالاشتراط، فههنا اشتراط، بَلْ غَايَةُ ما يفرض السكوتُ والكتمانُ على ما ستعرفه، والاشْتِرَاطُ أَبْلَغُ في التغرير، فإنْ قُلْنَا بالرُّجُوعِ، ونُظِرَ؛ إن كان التغرير والتدليسُ منها دون الوَلِيِّ، فالرجوعُ علَيْها دُونَ الْوَلِيِّ. وصَوَّر في "التَّتِمَّةِ" التغرير منْها بأنْ خطب الزوْجُ إليها، فلم يتعرَّض لما بها من العَيْب، والْتمسَتْ من الوَلِيَّ تزْويجَهَا منْه، وأظْهَرَتْ لَهُ أَنَّهُ عرف الزَّوْج حالها، وَصَوَّرَهُ الشَّيخُ أَبُو الْفَرَجِ الزاز فيما إذا عقَدَتْ بنَفْسِها، وحكمَ حاكِمٌ بصحَّته، ولفظ [الرجوع] (¬1) الَّذِي استعمله الأَصْحَابُ يُشْعِرُ بالاسترداد منْها بعْد الدَّفْع إليها، لكن ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالإمَامُ: أَنَّهُ لا معْنَى للدَّفْع إلَيْها والاسْتِرْدَادِ مِنها، ويعُودُ مَعْنَى الرُّجُوع إلَى أنَّه لا يغرم لها، وهلْ يجبُ لها أَقَلُّ ما يَصْلُحُ صَدَاقاً؟ فيه وجهان، ويقال: (¬2) قَوْلانِ؛ كَيْلاَ يخلو الوطء عن المهر، وإن كان التغرير من الولِيِّ بأن خَطَبَ إلَيْه، فأجابه إلى التزويج، وهو مجبر أو غير مجبر، فاسْتأذَنَها، ولم يظهر للخاطب ما بها، فإن كَانَ عَالِماً بالعَيْب، رَجَعَ عَلَيْه بجميع ما غرم، وإن كَانَ جَاهِلاً، فَوَجْهَانِ، يُوجَّه أَحَدَهُمَا؛ بأنَّه غير مقصِّر. والثاني: بأن ضَمَانَ [المال] (¬3) لا يختلف بالعلْم والجهل، فإنْ قلْنا: لا رجوع عليه، إِذَا جَهِل، فذلك إذا لم يكن مَحْرَماً: لَهَا؛ كابن الْعَمِّ، والمعْتِقِ، والقاضِي، فحينئذٍ، يكونُ الرجُوعُ على المرأة فأما إِذَا كَانَ مَحْرَماً، فلا يخْفَى الحالُ عبيه غالباً، وإن خَفِيَ، فهو لتقْصِيرِهِ [بترك] (¬4) البحْثِ، فيرجع عليه، وفيه وَجهٌ، أنَّه لا رجُوعَ على المحْرَم أيضاً عنْد الجَهْل. وَذَكَرَ الحَنَّاطِيُّ: أنَّهُ لا رُجُوعَ على الحاكم بحالٍ عند الجَهْل، فإنْ قُلْنَا: لاَ رُجُوعَ عَلَيْه، إذا جَهَلَ، فعَلَى الزَّوْج إثباتُ العِلْم بأن يقيم الْبَيِّنَّةَ عَلَى إقْرَارِهِ بِالْعِلْم، وَإنْ غَرَّهُ جَمَاعَة مِنَ الأَوْليَاء؛ فَالرَّجُوعُ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ جهل بعضُهم، وَقُلْنَا: لا رَجُوع علَى ¬
الجاهِل، رجَعَ عَلَى مَنْ عَلِمَ، وإن وُجِدَ التقرير منها، ومن الولِّي، فيكون الرُّجُوعُ عليها؛ لأنَّ جانبها أَقْوَى من حيث إِن [العيب] (¬1) بها أو يرجع على كُلِّ وَاحِدٍ منهما بالنصف؟ فيه وجهان مذكوران في "التَّتِمَّة" وإن غَرَّتِ الْمَرْأَةُ الوَلِيِّ، والولِيُّ الزوْجَ، رجَعَ الزوْجُ على الوليِّ، والوليُّ عليها، ولم يتعرَّضوا لما إذا كانت الْمَراْةُ جَاهِلَةً بعَيْبِها، ولا يبْعُد مجيء الخِلاَف (¬2) فيه. الرَّابعَةُ: المفْسُوخُ نكاحُها بعْدَ الدُّخول لا نَفَقَةَ لَهَا في العِدَّةِ، ولا في السُّكْنَى، إنْ كَانَتْ حَائِلاً؛ لانقطاع أَثَرِ النِّكَاحِ بالفَسْخ، وإن كانَتْ حَامِلاً، فَإِنْ قلْنَا: إن [نفقة المطلقة] (¬3) الحاملِ للحَمْل، وجبت ههنا أيضاً؛ لحق القرابة، وإن قلنا: إنَّها للحامل، وَهوَ الأصَحُّ، لم تجب، وإيراد الإمَام وَصَاحِب "التَّهْذِيبِ" يقتضي كَوْنَ السُّكْنَى عَلَى هَذَا الْخِلاَفِ، وَصَرَّحَ بهِ الحَنَّاطِيُّ، ثُمَّ حَكَى طَرِيقَةً أُخْرَى قَاطِعَةً، بأنه لا يجب السُّكْنَى هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ في الْمَسْأَلَةِ، ومنْهم مَنْ جَعَلَ استحقاق الحامل للسكْنَى على قولَيْنِ، وَقَدْ نَقَلَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ صَاحِبُ "الْكِتَاب" في "باب العِدَّةِ" ويمكن أن يُبْنَى الخلافُ على أَنَّ الْوَاجِبَ لها مَهرُ المِثْل، أو المسمَّى إن أوجبنا مَهْرَ المثْل، جَعَلْنَا النِّكَاحَ كالمفسُوخ من أصْلِهِ؛ لاقتران سبَبِ الفَسْخ به، ونزلناه منزلة النكاح الفاسد، وإن أَوْجَبْنَا المسمَّى نزل الفسخ منزلةَ رَفْعِ النكاح بالطَّلاق، فينبغِي أنْ تجب السكْنَىِ، وأن تجب النفقة، إذا كانت حاملاً، وَذَكَرَ الْقَاضِي ابنُ كَجٍّ؛ أَنَّ أَبَا الطَّيِّبِ بْنَ سَلَمَةَ خرَّجَ فِيْمَا إذَا كان الفسخ بالعَيْب الحادثِ أنَّها تستحقُّ السُّكْنَى، وهذا ذَهَابٌ منه إلى الفَرْق بين الفَسْخ بالعَيْب الموجود عنْدَ العَقْد، والفَسْخ بالعَيْب الحادِثِ، وقد سبق في المَهْر نظيرُهُ، وإذا لم نوجِبْ لها السكْنَى، فلو أراد الَزوْجُ أنْ يُسْكِنَها تحصيناً لِمَائِهِ، قال أبُو الْفَرَج السَّرْخَسِيِّ: لَهُ ذَلِكَ، وَعَلَيْهَا أنْ تَسْكُنَ. وَقَوْلُهُ في الكتاب: "كما لا مَهْر" يجوز أن يريد، به المسمَّى، ويجوز أنْ يكونَ المَعْنَى كما لا مَهْرَ قبل الدخول. "فرع": إذا رَضِيَ أَحَدُ الزوجَيْنِ بِعَيْب الآخر، ثُمَّ حدَثَ بمَنْ به العَيْبُ عيْبٌ آخَرُ، ثبت له الخيار بالعيب الحادث، وإن ازْدَادَ الأَوَّلُ؛ فلا (¬4) خيار؛ لأنَّ رِضَاهُ بِالأَوَّلِ رِضاً ¬
بِمَا يَحْدُثُ منه ويتولَّد، وفيه وجُه آخَرُ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وجهَيْن: في أنه إِذَا فُسِخَ النِّكاحُ بِالْعَيْب، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَيْبٌ، هَلْ يُحْكَمُ ببُطلاَنِ الْفَسْخِ وَاسْتِمْرَارِ النِّكَاح (¬1)؟ ولَو قال: عَلِمْتُ عَيْبَ صاحبي، ولكني لم أعلم أنَّ الْعَيبَ يُثْبِتُ الْخِيَارِ، ففيه طَريقان: أشبههما: أَنَّهُ على القولَيْنِ في نظيره من خِيَارِ العِتْق، وسنذكرهما. والثَّانِي: القطْعُ بأنَّهُ لا يُعْذَرُ، والفَرْقُ أن الخِيَار بالعَيْبِ مشهورٌ في جنْسِ العُقُود، وخيار العتْق بخِلاَفِهِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (السَّبَبُ الثَّانِي: الغُرُورُ) ومَهمَا شُرطَ في العَقْدِ إسْلاَمُهَا أَوْ نَسَبُهَا أَوْ حُرِّيَّتُهَا أَوْ نَسَبُهُ أَوْ حُرِّيَّتُهُ فَاخْتَلَفَ الشَّرْطُ فَفِي صِحَّةِ العَقْدِ قَوْلاَنِ، وَإِنْ صَحَّحْنَا فَفِي خِيَارِ الخُلْفِ قَوْلاَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: السبب الثاني من أسباب الخيار الغرور بالاشتراط، فإذا شُرِطَ في العقد إسلامُ المنكوحة، فَبَانَ أنَّهَا ذِمِّيَّةُ، أو شُرِطَ نسبٌ، أو حريَّةٌ في أَحَدِ الزوجَيْن، فَبَانَ خِلاَفُ الْمَشْرُوطِ، فَفِي صِحَّةِ النِّكَاحِ قَوْلاَنِ: أصحهما: وبه قَالَ أبُو حَنِيْفَةَ واخْتَارَهُ المُزَنِيُّ: أنه صَحِيحٌ؛ لأنَّ الْخُلف في الشَّرْطِ لا يُوجِبُ فسادَ البَيْع مع أنَّه عرضة للفَسَادِ بالشُّروط الفاسدة، فأولَى ألا يوجب فَسَاد النكاح؛ وهذا لأنَّ المعقود علَيْه فيهما جميعاً عينٌ معينةٌ، وأنَّها لا تتبدَّل بالخُلِف في الصِّفَة. والثاني: المنع؛ لأن النِّكَاحَ يعتمد الصفاتِ والأسماءَ دُون التْعِيين والمُشَاهَدَةِ، فيكون اختلاف الصفة فيه كاختلافِ العَيْن، ولو اختلفَ العَيْنُ بِأنَ قَالَت زَوِّجْنِي منْ زَيدٍ، فزوَّجها مِنْ عَمْرو، لم يَصِحَّ النِّكَاحُ، وكذلك ههنا، وقرب بعضهم القَوْلين من الخلاف، فيما إذَا قال: بعتك هذه الرَّمَكَةَ، والإشَارَةُ إلى بَقَرَةٍ، قال الإِمام: وتلك الصورة بعيدةٌ عن المسألة الَّتي نحْنُ فيها؛ لأن الرَّمَكَةَ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ لموصوفٍ بصفاتِهِ، ليْسَ تعرّضاً لمجرَّد الصفة، والقولانِ فيمَا إذَا شَرَطَتْ حريته، فَبَانَ عَبْداً، مفروضانِ فيما إذا كان السيِّدُ قد أذِنَ لَهُ في النِّكَاحِ، وإلاَّ، لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ لِعَدَمِ الإذْنِ، وفِيمَا إذَا شَرَطَ حُرِّيَّتَهَا، فَخَرَجَت أَمَةً، مفروضانِ فِيمَا إذَا كَانَ السَّيِّدُ قَدْ أذِنَ في نِكَاحِهَا، وكان الزَّوْجُ ¬
مِمَّنْ يَحِلُّ له نِكَاحُ الإِماء، فَإِنْ فَقَدَ أَحَدَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ بِلاَ خِلاَف، ويجْرِي القولان في كُلِّ وَصْفٍ شرط، ثم تبيَّن خلافه، سواءٌ كان المشروط صفةَ كمالٍ؛ كَالْجَمَالِ وَالْيَسَارِ وَالشَّبَاب وَالْبَكَارَةِ، أو صفةَ نقصٍ، كأضدادِها، أو كان ممَّا لا يتعلَّق به كمالٌ ونقصانٌ، هذ هوَ الظَّاهِرِ، وفي "شَرْحِ مُختَصَرِ الْجُوَينِيِّ" أنَّهُمَا لا يجريان في جميع الصفات، وإنَّما هو في النسب والحرية، وما يُؤثِّر في الكفاءة. التَّفْرِيعُ: إذا قُلْنَا ببطلان النكاح، وفرَّقَنا بينهما، فَلاَ شَيْءٍ على الزوْج، إِذَا لَمْ يَجْرِ دخولٌ، وإن جَرَى، فَلاَ حَدَّ؛ لشُبْهَةِ اختلاف العلماء، وعليه مَهْرُ المِثْل، ولا سُكْنَى لها، ولا نفقة في العدَّةِ، إِن كانت حائلاً، وإنْ كانتْ حاملاً، فعلى القولَيْنِ في أن النفقة للحَملِ أو للحَامِل، إن جعلْنَا هَذَا للحَمْلِ وَجَبَتْ، وَإِلاَّ، فَلاَ، وإنْ حَكَمْنَا بِصِحَّةِ النِّكَاح، فإن بَانَ الْموصُوف خَيْراً مِمَّا شَرَطَ فِيهِ، فَلاَ خِيَارَ، وَهَذَا كَمَا لو شرط أنها كتابيَّةٌ، فَبَانَتْ مسلمةً، أو أمةٌ، فَبَانَتْ حُرَّةً أو ثَيِّباً، فَبَانَتْ بِكْراً، وإن بَانَ دَوْنَ الْمَشْرُوطِ، فَقَدْ أطْلَقَ صَاحِبُ الْكِتَاب قولَيْن في ثُبُوتِ خِيَارِ الخُلف، ووجَّه في "الْوَسِيطِ" قولَ الثبوتِ بالقياس على البيع. والقولَ الآخر، بِأَنَّ النِّكَاحَ بعيدٌ عن قبول الخيار، ولذلك لا يثْبُتُ فيه خيار الشرط، و [لا] خيار الرؤية، وسائر الأصحاب لم يطْلِقوا القولَيْن هكذا، وفصَّلوا، فقالوا: إذا شرط في الزوْج نسبٌ شريفٌ، فبان خلافُهُ [نُظِرَ] (¬1) ولو إِنْ كان نسَبُه دون نَسَبِها، فَلَهَا الْخِيَارُ، وَإن رَضِيَتْ هي، فلأوليائِهَا الخيارُ؛ لفَوَاتِ الكفاءة، وإنْ كان نسَبُهُ مثْلَ نَسَبِهَا، أو فَوْقَه إلاَّ أنَّهُ دونَ المَشْرُوطِ، ففِيه قولان: أصحُّهما: على ما ذكر في "التَّهْذِيبِ" أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لَهَا؛ لأنها لا تتعيَّر به. والثاني: يثبت؛ للتغْرِير، وَطَمَعِهَا في زيادة شرفه، وعن القاضي أبي حَامِدٍ طَرِيقَةٌ قَاطِعَةٌ: بأنَّه لا خيار لها، ولا خيارَ للأولياءِ؛ لأن الكفاءَةَ حاصلةٌ، والشرْطُ لا يؤثر في حقِّهم، وإن شُرِطَ في الزوجة نَسَبٌ، وبَانَ خلافُه، فطريقان. أظهرهما: إثبات الخِيَارَ لَهُ، على ما ذكرنا في جانب الزَّوْجة، حَتَّى يكُونَ له الْخِيَارُ، إِذَا كان نَسَبُها دون نَسَبِهِ، ويجيءُ فيه القَوْلاَنِ فِيمَا إِذَا كَانَ نَسَبُهَا مِثْلَ نَسَبِهِ أو فَوْقَهُ. والثَّاني: وهو اختيار الرُّوَيانِيِّ: أنه لا خِيارَ للزَّوْج، ووجَّهوه بمعنَيَيْنِ: أحدهما: أنَّ الزوج متمكِّنٌ من تخليصِ نَفْسه بالطَّلاق، وإنَّما يثبُتُ الخيارُ في النِّكَاحِ عنْد الضَّرُورة. ¬
والثَّاني: أنه لا يتضرَّر ولا يتعيَّر بدَناءة نسب الزوجة، بخلاف [العكس] (¬1) وإذا شرطت حريَّة الزَّوْج، فَخَرَجَ الزوج عبداً، فإنْ كانتِ الزوجةُ حُرَّةٌ، فَلَهَا الخيارُ، وكذلك لوليِّها؛ لعَدَمِ الكفاءة، وإن كانت أمةً، فوجهان: أحدهما: ثبوتُ الخيارِ للغرور. والثَّاني: المَنْعُ؛ لأنَّهما متكافِئَان، ولا، عار وحكَى الْقَاضِي ابنُ كَجِّ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ، وَالْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ طَرِيقَةً أُخرَى قَاطِعَةً بثبوتِ الخِيَارِ. ثُمَّ ذَكَرَ الإِمَامُ وَالْمُتَوَلِّي: أنَّ الخِيَارَ، إن ثَبَتَ، فإنَّما يثبت للسيِّد دون الأمة، فإنَّ له أن يجْبُرَها على أن تَنْكِحَ عبداً؛ بخِلاَف ما إِذَا ظهر بالزَّوج عيب يكون لها الخِيَار؛ لأنه لَيْسَ للسيِّد إجبارُها علَى نكاح من به أحَدُ العيوب المثبِتَةِ للخيار، وإن شَرَطَ حريَّةَ الزَّوجة، فخرجت أَمَةً هَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ للِزَّوج ترتب ذلك على التغرير بالنسب، إن أثبتنا الخيار هناك، فكذلك ههنا، وإلاَّ وجهان، إن عَلَّلْنَا بالتمكين من الطَّلاَقِ، فكذلك ههنا، وإن علَّلنا بأنه لاَ عاَرَ، ولا ضرَرَ، فههنا، يتضرر بِرِّقِ، الأولاد، وبِنُقْصَانِ الاستمتاع؛ لأن السَّيِّد يستخدِمُها، هذا إذا كان الزَّوْج حُرَّاً فإن كان عبداً وقلْنا بثبوت الخيار للحرَّ، فقولان: قَالَ فِي "التَّهْذِيبِ": أَصحُّهُمَا: أَنَّه لا خيار له لتكافُئِهما. وإن كان المشروطُ صفة أخرَى، فَإِنْ شُرِطَتْ في الزوْج، فَبَانَ خِلاَفهُ، والموجودُ دون المَشْرُوط، فلها الخيارُ، وإن شُرِطَتْ في الزَّوجَةِ، فَفِي ثُبُوتِ الخيار للزوج قولان: لتمكُّنه من الطَّلاَقِ (¬2)، ذكره في "التَّتِمَّةِ". قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَو ظَنَّنْهُ كُفْئاً فَإِذَا هُوَ غَيْرُ كُفْءٍ فلاَ خِيَارَ، وَلَوْ ظَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَإِذَا هِيَ كِتَابِيَّةٌ فَلَهُ الخِيَارُ، فلَوْ ظَنَّهَا حُرَّةٌ فَإذَا هِيَ رَقِيقَةٌ فَلاَ خِيَارَ، وَقِيلَ: فِيهِمَا قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ مَأخَذهُمَا أَنَّ الكُفْرَ وَالرِّقَّ هَلْ يَلْتَحِق بِالعُيُوبِ الخَمْسَةِ؟ وَقِيلَ: بَلْ مَأْخَذُهُمَا أَنَّ الْغُرُورَ بِالْفِعْلِ، هَلْ هُوَ كَالغُرُورِ بِالقَوْلِ؟، وَقيلَ: إِنَّ الكِتَابِيّةَ لاَ تَلْتَبِسُ بِالمُسْلِمَةِ إِلاَّ بِقَصْدٍ فَهُوَ تَغْرِيرٌ بِخِلاَفِ الأَمَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسأَلْتَانِ: الأولَى: إذا ظَنَّتْ أن زيداً كُفْء لها، فأذِنَتْ في تزويجها منْه، ثم بَانَ أنَّه ليس ¬
بِكُفْءٍ لها فَلاَ خيار لها؛ لأنه لم يُجْرَ شرط، والتقصير بينهما ومن الوليِّ، حيث لو بحثنا، وليس هذا كظنِّ السَّلاَمَةِ عن العُيُوب؛ لأن الظَّنَّ هناك يَنَّبني علَى أنَّ الغالِبَ السلامةُ، وههنا لا يمكن أن يقالَ: إِنَّ الغالِبَ كفاءةُ الخاطِب هَكَذَا أَطْلَقَ الْمَسْأَلَةَ صَاحِبُ "الكتاب" وينبغي أن يُفَصَّل، فيقال: إن كان فواتُ الكفَاءةِ [الدناءة] (¬1) نَسبَه أو حِرْفَتِهِ أَوْ لَفْسْقه، فالجواب: ما ذكرنا، وإن كان فَوَتُهَا لعيْبٍ، ثبت الخيار، وإِن كَانَ فواتُهَا لِرِقِّهِ، فليكن الحكمُ كما سنذكر على الأثر فيما إذا نَكَحَ امْرأةً على ظَنِّ أَنَّهَا حُرَّةٌ، فإذا هي رقيقةٌ، بل كانت المرأة أولَى بإثبات الخيارِ من جانب (¬2) الرَّجُلِ. الثانية: نكح امرأةً عَلى ظَنِّ أنَّها حُرَّةٌ، فخرجَتْ أَمَةً، وهو مِمَّنْ يحلُّ له نكاح الإماء، فالنَّصُّ أنه لا خِيَارَ (¬3)، ولو نكح امرأةً علَى ظَنِّ أنَّهَا مُسْلِمَة، فخرجت كتابيةً، فالَنَّصُّ أنَّ لَهُ الخيار، وللأصحاب طريقان، منْهم من نَقَلَ وخَرَّج، وجَعَلَ الصورتَيْن على قَوْليْن: أحَدُهُمَا: أنه يثبُت الخيارُ؛ لأنَّ الظاهِرَ في دَارِ الإسْلاَمِ الإسْلاَمُ وَالْحُرِّيَّةُ، فصار ذَلِكَ بمثابة المَشْرُوط. وَالثَّانِي: أنَّهُ لاَ خِيَارَ في وَاحِدَةٍ من الصورتَيْنِ لِبُعْدِ النِّكَاح عَنِ الْخِيَارِ، وضَعْفِ تأثيرِ الظَّنِّ، ولهَذَا لَوِ اشتَرى عبداً عَلَى ظَنِّ أنه كاتبٌ، فلم يكن، فلا خيار له، وذكروا للقولين وراء هذا مأخذَيْن: أَحَدُهُمَا: أنَّ الكَفْرَ والرِّقَّ هَل يلتحقان بالعُيُوب الخمسة أم لاَ؟. وَجْهُ الالْتِحَاقِ أنَّ الْكُفْرَ يوجب النُّفْرة عن الاستمتاع، كما أنَّ الْبَرَصَ والجُذَامَ يورِثَانِهمَا، والرق يتعدَّى إلى الولَدِ تخفيفاً كما أن الْبَرَصَ والجُذَامَ يُخَاف منهما التعدِّي. والثاني: أنَّ هذا الظَّنَّ يَنْشِأُ غَالِباً من فعْل وإبْهَامٍ صَادِرٍ من الوليِّ، أو من الزوْجَة، وإن لم يجر شَرْطٌ، فَهَلْ ينزل [التغرير بالفعل] (¬4) التغرير بالقول والاشتراط، وَجْهُ تنزيلِهِ منزلِتَه حصولُ التلبيس به ولهذا يثبت الخيارُ بالتصْرِيَةِ، كما يثبت بالخُلْفِ في الشَّرْطِ. ¬
والطَّرِيقُ الثَّاني: تقرير [النصيين] (¬1) والفرق من وجهين: أَشْهَرُهُمَا: وهو المذكور في الكتاب: أنَّ وليَّ الْكَافِرَةِ يكُونُ كافراً، وللكافرِيْنَ علاماتٌ يتميَّزُونَ بها من الغيار وغيره، فخفاء الحالِ عَلَى الزَّوْج إنَّمَا يكون بتدليس الوليِّ وتغْرِيرِه، ووليُّ الرقيقةِ لا يتَميَّز عن وَلي (¬2) الحُرَّة، فَلاَ تَغْرِيرَ، بل الزَّوْجُ هو المصر، حيْثُ لم يبْحَثْ عن الحال، وذكر في "الْوَسِيطِ" أنَّ ما جَرَى في صورة خُروجِهَا كتابيةً وإنْ أمْكَنَ أنْ يحْصُلَ بتَغْرِيرٍ، أثبتنا الخيار، فلو نَكَحَها وظَنَّ بكارتها، فإذا هي ثَيِّبٌ، لم يبعد إثباتُ الخيار؛ لأن النفرة ههنا أعظم، هذا لفظه، لكن تغيير الهيئة هناك أورث ظنَّ الإِسلام، ولم [يوجد] (¬3) ههنا ما يُورِثُ ظنَّ البكارة، نعم، قد يحْصُلُ السكوتُ عن بيان حالِهَا تصويراً، كما سموا السُّكُوتَ عن بيان العَيْبِ تغريراً. والوجه الثاني: أنَّ الْكُفْرَ مُنَفِّرٌ للمُسْلِم، فألْحق بالعُيُوب، والرِّق لا ينفر، ولا يمنع من الاستمتاع، فذلك افترقا في إثْبَاتِ الخيار، والأشبه طريقةُ القولَيْن، والأصحُّ على ما ذكره صَاحِبُ "التَّهذِيبِ" وغيره؛ أنَّه لا خيار. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَكُلُّ تَغْرِيرِ سَابِقٍ عَلَى العَقْدِ فلاَ يُؤَثِّرُ (و) في صِحَّةِ العَقْدِ، لَكِنْ يُؤَثِّرُ فِي الرُّجُوعِ بِالمَهْرِ إِذَا قَضَينَا بِالرُّجُوعِ عَلَى الغَارِّ فِي قَوْلٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الخُلْفُ في الشرط، إذا قلْنا: إنَّه لا يُفْسِرُ العقد، وُيثْبِتُ الخِيَارِ، فمَنْ له الخيارُ وإن أجاز العَقْد، كان للزوْجَةِ المهْرُ المسمَّى، وإن فسخ، نُظِر، إن كان قبل الدخول، لم يجِبْ نصف المَهْر، ولا المُتْعة، وإنْ كان بَعْدَ الدُّخول، ففي المهْرِ الواجِب قولان، كما في خيار العيب: أظهرهما: وهو المنصوص: أنَّ الواجِبَ مهْرُ المثل. والثاني: وهو مخرَّج: أن الواجِبَ المسمَّى، ونقل أَبُو الْفَرَجِ في "أمَالِيهِ" وَجْهاً: أنَّ الْوَاجِبَ أقَلُّ الأَمرَيْنِ من المسمَّى أو مهْر المثل؛ لأنَّه إن كان المسمَّى أَقَلَّ فَقَدْ رضِيَتْ به في العَقْد، وإنْ كان مَهْرُ المِثْلِ أقلَّ، فلا مَزِيدَ عليه؛ لأن المعوَّض، لم يُسلَّم للزوج، فلا يسلم لها العوض الملتزم، وهل يرجع الزوْجُ، إذا غُرِّمَ المَهْرُ علَى من غرَّهُ؟ فيه التفصيل والخلاف المثبتان في خيار العيب، والحُكْمُ في الكسْوة والنَّفَقة في مدة العدة على ما تقدَّم، إذا تقرَّر ذَلِك قَالَ الأَصْحَابُ: التغريرُ المؤَثِّر هُوَ الَّذِي يكُونُ مقروناً بالعقد على سَبِيلِ الاشتِرَاطُ أما إذا كَانَ سَابِقاً عليه، فَلاَ اعتبارَ به، وفيه وَجْهٌ أَنَّ السَّابِقَ ¬
أيضاً يؤَثِّر علَى ما ذكرنا في نكاح المحلِّل، وَهَذَا الخلافُ في تأثيره في فسادِ العَقْد، وفي إثبات الخِيَار، فأمَّا في الرُّجُوع بالمهر، إذا قضينا بالرجوع على الغَارِّ [فالتغرير] (¬1) السابق كالمقارن هكذا نقل صَاحِبُ الْكِتَاب وَحَقَّقَهُ الإِمَامُ فَقَال: لاَ يُشْتَرَطُ في تصوير التَّغْرِيرِ دُخُولُ الشَّرْطِ بَيْنَ الإيجَابِ والقَبُول، ولا صُدُورُهُ مِن العَاقِد؛ أَلاَ تَرَى أنَّنا نضمْنَ [الكتابية] (¬2) والأمة إذا كان التغرير منْهما، وليْسَا بعاقِدين، ولكن يُشْتَرط إتصِاله بالعَقْد، فلو قال: فلانةٌ حُرَّةٌ في معْرِض الترغيب في النِّكَاحِ، ثُمَّ تزوَّجها على الاتصال إما بالوكالة أو بالولاَيَةِ، فهذا تغريرٌ ولم يقصد بما قاله تحريض السامع، واتَّفَقَ بعد أَيَّامٍ أَنَّهُ زوَّجها من سمع كلامه، فلَيْسَ مَا جَرَى بتغرير، وإن ذَكَرَهُ لا في مَعْرِض التحريض، وجرى العَقْدُ على الاتصال، أو ذكره في مَعْرِضِ التَّحْرِيضِ، ولكن جَرَى الْعَقْدُ بَعْدَ زَمَانٍ فَاصِلٍ، ففي كونه تَغْرِيراً تردُّدٌ، ويشبه ألاَّ يعتبر الاتصالُ بالعَقْدِ عَلَى ما يقتضيه إطلاقُ صَاحِب "الكِتَابِ" وكان سببُ الفَرْقِ بين التأثير في الفساد أو في إثبات الخيار، وبين التَّأثِيرِ فِيَ الرُّجوعِ أَنَّ تعلُّق الضَّمَانِ بالتَّغرِيرِ أَوْسَعُ بابًا؛ وَلذَلِكَ ثَبَتَ الرُّجُوعُ علَى قولنا بمجرَّد السكوت عن عيب المنكوحة، إذا قدّم [الطعام إلى المالك، فأكله، وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُقدِّم] (¬3) في قول واللهُ أَعلَمُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (فَرْعٌ) إِذَا غُرَّ بِحُرِّيةِ أَمَةٍ فَوَلَدَتْ انْعَقَدَ الوَلَدُ حُرّاً وَعَلَى الْمَغْرُورِ قِيمَتُهُ للِسَّيِّدِ إِذْ فَاتَ رِقُّهُ بِظَنِّهِ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ حُرّاً أَوْ عَبْداً وَيرْجِعُ به (و) عَلَى الغَارِّ قَوْلاً وَاحِداً، وَإنَّمَا يَرْجِعُ إِذَا غَرِمَ، وَإِنْ كَانَ المَغْرُورُ عَبْداً تَعَلَّقَ القِيمَة بِرَقَبَتِهِ فِي قَوْلٍ، وَبِذِمَّتِهِ في قَوْلٍ، وَبِكَسْبِهِ في قَوْلٍ، وَالمُسَمَّى مِنَ المَهْرِ إِذَا لَزِمَ تَعَلَّقِ بِكَسْبِهِ، وَحَيْثُ لاَ يَلْزَمُ فَمَهْرُ المِثْلِ تَجْرِي الأَقْوَالُ الثَّلاَثةُ فِي مُتَعَلَّقِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الغَارَّةُ هِيَ الأَمَةَ تَعَلَّقُ عُهْدَةُ الزَّوجِ بِذَمَّتِهَا (و)، وَالمُكَاتَبَةُ كَالأَمَةِ إِلاَّ أَنَّ لاَ مَهْرَ لَهَا فَإنَّهَا الغَارَّةُ المُسْتَحِقَّةُ وَالسَّيِّدُ لاَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ التَّغْرِيرُ لأَنَّهُ إِنْ قَالَ: إنَّهَا حُرَّةٌ عَتِّقَتْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصودُ الفَرْع الكلامُ في ولَدِ المغْرُورِ بالحُرِّيَّة، فإِذا غَرَّ الرَّجُلُ بِحُرِّيَّةِ امرأة، فَبَانَتْ أَمَةً، وحكمنا بصحة النكاح (¬4)، فأولادُه الحاصِلُون منْها قبْلَ العِلْم بالحالِ، أحرارٌ؛ لظَنِّهِ الحرِّيَّة، كما لو وطئَ أَمَةَ الغَيْرِ علَى ظَنِّ أنها أَمَتُهُ، أو زوجَتُه الحُرَّةُ، ولا فَرْقَ في ذلك بيْن أن يجيز العقْدَ أو يفْسَخَ، إذا أثبتنا له الخيار، وكذلك لا فرق بين أن يكونَ الزَّوْج المغْرُورُ حُرَّاً أو عَبْداً؛ لاستوائهما في الظَّنِّ، وعند أَبِي حَنِيْفَةَ إنْ كان الزوْجُ ¬
عبداً، فالأولادُ أَرِقَّاءُ، واحْتَجُّ الأَصْحَابُ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالُوْا: مَنْ تَلِدُ لَهُ الْحُرَّةُ حُرَّاً تَلِدُ لَهُ الرَّقِيقَةُ عِنْدَ الغرور حُرّاً كالْحُرِّ، ثُمَّ يجبُ على المَغْرُور قيمةُ الأولادِ لسَيِّد الأمة؛ لأن رِقَّ الأم يقتضي رِقَّ الولد، وإنَّما انْعَقَدُوا أحْرَاراً بِظَنِّهِ، فكأنه فوَّت على السيد رِقَّهم. وَحَكَى الحَنَّاطِيُّ قَوْلاً: أنه لا يجبُ قيمةُ الولدِ، والمغرورُ معذورٌ في ظَنِّ الحرِّيَّة، وعلى الأوَّلِ، وهو المذْهَبُ: إن كان المغرور حُرَّاً، فالقيمةُ في ذمته مستقرةٌ مأخوذةٌ من مَالِهِ، وإِن كَانَ عَبْداً، ففي [متعلَّق] (¬1) القيمةِ ثلاثةُ أَقْوَالٍ، حَكَاهَا صَاحِبُ "الكِتَابِ" وابْنُ الصَّبَّاغِ وغيرهما: أحدهما: أنه يتعلَّق برقبته؛ لأن ظَنَّهُ فوَّت الرقَّ، فَصَارَ كَمَا لَو أَتْلَفَ مَالاً. والثّاني: يتعلَّق بكسبه؛ لأنه غُرْمٌ لَزِمَ في النكاح، فَأشْبَهَ المهْرَ والنفقةَ. وأصحهما: وهو المذْكُور في "التَّهْذِيبِ" أَنَّها تتعلَّق بذمته؛ لأنه لا جنايةَ منْه، وإنَّمَا أوهم شيئاً، فتوهَّمه، والحرِّيَّة تثبتُ بحُكْم الشرْعِ، والقيمةُ ليْسَتْ من قضايا النِّكَاح ولوازِمِه، حَتَّى يتعلَّقَ بالكَسْب بخلافِ المَهْر والنَّفَقَةِ، وتُعْتبر قيمةُ الأولادِ يَوْمَ الولادة، فإنَّه أول حالاتِ إِمكانِ التقْويم، وعن أَبِي حَنِيْفَةَ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ يُعتبر فيه يوم المرافعة إلى الحَاكِم، حَتَّى لوَ ماتُوا قَبْلَه، لم يجبْ شيْءٌ، وأما الأولادُ الحاصِلُون بعْد ظُهُور الحالِ، فهُمْ أرِقَّاءُ نعَمْ، لو كان الرجلُ عربياً، ففِي استرقاقِ العَرَب خلافٌ يذكر في موضعه، والظاهر أَنَّهُ لا فرْقَ بين العربِّي، وغيره، ثم في الفصل مَسَائِلُ: المسألة الأولى (¬2): في الرُّجُوعِ بالمَهْر المغروم على الغارِّ قولان، كما ذكرنا في الْفَسْخِ بالعَيْب، وأما قيمة الأَولادِ فيرجع الزَّوْج بها على الغارِّ قولاً واحداً؛ لأنه لم يدخل في العقْدِ على أن يَضْمَنَها؛ ولأنَّ المهر وجَب في مقابَلَةِ ما أتْلَفَ من منْفَعَة البُضْع، وغرامة المُتْلَف تستقرُّ على المُتْلِف. وعن ابنِ خَيْرَانَ وَابْنِ الْوَكِيلِ: أَنَّ في الْمَسْأَلَةِ قولاً آخَرَ: أنه لا يرجع بقيمة الأولاد، كما لا يرجع المهر في قول، وإذا قُلْنَا بالرجوع، فإنما يرجع، إذا غرم، كالضامن [وقد ذكرنا في الضامن] (¬3) وجهاً أنَّ له أن يرجع قَبْل أن يغرم فيجيء مثله ههنا، والظاهرُ المنع، وُيبنى عليه أنَّ المغْرُور، إنْ كان عبداً، وعلَّقنا القيمة، بذمته فإنَّما يرْجع على الغارِّ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لأنه حينئذٍ يغرم، أمَّا إذا علَّقناها بِكَسْبه، أو برقبته، وغرم سَيِّدُهُ من كسبه، أو من رقبته، فيرجع في الْحَالِ، وللمَغرُور مطالبةُ الغَارِّ [بتحصيله] (¬4) علَى ما ذكرنا في الضَّمَانِ. ¬
المسألة الثانية: إذَا كَانَ المغرورُ عَبْداً، وَقَدْ دَخَلَ بالمنكوحة، فحيث يَجِبُ المُسَمَّى يتعلَّق بكسبه؛ لأنه دَيْنٌ ثابتٌ في معاقدةٍ عَلَى ما يوجب إذْن السَّيِّدِ، ولوجوب المسمَّى تقريران: أحدهما: أن نقول: الخلف في الشرْطِ لا يُفْسِدُ العقد، ولاَ يثبت الخيارَ للعَبْد. والثاني: أنْ يثبت الخيار، ويجبر العَبْد. [والثالث] (¬1) أن يفسخ، ونقول بالقول المخرَّج، وهو وجوب المسمَّى، وحيث يجب مَهْرُ المِثْلِ، فيتعلَّق برقبته بكسبه أو بذمَّته فيه ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ، ولوجُوب المَهْر تقديران: أَحَدُهُمَا: أن يحكم بفساد العَقْد، والأقوالُ الثلاثةُ، والحالةُ هذه، مبنيةٌ على أنَّ إذْن السَّيِّدِ في النكاح يتناولُ الصَّحيحَ والفاسدَ منْه، أو يختصُ بالصحيح إنْ قلنا بالأول، فالمهر في كسبه، كما في النكاحِ الصحيحِ، وإِنْ قُلْنَا: يختص بالنِّكَاحِ الصَّحِيح، وَهُوَ الأصَحُّ، فَهَذَا نكاح بغير إذنُ السيِّد، جرى فيه دخولٌ، ومهْر المِثْلِ في مثل هذاَ النكاحِ يكونُ في ذمَّة العبد، أو يتعلَّق برقبته؟ فيه قولان: أظهرهما: أوَّلُهما. التقدير الثاني: أن يحكم بصحَّةِ العَقْدِ، وثبوتِ الخِيَار، ووجوب مَهْرِ المِثْلِ عنْد الفسخ، فإذا فسخ، ففي متعلَّق مهْرِ المثل الأَقْوال الثلاثَةُ: لأنَّا إذا أوجَبْنا مَهْرَ المِثْل أَلْحَقْنا النِّكَاح [المفسوخ بسبب مقارن للعقد بالنكاح] (¬2) الفاسد، وكان الشَّيخُ أبو مُحَمَّدٍ يُقَوِّي في هذا التصويرِ قَوْلَ التعليق بالكسب؛ لأنه مَهْرٌ واجبٌ في نكاحٍ صحيحٍ مأذونٍ فيه. المسألة الثالثة: لا يُتصوَّر الغرور بالحرِّيَّة من السَّيِّدِ؛ لأنه إذا قال: هِيَ حُرَّةٌ وزوَّجها، أو قَالَ: زوَّجتها علَى أنها حُرَّةٌ عَتَقَتْ، وخرجَتَ الصورةُ عن أن يكون نكاحَ غُرُورِ، وإنما يُتصوَّر ذلك من وكيل السَّيِّدِ في التزويج، أو مِنَ المنكوحَةِ نَفْسِها، أو منْهما ولا عِبْرَةَ بقول من ليس بعاقد، ولا معقود (¬3) عليه. ¬
الصورة الأُولَى: إذا كان الغُرُورُ من الوكيلِ، رَجَع المغْرُور عليه بالقيمة إذا غرمها، وبالمهر إذا أثبتنا الرجُوعَ بالمَهْر. الصورةُ الثانيةُ: إذا كانَ الغُرُور من الأمةِ المَنْكُوحَة، كان الرجُوعُ عَلَيْها، ولكنْ لا يرجِعُ في الحال، بل يتعلَّق الغُرْم بذمَّتها يُطَالِب به بعْدَ العِتْق. قَالَ الأَصْحَابُ: ولا يتعلَّق بكسبها؛ لأن الحقوق المتعلِّقة بالكَسْب هي الَّتي يأذن السيد فيها، كدَيْن المعاملة والضَّمَان، ولا إذن ههنا، ولا يتعلَّق برقبتها؛ لأن المتعلِّق بالرقبة بَدَلُ المتلفات، ولم يوجَدْ منها إتلافٌ، وإنَّما نُسِبَت إلى إثبات ظَنٍّ في نفس الزَّوْج، واندفع الرِّقُّ بظنه على موجب المعاقَدَة، لا على سبيل الإتْلاَف، هَذَا هو المَشْهُور، وحكى المُوفَّق بنُ طَاهِرٍ وَجْهاً غَرِيباً: أنَّ حَقَّ الرُّجُوع يتعلَّق برقبتها؛ لأنَّا نزلنا اندفاع الرِّقِّ بظنه منزلة تفويته، حَتَّى غرَّمناه، وكانت هي متسبِّبَّةً إلى التفويت، وفي الصورتَيْن يكون الرجُوع بكمال المهر؛ لأن المَهْر للسّيِّد، وقد أَخَذَهُ، وخرَج الوطء عن صورة الإِباحة. الصورة الثالثة: إذا غُرَّا جَمَيعاً، فالرُّجُوع عليهما، وفي كيفيَّته وجهان: أقريهما: وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاق أنه يرجع بالنصف على الوكيل في الحال، وبالنِّصف عليها بعد العِتْقِ. والثاني: له أن يرجع بالكلِّ على من شاء منْهما على الوكيل في الحَالِ، وعليها بعد العِتْق، ثم إذا رَجَعَ هَكَذَا، قَالَ صَاحِبُ "التَّهْذِيبِ" يرجع المأخوذُ منْه بالنِّصْف على الآخر، وقَالَ الحَنَّاطِيُّ وغيره؛ لا يرجع وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى الآخر؛ لأنَّ التغْرِيرَ كاملٌ من كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا، وَلَو ذكرت للوكيل حرِّيتها، وذكر الوكيلُ للزَّوْج، فيرجع المغُرور عَلَى الْوَكِيلِ في الحَالِ، وَالْوَكِيلُ عليها بعْد العتق، وَإنْ ذكرتْ للوكيل حُرِّيَّتَهَا، ثم ذكَرَتْ للزَّوْج، فَالرُّجُوعُ عليها، وَإِنْ ذَكَرَ الوكيلُ للزْوجِ أيضاً؛ لأنَّها لما شَافَهَتِ الزَّوْجِ، خرَجَ الوكيل من الوَسَط، هكذا ذكره في "التَّهْذِيبِ" [واللهُ أَعْلَمُ] وعلى هذا فصُورةُ تغريرِهِما ما إذا ذَكَرَا معاً، والله أعلم. المسألة الرابعة: التي غُرَّ، [بحريتها] (¬1) إنْ خرجت مدَبَّرةً، أو مكاتَبَةً، أو أمَّ ولدٍ، ¬
أو معْتَقَةً أو معتقة بصفة، فالكلامُ في صِحَّةِ النِّكَاحِ، ثم في إثْبَاتِ الخيار كما سبق فيما إذا خرجت قِنَّةً، نَعَمْ، إذا خرجَتْ مكاتَبةً، وفُسِخَ النكاحُ، فلا مَهْرَ لَهَا، إذا كان الغرورُ منْها؛ لأن المهر للمكاتَبَةِ، فلا مَعْنَى [للغرم] (¬1) لها، والاسترداد منْها، وَهَلْ يَجِبُ لَهَا أقلُّ ما يصلح مَهْراً فيه الخلافُ المذكورُ في العُيُوب، والأولادُ الحاصِلُونَ قبل العلم بالحال أحرارٌ، وعلى المَغْرور قيمتُهُمْ، ولمن تكون القيمةُ؟ يبنى ذلك على أنَّ وَلَدَ المكاتبَة قِنٌّ للسيد، أو مُكَاتَبٌ، تبعاً للأُمِّ، حَتَّى يَعْتِقَ بِعِتْقِها؟ فيه قولان، وإذا قُلْنَا مكاتَبٌ، فلو قتل فللقيمة للسيد، أو للمكاتَبَة تستعين بها في أداء النُّجُوم فيه (¬2) قولان، مَوْضِعُ بيانهما "كتاب الكتابة" وإنْ قُلْنَا: إنه قِنٌّ للسيد، أو قلْنا: إنَّ القيمةَ له، وإن تَكَاتَبَ، فالمغرور ههنا يغرم قيمة الأولاد للسيد، ويرجع بها على الوكيل، وعليها، وإن غرت، فتأخذ من كسبها، فإن لم يكن لها كَسْبٌ، فهو في ذمَّتها إلَى أن تعتق. وإنْ قُلْنَا: إنَّ القيمة لَهَا فَإِنَّ صدر الغرور منْها، لم يغرم القيمة لها، كالمَهْر، وإنْ صَدَر مِنَ الوكيل، غرم لها، ورجَع على الوَكيل. فَرْعٌ: إذا حَكَمْنَا ببُطلانِ النِّكَاح للخُلْف في الشرط، فالرُّجُوع بالمَهْر، إذا غرم الزوج مَهْرَ الْمِثلِ، لجريان الدخول، والرجُوع بالقيمة إذا أولدها، وغرم قيمة الولد؛ على ما ذكرنا تَفْريعاً على تصحيح النِّكَاحِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَو انْفَصَلَ الوَلَدُ مَيَّتاً فَلاَ قِيمَةَ لَهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِجِنَايَةِ جَانِ فَيُغَرَّمُ عَاقِلَةُ الجَانِي الغِرَّةِ لِوَرَثَةِ الجَنِينِ، وَيُغَرَّمُ المَغْرُورُ عُشْرَ قِيمَةِ الأَمَّ للسَّيِّدِ فِي وَجْهٍ، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ يُغَرَّمِ أَقَلِّ الأَمْرَيْنِ من عُشْرِ قِيمَةِ الأُمِّ أَوْ مَا سُلِّم لَهُ بِالوِرَاثَةِ مِنْ غِرَّةِ الجَنِينِ، لأَنَّهُ لَوْلاَ الغِرَّةُ لَمَا غُرِّمَ المَيِّتُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ما ذكرنا من وجوب قيمةِ الولدِ موْضِعُه ما إذا انفصل الجَنِينُ، حَيّاً، فأَمَّا إذا انْفَصَل مَيِّتاً، فيُنْظر؛ إن انفصلَ من غير جناية؛ لم يلزمه شيء؛ لأن حَيَاتَهُ غير متعينة، وحكَيْنا فيما إذا وطِئَ الغاصب، أو المشتَرِي منه الجاريةَ الْمَغْصُوبَةَ عن جَهْلٍ بالتحريم وأحبلها، وانْفَصَلَ الولَدُ ميتاً وجهاً: أنه تجبُ قيمته، ولو كان حَيّاً؛ لأن الظَّاهِرَ الحياة، فَلْيَجْرِ ههنا، وإِنِ انْفَصَلَ ميتاً بجنايةِ جانٍ؛ بأن ضَرَبَ ضَارِبٌ بَطْنَهَا، فأجهضت، فتُصوِّر ذلك على وجوه: أحدها: أن تَصْدُر الجنايةُ من أجنبيٍّ، فَيَجِبُ علَى عاقلته غرة الجنينِ؛ لانعقاده ¬
على الحرِّيَّة، وإذا انفصَلَ مضموناً، غرمه المغرور؛ لأنه يغرم له [فيغرمه] (¬1) عليه، كما أن العبْدَ الجانِيَ، إذا قَتل، تعلَّق حَقِّ المجنيَّ عليه بقيمته، ولو مات، لم يكُنْ على السيد شيْءٌ، وفي كتاب القاضي ابْنِ كَجٍّ أن أبَا إِسْحَاقَ ذَكَر وجهاً آخَر: أنَّه لا يُغَرَّمُهُ؛ لأنه لا قيمة للميِّت. والظَّاهِرُ: الأول [وضمانه عشر قيمة الأم] (¬2) فإن الجنينَ الرقيقَ يُضْمَن بهذا القَدْر، فإن كان قيمة الغرة مثْلَ عُشْر قيمة الأم، أو كانَتْ أكْثَرَ منه، فالمستحقُّ للسيد عُشْرُ القيمة، وإن كان العُشْرُ أكْثَرَ، فَوَجْهَانِ: أظهرهما: عند الإِمام، وهو اختيار القاضي حسين ونسبه صَاحِبُ "التَّهْذِيبِ" إلى الْعِرَاقِيِّينَ: أنه يستحقُّ العُشْر؛ لأنه لو انفصل رقيقاً، والحالةُ هذه، لَوَجَبَ على اَلجانِي عُشْرُ قيمة الأم، فإذَا فوَّت على السيد ذلك، فله غُرْمه، وهذا كما أنه يستحقُّ قيمته عند انقصاله حَيّاً، وإن زادَت عَلَى قَدْرِ الدية. والثَّانِي: أنَّه ليْسَ له إِلاَّ قدْرُ الغرَّة؛ لأن سبب غرامة الميت تقوُّمه، بالجناية، وَإِنَّمَا تقوم بالغرة، فلا يرتد الواجِبُ عليها، ويُعَبَّرُ عن هذا بأنَّ المستحقَّ أقلُّ الأمرَيْنِ من الغرَّة وعشر قيمة الأم، إلى هذَيّن الوجهَيْن يرجع ما حكاه أبو الفرج الزاز من اختلافِ الأصْحَابِ في محل الغُرْم المستحقُّ. فمنهم من قال: إنّه على المغرور، والغرَّة تُسلَّم لورثة الجنين، وهذا بناءً على أن السَّيِّدَ يستحقُّ العُشْرَ، بسبب ما فوَّته المغرورُ عليه بظنِّه، وعلى هَذَا لا يُتوقَّف تغريمه على حصول الغرَّة له. ومنهم من قال: إنما لم يستحقَّه السيد بتعلُّق بالغرة فيأخذ منها حقُّه، فإِن فضل شيء، كان لورثةِ الجَنِين، وهذا بناءً على أَنَّ ما يستحقُّه يستحقُّه بسبب الغرة فيتمسك بها، كما أن العبَد الجانِيَ إذا قَتَلَ، يتعلَّق حقُّ المجنيِّ عليه بقيمته، وعلى هذا، لا يغرم المغرور، حَتَّى يَأْخُذَ الغرَّة، وُينْظَر إِلَى ما يحْصُل له من الغِرَّة [فَإنْ كَانَ يجوز ميراث الجنين، فَذَاكَ، وَإلاَّ فيغرم أقل الأمرين من حصته من الغرة] والعُشْر، ولا يُتصوَّر أَنْ يَرِثَ مَعَ الأَبِ المَغْرُورِ إِلاَّ الجَدَّة أمِّ الأم، ولا تَسْقُط بالأمِّ؛ لأنَّها رَقِيقَةٌ، والظاهرُ الوجْهُ الأول. وقوله في الكتاب: ["فتغر] (¬3) عاقلة الجاني الغرَّة لورثة الجنين" يوافقه، وقرَّب بعضهم الوجهين في أَنَّ الواجِبَ عُشْرُ قيمة الأم، أو أقلُّ الأمرَيْنِ من القولَيْنِ في أنَّ ¬
فرعان
السَّيِّدَ، إذا أراد فداء العبد الجانِي يفديه بالأَرْش بالغاً ما بَلَغ، أو بأقلِّ الأمرين واستبعد الإِمام أخْذَ ما نَحْنُ فيه من فداء العبد الجانِي؛ لأن الأَرْشَ هناك متعلِّق بالعبد، والسيِّدُ يريد استيفاءه، فيتجه ألا يلزم أكثر من قيمته، فَإِنَّه سلَّمَه للبَيْع، لم يَحْصُل إلاَّ قَدْرُ ثمنه ظَاهِراً، وَالَّذِي يضمنه المغرور ههنا سَبَبُهُ التفويتُ، فيغرَّم قيمة المفوّت. والثاني: أنْ تصدر الجنايةُ من المغْرُور نفسه، فَعَلَى عاقلته الغرَّة، وَيجِبُ عَلَى الْمَغْرُور عشْرُ قيمة الأم، إن اعتمدنا التفْويتَ، وأوجبنا تمام العُشْر، فإن زَادَ على الغرَّة، وتسلم الغرة للورثة، وإن قصَّرنا النَّظَر على الغرة، وأوْجَبنا أقلَّ الأمرين، فيتعلَّق حَقُّ السَّيِّدِ بالغرَّة، فيؤدّي منْها، وما فَضُلَ يكون للورثة، وعلى التقديرَيْن لا يَرِثُ المغرور شيئاً منْها؛ لأنَّه قاتل، ولا يَحْجُبَ مَن بَعدَهِ مِنَ العَصَبات، فإنْ كان المَغْرور عَبْداً، فالغرَّة تتعلَّق برقبته، ثُمَّ إِنْ نَظَرْنَا إِلى الغرة، ولم نوجِبْ زيادةً عليها، فهذا حصلَتِ الغرَّةُ صُرِفَ إلى السَّيِّدِ منْها عُشْرُ قيمة الأم، فإنْ فَضُل شيء، فهُوَ للورثة، وإن اعتمدنا التفويت، سلمت الغرَّةُ للورثة، وَحقُّ السَّيِّدِ يتعلَّق بذمَّة المَغْرُور، [و] الثالث: أن تصدر الجناية من عَبْدِ المَغرُورِ فإنِ اعتمدنا التفْوِيت، فَحَقُّ سيِّدِ الأمة على المَغْرُور، ولا تتعلَّق الغرَّةُ برقبته، إن كان المغَرورُ حائزاً لميراثِ الجَنِين؛ لأنَّه لا يستحِقُّ علَى عبده شيئاً، وَإنِ اجْتَمَعَتْ جدةِ الجَنِينِ معَه تعلق نصيبها برقبته، وإنْ قَصَرْنا النَّظَر علَى الغرَّة، تعلَّقت الغرةُ برقبته، ليؤدّي منْها حقّ السيد، فإنْ فضل شيء، فَعَلَى ما بَيَّنَا. والرَّابعُ: أن تصْدُر الجنايةُ من سيد الأمة، فَعَلَى عاقلته الغرَّة، ثُمَّ إن اعتمدنا التفويت، سلمت الغرة للورثة، وغرِّم المغرورُ للسيِّدِ عُشْرَ قيمةِ الأم. قَالَ الإمَامُ -قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ-: ويجوز أن يُقَالَ: انفصالُه بجناية السيِّد كانفصاله بلا جنايةٍ، فَلا يغرَّم المغرور له شيئاً، وإن قصَرْنا النَّظَر على الغرة، فإذا حصَلَتْ، يُصْرَفُ منْها العُشْر إلى السيِّد، فإن كان قد فضل شيْءٌ، فهو للورثة. قال الإِمام وإذا كانَتِ الغرَّةُ قدْر العشر أو أقلَّ وصرَفْنَاهَا إلى السيد، كان الحاصل إيجابَ مالٍ عَلَى عاقلة الجانِي للجانِي، وهو مستبْعَدٌ، والله أَعْلَمُ قال. فرعان: الأول: حَكَى الْقَاضِي ابنُ كَجٍّ وغيره طَرِيقَيْنِ في خيار الغُرُور، هَلْ هُوَ على الفَوْر؟. أشبههما: نَعَمْ، كَخِيَارِ العَيْب. والثَّانِي: أنه على الأقْوَال الَّتِي [سنذكرها] (¬1) في خيار العِتْق، وفي "التَّهْذِيبِ" إنَّا ¬
إذا أثبتنا الفَسْخ ينفرد مَنْ له الخيارُ بالفَسْخ، ولا يُحْتَاج إلى الحاكِم، كفَسْخ البيع بالعيب ولكنْ هذا الخيارُ مختلفٌ، فيه فإنا نُبْطِلُ العقْدَ علَى رأي، وبتقديَرِ الصحَّة، ففي الخيار اختلافٌ، فليكن كفسخ النِّكَاحِ بالعَيْبِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (السَّبَبُ الثَّالِثُ: الْعِتْقُ) وَإِذَا عَتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَلَهَا الخِيَارُ، وَإِنْ عَتِقَتْ تَحْتَ حُرٍّ فَلاَ خِيَارَ (ح). وَإِنْ عَتَقَ نِصْفُهَا فَلاَ خِيَارَ (ز)، وَلَوْ عَتَقَتْ تَحْتَ مَنْ نِصْفُهُ رَقِيقٌ فَلَهَا الخِيَارُ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الفَسْخِ طَلاَقاً رَجْعِيّاً فَلَهَا الفَسْخُ لِيَنْقَطِعَ سُلْطَانُ الزَّوْجِ، وَإِنْ أَجَازَتْ لَمْ يَنْفُذْ؛ لأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَقِبلَ: يُخَرَّجُ عَلَى وَقْفِ العُقُودِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلاَقُ بَائِناً بَطَلَ خِيَارُهَا، وَلَوْ عَتَقَ الزَّوْجُ وَتَحْتَهُ أَمَةٌ فَلاَ خِيَارَ لَهُ (و)، وَإِنْ فَسَخَتْ قَبْلَ المَسِيسِ، فَلاَ مَهْرَ لَهَا، وإنْ فَسَخَتْ بَعْدَ المَسِيسِ فَلسَّيِّدِ كَمَالُ المُسَمَّى قَوْلاً وَاحِداً، وَهَذَا الخِيَارُ أَيْضاً عَلَى الفَوْرِ (ح)، وَفِي قَوْلٍ يَتَمَادَى إلَى ثَلاثةِ أَيَّامٍ، وَفِي قَوْلٍ لاَ يَسْقُطُ (ح) إلاَّ بِإسْقَاطٍ أَوْ تَمْكِينٍ (ح) مِنَ الوَطْءِ، فَلَوْ مَكَّنَتْ ثُمَّ ادَّعَتِ الجَهْلِ بِالْعِتْقِ لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهَا إِذَا حَلَفتْ، وَلَوِ ادَّعَتِ الجَهْلِ بِأَنَّ الخِيَارَ عَلَى الفَوْرَ لَمْ تُعْذَرْ، وَلَوِ ادَّعَتِ الجَهْلِ بِثُبُوتِ أَصْلِ الْخِيَارِ فَتُعْذَرُ عَلَى قَوْلٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من أسبابِ الخيار حدوثُ عتْقِ المنكوحة، فهذا عَتَقَتِ الأَمَةُ تحْتَ عبْدٍ، ثَبَتَ لها الخيار، لِمَا رُوِيَ أن بَريرَةَ أُعْتِقَتْ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬1) - وَكَانَ زَوْجُهَا عَلَى مَا رُويَ عن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنْهُمْ- عَبْداً (¬2). ¬
وِإَنْ عَتَقَتْ تحْتَ حُرٍّ، فَلاَ خِيَارَ لَهَا، وبه قَالَ أحْمَدُ ومَالِكٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَقَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: لَهَا الْخِيَارُ، دليلُنا أنَّ الكمالَ الحادِثَ لَهَا حاصلٌ للزَّوْج، فأشبه ما إذا أسلمتُ كتابيةٌ تحْتَ مسْلِمٍ، وليسَ كَمَا إذا أُعْتِقَتْ تحْتَ عبد؛ لأنها تتضرَّر هناك من حَيْثُ إِن سيِّدَهُ يمْنَعُه عنها، ولا نفقَة لولدها عليه، ولا ولايَةَ له علَى ولدها، ولا يَرِثُ منه، وههنا بخلافه، وإنما يثبت الخيار، إذا عُتَق كلُّها، فأَمَّا إِذَا عتق بعضها، فَلاَ خيارَ لبَقَاءِ النّقْصَان، أو أحكامِ الرِّقِّ خِلاَفاً لِلْمُزَنِيِّ فيما رَوَى الْموفق بنُ طَاهِرٍ. ولو دُبِّرَت أو كُوتَبَتْ، أو عُلِّق عَتْقُها بصفةٍ، فكذلك لا خيار، ولو عَتَقَت تحْت من بعْضُه رقيقٌ، أو تحْتَ مكاتَبِ، أو مدَبَّرِ، ثبت لها الخيارُ؛ لوجود النقصان فيه، ولا فَرْقَ في ثبوت الخيار بَيْن أن تطرأ الحريةُ، قِنَّةٌ وهي، أو تطْرأَ، وهيَ مكاتَبةٌ، أو مدَبَّرةٌ، ولو عَتَق الزوْج، وتحته أمةٌ ففيه وجه أو قول أنَّ لَهُ الْخِيَارِ، كما في الطَّرف الآخر، ولهذا يُسوَّى بينهما في خيارِ العَيْب، والظَّاهِرُ المنْعُ؛ لأن معتمدَ هَذا الخيار الخَبَرُ، وليستِ الصورةُ في معْنَى صورة النصِّ؛ لأنه لا يتعيَّر باستفراش النَّاقِصَة، ويمْكِنَه التخلُّص بالطَّلاق، ولو عَتَقَا معاً، فلا خِيَارَ. ويثبت خيار العِتْق للصَّبيَّة والمجْنُونة عنْد البُلُوغِ وَالإِفَاقَةِ، ولا يقوم الوليُّ مقامهما في الفسخ والإِجازة؛ لأنه خيارُ شهوةٍ وطبعٍ، ولو عتَقَ اَلزَّوْج قبل أن تفسخ العتيقةُ، فقولان: أظهرهما (¬1): وهو المنصوص في "الْمُخْتَصَرِ": أنه يبطل خيارُها؛ لزوال الضَّرَر، والخلافُ في المسألة كالخلافِ في الرَّدِّ بعْد زوال العَيْب، وفي الأخْذِ بالشُّفْعَةِ بعْد بَيْع ما تستحقُّ به الشُّفْعَةُ، ثم فيه مَسَائِلُ. المسألة الأولى: لو طلَّقها الزوج طلاقاً رجعياً، فعَتَقَت في العدة، فلها الفسْخُ؛ لتقطع سلْطنةَ الرَّجْعة، وتدفع تطويل الانتظار؛ لأنَّها لو أَخَّرَتِ الْفَسْخَ إلَى أن يراجع ¬
كانَتِ العدَّة من يومئذٍ، وفي "أمالي" أبي الفرج السَّرْخَسِيِّ وجْهٌ عن صاحب "التَّقْرِيبِ" أن الفسْخَ موقوفٌ، إن راجعها، نَفَذَ، وإلاَّ، فَلاَ، وإِذَا فسَخَتْ، فتستأنف عدةً أخَرى، أم يكفي بقيَّةُ تلك العدة؟ فيه قولان، كما لو طلَّق الرجعيَّةَ، طلقةَ أخرَى، وإذا قُلْنَا بالبناء، فتكمل عدَّةَ الحرائرِ، أم تكْفِي عدة الإِمَاءِ؟ فيه خلافٌ وموضع بيان ذلك "كتاب العدة" ولو أخَّرت الفسخ، فلَهَا ذلك، ولا يبطُلُ خيارُها؛ لأنها بصدَدِ البينونة، وقد لا يراجِعُها، فَيَحْصُل الفراقُ من غير أن تُظْهِرَ من نَفْسِها الرغْبةٍ عنه، ولو أجازَتْ، لم تنفذ الإِجازة؛ لأنَّها محرمةٌ منتهيةٌ إلى البينونةِ، والإِجازةُ لا تلائمُ حالها. قَالَ الإمَامُ: ولم يخرِّجوه على وقْف العقود؛ لأنَّ شرط الوقْفِ أن يَكُونَ موردُ العقْد قابلاً لمقصودِ العَقْدِ؛ ألاَ تَرَى أن بيع الخمر لا يوقَفُ إلى أن يتخلَّل، وهي على حالتها غَيْرُ مستحيلةٍ، وَحُكِيَ عَن الشَّيْخِ أبي مُحَمَّدٍ حكايةُ وجهٍ في نفوذ إجازتها وصاحب "الكتاب" نقله عن بعْضِهِم تخريجاً على وقْفِ العقود، فإنْ راجعها، نفَذَت، وإِلاَّ لَغَتْ. ولو ثبت لَهَا خِيَارُ العِتْقِ، فطَّلقها قبل أن تفسخ، فإنْ كان الطلاقُ رَجعِياً بقي حقّها في الفسخ، والحكم كَمَا إذا أُعْتِقَتْ في العدة، وإن كَانَ الطَّلاَقُ بَائِناً، فَعَنْ نَصِّهِ في "الأم": أنه موقوف [إن فسخت] (¬1) بَانَ أنَّ الطَّلاَقَ لم يَقَع، وإن لم تفْسخ، بَانَ أن الطلاقَ وقع؛ لأن تنفيذه في الحالِ يُبْطِل حقاً من الفسخ فليمتنع، وأيضاً، فإِنَّه، إذا طلَّق في الردَّة يكون الطَّلاَقُ مَوْقُوفاً، فكذا ههنا، وَالأَصَحُّ المذكورُ في "الكتاب"، وهو المنقول عن نصِّه في "الإِملاء": أَنَّه يقع الطلاقُ؛ لمصادفته للنكاح، وَيبْطُلُ الخيار، وليس كَالطَّلاقِ في الرِّدَّة؛ لأن الانفساخَ بالرِّدَّة يَسْتَنِدُ إَلَى حالةِ الرِّدَّة، فتبيَّن أَنَّ الطَّلاَقَ لَمْ يصادف النكاح، والفَسْخُ بالعتْق لا يستندُ إلَى ما قبله، ومنهم مَنْ لَمْ يُثْبِتِ الْقَوْلَ الأوَّلَ، ولو طَلَّقَ الزوْج المعِيبُ قبل فسْخِ الزوجة، ففي نفوذ الطَّلاَقِ أو وَقْفِه هذا الخلاف (¬2)، ويجوز إعلامُ قوله في "الكتاب" "وإن أجازت لم ينفذ" بالواو؛ للوجْه الذاهب إلى أن تنفيذها مطْلَقاً. المسألة الثانية: إنْ فَسَخَتِ العتيقةُ النِّكَاحَ قبل الدخول، سَقَطَ الْمَهرُ، وَلَيْسَ لِسَيِّدِهَا منْعُها من الفسخ؛ فإنه مشروع لدَفْع الضَررِ عن نفسها، وإن فَسَخَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، نُظِرَ؛ إن تقدَّم الدخولُ على العتْق، وجب المسمَّى، وإن تأخَّر عن العتق، وكانتْ هي جَاهِلَة بالحال، فيجب مهْرُ المثل أو المسمَّى جعله صاحب "التَّهْذِيبِ" على الخلاف المذكور فيما إذا حدَث العَيْبُ، ثم جرى الدُّخُول، ثم فُرِضَ الفسخ. ¬
وقال: ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وُجُوبُ مَهْرِ المثل؛ لأن سبَب الفَسْخ قد يقدَّم على الدخول، فكأنه وُجِدَ يوْمَ العَقْد، وعلى هَذَا، جرى أئمَّتنا العراقيُّون، وربَّما اقتصروا عَلى وجوب مهر المثل، ولم يذْكُروا فيه خلافاً، ورجَّح جماعة قولَ وجُوب المُسمَّى وزاد الإِمام، وَصَاحِبُ "الْكِتَابِ" فقالا: "إذا جرى الفَسْخُ بَعْدَ الدخول يجب المسمَّى، ولا يجري فيه القولُ المنصوصُ في العُيُوب أنه يجِبُ مَهْر المثْل فيه" ووجَّهاه بأنَّ المهْر للسيد لاَ لها، وهو بالإِعتاق محْسِنٌ إليها، فلا ينبغي أنْ يُرَدَّ إلى مهر المثل، وقد يعترض عليه الأولون، بأنَّ مهْرَ المِثْل قد يزيدُ علَى المسمَّى، وبتقدير أن يزيد المسمَّى، فلا يبعدُ أن يجب الردُّ إلى مَهْرِ المثْل قضية للفسخ، وإن لم يكن المهرُ لَهَا، كما يسْقُطُ جميعه، إذا فَسَخت قَبْل الدخول، وسواءٌ وَجَبَ مهْر المثل أو المسمَّى، فإنَّه للسيد، وكذا لو اختارَتِ المُقَامَ معه، وجرَى في العقد تسمية صحيحة أو فاسدة، فَالْمَهْرِ للِسَّيِّدِ، لأنَّه وجَبَ بالعقْد، وإن كان السيد زوَّجَها على صور: التفويض، فإن دخل بها الزوْج، أو فرض لها قبل العِتْق، فهو للسيد أيضاً، وإن عتقت، ثم دخل بها، أو فرض لها فقولان: في أن الْمَهْرَ لها، أو للسيِّد؛ بناءً على أنَّ مَهْرَ المفوِّضة يَجِبُ بالعَقْد، أو بالفَرْض، أو بالدخول. المسألة الثالثة: خيارُ العِتْقِ على الفَوْر في أظهر القولَيْن، كخيار العَيْبِ في البيع وغيره. وَالثَّانِي: على التَّرَاخِي؛ لأنه رُوِيَ أن زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ يَطُوفُ خَلْفَهَا، وَيبْكِي؛ خَوْفاً: مِنْ أَنْ تُفَارِقَهُ، وَطَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يَشْفَعَ إِلَيْهَا، فَلَمْ تَقْبَلُ، وَفَارَقَتْهُ (¬1)، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْفَوْرَ، لَبَطَلَ حَقُّهَا بِالتَّأْخِيرِ، واسْتغنَى عن الشَّفاعة، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلاَنِ: أحدهما: أنه يمتدُّ ثلاثَةَ، أيام: لأنَّها قد تحتاجُ إلَى نَظر وَتَأمُّلٍ، لتَعْرِفَ المصلحةَ، ومدة الثَّلاَثِ قريبةٌ، وهي مدةُ التروِّي في الشَّرْع. والثَّاني: تمتدُّ إلى أن تصرِّح [بإسقاطه] (¬2) أو تُمَكِّنَ من الوطء طائعةً؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِبَرِيرَةَ: "إِنْ كَانَ قَرَبَكِ، فَلاَ خِيَارَ لَكِ" (¬3) وعن حَفْصَةَ - ¬
رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مِثْلُ ذَلِكَ، وقد يُتركُ التنْزِيل، ويقال: في المسألة ثلاثةُ أقوالٍ، كما في "الكتاب" وفي "الشَّامِلِ"؛ أن بعض الأصحاب ذَهَبَ إلى أنَّ خِيَارَهَا مقدَّرٌ بالمجْلِس. التفريع: إن قُلْنَا: إنَّه على الفَوْر، فالحُكْمُ على ما ذكَرْنا في الرَّدِّ بالعَيْب، وفي الشُّفْعَة، وذكر الإمام -قَدَّسَ اللهُ رَوحَهُ- تفريعاً على القَوْل الثاني؛ أن ابتداء الأيَّام الثَّلاَثَةِ تُحسبُ من وقْت تخييرها، وَذَلِكَ إذا علمت بالعِتْق، وبتأثيره في الخيار، ولاَ تُحسبُ من وقْت العِتْق، وذكر تفريعاً على القول الثالث: أنَّها لو مَكَّنت، ولكن لم يُصِبْهَا الزوْجُ لا يبطلْ حَقِهَا؛ لأن التمكين من الوطء لا يتحقَّق إلا عند حصول الوطء، وإنَّه لو أَصَابَهَا الزوج قَهْراً، ففي سقوط الخيار تردُّد؛ لأنها كانت متمكِّنة من الفَسْخ عند الوطء فإن كانَ قد قبض علَى فيهَا، فلا تردُّد في بقاء حَقِّهَا وحكى القاضِي ابنُ كَجٍّ تفريعاً علَى [هذا القول] (¬1) وجهين فيما إذا قال: أصبتها، وأَنْكَرَتْ، في وجْه يُصدَّقُ الزوج؛ لأن الأصْلَ بقاء النِّكَاحِ، وفي وجْهٍ: تُصدَّق الزوجة؛ لأن الأَصْلَ عدَمُ الإِصابَةِ، وبقاءُ الخيار، ولو تمكَّنت من الفسخ، ولم تَفْسَخ وقلْنا بالقول الأوَّل؛ أو مضتْ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، ولم تفْسَخ، وقُلْنَا بالْقَولِ الثَّانِي، أو مكَّنت من الوطء وقلْنا بالقول الثالث، ثم ادَّعت الجَهْلَ بالعِتْق، فالَقولُ قولُها مع يمينها، إن لم يُكَذِّبْها ظاهرُ الحال؛ بأن كان السيِّدُ غائباً وقْتَ العِتْق، وإن كذَّبها ظاهرُ الحال؛ بأن كانت معه في بيته، وبعُدَ خفاءِ العِتْق علَيْها، فالمصدَّق الزوج، ومنهم من أَطْلَقَ في الْمَسْأَلَةِ قولَيْن، ويحْكَى ذلك عن أبي إِسْحَاقَ، والظاهرُ الأول، وإنِ ادَّعَتِ الجَهْلَ؛ بأن العتق يُثْبِتُ الخِيار، فقولان: أحدهما: أنها لا تصدَّق ويبطل الخيار، كما إذا قَالَ الْمُشْتَرِي لم أعلم أنَّ العَيْبَ يُثْبِت الخيار. وأصحُّهما: التصْدِيقُ؛ لأن الأصل عدَمُ العِلْم، ويخالف خيار العيب؛ لأنه مشهور يعرفه كلُّ أحد، وهذا خفيٌّ لا يعرفه إلا الخواصُّ. وحكَى أبو الفرج الزاز طَرِيقةً قَاطِعَةً بالقول الأول، وهي بعيدةٌ وأما قوله في الكتاب: "ولو ادَّعَتِ الجَهْلَ بَأَنِ الخيارَ عَلَى الفَوْرِ لم تْعْذَر" (¬2) فيجوز أن يُوجَّه بأن الغالِبَ أنَّ مَنْ علم أصْلَ ثبوت الخيار يَعْلَم كونه أيضاً على الفَوْر، وإذا علمتْ أن ههنا خياراً، بسبب النقصان أشبه أن تعرف التحاقه به، ولم أَرَ تعرُّضاً لهذه الصورة في سائِرِ كتب الأصحاب، نعم، صوَّرها العَبَّادِيُّ في "الرقم" وأجاب بأنَّها، إن كانت قديمة العهد ¬
بالإِسْلاَم، وَخَالَطَتْ أَهْلَهُ لَمْ تُعْذَر، وإنْ كانتْ حديثةَ العَهْد، أو لم تخالط أهلَهُ، فقولان، وإذا عَرَفْتَ جميع ما ذكرنا، أَعْلَمْتَ قوله في "الكتاب قولاً واحد" بالواو، وكذا قوله "لم يسقط خيارها"، وقوله: "لم تعذر". وقوله "آخراً "على قول" ويجوز أن يُعْلَم الحكْمُ في الأقوال، الثلاثة بالحاء؛ لأن عند أَبِي حَنِيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يجب لها الخيارُ [ما دامت] (¬1) في المجلس، كالوجه المنقول عن "الشَّامِلِ" وحينئذٍ، فلا يكون على الفَوْر، ولا يتقدَّر بثلاثة أيام، ويسقط من غير إسقاط وتمكين من الوطء. فَرْعُ: هذا الفسْخُ لا يحتاج إلَى مراجعة الحاكم، والمرافعة إلَيْه؛ لأنه ثابت بالنص والإِجماع، فأشبه الردَّ بالعيب والشُّفْعة (¬2). قَالَ الغَزَالِيُّ: (السَّبَبُ الرَّابعُ: العُنَّةُ) وَمَهْمَا وَقَعَ اليَأْسُ عَنِ الوَطْءِ بجَبِّ أَوْ عُنَّةِ أَوْ مَرَضٍ مُزْمِنٍ ثَبَتَ لَهَا الخِيَارُ، وَفِي إِلْحَاقِ الإِخْصَاءِ بالجَبِّ قَوْلاَنِ، وَالعُنَّةُ الطَّارِئَةُ بَعْدَ الوَطْءِ لاَ تُؤَثِّرُ، ولَوْ عُنَّ عَنِ امْرَأَةٍ دُونَ غَيْرِهَا فَلَهَا الخِيَارُ، وَلَوْ عُنَّ عَنِ المَأْتَى وَقَدَر عَلَى غَيْر المَأْتَى فَلَهَا الخَيارُ (و). قَالَ الرَّافِعِيُّ: قَدْ مَرَّ في فَصْل العيوب أن العُنَّة من أسباب الخيار؛ لأنها تُفوِّت الجماع، وتوجب اليَأْس منْه، والجَبُّ أيضاً يثبت الخيار، إن لم يَبْقَ ما يمكن الجماع به؛ بأن اسْتُؤْصِلَ العُضْو، وكان الباقي دُونَ قَدْر الحَشَفَةِ، فإنْ بقيَ قَدْر الحَشَفة أو أكثر، فلا خِيار بسبب الجب وفي كتاب القاضي ابنِ كَجٍّ أن أبا الطَّيِّب بْنَ سَلَمَةَ خرَّجه على قولين، كَمَا في الخصَاء، والمذهبُ الأولُ، لكن لو عَجَز عن الجِمَاع به، فهُو كالسَّليم، إذ عَجَز، فتضرب له المدة. وعن الشَّيخِ أبي حَامِدٍ: أنه يثبت الخيارُ في الحالِ؛ لأنَّ العيْبَ متحقِّقٌ، والظَّاهِرُ دوام العَجْز، وفي معناهما المَرَضُ المِزْمنُ الذي لا يتوقَّع زواله، ولا يمكنُ الجماعُ معه ذَكَرَهُ الشَّيخُ أبو مُحَمَّدٍ وغيره، وإذا وجدت المرأة زوجَها خصيّاً مَوْجُؤ الخِصْيَتَيْنِ أو مسلولَهِما، فَهَلْ لَهَا الْخِيَارُ فيه قولان: أحدهما: نَعَمْ؛ لأن في المقام تحته عاراً عليها؛ ولأنه لا يَلِدُ. ¬
وأصحُّهما: المنع، وقد قطَع به بَعْضُهم (¬1)، لبقاء آلة الجماع، وقدْرَته عليه، ويقال: إنَّه أقدر عليه؛ لأنه لا يُنْزل، ولا يعتريه فُتورٌ، ويُنْسَب الأول إلى القديم، والثاني إلى الجْدَيد، والعُنَّة الطارئة بعد الوطء لا تُؤثِّر؛ لأن القدْرةَ قد تحقَّقت بالوطء، فيكون العجْزُ بعده لعارضٍ، والمسألةُ مكررةٌ قد ذكرها مرةً في العيوب، ولو كان تحته امرأتان مَثَلاً، فَعُنَّ عن واحدةٍ دون الأخرَى، ثَبَتَ الخيار للَّتي عُنَّ عنها؛ لفواتِ الاستمتاعِ عليها. قَالَ الأَصْحَابُ: وقد يتَّفقُ ذلك لانحباس الشَّهْوة عن امرأةٍ معينةٍ بسبب نُفْرة عنها أو حَيَاءٍ منها وَيقْدِرُ علَى غيرها للمَيْل إليها، والأُنْسِ بها، فأما العَجْز المحقَّق لضعْفٍ في الدماغ، أو في القَلْب، أو في الكَبِد، أو لخَلَلٍ في نفس الآلة، فإنه لا يختلفُ بالنِّسْوة، وكذلك قد يُفْرَض العجْز عن المأتى، والقدرة على غير المأتى لاعتيادٍ خَبِيثٍ، فيثبت الخيار. وَحَكَى الحَنَّاطِيُّ فيه وَجْهاً آخَرَ بعيداً ولو عجَزَ عن افتراع زوجته البكْر، وهو يأتي الثيب، فلها الخيارُ، واللهُ أَعْلَمُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوِ امْتَنَعَ مَعَ القُدْرَةِ فَلاَ خِيَارَ، وَلَكِنْ لَهَا المُطَالَبَةُ بِوَطْأَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لِتَقْرِيرِ المَهْرِ وَتَحْصِيلِ التَّحْصِينِ، فَإنْ عَلَّلْنَا بِالمَهْرِ كَانَتِ المُطَالَبَةُ للسَّيِّد في الأَمَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا بَعْدَ الإِبْرَاءِ، وَيَسْقُطُ الطَّلَبُ بِإيَلاجِ الحَشَفَةِ. قال الرَّافِعِيُّ: [والمرأة إذا اعترفت] (¬2) بقدرته على الوطء وقالت: إنَّه يمتنعُ منه، فلا خيارَ لها، كما لا خيار للبَائِعِ، إذا امتنع المشتَرِي من تسليم الثَّمَن مع القدرة، وللمرأة إذا امتنع الزوجُ مِنَ الإِنفاقِ مَعَ القُدْرة، وهلِ للمرأة المطالبة بوطأةٍ واحدة، وهل يُجْبَرُ الزوْجُ عليها؟ فيه وَجْهَانِ: أصحهما: لا؛ لأن الاستمتاعَ حقُّه، فلا يُجْبَر على استيفائه كسائر الوطآت. والثاني: نعم، ورأيتُ في مجموع أبي الحَسَنُ بن القطَّان أن أَبا سَعِيدٍ ذَهَبَ إليه، وذكروا في توجيهه معنيَيْن: أحدهما: استقرارُ المَهْر لتأمن من سقوط نصْفِه بالطَّلاق، وكلِّه بالفسخ. ¬
والثاني: حصولُ الاستمتاع؛ لأنَّ النكاحَ شُرع لإعفاف الزوجَيْن، [وتحصينهما] (¬1) معاً، وإليه إشارة بقولِهِ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] وفي "سلسلة" الشيخ أبي محمَّد أن الوجهَيْن مبنيان عَلَى قولَيْن ذكرهما بعض الأصحاب، فيما إذا نكح امرأةً بشرط ألا يطأها، هَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ؟. إِن قلْنا: لا يصحُّ النكاح؛ لأَنه خلافُ قضيَّة العقد، وجبت وطأةٌ واحدة للاستمتاع وإن قلنا: يصحُّ، لم يجب. وإن قلْنا بالوجه الثاني، فلو كانت المنكوحةُ أمةً، فالطلب للسيد عند من علَّل باستقرار المهْر، ولها عند من علَّل باستحقاق الاستمتاع، ولو أبرأ عن المهر، فلاَ مطالبة لها بالمهر عنْد من علَّل بالاستقرار، ولها المطالَبَةُ على المعنى الثَّاني، ولا يرْهَق إلى الوطء بلْ يمهل حَتَّى يستعد له على العادة. قال الإِمام: وكان يليقُ بالقياس أن يمهل مدَّة الإِيلاء، إذا قُلنَا: إنَّ الطلب؛ لاستحقاق الَاستمتاع، ولو كان به مرضٌ أو عذرٌ، فلا بدّ من الإِمهال إلَى أنْ يرتفع العُذْرُ، وإن أَصَرَّ علَى الامتناع من غير عذْرٍ، حبس، ولم يستبعد الإمام أن يخرَّج من الإِيلاء أن القاضي يُطَلِّق عليه، ولكن لم يخرِّجوه (¬2). وأما قوله في الكتاب "تسقط الطلب بإيلاجٍ الحشَفَة"، فيجوز أن يجعل من تتمَّة المسألة، إلا إذا قلْنا: إنَّه يجبر على وطأةٍ واحدة، فيكفي منه تغييب الحَشَفة، وبه يُشْعر نظم "الوسيط" ويجوز أن يُجْعل كلاماً مبتدأً، ويقال: معناه أنَّه يسقط مطالبة [العنين بالفسخ وغير العنين إذا أوجبنا وطأة] (¬3) بتغييب الحشفة، فإنَّ أحكام الوطء، كُلَّها منوطةٌ به، كالتحصين، والتحليل، ووجوب الحَدِّ، والكفَّارة، وفسادِ العَبَادَة، وتحْريم المصَاهَرة وغيرها. قال الإمام -قَدَّس الله روحَهُ-: وسببه بعد الاتباع أن الحشَفَة هي الآلَةُ الحسَّاسةُ ¬
لتِلْك اللَّذِّةِ. قال: ويعني بغيبوبة الحَشَفة أن يشتمل الشفران، وملتقاهما عليها أمَّا إذا انقلب الشَّفْرَان إلى الباطن، وكانتِ الحَشَفة تُلاقَي ما انْعَكَسَ من البشرة الظاهرة، ففيه ترُّدُ؛ لأنَّها حصَلَتْ في حيِّز الباطن، وذكر في "التهذيب"؛ أن أَقَلَّ ما يزول به حكْمُ العُنَّة، إن كانت بكراً أن يفتضها بآلة الافتضاض، وإن كانت ثيباً أن تَغييبَ الحَشَفة، وهذا يدل على أن الافتضاض لا يحْصُل بتَغيبب الحشفة، ومن جُبَّ بعضُ ذَكَره، فغَيَّب من الباقي قَدْرَ الحشفة، فهو كتَغْييب السليم الحَشَفَة، ومنْهم من اعتبر تغييب الكُلِّ؛ لأنَّه ليس بعد الحشَفَة حدٌّ مرجوعٌ إليه، وهذا ظاهر لفظ "المختصر" ورجَّحه بعْضهم، والظَّاهر الأول. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإذَا ثَبَتَتِ العُنَّةُ إِمَّا بِإقْرَارِهِ أَوْ بِيَمِينِهَا بَعْدَ نكُولِهِ ضَرَبْنَا المُدَّةَ سَنَةً (و) للامْتِحَانِ إن طَلَبَتْ ذَلِكَ، وَإِنْ سَكَتَتْ لَمْ تُضْرِبْ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى أَنَّه غَيْرُ عِنِّينِ لَمْ نُطَالِبهُ بِتَحْقِيقِ ذَلِكَ بِالوَطْءِ، وَمُدَّةُ العَبْدِ كَمُدَّةِ الْحِرِّ (م)، وَمَهْمَا تَمَّتِ الِسَّنَةُ مِنْ غَيْرِ اعْتِزَالِ مِنْهَا إيَّاهُ قَصْداً رَفَعَتِ الأَمْرِ إِلَى القَاضِي لِيَفْسَخَ القَاضِي النِّكَاحَ عَلَى وَجْهٍ، أَوْ يُسَلِّطَهَا علَى الفَسْخِ علَى الفَوْرِ عَلَى الوَجْهِ الثَّانِي، وَلَوْ سَافَرَ الزَّوجُ فَفِي احْتِسَابِ المُدَّةِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: الأولى: إذا وجدتْ زوْجَها عنيناً، فرفعتْه إلى القاضي، وادَّعتْ عُنَّته، نُظِر؛ إن أَقَرَّ بها، أو أقامت بينةً علَى إقراره، ثبتت العُنَّة، وإن أنكر، حلف [فإن حلف لم يطالب] (¬1) بتحقيق ما يقوله بالوطء، وامتنع الفسخ، ويعود ما مر أنَّه، هلْ يطالَبُ بوطأةٍ واحدة، وإن نكل فوجهان: أحدهما: وبه قال أبو إسْحَاقَ: لا تردُّ اليمين عليها؛ لأن الامتناع عن الجماع قد يكون لعجز، وقد يكون لغيره، ولا اطِّلاع لها عليه، ولذلك لا تسمع الشهادة عَلَى نفس العُنَّة، وعلى هذا، فعن الإِصطخريِّ فيما حكاه أبو الفرج السرخسيُّ؛ أنه تضرب المدَّة [وتجعل الصورة] (¬2) من الصُّورة التي يُحْكَم فيها بالنكول. وأصحُّهما: أنها تُردُّ، ولها أن تَحْلِفَ إذا بانَت لها عُنَّته بقرائِنِ الأحوال وطُول الممارسَة، ويخالف الشَّهادة، فإنَّ الشهود لا يعْرِفون ما تعرفه، وهذا إذا ادَّعَتْ أنه نوى الطَّلاق ببعض الكنايات، وأنكر، ونكَل، تحْلِف المرأة، وعلى هذا الوجْهِ يَسْتمرُّ قوله في الكتاب: "وإذا ثبتت العُنَّة" إلى آخره، وحكى أبو الفرج؛ أن تحليف الزوج لا يُشْرع ¬
أصلاً بناءً على أن اليمين لا تُرَدُّ عليها، ثم ثبوت العُنَّة لا يفيد الخيار في الحال، ولكن القاضي يضرب للزوج مدَّة سنة يمهله فيها، رُوِيَ عن عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه أجلُ العِنِّينِ سنَةٌ، وتابعه العلماءُ عليه، وقالوا: تَعَذُّر الجماعِ قد يكون لعارِض حرارةٍ، فتزول في الشتاءِ، أو برودةٍ، فتزولُ في الصيف، أو يبوسةٍ فتزولُ في الربيع، أَو رطوبةٍ، فتزول في الخريفِ، فإذا تمَّت السنة، ولم يصبها، عَلِمْنَا أنه عجزٌ خِلْقيٌّ، وابتدأءُ المدَّة من وقت ضرب القاضي لا من وقْت إقراره: لأنه مجتَهَدٌ فيه، فَإِنَّ من العلماء مَنْ قال: لا تُضْرَب المدة للعِنِّين، ولا يثبت بالعُنَّة خيارٌ، ومنهُم دَاوُدُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ويخَالِفُ مدة الإيلاء. حيث تحسب من وقْت اليمين؛ لأنها منصوصٌ عليها، وشبه ذلك بحَجْر المُفْلِس والسَّفيه يثبت من وقْت قضاء القاضي، وحجْر الصبيِّ، والمجنون، لا يتفقر إلى قضاءِ القاضي، وإنَّما تُضْرَب المدةُ، إذا طلبتِ الزوْجَةُ، أما إذا سكَتَتْ، فلا تضرب، نعم، إذا حمل القاضي سكُوتَها علَى دهْشة، أو جَهْل، فلا بأْسَ بتنبيهها وقولها: إِنِّي طالبةٌ حقي علَى موجِب الشِّرْع [كافٍ] (¬1) في ضرْب المدَّة، وإن جهِلَتِ الحُكْم على التفصيل، ولا فرق في المدة بين الحرِّ والعبْدِ؛ لأنها مشروعةٌ لأمر يتعلَّق بالطبع والجبلَّة، فأشبه مدَّة الحيض والرِّضاع، وعن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه تُضْرَبُ للعبد نصفُ سنةٍ. المسألة الثانية: إذا تمَّتِ السنةُ، ولم يصبْها، لم ينفسخ النكاح، ولم يكن لها أنْ تفْسَخَه بل ترفعه ثانياً إلى القاضي، وفي "أمالي" الشيخ أبي الفرج عن الإصطخريِّ أن لها الفسْخَ بعْد مضيِّ المدة، ويكفي ضرب المدة من جهة القاضي، والمشهور الأول؛ لأن مدار الباب على الدعْوَى والإِقرار والإِنكار واليمين، فيحتاج إلَى نَظَر القاضي واجتهاده وإذا رفعته إليه، فإن ادَّعَى الإِصابة في المدَّة، حلَف، فإن نكَلَ، رُدَّت اليمين على المرأة، وفيه الخلافُ الذي سَبَق، وإذا حلَف أو أقرَّ الزوج بأنَّه لم يُصِبْها في المدَّة، فقد جاءَ وقْت الفسخ، فإن استمهل ثلاثاً، فهل يُمْهَل؟ فيه الخلاف المذكور في الإِيلاء، ثم استقلالها بالفَسْخ وجهان: أقربهما: وذكر في "التتمة" أنه المذهَبُ: الاستقلال، كما يستقل [المشتري] (¬2) بالفسخ، إذا وجد بالمبيع تغيُّراً، وأنكر البائع كَوْنَه عَيْباً، وأقام المشتَرِي علَى ذلك بيِّنةً عند القاضي. والثَّاني: أن الفسخ إلى الحاكم؛ لأنه محلَّ النظر والاجتهاد، فيفسني بنفسه أو يأمرها بالفَسْخ، وهذان الوجْهَان في الاستقلال بعْد المرافعة والوجْهَان المذْكُوران في ¬
فصل العيوب مفْرُوضان في الاستقلال دُون المرافعة، وإذا قُلْنَا: إِن لها أنْ تَفسَخ بنَفْسها، فَهَل يكْفِي لنفوذ الفَسْخ إقرارُ الزَّوْج، أم لا بدّ وأن يقول القاضي [ثبتت العنة أو] (¬1) يثبت حق الفسخ، فاختاري فيه وجهان: أشبههما: الثاني، وهو الحكاية عن القاضي حسين ورأيتُ في "المجموع" لأبي الحُسَيْن بن القطَّان نقْلَ وجهَيْن فيما إذا قالَتِ: اخترتُ الفسخ، ولم يقُلِ الحاكمُ: نفَّذْتُه، ثم رجعَتْ، هل يصحُّ الرجوع، ويبطل الفسخ. الأصح: المنع (¬2)، ويشبه أن يكون هذا الخلافُ مفرَّعاً على استقلالها بالفَسْخ، أما إذا فسَخَتْ بإذنه، كان الإذن السابقُ كالتنفيذ اللاَّحق؛ وإنَّما تحسب المدةُ، إذا لم تَعْتَزِل عَنْه، فإن اعتزلَتْ، لمَ تُحْسَب، قال في "المجموع" وكذلك مرَضُها وحبْسُها يمنع الاحتساب، ومرضه وحبْسُه لا يمنع، وكذلك حيْضُها وفي سَفَره وجهان: أظهرهما: أنه لا يَمْنَع [الاحتساب] (¬3) أيضاً؛ لئلا يدافع بذلك، وإذا عرض ما يمنع الاحتساب في بعض السنة وزال، فالقياس أن يستأنف السنة، أو ينتظر مضيَّ ذلك الفصل من السنة الأُخْرَى، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَهَذَا الفَسْخُ عَلَى الفَوْرِ، فَإِنْ رَضِيَتْ فَلاَ اعْتِرَاضَ لِلوَلِيِّ، وَلا رُجُوعَ لَهَا إلَى الفَسْخ بِخِلاَفِ الإِيَلاءِ، وَإِنْ فَسَخَتْ فِي أَثْنَاءِ المُدَّةِ لَمْ يَنْفُذْ، وَإِنْ أَجَازَتْ فَقَوْلاَنِ، وَلَوْ رَضِيَتْ فَطَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا لَمْ يَعُدْ حَقَّهَا، وَإِنْ جَدَّدَ نِكَاحَهَا فَقَوْلاَنِ، وَلَوْ وَطِئَهَا في النِّكَاحِ الأَوَّلَ وَعُنَّ عَنْهَا في النِّكَاحِ الثَّانِي فَلَهَا الخِيَارُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: سبيل الفسْخ بالعُنَّة بعْد ثبوتها سبيلُ الفَسْخ بسائر العُيُوب، والظاهر: أنَّه على الفَوْر، ويجيء فيه الطريقةُ المذكورةُ في الفسخ بسائِرِ العيوب، وقوله: "فإن رَضِيَتْ فَلاَ اعتراض للولي" مكرَّر، وقد ذكره مرةً في فصْل العيوب، ويجوز أن يُعْلَم ¬
بالواو لما مَرَّ، وإذا رضيت بالمقام تحته بعد مضيِّ المدة، سقَط حقُّها من الفسخ، ولا رجوعَ لها إلَيْه، كما إذا رضِيَتْ بسائر العيوب، أو رَضِيَ المشتري بالعَيْب، وليس كما [لو تركت] (¬1) المطالبةَ في الإيلاء، لها أن تعود إلى المطالبة، وكذا لو رَضِيَتْ بإعسار الزوج، ثم بدا لها أن تَفْسَخ، فلها الفسخ؛ لأن الضَّرَرَ يتجدَّد كلَّ يوم لبقاء اليمين، وقصد المضارَّة، والنفقة تَجِبُ يوماً يوماً، فالرِّضَا في الحال لا يؤثر في النفقات المستقبلَةِ، والعُنَّة عيْبٌ واحدٌ لا يتوقَّع زوالُها إذا تحققَّت، وإذا قسمّت في أثناء المُدَّة لم ينفذ، وَإِلاَّ، لم تتحقق فائدةُ الإِمهال، فإن أجازت ورَضِيَت بالمقام في المدَّة، أو قبل ضرْب المدَّة، فقولان: أحدُهُما: وُينْسَب إلى القديم: أنه يبطل حقُّها من الفسخ؛ لأنها تزعم العِلْم بالعيب. وأصحُّهما: المنْع وثبوتُ الخيار بعد المدة؛ لأن الحقَّ حينئذٍ يثبت فالرضا قبله، كإسقاط الشفْعة قبل جريان البَيْع، وإن رَضيت بعْد انقضاء المدَّة، ثم طلَّقها الزوج طلاقاً رجعياً، ثم راجَعَها، لم يعُدْ حق الفسخ؛ لأنها قد رضيت بعنته في ذلك النكاح، واعترض المزنيُّ بأن الرجْعَةَ تعْتمدُ العدَّةَ، والعدةَ تعتمد الوطءَ، وبالوطءُ يزول حكم العُنَّة، وأجاب الأصحاب، بأن العدَّة قد تجبُ من غير جريان الوطء المزيلِ للعُنَّة، وذلك بأن يستدخل ماءَه، أو يأتيها في غير المَاْتَى، فتجب العدَّة، وتثبت الرَّجعة، وحكم العُنَّة باقٍ، وكذا الخلوة توجِبُ العدة، وتثبت الرجْعَةَ عَلَى قوله القديم فلعل المسألة مفرَّعة على القديم، ولو بانَتْ بانقضاء العدَّة، أو كان الطَّلاق بائناً، أو فسَخَتِ النكاح، ثم نكَحَتُه ثانياً، ففي تجدُّد حقِّ الفسخ قولان: أحدهما: لا؛ لأنها نكحته عالمةً بالعُنَّة. وأصحُّهما: نعم؛ لأنه نكاحٌ جديدٌ، فيتوفر عليه، حكمه وتضرب المدَّة ثانياً، ويقال: إِن الأول من القولين قديمٌ، والثاني جديد، وبنى القولين جماعةٌ على قولَيْ عود الحِنْث، ولم يرتضه المحقِّقون؛ لأن هناك جرى في النكاح الأوَّل تعليقٌ أو ظهارٌ أو إيلاءٌ [ووقعت آثارها] (¬2) وعواقبُها في النكاح الثَّاني، وههنا أسقطت الزوجَةُ حقَّها في النكاح الأوَّل، واستوفَتْه بالفَسْخ، ولم يبْق منه عُلقْة أصلاً، وأجرى صاحب "الشامل" وغيره القولَيْن فيما إذا نكح امرأةً ابتداءً، وأعلمها أنه عِنِّينٌ وفي "التهذيب" حكايةُ طريقَيْن فيما إذا نكح امرأةً ابتداءً، وهي تَعْلَم أنه حكم بُعنَّته في حق امرأة أخْرَى. أحدهما: إجراء القولَيْن. ¬
والثاني: القطْعُ بثبوت الخيار؛ لأنه قد يَعْجز عن امرأة، ويَقْدِر على أخْرَى، ولو نكح امرأةً وأصابها، ثم أبانها، ثم نكَحَها وعُنَّ عنْها، فلها الخيار بلا خلافٍ؛ لأنها نكحته غَيْرَ عالمةٍ بعُنَّتهِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَمَهْمَا تَنَازَعَا فِي الإِصَابَةِ فَالقَوْلُ قَوْلُهَا، وَلأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ الإِصَابَةِ إِلاَّ في مَوْضِعَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) فِي مُدَّةِ العُنَّةِ وَالإِيلاَءِ فَإِنَّ القَوْلَ قَوْلُهُ إِذْ تَعَسَّرَ إِقَامَةُ البَيِّنَةِ عَلَى الوَطْءِ، فَإِنْ أَقَامَتِ البَيِّنَةَ عَلَى البَكَارَةِ رَجَعْنَا إِلَى تَصْدِيقِهَا باليَمِينِ (الثَّانِي) لَوْ قَالَتْ: طَلَّقْتَنِي بَعْدَ المَسِيسِ وَلِي كَمَالُ المَهْرِ فَأَنَكَرَ فَالقَوْلُ قَوْلُهُ، إلاَّ إِذَا أَتَت بِوَلَدٍ لِزَمَانٍ مُحْتَمَلٍ فَإِنَّا نُثْبِتُ النَّسَبَ فَيَتَأكَّدُ بِهِ جَانُبُهَا فَنَجْعَلُ القَوْلَ قَوْلَهَا، إِلاَّ إِذَا لاَعَنَ فَنَرجِعُ إِلَى تَصْدِيقِهِ إِذِ الأَصْلُ عَدَمُ الوَطْءِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: قال الأئمة؛ إذا اختلَفَ الزَّوْجان في الإِصَابَة، فالقَوْل قولُ من يَنْفِيها أخْذاً بأصْل العَدَم إلاَّ في ثلاثة مَوَاضِعَ: أحدها: إذا ادَّعَتْ عُنَّته، وقال الزوْج: قد أَصَبْتُها، فالقولُ قولُه مع يمينه، سواءٌ كان ذلك بعد مضيِّ المدة أو قبله، ووجْهُ ذلك بِأنَّ إقَامَةَ البيِّنة على الوطء عسيرةٌ، والأصل سلامة الشخْص ودوام النكاح، وهي تدَّعي قيام ما ترْفَعُه، فاقتضَى مجْموعُ ذلك تصدِيقَه، ولا فَرْقَ في ذلك بَيْن أن يكون الرجُلُ خَصيّاً، أو مقْطُوعَ بعْض الذَّكَر، والباقي بحَيث يُمكَنَّ من الجماع به؛ لكنها ادَّعتْ عجْزَه، وبين أن يكون سليماً، وعن أبي إِسْحَاقَ في الخصيِّ ومقطوعِ بعْضِ الذَّكَر؛ أن القول قولُ المرأة مع يمينها إلا أن النقصان الذي لَحِقه يُورث ضَعْف الذَّكَر، ويقوي جانبها، ولو اختلفا في أن الباقِيَ من الذَّكَر، هل يمكن الجماعُ به فالذي ذكره الأكثرون القَطْعُ بأنَّ القول قولُها؛ لزوالِ أصل السلامة، وقال في "الشامل": ينبغى أنْ يرى أهل الخبرة، ليعرفوا قدره ويخبروا عن الحال، كما لو ادَّعت أنَّه مجنون، وَأنْكر، قال في "التتمة": وهو الصحيح، فلو أَدَّعت عَجْزه بعد مضيِّ السَّنَّةِ، وَادَّعى الزَّوْجُ أنَّهَا امْتَنَعَتْ، ولم تُطَاوْعه، فإِنْ كَانَ لأَحدهما بينة، حكم بها، وإلاَّ فَاَلْقَوْلُ قول الزوْج؛ لأَنَّ الأَصَلِ دوام النكاح، فإذا حلف، ضَرَب القاضي المدَّة ثانياً. وأسكنهما في دار قوم ثقات يتفقدون حالهما، فإذا مضت السنة اعتمد القاضي قول الثِّقات، وجرى [عليه كذا] (¬1) ذكره الشيخ المتولي. الثاني: إذا طالبته في الإِيلاءِ بالفيأه أو الطَّلاَقِ، فقال: قد أصبتها، فالقول قوله: استدامةً للنكاح ولو أنها في الَموضعَيْن قالت: أنا بكْرٌ كما كنْتُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَضِيَ ¬
اللهُ عَنْهُ-: أُرِيهَا أربعاً من النساء عدولاً، وذلك دليلٌ على صدقها، وإن شاء، أحلفها، ثم فُرِّقَ بينهما، وظاهرُ هذا النَّظْم هو قولُ جماعةٍ من الأصحاب تَعْرِيضاً وتصْريحاً؛ أنه إذا قامت البينةُ، فشهد أربعُ نسوةٍ على أنَّها بكْرٌ يحكم بعد الإِصابة، ولا حاجة إلى تحليفها، وتكفي البكارة دليلاً على تصْدِيقها، قال هؤلاء: وقوله: "إن شاء أحلفها" معْنَاه؛ أنَّه لو قَالَ بعْد قيام البينة: قد أصبتُهَا لكنْ لم أبالغ، فعادَتِ البكارةُ، وطلَبَ يمينها، تُسْمَع دعواه، وتَحْلِف، فإن لم يدع شيئاً، لم تحلف، وقال أبو علي في "الإِفْصاح" وأبو الحُسَيْن في "المجموع" والقاضي ابنُ كَجٍّ في شرحه: تحلف الزوجةُ مع قيام البينة على البكَارَة؛ لأنَّ البكارة، وإن ثبتت بالبينة، فاحتمالُ الزوال والعَوْدِ قائمٌ، وإن لم يدَّع الزوج، فلا بدّ من الاحتياط، وبهذا أخذ الإِمام وصاحب الكتاب وغيرهما. فإذا حلفت بعد دعواه أو دُونَها، فتحلف على أنه لم يُصِبْها، أو على أنَّ بكارتها هي البكارةُ الأصليَّة، ولها حقُّ الفسخ بعْدَ يمينها، وإن نكَلَتْ، حلف الزوج، وبَطَلَ الخيارُ، وإن نكل الزوج أيضاً، ففيه وجهان، خرَّجهما الشيخ أبو عليٍّ صاحب "الإِفصاح": أصحهما: أن لها الفسخ، ويكون نكولُه كحلفها؛ لأن الظاهر أن بكَارَتَها هي البكارةُ الأصليَّةُ. والثاني: المنع؛ لأنّ ما قاله يحتمل، والأصل دوام النكاح. الموضع الثالث: إذا قالتِ المرأة: طَلَّقَنِي بعد المسيس، ولي كمالُ المهر، وقال الزوْج بل قبله، وليس لك إلاَّ شطْرُ المهر، فالقول قولُ الزوْج جرياً على الأصل، وعليها العدَّةُ مؤاخذةً لها بقولها، ولا نفقة لها، ولا سُكْنَى، وللرجلِ أن ينكح ابْنَتَهَا وأخْتَهَ وأرْبَعاً سواهَا في الحال، ثم لوِ أتت بولدٍ لزمانٍ محتملٍ يُثْبِتُ النسب، وُيقَوِّي ذلك جانبها، فيرجع إلَى تصديقها، وتطالِبُ الزوْجَ بالشطْر الثاني، ولا بدَّ من يمينها؛ على ما ذكره الإمام والعبَّاديُّ؛ لأن ثبوت النسب لا يُورِث يقين الإِصابة، ويمكن أن يجيء فيه الخلاَفُ المذكُورُ فيما إذا ظَهَرت البَكَارَةُ، وهذه الصورة هي محلُّ الاستثناء عن تصديق النافي، فإن لاَعَنَ الزوجُ، ونفي الولدُ، فقد زال المرجِّح، فيعود إلى تصديقه، [ويستمر الأمر] (¬1) على ما تقدَّم، وحيث قلنا: إِن القول قولُ مَنْ ينفي الإِصابة، فذلك إذا لم يُسلِّم جريان الخلوة، فإن سلَمه فقولان: أَصَحُّهُمَا: أن الجواب كذلك: والثَّانِي: أنَّه يصدق المثبتُ ترجيحاً بالخلوة، فَعَلَى هذا؛ تنضم هذه المسألة إلى مواضع الاستثناء عن تصدْيق النافي، وتصير ¬
المسائل (¬1) أربعةً. وقوله في الكتاب "إلاَّ في موضعَيْن" لا يخالف ما حكيناه عن الأئمَّة، وهو استثناءُ ثلاثة مواضعَ لكنه جمع بين الأول والثاني في قرن واحد. وقوله: "إنَّ القوْلَ قوْلُه" يجوز أن يعلم بالميم؛ لأن ابن المنذر حكَى عن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في العُنَّة؛ أنه يجمع بينهما في بَيْتٍ وتراقبها امرأةٌ من وراء حجاب، فإذا قام الرجُل عنها، نظَرَت المرأةُ إليها، فإن وجدت رطوبةَ المنيِّ، فحينئذٍ يُصدَّق في الرجلُ، وبالأَلِفِ؛ لأن عن أحمد ثلاثَ رواياتٍ: أحدها: أن يجمع بينهما في بَيْتٍ، ويؤمر بأن يُرِيَنَا ماءه على قُطْنة ونحوها، فإن فعل، فحينئذٍ نصدِّقُه. والثانية: أن القول قول الزوجة مطلقاً. والثالثة: مثل مذهبنا. ونختمُ فصْل العُنَّة بصور امرأة الصبيِّ والمجنونِ، إذا ادَّعت العُنَّة، لم تسمع، ولم تضرب المدَّة؛ لأن الصبيَّ لا يجامع لِصِغَرِه غالباً ولأن الفسخ يعتمد إقرار الزَّوْج بالعُنَّة أو نكوله عن اليمين، ولا اعتبار بقولهما؛ ولأن الصبيَّ ربما يدعي الإِصابة بعْد البلوغ، والمجنون يدَّعيها بعْد الإِفاقة. ونقل المُزَنِي: أن، إن لم يجامعها الصبيُّ، أُجِّلَ، ولم يثبْتُه عامة الأصحاب قولاً آخر، وقالوا: إنه غَلَطٌ، والذي قاله الشَّافِعِيُّ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- في "الأم" والقديم؛ فإن لم يجامعها الخَصِيُّ، أُجِّل، فوقع في اللفظ تحريفٌ، وما اذكره في الخصيِّ جواب على أن الخصاء لا يثبت الخيار أو مفروض فيما إذا رضِيَتْ بكونه خَصِيَّاً، ووجدتُهُ مع ذاك عِنِّيناً، وإلاَّ، فالخيار في الخصاء، لا تأجيل فيه كخيار الجَبِّ. وحكى الحَنَّاطِيُّ وجهاً: أن المراهِقَ الذي يتأتَّى منه الجماعُ تُسْمَع دعوى العُنَّة عليه، [وتضرب] (¬2) له المدَّة، وبه قال المزنيُّ، وهو ضعيفٌ، ولو جُنَّ الزوجُ في أثناء ¬
السنة، ومضتِ السنَةُ، وهو مجنون، وطلبت الفرقة، لم تُجَب؛ لأنَّه لا يصحُّ منه الإقرار، وإذا مضتِ السنةُ، فقالت: قد أجَّلْته شهراً أو سنةً أخرَى، ذكر بعض الأَصحاب، منْهم أبو الحُسَيْن بنُ القطَّان؛ أنَّ لها ذلك، ولها أن تَعُود إلى الفسخ متى شَاءَتْ، كَما إذا أمهل بعد حلول الأجل، لا يلزم الإِمهال، والصحيحُ أنه يبطل حقُّها بهذا التأخير؛ لأنه على الفور. ولا مهر عند الفسخ بالعُنَّة، فإنه فسخ قبل الدخول على ما بيَّناه في الفسخ بسائر العيوب، وعن صاحب "التقريب": أن الإصطخريَّ حكى قولاً آخر؛ أنه يجبُ عليه كمالُ المهر؛ لأنَّها كانت تستحقُّ عليه أن يكون بصفةِ من يُتصوَّر منه تكميلُ المهر، وقولاً آخر؛ أنه يجب نصْفُ المهر، وهذا تمامُ القِسْمِ الرَّابع. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الْقِسْم الَخَامِسُ مِنَ الْكِتَابِ في فُصُولٍ مُتَفَرِّقَةٍ) وَهِيَ سِتَّةٌ: (الْفَصْلُ الأوَّلُ فِيمَا يَحِلُّ للِزَّوْجِ) وَيَحِلُّ لَهُ كُلُّ اسْتِمْتَاعِ إلاَّ الإتْيَانِ في الدُّبُرِ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُ العَزْلِ، وَقِيلَ بِتَحْرِيمِهِ في الحُرَّةِ دُونَ الأَمَةِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا يَحِلُّ بِرِضَاهَا، وَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِهِ فِي السُّرِّيَةِ، ثُمَّ الإتْيَانُ في الدُّبُرِ فِي مَعْنَى الوَطْءِ في جَمِيعِ الأحْكَامِ إلاَّ في التَّحْلِيلِ (و) وَالإِحْصَانِ، وَاختَلَفُوا في تَعَلّقِ النَّسَبِ وَتَقْرِيرِ المُسَمَّى وَوجُوبِ الْحَدِّ وَفِي اسْتِنْطَاقِهَا في النِّكَاحِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا في وُجُوبَ مَهْرِ المِثْلِ في النِّكَاحِ الفَاسِدِ، وَكَذَا في العِدَّةِ وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ بِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: معْظَمُ مسائِلِ الفصل قد اندرج في معاقد الأَقسام الأربعة، وبقِيَتْ فصولٌ شاذَّةٌ فجمعها في القسم الخامس: الفصل الأوَّل: فيما يحلُّ للزوج من الاستمتاعات، وفيه مسائل: المسألة الأولى: لا يمنع من شيء من الاستمتاعات إلا النَّظَر إلى الفرج، ففيه خلاف مذكور في "كتاب النكاح" وإلاَّ والإِتيان في الدُّبُر، فإنه حرامٌ؛ لما رُوِيَ أَنه سُئِلَ رَسُولُ الله -صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "في أَيِّ الخَرْمَيْنِ؛ أَمِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا، فَنَعَمْ أَمْ مِنْ دُبُرِهَا في دُبُرِهَا، فَلاَ، إِنَّ الله تَعَالى لا يَسْتَحْيي مِنَ الْحَقِّ، [لاَ تأتوا النِّسَاءَ في أَدْبَارِهِنْ] (¬1) والخرمة، الثقبة، وقوله "لا يستحْيي من ¬
الحق"] (¬1) أي: لا يَتْرُكُ شَيْئاً منه؛ لأن من اسْتَحْيَا من شيء تركه. وقيل: إِنَّه لا يستبْقِي شيئاً منْه من قوله {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} أي: يستبقونهن، وعن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى أمْرَأةً في دُبُرِهَا" (¬2) وحكى ابنُ عبد الحكَمِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: لم ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يَصِحَّ عن النَّبِيِّ -صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في تَحْرِيمِهِ وَلاَ تَحْلِيلِهِ شَيْءٌ" والقياسُ أنه حلاَلٌ، قال الربيع: كَذِبٌ والَّذي لا إله إلا هو قد نصَّ الشافعيُّ علَى تحريمه في ستِّ كتُبٍ، هذا هو الصحيح، وفي "شرح مختصر الجويني": أن بعْضَهم أقام ما رواه قولاً، وروَي عن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- تحليلَهُ، وأصحابه العراقيُّون لم يثبتوا الرواية، ثم الإِتيان في الدُّبُر كالإِتيان في القُبُل، في أكثر الأحكام، كفساد العبادة به، ووجُوبِ الغُسْل من الجانبَيْن، ووجوب الكفَّارة، في الحجِّ والصوم وغيرهما، لكن لا يحصل به التحليلُ للزوْجِ الأول؛ احتيَاطاً للتحليل، وأيضاً فقد قال -عليه السلام-: "لا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيذُوقَ عُسَيْلَتَكِ" (¬1) وههنا لا يحصل من جهتها ذوق العُسَيْلَة، قال الإِمام: وقد حُكِيَ قولٌ؛ أن التحليلَ يحْصُل بالإصابة في النِّكاح الفاسد، فكان يبُعُد أن يلحق الإِتيان في هذا المأْتَى في النكاح الصحيح بالإِتْيَان في المأتى المستقيم في النِّكَاح ¬
الفاسد، ولا يَحْصُل به الإِحصان؛ لأنه فضيلة، فلا يثبت إلا بوطءٍ كاملٍ، ولا تحصُلُ به الفيئة في الإِيلاء، ولا يزول به عنه حكم العُنَّة، وفيهما وجْهٌ ضعيفٌ، وهل يثبت به النَّسَب؟ فيه وجهان: أصحُّهما: نعم؛ لأنه قد يَسْبِق الماء إلى الرَّحِم من غير شعور به، وإنما يظهر الوجهان فيما إذا أتَى السيِّدُ أمَتَه في هذا المأْتَى، أو فرض ذلك في النكَاحِ الفَاسِد، فأما في النكاح الصحيح، فإمكان الوطء كافٍ في ثبوت النسب، ويستقر به المسمَّى في النكاح الصحيح على أصح الوجهَيْن؛ لأنه وطْءٌ: في محل الاستمتاع، ومنْهم مَنْ قطع به، كما يقْطَع بوجوب مهر المثل به في النكاح الفاسد، وإذا قلْنا بالوجه الثاني؛ وهو ألاَّ يستقر به المسمَّى، فقد قال أبو عبد الله الحَنَّاطِيُّ: [و] يجب لها مهْرُ المثل، وينظر بعد ذلك، إِن وَطِئَها، فلها المسمَّى وترد مهْر المثل، وفيه وجْهٌ أنَّ لها المسمَّى ومهر المثل، وإن لم يطأْها، وطلَّقها، فقد حصل لها مهْر المثل، وللزوج عندها المسمَّى، فإن كانا من جنْس واحد، جرى أقوال التقاصِّ، [وهذا كلام مظلمٌ لا يعتدي إليه] (¬1) وإذا أوجبنا الحد في اللواط، فإذا أتى أمته أو منكوحته في غير المأْتَى، فالصحيح: أنه لا يتعلق به الحدُّ (¬2) لوقوعه في المملوك الذي هو محلُّ الاستمتاع، وفيه وجه: أنه يجب الحدُّ، وقَرُب ذلك من القول المنقولِ في وُجُوب الحدِّ، إذا وطئ أمته المحرَّمة عليه، وفي استنطاق المصابة في غيْر المأتَى وجهان قدَّمْنَاهما، والأصحُّ؛ أنه لا يشترط في تزويجها؛ لبقاءِ العذرة، وتجب به العِدَّة، كما يجب الغسل والكفارة، وسائر ما فيه تغليظٌ، ونَقَلَ أبو الحسن العَبَّاديُّ فيه وجهاً آخر، ويثبت به الرجعة، كما يثبت النسبُ، ويتقرَّر المهر، وفي الرجْعة وجهٌ آخرُ، كما في صورَتَي الاستشهادِ، وهلْ تثبت به حرمةُ المُصَاهرة؟ فيه وجهان مذْكُوران في "التهذيب" وغيره: أصحُّهما: الثبوت؛ لأنه أعظَمُ من المفاخَذَة والتقبيل واللَّمْس بالشَّهوة، وهي تثبت حرمة المصاهرة في قول قوي ويجوز التلذُّذ بما بين الألْيَتَيْنِ، والإِيلاج في القبل ¬
من جانب الدبر، ويجوز أن يُعْلَم من لفظ الكتاب قوله: "إلاَّ الإِتيان في الدُّبُر" بالميم، لما روي عن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- (¬1) وقوله: "وتقرير" المسمى بالواو لقطع من قطع بالتقرير. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقوله: "ولم يختلفوا" إلى آخره يقتضي القطع بوجوب العدة وثبوت حرمة المصاهرة، لكن الخلاف ثابت فيهما، كما عرفت، فأما أن يُحْمَلَ ما ذكره على طريقة أخرى، وإما أن يتأول. المسألة الثانية: العزل أن يجامع، فإذا جاء وقْتُ الإِنزال، نزع، فأنزل خارج الفَرْج، والأَوْلَى تركه على الإِطلاق، وأطلق في "المهَّذب" أنه مكروه، ولا خلاف في جوازه في السَّرِيَّة صيانةً للملكَ، وفي الحرَّةِ المنكوحةِ طريقان: إحداهما: أنها إنْ لم تأذَنْ، لم يُجْز، لما رُويَ عن ابن مسْعُود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وابن عباس -رضي الله عنهما- أنهما قالا: "تُسْتَأْذَنُ الْحُرَّةُ فِي العَزْلِ" (¬1) وَإِنْ أَذِنَتْ، فوجهان: أحدهما: المنع أيضاً؛ لما رُوِيَ عن النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّه قَالَ في الْعَزْلِ "إِنَّهُ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ" (¬2). ¬
والثاني: الجواز؛ لما رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كُنَّا نَعْزِلُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يَنْهَنَا" (¬1). وأظهرهما: أنه يجوز، إن رضيت لا محالَة، وإلاَّ، فوجهان: أحدهما: المنعُ، لكيلا يتنغص عليهما الاستمتاعُ. والثاني: الجواز؛ لأن حقَّها في الوطء دون الإنزال؛ ألا تَرَى أنه يقطع المطالبة في دعْوَى العُنَّة بمجرَّد الوطء، وهذا أصحُّ عند صاحب الكتاب، وإن كانتِ المنكوحةُ أمةً، فإن جوَّزنا العزل في حق الحُرَّة، ففي حقِّها أولَى، وإن منعناه في حقها، فوجهان: أحدهما: أنها مستفرشةٌ بالنكاح صاحبةُ حقٍّ في الاستمتاع، فتكون كالحرَّة. وأصحُّهما: الجوازُ تحُّرزاً عن رِقِّ الولد، وإذا اختصَرْتَ، قلتَ: في [العزْلِ] (¬2) أوجهٌ: الجوازُ المطلق، [و] تخصيص الجواز بالأمة، [و] تخصيص الجواز بحالة الإِذْن، وهذه الثلاثةُ مذكورةٌ في الكتاب. والرابع: المنْعُ المطْلَقُ. والمستولدة، رتَّبها المرتِّبون على المنكوحة الرقيقة، وهذه أولَى بالمنع؛ لأنَّ الولد حرٌّ، وآخرون على الحُرَّة والمستولدة أَوْلَى بالجواز؛ لأنَّها ليْسَتْ راسخةً في الفراش، ولهذا لا تستحقُّ القسم، وهذا أظهر، قال الإِمام -قدس الله رُوحَهُ-: وحيث قلْنا بالتحريم، فَذَاكَ، إذا نزع على قصْدِ، أن يقع الإِنزال خارجاً؛ تحرُّزاً عن الولد، فأمَّا إذا عنَّ، له أنْ ينزع لا علَى هذا القصد، فيجب القَطْع بأنه لا يحْرُم. هذا شرح ما يشتمل عليه الكلام في الفصل. المسألة الثالثة: الاستمناءُ بالْيَدِ، نُقِلَ عن أَحْمَدَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الترخيصُ فِيه، وذكر القاضي ابن كج أنَّ فيه توقفاً في القَدِيم، والمذْهبُ الظاهرُ تحريمُه؛ لما رُوِيَ أنَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَلْعُونٌ من نَكَحَ يَدَهُ" (¬3) واحتج له أيضاً بقوله تعالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} إلَى قوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] وهذا مما وراء ذلك، ويجوز أن يَسْتَمِنْيَ بيد ¬
زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ، كما يستمتع بسائر بدَنِها، ذكَره في "التتمة" وحكاه القاضي الرُّويَانِيُّ في "التجربة" والله أعلم. المسألة الرابعة: القول في تحريم الوطْء بالحَيْض والنِّفاس، وفي تحريم سائر الاستمتاعات على ما مَرَّ في الحيض، وعن أبي عُبَيْد بن حَرْبَوْيهِ فيما نقل القاضي ابْنُ كَجٍّ: أنه يتجنَّب الحائض في جميع بَدِنها؛ لظاهر قوله تعالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬1) [البقر ة: 222]. ولا بأْس بأنْ يطُوف على إمائه بغسلٍ واحدٍ، نعم، يُستحبُّ أن يخلِّل بين كل وَطْئَتَيْنِ وضوءاً أو غسل فرج، كما ذكَرْنا في "الطهارات" ولا يتأتَّى ذلك في المنكوحات (¬2) إلا بإِذنهن؛ لأنَّ القسْم واجبٌ فيهن، ولا يجوز أن يأْتي أخرَى في نوبة واحدةٍ إلا بإذنها، وما رُوِيَ أَنَّهُ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ" (¬3) محمولٌ عند من قال: كان القسْمُ واجباً عليه على أنَّهن كُنَّ أَحْلَلنَه، ومن قال: ¬
لم يَجِب عليه القسْمُ، نزلهن في حقِّه -عليه السلام- بمنزلة الإماء، ويكره أن يَطَأ زوجته (¬1)، أو أمته، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّانِي في وَطْءِ الأَبِ جَارَيةَ الابْنْ) وَهُوَ حَرَامٌ وَلَكِنْ لَهُ شُبْهَةٌ وُجُوبِ الإعْفَافِ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَيجِبُ المَهْرُ، وَيَحْرُمُ عَلَى الابْنِ بَالْمُصَاهَرَةِ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ، وَيَنْعَقِدُ الوَلَدُ عَلَى الحُرِّيَّةِ، وَتَصِيرُ مُستَوْلَدَةَ الأبِ عَلَى القَوْلِ المَنْصُوصِ، وُيقَدَّرُ انْتِقَالُ المِلْكِ إِلَيْهِ مَعَ العُلُوقِ حَتَّى يَنْتَفِيَ قِيمَةُ الوَلَدِ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ، وَلاَ يَسْقُطُ المَهْرُ أَصْلاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يحْرُمُ على الأب وطء جارية الابن، إذا كان عالماً بالحال؛ لأنَّها ليس بزوجةٍ له، ولا مملوكةٍ، وإذا وطئها فيُنْظر، أهي موطوءة الابن أم لا؟. الحالة الأولى: أَلاَّ تكونَ موطوءةَ الابن، وفيها مَسَائِلُ: المسألة الأولى: لا يجب الحد على الأب لشبهة المِلْك، [و] رُوِيَ أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبيكَ" وأيضاً، فإِنَّ الأب يستحقُّ على الابن جنس ما استوفاه، إذْ يجبُ عليه إعفافُ الأبِ، فأشبه ما إذا سَرَق مالَ الابن، لا يجبُ علَيه القطْعُ؛ لأنه يستحق النفقة عليه عنْد الحاجة، ووُجِّه أيضاً بأنَّ الوالد لا يُقْتَلُ بولده، فيبعُد أن يرجم بوطء جاريته، وفي "أمالي" أبي الفرج أن الإصطخريَّ خرَّج قولاً في وجوب الحد عليه من قولٍ رُوِيَ في وجوب الحدِّ على من وطَئ جاريته المحرَّمَة عَلَيْه برضاعٍ أو نسبٍ، وفرق على ظاهر المذهب بأنَّ هناك ليست تلْك الجاريةُ محلَّ حلَّة بحال، وهذه محلُّ حل الأب، وقد تمكَّنت الشبهةُ فيها، وشبهة الملك كحقيقة الملك في درْء الحد، وإذا لم نوجب الحدَّ، ففي وجوب التعزير وجهان: أحدهما: المنعُ؛ كيلا يصير الابن ومالُه سبباً لعقُوبة الأب. وأصحهما: الوجوبُ؛ كركوب سائر المحظُورات، ويشبه أن يكون هَذَا في التعْزير لحقِّ الله تعالى لا لِحَقِّ الابن. ¬
المسألة الثانية: إن فرَّعنا على التخريج المذْكُور في الحدِّ، فهو كما إذا زنَى بأمة الأجنبيَّ، فإن كانت مكرهةً، وجب مهرها، وإن كانت مطاوعةً، فعلى وجهَيْن، وإن قلْنا بظاهر المذْهب نزلناه منزلةَ وطء الشبهة، وأوجبنا علَيْه المهر للابن، فإن كان موسراً أخذ منه، وإلا، فهو في ذمته إلى أن يُوسِر، وعن أبي الحُسَيْن حكايةُ وجهٍ ضعيفٍ؛ أنه إذا كان معسْراً، لم يتبع به. المسألة الثالثةُ: كما يسقط الحدُّ، ويجب المهر للشُّبهة تثبت حرمة المصاهرة، فتحرم الجاريةُ علَى الابن أبداً، ويستمرُّ ملكه عليها، إذا لم يوجد من الأب إحبالٌ، ولا شيءٌ على الأبِ بتحريمها؛ لأن مجرَّد الحلِّ في ملْك اليمين لَيْس بمتقوَّم، وإنما المقْصِد الأعظم فيه المالية، وهي باقيةٌ، وله تزويجُها، ويحْصُل المهر، وممَّا يدل علَى أن الحلَّ فيه غير متقوَّم أنه إذا اشترَى أمة، فخرجت أختَهُ من الرضاع لا يتمكَّن من الردِّ، ولم اشترى جاريةً صغيرةً، فأرضعَتْها، أمُّ البائع، وحَرُمت عليه، ثم اطَّلَع المشتري علَى عيْبٍ قديمٍ أو اشترتْ زوْجةُ الرجُلِ جاريةً رضَيعةً منْهُ، وأرضعتْها، فحُرِّمت على الزَّوْج، ثم اطَّلعَت علَى عيبٍ قديم يجوز الردُّ، والحرمةُ الحادثةُ لا تُجْعَل كالعيوب الحادثة، وليس ما نحْنُ فيه كتفويت حليِّ النكاح بالرضاع أو بوطء الشبهة بأن وطئ زوجة أبيه أو ابنه بالشبهة، حيث يُغَرَّمُ المهْرَ؛ لأن هناك تفويتَ المِلْكِ والحلِّ جميعاً، ولأن الحلَّ هو المقصد هناك فيقوم، ولذلك يجوز أن يشتري أخته من الرضاع، ولا يجوز أن يَنْكِحَها. المسألة الرابعة: إذا أحْبَلَها بوطئه فالولد نسيب حر، كما لو وطئَ جاريةَ الغير بالشبهة، وهل تصير الجارية أمَّ ولدٍ للأبِ؟ فيه قولان: أصحهما: وبه قَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: نعَم، للشبهة الَّتي اقتضتِ انتفاء الحدِّ ووجوب المَهْر. والثَّاني: وبه قال المزني: لأنها ليس ملكاً له وقْتَ الإِحبال، فصار كما لو استولَدَ جاريةً بالنكاح، وحكى الحناطيُّ في موضع القولَيْن اختلافاً، ملخَّصُ المفهوم منْه ثلاثة طرق: أحدها: تخصيص القولَيْن بما إذا كان الأَب معسِراً، والجزم بالاستيلاد عنْدَ يساره. والثاني: تخصيصُ القولَيْن بما إذا كان مُوسراً، والجزمُ بالنفْي عند إعساره. والثالث: وهو الأظهرُ: طَرْدُ الخلاف، ويخرَّجُ من هذه الطرق قولٌ فارقٌ بين أن يكون موسراً أو معسراً، على ما يُحْكَى عن صاحب "التقريب" كما إذا استولَدَ أحد الشريكَيْن الجارية المشتركة، فإنه ينفذ الاستيلادُ في نصيب الشريك، إن كان مُوسِراً، ولا ينفذ، إنْ كان معْسِراً، وَضعَّفَ الأئمةُ الفرْقَ من جهة أنَّ الاستيلاد هاهنا إنما يثبت
الحُرْمة الأبوة وشبهة الملك، ولا يختلفُ هذا المعْنَى بالإِعسار واليَسَارَ، وهناك يثْبُت الاستيلاد في نصيب الشَّريك لدفْع الضَّرَر عنه، فلو نفَّذناه في حالة الإِعْسَار، لعلَّقنا حقه بذمة ضر أب وهو ضرر أيضاً، فلم يَزُلِ الضررُ بالضرَرِ. التفْريعُ: إنْ فرَّقنا بين أن يكون مُوسِراً أو مُعْسِراً، فإذا كان موسراً، قال الإِمام: يجب أن يخرَّج عَلى الأقوال الثلاثة في تعجيل الاستيلاد أو تأخيره إلَى أداء القيمة، أو التوقُّف كما في سراية العتْق من نصيبٍ إلى نصيبٍ، وإن قلْنا: لا يثبتُ الاستيلاد فَعَلَى الأَب قيمةُ الوَلَد باعتبار يَوْم الانفصال، إنِ انفصل حيّاً؛ لأن الرِّقَّ اندفَعَ بسببه، وإنِ انفصل ميِّتاً، فلا شيْء فيه، وهذا كما قدَّرنا في ولد المغْرُور، ولا يجوز للابن بيع الجارية، ما لَمْ تضَعِ العمل؛ لأنَّها حامل بحُرٍّ، وهل على الاْب قيمتُها في الحال، ثم يستردُّ عند الوضْع؟. فيه وجهان: أحدهما: نعَمْ للحيلولَة الحاصِلَة. وأصحُّهما: على ما ذكره صاحب "التهذيب" وغيره: لا؛ لأنَّ يده محتويةٌ عليها، وهو منتفعٌ بها بالاستخدام وغيره، بخلاف ما إذا أبق العبدُ من يد الغاصب، وهذا الحكْمُ في الجارية المغرورِ بحُرِّيَّتها، والموطوءة بشبهَة إذ أَحْبِلتَا، ولو ملك الأب هذه الجاريةَ يوماً من الدهر، هل تصير أمَّ ولدٍ؟ فيه قولان معْروفان، فإنْ جعلْناها أمَّ ولد، فيجب على الأب قيمةُ الجارية مع المهر، كما إذا استولد أحَدَ الشريكَيْن الجارية المشتركة، يجِبُ عليه نصف القيمة مع نصْف المهر، وعند أبي حنيفةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لا مهْرَ على الأب إذا وجبت القيمة، وإذا اختلفا في قيمة الجارية فالقَوْل قول الأب الغارم، ومنْهم من جعله على قولَيْن، كما [لو اشترى] (¬1) عبدَيْن، وتلف أحدُهما، ووَجَدَ بالآخر عيباً، وقلْنَا له: ردّه، واختلفا في قيمة التالف، ومتَى ينتقل الملك في الجارية إِلى الأب؟ فيه وجوه: أحدها: أنه ينتقل قبيل العُلُوق؛ ليكُونَ مسْقط مائه ملكاً له، صيانةً لحُرْمَتِهِ، وهذا ما أورده في "التَّهْذِيبِ". والثاني: وهو الذي ارتَضَاه الإِمَامُ؛ أنه ينتقلُ مع العُلُوق؛ لأن العُلُوق هو علَّة نقْلِ المِلْك، والمعلولُ يساوق العلة. والثالث: ينتقل إلَيْه بعد العُلُوق؛ لأن الضرورة حينئذٍ تتحقَّق وعلى هذا، فوجهان نَقَلَهُمَا الحَنَّاطِيُّ: ¬
أحدهما: أنه ينتقل المِلْك إليه عند الولادة. والثاني: ينتقل عند أداء القيمة بعْدَ الولاَدة (¬1). ثمَّ الكلام في ثلاثة أمور: الأول: في وجوب قيمَة الوَلَد على الأَب وجهان بَنَوْهما على الخلاف في وقْت انتقال الملْك، إن قلنا: ينتقل الملكُ بعْد العلوقَ، وجَبَت القيمة، وإن قلنا: ينتقل قبله، لم تجب، وإن قلنا: معه، فقد قيل: قضيته وجوبُ القيمة أيضاً. وقال الإِمَامُ: العلوقُ علَى هذا التقدير يصادفُ الملك، فكيف يقتضي إيجاب القيمة؟ ورأىَ الأولى بناء الخلاف في وُجُوب الْقِيمَةِ على الخلاف في ثبوت الاستيلاد، إن أثْبتناه، لم نوجِبْ قيمة الولد، وإنْ نَفَيْناه أَوْجَبْنَاهَا. الثاني: قال الإِمامُ لو فرض نزولُ الماء مع تغْييب الحَشَفة، فقد اقترن مُوجِب المَهْر بالعُلُوق، فينبغي أن ينزل المَهْر منزلةَ قيمة الوَلَد، والذي أطلقه الاصحابُ منْ لزوم المهْر محْمولٌ على ما إذا تأخَّر الإِنزال عنْ موجِب المَهْر على ما هو الغَالِب. الثَّالِثُ: في "التهذيب" أنَّا إذا أثبتنا الاستيلاد فلا ولاء على الوَلَد، وإن لم نثْبِتْه، فوجهان: أصحُّهما: أن الجواب كذلك. المسألة الخامِسَةُ: إذا استولد الأبُ جاريةً مشتركةً بين الابن وبين أجنبيِّ، فثبوت الاستيلاد في نصيب الابن علَى القولَيْن السابقَيْن، وإذا أثبتناه، فإنْ كان موسراً، سَرَى إلى نصيب الشَّريك، والولدُ حرٌّ، وعلى الأب كمالُ المهر، وكمال القيمة للابن والأجنبيِّ، وإن كان معسراً، لم يثبت الاستيلادُ في نصيب الشريك والولد نصْفُه حرٌّ، ونصفه رقيقٌ في أصحِّ القولَيْن. وحكى القاضي أبو سعْدٍ الهَرَوِيَّ وجْهاً آخر: وهو أن الاستيلاد لا يَثْبُتَ في نصِيبِ الشَّريك .. بحال، ولا يُجْعَل حقّ الملك وشبهته كحقيقة المِلْك، ولو كان نِصْفُ الجارية للابن، ونصفُها حرٌّ، اقتصر الاستيلاد على نصيب الابن لا محالة. ولو كان الأب المستولد رقيقاً لم يجب عليه الحد، ولا تَصيرُ الْجَارية أُمَّ ولَدٍ، له؛ لأنه لا يملك، والولدُ نسيبٌ، وفي حرية الولد وجهان: فتوى القَفَّال فيها: أنه حرٌّ، ¬
كولد المغرور وقيمته في ذمته إلَى أنْ يعتق، والمَهْرُ يتعلَّق برقبته، إن كانت مكرهة، وإن كانت طاوعته، فقولان في أنَّه يتعلَّق برقبته أو بذِمَّته، كما لو وَطِئَ العبْد أجنبيةً بالشبهة، ولو كان الأب المستولد مكَاتباً، ففي ثُبُوت الاستيلاد وَجْهَانِ؛ بنَاءً على القولَيْن في ثبوته، إذا أولد جاريةَ نَفْسِهِ، ولو كان بعْضُه حراً وبعْضُه رقيقاً؛ لم يثبتْ الاستيلاد، ويكونُ نصْفُ الولَدِ حُرّاً، وفي نصْفه الآخر وجهان. قال في "التَّهْذِيبِ": إن قلنا: أَنَّهُ حُرٌ أيضاً، فعليه كمالُ قيمةِ الوَلَد، نصْفُها في كسبه، ونصْفُها في ذمَّته، وإن قلْنا: إن النِّصْف الآخر رقيقٌ، فعليه [قيمة نصفه] (¬1) في كَسْب. ولا فرق في الأحْكَام المذكورة بَيْن أن يكون الأبُ مُسْلماً أو ذِمَّيّاً، ويجري القَوْلاَن في ثُبُوت الاستيلاد في الذمِّيِّ، وإن كان الكافر لا يشتري المسلم؛ لأن الملك في الاستيلاد حُكْمِيٌّ، كما في الإِرث. ووطء الأبِ جاريةَ البنْت والحَفَدة كوطْئِه جارية الابْن، ولا فَرْقَ، وأما لفظ الكتاب، فقوله: "فلا يجب الحد، ويجب المهر" مُعْلَمان بالواو، ويجوز أن يُعْلَم قوله: "وينعقد الولد على الحرية" أيضاً؛ لأن من يقول بثبوت الوَلاَء علَيْه لا يُسَلَّم انعقاده على الحرية. وقوله: "وتصير مستولدة الأب" أعلم بالزَّاي، وفي "أمالي" أبي الفرج السَّرخْسَيِّ أنه لا يثبت الاسْتِيلاَد عند مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فليعلم بالميم أيضاً، وقوله: "على القول المنصوص" يشيره الى كون القول الآخر مُخرَّجاً، وكذلك ذكر بعض الأصحاب، قَالَ القاضي ابن كجٍّ: نص ههنا على أنها تصير أمَّ ولد له، ونص فيما إذا أحبل أحد الغانِمَيْن جاريةً من المغنم أنَّها لا تصير أمَّ ولد له، فمن الأصحاب من جَرَى على النَّصَّيْنِ، فرقاً بأنَّ الأب له شبهةٌ في مال الابن، ويجب علَى الابن إعفافه، وهذا المعْنَى لا يوجدُ في الغانمين بعضهم مع بعض، ومنْهُمْ منْ جَعَل المسلِمِينَ علَى قولَيْن، وهذا ذهاب إلى أن قول المنع مُخرَّج ههنا، ومن الأصحاب من قال: هو منصوصٌ، وربَّما نسب إلى القديم، فعلى هذا قولُه: "على المنصوص" يعني في هذا الباب أو على الجديد، وقوله: "ويقدر انتقال الملك إليه مع العلوق" لا يخفى أنه مفرَّعٌ علَى ثبوت الاستيلاد. وقوله: "علَى أظهر الوجهين" يمكن أن يرجع إلَى قوله "ويقدر انتقال الملك إليه مع العُلُوق" ويقابله الوجْهُ الذاهِبُ إلَى تقْدِيم الانتقال على العُلُوق، والوجه الذَّاهِب إلَى تأخره عنه تعليلاً بأنَّ المعْلُول يترتَّب على العلَّة بالرُّتْبة لا بالزمان، ويمكن أن يتعلَّق بقوله: "حتى ينتفي قيمة الولد"؛ لما مَرّ أن بعضهم قال: "قضية المساوقة وجوبُ القيمة" والاحتمال الأول أقرب إلى ما ذكره في "الوسيط" [وعلى هذا الاحتماله يُحْسُن ¬
أن يُعْلَم قوله: "حتى ينتفي" قيمة الولد بالواو] (¬1) وقوله: "ولا يسقط المهر" معلَمٌ بالحاء. قَالَ الغَزَالِيُّ: فَإِنْ كَانَتِ الجَارِيةُ مَوطُوءَةَ الابْنِ مَلَكَهَا الأَبُ بِالاسْتِيلاَءِ وَلَكِنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا لأَنَّهَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِوَطْءِ الابْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الحالةُ الثانية: إذا كانتِ الجاريةُ موطوءةَ الابنِ، ووَطِئَها الأبُ، وهو عالم بالحال، ففي وجوب الحدِّ وجهان أو قولان مأخوذانِ من القولَيْن في وجوبِ الحدِّ على من وطئ جارَيتُه المَحرَّمة عليه برضَاعٍ أو مصاهرةٍ أو نسبٍ: أَصَحُّهُمَا: وهو الجديد: أنه لا حدَّ للشبهة، وخصص القاضي الرّوَيانِيُّ في "التجربة" الخلاف بما إذا كانتْ موطوءة الابْنِ من غَيْر استيلاد، فأما إذا كان قد استولَدَها، فحكايته عن الأصْحَاب: وجوب الحد قَطْعاً؛ لأنه لا يُتصوَّر أن يمْلِكهَا بحالٍ بخلافِ ما إذا كانتْ موطوءةً غيْرَ مستولَدَةٍ (¬2)، فإن قلْنا بوجوب الحدِّ على الأَبِّ، فلا تَحْرُم الجاريةُ على الابن، ويجب المهر، إن كانَتْ مكرهةً، وإنْ كانت مطاوعةً، فوجهان: أصحُّهما: المنعْ، ولو أولَدَها، لم تصِرِ الجاريةُ أمَّ ولد له، وكان الولَدُ رقيقاً غيْرَ نسيب، وعلى هذا القياس إذا وطئ جاريتَهُ المحرَّمَة عَلَيْهِ برضاعٍ وغيره، وأولدَهَا، لا تفسير أمَّ ولد له، إذا أوجبنا الحَدَّ، قال الإِمام: وارتاع بعْضُ الأصحاب، فلم يستجز أن ¬
يطأ الإِنسانُ مملوكته، وتحْبَلَ منْه، ولا تفسير أمَّ ولد له، فحكم بثبوت النَّسَب والاستيلاد مع القَوْل بوجُوب الحد، وطرد هذا القائلُ كلامه في إيلاد جارية الابن، والظاهرُ الأولُ، وفي إيلاد أحد الشريكَيْن الجاريةَ المشتركةَ يَثْبُت الاستيلادُ والنسبُ، وإن طرد القول القديم، وقيل بوجوب الحدِّ؛ لأن وطأه يصادف ملكه وملْكَ غيره حقيقةً، فكانَتِ الشبهةُ أقوَى تمَكُّناً، وإنَّما أوجبنا الحدَّ صيانةً لِمِلْك الغير، وأما إذا قلْنا: إنه لا حدَّ عليه، فهو كما لو كان جاهلاً، فيلزمه المَهْر، وتكون الجاريةُ محرمةً عليهما أبداً، وإذا أولَدَها، فإن كانت مستولَدةَ الابن، لم تَصِيرْ مستولدةً له؛ لأنَّ أمَّ الولد لا تقبل النقل، وإن لم تكن مستولدةً له، فَهَلَ تَصِيرُ مُستَوْلَدَةَ الأَبِ فِيهِ الْقَولاَنِ المذْكُوران في الحالَةِ الأولَى بتفريعها. وقوله في الكتاب "ملكها الأب بالاستيلاد" أي: إذا فرَّعنا على القَوْل الأظْهَر في الحالة الأولَى، ولو وطئ الأبُ مكاتبة ابنه وأولَدَها، فوجهان: أحدهما: أنها لا تصيرُ مستولَدة له لأنَّ المكاتبة أَيْضاً لا تنتقل من مالك إلى مالك. والثَّاني: تصيرُ مستولَدةً؛ لأن الكتابة تَقْبَل الفسخ بخلاف الاستيلاد، وهذا أصح عند صاحب "التهذيب" والأول هو الذي أورده القاضي أبو سَعْدٍ الهَرَوِيُّ، قال: ولَيْس هذا كما إِذا استولدت مكاتبته، حيْثُ ينفذ الاستيلادُ؛ لأنه لا نقل هناك، ولا تحتاج إلَى فسخ الكتَابَة، بل الكتابةُ والاستيلادُ يجتمعان ولا منافاة. فَرْعٌ: لو كانتُ جارية الابنِ منكوحَة الغَيْر، وأولَدِها الأب، جرى القولان في ثُبُوت الاستيلاد، ويستمرُّ النكاح، وإن أثبتناه، كما لو استولَدَها سَيِّدها، ولا يجُوز للزَّوْج غشيانها في مدَّة الحمل، هذا تمام الكلام في وطء الأب جاريةَ الابْن. ولو وطئ الابْنُ جاريةَ الأب، فهو كما لو وطئ الأَجنبيُّ، فإن كان بشبهة، نُظر؛ إن ظَنَّها، أمته أو زوجته الحرَّة، فالولدُ حرٌّ، وعليه قيمته للأب، وإن ظنَّها زوجته الرقيقَة، فينعقد الولدُ رقيقاً، ثم يعتقُ على الجدِّ، ولا يجب علَى الابن قيمته، وإنْ وطئها عالماً بالتحريم، فهو زناً يتعلَّق به الحدُّ بخلاف وطء الأب جاريةَ الابْن؛ لأنَّ له في مال الابن شبهة الإعفاف، [ولا ينعكس] (¬1) وليس هذا كالسَّرقةِ، حيث لا يجبُ القطْع، سواءٌ سرق الأب مالَ الابن، أو الابْنُ مالَ الأبِ؛ لأن شبهة وجُوبِ النفقة تشْمَل الطرفَيْن، ويجبُ على الابن المهر، إن كانت مكرهة، فإن كانت مطاوعةً، لم يجب على أصح الوجهين، فلو أتتْ بولدٍ، فهو رقيقٌ للأب، ولا يعتق عليه؛ لأنه لا نسب له، والله أعلم. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّالِثُ فِي إِعْفَافِ الأَبِ) وَيَجبُ عَلَى أَشْهَرِ القَوْلَيْنِ أَنْ يُعِفَّ أبَاهُ الفَاقِدَ للمَهْرِ المُحتَاجَ إِلَى النِّكَاحِ وَالجَدَّ وإنْ عَلاَ فَهُوَ في مَعْنَى الأَبَ، فَإِنِ اجْتَمَعَ جَدَّانِ في رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَقْدِر إِلاَّ عَلَى إِعْفَافِ أَحَدِهِمَا أُقْرِعَ بَينَهُمَا عَلَى وَجْهٍ وَعَيَّنَ القَاضِي أَحَدَهُمَا عَلَى وَجهٍ، وَمَهْمَا أَظْهَرَ الرَّغْبَةَ فِي النِّكَاحِ صُدِّقَ بِغَيْرِ يَمِين لَكِنْ لاَ يَحِلُّ لَه بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى طَلَبُ ذَلِكَ إِلاَّ إِذَا صَدَقَتْ شَهْوَتَهُ بِحَيْثُ يَخَافُ الْعَنَتَ أَوْ يَشُقُّ المُصَابَرَةُ عَلَيْهِ، وَيَحْصُلُ الإعْفَافُ بِأنْ يُزَوِّجَ مِنْهُ مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّة أَوْ يُمَلِّكَهُ جَارِيَةً أَوْ يُسَلِّمَ ثَمَنَهَا إِلَيْهِ أَوْ مَهْرَ امْرَأَةٍ، وَلَيْسَ للأَبِ تَعْيِينُ امْرَأَة رَفِيعَةِ المَهْرِ، وَإذَا تَعَيَّنَ المَهْرُ فَتَعْيينُ الزَّوْجَةِ إِلَى الأَبِ، وَلَوْ مَاتَت فَعَلَيْهِ التَّجْدِيدُ، وإنْ فَسَخَ النِّكَاحَ بِعَيْبِهَا أَوِ انْفَسَخَ وَجَبَ التَّجْدِيدُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَجِبِ التَّجْدِيدُ، وَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ فَوَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذا الفصل مشتمل على مسألتين: المسألة الأولى (¬1): ظاهر المذهب أنه يجبُ علَى الابن إعفافُ الأب، ويُحْكَى ذلك عن نصِّه في "كتاب الدَّعاوَى والبينات" وفيه قول مخرَّج أنه لا يجبُ، وبه قَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ وَالْمُزَنِيُّ، وُينْسَب هذا القولُ إلَى تخريج ابن خَيْرَانِ. قَالَ الشَّيْخَانِ أبُو حَامِدٍ، وأبُو عَلِيٍّ قال ابن خيران: لَمَّا ذكر الشَّافعي -رضي الله عنه- في النفقات نفقةَ الأقارب، ولم يذكر الإعفافَ دلَّ على أن له قولاً أنه لا يجب، وهذا إشارةٌ إلى طريقة التخريج، ووجْهُهُ الإلحاقُ بإعفافِ الولَد، فإنه لا يجب على الوالد، وكذا لا يجب الإِعفافُ في بيْتِ الَمال، ولا عَلَى المسْلِمِين، ووجْه ظاهرِ المذْهَب أنَّ في ترك الإِعفاف تعريضاً للزِّنَا، وذلك لا يليقُ بحرمة الأبوة، وليس من المصاحبة بالمَعْروف، وقد قال الله -تعالى-: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] وأيضاً، فإن فوات نفْس الابن محتَمِلٌ لبقاء نفس الوالد، فأوْلَى أن يحتمل فواتَ ماله، ولو اترك إعفافَهُ، فربما يقع في الزنا، ويتعرَّض للرجْم، ولأنه من وجُوه حاجاته المهمَّة، فيجب على الابن القيامُ به كالنفقة والكسْوة، ويتفَّرع على القول بالوُجُوب مسائلُ: [المسألة الأوُلَى] (¬2): إحداهما اختلفوا في موْضع وجُوب الإِعفاف علَى ثلاثة طُرُقٍ: أشبههما: أن سبيله سبيلُ النفقة، فيجبُ إعفاف المعْسِر الزَّمِن، وفي المعْسِر الصحيحِ البَدَنِ قولان، كما في النفقة؛ لأنه لسدِّ الخلة ودفْعِ الحاجة كالنفقة. ¬
والثاني: أنَّ الإعفاف أَوْلَى بالوجوب، فيجبُ في المُعْسِر الزَّمِن، وفي المعْسِر الصحيح، إن أوجبنا النفقة، فإِن لم نوجْبها، ففي الإِعفاف قولان؛ وجْه الفرق: أن النفقة إذا لم تجبْ عليه، تجب في بيت المال، فيندفع حاجته، والإِعفاف، لا يُتوقَّع من جهة أخرَى، وبهذا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ. والثالث: أنه حيث لا تجبُ النفقة، لا يجبُ الإعفاف، وحيثُ يجبُ، ففي الإِعفاف قولان، والفرْق أن الحاجة إلى النفقة أهمُّ ولذلَك يجُوزُ للمضطَرِّ أكل طعامِ الغَيْر، ولا يُفْرَض مثل ذلك في الجِمَاع، وحيثُ وجَب الإِعْفاف استوى فيه الابن والبنت كالنفقة. [المسألة] الثانية: اعتبر صاحبُ الكتاب فيمن يُعَفُّ ثلاثة قيود، وهي الأبوة، وفِقْدَان المهر، والحَاجَةُ إلى النكاح. الأول: الأبوةُ، والمراد من يقع عليه الاسمُ بالحقيقة أو المجاز، فيدْخُل فيه الجدُّ، وإن علا، سواءٌ كان من قبل الأب أو من قبل الأم، وفي وجوب إعفاف الأب الكافر، وجهان: أشبههما: الوجوب. فإذا اجتمع أصلان محتاجَانِ، فإن وَفَّى مال الولد بإعفافهما جميعاً، وجب، وإن لم يَفِ، فيُنظر؛ إن اختلفا في الدرجة، فالأقربُ أولَى، إذا استويا في العصوبة أو عدمها. مثالُه: الأب أولَى من أب الأب، وأبو الأم أولَى من أبي أبي الأم، وأبِي أمِّ الأمِّ، وإن كان للأبعد عصوبة دون الأقرب؛ وكأبي أبي الأب مع أبي الأم، فالأول أولَى، وحكى الشيخ أبو عليٍّ؛ أنهما سواءٌ؛ لتعارض المعنَيَيْن، وإن لم يكن لواحدٍ عصوبةٌ كأبي أم الأب، وأبي أبي الأمِّ، فهما سواءٌ، وحيث حكمنا بالاستواء، فلا تقسم مؤنة الإِعفاف عليهما، ولكن يخصَّص أحدهما به، وفي طريقته وجهان: أقربهما: يحُكْم القرعة (¬1). ولو اجتمع عدَدٌ ممن يجب عليهم الإِعفافُ، كالأولاد والأحفاد، فليكن الحكُم عَلى ما سيأتي في النفقة. القيد الثاني: فِقْدَان المهْر، فالغَنِيُّ القادرُ علَى إعفاف نفْسِه بماله، لا يجب على الولَدِ إعْفَافُهُ، وكذا الكسوب الذي يستغنى بكَسْبه عن غيره، ذكرها شيخ أبو عليٍّ، ¬
وينبغي أن يجيء فيه الخلافُ المذكورُ في النفقة، ولو وجَدَ قدْرَ النفقة، ولم يجدْ مؤنة الإِعْفَاف، فوجهان: أحدهما: أنه إذا سَقَطَتِ النَّفَقَةُ سَقَطَ الإِعْفَافُ. وأظهرهما: أنه يجب إعفافه؛ لأنه محتاجٌ إليه، وِإن كان مستغنياً عن النَّفَقة، وصار كما لو وجد النفقة دون الكسْوة، [فإنه يستحق الكسْوَةِ] (¬1) ولو سقط وجوب النفقة أياماً بعارضٍ، قال الإِمام: ما ينبغِي أن يكون ههنا الخلاف في وجُوب الإعفاف، ولو قدر علَى سرية، ولم يقَدِرْ على مهْرِ حُرَّة، فالوَجْه أنه لا يجب إعفافه؛ لأنهَ لا يَتعيَّن في إعفافه تزويجُ حُرَّةٍ، كما سيأتي، وبهذا يَتبيَّن أنَّ فِقْدان المهر بخصوصه غيرُ معتبرٍ، وإنما المعتبر ألا يجد ما يتمكَّن به من الاستمتاع. [القيد] الثالث: الحاجة إلى النِّكاح، وإذا أظهر الحاجة إلَى قضاء الشهوة والرغْبَةِ في النكاح، فيُصدَّق من غير يمين؛ لأن تحليفه في هذا المقام لا يليقُ بحرمته، ولكن لا يحلُّ له طلب الإعفاف إلا إذا صدَقَتْ شهوته بحَيْث يخاف العنت أو يضرّه التعزُّب، ويشقُّ عليه الصَّبْر. قال الإِمام: ويُحْتمل أن يشترط خوْفُ العنت، كما في نكاح الأَمَة، لكن الأول أظْهَرُ. المسألة الثالثة: المرادُ من الإِعفاف أن يُهَيِّئَ له مستمتعاً بأن يعطيه مهر حرة ينكحها، أو يقول له: انْكَحْ، وأنا اْعَطي المهر أو يباشرُ النكاحَ عن إذْن الأب، ويعطي المَهْر أو بأن يملكه جاريةً لم يطأها، أو يُعْطِيه ثمنَ جاريةٍ، ولا فرْقَ بين أن تكون الحُرَّةُ المنكوحةُ مسلمةً أو كتابية، وأومأَ القاضي الرَّوَيانِيُّ إلى أن من الأصحاب من لم يكتف بالكتابيَّة، وليس للأب أن يعيِّن النكاح، ولا يرضى بالتسِّري، ولا إذا اتفقا على النكاح أن يعيِّن امرأةً رفيعةَ المهْر؛ لفضيلة جمالٍ أو شرفٍ، وإذا اتفقا على قدْر المهْر، فتْعِيين المرأة بعد ذلك إلى الأب، ولا يجوز أن يُملِّكه أو يزوجه عجوزاً أو شوهاء، كما ليس له أن يطعمه في النفقة طعاماً فاسداً لا ينساغ، ثم يَجِبُ عليه أن ينفق علَى زوجة الأب أو أمتِهِ [ويقوم] (¬2) بمؤنتها ولو أيسر الأبُ بَعْد ما ملكه الابنُ جاريةً أو ثمنها، لم يكن لَه الرجوع، كما لو دفع له النفقة، فلم يأكْلها، حتى أيسر، ولو كانتُ تحته صغيرةٌ، أو عجوزةٌ أو رتْقاءُ، ولم تندفعْ حاجَتُه، فالقياسُ وجوبُ الإعفاف، وأَنَّه لا يجتمع عليه نفقتان، وإذا ماتتِ الأمةُ التي ملكها أو الحُرَّة التي تزوجها، أو فَسَخ النكاح بعيبها، أو فسخت بعيبه، أو انفسخ النكاحُ بِرِدَّة أو رضاعٍ، بِأَنْ أرضعت التي نكَحَها صغيرةً كانت ¬
زوجتَهُ، فصارت أمَّ زوجته، فيجب علَى الابن تجديدُ الإعفاف، كما لو دفَع إلَيْه النفقةَ، فسُرِقَتْ منه، حكى الشيخ أبو حامد وجهاً آخر: أنه لاَ يجب؛ لأنَّ النكاح عقد عمر، وإذا تحمَّل مؤنته مرةً، فقد حافَظَ على حرمة الأبوة، فنقنع منه بذلك، والظَّاهر (¬1) الأولُ، وإذا قلنا به: فلو طلَّقها أو خَالَعها أو عتق الأمة، نظر؛ إن كان بعُذْر من شقاقٍ أو نشوزٍ أو غيرهما، ففيه وجهان: أظهرهما: وهو المذكور في "التهذيب": أنه يجب التجديد، كما في المَوْت، وإِذا كان [بغير] (¬2)، عذر لم يجب؛ لأنه المقصِّر والمفوِّت على نفسه. وفي "التتمة" وجه آخر: أنه إذا طَلَّقَ، فعليه أن يزوِّجه مرَّة أخرَى، أو يسريه، فلو طلَّق الثانية، لم يزوِّجه بعد ذلك، ولكنْ يسرِّيه، ويسأل الحاكم أن يحجر عليه، حتَّى لا ينفذ إِعتاقه بعد ذلك، وإذا وجَب التجديد، فإن كانت بائنه فعليه التجديد في الحال، وإنْ كانتْ رجعيَّةً، لم يجبْ إلا بعْد إنقضاء العدَّة. فَرْعٌ: إن قلنا: لا يجبُ الإِعفافُ، فللأبِ المحتاجِ أن ينْكِحَ أمة، وإن أوجَبْناه، فوجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه غيْرُ مستطيعِ للطَّول خائفٌ من العَنَت. وأصحهما: المنع؛ لأنه مستغنٍ بمال ولده عن نكاح الأمة، فإن قلْنا بالأول، حَصل الإِعفاف بأن نزوِّجه أمةً. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَيْسَ لِلأَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ جَارِيَةَ الابْنِ، فَإنْ مَلَكَ الابْنُ زَوْجَتَهُ لَمْ يَنْفَسِخِ النِّكَاحُ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِلأَب وَلَدٌ فِي مِلْكِ الابْنِ، وَلاَ يَتَزَّوَجُ جَارِيَةَ نَفْسِهِ، وَلَوْ مَلَكَ زَوْجَتَهُ انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَلاَ يَتَزَّوجُ جَارِية مُكَاتَبَة، وَلَوْ مَلَكَ الْمُكَاتِبُ زَوْجَة سَيِّدِهِ فَفِي الانْفِسَاخِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المسألةُ الثانيةُ الحكايةُ عن نصِّه في كتاب "الدَّعَاوَى": أنه لا يجوز للأب أن يتزوَّج بجارية ابنه، ونقل المزنيُّ في "المختصر" جوازه، وهو قول أبي حنيفة، وعن أَبِي إِسْحَاقَ أن ابن سُرَيْج قَالَ: وجدتُّ الشافعيِّ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- ما نقله المزنيُّ، والأصحابُ اختلفوا على طريقين في المسألة: أحدهما: إثبات قولَيْن فيها مبنيَّة على القولَيْن في وجوب الإِعفاف، إن لم نوجبْه، ¬
جاز للأب أن يتزوَّج جاريةَ ابنه، كما يجُوز للابْنِ أن يتزوَّج أمة أبيه، وإن أوجبْنَاه، لم يُجْز لاستغنائه عن نكاح الأمة بمالِ ابْنه. والثاني: القطْعُ بالمنع، وإلَيْه ذهب الأكْثَرون، وقالوا فيما نقله المزنيُّ: إِن الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: يجوز للرَّجُل أن يتزوَّج بجارية أبيه، فوقع في لفظة أبيه تصحيف؛ لأنها في الصورة تشبه ابنه، ومنْهم من أوَّله، وحمل ما نقله على ما إذا كان الابنُ معْسِراً لا يجد مؤنة الإِعفاف، وكانت له جاريةٌ يحتاج إلَى خِدْمتها، فيجوز له أن يتزوجها منه، أو كان الأب مع إعساره صحيحَ البَدَن، فإنَّا لا نوجبُ إعفافه ونفقته علَى قول، فيجوز له أنْ يتزوَّج بجارية ابنه. والصحيح في هاتَيْن الصورتَيْن أن يُبْنَى جواز النِّكَاح علَى أنَّه إذا أولد جاريةَ ابْنه، هل تفسير مستولدةً له إن قلنا: نعم، لم يجزْ له نكاحُها، كما لا يجوزُ لهُ أن ينكح جاريةَ نَفْسه، وإن قلنا: لا، جاز له نكاحها، وكذا الحكْمُ على قولنا: إنَّه لا يجبُ الإِعفاف، هذا كلُّه فيما إذا كان الأب حراً، أما إذا كان رقيقاً، فله أن ينكْحَ جاريةَ ابنه؛ لأنه لا يجبُ عليه إعفافُه ولا نفقُته، وإذا استولد الرقيقُ جاريةَ ابنهِ، لم تصر أم ولد له على ما تقدَّم، ولو نكح الأبُ جارية أجنبيِّ، حيث يجوزُ له نكاحُ الأمة، ثم ملكها الابنُ والأبُ بحيث لا يجوزُ له نكاحُ الأمة ابتداء، هل يُفْسَخ النكاح؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما أنه لما لم يجُزْ للرجُل أن ينكح جاريةَ نَفْسِه، فلو نكح جاريةَ غَيْره، ثم ملكها، ينفسخ النكاح. وَأَصَحُّهُمَا: وهو المذكور في الكتاب: أنه لا يَنُفَسِخ؛ لأن الأصْلَ في النكاحِ الثابتِ الدوامُ، وللدَّوام، من القوة ما لَيْس للابتداء عَلى ما سبق نظائِرهُ، وأُجْرِيَ الوجهان فيما لو نَكَح جاريةَ ابْنِه، ثم عَتَق، هل ينفسخ النكاح؟ فإن قلْنا: لا ينفسخ النكاح، أو جوَّزنا له أن ينكح جارية ابْنِه ابْتِدَاء، فَأوْلَدَها، قال الشيخ أبو حامد والعراقيون وتابعهم الشيخ أبو عليٍّ وصاحب "التهذيب" وغيرهم: لا تصير أمَّ ولد له، لأنه رضي بِرِقِّ ولده حين نكَحَها؛ ولأن النكاح حاصلٌ محقَّقٌ، فيكون واطئاً بالنكاح لا لشبهة المِلْك بخلاف ما إذا لم يكُنْ نكاحٌ، وعن الشيخ أبي محمد، وإليه ميلُ الإِمام: أنه يثبت الاستيلاد، وينفسِخُ النكاح وهذا قوله في "الْكِتَابِ" ما لَمْ يحْصُل للأب ولَدٌ في ملك الابْن. ولا يجُوز للسيِّد أن ينكح جاريةَ مكاتَبِهِ؛ لأن للسيِّد في رقبة المكاتَب وما في يده شبْهَةَ المِلْك، وإذا أولد جاريةَ مكاتَبِهِ، فصارت أمَّ ولدٍ للسيد، فلو كان قدَ نكح جارية، فملكها مكاتَبُهُ، ففي انفساخ النِّكاح وَجْهَانِ، قَالَ في "التتمة": هما كالوجهَيْن في صورة ملك الابن، قضيَّةُ هذا الإطلاق ترجيحُ عدَمِ الانفساخ، وبه قَالَ القاضي أبو سَعْدٍ
الهرويُّ -رحمه الله- ومنهم من رجَّح الانفساخ ههنا وهو الأشبه؛ لأن تعلُّق السيد بمال المكاتَب فوق تعلُّق الأب بمال الابن، فحدُوثُ ملك المكاتَب يقرب إذا ملك زوجة نَفْسه والله أعلم. ثم لا يخفى مواضع العلامات في الفصْل. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الرَّابعُ فِي تَزْوِيجِ الإِمَاءِ) وَللسَّيِّدِ أنْ يَسْتَخدِمَهَا نَهَاراً، وَعَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَى الزَّوْجِ لَيْلاً، وَهَلْ لَهُ أَنْ يُبوِّئ لَهَا بَيتاً في دَارِهِ، أَمْ للِزَّوْجِ أن يَخْرُجَ بِهَا لَيْلاً؟ فِيهِ قَوْلاَنِ، فَإنْ قُلْنَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَكَانَتْ مُحْتَرِفَةً وَأَمْكَنَهَا ذَلِكَ في يَدِ الزَّوْجِ فَهَلْ يَجِبُ تَسْلِيمُهَا نَهَاراً؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلاَ خِلاَفَ أَنَّ لِلسَّيِّدِ المُسَافَرَةَ بِهَا لَكِنْ لاَ يُمْنَعُ الزَّوْجُ مِنَ الخُرُوج لِيَصْحَبَهَا لَيْلاً، وَإذَا لَمْ يُسَلِّمْهَا إلاَّ بِاللَّيْلِ فَالوَاجِبُ شَطْرُ النَّفَقَةَ، وَقِيلَ: لاَ يَجِبُ أَصلاً، وَقِيلَ: يَجِبُ الجَمِيعُ، وَمَهْمَا سَافَرَ بِهَا السَّيِّدُ سُقَطَتْ نَفْقَتُهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فِيهِ [ثَلاَثُ] مَسَائِلَ: الأُولَى (¬1): السيد إذا زوَّج أمته، لم يلزمه تسليمها إلى الزَّوْج ليلاً ونهاراً، لكن يستخدمها نهاراً، ويسلِّمها إلى الزوج ليلاً؛ وذلك لأنَّ السيد يملك منفعتَيْن من أمته؛ منفعةَ الاسْتِخدام ومنفعةَ الاستمتاع، وإذا زوَّجها، فقد عقد علَى إحدى منفعتَيْها، وبقيَتِ المنفعةُ الأخْرَى، فيستوفيها في وقْتِها، وهو النَّهار، وهذا كما أنَّه إذا أجر أمته يسلِّمها إلى المُسْتأجر نهاراً، ويُمْسِكُها لاستيفاء المنفعة الأخْرَى في وقتها، وهو الليلُ، ويتبيَّن من هذا؛ أنه لو أراد السيد أن يسلِّمها نهاراً بدلاً من الليل، لا (¬2) يجوز؛ لأن اللّيلَ وقْتُ ¬
الاستراحةِ والاستمتاعِ، وعليه التعويلُ في القسم بيْنَ النساء، ولو قال السيِّدُ: لا أُخْرِجُها من داري، ولكن أُبوِّيءُ لَكَ بيتاً لتدخله، وتَخْلُوَ بها، حكى الإِمام فيه قولَيْن: أظهرهما: أنه ليس له ذلك، فإنَّ الحياء والمروءة يمنعانِهِ من دْخُول داره، وعلى هذا، فلا نفقة على الزوج، كما إذا قالَتِ الحرةُ: ادْخُل إِلى بيتي، ولا أخرج إلَى بيتك. والثاني: أن للسيد ذلك لتدوم يدُهُ علَى ملكه مع تمكُّن الزوج من الوصول إلى حقِّه، وعلى هذا فيلزمه النفقةُ، فإن قلْنا بالأول، فلو كانت محترفةً، فقال الزوجُ: دعُوها تحترفُ للسيد في يدي وبيتي، فهل يجاب؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا، وللسيد أن يرتَبِطَها عنده؛ لأنه قد يبْدُو له في الحِرْفة، ويريد أن يستَخْدِمها. والثاني: وبه قال أبو إِسحَاقَ المَرْوَزِيُّ: يجاب محافظةً على الجانَبْين. الثانية: للسيِّد أن يسافر بها؛ لأنه مالكُ رقبتها، فيقدَّم جانبه على جانب مالك المنفعةِ، ولا يمنع الزوْجُ من المسافرة معَها، ليستمتعَ بها ليلاً، ولا يكلَّف أن يسافِرَ مَعها، وينفق عليها، وإذا لم يسافِرْ معَها، لم يكنُ عليه نفقتها، وأما المَهْر، فيُنْظر؛ إن كان قد (¬1) دخل بها، فقد استقر وعليه تسليمه، وإن لم يكنُ دخَل بها، لم يلزْمه تسليمه، وإن كان قدْ سلمه، فله أن يسترده. الثالثة: إنْ سامَحَها السيِّد، فسلمها ليلاً ونهاراً، فعلى الزوْج تسليمُ المهْر وتمَامُ النفقة، وإن لم يسلِّمها إلا بالليل، ففي النفقة وجوه: أظهرها: عند جمهور العراقيين وصاحب "التهذيب": أنَّه لا يجبُ شيْءٌ منها، وبه قال أبو إِسْحَاق؛ لأنه لم يوجد التسليمُ والتمكينُ التامُّ. والثاني: ويحكَى عن ابن أبي هريرة: أنَّه يجب شطر النفقة، توزيعاً لها على الزمان، وبهذا قال أبو محمَّد أحمد بنُ ميمونٍ الفارسيُّ من أصحابنا فيما حكى الشيخُ أبو عاصمٍ في "الطبقات" ونظْمُ الكتاب يقتضي ترجيحَ هذا الوجْه، وإليه مال ابنُ الصَبَّاغِ. والثالث: عن الشيخ أبي محمَّد: أنه يجبُ تمام النفقة؛ لأنه وجد التسليمُ الواجب، ويرُوَى هذا عن المُزَنِّي في "المنثور" وأجرى الوجهين الأوَّلين فيما إذا سلمت الحرَّة نفْسَها ليلاً، واشتغلت عن الزَّوْج نهاراً (¬2). وأما المهْرُ فعن الشيخ أبي حامد؛ أنه لا يجب تسليمُهُ كالنفقة. ¬
وذكر القاضي أبو الطيِّب، أنه يجب. قال ابنُ الصَّبَّاغ: وهذا أصحُّ؛ لأن التسليم الذي يتمكَّن معه من الوطْء قد حَصَل، وليس كالنفقة، فإنَّهاَ لا تجب بتسليم واحدٍ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَأَمَّا المَهْرُ فَإنَّما يَجِبُ للسَّيِّدِ، فَلَوْ قَتَلَهَا السَّيِّدُ قَبلَ المَسِيسِ فَالنَّصُّ سُقُوطُ المَهْرِ، وَلَوْ قَتَلَهَا أَجْنَبِيُّ أَوْ قَتَلَتِ الحُرَّةُ نَفْسَهَا فَفِي السُّقُوطِ وَجْهَانِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي أَن المَهْرُ لاَ يَسْقُطُ بِمَوْتِ الحُرَّةِ وَالأَمَةِ وَلاَ بِقَتْلِ الأجْنَبِيِّ الحُرَّةَ، وَإِذا بَاعَ الأَمَةَ لَمْ يَنْفَسِخِ النِّكَاحُ وَيسَلَّمُ الْمَهْرُ لِلبَائِعِ لأَنَّهُ وَجَبَ بِالعَقْدِ فِي مِلْكِهِ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ حَبْسُهَا لأَجْلِ سَوْقِ الصَّدَاقِ، وَلاَ لِلمُشْتَرِي أَيْضاً ذَلِكَ فَإنَّهُ لاَ مَهْرَ لَهَا، وَلَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ فلاَ مَهْرَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه ثلاثُ مسائلَ تتعلَّق بمَهْر الأَمَةِ المنكوحَةِ: المسألة الأُولَى: لا شكَّ أن هلاك المنكوحَةِ بعْد الدخول حرَّة كانت أو أمة، لا يسقط المهر، ولا شيئاً منه، سواءٌ هلَكَت بالموت أو بالقَتْل، وإنْ هلكَتْ قبل الدُّخول، فينظر، إن حصل الهلاكُ بفعْلِ مستحِقِّ المهر أولاً بهذا الطريق. أما القسم الأول: فإذا قتل السيد أمته، فالنصُّ في "المختصر" أنه لا مَهْر، وعن نصِّه في "الأم" أن الحرة إذا قتلت نفْسَها، لا يسقط شيء من المَهْر، وللأصحاب فيه طريقان: أشهرهما: أن المسألة على قولَيْن بالنقل والتخْريج، وبه قال ابن سُرَيْج: أحدهما: يسقط المهر في الصورتَيْن؛ لانقطاع النكاح قبل الدخُول من قِبَلِ مستحِقِّ المهر، فأشبه الردَّةَ قبل الدخول. والثاني: لا يسقط؛ لأنها فرقةٌ حصَلَتْ بانتهاء العُمر، فكانت كالمَوْت. والطريقة الثانية: تقرير النَّصَّينِ، والفَرْق أن الْحُرَّةَ كَالْمُسْلِمَةِ إلى الزوج بالعَقْد؛ أَلاَ تَرَى أنَّ له أن يمْنَعَها من المسافرة، والأمة لا تصير مسلمةً بالعقد بدليلِ أن للسَّيد أن يسافر بها، ولا يستقرَّ مهْرُها إلا بالدُّخول، وأيضاً، فإنَّ المقصود الأصليَّ من نكاح الأمة الاستمتاعُ، ولهذا لا يجوزُ إلا عنْد الحاجة، وفي نكاحِ الحُرَّة المقصودُ الوصلةُ، وتشابكُ العشائر، وأيضاً، فإن الحرةَ إذا قتلَتْ نفْسَها غَنِمَ زَوْجُهَا مِيرَاثَهَا، فجاز أن يغرم مهرها، وفي قتل الأمة لا ميراثَ له، وعلى الطريقة الأولَى قولُ وجوب المهرِ فيما إذا قتل السيد أمته مخرج ومنْهم من حكاه عن النصِّ أيضاً، وإذا قلْنا بسقوط المهرْ فيما إذا قتلها السيد، فلو قتلت هي نفْسَها، فالحُكمُ كذلك، وإن لم تكن مستحقَّةً للمهر، فإن المهْرَ يسقط بُضْعَها، كما لو ارتدَّت قبل الدخول،
أو أرضعتِ الزوجَ، هذا هو (¬1) النص، والظاهرُ فيه وجه: أن قَتْلَها نفْسَها كموتها. والقسم الثاني: إذا حصل الهلاكُ لا يفعل المستحِقِّ أما الأَمةُ إذا قتلها أجنبي أو ماتت، فظاهر المذهب وجوبُ المهر، وعن الإِصطخري سقوطُه؛ بناءً على أن السيد يزوِّج بحكْم الملك، فهلاَكُهَا قبل الدخول كهلاكِ المبيع قبل القَبْض، ولو قتلها الزوْجُ، فالحكم ببقاء المهر أظهر، وفيه وجه أنَّه يسقط أيضاً، وقتل الزوج لا يتضمِّن القبض كالمستأجر إذا قتل العبد المستأجر، وأما الحرَّة، إذا قتَلَها الزوج أو أجنبيٌّ، أو ماتت، لم يسقط المهر بحال، والظاهرُ في قتل السيدِ الأَمةَ سقوطُ المهر، وفي سائر الصُّوَر وجوبه، وقال أبو حَنِيْفَة: إذا قتل السيدُ الأمةَ، سَقَط المهر، وإذا قتلت الأمةُ نفْسَها، لا يسقط، وفي قَتْلِ الأمةِ نَفْسَها روايتان، وبقي المسألة شيئان أحدهما حكى جماعة من الأصحابُ خلافاً في أن المهر على النصِّ لم يَسْقُط إذا قتل السيدُ أمته، قَالَ بَعْضُهُم: إنما يسقط؛ لأن المقصودَ بالعَقْدِ الْوَارِدِ على المِلْك، قد فَاتَ قبل التسليم، فأشبه فوات المبيع قبل القَبْض، وهَذَا أظهر، إن قلْنا: إن السيد يزوِّج بحكم الملك. وقال آخرون: إن المستحِقَّ هو الذي فوَّت المعقود علَيْه، فلا يتمكَّن مِن الْمَطَالَبَة بعِوَضِهِ، وكان تفويته رضاً منه بالسقوط، وخرَّجوا سائر الصور على هذَيْن الْمعنَيَيْن، فَأما إذا ماتَتِ الأمة أو قتلها أجنبيٌّ، سقط الْمَهرُ على المعنَى الأوَّل، ولا يسقط على المعنَى الثانِي، وكذلك لو قتَلَتِ الأمةُ نفْسَها، وإذا قتلتِ الْحُرَّةُ نَفْسَهَا، فعلى المعْنَى الأول؛ لا يسقط المهر، وعلى الثاني يسقط الثاني. قال صاحب "التهذيب": إذا قلنا: إن السيد إذا قتل أَمَتَهُ، سقط المهر، ولو تزوَّج رجلٌ أمة [أبيه] (¬2)، فوطئها الأب قبْل أن يَدْخُلَ الابْنُ بِهَا، وجب أن يسقط المهر؛ لأن قطع النِّكَاحِ حصَلَ من مستحِقِّ المهر قبل الدخول. ¬
وقوله في الكتاب: "ولا خلاف في أن المهْرَ لا يسقط بموت الحُرَّة والأمة" الأمر في موت الحرة كما ذكره، وأما في موت الأمة، فقد عرفت الخلافَ فيه، فإن كان ذلك طريقة أخرَى، فليعلم قوله: "والأمة" بالواو" لذلك. المسألة الثانية: إذا باع الأمةَ المزوَّجة، لِم ينفسخ النكاحُ؛ لما رُوِي عن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- "اشْتَرَتْ بُرَيْرَةَ وَلَهَا زَوْجٌ فَأعْتَقَتْهَا، فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ولو انفسخ النكاح، لَمَا خيَّرها، ويكون المهر للبائع، إن سمَّى في العقد صداقاً صحيحاً أو فاسداً، سواءٌ جرى الدخولُ قبل البيعِ أو بعْده؛ لأنه وجَب بالعقْدِ، والعقْدُ كان في ملكه، ولو طلَّقها الزوجُ بعْد البيع وقبل الدخول يكُون نصْف المهر للبائع، وإنْ كان قد زوَّجها على صورة التفْويض، ثم جرى الغرض أو الدُّخُول قبل البيع، فالمفروضُ أو مهر المثل للبائع أيضاً، وكذلك، إنْ أوجبنا المهر في المفوِّضة بالعقد، وإن جرى الفرض أو الدخول بعد البيع، فالمفروضُ أو مهرُ المثل للبائِع أو للمشترِي؟ فيه طريقان: أظهرهما: أنه على وجهَيْن؛ بناءً على أن الوجوب بالفرض والدخول، أو نتبين بالفرض والدخول وجوبَ المفروض أو مهْر المثل بالعقْد، وفيه قولان، إن قلْنا بالأول، فهو للمشتري، وإنْ قلْنَا بالثاني، فهو للبائِعِ. والطريقُ الثَّاني: القطع بأنه للبائع؛ لأن العقْدَ هو السبَب الأول، وبه دخَل البُضْع في ضمان الزَّوْج، وإنما جرى العقْد في ملك البائع، ولو مات أحدُ الزوجَيْن بعد البيع، وقبل الفرض والدخول، وحكمنا بوجوب المهر، [ففيمن] (¬1) له المهرُ، مثْلُ هذا الخلاف، ولو طلَّقها بعد البيع وقبل الفرض والدخول، فالمتعة للمشتري؛ لأنها تجب بالطلاقِ، والطلاقُ وقع في ملكه، ولو أعتق أمته المزوَّجة، فالقول في المهر على التفصيل المذكور في البيع، فحيث قلْنا: إنه للبائع، فههنا يكون للمعتق، وحيثُ قلنا هناك: إِنَّه للمشتَرِي، فههنا يكون للمعتقة، وحيث حكمنا بأن المهر للبائع أو للمعتق، ولم يجر الدخول، فليس له حبْسُها لتسوق الصداق؛ لأنها خرَجَت عن ملكه وتصرُّفه، وليس للمشتري، ولا للمعتقة الحَبْس أيضاً؛ لأنهما لا يملكان المَهْر، وحيث حكمنا بأنه للمشتري، أو للمعتقة، فلهما الحبس لاستيفائه، ولو أعتقها وأوصَى لها بصَدَاقها، فليس لها حبْسُ نفسها لاستيفائه؛ لأن الاستحقاق ههنا بالوصيَّة لا بالنكاح، ولو تزوج أمة ولده، ثم مات، وَعَتَقَتْ، وصار الصداقُ للوارث، ولم يكن له حبْسُها؛ لأنه لا ملك له فيها. ¬
هذا في النكاح الصحيح، أما إذا زوَّجها تزويجاً فاسداً، ثم بَاَعَها، ووطِئَها الزوج بعد البَيْع فمهر المثْلِ للمشتَرِي؛ لأنه وجب بالوطءْ الواقع في ملكه، وإن وطئ قبْلَ البيع، فهو للبائع. المسألة الثالثة: ذكَرْنا من قبل أنه يجُوز أن يزوّج أمته من عبده، وأنه لا مَهْر؛ لأن السيد لا يَثْبُت له دَيْنٌ علَى عبده؛ ألا تَرَى أن جنايته عليه لا تثبت له أرشاً، وإتلافه ماله لا يقتضي ضماناً لا في الحال، ولا بعْد العتق، وحكى الشيخ أبو عليٍّ وجهين؛ في أنه يجب المهر، ثم يسقط أو لا يجب أصلاً ووجه الأولُ ألاَّ يعزي النكاح عن المهر، فالنكاحُ بلا مهْر من خصائص رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ووجْه الثاني: أن المعنى المسقِطَ للمهر كونُه (¬1) ملكًا، وأنَّه مقترنٌ بالعقد، فيدفع الوجوب، ولو أعتقهما السيد أو أحدهما، لم يلْزَمِ أيضاً لا للسَّيِّد، ولا للمعتَقة، وإن جرى الدخول بعد العِتْق؛ لأن المهْرَ لم يثبت في الابتداء، فلا يثبت بعْدَه، وكذا لو باعها، ودخَل الزوْج بها في ملْك المشتري، لا يجب المهر؛ لأنه ملك بضْعَها بغير عِوَضٍ في الابتداء. وقال الشيخ أبو عليٍّ: ويجوز أن يُقَالَ: إذا أعتقها أو أعتق الزوج، ثم دَخَل بها يجبُ المهر، فإن لم يجبْ في ابتداء العقْد، كما في المفوَّضة، يجب المهر، إذا جرى الدُّخُول، وإن لم يجب، في الابتداء، قال: وهذا إذا قلْنا: لا يجب المهرُ بالعقد، أما إذا قلْنا: إنه يجب، ثم يسقط، فلا يجيء هذا الاحتمالُ، وتكون كما لو أبرأَتْ عن المهر، ثم دخل بها. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ لأَمَتِهِ: أَعْتَقْتُكِ عَلَى أَنْ تَنْكَحِينِي لَمْ تُعْتَقَ إلاَّ بِالْقَبُولِ، ثُمَّ لاَ يَلْزَمُهَا الوَفَاءُ، وَعَلَيْهَا قِيمَتْهَا، فَإنْ نَكَحَهَا بِقِيمَتِهَا الَّتِي عَلَيْهَا وَهِيَ مَجْهُولَةٌ فَفِي صِحَّةِ الصَّدَاقِ وَجْهَانِ، فَلَوْ أَتْلَفَتْ عَبْداً عَلَى رَجُلٍ فَنَكَحَهَا بِالقِيمَةِ المَجْهُولَةِ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ قَالَتِ السَّيِّدَةُ لِعَبْدِهَا أَعْتَقْتُكَ عَلَى أَنْ تَنْكِحَنِي عَتَقَ بِغَيْرِ قَبُولٍ عَلَى الأَظهَر، كَمَا لَوْ قَالَ للِزَّوْجَةِ: طَلَّقْتُكِ عَلَى أَنْ لاَ تَحْتَجِبِي عَنِّي وَعَلَى أَنْ أُعْطِيَكِ شَيْئاً، وَسَبِيلُ السَّيِّدِ الرَّاغِبِ فِي نِكاحِهَا أَنْ يَقُولَ: إنْ يَسَّرَ الله بَيْنَنَا نِكاحَاً صَحِيحاً فَأَنْتِ حُرَّةٌ قَبْلَهُ ثُمَّ يَنْكِحُهَا فَيَصِحُّ النِّكَاحُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال لأمته: أعتقتُكِ على أن تَنْكِحِيني، أو على أن أنْكِحَكِ، لم تُعْتَق إلا بالقَبُول على الاتصال، ولا فرْقَ بين أن يَقُولُ مع ذلك: وعتقك وصداقك أو لا ¬
يقول، ولو قالت أولاً: أعتقْتَنِي علَى أن أنْكِحَكَ، فأجابها إليه، فكذلك الحكْمُ، ثم لا يلزمها الوفاءُ، فإن النكاح لا يصحُّ التزامه في الذمَّة؛ ألا ترَى أنه لو أسلم إلَيْها دراهم في نكاحها، لم يصحَّ، وفي "شرح مختصر الجوينيِّ" حكايةُ وجْهٍ عن أبي إِسْحَاقَ المروزِّي: أنه يجب عليها الوفاء بذلك، ولا اعتماد عليه، وعن أحمد في أظهر الروايتَيْن: أنها تُعْتَق، وتصير زوجةً له بالمخاطبة التي جَرَت بينهما، إن حضرها شاهدان، ويجب عليها للسيد قيمتُها؛ لأنه أعتقها علَى عوض لا مجَّاناً؛ لكنه عوضٌ فاسدٌ، فصار كما لو أعتقها علَى خمرٍ أو خنزيرٍ، ولا فرق في لزوم القيمة بين أن يَفِيَ بالنكاح المشروط، أو لا يفي، وإذا رغبتْ في النكاح، فللسيِّد أن يمتنع، ولا تسقط القيمة بذلك، وَقَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ: إن وقت، فلا قيمةَ عليها، وعن مالك أنَّه لا قيمة عليها بحال، ولو تَرَاضَيَا على النكاح، وأصْدَقَها غير القيمة الواجبة علَيْها، فلها ما أصْدَقَها، وعليها القيمةُ له، وقد يقعُ في التَّقَاصِّ، وإن أصدقها القيمةَ الواجبةَ عَلَيْها، فإن كانا عالمَيْن عند العقْد، صحَّ الإِصداق، وبرئت ذمتها، وإن جهلا أو أحدهما، فوجهان: أحدهما: وهو الأصح: الفسادُ، كما لو أصْدَقها سائِرَ المجاهيل، فلها مهْرُ المثْل، وَعَلَيْهَا الْقِيمَةُ. والثاني: وبه قال ابن خيران: أنه يصحُّ؛ لأن القيمةَ لمْ تَثْبُت مقصودةً، إنما كان مقصودُ السيد أن يَنْكِحَها، وإذا ثبت، فالغَرَضُ مِنْ جعله صَدَاقاً بَرَاءَتُها، وأيضاً، فإن القيمة بدلُ الرقبة، ولو أَصْدَقَهَا عَبْداً، وَجهِلا قيمته، يصح، فكذلك هاهنا ولو أتلفت امرأةٌ عبداً علَى رجل، ولزمتها قيمته، ثمَ نَكَحَها الرجلُ بالقيمةِ المجهولةِ، فسد الصَّدَاقُ، ورَجع إلَى مهر المثل قَالَ الإِمَامُ: ولو طرد طاردٌ الوجهَيْنِ في هذه الصورة، فهوَ قياسٌ، وإن نكحها على أن يكون صداقها عتقها صداقاً لها، فسد الصَّداق؛ لأن العتْقَ قد حَصَل وتقرَّر، فلا يصح أن يكون صداق النكاحِ متأخِّراً. وفي "رقْم العباديِّ" وجه آخر: أنه يصح، وكأنه بالشرط السابق جَعَل رقبتها صَداقاً لها، والمستولدةُ، والمدبَّرة، والمكاتَبةُ، والمعتَقُ بعْضُها حكمُهن في الإِعتاق على أن تَنْكِحْنَهُ حكْمُ القِنَّة. وعن رواية أبي الحُسَيْن بْنِ الْقَطَّانِ وجه: أنه لا قيمة على المستولَدَة؛ لأنَّهَا لا تبَاعُ وَلاَ تُشْتَرَى، ولو قال لغيره: أَعْتِقْ عبدك علَى أن أُنْكِحَكَ ابنتي، فأجاب أو قالت له امرأة؛ أَعْتِقْهُ علَى أن أنْكِحَك، ففعل، عَتَق العبد، ولم يلزم الوفاءُ بالنِّكَاحِ، وفي وُجُوبِ قيمة العبد وجهان، بناءً على القولين فيما إذا قال: أَعْتِقْ عبدك عنك على ألْفٍ؛ علَى أنه، هل يلزمه الألف؟ والأصحُّ عند الشيخ أبي حامد وصاحب"التهذيب" وغيرهما: أنه لا يلزمه؛ لأنه لا يعود إليه منفعةٌ بعتقه، ولو قال لأمته: أعتقْتُكِ على أنْ
تنكحي زَيْداً، فقبِلَتْ، ففي وجوب القيمة وجهانِ أيضاً حكاهما الحَنَّاطِيُّ، ثم في الفصْل وراء ما شرَحْناه مَسْأَلَتَانِ: المسألة الأولى: لو قالتِ السيدةُ لعبْدِها: أعتقْتُكَ على أن تَنْكِحَنِي، ففي افتقار العِتْق إِلى القبول وجْهَان: أحدهما: الافتقار، كما إذا قاله السيد لأمته؛ وهذا لأن المرأة قَدْ تقصِد نكاح رجل بعينه، وتبذل عليه المال، كما يقْصِد الرجل نكاحَ امرأةٍ بعينها، ويبذُل عليها المال، وَعَلَى هَذَا؛ فَإِذَا قَبِلَ، عَتَقَ، ولزمه قيمته، ولا يلزمه الوفاء. وَأَصَحُّهُمَا: أنه يعتق من غير قبول، ولا شيء عليه؛ لأنَّها لم تشترطْ عليه عوضاً، وإنما وعدَّتْه وعداً جميلاً، وهو أن تصير زوجَتَه، فصار كما لو قال لعبْدِه؛ أعتقتُكَ عَلَى أن أعطيك ألْفاً، ولزوجته طلَّقتُكِ عَلَى أن أعطيك كذا، ينْفُذ العتق. والطلاق من غير قَبُول وليس كما لو قال لأمته: أعتقتُكِ على أن تنكحيني، فإنَّ بضْعَ المرأة يتقوَّم شرعاً مقابلَ بالمال، ونكاحُ الرجل ليس متقوماً على المرأة، ولا عبرة بقول الأول: إن المرأة قد تقصُد نكاح رجل بعينه، فإن ذلك، وإن كان يتَّفِق في العُرْف لا يصلح عوضاً في الشرع، كما لو قال: طلقتكِ على ألا تحتجبي عني، فإنَّه لا يكُون عوضاً، حَتَّى يَقَعَ الطَّلاَقُ من غير قَبُول، وإن كان يقْصِده بعْض الناس في العرف. [المسألة] الثانية: إذا لم يَأْمَنِ السيد وفاءها بالنكاح، ولم يُرِد العتق، إن لم تنكحْه، فَهَلْ لذلك من طريقٍ يَثِقُ به فيه وجهان: أحدهما: نعم، قال ابن خيران: وطريقُهُ أن يقول: إنْ كان في علْمِ الله أنِّي أنكِحُكِ أو تنكحيني بعد عِتْقِكِ، فأنتِ حرةٌ، فإن رغبتُ، وجرى النكاحُ بينهما، عَتَقَت، وحصَل غرَضُ السيد، وإلا، استمر الرقُّ، ونسب الإِمام هذا الوجه إلَى صاحب "التقريب" وعبارته في هذا التعليق: إن يسَّر الله عَزَّ وَجَلَّ -بَيْنَنَا نكاحاً فأنْتِ حرةٌ قبله بيوم، فإذا مضَى يومٌ ونكحتْه انعقد النكاح، وتبين حصول العتق قبله بيوم، وذكر اليوم جَرى على سبيل التمثيل والإِيضاح، ويكفي أن يقول: فأنْتِ حرة قبله، كما ذكره في الكتاب، ولفظ الصحيح في قوله "إن يسَّر الله بيننا نكاحاً صَحِيحاً" لا حَاجَةَ إليه، فإنَّ لفظ البيع والنكاح والعتق وسائر العقود يختصُّ بالصحيح منها على الظاهر، كما سيأتي في "باب الأيمان". والثاني: وبه قال الأكثرون من الأصحاب: لا يصحّ النِّكَاحُ في هذه الصورة، ولا يحْصُل العتْق؛ لأنه في حالة النكاح شاكٌّ في أنها حرةٌ أو أمةٌ، كما إذا قال لأمته: إنْ دخلْتِ الدار، فأنتِ حرةٌ قبله بشهر، وأراد أن ينْكِحَها في الحال لا يصح.
قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الخَامِسُ في تَزْوِيجِ العَبِيدِ)، وَالمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ لاَزِمَانِ وَمُتَعَلِّقَانِ بِكَسبْهِ وَبِالرِّبْحِ مِنْ مَالِ تِجَارَتهِ، وَفِي تَعَلُّقِهِ بِرَأْسِ المَالِ وَجْهَانِ، وَالْقَوْلُ الجَدِيدُ أَنَّ السَّيِّدَ لاَ يَكُونُ ضَامِناً للِمَهْرِ بِمُجَرَّدِ الإِذْنِ لَكِنْ عَلَيْهِ أن يُمَكِّنَهُ حَتَّى يُؤَدِّي المَهْرَ مِنَ الْكَسْبَ وَالنَّفَقَةِ، فَإِنْ اسْتَخْدَمَهَ يَوْماً لَزِمَهُ كَمَالَ الْمَهْرِ وَنَفَقَة العُمُرِ عَلَى وَجْهِ إِذْ رُبَّمَا كَانَ يَكْتَسِبُ مَا بَقِيَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَفِي وَجْهٍ يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ وَنَفَقَةُ ذَلِكَ اليَوْمِ، وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ وَهُوَ الأَصَحُّ لاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ أُجْرَةُ المِثْلِ كَمَا في الأجْنَبِيِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ليس كلامُ الفصْل في كيفية التَّزْويج ومن يزوِّج، وإن كانت الترجمة تقتضي ذلك، وإنَّما الكلامُ في المهْر والنفقة وغيرهما من أحكام النكاح، وهكذا كان الأمر في الفصْل الرابع المتَرْجَم بتَزْويج الإِماء، والفقْهُ يقع في مسألتين: [المسألة الأُولَى] (¬1): أنَّ المهر والنفقة لازِمَانِ في نِكَاح العبد لزومهما في نكاح الحرِّ، وبم يتعلقان ينظر في العبد أهو محجور عليه أو مأذونٌ له في التجارة. الحالة الأولَى: إذا كان محجُوراً عليه؛ فأما أن يكون مكتسباً [أو لا يكون؛ إِن كان مكتسباً] (¬2) فهما متعلقان بكسبه؛ لأنهما من لوازم النكاحِ، وكسبُ العبد أقربُ شيء يصرف إليهما، فالإذْنُ في النكاح إذنٌ في صرف مكاسبه أو مؤناته، ويتعلَّقان بالأكساب العامَّة كالاصطياد، والاحتطاب، وما يحَصِّلُه بصنعة وحرفة، وبالأكساب النادرة الحاصلةِ بالهِبَة، والوصية. وفيه وجهٌ: أنهما لا يتعلَّقان بالأَكسَاب النَّادِرَةِ بناءً على أنها لا تدخل في المهايأة، ولا تلحق بالأكساب العامَّة، وإنما يتعلَّقان بَالمكتسب بعد النكاح، فأما المكتسب قبله، فهو خاصٌ للسيد كسائر أمواله، ولو كان المهرُ مؤجَّلاً، فالمصروفُ إليه مما يكتسبه بعْد حلول الأجل دون المكتسب قبله، وهل للعَبْد أو مؤجر نفْسَه للمهر والنفقة فيه وجهانِ بناءً على القولَيْن في بيع المستأجر، إن منعناه، لم يكن لَهُ أن يؤجِّر نفسه، كيلا يفوت البيع على السيد، وإلا، فله ذلك قَالَ أَبُو سَعْدِ المتولِّي؛ هذا في إجارة العَيْن، أما إذا التزم عملاً في الذمَّة، فالمذهب جوازه؛ لأنه دَيْنٌ في الذمة، لا يمنع البيع، وطريقُ الصرف إلَى المَهْر والنفقة أن يَنْظُرَ إلى الحاصل كلَّ يوم، فيؤدي منه النفقة، إن وَفَّى بها، فإن فضَل شيْءٌ، صرف إلى المهر، [و] هكذا كلَّ يوم، حتى يتم المهر، فإذا تَمَّ، صرف الفاضل من النفقة إلى السيد، ولا يَدَّخر النفقة، وإن لم يكُنْ مكتسباً، فقولان، ويقال: وجهان: ¬
أحدهما: أنه على السيد؛ لأن الإِذْنَ في النِّكَاحِ لِمن هذا حاله التزامٌ للمؤنات. وَأَصَحُّهُمَا: أنَّه في ذمته؛ لأنه دَيْنٌ وجَب برضا المستحِقِّ، فصار كما لو استقْرَضَ شيئاً، وأتلفه وحكى القاضي ابن كج قولاً: أنه يكون في رقبته تَنْزيلاً له منزلة أُرُوش الجنايات، وأنَّ القاضِيَ أبا حَامدٍ طَرَدَ هَذَا الْقَوْلَ فيما إذا كان العبْدُ مكتسباً أيضاً. الحالة الثانية: إذا كان مأذوناً في التجارة، فالمهرُ والنفقةُ يتعلَّقان بربح ما في يده فإنَّه كسْبُه، وفي رأس المال وَجْهَانِ: أحدهما: المنْعُ، كسائر أموال السيد من رقبة العبد وغيرها. وأظهرهما: التعلّق؛ لأنه دَيْن لزمه بعَقْدٍ مأذونِ فيه، فكان كَدَيْنِ التِّجَارَةِ؛ وهذا لأنَّ العبد، إذا كان مَاذُوناً، وكان في يده مالٌ، فأطماع المعامِلِينَ تمتدُّ إلى ما في يده، وإذا أَذِنَ له في النكاح، كأنه التزم صرْفَ ما في يده إلى مؤناته، والربح الذي يتعلَّقان به هو الحاصلُ بعد النكاح أم الحاصِلُ قبله وبعده؟. فيه وجهان: أحدهما: الحاصلُ بعْده خاصَّةً، كما ذكرنا في كَسْبِ غير المأذون. وأظهرهما: الجمْعُ؛ لما ذكَرْنا في التعليق برأْس المال، وإطلاقُ لَفْظ الكتاب يُوافِقُ هذا الوجه، هذا كلّه في المهْر الذي يتناولُه الإِذْن، أما لو قَدَّر السيد المهر، فزاد العَبْد، فالزيادَةُ لا تتعلَّق إلا بالذمَّة كما سبق. المسألة الثانية: يجبُ على السيد تخليةُ العَبْد ليلاً للاستمتاع، وله أنْ يستخدمه نهاراً، إذا تكفَّل بالمهر والنفقة، وإلاَّ، فعليه أن يخليه؛ ليكتسب، فإن استخدمه، ولم يلتزِمْ شيئاً، فعلَيْه الغُرْم لما استخدم؛ لأنَّه لما أَذِنَ في النكاح، فكأنه أحال المُؤَن علَى كسبه، فإذا فوَّته طولبَ بها من سائر أمواله، كما أنه إِذَا بَاعَ الْعَبْدُ الْجَانِي، وصحَّحنا البيع، يلزمه للفداء (¬1)، بل أولَى؛ لأن الجناية هنا صدَرَتْ من العبد من غير أن ينتسب إلَيْها السيد، وفيما يغرمه وجهان: أصحُّهما: أنه يغرم أقل الأمْرَيَنْ من أجرة المثل وكمال المهر أو النفقة. والثاني: كمالُ المَهْر والنفقة وبنَوْهما على القولَيْن في أنه يفدي العبْد الجاني [بأقلِّ] (¬2) الأمرين من قيمته، وأرش الجناية أو بأرش الجناية بالغاً ما بلغ؟ وزاد الإمَام -قدس الله روحه- نظراً فقال: استخدامه إتلافٌ لمنفعته، وإذا أَتْلَفَ السَّيِّدُ العبدَ الجَانِيَ، فمنهم من طرد القولَيْن فيما يلزمه، والصحيحُ أنه لا يلزمه زيادةٌ على القيمة [قطعاً] (¬3)؛ ¬
لأنه لم يُتْلِفْ إلا قدْرَ القيمة، فلتكنْ صورة الاستخدام كإتلافِ العبْد الجاني، وحكَى وجهين تفريعاً علَى قولِ وجُوب المَهْر والنفقة؛ يعتبر نفقة مدةِ الاستخدام، أو نفقةَ مدَّةِ النكاح ما امتد؛ لأنه ربما كان يكْتَسِب ما بقي بجميع ذلك والأظهرُ الأول، ويجيء مثل هذا الخلاف علَى قول إيجاب الأقلِّ في النفقة المنظُور إليها، وإن استخدمه أجنبيٌّ، لم يلزمه إلا أجرة المثل؛ لأنه لم يوجدْ منه إلا إتلاف، ولم يسبق، منه ما سبَقَ من السيد، وهو الإذْنُ المقتضي لالتزام مؤن النكاح في كسبه، وإذا اختصر الخلاف في استخدام السيِّد، حصَلَت ثلاثة أوجه، كما ذكر في الكتاب. وللسَّيِّد أن يسافر بالعبد، وإن تضمَّن ذلك المنع له من الاستمتاع؛ لأنه مالك الرقبة، فيقدَّم حقُّه، كما أن له أن يُسَافِر بالأمة المزوَّجة، ثم للعبْدِ أن يسافر بها معَه، قال في "التهذيب" ويكون الكراء في كسبه، فإن لم تخرُجْ معه أو كانَت رقيقةً، فمنَعَها سيِّدُها، سقطت النفقة، وإن لَمْ يُطَالِبْهَا الزوج بالخروج، فالنفقةُ بحالها، والسيدُ يتكفل بها، فإن لم يفعلْ، ففيما يغرمه لمدة السفر الخلافُ السابقُ، هذا هو المنقول في الطُّرق وقد رواه الْمُزَنِيُّ عن نصفه في "الْمُخْتَصَرِ" وحكى الإمامُ عن العراقِيِّين؛ أنه ليس للسيد استخدامُه في الحَضَر، ولا أن يسافر به ما بَقِيت عَليه مؤنةُ النكاح، وجعل المسألة مختَلَفاً فيها بين الأصحاب، ولا يكاد يُتحقَّق فيها خلاف. واعلم أن أكثر ما ذكَرْنا في المسألَتَيْن متفرع على القول الجديد، وهو أنه إذا جرى النكاح بإذن السيِّد، لا يكون السيد ضامناً للمَهْر والنفقة بالإِذْن، ووجْهه: أنه لم يلتزمْ تصريحاً ولا تعريضاً، والتعلُّق بالكسب يحتاجُ فيه إلَى ضربٍ من التكليف، فما ظنك بالإلزام المطْلَق والتعلّق بجميع أموال السيد، وقال في القديم: يصير بالإذْن ضامناً ملتَزماً للمَهْر والنفقة؛ لأنَّ الإذْنَ يقتضي الالْتِزام، وليس فيه تخصيصٌ بالكَسب، فلا يفترق الحال بين مالٍ ومالٍ، وإذا قلْنا بالجديد، فلو أذن بشرط الضمان، لم يصر ضامناً أيضاً، إذا جرى النكاح؛ لأنه لا وجُوبَ عند الإِذْن، وإذا قلْنا بالقديم، فقد حكى أبو الفرج الزاز وجهَيْن: في أن الوجُوبَ يثبت علىَ السيد ابتداءً أو يلاقي العَبْد، ويتحمَّل عنه السيد، فَعَلَى الأول لا تتوجَّه المطالبة إلا على السيد، ولو أبرأت العبد، فهو لغْوٌ، وعلى الثاني تتوجَّه المطالبة عَلَيْهما جميعاً، ويصحّ إِبراء العبد، ويبرأ به السيد على قاعدة الضمان، قال أبو الفرج: وَالأَصَحُّ الوجْهُ الثاني؛ لأن العوض يحْصُل للعبد بخلاف ما إذا اشترى بإذْن السيد، يكون الثمن عليه ابتداءً؛ لأن الملْك في المنْع يحْصُل له، وصاحب "التهذيب" أجاب بالوجْه الأول، ويقْرُب منه ما ذكره الإمَام؛ أن هذا وإنْ سُمِّيَ ضماناً على القديم، فليس هو بمثابة ما يلتزم بعَقْد الضمان، ولكَن القولَيْن راجعان إلى أن أثر الإِذْن ينحَصِر في الكسب أم يعم جميع أموال السيد، وهو قريبُ المأخذ من الخلاف في أَن عُهْدة تصرفات العبد المأذون تنحصرُ فيما في يده أم تتعلَّق بالسيد أيضاً
فعلى رأي الإذْن في التجارة، فَمَا سلمه إلَيْه حاصرٌ عهدة التصرُّف في المُسَلَّم إليه، والإِذن ههنا في النِّكَاحِ حاصر (¬1) الالتزام في أقرب شيء إلى العبد، وهو كسبه، وعلَى رأي: لا تخصيص، وهذا تقريبٌ حسنٌ، لكنا ذكرنا أن الظاهر هناك التعلُّق بالسيد أيضاً، وههنا الأصحُّ الجديدُ باتفاق الأصحاب خلافه، هذا حكْمُ المَهْر في النكاح الصحيح، وأمَّا الْمَهْرُ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، ففيه مسألتان: المسألة الأوُلَى: إذا فسد نكاحُ العبْد لجريانه من غير إذْن السيد، فيفرّق بينه وبين زوجته، فَإِنْ دَخَلَ بها قبْلَ التفريق، فلا حَدَّ للشبهة، ويجب مهر المثل وبم يتعلَّق؟ فيه وجهان: أصحُّهما: أنه يتعلَّق بذمة العبد؛ لأنه وجب برضا المستحِقِّ، فصار كَمَا إذا اشترى أو استقرض بغير إذْن السيِّد وأتلف. والثاني: أنه يتعلق برقبته؛ لأنَّ الوطء إتْلافٌ، فبذله لعلها فبدله كدُيُون الإِتْلاَفات، وهذا القول مِنْهُمْ من نسبه إلى [القول] (¬2) القديم، ومنهم مَنْ قال: هو مخرَّجٌ من قولنا: إِنَّ السَّفِيهَ إذا نكَح بغَيْر إذْن الوليِّ ووطئ يلْزَمه المهْر، والقول الأول يوافق قولَنا هناك: لا يلزمُهُ شَيْء؛ لأن المرعيَّ هُنَاكَ حقَّ السفيه فينتفي الوجوب أصلاً، والمرعيُّ ههنا حقُّ السيد، ولا ضَرَرَ عليه في التعلُّق بالذمة، فعلَّقناه بها وفي "النهاية": أن من الأصحاب من لم ينسبه قَولاً للشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقال: إنَّه حكَى مذهب الغير. وإن جرى النكاح من غير إذن مستحِقِّ المهر بأن نكح أَمةً دون إذْن سيِّدها، ودخل بها، فطريقان: أحدهما: وبه قال ابن الحدَّاد: القطْعُ بأنَّ مهر المثل يتعلَّق بالرقبة، كما لو أكْره أمةً أو حرةً على الزنا. والثاني: طَرْد القولَيْن، ومن قال به، قال: المهر، وإن كان حقاً للسيد، إلا أنَّها بسبيل من إسقاطه في الجملة؛ بدليل ما إذا ارتدَّتْ أو أرضعتِ الزوجَ، وهو صغير، فإذا جاز أن يَسْقُطَ بفِعْلها، جاز أن يتأخَّر برضاها. قال الشيخ أبو عليٍّ: ويقْرُب من هذا الخلاف ما إِذَا زَنَتْ طَائِعَةً، هل يسقط المهر؟. المسألة الثانية: إذا أذِنَ السيدُ في النكاح، فنكح نِكَاحاً فَاسِداً، ودخَل بها قبل أن يُفرَّق بينهما، فبمَ يتعلق مهر الْمِثْلِ؟ يبني ذلك على أن الإِذْن في النكاح يتناول الصحيح ¬
والفاسد أم يختص بالصحيح؟ وقد نقلوا فيه قولَيْن: أحدهما: أنه يتناولُهما؛ لوقوع الاسْم على الفاسد؛ ولأن النكاح الفاسدَ يُشَارك الصحيح في كثير من الأحْكَامِ، فَعَلَى هذا يتعلَّق بكسبه، كالمهر في النكاح الصحيح. وأصحُّهما: أنه يختصُّ بالنكاح الصحيح؛ لأن مطْلَق الاسم ينْصَرِف إليه، ولذلك نقُول: لو حلف أَلاَّ ينكح، فنكح نِكَاحاً فَاسِداً، لا يحنث، والأَحْكَامُ المذكورة هي أحكام الوطء لا أحكام النكاح، فعلَى هذا هو كما لو نكَحَ بغَيْر إذْنٍ، فيعود القولان في التعلُّق بالدم أو الرقبة، ويحْصُل عنْد الاخْتِصَار ثلاثةُ أقوالٍ، كما أشار إِلَيْها صاحب الكتاب في "فصْل الغرور" ولو نكح بالإِذْن نكاحاً صحيحاً، ولكن فسَدت التسمية. قال الصيدلانيُّ: يتعلَّق مهر المْثل بالكسب لا محالة، [ولو صرح] (¬1) بالإذْن في النكاح الفاسدِ، ووجب مهر المثل، فقياس هذه المسائل تعلُّقه بالكسب أيضاً. قَالَ الغَزَالِيُّ: (فَرْعٌ) إِذَا اشْتَرَتِ الحُرَّةُ زَوْجَهَا أوَ اتَّهَبَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ سَقَطَ نِصْفُ الْمَهْرِ عَلَى قَوْلٍ، وَجَمِيعُهُ عَلَى قَوْلٍ، وَإِنِ اشْتَرَتْهُ بِالصَّدَاقِ الَّذِي ضَمِنَهُ السَّيِّدُ لَمْ يَصِحَّ الشِّرَاءُ إن فَرَّعْنَا عَلَى سُقُوطِ جَمِيعِ الْمَهْرِ، لأَنَّ تَصْحِيحَّهُ يُؤَدي إِلَى إِبْطَالِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا سَقَطَ العِوَضُ بِحُكمِ الفَسْخِ عَرِيَ البَيْعُ عَنِ الْعِوَضِ، وَإِنِ اشْتَرَتْهُ بِالصَّدَاقِ بَعْدَ الْمَسِيسِ وَقُلْنَا: إِنَّ طَرَيَانَ المِلْكِ عَلَى الرَّقِيقِ يُبرِئُ ذِمَّتَهُ عَنْ دَيْنِ السَّيِّدِ المُتَمَلِّكِ لَمْ يَصِحَّ الشِّرَاءُ أَيْضاً لأَنَّ العَبْدَ إِذَا بَرِئَ بَرِئَ السَّيِّدُ الَّذِي هُوَ الكَفِيلُ فَيُعَرَّى عَنِ الْعِوَضِ، وإنْ قلْنَا: الْمِلْكُ الطَّارِئُ لاَ يُسْقِطُ الدَّيْنَ صَحَّ الشِّرَاءُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: عرفْتَ في "قسم الموانع" أن الزوج لو ملَكَ زوجته أو شيئاً منْها، أو ملَكَتِ الزوجةُ زوْجَها، أو شيئاً منْه، انفسخ النكاح، ولو كان للرجُلِ عبدٌ في نكاحه أمةٌ، فدفع إليه مالاً، وقال: اشتَرِها لي، ففعل، صح، واستمرَّ النكاح، كما يجوز أن يزوِّج عبده من أَمَتِهِ، ولو ملَّكَه المال، وقال اشترها لنَفْسِكَ، ففعل، فيبنَى على أن العبد، هل يملك بتمليك السيد إن قلنا: نعم، انفسخ النكاح، وإن قلْنا: لا، فالملك للسيد، ويستمر النكاحُ، واقتصر صاحب "الشَّامِلِ" -رحمه الله- في التصويرَ علَى ما إذا دفع إلَيْه المال، وقال: اشتريها لنفْسِك، ففعل، وأجاب بهذا البناءِ، كأنه جعل ذلك تمليكَاً ضمناً، وإلاَّ، فكيف يشتري لنفْسِه بمال غيره؟! ويجوز أن يُقَالَ: قد ذَكْرنا في البيع وجهَيْن، فيما إذا اشْتَرَى بمالِ نفْسه لغيره بإذْنِ ذلك الغير، هَلْ يَصِحُّ، فَإِذَا جَوَّزْنَا أن يشتريَ بمالِ نفْسه لغيره عن إذْنه، لم يبْعد أن يشتري لنفسه بمال غيره، وإذا قيل به، ¬
فقد ذكرنا وجهين في أن المالَ يكون قرضاً أو هبةً، فإن جعلْناه قرضاً، فههنا يقع الشراء للسيِّد، والسيدُ لا يقرض عبده، وإن جعلْناه هبةً، فيجيء الخلافُ في أن العبد، هل يملك بتمليك السيد. ولو اشترى مَنْ بعْضُه حرٌّ، وبعضُه رقيقٌ زوجَتَه؛ نُظِر؛ إن اشتراها بالكسب المشترك بينهما، وأذن له السيدُ ملَك قسْطاً منْها، وانفسخ النكاحُ، وإنْ لم يأذنِ السيدُ، لم يصحَّ في نصيبه، وفي نصيب العبْد قولاً تفريقُ الصفقة، إن صحَّ، انفسخ النكاح، وإن اشْتَرَاهَا بخالصِ مَالِهِ من كسبه، فإن جرتْ بينهما مهايأةٌ، انفسخ النكَاحُ، وإنِ اشتراها بخَالِصِ مالِ السيد من كسبه بإذنه، لم ينفسخ النكاح وكذا الحكم لو اشترتِ التي بعْضُها حرةٌ، وبعضُها رقيقٌ زوْجَها، إذا تقرَّر ذلك، فمقصودُ الفصل مسألتان: المسألة الأُولَى: في حُكْمِ المهر، إذا انفسخ النِّكَاحُ بحدوث الملك، وكتابُ الصداق أحقّ بهذه المسألة، لكن الأصحاب أوردُوها ههنا، وإذا ملكتِ الزوجةُ زوْجَها بشراء أو اتِّهَاب، أو غيرهما، نُظِر؛ إن كان ذلك قبْلَ المسيس، حكى الإِمام وصاحبُ الكتاب فيه قولَيْن: أحدهما: أنه يسقط نصْفُ المهر؛ لأن الانفساخ حصل بالعقد الجاري بين البائع، وبين الزوَّجة، والبائعُ قائمٌ مقامَ الزوْج من حيثُ إِنه سيده، والفراق إذا حصل بصنع الزوجَيْن، غُلِّبَ جانب الزوج، ويُشطَّر المهر، كما لو خالَعَها قبل المسيس. وأصحُّهما: أنه يسقط جميعه؛ لأنَّ الفرقة حصلَتْ بالزوجة، والسيدُ لا اختيار للزَّوْج فيها؛ ولأن الزوْجَة هي المتملِّكة، والمِلْكُ هو الذي ينافي الزوجية ويقْطَعها، وصار كما لو ارتدَّت، فعلى هذا تردُّ المهر، إن قبضته، وعليها الثمن، وعلى الأول تردُّ النصف، وعليها الثمنُ، وقد يتحد الجنس، فيقع في التقاص، والعراقيُّون من الأصحاب، والشيخ أبو عَلِيٍّ، وغيرهم نقَلُوا في المسألة بدَلَ القولَيْن وجهَيْن، والأمر فيه قريب؛ لأن أبا الفَرَج السَّرْخَسِيِّ قال: ظاهر لفْظِ في "المخْتَصَر" ههنا سقوطُ جميع المَهْر، وقال فيمن اشترَى زوجته الأمة إنه يجب نصْف المهر، والصورتان متشابهتان من حيث إِن الفَسْخ فيهما حصلَ بعقْدٍ جرى بين مستحقِّ المهر وبين مَنْ عليه فمنهم من جعلها على قولَيْن تصرّفاً في النصَّيْن، ومنهم مَنْ فَرَّقَ بأنَّ هناك حصَلَ الفراقُ بالزوْج وغيره، فغلَب جانبُ الزَّوْج، كما في الخُلْع، وههنا لا صنع للزوج في سبب الفِرَاق، فهذا أصحُّ فأفاد كلامه شيئَيْن: أحدهما: تولُّد الخلاف في التصرُّف في النصَّيْن، وقد بيَّنَّا أن مثل ذلك قد يسمَّى وجهاً، وقد يسمَّى قولاً. والثَّاني: قطَع بعضهم بسقوط جميع المَهْر في المسألة.
ولو ملكتْ زوْجهَا بعد المسيس، فلا يسقط المهرُ بالانفساخ، ولا يردُّ شيئاً، إن قبضته، وإنْ لم تقبض، فقد ملكَتْ عبداً لها في ذمَّتِه دَيْن، وفيه وجهان، سَبق ذكْرُهما في "كتاب الرَّهْن" وغيره: أحدهما: أنه يسقطُ، كما لا يثبت له دَيْنٌ على عبده ابتداءً. وأصحهما: أنه يبقى كما كان، وللدوام من القوَّة ما ليس للابتداءِ، فإنْ قلنا: يسقط، برئت ذمة العبد من المهر، وللبائعِ الثمنُ عليها وإن قلنا: يبقى، فلها مطالبةُ العبد، إذا عتَقَ، وللبائع الثمنُ علَيْها في الحال، فإن كان السيدُ البائع قد ضمن لها المهر، فلها المهر عليه بحكم الضمان، وله عليها الثّمن، وقد يَقَع في التَّقَاص، هذا حكم المهر، إذا ملكت الزوجةُ زوْجَها. أما إذا ملَك الزوْجُ زوجته بالشراء، نُظِر؛ إن ملكها بعد المسيس، فعليه المهر للبائع مع الثَّمن، وإن ملكها قبله، فالنصّ وجوب نصف المهر، والأصحابُ مختلفون منْهم من أثبت وراءه قولاً آخر: أنه يسقط جميع المهر؛ إمَّا أخْذاً من القَوْل بسُقُوط جميع المهر، إذا ملكت هي زوْجَها علَى ما حكاه السَّرْخَسِيِّ، وإمَّا أخذاً من نصه فيما إذا كانتْ مفوّضةً، وملكها الزوج قبل المسيس؛ لأنه لا متعةَ، فخرج منه أنه لا مَهْر، إذا لم تكن مفوضة، ومنْهم مَنْ قطع بالقول الأول، ولم يُخرِّج قولاً آخر، والفرق بيْنه وبيْن ما إذا ملكت زوْجَها قد مَرَّ، والفرق بين المسمَّى وبين المتعة أن المسمَّى وجب بالعقدُ، والعقد جرَى في ملك البائع، وإذا تملَّكها الزوج، كان له الشطْرُ، والمتعةُ إنَّما يجب بالفراقِ، والفراقُ حَصَل في مِلْك الزوج، فكيف نوجبُ له علَى نفسه المتعة، ولذلك قلْنا: إنَّه لو باعها من أجنبيٍّ، ثم طلقها الزوج قبل المسيس يكون نصْفُ المهر للبائع، ولو كانتْ مفوضةً تكون المتعة للمشتَرِي، ولو نكح جاريةَ مورِّثه كأبيه وأخيه، ثم ملك بالإرْث بعْضَها أو كُلَّها، فإنْ كان ذلك بعد الدُّخُول، لم يسقط المهر بالانفساخ؛ لاسَتقراره، وهو تركة الميت، فإن احتيج إلى استيفائه لقَضَاء الدُّيُون. وتنفيذ الوصايا، فعل، وإلاَّ، سقط، إِنْ كَانَ النَّاكِحُ حَائِزاً؛ لأن ما كان عليه قد صار له، وإِنْ لم يكن حائزاً، فلغيره من الورثة استيفاء نصيبه، وإن كان قبل الدخول، ففيه وجهان. قال ابنُ الْحَدَّادِ: يسقط جميعُ المهر؛ لأنه لا صنْعَ من قِبَل الزَّوْج في سبب الفراق، وعلى هذا يستردُّ من التركة، لو كان قد قبضه، وقال غيره، وهو الأظهر، لا يسقط إلا النِّصْف؛ لأنه لا صُنْع من قبلها أيضاً، وهذا يكْفِي لبقاء نصْف المهر؛ ألا تَرَى أنه لو كان تحْتَه زوجتان صغيرةٌ وكبيرةٌ، فأرضعت الكبيرةُ الصغيرةَ، وانفسخ نكاحهما، يجب للصغيرة نصْفُ المهْر، وإن لم يكن من جهة الزَّوْج صَنْعٌ فيه؛ لأنه لا صنْعَ من جهتها، فعلَى هذا، إن كان حائزاً، سقَطَ النصْفُ الآخر؛ لأنه المستحِقُّ له،
وإن كان معه غيْرُه، سقَط نصيبُه، وللآخَر أخْذُ نصيبه، ولو زوَّج الرجُل ابنته من عبده بإذْنها، ثم مات، فورثَتْ بعْضَ زوْجِها، فإن كان بعد الدخول، فَقِسط ما ورثته من المهر، دَيْنٌ لها على مملوكها، ولها المطالبةُ بالباقي مِن كَسْبه مما ترث منه، وإن كان قبل الدُّخُولِ، فعلَى قول ابن الحدَّاد، يسقط جميع المهر، وعلى قولِ غيره؛ لا يَسْقُط إلا النصف، وحكم النصف الباقي حكْمُ الكلِّ بعد الدخول. المسألة الثانية: ليعلم أن ما ذكرنا في المسألة الأولَى فيما إذا اشترت زوْجَها مصوَّرٌ فيما إذا جرى البيع بعين الصَّدَاقِ، فيتصور أن يجري البيع بعين الصداق، والغرض الآن الكلام فيه، فنُقدِّم عليه مقدِّمَتَيْنِ: إحداهما: إذا نكح العبْدُ نِكَاحاً صَحِيحاً، وقلنا: لاَ يَصِيرُ السيِّدُ ضَامِناً للمهْر بالعقد، فلو ضمن عنه، جَازَ؛ لأنه ضمانُ دَيْنِ لازم، ثم يُنْظر؛ إن كان العبدُ كسوباً، فللزوجة مطالبةُ العبد والسيِّدِ جميعاً، وإلاَّ، فلا يطالب إلاَّ السيِّدُ، وكذا الحكم لو طلَّقها بعْد الدخول، والمهر غير مقبوض، وإن طلَّقها قبل الدخول، سَقَطَ نصف المهر عنْها، ومطالبتُها بالنصفِ الآخر على التَّفْصيل المذكور، فإن كانَتْ قد قَبَضَت المهر، فيردُّ النصف على السيد، إن بقي الزوج على الرِّقِّ عند الطلاق، وإن كان قد أعتقه، فعلى الزوج؛ لأنه مكتسبٌ بالطلاق، ذكره الشيخ أبو حامد. والثانية: صورةُ البيع بعَيْن الصداق: أن يلتزم السيِّد الصداق، إمَّا بأصْل العقْد على القديم أو بالضَّمان اللاَّحِقِ على الجديد، فيصرِّح المتبايعان بالإِضافة إلَيْه؛ بأن يقول سيد العبد لزوجته الحرَّة بَعْتُهُ لك بِصدَاقِكِ الذي يلزمني، وهو كذا، فتشتري، أما إذا صرَّحا بالمغايرة، أو أطلقا فهو بيْعٌ بعين الصداق. مثاله: كَانَ الصَّدَاقُ ألْفَ درْهمٍ، وقال: بعْتُكِ بِألْفٍ غَير الصداق أو بألفين أو أطْلَقَ، وقال: بعْتُكِ بألفٍ أو بألفَيْن، وإذا اختلَفَ جنْسُ الصداق والثمن، فلا شَكَّ في المغايرة، ولو دفع عيناً إلى عبده، وأذنَ له في أن يَنْكِح امرأةً، ويُصْدِقها تلْك العين، ففعل، ثم باع العبد لها بتلك العين، فلا شَكَّ في أنه بيعٌ بعين الصداق. إذا عرفت ذلك، فالبيع بعَيْن الصداق، إما أنْ يجري قبل المَسِيس أو بعْدَه. الحالة الأُولَى: إذا جرى قبل المسيس، فإنْ فرَّعنا علَى سقوط جميع المهْر، إذا تملكت زوجها قبل الْمَسِيسِ، وهو الصحيح، لم يصحَّ البيع، ويستمرُّ النكاح؛ لأنه لو صحَّ، لملكت الزوجَ وانفسخ النكاح، وإذا انفسخ، سقط المهرُ، وعرى البيع عن العوض، وإذا على البيعُ عن العوض، بَطَلَ، فتصحيحه يجر إلى بطلانه، [و] هذا ما نصَّ عليه الشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وجمهور الأصحاب، وقال: الشيخ أبو عليٍّ: يجب عندي أن يصحَّ البيع، ويبطل النكاح؛ لأن البيع وارتفاع النكاح لا يقَعَانِ معاً، بل
يكون الفسْخُ بعد البيع، وحصُول الملْك، حتَّى لا يحكم بانفساخ [النكاح] (¬1) ما دَامَا في المجْلِس، إنْ قُلْنَا: إن الخيار يمنع حصول الملْك للمشتري، وإن كان الانفساخ عَقِيبَ البيع والملك، فيكون ملْكُها عن الصداق زائلاً مع حُصُول ملْكها في الرقبة، فلا يَبْطُلُ الثمن بالانفساخ بل أثر الانفساخ الرجُوعُ إلَى بدل الصَّداق، وهذا كما لو وكَّلت رجلاً بأن يشتري لها عَيْناً من الزَّوج بالصَّداق قبل المسيس، فاشترى، وارتدَّتْ هي عَقِيب الشراء، ويرجع الزوْجُ عليها بَبَدل الصَّدَاق، والتصرُّف الذي بَاشَرَهُ الوكيلُ لا يَبْطُلُ، وَهَذَا الذي أَوْرَدَهُ الشَّيخُ أقامه صاحب "التتمة" وجهاً من غير أن ينْسُبه إليه، فإن فرَّعنا على أن تَمَلُكَهَا الزوْجَ قبل المسيس يقْتَضِي التَّشْطير، فينبني هذا على خلافِ سنذكره في الحالة الثانية، وهي: إذا جرى البيعُ بعْد المسيس، فإنْ لم يصحَّ البيع هناك، فكذلك هاهنا، وإن صحَّحنا هناك، فالذي يلزم ههنا من صحَّة البيع وانفساخ النكاح، سقوطُ نصف الصداق، فلا يَسْقُط إلا نصْفُ الثمن، فيبطُلُ البيع في نصْف العبد، ويخرج في الباقي علَى تفريق الصفقة، فإن فرقنا، ينفسخ النكاح، هذا هو الجوابُ على المشهور، وعلى تخريج الشَّيْخ أبي عليٍّ؛ يصحُّ البيعُ في جميعه لا محالة. الحالة الثانيَةُ: إذا جرى البيع بعين الصَّداق بعد المسيس، فيبنَى على الخلاف في أن مَنْ ملك عبداً له عليه دَيْن، هَل يَسْقُطُ ذَلِكَ الدَّيْنُ للمِلْك الطارئ إن قلْنا: لا يسقط، يصحُّ البيع، وتصيرُ مستوفيةً للمهر المستقر بالدخول، ولا شيءْ لواحدٍ من المتبايعَيْن على الآخر، وإنْ قلنا: يسقط وتبرأ ذمة العبد، فوجهان: أَحَدُهُمَا: وهو المذكور في الكتاب: أنه لا يصحُّ البيع؛ لأنه لو صَحَّ، لملكته وبرئت ذمته، وإذا برئَ العَبْد، وهو أصيلٌ، برئ السيد الذي هو كفيلٌ، فيعرى البيعُ عن العوض، كما في الحالة الأُولَى. وأظهرهما: وبه أجاب الشيخ أبو حامد: أنه يصحُّ، وليس كما قيل المسيس، فإنَّ سقوط المهر هناك بانفساخِ النِّكَاح بدليلِ أنَّه لو كان مقبوضاً، يجبُ رده، فَلاَ يمكن جعله ثمناً، وههنا سبب السقوط حدوث الملْك، وإذا جعَلَه ثمناً، فكأنها استوفَتِ الصداق قبل لزوم البَيْع، فليس لها بَعْدَ ما ملكَت الزوْجَ صدَاقٌ في رقبته (¬2)، حَتَّى يسْقُطَ، وهذا قريبٌ مما ذكره الشيخ أبو عليٍّ في توْجيهه تخْريجه، ويُروَى أن القفال كان يحْفَظُ عن شيوخ الأصحاب صحَّة البيع في المسأَلة، ثم إِنه رَأى في المنام أنه سُئِل عنْها، فأجاب بالفَسَاد، وعلَّل سقوط الدين بحُدُوث الملك، ثم رأى الوجهَيْن بعد ما أثبته في كلام الأئمة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وجميع ما ذكرنا فيما إذا اشتَرتِ الزوجةُ زوْجَها ¬
مصوَّرٌ فيما إذا كانت الزوجَةُ حرةً. أما إذا كانت أمةً، واشترتِ الزوجَ بإذْن سيدها، أو كانت مأذوناً لها في التِّجَارة، فاشترته للتِّجارة، فيصحُّ البيع، ويستمرُّ النكاح؛ لأن الملْك ههنا للسيد، ولا فَرْقَ في ذلك بين ما قبل المسيس أو بعْده، ولا بين أن يكون الشراءُ بعَيْن الصداق أو غيره، ولكن لو اشترتْه بعَيْن الصداق، يبرأ السيد، ويبرأُ العَبْد أَيْضاً؛ لأنَّ الكفيل، إذا أدَّى الدَّيْن، برئ الأصيل عن حقِّ المكفول له، ولا رجوعَ للسَّيِّد على العبد، كما لو ضمن عن عبده، دينًا آخَرَ، وأداه في رقِّه، وإن اشترته بعين الصداق، ففي سقوطِ الصَّداق عن العبد؛ لأن سيِّدَها ملكه وله علَيْه دَيْنٌ، الخلافُ الذي تكرَّر، فإن سقط، برئ سيده البائع عن الضمان؛ لبراءة الأصيل، ويبقَى الثمنُ بحُكْم الشراء، فإن لم يُسْقُطْ، فلسيد الأمة على بائع العبد الصدَاقُ، وللبائعِ عليه الثمن، وقد يقع في التقاص فإذا تقاصا بَرِئتْ ذمة العبْد عن حقِّ المشتري؛ لأنه بالتقاص استوفَى حقَّه عن البائع. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَللدَّوْرِ الحُكْمِيِّ نَظَائِرُ (إِحْدَاهَا): لَوْ كَانَتْ أَمَتُهُ ثُلُثَ مَالِهِ فَأعْتَقَهَا وَنَكَحَهَا وَمَاتَ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ المَهْرِ لأنَّ ذَلِكَ يُلْحِقُ الدَّيْنَ بِالتَّرِكَةِ وَيُبْطِلُ الْعِتْقَ وَالنِّكَاحَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قوله: "وللدَّوْرِ الحُكْمِيِّ" يريد به الإِشارة إلى أَن المسائل التي فيها الدَّوْرُ نوعان: أحدهما: ما ينشأ الدَّوْرُ فيه من محض حكْمِ الشرع، كما ذكَرْنا فيما إذا اشترتُ زوْجَها قبل المسيس من السَّيِّد بالصَّدَاق الذي ضَمِنَه، فإنَّه إذا صَحَّ الْبَيعُ، ثَبَتَ الْمِلْكُ، وإذا ثبت الملكُ، انفسخ النكاحُ، وإذا انفسخ النِّكاح، سَقَطَ المهْرُ المجْعُول ثمناً، وإذا سَقَطَ فَسَد البيع، فَهَذِهِ الأَحْكَامُ المترتِّبة، ولدَّت الدَّوْرَ. والثَّاني: ما ينشأ الدَّورْ فيه من لفْظةٍ يأتي بها الشَّخْص، كما في مسألة دَوْر الطَّلاَقِ وعنْدها نذكر أكثر صُوَر الدَّوْر اللفظِّي، ولَمَّا جرى ههنا بيان المسألة التي هى من الدَّور الحكميُّ، أورد خمس مسائل من نظائرها، وكذلك اعتماد الأئمة. المسألة الأولَى: أعتق أمةً له في مرضِ موتِهِ، ونكَحَها على صدَاقٍ سمَّاه، فيُنظر؛ إِن لم تخرج من الثلث [فحكمه ما بيناه في المَسَائل الدَّوْرِيَّةِ في "كتاب الوصايا"، وإذا خرجَتْ من الثلث، فيُنْظَرُ؛ إن كان قدر الثلث بلا مزيد، لما إذا كانتْ قيمتها مائةً، وهو يملك مائتَيْن سواها] (¬1) فالنِّكَاحُ صحيح، ثم إنْ لم يجر دخولُ، فلا مهر لها؛ لأنه لو ¬
ثبت، كان دَيْناً على الميِّت، وحينئذٍ، فلاَ يخْرُج عن الثلث، ويرقُّ بعضها، وحينئذٍ، يَفْسُد النكاح، ويبْطُل المهر، فإذن إثباته يؤدِّي إلى إسقاطه، فيسقط، وهذه هي الحالةُ التي أوردها صاحب الكتاب، وإن أطلق اللفظ إطلاقًا، ولم يذْكُرْ في التصوير وقُوعَ الإِعتاق والنكاح في مَرَض الموت، ولكنْ في التقييد بكَوْنها ثلث ماله ما ينبه عليه، وإن جرى الدُّخُول فقَدْ ذكرنا حكمه في "باب الوصايا"، وسواءٌ جرَى الدخولُ أو لمْ يَجْرِ، فلا ترث بالزوجيَّة؛ لأن عتْقَها وصيَّة، والوصيةُ والميراثُ لا يجتمعان (¬1)، فلو أثبتْنا الميراثَ، لَزِم إبطالُ الوصيَّة، والوصيَّةُ ههنا الإعتاق، وإذا بَطَلَ، بطَلَت الزوجية، وحينئذٍ، فيبطل الميراثُ، وَإِنْ كانتِ الأمةُ دون الثُّلُث، فقد يمكْنِها المطالبةُ بالمَهْر؛ لخروجها من الثلث بعْد الدَّيْن، وهذا كلُّه مبنيٌّ علَى أنه يجوز له نِكَاحُهَا في مرَضِ الموت، وهو الظاهر، وحكَى أبو عليٍّ والْحَنَّاطِيُّ وجهاً؛ أنه لا يَجُوزُ، وهو ما حكَيْنا من قَبْلُ عن ابن الحدَّاد؛ أن المعتقة في مرض المَوْت لا يجوز لقريبها تزويجها لإِمكان ألاَّ تخرج من الثلث عند الموت. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِيَةُ) إِذَا زَوَّجَ المَرِيضُ أَمَتَهُ عَبْداً وَقَبَضَ صَدَاقَهَا وَأَتْلَفَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهَا فلاَ خِيَارَ لَهَا إِذْ لَوْ فَسَخَتْ لارْتَدَّ الْمَهْرُ وَلَمَا خَرَجَتْ عَنِ الثُّلُثِ فَيَبْطُلُ الْعِتْقُ وَالخِيَارُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: زَوَّج أمتَهُ من عبْدِ غيره، وقبَضَ الصَّدَاق، وأتلفه بإتْفَاق وغيره، ثم أعتْقَهَا في مرض موته أو أوصَى بعِتْقِها، فعَتَقَتْ، وهي ثُلثُ ماله، وكان ذلك قبْلَ الدخول، فلَيْسَ لها خيارُ العِتْق؛ لأنها لو فسَخَت النكاحَ، لوجب ردُّ المهر من تركة السيد، وحينئذٍ، فلا تخرُجُ بتمامها من الثلث، وإذا بقي الرِّقِّ في البعضْ لا يثبت الخيار، فإثبات الخيار يجر إلَى سقوطه، وكذا الحْكُم، ولو لم يتلف الصداق، وكانت الأَمَةُ ثُلُثَ أمواله مع الصداق، ولو خرجتْ من الثلث دون الصداق أو اتفق ذلك بعْد الدُّخول واستقرارِ المَهْر، فلها الخيارُ، ولو كَانَتِ الْمَسْألَةُ بحالها إلا أنَّ الإعتاقَ وُجِدَ مِنْ وارثه بعد موته، فينظر؛ إن كان الوارثُ معسِراً، فلا خيار لها؛ لأنها لو فسَخَت النكاح، لزم رد المهر من تركة المَيِّت، وإذا كان على الميت دَيْنٌ، لم ينفذ إعتاق الوارث المعسِرِ على الصحيح، وإذا لم ينفُذِ الإعتاق، لم يثبت الخيار وإن كان الوارثُ موسِراً، فقد ذكَرْنا في الرَّهْن خلافاً في أن الوَارث الموسِرَ، إذا أعتق عبد التركة، وعلى الميت دينٌ، ينفذ العتْقُ في الحال، أو يتوقَّف نفوذه على وُصُول دَيْن الغرماء فإن قلنا: ينفذ في الحال، وهو الأظهرُ، عتَقَتْ، ولها الخيار، فإن فسَخَت، غُرِّم الوارثُ لسيِّد العبد أقلَّ ¬
الأمرين من الصدَاق وقيمة الأمة، كما لو مَاتَ، وعليه دَيْنٌ، وله عبدٌ، فأعتقه وارثُه الموسر، يلزمه أقلُّ الأمرين من الدَّيْن وقيمة العبد، ولو كان على الميِّت دَيْن، فالقيمةُ التي يُغَرَّمُها الوارثُ يتضارب فيها سيِّدُ العبد والغرماء. وقوله في الكتاب: "إذا زوج المريض أمته عبداً" فيه تقييد بما إذا وَقَعَ التزويج في المرض، وذلك لَيْسَ بشَرْط في صورة المسألة، وكذلك لا يُشْتَرَط وقوع الاتفاق في المرض، وإنما المعتبر وقوع الإِعْتَاق في المرض، ولا بدّ أن تكون الأمة ثُلُث الْمَالِ أو أقلَّ، وأن يكونَ ذلك قبل الدُّخُول، ولم يتعرَّض لذلك في اللفظ. وَقَولُهُ: "فيبطل العتق" أي: عَتَقَ جميعها. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثَةُ): لَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَخَلَّفَ أَخاً وَعَبْدَيْنِ فَأعْتَقَهُمَا فَشَهَدَا بِأنَّ لِلمَيِّتِ ابْناً مِنْ زَوْجَتِهِ فَإنَّهُ يُثْبِتْ الزَّوْجيَّةَ وَالنَّسَبَ دُونَ المِيرَاثِ؛ لأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ الابْنُ أَبْطَلَ العِتْقَ وَالشَّهَادَةَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مَاتَ عَنْ أخٍ وعَبْدَيْنِ، والأخُ هو الوارثُ في الظاهر، فأعتق الأخُ العبْدَيْن، ثم ادَّعتِ المَرْأةُ أنَّها زوجةُ المَيِّت، وابنها أنه ابنُ الميت، فشهِدَ المُعْتَقَان لهما ثبتت الزوجية والنَّسَب، ولا يَرِثُ الابن؛ لأنه لو وَرِثَ، لحَجَب الأخ، وإذا صار محجوباً، بَطَلَ إِعتاقه، وإِذَا بَطَلَ الإعتاق، بطَلت الشهادة، وإذا بَطَلَتِ الشهادة بَطَلَتِ الزوجيةُ والنسبُ، وفيه وجه: أنه لَا يثبت النسب أيضاً؛ لأنه لو ثَبَتَ، لثبت الإِرث، ولا يمكن ثبوتهُ، والمذهب الأول، ولو شهدا بنسب، نُظِر؛ إن كان الأخُ مُعْسِراً يوم الإِعْتَاق، لم تَرِثْ أيضاً؛ إذ لو ورثت لرقِّ نصيبها، ولبطَلَت الشهادة؛ لأن مَنْ بعضُه رقيقٌ، لا تقبل شهادته، وإن كان موسراً، فإن عجَّلنا السراية بنفس الإِعتاق، وَرِثتْ، لكمالِ العتْق يوم الشهادة، وإن قُلْنَا؛ إنها لا تحْصُل إلاَّ بأداء القيمة، لم ترث؛ لأنَّ توريثها يمنع كمال العتْق يوم الشهادة، وحكم الزوجية في الإرْث حكْمُ البنت، فيُنْظَر إلى إعتاقِ إعسارِ الأخ ويسارِهِ، كما بيَّنَّا. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرَّابِعَة) لَوْ أَوْصَى لَهُ بِابْنِهِ فَمَاتَ وَخَلَّفَ أَخاً فَقَبِلَ الوَصِيَّةَ عَتِقَ الابْنُ وَلَمْ يَرِثْ لأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ لَحَجَبَ الأَخَ وَبَطَلَ قَبُولُهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: صورة المسألة أن يكون ابن الرجل مملوكاً لغيره، فيوصِي له مالكُهُ بابنه، ويموت الموصَى له بعْد موت الموصِي وقبل القبول، ووارثُه أخُوه، فيقْبَل الوصية، وهذه المسألة مكرَّرةٌ قد ذكرها في آخر الباب الأوَّل من "كتاب الوصايا" وشرحناها هناك، وُيعْرَفُ مما ذكرنا هناك الحاجة إلى إِعلام قوله "عَتَقَ الابْنُ" بالواو. وقوله: "ولم يرث؛ لأنه لو وَرِثَ، لَحَجَب الأَخَ، وَبَطَلَ قَبُوله" هذا التوجيه مبنيٌّ
على قولنا: إنَّ الحُرِّية تحْصُل عند الموت، أما إذا قلْنا: إنَّها تحْصُل عند القَبُول، فليس عدَمُ الإِرْث للدَّوْر، بل لاستمرار الرِّقِّ بعد الموت. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الخَامِسَةُ) لَوِ اشْتَرَى المَرِيضُ أَبَاهَ عَتَقَ وَلَمْ يَرِثْ كَيْلاَ يَصِيرَ الْعِتْقُ وَصِيَّةً لِوَارِثِ فَيَبْطُلَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لو اشترَى في مرض المَوْتَ مَنْ يُعْتَقُ عليه، ولم يرث؛ وابنه، عتق من الثلث؛ لأنه لو وَرِثَ، لكان العتْقُ والنسبُ إلَيْه بالشراء وصيةً للوارث، فيبطُل، وإذا امتنع العتْقُ، امتنع الإِرْثُ، هذا هو الظاهرُ، وحكى الأستاذ أبو منْصُور وجهاً: أنه يرثُ، ووجهاً آخر أنه لا يصحُّ الشراء مِنْ أصله؛ لأنَّ عِتْقَه وصيةٌ، والوصية موقوفةٌ على الخروج من الثُّلُث أو إجازة الورثة والشراء لا يُوقَف، فيجوزُ أن يعلم بهذا قوله في الكتاب "عتق" بالواو؛ للوجه السابق، وقوله: "ولم يرث" يجوز أن يُعْلَم بالحاء والميم؛ لأن الرواية عن أبي حنيفة ومالك أنَّه يرث، ولو ملَك المريضُ مَنْ يعتق عليه بغَيْر عوض كهبةٍ وإرثٍ، فهل يَرِثُ منه؟ فيه وجهان؛ بناءً علَى أنه يعتق من الثلث أو من رأس المال، وقد ذكَرْنا ذلك في "الوصايَا" وإلى التوْرِيث، ذهَب ابن سُرَيْج، واختاره الشَّيْخ أبو حامد. وقال أبو الحسن العباديُّ؛ والوجهان مبنيان على أنَّ في الشراء يُعْتبر خُرُوجُ القيمة من الثّلث أو خروج الثمن، ونختم الكلام في هذه الصّور بِفَصْلَيْن: الفصل الأوَّل: في صور أُخَرَ تنخَرط في هذا السِّلْك، ذكر الأستاذ أبو إسْحَاقَ الإِسفرايينيُّ في "مختصر" جمعه في المسائل الدَّوْريَّة، أنه لو شَهِد شاهدان على عِتْقِ عبد، وحكم الحاكم بشهادتهما، ثم جاءَ العبْدُ مع آخر، فشَهِدا على جُرْح الشاهدَيْن، لم يقبل، ولو أنه أعتق عبدَيْن في مرض موته، وهما ثلث ماله، فشَهِد المعْتَقَان على الميِّت بوصية أو بإعتاق ومات، وعليه دَيْن أو زكاة، لم يقبل، ولو شهدا عليه، أنه نَكَح امرأة علَى صَدَاقِ كذا حُكِي عن بعض الأصحاب؛ أنه لا تُقْبَلُ شهادتُهما، قال: ويحتمل أن تُقْبَل في النكاح، ولا تقبل في المَهْر، وأنه لو أعتق عبدَيْن له، فشهِدَا على أنه كان محجوراً عليه بالسَّفَهِ، لم تقبل شهادتهما، وأنه لو ادَّعَى أنه ابن فلان، وقد مات ووارِثُه في الظاهر أخوه، فأنكر ونكَل، فحَلف المدَّعِي، ثبت النسب، ولا يثبت الإرْثُ، وهذا جوابٌ على أن اليمين المردودة عند نكول المدَّعَى عليه كالإقرار، أَمَّا إذا قُلْنا: إنَّها كالبينة، فيثبت الإرْث أيضاً، وأنَّه لو ورث عبدَيْن يعتقان عليهَ، ثم مات وورثاه ثم أقرَّ بدَيْن على الميت الأول يستغرق تركته، لم يثبت الدّيْن بإقرارهما، وأنه لو أعتق أمةً في مرضِ موته، هي ثلثُ ماله فادعت أنه وطئها بشُبْهَةٍ أو أنه استأجرها، وعليه أجرتها، لم تُسْمَعْ دعواها، وأنَّه لو وَرِث من زوجته عبدَيْن، وأعتقهما، ثم شَهِدا بالفرقة قبل الموت
بردَّة أو طلاقٍ، لم تقبل شهادتهما، وأنه لو كان له في يَدِ عبْدِهِ مالٌ، فأخذه واشترى به عبدَيْن، وأعتقهما، فشهدا عليه بأنَّه كان أعتقه قبل ذلك، لم يُقْبَل، وأنه لو مات ووارثُه في الظاهر أخوه، فأعتق عبداً من التركة، وولي العتيق القضاء، فجاءَ مجهولُ النسب، وادعى أنه ابنُ الميت، وأقام شاهَدْين، لم يَقْبَلْ هذا الحاكمُ شهادَتَهما، ولم يحكم بقولهما، هكذا ذَكَره، وكان يجُوز أن يقال: يحكم بشهادتهما، وَيثْبُت النسب، ولا يثبت الإِرث، كما لو أعتق الأخُ في هذه الصورة عبدَيْن، وشهدا ببنوَّة المدَّعِي، وحينئذٍ، فلا يؤثر نسبه في العتْق والقضاء، وأنه لو وَرِث عبداً من موِّرثه المقتول، وأعتقه، وولى العتيق القضاء، وجاء الوارثُ إليه وادَّعَى على قاتله القصاصَ، فقال: قتلته، وهو مُرْتَدُّ، وأقام عليه شاهدَيْن، لم يحكم هذا الحاكم بشهادتهما، ومِنْ هَذَا القبيل، لو أعتق عبدَيْن، فجاء إنسان، وادَّعى أنه كان قد غَصِبَ العبدَيْن، وشهد لهما بذلك، لم تُقْبَل شهادتهما، وفي "التهذيب": أنه لو ملَكَ رجُلٌ أخاه، ثم أقرَّ في مرض موته أنَّه كان قد أعتقه في الصحة، كان العتق نافذاً، وهل يَرِث إن صحَّحنا الإقْرَارَ للوارث؛ فنعم، وإلاَّ، لم يرث؛ لأنَّ توريثَه يبطل الإِقرار بحرِّيته، وإذا بَطَلَتِ الْحُرِّيَّةُ، سقط الإِرث. الفصل الثاني: قال صاحب الكتاب في مجموعة "غاية الغور في دراية الدَّوْر" المسائلُ الدَّائِرةَ لا بدَّ فيها من قطْع الدَّور، وفي قطْعِه ثلاثة مسالك؛ تارةً يُقْطَعُ الدَّوْر فيها مِنْ أوَّله، وتارةً مِنْ وسَطِهِ، وتارةً من آخره، وذلك بحَسَب قوَّة بعْض الأحكام وبُعدْه عن الدفع، وضعف بعضها وقربه للدَّفْع. مثالُ القَطْع من الأول: بيعُ العَبْد لزوجته الحرَّة قبل الدُّخُول بصَدَاقها الثابت في ذمَّة السيد، فإنَّا حَكْمنا بفساد البَيْع، وقَطْعنا الدَّوْر من أصله، ولم نَقُل: يصحُّ البيع، ولا ينفسخ النكاح، أو يَنْفَسخِ ولا يسقُطُ الصَّداق، وسببه أن البَيْعَ اختيارِيٌّ، وحصول الانفساخ بالمِلْك قهريٌّ، وكذا سقوطُ الصَّداق بالإنفساخ، وما يختاره الاِنسان من التصرُّفات يصحُّ تارةً، ويفْسُد أخْرَى وما يثبت قهراً يبْعُد دفْعُه بعْد حصُول سببه، فكان البيع أولَى بالدفع من غيره. ومثال القطْع من الوسَط الصورةُ الثَّانية مِنَ الصُّور الخَمْس المذكورة في الكتاب، فإنا لم نقْطَعِ الدَّوْرَ من أوَّله، بأن نقول: لا يحْصُل العتق، ولا من آخره؛ بأن نقول: لا يرتد المهرُ حتى لا تَضِيقَ التركة، ولكنْ قطَعْناه، من وَسْطِه، فقلْنا: لا يثبت الخيارُ، وسببه أن سقوط المهر عند حصُول الفَسْخ قهريٌّ يَبْعد دفعُه، والخيار أولَى بالدفع من العِتْق؛ لأن العتق أقوَى؛ أَلاَ تَرَى أنَّه لا يسقط بعد ثبوته، والخيارُ يسقطُ بعد ثبوته بالإسْقَاطِ وبالتقصيرُ.
ومثال القطع من الآخر الصورة الأولَى من الصور الخَمْس، فإنَّا لم نقطع الدَّوْر من الأول؛ بأن نقول: لا يحْصُل العتق، ولا من الوسَطِ؛ بأن نقول: لا يصحُّ النِّكَاحُ، ولكن قطَعْنا من الآخر، فقلنا: ليس لها المهرُ، وَيُمْكن أن يقال: سببه أن العِتْقَ له قوةُ السُّرعة والسراية؛ فلا يدفع، والنكاحُ أقوَى من المهر المسمَّى فيه، فإنَّ ثبوت النكاح يستغنى عن المهْر بدليل المفوّضة والمسمى مهراً لا يثبت من غير ثبوت النكاح، وأيضاً فخطر النكاح وقدره فوق خَطَر المال، فَكَانَ المال أولَى بالدفع، وعُدَّ من هَذَا القسم الثالثِ ما إذا قَالَ لزوجته: إنِ انفسَخَ النكاحُ بينِي وبينَكِ، فأنت طالقٌ قبله ثلاثاً، ثم اشتراها أو جرَى رِضَاع أو رِدَّةٌ، فلا يُقْطَع الدوْرُ من أوله؛ بأن نقول: لا ينفسخ النكاح، ولَكِنْ يقْطَعُه من آخره؛ بأن يقول: ينفسخ، ولا يقع الطلاق، وربَّما نعود في هذه الصور في "مسائل الطلاق" والدَّوْرُ فيها لفظيٌّ، واللهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ: لا يجوز للعبْدِ التسرِّي، وإن جاز له النكاح؛ لأنه لا يملك، فإنْ ملَّكه السيِّد جاريةً، وقلنا بالجديد؛ وهو أنه لا يملك، فلا يحل له وطؤها، وإن أذن السيِّد، وإن استولدها، وإن الولد ملكاً للسيد، فإن قلْنا بالقديم؛ وهو أنه يملك، فقد ذكرنا في البيعُ أنَّ الظاهر أنه يتسَّرى، إن أذن السيد، وأنه ليس له التسرِّي، إن لم يأذن، لكن، لا يحدُّ لو وطئ لشُبْهة الملك، وإذا استولَدَها، فالولد ملك له، لكن لا يُعْتَق عليه؛ لضَعْف ملكه، وتعلُّق حق السيد به، فإن عَتَق، عَتَق الولد أيضاً، وحكم المدَّبر والمعلَّق عتقه بصفة حَكْمُ القِنِّ في ذلك، ومن بعض حرٌّ وبعضه رقيقٌ، إذا اشْتَرى جاريةً بما اكتسبه ببعْضه الحرِّ، يملكها، لكن لا يطأها دون إذْنِ السيِّد؛ لأنَّ بعْضَه مملوكٌ، والوطء يقع بجميع بدَنه لا يختص بالبعض الحرّ، ومال ابْنُ الصَّباَّغ إلَى أنه لا حاجة إلَى إذْن السيد، كما أنه لا يحتاج في الأكل من كسبه والتصرف فيه إلى إذن السيِّد، وإن أَذَنَ السيد له في الوطء، وفرعنا علَى أنه لا بدّ من إذْنه، فَعَلَى القديم؛ يجوز، وَعَلَى الجديد؛ لا يجوز؛ لأن ما فيه من الملك يمنع من التسرِّي، والمكاتَبُ لا يتسرَّى من غير إذن السيد وبإذْنه قولان؛ بناء على الخلافِ في تبرُّعاته بإذن الْمَوَلى، واللهُ أَعلَمُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْل السَّادِسُ في النِّزَاعِ) وَدَعْوَى الرَّجُلِ الزَّوْجِيَّةَ صَحِيحَةٌ وَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا الدَّعْوَى؛ لأَنَّ إقْرَارَهَا مَقْبُولٌ وَدَعْوَاهَا المَهْرَ صَحِيحَةٌ، وَأَمَا دَعْوَاهَا مجَرَّدَ الزَّوْجِيَّةِ فَفِيهِ خِلاَفٌ، لأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ حَقٌّ عَلَيهَا وإنْ كَانَ مُتَعَلَّقَ حُقُوقٍ لَهَا، ثُمَّ إن سَكَتَ الزَّوْجُ أَقَامَتِ البَيِّنَةَ، وإنْ أَنْكَرَ فَإنْكَارَهُ طَلاَقٌ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ فَلاَ مَعْنَى للِبَيِّنَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصودُ الفصْل الكلامُ في طَرَفٍ من دَعْوَى النكاح والتنازع فيه، والنكاحُ إما أن يدَّعِيَه الرجُلُ أو المرأة.
إِن ادَّعَاهُ الرجُلُ، سُمِع دعواه لِمَالَهُ من الحقِّ الظاهر في النكاح، ويتوجَّه على المرأة، وإنْ كَانَ العاقدُ الوليَّ؛ لأن إقرارها بالنكاح مقبولٌ، وفيه خلافٌ، ذكرناه مع حكم الدعْوَى على الوليِّ في آخر الباب الأوَّلِ في "بيان أحكام الأولياء" في أول النِّكَاحِ، وينبغي أن يُعْلَم قوله هناك في الكتاب "ويتوجَّه عليها الدعوى"، وكذا قوله: "لأنَّ إقرارها مقبولٌ، وأما المرأة، فإن ادَّعَتِ الْمَهْرَ في النِّكاح أو ادَّعَتِ النِّكَاحَ، وطلبت حقاً من حقوقه سمعت دعْوَاها أيضاً، وإن ادَّعت مجرَّد الزوجية، فوجهان، قد أعادَهُما في "كتاب الدعاوى والبينات" إن سمعت هذه الدعْوَى فتقيم البينة، وإن أَنْكَرَ، فَهَلْ يَكُونُ إِنْكَارُهُ طَلاَقاً؟ فيه وجهان قد أعادهما هناك، إن جعلْناه طلاقاً، اندفع ما يدعيه، ولا معْنَى لإقامة البينة، واعلم أن "كتاب الدعاوى" أحقُّ بالمسألة، وقد ذكرها صاحبُ الكتاب هناكَ، فيؤخَّر الشرْحُ إليه. قَالَ الغَزَالِيُّ: وإِذَا زَوَّجَ إِحْدَى ابْنَتَيهِ وَمَاتَ وَعَيَّنَ الزَّوْجُ إِحْدَاهُمَا وَقَالَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَنَا المُتَزَوِّجَةُ فَالمُعَيَّنَةُ مَنْكُوحَة وَالثَّانِيَةُ تَدَّعِي لِنَفْسِهَا زَوْجِيَّةً مُجَرَّدَةً، وَإِنْ قَالَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ: صَاحِبَتِي مُزَوَّجَة فَالَّتِي لَمْ يُعَيِّنْهَا الزَّوْجُ لاَ خُصُومَةَ مَعَهَا إِنَّمَا الدَّعْوَى عَلَى الأُخْرَى. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا زوج إحدى ابنتَيْه [بعينها] من رجُلٍ، ثم تنازعتِ الابنتان، فتنازُعُهُما يُتصوَّر عَلى وجهَيْن: أحدهما: أن تقول كلُّ واحدةٍ منهما: أنا المزوَّجة، فأيتهما صدَّقها الزوْجُ، ثبت نكاحُها؛ لتقارهما، والأخرى تدَّعي أنها امرأته، وهو منكرٌ وفيه، طريقان للأصحاب. أحدهما: أن في تحليفه قولَيْن كالقولَيْن فيما إذا ادَّعَى اثنان نكاحَ امرأةٍ، وأقرت لأحدهما، هل تحلف للثاني ووجه الشبه أنَّ أحد النكاحَيْن يثبت بالإِقرار، وذلك يمنع من الإِقرار بالثاني، فلا يجري التحليفُ فيما لو أقر به، لم يُقْبَل. وأصحُّهما: القطع بأنَّه يحلف؛ لأن النكاح ينْدَفِعْ بإنكار الزَّوْج، والمقصودُ المهْرُ، فلا بُدَّ من التحليف بخلافِ ما إِذَا ادَّعَى اثنانِ نكاحَ امرأةٍ، وأقرت لأحدهما، فإنَّ الثاني لا يدعي عليها مَهْراً، وإنَّما يقْصِد النكاح، وينبغي أن يُفَصَّل، فيُنْظَرَ إلى صيغة دعْواها، إن ادَّعت الزوجية وطلبت المهْرَ، فالوجه التحليفُ، وإِنِ ادَّعَتْ مجرَّد الزوجيَّة فيجئ في سماع الدعوى الخلافُ المذكُور في الفصل السابق، إن سمعت، فالصورةُ قريبةٌ من صورة الاستشهاد، وإذا قُلْنَا: إنه يحْلِف، فيُنْظر؛ إِن حلف، سقَطَت الدعوى الثانية، وإن نكل، فحَلَفتْ، ففي تنزيل اليمين المردودَةِ عنْد النكول منزلةَ البينة، أو الإِقرارِ قولان مشْهُوران، إنْ قلنا: إنَّها كالبينة، فوجهان:
أحدهما: أنَّه يثبتُ نكاحُ الثانية دُون الأُولَى، كما لو أقامتْ بينةً، فإنَّ البينة أقوَى من الإِقرار؛ قَالَ الإِمَامُ -رحمه الله-: هذا القائل يقول ينتفي نكاح الأولَى، ويحكم بانقطاع نكاح الثانية؛ لإِنكار الزوج. وأصحُّهما: استمرار نكاح الأُولَى؛ لأن اليمين المردودةَ إنَّما تجعل كالبينة في حقِّ المدَّعِي والمدعَى عليه لا في حقِّ غيرهما، وقد ثبت نكاح الأولَى بتقارِّهما، فلا يتأثر بالتنازع بين الزوج والثانية ويمينها وإن قلنا: إنَّها كالإِقرار، فوجهان: أحدهما: أنه يحكم ببطلان النكاحَيْن؛ لأن الإقرار للأُولَى أبْطل نِكَاح الثانية، فكذا ما ينزل منزلة الإِقرار للثانية، يبطل نكاح الأولَى. وأصحُّهما: استمرار نكاحِ الأولَى كما لو أقرَّ للأولَى ثم أقرَّ للثانية، وعلى هَذَا، فهَلْ تستحق الثانية عليه شيْئاً؟ فيه قولان شَبَّههما الشيخ أبو عليٍّ بالقولَيْن فيما إذا قَالَ: هذا الثَّوبُ لفلانٍ، لا بل لفلانٍ، هل يغرم للثاني، والأصحُّ: أنها تستحقُّ من المهْر ما يليقُ بتصْدِيقها، وهو نصفُ المهْر، لارتفاع النِّكَاح بإنْكار الزَّوْج قبل أن يفرض مسيس، وأبدى الإِمامُ -رحمه الله- احتمالاً آخر، وهو ألاَّ يجعل إنكار الزَّوج ارتفاعَ فراقٍ ويقال لها: طلبُ لمهر. والوجه الثاني: من التصوير: أن تقول كلُّ واحدةٍ: لسْتُ بالمزوَّجة، وصاحِبَتِي هي المزوَّجة، فيقال للزوج: عَيِّن زوْجَتَكَ منْهما، فَإِذَا عيَّن، فقد أَقَرَّ بأن الأخرَى ليْسَتْ زوْجةً له، فلا خصومةَ له مَعها، والقولُ قول الأخْرَى، مع يمينها، وإن لم تحْلِفْ، حلف الزوج، وثبت النكاح، وفيه وجهٌ ضعيفٌ أن القول قولُ الزوْج مع يمينه؛ لأن إِحداهُما منكوحةٌ بالاتفاق، وهو أعرفُ بمحَلِّ حِقِّهِ، واعلم أن المسألة من فُرُوع ابن الحدَّاد، وأنه قيدها بما إذا مات الأَبُ بعْد التزْوِيج، وكذلك فعل صاحب الكتاب، قال الشيخ أبو عليٍّ -رحمه الله-: وهذا القيد لا فائدة فيه في الوجْه الأول من وجْهَيِ التصوير؛ لأنه لو كان حياً، وعيَّن إحداهما، لم يقبل قولُه على الزوْج، ولكنه مفيدٌ في الصورة الثانية؛ لأنه إذا كان الأبُ حياً، والحالُ بعدُ حال الإِجبار، فيراجع، فإذ أقرَّ بالنكاح على إحداهما، يقبل، ولا يضر الزوْجَ إنكارُها. قال الإِمام: ويظْهَر في القياس ألاَّ يقبل إقرارها، ومعها مَنْ يتمكن من إجبارها؛ حَذَراً من اختلاف الإقرارَيْنِ، فإنْ قبلنا إقرارها، واختلف إقرارها وإقرارُ الوليِّ، فيجوز أن يقال: الحكْمُ للسابق، ويجوز أن يقال؛ ببُطلاَنهما جميعاً، ورَويْنا وجْهَيْن في أوَّل النكاح عن القَفَّال الشَّاشِيِّ والأودَنِيِّ أنَّ المقبول إقرارُها أو إقرارُه، فحصلتْ أربعة احتمالاتٍ، ولو زوَّج ابنته من أحد ابني رجلٍ، وادعت هي على أحدهما أنه هو الذي زوَّجها منه، فإن جردت دعوى النكاح، فعلَى ما سبق، وإن ادَّعت المهْرَ، حلَّفته، فإن
نَكَل، حلفت، وأخذَتْ نصْف المهر، وإن ادَّعى كُلُّ واحدٍ منهما أنَّها امرأته، فأقرَّتْ لأحدهما، ثبت نكاحه، وهلْ للثاني تحْلِيفها؟ فيه قولان، على ما ذكرناه في المرأة، إذا زوَّجها وليَّاها من شخصَيْن. وقوله في الكتاب "والثانية تدَّعي لِنَفْسِها زوجيَّةً مجرَّدةً" عرفت مما أجريناه في خلال الكلام أن دعواها الزوجيَّة المجرَّدة غيْرُ لازمةٍ في هذه الحالة، بل قد تدَّعِي زوجيَّةً مجرَّدةً، وقد تدَّعي المهْرَ في النكاح أو حقّاً من حقوق النكاح. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ شَهِدَ شُهُودٌ عَلَى النِّكَاحَ وَآخَرُونَ عَلَى الإِصَابَةِ وَآخَرُونَ عَلَى الطَّلاَقَ وَالزَّوْجُ مُنْكِرٌ لِلنِّكَاحِ ثُمَّ رَجَعُوا وَقُلْنَا: بَجِبُ الغُرْمُ بِالرُّجُوعِ فَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى شُهُودِ النِّكاحِ وَشُهُودِ الإصَابَةِ في النِّكَاحِ لاَ عَلَى شُهُودِ الطَّلاِقِ فَإنَّهُمْ وَافَقُوا الزَّوْجَ فِي إِنْكَارِهِ لَكِنَّ الأَصَحَّ أَنَّ شُهُودِ النِّكَاحِ وَإِنْ رَجَعُوا لاَ يُغَرَّمُونَ؛ لأَنَّهُم أَثْبَتُوا حَقاً في مُقَابَلَةِ مَا خَسِرُوا بِخِلاَفِ شُهُودِ المَالِ، نَعَمْ لَوْ كَانَ مَا خَسِرُوهُ أكْثَرَ مِنْ مَهْرِ المِثْلِ كَانَ غُرْمُ الزِّيَادَةِ خَارِجاً عَلَى قَوْلِي الغُرْمِ بِالحَيْلُولَةِ فِي شُهُودِ المَالِ إِذَا رَجَعُوا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذه المسألةُ من فروع ابن الحدَّاد أيضاً، ولْيُعْرَف في مقدِّمتها أصلان: الأصل الأول (¬1): أنه لو شهد شهودٌ علَى رجلٍ بنكاحِ امرأةٍ على صداقٍ معلومٍ، وهو منكرٌ، فحكم بشهادتهم، ثم رجعوا، هل يُغَرَّمون له فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنَّهم أثبتوا له حقَّ النكاح، وأدخَلُوا البُضْع في ملكه في مقابلة ما ألْزَمُوه من المَهْر، فصار كما لو شَهِدُوا علَيْه بأنه اشترَى هذا العبْد بكذا، ثم رجَعُوا لا يُغرَّمون. والثَّانِي: أنهم يغرَّمون؛ لأنها إذا ادَّعتِ النكاح، وهو منكرٌ، فلولا شهادتهم ما أخذْنا منه شيئاً، وإِذَا شَهِدُوا، نأخذ منه نصْف المهر، وكأنهم فوتوه عليه، ولا يحْصُل له، وهو منكرٌ في مقابلة ما فات شيءٌ بخلافِ صورة الشراء، فإنه، وإن كان منكراً، يُحْكَم بدخُول المبيع في ملْكه، ويؤْخِذَ منه الثمن، هكذا نقل الوجهَيْن الشَّيخُ أبو عليٍّ وغيره قَالَ الشيخ: ويجوز أن يكونا مبنيَّيْن على أن الشُهودَ في المال، إذ رجَعوا هل يُغرَّمون؟ لأن فَائِدَةَ شَهَادَتِهِمْ ههنا ترجع إلى المال أيضاً؛ إذ لا يبقَى النِّكاح مع إنكاره، ولو ساعدتْهم المرأةُ على الرُّجوع، لأمرناها بردِّ المال، فكانت الشهادةُ في الصورتَيْن واقعةً على ما يُمْكِن تداركُه، ويحْسُن أَنْ يرتَّب فيقال: إن لم يغرَّم شهودُ المال، فههنا ¬
أولَى ألا يغرم الشهود، وإن غُرِّم شهود المال، ففي هؤلاء وجهان؛ لأنهم أثبتوا لَهُ حَقاً في مقابلة ما فَوَّتوا، وسنتكلَّم من بعدُ في أيِّ الوجهَيْن أرجح؟ فإذا غرَّمْنَاهم، فإنما يغرَّمون ما فوَّتوا على الزَّوْج، وهو نصْفُ المسمَّى، فإن قلنا: لا يغرَّمون، فالترتيبُ المذكور، وكذلك في قدْر مهْر المثل، فَإِنْ زَادَ المسمَّى علَى مهْر المثل، فحكم الزيادة في الغُرْم، كما في شُهُود المالِ بلا فَرْق. والثاني: شهودُ الطَّلاق، إذا رجَعُوا يغرَّمون جميع مهْر المِثْلِ أو نصفه أو غير ذلك، وفيه اختلافُ موضعٍ بيانه باب الرجُوعِ في الشَّهادات. إذا تقرَّر ذلك، فصورة المسألة إذا ادَّعت المرأةُ [أنها] في نكح رجلٍ بصداقٍ معلومٍ، وشهد لها شاهدانَ، ثم ادَّعَتِ الإِصابة لتكميل المهر، فشَهِدَ على الإصابة، أو على الإِقرار بالإِصابة آخران، ثم ادَّعَتْ أَنه طلَّقها، وشَهِدَ لها بذلك آخران، وحكَمْنا بموجب الشهادات، وأخذنا منه المَهْر، ثم رجع الشهود جميعاً، قال ابن الحدَّاد: لا غُرْم على شهود النِّكَاح، ولا على شهود الإِصابة، وعلى شاهَدِي الطلاق نصْف مهر مثلها، واختلف سائر الأصحاب فيما ذكره، والقائلون بأنَّ شُهُودَ النكاح إذا رجَعوا، لا يغرَّمون ساعَدُوه علَى جوابه في شهود النكاح، وكذا في شهود الإِصابة؛ لأنهم شَهِدوا أنه استمتع بملكه، ولم يفوتوا عليه شيئاً، والمهر يجب العقْد لا بالإِصابة، واختلفوا في شهُودِ الطَّلاق، فمنْهم من ساعده في تغريمهم، وقال: إنهم فوَّتوا عليه النكاح الَّذي ثبَتَ بشهادةِ الأوَّلَيْنِ، والقولُ أنهم يغرَّمون نصْف المَهْر جوابٌ على أحد القولَيْن في شهود الطَّلاَقِ قَبْل الدخول، إِذَا رجعوا، فيه قول آخر: أنَّهم يغرَّمون جميعه. ومنهم من قال: لا يغرَّم شهود الطلاق أيضاً؛ لأن الزوج منكر أصْلَ النكاح، فشهادتهم لا تفوِّت عليه حقاً يزْعمه؛ لأنه إنْ كان هناك نكاحٌ، فقد ارتفع بإنكاره قبل أنْ يشهدوا؛ ولأنهم وافقوا الزَّوْج في إنكاره من حيْثُ إن قوله وقولهم يرجع إلى أنه لا نكاحَ بينهما في الحال، وأما الدين قالُوا بوجوب الغرمِ علَى شهود النكاح، إذا رجَعُوا، فإنهم غلَّطُوه في تقويم شهُود الطَّلاقِ من حيثَ إن الزَّوْجَ ينكر أصل النكاح، فكيْفَ يطالبهم بضمان التفْوِيت؟ بل النكاحُ لا يثبت مع إنكاره، فلا ينبغي أنْ تُسمعَ بينةُ الطلاقِ، ثم قالوا: إن كانتُ شهادةُ شهودِ النكاح وشهودِ الإِصابةِ مؤرخة، فشهد هؤلاءِ أنه نكَحَها في المُحَرَّم، وهؤلاءِ أنه أَصَابَهَا في صفر، فيغَرَّم الصنفان ما غُرِّم الزوْج بالسَوِيَّة؛ لأنَّ فواتَ النصْفِ الثاني على الزَّوْج سبَبُه شهادةُ شهود الإِصابة، وإن أطلق شهودُ الإصابة شهادَتَهم، فنْصفُ الغُرْم على شهود النكاح، ولا شيْءَ على شُهُود الإِصابة؛ لجواز وقُوعِها في غيْر النكاح، وكونها زناً، ولو شهد شهودُ الإصابة علَى أنه أصَابَها في النِّكاح، فقد أَلْحَقَ ذَلِك بما إِذَا أُرِّخَتِ الشَّهادتان، وفي "النَّهَايَةِ"؛ أنهم إن
شَهِدوا على النِّكاح، ثم على الإِصابة بعْده، اشترك الصنفان في غُرْم نصف المهر، والنصف الآخر يختصُ بغرمه شهود الإِصابة، والصورتان متقارِبَتَان، ولا يبعد التسويةُ بينهما في الحُكْم، وحاصلُ الخلاف في المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا غُرْمَ على واحدٍ من الشهود. والثاني: وهو جوابُ ابن الحدَّاد: أنه لا غُرْم إلاَّ عَلى شهود الطَّلاَقِ. الثالث: أنه يُغرَّم شهودُ النكاح، ولا يغرَّم شهود الطلاق، وفي شُهُودِ الإِصَابَةِ التفصيلُ المذكور، أما لفْظ الكتاب فقوله وقلنا: "يجب الغرمُ بالرُّجوع" يمكن أن يقال: أراد به الخلافَ في أن شُهُود النكاحِ، هل يغرَّمون، إذا رَجعوا أو يكون المعنى أنَّا إذا غرَّمناهم، لو انفردتْ شهادتهم، ففي هذه الصُّورة يكون الغُرْم عليهم، وعلَى شهود الاِصابة جميعاً، ويمكن أن يُقَالَ: أرادَ به مبْنَى هذا الخلاف، وهو القولان في أنَّ شهود المال، إذا رجَعُوا هل يغرَّمون؟ وقوله: "فإنَّما يجب" معلم بالواو، وكذا قوله: "لا على شهود الطلاق"، وقوله: "لكن الأصحّ أن شهود النكاح، وإن رجعوا لا يغرَّمون" الغرض منه بيان الأظهر من الخلاف إن حملنا قوله: "وقلنا: يجب الغرم بالرجوع" على الخلاف في شهود النكاح، إذا رجعوا، وإنْ حملناه على الخلاف في شهود المال، فالغرضُ بيانُ الخلاف في شهود النكاح، إذا رجعوا مع بيان الأصحِّ، وقوله "نعم، لو كان ما خَسِروه" إلى آخره معناه: إنْ بقي الغرْمُ في قدْر مهر المثل، صَحَّ، لمَا ذَكرْنا من المعْنَى الفارق بينه، وبين المالِ المغرَّم في شهادة شُهُود المال، وأما الزيادةُ علَى مَهْر المِثْل، فسبيل غرمها سبيلُ غُرْم سائر الأموال، فلا نقولُ فيها: إِن ففي الغرم أصحّ، وقد يُشْعِر سياق الكتاب بتخصيص الغُرْم بشهود الإِصابة؛ لأنه قَالَ: "فَإنَّا يجبُ علَى شهود النكاح، وشهود الإِصابة"، ثم قال: "لكنَّ الأصحَّ أن شهود النكاح، وإن رجعوا لا يغرَّمون"، فيفهم منهَ أنه لو ثبت غُرْم، لثبت عليهما، لكن لا يُثْبت علَى شهود النكاح للمعنى المذكور، فيبقى علَى شهود الإِصابة، ولكنْ لم نروجها صائراً إلى تخصيص الغرم بشهود الإصابة، بل من لا يوجب الغُرْم على شهود النكاح، لم يوجِبْه علَى شهود الإِصابة [أيضاً، فلا ينبغي أنَ يُحْمَلَ عليه، وإذا لم يُحْمَلُ عليه، كان المعْنَى أنَّه لو كاَن غرْمٌ، لكان على هذَيْن الصِّنْفَيْن، لكن الأصحُّ أنه لا غُرْمَ علَى شهود النكاح، ويلْتَحق بهم شهودُ الإصَابة] (¬1) وعلى هذا، فيكونُ ما ذَكَره ترجيحاً للوجْه الذاهب إلى أنَّه لا غُرْمَ علَى واحدٍ من الشهود، وكلام أكثر من أورد المسألة ميالٌ إلَى وجوب الغُرْم علَى شهود النكاح، وعلَى شهود الإِصابة أيضاً بالتفصيل المذكور فيه. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإِذَا ادَّعَتِ امْرَأَةٌ مُحَرْمِيَّةً أَوْ رَضَاعاً بَعْدَ أَنْ زُوِّجَتْ بِرِضَاهَا لَمْ تُقْبَلُ دَعْوَاهَا إِلاَّ إِذَا ذَكَرَتْ عُذْراً لِنسْيَانَهَا، وَإِنْ كَانَت مُجْبَرَةً قُبِلَتْ دَعْوَاهَا، فَقِيلَ القَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا، وَالأَصَحُّ أَنَّ القَوْلَ قَوْلُهُ، وَلَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ قَالَ: كُنْتُ مَجْنُوناً أَوْ مَحْجُوراً عِنْدَ العَقْدِ فَإنْ لَمْ يُعْهَدْ ذَلِكَ لَهُ فَالقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، وَإِنِ ادَّعَى الصِّبَا أَوْ عُهَدَ لَهُ الجُنُونُ فَالقَوْلُ قَوْلُهُ في وَجْهٍ، وَقَوْلُ الزَّوْجِ في الوَجْهِ الثَّانِي لأنَّهُ اعْتَرَفَ الوَليُّ بِالعَقْدِ فَيُحْمَلُ عَلَى الصِّحَّةِ، وَلَوْ أَحْرَمَ الوَليُّ بُعْدَ التَّوْكِيلِ بِالنِّكَاحِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ الوَكيلَ زَوَّجَ بَعْدَ الإِحْرَامِ فَالنَّصُّ أَنَّ القَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسأَلَتَانِ: إحداهما: إذا زُوِّجتِ المرأةُ، ثم ادَّعْتُ أن بيْنَها وبيْن الزَّوجْ محرميَّةَ بأنْ قالت: هو أخِي من الرِّضاعة، أو قالت: كنت زوجة أبيه أو ابنه أو وطأنِي أحدُهما بالشُّبهة، فيُنْظَر؛ إن وقع التزويج برضاها أو دون رِضَاهَا. الحالة الأولَى: إذا زُوِّجت برضاها؛ إما لأنَّها ثيِّبٌ أو لأنَّ المزوِّج أخٌ أو عمٌ أو زوَّجُ المجبْر بإذِن المجبرة، وإن لم يحتج إليه، فلا تُقْبل دعواها، والنكاحُ ماضٍ على الصحَّة؛ لأن إذْنَهَا السابقَ يتضمَّن الإقرار بأنها حلالٌ له، فلا يُقْبَل بعد ذلك ما يناقضُه، نعم، لو ذكَرت عُذْراً من غَلَطٍ ونسيانٍ، فيجيء في سماع الدَّعوى الخلافُ المذكورُ فيما إذا قَالَ: وهبت أُوِ قبضت، ثم زعم أنَّه لم يقبض، وأنه أقر اعتماداً علَى كتابِ وكيلِهِ، ثم تبيَّن خلافه قَالَ الإِمَامُ: والسَّماع ههنا أولَى؛ لأن الغلط والنسيان في مثله مما يغلب في العُرْف، وهذا ما أورده في الكتاب. [الحالة] الثانية: إذا زُوِّجت بغير رضَاها بكونها مجبرة، فوجهان: أحدهما: وهو جوابُ ابنِ الحدَّاد: أنه يُقْبَل قولُها في ذلك مع يَمِينها، ويُحْكَم باندفاع النكاح من أصله؛ لأن ما تَدَّعيه محتملٌ، ولم يسبقْ منْها ما يناقِضُه، وهذا كما أنَّها إذا قالَتْ في الابتداء: فلانٌ أخي من الرِّضاع، لا يجوز تزويجُها منْه. والثاني: عن الشيخ أبي زَيْدٍ: أنه لا يُقْبَل قولُها استدامةً للنكاح الصحيح الجارِي على الصحَّة ظاهراً؛ ولأنَّا لو فتَحْنا هذا الباب، لاتخذه صواحبُ القُصُود الفاسدة ذريعةً إلى الخروج عن قَيْد الأزواج، وهذا أصحُّ الوجهَيْن عند صاحب الكتاب، ويقال: إنه اختيار ابن سُرَيْج وفي "النهاية": أنَّ معظم الأصحابِ علَى موافقة ابن الحدَّاد، وذكر الشيخ أبو عليٍّ أنه الأصحُّ، وحكي عن نصِّ الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه لو باع الحاكمُ عبداً أو عَقَاراً على مالكه الغائبِ بسبب اقتضاه، ثم جَاءَ المالكُ وقال: كنت أَعتقت العبد أو وقَفْتُ العقار أو بِعْته، يصدق بيمينه، وينتقض البيع، ويردُّ الثمن على
المشترِي، بخلاف ما لو باعه بنفسه أو بوكيلِهِ، ثُمّ ادَّعَى ذلك، فإنه لا يقبل؛ لأنه سبَق منْه ما يناقضه، وقضيةُ حكايته: أنه لا خلاف في صورة بيع الحاكم، لكنَّ الإِمَامَ طرد الخلافَ، وحكَى فيها قولَيْن (¬1)، ولو زوَّج ابنته أو أمته، ثَمَّ ادَّعى على السيدِ والأبِ محرميةً بينها وبين الزوج، لم يُلْتَفَت إلى قوله؛ لأن النكاح حقُّ الزوجَيْنَ، وإن كان الوليُّ هو الذي يعْقِد، ولذلك قلنا: يثبت النكاح بتقارِّهما، وإن أنكر الوليُّ. قَالَ الشّيخُ أبو عليٍّ: ولو قال بعْدَ تزويج أمته، كنتُ أعتقتُها، حكم عليه بالعتق، ولا يُقْبَل قوله في النكاح، وكذا لو أجَّر العَبْدُ، ثم قال: كنت أعتقته، ويُغرَّم للعبد أجرة مثله؛ لأنه أَقَرَّ بإتلاف منافِعَه، عليه متعدياً، كمن باع عبداً، ثمَّ قال: كنت غصبته، لا يُقْبَل قوله في البيع، ويُغرَّم للمقرِّ له، واعلم أن الخلافَ في الحالة الثانيَة في أنَّها، هلْ تصدَّق بيمينها، ولا خلاف في أنه يسمع دعْوَاها، ولو أقامَتْ بيِّنة، حكم بها، والكلام في الحالة الأولَى في ردِّ الدعوَى من أصلها، وأن الرضا والإذْن بالتزويج إنما يؤثر إذا أذِنَت بتزويجها من شخْصِ بعينه، أما إِذَا أذِنَتْ في النكاح مَطلقاً، وفرَّعنا على أنه لا حاجة إلَى تعيين الزوج، فزوجها الوليُّ من رجل، ثم ادَّعت محرميةً، فالحكم كما إذا زوّجت مجبرةً؛ لأن الإِذن في التزويج المطْلَقِ لا يكون إقراراً بأنَّها حلالٌ لذلك المعيَّن، ولو زوج الأخُ البكرَ، وهي ساكتةٌ اكتفاءً بصُمَاتِهَا على أحد الوجهين، ثم ادَّعَتْ محرميَّة قال الإِمام: الذي ارتضاه العراقيُّون؛ أنَّ دعْوَاها مسموعةٌ، قال: ولكنْ لا تصدَّقُ باليمين. المسألة الثانية: إذا زوّج أمته من إنسان، ثم قَالَ: كنْتُ مجنوناً، أو محجوراً يوْمَ زوَّجتها، وأنكر الزوْج، وقال: تزوَّجْتُها تزويجاً صَحِيحاً، فإن لم يعهد للسيد ما يَدَّعيه ولا بَيِّنَة، فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الظاهر جريانُ النكاحِ على الصَّحَّة، وكذا لو قال: زوَّجْتُها وأنا مُحرِم، أو قال: لم تكنِ مِلْكِي يومئذٍ، ثم ملكتها، وكذا الحكْمُ، لو بَاعَ عبداً، ثم قال: بِعْد البيع: بعتُه، وأنا محجورٌ عليّ أو لم يكن مِلْكِي، ثم ملكته، وعن نصِّه في "الإِملاء" أنه لو زوَّج أخته، ومات الزوج فَادَّعَى ورثته أن أخاها زوَّجَها بغَيْر إذْنها، وقالت: بل زوَّجني بإذني، فالقول قَولُهَا ولك أن تقول: قد سبق ذكْرُ وجهَيْن فيما إذا ادَّعَى أَحَدُ المتعاقدَيْن صحَّةَ العقد، والآخرُ فسادَهُ في كتاب البيع، فليجيء في هذه الصورة ذلك (¬2) الخلافُ، ولو ادَّعَتِ المنكوحةُ، وهي ممن يُعْتَبَرُ إذْنُها ¬
أنَّها زُوِّجت من غير إذْن، ففي فتاوى صاحب "التَّهْذِيبِ" أنه لا يُقْبَل قولُها بعد ما دخلت عليه، وأقامَتْ معه، كأنه جعل الدخُولَ والإِقامة قائماً مقام الرضا (¬1) في المسألة الأولَى من مسألتَي الفصل، وإن عُهِدَ بالسيد المزوَّج حجرٌ أو جنونٌ أو قال زوّجْتُها وأنا صبيٌّ، فعن الشيخ أبي زيد تخريجُ قولَيْن: أحدهما: أن القولَ قوله مع يمينه؛ لأن الأصلَ عدمُ النكاح ودوامُ الحالةِ التي كانَتْ. وأصحُّهما: عند الشيخ أبي عليٍّ وغيره: أن القول قولُ الزوج؛ لأنَّهما اتفقا على جريانِ العَقْد، والغالب في العقود إنْشَاؤُها على الصحَّة؛ ولأنه حكم بصحَّة النكاح ظاهراً، والأصلُ دوامه، ورأى الإِمام بناءَ الخلافِ علَى أن النكاح المعتَرَفَ به مطلقاً يُحْمَلُ على الصحيح، أم يتناولُ الصحيح والفاسدَ، ولو زوج أخته برضاها، ثم ادَّعتْ هِيَ أنها كانتْ صغيرةً يومئذٍ، ففي فتاوى القفَّال، والقاضي حسين أن القول قولُها، وبهذا أجاب صاحب "التَّهْذِيب" في فتاويه، وإن أقرت يومئذٍ بأنَّها بالغةٌ، كما إذا أقرَّ بمالٍ، ثم قَالَ: كنتُ صغيراً يوْمَ الإقرار، وهذا يمكن أن يكون جواباً على الوجْه الأول، ويمكن أن يفْرَقَ بأن العقْدَ المَنْشَأ بين المسلمين الغالِبُ فيه الصحةِ، وهذه لم يصدر منها العقد [نفسُهُ. ولو وكّل الوليُّ بالتزويج، ثم أحرم، ثم جرى العقد] (¬2) وادعى الوليُّ وقوعه في حال إِحرامه، وأنكر الزوج، فالرواية عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن القولَ قولُ الزوْج بناءً على [أن الظاهر فيما جَرَى الصحة، ولم يحْكِ الشيخُ أبو عليٍّ تردُّداً في هذه الصُّورة. قال الإِمامُ -رحمه الله وسببه] (¬3) أن الإِحرام لا حقٌ، والأصل استناد العقد إلى الحلِّ المتقدِّم، لكن الشيخ أَلْحَقَ بمسألة الإِحْرَام المنقولة عن النص ما إذا أوْكَلَ رجلاً بقَبُول النكاح، ثم أحرم، وقَبِلَ الوكيل، ثم اختلف الزوجانِ، فقال الزوج: قَبِلَ قَبْلَ أن أحرمت أو بعْد ما خرجَتْ من الإِحرام، وَقَالَتْ: بَلْ في حالِ الإِحرام، قال فالقول قول الزوج، فلم يَفْرِقْ بين أن يدَّعِي سبق النكاح على الإِحرام، أو سَبْقَ الإِحرام على النِّكَاح، واعْلَمْ أنَّ قضيَة ما سبَق في المسألة الأولَى أن الوليَّ، إِذَا زَوَّجَ، ثُمَّ ادَّعَى المحرمَيَّةَ بين الزوجَيْن، لا يلتفت إلَى دعواه، إذ لا يفرض [النزاع] (¬4) في مسألة النصِّ ¬
بين الولي والزوج، بل يفرض بين الزوجين، ولو زوج أمته، ثم ادَّعَى أنَّ الزوْجَ كَانَ واجداً لطوْلِ، الحرة وأنكر الزوْجُ، فالقول قوله، ولو زوَّج ابنته، ومات وادَّعَتِ المرأة أن أباها كَانَ مَجْنوناً يوم العقد، فيُنْظَر، أجرى التزويجُ برضَاها أم بغَيْر رضاها، ويكون الحكمُ علَى ما ذكرنا في المسألة الأولَى. وقوله في الكتاب: "وإذا ادَّعَتِ المرأةُ محرميَّةً أو رضاعاً"، كان الأحسن أن يقول: محرميةً برضَاعٍ أو غيره أو يقول "رضاعاً أو محرميَّةً بجهة أخرَى فإن الرضاع جهةٌ من جهات المحرميَّة لا شيء خارج منها. وقوله: "إلاَّ إذا ذكرت عذراً كنسيانها" مُعْلَمٌ بالواو والله أعلم فهذه فروعٌ وصُوَرٌ يقْطَع على ذكرها الكلام في "كتاب النكاح". ادَّعى رجلٌ نكاح امرأة وأقام عليه بينةً، وادَّعتِ المرأة أنَّها زوجةُ غيره، وأقامت عليه بينة، قَالَ ابنُ الْحَدَّادِ: يعمل ببينة الرجُلِ؛ لأن حقَّه في النكاح آكد وأقْوَى؛ ألا تَرَى أن التصرُّف في النكاح إليه، إنْ شاء أمسكها، وإن شاء فارقها، وإذا كان جانبه أقوَى، كان العمل ببينته أولَى؛ كصاحب اليد مع غيره، وعلى هذا جرى أكثر الأصْحاب، ووراءه كلامان: أحدهما: قال الشيخ أبو عليٍّ: يُحْتمَلَ أن يقال: يُنْظَر في جواب من ادَّعت أنها زوجته، إن أنكر، فلا نكاح مع إنكاره فتعمل ببينة الرجل، كما ذكر ابن الحَدَّاد، وإن سكت، فهما بينتان تعارَضَتَا؛ لأنَّ كل واحدةٍ منْهما معمولٌ بها، لو سَلِّمَتْ عن معارضة الأخرى فصار كسائر صور التعارض. والثَّاني: أنَّهم لم يتعرَّضوا في تصوير المسألة لدعواها المَهْر أو حقّاً من حقوق النكاح، وقد ذكرنا في دعْوَى الزوجية المجرَّدة خلافاً أنها هل تسمع؟ إنْ سمعت وأنكر الزوج، ففي إقامة البينة خلافٌ أيضاً، وإن ادَّعتِ الزوجيةُ المجَّردةُ، أيضاً وأنكر الزوجُ، فإنما تفرض إقامة البينة من جانِبها تفريعاً علَى سماع هذه الدعْوَى، وعلَى سماع البينة مع الإنْكَار، إذا قال الخاطبُ لوليِّ الزوجة: زوجتُ نفْسِي من بنْتِكَ فقبل قال في "التَّتِمَّةِ": يبنى انعقاد النكاح على أن كلَّ واحدٍ من الزوجَيْن معقودٌ عليه أم لا؟ قيل: نعم؛ لأنَّ بقاَءَ كلِّ واحدٍ منْهما شرطٌ لبقاء العقْدِ، فنزلا منزلة العوضَيْن في البيع، وقيل: الزوجُ ليس معقوداً عليه؛ لأن العِوَضَ من جانبه المهْرُ لا نفْسُه، ولهذا لو كانَ تحْته ثلاثُ نسوةٍ، جاز له نكاحُ رابعةٍ، ولو كان منكوحاً، لما جاز، كما أن المنكوحةَ لا تنكح زوجاً آخَرَ، فإنْ قلْنَا: إنه ليس الرجُلُ منكوحاً، لم ينعقد النكاح، وإن قلنا: إنه منكوحٌ، فعن أبي عاصم العبَّاديِّ وأبي سَهْل، الأبيوردي: أنه ينعقد النكاح، كما لو أضاف إلى المرأة، وعن القاضي الحُسَيْن مَنْعُهُ؛ لأن إضافة التزويج إلى المرأة غيْرُ معْهُود فصار كما لو استعَمَلَ في النكاح لفظاً لا يُعْهَد فيه، وفيما جُمِعَ من "فتاوى
القَفَّالِ" وغيره: أنه إذا تزوَّج أمةً على ألا يملك الاستمتاع ببُضْعها، لا يصحُّ النكاح، إذا قلنا: إنه لو تزوَّجها على ألا يطأها، لم يصح النكاح، ولو تزوَّجها على ألا يملك بُضْعَها، فإن أراد ملك الاستمتاع، فكذلك الجواب، وإنْ أَرَادَ ملْك العَيْن، لم يِضرَّ، وأنَّه لو خطب البِكْر خاطبٌ فمنعها أبوها، فذهبَتْ هي، وزوَّجت نفسها منْه، وأقَامَتْ عِنْدَه، ثم زوَّجها الأب من غيره، فإن لم يُصِبْهَا ذلك الخاطبُ، صحَّ النكاح، وإن أصابها، لم يصحَّ النكاح؛ لأنها لم تأذَنْ، وقد بانت بالشبهة، وذكر تفريعاً على أن العضْو المبان المتصل في حكْم النَّظر أن من حَلَق عانَتَه، ينبغي أن يُخْفِيَ الشعر حتَّى لا ينظر إلَيْه أحدٌ، وفي فتاوى القاضي الحُسَيْنِ: لو زوج ابنته البكْرَ عَلَى صداق، وهو مهر مثلها مِنْ مُعْسِر بغَيْر رضاها، فالمذهبُ أنه لا يصحُّ النكاح؛ لأنه بَخْسٌ لحقِّها، كما لو زوَّجها من غير كفء، وأنه لو زوج أمته من قادِرٍ علَى طَوْلِ حُرَّةٍ، وحصل له منها أولاد، فهم أرقاءِ؛ لأن شبهة النكاح تجْرِي مجْرى النكاح الصحِيح، ولو جَرَى نكاحٌ صحيحٌ، كانوا أرقاء، وأنه لو اختلف السيد والعبد في الإِذْن في النِّكاح، فَقَالَ السَّيِّدُ: ما أذِنْت، فالوجه أن تدَّعِيَ المرأة على السيِّد أنَّ كسْبَ هذا العبْد مستحَقٌّ لي بمهْرِي ونفقتي؛ ليسمع القاضي البينة (¬1)، وأنه إذا زوَّج أمته من عبده، فنفقة الأمة على السيد كنفقة العَبْد، فلو أعتقها السيِّد وأولادها، سقَطَتْ نفقتهم عنه، وتعلقت نفقتها بكَسْب العبد، ونفقةُ الأولاد عليها، إن كانتْ موسِرةً، وإن لم تكن موسرة ففي بيت المال، وإن أعتق العبد دونها، سقطت نفقتُها عنه، ونفقة الأمة على العتيق كَحُرٍّ تزوَّج بأمة الغير، فإنه إذا علمت البكْرُ أن خاطِبَها ليس بكفء واستؤْذِنَت في التزويج منْه، فسكتت يصحُّ النكاح، ويكون سكُوتُها كنْطْقها، وَأنَّ وَكِيلَ المصلّي يزوج بخلاف وكيل المَحْرَم؛ لأن عبارة المحرم غير صحيحةٍ في النكاح، وعبارة المصلِّي صحيحةٌ، حَتَّى لو زوَّجها في خلال الصَّلاةِ نَاسياً يصحُّ النكاح، ولا تبطل الصَّلاة، وأنه إِذَا استُؤْذِنت المرأة في التزْوِيج من رجُلٍ، فأذِنَت، ولم يُعْلَم فسقه، وكان فاسقاً، يصح النكاح؛ لوجود الإِشَارَةِ إِلى عينه، قال الشَّيخْ الْفَرَّاءُ: لكن لها حَقُّ الْفَسْخُ، كما لو أذِنت في التزويج من رجُل، ثم وجدَتْ به عيباً، وفي "فتاوى الفَرَّاء": أنه لو أبين داهن شَعْرَ الأَمَةِ، أو قَلِّمَ ظُفُرْهَا، ثم عَتَقَتْ، ينبغي أن يجوز النَّظَرُ إِلَيْه، وإن قلْنا: إن العضو الْمُبَانُ في النظر كالمتصل؛ ¬
لأنه انفصل عنْها حين لم يكن عورةٌ، والعتْقُ لا يتعدَّى إِلَى المنفصل؛ ولذلك لو أضاف العتقَ أو الطلاق إلى الْمُبَانِ لا تعتق ولا تطلَّق، وأنه لو أراد أن ينكح ابنةَ عمِّه، وهو وليُّها وغائبٌ عنها، يزوِّجها منْه قاضي بلدة المرأة لا قاضي بلدة الرجُل، وأنَّ التي يعتبر إذنُها في تزويجها، إذا قالَتْ لوليها، وهي في نكاح أو عدةٍ: أذِنْتُ لك في تزويجي، إذا فارقني زوجي أو انقَضَتْ عدَّتي، وجب أن يصح الإِذن، كما لو قال الوليُّ للوكيل: زَوِّجِ ابنتي، إذا فارَقَها زوجُها أو انقضَتْ عدَّتها، [يصح النكاح] وفي صحة التوكيل وجْهٌ آخر مذكورٌ في "الوكالة" وأنه لو قيل للبكر: رَضِيتِ بما تفْعَلُه أمُّكِ، وهي تعرف أنَّهم يعْنُونَ النكاح، فقالتَ: رَضِيتُ، لا يكون هذا إذْناً؛ لأن الأم لا تعقد بخلافِ ما إِذَا قالَتْ: رَضِيتُ بما يفعله الْوَلِيُّ ولو قَالَتْ: رَضِيتُ بالتَّزويج ممن تختارُهُ أمي، يجوز، ولو قالت: رَضِيتُ إنْ رَضِيَتْ أمِّي، لا يجوز؛ لأنه تعليقٌ لا إذْنٌ جازمٌ، ولو قالت: رضِيتُ إن رَضِيَ وَلِيِّ، فإن أرادت التعليق، فكذلك الجَوَابُ، وإن أرادتْ أنِّي رضيتُ بما يفعلُه، ولم تقصد التعليقَ، كان إذناً، وأن الوليَّ، إذا وُكِّلَ بالتزويج، ثم حضَر عقَد الوكيل شاهداً مع رجُل آخَرَ، لم يصحَّ النكاح؛ لأن الوكيل نائبٌ عنه، والعاقدُ في الحقيقة هو، والعاقدُ لا يكون شاهداً، وهذا قد سبَق في رُكْن الشهود. ولو كَانَ لَهَا إِخوةٌ، فزوَّجها أحدهم، وحضر الآخَران شاهدين، ففي صحة النكاح جَوَابانِ، وجهُ المنْع: أن الشرع جعَلَ المباشر نائباً عن الباقِين في أداءِ ما توجَّه عليهم، وأنَّه إذا أقرَّت المرأةُ بالنكاح لغَيْر كفء، فلا اعتراض للوليِّ؛ لأنه ليس بإنشاءِ عقْدٍ، فلا يقبل قوله: ما رَضِيَتْ بالعقد، كما لو أَقَرَّتْ بالنِّكَاحِ، وأنكر الوليُّ، لا يقبلِ إنكاره، وأَنَّهُ إِذَا زوجت المرأة بالوكالة، ثم أَنْكَرَ الوليُّ التوكيل، والمرأة ساكتةٌ، فالقول قولُ الوليِّ، وِإنْ أَقَرَّتْ بِالنِّكَاح، يقبل قولها، وأنَّه إذا قال الوليُّ للخاطب "دخترم إنكاح كن بحندير مهر" (¬1) فقال الْخَاطِبُ: "نكاح كردم" (¬2) انعقد النكاح، وإن لم يقل الولي "بنو ذادم" (¬3) كما لو قال: تَزَوَّجْ بنتي، فقال: تزوْجتُها، وَأنَّهُ إذا لم يكن لها وليٌّ سوى الحاكم، فأمر قبل أن يستأذنها رجُلاً بتَزْوِيجِها، فَزَوَّجَهَا ذَلِكَ الرجُلُ بإذْنها هل يصح؟ ينبني علَى أن إنابة القاضي في شُغُل معيَّن؛ كتحْلِيفٍ، وسماعِ شهادةٍ جاريةٍ مجْرَى الاستخلاف أم لا؟ إن قلنا: إِنَّهَا تجري مجراه، حتَّى يجيء فيها الخلافُ في الاستخلاف، فيجوز قبل الاستئذان، وينعقدُ النكاح، وَإلاَّ، فلا يَصِحُّ النِّكَاحُ على الأصحَّ، كما لو وكَّل الوليُّ قبل الاستئذان، وزوَّج الوكيلُ بالإِذْن، لا يصحُّ على الأصحِّ، وأنه إِذَا زوَّج القاضي امرأةً، غابَ وَلِيُّهَا، ثم قدم الوليُّ بعد العقد بحيث يَعْلَم، ¬
أنه كان قريباً من البَلَد عندْ العقْد، لم ينعقِد النكاح، وأنها إذا أَذِنَتْ في التزويج بألف، ثم قيل لها عنْد العقد: نعْقِد بخَمْسِمائة، فسكتَتْ، وهي بكْرٌ، كان سكوتها إذناً إلي العقْدِ بخَمْسَمائة، ولو قيل ذلك لأُمِّها، وهي حاضرةٌ تسمع، فسكتَتْ، لم يكن ذلك إذناً، وإنما يكون سكوتُها إذْناً، إِذَا كان الخطاب معها، وأنه يجوز أن يُوْكِّلُ المسلمُ نصْرانياً في قَبُولِ نِكَاحِ نَصْرَانِيَّةٍ، ولا يجوزُ في قبول نكاحِ المسْلمة، وكذلك توكيلُه المجوسيَّ، وَيَجُوزُ توكيلُ النصرانيِّ المسْلِمَ في قبول نكاح النصرانيَّة، ولا يَجُوزُ في قبول نكاح المجوسيَّة؛ لأن المسلم لا يجُوز له نكاحُها، وليس هذا كتوكيل المعسِرِ الموسِرَ فيَ قَبُول نكاح الأَمَةَ، حيث يجوز؛ لأنه من أهل نكاح الأمة في الجملة وليس المسلم أَهْلاً لنكاح المجوسيَّة بحالٍ، فَإنَّهُ إِذَا كانت تحته مسلمةٌ وذمِّيةٌ، ولم يدخلْ بواحدةٍ منْهما، فَقَالَ للمسلمة: ارتددت، وللذمية أسلمتِ، وأنكرتا، ارتفع نكاحُهما بزَعْم الزوج، وأنه إذا نَكَحَ أَمَّ وَلَدِ الغَيْر، فولدُه منها للسَّيِّد، وحكمه حكم الأمِّ، فإِنْ كَانَ يظُنُّ أن أمَّ الولدِ تكون حرةً، فالولدُ حرٌّ، وعليه قيمته للسيد، وأنه إِذَا قال الوليُّ للوكيل: لا تزوِّجها إِلاَّ بشَرْطِ أن يرهن بالصداق عيناً، أو يتكفل به فلان، يصحّ، وَعَلَى الْوَكِيلِ الاشتراطُ، فإنْ أهمله، لم يصحَّ النكاح، وَلَوْ قَالَ زوجها بكذا وخذيه كفيلاً، فزوَّجها بلا شرط، يصح النِّكَاحُ؛ لأنه أمره بأمَرْين، وقد امتثل أحَدَهما، ولوَ قَالَ: لا تزوَّجها، إِذْ لَمْ يَتَكَفَّل فلانٌ، وجب ألا يصح التوكيل؛ لأن الكفالة تتأخَّر عن النكاح، وقد منع من العقْد قبلها وَأَنَّه إذَا قَالَ للوكيل: زَوِّجْهَا بألْفٍ وجاريةٍ، ولم يصف الجاريةَ، فزوَّجها الوكيل بألْفٍ، ولم يذكر الجارَية، لم يَصِحَّ النِّكَاحُ، كما لو قال: زوِّجها بألف، فزوَّجَها بأقلَّ من ألف، ولو قَالَ: زوِّجها بخمر أو خنزيرٍ، أو ذَكَرَ مجهولاً، فزوَّجَها بألْفِ درهمٍ، فَإِنْ كان ذلك نَقْدَ البلد، وكان قدْرَ مهْر المثل أو أكْثَرَ، صح النكاح والمسمَّى، وَإِلاَّ، فَلاَ، وأنه لو أعتق جاريةً وأعتقت هي جاريةً، وللمعتقة ابن، فولاء الثانية لمعْتِقِ الأولَى؛ لأنه وليُّ الوليِّ، وأَنَّهُ إذا تَزَوَّجَ امرأةً على أنها بكرٌ، فلم تكن، يصحُّ النكاح على أَصَحِّ القولَيْن، وله الخيار، ولو قالت: كُنْتُ بِكراً، فزالتِ البكارةُ عنْدك، وقال: بل كُنْتِ ثَيِّباً، فالقولُ قولُهَا مع يمينها لدَفْع الفَسْخ ولو قَالَتْ: كنت بكراً فافْتَضَضْتَنِي، وأنْكَرَ فالقَوْلُ قولُهَا مع يمينها لدَفْع الفسْخ والقولُ قولُه مع يمينه لدَفْع كمالِ المَهْر واللهُ أَعْلَمُ [بالصَوَابِ. تَمَّ، وَالْحَمْدُ لله وَحْدَهُ، وصلواتُهُ علَى سيِّدِنَا محمَّدَ وآلِهِ وصَحْبِه وسلَّم تسليماً كثيراً وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. يَتْلُوهُ "كِتَابُ الصَّدَاقِ" إنْ شَاءَ اللهُ] (¬1). ¬
كتاب الصداق
كِتَابُ الصَّدَاقِ (¬1)، وفِيهِ خَمْسَةُ أَبْوَابٍ الْبَابُ الأَوَّلُ فِي الصَّدَاقِ الصَّحِيحِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَحُكْمِهِ في الضَّمَانِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّقْرِيرِ (الأوَّلُ: حُكْمُ الضَّمَانِ) وَهُوَ مَضْمُونُ في يَدِ الزَّوْجِ ضَمَانَ العَقْدِ عَلَى أَصَحِّ القَوْلَيْنِ، وَحُكْمُهُ في الاسْتِبْدَالِ حُكْمُ الثَّمَنِ، وَفِي التَّلَفِ وَالتَّعَيُّبِ وَفَوَاتِ المَنَافِعِ وتَفَوْيتِهَا حُكْمُ المَبِيعِ قَبْلَ القَبْضِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] وقال تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رَأَى عَبْدَ الرحمن بن عوف، وعليه رَدْعُ زَعْفَرَانٍ، فقال: "مَهْيَم" قال: تَزَوَّجْتُ ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
امْرَأَةً من الأنصار قال: "مَاذَا أَصْدَقْتَها؟ قال: وَزْنَ نَواةٍ من ذَهَبٍ، ويروى: على نَوَاةٍ من ذهب قال: "أَوْلِمْ وَلَوْ بشاةٍ "ردُع الزَّعْفَرانِ" لَطْخُهُ."ومَهْيم" أي: ما شَأْنُكَ وأمرك، يقال: إنها كلمة يَمَانيَّةٌ، "والنَّواةُ" اسْمٌ لخمسة دَراهِمَ، والصَّدَاقُ اسم للمال الوَاجِبِ لِلْمَرْأَةِ على الرَّجُلِ بِالنِّكَاحِ أو الوَطْء (¬1). ¬
وله أسماء منها الصَّدُقَةُ، والأَجْرُ، كما وَرَد بهما القُرْآنُ في الآيتين. ومنها: المَهْرُ، كما روي في الخبر: "فَإِنَّ مَسَّها فَلَهَا المَهْرُ بِما اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا" (¬1). ومنها: العَلِيقَةُ (¬2) روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أدُّوا العَلاَئِقَ ". قيل: وما العَلاَئِقُ؟ قال: "ما تَراضَى به الأَهْلُونَ" (¬3). ومنها: العُقْرُ؛ روي عن عمر رضي الله عنه: "فَلَهَا عُقْرُ نِسَائِها" (¬4) ويقال من لَفْظِ الصَّداقِ والصَّدُقَةِ: أَصْدَقْتُها، ومن المَهْرِ مَهرتُها، ولا يقال: أَمْهَرْتُها، ومنهم من جَوَّزَهُ. قال الأئمة: وليس الصَّداقُ رُكْناً في النِّكَاحِ، كالمَبيعِ والثَّمَنِ في البيع؛ لأن المقصود [الأظْهَرُ] (¬5) من الاسْتِمْتاعُ وَلَواحِقُهُ، وأنه يَقُومُ بالزوجين، فهما الرُّكْنُ، فيجوز إِخْلاَءُ النِّكَاحِ عن المَهْرِ (¬6)، ولكن الأَحَبَّ تسميته مهراً كَيْلا يَشْتَبِهَ نِكَاحه الواهِبَةِ نَفْسَهَا للنبي-صلى الله عليه وسلم- وليكون أَدْفَعَ لِلْخُصُومَةِ والمُنازَعَةِ، وليس للصَّداقِ حَدُّ مُقَدَّرٌ، بل كُلُّ ما يجوز أن يُجَعَلَ عِوَضاً في البَيْعِ ثَمَناً أو مُثَمَّناً، أو أُجْرَةً من الإِجَارَةِ، ¬
يجوز أن يكون صَدَاقاً (¬1)، فإن انتهى في القِلَّةِ إلى حَدِّ لا يتموَّلُ فَسَدَتِ التَّسْمِيَةُ. وقال أبو حَنِيْفَةَ ومالك: أَقَلُّهُ نِصَابُ السَّرِقَةِ، والنِّصَابُ عند مَالِكٍ ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ، وعند أبي حنيفة عَشْرَةُ دراهم قال يعني أَبا حَنِيْفَةَ-: ولو سَمَّى لها أَقَلَّ من عشر وجبت العَشرَةُ. لنا: قوله في الخَبَرِ الذي تَقَدَّمَ: "ما تَراَضَى بهِ الأَهْلُونَ"،وروي أنه -صَلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "مَنِ اسْتَحَلَّ بِدِرْهَمَيْنِ فَقَدِ اسْتَحَلَّ" أي: طَلَبَ الحِلَّ، وُيسْتَحَبُّ ألا ينقص عن عشرة، وألا يُغالَى في الصَّدَاقِ، والأَوْلَى ألا يُزَادَ على صَداقِ زَوْجاتِ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وبَناتِهِ -رضي الله عنهن- وهو خَمْسُمَائَةِ دِرْهَمٍ (¬2)؛ روي عن أبي سَلَمَةً، قال: سألت عائِشَةَ رضي الله عنها: "ما كان صَداقُ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: كان صَداقُهُ لأزواجه اثْنَتَيْ عَشَرَةَ أُوقِيَّةً ونَشّاً, أتدري ما النَّشُّ؟ قلت: لا. قالت: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ" (¬3)، والأوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ درهماً والمجموع ما ذكرناه. إذا تَمَهَّدَ ذلك، فإِذا جَرَى النِّكَاحَ لم يَخْلُ إما أن يقع بين الزوجين نِزَاعٌ في الصَّدَاق الوَاجِبِ، أو لا يَقَعُ، وإذا وَقَعَ (¬4)، فإما أن يُسَمَّى شيئاً في النِّكَاحِ، أو لم يُسَمَّ، فهو إما صَحِيحٌ، وإما فاسد، وإن لم يسم، فأما إن أُهْمِلَ فهو كَتسْمِيَةِ شيء فاسِدٍ، أو نفي، فهو صورة التَّفْوِيضِ، وعلى التَّقْدِيرَاتِ، فقد يَشَطَّرُ الواجِبُ لِفِراقٍ يقتضيه، وقد لا يَتَشَطَّرُ، فجعل صاحب الكتاب كِتابَ الصَّدَاقِ خَمْسَةَ أبواب نتَكَفَّلُ ببيان هذه الأمُورِ: ¬
أحدها: في حُكْمِ الصَّدَاقِ الصحيح. والثاني: حُكْمِ الفَاسِدِ وَجِهَانِ الفَسَادِ. والثالث: من [التفويض] (¬1). والرابع: في التَّشْطِيرِ. والخامس: في التَّنَازُعِ. أما الباب الأول، فالكَلاَمُ فيه من ثلاثة أَحْكَامٍ. أحدها: أن الصَّداقَ في يَدِ الزَّوْجِ كيف يضمن عليه، لا شَكَّ أنه إذا أَصْدَقَهَا عَيْناً، تكون تلك العَيْنُ مَضْمُونَةً على الزَّوْجِ إلى أن يسلمها، وكيف تكون مَضْمُونَةً عليه؟ فيه قولان: أصحهما: أنها مَضْمُونَةٌ ضَمَانَ العَقْدِ؛ لأن الصَّداقَ مَمْلُوكٌ بعَقْدِ مُعاوَضَةٍ, فكان في يد الزَّوْجِ كالمَبِيعِ في يَدِ البَائِعِ، وهذا قوله الجَدِيدُ، واختيار المزني. والثاني: وهو القديم أنها مَضْمُونَةٌ عليه ضَمَانَ اليَدِ، كالمُسْتَعارِ والمستام (¬2)؛ لأن النِّكاحَ لا ينْفَسِحُ بتَلَفِ الصَّدَاقِ، وما لا يَنْفَسِخُ العَقْدُ بِتَلَفِهِ في يد العاقد يكون مَضْمُوناً ضَمَانَ اليد، كما لَو غَصَبَ البائِعُ المَبِيعَ من المُشْتَرِي بعد القَبْضِ يَضْمَنُهُ ضَمَانَ اليَدِ، وَيتفَرَّعُ على القَوْلَيْنِ مَسَائِلُ مذكورة في الكتاب، وغير مَذْكُورَةٍ. المسألة الأولى: إذ قُلْنَا إِن الصَّداقَ مَضْمُونٌ ضَمَانَ العَقْدِ، لم (¬3) يجز لها بَيْعَهُ قَبل القَبْضِ، كما سَبَقَ في البَيْعِ. وإن قلنا: مَضْمُونٌ ضَمَانَ اليد فيجوز. وبه قال أبو حَنِيْفَةَ -فيما حكاه صَاحِبُ "التتمة"- وأمَّا إذا كان الصَّدَاقُ دَيْناً، فيجوز الاعْتِيَاضُ عنه، إن قلنا: إنه مَضْمُونٌ ضَمَانَ اليَدِ. وإن قلنا: إنه مضمُونٌ ضَمَانَ العَقْدِ، فهو كالاعْتِيَاضِ عن الثَّمَنِ. وفيه قولان: أصحهما: الجَوازُ، ولا نَجْعَلُ ذلك كالاعْتِيَاضِ عن المسلم فيه، ذكره الإِمَامُ وغيره وفي "التتمة" أنه لو أَصْدَقَها تَعْلِيمَ القُرْآنِ، أو تَعْلِيمَ صَنْعَةٍ، وأراد الاعْتِيَاضَ لم يَجُزْ ذلك على قَوْلِ ضَمَانِ العَقْدِ، كالمسلم فيه. ¬
الثانية: إذا تَلِفَ الصَّداقُ المُعَيَّنُ في يده، فإن قلنا: إنه مَضْمُونٌ ضَمَانَ العقد، فَيَنْفَسِخُ عَقْدُ الصداق، وُيقَدَّرُ عَوْدُ المِلْكِ إليه قُبَيْلَ التَّلَفِ، حتى لو كان عَبْداً، كان عليه مُؤنَةُ تَجْهِيزِهِ، كالعبد المَبِيعِ يتلف في يَدِ البائع، ولها عليه مَهْرُ المِثْلِ؛ لأن النِّكَاحَ مُسْتمِرٌّ، والبُضْعُ كالتَّالِفِ، فيرجع إلى بَدَلِهِ، كما لو رد المبيع بعَيْبٍ، وقد تَلِفَ العِوَضُ في يد البائِعِ، يلزمه بَدَلُهُ إما المِثْلُ، أو القِيمَةُ، وكما لو هَلَكَ الثَّمَنْ في يَدِ المُشْتَرِي بعدما قَبَضَ المَبِيع، وتلف عنده، فإنه يجب على المُشْتَرِي بَدَلُ المَبِيعِ من المِثْلِ، أو القيمة. وإن قلنا: إنه مَضْمُونٌ ضَمَانَ اليَدِ، فالصَّدَاقُ الذي تَلِفَ تَلِفَ على مِلْك الزَّوْجَةِ، حتى لو كان عَبْداً، كان عليها تَجْهِيزُهُ، ولا يَنْفَسِخُ الصَّدَاقُ على هذا القَوْلِ، ولكن بدل ما وجب على الزوج تَسْلِيمُهُ يُقَوَّمُ مَقامَهُ، فيجب لها عليه مِثْلُ الصَّداقِ إِن كان مِثْلِيّاً، وقيمَتُهُ إن كان مُتَقَوّماً، وُيرْوَى هَذا عَنْ أبي حَنِيْفَةَ، وأحمد ورَجَّحَ ابْنُ الصَّبَّاغِ، والشيخ أبو حامِدٍ وُجُوبَ بَدَلِ الصَّدَاقِ، والأكثرون على تَرْجِيحِ القَوْلِ الأول، وهو وجوب مَهْرِ المِثْلِ، وإذا أَوْجَبْنَا القِيمَةَ فأية قيمة تجب؟ وجهان أو قولان: أَصَحُّهما: أنه يجب أَقْصَى القيمة من يوم الإِصْدَاقِ، إلى يوم التَّلَفِ؛ لأنها التَّسْلِيمَ كان مُسْتحقّاً عليه في جَمِيعِ المُدَّةِ، فيلزمه فيه البَدَلُ الأَقْصَى. والثاني: تجب قِيمَتُهُ يَومَ التَّلَفِ؛ لأنه لم يكن مُتَعَدِّياً في الإِمْسَاكِ. وفي "التتمة" وجه ثالث: أن الوَاجِبَ قِيمَتُهُ يوم الإِصْداقِ؛ لأنها التي تَناوَلَها العَقْدُ، فإن فرضت زِيَادَةٌ، وجب ألا يَضْمَنَها؛ لأنه غير مُتَعَدٍّ، وبعضهم يحكى أن الواجب أقَلُّ الأمرين من قيمته من يوم الإِصْدَاقِ إلى يوم التَّلَفِ، فهذا وَجْةٌ رَابعٌ، وإذا طالبت المَرْأَةُ بالتَّسْلِيمِ، فامْتَنَعَ فالوَجْهُ الأوَّلُ يجيء لا مَحالَةَ، ولا يجيء سَائِرُ الوُجُوهِ. وفيه وجه آخر: أنه يَجِبُ أَقْصَى القِيَمِ من وقت المُطالَبَةِ [إلى التلف لأنه] (¬1) يصير مُتَعَدِّياً، ولو طالبها الرَّجُلُ بالقَبْضِ، فَامْتَنَعَتْ، ففي بقاء الصَّدَاقِ مَضْمُوناً عليه وجهان، نَقَلَهُمَا أبو الفرج السُّرَخْسِيُّ الأصح: البَقاءُ، كما أن البائِعَ لا يخرج عن عُهْدَةِ المَبِيعِ بهذا القدر، هذا إذا تَلِفَ الصَّداقُ بنفسه. أما إذا أتلف، نُظِرَ إن أتلفته الْمَرْأَةُ جعلت قابِضَةً لِحَقِّها، وبرئ الزَّوْجُ (¬2) وذكرنا ¬
في البَيْع وَجْهاً: أن المشتري إذا أَتْلَفَ المَبِيعَ في يد البَائِعِ، لا يجعل قَابِضاً لِحَقِّهِ، بل يغرم القَيمَةَ للبائع ويستردُّ الثمن، فعلى قِيَاسِ ذلك الوجْهِ تغرم له الصِّدَاق وتأخذ مَهْرَ المِثْلِ. وإن أَتلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ، فإن قلنا: إِتْلاَفُ الأجنبي المَبِيعَ قبل القبض، كَتَلَفِهِ بالآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ، فالحكم على مَا مَرَّ، وإن قلنا: بوجوب الخِيَارِ للمشتري، وهو الأَصَحُّ فللمرأة الخِيَارُ إن شاءَت فَسَخَتِ الصَّدَاقَ، وحيئنذٍ تأخذ من الزَّوْج مَهْرَ المِثْلِ إن قلنا: بضمان العَقْدِ، ومثل الصداق أو قيمته إن قلنا: بضمان اليَدِ، والزوج يَأخُذُ الغُرْمَ من المُتْلِفِ، وإن لم يفسخ أخذت من المُتْلِفِ المِثْلَ، أو القيمة إن قُلْنَا بضمان القِيمَةِ ولها أن تُطالِبَ الزَّوْجَ بالغُرْم ليرجع هو على المُتْلِفِ، إن قُلْنَا بضمان [اليد، وإن قلنا بضمان] العقد فليس لها مُطالَبَةُ الزوج، هكذا رَتَّبَ الإِمَامُ، وصاحب "التهذيب" وغيرهما فأثبتوا لها الخِيارَ على قَوْلَيْ ضَمَانِ العَقْدِ، وضماَن اليد، ثم فَرَّعُوا عليهما وكان يَجُوزُ أن يقال: إنما يثبت الخِيَارُ على قَوْلِ ضمانِ العَقْدِ، فأما على قول ضمان اليَدِ، فلا خِيارَ وليس لها إلا طَلَبُ المِثْلِ، أوالقِيمَةِ، كما إذا أتلف أجنبي المُسْتَعَارَ في يد المُسْتَعِيرِ، وإن أَتْلَفَهُ الزَّوْجُ، فعلى الخِلاَفِ في أن إِتلافَ البَائِعِ للمبيع قبل القَبْضِ، كالتلف بالآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ، أو كإِتْلاَفِ الأجنبي، والأصح الأَوَّلُ، وقد بَيَّنَّا حُكْمَ الصَّدَاقَ على التقديرين وفَصَّلَ الإِمَامُ الكَلاَمَ في الخِيَارِ هاهنا على قول ضَمَانِ اليَدِ، فقال: إذا قلنا بِضَمَان اليد، وقلَنا: إن الزَّوْجَ يَضْمَنُ ضَمَانَ الغصوب، فلا معنى لِلْفَسْخِ؛ ولها تَغْرِيمُ الزَّوْجِ أَقْصَى القِيَمِ، كيف فرض الأمر، وإن قلنا: إنه يَضْمَنُ قِيمَتَهُ يوم الإِصْدَاقِ، فإن جعلنا إِتْلاَفَ البَائِعِ كالآفة السماوية، فلا فائِدَةَ في الفَسْخِ؛ إذ ليس لها إلا قِيمَةُ يوم الإِصْدَاقِ كانت أقل أو أكبَر (¬1). وإن جعلناه كإِتْلاَفِ الأجْنَبِيِّ، فإن كانت قِيمَتُهُ يوم الإصداق أَكْبَرَ، فلها في الفَسْخِ فائدة؛ لأنها إذا فَسَخَتْ أخذت قِيمَتَهُ يوم الإصداق، ولو لم تفْسِخْ لم يكن لها إلا قِيمَةُ يوم الإتْلاَفِ، وإن كانت قِيمَةُ يوم الإِصداق أَقَلَّ، فلا فائِدةَ في الفَسْخِ؛ لأنها إذا فَسَخَتْ لم يكن لها إلا قِيمَةُ يوم الإِصْدَاقِ، وإذا لم يكن في الفسخ فائدة، فينبغي ألا يَثْبُتَ، وإذا طالبت المَرْأَة بالصَّداقِ، فامتنع الزَّوْجُ من التسليم مُتَعَدِّياً، ثم تَلِفَ في يده، فهذا التلف نازِلٌ مَنْزِلَةَ إِتْلاَفِ البائع، فيجيء فيه الخِلاَفُ المذكور. الثالثة: إذا حدث في الصَّدَاقِ نُقْصَانٌ في يد الزوج، فهو إما نُقْصانُ جُزْءٍ، أو نُقْصَانُ صِفَةٍ. ¬
أما نقصان الجزء: فهو كما إذا أَصْدَقَها عَبْدَيْنِ، أو ثوبين، فَتَلِفَ أحدهما في يده، فَيَنْفَسِخُ العَقْدِ فيه، ولا ينْفَسِخُ في الباقي، على الصَّحيحِ من الخِلاَفِ في تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، ولكن لها الخِيارُ، فإن فَسَخَتْ رجعت إلى مَهْر المِثْلِ، على قول ضَمانِ العَقْدِ، وعلى القول الآخر تَأخذُ قِيمَةَ العَبْدَيْنِ، وإن أجازت الباقي، رَجَعَتْ في التَالِفِ إلى حِصَّةِ قيمته من مَهْرِ المِثْلِ، على قول ضَمانِ العقد، وإلى قيمة التَّالِفِ في القَوْلِ الآخر، وإن تَلِفَ ما تَلِفَ بإتلافٍ، نُظِرَ إن أَتْلَفَتْهُ المَرْأَةُ، جعلت قابِضَةً لِقِسْطِهِ من الصَّدَاقِ، وإن أتلفه أجنبي، فلها الخِيارُ فإن فسخت أَخَذَتِ الباقي، وقِسْطُ قيمة التالف من مَهْرِ المثل، إن قلنا بضَمَانِ العَقْدِ، وقيمته إن قُلْنَا بضمان اليد وإن أَجَازَتْ أخذت من الأجنبي الضَّمَانَ، وإن أَتْلَفَهُ الزوج، فهو كالتَّلَفِ بالآفة السَّمَاوِيَّةِ، على الأصح، وأما نُقْصَانُ الصَّفَةِ، فهو العَيْبُ كَعَمَى العَبْدِ وشَلَلِهِ ونِسْيَانِهِ الحِرْفَةَ، ونحوها، فللمرأة، الخِيَارُ. وفي "الوسيط" أن أبا حَفْصِ بنْ الوَكِيلِ قال: لا خِيارَ لها على قَوْلِ ضَمَانِ العقد والمذهب الأول، فإن فسخت الصَّدَاق، أخذت من الزَّوْجِ مَهْرَ المِثْلِ على أصح القولين وبَدَلَ الصَّدَاقِ على القَوْلِ الآخَرِ، وإن أَجازَتُ، فعلى الأصِح لا شيء لها، كما لو رَضِيَ المُشْتَرِي بِعَيْبِ المَبِيعِ، وإن قلنا بضمان اليد، فلها أرْشُ النُّقْصَانُ عليه، وإن أَطَّلَعَتْ على عَيْبٍ قديم، فلها الخِيَار أيضاً إن فسخت رَجَعَتْ إلى مَهْرِ المِثْلِ، أو إلى قِيمَةِ العَيْنِ سَالِمَةٌ، وإن أجازت، وقلنا بِضَمَانِ اليَدِ، فللقاضي الحسين تَردُّدٌ في أنه هل يثبت لها الأَرْشُ من حيث إن يَدَ الزَّوْج لم تَشْتَمِل من يوم الإِصْدَاقِ، إلا على مَعِيبٍ فَتَغرِيمُهُ الأَرْشَ (¬1) وقد رضيت المَرْأَةُ بالعَيْبِ بَعبدٌ. والظاهر أن لها الأَرْشَ، وإنما رَضِيَتْ بالعَيْنِ، على تقدير السَّلاَمَةِ (¬2) وقد فاتَتْ، وإن حصل التَّغْيِيبُ لِجِنايَةٍ، نُظِرَ إن حَصَلَ بفِعْلِ الزوجة، جعلت قابِضَةٌ لقدر النّقْصَانِ، وتأخذ البَاقِي، ولا خِيَارَ، وإن هَلَكَ بعد اَلتَّعْييبِ في يد الزوج، فلها من مَهْرِ المِثْلِ حِصَّةُ قيمة الباقي، من أَصَحِّ القولين، وقيمة الباقي على الثاني. وإن حصل التَّعْييِبُ بفعل الأَجْنَبِيُّ، فلها الخِيارُ، فإن فَسَخَتْ أَخَذَتْ مَهْرَ المِثْلِ في أصح القولين، وقِيمَتَهُ سَلِيماً في الثاني، والزوج يأخذ الغُرْمَ من الجَانِي، وإن أَجازَتْ عَزَّمَتِ الجانِي، وليس لها مُطالَبَةُ الزَّوْجِ، إن قلنا بِضَمانِ العقد. وإن قلنا بِضَمانِ اليد، فلها مُطالَبَتُة فينظر إن لم يكن لِلْجِنَايَةِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، أو كان لها أَرْشٌ مقدر، وكان أَرْشُ النُّقْصانِ أو أكثر، فترجع على من تَشَاءُ منهما، والقَرارُ على الجَانِي، وإن كان القَدْرُ أَقَلَّ تُطَالِبُ بالمقدر من شَاءَتْ منهما، والقَرَارُ على الجَانِي، ¬
وتأخذ قيمة الأَرْشِ من الزَّوْجِ. وإن حصل التَّعْيِيبُ بجناية الزَّوْجِ، فعلى القولين في أن جِنايَةِ البائع كالآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ، أو كجناية الأجنبي، إن قلنا بالأول، وفَرَّعْنَا على ضَمَانِ اليد، فعليه ضَمانُ ما نَقَصَ، وإن كان لِلْجِنَايَةِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، كقطع اليَدِ، فعليه أَكْثَرُ الأَمْرَيْنِ من نِصْفِ القيمة، أو أَرْشٌ النُّقْصَانِ "فرعان": أحدهما: أَصْدَقَها (¬1) داراً، فانْهَدَمَتْ في يده، ولم يتلف من النقض شيء، فالحاصِل نُقْصَانُ صِفَةٍ، وإن تَلِفَ بعضه، أَوْ كُلُّهُ باحتراق، أو غيره، فالحاصِلُ نُقْصَانُ الصفة (¬2) وإن كان الغائِبُ جزءاً كما لو سَقَطَتْ أَطْرَافُ العَبْدِ، أو نقصان جزء، كما لو أَصْدَقَها ثَوْبَيْنِ، فتلف أحدهما، فيه وجهان: أظهرهما: الثاني، وهما مذكوران في "البيع". الثاني: أَصْدَقَهَا نَخُيلاً، ثم جعل ثَمَرَهَا في قارُورَةٍ لنَفْسِهِ، وصَبَّ عليها صَقْراً من تلك النَّخِيلِ، وهي بَعْدُ في يده والصَّقْرُ هو السَّائِلُ من الرُّطَب، من غَيْرِ أن يعرض على النَّارِ، وأهل: "الحِجَازِ" يفعلون ذلك اسْتِبْقَاءً لرطوبة الرُّطَب، واسْتِزادَةً لِحَلاَوَتِهِ، فلا يخلو الحَالُ، إما أن تكون الثَّمَرَةُ صَدَاقاً مع النخيل بأن أَصْدَقَهَا نَخْلَةً مُطْلِعَةً، أو مُثْمِرَةً، أو لا تكون الثمرة صَدَاقاً. الحالة الأولى: إذا كانت صَدَاقاً، فينظر إن لم تدخل الثَّمَرَةُ، ولا الصَّقْرُ نقص، لا بِتَقْدِيرِ النَّزْع من القَارُورَةِ، ولا بتقدير التَّرْكِ فيها، فتأخذهما المرأة ولا خِيارَ لها، بل الزوج كَفَاهَا مُؤنَةَ الجُذَاذِ، وإن حَدَثَ فيهما, أو في أحدهما نَقْصٌ، فذاك إما نُقْصْانُ عَيْنٍ، أو نقصان صفة: أما نُقْصَانُ العين كما لو صَبَّ عليها مَكليلَتَيْنِ من الصَّقْرِ فشرب الرطب مَكليلَة فلا نجبر نقصان عين الصقر بزيادة قِيمَةِ الرُّطَبِ، ثم إن جعلنا الصَّداقَ مَضْمُوناً ضَمَانَ العقد يَنْفَسِخْ الصَّدَاقُ في قَدْرِ ما ذَهَبَ من الصَّقْرِ إن قلنا جِنايَتُة كالآفة السَّمَاويَّةِ، وهو الأَصَحُّ، ولا يَنْفَسِخُ في الباقي، ولها الخِيَارُ إن فسخت رجعت إلى مَهْر المِثْلِ، وإن أَجَازَتْ في الباقي أَخَذَتْ بقدر ما ذَهَبَ من الصَّقْرِ من مَهْرِ المِثْلِ. وإن قلنا: جنايةً كَجِنايَةِ الأجنبى لم يَنْفَسِخْ عَقْدُ الصَّدَاقِ في شيء، ولها الخِيَارُ إن فسخت رجعت إلى مهر المثل، وإن أَجَازَتْ أخذت النَّخِيلَ والرُّطَبَ، ومثل ما ذهب من الصقر. وإن قلنا بِضَمَانِ اليَدِ، تَخَيَّرَتْ أيضاً، إن فَسَخَتْ فلها قيمة النخل، ومِثْلُ الصقر، ¬
وقِيمَةُ الرُّطَبِ، أو مِثْلُهُ، على الخلاف المَذْكُورِ في الغَصْبِ، في أنه مِثْلِيُّ أو مُتَقوَّمٌ. وإن أرادت أن تأخذ النَّخِيلَ، وتَرُدَّ الثمرة، فعلى الخلاف في تَفْرِيقِ [الصَّفْقَةِ] (¬1) وإن أجازت، فلها ما بَقِيَ ومِثْلُ الذاهب من الصقر. وأما نُقْصَانُ الصَّفَةِ إذا انْتَقَصَتْ قِيمَةُ الصَّقر والمَكِيلَتانِ بحالهما، أو قِيمَةُ الرُّطَبِ، فإن كان النُّقْصانُ حَاصِلاً -ترك الرُّطب في القَارُورَةِ، أو نزع-، فلها الخِيَارُ إن فَسَخَتْ، فعلى قول ضَمَانِ العَقْدِ، لها مَهْرُ المِثْلِ، وعلى قول ضَمَانِ اليَدِ لها بَدَلُ النَّخِيلِ، والرُّطَبُ, والصقر، وإذا إن أجازت فإن قلنا بِضَمَانِ العَقْدِ وجعلنا جِنايَتَهُ كالآفة السَّمَاوِيَّةِ، أخذتها بلا أرْشٍ، وإن جعلناها كَجِنايَةِ الأجنبي، أو قلنا بضَمَانِ اليد فعليه أَرْشُ النقصان وإن كان الرُّطَبُ يَتَعَيَّبُ لو نُزعَ من القَارُورَةِ، ولو تُرِك لا يَتَعَيَّبُ، فلا يُجْبَرُ الزوج على التَّبَرُّع بالقَارُورَةِ، ولكن لو تركها أو تبرع بها، فَتُجْبَرُ على القَبُولِ إِمضاء للعقد ويسقط خِيارُهَا. وعن أبي علي الطَّبَرِيِّ حِكَايَةُ وَجُهٍ أنها لا تُجْبَرُ على القَبُولِ، والظاهر الأول، وهل تَمْلِكُ القَارُورَةَ، حتى لا يَتَمكَّنُ الزَّوْجُ من الرُّجُوعِ، وإذا نزعت ما فيها لم يَجِبُ رَدُّ القَارُورَةِ أو لا تملك، والغَرَضُ قَطْعُ الخُصُومَةِ، حتى يتمكن من الرجوع، وإذا رجع يعود خِيَارُ المرأة، ويجب رَدَّ القارُورَةِ إذا نزعت ما فيها، وفيه وَجْهَان، كما ذكرنا في البيع في مَسْألَةِ النَّعْلِ، ومسألة الحِجارَةِ المَدْفُونَةِ. وان كان الرُّطَبُ لا يَتَعَيَّبُ بالنزع، وَيتَعَيَّبُ بالتَّرْكِ، فلها مُطالَبَتُهُ بالنَّزْعِ، ولا خِيَارَ، ولو تَبَرَّعَ الرجل بالقَارُورَةِ، فلا تُجْبَرُهِنَ على القَبُولِ؛ لأنه لا ضَرُورَةَ إليه. الحالة الثانية: إذا لم تكن الثَّمَرَةُ صَدَاقاً، فإن كانت النَّخْلُ حائِلَةً يوم الإِصْدَاقِ، ثم أَثْمَرَتْ في يده، فإن لم يَحْدُثْ نقصان، أو زَادَتِ القِيمَةُ، فالكل لها، وإن حدث نُقْصَانٌ فيهما، أو في أحدهما، فلا خِيَارَ لها؛ لأن ما حدث فيه النُّقْصَانُ ليس بِصَدَاقٍ، ولها الأَرْشُ. وفي كتاب القاضي ابن كَجٍّ نَقْلُ وجه -لا وجه له- أنه يثبت لها الخِيَارُ، وإن كان النُّقْصَانُ بحيث لا يَقِفُ، ويزداد إلى الفَسَادِ، فتأخذ الحاصل، وأَرْشَ النقص، أو تَتَخَيَّرُ بينه وبين أن تطالبه بغُرْم الجميع فيه خلاف مذكور في "الغَصْب" فيما إذا بَلَّ الحِنْطَةَ حتى تَعَفَّنَتْ، وفي "العدة" أَنها على القَوْلِ الأوَّل تأخذ أَرْشَ النَّقْصَ في الحال، وكلما ازداد النُّقْصانُ طالبت بالأَرْشِ، ولو كان الرُّطَبُ يَتَعَيَّبُ بالنزع من القَارُورَةِ [ولا يتعيب بالترك ¬
فتبرع الزوج بالقارورة] لم تجبر على القبول؛ لأنه لا حَاجَةَ إليه في إِمْضَاءِ العَقْدِ هاهنا، هذا كله إذا كان الصَّقْرُ من ثمرة تلك النخيلة. أما إذا كان الصَّقْرُ للزوج، والثَّمَرَة من الصَّدَاقِ، فالنظر [هنا لنقصان] (¬1) الرُّطَب وَحْدَهُ، إن نَقَصَ فلها الخيار، وإن لم يَنْقُصْ بالنَّزْع، فلا خِيارَ، وتأخذ المرأة الرُّطَبَ، والزوج الصقر ولا شيء فيما تَشَرَّبَهُ الرُّطَبُ، وإن كان يَنْتَقِصُ بالنزع، فلها الخِيَارُ فإن تَبَرَّعَ الزَّوْجُ بالصَّقْرِ والقارورة سقط الخِيَارُ، ولزم القَبُولُ على الظاهر، ويجيء ما مَرَّ في التَّبَرُّع بالقارُورَةِ، هذا هو الكلام في نُقْصانِ الصَّدَاقِ في يد الزوج. أما إذا زاد، فإن كانت الزِّيَادَةُ مُتَّصِلة، كالسِّمَنِ والكِبَرِ، وتعلم الصّنعَة، فهي تابعة للأصل، وإن كانت مُنْفَصِلَةٌ كالثمرة، والوَلَدِ، وكَسْبِ الرقيق، قال في "التتمة" إن قلنا: إن الصَّدَاقَ مَضْمُونٌ ضَمَان اليد، فهي للمرأة. وإن قلنا بضمان العَقْد، فوجهان كالوجهين في زَوائِد المَبِيعِ، قبل القبض والأصح أنها لِلْمُشْتَرِي في البيعَ، وللمرأة هاهنا. وإن قلنا: إنها للمرأة فَهَلَكَتْ في يده، أو زَالَتْ المُتَّصِلَةُ بعد حصولها، فلا ضَمَانَ على الزوج، إلاَّ إذا قُلْنَا بضمان اليَدِ، وقلنا: إنه يضمن ضَمَانَ الغُصُوبَ، وإلا إذا طالبَتْه بالتَّسْلِيم، فامتنع وفي "التهذيب" وغيره ما يُشْعِرُ بِتَخْصِيصِ الوجهين، في أن الزَّوَائِدَ لمن هي بما إذا هَلَكَ الأصْلُ في يد الزوج، وبَقِيَتِ الزَّوائِدُ، أورَدَّتِ الأَصْلَ بِعَيْبٍ، فأما إذا اسْتَمَرَّ العَقْدُ، وقبضت الأَصْلَ، فالزوائد لها (¬2) قَطْعاً. ¬
المسألة الرابعة: المَنافِعُ الفائِتَةُ في يد الزَّوْج غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عليه إن قلنا بضمان العَقْدِ، وإن طالبته بالتَّسْلِيم، فامتنع (¬1)، وإن قلنا بِضَمَانِ اليد، فعليه أُجْرَةُ المِثْلِ من وقت الامْتِنَاعِ، والمَنَافِعُ التي اسْتَوْفَاهَا وَفَوَّتَها كالركوب واللُّبْسِ والاسْتِخْدَام لا يَضْمَنُهَا أيضاً على قول ضَمَانِ العَقْدِ، إن جعلنا جنَايَةِ البائِع كالآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ، إن جعلَناها كَجِنايَةِ الأجنبي، أو قلنا بضمان اليد، فَيَضْمَنُها بِأُجْرَةِ المِثْلِ والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: فَلاَ مَعْنَى لِتَكْثِيرِ الكَلاَمِ بِالتَّفْرِيعَ عَلَى القَوْلَيْنِ فَإنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الصَّدَاقَ عِوَضٌ ولذَلِكَ يُؤْخَذَ بالشُّفْعَةِ، وإِنَّما لا يَفْسَدُ النِّكَاحُ بِفَسَادِهِ لأَنَّ إِخْلاَءَ النِّكَاحَ عَنِ المَهْرِ لا يُفْسُدُهُ لأَنَّهُ يُثْبُتُ شَرْعاً في المُفَوِّضَةِ عَلَى الصَّحيحِ فَهُوَ مُسْتَغْنِ عَن الذِّكْرِ، وإنَّما يُؤَثِّرُ ذِكرُهُ في التَّعْيين والتَّقْدِيرِ فَلا جَرَمَ إِنْ فَسَدَ التَّعِيْينُ بِأنْ ذكر حُرّاً أَو خَمْراً أَوْ خِنْزِيراً صَارَ كَأنَّهُ لَمْ يَذْكُرهُ وَيُرْجِعُ اِلَى مَهْرِ المِثْلِ، وَعَلَى قَوْلٍ آخَرَ يَلْغُو تَعْيينُهُ وَلَكِن يُرْجَعُ إِلَى قِيمَتِهِ إِذْ يُعْتَبَرُ الذِّكْرُ فِي تَقْدِيرِ مَبْلَغِ الصَّدَاقِ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ في التَّعْيينِ فَيُقَدَّرُ الحُرّ عَبْداً والخَمْرُ عَصِيرًا والخِنْزِيرُ شَاةً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لم يُردْ تَطْوِيلَ الكَلاَمَ في تفريع قولي ضمان العقد، وضَمَانِ اليد، فَاقْتَصَرَ على ذِكْرِ أصحهما وتبيين مأخذه واعْتَذَرَ عما يَتَوَجَّهُ عليه إِشْكَالٌ، فقوله:"فإن الصحيح أن الصَّدَاقَ عوَضٌ", إِشارَةٌ إلى ما قاله الأَئِمَّةُ أن القَوْلَينِ مَبْنيَّان، على أن الصَّدَاقَ نِحْلَةٌ أو عِوَضٌ، كالعِوَضِ في البيع، وربما رَدُّوا الكَلاَمَ إلى أن الغَالِبَ عليه مُشَابَهَةُ النِّحْلَةِ أو العِوَضِ، وتُوَجَّهُ جهة النحلة بقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] وأن النِّكَاحَ لا يَفْسَدُ بفَسَادِهِ، ولا يَنْفَسِحُ بِرَدِّهِ، وكونه عِوَضاً، بأن قوله: "زوجتك بكذا"كقوله:"بعْتُكَ بكذا"وبأنها تمكّنُ من الرِّدِّ بالعَيْبِ، وذلك من أحكم الأَعْوَاضِ، وبأنها تحبس نفسها لِتَسْتَوْفِيَهُ، وبأنه لو مَهَرَهَا شِقْصاً، ثبت للشريك الشُّفْعَةُ، كما لو باعها، وهذا أَصَحُّ. وأجابوا عن الآية بأن النحْلَةَ قد يُرَادُ بها الدِّينُ، يقال: فلان يَنْتَحِلُ كذا، فالمعنى آتوا النساء صَدُقاتِهِنَّ تَدَيُّناً، ويجوز أن يكون المعنى عَطِيِّةً من عِنْدِ الله للنساء. وأما أن النِّكَاحَ لا يَفْسَدُ بفساده، فَسَبَبُهُ ما سبق أن الصَّدَاقَ ليس رُكْناً في النِّكَاحِ، وإنما الركن فيه الزوجان، ولذلك يجب تَسْمِيَةُ الزوجين في النكاح، كما يجب تَسْمِيَةُ العِوَضِ في البيع، ولا يجب تَسْمِيَةُ المَعْقُودِ لهما البيع إذا بَاشَرَ الوَكِيلاَنِ، فلذلك لم يفسد النِّكَاحُ بفساد الصَّدَاقِ، لكنه إذا ثَبَتَ ثَبَتَ عِوَضاً، على أنه حكى قول عن القديم ¬
أنه يفْسَدُ النكاح بِفَسَادِ الصداق، ويقال: إنه مُخَرَّجٌ من قول سنذكره في مسألة شَرْطِ الخِيارِ في الصَّدَاقِ أنه يَفْسَدُ النكاح، وبه قال مَالِكٌ في رواية مَشْهُورَةٍ وعن أحمد مثله، ويُخَرَّجُ هذا على قولهم: إن النكاح لا يفسد بِرَدِّ الصَّدَاقِ. ثم إذا فَسَدَ الصَّداقُ بأن ذكر "حراً" ففيه قولان: أصحهما: -وبه قال أبو حنيفة- أن الواجِبَ مَهْرُ المِثْلِ (¬1). والثاني: ويُنْسَبُ إلى القديم، وبه قال أحمد: أن الوَاجِبَ قِيمَتُة بتقدير الرِّقِّ، وقد بُنِيَ القولان على أن الصَّدَاقَ إذا تَلِفَ قبل القَبْضِ يكون الرُّجُوعُ إلى مَهْرِ المِثْلِ، أو بَدَلِ الصَّدَاقِ، إن أوجبنا مَهْرَ المثل إذا لم يَبْقَ الصَّدَاقُ، فكذلك نُوجبُهُ، إذا لم يصلح المذكور لأن يكون صَدَاقاً، وإن أوجبنا بدَلَ الصَّدَاقِ هناك، فقد تَعيِّنَّا عَقْدَ الصَّدَاقِ مع فَواتِ العَيْنِ، اعتماداً على المَاليَّةِ، فكذلك في الابتداء يحكم بانْعِقادِ الصَّدَاقِ اعْتِمَاداً على المَالِيَّةِ، وقد تَوَجَّهَ القول الأول بأنه إذا كان العِوَضُ فَاسِداً، وجب رَدُّ العِوَضِ الآخر، فإذا تَعَذَّرَ رَدُّهُ لصحة النكاح، وَجَبَ مَهْرُ المِثْلِ، كما إذا اشترى شَيئاً بِعِوَضٍ فاسد، وَتَعَذَّرَ رَدُّ المَبِيع، يجب، قيمته والثاني: بَأنَّهُمَا إذا ذكرا عِوَضاً كان مَقْصِدُهُمَا ذلك العِوَضَ دُونَ قِيمَةِ البُضْعِ، وهي مَهْرُ المِثْلِ، ولذلك المذكور خصوص، وهو عينه، وعموم وهو ماليَّتُهُ، وإذا لم يكن اعْتِبَارُ عينه يعتبر الذكر في المالية فلا يَلْغُو التَّقْدِيرُ بذلك القَدْرِ، وإن لَغَا التعيين، ومن قال بالأول قال: إذا فَسَدَ المَذْكُورُ، فكأن التَّسْمِيَةَ لم تكن، فيوجب مهر المثل، وأيضًا فتقدير المالية فيما لا مالِيَّةَ له بَعِيدٌ، فَيَلْغُو التقدير، كما يَلُغُو التَّعْيِينُ ويفيد الذكر قصد العِوَضِ، وعدم الرَّضا بالتَفْوِيضِ، واختلفوا في مَحَلِّ القَوْلَيْنِ، فعن الشيخ أبي حَامِدٍ، وأبي بكر الصَّيْدَلاَنِيِّ والقاضي الحسين أن مَحَلَّ القَوْلَيْنِ ما إذا قال:"أَصْدَقْتُكِ هَذَا العَبْدَ" إما على ظَنِّ أنه عَبْدٌ, وإما مع العلم بأنه حُرٌّ، أما إذا قال:"أصدقتك هذا الحُرَّ" (¬2) فالعِبارَةُ فاسِدَةٌ، ويجب مَهْرُ المِثْلِ قَوْلاً واحِدًا، وعلى هذا جَرَى صاحب "التهذيب" وغيره. وفي "التتمة" طَرِيقَةٌ أخرى: أنه لا فَرْقَ بين اللَّفْظَيْنِ في جَرَيَانِ القولين، ولو قال: "أصدقتك هذا" واقْتَصَرَ عليه، فلا خَلَلَ في العبارة ففيه القولان ولو ذكر خمْراً، أو خِنْزِيراً أَو مَيْتَةٌ، فطريقان: أحدهما: القَطْعُ بوجوب مَهْرِ المِثْلِ؛ لأنه لا مَالِيَّةَ لها، ولا قِيمَةَ، وتَقْدِيرُ القِيمَةِ بتغيير الصِّفةِ، والخِلْقَةِ بَعِيد، بخلاف الرِّقِّ المقدر في الحر، فإنه شيء حُكْمِيٌّ، وإذا ¬
تَعَذرَ التَّقْوِيم، كان كما لو أَصْدَقَها مجهولاً يجب مَهْرُ المِثْلِ قَوْلاً واحدًا. والثاني: وهو المذكور في الكتاب أنه على القولين، كما لو ذكر حرّاً (¬1) وعلى هذا فَيَعُودُ النَّظَرُ إلى العبارة، إن قال: أَصْدَقْتُكِ هَذا الخَمْرَ، أو هذا الخِنْزِيرَ، فالعبارة فَاسِدَةٌ، وإن قال: هذا العَصِيَر، أو هذه النَّعْجَةَ، والمشار إليه خَمْرٍ وخنزير، فهو موضع القَوْلَيْنِ، وعلى هذه الطريقة، فعلى قول الرُّجُوعِ إلى بَدَلِ الصَّدَاقِ، كما يقدر الحر عَبْداً يُقَدَّرُ الخَمْرُ عَصِيراً، ويجب مِثْلُهُ، وقد حكينا في "باب نكاح المُشْركَاتِ" فيما إذا أسلم الزَّوْجَانِ، وقد جرى القَبْضُ في بعض المَهْرِ الفاسد وَجْهاً أنه يُقَدَّرُ الخَمْرُ خَلاًّ، ولم يذكروا هناك اعتبار العَصِيرِ، والوجه التَّسْوِيَةُ، وذكرنا وَجْهاً أنه تعتبر قِيمَةُ الخَمْرِ عند من يَرَى لها قِيمَةً، ولا يَبْعُدُ مجيئه هاهنا، بل ينبغي أن يُرَجَّحَ على ما سَبَقَ في نكاح المشركات، وفي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وأما الخنزير فقد ذكر صاحب الكتاب هاهنا، وفي "الوسيط" لا أنه يُقَدَّر شَاة، والمذكور في باب نِكَاحِ المُشْرِكَاتِ أنه يُقدَّرُ بَقَرَةً، وهو الذي أورده الإِمام، وصاحب "التهذيب". وفي المَيْتَةِ تُقَدَّرُ مُذَكَّاةً، ثم الواجب فيها، وفي الخِنْزِيرِ القِيمَةُ، وبعد جميع ذلك، واضْطِرابُ كَلاَم الأئمة فيه يُزِيدُ القول الأَصَحَّ قُوَّةً، وهو وُجُوبُ مَهْرِ المثل، وقوله في الكتاب: [ولذلك] يؤخذ بالشُّفْعَةِ يمكن أن يُعَلَّمَ بالحاء، وإن كانت المسألة دَخِيلَةٌ هاهنا مَذْكُورَة للاستشهاد؛ لأن أبا حَنِيْفَةَ لا يثبت الشُّفْعَةَ في الشِّقْص المَمْهُورِ. وقوله: "وإنما لا يَفْسَدُ النِّكَاحُ بفساده" يُعَلَّمُ بالميم والألف والواو؛ لما بيناه. وقوله: "لأنه يثبت شَرْعاً في المُفوَّضَةِ على الصحيح" أي: أن أَصْلَ المَهْرِ غير مُحْتَاحٍ إلى الذِّكْرِ بدليل وُجُوبِهِ في صورة التَّفْوِيضِ بالعَقْدِ، وهذا أحد القولين فيه، وترجيحه هذا القَوْلِ غَيْرُ مُسَاعَدٍ عليه، كما سيأتي في التفويض وقوله: "أو خمراً أو خِنْزِيراً" يجوز إعلامه بالواو إِشَارَةً إلى الطريقة الذاهبة إلى أنه لا مَجَالَ لِلْقَوْلَيْنِ في الخمر والخِنْزيِرِ، ويجب مَهْرُ المِثْلِ لا مَحَالَةَ وقوله:"عصيراً" أو"شاة" يَجُوزُ إِعْلاَمهُمَا بالواو لما عرفته. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الحُكْمُ الثَّانِي في التَّسْلِيمِ) والبَدَاءَةُ بِتَسْلِيمِ الصَّدَاقِ عَلَى قَوْلٍ، وَفِي قَوْل: لا بَداءَةً بَلْ يُجْبَرانِ مَعاً بِأَنْ يُسَلَّمَ الصَّدَاقُ اِلَى عَدْلِ حَتَّى إِذَا مُكَّنَتْ سُلِّمَ إِلَيْهَا، وَعَلَى قَوْلٍ ثَالِث لا يُجْبَرَانِ بَلْ يَبْدَأُ مَنْ أَرَادَ أَخْذَ المْعَوَّض، فَإِنْ قُلْنَا: البَداءَةُ بالصَّداقِ فَذَلِكَ إنَّما يَجِبُ إِذَا كَانَتْ مُهَيَّأَةَ للاسْتِمْتَاعِ، فَإِنْ كانَتْ مَحْبُوسَةً أَو مَمْنُوعَةَ بِعُذْرٍ آخَرَ لَمْ ¬
يَلْزَمْ تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ، وَإنْ كانَتْ صَبِيَّة فَفِي وُجُوبِ تَسْلِيمِ المَهْرِ قَوْلاَنَ كَمَا في النَّفَقَة. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لو أَخَرَّ تَسْلِيمَ الصَّدَاقِ بِعُذْرٍ أو غير عُذْرٍ، وطلب منها تَسْلِيمَ نَفْسِهَا، لم يكن عليها الإِجَابَةُ، بل لها حَبْسُ نفسها إلى أن يُسَلِّمَ الزوج الصداق، بتَمامِهِ، إن كان الصَّدَاقُ عَيناً، أو دَيْناً حَالاًّ (¬1)، وإن كان مُؤَجَّلاً، فليس لها حَبْسُ النَّفْسَ لِرضَاهَا بالتَّأْخِيرِ، وإن حَلَّ الأَجَلُ قبل أن تُسَلِّمَ نفسها، فجواب الشيخ أبي حَامِدٍ وأصحابه: أنه ليس لها الحَبْسُ أيضًا (¬2)؛ لأنها قَدْ رَضِيَتْ أولاً يكون الصَّدَاقِ في ذِمَّتِهِ، ووجب عَلَيْهَا التَّسْلِيمُ قبل القبض، فلا يرتفع بحُلُولِ الحق، وعلى هذا جَرَى صاحبا "التتمة" و "التهذيب" وأكثر الأئمة، وفيه وجه أَن لها الحَبْسَ لاسْتِحْقاقِهَا المُطَالَبَةَ بعد الحُلُولِ، كما في الابتداء، وهذا ما اخِتاره الحناطِيُّ والقاضي الرُّوَيانِيُّ، وإليه ذهب القاضي أبو الطَّيِّب، وبالوجه الأول أجَبْنَا، فيما إذا باع بِثَمَنٍ مُؤَجَّل، ثم حَلَّ الأجَلُ قبل تَسْلِيمِ المبيع، ويجيء فيه الوَجْهُ الثاني أيضًا، بل حكى دلك أَيْضاً عن نَصِّ المُزَنِيِّ. وإذا كانت المرأة صَغِيرَةً أو مَجْنُونَةً، فَلِوَليَّها حَبْسُهَا إلى أن يقبض الصداق الحال ولو رأى المَصْلَحَةَ في التَّسْلِيم، فَلَهُ التَّسْلِيمُ، كما يجوز للْعَاقِلَةِ أن تُسَلِّمَ نفسها قبل القَبْضِ. وعن مالك: أنه لا يَجُوزُ ما لم يقبض أقل ما يَصْلُحُ أن يكون صَداقاً ولو اختلف الزَّوْجَانِ، فقال الزوج: لا أُسَلَّمُ الصَّدَاقَ حتى تسلمي نَفْسَكِ وقالت هي: لا أُسَلِّمُ نفسي حتى تسلم الصداق، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: يُجْبَرُ الزوج على التسليم (¬3) أولاً، فإذا سلم سَلَّمَتْ (¬4) نفسها. وأَصحُّها: أنهما يُجْبَرانِ بأن يُؤْمَرَ الزوج بوضع الصَّدَاقِ عند عَدْلٍ، وتُؤمَر بالتمكين، فإذا مَكَّنَتْ سَلَّمَ العَدْلُ الصَّدَاقَ إليها (¬5). والثالث: أنه لا يُجْبَرُ وَاحِدٌ منهما، لكن إذا بَادَرَ أحدهما إلى التسليم أُجْبِرَ الآخر ¬
على تَسْلِيم ما عنده، وهذه الأَقْوَالُ قد سَبَقَ مِثْلُهَا في البيع عند اختلاف المُتَبَايِعَيْنِ في البِدَايَةِ بالتسليم، وذكرنا هناك قَوْلاً رَابِعاً: وهو أن البائِعَ يُجْبَرُ على التَّسْلِيم أَوَّلاً، وهاهنا لا يمكن الابتداء بالمرأة؛ لأن مَنْفَعَةَ البُضْعِ إذا فاتَتْ تَعَذَّرَ اسْتِدْراكُهَا، والمال يمكن اسْتِرْدادُهُ. وعن ابن الوَكِيلِ، وابن سَلَمَةَ، والقاضي أبي حامد، وغيرهم الاقْتِصارُ على ذِكْرِ القول الثاني، والثالث، وإنكار البِدايَةِ بالزوج، وإذا أثبتنا الأَقْوَالَ فقول البِدايَةِ بالزَّوْجِ مَوْضِعُهُ ما إذا كانت مُهَيَّأَةً للاسْتِمْتَاعِ، أما إذا كانت مَحْبُوسَةً أو ممنُوعَةً بِمَرَضِ، فلا يلزمه تسليم الصَّداقِ (¬1)، وإن كانت صَغِيرَةً لا تَصْلُحُ لِلُجِمَاعِ، فهل يلزمه التَّسْلِيم؟ فيه قولان، وكذا لو سلمت مثل هذه الصغيرة إلى زوجها، هل عليه تَسْلِيمُ المَهْرِ؟ فيه قولان كالقولين في وُجُوبِ النَّفَقَةِ، وهما مذكوران في النَّفَقَاتِ: أحدهما: الوجوب كما في المَرِيضَةِ والرَّتْقَاءِ. وأصحهما: المنع: لأن زَوالَ الصِّغَر له أَمَدٌ مَعْلُومٌ، فالتَّأْخِيرُ إليه لا يكون كالتَّأْخِيرِ لا إلى غَايَةِ، وفي المسألة طريقان آخران: إحداهما: عن القاضي أبي الطَّيِّب: القطع بأنه لا يَجِبُ تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ والفَرْقُ أنَّ النَّفَقَةَ تجب لكونها مَحْبُوسَةً عليه مُمَكِّنةٌ له، بحسب الإِمْكَانِ، وقد تحقق هذا المعنى، والمَهْرُ عِوَضُ الاسْتِمْتَاعِ، وأنه متَعَذِّرٌ. والثانية: حكى الشيخ أبو حَامِدٍ: القطع بأنه يَجِبُ تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ، والفرقُ أن المَهْرَ يجب في مُقابَلَةِ البُضْعِ، ومِلْكُ البُضْع حاصل بالعَقْدِ، والنفقة في مقابلة التمكين من الاسْتِمْتَاعِ، والتمكين من الاسْتِمْتاَع يَسْتَدْعِي إِمْكَانَ الاستمتاع وهو مفقود ويَجْرِي الخلاف فيها إذا كان الزَّوجُ صَغِيراً في مُطالَبَةِ الوَلِيِّ، وإن كان الزوج صَغِيراً وهي كبيرة، فالأَصَحُّ أن لها طَلَبَ المَهْرِ، كما في النَّفَقَةِ، وإذا قلنا: إن البِدايَةَ بالزوج، أو قلنا: إنهما يُجْبَرَانِ، فقالت الزوجة: سَلِّمِ المَهْرِ لأسلم نَفْسِي، فيلزمه النَّفَقَةُ من حينئذٍ؛ لأنها مُمَكِّنَةٌ مُطَاوِعَةٌ. وإن قلنا: لا يُجْبَرَانِ، فلا نَفَقَةَ لها حَتَّى تُبادِرَ إلى التَّمْكِينِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: ثُمَّ إِذَا بادَرَتْ وَمُكَّنَتْ كَانَ لَهَا طَلَبُ الصَّدَاقِ وَإِنْ لَمْ يَطأَها عَلَى كُلِّ قَوْلٍ، نَعَمْ لَوْ رَجَعَتْ إِلَى الامْتِنَاعِ سَقَطَ طَلَبَها إِلاَّ إِذا وَطِئَها، فَإِنَّ المَهْرَ يَسْتَقِرُّ بِوَطْأَةٍ واحِدَةٍ، وَلَيْسَ لَهَا بَعْدَ الوَطْءِ حَبْسُ نَفْسهَا لأَجْلِ الصَّدَاقِ إِذْ بَطُلَ (ح) حَقُّهَا بِالتَّمَكْينِ مِنْ وَطْءٍ واحِدٍ، أَمَّا إِذَا بَادَرَ الزَّوْجُ وَسَلَّمَ الصَّدَاقَ، فَإِنْ قُلْنَا: يُجْبَرُ الزَّوْجُ فَلَهُ الاسْتِرْدادُ إِذَا ¬
امْتَنَعَتْ، وَإنْ قُلْنَا: لا يُجْبَرُ فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ بِالمُبادَرَةِ فَلَيْسَ لَهُ الاسْتِرْدَادُ، وَمَهْمَا سَلَّمَ الصَّدَاقَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْهِلَها رَيْثَمَا تَسْتَعِدُّ بِالتَّنَظُّفِ والاسْتِحْدَادِ، وَأَقْصَى المُهْلَةِ ثَلاَثةُ أَيَّامِ، وَلا يُمْهِلُهَا لأَجْل تَهْيِئَةِ الجِهَازِ وَأَعْرَاضٍ أُخَرَ سِوَى التَّنَظُّفِ، وَلاَ يُمْهِلُ لأَجْلِ الحَيْضِ فَإِنْ لَهُ الاسْتِمْتَاعَ بِما فَوْقَ الإِزَارِ، وَإِنْ كانَتْ صَغِيرَة لا تُطِيقُ الجِمَاعَ أَوْ مَرِيضَةً وَجَبَ الإِمْهَالُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الكلام الآن فيما إذا بادَرَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إلى التَّسْلِيم، وذلك إما أن يكون (¬1) من المَرْأةِ، أو من الرجل، فإِن بادَرَتْ هي، ومَكَّنَتْ، فلها طَلَبُ الصَّدَاقِ على الأقوال كلها ثم إن لم يجر وَطْءٌ، فلها العَوْدُ إلى الامْتِنَاعِ، إلى أن يسلم الصِّدَاقَ، ويكون الحُكْمُ، كما قبل التمكين، وإن جَرَى فَلَيْسَ لها بَعْدَ ذلك الامْتِنَاعُ وَحَبْسُ النَّفْسِ لاسْتِيفَاءِ الصَّدَاقِ، كما لو تَبَرَّعَ البَائِعُ بتسليم المَبِيعِ، قبل قَبْضِ الثمن، ليس له أَخْذُهُ وحَبْسُهُ. وقال أبو حَنيفَةَ: لها العَوْدُ إلى الامتناع وفي "شرح القاضي ابن كج" أن أبا مَنْصُورِ الأبنوردي حَكَى عند القَاضِي أبي حَامِدٍ أن للأصحاب وَجْهاً مِثْلَهُ، وإذا وَطِئَهَا مُكْرَهَةً، فهل لها مَنْعُ النَّفْسِ بعده؟ فيه وجهان: أصحُّهما: نعم كما لو غَصَبَ المشتري المَبِيعَ قبل تسليم الثمن، يجوز للْبَائِعِ رَدُّهُ إلى حَبْسِهِ. والثاني: لا؛ لأن البُضْعَ بِالوَطْءِ كالتَّالِفِ، فأشبها ما لو غَصَبَ المشتري المَبِيعَ قبل تسليم الثَّمَنِ، وهَلَكَ عنده، ويجري الوجهان فيما لو سَلَّمَ الوَليُّ الصَّغِيرَةَ، أو المَجْنُونَةَ قبل قَبْضِ الصَّدَاقِ، فبلغت أو أَفاقَتْ بعد الدُّخُولِ، فإن بَلَغتْ أو أَفاقَتْ قبله، فلها الامْتِنَاعُ، وإن بادَرَ الزَّوْجُ، وسلم الصداق، فعليها التَّمْكِينُ، وتَسْلِيمُ النَّفْسِ إذا طلب الزوج، وكذا لو كان الصَّدَاقُ مُؤَجَّلاً، فإن امْتَنَعَتْ من غير عُذْرٍ، فهل له اسْتِرْدَادٌ ما سلم؟ ينبني ذلك على أن الزَّوْجَ هل يُجْبَرُ على تَسْلِيمِ الصَّدَاقِ؟!. إن قلنا: نعم، فله الاسْتِرَّدادُ؛ لأن الإجْبارَ بشرط تَسْلِيمِ المعوض إليه، وإن قلنا؛ لا يُجْبَرُ فوجهان: أظهرهما: أنه لا يسترد؛ لأنه قد تَبَرَّعَ بالمُبَادَرَةِ، وسلم فلا يتمكَّنْ من الرجوع، كما لو عُجِّلَ المالُ المُؤَجَّلُ. والثاني: له الاسْتِرْدَادُ؛ لأنه لم يَتَحَصَّلْ على العِوَضِ، وهذا ما أَوْرَدَهُ صاحب "العدة". ¬
وعن القاضي الحسين أنه إن كانت المَرْأَةُ مَعْذُورَةً حين سَلَّمَ، فزال العُذْرُ، وامتنعت يسترد؛ لأنه سلم على رَجَاءِ التمكين، والخلاف في الاسْتِرْدَادِ هاهنا قريب من وَجْهَيْنِ ذُكِرَا فيما إذا سَلَّمَ مَهْرَ الصغيرة التي لا تَصْلُحُ للْجِمَاعِ إما عالماً (¬1) بحالها، أو غَيْرَ عَالِمٍ وقلنا بالصحيح، وهو أنه لا يَجِبُ تَسْلِيمُ مَهْرِهَا، هل له الاسترداد؟. وإن اسْتَمْهَلَتْ بعد تسليمه الصَّدَاقِ أُمْهِلَتْ لِتَتَهيَّأَ بالتَّنْظِيف والاسْتِحْدَادِ، وإزالة الأوْسَاخِ على ما يراه الحَاكِمُ من يوم أو يومين (¬2)، وغايَةُ المُهْلَةِ ثَلاثَةُ أيام وقضية لفظ "الوسيط" إِثْباتُ خِلاَفٍ في أنه تُمْهَلُ بِقَدْرِ ما تَتَهَيَّأُ به أو ثلاثة أيام؟. والأشبه خِلاَفُهُ، ثم المَفْهُومُ من كلام الأكثرين أنه لا بُدَّ من الإِمْهَالِ إذا اسْتَمْهَلَتْ. وفي "العدة" أن هذا الإمْهَالَ غير وَاجِبٍ، وفي أصل الإمْهَالِ قَوْلٌ آخر مَنْقُولٌ عن "الإِملاء"، كما أن أحد المُتَبَايَعَيْنِ إِذا سَلّمَ ما عنده يُطَالب بالعِوَضِ، بلا مُهْلةٍ، والأظهر الأول ومنهم من قَطَعَ به، ولا تُمْهَلُ لِتَهْيَئَةِ الجهَازِ، ولا لانتظار السِّمَنِ، ونحوهما من الأعْرَاضِ، ولا بسبب الحَيْضِ (¬3) والنِّفَاسِ، بل تُسَلَّمَ النَّفْسَ لسائر الاستمتاعات كالرَّتْقاءِ والقَرْنَاءِ. وإن كانت صَغِيرَةٌ لا تحتمل الجِماَعَ، أو كان بها مَرَضٌ، أو هُزَالٌ تَتَضَرَرَّ بالوَطْءِ معه، فَتُمْهَلُ إلى زَوالِ المانع، ويُكْرَهُ للولي أن يُسَلِّمَ مِثْلَ هذه الصغيرة، ولا يجوز لِلزَّوْج وَطُؤُهَا إلى أن تَصِيرَ مُحْتَمِلَة له، ولو قال الزوج: سَلَّمُوا إِلَى الصَّغِيرَةَ والمريضة، ولا أَقْرَبُها إلى أن يَزُولَ ما بها. قال في "التهذيب": يُجَابُ إليه في المَرِيضَةِ، ولا يُجَابُ في الصغيرة؛ لأن الأَقارِبَ أَوْلَى بالحَضَانَةِ قال وفي "الوسيط" أنه لا يُجَابُ في الصورتين (¬4)؛ لأنه ربما لا يَفِي، فَتَتَضَرَّرَانِ، بخلاف الحائِضِ، فإنها لا تَضَرَّرُ. وله أن يَمْتَنِعَ من تسلم الصغيرة (¬5)، فإن نَكَحَ للاستمتاع لا لِلْحَضَانَةِ، وفي ¬
فروع
المَرِيضَةِ وجهان، قال في "الشامل": الأَقْيَسُ أنه ليس له الامْتِناَعُ، كما ليس له أن يُخْرِجَهَا من داره، إذا مرضت، وإذا تسلمها فعليه النَّفَقَةُ لا كالصَّغِيرَةِ، فإن المَرْضَ عارِضُ (¬1) متوقع الزوال. ولو كانت المَرْأَةُ نَحِيفَةً بالجِبلَّةِ، فليس لها أن تَمْتَنعَ لهذا العُذْرِ؛ لأنه ليس شيئاً مُتَوَقَّعَ الزَّوَالِ، فكانت كالرَّتْقَاءِ، ثم إن كانت تَخَافُ الإِفْضَاءَ لو وُطِئَت لعَبَالَةِ الزوج، فليس عليها التَّمْكِينُ من الوَطْءِ. قال الأئمة: وليس له الفَسْخُ، بخلاف الرَّتْقِ، فإنه يمنع الوطء مُطْلَقاً، والنَّحَافَةُ لا تمنع وَطْءَ نَحِيفٍ مثلها، وليس ذلك بِعَيْبٍ أيضاً. وفي الكتاب ما يُخَالِفُ هذا في باب الدِّيَاتِ، وإذا وَطِئَ الرجل امْرَأَتَهُ، فَأَفُضَاهَا، فالقول في الدِّيَةِ مَذْكُورٌ في الدِّيَاتِ، وليس له أن يَعُودَ إلى وَطْئِهَا، حتى تبرأ البرء الذي إن عاد لم يَنْكَأْها هذا لفظ الشَّافعي يقال نكأت القرحة أي: خَدَشْتُهَا وأَذمَيْتُهَا وإن اختلفا في حُصُولِ هذا البُرْءِ وأنكرت هي، قال الشَّافِعِيّ -رضي الله عنه-: القول قَوْلُهَا. وفي "التتمة" أن موضع النَّصِّ ما إذا سَلَّمَتْ انْدِمَالَ ظَاهِرِ الجُرْحِ، وادَّعَتْ بَقَاءَ الأَلَمِ، فتحلف وتصدق؛ لأن ذلك لا يعرف إلا منها، أما إذا ادَّعَتْ بَقاءَ الجُرْحِ، وأنكَرت أَصْلَ الانْدِمَالِ، فتعرض على أربع نِسْوَةٍ ثِقَاتٍ، ويعمل بقولهن. ومنهم من حَمَلَ النَّصَّ على ما إذا لم يَمْضِ من الزَّمَانِ ما يقلب فيه البُرْء فإن مضى راجَعْنَا النِّسْوَةَ ومنهم من أَطْلَقَ القَوْلَ بِمُراجَعَتِهِنَّ عند الاختلاف، وعلى هذا فَصُورَةُ النَّصِّ ما إذا لم يكن هُناكَ نِسْوَةٌ ثِقاتٌ وقوله "في الكتاب": "نعم لو رجعت إلى الامتناع سَقَطَ طَلَبُهَا" أي: الطلب الثَّابِتُ على جميع الأَقْوَالِ، ويصير الحكم كما كان قبل التمكين. وقوله: "إلاَّ إذا وَطِئَها فإن المَهْرَ يستقر بوَطْأَةٍ واحدة" يعني إذا جرى الوَطْءُ يَسْتَقِرُّ المَهْرُ، فيستمر الطلب وإن فُرِضَ منها امْتِنَاعٌ بعد ذلك. وقوله: "وليس لها بعد الوَطْءِ حَبْسُ نفسها" مُعَلَّمْ بالحاء والواو وقوله: "إذا بَطَلَ حقها بالتمكين من وَطْءِ" وَاحِدٍ ليس بِتَوْجِيه مقيد، فإن من يقول: لها الحَبْسُ بعد الوَطْءِ مُحَالٌ أن يسلم ببطلان حَقِّ الحبس من الوَطْءِ. " فروع" عن "مُجَرَّدِ" الحناطي إذا اختلف الزَّوْجُ، وأبو الزوجة، فقال أحدهما؛ إنها صَغِيرَةٌ ¬
لا تَحْتَمِلُ الجِمَاعَ، وقال الآخر: تحتمله، ففي وَجْهٍ: القول قَوْلُ من ينكر الاحْتِمَالَ، وفي وجه ترى أربع نِسْوَةٍ، أو رَجُلَيْنِ من المَحَارِمِ (¬1). ولو قال الرجل (¬2): امْرَأَتِي حَيَّةٌ، وطلب تسليمها، وقال الأب: بل ماتَتْ، فالقول قول الزوج، ولو تَزَوَّجَ رجل بـ"بغداد" امرأة بـ"الكوفة" وجرى العَقْدُ بـ"بغداد" فالاعْتِبَارُ بموضع العَقْدِ فتسلم نفسها بـ"بغداد" ولا نَفَقَةَ لها قبل أن يحصل بـ"بغداد" ولو خرج الزَّوْجُ إلى "المَوْصِل" وَبَعَثَ إليها من يجيء بها من "الكوفة" إلى "المَوْصِلِ" فنفقتها من "بغداد" إلى "الموصل" على الزوج والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الحُكْمُ الثَّالِثُ: التَّقْرِيرُ) وَلا يَتَقرَّرُ كَمالُ المَهْرِ إِلاَّ بِالوَطْءِ أَوْ بِمَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، وَلا يَتَقرَّرُ بِالخَلْوَةِ عَلَى القَوْلِ الجَدِيدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ؛ المَهْرُ الواجب بالنَّكاحِ، أو القرض يَسْتَقِرّ بطريقين: إحداهما: الوَطْءَ وإن كان حَرَاماً لوقوعه في الحَيْضِ والإِحرام (¬3)؛ لأن الوَطْءَ بالشُّبْهَةِ يوجب المَهْرَ ابْتَداء، فالوطء في النكاح أَوْلَى أن يقرر المَهْر الواجب، وتكفي الوَطْئَةُ الواحدة للتقرير. والثاني: الموت، فإذا مات أَحَدُ الزوجين، فالواجب كَمالُ المَهْرِ؛ لأن المَوْتَ لا يُبْطِلُ النَّكَاحَ، بدليل أنهما يَتَوارَثَانِ، وإذا لم يبطل النكاح بالموت، ولم يَبْقَ كان الموت نِهايَةً له، وانْتِهاءُ العَقْدِ كاستيفاء المعقود عليه، بدليل الإِجَارَةِ، ثم حَكَى أبو سَعْدِ المُتَوَلَّي وجهين في أَنَّا هل نُطْلِقُ القول بأن المَهْرَ يَتَقَرَّرُ بالمَوت؟ فمن قائل: لا؛ لأن التقرر إنما يحسن إِطْلاَقُهُ إذا كان يتوقع وُجُود المسقط، ولا يتأثر المَهْرُ به، وبعد الموت لا يَتَوَقَّعُ وُجُودُ المسقط، وهو الطَّلاَقُ والرِّدَّةُ، ومن قائل: نعم؛ إِلْحاقًا لانْتِهَاءِ العَقْدِ باستيفاء المَعْقُودِ عليه، وهذا ما أَطْلَقَهُ صاحب الكتاب ولمن قال به أن يقول ليس المُسْقِطُ مُطْلَقَ الطَّلاَقِ والردة، بل يشترط وقوعهما قبل الدخول، وأنه لا يُتَصَوَّرُ حُصُولُهُ ¬
بعد الدخول، كما لا يُتَصَوَّرُ بعد الموت، ثم ذكر المتَوَلِّي أن فائِدَةَ الخلاف تَظْهَرُ في المُفَوَّضَةِ إذا مات زوجها، إن قلنا: إن الموت مقرر، فتستحق مَهْرَ المِثْلِ، وإلا فلا، وليس لهذا البِنَاءِ وضُوحٌ، فإن التقرير إنما (¬1) يُطْلَقُ عند سَبْقِ الواجب، فلا يلزم من كون المَوْتِ مُقَرَّرًا وُجُوبُ المَهْرِ في صورة التفويض، إذا لم يكن هناك وُجُوبٌ سابق. واعلم أن القول بأن مَوْتَ أحد الزوجين مُقَرِّرٌ للمهر، وإن كان مُطْلقاً لكن صورة قَتْلِ السَّيِّدِ الأَمَةَ مُسْتَثْنَاةٌ منه على الظاهر. ومنهم من أَلْحَقَ بهذه الصُّورَةِ غيرها على ما بَيَّنَاهُ في موضعه (¬2). وأما الخَلْوَةُ بلا وَطْءٍ، فالقول الجَدِيدُ أنها لا تُؤَثرُ في المَهْر حتى لو طَلَّقَها بعد جَرَيانِ الخَلْوَةِ لم يجب إلا نِصْفُ المَهْرِ؛ لقوله تعالى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ولا مَسِيسَ, ويروى عن ابْنِ مَسْعُودٍ, وابن عباس -رضي الله عنهما- أنهما قالا: "ليس لهذه إلا نِصْفُ الصَّدَاقِ". وعلى هذا القول لو اتَّفَقَا على الخَلْوَةِ وادَّعَتِ المَرْأَةُ الإِصَابَةَ لم يَتَرجَّحْ جانبها بِالخَلْوَةِ، ويكون القول قَوْلَهُ مع يمينه. وعلى القديم الخَلْوَة مُؤَثِّرَةٌ، وفي أَثَرِها قولان: أحدهما: تصديق (¬3) المَرْأَةِ إذا ادَّعَتِ الإِصَابَةَ، ولا يتقرر المَهْرُ بمجردها وبهذا قال مالك -رضي الله عنه-، إلا أنه يُرْوَى عنه أن المَرْأَةَ إنما تُصدَّقُ بيمينها إذا جرت الخَلْوَةُ في دَارِه، أو جرت في دَارِهَا، وطال الزَّمَانُ دون ما إذا جرت في دارها، ولم يَطُل الزَّمَانُ، وعندنا لا فَرْقَ على هذا القول. وأظهرهما: أنها كالوَطْءِ في تقرير المَهْرِ، وكذا في إيجاب العِدَّةِ، وبه قال أبو حَنِيْفَةَ، وأحمد -رضي الله عنهما- لما رُوِيَ عن عمر، وعلي -رضي الله عنهما- أنهما قالا: "إذا أَغْلَقَ باباً وأَرُخَى سِتْراً فلها الصَّدَاقُ كامِلاً، وعليها العِدَّة" وعلى هذا ففي الرَّجْعَةِ وجهان: أظهرهما: ثبوتها أيضاً. والثاني: المَنْعُ، وبه قال أبو حَنِيْفَةَ، وهل يشترط في تقرير الخَلْوَة المَهْرَ أَلاَّ يَكُونَ ¬
الباب الثاني في الصداق الفاسد
هناك مَانِعٌ شَرْعِيُّ كالصَّوْم والحَيْضِ والإِحْرَام. أما عند أبي حنيفة فَيُشْتَرَطُ، ومن الأصحاب من وافَقَهُ تَفْرِيعاً على القديم، والمذَكور في "التتمة" أنه لا يشترط، ويقرر المَهْرُ، كما إذا اسْتَأجَرَ دَاراً إِجَارَةً فاسِدَةً، وقبضها يلزمه أُجْرَةُ المِثْلِ، وإن لم يسكنها. ولو كان هناك مَانِعٌ حِسِيُّ كالرَّتْقِ والقَرَنِ منها، والجَبِّ؛ والعُنَّةِ منه، لم يَتَقَرَّرِ المَهْرِ، ويخالف أبو حنيفة في الجَبِّ والعُنَّةِ وإذا قلنا: إن مجرد الخَلْوَةِ لا يُقَرَّرُ المَهْرَ ففي الوطء فيما دون الفَرْجِ وَجْهَانِ؛ بناءً على القولين في أنه هل تحرم الرَّبيَبةُ وهل تَثْبُتُ حُرْمَةُ المُصَاهَرَةِ، وقد بيناهما في موضعهما. البَابُ الثَّانِي فِي الصَّدَاقِ الفَاسِدِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلِفَسَادِهِ سِتَّةُ مَدَارِك: (الأَوَّلُ): أنْ لا يَقْبَلَ الِملْكَ كَالحُرِّ والخَمْرِ والخِنْزِيرِ والغَصْبِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الرُّجُوعَ اِلَى مَهْر المِثْلِ عَلَى قَوْلٍ، وإِلَى قِيمَةِ المَذْكُورِ عَلَى قَوْلٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: غرض الباب بَيانُ جِهَاتِ الفَسَادِ في الصَّدَاقِ، ورتبها في الكتاب على سِتَّةِ أنواع: (¬1) أحدها: ألا يكون المَذْكُورُ مَالاً كما لو سَمَيَّا خَمْراً، أو خِنْزيِراً، أو حُرّاً، وهذا قد انْدَرَجَ في تَضَاعِيفِ الكَلاَمِ عند توجيه قَوْلِ ضَمَانِ العَقْدِ واليد، ولو أَصْدَقَهَا عبدًا أو ثَوْباً، فخرج مَغْصُوباً, فالواجب مَهْرُ المِثْلِ في أصح القولين، وقيمة ذلك العبد في الثَّانِي، ولا يحتاج هاهنا إلى تَقْرِيرِ تُبْدِيلِ الصِّفَةِ والخِلْقَةِ وعند أبي حنيفة الوَاجِبُ ها هنا القِيمَةُ على خِلاَفٍ ما حكينا عنه فيما إذا خرج حُرّاً، ولو أَصْدَقَها عَبْدَيْنِ، فخرج أحدهما حُرّاً، أو مَغْصُوباً، أو ثوبين فخرج أحدهما مَغْصُوباً بَطَلَ الصَّدَاقُ في الحُرِّ والمغصوب، وفي الآخر قَوْلاً تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فإن لم نصحح فيه أيضاً فلها مَهْرُ المِثْلِ، أو قيمتهما جميعاً؟ فيه القولان. وإن قلنا: يصح، فلها الخِيارُ لأن المُسَمَّى بِتَمَامِهِ لم يسلم لها، فان فسخت فعلى القولين، وإن أَجَازَتْ فقولان: أحدهما: أنها تَرْضَى بالآخر صَدَاقاً، ولا شَيْءَ لها غيره. ¬
فروع
وأظهرهما: أنه لا يَلْزَمُها أن تَقْنَعَ به، بل تأخذ معه حِصَّةَ المغْصُوبِ من مَهْرِ المِثْلِ إذا وَزَّعْنَاهُ على القيمتين في أحد القولين، وقيمته في القول الثاني. وعند أبي حَنِيْفَةَ إذا خرج أحدهما حراً فلا شَيْءَ لها، إلا العَبْد الثاني، وإن خرج مَغْصُوباً، فلها قِيمَةُ المَغْصُوبِ معه. " فروع" لو أَصْدَقَهَا عَبْداً أو ثَوْباً، ولم تَصِفْهُ، بل أَطْلَق، فالتسمية فَاسِدَةٌ، والواجب مَهْرُ المِثْلِ، كما لو أَصْدَقَها ثَوْباً أو دابَّةٌ وأطلق. وقال أبو حَنِيْفَةَ ومالك وأحمد رضي الله عنهم يصح، ويجب عَبْدٌ وَسَطٌ, وإن وصَفَ العَبْدَ والثَّوْبَ، صَحَّت التسمية، ووجب المُسَمَّى. وعن أبي حنَيفَةَ، وأحمد أنه بالخِيَارِ بين أن يُسَلِّمَ العَبْدَ المَوْصُوفَ، أو قِيمَتَةُ؛ لأن الحيوان لا يثبت في الذِّمَّةِ ثُبُوتاً صَحِيحاً، فيتخير من عليه بينه وبين بَدَلِهِ، كما في الدِّيَةِ. قال الأصحاب: هذا مَمْنُوعٌ في الدِّيَّةِ أيضاً على القول الجديد. وعن أبي حنيفة في الثَّوْبِ المَوْصُوفِ اخْتِلاَفُ رواية أنه يجب تَسْلِيمُهُ، أو يكون كالعَبْدِ، وإذا جرت تَسْمِيَةٌ فاسِدَةٌ فالواجب مَهْرُ المِثْلِ بَالِغاً ما بلغ. وعند أبي حَنيفَةَ الوَاجِبُ الأَقَلُّ من المسمى ومهر المثل. وقوله في الكتاب: "ألا يقبل الملك" هذا إن جَرَى على إِطْلاَقِهِ في الحر والخَمْرِ والخِنْزِيرِ، ولا يجري في المَغْصُوب، فإنه مَمْلُوكٌ، وكان المراد ألا يقبل تَمْلِيك هذا الشَّخْصِ، وقوله: "في وجب الرُّجُوعَ إلَى مَهْرِ المِثْلِ" وقوله: و"إلى قيمة المذكور" يمكن أن يُعَلَّمَا بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة الوَاجِب في المغصوب القِيمَةُ، فيما إذا خَرَجَ حُرّاً مَهْرُ المِثْلِ، والقولان مُطْلَقَانِ في الصور جميعاً، وقد أطلق في الصور وُجُوبَ القِيمَةِ على هذا القول، لكنه لا يعم الصُّوَرَ، بل في صورة الخَمْرِ تقدر هي عصِيراً ويجب مِثْلُهُ، كماسبق. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِي: الشَّرْطُ) وَلا يَفْسَدُ النِّكَاحُ بِشَرْطِ لا يُخِلُّ بِمَقْصُودِهِ كَشَرْطِ أن لا يَتَسَرَّى عَلَيْهَا أَوْ لاَ يَمْنَعَها مِنَ الخُرُوجِ أَوْ لا يَجْمَعَ بَيْنَها وَبَينْ ضَرَّاتِهَا في مَسْكَنٍ أَوْ لا يَقْسِمَ لَهَا أَوْ لا يُنْفِقَ عَلَيْهَا، وَيَفْسَد بُكُلِّ مَا يُخِلُّ بِمَقْصْودِهِ كَشَرْطِ الطَّلاَقِ وَتَرْكِ الوَطْءِ اِلاَّ عَلَى وَجْهٍ بَعِيدٍ، وَإِذَا لَمْ يَفْسَد بِالشُّرُوطِ فَسَدَ الصَّدَاقُ؛ لأنَّ المَشْرُوطَ كَالعِوَضِ المُضَافِ اِلَى الصَّدَاقِ وَيتَعَذَّرُ الرُّجُوعُ إِلَى قِيمَةِ المَشْرُوطِ فَيَتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ إِلَى مَهْرِ المِثْلِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: الشرط في النِّكَاحِ إن لم يَتَعلَّقُ به غَرَضٌ، فهو لَغْوٌ مَحْضٌ على ما مر في البيع فإن تعلق به غرض، فإما ألا يُخَالِفَ مُوجِبَ النِّكَاحِ، فلا يُؤَثِّرُ ذِكْرُهُ في النكاح، ولا في الصَّدَاقِ، وهو كما إذا شرط أن يُقْسِمَ لها، أوَ أن يُنْفِقَ عليها، أو يَتَسَّرى أو يَتَزوَّجَ عليها إن شاء، أو يُسافِر بها أو لا تَخْرُجَ إلا بِإِذْنِهِ وإما أن يخالف موجبه، فهو على ضربين: أحدهما: ما لا يُخِلُّ بالمَقْصُودِ الأصلي من النكاح، فيفسد الشَّرْطُ سَوَاءٍ كان لها، كما إذا شرط ألا يَتَزَوَّجَ عليها، أو لا يَتَسَرَّى، أو لا يُطَلِّقَهَا، أو لا يُسَافِرَ بها، أو تخرج متى شَاءَتْ، أو يُطَلِّقَ ضَرَّاتِهَا، أو كان عليها كما إذا شَرَطَ ألا يقسم لها، أو يجمع بين ضَرَّاتِهَا وبينها من المَسْكَنِ، أو لا ينفق عليها. وقال أبو حنيفة وأحمد: إذا شَرَطَ ما يَنْفَعُها صَحَّ الشَّرْطُ، فإن لم يَفِ، فلها الخِيَارُ، واحتج الأصحاب بما روي أنه -صَلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "كُلُّ شَرْطٍ ليس في كتاب الله فهو بَاطِلٌ" ثم فَسَادُ الشَّرْطِ لا يؤثر في النكاح؛ لأن فَسَادَ العِوَضِ لا يؤثر فيه، ففساد الشرط أَوْلَى، هذا هو الصحيح. وحكى الحناطى وَجْهاً آخر، وقَوْلاً أنه يَبْطُلُ النِّكَاحُ، وسيجيء من بعد ما يُوافِقُهُ، وأما الصَّدَاقُ فإنه يَتأَثَّرُ بالشرط الفاسد، ويكون الواجب مَهْرَ المِثْلِ؛ لأنه إن كان الشَّرْطُ لها، فإنما رَضِيَتْ بالمُسَمَّى مع ذلك الرفق وإن كان عليها، وإنما رضي الزَّوْجُ بَبَدَلِ المُسَمَّى ليحصل له ذلك الرِّفْقُ مع البُضْعِ، فإذا فسد الشرط، وليس له قِيمَةُ يرجع إليها، وَجَبَ الرجوع إلى مَهْرِ المِثْلِ، ولا فَرْقَ بين يَزيدَ على مَهْرِ المِثْلِ، أو ينقص أو لا يزيد ولا يَنْقُص. وعن ابن خَيْرانَ أنه إن زادَ، والشرط لها، فالوَاجِبُ المْسَمَّى؛ لأنه قد رَضِيَ بِبَدَلِهِ، مع المُسَامَحَةِ بترك حَق، فإذا لم تلزم المُسَامَحَةُ كان أَوْلَى بالرِّضَا، وكذلك إن نَقَصَ، والشرط عليها (¬1)؛ لأنها قد رَضِيَتْ بذلك القَدْرِ مع تَرْكِ حَقٍّ لها، فدونه أَوْلَى. ومنهم من جَعَلَ هذا قَوْلاً مُخَرَّجاً، وفي كتاب الحناطِيِّ وَجْهٌ مطلق أن الوَاجِبَ في صُورَةِ الشرط لفاسد أَقَلُّ الأمرين من المْسَمَّى، ومَهْرِ المِثْلِ، ووجه آخر أن الشَّرْطَ لا يُؤَثِّرُ في الصَّدَاقِ، كم لا يُؤَثِّرُ في النَّكَاحِ. ¬
فروع
والضرب الثاني: ما يُخِلَّ بمقصود النِّكَاحِ، كما لو نَكَحَهَا بِشَرْطِ أن يُطَلِّقَهَا، أو بشرط ألا يَطَأَهَا، والكلام في الصُّورَتَيْنِ قد مَرَّ في فَصْلِ التحليل، فإن صَحَّحْنا النِّكَاحَ أَثَّرَ الشرط في الصَّدَاقِ، كسائر الشُّرُوطِ الفاسدة. وقوله في الكتاب: "ولا يَفْسَدُ النِّكَاحُ" يجوز إِعْلاَمُهُ بالواو. وقوله: "كشرطه ألا يَتَسَّرَى عليها، أو لا يمنعها من الخُرُوجِ" الشرط في هاتَيْنِ الصورتين لها. وقوله: "أو يجمع بينها وبين ضَرَّاتِهَا في مَسْكَنٍ واحد، أو لا يقسم لها" الشرط في هاتين الصورتين عليها، فتعرض لكل واحد من الطَّرَفَيْنِ. وقوله: "إلا على وَجْهٍ بَعِيدٍ" يعني في المسألتين شرط الطَّلاَق، وشرط ترك الوَطْءِ, والخِلاَفُ في مسألة الطَّلاَقِ مَشْهُورٌ بالقولين، دون الوجهين، على ما ذكرنا هناك، والقول بالتَّصْحِيحِ في شَرْطِ الطَّلاَقِ بَعِيدً، كما ذكرنا، وأما في مسألة تَرْكِ الوَطْءِ, فالأظهر عند الأَصْحَابِ الفَرْقُ بين أن يَشْتَرِطَ الزَّوْجُ، وبين أن تشترط الزَّوْجَةُ، فيرجع الخِلاَفُ في المسألة، ويجوز أن يُعَلَّمَ لذلك قوله: "إلا على وَجْهٍ بَعِيدٍ" بالواو، وأيضًا فقد تَقَدَّمَ أن في شَرْطِ الطَّلاَقِ طريقة أخرى قاطِعَةٌ بِبُطْلاَنِ النكاح، ويجوز إعْلاَمُ قوله: "فسد الصَّدَاقُ" بالواو أيضاً، وقوله: "لأن المَشْرُوطَ كالعِوَضِ المُضَافِ إلى الصداق" هذه اللَّفَظَةُ إنما تَنْطَبِقُ على أحد الطرفين، وهو أن يكون المَشْرُوطُ شَيْئاً يَنْفَعُها، دون ما إذا كان المشروط مما يَضُرُّها. " فروع" لو نَكَحَها على أَلْفٍ إن لم يُخْرِجْهَا عن البَلَدِ، وعلى ألفين إن أخرجها عن البلد، فالصَّداقُ فَاسِدٌ، أخرجها أو لم يخرجها، والواجب مَهْرُ المِثْلِ. وعن أبي حنيفة إنْ وَفَّى بالمَشْرُوطِ، فالواجب المُسَمَّى، وإلا فَمَهْرُ المثل، وأَوْرَدَ الحناطي أنه لو نَكَحَهَا على ألا يَرِثَ منها، أو لا تَرِثَ منه، أو لا يَتَوارَثانِ، أو على أن النَّفَقَةَ على غَيْرِ الزوج، يبطل النِّكَاحُ، وفي قول: يَصِحُّ النكاح، ويبطل الشرط (¬1) وأنه لو زَوَّجَ أَمَتَهُ من عَبْدِ غيره، بشرط ألاَّ يكون الأولاد بين السَّيِّدَيْنِ، يصح النِّكَاحُ، ويبطل الشرط، ذكره في "الإِملاء". وفي قول: "يبطل النِّكَاحُ". ¬
قَالَ الغَزالِيُّ: وَلَوْ شَرِطَ الخِيَارُ فِي الصَّدَاقِ ثَبَتَ عَلَى قَوْلٍ، وَفَسَدَ النِّكَاحُ عَلَى قَوْلٍ، وَفَسَدَ فِي نَفْسِهِ دُونَ النِّكَاحِ عَلَى قَوْلٍ، وَلَوْ قَالَ: نَكَحْتُهَا بِأَلْفٍ عَلَى أنَّ لأبيهَا أَلْفان فَسَدَ الصَّدَاقُ لأَنَّهُ أَضَافَ إِلَى الأبِ اسْتِحْقَاقَ ألْفٍ سِوَى الصَّدَاقِ، وَلَوْ قَالَ: نَكَحْتُهَا بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ أُعْطِيَ أَبَاهَا أَلْفاً صَحَّ الصَّدَاقُ وَمَعْنَاهُ: نَكَحْتُ بِأَلْفَيْنِ أُعْطِي أَبَاهَا بِطَرِيقِ النِّيَابَة عَنْهَا، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا أَيْضاً فاسِدٌ لأَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنِ الوِكالَةِ في الأدَاءِ بَلْ عَنْ شَرْطِ الإِعْطاءِ، وَقِيلَ: في المَسْئَلَتَيْنِ قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ والتَّخْرِيجِ. قَالَ الرَّافعِيُّ: والفصل يشتمل على مسألتين: إحداهما: شرط الخِيَارِ في النكاح يُفْسِدُ النِّكَاحَ (¬1)، خلافاً لأبي حَنِيْفَةَ، حيث قال: يَصِحُّ النِّكَاحُ، ويلغو الشَّرْطُ. لنا: أنه عَقْدُ مُعاوَضَةٍ لا يثبت فيه خِيَارُ الشرط، فيفسد بشرط الخِيَارِ، كالصَّرْفِ، وأما شرط الخيار في الصَّدَاقِ، ففي بُطْلاَنِ النكاح به قولان: أحدهما: وُينْسَبُ إلى القديم و"الإِملاء" أنه يَبْطُلُ، وفي سببه وجهان: أحدهما: أن سَبَبَهُ فَسَادُ الشرط، وتأثيره في فَسَادِ العِوَضِ، وهذا القائل يقول بِفَسادِ النِّكَاحِ في جميع الشروط الفاسدة، والأعواض الفاسدة. والثاني: أن سَبَبَ الفَسَادِ أحد العِوَضَيْنِ، والخِيَارُ في أحد العِوَضَيْنِ يَتَدَاعَى إلى الثاني، فكأنه شَرَطَ الخِيارَ في المَنْكُوحَةِ. وأصحهما: صِحَّةُ النِّكَاحِ، كما ذكرنا في سائر الشروط الفَاسِدَةِ، وعلى هذا ففي صِحَّةِ المُسَمَّى قولان: أحدهما: عن رواية ابن أبي هُرَيْرَةَ وغيره أنه يَصِحُّ؛ لأن الصَّدَاقَ عَقْدٌ يَسْتَقِلُّ بنفسه، والمقصود منه المَالُ، فلا يَفْسَدُ بشرط الخيار، كالبيع. وأصحهما: أنه يَفْسَدُ، ويجب مَهْرُ المثل؛ لأن الصَّدَاقَ لا يَتَمَحَّضُ عِوَضاً، بل فيه معنى النِّحْلَةِ، فلا يليق به الخِيَارُ، والمرأة لم تَرْضَ بالمُسَمَّى إلا بشَرْطِ الخيار، فإن قلنا بالصحة ففي ثُبُوتِ الخيار وجهان: ¬
أصحهما: الثُّبُوتُ، وبه قال أبو حنيفة، كما حُكِيَ عن نَصِّهِ أنه لو أَصْدَقَهَا عَيْناً غَائبة، يصح، ويثبت لها خِيارُ الرُّؤْيةِ، فعلى هذا إن أَجَازَتْ فذاك، وإن فَسَخَتْ رجعت إلى مَهْرِ المِثْلِ. والثاني: المنع؛ لأن النِّكَاحَ لا يَليقُ به الخِيَارُ، فينزل سُقُوطة شَرْعاً مَنْزِلَةَ إسْقَاطِ الخيار في البَيْع، ويخرج من هذا التَّفْصيل (¬1) إذا اخْتُصِرَ ثلاثَةُ أقوال، كما في الكتاب، وإذا أثْبَتْنَا الخِيارَ في الصَّدَاقِ، ففي ثبوت خِيارِ المجلس وجهان، نقلهما الشيخ أبو الفَرَجِ. الثانية: نقل المُزَنِيُّ في "المختصر" أنه إذا عَقَدَ النِّكَاحَ بألف، على أن لأبيها ألفاً، فَسَدَ الصَّدَاقُ، وأنه إذا نَكَحَها على أَلْفٍ، وعلى أن يعطي أَبَاهَا ألْفاً كان جَائِزاً، وفي النصين طُرُقٌ للأصحاب: أحدها: أن الصَّدَاقَ فاسِدٌ في الصورة الأولى، صَحِيحٌ في الثانية على ظاهِرِ النص (¬2) والفرق أن قَوْلَهُ: "على أن لأبيها ألفاً" ظَاهِرٌ في اسْتِحْقاقِهِ الألْفَ، وذلك الألْفُ، إما أن يكون من الصَّدَاقِ، فيكون هذا شَرْطُ عَقْدٍ في عَقْدٍ، فَأَشْبَهَ ما إذا قال: "بِعْتُكَ كذا على أن تَهَبَ لفلان كذا". وأما أن يكون من الصَّدَاقِ، فيكون اشْتِرَاطِ بَعْضِ المَهْرِ لغير الزوجة، فكان كما لو شَرَطَ في البَيْعِ اسْتِحْقَاقَ بعض الثَّمَنِ، لغير البائع. وأما في الصورة الثانية، فالمَشْرُوطُ الإِعْطاءُ، مَعْطُوفاً على الألف الأولى، فَيُشْعِرُ بأن الصَّدَاقَ الألْفَانِ، والزوج نَائِبٌ عنها في دَفْعِ أحد الألفين إلى الأب، أو الأب نَائِبٌ عنها في القَبْضِ، أو أَحالَتْ الأب عليه في أخذ الألفين. والثاني: أنه لا فَرْقَ، وَيفْسَدُ الصَّدَاقُ بِشَرْطِ الإعْطَاءِ فَسَادَهُ بشرط الاستحقاق؛ لأنه ليس في اللَّفْظَةِ ما يُشْعِرُ بالنِّيَابَةِ والحِوالَةِ، ولفَظ الإِعطاء يقتضي الاستِحْقَاقَ، والتَّمْلِيكَ أيضاً؛ لأنه لو قال له "بِعْتُكَ هذا على أن تُعْطِيَنيَ عَشَرَةٌ" صَحَّ البَيْعُ، فيكون شَرْطُ الإِعْطَاءِ كَشَرْطِ الاستحقاق، وهؤلاء اختلفوا فيما نَقَلَهُ المزني ثانياً، فمن مُغَلِّطٍ ومؤوِّل. وللتأويل وجوه: أحدها: عن ابن خَيْرانَ: أن الشَّافعي -رضي الله عنه- لم يَقُلْ: كان الصداق، وإنما قال: كان جَائِزاً. والثاني: حَمْلُهُ على ما إذا شَرَطَ ذلك قبل العَقْدِ، ولم يَتَعَرَّضَا له في نفس العَقْدِ. والثالث: حَمْلُهُ على ما إذا جَرَى ذِكْرُهُ وَعْداً مَضْمُوماً إلى العَقْدِ، لا شَرْطاً فيه. ¬
والرابع: حَمْلُهُ على ما إذا قَالَ: نَكَحْتُها بألفين، وشرط إِعْطَاءَ الأب أحَدَ الألْفَيْنِ، أو اتَّفَقَا على إِرَادَةِ هذا المَعْنَى، واللفظ ما سبق؛ لأن الصَّدَاقَ ههنا ألْفَانِ، والأَمْرُ في أن دفْعَ الألف إلى الأَب بِمُباشَرَةِ الزوج أو الزوجة سَهْلٌ لا يَتَعَلَّقُ به غَرَضٌ كَبيرٌ، ولا ينقص بسببه المَهْرُ، بخلاف ما إذا كان الصَّدَاقُ أَلْفاً، وشرط أن يُعُطِيَ أباها ألَفاً آخر، وأن الظَّاهِرَ إنما ينْقُصُ المَهْرُ لِيَبْذُلَ هو الألف الزَّائِدَ، وإذا فَسَدَ الشَّرْطُ لا يكون الألْفُ مَرْضِيّاً به، فيجب الرُّجُوعُ إلى مَهْرِ المِثْلِ. والطريق الثالث: حَكَاهُ الحناطي، وصاحب الكتاب: أن الصورتين على قَوْلَيْن. وجه الفَسَاد ما بُيَّنَ. ووجه الصِّحَةَ: أن الألفين ملتزمتان في مُقابَلَةِ البُضْعِ، وهي المالِكَة لِلْبُضْعِ، فتستحقها وَتَلْغُو الإِضافة إلى الأب، والقولان على ما ذكر صاحب الكتاب حَاصِلاَنِ من التَّصْرف في النصين بالنقل والتَّخْرِيج. وحكى العَراقِيُّونَ من أصحابنا القَوْلَيْنِ في الصورة مَنْصُوصَيْنِ، وقالوا: حكم الثانية حُكْمُ الأُولَى فَنَسَبُوا الصِّحَّةَ إلى القديم، وبه قال مَالِكٌ. والظاهر من الخِلاَفِ القَوْلُ بالفَسَادِ، ووجوب مَهْرِ المِثْلِ. وإذا قلنا بالصحة، فالمَهْرُ في اللفظين ألْفَانِ، وذكر صاحب "التهذيب" أن المراد من الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ ما إذا نكَحَها بِأَلْفَيْنِ على أن تُعْطِيَ أباها أَلْفاً، وجرى ذِكْرُ الإعْطَاءِ على سَبِيلِ الوَعْدِ، كأنها وَعَدَتْ أن تَهَبَ ألفاً من أبيها، أو تُوَكِّلَهُ بِقَبْضِهِ، أما إذا جَرَى على سَبِيلِ الاشْتِراطِ، لم يصح المسمى. وحكى وَجْهاً آخر فارِقاً بين أن يَشْتَرِطَ الزَّوْجُ عليها، فيفسد، أو تشترط هي، فلا يَفْسَدْ. وقوله في الكتاب: "ولو قال نَكَحْتُهَا بألف على أن [أعطي] (¬1) أباها ألفاً لم يَدْخُلْ فيه الواو، وفي أكثر نسخ "المختصر" "وعلى أن" بالواو، وذلك أظهر؛ إشْعَاراً بأن الصَّدَاقَ أَلْفَانِ، لما فيه من عَطْفِ إِعْطَاءِ الألف على الألف، فكأنه قال: نَكَحْتُها بألف وألف، وما إذا حذف الواو، كانت الصِّيغَةُ صِيغَةَ الاشْتِرَاطِ، فيكون الفَرْقُ بين الصُّورَتَيْنِ أَبْعَدَ، ثم لَفْظُ الكتاب: "على أن أُعْطِيَ أباها" فلفظ "المختصر": "أن يعطي"، واختلفوا في قراءة اللَّفْظَةِ فمنهم من قَرَأَهَا باليَاءِ، فذلك يُوَافِقُ ما في الكتاب، ومنهم من قَرَأَهَا بالتاء، أي: تعطى هي، وذكر أنها إذا قُرِئَتْ بالتاء، كان وَعْداً بِهِبَة أَلْفٍ منه، وإذا قُرِئَتْ بالياء كان إِنابَةً للزوج. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثُ: تفَرِيقُ الصَّفْقَةِ) فَإنْ أَصْدَقَهَا عَبْداً يُسَاوِي أَلْفَيْنِ عَلَى أَنْ تَرَدَّ أَلْفاً فَنِصْفُ العَبْدِ مَبِيعٌّ ونصْفُهُ صَدَاقٌ وَهُمَا عَقْدَانِ مُخْتَلِفَانِ؛ وَفِي جَمْعِهِمَا فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ قَوْلاَنِ، فَإنْ صَحَّحْنَاهُمَا فَلَوْ أَرَادَ إِفْرَادَ الصَّدَاقِ أَوْ المَبِيعِ بِالرَّدِّ بِالعَيْبِ جَازَ عَلَى أَحَدَ الوَجْهَيْنِ، بخِلاَفِ ما لَوْ رَدَّ نِصْفَ العَبْدِ المَبِيعِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا أَصْدَقَهَا عَبْداً، على أن تَرُدَّ عليه مائة أو ألفاً (¬1)، وصورته أن يقول للولي: زوِّج ابْنَتَكَ مِنِّي، وملكني كذا من مالها بولاية أو وِكَالَةٍ بهذا العَبْدِ، فَيُجِيبُهُ إليه، أو يقول الولي: زَوَّجْتُكَ بنتي، ومَلَّكْتُكَ كذا من مالها، بهذا العَبْدِ، فَيَقْبَلُ الزَّوْجُ، وهذا جَمْعٌ بين عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَي الحِكم في صَفْقَةٍ واحدة؛ لأن بعض العَبْدِ مَبِيعٌ، وبعضه صَدَاقٌ، وفيه قولان ذكرناهما في البَيْعِ: أصحهما: صِحَّة العَقْدَيْنِ، وهذا الخلاف في البَيْع والصَّدَاقِ، وأما النكاح، فإنه يصح لا مَحالَةِ؛ لأنه لا يَفْسَدُ بالجَهْلِ في الصَّدَاقِ، إلا على قول من خَرَّجَ أن فَسَادَ الصَّدَاقِ يُوجبُ فَسَادَ النِّكَاحِ على ما سبق، وإن لم يَصِحُّ العَقْدَانِ، فلها مَهْرُ المِثْلِ، وإن صححناهما وَزَّعْنَا العَقْدَ علَى مَهْرِ مِثْلِهَا، وعلى الثَّمَنِ، فإذا كان مَهْرُ المثل أَلْفَ دِرْهَمٍ، والثمن أَلْفاً، والعبد يُسَاوِي ألفين، فَنِصْفُ العَبْدِ مَبِيعٌ، ونصفه صَداقٌ، فإن طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قبل الدُّخُولِ، رجع إليه نِصْفُ الصداق، وهو رُبعُ العَبْدِ، وإن فُرِضَتْ رِدَّةٌ أو فَسْخٌ، رجع إليه جَمِيعُ الصَّدَاقِ، وهو نِصْفُ العبد، ولو تَلِفَ العَبْدِ قبل القبض تَسْتَرِدُّ الألف، ولها للصداق مَهْرُ المِثْلِ، في أصح القولين، ونِصْفُ قِيمَةِ العَبْدِ، في القول الثاني، ولو وجد الزَّوْجُ بِالثَّمَنِ الذي أخذه عَيْباً وَرَدَّهُ اسْتَرَدَّ المَبِيعَ، وهو نِصْفُ العَبْدِ، ويبقى لها النَّصْفُ الآخر، ولو وَجَدَتِ العَبْدَ مَعِيباً، فَرَدَتْهُ اسْتَرَدَّتِ الثَّمَنَ، ويرجع الصداق إلى مَهْرِ المِثْلِ، أو نصف القيمة؟ فيه القولان. ولو أرادت أن تَرُدَّ أَحَدَ النصفين وَحْدَهُ، فقد مَرَّ في البَيْعِ أن العَبْدَ المَبِيعَ لو خرج مَعِيباً وأراد المشتري رَدَّ بَعْضَهُ، لم يكن له ذلك، وأنه لو اشْتَرَى عَبْدَيْنِ في صَفْقَةٍ واحدة، ثم وجد بهما عَيْباً، وأراد إِفْرَادَ أَحَدِهِمَا، ففيه القولان، بِناءً على تَفْرِيقِ الصَّفقَةِ، وهاهنا طريقان: أحدهما: فيه قولان، كما في رَدِّ أحد العَبْدَيْنِ. والثاني: القَطْعُ بالجَوَازِ؛ لأن الانْتِقَالَ حَصَلَ بِعَقْدَيْنِ مختلفين، وقد يختصر، فيقال في إفراد أَحَدِ النَّصْفَيْنِ بالرَّدِّ وَجْهَانِ: ¬
فرع
أظهرهما: الجواز لِتَعَدُّدِ العَقْدِ. والثاني: المَنْعُ لما فيه من ضَرَرِ التَّشْقِيصِ، ولو قال: زوجتك جَارِيَتِي أو بنتي، وبِعْتُكَ عَبْدِي، أو عبدها بكذا، ففي صِحَّةِ البَيْع والصداق قولان: ذكرناهما في تفريق الصَّفْقَةِ (¬1)، فإن صَحَّحْنَاهُمَا، وُزِّعَ العِوَضُ المذكور على مَهْرِ المِثْلِ، وقيمة العبد فما يَخُصُّ مَهْرَ المِثْلِ يكُونُ صَدَاقاً وإذا وجد الزوج بالعَبْدِ عَيْباً، ورَدَّهُ، يَسْتَرِدُّ الثمن، وليس للمرأة رَدُّ الباقِي، والرجوع إلى مَهْرِ المثل؛ لأن المُسَمَّى صَحِيحٌ، وإن رَدَّ العَبْدَ بِعَيْبٍ، أو فَسَخَ النِّكَاحَ قبل الدخول بِعَيْبٍ، ارْتَدَّ إليه جَمِيعُ العِوَضِ المذكور، وإن خرج العِوَضُ المعين مُسْتَحقّاً، يريد العبد والرجوع للصداق إلى مَهْرِ المِثْلِ، في أصح القولين، وإلى حِصَّةِ الصَّدَاقِ منه في الثاني. وقوله في الكتاب: "فإن أَصْدَقَها عَبْداً يُسَاوِي ألفين على أن تَرُدَّ ألْفاً فنصف العبد مبيع ونصفه صداق" لا يلزم من أن يُسَاوِيَ العَبْدُ ألفين، ويكون المَرْدُودُ أَلْفاً أن يكون نِصْفُ العَبْدِ مَبِيعاً، ونِصْفُهُ صَدَاقاً، بل يجب مع ذلك أن يكون مَهْرُ المِثْلِ أيضًا أَلْفَاً على ما صَوَّرْنَاهُ، وهو المراد، وإن لم يذكره لفظاً. " فرع" لِبِنْتِهِ مائة دِرْهَمٍ، فقال لغيره: زَوَّجْتُكَ ابنتي هذه، ومَلَّكْتُكَ هذه الدَّرَاهِمَ، بهاتين المائتين لك، فالبيع والصَّدَاقُ باطِلاَنِ، نَصَّ عليه في "الأم"؛ لأنه قَابَلَ الفِضَّةَ وغيرها بالفِضَّةِ، وهو ربَا وإن كان من أحد الطرفين دَنَانِيرَ، كان ذلك جَمْعاً بين الصَّدَاقِ والصَّرْفِ, ففيه ما سَبَقَ من القولين. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ جَمَعَ في عَقْدٍ وَاحِدٍ بَيْنَ نِسْوَةٍ عَلَى صَدَاقٍ وَاحِدٍ فَفِي صِحَّةِ الصَّدَاقِ قَوْلاَنِ، لأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ تَجْهَلُ نَصِيبَ نَفْسِهَا، وَكَذَا فِي الخُلْعِ نَصَّ عَلَى أنَّهُ لَوِ اشْتَرَى عَبِيداً مِنْ جَمَاعَةٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٌ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فالبَيْعُ بَاطِلٌ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَاتَبَ عَبِيدَهُ عَلَى عِوَضٍ وَاحِدٍ صَحَّتِ الكِتَابَةُ لِمَا فِيهِ مِنْ شَوْبِ العِتْقِ، وَقِيلَ بِطَرْدِ القَوْلَيْنِ فِي الجَمِيعِ لَكِنَّهُ لا خِلاَفَ فِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ العَبْدَ بِمَا يَخُصُّهُ مِنَ الألْفِ إِذَا وُزِّعَ عَلَى قِيمَتِهِ وَعَلَى قِيمَةِ عَبْدِ فُلاَنٍ لَمْ يَصِح البَيْعُ (التَّفْرِيعُ) إِنْ قَضَيْنَا بِصِحَّةِ الصَّدَاقِ وُزِّع عَلَى مُهُورِ أَمْثَالِهِنَّ، وَقِيْلَ: عَلَى عَدَدِ رُؤُوسِهِنَّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، ¬
وَإِنْ قَضَيْنَا بِالفَسَادِ رَجَعَ كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى مَهْرِ المِثْلِ عَلَى قَوْلٍ، وَإِلَى قِيمَةِ ما يَقْتَضِيهِ التَّوْزِيعُ عَلَى قَوْلٍ لأَنَّ هَذَا مَجْهُولٌ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِخِلاَفِ مَا لَوْ أَصْدَقَهَا مَجْهُولاً لا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّن مَهْرُ المِثْلِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا جمع بين نِسْوَةٍ في عَقْدٍ واحد، وذكر لِلْكُلِّ صَدَاقاً واحدًا، يصح النِّكَاحُ، وفي الصَّدَاقِ قولان، وهذا قد يُصَوَّرُ عند اتِّحَادِ الوَليَّ بأن يكون للِرَّجُلِ بَنَاتُ ابن، أو أخ، أو عم مختلفات الآباء، أو يكون له عَتِيقَاتٌ، وقد يُصَوَّرُ مع التَّعَدُّدِ بأن وَكَّلَ أَوْلِيَاءُ النِّسْوَةِ رَجُلاً، فَزَوَّجَهُنَّ في عَقْدٍ واحد أَحَدُ القولين، وبه قال أبو حنيفة وأحمد أنه صحيح؛ لأن الجملة مَعْلُومَةٌ، وستعلم التفصيل بالتَّوْزِيعِ، وإذا علمت الجملة والتفصيل كَفَى ذلك لِصِحَّةِ العَقْدِ؛ ألا ترى أنه لو بَاعَ عَبِيداً له أو شِقْصاً وعَبْداً يجوز، وإن كانت حِصَّةُ كل واحد مَجْهُولَةٌ، ولو قال: بعتك هذه الصُّبْرَةَ كُلَّ صَاعٍ بدرهم، يصح، وإن كانت الجملة مَجْهُولَةً. وأصحهما: الفَسَادُ؛ لأن تَعَدُّدَ العاقد يُوجِبُ تَعَدُّدَ العقد، والصَّدَاقُ مجهول في كل عقد، فيفسد، ويجري القَوْلاَنِ، فيما لو خالَعَ نِسْوَةَ على عِوَضٍ واحد، هل يفسد العِوَضُ؟ وتحصل البَيْنَونُةُ لا مَحَالَةَ. وقطع بعضهم بالفساد في الصورتين، ويحكى ذلك عن أبي إسْحَاقَ، والمَنْقُولُ عن نَصِّ الشَّافعي -رضي الله عنه- أنه لَو اشْتَرَى عَبْدَيْنِ أو عبيداً، كُلَّ وَاحِدٍ لمالك صفقة واحدة، إما من المَالِكِينَ، أو من وَكِيلِ لهم، بَطَلَ البَيْعَ، وأنه لو كَاتَبَ عَبِيداً على عِوَضٍ واحد، تصح الكِتابَةُ، واختلف في البيع والكِتابَةِ، الذين أَثْبَتُوا القولين في النِّكَاحِ والخُلْعِ على أربعة طُرُقٍ. أحدها: إِثْبَاتُ القولين في البَيْعِ والكِتَابَةِ أيضاً؛ إلا أن القَوْلَيْنِ في النكاح والخُلْعِ في صِحَّةِ المُسَمَّى، لا في أَصْلِ النكاح والبَيْنُونَةِ، وهاهنا القولان في أصْلِ البيع، وكذا في الكِتابَةِ؛ لأنها تَفْسَدُ بفساد العِوَضِ، كالبيع، والقولان على هذه الطريقة يُمْكِنُ أخذهما من القَوْلَيْن في النكاح والخُلْعِ، ويمكن اسْتِخْراجُهُمَا من التَّصَرفِ في نَصِّ "البيع" و"الكتابة". والثانى: إِثْبَاتُ القَوْلَيْنِ في الكتابة، والقَطْعُ بِفَسَادِ البيع، والفرق أن البَيْعَ مُعَاوَضَةٌ مَحْضَةٌ، وتَأْثِيرُ فساد العوض والجَهْلِ به في البَيْع أَشَد من تأْثِيرِهِمَا في العُقُودِ الثلاثة؛ لأن البَيْعَ يَلْغُو بفساد العِوَضِ، والجَهْلِ به، والنِّكَاحُ والبَيْنُونَةُ لا يَتأَثَّرانِ بذلك، والكتابة وإن فسدت لا تَلْغُو، بل إذا أَدَّى المُسَمَّى عُتِقَ بموجب التَّعْلِيقِ. والثالث: إِثْبَاتُ القَوْلَيْنِ في البيع، والقَطْعُ بِصِحَّةِ الكتابة، والفَرْقُ من وجهين:
أحدهما: أن في الكِتَابَةِ شَائِبَة التَّعْلِيقِ، وَيتَعَلَّقُ به العِتْقُ، فيسامح فيها، ويحتمل ما لا يحتمل في العُقُودِ الثلاثة، ولذلك جُوِّزَ أَصْلُ العَقْدِ، وإلا فالقياس فَسَادُهُ؛ لأن السَّيِّدَ يقابل مِلْكَهُ بملكه، والثاني أن العَبِيدَ في الكتابة لِمَالِكٍ واحد. وعن رَأْيهِ يصدر قبولهم، فصار ما لو باعَ عَبْدَيْنِ من واحد، وسَائِرُ العقود بخلافه. والطريق الرابع: القَطْعُ بِفَسَادِ البيع، وصحة الكتابة، وتخصيص القولين بالنِّكَاحِ والخُلْعِ، والفَرْقُ ما بُيِّنَ إن أفردت البيع عن الكتابة فالحاصل في البَيْعِ طريقان: أَقرَبُهُما: إِجْرَاءُ القولين، وبه قال ابن سُرَيْجٍ، وهو الذي أَوْرَدْناهُ في "باب تفريق الصَّفْقَةِ" في "البيع" عند التَّعَرُّضِ لهذه المَسْأَلَةِ. والثاني: القَطْعُ بالمنع، وبه قال الإِصْطَخْرِيُّ وفي الكتابة طريقان: أَظْهَرُهُمَا: إِجْرَاءُ القولين. والثاني: القَطْعُ بالصحة. وإذا قلنا بصحة الصَّدَاقِ المُسَمَّى فَظَاهِرُ المَذْهَب أن المُسَمَّى يُوَزَّعُ على مُهُورِ أمثالهن، فإن اسْتَوَتِ المُهُورُ اسْتَوَيْنَ فيه، وإن تَفاوَتَتْ، كما لو باع عَبِيدَهُ صَفْقَةً واحِدَةً يُوَزَّعُ الثمن على قِيَم العَبِيدِ، إذا احتيج إلى التَّوْزِيعِ وفيه وجه، أو قول أنه ضعيف يُوَزَّعُ على عَدَدِ رُؤُوسِهِنَّ لِذِكْرِ المَهْرِ في مقابلتهن ويحكى هذا عن ابن القاصِّ، والأُسْتَاذِ أبي طَاهرٍ. وإن قلنا بفساد الصَّدَاقِ ففيما يجب لهن؟ قولان كالقولين فيما إذا قال: أصْدَقْتُكِ هذا العَبْدَ، فخرج حُرّاً أو مُسْتَحقّاً. أصحهما: أن لكل واحِدَةٍ منهن مَهْرَ مِثْلِها، ويسقط المذكور بالجَهَالَةِ والثاني: أنه يُوَزَّعُ المُسَمَّى على مُهُورِ أَمْثَالِهنَّ، ولكل واحدة منهن ما يَقْتَضِيهِ التَّوْزِيعُ، ويكون الحَاصِلُ لهن على هذا القَوْلِ، كالحاصل إذا قلنا بصحة المُسَمَّى (¬1). ¬
ولو زَوَّجَ أمتيه من عَبْدٍ على صَدَاقٍ وَاحِدٍ، صَحَّ النِّكَاحُ والصداق؛ لأن المستحق واحد، وهو كما لو بَاعَ عَبْدَيْنِ بِثَمَنٍ واحد، ولو كان له أَرْبَعُ بَنَاتٍ، ولآخر أربع بنين، فَزَوجَ أبو البَنَاتِ بَنَاتِهِ من بَنِي الآخر، صَفْقَةً واحدة بِمَهْرٍ واحد، بأن قال: زوَّجْتُ بنتي فلانة من ابنك فلان، وفلانة من فلان بألف، فقد حكى صاحب "التتمة" فيه طريقين: إحداهما: أن في صِحَّةِ الصَّدَاقِ ما سَبَقَ من القولين. والثاني: القَطْعُ بالبُطْلاَنِ؛ لأن تَعَدُّدَ العَقْدِ هاهنا أَظْهَرُ لتعدد مَنْ وقع العَقْدُ له من الجانبين. وقوله في الكتاب في حكاية نصِّ الربيع: لو "اشترى [عبيداً من جماعة" ليس الغَرَضُ التَّقْييدَ بما إذا كان الشِّرَاءُ من جماعة، بل لو اشترى] من وَكِيلِهِمْ، كان الحُكْمُ كذلك على ما مَرَّ. ويجوز أن يعلم قوله: "فالبَيْعُ بَاطِلٌ " بالحاء؛ لأن عن أبي حنيفة أنه صَحِيحٌ، وقوله بعد حكايته النصين. "وقيل بِطَرْدِ القولين في الجَمِيع" فيه إِشَارَةٌ إلى أن منهم من قَطَعَ بموجب النصين، ولم يَطْرُدِ القولين وقوله: "لكنه لا خِلاَفَ ... " إلى آخره، تَوْجِيهٌ لقول الفَسَادِ، وبَيَان ترجيحه، وإن حَرَرْنَا القولين، وذلك أنه لو قال: بِعْتُكَ عَبْدِي هذا، بما يَخُصُّهُ من ألف درهم، إذا وزّع على قيمته وقِيمَةِ عَبْدِ فلان، أو قيمة عبدي الآخر فلان؛ فلا خِلاَفَ أنه لا يَصِحُّ البَيْعُ، ولو صَحَّ هناك لَصَحَّ في هذه الصورة؛ لأنه ليس فيها إلا التَّصْرِيحُ بِمُقْتَضَى العَقْدِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرَّابعُ) أنْ يَتَضَمَّن إِثْبَاتُ الصَّدَاقِ رَفْعَهُ كَمَا إِذَا قَبِلَ النِّكَاحَ لابنه لِعَبْدِهِ وَجَعَلَ رَقَبَتَهُ صَدَاقَهَا فَيَفْسَدُ النِّكَاحُ لأَنَّهُ ثَبَتَ وَمَلَكَتْ زَوْجَها لانْفَسَخَ، أَمَّا إِذَا زَوَّجَ مِنِ ابْنِهِ امْرَأَةَ وَأَصَدْقَهَا أُمَّ ابْنِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَسَدَ الصَّدَاقُ؛ لأَنَّهَا لا تَدْخُلُ في مِلْكِهَا مَا لَمْ تَدْخُلْ في مِلْكِهِ وَلَوْ دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ لَعُتِقَتْ عَلَيْهِ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ دُونَ الصَّدَاقِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: تَقَدَّمَ على شَرْحِ ما في الأَصْلِ (¬1) أن الأَبَ إذا قَبِلَ النِّكَاحَ لابنه الصغير, أو المَجْنُونِ، فإما أن يُصْدِقَ الْمَرْأَةَ من مالِ الابن، أو من مالِ نَفْسِهِ، إن أَصْدَقَها من مال الابن، فَالكَلاَمُ في أنه هل يَصِيرُ ضَامِناً للصداق، إذا كان دَيْناً؟ وهل يَرْجِعُ إذا عزم على ما تَقَدَّمَ؟ فإن تَطَوَّعَ وأَدَّاهُ من مَالِ نَفْسِهِ، ثم بذل الابن وَطَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ، فالنَّصْفُ يرجع إلى الأَبِ، أو إلى الابن المُطَلِّقِ؟. فيه طريقان عن الدَّارِكِيِّ أنه على وَجْهَيْنِ، كالوجهين فيما لو تَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ بأداء الصَّدَاقِ عنه، ثم طَلَّقَ قبل الدُّخُولِ، يرجع النِّصْفُ إلى المُطَلِّقِ، أو إلى الأجنبي؟. أحدهما: أنه يَرْجِعُ إلى الزَّوْجِ؛ لأن النَّصْفَ إنما يَحْصُلُ بالطَّلاَقِ، والطلاق وُجِدَ منه. والثاني: أنه يَرْجِعُ إلى المُتَبَرِّع؛ لأنه بَذَلَ المَالَ لِيَدُومَ النِّكَاحُ بينهما، فإذا لم يَحْصُلْ هذا الغَرَضُ، رجع إلى ما بَذَلَ. وجَوَابُ عَامَّةِ الأصحاب أنه يَعُودُ إلى الزَّوْجِ، دون الأب، وخَصَّصُوا الوَجْهَيْنِ، بما إذا كان التَّبَرُّعُ من الأجنبي والفَرْقُ أن الأب يَتَمَكَّنُ من تمليكه المَالَ، فيكون قَابِلاً، ومُوجِباً، وقابضاً ومُقْبضاً، وإذا حَصَلَ المِلْكُ للابن، ثم صارَ للْمَرْأَةِ، عاد بالطَّلاَقِ إليه، والأجنبي لا يَتَمَكَّنُ من تمليكه المَالَ؛ لأنه لا وِلاَيَةَ له عليه، فالأَدَاءُ عنه لا يَكُونُ إلا إِسْقَاطَاً وتَبْرِئَةً لِذِمَّتِهِ، فإن كان الابن بالِغاً (¬2)، وأَدَّى الأب عنه، فليكن ذلك كَأَدَاءِ الأجنبي. وقَضِيَّةُ هذا الكَلاَمِ أن يكون الأَظْهَرُ من الوجهين في الأَجْنَبِيِّ أنه يَعُودُ النِّصْفُ إليه، ولذلك ذَكَرَهُ الإِمَامُ، وقال: إن استبعد مُسْتَبْعِدٌ رُجُوعَ النِّصْفِ إلى غَيْرِ الزوج، فَسَبَبُهُ، أن أَدَاءَ الصَّدَاقِ وُجِدَ من غير الزَّوْج، وإذا قلنا بأنه يَعُودُ إلى الابن المُطَلِّقِ، فإن كان الذي حَصَلَ له بالطلاق يَدُلُّ ما أَخَذَتْهُ المرأة لِتَصَرُّفِهَا فيه، فلا رُجُوعَ للأب فيما حصل، وإن كان من عَيْنِ المأخوذ، فيخرج مما أَوْرَدَهُ صاحب "التهذيب" طريقان: أحدهما: أنه لا رُجُوعَ أيضاً. والثاني: أن فيه وجْهَيْنِ، كما لو وهبَ من أبٍ عَيْناً، فزال مِلْكُهُ عنها، ثم عاد، والظَّاهِرُ المَنْعُ. ¬
وعلى الطريقة الثانية لو كان الابْنُ بَالِغاً، فمنهم من طَرَدَ الوَجْهَيْنِ، ومنهم من قَطَعَ بالمَنْعِ؛ لأنه ليس لِلأَبِ تَمِلْيكُهُ، والأَدَاءُ عنه مَحْضُ إِسْقَاطٍ، فإن أَصْدَقَهَا من مال نفسه، فيجوز، ويكون ذلك تَبَرعاً منه على الابْنِ (¬1). قال في "التهذيب": وسواء كان ذلك عَيْناً أو دَيْناً، ثم إذا بَلَغَ الصَّبِيُّ، وطَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ، عاد الخِلاَفُ فيمن يرجع إليه النِّصْفُ، وإذا أَجَبْنَا بالظَّاهِرِ، وهو العَوْدُ إلى الابن، فإن كان قد أَصْدَقَها عَيْناً، وبقيت بِحَالِهَا، فيرجع النصف إليه، فهل للأب الرُّجُوعُ فيه الخِلاَفُ المذكور فيما إذا زَالَ [ملك الابن] (¬2) في المَوْهُوب، ثم عاد، وإن كان قد أَصْدَقَها دَيْناً. قال في "التهذيب": لا رُجُوعَ للأب، فيما حَصَلَ، كما لو اشْتَرَى الأب لابنه الصَّغِيرِ شَيْئاً بِثَمَنٍ في الذّمَّةِ، ثم أَدَّاهُ من مالِهِ، ثم وَجَدَ الابْنُ بالمبيع عَيْباً, فَرَدَّهُ يَسْتَردُ الثمن، ولا يرجع الأب فيه، بخلاف ما لو خَرَجَ المَبِيعُ مستحقّاً, يعود الثَّمَنُ إلى الأب: لأنه بَانَ أنه لم يَصِحَّ الأدَاءُ. ¬
وإذا ارْتَدَّتِ المَرْأَةُ قبل الدُّخُولِ، فالقول فيمن يَعُودُ إليه كُلُّ الصَّدَاقِ، وفي رجوع الأب فيه، إذا عَادَ إلى الابْنِ، كالقول في النِّصْفِ عند الطَّلاَقِ. إذا تَقَرَّرَ ذلك، فمن مَدَارِكِ فَسَادِ الصَّدَاقِ أن يَلْزَم من إثْبَاتِ الصَّدَاقِ رَفْعُهُ، وذلك إما أن يكون بتَوَسُّطِ تَأْثِيرِهِ، في رفع النكاح، أو لا يكون بهذا التَّوَسُّطِ، والكتاب يَشْتَمِلُ على مِثَالِ كُلِّ وَاحِدٍ من القِسْمَيْنِ، أما الأول فإذا أَذِنَ لِعَبْدِهِ في أن يَنْكِحَ امْرَأَةً، ويجعل نفسه صَدَاقاً لها، ففعل، لا يَصِحُّ الصَّدَاقُ؛ لأنه لو صَحَّ لملكت زَوْجَهَا، فَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ، وَيرْتَفِعُ الصَّدَاقُ، ولا يصِح النِّكَاحُ أيضاً؛ لأنه اقْتَرَنَ به ما يُضَادّه، فكان كَشَرْطِ الطَّلاَقِ، ولأن مِلْكَ الزوج لو طَرأَ في دَوَام النِّكَاح أبْطَلَهُ وإذا قارن الابتداء منع الانعقاد، كما أن مَحْرَمِيَّةَ الرِّضَاعِ لما كان طَارِئُهَا مُبْطِلاً للنكاح، كان مُقَارِنُهَا مَانِعًا من الانْعِقَادِ، ومن الأئمة من قال على سَبِيلِ الاحْتِمَالِ (¬1): يجوز أن يُقَال: يَصِحُّ النِّكَاحُ، ويَفْسَدُ الصَّدَاقُ. وقوله في الكتاب: "كما إذا قَبِلَ النِّكَاحَ لعبده، وجعل رَقَبَتَهُ صَدَاقَهَا" قَبُولُ نِكَاحِ العَبْدِ من السَّيِّدِ يجوز أن يُبْنَى على جَوَازِ إِجْبَارِ العَبْدِ على النكاح، ويمكن تَصْوِيرُهُ فيما إذا قَبِلَ النِّكَاحَ لِعَبْدِهِ البالغ، بإذنه، وهذا إذا كانت المَرْأَةُ حُرَّةً. أما إذا أَذِنَ له في أن يَنْكِحُ أَمَةً، ويجعل نَفْسَهُ صَدَاقاً لها، ففعل، يَصِحُّ النِّكَاحُ، والصَّدَاقُ؛ لأن المَهْرَ للسيد لا لها، وليس فيه إلا اجْتِمَاعُ الزَّوْجَيْنِ في مِلْكِ شخص واحد، أنه لا يمنع صِحَّة العقد، ثم لو طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قبل الدُّخُولِ، فَيَنْبَنِي على أن السَّيِّدَ إذا باع عَبْدَهُ بعد ما نَكَحَ بِإِذْنِهِ، ثم طَلَّقَ العَبْد المَنْكُوحَةَ، وبعد أَدَاءِ المَهْرِ، وقبل الدُّخُولِ إلى من يَعُودُ النصف؟. فيه وجوه ثلاثة: أصحهما: أنه يكونَ لِلْمُشْتَرِي، سَوَاء أَدَّاهُ البائع من مالِ نَفْسِهِ، أو أَدَّى من كَسْبِ العَبْدِ إما قبل البيع أو بعده؛ لأن المِلْكَ في النِّصْفِ إنما يَحْدُثُ بالطلاق، والطَّلاَقُ وقع في ملك المشتري، فالحَاصِلُ به يكون لِلْمُشْتَرِي، كَسَائِرِ الأكْسَابِ بعد الشراء. والثاني: يَعُودُ إلى البائِعِ، بكل حال: لأنه وَجَبَ في مِلْكِهِ، فما سَقَطَ منه يَعُودُ إليه. والثالث: إن أَدَّاهُ البائِعُ من عنده أو أدَّى من كَسْبِ العبد قبل البيع، فيعود الشَّطْرُ إلى البائِعِ؛ لأنه مُؤَدّى من ملكه، وإن أَدَّى من كَسْبِهِ بعدَ البيع، فَيَعُودُ إلى المشتري. ¬
ولو فَسَخَ أَحَدُهُمَا النِّكَاحَ بِعَيْبٍ، بعد جَرَيَانِ البَيْع، وقبل الدُّخُولِ، أو ارْتَدَّتِ المَرْأَةُ، أو عُتِقَتْ، وفسخت بالعتق فتجري الوُجُوهُ في أن كُلَّ الصَّدَاقِ إلى من يَعُود؟. ولو أنه أَعْتَق العَبْدَ، ثم طَلَّق العبد، قبل الدخول، أو حَدَثَ شَيْءٌ من الأَسْبَابِ المذكورة؛ فحيث نَقُولُ بالعَوْدِ إلى البائع، يعود هاهنا إلى المُعْتِقِ، وحيث جَعَلْنَاهُ للمشتري، فيكون هاهنا للْعَتِيقِ، فإن قُلْنَا بالأَصَحِّ, وهو العَوْدُ إلى المشتري، ففي المَسْأَلَةِ التي كُنَّا فيها تَبْقَى رَقَبَةُ العَبْدِ كُلُّهَا لمالك الأَمَة. وإن قُلْنَا بالعَوْدِ إلى البائع، فكذلك هاهنا يَعُودُ النِّصْفُ إلى السيد المصدق، في صورة الطَّلاَقِ، ولو فرضت رِدَّةٌ أو فَسْخٌ بِعَيْبٍ، يعود الكل إليه، وبه أجاب ابْنُ الحَدَّادِ. ولو عتق مالك الأَمَةِ العَبْدَ، ثم إنه طَلَّقَها قبل الدُّخُولِ، فعلى المُعْتِقِ نِصْفُ قيمة العَبْدِ، في صورة الطَّلاق، وجميعها في الرَّدَّةِ، والفَسْخُ بالعَيْبِ، ويكون ذلك للزَّوْجِ الذي عتق على الأَصَحِّ، ولسَيِّدِهِ الأول على الوَجْهِ الآخر. ولو قَبِلَ نِكَاحَ أَمَةٍ لعبده الرَّضيع، على قولنا: إنه يَجُوزُ إِجْبارُ العَبْدِ الصغير على النِّكَاح [وجعله صداقاً] (¬1) فأرضعت الأَمَةُ زَوْجَهَا، وانْفَسَخَ النِّكَاحُ، لِصَيْرُورَتِهَا أُمّاً له، فالعَبْدُ يَبْقَى لمالك الأَمَةِ، على الأصَحِّ، وعلى الوجه الآخر يَعُودُ إلى سَيِّدِهِ الأول، ولو ارْتَضَعَ الصَّغِيرُ بِنَفْسِهِ، فهو كالطَّلاَقِ قبل الدخول. ولو بَاعَ مالِكُ الأَمَةِ العَبْدَ، ثم طَلَّقَ العَبْدَ قبل الدخول، أو فُرِضَتْ رِدَّة أو انْفِسَاخٌ، فعلى الوجه المُقَابِلِ للأصح، يجب عليه لِسَيِّدِ العَبْدِ الأول نِصْفُ قيمة العبد في الطلاق، وجميع قِيمَتِهِ في سائر الصُّوَرِ. وأما على الوجه الأَصَحِّ فقد أطلق في "التهذيب" أنه لا شَيْءَ عليه. وقال الشيخ أبو عَلِيٍّ: يرجِع مُشْتَرِي العَبْدِ عليه بِنِصْفِ القِيمَةِ، أو بجميعها؛ لأن الصَّدَاقَ على هذا الوَجْهِ يكون أبداً لمن له العَبْدُ، يوم الطَّلاَقِ، أو الفسخ، وهذا هو الصَّوَابُ ولْيؤوَّلْ ما في "التهذيب" على أنه لا شَيْءَ عليه للسَّيِّدِ الأول، ولو أنه بَاعَ الأمةَ ثم طلق أو فسخت فعلى الأصَحِّ يَبقَى العَبْدُ له، ولا شيء عليه، وعلى الوجه الآخر يَعُودُ نِصْفُهُ أو كله إلى السيد الأول. وأما القِسْمُ الثاني فإذا كانت اُمُّ ابنه الصَّغِيرِ في مِلْكِهِ؛ بأن اسْتَولَدَ أَمَةَ الغير بالنكاح، ثم إنه مَلَكَها وَوَلَدَهَا، يُعْتَقُ عليه الوَلَدُ، ولا تُعْتَقُ الأُمُّ، ولو قَبِلَ له نِكَاحَ ¬
امْرَأةٍ، وأصْدَقَهَا أُمَّةُ لم يَصِحَّ الصَّدَاقُ؛ لأن ما يجعله صَدَاقاً عن ابنه يدخل في مِلْكِ الابن أولاً، ثم يَنْتَقِلُ إلى المَرْأَةِ، ولو دخلت في مِلْكِهِ لَعُتِقَتْ عليه، وامْتَنَعَ انْتِقَالُهَا إلى المرأة صَدَاقاً، فيصح النِّكَاحُ، وَيَفْسَدُ الصَّدَاقُ، وإذا فَسَدَ الصَّدَاقُ، جاء الخلاف في أن الوَاجِبَ مَهْرُ المِثْلِ، أو قيمتها، هذا ما ذكره في هذه الصُّورَةِ، لكن ذكرنا خِلاَفاً فيما إذا أَصْدَقَ الأبُ الصَّغِيرَ من مَالِ نَفْسِهِ، ثم بلغ الابن، وطَلَّقَ قَبْلَ الدخول، في أن نِصْفَ المَهْرِ يَرْجِعُ إلى الابْنِ، أو الأب فمن قال: يرجع إلى الأَبِ، فقد يُنَازعُ في قولنا: لا يَدْخُلُ الصَّدَاقُ في مِلْكِهَا، حتى يَدْخُلَ في ملك الابن. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الخَامِسُ) أنْ يُزَوِّجَ مِنَ ابْنِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ المِثْلِ أَوْ ابْنتِهِ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ المِثْل فَيَفْسَدَ الصَّدَاقُ وَفِي صِحَّةِ النِّكَاحِ قَوْلاَنِ، وَوجْهُ الفَسَادِ أَنَّ الرُّجُوعِ إِلَى مَهْرِ المِثْلِ دُونَ رِضَاهُمْ وَمَا قَنِعُوا بِهِ بَعِيدٌ، وَلَو أَصْدَقَ زَوجَةَ ابْنِهِ أكْثَرَ مِنْ مَهْرِ المِثْلِ وَلَكِنْ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ جَازَ وَإِنْ كَانَ يَدْخُلُ في مِلْكِ الابْنِ ضِمْناً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قَبِلَ النِّكَاحَ لابْنِهِ الصغير, أو المَجْنُونِ، بمهر المِثْلِ، أو دُونَهُ، أو بعين مال من أمْوالِهِ، هي قَدْرُ مَهْرِ المِثْلِ، أو دونه، صح، وإن قَبلَهُ بأكثر من مَهْرِ المِثْلِ، فالصداق فَاسِدٌ , وكذا لو زَوَّجَ ابْنَتَهُ المَجْنُونَةَ بأقل من مَهْرِ المِثْلِ، أوابنته البِكْرِ الصغيرة، أو البَالِغَةَ، ولم يُرَاجِعْهَا، يَفْسَدُ الصَّدَاقُ، خلافًا لأبي حنيفة ومالك وأحمد -رضي الله عنهم- حيث قالوا: يَصِحُّ المُسَمَّى. لنا القِيَاسُ على ما لو بَاعَ مَالَهَا، بما دون ثَمَنِ المِثْلِ، فإذا فَسَدَ الصَّدَاقُ، ففي النِّكاحِ قولان: أصحها: لأنه يَصحُّ، كما في سَائِرِ الأَسْبَابِ المُفْسِدَةِ للصداق، ويجب مَهْرُ المِثْلِ، وفيما إذا أَصْدَقَهَا عَيْناً وَجْهٌ لأنه يَصِحّ التَّسْمِيَةُ في قَدْرِ مَهْرِ المِثْلِ. والثاني: لأنه لا يَصِحُّ النكاح؛ لأنه تَرَكَ ما فيه حَظُّهَا وَمَصْلَحَتُهَا، فأشبه ما إذا زَوَّجَها من غير كُفْءٍ وأيضًا فإن الَّتِي قَبِلَ نِكَاحَها، لم تَرْضَ إلا بالزِّيَادَةِ على مَهْرِ المِثْلِ، فإذا رددنا إلى مَهْرِ المِثْلِ، لم يكن النكاح مُرْضِيًا به، والذي زَوَّجَ ابْنَتَهُ منه، لم يَرْضَ إلاَّ بأقَلَّ من مَهْرِ المِثْلِ، فإذا ارْتَقَيْنَا إلى مَهْرِ المثل لم يكن النكاح مَرْضِيّاً به فيمتنع تَصْحِيْحُهُ، وإلى هذا يرجع معنى قوله في الكتاب: "أن الرجوع إلى مَهْرِ المثل دون رِضَاهُمْ وما قَنِعُوا به بَعيدٌ" أي: مَا قَنِعَتْ به المَرْأَةُ التي قَبِلَ نِكَاحَهَا لابنه، ولا أَوْليَاؤُهَا، ولو أَصْدَقَ ابنه من مَالِ نَفْسِهِ أكثر من مَهْرِ المِثْلِ، فقد أَوْرَدَ الإِمَامُ فيه احتمالين: أحدهما: أنه يَفْسَدُ المُسَمَّى، كما لو أَصْدَقَ من مَالِ الابن، وذلك لأن ما يجعله صَدَاقاً، يدخل في ملك الابن، وإذا دَخَلَ في مِلْكِهِ لم يَجُزِ التَّبَرُّعُ به.
الثاني: أنه يَصِحُّ، وتَسْتَحقُّ المرأة المُسَمَّى, لأن المَجْعُولَ صَدَاقًا لم يكن مِلْكًا للابن، حتى يفوت عليه، وإنما يَحْصُلُ المِلْكُ في ضِمْنِ تَبرُّعِ الأب، فلو لم نُصَحِّحْهُ لَفَاتَ على الابن، ولَزِمَ مَهْر المثل في ماله، وهذا ما أوْرَدَهُ صاحب الكتاب، وصاحب "التهذيب" وفي "التتمة" و"أمالي" أبي الفرج تَرْجِيحُ الاحْتِمَالِ الأول (¬1)، وأَيَّدَ ذلك بأن الصَّبِيَّ لو لزمه كَفَّارَةُ القَتْلِ، فأعتق الوَلِيُّ عنه عَبْداً لنفسه، لم يَجُرْ؛ لأنه يَتَضَّمَنُ دخوله في مِلْكه وإعتاقه عنه وإعتاق عبد الطفل لا يجوز (¬2)، وُيؤَيِّدُهُ أيضاً ما إذا قَبِلَ له نِكَاحَ امْرَأَةٍ، وجعل أُمَّه صَدَاقَهَا على ما قَدَّمْنَا. قَالَ الغَزَالِيُّ: (فَرْعٌ) إِذَا تَوَاطَأَ أَوْلِيَاءُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى ذِكْرِ ألْفَيْنِ فِي العَقْدِ ظَاهِراً ¬
وَعَلَى الاكْتِفَاءِ بِأَلْفٍ باطِنًا فَالْوَاجِبُ مَهْرُ السِّرِّ أَوِ العَلاَنِيَةِ فِيهِ قَوْلاَنِ، مَأْخَذُهُمَا أَنَّ العِبْرَة بِالاصْطِلاحَ الخَاصِّ أَوِ العَامِّ. قَالَ الرّافِعِيُّ: إذا اتَّفقُوا على مَهْرٍ في السِّرِّ (¬1)، وأَعْلَنُوا بأَكْثَرَ من ذلك، فعن الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه- أنه قال في موضع: إن المَهْرَ مَهْرُ السِّرِّ، وقال في موضع آخر: إِن المَهْرَ مَهْرُ العَلانِيَةِ، وُينْسَبُ هذا إلى "الإِملاء". وفيها طريقان للأصحاب: أحدهما: إِثْبَاتُ قولين في المَسْأَلَةِ، وبه قال المُزَنِيُّ، وفي موضعهما طريقان مذكوران في "النهاية": أحدهما: أن موضع القَوْلَيْنِ، ما إذا اتَّفَقُوا على ألف واصْطَلَحُوا على أن يعبروا عن الألف في العَلاَنِيَةِ بألفين، أَظْهَرُ القولين: أن الوَاجِبَ ألْفَانِ لَجَرَيَانِ العَقْدِ على اللفظ الصَّرِيحِ في معناهما. والثاني: أن الواجِبَ أَلْفٌ اعْتِبارًا بما تَوَاضَعُوا، واصْطَلَحُوا عليه، والألْفَاظُ لا تعني لأعْيَانِها، وإنما ينظر إلى مَعَانيهَا ومقصودها، فهذا ما أَوْرَدَهُ في الكتاب، حيث قال: "إن العِبْرَةَ بِالإصْطِلاَحِ الخَاصِّ أو العَامِّ". والثاني: إثْبَاتُ قولين مهما اتَّفَقُوا على أَلْفٍ، وجرى العَقْدُ بِألْفَيْنِ، وإن لم يَتَعَّرَضُوا لتعبير اللغة، والتَّعْبِيرُ بالألفَيْنِ على ألف اكْتِفَاءً بما قَصَدُوهُ ورَضُوا به. قال الإِمام قَدَّسَ الله روحَهُ: وعلى هذه القَاعِدَةِ تَجْرِي الأَحْكَامُ المتَلَقَّاةُ من الألْفَاظِ، فلو قال لزوجته: إذا قُلْتُ: أنت طَالِقٌ ثَلاَثًا، لم أُرِدْ به الطَّلاَقَ، وإنما غَرَضٍ أن تَقُومي وتَقْعُدِي، أو أُرِيدُ بالثلاث واحِدَةً، فالمذهب أن ذلك لا عِبْرَةَ به. وفيه وجه أن الاعْتِبارَ بما تَوَاضَعَا عليه. ثم ما المَعْنَى بما أَطْلَقْنَاهُ في الطريقين من الاتِّفَاقِ في السِّرِّ، أهو مُجَرَّدُ التَّرَاضِي، والتَّوَاعد أم المُرَادُ ما إذا جَرَى العَقْدُ بألف في السِّرِّ، ثم عَقَدُوا بألفين في العَلاَنِيَةِ، منهم من يُشْعِرُ كَلاَمُهُ بالأول، وقَضِيَّة لفظ "التهذيب" وغيره إِثْبَاتُ القولين، وإن جرى العَقْدَانِ قال صاحب "التهذيب" وخَرَّجَ بعض أصحابنا من هذا الخِلاَفِ أن المُصْطَلَحَ عليه قبل العَقْدِ كالمَشْرُوطِ في العَقْدِ، وقد تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذلك. والطريق الثَّانِي: وهو الأَصَحُّ تَنْزِيلُ النصين على حالين، فحيث قال: المَهْرُ مَهْرُ ¬
السِّرِّ، أراد ما إذا جَرَى العَقْدُ بألف في السِّرِّ، ثم أَتَوْا بلفظ العَقْدِ في العلانية، وذكروا الألفين تَجمُّلاً، وهم مُتَّفِقُونَ على بَقَاءِ العَقْدِ الأول، وحيث قال: المَهْرُ مَهْرُ العلانية، أراد ما إذا تَوَاعَدُوا أن يكون المَهْرُ أَلْفًا، ولم يعقدوا في السِّرِّ، وعقدوا في العلانية، فيكون المَهْرُ ما عُقِدَ عليه العَقْدُ، لا ما سَبَقَ به الوَعْدُ. ونقل الحناطي وغيره في المسْأَلَةِ نَصًا ثَالِثًا، وهو أنه يَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ، ويفسد المُسَمَّى، وَحَمَلُوه على ما إذا جَرَى العَقْدُ بألفين على شَرْطِ أن يكتفي بألف، أو على ألا يلزمه إلا أدَاءُ الأَلْفِ. ويجوز أن يُعلَّمَ لما بَيَّنَّاهُ قوله في الكتاب: "قولان" بالواو وقوله: "أَوْلِيَاءِ الزَّوْجَيْنِ" لا يَخُفَى أنه لا يشترط أن يكون الزوج بحيث يَلِي أَمْرَهُ ولِيٌّ، والمعتبر تَوَافُقُ الزوج والوَليّ، وقد يحتاج إلى مُسَاعَدَةِ المرأة. قَالَ الغَزالِيُّ: (السَّادِسُ) أَنْ يُخَالِفَ الأَمْرُ فَإذَا قَالَتْ: زَوِّجْنِي بأَلْفٍ فَزَوَّجَهَا الوَلِيُّ أَوْ وَكِيلُ الوَلِيِّ بِخَمْسِمِائَة لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، وَلَوْ قَالَتْ: زَوَّجْنِي مُطْلقَاً فَزَوَّجَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ المِثْلِ لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا، وَقِيلَ: يَصِحَّ وَيَرْجِعُ إِلَى مَهْرِ المِثْلِ، وَلَوْ زَوَّجَها مُطْلَقًا فَيَحْتَمِلُ التَّصْحِيحَ لِلْمُطَابَقَةِ، وَيُحْتَمِلُ الإِفْسَادَ؛ لأنَّ مَفْهُومَ المُطْلَقِ ذِكْرُ المَهْرِ عُرْفًا، وَلَوْ قَالَتْ: زَوَّجْنِي بِمَا شَاءَ الخَاطِبُ فَزَوَّجَ فَهُوَ مَجْهُولٌ وَالوَاجِبُ مَهْرُ المِثْلَ، وَلَوْ عَرِفَ مَا شَاءَ الخَاطِبُ فَقَالَ: زَوَّجْتُكَ بِمَا شِئْتَ صَحَّ، وَقِيلَ: إنَّهُ يَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ لِخَلَلِ اللَّفْظِ إِذْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ. قَالَ الرّافِعِيُّ: لا يشترط في إِذْنِ المَرْأَة، حيث يعتبر إذنها تَقْدير المَهْرِ، ولا ذكره، ولكن لو قدرت فقالت: زوجني بألف مَثَلًا، فَزَوَّجَها الوَلِيُّ أو وَكِيلُهُ، بخمسمائة لم يَصِحَّ (¬1)، وألحق في "التهذيب" بهذه الصورة ما إذا زَوَّجَهَا الوَلِيّ بلا مَهْرٍ، أو زَوَّجَهَا مُطلقًا، وفي بعض التَّعَالِيقِ عن الإِمَامِ أن منهم من قال في حق الوَليِّ: قولان كالقولين في تَزْوِيجٍ المُجْبَرِ بدون مَهْرِ المِثْلِ؛ لأن غير المُجْبَرِ من الأَوْلِيَاءِ، إذا وجد الإذْنُ الْتَحَقَ بالمُجْبَرِ، وخرج عن رُتْبَةِ الوَكِيلِ الذي يُزوَّجُ بالإذْنِ المُجَرَّدِ، ولو قالت لوكيَل الوَلِيِّ: زوجني مُطْلقًا، ولم تَتَعَرَّضْ لِلمَهْرِ، فَزَوَّجَهَا الَوَكِيلُ بما دون مَهْرِ المِثْلِ، ففي فَسَادِ النكاح [قولان، ذكرهما] (¬2) الإِمَامِ قدَسَ -الله رُوحَهُ- وغيره. أظهرهما: عنده وعند صاحب الكتاب القَطْعُ بالفَسَادِ؛ لأن المُطْلَقَ مَحْمُولٌ على مَهْرِ المِثْلِ، فكأنها قدرت به. فنقص. ¬
والثاني: أنه على قولين: أحدهما: الفَسَادُ. والثاني: الصِّحَّةُ والرجوع إلى مَهْرِ المِثْلِ، وأورد في "التهذيب" هذين الطريقين، فيما إذا وَكَّلَ الوَلِيّ بالتَّزْوِيجِ مطلقًا، فزوج الوَكِيلُ، ونَقَصَ عن مَهْرِ المِثْلِ. وإذا قلنا: لا يصح نِكَاحُ الوَكِيلِ لو نَقَصَ، فلو أنه أَطْلَقَ التَّزْوِيجَ، ولم يتعرض لِلْمَهْرِ، ففيه احتمالان للإِمام. أحدهما: أنه لا يَصِحُّ النِّكَاحُ أيضًا؛ لأن الإِطْلاَقَ يَقْتَضِي ذِكْرِ المَهْرِ عُرْفًا. وأصحهما: الصحة، والرجوع إلى مَهْرِ المِثْلِ؛ لأن المَأْتِيَّ به يُطَابِقُ الإذْنَ، ولأن المُطْلق إذا اقْتَفَى مَهْرَ المِثْلِ، كان إِطْلاَقُ العَقْدِ كَذِكْرِ مَهْرِ المِثْلِ. ولو أنها أَذِنَتْ للْوَلِيَّ في التزويج مُطْلقًا، فَزَوَّجَ مما دون مَهْرِ المثل، فيفسد النكاح أَو يَصِحُّ، ويَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ فيه قولان، كما سَبَقَ، وكذا لَوْ زَوَّجَها بلا مَهْرٍ، وفيه طريق آخر أنه يُقْطَعُ بالفَسَادِ، كما في الوَكِيلِ، وهذا يَدُلُّ على أن إِذْنَها في النكاح، والسُّكُوتُ عن المَهْرِ ليس بِتَفْوِيضٍ، وفيه شَيْءٌ سنذكره في أَوَّلِ باب التَّفْوِيضِ، ولو قالت للوكيل أو للولي: زَوَّجْنِي بما شَاءَ الخَاطِبُ، فقال المَأْذُونُ للخاطب: زوَّجْتُكَهَا بما شِئْتَ، فإن لم يَعْرِف ما شاء الخَاطِبُ، فقد زَوَّجَهَا بِمَجْهُولِ، فيصحُّ النِّكَاحُ، ويجب مَهْرُ المِثْلِ، وإن عرف ما شاء فوجهان: أظهرهما: صِحَّةُ الصَّدَاقِ لإِحَاطَتِهَا بالمقصود. والثاني: وبه قال القَاضِي الحُسَيْنُ -لا يصح الرجوع إلى مَهْرِ المِثْلِ لِخَلَلِ اللفظ، وإِبْهَامِهِ (¬1)، ويجوز أن يرجع الخِلاَفُ إلى أن العِبْرَةَ باللفظ أو المَعْنَى. ¬
فروع
" فروع" لو قال الوَلِيُّ للوكيل: زوَّجْهَا ممن شَاءَتْ بكم شَاءَت، فَزوَّجَهَا بِرِضَاهَا من غير كُفْءٍ بأقل من مَهْرِ المِثْلِ، يجوز، ولو قال: زَوِّجْها بألف، فَزوَّجَهَا بخمسمائة بِرِضَاهَا قال في "التتمة": المذهب أنه يَصِحُّ النكاح؛ لأن الصَّدَاقَ مَحْضُ حَقِّ المرأة. وفيه وجه أنه لا يَصِحُّ؛ لأن النِّكَاحَ الذي وَكَّلَهُ غَيْرُ الذي باشَرَهُ. ولو جاء رجل وقال: أنا وَكِيلُ فلان في قَبُولِ نِكَاح فلانة بكذا، فَصَدَّقَهُ الوِلِيُّ والمرأة، وجرى النكاح وضمن مدعي الوِكَالَةِ الصَّدَاقَ (¬1)، ثم إِن فلانًا أَنْكَرَ وَصَدَّقْنَاهُ باليَمِينِ، فهل يطالب مدعي الوِكَالَةِ بشيء من الصَّدَاقِ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن مُطَالَبَةَ الأَصْلِ قد سَقَطَتْ، والضامِنْ فَرْعٌ. وأصحهما: ويُحْكَى عن نَصِّهِ في "الإملاء" أنه يُطَالَبُ بنصف الصَّدَاقِ؛ لأن المال ثَابِتٌ عليهما بزَعْمِهِ، وصاحبه ظالم في الإِنكار، فصار كما لو قال: لزيد على عَمْرو كذا، وأنا ضَامِنٌ، وأنكر عمرو ويجوز لزيدَ مُطالبة الضَّامِنِ والله أعلم. [فرع: في "فَتَاوَى البَغَويِّ" أنه إذا قال الوَليُّ للوكيل: لا تُزوّجْهَا إلا بِشَرْطِ أن ترهن بالصَّدَاقِ فلاناً، أو يَتَكَفَّلَهُ فُلاَنٌ، صَحَّ، وعلى الوكيل الاشتراط. فإن أَهْمَلَهُ، لم يَصِحَّ النكاح. ولو قال: زَوِّجْها بكذا وخُذْ به كَفِيلًا، فزوجها بلا شَرْطٍ، صح النِّكَاحِ؛ لأنه أمَرَهُ بأمرين امْتَثَلَ أَحَدَهُمَا. وإن قال: لا تُزوِّجْهَا إذا لم يَتَكَفَّلْ فلان، ينبغي ألا يصح التَّوْكِيلُ؛ لأن الكَفَالَةَ تَتَأَخَّرُ عن النكاح، وقد منع العَقْد إلا بها، وأنه إذا قال للوَكِيلِ: زَوِّجْهَا بألف وَجَارِيَةٍ، ولم يَصِفِ الجَارِيةَ، فزوجها الوَكِيلُ بألف، لم يَصِحَّ. ولو قال: زوجها بِخَمْرِ، أو خِنْزِيرٍ، أو مجهول، فَزَوَّجَهَا بألف دِرْهَمٍ، فإن كان ذلك نَقْدَ البَلَدِ، وَقَدْرَ مَهْرِ المِثْلِ، أو أكثر، صَحَّ النِّكَاحُ والمُسَمَّى، وإلاَّ فلا] ¬
الباب الثالث في المفوضة
الْبَابُ الثَّالِثُ فِي المُفَوِّضَةِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَنعْنِي بِالتَّفْوِيضِ إِخْلاَءَ النِّكَاحِ عَنِ المَهْرِ بِأمْرِ مَنْ يَسْتَحِقُّ المَهْرَ كَمَا إِذَا قَالَتِ البَالِغَة العاقلة: زَوِّجْنِي بِغَيْر مَهْرِ فَزَوَّجَ وَنَفيَ المَهْرَ أَوْ سَكَتَ عَنْ ذِكْرِهِ، وَكَذَا السَّيِّدُ إِذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ بِغَيْرِ مَهْرِ، وَأَمَّا تَفْوِيضُ السَّفِيهَةِ لا يُعْتَبَرُ في إِسْقَاطِ المَهْرِ، وَكَذَا الصَّبِيَّةُ، ثُمَّ المُفَوَّضَةُ تَسْتَحِقُّ عِنْدَ الوَطْءِ مَهْرَ المِثْلِ، وَهَلْ تسْتَحِقُّ بِالعَقْدِ؟ فِيْهِ قَوْلاَنِ، وَلا خِلاَفَ أنَّهَا لا تَسْتَحِقُّ الشَّطْرَ عِنْدَ الطَّلاَقِ إِلاَّ إِذَا جَرَى الفَرْضُ بَعْدَ العَقْدِ، وَلَوْ أَصْدَقَهَا خَمْراً تشَطَّر مَهْرَ المِثْلِ لأَنَّهُ كَالمَفْرُوضِ. قَالَ الرّافِعِيُّ: التفويض (¬1) أن يَجْعَلَ الأمْرَ إلى غيره، وَيكِلَهُ إليه، ويُقَال: إنه الإِهْمَالُ، ومنه [البسيط]: لاَ يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى ... .................... ¬
وتسمى المَرْأَةُ المُفَوِّضَةَ؛ لِتَفْوِيضِها أَمْرَهَا إلى الزَّوْجِ، أو الوَلِيِّ بلا مَهْرٍ، أو لأنها أَهْمَلَتِ المَهْرِ، ومُفَوَّضَةً؛ لأن الوَلِيَّ فَوَّضَ أَمْرَهَا إلى الزَّوْج؛ لأن الأَمْرَ في المَهْرِ مُفَوَّضٌ إليها إن شاءت نَفَتْهُ، وإلا فلا وصَدَّرَ صَاحِبُ الكتاب البَابَ بفصلين: أحدهما: في تصوير التَّفْوِيض. والثاني: في بيان حُكْمِ المَهْرِ إذا جَرَى التَّفْوِيضُ. أما الأَوَّل فقد قال الأصحاب: التَّفْوِيضُ ضَرْبَانِ: تفْوِيضُ مَهْرٍ، وتَفْويضُ بُضْعٍ فتفويض المَهْرِ، أن تقول [لوليها] (¬1) زوجني بما شِئْتَ [أو ما شئت أنا] (¬2) أو ما شاء الخَاطِبُ، أو فلان، فإن زوَّجَهَا على ما ذَكَرَتْ من الإبْهَامِ، فالحُكْمُ ما مَرَّ في الفَصْلِ السابق، وإن زوَّجَهَا بما عين المذكور من مَشِيئَتِهِ، صَحَّ المُسَمَّى، وإن كان دون مَهْرِ المِثْلِ، وإن زوَّجَهَا بلا مَهْرٍ، فَيَبْطُلُ النِّكَاحُ، أو يصح، ويجب مَهْرُ المثل؟. فيه الخِلاَفُ الذي بَيَّنَّا فيما إذا أَطْلَقَتِ الإِذْنِ، وزوج الوَلِيَّ بما دُونَ مَهْرِ المِثْلِ، والنِّكَاحُ في هذه الصورة غير خَالٍ عن المَهْرِ، وليس هذا التَّفْوِيضُ بالتَّفْوِيضِ الذي عُقِدَ له الباب. وأما تَفْوِيضُ البُضْعِ، فالمراد منه إِخْلاَءُ النِّكَاحِ عن المَهْرِ، وإنما يعتبر إِذْنُهَا إذا صَدَرَ من مُسْتحقِّ المَهْرِ، وذلك بأن تَقُولَ البالغة المالكة لأمرها ثَيِّبًا كانت أو بِكْرًا: زَوَّجْنِي بلا مَهْرٍ، أو على أن لا مَهْرَ لي، فَزَوَّجَهَا الولي، ونَفَى المَهْرَ أو سكت عنه، ولو قالت: زَوَّجْنِي، وسَكَتَتْ عن المهر فالذي ذكره الإِمام وغيره أن ذلك ليس بِتَفْويِضٍ؛ لأن النكاح يُعْقَدُ بالمهر في الغالب، فيحمل الإذْنُ على العَادَةِ الغَالِبَةِ، فكأنها قَالَتْ: زَوِّجْنِي بِالمَهْرِ ويوافقه ما تَقَدَّمَ، وفي بعض كُتُبِ العِراقيِّينَ ما تَقْتَضِي كَوْنَهُ تَفْوِيضًا (¬3)؛ لأن اللفظ لا يَتَعَرَّضُ إلا للنِّكَاحِ، وأنه يَنْعَقِدُ بِمَهْرٍ، وبغير مَهْر، بخلاف ¬
ذكر الثَّمَنِ في البيع لا يُحْتَاجُ إليه؛ لأن البَيْعَ لا يَخْلُو عنه، ومن التّفْوِيض الصحيح أن يقول سَيِّدُ الأمة: زَوَّجْتُهَا بلا مَهْرٍ، أَلْحَقُوا به ما إذا سكت عن ذكر المَهْرِ (¬1)، وقد يقوي بهذا ما ذكره العراقيون. ولو أَذِنَتْ في التَّزْوِيجِ على أن لا مَهْرَ لها في الحال، ولا عند الدُّخُولِ، ولا غيره، فَزَوَّجَها الولي كذلك، وقلنا بِظَاهِرِ المذهب وهو وُجُوبُ المَهْرِ، عند الدخول، ففي صحة النِّكَاحِ وجهان: أحدهما: المنع، ويحكى عن ابن أبي هُرَيْرَةِ -رضي الله عنه- لأن لا مَهْرَ لها بحال مَوْهُوبَةٌ، ونكاح المَوْهُوبَةِ مختصٌّ بالنَّبِيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-. وأشبههما: الصحة وعلى هذا، فهو تفْوِيضٌ فاسِدٌ، فيجب مَهْرُ المثل يُلْغَى النَّفْيُ في المستقبل ويقال: إنه تَفْوِيضٌ صَحِيحٌ؟ فيه وجهان: وبالأول: قال أبو إسحاق تَوْجِيهًا بأنّه شَرْطٌ فَاسِدٌ، والشَّرْطُ الفَاسِدُ في النكاح يُوجِبُ مَهْرَ المِثْلِ (¬2)، ولو أنكحها الولي، ونَفَى المَهْرَ، من غير أن تَرْضَى هي بِمَهْرِ المِثْلِ، فهو كما لو نقص عن مَهْرِ المِثْلِ (¬3)، فإن كان مُجْبَرًا، فَيَصِحُّ النِّكَاحُ، ويجب مَهْرُ المِثْلِ، أو يبطل فيه قولان. وإن كان غير مُجْبَرٍ، فيجري القولان، أو يُجْزَمُ بالبُطْلاَنِ؟ فيه طريقان وقد سَبَقَ جميع ذلك عن ابن أبي هُرَيْرَةَ أن يَصِحُّ تفويض الوَليِّ المجبر، إذا صححنا عَفْوَهُ. ولا يَصِحُّ تَفْوِيضُ السَّفيهَةِ المَحْجُورِ عليها، ولا تَفْوِيضُ الصَّبِيَّةِ، وإن كانت مُمَيِّزَةً، وتَفَّوِيضُهَا في المهر لعدم التفويض. وأشار في الكتاب بقوله: تَفْويِض السَّفِيهَةِ لا يُعْتَبَرُ في إسقاط المهر" إلى أنها إذا قالت: زَوِّجْنِي بلا مَهْرٍ، يستفيد به الإِذن في النكاح، فلا يَلْغُو قَوْلُهَا على الإِطلاق، وإنما يَلْغُو فيما يرجع إلى المَهْرِ. ¬
الفصل الثاني في حكم المهر إذا جرى التفويض
ولو نَكَحَهَا على أن لا مَهْرَ لها، ولا نَفَقَةَ، أو على أن لا مَهْرَ لها، وتُعْطِي زوجها الْفاً، فهذا أبْلَغُ في التفويض، ولو قالت للولي: زوجني بلا مَهْرٍ، فزوجها بالمهر، نظر إن زوَّجَهَا، بِمَهْرِ المِثْلِ من نَقْدِ البَلَدِ، صح المسمى، وإن زَوَّجَهَا بدون مَهْر المِثْلِ، أو بغير نَقْدِ البلد، لم يَلْزَمِ المسمى، وكان كما لو نَكَحَهَا على صُورَةِ التَّفْوِيضِ. " الفَصْلُ الثَّانِي" "في حُكْمِ المَهْرِ إِذَا جَرَى التَّفْوِيضُ" وفيه مسألتان: إحداهما: هل تَسْتَحِقّ المُفوَّضَةُ المَهْرَ بنفس العَقْد؟ فيه طريقان: أظهرهما: وهو المَذْكُورُ في الكتاب أنه على قولين (¬1) أنه لا يَجِبُ بِنَفْس العَقْدِ شَيْءٌ؛ لأن المَهْرَ حَقُّهَا، فإذا رَضِيَتْ بأَلاَّ يَثْبُتَ وجب ألا يَثْبُتَ، كما أنها إذا رَضِيَتْ بأَلاَّ ينفي. والثاني: يَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ؛ لأنا نحكم لها بالمَهْرِ عند الوطء، والوطء لا يجوز أن يُوجِبَ المَهْرَ؛ لأَن المَهْرَ إذا لم يجب بالعَقْدِ يكون الوطء تَصَرُّفًا فيما مَلَكَهُ بغَيْرِ بَدَلٍ، والتَّصَرُّفُ فيما يَمْلِكُهُ بغير بدل لا يُوجِبُ ضَمَانًا، كما إذا وَهَبَ منه الطَّعَامَ، فأكله. والثاني: القَطْعُ بالقول الثاني، وإذا قلنا بالطريقة الأُولَى، فما حال قَوْلِ الوُجُوبِ؟. أشار الشيخ أبو مُحَمَّدٍ: إلى أنه مَنْصُوصٌ، والأظهر أنه مُخَرَّجٌ، واختلفوا في أنه مم مخرج من القول بوجوب المَهْرِ، فيما إذا مات أَحَدُ الزوجين في صُورَةِ التَّفْوِيضِ على ما سيأتي. ووجه التَّخْرِيج أن المَوْتَ لا يَصْلُحُ مُوُجبًا، بدليل الموت في النِّكَاحِ الفَاسِدِ، وإذا لم يَحْصُلُ الوُجُوبُ بالموت [كان سابقًا] (¬2) عليه، وقيل: هو مُخَرَّجٌ من قولنا: إنه لا بدّ في الفَرْضِ من العِلْمِ بِمَهْرِ المِثْلِ، وذلك يَدُلُّ على أن المَفْرُوضَ بَدَلٌ ينتقل إليه عن المَهْرِ الواجب. فإن قلنا: لا يجب بالعَقْدِ، فلو وَطِئَهَا، يجب مَهْرُ المثل؛ لأن البُضْعَ لا يَتَمَحَّضُ حَقّاً للمرأة، بل فيه حَقُّ الله -تعالى- ألا ترى أنه لا يُبَاحُ بالإِبَاحَةِ، فَيْصَانُ عن التَّصَوُّرِ ¬
بصورة المُبَاحَاتِ، وأيضًا فإن الزِّنَا لو شرط فيه مَالٌ لا يثبت؛ لأن المَالَ لا يَتَعلَّقُ به شَرْعًا، فكذلك الوطء المحترم إذا نُفِيَ عنه، وجب ألا يَنْتَفِي؛ لأنه يَتَعَلَّقُ به المَالُ شَرْعًا وفيه وجه أنه لا يَجِبُ بالوَطَءِ مَهْرٌ خرجه القاضي الحُسَيَنُ، فيما إذا وَطِئَ المُرْتَهِنُ الجَارِيَةَ المَرْهُونَةَ بِإذْنِ الرَّاهِنِ ظَانًا أنها تُبَاحُ بالإذْنِ، حيث لا يَجِبُ المَهْرُ في أحد القولين، والجامع حُصُولُ الإِذْنِ من مالك البُضْعِ، وصوت التَّفْويِضِ أَوْلَى، بألا يجب فيها المهر؛ لأن الإِذْنَ فيها إِذْنٌ في وَطْءٍ مباح، بخلاف إذن المرتهن، وموضع هذا التخريج على ما حَكَاهُ أكثر من رَوَاهُ. ومنهم صاحب "التتمة" ما إذا جَدَّدَتُ الإِذْنَ في الوَطْءِ، وصَرَّحَتُ بِنَفْي المَهْرِ، دون ما إذا لم يَجْرِ سوى التَّفْوِيضِ، ودون ما إذا جددت الإِذْنَ ولم تُصَرَّحُ بنَفْيَ المَهْرِ، وقياس مَسْأَلَةِ الرّهْنِ ألا يحتاج إلى التَّصْرِيحِ، والتقييد بنفي المَهْرِ. قال الإِمام: والقِيَاسُ ألا يُشْتَرَطَ تَجْدِيدُ الإِذْنِ؛ لأن النِّكَاحَ على صُورَةِ التفويض أَثْبَتُ الاستحقاق لِلزَّوْجِ بلا عِوَضِ، والإذْنُ المجرد لا يُصَادِفُ حَقَّهَا، قال: وقد رَأَيْتُ في بعض المَجْمُوعاتِ ما يَدُلُّ على طرد التخريج، وإن لم يُوجَدْ إِذْنٌ جديد. وإذا قلنا بظاهر المذهب، وأَوْجَبْنَا مَهْرَ المِثْلِ، فالاعتبار بِحَالَةِ العَقْدِ، أم بحالة الوَطْءِ؟! فيه وجهان أو قولان: أحدهما: أن الاعتبار بحال الوطء فإن الوطء هو الذي لا يُعَرَّى عن المَهْرِ، أما العَقْدُ فَيُعَرَّى. وأَصَحُّهُمَا (¬1): على ما ذكر الرُّوَيانِيُّ، وهو الذي أَوْرَدَهُ ابن الصَّبّاغ أنه يُعْتَبَرُ حَالَةُ العَقْدِ، وَوجِّهُوهُ بأن العَقْدَ هو الذي اقْتَضَى الوجوب عند الوَطْءِ، واسْتَنبَطَ الإِمَامُ من هذا الخلاف مَسْلَكَيْنِ: أحدهما: أنَّا نَتَبَيَّنُ بجريان الوَطْءِ وُجُوبَ المَهْرِ بالعَقْدِ، وعلى هذا فالأَمْرُ مَوْقُوفٌ إن ارتفع النِّكَاحُ، ولم يجر وطءَ تبينا أن المَهْرَ لم يَجِبْ بالعَقْدِ، وإن جرى بَانَ وُجُوبُهُ بالعَقْدِ. والثاني: أن يُقْطَعَ بِخُلُوِّ العَقْدِ عن المَهْرِ، ووجوبه بالوطء، ويجعل الخلاف في أن الاعْتِبارَ بحالة العَقْدِ، أم بحالة الوَطْءِ، كالخلاف في أنا إذا أَوْجَبْنَا في الجَنِينِ الرَّقِيقِ عُشْرَ قيمة الأم، تُعْتَبَرُ قِيمَتُها يوم الجِنَايَةِ، أم يوم الانْفِصَالِ واعلم أن قَضِيَّةَ القَوْلِ باعتبار حَالَةِ العَقْدِ إِيجابُ مَهْرِ ذلك اليوم، سواء كان أقل أو أكثر، لكن ذَكَرَ المُعْتبرون إنه إن كان أكثر أَوْجَبْنَاهُ وإن كان أَقَلَّ لم يقتصر عليه, لأن البُضْعَ دَخَلَ بالعَقْدِ في ضَمَانِهِ، فإذا اقترن به ¬
الإِتْلاَفُ أوجبنا أكثر ما يكون عِوَضًا، كما إذا قَبَضَ شَيْئًا لشراء فاسد، وأَتْلَفَهُ يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ قِيمَتِهِ، من يوم القبض إلى الإِتلاف وعلى هذا، فالعِبَارَةُ المُطابِقَةُ لِلْغَرْضِ أن يقال: يجب أكبر مَهْرٍ، من يوم العقد إلى الوطء أو أكبر مَهْرٍ، من يوم العقد، ويوم الوطء. وذكر الحناطيُّ نحوًا منه. ولو مات أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قبل المَسِيس، وقبل أن يُفْرَضَ لها مَهْرٌ، فهل يجب مَهْرُ المِثْلِ؟ روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى في بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ -وقد نُكِحَتْ بغير مَهْرٍ، فمات زوجها [قبل أن يَفْرِضَ لها] (¬1) -: "بمهر مثيلاتِهَا وبالميراث" (¬2) ولكن في رُواتِهِ اضْطِرابٌ قيل: رَوَاهُ مَعْقِلُ بن يَسَارٍ. وقيل: ابن يَسَارٍ. وقيل: رجل من أَشْجَعَ، أو ناس من أَشْجَعَ، فظهر لذلك تُرَدُّدٌ في كلام الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه- وللأصحاب -رحمهم الله- طُرُقٌ: أحدها: أنه إن ثَبَتَ الحَدِيثُ وَجَبَ المَهْرُ، وإلا فقولان. والثاني: إن لم يثبت لم يجب، وإن ثَبَتَ، فقولان. والثالث: إن ثَبَتَ وَجَبَ، وإلا فلا وهو ظَاهِرُ لَفْظِهِ في "المختصر". وأشبههما وأظهرهما: إِطْلاَقُ قولين في المَسْأَلَةِ، وبه قال أصحابنا العِرَاقِيُّونَ والحَلِيميُّ: أحدهما: وبه قال مالك -أنه لا يَجِبُ المَهْرُ؛ لأن المَوْتَ فُرْقَةٌ وَرَدَتْ على نِكَاحِ تَفْوِيضٍ، قبل الفرض والوطء، فلا يجب المَهْرُ كالطلاق. والثاني: يَجِبُ، وبه قال أحمد؛ لأن المَوْتَ بِمَثَابَةِ الوطء في تقرير المُسَمَّى، فكذلك في إيجَابِ المَهْرِ في صورة التَّفْوِيضِ، وهذا يُوافِقُ مَذْهَبَ أبي حَنِيْفَةَ؛ لأنه يقول ¬
بوجوبه بالعَقْدِ، وتقريره بالموت، وما الأظهر من القولين؟. ذكر المُتَوَلِّي أن الأظهر الوُجُوبُ، ويقال: إنه اختيار صاحب "التقريب"، وأنه صحح الحديث وقال: الاخْتِلاَفُ في الرُّوَاةِ لا يَضُرُّ؛ لأن الصحابة عُدُولٌ كلهم، ولأنه يحتمل أن بعضهم نَسَبَهُ إلى أبيه، وبعضهم إلى جَدٍّ لَهُ قَرِيبٍ أو بَعِيدٍ، وبعضهم إلى قَوْمِهِ وقَبِيلَتِهِ. والذي رَجَّحَهُ أصحابنا العراقيون أنه لا يجب (¬1)، وبه أخذ الإِمَامُ، وصاحب "التهذيب"، والقاضي الرُّويَانِيُّ. وإذا قلنا بالوجوب فيجب مَهْرُ المِثْلِ، باعتبار يوم العَقْدِ، أو يوم المَوْتِ، أو أقصى مَهْرٍ؟ حكى الحناطي فيه ثلاثة أوجه (¬2). المَسْأَلَةُ الثَّانِيَة: لو طَلَّقَها قبل الدُّخُولِ بها، نظر إن لم يَفْرِضْ لها بَعْدُ، فلا تَسْتَحِقُّ شَطْرَ المَهْرِ، إن قلنا: لا يجب المَهْرُ بالعَقْدِ، ولكنها تَسْتَحِقُّ المُتْعَة، على ما سيأتي وإن قلنا: يجب مَهْرُ المِثْلِ بنفس العَقْدِ، فعن الشيخ أبي مُحَمَّدٍ وهو المذكور في "التتمة" أنه يُشَطَّرُ كالمُسَمَّى الصحيح في العَقْدِ، وكَمَهْر المِثْلِ، إذا جَرَتْ تسمية فَاسِدَةٌ، والمشهور أنه يَسْقُطُ المَهْرُ إلى المُتْعَةِ، واسْتَثْنَوْا صورة التَّفْويضِ، على القول بوجوب المَهْرِ، عن تَشَطَّرِ مَهْرِ المِثل بالطلاق، وإن طَلَّقَها بعد الغَرْضِ تَشَطَّر المَفْرُوضُ، كالمسمى في العَقْدِ. وعند أبي حنيفة يسقط المفروض، وتجب المُتْعَةُ. وقوله في الكتاب: "ولا خِلاَفَ أنها لا تَسْتحِقُّ الشَّطْرَ عند الطلاق" اتبع فيه الإِمَامَ، فإنه قال بعد نَقْل التَّشَطُّرِ عن شيخه: وهذا قِيَاسٌ حكى، لكنه خِلاَفُ ما عليه الأصْحَابُ، فهو غير مُعْتَدٍّ به، ولا يلتحق بالوجوه الضعيفة، فَحَصَلَ في المَسْأَلَةِ طريقان: قاطع بمنع التَّشَطُّرِ، وصَائِرٌ إلى الخلاف. وقوله: "لو أصدقها خَمْرًا تَشَطَّرَ مَهْرُ المِثْلِ" ليس المُرَادُ منه ما إذا فَرَضَ الخَمْرَ في دوام نِكَاحِ المُفَوِّضَةِ، فهذه الصورة مَذْكُورَةٌ: من بَعْدٌ وإنما المراد ما إذا سَمَّى في الابتداء خَمْرًا، وسبب ذكر هذه المَسْأَلَةِ أنه احتج في "الوسيط" لعدم التَّشَطُر بأن القِيَاسَ سُقُوطُ جميع المَهْرِ بالطلاق، إلا أن الله تعالى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فَشَطَّرْنا بهذا النص ما سَمَّى وفرض، ثم بَيَّنَ أن تَشَطُّرَ مَهْرِ المِثْلِ إذا سمي خَمْرًا خارج عن هذه ¬
القَضِيَّةِ؛ لأن تسمية الخمر تُثْبِتُ أَصْلَ المَهْرِ، فالْتَحَقَ بالمسمى المفروض، فبقيت الصُّورَةُ مُدْرَجَةً من خلال هذه المَسَائِلِ، وإن لم يذكر الاحتجاح. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَمَعْنَى الفَرْضِ تَعْينُ الصَّدَاقِ أَوْ تَقْدِيرُهُ وَكَانَ الوَاجِبُ بِالعَقْدِ أَوْ بِالمَسِيسِ المُنْتَظَرِ مَهْرَ المِثْلِ أَوْ مَا تَرَاضَى بِهِ الزَّوْجَانِ أَحَدُهُمَا لا بِعَيْنِهِ، وَلِلمَرَّأَةِ عَلَى القَوْلَيْنِ طَلَبُ الفَرْضِ لِتَقْرِيرِ الشَّطْرِ أَوْ لِتَعْرِيفِ ما سَيَجِبُ بِالمَسِيسِ، وَلَهَا حَبْسُ نَفْسِهَا لِلفَرْضِ لاَ لِتَسْلِيمِ المَفْرُوضِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ العِلْمِ بِمَهْرِ المِثْلِ عِنْدَ الفَرْضِ؟ فِيْهِ وَجْهَانِ، وَهَلْ يَجُوزُ إِثْبَاتُ الأَجَلِ في المَفْرُوضِ؟ وَجْهَانِ، وَهَلْ يَجُوزُ إِثْبَاتُ زِيادَةٍ عَلَى مَهْرِ المِثْلِ إِذَا كَانَ الفَرْضُ مِنْ جِنْسِهِ؟ وَجْهَانِ، وَلا خِلاَفَ فِي أنَّهُ يَجُوزُ تَعْيينُ عَرْضٍ يُسَاوِي أَضْعَافَ مَهْرِ المِثْلِ، وَلَوْ أَبْرَأَتْ قَبْلِ الفَرْضِ جَازَ عَلَى قَوْلِ الوُجُوبِ بِالعَقْدِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ بِالوَطْءِ خُرِّجَ عَلَى قولي الإِبْراءِ عَمَّا لَمْ يَجِبْ وَجَرَى سَبَبُ وُجُوبِهِ، وَلَوْ قالَتْ: اسْقَطْتُ حَقَّ الفَرْضِ لَمْ يَسْقُطْ، وَلَوْ فَرَضَ لَهَا خَمْرًا لَغَا الفَرْضَ وَلَمْ يُؤَثِّرْ في التَّشْطِيرِ بِخِلاَفِ المَقْرُونِ بِالعَقْدِ، وَلَوِ امْتَنَعَ مِنَ الفَرْضِ فَرَضَ القَاضِي بِنِيَابَةٍ قَهْريَّةٍ وَلا يَزِيدُ عَلَى مَهْرِ المِثْلِ، وَلَوْ فَرَضَ الأَجْنَبِيُّ صَحَّ وَلَزِمَهُ المَفْرُوضُ كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِالأَدَاءِ، وَقِيلَ: لاَ يَصِحُّ فَرْضُ الأجْنَبِيِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا لم يوجب المَهْرَ لِلْمُفوِّضَةِ بنفس العَقْدِ، وهو الصحيح، فلها مُطَالَبَةُ الزوج بِفَرْضِ مَهْرٍ قبل المَسِيسِ، لتكون على ثَبْتٍ من تسليمِ نَفْسِهَا، وتَعْرِفُ أنها عَلاَمَ تُسَلِّمُ نَفْسَها، وقد تَتَوقَّعُ المَرْأَةُ زِيادَةً على مَهْرِ المثل، وإن أوْجَبْنَاهُ بنفس العَقْدِ، فمن قال: إنه يَتَشَطَّرُ بالطَّلاَقِ قبل المَسِيسِ، قال: ليس لها طَلَبُ الفَرْضِ، ولكن تطالب بالمَهْرِ نَفْسِهِ، كما لو وَطِئَهَا، ووجب مَهْرُ المثل، تُطَالِبُ به لا بالفَرْضِ، ومن قال: لا يَتَشَطَّرُ، قال: لها طَلَبُ الفَرْضِ ليتقرر الشَّطْرُ، فلا يَسْقُطُ لو طلقها قبل المَسِيسِ، وهذا هو الأَظْهَرُ، والمذكور في الكتاب، ويجوز لها أن تَحْبِسَ نَفْسَها لِلْفَرْضِ، وهل لها الحَبْسُ لتسليم المَفْرُوضِ الذي حَكَاهُ الإِمَامُ عند الأصحاب، وأَوْرَدَهُ صاحب الكِتَابِ أنه ليس لها ذَلِكَ؛ لأنها قد سَامَحَتْ بِالمَهْرِ، فكيف يَلِيقُ بها المُضَايَقَةُ في التَّقْدِيم والتأخير. وقال القاضي الرُّويَانِيُّ: ظَاهرُ المَذْهَب أن لها حَبْسَ نَفْسِهَا حتى يسلم المَفْرُوضَة، كالمسمى في العَقْدِ ابْتِدَاءً، وهذا هو الجَوَابُ في "التهذيب". واعلم أن الفَرْضَ إما أن يُوجَدَ من الزَّوْجِ، أو من القاضي، أو من أَجْنَبِيٍّ، فهذه ثلاثة أَقْسَامٍ: الأول: إذا فَرَضَ الزَّوْجُ، ينظر إن لم تَرْضَ به المَرْأَةُ، فكأنه لم
يَفْرِضْ (¬1) شيئًا، وفيما علق عن الإِمام أنه لا يُشْتَرَطُ القَبُولُ منها، بل يكفي طَلَبْهَا وإسْعَافُهُ، وليكن هذا فيما إذا طَلَبَتْ عَيْنًا، أو ذكرت مِقْدارًا، فأجابها أما إذا أَطْلَقَتِ الطلب، فلا يلزم أن تكون راضِيَةً بما يُعيِّنُهُ أو يُقَدِّرُهُ، وإذا تَرَاضَيَا على مَهْرٍ، فينظر إن كانا جاهلين بقدر مَهْرِ المِثْلِ، أو جَهِلَهُ أحدهما، ففي صحة الفَرْضِ قولان عن "الإِملاء" والقديم: أنه يَصِحُّ، وعن "الأم" (¬2) أنه لا يَصِحُّ، وذكروا في مَأْخَذِهِما ثَلاثَةَ طرق، عن الشيخ أبي حَامِدٍ أنهما مَبْنيَّانِ على أن المُفَوِّضَةَ تَمْلك بالعقد أن تملك مَهْرَ المِثْلِ، وتملك أن تملك مَهْرًا ما، وفيه قولان، وَجْهُ الأَوَّلِ أن الزوج مَلَكَ بُضْعَهَا، فَتَمْلِكُ مُطالَبَتَهُ بِبَدَلِهِ. ووجه الثَّانِي أنه لاَ بُدَّ من مَهْرٍ، لكن لا تَقْدِيرَ عند التَّسْمِيَةِ، فكذلك عند الفَرْضِ، فإن قلنا بالأول، [فالمفروض] (¬3) بَدَلٌ عنه، ولا بدّ من العِلْم بالمُبْدَلِ، وإن قلنا بالثاني، فلا حاجَةَ إليه، وهذه الطَّرِيقَة مُؤسَّسَةٌ على أنه لا يَجِبُ المَهْرُ بالعَقْدِ. والثاني: بِنَاءُ القَوْلَيْنِ على أن المُفَوِّضَةَ تَسْتَحِقُّ المَهْرَ بالعقد أم لا؟. إن قلنا: نعم، فالمفروض بَدَلٌ عنه فلا بد من العِلْمِ بالبَدَلِ، وإن قلنا بالثاني فلا حَاجَةَ إليه. والثالث: بِنَاؤُهُمَا على أن المَفْرُوضَ يجب بالفَرْضِ ابْتِدَاءً، أم يَسْتَنِدُ إلى حَالَةِ العَقْدِ؟ وفيه خلاف سبق مِثْلُهُ فيما إذا وَطِئَ، فوجب المَهْرُ، ورَجَّحَ القاضي الرُّويَانِيُّ من القولين اعْتِبارَ عِلْمِ الزوجين، والجُمْهُورُ على خِلاَفِهِ. وإن كانا عالِمَينِ بَقَدْرِ مَهْرِ المثل صح ما يَفْرِضَانِهِ، نعم هل يجوز إِثْبَاتُ الأَجَلِ في المَفْرُوضِ؟. نقل فيه وجهان: وجه المنع أن الأَصْلَ مَهْرُ المِثْلِ، ولا مَدْخَلَ لِلأَجَلِ فيه، وكذلك في بَدَلِهِ، والأصح ثبوته كما في المْسَمَّى، وفي الزيادة على مَهْرِ المِثْلِ وجهان أيضًا، بنَاءً على أن مَهْرَ المِثْلِ هو الأصْلُ فلا يُزَادُ البَدَلُ عليه. والأصح الجَوَازُ، به قطع جَماعَةٌ، والخلاف فيما إذا كان المَفْروضُ من جِنْسِ مَهْرِ المِثْلِ، فأما تَعْيينُ عِوَضٍ يزيد قيمته على مَهْرِ المِثْلِ، فقد نَفَوْا الخَلاَفَ في جَوَازِهِ، وكان سَبَبُهُ أن الزِّيَادَةَ هاهنا غير مُتَحَقَّقةٍ، والقِيمُ تَرْتَفِعُ وَتَنْخَفِضُ. ¬
القسم الثاني: فرض القاضي
" القِسْمُ الثَّانِي: فَرْضُ القَاضِي" وذلك إذا امْتَنَعَ الزَّوْجُ من الفَرْضِ فَيَنُوبُ القاضي عنه قَهْرًا، وكذلك لو تَنَازَعَا في القَدْرٍ المَفْرُوضِ فيفرضه القاضي، ولا يَفْرِضُ إلا من نَقْدِ البَلَدِ، حَالاًّ، فإن رَضِيَتْ المَرْأةُ بالتَّأْجِيلِ لم يُؤَجِّلْ أيضًا، وتُؤَخِّرُ هي إن شَاءَتْ، ولا يزيد على مَهْرِ المِثْلِ، ولا ينقص، كما في قِيَمِ المُتَلَفَاتِ (¬1)، نعم الزِّيَادَةُ والنقصان بالقدر اليَسِيرِ الذي يَقَعُ في مَحَلِّ الاجْتِهادِ لا عِبْرَةَ به، ولا بدّ من عِلْمِهِ بِقَدْرِ مَهْرِ المثل حتى لا يزيد ولا ينقص. قال الشيخ أبو الفَرَج: وإذا فَرَضَ القاضي لم يتوقف لزومه على رضاهما، فإنه حُكْمُ منه، وحُكْمُ القاضي لا يَفْتَقِرُ لُزُومُهُ إلى رِضَا الخُصُومِ. الثاني: فرض الأجنبي، فإذا جاء أَجْنَبِيٌّ، وفرض لِلْمُفَوَّضَةِ مَهْرًا، يعطيه من مالِ نفسه برضاها، ففي صحته وجهان:. أصحهما: عند الإِمَامِ وغيره: المنع (¬2)؛ لأنه تَعْيينَ لما يَقْتَضِيهِ العَقْدُ، وتصرف فيه، فلا يَلِيقُ بِغَيْرِ المتعاقدين، إلا إذا فُرِضَتْ وِكَالَةُ أو وِلاَيَةٌ. والثاني: يصح؛ لأنه يجوز للأجْنَبِيِّ أن يُؤَدِّي الصداق عن الزوج بغير إذْنِهِ، فكذلك يَجُوزُ أن يفرض، وَيلْتَزِمَ بغير إِذْنِهِ، وقَرَّبَ صاحب "التتمة" هذا الخَلاَفَ من الخِلاَفِ فيما إذا أصْدَقَ عن أَبِيهِ أكثر من مهْرِ المِثْلِ هل يجوز؟. وذكروا تَفْرِيعًا على الصِّحَّةِ أنها تُطَالِبُ الأَجْنَبِيِّ بالمَهْرِ المَفْرُوضِ، ويسقط طَلَبُ الفَرْضِ عن الزوجِ [وينبغي أن يُشْتَرَطَ للصحة رِضَاهَا، فإنا شَرَطْنَا الرِّضَا في فَرْضِ الزوج] (¬3) ففي فرْضِ الأجنبي أَوْلَى، ولو طَلَّقَها الزَّوْجُ، قبل المَسِيسِ، فَنِصْفُ المفروض يَعُودُ إلى الزوج، أو إلى الأجنبي؟ فيه وَجْهَانِ، كما ذكرنا فيما إذا تَبَرَّعَ أجنبي بأداءِ المُسَمَّى، ثم طلق الزوج قبل المسيس، ووراء ما ذكرنا في الفَصْلِ مَسْأَلَتَانِ: إحداهما: إذا أَبْرَأَتِ المْفَوِّضَةُ عن المَهْرِ قبل الفَرْضِ والمسيس، فإن قلنا: يجب المَهْرُ بالعقد، صح الإِبْرَاءُ، إن كان مَهْرُ المثل مَعْلُومًا لها، وان كان مَجْهُولًا، ففي ¬
فرع
صحة الإِبْرَاءِ عن المجهول قولان مذكوران في الضمَان: الأصح المنع، وإذا قلنا به، فذلك فيما يَزِيدُ على القَدْرِ المسْتَيْقَنِ، وفي المُسْتَيْقَنِ وَجْهَانِ، ويقال: هما مَأْخُوذَانِ من تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وإن قلنا: لا يجب المَهْرُ بالعَقْدِ، فقد قال في الكتاب: إنه إبراء مما لم يجب، وجرى سَبَبُ وجوبه، وفيه قولان كالقولين في ضَمَانِ مِثْلِ ذلك، والأصح الفَسَادُ وقد بَيَّنَّا في الضمان ما ينبغي أن ينزِل عليه. قوله: "وجرى سَبَبُ وجوبه ولو قالت أسقطت حق الفرض لم يَسْقُطْ" كما لو أَسْقَطَتْ زَوْجَةُ المولى حَقَّهَا من مُطَالَبَةِ الزوج، وهذا لأن ثُبُوتَ المَهْرِ عند العَقْدِ، أو عند الوطء لا يَبْطُلُ بإسْقَاطِهَا، وحق طَلَب الفرض تَابعٌ له، ولو أَبرَأَتْ عن المُتْعَةِ قبل الطَّلاَقِ، فهو إِبْرَاءٌ: قبل الوجوب، وإن أَبْرَأَت بعده، فهو إِبْرَاءٌ عن المَجْهُولِ، ولو نكح إمْرَأةً على خَمْرٍ، أو خنزير، وابْرَأَتْهُ عن المسَمَّى الفاسد، فهو لَغْوٌ؛ لأن الواجب غَيْرُهُ، وإن أَبْرَأتْهُ عن مَهْرِ المِثْلِ، وهي عالمة به صَحَّ. " فرع" يَتَيقَّنَ أن مَهْرَها لا يَنْقُصُ عن أَلْفٍ واحتمل أن يزيدَ عليه إلى ألفين، ورَغباً في البَرَاءَةِ، فينبغي أن تُبْرِئَهُ عن ألفين، قاله في "التهذيب" وإن قَبَضَتْ ألفًا، وأَبْرَأَتْهُ من ألف إلى ألفين، فإن بَانَ أن مَهْرَها ألف، أو فَوْقَ الألف إلى ألفين، فالبَرَاءَةُ حَاصِلَةٌ، وإن بَانَ أنه فوق ألفين، فعليه الزيادة [وحصلت البراءة من ألفين] (¬1) والقول بحصول البَرَاءَةِ إذا بانَ فوق الألْفِ إلى الألفين -جَوابٌ على أنه إذا قال: ضمنت من واحد إلى عشرة، أو أبرأت، صَحَّ الضَّمَانُ والإبْرَاءُ، وهو الأَصَحُّ، ولو دفع الزَّوْجُ إليها ألفين، وحَلَّلَ لها ما بين ألف وألفين، حَلَّ لها ذلك إن بَانَ فوق الألْفِ إلى الألفين، وإن بَانَ دون الألف، فعليها رَدُّ قَدْرِ قيمة التَّفَاوُتِ بين مَهْرِها، وبين الألف, لأنه لم يَدْخُلْ في التحليل، ويحصل الفرْضُ من جهة [الزوجة بلفظ التَّحْلِيلِ والإبْرَاءِ، أو الإِسقاط والعفو، وأما من جِهَةِ] (¬2) الزوج، فَلا بُدَّ من لَفْظٍ صَالِح لتمليك الإِعْيَانِ، فإن تصرفت في المَدْفُوعِ، وصار الزَّائِدُ دَيْنًا جَرَتْ فيه الأَلْفَاظُ. " فرع" قال لمن عليه أَلْفُ درهم: أَبْرَأتُكَ عن ألف دِرْهَمٍ، ثم قال: لم أعلم وَقْتَ الإِبراء أنه كان لي عليه شيء لم يُقْبَلْ قوله في الظاهر، وفي الباطن وجهان. ¬
قال الإِصْطَخرِيُّ: لا يقبل أيضًا؛ لأنه وَرَدَ على مَحَلِّ حَقِّهِ. وقال غيره: يقبل؛ لأن عنده أَنَّ ما جرى ليس بِإِبْرَاءٍ حَقِيقَةً، والخلاف مَأْخُوذٌ من الخلاف فيما إذا باع مَالَ أبيه على ظَنِّ أنه حَيٌّ، فَبَانَ مَيِّتًا. المسْأَلَةُ الثَّانِيَة: ذكرنا أن المَفْرُوضَ فَرْضًا صَحِيحًا كالمُسَمَّى في العَقْدِ، حتى يَتَشَطَّرَ بالطلاق قبل المَسِيسِ (¬1)، أما إذا فرض فَرْضًا فاسِدًا بأن ذَكَرَ خَمْرًا، أو خِنْزِيرًا لَغَا ولم يُؤَثِّرْ في تَشْطِيرِ مَهْرِ المِثْلِ إذا طَلَّقَ قبل المَسِيسِ، بخلاف التَّسْمِيَةِ الفاسدة المقرونة بالعَقْدِ، حيث نوجب مَهْرَ المِثْلِ، وتشطره بالطلاق قبل المَسِيسِ، والفرق أن الحَالَ هناك حَالُ ابْتِدَاءِ مِلْكِ البُضْع، وقد ذكرا في مُقَابَلَتِهِ عِوَضًا، فلا يمكن إِخْلاَؤُهُ عن العِوَضِ، وإذا وجب العِوَضْ تشَطَّرَ وهنا الحال حَالُ دَوَام المِلْكِ، وقد خلا ابْتِداؤُهُ عن العِوَضِ، فإن وجِدَ فَرْضٌ صحيح، اعْتُبِرَ، وإلا بَقِيَ الأمْرُ على ما كان عليه، وطُولِبَ بالفرْضِ الصحيح، وأما لَفْظُ الكتاب فقوله: "ومعنى الفْرْض تعيين الصَّدَاقِ، أو تقديره" إلى قوله: "أحدهما لا بعينه" أراد به أن البُضْعَ، وإن أبِيحَ بلا عِوَضٍ لا يُبَاحُ إلا بالعِوَضِ، وذلك العِوَضُ إما ما يتراضى به الزَّوْجَانِ، أو مَهْرُ المِثْلِ الذي هو قِيمَةُ البُضْعِ، فكأن الشَّارعَ على قَوْلِ الوجوب بالعَقْدِ، يقول: إن تَرَاضَيْتُمْ، في ابْتِدَاءِ العَقْدِ، على شيء فذاك، وإلا أوجبت مَهْرَ المِثْلِ، وعلى قول آخر يقول: إن اتّفَقْتُمْ على شَيْءٍ قبل الوطء، فهو الوَاجِبُ، وإلا لم أُخَلِّ الوَطْءَ عن المَهْرِ، وأوجبت مَهْرَ المِثْلِ، فالواجب أحدهما لا بِعَيْنِهِ، ويجوز أن يُعَلَّمَ قوله: أحدهما لا بعينه [بالواو؛ لأن في "الوسيط" وغيره ذِكْرُ تَرَدُّدِ في أن الوَاجِبَ أَحَدُهُمَا لا بِعَيْنِه] (¬2) أو الأصل مَهْرُ المثل، والمفروض بَدَلٌ عنه، كالتَّرَدُّدِ في أن مُوجِبَ العَمْدِ القِصَاصُ، أو الدية أو موجبه القصاص والدية بَدَلٌ عنه. وقوله "تَعْيينُ الصَّدَاقِ أو تقديره" يمكن أن يُرِيدَ به تَعْيينَ القَدْرِ، فيكون في المَعْنَى كالتَّقْدِيرِ، والجمع بينهما إيضاح وتأكيد، ويَجُوزُ أن يُرِيد تعيين الذَّاتِ، وَيحْسُنُ على هذا أن يُحْمَلَ التعيين على ما إذا فَرَضَ عَيْنًا، والتَّقْدِيرُ على ما إذا فَرَضَ دَيْنًا. وقوله: "على القولين" مُعَلَّمٌ بالواو؛ لما حَكَيْنَا أن منهم من يَقُولُ: ليس لها طَلَبُ الفرض (¬3) على قول الوجوب بالعَقْدِ. وقوله: "لتقرير الشَّطْرِ" أي: على قول الوُجُوبِ بالعَقْدِ، وهذا التعليل مَبْنِيُّ على ¬
فرع
قَوْلِ من لا يقول بالتَّشَطُّرِ لو طَلَّقَ قبل الفَرْضِ، وقوله: "أو لتعريف ما سَيَجِبُ بالمَسِيسِ" أي: على القول الآخَرِ، وهو أنه لا يَجِبُ بالعَقْدِ، وقوله: "لا لتسليم المفروض" مُعَلَّمٌ بالواو لما مَرَّ. " فَرْعٌ" قال في "التَّتِمَّة"لو نكح ذِمِّىِّ ذِمِّيَّةَ على أن لا مَهْرَ لها، وَتَرافَعَا إلينا، حكمنا بحكمنا في المسلمين. وقال أبو حَنِيْفَةَ: إن اعْتَقَدُوا أن النِّكاحَ لا يَخْلُو عن المَهْرِ، فكذلك، وإن جوَّزُوا إخلاءه عن المَهْرِ، فلا مَهْرَ لها إلاَّ بالعَقْدِ، ولا بالدخول. قَالَ الغَزالِيُّ: وَمَعْنَى مَهْرِ المِثْلِ القَدْرُ الَّذِي يُرْغَبُ بِهِ فِيهَا والأصْلُ فِيهِ النَّسَبُ، ويعْتَبَرُ فِيهِ الأَخَوَاتُ والعَمَّاتُ لِلأَبِ دُونَ البَنَاتِ والأُمَّهَاتِ، ويُعْتَبَرُ مَعَ ذَلِكَ العِفَّةُ والجَمَالُ والخُلُقُ وَكُلُّ ما يَتَفاوَتُ بِهِ الرَّغْبَةُ، وَلَوْ سَمَحَتْ واحِدَةٌ مِنَ العَشِيرَةَ لَمْ يَلْزَمِ البَاقِيَاتِ، وَلوْ كُنَّ يُنْكحْنَ بِأَلَفٍ مُؤَجَّلٍ لَمْ يَثْبُتِ الأجَلُ بَلْ ينْقُصُ بِقَدْرِهِ مِنَ الألْفِ، وَلَوْ كُنَّ يُسَامِحْنَ العَشِيرَةَ دُونَ غَيْرِهِمْ لَزِمَ ذَلِكَ في العَشِيرَةِ دُونَ غَيْرهِمْ. قَالَ الرّافِعِيُّ: مَقْصُودُ الفصل بَيَانُ ما يُعْتَبَرُ به مَهْرُ المِثْلِ (¬1) والحَاجَةُ تَمَسُّ إلى ¬
معرفته، في مَوَاضِعَ: منا: المُفَوِّضَةُ، فإنا نوجب مَهْرَ المِثْلِ فيها بالعَقْدِ، أو الوَطْءِ، أو الموت. ومنها التَّفْوِيضُ الفَاسِدُ، وتسمية الصَّدَاق الفاسد. ومنها إذا نَكَحَ نِسْوَةً على صَدَاقٍ وَاحِدٍ، وقلنا: يصح، ويُوَزَّعُ على مهور أمثالهن [وفي وطء الشبهة والإِكراه على الزنا] (¬1) وفيه مسائل: الأولى: مَهْرُ المِثْلِ هو القَدْرُ الذي يرغب به في أمثالها، والرُّكْنُ الأعظم في الباب النَّسَبُ (¬2)، فينظر إلى نِسَاءِ عَصَباتِهَا، وهن اللَّوَاتِي يَنْتَسِبْنَ إلى من تَنْتَسِبُ هذه إليه؛ كالأَخوَاتِ، وبنات الإِخوة والعَمَّات، وبنات الأَعْمَامِ، ولا ينظر إلى ذَوَاتِ الأَرْحَامِ؛ لأن المَهْرَ مما يقع المُفَاخَرَةُ به، فكان كالكَفَاءَةِ فىٍ النِّكَاحِ، بخلاف ما ذكرنا في الحَيْضِ، أن المُبْتَدِئة تَرُدُّ إلى عادة نِسَاءِ عَشِيرَتِهَا من الأبَوَيْنِ، على أظهر الوجوه؛ تَفْرِيعاً على الرَّدِّ إلى الغالب؛ لأن ذلك أمْرٌ يرجع إلى الخِلْقَةِ والجبِلَّةِ، والأب والأم يشتركان فيه، ويُرَاعَى في نِسَاءِ العَصَبَات قُرْبُ الدَّرَجَةِ، وأقربهن الأَخوات من الأبوين، ثم من الأَبِ ثم بَنَاتِ الإِخوة من الأَبوَيْنِ، ثم من الأَبِ ثم العمات كذلك، ثم بَنَات الأَعْمَام، فإن تَعَذّرَ للاعتبار بنساء العَصَباتِ، فَيُعْتَبَرُ بِذَوَاتِ الأَرْحَامِ كالجَدَّاتِ والخَالاَتِ، وتُقَدَّمُ القُرْبَى فالقُرْبَى، من الجهات، وكذلك تُقَدَّمُ القُرْبَى فالقربى من ذَوَاتِ الجِهَةِ (¬3) الواحدة كالجدات، ولا يجيء تَعَذُّرْ الاعْتِبارُ بِنِسَاءِ العَصَبَاتِ بموتهن، بل يُعْتَبَرُ بهن، وإن كن مَيِّتَاتٍ كذلك ذَكَرَهُ صاحب "التهذيب" وغيره، وإنما يجيء التَّعَذُّرُ من فَقْدِهِنَّ من الأَصْلِ، وقد يكون لِلْجَهْلِ بِمِقْدَارِ مَهْرِهِنَّ، أو لأنهن لم ينكحن وإن لم يمكن الاعْتِبَارُ بذَوِي الأَرْحَامِ أيضًا، اعتبر بِمِثْلِهَا من نِسَاءِ الأَجَانَبِ، وكذا إذا لم يكن نَسَبُ المَرْأَةِ مَعْلُوماً، وتعتبر مَهْرُ العربية بِعَرَبيَّةِ مِثَلهَا والأَمَةِ بِأَمَةٍ مِثْلِهَا. وقيل: ينظر إلى شَرَفِ السِّيِّدِ، وخِسَّتِه، ومَهْرِ المعتقة بِمُعْتَقَة مِثْلِهَا. ¬
وفي وجه: أنه يُعْتَبَرُ مَهْرُ المعتقة بنساء المَوَالِي، كما اعْتُبِرَ مَهْرُ الحُرَّةِ بنِسَاءِ عَصْبَاتِ القَرَابَةِ. الثانية: ينظر مع ما ذكرنا إلى البَلَدِ، فيعتبر مهر نساء عَصَبَاتِهَا في تلك البلدة وإن كان بَعْضُهُنَّ في بَلْدَةٍ أخرى، فلا عِبْرَةَ بمن في تلك البَلْدَةِ، ويعتبر أن يكون المَطْلُوبُ مَهْرُهَا مِثْلَ التي يعتبر مَهْرُ نِسَاءِ عَصَباتِهَا في تلك البَلَدِ، وإن كان بَعْضُهُنَّ في بَلْدَةٍ أخرى، فلا عِبْرَةَ بمن في تلك البَلْدَةِ، فإن عَادَاتِ البِلاَدِ في المَهْرِ مُخْتَلِفَةٌ، وإن كان جميعهن بِبَلْدَةٍ أخرى، فالاعْتِبارُ بهن أَوْلَى من الاعتبار بالأجْنَبِيَّاتِ في تلك البلدة، ويعتبر أن يكون المَطْلُوبُ مَهْرُهَا مِثْلَ التي تعتبر بها في الصِّفَاتِ المَرْغُوب فيها كالعِفَّةِ والجَمَالِ؛ لأن الرَّغَبَاتِ في الجميلة أكثر، وليس كما في الكَفَاءَةِ، فإن المَرْعِيَ هناك التَّحَرُّزُ عما يُوجِبُ عاراً. ومنها السِّنُّ واليَسَارُ والعَقْلُ؛ لأن الرَّغْبَةَ في المُوسِرَةِ أكثر؛ لِتَوَقُّع الرِّفْقِ منها، وانتفاع الأولاد بمالِها، كذا البَكارَةُ وسَائِرُ الصَّفَاتِ التي تختلف بها الأَغْرَاضُ (¬1)، وتزداد الرَّغَبَاتُ كالعِلْمِ والفَصَاحَةِ، والصَّرَاحَةِ، وهي أن يكون الشخص شَرِيفَ الأبَوَيْنِ، والهَجِينُ الذي أبوه شَرِيفٌ دون أُمِّهِ، وفيما علق عن الإِمَام التَّسْوِيَةُ بين البِكْرِ والثَّيِّب إذا كان لها شَرَفُ النَّسبِ، وفيه حكاية وجه أن لا اعْتِبارَ باليَسَارِ، والظاهر ما سَبَقَ ومهما اخْتّصَّتِ المَرْأَةُ بصفةَ مَرْغُوبٍ فيها، زِيدَ في مَهْرِهَا، وإن وُجِدَ فيها نَقْصٌ لم يوجد في النِّسْوَةِ المَنْظُورِ إليهن، فينقص من المَهْرِ بقدر ما يَلِيقُ به. الثالثة: الاعْتِبارُ بِغَالِبِ حَالِ النِّسْوَةِ المنظور إليهن، فلو سامحت واحدة منهن لم يَلْزَمِ البَاقِيَاتِ التَّخْفِيف، إلا أن تكون المُسَامَحَةُ لِنَقِيصَةٍ دخلت في النَّسَبِ، وفَتَرَتِ الرَّغَباتُ. ومَهْرُ المِثْلِ يجب حَالاًّ من نَقْدِ البَلَدِ كقيمة المُتْلَفَاتِ، وإن رَضِيَتِ المَرْأَةُ بالتَّأْجِيلِ لا يُوجِبُهُ الحَاكِمُ مُؤَجَّلاً، لكنها تسامح بالتأخير، إن شَاءَتُ، وإن كانت النِّسْوَةُ المعتبر بهن، ينكحن بِمُؤَجَّلٍ، أو بِصَداقٍ بعضه مُؤجَّلٌ، فلا يؤجّلُ الحاكم أيضًا، لكن ينقص بقدر ما يقابل التَّأجِيل، وإن جَرَتْ عَادَتُهُن بالتَّخْفيِفِ، مع العَشِيْرَةِ دُونَ غيرهم خَفَّفْنَا مَهْرَ التي نطلب مَهْرَها في حَقِّ العشيرة، دون غيرهم وكذا لو كُنَّ يخففن إذا كان الخاطِبُ شَرِيفاً، يُخَفَّفُ في حَقِّ الشَّرِيفِ دون غيره. وعن الشيخ أبي مُحَمَّدٍ: أنه لا يَلْزَمُ التَّخُفِيفُ في حَقِّ العَشِيرَةِ، والشريف، كما أن قِيَمَ الإمْوَالِ لا تختلف بين أن يكون المُتْلِفُ صَدِيقاً أو قَرِيبًا أو غيرها. ¬
فرع
ونقل القاضي الرُّوَيانِيُّ عن الشيخ أنه قال: مَهْرُ المِثْلِ الوَاجِبُ بالعقد، يجوز أن يَخْتَلِفَ حُكْمُهُ، أما الواجب بالإِتْلاَفِ، فلا يبغي أن يَخْتَلِفَ. قال القاضي: وبهذا أَقُولُ، والفَرْقُ على ظاهر المذهب بينه وبين قِيَم الأمْوَالِ؛ أن المَقْصُودَ الأعْظَمَ من النكاح الوَصْلَةُ، فَيُراعَى فيه ما يكون أَدْعَى إلى التَّآلُفِ، وهناك المَقْصُودُ المَالُ. " فَرْعٌ" تَقَادُمُ العَهْدِ لا يُوجِبُ سُقُوطَ مَهْرِ المِثْلِ، كما لا يُسْقِطُ قِيَمَ الأموال وإن احْتِيجَ فيها إلى مَعْرِفَة الصفات وعَسِرَ الوُقُوفُ عليها، إذا تَقادَمَ العَهْدُ عن أبي حنيفة أنه يسقط مَهْرُ المِثْلِ، باعتبار يوم الوَطْء لا يوم العقد. قَالَ الغَزَالِيُّ: والوَطْءُ في النِّكَاحِ الفَاسِدِ يُوجِبُ مَهْرَ المِثْلِ باعْتِبَارِ يَوْمِ الوَطْءِ لاَ يَوْمِ العَقْدِ، فَإِذا اتَحَدَتِ الشُبْهَةُ اتَحَدَ المَهْرُ وَإِنْ وَطِئَ مِرَاراً، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ شُبْهَةٌ كَوَطَآتِ الزَّانِي المُكْرَهِ وَجَبَ بِكُلِّ وَطْأَةٍ مَهْرٌ، والأَبُ إِذا وَطِئَ جَارَيةَ ابْنِهِ مِرَاراً فَفِي الاكْتِفاءِ بِمَهْرٍ وَاحِدٍ وَجْهانِ، وَوَجْهُهُ شُمُولُ شُبْهَةِ الإِعْفَافِ، وَإذَا وَجَبَ مَهْرٌ وَاحِدٌ بِوَطَآتِ فَيُعْتَبَرُ عَلَى الأحْوَالِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: الوَطْءُ في النكاح الفَاسِدِ يُوجِبُ مَهْرَ المِثْلِ، باعتبار يوم الوَطْءِ (¬1) بالشُّبْهَةِ، ولا يعتبر يوم العَقْدِ، لأنه لا حُرْمَةَ لِلْعَقْدِ الفاسد، فلا يجب به شَيْءٌ، وإنما يَجِبُ ما يجب بالإِتْلاَفِ، فينظر إلى يوم الإِتْلاَفِ، وليس كما لو وَطِئَ في صُورَةِ التَّفْوِيضِ، حيث يُعْتَبَرُ بيوم العَقْدِ، على رَأْيٍ قدمناه. الثانية: إذا وَطِئَ مِراراً بشُبْهَةٍ واحدة، أو في نِكَاحٍ فَاسِدٍ، لم يجب إلا مَهْرٌ وَاحِدٌ، كما أن الوَطَئَاتِ في النِّكَاحِ الصحيح، لا تَقْتَضِي إلا دَهْراً واحِداً وإن وَطِئَ بِشُبْهةٍ، وزالت تلك الشُّبْهَةُ، فَوَطِئَ بِشُبهْةٍ أخرى، وجب مَهْرَانِ، وإذا لم تكن شُبْهَةٌ، كما لو أَكْرَهَ امْرَأَةً على الزِّنَا، وَوَطِئَهَا مِرَاراً، وجب بكل وَطْءٍ مَهْرٌ؛ لأن الوُجُوبَ هاهنا بالإتْلاَفِ، وقد تَعَدُدَ الإِتْلاَفُ، وإذا وَطِئَ الأبُ جَارِيَةَ الابن مِرَاراً من غير إِحْبَالٍ، فقد أَطْلَقَ في الكتاب وجهين: أحدهما: أنه يَجِبُ بكل وطء مَهْرٌ؛ لِتَعَدد الإِتْلاَفِ في مِلْكِ الغَيْرِ، مع العلم بحقيقة الحال. ¬
الباب الرابع في التشطير
وأشبههما: أنه لا يَجِبُ إلا مهْرٌ واحد؛ لأن الشُّبْهَةَ، وهي وُجُوبُ الإعْفَافِ شَامِلَةٌ لجميع الوَطَئَاتِ، وخصص في "التهذيب" الوَجْهَيْنِ بما إذا اتَّحَدَ المَجْلَسُ، وحكم بالتَّكْرارِ عند اخْتِلاَفِ المجلس، وَوَطِئَ أَحَدُ الشريكين الجَارِيَةَ المُشْتَرَكَةَ، وَوَطِئَ السَّيِّدُ المُكَاتَبَةُ مِرْاراً كَوَطَئاتِ جَارِيَةِ الابن، وإذا وجب مَهْرٌ واحد بِوَطَئاتٍ، فينظر إلى أعلى الأحْوَالِ، ويكون الوَاجِبُ مَهْرَ تلك الحالة؛ لأنه لو لم يُوجَدْ إلا الوَطْئَةُ الوَاقِعَةُ في تلك الحَالَةِ لَوَجَبَ ذلك المَهْرُ، فالوطئات البَاقِيَةُ إذا لم تَقْتَضِ زِيادَةً لا توجب نُقْصَاناً. البَابُ الرَّابِعُ فِي التَّشْطِيرِ، وَفِيهِ فُصُولٌ قَالَ الغَزَالِيُّ: (الأوَّلُ في مَحَلِّهِ وَحُكْمِهِ) وَنَقُولُ: ارتِفاعُ النِّكَاحِ قَبْلَ المَسِيسِ لاَ بِسَبَبِ مِنْ جِهَتِها يُوجِبُ تَشْطِيرَ الصَّدَاقِ الثَّابِتِ، بِتَسْمِيَةِ مَقْرُونَةٍ بِالعَقْدِ صَحِيحَةٍ أَوْ فاسِدَةٍ أَوْ بِفَرْضٍ صَحِيحٍ بَعْدَ العَقْدِ كَمَا فِي المُفَوَّضَةِ، وَيسْتَوي فِيهِ كُلُّ فِرَاقٍ، وإنَّمَا يَسْقُطُ جَمِيعُ المَهْرِ قَبْلَ المَسِيسِ بِفَسْخِهَا بِعَيْبِهِ أَوْ فَسْخِهِ بِعَيْبِهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الطلاق قبل الدُّخُول يوجب تَشْطِيرَ الصَّدَاقَ بين الزَّوْجَيْنِ، قال الله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ووجه ذلك من جِهَةِ المعنى؛ بأن ارْتِفاعَ العَقْدِ قبل تَسْلِيم المعقود عليه، يُسْقِطُ جميع العِوَضِ، كما في البيع والإِجَارَةِ، إلا أَنَّا قُلْنا بِسُقُوطَ البَعْضِ، دون البعض لتقريبين: أحدهما: أن الزَّوْجَةَ كالمُسلمة إلى الزوج بنفس العَقْدِ؛ لأن التَّصَرُّفَاتِ التي يَمْلِكُها الزوج تَنْفُذُ من وقت النِّكَاحِ، ولا تَتَوَقَّفُ على القَبْضِ، فمن حيث إنه نَفَذَتِ التَّصَرّفاتُ اسْتَقَرَّ بعض العِوَضِ، ومن حيث إنه لم يتَّصِلْ بالمقصود سَقَطَ بَعْضُهُ. والثاني: أنا لو حَكَمْنا بِسُقُوط جَمِيعِ المَهْرِ لاحْتَجْنا إلى إِيجَابِ شيء لِلْمُتْعَةِ، فكان إِبْقَاءُ شيء مما هو واجب أَوْلَى من إِثْبَاتِ ما ليس بِواجِبٍ. وإذا عرفت ذلك فَاعْلَمْ أن كَلاَمَ الباب مُرَتَّبٌ على فصول: أحدها: في موضع التَّشْطِيرِ، وكيفيته، أما المَوْضِعُ ففيه مسألتان: إحداهما: الخُلْعُ كالطَّلاَقِ في اقْتِفَاءِ التَّشْطِيرِ؛ لأن الخُلْعَ، وإن كان يَتِمُّ بها فالمْغَلَّبُ فيه جَانِبُ الزوج؛ لأن المَقْصُودَ الأَصْلِيَّ منه الفِرَاقُ، وهو مستقلٌّ به، ولأنه يَتَمَكَّنُ من الخُلْع مع الأجنبي، وكذلك يَتَشَطَّرُ المَهْرُ لو فُوِّضَ إليها، فَطَلَّقَتْ نفسها، أو عَلَّقَ طَلاَقَهَا على دخولها، فدخلت، أو طَلَّقَهَا بعد انْقِضَاءِ مدة الإِيلاَءِ بطلبها، وكذلك
يتَشَطَّرُ المَهْرُ بكل فُرْقَةٍ حصلت قبل الدُّخُولِ، لا بسبب من جِهَةِ المَرْأَةِ، كما إذا أَسْلَمَ الرجل، أو ارْتَدَّ، أو أرضعت أم الزوجة الزَّوْجَ وهو صَغيرٌ، أو أم الزوج، أوأبنته الزوجة، وهي صَغِيرَةٌ أو وَطِئَهَا ابْنُ الزوج، أو أبوه بِشُبْهَةٍ، وهي تَظُنُّهُ زَوْجاً لها، أو قَذَفَ الزوجة ولاَعَنَها (¬1)، فأما إذا كان الفِرَاقُ منها أو بِسَبَبٍ فيها، كما إذا أَسْلَمَتْ أو ارْتَدَّتْ، أو فَسَخَتِ النِّكَاحَ بِخِيارِ العِتْقِ، أو بِعَيْبٍ في الزوج، أو كانت تحته صَغِيرَةً فأرضعتها، وصارت أُم زوجته، أو فسخ الزَّوْجُ النِّكَاحَ بِعَيْبِها، فيسقط جَمِيعُ المَهْرِ على ما مَرَّ وانفساخ النكاح بشراء الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا، يسقط جَمِيعُ المَهْرِ، على الأَصَحِّ وشراء ¬
الزوج زَوْجَتَهُ يوجب التَّشْطِيرَ على الاصَحِّ (¬1). المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لو طَلَّقَ المُفَوِّضَةَ قبل الدُّخُولِ والفرض، فالقول في التَّشْطِيرِ قد سَلَفَ وأما غير المُفَوِّضَةِ، فكل صَداقٍ وَاجبٍ، وَرَدَ عليه الطَّلاَقُ قبل الدخول شَطَّرَهُ سواء فيه المُسَمَّى الصَّحِيحُ في العقد، والمفروض بعده، ومهر المِثْلِ إذا جَرَتْ تَسْمِيَةٌ فاسِدَةٌ في العقد؛ لأن الله -تعالى- قال: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] والفرض في التقدير، وكُلُّ واحد من المُسَمَّى في العَقْدِ وبعده مَفْرُوضٌ مُقَدَّرٌ، فَيَدْخُلُ تحت الآية إذا كانت التَّسْمِيَةُ الفَاسِدَةُ توجب مَهْرَ المِثْلِ كانت كالتقدير بِمَهْرِ المِثْلِ. وعند أبي حَنِيْفَةَ: لا يشطر المَفْرُوض بعد العَقْدِ، ولا مَهْرُ المِثْلِ الوَاجِبُ بالتسمية الفاسدة. وقوله في الكتاب: "ارتفاع النِّكَاح" يدخل فيه الطَّلاَقُ، وسَائِرُ وُجُوهِ الفِرَاقِ. وقوله: "وَيَسْتَوِي فيه كُلُّ فراق" كالإِيضَاحِ، وإلا ففي قوله: "ارتفاع النِّكَاحِ" إلى آخره ما يُفِيدُ المَقْصُودَ، وقوله: "وإنما يَسْقُطُ جَمِيعُ المَهُرِ إلى آخره" هذا مذكور مِثَالاً لارْتِفاعِ النِّكَاحِ، بسبب من جِهَتِهَا، وليس الغَرَضُ حَصْرَ السُّقُوطِ فيه، بل الفَسْخُ بالعِتْقِ في معناه، وكذلك شِرَاؤُهَا الزَّوْجَ على الأَصَحِّ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَمَعْنَى التَّشْطِيرِ أنْ يَرْجِعَ المِلْكُ فِي شَطْرِ الصَّدَاقِ إِلَى الزَّوْجِ بِمُجَرَّدِ الطَّلاَقِ، وَفِيهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الرُّجُوعِ في النِّصْفِ حَتَّى لَوْ طَلَّقَها عَلَى كَمَالِ المَهْرِ سَلَّمَ لَهَا وَكأَنهُ رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ، وَلَوْ قَالَ: أَسْقَطْتُ خِيَاري فَيُحْتَمَلُ أنْ لا يَسْقُطَ كَخِيَارِ الرُّجُوعِ في الهِبَةِ (فَرْعُ): لَوْ تَلِفَ الصَّدَاقُ فِي يَدِهَا بَعْدَ الانْقِلاَبِ إِلَيهِ فَفِي الضَّمَانِ عَلَيْها وَجْهَانِ: لأَنَّهُ مِنْ وَجْه كالمَبيعِ، وَمِنْ وجْهٍ كالمَوْهُوبِ بَعْدَ الرُّجُوعِ، وَلَوْ تَلِفَ في يَدِها بَعْدَ رُجُوعِ الكُلِّ بِالفَسْخِ فَهُوَ مَضْمُونٌ لأَنَّ ذَلِكَ بِحُكْمِ تَرَادِّ الْعِوَضَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: اعلم أن الفَصْلَ الأَوَّلَ من الباب معْقُودٌ لبيان جملتين: إحداها: مَحَلُّ التَّشْطِيرِ، وقد تَقَدَّمَتْ. والثانية: تَرْجَمَها بِحُكمِ التَّشْطِيرِ، ولو ترجمها بكيفية التَّشْطِيرِ، لكان أَلْيَقَ، وذلك لأن في كَيْفِيَّةِ التَّشَطُّرِ بالطَّلاَقِ وجهين معروفين للأصحاب: ¬
أصحهما: أنه يَعُودِ نِصْفُ الصَّدَاقِ إليه (¬1) بنفس الطَّلاَقِ؛ لقوله تعالى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أي: فلكم نِصْفُ ما فَرَضْتُمْ، فهو كقوله تعالى {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12] ولأن ما يؤثِّرُ في كُلَّ الصَّدَاقِ كالرِّدَّةِ والفسخ بالعِتْقِ والعيب يُؤَثِّرُ بنفسه، ولا يَتَعلَّقُ بالاختيار فكذلك ما يُؤَثِّرُ في النصف. والثاني: وبه قال أبو إِسْحَاقَ وفي بعض الشُّرُوح نسْبَتُهُ إلى ابن سُرَيْجٍ أيضًا: أن الطلاق يُثْبِتُ له خِيَارَ الرجوع في النِّصْفِ، فإن شاء تَمَلَّكَهُ، وإلا تَرَكَهُ، كالشَّفِيع تثبت له حَقّ الشُّفْعَةِ بِالشِّرَاءِ، ولا يُشْتَرَطُ لرجوع النصف قَضَاءُ القاضي بأنه له على ظَاهِرِ المَذْهَبِ. وفي "المختصر" لفظة مُشْكِلَةٌ تُشعر باشتراطه، وذكر العبادي أن أَبَا الفَضْلِ القَاشَانِيَّ الزَّاهِدَ حكاه قَوْلاً عن القديم، ومنهم من حَكَى الاشْتِراطَ وَجْهاً، وامتنع المُعْظَمُ من إِثْباتِهِ قولاً، أو وجهًا وقَطَعُوا بالأَوَّلِ، وأَوَّلُوا تلك اللَّفْظَةَ، فإذا قلنا: إنه يَثْبُتُ الخِيَارُ، ويحصل المِلْكُ بالاختيار، فلو أنه طَلَّقَها على أن يُسَلِّمَ لها كُلَّ الصَّدَاقِ، فهذا إعراض منه عن المَهْرِ، ورضا بسقوط حَقِّهِ، فيسلم لها جَمِيعَهُ، وعلى الوجه الأصح يَتَشَطَّرُ المَهْرُ وِيلْغُو فيه ما ذَكَرَهُ، كما لو أعْتَقَ، ونَفَى الوَلاَءَ، ولو طَلَّقَ، ثم قال: أسْقَطتُ خِيَاري، تَفْرِيعاً على أن الطَّلاَقَ يُثْبِتُ الخِيَارَ، فقد أشار صاحب الكتاب فيه إلى احْتِمَالَيْنِ: أحدهما: أنه يسقط، كما أن الخِيارَ في البَيْعِ يسقط بالإِسْقَاطِ. وأَرجَحُهُمَا: أنه لا يسقط، كما لو أسْقَطَ الوَاهِبُ خِيَارَ الرجوع، لا يسقط، ولم يَجْرِ هذا التَّرَدُّدُ فيما إذا طَلَّقَهَا، على أن يُسَلِّمَ لها كُلَّ الصَّدَاقِ؛ تفريعاً على القول بِثْبُوتِ الخِيَارِ، ويجوز أن يسوى بين الصورتين. ولو حَدَثَتْ زَيَادَةٌ في الصَّدَاقِ بعد الطَّلاَقِ، فعلى الوجه الأول نصفها للزوج (¬2)، وعلى الوجه الآخر إذا حَدَثَتْ قبل اخْتِيَارِ التَّمَلُّك، فالكل للِزَّوْجَةِ، كما لو حَدَثَتْ قبل الطَّلاَقِ، هذا إذا كانت الزِّيَادَةُ مِنْفَصِلَةً، فإن كانت مُتَّصِلَةً، فإن قلنا: يملك النِّصْفَ بنفس الطَّلاَقِ، فالنِّصْفُ مع الزِّيَادَةِ، وإن قلنا: لا يملك إلا بالاخْتِيَارِ فوجهان: ¬
أحدهما: أنه يمنع الرُّجُوعِ, إلاَّ برضا المَرْأَةِ، كالزيادة المتَّصِلَةِ الحادثة، قبل الطلاق. وأشبههما: أن له أنْ يَرْجِعَ فيه من غير رِضَاهَا؛ لأن هذه زِيَادَةٌ حدثت بعد تَعَلُّقِ حق الزوج به، فصار كثمر الأَشْجَارِ في الشَّقْصِ المَشْفُوعِ بعد البيع، وقبل علم الشفيع، فإن هذه الزِّيادَةَ لا تمنع الأَخْذَ. وإن حدث فيه نُقْصَانٌ، فإن قلنا: إنه يملك النِّصْفَ بالاخْتِيارِ، فإن شاء أَخَذَ نِصْفَهُ نَاقِصًا، ولا أَرْشَ له، وإن شاءَ تَرَكَهُ، وأخذ بنصف قِيمَتِهِ صَحِيحًا، كما لو حدث قبل الطَّلاَقِ. وإن قلنا: يَمْلِكُ بنفس الطَّلاَقِ، فإن وجد منها تَعَدَّ، بأن طَالَبَهَا برَدَّ النِّصْفِ بالنصف، فامْتَنَعَتْ، فله النِّصْفُ مع أَرْشِ النقصان، وإن تَلِفَ الكُلُّ، والحاله هذه، فعليها الضَّمَانُ، وإن لم يوجد تَعَدٍّ, فظاهر النَّصِّ أنها تُغَرَّمُ أَرْشَ النُّقْصَانِ إذا نَقَصَ، وجميع البَدَلِ، إذا تَلِفَ؛ لأن القَبْضَ كان عند مُعَاوَضَةٍ، وإذا ارْتَفَعَتِ المُعَاوَضَةُ، كان المَقْبُوضُ مَضْمُونًا عليها، كما إذا بقي المَبِيعُ يَدِ المُشْتَرِي بعد الإِقَالَةِ بهذا، أخذ أصْحَابُنَا العراقيون، وتابعهم القاضي الرُّويَانِيُّ، وربما نَفَوْا الخِلاَفَ فيه. وفي "الأم" نصٌّ يُشْعِرُ بأنه لا ضَمَانَ عليه؛ لأن عَوْدَ الصَّدَاقِ إلى الزَّوْجِ ليس على طَرِيقِ الفُسُوخ؛ إذا لو كان كذلك لَعادَ إليه الكُلُّ، كما في البَيْع والإِجَارَةِ، ولكنه ابتداء مِلْكِ حَصَلَ للزوج، والمَمْلُوكُ في يَدِهَا، بلا تَعَدَّ، فيكون أَمانَةً، وبهذا أجاب المَرَاوِزَةُ، فإن قلنا بالأَوَّلِ، فلو قال الزوج: حَدَثَ النُّقْصَانُ بعد الطلاق، فعليك الضَّمَانُ، وقالت: بل قَبْلَهُ، ولا ضَمَانَ، فالقول قولها؛ لأن الأَصْلَ بَراءَةُ الذِّمَّةِ، أو قوله: لأن الأصْلَ عدَمُ النَّقْصِ حينئذٍ. وحكى صاحب "التَّتمة" فيه وجهين: والأول: هو الَّذِي أَوْرَدَهُ الشيخ أبو حَامِدٍ، وابن الصَّبَّاغِ، ولو رجع كُلُّ الصَّدَاقِ إلى الزوج بالفَسْخٍ بالعَيْبِ، أو بأن ارْتَدَّتْ، وتَلِفَ في يدها، فهو مَضْمُونٌ عليها؛ لأن سَبِيلَهُ سَبِيل البَيْعِ يَنْفَسِخُ بإِقَاَلَةٍ، أو ردٍّ بِعَيْبٍ، فيكون العِوَضُ مَضْمُوناً على مَنْ هو في يَدِهِ. قال الإِمام: وحُكْمُ النِّصْفِ في صورة رِدَّةِ الرجل حُكْمُهُ عند الطَّلاَقِ؛ لأن ارْتِدَادَهُ إليه ليس على سَبِيلِ الفُسُوخِ؛ إذ لو كان كذلك لارْتَدَّ الكُلُّ. وقوله في الكتاب: "بِمُجَرِّدِ الطَّلاَقِ" يجوز إِعْلاَمُهُ بالحاء؛ لما يُرْوَى عن أبي حَنِيْفَةَ أنه يُمَلِّكُ بالاختيار، وقوله: "لأنه من وجْهٍ كالمبيع" يعني إذا تَلِفَ في يَدِ المُشْتَرِي بعد الإِقَالَةِ أوردّ الحوض بالعَيْبِ، ووجه الشَّبَهِ أنه انْتَقَلَ إليها في مُعَاوَضَةِ، فيرجع لارْتِفَاعِ المُعَاوَضَةِ، وقوله: "ومن وَجْهٍ كالمَوْهُوبِ بعد الرُّجُوعِ" وجه الشبه أن عَوْدَ النِّصْفِ ليس على سَبِيلِ الفُسُوخِ، وإِما هو مِلْكٌ مُبْتَدَأٌ، كالمِلْكِ في المَوْهُوبِ، إذا رجع
فرع
فيه، ويمكن أن يُشْبِهَ بالموهوب من جِهَةِ تَغْلِيب معنى النِّحْلَةِ في الصَّدَاقِ. " فَرْعٌ" حكى الإِمَامُ تَفْرِيعاً على أن الزَّوْجَ يُمَلَّكُ بالاخْتِيَارِ وجهين، في أن الزَّوْجَةَ، هل تَمْلِكُ التَّصَرُّفَ قبل الاخْتِيَارِ، قال: والقياس أنها تملكه كما قَبْلَ الطَّلاَقِ، وكما أن المتَّهِبَ يَتَمَكَّنُ من التَّصَرُّفَاتِ قبيل رُجُوعِ الوَاهِبِ. آخر: إذا كان الصَّدَاقُ دَيْناً سَقَطَ نِصْفَهُ بمُجَرَّدِ الطَّلاَقِ، على الأصَحِّ وعند الاختيار على الوَجْهِ الثَّانِي، ولو كان قد أدَّى الدَّيْنَ والمؤدي باقٍ، فهل لها أن تُؤَدِّيَ قَدْرَ النِّصْفِ من موضع آخر؛ لأن العَقْدَ لم يَتَعلَّق بِعَيْنِهِ، أم يتعين حقه فيه لِتعَيُّنِهِ بالدَّفْعِ والتسليم فيه وجهان، أَقْرَبُهُمَا الثاني. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّانِي في التَّغْيِراتِ قَبْلَ الطَّلاَقِ) وَذَلِكَ إِمَّا بِزِيادَةٍ مَحْضَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ مَحْضٍ أَوْ زِيَادَةٍ مِنْ وَجْهٍ ونُقْصَانٍ مِنْ وَجْهٍ (أمَّا النُّقْصَانُ) كَالتَّعَيُّبِ في يَدِهَا فَيَثْبُتُ لَهُ الخِيَارُ إنْ شَاءَ رَجَعَ إِلَى قِيمَةِ النِّصْفِ السَّلِيمِ، وإنْ شَاءَ قَنِعَ بِنِصْفِ المَعِيبِ مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّ لَهُ الأَرْشَ، وإنْ تَعَيَّبَ في يَدِهِ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ نِصْفُ المُعَيَّبِ؛ لأَنَّهُ نَقْصٌ مِنْ ضَمَانِهِ إِلاَّ أنْ يَكُونَ بِجِنَايَةِ جَانٍ فالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ مَعَ ذَلِكَ نِصْفَ الأرْشِ، أمَّا الزِّيَادَةُ إِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً سُلَّمَتْ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً امْتَنَعَ رُجُوعُهُ إِلاَّ بِرِضَاهَا، فَإِنْ أعبَتْ غُرِّمَتْ قِيمَةَ الشَّطْرِ، وَإنْ سَمَحَتْ أُجْبِرَ (و) عَلَى القَبْولِ. قَالَ الرافِعيُّ: إذا أصْدَقَ امْرَأتَهُ عَيْناً، وطَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ، فتلك العَيْنُ عند الطَّلاَقِ، إما أن تكون تَالِفَةً، أو باقِيَةً. إن كانت تالِفَةً فالزَّوْجُ يَرْجِعُ إلى نِصْفِ مِثْلِهَا، إن كانت مِثْلِيَّةً، ونصف قيمتها إن كانت متَقوِّمَةً. وإن كانت بَاقِيَةً، فإن لم يَحْدُثْ فيها تَغَيُّرٌ رجع إلى نِصْفِ العَيْنِ، كما سَبَقَ، وإن حدث تَغَيُّرٌ، وهو مَقْصُودُ الفَصْلِ وترجمته، فذلك التَّغَيُّرُ إما أن يَكُونَ بِنُقْصَانٍ مَحْضٍ، أو بزيادة مَحْضَةٍ، أو بهما، فهذه ثلاثة أقسام: الأول: النُّقْصَانُ المَحْضُ، وهو إما نُقْصَانُ صِفَةٍ، أو نقصان جزء. النوع الأول: نقْصَانُ الصِّفَةِ: كالتَّعَيُّبِ بالعَمَى، والعَوَرِ، ونِسْيَان الحِرْفَةِ، ينظر إن حدث في يَدِها، فالزَّوْجُ بالخيار، إن شاء رَجَعَ إلى نِصْفِ قِيمَةِ الصَّدَاقِ سَلِيمًا وأَعْرَضَ عن عَيْبِهِ، وإن شاء قَنِعَ بنصف النَّاقِصِ، ولا أرْشَ له، كما إذا تَعَيَّبَ المَبِيعُ في يد البائع، يَتَخَيَّرُ المُشْتَرِي بين أن يَفْسَخَ المبيع، ويُسْتَرِدَّ الثمن، وبين أن يَقْنَعَ بالمَعِيب، ولا أَرْشَ له، وليس ما نحن فيه، كما إذا نَقَصَ الصَّدَاقُ في يَدِ الزَّوْجِ، وأجازت
القسم الثاني: الزيادة المحضة
الزَّوْجَةُ، فإنها تُغَرِّمُهُ الأَرْشَ، على قول ضَمَانِ اليَدِ، وذلك لأن الصَّدَاقَ في يَدِهِ ملك لها، وهو مَضْمُونٌ عليه، فجاز تَضْمِينُهُ الأَرْشَ، وههنا الصَّدَاقُ ملكها في يَدِهَا، فكيف يضمنها أَرْش النُّقْصَانِ، هذا ما يوجد للأصحاب في المَسْأَلَةِ قال الإِمام: ويُحْتَمَلُ أن يقال: عليها الأرْشُ؛ لأنه لو تَلِفَ في يدها لَرَجَعَ الزَّوْجُ إلى نِصْفِ القيمة، ومن يغرم القيمة عند التَّلَفِ، لا يبعد أن يُغَرَّمَ الأَرْشَ، عند النقصان، وكون النقصان في مِلْكِهَا يجوز ألا يمنع التَّغْرِيمَ عند الرجوع، ألا تَرَى أنه إذا اشْتَرَى عَبْداً بِجَارِيَةٍ، وتَقَابَضَا، ثم وجد مُشْتَرِي العَبْدِ بالعبد عَيْبًا فَرَدَّهُ، وبالجارية عَيْبٌ حَادِثٌ. فإنه يَسْتَرِدُّهَا مع الأرْشِ، على رَأْيٍ. وإن كان النُّقْصَانُ حَادِثاً في مِلْكِهِ ويده، وأقام صاحب الكتاب هاهنا، وفي "الوسيط" هذا الاحْتِمالَ وَجْهاً، وذكره مع ظَاهِرِ المَذْهَبِ. وإن حدث النُّقْصَانُ في يَدِهِ، قبل أن تقبض المَرْأَةُ، فأجازت فله عند الطَّلاَقِ نِصْفُهُ ناقصاً، وليس له الخِيَارُ، ولا طلب الأرش، فإنه نقص وهو من ضَمَانِهِ، نعم لو حَدَثَ النّقْصانُ بِجِنَايَةِ جَانٍ، وأخذت منه الأَرْشَ فوجهان: أصحهما: أنه يرجع إلى نِصْفِ الأَرْشِ مع نِصْفِ العَيْنِ؛ لأن الأرْشَ بَدَلُ الفَائِتِ، ولو بقي الصَّدَاقُ بحاله، لأخذَ نِصْفَهُ. والثانيِ: أنه لا شَيْءَ له من الأَرْشِ؛ لأن الفَوَاتَ كان من ضَمَانِ الزَّوْجِ، وهي أخذت الأَرْش بِحَقِّ الملك، فلا يعتبر في حَقِّهِ، ويجعل ما أخذته كزيادة مُنْفَصِلَةٍ. النوع الثاني: نُقْصَانُ الجزء، كما إذا أَصْدَقَها عَبْدَيْنِ، وقبضتهما، فَتَلِفَ أحدهما في يدها، ثم طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ، قال في "التهذيب"؛ فيه قولان: أصحهما: أن الزَّوْجَ يرجع إلى نِصْفِ الباقي، ونِصْفِ قِيمَةِ التَّالِفِ. والثاني: أنه يَأْخُذُ الباقي بِحَقِّهِ، إن اسْتَوَتْ قيمتهما. وقول ثالث: وهو أنه يَتَخَيَّرُ بين أن يَأْخُذَ نِصْفَ الباقي، ونصْفَ قيمة التَّالِفِ، وبين أن يأخذ نِصْفَ قيمة العبدين، وَيتْرُكَ الباقي. " القِسْمُ الثَّانِي: الزِّيَادَةُ المَحْضَةُ" وهي إما مُنْفَصِلَةْ كالوَلَدٍ واللَّبَنِ والكَسْب، فيسلم للمرأة، سواء حَصَلَتْ في يَدِهَا، أو في يَدِ الزَّوْجِ، ويَخْتَصُّ الرجوع بنصف الأصْلِ (¬1). ¬
وعن أبي حنيفة: أن الزِّيَادَةَ إن حَدَثَتْ قبل تَسْلِيم الصَّدَاقِ إليها، رجع الزَّوْجُ في نِصْفِ الأصْلِ، ونصف الزيادة، وإن حَدَثَتْ بعد التسليم، فينظر إن لم تَحْدُثِ الزِّيَادَةُ في العَيْنِ، كالكَسْب والولد، فيسلِّم لها، وَيَخْتَصُّ الرُّجُوعُ بنصف الأَصْلِ، وإن حَدَثَتْ في العَيْنِ منعت الرَجوع إلى عَيْنِ الصَّدَاقِ، كما ذَكَرَهُ في الرَّدِّ بالعَيْبِ، ثم في "الشامل" و"التتمة" أن الذي قُلْنا: إن الوَلَدَ يبقى لها، ويرجع الزَّوْجُ بِنصْفِ الأَصْلِ مفروض في غير الجَوَارِي، وأما في الجَوَارِي، فليس له الرُّجُوعُ في نصف الأم؛ لأنه يَتَضَمَّنُ التَّفْرِيقَ بين الأم والولد في بعض الزَّمَانِ، لكنه يرجع إلى القِيمَةِ، فإن ساعدته المَرْأَةُ وَرَضِيَتْ برجوعه إلى نِصْفِ الأم، فهو كالتَّفْرِيقِ بين الولد والأُمِّ بالبيع. وإن كانت الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً كالسِّمَنِ، وتَعلَّم القرآنِ، والحِرْفَةِ، فلا يَسْتَقِلُّ الزوج بالرجوع إلى عَيْنِ الصَّدَاقِ، ولكن الخيار لها (¬1)، فإن أَبَتْ لم تُجْبَرْ عليه، ويرجع الزَّوْجُ إلى نِصْفِ القيمة من غير تلك الزيادة، وإن سمحت أُجْبِرَ على القَبُولِ، ولم يكن له طَلَبُ القِيمَةِ. وفي "المجرد" للحناطي وجه: أنه لا يُجْبَرُ على القَبُولِ؛ لما فيه من المِنَّةِ، والظَّاهِرُ الأول، والزِّيَادَةُ المُتَّصِلَةُ لا تفرد بالتصرف، بل هي تَابِعَةٌ فلا تَعْظُمُ فيها المِنَّةُ. قال الأصحاب: ولا تَمْنَعُ الزِّيَادَةُ المتصلة الاسْتِقْلاَلَ بالرجوع، إلا في هذا الموضع، فأما في سَائِرِ الأُصُولِ، فإنها لا تمنع، كما إذا أَفْلَسَ المشتري بالثَّمَنِ يرجع البَائِعُ في المبيع، مع الزِّيَادَةِ المتصلة، وكذا الوَاهِبُ يرجع في المَوْهُوبِ مع الزيادة المُتَّصِلَة، والمشتري إذا ردَّ المَبِيعَ بالعيب، يرجع في العِوَضِ مع الزيادة المُتَّصِلَةِ، فهؤلاء يستقلون بالرجوع معها، وفَرَّقُوا بأن المِلْكَ في هذه المَسَائِلِ يَرْجِعُ بطريق الفَسْخ، والفسخ إما أن يَرْفَعَ العَقْدَ من أصْلِهِ، أو لا يرفع، إن رفعه، فكأنه لا عَقْدَ، وحدثَت الزِّيَادَةُ على مِلْكِ الأَوَّلِ، وإن لم يَرْفَعْهُ، فالفُسُوخُ مَحْمُولَةٌ على العُقُودِ، ومشبهة بها، والزيادة تَتْبَعُ الأصْلَ في العقود، فكذلك في الفُسُوخَ، وعَوْدُ المِلْكِ في الشَّطْرِ بالطلاق، ليس على سَبِيل الفُسُوخ، ألا ترى أنه لو سَلَّمَ العَبْدُ الصَّدَاقَ من كَسْبِهِ، ثم عتق، وطلق قبل الدخول يكون الشَّطرُ له لا للسَّيِّدِ، ولو كان سَبِيلُهُ سَبِيلَ الفسوخ، لَعادَ إلى الذي خرج عن مِلْكِهِ، وإنما هو ابْتَداءُ مِلْكٍ، يثبت فيما فرض صَداقًا لها، قال الله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وليس الزِّيَادَةُ الحَادِثَةُ مما فرض، فلا يعود إليه شَيْءٌ منها، وفرق أبو إسْحَاقَ بين الصُّورَةِ التي نحن فيها، وبين صورة إِفْلاَسِ المُشْتَرِي أن هناك لو مَنَعْنَاهُ من الرُّجُوعِ إلى العَيْنِ، لم يتم له الثَّمَنُ لِمُزاحَمَةِ الغُرَمَاءِ، ¬
وههنا لو لم يَرْجِعْ إلى العَيْنِ لسلم له القِيمَة بتمامها، فلا يَلْحَقُهُ كبير ضَرَرٍ، حتى لو كانت مُفْلِسَة مَحْجُوراً عليها عند الطلاق، ولو تَرَكَ العَيْنَ، لاحتاج إلى المُضَارَبَةِ، قال يرجع في العَيْنِ مع الزِّيَادَةِ، ولا يحتاج إلى رِضَاهَا، وعَوَّلَ الأكثرون على الفَرْقِ الأول، وأبوا اسْتِقَلاَلَهُ بالرجوع، وإن كانت مَحْجُورًا عليها، واعتبروا في الرُّجُوعِ حينئذٍ رِضَاهَا، ورضا الغُرَمَاءِ. وحكى الإِمام وجهًا أن كونها مَحْجُورًا عليها يمنع الرُّجُوعَ، وإن لم يكن زِيادَةٌ لتعلق حَقِّ الغُرَماَءِ به قبل ثُبُوتِ حق الرجوع له، وحكم الزوائد المُنْفَصِلَةِ والمتصلة فيما سوى الطَّلاَقِ -من الأَسباب المشطرة- حُكْمُهَا في الطَّلاَقِ. وما يوجب عَوْدَ جميع الصَّدَاقِ للزوج، ينظر فيه إن كان سَبَبُهُ عارضاً، كالرّضَاع والرِّدَّةِ من الزوجة، فكذلك [الحكم] (¬1) وفي ردَّتِها وجْهٌ: أن الزَّوْجَ يَسْتَقِلُّ بِأَخْذِ الصَّدَاقِ بالزوائد المُتَّصِلَةِ، ويجعل تسببها إلى قَطْعِ النكاح قَاطِعاً لِحَقَّهَا عن الزِّيَادَةِ، وإن كان السبب مُقَارِنًا لَفَسْخِهِ بِعَيْبِهَا، أو فَسْخِهِ بِعَيْبِهِ، فالجواب المَشْهُورُ أن الصَّدَاقَ يَعُودُ بزيادته إلى الزوج، ولا حَاجَةَ إلى رِضَاهَا، كما في فَسْخُ البيع بالعيب، وبناه في "التتمة" على أنَّ الفَسْخَ إذا اتَّفق بعد الدخول، هل يُسَلّمُ لها المسمى إن قلنا: نعمِ، فهو كما لو كان السَّبَبُ عِارضاً، وإن قُلْنَا بوجوب مَهْرِ المِثْلِ، فقد حكى خِلاَفاً في أنَّا هل نسند الفَسْخَ إلى وَقْتِ العقد، ونقول بارتفاع العَقْدِ من أَصْلِهِ أم لا؟. إن قلنا: لا، فالحُكْمُ على ما ذكرنا، وإن قلنا: نعم، فيعود الصَّدَاقُ إليه بزِيَادَتِهِ بِزَوَائِدِهِ المُتَّصِلَةِ والمنفصلة. وقوله في الكتاب: "إن شاء رَجَعَ إلى قِيمَةِ النِّصْفِ السليم" في هذه اللفظة شيء، والعِبارَةُ القَوِيمَةُ أن يقال: "إلى نصف قِيمَةِ السَّليم" وفرق بين نِصْفِ قيمة الكُلِّ وبين قِيمَةِ نِصْفِ الكل، فإنا إذا قَوَّمْنَا النِّصْفَ، نظرنا إلى جُزْءٍ من الجملة، وذلك مما يُوجِبُ النُّقْصَانَ، فإن التَّشْقِيصَ عَيْبٌ، وَيجْرِي هذا الكَلاَمُ في قوله: "فإن أَبَتْ غُرِّمَتْ قيمة الشطر" والأولى أن يقال: شَطْرُ القيمة. وقوله: "أجبر على القَبُولِ" يجوز أن يُعلَّمَ بالواو؛ لما ذكرناه. قَالَ الغَزَالِيُّ: أَمَّا إِذَا زَادَ مِنْ وَجْهٍ وَنَقَصَ مِنْ وَجْهٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الخِيَارُ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ عَبْدًا صَغِيرًا فَكَبِرَ فَنْقْصَانُهُ زَوَالُ الطَّرَاوَةِ، أَوْ شَجَرَةً فأَرْقَلَتْ وَنَقَصَتِ الثَّمَرة، وَلا يُشْتَرَطَ فِي الزِّيَادَةُ القِيمَةِ بَلْ مَا فِيْهِ غَرَضٌ مَقْصُودٌ يُثْبِتُ الخِيَارَ، وَالحَمْلُ فِي ¬
الجَارِيَةِ زِيَادَةٌ مِنْ وجْهٍ وَنُقْصَانٌ مِنْ وَجْهٍ، وَفِي البَهِيمَةِ زِيَادَةَ مُحَضَةٌ إِلاَّ إِذَا أَثَّرَ فِي إِفْسَادِ اللَّحْمِ، والزِّرَاعَةُ نُقْصَانٌ مَحْضٌ لِلأَرْضِ إِذ الزَّرْعُ يَبْقَى لَهَا، والغِرَاسُ كَذَلِكَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القسم الثالث إذا تغير الصَّدَاقُ بالزِّيَادَةِ والنقصان جَمِيعاً، إما بَسَبَب واحد، كما إذا أصْدَقَهَا عَبْداً صغيراً، فكبر، فإنه نُقْصَانٌ من جِهَةِ نَقْصِ القيمة، ومن جهة أن الصَّغِيرَ يصلح لِلْقُرْبِ من الحُرَم، وإنه أَبْعَدُ عن الغَوَائِلِ، وأَشد تَأَثُّرًا بالتَّأْدِيبِ والرِّيَاضَةِ، وزيادة من جهةَ أنه أَقْوَى علَى الشَّدَائِدِ والأَسْفَارِ، وأحْفظ لما يستحفظ، وكما إذا أَصْدَقَهَا شَجَرَةً فأرفلت وصَارَتْ وذلك بأن يَقِلَّ ثَمَرُهَا لِطُولِ المُدَّةِ، فذلك نُقْصَانٌ من جهة نُقْصَانِ الثمرة، وزيادة من جِهَةِ زَيادَةِ الحَطَبِ، وأما بسببين، كما إذا أَصْدَقَهَا عَبْداً، فَتَعَلَّمَ القرآن، أو تعلم حِرْفَةً وأعور فلكل واحد منهما الخِيَارُ على مَعْنَى أن للِزَّوْجِ ألا يقبل العَيْنَ للنّقْصَانِ، ويعدل إلى نِصْفِ القِيمَةِ، وللزوجة أَلاَّ تَبْذُلَ العَبْدَ، وتعدل إلى بَدَلِ نِصْفِ القِيمَةِ، وإن اتَّفَقَا على الرُّجُوعِ جاز، ولا شيء لأحدهما على الآخر، وليس الاعْتِبَارُ بِزِيَادَةِ القيمة، بل كُلُّ ما حدث وفيه مَنْفَعَةٌ وفائدة مقصودة، فهو زِيَادَةٌ من ذلك الوجه. وإن [نقصت] (¬1) القيمة على ما بَيَّنَّا في كِبَرِ العَبْدِ الصغير, ثم الكَلاَمُ في صورتين: إحداهما: أَصْدَقَهَا جَارِية حائِلاً، فَحَبِلَتْ في يدها، وطَلَّقَهَا قبل الدخول، فهي زَيادَةٌ من وَجْهٍ لِتَوَقُّع الولد، ونُقْصَانٌ من وجه للَضَّعْفِ في الحال، ولِلْخَطَرِ عند الوِلاَدَةِ، فإن لم يَتَّفقَا على الرجوع إلى نِصْفِ الجَارَيةِ، فالمَعْدُولُ إليه نِصْفُ قيمة الجارية، وليس لأحدهما إجْبارُ الآخر. وحكَى أبُو عَبْدِ الله الحناطي وَجْهاً: أنه يُجْبَرُ الزوج إذا رَضِيَتْ هي بِرُجُوعِهِ إلى نصف قِيمَةِ الجَارِيَةِ، وهي حامل؛ بناءً على أن الحَمْلَ لا يُعْلَمُ، وقضية هذا أن تُجْبَرَ أيضًا إذ رَغِبَ الزَّوْجُ في الرجوع إلى نصفها حَامِلاً، وأما الحَمْلُ في البَهِيمَةِ، ففيه وجهان: أحدهما: أنه زِيَادَةٌ مَحْضَةٌ؛ لأنه لا يُخَافُ عليها من الوِلاَدَةِ غالبًا. وأظهرهما: أنه كما في الجَوَارِي زِيَادَةٌ من وجه، ونُقْصَانٌ من وجه، أما إذا كانت مَأْكُولَةً فلأن لَحْمَهَا لا يَطِيبُ؛ لأن الحَمْلَ ضَرْبُ مَرَضٍ، وأما إِذا لم تكن مَأْكُولَةَ، فلأنه لا يُحْمَلُ عليها مع الحَمْلِ، كما يحمل، ولا حَمْلَ. وقوله في الكتاب: "إلا إذا أَثَّرَ في إِفْسَادِ اللَّحْمِ" أي: ما كانت مَأْكُولَةَ، وقضية إيراده الفَرْق بين أن تكون مَأْكُولَةً، فيكون الحَمْلُ فيها كَالحَمْلِ في الجَارِيَةِ، أو لا تكون مَأْكُولَةً، فيكون الحمل فيها زِيَادَةً مَحْضَةً، يوافق الوجه الذي ذكرنا أنه أَظْهَرُ في ¬
الْمَأْكُولِ، ويخالفه في غير المَأْكُولِ ويجوز أن يُعَلَّمَ "المستثنى" و"المستثنى منه" بالواو. الثانية: إذا أَصْدَقَها أرضاً فحرثتها المَرْأَةُ، فهي زيادة مَحْضَةٌ, إن كانت من الأَرَاضِي المُعَدَّةِ للزراعة، وإن كانت مُعَدَّةً للْعِمْارَةِ والبناء، فَنُقْصَانٌ مَحْضٌ وحينئذٍ لو أراد الزَّوْجُ الرُّجُوعَ إلى نِصْفِ عَيْنِها مُكِّنَ, وإن أَبَى رجع إلى نِصْفِ القيمة بلا حِرَاثَةٍ، وإن زَرَعْتَها المَرْأةُ، ثم طَلَّقَهَا، فالزِّرَاعَةُ نُقْصَانَ مَحْضٌ, لأنها تَسْتَوْفِي قُوَّةَ الأرض، ولأن الزَّرْعَ يبقى لها، وتَسْتَحِقُّ الإبْقَاءَ إلى الحَصَادِ، فتنصرف مَنْفَعَةُ المُدَّةِ إلى الزرع، فإن تَوافَقَا على الرُّجُوع إلى نصفَ العَيْنِ، وترك الزرع إلى الحَصَادِ، فذاك قال الإِمام وعليه إِبْقاؤُهُ بلا أُجْرَةٍ؛ لأنها زَرَعَتْ مِلْكَهَا الخَالِصَ، وإن رِغِبَ فيها الزوج، وامتنعت أُجْبِرَتْ عليه، وإن رَغِبَتْ هي، فله أن يمتنع، ويأخذ نِصْفَ قيمة الأَرْضِ، فإن قالت: خُذْ نِصْفَ الأرض، مع نصف الزرع، ففي إِجْبَارِهِ وجهان، كما سنذكرهما في الثِّمَارِ، مع النَّخِيلِ، هذا أحد الطريقين. وثانيهما: القَطْعُ بالمنع؛ لأن الزَّرْعَ لا يَحْصُلُ من عين الأرض، وإنما يَحْصُلُ مما أَوْدَعَتْهُ فيها، فلا يَلْزَمُ قَبُولُهُ، بخلاف ثَمَرَةِ الشجرة، والظاهر المنع، وإن ثبت الخِلاَفُ، ولو طَلَّقَهَا بعد الحَصَادِ، وبقي في الأَرْضِ أَثَرُ العِمَارَةِ، وكانت تصلح لما لا تَصْلُحُ له قبل الزراعة فهي زيادة محض، فليس له الرجوع إلا بِرِضَاهِا، ولو أنها غَرَسَتْ في الأرْضِ المصدقة، فالحُكْمُ كما في الزَّرْع، لكن لو أَرَادَ أن يَرْجِعَ في نِصْفِ الأرض، ويترك الغَرْسَ، ففيه وجه أنه لا تُجْبَرُ المرَأَةُ عليه؛ لأن الغِرَاسَ للِتَّأبِيدِ، وفي إِبْقَائِهِ في مِلْكِ الغير ضَرَرٌ ولو طلقها، والأرْضُ مَزْرُوعَةٌ، أو مَغْرُوسَةٌ، فابتدرت إلى القَلْعِ، نُظِرَ إن بقي في الأرْضِ نُقْصَانٌ لضعفها بالزرع، والغَرْسِ، وهو الغالب، فالزوج على خِيَرَتِهِ وِإلاَّ انْحَصَرَ حَقُّهُ في الأرْضِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (فُرُوعٌ، الأَوَّلُ) لَو أَصْدَقَهَا نَخْلاً فَأثْمَرَث فَطَلَّقَهَا قَبْلَ الجَدَادِ فَلَهَا الثِّمَارُ وَيعْسُرُ التَّشْطِيرُ إِلاَّ بِمُسَامَحَة أَوْ مُوَافَقَةٍ إِذْ لَيْسَ لَهُ أنْ يُكَلِّفَهَا قَطْعَ الثِّمَارِ وَلاَ أَنْ يَسْقِيَ وَيَنْتَفِعَ بِنَصِيبِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ وَلاَ أَنْ يَتْرُكَ السَّقْيَ إِذْ يَتَضَرَّرُ ثَمَرُهَا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُكَلِّفَهُ تَأْخِيرَ المِلْكِ إِلَى الجِدَادِ وَلاّ السَّقْيَ وَلا تَرْكَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أنْ يَرْجِعَ وَيَقُولَ: إلَيْكِ الخِيرَةُ في السَّقْيَ وَترْكِهِ وَأَنَا لا أَسْقِي؛ لأَنَّهَا تَتَضَرَّرُ بِتَرْكِ السَّقْيِ وَلاَ يَلْزَمُهَا نَفْعُ شَجَرَةٍ بِالسَّقْي فَإِنْ سَامَحَ أَحَدُهُمَا والْتَزَمَ السَّقْيَ لَمْ يَلْزَمْهُ الإِجَابَةُ أَيْضًا عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ؛ لأنَّهُ وَعْدٌ فَرُبَّمَا لا يَفِي بِهِ، وَإِنْ وَهَبَتْ مِنْهُ نِصْفَ الثِّمَارِ يَلْزَمُهُ الَقبُولُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ وإِنْ كَانَ فِيهِ مُنَّةٌ لِيَنْدَفِعَ العُسْرُ فَيَشْتَرِكَانِ في الجَمِيعِ، وَكَذا الخِلاَفُ فِيمَا لَوْ أصْدَقَهَا جَارَيةً فَوَلَدَتْ فَطَلَّقَها وَهُوَ رَضِيعٌ فَقَالَ: أَرْجِعُ اِلَى النِّصْفِ وَأرْضَى أَنْ تَبْقَى مُرْضِعَةً فَإِنَّ هَذَا
وَعْدٌ مَحْضٌ، فَإنْ تَرَاضَيَا عَلَى الرُّجُوعِ بِالنِّصْفِ ثُمَّ يَسْقِي مَنْ يَشَاءُ فَهُوَ تَوَاعُدٌ فَمَن وَعَدَ بالسَّقْيِ لَمْ يلْزَمْهُ, وَمَنْ رَضِيَ بِتَرْكِ السَّقْي يَلْزَمُهُ لأَنَّهُ إسْقَاطُ حَقٍّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا أصْدَقَهَا نَخِيلاً حَوائِلَ، ثم طَلَّقَها قبل الدُّخُولِ، وهي مطلعة، لم يكن له أَخْذُ نِصْفِ الطَّلْعِ قَهْراً، ولا الرُّجُوعُ إلى العَيْنِ قَهْراً، فإن الطَّلْعَ كزيادة مُتَّصِلَةِ، فيمنع الرُّجُوع القَّهْري، فإن رَضِيَتِ المَرْأَةُ أن تأخذ نِصْفَ النَّخْل، مع نِصْفِ الطَّلْعِ أُجْبِرَ عليه، وليس له طَلَبُ نِصْفِ القِيمَةِ ومنهم من نَزَّلَ الطَّلْعِ مَنْزَلةَ الثَّمَرَةِ المُؤَبَّرَةِ، حتى يجيء في الإجْبَارِ الخِلاَفُ الذي نذكره في الإجْبَارِ على قَبُولِ الثمرة المُؤبَّرَةِ، وإن كانت عليها ثِمَارٌ مُؤَبَّرَةٌ عند الطَّلاَقِ، ففيه صور: إحداها: ليس له أن يُكَلِّفَهَا قَطْعَ الثَّمَارِ، حتى يرجع إلى نصف الأَشْجَارِ؛ لأنها حَدَثَتْ في خَالِصِ مِلْكِهَا، فيتمكَّن من نَزْعِهَا، وإِبقائها إلى الجُذَاذِ، لكن لو بَادَرَتْ إلى قَطْعِهَا، أو قالت: اقطعها لترجع، فليس لِلزَّوج غير الرجوع إلى نِصْفِ الأشجار، إذا لم يَمْتَدَّ زمان القَطْعِ، ولم يحدث بالقَطْعِ نُقْصَانٌ في الأشجار لانْكِسَارِ السَّعَفِ والأَغْصَانِ. والثانية: إذا أراد أن يرْجِعَ في نِصْفِ النَّخِيلِ، ويترك الثِّمَارَ إلى الجُذَاذِ، وَأَبَتِ المَرْأَةُ، ففيه وجهان: أحدهما: أنها لا تُجْبَرُ عليه؛ لأنها قد لا تَرْضَى بيده، ودُخُولِهِ البُسْتَانَ. والثاني: وجه قال أبو إِسْحَاقَ: يُجْبَرُ وتجعل الأشجار في يدهما، كما هو دَأْبُ الأمْلاَكِ الشَّائِعَةِ، وهذا أَصَحُّ عند أَئِمَّتِنا العراقيين وهو الجواب في "التهذيب" ورجَّح أبو سَعْيدٍ المُتَوَلِّي الأَوَّلَ، هذا ما يوجد في كُتُب الأصحاب، وتَعَالِيقِهِمْ، وزاد الإِمام شَيْئاً آخر، فقال: لا يَنْفَصِلُ الأمر بقوله: أرجعَ إلى نِصْفِ الأشجار، وأبْقِي الثِّمَارَ إلى الجُذَاذِ؛ لأنه لا بدّ من تنمية الثِّمَارِ بالسَّقْي في نَصِيبِهَا من الأَشْجَارِ [ولا يمكن تكليفها السقي لأن نفعه غير مختص بالثمر بل ينفع به الشجر أيضًا، ولا يمكن تكليفها ترك السقي لتضرر الثمر والشجر] وَتابَعَهُ صاحب الكتاب على ما ذكره، وكان ما ذَكَرَاهُ ذَهَابُ منهما إلى أَنَّهَا لا تُجْبَرُ على ما يقوله الزَّوْجُ، ويوجبه له لما في السَّقْي من الإِشْكَالِ، ولمن ذَهبَ إلى الإجْبَارِ، أن يقول: ليكن سَبِيلُ السَّقْي هاهنا سَبِيلَهُ فيما إذ اشْتَرَكَ اثْنَانِ في الأشجار، وانفرد أحدهما بالثِّمَارِ، في غير صورة الصَّدَاقِ. الثالثة: إذا أَرَادَتِ المَرْأَةُ أن ترجع إلى نِصْفِ الأشجار وتترك الثمار إلى الجْذَاذِ، فللزوج أَلاَّ يَرْضَى به، ويطلب القِيمَةَ؛ لأن حَقَّهُ في الأشجار الخَالِيَةِ، وليس لها أنْ تُكَلِّفَة تَأْخِيرَ الرُّجُوع، إلى الجُذَاذِ؛ لأنه يَسْتَحِقُّ العين، أو القيمة في الحال، فلا يَلْزَمُهُ التَّأْخِيرُ، ولو قال الزوج: أُؤَخِّرُ الرُّجُوعَ، إلى أن تُجْذِيَ الثمرة، فلها أَلاَّ تَرْضَى به؛ لأن نَصِيبَهُ يكون مَضْمُوناً عليها، هكذا وَجَّهُوهُ وهو مَبْنِيٌّ على أن النِّصْفَ الراجع إلى الزوج
بالطَّلاَقِ، يكون مَضْمُوناً عليها، وفيه اختلاف تَقَدَّمَ. فإن قال الزوج: أَرْجِعُ، ويكون نَصِيبِي من النَّخِيلِ وَدِيعَة عِندَكِ، وقد أَبْرَأْتُكِ عن ضَمَانِهِ، ففي شرح الجُوَيْنِي حكايته وجهين فيه، ولهما الْتِفَاتٌ إلى إِبْراءِ الغَاصِبِ عن الضَّمَانِ، مع بَقَاءِ المَغْصُوبِ في يده، وزاد من نظر إلى أمْرِ السَّقْي، وقال: ليس للمرأة أن تَقُولَ: ارجع واسْقِ؛ لأن فَائِدَةَ السَّقْي تَعُودُ إلى نَصِيبِهَا في الأَشجار، وإلى الثمار، وهي خَالِصَةٌ لها، ولا أن تَقُولَ: ارجع ولا تَسْقِ؛ لأن نَصِيبَهُ من الشجر يَتَضَرَّرُ بترك السَّقْي، ولو قالت: ارْجِعْ وأنا لا أسْقِي، وإليك الخِيَرَةُ في السَّقْي، وتركه، أو قال الزوج: أرْجِعُ ولا أَسْقِي، وإليك الخِيَرَةُ في السَّقْي، وتركه، فلا تَلزم الإِجابة على الآخر؛ لأنه إن تَرَكَ السَّقْيَ تَضَرَّرَ، وإن سَقَى كانت المؤنة عليه، وعَادَ بعْضُ الفائدة إلى صَاحِبِهِ، ولو قال الزوج: أَرْجِعُ إلى النصف وأسْقِي، والتزم مُؤْنَتَهُ، أو قالت المرأة: ارْجِعْ وأنا أسْقِي، فهل على الآخر إجَابَتُه؟ حَكَوُا فيه وجهين: أحدهما: نعم؛ لأن المُؤَنَةَ ترتفع عن الآخر، فيندفع العشر. وأظهرهما: المنع؛ لأنه وَعْدٌ، وربما لا يَفي به ولأن المُمْتَنِعَ لا يَرْضَى بدخول صاحبه البُسْتَانِ للسَّقْي، فإن قلنا بالأول فلو بَدا لِمَنِ الْتَزَمَ السَّقْيَ، وامتنع منه تَبَيَّنَ أن المِلْكَ لم يَرْجِعْ إلى الزوج، وكأنه مَوْقُوفٌ على الوَفَاءِ بالوَحْدِ، وألْحَقُوا بهذه الصورة ما إِذا أَصْدَقَها جَارِيَةً، فَوَلَدَتْ في يدها وَلَداً، مَمْلُوكاً، ثم طَلَّقَها قبل الدخول، فقال الزوج: أرْجِعُ إلى نِصْفِ الجارية، وأرْضَى بأن تُرْضِعَ الولد، ففيه الوجهان. قال الإِمام: ونصَّ الشَّافعي -رضي الله عنه- يَدُلُّ على أنه لا يُجابُ ولو قال: أرْجِعُ وأَمْنَعُهَا من الإرْضَاعِ، لم يجب، بلا خِلاَفٍ، وفي هذه المسألة وَرَاءِ الإرْضَاع، ومُضِيِّ زمانه شَيْءٌ آخر، وهو ما يَقَعُ من التَّفْرِيقِ بين الجارية وَوَلَدِها، وقد نَقَلْنَا ما حَكَاهُ صاحبا "التتمة" ["والشامل"] (¬1) فيه. الرابعة: لو وَهَبَ منه نِصْفَ الثمار، ليشتركا في الثِّمَارِ والأشجار جميعاً، ففي وجوب القَبُولِ وجهان وجه الوُجُوب أنها مُتَّصِلَةٌ بالأَشْجَارِ، فأشبهت الطَّلْعَ والسِّمَنَ في الحيوان والأصح ما ذكر صاحب "التهذيب" وغيره: المَنْعُ؛ لأن الإِجْبارَ على قَبُولِ مِلْكِ الغير بَعِيدٌ، والثمار المُؤَبَّرَةُ في حُكْمِ المُنْفَصِلِ، ولهذا لا يَدْخُلُ في بيع الأشجار. الخامسة: إذا تَرَاضَيَا على الرُّجُوعِ إلى نِصْفِ الأَشْجَارِ في الحال أو على تأخير الرجوع إلى الجُذَاذِ مُكِّنَا مما تَرَاضَيَا عليه، وإذا بَدَا لأحدهما في التَّأْخِيرِ. مُكِّنَ من الرجوع عنه. ¬
فرع
وقال المُعَلِّلُونَ بِالسَّقْيِ إذا تَرَاضَيَا على الرُّجُوع في الحال، على أن يَسْقِيَ من شاء منهما مُتَبرِّعاً، أو على أن يَتْرُكَا أو أحدهما السَّقْي، فمن الْتَزَمَ أن يَسْقِي، فهو وَعْدٌ لا يلزمه الوَفَاءُ به، لكنه إذا لم يَفِ تَبَيَّنَ أن المِلْكَ لم يَعُدْ إلى الزوج، ومن تَرَكَ السَّقْيَ لم يمكن من العَوْد إليه. قال الإِمام: لأن مَضْمُونَ ما تَرَاضَيَا عليه تَعْجِيلُ حَقٍّ، والْتِزَامُ ضَرَرٍ، وألزمنا بأن الضَّرَرَ إذا تَبعَ تَعْجِيلَ حَقٍّ، ولزم هذا مَحْصُولُ المسألة، ولم أَرَ تَعَرُّضًا فيها للسَّقْيِ، إلا الإِمام ومن نَحَا نَحْوَهُ. وظهور النَّوْرِ في سائر الأَشْجَارِ إذا جعلت صَدَاقًا كَبُدُوِّ الطَّلْعِ النَّخِيلِ، وانعقاد الثمار مع تَنَاثُرِ النَّوْرِ كالتَّأْبِيرِ في النخيل. أما لَفْظُ الكتاب فقوله: "ويعسر التَّشْطِير" أي: في النخيل "إلا بِمُسَامَحَةٍ" أي: من أحد الجَانِبَيْن "أو مُوَافَقةٍ" وهي التَّرَاضِي من الجانبين، ثم انْدَفَعَ في بَيَانِ جِهَةِ العُسْرِ، وقال: "إذ ليس له أَن يُكَلِّفَهَا" إلى قوله: "ولا تركه"، وقوله: "وليس له أن يرجع، ويقول: إليك الخيرة" هذه صورة من صُوَر المُسَامَحَةِ، وقوله: "فإن سَامَحَ أَحَدُهُمَا، والتزم السَّقْيَ" أي قال لها: أرْجِعُ وأَسْقِي، أو قالت له: ارْجِعْ وأنا أسْقِي، فهذه صورة ثانية. وقوله: "وإن وهبت منه نِصْفَ الثمار" هذه صورة ثَلاِثَةٌ من صور المُسَامَحَةِ. وقوله آخراً: "فإن تَرَاضَيَا على الرُّجُوعِ" هو صورة المُوَافَقَةِ، وقد يَتَرَاضَيَانِ على أن يَسْقِيَ من شَاءَ منهما مُتَبَرِّعاً، وقد يَتَرَاضَيَانِ عليه، ويلزم أحدهما، أو كلاهما السَّقْي، أو يَرْضَى أحدهما بِتَرْكِ السَّقْي، أو كلاهما، ولم يُصَرِّحْ بهذه الأحوال فيما إذا تَرَاضَيَا، واقْتَصَرَ على إذا قَالاَ: على أَنْ يَسْقِيَ مَنْ شاء، لكن قوله: "فمن وعدَ بالسَّقْي لم يلزمه، ومن رَضِيَ بِتَرْكِ السَّقْي لزمه" يخرج إلى التعرض لهما، وَيدُلُّ على أنه أَرَادَهُمَا جَمَيعاً على ما هو مُبَيَّنٌ في "الوسيط". " فَرْعٌ" لو أصْدَقَهَا نَخُلَةً، عليها ثمار مُؤَبَّرةٌ، وطلقها قبل الدُّخُولِ، فله نِصْفُ الثمار، مع نصف النخلة، جُذَّتِ الثِّمَارُ أو لم تجذ (¬1). وإن كانت مُطْلِعَةَ فإن طَلَّقَهَا، وهي بعد مطْلِعَةْ أخذ نصْفَهَا مع الطَّلْعِ. ¬
ونقل أبو سَعْدٍ المُتَوَلِّي وَجْهاً أنه إذا امْتَدَّ الزَّمَانُ، بحيث يزداد في مثله الطَّلْعُ لا يجوز له الرُّجُوعُ فيه، هذا لفظه، ولو قال: لا يَجُوزُ الرُّجُوعُ إلا بِرِضَاهَا كان أَحْسَنَ، ولو كانت مُؤَبَّرَةً عند الطَّلاَقِ، فهل للزوج حَقٌّ في الثمرة؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه على قولين، كالقولين فيما إذا أصْدَقَهَا جَارِيَةٌ حَامِلاً، وولدت قبل الطلاق، وسنذكره في الفصل الآخر، بعد هذا الفَصْلِ. وأصحهما: القَطْع بِإثْبَاتِ حَقِّهِ في الثمرة لأنها مشاهدة متيقنة بخلاف الحَمْلِ، ولهذا لا يُفْرَدُ الحَمْلُ بالعَقْدِ، وتُفْرَدُ الثمار، وإذا أَثْبَتْنَا له الحَقّ في الثمرة لا يأخذ إلا بِرِضَاهَا؛ لأنها قد زَادَتْ، فإن لم تَرْضَ أخذ نِصْفَ قيمة الطَّلْعِ, مع نصف الأشجار. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِي) لَوْ أَصْدَقَهَا جَارِيَةً حَامِلاً فَوَلَدَتْ فَلا يَرْجِعُ فِي نِصْفِ الوَلَدِ إِنْ قُلْنَا: لاَ يُقَابِلُهُ قِسْطٌ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ قُلْنَا: يُقَابِلُهُ يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ, وَفِيه وَجْهٌ آخَرُ أنَّهُ لاَ يَرْجِعُ لأَنَّهَا زِيَادَةٌ ظَهَرَتْ بِالانْفِصَالِ. قَالَ الرَّافِعِي: أَصْدَقَها جَارِيَةٌ حَامِلاً, ثم طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ، نظر إن طَلَّقَها، وهي حَامِلٌ بعد، فللزوج نِصْفُهَا حَامِلاً، ويجيء عند امْتِدَادِ الزَّمَانِ الوَجْهُ المذكور فيما إذا أَصْدَقَهَا نَخْلةً مُطْلِعَةً، وطَلَّقَهَا، وهي بعد بجالها لم يؤثر، فإن طَلَّقَهَا، وقد وَلَدَتْ، فالكلام في الأم، ثم في الوَلَدِ أما الأم، فلا يَأْخُذُ نِصْفَهَا إن كان الوَلَدُ رَضِيعاً كيلا يختلَّ أَمْرُهُ، لكن يرجع إلى نِصْفِ القِيمَةِ، فإن كانت فَطِيماً، فإن كان في زَمَانِ التفريق المُحَرَّمِ، فعلى ما تقدَّمَ، وإلا فله نِصْفُها، فإن انْتَقَصَتْ قيمتها بالوِلاَدَةِ، نظر إن وَلَدَتْ في يد الزوج، فعلى ما سَبَقَ من حكم النُّقْصَانِ الحاصل في يد الزوج، وإن وَلَدَتْ في يد الزَّوْجَةِ فله الخِيَارُ إن شاء أَخَذَ نِصْفَهَا، ولا شيء له مع ذلك، وإن شاء رجع إلى نِصْفِ القيمة، وأما الوَلَدُ، فهل يأخذ الزَّوْجُ نصفه؟ ينبني على أن الحَمْلَ هل يُعْرَفُ؟ وهل يقابله قِسْطٌ من الثمن في البيع؟ وفيه قولان مَذْكُورَانِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ، فإن قلنا: "لا" فهو كالوَلَدِ الحَادِثِ بعد العَقْدِ، ولا حق للزَّوْجِ فيه. وإن قلنا: نعم، وهو الأَصَحُّ، ففيه وجهان: أحدهما: أن للزوج حَقّاً فيه، كما لو أَصْدَقَهَا عَيْنَيْنِ، لكن الولد قد زَادَ بالوِلاَدَةِ، فللمرأة الخِيَارُ إن رضيت بوجوع الزَّوْجِ إلى نِصْفِهِ، مع نِصْفِ الأم، أُجْبِرَ عليه، وإن أَبَتْ قال في "التتمة": لا يرجع في نِصْفِ الجَارِيَةِ للتفريق، ولكن يرجع إلى نِصْفِ قيمتها، وقيمة الولد، وتعتبر قِيمَتُهُ بيوم الانْفِصَالِ؛ لأنه أوَّلُ وَقْتِ إِمْكَانِ التقويم. والثاني: أنه لا حَقَّ له بسبب الوَلَدِ؛ لأن هذه زِيَادَةٌ ظهرت بالانْفِصَالِ، ولا قِيمَةَ
له حَالَةَ الاجْتِنَانِ (¬1). ولو كانت الجَارَيةُ المصدقة حَائِلاً، فطلقها وهي حَامِلٌ، فقد سَبَقَ، وإن وَلَدَتْ، ثم طَلَّقَهَا، فالوَلَدُ لها، والقول في الأم، كما ذكرنا فيما إذا كانت حَامَلاً يوم الإِصْدَاقِ، ووَلَدَتْ، وطلقها قبل الدُّخُولِ، وإن حَبِلَتْ في يد الزوج، ووَلَدَتْ في يد اَلزَّوْجَةِ، فيكون النُّقْصَانُ من ضَمَانِهِ، ويثبت لها الخِيَارُ؛ لأن السَّبَبَ وُجِدَ في يده، ومن ضَمَانِهَا، ويثبت له الخِيَارُ؛ لأن النُّقْصَانَ حَصَلَ عندها، فيه وجهان لا يَخْفَى نَظَائِرُهُمَا. قَالَ الغَزالِيُّ: (الثَّالِثُ) لَوْ أصْدَقَهَا حُلِيّاً فَكَسَرَتْهُ وَأَعَادَتْهُ صَنْعَةً أُخْرَى فَهُوَ زَيَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَنُقْصَانٌ مِنْ وَجْهٍ، فَإِنْ أَعَادَتْ تِلْكَ الصَّنْعَةَ لَمْ يَرْجِعْ إِلاَّ بِرِضَاهَا فِي أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لأنَّهَا زِيَادَةٌ حَصَلَتْ باخْتِيَارِهَا، وَإِنْ أَبَتْ فَلَهُ نِصْفُ قِيمَتِهِ مَصُوغاً، وَقِيلَ: إِنَّ لَهُ مِثْلَ وَزْنهِ مِنَ التَّبْرِ وَأُجْرَةَ الصَّنْعَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا أصدقها حُلِيّاً فَكَسَّرَتْهُ، أو انْكَسَرَ في يدها، وبَطَلَتِ الصَّنْعَةُ، ثم أَعَادَتِ المُنْكَسِرَ حُلِيّاً، ثم طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قبل الدخول، فينظر إن صاغَتْهُ على هَيْئَةٍ أُخرى، فالحاصل زِيَادَةٌ من وجه، ونُقْصَانٌ من وجه، وليس له أن يَرْجِعَ إلى نصف العين قَهْراً، ولا لها أن تُجْبِرَهُ على قَبُولِ نِصْفِ العَيْنِ، بل الرجوع إلىِ نصْفِ القيمة، مهما أَبَى أحدهما، وإن اتَّفَقَا على الرُّجُوعِ إلى نصفه، جاز، وإن أعَادَتِ الصّنْعَة التي كانت، فوجهان: أحدهما: أنه يرجع الزَّوْجُ إلى نِصْفِ العَيْنِ، وإن لم ترض؛ لأنه بالصِّفَةِ التي كانت عليها يَوْمَ الإِصْدَاقِ، والتسلم إليها وأظهرهما -وبه قال ابْنُ الحَدَّاد: أنه لا يرجع إلا بِرِضَاهَا؛ لأن الصّنْعَةَ المعادة حَدَثَتْ عندها، والمَوْجُودَة قبلها، فإنها مِثْلُهَا لا عَيْنَهَا، فالزِّيَادَاتُ الحَادِثَةُ عند الزوجة تمنع الرُّجُوعَ القَهْريّ. واحْتَجَّ بعضهم لِلْوَجْهِ الأَوَّلِ بما إذا هَزُلَتِ الجارية المَمْهورَةُ في يدها، ثم سَمِنَتْ يرجع إلى نصفها، وإن لم تَرْضَ، وجعلوا هذا مُتَّفَقًا عليها، ثم فَرَّقُوا بين السَّمَنِ، وإِعَادَةِ الصَّنْعَةِ، بأن عَوْدَ السِّمَنِ لا صُنْعَ فيه والصّنْعَةُ عَادَتْ بِصُنْعِها، والْتِزَامِهَا المُؤْنَة، وإلى هذا أشار في الكتاب بقوله: "لأنها زِيَادَةٌ حَصَلَتْ باختيارها" لكن الذي ذَكَرَهُ ابْنُ الصَّبَّاغ وآخرون: أن مسألة السِّمَنِ على الوجهين أيضا، وهو الذي أَبْدَاهُ الشَّيْخُ أبو علي على سبِيلِ الاحْتِمَالِ، وهما كالوَجْهَيْنِ فيما إذا هَزُلَتِ الجَارِيَةُ المَغْصُوبَةُ، ثم سَمِنَتْ، هل يُغرَّمُ الغَاصبُ نُقْصَانَ الهُزَالِ، أو تُقَامُ العائدة مَقَامَ الأَوَّلِ؟ فلا فرق إِذًا بين ¬
المَسْأَلَتَيْنِ، ويجري الوَجْهَانِ فيما إذا نَسِيَ الحِرْفَةَ، ثم تَعَلَّمَهَا، ولو طَرَأَتْ في عَيْنِ العَبْدِ غِشَاوَةٌ، فكان لا يُبْصِرُ شَيْئًا، ثم زالت، ثم طلقها قبل الدخول، ففيما علق عن الإِمام أن الزَّوْجَ يَرْجِعُ إلى نِصْفِ العبد، بلا خلاف ويكون كما لو حَدَثَ عَيْبٌ في يدها، وزال، ثم طَلَّقَهَا، وإذا قلنا: إنه لا يرجع إلى نصف الحُلِيِّ المُعادِ عند إِبائِهَا فإلى ما يرجع فيه وجهان: أحدهما: أنه يرجع إلى نصْفِ قِيمَةِ الحُلِيِّ على الهَيئَةِ التي كَانَتْ. والثاني: إلى مِثْلِ نِصْفِهِ بالوَزْنِ تِبْراً، وإلى نصف أُجْرَةِ مثل الصّنْعَةِ، وهي قيمتها، ونَظْمُ الكتاب يُشْعِرُ بترجيح الوَجْهِ الأول، وبترجيحه قال الشيخ أبو عَلِيٍّ، وهو جواب ابن الحَدَّادِ، لكن المُوَافِقَ لما مَرَّ في الغَصْبِ فيما إذا أَتْلَفَ حُلِيّاً على إِنْسَانِ بِتَرْجِيح الوجه الثاني. وإذا قُلْنا بالوجه الأَوَّلِ فيم يقوم الحُليّ به وجهان: أحدهما: أنه يُقَوَّمُ بغير جِنْسِهِ، وإن كان نَقْدُ البَلَدِ من جِنْسِهِ، إن كان ذَهَباً يُقَوَّمُ بالفِضَّةِ، وإن كان فِضَّةً فَبِالذَّهَبِ؛ لأن التَّقْوِيمَ بالجنس يَتَضَمَّنُ المُقَابَلَةَ مع الفَضْلِ، وهي مُمْتَنِعَةٌ في التقدير، كالمُقَابَلَةِ باَلبَيْعِ. والثاني؛ أنه يُقَوَّمُ بِنَقْدِ البَلَدِ، وإن كان ذلك من جِنْسِهِ، وبالأول أجاب ابْنُ الحَدَّادِ، وإلى الثاني ذَهَبَ محمد بن نَصْرٍ المَرْوَزِيُّ، ويجري الوجْهَانِ في قِيمَةِ الصّنْعَةِ، ففي وجه: يُقَوَّمُ بِغَيْرِ جِنْسِ الحُلِيِّ. وفي وجه بنَقْدِ البَلَدِ، وهو الأشبه، كما تَقَدَّمَ في الغَصْبِ، ولو صورت المسألة في آنِيَةِ الذَّهَبِ، أَو الفضة، فَيْبُنَى على أَنَّهُ هَلّ يَجُوزُ اتِّخَاذُ الأَوَانِي من الذَّهَب والفِضَّةِ، وهل لتلك الصّنْعَةِ قِيمَةٌ أم لا؟!. إن قلنا: لا، فللزوج أن يَرْجِعَ إلى نِصْفِ العَيْنِ، سواء أَعَادَت الصنعة الأولى (¬1) أو غيرها؛ لأنه إذا لم تكن تِلْكَ الصّنْعَةُ مُتَقَوَّمَةً لم يكن هناك زِيَادَةٌ. وإن قلنا: نعم، فالحكم كما في مَسْأَلَةِ الحُلِيِّ، وهذا الخِلاَفُ كالخلاف فيما إذا غَصَبَ آنِيَةً من ذَهَبٍ أو فِضّةٍ وَكَسَّرَهَا، هل يُغَرَّمُ مع رَدِّ العَيْنِ قيمة الصنعة؟ وَيلْتَحِقُ به ما إذا غَصَبَ جارِيَة مُغَنِّيَةً، فَنَسِيَتْ عنده الألْحَانَ، هل يَرُدُّ معها ما انْتُقِصَ من قِيمَتِهَا بِنِسْيَانِ الألْحَانِ؟ فيه وجهان (¬2): وجه المنع: أنه مُحَرَّمٌ ولا عِبْرَةَ بالنُّقْصَانِ الحَاصِلِ به، وعلى هذا، فلو اشْتَرَى ¬
جَارِيَةً مُغَنِّيَةً بألفينِ ولو لم تكن مُغَنِّيَةً لكانت تشترى بألف، حكى الشيخ أبو عَلِيٍّ فيه ثَلاَثَة أوجه: أحدها: وهو الذي أَفْتَى به المحمودي (¬1) "مرو" أنه يبطل؛ لأنه بَذْلُ مَالٍ في مُقَابَلَةِ مُحَرَّمٍ. والثاني: عن أبي زَيْدٍ أنه إن قَصَدَ بالشراء الفنَاءَ بَطَل؛ لأنه قَصَدَ مُحَرَّماً، وإلا لم يَبْطُلْ. والثالث: قال الأودني: القِيَاسُ صِحَّةُ البَيْعِ، وما سوى ذلك اسْتِحْسَانٌ (¬2). وقوله في الكتاب: "فله نِصْفُ قيمته مَصْنُوعاً"، وفي بعض النُّسَخِ "مصُوغاً"، وهما صحيحان. وقوله: "وقيل: إن له مثل نِصْفِ وَزْنِهِ" أي: مِثْلَ نِصْفِ وَزْنِهِ، ونصف أُجْرَةِ الصنعة، حذفه لِلْعِلْمِ بالمَقْصُودِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرَّابعُ) لَوْ أَصْدَقَ الذِّمِّيُّ خَمْراً وَقَبَضَتْ فَأَسْلَمَا فَطَلَّقَهَا قَبْلَ المَسِيسِ وَقَدْ صَارَ خَلاًّ يُرْجَعُ بِنِصْفِ الخَلِّ عَلَى وَجْهٍ، وَلاَ يُرْجَعُ بِشَيْءٍ عَلَى وَجْهٍ، وَإِنْ قُلْنَا: يُرْجَعُ فَلَوْ كَانَ قَدْ تَلِفَ الخَلُّ قَبْلَ الطَّلاَقِ رَجِعَ بِمِثْلِهِ عَلَى وَجْه، وَلاَ يُرْجَعُ بِشَيْءٍ عَلَى وَجْهٍ؛ لأَنَّهُ يُعْتَبَرُ بَدَّلَهُ يَوْمَ القَبْضِ وَلَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ مُتَقَوِّماً، وَلَوْ كَانَ بَدَلَ الخَمْرِ جِلْدُ مَيْتَةٍ فَدَبغَتْهُ فَفِيهِ خِلاَفٌ مُرَتَّبٌ وَمَنْعُ الرُّجُوعِ أَظْهَرُ؛ لأَنَّ مَالِيَّتَهُ حَدَثَتْ بِاخْتِيَارِهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الذمي إذا أَصْدَقَ امْرَأَتَهُ خَمْراً، ثم أَسْلَمَا، أو تَرَافَعَا إلينا، فقد مَرَّ أنه إن اتفق ذلك بعد القَبْضِ، لم نَحْكُمْ لها بشَيْءٍ، وإن كانت غَيْرَ مَقبُوضَةٍ، حكمنا بوجوب مَهْرِ المِثْلِ، ولو صارت الخَمْرُ المُصْدَقَةُ خَلاًّ في يد الزَّوْجِ، ثم أَسْلَمَا، أو أحدهما فوجهان: أحدهما: وبه قال ابْنُ الحَدَّادِ لا شَيْءَ لها إلا الخَلَّ؛ لأن الصَّدَاقَ بالعَقْدِ يصير للزَّوْجَةِ، وتكون يَدُ الزَّوْجِ يَداً لها، فأشبه ما إذا قَبَضَتْهُ خَمْراً، وصارت الخَمْرُ خَلاًّ في يدها. وأصحهما: وبه قال القَفَّالُ أن مَهْرَ المِثْلِ؛ لأن الخمر لا يَصْلُحُ أن يكون صَداقاً، ¬
ولا اعْتِبَارَ لِذِكْرِهَا إذا لم يَتَّصِلْ بها القَبْضُ قبل الإِسْلاَمِ، ولهذا لو أَسْلَمَا، أو أحدهما قبل أن تَصِيرَ خَلاًّ يحكم بِوُجُوب مَهْرِ المِثْلِ، ولوَ أصْدَقَهَا عَصِيراً فَتَخَمَّرَ في يده، ثم عاد خَلاًّ، ثم أَسْلَمَا أَو تَرَافَعَا إلينا نُلْزِمُهُ قيمته (¬1)، ولا عبرة بِتَخَلُّلِ الخَمْرِ، ولو قبضت الذِّمِّيَّةُ الخَمْرَ، ثم طَلَّقَهَا قبل الدخول، أو أَسْلَمَا، أو تَحَاكَمَا إلينا، فلا رُجُوعَ للزوج؛ لأن الخَمْرَ إن كانت بَاقِيَةٌ، فلا مَالِيَّةَ لها، ولا يجوز قَبْضُهَا في الإِسلام، وإن تَلِفَتْ عندها، فلا قِيمَةً لها حَتَّى يُفْرَضُ رُجُوعٌ، وإن صارت خَلاًّ عندها، ثم طَلَّقَهَا قبل الدخول، فهذه مَسْأَلَةُ الكتاب، فهل للِزَّوْجِ أن يرجع إلى نِصْفِ الخَلِّ؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال ابْنُ الحَدَّادِ، نعم: لأن عين الصَّدَاقِ بَاقِيَةٌ، وإنما تَغَيَّرَ بَعْضُ صِفَاتِهَا. والثاني: لا يرجع بشيء؛ لأن حَقَّ الرُّجُوعِ إنما يَثْبُتُ إذا كان المَقْبُوضُ مَالاً، وها هنا حدثت المَالِيَّةُ في يدها، فهو كَزِيَادَةِ مُنْفَصِلَةٍ حصلت عندها. قال في "التتمة": والوجهان كالوجهين فيما إذا غَصَبَ خَمْراً، فَتَخَلَّلَتْ في يد الغَاصِبِ يكون الخَلُّ لِلْمَغْصُوبِ منه، أو لِلْغَاصِبِ، وذكرنا هناك أن الأَصَحَّ أنه لِلْمَغْصُوب منه المُلاَئِمُ له ترجيح الرُّجُوعِ هاهنا، وإذا قلنا به، فلو تَلِفَ الخَلُّ أو أَتْلَفَتْهُ، ثم طَلَّقَهَا، فوجهان: أحدهما: ويحكى عن الخُضَرِيِّ -أنه يرجع بِمِثْلِ نِصْفِ الخَلِّ؛ لأنه لو بقي لرجع في نِصْفِهِ، فإذا تَلِفَ كان الرجوع إلى بَدَلِهِ. والثاني: وبه قال ابْنُ الحَدَّادِ أنه لا يرجع بشيء؛ لأن الرُّجُوعَ إلى بَدَلِ الصَّدَاقِ عند تَلَفِهِ، ينظر فيه إلى يوم الإِصْدَاقِ، والقبض، ألا ترى أنه إذا كان متقوّماً، ينظر إلى قيمته يَوْمَ الإصْدَاقِ، وقيمته يوم القَبْضِ، ويحكم بِوُجُوبِ نِصْفِ الأقل منهما، وهاهنا لم يكن الصَّدَاقُ مَالاً لا عند الإِصْدَاقِ، ولا عند القَبْضِ، فيمتنع الرُّجُوعُ إلى بَدَلِهِ، والأَصَحُّ الأول عند الشيخ أبي عَلِيٍّ. ولو أصدقها جِلْدَ مَيْتَةٍ، فقبضه ودَبَغَتْهُ ثم طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ، ففي رجوعه إلى النِّصْفِ منه وجهان مُرَتَّبَانِ على الوجهين، فيما إذا تَخَلَّلَتِ الخَمْرَةُ، وأَوْلَى بأَلاَّ يرجع، لأن الخَمْرَ انْقَلَبَتْ خَلاًّ بنفسها، لا صُنْعَ لأحدٍ فيه، وهاهنا أَحْدَثَتِ المَرْأَةُ مَالِيَّتَهُ ¬
بالدِّبَاغ، والتزمت مُؤنَاتِهِ، فيكون الحَاصِلُ كَسْباً لها، ومع هذا الترتيب ذَكَرْنَا في الغَصْب أن الأصَحَّ كَوْنُ الجِلْدِ للمغصوب منه، لا لِلْغَاصِب، فَيُشْبِهُ أن يكون الرُّجُوعُ هاهنا أَظْهَرَ أيضاً، وبه أجاب ابْنُ الحَدَّادِ، فإن هَلَكَ الجِلْدُ عندها بعد الدِّبَاغِ قال ابْنُ الحَدَّادِ: لا رُجُوعَ، كما قاله فيما إذا أَتْلَفَ الخَلَّ، وساعده الشيخ أَبُو عَلِيٍّ هاهنا، وقال: ينبغي ألا يرجع وَجْهاً وَاحِداً، بخلاف ما إذا تَلِفَ الخَلُّ؛ لأن الخَلَّ مِثْلِيٌّ. فإذا تَلِفَ أَمْكَنَ الرُّجُوعُ إلى مِثْلِهِ، والجلدُ مُتَقَوَّمٌ، والنظر في المُتَقَوَّمَاتِ إلى وَقْتِ الإِصْدَاقِ والإِقْبَاضِ، ولم يكن له قِيمَةٌ حينئذٍ، ولو ارْتَدَّتِ المَرْأَةُ قبل الدخول، وانْفَسَخَ النِّكَاحُ، فالَقول في كُلِّ الجلد وكل الخُلِّ كالقول في النِّصْفِ عند الطَّلاَقِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الخَامِسُ) إِذَا أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ القُرْآنِ وَطَلَّقَ قَبْلَ المَسِيسِ عَسُرَ تَعْلِيمُ النِّصْفِ لأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ فَلَهَا نِصْفُ مَهْرِ المِثْلِ أَوْ نِصْفُ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ عَلَى اخْتِلاَفِ القَوْلَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: كما يجوز أن تُجْعَلَ أَعْيَانُ الأَمْوَالِ صَدَاقاً، يجوز أن تُجْعَلَ المَنَافِعُ والأعمال صَدَاقاً، وفي جَعْلِ الأعمال صَدَاقاً مَسَائِلُ لا بدّ من إِيرَادِهَا وهذا الفَرْعُ أَوْلَى مَوْضِعَ بِها؛ لأنه مُصَوَّرٌ في تَعْلِيمِ القرآن، فَنُورِدُ المسائل، وَنُدْرجُ فيها الفَرْعَ المذكور في الكتاب. واعلم أن كُلَّ ما يَجُوزُ عَقْدُ الإجَارَةِ عليه يجوز جَعْلُهُ صَدَاقاً، وذلك كالخِيَاطَةِ، [والخِدْمَةِ، وَتَعْلِيمِ] (¬1) القرآن، والحِرَفِ وغيرها. وعند أبي حَنِيْفَةَ: لاَ يَجُوزُ أن يُجْعَلَ تَعْلِيمُ القرآن ومَنْفَعَةُ الحر صَدَاقاً. لنا: ما رُوِيَ أن امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقالت: يا رَسُولَ الله وَهَبْتُ نَفْسِي لك، وقامت قياماً طَوِيلاً، فقام رجل فقال: يا رَسُولَ اللهِ، زَوِّجْنِيهَا إن لم يكن لك بها حَاجَةٌ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ نُصْدِقُهَا إِيَّاهُ؟ " فقال: ما عندي إلا إِزَارَي هذا! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِزَارَكَ جَلَسْتَ لاَ إِزَارَ لَكَ، الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيد" فلم يجد شَيْئاً فقال -صلى الله عليه وسلم-: "هَلْ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ شَيْءٌ؟ " قال: نعم سورة كذا، وسورة كذا لسور سَمَّاهَا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ" (¬2). وفي الفَصْلِ مَسَائِلُ: ¬
إحداها: يشترط في تعليم القُرْآن لِتَصبحَّ صَدَاقاً -شيئان: أحدهما: العِلْمُ بالمَشْرُوطِ تعليمه بأحد طريقين: الأول: بَيْانُ القَدْرِ المُتَعَلَّمِ، بأن يقول: جَمِيعُ القرآن، أو السَّبْعُ الأُوَلُ أو الأُخَرُ، وفي بعض الشروح إِشَارَةٌ إلى وَجْهٍ آخر أنه لا يُشْتَرَطُ تَعْيينُ السبع، ولو عَيَّنَ بالسُّوَرِ والآيات، فعلى ما ذكرنا في الإِجَارَةِ، وبَيَّنَّا هناك الخلاف في أنه هل يشترط أن يَقُولَ بِقِرَاءَةِ نَافِعٍ، وأبي عَمْرو، أو غيرهما، والذي أَجَابَ به القاضي ابْنُ كَجٍّ هاهنا أنه لا يُشْتَرَطُ، قال: ولو شَرَطُ حَرْفَ أبي عمرو عَلَّمَهَا بِحَرْفِهِ، فإن عَلَّمهَا بحرف الكِسَائِيِّ، فيستحقُّ أُجْرَةَ المِثْلِ، أو لا شيء له حكى فيه وجهين، وحكى قولين في أنها بِمَ تَرْجِعُ على الزَّوْج أحدهما بِمَهْرِ المِثْلِ، والثاني بِقَدْرِ التَّفَاوُتِ بين أُجْرَةِ التعليم بالحَرْفِ المشروط، وأُجْرَةِ التَّعْلِيمِ بالحرف الآخَرِ، فإن لم يكن تَفَاوُتٌ، لم يرجع بشيء، ثم قال: ولا مَعْنَى لهذا الاخْتِلاَفِ، بل الوَاجِبُ، أن يقال يُعَلِّمُهَا حَرْفَ أبي عَمْرٍو، وهو مُتَطَوِّعٌ بما علم، ثم العِلْمِ بذلك يُشْتَرَطُ في حَقِّ الزوج والوَلِيِّ، فإن لم يكن لهما، أَو لأحدهما مَعْرِفَةٌ بالقرآن، وسُوَرِهِ، وأَحْزَابهِ، قال أبو الفَرَج الزَّازُ الطريق التَّوْكِيلُ، إلا فيرى المُصْحَفَ، ويقال: تَعَلَّمْ من هذا المَوْضِعِ إلى هذا الَمَوْضِع، ولك أن تقول: ما يَنْبَغِي أن يكون هَذَا طَرِيقاً؛ لأن لا يفيد مَعْرِفَةً بحال ذلك المُشَارِ إليهَ صُعُوبَةً وسهولة (¬1) مأخذ. والثاني: تَقْدِيرُهُ بالزّمَانِ؛ بأن يُصْدِقَهَا تَعْلِيمَ القُرْآنِ شَهْراً أو سَنَةً، فيجوز كما لو اسْتَأْجَرَ خَيَّاطاً ليخيط له شَهْراً، وكما يَخيطُ هناك ما شَاءَ المُسْتَأْجر، يعلمها هاهنا المدة المذكررة ما شاءت المرأة، ولو جَمَع بين الطريقين، فقال: عَلَى أن أُعَلِّمَهَا مُدَّة شَهْرٍ سورة البقرة، فهو كما لو قال: اسْتَأجَرْتُكَ لِتَخِيطَ هذا الثَّوْبَ اليَوْمَ، وفيه خلاف تقدم في "الإِجارة". والثاني: أن يكون المَشْرُوطُ تَعْلِيمُهُ قَدْراً، فيه كُلْفَةٌ، فإن لم يكن فيه كُلْفَةٌ، كما إذا شَرَطَ التَّعْلِيمَ لَحْظَة لَطِيفَةً، أو تعليم قَدْرٍ يَسِيرٍ، وإن كان آيَةً واحدة، كقوله تعالى: {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21] وكقوله: {والفَجْرِ} [الفجر: 1] لم يَصِحَّ الإِصْدَاقُ، وهو كبيع حَبَّةٍ من الحِنْطَةِ. ولو أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ الفَاتِحَةِ، وهو متعين للتعليم، ففي صِحَّةِ، الصَّدَاقِ، وجهان، كنظيره في الإِجَارَةِ، والأصَحُّ الصِّحَّةُ، ولو نَكَحَهَا على أدَاءِ شهادة لها عنده، أو نَكَحَ كِتَابِيَّةً على أن يُلَقِّنَهَاَ كَلِمَةً الشَّهَادَةِ لم يَجُزْ قاله في "التهذيب"، ثم في إِصْدَاقِ التَّعْلِيمِ صُوَرٌ: إحداها: لو كان الزوج لا يُحْسِنُ ما شرط تعليمه، فإن الْتَزَمَ التَّعْلِيمَ في الذِّمَّةِ ¬
جاز، ويأمر غيره بِتَعْلِيمِهَا، أو يَتَعَلَّمُ ويُعَلِّمُهَا، وإن كان الشِّرْطُ أن يُعَلِّمَهَا بنفسه، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يَصِحُّ الصَّدَاقُ؛ لأنه يمكنه أن يَتَعَلَّمَ ويُعَلِّمَ، فصار كما لو أَصْدَقَهَا أَلْفاً، وهو لا يملك شَيْئاً. وأصحهما: المَنْعُ؛ لأن المَنْفَعَةَ المَعْقُودَ عليها غَيْرُ مَقْدُورٍ على تسليمها، ولو شرط أن يَتَعَلَّمَ، ثم يعلمها لم يَجُزْ أيضاً؛ لأن العَمَلَ مستحقٌّ عليه مُتَعَلِّقٌ بعينه، والأَعْيَانُ لا تقبل التَّأْجِيلَ. وفي "التتمة" تَفْرِيعاً على الوجه الأول أنها إن أَمْهَلَتْهُ إلى أن يَتَعَلَّمَ فذاك، وإلا فهو مُعْسِرٌ بالصَّدَاقِ، ولو أراد الزَّوْجُ أن يُقِيمَ غيره مَقَامَهُ في تعليم المَشْرُوطِ جاز، إن كان الالْتِزَامُ في الذِّمَّةِ، وإلا لم يَجُزْ، ولو أَرَادَتْ هي أن تُقيمَ غيرها مَقَامَهَا في التَّعَلّمِ، ففي إِجْبَارِ الزوج عليه وجهان: أحدهما: يُجْبَرُ كما لو اسْتَأْجَرَ للرُّكُوبِ، له أن يُرْكِبَ غيره، وهذا أَرْجَحُ عند الإِمام. وأظهرهما: عند الأكثرين المَنْعُ؛ لتَفَاوُتِ طِبَاع الناس، واخْتِلاَفِهِمْ في التلقُّن سرعة وَبُطئاً، ومنهيم من نَصَبَ الخِلاَف في جَوَازِ الإبْدَالِ مع التَّرَاضِي، فإن فض عَقْدٌ مُجَرِّدٌ، وأُبْدِلَتْ مَنْفَعَةٌ بِمَنْفَعَةٍ جاز لا مَحَالَةَ، كما إذَا اسْتَأْجَرَ داراً أو قَبَضَهَا، ثم اسْتَأْجَرَ بمنفعتها دَابَّةً. ولو أَصْدَقَهَا تعليم ولدها لم يَصِحَّ الصَّدَاقُ، كما لو شرط الصَّدَاقَ لولدها، وبمثله أَجَابَ صاحب "التهذيب" فيما لو أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ غُلاَمِهَا، واسْتَثْنَى ما إذا وجب عليها تَعْلِيمُ الوَلَدِ، وخِتَانُ العَبْدِ، فشرطته عليه صَدَاقاً، قال: يجوز. وفي "التتمة" أنه يَجُوزُ أن يُصْدِقَهَا تَعْلِيمُ الغُلاَم، ولا يجوز أن يُصْدِقَهَا تعليم الوَلَدِ، وهذا أَوْلَى. الثانية: إذا تَعَذَّرَ التَّعْلِيمُ بأن تعلمت المَشْرُوطَ من غيره، أو كانت بَلِيدَةً لا تَتَعَلَّمُ، أو لا تتعلم إلا بتكلُّفٍ، عَظِيمٍ، وكان الوَقْتُ يَذْهَبُ في تعليمها فوق ما يُعْتَادُ، أو ماتت هي أو مات الزَّوْجُ، والشَّرط أن يُعَلِّمَهَا بنفسه، ففي الواجب القولان المذكوران، فيما لو تَلِفَ الصَّدَاقُ قبل القَبْضِ، فعلى الأَصَحِّ يجب مَهْرُ المِثْلِ، وعلى الآخر أُجْرَةُ التَّعْلِيمِ. ولو اختلف الزَّوْجَانِ، فقال الزوج: عَلَّمْتُكِ ما الْتَزَمْتُ، وأنكرت، فإن لم تُحْسِنْهُ، فالقول قَوْلُهَا وإن أَحْسَنَتْهُ وقالت: تعلمت من غيرك، فالقول قولها؛ لأن الأَصْلَ بَقَاءُ الصَّدَاقِ، وربما تَعَلَّمَتُ من غيره. وقوله: "لأنها تَدَّعِي عليه بَدَلَ الصَّدَاقِ، والأصل عَدَمُهُ" فيه وجهان:
أرجحهما: عند ابْنِ الصَّبَّاغِ، والمتولي أولهما، وبناء الوجهين فيما ذكر بعضهم على قول تَعَارُضِ الأَصْلِ والظاهر. الثالثة: لو أَصْدَقَهَا تعْلِيمَ سُورَةٍ، وعلمها، ثم طَلَّقَهَا، فإن دَخَلَ بها، فَذَاكَ، وإلا رَجَعَ عليها بنِصْفِ أُجْرَةِ التَّعْلِيمِ، كما لو أَصْدَقَهَا عَيْناً وأَقْبَضَهَا، فَتَلِقتْ عندها، ثم طلقها قبل الَدخول يرجع إلى نِصْفِ قِيمَةِ العَيْنِ، وإن طَلَّقَهَا قبل أن يُعَلِّمَهَا، فإنها تَسْتَحِق تعليم الكُلِّ، إن جرى الدخول، وتعليم النِّصْفِ، إن لم يجر، وهل يوفي ذلك أم يقال: إنه فات، وتَعَذَّرَ بالطَّلاَقِ؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يوفي بأن يُعَلِّمَهَا من وَرَاءِ حِجابٍ من غير خَلْوَةٍ، ويجوز ذلك، كما يجوز سَمَاعِ الحديث كذلك، وهذا ما أورده صاحب "التتمة". وأظهرهما: وهو المذكور في الكتاب، والمنصوص عليه في "المختصر" أنه إذا طَلَّقَهَا تَعَذَّرَ التعليم؛ لأنها صارت مُحَرَّمَةً عليه، ولا يُؤْمَنُ الوُقُوعُ في التُّهْمَةِ، والخَلْوَةِ المُحَرَّمَةِ، لو جَوَّزْنَا التعليم، وليس كسماع الحديث، فإنَّا لو لم نُجَوِّزهُ لَضَاعَ، وللتعليم بَدَلٌ يُعْدَلُ إليه، فعلى أصح القولين الرجوع إلى جميع مَهْرِ المثال، إن كان الطَّلاَقُ بعد الدُّخُولِ، وإلى نِصْفِهِ إن كان قبل الدخول. والثاني: الرجوع إلى أُجْرَةِ التعليم، أو نِصْفِهَا (¬1). الرابعة: لو نكح كِتَابِيَّةً على أن يُعَلِّمَهَا شَيْئاً من القرآن يَصِحُّ الصَّدَاقُ، إن كان يتوقع منها الإِسْلاَمُ، وإلا فيفسد؛ لأنه لا يَجُوزُ تعليمها خَوْفاً من أن يَصْدُرَ منها ما لا يَليقُ بحرمته، ومال مَائِلُونَ إلى الجَوَازِ مُطْلَقاً، ولو نكح مُسْلِمَةً أو ذِمِّيَّةً على تعليم التَّوْارَةِ والإِنْجِيلِ، لم يجزه؛ لأن ما في أيديهم مُبَدَّلٌ لا يجوز الاشْتِغَالُ به، والوَاجِبُ والحالة هذه مَهْرُ المِثْلِ، إذ لا قيمة للمسمى، ولو نَكَحَ ذمِّيُّ ذِمِّيَّةً على تَعْلِيم التَّوْرَاةِ، أو الإِنجيل، ثم أسلما، أو ترافعا بعد التعليم لم نُوجِبْ شَيْئاً آخر، ولو كان قبل التَّعْلِيم وَجَبَ مَهْرُ المِثْلِ، كما في الخَمْرِ المقبوض، وغير المَقْبُوضَةِ إذا جعلت صَدَاقاً. ¬
فإن أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَ غَيْرِ القرآن من الفِقْهِ والأَدَبِ والطِّبِّ والشِّعْرِ ونحوها، فإن كان غير محظور صَحَّ الصَّدَاقُ، وإن كان مَحْظُوراً لم يَصِحَّ، وذلك كالهَجْوِ والفُحْشِ وفيما روى القَفَّال الشَّاشِيُّ عن أحمد بن عبد الله بن سيف السجستاني أنه سئل المزني هل يجوز النِّكَاحُ على تَعْلِيمِ الشعر؟ فقال: إن كان مِثْلَ قَول القائل [الوافر]: يُرِيدُ المَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاهُ ... وَيأْبَى الله إِلاَّ مَا أَرَادَا يَقُولُ المَرْءُ فَائِدَتِي وَزَادِي ... وَتَقْوَى اللهِ أَكْرَمُ مَا اسْتَفَادَا الخامسة: فيجوز لو نكح امْرَأَةً على أن يَرُدَّ عَبْدَهَا الآبقَ، أو جَمَلَهَا الشَّارِدَ وكان الموضع مَعْلُوماً، جاز، وإن كان مَجْهُولاً، فعن أبي الطيب بن سَلَمَةَ، وأبي حَفْصٍ الوَكِيلِ إثبات قول إنه يَجُوزُ كما في الجَعَالَةِ، والصَّحِيحُ أنه لا يَجُوزُ، ويجب مَهْرُ المِثْلِ، بخلاف الجَعَالَةِ، فإنها عَقْدٌ جائز للحاجة، وإنما احتملت الجَهَالَةُ فيه لذلك، فإن رَدَّهُ في صورة الجَهْلِ، فله أَجْرُ مِثْلِ الرَّدِّ، ولها عليه مَهْرُ المِثْلِ، وإذا صَحَّ الصَّدَاقُ، وطلقها بعد رَدِّ العَبْدِ، وقبل الدخول اسْتَرَدَّ منها نِصْفَ أُجْرَةِ المِثْلِ، وإن طلقها مثل رَدِّهِ، فإن كان الطَّلاَقُ بعد الدخول، فعليه الرَّدُّ، وإن كان قبله فعليه الرَّدُّ إلى نِصْفِ الطريق، ثم يُسَلِّمُهُ إلى الحاكم، فإن لم يكن هناك حاكم، أو لم يكن مَوْضِعاً يمكن تَرْكُهُ فيه، ولم يَتَبَرَّعْ بالرَّدِّ إليها قال في "التتمة": [يؤمر بِرَدِّ إليها، و] (¬1) له عليها نِصْفُ أجرته، ولو تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِرَدِّ الغير، أو بِرُجُوعِهِ بنفسه، أو بموته، فقد فَاتَ الصَّدَاقُ قبل القَبْضِ، فعلى أَصَحِّ القولين الرجوع إلى مَهْرِ المِثْلِ، وعلى الثاني الرجوع إلى أُجْرَةِ الرَّدِّ. السادسة: إذا نكحها على خِيَاطَةِ ثَوْبٍ مَعْلُومٍ جاز، وله أن يَخِيطَهُ بغيره، إذا التزم في الذِّمَّةِ، وإذا نكح [على] (¬2) أن يخيطَ بنفسه، وعجز عن الخِيَاطَةِ بأن يَدُهُ، أو مات ففيما عليه؟ قولان. أصحهما: مَهْرُ المِثْلِ. والثاني: أُجْرَةُ الخِيَاطَةِ، ولو تلف ذلك الثوب، فيتلف الصَّدَاقُ، أو يأتي بثوب مِثْلِهِ؟. فيه وجهان ذكرناهما في "الإجَازَةِ" قال في "التهذيب": الأَصَحُّ تَلَفُ الصَّدَاقِ، وهو يُوَافِقُ ما سبق في الإِجَارَةِ أن العراقيين مَالُوا إلى تَرْجِيحِهِ، وحينئذٍ فَيَعُودُ القَوْلاَنِ فيما عليه، وإن طلقها بعد الخِيَاطَةِ، وقبل الدخول، فله عليها نِصْفُ أُجْرَةِ المِثْلِ، وإن طَلَّقَهَا قبل الخِيَاطَةِ، فإن دخل بها، فَعَلَيْهِ الخِيَاطَةِ، وإن لم يدخل خَاطَ نِصْفَهُ، فإن تَعَذَّرَ الضَّبْطُ عاد القولان في أنه يجب مَهْرُ المِثْلِ، أو الأجْرَةُ. ¬
فرع
" فرع" قال في "التتمة" لو كان له عليها أو على عبدها قِصَاصٌ، فنكحها وجعل النُّزُولَ عن القِصَاصِ صَدَاقاً لها، يجوز، ولو جعل النُّزُولَ عن الشُّفْعَةِ، أو حَدِّ القَذْفِ صَدَاقاً لم يجز؛ لأن ذلك مما لا يُقَابَلُ بالعِوَضِ، ولا يجوز أن يَجْعَلَ طَلاَقَ امْرَأَةٍ صَدَاقاً لأخرى، ولا أن يَجْعَلَ بُضْعَ أَمَتِهِ صَدَاقاً لمنكوحته. قَالَ الغَزَالِيُّ: (قَاعِدَةٌ) مَهْمَا أَثْبَتْتَا الخِيَارَ بِسَبَبِ زَيادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ فَلاَ مِلْكَ قَبْلَ الاخْتِيَارِ، وَهَذَا الخِيَارُ لَيْسَ عَلَى الفَوْرِ بَلْ كَخِيَارِ رُجُوعِ الوَاهِبِ، فَإِنْ كَانَ لَهَا الخِيَارُ فَامْتَنَعَتْ حُبِسَ عَنْهَا عَيْنُ الصَّدَاقِ كَالمَرْهُونِ وَبَاعَ القَاضِي مِنَ الصَّدَاقِ مَا يَفِي بِنِصْفِ القِيمَةِ، فَإِنْ كَانَ لاَ يُشْتَرِيَ النِّصْفُ بِنِصْفِ القِيمَةِ الوَاجِبَةِ فَيُسَلَّمُ إِلَى الزَّوْجِ نِصْفُ الصَّدَاقِ وَبُمَلَّكُ إِذَا قَضَى لَهُ بِهِ، وَإِذّ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ فَهِيَ أَقَلُّ قِيمَةٍ مِنْ يَوْمِ الإِصْدَاقِ إِلى يَوْمِ القَبْضِ إِلاَّ إِذَا وُجِدَ التَّلَفُ في يَدِهَا بَعْدَ الطَّلاَقِ فَيُعْتَبَرُ يَوْمُ التَّلَفِ. قَالَ الرَّافِعِي: في القاعدة مَسْأَلَتَانِ يُحْتَاجُ إلى معرفتها في الأُصُولِ المتقدمة. إحداهما: إذا ثَبَتَ الخِيَارُ للمرأة بِسَبَب زِيَادَةٍ في الصَّدَاقِ، أو الزوج بسبب نقصان فيه أَوْلَهُمَا لاجتماع المعنيين فلا يملك الزَّوْجُ الشَّطْرَ قبل أن يَختَارَ من له الخِيَارُ الرُّجُوعَ بالعين إذا كان الخيار لأحدهما، وقبل أن يَتَوَافَقَا عليه، إن كان الخِيَارُ لهما. وإن قلنا: إن الطَّلاَقَ يُشَطِّرُ الصَّدَاقَ بنفسه، وإلا لما كان للِتَّخْييِرِ، واعتبار التَّوَافُقِ معنى، وليس هذا الخِيَارُ على الفَوْرِ، بل هو كَخِيَارِ الرجوع في الهِبَةِ لا يَبْطُلُ بالتأخير، لكنه إذا تَوَجَّهَتْ طِلْبَةُ الزوج لا تتمكَّنُ المَرْأَةُ من التَّأْخِيرِ، بل تُكَلَّفُ اخْتِيَارَ أحدهما، والزوج لا يُعَيِّنُ في الطَّلَبِ العَيْنَ، ولا القيمة، فإن التَّعَيْينَ يَنَاقِضُ تَفْوِيضَ الأمر إلى رأيهما، ولكن يُطَالِبُهَا بحَقِّهِ عندها، فإن امتنعت قال الإِمام: لا يَقْضِي القاضي فيها على حَبْسِهَا لِبَذْلِ العين، أَو القيمة، بل يَحُبِسُ عَيْنَ الصَّدَاقِ عنها، إذا كانت حَاضِرَةً، ويمنعها من التَّصَرُّفِ فيها؛ لأن تَعَلُّقَ حَقِّ الزوج بالصداق فوق تَعَلُّقِ حَقِّ المُرْتَهِنِ بالمَرْهُونِ، والغُرَمَاء بالتركة، فإذا أَصَرَّتْ على الامْتِنَاعِ، فإن كان نِصْفُ القيمة الوَاجِبَةِ دون نِصْفِ العَيْنِ للزيادة الحَادِثَةِ، فيبيع ما يَفِي بالوَاجِب من القيمة، وإن لم يَرْغَبْ في شراء البَعْضِ، باع الكل، وصَرَفَ الفَاضِلَ عن القِيمَةِ الواجبة إليها، وإن كان نِصْفُ العَيْنِ مِثْلَ نِصْفِ القيمة الواجبة، ولم تُؤَثِّرِ الزِّيَادَةُ في القيمة، ففيه احتمالان للإِمام: أظهرهما: وهو المذكور في الكتاب أنه يُسَلَّمُ نِصْفُ العين إليه، إذ لا فَائِدَةَ في البَيْعِ ظاهراً، فإذا سلم إليه أَفَادَ قَضَاؤُهُ ثُبُوتَ المِلْكِ له.
الثاني: أنه لا يُسَلَّمُ العين له، بل يبيعه فلعله يجد من يَشْتَرِيهِ بِزِيَادَةٍ. وقوله في الكتاب: "فإن كان لا يَشْتَرِي النصف بنصف القِيمَةِ الواجبة"، لا ينبغي أن يُخَصَّصَ بما إذا باع النَّصْفَ وَحْدَهُ، بل الحكم فيما إذا بَاعَ النِّصْفَ وحده، وما إذا باع الكُلَّ وَاحِدٌ، والنظر إلى عَدَمِ زِيَادَةِ ثَمَنِ النصف على نِصْفِ القيمة الواجبة. الثانية: إذا وَجَبَ الرجوعُ إلى القِيمَةِ إما لِهَلاَكِ الصَّدَاقِ، أو لخروجه عن مِلْكِهَا، أو لزيادة فيه أو نُقْصَانِ، فالمُعْتَبَرُ الأَقَلُّ من قيمته يوم الإصْدَاقِ.، وقيمته يوم القبض، لأنه إن كان قيمته يَوْمَ الإِصْدَاقِ أَقَلَّ، فالزيادة بعد ذلكَ حَادِثَةٌ على ملكها ولا تَعَلُّقَ للزوج بها، وإن كان قِيمَةُ يوم القَبْضِ أَقَلَّ، فما نَقَصَ قبل ذلك، فهو من ضَمَانِهِ، فكيف يرجع عليها بما هو مَضْمُونٌ عليها نعم لو تَلِفَ الصَّدَاقُ في يَدِهَا بعد الطَّلاَقِ، وقلنا إنه مَضْمُونٌ عليها، فتعتبر قيمته يوم التَّلَفِ؛ لأن الرجوع قد وَقَعَ إلى عين الصَّدَاقِ، ثم تَلِفَ مِلْكُهُ تحت يد مضمنة، وذكر الإِمام احْتِمَالاً فيما إذا كانت العَيْنُ قائمةً، وحدثت زِيَادَةٌ أنه كان يَجُوزُ أن يُعْتَبَرَ قيمة يوم الطَّلاَقِ، لا يوم الإِصداق، ولا يوم القَبْضِ؛ لأنه يوم ارْتدَادِ الشَّطْرِ إليه، فيقال: ما قيمة هذه العَيْنِ اليوم لو لم يكن فيها زِيَادَةٌ؟!. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّالِثُ في التَّصَرُّفَاتِ المَانِعَةِ للِرُّجُوعِ) وَفِيهِ مَسَائِلُ: (إِحْدَاهَا): لَوْ زَالَ مِلْكُهَا بِجِهَةٍ لاَزِمَةٍ كَبَيْع وَهِبَةٍ وَعِتْقٍ تَعَيَّنَتِ القِيمَةُ، فَإِنْ عَادَ المِلْكُ فَالمِلْكُ العَائِدُ كَالَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ، وَلَوْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لاَزَمٌ كَرَهْنٍ وَإِجَارَة تَعَيَّنَتِ القِيمَةُ، فَإِنْ صَبَرَ إِلَى الانْفِكَاكِ فَلَهُ نِصْفُ العَيْنِ وَلَكِنْ لَوْ بَادَرَتْ إِلَى تَسْلِيمِ القِيمَةُ القَبُولُ لِمَا عَلَيْهَا مِنَ الغَرَرَ بفَوَاتِ العَيْنِ بِآفَةٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصود الفَصْلِ بَيَانُ حكم التَّشْطِيرِ بعد ما تَصَرَّفَتِ المرأة [في الصداق] (¬1) وفيه مسائل: إحداها: إذا أزَالَتْ مِلْكَهَا عنه بِبَيْعٍ أو هِبَةٍ مع القبض، أو إعْتَاقٍ لم يملك الزَّوْجُ بالطلاق قبل الدخول نَقْضَ ذلك التَّصَرُّفِ، بل يكون زَوَالُ مِلْكِهَا كالهَلاَكِ، ويرجع الزَّوْجُ إلى نصف بدله، وهو المِثْلُ إن كان مِثْلِيّاً أو القِيمَةِ إن كانِ مُتَقَوّماً، فإن لم يَزُلِ المِلْكُ، لكن تَعَلَّقَ به حق الغير، فإن لم يكن حَقّاً لاَزِماً، كما إذا أَوْصَتْ به أو رَهَنَتْهُ أو وَهَبَتْهُ من غَيْرِ قَبْضٍ، فللزوج أن يرجع في نِصفه؛ لأن مِلْكَهَا بَاقٍ، وليس للغير فيه حَقٌّ متأكّد. وفي "الشامل" وغيره نَقْلُ وَجْهٍ أنه لا يَرْجعُ في نِصْفِ الموهوب، وإن لم يوجد قَبْضٌ كيلا يَبْطُلَ تَصَرُّفُهَا في مِلْكِها، وحق هذا أنَ يُطْرَدَ في الرَّهْن والوَصِيَّةِ، ولو باعت ¬
بشرط الخِيَارِ، وطَلَّقَهَا في مدة الخِيَارِ، حكى أبو سَعْدٍ المتولي وغيره أنا إن جَعَلْنَا المِلْكَ للبائع، فهو كالهِبَةِ، قبل القبض، وإن قلنا: للمشتري، فلا رُجُوعَ له العَيْن، وإن كان الحق لاَزِماً، بأن رَهَنَتْهُ، وأقبضته، فليس للزَّوْجِ الرُّجُوعُ إلى نصفه لِتَعَلُّقِ حَقِّ المُرْتَهِنِ بعينه، وإن أَجَّرَتْهُ فقد نَقَصَ الصَّدَاق عما كان لاسْتِحْقَاقِ الغير مَنْفَعَتَهُ، فإن شاء رجع إلى نِصْفِ القيمة في الحال، وإن شاء رجع إلى نِصْفِ العَيْن مَسْلُوبَةَ المَنْفَعَةِ مُدَّةَ الإِجارة (¬1). ولو قال: أَصْبِرُ إلى انفكَاكِ [الرَّهْن] (¬2) أو انقضاء مُدَّةِ الإِجارة، فإن قال: أَتَسَلَّمُهُ، ثم أسلمه إلى المُرْتِهِنِ، أو المستأجرة، فليس لها الامْتِنَاعُ منه، وإن قال: لا أتسلمه، وأصبر، فلها ألا تَرْضَى به، وتدفع إليه نِصْفَ القيمة؛ لما عليها من خَطَرِ الضَّمَانِ، هذا إذا قلنا إن الصَّدَاقَ في يدها مَضْمُونٌ بعد الطلاق، وهو الأَرْجَحُ، وبه أجاب هاهنا. وإن قلنا: لا ضَمَانَ أو أَبْرَأَهَا عن الضمان، وصَحَّحْنَا هذا الإبْرَاءَ فقد حُكِيَ وجهان، في أنه هل يَجِبُ عليها الإجابة [أم لا] (¬3) لأنه قد يَبْدُو له، فَيُطَالِبُهَا بالقِيمَةِ، وتخلو يَدَهَا عن القِيمَةِ يومئذٍ، فانَ لم تُوجِبِ الإِجَابَةَ، ولم يطالبها إلى أنه انْفَكَّ الرَّهْنُ أو انْقَضَتْ مُدَّةُ الإِجارة، فقد حُكِيَ وجهان، فيَ أنه هل يَتَعَلَّقُ بالعين لزوال المانع أو القيمة لأنه المَانِعَ الذي كان بالعين نقل حقّه إلى القيمة، فلا يرجع إليها. وتَزْوِيجُ جَارِيةِ الصَّدَاقِ كالإِجارة، ولو زال مِلْكُهَا، وعاد، ثم طلقها قبل الدُّخُولِ، فوجهان: أحدهما: أن حَقَّ الزَّوْجِ يَتَعَلَّقُ بالعين، وكأنه لم يَزُلْ. والثاني: أن حَقَّة يَنْتَقِلُ إلى البَدَلِ؛ لأن المِلْكَ الآنَ مُسْتَفَادٌ من جهة أخرى، لا من جِهَةِ الصَّدَاقِ، وهذا كالخلاف في أن المَوْهُوبَ إذا خَرَجَ عن مِلْكِ الولد، ثمِ عاد هل يرجع الوالد فيه؟. فيما إذا خَرَجَ المَبِيعُ عن مِلْكِ المشتري، ثم عاد، وقد أَفْلَسَ بالثَّمَنِ، واختار ابْنُ الحَدَّادِ انْتِقَالَ حَقِّ الزوج إلى البَدَلِ، وساعده الشيخ أبو عَلِيٍّ. وقال أكثرهم: الأَصَحُّ هاهنا أن حَقَّ الزَّوْجِ يَتَعَلَّقُ بالعين، بخلاف مسألة الهِبَةِ؛ لأن الرُّجُوعَ في الهِبَةِ يَخْتَصُّ بالعَيْنِ، واختص بذلك المِلْك، ورجوع الزوج لا يَخْتَصُّ بالعَيْنِ، بل يَتَعَلَّقُ بالبَدَلِ، فالعين العائدة أَوْلَى بالرجوع من بَدَلِ الفَائِتَةِ هذا إذا زَالَ المِلْكُ بجهة لاَزمَةٍ، فإن زال بجهة غير لاَزِمَةٍ، كما إذا بَاعَتْ بشرط الخِيَارِ، وقلنا بزوال ¬
المِلْكِ، وفَسْخِ البيع، ثم طَلَّقَهَا، فالخلاف بالتَّعَلُّقَ بالعَيْنِ مُرَتَّبٌ، وأولى بأن يَثْبُتَ. ولو كاتَبَتْ عَبْدَ الصَّدَاقِ، وعَجَّزَ نَفْسَهُ، ثم طلقها، فعن القاضي الحُسَيْنِ: إجْرَاؤُهُ مُجْرَى الزَّوَالِ اللازم وقال الإِمام: ينبغي أن يُرَتَّبَ هذا على زَوَالِ المِلكِ؛ لأن المُكَاتَبَ عَبْدٌ بقَي عليه دِرْهَمٌ، ولا شَكَّ أن عُرُوضَ الرَّهْنِ، وَزَوَالَهُ قبل الطلاق لا يُؤَثِّرُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِيَةُ) لَوْ أَصْدَقَهَا عَبْداً فَدَبَّرَتْهُ لَمْ يَقْدِرِ الزَّوْجُ عَلَى إِبْطَالَ التَّدْبِيرِ بِحُكْمِ الرُّجُوعِ لأَنَّهَا قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ فَهِيَ كَزَيادَةِ مُتَّصِلَةٌ، وَقِيلَ قَوْلاَنِ، وَقِيلَ: يَرْجِعُ قَطْعاً وَهْوَ القِيَاسُ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا عَلَى النَّصِّ فِي أَنَّ تَعْلِيقَ العِتْقِ هُوَ كَالتَّدْبِيرِ وَوَصِيَّةُ العَبْدِ بِالعِتْقِ هَلْ هِيَ كَالتَّدْبِيرِ؟ وَأَنَّ التَّدْبِيرَ هَلْ يَمْنَعُ رُجُوعَ الوَاهِبِ وَرُجُوعَ البَائِعِ؟. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا أَصْدَقَ امْرَأَتَهُ عَبْداً فَدَبَّرَتْهُ، ثم طَلَّقَهَا قبل الدخول، نقل المُزَنِيُّ عن نصه أنه لا يرجع في نِصْفِ المُدَّبَرِ، بل يَعْدلُ إلى نِصْفِ القيمة، ثم اخْتَارَ تَمْكِينَهُ من الرجوع في نِصْفِهِ. وللأصحاب في المسألة ثَلاَثَةُ طرق: أحدها: أن في تَمْكِينِهِ من الرجوع قولين؛ بنَاءً على أن التَّدْبيرَ تَعْلِيقُ عِتْقِ بِصِفَةٍ أو وصية إن قلنا: وصية، فله الرُّجُوعُ إلى نصفه، كما لو أَوْصَتْ به لإِنسان، ثم طَلَّقَهَا. وإن قلنا: تعليق عتق بِصِفَةٍ. عدل إلى القيمة؛ لأن التَّعْلِيقَ حَقٌّ لاَزِمٌ لاَ رُجُوعَ عنه، فمنع الارتداد إلى الزَّوْجِ، بخلاف الوصية. الثاني: قضية نَصِّهِ في "الأم" القَطْعُ بأنه لا يرجع، سواء جعل التدبير وَصِيَّة له، أو تَعْلِيقَ عِتْقٍ؛ لأن التَّدْبِيرَ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ، فليس للزوج تَفْوِيتُهَا، كالزيادات المُتَّصِلَةِ، ولأن العَبْدَ بالتدبير قد ثبَتَ له حَقُّ الحرية، والرجوع يُفَوِّتُهُ بالكلية، وإذا لم يرجع الزَّوْجُ إلى العَيْنِ لا يُفَوَّتُ حقه بالكلية، بل ينتقل إلى البَدَلِ. والثالث: القَطْعُ بأنه يرجع. أما إذا كان وَصِيَّةً، فظاهر، وأما إذا كان تَعْلِيقاً، فلأن التَّعْلِيقَ يرتفع بإزالة المِلْكِ، والطَّلاَق يَتَضَمَّنُ إِزَالَةَ المِلْكِ، وأيضاً فإن التَّدْبِيرَ لا يمنع إِزَالَةَ المِلْكِ اختياراً، فَأَوْلَى ألا يمنع الرُّجُوعِ القَهْرِيّ، وحمل هؤلاء قَوْلَهُ: "لا يرجع" عَلى أنه لا يَتعَيَّنُ الرُّجُوعُ إلى نِصْفِ العبد، بل له أن يَعْدِلَ إلى نِصْفِ القيمة، لأن التَّدْبِيرَ يَبْقَى في النصف الآخر، وذلك مما يوجب نُقْصَانَ القِيمَةِ وبهذا أجاب صاحب "التتمة" وغيره، لكن أبا عبد الله الحناطِيَّ ذَكَرَ وَجْهاً آخر: أنه يَرْجِعُ إلى النصف، وينقض التَّدْبِيرُ في الكل، وسواء ثَبَتَ الخِلاَفُ أم لا، فالظاهر ما صَرَّحَ به القاضي الرُّويَانِيُّ، والموفق بن طَاهِرٍ، وَدَلَّ عليه كَلاَمُ غيرهَما: أن التدبير يَمْنَعُ الرجوع؛ لأن ما فيه من غَرَضِ القُرْبَةِ لا يتقاعد عن الزِّيَادَاتِ المُتَّصِلَةِ التي لا تُؤَثِّرُ في القِيمَةِ، وتعلق بها نوع غرض، ثم الحكاية عن شَرْحِ
فروع
أَبي إِسْحَاقَ، وغيره: أن الخِلاَفَ فيما إذا كانت المرأة مُوسَرَةً تَتَمَكَّنُ من أَدَاءِ القيمة، فإن لم تكن، فله الرجوع إلى نِصْفِ العبد، لا مَحَالَةَ، وَيتَعَلَّقُ بالاختلاف المذكور. " فروع" أحلما: إذا مَكَّنَاهُ من الرُّجُوع، فالمَفْهُومُ من كلام عَامَّتِهِمْ أنه يَسْتَقِلُّ به، ولا حَاجَةَ إلى أن تقدم المرأة رُجُوعاً عنَ التَّدْبِيرِ. وقال الحناطي: يحتمل أن يقال: يُجْبَرُ على الرجوع عنه، وإِعْطَاءِ الزَّوْج النِّصْفَ، فإن امتنعت، تام الحاكم مَقَامَهَا، وفَسَخَ عليها. والثاني: لو رَجَعَتْ عن التدبير بالقَوْلِ، وجَوَّزْنَا، ثم طلقها، وفَرَّعْنَا على أن التدبير يمنع الرُّجُوعَ، فطريقان: أحدهما: القَطْعُ بأنه يتمكَّنُ من الرُّجُوعِ إلى نصفه؛ لأن المِلْكَ لم يَزُلْ عنه. والثاني: أنه كما لو دَبَّرَتْهُ، ثم بَاعَتْهُ ثم ملكته ثانياً، ثم طَلَّقَها الزوج قبل الدخول، وفيه الخِلاَفُ السَّابِقُ في عَوْدِ المِلْكِ بعد زَوَالِهِ والظاهر التمكُّنُ، ومع هذا التمكُّنِ لو تَرَكَهُ، وطَلَبَ نِصْفَ القيمة، أُجِبتَ إليه خَوْفاً من أن يقضي قَاضٍ بِبُطْلانِ الرجوع، والبيع. وبعض الشارحين لـ"المختصر" ذكر هذا، ولو طَلَّقَهَا وهو مُدَبَّرٌ، وقلنا: إن حَقَّ الزوج في القِيمَةِ، فرجعت عن التدبير بلفظ الرجوع، وجَوَّزْنَاهُ، أو بِإزَالَةِ المِلْكِ عنه، ثم عاد إليها قبل أَخْذِ القِيمَةِ، ففي الرجوع إلى نِصْفِ العَبْدِ وجهان، حكاهما الشيخ أبو حَامِدٍ؛ لأن المانع قد ارْتَفَعَ، ويجري الوَجْهَانِ فيما إذا طَلَّقَهَا، والصَّدَاقُ نَاقِصٌ، ثم زال النُّقْصَانُ قبل أخذ القيمة، هل يَعُودُ حَقُّهُ إلى العَيْنِ، وفيما إذا طلقها، ومِلْكُهَا زَائِلٌ عن الصداق، ثم عاد قبل أَخْذِ القِيمَةِ، ففي وجه: هو كما لو زَالَ، وعاد قبل الطَّلاَقِ. والثالث: رَتَّبُوا تَعْلِيِقَ العِتْقِ بِالصِّفَةِ على التدبير، واختلفوا في كَيْفِيَّةِ الترتيب، فجعل بَعْضُهُم التَّعْلِيقَ أَوْلَى بأن يمنع الرُّجُوعِ، وقال: إن منع التَّدْبِيرُ، فالتعليق أَوْلَى، وإن لم يمنع التَّدْبِيرُ، ففي التَّعْلِيقِ وجهان، والفَرْقُ أن التَّعْلِيقَ لا يجوز الرُّجُوعُ عنه باللفظ، وفي التَّدْبِيرِ خِلاَفٌ، فكان التَّعْلِيقُ أَوْلَى. وعكس آخرون، فقالوا: [إن لم يمنع التدبير] (¬1) فالتعليق أَوْلَى بألا يَمْنَعَ الرُّجُوعَ، وبه أجاب الشيخ أبو محمد في "الفروق" وفرق بأن التَّدْبِيرَ قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ، وتعليق العِتْقِ ليس عَقْدَ قُرْبَةٍ، وإنما يقصد به مَنْعُ أو حَثٌّ، وإِيراد الكتاب إلى هذه الطريقة أَقْرَبُ، ¬
وكلام صاحب "التهذيب" يُوافِقُ الأول، وقال: المذهب أنه يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، ولو أوصت للعبد بِعِتْقِهِ، فهل هو كالتَّدْبِيرِ في منع الرُّجُوعِ فيه وجهان: أحدهما: نعم لِتَعَلُّقِ العتق به. وأظهرهما: وبه أجاب الشيخ أبو حَامِدٍ لا؛ لأن الإِيصَاءَ ليس عَقْدَ قُرْبَةٍ، بخلاف التدبير. والرابع: هل يمنع التَّدْبيرُ رُجُوعَ البائع، فيما إذا بَاعَ عَبْداً بثوب، وتَقَابضا، ودَبَّرَ المشتري العَبْدَ، ثم وَجَدَ البَائِعُ بالثوب عَيْباً، وكذلك هل يَمْنَعُ رجوع الواهب فيه وجهان؛ تَفْرِيعاً على قَوْلَنَا: إنه يمنع التَّشَطُّرَ. أحدهما: أنه يمنعهما، كما يمنع التشطُّرَ. وأصحهما: لا، بل له الرجوع، ويَنْتَقِضُ التدبير لِقُوَّةِ الفَسْخِ، ولذلك تمنع الزِّيَادَاتُ المُتَّصِلَةُ التَّشَطُّرِ، ولا تمنع الفَسْخَ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثَةُ) لَوْ أَصْدَقَهَا صَيْداً وَالزَّوْجُ مُحْرِمُ عِنْدَ الطَّلاَقِ لَمْ يَمْتَنِعُ رُجُوعُ النِّصْفِ عَلَى وَجْهِ لأَنَّهُ مِلْكٌ قَهْرِيٌّ كَالإِرْثِ، ثُمَّ إنْ غَلَّبْنَا حَقَّ اللهِ تعَالَى وَجَبَ الإِرْسَالُ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ نِصْفِهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد سَبَقَ في "كتاب الحج" ذِكْرُ الخِلاَفُ أن المُحْرِمَ إذا اشترى صَيْداً بِرِياً، أو اتَّهَبَهُ هل يملكه، والخِلاَفُ في أن من أَحْرَمَ وفي مِلْكِهِ صَيْدٌ، هل يَزُولُ مِلْكُهُ عنه؟ وأن الإِحرام لا يمنع مِلْكَة بالإِرْثِ، وفيه شيء ضعيفٌ إذا تَذَكَّرْتُ ذلك، فلو أَصْدَقَهَا صَيْداً، ثم أحْرَمَ، ثم ارْتَدَّتِ المَرْأَةُ، فيعود الصَّدَاقُ إلى مِلْكِهِ؛ لأنه لا اخْتِيَارَ له، فَأَشْبَهَ لإِرْثَ، وليجيء فيه الوَجْهُ المذكور في الإرْثِ، وإن طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ، وهو مُحْرِمٌ، وهذه مَسْأَلَة الكتاب، فَيَنْبَنِي على أن نِصْفُ الصَّدَاقِ يَعُودُ إلى الزَّوْجِ ينفس الطَّلاَقِ، أم باختيار التَّمَلُّكِ، وهذا أَصْلٌ قد تَقَدَّمَ. فإن قلنا باخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ، فليس له اخْتِيَارُ الصَّيْدِ ما دام مُحْرِماً، وإن فَعَلَ كان كما لو اشْتَرَى صَيْداً. وإن قلنا بنفس الطَّلاَقِ، ففي عَوْدِ النِّصْفِ إليه وجهان: أحدهما: لا يَعُودُ وينتقل حَقَّة إلى القِيمَةِ؛ لأن المُحْرِمَ لا يَتَمَلَّكُ الصَّيْدَ بالاختيار، والطَّلاَقُ يَتَعَلَّقُ باختياره. وأظهرهما: أنه يَعُود؛ لأن الطَّلاَقَ لا يَنْشَأُ لاجْتِلاَبِ المِلْكِ، وإنما العَقْدُ فيه الفِرَاقُ، وعَوْدُ النِّصْفِ إلى الزوج رَتَّبَهُ الشَّرْعُ عليه قَهْراً، فكان كالإِرْثِ. وفي: "الشامل" "والتتمة": بِنَاءُ عَوْدِ المِلكِ في النصف؛ على أن المِلْكَ في الصَّيْدِ
هل يَزُولُ بالإِحْرَام، إن قلنا: يزول، فلا يَعُودُ النصف إليه، بل يَنْتَقِلُ حَقُّهُ إلى القيمة، وإن قلنا: لا يَزُولُ، فَيَعُودُ، ولا بدّ من اطِّرَادِ الخِلاَفِ، هذا في عَوْدِ الكُلِّ بالرِّدَّةِ، وإذا عاد الكُلُّ بالرِّدَّةِ، إليه، فيجب عليه إِرْسَالُهُ، فإن المُحْرِمَ مَمْنُوعٌ من إِمْسَاكِ الصَّيْدِ هكذا ذكر الشيخ أبو عَلِيٍّ، وغيره في هذه المَسْأَلَةِ، وهو وَجْهٌ قد ذَكَرْنَاهُ في كتاب "الحج"، تَفْرِيعاً على أن المحرم يَرِثُ الصَّيْد باختياره وقد حَكَمْنَا أن بَعْضَهُمْ قال: يَزُولُ مِلْكُهُ، كم ورث، وهو المذكور في الكتاب هُنَاكَ، ولا فَرْقَ بين البَابَيْنِ، وإذا عاد النِّصْفُ بالطَّلاَقِ، وقلنا بوُجُوبِ الِإرْسَالِ، ولم نَقُلْ بِزَوَالِ المِلْكِ، ولا يكن إِرْسَالُ النِّصْفُ إلا بِإِرْسَالِ الكل، فخرج مُخَرِّجُونَ وُجُوبَ الإِرْسَالِ على الأَقْوَالِ، فيما إذا ازْدَحَمَ حَقُّ اللهِ -تعالى- وحق الآدَمِيِّ، إن قَدَّمْنَا حَقَّ الله -تعالى- وَجَبَ عليه الإرْسَالُ، وغُرِّمَ نصف القيمة لها، وإن قَدَّمْنَا حَقَّ الآدَمِيِّ لم يَجُزِ الإرْسَالُ، وعليه نِصْفُ الجَزَاءِ لو تَلِفَ في يده، أو في يدها، وإن سَوَّيْنَا فَالخِيَرَةُ إلهما، فَإِن اتَّفَقَا على الإِرْسَالِ، غُرِّمَ لها النصف، وإلا بقي مُشْتَركاً بينهما، وهو في ضَمَان نِصْفِ الجَزَاءِ، وفيه كَلاَمَانِ: أحدهما: أنه قد يُسْتَبْعَدُ التخريج على الأَقْوَالِ المذكورة؛ لأن الأَقْوَالَ فيما إذا ازْدَحَمَ حَقُّ الله تعالى -وحَقُّ الآدَمِيِّ على مَحَلٍّ وَاحِدٍ، كازْدِحَامِ الزَّكَاةِ والدُّيُونِ في التركة، وهاهنا النِّصْفُ الذي تمْلِكُهُ المَرْأَةُ لا ازْدِحَامَ فيه، فإنها غير مُحْرِمَةٍ، وليس على المُحْرِمِ إِرْسَالُ مِلْكِ الغَيْرِ، وإذا تَضَمَّنَ إِرْسَالُهُ مِلْكَ نَفْسِهِ تَفْوِيتَ مِلْكِ الغير، وَجَبَ أن يُمْنَعَ منه، وهذا ما ذكره الشَّيْخُ أبو علي في الشَّرْحِ والثاني: لأنا إذا أَوْجَبْنَا الإرْسَالَ، كان هذا شبِيهاً بِسِرَايَةِ العِتْقِ إلى نصيب الشريك، فَيَخْتَصّ بالمُوسِرِ كالسِّرَايَةِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الرَّابعُ فِي هِبَةِ الصَّدَاقِ مِنَ الزَّوْجِ) وَذلِكَ يَنْفَذُ في الدَّيْنِ بِلَفْظِ العَفْوِ وَالإِبْرَاءِ، وَلاَ حَاجَةَ إِلَى الَقبُولِ، وَيَنْفَذُ بِلَفْظِ الهِبَةِ وَيَحْتَاجُ إِلَى القَبُولِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَلَفْظِ العَفْوِ وَالإِبْرَاءِ لاَ يُزِيلُ المِلْكَ في العَيْنِ، وَلَيْسَ لِلوَلِيِّ العَفْوُ عَنْ صَدَاقِ الصَّغِيرَةِ عَلَى الجَدِيدِ، وَفِي القَدِيمَ لَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ مُجْبِراً وَلَمْ تَكُنْ مُسْتَقِلَّةً وَجَرَى بَعْدَ الطَّلاَقِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفصل مَعْقُودٌ لِبَيَانِ حُكْم الشَّطْرِ، فيما إذا وَهَبَتِ الصَّدَاقَ من الزَّوْج، ثم طَلَّقَهَا قبل الدخول، وهو مُصَدَّرٌ بِبَيَانِ قاعدتين مُسْتَمَدَّتَيْنِ من قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]. ومعنى الآية: أن الصَّدَاقَ يُنَصَّفُ بالطَّلاَقِ قبل الدُّخول، إلا أن تَعْفُو الزَّوْجَةُ
وتَتَبَرَّعَ بحقها، فيعود جَمِيعُ الصَّدَاقِ إلى الزَّوْجِ، واختلفوا فيمن بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، فقال في القديم: المُرادُ منه الوَلِيُّ، والمعنى إلا أن تَعْفُو المَرْأَةُ إن كانت من أَهْلِ العَفْوِ، أو وَليُّهَا إذا لم تكن من أَهْلِ العَفْوِ، فيعود جَمِيعُ الصَّدَاقِ إلى الزَّوْج، وبهذا قال مَالِكٌ، ويروى عن ابن عَبَّاسِ -رضي الله عنهما-، وَوُجِّهَ بأن أَوَّلَ الآية خَطَابٌ للأزواج، فلو أراد بمن بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ الأَزْوَاجَ، لما عَدَلَ من المُخَاطَبَةِ إلى الغيبة بل قال إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ تعفوا أنتم. وقال في الجديد: المُرَادُ منه الزَّوْجُ، والمعنى: أو يَعْفُو الزَّوْجُ عن حَقَّهِ فَيَخْلُص لها جَمِيعُ الصَّدَاقِ، ولا يَنْتَصِفُ، وبه قال أبو حنيفة، ويروى عن عَلِيٍّ -كرم الله وَجْهَهُ- ووجه القِيَاسُ البَيِّنُ، وهو أن الوَلِيَّ لا يُسْقِطُ حَقَّ المولى عليه، إذا عُرِفَ ذلك، فالقَاعِدَةُ الأولى في ألفاظ التَّبَرُّع من الزَّوْجِ، أو الزوجة، والواجب عند الطَّلاَقِ قبل الدُّخُولِ، إما أن يكون دَيْناً أو عَيْناً، والدَّيْنُ قد يكون في ذِمَّةِ الزَّوْجِ، بأن أَصْدَقَهَا في الأَصْلِ دَيْناً، وقد يكون في ذِمِّيِهَا بأن أَقْبَضَهَا الصَّدَاقَ، وكان عَيْناً أو دَيْناً، فَتَصَرَّفَتْ فيه، واسْتَهْلَكَتْهُ، فينظر إن تَبَرَّعَ مستحق الدَّيْنِ بإِسْقَاطِهِ، نَفَذَ بلفظ العَفْوِ والإِبْرَاءِ والإِسْقَاطِ والتَّرْكِ. وحكى الحناطي وَجْهَيْنِ في أن لَفْظَ التَّرْكِ صَرِيحٌ أو كِنَايَةٌ، ولا حَاجَةً [في هذه الألفاظ] (¬1) إلى قبول مَنْ عليه على المَذْهَب. وفيه وجه مذكور في باب الضَّمَانِ، وينفذ بلفظ الهِبَةِ والتَّمْلِيكِ، وفيهما وجه آخر حكاه ابن كج (¬2) والظَّاهِرُ الأَوَّلُ، وهل يحتاج اللَّفْظَانُ إلى القَبُولِ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما لو اسْتُعْمِلاَ في الأَعْيَانِ. وأظهرهما: وهو المذكور في "التهذيب" -المَنْعُ؛ اعتماداً على حَقِيقَةِ التَّصَرُّفِ، وهي الإِسْقَاطِ، وإن تبرع من في ذمته بالنِّصْفِ الآخر، فالطريق أن ينقله ويملكه ويقبله صَاحِبه، ويقبضه، فإنه ابْتِدَاءٌ هِبَةٍ منه، فلا يَنْتَظِمُ لَفْظُ العَفْوِ والإِبْرَاءِ من جِهَتِهِ، نعم لو كان الصَّدَاقُ في ذِمَّةِ الزوج، وقلنا: إِنه لا يَتَشَطَّرُ بنفس الطَّلاَقِ، ولكن له اخْتِيَارُ التَّمَلُّكِ، فإذا قال: عَفَوْتُ سقط خِيَارُهُ، كما لو عَفَا عن الشُّفْعَةِ تسقط، ويبقى جَمِيعُ الصَّدَاقِ في ذِمَّتِهِ، وأما إذا كان الصَّدَاقُ عَيْناً، فالتَّبرُّعُ فيها هِبَةٌ ممن المَالُ في يده. فأما إن كان في يد المُتَبَرِّعِ، فلا بدّ من الإِيجَابِ والقَبُولِ والقبض، وإن كان في يَدِ الآخر، فهو هِبَةٌ المَالُ في يده فتعتبر مدة إِمْكَانِ القبض، وهل يحتاج إلى إذْنٍ جَدِيدٍ في القَبْضِ بهذه الجهة؟ فيه خلاف قد سَبَقَ في "كتاب الرَّهْنِ"، وإذا كانت العَيْنُ عند ¬
الطَّلاَقِ في يَدِ الزَّوْجِ، فذلك قد يكون بعد ما قَبَضَهَا، وقد يكون باسْتِمْرَارِ يده التي كانت قَبْلَ الإِصْدَاقِ، وعلى التقدير الثَّانِي يزيد النَّظر في أن تَبَرُّعَهَا كَهِبَةِ المَبِيع من البائع، قبل الَقَبْضِ إذا قلنا: إن الصَّدَاقَ في يده مَضْمُوناً ضَمَانَ العَقْدِ والتبرع في العَيْنِ تَنْفُذْ بلفظ الهِبَةِ والتَّمْلِيكِ، ولا يَنْفُذُ بلفظ الإِبْرَاءِ والإِسْقَاطِ، وفي لفظ العَفْوِ وجهان: أحدهما: أنه لا مَجَالَ له في الأَعْيَانِ، كالإِبْرَاءِ، وهذا ما أَوْرَدَهُ صاحب الكتاب. والثاني: وهو الأَصَحُّ عند الشَّيْخِ الفَرَّاءِ والمُتَوَلِّي أنه يجوز اسْتِعْمَالُهُ في الصَّدَاقِ، لظاهر القُرْآنِ، فَطَرَدَ الحناطي وَجْهَيْنِ في الإبْرَاءِ والإِسْقَاطِ، وهذا في تَبَرُّعِ الزَّوْجَةِ على الزَّوْجِ، وفي تَبَرُّع الزوج عليها إذا مَلَّكْنَاهُ النِّصْفَ بنفس الطَّلاَقِ، أما إذا قلنا: إن له خِيَارَ التَّمَلُّكِ، فيعتبر لَفَظُ العَفْوِ في إِسْقَاطِ الخِيَارِ، ويبقى الجَمِيعُ على ملكها. القاعدة الثانية: اختلف قَوْلُ الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه- في أن الوَلِيَّ هل له العَفْوُ عن صَدَاقِ مُوَلِّيَتِهِ؛ بناءً على الخِلاَفِ السَّابِقِ، في قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] فالجديد المنع، والقديم أن له ذلك، ولكن بشروط: أحدها: أن يكون الوَلِيُّ أباً أو جَدّاً، فأما غَيْرُ الأب والجد، فليس له العَفْوُ؛ لِقَصَوُّرِ شفقته، ولأنه لا يَلِي التَّصَرُّفَ النَّافِعَ في مَالِهَا، فَأَوْلَى ألا يَلِيَ إِسْقَاطَهُ. والثاني: أن تكون المُوَلِّيَةُ بِكْراً عَاقِلَةً صَغِيرَةً، أما الثَّيِّبُ فلا يجوز العَفْوُ عن صَدَاقِهَا؛ لأن الوَلِيَّ لا يَسْتَقِلُّ بنكاحها، فليست بيده عُقْدَةُ النكاح، وفيه وجه آخر والظَّاهِرُ الأول. وفي المجنونة وجهان: أحدهما: الجَوَازُ؛ لإِطْلاَقِ الآية. وأظهرهما: وهو الجَوَابُ في "التهذيب" وغيره المَنْعُ؛ لأنه يُرْجَى في العَفْوِ عن صَدَاقِ العَاقِلَةِ تَرْغِيب الخَاطِبِينَ فيها، وَتَخْلِيصُهَا ممن هي في نِكَاحِهِ؛ ليَتَزَوَّجَهَا مَنْ هو خَيْرٌ منه، والمجنونة لا تَكَادُ يُرْغَبُ فيها، فلا مَعْنَى، لإِسْقَاطِ حَقِّهَا الثابت لأَمْرٍ لا يكاد يحصل. قال في "التتمة": وكذا البَالِغَةُ المَحْجُورُ عليها بالسَّنَةِ، وأما العَاقِلَةُ البالغة البِكْرُ، ففيها وجهان: أحدهما: جَوَازُ العَفْوِ عن صَدَاقِهَا؛ لأن الأب والجَدَّ يَسْتَقِلاَّنِ بنِكَاحِهَا استقلالهما بنكاح الصَّغِيرَةِ. وأصحهما: المَنْعُ؛ لأن التَّصَرُّفَ والنَّظَرَ في مالها إليها، لا إلى الوَلِيِّ، وبنى أبو الفَرَجِ الزاز الوَجْهَيْنِ على اختلاف الأَصْحَابِ، في أنه لو مَلَكَ العَفْوَ في الصغيرة، فمن قَائل إن المَهْرَ مَالٌ اكْتَسَبَهُ لها، فإذا أَسْقَطَهُ فكَأنه لم يكتسب، ومن مُعَلِّل بأن مَالَهَا تحت
يَدِهِ، ونَظَرِهِ، فيأتي فيه بما يَسْتَصْوِبُهُ، ويراه مَصْلَحَةً لها، ويقرب من هذا وَجْهَانِ (¬1)، ذكرهما صاحب "التتمة" فيما إذا زَوَّجَهَا الأَبُ، ومات، وأراد الجَدُّ العَفْوَ، ففي وجه لا يَجُوزُ؛ لأن المَالَ لم يَحْصُلْ بِكَسْبِهِ، وفي وجه يجوز؛ لأنه تحت تَصَرُّفِهِ، وفيه نَظَرٌ. والثالث: أن يكون بَعْدَ الطَّلاَقِ، أما العَفْوُ قبله، فلا يَصِحُّ؛ لأن الزوج قد يَدْخُلُ بها بَعْدَ العَفْوِ، فيفوت مَنْفَعَةَ البُضْعِ عليها بلا عِوَضٍ، وفيما علق عن الإِمام أن الشَّيْخَ أبا محمد جَوَّزَ العَفْوَ قبل الطَّلاَقِ، إذا رأى الوَلِيُّ المَصْلَحَةَ فيه. والرابع: أن يكون قبل الدُّخُولِ، أما بعده فلا يجوز العَفْوُ لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ البُضْعِ عليها باسْتِيفَائِهِ. الخامس: أن يكون الصَّدَاق دَيْناً في ذِمَّةِ الزَّوْجِ، أما إذا أَصْدَقَهَا عَيْناً أو دَيْناً وَقَبَضَتْهُ لم يكن له العَفْوُ، لاحْتِوَاءِ اليَدِ عليه، وكَمَالِ الملك في العَيْنِ. وعن الشيخ أبي محمد التَّسْوِيَةُ بين العَيْنِ والدَّيْنِ، ولو أراد الوَلِيُّ مُخَالَعَةَ الصغيرة على نِصْفِ الصَّدَاقِ الذي يَسْتَحِقُّهُ، فيبنى ذلك على جَوَازِ العَفْوِ، إن جَوَّزْنَاهُ صحت المُخَالَعَةُ هكذا ذكر صاحب "التهذيب" (¬2) وغيره. وفي "الوسيط": حِكَايَةُ وجهين في صِحَّةِ الخُلْعِ، مع. التَّفْرِيعِ على صِحَّةِ العفو. وقال: الظاهر المَنْع والأشبه الأَوَّلُ. وقوله في الكتاب: "له ذلك إِن كان مجبراً" يفيد التَّخْصِيصَ بالأب والجد، وبحالة البَكَارَةِ، فإن الإِجْبَارَ حينئذٍ يَتَحَقَّقُ. وقوله: "ولم تكن مُسْتَقِلَّةُ" أي: بأمر مَالِهَا، وتخرج عنه البِكْرُ البَالِغَةُ، حتى لا يجوز العَفْوُ عن مَهْرِهَا، على ما ذكرنا أنه أَصَحُّ الجوابين فيها، لكن يدخل فيه المَجْنُونَةُ، وقد تَقَدَّمَ أنه لا يجوز العَفْوُ عن مَهْرِهَا أيضاً، ولم يَتَعَرَّضْ في الشروط لكون الطَّلاَقِ قبل الدخول، ولا بدّ منه. وأما كَوْنُهُ دَيْناً، فيمكن أن يُسْتَفَادَ من لفظ الكتاب فإنه قال: "وفي القديم له ذلك" وهو رَاجِعٌ إلى المذكور أَوَّلاً، وهو قوله: "العفو عن صَدَاقِ الصغيرة"، ولفظ العَفْوِ يَخْتَصُّ بالدَّيْنِ، على الوجه الذي أَوْرَدَهُ في الكتاب. قَالَ الغَزَالِيُّ: ثُمَّ إِذَا وَهَبَتْ مِنَ الزَّوْجِ قَبْلَ الطَّلاَقِ فَفِي رُجُوعِهِ بِنِصْفِ القِيمَةِ ¬
قَوْلاَنِ، وَإِنْ رَجَعَ بِالإِبْرَاءِ فَقَوْلاَنِ مُرَتَّبَانِ، وَأَوْلَى بِأَنْ لاَ يَرْجِعَ، وَإنْ كَانَ دَيْناً فَوَهَبَتْ مِنْهُ فَقَوْلاَنِ وَأَوْلَى بالرُّجُوعِ، فَإنْ مَنَعْنَا الرُّجُوعَ جَعَلْنَا الهِبَةَ كَالتَّعْجِيلِ إِلَيْهِ بِالصَّدَاقِ وَيَجْرِي القَوْلاَنِ في الرُّجُوعِ بِحُكمِ الفُسُوخِ بَعْدَ اتِّهَابِ المَرْجُوعِ فِيهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا وَهَبَتِ الصَّدَاقَ المُعَيّنَ من زوجها، طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ، فقولان: القديم: وَاحَدُ قولي الجديد، وبه قال مَالِكٌ، وأبو حنيفة، وكذلك أحمد في أصح الروايتين: أنه لا يَرْجِعُ عليها بشيء (¬1)؛ لأنها عَجَّلَتْ له ما يَسْتَحِقُّهُ بالطلاق، فلا تبقى المُطَالَبَةُ عند الطلاق، فهذا كما أن من عَجَّلَ [الزكاة قبل الحول لا يطالب به عند الحول، وكالمديون إذا عجل] (¬2) الدَّيْنَ المُؤَجَّلَ لا يُطَالِبُ به عن المَحَلِّ، وهذا ما اختاره المُزَنِيُّ. والثاني: أنه يَرْجِعُ عليها بِنِصْفِ بَدَلِهِ، إما المِثْلُ أو القِيمَةُ (¬3) لأنه مِلْكٌ جديد، حَصَلَ له قبل الطَّلاَقِ، فلا يمنع الرُّجُوعَ عند الطلاق، كما لو انْتَقَل إليه مِنْ أَجْنَبِيِّ، أو باعه منه، ولأنها صَرَفَتِ الصَّدَاقَ بِتَصَرُّفِيهَا إلى جِهَةِ مَصْلَحَتِهَا، فأشبه ما إذا وَهَبَتْهُ من أَجْنَبِيِّ. وأصح القولين عند صاحب "التهذيب" الأول، وأكثرون على تَرْجِيحِ الثاني؛ منهم العِراقِيُّونَ، والإِمام، والقاضي الرُّوَيانِيُّ، وهذا إذا [كانت] (¬4) قد قَبَضَتِ العَيْنَ المُصْدَقَةَ، ثم وَهَبَتْهَا منه، وإن وَهَبَتْ قبل القَبْضِ زاد نظران: أحدهما: أنا إذا قُلْنَا: الصَّدَاقُ مَضْمُونٌ في يَدِ الزوج ضَمَانَ العَقْدِ [كان ما] (¬5) وهبته قبل القَبْضِ كَهِبَةِ المَبِيعِ من البائع، وبَيْعِهِ منه قَبْلَ القَبْضِ، وفيه خلاف، ثم هذه تكون هِبَةَ الشَيْءِ ممن في يَدِهِ، وفيما يلزم به هذه الهِبَةُ ما سَبَقَ في موضعه. والثاني: حَكَى الحناطي طَرِيقَةً قَاطِعَةً في هذه الحَالَةِ أنه لا يرجع عليها بِشَيْءٍ، كما سَنَذْكُرُهُ فيما إذا كان الصَّدَاقُ دَيْناً، فَأَبْرَأَتْهُ عنه؛ لأنه لم يدخل في يدها شَيْءٌ، والظاهر التَّسْوِيَةُ بين حَالَتَيْ وجود القَبْضِ وعدمه في طَرْدِ القولين، ولو كان الصَّدَاقُ دَيْناً، فَأَبْرَأَتْهُ عنه تَرَتَّبَ ذلك على هِبَةِ العَيْنِ إن قلنا: لا يرجع في العَيْنِ فههنا أَوْلَى، وإن قلنا: يرجع هناك، فهاهنا قولان، وإن شئت قلت في صورة الإِبْرَاءِ طريقان: ¬
أحدهما: طَرْدُ قَوْلَي الهِبَةِ. والثاني: القَطْعُ بعدم الرُّجُوعِ (¬1)، والفرق أنها لم تَأْخُذْ منه مالاً، ولم تَتَحَصَّلْ على شيء، ثم اتفق المُثْبتُونَ للقولين، على أن الظَّاهِرَ هاهنا عَدَمُ الرجوع، ولو وَهَبَتِ الدين منه، فهذه الصُّورَةُ أَوْلَى بالرجوع من صُورَةِ الإِبْرَاءِ نظر إلى لَفْظِ الهِبَةِ، والظاهر اعتبار الحَقِيقَةِ، وأن الحُكْمَ كما في لَفْظِ الإبْرَاءِ، ولو قبضت الدَّيْنَ، ثم وَهَبَتْهُ منه، ثم طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ، فالحكم كما في هِبَةِ العَيْنِ، قال في "التتمة": هذا إذا قلنا: إنه لو طَلَّقَهَا والمَقْبُوضُ في يدها وملكها، يتعين حقه فيه، أما إذا قلنا: لا يَتَعَيَّنُ، فله الرُّجُوعُ قَوْلاً واحداً. وعند أبي حنيفة: إن كان ذلك من المِثْلِثَّاتِ، رجع، وإن كان من المُتَقَوّمَاتِ لم يرجع، فَرْقاً بأن المُسْتَوْفَى من المْتَقَوّمَاتِ عَيْبهُ الصداق؛ لأن المتقومات لا مِثْلَ لها، وفي المِثْلِيَّاتِ المُسْتَوْفَى مِثْلُ الصَّدَاقِ لا عَيْنُهُ. ولو وهبت له الصداق، ثم ارْتَدَّتْ قبل الدُّخُولِ، أو فَسَخَ أَحَدُهُمَا بِعَيْبِ الآخر، قبل الدخول، ففي الرجوع في الكل مِثْلُ الخِلاَفِ المذكور في الرُّجُوعِ في النِّصْفِ عند الطلاق. ولو باع عبداً بِجَارَيةٍ، ووهب الجَارِيةَ من بائعها، ثم وَجَدَ بَائِعُهَا بالعَبْدِ عَيْباً وأراد رَدَّهُ بالعَيْبِ، ففي تَمَكُّنِهِ منه، ومن المُطَالَبَةِ بقيمة الجَارِيةِ وَجْهَانِ مَأْخُوذَانِ من مسألة هِبَةِ الصَّدَاقِ قبل الطَّلاَقِ، ويجريان في تمَكُّنِهِ من طَلَب الأَرْشِ، إذا اطَّلَعَ على عَيْبِ العَبْدِ بعد هَلاَكِهِ، أو كان به عَيْبٌ حَادِثٌ مَانِعٌ من الرَّدِّ، ولو أَبْرَأَ السَّيِّدُ المُكَاتَبَ عنَ النُّجُومِ، وعُتِقَ، فهل له مُطَالَبَةُ السَّيِّدِ بالإِيتاء؟. فيه مِثْلُ هذا الخِلاَفِ، وإذا وَهَبَ المشتري المَبِيعَ من البائع، ثم أَفْلَسَ بالثَّمَنِ، فللبائع المُضَارَبَةُ مع الغُرَمَاءِ، بلا خلاف؛ لأن المَوْهُوبَ غير المستحقِّ، وهو الثَّمَنُ، وفي الصورة المتقدمة الموهوب أولاً هو المُسْتحقّ ثَانِياً، فجعلت الهِبَةُ تَعْجِيلاً على قول، وطَرَدَ الحناطيُّ الخِلاَفَ في مسألة المُفْلِسِ. ولو ادعى عَيْناً في يد إِنْسَانٍ، وأقام شَاهِدَيْنِ، وحُكِمَ له بالمُدَّعَي، وسلم إليه، فوهَبَه من المُدَّعَى عليه، ثم رَجَعَ الشَّاهِدَانِ عن الشهادة، وقلنا بِتَغْرِيمِ شُهُودِ المَالِ، ففي تَغْرِيمِ المدعى عليه الشَّاهِدَيْنِ، والصورة هذه -طريقان مَنْقُولاَنِ في "التتمة". أحدهما: أنه على وجهين؛ أَخْذاً من مَسْأَلَةِ الصَّدَاقِ. الثاني: القَطْعُ بالمَنْعِ؛ لأن المدعى عليه لا يَقُولُ بحصول المِلْكِ بالهِبَةِ، بل يَزْعُمُ دَوَامَ المِلْكِ السابق والذي كان، وفي الصداق زَالَ مِلْكُهُ حَقِيقَةَ، وعاد بالهَبَةِ (¬2). ¬
فرع
وقوله: "ففي رُجُوعِهِ بِنِصْفِ القيمة" أي إن كان الصَّدَاقُ شَيْئاً مُتَقَوّماً، فإن كان مِثْلِيّاً، فالخلاف في الرُّجُوع بِنِصْفِ المثل. وقوله: "فإن منعنا الرجوع جَعَلْنَا الهِبَةَ كالتعجيل" ليس لِتَفْرِيعِ الحُكْمِ على منع الرجوع، وإنما الغَرَضُ التَّنْبِيهُ على مَأْخَذِ القَوْلِ. " فرع" حكى أبو سعد المتولي وَجْهَيْنِ فيما إذا وَهَبَتِ الصَّدَاقَ من الزوج على أنه لو طَلَّقَهَا كان ذلك عما يستحق بالطَّلاَقِ. أحدهما: أنه تَفْسَدُ الهِبَةُ، ويبقى الصَّدَاق على مِلْكِهَا، فهذا طَلَّقَ تَشَطَّرَ. والثاني: تَصِحُّ الهِبَةُ، ولا رُجُوعَ له [بالطلاق] (¬1) كما لو عجل الزَّكَاةَ، وقال: هذه زَكَاتِي المُعَجَّلَةُ، وليكن الوَجْهَانِ مَبْنِيَّيْنِ على أن الهِبَةَ المطلقة، هل تمنع الرُّجُوعَ؟ إن قلنا: تمنع، فهذا تَصْرِيحٌ بمقتضى الهِبَةِ، فتصح، ولا رُجُوعَ وإن قلنا: لا تمنع فَسَدَتِ الهِبَةُ بالشرط الفَاسِدِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (فَرْعَانِ: أَحَدُهُمَا) لَوْ وَهَبَتْ مِنْهُ نِصْفَ الصَّدَاقِ ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَإنْ قُلْنَا: الهِبَةُ لاَ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ فَفِي كَيْفِيَّةِ رُجُوعِهِ بالنِّصْفِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: (أَحَدُهَا): أَنَّ لَهُ النِّصْفَ البَاقِيَ وَتَنْحَصِرُ هِبَتُهَا في نَصِيبِهَا (وَالثَّانِي): أَنَّهُ يَشِيعُ فَلَهُ نِصْفُ مَا بَقِي وَرَبُعُ قِيمَةِ الجُمْلَةِ (وَالثَّالِثُ) أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ نِصْفِ قِيمَةِ الجُمْلَةِ حِذَاراً مِنَ التَّبْعِيضِ، وَإِنْ قُلْنَا: الهِبَةُ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ فَعَلَى قَوْلٍ انْحَصَرَتِ الهِبَةُ في نَصِيبِهِ فَلاَ رُجُوعَ، وَفِي قَوْلٍ في نَصِيبِهَا فَلَهُ بَاقِي الصَّدَاقِ، وَفِي قَوْلٍ يَشيعُ فَلَهُ نِصفُ البَاقِي. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا وهبت منه نِصْفَ الصَّدَاقِ، ثم طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بني ذلك على ما إذا وَهَبَتِ الكُلَّ، إن قلنا: إن هِبَةَ الكُلِّ لا تمنع الرُّجُوعَ بالنِّصْفِ فهبة البعض أَوْلَى ألا تَمْنَعَ، إلى ما يرجع؟. فيه ثَلاَثَةُ أقوال، كما ذكرنا فيما إذا أَصْدَقَهَا عَبْدَيْنِ، وتَلِفَ أحدهما عندها، ثم طَلَّقَهَا قبل الدخول. أحدهما: أن له النِّصْفَ الباقي؛ لأنه اسْتَحَقَّ النِّصْفَ بالطلاق، وقد وجده، فَيَأْخُذُهُ، وينحصر هاهنا في نصيبها. وأظهرهما: أن له نِصْفَ الباقي، وهو الرُّبُعُ، وله مع ذلك رُبُعُ بَدَلِ الجملة؛ لأن الهِبَةَ وَرَدَتْ على مُطْلَقِ النصف، فَيُشِيعُ. ¬
والثالث: أنه يَتَخَيَّرُ، إن شَاءَ أخذ نِصْفَ بَدَلِ الجملة، وترك الباقي لها، وإن شاء أَخَذَ نِصْفَ الباقي وهو الربع مع رُبُعِ بَدَلِ الجملة؛ لأنه لا بدّ من الإشَاعَةِ، وهي تفضي إلى تَبْعِيضِ حَقِّهِ، وهذه الأقوال هي بِعَيْنِهَا الأقوال التي جَرَتْ في الزَّكَاةِ، فيما إذا أَصْدَقَ امْرَأَتَهُ أَرْبَعِينَ شَاةً، فَأَخْرَجَتْ واحدة منها للزَّكَاةِ، ثم طلقها قبل الدخول وإن قلنا: إن هِبَةَ الكُلِّ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ، فهاهنا ثَلاَثَةُ أقوال أيضاً: أصحهما: عند صاحب "التهذيب"، وهو المَنْصُوصُ في "المختصر"، وبه قال أبو حنيفة: أنه لا يرجع بشيء أيضاً، وحَقُّهُ هو الذي عَجَّلته. والثاني: أن الهِبَةَ تَنْزِلُ على خَالِصِ حَقِّهَا، ويرجع الزوج بجميع النِّصْفِ الباقي. والثالث: ويُحْكَى عن "الإِملاء"، وبه قال المزني: أنه يرجع عليها بِنِصْفِ الباقي عندها، ويُجْعَلُ النِّصْفُ المَوْهُوبُ مَشاعاً فكأنها عَجَّلَتْ نصف حقه، وَوَهَبَتْ منه نِصْفَ حقها الخالص لها. والقول الثاني تَفْرِيعاً على أن الهِبَةَ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ كالأول تَفْرِيعاً على أنها لا تَمْنَعُ، فيحصل في المسألة خَمْسَةُ أقوال، فلو كانت قد وَهَبَتْ منه الثُّلُثَ، فإن قلنا: الهبَةُ لا تمنع الرُّجُوعَ، فله من الباقي النِّصْفُ على القَوْلِ الأول، ونِصْفُ الباقي ربع (¬1) بدل المَوْهُوب على الثاني، وَيتَخَيَّرُ بين نِصْفِ الباقي ربع (¬2) بَدَلِ الموهوب، وبين نصف بَدَلِ الجملة عَلى الثَّالِث. وإن قلنا: يمنع، فعلى الأَوَّلِ يرجع بِرُبُع الباقي ليتمَّ له النِّصْفُ، وعلى الثاني يرجع بِنِصْفِ الجملة من البَاقِي، فيحصل علىَ خَمْسَة أَسْدَاسٍ، وعلى الثالث يرجع بنصف الباقي لا غَيْرَ. وإن كان الصَّدَاق دَيْناً فَأَبْرَأَتْهُ عند نِصْفِهِ، ثم طلقها. قال في "التتمة": إن قلنا: لو أَبْرَأَتْهُ عن الجَمِيعِ يرجع عليها فهاهنا يَسْقُطُ عنه النصف الباقي أيضاً. وإن قلنا: لا يرجع بشيء، فهاهنا وجهان: أحدهما: أنه لا يَسْقُطُ عنه شيء، فيكون منا أَبْرَأَتْهُ مَحْسُوباً من حقه، كأنها عَجَّلَتْهُ. والثاني: يبرأ عن نِصْفِ الباقي. وإذا أَبْرَأَ المشتري (¬3) عن نِصْفِ الثمن، ثم وَجَدَ المشتري بالمَبِيعِ عَيْباً، وأراد ¬
الرَّدَّ، فالحكم كما ذَكَرْنَا في الإِبْرَاءِ عن نصف الصَّدَاقِ، ولو أَبْرَأَهُ عن عُشْرِ الثمن، وَاطَّلَعَ علي عَيْبِ قديم، ثم حَدَثَ عنده عَيْبٌ وأرش العَيْبِ القديم العُشْرُ، فالظاهر أنه يُطَالِبُ بالأرْشِ، ولا يَنْصَرِفُ ما أبرأ عنه إلا الأَرْشِ. ولا يخفى أن لفظ "القِيمَةِ" في قوله في الكتاب: "وربع قيمة الجملة" وفيما بعد ذلك مَحْمُولٌ على ما إذا كان الصَّدَاقُ مُتَقَوّماً، وإن كان مُثْلِيّاً، فالرجوع إلى المِثْلِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: اخْتَلَعَتِ المَرْأَةُ قَبْلَ المَسِيسِ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ مُطْلَقاً فَفِي قَوْلِ يَنْزِلُ عَلَى النِّصْفِ الَّذِي يَبْقَى لَهَا، وَعَلَى قَوْلٍ يَشِيعُ فَيفَسْدُ نِصْفُ الصَّدَاقِ وَيُبْنَى البَاقِي عَلَى تَفْرِيق الصَّفْقَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد مَرَّ في أَوَّلِ الباب أن الخُلْعَ قبل الدُّخُولِ يُشَطِّرُ، فإن خَالَعَ امْرَأَتَهُ قبل الدخول على شيء وَرَاءَ الصَّدَاقِ [فله المُسَمَّى، ولها عليه نِصْفُ المَهْرِ، وإن خَالَعَهَا على جميع الصَّدَاقِ] (¬1) فقد خَالَعَ على مَالِهِ ومالها لِعَوْدِ النصف إليه بالخلع فتحصل البَيْنُونَةُ، وتَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ في نَصِيبِهِ، وفي نصيبها قَدْ لا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، إن لم نُصَحِّحْ، فيبقى لها عليه نِصْفُ الصَّدَاقِ، وفيما له عليها قولان: أصحهما: مَهْرُ المِثْلِ. والثاني: مِثْلُ الصَّدَاقِ، أو قيمته، وربما وَقَعَ ذلك في صُورَةِ التَّقَاصِّ، وهذان القَوْلاَنِ المَذْكُورَانِ في أَنَّ الصَّدَاقَ إذا فَسَدَ يكون الرُّجُوعُ إلى مَهْرِ المِثْلِ، أو بَدَلِ المُسَمَّى، لا فَرْقَ في ذلك بين الصَّدَاقِ وبدل الخُلْعِ. وإن صَحَّحْنَا التَّسْرِيَةَ في نصيبها، قال الإِمام وغيره: يثبت للزَّوْج الخِيَارُ إذا كان جَاهِلاً بالحال من التَّشْطِيرِ والتفريق، فإن فَسَخَ عاد القَوْلاَنِ في أن الرجوع إلى مَهْرِ المِثْلِ أو بَدَلِ المُسَمَّى، وإن أجاز، فعلى القَوْلَيْنِ المذكورين في "البيع" في أن المُشْتَرِي إذا أجَازَ البَيْعَ فيما يَصِحُّ العَقْدُ فيه، يُجْبَرُ بكل الثمن أو بالقِسْطِ، إن قلنا: يُجْبَرُ بالكل، فلا شيء له سِوَى النِّصْفِ الذي صَحَّ الخُلْعُ فيه، ولا يرجع عليها بشيء آخَرَ. وإن قلنا: يجبر بالقِسْطِ، فقد بَطَلَ نِصْفُ البَدَالِ، فيرجع عليها بِنِصْفِ مَهْرِ المِثْلِ في أَصَحِّ القولين، وبنصف مِثْلِ الصَّدَاقِ، أو قيمته في القَوْلِ الآخر، وإن خَالَعَهَا على نِصْفِ الصَّدَاقِ، نظر إن قيد وقال: خَالَعْتك بالنصف الذي يَبْقَى لك بعد الفِرَاقِ، فهو صَحِيحٌ. وِيبْرَأُ عن جَمِيعِ الصَّدَاقِ إن كان دَيْناً وِيعود إليه المِلْكُ في جَمِيعِهِ، إن كان عَيْناً، وإن أَطْلَقَ، فقولان؛ بناءً على أن تَصَرُّفَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ في النصف المُطْلَقِ من ¬
فرع
العين المشتركة بالسَّوِيَّة ينزل على النصف الذي له أو يشيع؟. أحد القولين: أنه يَنْزِلُ على نصيبها، ويكون الحكم كما لو قَيَّدَ بنصفها. وأصحهما: عند أكثرهم -أنه يشيع لإِطْلاَقِ اللَّفْظِ، فكأنه خَالَعَهَا على نِصْفِ نصيبها، ونِصْفِ نصيبه، فَيَبْطُلُ في نِصْفِ نصيبه، وفي نِصْفِ نصيبها القولان إن لم نُصَحِّحْ، فيبقى لها عليه نِصْفُ الصَّدَاقِ، وله عليها مَهْرُ المِثْلِ، في أصح القولين ومثل نِصْفِ الصَّدَاقِ، أو قيمته في الآخر، وقد يُتَصَوَّرُ بصورة التَّقَاصِّ. وإن صَحَّ في نصف نَصِيبِهَا، فلها عليه رُبَعُ الصَّدَاقِ، ويسقط الباقي بحُكْمِ التَّشْطِيرِ، وعوض الخُلْعِ، ثم أحد القولين أنه لا يستحقُّ لِعِوَضِ الخُلْعِ، إلا الربع الذي الخُلْعُ فيه. وأظهرهما: أن له مع ذلك نِصْفَ مَهْرِ المِثْلِ، على أصح القولين، وربع مثل الصَّدَاق، أو قيمته على القول الثَّانِي، وقد يَقَعُ في التَّقَاصِّ، ومن الأصحاب من يحذف النَّظَرَ إلى خِلاَفِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، ويقول: كل الصَّدَاقِ لها، إلى أن يحصل الفِرَاقُ [فيصح لها أن تجعل كله أو نِصْفَهُ عِوَضاً، إلا أنه إذا تَمَّ الخُلْعُ، وحصل الفِرَاقُ] (¬1) يسقط النصف، فهو كما لو خَالَعَهَا على عَيْنٍ، وتَلِفَ نصفها قبل القَبْضِ، فيكون الرُّجُوعُ إلى مَهْرِ المِثْلِ في قول، وإلى بَدَلِ التَّالِفِ في قول، هذا اخْتِصَارُ ما ذكره الأصحاب في المَسْأَلَةِ، وقد تَعَلَّقَتْ بأصول مختلف فيها: أحدها: القولان في الحَصْرِ والشُّيُوعِ. والثاني: القولان في تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. والثالث: إن فَرَّقْنَاهَا، وأثبتنا الخِيَارَ فيما صَحَّ العَقْدُ فيه، فالإِجَازَةُ تكون بالجَمِيعِ أْو ببعضه. والرابع: أن بَدَلَ الخُلْعِ إذا فَسَدَ يكون الرجوع إلى مَهْرِ المِثْلِ، أو بَدَلِ المذكور. " فَرْعٌ" عن ابن سُرَيْجٍ أنها لو قالت: خَالِعْنِي على ألا تَبِعَةَ لك في المَهْرِ عَلَيَّ، يَصِحُّ، ويكون معناه على ما سلّم لي من المَهْرِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الخَامِسُ في المُتْعَةِ) وَكُلُّ مُطَلَّقَةٍ قَبْلَ المَسِيسِ لاَ تَسْتَحِقُّ شَطْرَ المَهْرِ فَتَسْتَحِقُّ المُتْعَةَ، وَاِن اسْتَحَقَّتْ جَمِيعَ المَهْرِ بِالمَسِيسِ فَتَسْتَحِقُّ المُتْعَةَ عَلَى ¬
أَحَدِ القَوْلَينِ مَهْمَا طُلِّقَتْ، وَفِي مَعْنَى الطَّلاَقِ كُلُّ فِرَاقِ يُوجِبُ التَّشْطِيرَ فَإِذَا لَمْ يُشَطِّرِ اقْتَضَى المُتْعَةَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المُتْعَةُ (¬1) اسْمٌ للمال الذي يَدْفَعُهُ الرَّجُلُ إلى امْرَأَتِهِ، لِمُفَارَقَتِهِ إياها، والفُرْقَةُ نوعان: فُرْقَةٌ تحصل بالمَوْتِ، فلا توجب مُتْعَةً بالإجْمَاعِ، والمعنى فيه: أن الزَّوْجَ لم يُوحِشْهَا، وإنما اخْتُرِمَ، وسبب وُجُوبِ المتْعَةِ إِيحَاشُهَا وابتدالها. وفُرقَة تحصل في الحَيَاةِ، كما إذا طَلَّقَهَا، فينظر إن طَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ، وقد وَجَبَ لها مَهْرٌ بتسمية صَحِيحَةٍ، أو فاسدة في العَقْدِ، أو بِفَرْضٍ بعد العقد، إذا كانت مُفَوِّضَةً، فلا مُتْعَةَ؛ لأنه لم يَسْتَوْفِ مَنْفَعَة بُضْعِهَا، وتشطر المهر، كان لما لِحَقَهَا من ¬
الابْتِدَالِ، فلا حَاجَةَ إلى شيء آخر. وعن ابن سُرَيْجٍ وغيره إِثبات قول آخر: أن لها المُتْعَةَ لإطْلاَقِ قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] وإن لم يجب لها شَيْءٌ بالتَّسْمِيَةِ في العقد، أو الفَرْضِ بعده، فلها المُتْعَةُ قال: الله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236]. وعن مَالِكٍ أن المُتْعَةَ لا تجب، وإنما هي مُسْتَحَبَّةٌ، فإن طَلَّق بعد الدخول، ففي المُتْعَةِ قولان: القديم: وبه قال أبو حَنِيْفَةَ: أنها لا تجب؛ لأنها تَسْتَحِقُّ المَهْرِ، والحالة هذه، إما المسمى، أو مَهْرِ المِثْلِ، وبه غُنْيَةٌ عن المُتْعَةِ. والجديد: أنها تَجِبُ لقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241]. وأيضاً فقد قال تعالى: {افَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28] وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد دخل بهن. وعن ابن عُمَرَ -رضي الله عنهما- أن لكل مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةً، إلاَّ التي فَرَضَ لها، ولم يدخل بها، فَحَسْبُهَا نِصْفُ (¬1) المَهْرِ، وليست كالمُطَلَّقَةِ قبل المَسِيسِ المُسْتَحِقَّةِ لِشَطْرِ المَهْرِ؛ لأنه لم يسْتَوْفِ مَنْفَعَةَ بُضْعِهَا، فيكفي شَطْرُ المَهْرِ للإِيحَاشِ والابْتِدَالِ، وهاهنا اسْتَوْفَتْ مَنْفَعَةَ البُضْعِ، والمَهْرِ في مقابلتها، فيجب للإِيحَاشِ شيء آخر. وعن أحمد رِوَايَتَانِ كالقولين، ومهما حَصَلَتِ الفُرْقَةُ من جِهَةِ الزوج لا بِسَبَبٍ منها، أو حصلت من جهَةِ أجنبي، فهو كالطَّلاَقِ، في اقْتِضَاءِ المُتْعَةِ، وذلك كما إذا ارْتَدَّ أو أسْلَمَ، أو لاَعَنَ أَو أسلم، وتحته نِسْوَةٌ، فَفَارَقَ بعضهن اقْتِصَاراً على العَدَدِ الشَّرْعِيِّ، وكما إذا وَطِئَ أبوه أو ابْنُهُ زَوْجَتَهُ بالشُّبْهَةِ، أو أرضعت أُمُّهُ أو ابنته زَوْجَتَهُ الصغيرة (¬2)، فانْفَسَخَ النكاح والخُلْعُ، وإن كان يَتِمُّ بها، فهو كالطلاق، كما إنه في اقْتِفَاءِ التَّشْطِيرِ كالطلاق. وحَكَى في "الوسيط" فيه تَرَدُّداً للأصحاب، والمشهور أنها تَجِبُ، وكذا الخُلْعُ مع الأجنبي، وكذا لو فوَّضَ الطلاق إليها، فَطَلَّقَتْ نفسها، أو عَلَّقَ طَلاَقَهَا بفعل لها، فَأَتَتْ ¬
القول في قدر المتعة
به، أو آلَى منها فَطَلَّقَهَا بعد المُدَّةِ بطلبها (¬1) وحكى الحناطي وَجْهاً آخر في التَّعْلِيقِ بِفَعْلِهَا، وفي صورة الإِيلاَءِ. ولو ارْتَدَّ الزوجان مَعاً ففي المُتْعَةِ وجهان كالوجهين في الشَّطْرِ إذا ارْتَدَّا معاً قبل الدخول والأصح: المَنْعُ، وإن كانت الفُرْقَةُ من جِهَةِ المَرْأَةِ، أو بسبب فيها لم تَجِب المُتْعَةُ، كما لا يجب نِصْفُ المَهْرِ قبل الدُّخُولِ، وذلك كَرِدَّةِ المرأة، وِإسْلاَمِهَا، وفسخها بِإعْسَارِ الزوج، أو بِعِتْقِهَا، والزوج رَقِيقٌ، وكَالفَسْخِ بِالغُرُورِ، وفَسْخِهِ بعَيْبِهَا وَفَسْخِهَا بِعَيْبِهِ. حكى المُزَنيُّ أن لها المُتْعَةَ إذا فَسَخَتْ بالعُنَّةِ، واعترض عليه، فمن الأصحاب من جعله قَوْلاً آخر، وقال: هي مَعْذُورَةٌ في الفَسْخ. والأكثرون لم يثبتوه، وقالوا: الاعْتِرَاضُ صَوَابٌ، والنقل سَهوٌ. ولو زوج الذِّمِّي ابنته الصغيرة من ذِمِّيِّ، ثم أسلم أَحَدُ أبويها، وارتفع النِّكَاحُ حكمنا بإسلامها، فلا مُتْعَةَ لها، كما لو أسْلَمَتْ بنفسها، ولو اشترى الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ، فالنَّصُّ في رواية المزني أنه يسقط المُتْعَة على ما قَدَّمْنَا في الفَصْلِ الخامس من القسم الخامس من "كتاب النِّكاح" وهو الظَّاهِرُ. وعن "الإِملاء" أن لها المُتْعَةَ؛ لأن سَبَبَ الفُرْقَةِ حَصَلَ من الزوج وغيره، فأشبه الخُلْعَ. ومن أبي إِسْحَاقَ: أنه إن استدعى الزوج الشراء، وَجَبَتِ المُتْعَةُ، وإن اسْتَدْعَاهُ السيد لم تجب. ويستوي في المُتْعَةِ المُسْلِمُ والذمي، والحُرُّ والرقيق، والحرة والرقيقة، وهي في كَسْبِ الزوج الرقيق ولسيد الزوجة الرقيقة كالمَهْرِ. وقوله في الكتاب: "وكل مُطَلَّقَةٍ قَبل المَسِيسِ تَسْتَحِقُّ شَطْرَ المَهْرِ" هي المُفَوِّضَةُ قبل الفرض. وقوله: "فَتَسْتَحِقُّ المُتْعَةَ" مُعَلَّمٌ بالميم. وقوله بعد ذلك: "فتستحق المتعة" مُعَلَّمٌ بالحاء، ويجوز أن يُعَلَّمَ بالألف أيضاً لإِحدى الروايتين عن أحمد. وقوله: "وفي معنى الطَّلاَقِ كُلُّ فراق يوجب التَّشَطُّرَ" أي: إذا اتَّفَقَ قبل الدخول "فإذا لم يَتَشَطَّرْ" لوقوعه في صورة التفويض. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَمِقْدَارُهَا كُلُّ مَا جَازَ أنْ يَجْعَلَ صَدَاقاً، وَقِيلَ: مَا يَرَاهُ القَاضِي لاَئِقاً بِحَالِهِمَا مِنْ ثَوْبٍ أَوْ خَاتَمٍ، وَينْبَغِي أنْ يُحَطَّ عَنْ شَطْرِ المَهْرِ كَمَا يُحَطُّ التَّعْزِيرُ عَنِ الحَدِّ. " القَوْلُ في قَدْرِ المُتْعَةِ" قال الرَّافِعِيُّ: الكلام في قَدْرِ المُتْعَةِ: في المُسْتَحَبِّ منه، وفي الوجب أما ¬
المُسْتَحَبُّ: فقد قال في "المختصر": اسْتُحْسِنَ قَدْرُ ثلاثين درهماً. وعن القديم أنه يمتعها ثَوْباً بِقَدْرِ ثلاثين دِرْهَماً. وعن بعض كتبه: أنه يمتعها بخادم وإلاَّ فَبِمِقْنَعَةٍ، وإلاَّ فَبِقَدْرِ ثلاثين دِرْهماً، وليس ذلك اخْتِلاَفَ قول، بل نزلها الأصحاب على دَرَجَاتِ الاسْتِحْبَابِ، وقالوا: أقل القَدْرِ المُسْتَحَبِّ ثلاثون دِرْهَماً، وحملوا المِقْنَعَةَ على الصّنْف الذي يزيد قِيمَتُهُ على ثلاثين، وفي بعض الشروح نص قول آخر، وهو أنه يُمَتِّعُهَا الخَادِمَ، إن كان مُوسِراً، وإن كان مُعْسِراً فبمقنعةٍ، وإن كان مُتَوسِّطاً فبقدر ثلاثين درهماً، والمِقْنَعَةُ في هذا النص مَحْمُولَةٌ على النَّازِلَةِ التي لا تبلغ الثلاثين، وذِكْرُ الثلاثين قد وَرَدَ عن ابن عُمَرَ، وابن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهم-. وأما الواجب، فإن تَرَاضَيَا على شيء فذاك. وحكى الحناطي وَجْهاً أنه ينبغي أن يُحَلِّلَ كل واحد منهما صَاحِبَهُ، فإن لم يَفْعَلا لم تَبْرَأْ ذِمَّةُ الزَّوْجِ، ولها رَفْعُ الأَمْرِ إلى الحَاكِمِ ليقدر مُتْعَةً، والظاهر الأول، وإن تَنَازَعَا فوجهان: أحدهما: أن الوَاجِبَ أَقَلُّ ما يُتَمَوَّلُ، ويكفي ذلك متْعَةً، كما أنه يَجُوزُ أن يكون صَدَاقاً. وأصحهما: أن الحاكم يُقَدِّرُهُ باجتهاده؛ لقوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وبم يعتبر الحاكم وإلام ينظر فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وبه قال أبو إسْحَاقَ أن الاعْتِبَار بحال الزَّوْجِ للآية. والثاني: بحال المَرْأَةِ؛ لأن المُتْعَةَ كالبَدَلِ للمهر، ألا ترى أن المُتْعَةَ في المُفَوِّضَةَ إنما تَجِبُ إذا لم يجب نِصْفُ المَهْرِ، والمهر مُعْتَبَرٌ بحالها وعَصَبَاتِهَا، فكذلك المُتْعَةُ. والثالث: أنه ينظر إلى حالهما مَعاً؛ قال في "الوسيط"؛ وهو الصَّحِيحُ (¬1)، ورَجَّحَهُ غيره أيضاً، وهو ظَاهِرُ لفظ "المختصر"، وهل يجوز أن تزيد المُتْعَةُ على شَطْرِ المَهْرِ فيه وجهان: أحدهما: ويحكى عن صاحب "التقريب" لا؛ لأنها بَدَلٌ عن شَطْرِ المَهْرِ، فلا يزاد عليه. وأظهرههما: نعم، لإِطْلاَقِ الآية، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب" وغيره (¬2). ¬
الباب الخامس في التنازع
وحكى الحناطي وَجْهاً ثالثاً وهو أنها لا تبلغ الشَّطْرَ أيضاً، بل تَنْقُصُ عن شَطْرِ المَهْرِ، كما يحط التعزير عن الحَدِّ، ويوافقه قَوْلُهُ في الكتاب: "وينبغي أن يحطَّ عن شَطْرِ المهر" ولم يذكر في "الوسيط" هكذا، لكن قال: لا يُزَادُ على شَطْرِ المَهْرِ ثم قضية ما ذكره في "الوسيط" اعْتِبَارُ نِصْفِ المسمى، وإن لم يسم شيئاً، اعتبر نِصْفُ مَهْرِ المِثْلِ. وقال أبو حنيفة: تَتَقَدَّرُ المُتْعَة ثلاثة أبواب: دِرْعٌ وخِمَارٌ ومِقْنَعَةٌ، إلا أن يكون نِصْفُ مَهْرِ مِثْلَها أَقَلَّ من ذلك. وعن أحمد في رواية أنها تَتَقَدَّرُ بما تُجْزِئُ فيه الصلاة، وفيه رواية: يُقَدِّرُهَا الحَاكِمُ. البَابُ الخَامِسُ في التَّنَازع، وَفِيهِ مَسَائِلٌ قَالَ الغَزَالِيُّ: (إِحْدَاهَا): إِذَا تَنَازَعَا في قَدْرِ المَهْرِ أَوْ صِفَتِهِ تَحَالَفَا كَمَا فِي البَيْعِ وَيَجْرِي ذَلِكَ بَعْدَ انْقِطَاعِ النِّكاحِ وَبَعْدَ المَوتِ؛ لأَنَّ الصَّدَاقَ كَعَقْدٍ مُسْتَقِلٍّ بنَفْسِهِ، وَيَحْلِفُ الوَارِثُ النَّافِي عَلَى نَفْيِ العِلْمِ وَالمُثْبِتُ عَلَى البَتِّ، وَفَائِدَةُ التَّحَالُفِ انْفِسَاخُ الصَّدَاقِ وَالرُّجُوعُ إِلَى مَهْرِ المِثْلِ، وَلَهَا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَا ادَّعَتْهُ أَقَلَ منْ مَهْرِ المِثْلِ، وَلَوِ ادَّعَتِ التَّسْمِيَةَ وأَنْكَرَ الزَّوجُ أَصْلَ التَّسْمِيَةِ تَحَالَفَا، وَقِيلَ: القَوْلُ قَوْلُهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصود الباب القَوْلُ في التَّنَازُعِ في الصداق، وَيشْتَمِل على مسائل: منها: إذا اختلف الزَّوْجَانِ في قَدْرِ الصَّدَاقِ، أو في صِفَتِهِ، كالصحة والتكسُّر والحلول والتأجيل، وكَقَدْرِ الأَجَلِ، تَحَالَفَا، كما في البَيْعِ، ولا فَرْقَ بين أن يَكُونَ هَذَا الاختلاف قبل الدُّخُول أو بعده. وقال أبو حَنِيْفَةَ ومالك: إن كان بَعْدَ الدُّخُولِ، فالقول قول الزوج مع يمينه، وإن كان قبل الدخول، فعن أبي حَنِيْفَةَ القَوْلُ قَوْلُهَا في قَدْرِ المَهْرِ، وقول الزوج فيما زاد. وعند مالك يَتَحَالَفَانِ، وُيفْسَخُ النِّكَاحُ؛ بناءً على أصله أن فساد الصَّدَاقِ يُوجِبُ فَسَادَ النكاح. وعن أحمد: أن القول قَوْلُ الزوج، إلا أن يدعي ما يستنكر في العَادَةِ، وكما يجري التَّحَالفُ مع قيام الزوجية يجري التَّحَالُفُ بعد انْقِطَاعِهَا؛ لأن الصَّدَاقَ كَعَقْدٍ مُسْتَقِلٍّ بنفسه، وأثر التَّحَالُفِ يظهر فيه، لا في النكاح. وعن أبي حَنِيْفَةَ: أن بعد انْقِطَاع النكاح لقَوْل قَوْلُ الزوج مُطْلَقاً، ويجري التَّحَالُفُ فيما إذا مَاتَ الزَّوْجَانِ، واختلفَ الوَارِثَانِ في الصدق، أو أَحَدُ الزوجين، ووقع
الاخْتِلاَفُ بين وَارِثهِ، وبين الآخر، لكنه إذا كان الاخْتِلاَفُ بين الزَّوْجَيْنِ، فاليمين في طَرَفِ النَّفْيِ والإثبات على البَتّ، والوَارِثُ يَحْلِفُ في النَّفْيِ على نَفْي العِلْمِ، وفي الإِثبات علىَ البَتِّ، كما هو دَأْبُ اليمين على فعل الغير، فيقول وَارِثُ الزوج: وَاللهُ لا أعلم أن مُوَرِّثِ ينكحها بألف، إنما نَكَحَهَا بخمسمائة، ويقول وَارِثُ الزوج: واللهِ لا أعلم لأنه نَكَحَ مورثتي على خمسمائة، وإنما نكحها بألف هذا هو المشهور، وأَحْسَنَ بعض الشارحين، فقال: عندي يَحْلِفُ على البَتِّ في النَّفْيِ والإِثبات جميعاً؛ لأن القَاطِعَ بأن النِّكَاحَ جَرَى بخمسمائة قاطع بأنه ما جَرَى بألف، فإذاَ ثبت بأنه نكح بخمسمائة، فلا معنى لقوله: لا أَعْلَمُ لأنه ما نَكَحَهَا بألف. وعند أبي حنيفة إن مات أَحَدُ الزوجين، ووقع الاخْتِلاَفُ بين وَارِثهِ، وبين الآخر، فالحكم كما في اخْتِلاَفِ الزوجين. وإن مَاتَا معاً، فالقول قَوْلُ وَرَثَةِ الزوج بلا تَفْصِيلٍ. وكَيْفِيَّةُ اليمين ومن به البدَايَةُ على ما مَرَّ في البَيْعِ. وإذا تَحَالَفَا فيفسخ الصداق، ثم تَرْجِعُ المَرْأَةُ إلى مَهْرِ المثل، وقد ذكرنا في البَيْعِ وَجْهاً أنه يُفْسَخُ البيع بنفس التَّحَالُفِ، فليجيء مثله هاهنا، [وليكن] (¬1) القول فيمن يَتَوَلَّى الفَسْخَ، وفي الانفساخ بَاطِناً على ما مَرَّ في البَيْعِ، وقد صرح بجميع ذلك الحناطيُّ. ولا يَخْتَلِفُ الرُّجُوعُ إلى مَهْرِ المِثْلِ، بين أن يكون زَائِداً على ما تَدَّعِيهِ المَرْأَةُ، كما إذا ادَّعَتْ أن الصَّدَاقَ ألف، وادَّعى الزوج أنه خمسمائة، ومهر مثلها ألفان، وبين ألا يكون زَائِداً؛ لأن التَّحَالُفَ يسقط ما يَدَّعِيَانِهِ، ويصير كأنه لم يَجُرِ ذِكْرُ هذا، ولا ذاك. وقال أحمد بن خَيْرَانَ؛ إذا كان مَهْرُ المثل زَائِداً على ما ادَّعَتْهُ، فليس لها إلا ما ادَّعَتْهُ، ويحكى هذا عن ابن الوَكِيلِ أيضاً. والصحيح الأَوَّلُ هذا في الظاهر. وأما في الباطن، فإن قلنا: إنه لا يَنْفَسِخُ، لم يَخْفَ ما يحلُّ لها. ولو ادَّعَتِ المرأة مَهْراً مُسَمَّى، وأنكر الزوج أصل التسمية، فوجهان: أحدهما: أن القَوْلَ قَوْلُ الزوج مع يَمِينِهِ؛ لأن الأَصْلَ عدم التسمية. وأصحهما: وبه قال القاضي الحسين أنهما يَتحَالَفَانِ؛ لأن الزَّوْجَ إذا لم يدع التَّفْوِيضَ، فكأنه يقول: الواجب مَهْرُ المِثْلِ، وهي تقول: الواجب ألف بالتسمية، فَحَاصِلُهُ الاختلاف في قَدْرِ الصَّدَاقِ [فيتحالفان] (¬2) وإنما يَحْسُنُ وضع المسألة إذا كان ما ¬
تَدَّعِيهِ أَكْثَرَ من مَهْرِ المثل (¬1). ولو أنكرت هي التَّسْمِيَةِ، وادَّعَى الزوج تَسْمِيَّةَ المهر، فالقول قولها، أو يَتَحَالَفَانِ؟. القياس مجيء الوجهين. ولو ادَّعى أحدهما التَّفْوِيضَ، وادعى (¬2) الآخَرُ تَسْمِيَةَ مَهْرٍ، فإن أوجبنا المَهْرَ في المُفَوِّضَةِ بالعقد فهو كما لو ادَّعَى أحدهما السُّكُوتَ، والآخر التَّسْمِيَةَ. وإن لم نوجبه بالعَقْدِ، فالأصل عدم التسمية من جَانِبٍ، وعدم التَّفْوِيضِ من جانب. ولو ادَّعَى أحدهما التَّفْوِيضَ، وادعى الآخر أنه لم يَجْرِ لَلمهر تعرض، فَيُشْبهُ أن يكون القَوْلُ قول الثاني. ولو أن المُخْتَلِفَيْنِ في الصَّدَاقِ، حلف أحدهما، ونَكَلَ الآخر، حكمنا بيمين الحَالِفِ، ولو أقام أحدهما البَيِّنَةَ حُكِمَ بموجبها. ولو أقاما بَيِّنَتَينِ، وهما مختلفتان في قَدْرِ الصَّدَاقِ، فعن ابن سُرَيْجٍ، وجهان (¬3): أحدهما: أن بَيِّنَةَ المرأة أَوْلَى لاشتمالها على الزِّيَادَةِ. والثاني: أنهما مُتَعَارِضَتَانِ، فإن قلنا بالتَّسَاقُطِ، فكأن لا بَيِّنَةَ، فَيَتَحَالَفَانِ، وإن قلنا: يُقْرَعُ، فهل يحتاج من خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ إلى اليمين ذكروا فيه وجهين. أما لفظ الكتاب فقدله: "تَحَالَفا" ليعلّم بالحاء والميم والألف. وقوله: "بعد انْقِطَاع النكاح" بالحاء، وقوله: "ويحلف الوارث النَّافِي على نَفْيِ العلم، والمُثْبِتُ على البَتِّ" إن حُمِلَ على صورة مَوْتِ الزوجين، لم يحسن مَوْقُعُهُ؛ لأنه لا يَخْتَصُّ حينئذٍ أَحَدُ الوارثين بالنفي، والآخر بالإِثْبَاتِ، بل يَكُونُ كل واحد منهما نَافِياً، ومُثْبِتاً، فليحمل قوله: "الوَارِثُ النافي" على صورة مَوْتِ الزوج، واختلاف وَارِثِهِ مع الزوجة. وقوله الوارث "المثبت على" صورة موت الزوجة، واختلاف وَارِثهَا مع الزوج، ولو قال: ويحلف الوارث في النَّفْي على العِلْمِ، وفي الإثبات على البَتِّ لشمل ما إذا مَاتَ الزَّوْجَانِ، أو مات أحدهما. ¬
وقوله: "وفائدة التَّحَالُفِ انْفِسَاخُ الصداق" هذا اللَّفْظُ يُوافِقُ القول بالانْفِسَاخِ عند التَّحَالُفِ، والظاهر الفَسْخُ دون الانْفِسَاخِ، لكنه لم يقصد الآن القَوْلَ في أنه يفسخ أو ينفسخ، وإنما قَصَدَ بَيَانَ أَثَرِ التَّحَالفِ، وما يؤول إليه الأمر آخراً، وهو مَهْرُ المِثْلِ، وانْفِسَاخُ التَّسْمِيَةِ، إما بالفسخ، أو دونه. وقوله: "وإن كان ما ادعته أَقَلَّ من مَهْرِ المثل" مُعَلَّمٌ بالواو. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِيَةُ): لَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ المَهْرِ أَوْ سَكَتَ وَاعْتَرَفَ بِالنِّكَاحِ لَمْ يَثْبُتْ بِحَلِفِهَا مَهْرُ المِثْلِ عَلَيْهِ في أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ بَلْ يَتَحَالَفَانِ، وَكَذَا مُجَرَّدُ قَوْلهِ: هذا ابْنِي منها لا يُوجِبُ مَهْرَ المِثْلِ وإنْ كَانَ ظَاهِراً في الإِقْرَارِ بِالوَطْءِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا ادَّعَتِ النِّكَاحَ وَمَهْرَ المثل، واعترف الزَّوْجُ بالنكاح، وأنكر المَهْرَ، أو سَكَتَ عنه، ولم يَدَّعِ التَّفْوِيضَ ولا إِخْلاَءَ النكاح [عن] (¬1) ذكر المَهْرِ حكى صاحب الكتاب فيه وجهين: أحدهما: وُينْسَبُ إلى القاضي الحسين أنه يَثْبُتُ لها المَهْرُ، إذا حلفت؛ لأن الظَّاهِرَ معها، فإن النكاح يوجب مَهْرَ المِثْلِ، إذا لم تَجْرِ تَسْمِيَةٌ صحيحة. وأَظْهَرُهُمَا: عند صاحب الكتاب: أنه لا يثبت مَهْرُ المِثْل بيمينها، ولكن يَتَحَالَفَانِ أما أنه لا يثبت مَهْرُ المِثْلِ بيمينها فلأن النكاح قد يَجْرِي بِأَقَلّ ما يُتَمَوَّل، وليس من لَوَازِمِهِ وُجُوبُ مَهْرِ المثل وأما التحالف [فلأن إِنْكَارَ أَصْلِ المَهْر أَبْلَغُ من إنكار بَعْضِهِ، وذلك يوجب التَّحَالُفَ] (¬2) وهذا لا يكاد يُتَصَوَّرُ، فإنا حيث نَقُولُ بالتحالف نُحَلِّفُ كُلَّ واحد منهما على إِثْبَاتِ ما يَزْعمُهُ، ونَفْي ما يَزْعُمُ صاحبه، والمَفْرُوضُ من جِهَةِ الزوج في المسألة إِنْكَارٌ مُطْلَقٌ، فأي معنى للِتَّحَالُفِ، ولم يذكر القاضي الرُّويَانِيُّ هذا الخلاف هكذا، لكن قال: قال مَشَايخُ "طبرستان": القول قَوْلُ الزوج وعليها البَيِّنَةُ، والحق ألا يُسْمَعَ إِنْكَارُهُ؛ لاعترافه بما يَقْتَضِي المَهْرَ، ولكن يُطَلَّقُ البَيَانَ، فإن ذكر قدراً وذكرت زِيَادَةً تَحَالَفَا، وإن أَصَرَّ على الإِنْكَارِ رُدَّتِ اليَمِينُ عليها، وقُضِيَ لها بها قال: ورأيت جَمَاعَةً من المحققين بـ"خراسان" و"العراق" يُفْتُون بهذا، وهو القَوِيمُ. ولو ادَّعَتْ زَوْجِيَّة ومَهْراً مُسَمَّى يساوي مَهْرَ المِثْلِ وقال الزوج: لا أدري، أو سكت. قال الإِمام: ظاهر ما ذكره القَاضِي أن القَوْلَ قَوْلُهَا؛ لما مَرَّ أن النِّكَاحَ يَقْتَضِي مَهْرَ المِثْلِ، ولك أن تقول: هب أن النِّكَاحَ يَقْتَضِي مَهْرَ المِثْلِ، إذا لم يكن تسمية، لكنه لا يَقْتَضِي شَيْئاً آخر يساوي مَهْرَ المِثْلِ، فلا يلزم تَصْدِيقُهَا فيه قال: والذي يَقْتَضِيهِ قِيَاسُ ¬
فرع
المذهب أن دَعْوَاهَا مُتَوَجِّهَةٌ (¬1) بذلك المِقْدَارِ، ولا يُسْمَعُ منه التَّرَدُّدُ، بل يَحْلِفُ على نَفْيِ ما تدعيه، فإن نَكَلَ، رُدَّتِ اليَمِينُ عليها، وقُضِيَ بيمينها، وهذا مثل ما سَبَقَ في دَعْوَى مَهْرِ المِثْلِ. ثم حكى عن القاضي على قِيَاسِ الوَجْهِ المَنْسُوب إليه، أنه إذا قال: هذا ابني من فُلانَةَ، فتَسْتَحِقُّ مَهْرَ المِثْلِ، إذا حَلَفَتْ؛ لأنه أقر بالوَطْءِ ظاهراً؛ لأن اسْتِدْخَالَ المَاءِ بعيد، والوطء المُحْتَرَمُ هو الذي يَحْصُلُ منه الوَلَدُ النسيب (¬2) ظاهراً، وأنه يَقْتَضِي المَهْرَ، وقياس ظاهر المذهب أن يُؤْمَر بالبيان، إذا أنكر ما تدعيه، وإن أَصَرَّ على الإِنْكَارِ رُدَّتِ اليمين عليها. " فَرْعٌ" عن "التتمة" مات الزوج، وادَّعَتِ الزَّوْجَةُ على الوَارِثِ أن الزوج سَمَّى لها أَلْفاً، فقال الوارث: لا أعلم كم سَمَّى؟ فلا يَتَحَالَفَانِ، ولكن يحلف الوَارِثُ على نَفْي العلم، وإذا حلف قُضِيَ لها بِمَهْرِ المِثْلِ (¬3). قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثَةُ): إِذَا تَنَازَعَ وَلِيُّ الصَّبِيَّةِ وَالزَّوْجُ في مِقْدَارِ المَهْرِ تَحَالَفَا عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ؛ لأَنَّ الوَلِيَّ مَقْبُولُ الإِقْرَارِ فَلاَ بُعْدَ فِي أَنْ يَحْلِفَ، وَكَذَا الوَصِيُّ وَالقَيِّمُ وَالوَكِيلُ عَلَى هَذَا الوَجْهِ، وَلَو ادَّعَى عَلَى رَجُل أنَّهُ أَتْلَفَ مَالاً لطفْلٍ فَأَنْكَرَ المُدَّعى عَلَيْهِ وَنَكَلَ لَمْ يُرَدَّ اليَمِينُ عَلَى الوَلِيِّ عَلَى أَقْيَسِ الوَجْهَيْنِ لَكِنْ يَتَوقَفَّ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الصَّبِيُّ وَيَحْلِفَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا وَقَعَ الاخْتِلاَفُ بين وَلِيِّ الصغيرة والمجنونة، وبين الزوج، فقال الوَلِيَّ: زَوَّجْتُهَا بِألْفٍ، وقال الزوج: بل بخمسمائة فوجهان: أظهرهما: في المذهب، وبه قال ابن سريج وأبو إسحاق: أنهما يَتَحَالَفَانِ (¬4)؛ لأن ¬
الوَلِيِّ هو المَالِكُ لِلْعَقْدِ، والمُسْتَوْفِي لِلصَّدَاقِ، فكان اخْتِلاَفُهُ مع الزوج كاختلاف البَالغَةِ مع الزوج، ولأن إِقْرَارَهُ مَقْبُولٌ في النكاح والصداق، وإذا قُبِلَ إِقراره لم يَبْعد تحليفه. والثاني: أنهما لا يتحالفان؛ لأنا لو حَلَّفْنَا الوَلِيَّ، لكان مُثْبِتاً حتى الغير بيمينه، ورَتَّبَ الإِمَامُ [الخلاف] في المَسْأَلَةِ، على قولين، حكاهما فيما إذا باعِ الوَلِيُّ مَالَ الطِّفْلِ، واختلف الوَلِيُّ والمشتري في كَيْفِيَّةِ البيع، هل يتحالفان وقال: الأصَحُّ المَنْعُ، ويعللُ القول الآخر بمعنيين: أحدهما: أن الولي يثبت بالحَلِفِ قَوْلَ نفسه. والثاني: أنه يَتَعَلَّقُ به العُهْدَةُ، فإن الولي في عُهْدَةِ ما تبِيعُ للصبي، فإن قلنا: لا يَحْلِفُ في البَيْعِ، ففي النكاح أَوْلَى وإن قلنا: يحلف هناك، ففي النِّكَاحِ خِلاَفٌ مَبْنِيٌّ على المعنيين، إن عَلَّلْنَا بأنه يثبت قَوْلَ نفسه، فكذلك هاهنا، وإن عَلَّلْنَا بالمعنى الثاني، فلا؛ لأن النِّكَاحَ ليس عَقْدَ عُهْدَةٍ، فإن قلنا: لا يحلف الوَلِيُّ، فيوقف إلى أن تَبْلُغَ الصبية، فَيَتَحَالَفَانِ، ويجوز أن يَحْلِفَ الزوج، ويوقف يمينها إلى بلوغها. وإن قلنا: يحلف الوَلِيُّ، فذلك إذا ادِّعَى زِيَادَةً على مَهْرِ المِثْلِ، والزوج مُعْتَرِفٌ بمهر المثل بأن كان مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفاً، والزوج يَزْعُمُ أنه نَكَحَهَا بألف، وقال الولي: بألفين. وأما إذا ادَّعَى النِّكَاحَ بما دُونِ مَهْرِ المثل، فلا حَاجَةَ إلى التَّحَالُفِ؛ لأنه يثبت مَهْرَ المثل، وإن نَقَصَ الوَليُّ، ولو ذكر الزوج قَدْراً يزيد على مَهْرِ المِثْلِ، وادعى الولي أَكْثَرَ من ذلك، فلا يَتَحَالَفَانِ كيلا يَرْجِعَ الوَاجِبُ إلى مَهْرِ المثل، بل يأخذ الوَليُّ ما يقوله الزوج. ولو ادَّعَى الوَلِيُّ مَهْرِ المِثْلِ أو أكثر، وذكر الزَّوْجُ أكثر من ذلك حكى الحناطي وجهين في أنهما يَتَحَالَفَانِ، أو يؤخذ بما يقوله الزَّوْجُ، والخلاف الذي ذَكَرْنَاهُ في اختلاف الزَّوْج، وولي الصغيرة، يَجْرِي فيما إذا اختلفت المَرْأَةُ ووليُّ الزوج الصغير، وفيما إذا اختلفَ وَلِيَّا الزَّوْجَيْنِ الصغيرين. ولو بلغت الصغيرة قبل التَّحَالُفِ، فَتَحْلِفُ هي، ولا يَحْلِفُ الوَلِيُّ. وادعى صاحب "التهذيب" الوِفَاقَ فيه، لكن في "التتمة" وغيره أنا إذا جَوَّزْنَا لِوَلِيِّ الصغيرة أن يَحْلِفَ، ففي نكاح البِكْرِ البالغة، إذا وَقَعَ الاخْتِلاَفُ بين الولي والزوج، اخْتِلاَفْ للأصحاب في أنه يَحْلِفُ الوَلِيُّ، أو المنكوحة، والصحيح أنها التي تَحْلِفُ لأنها من أَهْلِ اليمين وعن القاضي أبي الطَّيِّبِ وغيره: أنه يَحْلِفُ الوَلِيُّ؛ لأنه العَاقِدُ،
ومن قال بهذا لا يُسَلِّمُ في الصغيرة إذ بلغت أن اليَمِينَ تكون عليها، والخِلاَفُ في أن الوَلِيَّ هل يَحْلِفُ يجري في الوكيل [في النكاح] (¬1) وكذلك في البَيْعِ إذا اخْتَلَفَ وَكِيلُ البَائِعِ مع المشتري، أو وَكِيلُ المشتري مع البائع أو اخْتَلَفَ الوكيلان. ومنهم من رَتَّبَ، وقال: إن لم نحلف الولي، فالوكيل أَوْلَى، وإن حَلَّفْنَاهُ، ففي الوَكِيلِ وجهان: والفَرْقُ قُوَّةُ الوِلاَيَةِ. وإذا نَكَلَ الوَلِيُّ على قولنا: إنه يحلف، فَيقْضَى بيمين صاحبه، أو يُوقَفُ إلى أن تَبْلُغَ الصَّبِيَّةُ، وتفيق المَجْنُونَةُ، فلعلها تَحْلِفُ، فيه وجهان نقلهما الحناطي (¬2) وغيره. وجميع ما ذَكَرْنَا فيما يَتَعَلَّقُ بإِنشاء الولي، فأما ما لا يَتَعَلَّقُ به، كما إذا ادَّعَى على إِنْسَانٍ أنه أَتْلَفَ مَالَ الطِّفْلِ، وأنكر المدعى عليه، ونَكَلَ عن اليمين فوجهان: أحدهما: أن الوَلِيَّ يَحْلِفُ اليمين المَرْدُودَةَ إِتْمَاماً للخصومة، واسْتِخْرَاجاً لحق الصَّبِيِّ. وأظهرهما: المَنْعُ؛ لأنه لا يَتَعلَّقُ بِتَصَرُّفِ الولي، وإنشائه، وعلى هذا فلا يُقْضَى بالنُّكُولِ، بل يُتَوَقَّفُ إلى أن يَبْلُغَ الصبي، فلعله يَحْلِفُ. وفي وجه لا تُعْرَضُ اليمين [على المدعى] (¬3) عليه وَيُتَوَقَّفُ في أصل الخُصُومَةِ وأفتى القَفَّالُ يقولنا: إن الولي لا يَحْلِفُ فيما لا يَتَعَلَّقُ بإِنشائه، فقال: إن قَيِّمَ الصبي إذا ادَّعَى على إِنْسَانِ دَيْناً وَرِثَهُ الصبي، وأقام عليه بَيِّنَةً، فقال الخصم: كنت قَضَيْتُهُ أو أَبْرَأَنِي مُوَرِّثُهُ، فلا يحلف الولِيُّ، ويحلف الصبي، إذا بلغ على نَفْي العلم بذلك (¬4)، ولو أَقَرَّ القَيِّمُ بما يقول الخَصْمُ انْعَزَلَ، وأقام الحاكم قَيِّمَهاً آخر، ولو ادَّعَى أن هذا القَيِّمَ قَبَضَةُ، وأنكر، فيحلف. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرَّابِعَةُ) لَو ادَّعَتْ أَلْفَيْنِ في عَقْدَيْنِ جَرَيَا في يَوْمَيْنِ وَأَقَامَت البَيِّنَةَ ¬
عَلَيْهِمَا لَزِمَ وَقَدَّرْنَا تَخَلَّلَ طَلاَقٍ بَعْدَ المَسِيسِ، وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُبَيِّنَ جَرَيَانَ المُسْقِطِ بِإِظْهَارِ طَلاَقٍ قَبْلَ المَسِيسِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ادعت على رَجُلٍ أنه نَكَحَهَا يوم الخَمِيسِ بألف، ويوم السبت بألف، وطالبته بالأَلْفَيْنِ ليُسْمَعُ دعواها؛ لإِمكان ثُبُوتِ المَهْرَيْنِ بأن يَطَأَهَا في النِّكَاحِ الأول، ويُخَالِعُهَا، ثم يَنْكِحُهَا في اليوم الثاني، وإذا ثبت العَقْدَانَ، إما بالبَيِّنَةِ، أو بإقراره، أو بيمينها (¬1) بعد نُكُولِهِ، لزمه الألْفَانِ، ولا يحتاج إلى التَّعَرُّضِ لِتَخَلُّلِ الفُرْقَةِ، ولا لحصول الوَطْءِ في النكاح الأول. أما تَخَلُّلُ الفُرْقَةِ، فلأن جَرَيَانَ العَقْدِ الثاني يَدُلُّ على حصولها، فلو قال الزوج: كان النِّكَاحُ الأول بحاله، وإنما جَدَّدْنَا لَفْظَ العَقْدِ إِشْهَاراً لم يُلْتَفَتْ إلى قوله، كما لو قال لغيره: بعْ هذا العَبْدَ مِنِّي، ثم ادَّعَى أنه ملكه لم يُلْتَفَتْ إليه ويجعل الاسْتبَاحَةُ إقراراً له بالمِلْكِ، ولا يُعْتَدُّ بقوله: إِني طلبت منه صُورَةَ البَيْعِ، وأما التعرض لِلْوَطْءِ، فلأن المَهْرَ المُسَمَّى في كل عَقْدٍ يَجِبُ بذلك العَقْدِ، والأصل اسْتِقْرَارُهُ إلى أن يدعي الخَصْمُ مُسْقِطاً، فإذا ادَّعَى أنه لم يُصِيبْهَا في النِّكَاح الأول صُدِّقَ بيمينه؛ لأن الأَصْلَ عَدَمُ الإِصَابَةِ، ولا يطالب من المَهْرِ الأَوَّلِ إلا بالشَّطْرِ، وتكون عنده بِطَلْقَتَيْنِ. ولو ادعى في النِّكَاحِ الثاني الطَّلاَقَ قبل الإِصَابَةِ أيضاً صُدِّق بيمينه وقَنِعَ منه بِشَطْرِ المهر الثاني أيضاً، وشَبَّهُوهُ بأن المُودِعَ بعد ثبوت الإِيدَاعِ مُطَالَبٌ بالوَدِيعَةِ، ومَحبِوسٌ إليها ما دام يسكت فإذا ادَّعَى تَلَفاً أَوَ ردّاً صُدِّقَ بيمينه، وانْقَطَعَتِ الطّلْبَةُ وهل تحلف المَرْأَةُ على نَفْي ما تقوله إذا ادعى جريان لفظ العقد من غَيْرِ فُرْقَةٍ، أو تُصَدَّقُ بغير يَمِينٍ؟ قال في "العدة": فيه وجهان: أصحهما: الأول. ولو ادَّعَى على غيره أنه اشْتَرَى منه كذا يوم الخَمِيسِ بألف، ثم يوم الجُمُعَةِ بألف، وطَالَبَهُ بالثَّمَنَيْنِ، لزمه الثمنان إذا أثبت العَقْدَيْنِ، كما ذكرنا في المَهْرَيْنِ. وقوله في الكتاب: "وقدرنا تَخَلُّلَ طلاق بعد المَسِيسِ" يعني أن النَّكَاحَ الثاني يَدُلُّ ¬
عَلى حُصُولِ الفرقة، فيقدرها، والأصل في المَهْرِ الثَّابِتِ الدَّوَامُ، وأنه يَفْتَقِرُ إلى المَسِيسِ، فيقدره فإن ادَّعى الزَّوْجُ المُسْقَطَ، فعليه إِظْهَارُهُ لحُجِّتِهِ، وهو اليَمِينُ، والشيء يثبت تَارَةً بالبَيِّنَةِ، وأخرى باليمين. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الخَامِسَةُ): إِذَا كَانَ في مِلْكِهِ أَبُوهَا وَأُمَّهَا فَقَالَ: أَصْدَقْتُكَ أَبَاكَ فَقَالَتْ: بَلْ أُمِّي تَحَالَفَا علَى الأَصَحِّ لأَنَّ الصَّدَاقَ عِوَضٌ وَأَصْلُ العَقْدِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ الرُّجُوعُ إِلَى مَهْرِ المِثْلِ، وَيُعْتَقُ الأبُ بِإقْرَارِهِ وَوَلاَؤُهُ مَوْقُوفٌ إِذْ لاَ يَدَّعِيهِ أَحَدُهُمَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: رجل في مِلْكِهِ أَبَوَا امْرَأَةٍ حُرَّةٍ، فنكحها على أحدهما معيناً، ثم اخْتَلَفَا، فقال: أَصْدَقْتُكِ أباك، فقالت: بل أُمِّي، ففيه وجهان: أصحهما: عند صاحب الكتاب، وبه أجاب ابْنُ الحَدَّادِ أنهما يَتَحَالَفَانِ، كما لو اخْتَلَفَا في جِنْسِ الثمن، فقال البائع: بِعْتُكَ بِدَنَانِيرَ، وقال المشتري: بل بدَرَاهِمَ. والثاني: أنه لا تَحَالُفَ؛ لأن الصَّدَاقَ كَعَقْدٍ مستقلّ بنفسه، ولم يَتَّفِقَا على صَدَاقٍ واحد، والوجهان هما الوَجْهَانِ المذكوران، فيما إذا اختلف المُتَبَايِعَانِ فقال البائع: بِعْتُكَ هذا العَبْدَ، وقال المشتري: بل هذا العَبْدَ الآخَر، أو هذه الجَارِيَةَ، على ما بَيَّنَّا في البَيْعِ في باب التَّحَالُفِ، فإن قلنا: لا تَحَالُفَ، فيصدق الزَّوْجُ بيمينه، في أنه لم يُصْدِقْهَا أُمَّهَا، وتَحْلِفُ هي على أنه لم يُصْدِقهَا الأَبَ، ولها مَهْرُ المِثْلِ، ويعتق الأب بإقْرَارِ الزوج بيمينه أنه أَصْدَقَهَا الأَبَ لِتَضَمُّنِهِ الإِقْرَارَ بأنه عتق عليها، ولا غُرْمَ على المَرْاْةِ؛ لأنها لم تُفَوِّتْ على الزوج شَيْئاً، فإنما عُتِقَ الأب بإِقراره، فصار كما لو قال الرجل لولد عَبْدِهِ: بعت لك أباك، وأنكر، يُعْتَقُ العَبْدُ بإقراره، وإن قلنا بالتَّحَالُفِ، فإن حَلَفَا عُتِقَ الأب بإِقْرَارِ الزوج، ولَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وليس عليها قِيمَةُ الأبَ، وَوَلاَؤُهُ مَوْقُوفٌ (¬1)؛ لأن الزَّوْجَ يَدَّعي أن الوَلاَءَ لها، وهي مُنْكِرَةٌ، وإن حلفت المَرْأَةُ دونه، عُتِقَ الأبوان جميعاً، أما الأَبْ فبإِقْرَارِهِ، وأما الأم فلأنا نَحْكُمُ بكونها صَدَاقاً بيمين الزَّوْجَةِ، فَيُعْتَقُ عليها، وليس عليها قِيمَةُ واحد منهما، وإن حَلَفَ الزَّوْجُ دونها وِقَّتِ الأم، وعُتِقَ الأب لإِقْرَارِهِ، ولحكمنا، بيمينه بأنه هُوَ الصَّدَاقُ، وولاؤه مَوْقُوفٌ، وإن لم يَحْلِفْ واحد منهما عُتِقَ الأب بالإِقرار، ولا تَتَمَكَّنُ من طَلَبِ المَهْرِ، لأَن من ادَّعَى شَيْئاً، وَنَكَلَ عن اليمين بعد ¬
الرَّدِّ عليه كان كما لم يَدَّعِ شَيْئاً، ولو قال الزوج: أَصْدَقْتُكِ أباك، ونِصْفَ أمك، وقالت: بل أَصْدَقْتَنِيهِمَا جَمِيعاً، فلا خلاف في التَّحَالُفِ؛ لأن الاخْتِلاَفَ هاهنا في قَدْرِ الصداق، فإذا حَلِفَا، فلها مَهْرِ المِثْلِ، وُيعْتَقُ الأب، وعليها قِيمَتُهُ لاتِّفَاقِهِمَا على أنه عُتِقَ عليها بِحُكْم الصَّدَاقِ، لكن لما تَحَالَفَا بَطَلَ عَقْدُ الصَّدَاقِ، ولا سبيل إلى رَدِّ العِتْقِ، فيعدل إلى القِيمَةِ، كما لو اشترى عَبْداً، وأَعْتَقَهُ، ثم اخْتَلَفَا في الثَّمَنِ، وتحالفا وأما الأُمُّ فَتُعْتَقُ عليها نِصْفُهَا، ويقتصر العِتْقُ عليه إن كانت مُعْسِرَةً، وإن كانت مُوسِرَةً، فَيُعْتَقُ الباقي أيضاً بالسَرَايَةِ، وعليها قِيمَةُ ما يُعْتَقُ منها، ويجيء خِلاَفُ التَّقَاصِّ؛ لأن مَهْرَ المَثْلِ الواجب لها، والقيمة الواجبة عليها من جِنْسٍ وَاحِدٍ. ولو حلف الزَّوْجُ دون المَرْأَةِ عُتِقَ الأب، ونصف الأم، ولا يَسْرِي إذا كانت مُعْسِرَةً، ولا شيء لها، ولا عليها لأَنَّا حَكَمْنَا بيمينه أن الأب ونصف الأُمِّ جُمْلَةُ الصَّدَاقِ. ولو حَلَفَتْ هي دون الزَّوْجِ فيحكم بأن كليهما صَدَاقٌ، ويُعْتَقَانِ، ولا شيء عليها. ولو قالت هي: أَصْدقَنِي جَمِيعَ أمي، ونصف أبي، وقال الزوج: بل جَمِيعَ الأَبِ، ونصف الأم، فيتحالَفَانِ أيضاً، ماذا حَلَفَا، فلها مَهْرِ المِثْلِ، ويعتق جميع الأب نصفه لاتِّفَاقِهِمَا على أنها ملكته، ونصفه بِإِقْرَارِ الزوج، وعليها قِيمَةُ ما عُتِقَ منه باتِّفَاقِهمَا، وأما الأم فَيُعْتَقُ نِصْفُهَا باتِّفَاقِهِمَا، ويَسْرِي إلى الباقي، إن كانت مُوسِرَةً، وعليها قِيمَةُ ما يُعْتَقُ منها، ويجيء الكلام في التَّقَاصِّ. ومن صورة التَّنَازُعِ بين الزوجين أن يَخْتَلِفَا في أداء المَهْر، فالقول قَوْلُهَا مع يَمِينِهَا، سَوَاءً كان [الاختلاف] (¬1) قبل الدخول، أو بعده، خِلاَفاً لِمَالِكٍ، فيما بعد الدُّخُولِ، ولو اتَّفَقَا على قَبْضِ مَالٍ، فقال الزوج: دفعته صَدَاقاً، وقالت: بل هَدِيَّةً، فقد أَطْلَقَ مُطْلِقُونَ أن القَوْلَ قَوْلُ الزوج مع يَمِينِهِ؛ لأنه أَعْرَفُ بكيفية إِزَالَةِ مِلْكِهِ وبنّيته وتصرفه. وفَصَّلَ مُفَصِّلُونَ، فقالوا: إن كان الاخْتِلاَفُ في اللَّفْظِ، فقال الزوج: ذكرت عند الدَّفْعِ أنه صَدَاقٌ، وقال: بل قلت: إنه هَدِيَّةٌ، فالجواب هكذا. أما إذا اتَّفَقَا على أنه لم يَجْرِ لفظ، واختلفا في نِيَّتِهِ لم يُلْتَفَتْ إلى ما تقوله، والقول قوله بلا يَمِينٍ، وأشبه أن يكون هذا بِنَاءً على أن المُعَاطَاةَ لا تَكْفِي في الهَدَايَا. أما إذا اكْتَفَيْنَا بها، وهو الصَّحِيحُ، وجب أن نَقْبَلَ دَعْوَاهَا، وأن يحتاج الزَّوْجُ إلى اليمين، ثم لا فَرْقَ بين أن يكون المَقْبُوضُ من جِنْسِ الصَّدَاقِ، أو من غَيْرِ جِنْسِهِ، ولا بين الطَّعَامِ وغيره. ¬
فرعان
وعن أبي حَنِيْفَةَ أن القول فيما لا يُدَّخَرُ قولها، وعنه أن القَوْلَ في الطَّعَامِ قولها وعن مالك مِثْلُهُ، وإذا حلف الزَّوْجُ، فإن كان المَقْبُوضُ من جِنْسِ الصَّدَاقِ وقع عنه، وإلا فإن رَضِيَا بِبَيْعِهِ بالصَّدَاقِ فذاك، وإلا اسْتَرَدَّهُ، وأدى الصداق، فإن كان تَالِفاً فله البَدَلُ عليها، وقد يَقَعُ في التَّقَاصِّ، ولو بعث إلى بيت من لا دَيْنَ له عليه شَيْئاً، ثم قال: بَعَثْتُهُ بِعِوَضٍ، وأنكر المَبْعُوثُ إليه، فالقول قوله، وكان يجوز أن يْسَوّى بينه، وبين مَسْأَلَةِ الصَّدَاقِ، فيقال: إنه أَعْرَفُ بكيفية إِزَالَةِ مِلْكِهِ، أو يقال: كما أن الأصْلَ أن لا عِوَضَ على المَبْعُوثِ إليه، فالأصل أن يَبْقَى الصَّدَاقُ، ولا يصير عِوَضاً عن المَبْعُوثِ. ولو ادعى الزَّوْجُ دَفْعَ الصَّدَاقِ إلى وَلِيَّ الصَّغَيرَةِ، أو المجنونة أو السَّفِيهَةِ، فالدعوى مَسْمُوعَةٌ وإن ادَّعَى دَفْعَهُ إلى وَلِيِّ البَالِغَةِ الرَّشِيدَةِ، لم تُسْمَعِ الدعوى، إلا أن (¬1) يدعي إذنها ولا فَرْقَ بين البِكْرِ والثَّيِّبِ. وفي البِكْرِ وَجْهٌ آخر، والخلاف مَبْنِيٌّ على أن الوَلِيَّ هل يَمْلِكُ قَبضَ مَهْرِ البِكْرِ البالغة الرَّشِيدَةِ، والصحيح منعه، وفيه قَوْلٌ أو وجه آخر؛ لأنه يَمْلِكُ بُضْعَهَا، فيملك عِوَضَهُ، وربما بني ذلك على جَوَازِ عَفْوِهِ عن مَهْرِ الصغيرة. ومنهم من لم يُثْبِتْهُ، وقَطَعَ بالأول، وإذا قلنا به فلو رَاجَعَهَا، فسكتت لم يُسْتَفَدْ بسكوتها [الإِذن في] (¬2) القَبْضِ، وقياس القول أو الوجه الضعيف أنه يملك القبض إن نَهَتْ عنه، كما في تَزْوِيجِهَا. وعند أبي حَنِيْفَةَ: له قَبْضُ مَهْرِهَا ما لم تَنْهَ عنه، ولو وَقَعَ الاختلاف في عَيْنِ المَنْكُوحَةِ، فهو اخْتِلاَفٌ في عقدين القول في كل واحد منهما قول النَّافي. وإن كان الاخْتِلاَفُ في قَدْرِهَا، فقال الزوج نكحت هاتين بألفين، وقالت إحداهما أو وليها: بل نَكَحَتْ هذه وَحْدَهَا بألف، فهذا اختلاف في حق المتفق على نكاحها في قَدْرِ المَهْرِ، والقول في الأخرى قَوْلُ المنكر ذكر ذلك أبو الفَرَجِ الزَّازُ. " فَرْعَانِ": " نختم بهما الكتاب". الأول: أَصْدَقَ امْرَأَتَهُ جَارَيةً وَوَطِئَ تلك الجَارِيَةَ مع العِلْم بأنها الجَارِيَةُ المُصْدَقَةُ، فإن كان بعد الدُّخُولِ، فعليه الحَدُّ، ولا يُقْبَلُ، قوله: إني لا أعَلم أنها تَمْلِكُهَا بعد العَقْدِ والدخول، إلا أن يكون قَرِيبَ العَهْدِ بالإِسْلاَم، وإن كان قبل الدخول، وقال: لم أعلم أنها تَمْلِكُ الصَّدَاقَ قبل الدخول، لم يَجِبِ الحَدُّ عليه، وعَلْلُوهُ بشيئين: أحدهما: أن مِثْلَ هذه الأَحْكَامِ لا يَبْعَدْ أن تَخْفَى على العَوَامِّ. ¬
باب الوليمة والنثر
والثاني: اختلاف العُلَمَاءِ، فإن مَالِكاً قال: لا تَمْلِكُ قبل الدخول إلا نِصْفَ الصَّدَقِ، فإن كان عَالِماً بأنها تَمْلِكُ الصَّدَاقَ قبل الدخول، فعلى التَّعْلِيلِ الأول يَلْزَمُ الحَدُّ، وعلى الثاني لا يلزم (¬1)، وحيث يجب الحَدُّ، فلو أَوْلَدَهَا، فالولد رَقِيقٌ، وعليه المَهْرُ إن كانت مُكْرَهَةً، وحيث لا يجب، فالوَلَدُ نَسِيبٌ حُرٌّ، وعليه قِيمَتُهُ يوم السُّقُوطِ. والثاني: خَالَعَ امْرَأَتَهُ المَدْخُولَ بها، ثم نَكَحَهَا في العِدَّةِ، وطَلَّقَهَا قبل الدخول في النكاح الثَّاني يُشَطَّرُ المَهْرُ وبه قال أحمد. وعند أبي حَنِيْفَةَ يجب جَميعُهُ والله أعلم. بَابُ الوَلِيمَةِ وَالنَّثْرِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالوَلِيمَةُ هِيَ مَأْدَبَةُ العُرْسِ، وَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةُ، وَقِيلَ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَفِي وُجُوبِ الإِجَابَةِ إِلَيْها قَوْلاَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصود الباب شَيْئَان: أحدهما: الكَلاَمُ في الوَلِيمَةِ: روي أنه -صلى الله عليه وسلم-: "أَوْلَم على صَفيَّةَ بِسَوِيقٍ وتَمْرٍ" (¬2) وأنه قال لعبد الرحمن بن عَوْفِ -رضي الله عنه- وقد تَزَوَّجَ: "أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ" (¬3). والوَلِيمَةُ على ما ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- والأصحاب -تَقَعُ على كل دَعْوَةٍ تُتَّخَذُ لِسُرورٍ حَادِثٍ منْ إِمْلاَكِ وخِتَانٍ وغيرهما لكن استعمالها على الإطْلاَقِ في العُرْسِ أَشْهَرُ، وفي غيره يُقَيِّدُ، فيقال: وَلِيمَةُ الخِتَانِ وغيره (¬4)، ويقال لدعوةَ الخِتَانِ: إِعْذَارٌ، ¬
واللفظ في الأَصلِ لِلْخِتَانِ نَفْسِهِ يقال: أَعْذَرَ الغُلاَمَ، أي: حَتَنَهُ ولدعوة الوِلاَدَةِ: عَقِيقَةٌ، ولَسَلاَمَةِ المرأة من الطَّلْقِ: خرْسٌ، وقيل: الخُرْسُ طَعَامُ الولاَدَة، ولمَدومِ المُسَافِرِ: نَقِيعَةٌ، ولإحْدَاثِ البِنَاءِ؛ وَكِيرَةٌ، ولما يُتَّخَذُ في المُصِيبَةِ: وَضِيمَةٌ، ولما يُتَّخَذُ من غير سبب مَأْدُبَةٍ (¬1). وفي وَلِيمَةِ النكاح قولان، أو وجهان (¬2): أحدهما: أنها واجبة، لظاهر الأَمْرِ، حيث قال: "أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ" وبهذا قال ابن خَيْرَانَ. وأصحهما: أنها مُسْتَحَبَّةٌ، كالأُضْحِيَةِ، وكسائر الوَلاَئِم، والحديث مَحْمُولٌ على الاسْتِحْبَابِ، ومنهم من قَطَعَ بالاسْتِحْبَاب، ويُحْكَى ذلك عن القَفَّالِ، وفي سائر الوَلاَئِمِ المشهور الاسْتِحْبَابُ (¬3)، ولا تَتَأَكَّدَ تَأَكُّدَ وَليمَةِ النكاح، وفي "التتمة" أن من الأصحاب من خَرَّجَ في وجوب سَائِرِ الوَلاَئِم قَوْلاً؛ لأن الشَّافعي -رضي الله عنه- قال بعد ذكرها: ولا ارَخِّصُ في تركها. وعن أحمد أن سائر الوَلاَئِمِ لا تستحب. وأما الإِجَابَةُ إلى الدعوة، ففي وَلِيمَةِ العُرْسِ تجب الإِجَابَةُ إن أَوْجَبْنَاهَا، وإن لم نُوجِبْهَا، فقولان، ويقال: وجهان: أشهرهما: الوجوب، وإلى ترجيحه ذهب أَصْحَابُنَا العراقيون، وتابعهم القاضي ¬
الرُّويَانِيُّ وغيره، وربما سَكَتُوا عن ذِكْرِ غيره، ووجهه ما روي عن ابن عُمر: -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ فَلْيَأْتِهَا" (¬1) ويروى: "مَنْ دُعِيَ وَلَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ" (¬2). والثاني: أنها مُسْتَحَبَّةٌ، ويروى هذا عن مالكٍ وأحمد؛ لأن الضِّيَافَةَ للأكل، وهو إِما تَمَلُّكٌ لمال الغير، أو إِتلاف لماله بإِذنه، وعلى التقديرين، فالمَصِيرُ إلى إِيجَابِهِ بعيد، فلتحمل الأحاديث على الاسْتِحْبَابِ، وتأكيد أمر الإِجَابَةِ، وفي إجابة سائر الوَلاَئِمِ طريقان: أحدهما: طَرْدُ القولين، وبه قال الشيخ أبو حَامِدٍ. والثاني: القَطْعُ بعدم الوُجُوبِ. والأظهر فيها عدم الوجوب، وإن ثبت الخِلاَفُ، وإذا قلنا بوجوب الإِجَابَةِ، فهي فَرْضُ عَيْنٍ، أو على الكِفَايَةِ؟ فيه وجهان: أحدهما: فَرْضُ عَيْنٍ؛ لما سبق من الخَبَرِ قال في "الشامل": وهذا ظاهر المذهب. والثاني: فرض كفاية؛ لأن المَقْصُودَ أن يَظْهَرَ الحَالُ، ويشتهر، وذلك حَاصِلٌ بحضور البَعْضِ، ثم إنما تَجِبُ الإِجَابَةُ، أو تستحب بشروط منها أن يَعمَّ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ الدَّعْوَةَ بأن يَدْعُوَ جميع عَشِيرَتِهِ، أَو جيرانه أو أهل حِرْفَتِهِ أَغْنِيَائِهِمْ وفُقَرَائِهِمْ، دون ما إذا خَصَّصَ الأَغْنِيَاءَ الإحضار روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "شَرُّ الوَلاَئِم وَلِيمَةُ العُرْسِ يُدْعَى لَهَا الأَغْنِيَاءُ وُيترَكُ الفُقَرَاءُ" (¬3). ومنها: أن يَخُصَّهُ بالدعوة بِنَفْسِهِ، أو بأن يَبْعَثَ إليه غيره، وأما إذا فتح باب الدَّارِ، ¬
ونَادَى ليحضر من يُرِيدُ، أو بعث رَسُولاً ليحضر من شَاءَ أو دَعَا إِنْسَاناً، وقال له: احضر معك من شِئْتَ، فقال لغيره: احضر، فَلاَ تجب الإِجَابَةُ، ولا تُسْتَحَبُّ؛ لأن الامْتِنَاعَ والحالة هذه لا يُورِثُ التَّأَذِّي والوحشة ومنها ألا يكون إِحْضَارُهُ لِخَوْفٍ منه، أو لِطَمَعٍ في جَاهِهِ أو ليعاونه على بَاطِلٍ، بل يكون لِلتَّقَرُّبِ، وللِتَّوَدُّدِ. ومنها: أن يدعوه مُسْلِمٌ، وإن دعاه ذِمِّيٌّ؛ فوجهان: أحدهما: أنه كما لو دعاه مُسْلِمٌ لإِطلاق الأَخْبَارِ. وأصحهما: على ما ذكر المُحَامِلِيُّ أنه لا يجب، ولا يكون الاسْتِحْبَابُ في إِجَابَةِ دَعْوَتِهِ، كالاستحباب في إجابة دَعْوَةِ المسلم؛ لأنه قد يَرْغَبْ عن طعامه لِنَجَاسَتِهِ، وتَصَرُّفَاتِهِ الفاسدة، وتُكْرَهُ مُخَالَطَةُ الذمي ومُوَدَّاتِهِ (¬1). منها: أن يدعي في اليوم الأَوَّلِ، أما إذا أَوْلَمَ ثلاثة أيام، فَالإِجَابَةُ في اليوم الثاني لا تَجِبُ، بلا خِلاَفٍ، ولا يكون اسْتِحْبَابُهَا كالاسْتِحْبَاب في اليوم الأول، إذا اقْتصَرْنَا فيه على الاسْتِحْبَابِ، وفي اليوم الثالث يُكْرَهُ. روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الوَلِيمَةُ في اليَوْمِ الأَوَّلِ حَقٌّ، وَفِي الثَّانِي مَعْرُوفٌ، وفي الثَّالِثِ رِيَاءْ وَسُمْعَةٌ". ولو اعْتَذَرَ المَدْعُوُّ إلَى صَاحِب الدَّعْوَةِ فَرَضِيَ بتَخَلُّفِهِ زال الوُجُوبُ، وارتفعت كَرَاهِيَةُ التَّخَلُّفِ. ولو دَعَاهُ اثنان فَصَاعِداً، أجاب الأسْبَقُ، فإذا جاءا مَعاً، أجاب الأَقْرَبُ رَحِماً، ثم الأقرب دَاراً، كما في الصَّدَقَةِ (¬2)، وقد روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اجتمع دَاعِيَانِ، فأجب أَقْرَبَهُمَا إليك بَاباً، فَإِنَّ أَقْرَبَهُمَا إليك بَاباً أقْرَبُهُمَا لَكِ جَوَاراً، فإن سبق أَحَدُهُمَا فأجب الذي سَبَقَ". وأقل الوَلِيمَةِ ما ذَكَرَ ابْنُ الصَّبَّاغ وغيره للمتمكن شَاةٌ وبه يشعر قوله -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن عَوْفٍ -رضي الله عنه-: "أوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ" وإن لم يتمكَّنْ اقْتَصَرَ على ما يَقْدِرُ عليه، كما أَوْلَمْ -صلى الله عليه وسلم- على صَفيَّةَ بِسَوِيقٍ وتَمْرٍ، وكان في السَّفَرِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: ثُمَّ إِنَّمَا يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ في الدَّعْوَةِ مُنْكَرٌ، وَلاَ عَلَى حِيطَانِ الدَّارِ صُورَةٌ وَلاَ فُرُشُ حَرِيرٍ، وَلاَ فِي الجَمْعِ مَنْ يُتَأَذَّى بِحُضُورِهِ، وَلاَ بَأْسَ بِصُوَرِ الأشْجَارِ وَلاَ بِصُوَرِ الحَيَوَانِ إِذَا كَانَ عَلَى الفُرُشِ، فَأمَّا عَلَى الثَّوْبِ المَلْبُوسِ وَالسِّتْرِ وَالوِسَادَةِ الكَبِيرَةِ المَنْصُوبَة فَلاَ يَجُوزُ، وَدَخُولُ مِثْلِ هَذَا البَيْتِ حَرَامٌ، وَقِيلَ: مَكْرُوهٌ، وَصَنْعَةُ التَّصْوِيرِ حَرَامٌ إلاَّ في ثِيَاب الفُرُشِ فَفِيهِ خِلاَفٌ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: من الشروط: ألا يَكُونُ هناك من يُتَأَذَّى بحضوره، ولا يَلِيقُ به مُجَالَسَتُهُ، فإن كان، فَيعْذَرُ في التَّخَلُّفِ، وأشار في "الوسيط" إلى وجه آخر فيه. ومنها: ألا يكون هناك مُنْكَرٌ كَشُرْبِ الخَمْرِ والمَلاَهِي، فإن كان، نظر إن كان الشَّخْصُ ممن إذا حَضَرَ رَفَعَ المُنْكَرَ، فليحضر إجَابَةً للدعوة، وإِزَالَةً لِلْمُنْكَرِ، وإلا فوجهان: أحدهما: أن الأَوْلَى ألا يَحْضُرَ، ويجوز أن يَحْضُرَ ولا يَسْتَمِعَ، ويُنْكِرَ بقلبه، كم لو كان [يُصَوَّتُ] (¬1)، بالمنكر في جِوَارِهِ، فلا يَلْزَمُهُ التَّحَوُّلُ، وإن كان يَبْلُغُهُ الصَّوْتُ، وعلى هذا جرى العراقيون من الأصحاب. وأصحهما: أنه لا يجوز له الحُضُورُ، وإلى ترجيحه ذَهَبَ القاضيان ابْنُ كَجٍّ، والروياني؛ لأنه الرّضْا بالمنكر، والتَّقْرِيرِ (¬2) عليه، ويروى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلاَ يَقْعُدَنَّ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الخَمْرُ". وإن لم يعلم حتى حَضَرَ فنهَاهم، فإن لم يَنْتَهُوا، فليخرج، في جَوَازِ العُقُودِ وجهان (¬3)، فإن لم يُمْكِنْهُ الخُرُوجُ، كما إذا كان باللَّيْل، وفي الخروج خَوْفٌ، فيقعد كَارِهاً، ولا يسمع، وإذا كانوا يَشْرَبُونَ النَّبيذَ المُخْتَلَفِ في حِلِّهِ، فلا ينكر. قال القاضي ابْنُ كَجٍّ: "لأنه في مَوْضِع الاجْتِهَادِ (¬4) والأولى أن يكون الحضور ممن يعتقدُ التحريم، كما في المنكر المُجْمَعِ عَلى تَحْرِيمِهِ، وقيل بخلافه. ومن المنكرات فُرُشُ الحرير (¬5) وَصُوَرُ الحيوانات على السُّقُوفِ، والجُدْرَانِ، ¬
والثياب المَلْبُوسَة، والسُّتُورُ المُعَلَّقَةُ، والوَسَائِدُ الكَبيرَةُ المَنْصُوبَةُ، ولا بَأْسَ بها على الأرض، والبُسَاطُ الذي يُدَاسُ، والمخَادّ الذي يُتَّكَأُ عليها، وليكن في معناها الطَّبَقُ والخُوَانُ والقَصْعَةُ روي عن عائشة -رضي الله عنها- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قَدِمَ من سَفَرٍ وقد سترت على صفة لها سِتْراً في الخَيْلِ ذَوَاتِ الأَجْنِحَةِ، فأمر بنَزْعَهَا" وفي رواية "قَطَعْنَا منها وِسَادَةً أو وِسَادَتَيْنِ، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَرْتَفِقُ بهما" (¬1). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن جِبْرِيلَ جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَعَرِفَ صَوْتَهُ، وهو خارج، فقال: ادْخُلْ، فقال: إِنَّ فِي البَيْتِ سِتْراً فيه تَمَاثِيلُ، فَاقْطَعُوا رُؤوسَهَا، واجْعَلُوهُ بُسُطاً أو وَسَائِدَ" (¬2). وفيما علق عن الإِمام الإِشَارَةُ إلى وَجْهِ تَخْصِيصِ المَنْعِ بالسُّقُوفِ والجُدْرَانِ، وترخص فيما على الستور والوَسَائِدِ المنصوبة، والظاهر الأول، والمعنى الفَارِقُ أن ما يُوطَأُ وُيطْرَحُ مُهَانٌ مبتذل، والمَنْصُوبُ منها يُشْبِهُ الأَصْنَامَ، ولا بَأْسَ بِصُوَرِ الأشجار والشمس والقمر. روي عن ابن عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- أنه لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ ¬
صَوَّرَ صُورَة عُذِّبَ وَكُلِّفَ أنْ يَنْفَخَ الرَّوحَ فِيهَا وَلَيْسَ بِنَافِخٍ وأتاه رَجُلٌ مصَوِّرْ، فقال: ما أعرف صَنْعَةً غيرها، قال ابن عباس -رضي الله عنه-: "إن لم يَكُنْ لك بُدٌّ، فَصَوِّرِ الأشجار وما لأنفس له" (¬1) وفي "شَرْحِ الجُوَيْنِيِّ" وجه أن صُوَرَ الأَشْجَارِ مَكْرُوهَةٌ؛ لأن منهم من كان يَعْبُدُ الأشْجَارَ أيضاً، وإذا كانت صُوَرُ الحيوانات مَقْطُوعَةَ الرؤوس فلا بَأْسَ على الظَّاهِرِ، وسَوَّى في "التتمة" بين أن يكون لها رؤوس، وبين ألاَّ يكون. ودخول البَيْتِ الذي فيه الصُّوَرُ المَمْنُوعُ منها حَرَامٌ، أو مكروه؟ فيه وجهان: أحدهما: التحريم، وبه كان يجيب الشَّيْخُ أبو محمد، ونَظْمُ الكتاب يَقْتَضِي تَرْجِيحَهُ، وَرَجَّحَ الإِمَامُ الكَرَاهِيَةَ، وتابعه صاحب الكتاب في "الوسيط"، ويحكى ذلك عن صاحب "التقريب" والصَّيدَلاَنِيِّ. ولو كانت الصُّوَرُ في المَمَرِّ، دون موضع الجُلُوسِ، فلا بَأْسَ في الدخول والجُلُوس، ولا يترك إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ بهذا السبب، وكذلك لا بَأْسَ بدُخُولِ الحَمَّامِ الذي على بابه تَصَاوِيرُ. هكذا ذَكَرُوهُ، ويمكن أن يكون [السبب فيه أَن الصُّوَرَ في الممر مَهَانَةٌ، وفي المجلس مَكْرُمَةٌ، وفَرْقٌ بينهما، كما فرق بين أن تكون] على الأرض، أو على الجِدَارِ وهذا يَجُرّ إلى تَجّوِيزِ التَّصْوِيرِ في المَمَرِّ. ويحرم على المُصَوِّرِ التَّصْوِيرُ على الحِيطَانِ، والسقوف، ولا يستحق بها أُجْرَةً. وفي نسج الثِّيَابِ الصورة وجهان: أحدهما: للتَّجْوِيزُ، وإليه ذهب الشَّيْخُ أبو محمد؛ لأنها قد لا تلبس. والثاني: المَنْعُ، ورَجَّحَهُ الإِمام، وصاحب الكتاب في "الوسيط" تَمَسُّكاً بما ورد في الخَبَرِ من "لعن المُصَوِّرِينَ" (¬2)، وطرد في "التتمة" الوجهين في التَّصْوِيرِ على الأرْضِ، ونحوها وكأن من ذَهَبَ إلى المَنْعِ قال: ليس له أن يُصَوِّرَ، لكن إن اتَّفَقَ يُسَامَحُ، ولا يُبْطَل ما صَوَّرَهُ. وقوله في الكتاب: "إلا في ثياب الفُرُشِ" يُشْبِهُ أن يريد به الثِّيَابَ الصَّالِحَةَ للفُرُشِ، وأما ما لا يَصْلُحُ إلا للُّبْسِ، فاتِّخَاذُهُ كاتِّخَاذِا آلاَتِ المَلاَهِي. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلاَ يَتْرُكُ إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ بِعُذْرِ الصَّوْمِ بَلْ يَحْضرُ وَيُمْسِكُ في الفَرْضِ وَيُفْطِرُ في النَّفْل إِنْ كَانَ يَشُقُّ عَلَى الدَّاعِي إِمْسَاكُهُ، وإذَا دُعِيَ جَمْعٌ سَقَطَ الفَرْضُ بِإِجَابَةِ بَعْضِهِمْ. ¬
فرعان
قَالَ الرَّافِعِيُّ: الصَّوْمُ ليس بعُذْرٍ في ترك إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ؛ روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإنْ كَانَ مُفْطِراً فَلْيُطْعَمْ، وَإِنْ كَانَ صَائِماً فَلْيَصلْ" (¬1) أي: فليدع، وإذا كان صَائِماً، فالصَّوْمُ إما فَرْضٌ أو نَفْلٌ، إن كان فَرْضاً، وكان الوقت مُضَيَّقاً، فلا يجوز أن يُفْطِرَ، وإن لم يكن كالنَّذْرِ المطلق، وقضاء رَمَضَانَ، فهو كالمُضَيَق وَقْته، إن لم نجوز الخروج منه، وإن جَوَّزْنَاهُ فقد قيل: هو كَصَوْمِ النَّفْلِ. وعن القاضي الحسين: أنه يُكْرَهُ الخُرُوجُ منه؛ لأن ذِمَّتَهُ مَشْغُولَةٌ، وقد يعوق عَائِقٌ عن التدارك، وإن كان صَوْمُهُ نَفْلاً، فإن لم يَشقَّ على صاحب الدَّعْوَةِ وِإِمْسَاكُهُ، فالأوْلَى أن يتم الصَّوْمَ، وإن شَقَّ عليه، فالأوْلَى أن يُفْطِرَ رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- حَضَرَ دَارَ بَعْضِهِمْ، فلما قدم الطعام، أَمْسَكَ بَعْضُ القَوْمِ، وقال: إني صَائِمٌ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يَتَكَلَّفُ لَكَ أَخُوكَ المُسْلِمُ، وَتَقُولُ: إِنِّي صَائِمٌ أَفْطِرُ ثُمّ أَقْضِ يَوْماً مَكَانَهُ" (¬2). وأما المُفْطِرُ، فينبغي إذا حَضَرَ أن يَأْكُلَ، وفيه وجهان: أحدهما: أنه واجب، وأقله لُقْمَةٌ؛ لأن المَقْصُودَ من الدعوة التَّنَاوُلُ، ولأن تركه الأكل يورث الوَحْشَةَ. وأصحهما: أنه مُسْتَحَبٌّ لا واجب، روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإنْ شَاءَ طَعِمَ، وَإنْ شَاءَ تَرَكَ" ولفظ صاحب "التتمة" يقتضي تَعْمِيمَ هذين الوجْهَيْنِ في جميع الصيامات، إذا حضر وأما قوله في الكتاب: "وإذا دعي جمع سقط الفَرْض بإجابة بعضهم" إن كان المُرَادُ منه ما إذا بعث لإحْضَارِ جَمْعٍ من غير تَعّيينٍ، فقد ذكرنا أنه لا افْتِرَاضَ هناك، فكيف نقول: يَسْقُطُ الفَرْضُ، وإن كان المراد ما إذا دَعَى جَمَاعَةً بأعيانهم، فالذي ذكره مُفَرَّعٌ على القَوْلِ بافْتِرَاضِ الإِجَابَةِ، ثم هو جَوَابٌ على أحد الوجهين، وهو أنها فَرْضٌ على الكفَايَةِ، وقد مال إلى ترجيحه الحناطيُّ. " فَرْعَانِ" أحدهما: إذا دعاه مَنْ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ، كَرِهْتُ إِجَايَتَهُ، كما تُكْرَهُ المُعَامَلَةُ معه، وإن علم أن عَيْنَ الطعام حَرَامٌ، لم يَخْفَ الحُكْمُ. ¬
والثاني: المَرْأَةُ إذا دَعَتِ النِّسَاءَ، فالحكم كما ذكرنا في الرِّجَالِ، وإن دعت رجالاً أو رَجُلاً، فتجاب إذا لم يَلْزَمْ خَلْوَةٌ مُحَرَّمَةٌ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلاَ يُفْتَقَرُ بَعْدَ تَقِدِيمِ الطَّعَامِ إِلَى لَفْظِ الإِبَاحَةِ بَلْ يَكْفِي قَرِينَةُ الحَالِ، ثُمَّ يَأْكُلُ الضَّيْفُ مِلْكَ المُضِيفِ (و) بِالإِبَاحَةِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ الأَكْلِ، وَلَهُ أَنْ يَأخُذَ مِنَ المَطْعُومِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ المَالِكَ يَرْضَى بِهِ قَطْعاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسائل: إحداها: للِضَيْفِ أن يَأَكُلَ إذا قُدِّمَ إليه الطَّعَامُ، من غير أن يَأْذَنَ صَاحِبُ الطعام لَفْظاً، إلا إذا كان يَنْتَظِرُ حُضُورَ غيره، فلا يأكل إلى أن يَحْضُرَ، أو يَأْذَنَ المُضِيفُ لَفْظاً. وفي "الوسيط" وَجْهٌ أنه لاَ بُدَّ من لفظ، والظاهر الاكْتِفَاءُ بقرينة التَّقْدِيمِ، والقرينة أَثَرٌ ظَاهِرٌ في مثل هذا الباب. وكذلك يجوز الشُّرْبُ من الحَبَابِ التي تُوضَعُ في الطُّرُقِ، وكان السَّلَفُ يَأْكُلُونَ من طعام إِخْوَانِهِمْ عند الانْبِساطِ، وهم غُيِّبٌ. وفي "التتمة" أن تَقدْيمَ الطعام إنما يكفي إذا كان قد دَعَاهُ إلى بَيْتِهِ أما إذا لم تسبق الدعوة، فلا بدّ من الإِذْنِ لَفْظاً إلا إذا جعلنا المُعَاطَاةَ بَيْعاً، وقَرِينَةُ التَّقْدِيمِ لا تختلف بين أن تَسْبِقَ الدعوة أو لا تسبق (¬1). الثانية: هل يَمْلِكُ الضَّيْفُ ما يَأْكُلُهُ؟. قال القَفَّالُ: لا، بل إِتْلافٌ بإِبَاحَةِ المَالِكِ، وللمالك أن يَرْجِعَ ما لم يَأْكُلْ. وقال أكثرهم: نعم، وبم يَمْلِكُ؟ فيه وجوه. قيل: بالوَضْعِ بين يديه. وقيل بالأَخْذِ. وقيل بِوَضْعِهِ في الفَم وقيل بالازْدِرَادِ نَتَبَيَّنُ حُصُولَ المِلْكِ قبيلة، وزَيَّفَ المُتَوَلِّي ما سِوَى الوجه الأخير، وذلكَ يقتضي تَرْجِيحَهُ، وعلى الوجوه ينبني التمكين من الرجوع. ¬
الثالثة: ليس لِلضَّيْفِ التَّصَرُّفُ في الطَّعَام، بما سوى الأَكْلِ، ولا يجوز أن يَأْخُذَ منه مع نَفْسِهِ شَيْئاً، واستثنى ما إذا نَقَلَ ما يعلَم رِضَا المَالِكِ به، ويختلف ذلك بِقَدْر المَأْخُوذِ وجنسه، وبحال المُضِيفِ، والدعوة، فإن تَرَدَّدَ في أنه هل يَقَعُ في مَحَلِّ المُسَامَحَةِ، فقد أَنْشَأُوا فيه الوجهين، والظاهر التَّحْرِيمُ، وليس للضيف أن يُطْعِمَ السَّائِلَ، ولا أن يُلْقِيَ اللُّقْمَة إلى الهِرَّةِ، ويجوز أن يُلْقِمَ الأضياف بَعْضَهُمْ بَعْضاً، إلا إذا فَاوَتَ بينهم في الطعام، وليس للذين خصّصُوا بنوع أن يُطْعِمُوا منه غيرهم، ويكره للمضيف أن يفعل ذلك (¬1). ولا يجوز التَّطَفُّلُ، واستثنى المتولي وغيره، وقالوا: إذا كان في الدَّارِ ضِيَافَةٌ، جاز لمن بينه وبين صاحب الدَّارِ انْبِسَاطْ أن يدخل، وَيأْكُلَ إذا علم أنه لا يشقُّ عليه، وهذا قَرِيبٌ مما سَبَقَ في (¬2) وقد عرفت بهذه المَسَائِلِ أن الخِلاَفَ في أنه بم يَمْلِكُ؟ مخصوص بما يَأْكُلُهُ، ولا نقول بأنه يَمْلِكُ ما يوضع بين يديه، أو ما يَأْخُذُهُ بحال، ولو قيل به لما منع من النَّقْلِ، ومن إِطْعَامِ السَّائِلِ وسائر التَّصَرُّفَاتِ، وهي ممتنعة بالاتِّفَاقِ. ومن آدَابِ الأَكْلِ أن يقول في الابْتِدَاءِ: بسم الله، فإن نَسِيَ، فإذا تذكَّر قال: بسم الله أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وأن يَغْسِلَ يَدَيْهِ قبل الأَكْلِ وبعده، وأن يأكل بالأَصَابع الثَّلاَثِ، وأن يَدْعُوَ لصاحب البَيْتِ، إذا أَكَلَ في ضِيَافَةٍ، روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طَعِمَ عند سَعْد بن عُبَادَةَ، فلما فَرَغَ قال: "أَكَلَ طعَامَكُمْ الأبْرَارُ، وَصَّلَتْ عَلَيْكُمُ المَلاَئِكَةُ وَأَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ" (¬3). ويكره أن يَأْكُلَ الإِنْسَانُ مُتَّكِاً، وأن يأكل مما يلي أَكِيلَهُ، وأَن يأكل من وسط القَصْعَةِ، وأعلى الثَّرِيدِ ونحوه، ولا بَأْسَ بذلك في الفواكه وأن يغيب الطعام وأن يَقْرِنَ بين التَّمْرَتَيْنِ، وما في معناهما (¬4)، وأن يأكل بِشِمَالِهِ، وأن يَتَنَفَّسَ في الإِنَاءِ، أو يَنْفُخَ ¬
فيه، ولا يكره الشُّرْبُ قَائِماً، وحمل ما وَرَدَ من النَّصْ على حَالَةِ السَّيْرِ (¬1). ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَيجُوزُ نَثْرُ السُّكَّرِ وَالْتِقَاطُهُ فُعِلَ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ هُوَ كَالصَّيدِ من يُثَبِّتْ عَلَيْهِ يَدَهُ لَمْ يُسْلَبْ مِنْهُ، وَمَنْ وَقَعَ في ذَيْلِهِ وَقَدْ بَسَطَهُ لِذَلِكَ يُؤْخَذِ مِنْهُ، فَإِنْ سَقَطَ كَمَا وَقَعَ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ لَمْ يَبْسُطهُ لِذَلِكَ أُخِذَ مِنْهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يجوز نَثْرُ السُّكَّر وِالجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، والتَّمْرِ، ونحوها في الإِمْلاَكَاتِ، وهل يُكْرَهُ؟ فيه وجهان: أحدهما: ويُحْكَى عن مالك نعم؛ لأنه يُؤْخَذُ باخْتِلاَسٍ، وانْتِهَابٍ، وقد يُؤَدِّي إلى الوَحْشَةِ والعَدَاوَةِ، ولأنه قد يَأْخُذُهُ من غَيْرُه أَحَبُّ إلى صاحب النِّشَارِ، وهذا هو المذكور في طَائِفَةِ من كُتُبِ الأصحاب منها "الشامل" و"التتمة". وأرجحهما: أنه غير مَكْرُوه، لكن الأولى (¬1) تَرْكُهُ، وقد رُوِيَ عن جَابِر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حَضَرَ في أَمْلاَكٍ، فأتى بأَطْبَاقٍ عليها جَوْزٌ وَلَوْزٌ تَمْرٌ، فنثرت فقبضنا أيدينا، فقال: مالكم لا تأخذون، فقالوا: لأنك نَهَيْتَ عن النُّهْيَ فقال: "إِنَّمَّا نَهَيْتُكُمْ عَنْ نُهْبَى العَسَاكِرِ، خُذُوا عَلَى اسْمِ اللهِ -تَعَالَى- فَجَاذَبَنَا وَجَاذَبْنَاهُ" (¬2)، ويروى عَدَمُ الكراهية عن أبي حَنِيْفَةَ، وابن المنذر، وعن أحمد روايتان كالوجهين، ووضع الحناطي وأبو الفَرَجِ الزاز الخِلاَفَ في الاسْتِحْبَاب، فيخرج من الطريقين ثَلاثَةُ أوجه مُسْتَحَبٌّ، مَكْرُوهٌ، وهذا ولا ذاك. والْتِقَاطُ النِّشَارِ جَائِزٌ، لكن تركه أَوْلَى، إلا إذا عرف أن النَّاثِرَ لا يُؤْثِرُ بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ، ولم يقدح الالْتِقَاطُ في مُرْوءَتِهِ (¬3). ¬
ومن الْتَقَطَهُ لم يؤخذ منه، وهل يملكه؟ فيه وجهان عن الدَّارِكيِّ. أحدهما: لا؛ لأنه لم يوجد لَفْظُ مَمْلُوك ولا تَمْلِيك لمعين. والثاني: نعم، اعْتِبَاراً بالعَادَةِ، ورأى المتولي أن أَصْلَ هذا الخلاف، الخِلاَفُ في المُعَاطَاةِ، لكن الأئِمَّةَ إلى ثبوت المِلْكِ هاهنا أَمْيَلُ، فإن قُلْنَا بالوَجْهِ الأول، فَلِلنَّاثِرِ الاسْتِرْجَاعُ وبه أجاب القاضي ابْنُ كَجٍّ، ولكن قال: له الاسْتِرْجَاعُ ما لم يخرج المُلْتَقِطُ من الدَّارِ، وعليه الغُرْمُ إن كان أَتْلَفَهُ، وإن قلنا بالثاني، فيخرج عن مِلْكِ النَّاثِرِ بالنَّثْرِ، أو يأخذ المُلْتَقط، أو بِإتْلاَفِهِ، فيه ثلاثة (¬1) أوجه مَذْكُورَةٌ في "شرح الجويني" وكل هذا قَرِيبٌ مما سَبَقَ في الطعام المُقَدَّمِ إلى الضيف، ومن وَقَعَ في حِجْرِهِ شيء من النِّشَارِ، فإن بَسَطَهُ لذلك لم يُؤْخَذْ منه، ونزل مَنْزِلَةَ الأَخْذِ باليد، فإن سَقَطَ، كما وقع، فهل يَبْطُلُ حَقُّهُ؛ لأنه لم يَسْتَقِرَّ أَوْ لا يَبْطُلُ، ويمنع الغير من أَخْذِهِ، حكى في الكتاب وَجْهَيْنِ، وأَجْرَاهُمَا الإِمَامُ فيما إذا وقع الصَّيْدُ في الشَّبَكَةِ، وأَفْلَتَ في الحال، وقال: الظَّاهر أن حَقَّهُ يبقى بحاله، ويمنع الغير من أَخْذِهِ، فإن لم يَبْسُطْ هِجْرَهُ لذلك، فلا يملكه؛ لأنه لم يُوجَدْ منه قَصْدُ تملك، ولا فعل، فلو نَقَضَهُ، فهو كما لو وَقَعَ على الأرض أو لا وإلا فهو أَوْلَى به من غيره، فلا يَنْبَغِي لغيره أن يَأْخُذُهُ، فإن أَخَذَهُ فهل يملك؟. فيه وجهان جاريان فيما لو عَشَّشَ الطَّائِرُ في مِلْكِهِ، وأَخَذَ الفَرْخَ غَيْرُهُ، وفيما لو دخل السَّمَكُ مع الماء حَوْضَهُ، وفيما إذا وقع الثَّلْجُ في ملكه، فأخذه غَيْرُهُ، وصورة التَّعْشِيشِ قد تَعَرَّضْنَا لها عند ذِكْرِ الخِلاَفِ، فيما إذا أحيا ما يحجره غيره، لكن الأَصَحَّ أن المُحْبِي يَمْلِكُ، وفي هذه الصورة مَيْلُهُمْ إلى المنع أكثر، ويمكن أن يُفَرَّقَ بأن المُتَحَجِّرَ غَيْرُ مَالِكٍ، وليس الإِحْيَاءُ تَصَرُّفاً في مِلْكِ الغَيْرِ، وفي هذه الصورة الأَخْذُ متصرف في مِلْكِ الغير بِدُخُولِ غيره، ولو سَقَطَ من حجره قبل أن يقصد أخذه، أو قام، فَسَقَطَ بَطَلَ اخْتِصَاصُهُ، كما لو مَلَكَ الفَرْخُ جِمَاحَهُ فطار يجوز لغير صَاحِب الدَّارِ أخذه بلا خِلاَفٍ، ثم أَوْلَوِيَّةُ من وقع في حِجْرِهِ مخصوصة بما إذا كان ممن يَأْخُذُهُ. فأمَّا من يعلم أنه لا يَأْخُذُهُ ولا يَرْغَبُ فيه فلا اخْتِصَاصَ له به وَيجُوزُ لغيره أَخْذُهُ منه بذلك ذكره صاحب "التهذيب" وغيره ويُكْرَهُ أخذ النِّثَارِ من الهَوَاءِ بالمُلاَءَةِ، والأُزُرِ ¬
المَرْبُوطَةِ بِرُؤوسِ الخَشَب وإن أخذه كذلك اسْتَحَقَّ، ونَثْرُ الدَّرَاهِم والدَّنَانِير أَلْحَقَهُ المَسْعُودِيُّ لِنَثْرِ السُّكَّرِ. وقوله في الكتاب: "فعل بين يَدَيْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" أَرَادَ به ما ذَكَرْنَاهُ من حديث جَابِرٍ -رضي الله عنه-. وقوله: "هو كالصَّيْدِ .... " إلى آخره تَشْبِيهٌ بالصَّيْدِ يوافق الوَجْهَ الذَّاهِبَ إلى أن النِّثَارَ يُملَكُ فَإِخلاَقُ أَكثر النَّقَلَةِ على هذا منطبق. وقوله: "وإِنْ لم يَنْسُطهُ لذلك، أُخِذَ منه" هذا الإِذْنُ والتَّرْخِيصُ إنما يظهر فيما إذا كان الشَّخْصُ ممن لا يَرْغَبُ فيه، فأما من يجوز أن تَزِيدَهُ، فقد ذَكَرْنَا أنه أَوْلَى به، وليس لغيره الأَخْذُ منه، والكَلاَمُ في أنه لواحده هل تستحقه؟ والله أعلم.
كتاب القسم والنشوز
كِتَابُ القَسْمِ وَالنُّشُوزِ (¬1) وَفِيهِ فُصُولٌ (الأَوَّلُ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ القَسْمَ): وَلاَ يَجِبُ عَلَى مَنْ لَهُ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَهَا لَكِنْ يُسْتَحَبُ ذَلِكَ لِتَحْصِينَها. وَلاَ يَجِبُ القَسْمُ بَيْنَ المُسْتَولَدَاتِ وَبيْنَ الإِمَاءِ وَلاَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ المَنْكُوحَاتِ. لَكِنَّ الأَوْلَى العَدْلُ وَكَفُّ الإِيذَاءِ. وَمَنْ لَهُ مَنْكُوحَاتٌ فَإنْ أَعْرَضَ عَنْهُنَّ جَازَ. وَإِنْ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ وَاحِدَةٍ لَزِمَهُ مِثْلُهَا لِلبَاقِيَاتِ. قال الرافعي: النكاح مناطُ حقوقِ الزوج على الزوجة، كالطاعة، والمقام في المسكن، وحقوق الزوجة على الزوج؛ كالمهر، والنفقة، والمعاشرة بالمعروف؛ قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] وأراد مماثلتهما في ¬
الفصل الأول: فيمن يستحقه
وجوب الأداء لأن الحقين متماثلان؛ وقد قال تعالى (¬1): {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]. قال الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- "وجماع المعروف بين الزوجين الكفُّ عن المكروه وإعفاء صاحب الحق من المؤنة في طلبه من غير إظهار كراهية في تأديته، فأيهما مطل بتأخيره فمَطل الغنِيِّ ظُلْمٌ. قال الأصحاب رحمهم الله أراد بـ"الكف عن المكروه" الامتناعَ عما يكرهه صاحبه، وبـ"إعفاء صاحب الحقِّ عن المؤنة في طلبه" ألا يحوجه في استيفاء الحق إلى كُلْفَة ومؤنة وبقوله "من غير إظهار كراهية" أن يؤدي الحقَّ راضياً طَلْقَ الوجه. ومن المعاشرة بالمعروف رعاية القَسْم والمقصود الأصلي في عقد الكتاب القول في القسم وفائدته العدل والتحرز عن الإِيذاء الإيحاش بترجيح البعض، وقد يعرض ما يقتضي التفضيل، ثم الزوج المستَحَقُّ عليهَ القَسْم إما حاضر أو مسافر، وللقسم المُستحق مستحق، وكيفية ما يؤدي، وطريق القضاء إذا فات، فَضمَّن هذه الجمل في خمسة فصول: فَصْل: فيمن يستحقه وثان: في زمانه، ومكانه وهو راجع إلى كيفية توفيته، وثالث: في التفاضل، ورابع: في القضاء، وخامس: في المسافرة بالنِّسْوة؛ وعقبها بفصل سادس: في الشقاق بين الزوجين والاختلال الواقع منهما أو من أحدهما في الحقوق الواجبة في النكاح. "الفصل الأول: فيمن يستحقه" أما الفصل الأول: فمن له زوجة واحدة، فلا ينبغي أن يعطِّلها بل المستحب أن يبيت عندها ويحصنها، وأدنى الدرجات ألا يخلى كل أربع ليالي عن ليلة، ولا تجب عليه البيتوتة، فإن السُّكْنَى والاستمتاع حقُّه، ولا حرج على الإِنسان في ألا يستوفي حقَّه. وعن أبي حنيفة رحمه الله: أن عليه أن يبيت عندها في كل أربع ليال ليلةً. ولو كانت له مستولَدَاتٍ أو إماءٌ فلا قَسْمَ لهن بل هو من خصائص النكاح، واحتج له بقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] أشعر ذلك بأنه لا يجب الَعدل في ملْك اليمين والأحب ألاَّ يعطِّلَهُنَّ؛ لئلا يحدث منهن ريبَةٌ وفساد، وأن يسوي بينهن؛ كيلا يحقد بعضهن على بعض، ولو كانت معهن نساء (¬2) فلا قَسْمَ بينهن وبين المنكوحات حتى لو بات عند المنكوحات لم يلزمه أن يبيت عندهن، ولو بات عندهن لم يلزمه القضاء للمنكوحات، وإذا كانت تحته زوجتان فصاعداً، فالإِعراض عن جميعهن كالإِعراض عن الواحدة ممن له زوجة واحدة، وعن القاضي ¬
أبي حامد حكايته وجه: أنه يجب عليه القَسْم بينهن ولا يجوز له الإِعراض، ويمكن أن يجيء مثله في الواحدة. ولو بات عند بعضهن لزمه مثل ذلك للباقيات تسويةً بينهن، فلو لم يفعل عصى؛ روِيَ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا كَانَتْ عِنْدَ الرَّجُلِ امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ أَوْ سَاقِطٌ" (¬1). وَإِذَا سَوَّى في الظاهر لم يُؤَاخذ بزيادة ميل القَلْب إلى بعضهن؛ روي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يَقْسِمُ بين نسائه، فيعدل ويقول: "اللَّهُمَّ، هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ" (¬2) يعني القلب. ولا تجب التسوية في الجماع، فإنه يتعلق بالنشاط والشهوة وهي لا تواتي في كل وقت فيه لكن الأحبَّ التسوية فيه، وفي سائر الاستمتاعات، ولو قسم بينهن مدة وسوى ثم أعرض عن جميعهن جاز كما في الابتداء. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَتَسْتَحِقُّ المَرِيضَةُ وَالرَّتْقَاءُ وَالحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ وَالمُحْرمَةُ وَالَّتِي آلَى مِنْهَا زَوْجُهَا أَوْ ظَاهَرَ وَكُلُّ مَنْ بِهَا عُذْرٌ شَرعِيٌّ أَوْ طَبَعَيٌّ لأَنَّ المَقْصُودَ الأُنْسُ وَالسَّكَنُ دُونَ الوِقَاعِ، أَمَّا النَّاشِزَةُ فلاَ تَسْتَحِقْ، فَلَوْ كَانَ يَدْعُوهُنَّ إلَى مَنْزِلِهِ فَأَبَتْ وَاحِدَةٌ سَقَطَ حَقُّهَا، وَإِنْ كَانَ يُسَاكِنُ وَاحِدَةً وَيَدْعُو البَاقِيَاتِ فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ تَرَدْدٌ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّخْصِيصِ، وَالمُسَافَرَةِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ نَاشِزَةٌ، وإنْ سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ في غرَضِهِ حَقُّهَا قَائِمٌ وَتَسْتَحِقُّ القَضَاءَ، وَإِنْ كَانَ في غَرَضِهَا لَمْ تَسْتَحِقَّ في القَوْلِ الجَدِيدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المقصود بيان من تستحق القَسْمَ، وفيه صُوَرٌ. إحداها: تستحق المريضةُ (¬3) القَسْم وكذلك الرَّتقاء، والقرناء، والحائض، ¬
والنُّفَسَاء، والمُحرمة، والمولى عنها، والمظاهر عنها؛ كما تستحق الخالية عن هذه المعاني؛ لأن هذه المعاني إنما تمنع الوطْء، والمقصود من القَسْم الأنس، والسكن والتحرز عن التخصيص الموحش، وكذلك يجب القَسْم للمراهقة، أو المجنونة التي لا يخاف منها، فإن خيف فلا قَسْمَ لها، قال في "التتمة": والمعتدة عن وَطْء الشبهة لا قسم لها؛ لأنه لا تجوز الخلوة معها (¬1)، وهذا يقع مستثنى عن قوله في الكتاب: "وَكُلُّ مَنْ بها عُذْرٌ شَرْعِيٌّ أَوْ طَبعِي". الثانية: إذا نشزت عن الزوج؛ بأن خرجت عن المسكن، أو أراد الدخول عليها فأغلقت الباب ومنعته، أَوِ ادَّعَتْ عليه الطلاق، أو امتنعت عن التمكين، فلا قسم لها كما لا نفقة، وإذا عادت إلى الطاعة لم تستحقَّ القضاء، وامتناع المجنونة كامتناع العاقلة إلاَّ أنها لا تأثم. الثالثة: إن لم ينفرد الزوج بمسكن، وَدَارَ عليهن في مساكنهن فذاك، وإن انفرد بمسكن، فيخير بين المُضِيِّ إليهن وبين أن يدعوهن إلى مسكنه في نوبتهن. والأول أَوْلَى؛ كيلا يُحْوَجْنَ إلى الخروج، وكذلك كان يفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬2) فإن دعاهن فعليهن الإِجابة، ومن امتنعت فهي ناشزة (¬3)، وهل له أن يدعو بعضهن إلى مسكنه، ويمضي إلى مسكن بعضهن، فيه وجهان، وقال الحناطِيُّ: قولان: أحدهما: نَعَمْ وبه أجاب الشيخ أبو حامد وغيره من العراقيين، كما لو أراد أن ¬
يسافر ببعضهن دون بعض. وأقواهما -وبه أجاب صاحب "التهذيب" وأبو الفرج السرخسي وغيرهما (¬1) - المَنْعُ؛ لما فيه من التخصيص والتفضيل، والمسافرة ببعضهن إنما تكون بالقُرْعَة والقُرْعَة تدفع وحشة التخصيص، فإن أقرع بينهن؛ ليدعو من خرجت القرعة لها إلى منزل وجب أن يجوز (¬2) ثم الوجهان فيما إذا لم يكن للتخصيص عذر فإن كان؛ كما إذا كان مسكن إحداهما أقربَ إليه، فمضى إليها، ودعا الأخرى؛ ليخفف عن نفسه مؤنة السير فعليها الإِجابة، وكذا لو كانت تحته عجوز وشابَّة، فحضر بيت الشابة؛ لكراهية خروجها، ودعا العجوز لزمها الإِجابة، وإن أبت بطل حقها، وإن كان يدعوهن إلى منزله، فمنع بعضهن شُغْلٌ لها بطل حقها، وإن منعها من الإِجابة مرض، قال القاضي ابن كج: عليه أن يبعث إليها من يحملها إليه، ولو أقام عند واحدة منهن، ودعا الباقيات إلى بيتِها لم يلزمْهُنَّ الإِجابة؛ لأن إتيان بيت الضرة شاقٌّ عليهن. وقوله في الكتاب: "وإن كان يساكن واحدة ويدعو الباقيات ... " إلى آخره: قد يُشْعِر ظاهره بهذه الصورة لكن لا خلاف فيها، وإنما المراد الصورة السابقة، وفي هذه الصورة شيء آخَرُ وهو الجمع بين ضرتين في مسكن واحد، وذلك ممتنع بغير رضاهن، ولكن كان في ليلة واحدة. الرابعة: سفر المرأة إن كان مع الزوج فسيأتي الكلام فيه، وإن سافرت وحدها، فإن لم يأذن الزوج فهي ناشزة (¬3)، وإن أَذِنَ، فإن كان السفر في غرضه لم يسقط حقها، وقضى لها من حقوق الباقيات، وإن كان لغرضها كحج، أو تجارة ففيه قولان: القديم: وبه قال أبو حنيفة: أنه لا يسقط حقها؛ لقيام الإِذن ولو لم يأذن لها (¬4) لما خرجت. ¬
[والجديد]: أنه يسقط ولا تستحق القضاء؛ لأن الاستمتاع والتمكن المستَحَقَّ عليها قد فات لمصلحتها، والإذْن إنما يؤثر في سُقُوط الإِثْم وفَوَاتِ التَّسْلِيمِ المستحَقِّ، وإن كان بسبب غير مأثوم [فيه] (¬1) يوجب سقوط ما يقابلُه، وشبهوا ذلك فيما إذا فات تسليم المبيع قبل القبض بسبب هو مَعْذُورٌ فيه، فإنه يسقط الثمن ومنهم من قطع بالجديد. قال الغزالي: وَيَجِبُ القَسْمُ عَلَى كُلِّ زَوْجٍ عَاقِلِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَعَلَى الوَلِيِّ أن يَطُوفَ بِالمَجْنُونِ عَلَى نِسَائِهِ، وَيرْعَى العَدْلَ فِي القَسْمِ، فَلَوْ كَانَ يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَلاَ يُخَصِّصْ وَاحِدَةً بِنَوْبَةِ الإِفَاقَةِ إنْ كَانَ مَضْبُوطاً، فَإِنْ لَمْ يَكن فَأَفَاقَ فِي نَوْبَةٍ وَاحِدَةٍ قَضَى لْلأُخْرَى مَا جَرَى في الجُنُونِ لِنُقْصَانِ حَقِّهَا. قال الرَّافِعِيُّ: القَسْمُ مستحق على كل زوج عاقل مراهقاً، كان أو بالغاً رشيداً كان، أو سفيهاً، وإن وقع جور من المراهق فالإثم على الوليِّ وفي السفيه الإِثم عليه، وأما المجنون فقد قال الشَّافعي -رضي الله عنه- في "المختصر": "وعلى وَلِيِّ المجنون أن يطوف به على نسائه"، وشَرَحَه الأصحاب بما محصوله أن المجنون كان لا يؤمن منه ضرر فلا قَسْمَ، وإن أُمِنَ، فإن كان قد قَسَمَ لبعض نسائه ثم جُنَّ، فعلى الولي أن يطوف به على الباقيات، قضاءً لحقوقهن كما يقضي ما عليه من الدَّيْنِ قال في "التَّتِمَّةِ": وذلك إذا طَلَبْنَ، فإن أردن التأخير إلى أن يُفيق، فتتم المؤانسة فلهن ذلك، وإن لم يكن عليه شَيْءٌ من القَسْم؛ بأن كان معرضاً عن جميعهن، أو جُنَّ بعد التسوية بينهن، فإن رأى منه الميل إلى النساء، أو قال أهل الخبرة؛ "إِنَّ غشْيَانَ النِّسَاءِ يَنْفَعُهُ" فعلى الوليِّ أن يطوف به عليهن، أو يدعوهن إلى منزله، أو يطوف به على بعضهن ويدعو بعضهن، كما يرى، وإن لم هي منه ميلاً فليس عليه أن يطوف به، وفي "الإِبانة" وجه: أن حقَّ القَسْم يبطل بالجنون ولا يطالَبُ الوليُّ برعايته بحال؛ لأن وجوب القَسْم للإِيناس والتحرز عن الحيف المؤذي، ولا أُنس في صُحْبَة المجنون، ولا يتأدى منه، وقد يوجه ذلك بأن للزوج أن يعرض عنهن جميعاً، فكذلك الولي، وأجيب عنه بأن العاقل اكْتَفَى بداعيته الطبيعة، والمجنونُ بخلافه، ولا ينبغي أن يجري هذا الوجْه فيما إذا قيل: إن الغشيان ينفعه، ولو قيل: إنه يضره وجب أن يمنعه عنهن، هذا في حق المجنون المُطْبِق ولو كان به جنون مُتَقَطِّع، فإن ضبط، بأن كان يُجن يوماً ويُفيقُ يوماً، فيطرح أيام الجنون وتنزلف كأيام الغَيْبَة، ويقسم في أيام إفاقته، ولو أقام في الجنون عند واحدة فلا قضاء ولا اعتداد به، هكذا ذكره صاحبُ "التَّهْذِيبِ" وغيره وفيه إشعار ظاهر بأنه لا قَسْمَ في أيام جنونه، ووراء ذلك وجهان: ¬
(الفصل الثاني): في مكان القسم وزمانه
أحدهما: حكى أبو الفرج وجهاً: أنه إن أقام في الجنون عند بعضهن قضى للباقيات. والثاني؛ وهو المذكور في "التتمة" أنه يراعي القَسْم في أيام الإِفاقة، والولي يراعيه في أيام الجنون ويكون لكل واحدة نَوْبَة من هذه ونوبة من هذه، وهذا أحسن، ولو لم يكن تَقَطُّعٌ مضبوطٌ، وقسم الولي لواحدة في الجنون وأفاق في نوبة الأخرى، فالذي نقله صاحب الكتاب: أنه يقضي ما جرى في الجنون؛ لما كان فيه من النقصان. قال الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّانِي): في مَكَانِ القَسْمِ وَزَمَانِهِ (أَمَّا المَكَانُ) فلاَ يَجُوز أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ ضرَّتَيْنِ في مَسْكنٍ وَاحِدٍ إِلاَّ إِذَا انْفَصَلَتِ المَرَافِقُ، وَلَهُ أن يَسْتَدْعيَهُنَّ إِلَى بَيْتِهِ عَلَى التَّنَاوُبِ. قال الرافعي: الفصل يشتمل على مَقَاصِدَ: أحدها القول في مكان القسم: لا يجوز للزوج أن يجمع بين الضرتين والضّرَّات في مسكن واحد ولو ليلة واحدة (¬1) إلاَّ برضاهن؛ لأن اجتماعهن في المسكن الواحد مع تأكد الوحشة بينهن يولِّد كثرةَ المخاصمة والخروج عن الطاعة، والمراد بـ"المَسْكن" ما يليق بحال المرأة، من دار وحُجْرة وبيتٍ فردٍ، فاللَّوَاتي يليق بهن الدار والحجرة لا يُجْمَع بينهن في دار واحدة لا حجرة واحدة، لكن لو كان في الدار حجر مفردةُ المَرَافِقِ فله أنَ يُسْكِنَهُنَّ فيها، وكذا لو أسكن واحدة في العُلُوِّ، وواحدة في السَّفَلِ، والمرافق متميزةٌ، واللواتي يليق بهن البيوت المفردة له أن يُسْكِنَ كل واحدة منهن في بيت من خان واحد أو من دار واحدة، ولا يجمع بينهن في بَيْت واحدٍ إلاَّ بالرِّضَى، فإذا (¬2) اجتمعتْ ضرَّتان في مسكن واحد بالرضى فيُكْرَهُ أن يطأ إحداهما بحضرة (¬3) الأخرى؛ فإنه بعيد عن المروءة، ولو طلب لم يلزمْها الإِجابة ولا تَصِيرُ بالامتناع ناشزةً. وأما قوله: "وَلَهُ أَنْ يَسْتَدْعِيَهُنَّ إِلَى بَيْتِهِ عَلَى التَّنَاوُبِ" فهذا قد سبق الكلام فيه وليس في إعادته كثير فائدة. ¬
قال الغزالي: (وَأَمَّا الزَّمَانُ) فَعَمَادُهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ إِلاَّ فِي حَقِّ الأتُّونِيِّ وَالحَارِسِ فَإِنَّ سُكونَهُمَا بِالنَّهَارِ، وَلاَ يَحِلُّ أنْ يَدْخُلَ في نَوْبَتهَا عَلَى ضَرَّتَها باللَّيْلِ إِلاَّ لِمَرَضٍ مَخُوفٍ، وَأَمَّا بِالنَّهَارِ يَجُوزُ لِغَرَضٍ مُهِمٍّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَرَضٌ، وَقِيلَ النَّهَارُ كَاللَّيْلِ، وَقِيلَ: لاَ حَجْرَ في النَّهَارِ، وَإِنْ خَرَجَ إِلَى ضَرَّتها بِاللَّيْلِ وَمَكَثَ قَضَى مِثْلَ ذَلِكَ من نَوْبَةِ الأُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يَمْكُثْ زَمَناً مَحْسُوساً فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْصِي وَلاَ يَقْضِي، وَإِنْ دَخَلَ وَوَطِئَ فَقَدْ أَفْسَدَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ في وَجْهٍ فَلاَ يُعْتَدُّ بِهَا، وَفِي وَجْهٍ يَقْضِي الجِمَاعَ فَقَطْ، وَفِي وَجْهٍ يَقْضِي مِثْل تِلْكَ المُدَّةِ وَلاَ يُكلَّفُ الوِقَاعَ لأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ تَحْتَ الاخْتِيَارِ. قال الرَّافِعِيُّ: عماد القَسْم اللَّيْلُ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [يونس: 67] وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ: 10]، والنهار في ذلك تبع فإنه وقت التردُّد والانتشار في الحوائج، ثم له أن يرتب القَسْم على اللَّيْلَة واليوم الذي تليه، وأن يرتب على الليلة واليوم الذي يليها فهذا ما عليه التواريخ الشرعية؛ فإن أول الشهر (¬1) الليالي، وهذا في حق عامة الناس، وأما من يعمل ويكتسب ليلاً ويسكن نهاراً، كَاْلأتُّونِيِّ والحارس، فعماد القسم في حقه النَّهَارُ، فالليل تابع، والمسافر الذي معه زوجاته، عماد القسم في حقه وقت النزول ليلاً كان أو نهاراً قليلاً كان أو كثيراً؛ لأن الخلوة حينئذٍ تتأتى، قاله في "التهذيب". إذا تقرر ذلك، فَمَنْ عمادُ القَسْمِ في حقِّه الليلُ لا يجوز أن يَدْخُلَ في نوبة واحدة بالليل على أخرى، وإن كان لحاجة؛ كعيادة وغيرها فالذي نَقَلَهُ المُزَنِيُّ في "المختصر" أن الشَّافعي -رضي الله عنه- قال: "ويعودها في مرضها في ليلة غيرها"، فهو سَهْوٌ عند عامة الأصحاب، قالوا: وإنما قال الشافعيُّ -رضي الله عنه-: "في يومِ غيرها"، ومنهم من أخذ بها، وَجَوَّزَ الدخُولَ على غيرها للحاجة، والظاهر الأول، وجوزوا أن يَدْخُلَ على غيرها؛ للضرورة، وما الضرورة؛ قال في "الشَّامِلِ": هي مثْلُ أن يكونَ منزولاً بها أو تموت، فيحتاج إلى تجهيزها، ومَثَّلَ الشيخ أبو حامد وغيرُهُ الضرورةَ: بالمرض الشديد، ويقرب منه ما نقله صاحب الكتاب: أنه لا يدخل على الضَّرَّة إلاَّ لمرض مَخُوف، قال في "الوسيط": وكذا المرض الذي يمكن أن يكون مخوفاً فيدخل ليتبين الحال. وفي وجه: لا يدخل إلاَّ إذا تحقَّقَ أنه مَخُوفٌ وإذا دخل على الضَّرَّة؛ لضرورة، فإن مكث ساعة طويلة قضى لصاحبة النَّوْبة مثْلَ ذلك في نوبة التي دخل عليها، وإن لم يمكث إلاَّ لحظةً يسيرةً فلا قَضَاء، وإذا وجب القضاءُ عند الضرورة، وجواز (¬2) الدُّخُول ¬
فلو تعدى بالدخول إن طال الزمان فوجوب القضاء أظهر، وفي الزمان اليسير لا قضاء، ولكنه يَعْصِي، وعن القاضي الحسين -رحمه الله- تقدير القَدْرِ المقتضي بثلث الليل، والصحيح أنه لا تقدير. وقوله: في الكتاب: "وَإِنْ لَمْ يَمْكُثْ زَمَانًا مَحْسُوساَ؛ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْصِي وَلاَ يَقْضِي" كأنه يشير إلى احتمال في القضاء؛ رعايةً للتسوية والعدل، ولا يخرج من قوله: "وَإِنْ لَمْ يَمْكُثْ زَمَاناً مَحْسُوساً" إلاَّ المكث في زمان يسير، فإن أراد أنه لم يلبث أصْلاً فيكفيه قوله: "وَإِنْ لَمْ يَمْكُثْ" وَلاَ حَاجَةَ إِلَى الزَّمَانِ المَحْسوُسِ وهذا إذا لم يجامع التي دخل عليها فإن جامعها فثلاثة أوجه: أحدها: أنه أفسد تلك الليلَةَ فلا تحسب على صاحبة النَّوْبَة؛ لأنه إذا جامعها فَتَرَ، ولم يَكْمُلْ لها السّكن والاستمتاع. والثاني: أنه يقضي الجماع في نَوْبَة التي جامعها؛ تسوية بينهما. وأظهرهما: أنه يقضي من نوبتها مثل تلك المُدَّة ولا يُكَلَّفُ الجِمَاعَ فإنه يتعلق بالنشاط والشهوة، ولا يدخل تحْت الاختيار؛ فإن فَرَضَ الجماع في اللحظة اليسيرة فلا قضاء على هذا الوجه، والوجهان الأولان بحالهما. وقولُهُ في الكتاب في حكايته الوجه الثاني: "يَقْضِي الجِمَاعَ فَقَطْ" صحيح؛ لأنه فرض الجماع في اللحظة اليسيرة، فأما إذا طالتِ المُدَّة فيقضي المدة مع الجماع لا الجماع فقط، ولفظه في الوَجْه الثَّالث يقتضي التَّصور فيما إذا كانت هُنَاك مدة، وأما النهار (¬1) فوقت التردُّد والانتشار، ولا تجب التسوية بين النسوة في قَدْر إقامته في البيت [والمكث] (¬2) ولكن ينبغي [أن يُقِيمَ قَدْرَ ما يقيم في بيت صاحبة النَّوْبَة] (¬3)، ولا يَدْخُل على غيرها إلاَّ لضَرُورَةٍ أو حاجة؛ كعيادة، وَتَعرُّفِ خَبَر وتَسْلِيمِ نفقة، ووضْع مَتَاع واحدة، وينبغي ألا يطيل المُقَامَ، ولا يعتاد الدخول على واحدة في نوبة الأُخُريَات، ولا في نوبة واحدة الدخول على غيرها، وإذا دخل من غير حاجة ففي "التجريد" للمحامِلِيِّ: أنه يجب القضاء، وحكاه عن نصه في "الإِملاء"، وإن دخَل لحاجَةٍ فلا قَضَاء هَذَا هو الظَّاهر، وفِيهِ وَجْهان آخرانِ، ذَكَرَهُمَا في الكتاب: أحدهما: أن النَّهَار كالليل، وقضيَّة هذا الإِطْلاَق ألا يدْخُلَ على غَيْر صاحبَةِ النَّوْبَة إلاَّ لضرُورَةٍ، وأنه يقضي إذا دخل متعدياً، وقد ذكر القاضي ابن كج أن أبا إسْحَاقَ حكى في وجوب القضاء قَوْلاً. ¬
والثاني: أنه لا حَجْرَ بالنهار؛ لأنه تابعٌ، وقضيته أن يَدْخُلَ ويخرج كيف شاء كما شاء بلا قضاء، ولا يجوز في أوقات الدُّخُول للحَاجَة أن يجامع، وفي سائر الاستمتاعات وجهان: أظهرهما: أنه يجُوزُ؛ لما روي عن عائشة -رضي الله عنها- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَطُوف عَلَيْنَا جَمِيعاً فَيُقَبِّلُ وَيلْمَسُ، فَإذَا جَاءَ وَقْتُ الَّتِي هُوَ نَوْبَتُهَا أَقَامَ عِنْدَهَا" (¬1) وفي كتاب القاضي ابن كج وجه: أنه يجوز الجِمَاع أيضاً. ومَنْ عِمَادُ القَسْم في حقه النَّهَارُ كالحارسين (¬2) على ما سبق وكالطَّحَّانين في بعض البلاد، فنهارهم كليل غيرهم وليلهم كنهار غيرهم من جميع ما ذَكَرْنَا. فَرْعٌ: نقل صاحب "التَّهْذِيبِ" وغيره أنه إذا مرضت واحدة من النِّسْوَة أو ضَرَّ بِهَا الطَّلْقُ، فإن كان لها متعهِّدٌ لم يبتْ عندها إلاَّ في نوبتها ويراعي القَسْم، وإن لم يكن لها متعهِّد فله أن يبيت عنْدَها، ويُمَرِّضَهَا وله أن يديم البيتوتة عندها ليالِيَ، بحسب الحاجة، ثم يقضي للباقيات إن برأت، وإن ماتت تعذَّر القضاءُ، وفي القضاء لا يبيت عند كل واحدة من الأُخْرَيَات جميعَ تلك اللَّيَالي، ولاءً بل لا يزيد على ثلاث ليال، وهكذا يدور حتى يتمَّ القَضَاء، والمَنْعُ من الزيادة على الثَّلاث، كأنه مبنيٌّ على أن أكثر مقدار النُّوَب في القَسْم ثلاث ليالٍ (¬3) على ما سيأتي وقد خطر في الفرع شيئان: أحدهما: أن التعهُّد، إن فرض من الخادمة للتي تَسْتَحِقُّ الخادِمَة، فهو بَيِّنٌ، وإن تبرع محرم لَهَا أو تَبَرَّعَتِ امرأة بالتعهُّد والتمريض، وليس على الزَّوْج إسكانُ مَنْ تبَرَّعَ وإدخالُه عليها، وينبغي أن يكون الحُكْم كما لو لَم يكُنْ متعهِّدٌ. والثاني: لو مَرِضَتِ اثنتان مَعاً ولا متعهِّد، فقد يقال بقَسْم اللَّيَالِي عليهما، ويُسَوَّى بينهما في التمريض، ويمكن أن يقال: يُقْرَعُ بينهما ويخص الَّتِي خَرَجَتْ قرعتها، كما يسافر بواحدة بالقُرْعَة (¬4). فرع: لو كان الرَّجُل يعمل تارة باللَّيْل ويستريح بالنَّهَار، ويعمل أخرى بالنَّهَار، ¬
ويستريح بالليل فقد حَكَى الحناطي فيه وجهَيْن: في أنه هل يجوز أن يبدل الليل بالنهار، بأن يكون لواحدة ليلةٌ متابعةٌ ونهارٌ متبوعٌ، ولأُخْرَى ليلةٌ متبوعةٌ ونهارٌ تابع؟. قَالَ الغَزَالِيُّ: (أَمَّا المِقْدَارُ) فَأَقَلُّ القَسْمِ لَيْلَةٌ، وَلاَ يَجُوزُ تَنْصِيفُ اللَّيْلَةِ لأَنَّهُ يُنَغِّصُ العَيْشَ، وَأَكْثَرُهُ ثَلاَثُ لَيَالٍ، وَقِيلَ: سَبْعٌ: وَقِيلَ لاَ يُقَدَّرُ بَلْ هُوَ إلَى الاخْتِيَار، ثُمَّ القُرْعَةُ تَحْكُمُ فِيمَنْ بِهِ البِدَايَةُ، وَقِيلَ: هوَ إلَى خِيرَتِهِ لأَنَّهُ مَا لَمْ يَبِتْ عِنْدَ وَاحِدَةٍ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِغَيْرِهَا. قال الرافِعِيُّ: هذه البقيَّةُ تَشْتَمِلُ على مسألتين هما من مقاصد الفَصْلِ: إحداهما: في مقدار نُوَب القَسْمِ، وأقلُّهَا أن يقسم ليلةً ليلةً، ولا يجوز تبعيضُ اللَّيْلَة؛ لأنه تنغيص العيش ويُبْطِل الاستئناس، ولأن أجزاء الليل يعسر ضَبْطُهَا، وحكى القاضي ابن كج وجهاً: أنه يجوز تبعيض اللَّيْلَة، وبناء القَسْم على أبعاضها، وحكى الإِمام وجهاً فارقاً بين، أن يَقْسِمَ لكلِّ واحدة بعْضَ ليلةٍ، فلا يجوز وبين أن يَقْسِم لِكُلِّ واحدةٍ ليلةً ونصفاً، فيجوز، لحصول الأُنْسِ إذا انْضَمَّ البعض إلى الليلة الكاملة، بخلاف ما إذا كان وحده، والظاهر الأول، والأَوْلَى ألا يزيدَ على ليلةٍ؛ اقْتِدَاءً برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولِيَقْرُبَ عهده بهن جميعاً ولو قسم ليلتين ليلتين أو ثلاثاً ثلاثاً فيجوز، نصَّ عليه؛ لأن هذه المدة قريبةٌ. وفي وجه، لا تجوز الزِّيَادة على لَيْلَةٍ إِلاَّ برضَاهُنَّ ونسبه أبو الفرج الزاز (¬1) إلى أبي إسحاق. وإذا قلنا بالظاهر، فهل تجوز الزيادة على الثلاث قال في المختصر: "وأكْرَهُ مجاوَزَةَ الثَّلاَث"، وذلك محمول عند أكثرهم على المنْع والتحريم، وقالوا: إنَّه موضَّع في "الأم"، ونقلوا عن "الإملاء" أنَّه قال: "يقسم مياومة وَمُشَاهَرة ومسانهة، فحملوه على ما إذا رَضِيْنَ به، ولم يجعلوه قولاً آخر، ومنهم من أثبت في جواز الزيادة قولَيْنِ أو وجْهَيْنِ. وإذا قلنا بالجواز، فإلى كم يجوز؟ قال الإِمام رحمه الله: لا شك أنَّه لا يجُوزُ أن يبني القَسْم على خَمْسِ سِنِينَ مثَلاً لكن عن صاحب "التقريب" أنه يجوز أن يقْسم سبْعاً سَبْعاً؛ لأن هذه المدة تُسْتَحَقُّ في القسم؛ لِتَجَدُّدِ النِّكَاح، وعن الشيخ أبي محمَّدٍ وغيره: أنَّه يجوز أن يزيد ما لم يبلُغْ مدةُ التَرَبُّصِ في الإِيلاء؛ لأنَّه لا يشُقُّ على المرأة الصبر عن الرَّجُل في هذه المدة، وفيما علق عن الإِمام: أَنه إذا قَسَمَ للحُرَّة ثلاثاً، فيقسم للأمة ليلة ونصفاً لا ليلتين، بخلاف الطلاق وهذا يُحْوِجُهُ إلى الخروج إلى مسْجِدٍ أو بيتِ صديقٍ، ولكن ما ذكره غير مُسَلَّمٍ؛ لما سيأتي فيما إذا نَكَحَ جديدة، وفيه ذكر وجهين في أن ¬
الفصل الثالث في التفاضل
الثَّلاَثَ غاية نَوْبَةِ القَسْم أم يجوز أن تقسم للأمة ثلاثاً، وحينئذٍ فتكون مدة الحُرَّة ستاً وإذا وَقَفْتَ على ما ذكرنا لم يجز قوله في الكتاب في حكايته الوجه الثالث على إطْلاَقِهِ. المسألة الثانية: إذا أراد الابتداء بالقَسْم، فوجهان: أصحهما: أنه يحكم بالقُرْعَة ويبدأَ بمن خَرَجَتْ قُرْعَتُها وتَحَرُّزاً عن التفضيل والتَّرَجُّح. والثاني: أنه يبدأ بمن شَاءَ؛ لأنَّه بسبيل من الإِعراض عنهن جميعاً، وما لم يبت عند بعضِهِنَّ لا يلزَمُهُ شيء للباقيات وعلى الأصَحِّ إذا ابتدأ بواحدة، وهن أربع بالقُرْعة، فهذا وَقَّى نوبَتَهَا أقْرَعَ بين الباقيات، ثم يقرع بين الأخرتين، فإذا تمَّت النُّوَبُ، راعى الترتيب، ولا حاجة إلى إعادة القُرْعة، ولو بدأ بواحدة من غير قُرْعة، فقد ظلَمَ ويقرع بين الثلاث الباقيات، وإذا تمَّت النُّوَب، لا يعود إلى الَّتي بدأ بها ظلماً بل يَقْرَعُ وكأنه ابتدأ القَسْمَ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّالِثُ في التَّفَاضُلِ): وَلَهُ سَبَبَانِ: (الأَوَّلُ: الحُرِّيَّةُ) فَلِلْحُرَّةِ ثُلُثَا القَسْم، وَلِلأَمَةِ الثُّلُثُ، فَلَهَا لَيْلَتَانِ وَلِلأَمَةِ لَيْلَةُ، فَلَوْ بَدَأَ بِالحُرَّةَ فَعَتَقَتْ في لَيْلَتِهَا أَوْ قَبْلَ انْقِضَاءِ لَيْلَةِ الأَمَةِ التَحَقَتْ بِالحُرَّةِ الأَصْلِيَّةِ وَاسْتَحَقَّتْ تَمَامَ لَيْلَتَينِ، وَإِنْ عَتَقَتْ بَعْدَ تَمَامِ لَيْلَتِهَا اقْتَصَرَتْ عَلَى مَا مَضَى وَسُوِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ بَدَأَ بِهَا فَعَتَقَتْ قَبْلَ نَوْبَتهَا صَارَتْ كَالحُرَّةِ الأَصْلِيَّةِ، وَإِنْ عَتَقَتْ بَعْدَ تَمَامِ نَوْبَتهَا وَجَبَ تَوْفِيَةُ الحُرَّةِ لَيْلَتَينِ ثُمَّ يُسَوِّيَ بَعدَ ذَلِكَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القَسْمُ مشْرُوعٌ للعَدْلِ والاجْتنابِ عن التَّفْضِيل المُوحِشِ، فلا يجوز للزَّوْجِ تفضيلُ امْرَأة على امرأة بفضلتها بخصال شَريفة، حتى يُسَوِّيَ بين المسلمة، والكتابية، لاستوائهما في مقاصد النِّكَاح، وأحكامه، ولا يترك هذا الأصل إلاَّ بشيئين: أحدهما: التفاوُتُ في الرِّقِّ والحُرِّيَّة، واجتماع الحُرَّة والأمة في نكاح الحُرِّ إنما يُتَصَوَّر بأن يَنْكِحَ حرَّةً على أمَةٍ، وأَمَّا العَبْد فإنه يجمع بين حرة وأمة كيف شاء وبين أمتين، ويجوز أن يعتق فينكح عليهما حرتين، فإذا اجتمعتا، فللحُرَّة من القَسْم ضِعْف ما للأَمَةِ، فيجعل الدَّوْر بينهما أثْلاَثاً؛ لِمَا رُوَي مرسَلاً أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يُنْكَحُ الأَمَةُ عَلَى الحُرَّة وَللْحُرَّةِ الثُّلُثَانِ مِنَ القَسْمَ وَلِلأمَةِ الثُّلُثُ" (¬1) وروي ذلك عن عليٍّ كَرَّمَ اللَّهُ ¬
وَجْهَهُ- فاعتضد به الحديث، وبه قَالَ أبو حنيفةَ وأحْمَدُ -رحمهما الله، وعن مالك- رحمه الله بأنَّه يسوِّي بينهما في القَسْم كما في النفقة والسُّكْنَى وحقِّ الفسخ بالعَيْب، فإذا طرأ العِتْقُ على الأَمَةِ لم يخل إِمَّا أنْ تكون البِدَايةُ في القَسْم بالحرَّة أو بالأمَةِ: الحالة الأولى: إذا كانت البداية بِالحُرَّةِ أن يُعْتِقَ الأمَةَ في نَوْبَةِ الحُرَّة أو في نوبة نَفْسِهَا، إن عَتَقَتْ في نَوْبَة الحُرَّة، فيُنْظَرُ إن عتقت في القَدْر المُشْتَرك بَين الحُرَّة والأَمَة، بأن عَتَقَتْ في اللَّيْلَة الأُولَى من لَيْلَتَيِ الحُرَّة، فيتم الليلة ويبيت الليلة الأخرى عند العَتِيقَة، ويسوي بينهما، وإن عَتَقَتْ في الليلة الثانية، لم يلزمْهُ الخروجُ، بل له أن يبيت عند الحُرَّة بقيَّةَ اللَّيْلَة، لكن يبيت بعد ذلك عند العتيقة ليلتَيْنِ أيضاً، ولو خرج في الْحَال، وكان بقية الليْلَةِ في مَسْجِدٍ أو بَيْتِ صديقٍ، لم يلزمْهُ أن يَقْضِيَ ما مَضَى من تلْك الليلة فإن خرج بقية الليلة إلى العتيقة، فقد أحْسَنَ. وإن عتقت في نوبة نَفْسِهَا، نُظِرَ، إن عَتَقَتْ قبل تمام ليلَتِهَا كَمَلَ لها ليلتين؛ لأنَّهَا الْتَحَقَتْ بالحُرَّة، قبْلَ تَوْفِيَة حقِّهَا، وحكى الحناطي وغيره وجهاً آخَرَ (¬1)، أنَّها لا تستحِقُّ إلاَّ ليلَة، نَظَراً إلى الابتداءِ، وإن عَتَقَتْ بعْد تمام ليلتها، لم تستحق إكمال ليلتين، ويقتصر في تلك النَّوْبة على تِلْكَ اللَّيْلة، ثم يُسَوِّي بينهما بعد ذلك، وهذه الصُّورةُ قد سَبَق ذكْرُهَا في نكاح المُشْرِكَات استشهاداً، وَهَلِ العِتْقُ في يوْمها التالي للَيْلَتِهَا كعتقها في ليلتها، حُكِيَ فيه وجهان فيما عُلِّقَ عن الإِمام، والظاهر الموافق لكلام الجمهور أنه لا يكون كالعِتْق في الليلة لأنَّه تابعٌ. الحالة الثانية: إذا كانَتِ البدَايَةُ بالأَمَة فإن عُتِقَتْ في ليلتها صَارَتْ كالحُرَّة، ويُسَوَّى بينهما، وإن عتقت بعْدَ تَمَام نَوْبَتِهَا، فالمذكور في الكتاب أنه يَثْبت بالمبيت عندها ليلتان للحرة فيوفيها ثم يسوي بعد ذلك. وهذا ما أورده جماعةٌ منْهمُ الإِمَام والمُتَوَلِّي وأبو الفَرَجِ السرخسي، ومنع صاحب "التّهْذِيبِ" من توفية اللَّيْلتَيْن، وقال: إن عتقت في الأولى من ليلتي الحرة أتمها، واقتصر عليها، وإن عتقت في الثانية، خرج من عندها في الحال، وعلى نَحْوٍ من هذا جرى صاحب "المهَذب" والشيخُ أبو حامد وأصحابُهُ وقالوا: إنَّهَا بالعتق تتفاوت الحُرَّة قبل تمام نوبتها فيسوي بينهما، وقوله في الكتاب: "ثُلُثَا القَسْم" معلم بالميم وكذا لثلث، وقوله: "فَلَوْ بَدَأَ بالْحُرَّةِ فَعَتَقَتْ في لَيْلَتهَا أي عَتَقَت الأَمَةُ في ليلة الحُرَّة، والمراد كل واحدة من ليلتَي الَحُرَّة، فإنها على التقديرين تلتحق بالحرة الأصلية. وقوله: "أَوْ قَبْلَ انْقِضَاءِ لَيْلَةِ الأَمَةِ" يجوز إعلامه بالواو للوجه الذي نقله الحناطي. ¬
وقوله آخراً: "وجب تَوْفِيَةُ الحُرَّةَ لَيْلَتَيْنِ" معلَّم بالواو؛ لِمَا بيناه، ولفظ الكتاب ينطبق تَارَةً على الظَّاهِر في أن العتق في اليوم التابع لا يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ العِتْقِ في الليلة المتبوعَةِ، مثل قَوْلِهِ: "فَعُتِقَتْ في ليلتها"، وقَوْلِهِ: "وَإِنْ عَتَقَت بَعْدَ تَمَامِ لَيْلَتِهَا" وتارة ينطبق على الوجه الذي يقابله كَقَوْلِهِ في الحالة الثانية: "قَبْلَ تَمَامِ نَوْبَتِهَا" و"بعد تمام نوبتها"، فإنَّ النَّوْبَة تشمل الليل والنَّهَارَ. فرع: ذكر القاضي ابن كج والشيخ أبو الفَرَج وغيْرُهُمَا أن الأَمَةَ إنما تستحق القَسْم إذا استحقت النفقة، وفي نص الشَّافعي -رضي الله عنه- إشارةٌ إلَيْه، وقد تَبَيَّنَ من قَبْلُ أنه متى تجب نفقتها ومتى لا تَجِبُ، وإسقاط حتى القَسْم بهبتها للزوج أو من بعض الضَّرَّات للأمة لا للسيد؛ لأن مُعْظَم الحَظِّ في القَسْم لها، وهذا كما أن خِيَارَ العَيْب لَهَا لا للسَّيِّد وفي "التتمة": أنَّه إذا قَسَمَ للحُرَّة ليلتين، ثُمَّ سافر السَّيِّد بالأمة، لا يسقط حقُّهَا من القَسْم بل على الزَّوْج قَضَاء ما فات عند التَّمَكُّن؛ لأن الفوات حَصَل بغير اختيارها فهي معذورةٌ فيه. قَالَ الغَزَالِيُّ: (السَّبَبُ الثَّاني: تَجَدُّدُ النِّكَاحِ) وَإذَا نَكَحَ بِكْراً جَدِيدَةً بَاتَ عِنْدَهَا سَبْعاً، وَعِنْدَ الثَّيِّبِ ثَلاَثاً، وَالظَّاهِرُ أنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْحُرَّةُ وَالأَمَةُ لأَنَّ ذَلِكَ لِلأَلْفِ وَالطَّبْعِ لاَ يَتّغَيَّرِ بِالرِّقِّ كَمُدَّةِ العُنَّةِ، ثُمَّ لاَ يَقْضِي (ح) لِلبَاقِيَاتِ هَذِهِ المُدَّةَ بَلْ يَسْتَأْنِفُ القَسْمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا حَقُّ الجَدِيدَةِ، فَإنْ بَاتَ عِنْدَ الثَّيِّبِ ثَلاَثاً فَالْتَمَسَتْ زِيَادَةً فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ وَقَدِ الْتَمَسَتْ أُمُّ سَلَمَةَ ذَلِكَ: "إنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ وَسَبَّعْتُ عِنْدَهُنَّ وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ عِنْدَكِ وَدُرْتُ، وَكَأَنَّ اقْتِرَاحَهَا الزِّيَادَةَ يُبْطِلُ حَقَّهَا مِنَ الثُّلُثِ، وَلَوْ أَقَامَ الرَّجُلُ عِنْدَهَا دُونَ اقْتِرَاحِهَا لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهَا. قال الرَّافِعِيُّ: تَجَدُّدُ النِّكَاح يقتضي تخصيصَ الجَدِيدَةِ بزيَادةِ مبيت عند الزَّفَافِ، وهي سبع لَيَالٍ، إن كانَتْ بِكْراً أو ثلاثٌ إن كانَتْ ثَيِّباً، رُوِيَ عن أنَسٍ -رضي الله عنه- موقوفاً أنَّه قال: "لِلْبِكْرِ سَبْعٌ وللثَّيِّبِ ثَلاَثٌ" والمقصود منْه أن ترتفع الحشْمَةُ وتحْصُلَ الأُلْفَة والأنس، وخُصَّتِ البكْرُ بزيادة؛ لأن حياءها أكثر، وحكى أبو عبد الله الحناطي قولَيْن في أنه هل يجب على الزوج الإِقَامَةُ عنْدها المُدَّتَيْنِ المذكورتَيْنْ، والموافق لإِيراد الجُمْهُور أنَّه واجبٌ مُسْتَحَقٌّ للجديدة. قال في "التَّتِمَّة" حتَى لو خَرَجَ في بعض تلْك اللَّيَالي بعُذْر، أو أُخْرجَ فيقضي عند التمكُّن، ويوالي بين الثلاث والسبع، لأَنَّ الحِشْمَةَ لا تزول لو فرق، ولو فرق ففي الاحتساب به وجْهَان ذكرهما أبو الفَرَج الزاز وظاهر كلام الأكثرين المَنْعُ وذكر الزاز تَفْرِيعاً عليه أنَّه يوفيها حقَّهَا على التوالي، وَيقْضِي ما فرَّق للأخريات، ولا فرق بين أن
تَكُونَ ثِيَابَةُ الجديدةِ بالنِّكَاح أو بالزنا أو الشُّبهَة، ولو حَصَلَتْ بمَرَضٍ أو وَثبَةٍ، فعلى الوجهين في اشتراط استنْطَاقها في النِّكَاح، ولو كانَتِ الجديدةُ أمَةً، ولا يُتَصَوَّر ذلك إلاَّ في حقِّ العَبْد، فإنَّ لَهُ أن يُدخلَ الأَمَةَ عَلَى الحُرَّةِ فوجهان، أَظْهَرُهُمَا وبه قال أبو إسْحَاقَ: أنَّهَا كالحُرَّة في اسْتحْقَاقِ السَّبْع أو الثلاث؛ لأن مقصودَةُ ارْتِفَاعُ الحشْمة، وحصولُ المُبَاسَطَةِ، وهذا أمر يتعلق بالطَّبْع، وما يتعلق بالطبع لا يختلف بالرِّقِّ والحُرِّيَّة كمدة العُنَّة والإِيلاء. والثاني: وبه قال ابْن أبي هُرَيْرَةَ أنَّها تستحق شَطْرَ ما تَسْتَحِقُّ الحُرَّة، كالقَسْم في دوام النِّكَاح، وعلى هَذَا؛ ففي كيفية التشطر وجهان: أحدهما: أنَّه يكمل المنكسر، فيبيت للبكر أرْبَعَ لَيَالٍ، وللثيب ليلتان وأشبههما -وهو المذكور في "التَّهْذِيب"- أَنَّ للبكر ثلاثَ لَيَالٍ ونصفاً، وللثيب ليلةً ونصفاً؛ لأن المدَّة قابلةٌ للتَّنْصِيف، والاعتبار بحالة الزَّفَاف حتَّى لو نَكَحَهَا، وهي أمَةٌ، وزُفَّتْ إليه، وهي حُرَّة فلها حَقُّ الحرائِرِ، وإن عتقت بعد الزَّفَاف فلها حق الإِماء. قال صاحب "التَّهْذِيبِ" وُيحْتَمَلُ: أن يقال: إذا عَتَقَتْ في المُدَّة فلها حقُّ الحَرَائِرِ؛ تخريجاً على الأَصْل المَذْكُور في باب "نِكَاحِ المُشْرِكَاتِ" إذا تبدل الرق بالحرية، وإذا وَفَّى حق الجديدة، من السبع أو الثلاث، فلا يقضي للباقيات، وبه قال مالك وأحمد وعند أبي حنيفة يقضي. واحتج الأصحاب بما روي عن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال لأُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها-: "إنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدَكِ وَسَبَّعْتُ عِنْدَهُنَّ وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ عِنْدَكِ وَدُرْتُ" (¬1) والمَعْنَى دُرْت بِالقَسْم الأَوَّلِ من غير قَضَاء؛ لأنَّه لو كانت الثَّلاَث مَقْضِيَّةً، لأَشْبَهَ أن يقولَ: "وَثَلَّثْتُ عِنْدَهُنَّ" كما قال: "وَسَبَّعْتُ عِنْدَهُنَّ" ويروى أنه قال لأم سَلَمَةَ -رضي الله عنها-: "إِنْ شِئْتِ أَقَمْتُ عِنْدَكِ ثَلاَثاً خَالِصَةً لَك، وَإِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكَ، وَسَبَّعْتُ لِنِسَائِي" (¬2). ¬
ويستحب أن يُخَيِّرَ الثَّيِّبَ الجديدةَ بين أن يقيم عندها ثلاثاً بلا قضاء، وبين أن يُقِيمَ عندها سبعاً، ويوفي مثْلَ ذلك للباقيات، كما فَعَلَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بأمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- فإن اخْتَارَتِ السَّبْعَ، فأجابها قضى السبع للباقيات، وإن أقام بغَيْر اختيارها والْتِمَاسِهَا لِمْ يَقْضِ إلاَّ الأربعَ الزائدةَ ووجه قَضَاءِ الْجَميع إذا اختارته بِوَجْهَيْنِ. أحدهما: أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خَيَّرَهَا بيْن الثَّلاَث بلا قَضَاءٍ، وَبَيْنَ السَّبْع بالقضاءِ، فإذا اختارت أحَدَهُمَا لم يكُنْ لها غَيْرُهُ. والثَّانِي: أن السَّبْعَ حقّ البِكْر، وهي أرفع درجةً منها، فإذا طلبته جَعَلَتْ رغبتها في الزيادة فيما هو غير مَشْروع لها، مبطلاً أصْلَ الحَقِّ، وشَبَّهَهُ أبو سعد المُتَوَلِّي بما إذا باع درْهَماً بدْرهَمَيْن لا تصح المعاملة من أصلها، وذكر صاحب "المهذب" وَجْهَيْنِ في أنَّه، ما الَّذِي يَقْضِي إذا أقام سَبْعاً؟. أحدهما: أنه يقضي الجميع. والثاني: لا يقضي إلاَّ ما زاد على الثَّلاَث هكَذَا أطْلَقَهُ فإن أراد ما إذا التمست، حَصَلَ وَجْهٌ أنه لا يجب القضاء ذكر تلتمس، ولم تطلب على خلاف المشهور وَإِنْ أرادَ ما إذا لم تَلْتمس أو كِلْتا الحالتين حَصَل وجه أَنَّه يجب القضاء، وإن لم تطلُبْ، ولم تلتمسْ على خلاف المَشْهُورِ، ولو التمسَتْ منه إقَامَة أربعة أيام (¬1) أو خمس أو ست لم يقضِ إلاَّ الزِّيَادَةَ على الثَّلاَث؛ لأنها لم تَطْمَعْ في الحَقِّ المشرُوعِ لغيرها، وكذا لو التمست البِكْرُ إقامَةَ عشَرَة أيامٍ لم يجبر على إجابتها فإن أجابها لم يقضِ إلاَّ ما زاد على السبع، قال في "الوسيط": ويحتمل أن يكون وُجُوب القَضَاء في صورة ورود الخَبَر معلَّلاً بحَسْمِ باب التحكم والاقتراح عليها ويحكم بوجوب القَضَاء في هذه الصُّورة أيضاً، ولو قضى حق الجديدة ثم طَلَّقَها ثم راجَعَها، لم يعد حقُّ الزفاف؛ لأنها باقية على النِّكَاح الأوَّل، وقد وَفَّى حقَّها وإن أَبَانَهَا ثم جدَّد نكَاحَهَا فقولان أو وَجْهَان. أَصَحُّهُمَا: أنَّه يتجدد الحَقُّ لعود الجِهَة بالفرَاق المبين، ويجري الخلاف فيما لو أعتق مستوَلَدَتَه أو أمته التي هي فِرَاشُه، ثم نَكَحَهَا، ولا خلاف في أنه لو أَبَانَهَا قبل أن يُوفي حقَّها ثم جدَّد نكَاحَها يلزمه التَّوْفِيَة، ولو أقام عنْد البِكْر ثلاثاً وافتضها ثمَّ أَبَانَهَا ثم نَكَحَهَا، فإن قلْنا: يتجدد حقُّ الزِّفَاف، فَيبيت عندها ثلاث لَيَال، فإنه حقُّ زفاف الثيب، وإن قلنا: لا يتجدد فيبيت عندها أربعاً؛ لأن حقَّ الزفاف في النِّكَاح الثاني على هذا القول ينبني على النِّكَاح الأول، وهذا القَدْر هو الذي بَقيَ. ¬
الفصل الرابع في الظلم والقضاء
ولو نَكَحَ جديدتين يوفي حَقَّ الزفاف لهما جميعاً، وكذلك لو لم يكن في نكاحه غيرهما، ثم إن كان الزَّفَاف على الترتيب، فيقضي حقَّ الأُولَى أولاً، وإن زُفَّتَا إليه معاً، وهو مكروه، فَيَقْرَعُ بينهما للبداية وإذا خرجت القُرْعَة لإِحداهما، قدمها لجميع السبع أو الثلاث، وحكى القاضي ابن كج وَجْهاً أنه يقدمها بليلة، ثم يبيت عند الأخْرَى ليلةً وهكذا يفعل إلى تَمَام المُدَّة، وقوله في الكتاب "ثُمَّ لاَ يَقْضِي لِلْبَاقِيَاتِ" معلَّم بالحاء. وقوله: "بل يستأنف القَسْمَ بعد ذلك" يعني إذا زُفَّتِ الجديدة إلَيْه بعد ما سَوَّى بين مَنْ في نكاحه من النسوة، فيوفيها حقها ثم يستأنف القسم بين الجميع فأما إذا كانت تحته امرأتان وزُفَّتْ إلَيْه جديدةٌ بعد ما قَسَمَ لإِحداهما دون الأُخْرَى فإِذَا قضى حَقَّ الزَّفَاف يقسم للقديمة الأُخْرَى ليلةً، ويبيت عند الجديدةِ نصْفَ ليلة؛ لأنَّها تستحق ثُلُث القَسْمِ، ويخرج بقيَّة اللَّيْل إلى مسجد ونحوه، ثم يستأنف القَسْم بينهن وشوي وقوله: "وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وَقَدِ الْتَمَسَتْ أمُّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- ذلك ... " إلى آخره يشعر بتقديم التماس أم سلمة -رضي الله عنها- على تخيير النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- إيَّاهَا، وكذلك نَقَل الإِمَام لكنْ لا تصريحَ بذَلِك في كتب الحديث، واللفظ في "سنن أبي دَاوُد" السِّجِسْتَانِيِّ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمَّا تزوَّج أم سَلَمَة أقام عندها ثلاثاً، ثم قال: "ليس بك على أهلك، إنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي" (¬1) والله أعلم وَنُقِلَ أن أم سلمة -رضي الله عنها- اختارت الاقتصار على الثلاث. فرع: لا ينبغي لأحد أن يتخلف بسبب حق الزِّفَاف عن الجماعات، وعيادَةِ المَرْضَى، وتشييع الجنائز، وإجابة الدَّعَوَات، وسائر أعمال البِرِّ التي كان يقوم بها هذا بالنَّهار، وأما بالليل فقد قالوا: لا يخرج؛ لأن هذه مندوباتٌ، والمقام عندها واجبٌ، قالوا: وفي دوام القَسْم ينبغي أن يسوي بينهن في الخرُوج للجماعات، وأعمال البر، إمَّا أن يخرج في ليلة الجميع أو لا يخرج أصْلاً، ولا يجوز أن يخرج في ليلة بَعْضِهِنَّ دون بعض. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الرَّابِعُ في الظُّلْمِ وَالقَضَاءِ): وَفِيهِ مَسَائِلُ: (الأُولَى): أَنْ يَكُونَ تَحْتَهُ ثَلاَثُ نِسْوَةٍ فَبَاتَ عِنْدَ اثْنتَينِ عِشْرِينَ لَيْلَةً اسْتَحَقَّتِ الثَّالِثَةُ عَشْرَ لَيَالٍ فَيَقْضِيهَا عَلَى الوَلاَءِ؛ لأَنَّهُ اجْتَمَعَ في ذِمَّتِهِ، فَلَوْ نَكَحَ جَدِيدَةً فَلَوْ بَاتَ عِنْدَهَا عَشْراً وَلاَءً ظَلَمَ الجَدِيدَةَ، فَسَبِيلُهُ أَنْ يَقْضِيَ حَقَّ الجَدِيدَةِ بِثَلاَثٍ أَوْ سَبْعٍ ثُمَّ يَبِيتَ عِنْدَهَا ثَلاَثَ لَيَالٍ وَعِنْدَ الجَدِيدَةِ لَيْلَةً لأَنَّ حَقَّ الجَدِيدَةِ لَيْلَةٌ منْ أَرْبَع، وَلَوْ قَضَاهَا العَاشِرَةَ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ القَسْمَ عَادَ إلَى الجَدِيدَةِ في الخَامِسَةِ فَسَبِيلُ العَدْلِ أَنْ يَبِيتَ العَاشِرَةَ عِنْدَ المَظْلُومَةِ وَيَثْبُتُ لِلجَدِيدَةِ ¬
بِذَلِكَ ثُلُثُ لَيْلَةٍ فَيَبِتُ عِنْدَ الجَدِيدَةِ ثُلُثَ لَيْلَةٍ وَيَخْرُجُ إِلَى بَيْتِ صَدِيقٍ أَوْ مَسْجِدٍ بَقِيَّةَ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفَ القَسْمَ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاتَ عِنْدَ وَاحِدَةٍ نِصْفَ لَيْلَةٍ فَأَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ فَعَلَيْهِ أنْ يَبِيتَ عِنْدَ الأُخْرَى نِصْفَ لَيْلَةٍ وَيَخْرُجَ البَاقِيَ إِلَى المَسْجِدِ. قال الرَّافِعِيُّ: ضَمَّن الفَصْلَ ثَلاَثَ مَسَائِلَ: إحداها: تحته ثلاثُ نِسْوَةٍ، فبات عنْد اثنتين عِشْرِينَ ليلةً، إما عَشْراً عند هذه، وعَشْراً عند هذه، أو بات ليلةً ليلةً إلى تمام العَشْرِ، فتستحق الثالثة عَشْرَ ليالٍ، وعليه أن يوفيها ولاءً، وليس له أن يُفَرِّقَ، فيبيت عندها ليلتين ليلتين، وعند كل واحدةٍ ليلةً؛ لأنها قد اجْتَمَعَتْ في ذمته، وهو متمكِّن من التوفية، فلا يجوز أن يُؤَخِّر فلو نكح جديدةً عقيب العشرين، فلا يجوز أن يقدم قضاءَ العشر (¬1)؛ لأنَّه ظُلْم على الجديدة، بل يوفي أولاً حقَّ الزَّفَاف من ثلاثٍ أو سَبْعٍ ثم يَقْسِمُ بين الجديدة وبين المظلومة، ويجعل للمظلومة ليلتها، وليلَتَي اللتيْن ظلمها بسَبَبهما؛ فيبيت عند الجديدة ليلةً، وعند المظلومة ثلاثَ لَيَالٍ، وإذا دار هكذا ثلاث نُوَبٍ، فقد وَفَّاها تسعاً وبقيت ليلة واحدة، فإن كان قد بَدَأَ بالمظلومَةِ فإذا تَمَّ لها تسْعُ ليالٍ، فيبيت ليلةً عند الجديدة بحق القَسْمَ، ثم ليلة عند المظلومة لتمام العَشْر، ويبيت للجديدة، وبهذه اللَّيْلَة ثلث ليلة؛ لأن حقَّها واحِدَة من أربع، فيبيت عندها ثلث ليلة (¬2)، ويخرج الباقي إلى مَسْجدٍ، أو يبيت عند صديقٍ، أو مسكن خالٍ عن زوجاته، ثم يستأنف القَسْم بعد ذلك للأربع، وإن كان قد بدأ بالجديدة، فإذا تمت التسع للمَظْلُومة يبيت ثلث ليلة عنْدَ الجَدِيدَةِ ويخرج الباقي، ثم يبيت ليلةً عند المَظْلُومَةِ ثم يَقْسِم بين الكُلِّ بالسوية. وقوله في الكتاب: "فَسَبِيلُهُ أَنْ يَقْضِيَ حَقَّ الجَدِيدَةِ بِثَلاَثِ أَوْ سَبْعٍ ثُمَّ يَبيتَ عِنْدَهَا ثَلاَثَ لَيَالٍ" تصوير فيما إذا بَدَأ في القَسْم بالمظلومة وينبغي أن يَكُون ذلك بالقُرْعة، وقوله: "وَلَوْ قَضَاها" الليلةَ: "العاشِرَةَ، ثم استأنف القَسْم" إلى آخره مَعْنَاه أنه: إذا بات العَاشِرَةَ عَنْدها واستأنف القَسْم وعاد يَعُود إلى الجَدِيدة في الليلة الخَامِسَة وحقّها أن (¬3) يعُودَ إلَيْهَا في الرَّابِعَة فإن كَانت البداية بالمَظْلُومَة فقد بَيَّنَّا أن بعد تمام السَّبْع يبيت ليلة عِند الجِديدة، ثم يشتغل بقضاء العاشرة، وحينئذٍ فقَوْلُه: "فسبيل العَدْلِ أن يبيت العاشِرَة عند المَظْلُومَة" أي بعد أن يبيت ليلَةً عند الجديدة. قوله: "ويثْبُتُ للجديدة بذَلِكَ ثُلُثُ لَيْلَة" يجوز أن يعلَّم (¬4) بالواو؛ لأن: عن الشيخ أبي محمد: أنَّه إذا قَضَى العاشِرَة يستأنف القَسْم ويعذر في العَوْد في الخَامِسَة. ¬
ولو كانت تَحْتَه، أربِع نِسْوَةٍ ثلاث حاضرات وواحدة غائبة، فظلم واحدةً من الحاضرات بالأخريين، وحضرَتِ الغائبة، فيقضي حقَّ المظلومة، مع رعاية جَانِبِ الَّتِي حضرت، فيقسم لها ليلة، وللمظلومة ثلاثاً، وقد يحتاج بالآخرة إلى تبعيض الليلة، كَمَا وَصَفْنَاه، وكذلك لو كان يَقْسِمُ بين نسائِهِ، فخرج في نَوْبَة واحدة لضرورة، بأن أخرجه السلطان، فيقضي لها من اللَّيْلَةَ الَّتِي بعدها مثل ما خرج. والأولى أن يُرَاعِي الوَقْت فيقضي لأَوَّل اللَّيْل من الأول، وللآخر من الآخر ويكون في باقي الليل عند صَدِيقٍ أو في مسجد أو موضع منفردٍ، ويستثنى ما إذا كان يخاف الْعَسَس أو اللصوص ونحو ذلك، لو خرج فيعذر في الإِقَامَة، قَالَ في "التتمة" والأَوْلَى ألا يستمتع بها فيما وراء زَمَان القَضَاء. فرع: منقول عن "الأم" إذَا كَانَ للرَّجُل أربع نسوة، فترك القَسْم لإِحداهن أربعين ليلةً يقسم لها عَشْراً. قال الأصحاب: صُورَتُهُ أن يبيتَ عنْد الثلاث عَشْراً عشْراً ويعطل عشر الرابعة فلا يبيت عند واحدة منهن فيها، أمَّا إذا وزع الأربعين على الثلاث بالسوية، فحصة كل واحدة ثلاث عشرة وثُلُثٌ، فيقسم للرابعة مثل ذلك. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِيَةُ): لَوْ وَهَبَتْ نَوْبَتَهَا مِنْ ضَرَّتَهَا فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْتَنِع مَنَ القَبُول، فَإِنْ قَبِلَ فَلَيْسَ لِلمَوْهُوبَةِ الامْتِنَاعُ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ لَيْلَتُهَا مُتَّصِلَةً بِلَيْلَةِ الوَاهِبَةِ بَاتَ عِنْدَهَا لَيْلَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً فَهَل يَجُوزُ أَنْ يُوَالِيَ بَيْنَ لَيْلَتَينْ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ وَهَبَتْ مِنَ الزَّوْجِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَصِّصَ وَاحِدَةً بَلِ الوَاهِبَةُ كَالمَعْدُومَةِ، ثُمَّ لَهَا الرُّجُوعُ مَهْمَا شَاءَتْ، وَمَا فَاتَ قَبْلَ بُلُوغِ خَبَرِ الرُّجُوعِ فَلاَ يَقْضِي كَمَا فَاتَ مَثَلاً مِنْ ثِمَارِ البُسْتَان قَبْلَ مَعْرِفَةِ الرَّجُوعِ مِنَ المُبِيحِ. قال الرَّافِعِيُّ: فإذَا سَامَحَتْ واحدةٌ من زوجَاتِهِ وتركَتْ حقَّهَا من القَسْم لم يَجِبْ على الزَّوج القَبُولُ؛ لأن الاستمتاع بها حَقُّه، فله أن يبيت عندها في نوبتها، وإن رضي بالمسامحة فينظر، إنْ وُهِبَتْ من ضرة بعينها جاز ويبيت عند الموهوب لها ليلتين؛ ليلةً لها وليلة عند انتقال الواهبة؛ لما رُوِيَ أن سَوْدَةَ -رضي الله عنها- لَمَّا كَبِرَتْ جعلت نوبتها لعائشة -رضي الله عنها- وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقسم يومها ويوم سودة لعائشة (¬1). ثم إنْ كانت نَوْبةُ الواهِبَةِ مُتَّصِلَةً بنوبة الموهوبة لها، بات عنْدها الليلتين على الوَلاَء، وإن كانَتْ منفصلةً عَنْهَا فوَجْهَانِ: ¬
أحدهما: أنَّه إذا انتهت النَّوْبَة إلى الموهوبة يبيت عندها ليلتين؛ لأَنَّه أسهل عليه، والمقدار لا يختلف، وقياس هَذَا أنَّه إذا كانت ليلة الواهبة أسْبَقَ، وبات فيها عنْد الموهوبة يجوز أن يقدم ليلتها ويبيت عندها الليلة الثانية أيضاً. وأصَحُّهُمَا وهو المذكور في "التهذيب": أنه لا يجوز الموالاة، بل يبيت عند الموهوبة في ليلتين منفصلتَيْنِ، كما كان يبيت قَبْل الهِبَة عند الواهبة والموهوبة؛ لأن حَقَّ الموهوبة بين الليلتين سابق فلا يجوز تأخيره ولأن الواهبة قَدْ ترجع بين الليلتَيْنِ، والموالاة تُفَوِّتُ حقَّ الرجوع عليها، ولو أنَّهُ طَلَّقَ الواهِبَةَ لم يبت عند الموهوبة بعد ذلك إلاَّ ليلتها، ولا يُشْتَرَط في هذه الهبة رِضَى الموهوبة وَقُبولُهَا، بل يكتفي قبول الزوج، وحكى الحناطي وجهاً غريباً في اشتراط رضاها، وإن وهبت حقَّها من الزوج فهل له أن يخصص واحدة بنوبة الواهبة فيه وجهان: أحدهما: نَعَمْ؛ لأنها جعلت الحَقَّ له فيضعه حيث يشاء، وعلى هذا فينظر في ليلة الواهبة، وليلة التي يريد تخصيصها، أهما متواليتان أم لا، يكون الحُكْمُ على ما سبق وهذا الوجه هو الذي ذكره العراقيون وتابعهم القاضي الرُّوَيانِيُّ وغيره. والثاني: المنع لأن التخصيص يظهر المَيْل ويورث الوحشة والحِقْد، فيجعل الواهبة كالمعدومة، ويسوي بين الباقيات، وعلى هذا لو كن أربعاً فوهبت واحدة حقَّها منه قسم بين الثلاثة وأخرج الواهبة عن الاعتبار، وبهذا الوجه الثاني أجاب أبو الحَسَن العَبَّادِيُّ وهو المذكور في الكتاب وأشار في "الوسيط" إلى القَطْع بالمَنْع فيما إذا قال: وهبت لك واقتصرت عليه وإلى تَخْصيص الوَجْهَيْن بما إذا قَالَت: وَهَبْتُ لك تخصيص من شئت، ولو أبقى الدَّوْر بحاله، وبات ليلة الواهبة في كل دَوْرٍ عند واحدة من الباقيات، فلا تفضيل ولا ميل، فلا يبعد تجويزه فإنْ جاز فقياسُه أن يجوزَ وَضْع الدَّوْر في الابتداء، كذلك بأن يجعل ليلة بين لياليهن دائرةً بينهن، وصورته: أن تكون تحته زينبُ وحفصةُ وعَمْرةُ فيبتدئ في القَسْم ليلةَ الجمعة لزينب، ويبيت ليلة السَّبْت عند حفصة، ويبيت ليلةَ الأحَدِ عند عمرة ويجعل الليلة الرابعة دائرةً بينهن ويعود ليلة الثلاثاء إلى زَيْنَب هكذا وحينئذٍ فَيْقرَعُ بينهن الليلة الدائرةَ أيضاً، ويبتدئ بمن خرجت قرعتها وإن وهبت حقها من جميع الضَّرَّات، فلا خلاف في وجوب التسوية بَيْن البَاقيَات وبمثله أجيب فيما إذا أسقطتْ حقَّها مطلقاً ويتعلق بهذه الهبة والرجوع عنها مسألتان أخريان: إحداهما: للواهبة أنْ تَرْجِعَ متى شاءت ويعود حَقُّهَا في المستقبل؛ لأَنَّهَا هِبَةٌ لم يتصل بها القَبْض فيما يرجع إلى المستقبل، حتى لو رجعتْ في أثناء الليْل، فيخرج من عنْد الموهوبة، وأما ما مَضَى، فلا يؤثر الرجُوعُ فيه وكذا ما فات قبل علم الزوْج بالرجوع لا يؤثر فيه الرجوع؛ ولا يقضي؛ لأنَّه لم يظهر منْه ميل ولا تقصير إذا لم
يعلم، وفيه وَجْهٌ: أنَّه يقضي تخريجاً من الخلاَف في أن الوكيل هل ينعزل قبل العِلْم بالعزل، والظاهر الأوَّل وشَبَّه في الكتاب المسألة بما إذا أباح ثمرة بستانِهِ لإِنْسَان، ثم رجع وتَنَاوَل المُبَاح لَهُ بَعْضُها قَبْل العِلْم بالرجوع، وفي هذه الصُّورة طريقان محكيان فيما علق عن الإِمام، فَعَنِ الشَّيْخ أبي مُحَمَّد: أن في وجوب الغُرْم لما تناوله بَعْد الرجوع قَوْلَهن، كَما في مسَألة عزل الوَكِيل، وعن أبي بَكْر الصَّيْدلانِّي: أنَّه يغرم؛ لأن الغرامات لا فرق فيها بين العِلْم والجَهْل، وإلى التَّغْرِيم مال الإِمام. والثانية: لا يَجُوزُ أن تأخذ على المُسَامَحَة بحَقِّها عِوَضاً لا من الزَّوْج، ولا من بعض الضَّرَائِر، وإن أخذت فعليها الرَّدُّ ويستحق القضاء؛ لأن العِوَضَ لَمْ يسلم لها وحكى القاضي ابن كج أنَّهَا لا تستحق القضاء. فَرْعٌ: لَوْ بَاتَ في نَوْبَةِ واحدةٍ عند غيرها وادَّعَى أنها كانَتْ قد وهَبَتْ نَوْبَتَهَا منْها، وأنكرت فَهِيَ المصدقة، وعليه البينة ولا يقبل فيه إلاَّ شهادة رجلين. وقوله: "فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَصِّصَ وَاحِدَةً" معلَّم بالواو، وكلام أكثرهم مائل إلى تجويزه. وقوله: "فَلاَ يَقْضِي" معلَّم بالواو أيضاً وكذا قوله "كما فات مثلاً من ثمار البستان" ولا يبعد ترجيح التغريم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثَةُ): إِذَا ظَلَمَهَا بِعَشْرِ لَيَالٍ مَثَلاً وَأَبَانَهَا فَقَدْ فَاتَ التَّدَارُكُ وَبَقِيَتِ المَظْلَمَةُ، فَإِنْ جَدَّدَ نِكَاحَهَا قَضَاهَا إِلاَّ إِذا نَكَحَ جَدِيدَاتٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ في نِكَاحِهِ المَظْلُومَةُ بِهَا فَيَتَعَذَّرُ القَضَاءُ وَيَبْقَى المَظْلَمَةُ. قال الرَّافِعِيُّ: مَنْ ظَلَمَ وَاحدةً من زوْجَاتِهِ بِلَيَالٍ، فقد تَقَرَّرَ أَنَّه يلْزَمُهُ القَضَاء وإنَّمَا يتأتى القَضَاءُ إذَا كَانَتِ المظلومةُ والَّتِي ظَلَمَهَا بسببها في نِكَاحِه، أما إذا فَارَقَ المظلومةَ بطلاق وغيره، فقَدْ تعَذَّر القضاء وبَقِيَتِ المظلمة، في ذمته وذكر في "التتمة" أنه إذا قَسَمَ لواحدة فلمَّا جاءت نَوْبَة الأُخْرَى طَلَّقَهَا قبْلَ توفية حقِّها عَصَى؛ لأنَّه منعها حقَّها بعْد ثُبُوتِ الاسْتِحْقَاقِ لَهَا، وعلى هَذَا فهذا سَبَبٌ آخَرُ بوُجُوب كَوْنِ الطَّلاَقِ بِدْعيّاً، ثمَّ إذا عادت المطلقة إلَيْه برجعة أو بنكاح جديد وفي نكاحه التي ظَلَمَهَا بسببها، فعليه القضاء؛ لأنَّه تمكن من الخروج عن المَظْلَمَة. وفي وجه: إنْ عَادَت بنكَاح جديدٍ لم يستَحِقَّ القضاء؛ لأَنَّ سبب الاستحقاقِ، قَد زال، وقَرُبَ هذا من الخِلاَفِ في عود الحنث وربَّمَا قيل هو هو، ولَوْ لَمْ يَكُنْ في نكاحِهِ الَّتِي ظَلَمَها بسببها حين عَادَتِ المظلومة إلى نكاحِهِ، بل نَكَح جديداتٍ فالقضاة متعذِّرٌ، لأنَّ القضاء إنما يكون من نَوْبَةِ التي ظلم بسببها، وليست الجديداتُ كذلك، ولو لم
الفصل الخامس في المسافرة بهن
يفارقِ المَظْلُومَةَ وَفَارَقَ اللَّوَاتِي ظلم بِسَبَبِهِنَّ ثم عُدْنَ إلى نكاحه أو فارقها وفارقَهُنَّ ثم عُدْنَ إلى نِكَاحِهِ اشتغل بالقضاء ولا يحتسب من القضاء ما فات عنْدَهَا في مفارقتهن وَيجِيْءُ بالنِّكَاحِ الجديد الخلافُ السابقُ (¬1). ولو كان في نكَاحِهِ ثَلاثَ فَبَاتَ عنْد اثنتين عشرين ثُمَّ فَارَقَ إحداهما يبيت عند المَظْلُومَةِ عَشْراً تسويةً بينها وبَيْنِ الباقية كذا ذكره في "التَّهْذِيب" وقال في التَّتِمَّةَ: لو ظلم واحدةً من الثَّلاَث بعَشْرٍ ثُمَّ قَبْل توفيَةِ حقِّها طَلَّقَ وَاحِدَةً من ضَرَّتَيْهَا لا يقضي لها إلا خَمْس ليال؛ لأنَّه إنما يقضي العشر من حقهما جميعاً، وقد فات حقّ واحدةٍ منهما، وقوله في الكتاب: "بعَشْرِ لَيَالٍ" لا يخفى أنه مَذْكُور على سَبِيل التَّمْثِيل. وقولُهُ "وَأَبَانَهَا فقد فات التداركُ وبَقِيَتِ المظلمةُ" فوات التدارك لا يختص بالإِبانة، بل كلُّ طَلاَق وفِرَاقٍ في معناها (¬2) وكأنه أراد أن يرتب علَيْه الكلام فيما إذا أراد أَن يجدد نِكَاحها، فلذلك أطْلَقَ لفْظَ الإِبَانَة. وقوله: "قَضَاها" معلَّم بالواو، وقوله: "إِلاَّ إِذَا نَكَحَ جَدِيدَاتِ أَوْ لَم يَكُنْ فِي نِكَاحِهِ المَظْلُومَةُ بِهَا" يشير إلى أنَّه لو نَكَح جديدة، وبقيت في نكَاحِهِ الَّتي ظلم بسببها، لم يتعذر القَضَاءُ، وذلك كما إذا كانت تَحْتَهُ زوجتان، فَظَلَمَ واحدةً بلَيَالٍ، ونَكَحَ ثالثة، فيراعي حقَّ الثَّالِثَةِ، ويقضي للمَظْلُومَةِ من نَوْبَة المظلوم بها على ما تقدَّم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الخَامِسُ في المُسَافَرَةِ بِهِنَّ) كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا هَمَّ بِسَفَرٍ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَاسْتَصْحَبَ وَاحِدَةً ثُمَّ إِذَا عَادَ دَارَ عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ فَصَارَ سُقُوطُ (ح) القَضَاءِ عَلَى خِلاَفِ القِيَاسِ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ، وَلَكِنْ بأَرْبَعِ شَرَائِطَ، أنْ يَقْرَعَ أَوَّلاً، وَأَنْ لاَ يَعْزِمَ عَلَى النُّقْلَةِ، وَأَنْ يَكُونَ السَّفَرُ طَوِيلاً مُرَخَّصاً لِيَكُون فَوْزُهَا في مُقَابَلَةِ تَعَبها، وَأَنْ لاَ يَعْزِمَ عَلَى الإقَامَةِ في مَقْصِدِهِ، فَإِنْ خَرَجَ للِنُّقْلَةِ أَوْ لِلتَّفَرُّجِ أَوْ عَرَضَ فِي سَفَرٍ قَصِيرٍ قَضَى لِلبَاقِيَاتِ، وَإِنْ عَزَمَ عَلَى الإِقَامَةِ في مَقْصدِهِ قَضَى أَيَّامَ الإِقَامَةِ، وَهَلْ يَقْضِي أَيَّامَ الرُّجُوعِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ القَضَاءُ بِإقَامَةِ يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَإنْ كَانَ يَمْتَنِعُ بِهِ التَّرَخُّصُ، وَإِنْ أَقَامَ أَيَّاماً في انْتِظَارِ إِنْجَازِ حَاجَتِهِ ابْتَنَى القَضَاءَ عَلَى الخِلاَفِ في تَرَخُّصِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أنْ يَعْزِمَ عَلَى النُّقْلَةِ وَيُخَلِّفَ نِسَاءَهُ. قال الرافعي: بَيَّنَّا في أول القَسْم أن مقصود هذا الفَصْل القَوْلُ في مسافرة الزَّوْج بزوجاته أو ببعضهن، وقد صَحَّ عن عائشة -رضي الله عنها- أن النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَليْهِ ¬
وسلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَراً أَقْرَعَ بَينَ نِسَائِهِ فأيتهن خرج سَهْمُها خَرَجَ بِهَا (¬1)، ولم ينقل أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا عَادَ يَقْضِي، ولو كان يَقْضِي لأَشْبَه أن ينقل مع ذكر سفره لمن خرج سهْمُهَا، وحَكَى بعضهم، وفيهم أبو الفرج الزاز أنَّه روي عن عائشة رَضِيَ الله عنها أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "ما كان يَقْضِي" ولفظ الكتاب يوافق ما ذكره هؤلاء، وجعل سقوط القضاء من رُخَصِ السَّفَرِ بخلاف ما إذا خَصَّص واحدة في الحَضَر؛ لأَنَّ المُسَافِرَةَ وإن فازت بصحبة الزوج فقد تعبت في السفَر ومَشَاقِّه، وفي "الوسيط" أن أبا حَنِيْفَةَ -[رحمه الله]- قال بوجوب القَضَاء، وإن أقْرَعَ وكذا حكايه القَاضِي ابن كج، وفي "أمالي" أبي الفَرَجِ: أنَّه لا مدخل للقرعة عنده في ذلك بل يَسْتَصْحِبُ من شاء، ثم يقضي، ثم اعتبر صاحب الكِتَابِ لسقوط [وجوب] (¬2) القضاء أربعةَ شُرُوطٍ: أحدها: أن يَقْرَعَ، فلو استصحب بعضَهُن بلا قُرْعَة، فعليه القضاء للمخلفات؛ لأنَّه ظَلَم بالتفضيل والتخصيص، وفي "الشامل": أن أبا حنيفة ومالكاً قالا: لا يَجِبُ القَضَاء، وهذا بخلاف ما سبق عن أبي حنيفة رحمه الله، ثم في المُدَّة الواجِبِ قَضَاؤُهَا وجهان: أظهرهما: أَنَّه يقضي ما بَيْن إنْشَاء السَّفَر إلى أن يَرْجع إلَيْهِنَّ. والثَّانِي: يستثني مُدَّة الرُّجُوع؛ لأَنَّه خروج عن المَعْصِيَةِ، وفي وجْهٍ: لا يقضي من وقت العزم عَلَى الرُّجُوع وإن لم يَنْهَض بَعْدُ، وأشار الحناطي إلى خلاف في أن ما ذكرْنَا أنَّه إنَّمَا يَسْتَصْحِبُ بعضَهُن بالقُرْعَة مخصوصٌ بما إذا كان يقسم لَهُنَّ أو مُطْلَقٌ، والظَّاهر الإِطلاقُ، وإذا خرجت القرعةُ لواحدةٍ لَمْ يَجُز أن يستصْحبَ غيرها، ويجوز أن يُخَلِّفَهَا مع المتخلِّفات وللقرعة طريقان: إخراج الأسماء على السَّفَر، وإخراج السَّفَر على الأسماء، فإذا كانت تحته أربع نسوة وأراد أن يَقْرَعَ بينهن، فإن شاء أثْبَتَ أسمائهن في رِقَاع وأدرجها في بنادق متساوية، وأخرج منّها واحدة على السفر، وإن أراد استصْحَاب اثنتين معه، أخرج رُقْعَة أُخْرَى وجَوَّزُوا -والحالة هذه- أن يَقْتَصِرَ على رُقْعَتيْن، ويثبت في كل واحدة اسْم اثنتين، وإن شاء أثبت الحَضَر في ثلاث رِقَاع، والسفر في واحدةٍ، وأدرجها ثم يخرج رُقْعَة على اسْم واحِدَةَ فإن خرجَتْ رقْعَةُ السفر استصحبها، وإن خرجَتْ رقْعَة من رقاع الحَضَر أخرج رُقْعَة أُخرى على اسم آخَرَ وهكذا حَتَّى يخرج رقْعة السفر، وإن كان يسافر باثنتين، أثبت السفر في رقعتين [وفي] الحضر رُقْعَتَيْنِ. والثَّانِي: ألاّ يَقْصِدَ بِسَفَرِهِ النُّقْلَة فأما في سفر النُّقْلَة، فَلاَ يجوز أن يَسْتَصْحِبَ ¬
بعضَهُنَّ دون بَعْضٍ لا بالقُرْعَة ولا بِغَيْرِ القُرْعَة، ولو فَعَلَ قضى للمخالفات، هَذَا هو الأَظْهَرُ وبِهِ قال أبو إسْحَاقَ، وحمل عليه قوله في المختصر: "وَلَوْ أَرَادَ النَّقْلَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ بِوَاحِدَةٍ إِلاَّ وَفَّى لِلْبَوَاقِي مِثْلَ مُقَامِهِ مَعَهَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِذَا نَقَلَهَا بِالقُرْعَةِ لَمْ يَقْضِ مُدَّةَ السَّفَرِ كَمَا في سَفَر التِّجَارَةِ" وحمل النص على مدة مقامه معها في البلد المنتقل إلَيْهِ، والفَرقَ عَلَى الأَظْهَر أنَّ سفر النُّقْلَة لا يختصُّ ببعضهن، بل يحتاج إلى نَقْلِهِنَّ جميعاً، فلا يخصِّصُ واحدةً بالاستصحاب كما في الحَضَر، ولو نقل بَعْضَهُنَّ بنفسه، وبعضَهُنَّ بوكيله بلا قرعة قضى لمن بعَثها مع وكيله ويجوز أن يفعل ذلك بالقرعة قاله في "التهذيب" وإذا أخذ في الرجُوع إلَيْهِنَّ بَعْد تخصيص واحدةٍ بالنقل، ففي قَضَاء مدَّة الرُّجُوع الوجْهَان، ولا يجوز أن يسافر سَفَرُ نُقْلَةٍ، ويخلف نساءه بل يَنْقُلُهُنَّ بنفسه أو بوكيله أو يطلقهُنَّ؛ لِمَا في التحليف من الإِضرار، هكذا أطلقه في الكتاب قال في "الوسيط": وإِنَّمَا لا يُكَلَّفُ في الحَضَرِ البيتوتةَ والتخصيص؛ اكتفاء بداعية الطبع، وفيما علق عن الإِمام أن ذلك أدب وليس بأمر لازم. والثالث: أن يكون السفر طويلاً أما السَّفَرِ القصيرُ لغَرَضِ التفرُّج وغَيْره فهَلْ يجُوز أن يَسْتَصْحِبَ فِيهِ بعضَهُنَّ بالقُرْعَة فيه وجْهَانِ: أحدهما: لا، ولو فَعَلَ لَزِمَه القضَاءُ؛ لأنه في حُكْم الإِقامة، وليس للمقيم، أن يَخُصَّ بعضَهُنَّ بالصُّحْبة؛ لأن المشقة فيه لا تَعْظُمُ. والثاني: أنَّه كالسَّفَرَ الطويل؛ لأنَّه أعم وقوعاً، واستصحابُهُنَّ فيه أغْلَبُ، والأول هو المذكور في الكتاب، والثاني، أصحُّ عند صاحب "التهذيب" والتتمة وغيرهما، والرابع، أن لا يعزم على الإقامة، ولا يقيم فلا يقضي للمخلفات المُدَّة الَّتي سافر فيها أمَّا إذا صَار مُقِيماً فاعلم أنَّا ذَكَرْنا في "باب صلاة المُسَافِرِينَ" أن السفر يَنْتَهِي (¬1) بأمور: أحدها: العَوْد إلى الوَطَن، وفي معناه البُلُوغ إلى المَقْصِدِ الَّذي لم يعزم على الإِقامة فيه أربعةَ أيَّام فصاعداً. ولا ينتهي بلوغ المَقْصِدِ الَّذي لم يعزم على الإِقامة فيه هذه المدَّة على الأصح. والثاني: أن يعزم على الإِقامَةِ في بَلْدة أو قرية إلَيْها في طريقه أربعة أيام أو أكثر. والثالث: أن يقيم مُدَّةَ أربَعَةِ أيَّام لشغل ينظر أهو مما يتوقع تنجزه لَحْظَةً فلَحْظَةً، وهو على أن يرتحل متى تنجز أو مما يعلم أنَّه [لا] (¬2) ينجز في أربعة أيام، وفي الحالين اختلافٌ طويلٌ مذكورٌ في "صَلاَةِ المُسَافِرِينَ". ¬
إذا تذكرت ذلك فإذا انتهى إلى مقصده الَّذِي كان عَزَم على الإِقامة به أربعةَ أيَّام أو أكْثَرَ، أو عزم عليها عندما انتهى إلَيْه، فيقضي مُدَّةَ إقامَتِهِ، وفي مدة الرجوع وجْهَان: أشبههما [أنَّه] لا يقضي؛ لأنه خرج بالقرعة والخروج يعقبه الرجوع فكما لا يقضي مدة الذهاب لا يقضي مدة الرجوع. والثَّانِي: أنَّه يجب القضاء؛ لأن السَّفَر قد انْقَطَعَ بالإِقَامَة، وهذا كسفر بغَيْر قُرْعة، وصور الشيخ الزاز فيما إذا قد سافر للتجارة ثم عزم على إقَامَةِ النُّقْلَةَ وحكى فيه الوجْهَيْن هذا في عزم الإِقَامَة، وأمَّا نفس الإِقامة (¬1) فعن كلام الإِمَام: أنه لا يلزمه القَضَاء بإقامَةِ يَوْمٍ واحدٍ؛ لأن القضاء إنما يَجِبُ إذا فازت المستصحَبَةُ بصُحْبَتِه من غَيْر أن تَتَحَمَّل مَشقَّة السَّفَر، وباليَوْم الوَاحِدِ لا ترتفع المشقة، ولا تحصل الدَّعَة والرفاهية، وهذا قوْلُه في الكتاب: "وَلاَ يَلْزَمُهُ القَضَاءُ بِإِقَامَةِ يَوْمٍ وَاحِدٍ وإن كان يمتنع به الترخص" وامتناع الترخص بإقامة اليَوْم الواحد يُمْكِنُ فرْضُه فيما إذا انتهى إلى مقصده الذي كان قد عزم على الإِقامَةِ فيه أربعةَ أيَّام أو أكثَرْ، وفيما إذا أقام لشُغْلٍ ليرتحل مهما تنجز فينجز وأقام بعد ذلك يوماً ثم في الصُّورَتَيْنِ إقامَةُ ما دون اليَوْمِ كإِقَامَةِ اليَوْمِ، فيكون ذلك اليَوْمُ عَلَى سَبِيل التَّمْثِيلِ، فهذا ما يشتمل عليه الكتَابُ، وكلام الإِمام فيه ما يُفْهِمُ وجوب القَضَاء، ولو زادت إقامته على يَوْمٍ واحدٍ لكن الدعة والرفاهية لا تكاد تَحْصُلُ باليوم الواحد، ولذلك احتملنا ثلاثة أيَّامٍ على الْوَجْهِ المذكور في "صَلاَةِ المُسَافِرِينَ" والأقرب ما أورده صاحب "التَّهْذِيبِ" فقالُ: "ولو حمل بعضهن بالقرعة وزاد مقامه [في بلدٍ] على مقامِ المسافرين يجبُ عَلَيْهِ أن يقْضِيَ ما زاد على مقام المسافرين" هذا لفظه، وفيه تسوية بين ما نَحْنُ فيه وبين الترخُّص بالقَصْر، والله أعلم. وإن أقام لِشُغْلٍ يتوقع تنجزه فالخلاَفُ في القضاء، كالخِلاَف في الترخص. قال في "التَّتِمَّة": إن قلْنَا: يترخص فلا يَقْضِي؛ لأنا لم نحكم بإقامته، وإن قُلْنَا: لا يترخَّصُ، فيقضي ما زاد على مدَّة المسافرين، وهذَا يؤيد التَّسْوِيَة بَيْن الأصلين، والقِيَاسُ في مدَّة الرُّجُوع في هذه الحالة أن يقال: إنْ لمْ نوجبِ القضاء لمُدَّة هذه الإِقَامَة، فلا يقضي مدة الرُّجُوع وإن أوجبنا القضاء، ففي قضاء مدة الرُّجُوع الوَجْهَانِ السابقانِ؛ لانقطاع السفر الأول. والأظهر من الخلاف في الترخص -أنه إن كان يتوقع تنجز الشغل لحظةً فلحظةً أن يترخص إلى ثمانية عَشَرَ يَوْماً، وإن كان يعلم أنه لا ينجز في أربعة أيام ألاَّ يسترخص أصلاً، وقد ذكرْنَا ذلك في موْضِعِه، وقوْلُهُ في الكتاب فَصَارَ سقوط القَضَاءِ عَلَى خِلاَفِ ¬
القِيَاسِ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ، أي على خلاف قياس الحضر؛ فإنَّه لا يجوز تخصيص بَعْضِهِنَّ بالقُرْعَة، وليس ذلك على خلاف القياس مُطْلَقاً, لأن المصاحبة في السفر مصاحبةٌ في حال تعب وَمَشقَّة، ولا يكاد يكمل فيه الأُنْس والسكن، فلو قضى بعد الرجوع وقع القَضَاء في حال الدعة والرفاهية، وَذَلِكَ بَعيد عن العَدْل والتسوية، ويمكن أن يُعَلَّم قوله: "سقوط القضاء". وقولُه: "أَنْ يَقْرَعَ أوَّلاً" بالحاء لِمَا حَكَيْنَاه من الرِّوَايَات المضطربة، وُيعَلَّمَ قولُهُ: "أن يَقْرَعَ" بالميم أَيْضاً، وَقَوْله "وأن لا يعزم على النُّقْلة" معلم بالواو؛ للوجه الذي ذكرنا في سَفَر النُّقْلَة، وكذا قَوْلُهُ: "وأن يكُونَ السَّفَرُ طويلاً مُرَخَّصاً للوجه الذاهب إلى أنه لا فَرْقَ بين الطويل والقصير، وقولُهُ: "مُرَخَّصاً" يقتضي وُجُوبَ القضاء في سفر المعصية. وقوله: "ليكون فوزها في مقابلة تعبها" يعني التعب اللاحق في السفر الطويل ويشير به إلَى أَنَّ القصير لا تَعْظُمُ فيه المَشَقَّةُ. وقوله: "ولا يجوز له أن يعزم على النُّقْلَة" أي يسافر على عزم النُّقْلَة، والمراد من تَخْلِيفِ (¬1) النِّسَاء ألاَّ ينقُلَهُنَّ بنَفْسِهِ ولا بوكيل ويكون إعلامُه بالواو لمَا تَقَدَّمَ. فُرُوعٌ: لو استصحب واحدة بالقُرْعَة ثم عَزَمَ على الإِقامَةِ في بَلَد، وكتب إلى البَاقِيَاتِ يستحضرهن ففي وجوب القضاء من وَقْت ما كتَبَ إلَيْهِنَّ وجْهَانِ حكاهما صاحب "التَّهْذِيبِ" (¬2) وفي "فتاويه": أنَّه لو نوى المقام في بَلَدٍ قيل أن يصل إلى مقصوده يقضي مدة مقامه في ذلك البلد، وهل يقضي مُدَّة ذَهَابِهِ إلَى المَقْصِدِ بعد ذلك يحتمل أن يَكُونَ على وَجْهَيْن كَمَا في مُدَّة الرجوع ويحتمل أن يُقَال: يقضي قطعاً (¬3) وأنه إذا استصحب واحدة بلا قرعة قضى للباقيات جميع المدة وإن كان لا يبيت معها إلاَّ إذا تركها في بلد وفارقها ويحتمل أن يقال لا يقضي إلاَّ ما بات عنْدَهَا، ويحتمل أن يقال: يقضي وإن خلفها في بَلَدٍ (¬4)، وفِيما علّق عن الإِمام ذكر وجهين فيما إذا اسْتَصْحَبَ واحدة بالقرعة (¬5) في سَفَر النُّقْلَة وأوجَبْنَا القضاءَ هَلْ يخرج عن الظُّلْم بتغير عزم النُّقْلَة أو يستمر حُكْمُه إلى أن يرجع إلى المُخَلَّفات (¬6)؟!. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ عَزَمَ عَلَى الإِقَامَةِ أَيَّاماً ثُمَّ أَنْشَأَ سَفَراً آخَرَ لَمْ يَكُنْ عَزَمَ عَلَيْهِ أوَّلاً لَزِمَهُ قَضَاءُ تِلْكَ الأَيَّامِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَيْهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ عَلَى أَيَّامِ الرُّجُوعِ، وَأَوْلَى بِوُجُوبِ القَضَاءِ، وَلَوْ سَافَرَ بِاثْنَتَيْنِ عَدَلَ بَيْنَهُمَا بِالسَّفَرِ، وَإِنْ ظَلَمَ إِحْدَاهُمَا قَضَى لَهَا إِمَّا فِي السَّفَرِ أَوْ فِي الحَضَرِ، وَلَهُ أَنْ يُخَلِّفَ إِحْدَاهُمَا فِي بَعْضِ المَنَازِلِ بالقُرْعَةِ، وَلَوْ نَكَحَ فِي الطَّرِيقِ جَدِيدَةً خَصَّهَا بِثَلاَثِ لَيَالٍ أَوْ سَبْعٍ ثمَّ عَدَلَ بَعْدَهُ بَيْنَهُنَ، وَلَوْ خَرَجَ وَحْدَهُ وَنَكَحَ فِي الطَّرِيقِ جَدِيدَةً لَمْ يلْزَمْهُ القَضَاءُ لِلمُخَلَّفَات، وَلوْ كَانَ تَحْتَهُ زوْجَتَانِ فَنَكَحَ جَدِيدَتَيْنِ وَسَافَرَ بِإِحْدَاهُمَا بِالقُرْعَةِ انْدَرَجَ حَقُّ الجَدِيدَةِ في أَيَّامِ السَّفَرَ، فَإِنْ عَادَ قَضَى حَقَّ الجَدِيدَةِ المُقِيمَةِ بِسَبْعٍ أَوْ ثَلاَثٍ، وَقِيلَ: بَطُلَ أَيْضاً حَقُّهَا لانْقِضَاءِ الوَقْتِ مِنْ أوَّلِ الزِّفَافِ. قال الرَّافِعِيُّ: فيه صورتان: إحداهما: لو سافر باثنتين بالقُرْعَة، عَدَلَ بينهما، فإن ظَلَم إحداهما، قضى لها في السفر، وإن لَمْ يتفقْ، قَضَى في الحَضَر من نَوْبَة الَّتي ظلمها بها, ولو استصْحَبَ واحدةً بالقُرْعَة، وواحدةً بلا قُرْعَة، فيعدل بينهما أيضاً، ثم إذا رَجَع، قضى لمن خَلَّفَهَا من نَوْبَة التي استصحبها بلا قرعة، ولا تخص مُدَّة السَّفَر لِمَنِ استصحبها بالقُرْعَة وإنما يكون كذلك إذا لم يكن معها غيْرَهَا ولو كانت إحدى المستصحبتين جديدة لم يقضِ حق زفافها فيقضيه ثم يسوي بينهما، وَلَوْ أراد تَخْلِيفَ واحدةٍ في بعْضِ البلاد، فلَهُ ذلك، ولَكِنْ بالقرْعَةِ، ولوْ نَكَح في الطَّرِيق جديدَةً فَيَقْضِي حَقَّ زَفَافِهَا ثُمَّ يُسَوِّي بيْنَهَا وبَيْنَ المستصحبات، ولا يلزم القَضَاء للمُخَلَّفَات ولو خرج وحده ونكح في الطريق جديدة فكذلك لا يلزم القضاء للمخلفات، وهذا في مدة السفر فأما إذا نَوَى الإِقَامَة في مَوْضِعٍ أو أقام أياماً، فيقضي في الصُّورَتَيْنِ ما وراء حقَّ الزفاف، وفي مدة الرجوعَ الوَجْهَانِ الثانيةُ: تحته زوجَتَانِ فنكح جديدتَيْنِ وسافر بإحداهما بالقُرْعَة: فيندرج حق زفافها في أيام السفر؛ لأن المَقْصُود من زيادة المقام مع الجديدة زوالُ الحِشْمَة وحصولُ الانْبسَاطِ، وقد حَصَل ذلك في السفر، وإذا عاد، فهل يوفي حَقَّ الأخرى بثلاثٍ أو سبعٍ فيه وجْهَان: أظهرهما: -ويَحكى عن أبي إسحاق وابن أبي هريرة:- نَعَمْ؛ لأنَّه حق ثبت قبل المسافرة، فلا يسقط بالسَّفَر، كما لو قسم لبعض نسائه دون بعض، وسافر، فإنَّه بعد الرُّجُوع يقضي لمَنْ لم يقسم لَهَا. والثَّاني: ويحكى عن ابن سُرَيْجٍ -لاَ، كما لو سَافَر بإحْدَى القديمتَيْنِ لا يقضي للأخرى، ولأن حق الجديدة، يتعلق بأول الزفاف، وقد مضى، ولو نكح اثنتين وزُفَّتَا إلَيْهِ معاً فَسَافَرَ بإحْدَاهما بالقُرْعَة، فالحُكْم كذلك فلو كانَتَا بِكْرَتَيْن فَرَجَعَ بَعْدَ ثلاثة أيام
قال القاضي ابن كج: على الوجْه الأول يتم لَهَا السَّبْع ثم يوفي (¬1) الأخرى سَبْعاً وعلى المَنْسُوب إلى ابن سريج، يتم لها السَّبْع، ويبيت عند الأخرى أربعاً، ويبطل ما جَرَى في السفر، ولو نَكَح جديدةً على قديمةٍ وسَافَرَ قبل أن يُوَفِّيَ حق الزفاف بواحدة منْهما بالقُرْعَة فإنْ سافر بالقديمَةِ، وَفَّى عند الرجوع حَقَّ الجديدة، نَصَّ عليْه ويجيء فيه الوجْه الآخَرُ، وإن سافر بالجديدة، انْدَرَجَ حقُّ الزفاف في أيام السفر، ويفارق اندراج حقُّ الزفاف في هذه الصورة ما إذا ظَلَمَ واحدة، ثم سافر بالمظلومةِ بالقُرْعَةِ، لا يَنْدَرجُ حقُّ القضاء في أيام السفر؛ لأنَّ القضاء إنما يَجبُ في نوبة الضَّرَائر وأيام السفر [حقٌّ] (¬2) لها خاصَّةً، فلا يحسب عن القضاء وحق الزفاف يثبت للجديدة؛ لا في حق الضرائر فيحسب من أيام السفر حتَّى لو سافر بالمَظْلُومة بلا قُرْعة يندرج أيام القضاء في أيام السفر؛ لأن أيام السفر -والحالةُ هَذِه- غير مستحَقَّة لها، وقد عَرَفْتَ بما أوردناه أن قوله في الكتاب: "قَضَى لَهَا إمَّا في السَّفَرِ أَوْ في الحَضَرِ" ليس تخيراً بل يقضي في السَّفَر مبادرةً إلى قَضَاءِ ما عَلَيْهِ ولأَنَّه أَقْرَبُ إلى العَدْل للتفاوت بين الصَّحْبَة في السَّفَر والصحبة في الحَضَر، فإن لم يتفق فيقضي في الحَضَر، وأنَّ قوله: "لَمْ يَلْزَمْهُ القَضَاءُ للمُخَلَّفَاتِ" أي في مدة السَّفَر أما إذا أقام فيقضي. وقوله: "بطل أيضاً حقها" أراد به لا يُوفِي لَهَا حقَّ الزفاف، كما لا يوفي للتّي سافر بها، [وإلاَّ فحقها] صار مُوفَى لا باطلاً، حتى يقول: يبطل [حق هذه] أيضا ونختم الكَلاَم في القَسَم بصور حكى أبو عبد الله الحناطي وجْهَيْن فيما إذا كانت تَحْتَهُ زوجتان، ولَهُ إماء هل له أن يسافر بواحدة من الإِماء من غير قُرْعَةٍ؟ ونسب المنع إلى ابن أبي هريرة، والجَوَاز إلى أبي إسحاق وهو قياس أصل القَسْم (¬3). وفي "فتاوى الشيخ الفَرَّاء": أن حَقَّ الزِّفَاف إنما يثبت لِلَّتِي نَكَحَهَا إذا كانت في نكاحه أُخْرَى يبيت عنْدَهَا، فإن لم يَكُنْ في نكاحه أخْرَى أو كانَتْ وكان لا يبيت عندها، فلا يثْبُتُ حقُّ الزِّفَاف كما لا يجب على الرَّجُل أن يبيت عند زوجته أو زوجاته، وأنه لو نكح امرأتين وليست عنده امرأة أخرى، ففي ثبوت حق الزفاف وجْهَانِ: أظهرهما: وهو الذي أوردْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أنَّه يثبت لها حَقَّ الزِّفَاف. والثاني: أنهما إن كانتا بِكْرَيْنِ أو ثيبتين لم يكن لها حقُّ الزِّفَاف، فإن أراد أن يبيت عنْدَها فَعَلَيْهِ التَّسْويَةُ وإنْ كَانَتْ إحداهما بكْراً والأخرى ثَيِّباً فيخص البِكْر بأربع ليال، ثم يسوي. ¬
الفصل السادس في الشقاق
وأنه لو سافر بإحدى زَوْجَاتِهِ بالقُرْعة ثم نَكَحَ في السَّفَر جديدة، ومنعها حقَّ الزِّفَاف ظُلْماً وباتَ عنْدَ القديمة سبْعاً، وعاد إلى البَلَد قبل أن يَقْضِي للجديدة حقَّ الزِّفَاف [فيوفيها حق الزفاف] (¬1) ثم يدور على المُخَلَّفَات والجديدة فيقضي لها من يوم القديمة الَّتِي كانَتْ مَعَهُ في السَّفَر، وذلك بأن يبيت عنْد كُلِّ واحدةٍ من المُخَلَّفَات ليلةً وعنْدَ الجديدةِ ليلَتَيْنِ إحداهما لها والأخرى نوبة التي ظلمها بسببها، هكذا يفعل إلى أن يتم لَهَا السَّبْع، وكذا لَوْ كَانَتْ تَحْتَه ثلاثٌ وَنَكَحَ جديدةً ولم يُوَفِّهَا حقَّ الزِّفَاف، بل بات عند واحدة من الثلاث عَشْراً ظُلْماً، فعليه أن يوفي حق الجديدة، ثم يدور عليْهَا وعلى المظلومتين، حتى يتم لكلِّ واحدةٍ عَشْراً واللَّهُ أعْلَمُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ السَّادِسُ في الشِّقَاقِ): وَلَهُ ثَلاَثةُ أَحْوَالٍ: (الأُولَى): أَنْ يَكُونَ النُّشُوزُ مِنْهَا فَلَهُ الْوَعْظُ أَوْ مُهَاجَرَةُ المَضْجَعِ أَوِ الضَّرْبُ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الوَعْظَ لاَ يَنْجَعُ كَانَ لَهُ البِدَايَةُ بِالضَّرْبِ، فَإِنْ أَفْضَى الضَّرْبُ إِلَى تَلَفٍ فَعَلَيْهِ الغُرْمُ بِخِلاَفِ الوَلِيِّ فإِنَّهُ يُؤَدِّبُ الطِّفْلَ لاَ لِحَظِّ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ نَاشِزَةً بِالمَنْعِ مِنَ المُسَاكَنَةِ وَالاسْتِمْتَاعِ بِحَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى تَعَبٍ في رَدِّهَا إِلَى الطَّاعَةِ، وَحُكْمُ النُشُّوزِ سُقُوطُ النَّفَقَةِ، فَلَوْ مَنَعَتْ غَيْرَ الجِمَاع مِنَ الاسْتِمتَاعِ احْتَمَلَ أَنْ يَسْقُطَ مِنَ النَّفَقَةِ بَعْضُهَا كَمَا ذَكَرْنَا فِي الأَمَةِ إِذَا سَلَّمَتْ إِلَى الزَّوْجِ لَيْلاً وَمَنَعَتْ نَهَاراً. قال الرَّافِعِيُّ: والشِّقَاق بَيْن الزَّوْجَيْن قد يعرف ويظهر سببه، وذلك إمَّا بأن تَنْشُزَ المرأة وتتعدى، أو بأن يتعدى الرَّجُل، وقد لا يظهر ويشكل الحال في أن التعدي من أيهما أو هو منهما فهذه أحوال ثلاثة: الحال الأولى: أن تتعدى المرأة والقرآن. بعرض لِثَلاثَةِ أُمُورٍ في نُشُوزِ المرأة وَتَعَدِّيهَا الوَعْظَ والهِجْرَانَ، والضَّرْبَ قال الله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 28] والمراد من الوعظ أن يخوفها بالله تعالى ويقول لها: اتَّقِي اللَّهَ في الحَقِّ الواجِب عليك، واحْذَرِي العُقُوبَةَ ويبين لها أن النشوز يُسْقِط النفقة وحقَّ القَسْمِ، فقد تتأدب بذلك، والهِجْرانُ المعتبر هو الهِجْرَانُ في المَضْجَع، وله أَثَرٌ ظاهِرٌ في تأدب النساء، وأَما الهجرانُ بالكَلاَم ففي "الحلية" للقاضي الرُّوَيانِيِّ أن في ضمن هجرانها في المضجع الامتناعَ عن الكلام (¬2)؛ وهذا إن أراد به الامتناع من الكلام في تلْكَ الحالة، فهو قريب، وإن أراد الامتناع المُطْلَقَ، فهو غريب، والمشْهُورُ المَنْع من الهِجْرَان بالكلام، وفيما علّق عن الإِمام حكايَةُ وَجْهَيْنِ في أنَّه محرمٌ أو مكروهٌ قال: والذي عِنْدِي أنَّه لا يحرم الامتناع من الكلام ابتداءً، نَعَمْ، إذا كُلِّمَ فعليه أن يُجِيبَ، وهو بمثابة ابتداء السلام، والجواب عنْه، ولِمَنْ ذَهَبَ إلَى التَّحْرِيم أن يقُولَ: ¬
الامتناع من الكَلاَم، لا يحرم، إذا لم يَكُنْ على قَصْدِ الهِجْرَانِ؛ لكنَّه إِذا قَصَد الهجْرَان يجوز أن يثبت التَّحْرِيم؛ أَلاَ تَرَى أن الشَّيْء الَّذي يمتنع على قصْد الحِدَاد قد يحرم وإن كان لا يحرم لو امتنع لا على هذا القصد، وقد حكي عن النص أنَّه لو هَجَرَها بالكلام لم يَزِدْ على ثلاثَةِ أيَّامٍ، فإن فعل أَثِمَ (¬1)، وهذا ترخيص في هِجْرَان الكَلاَم بالقدر المَذْكُور، وتأثيم فيما زاد عَلَيْهِ، وأما الضَّرْب فهُوَ ضَرْبُ تأديب وتعزير، وَقَدْره يتبيَّن في بابِهِ -إن شاء الله تعالى- وينبغي ألا يكون مُبَرِّحاً ولا مُدْمِياً وألاَّ يقع على الوجه، والمقاتل إذا أفضى إلى تَلَفٍ، وجب الغرم؛ لأنَّه تبين أنَّه إتْلاَف لا إصْلاَح. وقَوْلُهُ في الكتاب: "بِخِلاَفِ الولِيِّ فَإِنَّهُ يُؤَدِّبُ الطِّفْلَ لاَ لِحَظِّ نَفْسِهِ" ظاهر في أن الوَلِيَّ لا غرم عليه إذا تَوَلَّدَ مِنْ ضَرْبِهِ للصَّبِيَّ تَلَفٌ، لكنه غَيْر مساعد عَلَيْه، كما سيأتي في موضعه -إن شاء الله تعالى- نَعَمْ، ذَكَرُوا أن الزَّوْج وإنْ جاز لَهُ الضَّرْب فالأَوْلَى أن يَعْفُوَ ويُعْرض عنه والوليُّ لا يعرض عن ضرب التأديب عند الحاجة، فإن المَصْلَحَةَ تَرْجِع إلى الصَّبِيِّ، وقد وَرَدَ في الخَبَر النَّهْيُ عن ضَرْب الزوجات، وأشار الشَّافعي -رضي الله عنه- إلى احتمالَيْنِ: أحدهما: أنَّه منسوخٌ إما بالآية أو بما ورد من الإِذن بضربهن. والثاني: حمل النَّهْي على الكراهية، أو على أن الأَوْلَى التحرُّزُ عنْه ما أمْكَنَ، وقَدْ يحمل المَنْع على الحَالَةِ الَّتي لم يوجَدِ السَّبَب المجوز للضرب (¬2)، إذا عرف ذلك فَلِتَعَدِّي المرأة ثَلاَث مَرَاتِبَ: إحْدَاها: أن يُوجَدَ مِنْهَا لأمارات النُّشُوزِ قَوْلاً أو فِعْلاً، فالْقَوْلُ مثْل أن تُجيبَهُ بالكَلاَم الخَشِنِ والقَبِيح بَعْد ما عَهِدَ منْها خلاَف ذلك والفِعْل مثْل أن يجد منْها إعراضاً ¬
وكراهةً وعُبُوساً بعْد ما عهد التَّلَطُّفَ وطلاقَةَ الوَجْه، ففِي هَذه المَرْتَبَة لا يَهْجُرُها, ولا يضربُهَا بل يقتصر على الوَعْظِ فلعلَّها تُبْدِي عُذْراً أو تَتُوب عمَّا جرى من غير عُذْر. والثَّانِيَةُ: أنْ يَتَحَقَّق منْها النُّشُوز، ولكنَّه لا يَتَكَرَّر ولا يَظْهَرُ إصْرَارُهَا عَلَيْهِ فله الوَعْظُ .. والمهاجرة في المَضْجَع وفي الضرب قَوْلاَن: أحدهما: ويُحْكَى عن نصه في "الأُمِّ" وبِهِ قَالَ أَحْمَدُ [رحمه الله]: لا يجوز؛ لأن الجناية لم تتأكدْ، وقد يكون ما جرى لعارض (¬1) قريب الزوالِ، لا يحتاج إلى التأديب بالإِيلام والتشديد. والثاني: أن له الضَّرْبَ لحُصُولِ النشوز، كما لو أصرف علَيْه، وميل ابن الصباغ إلى الثَّانِي وساعده الشَّيْخ أبو إسْحَاق الشِّيَرَازِيُّ، ورجَّح الشَّيْخ أبو حامد والمحاملي الأوَّلَ فمن قَالَ بالأَوَّل جَعَلَ في الآية احْتمالَيْنِ، وقال: المعنى {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34] فإن نشزن فاهجروهن في المضاجع، فإن أصررن، فاضربوهن، ومَنْ قال بالثَّاني قال: الخوْفُ بمعنى العِلْم كقوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} [البقرة: 182] وإذا عَلِمَ النُّشُوزَ حَلَّ له الوعْظُ والمهاجرةُ والضَّرْب جميعاً، فأَوَّلَ الخَوْفَ، واسْتَغْنَى عن الإِضمار. والثالثةُ: أن يحصل التَّكْرَار والإِصْرَار فلَهُ مع الوَعْظ والهجران الضَّرْب بلا خِلاَفٍ، هذه هي الطريقة المعتدة في المراتب الثلاث، وعليها الاعتماد، ونقل القاضي ابن كج أنَّه إن ظهر النشوز، فللزوج الوَعْظ والهجران والضَّرْب يجمع بينهما، ويفرق على بحسب اجتهاده، كما يجتهد للحاكم في التعزيرات فإن خاف النشوز فَقَوْلاَنِ: أحدهما: أن الجواب كذلك لظاهر الآية. والثاني: أنه لا يزيد على الوَعْظ، ولم يتعرَّضْ للفرق بَيْن الإِصْرَار وعَدَمِهِ ونَقَل الحناطِيُّ نَحْواً منْه في حالَةِ الخَوْف وفي حَالَة ظُهُور النُّشُوز ثَلاَثَة أقوال: أحدها: أنَّ له الجَمْع بين الوَعْظ والهَجْر والضَّرْب. والثاني: يخير بينها ولا يجمع. والثالث: أن الأمر على الترتيب، فيعظ أوَّلاً، فإنْ لم تَتَّعِظْ هَجَرَهَا، فإن لم تَنْزَجِزْ ضَرَبَهَا، وحَكَى صَاحب الكتاب في "الوسيط" الخِلاَفَ في الجَمْع والترتيب، عند حُصُولِ النُّشُوزِ قال: والصحيحُ أنَّه إن غَلَبَ على ظَنِّه أنَّها تنزجر بالوعظ والمهاجرة لاَ يَجُوز [له ضرب] وإن علم أنَّها تنزجر فله الضرب أي ابتداء وحاصله تفصيل في وجوب الترتيب. ¬
وقولُه في الكتاب: "فَلَهُ الوَعْظ أو مهاجرةُ المَضْجَع أو الضَّرْب" أراد به ذلك التفصيل الذي اختاره، وإن كان الظاهر لفظ التخيير، يوضِّحُه قولُهُ بعده: فإنْ عَلِمَ أن الوعظ لا ينجع كان له البداية بالضَّرْبِ", وقوله: "ينجع" لا أي لا يؤثر، ولا يفيد، يقال: نَجَعَ فيه الخِطَابُ، والوَعْظ ينجع، ويجُوزُ أن يعلَّمَ قوله: "أو الضرب" بالوَاوِ وكذا قوله: "كان له البداية بالضَّرْبِ" لأنَّهُ علق الضرب بمطلق حصول النشوز، وقد ذكرنا أن على قول يشترط فيه الإِصْرَار والتَّكْرار، ثم تكلَّم في الكتاب في أن المرأة بم تصير ناشزة فالخروج عن المسكن والامتناع من مساكنة الزوج نشوزٌ والمَنْع من الاستمتاع، بحيث يحتاج في رَدِّهَا إلى الطَّاعَة إلى تعَبٍ نُشُوزٌ ولا أَثَرَ لامتناع الدَّلاَل وَلَيْسَ من النُّشُوز الشَّتْم وبَذَاءَة اللِّسَان، ولكنَّها تَأْثَمُ بايذائه وتستحق التأديب عليه، وذكر وجهين في أن الزَّوْج يؤدبها أم يرفع (¬1) الأمر إلى القاضي؟. والوجْهُ الثَّاني: أن الزوج فيما وراء المساكنة والاستمتاع؛ كالأجنبي، والأوَّل بأن ذلك تنغيص للعيش وتكدير للاستمتاع فهي كالممتنعة من الاستمتاع ولو مكنت من الجماع ومنعت من سائر الاستمتاعات، فهل هو نُشُوزٌ مُسقِطٌ للنفقة؟ فيه وجهان (¬2): قربا من الخلاف فيما إذا سلم السيد الأمة إلى الزَّوْج ليْلاً واستخدمها نهاراً، وبالمنع أجاب بعض أصحاب الإِمام. وقَوْله في الكِتَاب: "احتمل أن يسقط كما ذكرنا (¬3) في الأمة" إشَارة إلَى هَذَا الخِلاَفِ، وفي بعض النَّسَخ، "احتلم أن يسقط من النفقة بَعْضَها"، والأول أوْلَى؛ لأنَّه يوافق لفظه في "الوسيط"، ولأن التبعيض في مسألة الأَمَة مأخوذ من تشطر الزمان، وليس للتبعيض هاهنا مأخذ معتمد. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الحَالَةُ الثَّانِيَةُ): أَنْ يَكُونَ العُدْوَانُ مِنْهُ بِالضَّرْبِ وَالإِيذَاءِ فَيُحَالُ بَيْنَهُمَا حَتَى بَعُودَ إِلَى العَدْلِ. قال الرَّافِعِيُّ: إذا كان التعدِّي من الرَّجُل، نُظِرَ إن كان يمنعها شَيْئاً من حَقِّهَا؛ كنَفَقَةٍ أو قَسْمٍ ألزمه الحاكم توفية حقِّها، وإن كان يُسِيْء الغُلُق ويؤذيها ويَضربها بلا سبب، ففي "التتمة" أن الحاكم يَنْهَاهُ عَنْه، فإن عاد عَزَّرَهُ وفي "الشَّامِل" وغيره: أنَّه يسكنهما إلى جنب ثقة يطلع على حالهما ويمنعه من التعدِّي، والكلامان متقاربان، ¬
وذكروا أنَّه لو كان التعدِّي منهما جميعاً فكذلك يفعل الحاكم فلم يتعرضوا للحيلولة، قال (¬1) صاحب الكتاب [قدَّس الله رُوحَه]: "يُحَالُ بينهما حَتَّى يعُودَ إلى العَدْل"، قال في "الوسيط": "ولا يعتمد قوله في العَوْد إلى العَدْل، وإنما يعتمد قَوْلُهَا وشهادةُ القرائن وإن كان لا يمنعها شيئاً من حقها ولا يؤذيها بضَرْب ونحْوه ولكن يَكْرَهُ صحبتها لمرض أو كِبَرٍ ولا يدعوها إلى فراشه أو يهم بطلاقها فلا شَيْءَ عَلَيْهِ، وحسن أن تسترضيه بترك بعض حقها من القَسْم أو من النفقة؛ لما (¬2) روي أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- هَمَّ بِطَلاَقِ سَوْدَةَ فَوَهَبَتْ نَوْبَتَهَا لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- (¬3)، وقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128] وكذلك لو كانت الزوجة تشكو زوْجَهَا وتكرهه، فيحسن أن يَبَرَّها ويستميل قلْبَهَا بما تيسر له. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثَةُ): أَنْ يُشْكِلَ الأَمْرُ فَيَبْعَثَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا لِيَنْظُرَا، ثُمَّ الصَّحِيحُ مِنَ القَوْلَيْنِ أَنَّهُمَا وَكِيلاَنِ، وَلاَ يَنْفَذُ تَصرُّفُهُمَا فِي التَّفْرِيقِ إِلاَّ بِالإِذْنِ، وَالقَوْلُ الثَّانِي أنَّهُمَا مُوَلَّيَانِ مِنْ جِهَةِ الحَاكِمِ حَتَّى يَنْفَذَ طَلاَقُهُمَا وَخُلْعُهُمَا، وَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ عَدَالَتُهُمَا وَهِدَايَتُهُمَا وَلاَ يُشْتَرَطُ اجْتِهَادُهُمَا وَلا كَوْنُهُمَا مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَيْنِ. قال الرَّافِعِيُّ: إذا نَسَبَ كل واحدٍ من الزوجَيْن الآخر إلى التعَدِّي وقبح السيرة، وسوء الخلق، وأشكل الأمر على الحاكم، فلم يعرف المتعدِّيَ منهما؛ يعرف حالهما من ثِقَةٍ في جوارهما خبير بشأنهما فإن لم يكن أسكنهما بجنب ثقة يَتَفَحَّصُ عن حَالِهِمَا وينهيه إِلَيْه، فإذا تبيَّنَ له الظَّالِمُ مِنْهُمَا منعه من الظُّلْم، هكذا أَطْلَقُوهُ، وظاهره الاكتفاء بقولِ عَدْلٍ واحدٍ، ولا يصفو ذلك عن الشبهة، وإذا اشتد الشِّقَاق بينهما، وداما على التسابِّ الفاحش، والتضارب، بعث القاضي حَكَما من أهل الزوج وحكماً من أهلها لينظرا في أمرهما ليصلِحَا بَيْنَهُما أو يُفَرِّقَا إذا لم يريا ما بينهما قابلاً للصلاح قال الله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] الآيَةَ وهل نقول بعث الحكمين واجب لفظ صاحب "التهذيب" أن على الحاكم أن يبعث حكمين وهو مشعر بالوجوب [وقد يحتج له بظاهر الآية وقال القاضي الروياني في "الحلية" المستحب ¬
للحاكم أن يبعث الحكمين] (¬1) ثم المبعوثان وَكِيلاَنِ من جهة الزوجَيْن أم حكمان موليان من جهة الحاكم فيه قَوْلاَنِ: أصحُّهما: وبه قال أبو حَنِيْفَةَ وأحمد واختاره المُزَنِيُّ أنهما وكيلان؛ لأن البُضْع حق الزوج، والمال حق الزوجة، وهما رشيدان فلا يولي عليها. والثاني: أنهما موليان من جهة الحَاكِم ويحكى هذا عن نصه في "الإِملاء" وبه قال مالك واختاره ابن المنذر و [الشيخ] أبو إسحاق الشِّيرَازِيُّ؛ لأن الله تعالى سَمَّاهُمَا حكمين والوكيل مأذون ليس بمُحَكَّم، ورُوِيَ عن علي عليه السلام "أنَّه بعث حَكَمَيْنِ، وقال: أتدْرِيَانِ ما عليكما؟ إن رَأَيْتُمَا أن تجمعا فجَمِّعا وَإنْ رأيتما أن تُفَرِّقا فَفَرِّقا فقالَتِ المرأة: رَضِيتُ بِمَا في كتاب الله عَلَى وليِّ، فقال الرجل: أمَّا الفُرْقَة فلا، فقال علي رضي الله عنه وكرّم وجهه: كَذَبْتَ واللهِ حَتَّى تُقِرَّ بِمِثْل ما أَقَرَّتْ بِه" (¬2). واحتج بهذا الأثر للقول الأول بأنه اعتبر رضاهما وإقرارهما. والقول الثَّاني: أنَّه يجعل الجمع والتفريق إلى الحَكَمَيْن. وقوله: "حتى تُقِرَّ" أي ليس لك أن تمتنع، بل عليك أن تنقاد بحكم الله تعالى، كما انقادت فعلى القَوْل الأول، يوكل الرجل الحَكَمَ الذي هو من أهْلِهِ بالطَّلاقِ وبقبول العوض في الخُلْع، والمرأة حكمها ببذل العوض وقبول الطلاق عليه، ولا يجوز بعثهما ¬
إلاَّ برضاهما (¬1)، فإن لم يرضيا, ولم يتفقا على شَيْءٍ أدَّب القَاضِي الظَّالِم، واستوفى حقَّ المظلوم، وعلى القول الثاني، لا يشترط رِضَا الزوجين في بَعْث الحَكَمَيْن، وإذا رأى حَكَمُ الرجل أن يطلق طلق واستقل به، ولا يزيد على طَلْقَة واحدة، ولكن إن راجع الزَّوْج وداما على الشقاق زاد إلى أن يستوفي الطلقاتِ الثَّلاَثَ، وإن رأى الخُلْعَ وساعده حكم المرأة تخالعا، وإن لم يَرْضَ الزوجان، هذه هي الطريقة الظاهرة، وفي كتاب القاضي ابن كج عن أبي الطَّيِّبِ بن سَلَمَةَ وابن سُرَيْجٍ، القَطْع بأن الفُرْقَة لا تنفذ إلاَّ برضا الزوجين، والقولان في أنَّه هل يحتاج في بَعْث الحكمين إلى رضَاهُمَا وعن أبي إسحاق، طريقة القطع بأن بَعْثَ الحكمين لا يَحْتَاج إلى إذنهما؛ فلعله يُؤَثِّر في صَلاَح حالهما، والخِلاَفُ في نُفُوذ الفُرْقَة بغَيْر إذنهما، وإيراد صاحب التَّتِمَّة، ينطبق على هذه الطريقة ولو رأى الحكمان أن تترك المرأة بَعْضَ حَقِّها من القَسْم أو النفقة أو ألاَّ يتسرى أو لا ينكح عَلَيْهَا غيرها لَمْ يلزمه ذلك بلا خلاف. وإن كان لأحدهما على الآخر مالٌ يتعلق بالنِّكَاح؛ كالمَهْر والنفقة (¬2)، أو لا يتعلق به، لم يجز للحكمين استيفاؤه من غير رضا صاحِبِ الحَقِّ بلا خلاف وأما الصفات المَشْرُوطَةُ في حق المبعوثين، فلا شَكَّ في اشتراط العقل والبلوغ، ولا بدّ [له] من العدالة إن قلنا: إنه تحكيم، وإن قلنا: إنه توكيل، ففي كتاب القاضي ابن كج: أنه لا يشترط العدالة، كما في سائر الوكالات وهو قضية قوله في الكتاب، "وعلى هذا يشترط عدالتهما"، فإنَّه أشعر بتخصيص الاشتراط بالقول الثاني والأكثرون شَرَطُوها، وإن جعلناه تَوْكيلاً، وقالوا: إذا تعلقت الوكالة بِنَظَرِ الحاكمِ، فلا بدّ وأن يكون الوكيل عَدْلاً كأمين الحاكم، ويجري هذا الخلاف في الحرية والإِسْلاَم، ولا بدّ من الاهتداء إلى ما هو المقصود من بعثهما, ولفظ الكتاب يشعر بتخصيص اعتباره بالقول الثاني، لكن يشترط في التوكيل أيضاً أن يكون الوكيل ممن يتأتى منه المفوَّض إلَيْه، ولا بُدَّ من الذكورة إنْ جَعَلْنَاهُ تحكيماً، وإن جعلْنَاه تَوْكِيلاً، قال أبو عبد الله الحناطي: لا يشترط الذكورة في حكم المَرْأة، وفي حُكْم الرَّجُل وجْهَان بناءً على أن المرأة هل تتوكل في الخُلْع، ولا يشترط فيهما الاجتهاد، إن جعلْنَاه تحكيماً لما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى أن من يفوض إلَيْه القاضي أَمْراً جزئياً لا يشترط فيه إلاَّ عِلْم ذلك البَابِ، وكذلك لا يشترط كونُهُمَا من أهل الزوجين؛ لأن القرابة غير معتبرة في الحكم ولا في الوكالة إلاَّ أنَّ الأَهْلَ أَوْلَى؛ لأَنَّه أشْفَقُ وأقْرَبُ إلى رِعَايَة الصَّلاَح، ولأنَّه أعْرَف ببواطن الأحوال، ولأن القريب قد يفشي سره إلى قريب من غير حِشْمَة، وإن كان الحاكم قريبَ أحَدِ الزوجين، فله أن يذهب بنفسه، وفيما علق عن الإِمام: أنَّه يشترط أن يكون ¬
المبعوثان من أهلهما؛ لظاهر الآية وذكروا في جواز الاقتِصَارِ على حَكَم واحد وجْهَيْن، جواب القاضي ابن كج فيهما المَنْع؛ لأنه إذا كان واحداً، اتهمه كل واحد من الزوجين ولم يُفْشِ إليه سِرَّهُ بتمامه، وقد يحتج له بظاهر الآية ويُشْبِه أن يقال إن جعلناه، فلا يشترط العدد، وإن جعلناه تحكيماً توكيلاً فكذلك إلاَّ في الخُلْع، فيكون على الخِلاَف في تولِّي الواحد [أحد] طرفي العَقْد، وينبغي أن يخْلُو حَكَمُ الرجل بالرجل وحَكَمُ المرأة بالمرأة فيعرفان ما عندهما وما فيه رغبتهما، وإذا اجتمعا لم يُخْفِ أحدُهما عن الآخر ما عنده، ونَفَّذا ما رأياه صواباً، وإذا اختلف رأي الحَكَمَيْن بَعَث إليهما آخرين حتى يجتمعا على شَيْء؛ ذكره الحناطي. وإذا جُنَّ أحد الزوجين، أو أُغْمِيَ عليه، لم يَجُزْ بعْث الحكمين بعده، وإن جُنَّ بعد استطلاع الحكمين، رأيه لم يَجُزْ تنفيذُ الأَمْر لأنَّهُمَا إنْ جعلا فيه وكيلين، فالوكيل ينعزل بالجُنُون، وإن جعلا حكمين، فلا بُدَّ من دوام الشِّقَاق والخصومة؛ ألا تَرَى أنهما لو عَادَا إلى الصَّلاَح لم يجُزِ التفريق بينهما وبعد الجنون، ولا يعرف دوام الخصومة والشِّقَاق، وفي شرح القاضي ابن كج أنَّه لا يؤَثِّر جنون أحد الزوجين على قولنا إنهما حاكمان وحكى الحناطي وجْهاً على قوْلنا إنه وكالة؛ أن الإِغماء لا يُؤَثِّرُ فيه كالنَوْم، وهذا ينبغي أن يجري في كل وكالة. ولو غاب أحد الزوجين بَعْد بعث الحَكَمَيْن، نفذ الأمر إن قلنا، إنه توكيل، وإن قلْنَا: تحكيم لم ينفذ, لأنه لا يعرف بقاء الشقاق والخصومة بينهما, ولأن كل واحد منْهُمَا محكومٌ له وعلَيْه، ولا يجوز القَضَاء للغَائِب وفيه وجْه أنَّه يجوز تنفيذُ الأَمْرِ مَعَ الغَيْبَة، ولا يشترط دوام الخصومة وطرد هذا الوجه فيما إذا سَكَتَ أحدهما. فروع: ولو وكَّل رجلاً، فقال: إذا أخَذْتَ مالي منها، فطلِّقْها أو خَالِعْها أوْ خُذْ مالي ثم طلِّقْها, لم يجُزْ تقديم الطلاق على أخْذِ المال، قال أبو الفرج الزاز؛ وكذلك لو قال: خالِعْها على أن تَأْخُذَ مالي منْها, ولو قال: خذ مالي وطلِّقْها، فهل يشترط تقديم أخذ المال، أم لا يشترط، ويجوز تقديم الطلاق، كما لو قال طلِّقْها وخُذْ مَالِي منْها فيه وجهان رجح صاحب التَّهْذِيب منهما (¬1) الأَوَّلَ وقال: لو قال: طَلِّقْهَا ثمَّ خُذ مالي منها، جاز تقديم أخْذِ المَالِ على الطَّلاَق؛ فإنه زيادةُ خَيْر، وذكر الحناطي أنَّه إذا بعث القاضي حَكَمَيْنِ فرأى أحدُهما الإِصلاَح، والآخَرُ التفريقَ، ففرق نفذ التفريق، إن جوَّزْنَا الاقتصار على حكم واحد والله أعلم. ¬
كتاب الخلع
كِتَابُ الخُلْعِ (¬1)، وَفِيهِ أبْوَابٌ البَابُ الأَوَّلُ فِي حَقِيقَةِ الخُلْعِ وَفِيهِ فَصْلاَنِ (الفَصْلُ الأَوَّلُ فِي أَثَرِهِ): وَفِيهِ قَوْلاَنِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ طَلاَقٌ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَمِنَ الفُقَهَاءِ أَبُو حَنِيْفَةَ وَالمُزَنِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَسْخٌ. قال الرَّافِعِيُّ: يقال: خَلَع الرَّجُلُ امرأتَهُ خُلْعاً، وذكر أنه مأخوذ من الخَلْع، وهو نَزْع الثوب وكل واحد من الزَّوْجَيْن لباس للآخر، على ما قال، تعالى جده {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] وكأن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بمُفَارَقَةِ الآخر نزع عنه لباسه، ويقرب في ذلك قولهم: خُلِعَ الوالي أي عُزِلَ، وفسر الخُلْع في الشريعة: بالفُرْقَة على عوض يأخذه الزوج (¬2). ¬
وأصل الخُلْع مُجْمَعٌ عليه، وقد اشتمل القرآن على ذكره، قال الله -تعالى-: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] والسنة رُوِيَ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: "جَاءَتِ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: ما أَنْقِمُ عَلَى ثَابِتِ ابْنِ قَيْسٍ فِي دَينٍ وَلاَ خُلُقٍ إلاَّ أَنِّي أَخَافُ الكُفْر في الإِسلام فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَرُدِّينَ حَدِيقَتَهُ؟ فَقَالَتْ: نَعَم، فَرَدَّتْ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُفَارِقَهَا" (¬1). ¬
ويروى أنه كان قد أصْدَقَها تلك الحديقة. نُقِلَ أنه أول خُلْع جرى في الإِسلام، ولا فرق في جواز الخُلْع بين أن يَجْري على الصَّداق، أو بعضه، أو على مال آخر، ولا بين أن يكون العِوَضُ الذي بذَلَتْه أكْثَرَ مما أعطاها الزْوجُ صَدَاقاً، وبين ألا يكونَ. وعن أحمد: لا يجوز ولا كراهة فيه إن جرى في حال الشقاق أن يأخذ منها أكثر مما أَعْطَى، ويصحُّ الخُلْع في حَالَتَي الشِّقاق، والوفاق أو كانت تَكْرَهُ صُحْبَتَه لسوء في خُلُقِه أو دِينِه أو تَحَرَّجَتْ من الإِخْلاَل ببعض حُقُوقِه، لما بها من الكراهة فافْتَدَتْ ليطلقها أو ضربها الزوج تأْديباً فافتدَتْ، ويحكى أن ثابتاً كان قد ضرب زوجته فلذلك افتدت وألحق الشيخ أبو حامدٌ بهذه الصورة ما إذا منعها حقَّها من النَّفَقَة وغَيْرها فافتدت، لتتخلَّص منه، وإن كان الزوْجُ يكره صحبتها، فأساء العِشْرة، ومنعها بعْضَ حَقِّها حتى ضَجِرَت وافتدت، فالخُلْع مَكْرُوه وان كان نافذاً، والزوج مأثوم بما فعل، وفيه وجه أن منعه حقَّها، كالإِكراه على الاختلاع بالضرب وما في معناه وإذا أكرهها بالضَّرْب ونحوه، حتى اختلعت فقالت مبتدئةً: خالِعْنِي على كذا [ففعل] (¬1)، لم يصحَّ الخُلْع، ويكون الطَّلاق رجعيَّاً إن لم يُسَمِّ مَالاً، وإن سمَّاه لم (¬2) يقَعِ الطَّلاَق؛ لأنَّها لم تقبل مختارة (¬3). وفي "التتمَّةِ" وجْه: أنَّه وإن لم يسم المال لا يقع الطلاق؛ لأنَّه قصد ترتيب كَلاَمِه على كلامها، فصار كما لو سمى المال. ولو ابتدأ، وقال: طلقتك على كذا، وأكرهها بالضَّرْب على القبول، لمْ يقعْ شَيْء، وإذا ادَّعَت المرأة أنَّ الزَّوْج أكْرَهَهَا على بَذْل مال عِوَضاً عن الطَّلاق، وأقامَتْ عليْه بينَةً، فالمال مردُودٌ، والطلاق واقعٌ، وله الرجْعَة، نصَّ عليه. ¬
قال الأصحاب: وموضع الرَّجْعَة ما لم يعترف بالخُلْع بل أنكر أخذ المال أو سكت وأقامت البينة، فأما إذا اعترف بالخُلْع وأنكر الإِكراه، فالطلاق بائن بقَوْله، ولا رجعة، ولو زنت المرأة فمنَعَها الزوج بعْضَ حقِّها، فافتدت بمال صَحَّ الخُلْع، وحلَّ الأخْذ له وعلى ذلك حمل قوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] ومن جعل منْعَ الحَقِّ كالإِكْرَاه بالضَّرْب قال: لا يَحِلُّ لَهُ الأخْذ، ولو أمْسَكَها عنْده وحبسَهَا ليرثها فماتت، وَرِثَها، وحكى القاضي ابن كج والحَنَاطي قَوْلاً أنَّه لا يرثها، هذه مقدمة الكتاب. واعلم: أن الفُرْقة الحاصلة على العوض تارَةً تَكُون بلفظة الخُلْع، ويحتاج فيه إلى معرفة حقيقته وكيفية تأثر النكاح به، وتارَةً يكونُ بلفظ الطَّلاق، ويحتاج فيه إلى النَّظَر في لفظ الزوج تعليقاً بالبدل والإِعطاء وإلزاماً، وفي لفظ المرأة التماساً للطَّلاَق والتزاماً للمال، وسواء وقعت الفرقة بلفظ الخُلْع أو الطلاق، فلصحتها أركانٌ، وقد يعوض بين المتعاقدَيْن في كيفية العقْد الجاري بينهما نزاعٌ فضمن المصنِّف فِقْه هذا الكتاب في خمسة أبواب: بابٌ في حقيقة الخُلْع، وبابٌ في أرْكَان الصِّحَّة، وبابٌ في ألفاظ الزوج المتعلقة بالإِعطاء، وبابٌ في التماس الطلاق على العوض، وبابٌ في النزاع، ورَتَّبَ ما يتعلق بالبابَ الأول في فصْلَيْن: أحدهما: في كيفية تاثيره في النِّكَاح. والثاني: في بيان ما يشبه الخُلْع من المعاملات وينزع إليه، ومقصودُ الفصلين معاً يتفرع على أن الخُلْع طلاقٌ، أم لا, ولا شك في أن المفارقة بلفظ الطلاق على عِوَضٍ طلاقٌ، ويستوي في ذلك صريحُ الطَّلاق وكنايته مع النية، وإذا لم يجر إلاَّ لفظُ الخُلْع، فقولان: الجديدُ أنَّه طلاق يُنْتَقَص به العَدَد، وإذا خالعها ثلاثَ مراتٍ، لم ينكحْها إلا بمحلِّل، ويروى هذا عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود -رضي الله عنهم- وبه قال أبو حنيفة ومالك واختاره المُزَنِيّ، ووجْهُه أنها فُرْقَة لا يملكها غير الزَّوْج، فيكون طلاقاً كما لو قال: أنتِ طالقٌ على ألْف، أو خالَعْتُكِ طلْقةً بألْف، والقديمُ: أنه فَسْخ لا ينقص به العَدَد، ويجوز تجديد النِّكَاح بعد الخُلْع من غير حَصْر، ويروى هذا عن عبد الله بن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم- وبه قال أحمد ووجْهُه بأن فُرْقة النِّكاح تحصل بالفَسْخ كما تحصل بالطلاق، ثم الطلاق ينقسم إلى: ما هو بعوض، وإلى ما هو بغَيْر عِوَض، فليكنِ الفَسْخ كذلك، ولا فسخ بعوض سوى الخُلْع، وبأن فُرقة الخُلْع لا رَجْعة فيها بحال، فلا يكون طلاقاً، كالرَّضَاع، ولأنها فرقة حصَلَت بمعاوضة، فيكون فَسْخاً، كما لو اشترى الزوج زوجته وبنى بانون القولين على أن النِّكاح هل يَقبْل الفسخ بالتراضي، فعلى قول يقبل، كالبيع، وعلى
قول لا بل وضع النكاح على الدوام والتأبيد، وإنما يُفْسَخ لضرورة تَدْعو إليه. وقوله في الكتاب "على الصَّحِيحُ أَنَّهُ طَلاَقٌ"، يوافق الأصل الممهد في ترجيح الجديد، وعلى ذلك جرى أكثر الأصحاب -رحمهم الله- وينصر قول الفَسْخ في الخِلاَق، وإلى نصرته ذهب الشيخ أبو حامد، وذهب أبو مخلد البصري، أن الفتوى عليه، ويؤيده بعض التأييد ما حُكِيَ عن ابن خُزَيْمة -رحمه الله- أنَّه لا يَثْبُت عن أحمد أنَّه طلاق، وعن ابن المُنْذر أن الرواية عن عثمان ضعيفةٌ، وأنَّه ليس في الباب أصح من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، وحَكَى غيره اختلاف الرواية في المسألة عن عثمان -رضي الله عنه-، ويجوز إعْلاَم قوله: "طلاق" بالألف، وإعلام قوله: "فَسْخ" بالميم، وأما بمذهب أبي حَنِيفةَ فمذكورٌ ولا يحتاج إلى الإِعلامِ له. قَالَ الغَزَالِيُّ: فَإِنْ جَعَلْنَاهُ فَسْخاً نَلَفْظُ الخُلْعِ صَرِيحٌ فِيهِ لِتَكْرِيرِهِ عَلَى لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ، وَلَفْظُ الفَسْخِ صَرِيحٌ عَلَى الأَصَحِّ، وَقِيلَ: كِنَايَةً لأَنَّهُ لاَ يُسْتَعْمَلُ فِي النِّكَاحِ إِلاَّ مَقْرُوناً بِعَيْبٍ أَوْ سَبَبٍ، وَفِي لَفْظِ المُفَادَاةِ وَجْهَانِ لأَنَّه ذُكِرَ مَرَّةً فِي القُرْآنِ، وَهُوَ كَالخِلاَفِ فِي لَفْظِ الإِمْسَاكِ لِلمُرَاجَعَةِ، وَلَفْظِ الفَكِّ للِمْعْتَقِ، وَلَوْ نَوَى بِالخُلْعِ طَلاَقاً عَلَى هَذَا القَوْلِ لَمْ يَنْفُذْ لأَنَّهُ وَجَدَ نَفَاذاً فِي مَوْضُوعِهِ صَرِيحاً، بِخِلافِ مَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي إِلْزَامِ الكَفَّارَةِ، وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلاَقَ نَفَذَ لأَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالنِّكَاحِ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الفَسْخِ بِعَيْبِهَا فَقَالَ: فَسَخْتُ وَنَوَى الطَّلاَقَ نَفَذَ عَلَى وَجْهٍ لأَنَّ لَفْظَ الفَسْخِ لاَ يَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ. قال الرَّافِعِيُّ: المقصود الآن التفريع على القَوْلين، فإن جعلنا الخُلْع فسْخاً، فلفظ الخُلْع صريحٌ فيه؛ لكثرة استعماله وتكرُّره على لسان حَمَلَة الشريعة، ولو قال: فَسَخْت نكاحَكِ، فقَبِلَتْ فوجهان: أصحُّهما: وهو المذكور في "التهذيب": أنَّه صريحٌ؛ لأنه أشد دَلالةً على حقيقته من لفظ الخلع، وأيضاً فإن الفَسْخ مقصودُ الخُلْع ومقتضاه، وما هو مقصود العقد ومقتضاه إذا استعمل في العقد كان صريحاً؛ ألا ترى أنَّه إذا استعمل لفظ التمليك في البيع، كان صريحاً؛ لأنَّ التمليك هو مقصود العَقْد ومقتضاه، ويُنْسَب هذا إلى اختيار القاضي حسين. والثاني: أنَّه كناية ويقال: إنه اختيار القَفَّال؛ لأن لفظ الفسخ لا يستعمل في النكاح إلاَّ مقروناً بعيب أو بسبب إعسار وغيره، بخلاف الخُلْع؛ فإنَّه مشهور فيه، ويجوز أن يكون اللفظ المصرِّح بمقصود التصرُّف كنايةً في ذلك التصرف؛ ألا ترى أن مقْصُود الطلاقِ التحريم والإِبانة، ثم هما كنايتان في الطَّلاَق، ولمن قال بالأول: أن يقول المستعمل عنْد العَيْب والإِعسار ونحوهما: هو الفسخ عرياً عن العِوَضِ، والكلامُ
هاهُنَا فيما إذا قال: فَسَخْتُ نكاحَكِ بِكَذَا، وهذا لا يستعمل في النكاح إلاَّ في الخلع، وليس ما نحن فيه كالطَّلاق والتَّحريم؛ لأن الطَّلاقَ يشتمل على أحكام غريبة؛ كنقصان العَدَد وغيره فتعين له اللفظ المستعمل فيه شرعاً، وأمَّا الفَسْخ فهو النَّقْص والرَّفع لا غير، وإذا قال: فَادَيْتُكِ بكذا فقالَتْ: قَبِلْتُ أو افتديت، فوجهان في أنَّه صريحٌ أو كنايةٌ. أظهرها: أنَّه صريحٌ كلفظ الخُلْع لورود القرآن به؛ قال الله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. والثاني: أنه كنايةٌ؛ لأنه لم يتكرر في القرآن، ولا شاع في لسان حَمَلَة الشريعة، وأجْرِيَ هذا الخلاَفُ في الألفاظ التي وردت في سائر العقود، ولم تتكرَّرْ، كلفظ الفك في العتق والإِمساك في الرجعة، ولو قلنا بأن لفظي الفسخ والمفاداة كنايةٌ، فيجيء في انعقاد الخُلْع بهما خلاف نذكره في أن الخُلْع هل ينعقد بالكنايات، إذا قلنا: إنَّه فَسْخ، ولو نوى بالخُلْع الطلاقَ والتفريع على قول الفسخ، فوجهان، اختيار القاضي حسين والمَذْكور في الكتاب "والتَّتِمَّة" أنَّه لا يكون طلاقاً، وينفذ في الفَسْخ الذي هو صريح فيه؛ لأنه أمكن تنفيذه في موضعه صريحاً، فلا ينصرف إلى غيْره بالنيَّة، كما أن الطَّلاَق لا يصير ظِهَاراً بالنية وبالعكس. والثاني: أنَّه يكون طلاقاً؛ لأن اللفظ محتمل له، وقد اقترنت النية به فصار كسائر الكنايات، وليس الفَسْخ والطَّلاَق كالظهار والطلاق (¬1)؛ لأنَّ الفَسْخ والطلاق نوعان يدخلان تحت جنْس البينونة، والطلاق والظهار لا يتقاربان مثل هذا التقارب، وإيراد صاحب "التَّهْذيب" يُشْعر بترجيح هذا الوجْه، وقَطَع به بعض أصحابنا العراقيين، ومن نصر الوجه الأول: اعتذر عما لو قال: أنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ؛ فإن مطلقه صريح في التزام الكفارة على الأَظْهر كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى -ومع ذلك لو أراد به الطَّلاَقَ نَفَذ، وكان كنايةً فيه، وبأن التزام الكفارة لا يختص بالنِّكَاح بل يجري في مِلْك اليمين، إذا قال لأمته: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وإذا لم يختصَّ بالنكاح لم يبعد أن ينصرف من حكم من أحكام النكاح إلى حُكْم آخَرَ بالنِّيَّة. ولو قال لزوجته فَسَخْتُ نكَاحَكِ, ونوى الطلاق، وهو مُتَمَكِّن من الفَسْخ بعيب فيها، ففيه وجهان للقائلين بأنه لو نوى بالخُلْع الطلاقَ لم يكن طلاقاً، ومنهم من وفي بقضية كلامه وقال: لا يكون طلاقاً؛ لأنَّه أمكن تنفيذه في حقيقته، بخلاف ما إذا لم يوجد سبب الفَسْخ، والأَظْهر فيه -وبه قال القاضي الحسين- أنَّه يكون طلاقاً؛ لأن الفَسْخ لا يختص بالنكاح، بل يدخل في سائر العقود، فجاز التصرُّف ¬
فيه بالنيَّة كما ذكرنا في قوله: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. وقوله في الكتاب: "فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي إِلزام الكَفَّارَة" يمكن إعلامه بالواو؛ لوجه يأتي في مسألة الحرام أن هذه اللفظة إذا أطلقت لا يَقْتضي [الكفارة]. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإِنْ قُلْنَا: الخُلْعُ طَلاَقٌ فَلَفْظُ الفَسْخِ كِنَايَةٌ فِيهِ، وَفِي المُفَادَةِ وَجْهَانِ، وَفِي لَفْظِ الخُلْعِ قَوْلاَنِ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ صَرِيحاً فَجَرَىَ دُونَ ذِكْرِ المَالِ كَانَ كِنَايَةٍ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، ثَمَّ هَلْ يَقْتَضِي مُطْلَقُهُ ثُبُوتَ المَالِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أنَّهُ يَقْتَضِي مَهْرَ المِثْل، فَإنْ قُلْنَا: لاَ يَقْتَضِيهِ وَجَعَلْنَاهُ فَسْخاً لَغَا، وإِنْ جَعَلْنَاهُ طَلاَقاً صَارَ طَلاَقاً رَجْعِيَّا وَلَكِنْ يَفْتَقِرُ إِلَى قَبُولِهَا لاقْتِضَاءِ لَفْظِ المُخَالَعَةِ القَبُولَ إِلاَّ إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنِ التِمْاسَ جَوَابِهَا أَوْ قَالَ: خَلَعْتُك، وَلَوْ نَوَى الرَّجُلُ المَالَ قِيلَ: إِنَّهُ لاَ يَنْفَذُ مَا لَمْ يَثْبُتْ بِنِيَّتِهَا أَيْضاً، وَقِيلَ: لاَ أَثَرَ لِنِيَّتِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أيضاً إذا فرَّعنا على أن الخُلْعَ طلاقٌ قلنا إن لفظ الفَسْخ كنايةٌ فيه، كما لو استعمل من غير ذكر المال، وفي لفظ "المفاداة" وجهان كما على القول الأول، والأصحُّ أنه كلفظ الخُلْع، ولفظ "الخلع" صريحٌ أو كنايةٌ فيه قولان: [الحكاية]-عن "الأُمِّ" أنه كنايةٌ، وذكر الإِمام وصاحب الكتاب والرُّويَاني أنه أظهر في المَذْهب، وعن نصه في "الإِملاء": أنَّه صريحٌ، وبه قال أبو حنيفة، واختاره الإِمام والمصنف وصاحب "التهذيب"، واختلفوا في مأخذ القولين، فعن الأكثرين بناء الخِلاَف على أن اللَّفْظ إذا شاع في العُرْف والاستعمال للطلاق، فهل يلتحق بما تكرَّر في القرآن، ولِسَانِ حَمَلَة الشريعة أم لا؟ ومنهم من بني الخلاَفَ على أن ذكر المال هل يلحقه بالصرائح فعلى رأيٍ: نلحقه؛ لأن ذكر المال بدلاً وتحصيلاً يشعر بطلب البينونة، وعلى رأيٍ: لا، كما أن قرينة اللَّجَاج والغَضَب لا تلحق الكناية بالصرائح فمن أخذ الخلاف من المأخذ الأول أثبت الخِلاَفَ في لفظ الخُلْع، وإن لم يجر ذكر المال، ومن أخذه من المَأْخَذ الثاني قال: إذا لم يجر ذكْرُ المال، فهو كناية لا محالةَ، وهذا ما أورده في "التتمة" ويخرج مما ذكرنا وجهان: في أن لفظ الخُلْع من غيْر ذكر المال صريحٌ أو كنايةٌ، مع الحُكْم بأنَّه صريح أو كناية إذا جرى ذكر المال، وهذا قولُه في الكتاب: "فَإِنْ جَعَلْنَاهُ صَرِيحاً فَجَرَى دُونَ ذِكْرِ المَالِ كَانَ كِنَايَةً عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ" وهل يقتضي الخَلْعُ المطلَقُ الجاري من غير ذكْر المال ثبوتَ المال؟ فيه وجهان: أظهرهما: عند الإِمام وصاحب الكتاب وهو اختيار القاضي: نَعَمْ؛ للعرف المطَّرِد لجريان الخُلْع على المال، وأيضاً فإن الخُلْع يوجب المال إذا جرى على خمر أو خنزير، فإذا جرى مطلقاً أوجبه كالنكاح.
والثاني: لا؛ لأنَّه لم يجر له ذكر والتزام، وليس كالنكاح فإن المقصود هناك ألا يعري استباحة البُضْع عن المال، ولذلك ثبت على قول وإن نفي، وهذا أوْفَقُ لما ذكره في "التهذيب"، فإن قلْنَا: إن مطلقه يقتضي المال، فإن جعلناه فَسْخاً أو صريحاً في الطلاق، أو كنايةً ونوى، وَجَب مهر المثل، وحصلت البينونة، وان جعلْنَاه كناية ولم ينو لغا وإن قلْنا: إنَّه لا يقتضي المال، فإن جعلناه فسخاً لغا؛ لأن الفسخ بالتراضي لا يكون إلاَّ على عوض، هكذا حكاه الإِمام وغيره عن الأصحاب، وذكَرُوا أن مَسَاق كلامهم أنَّه لو لغا العِوَض في الخلْع لم يَصِحَّ الخُلْع على قول الفسخ، قال: والقياس الحقُّ صحته بلا عوض؛ فإن النكاح إذا نفي فيه الصَّداق انتفى على الأصح، ومن قال بوجوبه قال؛ إذا جرى المسيس وَجَبَ لا مَحَالَة ما يجب بالعقد؛ رعايةً لحُرْمة استحقاق البُضْع، ومثل هذا المعنى لا يتحقق في الفَسْخ، وهو في وضعه مستغنٍ عن العِوَض، ولو جعلناه طلاقاً إما صريحاً أو كنايةً، ونوى، فهو طلاق رجعيٌّ، لكن في افتقاره إلى القبول وجهان: أحدهما: وهو المذكور في الكتاب أن يفتقر إليه؛ لأن لفظ المخالعة يستدعي القبول، وقد يحتاج إلى القَبُول، وإن لم يَثْبُت المال، كما في مخالعة السفيه، وأشبههما -وهو المذكور في "التهذيب"- والراجِحُ عند الإِمام أنَّه لا حاجة إليه؛ لاستقلال الزوج بالطلاق الرجعيِّ، ثم الخلاَف فيما إذا قال: خَالَعْتُكِ، وأضمر التماس جوابها، وانتظر قبولها، أما إذا قال: خَلَعْتُ أو قال خَالَعْتُ، ولم يضمر التماسَ الجواب، فلا حاجة إلى القَبُول، كما لو قال: قاطعتك أو فارقتك، ولو قال: فَارَقْتُكِ، وأضمر التماس القَبُول، فقضية الوجه المذكور اعتبار القبول هذا هو الترتيب المذكور في الكتاب فيما إذا أطلق المخالعة، ولم يَذْكُر مالاً، وعَبَّرَ بعضهم عن الغرض بطريق أقصر من هذا فيقال: إن جعلنا الخُلع فسخاً، ولم تقبل فهو لَغْوٌ، وإن قَبِلَتْ فتحصل البينونة بمهر المثل أو لا تحصل الفرقة فيه وجهان، وإن جعلناه طلاقاً فهو طلاقٌ رجعيٌّ، أما من غير نية إن جعلناه صريحاً، أو تشترط النية إن جعلناه كنايةً. ولو نوى المال ولم يذكره، فإن قلنا: إن مطلقه لا يقتضي المال، فهل تؤثر النية في ثُبُوت المال، فيه وجهان يقْرُبَان من الخلاف في انعقاد البيع ونحوه، بالكنايات، فإن قلنا: تؤثر، ثَبَت المال، ولا بدّ فيه من نيتها أيضاً، وإن قلنا: لا تؤثِّرُ فيقع الطلاقُ، ويلغى فيه المال، أو لا يَقَع, لأنَّه نوى الطلاق على المال لا مطلقاً، ذكروا فيه وجهَيْن، وفي "فتاوى" صاحب "التهذيب" ذكر وجهَيْن فيما إذا اختلعت نَفْسَها على ما بقي لها من الصَّدَاق وخالعها الزوج عليه، ولم يبق لها عليه شَيْء أنَّه هل تحصل البينونة بمَهْر المثل تخريجاً على الخلاف فيما إذا تخالَعَا من غَيْر تسمية مال، ورجَّح القول بالحصول، هذا ما يتعلق بما في الكتاب من تفريع القولَيْن.
ويصح الخُلْع بجميع كنايات الطَّلاَقِ مع النيَّة، إذا جعلناه طلاقاً، وإن جعلناه فسخاً هل للكنايات مَدْخَل فيه؟ فيه وجْهَان، فإنْ قلنا: نعم، وهو الأصحُّ -على ما ذكر "صاحب الشامل" وغيره- فإن نوى الطلاق أو الفَسْخ، كان كما نوى وإن نوى الخُلْع عاد الخِلاَف في أنَّه فَسْخ أو طلاق، ولو قال: خالَعْتُ نِصْفَك، أو يدك على كذا، أو خالعتك شَهْراً على كذا، نفذ إن جعلناه طلاقاً، والقول في المال الواجب سيأتي، ولا ينفذ إن جعلناه فسخاً. وترجمةُ الخُلْع بسائر اللغات كلفظ الخُلْع، ولا يجيء فيه الخلاف المذكور في النكاح. ولفظ البيع والشراء كنايةٌ في الخُلْع سواء جعل فسخاً أو طلاقاً وذلك بأن يقول: بعْتُ نَفْسَكِ منْكِ بكذا، فتقول: اشْتَرَيْتُ أو قَبِلْتُ ولفظ "الإِقَالَة" كنايةٌ فيه أيضاً وفي "فتاوى" صاحب "التهذيب" أنه لو قال لامرأته (ماراً فروختي بدان خفي إلى كذا أين مست) (¬1) فقالت (فروختم) (¬2) ونوى تطليقَها على الحق وقعت البينونة، وسقط الحقُّ عنه إن كان معلوماً، ومعنى قوله: (مرا جاد فروختي جو خستي باد جهدي) (¬3) كما يقول الرجل: أنّا مِنْك طَالِقٌ، ويؤدي تطليقها ويقَعُ الطَّلاَق وبيع الطلاق بالمهر من جهة الزوج، وبيع المهر بالطلاق من جهة الزَّوْجَة، يعبر بهما عن الخُلْع وليكونا كنايتين أيضاً كما لو قال: بِعْتُ منْك نفْسَك، وفي "الزيادات" لأبي عاصم العَبَّادي؛ أَنَّ بَيْعِ الطَّلاَق مع ذكْر العِوَض صريحٌ، ورأى إسماعيل البوشنجي أن ينزل قوْلَه: بِعْتُكِ طَلاَقَكِ بكذا منزلة قوله: مَلَّكْتُكِ طَلاَقَكِ بكذا، حتى لو طلقت في المجلس لزم المالُ، ووَقَع الطَّلاَق، قال: وإنَّ نويا مجرد بَيْعِ الطلاق وشرائه من غير إيقاع الطلاق منها، ومن غير نية الطلاق منه، فهذا التصرف فاسدٌ، والنكاح باقٍ بحاله، وإسماعيل هذا إمامٌ غَوَّاصٌ وهو من المتأخرين لقيه من لقيناه. ولو قال لامرأته (برأس طلاق فروختم) (¬4) قال صاحب "التَّهْذيبِ" في "الفتاوى": هذا طلاقٌ، وليس بخُلْع، هذه الكلمةُ تُسْتَعْمَل في العجمية بمعنى التَّرْك والتَّخْلية، يقول الرجل لغيره: مرا بار رفروس يريد خلتي. ولو قالت المرأة: طَلِّقْني على كذا، فقال: خالَعْتُكِ، فإن جعلنا الخُلْع فسخاً، لم ينفَذْ؛ لأنَّه لم يجبْها إلى ما سألت، وإن جعلْنَا الخُلْع صريحَ الطَّلاَق أو جعلْناه كنايةً، ¬
ونوى حَصَلَتِ البينونة، ولزم المالُ، وإن لم ينو لم يقعْ شَيْء (¬1) ولو قالت: خالعْنِي على كذا، فقال: طلقتك عليه لم يقع شيء إن قلنا أن الخلع فسخ؛ لأن المبذولَ غير المسؤول، وفيه وجْه: أنَّه يقع الطلاق؛ لأنَّها سألتْ أهْوَنَ الفرقتين، وهي الَّتي لا ينتقص بها العَدَد، فإذا طلقها فكأنَّه أجاب، وزاد، فصار كما لو قالت: طَلِّقْني طلقة بألْفٍ، فطلقها طلقتين بألف، وإذا قلنا بالأول وهُو الظاهر فقولُه: طَلَّقْتُك ابتداءً كلامٌ منه، فإن لم بسم المال، وقَع الطلاق رجعيَّاً، وإن سمَّاه، لم يقَعْ ما لم تقْبَلْ، وإن قلنا: إن الخُلْع طلاقٌ، فإن جعلْناه صريحاً أو كنايةً، ونوت حصلت البينونةُ ولزم المال، ولا يضر اختلاف اللفظين، كما لو قالت: طلِّقْني على كذا، فقال: سرحتُكِ عليه، وإن جعلناه كنايةً ولم ينو، فقولها لاغٍ، والزوج مبتدئٌ بالطَّلاق، ولو وكَّل وكيلاً بالطَّلاق فخالع، فإن قلنا: إن الخُلْع فسخٌ، لم ينْفَذْ، وإن قلنا طلاقٌ قال البوشنجي الذي يجيء على أصْلنا أنَّه لا ينفذ أيضاً؛ لأن للخلع صيغة وللطلاق صيغة فإن كان ذلك بعد الدخول، فيقطع بعدم النُّفُوذ, لأنه وكَّل بطلاق رجعيِّ؛ فليس للوكيل قطْع الرجعة، وبمثله أجاب فيما إذا وكَّله بالطلاق، وطَلَّق على مال إن كان بحيث يتوقع الرَّجْعة، لم ينفذ وإن لم يكن، بأن كان قبل الدخول أو كان المملوك له الطلقةُ الثالثةُ، فقد ذكر فيه احتمالين: وجه النفوذ: أنَّه حصل غرضه مع فائدٌ، ووجه المَنْع؛ أنه ليس مفهوماً من التوكيل المُطْلَق الطلاقُ، وقد يتوقف في بعض ما ذكره حكماً وتوجيهاً. ولو تخالعَا هازلَيْنِ نفَذَ إن قلْنا: إنه طلاقٌ، وإن قلنا: إنه فسخٌ فهو كبيع الهازل، وفيه خلافٌ. والتعليقُ يمْنَعُ صحَّةَ الخُلْع إن قلْنا: إنَّه فسْخٌ، وإن قلنا: إنه طلاقٌ، لم يمنع الطلاق، والقول في المال سيأتي. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّانِي في نِسْبَةِ الخُلْعِ إِلَى المُعَامَلاَتِ): وَالتَّفْرِيعُ عَلَى أَنَّهُ طَلاَقٌ فَنَقُولُ: لَوْ قَالَ: خَالَعْتُكِ أَوْ طَلَّقْتُكِ عَلَى أَلْفٍ فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ مَحْضَةٌ حَتَّى يَجُوزَ رُجُوعُهُ قَبْلَ قَبُولِهَا، وَلاَّ بُدَ مِنْ قَبُولِهَا بِاللَّفْظِ فِي المَجْلِسِ، وَلوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ ثَلاَثاً عَلَى أَلْفٍ فَقَالتْ: قَبِلْتُ وَاحِدَةً عَلَى ثُلُثِ الأَلْفِ لَمْ يَقَعْ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا العَبْدَ بأَلْفٍ فَقَالَ: قَبِلْتُ ثُلُثَهُ بِثُلُثِ الأَلْفِ، وَلَوْ قَبِلَتِ الوَاحِدَةَ بِكَمَالِ الأَلْفِ وَقَعَ الثَّلاَثُ عَلَى الأَظْهَرِ وَاسْتَحَقَّ الأَلْفَ، وَقِيلَ: يَسْتَحِقُّ مَهْرَ المِثْلِ، وَقِيلَ: لاَ يَقَعُ أَصْلاً، وَقِيلَ: لاَ يَقَعُ إِلاَّ وَاحِدَةٌ، أَمَّا إِذَا أَتَى بِصِيغَةِ التَّعْلِيقِ فَقَالَ: مَتَى مَا أَعْطَيْتنِي أَلْفاً فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَهَذَا تَعْلِيقٌ ¬
مَحْضٌ فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى قَبْولِهَا وَلاَ إِلَى إِعْطَائِهَا فِي المَجْلِسِ وَلاَ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ الإِعْطَاءِ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ أعْطَيْتِنِي فَهْوَ كَذَلِكَ إِلاَّ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالإِعْطَاءِ بِالمَجْلِسِ، لأَنَّ قَرينَةَ ذِكْرِ العِوَضِ يَقْتَضِي التَّعْجِيلَ، وَلاَ يَنْدَفِعُ إِلاَّ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ مَتَى مَا. قال الرَّافِعِيُّ: مقصود الفَصْل بيانُ ما ينجذب (¬1) إليه الخُلْع من الأصول، ويشتمل عليه من الشوائب. قال علماء الأصحاب: إن جعلنا الخُلْع فسخاً، فهو معاوضةٌ محضةٌ من الجانبَيْن، لا مدخل للتعليق فيه، بل هو كابتداء النِّكَاح والبيع؛ ألا ترى أنَّه لا يشترط وروده على عِوَض النكاح، بل يجوز إيراده على عوض جديد، فلو قال: خَالعْتُكِ على مِائَةٍ فَقَبِلَتْ على خمسين، أو قالت: خَالِعْنِي بمِائة، فخالَعَها بخمسين، أو بخمسين فخالَعَها بمائة، لم يصِحَّ؛ كما لو قال: بعْ عبْدك مني بمائة، فباعه بخمسين، أو بخمسين فباعه بمائة، وإن جعلْنَاه طلاقاً، أو جَرَى لفظ الطلاق صريحاً، فيُنْظَر في كيفية ما جَرَى أبَدَأَ الزوج بالإِيقاع، أم بدأت الزوجة بسؤال الطلاق والتماسه. القسم الأول: إذا بدأ الزَّوْجُ بالطَّلاق، وذكر العِوَضَ، فهو معاوضة فيها شائبَةُ التعليق، أما جهَةُ المعاوضة، فهي أنَّه يأخذ مالاً في مقابلة ما يخرجه من ملكه، وأما شائبة التعليق، فلأن وقوع الطلاق يترتب على قَبُول المال أو بَدَله، كما يترتب الطلاق المعلَّق بالشروط عليها، ثم تارةً يغْلِبُ معنى المعاوضة، وأخرى معنى التعليق، وأخْرَى يُرَاعَى المعنيان، ويختلف ذلك بالصيغ المأتي بها؛ فإن أتى بصيغة المعاوضَةِ، وصورتها، فقال: خالَعْتُكِ بكذا أو على كذا، أو طَلَّقْتُكِ أو أنت طالقٌ على كذا، فيغلب معنى المعاوضة وثبتت أحكامها، حتى يجُوزَ له الرجوعُ قبل قبولها، ويلغو قبولها بعد رجوعه، ويشترط قبولها باللفظ من غير فصل، كما في البيع وسائر العقود (¬2)، فلو تخلَّلَ زمانٌ طويلٌ، أو اشتغلت بكلامٍ آخَرَ، ثمَّ قبِلَتُ لم ينفذ. ولو اختلف الإِيجابُ والقَبُولُ؛ بأن قال: طلقتك بألف فقبلت بألفين، أو قال: طلقتك بألف فقبلت بخمس مائة [لم] يصح؛ كما في مثله في البيع وغيره، هكذا ذكر صاحب "التهذيب" وغيره -[رحمهم الله]- وفي "الشامل": أنَّه لو قال أنْتِ طالقٌ بألْف ¬
فقبلتْ بألفين صحَّ، ولا يلزمها إلاَّ الألْفُ؛ لأنه لم يوجب إلاَّ ألفاً، والظاهر الأول، وكذا لو قال طلَّقْتك ثلاثاً بألف، فقالت: قبلْتُ واحدةً على ثُلُث الألف لم يصح، كما إذا قال بعْتُكَ هذا العَبْد بألف، فقال: قبلتُ ثلثه بثُلُث الألف، ولو قالت: قَبِلْتُ واحدةً على الألف فوجْهَان. أحدهما: وهو المذكور في "التتمة" أنه لا يقع شيءْ؛ لأنها لم تقْبَل إلاَّ ثلث ما أوجب، وإذا لم يتفق الإِيجاب والقبولُ، لمْ يَصِحَّ المعاوضةُ كما لو قال: بعْتُكَ هذين العبدين بألف، فقال: قَبِلْتُ أحدهما بألف لا يصحُّ البيع، وأظهرهما الوقوع؛ لأن القبول من جهة المرأة إنَّمَا يعتبر سبب المال، وإلاَّ فالزوج مستقل بالطلاق، فإذا قبلت المالَ والتزمته، اعتبرنا في الطلاق (¬1) جانبَ الزَّوجْ، وأما البيع فقد قال الشيخ أبو علي رحمه الله: يُحْتَمَل أن يَصِحَّ تخريجاً، على القول بالصِّحَّة فيما إذا وكَّله ببيع عبده بمائة، فباعه بمائة وثوب وبتقدير ألا يَصِحَّ، فالفرق أن البَيْع محضُ معاوضةٍ، والخُلْع فيه تعليق الطلاق بالمال وتحصيله، فإذا حَصَل، وقَع ما أوقَعَه، وله ولاية إيقاعه، وإذا قلْنا بوقوع الطَّلاق فبما يقع فيه وجهان: أحدهما: أن تقع واحدة, لأنَّها لم تقبل إلاَّ واحدةً، ويلغو ما لم يتَّصل به القول؛ ألا ترى أنَّها لو لم تقبل شيئاً، لا يقع شيء، وإذا قَبِلَتِ الثلاث يقع الثلاث. وأظهرها: على ما ذكره الشيخ أبو عليٍّ وصاحب الكتاب: أنَّه يقع الثلاث وبه قال القَفَّال -رحمه الله-؛ لأن قَبُولَها إنما يحتاج إليه للمال، وأما أصْل الطلاق وعدده، فالزوج مستقل بهما، وفيما يستحق الزوج عليها، وإذا قلنا بوقوع الطلاق وجْهَان: أظهرهما: وبه أجاب الشيخ أبو محمد وابن الحداد -رحمهم الله- أن المستحَقَّ الألْفُ؛ لأن الإِيجاب والقَبُول متعلقان به وواردان عليه. والثاني: ويحكى عن ابن سُرَيْج: أنَّه يفسد العوض المذكور؛ لاخْتِلاَفهما في عدد الطلاق إيجاباً وقبولاً، وهذا الاختلاف ينبغي أن يؤثر في العوض، وإن لم يؤثر في الطلاق، وإذا فَسَد العوض، كان الرُّجُوع إلى مهْر المثل، قال الشيخ أبو علي: وهذا الوجْه على قَوْلنا أنَّه لا يقع الثلاث أظْهَرُ منه على قولنا: يقع الثلاث وإن أتى الزوج بصيغة التعليق، نُظِرَ؛ إن قال: متى أعطيتني كذا، أو متى ما أعطيتني أو أي وقت أو حين أو زمان، فيغلب معنى التعليق ويثبت أحكامه، ويجعل كالتعليق بسائر الأوصاف حتَّى لا يحتاج إلى القَبُول باللفظ، ولا يشترط الإِعْطَاء في المجلس، بل تطلق متى وجد الإِعْطَاء، وليس للزوج الرجوع قبل الإِعطاء، وإن قال: إن أعطيتني أو إذا أعطيتني كذا، ¬
فأنْتِ طالق، فله بعض أحْكَام التعليقات؛ حتى لا يحتاج إلى القبول اللفظي ولا رجوع للزوج قبل الإِعطاء وبعض أحكام المعاوضات، وهو اشتراط الإِعطاء في المجلس أما ثُبُوت أحكام التعليق، فلأن اللفظ والتعليق بـ"مَتَى"، وأما اشتراط الإِعطاء في المجلس فلأن ذكر العِوَض قرينةٌ تقتضي التَّعْجيل؛ لأن [يرد] الإِعراض بتعجيل في المعاوضات، وإنما تركْنَا هذه القضية في "متى" وأخواتها, لأنها صريحةٌ في جواز التأخير شاملةٌ لجميع الأوقات و"إن" لا تشملها، وإنما تقتضي التعليق والاشتراط فقط؛ ألاَ ترى أنَّه ينتظم أن يقال: إن أعطيتني، وإذا أعطيتني الآن، أو ساعة كذا، فلم تصلُحْ "إن"، و"إذا" دافعةً للتسوية -المقتضية-[لثبوت] التعجيل هكذا سوى الأكثرون بَيْن "إن" و "إذا"، واختار الشيخ أبو إسحاق الشيرازي -رحمه الله- إلحاق "إذا" بـ"متى" وقال إنَّها تفيد ما تفيد "متى" محتجَّا بأنه إذا قيل: إلى متى أَلْقَاكَ، جاز أن يقول: إذا شئت كما يقول: "متى" و"أي وقت" شئت، ولا يجوز أن يقول: إن شئت، ثم ذكر صاحب "التتمة" أن اشتراط التعجيل مخصوصاً بما إذا كانت الزوجة حرَّةً أمَّا إذا كانت الزوجة أمةً، وقال: إن أعْطَيْتِنِي ألفاً فأنت طالقٌ فلا يعتبر الفَوْرُ في الإِعطاء، بل يقع الطلاقُ، مهما أعْطَتْه وإن امتد الزمان؛ لأنها لا تقدر على الإِعطاء في المجلس؛ لأنَّه لا يَدَ لَهَا الغالب، ولا مِلْكَ، بخلاف ما إذا قال: إن أعْطَيْتِنِي زِقَّ خَمْر، فأنت طالقٌ، حيث يشترط الفور، وإن لم تملك الخمر؛ لأن يدها قد تشتمل على الخمر، قال: ولو أعطته الأمَةُ ألفاً من كسبها، حصَلَتِ البينونة، لوجود الصفة، وعليه رد المال إلى السيد، ومطالبتها بمهر المثل، إذا عَتَقَتْ. والمراد من المَجْلِس الذي يشترط فيه التعجيل مَجْلِسُ التواجب، وهو ما يحصل به الارتباط بين الإِيجاب والقبول، ولا نَظَر إلى مكان العقْد، فكأن الإِعطاء نازلٌ منزلة القَبُولِ، فاعتبر فيه الاتصال المعتبر في الإِيجاب والقبول، وفيه وجْه حكاه القاضي ابن كج وغيره: أنَّه يقَع الطلاق إذا أعطته قبل أن يتفرقا، وإن طالت المدة، ويجعل مجْلِس التخاطب جامعاً كما في القبض في الصَّرف والسّلْم، والمذهب الأول. وقوله في الكتاب: "فَهُوَ كَذَلِكَ" معلَّم بالواو، ولأن صاحب "التهذيب" حكى وجْهاً: أنّه يجوز للزوج الرجوعُ قبْلِ الإِعطاء، وهو الذي أورده صاحب "المهذب"، فلا تكون "إِنْ" على ذلك الوجْه كـ"مَتَى"، ويقرب منه ما حكاه القاضي ابن كج عن أبي الطيِّب بن سلمة: أن الزوج بالخيار بين أن يقبل الألف الذي أحضرته وبين ألاَّ يَقْبَلَ. وقوله: "إِلاَّ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بالإِعطاء بالمَجْلِسِ" معلَّمٌ بالألِفِ؛ لأن عند أحمد -رحمه الله- كلمةُ إنْ بمثابة "مَتَى"؛ في أنَّه لا يشترط تعجيل الإِعطاء، وبالواو؛ لأن عن "شرح التلخيص" حكاية وَجْهِ مثْلِه.
قَالَ الغَزَالِيُّ: فَأمَّا جَانِبُ المَرْأَةِ فَمُعَاوَضَةٌ مَحْضَةٌ حَتَى يَجُوزَ لَهَا الرُّجُوعُ قَبْلَ الجَوَابِ وَإِنْ أَتَتْ بِصَرِيحِ صِيغَةِ التَّعْلِيقِ وَقَالَتْ: مَتَى مَا طَلّقْتَنِي فَلَكَ أَلْفٌ وَيَخْتَصُّ الجَوَابُ بِالْمَجلِسِ أَيْضاً نَعَمِ احْتُمِلَ مِنْهَا صِيغَةُ التَّعْلِيقِ لِشَبَههِ بِالجَعَالَةِ فَإنَّهَا بَذَلَتِ المَالَ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الزَّوْجُ، وَلِذَلِكَ لوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلاَثاً عَلَى أَلْفٍ فَقَالَ طَلَّقْتُكِ وَاحِدَةً عَلَى ثُلُثِ الأَلْفِ اسْتَحَقَّ الثُّلُثَ كَمَا فِي نَظِيرِهِ مِنَ الجَعَالَةِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَالَ الرَّجُل ابْتِدَاء: طَلَّقْتُكِ ثَلاَثاً عَلَى أَلْفٍ فَقَبِلَتْ وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ لأَنَّ مَا أَتَى بِهِ صِيغَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ قَالَ: خَالعْتُكُمَا عَلَى أَلْفٍ فَقَبِلَتْ وَاحِدَة عَلَى خَمْسِمِائَةٍ لَمْ يَنْفَذْ لأَنَّ الجَوَابَ لَمْ يُوَافِقْ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَالَتَا: طَلِّقْنَا فَأَجَابَ إِحْدَاهُمَا نَفَذَ، وَإِنْ قَالَ: خَالَعْتُكِ وَضَرَّتُكِ فَقَبِلَتْ صَحَّ لأَنَّ المُتَعَدِّدَ هُوَ المَعْقُودُ عَلَيْهِ فَقَطْ. قال الرَّافِعِيُّ: القسْم الثَّاني: إذا بدأت الزوجةُ بسؤال الطلاق والتماسه، فأجابها الزوج، فهو معاوضةٌ فيها مشابةٌ الجَعَالةِ، أما أنها معاوضةٌ، فلأنَّها تحصل الملك في البُضْع بما تبذله من العوض (¬1)، وأما شائبة الجَعَالَةَ؛ فلأنها تبذل المال في مقابلة ما يستقل به الزوج، وهو الطلاق، وإذا أتَى بِهِ وَقَعَ المَوْقع وحَصَل عِوَضُهِما، كما أن الجَعَالة ببذل الجاعل المال في مقابلة ما يستقل العامل به، في وقوعه الموقع، وتحصيل الغرض؛ ولأن الجاعل يلتمس ما فيه خَطَرٌ قد يتأتى وقد لا يتأتى والمرأة تلتمس من الزَّوْج الطلاقَ القابلَ للتعليق بالأخطار والأغرار، ويجوز لَهَا الرُّجوع قبل جواب الزوج؛ لأن هذا هو حُكْم المعاوضات والجَعَالات جميعاً، ولا فرق بين أن تأتي بصيغةِ التعليق، فَتَقُول: إن طلقتَنِي ذلك كذا، أو متى طلقتَنِي، وبين أن تقول: طَلقني على كذا؛ فإنه معاوضة في الحالتين من جِهَةِ أن المال هو الذي يتعلق بها، والمال لا يقبل التعليق، بخلاف الطَّلاَق من جانب الرَّجُل، وكأن قياس كوْنِه معاوضة ألاَّ يجوز التعليقُ فيه، كما لو قال: إن بعْتِنِي فلكِ كَذَا, ولكن لِمَا فيه من شائبة الجَعَالة احتملت فيه صيغةُ التعليق، كما لو قال: إن رددت عنْدِي فلك كذا، فكان الطلاق لسرعة نفوذه لمَّا احتمل فيه التعليق، وجعل معلقه كمنجز البيع، احْتُمِلَ في التماسه التعليقُ أيضاً، بخلاف البيع، ويشترط أن يُطَلِّقهَا في مجلس التواجُبِ على قاعدة المعاوَضَات، سواءٌ فيه صيغةُ المعاوضة، وصيغةُ التعليقِ، ولا فَرْق بيْنَ أن يعلق بـ"إِنْ" أو بـ"مَتى"، فلو طلقها بعد تخلُّل مدة طويلة، حمل على الابتداء؛ لأنَّه قادرٌ عليه، ولم يلحقوه في هذا الحكم بالجعالة؛ فإن رد العبد في الجَعَالة في المجلس لا يشترط، هذا هو الظَّاهِرُ، ويجوز أن ¬
يعلم قوله في الكتاب: "وَيَخْتَصُّ الجَوَابُ بِالمَجْلِسِ" بالواو؛ لِمَا هو مذكور في الكتاب في الفصل الثالث من الباب الرابع. ولو قالت: طلِّقْني ثَلاَثاً على ألف، فقال: طلَّقْتُك واحدةً على ثُلُث الألف، أو اقتصر على قوله طلقتك واحدةً، وقعت الواحدة، واستحق ثلث الألف، كما لو قال في الجَعَالة، رُدَّ عبيدي الثلاثة، ولك كذا، فرد واحداً استحق ثُلُثَه، وليس كما إذا قال الزوج ابتداءً طلَّقْتُكِ ثلاثاً على ألف، فقالت: قبلْتُ واحدةً بثلثه؛ حيث قلنا: إنَّه لا يقع شيء؛ لأن ما أتى به الزوج صيغةُ معاوضة، فرتب عليه أحكام المعاوضات، وحكى الشيخ أبو علي وجْهاً: أنَّها إذا سألتِ الثَّلاَث، فطَلَّق واحدةً لم يقَعْ شيء وغلط قائله. ولو قال لامرأتيه خالَعْتُكُمَا بألف، أو طلقتكما، أو أنتما طالقَتَانِ، بكذا فقبلت إحداهما وحْدَها, لم يقَعْ شيء؛ لأن القَبُول لم يوافق الجواب، كما لو قال: بعتكما هذا العَبْد بألْف، فقال أحدهما؛ قبلْتُ، وقد مر في "تفريق الصَّفْقة" من "كتاب البيع" وجْهُ: أنَّه يصح البَيَع في حَقِّ القائل، ولا بُدَّ من مجيئه هاهنا، وقد صَرَّح به صاحب "التتمة" والظاهر الأول، وبمثله أجَابَ صاحبُ "التَّهْذِيبِ" فيما إذا قال: طلقْتُ إحداكما بألْفٍ، ولم يعينْ، فقالتا: قبلْنَا. ولو قال: خالعْتُكِ وضرَّتَك بكذا، فقبلتْ، صحَّ الخُلْع، ولزم المال المسمى؛ لأن هناك جرى الخِطَاب معهما وهاهنا الخطاب مع واحدة، وهي مختلعة لنفسها وقابلةٌ لضرتها، كما يقبل الأجنبي الخُلْعَ، ولو قالت له امرأتاه: طَلِّقنا على ألْف، وطلق إحداهما، يَقَع عليها دون الأخرى، كما لو قال رجلان: رُدَّ عبدَيْنَا بكذا، فرد أحدهما دون الآخر، والمال مثلهما أو نصف مثلها الواجب على التي طلَّقها منهما مهر المثل، أو حصتها من المسمى، إذا وزع على مهر المسمى توزيعاً الرؤوس فيه اختلاف قول، والأصحُّ الأول، ويجري الخلاف في الواجب على كلِّ واحدة منهما، إذا طلَّقَهُما جميعاً، وهذا الخلاف هو الخلاف المذكور في باب "الصَّدَاق" وفيما إذا خَالَع امرأتيه على ألف، وقِيلَتَا، أنَّه يصح المسمَّى أو يفسد إن صح، فالتوزيع على مهر المثل أو الرؤوس، وإن فَسَد، فالواجبُ مَهْر المثل، أو ما يقتضيه التوزيع، والخلاف على ما ذكر الشيخ أبو حامد مخصوصٌ بصورة الإِطلاق، أما إذا قال طلقْتُكُمَا على ألْف مُنَاصَفَةً أو قالتا: طلِّقْنا على ألْف مناصَفَةً، فلا خلاَفَ أنَّه يكون كذلك، ولو قالَتْ: طلِّقَني [بأَلْف] (¬1) فقَال: طَلَّقْتُكَ بخمسمائةٍ يقع الطلاق، وتجب الخمسمائة، كما لو قال: رُدَّ عَبْدِي بألف، فقال: رددته بخمسمائة، ورده لا يستحق إلاَّ خمسمائة، وفيه وجْه، أشار ¬
إليه في "التَّتِمَّة" أنَّه لا يقع ويغلب معنى المعاوضة، وقد سبق في "البيع" أنَّه لو قال: بِعْنِي هذا بألف، فقال: بعْتُه بخمسمائة، لا يصحُّ ويمكن أن يقدَّر فيه خلاف؛ لأنا حكينا في البيع عن "فتاوى القَفَّال" أنَّه لو قال: بِعْتُكَ بألف دِرْهَمٍ، فقال: اشترَيْتُ بألف وخمسمائة درهم، أنَّه يصح البيع والصورتان متشابهتان، هذا بيان ما قال الأصحاب بأن الخُلْع معاوضةٌ، وفيه شائبةُ التعليقِ من جانب الزوج، وشائبةُ الجَعَالةِ من جانب الزَّوْجَة، وقد ظَهَر أن الغالب عليه أحكام المعاوضات وربما تولجها شيء من أحكام التعليق والجَعَالة, لأن العرق نَزَّاعٌ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَتَا: طَلِّقْنَا وَارْتَدَّتَا فَأَجَابَهُمَا ثُمَّ عَادَتَا إِلَى الإِسْلاَمِ صَحَّ الخُلْعُ وَإِنْ تَخَلَّلَ كَلِمَةَ الرِّدَّةِ وَهَذَا الكَلاَمُ اليَسِيرُ لاَ يَضُرُّ. قال الرَّافِعِيُّ: قصد بهذه القضيَّة الكلامَ فيما إذا تخلَّل بين الإِيجاب والقَبُول في الخُلْع كلام آخرُ، وهذا شيء ولو أخره إلى ذكْر الصيغة لَكَان أحْسَنَ، وقد مر في "البَيْع" وغيره، أنَّه لا ينبغي أن يتخلل بَيْن الإِيجاب والقبول كلامٌ لا يتعلق بهما، فإن تخَلَّل، بَطَل الارتباطُ بينهما، وذلك في الكَلاَم الكثير، فأما الكَلاَم اليسير، فقد أطلق الإِمام فيه حكايةَ وجهَيْنِ (¬1)، فقال: الصحيح أنَّه لا بأس به، واحتج محتجون لهذا الوجه منهم القاضي الحسين -رحمه الله- بأن الشافعيَّ -رحمه الله- نَصَّ على أنَّه لو قالت له امرأتاه: طَلِّقْتَا بألف، ثم ارتَدَّتَا، ثم طلقهما، كان الطلاق موقوفاً فإن رجعتْ إلى الإِسلام في العِدَّة لزمَهُما، ونَحْن نشرح هذه المسألة [أوَّلاً] , ثم نرجع إلى ما يتعلق بالاحتجاج بها على المَقْصد المذكور، ونقدم على شرحها أنَّه إذا سألت المرأة الواحدة الطَّلاَق بعوض ثم ارتدتْ عَقيبَ السؤال، ثم أجابَها الزوج، فينظر؛ إن كان قبل الدُّخُول فتتنجز الفُرْقَة بالردة، ولا يقع الطلاقُ ولا يلزم المَال، وإن كان بعد الدخول، فالطَّلاق موقوفٌ، فإن أصرَّتْ إلى أن انقضت العدة، فلا طلاق ولا مال، وإن عادت إلى الإِسلام، بَانَ وقوع الطلاق، ولزم المال، وتُحْتَسَب العدة من وقت الطلاق، ولو قالَتْ له امرأتاه: طَلِّقْنا بألْف، وارتدَّتَا، ثم أجابهما، فإن لم يكن دخل بهما لغا الطلاق، وكذا لو كان قد دخل بهما وأصرتا إلى انقضاء العدة، دمان عادتا إلى الإِسلام قبل انقضاء العدَّة، تبين وقوع الطلاق عليهما. وقال الحناطي: ويحتمل أن يقال: لا يقع ويجعل اشتغالهما بكلمة الرِّدَّة إعْراضاً ورجوعاً عن ذلك الالتماس، وفي العوض الواجب على كل واحدة، الخلاف المذكور في الفصْل السابق، وإن أصرت إحداهما، وعادت الأخرى، لم يَقَعِ الطلاقُ على ¬
الباب الثاني في أركان الخلع
المُصَرَّة، ويقع على العائدة، وفيما يلزمها الخلافُ السابقُ، وفي "المجرد" حكايةُ وَجْهٍ آخَرَ أنَّه يلزمها جميعُ المسمَّى، ولو ارتدَّتْ إحداهما، ثم أجابهما، وكان ذلك قبل الدخول أو بعده، وأصرت إلى انقضاء العدة، وقَع الطَّلاَقُ على المُسْلِمة دون المرتَدَّة، وكان كذلك كما لو أجاب إحداهما دون الأخرى، إذا عرف ذلك، فمن احتمل تخلُّل الكلام اليسير، احتَجَّ بهذه المسألة؛ فإن تخلل الردة لم يقْطَعْ الارتباطَ بين الكلاميين حتى حكَمْنا بصحة الخُلْع عند العود إلى الإِسلام، ومن لم يحتمله قال: الكلام في صورة النَّصِّ وُجِدَ من المرأتين المخاطبتين، ولا يلزم من احتمال ذلك احتمالُه من المخاطَب المَطْلُوب منْه الجوابُ، فإن المخاطب قد يشتغل إذا تم الخِطَاب بشَيْء آخَر، وهو مع ذلك متوقِّع للجواب طالب لهُ، وأما المخاطب فاشتغاله يُشْعر بالإِعراض عن الجواب لكن قضية هذا الفرق أن يُقَال: لو ابتدأ الزوج، فقال: طلَّقْتُكِ بألف، فارتدَّتْ ثُمَّ قَبِلَتْ، لا يصحُّ الخُلْع، وإن عادت إلى الإِسلام، ولم يجر الأئمة على ذلك بل أجاب صاحب "التهذيب" فيما إذا ابتدأ الزوج بمثل الجواب الَّذي بيَّنَّاه فيما إذا ابتدأت المرأة بالالْتِمَاس، ولو قال لامرأتيه: طَلَّقْتُكُمَا على ألْفٍ، فارْتَدَّتَا، ثم قبلتا، فإن لم يدْخُلْ بهما أو دخَل وأَصَرَّتَا إلى انقضاء العدة لُغِيَ الخُلْع، وإن كان قد دَخَل بهما، وعادتا إلى الإِسلام في العدة، صَحَّ الخُلْع في حقهما، وإن عادت إحداهما، وأصَرَّتِ الأخرى، بطَل الخُلْع في حقِّهما جميعاً، وكان ذلك كما لو قِبلَتْ إحداهما دون الأخرى، وقدَ مَّر أنَّه إذا ابتدأ والزوج بالإِيجاب فلا بدّ من توافقهما على القَبُول؛ بخلاف ما إذا ابتدأت المرأتان بالالتماس، ولو خاطبهما كما ذكَرْنا وارتدَّتْ إحداهما، ثم قبلَتَا، فإن كانت المَرأة غَيْرَ مدخول بها أو مدخولاً بها، وأصَرَّت إلى انقضاء عدَّتِها، فالخُلْع باطلٌ في حقِّها، وإن عادت إلى الإِسلام في العدة، صحَّ في حقهما، وإن كانت الردَّةُ بعد إيجاب الزوج، كالردة بعد التماس الزوجة، عُرِفَ أن تَخَلُّل الكلام اليسير، لا يضُرُّ، ويؤيده ما مر في باب الأذان؛ أن الكلام اليسير لا يبْطِلُه، ولو ارتدَّتَا بعد الدخول، ثم قالتا: طَلِّقْنَا بألْف، فأجابهما، وعادَتَا إلى الإِسلام، وقع الطلاق، وحكى الحناطي خلافاً في أنَّه يكون رجعيّاً أو يجب البدل، وهذا الخلاف عجيبٌ والقَوْل في خُلْع المرتدة سيَعُودُ إن شاء الله تعالى وبه أستعين. قال -رضي الله عنه-: البَابُ الثَّانِي فِي أَرْكَانِ الخُلْعِ وَهِيَ خَمْسَةٌ: العَاقِدَانِ وَالعِوَضَانِ وَالصِّيغَةُ (الأَوَّلُ: المُوجِبُ): وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلاً بالطَّلاَقِ، وَيَصِحُّ خُلْعُ السَّفِيهِ وَلَكِنْ لاَ يَبْرَأُ المُخْتَلِعُ بِتَسْلِيمِ المَالِ إِلَيْهِ بَلْ إِلَى الوَلِيِّ.
قال الرَّافِعِيُّ: لا شك أنَّ الخُلْع يجْري بين اثنين، وفيه عَوضٌ ومُعَوَّض، وله صيغةٌ يعقد بها [فهذه خمسة أركان، والباب معقود] لبيانها الأوَّل: الزَّوْج وهو المُوجب ابتداء، والمجيب لسؤال الطَّلاَق بناءً، ويشترط أن يكون ممن ينفذ طلاقُه، فلا يصحُّ خُلْع الصبي، والمجنون، ويصح من المَحْجُور عليه، بالفَلَس والسَّفَه، سواءٌ أذِنَ الولي أو لم يأذن، وسواء كان العِوَض قَدْرَ مهر المثل، أو دُونَه، فإنَّ ذلك لا يزيد على الطلاق مَجَّاناً، وطلاقها مَجَّاناً نافذ، لكن لا يجوز للمختلع تسليمُ المال إلى السفيه، بل يسلمه إلى الوليِّ، فإن سلم إلى السفيه وكان الخُلْع على عين مال، يأخذها الوليُّ من يده، فإن تَرَكَها في يده حتى تَلفَ بعد العلْم بالحال، ففي وجوب الضَّمَان على الوليِّ وجهان: حكاهما (¬1) الحناطي، وإنْ تلف في يد السفيه، والوليُّ لا يعلم التسليم، فيُرْجَعُ على المختلع بمهر المثل في أظهر القولين وبقيمة العين في الثاني؛ لأنَّه حصل التلف قبل الوصول إلى مستحق القبض، وإن كان الخُلْع على دَيْن، فيرجع الوليُّ على المختلع، بالمسمى؛ لأنَّه لم يجر قبْضٌ صحيح، تحصلى به البَرَاءة، ويسترد المختلع من السفيه، ما سلمه إليه، فإن تلف، فلا ضَمَان عليه؛ لأنه الَّذي ضيَّع مالَه بالتسليم إليه، فصار كمَنْ باع من السفيه شيئاً وسلَّمَه إليه، فَتَلِفَ عَنْده، وهذا كلُّه فيما إذا كان التسليمُ إلى السفيه بغير إذْن الوليِّ، فإن كان بإذنه ففي الاعتدادِ بِهِ وجهان عن الداركي، وفي "المُجَرَّد" للحناطي، تعرض للوجهين وترجيح لوجه الاعتداد (¬2). ويصحُّ خُلْع العبد، وإن لم يأذَنِ السيد، وكان العِوَضُ دون مَهْر المثل، ويدخل العِوَض في ملك السيد (¬3) قهراً كأكسابه، على ما مَرَّ في باب مداينة العَبِيد، والمختلعُ لا يسلَّم المال إليه، بل إلى السَّيِّد فإن سلمه إليه، فعلى ما ذكرنا في السفيه، إلاَّ أن ما يَتْلَفَ في يد العبد، يطالبه المختلع بضمانه، إذا أعتق, لأن الحَجْر على العَبْد؛ لحَقِّ السيد، فيقتضي نفي الضمان ما بقي حق حجر السيد، والحَجْر على السفيه لِحَقِّ نَفْسه، ¬
بسبب نقصانه، وذلك يقتضي نفي الضمان حالاً ومآلاً، وخلع المدبر والمُعْتَق بعضه كخُلْع القنِّ فإنْ جرت مهايأة بين من بعضه حر، وبين سيده، فليكن عوض الخُلْع من الأَكْسَاب النادرة، وليجيء فيه الخلافُ، وأما المكاتَبُ، فيسلمُ عِوَضُ الخُلْع إليه؛ لصحة يده واستقلاله، وقوله في الكتاب: "وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلاً بِالطَّلاَق" لفظ الاستقلال إنما يحسن إطلاقه فيما له مقابِلٌ ويحوج إلى مشاورة ومراجعةٍ أو يدخل تحت ولاية، والطَّلاَق ليس بهذه المشابه، فالمعتبر أن يكون الزَّوْج بحيث ينْفَذُ طلاقُهُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الثَّانِي: القَابِلُ): وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لالْتِزَامِ المَالِ، وَالْتِزَامُ المُكَاتَبَةِ المَالَ فِي الخُلْعِ تَبَرُّعٌ، وَالْتِزَامُ الأَمَةِ فَاسِدٌ يُوجِبُ الرُّجُوعَ إِلَى مَهْرِ المِثْلِ إِذَا عُتِقَتْ، وَقِيلَ: يُثْبَتُ المُسَمَّى وَيُطَالَبُ بَعْدَ العِتْقِ، وَاخْتِلاَعُهُمَا بِإِذْنِ السَّيِّدِ صَحِيحٌ، وَلاَ يَكُونُ السَّيِّدُ ضَامِناً لِلمَالِ فِي الجَدِيدِ. قال الرَّافِعِيُّ: يشترط في قَابِل الخُلْع من الزوجة أو الأجنبيِّ أن يكون مُطْلَق التصرف في المال، صحيحَ الالتزام، والمحجورون أنواعٌ: فَمنهم: المَحْجُور؛ بسَبَب الرِّقِّ، فإذا كانت الزوْجَة [المختلعة] أَمَةً -لم يَخْلُ: إِمَّا أن بختلع بغَيْر إذن السيد، أو بإذنه، فإن اختلعت بغير إذْنِه نُظِرَ إن اختلعت بغير مال السيد، ففي أمالي أبي الفَرَج السرخسي حكايةُ قولٍ عن الإِملاء: أنَّه يَقَع الطلاق رجعيّاً؛ لأنَّه إذا علم أن المال للسيد، و [أنه] لا إذْنَ منه، لم يكن طامعاً في شَيْء وكان كما لو خَالَع السَّفِيه، والمشهور أنَّه تحصل البينونة، كالخُلْع على الخَمْر والمغصوب والمستحق عليها مهر المثل أو بدل تلك العين فيه قولان: أصحُّهُما: أوَّلُهمُا وإن اختلعتْ على دَيْن، حصلت البينونة، والمستحق عليها مهر المثل، كما لو تزوَّج العبد بغَيْر إذن السيد، ووَطِئَ, يكون الواجب مهْرَ المثل، أو المسمَّى، ويصح التزامها، ويرفع الحَجْر عما تعلق بالذمة فيه وجهان أو قولان مُشَبَّهان بالخلاف في صحة شرائه وضَمَانِهِ بغَيْر إذن السيد، والذي أجاب به العِرَاقيُّون في هذا الخِلاَف ثُبُوت المسمَّى، ويحكى كذلك عن اخْتيار القَفَّال والشيخ أبي عليٍّ [أيضاً] , ولكن نظم الكتاب يقتضي ترجيح القول بأن المستحِقَّ مهْرَ المثل، وهو المذكور في "التهذيب" والموافق لِمَا مَرَّ في الشراء والضمان، فإنَّا بيَّنَّا أنَّ الأصَحَّ فيهما البُطْلاَن. وما حكمنا بثبوته في اختلاعها، بغير إذن السَّيِّد يتعلق بِذِمَّتِهَا تطالب به بعد العتق، ولا مطالبة في الحال محافظةً على حق السيد، وإن اختلعتْ بإذْن السَّيِّد، فإمَّا أن يبين العِوَض أو يطلق الإِذن، فإن بينه، نُظِرَ، إنْ كان عيْناً مِنْ أعيان ماله، نَفَذ الخلع، واستحق الزوج تلْك العين، وإن قُدِّرَ دَيْناً بأن قال: اختلعي نفسك بألف، ففعلتْ، تعلَّقَ الألف بكَسْبِها، كمَهْرِ العبد في النكاح المأذون فيه وإن زادت على ما قدر، فالزيادة في
ذمَّتِها، وإن قال: اختلعي بما شِئْتِ اختلعت بمَهْرِ المثل، وبالزيادة علَيْه إنْ شاءت، وتعلَّق الكُلُّ، بكَسْبها. قاله في "التهذيب" وكأنه أراد بمهر المثل وإلاَّ فقد ذكرنا في "الوَكَالَة"، لو قال لوكيله: بعْه بما شئْتَ، لا يجوز لَهُ البَيْع بالغَبْن، وإنَّمَا يجوز بغير نقْد البلد، وقضية ذلك إلاَّ يَكُون الزائد على مَهْر المِثْل هاهنا مأذوناً فيه، وإن أطلق الإِذن في الاختلاع، فقضيته مهْر المثل، فإن اختلعت بقَدْر مهر المثل أو دونه، تعلَّق بكسبها وإن زادَتْ فالزيادة في ذمتها، وما تعلق بكسبها عنْد الإِذن، يتعلَّق بما في يدها من مال التجارة، إن كانَتْ مأذونةً في التجارة أيْضاً، وإذا جَرَى الخُلْع، بإذن السيِّد والعِوَض دَيْن، ففي كون السيد ضامناً له الخلافُ المذكور في أنَّه هلْ يكون ضامناً للمَهْر إذا أذن للعبد في النكاح. واختلاع المكاتَبَة بغَيْر إذْن السيد كاختلاع الأَمَة بغير إذنه؛ لتعلق حَقِّ السيِّد بكسبها وما في يدها، وإن اختلَعَتْ بإذنه فطريقان (¬1): أظهرهما: أنَّه على القولَيْن في هبة المكاتَبِ وتبرعاته بإذْن السيد، ووجه كونه تَبَرُّعاَ أنَّه تفويت مالٍ لا بعوضٍ مَالِيٍّ. وإن قلْنَا: لا يصحُّ وهو المنصوص هاهنا، فخالعها بالإِذن كهو بغير الإِذْن، اختلعت بالدَّيْن أو بالعَيْن، وقد بيَّنَّا الحُكْم فيهما، وحكى الحناطي وجهاً، فيما إذا اختَلعَتْ بعين من مال السيد، بغير إذْنِه، أنَّه يرجع بالأقَلِّ من مهر المثل أو بَدل العين، ولا بدّ من مجيئه في الأَمَة، إن صحَّحْنا تبرُّعَه بالإِذْن فَكَمَا ذَكَرْنا فيما إذا اختلعتِ الأَمَة بالإِذْنِ. والطريقُ الثَّاني: القَطْع بالبُطْلاَن بخِلاَف سائر التبرُّعات فإنه يتعلَّق بها معه ثَوَاب دنيويّ وأخروي وليس في الخُلْع مثْل هذه الفائِدَةِ، وأنَّه يفوت مرافق النِّكَاح على المُخْتَلِعَة فلَيس لَهَا تفْويتُ المَال عليه، والقول الذَّاهب إلى أن السَّيد يكون ضامِناً لعوض الخُلْع في حق الأمة، لا يجيء في اخْتلاَع المُكَاتبة ذَكره الشيخ أبو الفرج الزاز -رحمه الله- وعلَّل بأن للمكَاتَبَة يَدَاً ومالاً يُطْمِع فيه الزَّوْجَ بخِلاَف الأمة. وقوله في الكتاب: "وَالْتِزَامُ المُكَاتَبَةِ المَالَ فِي الخُلْعِ تَبَرُّعٌ" وإشارة إلى أنَّه على خلافٍ في تبرُّعَات المكاتَب بإذن السيد. وقوله: "والْتِزَامُ الأَمَةِ فَاسِدٌ" إنما يطلق لفْظ "الفَسَاد"؛ للرجوع إلى مَهْر المثل، ونزوله منزلة الخُلْع، على الأعواض الفاسدة وعلى الوجْه الذي نَقُول بثبوت المسمَّى يطلق القول بصحته؛ كخلعها بالإِذن. ¬
فَرْعٌ: اختلع السيد أمَتَه الَّتي هي تحت حُرٍّ أو مكاتَبٍ على رقَبَتها. قال إسماعيل البوشنجي: تحصلت فيه بعد إمعان النظر على وَجْهَيْنِ: أحدهما: أنَّه تحصل الفُرْقَة، ويكون الرجوع إلى مَهْر المِثْل؛ لأنَّه خُلْع على بدل لم يسلَّم له، فإن البَدَل هو تَمَلُّك الرَّقَبة، وفُرقة الطلاق وتملك الرقبة لا يجتمعان، وإذا لم يسلَّم البدل أشْبَهَ ما إذا خالَعَها على خَمْر أو مغصوبٍ وأصحهما أنَّه لا يصحُّ الخُلْع أصْلاً؛ لأنَّه لو حَصَلَتَ الفُرْقَة، لقارنها مِلْك الرقبة؛ فإن العوضين يتساوقان (¬1) والملْك في المنكوحة يمنع وقوع الطلاق، وهذا كما قال الأصحاب فيمن علَّق طلاق زوجته المملوكة لأبيه على مَوْت أبيه، أنَّه لا يقع الطلاق، إذا مات الأَبُ؛ لأنَّ حصول الملك فيه حالَةَ مَوْتِ الأب يمنع وقُوعَ الطلاق، حتى لو كان الأَبُ قَدْ قال: إذا مِتُّ فهي حُرَّةٌ يقع الطلاق عند مَوْت الأب، والله أعْلَمُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَاخْتِلاَعُ السَّفِيهَةِ فَاسِدٌ لاَ يُوجِبُ المَالَ وإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الوَلِيِّ وَلَكِنْ إِذَا قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلاَقُ رَجْعِيّاً، وَإِذَا اخْتَلَعَت الصَّبِيَّةُ لَمْ يَقَعِ الطَّلاَقُ رَجْعِيّاً لأَنَّ لَفْظَهَا فِي القَبُول فَاسِدٌ، وَالمَرِيضَةُ إِنِ اخْتَلَعَتَ بِمَهْرِ المِثْلِ صَحَّ، وَالزِّيَادَةُ تُحْتَسَبُ مِنَ الثُّلُثِ دُونَ الأَصْلِ (ح). قَالَ الرَّافِعِيُّ: ومن أسباب الحَجْر السَّفَهِ، فإذا قال لزوجته المحجورِ عليها بالسفه: خالَعْتُكِ على ألْف، أو طلَّقْتُكِ على ألف فقبلَتْ، وقع الطلاق رجْعيّاً، سواءٌ قبلَتْ ذلك بإذن الولي، أو دون إذنه، ولا يلزمها المَالُ؛ لأنَّهَا ليست من أهل التزام المال، وليس للولي صَرْفُ مالها إلى هذه الجهة، وإن لم تقْبَلْ لا يقع الطلاق؛ لأنَّ الصيغة تقتضيه، فهو كما لو علَّق الطلاق على صفةٍ لا بدّ من حصُولها, ولو قال لها: طَلَّقْتُك على ألفٍ إن شئْتِ، فقالت على الاتصال: شِئْتُ، يقع الطلاق رجعياً أيضاً، ولو ابتدأت فقالت: طلَّقْنِي على كذا، فأجابها، فكذلك الجواب. ولو كانَتْ له امرأتان رشيدة مطلقةٌ ومحجورٌ عليها، فقال: طلَّقْتُكُمَا على كذا، فقَبِلَتَا، وقع الطلاق على المطلقة بائِناً، وعليها مهْرُ المِثْل على الأصحِّ، وعلى السفيهة رجعيّاً، وإن قبِلَتْ إحداهما وحْدها لم يقع عليها شيْءٌ، ولو كانتا سفيهتين، فقال: طلقتكما على ألف، فقبلتا، وقَعَ الطلاق عليهما رجْعِيّاً. وإن قبِلَتْ إحداهما وحدها لم يقع شَيْء، ولو ابتدأتا فقالتا: طلِّقْنَا على كذا، فطلقهما، وقَعَ الطلاقُ على السفيهة رجعيّاً وعلى الأخرى بائِناً، وإن أجاب السفيهةَ وقَع ¬
الطلاقُ عليهما رجعيّاً وإن أجاب الأخرى وقع بائناً، وأصول هذه الصورة قد تقدَّمَتْ. وقوله وأنْتُمَا طَالِقَتَانِ عَلَى ألْفٍ إنْ شِئْتُمَا كقوله: "طَلَّقْتُكُمَا علَى ألْف" في جميع ذلك. ومنها الجُنُون والصِّغَر، فقبول المجنونة والصغيرة اللَّتانِ لا تمييز لهما لَغْوٌ، ويلغو قول الزوج لها: أنْتِ طالِقٌ على كذا, ولو قال ذلك لصغيرة مميِّزَةٍ فقَبِلَتْ ذلك ففيه وجْهَان: أحدهما: أنَّه لا يقع الطلاق أصْلاً؛ لأنها ليست أهلاً للقبول ولا عبرة بعبارتها بخلاف السفيهة. والثاني: أنَّه يقع رجعيّاً كما في السفيهة ويكتفى بقبولها للوقوع كما اكْتِفُيَ بقبول السفيهة، وإن لم تكن أهلاً للالتزام، والوجهان قريبان من الوجهين فيما إذا قال للصبيَّة أنْتِ طالقٌ إن شئت، فقالت: شئْتُ أو هما هما والوجْه الأول أظهَرُ عنْد الإِمام والمصنِّف -[رحمهما الله]- وهو الذي أورده في الكتاب، ورجَّح صاحب "التهذيب" الثانِيَ، ويؤيده أن أبا سعْدٍ المتولِّيَ ذكر أن هذا الخلاف مبنيٌّ على القولين في أن الصبيَّ هل له عمر؟ والأصحُّ في تلْك المسألة أن له عمراً. ومنْها: مرَضُ الموت، فإذا اختلعت في مرض الموْتِ نُظِرَ إن اختلعتْ بمهر المثل، أو أقَلَّ، نفَذَ ولم يعتبر من الثلث، وقد مَرَّ في خُلْع المكاتَبَة أنَّ الخُلْع تبرُّعٌ وقضيته أن يعتبر من الثُّلُث، وإن كان بمهر المثل، أو أقلَّ، قال الأئمة، التصرُّفِ على المريض أوسَعُ وملْكُه أتَمُّ؛ ألا ترى أن له أنّ يَصْرِفَ المال إلى ملاذه وشهواته، وأنَّه يجوز له نكاحُ الأبْكَار بمهور أمثالهن، وإنْ لم يقدِرْ على الاستمتاع بهِنَّ، وأنَّه يجب عليْه نفقةُ الموسرين، والمكاتَبُ لا يتصرف إلاَّ بقَدْر الحاجة، ولا يجب عليه إلاَّ نفقةُ المُعْسِرِين ونُزِّلَ الخلعُ في حق المكاتَبَةِ منزلةَ التبرُّعات, لأنه من قبيل قضاء الأوطار الَّذي يُمْنَع منه المُكَاتَب دون المريض، وإن اختلعت بأكثر من مهر المثل، فالزيادة، كالوصية للزوج، فتعتبر (¬1) من الثلث، ولا تكون كالوصية للوارث؛ لخروجه بالخُلْع عن أن يكون وارثاً، فإذا اختلعتْ بعبد قيمتُه مائةٌ ومهر مثلها خمسمون، فقد حابت بنصف العبْد، فيُنْظَر، إن خرجت المحاباة من الثُّلُث، فالعبد كلُّه للزوج عوضاً ووصيةً، وحكى الشيخ أبو حامد وجْهاً آخر أن له الخيارَ بَيْنَ أن يأخُذَ العَبْد وبين أن يفْسخ العقْد فيه، ويرجع إلى مَهْر المثل؛ لأنه دخل في العقد على أن يكون كلُّ العبد عوضاً، وقد صار بعضُه عوضاً، وبعضُه وصيةً، والظاهر الأول؛ لأن الخيار إنَّما يثبت للتشقيص، والعَبْدُ له بتمامه، وإن لم يخرج من الثلث، بأن كان عليها دَيْن مستغرقٌ، لم تصح المحاباة، ¬
والزوج بالخيار بَيْن أن يمسك نصْفَ العبد، وهو قَدْر مهر المِثْلِ، ويرضى بالتشقيص، وبين أن يَفْسَخ المُسَمَّى، ويضارب الغرماء بمهر المثْل، وإن كان لها وصايا أُخَرُ، فإن شاء الزوج أخَذَ نصْفَ العبد، وضارب أصحابَ الوصايا في النصف الآخر؛ لأنه في النصْف الآخر كأحدهم وإن شاء فَسَخ المسمى، وتقدم بمهْر المثل على أصحاب الوصايا, ولا حقَّ له في الوصيَّة, لأن الوصيَّة له كانَتْ في ضمن المعاوضة وقد ارتفعت بالفَسْخ، وإن لم يكن دين ولا وصية ولا شيء لها سوى ذلك العبد، فالزوج بالخيار، إن شاء أخَذَ ثُلُثَيِ العبد، نِصْفَه بمهر المثل، والسدُسَ الباقِيَ بالوصية، وإن شاء فَسَخ، وليس [له] إلا مهْرُ المثل. وأمَّا مرض الزوج، فلا يؤثِّرُ في الخُلْع بل يصحُ خلْعُه في مرض الموت، وإن كان بدون مهر المثل؛ لأن البُضْع لا يبقى للوارث، وإن لم يجر خُلْع، فلا معنى للاعتبار من الثلث؛ كما لو أعتق مستولدته في مرَض المَوْت لا يعتبر من الثُّلُث، ولأنه لو طلق امرأته بلا عوَضٍ في مرض المَوْت، لا يعتبر قيمة البُضْع من الثلث، فكذلك إذا نقص عن مهر المثل. وقوله في الكتاب: "دُون الأَصلْ" معلَّم بالحاء؛ [لأن] (¬1) عند أبي حنيفة -[رحمه الله]- إذا اختلعت المرأة في مَرَض الموت، يعتبر جميعُ العوضِ من الثلث، وإن كان دون مهر المثل، وهو إحْدَى الروايتين عن مالك -رحمه الله-، والرواية الأخرى أنَّه إن كان العوض بقدر ما يرث من مالها, لولا الخلع، لم يعتبر من الثلث، وإن كان أكثر، فالزيادة من الثلث؛ لأنَّ الزيادَةَ كانت تَفُوتُ على الورثة، لولا الخُلْع، بخلاف قَدْر الميراث، ويروى عن أحمد -رحمه الله- مثْلُ ذلك. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الثَّالِثُ المُعَوَّضُ): وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مَمْلوكاً لِلزَّوْجِ فَلاَ يَصِحُّ خُلْعُ البَائِنَةِ وَالْمُخْتَلِعَةِ، وَيَصِحُّ خُلْعُ الرَّجْعِيَّةِ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ لِقَيَامِ الْمِلْكِ، وَيَصِحُّ خُلْعُ المُرْتَدَة إِنْ عَادَتْ إِلَى الإِسْلاَمِ قبْلَ العِدَّةِ، وَإِنْ أَصَرَّتْ تَبَيَّنَ الطَّلاَقُ. قال الرَّافِعِيُّ: إنما يبذل المال في الخُلْع؛ لإِزالة الملْك عن البُضْع وهو المعوض، ويشترط أن يكون مملوكاً للزوج؛ ليقابل العوض إزالته. فأمَّا البائنةُ من المختلعة وغَيْرها، فلا يَصِحُّ خُلْعُها؛ لأنَّه لا ملك فيها، وفي خُلْع الرجعية قولان: أصحُّهما: أنَّه يصحُّ، ويثبت الملْك؛ لأنها كالمنكوحة؛ ألا ترى إلى استمرار أكثر أحكام النكاح. ¬
والثاني: لا يصح؛ لزوال الملك، وفقْدَان الحاجة إلى الافتداء، ورأى أبو سعيد المتولي بناءَ القولين على الخِلاَف في أن الطلاق الرجعيّ، هل يُزِيل ملك النكاح، أم لا؟ وهذا أصل يذكر في "كتاب الرجعة" وعن رواية الشيخ أبي علي وجه فارقٌ إنَّه يصحُّ اختلاعها بالطلقة الثالثة، دون الثانية؛ لأن الثالثة تفيد الحُرْمَة الكبرى, والثانية لا تفيد شَيْئاً وإذا قُلْنا: أنه لا يصحُّ خُلْع الرجعية، فحكاية الإِمام وغيره عن الأصحاب -يرحمهم الله- أنَّه يقع الطلاق رجْعياً، إذا قبلت، كما في السفيهة. ولو خالع المرتدة المدخولَ بها، فهو موقوف إن عادت إلى الإِسلام قبل انقضاء العدَّة، تبين صحة الخُلْع، ولزوم المالُ المُسَمَّى وإلاَّ تبين أن الخُلْع باطلٌ وأن النكاح قد انقطع من وقت الردة، وكذا الحكم لو ارتد الزوج بعد الدخول، أو ارتدا معاً ثم جرى الخُلْع، وكنا لو أسلم أحد الزوجين الكافرين بعد الدخول، ثم تخالَعَا وأطلق في "التَّتِمَّة" القوْلَ بأنَّه لا يصح الخُلْع بعْد تبديل الدَّيْن, لأن الخُلْع فيه معنى المعاوضةِ، والمعاوضةُ تستدعي الملْك في المعقود عليه، وهي كالزائلة عن ملْكه؛ ولذلك يحكم بالفُرْقَة من وقت التبديل إذا لم يجمْعهما الإِسْلام في العدة، وهذا يقتضي إعلام قوله في الكتاب: "وَيَصِحُّ خُلْعُ المُرْتَدَّة إِنْ عَادَتْ إِلَى الإِسْلاَم قَبْلَ العِدَّةِ" وإلى الخلاف أشار في "الوسيط" بقوله: "وَلَهُ (¬1) التَّفَاوُتُ إلَى وَقْفِ العُقُودِ" والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرُّكنُ الرَّابعُ: العِوَضُ): وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونُ مَعْلُوماً مُتَمَوَّلاً، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولاً فَسَدَ الخُلْعُ وَنَفَذَت البَيْنُونَةُ بِمَهْرِ المِثْلِ، وَإِنِ اخْتَلَعَتْ بِخَمْرٍ أَوْ مَغْصُوبٍ لَزِمَ مَهْرُ المِثْلِ فِي قَوْل، وَقِيمَتُهُ فِي قَوْل، وَلَوْ اخْتَلَعَتْ بِالدَّمِ وَقَعَ الطَّلاَقُ رَجْعِيّاً لأنَّهُ لا يُقْصَدُ، وَالْمَيْتَةُ قَدْ تقْصَدُ فَهِيَ كَالْخَمْرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: عِوَضُ الخُلْع سبيلُه سبيل الصَّدَاق، فلا يتقدر، ويجوز أن يكون قليلاً وكثيراً، عَيْناً ودَيْناً، ويشترط فيه أن يكون معلوماً متموَّلاً مع سائر شرائط الأعواض، كالقُدْرة على التسليم، واستقرار الملْك وغيرهما وتفصيله بصُوَرٍ إحداها: لو خَلَع على مجهول، حَصَلت الفُرْقَة، وكان الرجوعُ إلى مَهْر المثل (¬2)، أما حصول ¬
الفرقة؛ فلأن الخُلْع إما فَسْخ النكاح، أو طلاقٌ إن كان فسخاً، فالنكاح لا يفْسُدُ بفساد العوض، فكذلك فَسْخه، إذ الفسوخ تحكي العقود، وإن كان طلاقاً، فالطلاق يحصل بلا عوض، وماله حصول بلا عوض يحصل مع فساد العوض، كالنكاح، بل أَوْلَى؛ لقوة الطلاق وسرايته، وأما الرجوع إلى مَهْر المثل؛ فلأن قضية فساد العوض ارتدادُ العِوَضِ الآخر، والبُضْعُ لا يرتد بعد حصول الفُرْقَة، فوجب رَدُّ بدله على ما سبق في فَسَاد الصَّداق ومن صور الجهل ما إذا خالع على عبد أو ثَوْب من غير تعيين، ولا وصف، ومنها الخُلْع على حمل البهيمة، أو الجارية، ولا فَرْق بيْن أن يقول: خَالَعْتُكِ على حمل هذه الجارية، وبين أن يقول: خالَعْتُك بما في بطنها، وعن أبي حنيفة أنَّه إذا خالَعَهَا على حَمْل الجارية، فإن كان معها حمل، صحَّ الخُلْع بذلك الحمل، وإن لم يكن حَمْلٌ، رجع عليها بما أخذَتْ من مهر المثل. وإن قال: خالَعْتُكِ بما في بطْن هذه الجارية، فإن كان مَعَها حمل، ثبت المُسَمَّى، وإلاَّ لم تستحقَّ شيئاً، وعن مالك -رحمه الله- يجوز الخُلْع بالحمل، وزاد فقال: لو قال: خالعْتُكِ على ما ستحمل هذه الجارية أو الشجرة، يصح بالتسمية تشبيهاً بالوصية، وأطلق صاحب "التهذيب" وغيره أن عند أبي حنيفة: أنَّه يسقط الأجل، ويصح العوض والخُلْع ولو خالع بألف إلى أجل مجهول أو خالع بشَرْط فاسد، كما إذا شَرَط ألا ينفق عليها، وهي حامل، أو على أن لا سُكْنَى لها، أو لا عدَّة عليها، أو أن يطلق ضرتها يوجب الرجوع إلى مَهْر المثل، كما ذكرنا في الشروط الفاسدة في النِّكَاج. [ولو] خالَعَهَا على ما في كَفِّهَا، فإن لم يعلم ما في كفِّها، أو علم ولم نُصَحِّحْ بيع الغائب، فالرُّجُوع إلى مهْر المثل، كما في سائر المَجَاهِيل، وإن علم وصحَّحْنا بيع الغائب، صحَّتِ التسمية، وإن لم يكنْ في كفِّها شيْءٍ، ففي "الوسيط" أنَّه يقَعُ الطلاق رجعيّاً، والذي حكَاه غيْره، أنَّه يكون بائناً والرُّجوع إلى مهر المثل ويُشْبه أن يكون الجواب الأوَّل فيما إذا كان عالماً بصورة الحال. والثاني: فيما إذا ظَنَّ في كفها (¬1) شيئاً، وعن أبي حنيفة: أنَّه ينزل على ثلاثة دراهم، ووجه بأن المقبوض في الكَفِّ ليس إلاَّ ثَلاَثة؛ لأنَّه لا معنى لقَبْض الإِبْهَام والمسبحة (¬2)، ثم المعاملة تقع بالنَّقْد فكان التنزيل عليه أوْلَى، وينزل من النقد على الدراهم, لأنها أدْنَى. ¬
والثانية: إذا خالعها على ما ليس بمال؛ كخمْرٍ، وخنزيرٍ، وحُرٍّ بانت، فالرجوع إلى مهْر المثل، أو إلى بدل المذْكُور فيه قولان: أصحهما: أولهما (¬1) وهما كالقولين فيما إذا أصْدَقَها خمراً أو خنزيراً، ولو خالع على مغصوب فكذلك، ويُفرق بيْن أن يقول: خالَعْتُك على هذا العبد، فبان حُرّاً وبيْن أن يقول: خالَعْتُكِ على هذا الحُرِّ في أظْهَر الطريقين، حتَّى يقطع بوجوب مهر المثل في الصورة الثانية؛ لفساد الصيغة، وكذا يُفرق بين أن يقول: خالَعْتُك على هذا العبد، فَبَانَ مستحقَّا، وبيْن أن يقول: خَالَعْتُكِ أو طلَّقْتُكِ على هذا العبد المغصوب، حتى يقطع بوجوب مهر المثل في الصورة الثانية. وعن أبي حنيفة، ومالك وأحمد -رحمهم الله-: أنَّه إذا خالَعَهَا على خَمْر أو خنزير، بَانَتْ منه ولا شيءَ عليها، وعن القاضي حسين وجْه: فيما إذا خالَعَ على خَمْر أو مغصوب أنَّه يقع الطلاق رجعيّاً, لأن المذكور ليس بمال، فلا يظهر طَمَعُه في شيْء، والمشهور ما سبق، ولو خالعها على دَم، وقَعَ الطَّلاق رجعيّاً، وعلَّل بأنَّه لا يقصد بحال، فكانه لم يطمع في شيء، وقَدْ يتوقف في هذا؛ فإن الدم قد يُقْصَدُ لأغراض، ثم قضيته أن يقال: إذا أصْدَقَها دماً يجب مهر المثل لا محالة، فيكون ذكر الدم كالسكوت عن المهر، والمَيْتَةُ قَدْ تُقْصَدُ لإِطعام الجوارح، ولأوقات الضرورة؛ فالخُلْع عليها كالخُلْع على الخمر والخنزير، لا كالخلع على الدم. وقولُه في الكتاب: "فَإِن كَانَ مَجْهُولاً فَسَدَ الخُلْعُ ونَفَذَتِ البَيْنُونَةُ" ليعلَّم بالواو؛ لأن في "التَّتِمَّةَ" ذكر وجه أنَّه لا تحصل الفرق في صورة الجَهْل وسائر صور فساد العوض، بناءً على أن الخُلْع فَسْخ، وأنه لو خالعها, ولم يذكر عوضاً، لا تحصل الفرقة، ووجْهه إلحاقُ الفَاسِد بالمَعْدُوم. وقوله: "بمَهْر المِثْلِ" معلَّم بالحاء؛ لمَا سبق، وكذا قوله فِي الاخْتِلاَعِ بِالخَمْرِ والمَغْصُوبَ "لَزِمَ مَهْرُ المِثْلِ في قَوْل، وقيمته في قولٍ" معلمان بالحاء والميم والألف و [لا] يجوز إعلامهما بالواو؛ للوجه المَذْكُور في سائر صور فساد العوض، أنَّه لا تحصل الفرقة؛ فإنه إذا لم تَحْصُل الفرقة، لا يلزم هذا ولا ذاك وأيْضاً فللوجه المذكور عن ¬
القاضي الحُسَيْن فيما إذا خَالَع على خمر أو خنزيرٍ أو مغصوب؛ أنَّه يقع الطلاقُ رجْعيّاً؛ لأن المذكور ليس بمال، فلا يظهر طمعه في شيء. الثالثة: الخُلْعُ على ما لا يقدر المختلع على تسليمه، وما لم يتمَّ ملكه عليه، كالخلع على الخَمْر والخنزير في جريان القَوْلَيْن، ولو خالعها على عَيْن، فتلفت قبل القَبْض، أو خرجَتْ مستحقة، أو خرجت مَعِيبةً، فردَّها أو وَجَد فيها صفةً تخالف الصفة المشروطَة اطَّرَد القولان في أن الرجوع إلى مَهْر المثل، أو بدل المذكور، ولو خالع على ثَوْب في الذِّمَّة، ووصَفَه كما ينبغي، فأعطته ثوباً بتلْك الصفة، فَبَانَ معيباً فَلَهُ رده، ويطالب بمثله سليماً، كما في السلم، وإن قال: إن أَعْطَيْتِنِي ثوْباً صفَتُه كذا وكذا، فأنْتِ طالقٌ، فأعْطَتْه ثوباً بتلك الصفات، طُلِّقَتْ، فإنْ خرج مَعِيباً، فرَدَّه عاد القولان في أن الرجوع إلى مهر المثْل، أو بدل ذلك الثَّوْب؛ سليماً لأن بالتسليم تَعَيَّن وتعلَّق بعينه الطلاقُ؛ فأشبه ما إذا طلَّقَها أو خَالَعها عليه، بخلاف الصورة السابقة، فإن الطلاق هناك تعلق بعوض في الذمَّة. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: خَالِعْهَا بِمِائَةٍ فَخَالَفَ الوَكِيلَ وَنَقَصَ بَطُلَ الخُلْعُ وَلَمْ يَقَعِ الطَّلاَقُ، وَلَوْ قَالَ: خَالِعْهَا مُطْلَقاً فَنَقَصَ عَنْ مَهْرِ المِثْلِ فَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: (أَحَدُهَا): يَبْطُلُ كَمَا لَوْ قُدِّرَ بِالمِائَةِ (وَالثَّانِي): أَنَّهُ يَنْفَذُ وَيَجِبُ مَهْرُ المِثْلِ (وَالثَّالِثُ): أَنَّهُ يُخَيَّرُ الزَّوْجُ بَيْنَ المُسَمَّى وَمَهْرِ الْمِثْلِ (وَالرَّابعُ): يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَرْضَى بِالْمُسَمَّى وَبَيْنَ أن يَجْعَلَ الطَّلاَقَ رَجْعِيّاً (وَالخَامِسُ): أَنَّهُ إِنْ رَضِيَ بِالمُسَمَّى فَذَاكَ وَإِلاَّ امْتَنَعَ الطَّلاَقُ. قال الرَّافِعِيُّ: يجوز التوكيلُ بالخُلْع، من جانب الزوجة والزوج جميعاً، كما يجوز التوكيل بالبيع والنكاح وغيرهما، وسنتكلم فيمن يجُوز أن يكونَ وكيلاً في الخُلْع ومن لا يجوز في الركن الخامس من الباب؛ لأن طَرَفاً منْه مذكورٌ هناك، والمقصود هاهنا ذكْرُ ما يتعلق بالعوض فِي مخالعة الوكيل والموكل، أما وكيل الزوج، فإن قَدَّرَ له [الزوجُ] مالاً، بأن قال: خالِعْها بمائة، فينبغي أن يخالعها بالمائة، أو أكثر ولا ينقص، وإن خلع بمائة التوكيل بالخلع وثوب، فهُو كما لو قال: بعْ عَبْدِي بعشرة، فباع بعَشَرة وثوْبٍ وقدْ مَرَّ، وإن أطلق التوكيل بالخُلْع، فينبغي أن يُخَالع بمَهْر المِثْلِ أو أكثر، ولا ينقص، وصورة إطلاق التوكيل أن يقول: وَكَّلْتُكَ بخلع زوجتي، أو خالعْهَا ولا يُقَدِّر مالاً، ويكفي هذا في التصوير إن قلنا: إنَّ مُطْلَقَ الخلع يقتضي المال، وإن قلنا: لا يقتضيه، فيشترط أن يقول: خالعها (¬1) بمال، أو بالمال، فإن نقص الوكيل عن المائة في صورة ¬
التقدير، فالنص أنه لا يقع الطلاقُ، وإن نقص عن مهر المثل في صورة الإِطلاق، فالنَّصُّ وقوعُ الطَّلاَق وفيها طريقان للأصحاب: أحدهما: الأخْذ بظاهر النَّصيْن وهُو الَّذي أورده الشيخ أبو حامد، والفَرْق أنَّ النقصان عن القَدْر مخالفةٌ لصريح قوْله، فلا يكون المأتيُّ به مأْذُوناً فيه، والنقصان عن مَهْر المثل لا يخالف صريح قوله، بل اللفظ مُطْلَقٌ يشمل مهر المثل وغيره، وللطلاق قوةٌ وغلبةٌ، فعموم اللفظ يقتضي وقُوعَه، وأثر المخالفة يظهر في العِوَض على ما سيأتي وأصَحُّهما التَّسْوية بين الصورتين، وجعلهما على قولين: أحدهما: وهو اختيار المُزَنِيِّ أنَّه لا يقع الطلاقُ، كما لو وكَّله بالبيع [بمائة] (¬1)، فنقص أو بالبيع مطلقاً، فينقص عن ثمن المثل. والثاني: يقع؛ لأن أصل الطلاق مأذونٌ فيه والمخالفةُ في العِوَض، كفَسَاد يتطرق إلَيْه، وأشبهَ ما إذا خالَعَهَا الزَّوْجُ علَى عِوَض فَاسِدٍ أيْضاً وسنَذْكُر أن وَكِيلَ الزَّوْجَة إذا خالَفَ يقَع الطَّلاق، فكذلك هاهنا، واتفق الناقلون على أن الأصحّ من القولَيْن فيما إذا نَقَص عن المقدر، عَدَمْ الوُقُوع، وأما إذا نقص عن مهر المثل في صورة الإِطلاق، فكذلك ورَجَّح صاحب "التهذيب" عَدَمَ الوقوع، وكأنَّه أقوى توجُّهاً لكن العراقيون والقاضِي الرُّويَانِيُّ وغيرهم رجَّحوا الوقوع وإذا قلْنا بالوقوع ففي كيفيته قولان: أصحهما: وهو نصُّه في الإِملاء: أنَّه لا خيار فيه للزَّوْج، بل يقع بائناً، ويجب مهر المثْل، كما لو فَسَد العوض، بأن ذَكَر خَمْراً أو خِنْزيراً. والثاني: أن للزوج خِيَاراً، وفيما فيه الخيارُ قولان: أظهرهما: أن نفس الطَّلاق لا خيار فيه، بل الطلاق واقعٌ، وإنَّما الخيار في المال وفي كيفيته قولان: أحدهما: أنَّه بالخيار بَيْن أن يرضى بما سَمَّاه الوكيل، وبين أن يطالب بمَهْر المثل؛ لأن لفظه عامٌّ، فله أن يريد به المُسَمَّى، وإن أراد مهْرَ المثل، فهو قضية الإِطلاق، وقد يكون له غرض غير المُسَمَّى، وإن كان دون مهر المثْل وهذا التوجيه يختص بصورة الإِطلاق. وأصحُّهما: وهو نصُّه في الأم: أنَّه بالخيار بين أن يَرْضَى بالمُسَمَّى، وبين أن لا يَرْضَى فيندفع المَالُ ويكون الطلاق رجْعِيَّا؛ لأنَّه لا يمكن إجْبَاره على المُسَمَّى؛ لأنَّه دون ما يقتضيه الإِذْن، ولا يمكن إجبارها على المُقَدَّر ولا على مهر المثْل عند الإِطلاق؛ لأنَّه فوق ما رضيتْ به فلزم اندفاع المال. ¬
والثاني: ويحكى عن رواية الشيخ أبي علي في شرح "التَّلْخِيص" أنه يتعلق بالخيار بنفس الطلاق، قال: فإن رضي بالمُسَمَّى، فذاك، وإلاَّ رُدَّ المال والطلاق، قال في "الوسيط": وهذا يكاد يكُون وَقْفاً للطَّلاَق، ويجوز أن يحتمل وقْف الطَّلاَق إن لم يحتمل وقفُ البيع والنكاح؛ لأن الطلاق يقْبَلُ التعليق بالإِغراء، لكن قضيته أن يوقف طلاق الفضولي، ويمكن أن يقال: لَيْسَ هذا يوقف الطلاق، لكن الطلاق مَنُوطٌ بِعِوَضٍ قابل للرَّدِّ، فإذا رد العوض انعطف الرد على الطلاق، وإذا نزِّلَتِ التنزيل المذكور، حصَلَتْ خمسةُ أقوال، كما في الكتاب إلا أنَّه أوْرَدَهَا في صورة الإِطْلاق، وإن لم يورد في صورة التقدير إلاَّ عدم الوقوع، وليعلم قوْلُه، "ولم يقع الطلاق" بالواو للطريقة الثانية، ويجوز أن يعلَّم قولُه: "أقوال" في الصورة الثانية بالواو؛ لأن مساق الطريقتين يقتضي جزم إحْدَى الطريقتين بالوقوع في صورة الإِطلاق، وخلع الوكيل بغَيْر نَقْد البَلَد، أو غير جِنْس المسمى، أو بقدر مَهْر المثل مؤجَّلاً، كخُلْعه بما دون المُقَدَّر، أو مَهْر المِثْل، ففيه الخِلاَفُ المذْكُور. قَالَ الغَزَالِيُّ: أَمَّا وَكِيلُهَا بِالاخْتِلاعَ بِمِائَةٍ إِذَا زَادَ فَالنَّصُّ وُقُوعُ البَيْنُونَةِ، وَفِيمَا يَلْزَمُهَا قَوْلاَنِ: (أَحَدُهُما): مَهْرُ المِثْلِ (وَالثَّانِي): يَلْزَمُهَا مَا سَمَّتْ وَزَيَادَةُ الوَكِيلِ أَيْضاً يَلْزَمُهَا إِلاَّ مَا جَاوَزَ مِنْ زِيَادَتِهِ عَلَى مَهْرِ المِثْلِ، وَإِنْ أَضَافَ الوَكِيلُ الاخْتِلاَعَ إِلَى نَفْسِهِ صَحَّ وَلَزِمَهُ المُسَمَّى، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالإِضَافَةِ إِلَيْهَا وَلاَ إِلَى نَفْسِهِ حَصَلَتِ البَيْنُونَةُ وَعَلَيْهَا مَا سَمَّتْ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الوَكِيلِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا أَيْضاً مَا لَمْ يُجَاوِزْ مَهْرَ المِثْلِ فَإِنْ جَاوَزَ مَهْرَ المِثْلِ فَهِيَ عَلَى الوَكِيل، وَإِنْ أَذِنَتْ مُطْلَقاً فَهُوَ كَالمُقَدَّرِ بِمَهْرِ المِثْلِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: بَانَ الحُكْم فيما إذا خالف وكيل الزوج في عوض الخُلْع، وأمَّا وكيلُها في الاختلاع، فإمَّا أن تقدر له العِوَض أو أطلقت التوكيل. الحالة الأولى: إذا كانت قَدْ قدرت، فقالت: اخْتَلِعْني بمائة، فإن اختلع بها، أو بما دُونَها بالوكالة عنها، نَفَذ، والقول في أنه هل يطالبه الزَّوْج به وأنَّ له مع الوكالة أن يخلع مستقلاً مذكورٌ في فَصْل خُلْع الأجنبي، وإن اختلع بأكْثَرَ من المائة، وأضاف فقال: اخْتَلَعْتُهَا بكذا من مالها بوكالتها، [فالذي] (¬1) نص عليه الشافعيُّ -رضي الله عنه- أنَّه تحْصلُ البينونة. وقال المُزَنِيُّ: لا تحصل، كما لو خالف الزوجُ فنقص عن المقدَّر، وفَرَّق الأصحاب من وجهين: ¬
أحدهما: أن مالك الطلاق هو الزوجُ فإذا خالفه نائبه، لم ينْفَذْ [منه]، والمرأة لا تملك الطَّلاق، وإنما إلَيْها قَبُول المال، فمخالفة وكيلها تؤثر في المال، والبينونة لا يندفع بفساد المال المجعول عِوَضاً. والثَّاني: أن الخُلْع من جانب الزَّوْج نازعٌ إلى التعليق، فكأنَّه علَّق الطلاق بذلك المقدَّر، فإذا نقص الوكيل لم تحصل الصفة، وجانب الزوجة بخلافه، وفيما علّق عن الإِمام أن ما ذكره المزنيُّ قولٌ مُخْرَجٌ عن أصل الشَّافعي -رضي الله عنه-، قال: وأرى كل اختيار له تخريجاً، فإنَّه لا يخالف أصول الشافعيِّ -رضي الله عنه- لا كأبي يوسف ومحمد؛ فإنهما يخالفان أصول صاحبهما، وُيشْعر به قولُه في الكتاب "فَالنَّصُّ وُقُوعُ البَيْنُونَةِ"؛ لأن مثل ذلك إنما يطلق حيث يكون ثَمَّ تخريجٌ، الذي ذهب إليه المزنيُّ أنَّه لا يقع الطلاق أصلاً، وفي "المجرد" للحناطي حكايةُ قولٍ آخرَ، أنَّه يقع الطلاق ولا يلزمُها شيْء ولا الوكيل، والظَّاهر من المَذْهب حصول البينونة، وفيما على الزوجة قولان: أصحُّهما: وهو نصَّه في الإِملاء أنَّ الواجب عليها مهْر المثل، زاد على ما قدرته أو نقص؛ لأن عوض الخُلْع إذا فسد كان الرجوع إلى مهر المثل. والثاني: عن نصِّه في "الأم" أن الواجب أكْثَرُ الأمرين من مهْر المثل، وما سمته هي؛ فإنْ كان مهر المثل أكْثَرَ فهُو المرجوع إلَيْه عنْد فساد المسمى وإن كان الذي سمَّتْه أكثر لزمها؛ لأنها قد رضَيتْ به والتزمته، وإذا كان مهْر المثل زائداً على ما سَمَّاه [الوكيل، لم تجب الزيادة على ما سماه] (¬1) على هذا القول، وكذا لو كان [ما] (¬2) سمَّاه الوكيلُ أكْثَرَ من مهْر المثْل لا تجب الزيادةُ؛ لأنَّ الزوج رَضِيَ به، وعبر في الكتاب عنْ هذا القَوْل بأنَّه "يلزمها ما سمَّتْ وزيادة الوكيل أيْضاً" يلزمها إلاَّ ما جاوز من زيادته على مَهْر المثل"، فلا تَجِبُ تلْك الزيادة، وأهْمل الطَّرَف الآخر، وهو أن يَكُون مَهْر المِثْل أكْثَرَ، فإذا قُدِّرَتْ مائة، وسَمَّى الوكيل مائتين، ومهر مثلها تسعون، فالواجب تسعون على القول الأول، ومائةٌ على الثاني، ولو كان مهر المثل مائةً وخمسين، فالواجب مائةٌ وخمسون على القولين، ولو كان مهْرُ المثل ثلاثمائة، لم يجبْ على القول الثاني إلاَّ مائتان، والعبارة الوافية بمقصود القول أن يقال؛ يَجِبْ عَلَيْها أكْثَرُ الأمرين ممَّا سمَّتْه هي ومن أقل الأمرين من مهْر المثل، وما سماه الوكيل وحُكِيَ قول ثالث: أنَّه إذا زاد الوكيل، فالمرأة بالخيار إن شاءت أجازت بما سَمَّى الوكيل، وإن شاءت ردَّتْ، وعليها مهر المثل، وهل يطالَبُ الوكيل بالواجب عليها؟ قال الأئمة -رحمهم الله-: لا يطالَبُ إلا أن يقول على أني ضامن، فيطالَبُ بما سمى، وإذا أخذه الزَّوْج منْه، ففي "التهذيب" ¬
أنه لا يرجع عليها إلاَّ بمَا سَمَّت ويجيء فيه قَوْل آخر أنَّه يرجع بالواجب عليها، وهو مَهْر المثل، أو أكثر الأمرين منه ومما سمته على اختلاف القَوْلَيْن السابقين [كما] سنذكره فيما إذا أطْلق الاختلاع، ولم يضف إليها وهاهنا كلامان: أحدهما: نقل الإِمام عن الصّيْدلاني تأثيرَ الضَّمَان في مطالبته بما سمى، واستبعده واعترض عليه؛ بأن اختلاعه بالزِّيَادة مخالفةٌ، فإضافته إليها فاسدةٌ، فيلغو الضمان المرتَّب عليها، نَعَمْ أثر الضمان مطالبته بما تطالب به المرأة، ولك أن تقول: تأثير الضمان في المطالبة بالمُسَمَّى لم ينفردْ بذكره الصيدلاني حتَّى ينسب إليه، أو إلى روايته كما تُنْسَب الرواياتُ الشاذَّة إلى أربَابِها، بل أوْرَدَه الأصْحَاب على طبقاتهم، وفي "المُخْتَصَر" تعرض لمثله، وأمَّا الإِشكال، فيجوز أن يقال الخُلْع عقد يستقل فيه الأجنبي بالتزام المال، فيجوز أن يُؤَثّر فيه الضَّمَان المشتمل على التزام المال، وإن لم يترتَّبْ على إضافةٍ صحيحةٍ بخلاف ضمان الثَّمَن في البيع الفاسد ونظائره، وفي "المجرد" للحناطي: قولٌ وراء المشهور أنَّه لا أثر لهذا الضمان، وهو يوافق ما قرَّرَه الإِمَام مَذْهباً. والثاني: إذا قُلْنَا: لا يرجع عليها إلاَّ بما سَمَّت، فقد توجه بأنا إن أوجبنا زيادةً عليه؛ بأن كان مهر المثل أكثَرَ، وأوجبنا مهر المثل، أو أكثر الأمرين، فسَبَبُه مخالفة الوكيل؛ فلا يرجع عليها بما تولَّد من فعله، إنما يرجع بما التزمته وَرَضِيَتْ به، وقضية هذا أن يقال: إذا [عرفت] زيادة على ما سمته، يرجع على الوكيل، ويكون استقرار تلك الزيادة عليه، هذا كلُّه فيما إذا أضاف الوكيلُ الاختلاع (¬1) إليها, ولو أنَّه أضاف إلى نَفْسِه، فهو خُلْع الأجنبي، والمالُ عليه، وإن أطلق، ولم يضف إليها ولا إلى نفسه، فإن فَرَّعْنا على النَّص، فيثبت على الوكيل ما سَمَّاه، وفيما عليها منه قولان: أصحُّهما: أن عليها ما سمت؛ لأنها لم ترض بأكثر منه، والزيادة على مَا سمَّى على الوكيل؛ لأن اللفظ مطلقٌ، والصَّرف إليه ممكنٌ، وكأنه افتداها بما سمت، وبزيادة من عند نفسه، وعلى هذا، فلو طالب الزوج الوكيلَ به رجَع على الزوجة بما سمَّت. والثاني: أن عليها أكثْرَ الأمرين، من مهر المثل، وما سمت؛ لأنَّه عقْد لها، فأشبه ما إذا أضاف إليها، فإن بقي من أكثرها شيء إلى ما سمَّى الوكيل، فهو عليه، وإن زاد مهر المثل على ما سمى الوَكِيل، لم تَجِبْ تلك الزيادة؛ لأن الزوج رَضِيَ بما سمى الوكيل، وذكر الإِمام وغيره أن القياسَ على مَذْهب المُزَنِيِّ في صورة الإِطلاق انصرافُ الخُلْع إليه؛ كالوكيل بالشراء إذا زاد ولم يضف الشراء إلى الموكّل، ولو أضاف ما سمته إليها، والزيادةَ إلى نفسه، ثَبَت المال كذلك، ولو خالف الوكيل في جنس العوض؛ مثْلَ ¬
أن تقول: اخْلَعْنِي بالدَّرَاهم، فيخلعها بالدنانير، أو توكله بالاختلاع على ثوب دفعته إليه، فيختلع على دراهم، فعن القاضي الحسين: أنَّه ينصرف الاختلاع عنها حتى يلغو إن أضاف إليها، ويقع عن الوَكِيل إن أطلق بخلاف ما إذا خالف في القَدر؛ فإنه إذا زاد على ما قَدَّرَتْه، فقد أتى بما أقرت به وزيادة. والأظْهَرُ: وهو المذكور في "التهذيب": أنَّه تحصل البينونة؛ لما مر في مخالفة القَدْر، ثُمَّ يُنْظَرُ إن أضاف الخُلْع إلى مالها, ولم يقل: وأنا ضامن، فالرجوعُ عليها بمَهْر المثل في أصح القولين، وبالأكثر من مهر المثل، ويدل ما سمت في القول الثاني، وإن قال: وأنا ضامنٌ [أو] لم يضف الَعقْدَ إليها، فلا يَرْجح إلاَّ ببدل ما سمَّت. الحالة الثانية: إذا أطلَقَتِ التوكيل فقضيته الاختلاع بمهر المثل، فإن نَقَص عنه أو ذَكَر فيه أجلاً، فقد زادها خيراً، وإن زاد على مَهْر المثل، فكما لو قَدَّرَتْ وزاد على المُقَدَّر، والحُكم على ما ذكرنا هناك، لكن لا يجيء هاهنا قول وجوب أكثر الأمْرَيْنِ. فَرْعٌ: لو اخْتَلَعَ وكيلُ المرأة بخَمْر أو خنزيرٍ حَصَلَتِ البينونة، ولزمها مهر المثل، سواءٌ أطلقت التوكيل أو سمَّت الخمر والخنزير، وقال المزني: لا يصح التوكيل إذا سمَّت الخمر، ولا ينفَذُ الخُلْع من الوكيل، كما لو وكَّل وكيلاً، بأن يبيع أو يشتري بالخمر، وأجاب الأصْحَاب بأن في الخلع معنى التعليق، ومالك الطلاق هو الزوج، فكأنه علَّق الطلاق بقَبُول الخمر؛ فأشْبَه ما إذا خاطبها، فقبِلَتْ، ولو خالع وكيل الزوج على خمر أو خنزير، وكان قَدْ وكَّله بذلك، فقد طرد أبو الفرج الزاز -[رحمه الله]- فيه حكايةَ مَذْهب المزنِّي، وظاهر المَذْهَب فيه كما في الصُّورة السابقة فروع في فتاوى الشيخ الفَرَّاء [منها] (¬1) أنَّه لمَّا قالت المرأة لوكيلها: احْتَلِعْنِي من زوجي بطلقة واحدة على ألف، فاختلعها بثلاث بأَلْف تحصل البينونة، ويُنْظَر إن أضاف إليها, لا تقع إلاَّ واحدة، وإن لم يُضِفْ لم يقع إلاَّ الثلاث، ولا يجب على المرأة إلاَّ ثلث الألف؛ لأنه لم تحصل مسألتها إلا بثُلُث الألف، وعلى الوكيل بقيَّة الألف، وهذا ليس بواضح، وسيأتي أنَّها لو قالت: طَلِّقْني واحدة بألف، فقال: طلقتُكِ ثلاثاً، تقع الثلاث واحدةً منها بالألف، وفيها أنَّها لو قالت: اختَلِعْني من زوجي بثلاث تطليقات، على ألف فاختلعَها واحدةً على ألف، فإن أضاف إليها لم يقع، وإن لم يضف يقع، وعلى الوكيل ما سمَّاه، وأن الرَّجُل لو قال لوكيله خَالِعْها على ألْف بثلاث تطليقات، فخَالَع بواحدةٍ على ألْف يقع؛ لأنَّه زاد خيراً، وأنَّه لو وكَّل وكيلاً تطليقَ امرأته بألْف وآخر بتطليقها بألفين فأيهما سَبَق، وقع الطلاقُ بما سَمَّى، وإن أوجبا معاً، فقالت: قبِلْتُ منكما، أو ¬
كانَتْ قد وكَّلَت وكيلين أيضاً، فقَبِلَ وكيلاها من وكيليه معاً، لم يقَعْ شَيْءٌ، كما لو وَكَّل وكيلاً ببيع عبْده بألف، وآخَر ببَيْعه بألفين، فعَقَدا معاً لا يصحّ البيع وفي "فتاوى القَفَّال"؛ أنه لو وكَّل رجلاً بأن يطلق زوجته ثلاثاً، فطلَّقَها واحدةً بألف، تقع رجيعةً، ولا يثبت المال، وقضيته هنا أن يقال: لو طلَّقها ثلاثاً بألف، لا يثبت المال أيضاً، ولا يبعد أن يصار إلى ثُبُوت المال، وإن لم يتعرض الزوج له، كما لو قال: خالِعْها بمائَةٍ، فخالع فأكثر، يجوز، وإن لم يتعرضِ المُوَكِّل للزيادة؛ وهذا لأن الموكَّل به الطَّلاقُ، والطلاقُ قد يكون بمال، وقد يكون بغَيْر مال، فإذا أتى بما وكَّله به على الوَجْه الَّذي هو خَيْر، وَجَبَ أن يَجُوز. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الخَامِسُ الصِّيغَةُ): وَلَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ بِدِينَارٍ عَلَى أَنَّ لِي الرَّجْعَةَ فَهُوَ طَلاَقٌ رَجْعِيٌّ وَسَقَطَ الدِّينَارُ عَلَى قَوْلٍ، وَفِي القَوْلِ الثَّانِي فَسَدَ شَرْطُ الرَّجْعَةِ وَوَقَعَتِ البَيْنُونَةُ عَلَى مَهْرِ المِثْلِ. قال الرَّافِعِيُّ: قد مرَّ مما يتعلق بالصِّيغة [مسائلُ] في التفريع، على أن الخُلْع فَسْخ أو طلاقٌ وإذا قال الزوج: خالَعْتُكِ بألف درهم، فقالت: قبلْتُ الألف، ففي "فتاوى القَفَّال"؛ أنَّه يصح ويلزم المال، وإن لم يقُلِ اختلعتِ، وكذا لو قال الأجنبي، خالعت زوجتي على كذا، فقال؛ قبلته، وأن أبا يعقوب غَلطَ، فقال في حق المرأة: لاَ بُدَّ، وأن تَقُولَ: اختلَعْتُ، والأجنبي لا يحتاج إلَيْه، [ولو قال لامرأته بل طلاق أزمن مخريدي فحدس فقالت خريدم لم يَكْفِ إلا أن يقُولَ الزوج بعده: فروختم، ولو قال لحر فقال: نديدم أو قالت: بل طلاق نيوفروختم فحدس خريدي، فقالت: خريدم، صَحَّ] (¬1) وقول قال المتوسط للزوجة: اختلعْت نَفْسَكِ من زوجك بكذا، فقالت: اختلعت، ثم قال للزوج وهو في المجلس خالَعْتَها، فقد خالعت، فجواب الشيخ الفرَّاء صحَّةُ الخُلْع، وقد ذَكْرنا في نظيره في البيع خلافاً، وذلك الخِلاَف جاء في الخُلْع، والنكاح والأظْهَرُ ما أجاب به، قال: ولو لم تسمَعِ المرأة قول الزوج، وكان السَّفِير يسَمْع كلامهما، كفى، الإسماع ليس بشرط؛ ألا ترى أنَّه إذا خاطب أصَمَّ، فأسمعه غير المخاطب، فقبل صحَّ العقد، وضمَّن صاحب الكتاب رحمه الله الركنَ صُوَراً: إحداها: إذا طلَّق امرأته على عِوَضٍ أو خالَعَها, لم يكنْ له الرجْعَة، سواءٌ كان العوض صحيحاً أو فاسداً وسواء جعلنا الخُلْع فسخاً أو طلاقاً؛ لأنها بذلت المال؛ ¬
لتملك البُضْع فلا يملك الزوج ولايةَ الرجوع إلَيْه، كما أن الزوج إذا بذل المال صداقاً؛ لِتمْلِكَ البُضْع، لا يكون للمرأة ولايةُ الرجوع إلى البُضْع، ولو قال لامرأته، خالعتك، أو طلقتك بدينار، على أن لي عليك الرَّجْعَةَ، فقد نقل المزني والرَّبِيعُ أنَّه يقع الطلاق رجعيَّا، ويسقط المال، وخرَّج المزني، ونقل الربيع قولاً؛ أنَّه يلغو شرط الرجعة، وتحصل البينونة بمهر المثل، وللأصْحَاب في المسألة طريقان: أحدهما: -وبه قال ابن سلمة وابن الوكيل-: تسليمُ القولين، ووجْه الأول: أن شرط المال، وشرط الرجعة متنافيان، فيتساقطان، ويبقى مجرَّد الطلاق، وقضية ثبوت الرجعة أيضاً، والطلاق واقع لا محالَةَ، وإثبات أحد المشروطين لا بُدَّ منه، والرجعة أوْلَى بالثبوت؛ فإنها أقوى من حيث إنَّهَا تثْبُتُ بالشرع، والمال إنما يثبت بالشرط والإِلزام. ووجه الثاني: القياس على ما إذا خالَعَها بشرط أن لا عدَّة عليها, ولا نفقة لها، وهي حامل؛ فإنه يفسد الشرط، وتحصل البينونةُ بمهر المثل. والطريق الثاني: -ويحكى عن ابن سريج وأبي إسحاق -رحمهما الله- القطْعُ بما اتفق عليه روايتا المذهب، والامتناع (¬1) من إثبات الثاني قوْلاً، وطريقة القولين هي التي أوردها الإِمام وصاحب "التهذيب" -رحمهما الله-، ورجَّحا حصول البينونة بمهر المثل، وهو اختيار المُزَنِيِّ، ومعظم النَّقَلة -رحمهم الله- يشيرون (¬2) إلى ترجيح الطريقة الثانية، وتابعهم القاضي الرُّوياني، عنْد أبي حنيفة وأحمد -رحمهم الله- يصحُّ الخُلْع، ويثبت المسمى، وهذا خلاف القولين جميعاً ويروى عن مالك مثْلُ ذلك وعنْه رواية أخرى، أنَّه: تثبت الرجعة والمال معاً، فيكون المال عِوَضاً عمَّا نقص من عدد الطلاق، فاحتج المزنيُّ للقول الذي اختاره بأن الشَّافعي -رضي الله عنه- نصَّ فيما إذا خالعها بمائة دينارٍ على أنَّه متى شاء ردَّ المائة، وكان له الرجعةُ أنَّه يفْسُدُ الشرط، وتحصل البينونة بمهر المثل، وذكر الأصحاب في هذه الصورة طريقين: أحدهما: أن القولين في الصورة السابقة يجريان فيها، وهذا كلام من أثْبَت قولين هناك، ومن مثبتي القولين هناك من وَلَدهما من نَصّه هاهنا، ونصّه المتفق عليه هناك، بالنقل والتخريج، ومنهم من جَزَم بالمنصوص، وفرق بأنه رَضِيَ بسقوط الرجعة في هذه الصورة، والرجعةُ إذا سقَطَتْ لا تعُود، وهناك لم يرض بالسقوط، وليعلَّم لما ذكرناه قوله في الكتاب "فهو طَلاَقٌ رجعيٌّ" بالحاء والألف وقَوْلَه: "وَسَقَطَ الدِّينَارُ بِهِمَا" وبالميم. وقولَهُ: "على قول وفي القول الثاني"، بالواو؛ ولطريقة القطع، وقولَهُ "فسد شرط الرجعة"، بالميم، وقوله:"عَلَى مَهْرِ المِثْلِ" بالحاء والألف، والله أعلم. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَيَصِحُّ تَوْكِيلُ المَرْأَةِ في الخُلْعِ وَالتَّطْلِيقِ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَسْتَقِلُّ بِهِمَا، وَلاَ يَتَوَلَّى وَكِيلُ الخُلْعِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ. قال الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما (¬1): لو وَكَّل الرجل امرأة بخلع زوجته، أو بطلاقها، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأنَّها لا تستقل بالطلاق. وأصحهما: الجواز؛ لأنه لو قال لها: طلِّقي نَفْسَك، فقالت: طلقْتُ، يجوز ويقع الطلاق، وذلك على ما سيأتي إما تَمْليكٌ أو توكيلٌ، إن كان توكيلاً، فذاك، وإن كان تمليكاً فمن جاز تمليكُهُ الشَّيْء جازَ تَوْكيله به، وفي "التَّتِمَّة" أن توكيل المرأة بالخُلْع مبني على أن قَوْل الرجل لامرأته: طلِّقي نَفْسَكِ تفويضٌ، أو تمليكٌ إن قلْنا: تفويض، فيجوز، وإلاَّ فلا، والأول أصح، ولا خلاف أن الزَّوْجَة لو وكَّلت امرأة بالاختلاع يجوز، ويجوز أن يكون وكيلُ الزوجة والزوج ذِمِّيّاً لأن الذميَّ قد يخالع المسلمة ويطلقها، ألا تَرَى أنَّه لو أسلمت المرأة، وتخلّف الزوج فخالعها في العدَّة، ثم أسْلَم يحكم بصحة الخلع، ويجوز أن يوكِّل الزوج في الخلع العبد، والمكاتَبَ، والسفيه المحجور عليه، ولا يشترط إذْنُ السيد والوليِّ؛ لأنه لا يتعلق في الخُلْع عُهْدة توكيل الزوج، ولا يجوز أن يوكَّل المحجور عليه بالقَبْض، فإن فعل، وقبض ففي "التَّتِمَّة": أن المختلع يبرأ ويكون الموكِّل مُضَيِّعاً لماله، ولو وكَّلت الزوجة بالاختلاع عبْداً، فيجوز، أَذنَ السَيِّدُ أو لم يأْذَنْ فإن كان الاختلاع على عين مال لها فذاك وإن كان على مال في الذِّمَّة، نُظِرَ إن أضافه إليها، فهي المطالبة، وإن لم يضف بل أطلق فإن لم يأْذَن السيد في الوكالة فيجوز للزوج مطالبته بالمال بعد العتق، وإذا غرم، رجع على الزوجة إذا قصد الرجوع وإن أذن في الوكالة تعلق المال بكسبه كما هو اختلعت [الأمة] بإذن السيد، وإذا أدَّى من كَسْبِه ثَبَت الرُّجوع على المُوَكَّلة، ولو وكَّلت بالخُلْع سفيهاً محجوراً عليه، قال في "التَّهذيب": لا يجوزُ، وإن أذن الوليُّ، ولو فعل وقَع الطلاق رجعيَّا، كما لو اختلعت المرأة المحجورةُ لنَفْسها، وهذا على ما ذكر صاحب "التتمة" فيما إذا أطلق، أمَّا إذا أضاف المال إلَيْها، فتحصل البينونة، ويلزمها المال؛ لأَنَّ الحَجْر على السفيه لدفع الضَّرَر عنْه، وليس في قَبُول الخُلْع عليها إضْرار بالسفيه. الثانية: الوَاحِدُ لا يتولَّى طرفَي الخُلْع بالوكالة، كما في البَيْع وسائر العقود، وإذا وكل الزوجان واحداً، تولى ما شاء من الطرفين مع الآخر أو وكيله وهذا أظهر الوجهين. ¬
والثَّاني: أنَّه يجوز أن يوكِّل الواحدُ طرفَي الخُلْع, لأنَّ الخُلْع يكْفي فِيهِ اللَّفْظ من أحد الجانبين والإِعطاء من الآخر؛ ألا ترى أنَّه لَوْ قال: إن أعْطَيْتِنِي ألْفاً فأنْتِ طالق، فاعطتْه، وقع الطلاق، وثبت الخُلْع ومقصوده؛ وعلى هذا ففي الاكتفاء بأحد شِقَّي العقد خلافٌ، كما في بيع الأب مالَ نَفْسه من ولده، والوجهان في تولِّي طرفَيِ الخلع مبنيان على منعه في طرفي البَيْع، والنكاح، وسائر العقود، وقد ذكرنا فيها وجْهاً آخر في "الوكالة"؛ أنَّه يجوز تولي الطرفين، فعلى ذلك الوجه الخُلْعُ أوْلَى بالجواز. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى أَنْ تُرْضِعَ وَلَدَهُ حَوْلَيْنِ وَتَحْضنَهُ صَحَّ، فَإِنْ أَضَافَ إِلَيْهِ نَفَقَةَ عَشْرِ سِنِينَ وَكَانَ مِمَّا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ وَوَصَفَهُ خُرِّجَ عَلَى الجَمْعِ بَيْنَ صَفْقَتَيْنِ مُخْتَلَفَتَيْنِ، فَإِنْ أَفْسَدْنَا وَقَعَتِ البَيْنُونَةُ بِمَهْرِ المِثْلِ عَلَى قَوْلٍ، وَبِقِيَمِ المَوصُفَاتِ عَلَى قَوْلٍ، فَإنْ صَحَّحْنَا فَعَاشَ الوَلَدُ اسْتَوْفَاهُ، فَإِنْ كَانَ زَهِيداً فَالزِّيَادَةُ لِلزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ رَغِيباً فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، فَلَوْ مَاتَ انفَسَخَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَخُرِّجَ فِي المَاضِي عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. قال الرَّافِعِيُّ: عوَض الخُلْع، كما يجوز أن يكُونَ عَيناً، يجوز أن يكون مَنْفَعَة، ويشترط في المنفعة أن تكُونَ معلومةً مستجمِعةً للشرائط المذكورة في الإِجارة، فإذا خالع زوجَتَه، على حَضانَة ولده مدَّةً معلومةً، جاز، ولو خالَعَها على إرضاعه، فكذلك، سواءٌ كان الولدُ منها، أو من غيرها، ويشبه أن يكون الكَلاَمُ في الجمع بينهما، واستتباع أحدهما للآخر إذا أفْرَد، كالكلام في الإِجارة، وفي جواز إبْدَال الصبيِّ المعين بمثْلِه، وانفساخ العَقْد بموته اختلاف مذْكور "في الإِجارة"، وأكثرهم يميل إيراده إلى ترجيح الانْفِسَاخ، وهو المنصوص في المختصر وأكْثر الكُتُب، وامتناع الصبيِّ من الارتضاع والْتِقَام الثَّدْي كالموت، وإذا قلْنا بانفساخ العَقْد عند موْتِه فذلك فيما بَقِيَ من مدة الإِرضاع، وهل ينفسخ فيما مَضَى؟ فيه قولان من جِهَة تفريق الصفقة، كما لو انهدمت الدَّارُ في المدة المستأجرة، الأصَحُّ المنع، ومنهم من يقْطَع به، فإنِ انفسخ فيما مضى أيْضاً، فيرجع عليها بمهر المثل في أصح القولين، وبأجرة مثْل الإِرضاع في تلْك المدَّة في الثاني، كما لو خالَعَها على مال، فخرج مستحقاً، وعلى الزوج أجْرة الإِرضاع للمدة الماضية، وإن لم تنفسِخْ فيما مضى فعلى أصحِّ القولين يرجع بقسط المدة الباقية من مهر المثل، إذا وزَّع مهر المثل على المدتين، وعلى الثاني يرجع بأجْرة مثْل ما بقي من المدَّة، وإن قلْنا: لا ينْفَسِخ العقد؛ فإن أتى بصَبِيِّ مثله لترضعه فذاك، وإن لم يأتِ به مع الإِمْكان حتى مضَتِ المدة فوجهان: أحدهما: يبطل حقَّه، ولا شيء عليها، كما لو لم ينتفع بالمستأجر بعد قبْضه تستقر عليه الأُجْرة.
والثاني: يلزمها قِسْطُ المُدَّة الباقية من مهر المثل، إذا وزع على المُدَّتَيْن كما إذا تلف المبيع في يد البائع، يكون من ضمانه، وإن تمكن (¬1) المشتري من القَبْض، وهذا أرجح عنْد الشيخ أبي حامد، وإيرادْ صاحب "التهذيب" يقتضي ترجيح الأول، وهما كوجهين ذكرناهما فيما إذا تلف الثوب المعين للخياطة، وقلنا: إنَّه لا تنفسخ الإِجارة، ولم (¬2) يأتِ المستأجر بثوْب مثله حتى مضَتْ مدة الإِجارَةَ هَلْ تستقر الأجرة؟ لكنْ سَوَّينْا هناك بين ألاَّ يأتي بالبَدَل لعَجْزه وبين أن يمتنع مع القدرة، وهاهنا خصص صاحب "التهذيب" وغيره الوجهين بما إذا امتنع الإِبْدَال مع الإِمكان، وقطَعُوا فيما إذا عَجَز عن الإِبدال، أن الحُكْم كالحُكْم فيما إذا مَنْعنا الإِبْدال، وحَكَمْنا بالانفساخ، والوجْهُ التَّسْويةُ بين البابين. ولو أضاف إلى الإِرْضَاع والحَضَانة نفقته مدة، بأن خالَعَها على كفالة الولد عَشْرَ سنين، [ترضعه سنتين] (¬3) وتنفق عليه إلى تمام العَشْر، وتحْضُنه فيُنْظَر إنْ بَيَّن مقدار ما يُنْفِق عليه كل يوم من الطعام والإِدام، كالزيت واللحم، وما يكسوه كلَّ فَضْلٍ أو سنة، وكان ذلك ممَّا يجوز السلم فيه، ووصفه بالأوصاف المشروطة في السلم، ففي صحَّة الخُلْع بما سمّى طريقان: أحدهما: وهو المذكور في الكتاب: أنَّ المسألَةَ على قولَيْن؛ من حيث إنَّه جمع بين عقدين مختلفين، فإن السبيل في الإِرضاع والحضَانَة سبيلُ الإِجارة، وفي الطعام والإِدام سبيل السلم، وأيضاً فإنَّه يتضمن السلم في أجناس مختلفة إلى أَجَل، والسلم في جنْس واحدٍ إلى آجال متعاقبةٍ وفي كل ذلك قوْلان مذكوران في موضعهما؛ والأصح الصِّحَّة. والثاني: وهو الأصحّ عند الشيخ أبي حامد وكثيرٍ من الأصحاب: القَطْع بالصِّحَّة، لأن المقصود كفالة الطِّفْل، والكفالة تفتقر إلى هذه الأمور فهي تابعةٌ للمقصود، وفي الأصولِ المذكورةِ، كلّ عقد مقصود في نفسه وللبعض غنية عن البعض. التفريع: إذا قلنا بالفساد فالرُّجُوع إلى مَهْر المِثْل، وبدل الأشياء المختلفة فيه؟ قولان: أصحُّهما: أوَّلُهما، ومنْهم من قَطَع به، فقال: لو كنَّا نرجع إلى أبدال مختلفة، لأثبتنا في الأصْل أبدالاً مختلفة، وقلنا بالصِّحَّة، وإن صحَّحْنا فهو في الطعام والشراب مخيَّر بين أن يستوفي بنفسه، ويصرفَه إلى الولد وبَيْن أن يأمُرَها بالصَّرْف إليه، وفي "الشامل" أنَّه ينبغي أن يَجِيءْ فيه الخلاَف المذكور، فيما إذا أَذِنَ الحاكم للملتقط أن ينفق ¬
على اللقيط من ماله بشرط الرُّجُوع، ثم الولَدُ إن عاش إلى استيفاء العين والمنفعة، فذاك فإن خرج زهيداً، أو فضل من المُقَدَّر شَيْء فهو للزَّوْج وإن كان رغيباً، واحتاج إلى زيادة؛ فهي على الزَّوْج، وإن مات فلَه حالَتَان: إحداهما: إذا مَاتَ قَبْل تمام مدة الإِرْضاع، فعلى الخلاف الَّذي سبق في انفساخ العَقْد، وجواز الإِبدال، فإن حكَمْنا بالانفساخ، ومنَعْنا الإِبدال أثر الموت فيما بَقِيَ من المدة بالانفساخ، وفي تأثيره فيما مضى، وفي الطعام، والكسوة خِلاَفُ تفريق الصفقة، والأصحُّ أنه لا يؤثر فيها، وإذا لم يؤثرْ فيستوفي الزوج الطعام، والكسوة، ويرجع لما انفسخ العقْدُ فيه من المدة إلى أجرة المثل في أحد القولين وإلى حصته من مهر المثل في أصحهما، بيان الحصة بأن يقوَّم الطعامُ والإِدام والكسوة، وما مضى من المدة، وما بقي، ويعرف نسبة قيمة الباقي من المدة من الجميع فَيَجب من مَهْر المثل بِتْلِك النسبة، وإن قلنا يتعدى الانفساخ إلى المُدَّة الماضية وإلى النفقة، فالرجوع إلى مهْر المثل في أصحِّ القولين، وإلى بدل الكلِّ في الثاني، وترجع المرأة بأُجْرة ما مضى من مدة الإِرضاع، وقد يقع في التقاصِّ، هذا هو القياس الظاهر، وعن "تعليقة" القاضي أبي الطيِّب أنَّ الواجِبَ قسط ما سِوَى المدة الماضية من مَهْر المِثْل وتسقط حصتها، وتجعل منفعتها مستوفاةٌ. والثانية: إذا مات بعد تمام مدة الإِرْضَاع وصيرورة المنفعة مستوفاةٌ، فيبقى استحقاق النفقة والكسْوةَ ويتعجل الاستحقاق أو يكون منجماً كما كان فيه وجهان: أصحهما: الثاني، ووجه الأول؛ بأن التدرج كان يحَسُب حاجة الصبيِّ، وقد زالت، ولو أن بعض الأشياء المذكورة انقطع جنْسه، فقد مَرَّ في انقطاع المسلم فيه قولان: أحدهما: أنه ينفسخ العَقْد فَعَلَى هذا ينفسخ العَقْد فيما انقطع، وفي تعديته إلى ما قبض من الأعيان قولان، كما لو اشترى عَبْدَيْن، وقبض أحدهما، وتلف الآخَرُ قبل القبض، والأصحُّ المنع، والتعدِّي إلى الحضانة والإِرضاعِ أبْعَدُ لِبُعْد ما بينهما، وفيه وجه أيضاً؛ فإن حكم بالانفساخ في الكل غرم لها بدل ما استوفى من العين والمنفعة، وله عليها مهر المثل في أصح القولين، وبدل المسمَّى في الثاني، وإن قلنا لا ينفسخ إلا في المنقطع، فالرجوع إلى حصته من مهر المثل في أصح القولين وإلى بدل المنقطع في الثاني. والقول الثاني: في الأصل، وهو الأصح: أنَّ انقطاع المسلم فيه لا يقتضي الانفساخَ، ولكن يثبُتُ خيار الفسخ، فلَه حقُّ الفسخ في الجميع وهل له الفسخ في المنقطع وحده دون سائر الأعيان؟ فيه الخلافُ المذْكُور فيما إذا اشْتَرى عبْدَيْن، ووجد بأحدهما عيباً، وأراد إفراده بالرَّدِّ. قال في "التَّتِمَّة": وله الفسخ في الأعيان دون المنافع على الصحيح؛ لبعد ما
الباب الثالث في موجب الألفاظ المعلقة بالإعطاء
بينهما جِنْساً وعَقْداً، وإذا أفرد المنقطع بالرَّدِّ وجوَّزْناه فيما يرجع به القولان، هذا كلُّه فيما إذا كان المذكورُ فيما يجُوز السّلم فيه، ووصف بالصِّفَات المَشْرُوطة في المسلم فيه، فإن لم يوصف، أو كان هماً لا يجوز السلم فيه؛ كالثياب المخيطة، والمَحْشُوَّة، وكالمطبوخ، والمَشْوِيِّ من الطعام (¬1)، فالمسمَّى فاسِدٌ، والرجوع إلَى مهر المثل بلا خلاف، وقوله في الكتاب "خُرِّجَ عَلَى الجَمْعِ بَيْن صَفْقَتَيْنِ مُختَلِفَتَيْنِ" يجوز إعلامه بالواو؛ لما حكيناه من الطريقة القاطعة، وكذا قوله: "عَلَى قَوْلٍ" في التفريع على الفساد، وقوله "وبِقَيمِ المَوْصُوفَاتِ" يعني إذا كانَتْ متقوَّمة، فأما المثليَّات فالرجوع إلى مثلها على هذا القول. وقوله: فـ"لَوْ مَاتَ" أي في أثناء مدة الرضاع والانفساخ مبنيٌّ على أنَّه لا يجوز الإِبدال فيجوز أن يعلَّم قوله "انْفَسَخَ في المُسْتَقْبَلِ" بالواو. البَابُ الثَّالِثُ في مُوجِبِ الأَلْفَاظِ المُعَلَّقَةِ بِالإِعْطَاءِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: (الأُوْلَى): إِذَا قَالَ: طَلَّقْتُكِ عَلَى أَلْفٍ فَقَبِلَتْ لَزِمَ الأَلْفُ، فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ فَكَذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَلِي عَلَيْكِ أَلْفٌ طُلِّقَتْ طَلاَقاً رَجْعِيّاً وَلاَ يَلْزَمُ الأَلْفُ لأَنَّهُ صِيغَةُ إِخْبَارٍ لاَ صِيغَةُ إِلْزَامٍ، فَإِنْ تَوَافَقَا عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الإِلْزَامَ لَمْ يُؤَثِّرْ تَوَافُقُهُمَا عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لأَنَّ اللَّفْظَ لاَ يَحْتَمِلُهُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنَّ لِي عَلَيْكِ أَلْفاً فَالطَّلاَقُ رَجْعِيُّ لأَنَّهُ صِيغَةُ شَرْطٍ وَالطَّلاَقُ لاَ يَقْبَلُهُ، نَعَمْ لَوْ فُسِّرَ بَالإِلزَامِ فَفِي قَبُولِهِ خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ترجم الباب بموجب الألفاظ المعلقة بالإِعطاء، وهَذِهِ الترجمة لا تفي بمقصود الباب كلِّه، بل هو معقود لثَلاَثَةِ مقَاصِدَ: أحدها: بيان الألفاظ الملزمة. والثاني: القول في التعليق بالإِعطاء وما في معناه وموجبه. والثالث: القول في طَرَف من الشَّيْء، والمعلَّق بإعطائه أنَّه علام يحمل. أمَّا المقصد الأول ففيه صُوَرٌ منْها: أن صيغة المعاوضة مُلْزِمَة، فإذا قال: طلقتُكِ، ¬
[أو] (¬1) أنتِ طالِقٌ على ألفٍ، فقَبلَتْ صحَّ الخلع، ولزم الألف، على ما تقدم، ولو قال أنتِ طالقٌ، وعليك ألف، أو وَلِي عليكِ ألفٌ، ويُنْظَر، إن لم يسبِقْه استيجاب، بل ابتدأ الزوج به، فيقع الطَّلاَق رجْعيّاً، قَبِلَتْ أو لم تقبَلْ، ولا يلزم المال؛ لأنه غير مذكور عوضاً وشرطاً، بل هو جملةٌ معطوفةٌ على الطَّلاق، فلا يتأثر بها الطلاق ويلغو في نفسها، ويشبه الشَّافعي -رضي الله عنه- بما إذا قال: أنْتِ طَالِقٌ، ولِي عليْكِ حج، وهذا معنى قولهِ في الكتاب: "لأَنَّهُ صِيغَةُ إِخْبَارِ لاَ صِيغَة إِلْزَامٍ" وفرقوا بَيْنَه وبَيْن ما إذا قالت المرأة: طَلِّقْنِي، ولَكَ عليَّ أَلْفٌ، أو وعلَيَّ ألْفٌ؛ حيث يقع الطلاقُ بائناً بالألف بأن الَّذي يتعلَّق بالبراءة من هذا العقد إلزامُ المال، فيُحْمَل اللفظ منها على الالتزام، والزوج ينفرد بالطلاق، فإذا لم يأت بصيغة المعاوَضَة، حُمِل كلامه على ما ينفرد به، وصيغته خبر فلو قال الرجل: أردتُ بقول ولِي عليكِ ألفٌ الإِلزام وعنَيت ما يعنيه القائلُ بقوله: طَلَّقْتُكِ على ألْفٍ لم يصدق، فإن وافقته المرأة فوجهان: أحدهما: أن توافُقَهُمَا لا يُؤَثِّر، وزَعَم من قال بِه أن اللَّفْظ لا يصلح للإِلزام. وأصحُّهما: أنَّه يؤثر وتبين منه بالألف، ويكون المعنى: ولي عليْكِ ألفٌ عوضاً عنه، أو نحو ذلك، وإذا قُلْنَا بالوَجْه الأول فلا يحلف على نفْيِ العِلْم عند الإِنكار؛ لأنها إن صدقت ووافقت لم يُؤَثِّر. وإن قلنا بالثاني فيحلف، وقضية الوَجْه الثَّاني انعقادُ البَيْع، فإذا قال: بِعْتُكَ ولي عليْكَ كذا؛ تفريعاً على انعقاد البيع بالكناية، فهذا إذا لم يسبق منها استيجاب، وطلبٌ، ولفظ الكتاب محمولٌ على هذه الحالة، وإن كان مطلقاً، أما إذا سبق الطلب الاستيجاب، فيُنْظَر إن لم تذكر بدلاً، بأن قالت: طلِّقْني، مقتصرةً عليه، فالحُكْم كما لو لم يسبق الطلب، وإن ذَكَرَتْ بدلاً مبهماً؛ بأن قالَتْ: طَلِّقْني بالبدل، فإن عَيَّنَ الزوجُ في الجواب البَدَلَ، فقال: طلقْتُكِ وعَلْيكِ ألفٌ، فيقدم الطلب الاستيجاب منْها وينزل منزلة ما لو أتى بصيغةِ المعاوضة، وقال: طَلَّقْتُكِ على ألف، فإن قَبلَتْ حَصَلَتِ البينونةُ بالألْف، وإلا لم يقَعِ الطلاق، وإن أبهم الجواب أيضاً، فقال طَلَّقْتُكِ بالبَدَلِ [أو] (¬2) قال: طلَّقْتُكِ، فتحصل البينونة بمَهْر المثل، وإن عيَّنَتِ البدل في الاستيجاب، فقالت: طلِّقْني على ألْفٍ، فقال: طلقْتُكِ وعليْكِ ألف، تقع البينونة بالألف؛ لأنَّه لو اقْتَصَرَ -والحالة هذه- عَلَى قَوْله: طَلَّقْتُ، [بانت] (¬3) بمهر المثل فقوله: وعليْكِ ألْفٌ، لم يكن مؤكّداً، فلا يكون مانعاً وذَكَر في "التَّتِمَّة": أنَّه لو لم يسبِقْ منها طلَبٌ، وشاع في العُرْف ¬
استعمال لفظ المسألة في طلب العوض وإلزامه، كان كما لَوْ قال: طلقْتُكِ على ألْفٍ, ولو اختلفا، فقال الزوج: طلبْتِ منِّي الطلاق بالبدل، فقلت في الجواب، أنْتِ طَالِقٌ، ولي عليْكِ ألفٌ، وقالَتْ: بل كُنْتَ مبتدئاً، فلا شَيْء عَلَيَّ فتصدق بيمينها في نَفْي العوض، ولا رجْعَةَ له بقوله، ومنْها لو قال: أنْتِ طالقٌ، أو طلقتُكِ على أنَّ لي عليْكِ ألفاً، ففي الكتاب أنَّه يقع الطلاق رجعيَّا، ولا يثبت المال؛ لأن الصيغة صيغةُ شَرْطٍ، والشرط في الطلاق يلغو إذا لم يكن مِنْ قضاياه، كما لو قال: أنْتِ طَالِقٌ على أن لا أتزوَّجَ بعَدَك أو على أنَّ لكِ عَلَيَّ كذا. وفي "المهذَّبِ" وغيره أنه كما لو قال: طلقتُكِ أو أنتِ طالقٌ على ألْفٍ حتى تحْصُلَ البينونة، ويلزم المال إذا قَبِلَتْ وهذا ما حكَاه أصحابنا العراقيون عن النَّصِّ في "الأُم" وأودعه أبو بكرِ الفارِسِيُّ عيون المسائل، والاعتمادُ عليه، وقضيته انعقاد البيع إذا قال: بعتُكَ هذا على أن يكونَ عليْكَ كذا، وأدنى الدرجات أن يجعل كنايةً في البيع ثم حكى صاحب الكتاب تفريعاً على الجَوَابِ الَّذي ذكره وجهَيْنِ فيما إذا فسر بالالتزام هل يقبل. فعن صاحب "التقريب" أنَّه لا يَقْبَلُ، وعن غيره القَبُول، وهذا الخِلاَفُ ليس كالخلاف المذكور في قوله: ولِي عليْكِ ألفٌ؛ فإنَّ ذلك الخلافَ في أنهما لو توافقا عليه، هل يؤَثِّرُ توافقهما أما تفسيره مع إنكار المرأة فإنَّه لا يقبل بلا خلاف، وسبب الفَرْق أنَّ هذه الصيغةَ أدَلُّ على الالتزام إِنْ لَمْ تَكُن ظاهرةً فيه، وليعلَّم قولُه في الكتاب: "فالطَّلاَقُ رَجْعِيُّ"، لما بيناه بالحاء, لأنَّه يروى عن أبي حنيفة -رحمه الله- مثْلُ ما حكيناه عن النَّصِّ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ ضَمِنْتِ لِي أَلْفاً فَإِنْ ضَمِنَتْ فِي المَجْلِسِ طُلِّقَتْ وَلَزِمَهَا، وَلَوْ قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ فَطَلِّقِي نَفْسَكِ إِنْ ضَمِنْتِ لِي أَلْفاً فَقَالَتْ: ضَمِنْتُ وَطُلِّقْتُ أَوْ قَالَتْ: طُلِّقْتُ وَضَمِنْتُ، نَفَذَ وَلَزِمَ المَالُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صورتان: الأولى: إذا قال: أنتِ طالقٌ إن ضمِنْتِ لي ألفاً، أو إن ضمنت لي ألْفاً فأنتِ طالقٌ، فقالت في مجلس التواجب: ضمنتُ، طُلِّقَتْ ولزمها الألْف. ولو قال متى ضمِنْتِ لي ألْفاً، فأنْتِ طالقٌ، فلا يشترط الضمانُ في المجلس بل متى ضمنَتْ، طُلِّقَتْ، وليس للزوج الرجوعُ قبْل الضمان، وهذا كما ذكرنا في قوله: إن أعطيتنِي، أو متى أعطيتني ولَوْ أعطتْه، ولم [تقل] (¬1) ضمِنْت، أو قالت: شئْتُ، بدل ¬
ضمنت، لم يقعَ الطلاق؛ لأن التَّعْلِيق بالضمان، ولو ضمنت ما دون الألْف، لم يقَعْ، ولو ضمنت ألفين، وقَع؛ لوجود الصفة المعلَّق عليها مع مزيد بخلاف ما لو [قالَ]، (¬1): طلَّقْتُكِ على ألْف فقالت: قبِلْتُ على ألْفين؛ لأن تلك الصيغة صيغةُ معاوضة، يشترط فيها توافق الإِيجاب والقبول. والثانية: سيأتي القَوْلُ في تفويض الطلاق إلى المرأة بعوض وغير عوض وأحكامه في فصل معقود له في "كتاب الطلاق" وذكرها هُنا صورةٌ يَتَعَلَّق بالتفويض؛ وهي أن يقول أمْرُك بيدك، أو جعلْتُ أمر الطلاق إليْكِ، فَطَلِّقِي نفْسَكِ إن ضمنت لي ألفاً، فقالَتْ: ضمنْتُ وطُلِّقْتُ نفسي أو قالت: طلِّقْتُ وضَمِنْتُ فتحصل البينونة، ويلزم الألْف، ويكونان متساوقين، سواءٌ قدَّمَتُ لفظ الطلاق على الضمان، [أو أخرت] (¬2)، كما لو قال الزوج: طلقتُكِ، إن ضمِنْتِ لي ألفاً، فقالت: ضَمِنْتُ، يقع الطلاق، ويثبت المال متساوقين، وإن كان اللفظان متعاقبين، فلو ضمِنَتْ ولم تطلَّقْ أو طُلِّقَتْ، ولم تَضْمَنْ لم يقع الطلاق؛ لأنه فوض إليها التطليق وجعل له شرطاً، فلا بدّ من مباشر التطليق، ومن الشَّرْط، ولا تشترط -والصورة هذه- إعطاءُ المَال في المجلس، والظاهر أنَّه يشترط وقوع التطليق في المَجْلس, وفي "أمالي السرخسي" حكايةُ خلافٍ في أنَّه هل يشترط وقوع التطليق في المَجْلس؟ وذلك يقتضي اشتراط التطليق أيْضاً وإلاَّ فالضمانُ مجرَّد وعْدٍ، وليس فيه التزامٌ محقَّقٌ، والمراد من المجْلِسِ مجلسُ التواجب، أو المجلس الَّذي جَرَى فيه الخِطَابُ فيه وجهان: أصحُّهما: الأول وقد بيناهما في الفصل الثالث من الباب الأول من الخُلْع، ورجح القاضي أبو الطيِّب الوجْه الثاني، وذكر أن البويطي صرَّح به في تفسير لفظ الشافعيِّ -رحمه الله- ولا يخْفَى أن المراد من الضمان في هذه المسائلِ القَبُولُ والالتزامُ، دون الضمان المفتقر إلى الأصيل. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِيَةُ): إِذَا عَلَّقَ بِالإِقْبَاضِ أَوِ الاِعْطَاءِ أَوِ الأَدَاءِ اخْتَصَّ بِالمَجلِسِ إِلاَّ إِذَا قَالَ: مَتَى مَا، وَكَذَا إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ لَمْ تُطَلَّقْ اِلاَّ بِمَشِيئَةٍ فِي المَجْلِسِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ إِنْ شِئْتِ فَقَالَتْ شِئْتُ وَقَبِلْتُ في المَجْلِسِ طُلِّقَتْ، وَلَوِ اقْتَصَرَتْ عَلَى أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ كَفَى عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ. قال الرَّافِعِيُّ. قد سبَق أنَّه إذا علَّق الطلاق بالإِعطاء، لا يقع إلا بالإِعطاء في المجلس؛ إلا إذا كان التعليق بصيغةِ "مَتَى" وَمَا في معناها، ورُوِّينَا عن أحمد -رحمه الله ¬
- أنه لا يختص بالمجلس وهو وجْه لبعض الأصحاب، وكل ذلك جارٍ فيما إذا قال: إنْ أقبضْتِنِي كَذَا، أو أدَّيْتِهِ لِي، ولو قال: أنْتِ طالقٌ، إنْ شئْتِ، أو أنتِ طالقٌ على ألف، إن شئْتِ، فيشترط المشيئةُ في مجلس التواجب بخِلاَفِ التعليق بسائر الصفات؛ لأن التعليق بالمشيئة كاستدعاء جواب منها واستبانة لرغبتها؛ فنُزِّلَتْ مشيئتها منزلة القبول في سائر المعاوضات، وأيضاً فإنَّه يتضمن تخيير الزوجة وتفويض الأمر إليها، فأشبه ما إذا قال: طلِّقِني نفْسَكِ، وحكى الحناطي قولاً آخر: أنَّه لا يختص بالمجلس، ويقع الطلاق متى شاء، كما في سائر التعليقات، والمجلس كما في مجلس التواجب، ولو شاءت بعد ما طال الفَصْل، وهما في مكانهما، لم يقع الطلاق، ولو فارقت المكان وشاءت قَبْل أن يمضي فاصل، وقع، هذا هُوَ الظاهر، وفي كل واحد من الطرفين وجْه آخر. وإذا قالت في المجلس شئْتُ وقبِلْتُ، فقد تم العقد، فتطلق، ويلزم (¬1) المال ولا يشترط تسليم المال في المجلس. ولو اقتصرت على قولها: شئْتُ أو قبلْتُ، فحاصل ما ذكر فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وهو الأصحُّ عند صاحب الكتاب أنَّه يكفي؛ لأن كل واحد منهما يُشْعر بالرضا والالتزام، وهذا قضية المنقول عن الشيخ أبي حامد. والثاني: لا بدَّ من الجَمْع بينهما؛ لأنه لو اقتصر على قوْلِه: أنْتِ طَالِقٌ، كان الجواب: قبِلْتُ، ولو اقتصر على قوله: أنْتِ طالقٌ إن شِئْتِ كان الجوابُ: شِئْتُ، فإذا جمع بينهما، اشترط في الجواب الجمع. والثالث: أنَّه يكفي قولها: شئت ولا يكفي قولها قَبِلْتُ؛ لأن التعليق وقع على المشيئة، والقبول ليس بمشيئته، ولذلك لك لو قال: أنتِ طالقٌ، إن شئْتِ، فقالت: قبِلْتُ لم يقع الطلاق، وهذا ما أورده في "التتمة"، وهو اختيار الإِمام فيما حكى المعلق (¬2) عنه، وإذا اكتفينا بلفظ المشيئة، فقد قال المصنّف في الوسيط (¬3): إنَّه لا سبيل للزوج إلى الرجوع على قاعدة التعليقات، وإن شرَطْنا الجمْع بين لفظتي المشيئة والقبول، فهو متردّد بين التعليق والمعاوضة، ففي جواز الرجوع تردُّد ولو علَّق طلاقها بالمشيئة، بصيغة "مَتَى" طُلِّقَتْ، متى شاءت، ولم يختص بالمجلس، كما في [التعليقات] (¬4) بسائر الصفات. ¬
ولو قالت المرأة: طَلِّقْنِي على ألف درهم فقال: أنت طالقٌ على ألفٍ، إن شئت، فلا يجعل كلامه جواباً لكلامها؛ لما فيه من التعليق، فيتوقف على مشيئةٍ مستأنفةٍ, ولو نَكَّر وقال: على ألْفٍ، ونوى ما ذكرت، فكذلك الجواب، وإن نوى على غير الدَّراهم، فقد نقل الحناطيُّ أنه يقع الطلاق رجعيَّا، ولا بدل، وخرج من عنده أنه لا يقع الطَّلاَق حتى يتصل به القبول والمشيئة، كما لو ابتدأ به وهذا هو القيَاسُ الحقَّ (¬1)، وإن لم ينوِ شيئاً فقد حكى وجْهَيْن؛ في أن الطلاق يقع رجعيًّا أو بائناً، ووجهيْن إن وقع بائناً، في أن الواجب مهر المثل أو المُسَمَّى، وقضية جعله مبتدئاً ألاَّ يقع الطلاق أصلاً إلاَّ أن يتصل به قَبُولٌ ومشيئة. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثَةُ): لَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِذَا وُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ طُلِّقَتْ وَدَخَلَ المُعْطَى فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ مِنْهَا لِضَرُورَةِ وقُوع الطَّلاَقِ بِالعَوضِ، وَفِيهِ وَجْهٌ أنَّهُ لاَ يُمْلَكُ المُعْطَى لَكِنْ يُرْجَعُ إِلَى مَهْرِ المِثْلِ، وَإِنْ عَلَّقَ عَلَى الإِقْبَاضِ لَمْ يَكْفِ الوَضْعُ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا لَمْ يَأْخُذْهُ بِاليَدِ وَيَقَعُ الطَّلاَقُ رَجْعِيّاً لأَنَّ لَفْظَ الإِقْبَاضِ لاَ يُنْبِئُ عَنِ المِلْكِ بِخَلافِ الإِعْطَاءِ، وَقِيلَ: إِنَّ الإِقْبَاضَ كَالإِعْطَاءِ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِني أَلْفاً فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَعْطَتْ أَلْفَيْنِ طُلِّقَتْ، وَلَوْ قَالَ: خَالَعْتُكِ عَلَى أَلْفٍ فَقَالَت: قَبِلْتُ بِأَلْفَيْنِ لَمْ يَصِحَّ. قال الرَّافِعِيُّ: قد تكرر في الخُلْع الكلام في تعليق الطلاق بإعطاء المال، ولا بدَّ فيه من معرفة أن الإِعطاء [وبم] (¬2) يحصل؟ فغرض المسألة بيانُ ذلك، وانضافت إليه صور أُخَرُ تتعلق بمقتضى الألفاظ. أما الأولُ: فإذا سلمت المال إليه وقبضه لم يخْفَ الحكم، وإن وضعته بين يديه كفي، ووقع الطلاق، وإن امتنع الزوج من القبض، قال في "التتمة": لأن تمكينها إياه من القبض إعطاء منها، فإن امتنع من القبض فهُوَ مفوِّتٌ لحقِّه، وفي شرح "الجويني" وجْهٌ أنه لا يكفي الوضع بين يدَيْهِ، ولا يقع الطلاَقُ؛ لأن الإِعطاء إنما يتم بالتسليم والتسلُّم والمشهورُ الأول، وفي المُعْطَى وجهان: المذهب المشهورُ منهما: أنَّه يدخل في ملكه؛ لأن التعليق يقتضي الرجوع عنْد الإِعطاء، ولا يمكن إيقاعه مجاناً لقَصْده حصولَ المال المُعْطَى، فإذا ملكت المعوَّض بوقوع الطلاق اقتضت الضرورة دخول العوض في ملك الزوج، فإنَّ ملْكَ العوضَيْن متقاربان. والثاني: المَنْع، وَنُقِلَ عن رواية الشيخ أبي علي؛ لأن حصول الملْك من غَيْر لفظ مملك (¬3) من جهتهما بعيدٌ، فيرد المُعْطَى، ويرجع إلى مهْر المثل، وهذا الوجه يجري ¬
فيما إذا قال: إن ضمِنْتِ لِي ألفاً، فأنتِ طالقٌ، فقالت: ضمنت؛ لأن لزوم المال بمجرَّد قولها بعيدٌ، كدخول المعطَى في ملكه بمجرد الإِعطاء، وأيد من صحَّح البيع بالمعاطاة بالمذهب الظاهر في المسألة وهو حُصُول الملك في المعطَى، لكن في التوجيه المذكور ما ينبه على الفَرْق؛ وذلك لأنَّها مَلَكَتِ البُضْع حيثُ وقع الطلاق، وأحوَجَنَا ذلك إلى إثبات الملْك في العِوَض، ومثْلُ هذا المعنى لا يتحقَّق في المعاطاة، ولو كان قد قال: مَتَى أعطيتِنِي ألْفاً، فأنْتِ طالقٌ، فبعثَتْ به على يد وكيل لها، وقبضه الزوج، لم يقع الطلاق؛ لأن الصِّفَة المعلَّق عليها إعطاؤها لم توجد، وكذلك لو أعطته عن الألف عوضاً، أو كان له عليها ألفُ درْهَمٍ، فتقاصا, ولو حضرت بنفسها، وقالت لوكيلها الحافظِ لِمَالِهَا: سَلِّمْهُ إلَيْهِ، يقع الطلاق، وكان تمكينها الزوج من المال المقصودِ إعطاءٌ، ذكَره في "التتمة"، ولو علَّق الطلاق بالإِقْبَاض، فقال: إن أقبضْتِنِي كذا، فأنْتِ طالقٌ، فوجهان: أظهرهما: وهو المذكور في "التَّتمة" أنَّه تعليقٌ محققٌ؛ لأن الإِقباض لا يقتضي التمليك بخلاف الإعطاء، ألا ترى أنَّه إذا قيل: أعْطَاه عطيَّةً: فُهِمَ منه التمليكُ، وإذا قيل: أقْبَضَه، لم يُفْهَمْ منه ذلك؛ فعلى هذا لا يملك المقبوض، ولا يكون له الرجوع إلى مهر المثل، بل يقع الطلاق رجعيَّاً، ولا يختص [الإِقباض] بالمجلس كسائر التعليقات (¬1). والثاني: أن الإِقباض كالإِعطاء؛ لأن ذكْرهُ يُشعُرُ بقصد تحصيله، فعلى هذا الحكمُ كما ذكرنا في الإِعطاء، وإن قال: إن قبضت منك كذا، فهو كما لو قال: إن (¬2) أقبضتني، ويعتبر في القبض الأخْذُ باليد، ولا يكفي الوَضْع بين يديه؛ فإنه لا يسمى قبْضاً (¬3)، ولو بعثَتْ على يد وكيلها, لم يَكْف؛ لأنَّه ما قبض منها, ولو قبض منها، وهي مكرهة يقع الطلاقُ؛ لوجود الصفة، وفي التعليق بالإِعطاء لو أخذ منها كرهاً، لا تُطلَّق؛ لأنَّها لم تُعْط، وفي "التتمة" أن ما بيَّناه في التعليق بالإِقباض مفروضٌ فيما إذا لم يسبق منه كلام يدل على الاعتياض؛ بأن يقول: إن أقبضْتِني كذا، أو جعلته لي أو ¬
لأصرفه في حاجتي، وما أشْبَه ذلك (¬1)، والأداء والدفع والتسليم كالإِقباض ولو قال إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق فاعطت ألفين طلقت لأن وقوع الطلاق هنا بحكم التعليق وإعطاءُ الألفين يشتمل على إعطاء -الألْف، وكذا لو قال: إن ضمِنْتِ لي ألفاً، فضمنت ألفين، وَيَلغُو ضمان الزيادة على الألف، وإذا قَبَض زيادة على القَدْر المعلَّق به، كانت أمانةً عنده ويخالف ما إذا قال: خالَعْتُكِ بِألف، فقبِلَت، بألفين؛ حيث لا يصحُّ، ولا يحصل الفراق؛ لأن القبول لم يوافق الإِيجاب. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرَّابِعَةُ): إِذَا قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَفِي البَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ وَالغَالِبُ وَاحِدٌ فَأَتَتْ بِغَيْرِ الغَالِبِ طُلِّقَتْ لِعُمُومِ الاسْمِ لَكِنْ عَلَيْهَا الإِبْدَالُ بِالغَالِبِ لاخْتِصَاصِ المْعَاوَضَةِ بِهِ وَلَفْظُ الإِقْرَارِ أَيْضاً لاَ يَخْتَصُّ بِالغَالِبِ بَلْ أَثَرُ العُرْفِ في المُعَامَلَةِ فَقَطْ دُونَ التَّعْلِيقِ وَالإِقْرَارِ، وَلَوْ أَتَتْ بِأَلْفٍ مَعِيبٍ طُلِّقَتْ لِعُمُومِ الاسْمِ وعَلَيْهَا الإِبْدَالُ بِالسَّلِيمِ لِلمُعَاوَضَةِ (الخَامِسَةُ): إِنْ كَانَ الغَالِبُ دَرَاهِمَ عَدَدِيَّةَ نَاقِصَةً لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهَا الإِقْرَارُ وَالتَّعْلِيقُ، وَهَلْ يَنْزِلُ عَلَيْهَا البَيْعُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَيُقْبَلُ تَفْسِيرُ التَّعْلِيقِ وَالإِقْرَارِ بِالمُعْتَادِ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ، وَكَذَلِكَ لاَ يَنْزِلُ عَلَى الدَرَاهِمِ المَغشُوشَةِ؛ لأَنَّهَا نَاقِصَةٌ وَلَكِنْ يَصِحُّ التَّعَامُلُ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ قَدْرُ النُّقْرَةِ مَعْلُوماً وَإِلاَّ فَوَجْهَانِ. قال الرَّافِعِيُّ: مقصود المسألتين بيَانُ ما ينزل عليه لفظ الدراهم، إذا عُلِّقَ الطلاقُ بإعطائها، وما يقبل التفسير به، وقد بَيَّنَّا في "الزكاة" ثم في "الإِقرار" قدر الدرهم الإِسلامي، واسم الدرهم يقع على ذلك القَدْر من النقوة الخالِصَةِ المَضْرُوبَة، سواءٌ كان نوْعُه جيداً أو رديئاً؛ لسواد أو خشونةٍ أو غيرهما، فهذا قال: إن أعطيتنِي ألْفَ درْهَم، فأنت طالقٌ، يقع الطلاق بأي نوع أعطته، لشمول الاسم، لكن إذا كان في البلد نقْدٌ غالب، فأتَتْ بغير الغالب، فتطالَبُ بالغَالب؛ لأن المعاملاتِ تنزل على النقْد الغالب، والخُلْعُ فيما يرجع إلى المال كسائر المعاملات، ونقل القاضي ابن كج عن رواية أبي علي الطبري قولاً آخر أن (¬2) الرجوع إلى مهْر المِثْل، والظاهر الأول، ولْيَكُنْ هذا الخلافُ مرتَّباً على الخلاف المذكور في الفصْلِ السابق أن المُعْطَى على الوجْه الذي ينبغي أن يكون هل يملك؟ إن قلنا: لا يملك ثَمَّ، والرجوع إلى مهر المثل، فهاهنا أوْلَى، وإن قلنا: يملك، فهاهنا خلافٌ؛ لأن المأتيَّ به غير المستحق، فإن حكمنا بأن الرجوع إلى مَهْر المثْل، فالمُعْطَى غير مملوك، وإن قلنا بالرجوع إلى الغالب، فالمعطى ¬
مملوك للزوج، لكن للزوج أن يردَّه ويطالب بالغالب، ويوضحه أن صاحب "التهذيب" قال: للزوج الخيارُ؛ إن شاء رَضِيَ به وإن شاء رَدَّه وطَالَب بالغالب، وذكر في "الوسيط" أن الزوج لا يملك المُعْطَى، ويجب الإِبدال، وبه يُشْعر قوله في الكتاب "وَلَكِنْ عَلَيْهَا الإِبْدَالُ بِالغَالِبِ" والأقوى الأول، ثم العادة الغالبة إنما تؤَثِّر في المعاملات، لكثرة وقوعها، ورغبة الناس فيما يروج في البقعة غالباً، لا تؤثر في التعليق والإِقرار، بل يبقى اللفظ على عمومه فيهما، أما في (¬1) التعليق؛ فلقلة وقُوعِه، وأمَّا في الإِقرار، فلأنَّه إخبار عن وجوب سابق، وربما تقدم الوجوب على الضَّرْب الغالب أو وجب في بقعة أخرى، وصورة الإِقرار مذكورةٌ في بابه، ويجوز إعلامها بالواو؛ لَوجْه ذكرنا هناك أن التفسير بغير سكَّة البلد لا يُقْبَل، ولو قال: طلَّقْتُك على ألْف، فهذا ليس بتعليق، فيُنَزَّل على الغالب على قاعدة المعاملات ثم في الفَصْل صورتان: إحداهما: لو كان في البلد دراهمُ عادية ناقصةُ الوزن أو زائدةُ الوزن، لم يُنَزَّلِ الإِقرار ولا التعليق علَيْها؛ لأن الغلبة لا تؤثر فيهما، واللفظ صريح في الوازنة، وفي تنزيل البيع، والمعاملة عليها وجْهَان: أحدهما: المَنْع؛ لأن الدراهم صريحٌ في المقدار والمذكور، والعرفُ لا يغيِّر المُسَمَّى، وإن كان مخصصاً ببعض الأنواع. وأظهرهما: التنزيل عَلَيْها؛ لأنها التي تقصد في مثْل هذه البلدة، وليس في استعمال الدرهم في الناقص إلاَّ استعمال اللفظ في بعض معناه، وأنه من طُرُق المَجَاز، وهل يقبل تفسير المقر بالناقصة أطلق في الكتاب فيه وجْهَيْنِ، وفيه تفصيل، قد مرَّ في "الإِقرار"، وحاصِلُه أن الإِقرار إن كان في ثلاثة دراهم تامة، فلا يقبل التفسير بالناقص، وإن كان التفسير مفصَّلاً على الأصح وإن كان التفسير في ثلاثة دراهم ناقصةٍ فيُقْبَل التفسير المتَّصل، وكذا المنفصلُ على الأصح، ولو فسر المعلَّق بالدراهم المعتادة، فإن كانت زائدةً، فهو كالتفسير في الإِقرار بالناقصة، والظاهرُ القَبُول، وإن كانت ناقصةً، قال الإِمام: يُقْبَل لا محالة [لأنه توسيع لباب الطلاق]. الثانية: لو أتت بدراهم مغْشُوشَةٍ، فيُنْظَرُ إن كان الغالبُ في البلد الدراهمَ المغشوشةَ، فقد أطلق صاحب الكتاب أنَّه لا يُنَزَّل اللفظ عليها؛ لأنها ناقصةٌ، من حيث إن الغِشَّ غير متناول باسم الدرهم؛ لِمَا مَرَّ أنه يقع على الفضة، وعلى هذا فلا يقع الطلاق إلا إذا أعطت ألفاً خالصةً ولكن في "الوسيط" أنها تسترد ما أعطت، وتعطيه ألفاً مغشوشةً، ومن قال بهذا، قال: التفسير بالمغشوشة كالتفسير بالناقصة، وإذا قبلنا التفسير ¬
بهما فنراجِعُه؛ ليعبر عن مقصوده، أو تأخذ بالظاهر إلا أن يفسر فيه احتمالان في "البسيط" (¬1) والذي أورده صاحب "التهذيب" و"التتمة" أن اللفظ ينصرف إلى المغشوشة، ويقع الطلاق، إذا أعطت ألْفَ درهمٍ مغشوشةٍ، وهل يُسَلَّم له بذلك؟ قال المُتَوَلِّي: يبنى على أن المعاملة بالدراهم المغشوشة، هل تجوز إن لم نجوِّزْها رَدَّ الدراهم، ولزمها مهْر المثل، وإن جوَّزنا سلَّمَتْ له الدراهم، وليعلَّم لذلك قولُه في الكتاب "وَكَذَلِكَ لاَ يُنَزَّلُ عَلَى الدَّرَاهِم المَغْشُوشَةِ" بالواو ويشبه أن يكون ما في الكتاب أظْهَرَ أن يُنَزَّلَ اللفظ على المغشوشة، إذا غَلَبتْ، فليُنَزَّل اللفظ على الناقصة إذا غلبت، والذاهب إليه يمْكِنُه الفَرْق، بين التعليق والإِقرار؛ لأن الإِقرار إخبار عن سابق، والتعليق بالمال قضية معنى المعاوضة، فالحَق في التنزيل على المعتادة بالمعاملات، وإن كان الغالِبُ الدَّرَاهم الخالصةَ، فلا تطلق إلاَّ إذا أعطَتْ قَدْر ما يبلغ نُقْرَتُه ألْفَ درهم؛ لِمَا مرَّ أن لفظ الدراهم للفضة، ولم يوجد عادة صارفة، وعن القاضِي الحُسَيْنَ -رحمه الله- حكايتةُ وَجْه أنَّه لا يقع الطلاق، وإن بلغ القَدْر المذكور كما لو أعطته سبيكةً، وإذا قلنا بالوقوع، فهل يملك الزوج المغشوشَ المدفوعَ إليه؟ حكى أبو الفرج السرخسي فيه وَجْهَيْنِ: أحدهما: لا؛ لأن المعاملة تُنَزَّلُ على نقد البلد. والثاني: نَعَمْ؛ لأن قبْضَها اعتبر في إيقاع الطلاق، فكذلك في إفادة الملك، ولكن له الردُّ بسبب العَيْب فإذا رَدَّ، فالرجوع إلى مهْر المثل أو إلى ألف خالصة، فيه قولان، ولك أن تقول: ما ينبغي أن يملك الغشَّ، والصورة هذه بحَالٍ؛ لأن التعليق بإعطاء الدراهم، وهي العوض والدرهم كما مرَّ اسمٌ للقدر المعلوم من الفضة، فإذا بلغ فِضَّة المدفوع الألْفَ، بقي الغشّ شيئاً [مضموماً] (¬2) إلى النقرة الَّتي هي العوض؛ فلا وجه لصيرورته ملكاً له، كما إذا ضمت إلى الألف ثوباً (¬3). وأمَّا قوله في الكتاب "وَلَكِنْ يَصِحُّ التَّعَامُلُ عَلَيْهَا ... " إلى آخره قد مرَّ في الزكاة طَرَفٌ مما يتعلق بالدراهم المغشوشة، وذكر صاحب الكتاب الوجهين هناك، وأعدنا المسألة مع زياداتٍ في أول "البَيْع"، والظاهر صحَّة المعاملة بها. قَالَ الغَزَالِيُّ: (السَّادِسَةُ): إِذَا قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتنِي عَبْداً فَأَنْتِ طَالِقٌ وَوَصَفَ العَبْدَ بِمَا يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ فَأَتَتْ بِهِ طُلِّقَتْ وَمَلَكَ الزَّوْجُ العَبْدَ، وَإِن اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ العَبْدِ طُلِّقَتْ بِكُلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْه اسْمُ العَبْدِ مِنْ مَعِيبٍ وَسَلِيمٍ لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهَا وَيُرْجَعُ إِلَى مَهْر المِثْلِ ¬
لأَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَلَوْ أَتَتْ بِعَبْدٍ مَغْصُوبٍ فَفِي وُقُوعِ الطَّلاَقِ وَجْهَانَ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِني خَمْراً فَأَتَتْ بِخَمْرٍ مَغْصُوبٍ فَوَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ، وَأَوْلَى بِالوُقُوعِ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا العَبْدَ فَأَعْطَتْ فَخَرَجَ مُسْتَحقّاً فَهَلْ يُبَيِّنُ أَنَّ الطَّلاَقَ لَمْ يَقَعْ؟ وَجْهَانِ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتني هَذَا الحُرَّ وَقَعَ الطَّلاَقُ بِإعْطَائِه رَجْعِيّاً، وَقِيلَ: يُرْجَعُ إِلَى مَهْرِ المِثْلِ وَيَكُونُ بَائِناً. قال الرَّافِعِيُّ: إذا قال: إن أعطيتني عبداً أو ثوباً، فأنْتِ طالقٌ، ووصَفَه بما يُعْتَبر الوصف به في السلم، فأتَتْ به على الصفة المذكورة، طُلِّقَتْ، ويملكه الزوج كما ذكرنا في الدراهم، وإن أعطته على غير تلك الصفة فلا طلاق، ولا ملك، وإذا كان على تلك الصفة ووجَد به عيباً، فله الخيار، فإن ردَّه، فالرجوع إلى مهْر المِثْل، في أصح القولين، وإلى قيمته صحيحاً في الثاني؛ وليس له أن يطالِبَ بعَبْدٍ بتلك الأوصاف سليمٍ، بخلاف ما إذا قال لامرأته: طلقتُك أو خالَعْتُكِ على عبْدٍ صفتُه كذا، فأعطَتْه عبداً بتلك الصفات، وكان معيباً له الرَّدُّ، والمطالبة بعَبْدٍ سليمٍ، لما سبق من الفرق. وفي كتاب الحناطي وجْه: أنَّه لا يرد العبد بل يأخذ أرشْ العَيْب، وإن اقتصر على قوله: إن أعطَيْتِنِي عبْداً فأعطتْه عبْداً مملوكاً لها يقع الطلاق لوُجود الصفة المعلَّق عليها, ولا يملكه الزوج؛ لأن الملك فيه يثبت المعاوضَة، والمجهولُ لا يصلح عوضاً، فيجب الرجوع إلى عوض البضع وهو مهر المثل، ويتعين هاهنا مهر المثل رجوعاً؛ لأن المجهول لا تُعْرَفُ قيمته حتى يفرض الرجوع إليها، وحكى القاضي ابن كج والحناطي وجهاً أنه يقع الطلاق رجعيّاً، ولا يلزمها مهر المثل وإنما يلزم ذلك إذا ابتدأت، وسألت الطلاق على عوض، فقالت في الجواب: إن أعطيتني عبْداً فأنْتِ طالقٌ، فأعْطَتْ، والمذهبُ الأول، ولا فرق بين أن يكون العبْد المُعْطَى سليماً أو معيباً ولا بين القن، والمُدْبر، والمعلَّق عتْقُهُ بصفة، لوقوع اسم العبد على الكل، وإمكان النقل والتمليك، ولو أعطته مكاتباً، لم يقَعِ الطلاق، وكذا لو قال لأجنبي: إن أعطيتَنِي أمَةً، فزَوْجَتِي طالقٌ فأعطاه أمَّ وَلَده، وأشير في المكاتب إلى وجه آخر، وربما جاء مثله في أم الوَلَد ولو كان قد وَصَف العبد ببعض الأوصاف، ولم يستوعب، فهو كما لو أطلق ذكْر العبد في أن الرُّجُوع إلى مَهْر المئل، لكن لو أعطَتْه عبْداً على غير تلك الصفة، لم يقَعِ الطلاق، وذلك مثل أن يقول: إن أعطيتِني عبْداً تركيّاً فأعْطَتْه هندياً، ولو أتت بعبْد مغصوبٍ أو مشتركٍ بينها وبين غيرها، أو قال: إن أعطيتِنِي ألْف درهمٍ، فأتت بدراهم مغصوبةٍ فوجهان: أحدهما: أن الحُكْم كما لو أتت بما تملكه، فيقع الطَّلاَق، ويكون الرجوع إلى مهر المثل؛ لأن الزوج لا يملك المدْفُوع، وإن كان مملوكاً، فلا معنى لاعتبار الملك. وأصحهما: لا يقع الطلاق؛ لأن الإِعطاء يعتمد التمليك على ما مر، وإذا كان
المسمَّى مما لا يمكن تمليكه، فلا يجري أو لا يستحسن فيه لفْظُ الإِعطاء؛ ألا ترى أنَّه لا يقال: أعطاه حرَّا, ولا يمكن تمليك المغصوب، ولا جمع المشترك، وطرد هذا الخلاف في العبد المرهون والعبد المستأجر (¬1) من غيره. ولو قال: إن أعطيتِنِي هذا العبْدَ المغصوبَ، فأعطَتْه، ففيه خلافٌ مرتَّبٌ وأوْلَى بأن يقع وهو الظاهر؛ لأنَّ التصريحَ بالغَصْب يدل على أنَّه لم يقْصِدْ مهْر المثل، [ولو قال إن أعطيتني زق خمر أو خنزير فأنت طالق فقد سبق أنها إذا أتت به بانت ووجب مهر المثل] فإن أتَتْ بخمرٍ مغصوبةٍ، وذلك بأن كانت محترمةً فإن قلنا في العَبْد المغصوب أنه يقع الطلاق، فهاهنا أَوْلَى وإن قلنا: لا يقع هناك، فهاهنا وجْهَان: أظهرهما: الوقوع؛ لأن الإِعطاء هاهنا مضافٌ إلى ما لا يتأتى تمليكه. والثاني: المَنْعُ، ويحمل على ما تختص به يداً كما حمل لفظ العَبْد على ما تختص به ملكًا, ولو قال: إن أعطيتني هذا الحُرَّ فأنْتِ طالقٌ، ففي "البسيط" وغيره ما يقتضي جَعْلَه على الخلاف: وجْه عدم الوقوع أن الإِعطاء تمليك، وإضافة التمليك إلى الحُرِّ فاسدةٌ، فصار كما لو قال: إن صلَّيْت وأنْت محدِثَةٌ أو بِعْتِ الخَمْر فأنْتَ طالقٌ، لا يقع الطلاق بصورة الصلاة والبيع، وإذا قلنا بالوقوع فيقع رجعيّاً أو بائناً، فيه وجهان: أحدهما: يقع رجعيّاً؛ لأن الحر لا يملك فالزوج لم يطمع في شَيْء. والثاني: أنه كالتعليق بالخمر والمَغْصُوب، وهذا أشبه بما مر في المسائل المناظرة لهذه في الخلع والصداق، ورجح صاحب الكتاب الأَوَّلَ، ولو قال: إن أعطيتني هذا العبد [أو] (¬2) والثوب، فأنتِ طالقٌ، فأعطته طُلِّقَت، وملكه الزوج، فإن خرج مستحقاً أو مكاتباً، فهل يتبين أن الطلاق لم يقع، فيه وجْهان كما ذكرنا في صورة الإِطلاق، ولكنَّ الأصحَّ هاهنا الوقوع؛ لمكان التعيين، والإِشارة وقَرُبَ الوجهان من الوجهين، فيما إذا وكَّل رجلاً بشراء عبد معين، فاشتراه وخرج معيباً، هل يستقل بالرد؛ لأنَّه بالتعيين قطع نظره واجتهاده وإذا قلنا: إن الطلاق واقع فالرجوع إلى مهر المثل في أصح القولين، وإلى قيمة العبد في الثاني وإذا وجده معيباً فله الردُّ، وعن ابن أبي هريرة أنا إذا قلنا: إن الرجوع إلى القيمة، فيجيء هاهنا وجْهُ أنه لا يرد بل يرجع بالأَرْش، فإذا ردّ عاد القولان في أن الرجوع إلى مهر المثل، أو إلى قيمته سليماً وذكر في "التهذيب" أنه لو قال لامرأته الأمَةِ إن أعْطَيْتِني ثوباً، فأنتِ طالقٌ، فأعطته ثوباً لم تطلَّقْ؛ لأنها أعطتْ ما لا تملك (¬3) فإن قال إن أعطيتني الثوب، فأعطته طُلِّقت، وفيما عليها القولان، وهذا ¬
اقتصار منه على الجواب الأصح في الثوب المُطْلَق، وفي المُعيَّن والله أعلم ولا يَخْفَى مما تقدَّم أن الإِعطاء في جميع صور الفصل ينبغي أن يقع في المجلس، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي هَذَا الثَّوْبَ المَرْوِيَّ فَإِذَا هُوَ هَرَوِيٌّ طُلِّقَتْ عَلَى وَجْهٍ وَإِنَّمَا هُوَ غَلَطٌ فِي الوَصْفِ، وَلَوْ قَالَ: خَالَعْتُ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ عَلَى أنَّهُ هَرَوِيٌّ فَإِذَا هُوَ مَرْوِيٌّ نَفَذَتِ البَيْنُونَةُ وَللِزَّوْجِ خِيَارُ الخُلْفِ فِي العِوَضِ دُونَ الطَّلاَقِ. قال الرَّافِعِيُّ: فيه صورتان: إحداهما: لو قال: إن أعطيْتنِي هذا الثوبَ، وهو هَرَوِيُّ، فأنت طالقٌ، فأعطته، وبان مروياً، لم يقع الطلاق؛ لأنه علق الطلاق بإعطائه، بشَرْط كَوْنِهِ هَرَوِيًّا, ولم يوجد هذا الشرط، فأشبه كما إذا قال: إن أعطيتني هذا الثوب، فأنْتِ طالِقٌ إن كان هرويًّا، ولو قال: إن أعطيتِنِي هذا الثوبَ الهروِيَّ؛ فإذا هو مَرْوِيٌّ أو بالعكسِ، فوجهان عن القاضي الحُسَيْن. أحدهما: أنها لا تُطلَّق كما في الصورة السابقة؛ تنزيلاً له على الاشتراط. والثاني: تُطلَّق؛ لأنه أشار إلى عين الثوب، وكونه هرويّاً لم يذكره على صيغة الاشتراط بل الصيغة صيغة واثق بحصول هذه الصفة لكنَّه أخطأ فيه، وهذا أشبه. الثانية: لو خالَعَها على ثوْبِ هَرَوِيٍّ، ووصف كما ينبغي فأعطَتْه ثوباً بتلك الصِّفَات على اعتقاد أنه هروي، فَبَانَ أنه مروي فيردّه، ويطالب بثوب هروي بالصفات المذكورة، ولو خالَعَها على ثوب بعينه على أنه هَرَوِيٌّ، فبان مرويًّا، نفذت البينونة، وملكه الزوج، واختلاف الصفة كَعَيْبٍ يوجد فيه، فله خيار الخُلْف، وفي "شرح مختصر الجُوَيْني" وجه: أنه إن كانت قيمة المرويِّ أكثر أو لم يكن تفاوتٌ فلا رد لأن الجنس واحد، ولا نقصان، والظاهرُ الأول، وإذا رد رجع إلى مهر المثل، على أصح القولين وإلى قيمة ثوب هروي في الثاني، فإن وجد به عَيْباً بعْد تلفه أو تعيبه في يده، ولم يمكنه الردُّ، فيرجع بقدر النقصان من مهر المثل في أصح القولين، ويقدر ما انتقص من القيمة في الثاني، وليس له المطالبة هاهنا بثوب هروي, لأنه معين العقد. قال أبو الفرج السرخسي: وهَذَا على قولنا: إن اختلاف الصّفَة لا تُنَزَّل منزلة اختلاف العَيْن، وفيه قولان ذكرناهما في النكاح، فإن نَزَّلْناه منزلة اختلاف العين، فالعِوَضُ فاسدٌ، فليس له إمساكُهُ ويرجع إلى مَهْر المثل، أو بدل الثوب لو كان مرويَّا على اختلاف القولين، ولو خالَعَها على ثوب بعينه على أنَّه كتَّان، فبان قُطْناً أو بالعكس، فالذي ذكره الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيِّب وأصحابُنا العراقيون أن العوض فاسدٌ وإن نفذت البينونة؛ لأن الاختلاف هاهنا راجعٌ إلى الجنس، وفي الصورة
الباب الرابع في سؤال الطلاق
السابقة الاختلافُ راجع إلى الصفة، والهَرَوِيُّ والمَرْوِيُّ كلاهما من جنس واحد، وإذا فَسَد العوض، كان كما لو خالَعَ على خَمْر، فيكون الرجوع إلى مهر المثل، أو بدل ثوب كتان على اختلاف القولين، وليس له إمساكُ ذلك الثَّوْب، وهؤلاء قالوا: لو بَاعَ ثَوْباً على أنَّه كَتَّان، فَبَانَ قُطناً، فسد البيع، وسوى في "التهذيب" بين هذه الصورة السابقة، وأجاب فيها بمثل الجواب المذكور هناك، وجَمَع صاحب "التتمة" بين الجوابين فقال: هو مبنيٌّ على ما إذا قال: بعْتُ منْكَ هذه البَغْلَة، فإذا هي فرَسٌ، هل يصح البيع، إن صحَّحنا؟ فهو كاختلاف الصفة، وإلا فسدت التسمية، ولم (¬1) يكن له إمساكُ ذلك الثَّوبْ ولو قالَتْ: خالِعْنِي على هذا الثَّوْب؛ فإنه هرويٌّ، فخالعها عليه، فخرج مرويَّا، فالحكم كما لو قال: خالعْتُكِ عليه على أنه هروي؛ لأنَّها غَرَّتْه (¬2) وفي "التتمة" أنها لو قالت لزوْجها: هذا الثَّوْب هروي، فقال: إن أعطيتني هذا الثوبَ، فأنت طالِقٌ، فأعطته، فبان مرويَّا فيبنى على المتوطأ عليه قبل العقد هو كالمشروط في العقد، إن قلنا: نعم، لم يقع الطلاق، وإلا وقَعَ، وليس له إلا الثوب ولو قال: خالَعْتُكِ على هذا الثوب، وهو هَرَوِيٌّ، فبان خلافه، فلا رد له؛ لأنه لا تغرير من جهتها, ولا اشتراط منْه، وكذا لو قال: خالعْتُكِ على هذا الثوب الهرويّ، كذا ذكره في "التهذيب"، وقد يقال: قوله (¬3) و"هو هَرَوِيٌّ" أفاد الاشتراط من قوله: إن اعطتِنِي هذا الثوب، وهو هرَوِيٌّ، حتى لم يقع الطلاق إذا لم يكن هرويَّا، فلم هذا الاشتراط في قوله: خالعْتُكِ على هذا الثوب وهو هروي حتى يتمكن من الرد، إذا لم يكن هرويَّا، كما في قوله: خالَعْتُكِ على هذا الثَّوْب على أنَّه هروي، والجوابُ أنَّ قوله هناك: "وهُوَ هَرَوِيٌّ" دخل على كلام غير مستقل؛ فإن قوله: إنْ أعْطَيْتِنِي هذا الثوب، لا استقلال له، فيتقيد بما دخَلَ عليه، وتمامه عند قوله: فأنْتِ طالقٌ، وقوله: خالَعْتُكِ على هذا الثوب كلامٌ مستقلٌّ، فجعل قوله بعده: وهُوَ هَرَوِي جملةً يرأسها, ولم يتقيد به الأول، وقوله في الكتاب: "ولِلزَّوْجِ خيارُ الخُلُف في العوض دون الطلاق" معناه أن البينونة حاصلةٌ لا مَدْفَع لها، وفوات الشرط إنَّما يُؤَثِّر في العوض كما أن أثر الفَسَاد لكونه خَمْراً أو خنزيراً يختص بالعِوَض، ولا يُؤَثِّر في البينونة، وقد مَرَّ في الصداق والخلع ما يعرف ذلك، ويغني عن التعرض له في هذا المقام والله أعلم. البَابُ الرَّابعُ في سُؤَالِ الطَّلاَقِ، وَفِيهِ فُصُولٌ (الأَوَّلُ فِي أَلْفَاظِهِ): وَفِيهِ صُوَرٌ: (الأُولَى): إِذَا قَالَتْ: مَتَى مَا طَلَّقْتَنِي فَلَكَ ألْفٌ ¬
اخْتَصَّ الجَوَابُ بَالمَجْلِسِ، بِخِلاَفِ قَوْلِهِ لَهَا: مَتَى مَا أَعْطَيْتِنِي، وَلَوْ قَالَتْ: إِنْ طَلَّقْتَنِي فَأَنْتَ بَرِيْءٌ مِنَ الصَّدَاقِ فَطَلَّقَ فَهُوَ رَجْعِيٌّ وَلاَ يَحْصُلُ البَرَاءَةُ لأَنَّ تَعْلِيقَ البَرَاءَةِ لاَ يَصِحُّ، وَلَوْ قَالتْ: طَلِّقْنِي وَلَكَ عَلَيَّ أَلْفُ فَطَلَّقَ لَزِمَهَا الألْفُ وَصَلُحَتْ هَذِهِ الصِّيغَةُ مِنْهَا للالْتِزَامِ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ مِنْهُ للالْتِزَامِ، وَلوْ قَالَ: بِعْنِي وَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ فَذَلِكَ لاَ يُحْتَمَلُ في البَيْعِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي عَلَى أَلْفٍ فَقَالَ: طَلَّقْتُ وَلَمْ يَذْكُرِ المَالَ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: لَمْ أقْصِدِ الجَوَابَ حَتَّى يَكُونَ رَجْعِيّاً، وَلوْ قِيلَ لَهُ: أَطَلَقْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَهُوَ مُتَعَيِّنٌ لِلْجَوَابِ لأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ. قال الرَّافِعِيُّ: ضمن الباب فصولاً: أحدها: في ألفاظ المرأة في سؤال الطلاق. والثاني: في سؤال عَدَدٍ معيَّن من الطلاق. والثالث: فيما إذا سألت طلاقاً معلقاً بزمان، ثم عقد فصلاً في خلع الأجنبي، وليست له قرابة تختص بهذا الباب، ولو أورده في باب مُفْرَد، أو في الركن الثاني من أركان الخُلْع، وهو القابل لَكَانَ أحْسن، أما الفصل الأول؛ ففيه صور: منها: أن قول المرأة: طلِّقْني بكذا، أو على كذا صيغةٌ صحيحةٌ في الالتزام، وكذا في قولها: طلِّقْني على أن عليَّ كذا، أو على أن أعْطِيَكَ كذا أو أضمن لك وفي معناها قولها: إنْ طلَّقْتَنِي أو إذا طلقتَنِي فلك عليّ كذا، ويختص الجواب بالمَجْلس، وكذا لو قالت: متى ما طلَّقْتَني، ويختص الجواب بالمجلس، بخلاف قول الرجل: مَتَى ما أعطْيتِنِي كذا، فأنت طالِقٌ، وهذا قد سبق بتوجيهه. ومنها: لو قالت: إنْ طلَّقْتَني، فأنت بريْءٌ من الصداق، أو فقد أبرأْتُكَ، فقال: قد طلقْتُكِ، وقع الطلاق رجعيّاً ولم يبرأ عن الصداق؛ لأن تعليق الإِبراء لا يصح، وطلاق الزوج طمعاً في البراءة من غير لفظ صحيح في الالتزام، ولا يوجب عوضاً وهاهنا كلامان: أحدهما: أنه قد مر في باب الضَّمَان أن تعليق الإِبراء صحيحٌ على القديم، وأن معنى الإِسقاط يقتضي المسامحة في الجديد أيضاً، فالذي أطلق هاهنا الجواب على الجديد على الأظهر في أن تعليق الإِبراء لا يصح. والثاني: أنه وإن لم يصحَّ الإِبراء، فالزوج طَلَّقَ طمعاً في حصول البراءة، وهي رَغِبَتْ في الطلاق بالبراءة فكان لا يبعد (¬1) أن يقال: هذا عوضٌ فاسدٌ، فأشبه ما إذا ذكر ¬
خمراً (¬1) أو خنزيراً. ومنها: لو قالت: طَلِّقْني ولك عليَّ ألفٌ، فقال: طلَّقْتُ حصَلَتِ البينونة، ولزم الألْف؛ لأن هذه الصيغة تصلح للالتزام، قال الله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يوسف: 72] والإِتيان بها عقيب سؤال الطلاق قرينةٌ دالَّةٌ عليه، ويخالف ما إذا قال الزوج: طلقْتُكِ ولي عليك كذا؛ فإنه لا يصلح للالتزام للمال على ما مر، وعند أبي حنيفة، وهو وجه عند بعض الأصحاب أنَّه لا يثْبُت العِوَض كما لا يثبت، إذا قال الزوج: طلقْتَكِ ولي عليك كذا؛ وهذا لأن قولها: وَلَكَ عليَّ كذا بالوعد أشْبَهَ منه بالالتزام؛ فعلى هذا إن اقتصر على قوله: طلَّقْتُكِ، يقع الطلاق رجعيّاً وإن قال: طلَّقْتُكِ على ألف، احتاج إلى قَبُولها، قال أبو سعيد المتولي: ويقْرُبُ من هذه الصورة ما إذا قالت: طلِّقْني وأضْمَنُ لك ألفاً، ولو قالت: وأعطيك ألفاً، فالأظهر أنه إذا قال طلقها مطلقاً، يقع رجعيًّا؛ لأن لفظ الضمان يُشْعِر بالالتزام، والإِعطاءُ بخلافه، ولم يطَّرِد الوجه المذكور هاهنا في الجعالة، بل لو قال: رُدَّ عبدي وَلك عليَّ كذا، فرَدَّ لزم المالُ بلا خلاف، ولو قال المشتري: بِعْنِي هذا ولك عليَّ كذا، فقال بِعْتُ، ففي انعقاد البيع وجهان: ¬
أحدهما: ينعقد كالخلع والجعالة، وهذا هو الجواب في: "فتاوى القَفَّال". والثاني: المنع لأنه يحتمل فيهما ما لا يحتمل في البيع؛ ألا ترى أن التَّعْليقَ لا يقدح فيهما، ويقدح في البَيْع، وفيما علق عن الإِمام أن هذا أصح، ويشبه أن يكون الوجهان في أنه هل هو صريح، فأما كونه كناية فلا ينبغي أن يكون فيه خلاف. ومنها: إذا قالت طلِّقْني على ألْفِ، أو أتت بصيغة أخرى صريحة في الالتزام، فإن أجابها، وأعاد ذِكْرَ المال، فذاك وإن اقتصر على قوله: طلَّقْتُكِ كفى ذلك، وانصرف الجواب إلى السؤال كما إذا قال البائع: بعْتُ بكذا، فقال: اشتريت، واقتصر عليه يكفي، وفي "أمالي" الشيخ أبي الفَرَج وجْه: أنه إذا لم يعد المال لم يلزم المال، ووقع الطلاق رجعيَّا، والظاهر الأول. ولو قال: قصَدتُّ الابتداءَ دون الجواب قُبِلَ، ويكون الطلاق رجعيًّا، فإن اتهمته في ذلك حَلَف. وأما قوله: "ولو قيل له: أطَلَّقْتَ زوجتك فقال: نعم، فهو متعين للجواب"، فهذه الصور مذكورةٌ في أواخر "كتاب الطلاق" وقد تبيَّن هناك أنَّه يكون ذلك إقراراً بالطَّلاق، ويكون إنشاء، والغرضُ هاهنا شيْءٌ واحدٌ؛ وهو أنه لو قال: لم أقْصِدِ الجواب بقولي "نعم"، لم يقبل، بخلاف ما نحن فيه، وفرق بينهما بأن قوله "نعم" لا يستقل ولا يفيد بنفسه، وقوله "طَلَّقْتُكِ" كلامٌ مفيد في نفسه يصلح للابتداء كما يصلح للجواب. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَتْ: أَبِنِّي فَقَالَ: أَبَنْتُكِ فَإِنْ نَوَيَا نَفَذَ، وَإِنْ لَمْ ينْوِيَا أَوْ لَمْ يَنْوِ الزَّوْجُ لَغَا، وَإِنْ نَوَى دُونَهَا نُظِرَ، فَإِنْ ذَكَرَا المَالَ لَمْ يَنْفَذْ لأَنَّهَا لَمْ تَلْتَزِمْ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا نَفَذَ رَجْعِيّاً، وَإِنْ ذَكَرَ المَالَ دُونَهَا لَمْ يَقَعِ الطَّلاَقُ، وإِنْ ذَكَرَتْ في الِتِمَاسِهَا فَقَالَتْ: أَبِنِّي بِأَلْفٍ فَقَالَ: أَبَنْتُكِ فَهُوَ كَمَا إِذَا ذُكِرَا جَمِيعاً إِلاَّ أَنْ يَقُولَ: قَصَدتُّ الابْتِدَاءَ دُونَ الجَوَابِ، وَلَوْ قَالَتْ: أَبِنِّي فَقَالَ: أَبَنْتُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مَالٍ مَعَ نِيَّتِهِ وَقَعَ الطَّلاَقُ رَجْعِياً وَلَمْ يَثْبُتِ المَالُ بِخِلاَفِ لَفْظِ الخُلْعِ فَإِنَّه بُنْبِئُ عَنِ المَالِ فَيَقْتَضِيهِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ. قال الرافعي: اللفظ الدائرُ بَيْن الزوجين سؤالاً من جانب الزوجة، وإجابة من جانب الزوج، إما أن يكون صريحاً من الجانبين، أو كناية من الجانبين، أو صريحاً من أحدهما كناية من الآخر فإن كان كناية من الجانبين، كما إذا قالَتْ: أبِنِّي، أو بِنِّي أو أبرّئْنِي أو بَارئْنِي، فقال: أبنتك أو بنتك، فإن نَوَيَا الطلاق، نَفَذَ، ولزم المال إن ذَكَر مالاً، وإن لم ينويَا أو لم ينوِ الزوج، فلا فرقة، وإن نوى الزوج دونها، فيُنْظَرُ، إن جَرَى ذكر المال في السؤال والجواب، لم يقع الطلاق؛ لأنَّه ربط الطلاق بالمال، وهي لم تسال الفراق، ولم تلتزم المال في مقابلته، وإن لم يجر ذكْرُ المال في الطرفين، وَقَعَ
الطلاق رجعيًّا، وإن ذكر الزوجُ المالَ، ولم تذكر المرأة، لم يقَعِ الطلاق؛ لأنَّها لم تسألْ [فيها] فراقاً، والزوج أنشأ فراقاً على مال لم يتصل به القَبُوَل، وإن ذكَرَتْ هي المالَ، فقالت: أبِنِّي على ألْفٍ، فقال: أبنتُكِ، فوجهان: أحدهما: أنَّه لا يقع الطلاق؛ لأن كلامه جوابٌ عن سؤالها، فيعود المال في الجواب، ولم يوجد منها القبُول، فصار كما إذا ذكِرَا جميعاً. والثاني: أنَّه يقع الطلاق رجعيَّا، ويحمل على ابتداء الخِطَابِ منه، ونظم "التهذيب" يقتضي ترجيح الوجه الثاني، لكنَّ الإِمام ذَكَر، أن الأصحَّ هو الأول، ويحكى عن القاضي الحُسَيْن مثْلُه، وهو المذكور في الكتاب الموافق للوَجْه المشهور فيما إذا قالت: طلقْني بألف، فقال: طلَّقْتُ، واقتصر عليه، ولا شكَّ أنه لو قال الزوج: قصدت الابتداء دون الجواب، يقبل، وَيقَع الطلاق رجعيَّاً، واعلم أن قوله في الكتاب في ابتداء المسألة "فَإِنْ نَوَيَا نَفَذ" يعني أصل الطلاق، ثم إن ذكر مالٌ، وجب المال والطلاقُ بائنٌ على ما سبق، وإن لم يُذكَرْ مال فالطلاق رجعيٌّ، وهو المراد من قوله آخِراً "ولو قالت: أبِنِّي فقال: أبنتك" إلى آخره، والمراد ما إذا نوى الزوج الطلاقَ مع نيتها أو دون نيتها، وقوله: "مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مالٍ مع نيته" لفظ النية لا حاجة إليه؛ فإن النية المجردة لا أثر لها في المال، ومطلق لفظ الإِبانة لا يقتضي بخلاف لفظ الخُلْع، حيث قلنا: إنَّه يقتضي المال [وإن] (¬1) جرى من غير ذكر مال على أجَد الوَجْهَيْن؛ لأن ذاك مأخوذ من العرف والاستعمال الشائع من لفظِ الخُلْع، ولَفْظُ "الإِبانةِ" لا يختص في العُرْف بما إذا كان هناك مالٌ، هذا إذا كان اللفظُ المستعملُ في الجانبين كناية، وإن كان صريحاً في أحد الجانبين، كنايةً في الآخر، فالكنايةُ مع النية كالصريح، ودون النية لغْوٌ لا عبرة بها، فإذا قالت: أبِنِّي على كذا ونوت فقال: طلقتُكِ أو قالت: طلِّقْنِي بكذا، فقال: أبنتك، ونوى، فالحُكْمُ كما لو كان المستعمل من الجانبين صريحَ الطلاق، هذا هو الظاهر. وعن ابن خيران: أنَّهَا إذا قالت: طَلِّقْني، فقال: أبنْتُكِ، ونوى، لم يقع؛ لأن الصريح آكَدُ، وأقوى فالمأتي به غير المسؤول (¬2). قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّانِي فِي الْتِمَاسِهَا طَلاَقاً مُقَيَّداً بِعَدَدٍ): وَفِيهِ صُوَرٌ، فَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلاَثاً بِأَلْفٍ فَطَلَّقَ وَاحِدَةً اسْتَحَقَّ ثُلُثَ الأَلْفِ بِخِلاَفِ جَانِبهِ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إِلاَّ طَلْقَةٌ وَطَلَّقَ الآخِرَةَ اسْتَحَقَّ (ز) تَمَامَ الأَلْفَ، وَإِنْ بَقِيَتْ طَلْقَتَانِ اسْتَحَقَّ بِالوَاحِدِ ثُلُثَ الأَلْفِ، فَإِنْ أَوْقَعَهُمَا اسْتَحَقَّ الجَمِيعَ لأَنَّهُ أَفَادَ البَيْنُونَةَ الكُبْرَى، وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ¬
عَشْراً بِأَلْفِ اسْتَحَقَّ بِالوَاحِدَةِ عُشْرَ الأَلْفِ وَبِالثِّنْتَيْنِ خُمْسَهُ وَبِالثَّلاَثِ الجَمِيعَ. قال الرَّافِعِيُّ: إحدى صُوَر الفَصْل، لو قالت لزوجها: طَلِّقْنِي ثلاثاً بألف، أو على ألف، فطلَّقَها واحدةً، فقد سبق في الفصل المبين لِمَا في الخُلْع من الشوائب؛ أنَّه يقع ويستحق ثُلُث الألف، وأن الشيخ أبا عَلِيٍّ حكى وجْهاً ضعيفاً أنه لا يقع بتلك الواحدة، ويُحْكَى أن أحمد -رحمه الله- ذهب إليه، وكذلك أبو حنيفة في قولها: عَلَى ألْفٍ، وساعَدَنا في قولها بالألْفِ، ويجوز أن يُعَلَّمَ قوله هاهنا: اسْتَحَقَّ "ثُلُثَ الأَلْفِ" بالواو وبالألِفِ؛ لأنه إذا لم يقع شيء من الطلاق لا يستحق شيئاً من المال، وأيضاً فقد حكى الحناطي، وجْهاً ثالثاً: أنه يرْجِع عليها بمهر المثْل، ورابعاً: أنه يرجع بثُلُث مهر المثل، وظاهر المذهب الأولُ، ويخالف جانب الزوج فإنه إذا قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً على ألْف، فقالت: قبِلْتُ واحدةً، لا تقع الواحدة بثُلُث الألف، ولو قال: إن أعطيتِنِي ألْفاً فأنتِ طالقٌ ثلاثاً، فأعطَتْ ثلث الألف، لا تطلق واحدةً، وذلك لأن الخُلْعَ من جانبه فيه معنى المعاوضة، والتعليق وفي شرط المعاوضة أن يوافق الإِيجاب القبول، ومن شرط الوقوع بالتعليق حُصُولُ الصفة المعلَّق عليها, ولم يتحققْ واحد من الشرطين، وأما من جانب المرأة الخُلْع مشبه بالجَعَالة على ما قدمناه، ولو قالت: طلِّقْنِي ثلاثاً، ولك ألفٌ، أو إن طلقْتَنِي ثلاثاً، فلك ألْفٌ، فهو كقولها: طَلِّقني ثلاثاً على ألف، حتى إذا طَلَّقَ واحدةً يستحق ثلُث الألف خلافاً لأحْمَدَ -رحمه الله-، ويجيء فيه الأوجه المذكورة من قَبْلُ. وعن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه لا يقع شَيْءٌ من الطلاق ولا يستحق شيئاً من المال في قوْلها: إن طلَّقْتَني ثلاثاً فلك ألف، حتى تُطَلَّقَ الثلاثة، وقولها: طَلِّقْني ولك كذا، صيغةُ التزام عنده، حتى لا يستحق شَيْئاً وإن طلقها ثلاثاً على ما سَبَقَ. ولو طلَّقَها في هذه الصورة طلقتين، استحق ثلثي الألف على الظاهر، وإن طلَّقَها طلقةً ونصفاً، فيستحق ثلثي الألف؛ لأنَّه أوقع طلقتين أو نصْف الألف؛ لأن ما أوقعه نصفُ الثلاث الألف والتكميل حكم الشرع. حكى صاحب "المهذب" فيه (¬1) وجهَيْنِ، ولو قالت: طلِّقْني ثلاثاً بألف، وهو لا يملك إلاَّ طلقةً، فطلقها تلك الواحدةَ، فقد نص في المختصر على أنَّه يستحقُّ تمام الألف؛ لأنه حصل بتلك الطلْقة مقصودَ الثلاث، وهو الحُرْمة الكبرى, وقال المزني معتَرِضاً: ينبغي أن لا يستحقَّ إلاَّ ثلث الألف توزيعاً للمسمى على العدد المسؤول، كما لو كان يملك الثلاث، فطلَّق واحدةً، والحرمة لا تثبت بتلك الطلقة وإنما ثبتت بها، وبما قبلها، فيكون حكمها حُكْمَ الأولى والثانية، وهذا كما أن الشافعيَّ قال: السكر لا ¬
يحصُلُ بالقَدْح الأخيرِ، بل به، وبما قبله، فيكون حُكْم ما قبله في التحريم حكْمَه، كما قال فَقْء عين الأعور لا يوجب إلاَّ نصف الدية؛ لأن العمى لا يحصل بهذا الفَقْء وحده، بل به وبما قبله، واختلف الأصحاب في ذلك؛ فعن أبي إسحاق وابن سُرَيْج أنَّهما توسَّطَا، فقالا: إن كانت المرأة عالمةً بأنَّه لم ينوِ إلاَّ واحدةً استحق تمام الألف، وهو المراد من النص؛ لأنَّها إذا علمت الحال، لا تبذل الألف إلا في مقابلة تلك الواحدة، ويكون غرضها تحقيقَ الحُرْمة الكبرى, وتعني بقولها: طلِّقْني ثلاثاً كمل لي الثلاَث، فأما إذا لم تعلَّمْ فإنما تبذل الألف في مقابلة الثلاث، فوجب أن يتوزع كما قاله المزنيُّ، وأخذ بظاهر النص آخذون منهم أبو الطيِّب بنُ سلمة، وقالوا: لا فرق بين أن تكون عالمةً أو جاهلةً، والزَّوْج يستحق تمام الألف في الحالين؛ لأن الواحدة والصورة هذه كالثلاث إذا كانت مملوكةً له، وأبطلوا التنزيل المذكورَ بأنه نصَّ في "الأم" فيما إذا قالت: طلِّقْني ثلاثاً بألف، وهو لا يملك إلاَّ طلقَتيْن، على أنه إن طلَّقَها واحدةً يستحق ثُلُثَ الألف، وإن طلقها ثنتين (¬1) يستحق الكلَّ، وهي إما عالمةٌ أو جاهلةٌ، إن كانت عالمةً وجب أن يستحق بالواحدة نصف الألف؛ لأنها بَذَلَتِ المال في مقابلة الطلقتين، وإن كانت جاهلةً لا يستحق بطلقتين إلاَّ ثلثي الألف، فظهر أنه لا فرق عنده بين العلْم والجَهْل، واعتذر هؤلاء عما احتج به المزنيُّ بأن العقل يستتر على التدريج، فكل قَدْح يزيل شيئاً من التمييز، وزوال البصر، كما أثر فيه الفقْء أثَّرَ فيه ما قبله فالحرمة الموصوفة بأنها كُبْرَى لا يثبت شيء منْها بالطلقتين الأوليين، وقد يقال: المراد من الحُرْمَة الكبرى, تَوَقّف الحل على أن تنكح زوجاً آخر، وهذه خطَّة واحدة؛ حتى يتأثر بعضها بالطلقة الثالثة، وبعضها بما قبلها، وجرى بعضهم على ما أطلقه المزني وقالوا: الواجبُ الثلثُ، علمت المرأة بما بقي من الطلاق، أو لم تعلَمْ، ويُرْوَى ذلك عن ابن خَيْران، وأوَّلَ هؤلاء النصَّ من وجهين: أحدهما: عن ابن خيران صورة النص ما إذا قالت: تملك عليَّ ثلاث طلقات فطلقني الثلاث بألف وقال الزوج: كنْتُ قد طلقْتُكِ، ولا أملك الآن إلاَّ واحدةً، فقالتْ: طَلِّقْني ثلاثا؛ ليزول الإِشكال، ففعل، فله الألْف؛ لأن عندها أنَّه أوقع الثلاث، وقوله: يطلقها واحدة يريد عقد الزوج؛ لأن الثنتين (¬2) لا يقعان بزَعْمه. والثاني: حكى الحناطي عن ابن خَيْران والإِصطخرِّي أن نصَّه على تَمَام وجُوب الألْف مبنيٌّ على أن الخُلْع فسْخٌ، وهذا الكلام غير مخمَّر (¬3)؛ فإن الخلاف في أن الفراق على مال فسْخٌ أو طلاقٌ، موضِعُه ما إذا لم يجر بينهما لفْظُ الطلاق، وإنما جَرَى ¬
لفْظ الخُلْع ونحوه، وهاهنا المسؤولُ الطلاقُ، والجوابُ الطلاقُ، وبتقدير أن يكون ها هُنَا خلافٌ؛ فلعلَّ التقريب أن الفسخ رفع العقد بالطلقة الواحدة، يرتفع كما لو تلفظ بالثَّلاث، وبتقدير أن يكون التقريبُ هذا، فقضيته أن يقال: لو سأَلَتْه الثلاثَ بألْف، وهو يمْلِكُها فطُلِّقَتْ واحدةً أو اثنتين، وتستحق الألف أيضاً، فقد حصَلَ ممَّا ذكرنا في المسألة ثلاثةُ أوجه أو ثلاثة أقوال منْصُوصٌ ومخرجات. أظهرها: على ما ذكر القفَّال والشيخ أبو علي وأكابر الأئمة -رحمهم الله- وجُوبُ جميع الألْف على ما نص عليه سواء علمت أنه لم يبق من الطلاق إلا طلقة أو جهلت وظنت بقاء الثلاث. والثاني: وجوب ما يقتضيه التوزيع في الحالتين. والثالث: الفَرْق بيْن أن تعلم أو تجهل، وهو اختيار القاضي الرُّوياني، ونقل الحناطي وجهاً رابعاً وهو أن المسمَّى يبطل ويرجع الزوج إلى مهْر المثل، وحكي هذا عن صاحب التلخيص وخامساً وهو أنَّه لا شيء له؛ لأنَّه لم يطلق كما سألت، ولو سألت الثلاث [على ما] صوَّرنا، وهو لا يملك إلاَّ طلقتين، فطلقها واحدة، فلَه ثلُث الألف على النص والتخريج الذي ذكَره المُزنيُّ، وعلى الوجْه الفارق إن جهلت، فكذلك، وإن علمت فله النصْفُ توزيعاً على الطلقتين، وإن طلَّقَها الطلقتين فعلى النصِّ يستحق جميع الألْف، وعلى ما قال المزنيُّ، يستحق ثلُثَي الألْف، وعلى الوجْه الفارق يستحق الجميع، إن علمت والثلثين إن جهلت، وزاد الحناطي وجهاً رابعاً: وهو الرجوع إلى مَهْر المثل. وسادساً: وهو أن له ثُلُثَيْ مَهْر المِثْل، ولو قالَتْ: طلِّقْني عَشْراً بألْف، والصورة من مولدات ابن الحداد، فيُنْظَر؛ إن كان يملك عليها ثلاثَ طلقات، فعلى قياس النَّصِّ يستحق بالواحدة عُشْر الألف، وبالثنتين عشرَيْه، وهما الخمس، وبالثلاث الجميعَ، وهذا هو الأشهر، وبه أجاب ابن الحَدَّاد، وفي "المهذب" وجه آخر؛ أن التوزيع على الثلاث، والزيادة لغو فالمستحق بالواحدة الثلث، وبالثنتين الثلثان، وهذا كالخلاف، فيما إذا قال: أنتِ طالقٌ خمساً إلاَّ اثنتين ينصرف الاستثناء إلى العدد المذكور أم العدد الشرعيّ، وهو الثلاث، وطرد الوجهين على قياس تخريج المزنيِّ، فعلى الأشهر تستحق بالثلاث ثلاثة أعشار الألْف. وعلى الثاني تستحق الجميع توزيعاً على العَدَد الشرعي، وهو الثلاث، ومن فرَّق بين العلْم والجهْل قال: يستحق بالثلاث الجميع والواحدة الثلث، وبالاثنين الثلثين لحصول العلم؛ بأن الطلاق لا يزيد على الثلاث، وأن [التلفظ] بالزيادة لغْوٌ، فإن ظنَّت أنَّه يملك عَشْراً، بأن كانت حديثة العَهْد بالإِسلام، فالقياس عود الوجهَيْن، في أنه
يجب ثلاثة أعشار الألف، أو (¬1) الجميع؟ ولو لم يَمْلِك الزوج في صورة سؤال العَشَرَةِ إلاَّ طلقتين، فعلى قياس النص إن طلَّقَها واحدةً، فله عُشْر الألف، والثلث وإن طلَّقها طلقتين، فله تمام الألف، وعلى قياس المزنيِّ المستحقُّ العشر أو العشران على الأظهر، والثلث أو الثلثان على الوجه الآخر، وعلى الوجه الفارق إنْ علمَتْ فالمستحَقُّ بالواحدة [النصف]، وبالثنتين الكل، وإن ظنت أنه يملك الثلاث، فالمستحَقُّ بالواحدة الثلُثُ، والاثنين الثلثان] قال الأئمة -رحمهم الله-: والضابط على النصِّ العددُ، المسؤول إن ملك الزَّوْج كلَّه، وأجابها، فله [المال] المسمَّى، وإن أجابها إلى بعْضه، فله قسْطه بالتوزيع، وإن كان يمْلك بعض المسؤول، فإن تلفظ بالمسؤول أو حصل مقصودُها بما أوقع, استحق المسمى، وإلاَّ وزع على العَدَد المسؤول على الأَشْهر، وعلى قول المزني استحق ما يقتضيه التوزيع على المسؤول أبداً، وكذا الحُكْم على الوَجْه الفارق في حالة الجَهْل، وفي حالة العلْم التوزيع على المملوك من الطلاق دون المسؤول، فلو كان يملك ثلاث طَلَقَات، فقالَتْ له: طلَّقْني ستّاً بألف، فعلى النصِّ والتخريج استحق بالواحدة السدس، وبالثنتين الثُّلُث، فإن طلقها ثلاثاً استحق الجميع على النَّصِّ، والنصْف على تخريج المزنيِّ، فأما على الوجه الفارق فله بالواحدة الثُّلُث وبالثنتين الثلثان، وبالثلاث الجميع وقس على هذا. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلاَثاً بِأَلْفٍ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بِأَلْفٍ وَثِنْتَيْنِ مَجَّاناً فَالمَشْهُورُ أَنَّهُ يَقَعُ الأُولَى بِثُلُثِ الأَلْفِ وَالثِّنْتَانِ لاَ يَقَعَانِ لأَنَّهَا بَائِنَةٌ، وَالقِيَاسُ أَنَّ الأُولَى لاَ تَقَعُ لأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِهَا إِلاَّ بِالأَلْفِ وَهِيَ مَا قَبِلَتْ إِلاَّ بِثُلُثِ الأَلْفِ وَالثِّنْتَانِ بَعْدَهَا تَقَعَانِ رَجْعِيَّتَيْنِ، وَلَوْ قَالَ فِي الجَوَابِ: أنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةٌ مَجَّاناً وَاثْنَتَيْن بِثُلُثَي الأَلْفِ وَقَعَتْ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً وَابْتُنِيَ الثِّنْتَانِ عَلَى مُخَالَعَةِ الرَّجْعِيَّةِ، فَإِنْ جَوَّزْنَا نَفَّذْنَا بِثُلُثَي الأَلْفِ وَإِلاَّ وَقَعَتَا بِغَيْرِ مَالٍ كَمُخَالَعَةِ السَّفِيهَةِ. قال الرَّافِعِيُّ: الصورة الأولى: إذا قالت: طلِّقني ثلاثاً بألْف، فقال، وهو يملك عليها ثلاث طلقات: أنتِ طالقٌ واحدةً بألف، وثنتين مجاناً؛ فالذي نقله الفوراني وحُكِيَ عن رواية القاضي الحُسَيْن والصيدلاني وغيرهما أن الأُولَى تقع بثلث الألْف؛ لأنها لم ترض بواحدة إلا بثلث الألف؛ حيث سألت الثلاث بالألْف، فلا مزيد عليه، كما في نظيره في الجَعَالة، ولا تقع الأخريات؛ لأنها بانت بالواحدة. ¬
والثانية: لا يلحَقُها الطلاقُ، وقال الإِمام: القياس الحقُّ أن لا يجعل كلامه جواباً عن سؤالها؛ لأنها سألت كل واحدةٍ بثلُث الألف، وهو لم يرض إلاَّ بألف وإذا لم يوافقْ كلامُه سؤالها؛ كان مبتدئاً بما قال، فإذا تقبل، لم وجب ألاَّ يقع كما إذا قالت: طلِّقْني واحدة بثلث الألْفِ، فقال: طلَّقْتُكِ واحدة بالألف، لا ينفَذُ، وإذا لم تقعْ تلك الواحدة، وقعت الأخريان رجعتين، وتابَعَهُ صاحب الكتاب وغيره، وهو حسن متوجِّه، والأول بعيدٌ، وأبعد منه ما في "التهذيب" أنه تقع الواحدة بالألْف، ولا تقع الأخريان، ويشبه أن يكون ما في "التهذيب" غلطاً من ناسخٍ أو غيره، ولو قال، وقد سألَتْه الثلاثَ: طلقْتُكِ واحدةً بثلُث الألف، وثنتين مجاناً. فقد وافق كلامُه ما اقتضاه السؤالُ من التوزيع، وزال الإِشكال فَتَبِينُ بالأولى ولا تقع الأخريان، ورواية الأئمة إن أمكن تاويلُها على هذه الصُّورة فليفعل، ولو قال: طلقتُك اثنتين، بألْف وواحدةً مجاناً، فعلى الأول تقع الثنتان بثُلثَي الألف، وعلى الثاني، لا تقعان، ولو قال في الجواب: أنت طالق واحدةً مجاناً واثنتين بثلثَي الألف، أو اثنتين مجاناً وواحدةً بثلثه الألف، وقع ما أوقَعَه مجَّاناً، ويبنى ما بعده على مخالعة الرجْعيّة إن كان مدخولاً بها، وفيه قولان: إن صححناها: وهو الجديد؛ وقعت الثنتان بثلثَي الألْف، وإن لم نصححْها وقَعَتا بلا عوض، لما مَرَّ أن مخالعة الرجعية على هذا القول، كمخالعة السفيه؛ وقد يترتب، فيقال: هذه الصورة أولى بالصحة من مخالعة الرجعية؛ لأن سؤالها واقعٌ في صُلْب النكاح، وهناك الشقان واقعان جميعاً بَعْد الفُرْقة ولك أن تحتج بالمسألة على أن تخَلُّل الكلام اليسير بين الخِطَابِ والجواب لا يضر؛ لأن الطلاق الذي أوقعه مجَّاناً كلامٌ تخَلَّل بين سؤالها وجوابه، وأن لم تكن المرأةُ مدخولاً بها، فتَبِينُ بما أوقع مجَّاناً، ويلغو ما بعده، ولو قال في الجواب: أنتِ طالقٌ واحدةً مجَّاناً، واثنتين بالألْفِ ولم يقُلْ: بثلثي الألف ففي "التهذيب" إنْ كان ذلك بعد الدخول تقع الأولى مجاناً، والثنتان بثلثي الألف، ولا نقول: يستحق الكُلَّ، وإن حصل مقصودُها؛ لأن ذلك إنما يكون إذا وقَع المملوك من الطلاق في مقابَلَة المال، وهاهنا أوقَعَ بَعْضَ المملوك مجَّاناً واعلم أن الإِشكال الذي ذكَره الإِمَامُ في الصورة المتقدِّمة عائدٌ هاهنا؛ لأنها لم ترضَ بالطلقتين، إلاَّ بثلثي الألف وهو أوقعهما بألْف، فوجَبَ أن يجعل كلامه مبتدأً، وإذا كان مبتدأً ولم يتصل به القَبُول، وجب أن يلغو، وفي "التهذيب" أيضاً، أنه لو قال في الجواب: أنْتِ طالقٌ ثلاثاً، واحدةً بألف، تقع الثلاث، ويستحق ثلث الألف؛ لأنه تطوَّع، بطلقتين، ويعود فيه الإِشكال [والله تعالى أعلم]. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي وَاحِدَةً بِأَلْفٍ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثاً اسْتَحَقَّ تَمَامَ
الألْفِ؛ لأَنَّهُ أَجَابَ وَزَادَ، فَلَوْ ذَكَرَ المَالَ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثاً بِأَلْفٍ فَهُوَ كَمَا إِذَا لَمْ يَذْكُرْ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي التَّوْزِيعِ وَمُقَابَلَةِ كُلِّ طَلْقَةٍ بِثُلُثِ الأَلْفِ فَلاَ يَقَعُ شَيْءٌ، لِأنَّهُ خَالَفَ الالْتِمَاسَ، وَقِيلَ: إِنَّ الأَوْلَى يَقَعُ فَقَطْ لأَنَّهَا الْتَمَسَتْ بِأَلْفٍ وَأَجَابَهَا بِثُلُثِ الأَلْفِ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَبَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَقُولَ: بِعْنِي بِأَلْفٍ فَيَقُولُ: بِعْتُكَ بِخَمسِمِائَةٍ أَنَّهُ يَصِحُّ وَذَلِكَ بَعِيدٌ. قال الرَّافِعِيُّ: الصورة الثالثة: قالت: طلِّقْنِي واحدةً بألف، فقال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً، استحق تمام الألْف، وعن أبي حنيفة -رحمه الله-[أنه] لا يستحقُّ شيئاً، واحتج الأصحاب بوجهين: أحدهما: أنه أجاب إلى الطلقة المسؤولة، وزاد من عنده طلقتين، فيستحق الملْتَزَم، كما إذا قال: رُدَّ عبدي بكذا، فردَّه مع عبدين آخرين، يستحق المالَ، ويخالفه لو قال: بِعْنِي هذا العبد بألْف، فقال، بعتكه مع هذين العبدين الآخرين بألف، فالظاهر بطلان البَيْع، والفرق أن البيع معاوضة محضةٌ والخُلْع شبيه بالجعالة، فيحتمل فيه ما لا يحتمل في البَيْع على ما تقدَّم، وأيضاً، فتمليكه العبدين الآخرين من غير رضاه، وتملكه لا سبيل إليه، وإيقاع الطلقتَيْن الآخرين يستقل به الزَّوْج، وحكى الحناطي وغيره وجهَيْن آخرين: أحدهما: صحة البيع في الجميع. والثاني: صحته في العَبْد المسؤول بيعُهُ خاصَّةً. والوجه الثاني: أنها سألته البينونة بألْف، وإذا طلَّقَها ثلاثاً، فقد أبانَها أغلظ البينونَتَيْنِ، ثم الألْفُ المستحَقُّ يكون في مقابلة الثلث، أو في مقابلة واحدة منها، حُكِيَ فيه اختلاف للأصحاب ولا تتعلق به فائدة حكمية (¬1)، وظاهر النص الثاني، ولو أعاد في ¬
الجواب ذكْرَ الألف، فقال: طلقتك ثلاثاً بألف، ففيه أوجه: أظهرها: أنَّ الحكم كما لو لم [يعد] حتى تقع الثلاث ويستحق الألْف؛ لما سبق. والثاني: عن القَفَّال أنه تقع الثلاث، ولكن لا يستحق إلا ثُلُث الألف، جعل الألف في مقابلة الثلث، وهي لم تَسْأَل بالعوض إلاَّ واحدةً، وحصَّةُ الواحدة ثلُثُ الألف، وهذا الوجه غير مذكور في الكتاب. والثالث: لم أرَ ذكره إلاَّ في الكتاب أن إعادة الأَلْف تصريحٌ بالتوزيع، ومقابَلَة كل طلقة بثلث الألف، فلا يقع شيْء؛ لأن المَسْؤول طلقة بألف، والجواب لا يوافقه. والرابع: أنه تقع واحدةً بثلث الألف، والأخريان لا تقعان، أما أنه تقع واحدةً؛ فلأنها سألت بألف، وأجاب بثلث الألف، فقد خفَّف وأحسن، وأمَّا أن الأخرتين لا تقعان؛ فلأنه أوقعهما بثلث الألف، ولم يتصل به القبول، وحق هذه الوجوه أن تطرد فيما إذا لم يُعِدْ ذِكْرَ الألف، وإن لم يذكروهاهناكِ؛ لأن قوله أنتِ طالقٌ ثلاثاً، إما أن يكون جواباً عن سؤالها ويقدر الألف عائداً فيه أولاً يكون كذلك، وإن كان الثاني، وَجَب أن يُطَلِّقَ ثلاثاً، ولا يلزم شيء من المال، وإن كان الأول، فأي فرق بين أن يذكره لفظاً أو لا يذكره، والمعنى واحد، ولو قالت: طلِّقْني واحدةً بألف، فقال: أنت طالق طلقتين، فقياس قولهم إنه أجاب إلى ما سألتْ، وزاد أن تقع الطلقتان، ويلزم الألْفُ. وقال الإِمام -رحمه الله-: إنه لم تحصلِ البينونة الكُبْرى؛ حتى نقول: إن المسؤول البينونةُ، وقد أجاب إليها بصفة أغلط، والجواب مخالف للسؤال؛ لأنها سألت بألْف طلقة، وأنه أوقع طلقةً بنصف الألف؛ فيتجه في هذه الصورة مذهب أبي حنيفة -رحمه الله-، وهذا اعتماد على التوجيه الثاني في الصورة السابقة. ولو قالت: طلقني بألف، فقال: طلقتُك، أو أنت طالق بخمسمائة، ففي وقوع الطَّلاَق وجهان:
أحدهما: لا يقع؛ لأن الجواب لم يوافق الخطاب، فأشبه ما إذا قال: أنت طالق بألف، فقبلت بخمسمائة لا يقع، وأصحهما: وبه أجاب ابن الحداد: أنَّه يقع, لأن الطَّلاَق إلى الرِّجَال، وهو قادر على الإِيقاع بغير عوض، فأَوْلَى أن يقدَّر على الإِيقاع ببعض العوض المبذول، وعلى هذا ففيما يستحقه الزوج وجْهان: الأصَحُّ -وبه قال ابن الحداد-: أنه خمسمائة؛ لأنه رضي بهذا القدر، فيطلق عليه. والثاني: جميع الألف, لأن الزوج لا يحتاج إلى قَبُول الألف بل يكفي أن يطلقها؛ ألا ترى أنه لو اقتصر على قَولِه: أنت طالقٌ، كفى واستحق الألف، فيعمل ذلك ويلْغُو قوله: خمسمائة، وفي البيع لو قال الراغب بعني بألْفٍ، فقال: بعْتُكَ بخمسمائة، ذكر الشيخ أبو علي وغيره فيه احتمالين: أحدهما: يَصِحُّ؛ لأنَّه زاد خَيْراً فصَارَ كما لو وكَّله بِشِراء عبْدِ فلانٍ بألف، فاشتراه الوكيل بخمسمائة. وأظهرهما: المنع, لأنه معاوضة مضنة ويعتبر فيه من التوافق ما لا يعتبر في الطلاق، وكذلك لو قال: بعْنِي هؤلاء العبيدَ الثلاثة بألف، فقال: بعْتُكَ هذا الواحدَ بثُلُث الألْف، لم يصحَّ، ولو قالت: طَلِّقْني على كذا درهماً، فطلقها على دنانيرَ كان مبتدئاً بكلامه، فيُنْظَر؛ أيتصل به قبول أم لا؟ وبمثله الجواب فيما إذا قالت: طلِّقْني بألْفِ درهمٍ، فقال: طلقتُكِ بألف دينار، ولو قالت: طلِّقْني واحدةً بألف، فقال: أنتِ طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ، روجِعَ، فإن قال: أردتُّ مقابلة الأولى بالألف وقعَتْ، ولم تقع الآخريان، وإن قال بأردتُّ الثانية، وقعت الأولى رجعيَّة، ويجيء في الثانية الخلافُ المذكور في مخالعة الرجعيَّة، فإن صحَّحناه، لغت الثالثةُ، وإن لم نصححها لم تلْغُ، وإن قال: أردت الثالثة وقعت والأوليان بلا عِوَضٍ، والثالثُ على الخِلاَف، وإن قال: أردتُّ مقابلة الكل بالألف، وقعت الأولى بثلث الألْف، ولغت الأخريان، ولو لم يكُنْ له نية، قال صاحب "التهذيب" -رحمه الله- تبين بالأُولَى بالألف؛ لأنه جواب لقولها، وتلغو الأخريان، وأورد الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مثْلَ هذا التفصيل فيما إذا ابتدأ، فقال أنت طالق وطالق بألف وليشترط فيه مطابقة القبول للإِيجاب ولو قال في جوابها أنت طالِقٌ وطالقٌ، وطالقٌ واحدةً بالألف، انقطع الاحتمال لمقابلة الكُلِّ بالألف والباقي كما ذَكْرنا، وهذا فيما إذا كانتِ المرأة مدخولاً بها، فإن لم تكنْ مدخولاً بها، وأراد أن تكون الألْف في مقابلة غير الأولى، بَانَت الأولى، ولغا ما بَعْدها, ولو قالت لزوجها، وهو لا يملك إلاَّ طلقةً واحدةً: طلِّقْنِي طلقتَيْن بألْف، فقال: طلقْتُك اثنتين، الأُولى منْهُما بألْف والثانية: مجَّاناً استحق الألف، وإن قال: الثانية منهما بألف وقعت الأولى بلا عوض، وتَلْغُو الثانية على التقديرين، وإن قال: إحداهما بألف أو اقتصر على قوله:
طلقْتُكِ اثنتين، روجع فيه، فإن قال: أردتُّ الأولى والثانية، فعلى ما ذكرنا، وإن قال: لم أنوِ عند قولي: طلَّقْتُكِ اثنتين لا هذا ولا ذاك، ففي استحقاق المال وجهان: أصحهما: ويُحْكَى عن اختيار أبي إسحاق أنَّه يستحق، لأن الجواب طَابَقَ السؤال، فلا تقدَّر تجزئةً وتبعيضاً، ويكون ما وقع وقع مقابلاً بالعوض. ولو أعاد ذكْرَ المال فقال: طلَّقْتُكِ اثنتين بألف، فيستحق خمسمائة أخذاً بالتوزبع، كما لو سألت طلقتين بألْف، وهو يملكها، فطلَّقَهَا واحدةً، أو يستحق ألفاً بأن الحرمة الكبرى إذا حصَلَتْ لا يُنْظَر إلى التوزيع بَعْدها فيه وجهان: أصحهما: على ما حُكِيَ عن الشيخ أبي علىٍّ. والثاني: وبه قال أبو زيد وُينْسَبُ الأول إلى صاحب "التلخيص". ولو قالَتْ، ولم يبق للزوج عليها إلاَّ طلقةً: طلِّقني ثلاثاً بألْف طلْقةً أحرم [عليك بها] في الحال وطلقتان يقعان إذا نكحتني بعد زوج آخر، أو يكونان في ذمتك تنجزهما حينئذٍ فطلَّقَها ثلاثاً وقعت الواحدةُ، ويلغو كلامِها في الأخريين؛ لأن تعليق الطلاق بالنكاح وإثْبَات الطلاق في الذِّمَّة باطلان، ثم النص في المختصر أن الزوج يرجع إلى مهر المثل، وللأصحاب طريقان فيه أظهرهما: إن المسألة على الخِلاَف في تفريق الصَّفْقة للجمع فيما بين المملوك وغير المملوك، فإن قلْنَا بالبطلان فالعِوَض فاسدٌ، والرجوع إلى مهر المثل، وإن قلْنَا بالصحة فلها الخِيَار في العِوَض؛ لأن مقصودها قد تَبَعَّض عليها، فإن فسخت، فالرجوع إلى مَهْر المثل، وإن أجازت فتجيز بجَمِيع الألْف، أو بالثُّلُث منه؛ لأنه في مقابلة الطَّلَقَات الثلاثة، فيه قولان: في أن المشتري يجيز بجميع الثمن، أو بالقِسْط، ومنهم من قَطَع هاهنا بأنها تجيز بالثلث؛ لأن المشتريَ بالفَسْخ يدفع العقد من كل وجه، والطلاق هاهنا لا مدفع، له فيبعد أن يلزمها للواحدة ما التزمته للثلاث. والطريقُ الثاني: القطع على الرجوع إلى مهْر المثل؛ لأن المال واقع في مقابلة المَمْلُوك وغير المملوك من الطلاقِ، والتقسيطُ إنما يكون على عدد الطلاق، وغير المملوك لا يساوي المملوكَ، حتى يُوَزَّع على العَدَد، فيتعين الرجوع إلى مهْر المثل. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي نِصْفَ طَلْقَةٍ بِألْفٍ أَوْ طَلِّقْ نِصْفِي بِأَلْفٍ فَطَلَّقَ بَانَتْ وَعَلَيْهَا مَهْرُ المِثْلِ لِفَسَادِ صِيغَةِ المُعَاوَضَةِ، وَقِيلَ: عَلَيْهَا المُسَمَّى. قال الرَّافِعِيُّ: الرابعة: إذا قالت: طلقني نصفَ طلقة بألف، أو قالت: طلِّقْ نصفي
أو يَدِي أو رِجْلِي بألف، فأجابها إلى ما سألَتْ، فلا يخفى أن الطلاق يُكَمَّل ببعضه، وأن تطليق البعض تطليقُ الكل، وكذلك لو قال: ابتداء طلقتك نصْفُ طلقة، أو طلقت نصْفَك بألْف، فقبِلَتْ، ولو تعاقدا بلفظ الخُلْع وبعَّضَا، وقلنا: إن الخُلْع طَلاَقٌ فكذلك وقد مر أنا إن جعلناه فسخاً، لغى وإذا وقع الطلاق، فالظاهر الرجوع إلى مهْر المثل؛ لفساد صيغة المعاوضة؛ ألا ترى أنَّه لو قال: بعْتُكَ هذا نصْفَ بيعة، أو بعْتُ من نصْفك، أو من يدك، لم يَصِحَّ البَيْعُ، فإذا فسَدَتِ الصيغة تعين الرجوع إلى مَهْر المثل، وإنما يجيء اختلاف القَوْل في أن الواجِبَ مهر المثل أو بدل المسمى، إذا كان الفَسَاد في المُسَمَّى وعَنْ حكايه الإِمام، واختاره، وجه أنه يجب المسمى؛ لأنهما وإن خَصَّصا العوض بما لا يختص به فإن الشرع قد كمَّله، فلا يَبْعُد أن يَنزَّلَ ما كمَّله الشرع منزلة الكامل. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّالِثُ فِي المُعَلَّقِ بِزَمَانٍ): وَفِيهِ صُوَرٌ، فَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي غداً وَلَكَ أَلْفٌ اسْتَحَقَّ الأَلْفَ مَهْمَا طَلَّقَ إِمَّا فِي الغَدِ وَإِمَّا قَبْلَهُ، وَإِنْ طَلَّقَ بَعْدَهُ نَفَذَ رَجْعيّاً لأَنَّهُ خَالَفَ، وَلَوْ قَالَتْ: لَكَ أَلْفٌ إِنْ طَلَّقْتَنِي في جَمِيعِ هَذَا الشَّهْرَ وَلَمْ تُؤَخِّرِ اسْتَحَقَّ الأَلْفَ إِنْ وَافَقَ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَالَتْ: مَتَى مَا طَلُّقْتَنِي فَلَكَ أَلْفٌ فَإِنَّهُ لاَ يُسْتَحَقُّ اِلاَّ بِطَلاَقٍ في المَجْلِسِ، لأَنَّ قِرِينَةَ العِوَضِ عَارِضُ عُمُومٍ مَتَى مَا وَلاَ يُعَارِضُ صَرِيحَ التَّخْيِير، وَقَدْ قِيلَ بِنَقْلِ الجَوَابِ مِنْ كُلِّ مَسْئَلَةٍ إِلَى أُخْتِهَا. قال الرَّافِعِيُّ: إذا قالت طلِّقْني غَداً ولك عليَّ ألف، أو قالت: إن طلقتني غداً، فلَك عليَّ ألف، أو قالت: خُذْ هذا الألْفَ على أن تطلقني غداً، فأخَذَه عليه، لم يصِحَّ، ولم يلزم الطلاق، لأنه سَلَمٌ في الطَّلاق، والطَّلاَقُ لا يثبت في الذِّمَّة، ثم إن طلقها في الغَدِ، أو قبل مجيئه وقع الطلاق بائناً، ولزم المال، أما في الغد، فلأنه حَصِلَ غرضُها، وأجابها إلى ما سألت، نعم لو قال: أردتُّ الابتداءَ صُدِّقَ بيمينه، ومكن من الرجعة، وأما قَبْل مجيءْ الغَدِ، فلأنه إذا عجَّل فقد حصَل مقصودها، وزاد فأشبه ما إذا قالَتْ طلقني واحدةً بألف، فطلَّق ثلاثاً، وفي المال الذي يلزمه طريقان حكاهما القاضي أبو الطيِّب وغيره أحدهما عن أبي إسحاق وابن أبي هريرة -رحمهما الله- أن فيه قولين: أحدهما: مَهْر المثل. والثاني: المُسَمَّى كالقولين فيما إذا خَالَع على مغصوب ونحْوه، في قول يلزم مهر المثل، وفي الثاني بدل المذكور. والثاني: وبه قال الشيخ أبو حامد: أن اللازم مهْر المثل قولاً واحداً؛ لوجهين: أحدهما: قال الإِمام: هذا خُلْع على شرط المال في الحال، مع استنجاز الطلاق، ذلك على اختلاف مقتضى الخُلْع، فإنَّ مقتضاه إرتباطُ المال بالطلاق، فَجَاء
الفَسَاد من جهة الصيغة، وحينئذٍ فيتعين الرجُوع إلى مَهْر المثل، وإنما يجيءْ القولان، إذا كان الفَسَاد لمعنى في المسمى. والثاني: أن هذا الخُلْعَ دخله شرط تأخير الطلاقِ المُثْبَت في الذمة، والشرط الداخلُ على العقْد يزَاد له العوض، أو ينقص، فإذا فَسَد، سقَط من العِوَض ما يقابله، وهو مجْهول، ويكون الباقي مجْهولاً، وفي المجهول يتعين الرُّجُوع إلى مهر المثل، والظاهر وجوب مهر المثل، وإن أثبتنا الخِلاَفَ، وهو المنصوص والمذكور في الكتاب، وقد يُوجَدُ في بعض نُسَخ الكتاب، "استحق الألف" بدل مهْر المثل، وكذلك في الصورة التي تجيءْ على الأثر، والصَّوابُ الأول، وكذلك ذَكَرَ في كتابيه "الوَسِيط" "والبسيط"، وهل يفرق بين أن يُسْعفها، وهو عالم ببطلان ما جَرَى بينهما وبين أن يسعفها وهو جاهل عن القاضي الحسين وجْه: أنه يفرق ولا يَجب شيءْ، إذا كان عالماً بل يقع الطلاق رجعيّاً، وهذا هو الذي أورده في "التهذيب" [وأشار إليه الإِمام القاضي الحُسَيْن] وضعَّفه الإِمام -رحمه الله- واستشهد بالخُلْع على الخمر، والأعواض الفاسدة، فإنه لا فَرْق في ثبوت المال بين العلْم والجَهْل، وإن طلَّقَها بعد مُضِىِّ الغدِ، نَفَذَ رجعيّاً؛ لأنه خالَف قوْلَهَا، فكان مبتدئاً بالطلاق، فإن ذكر مالاً، فلا بُدَّ من القَبُول. ولو قالت: لك ألْفٌ إن طلقتني في هذا الشهر ولم تؤخر تطليقي عنه، أو قالَتْ خُذْ هذا الألْف على أن تطلقني في هذا الشهر متَى شئت، فهذا إثبات طلاق في الذِّمَّة، وتأجيلٌ بأجل مجهول، فهو أَوْلَى، بأن لا يصحَّ، ثم إن طلَّقها بعد مُضِيِّ الشهر، كان مبتدئاً بالطَّلاَق، وإن طلَّقها في الشهر، فقد أسعفها بسؤالها، فيقع الطلاق بائناً، وفي المالِ الواجب الطريقان، ولا يشترط وقوع التطليق في المَجْلس، وفيما إذا قالت: متى طلقتَنِي، فتلكَ ألْف، ذكَرْنا في الباب الأول: أن الشرط أن يقع التطليق في المَجْلِس، والفرق أن كلمة "متى" ظاهرةٌ في جواز التأخير؛ لعمومها في الأوقات، إلا أنَّ ذكْر العوض قرينةٌ عارضَتْ عموم الكلمة؛ فخصَّصناها بهذه القرينة، واشترطنا كوْن التطليق في المجْلس، جرياً على قاعدة المعاوضات، وهاهنا صَرَّحَت بالتخيير، وجوازِ التأخير، فضعفت القرينة عن مقاومة الصريح؛ فهذه هي الطريقة الظاهرة، وحكى الإِمام أنَّ من الأصحاب مَنْ نقل جوابَ كلِّ مسألة إلى أخْتها على قولَيْن، أو وجهين بالنَّقْل والتخريج، وسوَّى بينهما، وهذه التسوية في اشتراط التعجيل وعدمه لا خلاف في أن المسمَّى صحيحٌ في تلك الصورة. ولو قالت: طلِّقْني بألْف طلاقاً يمتد تحريمه إلى شهر، ثم أكون في نكاحِكَ حلالاً لك، فطلَّقَها، كذلك بطل الشرط ووقع الطَّلاق مؤبداً وفي المال الواجب الطريقان، وطريقة القطع هاهنا أظهر؛ لأن الشرط المذكور هاهنا فاسدٌ فحكم الشرط
لا يمكن الوفاء به، وشرط تأخير الطلاق إلى الغَدِ أو إلى شَهْر، وإن لم يكن لازماً، ولكن يمكن الوفاء به، وقد وَفَّى به حيث طلَّقها على الوجه المشروط هناك، وفساد الشرط يوجب الجَهْل بالعوض فيتعين الرجوعُ إلى مهر المثل كما بيناه. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَداً عَلَى أَلْفٍ فَقَالَتْ في الحَالِ: قَبِلْتُ وَقَعَ الطَّلاَقُ غَداً وَاسْتَحَقَّ مَهْرَ المِثْلِ عَلَى وَجهٍ لِفَسَادِ المُعَاوَضَةِ بِالتَّعْلِيقِ، وَالمُسَمَّى عَلَى وَجْهٍ لاحْتِمَالِ التَّعْلِيقِ فِيهِ، وفِيهِ وَجْهٌ أنَّهُ لاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ أَصْلاً. قال الرَّافِعِيُّ: وإذا علَّق طلاق امرأته بصفة، وذكر عوضاً، بأن قال: طلقتُك إذا جاء الشهْر، أو رأس الشهر، أو إذا دخلت الدَّارَ على ألْفٍ، فقبلَتْ أو سألت المرأة أولاً فقالت: علّق طلاقي برأس الشهر، أو بدخول الدار على ألف، فعلق، فظاهر المذهب وقوعُ الطلاق عنْد وجود المعلّق عليه على قياس التعليقات، وفيه وجْه أنَّه لا يقع؛ لأن المعاوضة لا تقبل التعليق، فيمتنع ثبوت المال، وإذا لم يثبِت المال، لم يقع الطلاق، فإنه مربوطٌ به، وإذا قلنا بالمذهب فالظَّاهر اشتراطُ القَبُول على الاتصال، وعن القَفَّال احتمالُ وجهٍ آخر، وهو أنها بالخيار بين أن تقبل في الحال، وبين أن تقبل عند وجود الصفة، ثم الواجبُ مهْر المثل أو المسمَّى فيه وجهان: ويقال قولان: أحدهما: ويُنْسَب إلى الربيع أن الواجب مهْر المثل؛ لأن المعاوضات لا يجوز تعليقها في فساد العِوَض، دمان لم يؤثر في الطلاق؛ لقوته وقبوله التعليق، وإذا فَسَد العوض، وجب مهر المثل. والثاني: يجب المسمَّى، ويجوز الاعتياض عن الطلاق المعلَّق، كما يجوز عن الطلاق المنجز، ورجح بعضُهم الأول، والأكثرون إلى ترجيح الثاني أميل ويجري الخلاف فيما إذا قالت إذا جاء رأس الشهر، وطلَّقتَنِي فلك ألف، فطلَّقَها عند رأس الشهر، إجابةً لها، وعن القَفَّال وجه فارق بين أن يبتدئ الزَّوْج فيعلق الطلاق على صفة بِعِوَضٍ، وبين أن تسال المرأة التعليقَ بِعِوَض، فيجيب، فإن ابتدأ الزوج ثبت المسمَّى، وإن ابتدأت بالسُّؤَال، فالرجوع إلى مَهْر المثل، وإذا قلنا بثبوت المسمَّى ففي "التتمة" وجهان في أنه متى يلزم تسليه؟. أحدهما: يلزم عند وجُود المعلَّق عليه؛ لأن المعوض متأخِّرٌ، فكذا العوض. والثاني: في الحال، وهو اختيار ابن الصَّبَّاغ؛ لأن الأعواض المطلقة يلزم تسليمها في الحال والمُعَوَّض تأخر بالتراضي، وعلى هذا فلو تعذَّر تسليم المعوَّض بأن حصلت فرقة قبل وجود المعلق عليه، لزم ردُّ العوض، كما إذا تعذَّر تسليم المسلَّم فيه، والوجهان متفقان، على أن المال ثابتٌ في الحال، وكذلك ذكَره في "التهذيب"، وهو
الوجْه لتمام شِقَّيْ العقد، وفي مجامع الإِمام وصاحب الكتاب -رحمهما الله- أن المال إنما يجب عند حُصُول البينونة، ولا شك أنه لا رجُوعَ لها بعد القَبُول، وأما إذا قالت طلقني غَداً ولك ألف أو إن طلَّقْتَنِي في هذا الشهر، فلك ألْفٌ وهما الصورتان المتقدمتان في الفَصْل السابق، فلها الرجُوع قَبْل التطليق؛ لأن الجواب به يحصل، وما يستحقه الزوج هناك، يستحقه عند التطليق. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الرَّابعُ فِي اخْتِلاعَ الأجْنَبِيِّ): وَهُوَ صَحْيحٌ كَاخْتِلاَعِهَا وَلاَ يُشْتَرَطُ رِضَاهَا لَكِنَّ المَالَ يَجِبُ عَلَى الأَجْنَبِيِّ، وَإِنْ كَانَ وَكِيلاً عَنْ جِهَتِهَا تَخَيَّر بَيْنَ أَنْ يَخْتَلِعَ مُسْتَقِلاَّ أَوْ بِالوكَالَةَ يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ لَفْظِهِ وَنِيَّتِه، فَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالسِّفَارَةِ وَنَوَى النِّيَابَةَ تَعَلَّقَتْ بِهِ العُهْدَةُ كَمَا فِي الشِّرَاءِ، وَإِن اخْتَلَعَ بِوَكَالَتِهَا ثُمَّ بَانَ أنَّهُ كَاذِبٌ تَبَيَّنَ أَن الطَّلاَقَ غَيْرُ وَاقِعٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الخُلْعُ مع الأجنبي من غير رضا الزوجة جائزٌ، والتزامه المَالَ من عنْد نفسه فداءٌ للمرأة، كالتزام المال لعتق السيد عَبْدَه، وقد يكون له فيه غرض، بأن كان الزوج ظالماً بالإِمساك، وتعذر إزالة يده بالحجة أو كان يُسِيءْ العشرة، ويمنع الحقوق، فأراد المختلع تَخليصَها، وذكَر الأئمة أن صحَّة الخُلْع مع الأجنبي مفرَّع على أن الخُلْع طلاقٌ، فإن الطلاق أمر يستقل به الزوج، فجاز أن يسأله الأجنبي على مَالٍ، كما إذا قال: أَلْقِ متاعك في البَحْر وعلي كذا، فاما إذا قُلْنا: إنه فَسْخ، فالفسخ من غير علة لا ينفرد به الرَّجُل، فلا يصلح طلبه منه، ولْيُعَلَّم لذلك قوله في الكتاب "وَهُوَ صحيح كَاخْتِلاَعِهَا" بالواو، ولا يجيْء هذا الخلاف فيما إذا سأله الطَّلاَق [فأجاب] (¬1)، لأن الفُرْقة الحاصلة عنْد استعمال لفظ الطلاقِ طلاقٌ لا محالةَ، وإنما الخلاف في لفظ الخُلْع. ثم خُلْع الزوج مع الأجنبي كخُلْعِه مع الزوجة في الألفاظ والأحكام، وهو من جانب الزوج معاوضةٌ فيها معْنَى التعليق، ومن جانب الأجنبي معاوضةٌ فيها شائبة الجَعَالة، فإذا قال للأجنبي طلقْتُ امرأتي وعليك كذا، وقع الطلاق رجعيّاً، ولم يلزم المال، ولو قال له الأجنبي طلِّقْها ولك ألف، أو على ألف، فطَلَّقَ، وقع بائناً، ولزمه المال ولو اختلعها عبْدٌ، كان المال في ذمته، كما لو اختلعت الأمة نفْسَها، ولو اختلعها سفيةٌ، وقع الطلاقُ رجعيّاً، كما لو اختلعت السفيهة نفسَها. ويجوز أن يكون الأجنبيُّ وكيلاً من جهة الزوجة في الاحنتلاع، وحينئذٍ فيتخير بيْن أن يختلع استقلالاً وبين أن يختلعَ وَكالةً عنْها، فإن صرَّح بالاستقلال، فذاك، إن صرَّح ¬
بالوكالة، فالزوج يطالِبُ الزوجة بالمال، وإن لم يصرِّح، ونَوَى الوكالة، كان الخُلْع لها، لكن تتعلق العهدة به فيطالبُ بالعوض، ثم هو يرجع على الزوجة، ويجُوز أن يوكِّل الأجنبيُّ الزوجةَ حتَّى تختلع عنه، وحينئدٍ فتتخير الزوجة بين أن تختلع استقلالاً أو بالوكالة وقول الزوجة للأجنبي: سلْ زوجتي تطلقني على كذا درهماً توكيلٌ، سواءٌ قالت عليَّ أو لم تَقُلْ، وقول الأجنبي لها سلي زوجَك يطلقك على كذا يُنْظَرُ فيه، إن لم يقل "عليَّ" لم يكن توكيلاً، حتى إذا اختلعت، كان المال عليها، وإن قال على ألفٍ علَيَّ، كان توكيلاً، حتَّى لو أضافت إلى الأجنبيِّ أو نوته، وجَبَ المالُ على الأجنبي، وقول الأجنبي للأجنبيِّ؛ سَلْ فلاناً يُطَلِّق زوجته على كذا، كقوله للزوجة سلي زوجَك، فيفرق بيْن أن يقُول عليَّ أَوْلاً يقول كذلك، ذكر هذه الصورة صاحب "التهذيب" ونحوه -رحمه الله- ولو اختلع الأجنبيُّ، وأضاف العقْدَ إليها مصرِّحاً بالوكالة، ثم بان أنه كاذِبٌ لم يقَع الطلاق، لأنَّه مربوطٌ بالمال، وهو لم يلتزم، في نفْسِه، وكذا في إضافة الالتزام إليها، فأشبه ما إذا كان الخِطَابُ معها، فلم تقبل، وقوله في الكتاب، "ويعرف ذلك من لفظة ونيته"، يعني أن وفرعه (¬1) عن الوكالة تارة يكون بلفظة، وتارة يكون بالنية، وإذا لم يتلفظ بالوكالة، ولا نوى ففي "البسيط" و"الوسيط" أن مُطْلَقَه يقع عن الوكالة، والقياس الظاهر أن من اشترى شيئاً، ولم يتلفظ بالوكالة ولا نواها، يقع الشراء له لا للمُوَكل، وقد يُفَرَّق بين البابين (¬2)، بأن الأصل وقوع العقد لمن يحصل له فائدته ومنفعته والشراء تحصل فائدته لكل من يَقَع الشراء له، ومباشر العَقْد أَوْلَى بحصول منفعة العقد له من غيره، وفي الاختلاع تعود للفائدة والمنفعة إلى الزوجة وغيرها يبذل المال على سبيل الفداء، فكان صَرْف العقد إلَيْها إذا أمكن أَوْلَى من صرفه إلى غيرها، وقوله: "فَإنْ لَمْ يُصَرِّحْ بالسِّفَارَةِ وَنَوَى النِّيَابَةَ" المراد من السِّفَارة في مثل هذا الموضع النيابةُ ولو لم يعبر اللفظ، واقتصر على الكتابة، فقال: "وإن لم يُصَرِّح بالسِّفَارَةِ وَنَوَاهَا" كان جائزاً أو أحْسَنَ، وأصل السفارة الإِصلاحُ، يقال: سَفَرْتُ بين القوم، أي أصلَحْتُ ثم، سُمِّيَ الرسول سفيراً؛ لأنه يسعى في الإِصلاح، ويبعث لذلك غالباً، وقوله "كَمَا فِي الشِّرَاءِ" يريد به أن الوكيل بالشراء إذا اشترى في الذِّمَّة، ونوى موكّله، ولم يصرِّح بالوكالة يطالبه البائع بالثمن مع الاعتراف بوكالته، وهذا هو الأظهر، وفيه وجْه أنَّه لا يطالب إلا الموكل، فيجوز أن يُعَلَّم قولُه كما في "الشراء" بالواو كذلك، وهذا الخلاف قد مر في موضعه ويمكن أن يجيْء مثله فيما نحن فيه. فَرْعٌ: قال القاضي أبو الطيِّب في "المجرد": لو قال: بعْ عَبْدَكَ من فلان بكذا وعلى ألف فباعه منْه لم يستحقَّ الألْف على قول أكْثَرِ أصحابنا، وقال الداركي: يحتمل ¬
[أن يستحق] كما في التماس العِتْق والطَّلاَق، والصحيح الأول، وكذا لو قال: بعْته عبدك بألف في مالي؛ لأنَّه لا يجوز أن يستحق الثَّمَن على غير من يملك المبيع. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ كَانَ المُخْتَلِعُ أَبَاهَا وَهِيَ طِفْلٌ فَهُوَ كَالأَجْنَبِيِّ، وَإِن اخْتَلَعَ بِنِيَابَتِهَا لَمْ يَصَحْ كَالوَكِيلِ الكَاذِبِ، وَإِنِ اخْتَلَعَ اسْتِقْلاَلاً وَلَكِنْ بِعَيْنِ مَالِهَا فَهُوَ كَخُلعِ الأَجْنَبِيِّ بِالمَغْصُوبِ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِنِيَابَةٍ وَلاَ اسْتِقْلاَلٍ وَلَكِنِ اخْتَلَعَ بِعَبْدٍ ذَكَرَ أنَّهُ مِنْ مَالِهَا وَقَعَ الطَّلاَقُ رَجْعِيَّا وَكَانَ كالسَّفِيهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَالأَجْنَبِيِّ يَخْتَلِعُ بِالمَغْصُوبِ، وَقِيلَ أَيْضاً فِي المَغْصُوبِ: يَقَعُ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا، وَإِنْ اخْتَلَعَهَا بِالبَرَاءَةِ عَنِ الصَّدَاقِ صَحَّ إِنْ جَوَّزنَا لِلوَلِيِّ العَفْوَ وَإِلاَّ فَالطَّلاَقُ يَقَعُ رَجْعِيًّا عَلَى وَجْهٍ، وَهُوَ كَالوَكِيلِ الكَاذِبِ عَلَى وَجْهٍ، وَلَوْ قَالَ: اخْتَلِعْهَا وَأَنَا ضَامِنٌ بَرَاءَتَكَ عَنِ الصَّدَاقِ فَالقِيَاسُ أَنَّ الطَّلاَقَ رَجْعِيٌّ، وَإِنْ قَالَ: اخْتَلَعْتُ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ إِنْ طُولِبْتَ بِالطَّلاَقِ فَالطَّلاَق بَائِنٌ وَعَلَيْهِ مَهْرُ المِثْلِ. قال الرَّافِعِيُّ: أبو الزوجة في اختلاعها كالأجنبيِّ، فإن اختلع بمال نفسه، فذاك، ولا فرق بين أن تكون صغيرة أو بالغة، وإن اختلع بمَالِها، وصرَّح بالنيابة، أو الولاية لم يقَعِ الطَّلاق وكان كمن اختلع بالوكالة، ثم بَانَ أنَّه كاذب؛ لأن الطَّلاَق مربوطٌ بلزوم المال عليها، وهي لم تَقْبَل، وليس هو بنائب، ولا ولي فيما فَعَل، وإن اختلع بمالها، وصرح بالاستقلال، فهو كالاختلاع بالمال المغصوب، وقد مَرَّ فيه قولان: أصحهما: أن الواجب مهر المثل. والثاني: أنَّه يرجع إلى بدل ذلك المال، ولو اختلع بعَبْد أو غيره، وذكر أنه من مالها، ولم يتعرض لنيابة ولا استقلال، فيقع الطلاق رجعيّاً، كما في المخالعة السفيهة ولا فرق بين أن تكون الزوجة صغيرةً أو كبيرةً بكْراً أو ثيباً، وكذا لو قال للأجنبي: خالِعْها على عبْدها هذا، أو على صَدَاقها، وذكر في وجهه التشبيه بالسفيهة أنَّه أهْلٌ للقبول، لكنه محْجُورٌ عليه في مالها كما أن السفيهة أهليَّةٌ للقبول، وهو محجور عليها في مالها لكن هذا القدر في التشبيه والتوجيه متحقِّقٌ في الاختلاع بالمغصوب مطلقاً، ولتشابه الصورتَيْن، حكى القاضي الحُسَيْن: أنَّه خَرَّج من الاختلاع بالمغصوب وجْهاً هاهنا أنَّه يقع الطلاق بائناً، وهذا الوجه، قد ذكرناه في الباب الثاني عنْد ذكر الاختلاع بالخمر والمغصوب ونسبناه إلى القاضي، وفرق في "التهذيب" بين الخُلْع بالمغصوب، وبين ما يجيْء فيه بأن المرأة تبذل المال في الخُلْع؛ لتصير منفعةُ البُضْع لَهَا، والزوج لم يترك المِلْك إليها مَجَّاناً، بل بعوض، فلزمها المال، والأجنبي يبذل المال؛ لتخليص الزوجة ولا تصير منفعةُ البُضْع له، فهو متبرِّع لا معتاضٌ، فإذا أضاف المال إليها، فقد أبطْلَ تبرعه، وبنى على هذا أنَّه لو قال للأجنبي: طلِّقْها على هذا العبْد المغصوب، أو
على عبد زَيْدٍ هذا، أو على هذا الخَمْر، فطلق، يقع رجعياً ولا يلزم المال، بخلاف ما إذا التمست المرأة لذلك، ولو اختلع الأب أو الأجنبي بعبدها ولم يذْكُر أنه من مالها وكان من مالها، فإن لم يعلم الزوج أنَّه من مالها، فهو كالخُلْع بالمغصوب، حتى يكون الرجوع إلى مهْر المثل على الظَّاهر، وإن كان عالماً فوجهان: أحدهما: أن المعلوم كالمذكور حتى يكون الطلاق رجعيّاً على الأظهر. وأصحهما وهو المذكور في "التَّهْذيب" أن الحُكْم كما لو لم يعلم؛ لأنَّه لم يبطل التبرّع بإضافة المال إلى الزوجة، وقد يظن الزوج أنَّه انتقل [بياض] المِلْك إلى المُخْتلع، هذا كلُّه فيما إذا اختلع الأب بغير الصداق، أما إذا اختلَعَها بالصَّدَاق، أو على أن الزَّوْج بريْء عن صداقها أو قال للزوج طلِّقْها، وأنت بريْء عن صداقها أو على أنَّك بريء عن صداقها، فقد نصَّ في المختصر أنَّه يقع الطلاق رجعيّاً، ولا يبرأ الزوج عن الصَّدَاقِ، ولا يلزم الأبَ شَيْءٌ، وحكى الإِمام وصاحبُ الكتاب وأبو الفَرَجِ الزاز تخريجَ المسألة على أنَّه هل يجوز للأب العَفْوُ عن صداق الصغير، إن جوزناه، صح الخلع، وبَرِئَ الزوج، وإلاَّ فوجهان: أصحهما: أن الجواب ما نص عليه؛ لأنه ليس له الإِبراء ولم يلزم في نَفْسه شيئاً، وإن كان الطلاقُ على العِوَض، ولم يثبت العِوَضُ المسمَّى، ولا ما يقُومَ مَقَامَه، وقَع رجعياً كما في اختلاع السفيهة. والثاني: عن رواية صاحب "التقريب" أنه لا يقع الطلاق أصْلاً؛ لأن الاختلاع على الصَّدَاق يشعر بأنه يتصرف بولايته عنْها، وليست له هذه الولايةُ فأشْبَهَ الوكيل الكاذب، ورأى صاحب الكتاب إجْرَاءَ هذا الوجه فيما إذا اختلع بعبدها، وذكر أنه لها، ونقل أصحاب العراقيون -رحمهم الله- تخريجَ المسألة على أن الوليَّ هل له العفْوُ عن الصَّداق؟ وعن ابن أبي هريرة -وزيفوه- وقالوا: أحد شروط القول الذاهب إلى أن للوليِّ أن يعفُوَ عن الصداق، وقوع العفو بعد الطلاق، وهذا الشرط غير حاصل في الخُلْع على الصداق، فلا يصحُّ من الولِّي، فحصل كما ترى خلاف في أن الوليَّ هل له أن يختلع بالصَّداق مع الحُكْم بأنَّ له أن يعفُوَ وقد ذكرنا هذا الخلاف في "باب الصَّدَاق" عنْد التفريع على أنَّه هل يعفو والأقوى أن لا يشترط لذلك القول تقدُّمُ العَفُو على الطَّلاق بل يكفي باشتراط عدم تأخير العفْو عن الطلاق؛ ولأن الغرض تخليصُها من ذلك الزوج وتأهيلها لرغبة الخاطبين فيها، وهذا الغَرَض يَحْصُل بالعَفْو المقارَنِ حصولُه بالعفو المتقدِّم، وليعلَّم؛ لما بينا قولُه في الكتاب: "صَحَّ إن جوَّزْنَا للوَلِيِّ العَفْوَ" واعْلَمْ أن القول بصحة الخلع تفريعاً على أن للولي أن يعفو عن الصَّدَاق إنما يستمر فيما إذا جَرَى ذلك قبل الدُّخول؛ لأن شَرْط ذلك القَوْل أن يكون العَفْو قَبْل الدخول، فمن
الباب الخامس في النزاع
المعلوم أن الخلع قبل الدخول منتظرٌ، وإذا كان كذلك فإذا صحَّحنا الخُلْع كان العوض أحد النصفين، والنصّفُ الآخر يسْقُطُ لا على سبيل العوضية، ولو أنه اختلعها بالبراءة عن الصَّداق، وضَمِنَ له الدرك، فالَّذي أطلقه أكثر الأئمة من العراقيين وغيرهم أنَّه لا يبرأ عن الصَّدَاق، ولكن يقع الطلاق بائناً لأنَّه التزم المال في نَفْسه فَضَاهَى الخلع بالمغصوب، وعلى هذا فالواجب عليْه مهْرُ المِثْل أو بدل الصَّدَاق فيه القولان المعروفان، وهكذا الحُكْم فيما إذا قال الأبُ أو الأجنبيُّ: طلِّقْها على عبْدها هذا وعَلَيَّ ضمانه ففي قول: يلْزَمُه مهْر المثل، وفي قول: قيمة العَبْد، والذي قدَّمْناه أنه لا يلزمه شيءْ هو فيما إذا لم يتلفظ بالضمان والالتزام، وحكى الإِمام وَجهاً آخَرَ أن هذا الضمان لا أثر له، ويقع الطلاقُ رجعيّاً، كما لو قال: طلِّقْها وأنت بريْءٌ عن الصداق، ووجهاً فارقاً بيْن أن يقول: طلِّقْها وأنا ضامنٌ براءَتَك عن الصداق، وبيْن أن يصرح بالمقصُود، فيقول: وأنا ضامنٌ للصداق، إن طُولِبْتَ به أديت عنْكَ، والفَرق [أن ضمان] عين المرأة لا معنى له، فيلغو، ويقع الطلاق رجعيّاً؛ وفي الصورة الأخيرة هو ضامن للمال إلاَّ أنَّه التزام فاسدٌ، فوقع (¬1) والطلاق بائناً، وهذا ما اخْتَاره الإِمام، وعلَيْه جَرَى صاحب الكتاب، فقال؛ ولو قال: "اخْتَلِعْها، وأنا ضامِنٌ براءتك عن الصداق" إلى آخر الباب، ويجوز أن يُعَلَّمَ قَوْلُه: "أَنَّ الطَّلاَقَ رَجْعِيٌّ" بالواو [قوله: أن الطَّلاَق رَجْعِيّ] وكذا قوله: "وعَلَيْهِ مَهْرُ المِثْلِ" إشارة إلى القول الآخر أن الرجوع إلى المثْلِ، والقيمة، ولَفْظُ الضمان في هذه المسائل كلفظ الضمان في قول القائل: ألْقِ متاعَكَ في البَحْر، وعليَّ ضمانَه، والمراد منه الالتزام دون الضمان المشْهُور في الفقْه، ولو التمس الطَّلاَق على أنَّه بريء، وضمن الدرك، فقال الزوج في الجواب إن برئْتُ من صداقها، فهي طَالِقٌ لم تُطَلَّق؛ لأن الصفة، المعلَّق عليهما لم تتحقق والله أعلم. البَابُ الخَامِسُ فِي النِّزَاعِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَهُ صُوَرٌ: (إِحْدَاهَا): أَنْ يَقَعَ فِي أَصْلِ ذِكْرِ العِوَضِ فَالقَوْلُ قَوْلُهَا إِذْ أَنْكَرَتِ العِوَضَ وَالبَيْنُونَةُ تَحْصُلُ مُؤَاخَذَةً لَهُ بِقَوْلِهِ (الثَّانِيَةُ): النِّزَاعُ في جِنْسِ العِوَضِ وَقَدْرِهِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ وَالرُّجُوعَ إِلَى مَهْرِ المِثْلَ كَمَا فِي الصَّدَاقِ. قال الرَّافِعِي: إذا اختلف الزوجان في أصْل الخُلْع، فقالت الزوجة: خالَعْتَنِي على كَذَا، وأنكر الزوج، فهو المُصَدَّق بيمينه؛ لأن الأصل بقاء النِّكَاح، ولو كانَتْ له زوجتان تُسَمَّيَان باسمٍ واحدٍ، فقال: خالَعْتُ فلانةً بكذا، فَقَبِلَتْ إحداهما، ثم اختلفا فقال ¬
الزَّوْج: أردت الأخرى، فقالت القابلة: بل أردتَّنِي، فهو المُصَدَّقُ، ولا فرقة ولو اختلفا في العوض، فقال الزوج: طلقْتُكِ على كَذَا، وقالت بل طلَّقْتَنِي بلا عوض فهي المصدقة بيمينها في نفي العِوَض، ولا يَقبل قوله في سقوط سُكْنَاها، ونفقتها، وتحصل البينونة بقوله (¬1). ولو قال: طلقْتْكِ بالعِوَضِ الَّذي سألْتِ، فأنْكَرَت أصلَ السؤال، فكذلك الجواب وإن قالت: طَلَّقْتَنِي بعد طُول الفَصْل، وقال: بل في الحال، فهي المصدَّقَةُ في نفي المال أيضاً؛ لأن الأصل براءة ذمتها، والأصل عدَمُ الطَّلاَق في الوقت الذي تدعيه، ولو تنازَعَا على العَكْس، فقال: طلقتُكِ بعْد طول الفَصْل، ولم تقبل فلي الرجعة، وقالت: بَلْ على الاتصال، ولا رجعة فالمصَدَّقُ الزوج، ولو اتفقا على الخُلْع، واختلفا في جنْس العِوَض؛ بأن قالت: خالَعْتَنِي على الدنانير، وقال: على الدراهم، أو في قدره أو في بعض صفاته صحةَ وتكسيراً أو طولاً وتاجيلاً ولا بَيِّنَةً لواحدٍ منهما، فيتحالفان. وعن أبي حنيفة -رحمه الله- وأحمد أن القَوْل قولُ المرأة لنا: أنهما اختلفا في كيفيَّة عوض العَقْد، ولا بينة، فيتحالفان كما في البَيْع، وإذا تحالفا، لم تندفع البينونة، ولكنَّ التحالف يؤثر في العِوَض، والقول في أنه تنفسخ التَّسْمية أو تفسخ إن أصَرَّا على النزاع، وفي كيفية اليَمِينِ، وفي بدايته على ما تقدَّم في البيع، والرجوع بعد الفسخ أو الانفساخ إلى مهر المثل، كما إذا اختلفا في الصَّدَاق وتحالفا، وقد مرَّ في الصَّدَاق وجْه أنهما إذا تحالفا، وكان ما تدعيه المرأة أقَلَّ من مهْر المثل، لم يكُنْ لها أكْثَرُ ممَّا تدعيه، قال ابن الصَّبَّاغ: وعلى ذلك الوجْه؛ لو كان ما يدعيه الزوج هاهنا أقلَّ من مهر المثل، لم يكن له أكثر مِمَّا يدعيه، وحكى الحناطي وجْهاً أنه يرجِعُ عليها بكثر الأمرين من مهْر ¬
المثل، والمسمَّى في العَقْد، وإذا أقام كل واحدٍ منهما بيِّنَة على ما يقُوله فتتهاتران أو يقرع بيْنَهُما. قال الحناطي: فيه قَوْلاَنِ وعلى التقديرين، فهل يحلف فيه وجهان: وحكي وجهاً عن ابن سُرَيْجٍ أنه يصار إلى أزْيَد البينتين (¬1) وإذا جَرَى الخُلْع مع أجنبي، واختلفا في جِنْس العِوَض وقدره، فيتحالفان أيضاً، ويجب على الأجنبي مهْر المثل. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثَة): إِذَا تَوَافَقَا عَلَى جَرَيَانِ الخُلْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مُطْلَقٍ وَفِي البَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَة لاَ غَالِبَ فِيهَا وَلَكِنْ نَوَيَا نَوْعاً وَاحِداً فَهَذَا لاَ يَحْتَملُ البَيْع لِجَهَالَته مِنْ حَيْثُ اللَّفْظ وَيُحْتَمَلُ فِي الخُلْعِ وَلاَ يُحْتَمَلُ فِي الخُلْعِ أَنْ يُذْكَرَ مُجَرَّدُ الأَلْفِ وَلاَ يَتَعَرَّضُ لِلنَّوْعِ، وَأَشَدُّ أحْتِمَالاً مِنْهُ أَنْ يَقُولَ: أَلْفٌ وَشَيْءٌ فَيَفْسُدُ الخُلْعُ للإِجْمَالِ ولاَ يُؤَثِّرُ النِّيَّةُ مَعَ التَّوَافُقِ، وَلَوْ تَنَازَعَا فَقَالَ: أَرَدْنَا بالدَّرَاهِمِ النُّقْرَةَ فَقَالَتْ: بَلْ أَرَدْنَا الفُلُوسَ فَيَتَحَالَفَانِ لأَنَّهُ نِزَاعٌ فِي الجِنْسِ، فَإِنْ تَوَافَقَا عَلَى إِرَادَةِ الدَّرَاهِمِ وَلَكِنْ قَالَتْ: أَرَدتُّ الفُلُوسَ فالقَوْلُ قَوْلُهَا، فَإِنْ حَلَفَتْ بَانَتْ وَلاَ عِوَضَ عَلَيْهَا، وَإنْ تَوَافَقَا عَلَى إِرَادَتِهَا الفُلُوسُ وَلَكِنْ قَالَ: أَرَدتُّ الدَّرَاهِمَ وَلاَ فُرْقَةَ فَالبَيْنُونَةُ حَاصِلَةٌ بِكُلِّ حَالٍ لِظَاهِرِ التَّوَافُقِ عَلَى الدَّرَاهِمِ لَفْظاً، وَجَرَيَانُ الخُلْعِ وَالنِّيَّاتُ لاَ يُطَّلعُ عَلَيْهَا، وَلاَ شَيْءَ لِلَزَّوْجِ لإِنْكَارِهِ الفُرْقَةَ، وَقِيلَ: لَهُ مَهْرُ المِثْلِ. قال الرَّافِعِيُّ: إذا خالعها على ألْف درهمٍ (¬2) وفي البلد نقدٌ غالبٌ نُزِّلَ الخُلْع عليه، وقد تعرَّضْنا له من قبْلُ، وان كانت هناك نقودٌ مختلفةٌ، ولا غالب فقَدْ سبق في "كتاب البَيْع" أنه لا يصحُّ البيع هناك بالدراهِم المطلقة، حتَّى يبينا نوعاً منها، ولا يكفي أن ينويا نوعاً واحداً، لما في اللفظ من الجَهَالَة والإِبهام، وليس في اللفظ ما يدُلُّ على ذلك النَّوْع، ولك أن تقول: وجَب أن نجْعَلَ ذلك على الخلاف في انعقاد البيع بالكنايات؛ لأن التعبير عن المقيَّد بالمُطْلَق، وأراد به طريقةً سائغةً في اللسان. ولو جرى الخُلْع بدراهمَ مطلقةٍ؛ حيْث لا غالب بطَلَت التسمية، ووجب مهر المثل، فإن نويا نوعاً واحداً، فالظاهر الاكتفاءُ بالنية في لزوم ذلك النوع، وقد يُحْتَمَلُ في الخلع ما لا يُحْتَمَلُ في البيع ولذلك يحصل المِلْك فيه بالإِعطاء من غير لفْظٍ، بخلاف البيع، وأشير إلى وَجْه آخَرَ أنَّه تفْسُدُ التسمية كما يفسد البيع، وهذا ما أورده أبو مخلد البَصْري. ¬
ولو قال: خالعْتُكِ على ألفٍ، ولم يذكر جنساً من الدراهم والدنانير وغيرهما، فالذي نقله في الكتاب أنَّه لا يحتمل هذا الإِبهام في الخُلْع أيضاً وإن اتفقا على جنْسٍ واحدٍ ونوعٍ واحدٍ؛ لأن المذكور هاهنا مجرَّد العَدَد والمعدود غير المذكور، وعند ذكر الدراهم لا يبقى الإِبهام إلاَّ في الصفات، وإذا اشتد الإِبهام وجَب إلاَّ يُحْتَمَلَ كما في سائر المجاهيل، وَهذا حَكَاه في "الوسيط" عن العراقيين، وقال: كلامُ (¬1) القاضي يدل على التسوية بين إبْهَام الألْف، والأجناس، وإبهام الدراهم في الأنواع، وأنَّه يُحْتَمَل هذا الإِبهام في الخُلْع، كما يحتمل ذلك الإِبهام، وأنتَ إذا تأمَّلْتَ كتب شيخي العراقيين أبِي حامِدٍ، وأبي الطيِّب وغيرها وجدتَّهَا متَّفِقَة على ما استخرجه من كلام القاضي -رحمه الله- وهو احتمال الإِبهام الألْف، وعلَّلوا بأنه المقصود أن يكون العِوَضُ معلوماً عنْد المتعاقدين، فإذا توافَقَ على شيء بالنية كان (¬2) كما لو وافقا عليه بالنُّطْق. وأُعْلِمَ قوله: لما ذكرنا "وَلاَ يُحْتَمَلُ فِي الخُلْعِ أَنْ يُذْكَرَ مُجَرَّدُ الأَلْفِ" بالواو ويغرس منه أن الأظهر احتماله، والتعليل المذكور يقتضي احتمال ذلك في البَيْع أيضاً، ويؤكد ما قدَّمْنا من احتمال إبهام الدراهم بناءً على انعقاد البَيْع بالكناية ثم حكي عن القاضي الحُسَيْن أنه لو قال: خالعتُك على ألْف شيءٍ فقبِلَتْ فالتسمية فاسدةٌ، ولا يُؤَثِّرُ تَوَافُقُ النيتين على شيءٍ؛ لأن الاحمتال في أشدُّ، فلا يحتمل، ويرجع إلى مهر المثل، وقد يوجَّه شدة الاحتمال، بأن الألْف مقتصراً عليه يفهم منه القدر المتعامَلُ به غالباً لنا، وتعقيبه بالشَّيْء يُهَوّش هذا الفَهْم؛ ألا تَرى أنَّه إذا قيل: باع فلان داره بألْف، فُهِمَ منْه النَّقْد، فإن قيل: باعَهَا بألْفِ شيْءٍ، اضطرب الفَهْم، ويمكن أن ينازع غيْر القاضي فيما ذكره، ويذهب إلى احتمال هذا الاحتمال؛ اعتماداً على ما علمه المتعاقدان وتوافقا عليه بالنية، ثم عن الشيخ أبي محمَّد أن التعيين بالنية إنما يؤثر إذا تَوَاطَأَ قبْل العقْد على ما يقصدانه باللفظ المبهم، وأنه لا أثر؛ لاتفاق التوافُقِ من غير تواطُءٍ، وأعرض مُعْرِضُون عن اعتبار ذلك وراعَوْا مجرَّد التوافق (¬3)، وهذه المسائل كالتمهيد لصور الاختلاف في الخُلْع الجاري على إبهام في اللفظ، والمَقْصِد في الباب هو صورة الاخْتِلاَف في صُوَر منْها إذا قال الزَّوْج: أردنا بالدراهم النُّقْوة، وقالَتْ هي بل أرَدْنَا الفُلُوس، فوجهان أصحُّهما: وهو المذكور في الكِتَاب أنهما يتحالفان؛ لأنه نزاع في جنْس العوض فأشْبَه ما لو اختلف فيما سمياه. والثاني: أنَّه يثبت بمهْر المِثْل من غير تحَالُف؛ لأن هذا نزاع في النَّيَّة والإِرادة، ¬
ولا مُطَّلِع عليها وإذا امتنع التحالُف ووقع الاختلاف، صار العوض مجهولاً، فيجب الرجوعُ إلى مَهْر المِثْل، ومَنْ قال بالأول، قال: قد يحصل الإِطِّلاَعَ عَلَى قصْد الغير وإرادته بالأمارات والقرائن، ولك أن تقول: قَدْ سبَق أن الدراهِمَ اسْم للقدر المعلوم من النقرة، وأن التفسير بالدراهم المغشوشة لا يُقْبَل سِيَمَا إذا كان الغالبُ في البلد الدَّراهِمَ الخالصَةَ، وإذا كان كذلك، فكَيْف يُقْبَل منها نعم، إذا احتملنا أن يقول: خالَعْتُك على ألْف، فتقبل، ويقتصران عليه فيظهر التفسير بالفلوس وكيف تحلف عليه، تصوير هذا الاختلاف وكذلك صورة من علق عن الإِمام -رحمه الله- وتلقى عنه وفي معناه ما إذا قال الزوج: أرَدْنَا الدنانير، وقالَتْ: بل أردْنا الدَّرَاهِمَ. ومنها: لو توافقا على أن الزَّوْج أراد النُّقْرة وقالَتِ المرأة: أردتُّ الفلوس، وقال الزوج: بل أردتِ النقرة أيْضاً، فالبَيْنُونَة حاصلةٌ؛ لانتظام صيغة الخْلْع إيجاباً وقبولاً، وهي قضيَّة ما يقوله الزوج، وتصدق هي في نيتها وإرادتها، فإذا حلفت فلا شَيْءَ عليها. أمَّا الفُلُوس (¬1) فالزَّوْج لا يدَّعِيهَا، وأما النُّقْرَةُ؛ فلأنها نفَتْ إلزامها باليمين، ومنْها ¬
لو توافقا على أن الزوجَةَ أرادَتِ الفلوس، وقال الزوج: أردتُّ النُّقْرَةَ، فلا فُرْقَة بيْنِي وبيْنَك، لاختلاف الخِطَاب وقالَتْ: بل أردتُّ الدراهِمَ، وبنت منك فتحصل البَيْنُونَة في الظاهر؛ لتوافق اللفظين، والنيَّاتُ لا يُطَّلَع عليها، وهل يثبت للزوج شَيْءٌ؟ فيه وجْهَان عن القاضي الحُسَيْن، أنه يثبُتُ له مهْر المِثْل؛ لحصول البَيْنُوَنةِ الظاهر، والَّذي ارتضاه صاحبُ الكتَاب أنَّه لا شيْء له؛ لأنَّه منكر للفُرْقَة، فكيف يثبت له عِوَضاً عن الفُرْقةٌ (¬1) وفي مَعْنَى هذه الصورة ما إذا اتفقا على أن الزوج أراد الدراهم وقال لها: أردتُّ الفلوس، فلا فُرْقة وقالت: بل أردتَّ الدراهِمَ أيضاً، فالفُرْقة حاصلاً لاتفاقِهِما على صورة الخُلْع، ويعود الوجهان في ثُبُوت شيْءٍ للزوج، وأجاب صاحب "التهذيب" منهما بوجوب مهْر المثل، وقال: لا تحْصُل الفُرْقة في الباطن، إن كان صادقاً، ولو قال الزَّوْج: أردتُّ النُّقْرَة، ولم يتعرَّض لجانبها، وقالَتِ الزوجة: أردتُّ الفلوس، ولم تتعرَّضْ لجانبه فالفُرْقَة حاصلةٌ ثم عن القاضي حُسَيْن أنَّهما يتحالفان وفي "البسيط" أن الوجْه وجُوب مهْر المثل؛ لأنَّه لا يدعي علَيْها شيْئاً معيناً حتَّى تحلف (¬2). ولو قال أحدُ المتخالِعَيْنِ: أطلقنا الدراهم، وقال الآخر: عَيَّنَّا نوعاً من الدراهم، فيتحالفان؛ لأن قضيَّة الإِطلاق وجُوبُ النَّوعْ الغالِبِ، فقد اختلفا في نَوْع العِوَض، وذلك يقتضي التحالُفَ. وقوله في الكتاب "لا يحْتَمَل في الخُلْع أن يذكر مجرد الألْف، ولا يَتَعَرَّض للنَّوْع " كان الألْيَق أن يقول للجِنْس وقوله: "فيتحالفان" معلَّم بالواو وقوله: "فإن تَوَافَقَا على إرادة الدَّرَاهِمَ " يعني إرادة النُّقْرة التي هي حقيقة الدراهم. وقوله "فالقول قولها" أي في نفي العِوَض، وقوله: "ولا فرقة" في تتمة قول الزوج. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرَّابِعَةُ): إِذَا تَنَازَعَا فِي المُعَوَّضِ فَقَالَتْ: سَأَلْتُكَ ثَلاَثَ تَطْلِيقَاتٍ بِأَلْفٍ فَأَجَبْتَنِي فَقَالَ: بَلْ سَأَلْتِ وَاحِدَةً فَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى الأَلْفِ وَتَنَازَعَا فِي مِقْدَارِ المُعَوَّضِ فَيَتَحَالَفَانِ وَلَهُ مَهْرُ المِثْلِ فَأمَّا عِدَدُ الطَّلاَقِ فَلاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ إلاَّ قَوْلُهُ. قال الرَّافِعِيُّ: الكلاَمُ منْ أَوَّل البَاب إِلَى هذا المَوْضِع كان في الاختلافات الواقعة في العِوَض، وهذه الصورة مقصودٌ بها بيانُ الاختلاف في المعوَّض، وهو الطَّلاق، فلو قالَتْ: سألتك ثلاث تطليقاتٍ بألْف، فأجَبْتَنِي وقال: بل سألْتِ واحدةً بألْف، فأجبتُكِ ¬
فالألف، متفق عليه، ولكن يتحالفان؛ لأن قَدْر المعوضَ مختَلَفٌ فيه، فأشْبَه الاختلاف في قَدْر المَبِيع، وأيضاً فإنَّه يدَّعي استحقاق الألْف بطلقة، وموجب قولها لا يستحق بالطلقة الواحدة إلاَّ ثلث الألْف، وإذا تحالفا فعليها مهْر المثل وأما عدد الطلاق، فالمعتبر فيه قولُه فيصدَّق بيمينه، ولا يقع إلاَّ واحدةً. قال الحناطي -رحمه الله-: ولو أقام كلّ واحدٍ منهما بينة على ما قاله وأرخت البنتان، فإن اتَّفقَ الوقْتُ تَحَالَفَا، وإن اختلف فالَّتي هي أسبَقُ تاريخاً أَوْلَى. ولو قال: طلقْتُكِ وحْدَك بألْف، وقالتْ بل طلقْتَنِي وضَرَّتِي، تحَالَفَا أيْضاً وعليها مهْر المثل، ولو قالت: سألتُكَ أن تطلقَنِي واحدةً بألْف فأجبتني، وقال: بل طلقتك ثلاثاً بألف، تثبت الألْف، ولا معنى لهذا الاختلاف؛ لما تقدَّم أنها إذا قالت: طلقتَنِي واحدةً بألْف فقال: [طلقتُك] ثلاثاً بألْف، تقع الثلاث وتجب الألف، ولو قالت: سألتُكَ أن تطلقَنِي ثلاثاً بألف، فطلقْتَنِي واحدةً فلك الثلث، وقال الزوج: بل طلقْتُكِ ثلاثاً ولي جميع الألْف فإن لم يَطُل الفَصْل، طُلِّقتَ ثلاثاً، ولزمها الأَلْف وإن طال الفصل، ولم يمكن جعْلُه جواباً، فهي طالقٌ ثلاثاً بإقراره، ويتحالفان لِلْعِوَض، وعليها مهْر المِثْل، هكذا نَصَّ عليه في رواية الربيع، وقد ضمنه الفارسي -رحمه الله- في "عيون المسائل" وأخذ بالنص آخذون وجَرَوْا عليه، وأطلق صاحب "التهذيب" أنهما يتحالفان وأن الرجوع إلى مهْر المثل، ولم يفصل بين طول الفَصْل وعدمه. وقال آخرون: النصُّ مُشْكل في حالتي [الاتصال والانفصال]، أما في حالة الاتصال، فلأنه، إن كان الأمْر كما يقوله: لم يمكن أن يُجْعَل قوله: بل طلقتك ثلاثاً ابتداءً وجوابٍ منه؛ لأنه قد سَبَق الجواب، وحصل الإِسعاف، وإن كان الأمر كما تقوله هي، فقد بانَتْ بالواحدة بثلث الألف، فلا يقع بعد ذَلك شَيْء، أما في حالة الانفصال فالحكم بالتحالف مستبعدٌ؛ لأن التحالف إنما يجري عند الاختلاف في كيفية العقد، أو في حالة العوضين، وهاهنا متفقان على أن السؤال ثلاثُ طلقاتٍ، وعلى أن المسؤول ألْفٌ، وإنما الخلاف فيما وقَع ووُجِدَ من الرَّجُل، فلا وجه للتحالف وطوَّلوا في حل الإِشكال، وفي الإِشْكَال على الحل، قال الإِمام -قدس الله روحَهُ-: ينبغي أن يُقَال حالة الاتصال إن قال الزوج: ما طلقْتُكِ من قَبْل، والآن أطلقُكِ ثلاثاً على ألف، يقع الثلاث ويجب الألْف؛ لأن الوقت وقتُ الجَوَاب، وإنْ قال: طلقْتُك من قبْلُ ثلاثاً تعذَّر جعْل [هذا] إنشاءً لأنها بانت قبله، فيحكم بوقوع الطلاق الثلاث بإقراره، ولا يلزمها إلا ثلث (¬1) الألْف، كما لو قال: إن ردَدت عبيدي الثَّلاثَ، فلَكَ كذا فقال: رددتُّهُمْ، وقال ¬
الجاعل: ما رددتُّ إلاَّ واحداً، وأما في حالة الانفصال، فيُحْكَم بوقوع الثلاثِ بإقراره أيضاً وعلَيْها ثلث الألف، ولا معنى للتحالف، وللزوج [أيضاً] (¬1) أن يُحَلِّفَهَا على نفْي العِلْم بأنه ما طلَّقَها ثلاثاً، وهو الصحيحُ، وليأول النصُّ عليه بحسب الإِمكان. فَرْعٌ: في "المجرد" للحناطي أنها لو قالت طلقتني ثلاثاً على ألْف، فقال: بل طلقْتُكِ واحدةً بألفين، وأقام كلُّ واحدٍ منْهما بيِّنَة على ما يقولُه، وهما متصادقان على أنَّه لم يُطَلِّقْها إلاَّ مرَّة واحدةً فيتحالفان، ويرجع إلى مهر المثْل. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الخَامِسَةُ): إِذَا ادَّعَى عَلَيْهَا الاخْتِلاَعَ فأَنْكَرَتْ وَقَالَتْ: اخْتَلَعَنِي أَجْنَبِيُّ فَالقَوْلُ قَوْلُهَا فِي نَفْيِ العِوَضِ وَبَانَتْ لِقَوْلِهِ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ عَلَى الأَجْنَبِيِّ لاعْتِرَافِهِ، وَلَوْ قَالَتِ: اخْتَلَعْتُ وَلَكِنْ بِوِكَالَةِ أَجْنَبِيّ، فَيَتَحَالَفَانِ لأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَصْلِ العَقْدِ وَاخْتَلَفَا في صِفَةِ الإِضَافَةِ، وَقِيلَ: القَوْلُ قَوْلُهَا لإِنْكَارِهَا أَصْلَ الالْتِزَامِ. قال الرَّافِعِيُّ: هذه الصورة لبيان اختلافهما فيمن علَيْه العِوَض، فإذا قال: اختلعْتُ بألْف، وطالَبَها بالمال، فقالت قد ضَمِنَهُ لك غيري، فهذا الكلام لا يَنْفَعُها؛ لأنَّ ضمان الغير لا يقطع المطالَبَةَ عنْها، وكذا لوْ قالت: قَبِلْتُ الخُلْع عَلَى أَنْ يَزِنَ الألْف عنِّي فلان، وهي في الصورتَيْن مقرة بالألْف، ولو قالت قبلْتُ الخلْع بألْف لي في ذمة فلان، فيُبْنَى على أن العَقْد على دين في ذمة الغير، هل يَجُوز؟ إن قلنا: لا يجُوز، فالذي نقله الشيخ أبو حامد وغيره أنَّه يجبُ مهْر المثل، ولا تحالِف؛ لأنَّها تقول: خالَعْتَنِي على عِوَض فاسدٍ، وفي "التتمة" أنا إذا قُلْنَا إنه لا يجوز، فهي تدَّعي فساد التسمية، وهو يدَّعي صحَّتَها فيَجِيْء فيه الخلاف المذكور، في نظائره، وإن قلنا: بالجَوَاز فيتحالفان، وهذا أصحُّ عنْد الشيخ أبي حامدُ وابن الصَّبَّاغ وغيرهما، وهو الذي أورده صاحب "المهذب" -رحمه الله- وعلَّلوا بان هذا اختلافٌ في محَلِّ العَقْد، فيقتضي التحالُف كالخلاف في عيْن العقْد الذي هو عوض الخُلْع. ولو قال: اختلعْتِ نَفْسكِ بكذا، وأنكرَتْ، فقالت: اختلَعَنِي أجنبيٌّ لنفسه والمالُ عليه، فالقول قولُها في نفي العوض، ولا شيْء للزوج على الأجنبي لاعترافه بأن الخُلْع لم يجْرِ معه، وتحصل البينونة بقَوْل الزوج، ولم يقُل بأنَّه أقر بعَقْد أنكرته المرأة، وصدَّقْناها بيمينها، فيَلْغُو ويستمر النكاح، كما لو قال: بِعْتُكَ هذه العين بكذا، فأنكر صاحبه، وصدَّقناه بيمينه، تبقى العين للمُقِرِّ؛ وذلك لأن الخُلْع يتضمَّن إتلاف المعقُود علَيْه، وهو البُضْع، والبُضْع لا يتضمن إتلاف المعقود عليه؛ ألا ترى أن البيع يُفْسَخُ ¬
بَتَعَذُّر العوض والبَيْنُونَة لا ترتد، فإن (¬1) كان كذلك، فإقراره بالخُلْع المتضمن للإتلاف إقرارٌ بالإِتلاف، فنظيره من البيع أن يقول: بعْتُك عبْدي هذا بكذا، فأعتقه وأنْكَر فإنَّا نُصَدِّقُه بيَمِينِه، ونحكم بعتق العَبْد بإقْرَاره، ولَو سلَّمت أنها اختلَعَتْ، وقالَتْ: اختلعتُ بوكالة فلانٍ، وصرحَتْ بالإِضافة إلَيْه، فوجهان: أصحهما: أنهما يتحالفان؛ لأنهما اتفقا على جريان العَقْد بينهما، واختلفا في أنَّها هل أضافت العَقْد إلى الغَيْر، فأشبه الاختلاف في سائر كيفيات العَقْد؟. والثاني: لا يتحالفان وهُو الذي أورده المُتَوَلِّي، وحكى على هذا وجهين: أحدهما: أن القَوْل قولُها مع يمينها؛ لأنها تنكر أصل الالتزام، فهو كإنكار أصل العقد فيما يتعلَّق بها. الثاني: أن القول قولُ الزوج مع يمينه؛ لأنَّها اعترفت بالعَقْد، وفائدتُه تعود إليها، وذلك ظاهر في التزام المال، وهِي تدَّعي ما يمْنَع المطالبة، وهي الإِضافة إلَيْه، والأصل عدَمُه، ولو سلّمت ولم تصرِّح بالإضافة إلى الأجنبيِّ، ولكن قالت: نَوَيْتُهُ، فإن قلنا موجبه المطالَبَةُ على الوكيل، لم ينَقطع طلَبُه الزوج بقولها وكذا لو أنكر أصل الوكالة، وإن قُلْنا: إن الوَكِيلَ لا يُطَالب فيتحالفان، أو تُصَدَّق الزوجة أو الزوج؟ تعود فيه الوجوه الثلاثة إذا عَرَفْتَ لك فاعلم أن المُزَنِيَّ نَقل في "المُختصر" عن الشَّافعي -رحمه الله- أنَّه إن قالَتْ: خالَعْتَنِي على ألْف، ضمنها لَكَ غيري، أو على ألْفِ فَلْس، وأنكر، تحالَفَا،. وكان له عليها مَهْر مثلها، فظاهره يقتضي التحالُفَ فيما إذا أقرَّتْ بالاختلاع، وقالت: ضَمِنَ المالَ فلانٌ، وهي الصورة التي افتتحنا الفَصْل بها، ولا وجْه فيها؛ للتحالُفِ، بل هي مطالَبَةٌ وإنْ كان هُنَاك ضامنٌ، فاخْتَلَفَ الأصحاب، حكى الحناطي عن بَعْضِهِم أن المسألة غَلَط من الكاتب، ومنهم من قال: الجوابُ راجِعٌ إلى صورة الاختلاف في الفَلْس على ما قدمنا، فرُبَّما جمع الشافعيُّ بيْن مسألتين، فأجاب في إحداهما وترك جواب الأخرى، والأكثرون ردُّوا الجوابَ إليهما، واختلفوا في محل النص؛ فالذين قالُوا: يُجْرِيَان التحالُفَ فيما إذا قالَتْ: قبلْتُ الخُلْعِ بألْف في ذمَّة فلان، حَمَلُوا النص [على هذه الصورة] وحمله بعضهم على ما إذا كانت قد وكلت بالاختلاع بِقَدْرٍ دون الألْف، فخالف الوكيل بالألّف، ثم اختلف الزوْج والزوْجة في الزيادة، فقال الزوج: هي علَيْه، وقالَتْ هي: بل على الوكيل، وحكى القاضي ابن كج عن أبي إسحاق حمل النص على ما إذا قَالَتْ: اختلع فلان بإذني ووكالتي، فلا مطالَبَةَ لَكَ عليَّ، إنما تُقْتَصُّ منه، ثم هو يرجع عليَّ، وهذا ينطبق على الوَجْه المذْكُور في عُهْدة الوكيل أن المطالب ¬
الوكيلُ دون الموكّل، وعن أبي الحُسَيْن حمْلُه على ما إذا قالَتْ: خالَعْتُكَ بشرط أن أحيلك على فُلاَن، وقال: بل خالَعْتِ مطلقاً وهذا شرْط يُفْسِدْ الخُلْع، فيرجع إلى أن المرأة: تدعي فساد التسمية، وهي تدعي صحتها، فهذه سبعة طرق، مما قاله الأصحاب في هذا النَّصِّ، ومن صور اختلاف الزوجين: طلَّقَ زوجته بألف، وأرضعت ابْنَتُهَا زوجةً أخرى له صغيرةً، واختلف المتخالعان، فقال الزوج سبق الخلع الرضاعَ، وعليك المال، وقالَتْ هي: سبَقَ الرَّضَاعُ الخُلْعَ، وانفسخ نكاحي؛ لاجتماع حافدتي في نكاحك، والخُلْع بعده لَغوَ فيُنْظَر إن اتفقا على وقْت الرضاع كيوم الجمعة، واختلفا في وقت الخُلْع فادعى الزوج جريانه يوم الخمِيس، وادعته هي يوم السبت، فالقول قولُها مع يمينها؛ لأن الزوج يدعي الخلع في زمان سابق، والأصل عدَمُه، وإن اتفقا على وقْت الخلع كيوم الجمعة، واختلفا في وقت الإِرضاع، فادعى الزوج أنَّه كان يوم السبت، وادعته هي يوم الخميس، فالقول قول الزوج بيمينه لأن الأصْل عدم الرضاع يؤمَئِذٍ. ولو ادَّعَى الزوج سبْق الخُلْع، وادعت هي سبْقَ الرَّضاع، ولم يتفقا على وقْت أحدهما، فالقول قول الزوج أيضاً؛ لأن الأصل استمرار النكاح إلى أن صدر هذا الخُلْع واشتغالهما بالخُلْع يدل على بقاء النكاح ظاهراً وهذا كما لو تخالعا، ثم ادعت هي أنَّه طلَّقَها قبْل الخُلع ثلاثاً، أو على إقراره بفَسَاد النكاح، فأنكر، فإنَّهُ يُصَدَّق بيمينه، ويمضي الخُلْع على الصحة وفي "التهذيب" أنَّه لو خالعها على مال، ثم اختلفا فقال الزوج: كنت مكرهةً، فلي الرجعة، وأنكرتِ الإكراه، فلا يُقْبَل قوله في الظاهر، وعليه رَدُّ المال بإقراره. ولو ادعت المرأة الإِكراه فأنكر صُدِّقَ يمينه، وعليها المالُ، فلو أقامت بيِّنَة على الإِكراه، لزمه ردُّ المالِ ولا يُمْهَلَن بالمراجعة؛ لاعترافه بالبينونة، نعم لو لَمْ يصرِّح بالإِنكار أو سكَتَ، أو كانت الخصومة مع وكيله، فله الرجعة، إذا قامت البيِّنَة، وقد تيسر بمعونة الله -تعالى- شَرْح ما في الكتاب، ويقْرُب منْه من فقْه الخُلْع على اعتياضه وترتيبه بفروعٍ ومسائلَ منشورةٍ، ليس للأب خُلْع زوجة الطِّفْل، ولا طلاقها بغير عوض، خلافاً لأحمد -رحمه الله- فيهما، ولمالك في الخُلْع، والخُلْعُ على غير الصداق قبْل قبض الصداق لا يُسْقط حقَّ الزوجة من الصداق بعد قبضه، وقبل الدخول لا يسقط حق الزوج من نصْف الصداق، خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- في المسألتين، وإذا خالع امرأته الحامِلَ على نفقةِ عِدَّتِها، فالتسمية فاسدةٌ، وله مهْر المثل، وقال أبو حنيفة: -رحمه الله- تصحُّ التسمية، وَيبْرأ عن النفقة، وفيما جمع في فتاوى القَفَّال: أنَّهَا لو اختلعت على مهرها، وكانت قد أبرأته قُبِلَ ذلك من مهرها، فإن جهلت الحال، فالواجب عليها مَهْر المثل أو مثل ذلك المَهْر فيه القولان المعروفان، وإن كانت عالمةً بالبراءة فإن كان الجاري بينهما لَفْظ الطَّلاَق، بأن قال طلقتك على صَدَاقك، فقبِلَتْ
فتبين، ويعود الخلافُ في الواجب عليها يقع الطلاقُ رجعيًّا فيه وجهان، وإن كان الجاري لفْظَ الخلع، فإن أوجبْنَا المال، إذا جَرَى لفظ الطَّلاَق، ففي لفْظ الخُلْع أَولى، وإلاَّ جرى في لفظ الخلع وجهان: بناءً على أن لفْظ الخُلْع هل يقْتَضِي ثبوت المال في "فتاوى القاضي الحُسَيْن"، أنه لو خَالَعَها على مَا لَها في ذمته، أو على ألْف آخر، هو في ذمتها، أو على أن تنفق كل يوم على ولده كذا إلى مدة كذا، فهو فاسدٌ بشَرْط الاتفاق على الولد، وتَحْصُلُ البينونة بمهر المثْل، وأنَّه لو خالعها على ألْف، وعلى حضانها ولده الصغير سنَةً فتزوَّجت في خلال السَّنَة لم يكُنْ للزوج انتزاعُ الولد منْها بتزوجها، لأن الإِجارَة عقْدٌ لازمٌ، وأنها لو قالت إن طَلَّقْتَني أبرأتُكَ عن الصَّدَاقِ، أو فأنْتَ بريْءً منْه فطَلَّق، لا يحصل الإِبْرَاء؛ لأن تعليق الإبْراء لا يصحُّ، ولكن عليها مهْر المثل؛ لأنَّه لم يطلق مجاناً، بل لإِبراء ظن صحته، وأنه لو قالَتِ الزوجة: أبرأتُكَ عن صَدَاقِي، فَطَلِّقْني، بَرَأ الزوج، وهو بالخِيَار إن شاء طلق وإن شاء لم يُطَلِّق، ويمكنه أن يقال: إنها قصدت جعل الإِبْراء عوضاً عن الصَّداق، ولذلك رتبت سؤال الطلاق عليه، فليكن كما لو قالت: طَلقْنِي، وأنتَ بريء عن صداقي، وفي "فتاوى" صاحب "التهذيب" أنه سئل عن امرأة: قالت: لزوْجها (بهر حقي كي در كردن تودارم خويتن ازبربارحزيدم) (¬1) فقال الرجل (قن مرا اينكر طلاق، أي كنار كردم) (¬2) فقال: أن تقبل كلامه بكلامها بحيْثُ يعدُّ جواباً له، والصَّداق معلومٌ، صحَّ الخُلْع، وسقط الصَّداق. وأنه إن خالعها على ثَوْب هَرَويٍّ، وقبِلَتْ ثم دفعت إليه ثوباً مروياً فرضيه وأراد إمساكه نظرَ على أن الزبيب الأبيض هل يؤخذ في السلم عن الأسود إن قلنا إن كان قد وصفه بالصفات المعتبرة في السلم، فَيُبْنَى. يجُوز ولا يكون استبدال، فكذلك هاهنا، وإن منَعْنا، فلا يجوز الإِمْسَاك هاهنا من غير معاقدة، فإن تعاقدا، وقالت: جعلتُه بدلاً عما عليَّ، وَقَبِلَ الزَّوْج فيُنْنَى على أن الصَّداق مضْمُون ضمان العقد، أو ضمان اليد إن قلْنا: بضمان اليد فيجوز، وإن قلنا: بضَمَان العَقْد؛ فعلى القولَيْن في جواز الاستبدال عن الثمن في الذمة وإن لم يَصِفْه، فالواجب مهْر المثل، فلا يجوز إمساكه من غيْر معاقدة، وأنها لو قالَت: اختلعت نفْسي منْكَ بالصداق الذي في ذمَّتك، وأنكر الزوج وحلف عليه، فلا رجوع لها عليه بالصَّداق، ولو كان له على رجُل دَيْن، فقال: اشتريتُ منْك دارك بذلك، وقبضته وأنْكر الرَّجُل، يجوز له المطالبة بالدين، والفرْقُ أن الخُلْع الذي أقَرَّتْ به يوجب اليأس عن الصداق، ويُسْقطه بالكلية؛ فإن ذمة الزوج إذا بَرِئَتْ من الصداق، لم يتصور عوده، وفي الصورة الأخرى لا يحصل الياس عن الدَّيْن؛ لأن الدار ¬
المجعولة عوضاً قد تخرج مستحقَّة، وقد ترد بالعيب (¬1) وقد تتلف قَبْل القبض، فيرجع صاحب الدَّيْن إلى دَيْنه، وإن الزوج إذا قال: خالَعْتُك بكذا فأنكَرَتْ وصدَّقْنَاها باليمين، فوطئها الزوج بعد ذلك، فعليه الحدُّ في الظاهر، ولا يجب عليْها؛ لأنَّها تزعم أنها في نكاحه، وأما في الباطن فان كان صادقاً، فعليهما الحدُّ، وإن كان كاذباً فلا حدَّ على واحد منهما، وحكي وجهاً في مثل هذا أن دعوى الزوج طلاق ظاهراً وباطناً، فعليهما الحدُّ، وأنها لو قالت: طلِّقْنِي على ألْف، فقال طلقت نِصْفك فيُبْنَى، استحقاق الألْف على أن الطلاق يقع على البَعْض، المذكور، ثم يسري إلى الباقي، أو يُجْعَل البعض كناية عن الكُلِّ، إن قلنا بالمعنى الثاني، فيستحق كما لو طلَّقَها بلفظ آخر، وان قلنا بالأول، وجَب إلاَّ يستحق إلاَّ نصْف الألف، كما لو قالَتْ: طلقني ثلاثاً، فطلَّق واحدة، يستحق القسط، ولو قال في الجواب طلقت يدك، إن جعلنا المضاف إليه عبارة كلِّ البدن، استحق الألْف، وإن قلنا بالوجْه الآخَر، فلا يمكن التوزيع هاهنا، فيجب مهْر المثل، وإنها إذا قالت: اختلعت نفسي بثلاث طلقات على ما لي عليك من الحق، فقال: خالَعْتُك بطلقة، تقع طلقة؛ لأن الخلعة من جانبها جَعَالة، ويجب مهْر المثل، ويحتمل أن يجب ثلُث مَهْر المثل، كما لو قالت: طلقني ثلاثاً بألف، فطلَّق واحدةً، يستحق ثلث الألف. فَرْع: لابن الحداد إذا قال لامرأته أنت طالقٌ اثنتين، أحدهما بالألْف، فالمُقَابلة بالألْف لا تقع دون القَبُول، وفي الأخرى وجهان: أحدهما: وبه قال ابن الحدَّاد: أنها لا تقع أيضاً؛ لأنه علَّق الطلقتين بقبول الألف، ولم يوجد؛ ولأنه قَابَلَ إحدى الطلقتين بالعِوَض، وجعل الأخرى تابعةً لها، فإذا لم تقع هي أصل، لا تقع الأخرى. والثاني: وهو الأصحُّ عند الشيخ أبي علي -رحمه الله- أنها تَقَع؛ لأنها عريَّةٌ عن العوض، فاشبهت سائِرَ الطلقات الخالية عن العوض، وأيضاً فإنه لو قال: أنْتِ طالقٌ اثنتين أحدهما بألف، والأخرى بغير شيْء، تقع الواحدة من غَيْر قبول، فكذلك هاهنا، قال الإِمام -رحمه الله-: ولا يبعد طرْد الوجهَيْن في هذه الصورة، فإن قلْنَا بالوجه الأول، فإذا قبِلَتْ وقَعَت الطلقتان، ولزم الألْف، وتكون الألف في مقابلة واحدة منها خاصَّةً، أو في مقابلتهما معاً وإحداهما تبعٌ للأخرى، ذكر فيه احتمالان: أحدهما: أنه يختص بواحدة منهما كما هو ظاهر اللفظ. ¬
والثاني: أنَّه يتعلق بهما على تبعيَّة إحداهما للأخرى؛ لأنه لو اختص المال بواحدة منهما، لما توقفت الأخْرَى على القَبُول، ونحن نُفَرِّع على التوقُّف ولا اقترنت طلقتان؛ بائنة ورجعية، وهذا بعيدٌ؛ ألا ترى أنَّه لو قال: إذا خَالَعْتُكِ، فأنت طالقٌ، فخالعها لم تقع الطلقة المعلقة؛ لمصادقتها حالَةَ البينونة، وإن قلنا بالوجه الثاني، فإن كانت غيْر مدخُول بها، وقعتِ الواحدةُ كما تمَّ لفظه، وحصلت البَيْنُونَة، فلا تقَعُ الأخرى، وإن قَبِلَتْ، وإن كانتْ مدخولاً بها، فالواحدة الواقعة باللفظ رجعيَّةٌ فإذا قبلَتِ الألف، فهو مخالعة الرجعية، وفيها الخلافُ الذي تقدَّم، فإن جوزنا مخالعة الرجعية، وقعَتِ الثانية ولزم الألْفُ، وإن لم نجوِّزها ففيه احتمالان للشَّيْخ أبي علي: أحدهما: أنَّه لا يقع الطلاق؛ لأنه إنما أوقع بشرط قبولها، هاذا لم يلزم المال فلا معنى للقبول، وأظهرهما: أنه يقَعُ، وإن لم يلزم المال، كما لو خالع المحجُورَ عليها فقبِلَتْ.
كتاب الطلاق
كِتَابُ الطَّلاَقَ (¬1) وَالنَّظَرُ فِيهِ فِي شَرْطَيْنِ، الأَوَّلُ فِي عُمُومِ حُكْمِهِ، وَفِيهِ خَمْسَة أبْوَابٍ البَابُ الأَوَّلُ في السُّنَّةِ وَالبِدْعَةِ، وَفِيهِ فَصْلاَنِ (الأَوَّلُ فِي بَيَانِ البِدْعيِّ): وَهُوَ الطَّلاَقُ المُحَرَّمُ إِيقَاعُهُ، وَلِتَحْرِيمِهِ سَبَبَانِ: (أَحَدُهُمَا): الحَيْضُ فِيمَنْ تَعْتَدُّ بِالحَيْضِ، وَطَلاَقُ الحَائِضِ بَعْدَ الدُّخُولِ بِدْعِيُّ لِمَا فِيهِ مِنْ تَطْوِيلِ العِدَّةِ إِذْ بَقِيَّةُ الحَيْضِ لاَ تُحْتَسَبُ، وَلاَ بِدْعَةَ فِي طَلاَقِ غَيرِ المَمْسُوسَةِ وَلاَ سُنَّةَ. قال الرَّافِعِيُّ: الآيات الواردة في الطلاق، والأخبارُ المرويَّة فيه غنيَّةٌ؛ لشهرتها عن إيراد التعداد، معتضدة بإجْمَاع أهل الملل أقوى اعتضاداً، وافتتح الشَّافعي -رضي الله ¬
عنه أبوابَ الطَّلاَق بقوله -تعالى-: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] لأنه تكلم أولاً في البدعي والسنِّيِّ من الطلاق، وهذه الآية أصل مرجوعٌ إليه في هذا الفصْل، على ما ستقف عليه، ويقال: طلَّقَ الرجلُ امرأته تطليقاً "وطَلُقَتْ هي تَطْلُقُ طَلاَقاً فهي طالِقٌ، وطالقَةٌ، وعن الأخفش أنه لا يقال طَلُقَنْ بالضَّمِّ، وفي "ديوان الأدب" أنه: لُغَة، ورَجُل مِطْلاَقٌ وطُلَقَةٌ: كثير الطلاق للنساء، وتفاوت (¬1) معنى الطلاق في قولهم: ناقةٌ طالِقٌ، أي مرسَلَة ترعى حيث تشاء، وُيطْلَقُ الظبْيُ أي من لا يلوي على شيء وأَطْلَقْتُ الأسيرَ أي خلَّيْته، والناقةَ من عقالها، فطلقت هي، والطليق الَّذي خُلِّيَ عن أسرة، حُبِسَ فلانٌ مطلقاً أي بغَيْر قيد، وبغَيْر طَلْق أي غير مقيَّد، وأطلق يده بالخير وطلقها، ورجل طَلْقُ اليدين أي سَمْحٌ، وفلان طلْق الوَجْه واللسانِ وطليقُهُما. واعلم أن الطلاق "ينجز تارة، ويُعلق أخرى، والقسمان يشتركان في شروط وأحكام وتختص التعليقات بأحكام، ولا تكاد تنحصر صورها، وأوضاعها فجعل الكتاب على شَطْرين: أحدهما: في الأحكام العامة. والثاني: في التعليقات خاصَّةً، وذكر منها فنوناً تحصل بها الدُّرية، وهذا التقسيم -وإن لم ينص عليه في هذا الموضع- فهو بيِّنٌ من قوله بعد الشطْر الثاني في التعليقات: ثُمَّ الطَّلاَقُ ينقسِمُ باعتبار إلى جَائِز ومحرَّم وباعتبار آخرَ إلى نَافِدٍ، ولاغٍ وباعتبار ثالثٍ: إلى واحِدٍ، وعَدَدٍ وباعتبارٍ رابع إلى ما يقع في لَفْظه استثناءً وإلى غيره، وباعتبار خامس إلى ما يعتريه الشكُّ وإلى غَيْره، والحاجة تمَسُّ إلى معرفة أحوال هذه الاعتبارات، وأحكامها فعقد الباب الأول؛ لبيان الجائز والمحرم منه. والثاني: لبيان أركان الطَّلاَق التي هي مناط النافذ ليتبين من اللاغي. والثالث: لما يعرض فيه من العدد. والرابع: الاستثناء. والخامس: الشك. أما الباب الأول، فقد ترجمه ببدعة الطَّلاَق وسنته، ولم يزل العلماء قديماً وحديثاً يصفون الطلاق [بالبدْعَة والسنَّة] ويقولون: الطلاق ينفذ سنِّياً تارة وبدعيًّا أخرى، وفي معناهما اصطلاحان: أحدهما: أن السني هو الذي لا يَحْرُم إيقاعه والبدعي ما يحرم إيقاعه وعلى هذا فلا قسم سوى السني والبدعي. والثاني: -وهو المشهور المستعمل- أن السُّنِّي طلاقُ المدخُولِ بها الَّتي ليست ¬
هي بحامل ولا صغيرة ولا آيسة، والبدْعيُّ طلاقُ المَدْخُول بها في حَيْض أو نفاس أو في طهر جامَعها فيه، ولم يَبنْ حمْلُها، وقد يبهم، فقال: البدعي طلاق المحرم إيقاعه في حق الَّتي يصَوِّرُها التحريم؛ وعلى هذا الاصطلاح يستمر ما اشتهر في المذهب أن غير المَمْسُوسة لا بدْعَة في طلاقها ولا سنَّة، وكذا اللَّوَاتي يلتحقن بها؛ وعلى هذا فالطلاق ينقسم إلى سُنِّيٍّ وبدْعيٍّ، وإلى ما ليس بسنِّيِّ ولا بدعيِّ، ثم ذكر الأصحاب أن ما لا يحرم من الطلاق ينْقَسِم إلى: واجب، ومحْبُوب، ومكروه؛ أما الواجب: ففي حق المولى إذا مضَتِ المدَّة ويؤمر بان يفيء أو يطلّق، وعند الشقاق إذا رأى الحَكَمان التفريق، يجبُ التفريق. وأما المَخبُوب فهو إذا كان يقصِّر في حقها؛ لبغض وغيره، وإذا لم تكن عفيفة، فخاف منها إفْسَاد الفراش. وأما المكروه؛ فهو الطَّلاق عند الالتئام وسلامة الحال، رُويَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَبْغَضُ المُبَاحَاتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الطَّلاَقُ" (¬1). وأما المحرَّم من الطلاق، فلتحريمه سببان (¬2): أحدها: وقوعه في حال الحَيْض إذا كانت مَمْسوسة، وكانت ممن تعتد بالأقراء، قال الله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي للوقت الَّذي يشرعن في العدة. رُوِيَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنَّه قَرَأَ "لقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ" (¬3) وتكلموا في أنَّه قراءة أو تفسير، ¬
وقبْلُ الشيْء أوَّلُه ومقدَّمُه، ويقال: كان ذلك في قَبْل الشتاء أي أوَّلِه، ووقع السَّهْم بقبل الهَدَف، وطلَّق ابن عمر -رضي الله عنه- أمرأتَهُ، وهي حائضٌ؛ فسأل عمر -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: " مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لْيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ فَذَلِكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ" (¬1) والمعنى فيه أن بقية الحَيْض لا يحتسب من العدة، فتطول عليها المدة والانتظار. وقوله في الكتاب "الحَيْض فيمَنْ تَعْتَدْ بالأقراء" في بعض النسخ بالحيض، والمقصود واحدٌ يعني التي تحيضُ، تتعلَّق عدتها بالحَيْض والطُّهر، ولو لم يذكر هذه اللفظة أصْلاً لجاز؛ فإن الحيض لا يكون إلاَّ لمثل هذه المرأة وقوله: "وَلاَ بِدْعَةَ في طَلاَقِ غَيْرِ المَمْسُوسَةِ وَلاَ سُنَّةَ" وجهه ما قدَّمناه وفي بعض النسخ بدلَ وَلاَ سُنَّةَ والآيسة وهو صحيحٌ أيضاً وقَدْ ذكره (¬2) من بعْدُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَيَجُوزُ خُلْعُهَا، فَقِيلَ: لأَنَّ ذَلِكَ تَطْوِيلٌ بِرِضَاهَا فَيَجُوزُ الطَّلاَقُ بِرِضَاهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِوَضٌ، وَلاَ يَجُوزُ اخْتِلاَعُ الأَجْنَبِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُعَلَّلٌ بِضَرْورَةِ الافْتِدَاءِ، وَلاَ يَجُوزُ الطَّلاَقُ بِسُؤَالِهَا، وَيجُوزُ خُلْعُ الأَجْنَبِيِّ، وَكَذَلِكَ يُطَلَّقُ عَلَى المَوْلَى وَإِنْ كَانَ في الحَيْضِ لِلضَّرُورَةِ، وَمَنْ طَلَّقَ فِي حَالِ الحَيْضِ فَيُسْتَحَبُّ أنْ يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تحيضَ ثُمَّ تَطهْر ثُمَّ يُطَلِّقْهَا إِنْ شَاءَ لِئَلاَّ يَكُونَ الرَّجْعَةُ لِلطَّلاَقِ، وَتَرَدَّدُوا فِي أنَّهُ هَلْ يُسْتَحبُّ لَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا؟ وَقِيلَ: يُرَاجِعُهَا حَتَّى تَطْهُرَ فَيُطَلِّقَ في الطُّهْرِ الأَوَّلِ. قال الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: الطلاق المحرَّم في حال الحَيْض، وهو الطلاق على غيْر مال، أما إذا ¬
خالع الحائض، أو طلقها على مال، فهو غير مُحَرَّم، واحتج عليه بإطلاق قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وبأن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أَطْلَقَ الإِذْنَ لِثابِتِ بْنِ قَيْسٍ في الخُلْعِ" (¬1) عَلى ما بَيَّنَّا في أول "كتاب الخُلْع" من غير بَحْثٍ واستفصال عن حال الزوجة، وليس الحَيْض بأمر نادر الوجود في حقِّ النساء، واختلفوا في المعنى المجوِّز للخُلْع على وجهين: أحدهما: أن المنع إنما كان محافظةً على جانِبِها، لتضررها بتطويل العدة، فإذا اختلعت بنفسها رضيت بتطويل الانتظار. والثاني: أن بذل المال أشْعَر بقيام الضرورة، أو الحاجة الشديدة إلى الخلاص، وفي مثْل هذه لا يحْسُن الأمر بالتأخير ومراقبة الأوقات، وخرَّجوا على المعنيين صورتَيْن: إحداهما: إذا سألت الطلاق، ورضيَتْ به، من غير مال، فهل يكون بدعيًّا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لرضاها بتطويل العدة. والثاني: نَعَم؛ لأن تلك الضرورة لم تتحقق، وقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ولا يفرِّق بين أن يكون هناك سؤالٌ أو لا يكون، وهذا أظْهَر، وهو المذكور في "التهذيب". الثانية: في خُلْع الأجنبي في الحَيْض وجهان؛ لأنه لم يوجد رضاها بالتطويل، ووجدت الضرورة الداعية إلى بَذْل المال، والأظهر -وبه أجاب "القَفَّال"- وهو المذكور في "التتمة": أنَّه لا يجُوز؛ لأنَّه لم يوجد منها الرضا بالتطويل، ولم يوجد منْها بذل المال المُشْعِر بشدة حاجتها إلى الخلاص، وقضية الأظْهَر في الصورتين تعليلُ جواب خلعها، بمعنى ثالث وهو اقتداء صاحبة الواقعة نفسها بالمال لا مُطْلَق الاقتداء، والمولى إذا طولب بالطلاق، فطَلَّق في زمان الحيض ففي "النهاية" و"الوسيط" وغيرهما: أنَّه لا يكون طلاقه بدعيًّا؛ لأنها طالبة له، وراضية له وهو حقٌّ يؤديه عليه؛ لدفع ضرر، وكان يجوز أن يقال هو يدعي؛ لأنه بالإِيذاء والإِضرار أحْوَجَها إلى الطَّلَب، وهو غير ملجأ إلى الطلاق، بل هو يتمكن من أَن يفي إليها، والمطلوبُ أحد الأمرين من الفيئة أو الطلاق، فلا ضرورة له إلى الطلاق في الحَيْض، وأما الذي ذكَره في الكتاب فهُوَ الطلاق على المولى عند امتناعه ولا شَكَّ في أنه لا يكون بدعيًّا، وان وقع في الحيض، وفي "شرح مختصر الجويني" أن الطلاق إذا رآه الحكمان في صورة الشقاق لا يكون ¬
بدعيًّا أيضاً، للحاجة إلى قطع ما بينهما من الشر (¬1) والفساد. المسألة الثانية: إذا طلق في الحَيْض طلاقاً بدعَيًّا، استُحِبَّ له أن يراجعها؛ لما مر، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. وقال مالك -رحمه الله-: يجب أن يراجعها، وإذا راجعها، فهل له أن يطلِّقها في الطهر التالي لتلك الحيضة؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن إضرار التطويل قد ارتفع، ويستعقب الطلاقُ العدَّةَ المحسوبة، وقد روي في قضية ابن عمر -رضي الله عنهما- في بعض الروايات أنه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيضَ، ثُمَّ تَطهُرَ". وأظهرهما وهو المذكور في "التتمة": لا؛ لأنه إن وطئها بعْد ما طهرت، كان ¬
الطلاق في ذلك الطهر أيضاً بدعيًّا، وإن لم يطأْها أشْبَهَ أن يكون المقصد من المراجعة مجَرَّدَ الطلاق، وكما يُنْهَى عن النكاح الذي يقصد به الطلاق، يُنْهى التي يَقْصد بها الطلاق، فليمسكْها إلى أن تحيض، وتَطْهُرَ مرَّة أخرى؛ ليتمكن من الاستمتاع في الطهر الأول، ويطلّق (¬1) في الطهر الثاني، وهذا ما أورده في الرواية المشْهُورة في القصَّة على ما قدَّمناها. وهل يستحب أن يجامعها في ذلك الطهر على هذا الوجه؟ حُكِيَ فيه تردُّد الأصحاب -رحمهم الله- ليظهر مقصود الرجعة، والأظهر المنع، والاكتفاء بإمكان الاستمتاع، والوجهان في أنه هل يطلِّق بعد الطهر التالي لذلك الحيض؛ كأنَّهما في أنَّه هل يتأدَّى به الاستحباب بتمامه، فأمَّا أصل الإِباحة فما ينبغي أن يكون في حُصُوله خلاَفٌ، وكذا أصل الاستحباب؛ لأنه يندَفِعُ بذلك إضْرار التطويل (¬2) وليعلَّم قوله في الكتاب "فَيُسْتَحَبُّ أنْ يراجِعَهَا" (¬3) بالميم؛ لما ذكرنا من مذْهَب مالك -رحمه الله-، وذكر الإِمام أن المراجعة، وإن كانت مستحبة، فلا ينتهي الأمر فيه إلى أن يقول: تَرْكُ المراجعةِ مكروهٌ (¬4). فرع: طلقها في الطُّهْرُ، ثم طلَّقها طلقةً ثانية، وقد حاضَتْ. قال في "التتمة" يبنى على أنَّها، هل تستأنف العدة إن قلنا: نَعَمْ، فهو بدْعيٌّ؛ لأن الإِضرار قائم، وإن قلنا: لا يستانف، فوجهان: أحدهما: أنه بدعي لوقوعه في الحيض. والثاني: المنع؛ لأن التحريم الإِضرار بالتطويل، ولا إضرار ويجري الوجهان فيما إذا طلقها في الحَيْض، ثم طلقها طلقةً أخْرَى في تلْك الحيضة أو في حيضة أخرى، هل تكون الثانية بدعية، وليُعْلمْ أن الطلاق في النِّفَاس بدعيٌّ، كالطلاق في الحيض؛ لأن المعنى المحرِّمَ شامل (¬5). قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلاَ بِدْعَةَ فِي الجَمْعِ بَيْنَ الثَّلاَثِ وَلَكِنَّ الأَوْلَى التَّفْرِيقُ حَذَراً مِنَ ¬
النَّدَمِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ آخِرِ جُزْءٍ مِنَ الحَيْضِ فَهُوَ بِدْعِيٌّ في وَجْهٍ لاقْتِرَانِهِ بِالحَيْضِ وَسُنِّيٌّ مِنْ وَجهٍ لاسْتْعْقَابِهِ الطُّهْر الْمَحْسُوبَ، وَكَذَلِكَ الخِلاَفُ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنَ الطُّهْرِ وَلَكِنْ بِالعَكْسِ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأنْتِ طَالِقٌ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ فِي الحَيْضِ لَكِنْ لَوْ دَخَلَتْ وَهِيَ طَاهِرَةٌ يُعَدُّ سُنِّيّاً، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضاً يُعَدُّ بِدْعِيّاً فَيُسْتَحَبُّ المُرَاجَعَةُ. قال الرَّافِعِيُّ: فيه ثلاث صور: احدهما: لا بدعة في الجمع بين الطلقات الثلاث، خلافاً لأبي حنيفة ومالك، وهو رواية عن أحمد، واحتج الأصحابُ بما روي أن عُويمراً العجلانيَّ لمَّا لاَعَنَ عنْد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كَذَبْتُ عَلَيْهَا إِنْ أَمْسَكْتُهَا، هِيَ طَالِقٌ ثَلاَثاً" (¬1)، ولم ينكر النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا: ولو كان حراماً لأَنْكرَ عليه، وإن لم يقع الطلاق في تلك الحالة لحصول الفرقة باللِّعَان، لئلا ليأتي بمثله والأولى أن يفرق الطلقات على الأَقْرَاء أو على الأشهر إن لم تكن من ذوات الأقراء، ليتمكن من الرجعة، أو تجديد النكاح إن لحقه ندم، فإن أراد أن يزيد من قرء على طَلْقَة، فرق على الأيام، وعن "شرح التلخيص" وغيره: حكايه وجهين: في أن التفريق، هل هو سُنَّةٌ مع الجزم بان الجَمْع ليس ببدعة؟. والظاهر المنع ولك أن تقول: مسألة الجَمْع دخيلةٌ في هذا المَوْضِع، ولو أخَّرها إلى أن يفرغ من الكلام في سببي التحريم جميعاً، لكان أحسن. الثانية: ولو قال: أنتِ طالقٌ مع آخر حيْضِك، أو مع آخر جُزء من أجزاء حيضك فوجهان: أحدهما: أنه يقع بدعياً لاقترانه بالحَيْض. وأظهرهما أنَّه يقع سنيًّا؛ لاستعقابه الطهر المحسوبَ، والشروع في العدة. ولو قال: أنتِ طالقٌ مع آخر جزء من الطهر، ولم يطأْها في ذلك الطهر، فإن قلْنا: الانتقال من الطهر إلى الحيض قُرْء، فهو سنِّيٌّ؛ لمصادفته الطهْر والشروع في العدة عقبيه، وإن لم نجعلْه قرءً انعكس الوجهان السابقان، إن وقع بدعيًّا وهو الأصحُّ، ويُحْكَى عن نصه في "الأم" وعن ابن سُرَيْج: أنه يقع في الصورتين بدعيّاً، أخْذاً بالأغلظ، ولو قال في الصورتين: بدل "مع" في آخر جزء من كذا ففي "التتمة" القطْع بأنه إذا قال: في آخر جزء من الحيض يقعُ بدعيًا وإذا قال في آخر جزء من الطهر، يقع سنيًّا، وخصَّص الخلاف بما إذا كان المستعمل لفظ "مع" ولم يفرق الأكثرون بينهما؛ ¬
لأن الوقوع إذا حَصَل مقارناً للجزء الأخير، لم يفترق الحال بيْن أن يعبَّر عنه بهذا أو بهذا؛ وعلى هذا يستمر لفظ الكتاب، فإن المذكور في الصورة الأولى "مع"، وفي الثانية "في". الثالثة: تعليق الطلاق بالدخول وسائر الصفات ليس ببدعي، وإن اتفق الحيض؛ لأنَّه لا إضرار فيه في الحال، ولكن ينظر إلى وقْت وقوع الطلاق، فإن وجَدَتِ الصِّفَة، وهي طاهرٌ، نفذ سُنِّيًّا، وإن وجدَتْ، وهي حائضٌ، نفذ بدعيًّا حتى يستحب له الرجعة، ويُمْكِن أن يقال: إذا تعلَّقَت الصفة باختياره، أثِمَ (¬1) بإيقاعه في حالة الحَيْض. وعن "القَفَّال": أن نفْس التعليق بدْعةٌ؛ لأنه لا يدري الحال، وقت الوقوع فلتحت فلتحترز عما عساه يقع إضراراً ولا ضرورة (¬2) إلَيْه. ولو قال لذات الأقراء: أنتِ طالقٌ إن دخلْتِ الدار للسَّنَّة، أو إذا قدم فلان للسُّنَّة، أو قال: إذا جاء رأس الشهر، فأنْتِ طالقِّ للسُّنَّة، فإن وجد الشرط وهي في حال السُّنَّة، طلِّقَت، وإن وجد، وهي في حال البدعة، لم تُطَلَّق، حتى ينتهي إلى حال السُّنَّة، فحينئذٍ تُطلَّق؛ لأن الطلاق متعلِّق بالأمرين، فلا بدّ من حصولهما، وكذا لو قال: إن دخلْتِ الدار، فأنتِ طالقٌ للبدعة، فإن دخلت الدَّار في حال البِدْعَة، طُلِّقَت، وإن دخلَتْ في حال السُّنَّة، لم تُطَلَّق، حتى تنتهي إلى حال البِدْعَة. ولو قال لغير المَدْخُول بها أو غيرها من اللواتي لا ينقسم طلاقُهن إلى السني والبدعي: أنْتِ طالقٌ إن دخلْتِ الدار، أو قدم فلان للسُّنَّة، ثم تغيَّر حالُها، فصارَتْ ممَّن ينقسم طلاقها إلى السُّنِّيِّ والبدعِّي، ثم وجد الشرط المعلَّق عليه، فإن وُجِدَ في حال السنة، وقع الطَّلاقُ، وإن وُجِدَ في حال البدعة، لم يقع الطلاق حتى يصير إلى حال السنّة؛ لأن الاعتبار بوقْت وجود الشَّرْط ووقوع الطلاق، لا بوقت التعليق، ولو وجد الشرط قبْل أن يتغير حالُها طُلِّقَتْ لأنَّه لا سنّة في طلاقها. فرع: إذا علق الطلاق بما يتعلق باختيارها، وأتَتْ به مختارةً فيمكن أن يقال: هو كما إذا طلقها بسؤالها. قَالَ الغَزَالِيُّ: (السَّبَبُ الثَّانِي: إِمْكَانُ الحَمْلِ): وَالطَّلاَقُ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ أَوِ ¬
اسْتَدْخَلَتْ مَاءَهُ بدْعِيٌّ، فَإِنْ ظَهَرَ كَوْنُهَا حَامِلاً لَمْ يَكُنْ بِدْعِيّاً لأَنَّهُ طَلَّقَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَوْ وَطِئَهَا فِي الحَيْضِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قِيلَ: لاَ يَحْرُمُ لأَنَّ بَقِيَّةَ الحَيْضِ تَدُلُّ عَلَى البرَاءَةِ، وَقِيلَ بِالتَّحْرِيمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ بِدْعَةَ في خُلْعِهَا، وَقِيلَ: يَحْرُمُ لأَنَّ أَمَدَ الحَمْلِ لاَ يَتَعَلَّقُ بِرِضَاهَا وَالعِدَّةُ حَقُّهَا فَيَجُوزُ أَنْ تَتَأَثَّر بِرِضَاهَا، وَالآيِسَةُ وَالصَّغِيرَة وَغَيْرُ المَمْسُوسَةِ وَالحَامِلُ بِيَقِينٍ لاَ بِدْعَةَ في طَلاَقِهِنَّ أَصْلاً. قال الرَّافِعِيُّ: فرَّعنا عن الكلام في أحد سببي تحريم الطلاق. والثاني: إذا جامَع امرأته في طُهْرها، وهي ممن تحبل، ولم يَظْهَرْ حَمْلُها، حَرُم أن يطلِّقها في ذلك الطهر؛ لما رُوِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال في قصة ابن عُمَرَ -رضي الله عنهما-: "ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا قَبْل أَنْ يَمَسَّهَا؛ ولأنه ربما يندم على الطلاق لو ظهر الحَمْل، فإن الإِنسان قد يطلق الحامل وإذا ندم، فقد لا يتيسر التدارك، فيتضرر الوالد ويتبرأ من الوَلَد؛ ولأَنَّ عدتها لو كانت حاملاً تكون بوضع الحمل، ولو كانت حائلاً تكون بالأقْراء، وربما يلتبس الأمر وتبقى مرتابةً، فلا يتهيأ لها الزوج، واستدخالها ماءه كالوطئ؛ لاحتمال الحَمْل منْه، ولو أتاها على غيْر المأتي، ففيه تردُّد للشيخ أبي عليٍّ، والأصح: أنه يوجب تحريم الطلاق، كما يثبت به النسب، وتجب العدة، وإن ظَهَر بها الحَمْل لم يكن طلاقها بدعياً؛ لأنه إذا طلقها على علْم بالحال ووثوق بالولد، فقد وطَّن نفسه على الفراق مع حصُول الولد وبَعُدَ عروض الندم، ولو وطئها في الحيض، فطهرت ثم طلقها، فوجهان: أحدهما: أنه لا تحرم؛ لأن لبقية الحيض إشعاراً بالبراءة. وأظهرهما: تحرم -به قال الشيخ أبو علي- وهو المذكور في "التتمة" لاحتمال العلوق في الحيض، وكون البقية مما دفعتْه الطبيعة أولاً وتهيأ للخروج، ولو خالع الممسوسة في الطهر الذي جامعها فيه أو طلقها على مال لم يكن بدعيّاً، كما ذكَرْنا في خُلْع الحائض ويدل عليه قصَّة ثَابتِ بْن قيس؛ فإنه أطلق الإِذن، ولم يستفصل مع أن الطهر والجماع غير بعيد، وأيضاً فأخذ المال يؤكد داعيَةَ الفراق، ويبعد احتمال الندم، وفيه وجه أن الخُلْع حرامٌ هاهنا، كالطلاق مجاناً، بخلاف الطلاق في الحيض؛ فإن المنع هاهنا لرعاية أمر الولد؛ فلا يؤثر رضاها فيه، والمنع هناك؛ لما فيه من تطْوِيلِ العدَّة، فإذا رضِيَتْ أثَّر في ارتفاع المنْع، ويستحب المراجعةُ بعد الطلاق هاهنا، كما ذكَرْنا في السبب الأول، ثم إنْ راجَعَها ووطئها في بقيَّة الطهر، ثم حاضَتْ وطهُرَت، فله أن يطلِّقَها، وإن لم يراجعْها حتَّى انقضى ذلك الطُّهْر أو لم يطأها فيه، فلا ينبغي أن يطلِّق في الطهر الثاني؛ لئلا تكون الرجعة للطلاق، وحكى الحناطي وجْهاً: أنه لا يستحب المراجعة هاهنا؛ ولا (¬1) يتأكد الاستحبابُ تأكُّده في طلاق الحائض؛ وإذا ¬
عَرَفْتَ ما ذكَرْنا من السببين المحرِّمَين سهُل العلْم بأن الآيسة، والصغيرة؛ وغير الممسوسة، والتي ظهر حملها لا بدعة في طلاقهن أصْلاً؛ أما الآيسة والصغيرة؛ فلأن عدتهما بالأشهر فلا يُعتبر بها طول ولا قصر، وإذا لم يكن لهما حيْض، لم يكن حمل حتى يؤثر المعنى الثاني، [و] (¬1) أما غير المدخول بها فلا عدَّة عليها، ولا ولد لها، وأما التي ظهر حملها فعدَّتُها بوضْع الحَمْل، ولا تختلف المدَّة في حقِّها، ولا يعرض الندم بسبب الولد، على ما تبين ولا فَرْق بين أن ترى الدم، أو لا تراه ولا إذا رأته بين أن تجْعَلَه حيضاً أو لاتجعلَهُ حيْضاً. وعن أبي إسحاق: أنها لو كانت ترى الدم، وجعلناه حيْضاً، فقال لها: أنتِ طالقٌ للسُّنَّة، لا يقع عليها الطلاق، حتى تطهر، وعلى هذا: فللحامل حالُ بدعة، كما للحائل، والمشهور الأوَّل، وقد اشتهر في كلام الأصْحَاب أن الأرْبَع المذكوراتِ لا سنَّة في طلاقهن ولا بدعة، وذلك للعبارات السابقات في تفسير السني والبدْعِيِّ، وفي معناها ما ذكر أبو الحسن علي بْن أحمد بْن خيران في مختَصَر له مترجم بـ"اللطيف" أن السني طلاقُ المدخول بها في طُهْر لم يجامعها فيه، وليس هناك حيْضٌ ولا نِفَاس ولا حمل، والبدْعيُّ أن يطلِّقها، وهي حائض أو نفساء أو في طهر جامعها فيه، وربما أفهم كلامهم أنَّهم يعنون بقولهم: لا سُنَّة ولا بدْعَة في طلاقهن: أنه لا يجتمع في طلاقهن حالتا السنة والبدعة، حتى يكون مرة سُنِّيَّاً ومرة بدعيًّا، بل لا يكون طلاقهن إلاَّسنيّاً وعلى هذا يستمر تفيسر السني بالجائز والبدعي بالمحرم، ويغني ذلك عن التفاسير المقيّدة والمطلقة. وقوله في الكتاب "السَّبَبُ الثَّانِي إِمْكَانُ الحَمْلِ" يبين أنه لا يعتبر خصوص الوَطْء، ولا كونه في الطهر، وإنما المعتبر أن يحدث ما يتوقع منه العمل، فيدخل فيه اسْتِدْخَال الماء، وكذا الوطء في الدبر على الأصَحِّ، كما مر، ولمتأمل أن يقول: لا يعتبر في السبب الأول أيضاً خصوصُ الوقوع في الحيض، وإنما المعتبر أن تطُولَ المدَّة، ولا يستعقب الطلاق كفر عين أوردهما صاحب "التتمة" وغيره. أحدهما: إذا نكح حاملاً من الزنا، ووطئها وطلقها، فعن ابن الحدَّاد: أنه يكون الطلاق بدعيًّا؛ لأن العدة تقع بعد وضْع العمل، والنقاء من النفاس، ولا يشرع، عقيب الطلاق في العدة. والثاني: إذا وُطِئَتِ المنكوحة بالشبهة، وحبلت منْه، وطلَّقها زوْجُها، وهي طاهر فالطلاق بدعيٌّ؛ لأنها لا تشرع عقيبه في العدة، وكذا لو لم تَحْبَل، وشرعت في عدة الشبهة فطلقها وقدمنا عدة الشبهة، وفيه وجه آخر: أن الطلاق لا يكون بدعيًّا؛ لأنه لم ¬
(الفصل الثاني في التعليق بالسنة والبدعة)
يوجَدْ منْه إضرارٌ وتعطيلُ الزمان عليها، وإنما انصرف الزمان إلى حقٍّ واجبٍ عليها، ورد صاحب [التتمة] ترجيح هذَا الوَجْه فيما إذا لم تحْبَل، وترجيح الأول فيما إذا حَبِلَتْ؛ لأن زمان النفاس تعطل عليها، ولا يحسب عن واحدة من العدتين. وقوله في الكتاب "والحامل بيقين" لفظ "اليقين" محمول على الظن الغالب، وكيف لا، وقد اشتهر الخِلاَفُ في أن الحَمْل هل يعلم، وليعلَّم بالواو ولما حكي عن أبي إسحاق. فرْعٌ: وطلَّقَها في طهر لم يجامعها فيه، ثم راجَعَها، فله أن يطلِّقها، وعن حكايته القاضي الحسين وجْه بعيدٌ: أنه يكون بدعيّاً؛ لئلا تكون الرجعة للطلاق، وهذا سبب ثالث للتحريم على هذا الوجه (¬1). فرْعٌ: لا تنقسم الفسوخ إلى سنيَّة وبدعيَّة؛ لأنها مشروعة؛ لدفع مضارَّ نادرةٍ، ولا يليق بِها تكاليف مراقبة الأوقات (¬2). قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْل الثَّانِي في التَّعْلِيقِ بِالسُّنَّةِ وَالبِدْعَةِ): وَفِيهِ مَسَائِلُ: (الأُولَى): ¬
إِذَا قَالَ لِلحَائِضِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلبِدْعةِ طُلِّقَتْ فِي الحَالِ، وَلَوْ قَالَ: للِسُّنَّةِ لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى تَطْهُرَ، وَلَوْ قَالَ للِطَّاهِرِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَقَعَ فِي الحَالِ، وَإِنْ قَالَ: لِلبِدْعَةِ فَإِذَا جَامَعَهَا أَوْ حَاضَتْ طُلِّقَتْ، وَاللاَّمُ فِيمَا يُنْتَظَرُ لِلتَّأقِيتِ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِرَمَضَانَ، بِخِلاَفِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِرِضَاءِ فُلاَنٍ فَإنَّهُ لِلتَّعْلِيلِ فَيَقَعُ فِي الحَالِ وَإنْ سَخِطَ فُلاَنٌ، فَلَوْ قَالَ: أردتُّ التَّأْقِيتَ يَدينُ بَاطِناً، وَهَل يُقْبَل ظَاهِراً؟ فِيهِ وَجْهَانِ، فَلَوْ قَالَ لِصَغِيرَةٍ أَوْ غَيْرِ مَمْسوسَةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ أَوْ للِبِدْعَةِ وَقَعَ فِي الحَالِ، وَكأَنَّ اللاَّمَ للِتَّعْلِيلِ وَسَقَطَ قَوْلُهُ، وَقِيلَ: لاَ يَقَعُ المُضَافُ إِلَى البِدْعَةِ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا وَتَحِيضَ، وَإِنْ قَالَ: للِسُّنَّةِ يَقَعُ في الحَالِ؟ لأَنَّ السُّنَّةَ طَلاَقٌ لا تَحْرِيمَ فِيهِ. قال الرَّافِعِيُّ: تَرْجَمَ الفصل بالتعليق بالسنَّة والبدعة، والمشهور من معنى التعليق ما يقابل التخيير، ولا ينبغي أن يحملى اللفظ عَليْه؛ لأن مسائل الفصل لا تنحصر في التعليقات، بل هي مختلطة، ألا تَرَى أنه إذا قال: أنتِ طالقٌ للبدعة، وهي حائضٌ يقع الطلاق في الحَال؛ ولا يتوقَّف على شيْء وإنَّما المراد تعليق لفظ الطلاق بالسنة أو البدعة، واضافته إليهما، أو أحدهما، ويوضِّحه أن الترجمة في "الوسيط" إضافةُ الطلاق إلى السُّنَّة والبدْعَة تنجيزاً أو تعليقاً، ويشتمل الفصل على مسائل: منْها إذا قال للحائض أو النفساء: أنتِ طالقٌ للبدعة، وقع الطلاق في الحال، وإن قال: للسنة، لم يقَع الطلاق، حتى تطْهر، ولا يتوقَّف على الاغتسال. وقال أبو حنيفة: إن كان الانقطاع لأَكْثَرِ الحيض، فكذلَكَ وإن كان لما دُونَه، فلا يقع، حتى تغتسل أو تتيمم؛ لفقد الماء، أو يمضي عليه وقت صلاة، ولو وَطِئَهَا في آخِرِ الحيْض، واستدام إلى انقطاع الدَّم لم يقَع الطلاق؛ لاقتران أول الطُّهر بالجماع، وكذا يكون الحكم إذا لم يستدم، إن فرَّعنا على الأظهر؛ وهو أنه إذا وطئ في الحيض ثم طلَّق في الطُّهر الذي يليه، يكُون الطلاَق بدعيّاً، ولو قال للطاهر أنتِ طالقٌ للسنة، فإن لم يجامعْها في ذلك الطهر، وقع في الحال وإن جامَعَها فيه، فلا يقع، حتى تحيض، ثم تطهير، ولو قال لها: أنتِ طالقٌ للبدْعَة، فإن كان قد جامعها في ذلك الطُّهْر، وقَع الطلاق في الحال، وإن لم يجامعها، فكما حاضت طُلِّقت، قال في "التتمة": ويحكم بوقوع الطلاق بظهور أول الدَّم، وإن انقطع قبْل أن يبلغ أقلَّ الحيض، بَانَ أنَّه لم يقَعْ، ويشبه أن يجيْء فيه الخلاف المذكور فيما إذا قال لها: إن حِضْتِ فأنت طالق، أنها تطلَّق برؤية الدم أو لا تطلق إلاَّ إذا مضى أقل الحيْض، ولو جامَعَها قبْل الحيض، فكما غَيَّبَ الحَشَفَة، وقع الطلاق، ووجَب عليه النزع، وإن نزع، وعاد، فهو كابتداء الوطء بعْد الطَّلاق، وإن استدام، ولم ينزع، فإن كان الطلاق رجعيًّا، فلا حد، وإن كان قد علق ثلاث طلقاتٍ،
فكذلك؛ لأن ابتداءه مبَاحٌ، وفيه وجْه: أنه يجِبُ إذا كان عالماً بالتحريم، وهل يجب المهر؟ حكمه حكم ما لو قال إن وطئْتُكِ، فأنت طالقٌ ثلاثاً، فغيب الحشفة، واستدام، وهذه الصورة قد ذكرناها في "الصوم"، وبيَّنا أن الأصحَّ أنه لا مَهْر؛ لأن مهر النكاح يتناول أوَّل هذا الوطء، فلا يجب به شَيْء آخر، وادعى صاحب "العُدَّة" أن ظاهر المذهب الوجُوبُ. وقوله في الكتاب: "واللام فيما ينتظر للتأْقِيتِ" معناه: أن اللاَّم في قوله "للسُّنَّة" إذا لم يكن الحال حال السُّنة، وفي قوله: "للبِدْعة" إذا لم يكن الحال حال البدعة تحمل على التأقيت؛ لأنهما حالتان منتظرتان يتعاقبان على المرأة تعاقُبَ الأيام والليالي، وتتكرران بتكرر الأسابيع والشهور، فأشبه ما إذا قال: أنت طالِقٌ لرمضان، ومعناه ومفهومه: إذا جاء رمضانٌ فانتِ طالقٌّ، نعم إذا دخل حرف اللام على ما لا يُنْتَظَر مجيئه وذهابه، فهو للتعليل، وذلك مثل أن يقول أنتِ طالقٌ لفلان أو لرضاء فلان، فيقع في الحال رَضِيَ أم سَخِط (¬1)، والمعنى فعلت هذا ليرضى، وعن ابن خيران أن فيما نقل الحناطي: أنه إنما يقع في الحال إذا نوى التعليل، أما إذا طلَّق ولم تكُنْ له نية، فإنما يقع إذا رضِيَ فلان، كما في قوله: أنتِ طالقٌ للسُّنَّة، والمشهور والمنصوص الأول، ونُزِّلَ ذلك منزلة قَوْل القائل: أنْت حُرٌّ، إن شاء الله لوجه الله، وحيث يُحْمَل على التعليل، فلو قال: أردتُّ التأقيت والتعليق، فيقبل في الباطن، ويدين، وهل يقبل في الظاهر؟ فيه وجْهَان، سيأتي نظائِرهما، والأصحُّ المَنْع ولو قال: أنْتِ طالقٌ برضا فلان، أو بِقُدومه، فهو تعليقٌ كقوله: إن رضي [فلان] (¬2) أو قدم، قاله صاحب "التهذيب" [وحيث] (¬3) حملنا قولَهُ للسُّنَّة أو للبدعة على الحال المنتظرة، فلو قال: أردتّ الإيقاع في الحال، وقَع؛ فإنَّه غير متهم فيما يُقِرُّ على نفسه، من تغليظ، وهو كما لو قال: أنتِ طالقٌ إن دخلْتِ الدار، وقال: أردتْ الإِيقاع في الحال، وسبَقَ لساني إلى ذكْر الدخول. وقول القائل: أنتِ طالقٌ لا للسنة، كقوله: للبدْعَة، وقولُه: لا للبدعة، كقوله: ¬
للسنة، وقولُه: أنتِ طالق [سنة] الطلاقِ، أو طلقةً سُنِّيَّة كقوله: أنتِ طالقٌ للسنّة، وقولُه: بدعة الطلاق أو طلقة بدعية: كقوله للبدعة. ولو قال: إن كان يقع عَلَيْكِ في هذا الوقْت طلاق السنة فأنْتِ طالقٌ، فإن كانت في حال السُّنَّة طُلِّقت، وإلاَّ لم تُطَلَّق لا في الحال؛ ولا إذا سارت في حال السُّنة؛ لأن الشرط لم يحصُلْ، وكذا لو قال: أنتِ طالقٌ للسنة، إذا قدم فلان، وأنت طاهرٌ، إذا قدم وهي طاهر طلِّقَت للسنة، وإلا لم تُطلَّق لا في الحال ولا (¬1) إذا طَهُرت. وجميع ما ذكَرْنا فيما إذا كان الخِطَاب مع امرأة يقع في طلاقها السنيُّ والبدعي، أما اللواتي لا ينقسم طلاقُهُن إلى سنِّيٍّ وبدْعِيٍّ، فإذا قال: لصغيرة ممسوسة أو لصغيرة أو كبيرة غير ممسوسة: أنْتِ طالقٌ للسنّة، وقع في الحال ووجه ذلك من وجهين: أحدهما: أنه لَيْس في طلاقها سنَّةٌ ولا بدعة، والتقريب بعد ذلك من وجهين: أحدهما: أنه يَلْغُو ذكر الوصف بالسنة والبدعة، ويبقى أصل الطلاق. والثاني: أنَّه إذا لَمْ يكن لها حالتا سنة ولا بدعة ينتظران، لتعاقبهما، كأن اللام للتعليل، وكأنَّه قال: طلقْتُكِ ليكون طلاقي سُنِّيّاً، وإنما يعمل "اللام" على التأقيت فيما يشبه الأوْقَات ذَهَاباً ومجيئاً، وعلى هذا فلو قال: أردتُّ التأقيت، فعلى ما ذكرنا في قَوْله: أنْتِ طالقٌ لرضا فلان. والثاني: أن السنيَّ طلاقٌ لا تحريم فيه، وأنه كذلك، وهذا مبني على تفسير السني بالجائز، والأول مبني على غيره من التفاسير، ولو قال: أنْتِ طالقٌ للبدعة، فالظاهر أنَّها تُطَلَّق أيضاً؛ لعدم اعتوار الحالين، وعن حكايته الشيخ أبي علي وجْه: أنه تحْمَل اللام على التأقيت، ويُنْتَظَر حالة التحريم بأن تحيض الصغيرةُ، ويدخل بغَيْر الممسوسة، أو تحيض وفي "شرح مختصر" الجُوَيْنيِّ، و"الرقم" للعبادي: أن ابن القَطَّان روي عن أبي حفص بن الوكيل أن الطَّلاق لا يقع؛ لتعلُّقه بصفة لا توجد، فأشْبَه ما إذا قال: أنتِ طالقٌ إن صعدت السماء، وهذا يَطَّرِدُ في قوله للسنّة، وقوله للبدعة وليعلَّم قوله في الكتاب "وَقَعَ في الحَالِ" [بالواو؛ لهذا الوَجْه فإن على هذا الوجه لا يقع في الحال ولا من بعْدُ، ويجوز أن يعاد على قولِه في الوجه الثاني "يقع في الحال"] وقوله "وَسَقط قوله" أي فيما يتعلَّق بالوصْف بالسنة والبدعة، وقوله "حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا" يعني غير الممسوسة. وقوله: "وتَحِيض" أي الصغيرة، أو الوجهان المذكوران متفقان على وُقوع الطلاق ¬
في الحال، إذا قال لها: أنْتِ طالقٌ للسنّة، وإن اختلف التوجيه، والخلاف فيما إذا قال: أنتِ طالقٌ للبدعة. ولو صرَّح بالوقت، فقال لها: أنتِ طالقٌ لوقْتِ السنّة أو لوقت البدعة، قال في "البسيط" [إن] لم ينوِ شيئاً، فالظاهر وقُوع الطَّلاق في الحال أيضاً، وإن قال: أردتُّ التأقيت المنتظَرَ، فيحتمل أن يقبل؛ لأن تصريحه بالوقت يكاد يلحقه بالمواقيت، ولا نقل (¬1) فيه. ولو قال: أنْتِ طالقٌ لا للسنّة ولا للبدعة، وقَعَ الطلاق في الحال، أما إذا لم تكُنْ متعرِّضة للسنّة والبدعة، فحَالُهَا ما عَبَّرَ عنْه، وأما إذا كانَتْ متعرِّضة لهما؛ فلأن الوصفَيْن لا ينتفيان (¬2) فيلغو ذلك، ويبقى أصل الطلاق، وكذا الحُكْم لو قال: أنْتِ طالقٌ طلقةً سنيةً بدعيةً؛ لأن الوصفين لا يجتمعان. فَرْعٌ: لو قال لها في زمان البدْعَة: أنتِ طالقٌ طلاقاً سُنِّيَّاً، أو في زمان السنة أنتِ طالِقٌ طلاقاً بدعيًّا، ونوى الوقوع في الحال قال في "التتمة": لا يقع الطلاق؛ لأن النية إنما تعمل فيما يحتمله اللفظ، لا فيما يخالفه صريحاً وإذا تنافَيَا نُلْغِي النِّيَّةَ ونعمل باللفظ لأنَّه أقوى ولو قال: أنْتِ طالقٌ الآن طلاقاً سُنِّياً، والحال حال البدعة، يقع الطلاق في الحال، اعتباراً بالإِشَارة إلَى الوَقْت ويلغو اللفظ. واللَّهُ أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِيَةُ): إِذَا قَالَ للطَّاهِرَة: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثاً بَعْضُهُنَّ للِسُّنَّةِ وَبَعْضُهُنَّ لِلبِدْعَةِ يُحْمَلُ عَلَى التَّشْطِيرِ مُطْلَقُهُ فَيَقَعُ فِي الحَالِ طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ لِتَكْمُلَ في الحَالِ طَلْقَتَيْنِ، وَقَالَ المُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: تَقَعُ وَاحِدَةٌ لأَنَّ البَعْضَ مُجمَلٌ وَأَقَلُّهُ الوَاحِدُ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: ¬
أَرَدت فِي الحَالِ ثَلاَثةَ أَنْصَافٍ كَمُلَ الثَّلاَثُ فِي الحَالِ، وَلَوْ قَالَ: أَرَدتُّ وَاحِدَةً في الحَالِ وَثِنْتَيْنِ فِي الاسْتِقْبَالِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُقْبَلُ، وَقِيلَ: لاَ يُقْبَل لأَنَّ الثِّنْتَيْنِ بَعْضاً بَعِيدٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال لامرأته: أنْتِ طالقٌ ثلاثاً بعضهن للسنة، وبعضهن للبدعة، وهي من ذوات الأقراء، فيُنْظَر إن أطْلَق، ولم يَنْو شيئاً فالنصُّ أنَّه يحمل على التشطير، فتكون حصَّة الحال طلقةً ونصْفَ طلقة، أو بعض الطلاق يُكَمّل، فيقع في الحال طلقتان، فإذا صارت إلى الحالة الأخْرى وقعتِ الطلقة الباقية، ووجْه ذلك بأن الشَّيْء إذا أُضِيف إلى جهتَيْن بلفظ البَعْض لزمت التسوية؛ ألا ترى أنَّه لو قال: هذه الدار بعضها لزَيْدٍ، وبعضها لعَمْرو يحمل إقراره على التشطير، إذا لم تكن له بينة، وذكر المزنيُّ: أنه يقع في الحال طلقةً، وتتأخر الطلقتان إلى الاستقبال؛ لأن لَفْظ البَعْض يقع على القليل والكثير، فالمستيقن وقُوع الواحدة، وجعَل الحناطي والإِمَام هذا وجْهاً في المَذْهَب، ولم يعدُّوه من تفردات المزنيِّ، ومن صار إلَيْه لا يكاد يُسَلِّم مسألة الإِقرار، ويقول يأنه مُجْمَل يرجع إليه فيه، ونقل الحناطي وجهاً ثالثاً: وهو أنه تقع الثلاث في الحال؛ حمْلاً على إيقاع بَعْض من كل طلقة في الحال، وإن قال: أردتُّ إيقاع بَعْضٍ مِنْ كل طلقة في الحال، وقَع الثَّلاَثُ في الحال، وإن قال: أردتُّ التشطير قُبل، ووقع في الحال طلقتان. [وفي الاستقبال الطلقة الثالثة، وإن قال: أردتُّ في الحال طلقتان]، وفي الاستقبال طلقة قبل، وحكم بمقتضاه، وإن عكس وقال أردتُّ في الحال طلقة وفي الاستقبال طلقتين، فوجهان: أحدهما: وبه قال ابن أبي هريرة: أنه لا يقبل؛ لأنَّهُ يُؤَخِّر طلقةً يقتضي الإِطْلاَقُ تعجيلَها، كما لو قال: أنتِ طالقٌ، ثم قال: أردتُّ إن دخلتِ الدار. وأصحُّهما -ويُحْكَى عن نصِّه، واختيار أبي إسحاق-: أنه يقبل، ويحكم بموجب قوله؛ لأن اسم البَعْض يقع على القليل والكثير من الأجزاء، وربَّما علل الوجْه الأول بأن تسمية الشيْء بعضاً من الثلاث بَعيد؛ لأن معظم الشَّيْء لا يكاد يُعَبَّر عنه بالبعض، هذا ما ذكره في الكتاب، لكنه موجود فيما إذا قال: أردت طلقتين في الحال، وواحدةً في الاستقبال إلاَّ أنه هناكَ هو مُقِرٌّ علي نفسه بالأغلظ، فلم يُتَّهم، وهذا الخلاف في القبول ظاهراً، ولا خلاف أنه يَدِينُ، قال في "التتمة" وتظهر فائدة الخلاف فيما إذا ندم على ما سبق منْه، وأراد أن يخالِعَها حتَّى تصير إلى الحالة الأخرى، وهي بائن فتخل اليمين، ثم يعود ويتزوجُها وقلْنا؛ الخُلْع طلاقٌ، فإن قلنا: الواقعُ في الحال طلقةٌ، أمكلنه ذلك، وإن قلنا: طلقتان، لم يمكن. ولو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً بعضهن للسنّة، واقتصر عليْه وكانت في حالة السُّنَّة قال في "الشَّامِل" تجيْء على الوجه الأصحِّ وهو القبول، إذا قال أردتُّ طلقةً في الحال، وثنتين في الاستقبال أن لا يقع إلا طلقة، لأن البَعْض ليس عبارة عن النِّصْف، وإنما
حملناه على التشطير عنْد الإِطلاق؛ لأنَّه أضاف إلى الحالين جميعاً فسوينا بينهما، وها هنا لم نضف إلى الحالين. ولو قال: أنتِ طالقٌ خمساً بعضهن للسنة، وبعضهن للبدعة، ولم ينْو شيئاً، فعلى الخلاف الذي سيأتي: أن الزيادة على المملوك من الطلاق، تنصرف إلى المملوك أم لا؟ ويتبع (¬1) اللفظ إن قلنا بالأول يقع في الحال طلقتان، وفي الثاني طلقةٌ تفريعاً على النص، وإن قلنا بالثاني، وهو الأصح تقع الثلاث أخْذاً بالتشطير وبالتكميل. ولو قال لها أنتِ طالقٌ طلقتَيْنِ، طلقة للسنّة، وطلقة للبدعة [أو قال: أنْتِ طالقٌ طلقةً للسنَّة وطلقة للبدْعَة]، يقع طلقة في الحال، وأخرى في الاستقبال، ويخالف ما إذا قال: طلقة طلقة للسنّة والبدعة، حيث يقع في الحال طلقة، ولا يقع بَعْد ذلك شيء، لأن هنا لم يوقع إلاَّ طلقةً واحدةً، لكن وصفها بوصفين متناقضين فيلغو الوصفان ووقعت الموصوفة. لو قال: طلقتين للسنّة والبدعة، فوجهان: أحدهما: تقع طلقة في الحال وأخرى في الاستقبال، صَرْفاً لكل صفة إلى طلقة وأصحهما، على ما ذكر في "التهذيب": أنه تقع الطلقتان في الحال؛ لأن قوله للسنّة والبدعة وصف للطلقتين في الظَّاهر، والطلقتان متناقضتان فتساقطتا، وبقيت الطلقتان، وهذا كما أنه لو قال: أنْتِ طالقٌ ثلاثاً للسنَّة والبدْعة، تقع الثلاث في الحال، ولو قال للتي لا ينْقَسِم نكاحُها إلى السنيِّ والبدعيِّ: أنتِ طالق ثلاثاً بعضهن للسنة، وبعضهن للبدعة، يقع الثلاث في الحال، كما لو وصَف الكُلَّ بالسنّة أو البدعة. ولو قال: طلقة للسُّنَّة، وطلقة للبدعة، وقَعَتَا في الحال. وقوله في الكتاب: "إذا قال للطاهرة" للتمثيل لا للتخصيص بالطاهر، بل حكم الطاهر والحائض واحدٌ فيما ذكر، إنما المعتبر أن يكون لها حيْض وطُهْر. وقوله: " أَرَدتُّ في الحَالِ ثلاثَة أنْصَافٍ" لا يختص الحكم بالأنصاف، بل لو قال: أردتُّ ثلاثَةَ أَثْلاَثٍ أو أرباعٍ، كان الحُكْم كذلك إنما المعتبر أن يريد بعضاً من كل طلقة. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثَةُ): إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقْ أَجْمَلَ الطَّلاَقِ وَأَفْضَلَهُ وَأَحْسَنَهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: للِسُّنَّةِ فَلاَ يَقَعُ فِي حَالَةِ الحَيْضِ، وَلَوْ قَالَ: أَقْبَح الطَّلاَقِ وَأَسْمَجَهُ فَهُوَ كقَوْلِهِ: لِلْبِدْعَة، وَلَوْ قَالَ: طَلْقَةً قَبِيحَةً حَسَنَةً أَوْ سُنِّيَّةً بِدْعِيَّةً فَيَلْغُو الوَصْفُ لِتَنَاقُضِهِ وَيَقَعُ أَصْلُ الطَّلاَقِ. ¬
قال الرَّافِعِيُّ: إذا وصَف الطلاق بصفة من صفات المدح بان قال: أنتِ طالقٌ أجْمَلَ الطلاقِ أو أفضلَه [أو] (¬1) أعدله أو أحسنه أو كمله أو أتمه أو أجوده أو خيَر الطلاق أو أنت طالقٌ للطاعة، ولم ينو شيئاً، فهو كما لو قال: أنتِ طالقٌ للسنّة، حتى لا يقَع، إن كان في حال البدعة حتَّى ينتهي إلى حال السنة، وإن نوى شيئاً نُظِرَ؛ إن نوى ما يقتَضِيه الإِطْلاق، فذاك ونيته مؤكّدة، وإن قال أردت طلاق البدعة قبل لأنه من حقها أحْسَن من جهة سوء خُلُقها أو عشرتها، فإن كانت في حال البدعة؛ لأنَّه غَلَّظ على نفسه (¬2)، وإن كانت في حَال السنة لمْ يُقبل في الطاهر، ويدين، وقد يَجيْء خلاف في الظاهر، وإذا وصَف الطلاق بصفة من صفات الذمِّ، فقال: أنتِ طالقٌ أَقبح الطلاق أو أسمجه أو أفضحه أو أفظعه أو أردأه أو أفحشه أو أنتنه، أو أنت طالقٌ شَرَّ الطلاق وما أَشْبَه ذلك، فهو كقوله: أنتِ طالقٌ للبدعة، حتى لا يقع، وإن كانَت في حال السنة حتى تنتهي إلى حال البدعة، وإن قال: أردت قبح الطلاق من جهة حُسْن خلقها وعشرتها أو قال: أردتُّ أن أقبح أحوالها أن تَبِينَ مني، وَقَع في الحال؛ لأنه غَلَّظَ على نفسْه، وإن قال: أردتُّ أن طلاق مثل، هذه في حال السنّة أقبح، فقصدت بقولي "أقبح" أن تطلَّق في حال السنّة، لم يُقبل في الظاهر، ويدين. ولو قال: أنْتِ طالقٌ للحرج فهو كقوله أو طلاق الحرج للبدعة، ولو خاطب بهذه ألفاظ الَّتي لا سنّة في طلاقها، ولا بدعة، فهو كما لو قال لها: للسنّة أو للبدعة، وقد مَرَّ، ولو جمع بين صفتي المَدْح والذَّمِّ، فقال: أنْتِ طالقٌ طلقةً حسنةً قبيحةً أو جميلةً ¬
فاحشةً أو سنّية بدعيةً أو للحرج والعدل والمخاطبة، من ذوات الأقراء، وقعت في الحال، كما ذَكّرنا في قوله: للسنّة و"البدعة" وحكُيَ في توجيهه اختلافٌ. والأظهرَ -وهو المذكور في الكتاب-: أن وجهه أنه وصف الطلاق بصفَتيْن متضادَّتَيْن، فبلْغُو، ويبقى أصْل الطَّلاق، وعن أبي إسحاق، أن الطلاق إنما يقع؛ لأن إحدى الحالَتَيْن حاصلاً لا محالة، والصفة التي هي موجب تلك الحالة واقعةٌ موقعها، فيقع الطلاق موصوفاً بتلك الصفة، ويلغو الصفة الأخرى، ويجيْء أن يقال.: لو لم تكن المرأة متعرِّضة للسنّة والبدعة، فقضية التعليلٍ الأول وقوعُ الطلاق، وقضيةُ التعليلِ الثاني ألاَّ يَقَع، لأن واحدة من الحالتين غيْرُ حاصلة، وذكر الشيخ أبو الفرج في "الأمالي": أنَّه لو فسَّر كل صفة بمعنى فقال: أردتُّ كونَهَا حسنة من حيثُ الوقت، وقبيحة من حيث العَدَدُ، حتَّى تقع الثلاث أو بالعَكْس، فيقبل وإن تأخر الوقُوع؛ لأنُّ ضرر وقُوع العَدَد أكثر من فائدة تأخير الوقوع. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرَّابِعَةُ): إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثاً فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةٌ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهِيَ حَائِضٌ لَمْ يَقَعْ، وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَةً وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ وَبَانَتْ فَلاَ تَلْحَقُ الثَّانِيَةَ، وَإِنْ جَدَّدَ نِكَاحَهَا قَبْلَ الطُّهْرِ الثَّانِي لَحِقَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ عَلَى قَوْلِ عَوْدِ الحِنْثِ، فَإِنْ جَدَّدَ النِّكَاحَ بَعْدَ الطُّهْرَينِ لَمْ يَقَعْ لانْحِلاَلِ اليَمِينِ بِالطُّهْريْنِ قَبْلَ التَّجْدِيدِ، وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولاً بِهَا لَحِقَهَا الثَّلاَثُ فِي ثَلاَثَةِ أَقْرَاءٍ وَقَد شَرعَتْ بالأوْلَى فِي العِدَّةِ، وَهَلْ تُسْتَأْنفُ العِدَّةُ لِلُحُوقِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلاً وَهِيَ تَحِيضُ، وَقُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ حَيْضٌ فَيَقَعُ وَاحِدَةً فِي الطُّهْرِ الأَوَّلِ، وَهَلْ يَتَكَرَّرُ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ؟ لأَنَّ القُرْءَ مَا يَدُلُّ عَلَى البَرَاءَةِ وَلاَ دَلاَلَةَ مَعَ الحَمْلِ، وَإِن كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ آيِسَةً فَفِي وُقُوع وَاحِدٍ فِي الحَالِ خِلاَفٌ مَبنِيٌّ عَلَى أَنَّ القُرْءَ طهْرٌ مُحْتَوشٌ بِدَمَيْنِ، أَمْ الانْتِقَالُ مِنَ الطُّهْرِ إِلَى الحَيْضِ قُرْءٌ أَيْضاً. قال الرَّافِعِيُّ: أورد الشَّافعي -رضي الله عنه- والأصحاب -رحمهم الله- هذه المسألة في خلالَ مَسائِل السُّنة والبدعة، وإن لم يَعْظُمْ تعلقها بها، وصورَتُها أن يقول لزوجته: أنت طالقٌ ثلاثاً في كل قُرْء طلقةً، أو أنتِ طالقٌ في كل قرء طلقةً، ولها أحوالٌ ثلاثٌ إحداها: أن تكونَ حائلاً من ذوات الأقراء، فإِمَّا أنْ تكونَ غيْر مدخولٍ بها، أو مدخولاً بها، فإن كانت غير مدخولٍ بها، نُظِرَ إن كانت حائضاً، لم يقع الطَّلاق على المشهور، وهو المذكور في الكتاب لأن الأقراءَ عنْدنا الأطْهَارْ، وحكى أبو سعد المتولِّي، وغيره أن الشيخ أبا حامد قَال: يقع عليها في الحال طلقة لأنَّها غير مخاطبة بالعِدَّة، فحيضها كطُهْرها، وإن كانت طاهراً (¬1) وقَعَتْ في الحال طلقة، وتبين بها فلا ¬
تلحقها الثانيةُ والثالثة، فإن جدَّد نكاحها قَبْل الطهر الثاني، ففي وقُوع الطلقة الثانية والثالثة قَوْلا عَوْدِ اليمين والحَنِث، وإن جدَّد النكاح بعْد الطهرين، لم يقَعْ شيء وإن قلْنا: بعود الحنث، لانحلال اليمين بمضي الطُّهْرين، بعد الطهر التي وقعت تلك الطلقة فيه، وإن كان بعْد الدُّخول وقَعَت في كل قرء طلقة، سواء جامَعَها فيه، أو لم يجامْعها وتكونُ الطلقة الواقعةُ سنّيةَ، إن لم يجامعْها، وبدعيةً إن جامَعَها، وتشرع في العدة بالطلْقة الأُولى، وهل يجب استئناف العدة، لِلُحوق الثانية والثالثة، فيه قولان معادان في كتاب "العدة" والأصحُّ: الوجوب. والثانية: أن تكون حاملاً، فإن كانت لا تَرَى الدَّم على العمل، وقَعَت في الحال طلقة، قال في "التَتمة"، إذا لم تَحِض قطُّ، وبلغَتْ بالحمل مثَلاً، فيكون وقوع الطلاق على وجهَيْن أو قولَيْن، بناءً على أن القُرْء عبارة عن الطُّهْر بين الدمَيْن أو عن الانتقال من الطُّهْر إلى الدم، إن قلْنا بالأول، لم يقَعْ حتى تَضَع، وتطَّهُر من النفاس، وإن قلْنا بالثاني تَقَع؛ لأنَّهُ طُهْر ينتقل منه إلى دم النفاس، وهذا أظْهر، وإذا وقَعَت الطلقة، فإن راجعها قبْل الوضْع وقعت طلقةٌ أخرى إذا طَهُرت من النفاس، وعليها استئناف العدَّة، وطئها بعد المراجعة أو لم يطأْها، بخلاف ما إذا راجَع المطلَّقة، ثم طلَّقها قبل أن يطأها؛ حيْثُ يكفي البناءُ، ولا يجب الاستئناف، على قول؛ لأنَّ الطلقة الثانيةَ: هنَاكَ تقَع في زمان محْسُوب من العدة لولا الرجعة؛ لأن العدة تنقضي بالوَضْع، ونظير ما نحْن فيه ما إذا راجَعَها وأمْسَكَها حتى مضَى الباقي من الأَقْرَاء، ثم طلَّقها، وحينئذٍ يجِبُ الاستئناف بلا خِلاَف، وإن لم يراجعْها، فتنقضي عدَّتها بوَضْع الحَمْل، وتبين ولو جدد نكاحها قبل تمام الأقراء، فيعود قولاً عَوْد الحنثُ واليمين، وإن كانت ترى الدَّم على الحَمْل، فيُبْنَى على الخِلاَف أنَّه حَيْض أم لا، إن لم نجعلْه حَيْضاً فالحُكم كَمَا لو لم تر الدَّم، وتقع في الحال طلْقة، وحكى الحناطي وجْهاً: أنَّا وإن لم نجعلْه حيضاً، فلا يقع الطَّلاق إذا وافَق قوْلُه وقْت الدم حتَّى تطْهُر، فإن جعلْناه حيْضاً، فإن وافق قولُه وقتَ النقاء، وقعتْ في الحال طلقةٌ، وإن وافقت وقت الدم، فالذي ذكره الشيخ أبو حامد [و] (¬1) صحَّحه العراقيون أنَّها تقَع أيضاً؛ لأن مدة الحمل لها إلى أن تضع كالقرء الواحد في الدلالة على البراءة والأشبَهُ وَهو الذي ذكره القاضي أبو الطيِّب والحناطي ورجِّحه صاحب "التتمة" وغيره -المَنْعُ إلى أن تطهر؛ لأن القرء الطُّهْر، وهي حائضٌ في ذلك الوقت، وإذا وقعت طلقة، إما في الطهر أو في الحيض، فهل يتكرَّر في الطُّهْر الثاني والثالث، فيه وجْهَانِ، حكاهما الإِمام وصاحب الكتاب. أحدهما: نعم؛ لأنَّهُ طُهْر وقع بين دمين، كل واحدة منهما حيضة. ¬
أصحهما: المَنْع؛ لأن القرء ما يَدُلُّ على البراءة، ويُعْتد به عن العدة، وهذا المعنى لا يتحقَّق مع الحَمْل، ومنهم من قَطَع بهذا الوجه الثاني والثالث إذا كانت صغيرةً لم تحِضْ قطٌّ، فيبنى حكم الطلاق على أن القرء طُهْر يحتوشه دَمَان، أو هو الانتقال من الطُّهْر إلى الحيض، وقد يُقَال: هو مجَّرَّد الانتقال، وفيه خِلافٌ يذكر في موضعه، فإن قلنا بالأول، فلا تُطَلَّق حتى تحيض، ثم تطْهُرَ، ولا يؤمر الزَّوْج باجتنابها في الحال، وإن قلنا بالثاني، فالذي أطلقه العراقيون وصاحب "التهذيب" وغيرهم -رحمهم الله- أنَّه: يقع عليها في الحال طلقة وفي "التتمة": أنهُ يؤْمَر الزَّوْج باجتنابها؛ لأن الظاهر أنها ترى الدَّمَ، فإن رأته، بان وقوع الطلاق، وإن ماتَتْ ولم تره، ماتَتْ على النكاح، وهذا ما أورده أبو الفرج السرخسيّ في "الأمالي" فقال إذا رأتِ الدَّمَ تَبَيَّنَ وقوع الطلاق يوم التلفظ، وإذا حكَمْنا بأنَّه وقعَتْ طلقةً، فلو لم تحِضْ، ولم يراجعْها الزوج، حتى مضت ثلاثةُ أشهر حَصَلَت البينونة، فإن نكَحَها بعْد ذلك ورأتِ الدَّم، فيعود الخلافُ في عَوْد اليمين والحَنِث، فإن رأت الدم قَبْل مضيِّ ثلاثة أشهر، تكرَّر الطلاق بتكرر الأطهار، وعن صاحب "التقريب" وجْه غريب: أن الأقراء في الصغيرة محمولةٌ على الأشهر؛ لأنَّها بدل الأقراء في حقِّها شرعاً، والآيسة التي انقطع حيْضُها، كالصغيرة، ففي وقوع الطلاق عليها الخلافُ، قال أبو الفرج إن قلْنا: إن القرء عبارةٌ عن الانتقال يقَع في الحال؛ لأنها في طُهْر انتقلت إلَيْه من الحيض، وإن قلنا: عبارةٌ عن طُهْر يحتوشه دمَان، فلا يقع، فإن حاضَت من بعْدُ على ندور تبيَّن الوقوع، والأظهر عند الأئمة في الصغيرة والآيسة الوقُوعُ. ولو قال لزوجته: أنتِ طالقٌ في كل قرء طلقةً للسنّة، فهُو كما لو لم يقل للسنّة في أكثر الأحكام والأحوال، نَعَم، ذات الأقراء إذا كانَتْ طاهراً، أو كان قد جامَعَها في ذلك الطُّهْر يتأخر وقُوع الطلاق إلى أن تحيض، ثم تطهر. ولو قال: أنتِ طالقٌ في كل طُهْر طلقةً، وكانت حاملاً، لا ترى الدَّم أو كانت تراه ولا تجعله حيضاً تقَعُ في الحال طلقةٌ، سواءٌ كانت ترى الدَّم، في تلك الحالة أو كانَتْ لا تراه، ولا يتكرر بتكرر الانقطاعات، وإن كانت ترى الدم وجعلْناه حَيْضاً، فإن كانَتْ في حالة رُؤْية الدَّم، لم يقع حتى تطهر وإن كانت في حالة الطُّهْر وقع في الحال ويتكرَّر بتكرُّر الأطهار. وقوله في الكتاب "وإن كانَتْ حاملاً وَهِيَ تَحِيضُ وَقُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ حَيْضٌ" يريد "وهي ترى الدم"، وقد أبدل بذلك في بعض النسخ، وقوله "إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً" يريد التي لم تحض بالغةً كانت أو لم تكُنْ، والتي لا تحيض في مبدأ الأمر تكون صغيرةً غالباً، فيعبر عنها بالصغيرة.
قَالَ الغَزَالِيُّ: (الخَامِسَةُ): إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثاً لِلسُّنَّةِ ثُمَّ قَالَ: أَرَدتُّ التَّفْرِيقَ عَلَى الأَقْرَاءِ لَمْ يُقْبَلْ لأَنَّهُ لاَ سُنَّةَ عِنْدَنَا فِي التَّفْرِيقِ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ لِلسُّنَّةِ ثُمَّ فُسِّرَ بِالتَّفْرِيقِ فَهَلْ يَدِينُ فِيهِ وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ: أَرَدتُّ عِنْدَ دُخُولِ الدَّارِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَرَدْتُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَكَذَا كُلُّ مَا يُحْوِجُ إِلَى زِيَادَةِ تَفْسِيرٍ، أَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى التُّخْصِيصِ فَيَدِينُ، وَهَلْ يُقْبَلُ ظَاهِراً؟ فِيهِ خِلاَفٌ كَمَا لَوْ قَالَ: نِسَائِي طَوَالِقُ ثُمَّ اسْتَثْنَى وَاحِدَةً بِنِيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ وَأَرَادَ البَعْضَ، أمَّا إِذَا ظَهَرَتْ قَرِينَةْ فَالظَّاهِرُ أنَّهُ يُقْبَلُ كَمَا لَوْ عَنَى بِنيَّتِهِ نِكَاحَ جَدِيدَةٍ، ثُمَّ لَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ وَزَعَمَ أَنَّهُ مَا أَرَادَ الحَاضِرَةَ، وَكَذَا إِنْ كَانَ يَحُلُّ وَثَاقاً عنها فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أنَّهُ يُقْبَلُ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتِ زَيداً فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُّ شَهْراً يُقْبَلُ لأَنَّهُ كَتَخْصِيصِ عُمُومٍ، وَالحَاصِلُ أَنَّهُ يَدِينُ فِي كُلِّ احْتِمَالِ وَإنْ بَعُدَ وَإنَّمَا يُقْبَلُ فِي الظَّاهِرِ إِذَا ظَهَرَ احْتِمَالُ اللَّفْظِ أَوْ شَهِدَ لَهُ قَرِيَنَة. قال الرَّافِعِيُّ: إذا قال لامرأته أنتِ طالقٌ ثلاثاً للسُّنَّة ثم قال: نويت تفريق الثلاثِ على الأقراء، لم يُقْبَل قوله في الظَّاهر؛ لأن اللفظ يقتضي وُقُوع الكُلِّ في الحال، إن كانَت طاهراً، والوقوع كما طهرت إن كانت في الحال حائضاً، ولا سُنَّة في التفريق على ما تقدَّم، وليس في اللفظ إشْعَار بما يبديه. قال في "التتمة": إلاَّ أنَّه إذا كان الرَّجُل ممَّن يعتقد تحريم الجمع في قرء واحد، فيُقْبَل قولُه في الظاهر؛ لأن تفسيره يستمر على اعتقاده، وحكى الحناطي وجْهاً مطلقاً: أنه يقبل [قوله] في الظاهر، والمنصُوص المشهور الأَوَّلُ، ولو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً، ولم يقُلْ: للسُّنَّة ثمَّ فسَّر بالتفريق على الأقراء، فكذلك لا يقبل في الظَّاهر؛ لأنَّه يؤخر ما يقتضي اللفظ تنجيزه، وفي الصورتين: هل يَدِينُ، ونَقْبَل قوله في البَاطِن فيه وجهان نقلهما الإِمام وغيره: أصحُّهما: وهو المنصوص أنه يَدِينُ (¬1)؛ لأنَّه لو وصَل باللفظ ما يدعيه لانتظم. ¬
والثاني: المَنْع؛ لأن اللفظ بمجرده لا يصْلُح لما يدعيه، ومجرَّد النية لا يعمل ومعنى التدين مع نفي القبولِ ظاهراً أن يقال للمرأة: أنْتِ بائنٌ بثلاث في ظاهر الحكم، وليس لَكِ مطاوعتُه إلاَّ إذا علمْتِ صدْقه، أو غلب على ظنِّكِ بقرينة أو أمارة، ويقال للرجل: لا نمكنك من تتبعها ولك أن تتبعها والطلب فيما بينك وبين الله -تعالى-، وتحِلُّ لك إذا راجَعْتَها، وهذا هو المراد بما بما يروى عن الشافعيَّ -رضي الله عنه- رحمه الله أنه قال: لَهُ الطَّلب، وعَليْهَا الهَرَبُ، وعلى هذا القياس حكم القبول ظاهراً وباطناً، فيما إذا قال للصغيرة: أنتِ طالقٌ للسُّنَّة، ثم قال: أردتُّ إذا حاضتِ وطهرة وفيما إذا قال: أنت طالق، ثم قال: أردت إن دخَلتِ الدارَ أو إذا جاء رأس الشهر، وألحق صاحب الكتاب بهذه الصورة ما إذا قال: أنْتِ طالقٌ، ثم قال أردت إن -شاء الله- وقال كلُّ ما يحوج إلى تقييد الملفوظ به بقَيْد زائد، فهو كذلك، وحَكَى القاضي الرُّوياني هذا الجواب عن القَفَّال، والمشهور في كتب كبار المَذْهَب: أنَّه لا يدين في قوله: أردت إن شاء الله، وَيدِينُ في قوله: أردتُّ عن وثاق أو إن دخلَتِ الدار أو إن شاء زيْدٌ، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب"، وذكر القاضي الرُّويانيُّ أنه ظاهر المذهب، وفرقوا بين قوْلِه: أردتُّ "إن شاء الله" وبين سائِرِ الصور بأن التعليق بمشيئة الله برْفَع حُكم الطلاق جمْلة، فلا بدّ فيه من اللفظِ، والتعليقُ بالدخول لا يرفعه جُملةً، ولكنه تخصيص بحالٍ دون حال، وقولُه "من وثاق" تأويلٌ وصرف اللفظ من مَعْنًى إلى معنًى، فَكفَتْ فيه النية، وإن كانت ضعيفة، وشبهوا ذلك بأن النَّسخ لَمَّا كان رفعاً للحكم، لم يجُزْ إلا باللفظ والتخصيص يجوز بالقياس، كما يجوز باللفظ، وأما إذا أتى بلَفْظ عامٍّ وقال: أردتُّ بعض الأفراد الداخلة تحْتَه، فقد قال الشَّافعي -رضي الله عنه- في المختصَر ولو قالَتْ له طلِّقْنِي، فقال: كل امرأة لي طالِقٌ، طُلِّقَتِ امرأته الَّتي سألتْه إلا أن يكون عزلها بنيته، وظاهر هذا النص أنَّه إذا قال: نسَائِي طوالقُ أو كل امرأة لي طالق، وعزل بعضهن بالنِّيَّة، لا يقع عليها الطلاق، واختلف الأصحاب في ذلك على وجهَيْن، قال أكثرهم: يقع الطلاق ظاهراً، ولا يُقْبَل قوله في الحكم؛ لأن اللفظ عامٌّ متناول لجميعهن؛ فلا يتمكن من صَرْف مقتضاه بالنية، كما إذا قال: أنتِ طالقٌ، وقال: أردت إذا جاء رأس الشهر، وهؤلاء تكلموا في النصِّ من وجهين: أظهرهما: الحَمْل على أنها لا تطلَّقُ بينه وبين الله تعالى. والثاني: قيل: إنَّ لفْظ النَّصِّ "إلاَّ أن يكونَ عزلها، في نيته" وهي الاستثناء الظاهر، ويُحْكَى هذا عن أبي علي الطبسي قال في "البسيط": وفي هذا نسبة الأصحاب إلى التصحيف، ثم في الحروف تفاوتٌ بعيداً، وقال أبو حفص بْنُ الوكيل: يُقْبَل قولُه في الظاهر؛ لأن استعمال العَامِّ في الخاص شائع مشهورٌ، والخلاف في القبول الظاهر يجري، سواءٌ كانت هناك قرينة تصدِّقه، كما إذا خاصَمتْه المرأة: وقالت: تزوجْتَ
عَلَيَّ، فقال في إنكاره: كل امرأة لي طالقٌ، ثم قال: أردتُّ غير المخاصمة، أو لم تكن هناكَ قرينةً. والأظهر عند القفَّال والمعتبرين: أنَّه لا يُقْبلَ في الظاهر، إن لم تكن قرينة، ويقبل إن وُجِدَتْ قرينة، وهو اختيار القاضي الرُّوياني، ومن هؤلاء من حمل النصَّ على ما إذا وُجِدت القرينة، ونفى بعضُهم الخلاف فيما إذا لم تكُنْ قرينةٌ، وفي بعض التعاليق أن القاضي الحُسَيْن فرَّق بين أن يقول: كلُّ امرأة لي طالقٌ، ثم عزَلَ بعضهن بالنية، وبين أن يقول: نسائِي، وقال: إذا قال نسائِي طوالقُ، ثم قال: كنتُ عزلت ثلاثاً بالنية لم يُقْبَل؛ لأن اسم النساء لا يقع على الواحدة ولو قال عزلت واحدة يُقْبَل، وذكر تفريعاً على هذا وجهين فيما لو عزل اثنين، وأُجري الخلاف في القَبُول الظاهر فيما إذا قال: إن أكلْتِ خبزاً أو تمراً، فأنتِ طالقٌ، ثم فسَّر بنوع خاصٍّ، وطردهما صاحب الكتاب وغيره فيما إذا كان يحل وثاقاً عنها، فقال: أنتِ طالقٌ، ثم قال: أردت الإِطلاق عن الوثاق، وقال: الظاهر القَبُول، وفيما إذا لم توجَدِ القرينة أشَار في سائر كتبه إلى أنَّه لا يجيْء في التدبير الخلافُ المذكُورُ، فيما إذا قال: أردتُّ إن دخَلَتِ الدارَ، وفرق بأن قوله: أنتِ طالقٌ، وإن خصَّصه الشرْعُ برَفْع قيد النكاح، لكنه كالمُجْمَل المبهم من حيْث اللغةُ، ويحتمل أن يكون من الوَثَاق وغيره، فالتفسير بيان للمبهم، وأما التقييدات، فليس لمجرد اللفظ دلالةٌ عليها ولو قال: إن كلَّمْتِ زيداً، فأنت طالقٌ، ثم قال: أردتُّ التكليم شهراً، فيُقْبَل كذا حُكِيَ عن نص الشافعيِّ -رحمه الله-، والمراد على ما نَقَل في "البسيط" و"الوسيط" القبول الباطن، حتى لا يقع في الباطن، إذا كان التكلُّم بعد الشهر (¬1)، وحاول ردَّه إلى تخصيص العموم، حتى يَدِينَ فيه بلا خلافٍ، فإن اللفظ كالعامِّ في الأزمان، فإذا قال أردتُّ شهراً، فكأنَّه خصص العام، وقد يقابَلُ هذا بمثْلِه، فيقال: اللفظ عامٌّ في الأحوال إلاَّ أنَّه خصَّصه بحال أحوال الدار. وقوله في الكتاب وَكَذَا لَوْ قَالَ: "أَردتُّ إنْ شَاءَ اللَّه" ليعلَّم وما بيناه. وقوله "كَمَا لَوْ عاتَبَتْهُ بِنِكَاحِ جَدِيدَةٍ، فقال" وفي بعض النسخ، "كما لو عني بنيته نكاح جديدة"، قال: وهما مقيدان. وقوله: "والحَاصلُ أنَّه يَدِينُ في كل احْتِمَالِ وَإِنْ بَعْدَ .... " آخره إشارةٌ إلى ضَبْط ما يدين فيه، وما يُقْبَل في الظاهر من التفاسير وشَره ما حُكِيَ عن القاضي الحُسَيْن -رحمه الله- لما يبديه الشخص، ويدَّعيه من النية مع ما أطلقه من اللفظ أرْبَعَ مراتب. إحداها: أن يرفع ما صرَّح به اللفظ، كما إذا قال: أنْتِ طالقٌ ثم قال: أردتُّ ¬
طلاقاً لا يقع عليْكِ، أو قال لم أُرِدْ إيقاع الطلاقِ، فلا مبالاة بما يقوله لا في الظاهر، ولا في التدين الباطن. والثانية: أن يكون ما يبديه مقيِّداً لما تلفظ به مطلقاً، كما إذا قال: أنْتِ طالقٌ ثم قال: أردتُّ عند دخول الدار ومجيء الشهر، ولا يُقْبَل في مثل ذلك قولُه ظاهراً وفي التديين خِلاَفٌ. والثالثة: أن يُرجِعَ ما يدعيه إلى تخصيص عموم، فهذا يدين فيه وفي القبول ظاهراً خلاف. والرابعة: أن يكون اللفظ محتملاً للطلاق من غير شيوع وظهور فيه، وفي هذه الدَّرَجَة يقع الكنايات، ويعمل فيها بموجب النيَّة. وقوله: إنما يقبل ظاهراً، أي المؤثر في القَبُول ظاهراً، وإن كان مختلفاً فيه، فامَّا ظهورُ احتمال اللَّفظْ لما يدَّعيه، كما ذكَرْنا من تبيين المُجْمَل، وتخصيص العام، وإما قرينةٌ لتنضم إلَيْه، كما بَيَّنَّا، وفي كلام الأئمة ضَبْطٌ آخَرُ قالوا: يُنْظَرُ في التفسير على خلاف ظاهر اللفظ، إن كان بحَيْث لو وصل باللفظ نطقاً، لَمَا انتظم، فإنَّه لا يُقْبَل في الظاهر، ولا يدين في الباطن، وإن كان بحَيْث لو وصل باللفظ، لانتظم وقُبِلَ في الحكم، فإذا نواه، لا يُقْبَل في الحكم ويَدِينُ فيما بينه وبين الله تعالى. مثال الأول: ما إذا قال أردتُّ طلاقاً لا يقع علَيْك. ومثال الثاني: ما إذا قال: أردتُّ عن وَثَاق، أو إن دخلَتِ الدَّارَ والذين رأوا القطْعَ بأنه لا يدينُ في قوله أردتُّ إن شاء الله استثنوا عن الضابط الاستثناء بالمشيئة، فقالوا: ما يُقْبَلُ في الظاهر، لو وصَلَه باللفظ يدين فيه إذا نَوَاه إلاَّ الاستثناء بمشيئة الله تعالى، لو وصله باللفظ، قيل: ولو نَوَاه لا يدين فيه وذكروا وجهَيْن فيما إذا قال لامرأته: أنّت طالقٌ ثلاثاً، ثم قال: أردتُّ إلاَّ واحدةً هل يدين؟ فيه وجهان: فيما إذا قال: أربعكن طوالقُ: وقال: نَوَيْتْ بقلبي إلاَّ فلانةً، هل يدين؟ ففي وجْه يَدِينُ كما لو قال: نِسَائِي طوالقُ، وعزل بعضهن بالنية، وفي وجه لا يدين؛ لأن لفظة الثلاثة والأربعة نص في العدد المعلوم، واستعمالُهما في بعض العدد غيرُ مَعْهود، بخلاف استعمال اللفظ العَامِّ في الخاص، فإنه معْهُود، وهذا أصح على ما ذكره القاضي أبو الطيِّب، وابن الصَّبَّاغ، وغيرهما؛ قال القاضي: ولو قال: فلانة وفلانة وفلانة طوالق، ثُمَّ قال: كنت عزلْت فلانةً بالنِّيَّةْ لمْ يُقْبَل؛ لأن هذا رفْعٌ لِمَا نص عليه؛ ونَسْخٌ وليس بتخصيص عموم. وهذه فروع أُخَرُ تدخل في الباب الأول. لو قال: أنتِ طالقٌ كالثلج، أو كالنار، يقع الطلاق في الحال، ويلغو التشبيه
المذكور، وعن أبي حنيفة -رحمه الله- أنَّه إن قصَد التشبيه بالثلج في البياض، وبالنار في الإضاءة، والنُّور، وقَع في زمان السُّنَّة، وإن قصد التشبيه في الثلج بالبرودة، وبالنار في الحَر والإِحراق، وقع في زمان البِدْعَة. الثاني قال ابن الحدَّاد: لو دخَل بامرأته، ثم قال لها: كُلَّما ولَدْتِ فأنت طالقٌ للسُّنَّة، فولدتْ ولداً، وبقي في بطنها آخر، وقَعَتْ بولادة الأول طلقة؛ لأنها حامِلٌ بعْد ما ولدته، فإن وُجِدَتْ وقَع، وإلا فلا يقع، حتَّى توجد، وهذا كما سَبَق أنَّه لو قال: أنتِ طالقٌ للسُّنة، إذا قدم فلان، يُنْظَر إذا قدم، إن كان الحالُ حَالَ السُّنَّة [وقع] وإلا، لم يقَعْ حتى نصير إلى حال السنة، وكأنَّه يخاطبُها عنْد حصول المعلَّق عليه بقوله: أنتِ طالقٌ للسُّنَّة، وإذا كان كذلك، فكأنه عنْد ولادة أحد الولدين خاطَبَها بقوله: أنتِ طالقٌ للسُّنة، وهي في هذه الحال حامِلٌ بآخر، وإذا قال للحامل: أنت طالقٌ للسُّنة، وقع الطلاق عليها في الحال، ثم إذا وَلَدت الثاني، انقضت عدَّتها، وهل يقَعُ عليها طلقة أخرى؛ لأنَّه يقارن حال انقضاء العدة، فيه خلاف يأتي في نظائره، والأشهر المَنْع، ولو ولَدَتْ ولداً، ولم يكن في بطْنِها آخرُ، فإنَّها تطلَّق إذا طَهرتْ من النفاس، ولو ولَدَتِ الولدين معاً، فإنما تطلَّق إذا طَهُرت من النفاس طلقتين؛ لأنَّها ولدت ولدين [معاً] فإنما تطلق إذا طهرت من النفاس، ولو ولدت معاً فإنما تطلق إذا طهرت من النفاس طلقتين؛ لأنها ولدت ولدين، وكلما يتقضى التكرار، ولو قال: كلما ولَدتِّ ولَدَيْن، فأنت: طالق للسُّنة، فولدَتْ ولدَيْن معاً، أو على التعاقب، وفي بطنها ثالثٌ طُلِّقَتْ، ولو ولدتْ ولداً، فطلقها ثم ولدت ولداً آخر، فإن كان رجعيًّا، وقَعت طلقة أخرى بولادة الثاني، راجَعَها أو لم يراجِع، هكذا ذَكَروه، ويشبه أن يقال: إن راجَعَها، فكذلك الحُكْم، وإن لم يراجعْها، فهذا طلاقٌ يقارن انقضاء العدَّة، وإن كان الطلاق بائناً، فنكحها ثم ولدت ولداً آخر ففي وقوع طلقة أخرى قَوْلاَن عَوْد الحنث واليمين الثَّالِثِ. نكح حاملاً من الزنا، وقال لها: أنتِ طالقٌ للسُّنَّة، فإن كان قد دَخَل بها، فلا يقع الطلاق حتَّى تضع الحَمل؛ وتطهر من النفاس؛ لأنها وإن كانَتْ حاملاً فليس الحَمْل منْه؛ ولا تنقضي [به] لعدَّة، فصار كما إذا حاضت الحائل في طُهْر جامعها فيه، وإن لم يكُنْ قد دخل بها، وقع الطلاق في الحال، كَمَا لو قال لغير المدخول بها: أنتِ طالقٌ للسنة، وهذا إذا كانَتْ لا ترى الدم، وإن كانَتْ تراه، فإن لم نجعلْه حيضاً، فالحُكْم كما لو لم تر الدم، وإن جعلْناه حيْضاً، وقال لها: أنتِ طالقٌ في حالة رؤية الدم، فإنما يقع الطلاق إذا طهرت، كالحائل إذا قال لها: أنتِ طالقٌ للسُّنة، وهي حائضٌ، ويخالف الحامل من الزوج؛ لأنَّه لا حُرْمة لحملها، وهذا الفرع لابْنِ الحدَّاد أيضاً -رحمه الله-. الرابعة: قال لها: أنْتِ طالقٌ للسنّة أو للبدعة، لا تطلَّق، حتى تنتقل من الحالة
الباب الثاني في أركان الطلاق
التي هي فيها إلى الحالة الأخرى؛ لأن اليقين حينئذٍ يحْصُل كما لو قال: أنتِ طالقٌ اليوم أو غداً، لا تطلَّق إلا بمجيء الغد. الخامسة: إذا قال: أنتِ طالقٌ طلقة حسنة في دخول الدار، أو طلقة سنّية، قال إسماعيل البوشنجي: قضية المَذْهَب أن تطلَّق إذا دخلَتِ الدار، طُلِّقَتْ سنية، حتى لو كانت حائضاً لا تطلَّق ما لم تطْهُر، ولو كانت طَاهراً لم تجامع بني ذلك الطُّهْر، فتطلَّق في الحال؛ فإذا اتفق الجماع فيه لا تطلَّق إلى أن تحيض وتطْهُر. ولو قال لَهَا وهي طاهر: أنتِ طالقٌ للسنَّة، واختلفا، فقال الزوج: كنتُ قد جامَعْتُكِ في هذا الطُّهر، فالطلاق غيْرُ واقع، وقالت: ما جامعتني والطلاقُ واقعٌ قال: إسماعيل البوشنجي المَذْهب أنَّ القَوْل قول الزوج؛ لأنهما اختلفا في بقاء النكاح، والأصل بقاؤه، وصار كما لو قالت: طَلَّقَنِي، وأنكر، وكما لو قال المولى أصبتك فانكَرْت، فإنما نجعل القول قَوْل الزوج، وكذا الَّذي ضربت عليه مدة العُنَّة إذا قال: أصبت في مدة العُنَّة أو بعدها والله أعلم. البَابُ الثَّانِي في أَرْكَانِ الطَّلاَقِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَهِيَ خَمْسَةٌ (الأَوَّلُ: المُطَلِّقُ): وَهُوَ كُلُّ مُكَلَّفٍ فَلاَ يَنْفُذُ طَلاَقُ الصَّبِيِّ وَالمَجْنُونِ (الرُّكْنُ الثَّانِي: اللَّفْظُ): وَفِيهِ ثَلاَثَةِ فصُولٍ: (الأَوَّلُ): أَن الصَّرِيحَ لَفْظُ الطَّلاَقِ وَكَذَا لَفْظُ السَّرَاحِ (ح) وَالفِرَاقِ (ح) وَقَوْلُهُ: طَلَّقْتُ وَأَنْتِ مُطَلَّقَةٌ صَرِيحٌ، وَكَذَا كُلُّ مُشْتَقٍّ مِنَ الطَّلاَقِ دُونَ المُشْتَقِّ مِنَ الإِطْلاَقِ كَقَوْلُهِ: أَطْلَقْتُ، وَقَوْلُهُ: أَنْتِ الطَّلاَقُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ عَلَى الأَصَحِّ، وَقَوْلُهُ: سَرَّحْتُكِ أَوْ فَارَفْتُكِ صَرِيحٌ، أَمَّا الاسْمُ كَالمُطَلَّقَةِ وَالمُسَرَّحَةِ فِيهِ وَجْهَانِ، وَمَعْنى الطَّلاَقِ بِالفَارِسِيَّةِ عَلَى الأَصَحِّ وَهُوَ قَوْلُهُ (تُوهشته أي)، وَفِي قَوْلِهِ (دشت بازذاشتم) وَجْهَانِ، وَفِي قوْلِهِ (كسيل كردم وازتوجذاكشتم) وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ وأَوْلَى بِأَنْ لاَ يَكُونَ صَرِيحاً، وَكُلُّ لَفْظٍ شَاعَ فِي العُرْفِ كَقَوْلِهِ: حَلاَلُ اللهِ عَلَيَّ حَرَامٌ هَلْ يَلْتَحِق بِالصَّرِيحِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قال الرَّافِعِيُّ: لا يخفى أن تصرف الطلاقُ مَتصرفاً، ولا بدّ من أهليته، ومحلاًّ يصادفه ولا بُدَّ من أن يكون بحيث يتوجَّه نحوه التصرُّف، وذلك لولاية المتصرف علَيْه، وأنَّه لا تحصل صورةُ هذا التصرُّف إلاَّ بلفظ أو ما يقُومَ مَقَامه، ولا بُدَّ من أن يصدُر ذلك عن قصْده، فهذه خمْسَةٌ المُطَلِّق، وما به التطليق وغيره، وقصْدُه إليه، وولايته على المحل، والحاجة تمَسُّ إلى معرفتها، ومعرفة ما يعتبر فيها، لقطع الطلاق وسمَّاها أركاناً؛ لأن بالتئامها يقع الطلاق.
الأول: المُطْلَق وشرطه التكليف (¬1)، فلا يقع طلاق الصبيِّ والمجنون، تنجيزاً وتعليقاً، ولو قال المراهقُ: إذا بَلَغْتُ فأنت طالقٌ، ثم بلَغ، لم يقع الطلاق، وكذا المجنونُ، إذا قال: إن أفقْتُ، فأنتِ طالقٌ، ثم أفاق، لأنا لو أوقعنا الطلاق عند [البلوغُ والإِفاقة، لأوقعنا بقولهما السابق، وقولهما لا يصلح للإِيقاع في الحال، فكذلك لا يصَلح الاِيقاع عند الشَّرْط، وكذا لو قالا: أنتِ طالقٌ غدًا، فَجاء الغدُ، وقد بلغ الصبي، وأفاق (¬2) المجنونُ، ولا ينقض ما ذَكْرنا بأن يقال: الزَّوْج في وقْت حيْض المرأة، لا يملك طلاق السُّنَّة، ولو قال: أنْتِ طالقٌ للسُّنة ينعقد، ويقع إذا طَهُرت، لأن الذي يعتبره للسُّنة تعليق الطلاق بوقت، ووصف بصفة، فاحتجنا إلى الانتظار. وأما قولُه: "الرُّكْن الثاني": إلى قوله: "وَجْهَان" التطليقُ إمَّا أن يكونَ بلَفْطٍ أو بغيره، وعلى التقديرين، فامَّا أن يصدر من الزوج نَفْسه، أو ممن فوَّضه إليه، والتفويض إمَّا أن يكون إلى الزوجة أو إلى غَيْرها إن كَان إلى غَيْرها فهُو توكيلٌ، وحكمه قَدْ تبين في "الوكالة" فبقي كلام الرَّكْن مشتملاً على ثلاثةِ فُصُول: فصْل في اللفظ الذي يقَعُ به الطَّلاَق، وفصْل في الأفعال الَّتِي تقُوم به، وفضل: في تفويض الطلاق إلى الزوجة، وما تختص به بهذا التفويض من الأحكام. أمَّا الفصل الأول: فاللفظ ينقسم إلى: صَرِيحٍ: وهو الذي لا يتوقَّف وقوع الطلاق به على النية [كناية وهؤ ما توقف على نية] (¬3) أما الصريح؛ فلا خِلاَف أن لفْظ الطَّلاق ¬
صريحٌ في معْناه؛ لاشتهاره فيه لغةً وشرعاً، والسَّرَاح والفِرَاق صريحان أيضاً؛ لورودهما في الشرع، وتكررهما في القرآن بمعنى الطلاق؛ قال تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49] وقال تعالى: {فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وقال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا} [النساء: 39] واحتج الأصحاب أيضاً بأن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: سُئِلَ عن قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] فقيل أين الثالثة فقال: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1) [البقرة: 229] فسمَّى التسريحَ طلاقاً، وبأنه إزالة ملك، فلا ينحصر صريحُه في لفْظ واحدٍ قياساً على العِتْق. وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: السَّرَاح والفِرَاق وليْسا بصريحين، ويُحْكَى هذا قولاً عن القديم، ونسبه أبو الحسن العَبَّادي إلى رواية أبي عبْد الرحمن القزاز السمرقندي -رحمه الله- ووجهه بان هذين اللفظين لم يشتهرا في الطَّلاق، ويستعملان فيه وفي غيره، ¬
فأشْبَه لفظ البائن والحرام، وتكلم الإِمام على ما قيل إن القرآن وَرَد بِهما؛ بأنه لم يرد مَوْرِدَ بَيَانِ اللفظ، وإنما هو مَسُوقٌ لغرض آخر، فهو كقَوْل القائل: حقّ الضيفِ أن يُكْرَم أو يُسَرَّح، لا يعني به، أنَّه يقال له: سَرَّحْتُك، ومعنى هذا المعنى حاصل في لفظ الطلاق أيضاً، إلاَّ أن يعَوَّل فيه على العُرْف اللغوي، وليعلَّم بما ذكرنا قوله في الكتاب "وَكَذَا لفظ السَّرَاحُ وَالفِرَاقُ" بالحاء والواو، ويجُوز أن يعلَّم بالميم أيضاً؛ لأن "صاحب الشامل" حكى عن أصحاب مالك -رحمهم الله-: أنهما ليسا بصريحين، ولكن لا يفتقر إلى النِّيَّة، كما في الكنايات الظاهرة على ما سيأتي، وهذا كلام من يفسر الصريح والكناية، بغير ما قدَّمناه من التفسير. إذا تقرَّر ذلك فقوله: أنْتِ طالقٌ أو مطلَّقة أو يا طالقُ أو يا مطلقةُ صريحٌ، وعن أبي حنيفة -رحمه الله- أن قوله يا طالق أو يا مطلقة ليس بصريح، وفي "شرح مختصر الجويني" وجه مثْله غريبٌ، والمشتق من الإِطلاق كقوله: أنتِ مطلقةٌ بإمكان الطاء أو يا مطلقةُ ليس بصريح، لعدم الاشتهار، وإن كان الإِطلاق والتطليق متقاربين كالإِكرام والتكريم، وفي "العُدَّة" حكايةُ وجه: أنَّه صريح وفي قوله أنْتِ طلاق أو الطلاق أو طلقة وجْهان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة ومالك -رحمهما الله- أنَّه صريحٌ، كقوله يا طالقُ. وأصحُّهما وبه قال القَفَّال: أنه مصْدَر، والمصادر غيْر موضوعة للأعيان، وتستعمل فيها على سبيل التوسُّع. ولو قال: أنْتِ نصْف طالق، فهو كناية أيضًا وذكر في "التهذيب" أن قولَهُ لك طلقة صريحٌ، وأن قوله: أنت نصْف طالق صريحٌ، كقوله نصفك طالقٌ، ونَقَل أبو الحسن العبَّادي خلافاً في قوله أنت طالقٌ نصْفَ طلقة، ويجوز أن يجيْء، هذا الخلاف في قوله: أتتِ نصْفُ طالق (¬1) وقوله: أنْتِ والطلاق، أو (¬2) أنت مطلقة كناية أي قرنت بينك وبينها، وإذا قلْنا بالظاهر في لفظي الفرَاق والسَّرَاح، فقوله: فارقْتُكِ وسرَّحْتُكِ صريحان، وفي الاسم منهما، وهو المفارقة والمسرحة وجْهان، سواءٌ الوَصْف بأن قال: أنْتِ مُسَرَّحة، أو مُفَارَقَة، والنداء بأن قال يا مسرَّحة أو يا مفارَقَة. أصحُّهما: أنهما صريحان أيضاً؛ كالمطلقة. ¬
والثاني: المَنْع، وهو الذي ذكَره القفَّال "شرح التلخيص"؛ لأن الوارد في القرآن منْهما الفِعْل دون الاسم، بخلاف الطلاق فقَدْ قال -تعالى-: {والمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228]. ويجيْء في قوله: أنْتِ الفِرَاقُ وأنْتِ السَّرَاح ما ذكرْنا في قوله: أنْتِ الطَّلاَقُ من الوجهين. ولو قال: عنيت بقولي: أنْتِ طالِق إطْلاقها من الوثاق، فقد مرَّ أنه لا يُقْبَل في الظاهر، ويدِين، وعن مالك أنَّه يُقْبَل في حال الرِّضا دون حال الغضب، ولو قال في لفظ الفِرَاق: عَنيت المفارقة: في المنزل، وفي لفظ التسريح إلى منزل أهلها، فكذلك يَدين، ولا يُقْبَل في الظاهر وكذا لو قال: أردتُّ خطاب غيرها، فسَبَق لسانِي إلَيْها. ولو صرَّح بذلك فقال: أنْتِ طالقٌ من الوثاق أو سرَّحْتكِ إلى موضع كذا، أو فارقتك في المَنْزل خرج عن كونه صريحاً، وصار كناية قال في "التتمة": وهذا في ظاهر الحُكم، وأمَّا فيما بينه وبين الله تعالى، فإنَّما لا يقع الطلاق إذا كان على عزْم أن يأتي بهذه الزيادة، من أول كَلاَمِه، فأما إذا قال: أنْتِ طالقٌ، ثم بدا له فوصَلَ به هذه الزيادة فالطلاق واقع به في الباطن، ولو لم يكن في عزمه في الابتداء، ثم عَرَض على هذه الزيادة في أثناء الكلام، فوجهان سيأتي نظيرهما في "الاستثناء" وغيره، وكذَلِكَ مَوْضِع التديين فيما إذا لم يتلفظ بالزيادة، وقال نَوَيتُها، إذا كان ناوياً من الابْتِدَاء دون ما أحدثت إلَيْه بعد تَمَام الكلام، وإن حَدَث في أثنائه فعَلَى الوجهيْن. وقوله في الكتاب: "إنَّ الصريح لَفْظ الطلاقِ وكذا السَّراح والفِرَاق" وقد يظن أن قولَهُ: "وَكَذَا السَّرَاح والفِرَاقُ" معطوف على قوله: "أن الصَّرِيحَ لَفْظُ الطَّلاَقِ" لكن قولنا: "الصريح لفظ الطلاق" جملةٌ تفهم الحصر فإذا عطف عليها قولُه "وَكَذَا السَّرَاحُ والفِرَاقُ" كانت هذه جملةً حاضرةً أيضاً وحينئذٍ فتنافي كل واحدة صاحبتها فإذَن قوله: "السَّراح والفِرَاق" معطوف على قوله: "لَفْظ الطَّلاق" وحْدَه لا على قوله: "الصريحُ لَفْظُ الطَّلاَقِ" وكأنَّه قال: الصريحُ لفْظُ الطَّلاَق والسَّرَاحُ والفِرَاقُ، وهو ما اشتهر في كلام الأصحاب أن صرائح الطلاق ثلاثة وقضية هذا الحصر أن لا يكون الخُلْع صريحاً في الطلاق، وفيه خلاف قد يقدَّم (¬1)، وألا يكون قوله: "حَلاَلُ اللهِ عَلَيَّ حَرَامٌ صريحاً" وفيه خلافٌ سيأتي. وقوله "أنْتِ مطلقَةٌ" يجوز إعلامه بالحاء والواو؛ لما سبق، وقوله "دُون المُشْتَقِّ مِنَ الإِطْلاَقِ" بالواو، وقوله: "لَيْسَ بِصَرِيحٍ" بالحاء والميم، ما يجوز أن يُعاد على قوله "صريحان" الحاء والميم الموضوعان على قوْلِه، وكذا الفراقُ والسَّرَاح. ¬
فرْعٌ: قَوْلُهُ: "أوقعْتُ عليْكِ طلاقي" صريحٌ، قاله القاضي الرُّوياني، وأمَّا قوله "معنى الطلاق" إلى قوله: "فيه وجْهان" فيه مسألتان: إحداهما: ذَكَر الأصحاب أن ترجمة قوْل القائل: أنتِ طالقٌ بالعجمية توهشته (¬1) وقال الإِمام وصاحب الكتاب: ترجمة قوله: (طلقتك دست ما راداشتيم) (¬2) فالمناسب لمَا قيل في ترجمة قوله: أنتِ طالقٌ: أن يقال ترجمته: (بهشتم مرا أو مرا بهشتم) (¬3) وكذا ذَكَره القاضي الرُّويَاني، ولم يشترطوا في الترجمة أن يقول (هشته أو بهشم أرزني (¬4)) (¬5) كما لم يشترط في العربية أن يقول: من نكاحي أو من النكاح، ومعنى قوله: "سَرَّحْتُكِ" (كَسيل كردم مرا) (¬6) وقوله: "فَارَقْتُكِ هو (أزتوجد الشتم) (¬7). إذا عرف ذلك، ففي ترجمة لَفْظ الطَّلاَق بالعجمية وسائر اللغات وجهاً ولم يورد أكثرهم غيْره: أنَّها صريحةٌ؛ لكثرة استعمالها في معناها عنْد أهْل تلْك اللغات شهرة العربية عنْد أهلها. والثاني: ويُنْسَبُ إلى الإِصطخري: أنها ليْسَتْ صريحةً (¬8)؛ لأن اللفظة العربية هي الواردة في القرآن والمتكررة على لسان جملة الشرع، ويكن أن يُقَال: إنها الشائعة في جميع اللغات، ولم يتعرَّضوا هاهنا للفرق بين أن يُقَدَّر على العربية أو يُقَدَّر كما فَعَلوا في النِّكَاح، وعن القاضي الحُسَيْن وجه فارق بين أن يقول (توهشته أي) (¬9) فيجعل صريحاً، بين أن يَقُول (دست ما ردا شتم) (¬10) فلا يكون صريحاً وأنكره الإِمام، وقال: لا يكُونُ هذا المعنى قوله: طَلَّقْتك، فليكنْ صريحاً كقوله "توحشته" أي الَّذي هو معنى: أنْتِ طالقٌ، ويشبه أن يُقَال إنَّه ليْس معنى قوله: طلقْتُكِ، كما أشرنا إلَيْه، وأن معناه وهو (وابهشيم) (¬11) صريحٌ، ثم في العُدَّة وجه: أن هذا إنما يكون صريحاً، إذا قال معه ¬
(ارزني) (¬1)، والظاهر أنَّه لا حاجة إليْه، ومن قال به، فليقل بمثله في توهشته، ولو قال توهشته، قال إسماعيل بن أبي القاسم البوشنجي: هو (وازآن قوْل القائل) (¬2) (توطلاق) قال: وقد نقل شيخي عن القاضي أنه كان يقول: قوله بَوطلاق لم يكن صريحاً بِمَرْوَ الرُّودْ، ثم صار صريحاً، ولك أن تقول قوله (توهشته أي وازان قول القائل توطالق وازآن قوله توطالق) (¬3) ثم الأصْل في (توطالق وتوطلاق توطالقي، وتوطلاقي) (¬4) فإن اطرد عرف قوم بحذف الياء وفهموا من "بوادنا" ما يفهمون من "بوداناي" كان ذلك صريحاً فيما بينهم، ثم يجيء في قوله: توطلاق وتوطلاقي الخلاف المذكور في قَوْلِه: أنْتِ الطلاق، وأما ترجمة السَّرَاح والْفِرَاق ففيهمما الوجهان المذكوران في ترجمة الطَّلاق، ولكن بالترتيب، وهي أوْلَى بالاَّ لا تجعل (¬5) صريحة؛ لأن ترجمتها بعيدةٌ عن الاستعمال في الطَّلاق. قال الإِمام -رحمه الله- وهذا أظهر، وبه أجاب القاضي الروياني في "الحلية". ولو قال: ببطلان (زن من) (¬6) فهو صريح، حكي ذلك عَنِ القفَّال وغيْره. ولو قال لامرأته في حال الغَضَب: (يك طلاق وروطلاق) (¬7)، وسكت، لا يقع الطلاق. ولو قال: (يك طلاقٌ مراء) (¬8)، أو قال (وراسه: طلاق) (¬9) يقع، ذَكَره القاضي الحُسَيْن في "الفتاوى"، وهو قريب من قوله: لك طلقةٌ، وقد نَقْلنا أنَّه صريحٌ. وقال إسماعيل البوشنجي: لا أرى هذا طلاقاً واقعاً؛ لأنه لم يتضمْن إيقاعاً، وقول القائل: لك هذا الثوبُ، يحتمل الإخبار عن المِلْك، ويحتمل الهبة، وروي ما رآه عن محمد الماخُوني، والأول عن أبي المُظَفَّر السمعاني، وروي عن سعيد الأَسْتَرَابَاذِيِّ: أنه لا يقع، وإن نوى. ولو قالت له امرأته: (دست از من بدار) (¬10) فقال: (بداشتم) (¬11)، فقالت: (نه ¬
طَلاَقٌ) (¬1) فقال: يشبه طلاق، وقال القاضي الحُسَيْن: يَقَع ثلاث طلقات؛ لأنَّ كلامه يترتَّب على كلامها. ولو قال: (طلاق نها دم تورا) (¬2) فعن أبي العبَّاس الروياني: أنَّه يكون صريحاً في إيقاع الطَّلاق عليه، قال: وقيل: هو كما لو قال: وضعتُ عليِّكِ الطلاق، وفي كونه صريحاً وجهان والله أعلم. وقوله في الكتاب "صريحٌ على الأصحِّ"، يجوز إعلامه بالحاء؛ لأنَّه روي عن أبي حنيفة -رحمه الله- أن قوله: (توهشته اى) (¬3) أي إنما يكون طلاقاً إذا نوى وفي تصريحه، بالأصح من الخلاف في قوله: توهشته (وإرسال الخلاف) بصراحة في قوله (دست ما رادا شتم) (¬4)، ما يشير إلى قوله توهشته أي أولى بالصراحة، على ما حكَيْنا على القاضي -رحمه الله-. المسألة الثانية: إذا اشتهر لفظة في الطلاق سوى الألفاظ الثلاثة الصريحة؛ كقول القائل: حلالُ اللهِ عليَّ حَرَامٌ، أو أنْتِ عليَّ حرامٌ أو الحلال أو الحل عليَّ حرام، فهل يلتحق بالصريح (¬5)؟ فيه وجُوهٌ: أظهرها: وهو المذكور في "التهذيب" وعليه تنطبق فتاوى القَفَّال، والقاضي الحُسَيْن والمتأخرين، نعم؛ لغلبة الاستعمال وحصول التفاهم. والثاني: لا، ورجَّحه صاحب "التتمة" ووُجِّه بان الصرائح تُؤْخَذ من ورود القرآن بها، وتكرُّرها على لِسَان حَمَلة الشريعة، وإلاَّ فلا فَرْق إذا نَظَرْنا إلى مُجَرَّد اللغة والاستعمال بيْن الفراق والبينونة. والثالثُ: حكى الإِمام عن القَفَّال أنه إن نوى شيئاً آخر من طَعَام وغيره، فلا طَلاَق، وإذا ادَّعاه صُدِّق، وإن لم ينْو شيئاً آخر، فإن كان فقيهاً يَعْلَم أن الكناية لا تَعْمَل إلاَّ بالنية، لم يقعِ طلاق، وإن كان عامِّيًّا، سألْنَاه عما يفْهَم منه إذا سمعه من غيره، فإن قال: يسبق إلى فَهْمي منْه الطلاق، حمَلْنا قوْلَه على ما يفهمه من غيره، قال: وهذه قريبة متوسطة بين الصريح والكناية، ولم ينقل صاحب "التتمة" عن القَفَّال هذا الفصْل الآخر، بَلْ حكي عنْه: أنه إن نوى غير الزوجة فذاك، وإلا حكَمْنَا بوقوع الطلاق ¬
للعُرْف (¬1)؛ ألا ترى أن العادة إلاَّ يحلف بهذه اللفظة من لا زوجة له، وفي "فتاوى القاضي الحُسَيْن"، أنَّه لو كان تحته امرأتان، فقال حلال الله عليَّ حرامٌ، إن خِطْتُ في هذه الدار، فخاط يقع على كل واحدةٍ منْهما طلقة، ويوافقه ما ذكر الشيخ الحُسَيْن في فتاويه: أنَّه إذا قال: حلال الله عليّ حرام وَلَهُ أربع زوجات يطلقن جميعاً إلا أن يريد بعضَهُنَّ لكنْ ذكر بعد ذلك أنَّه لو قال: إن فَعَلْتُ كذا، فحلال الله عليَّ حرامٌ، وله امرأتان، ففَعَل ذلك الفعْل، تطلَّق واحدةٌ منهما؛ لأنه اليقين ويؤمر بالتعيين، قال: ويحتمل غيره، فحصل تردُّد (¬2). وعن القَفَّال أنه لو قال: (حلال جداى دركردن من حرام) (¬3) (كه فلان كانى بكنم) (¬4) لم يكن شيئاً إلاَّ أن يقول (مر كردن من حَرَام) (¬5) فقيل له: أليس لو قال (فلان رادركردن من هو كرادارم) (¬6) يكون إقْراراً فقال الإِقرار لا يُشْبه هذا، ويمكن أن يكون السَّبَب في ذلك أن صلة الحرمة عليَّ، فقال: حرم عليه كذا، وفي الإِقرار كما يقال لفلانٍ عليَّ كذا، يقال: له في ذمتي كذا. فَرْعٌ: يقع في لسان أهل العُرْف (هرجه ير نان حلا لست يرمن حرام ولى حس بكنم) (¬7) ويُشْبه ألاَّ يجعل هذا، كقول القَائِل: حلالُ اللَّه عليَّ حرام؛ لأنَّه لا يشتهر في ¬
الطلاق اشتهار تلْك اللفظة، وربما أتى بها من الزوجة، فإن اشتهر في بُقْعَة في الطلاق فلا فَرْقَ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (أما الكِنَايَة): فَهِيَ كُلُّ لَفْظٍ مُحْتَمَل كَقَوْلِهِ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ وَبَريَّةٌ وَبَائِنَةٌ وَبَتْلَةٌ وَاعْتَدِّي وَاسْتَبرِئِي رَحِمَكِ وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ، وَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبكِ وَلاَ أَنْدَهُ سَرْبَكِ وَاعْزُبِي وَاذْهَبِي وَاخْرُجِي وَمَا أَشْبَهَهُ، وَأَخْفَى مِنْهُ قَوْلُهُ تَجَرَّعِي أَيْ: كَأْسَ الفِرَاقِ وَذُوقِي وَتَزَوَّدِي، أَمَّا قَوْلُهُ: اشْرَبِي فَفِيهِ خِلاَفٌ، وَقَوْلُهُ: كُلِي أَبْعَدُ مِنْهُ، وَتَرَدَّدُوا في قَوْلِهِ: أَغْنَاكِ اللَّهُ، أَمَّا الَّذِي لاَ يُحْتَمَلُ كَقَوْلِهِ: اقْعُدِي وَاغْرُبِي. قال الرَّافِعِيُّ: القسم الثاني: الكنايات، وكما يقع الطَّلاَق بالصريح، يقع بالكناية مع النية بالإجماع (¬1)، وقد رُوِيَ أن رجُلاً على عهْد عمر -رضي الله عنه- قال لأمرته حَبْلُك على غَاربِكِ، فلقيه عمر -رضي الله عنه- فقال: أَنْشُدُك ربَّ هذا البيت: هل أردتَّ بقولك "حَبْلُكِ على غَارِبِكِ" الطَّلاقَ؟ فقال الرجل: أردتُّ الفراقَ، فقال: هو ما أردتَّ. والكنايات على كثرتها وخروجها عن الحَصْر تنقسم إلى: جليَّة، هي التي يكثر اسْتعمالُها في القرآن، وتقوي دلالتها عليه، وإلى: خفية؛ وهي التي تنحط مرتبتها من الوجْهَيْن، أمَّا الجليَّة: ففي تعليق الشيخ أبي حامد؛ حصَرها في ستَّة ألفاظ، وهي؛ أنت خليَّة (¬2) وبريَّة، (¬3) وبَتَّة (¬4) وبتلة (¬5) وبائِن (¬6) وحرامٌ، وأضاف إليها أبو الفرج السرخسيُّ أربعةً أخرى، وهي؛ أنت حُرَّةٌ، وأنت واحدةٌ، واعتدِّي، واستبرئي رَحِمَكِ، وحَصَرها في هذه العشرة، وكلام الإِمام وصاحب الكتاب يقارِبُ الأوَّل، وعدُّ الحرام من الكنايات جواب على أنَّه لا يلتحق بالصرائح، أو فرض في البقاع الَّتي لم يشتهر اللفْظ فيها، والبَتْل: القَطْع، كالبَتِّ، وهما مصدران، وأما الخفيَّة كقوله: اعتدِّي، واستبرئي رَحِمَكِ، على طريقة الشيخ أبي حامد، أي طلقتك فاعتدِّي، وكقوله: الْحَقِي بأهْلِكِ (¬7)، ¬
وحبْلُكِ على عْارِبِكِ، والغارب ما تقدم من الظهر وارتفع من العُنِق، ويقال؛ هو أعلى السَّنَام، وهما متقاربان، أي خليت سبيلَكِ، وأصله في الناقة يُلْقَى خطامها على غَارِبِها؛ لترعى كيْف تشاء. وقولُه لا أنده سَربك ونده الإِبل زجرها، والسّرب الإِبل وما يرعى من المال، أي فارقتُك، فلا أهتَمُّ بشأنك. وقوله: اغْرُبِي واعزُبي، يقال: عَزَب عنِّي أي غاب يَعْزُب تباعد، وقوله: اخْرُجي، واذْهَبِي، وسَافِرِي، وتجنَّبي، وتجرَّدِي، وتقنَّعِي، وتستَّري، والْزَمِي الطَّريقَ، وبيني وأبْعدي، وودعيني، وَدعينِي، وبَرِئتْ منْكِ، ولا حاجة لي فِيكِ، وهو استعارةٌ وتجرعي، وذُوقِي أي مرارته، وتزوَّدي أي تعبّئي، استعدي للذَّهَاب واللحوق بأهلك، فقد طلَّقْتُك، وقد تنازع في "أن تزودي" لأنَّه أخفى ممَّا تقدَّم من الألفاظ، وفي قوله اشربي، وجهان عن أبي إسحاق، وُيرْوَى عن أبي حنيفة أنَّه ليس بكناية، ليُعد استعماله في الطلاق، وفي ابن القاصِّ، وهو الأظهر أنَّه كناية أي شراب الفراق، وُيرْوَى هنا (¬1) عن النَّصِّ، والأظْهَر أنَّ كلي في معناه، وعن الشيخ أبي محمَّد: القَطْع بأنه ليس بكناية، لأنه أبعَدُ عن الاستعمال في هذا السياق، وفي قوله: أغْنَاكِ اللهُ تَعَالى وجْهَان عن صاحب التلخيص؛ أنَّه كناية، لأَنَّ التفرُّق سبب الغناء، على ما قال -تعالى-: {إِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] فيجوز أن يعبِّر بأحدهما عن الآخر، وأقربهما على ما ذكره الإِمام المَنْعُ، كما لو قال: بارَكَ اللهُ فِيكَ أو دعا بدعوة أخرى. وفي قوله " قومي" وجْهَان أيْضاً: أصحُّهما: عند القاضي الرُّوياني وغيره، أنَّه لَيْس بكناية؛ لأنَّه لا يشعر بالمفارقة، والمذكور منْهما في "التهذيب" أنه كناية، كأنَّه يشير إلى الانتهاض، والانتفال. وأمَّا الألفاظ التي لا دلالة لها على الطَّلاق، ولا تحتمله إلا على تأْويل متعسِّفٍ، فلا أثر لها؛ فلا يَقَع بها الطلاق، وإن نَوَى ذلك، كقوله: "بَارَكَ اللَّهِ فِيكِ، وأحْسَنَ اللهُ جزَاءَكِ" وما أحسن وجْهَكِ وَتَعَالَى، وأقْرْبُيِ واغزلي، واسقيني، وأطْعِميني، وَزوِّديني، وما أشبهها وعند صاحب "التهذيب" وصاحبَ الكتاب وغيرهما قوله: اقعدي، من هذا القبيل. وذكر الروياني في "الحلية" أنه أصحُّ الوجهين، وحكى في "التجربة" (¬2) عن أبيه أنَّه كناية؛ لأنَّه قد يريد القعود عن خدمة الزوج؛ بسبب الفراق، وأيضاً فقَد يربد القعود للعِدَّة. وقال القاضي أبو الطيِّب: قال الماسرجسي: في القلب من قوله: زوديني شُبْهةٌ؛ ¬
لأنَّه يجُوز، أن يكُون إشَارةٌ إلى الطَّلاق من حيثُ إن الزاد يطلب للفراق، وكذلك حكى الحناطي وجْهاً في قوله: "زَوِّديِني" "وَأحْسَنَ اللهُ جزاءك" وغيرهما: أنَّه إذا نوى، وَقَع الطلاق. وعن مالك أن كل لفظة نوى بها الطلاق، وقَع الطلاق، وإن لم يكُنْ فيها مَعْنى الإِزالة. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَقَوْلِهِ: أَنْتِ حُرَّةٌ وَمُعْتَقَةٌ كِنَايَةٌ فِي الطَّلاَقِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ كِنَايَةٌ في العِتَاقِ (ح)، أمَّا لَفْظُ الظِّهَارِ وَالطَّلاَقِ كُلُّ وَاحِدٍ يَحْتَمِلُ الآخَرَ وَلَكِنْ لاَ يَكُونُ كِنَايَةً فِيهِ؛ لأَنَّ تَنْفِيذَهُ صَرِيحاً مُمْكِنٌ في مَوْضُوعِهِ، وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِ المَدْخُولِ بِهَا: اعْتَدِّي وَنَوَى الطَّلاَقَ فَفِيهِ وَجْهَان؛ لأَنَّها غَيْرُ مُتَعَرِّضَةٍ لِلْعِدَّةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مسألتان: إحداهما: لو قال لامرأته أنتِ حرَّةٌ أو معتَقَةٌ، أو أعتقتُكِ، ونوى الطلاق، وقَعَ الطَّلاقُ، وكذلك لو قال لعبده، طلَّقْتُك، ونوى العِتْق، يُعْتق؛ لما بين الملكين من المناسبة والمشاركة يصلح كل واحد منهما كنايةً في الآخر وكما أن صريح كل واحد منهما كناية في الآخر، فكناياتهما مشتركة مؤثرة في العقدين جميعاً بالنية، نعم، لو قال لعبده اعْتَدَّ أو اسْتَبرىْء رَحِمَكَ، ونوى العِتْق، لم ينفَذْ؛ لأن الاعتداد واستبراءَ الرَّحِم مستحيلٌ في حقِّه، فلا يصلح كنايةً على المقصود. ولو قال ذلك لأمته، ونوى العتق، أو لزوجته قبْل الدخول، ونوى الطلاقَ، فوجهان: أحدهما: أنه لا تصلح للكناية؛ لأنها غير متعرِّضة للعدة. وأظهرهما: الصحَّة لان لهما محليَّة العدَّة، واستبراء الرحم في الجملة، وذلك كافٍ في صحة الكناية. وقال أبو حنيفة: صرائحُ الطَّلاقِ، وكناياته لا يكون كنايةً في العتْق إلاَّ قوله: لا سُلْطَانَ لي عليْكِ، ولا مِلْك لي عليك؛ فإنَّه سلم نفوذ الطلاق والعتق جميعاً بهما. ولنا القياس على ما سلَّمَه، والجامِعُ أنَّها ألفاظٌ تزيل مِلْك النكاح. الثانية: الطلاق ليس بكناية في الظهار، ولا الظهار في الطلاق، وإن كان كلُّ واحد منهما محتملاً للآخر؛ لِمَا يشتركان فيه من إفادة التحريم؛ وذلك لأنَّه أمكن تنفيذ كل واحد منهما في موضوعه الَّذي هو أصل فيه، فلا يُعْدَل عنه إلى ما هو فرع ومستعارٌ فيه، ولا سبيل إلى الجَمْع بينهما؛ لأن المعنيين اللذين يصلُحُ اللفظ لهما الجَمْع بينهما كما في الأسماء المشتركة، بل تارَةً يستعمل لهذا، وتارَةً يُسْتَعْمل إلى ذلك، وإنما الَّذِي
يتتاول الآحاد، ويجمع بينهما هو اللفظ العَامُّ هذا في حقِّ المنكوحة أمَّا لو قال لأمته: أنْتِ عليَّ كظهْر أمِّي، ونوى العِتْق، فالظاهر أنه ينفَذُ العتق؛ لأنه لا نفاذ للظهار، [كما لا نفاذ للطلاق] وكُلُّ واحدٍ منها يصلح كنايةً عن العتق. وفيه وجه آخر: أنَّه لا يصلُح كنايةً في العتق؛ لأَنَّه لا يزيل المِلْك، بخلاف لفظ الطلاق واعلم أن المسألة الثانية، وإن كانت مقصودة بالذِّكْر، فإِنما ذَكَرها في هذا الموضع، لانَّها قد تورد إشكالاً على قوْلنا إن الطلاقَ والعِتْق لكُلِّ واحدٍ منهما إشعارٌ بالآخر، فيصلُحُ كناية عنه والفرق ما تبيَّن. وقوله في الكتاب "كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طالقٌ كنايةٌ في العِتَاق" يجوز إعلامه بالحاء مع الألف؛ لأن أحمد -رحمه الله- قال في إحدى الروايتين، بمثل قول أبي حنيفة. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ -لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامُ، فَإِنْ نَوى الظِّهَارَ أَوِ الطَّلاَقَ كانَ كَمَا نَوَى، وَلَوْ نَوَى التَّحْرِيمَ حُرِّمَتْ وَلَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ، وَلَوْ أَطْلَقَ فَالأظْهَرُ أنَّهُ يُوجِبُ الكَفَّارَةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَلْغُو لِتَعَارُضِ الاحْتِمَالِ، وَقِيلَ: هُوَ صَرِيحٌ في التَّحْرِيمِ فِي مِلْكِ اليَمِينِ وَيَلْغُو في النِّكَاحِ مِنِ غَيْرِ نِيَّةٍ. قال الرَّافِعِيُّ: هذه المسألة كثُرَ فيها الخِلاَف بين الصحابة -رضي الله عنهم- فمَنْ بعْدَهم. وصورَتُها: أن يقول لامرأته: أنت عليَّ حرامٌ أو محرَّمة أو حرمتك، والحكم فيها على التفصيل عنْدنا، فإن نوى بقَوْله الطلاقَ، فهو طلاق؛ لأن الطلاق سبَبٌ تحريم به البراءة، فيَصِحُّ أن يكنى: بالحرام عنه، ثم هذا الطلاق يكون رجعيًّا، فإن نوى عدداً، فهو على ما نوى، كما في سائر الكنايات. وحكى أبو عبد الله الحناطي وجهاً: أنَّه لا يكونُ طلاقاً، إذا فرَّعنا على أنَّه صريح في اقتضاء الكفارة، على ما ستعرفه على الأثَرِ، وهذا وإن كان غريباً، ففيه وفاء بالأصل الذي سبق غيْرَ مرَّة أنَّ اللفظ الصريح إذا وجد نفاذاً في (¬1) موضوعه لا ينصرف إلى غيره بالنية، ويحْصُل به الاستغناء عن العدد المَذْكُور في أوَّل "الخُلْع" عند التزام هذه المسألة، وإن نَوَى الظِّهار، كان ظهاراً لأن الظِّهار إنما يقتضي التحرْيم إلى أن يكفِّر، فجاز أن يكنى عنه بالحرام، وإن نواهما، فلا يثبتان (¬2) جميعاً؛ لأن الطلاق يزيل النكاحَ، والظِّهارُ يستدعي بقاءه، ثم فيه أوجه: قال ابن الحدَّاد، وأكثر الأصحاب يخيِّر فما اختاره ثَبَت. وقال بعْضُهم: يكُون طلاقاً؛ لأنه أقوى من حيث إنه يزيل المِلْك. ¬
والثالث: ذَكَره في "التهذيب" أنَّه يكون ظِهَاراً؛ لأن الأصل بقاء النكاح، هذا إذا نواهما معاً، فإن نوى أحدهما قيل الآخر، فعن ابن الحدَّاد؛ أنَّه إن أراد الظِّهَار ثم أراد الطَّلاَق صحَّا جميعاً، وإن أراد الطَّلاق أولاً فإن كان بائناً، فلا معْنَى للظهار بعْده، وإن كان رجْعياً، وكان الظهار موقوفاً فإن راجعها فهُو صحيح والرجعة، عَوْد، وإلاَّ فهُوَ لَغْوٌ (¬1). قال الشيخ أبو علي: وهذا فاسدٌ عندي؛ لأن اللفظ الواحد إذا لم يجز أن يراد به التصرفان، فلا يفترق [في] الحكم بين أن يريدهما معاً أو يريد هذا ثم يريد هذا، وأيضاً، فإنه إذا نواهما على التعاقُبِ كانَتْ كل واحدة من النيتين مقارنةً لبعض اللفظ، لا لجميعه، وفي ذلك خلافٌ سيأتي. قال: وموضع هذا النَّظَر والتفصيل ما إذا قال: أنتِ على حرامٌ كظهر أمي، يجمع بين اللفظين، وهذه الصورة بتفصيلها مذكورةٌ في الكتاب في "باب الظِّهار"، وإن نوى تحْريم عيْنِها أو فرْجِها أو وطْئها، [لم تحْرُمْ] (¬2) عليه؛ رُوِيَ أن رجُلاً أتى إلى ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- فقال: "إني جَعَلْتُ امْرأتِي عليَّ حَرَاماً" فقال: كذَبْتَ ليست عليْكَ بحرام، ثم تلا قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} (¬3) [التحريم: 1] يلزمه كفَّارة يمين؛ لأنه لو خاطَب أمَتَه بذلك، لزمَتْه الكفَّارة، وفيه نَزَلَ قَوْلُه تعالى، لمَّا حرَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- ماريَةَ على نَفْسِه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم: 1] الآية إلى أن قال: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وذلك أن النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- أَتَى مَنْزِلَ حَفْصَة -رضِيَ اللهُ عَنْها- وَلَمْ يِجدْهَا وَكَانَتْ قَدْ خَرَجَتْ إلى بَيْتِ أَبِيْهَا -رَضي الله عَنْه- فَدَعَا أَمَتَه مارِيَة إِلَيْهِ فَأتَتْ حَفْصَة، وَعَرَفَتْ الحال فغضبت، وقالت: يا رسول اللهِ في بَيْتي، وفي يَوْمِي، وَعَلَى فِرَاشِي، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يَسْتَرضِيْهَا: إِني أُسِرُّ إليكِ سِرًّا فاكتميه، هي عليَّ حَرَامٌ، ووردت الآيات (¬4). ¬
وقوله: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1] أي قد أوجَبَ عليكم كفَّارة أيمانكم، فعُرفَ بالقصة وجوبُ الكفارة في تحريم الأَمة، وقاس الشافعيُّ -رضي الله عنه- تحْريم الزَّوْجة عليْه بأنه تحريمٌ من حين يحرمانه، ثم الكفَّارة المتعلقة بقَوْله للزوجة: أنْتِ عليَّ حرامٌ مع نيَّة التحريم، متى تلزم عن رواية صاحب " التقْريب" وأبي يعقوب الأبيوردي (¬1) وغيرهما وجه: أنَّما تلزم إذا أصابها، ويكون هذا اللفظ مع نيَّة التحريم بمثابة الحَلِف على تَرْك الإِصابة. ولو حلف ألاَّ يصيبها فإنما يلزمه الكفَّارة إذا أصاب، وقد يتبادر إلى الفَهْم من قوله تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ جَعْلُ هذا اللفظ يميناً، وربما احْتُجَّ له بان الشافعيَّ -رحمه الله- قال في "الإِملاء" وإن نَوَى الإِصابة قُلْنا: "أَصبْت" وكَفِّر أشعر ذلك بتعليق الكفَّارة بالإِصابة؛ وعلى هذا الوجه، يصير موليا بقوله أنْتِ عليَّ حرامٌ؛ لوجوب الكفارة لو وطئها، ويكون بمثابة قوله: والله لا أطَؤُك، والصحيح أن الكفارة تلْزَم في الحال؛ لأن الله -تعالى- فَرَض الكفَّارة من غير شرْط الإِصابة، والكفارةُ الواجبَةُ مثْل كفارة اليمين، وليست هي كفَّارة اليمين، وكيف يجعل قولُه: أنْتِ عليَّ حرامٌ يميناً، ومعلومٌ أَن اليمين إِنَّما تنعقد بالله تعالى أو بصفة من صفاته، وقول الشَّافعي: أصب وكفِّرْ، أراد به أن يُبَيِّن أن الإِصابة لا تَحْرُم قبل التكفير، بخلاف الظِّهَار، وإذا قلْنَا بالصحيح فلو قال: أردتُّ بقولي: أنْتِ عليَّ حرامٌ الحَلِفَ على الامتناع من الوطء ففي قبوله وجْهان حكاهما الإِمام -رحمه الله-. أحدهما: أنه يقبل ويثْبُت القسم؛ لأن موجب القَسَم عنْد الحَنِث يُضَاهي موجب التحريم. وأَظهرهما: المَنْع؛ لأن اليمين إنما ينعقد بذِكْر اسم معظَّم، والتحريمُ ليس صريحاً فيه ولا كناية، وليس فيه إِلا ذكْر المُقْسَم عليه، وعلى الأَوَّل تردَّدوا في أن ¬
التحريم هل يصير يميناً بالنيَّة في غير الزوجات والإِماء في المطاعم والملابس، أو يختص ذلك بالأَبضاع (¬1). وإن أطْلَقَ قوله: أنْتِ عليَّ حرامٌ ولم ينوِ شيئاً، ففيه قولان منسوبان إِلى "الإِملاء"؛ لأنه ذكَرَ هناك أن فيه كفارة يمينٍ، ثم قال: ولو قال قائل: إِنه لا شيء فيه كان مذْهباً. وأصح القولَيْن: أنَّه تجب الكفَّارة وقوله: أنتِ عليَّ حرامٌ صريح في التزام الكفَّارة؛ لِمَا رُوِيَ عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حَرَّمَ مارية على نَفْسِه، فنَزَل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله} [التحريم: 1] فأمر رسول الله -كل من حرم على نَفْسِه ما كان حلالاً له أن يُعْتِقَ رقَبَة، أو يطعم عَشَرة مساكين، أو يَكْسُوَهمْ. والثاني: أنَّه لا شيء عليه، وهذا اللفظ كنايةٌ في الكفَّارة (¬2)؛ لأنه لو إن صريحاً في التزام الكفَّارة، لكان لا يصير كنايةً في الطلاق والظهار؛ لِمَا مرَّ أن اللفظ إذا وَجَد نفاذاً في موضوعه لا ينْصَرف بالنية إلى غيره، والناصرون للقول الأول اعتذروا عن هذا الالتزام من وجهين: أحدهما: ما سبق في أول "كتاب الخُلْع". والثَّاني: قال الشيخ أبو عليٍّ: الحرام وإن كان صريحاً في التزام الكفَّارة، فليس على طريق القَطْع؛ بل يَحْتَمِل الطَّلاق وغيره؛ لأنه مجْتَهَد فيه. وذهب أبو بكر الصِّديق -رضي الله عنه- وعائشةُ -رضي الله عنها- إلى أنَّه يمين وكفَّارته كفارة يمين وعمر -رضي الله عنه- إلى أنه صريح في طلقة رجعيَّة، وعثمان -رضي الله عنه- إلى أنَّه ظهار، وعليٌّ -رضي الله عنه- إلى أنَّه صريح في الطلقات الثلاث وبه قال زيد، وأبو هريرة -رضي الله عنهما- وذهب ابن مَسْعُود -رضي الله عنه- إلى أنَّه ليس بيمين، وفيه كفارةُ يمينٍ، كما هو أصحُّ قولي الشَّافعي في الطلاق [و] (¬3) إنَّما يجعل الصريح في بابه على القَطْع كنايةً عن غيره؛ كالطلاق والظهار الصريحين في بابهما. واعْلَمْ أن التفصيل الذي سقناه يستمرُّ فيمن قال: أنْت عليَّ حرامٌ في البلاد التي لم يشتهر فيها لفْظ الحرام في الطلاق، وفيمن قاله في البلاد الَّتي اشتهر فيها بالطلاق إذا فرَّعنا على أن الشيوع والاشتهار لا يلحقه بالصرائح، وأما إذا قُلْنا: إنه يصير صريحاً به، ¬
فقضية ما في "التهذيب" أنَّه يتعيَّن الطلاق، ولا يفصل وملخص ما ذكره الإِمام على طُولِه أَنَّ ذلك لا يمنع صرْفه بالنية إلى التحريم الموجب للكفارة، كما أنَّا وإن جعلْناه صريحاً في الكفارة عنْد الإِطلاق، يجوز صرفه بالنية إلى الطلاق وأنَّه إذا أطلق، وفرَّعنا على أنَّه صريح في الكفَّارة، ينبني على أن الصرائح تؤخذ من الشيوع والاستفاضة فحسب، ومنه ومن ورود القرآن والشريعة به فإن قُلْنَا بالأوَّل، فلا يُفْرَض له ازدحام، ويتعين الحَمْل على ما هو أغْلَبُ في الاستعمال، وإن قُلْنا بالثاني، فيثبت الطلاق، لقوته أو يتدافعان ويتعارض؛ فيه رأيان. ولو قال لأَمَتِه: أنْتِ عليَّ حرامٌ أو حرَّمْتُك، فإنْ نَوَى به العِتْق، فهُو عتْق، وإن نوى به الطَّلاق أو الظهار، فلا مَجَال له في الأَمة، فيلغو قال في "الشامل": وعنْدي أن نية الظِّهَار كَنيَّة التحريم؛ لأن معْنَى نيَّة الظهار أن ينوي أنها كظَهْر أمِّه في التحريم، وهذا نية التحريم بصفة مؤكدة، دمان نوى تحريم عيْنها لم تُحرم، وعليه كفَّارة يمين، كما ذَكْرنا في الزوجة، وإن أطْلَقَ ولم ينْو فطريقان: أصحهما: أنه على القولين المذكورين فيما إذا خاطب به زوجته. والثاني: القَطْع بوجوب الكفَّارة؛ لأن [تحريم] الأمة هو الأصْل في ورود الآية، ويَحْصُلُ من الطريقين، إذا قيل: خاطب زوجته وأمته، بقوله: أنْتِ عليَّ حرامٌ، ولم ينوِ شيئاً، ثلاثةُ أقوال أو ثلاثةُ أوجُهٍ، كما في الكتاب: أظهرها: الوجوب. وثانيها: يلغو. وثالثها: الفرق بين الزوجة والأَمَة. ولو قال ذلك لأمته الَّتي هي أخْته، ونوى تحريم عَيْنها، أو لم ينوِ شيئاً، لم تلزمْه الكفارة؛ لأنَّه صَدَق في وصفها، وإنما أوجب الشرع الكفَّارة إذا خالف حُكْمه، ووصف الحلال بالحرمة ولو كانت الأمة معتدَّةَ أو مرتدَّة أو مزوجة أو مجوسيةً، أو كانت الزوجة معتدَّة عن الشبهة، أو محرمة، فوجهان: أحدهما: أن الجواب كذلك لأنها محرمة عليه في الحال. والثاني: تجب الكفارة؛ لأنَّها محَلُّ الاستباحة بخلاف الأخْتِ، وصار كما لو كانَتْ حائضاً أو نُفَساء أو صائمة. وطرد الحناطيُّ الخلاف في هؤلاء. والظاهر الأَوَّل، فإنَّها عوارض سريعةُ الزوال، ولو خاطب الرجعية به، لم يلزمْه شيْءٌ. فرع: قال هذا الثوب، أو العبد، أو الطعام حرام عليّ لم يلزمه شيء، ولو قال: هذا الثوب أو العبد أو الطعام حرام فليس فيه كفارة، وليست الأَمْوال كالأَبضاع؛
لاختصاصها بالحظر والاحتياط ولأن تأثرها بالتحريم أشدُّ؛ ألا ترى أنه يؤثر فيها الظهار، ولا يؤثِّر في الأموال وعند أبي حنيفة وأحمد -رحمهما الله-: التحريم فيها يمين، وتتعلق به كفارة يمين، وكأنه حَلَف على أنَّه لا ينتفع بماله، فإذا انتفع، لَزِمَتْه الكفارة. ولو قال: كُلُّ ما أملِكُ حرامٌ عليَّ، وله زوجاتٌ وإماء، ونوى التحريم فيهن، أو أطْلَقَ وجعلناه صريحاً، فيكفيه كفَّارةٌ واحدةٌ أو يجبُ لكلِّ واحدة كفارةٌ، فيه طريقان: أحدهما: -وبه قال أبو إسحاق- أنه على قولَيْن كما لو ظاهر عن نِسْوة بكلمة واحدة. والثاني: القَطْع بكفارة واحدةٍ، كما لو حَلَف أن لا يكلِّم جماعة، فكلمهم، والأصح الاكتفاء بكفارة واحدة. وحكى الصّيدلانيُّ وغيره وجْهاً أو قولاً آخر: أنَّه يجب للزوجات كفَّارة، وللإِماء كفَّارة. وحكى الحناطي وجْهاً ضعيفاً: أنَّه يكفِّر للمال أيضاً، وربما جاء على ضعْفِه فيما إذا وصَف المال وحْدَهُ بالتحريم، ويجري القولان فيما إذا قال لأربع نسوة: أنْتُنَّ عليَّ حرامٌ. ولو قال: لامرأته: أنْتِ عليَّ حرام، أنتِ عليَّ حرامٌ، ونوى التحريم، أو جعلناه صريحاً، فإن قالها في مجلسٍ واحدٍ، كفته كفارة واحدة، وإن اختلَف المجلسُ، وأراد التأكيد فكذلك الجواب وإن أراد الاستئناف، فعَلَيْه لكلِّ واحدة كفَّارة، وقيل: يكفي كفارةٌ واحدةٌ، وإن أطْلَق فعَلَى قولين كذلك، وشذ الحناطي. وقوله في الكتاب "فإن نَوَى الطَّلاَقَ أو الظِّهَار كان كَمَا نَوى" يجوز إعلامه بالواو للوجه الغريب الَّذي حَكَيْنَاه: أنَّه لو نوى الطَّلاق، لم يكن طلاقاً، إذا فرَّعنا على أَنَّه صريحٌ في اقتضاء الكفَّارة، ويجوز إعلام الظهار بالميم؛ لأن عن مالك فيما رواه ابن الصباغ -رحمهما الله- أن قَوْله: أنْتِ عليَّ حرام صريحٌ في ثلاثِ طلقات، كما هو مذهبُ عليٍّ -كرم الله وجهه- وإِعْلام الطلاق بالألف؛ لأن عنْد أحمد -رحمه الله- هو ظهارٌ، كما هو مذهب عثمان -رضي الله عنه-، وقوله "ولو نَوَى التَّحْرِيمَ حُرِّمَتْ" وَكَذَلِكَ يوجد في أكثر النسخ، والصواب "لم تحرم" وكذلك نجد في النسخ الصحيحة، وذكر في "الوسيط" أنه إن نوى التحريم، كان يميناً، وهو أيضاً خلافُ ما قاله الأصحاب -رحمهم الله- على طبقاتهمْ؛ فإنهم قالوا: إنه ليس بيمين، ولكن فيه كفارة يمين. وقوله: "لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ" أي كفارة يمين، وليعلَّمْ بالميم، والألف؛ لما عرَفْتَ من مذهبهما. وقوله: "يُوجِبُ الكَفَّارةَ" بالحاء والميم؛ أما الميم؛ فلما تبين، وأما الحاء؛ فلأن
عند أبي حنيفة -رحمه الله- قوله: أنْتِ عليَّ حرامٌ يمينٌ، وهو بمثابة قول القائل: والله لا أطؤك حتى يكون إيلاءً في حق الزوجة، ويتعلق الكفَّارة فيه بالحنث، وإذا كان كذلك، لم يكن الإِطْلاَق موجباً للكفَّارة، ويجُوز أن يعلَّم قوله: "يلْغُو" بالحاء والميم أيضاً، وقوله "لتعارض" يَعْني احتمال الظِّهَار والطلاق وغيرهما، وقوله: "هُوَ صَرِيحٌ في الكَفَّارَة" وفي بعض النسخ "في التَّحْرِيم" أي في معنى التحريم الذي موجبه الكفارة، والأول أوضح. فُرُوعٌ وفوائدُ: الأوَّل: لو قال: أنْت حَرَامٌ ولم يقل "عَلَيَّ". قال في "التهذيب": هو كناية قولاً واحداً، ولو قال: أنْتِ عليَّ كالميتة، والدم، أو الخمر أو الخنزير، وقال: أردتُّ الطلاق أو الظهار، فهُو كما نوى، وإن قال أردتُّ التحريم، فعليه الكفارة، وإن أطْلَقَ فظاهرُ النصِّ: أنه كالحرام، عَلَى ذلك جَرَى الإِمامُ، ثم قال: يجوز ألا تَجْعل هذه الألفاظ صرائحَ، وتخصيص الحَرَام بكونه صريحاً؛ لورود القرآن [به] (¬1)، والذي ذكَره على سَبِيل الاحْتمال، وهو الذي أورده صاحب "التهذيب" وغيره. قال الحناطي: الخِلاَفُ عنْد الإِطلاق هاهنا مرتَّب على الإِطلاق، في لفظ الحرام، وهذا أَوْلَى بأن لا يُجْعَلَ صريحاً وحكي قولاً هاهنا أنَّه لا تجب الكفارة، وإن أراد التَّحْريم. قال الشيخ أبو حامد: ولو قال: أردتُّ أنها حرامٌ عليَّ فإن جعلْناه صريحاً وجبت الكفارة، وإن جعلْناه كنايةً لم تَجِبْ؛ لأنّه لا يكون للكناية كناية، وتبعه على هذا جماعةٌ، لكن لا يكاد يتحقَّق هذا التصوير؛ لأنَّه ينوي باللفظ معنى لفظ آخر لا صورة اللفظ، وإذا كان المَنْوِيُّ المعنى، فلا فَرْق بين أن يقال: نَوَى التحريم وبين أن يقال: نوى: أَنْتِ عَلَيَّ حرامٌ، ولو قال: أردتُّ أنها كالميتة في النفرة والاستقذار، قُبِلَ: ولم يلزمه شيء، ذكَره أبو الفرج السرخسي. الثاني: قال إسماعيل البوشنجي: إنما يقع الطَّلاق بقوله: أنتِ حرامٌ عليّ إذا نوى حقيقة الطَّلاق، وقصد إيقاعه بهذه اللفظة، أمَّا إذا لم يَنْوِ، كذلك لم يقع وإن اعتقد قوله: أنْتِ عليَّ حرَامٌ موقعاً، وظن أنه قد وقَع طلاقُه، وحُكِي عن بَعْض أصحاب أبي حنيفة أنَّه يقع إذا ظنَّه موقعاً، وإن لم ينوِ الإِيقاع، وأن الفقيه أبا الليث -رحمه الله- اختار ذلك. ¬
الثالث: قال الشيخ أبو نصر بن الصباغ: ينْبَغِي ألاَّ يفرق بيْن أن يقول: أردتُّ بقولي: "أنْتِ عليَّ حرامٌ" التَّحريم وبين أن يقول: لم أنْوِ شيئاً؛ لأن اللفظ صريحٌ في هذا المعنى، فلا مَعْنَى لاعتبار النية وظاهر هذا طريقه جازمة، بأن صورة الإِطلاق حكمها حُكْمُ ما لو قصدت التحريم. الرابع: إذا قال متى قلت لامرأتي: أنْتِ عليَّ حرامٌ، فإني أريد به الطلاقَ، ثم قال لها بعد مدة: أنْتِ عليَّ حرامٌ، فعن أبي العباس الرُّوياني بأنَّه يحتمل وجهَيْن: أحدهما: الحَمْل على الطلاق؛ لكلامه السابق. والثاني: أنَّه كما لو ابتدأ به؛ لاحتمال أن نيته قد تغيَّرت (¬1). واعلم أنه قد تكرَّر في كلام الأصحاب في المسألة أن قوله: "أنْتِ عليَّ حرامٌ" صريحٌ في الكفَّارة أو التزام الكفارة أو هو كناية، وفي الحقيقة ليس لزوم الكفارة أو التزامها معنى اللفظ؛ حتى يقال هو صريحٌ فيه أو كناية، وإنما هو حكم رتبه الشرع على التلفظ (¬2) بهذه اللفظة، واختَلَفوا في أن هذا الحُكْم، هل يتوقَّف حتى ينوي التحريم أو لا يتوقف؟ فتوسَّعُوا باطلاق لفظ الصريح والكناية. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالنِّيَةُ في الكِنَايَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعَ اللَّفْظِ لاَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ، فَلَوْ اقْتَرَنَ بِأَوَّلِ اللَّفْظِ دُونَ آخِرِهِ نَفَذَ عَلَى الأَصَحِّ، وَلَوِ اقْتَرَنَ بِآخِرِهِ دُونَ أَوَّلِهِ فَوَجْهَان، وَالكنَايَةُ لاَ يَصِيرُ صَرِيحاً بِقَرِينَةِ الغَصْبِ وَاللَّجَاجِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وفي هذه النية أصْلاَنِ لا بدّ من معرفتهما في الكنايات. أحدهما: أن الكنايات الظاهرة لا تعمل بنفسها، بل لا بُدَّ فيها من نية الطلاق. وقال مالك -رحمه الله-: إن الكناياتِ الظاهِرَة لا تحْتَاج إلى النية، واحتج الأصحاب أنَّها كناياتٌ لم تقترن بها نية الطَّلاق، فأشبهت سائر الكنايات من غير نيَّة فالنيَّة أيضاً لا تعْمَل في الطَّلاق من غير لفظ صريح وعن مالك أن الطلاق يقع بمجرد القَصْد. واحتج الأصحاب بأنَّ الطَّلاق حَلُّ عقْدٍ، فلا يحصل بمجرد النية، كالفسخ، والإِقالة إذا عرف ذلك فينبغي أن تقترن النية باللفظ، فلو تقدَّمت وتلفظ بلا نية أو فرغ منَ اللفظ ثُمَّ نوى لم يَقَع الطلاق، ولو اقترنت بأول اللَّفْظ وعزبت قبل تمامه بأن قصد إيقاع الطلاق عند قوله: أنْتِ، ولم يَنْوِ هذا القصد عند الانتهاء إلى طالقٍ، فوجهان: في وجه: لا يقع الطلاق؛ لأن ما قارنته النية غير مفيد. ¬
والثاني: خالٍ عن النية. وأظهرهما: -على ما ذكر الإِمام، وصاحب الكتاب-: الوقُوعُ؛ وإذا اقترن بأوَّله عُرِفَ قصده من اللفظ، فالتحق بالصريح، ولو اقترنت بآخر اللفظ، وخلا أوَّلُه عنْها، فوجهان أيضاً. وجْه الوقوع: أنَّ وقت الوقوع حالة تَمَامِ اللفظ، وقد قارنتها النية. ووجه الآخر: أنَّ صدْر اللفظ عَرِيٌّ عن الطلاق، والانعطافُ على ما مضى بعيدٌ، بخلاف استصْحَاب ما وُجِدَ، وسكت الإِمام عن الترجيح في هذَيْن الوجهين، وكذلك فعل صاحب الكتاب هاهنا، وفي "الوسيط" وذلك يُشْعِر بأنهما رأيا الأظهر (¬1) فيما إذا اقترنت النية بآخر اللفظ دون أوَّلِه البُطْلاَنَ، لكنَّ صاحب "التتمة" قرب الوجهين فيما إذا اقترنت بأوله دون آخره من الوجهين فيما إذا اقترن بآخره دون أوله من القولين، فيما إذا نوى المسافر الجَمْع في أثناء الصلاة، ولم يَنْو في أولها، وقضيَّة هذا التشبيه والتقريب أن يقال: إذا كان الوقوع فيما إذا اقترنت النية بأول التكبير دون آخره الانعقاد، والأظهر فيما إذا نوى الجَمْع في أثناء الصلاة صحَّة صلاة الجمع. الثاني: الكنايات لا تلحق بالصَّرائح، لسؤال المرأة الطلاق، ولا بقرينة الغَضَب واللَّجَاج؛ لأنه قد يقْصِد خلاف ما تُشْعر به القرينة، واللفظ في نفسه محتملٌ. وقال مالك -رَحمه الله-: تلتحق الكنايات بالصرائح بقرينة السؤال وقرينة الغضب. وعن أبي حنيفة -رحمه الله- تفصيل طويلٌ في الكنايات؛ منْها ما ألحقه بالصرائح بالقرينتين جميعاً، ومنْها ما ألحقه بقرينة السؤال دون الغضب. وقال أحمد -رحمه الله-: دَلاَلَةُ الحالِ في جميع الكنايات تقُوم مقام النية، ومهْما خاطَب الزَّوْج زوجته بلفظ من ألفاظ الكنايات، وقال: لم أَنْوِ الطلاق، فهو مصدَّقٌ بيمينه، فإن نَكَلَ، حَلَفَتِ المرأة، قُضِيَ بوقوع الطلاق، وربَّما كان قد أقرَّ بذلك ثم جَحَد فإن لو علمت النية لفظية بقرائن ومخائل، يجوز الحلف بمثلها. هذا شرح ما اشتمل عليه الفَصْل الأول من الرُّكن ونعقبه بمسائل مستفادة تتعلق بالصرائح والكنايات المعقود لها الفَصْل؛ والله أعلم. ¬
في "الزيادات" للشيخ أبي عاصم العبادي أنَّه إذا قال: بعْتُ منك طلاقَكِ، فقالت: اشتريْتُ، ولم يذكرُ عوضاً لا تحصُلِ الفرقة، إذا لم يكُن نيَّة، وقيل: تقع طلقةً بمهر المثل، وأَنَّه إذا قال: هذا بطلاق (برامنت دركردم) (¬1) فهو كناية. وقال إسماعيل اليوشنجي: لا يَقَع؛ لأنَّه لم يقصد الطَّلاقُ إليها، ولا إلى جزء من أجزائها، ولو قال: هذا بطَلاق هو (بلى كردم) (¬2) ونوى الطلاق طُلِّقَتْ [ثلاث]، طلاقاً والمعنى: طلقت - طلقتك، ألفاً بمرة، وأنَّه إذا قال: لم يبق بيني وبينك شيء، ونوى الطلاق، لم تُطَلَّقْ، وفي هذا توقّف (¬3)، وأنَّه إذا قال: برئت من نكاحِكِ، ونَوَى، طُلِّقَتْ، ولو قال: برِئْتُ من طلاقك. لم تطلَّق، نوى أو لم ينوِ، ولو قال: بَرْئِتُ إليْك من طلاقك، قال إسماعيل، البوشنجي، يكون كناية، على تقدير تبرَّأْتُ منْك بواسطة إيقاع الطلاق علَيْك، ولو قال: أبرأتك أو عفوت عَنْك، فهو كناية؛ لأن اللَّفْظين يُشْعِرَان بالإِسقاط، وللزَّوْج حقُوقُ النِّكَاح، وتسقط عنها بالطلاق، وأنَّه لو قال طلقك الله، أو قَالَ لأمته: أعتقك اللهُ طُلِّقَتْ وَعَتَقَتْ، وهذا يُشْعر بأنهما صريحان ورأى البوشنجي إلْحاقهما بالكنايات، لأنَّهما يحتملانِ الدُّعاء والإِنشاء؛ وبتقدير العمل على الإِنشاء، فهو ليس بصريح في إيقاع الطلاق، بل المعنى: طلقتك بحكم الله تعالى، بوقوع طلاقك، وقَوْل مستحق الدَّيْن لمن عليْه الدين أبرأك الله كقوله لزوجته: طلَّقَكِ الله، وأنَّه لو قال: أنْتِ طال، وترك القاف، طلِّقَتْ حمْلاً على الترخيم، قال البوشنجي؛ لا ينبغي أن يقع الطَّلاق، وإن نوى. نعم، إذا قال يا طال، ونوى، يَقَع؛ لأن الترخيم في العربية إنَّما بعهد في النداء، فأما في غَيْر النداء فلا يُعْهَد إلا نادراً في الشِّعْر، وأنَّه إذا قال: الطلاق لازمٌ لِي أو واجبٌ عليَّ، تطلَّق للعُرْف، ولو قال: فرضٌ عليَّ، لمْ تطلَّق؛ لأنه لم يجر (¬4) العُرْف فيه ورأى البوشنجي أن جميع هذه الألفاظ كنايةٌ؛ لأنَّه لو قال: طلاقُكِ عليَّ، واقتصر عليه، ونوى الوقوع، وقع، فوصفه بقوله "واجب" أو "فرض" يزيده تأكيداً وأيضاً فقد يَعْنِي بالوجوب السقوطَ وكأنه قال طلاقُكِ عليّ ساقط، وواقع، وهو معروف في الكنايات، وحكى صاحبُ "العُدَّة" الخُلاَف، فقال: لو قال: طلاقُك لازمٌ [لي] (¬5)، فوجهان، قال أكثر الأصحاب: هو صريحٌ، وأنه لو قال (توم أخبرى باشى) (¬6)، ونوى ¬
الطَّلاَق لا يقع؛ لأنَّه كاذبٌ، وهذا الوجه للأصحاب ذكروه فيما إذا قال: لست بزوجةٍ لي، فرُبَّما علَّل ذلك بأنَّه صريحٌ في الإِقرار، فلا يصير إنشاءً بالنية، والأظهر أنَّهما كنايتان في إنْشَاء الطلاق، وكذا لو قال (توازان من هيج مني) (¬1)، وذكر القفَّال أنَّه لو قال (يك طلاق ودو طلاق وسه طلاق) (¬2) (دوّميني معنى) (¬3) وطلقت فلاناً، ولو قال: (يك ورود بينه معنى آن) (¬4) نوى الطلاق، وقَع الثلاثُ، إن لم ينْوِ، لم يقَع شيْء، وفي "فتاويه" أنَّه لو قال: اذْهَبِي إلى بَيْت أبَوَيَّ ونوى الطلاق، إن نواه بقوله: اذْهَبِي، وَقَع، وإن نواه بمجموع اللفظين، لم يَقَع لأن قوله "إلى بيت أبَوَيَّ" لا يحتمل الفراق، بل هو لاستدراك مقتضى قَوْلِه: "اذْهَبِي"، وأنه لو قال لامرأته: أنْت طالقان أو طوالق، لم يقع عليها إلاَّ طلقةٌ واحدةٌ وإن قوله: (يومك طالق أزمن جداى) (¬5) صريحٌ وأنَّه لو قال: كل امرأة لِي طالقٌ إلاَّ عمرة ولا امرأة له سواها، يقع طلاقها، والاستثناء باطلٌ (¬6) لاستغراقه. ¬
ولو قال: النِّسَاءُ طَوَالِقُ إلاَّ عَمْرَةَ ولا امرأة له سواها، لم تُطلَّق؛ لأنَّه لم يضفهن إلى نفسْه، بخلاف قوله: كلُّ امرأة لي، ولو كانت امرأته في نسْوة فقال: طلقْتُ هؤلاء إلاَّ هذه فيشير إلى زوجته، لم تُطلَّق؛ لأنه عينهن واستثناها وأنَّه لو قال لامرأته، يا بنتي، وقعَتِ الفرقة بينهما؛ لاحتمال السن، كما لو قاله لعبْده (¬1) أو أمته وأن زوجته لو كانت تُنْسَب إلى زوج أمها، فقال: بِنْتُ فلان طالقٌ لا يقع الطَّلاق عليها؛ لأنها ليست بنْتاً له حقيقةً، ولغَيْره فيه احتمال (¬2) للعُرْف، وأنَّه لو قال: نساءُ المُسْلِمِينَ طوالِقُ، لم تطلَّق امرأته، وعن غيره أنَّها تطلَّق، وبني الخلاف على أن المخاطَبَ هل يدخل تحْت الخطاب (¬3)، وأنَّه لو قال: (من تومرارم) (¬4) وأراد به الطَّلاَق، وقع بخلاف، ما إذا قَال (مراز طلاق توبيرارم) (¬5) وأنَّه لو قَال (بخداى اسمان وزمين وسه طلاق تودركردن من كه كردرخانه بشوم) (¬6) ودخلها تلزمه الكفارة ولا يقع الطلاق؛ لأن الطَّلاق ليْس محلوفاً به وإنَّما الحَلفَاء بالله تعالى وبصفاته، وأنَّه لو قال: بانت مني امرأتي، أو حَرُمَتْ عليَّ لا يكون إقْراراً بالطَّلاق؛ لأنها من الكنايات، وأنه لو قال لها: أنْتِ بائنٌ، ثم قال بَعْد مدة أنت طالقٌ ثلاثاً وقال: أردتُّ بالبائن الطلاقَ، والثلاث غير واقعة؛ لمصادفتها حال البينونة، لم يُقْبَل؛ لأنه متَّهَم في هذا التفسير بعْد ما خاطَبَها بالثَّلاث، وأنه لو قال ¬
لامرأته (يكِ طلاقٌ أزمن خريدي بصددرم فقالت خريدم) (¬1) لم يَكُنْ شيئاً إلا أن يقول الرجُل بَعْده: (توفروختم) (¬2) أو يقول في الابتداء (يك طلاق بصددرم نيوفرورختم) (¬3) (خريدي) (¬4) فيقول: (خريدم) (¬5) وأنه لو قال لامرأته (بطلاق توسركيد خودرم كه بافلان سخن نكويم) (¬6) لم ينعقد، ولم يقع الطلاق لو كلمة؛ لأن قول (بخداي هيني) (¬7) وإن لم يصل به قولُه: (سوكند خوردم) (¬8) حتى لو قال (بخداي كه يا فلان سخن نكَويم) (¬9) كان يميناً، وأما الطلاق فليس مما يحلف به، وإن قال: بطلاقك ألا أكلِّمَ فلاناً، لا يقع الطلاق، إذا كلَّمه [وأنه] (¬10) لأن الطلاق لا يحلف به لو قالت زوجته، واسمها فاطمة، طلقني فقال: طلقْتُ فاطمةَ، [ثم قال: أردتُّ فاطمةً] أخْرَى، لم يُقْبَل، ويقع الطلاق؛ لدلالة الحال، بخلاف ما إذا قال ابتداءً: طلقْتُ فاطمة، ثم قال: أردت امرأةً أخرى، وقد يشكل هذا بما مرَّ في أن السؤال السابق لا يلْحِق الكنايات بالصرائح (¬11)، وفيما نقل ¬
من معلقات القاضي شريح الرُّويَاني ممَّا حكاه عن جَدِّه أبي العباس الرُّوياني، وغيره أنَّه لو قال لزوجته أحللتُكِ، ونوى طلاقَها، هل يكون كنايةً؟ فيه وجهان (¬1)، وأنه لو قال: أنتِ بائن وطالقٌ، رجع إلى نيته في بائن، ولا يجعل قوله وَطَالِقٌ تفسيراً له وأنه لو قال: (أنتِ طالقٌ سه تارة) قال جدِّي -رحمه الله- الظاهر منْه في غالب عادات النَّاس إرادةُ ثَلاَث طلقاتٍ، ويحتمل أن يرجع إلَيْه فيحمل اللفظ على ما أراده، وأنَّه لو كرَّر لفظاً من ألفاظ الكنايات، بان قال لها: اعْتَدِّي، اعتدي اعتدي، ونوى الطلاق، فإن نوى التأكيد وقعت طلقة وإن نوى بها الطَّلاق، وقَعَت بكل لفظة طلقة [وإن لم ينوِ فقولان] إن القَفَّال قَطَع بأن لو قال (طلاق دادم) (¬2) أو قال: طلقت، ونوى امرأته، لم يقَعِ الطلاق عَليْها؛ لأَنَّه لم يشر إليها ولا سمَّاها بلفظه، بخلاف ما لو قال: (مرا طلاق دادمْ) (¬3) فإنه إشارة، بخلاف ما لو قال (درخوش) (¬4) (وإطْلاق دادم) (¬5)، فإنه تسمية، ولو قالت له طلقني، فقال: طلاق دادم أو قيل له: ما تصنع بهَذهِ المرأة طلقها، فقال: طلقت أو قال لامرأته: طلقي نفْسَكِ، فقالت: طلقْتُ، يقَعُ الطلاق؛ لأنَّه يترتب على ما سَبَق من الالتماس أو التفويض، فإنه لو قال لغَيْره: قَدْ مللت من امرأتي، فقال: (طلاق دهش) (¬6) فقال دادم (¬7) فقال القفال لا يقع الطَّلاق؛ لأنه لا يصلح عبارة عن الطلاق، إلاَّ أن يقول (طلاق دادامش) (¬8)، ولا يبعد أن يقال بالترتيب عَلَى الأول؛ كما في الصورة السابقة وأجَاب بمثْل جوابِهِ فيما إذا قال: (رهاكنش) (¬9)، فقال (رها كردش) (¬10) ولا يبْعد أن يجعل هذا اللَّفْظ تفْسيراً للسّراح، ويُحْكَى عن القَفَّال أنه لا يحصل للبراجم (¬11) صرائح فيستمر الجواب على اختياره، وأنَّه لو قال (بوارزنى) (¬12) (من يِكِ طلاق) (¬13) ولم تَرِدْ عليه قال القَفَّال: لا يقع الطلاق، وإن نوى كما لو قال: أنْتِ بطلقة لا يقع، ولو قال: (زن طلاق دادم) (¬14) فهو كناية إن أراد إيقاع الطلاق على زوْجَته وقع وإلا فلا؛ ¬
لأنَّه لم يقل (زن خويشتن) (¬1) وأنه لو كان تحت رجل امرأتان: إحداهما فاطمة بنْتُ محمَّد، والأخرى فاطمة [بنت] (¬2) رجُل سماه أبواه محمَّداً أيضاً، إلاَّ أنه اشتهر في الناس بالحُسَيْن، وبه يدعونه فقال الزوج زوجتي فاطمة بنت محمَّد طالق. وقال أردت بنت الذي يدعونه الحسين، قال جدي: يُقْبَل قوله؛ لأن العبرة بالاسم الذي سمَّاه به أبواه دون سائر الناس، وقد يكون للرَّجُل اسمان وأكثر، وقيل: العبرة بالاسم الذي اشتهر به في الناس؛ لأنه أبلغُ في التعريف، وأنه لو قال: امرأتي هذه محرَّمة عليَّ، لا تحلُّ لي أبداً. قال جدي لا تطلق؛ لأن التحريم قد يكون بغير الطلاق وقد يظن التحريم المؤبَّد باليمين على إلاَّ يجامِعَها، وقيل: يُحْكَم عليه بالبينونة بمقتضى هذا اللفظ، وأنه إذا قيل لرجل اسمه زَيْد؛ يا زيْد، فقال: امرأة زيْدٍ طالقٌ، قال جدي: يقع الطلاق على امرأته، وقيل: لا يقع، حتى يريد نفسه؛ لجواز أن يريد زيْداً آخَرَ، وليجيء هذا الوجه فيما إذا قال: فاطمةُ طالقٌ، واسم زوجته فاطمةٌ، ويشبه أن يكون هذا هو الأظْهَرَ؛ ليكون قاصداً إيقاع الطلاق على زوجته، وأنَّه إذا قيل لرجُل: طلقْتَ امرأتَكَ، فقال: اعلمْ أن الأمر على ما تقوله، حكى جدي وجهيْنِ؛ في أنه هَلْ يكون هذا إقراراً بالطَّلاَق؟. أصحُّهما: أنَّه لا يكون إقراراً؛ لأنه أمره بأن يعلم، ولم يحْصُل هذا العلم، وأنها (¬3) إذا كانت تدَّعي على زوجها أنه طلَّقها ثلاثاً، وهو منُكِرٌ، ثم قال لفقيه: اكتب لها ثلاثاً، قال جدي: يحتمل أن يُقَال: لا تكون كناية؛ لأن الكتابة فعل الكاتب، ولم يفوض الزوج الطلاق، حتَّى يقع ما صدر منه، ويحتمل أن يجْعَل كناية؛ ويكون التقدير اكتب ثلاثاً، فإني قد طلقتها ثلاثاً، وأنه لو قال: امرأتي الَّتي في هذا الدَّار طالقٌ، ولم تكن فيها، لا يقع الطلاقُ، وأنَّه لو قال (سه طلاق) (¬4) (توسه بارداذم) (¬5) أو قال: رددتُّ عليْكِ الطلقات الثلاثةَ، ونوى، وقَعَ الطلاق؛ لأنَّه استفادها من النِّكَاح الذي رضيت به، وأنه لو قال: أنتِ امرأتي، كانَتْ طالقاً أو قال (زن من هشته باد) (¬6) فلا طلاق؛ لأنه ثمن أو دعاء وأنَّه لو قال امرأته طالِقٌ، وعَنَى نفسه، قال جدي: يُحْتَمَل أن يقال: لا يقع الطَّلاَق؛ لأن هذه العبارة تصلُحُ (¬7) لنفسه، ويُحْتَمَل أن يقال: يقع؛ لأن الإِنسان قد يعبِّر بغيره عن نفسه، وأنَّه إذا قال لابنه قل لأمِّك: أنتِ طالقٌ، قال جَدِّي: إِن أَراد التوكيلَ، فإذا قال الابن لها ¬
ذلك، وَقَع الطَّلاق ويحتمل أن يقال: تطلَّق، والابن سفير يُخْبِرها بالحال. وإنه لو قال كل امرأة في السِّكَّة طالق، وهي في السِّكَّة، حكى جدي عن بعض الأصحاب: أنَّه لا يقع طلاقه، والصحيح أنه يَقَعُ، وأنَّه لو وكَّل رجلاً بالطلاق، فقال الوكيل: طلّقت من يقع الطلاق عليها بلفظي، هل تطلَّق المرأة الَّتي وكّل بطلاقها، فيه وجهان، ولو وكله بطلاق امرأته فطلَّقها، ولم يَنْوِ عند الطلاق أنه يوقع لموكله، ففي الوقوع وجهان، وفي الفتاوى للقاضي الحُسَيْن أنه لو قيل له: فعلْتَ كذا، فأنْكَر، فقيل له: إن كنْتَ فعلْتَ كذا فامْرأتُكَ طالقٌ، فقال: نعم، أو قيل له [زن توارزنى توهشته] (¬1) فقال (هشته) (¬2) لم يقع الطلاق؛ لأنَّه لم يوقعْه، وإنَّما أجازه، قال الشيخ الفرَّاء هذا استدعاء طلاقٍ منه، فليكن على القولَيْن فيما إذا قال لآخَرَ: طلقْتَ امرأتك، فقال: نعم، وفي "المستدرك" للإِمام إسماعيل البوشنجي: أنَّه لو قال لامرأته: وهَبْتُك لاِهْلِك، أو لأبيك، أو للأَزْواج، أو للأجانب، ونَوَى الطلاق، وَقَع الطلاق، كما لو قال: الْحَقِي بأهْلك، وأنَّه لو قال لامرأته: أنْتِ كذا، ونوى الطلاق، لا يُقْضَى بوقوع الطلاق، وكذا لو علَّق بصفة، فقال: إنْ لم أفْعَلْ كذا، فأنْتِ كذا، ونوى الطلاق؛ لأنه لا إشْعَار له بالفرقة؛ فأشْبَهَ ما إذا قال: إن لم أفْعَلْ كذا، فأنْتِ كما أضْمِرَ ونَوَى الطلاق، وأنه لو قال: أربَعُ طرق عليك مفتوحةٌ، فخُذِي أيَّها شِئْت، فهو كناية، كقوله: الْحَقِي بأهْلِكِ، وزوري أباكِ، وما أشبهها، ولو لم يقل: فَخُذي في أيها شئْتِ، قال إسماعيل: اعتاضت (¬3) عَلَيَّ جوابُها، فراجعْتُ بعض مشايخي، فأجاب بعض أئمة خراسان: بأنه كناية تشبه قوله: خلَّيْتُ سَبِيلَكِ، وأجاب إمام العراقيين -يعني أبا بكر الشاشي-: بأنَّه ليس كناية وقوله: الطَّرِيقُ عليكِ مفتوحٌ، كقوله: أربَعُ طرقٍ مفتوحةٌ. ولو قال: فتحْتُ طريقك، فلا ينْبَغِي أن يُفْرَق بينه وبين قوله: خَلَّيْتُ سبيلك، وقد سلّمة إمام العِرَاقِيِّين -رحمه الله-، وبه يظهر أن قوله: الطريقُ عليْكِ مفتوحٌ كنايةٌ أيضاً، كما لا فرْق في الصريح بين قوله: أطْلَقْتُكِ وبين قوله: أنتِ مطلَّقةٌ، وأنه لو قال لها: خُذي طلاقَكِ، فقالت: أخذْتُ، لم يقع الطلاق ما لمْ توجد نية الإِيقاع من الزوج، بقوله خُذِي أو من المرأة، إن حُمِلَ قوله على تفويض الطلاق إليها. وفي "الإِقناع" لأقضى القضاة الماوَرْدِيِّ: أن قول الزوج: لعَلَّ اللهَ أن يسُوقَ إليك خيْراً من كنايات الطَّلاق، وكذا قوله: بَارَكَ اللَّهُ لَكِ، بخلاف قوله: بَارَكَ اللَّهُ فِيكِ، وذكره غيره أيْضاً كأن قوله: بارك اللَّهُ فيكِ معناه: بارك الله لي فيك، وهو يُشْعِر برغبته ¬
فيها والاستمتاع بها، فلا يصلح كناية عن الفِرَاق، وقوله: بَارَكَ الله لك، أي الفراق ونحوه وسئل صاحب الكتاب في "الفَتَاوَى" عما إذا كتب الشروط في إقرار رجل بالطلاق فقال له الشُّهُود: نَشْهَدُ عليْكَ بما في هذا الكتاب، فقال اشهدوا، هل يقع الطلاق فيما بينه وبين الله تعالى؟ فأجاب لا بل لو قال: اشهدوا عَلَيَّ أنِّي طلْقتُها بالأمس، وهو كاذب، لم يقع فيما بينه وبين الله (¬1) تعالى. وفي "التتمة": أنَّه لو قال لواحدة من نسائه: أنتِ طالقٌ مائةَ طلْقَةٍ، فقالت: تكفيني ثلاثٌ، فقال الباقي على صواحبك، لا يقَعُ عليهن الطلاق؛ لأنَّه لم يخاطبْهُنَّ بالطلاق، وإنما رد عليهن ما خاطَبَها به، وهو لغْوٌ في الزيادة على الثلاث، فلا نطلقهن بما هو لغُو، فإن نوى به الطلاق، كان طلاقاً؛ وترتب على قوله: أنتِ طالقٌ: والمعنى: أنْتِ طالقٌ بثلاث، وهن طوالق بالباقي، وأنَّه لو قال: كل امرأة أَتزوَّجها فهي طالق، وأنْتِ يا أم أولادي. قال أبو عاصم العَبَّاديُّ: لا يقع الطلاق عليها؛ لأن الطلاق قبل النِّكَاح لغو، وقد ترتب طلاقها عليْه فيلْغُو، ويقْرُب من هذا ما ذكَره غيْره أنه لو قال لزوجته: نساء العالمين طوالق، وأنت يا فاطمة، لا يقع؛ لأنَّه عَطَفَ طلاقها عَلَى طلاق نسوة لا يقع طلاقهن (¬2)، وأنَّه لو قيل له: فعلْتَ كذا فأنكر فقال له من يجاوره: الحِلُّ عليك حَرَامٌ، والنية نيتي أنك ما فعلت فقال: الحِلُّ عليَّ حرامٌ والنية نيتك أنِّي ما فعلته يلغْو قوْلِه: النية نيتك، ويكون الحكم كما لو تلفَّظ بهذه الكلمة ابتداءً، ولو قال له لمَّا أنكر: امرأتُكَ طالقٌ، إن كنت كاذباً فقال: طالق وقال: ما أردتُّ طلاق امرأتي، يُقْبَل؛ لأنَّه لم توجد إشارة إليها ولا تسمية لها، وإن لم يدع إرادة غيرها، حكم بوقوع الطلاق؛ لأن الظاهر ترتيب كلامه على كَلاَم ذلك القائل، ونقل الفقيه أبو الليث السمرقندي في "الفتاوى" عن بَعْض أصحابهم: أنَّه لو قال لامرأته [تومرار كارنيستي] (¬3) ونوى به الطلاق، لا يكون طلاقاً، ولا يبعد عده من (¬4) الكنايات، كما لو قال: لا حاجَةَ لي ¬
فيكِ، وفي "فتاويه": أنَّه سئل بعْضُ أصحابهم عن رجُل سكران، فقال لامرأته أي صرح (كيله بماه ماندرويت باتومن طلاق داده سويت) (¬1) فقال: إن كان لَهَا قبْل هذا الزَّوْج زوج آخَرُ لم تقع عليها طلقة إلاَّ أن ينوي، وإن لم يكُنْ قبله زوْج، يقع الطلاق، نوى أو لم ينوِ، ويُشْبِه أن يقال لو قال: أردتُّ مخاطبتها بمصراع الأول، وكنت في المصراع الثاني؛ حَاكياً القول الشاعر، يُقْبَل، ولا يقع الطلاق، إلا شبه ألا يقع الطلاق إلاَّ إذا نوى؛ لوجهين: أحدهما: أن مقصود الشاعر طلاق زوج آخر، وإلاَّ فكيف تكون زوجةً له مفوضاً إليها أمر نيته ومطلقة منه، والغالِب أن التمثيل بالشعر يريد ما أراده الشَّاعر، وإذا قال الزوج: طلقَكِ زوْج آخَرُ لم يقع طلاقه، وإن لم يعرف لها زوج آخر. والثاني: أن مقصود الشاعر طَلاَق عساه يوجد في المستقبل، كأنَّه تمنى أن يطلِّقها زوْجُها، وتصير زوجةً له، والخبر عن الطلاق في المستقبل ولا يوجب الوقوع (¬2) في الحال. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّانِي فِي الفِعْلِ): أَمَّا الإِشَارَةُ المُفْهِمَةُ مُعْتَبَرَةٌ مِنَ الأَخْرَسِ فِي الطَّلاَقِ، وَالصَّرِيحُ مِنْهَا يَشْتَرِك في فَهْمِهِا الكَافَّةُ، وَالكِنَايَةُ مِنْها مَا يَفْطِنُ لِدَرْكِهِ بَعْضُ النَّاسِ، وَأَمَّا القَادِرُ فَإِشَارَتُهُ لاَ يَكُونُ صَرِيحاً أَصْلاً، وَهَلْ يَكُونُ كِنَايَةً؟ فِيهِ خِلاَفٌ مُرَتَّبٌ عَلَى كَتْبِهِ الطَّلاَقَ مِنَ القَادِرِ عَلَى النُّطْقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تبيَّن الحُكْم في الأفعال الدالَّة على النطق، وكما أن الأقْوال تُفْهُم، وتدُلُّه على المعنى، فالإِشارة والكتابة من الأفْعَال يدُلاَّن أيضاً، والمقصود بيان حكمهما، أما الإِشارة فهي معتَبَرةٌ من الأخْرَس في وقوع الطلاق؛ لأنَّه كذلك يعبر ويدل على ما في ضميره، قال الإِمام: وتقوم إشارته مَقَام عبارة الناطق في جميع العقود والحلول والأقارير والدعاوى، نَعَمْ، في شهادته خلافٌ يأتي في موضعه. وإذا أشار في الصلاة بالطلاق أو البيع أو غيرهما، صَحَّ العَقْد، ولم تبطل الصلاة على الصحيح، وفيه وجْه ثم منهم من أدار الحكم على إشارته المفهومة وحَكَم بوقوع الطلاق بها، نوى أو لم ينوِ، كذلك ذكَر صاحب "التهذيب"، وقسَّم آخرون منهم الإِمَام، وصاحب الكتاب إشارَتَه إلى صريحة تُغْنِي عن النية، وهي التي يَفْهَم منها الطلاقَ كُلُّ مَن وقَف عليهما، وإلى كناية تحتاج إلى النِّيَّة، وهي التي يفهم الطلاق منها ¬
المخصوص بالفِطنة والذكاء، ظَنِّي أني سمعْتُ أو رأيت لبعضهم أن الكناية هي التي يختص بفَهْم الطلاق منها المخصوص بالفطنة والذكاء، ظَنِّي أني سمعْتُ أو رأيت لبعضهم أن الكناية هي التي يختص بفَهْم الطلاق منها مَنْ خالطه، واختبر أحواله وإشاراته، والصريح ما يفهم الخلطاء والأجانب، ولو بالغ في الإِشَارَة، ثُمَّ ادَّعَى أنَّه لم يُرد الطَّلاق، وأفهم هذه الدعوْى، قال الإِمام هو كما لو فسَّر اللفظة الشائعة في الطَّلاق بغير الطلاق, لأنَّ التحاق مثْل تلْك اللفظة بالصرائح سببه الشيوع والتفاهم، دون الوَضْع، كما أن الاعتماد في الإِشارة على الفَهْم. ولا فَرْق في اعتبار إشارته بين أن يقدر على الكتابة أو لا يَقْدِر؛ لحصول الفَهْم كذلك، ذكره الإِمام، ويوافقه إطلاق الأكْثَرين، وفي "التتمة" أن إشارة الأخرس إنما تعتبر، إذا لم يقدر على كتابة مُفْهِمه وإن قَدَرَ عليها، فالكتابة هي المعتبرة؛ لأنَّها أضبط وأدل على المُرَاد، وينبغي أن يكتب مع ذلك إنِّي قصدتُّ الطلاَق. ويقع الطلاق بكتابة الأخْرَس، كما يقع بإشارته، وعن الشيخ أبي محمَّد: أن الكتابة في حقِّه صريحةٌ، والصحيح أنَّها كناية أنَّها [وإن كانت] أضْبَط، وأدل على المراد، تحتمل امتحان القلم، ومحاكاة الخَطِّ ولا يشترط مع الكناية الإِشارة. وحكى الحناطي وجْهَيْن؛ وفي "المجرَّد" للقاضي أبي الطيِّب مثْله، قال: إن قلْنا: لا يَقَع طلاقُ الناطق بالكتابة، حتى يقرأ ويتلفَّظ، فيحتاج الأخرس إلى الإِشارة؛ ليقوم مقام العبارة وإن قلنا: يقع بالكتابة مع النِّيَّة، فلا يحتاج إلى الإِشارة بالطلاق، ويكفي أن يفهما أنه نَوَى الطلاق. وأمَّا القادر على النُّطْق، فإشارته ليْسَتْ بصريحة، وإن وُجِدَ منه ما نجعلُه صريحاً من الأخرس, لأن عدوله من العبارة إلى الإشارة يُوهِم أنه غيْر قاصد للطلاق، وهذا كما أن الكتابة كناية [في حق] الناطق، وإن جعلت من الصرائح في حقِّ الأخرس. وهل يكون إشارته كناية؟ فيه وجهان: عن رواية صاحب "الأفصاح": أحدهما: نَعَمْ؛ لحصول الإِفْهَام بها، كالكتابة هذا عن صاحب "التلخيص" واختيار القَفَّال: وأظهرهما: لا؛ لأن الإِشارة لا تُقْصَد للاِفهام بها إلاَّ نادراً بخلاف الكتابة؛ فإنها حروف موضوعة للإفهام، كالعبارة، وحكى الشيخ أبو عليٍّ أن أبا زَيْدٍ أجاب بالوجْه الأول فيما إذا قالت المرأة: طلِّقْنِي، فأشار بيده أن اذهبي، واستبعده، ورتب المرتبون الوجهيْن على الخلاف الَّذي يأتي في أن كنايَةَ القَادر على النُّطْق، هَلْ هي، كناية فالإِشارة أَوْلَى بألاَّ تكون كنايةً؛ لاختلافها بالأحوال والأشخاص واختلاف الناس في فهمها، وهذا ما أورده في الكتاب.
فَرْعٌ: فقال لأحدهما: أنتِ طالقٌ، وهذه إشارةٌ إلى الأخرى، فتطلق الأُخْرى ويفتقر الوقوع إلى النية؟ فيه وجهان عن أبي العبَّاس الروياني. ولو قال، وله امرأتان: امرأتي طالقٌ، وأشار إلى إحداهما ثم قال: أردتُّ الأخرى، فوجهان عنه: أحدهما: يقبل ولا تلزمه بالإِشارة. والثاني: أنهما تُطَلَّقان، أمَّا المُشَار إليها؛ فلظاهر الإِشارة عنْد اللفظ، وأما الأخرى فلأنه قال: أردتُّها. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَهِيَ لَيْسَ بِصَرِيحٍ أَصْلاً لَكِنَّهَا كِنَايَةٌ عَلَى قَوْلٍ، وَلَغْوٌ عَلَى قَوْلٍ، وَهُوَ مِنَ الحَاضِرِ لَغْوُ وَمِنَ الغَائِبِ كِنَايَةٌ عَلَى قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلْعَادَةِ، وَيَجْرِي الخِلاَفُ فِي العِتْقِ وَالإبْرَاءِ وَالعَفْوِ وَمَا لاَ يَحْتَاجُ إلَى القَبُولِ، أَمَّا البَيْعُ وَالمُعَاوَضَاتُ فَالخِلاَفُ فِيهِ مُرَتبٌ وَأَوْلَى بِأنْ لاَ يُعْتَبَرُ، وَالنِّكَاحُ مُرَتَّبٌ عَلَى البَيْعِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَبُّدِ وَلِعُسْرِ اطِّلاَعِ الشَّاهِدِ عَلَى النِّيَّةِ فَإِنَّهُ كِنَايَةٌ، ثُمَّ إنْ جَوَّزْنَا فَيَكْتُبُ أَمَّا بَعْدُ فَقَد زَوَّجْتُ بِنْتِي مِنْكَ وَيُشْهدُ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ، وإذَا بَلَغَهُ فَيَقُولُ فِي الحَالِ: قَبِلْتُ أَوْ يَكْتُبُ عَلَى الفَوْرِ وَيشْهِدُ عَلَيْهِ شَاهِدَي الإِيجَابِ، فإِنْ أَشْهَدَ آخَرَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا كتب القادر بطلاق زوجته، نُظِرَ؛ إن قرأ ما كتب، وتلفَّظ به، إما في حال الكتابة أو بَعْد ما فرغ منْها، وقع الطلاق، وإن لم يتلفظ به، فيُنْظَرُ إنْ لم يَنْوِ إيقاع الطَّلاق، لم يَقَع الطلاق. وعن رواية الشيخ أبِي عليٍّ أنه يقع، وأن الكتابة صريحة كالعبارة، ويُرْوَى هذا عن مَذْهَب أحمد -رحمه الله- والصحيح الأوَّل ووجه ذلك أن الكتابة تحتمل النسخ، والحكاية وتحتمل تجربة القلم والمداد وتقويم الخط وغيرهما. وإن نوى إيقاع الطلاق فقولان: أصحهما: أنَّه يقَع الطَّلاق، وبه قال أبو حنيفة ومالك، وأحمد، والمُزَنِيُّ -رحمهم الله-؛ لأن الكتابة أحد الخطابَيْن كالكلام، والإِنسان يعبر عما في نفسه، بالكتابة، كما يعبر بالعبارة. والثاني: لا يقع؛ لأنه فِعْل من القادر، فلا يصلح كناية عن الطَّلاق؛ كما لو سألته الطلاق فضربَها، وأخرجها من بَيْتِه، ونوى الطلاق، والقبول الأوَّل منْصوص في "المختصر" و"الأم"، ويُحْكَى الثاني عن "الإملاء"، ومنهم من خرَّجه من قوله في الرجعة حيث قال: إنَّها لا تحْصُل بالوطء، لأنَّه لمَّا لم يكن نكاح، ولا طلاق إلاَّ
بكلام، كذلك الرَّجْعَة، وعبَّر بعضهم بالخِلاَف من الوجهين لمكان التخريج، هذه هي الطريقة الظَّاهِرَة، ووراءها طريقان: إحداها: القطع بوقوع الطلاق. والثانيةُ: عن أبي إسْحَاق؛ القَطْع بعَدَم الوقوع، حكاه الحناطي. وإذا قلنا بطريق القولين، ففي موضعهما ثلاث طُرُق: أحدها: أن الخلاف في حقِّ الغائب، فأما الحاضر الخامس فكنايته لَغْوٌ؛ للعادة الغالبة بالمكاتبة في الغَيْبة، وفي الحُضُور لا حاجة إلى الكتاب. والثاني: أن الخلاف في حقِّ الحاضر، أما الغائب فكتابته كنايةٌ لا محالَةَ، وأظهرهما طرد الخلاف فيهما؛ لأن الحاضر أيضاً قد يَكْتُبُ إلى الحاضر لئلا يطَّلع عليه سائر الحاضرين، أو لاستحيائه عن المُخَاطبة وغيرها، والغائب عن المجلس عن البَلَد سواء فيما نَحْن فيه، وإذا اختصرت هذه الاختلافات خرج منها المختصر ثلاثة أقوال أو أوجه. الثالث: أن الكتابة كنايةٌ في حق الغائب دون الحاضر، كما ذكر في الكتاب. وليعلَّم قولُه "لَيْسَ بِصَرِيح" بالألف والواو، وقوله: "لَغْو" بالحاء والميم والألف والزاي لأنَّ الكتابة عندهم جميعاً كنايةٌ، وكذا قوله "مِنَ الحَاضِرِ لَغْوٌ" والخلاف المذكور في أن الطَّلاق هل يقع بالكتابة جارٍ في سائر التصرُّفات التي لا تحتاج إلى القَبُول؛ كالإِعتاق، والإِبراء، والعفو عن القصاص وغيرها, ولا فَرْق، أمَّا ما يحتاج إلى القَبُول فينقسم إلى نِكَاح، وغيره، أما غيْر النكاح؛ كالبيع، والإِجارة، والهبة، ففي انعقادها بالكتابة خَلافٌ يترتَّب على الخلاف في الطلاق وما في معناه، إن لم نعتبر الكتابة هناك، فهاهنا أولى، وإن اعتبرناها، فهاهنا وجْهان؛ للخلاف في انعقاد هذِهِ التصرفات بالكناية وأيضاً فإن القَبُول شرطٌ فيها وإنه يتأخر عن الإيجاب، والأشبه الانعقاد، ومن قال به جعَل تَمَام الإِيجاب بورود الكتاب؛ حتى يشترط اتصال القَبُول به. وفي وجه: لا يُشْتَرط ذلك، ويراعى التواصل اللائق بين الكتابين، وقد أشرْنا إلى ذلك كلِّه في أول "البَيْع" وحكينا عن بعض المسودات أن المشتري لو أجاب بالقَوْل، كان ذلك أقوى من أن يَكْتُبَ، وهذا ذكره الإِمام، وأما النِّكاح، فالخلاف فيه يترتَّب على الخلاف في البيع وسائر ما يفتقر إلى القبول من وجهين: أحدهما: اختصاص النِّكاح بمزيد الاحتياط والتضييق وكذلك (¬1) وقع الخلاف في انعقاده بالترجمة. ¬
والثاني: أن الكتابة كناية، والكنايات تَعْمَل بالنية، والشهود لا يَطَّلِعُون على النيات، فإن قال بعد الكتابة: نَوَيْتُ، عند الكتابة، فهُمْ شُهود على إقراره بالعقد، لا على نَفس العَقْد، والأظهر في النكاح المَنْع، ومن جوَّزه اعتمد الحاجة للغيبة، وإذا قلنا بانعقاد البَيْع والنكاح بالكتابة، فذلك في حال الغَيْبة، فأما عند الحضور، فالخلافُ يترتَّب على ما سَبَق، ويجيْء من الترتيب طريقة قاطعة بالمَنْع، وبهذا أجاب القاضي أبو سَعْد الهَرَويُّ في النكاح على ما ذَكْرنا في بابه، وإليها ميل الإِمام، وحيْث حَكمنا بانعقاد النكاح، بالكتابة فيكتب: زوجْتُ بنتي منك، وَيشْهد الكِتَابَ عدْلان، فإذا بلَغَه، فيقبل لفظاً أو يكْتُب القبول، ويشهد القبول شاهدَا الإِيجاب، فإن شَهِد آخران فوجهان: أحدهما: الجواز، ويُحْتَمَل ذلك كما احتمل الفصل بين الشقين للحاجة، وأصحهما المنع؛ لأن واحداً منهما ما يحضر العقد بتمامه. ويُشْتَرط أن يكون القَبُول لفظاً أو كناية على الفور، وفيه وجه ضعيف كما تقدَّم. ولو كتب إلى إنسان: إني وكَّلْتُك ببيع كذا من مالي، أو بإعتاق عَبْدي، فإن قُلْنَا: الوَكَالَة لا تحْتَاج إلى القبول، فهو ككتبه الطَّلاق، وإن قلنا تحتاج إليه، فكالبيع ونحوه من العقود. وقوله في الكتاب "فَيَكْتُب، أمَّا بَعْدُ" لا يخفى أن لفظة "أمَّا بَعْدُ" غير متعيّنة، وإنما أجراها على سبيل الرسائل. وقوله "ويُشْهِدُ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ" فيه توسُّع أي وَيشْهَدُه شاهدان، وكذا قوله "ويُشْهِدُ عَلَيْهِ شَاهِدَيِ الإِيجَابِ" فإن المرعى حضور الشهود لا غَيْر. وقوله: في "الحَالِ" وقوله: "عَلَى الفَوْرِ" يجوز إعلامهما بالواو؛ لما عرفْتَ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ كَتَبَ زَوْجَتِي طَالِقٌ وَقَرَأَ وَنَوَى وَقَعَ، وَإِنْ قَرَأَ وَقَالَ: قَصَدتُّ القِرَاءَةَ دَوْنَ الطَّلاَقِ قُبِلَ في الظَّاهِرِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّهُ يَدِينُ، وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْهَا: أَمَّا بَعْدُ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى وَقَعَ فِي الحَالِ، وَإذَا قَالَ: إِذَا قَرَأْتِ كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ طُلِّقَتْ إِذَا قَرَأَتْ أَوْ قُرِئَ عَلَيْهَا إنْ كَانَتْ أُمِّيَّةً، وَإِنْ كَانَتْ قَارِئَةً فَقَرَأَ علَيْهَا غَيْرُهَا لَمْ تُطَلَّقْ عَلَى الأَصَحِّ، وَلَوْ قَالَ: إِذَا بَلَغَكِ الكِتَابُ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَبَلَغَهَا وَقَدَ انْمَحَى جَمِيعُ الأَسْطُر لَمْ يَقَعْ (و)، وَإِنْ لَمْ يَنْمَحِ إِلاَّ أَسْطُرُ الطَّلاَقِ فَوَجْهَانِ، فَإِنْ لَمْ يَنْمَحِ إِلاَّ الصَّدْرُ وَالتَّسْمِيَة دُونَ المَقَاصدِ فوَجْهَانِ مُرَتَّبَان، وَأَوْلَى بِأَنْ يَقَعَ، وَإِنْ انْمَحَى الجَمِيعُ إِلاَّ سَطْرُ الطَّلاَقِ فَأَوْلَى بِأَنْ يَقَعَ، وَإِنْ سَقَطَ الحَوَاشِي دُونَ المَكْتُوبِ وَقَعَ (و). قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا كتب: زَوْجَتي طالقٌ، أو يا فلانةٌ أنْتِ طالقٌ أو كلُّ زوْجَةٍ لي
طالقٌ، وقرأ ما كتبه، ونوى، فقد قدَّمنا أنَّه يقع الطلاق، فلَوْ قال: لم أَنْوِ الطلاق، وإنما قصدتُّ قراءة ما كتبته، وحكاية ما فيه، ففي قَبُوله ظاهراً وجهان مشبهان بالوجهين فيما إذا حل الوثاق عنها، فقال: أنْتِ طالقٌ، وقد سبق ذكرهما (¬1)، وإنَّما يَظْهَر فائدة كلامه هذا، إذا لم نجعل الكتابة صريحةً، أو أنكر اقتران نية الطلاق بالكتابة، أمَّا إذا جعلْنَاها صريحةً، وسلم اقتران النِّيَّة بها، فالطَّلاَق واقِعٌ، ولا معْنَى لقَوْلِهِ: قَصَدتُّ القراءة. والثانية: إذا أوقعنا الطلاق بالكتابة فَيُنْظَرُ في الصِّيغَة المكتوبة؛ إن كَتَب: أما بَعْدُ، فأنْتِ طالقٌ، وقع الطلاق في الحال؛ وإن ضاع الكتاب قَبْل أن يصل إليها، وإن كتب إذا قرأْتِ كتابي، فأنْتِ طالقٌ، فلا يقع الطلاق في الحال، ولا (¬2) إذا بلغها الكتاب، بل عنْدِ القراءة، ثم إنَّ كانَتْ تُحسن القراءة فتُطَلَّق إذا قرأت، قال الإِمام: والمعتبر أن تَطَّلِعَ على ما فيه، ولم يختلف علمائنا -رضي الله عنهم- في أنَّها إذا طالعته وفَهِمَت ما فيه، يقَعُ الطلاق، وإن لم تتلفظ بشيْء وإن قرأ غيرها عليها فوجهان: أحدهما: أنَّه يقع الطلاق [أيضاً] (¬3)؛ لأنها عَرَفَتْ ما فيه، واطَّلَعَت عليه، وهو المقصود. وأصحهما: وهو الذي أورده في "التهذيب": المنع؛ لأنها أهْلٌ للقراءة ولم يقرأ، فأشبه ما إذا علّق على فعل آخر من أفعالها, وإن كانَتْ لا تُحْسِن القراءة؛ وقع الطلاق إذا قرأه عليها غيْرُها؛ لأن القراءة حقِّ الأُمِّيِّ محمولةٌ على الوقوف والاطِّلاع. وفيه وجه ضعيف: أنه لا يقع، ومن ذَهَب إليه جعل تعليق الطلاق بقراءة الأُميّة، كالتعليق بالأمور الممتنعة، مثْل صعود السماء وغيْره، ولو كان الزوج لا يعرف أنَّها قارئة، أو أمِّيَّة فيَجُوز أن يقال: ينعقد التعليقُ على قراءتها بنفسها؛ نظراً إلى حقيقة اللَّفْظ، ويجوز أن يقال: ينعقد على الفَهْم والاطلاع؛ لأنَّه القَدْر المشترك، والأصل في الناس ألاَّ يحسنوا القراءة، والأول أقْرب، وإن كتب: إذا أتاك أو بَلَغَكِ أو وصل إليك كتابي، فأنْت طالقٌ، فلا يقع الطلاق قَبْل أن، يأتيها، فإن ضاع ولم يبْلُغها، [لم يقع] وانمحاء المكتوب كضياع الجرم حتى لو بلغها القرطاس وقد انمحى جميع ما كتب عليه بالوقوع في حاء وغيره وانمحى بحيث لا يمكن القراءة، [لم تطلق] وإن بقي أثر، وأمكنت القراءة فهُوَ كما لو وَصَل والمكتوب بحاله، وإن وصَل إليها بَعْض الكتاب دون بعض، فَحُزِمَ الكتابُ أربعة أقْسَامٍ: أحدهما: موضع الطلاق، فإن كان هو الضائع، أو انمحى المكْتُوب فيه، ووصل الباقي فوجهان: ¬
أحدهما: يقع؛ لوصول الكتاب. وأصحهما: وهو المذكور في "التَّهْذِيب" المَنْع؛ لأنه لم يبلع جميع الكتاب، ولا ما هو المقصود الأصلي منْه. وفيه وجه ثالث: وهو أنَّه إذا قال: إذا جاءك كتابي هذا أو إذا جاءك الكتاب، لم يَقَع, لأنَّه لم يجئْها جميعُهُ وإن قال: إذا جاءك كتابي يقع، لأنَّه قد جاءها كتابه. والثانى: موْضِع سائر مقاصد الكتاب، ومنْه ما يَعْتذِر به عن الطَّلاَق، وما يوبخها عليه من الأفْعَال الملجئة إلى الطلاق، فإذا كان الخَلَل فيه بالتخرق والانمحاء، وبقي موضع الطلاق وغيْره، ففيه الأوجه الثلاثة، وهذه الصورة أَوْلَى بالوقوع، وبه قال أبو إسحاق؛ لوصول الطَّلاَق إليها، وهو المقصود الأصلي من الكتاب، ويحسن أن يعتمد على الوجه الثالث في الصورتين جميعاً. والثالث: موضع السوابق واللواحق التي ثبتت في المكاتبات خطًّا للأدب؛ كالتسمية، والصدر في أول الكتاب، والحمد، والصلاة في آخره، فإذا كان الخَلَل فيه، والمقاصد باقيةٌ، ففيه الخلاف، وهذه الصورة أَوْلَى بالوقوع، وهو الأظهر على ما ذكر الإِمام قال: وكنْت أُحِبُّ أن يفرق في هذه الصور الثلاث بيْن أن يَبْقَى مُعْظَم الكتاب أو يختل فإن للمعظم أثراً ظاهراً في بقاء الاسم وزواله (¬1). والرابع: الحواشي والبَيَاض في أول الكتاب وآخره، فظاهر المَذْهَب أنَّه لا عبرة بزوالها؛ لأن الكتاب، هو المكتوب وقد بَقِيَ كلُّه، فيقع الطلاق بوصوله، فلا يجيْء فيه الخلاف، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطَّيِّب عن الماسرجسي، ومنهم من أثبت فيه الخلاف، وقال: الحواشي والبياض من أجزاء الكتاب، ولذلك يَحْرُم على المُحْدِث مسهما من المُصْحَف، كما يحرم موضع الكتاب. وقوله في الكتاب: "وَقَدِ انْمَحَى جَمِيعُ الأَسْطُرِ" يعني الانمحاء الكلِّيِّ؛ بحيث زال الأثر وتعذرت القراءة، ويجوز أن يعلَّم بالواو؛ لأنه رُوِيَ عن صاحب "التقريب" وجه: أنَّه يقع الطلاق إذ يقال أتاني كتاب فلان وقت المجيء، وقوله "وإن لم ينمح ينمح إلاَّ أسطر الطلاق" هو الصورة الأولَى من الصور الأربع، وقوله: "فإن لَمْ ينمح إلاَّ الصَّدْرُ والتَّسْمِيَةُ" هو الصورة الثالثة، ولم يتعرَّض في اللفظ للصورة الثانية وقوله "وإن انمحى الجميعُ إلا أسطر الطلاق" فأَوْلَى بأن يقع يعني من الصورة الأُولَى، وهو ما إذا لم تنمح ¬
إلا أسطر الطلاق، لا من صور انمحاء الصَّدْر والتسمية، دون المقاصد. وقوله: "وإن سَقَطَ الحَوَاشي" هو الصورة الرابعة، ليعلَّم قوله: "وَقَعَ" بالواو. ولو كتب: إذا بَلَغَكِ طلاقي، فأنت طالقٌ، فإن بلَغَ موضع الطلاق، وقع بلا تفصيل ولا خلاف وإن بلغ ما عداه وبطل موضع الطلاق لم تطلق ولو كتب: إذا بلَغَكِ كتابي فأَنْتِ طالقٌ وكتب أيْضاً: إذا وَصَلَ إليْكِ طلاقي، فأنْتِ طالقٌ، فبلَغَها، وقعَتْ طلقتان؛ لوجوب الصفتين، وإذا كان التعليق بقراءتها الكتاب، فقرأت بعْضَه دون بعض، فعلى ما ذكَرْنا في وصول بعْضه دون بعض. فروع: لو كتب كناية من كنايات الطَّلاق، ونوى، فهو كما لو كَتَبَ الصرائح، ولو أمر الزَّوْجِ أجنبيًّا، فكتب بالطلاق، ونوى الزَّوْج لم تطلَّق كما أو أَمَر أجْنبيًّا بأن يقول لزوجته: أنْتِ بائنٌ، ونوى الزوج، ولو قال: إذا بَلَغَكِ نِصفِ كتابي هذا، فأنْتِ طالقٌ، فبلغ الكتابُ كله، ففيه وجهان، وعن صاحب "التقريب": أحدهما: يَقَع؛ لاشتمال الكُلِّ على النصف. والثاني: المنع؛ لأن النِّصْف في مثل هذا الموضع يراد به النِّصْف المفرد المميز (¬1)، والكتابة على الكاغد والرّقّ، واللوح، وبالنقر في الخشب، والحجر سواءٌ في الحكم على ما بيَّنَّا في "البيع" وذكَرْنا أنَّه لا عِبْرة برسم الحُرُوف على الماء والهواء؛ لأنها لا تَثْبُتُ. قال الإِمام: لا يَمْتَنع أن يلتحق هذا بالإِشارات؛ فإنها حركَاتٌ يُفْهَمُ منها شكْلُ الحروف، فتنزل منزلة الإِشارات المفهمة، ولكَ أن تقُولَ: الإِشَارة المُعْتَبَرَة هي الإِشارة إلى معْنَى الطلاق، وهو الإِبعاد والمفارقة لا إلى حروف الطلاق، وهذه إشارة إلى الحُرُوف، ونقل في "التتمة" عن أبي حنيفة -رحمه الله- أنَّه إن كتب على البياض: وقَعَ الطلاق، وإن كتب على حائِطٍ، وثَوْب، لم يَقَعْ، ولو قالت المرأة: أتاني كتاب الطلاق، وأنكر الزَّوْج أنَّه كتبه أو أنه نوى الطلاق، فالقول قوله، ولو شهد شُهُود على أنه خطه، لم يَثْبُت الطلاق، بل نحتاج مع ذلك إلى إثبات قراءته، أو نيته، وإنما يجوز للشُّهود أن يشهدوا على أنَّه خطّه وإذا شاهدوه وقْتَ الكتابة، وكان الخَطُّ محفوظاً عنْدهم؛ ليأمنوا التزوير، ولو كتب: أنتِ طالقٌ، ثم أشهد، وكَتَب: إذا بلَغَكِ كتابي، فإن احتاج إلى الإِشهاد (¬2)، لم تُطلَّق؛ حتى يبلغها الكتاب، وإن لم يحتج إليه طُلِّقَت في الحال. فَرْعٌ: حرك لسانه بكلمة الطلاق، ولم يرفع صوته بقَدْر ما يسمع، ففي "التتمة" أن الزجاجيَّ حكى فيه قولين: ¬
أحدهما: وقوع الطلاق؛ لأنا نُوقِعُ الطلاق بالكتابة مع النية، فعِنْد اللفظ أَوْلَى (¬1). والثاني: المَنْع؛ لأنَّه ليس؛ بكلام ولهذا يشترط في قراءة الصلاة أن يُسمِعَ نَفْسَهُ [والله أعلم]. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّالِثُ في التَّفْوِيضِ): (¬2) وهُوَ أَنْ يَقُولَ: طَلِّقي نَفْسَكِ فَإذَا قَالَتْ: طَلَّقْتُ وَقَعَ، وَهُوَ تَمْلِيكٌ أَوْ تَوْكِيلٌ فِيهِ قَوْلاَنِ، فَإنْ قُلْنَا: إنَّهُ تَمْلِيكٌ لَمْ يَجُزْ لَهَا تَأْخِيرُ التَّطْلِيقِ لأَنَّهُ كَالقَبُولِ، وَإِنْ قُلْنَا: تَوْكِيلٌ فَفِي جَوَازِ التَّأْخِيرِ وَجْهَانِ، وَلَوْ رَجَعَ قَبْلَ تَطْلِيقِهَا جَازَ عَلَى القَوْلَيْنِ، وَقِيلَ: لاَ يَجُوزُ عَلَى قَوْلِ التَّمْلِيكِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يجُوز للزَّوج تفْويض الطَّلاق إلى زوجته، قال الأصحاب: والأصل فيه أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خَيَّر نسَاءه بيْن المقام معه وبيْن مفارقته (¬3)، لمَّا نَزَل قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب: 28] الآية والتي بعدها، وإذا فوض الطلاق إليها بأن قال: طلِّقِي نَفْسَك أو طلِّقي نفسك إن شئت، فهو تمليك للطَّلاق أو توكيل به، فيه قولان: أصحُّهما: وهو الجديدُ (¬4)؛ أنه تمليك (¬5)؛ لأنه يتعلق بغرضها وفائِدَتِها، وكأنَّه يقول: مَلَّكْتُك نفْسَك، فتملكها بالطلاق. والثاني: ويُنْسَب إلى القديم، أنَّه توكيل كما لو فرض طلاقها إلى أجنبيِّ، وبه قال أبو حنيفة فيما رواه أبو الفرج السرخسي وغيره. التَّفْرِيع: إن قلنا: إنَّه تمليكٌ، فتطليقها نفْسَها متضمن للقبول، ولا يجوز تأخيره، ¬
لأن التمليك يَقْتَضي الجواب على الفَوْر، فلو أخَّرَت بقدْر ما ينقطع به القَبُول عن الإِيجاب، ثم طَلَّقَت، لم يقع الطلاق. وعن ابن القاصِّ وغيره؛ أنَّه لا يضر التأخير ما دَامَا في المجْلِس؛ لأن الشَّافعي قال: ولا أعلم خلافاً أنَّهَا إن طَلَّقت نفسها قبل أن يتفرَّقا من المجْلِس أو يحدث قطعا لذلك أن الطَّلاق يقع عليها، وأبو إسحَاق والأكثرون حَمَلوا اللَّفْظ على مَجلِس التواجب، كما سبق نظيره في "الخُلْع" وعن اختيار ابن المُنْذِر أنَّه لا يلزم الفَوْر، ولا يختص بالمجلس، بل لها التطليق متى شاءت. ولو قال: طَلِّقِي نَفْسَك بألْف، أو على ألْف إن شئت، وطَلَّقَت، وَقَع بائناً، وعليها الألْف، وهذا تمليك بالعِوَض، كالبيع وإذا لم يجر ذكْر العِوَض، فهو كالهبة، وعند أبي حنيفة -رحمه الله- يعتبر تطليقُها ما داما في المجْلس إلا أن يخوض في أمر آخر من كلام وغيره، وقال: ولو كانت عنْده قاعدةٌ، فقَامَتْ، كانت معرضة عن الطَّلاَق، وإن كانتُ قائمةً فقعدت، لم يكُنْ ذلك إعراضاً قال: وكذلك الحُكْم عنْده في قَبُول البيع، والهِبَة، والنِّكاح، وعن القَفَّال أنَّه لو قال لزوجته: طَلِّقِي نَفْسَك، فقالت: كيف يكُونُ تطليقي لنفسي، ثمَّ قالت: طَلَّقْتُ، وقَع الطلاق، ولم يكن هذا القدْر، [قاطعاً] (¬1) وهذا مبني على أن تَخَلُّل الكلام اليسير لا يضُرّ، وإن قلْنا: تفويض الطلاق إليها تَوْكيل (¬2)، ففي اشتراط قَبُولها الخِلاف المذكور في اعتبار القبول في الوكالات ويجيْء الوجه الفارق بيْن لفْظ الأمْر بأن يقول طلِّقِي نَفْسَك، وبين صيغة العَقْد؛ بأن يقول وكَلْتُكِ بطلاق نفسك، وهَلْ يَجُوز تأخير التطليق على هذا القول: فيه وجهان: أصحهما: نعم، ولها أن تُطلَّق نفسها متى شاءت، كما في توكيل الأجنبيِّ، احْتُجَّ لذلك بأن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة -رضي الله عنها- لمَّا أراد تخيير نسائه "إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً فَلاَ تُبَادِرِينِي الجَوَابَ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ" (¬3). والثاني: عن القاضي الحُسَيْن أنه لا يجوز التأخير، وإن جعلْناه توكيلاً: لأنه يتضمَّن تمليكها نفسها بلفْظ مأتيٍّ به، وذلك يقتضي جواباً عاجلاً؛ ألا تَرَى أنه إذا قال أنْتِ طالقٌ إن شئْتِ، يعتبر الفور في المشيئة، وطَرَد القاضي ما ذَكَره فيما إذا صَرَّح بالتوكيل، فقال: وَكَّلْتُكِ؛ لتطلقي نفْسَك، وقال: إنَّه يشوبه شعبة مِنَ التْملِيك، وإن صرَّح بالتوكيل، قال الإِمام: وقد رَمَز المحققون إلى هَذا حيْث قالوا: إنْ جعلْنا ¬
التفويض تَوْكيلاً، فذاك، وإن جعلْناه تمليكاً، فهل يتمكن الزوج من توكيلها، أم كل تفويض تمليكٌ؟ فيه خلاف. والثاني: وهو الَّذِي أورده صاحبُ "التهذيب". ولو قال: طَلِّقِي نَفْسَك مَتَى شِئْتِ، فلا يشترط التطليق على الفَوْر، ويجُوز للزَّوْج الرجوع قبْل أن تُطَلِّق نفْسَها، سواءٌ جعلْناه توكيلاً أَم تمليكاً، أمَّا إذا كَانَ تَوْكيلاً؛ فلأنه عقْد جائز في وضعه، وأمَّا إذا كان تَمْليكاً، فلأن التَّمْليكات يجُوز الرُّجُوع عنْها قَبْل القبول، وساعدنا أحمد -رحمه الله-، وعنْ أبي حنيفة ومالك -رحمهما الله- أنَّه لَيْس له الرجوع، وبه قال ابن خيران وإن قلنا: إنَّه تمليك، ووجِّه بأنه إذا قال لها: طَلِّقِي نَفْسَك، فكأنَّه قال إذا تلفَّظْت بتطليق نفْسك، فأنْتِ طالقٌ، ويقال بأن الشيخ أبا محمَّد كان يعبِّر عن هذا المَعْنَى بأنه تمليكٌ متضمِّن التعليق ويجُوز أن يُعلَّم؛ لِمَا نقلْنا قولُه "جاز" بالحاء والميم؛ وقولُه "لا يجوز" بالألف. ولو قال لامرأته إذا جَاءَ رَأسُ الشَّهْر، فطَلِّقِي نفْسَكِ، ففي صِحَّته، قولان بناءً على أن التَّفْويض تمليك أو توكيل، إن قلْنا تمليكٌ، فهو لَغْو، وليس لها تطْليق نفْسِها، إذا جاء رأس الشَّهْر كما إذا قال: مَلكَّتك هذا العَبْد، إذا جاء رأْس الشهر، وإن قلْنا إنَّه توكيلٌ، فيجوز كَمَا لو وكَّل أجنبيًّا بتطليق زوجته بعْد شَهْر، وَعَلَى هذا، فلو قال: إذا جاء رأْس الشهر، فطَلِّقِي نفْسَك، أن ضمنت لي ألْفا، أو قال: طلِّقي نفْسَك، إن ضمنت لي ألْفاً بعْد شهر، فإذا طلقت نفسها على ألْف بعْد مضيِّ شهر، يقع، ويلزمها الألف، وذكر إسماعيل البوشنجي أنَّه إذا قال لأجنبي إذا جاء رأس الشهر، فأَمْر امرأتي بيدك، فإن كان قَصْده بذلك إطلاقَ الطَّلاق له بعْد مجيْء رأس الشَّهْر، فله التطْليقُ بعْده أيَّ وقْت شاء إلا أن يطْرَأَ حَجْر، وإن أراد تقييد الأمْر برأْس الشهر، فيتقيد الطَّلاق به، وليْس له أنْ يُطَلِّقها بعْد ذلك، ولو قال: إذا مَضَى هذا الشَّهْر، فأمرها بيَدِك، فمقتضاه إطْلاَق الإذْن بعْد مضيِّ الشَّهْر، فيطلقها متى شاء، ولو قال: أمرها بيدك إلى شَهْر أو شهراً، فلَه أن يُطلِّقَها إلَى شَهْر، وليس له الطلاق وراءه وهذه الأحكام في حَقِّ الزوجة كَهِيَ في حقِّ الأجنبي، إذا جعلْنا التفويض إليها توكيلاً. ولو قال لها: طَلِّقي نفْسَكِ، فقالت: طلَّقْتُ نَفْسي أو أنا طالقٌ، إذا قَدِم زيْدٌ لم يَقَعِ الطَّلاَق عليها، إذا قَدِم؛ لأنَّه لا يُمَلِّكها التعليق، وكذا الحُكْم في حقِّ الأجنبيِّ وفيها وجه آخر حكاه الحناطي. ولو قال لها: علقي طلاقك بكذا، ففعَلَتْ أو قاله الأجنبي، ففعل، لم يَصِحُّ، لأنَّ تعليق الطلاق يجري مَجْرى الأيمان، فلا يدخله التَّفْويض والنِّيَابَة، هذا هو الأظْهَر، وهو الجواب في "التهذيب" وعن أبي عاصم العَبَّادي وجْهان آخران:
أحدهما: أنَّه يجوز تفويض التعليق، كتفويض التنجيز. والثاني: أنَّهُ يُنْظَر في الصِّفَة التي أمر بالتعليق بها، إن كانَتْ توجد لا مَحَالَة؛ كطلوع الشَّمْس، ومجيْء رأس الشهر، فيَجُوز؛ لأنَّ مثْل هذا التَّعْلِيق ليْس بيمين، وإن وإن قَدْ يوجد، وقد لا يُوجَد كدخول الدار، فهو يمين، وتفويض الإِعتاق إلى العبْد كتفويض الطلاق إلى المرأة في الأحكام المذكورة. قَالَ الغَزَالِيُّ: (فُرُوعٌ: أَحَدُهَا): لَوْ قَالَ: أَبِينِي نَفْسَكِ فَقَالَتْ: أَبَنْتُ وَنَوَيَا وَقَعَ، وَإِنْ لَمْ يَنوِ أَحَدُهُمَا لَمْ يَقَعُ (ح)، وَلَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسكِ فَقَالَتْ: أَبنْتُ وَنَوَتْ وَقَعَ، وَقِيلَ: لاَ يَقَعُ لِمُخَالَفَةِ الكِنَايَةِ الصَّرِيحَ، وَقِيلَ: ذَلِكَ يَجْرِي في تَوْكِيلِ الأَجْنَبِيِّ أَيْضاً، وَلَوْ قَالَ: اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا طُلِّقَتْ رَجْعِيَّةً، وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَالقَوْلُ فِي نِيَّةِ الكتَابَةِ قَوْلُ النَّاوِي. قَالَ الرَّافِعِيُّ: كما يجوز التفويض بصريح الطَّلاق، ويُعْتَبَر من الزَّوْجة المفوض إليها باللفظ الصريح، كذلك يجوز التَّفْوِيض بالكنايات مع النية، وَيُعْتَبَر منها بالكناية مع النية، ولا يُشْتَرَطِ توَافُقُ اللَّفْظ من الجانبين، إلاَّ أن يقَيد التفويض، فإذا قال: أبيني نفسك أو بتى فقالت: أبَنتُ: أو بتت، وَنَويا، وقَع الطلاق، وإن لم يَنْوِيَا أو لم يَنْوِ أحدهما لم يَقَعْ، أما إذا لم يَنْوِ، فلأنه لم يفوِّض الطلاق، وأما إذا لم تنوِ؛ فلأنها ما امتثلت، وعن أبي حنيفة: أنَّه يكفي نية الزَّوْج، ولا حاجة إلى نيتها, ولو قال لها: طَلِّقِي نَفْسَكِ، فقالت: أَبَنْتُ نفسي، أو أنا خليَّةٌ أو بريةٌ، وقع الطلاق، كما لو قال بع بلفظ التمليك يصِحُّ. وعن ابن خيران؛ أنَّه لا يقع لاخْتِلاف اللفظَيْن، ورُوِيَ عن أبي عبيد بن حرْبوَيْه مثْله، وممَّن رواه ابن القَطَّان عن أبي محمَّد الفارسي عن ابن حرْبَوَيْه، وإذا قال طلِّقِي نَفْسَكِ، فقالَت للزوج: طلَّقْتُكَ، ونوَت تطليق نفْسِها، فهُو من صور هذا الخلاف، ويجري الخلاف في عكْسه، وهُو أن يفوِّض ببعض الكنايات، فيقول: أبيني نفْسَك أو فَوَّضْتُ إِلَيك أمْرَك أو ملكتك نفسَكِ، أو أمْرُكِ بيدك، وينوي، فتقول: طلَّقْت نفسي، وعن القاضي الحُسَيْن وغيره، أنَّ الخلاف يجري فيما إذا قال لأجنبيٍّ: طلِّق زوجتي، أبنتها، ونوى، أو قال: أبِنْ زوْجَتي، ونَوى، فقال الوكيل: طلَّقْتهَا, ولو قال لزوجته: أبيني نفْسَكِ، ونوى، فقالَتْ: أنا خليَّةٌ ونَوت، فاختلاف الصيغتين، هل يمنع وقُوع الطَّلاق تفريعاً عَلَى وجه الرجوع، وحَكَى الإمامُ فيه تردُّداً، قال: والأَوْجَهُ أنَّه لا يَمْنَع؛ لأن الاعتماد هاهنا على النية، واللفْظ غيْر مسَتقلٍّ من الجانبين بخلاف اختلاف الصَّريح، والكناية ولو قال: طلِّقي نفسك بصريح الطلاق أو بكناية الطَّلاق، فعَدَلت عن المأذون إلى غيْره، لم تُطَلَّق بلا خلاف.
ولو قال: طَلِّقِي نفْسَك، فقالت سَرَّحْت نفْسي، وقع الطلاق بلا خلاف؛ لاشتراكهما في الصرائح. ويجُوز أن يُعلَّم قولُهُ في الكتاب، "ولَوْ قَالَ: طلِّقِي نَفْسَكِ فقَالَت: أبَنْتُ، ونَوَتْ وَقَع" بالحاء؛ لأنَّ الحكاية عَنْ أبي حنيفة -رحمه الله- إذا فوَّض بالصريح لم يقع الطلاق منْها بالكناية، بخلاف ما إذا فوَّض بالكناية، فطُلِّقَت بالصريح، وَوُجِّه ذلك أن الكنايات عنْده بوائن، فالعدول من الصريح إلى الكناية مخالفةٌ فيما يضره؛ لامتناع المراجعة، والرجوع من الكناية إلى الصريح مخالفةٌ فيما ينْفَعه. ولو قال لزوجته اخْتَاري نفْسَك، ونوى تفويض الطلاق، فقالَتْ: اختَرْتُ نفسي أو اخترت ونوت وقعت طلقة، ولو قال اختاري ولم يقل نفسك ونوى تفويض الطلاق فقالت اخترت ففي "التهذيب" أنه لا يقع حتى تقول: اخترت نفسِي، وأَشْعَرَ كلامه بأنه لا يقع وإن نوت، وكان السَّبب فيه أن ليس في كلامه؛ ولا في كلام الزوج ما يُشْعِر بالفراق، بخلاف ما إذا قال: اخْتَاري نفْسَك، فإن له إشعاراً بالفراق، فانْصَرَف كلامها إلَيْه. وقال إسماعيل البوشنجي -رحمه الله-: إذا قالت: اخترت، ثم قالَتْ بَعْد ذلك: أردت اخْتَرْتُ نَفسِي، وكذَّبها الزوج، يُقْبَل قولُها، ويُقْتَضى بوقوع الطَّلاق خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- ولَوْ أنَّها قالت في الجواب: اخترتُ نَفْسيِ، ونَوَتْ، وقَعَت طلقة، كما لو أتيا كناية أخرى، وتكون رجعيَّةٌ إن كانت محَلّ الرجعة. وقال أبو حنيفة -رحمه الله- تكُون بائنةً؛ بنَاءً على أن الكنايات بوائن، ولْيعلَّم قولُه في الكتاب "طُلِّقَتْ رجعيَّة" بالحاء لذلك ويجوز أن يُعلَّم بالميم أيضاً, لأن عند مالك يقع ثلاَثُ طلقات، إن كانَت المرأة مدْخولاً بها، وإن لم يكن مدخولاً بها، يقَع ما نوت من واحِدَة إلى ثَلاَث، ولو قالَتِ: اخترت زَوْجي، أو اخترت النِّكَاح، لم يقَعْ شيْء، وإن قالَت: اخترت الأزواج، وقَعَتْ طلقة؛ لأنَّها لا تَصْلُح للأزواج إلا بمفارقته، وعن أبي إسحاق أنَّه لا يقَع شيْء؛ لأن الزوج من الأزواج؛ فصار كما إذا قالَت: اخترْتُك، وإن قالت: اخترت أبَوَيَّ، فوجهان منقولان في "التهذيب": أحدهما: أنَّه لا يقع الطلاق؛ لأن اختيار الأبوَيْن لا يقتضي فراق الزواج. وأظهرهما، وبه أجَابَ البوشنجي -رحمه الله- الوقوع لإِشعاره باللحوق بهما، والرجوع إلَيْهما، وصار كَمَا إذا قال الزوج: ألْحَقِي بأهْلك، ونوى، وقالَت اخترتُ أخي أو عَمِّي، فعلى هذا القياس، قال البوشنجي، ولَوْ كانَ قَدْ قال: اختاري نَفْسَك، فاختارت واحد من هؤلاء، ففِيهِ احتمالٌ، والأظهر أنَّه يقَع الطلاق أيضاً وقربه ممَّا إذا قال طَلِّقِي نفْسَكِ فقالت: طلقتك، ونَوَت يقع الطلاق، وإذا جَرَى التفويضُ بكناية من الكنايات، والتطليق فيها كذلك أو جرى أحدهما بالكناية، فتنازعا في النية، فالقول قول
النَّاوي، نفى أو أثبت، لأنَّه أعْرَفُ بما في ضميره، ولا يُمْكن إقامة البينة عليْه، وعن الإِصطخري -رحمه الله-: أنَّها إذا قالت: نَوَيْتُ، وقال الزوج: ما نَوَيْت، فالقول قَوْل الزوج؛ لأنَّ الأصْل بقاء النِّكَاح، والظاهر الأول، ولو اختلفا في أصْل التخيير، وأنْكَره الزَّوْج، [أو قال: خيرتك فلم تختاري في وقت الاختيار] فالقول قَوْله؛ لأن الأصْل عدَمُ المدَّعي، وبقاء النكاح، وإقامة البينة على المدَّعي مُمْكِنة. ذكر القاضي ابن كج أنه لو جَعَل أمرها إلى وكيل، فقال لها الوكيل: أمْرُكِ بيدك، وقال نَوَيْتُ الطَّلاق، وصدَّقَتْه المرأة وكذَّبه الزوج، فالقَوْل قول الوكيل على المَذْهَب؛ لأن الزَّوْج قد ائتمنه، وفيه وجْه أن القوْل قول الزوج؛ لأن الأصْل بقَاءُ النِّكَاح، ولو تَوافَق الزوجان على تَكْذيبه، لم يُقْبَل قوْل الوكيل علَيْها، والقَوْل في اشتراط الفَوْر منها في التفْويض بالكنايات على ما ذَكْرنا في التفويض بالصريح، ووراءها ذكَرْنَا صُوَرٌ تتعلَّق بالتخيير. ولو قال لزوجته: اختَارِي من ثلاثِ طلقات ما شئْتِ أو طلِّقي نفْسَك من ثلاثٍ ما شِئْت، فلها أن تُطلِّق نفْسها واحدةً أو اثنتين، ولا تملك إيقاع الثلاث لأن "مِنْ" للتبعيض. ولو خير صبية، فاختَارَتْ، لم يقَع الطلاق، ولم يعتبر اختيارها. وفي "التتمة" أنَّه لو قال لزوجته ثلاث مرات: اختاري، وقال: أردتُّ واحدةً، لم يقع إلا واحدة، خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله- وذكر إسماعيل البوشنجي؛ أنه إذا قَال لها: اختاري، ققالت: اخترتُ الأولى، والوسطى؛ فالقياس أنه تقع واحدة، وعن أبي حَنِيفة -رحمه الله- أنَّه يقع الثَّلاث. وأنَّه لو قال: اختاري نفْسَكِ أو طلِّقي نفْسَك، فقالت: اخترت أو أطْلَق، فمطلقة، للاستقبال فلا يقع به شيء في الحال، وإن قال: أردتُّ الإِنشاء وقع (¬1). أنَّه لو خيَّرها، وهي لا تَشْعر، فاختارت نفسها، اتفاقاً فيخرج على ما لَوْ باع مَالَ أبيه على ظَنِّ أنَّه حَيٌّ، فإذا هو ميِّت، والطَّلاق أَوْلَى بالنفوذ. وأنَّه إذا قال لغَيْره: أمرُ امرأتي بيد الله، وبيدك، روجع فيه، فإن قال: أردتُّ أنه لا يستقلُّ بالطلاق، قُبلَ قوله: ولم يكن له أن يطلِّق، وإن قال: أردتُّ أن الأمور كلِّها بيد الله -تعالى- والذي أثبته لي جعّلْتُه في يَدِك، قُبِلَ، واستقل ذلك الرَّجُل، ولو قَالَ: كل أَمْرٍ لي علَيْكِ قَدْ جعلته بيدك، فالَّذي عندي أن هذا لَيْس بتفويض، صريح وليْس لها أن تُطلِّق نفسها ثلاثاً ما لم يَنْوِ الثلاث، وعن أبي حنيفة -رحمه الله- وأصْحَابه خلافُه، ¬
وأنَّه لو قَال لها: اختاري اليَوْمَ وغداً وبعد غد، فالمضاف إلى الزَّمَان المستقبل ينبغي أن يَكُون على الخِلاَف في أن التفويضَ تمْلِيك أو توكيل، إن جعلْناه تمليكاً، لم يَحْتَمل التراخي فيه، كما في البيع، وإن جعلْنَاه توكيلاً، فهو كما لو وَكَّل إنْساناً بالبيع في اليوم والغد وبعد الغد، وعلى هَذَا، فَلَها الرَّدُّ في بعض الأيام دون بعض. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِي): إِذَا قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ وَنَوى ثَلاَثاً فَقَالَتْ طَلَّقْتُ وَلَمْ تَنْوِ العَدَدَ لَمْ يَقَعْ إِلاَّ وَاحِدَةٌ، وَقِيلَ: يَقَعُ الثَّلاَثُ وإِنَّ نِيَّتَهُ تُغْنِي عَنْ نِيَّتها في العَدَدِ وَإِنْ لَمْ تُغْنِ في أَصْلِ الطَّلاَقِ، وَهَذَا يَظْهَرُ إِذَا قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلاَثاً فَقَالَتْ: طَلَّقْتُ وَلاَ يَتَّجِهُ إِذَا لَمْ يتَلَفَّظْ بِالثَلاَثِ (الثَّالِثُ): لَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلاَثاً فقالَتْ: طَلَّقْتُ وَاحِدَةً طُلَّقَتْ وَاحِدَةً, وَلَوْ قَالَ: طَلِّقِي وَاحِدَةً وَطَلَّقَتْ ثَلاَثاً وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال: طَلِّقِي نفْسَكِ، ونوى الثَّلاث، فقالت: طلقْتُ نَفْسي، ونوت [الثلاث] وقع الثلاث؛ لأنَّه يحتمل العدد كما سَيأْتِي، فإذا نَوَيَا وقَع، وإن لم تنوِ هي العدد فوجهان: أصحُّهما: أنَّه لا تقع إلاَّ واحدة؛ لأنَّ صرائح الطَّلاق كنايةٌ في العدد، كما أن البَيْنُونَة بالحرية كناية في أصْل الطلاق، ولو قال: أبيني نفْسَكِ، ونوى فقالت: أبَنْتُ، ولم تنوِ، لم يقع الطلاق، وكذلك لا يَقَع العدد. والثاني: تقع الثلاث، وتغني نيته في العَدَد عن نيتها، وإن لم تُغْنِ في أصل الطلاق؛ لأن البِنَاء في أصْل العَدَد أقْرب من البناء في أصل الطَّلاق، وكأنه فوَّض إليها أصْل الطلاق، وتولى بنفسه قَصْد العدد، ولو قال: طلِّقِي نفْسَك ثلاثاً، فقالت: طلقْتُ نَفْسي، أو طلقْتُ، ولم تتلفظ بالعدد، ولا نَوَتْه، فعن القاضي الحُسَيْن؛ أنه يقع الثلاث؛ لأن قوله هاهنا جوابٌ لكلامه فهو كالمعاد في الجواب، وإذا لم يتلفَّظ بالثلاث، ونوى، لمْ يمكن أن يقدر عود المَنْوِيِّ في الجواب؛ لأنَّ التخاطُبَ يقَع باللَّفْظ لا بالنية، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب". وقال الإِمام -رحمه الله-: وهذا الجَوَاب بتوجهه ينبي إن جعلْنا التفويض تمليكاً، وإن جعلناه توكيلاً، فتصرف الوكيل بفسخ غيْر مبنيٍّ على التوكيل، ولذلك لم يُشْتَرَطِ اتِّصَالُه، وإذا لمْ يكُن مبنيًّا علَيْه، فالوجه أن لا تقع الثلاث، نعم من شَرَط اتصال تصرف الوكيل على ما حكاه وجْهاً عن بعض الأصْحاب اتَّجَه عنده وقوع الثلاث، كما على قول التمليك، قال: ويجوز أن يقلب فيقال إن جعلْناه توكيلاً، لم يبن كلامُها على كلامه، ولم تقع الثلاث، وإن جعلْنَاه تمليكاً، فيحتمل أن يكون الحُكْم كما حكي عن القاضي -رحمه الله-، ويحتمل أن لا يبني كلامها؛ على كلامه لأنه قام في نَفْسِه، بخلاف
القَبُول الَّذي يترتَّب على الإِيجاب، ولا يستقلُّ بنَفْسه ولهذا لو قال: طَلِّقِي نفْسَك واحدةً، فقالت: طلَّقْتُ ثلاثاً تقع واحدة، ولو كان تطليقُها مع تفويضه كالقبول مع الإِيجاب لما وقع الطلاق أصلاً كما لا يصح البيع إذا قال: بِعْتُكَ هذا بألف، فقال (¬1) اشتريْتُ بأَلفَيْن، وهذه الاحتمالات ردَّدها، والظاهر ما سَبَق، وهو وقوع الثلاث. وقوله في الكتاب "وَهَذَا يَظْهَرُ إِذَا قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلاَثاً" أي هذا هو الجواب الظاهر منه (¬2). ولو فوض الطلاق إلَيْها بكناية ونوى العَدَد، وطلّقت هي بالكناية، ونوت العدد، وقع ما نوياه، كما لو نويا العدد في الصريح. ولو نوى أحدهما عدداً، ونوى الآخر عدداً آخر، وقع الأقَلُّ: فإنَّه المُتَّفَق علَيْه. وقال أبو حنيفة: إذا قال لها اختاري، ونوى تفويض الثلاث إليها, لم يكُنْ لها إيقاع الثلاث بل لا توقع إلاَّ واحدة؛ لأن الخيار لا يدْخُل فيه العدد، كخيار العتق. لنا: أنَّه كناية عن الطلاق، فأشْبَه سائر الكنايات. ولو قال: طَلِّقِي نفسك ثلاثاً، فقالت: طلَّقْتُ واحدةً أو اثنتين وقَع ما أوقعته، وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك لا يقع شيْء. لنا: أن الواحدة داخلة في الثَّلاث الَّتي فوَّض إليها إيقاعَها فوقعت بإيقاعها ثم إذا طلَّقَتْ نفسها واحدةً، وراجَعَها الزَّوج في الحال، قال صاحبُ "التهذيب" في فتاويه لها أن تُطَلِّق نفْسها ثانيةً وثالثةً؛ لأنَّه لا فَرْق بين أن تُطلِّق نفسها الثلاثَ دفعةً واحدةً، وبين أن تقول: طلَّقْتُ نفسي واحدة واحدة وواحدة، وإذا كان كذلك لم يقدح تخلل الرجعة بين الطلقتين ولو قال: طَلِّقِي نفْسَك واحدةً فقالت: طلَّقْت ثلاثاً أو اثنتين وقعَت الواحدة، وبه قال مالِكٌ؛ خلافاً لأبي حنيفة -رحمه الله-. لنا أن مَنْ يملك إيقاع طلْقَةٍ تقع تلْك الطلقة إذا طلَّق ثلاثاً؛ كالزوج إذا لم ينوِ إلاَّ طلقةٌ، فقال: أتتِ طالقٌ ثلاثاً، والحكم في الطرفين في توكيل الأجنبيِّ بالطلاق، كما ذكرنا (¬3). ولو قال: طلِّقِي نفْسَك ثلاثاً إن شئْتِ فطلقت واحدةً أو (¬4) قال: طلِّقِي نفسك ¬
واحدة إن شئت فطلقت ثلاثاً وقعت واحدة كما لو لم يقل إن شئت ولو قدم ذكر المشيئة على العدد فقال طلقي نفسك إن شئت ثلاثاً فطلقت واحدة أو طلقي نفسك إن شِئْتِ واحدةً، فطلقَتْ ثلاثاً، قال صاحب "التلخيص" وساعده الأصحاب: لا يقع شيْء، والفَرْق أنَّه إذا قدَّم المشيئة، صارَتْ مشيئة ذلك العدد شرطاً في أصْل الطلاق، وكان المَعْنى: طلِّقِي نفْسَك إن اخترت أن تُطَلِّقي نفسَكِ طلاقاً، فإذا اختارت غيْر الثلاث، لم يوجَدِ الشَّرْط، وإذا أخر المشيئة، كانَت المشيئة راجعةً إلى تفويض ذلك المَعْنَى، كأنه قال: فَوَّضْت الثلاث إلَيْك أن تُطلِّقي نفْسَك ثلاثاً، فإن شئْتِ فافْعَلِي ما فوضت، وذلك لا يَمْنَع نفوذ ذلك المُعيَّن، ولا نفوذ ما يدْخُل فِيهِ، هذا تمام الكلام في الرُّكْن الأول. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الثَّانِي للِطَّلاَقِ: القَصْدُ): وَإِنَّمَا يُتَوَهَّمُ اخْتِلالُهُ بِخَمْسَةِ أَسْبَابٍ: (الأَوَّلُ): سَبْقُ اللِّسَانِ فَمَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى الطَّلاَقِ لَمْ يَقَع طَلاَقهُ، وَلَوْ كَانَ اسْمُ زَوْجَتِهِ طَالِقُ وَاسْمُ عَبدِه حُرٌّ فَقَالَ: يَا طَالِقُ وَيَا حُرّ لَمْ يعْتَقُ وَلَمْ تُطَلَّقُ إِنْ قَصَدَ النِّدَاءَ، فَإِنْ أَطْلَقَ فوَجْهَانِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالإِنْشَاءِ، وَإذَا كَانَ اسْمُ زَوْجَتِهِ طَارِقَ فَقَال: يَا طَالِقُ ثُمَّ قَالَ: الْتَفَتَ لِسَانِي قُبِلَ ذَلِكَ ظَاهِراً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القَصْد إلى الطَّلاق لا بُدَّ منه، وإلاَّ فهُو غَيْرُ مُزِيل ملك النكاح، فوَجَب ألاَّ يَزُول، والمراد به أن يكون قاصِداً لحروف الطَّلاق؛ بمعنى الطلاق، ولا يكفي القَصْد إلى حروف الطلاق من غير قَصْد معْناه. وقوله "وإنما يُتَوَهَّم اختلاله بخمسة أسباب" المراد منْه أن غاية ما يُتَوَهَّم الاختلال به هذه الأسباب؛ لأن الاخْتلاَل بكل واحد منْها متوهَّم؛ فإنَّ منها ما هو متحقَّق يمْنَع وقوع الطَّلاق، ومنها ما يُتوهَّم الاختلال به، ليس كذلك كطلاق الهازل. أحد الأسباب ألا يكُونَ قاصداً إلى اللَّفْظ أصلاً كالنائم تجري كلمة الطلاق على لسانِه، واحْتُجَّ له بما روِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيقِظَ، وَعَن المَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ" (¬1). ولو استيقظ النائم، وقَدْ جَرَى لفْظ الطلاق على لسانه، فقال: أجزت ذلك الطلاق، أو أوقعته، فهو لَغْوٌ (¬2). وعن أبي حنيفة -رحمه الله- أنَّه لو قال: أجزته، لم يجز، ولو قال أوقعته، وقَعَ. ومَن سَبَق لسانه إلى كلمة الطلاق في محاورته، وكان يريد أن يتكلم بكلمة أخْرَى، لم يَقَع طلاقاً، ولكن لا تُقْبَل دعوى سَبْق اللسان منْه في الظاهر إِلاَّ إذا وُجِدَتْ ¬
قرينة تدُلُّ عليه، فإذا قال طلِّقتك ثم قال: سبَق لساني إلَيْه، وكنت أريد أن أقول طلَبْتُكِ فعن نصِّ الشَّافعي -رحمه الله- أنَّه لا يسع امرأته أن تَقْبَل منْه ذلك، وحَكَى القاضي الرُّويانيُّ عن "صاحب الحاوي"، وغيره أنَّ هذا فيما إذا كانَ الزَّوْج متهماً فيه، أمَّا إذا علِمتْ صدْقَه، أو غَلَب على ظنها بأمارة، فلَهَا أن تقبل قوْلَه: ولا تخاصِمَه، وأن من سَمِعَ منه ذلك، إذا عَرَف الحال، يَجُوز له، أن يَقْبَل، ولا يَشْهَد علَيْه، قال: هذا هو الاختيار، وإن كانَتْ زوجته تسمى طالقاً، وعبده يسمى حرًّا، فقال: يا طالقٌ أو يا حُرُّ، وقصد النداء بالاسم، لم يقَع الطلاق، ولم يحْصُل العتق، وإن قَصَد الطلاق والعتق، حصلا، وإن أطْلَق ولم يَنْوِ شيئاً فعلى أيِّ المحملين يُحْمَل، فيه وجْهان. أشبههما: الحمل على النِّداء، حتَّى لا يقع الطلاق إلا إذا نَوَى، وهذا هو المذْكُور في "التهذيب" وذكر الإِمام أن مأْخَذ الوجهين يقرب من مأخذ القوْلَين فيما إذا قال: أنْتِ طالقٌ، أنْتِ طالقٌ، وَلم ينْو تكراراً ولا تأكيداً أنَّه عَلاَمَ يُحْمل؟ والأظهر هناك أنَّه تقع طلقتان، وإذا كان اسم امرأته ما يقارب حروفُه حروف طالق، كالطالع، والطالب، والطارق، فقال: يا طالقٌ، ثم قال: أردت أن أقول: يا طارِقُ أو يا طالع، فالتتفَّ الحرف بلساني، قُبِل قوله في الظاهر؛ لقوة القرينة وظهورها، بخلاف ما إذا قَالَ لامرأته: أنتِ طالقٌ، وهو يحل وثاقاً عنها وقال: أردتُّ الإطلاق عن الوَثَاق حيْث ذَكْرنا خلافاً في قَبُوله ظاهراً، قال في "البسيط", لأن التلفُّظ بكلمَة الطَّلاق كالمستنكر في حالة النِّكَاح، ما إذا نطق بها بعْد قَبُول التأويل. والمبرسم والمُغْمَى عليه كالنائم والحاكي لطلاق الغَيْر لا يقع طلاقه، وذلك مثْل أن يقول: قال فلان: زوْجَتي طالقٌ، وكذا الفقيه إذا كان تكرَّر لفظ الطلاق في تصويره وتدريسه وتكراره. ومن صُوَر سبْق اللسان ما إذا طَهُرَت امرأته من الحَيْض أو ظنَّ طهارتها، فأراد أن يقول: أنْت الآن طاهرةٌ، فسبق لسانه؛ أنت الآن طالقة. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِي): الهَزْلُ وَلاَ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي مَنْعِ الطَّلاَقِ وَالعِتَاقِ، وَفِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ تَرَدُّدٌ، وَالمَشْهُورُ أَنَّ النِّكَاحَ لاَ يَنْعَقِد مَعَ الهَزْلِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الهازل (¬1) بالطلاق يَقَع طلاقه، ورُوِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدُّ، الطَّلاَقُ، والعِتَاقُ، والنِّكَاحُ (¬2)، وُيرْوَى بدْل العتاق الرجعة. ¬
وصورة الهَزْل: أن يلاعيها بالطَّلاق مثْل أن تقول في معْرض الدلال والاستهزاء: طَلَّقَني ثلاثاً فقال: طلقتك ثلاثاً، فيقع الطلاق، لأنَّه خاطبها بالطَّلاق عن قَصْد واختيار، وليس فيه إلا أنَّه غير راضٍ بحكم الطلاق ظانًّا أنَّه إذا كان مستهزئاً غير راضٍ بوقوع الطلاق لا يقع الطلاق، وهذا الظن خطأ ألا تَرَى أنَّه لو طلق بشرط الخيار لنَفْسه يقع الطلاق ويلغو الشرط، وإن لم يَرْض بالوقوع في الحَال، وكما يقع طلاق الهَازل في الظَّاهر، يقع في الباطن أيضاً، بخلاف ما إذا قال: أنْتِ: طالقٌ، ثم قال: أردتُّ عن وثاق، حيث يدين, لأن هناك صَرْف اللفظ عن ظاهره إلى تأويل يدعيه والهازل، لا يصرف اللفظ إلى معنى آخر، وهل ينعقد بالبيع، وسائر التصرُّفات مع الهزل فيه وجْهَان عن الشيخ أبي محمَّد -رحمه الله- وغيره وجْه الانعقاد: حُصُول الأهلية والمحلية، والصيغة، الصادرة عن قصْد واختيار، ووجه الآخر: أن ظاهر الحَدِيث يَقْتَضي اختصاص الْتحَاق الهازل بالجِدِّ بالتصرفات الثلاثة، وقد مرَّ ذكر الوجهَيْن في "كتاب البيع" وقربناهما من الخلاف فيما إذا بَاع قال أبيه على ظَنِّ أنَّه حيٌّ، فإذا هو ميت، ويُشْبه أن يكون الانعقاد أظْهر، والخلاف جار في النكاح؛ لأنَّه كالبيع وسائر التصرُّفات في أنَّه لا يكمل مبعضه ولا يؤيد موقّته، لكن الحرّ يقتضي التحاقه بالطَّلاق، والعتاق، ولفظ صاحب الكتاب هاهنا، وفي "الوسيط" له إضعار بترجيح عدَم الانعقاد، وقد يؤيد ذلك بما يختَصُّ به النِّكاح من وجوه الاحتياط. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثُ: الجَهْلُ): فَإِذَا خَاطَبَ امْرَأَةٌ بِالطَّلاَقِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا زَوْجَةُ الغَيْرِ فَإذَا هِيَ زَوْجَتُهُ فَالمَشْهُورُ أَنَّهُ يَقَعُ وَيَنْقَدِحُ أَنْ لاَ يَقَعَ، وَالأعْجَمِيُّ إِذَا لُقِّنَ لَفْظَ الطَّلاَقِ وَهُوَ لاَ يَفْهَمُهُ لَمْ يَقَعْ، وَإِذَا بَاعَ مَالاً عَلَى ظَنِّ أنَّهُ لأَبِيهِ فَإذَا هُوَ مَيِّتٌ فَفِي صِحَّتِهِ خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا خاطب امرأةً: بالطلاق على ظَنِّ أنَّها زوجة الغَيْر، وكانت في
ظلمة أو حِجَاب وكانت زوْجَتَهُ، يقعَ الطلاق على النَّقْل المشهور، وللإِمام وصاحب الكتاب -رحمهما الله- فيه احتمالٌ, لأنَّه إذا لم يَعْرف الزوجة، لا يكون قاصداً لقطعها، فإذا لم يقْصِد الطلاق، وجب إلاَّ يَقَعَ، قال في "البسيط" وكان بعض المذكورين بالوعظ في زمانِنا يلتمسُ من أهْل المجْلِس مكرُمَةً مالية، فلم تنجع طَلِبَتُه، وطال انتظاره فقال: متضجراً قد طلَّقْتُكم ثلاثاً، وكانت زوجته منهم، وهو لا يدري، فأفتى الإِمام -رحمه الله- بوقوع الطلاق، قال: وفي القلْب منْه شيْءٌ، ولك أن تقول: ينبغي ألاَّ يقع الطلاق، فيما إذا خاطب زوجَتَه بالطلاق، وهو لا يَدْرِي أنَّها زوجته؛ لأن قوله: طلَّقْتكم جميعاً لفظ عام، واللفظ العام يَقْبَل الاستثناء باللفظ والنية؛ ألاَ تَرَى أنَّه لو حَلَف ألا يُسلِّم على زَيْد (¬1)، فسلَّم على قوْم منهم زيد واستثناه بقَلْبِه أو بلفظه، لم يَحْنَث على ما سيأتي في الأيمان إن قدَّر الله -تعالى جَدُّه. ¬
وإذا كان عنْده أن امرأته ليْسَت في القَوْم، كان مقصوده من اللفظ غيْرَها، فيكون مُطَلِّقاً لغيرها لا لها، كما أنه إذا استثنى زَيْداً بقلبه، وكان المقصود غيْرَه كان مسلماً على غَيْر زيْد. ومن نظير هذه الصورة ما إذا نَسِيَ أنَّ له زوجةً، وطلَّقها، وكذلك لو قبل له أبوه في صِغَره أو وكيله في كبره نكاحَ امرأة، وهو لا يَدْرِي فقال: زَوْجَتي طالقٌ أو خاطب تلْك المرأة بالطلاق، فالمشهور وقوعُ الطَّلاق، وقد حكاه القاضي ابن كج عن نَصِّ الشَّافعي -رحمه الله- وهَذَا في الحُكْم الظاهر، وأمَّا في الباطن فقَدْ أطْلَق أبو العبَّاس الرُّويانيُّ في الوقوع باطناً وجهيْن، قال: ويُحْتَمل أن يُقْطع بالوقوع في صورة النِّسْيان، ويختص الخلاف بما إذا لم يَعْلَمْ أن له زوجة أصلاً كما يُفرَّق بيْن ما إذا صلَّى مع نجاسة نسيها، وبين ما إذا صلَّى مع نجاسة، لم يعْلَمْ بها أصلاً، وفي "التتمة" أنَّه يُبْنَى ذلك على أن الإِبراء عن الحُقُوق المجهولة، هل يصحُّ؟ إنْ قلْنا لا يصحُّ، لم يقع الطلاق بينه وبين الله -تعالى (¬1). ومن لُقِّنَ كلمة الطلاق بلُغة لا يعْرفُها كالعجميِّ يلقن لفظ الطلاق، فأتى بها، وهو لا يَعْرف معناها, لا يقع طلاقُه، كما لو لُقِّن كلمة الكُفْر، فتكلَّم بها وهو لا يَعْرِف معناها, لا يُحْكَم بكفره، قال أبو سعد المتولِّي: وهذا إذا لم يكُنْ له مع أهْل ذلك اللسان اختلاطٌ، فإن كان لم يُصَدَّق في الحكم، ويَدين فيما بيْنه وبين الله -تعالى- وإذا لم يقَع الطَّلاق، فلو قال العجمي: أردتُّ بهذه الكلمة معْناها بالعربية، ففي وقوع الطلاق وجْهان: أحدهما: ويُحْكَى عن أقْصَى القضاء الماوَرْدِّي: أنَّه يقع؛ لأنَّه قد نَوَى الطلاق. وأصحُّهما: وبه قال الشيخ أبو حامد؛ لا يقع؛ لأنَّه إذا لم يَعْرِف معنى الطلاق، لا يصحُّ قصْده، ولو قال: لم أعْلَمْ أن هذه الكلمة معناها قطْع النكاح، ولكن نَوَيْتُ بها الطلاق، وقصَدتُّ قطْع النكاح، لم يَقَع الطلاق، كما لو خاطبها بكلمة لا معنى لها، وقال: أردتُّ الطلاق. واعْلَم أن مسألة تلقين العجميِّ مقصودةٌ بالذكر في نفْسها، واحتج بها في "الوسيط"، للاحتمال المذكور في صورة الجهل، واستشهد أيضاً بوجه سبق ذكره في "الغَصْب" فيما إذا قال الغاصب لمالك العَبْد: أعتق عبْدي هذا، فأعتقه المالِكُ جاهلاً بأنَّه عبْده، أنَّه لا يعتق. ¬
وقوله "وإذا باع مالاً على ظَنِّ أنَّه لأبيه فإذا هو ميِّت، ففي صِحَّته خلافٌ" فهذه الصورة مذكورةٌ في البيع (¬1) وإنَّما أعادَهَا، هنا، لمشابهتها صورة الجهل في الطَّلاق، فالبائع في تلْك الصُّورة جاهلٌ بحال المَبِيع كالمطلِّق فيما نحْن فيه، وإذا كان الأظْهَر في البيع الصِّحَة على ما سبَق ذكْره، فالطلاق، أَوْلَى بالوقوع. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرَّابِعُ): الإِكْرَاهُ وَذَلِكَ يَمْنَعُ صحَّةَ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ إلاَّ إِسْلاَمَ الحَرْبِيِّ وَالمُرْتَدِّ، وَفِي إِسْلاَمِ الذِّمِّيِّ تَرَدُّدُ (ح)، وَلاَ يَقَعُ طَلاَقُ المُكْرَهِ إلاَّ إِذَا ظَهَرَتْ دَلالَةُ اخْتِيَارِهِ (ح)، بِأَنْ خَالَفَ المُكْرِهَ بِأَنْ أَكْرَهَهُ عَلَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ فَطَلَّقَ ثَلاَثاً، أَوْ عَلَى طَلاَقِ زَوْجَةٍ فَطَلَّقَ زَوْجَتَينْ، أَوْ عَلَى زَوْجَتَيْنِ فَطَلَّقَ وَاحِدَةً، أَوْ عَلَى ثَلاَثٍ فَطَلَّقَ وَاحِدَةً، أَوْ عَلَى إِحْدَى زَوْجَتَيْنِ فَطَلَّقَ وَاحِدَةً مُعَينَةً، أَوْ تَرَكَ التَّوْرِيَةَ مَعَ العِلْمِ بِهَا وَالاعْتِرَافِ بِأَنَّهُ لَمْ يُدْهَشْ بِالإِكْرَاهِ، أَوْ قَالَ المُكْرِهُ: قل: طَلَّقْتُهَا فَقَالَ: فَارَقتُهَا. قال الرَّافِعِيُّ: التصرُّفَات القوليَّة: المحمول عليْها بالإِكراه بِغَيْر حقٍّ باطلةٌ لاغيةٌ، يستوي فيه الرِّدَّة والبيع وسائر المعاملات، والنكاح والطلاق والإِعتاق وغيرها، وما يُحْمَل عليه بحقٍّ فهو صحيح (¬2). وقَدْ يعبر عن هذا الغرض بعبارة أُخْرَى، فيقال: ما لا يلْزَمُه في حال الطواعية لا يَصِحُّ منْه إذا أتى به مكْرهاً، وما يلْزَمُ في حال الطواعية يصحُّ (¬3) مع الإِكراه عليه، ويخْرج من هنا أن إسْلام الحربيِّ المرتد صحيحٌ مع الإِكراه؛ لأنهما يكرهان، ويُحْمَلان عليْه، ولو لم يصحُّ، لَمَا كان لإِكراههما عليه معْنىً. قال الإِمام: وفيه غموضٌ من جهة المعنى؛ لأن كلمتي الشهادة نازلتان في الإعراب عمَّا في الضمير منزلةَ الإِقرار، والظَّاهِر من (¬4) حال المحْمُول عليه بالسيف أنَّه كاَذبٌ وفي إسلام الذمي مكرهاً وجْهان: أحدهما: يصحُّ احتياطاً للإِسلام. ¬
وأصحُّهما: المَنْع [لأنَّه] لا يجُوز إكراهه عليْه؛ بل هو مقرر على كُفْره بالجزية بخلاف الحربيِّ، والمولى بعد مضِّيِّ المدة إذا طلق مكرهاً، يقع طلاقه لأنَّه مكره عليْه بِحَقٍّ، هكذا ذكَرُوه. وزاد في "التتمة" فقال: هذا في الطَّلْقة الواحِدَة، أمَّا إذا كرهه الإِمام على ثَلاَث طلقات، وتلفظ بها، فإن قلْنَا: إنَّه لا ينعزل بالفِسْق، تقع واحدةً، وتلغو الزيادة إن قلنا: يَنْعَزل، لم يقع شيء، كما لو أكْرَهَه غيْره، ولَك أن تَقُول: ليْس عَلَى المولى إكْراه يمنع مثله (¬1) الطلاق حتَّى يقال إنَّه لا يقع الطَّلاق؛ لأنَّه إكْراه بحقٍّ، وذلك لأنَّه لا يُؤْمر بالطَّلاق على التعيين، وإنَّما يُؤمر بالفيئة أو الطَّلاق، ومثل هذا الإِكراه لا يَمْنع وقوع الطَّلاق في حقه غير المولى ألا ترى أنَّه لو أكرهه على أن يطلق زوجته أو يعتق عبده فأتى بأحدهما ينفذ؟ ولو أكرهه على تطليق إحدى زوجتيه فطلَّق واحدةً معيَّنةً يقع الطَّلاق على ما سيأتي على الأثر، وأيضاً ففيما يَحْصُل به الإكْراه اختلافٌ يبين في الفَصْل التالي لهذا الفصل، فإن قلْنا: إِنه لا يَحْصُل إلاَّ [بالقتل] والقَطْع، فليس للقاضي حَمْل المولَى على الطَّلاق بهَذا الطريق؛ فلا يكون الحَاصِل إكراهاً، ولو قُدِّرَ أنه فَعَل ذلك، كان ظالماً، فليكن كإكْراه غيره، ولا يخرج الإِكْراه على الرضاع عن كونه محرماً، فإن الحُكْمَ يتعلَّق بوصول اللبن إلى الجَوْف، وفي امتناع القِصَاص بالإِكْراه على القتل والحَدِّ بالإِكراه على الزِّنَا قولان مذكوران في موضعهما. وقال أبو حنيفة: ينْعَقِدُ بَيْع المكره، ولا يلزم، ويصحُّ نكاحه، وطلاقه، وإعتاقه. واحتج الأصحاب للمَذْهَب بما روي أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا طلاق في إغلاق" (¬2) وفسَّره علماء الغريب بالإِكراه وقال: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ". وروي أن رجلاً تدلى بحَبْل ليشتار عسلاً، فجاءته امرأته، وقالتْ: تُطَلِّقنِي ثَلاثاً، وإلاَّ قطعت الحبل، فطلَّقها ثلاثاً، ثم أتى عُمَرُ -رضي الله عنه- فقال: "ارْجِعْ إلَى أَهْلِكَ، فَلَيْسَ هَذَا بِطَلاقٍ" (¬3) وبأنه قول لو صدَر منْه بالاختيار، بانَت زوجته، فإذا حمل عليه بإكراه باطل، وجب أن يلغو، كالردة، وبأنه قوْلٌ محمول عليه بغير حق؛ فلا يلزمه حُكْمه، كما لو أُكْرِه على الإِقْرار بالطَّلاق، وقد سلم أبو حنيفة أنَّه إذا أقرَّ بالطَّلاق ¬
مكرهاً لم يُفَرِّق بيْنه وبين زوجته. إذا تقرَّر ذلك ففي الفَصْل مسألتان: إحداهما: إنما يمنع وقوع الطلاق بالإكراه إذا لم يَظْهَر ما يدُلُّ على اختياره، أما إذا ظَهَر؛ بأن خَالَف المكره وأتى بغير ما حمَلَه عليه فيُحْكَمُ بوقوع الطلاق؛ لأن مخالفته له تُشْعِر باختياره فيما أتى به ولذلك صور. منها: أن يكرهه على طلقة واحد، فطلَّق ثلاثاً، وفيه ما يُشْعر برغبته واتساع صور الطلاق. ومنْها: وأكرهه على ثَلاَثِ طلقات، فطلَّق واحدةً، تقع الواحدة، وللإِمام احتمالُ فيه؛ لأنه قد يقصد دفْع مكروهه بإجابته إلى بعْض مطلوبه، ولا يقْصد إيقاع الوَاحِدة. ومنْها: أكرهه على طلاق زوجةٍ، فطلَّق زوجتين، يُنْظَرُ إنْ قال: طلَّق زوجتكَ حفْصَةَ، فقال لها ولضرتها عمرة: طلَّقْتُكُمَا، طُلِّقَتَا؛ لأنَّه عَدَل عن الكلمة المكره عليها، وإن قال: طلَّقْتُ حفْصة وعمْرة أو وطَلَّقْت عمرةَ، أو حفصةُ طالقٌ، وعمرة طالقٌ، لم تطلَّقْ حفصة، وطُلِّقَتْ عمرة. هكذا فَصَلَ صاحب "التهذيب" و"التتمة" وغيرهما, ولم يَفْصل الإِمام بين العبارتين، وأطْلَق عن الأصحاب الحُكْمَ بوقوع الطَّلاق على الضرتَين، قاَل: وفيه احتمال ظاهرٌ؛ لأنَّه لا يبعد أن يكون مختاراً في طلاق الثانية. ومنها: أكْرَهَه على طلاق زوجتين، فطلَّق واحدة، يقع، وأبْدَى فيه مثْل الاحتمال المذكور فيما إذا أكرهه على ثَلاَثِ طلقات، فطَلَّق واحدةً. ومنها: أكرهه على طَلاَقِ إحدى زوجتيه، فطلَّق واحدةً بعينها، يقَع الطَّلاق؛ لأنَّه مختارٌ في تعيينها؛ لأنَّه لَمَّا عدَل عن الإِبهام إلى التعيين، فقد زاد على ما أكرهه عَلْيه لأنَّ الإِكراه على طلاق إحداهما لا على طلاق هذه، وطلاق هذه، وطلاق إحداهما مع زيادة، ألا ترى أنَّه لا ينْعَكِس وفي "التتمة" ذِكْر خلاف في هذه الصورة. ومنْها: أكرهه على أن يطلِّق بكناية من الكناياتْ فأتَى باللَّفْظ الصريح أو بالعكس أو عدل من صريح إلى صريح، بأن قال قُلْ: طَلَّقْتُهَا فقال: فارقْتُها أو سرَّحْتها، يقع الطلاق. ومنها: إذا أكرهه على تنجيز الطَّلاق، فعلَّق، أو على التعليق فنجَّز وقع على المأتي به حكمه. والإِكراه على التعليق يمنع انعقاده، كما يمنع نفُوذَ التنجيز. الثانية: إِن وَرَّى المكره بأن قال: أردتُّ بقولي "طلقت فاطمة" غير زوجتي، أو
نوى الطلاق من الوثاق أو قال في نَفْسه: إنْ شاء الله، لم يَقَع الطلاق، وإذا ادَّعَى التورية: صُدِّق ظاهراً في كل ما كان يدين فيه عند الطواعية، وإن تَرَك التورية: نُظِرَ، إن كان غبياً لا يحسن التورية، لا يقع طلاقه أيضاً، وإن كان عالماً بها، وأصابته دهشة بالإِكراه، وسل السيف عليه، فكذلك وإن لم تصبه دهشة فوجهان: أحدهما: وهو المذكور في الكتاب واختيار القَفَّال: أنَّه يقع طلاقه؛ لأن الاحتراز عن التورية، والحالةُ هذه، يُشْعِر بالاختيار. وأصحُّهما: على ما ذكر صاحب "التهذيب" والقاضي الرويانى -رحمهما الله- المنع؛ لأنه مجبر على اللَّفْظ، ولا نية له تُشْعِر بالاختيار. ولو قَصَد المكره إيقاع الطلاق، ففي وجْه؛ لا يقع أيضاً؛ لأن الإِكراه أسقط أثر اللفظ، ومجرد النية لا تَعْمَل، والأصحُّ أنَّه يقَع لقَصْد، وتلفظه، ولا يبعد أن يختار ما هو مُكْرَه علَيْه في الظاهر، وعلى هذا، فصريح لفظ الطلاق عنْد الإِكراه كالكنايات عند الطواعية، إن نوى، وقع، وإلاَّ فلا. وقوله في الكتاب: و (¬1) ذلك يَمْنَع صحَّة سائر التصرفات" لفظ "السائر" يطلق بمعنى "الجميع"؛ على ما ذكرناه في غيْر هذا المَوْضِع، والأشهر استعماله بمعْنَى الباقي، فإن حُمِلَ هاهنا على الجميع، فذاك، وإن حُمِلَ على الباقي، فالمُرَاد ما سِوَى الطَّلاق، أي كما يمنع الطلاق، يُمْنَع ما سواه من التصرفات. وقوله: "أو على طلاق زوجة، فطلَّق زوجتين" ويجوز إعلامه بالواو؛ ولأنَّه أطْلَقَه إطلاقاً على ما حكَيْنَاه عن الإِمام، وفيه التفصيل الَّذي تقدَّم، وإن أقيم ما ذَكَره الإِمام من الاحتمالات وجْهاً؛ فيجوز أن يعلم بالواو. وقوله: "أو على ثلاث فطلَّق واحدة" وقوله: "أو على زوجتين" فطلَّق واحدة، وينبغي أن يعلم (¬2) قوله: "أو ترك التورية" بالواو، ويعلم قوة ذلك الوجه فرعان: لو قال: طلق زوجتي وإلاَّ قتلتك، فطلَّق، وقَع الطَّلاق؛ لأنَّه أبلغ في الإِذن. وفيه وجْه: أنَّه لا يقع؛ لأن الإِكراه يُسْقِط حُكْم اللفظ، فصار كما لو قال لمجنون: طَلِّقْها، فطلَّق. الوكيل بالطلاق إذا أكره على الطلاق، قال أَبو العباس الرُّوياني: يُحْتَمَل أن يُقَال: يقع: لحصول اختيار المَالِك، ويُحْتَمَل أن لا يَقَع؛ لأنه المباشر، قال: وهذا أصح. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَحَدُّ الإِكْرَاهِ أَنْ يَصِيرَ مُضْطَراً إِلَى الفِعْلِ شَاءَ أَمْ أَبَى كَالَّذِي يَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ فَيَتَخَطَّى النَّارَ وَالشَّوْكَ وَذَلِكَ لاَ يَحْصُلُ بِالتَّخْوِيفِ بِالحَبْسِ وَالجُوعِ وَأَمْثَالِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لاَ يُشْتَرَطُ سُقُوطُ الخِيَرَةِ وَالرَّوِيَّةِ بَلِ التَّخْوِيفُ بِالحَبْسِ وَالجُوعِ وَالضَّرْبِ وَمَا يَقْتَضِي العَقْلُ وَالحَزْمُ إِجَابَةَ المُكْرِهِ حَذَراً مِنْهُ فَهُوَ إِكْرَاهٌ يَدْفَعُ الطَّلاَقَ، وَكَذَلِكَ تَخْوِيفُ ذَوِي المُرُوءَةِ بِالصَّفْعِ فِي المَلأ وَالتَّخْوِيفُ بِقَتْلِ الوَلَدِ، نَعَمِ التَّخْوِيفُ بِإِتْلاَفِ المَالِ لاَ يُعَدُّ إِكْرَاهاً في القَتْلِ وَالطَّلاَقِ، وَيُعَدُّ إِكْرَاهاَ فِي إِتْلاَفِ المَالِ، وَالطَّرِيقَةُ الأُولَى أَضَمُّ للِنَّشرِ وَهَذِهِ أَوْسَعُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا بُدَّ في حصُول الإِكراه كون المُكْرِهِ غالباً قادراً على تحقيق ما يهدِّده به؛ بولاية أو تغلُّب أو فَرْط هجوم، أو كون المُكْرَه مغلوباً عاجزاً عن الدَّفْع؛ بفرار أو مقاومة أو استعانة بالغير، ولا بدّ وأن يَغْلِب على ظنِّ المطلوب أو تيقن أنه لو امتنع مما يَطْلُبه منْه أوقع به المَكْرُوه. وعن أحمد -رحمه الله- روايةٌ: أنَّه لا يَحْصُل الإِكراه بذلك حتَّى يتحقَّق شيئاً ممَّا يتوعَّده (¬1) به، ويقْرُب من هذا ما حكى عن الماسرجسي، قال: سمعتُ أبا إسحاق يقول: لا إكراه إلاَّ بأن ينال بالضرب، والصحيحُ المشهورُ الأوَّل، واختلفوا فيما يكون التخويف به إكراهاً، فحَكَى الحناطي، والإِمام وغيرهما وجهاً أنَّه القَتْل لا غيْرُ. وعن أبي إسحاق أنَّه القتل وقطْع الطَّرَف، وفي معناه الضرب الذي يُخَاف منه الهلاك، وعن ابن أبي هريرة وكثير من الأصحاب: أنَّه يلحق به الضرب الشديد، والحَبْس وأخْذ المال وإتْلافُه، وبهذا قال أبو عليٍّ صاحب الإِفصاح، وزاد، فقال: لو توعَّده بنوع استخفاف، وكان الرَّجُل وجيهاً يَغُضُّ ذلك منه، فهو إكراه، قال هؤلاءُ والضرب والحَبْس والاستخفاف تختلف باختلاف طبقات الناس وأحوالهم. والتخويفُ بالقتل والقَطْع وأخْذِ المال لا يَخْتَلِف. وقال الماسرجسي: يختلف التخويفُ بِأخْذ المال أيضاً، فلا يكون تخويفُ المُوْسِر بأخْذ خمسة دراهم منْه إكراهاً، قال القاضي الروياني: وهذا هو الاختيار، فهذه ثلاثة أوجه تشتمل عليْها كتب قدماء الأصحاب من العراقيين وغيرهم -رحمهم الله-. ¬
والثالث: أرجحها عند الشَّيْخ أبي حامد، وابن الصَّبَّاغ، وغيرهما ووراءها طُرقٌ: أحدها: أن الإِكراه إنَّما يَحْصُل إذا خوَّفه بما يسلب الاختيار، وكذا التخويف بالإِيلام العظيم. قال الإِمام -رحمه الله-: لكن لو فوتح به يكاد يسلب الطاقة والاختيار، فيُحْتَمل أنَ يكون إكراهاً، وذكر احتمالين فيما لو خَوَّف الأخرق (¬1) بما حسبه مهلكاً، وسقط اختياره، هل يُجْعَل ذلك إكراهاً في حقه؛ لظَنِّه وَحُسْبَانِهِ، وقربهما من الخلاف فيما إذا رأوا سواداً فظنوه عَدُوّاً، فصلوا صلاة شدَّةِ الخوف، ثم بَانَ خلافُه قال في "البسيط": ولعل الوجُه ألاَّ يقع الطَّلاق، لأنَّه ساقطُ الاختيار، وإن كان ذلك بظَنٍّ فاسِدٍ. والطريق الثاني: أنَّه لا يُشْترَطَ سقوطُ الاختيار، بل إذا أكرهه على فعْلٍ من الأفعال مما يُؤْثِر العاقل الإِقْدَام عليه حذراً ممَّا يهدِّده به، حَصَل الإِكراه، وهاتان الطريقتان هما المذكورتان في الكتاب، وعلى الطريقة الثانية لا بُدَّ من النظر فيما يطلبه منْه، وفيما يهدده به، فقد يكون الشيْء إكراهاً في مطلوب دون مطلوب، وفي شخص دون شخص؛ فإن كان المُكْرِه يطلب منْه الطلاقَ، فكما يَحْصُل الإِكراه بالتخويف بالقتل والقطع، يَحْصل بالتخويف بالحَبْس المؤبَّد أو الطويل، فإن الإِنسان يحتمل الطلاق، ولا يُؤثِرُه، وكذا تخويف ذوي المروءة بالصفعْ في الملأ، وتسويد الوجه، والطَّوْف به في الأسواق يكون إكراهاً، ومنهم من لا يجعله ولا التخويف بالحبس إكراهاً، وأَجْرَى مثْل هذا الخلاف في التخويف يقَتْل الوالد والولد، والظاهرُ أن الكُلَّ إكراهٌ، والتخويف بإتلاف المال لا يكون إكراهاً فيه على الأظهر عنْد مَنْ ذهَب إلى هذه الطريقة، وهو المذكور في الكتاب؛ لأن الإنسان يحتمله ولا يُطَلِّق، وإن كان المُكْرِه يطلب القَتْل فالتخويف بالحَبْس وقتل الولَد وإتلاف المال لا يكون إكراهاً، وإن كان يطلب إتلاف المال، فالتخويف بجميع لك يكون إكراهاً، وفيه وجه إن التخويف بإتلاف المال لا يكون إكراهاً في إِتلاف المال أيضاً. والطريق الثالث: أن الإِكراه إنَّما يحْصُل بالتخويف بعقوبة تتَعلَّق ببدن المُكْرَه ولو حقَّقها، تعلَّق به القِصَاص، فيخرج عنه ما لا يتعلَّق بالبدن، كأخذ المال وقَتْل الولد والوالد، والأخ والزوجة، وكذا ما لا تتعلَّق به القِصَاص؛ كالضرب الخفيف ¬
والحَبْس المؤبَّد إلاَّ أن يخوفه بالحَبْس في [قعر بئر] يغلْب منْه الموت، ويُحْكَى هذا الطريق عن اختيار القاضي الحُسَيْن. والطريق الرابع: أنَّه يحْصُل الإِكراه بعقوبة شديدة تتعلَّق ببدنه، فيدخل فيه القتل والقطع، والضرب الشديد والتجويع والتعطيش والحبس المؤبد أو الطويل، ويخرج ما خرج عن الطريقة الثالثة، ويخرج عنه التخويف بالاستخفاف بإلقاء العمامة، والصفع في الملأ وما يخل بالجاه والمروءة، قال الذاهبون إلَيْه، وقد يختار أهل التقوى سُقُوط الجاه، ولا يبالون بمثْل ذلك، ويحيلون صعوبته عند أكثر النَّاس على الرعونة ورعاية الرسوم، والعادات، واستبعد الإِمام هذه الطريقة أن يكون التَّخْويف بالحَبْس إكراهاً، ولا يكون التخويف بقتل الولد إكراهاً. والتخويف بالنفي عن البلد، فإن كان فيه تفريقٌ بينه وبين أهْله؛ فكالحبس الدائم، وإلاَّ فوجهان: أشبههما: أنَّه إكراه؛ لأن مفارقة الوطَن شديدةٌ؛ ولذلك شَرَع التغريب؛ عقوبةً للزاني، وجَعَل صاحبُ "التهذيب" التخويف باللواط، كالتخويف بإتْلاف المال وتسويد الوجه، وقال: لا يكون ذلك إكراهاً في القتل والقطْع، وهل يكون إكراهاً في الطَّلاق والعتاق وإتلاف المال فيه وجهان: وأمَّا ما يتعلَّق بالكتاب، فقَدْ عرَفْتَ أن المذكور فيه الطريقان الأوليان للأوجه الثلاثة ونظْم الكتاب يقتضي ترجيح الأوَّل منْهما، وقد صرَّح به الإِمام توجيهاً بأن الطريقة الثانية لا تَكَاد تنضبط، فإن الضَّرْب المخَوفُ به يختلف بقوة المُكْرَه وضعفه في احتمال الآلام، وقدر المال المخوف بإتلافه يختلف بطباع الأشخاص بَذْلاً وبُخْلاً، وما يُبْلِل الجاه يختلف باختلاف مراتب أصْحَاب الجاه والمروءة، ويجر ذلك إلى ضبط عظيم، وإلى هذا المعنى إشار في الكتاب بقوله: "والطريقة الأُوْلَى أضمُّ للنَّشَر وهذه أوْسَعُ" والنَّشَر بالتحريك المنتشر، يقال: رأيتُ القَوْمَ نَشَراً أي منتشرين. وليعلم قوله "وكذلك تخويف ذوي المروءة بالصَّفْع في الملأ" بالواو؛ للخلاف الذي تقدَّم، وخُصِّص بذي المروءة؛ لأنَّه لا يكون إِكراهاً في حقِّ المتبذِّل الذي لا يبالي مثْله بمثله، وكذا لفْظ الطلاق من قوله: "التخويف بإتلاف المال لا يُعَدُّ إكراهاً في القَتْل والطلاق" والظاهر أنه إكراه فيه وكذا قوله "ويعد إكراهاً في إتلاف المال". فروع: لا يَحْصُل الإِكراه بالتخويف بالعقوبة الآجلة، بأن يقول: لأَقْتُلَنَّكَ أو لأضربنك، غداً ولا بأن يقول؛ طَلِّق امرأتك، وإلاَّ قتلت نَفْسِي، أو كَفَرْتُ أو أفسْدَتُّ
صومي وصلاتي، ولا بأن يقول وَليُّ القِصَاصِ لِمَنْ عليه القِصَاص: طلِّق امرأتك، وإلا اقتصصْتُ منك. فإذا أخذه السلطان الظالِمُ بسبَب غيْره وطالبه به فقال: لست من أوليائه، ولا أعرف موضعه أو بماله، فقال ليْس له عنْدِي شيْء، فلم يُخَلِّهِ حتى يحلف بالطلاق، فحلف كاذباً، يقع الطلاق، ذكَره القفَّال وغيره؛ لأنَّه لم يُكرِهْه على الطلاق، وإنما تَوَصَّل بالحلف إلى رفْع المطالبة، بخلاف ما إذا قال له اللصوص: لا نخليك حتى تحْلِفَ إلاَّ تَذْكُر ما جرى، فحَلَف، لا يقع الطلاق إذا ذَكَره, لأنهم أكرهوه على الحَلِف بالطلاق هاهُنَا. لو تلفَّظ بالطلاق ثم قال: كنْتُ مُكْرَهاً، وأنكرتْ، لم يُصَدَّق إلا أن يكون مَحْبُوساً (¬1) أو تكون هناك قرينةٌ أخرى. ولو قال: طلقتُ وأنا صبيٌّ أو نائم، قال أَبو العبَّاس الرويانيُّ: يُصدَّقُ بيمينه، قال: ولو طَلَّق في المرض، ثم قال كنْتُ مَغْشِياً عليَّ، لم يُقْبَلْ قولُه إلا ببينة تَقُومُ على أنَّه كان زائل العقل في ذلك (¬2) الوقت. ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الخَامِسُ): زَوَالُ العَقْلِ بِالجُنُونِ، وَشُرْبُ الدَّوَاءِ (و) المُجَنِّنِ يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفَاتِ، وَأَمَّا السَّكْرَانُ فَيَقَعُ طَلاَقُهُ فِي ظَاهِرِ النُّصُوصِ، وَقِيلَ: قَوْلاَنِ فِي تَصَرُّفَانِهِ حَتَّى فِي أَفْعَالِهِ، وَقِيلَ: تَنْفُذُ أَفْعَالُهُ، وَالقَوْلاَنِ في التَّصَرُّفَاتِ، وَقِيلَ: يَنْفُذُ مَا عَلَيْهِ دُونَ مَالِهِ، وَحَدُّ السَّكْرَانِ أَنْ يُشْبِهَ المَجْنُونَ فِي الاخْتِلاَطِ، فَإِنْ سَقَطَ كَالمَغْشِيِّ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالنَّائِمَ فَلاَ يَنْفُذُ (ز) مَا تَلَفَّظَ بِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وما يُخِلُّ بقَصْد الطَّلاق اختلالُ عَقْل المطلِّق؛ أمَّا المَجْنُون فقَدْ تبيَّن في الركْن الأول أنَّه لا يقع طلاقه، وفي معناه المُغْمَى عليْه، وكلّ من زال عقْلُه بسبب هو غيْر متعدٍّ فيه، كما لو أوجر الخمر أو أُكْرِه على شربه، أو لم يَعْلَم أن المشروب من جنْس ما يُسْكِره، وعُدَّ من هذا القبيل ما إذا شَرِبَ دواء يزيل العَقْل على قصْد التداوي، ولك أن تَقُول في التداوي بالخمر خِلاَفٌ يُذْكَر في موضعه، فإذا (¬1) جَرَى ذلك الخِلاَف في الدَّواء المزيل للعَقْل، وقُدِّر اطراده في القليل والكثير، فالمَذْكور هاهُنَا جوابٌ على جواز التَّدَاوي، ويُمْكن أن يُقَدَّر تخْصيصُ الخلاف بالقَدْر الذي يُزيل العَقْل، وتصوير هذه الصورة بما إذا ظَنَّ أن القَدْر الَّذي تناوَلَه لا يزيل العَقْل، وكذلك صَوَّر بعضهم، وإن لم يجر ذلك الخلافُ في الدَّواءِ المُزِيل للعَقْل كان السَّبَب فيه أن الطَّبْع يدعو إلى شُرْب الخَمْر، فيحتاج فيه إلى المبالغةَ والزجر، بخلاف الأدوية. وإذَا تعدَّى، فشَرِبَ الخَمْر، فسَكِر، فالمشهور المَنْصُوص في الكتاب أنَّه يقع الطَّلاق، وحَكى المزنيُّ في ظِهَار السَّكْران قولَيْن عن القديم، فاختلف الأصحاب: منهم من قَطَع بوقوع الطَّلاق، وقال: ما رواه المزنيُّ لا يُعْرَف للشافعي في شَيْءٍ مِنْ كُتُبه، وإليه ذهب الشيخ أبو حامد والأرجح، وبه قال الأكْثَرُون: أنَّ في وقوع الطَّلاق قولَيْن، كما رواه في الظهار: أحدهما: أنَّه لا يَقَع؛ لأنَّه لا يَفْهَم ولا يَعْقِل، وليس له قصْد، صحيح فأشبه المجنون، وبهذا قال المزنيُّ، ويُحْكَى عن ابن سُرَيْجٍ وأبي طاهر الزيادي، وأبي سَهْل الصعلوكِّي، وابنه سهْل -رحمهم الله-. ¬
وأصحُّهما: الوقوعُ، وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله- لأنَّه عاصٍ بسبب الزوال، فيُجْعَل كأنه لم يَزُل، ويكون كالصَّاحي، وهذا كمَا أنَّه يجب قضاء الصلوات، ويُجْعَل زوال العَقْل؛ لكونه بالتَّعَدِّي كعدم الزوال. وعن أحمد -رحمه الله- روايتان كالقولين، وعن مالك -رحمه الله- فيما روى صاحب "التهذيب" أنَّه لا يقع، ورَوَى العراقيون والمتولي أنَّه يقَع كما هو مذهب أبي حنيفة. ولو شَرِب الدواء المجنِّنَ من غير تداوٍ وغرض صحيح، فزال عقْلُه ففيه طريقان: أظهرهما: وبه قال القاضي أبو حامد: أنَّه كالسكران؛ لتعديه. والثاني: أنَّه كالمجنون والنائم؛ لأنَّ الطَّبْع لا يدعو إلَى تناوُله، وإنما صِرْنا إلى الوقوع في السَّكْران؛ تغليظاً للحاجة إلى الزَّجْر، ثمَّ هاهنا كلامان: أحدهما: في محل القولَيْن في صورة السَّكْران والمتعدي بشُرْب الدواء المُجنِّن، وفيه طرق: أحدها: أن القولَيْن في نفوذ أقواله كلِّها كالطَّلاق والعِتَاق والرِّدَّة والإِسلام والبَيْع والشراء، وغيرها، وأما أفعاله كالقَطْع والقَتْل وغيرهما، فهي كأفعال الصَّاحى بلا خلاف؛ لقوة الأفعال. والثاني: حكى القاضي ابن كج عن أبي الطيِّب بْن سلمة أن القَوْلَيْنِ في الطلاق والعتاق والجنايات، ولا يصح بيْعه وشراؤه بلا خلاف؛ لأنَّه لا يَعْلَم ما يعقد عليْه، والعلْم شرْط في المعاملات. والثالث: أن القولَيْن فيما له كالنِّكَاح، أمَّا ما عليه الطَّلاق والإِقرار والضمان، فهو ناقدٌ لا محالة تغليظاً عليه؛ وعلى هذا فلو كان التصرُّف له من وجه، وعليه من وجْه كالبيع والإِجارة، فيحكم بنفوذه، تغليباً لطرف التغليظ. الرابع: وهو الأظهر على ما ذَكَر الحليمي وغيره أن القولَيْن جاريان في الأقوال والأفعال كلِّها، حتَّى لو قَتَل السكران، أو قَذَف أو زَنَا، ففي وجوب القصاص، والعقوبة علَيْه قولان، وعلى هذه الطَّريقة ينطبق ما يُقَال إن القول اخْتَلَف في أن السكران، كالصاحي أو المجنون. والثَّاني: ذَكَروا في حد السكر عبارات؛ فعن الشافعيِّ -رضي الله عنه- أن السكران، هو الذي اختلط كلامه، المنظوم، وانكشف سرُّه المكتوم، وعن المُزَنِيِّ أن
السَّكْران: هو الذي لا يُفَرِّق بين الأرض والسماء، وبين أمه وامرأته. وقيل (¬1) هو الَّذي يُفْصِح بما كان يَحْتَشِم منه. وقِيل: هو الَّذي يتمايل في مَشْيه، وَيهْذي في كلامه. وقيل: هو الَّذي لا يَعْلَم ما يقُول. وعن ابن سُرَيْجٍ، وهو الأقرب: أن الرجوع فيه إلى العادة، فإذا انتهى إلى حَالَةٍ من التغير، يقع عليْه اسم السُّكْر، فهو موضع الكلام، ولم يرض الإِمام هذه العباراتِ، لكن قال: شَارِبُ الخَمْر تعتريه ثلاثة أحوال: إحداها: هزَّة ونشاط يأخذه إذا دبت الخمر فيه، ولم تستول علَيْه بعد، ولا يزُولُ العَقْل في هذه الحالة ربَّما يحتدُّ. والثانية: نهاية السكْرِ، وهو: أن يصير طافِحاً، ويسقط كالمغشيِّ عليه، لا يتكلَّم، ولا يكاد يتحرَّك. والثالثة: حالة متوسِّطة بينهما وهي أن تختلطَ أحوالُه فلا تنْتظم أقوالُه وأفعاله، ويبقى تمييز وفهم كلام، فهذه الحالة الثالثة سكر، وفي نُفوذ الطَّلاق فيها الخِلاَف الذي بيَّنَّاه، وأمَّا في الحالة الأُولَى فينفذ الطَّلاق لا محالة؛ لبقاء العَقْل، وانتظام القَصْد والكلام، أمَّا في الثانية: فالأظْهَرُ عنْد الإِمام وهو المذكُور في الكتاب؛ أنَّه لا ينفذ لأنَّه لا قَصْد له؛ كأنه جَرَى على لسانه لفْظ، فهُو كما يُقْرَض في حقِّ النائم، والمُغمَى عليْه، ومن الأصحاب من جعله علَى الخِلاَف المذْكُور لتعديه بالتسبب إلى هذه الحالة، وهذا أوفق لإِطلاق أكثرهم والله أعلم. وقولُه في الكتاب "زوال العَقْل بالجنون وشرب الدواء المجنن يمبع نفوذ التصرفات" أراد به ما إذا تَناولَه تَدَاوياً، فأما إذا تعدَّى به، ولم يكُنْ له غرضٌ، فهو كالمتعدِّي بشرب الخمر على ما بيَّنا. وقوله: "فيقع طلاقُهُ في ظاهر النصوص" يجوز إعلام قوله: "فيقع" بالميم والألف والزاي، وهذا اللَّفْظ في السياق الذي أتَى به يُشْعِر بطريقة القطْع بوقوع الطَّلاق. وقوله: "وقيل قولان في تصرفاته" وأراد بهاهنا الأقوال؛ ألا ترَاه قال: "حتَّى في أفعاله" وأيضاً فقد قال "تَنْفُذُ أفْعَالُهُ، والقَوْلاَن في التَّصَرُّفات" وفي الاصطلاح المشهور لفظ التصرف يَدْخل فيه القول والفعل. ¬
وقوله: "وقيل ينفذ ما عليه دُونَ مَاله" يُقَارب الطريقة الثالثة من الطُّرق المذكورة في مَحَلِّ القولين، ويخالفها أنَّه ليْس فيها تعرضّ للخلاف في واحد من النوعَيْن، بل ظاهره الجَزْم بنفوذ ما عليْه، وبعدم نفُوذ ماله، وكذلِكَ أوردها صاحب "التهذيب" -رحمه الله-. وقوله أن يُشْبهَ المَجْنُونَ في الاختلاط في لفظ الاختلاط إشارة إلى اشتراط بقاء بَعْض الفهم والتمييز؛ ليخرج عنْه الَّذِي سَقَط كالمَغْشِيِّ عليه، على ما اختاره. وقوله: "فلا يَنْفُذُ ما تلفظ به" معلَّم بالواو، ويجوز إعلام قوله: "أن يُشْبه المجنون" أيضاً للعبارات الأُخر، كقولهم أنَّه الَّذي لا يَعْلَمُ ما يقول ونحوه. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الرَّابعُ: المَحَلُّ): وَهِيَ المَرْأَةُ فَلَوْ أَضَافَ الطَّلاَقَ إلَى نِصْفهَا نَفَذَ، وَلَوْ أَضَافَ إلَى عُضوٍ مُعَيَّنٍ (ح) كَاليَدِ وَالرَّأْسِ وَالكَبِدَ وَالطّحَالِ نَفَذَ، وَإِنْ أَضَافَ إلَى فَضَلاَتِ بَدَنِهَا كَالرِّيقِ وَاللَّبَنِ وَالمَنِيِّ لَمْ يَنْفُذْ، وَكَذَلِكَ إلَى الجَنِينِ، وَالدَّمُ وَالشَّحْمُ كَالفَضَلاَتِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَلَوْ أَضَافَ إلَى لَوْنها وَحُسْنِهَا وَصِفَاِتِهَا لَمْ يَنْفُذْ، وَالرُّوحُ وَالحَيَاةُ كَالأَجْزَاءِ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَيَمِينُكِ طَالِقٌ فَقُطِعَتْ ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ طُلِّقَتْ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَلَوْ قَالَ لِمَقْطُوعَةِ اليَمِين: يَمِينُكِ طَالِقٌ لَمْ تُطَلَّقْ عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا لَوْ قَالَ: ذَكَرُكِ أَوْ لِحْيَتُكِ طَالِقٌ لَمْ تُطَلَّقْ لِعَدَمِ المُضَافِ إِلَيْهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد سبَق أن أحَد أرْكَانِ الطَّلاق المحلُّ الذي يصادفه ويتوجَّه نحْوه، وهو المرأة، فإن أضاف الطَّلاق إلى كلِّها، فقال: طلَّقْتُكِ أو أنْتِ مطلقة، فذاك، وفي معْنَاه إذا قال جسمك شَخْصُك أو جَسَدك أو جثَّتُك أو نَفْسُك أو ذَاتُك طالقٌ، ولو أضاف الطَّلاق إلى بعْضِها على الإِشاعة، وقع الطَّلاق أيضاً، سواءٌ أبهم فقال: جزءك أو بعضك طالقٌ أو نَصَّ على جزْء معلومٍ كالنِّصف، والربع؛ واحتجَّ لذلك بالإِجماع وبالقياس على العِتْق؛ لأنَّ كلَّ واحد منهما إزالةُ ملْكٍ يحصل بالصَّريح والكناية، ذلك بأن الخَبَر ورد بأن من أعتق شِقصاً من عَبْد يعتق كلُّه، وبأن الرجل من أهْل الطلاق، فلا يمكن إلغاء قوْلِه، ولا يُمْكِن أن يقع الطَّلاق على بعْضها دون بعض؛ لأنَّ المَرْأة لا تتبعَّض في حكْم النِّكَاح، فلم يبْق إلاَّ أن يعمَّم حكمه. ولو أضاف إلى عُضْو معيَّن، فيقع أيضاً سواءٌ كان عُضواً باطناً، كالكبد، والطّحال، والقلب، أو عضواً ظاهراً كاليد والرجل، سواء كان مما ينفصل في الحَيَاة؛
كالشعر والظُّفْر أو لا ينفصل، والإِصبع الزائدة كالأصلية. وقال أبو حنيفة إذا أضاف الطلاق إلى عُضْو معيَّن لم يَقَع إلاَّ في خمسة أعضاء، وهي الرأس والوجْه، والرقبة والفَرْج، والظَّهْر، وعن أصحابه في الأعضاء الباطنة اختلافٌ. وقال أحمد إن أضاف إلى ما لا ينفصل وقع، (¬1) وفي كتاب الحناطي حكايةُ قَوْلٍ في الشَّعر، كما أنَّه لا يبطل الوُضوء بلَمْسِه، ولا شكَّ في اطراده في السِّنِّ، والظفر (¬2) وأن أضاف إلى فضلان بدَنِها، كالرِّيق والعَرَق، والمَخَاط، والبَوْل، لم يقع الطلاق، لأنَّها ليْسَتْ أجزاء متصلة بها بحُكْم الخلقة، ولا يلحقها الحل والحرمة، وفيها وجْه ضعيفٌ رواه الحناطي، والإِمام وفي اللَّبَن والمَنِيِّ وجهان: أحدهما: الوقوع؛ لأن أصل كل واحدٍ منهما الدَّم، وسنذكر في الإِضافة إلى الدَّم أن الظاهر الوقوعُ، وأظهرهما، وهو المذكور في الكتاب المَنْع؛ لأنهما متهيئان للخُرُوج بالاستحالة، فأشبهتا الفضلات. ولو قال: جَنِينُكِ طالقٌ، لم يقع الطلاق؛ لأنَّه شخص مستقلٌّ بنفسه، وليس بمحَلِّ للطلاق، وادعى الإِمام اتِّفَاق الأصحاب علَيْه، لكن أبا الفرج الزاز حكَى وجهاً بأنَّه يقع؛ لصورة الانفصال، وأبْعَدُ منْه وجهان ذكرهما الحناطي فيما إذا قال: الماء أو الطَّعَام الَّذي في جَوْفِك طالقٌ وفي الإضافة إلى الدم وجهَّان: في وجه لا يقَع الطَّلاق كما في الفَضَلات، والأصحُّ أنَّه يَقَع؛ لأنَّ به قوام البَدَن، وهو أشدُّ تملُّكاً في الشَّخْص، من اليد والرِّجْل، وحكَى الإِمام فيه طريقة قاطعة بالوقوع، وفي الشَّحم تردُّد للإِمام، وميله إلى أنَّه لا يقَع الطَّلاق، والأقربُ وقُوعُه؛ لأنَّه جزء من البدن، وبه قَوامُه؛ ولأن الشَّحْم كالسمن، ولو قال سمنك طالقٌ، لم يقَع الطلاق. ولو أضاف الطَّلاَق إلى المَعَانِي القائمةِ بالذات، كالحُسْن والقُبْح والمَلاحَة والسَّمْع، والبَصَر والكَلاَم، والضَّحِك، والبُكَاء، والغم، والفرح، والحَرَكَة، والسُّكُون، لم يقَع الطَّلاَق، ونقل الحناطي في الحُسْن، والحركة والسُّكون، والسَّمْع، والبَصَر، والكَلاَم وجهَيْن: أحدهما: الوقوع. ¬
والثاني: أنَّه لا يقَع، حتى يريده، وهذا شيْءٌ غريبٌ، ثم الوجه التسوية بَيْنَهُ وبين سائر الصفات، فلا يقع الطَّلاق إذا قال: ظلك أو طريقُكِ أو صُحْبَتُك طالقٌ، وكذا لو قال: نَفَسُكِ طالقٌ. قال في "التتمة"؛ لأن النَّفَس أجزاء الهَوَاء يَدْخل الرِّئَة، ويخرج منها، وأنَّه ليس بجزء منْها, ولا صِفَة لها، وكذا لو قال: اسْمُكِ طالقٌ. قال في "التتمة" إلاَّ أن يرِيد بالاسم وُجودَها وذاتها، فيقع. ولو قال: رُوحُكِ طالقٌ وقع الطَّلاق، فإنَّه الأصْل، وقد يُعَبَّر به عن الجُمْلة، وبمثله أجاب مُعيبون فيما إذا قال: حياتُكِ طالقٌ، منهم الإِمام وصاحب الكتاب. قال الإِمام: ولا يَتَخَبَّطَنَّ الفقيه في الرّوح والحياة، فيقع فيما لا يعنيه، يَعْنِي الخَوْض فيماَ ليْس من شأن الفقهاء. وفي "التهذيب": أنَّه إذا قال: حياتُكِ طالقٌ يقع إن أراد الرُّوح، فيشترط الوقوع إرادة الروح إشعاراً، بأنه لو أراد المَعْنَى القائِمَ بالحَيِّ، لا يقع الطلاق، كما في سائر المعاني، وبهذا أجاب أبو الفَرَج الزازَ في الحياة، وحكى في الرُّوح خلافاً مبنياً على أن الرُّوح جسم أو عرض، ويُشبه أن يقال: الظَّاهر في الحياة أنَّه لا يقع، وفي الروح أنَّه يقع والله أعلم. قال الإِمام: ولو أضَافَ الطَّلاق إلى الأخْلاَط المنسلكة في البَدَن؛ كالبلغم والمرتين، فهُوَ كَمَا لو أضاف إلى الفَضَلات دُون ما أضَاف إلى الدَّم. ثم اختلف الأصحاب في أنَّه إذا أضاف الطَّلاق إلى جُزْء شائعٍ أو إلى عُضْو معيَّن، فحكَمْنا بوقوع الطَّلاق كيف نقدره وننزله، فمنهم من قال: يقع الطلاقُ على المُضَاف إلَيْه أولاً ثم يَسْرِي إلى باقي البَدَن، كما أنَّ العتْق يسري من بعْض العبْد إلى بعْض، ومنهم من قال: يُجْعَل الجزء أو العضو المعين عبارة عن الكُلِّ, لأنَّه لا يُفْرض حُصُول الطَّلاق في المضاف إليه وحده، حتى يُقَدَّر سراية إلى الباقي بخلاف العِتْق؛ فإنَّه قد يثبت في الجزء المشاع، ويقتصر عليه؛ ولأنَّه لو قال وأنْتِ طالقٌ نصْفَ طلقة يقع طلقة، ويُجْعَل النصف عبارةً عن الكُلِّ، ولا يمكن أن يقال: يقع النصْف، ثم يَسْري حُكْمُه، فكذلك هاهنا، وتَظهَر فائدةُ الخِلاَف في صور. منها: لو قال: إن دخلْتِ الدار، فيمينك طالق، فقطعت يمينها ثم دخَلت الدار، إن قلْنا: يقع الطلاقُ على المضاف إليه، ثم يَسْري، لم يقع هاهنا؛ لأن المُضَاف إلَيْه لم يبق، وإن قلنا إنَّه عبارةٌ عن الكُلْ، ولو قال: لمن لا يمين لها، يمينُكِ طالقٌ، فطريقان:
أحدهما: التخريجُ على هذا الخِلاَف. وأشبههما، وبه قال القاضي الحُسَيْن، والإمام القَطْع بأنَّه لا يقع؛ لأنَّه وإن جعل البَعْض عبارة، عن الكُلِّ، فلا بدّ من وجُود البَعْضَ المضاف إليه؛ لتنتظم الإِضافة فإذا لم يَكُن لغت الإِضافة، كما لو قَال لامرأته: ذَكَرُك أو لِحْيَتُكِ طالقٌ. قال الإِمام: هذا يجِبُ أن يكون متفقاً عليْه. ومنها: ذكر في "التتمة": أن القَوْل بعدم وقوع الطلاق فيما إذا قَال: حُسْنُك أو بَيَاضُك طالقٌ، مبني على أن الطلاق يقَعُ على المضاف إليه أولاً ثم يَسْري، لأنَّه لا يمكن وقُوع الطَّلاق على الصفات، أما إذا جَعَلْنا البعْضَ عبارةً عن الجملة، فكذلك نَجْعل الصفة عبارةً عن الموصوف (¬1). ومنها: لو قال لأمته: يدك أم ولدي أو قال للطفل الذي التقطه: يدك ابني، قال أبو سعد المتولِّي: إن جعلْنا البَعْض عبارةً عن الكُلِّ، كان ذلك إقراراً بالنسب أو الاستيلاد (¬2)، وإن قلْنا بالسراية، فلا. ويجْري الخلاف المَذْكور فيما إذا أضاف العِتْق إلى يد عبْده أو رأسه، ولو أضافه إلى جُزْء من عبْده شائع، قال الإِمام: المَذْهَبُ تقديرُ السراية؛ لأنَّ العتْق يمكن نزولُه في بعْض العبد على الإِشاعة، ووقوعه عليْه بخلاف الطَّلاق، ومنهم من جَعَله على الخلاف، وقال: نُزُول العتْق في بَعْض ملْك الشَّخْص غير متصور (¬3) أَيضاً، وإنَّما يُفْرَض ¬
ذلك عنْد تعدُّد المالك، ويشبه [على] (¬1) أن يكون الأظْهَرُ من التنزيلين المذكورين حيث جَرَى الخلاف طريقُ السراية؛ لوجوه: أحدها: البنَاءُ الَّذي ذكرَه صاحب "التتمة" فيما إذا قال: حُسْنُك وبياضُك طالقٌ؛ فإنَّه قد مَرَّ أن الظاهر أنَّه لا يقع الطَّلاق، والمناسب له ترجيحُ مَعْنَى السراية. والثاني: أنَّهم ذكروا أنَّه لو أشار إلى عضو مُبان منها، ووَصَفه بالطلاق، لا يقع الطلاق؛ لعَدَم الاتصال، وأنه لو فُصِلَتْ أذنها ثم ألصقت، والدم جارٌّ أو نُتفت شعرة، فانغرزت في موضع آخر، ونمت، وأضاف الطلاق إليها، ففي وقوعه وجهان: أشبههما، وهو المذكور في "التتمة" أنَّه لا يقع (¬2). ولو كان وُقُوع الطَّلاق بطريق التعبير بالبَعْض عن الكُلِّ، لَمَا اختلف الحال بعيْن المُبَان والمُتَّصِل. والثالث: أن الوقوع لوْ كان بطريق التعبير بالبعض، لم تَخْلُ دلالةُ البعْض على الكُلِّ، إما أن تكُونَ صريحاً، أو كنايةً والأول بعيدٌ، وبتقدير أن يكون كذلك، وجَب أن يصح النِّكاح والبيع وسائر التصرفات، إذا أضيفتْ إلى بعض الأعضاء، وإن كَان كنايةً، وجبَ أن يُشْتَرط لوقوع الطلاق (¬3) النيةُ، واشتراطُ النِّيةِ فيما إذا قال: نصْفُكِ طالقٌ، أو يدك طالقٌ بعيد عما ساقه الأصْحاب، وقياسُ مَنْ قال بهذا التنزيل أن يصحُّ البيع ونحوه بإضافة الطَّلاق إلى الجملة التي الجزءُ المعيَّنُ بَعْضٌ منها، وكأنَّه يريد أن الجُزْء المعين لا يوصف بالطلاق، إلا إذا اتصفت الجملة به، ¬
بشرط اتصاف الجزء بالطَّلاق اتصافَ الجُمْلة به، فوَصْفُ الجزء يتضمن وصْفَه الجملة، لكن فيه إشكالان: أحدهما: أنَّ فيه مصيراً إلى أنه إذا اتَّصفَتِ الجملة بالطالقية، يتَّصفُ كلُّ جزء منْها بالطالقية، ويتجه أن يمنع ذلك، ويقال: جملة المرأة هِيَ الموصوفة بأنَّها منْكوحةٌ أو مطلَّقة، وكلُّ جزء منْها لا يوصف بأنَّه منكوحٌ أو مطلَّقٌ. والثاني: أن دلالته على وصْف الجملة بالطلاق على سَبيل التَّضمنُّ إما أن يقدَّر صريحاً أو كناية، ويلزم على التقديرين ما قدَّمناه، ويجوز أن يعلم؛ لمَا بيَّنا قولُه في الكتاب "لم يَنْقُذْ" في مسألة الفضلات، بالواو، وكذا قوله: "وكذلك الجنين"، وقوله "لم يَنْفُذْ" في اللون والحسن في الصفات. وقوله: "كالأجزاء" وقوله "على الصحيح" في الصورة الأخيرة، يجوزُ أن يريد على الصَّحيح من الطريقين، وهو المذكور في "الوسيط" ويجوز أن يريد من الوجهَيْن؛ جواباً على طريقة إثباتِ الخِلاف والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: أَنَا مِنْكِ طَالِقٌ وَنَوَى وَقَعَ (ح)، وَلاَ يُشْتَرَطُ نِيَّةُ إِضَافَةِ الطَّلاَقِ إِلَيْهَا عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْن بَلْ يَكْفِي نِيَّةُ أَصْلِ الطَّلاَقِ، وَلَوْ قَالَ: أَسْتَبْرِئُ رَحِمِي مِنْكِ فَلَيْسَ بِكِنَايَةٍ، وَقَوْلُ السَّيِّدِ لِعَبْدِه: أَنَا مِنْكِ حُرٌّ لَيْسَ بِكِنَايَةٍ علَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ. قال الرَّافِعِيُّ: إذا قال لامرأته: أنا مِنْكِ طالقٌ، ونوى إيقاع الطَّلاَق عَليْها، وقَع الطَّلاق، خلافاً لأبي حنيفة وأحمد -رحمهم الله- ووجَّه المذْهَب بعْضُهم بأن النِّكاح يقوم بالزوجين جميعاً، ومن به قوام النِّكَاح يصحُّ منه إضافَةُ الطَّلاق إلَيْه من مالكه، كالزوجة، وهؤلاء ربَّما أطلقوا القَوْل بأن الزوج محَلُّ النكاح، كالزوجة، وأنَّه معقود عليه في حقِّها كما أنه معقودٌ عَلْيها في حقه وهذا غير مرضى عند الأكثرين؛ لأنَّه لو كان كذلك، لَمَا احْتَاج إلَى إضافة الطلاق إليه، كإضافة الطَّلاق إليها, ولأنَّها لا تستحقُّ مِنْ بَدَن زوجها ومنافعه شيئاً، وإنَّما المستحِقُّ الزوج، ووجَّه الإِمام المَذْهَب بطريقين: أحدهما: أن على الزَّوْج حَجْراً من جهتها، من حيث إنَّه لا ينكح أختها ولا أربعاً سواها، وأنَّه يلزمه صومها، فإذا أضاف الطلاق إلى نَفْسه، أمْكَن حمْل ذلك على خلل السَّبب المقتضِي لهَذا الحَجْر. والثاني: أنَّ المرأة مقيَّدة، والزوج كالقَيْد عليه، والحَلُّ يضاف إلى القيد، كما
يضاف إلى المقيد، فيقال: حلَّ فلانٌ المقيَّد، وحل القيْد عنه، وإن لم ينوِ إيقاع الطلاق عليها، فوجهان: أحدهما: ويُحْكى عن أبي إسحاق واختيار القاضي الحُسَيْن أنَّه يقَع الطلاق، لأنَّه قدْ وُجِدَ لفْظ الطلاق، وقصده، والطلاق نقيضُ العقْد وحل له، فيَلْقِي، ولا يحتاج إلى التعرُّض للمحلِّ. وأظهرها: وبه قال مُعْظَم الأصحاب: أنَّه لا بُدَّ من إضافته إليها؛ لأن محَلَّ الطلاق المرأة، دون الرجُل، واللفظ مضافٌ إليه، فلا بُدَّ من نية صارفة تجعل الإِضافة إليه إضافةً إليها؛ من حيْث إن بينهما سبباً منتظماً يصحُّ الكناية بأحدهما عن الآخر، وإذا قلْنا به، فمَهْما نوى إيقاع الطَّلاق عليها، كان ناوياً أصْل الطَّلاق، وإن قلْنا بالوجه الأول، فالَّذي يُشْعِر به ظاهر النَّصِّ في "المختصر"، وصرح به الإِمام وغيره: أنَّه لا بُدَّ من نية أصْل الطلاق؛ لأن اللفظ كنايةٌ من حيْث إنَّه مضافٌ إلى غيْر محلِّه، ولو جرد القصد إلى تطليق نَفْسه، ولم يقتصر على قصْد أصْل الطَّلاق، فقَد قال الإِمام: الوجْه عندنا: أنَّه لا يقع الطَّلاق، وإن لم يعتبر قصْد الإضافة إليها؛ لأنَّه خصَّصه بغير محلِّ الطَّلاق، فيمتنع الصَّرْف إلَيْه، ومنْهم منْ حَكَم بوقَوعه، ولو قال: أنا منْك بائنٌ، فلا بدَّ من نيَّة أصْل الطلاق، وفي نية الإِضافة إليها الوجْهان، وإذا نواها، وقَع، كما في قوله: أنا منْكِ طالقٌ، وساعدنا أبو حنيفة -رحمه الله- في لفْظ البينونة؛ وعلى هذا قِيَاسُ سائر الكنايات؛ بأن يقول: أنا منْكَ بَرِيءٌ أو خليٌّ، ولو قال: أَسْتبرئُ رَحِمِي منْكِ، ونوى تطليقها، ففيه وجْهان: أحدهما: يقع، والمعنى أستبرئ الرحِمَ الَّتي كانَتْ لي. والثاني: المنع؛ لأن اللفظ غير منتظِمٍ في نفسه، والكناية شرطُها أن تحتمل معنيين فصاعداً، وهي في بعْض المعانِي أظْهَر، وهذا أصحُّ عند الإِمام وصاحب "التتمة" وهو المذكور في الكتاب ورجَّح صاحب "التهذيب" الأول. ويجري الخلاف فيما إذا قال: أنا معتدٌّ منْك أو مستبرئٌ رحمي، ولم يقُلْ "منك" وساعد المتولِّي صاحب "التهذيب" هاهنا على ترجيح الوقُوع. ولو قال السيِّد لعبْده: أنا منْكَ حُرٌّ أو أعتقت نفسي منك ونوى عتْق العبد، فوجهان: عن ابن أبي هريرة: أنَّه يعتق، والمعنى أنا حرٌّ من تعهُّدك والإنفاق عليْكَ والتزام مؤناتك، وأصحُّهما: المنْع، وفرَّقوا بينه وبيْن الطلاق بأنَّ الزوجية: تَشْمَل الجانبين، وكلُّ واحد منهما زوج الآخر؛ فيجوز الكناية بأحدهما عن الآخر، والرِّقُّ لا يشملهما على هَذَا النسق، بل أحدهما مالِكٌ والآخر مملوك، فلا يجوز الكناية بأحدهما عن الآخر.
ولو قال لزوجته: طَلِّقِي نَفْسَكِ، فقالت: طلقتك وأنتَ طالقٌ، فهو كما لو قال الزوج لها: أنا منْكِ طالقٌ، وكذا إذا قال لعبده: أعْتِق نَفْسك، فقال: أعتقتك أو أنتَ حُرٌّ، فهو كقول السيِّد له: أنا منْكَ حُرٌّ والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الخَامِسُ): الوِلاَيَةُ عَلَى المَحَلِّ فَإذَا قَالَ لأَجْنَبِيَّةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ لَم يَقَعُ وَلَمْ يَنْقُصِ العَدَدُ، وَلَوْ قَالَ للِرَّجْعِيَّةِ وَقَعَ، وَلَوْ قَالَ لِلْمُخْتَلِعَةِ لَمْ يَقَعْ، وَلَوْ قَالَ لأَجْنَبِيَّةٍ: إنْ نَكَحْتُكِ فَأنْتِ طَالِقٌ لَمْ يَقَعْ (ح) إِذَا نَكَحَهَا، وَلَوْ قَالَ العَبْدُ لِزَوْجَتِهِ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثاً ثُمَّ عتِقَ فَدَخَلَتِ الدَّارَ وَقَعَ الثَّلاَثُ عَلَى أَحَد الوَجْهَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكِ الثَّالِثَةَ عِنْدَ التَّعْلِيقِ لَكِنْ مَلَكَ النِّكَاحَ المُبِيحَ لَهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لأمَتِهِ: إِذَا وَلَدْتِّ فَوَلَدُكِ حُرٌّ لأَنَّهُ مَلَكَ الأَصْلَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الولايةُ عَلى المَحَلِّ شَرْطٌ لوقوع الطلاق، فلو قال لأجنبية: أنْتِ طالِقٌ لم يَقَع الطَّلاق رُوِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا طلاق إلاَّ بَعْدَ نِكَاحٍ وَلاَ عِتْقَ إلاَّ بَعْدَ مِلْكٍ". ولو قَال للرجعيَّة: أنْتِ طالقٌ، وقَع، لبقاء الوَلاية والملك فيها، والمختلعة لا يلحقها الطَّلاق، سواءٌ طلَّقها في العدَّة أو بعدها، وسواء خاطَبَها بالصريح أو الكناية، وسواءٌ خاطَبَها خاصَّة أو عمَّم، فقال: نسائي طوالِقُ، وبهذا قال مالك وأحمد -رحمهما الله- وقال: أبو حنيفة -رحمه الله-: يقع ما دامت في العدة، إذا خاطبها بصريح الطَّلاق خاصَّة، ويُرْوَى عنه إلحَاقُ ثلاثة ألفاظ من الكنايات بالصريح، وهي قوله: "اعْتَدِّي، واسْتَبرِئِي رَحِمَكِ، وأنْتِ واحِدَةٌ". واحتج الأصحاب بالقياس على ما سلَّمة، وبأنها ليست مزوجة، فلا يلحقها الطلاق، كما لو انضتْ عدتها والدليل على أنَّها لَيْسَتْ بزوجة أنَّها لا تدْخُل في قوله: "زوجاتي طوالق"، ولأنَّه لا يصحُّ ظِهَارها, ولا تلاعُنها, ولا يلزمها بالموت عدة، ولا يثْبُت لها ميراثٌ. ولو علَّق طلاق أجنبية بنكاحها، فقال: إن نكحتك (¬1)، فأنْتِ طالقٌ أو عمَّم فقال: كلُّ امرأة نكحتها، فهي طالقٌ، لا يقع الطلاق، إذا نكَح، هذا هو المشهور في المَذْهَب. وفي "أمالي" أبي الفرج، وكتاب الحناطي وغيرهما: أن منْهم مَنْ أثبت في وُقُوعِ الطَّلاقِ قولَيْن؛ لأنَّهُ يُحْكَى عن "الاِملاء" أن الشافعيَّ -رحمه الله- حَكَى في المسأَلَة اختلافَ العُلَمَاء، ثُمَّ قال: وأَنَا متوقِّف فيها، ويقال: إنَّ الربيع قال له: فما ¬
تَقُول أنْت؟ فقال: أنا متوقِّفٌ فيها، والقاطعون حَمَلُوا ذلك على أنَّه كان متوقِّفاً، ثم ظَهَر له ما نصَّ عليه في كتبه واشتهر عنْه، وعنْد أبي حنيفة يصح تعليق الطَّلاق بالنكاح، عمَّم أو خصَّص، وعند مالك: إنْ عمَّم، لم يصحُّ، وإن خصَّص بامرأة معيَّنة أو نساء محصُوراتٍ، كنساء قرية أو قبيلة، صحَّ، واحتج الأصحاب بما رُوِيَ عن عبْد الرحمن ابن عوف -رضي الله عنه- قال: "دَعَتْنِي أُمِّي إِلَى قَرِيبٍ لَهَا فَرَاوَدَنِي في المَهْرِ، فقلْتُ: إنْ نَكَحْتُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلاَثاً، فسألْتُ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "انْكَحْهَا؛ فَإنَّهُ لاَ طَلاَقَ قَبْلَ النِّكَاح" (¬1) وبأنه يمين بالطلاق قبْل النكاح، فيلغو، كالتعليق الَمُطْلَق؛ وهو أن يقولَ للأجنبية: إن دخلْتِ الدار، فأنْتِ طَالِق، ثم نكحها، ثم تدخل الدَّار، فإنَّه لا يقع الطلاق بالاتفاق وتعليق العتق بالمِلْك كتعليق الطَّلاق بالنكاح بلا فَرْق، وساعدنا أحمد -رحمه الله- في الطَّلاَق، وعنه في العتق روايتان. قال الأصحاب: وليْس ما نحْن فيه كما إذا قال: إن شَفَى الله مريضي، فلله عليَّ تحريرُ رقبة، حيْث يلزمه النذر، وإن لم يَمْلِك رقَبة؛ لأنَّ ذلك التزامٌ في الذمَّة، حتى إذا مَلَك عبْداً لا يُعْتَق عليه، حتى يُنْشِئَ إعتاقاً، وهذا تصرف في مِلْك الغير، ولو عين عبد الغير، وقال: للهَ عَلَيَّ أن أعتق [هذا] (¬2) العبد، فهو لَغْو؛ لأنه تصرُّف في مِلْك الغير، ولا نَذْر فيما لا يملك ابن آدم، ولو قال الله عليَّ أن أعتق هذا العبد إن ملكته، ففيه وجهان؛ من حيث إنَّه التزام في الذمَّة، لكنه متعلق بِمِلْك الغَيْر؛ وأجرى الوجهان فيما إذا قال: إذا ملكْتُ عبْد فلان، فقد أوصيتُ به لفلان، وإذا أرسل الوصيَّة؛ وهو لا يملك شيئاً، صحَّت الوصيَّة؛ كالنذر، وحكى الشيخ أبو على وجهاً أنَّه لا يصحُّ (¬3). ولو علَّق العبْد الطَّلْقة الثالثة؛ إما مطلقاً بأن قال: "إنْ دخلْتِ الدَّارَ، فأنْتِ طالقٌ ¬
ثلاثاً، فعَتَقَ، ثم دخلَتِ الدَّار أو مقيداً بحالة ملك الثَّالثة بأن قال: إذا عَتَقْتِ، فأنتِ طالقٌ ثلاثاً، ففيه وجهان: أحدهما: أنَّه لا يصحُّ تعليق الثالثة؛ لأنه لا يملك تنجيزها، فلا يملك تعليقها، كالطلاق قبْل النكاح. وأظهرهما: وهو المذكور في "التهذيب" يصحُّ ويحكم بموجبه، وإن لم يَمْلك الثالثة لكنَّه مَلَك أصْلَ النكاح، ومِلْك النكاح مفيد لِمِلْك الطَّلقات الثلاث بشرط الحرية، وشبه ذلك: بأن (¬1) الزَّوْج في حال البدعة لا يَمْلِك إيقاع الطَّلاق السنِّي، ويملك تعليقه، ويَجْري هذا الخلاف فيما إذا قَالَ لأمته: إذا ولدت فولدك حرٌّ، ففي وجْه: لا يصحُّ هذا التعليق؛ لعدم الملك فيه، وفي وجْه: يصحُّ لأنَّه مَلَك الأصل، فجاز أن يُقَامَ مقام (¬2) الفرع، كما أن مستحِقَّ الدار يتصرَّف في المنافع ويلغي استحقاق الأصْل؛ للتصرف في الفَرْع، وهذا الخلاف على ما ذَكَره الإِمام وغيْره فيما إذا كانَت حائلاً عنْد التعليق ثم حَمَلَت، فإن كانت حاملاً حينئذٍ، فتحصل الحريَّة. وقوله في الكتاب "فإذا قال لأجنبية أنتِ طالقٌ لم يَقَعْ، ولم يَنْقُصِ العَدَد" إنما قال لم ينقص العدد بعد قوله: "لم يقع لأن عدم الوقُوع على الأجنبية، كالواضح الذي لا شبهة فيه، إذ رفع القيد؛ حيث لا قَيْد محال، وقد يُقَال: وقوع الطَّلاق حيث لا نكاحَ شيْءٌ [لا] يتوهم؛ فلا حاجة إلى ذكْره فبين بقوله: "ولم ينقص العدد" ما هو في معرض التوهُّم، وهو النفوذ في نقصان العَدَد، وإن لم يكن قيَّد، كما أن طلاق المختلعة يقع عند أبي حنيفة -رحمه الله- على معْنَى نقصان العدد، وإن كانت البينونة حاصلة. وقوله: "لم يقع إذا نكحها" يجوز أن يعلم بالواو مع الحاء لما تقدم. وكذا قوله: "لو قال لأمَتِه إذأولَدتِّ فوَلدُكِ حُرٌّ" يعني على أحد الوجهين. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ أَبَانَهَا فَدَخَلَتْ ثُمَّ نَكَحَهَا فَدَخَلَتْ لَمْ يَقَعْ (و) الطَّلاَقُ لانْحِلاَلِ اليَمِينِ بِالدُّخُولِ الأَوَّلِ، وَلَوْ لَمْ تَدْخُلْ حَتَّى نَكَحَهَا فَفِي وُقُوعِ الطَّلاَقِ قَوْلاً عَوْدِ الحِنْثِ، وَلَوِ اسْتَوْفَى الثَّلاَثَ بِالتَّنْجِيزِ لَمْ يَعُدِ الحِنْثُ (و) فِي نِكَاحِ بَعْدَهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تبيَّن في الفصْل السابق: أن التعْليق إنَّما يصحُّ إذا وَقَعَ في حال ¬
الولاية على المحلِّ، ومقصُود هذا الفَصْل أنَّه هل يُشْتَرَط دوام الولاية من وقْت التعليق إلى وقْت حُصُول الصفة (¬1) ومهما علَّق الطَّلاق بدُخُول الدَّار أو بصفة أخرى وأبانها إما بالطَّلاق قبْل الدخول، أو بالطَّلاق عَلَى عوض، أو بالطلقات الثلاث ووجدت الصفة في حال البينونة، ثم نكَحَها، فوُجِدَت ثانياً، لا يقع الطلاق؛ لأن اليمينَ تنْحَلُّ بذلك الدُّخُول، وكذا الحُكم لو ارتدَّ قبْل الدخول، ووُجِدَت الصفة، ثم أسْلَم، ونَكَحها [فوجدت الصفة ثانياً] وقال أبو سعيدٍ الإِصطخري: لا تنحلُّ اليمين، ويقع الطلاق بالدخول الثاني بعد النكاح؛ لأن قرينة الحَال تدُلُّ على أنَّه أراد الدخُول في النِّكَاح، فيصير كما لو قال: إن دخلْتِ الدار، وأنتِ زوجتي، فأنْتِ طالقٌ هكذا [أطلقوا] الحكاية عن الإِصطخري، والوجه ما نقله الحنَّاطي؛ وهو أن وقوع الطَّلاق عنْده يكُون على قَوْلَيْ عود الحنث، كما لم تُوجَد الصفة في حال البينونة، وظاهر المَذْهَب: أنه لا يقطع الطَّلاق على القولَيْن؛ لأن اليمين تتناول الدخلة الأُولَى، وقد حَصَلت، ولكن تعذَّر إيقاع الطلاق؛ لعَدَم الملك، فيحصل بها الانحلال، واليمينُ إذا تعلَّقت، لم يُعْتبر فيها المِلْك؛ ألا تَرى أنه لو قال: إن دخلْتُ الدارَ، فأنتِ طالقٌ، والدارُ في مِلْكه، فباعها ثم دَخَلها، وقع الطلاق، ولم يُجْعَل كما لو قال: إن دخَلْتِ هذه الدار، وهي في مِلْكِي، وبهذا الطريق يُدْفَع وقوع الطلقات الثلاث إذا علقها على فعْل، ولم يَجِدْ بداً منْه، ولم يَرد وقوع الطلاق، فيبينها ويأتي به، ثم يجدِّد النكاح، فلا يُؤَثِّر حصولُه من بعْد، ولنعلم؛ لمذهب الإِصطخري قولَه في الكتاب "لم يقع الطلاق" بالواو، وكذا بالميم والألف؛ لأن عندهما لا تنحَلُّ اليمين بما وُجِدَ في حال البينونة، وتعود الصِّفَة في النكاح إلا أن مالكاً إنَّما يقول بذلك إذا كانت الإِبانة بما دُون الثلاث، ويساعِدُنا فيما إذا أبانها بالثَّلاث، ووافقنا أبو حنيفة -رحمه الله- على انحلال اليَمِين بما وُجِدَ في حال البينونة وعدم وقوع الطلاق إلا أنَّ عنْده إذا كانت الإِبانة بالخُلْع فما دامَتْ في العدة يلْحَقُها الطلاق، لو وُجِدَت الصفة, لأن المختلعة يلحقها الطلاق لو وُجِدَت الصفة، لأن المختلعةَ عنْده يلحقها صريح الطلاق، وهذا إذا كان التَّعْليق بصيغة "إن" و"ما" لا يقتضي التِّكْرار، فأما إذا قال: كُلَّما دخَلْتِ الدار فأنتِ طالقٌ، وأبانها ودخلَتِ الدارَ، ثم نَكَحَها، ودخلَتْ فوقوع الطَّلاق عليها للدخول الثاني؛ على الخِلاَف في عود الحنث لا محالة، ولو لم تُوجَد الصفَة في حال البينونة وَوُجِدَتْ بعدما نكَحَها، فيُنْظَر؛ إن أبانها بما دون الثلاث، فنَصُّه في القديم أنَّه يقع الطلاق وتَعُود اليمين في النكاح الثاني، وجعله في الجديد على قولَيْن وإن أبانها بالثَّلاث، فنَصُّه في الجديد ¬
أنَّه لا يقع الطَّلاق، ولا تعودُ اليمين، وجعَلَه في القديم على قولين؛ فيحْصُل من ذلك في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: وبه قال أحمد: أنَّه يقَع الطلاق، وتعود اليمين سواء أبانها بثلاث أو بما دونها؛ لأنَّ التعليق والصِّفَة وُجِدَا جميعاً في المِلك، وتخلل البينونة لا يُؤَثِّر لأنه ليس وقت الإِيقاع ولا وقت الوقوع. والثاني: وبه قال: أبو حنيفة ومالك -رحمهم الله-: أنَّه إن أبانها بثلاث، لم تعد اليمين؛ لأنَّه استوفى ما علق من الطلاق، وهذه طلقات جديدةٌ وإن أبانها بما دون الثلاث، عَادَت ووقع الطَّلاقُ لأنَّه العائد البَاقِيَ، من الطَّلاق فتعود بصفتها، وكانت معلَّقة (¬1) بذلك الفِعْل المعلَّق عليه فتَعُود كذلك، وتدخُل في البينونة بما دون الثلاث، الخُلْع، والطَّلاق قبل الدُّخُول والرِّدَّة. والثالِثُ: أنَّها لا تَعُود، ولا يقع الطَّلاق بحال، وبه قال المزنيُّ؛ لأنَّه تخلَّل بين التعليق والصِّفَة حالة (¬2) يمتنع وقوع الطلاق فيها (¬3) فرفع حكم اليمين، ولأنَّه تعليقٌ سبَق هذا النِّكَاح، فلا يُؤثِّر فيه بالطَّلاق، كما لو علَّق طلاقها قَبْل أن ينكحها. واحتج المزنيُّ بأن قوله "إن دخلْتِ الدار، فأنْتِ طالقٌ" إما أن يكون النكاح الثاني مراداً به أو يكون المرادُ هو النكاحَ الأَوَّلَ، ولا يجُوز أن يكون الثاني مراداً؟ لأنَّه يكون تعليقَ طلاقِ قبْل النكاح؛ فيتعين الأول، وذلك النكاح قد ارتفع، وما الأظهر من هذه الأقوال؟ رجح الشيخ أبو حامد وطائفة الأوَّلَ منها، وإلَيْه ذهَب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي. وقال آخرون: المذهَبُ القوْل الثاني الفارق، واختاره الإِمام وابن الصَّبَّاغ وغيرهما، والثالث الذي اختاره المزنيُّ، ويشبه أن يكون هذا أقوى توجيهاً. وإن قلْنا به، فلو كانت الصفة المعلَّق عليها مما لا يمكن إيقاعه في حالة البينونة، كما إذا قَالَ: إن وطئتُكِ، فأنْتِ طالقٌ ثلاثاً، فيتخلص إذا أبانها ثم نكَحَها، ولا يقَع الطلاق بالوطء في النكاح الثاني، وبه أجاب القاضي الرُّويانيُّ، أنَّه إذا قال لامرأته إذا بِنْتِ منى، ونكحْتُكِ ودخلت الدار فأنْتِ طالقٌ [أو قال إن دخلت الدار بعدما بنت منى ونكحتك فأنت طالق] فالَّذي صحَّحه المعتبرون من الأصحاب منهم القفَّال: أنه لا يقع الطلاق، إذا دخلَتِ الدار بعْد البينونة والنكاح، ولا يخرج على ¬
القولَيْن، وغلَّطوا من قال وبتخريجه على ذلك الخِلاَف وعلى هذا القياس فلو قال: إن دخلْتِ الدار قبْل أن أبينك، فأنْتِ طالقٌ وإن دخلْتِها بعْدما أبنتُكِ، ونكحتُكِ، فأنتِ طالقٌ، يبطل التعليق الثاني، ويصحُّ الأول، ولو كان الطلاق يقع في النكاح الثاني عند الإطلاق، لَمَا امتنع التصريحُ بما هو مُقْتضَى الإِطلاق، ولو عَلَّق طلاقها بصفة ثم طَلَّقها طَلْقةً رجعية، وراجَعَها ثُمَّ وُجِدَت الصفة، فلا خلاف في وقوع الطَّلاَق؛ لأنَّه ليس نكاحاً مجدّداً، ولم تحْدُث حالةٌ تمْنَع من الوقوع، ولو علَّق عتْق عبْده بصفة ثم أزال المِلْك عنه ببيع (¬1) غيره، ثم ملكه ثانياً، ثم وُجِدَت الصفة، ففي حُصُولِ العِتْق الخلاف في عَوْد اليمين، ثُمَّ من الأصحاب من قال إنه كالإِبانة بالثَّلاث, لأن العائد مِلْك جديد من كل وجه لا تعلُّق له بالأول؛ كالنكاح المجدّد بعد الطلقات الثلاث؛ فعلى هذا لا يُعْتَق في الجديد، وفي القديم قولان؛ منْهم من قال: هو كالإبانة بما دُون الثَّلاث، وهو المذكور في "التهذيب"؛ لأنه لم يتخلَّل بين التعليق، والصفة حالةٌ يمتنع فيها مِلْكه، كما لم تتخلَّل هناك حالةٌ يمتنع فيها ملْك النكاح، وإنما تكون كالإبانة بالثَّلاث إذا علَّق الذميُّ عتق عبده الذمي بصفةٍ ثم أعتقه، فنقض العَهْد، والتحَقَ بدَار الحَرْبْ ثمَّ سُبيَ واسترق، فمَلَكَه سيِّده الأول؛ لأنه تخلَّلت حالة يمتنع فيها المِلْك، وهي حالة الحرمة، وإذا قلْنا: إنَّه كالإِبانة بما دون الثلاث، فيعتق على القديم، وفي الجديد قولان: وقوله في الكتاب "ولو لم تدْخُل حتَّى نَكَحه" يعْني أبانها بما دون الثلاث، يُبَيِّنه قوله من بعد "ولو استوفى الثلاث بالتنجيز" وقولُه: "قَوْلاَ عَوْدِ الحنث في وقوع الطلاق في النكاح". [الثاني] (¬2): يعبر عنه بالخلاف في عود الحنث، وبالخلاف في عود اليمين؛ لأن على قول لا يتناول اليمين النِّكَاحَ الثاني، ولا يحْصُل الحنث فيه وعلى قول يتناوله ويحصل الحنث فيه ويَجْري الخلاف في الإِيلاء والظِّهار، إذا وُجِدَا في نكاح هل يثبت حُكْمُهما في نكاح جديد؟. وقولُه: "لم يعد الحنث في نكاح بعده" معلم بالواو والألف، ولم نَذْكُرِ اختلاف القولين هاهنا؛ لظهُور القول بمنع العَوْد. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَمَنْ طَلَّقَ طَلْقَةً أَوْ طَلْقَتَيْنِ فَبَانَتْ وَوَطِئَهَا زَوْجٌ آخَرُ ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الأَوَّلِ عَادَتْ بِبَقِيَّةِ الطَّلاَقِ وَلَمْ يَنْهَدِمِ (ح) الطَّلاَقُ المَاضِي، وَإِنَّمَا يَنْهَدِمُ إِذَا نَكَحَتْ بَعْدَ الثَّلاَثِ زَوْجاً آخَرَ، وَالحُرُّ يَمْلِكُ ثَلاَثَ تَطلِيقَاتٍ عَلَى الحُرَّةِ وَالأَمَةِ (ح)، وَالعَبْدُ يَمْلِكُ ¬
ثِنْتَيْنِ عَلَى الحُرَّةِ وَالأَمَةِ (ح)، فَلَوْ طَلَّقَ الذِّمِّيِّ طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ الْتَحَقَ بِدَارِ الحَرْبِ وَاسْتُرِقَّ كَانَ (ح و) لَهُ نِكَاحُ المُطَلَّقَةِ، وَلَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً ثُمَّ طَرَأَ الرِّقُّ لَمْ يَمْلِكْ إِلاَّ طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَلَوْ طَلَّقَ فِي الرِّقِّ طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ عُتِقَ لَمْ يَحِلَّ (و) لَهُ نِكَاحُهَا، وَإِنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً ثُمَّ عُتِقَ مَلَكَ طَلْقَتَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفصْل يصرِّح بقاعدتين ويتضمَّن قاعدةً ثالثةً؛ إحدى الأولَيَيْنِ لا شَكَّ أنَّه إذا راجع المطلَّقة الرجعيَّة تعود إليه بما بقي من الطَّلاق وكذا التي فارقها بطلقة أو طلقتين، وبانت منْه قَبْل أن يَنْكح زوجاً آخر أو بعده، وقَبْل الإِصابة، فلو نَكَحها زوج آخر، ووطئها، ثم جدَّد الأول نكاحَها؛ فلذلك تعود إليه بما بقي من الطلاق، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: تعود الطلقات الثَّلاث، وَيهْدِم الزوج الثاني ما وقع من الطَّلقات. واحتج الأصْحَاب بما رُوِيَ عَن عُمَرَ -رضي الله عنه- أنَّه سئل عمن طَلَّق امرأته طلقَتَيْنِ لم وانقضَتْ عدَّتها فتزوجت غيْره، وفارَقَها، ثُمَّ تزوجها الأول، فقال هِيَ عنده على ما بقي له من الطلاق (¬1)، وبأن الطلقة والطلقتين لا يُؤثِّران في التحريم المُحْوج إلَى زوْج آخر، فالنكاح الثاني، والدُّخول فيه لا يهدمانها، كوطء السيدِ الأمةَ المطلَّقة، وأما إذا طلَّقها ثلاثاً فنَكحت زوجاً آخر، ودخل بها، ثُمَّ فارقها ونكَحَها الأول، فتعود إليه بثلاث طَلقَات؛ لأنَّ دخُول الزَّوْج الثاني أفاد حِلَّ النكاح، ولا يمكن بناءه على العَقْد الأول، فيَثْبُت نكَاح يستفتح بأحكامه. والثانية: الحرُّ يملك ثلاثَ طلقات على الزَّوْجة الحرة والأَمة، والعبْدُ لا يملك إِلاَّ طلقتين على الحُرَّة والأمة. وعنْد أبي حنيفة الاعتبارُ بالزَّوْجة فيملك العبْد على الحُرَّة ثلاثاً، ولا يملك الحر على الأَمة إلاَّ طلقتين. لنا ما رُوِي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الطَّلاَقُ بِالرِّجَالَ، والعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ" (¬2) أي العبرة وفي الطَّلاق بالرجال. ¬
ورُوِيَ مرفوعاً وموقوفاً على ابن عمر -رضي الله عنه- "أن العبد يُطَلق تطليقتين" (¬1) وروى نفيعاً وكان عبداً سَأَل عثمان، وزيداً -رضي الله عنهما- وقال: "طَلَّقْتُ امْرَأَةٌ لِي حُرَّةً طَلْقَتَيْنِ، فقَالاَ: حَرُمَتْ عَلَيْكَ" (¬2). والمدبر والمكاتب ومَنْ بعْضُه رقيقٌ كالقنِّ. الثالثة: كلُّ واحدٍ من الحُرِّ والعَبْد إذا أوقع ما يملك من الطَّلاق بتمامه، حرمت المطلقة عَليْه حتَّى تنكح زوجاً آخر، ويصيبها، وهذا أصل وقد مَرَّ شرحُه في قسْم الموانع من "كتاب النكاح". إذا عَرَفْتَ هذه القواعد، فلَوْ طلَّق الذميُّ امرأته طلْقَةً ثُمَّ نقض العهْد، فسُبِيَ واسترق، ونكَح بإذن سيِّده تلْك المرأة المطلَّقة مَلَك عليها طلقةً واحدة؛ لأنَّه طلَّقها قبْل ذلك طلْقةً، ولم يستوفِ ما يملكه العبْد من الطلاق، فيملك الآن وهُو رقيقٌ ما بَقِيَ من عَدَد العبيد، ولو كان قدْ طلَّقها طلقتَيْن، ثم طرأ الرِّقُّ بأن نقَض العَهْدُ، فسُبِي واسترق، وأراد نِكَاحَ تلْك المرأة: قال ابن الحَدَّاد: له ذلك؛ لأنَّها لمْ تَحْرُم عليه بالطلقتين يومئذٍ فعروض الرِّق لا يَرفَعُ الحِلَّ الثابت، وحكى الشيخ أبو عليٍّ وجهاً: أنَّه ليْس له نكاحُها، لأنَّه الآن رقيقٌ، وقد طلَّق من قبْلُ طلقتين، ولا يحلُّ للرقيق من طلقها طلقتين، والظاهر: الأول، وإذا نكحها، كانت عنْده بطلقة. ولو طلَّق العبد امرأته طلْقةً، ثم عَتَق، فراجَعَها أو جدَّد نكاحَها بعْدما بانَتْ منْه كانَتْ عنْده بطَلْقَتيْن؛ لأنَّه عتَقَ قبْل استيفاء عَدَد المماليك، ولو كَان قَدْ طلَّقها ¬
اثنتين، ثم عَتَق لم يكُنْ له نكاحُها؛ لأنَّه حرٌّ في الحال، والظَّاهر الأوَّل، لأنَّها حَرُمَت عليه بالطلقتين في الرِّق، فلا ترتفع الحرة بعتق يَحْدُث بعْده، كما قلْنا: إن الذميِّ الحرَّ إذا طلَّق طلقتين، ثم استرق (¬1)؛ لأنه يرتفع الحِلُّ بِعِتق يحْدُث بعده، وقد سبقت هذه الصورة، ونظائرها في "نكاح المشركات" وقولُه في الكتاب "فلو طَلَّق الذميُّ طلقتين، ثم التَحَقَ بدَار الحرب" وقدْ وقع في لفظ ابن الحَدَّاد، وتصويره مثْل ذلك. قال الشيخ أبو عليٍّ: الالتحاق بدار الحَرْب ليْس شرطاً، بل إذا فَعَل ما ينقض به العَهْد، يجوز استرقاقه، سواء لحق بدار الحَرْب أو لم يَلْحَق، وليعلم بالحاء قوله: "ببقية الطلاق" وقوله: "والأمة" وقوله: بعد ذلك "على الحرة" بالواو. وقوله: "كانَ له نِكَاحُ المطلَّقة" وقوله: "لم يحِلّ له نكاحها". فرْعٌ: لابن الحدَّاد: طلَّق العبْد زوجتَه طلقتين، وأعتقه سيِّده، فإن سَبَق الطَّلاق العِتْق، حرمت عليه إلاَّ بمحلِّل، وإن سَبَق العتقُ الطلاَق، فله الرجعة بشرطها, وله تجْديدُ النِّكاح إذا بَانَتْ. فإن أشْكَل السابقُ، واعترف الزوجان بالإِشكال، قال ابن الحدَّاد، وساعده أكثرهم: ليْس له رجْعَتُها, ولا أن يَنكِحَها إلاَّ بعْد زوج آخر؛ لأنَّ الرِّقَّ ووقوع الطلقتين معلومان، والأصل بقاء الرّق حين أوقعهما، "النهاية" وجْه آخر: أن لَهُ الرجْعة والنكاحَ من غيْر زوج آخر؛ لأنَّ الأصْل وألاّ تحريم. ولو اختلف في السابِق، نُظِر؛ إن اتفقا على وقْت الطَّلاق، كيوم الجمعة مثلاً، وقال الزوج عتقت يوم الخميس وقالت: لا بَلْ يوم السبت، فالقَوْل قولها؛ لأنَّ الأصل دوامُ الرِّقِّ يوم الخميس، وإن اتفقا على وَقْت العتق، كيوم الجمعة، وقال الزوج: طُلِّقَتْ يوم السبت، وقالَتْ: بل يوم الخميس، فالقولُ قوله؛ لأنَّ الأصْل دوامُ النكاح يوم الخميس؛ لأنَّه الموقِّع للطلاق، فهُو أعرف بوقت الطلاق وإن لم يتَّفقا على وقْت أحدهما، وقال الزَّوج: طلقتك، بعْدما عَتَقْتُ، وقالت: بَلْ قبله، واقتصر عليْه، فالقَوْل قوْلُ الزوج أيضاً، لما ذكرنا أَنَّه أعْرف بوقت الطلاق. فَرْعٌ: قد سَبَق في مسائل التحليل: أنَّه لو قالت المطلقة: نَكَحَنِي زوجٌ آخر، وأصابني وفارقني، وانقضتْ عِدَّتي، ولم يغْلِب عَلَى ظنِّه صدْقُها أن الأولى ألاَّ يَنْكِحَها، وهل يجب عليه البحث عن الحال عن أبي إسحاق أنَّه يُسْتَحَبُّ البحث. ¬
وقال القاضي الرُّوياني: أنا أقول: يجِبُ البحث في هذا الزمان، وقد رأيتُ امرأةً ادَّعَت ذلك؛ لتَرْجِع إلى الزَّوْج الأول، وكان الزَّوْج الثاني يَحْلِف بالأيمان المغلَّظة على أنَّه ما أصابها، وتَبَيَّنَ كَذِبُها وصِدْقُه. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالقَوْلُ الصَّحِيحُ الجَدِيدُ أَنَّ طَلاَقَ المَرِيضِ قَاطِعٌ (ح) لِلمِيرَاثِ كَطَلاَقِ الصَّحِيحِ فلاَ مَعْنَى لِتَطْوِيلِ التَّفْريعِ عَلَى القَوْلِ الضَعِيفِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: طَلاَقُ المَرِيض في الوقوع كطلاق الصَّحِيحِ، ثُمَّ إن كان رجْعياً فيبقى التوارث بيْن الزوجين ما لم تُنْقَضِ العدَّة، حتى إذا مات أحدُهما، ورِثَه الآخر، وإذا انقضَتْ عدَّتُها، ثم مات أحدهما، لَمْ يرثه صاحبُه، وأما إذا طَلَّقَها في مرض موته طلاقاً بائناً ففي كونه قاطعاً للميراث قولان: القديمُ، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد -رحمهم الله-: أنَّه لا يكون قاطعاً؟ لأن قصْد الفرار من الميراث ظاهرٌ في هذا الطلاق، فيَحْسُن أن يُعَاقَب بنقيض قصْده، وكما لو قَتَل مورِّثه؛ استعجالاً لقْرب يَحْرم الميراث، وطَلَّق عبد الرَّحْمَن بن عوف -رضي الله عنه- امرأته الكلبية في مَرَض موته، فورثها عثمان -رضي الله عنه-. وأصحُّهما: وهو الجديد واختيارُ (¬1) المزنيّ: أنَّه يقطع إرثها؛ لأن الميراث بالزَّوْجيَّة، وقد انقطعت الزوجيَّة، ولأنه لا يَرِثُ منها لو ماتَتْ قبْله بالاتفاق، كذلك لا تَرِثُ هي منْه، فإن قلنا بالجديد، انقطع الكلام، ولا تفريع، واقتصر في الكتاب على ما ذَكَره، وأعرض عن التفريع على القديم، وقال: لا معنى لتطويل التفريع على القَوْل الضعيف، ولو سلَكْنا هذا المسلك في مسائل القَوْلين والوجهين، لانحطَّت عنَّا مُؤَنٌ كثيرة وفاتتْنا لطائف كبيرة فتفرع على القديم كما [هو] دأْب الفِقْه. ونقول إذا قلنا: إنَّها ترِث فإلى متى ترث؟ فيه أقوال: أحدها: وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-: أنَّها ترثُ إلى انقضَاء عدَّتِها، فإن ماتَ بَعْدَ انقضائها, لم ترثه؛ لأنَّه لم يبق شيْءٌ من أحكام النِّكاح، عنْد الموت. والثاني: ترث إلى أن تنكح زوجاً آخر، فإن مات بعْده، لم ترِثْ، كأنها رضيت بفرقته، وأسقَطَتْ عُلْقَتَها، عنه. والثالث: وبه قال مالك -رحمه الله-: ترثُ متَى مات، وإن كان بعْد ما ¬
نكَحَتْ زوجاً آخر؛ لأن حقها ثَبَت في ماله، فلا يسقط نكاحُها، كالمهر، والنفقة. وعن أحمد -رحمه الله- روايتان كالقولين الأَوَّلَيْن، ولو جَرَى ذلك قبْل الدخول، فعَلَى القَوْل الأول: لا تَرِث؛ لأنَّه لا عِدَّة، ويجري فيه القولان الآخران. وإن أبان في مَرَضه أربَعَ نسوة، ونكح مكانهن أربعاً، ثم مات فلمن يكون الميراث؟! فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وبه قال مالك -رحمه الله-: للمطلَّقات؛ لتقدم حَقِّهن. والثاني: للجديدات؛ لأنَّ لهنَّ حقيقةَ النكاح، بخلاف المطلَّقات. وأظهرها: أنَّه للصنفين جميعاً. قال الإِمام -قدَّس الله روحه-: ومنشأ التردُّد ما في توريث الزيادة على العَدَد الشرعي من الاستبعاد، أما لو أبان امرأةً، ونكح أخرى، فلا وجْه إلاَّ توريثهما, ولو أبان واحدة ونكح أربعاً أو بالعكس جَرَى الخلاف، وإنما ترث المبتوتة على القول القديم إذا طلقها لا بسؤالها، أمَّا إذا طلَّقها بسؤالها أو اختلاعها أو قال: أنتِ طالقٌ إن شئْتِ، فقالت: شِئْتُ، فلا ترثه، ولا يكون الزَّوْج فاراً، وبه قال أبو حنيفة. وقال ابن أبي هريرة: إنها ترث وإن طلقها بسؤالها لأنَّ الطَّلاق، في قصة عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- كان بسؤالها، وبه قال مالك: وكذلك أحمد في إحدى الروايتين [ولو سألت الطَّلاق، ولم يجبْها في الحال، ثم طلَّقَها، فهو فارٌّ] وكذا لو سألت طلاقاً رجعياً، فطلقها ثلاثاً، كان فاراً، ولو علَّق طلاقها بصفة نُظِرَ؛ إن علَّق بمضي مدة أو بفعل نفْسِه أو بفعل أجنبيُّ، كان فارّاً، وفي التعليق بفِعْل الأجنبي وجْه أنه لا يكون فارًّا، وإن علَّق بفعلٍ من أفعالها نِظَر؛ إن لم يكُنْ لها منْه بُدٌّ، كالنوم، والقيام، والقعود والطهارة، والأكل، والشرب، والصوم، والصلاة المفروضين، فهو (¬1) فارٌّ، وإن كان لَهَا منه بُدٌّ، فهو فارٌّ، وإذا لم تعْلَم بالتعليق وإلا فلا، فهُو كالتعليق بفِعْل الأجنبي، وبكون فارًّا. ولو علِمَتْ ثم نَسِيَت، ففيه احتمالان للإِمام -رحمه الله-، قال: والأشبه أنَّه فارٌّ. وإن علَّق طلاقها في الصحة بصفة لا تُوجَدُ إلاَّ في المَرَض، كما إذا قال: إذا مَرِضْت مرض المَوْت، أو وقعت في النزع، فأنْتِ طالقٌ، فهُو طلاقُ فارٍّ، فإن احتمل ¬
أن توجَد الصِّفة في الصِّحة والمرض، كما إذا قال: إذا جاء الغد أو قَدِمَ فلان، فأنْتِ طالقٌ، ثم جاء أو قَدِم، وهو مريض، فَفِيه قولان: أصحُّهما: أنَّه ليس فارّ، وإذا فسخ النِّكَاح لغيبها في المرض، لم يُجْعَل فاراً لأن ما فيها من النَّقْص هو الذي دَعَاه إلَيْه. ولو لاعن عنْها، وكان القَذْف في حال الصِّحَّة، لم يكن فارًّا، وإن كان القذف في المَرَض أيضاً، فوجهان: أصحهما: أنَّه لا يكون فارًّا؛ لما يتعلق به من فرض نَفْي النَّسَب، وإسْقَاط الحد. والثاني: قال أبو حنيفة واختاره القاضي ابن كج. ولو طلق العبد امرأته، والحرُّ امرأته الأمة أو المسلم زوجته الذميَّة في المَرَض، ثم عَتَق العبد أو الأمة، أو أسلمت الذمية في العِدَّة، ثم مات الزوج، فلا إرث؛ لأنَّها لم تكُنْ وارثةً يَوْم الطَّلاق، فلا تهمة، وكذا لو أبانها في مرضه بعْدما ارتدَّ أو ارتدَّت، ثم جمَعَهُما الإِسْلام في العدَّة؛ لأنها لم تكُنْ وارثةً يومئذ، ولو ارتدَّت بعْد ما أبانها في المَرَضْ ثم عادَتْ إلى الإِسلام، فهو فارٌّ؛ لقيام التهمة. ولو قال لزوجته الأمة: أنتِ طالقٌ غدًا فعَتَقَتْ قبْل الغد أو طلَّقها، وهُو لا يَعْلَم أنَّها عَتَقَتْ، فليس بفَارٍّ وكذا لو ارتدَّ في المرض قبل الدخول أو بعده، وأصر إلى انقضاء العدَّة، ثم عاد إلى الإِسْلام، ومات لم يكن فارًّا لأنَّه لا يقْصِد بتبديل الدِّين حرمان الزوجة عن الميراث، وفيه وجْه ضعيف، وقَدْ قيل بطَرْده فيما إذا ارتدت المرأة حتَّى تجعل فارَّة يرِثها الزوج. ولو أبان المُسْلِمَة في المَرَض، فارتدَّتْ، وعادت إلى الإِسْلام في العدة، وَرِثَت؛ لأنَّها بصفة الوارثين يَوْم الطَّلاق، ويوْم المَوْت، وكذا لو عادَتْ بعْد انقضاء العدَّة، إن قلْنا: إن المبتوتة تَرِثُ بعد انقضاء العدَّة. ولو طلَّق زوجته الأمة في المَرَض، وعتقت، واختلفا، فقالَت المرأة: طَلَّقَنِي بعْد العِتْق فلي الميراث، وقال الوارث: بل قبْله، فلا ميراث لك، فالقول قوْلُ الوارث مع يمينه؛ لأن الأصْل استمرار الرِّقِّ. ولو أرضعتْ زوجها الصغير في مرض مَوْتها، فقَدْ قيل: تُجْعَل فارَّة عَن الميراث، ويرثها الزوج، وظاهر المذهب خلافُه، وشبّه هذا الخلاف بالخلاف فيما إذا أعتق العَبْد، وتحته أمة لا خيار لَهُ على الظاهر، وإن كان يثبت لهَا الخيار إذا أعتقتْ تحْت عبد.
ولو أقرّ في المرض بأنَّه أبانها في الصحَّة، فلا يُجْعَل فارًّا، ويُصَدَّقُ فيما يقوله، وتحسب العدة من يومئذٍ، وفيه وجْه للتهمة، والأظْهر الأول، قال القاضي أبو الطيِّب -رحمه الله-: لأن المريض إذا أقرَّ بما فَعَلَه في صحَّته، كان كما لو فَعَلَه في الصحَّة؛ ألا ترى أنَّه لو أقر في مرضه أنَّه وهَبَ في الصحَّة أو قبض، كان من رأس المال، وقد يجيء الخلاف في هذه الصورة، كما حكَيْنا الخلاف فيما إذا أقَرَّ في مرض المَوْت أنه وهب من وارثه في الصحَّة إذ فرَّعنا على أنَّه لا يقبل إقراره للوارث. فرْعٌ: طلَّق إحدى امرأتيه، ثم مَرِضَ مرَضَ المَوْت، فقال: عنيت هذه، قُبل قوله ولم ترث وإن كان قد أبْهم، فعيَّن في المرض واحدة، قال إسماعيل البوشنجي -رحمه الله-: يُخرَّج على أن التعيِين إيقاعُ الطلاق في المعيَّنة، أو بيان لمحل الطلاق الواقع، إن قلْنا بالثاني، لم تَرِث، وإن قلْنا الأول، فعلى قولَيْ توريث المبتوتة (¬1) والله أعلمٌ. تم الجزء الثامن، ويليه الجزء التاسع وأوله: "في تعديد الطلاق" ¬
العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير تأليف الإِمام أبي القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الرافعي القزويني الشَّافعي المتوفي 623 هـ تحقيق وتعليق الشيخ علي محمد معوض ... الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الجزء التاسع يحتوي على الكتب التالية: تتمة الطلاق- الرجعة- الإيلاء- الظهار- الكفارات- اللعان- العدة- الرضاع دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
جميع الحقوق محفوظة جميع حقوق الملكية الادبية والفنية محفوظة لدار الكتب العلمية بيروت - لبنان ويحظر طبع أو تصوير أو ترجمة أو إعادة تنضيد الكتاب كاملاً أو مجزأً أو تسجيله على أشرطة كاسيت أو إدخاله على الكمبيوتر أو برمجته على اسطوانات ضوئية إلا بموافقة الناشر خطياً. الطبعة الأولى 1417 هـ - 1997 م دار الكتب العلمية بيروت - لبنان العنوان: رمل الظريف، شارع البحتري، بناية ملكارت تلفون وفاكس: 264398 - 266135 - 602133 (9611) صندوق بريد: 9424 - 11 بيروت - لبنان
الباب الثالث في تعديد الطلاق
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ البَابُ الثَّالِثُ فِي تَعْدِيدِ الطَّلاَقِ، وَفِيهِ فُصُولٌ قَالَ الغَزَالِيُّ: (الأَوَّلُ فِي نِيَّةِ العَدَدِ): فَإذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ طَلَّقْتُكِ وَنَوَى عَدَداً نَفَذَ (ح) مَا نَوَاهُ، وإنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَنَوَى الثَّلاَثَ لَمْ يَقَعِ العَدَدُ عَلَى أَصَحِّ الأَوْجُهِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ وَاحدَةٌ وَنَوَى تَوْحُّدَهَا بِالبَيْنُونَةِ الكُبْرَى وَقَعَ الثَّلاَثُ عَلَى الأَصَحِّ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثاً وَلَكِنْ وَقَعَ قَولُهُ: ثَلاَثاً بَعْدَ مَوْتِهَا وَقَعَ الثَّلاَثُ فِي وَجْهٍ، لأَنَّ الثَّلاَثَ كَالتَّفْسِيرِ، وَوَقَعَتْ وَاحِدَةٌ في وَجْهٍ، وَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ في وَجْهٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: العَدَد من الطَّلاق تارةً يقع، لنيَّة العَدَد في اللفظ الَّذي استعمله المطلِّق، وأخرى باللفظ المُشْعِر بالعدد، وإشعاره قدْ يَكُون لتكرير لفْظ الطلاق، وقد يكونُ لدلالته علَى العَدَد بالوضع، وقد يَكُون من جِهَة اصْطلاَح الحسَاب. أمَّا ما يدُلُّ على العَدَد بالوضْع كقوله: أنت طالِقٌ ثنتَين أو ثلاثاً، فأمْره بين فلا نطول النَّظَر فيه. بقيتْ ثلاثة فُصُول؛ وهي نية العَدَد، وتكريرُ لفْظ الطلاق، والطلاق بالحساب وهي فُصُول الباب. أما الأوَّل: فإذا قال لامرأته: أنْتِ طالقٌ أو طلَّقتك، ونوى طلقتين أو ثلاثاً، يقَع ما نوى، وكذلك الحُكْم في الكنايات. وقال أبو حنيفة وأحمد -رحمهما الله-: لا يَقَع بقوله: أنْتِ طالقٌ إلا واحدة، وإن نَوَى العَدَد، وسلَّم أبو حنيفة أنَّه لو قال: أنتِ طالقٌ للسنة أو أنتِ الطَّلاقُ أو طَلِّقِي نفْسَك، ونوى الثلاث أنَّه يقع الثلاث، وأنَّه يَجُوز إرادة الثلاث بالكنايات، ولا يجُوز إرادة الثنتين. واحتج الأصْحَاب بقياس ما لم يُسَلِّمه على ما سلَّمة، وبما رُوِيَ أن ركانة بْن عبْد يزيد أتَى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي سُهَيْمَةَ ألْبَتَّة، ووالله، مَا أَرَدتُّ إِلاَّ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ رسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: واللهِ، ما أردتَّ إلا واحدةً؟ فقال: والله، ما أردتُّ إلا واحدةً؛ فردَّها عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" فدَلَّ على أنه لو أراد ما زاد على واحدة، لوقع،
وأيضاً فإن الفِعْل والاسْم المشتقين من المصْدَر يُشْعِران به، ويدُلاَّن عليه، والمصْدَر يَصْلُح للواحد والجنْس، فكأنا محتملين للعدد، وإذا جَاء الاحْتمَال وانضمت النِّيَّة إلَيْه، وجَب أن يقَع. ولو قال: أنتِ طالقٌ واحدةً بالنصب،، ونوى طلقتين أو ثلاثاً، ففيه وجوه: أحدها: أنه لا يقع إلاَّ واحدة؛ لأنَّ الملفوظ مناقضٌ للمنويِّ، والنية بمجرَّدها وسع اللفْظ الذي لا يحتمل لا تعمل، وهذا أصحُّ عنْد صاحب الكتاب. والثاني: يقع ما نواه، ومعْنَى قوله: "واحدة" أنَّك تتوحدين منى بالعدد الَّذي أوقعته، ويُحْتمل أيضاً أن يُحْمل على طلْقة ملفقة من طلقتين أو ثلاثة، وحينئذٍ فيَقَع ذلك العدد، وهذا أصحُّ عند صاحب "التهذيب" وغيره. والثالث: ويُحْكَى عن اختيار القفَّال: أنَّه [إن] بسط نيَّة الثلاث على جميع اللَّفْظ، لم يقع الثلاث، وإن نوى الثلاث بقوله: أنتِ طالقٌ وقع الثلاث، ولُغِيَ ذكْر الواحدة بعْده، وُيبْنَى هذا الفرْق على الصحيح فيما إذا قال: أنتِ طالقٌ، ولم يكن في عزْمه أن يقول: إنْ شاء الله، ثم لمَّا فرغ من اللفظ، بَدَا لَهُ أن يستثني، [فاستثنى] (¬1) يقع الطلاق، ولا نُعْمل الاستثناء، فإن جعلْناه عاملاً رافعاً (¬2) للطَّلاق، ولم ينوِ، فُرِّق بين الحالتين. ولو قال: أردتُّ طلقة واحدةً ملفقة من أجزاء، ثلاث طلقات، وقع ثلاث طلقات، وارتفع الخلاَف، وحَكَى الإِمام -رحمه الله- وجهاً أيضاً لبعد هذا المعْنَى عن الفهم، وقصور اللفْظ عن احتماله والدلالة عليه، ولو قال: أنتِ طالقٌ واحدةٌ بالرفع، فهذا إتباع الصفةِ الصفَةَ، وهو على ما ذَكَر في "النهاية" مبنيٌّ على ما إذا قال: أنتِ واحدةٌ بحذف الطلاق، ونوى الثلاث وفيه وجهان: أصحُّهما: وقوع ما نواه؛ حمْلاً للتوحيد على التوحيد، والتفرُّد عن الزوج بالعدد المنويِّ، ومعلوم أن المطلَّقة تارة تتوحد عن الزوْج بطلقة وأُخْرَى بأكْثَر منها. والثاني: المَنْع؛ لأن السَّابق إلى الفَهْم من قوله: أنْتِ واحدةٌ: أنَّك طالقٌ واحدة، كما لو قال: أنْتِ الطلاق أي طالقٌ الطلاقَ، ولفظ الواحدة ينافي الثلاث ورأى الإِمام تخصيص هذا الوجه بما إذا نَوَى الثلاث عن غير [أن] يخطر له حَمْل الواحدة على الاحتمال المذكور، فإن خَطَر، فينبغي أن يُقْطَع بالوقوع. وذكر في "التهذيب" أنه لو قال: أنتِ بائن باثنتين أو ثلاث، ونوى الطلاَقَ وقع الطلاق، ثم إنْ نوى طلقتين أو ثلاثاً، فذاك، وإن لم يَنْوِ شيئاً، وقَع الملفوظ؛ لأنَّ ما ¬
أتَى به صريحٌ في العَدَد، كنايةٌ في الطلاق، فإذا نَوَى أصْل الطلاق، وقَع العَدَد المصرَّح به، وإن نوى واحدة فوجْهان: أحدهما: يقع ما تلفظ به من اثنتين أو ثلاث؛ للتصريح بالعدد. والثاني: لا يقع إلاَّ واحدة؛ لأنه قد يُريد ثلاثَةً أثْلاَث طلقة، أو نصفي طلقة. و [لو] أراد أن يقول لامرأته: أنت طالقٌ ثلاثاً، فماتَتْ قبْل أن يتم قوله، "أنت طالقٌ" [لم] (¬1) يقع الطلاق وإن ماتَتْ بعْد تمامه، وقبْل أن يقولَ "ثلاثاً" ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: ويُحْكَى عن اختيار المزنيِّ: أنه يقع الثلاث؛ لأنَّه كان قَاصِدًا للثلاث حين قال: أنتِ طالقٌ، وهذه اللفظة مع قصد الثلاث تقتضي وقُوع الثَّلاث وأيضاً فإنَّ قوله: "ثَلاثاً" معطوفا على قوله: "أنت طالقٌ مبين له، وكذلك لو قال لغَيْر المدخول بها": أنت طالقٌ ثلاثاً، يقع الثلاث، ولا يقال تبين بقوله أنتِ طالقٌ ولا يقع الثلاثُ، وقوله: أنتِ طالقٌ، وُجِدَ في حالة الحياة. والثاني: يقَع طلقة واحدة [بقوله] (¬2) أنتِ طالقٌ؛ لوقوعه في حالة الحياة، ولا تقع الثلاث؛ لوقوع لفظ "الثلاث" بعد الموت، وخروجها عن محلِّية الطلاق، وهذا كما لو جُنَّ الرجُلُ بعْد قوله: "أنت طالقٌ" وقيْل قوله: "ثلاثاً" لا يقع الثلاث؛ لوقوع اللفظ بعْد خروجه عن أهلية الطلاق. والثالث: وجْه قال أبو حنيفة: لا يقَع شَيْءٌ؛ لأن الكلام الواحِدَ لا يُفْصَل بعضه عن بعض، وقَدْ طرأ الموْت قبْل تمامه، فيلغو، ورجَّح صاحب "التهذيب" -رحمه الله- الوجْهَ الأول. وقال إسماعيل البوشنجي: الذي تقتضيه الفَتْوى: أنْ يقال: إن نوى الثلاث بقوله: "أنت طالقٌ" وكان قصْده أن يحقق باللَّفْظ المنويَّ؛ وقع الثلاث، وإن لم يقْصِد، فلا تقع إلا واحدة، وهكذا قال أبي سعيد المتولِّي في التعبير عن الوجه الأول (¬3). ¬
وردَّتها وإسلاَمُها إذا لم تكن مدْخولاً بها قبْل أن يقول "ثلاثاً" كموتها وكذا أخذ آخذٌ على فيه، ومنَعَه من أن يقول "ثلاثاً". وعن أبي حنيفة، أنَّه يقع واحدة في الأخذ على الفَم، بخلاف ما قال في مَوْتها. ولو قال: أنتِ طالقٌ على عَزْم الاقتصار عليه، فماتَتْ، فقال: ثلاثاً. قال الإِمام: لا شَكَّ أن الثلاث لا تقع، وتقع الواحدة، ويجيء على الوجْه الَّذي يقول، فيما إذا بَدَا لَهُ أن يقولَ: "إن شاء الله" بعْد قوله: "أنَّه طالقٌ" أن الاستثناء يُعْمَل، ولا يقع الطلاق، أن يقال هاهنا: لا يقع شيْءٌ، وكما هو أحد الوجوه فيما إذا كان عَلَى عزم أن يقول "ثلاثاً" فماتت قبله، وقوله في الكتاب في المسألة الأخيرة "وقع الثلاث" وقوله: "ووَقَعت واحدة" يجوز إعلامهما بالحاء؛ لأن الحكاية عنْه كالوجه الثالث. وقوله: "لأن الثلاث كالتَّفسير". اختلفوا في قول القائل "أنتِ طالقٌ ثلاثاً" كيف سبيلُهُ قيل: إنَّه مفسَّر، وتفسيره وقوله "ثلاثاً" على التفسير. وقال الإِمام -رحمه الله-: هذا جَهْل بالعربية، وباب التفسير و"التمييز" مشهور بين النُّحَاة، وليس هذا منْه، وإنَّما الثلاث نعْتُ مصْدَرٍ محذوفٍ، والمعنى: أنتِ طالقٌ طلاقاً ثلاثاً، وهو كقول القائل: "ضربتُ زيداً شديداً" أي ضرباً شديداً. فُرُوع: لو قال: أتِ طالق ملء البيت أو البلد أو الدنيا أو السماء أو الأرض أو مثل الجبل العظيم أو أعظم من الجَبَل أو أكبر الطَّلاق أو أعظمه أو أشده أو أطْوَلَه أو أعْرَضَه أو طلقةً كبيرةً أو عظيمةً، لم يقع باللَّفْظ إلا طلقةٌ، وتكون تلك الطلقة رجعيَّةً. ولو قال: أنتِ طالقٌ كلَّ الطلاق أو أكْثَرَهُ، تقَع الثلاث، بخلاف قوله: "أكْبَرَ" ولو قال: أنتِ طالقٌ عَدد التُّراب. قيل: يقع واحدة؛ لأنَّ التُّراب شيْءٌ، وهذا ما ذكره الإِمام. وقال صاحب "التهذيب" عنْدي تقع الثلاث، كما لو قال: عَدَد زر التراب أو أنواعه، ولو قال: أنتِ طالقٌ وزْنَ درْهم أو درهمين أو ثلاثة أو أحد عشر درْهماً ولم ينوِ العَدَد، لا يقَع إلاَّ طلقة، ويلغو وصف الطلاق بالوزن.
وعن أبي حنيفة، أنَّه إذا قال: نويت ثلاثة دراهمَ، يلزمه درْهمان؛ لأنَّه ليس للثلاثة سنحة في الغالب، إنما تُوزَنُ بسنحتين، وكذا لو قال: نويْتُ أحد عشر، ولو قال: يا مائة طالق أو أنت مائة طالق، نقل صاحب "التهذيب" و"التتمة" أنه يقع ثلاث طلقات؛ لأنه في العُرْف، كقوله: أَنْتِ طالقٌ مائةً، وذكروا فيما لو قال: أنتِ كمائَةِ طالِقٍ وجْهَيْن (¬1)؛ في أنه تقع طلقة واحدة أو ثلاث، ولو قال: أنتِ طالقٌ طلقةً واحدةً ألْفَ مرَّة، ولم ينْوِ العدد، لا تقَع إلا طلقة؛ لأن ذكْر الواحدة يقَع؛ لخوف العدد ذكره في "التتمة". ولو قال: "أنتِ طالقٌ إنْ لَمْ أو أنت طالقٌ إن" قال إسماعيل البوشنجي: يُنْظَرُ؛ إن قصَد به الاستثناء أو التعليق غيْر أنَّه لم يُتِمَّه، فلا أرى [أن] يقع طلاقه، وُيصَدَّق لو فسّر به للقرينة الشاهدة بصِدْقِه، وإن لم يقْصِد الاستثناء، ولا التعليق، يقع الطلاق؛ لأنَّه إن أتمَّ الاستثناء لم يعمل عمله ما لم تكن نيته مقرونة بأوَّل الكلام، فما ظنك بالكلام الأبتر قال: ويقْرُب من هذه المسألة فيما إذا قال: أنتِ طالقٌ واحدةً [فأطبق] على فيه قبْل أن يقول: "ثلاث". قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّانِي فِي التَّكْرَارِ): فإِذَا قَالَ: أنْتِ طَالِقٌ أنْتِ طَالِقٌ: أنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى التَّأْكِيدَ لَمْ يَقَع إِلاَّ وَاحِدَة، وَإِنْ نَوَى الثَّلاَثَ وَقَعَ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَيُحْمَلُ عَلَى التَّأكِيدِ أَوِ التَّكْرِيرِ فِيْهِ قَوْلاَنِ، وَإِنْ قَصَدَ بِالثَّالِثَةِ تَأْكِيدَ الثَانِيَةِ وَبِالثَّانِيةِ الإِيقَاعَ وَقَعَتْ ثنْتَانِ، وَإِنْ قَصَدَ بِالثَّالِثَةِ تَأْكِيْدَ الأُوْلَى لَمْ يَجُز لِتَخَلُّل الفَاصِلِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ وَقَصَدَ بِالثَّانِي تَأْكِيدَ الأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ لِتَخَلُّلِ الوَاوِ، وَلَوْ قَصَدَ بِالثَّالِثَةِ تَأْكِيدَ الثَّانِيَةِ جَازَ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ فَطَالِقٌ لَمْ يَصِحَّ التَّأْكِيدُ أَصْلاً للتَّغَايُر، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ بَل طَالِقٌ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً فَطَلَقَةً نَصَّ عَلَى وُقُوعِ اثْنَتَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ لَمْ يَلْزِمْهُ إِلاَّ دِرهَمٌ وَاحِدٌ؛ لأَنَّ التِّكْرَارَ يَلِيقُ بالأَخْبَارِ دُونَ الإِنْشَاءِ، وَقِيلَ: قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أنْتِ طَالِقٌ طَلقَةً بَلْ طَلْقَتَينِ وَقَعَ الثَّلاَثُ، وَلَوْ قَالَ: دِرْهَمٌ بَلْ دِرْهَمَانِ لَمْ يَلْزَمْ إلا دِرْهَمَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي المَدْخُولِ بِهَا، فَأمَّا غَيْرُ المَدْخُولِ بِهَا فَتَبِينُ بِالأُولَى، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلقَةً مَعَ طَلقَةٍ أَوْ مَعَهَا طَلقَةٌ أَوْ تَحْتَ طَلْقَةٍ أَوْ فَوْقَ طَلقَةٍ وَقَعَتْ ثِنْتَانِ بَعْدَ الدْخُولِ، وَكَذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى ¬
أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَلَوْ قَالَ قَبْلَ الدُّخُولِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَقَعَتِ اثْنَتَانِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً قَبْلَ طَلْقَةٍ أَوْ قَبْلَهَا طَلقَةٌ وَقَعَتِ اثْنَتَانِ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَقَبْلَ الدُّخُولِ تَقَعُ وَاحِدَةٌ عَلَى وَجْهٍ، وَلاَ يَقَعُ شَيْءٌ عَلَى وَجْهٍ لاسْتِحَالَةِ طَلاَقِ مَوْصُوفٍ بالقَبْليَّةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذا الفَصْل يشْتَمِل على صُوَرٍ من تَكْرار الطَّلاق. منها: ما لا يَخْتَلِف حكْمُه بين أن تكُون المرأة: مَدْخولاً بها أو لَمْ تكن. ومنها: ما يختَلِف فنذكرها، ونبين حكمهَا, ولا بأْس لو تغير نظْم الكتَاب في بعْضِها. الصورةُ الأولَى: إذا قَالَ للمدخول بهَا: أنتِ طالقٌ، أنت طالقٌ، نُظِرَ؛ إن وقَع بينهما فصْل بأن ذكَرَهما في مجلسين، أو في مجْلِس واحد، وسكَت بينهما سكتة، فوْق سكتة التنفس ونحوه، وقعَتْ طلقتان، فلو قال أردتُّ التأكيد، وكرَّرت قولي الأوَّل، لم يُقْبل في الحُكْم، وُيدَيَّن فيما بينه بين الله تعالى، وفرَّقُوا بينه وبيْن ما إذا أقَرَّ في مجْلِس بألف ثم في مجْلس آخر بألْف، وقال: أردتُّ إعادة الأول، وليْس عليَّ إلا ألفٌ واحدٌ، حيْث يُقْبَل؛ لأن الإِقرار إخبَارٌ والمُخْبَر عنْه لا يتعدَّد بتعدُّد الخبر، والطلاقُ إيقاعٌ وإنشاء، فإذا تعدَّدت كلمة الإيقاع تعدَّد الواقع، وإن لم يقَعْ بينهما فصْلٌ نُظِرَ، إن قصَد التأكيد، قُبل، ولم يقع إلاَّ طلقةٌ واحدة؛ لأن التأكيد في الكَلاَم معْهُود في جميع اللُّغَات، والتَّكْرار أعلى درجَاتِ التأكيد، والدرجات على ما ذَكَر أهل العربية ثلاثٌ؛ تكرير اللفْظ وكثيراً، ما وقع ذلك في كلام النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-. قال الإِمام -رحمه الله- ويبغي به شيئان: أحدهما: الاحتياط بإِيصَال الكَلاَم، إلى فَهْم السامع، إن فرض ذُهُول وغفلة. والثاني: إيضاحُ القصْد إلى الكلام، والإِشعار بأن لسانه لم يَسْبِق إليه. والدرجة الثانية التأكيد بلَفظ آخر، كقول القائل زيد نفْسُه. والثالثة: التأكيد بألفاظٍ متغايرة، كقوله: رأيتُ القَوْل أجمعين أكْتَعينَ، وإذا كان التأكيد معهوداً، والتكرير أقوى درجاته، صحَّ التفسير؛ وإن قَصَد الاستئناف، وقعَتْ طلقتان، وإن أطْلَق ولم يقْصِد هذا ولا ذاك فقولان: أصحُّهما: وبه قال أبو حنيفة: ومالك -رحمهما الله-: أنَّه يُحْمَل على الاستئناف، فتَقَع طلقتان؛ لأنَّ كل واحدٍ من اللفظين مُوقِعٌ لطلقة لو انفرد، وإذا اجتمعا، اجتمع حكْمُهما. والثاني: قاله -رضي الله عنه- في "الإِملاء" أنه لا يقع إلاَّ واحدة؛ لأن التَّأكيد مُحْتمل، فيُؤْخَذ باليقين.
ولو قال: أنت طالقٌ طالقٌ، فعن القاضي الحُسَيْن القطْع بأنه لا يقَع عنْد الإِطلاق إلاَّ طلقةٌ؛ بخلاف قوْلِهِ: أنتِ طالقٌ أنتِ طالقٌ، وادَّعى أن مراده "كلمة أنت" يُشْعِر بالاستئناف؛ فلذلك حَكَمْنَا بوقوع طلْقتين في قوْلٍ، والجمهور على أنَّه لا فَرْق بيْن اللفظين، ولو كرَّر اللفظة ثلاثاً، وأراد بالأخريين تأكيد المرة الأولى، لم تَقَع إلاَّ واحدة (¬1)، وإن أراد الاسْتِئْنَاف فتقع ثلاثُ طلقات، وإن أطلق، فعلى القَوْلَين؛ الأصح وقوع الثلاث. ولو قال قصدتُّ بالثانية الاستئنافَ، وبالثالثة تأكيد الثانية، وقعَتْ طلقتان، وكذا لو قَصَد بالثانية التأكيدَ، وبالثالثة الاستئناف، وإن قَصَد بالثالثة تأْكِيدَ الأولى، فوجهان: أصحُّهما: أنَّه لا يُقْبَل، وتقع الثلاث؛ لتخَلُّل الفاصل، وهذا هو المذْكُور في الكتاب. والثاني: يُقْبل ولا تقع إلاَّ طلقتان، والفاضل اليسير لا يقْدَح، وإن قصد بالثَّانية الاسئتناف، ولم يقصد بالثَّالثة شيئاً، أو بالثالثة الاستئْنَاف، ولم يقْصِد بالثانية شيئاً، جَرَى القولان في الطَّلقة المطلقة. وفي "المجرَّد" للحناطي: أن قوله: أنْتِ مطلَّقة، أنتِ مسرَّحة، أنت مفارقَةٌ، كقوله: أنتِ طالقٌ أنت طالقٌ أنت طالقٌ، وحَكى فيه وجهاً آخر أن كُلَّ لفظةٍ طلقةٌ مستأنفة. ولو قال: أنتِ طالقٌ وطالقٌ، وطالقٌ، وقال قصدتُّ بالثاني تأكيد الأول، لم يُقْبَل في الظاهر لاخْتِصَاصِ الثاني بالواو المقتضية للعَطْف، ومُوجِب العَطْف التغاير، وأيضاً فعادة التأكيد بالتكرار رعاية المساواة بين اللفظين، ويجوز أن يقصد بالثالث تأكيد الثَّاني؛ لتساويهما، ويجوزُ أن يقْصِد به الاستئناف، وإن أطْلق، فعَلَى القولَيْن السابقين. ولو قال: قصدتُّ بالثالث تأكيد الأول، لم يُقْبَل، كما لا يُقْبَل تأكيد الأول بالثاني، "بل" أولَى لتخلل الفاصل. ولو قال: أنتِ طالقٌ، وأنتِ طالقٌ، فهو كقوله: أنتِ طالقٌ وطالقٌ؛ لزيادة الواو، وكذا لو قال: أنتِ طالقٌ بل طالقٌ أو قال: أنتِ طالقٌ ثم طالقٌ، ولو قال: أنت طالقٌ فطالق فطالقٌ أو قال: أنتِ طالقٌ ثم طالقٌ ثم طالقٌ أو قال: أنتِ طالقٌ بل طالقٌ بل طالقٌ فالحُكْم كما لو قال: أنتِ طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ، لا يجوز أن يكون الثاني تأكيداً للأول، ويجُوز أن يكُونَ الثالث تأكيداً الثاني؛ لتساوي اللَّفْظين، ولو قال: أنت طالقٌ وطالقٌ ¬
فطالقٌ، أو طالقٌ ثم طالقٌ [بل طالق]، [أو أنت طالق فطالق ثم طالق] فلا مَجَال للتأكيد؛ لاختلاف الألْفَاظ. ولو قال قبل الدخول: أنتِ طالقٌ طالقٌ طالق أو أنت طالق وطالق وطالق أو أنت طالقٌ أنت طالق أنت طالق أو قال: أنتِ طالقٌ بل طالقٌ وطالقٌ، لا يقع إلا طلْقةٌ واحدةٌ؛ لأنَّها تبين بالطلقة الواحدة، فلا يلْحَقُها ما بعدها، وعن صاحب "الإفصاح" حكايته وجه وابن أبي هريرة رواية قول قديم؛ أنه كما لو قَال ذلك للمدْخُول بهَا؛ لأن الكلام الواحد لا يفصل بعضه عن بعض؛ فأشبه ما إذا قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً، لكن قوله ثلاثاً منعْطَف على الأول وبيانٌ له بخلاف هذه الألْفَاظ، وعنْد أحمد: إِذا أدخل الواو، فقال: أنتِ طالقٌ، وطالقٌ وطالقٌ، وقَع الثلاث، وإن لم يُدْخِل الواو لم يقع إلا واحدة، ولو قال للمدخول بها: إنْ دخلْتِ الدَّارَ، فأنتِ طالقٌ، وطالقٌ، وطالقٌ، أو قال أنتِ طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ إن دخلتِ الدار، وقَعَتْ ثلاثُ طلقات عنْد الدخول، وفي غير المدخول بها إنْ قَدَّمِ الشرط، فقال: إن دخلْتِ الدار فأنْتِ طالقٌ، وطالقٌ، وطالقٌ، فوجهان: أحدهما: وبه قال: أبو حنيفة: لا تقع إلا واحدةٌ، كما لو قال في التنجيز: أنتِ طالقٌ وطالقٌ، وطالقٌ، لا تقع إلا واحدةٌ، وأقرَّ بهما أنَّه تقع الثلاث؛ لأنَّها (¬1) جميعاً متعلقة بالدخول، واقعة عنْده بلا تقدُّم ولا تأخُّر وفي "التتمة" أنَّه يمْكِن بناء الوجهين على خلافٍ ذُكِر، في أن الواو للجَمْع أو الترتيب، وإن قدَّم الجزاء فقال: أنتِ طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ، إنْ دخلْتِ الدارَ، فطريقان: أحدهما: أنَّه على الوجهَيْن المذكورين. والثاني: وهو الَّذي أورده في "التهذيب" القطْع بوقوع الثلاث؛ لأنها (¬2) جميعاً تعلَّقت بالدخول، وفيما إذا تقدم الشرط، أمْكَنَ أن يقال: إن المعلَّق بالدُّخْول الطلْقة الأولى وحدها، والأخريان معطُوفان أو مترتَّبان علَيْها, ولو قال: إن دخلْتِ الدار، فأنتِ طالقٌ إن دخلت الدار فأنت طالق إن دخلت الدار فأنت طالقٌ، فإن قصَد التأكيد، لم يَقَعْ بالمدخول بها إلا طلقة، وإن قصَد الاستئناف، وقَع الثلاث، وإن أطْلَق، ففي "التتمة" أنَّه يُحْمَل على التأْكيد، إذا لم يَقَعْ فصْلٌ أو وقع، ولكن اتَّحَد المجْلس، وإن اختلف، فيُحْمَل على التأكيد، أو الاستئناف، وجهان، وإذا حمل على التأكيد فيقع عند الدخول طلقة أم يتعدد فيه وجهان (¬3)، بناءً على ما حنث بِفِعْل واحد في يمينين تلزمه كفارة ¬
واحدة وكفاراتان، ولم يفْصِل صاحب "التهذيب" هذا الفَصْل، ولكن قال: إذا أطلقَ، فقولان؛ بناءً على ما لَوْ حنث بفعْل واحد في أيمان تلزمه كفَّارة أو كفارات، ولو قال: إن دخلْتِ الدار، فأنْتِ طالقٌ طلقةً وإن دخلْتِ الدار فأنْت طالقٌ، طلقتين، قال ابن الحدَّاد والأصحاب: طُلِّقت بالدخول ثلاثاً، سواءٌ كانَتْ مدخولاً بها أَو لم تكن؛ لأن الكُلَّ يقع دفعةً واحدة. قال صاحب "التهذيب" وكذلك في الصور المتقدِّمة لا فرْق بيْن المدخول بها وغيرها؛ لأنَّ على تقدير التعدد، يقَع الكُلُّ في حال الدخُول، ولو قال: إن دخلْتِ الدار، فأنْتِ طالقٌ ثم طالقٌ، لم يقَع بالدخول في غيْر المدخول بها إلا طلقة؛ لأنَّ ثُمَّ للتراخي. قال المتولِّي: وكذا لو أخَّر الشرط، فقال: أنتِ طالقٌ ثم طالقٌ إنْ دخلْتِ الدَّارَ، وعنْد أبي حنيفة تقع في الحَال طلْقةٌ ولا يتصل باقي الكَلام به؛ لأنَّ "ثُمَّ" للتراخي. وقوله في الكتاب "فيحمل على التأكيد أو على التكرار" أراد بالتكرار التجديد، والاستئناف، وقد تَجِدُ في كلام الأصحاب التَّكرار بمعنى التأكيد، وهو تفاوُتٌ يرْجِع إلى الاستعمال والاصْطلاح، واعلم أن هذَيْن القولين في صُورة الإطْلاق مذكوران في كتاب "الإِقرار"، وكان الغَرَض من ذكْر المسألة هناك أن ترتيبه عليها ما إذا قال: عليَّ درْهمٌ ودرهمٌ ودرهمٌ، فأعادها هنا؛ لِحَقِّ الباب، "وإن قصَد بالثالثة تأكيد الأولى، لم يجُزْ" معلم بالواو؛ للوجه المذْكُور مِنْ قَبْل. وقوله: "وكذلك لو قَال: أنْتِ طالقٌ وطالقٌ بل طالِقٌ" يجوز أن يعلم بالواو أيضاً؛ لأنَّ أصْحابَنا العراقيِّين حَكَوا عن نصِّه في "الإِملاء" أنه لو قال: أنتِ طالقٌ، وطالقٌ لا بل طالقٌ وقال: شكَكْتُ في الطلقة: الثانية، فاستدركت بقولي لا بل طالق، لأحقق إيقاع الثانية قُبل ولم تقع إلاَّ طلقتان، وحكاه الإِمام عن رواية صاحب "التقريب"، ونقل أنَّه قال: جَعَل الأصْحاب المسألة على قولَيْن: أحدهما: هذا، وهو بعيدٌ والثاني: وهو القياس، وظاهر نصه في المختصر وقُوعُ الثلاث، كما لو تغايَرَتِ الألفاظ من وجْه آخر، ثمَّ حَكَى عنه طريقَيْن في صورة الكتاب، وهي أن يقول: أنتِ طالقٌ، وطالقٌ بل طالقٌ من غير كلمة لا أحدهما أنه على القولَيْن. والثاني: القطع بوقوع، الثلاث. قال الإِمام والمذْهَبُ وقُوعِ الثلاث، والذي يمكن توجيه النَّص المنقول به أن كلمة "بل" موضوعةٌ لاستدراك ما مَضَى، وذلك يقتضي المضادَّة والمخالفة، حتَّى يوجب النفي إن كان صدْرُ الكلام إثباتاً أو الإِثباتَ إنْ كان صدْرُ الكلام نفياً، والأمْر في قوله:
"أنْتِ طَالِقٌ بل طالق" ليس كذَلك، فلَّما لم تكُنْ على وضْعها وحقيقتها، ضُعِّفت، وصارت كالساقطة المطْرَحة، بخلاف سائر الألْفَاظ المتغايرة، فحَصَل في صورة الكتاب قول أو وجه أنَّه لا يقع إلاَّ طلقتَانِ، وأن الثالثة: تَصْلُح لتأكيد الثانية، وفي قوله بعْد هذه المسائل، "ولو قال قبْل الدُّخُول: أنْتِ طالقٌ، وطالقٌ وقَعَتْ واحدةٌ" معلم بالواو والألف؛ لِمَا حكَيْنا لما رَوَياه أبو عليّ بن أبي هريرة والطبري ومن مذهب أحمد -رحمه الله- إِلاَّ أنَّا صوَّرنا فيما إذا كرَّر اللفظ ثلاثاً وصوَّر في الكتاب فيما إذا كرَّر مرتين. الصورة الثانية: لوْ قال: أنتِ طالقٌ طلقةً فطلقةً؛ أو قال: أنْتِ طالقٌ فطالقٌ، فظاهر المَذْهَب أنَّه تقع طلقتان، وإن لم يُرد العَطْف وفي قوله علَيَّ درْهمٌ فدرهم الظَّاهر أنَّه لا يلزمه إلاَّ درْهَم واحدٌ، وفرقوا بأن التَّكْرار للتأكيد يَلِيق بالإِخبار، أما الإِنشاء فهُو بَعِيد عنْه؛ لإمكان تنزيله على الاستئناف، والصورتان بتمامهما مذكورتان في "باب الإِقرار"؛ لأنَّه ذكرهما في الكتَابِ هُنَاك، إِلاَّ أن التصوير ثَمَّ فيما إذا قال: أنتِ طالقٌ فطالقٌ، وهاهنا فيما إذا قال: أنتِ طالقٌ طلقةً فطلقةً، فالحكم فيهما واحدٌ، وهناك ذكْر التخريج من الطَّلاَق في الإقرار وسكت عن التخريج من الإِقرار في الطلاق، وهاهنا أشَار إلى الطَّرفَيْن فقال: وقيَل: قولان بالنقل والتخريج فيهما. ولو قال: أنت طالقٌ طلقةً بل طلقتَيْن، وقَع الثَّلاث. ولو قال: عليَّ درْهمٌ بل درهمان، لم يَلْزَمْه إلاَّ درهمان، وفرقوا بأن الاستدراك قريبٌ في الإخبار، بَعِيد عن الإِنشاء، وبأنَّ التعدُّد في الطَّلاق أسْرَع منْه في الإِقرار؛ ألا ترى أنَّه لو تَلفظ بكَلِمَة الطلاق، ثم أعادها في مجْلِس آخَر، أو في ذلك المجْلِس بعْد حصُول الفَصْل، يتعدد (¬1) الطَّلاق، ولو أعاد الإقرار لم يتعدَّد المُقَرُّ به وصورة الإِقرار مذكورة في الكتاب في باب [الإِقرار] أيضاً بيَّنَّا هُنَاك أن الأصْحَاب لم يتصرفوا في الصورتين بالتخريج كَمَا فَعَلُوا في سائر الصُّور. وقال: الإِمام -رحمه الله-تعالى في قوله: طَلْقَةً بَلْ طَلْقَتَيْنِ نَظَرٌ، فإنه قد يبغي بذلك ضمُّ طلقة إلى طلقة قد أوقعها، فيَكُون الأول مُعَاداً في الثاني، كما في صورة الإِقرار، وهذه الصُّور في المدخول بها، أمَّا غير المدخول بها فتبين بقوله: أنت طالقٌ طلقة، فلا يؤثر قوله بعْد ذلك "فطلقة" وكذا في سائر الصور. الثالثة: إذا قال لامرأته المدخول بها: أنتِ طالقٌ طلقة مع طلقة، أو طلقة معها طلقة، وقَعَت طلقتان، وكيف التقدير، أيقعان معاً أم على الترتيب؛ فيه وجهان: ¬
أَظهرهُما: يقعان معاً؛ لأن المعية تقتضي الضم والمقارنة فصار كما لو قال: أنت طالق طلقتين، وعلى هذا فوقت وقوعهما تمام الكلام. والثاني: يقعان على الترتيب، لترتيب اللفظين ويبنى على الوجْهَيْن فيما إذا قال ذلك لغير المدخول بها، فإنْ قلْنا بالأول، وقَعَ عليها طلقتان أيْضاً، وإن قُلْنا بالثاني، فلا يقع إلاَّ واحدة، كما لو قال أنت طالقٌ طلقةً: فطلقةً، ويُحْكَى، هذا عن المُزَنِيِّ في "المنثور". ولو قال: أنْتِ طالقٌ طلقةٌ تحت طلقة، أو تحتها طلقة، أو فوق طلقة، أو فوقها طلقة، فالَّذي ذكره الإِمام وصاحب الكتاب أن هذه الصِّلاَت تقْتَضي الجمع كالمعية، والجواب فيها كالجواب في "مع" وفي "التتمة" ما يقتضي الجزم بأنَّه لا يقع في غيْر المدخول بها إلاَّ طلقة؛ لأن وصْف الطَّلاق بالفوقية والتحتية مُحَال، فيلغو اللفظان، ويصير كما لو قال: أنتِ طالقٌ طالقٌ أو أنتِ طالقٌ طلقة طلقة، وفي المدخول بها وجْه آخر أنَّه لا يَقَع إلاَّ طلقة، كما لا يلزم به في الإِقْرار إلاَّ درْهَم، وهذا ما اختاره القاضي ابن كج، والحناطي. ولو قال: لزوجته المَدْخُول بها: أنتِ طالقٌ طلقةً قبْل طلقة، أو طلقةً بعدها طلقةٌ، فمضمون هذَيْن اللفظيْن إيقاع طلقة، وتعقيبها بأُخْرى، فيَقَعَان كذلك، ولو كانَتْ غير مدخول بها وقَعَت واحدةً، وحَصَلَت البينونة. ولو قال، وهي مدخولٌ بها: أنْتِ طالقٌ طلقةً بعْد طلقة، أو قبلها طلقةٌ، فمضمون اللفظين إيقاعُ طلقة تسبقها طلقة، فيقَعَ عليها طلقتان متعاقبتان، وهذا هو الصَّحيح المشهور، وفي كتاب القاضي ابن كج -رحمه الله-: أنَّه لا يقَع إلا طَلْقة؛ لجواز أن يكُون المَعْنَى قبلها طلقْة مملوكةٌ أو ثابتة قال: وهذا عند الإِطلاق، ولو قال: أردتُّ ذلك، صدق بيمينه لا محالة، وإذا قلْنا بالصحيح، ففي كيفية تعاقبهما وجهان: أحدهما: وبه قال ابن أبي هريرة: أنه تقع أولاً الطلقة المنجزة الَّتي بَدَأ بها في اللفظ، ثم تعقبها الطلقة المضمّنة، ويلغو قوله: "قبلها" كما لو قال أنْتِ طالقٌ أمْسِ، يقع في الحال، ويلغو قوله: "أمس". والثاني: أنَّه تقَع أولاً الطلقة المضمّنة بقوله "طلقة وقبلها طلقة" ويتلوها الطلقة المنجّزة؛ لأن المعنى يَقْتَضِي ذلك، ويُحْكَى هذا عن القاضي أبي الطيِّب -رحمه الله- وهو أرْجَع عنْد "صاحب الشامل"، وغيره، وليس المراد أن المضمّنة تتقدَّم على تمام اللَّفْظ بل يقعان بعد تمام اللفظ لكن تقع المضمنة أولاً، وتقع المنجَّزة في لحظ عقبها، ولو خاطب بإحدى اللفظين التي لم يَدْخُل بها، فإن قلْنا: تَقَع المنجّزة أولاً، ثم تَقَع أخرى، فهاهنا تَقَع واحدة، ولا يعقبها شيء، وإن قلنا: تقع المضمّنة أولاً فتقع واحدة أو لا يقع شيْء؟ فيه وجهان بناهما القاضي الحُسَيْن على الخلاف في مسألة دَوْر
الطَّلاق، إِن صَحَّحْنا الدَّوْر لم تقع هاهنا؛ لأن شَرْط وقوع واحدة وقوعُ أُخْرَى قبلها، ولو وقَعَت واحدة قبلها [لم تقع] إن أبطلْنا الدَّوْر أوقعْنا طلقة بقوله: "أنْتِ طالقٌ طلقة" وألغينا قوله "قبلها طلقة" ولم يرتض الإِمام -رحمه الله- هذا البناء، وقال: المعنى المانِعُ من الوقوع هاهنا أنَّه أوقَع طلْقَةً مسبوقة بطلْقَةٍ, ولا يُتَصَوَّر في غيْر المدخول بها وقوع طلقة مسبوقة بطلقة وإذا لم تقع طلقة مسبوقة بطلقة وجب ألاَّ يقع شيْء، إلاَّ إذا كان الواقع غيرها أوقعه، وهذا المعنى لا يختلف بيْن أن نصحِّح الدَّوْر، أو لا نصحِّحه، فليس الوجهان مبنين عَلَى تَصْحِيح الدور وإبطاله، ولكن وجْه المنع ما بيَّنَّا، ووجْه وقوع واحدة أن مقْصُوده توْزِيع الطلْقَتَين على زمانين لا أن تصير طلقةً وصفا لطلقة ولذلك يُحْكَم بوقوع طلقة فيما إذا قال لها: أنتِ طالقٌ طلقةً: قبْل طلقة، أو بعدها طلقة، ولا نقول: لا يقع شيْء؛ لأنَّه وصَف الطلقة المُوقَعَة باستعقاب أخرى، فإذا لم يَقَع أخرى، ولم يحصل الوصْف، وربما فرق بين الطرفين بأنه قال: أوَّل وَلَد تلدينه، فهُوَ حُرٌّ، فولدت ولداً، يُعْتَق، وإن لم تَلِدْ بعده، ولو قال: الثاني من أولادِكِ حُرٌّ، لم يكن بُد من أوَّل، وكيف ما قدر البناء والتوجيه؟! فالأصح عَلَى ما ذكَره الشيخ أبو عليٍّ وغيره أنه تقع طلقة، ووجَّهه بعْضهم بأن قوله: "أنتِ طالقٌ" إيقاع طلقة، فلا يرتفع بقوله: "قبلها طلقة"، وحكى الشيخ أبو عليٍّ. رحمه الله. وجْهاً آخر: أنَّه تقع طلْقَتَان، ويلغو قوله: "قبلها" ويصير كأنه قال: أنتِ طالقٌ طلقتين، ولو قال للمدخول بها: أنتِ طالقٌ طلقةً قبلها طلقة، وبعدها طلقة، طُلِّقَت ثلاثاً. ولو قال: طلقة قبلها وبعدها طلقة فكذلك؛ لأن الطلقة الواحِدَة تَتَوزَّع على ما قبلها وبعدها، فيُكَمِّل النقصان، وفي "شرح الشيخ أبي عليٍّ". -رحمه الله- وجْه آخر: يقع طلقتان: إحداهما: المنجزة. وأخرى: تقع بعدها ويلغو قوله: "قَبْلها" والظاهر الأوَّل. ولو خاطَب غيْر المدخول بها بإحدى هاتَيْن اللفظتين، خرج ممَّا سَبَق وجْهان في أَنها تُطلَّق واحدة ولا تُطلَّق شيئاً، ومهما قال أردتُّ بقولي: "بعدها طلقة" أي سأطلقها طلقة من بعد، لم يُقْبَل في الظاهر ويُدَيَّن. ولو قال: أردتُّ بقولي قبلها طلقة أن زوجاً آخر طلَّقها، أو طلقتها في نكاح آخر، فَعَلَى ما سيأتي فيما إذا قال: أنْت طالقٌ في الشَّهْر الماضي وفسر به. وقوله في الكتاب "أنت طالقٌ طلقة قبل طلقة، أو قبلها طلقةٌ، وقَعَتْ اثْنِتَانِ بَعْد الدخول، وقَبْلَ الدخول، تَقَع واحدة على وجْه؛ ولا يقع شيْءٌ على وجْه" ظاهرٌ في جريان القولَيْن في قوله: "طلقة قبل طلقة" وقوله: "قبلها طلقة" لكن الوجهَيْن فيما إذا قال: "طلقة قبلها طلقة" أمَّا في قوله "طلقة قبل طلقة" يقع واحدة وجهاً واحداً؛ على ما تبيَّن في الشرح، فليضم في لفظ الكتاب ما نحتاج إِليه، ثم ليعلَّم قوله: "تقع واحدة"
وقوله: "لم يقع شيْء" كلاهما بالحاء؛ لأن عنْد أبي حنيفة إذ قال لغَيْر المدخول بها: أنتِ طالقٌ طلقةً قبلها [طلقة] أو طلقةً بعد طلقةٍ تقع طلقتان؛ لأنه أوقع واحدة وأقر بأخرى من قبل. فُرُوعٌ: إذا قال لامرأته المدخول بها: أنتِ طالقٌ طلقةً قبلها طلقة، أو طلقةً بعدها طلقة تَقَع طلقتان على الترتيب. ولو قال: أنْتِ طالقٌ ثلاثاً، فالظاهر أنَّه تقع الثلاث عنْد فراغه من قوله ثلاثاً، وفيه وجْه أنَّه تبين بالفراغ من وقوع الثلاث بقوله: "أنتِ طالقٌ". قال الإِمام: وهذا الخلاف مأخوذٌ من الخلاف فيما إذا قال: أنتِ طالقٌ، وماتَتْ قبْل أن يقولَ: ثلاثاً، إن قلنا هُنَاك: لا يقع شيْء، فهاهنا تقع الثلاث بالفراغ من قوله: "ثلاثاً، وإن قلْنا هناك: يقع الثلاث (¬1)، فتبين وقوع الثلاث بقوله: "أنت طالق" قال: وقياس من قال: إنَّه يقع طلقة [إذا أراد بقوله أنت طالق ثلاثاً فماتت قبل قوله: ثلاثاً] بقوله: "هي طالقٌ" أن تقع طلقةً بقوله: [أنت] طالق"، هاهنا، ويتم الثَّلاث بقوله: "ثلاثاً" لكنه ضعيفٌ؛ لأنَّه لا خلاف أنَّه لو قال لغير المدخول بها: أنتِ طالقٌ ثلاثاً، تقع الثلاث، وذلك يدُلُّ على أنَّها لا تَقَع مرتبة. ولو قال: أنتِ طالقٌ خمساً أو إحدى عشرة وقع الثلاثة مدخولاً بها أو لم تَكُنْ. ولو قال: واحدة ومائة وهي غير مدخول بها لم يقع إلا واحدة. ولو قال إحدى وعشرين، فيقع الثلاث كما لو قال: إحْدى عشرة، أو لا تقع إلا واحدة، كقوله واحدة ومائة فيه وجهان (¬2): بالأول قال: أبو حنيفة. ولو قال: واحدة ونصفاً، لم تَقَع إلاَّ واحدة، ولغا النصف كما لو قال: واحدة وواحدة. ولو قال: اثنتين إلاَّ نصفاً فلا فَرْق بيْن المدخول بها وغيرها، وفيه وجْهَان مذكوران في "باب الاستثناء". ولو قال: أنتِ طالقٌ واحدةً بل ثنتين (¬3) أو ثلاثاً، فإن كانَتْ مدخولاً بها، وقع الثلاث، وأمَّا في غيْر المدخول بها، فلا تقع إلاَّ طلقة، وتبين بها، فيَلْغو قوله: "ثنتين أو ¬
ثلاثاً". ولو قال: أنتِ طالقٌ اثنتين بل واحدةً، فإن كانت مدخولاً بها وقع الثلاث، وإلاَّ لمَ تقع إلا اثنتان. ولوْ قَال أنتِ طالقٌ واحدةً بل ثلاثاً إن دخَلْتِ الدار، فوجهان: قال ابن الحدَّاد، وهو الأصح، تقع واحدة بقوله: "أنت طَالِق" ويتعلق بدخول الدار، ورد الشرط إلى ما يليه خاصَّة، وهو قوله: "بل ثلاثاً" وقال غيره يتعلَّق الثلاث بالدخول، فيرجع الشرط إليهما جميعاً إلاَّ أن يقُول: أردتُّ تخصيص الشرط بقولي "ثلاثاً" وإن كانت امرأة غير مدخول بها، فعَلَى الوجه الأول تبين بالواحدة الواقعة في الحال؛ فإن نَكَحَها بعْد ذلك، ودخَلَت الدار، فقَدْ قيل: إنَّه على قولَيْ عَوْدِ الحَنِث، والصحيح أنَّه لا يقع الطلاق بحال، ولا يُخَرَّج على القولين؛ لأنها إذا باتت، كان التعليق بالدخول واقعاً في حال البينونة فيلغو، وعلى الوجْه الثاني يتعلَّق الطلقات الثلاث بالدُّخُول، فإذا دَخَلَتْ، فعلى الوجهين السابقين، فيما إذا قال لغَيْر المدخول بها: إنْ دخَلْتِ الدار، فأنْتِ طالقٌ وطالقٌ، فعلى أحد الوجهين لا يَقَع إلا واحدة، وعلى الأظْهَر: يقع الثلاث؛ لتعلُّقها جميعاً بالدُّخُول. ولو قال لغير المدخول "بها: أنْتِ طالقٌ اثنتين بل ثلاثاً إن دخلْتِ الدار، فعلى قول ابْن الحَدَّاد يقع الطلقتان في الحال، ولا يصح تعليق الثالثة بالدخول؛ لحصول البينونة، وعلى الثاني تتعلق الثلاث بالدخول فإذا دخلَتْ، ففي وجْه تقع اثنتان، وفي الوجه الأَظهر: يَقع الثلاث. ولو قال: أنتِ طالقٌ تطليقةً قبلها كل تطليقة، أو بعدها كل تطليقة، قال إسماعيل البوشنجي -رحمه الله-: قياس المَذْهَب أن يقال: إن كانَتْ مدخولاً بها تَقَع الثَّلاث مع ترتب بيْن الواحدة وباقي الثلاث ويجيء في كيفية الترتيب وفي قوله: "تطليقة قبلها كل تطليقة" وجهان: أحدهما: أنَّه يقع الواحدة المُوقَعَة في الحال، ويتبين وقوع الزيادة قبْلَها، وهو أشبه بظاهر اللفظ. والثاني: أنَّه يتنجز ما بأجله قبل الواحدة، ثم تعقبه الواحدة، ولو لم يَكُنْ مدخولاً بها، إن قلْنا: تقع الواحدة ثم الزِّيَادة لم تَقَع إلا واحدة، وإن قلْنا بوقوع ما قبل الواحدة أولاً، وقَعَت الصورة في الدَّوْر (والله أعلم). قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّالِثُ فِي الطَّلاَقِ بِالحِسَابِ): وَهُوَ ثَلاَثةُ أَقْسَامِ: (الأوَّلُ): إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً في اثْنَتَيْنِ وَأَرَادَ الحِسَابَ كَانَ كَمَا نَوَى، وَإِنْ أَرَادَ الظَّرْفَ قُبِلَ وَلَمْ يَقَع مَا جَعَلَه ظَرْفاً، وَإِنْ أَرَادَ الجَمْعَ وَقَعَ وَكَانَ في مَعْنَى مَعَ، وَإِنْ أَطلَقَ وَهُوَ مِمَّنْ لاَ يَفْهَمُ الحِسَابَ حُمِلَ عَلَى الظَّرْفِ، وَإنْ كَانَ مِمَّنْ يَفْهَمُ الحِسَابَ وَلَكِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ الآنَ
فَيُحْمَلُ عَلَى الظَّرْفِ أَوِ الحِسَابِ فِيهِ قَوْلاَنِ وَالجَاهِلُ بِالحِسَاب إِذَا قَالَ: أَرَدتُّ مَا يُريدُهُ الحُسَّابُ لَمْ يُقْبَلْ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: طَلَّقْتُ مِثْلَ مَا طَلَّقَ زَيْدٌ وَهُوَ لاَ يَدْرِي عَدَدَهُ لَمْ تؤَثِّرُ نِيَّتُهُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لِتَعَذُّرِ إِرَادَةِ مَا لَمْ يَعْلَمْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القول في الطلاق بالحساب ترْجَمَه الفَصْل: الطلاق بالحِسَاب وجعله على ثلاثة أقسام: أحدُها: في الألفاظ المسْتَعْمَل مثلُها في حِسَاب الضَّرْب. والثاني: في تجزئة الطَّلاق وألفاظها. والثالث: فيما إذا أشْرك بين نسوة في طلقة أو طلقات، وبيان ما يقتضيه التوزيع. أمَّا الأول: فإذا قال: أنْتِ طالقٌ طلْقةً في طلقة، أو واحِدَةً في واحدةٍ، سُئِلَ عمّا أراد، فإن قال: أردتُّ طلقةً مع طَلْقَة قُبِلَ، ووقعَتْ طلقتان، وقد تُستَعْمل "في" بمعنى "مع"، كقوله تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} [الأعراف: 38] أي مع أمم وإن قال: أردتُّ الظَّرْف، أو الحساب، أو لم أُرِدْ شيئاً لم يقَعْ إلاَّ طلقةً، هي قضيَّة الظرف والحساب. وإن قال: أنتِ طالقٌ طلقةً في طلقتين، أو واحدةً في اثنتين، وأراد مع اثنتين، وقَع الثَّلاث، وإن أراد الحساب، إن كان عالماً بمُوجِبِ اللَّفْظ في اصْطِلاحَ الحساب، وقَعَت طلقتان، وإن كان جاهلاً، وقال أردتُّ ما يريده الحُسَّاب، فوجهان، عن أبي بكر الصيرفي -رحمه الله- أنَّه "تقع طلقتان؛ أنه أراد ما يريدونه". وقال أكثرهم: لا يقع إلاَّ طلقة؛ لأن ما لم يُعْلَم لا يصح إرادته، فإذا لم يَكُنْ عارفاً بما يريدونه [لم يكن قاصداً] للعدد، والوجهان كالوجهين فيما إذا أتى العجمي بلفظة الطلاق، وقال: أردتُّ بها ما يريده العربيُّ، وهو لا يَعْرِفُ معْناها، وأُجْري الخلاف فيما إذا قال: طلَّقْتُ امرأَتِي مثْلَ ما طلَّق زيد، وهو لا يدري كم طلق زيد وكذا يكُون الحُكْم لو نوى عدَدَ طلاقِ زَيْد، ولم يتلفَّظ، وإن أطْلَق، ولم ينوِ شيئاً، فإن لم يكُنْ ممَّن يعرف الحساب، لم تقَعْ إلا طلقة وإن كان ممَّن يعرف الحساب فقولان: أحدهما: أنَّه يحتمل على الحساب، وتقع طلقتان؛ لأنَّه الاستعمال المشْهُور في الأعْدَاد، والرَّجُل عارف به، وأظهرهما: أنَّه لا تقع إلا واحدة؛ لأن الأصْل الظَّرْف، والاستعمال واقعٌ فيه، وإذا اخْتَلَف الإطلاق، أخذ باليقين وهو طلقةٌ، وربَّما شبه القولان بالقولين فيما إذا قال: أنْتِ طالقٌ، أنْتِ طالقٌ، ومنْهم من لا يُطْلِق لفْظ القولين في المسألة وينسب التوحيد إلى النص، والتعديد إلى أبي إسحاق؛ وعن الشيخ أبي محمد وغيره رواية قولٍ ثَالِث: أنَّه يقع الثلاث؛ لتلفظه بها، ويجيء هذا القول فيمَنْ لا يعرف الحِسَاب، ولم ينوِ شيئاً، ويعلَّم قوله في الكتاب "وإنْ أرَادَ الحِسَابَ كَانَ كَمَا نَوَى" بالحاء؛ لأن عنْد أبي حنيفة -رحمه الله- لا يقع إلا طلقة، سواءٌ عَرَف الحساب أو
لم يَعْرِف، أراده أو لم يُرده، وقوله فيمَا إذَا "أَطْلَقَ وَهُوَ مِمَّنْ لاَ يَفْهَمُ الحِسَابَ حُمِلَ عَلَى الظَّرْفِ" بالواو؛ للقول المروي: أنَّه يقع الثلاث، ووقوع الثلاث ينفي الحمل على الظرف، وقوله: "فِي إطلاَقِ مَنْ يَفْهَمُ الحِسَابَ "قَوْلاَنِ" يجوز إعلامه بالواو؛ لأن في "أمالي أبي الفرج" طريقة قاطعةٌ بأنَّه لا تقع إلا طلقة، كما يقتضيه مَعْنَى الظرف، ولو قال: أنْتِ طالقٌ واحدةً في ثلاث، فإن قَصَد معنى الحساب، وقَعَ الثَّلاث، إن كان عالماً به، وإلا فَعَلَى الوجهين، وإن لم يَقْصِد شيئاً، فعلى التفصيل والخلاف المذكورين، ولو قال: أنْتِ طالقٌ ثنتين في اثنتين اثنين، فإن قصد الحِسَاب، وقَع الثلاث، وإن لم يقْصِد شيئاً فيقع طلقتان أو ثلاث، فيه الخِلاَف السَّابِق. ولو قال أنتِ طالقٌ نصْفَ طلقة في نصف طلقة، وقعت طلقة، وسواءٌ أراد الظَّرْف أو الحِسَاب أو المعية أو لم يقْصد شيئاً، ولو قال: واحدةٌ في نصْف، فكذلك إلا أن يريد المعيَّة فيقع طلقتان ولو قال واحدة وربعاً أو نصفاً في واحدة وربع وقع طلقتان إلا أن يريد المعية فتقع الثلاث. ولو قال: أنْتِ طالقٌ من واحدة إلى ثلاث فهل يقع الثلاث أم ثنتان أو واحدة، ويَدْخُل الطَّرْفان أو اثنتان، ويدخل الأول دون الثاني، أو واحدة ولا يدخل واحد من الطرفَيْن فيه ثلاثة أوجه، أمَّا بيَّنَّا في "الإِقْرار"، والأصَحُّ عند صاحب "التهذيب" -رحمه الله- الأَوّل. ولو قال: ما بَيْن الواحدة والثلاث وقَعَت طلقة على الظاهر، ويجيْء فيه اختلاف سَبَق في نظيره من الإِقْرَار. قَالَ الغَزَالِيُّ: (القِسْمُ الثَّاني فِي التَّجْزِئَةِ): فَإذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ أَوْ رُبْعَ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَمُلَ، وَلَوْ قَالَ: ثَلاَثةَ أَنْصَافِ طَلْقَةٍ أَوْ أَرْبعَةَ أَثْلاَثِ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ عَلَى وَجْهٍ، وَتَقَعُ ثِنْتَانِ عَلَى وَجْهٍ لِزِيَادَةِ الأَجْزَاءِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ أَوْ نِصْفَيْ طَلْقَةٍ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ عَلَى وَجْهٍ، وَقِيلَ: يَقَعُ ثِنْتَان، وَلَوْ قَالَ: ثُلُثُ وَرُبُعُ وَسُدُسُ طَلقَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ قَالَ: ثُلُثُ طَلْقَةٍ وَرُبُعُ طَلْقَةٍ وَسُدُسُ طَلْقَةٍ فَهِيَ أَيْضاً طَلْقَةٌ، وَقِيلَ: هِيَ ثَلاَثُ طَلَقَاتٍ. قال الرَّافِعِيُّ: كما أن محَلَّ الطلاق لا يبعَّض، ويكون ذكْر بعضه كذِكْر كلِّه في وقوع الطَّلاَق، كما إذا قال: بَعْضُك طالقٌ، فنفس الطَّلاَق لا يتَبَعِّض ويَكُون ذكْر بعْضِه كذكْر كلِّه؛ لقوته وغَلَبَتِه، سواءٌ أَبْهَمَ بأن قال: أنْتِ طالقٌ بعْض طلْقَةٍ أو جزءاً أو سهماً من طلقةٍ، أو (¬1) أعلم بأن قال: أنتِ طالقٌ نصْفَ طلقة، أو رُبُع طلقة، وذَكَر الإِمام - ¬
رحمه الله- أن وُقُوع الطلاق علَى سبيل التعبير بالبعض عن الكل، ولا يُتَخَيَّل هاهنا السراية المذكورة فيما إذا قال: بعضُكِ طالقٌ، لكن لا يَظْهَر بينهما فرق محقَّق، وفي كلام الشيخِ أبي حامد وغيْره أنَّه يجوز أن يكون ذلك بطريق السراية، ويجوز أن يلغى قوله: نصْف طَلْقة، ويعمل قوله: أنْتِ طالقٌ، ثم فيه صور: إحداهما: لو زاد في الأجزاء، فقال: أنْتِ طالقٌ ثلاثَة أنْصَاف طلقة، أو أربعة أثلاث طلقة، ففيه وجْهَان: أحدهما: أنَّه لا يقَعُ إلا طلقةً؛ لأن الأجزاء المذكورة مضَافَةٌ إلى طلقة، والواحد لا يشتمل على تلْك الأجزاء فتلغو الزيادة، وَيصِير كأنَّه أنْتِ طالقٌ نصْفَيْ طلقة، أو ثلاثة أنصاف طلقة، ويلغو الآخر [والأظهر وقوع طلقتين] ويصير كما لو قال: أنْتِ طالقٌ طلقةً ونصْفَ طلقةٍ أو طلقةً وثلث طلقة، وعلى هذَا القياس قولُه: خمْسَة أرباع طلقة أو نصف وثلثي طلقة (¬1). وحكى الحناطي وجْهاً ثالثاً: أنه يقع ثلاث طلقات، ويجعل كل نصْف من طلقة، ولو قال: لفلان عَلَيَّ ثلاثة أنصاف درهْمٍ، فعلى الوجْه الأول: لا يلزمه إلا درْهَمٌ، وعلى [الثاني] يلزمه دِرْهَمٌ ونصف. الثانية: إذا قال: أنْتِ طالقٌ نصفي طلقة لم يَقَع إلا طلقة إلا أن يريد نصفاً من طلقة، ونصفاً من أخرى، وكذا لَوْ قال: ثلثي طَلْقة أو ربعي طلقة، وأشَارَ في الوسيط إلى خِلاَفٍ في هذه الصورة، فقال: الصحيح أنه تقع واحدة، والكتب ساكتة عن حكايته الخلاف، لكنَّه جَارٍ على قياس الوَجْه الَّذي نقَلَه الحناطي (¬2)؛ فإنَّه إذا حمل قوله: "ثَلاثَة أَنْصَافِ طَلْقَةٍ" على أنَّ كلَّ نصْف من طلقة، فكذلك قوله: نصفي طلقة، ولو قال أنْتِ طالقٌ نصْفَ طلقتين، ففيه وجْهان: أحدهما: ويُحْكَى عن أبي إسحاق: أنَّه يقع طلقتان؛ لأنَّه أضاف النِّصْف إلى الطلقتين، فقضيته النصْف من هذه، والنصف من هذه، ألا تَرَى أنَّه لو قال: لفلان نصْفُ هذَيْن العبدين، كان إقراراً بالنِّصْف من كل واحد منْهما، وعلى هذا فلو قال: أردتُّ طلقةً واحدة يدَيَّن، وهل يقبل ظاهراً؟ وفيه وجهان: ووجه المَنْع القياس على ما لو قال المُقِرُّ بنصف العبدين: أردتُّ به هذا العبد، بأنه لا يُقْبَل. وأصحُّهما: أنه لا تقع إلا طلقة؛ لأنَّ نصْف الطلقتين طلْقَةٌ، وحمل اللفظ عليه ¬
صحيحٌ ظاهراً فلا توقع الزيادة على طَلْقَة من غير يقين، ولا ظُهُور. قال الإِمام -رحمه الله-: وليس كمسألة العبْدَيْن، فإنهما شخْصَان ماثلان لا يتماثلان فإضافة النصْف إليهما إضافةٌ إلى كلِّ واحدٍ منهما، والطَّلْقَتَان يضاهيان العَدَدَ المَحْض، والنِّصْف إذا أُضِيفَ إلى اثنين يَتوَجَّه حمْلُه على واحد. ولو قال: على نصْف درهمين، قال الشيخ أبو علي -رحمه الله-: لا يلزمه (¬1) بإجْمَاع الأصحاب -رحمهم الله- إلا درْهَمٌ واحدٌ؛ لأنَّا إن أخذنا نصفاً من درهم، ونصفاً من درهم، فلا يلزم إلا درهمٌ. ولو قال: أنتِ طالقٌ بل طلقتين، فعلى الوجه الأول تقع طلقتان، وعلى الثاني طلقةٌ، ولو قال: ثلث درهمين، فالواجِبُ ثلثا درهمٍ بلا خلاف. ولو قال: نصفي طلقتين، أو ثلثي طلقتين، يقع طلقتان، وحَكَى الشيخ أبو الفرج خلافاً للأصحاب في كيفية وقوعهما، فعن بعْضِهِمْ أَنَّ نصْف الطلقتين طلقةٌ، فنصفاه طلقتان، قال: ومن قال بهذا قال: يقع في قوله: "أنْتِ طالقٌ نِصْفَ طلقتين" طلقةٌ، وعن بعضهم: أن كل نصف من طلقة يكملان، ومن قال بهذا جَعَل إضافة النصْف إلى الطَّلْقَتَيْن؛ كإضافة النصفين إليهما، وأوقع هُنَاك طلقتين. ولو قال: أنْتِ طالقٌ ثلاثةَ أنْصَاف طلقتين، فوجهان: أحدهما: تقع طلقتان؛ لأنَّ الطلقتين تَشْتَمِلاَن عَلَى ثلاثةِ أنْصَاف، فكأنَّه قال: طلقةً ونصفاً من طلقتين، فيُكَمل؛ ولأن الطلقتين كالشَّيْء الواحد، والواحد لا يكون له إلا نصْفَان، فَيَلْغُو الزيادة، ويصير كأنَّه قال: أنْتِ طالقٌ نصْفَيْ طلقة ونصفَيْ طلقة، أو (¬2) أنت طالقٌ طلقتَيْنِ. والثاني: يقع ثلاثُ طلقات؛ لأنَّ نصْف الطلقتين واحدٌ، فنصفاه طلقتان، فثلاثة أنصافهما ثلاث طلقات، ولأن نصْفَيْ طلقتين طلقتان، فثلاثة أنصافهما تكون ثلاثَ طَلَقَات، واختار الوجْهَ الأوَّلَ جماعةٌ وإلى الثاني ذَهَب ابْن الحدَّاد. قال الشيخ أبو علي: وعليْه أكْثَر الأصْحَاب. ولو قال على ثلاثة أنْصَاف درهَمَيْن ففيما يلزمه الوجْهَان. ولو قال: ثلاثة أنصاف الطلاق، ففي "التتمة" أنَّه يقع ثلاث طلقات، وينصرف اللَّفْظ بالألف والكلام إلى الجنْس، ونقل الحناطي وجْهَيْن في أنَّه تقع واحدة أو ثلاث، كما لو قال: ثلاثة أنصاف طلقة. ¬
الثالثة: لو قال: أنْتِ طالقٌ نصْفَ وثلث طلقة أو ثلث وربع، وسدس طلقة، لم تقعْ إلا طلقة؛ لأنهما جميعاً أجزاء واحد، ولو كَرَّرَ لفظ الطلقة؛ فقال: ثلث طلقة وربع طلقة، وسدس طلقة، فوجهان أطلقهما صاحبُ الكِتَابِ -رحمه الله-: أحدهما: أنَّه لا تقع إلا طلقة؛ لأن لفظة الطلقة، وإن كُرِّرَتْ، فهي مُحْتَمِلة للتأكيد والأجزاء، وإن كانت متغايرةً، فهي مضافةٌ والمضافُ تَبَع للمضاف إليه، وأصحُّهما، وهو الذي أورده من أورد المسألة: أنَّه يقع ثلاث طلقاتٍ؛ لأنَّه أضاف كل جُزْء إلى طلقة، وعطف البعض على البَعْض، فاقتضى ذَلِك تغاير الطلقات، فقَدْ سبق أن الصلات المتغايرة إذا دَخَلَت في الطَّلَقَات مَنَعَت من التأكيد، فكذلك الأجزاء المتغايرة، ولو لَمْ يُدْخِل الواو فيهما فقال: أنْتِ طالقٌ ثلث طَلْقَةٍ، ربع طلقة، سدس طلقة، لم تَقَع إلا طلقةً، وفرقوا بأنَّه إذا لم يُدْخِل الواو، كان الكل بمنزلة كلمةٍ واحدةٍ، وإذا أدخلها فلِكُلِّ واحدة حكْمها، فيقع بقوله: ثلث طلقةٍ طلقةٌ، وأخرى بقوله: وربع طلقة، ولهذا لو قال: أنْتِ طالقٌ طالقٌ لم تقَعْ إلا واحدة، ولو قال: أنتِ طالقٌ وطالقٌ، وقعَتْ طلقتان، ولو زادت الأجزاء [ولم يدخل الواو] فقال: أنْتِ طالقٌ نصْف طلقة، ثلث طلقة، وربع طلقة، ففي أمالي أبي الفَرَج -رحمه الله- أنَّه على الوجهَيْن فيما إذا قال: ثلاثة أنْصَافِ طلقة، ولو لم تتغاير الأجزاء وتكررت الواو، فقال: أنتِ طالقٌ نصْف طلقة، ونصف طلقة، ونصف طلقة، وقعت طلقتان، ويرجع في الطلقة الثالثة؛ لقصد التأكيد أم التجديد؟ كما لو قال: أنتِ طالقٌ، وطالقٌ، وطالقٌ، ولو قال: أنتِ نصْف طلقة أو ثلث طلقة، كان كقوله أنْتِ طلقة، أو أنت الطلاق، ولو قال: أنتِ طَالِقٌ نصْفَ ثلث سدس، ولم يقل: طلقة، وقَعَت طلقة بقوله: أنْتِ طالِقٌ. وقوله في الكتاب: "ولو قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَتَيْنِ أو نِصْفَي طَلْقَةٍ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ عَلَى وَجْهٍ وَقِيلَ يَقَعُ ثِنْتَانِ" وذكر بعض الشارحين أن الوجهَيْن فيما إذا قال: أنتِ طالقٌ نصْفَ طلقتين، وفيما إذا قال: أنتِ طالقٌ نصْفَيْ طلقة، لا خلاف أنه لا تقع إلا طلقةٌ واحدةٌ، فربَّما حل النظم، فأفرد الصورة بالذكر، وأخرجهما عن جنْس الوجهَيْن، وكذلك لما ذكرنا أن الأئمة -رحمهم الله- لم ينقلوا خلافاً فيها, لكنه أطْلَق الخلاف هاهنا وفي "الوسيط" أمكن تنزيل وجْهٍ على قياس المنقول، فيما إذا قَال: أنْتِ طالقٌ ثلاثَةَ أنْصَاف طلقة، لم يبعد تركه بحاله، ولفظ الكتاب في قوله أنْتِ طالقٌ، ثلث طلقة، وربع طلقة، وسدس طلقة، يقتضي ترجيح الوجه الذَّاهب إلى وقوع طلقة، والظاهرُ المَشْهُور وقوع ثلاث طلقات، على أن الإِمام لم ينقُلْ وجه الاقتصار على طَلْقَة على ما أطْلَقَه صاحبُ الكِتَاب، ولكن قال: مِنْ أصحابنا من قال: إذا نوى صَرْفَ هذه الأجزاء إلى
طَلْقةٍ واحدةٍ قُبِلَ ذَلِك [منه] (¬1)، وإن تعدَّدت الألفاظ، فخصص التنزيل علَيْه بما إذا فسر كلامه به [والله أعلم]. قَالَ الغَزَالِيُّ: (القِسْمُ الثَّالِثُ فِي الاشْتِرَاكِ): فَإِذَا قَالَ لأَرْبَع نِسْوَةٍ: أَوْقَعْتُ عَلَيْكُنَّ طَلْقَةً طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةً، وَكَذَا لَوْ قَالَ: ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً أَوْ أَرْبَعاً، فَإِنْ أَوْقَعَ خَمْسَ طَلَقَاتٍ طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ طَلْقَتَيْنِ، فَإِنْ أَوْقَعَ تِسْعَ طَلَقَاتٍ طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلاَثاً، وَإِنْ قَالَ: أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ طَلْقَةً فَطَلْقَةٌ للاشْتِرَاكِ، فَإِنْ خَصَّصَ بِوَاحِدَةٍ فَنِيَّتُهُ لاَ تقْبَلُ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ أَرْبَعَ طَلَقَاتٍ ثُمَّ خَصَّصَ بِوَاحِدَةٍ حَتَّى يَتَعَطَّلَ الرَّابِعَةُ لَمْ يُقْبَلُ عَلَى وَجْهٍ، وإنْ قُبِلَ التَّخْصِيصُ فِي الثَّلاَثِ، وَلَوْ قَالَ لِثَلاَثٍ: أَوْقَعْتُ عَلَيْكُنَّ طَلْقَةً وَقَالَ لِلرَّابِعَةِ: أَشْرَكْتُكِ مَعَهُنَّ وَنَوَى الطَّلاَقَ وَقَعَتْ عَلَى الرَّابِعَةَ وَاحِدَةٌ، وَقِيلَ: تَقَعُ ثِنْتَانِ لأَنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ عَلَى نِصْفِ الثَّلاَثِ وَهِيَ طَلْقَةٌ وَنِصْفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ليس الفصْل قسماً برأسه في الحقيقة وإن أفرد بالذِّكْر، ولكن صورةٌ من لواحق التجزئة والتبعيض، والفقه مسألتان: إحداهما: قال لنسائه، وهن أربع: أوقعت عليكُنَّ طلقةً، فتقع على كل واحدةٍ منهن طلقة؛ لأنَّه يَخُصُّ كل واحدة بربع طلقة، وبعض الطلاق يُكَمّل، ولو قال طلقتين أو ثلاثاً أو أربعاً، فكذلك يقع على كل واحدة طلقة فقط إلا أن يريد توزيع كل طلقة عليهن فيقع في طلقتين على كل واحدة طلقتان، وفي ثلاث ثلاث وفي أربع (¬2) كذلك، وعنْد الإِطلاق لا يعمل اللفظ على هذا التقدير؛ لبعده عن الفَهْم؛ ألا ترى أنَّه إذا قال: أُقَسِّم هذين الدرهمين على هؤلاء الأربعة، "لم يُفْهَم منْه الأمر بقسمه كل درهْم عليهم، ولو قال: أوقعتُ عليكن خمْسَ طلقاتٍ طُلِّقت كلُّ واحدة منهن طلقتين، إلا أن يريد التوزيع وكذلك في السِّتِّ والسبع والثماني، فإن أوقع تسعاً طُلِّقَت كلُّ واحدة منْهن ثلاثاً، ولو قال: أوقَعْتُ بينكنَّ طلقة، فهو كقوله: أوقعتُ عليكن طلقةً، فيقع على كل واحدة طلقة، فإن قال: أردتُّ بعضَهُنَّ دون بعض، فَيُدَيَّن وهل يُقْبَل ظاهراً؟ فيه وجهان: أظهرهما: وهو الذي أورده جماعة أنَّه لا يُقْبَل؛ لأن ظاهر اللفظ يقتضي الشركة، لقوله عليكن، والثاني: يُقْبَل؛ لأنَّه إذا كانَت الطلقة فيهن كان الطَّلاَق بينهن؛ ولأن مِثْل هذا اللفظ يطلق للحَصْر في الجملة، كما يقول: من يتهم واحداً من الجمع بالسرقة، ¬
السرقة بين هؤلاء، يريد الحَصْر فيهم، ولا يريد التشريك بينهم، والوجهان على ما في "النهاية" و"التهذيب" وغيرهما مخصوصان بما إذا قال: أوقعتُ بينكن، أمَّا في قوله: "عليكن" وقال: يُقْبَل هذا التفسير، ويعمم الطلاق، واعْلَمْ أنا ذكَرْنا فيما إذا قال: كلُّ امرأة لي طالقٌ أو نسائي طوالقُ وجْهاً عن ابْنِ الوكيل، وغيره: أنه لو قال: أردتُّ بعضهن، يُقْبَلُ، وذلك الخلاف يَجْري لا محالَة في قوله: أوقَعْتُ عليكن طلقةً، فكان المراد هاهنا أنَّا إذا أجبنا بظاهر اللَّفْظ، وقُلْنا: لا يُقْبَل التخصيص في قوله: نسائي طَوَالِقُ، وفي قوله: أوقعْتُ عليكنَّ طلقةً، ففي قوله: أوقَعْت بينكنَّ هذان الوجهان، وإذا قلنا: لا يُقْبَل فذلك فيما إذا أخرج بعضهن عن الطلاق، أمَّا إذا فضل بعضَهُن على بعض مثل أن يقول: أوقعْتُ بينكنَّ ثلاث طلقات، ثم قال: أردتُّ إيقاع طلقتين على هذه وقَسَّمْت الأخرى على الباقيات، فوجهان: أظْهرهما: أنَّه يُقْبَل، وبه قال الشيخ أبو علي -رحمه الله- ونسبه القاضي ابن كج -رحمه الله- إلى نص الشَّافعي -رضي الله عنه- لأنَّه لم يخرج واحدة عن الطلاق، والعَدَد المذكور يكون بينَهُنَّ، وإن تفاوتن في القدر الذي يلحقُهُنَّ، وهذا كَمَا أنَّه يصحُّ أن يُقَال: هذه الدار بَيْن فلان، وفلان، وإن تفاوتا في القَدْر والمستحَقِّ. والثاني: عن رواية أبي الحُسَيْن بن القَطَّان: أنَّه لا يُقْبَل، ويجب استواؤهن، وإن قلْنا: يُقْبلَ، فذلك فيما إذا لم يتعطل شيْء من الطَّلاَق، وإن تعطَّل كما إذا قال: أوقعتُ بينكُنَّ أربع طلقات، ثم خصَّصهما جميعاً بواحدة منهن، فوجهان: أحدهما: يُقْبَل أيضاً لأنا نفرِّع على قوْل التخصيص، وإذا قلنا: التخصيص فهَذَا من موجباته، ولواحقه ولكنه قال: لواحدة: أنْتِ طالقٌ أربعاً. وأقربهما المَنْع؛ لأنَّه خَاطَب بعَدَد من الطلاق مَنْ يَقْبَل ذلك العدد، فيبعد تعطيلُه، وإحباطُهُ، وحيث قلنا: لا يُقْبَل، فذلك في النفي عن مَنْ يُنْفَى عنها، وأمَّا في الإِثبات في حق من يثبت، فيؤاخذ بموجب إقراره حتَّى إذا أوقع بين أرْبَعٍ طلقات، ثم قال: أردتُّ أن تقع على هذه طلقتان، وعلى هذه طلقتان، وتبقى الأخريان على النكاح، فَيَلْحَقُ كلَّ واحدة من الأولتَيْنِ طلقتان، والخلاف في الأخيرتين، فإن لم يُقْبَلْ ما يقوله، وقع على كل واحدة منْهما طلقةٌ وفيما إذا خصَّص الأربع بواحدة، وقلنا بعدم القبول، فيَقَع على الَّتِي طلقها ثلاثاً بإقراره، وعلى الأخريين طلقتان، وإذا قال: أوقعتُ بينَكُنَّ خمْسَ طلقات، لبعضكن أكثر مما لبعض، فلا يجيْء الخِلاَف في أنَّه يُصَدَّق ويفضل بعضهن، ويجيْء في تصديقه في إخراج بَعْضِهِنَّ. ولو قال: أوقعتْ عليكُنَّ نصْفَ طلقة: أو ثلثها، وَقَعَ على كل واحدة طلقة، ولو قال: أوقعتُ بينكن خُمْسَ طلقة، وسدس طلقة، وثلث طلغة، فيبنى على الخلاف، السابق فيما إذا خَاطَبَ به واحدةً، فإن قلْنا: لا يَقَعُ به إلا طلقة واحدة، فكذلك هاهنا
فتطلق كل واحدةٍ واحدةً، وإن قلْنَا بالصحيح، وهُوَ وقوع الثلاث، فهاهنا يقع [على] (¬1) كل واحدةٍ ثلاثُ طلقات؛ لأن تغاير الأجزاء، وعطْفَ بعضها على بَعْض يشعر بقِسْمة كل جزء بينهن. قال الإِمام -رحمه الله- ويُحْتَمَل أن يجعل كما لو قال: أوقعتُ بينكن ثلاثَ طلقات، والقسمة المستوية في ذلك لا توجب إلا طلْقَةً، ولو قال: أوقعتُ بينَكُنَّ طلقةً وطلقةً وطلقةً، فيجوز أن يقال: هو كما لو قال: ثلاثَ طلقات، فتطلق كل واحدة طلقةً ويجوز أن يُقَالَ تُطَلَّق كلَّ واحدة ثلاثَ طلقات؛ لأن التفصيل يشعر بقسمه كل طلقة عليهن. المسألة الثانية: إذا طَلَّقَ إحْدَى امرأتيه، ثم قال للثانية أشركْتُكَ مَعَها، أو جعلتك شريكَتَها أو أنت كهي، أو مثْلُها، ونوى طلاقها، طُلِّقَت، إلا لم تُطَلَّق، وكذا لو طَلَّق رجُلٌ امرأته، فقال آخر لامرأته: أشركتُكِ مَعَها، أو أنت كهي، ونوى، ولو كانَتْ تحته أرْبَعٌ فقال لثلاث منهن: أوقعْتُ عليكنَّ أو بينكن طلقةً، فطلقن واحدةً واحدةً، ثم قال: للرابعة: أشركتُك معَهُنَّ، ونوى الطلاق، فيُنْظَر؛ وإن أراد طلقة واحدةً تكون كواحدة منهن، طُلِّقَتْ واحدةً، وإن أراد أن تُشارِكَ كل واحدة منهن في طلقتها طُلِّقت ثلاثاً، فإن أطْلَق اللفظ، ونوى الطلاق، ولم ينْوِ واحدة ولا عدداً، ففيه وجهان: أظهرهما: وبه قال الشيخ أبو عليٍّ -رحمه الله-: تُطلَّق واحدة؛ لأن جعْلَها كإحداهن أسبق إلى الفهْم، وأظهر من تقدير توزيع كلِّ طلقة، والثاني عن القَفَّال: أنها تُطَلَّق طلقتين؛ لأنه جعل الواحدة شريكة الثلاث وفي مقابلتهن، وقضيَّة الاشتراك أن يصير ما لحقهن مقسوماً بينهن وقد لحقهن ثلاث طلقات، فيلحقها نصْف الطلاق، وهي واحدةٌ ونصف، فيكمل طلقتين. ولو قيل بناءً على هذا التوجيه [يلحقها] (¬2) ثلاث طلقات، ليكون لها مثْل ما لَهُنَّ إذا صارت شريكتهن، لم يكن بأبعد منه، وعلى قياس المسألة، طَلَّقَ اثنتين، ثم قال للأخريين: أشرْكتُكُمَا معَهما، ونوى الطلاق، فإن أراد أن تكون كل واحدة منْهُنَّ كواحدةٌ من الأوليين، طُلِّقت كلُّ واحدة منهن طلقةً، وإن أراد أن تكون كلُّ واحدة كالأوليين معاً في الطلاق أو أن تشارك كل واحدة منهما كل واحدة من الأوليين في طلقتيهما طُلِّقَتا طلقتين طلقتين، وإن أَطْلقَ فتطَلَّق كلُّ واحدة طلقةً، على قياس ما قاله الشيخ أبو عليٍّ، وكذلك هو قياس المنقول عن القَفَّال؛ لأنَّه يجعل الأخريين شريكين في ما للأوليين فيقسم بينهما، وبين الأخريين، والذي لحقهما طلقتان، فيلحق الأخريين نصفها، وهو طلقة، فنُقَسَّم بينهما وتُكَمل. فَرْعٌ: لو طَلَّق إحْدَى امرأتَيْه ثَلاَثاً، ثُمَّ قال للأخرى: أشركْتُكِ مَعَها، ولم يَنْوِ العدد، حكى إسماعيل البوشنجي أن المسألة جَرَت بين يدي أبي بكر الشاش -رحمه الله ¬
الباب الرابع في الاستثناء
- بمدينة السَّلاَم فأجاب أنَّها تُطلَّق واحدةً، وتَوَقَّف البوشنجي فيه، وقال: قد أوقَعَ على الأُولَى (¬1) ثلاثاً، والتشريك يقتضي أن يكُونَ لها مثل ذلك، وهذا التردُّد قريب من التردُّد فيما إذا طلق ثلاثاً، وقال للرابعة: أشركْتُكِ مَعَهُنَّ ولم يَنْوِ العَدَد. البَابُ الرَّابعُ فِي الاسْتِثْنَاءِ (¬2) قَالَ الغَزَالِيُّ: فَإذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثاً إِلاَّ وَاحِدَةً وَقَعَ ثِنْتَانِ، وَشَرْطُ الاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلاً، وَالظَّاهِرُ: أنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ مُقْتَرِناً بِاللَّفْظِ فَلَوْ بَدَا لَهُ عَقِيبَ اللَّفْظِ الاسْتِثْنَاءُ لَمْ يَجُزْ، وَشَرْطُهُ أَنْ لاَ يَكُونَ مُسْتَغْرِقاً، وَفِيهِ فَصْلاَنِ (الأَوَّلُ في المُسْتَغْرِقِ): وَفِيهِ مَسَائِل: (الأُولَى): إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقُ ثَلاَثاً إِلاَّ ثَلاَثاً وَقَعَ الثَّلاَثُ لِبُطْلاَنِ الاسْتِثْنَاءِ، وَلَوْ قَالَ: ثَلاَثاً إِلاَّ ثِنْتَيْنِ وَوَاحِدَةً فَفِي أَحَدِ الوَجْهَيْنِ يُجْمَعُ مَا فَرَّقَهُ وَيَجْعَلُ مُسْتَغْرِقاً، وَفِي الثَّانِي يُخَصَّصُ البُطْلاَنِ بِالوَاحِدَةِ إِذْ بِهَا يَقَعُ الاسْتِغْرَاقُ، وَعَلَى هَذا الخِلاَفِ يُبْتَنَى قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ وَوَاحِدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً فَإنَّهُ إنْ جُمِعَ المُسْتَثْنَى عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقاً، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَقَعَ الثَّلاَثُ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: الاستثناء في الكلام معْهُود، وفي القرآن والسنة، موجودٌ، فإذا قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلا واحدةً، وقع ثنتان؛ لأن قوله ثلاثةٌ إلا واحدة، عبارة عما يعبّر عنْه بلفْظ الاثنتين، وإذا قال: ثلاثاً إلا اثنتين، وقَعَت واحدة، وُيشْتَرَط في الاستثناء شيْئَان: أحدهما: أن يكون مُتَّصِلاً باللفظ، فلو انفصل، لم يؤثِّر الاستثناء، وسكتة التنفس والعي، لا تمنع الاتصال. قال الإِمام -رحمه الله-: والاتصال المعتبَرُ هاهنا أبلغُ ممَّا يرعى بين الإِيجاب والقَبُول (¬1)، فإن الإِيجاب والقبول صادران من شخصَيْن، والمقصود ألا يتخلَّلهما ما يشعر بإعراضه عن الجواب، والاستثناء والمستثنى منْه صادران من شَخْص واحد، وقد يحتمل بين كلام شخصين ما لا يحتمل بين أبعاض كلامِ الوَاحِد، ولذلك لا ينقطع الاتصال بيْن الإِيجاب والقَبُول بالكلام اليسير على الأصح، وفي الاستثناء يقطع، هذا هو الظَّاهر، وحَكَى القاضي ابن كج -رحمه الله- وجْهاً آخر أنَّ الكلام اليسير الأجنبيَّ بين المستثنى والمستثنى منْه لا يَقْدَح في الاستثناء، ثم هلْ يشْتَرَط مع اتصال اللَّفْظ أن يكُونَ قصد الاستثناء مقْروناً بأول الكلام فيه وجهان: أحدهما: لا، لو بَدَا لَهُ الاستثناء بعْد تمام المستثنى منْه، فاستثنى، حكم بموجبه، وعن الشَّيْخ أبي محمَّد نسبة هذا الوجْه إلى الأستاذ أبي إسحاق -رحمه الله- وأصحُّهما، وادعى أبو بكر الفارسيُّ الإِجماع علَيْه: أنَّه لا يُعْمَل (¬2) بالاستثناء، ويقع الطلاق؛ لأن الاستثناء بعْد الفصل مُنْشَأٌ بعد لحوق الطلاق، فيلغو. وما ذكرنا من الاتصال لفظاً، واقتران القصْد بأول الكلام حكْمُه في الاستثناء بـ"إِلاَّ" وأخواتها وفي التعليق بمشيئة الله تعالى، وفي سائر التعاليق واحد. والثاني: ألاَّ يكون مستغرقاً؛ ليبقى شيْء من المستثنى منْهُ (¬3) وإلا فهُو رفْع الطلاق ¬
ونازلاً منزلة قوله: "أنْت طالقٌ طلاقاً لا يَقَعُ عليْك". قال: "وفيه فصْلان" إلى قوله: "على أصح الوجهين" كما أن إخْرَاج بعْض ما يتناوله الكلام بكلمة "إلا" وما في معناها يُسَمَّى استثناء، فتعليق الطلاق والعتاق وغيرهما بمشيئة الله تعالى يُسمَّى استثناءً، فلما كان الباب مُتَرْجماً بالاستثناء، ووقع اللفظ على النوعَيْن، فيه عقد فصلين: أحدهما: في الاستثناء بـ"إلا" ونحوها. والثاني: في التعليق بمشيئة الله تعالى، وأما التعليق بمشيئة النَّاس، فقد أَفْرَد له فصْلاً في قِسْم التعليقات. قال الإِمام: ولا يبعد عن اللُّغَة تسمية كلِّ تعليق استثناءً لأن قول القائل "أنْتِ طالقٌ" يقتضي وقوع الطلاق من غير تقييد يقصد، فإذا علَّقه بشَرْط، ثناه عن مقتضى إطلاقه، كما أن قوله: أنْتِ طالقٌ ثلاثاً إلا طلقةً يثنى اللفظة عن مقتضاها، إلا أنَّه اشتهر في عُرْف أهل الشريعة تسمية للتعليق بمشيئة الله تعالى خاصَّة، أمَّا الفَصْل الأول فأهمُّ ما يقع فيه بيانُ ما يكون مستغرقاً من الاستثناء، وما لا يكون فلذلك تَرْجَم المستغرق، وإن كان يشْتَمِل على ما لا يتعلق بالاستغراق كالحُكم في قوله: أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلا نصفاً، وفيه صور: إحداها: إذا قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلا ثلاثاً، فالاستغراق فيه ظاهر، والاستثناء باطلٌ. ولو عطَفَ بعْض العَدَد على بعض، إما في المستثنى منْه، أو في المستثنى، أو فيهما، فوجهَانِ؛ في أنَّه هل يجْمع بينهما: أحدهما: يجْمع؛ لأنَّه لو قال: عليَّ درْهَم ودرهم، يلزمه درهمان، كما لو قال: عليَّ درهمان. وأصحهما: المَنْع، وجْه أجاب ابن الحَدَّاد؛ لأن الجملتين المعطوفتين يفردان الحكم، وإن كان "الواو" للجمع؛ ألا تَرَى أنَّه لو قال لغير المدخول بها: أنتِ طالقٌ وطالقٌ، لا يقع إلا واحدة، ولا ينزل منزلة ما لو قال: أنتِ طالقٌ طلقتين، فإذا عُرِف ذلك، فلو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلا اثنتين وواحدةً أو إلاَّ اثنتين وإلا واحدة، فعلى الوجْه الأوَّل يجمع بينهما فيكون الاستثناء مستغرقاً ويقع الثلاث، وعلى الثاني تخْصيص البُطْلاَن بالواحدة التي بها يقع الاستغراق، فيقع طلقة، ولو قال: ثلاثاً إلا واحدةً، واثنتين فعلى الأول: يقع الثلاث، وعلى الثاني: تخصيص البطلان بالثنتين، ويصحح استثناء الواحدة، فتقع طلقتان.
ولو قال: أنتِ طالقٌ طلقتَيْن وواحدةً إلا واحدةً فعلى الوجه الأوَّل يَجْمَع بينهما، فتكون الواحدة مستثناة عن الثلاث، فتقع طلقتان، وعلى الثاني: لا يَجْمَع، وتكون الواحدة مستثناةً عن الواحد، فيقع الثلاث، وحكى الشيخ أبو عليٍّ -رحمه الله- طريقةً قاطعةً بِرَدِّ الاستثناء إلى الواحدة، وإيقاع الثلاث بخلاف ثلاثاً إلاَّ اثنتين وواحدةً فرْقاً بأن ضم أحد الاستثنائين إلى الآخر هناك يوقع الثلاث، وفيه تغليظٌ عليه، واحتياط الضمِّ ها هنا تخفيفٌ وترك الاحتياط، فلا يصار إلَيْه. ولو قال: أنْتِ طالقٌ واحدةً واثنتين إلا واحدةً، صَحَّ الاستثناء على الوجهَيْن، ولو قال: ثلاثاً إلا واحدةً واحدةً واحدةً، فعلى الوجْهِ الأوَّل: يقع الثلاث، فكأنَّه استثنى الثلاث من الثلاث، ويُحكَى هذا عن أبي حنيفة -رحمه الله- وعلى الثاني: يصحُّ استثناء اثنتين، ولا يصحُّ استثناء الثالثة، ولو قال: أنتِ طالقٌ واحدةً وواحدةً وواحدةً إلا واحدةً، أو قال: طلقةً وطلقةً وطلقةً إلا طلقةً، فعلى الأول: تقع طلقتين، كما لو قال: ثلاثاً إلا واحدةً، وعلى الثَّاني، يقع الثلاث، وكان استثناء الواحِدَة من الواحدة، ولو قال: واحدة، وواحدة، وواحدة إلا واحدة، وواحدة، وواحدة، وقَع الثلاث على الوجهين معاً لأنَّه إن جُمَعَ، فهو استثناء ثلاثة من ثلاث وإنْ لم يجْمَع فهو استثناء كُلِّ واحدةٍ من واحدةٍ ولو قال: أنتِ طالقٌ واحدةً بل واحدةً ثم واحدةً إلا واحدة، فلا جَمع؛ لتغاير الألْفَاظ، والاستثناءُ باطلٌ، ونقل الحناطي وجهاً آخر يصحُّ الاستثناء، ولو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلا واحدةً وواحدةً. قال الشيخ أبو عليٍّ -رحمه الله-: لا يَختَلِف الأصحابُ أنَّه يجمع بينهما، ويصحان، ولا يقع إلا ما يبقى بعد الاستثنائين، وهو طَلْقةٌ، ونقل القاضي ابن كج -رحمه الله- فيه وجهَيْن: أحدهما: هذا. والثاني: أنَّه يقع الثلاث، ويجعل قوله "وواحدة" عطفاً على قوله: "إلاَّ واحِدَةً" (¬1) وثلاثٌ إلاَّ واحدة اثنتان؛ فكأنه قال: اثنتين وواحدة (¬2). وقوله في الكتاب "وَعَلَى هَذَا الخِلاَفِ يبتنى قولُه: أنْتِ طالقٌ طلقتين وواحدةً إلا واحدةً" يجوز إعلامه بالواو؛ للطريقة التي حكاها الشيخ أبو عليٍّ عَلَى أن هذه الصورة لا تبنى على ذلك الخلاف، ويقطع فيها بوقوع الثلاث. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِيَةُ): الاسْتْثَنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ وَمِنَ الأِثْبَاتِ نَفْيٌ، فَلَوْ قَالَ: أنْتِ ¬
طَالِقٌ ثَلاَثاً إِلاَّ ثِنْتيْنِ إلاَّ وَاحِدَةً وَقَعَ ثِنْتَانِ مَعْنَاهُ إِلاَّ ثِنْتَيْنِ لاَ تَقَعُ إِلاَّ وَاحِدَةٌ مِنَ الثِّنْتَيْنِ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثاً إِلاَّ ثَلاَثاً إِلاَّ وَاحِدَةً وَقَعَتْ ثِنْتَانِ لأَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنِ الاسْتِغْرَاقِ بِقَوْلِهِ إِلاَّ وَاحِدَةً، وَقِيلَ: يَقَعُ الثَّلاَثُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: بيَّنَّا في الإِقرار أن الاستثناء من الإِثبات نفي، ومن النفي إثبات فإذا قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدة، وقعت طلقتان، والمعنى ثلاثاً يقعْنَ إلا ثنتين لا يقعان إلا واحدةً تَقَعُ مِن الثِّنْتَيْن، فتنضم هي إلى الباقية من الثَّلاث، ويقعان، وأبْدَى الحناطي وجْهاً آخر على سبيل الاحتمال: أن الاسثتناء الثاني ينصرف إلَى أول اللفظ أيْضاً، وعلى هذا فيكون الحُكْم كما لو قال: إلا اثنتين وواحدة، ولو قال: ثلاثاً إلا ثلاثاً إلا واحدةً، ففيه ثلاثةُ أوجُه: أحدها: أنَّه تقع ثنتان؛ لأنَّ الاستثناء الأوَّل فاسِدٌ؛ لاستغراقه، فينصرف الاستثناء الثَّانِي إلى أوَّل الكلام، ويصير كأنَّه قال: أنْتِ طالقٌ ثلاثةً إلا واحدةً. والثاني: وهو اختيار القاضي ابن كج -رحمه الله-: أنَّه تقع واحدة؛ لأنَّه لما عَقَّب الاستثناء بالاستثناء، خَرَج الأول عن أن يَكُونَ مستغرقاً، وكان ذلك استثناء ثلاث إلا واحدة من ثلاث، وثلاث إلا واحدة ثنتان، فكأنَّه قال: ثلاثاً إلا اثنتين. والثالث (¬1): ويُحْكَى عن أبي عليٍّ الطُبَرِيِّ -رحمه الله-: أنَّه تقع الثلاث؛ لأن الاستثناء الأَوَّل مستغرق لاَغٍ، والثاني مرتَّب على ما هو لغْوٌ، فيلغو أيضاً ونظْمُ الكتاب يقتضي ترجيح الوجه الأوَّل، لكن الأصحَّ على ما ذكَره الإِمام، وصاحب الكتاب -رحمهما الله- الوَجْهُ الثاني، ولو قال: أنْتِ طالقٌ ثلاثاً إلا ثلاَثاً إلا اثنتين، فعلى الوجه الأوَّل تقع طلقة واحدةً، وعلى الثاني اثنتان، وعلى الثالث الثلاث، حكاه في "الشامل" عن ابن أبي هريرة ولو قال: ثلاثاً إلاَّ اثنتين إلا اثنتين، يقع واحدةً ويلغو الاستثناء الثاني، وحكى الحناطي فيما لو قال: ثلاثاً إلا واحدةً إلا واحدةً وجهَيْن: أحدهما: وقوع الثلاث. والثاني: وقوع اثنتين، وفيما لو قال: اثنتين إلا واحدةً إلا واحدة وجْهَيْن: أحدهما: وقوع ثنتين. والثاني: وقوع واحدة، كأن الأول يوجَّه بأن المعنى إلا واحدةً لا يقع إلا واحدة تقع، فتنضم إلى ما بقي من صدْر الكلام. والثاني: بأن الاستثناء الثاني باطل؛ لاستغراقه، فيبقى الاستثناء الأول، وحَكَى فيما لو قال: أنْتِ طالقٌ ثلاثاً إلا ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدةً وجهَيْنِ: ¬
أحدهما: وقوع ثنتين. والثاني: وقوع واحدة، قال: ويُحْتَمَل أن يقع الثلاثُ، وقد يوجه الأول بأن الاستثناء الأوَّل باطلٌ؛ لاستغراقه، فيَلْغُو ويبقى قوله "ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدة" والثاني أن المعنى إلا ثلاثاً لا يقع إلا اثنتين يقعان إلا واحدةً لا تقع، فتبقى واحدةٌ واقعةً، وأيضاً فإن المستثنى من الثلاث ثانياً اثنتان إلا واحدة، واثنتان إلا واحدة واحدة، فيبقى منْها اثنتان فيهما المستثنيان عن الثلاثة المذكورة، ولا يبقى إلا واحدة، والثالث بأن الاستثناء الأوَّل باطلٌ، لاستغراقه، وكذا ما بعده لترتبه على البَاطِل. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثَةُ): لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ خَمْساً إلا ثَلاَثاً وَقَعَ ثِنْتَانِ، وَقيلَ الزِّيَادَةُ تَلْغُو فَيَبْقَى الاسْتِثْنَاءُ مُسْتَغْرِقاً، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعاً إلا اثْنَتَيْنِ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، وَعَلَى الأَوْلِ تَقَعُ اثْنَتَانِ، وَلَوْ قَالَ أنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثاً إلاَّ نِصْفَ طَلْقَةٍ وَقَعَ الثَّلاَثُ لأَنَّهُ أَبْقَى النِّصْفَ فَيَكْمُلُ، وَقِيلَ: اسْتِثْنَاءُ النِّصْفِ كَاسْتِثنَاءِ الوَاحِدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أدرج في هذه الصورة مسألتين: إحداهما: إذا زاد المُطْلَق على العدد الشرعيِّ من الطَّلاق، واستثنى، فالاستثناءُ يَنْصَرِف إلى العَدَد المذكور، أو إلى المَمْلُوك من الطلاق فيه وجهان: أصحُّهما: وبه قال: أبي الحدَّاد، وابن القاص أيضاً: أنَّه ينصرف إلى المذكور؛ لأن الاستثناء لفظيٌّ، فيُتَّبَع فيه موجبُ اللَّفْظ، ولا فَرْق في اللغة بين اثنين وبين خمسة إلا ثلاثة. [والثاني]: ويحكى عن أبوي علي بن أبي هريرة والطَّبَريِّ -رحمهما الله- أنَّه ينصرف إلى المملوك؛ لأنَّ الزيادة لغو لا سبيل إلى إيقاعها؛ فلا عبْرة بِذِكْرها، فإذا قال: أنْتِ طالقٌ خمْساً إلا ثلاثاً، وقَعَتْ ثنتان على الوجْه الأول، وثلاث على الثاني، ولو قال: خمْساً إلا اثنتين، وقَعَت ثلاثٌ على الوجه الأول، وواحدٌ على الثاني، ولو قال: أنْتِ طالقٌ أربعاً إلا اثنتين، وقَعَت ثنتان على الأوَّل، وواحدةٌ على الثاني، ولو قال: أربعاً إلا واحدة، وقَعَت ثلاثٌ على الأوَّل ثنتان على الثاني ولو قال: أربعاً إلا ثلاثاً، وقَعَتْ على الأول واحدة، وثلاثاً على الثاني، ولو قال: ستاً أو سبعاً أو عدداً فوق ذلك إلا ثلاثاً وَقع الثلاث على الوجهَيْن، أما على الأول فلبقاء الثلاث من المستثنى منْه، وأما على الثاني؛ فلأنَّه كما لو قال: ثلاثاً إلاَّ ثلاثاً. ولو قال: ستاً إلاَّ أربعاً، فعلى الأول: يقع طلقتان، ويُحْكَى ذلك في هذه الصورة عن نَصِّه في البُوَيْطِيِّ، وعلى الثاني يقع ثلاث؛ لأنَّ المعنى: أربعاً تقع إلا ثلاثاً لا تقع، إلا اثنتين يقعان، فتنضمان إلى الواحدة الباقية من الأربَعِ، وعلى الثاني: هُوَ كما لو قال: ثلاثاً إلا ثلاثاً إلا اثنتين، وقد سَبَق حكمه.
ولو قال: خمْساً إلاَّ اثنتين إلا واحدةً، فعلى الأول تَقَع الثلاث، وعلى الثاني تقع ثنتان، [كما] (¬1) لو قال ثلاثاً إلا اثنتين إلاَّ واحدةً. ولو قال: ثلاثاً وثلاثاً إلاَّ أربعاً، فإنْ جمعنا بين الجُمَل المعطوفة، واعتبرنا الزِّيَادة على العَدَد الشَّرْعِيِّ، فهو كما لو قال: ستّاً إلا أربعاً [و] (¬2) إلا طُلِّقَتْ ثلاثاً. فَرْعٌ: لو قال: أنْتِ بائنٌ إلا بائناً، ونوى بقوله: أنت بائنٌ الثَّلاثَ. قال إسماعيل البوشنجي -رحمه الله- يبنى هذا على ما لو قَالَ: أنْتِ واحدةٌ، ونوى الثَّلاثَ، تقع الثلاث؛ اعتباراً بالمنوي، أولاً يقع إلا واحدة، اعتباراً باللفظ إن غلَّبنا اللفظ، فإذا الاستثناء لاَغٍ، كما لو قال: أنتِ طالقٌ واحدةً إلا واحدةٌ، وإن غلَّبنا المنويَّ صح الاستثناء، ووقَعَتْ طلقتان، كما لو تلفَّظ بالثلاث، واستثنى واحدة، وهذا ما رجَّحه، ونَصَره (¬3)، وفي معشى هذه الصورة ما إذا قال: أنت بائن إلا طالقاً، ونوى بقوله: "أنتِ بائنٌ" الثلاثَ، وما إذا قال: أنتِ طالقٌ إلاَّ طالقاً، ونوى قوله: "أنْتِ طالقٌ الثلاثَ، ويظهر مِنَ الفرع أنَّه لو قال: أنْتِ طالقٌ ثلاثاً إلا طالقاً، يصحُّ الاستثناء، وكقوله: "إلا طلقةً" وكذا لو قال: أنتِ طالقٌ، وطالقٌ، وطالقٌ، إلا طالقاً، ونوى تَكْرار الجُمَل المعطوفة، وفيه احتمال آخر. ولو قدم الاستثناء على المستثنى منْه، فقال: أنتِ إلا واحدةً طالقٌ [ثلاثاً]، حكى صاحب "المهذب" عنْ بعض الأصحاب أنَّه لا يصحُّ الاستثناء وتقع الثلاث؛ لأن الاستثناء لاستدراك ما تقدَّم من الكَلاَم قال: ويُحْتَمَل عنْدي أنَّه يصحَّ ولا تقع إلا طلقتان (¬4)، واستشهد بقول الفَرَزْدَق يمدح عبد الملك بن هشام بن عبد المَلِك. وَمَا مِثْلُهُ في النَّاسِ إِلاَّ مُمَلَّكاً ... أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِنُهْ (¬5) ¬
الملك أبو الممدوح. الثانية: قدْ مرَّ أن إيقاع بَعْضِ طلقة كإيقاع كلِّها. ولو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلا نصْفَ طلقة، فوجهان، حكاهما الشيخ أبو علي وغيره. أصحُّهما: أنَّه تقع الثلاث؛ لأنَّه أبْقَى نصْف طلقة، فتُكَمَّل. والثاني: أن استثناء النصْف كاستئناء الكُلِّ، كما أن إيقاع النصْف، كإيقاع الكُلِّ، فتقع طلقتان، والظاهر الأوَّل، والتكميل إنَّما يكُونُ في طرق الإِيقاع؛ تغليباً للتحريم. ولو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلا طلقةٌ ونصْفاً، فَعَلَى الأصح: تقَعُ طلقتان، وعلى الثاني: طلقة، ولو قال: طلقتين إلا نصْفَ طلقة، فعلى الأول: الأصَحُّ تقع طلقتان، وعلى الثاني طلقة، ولو قال: طلقة إلا نصْفَ طلقة، وقَعَت طلقةٌ بلا خلاف. ولو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلا اثنتين ونصفاً، فإن جعلْنا استثناء النصْف كاستثناء الكُلِّ، فَهُوَ كما لو قال: أنْتِ طالقٌ ثلاثاً إلاَّ اثنتين وواحدةً، وإن قلْنا بالأصحِّ، ففيه احتمالان للإِمام -رحمه الله-: أحدهما: يبطل ذكر النصف، ويبقى قولُه: "أنْتِ طالقٌ ثلاثاً إلا اثنتين". والثاني: أنَّه يجعل ذكر النصف كذكر الكُلِّ؛ لأنَّه يؤثر في الإِيقاع إذا جمعْنا بيْن المستثنين المعطوف أحدهما على الآخر. ولو قال: أنْتِ طالقٌ ثلاثاً إلا اثنتين إلا نصف طلقةٍ، قال الإِمام: يَصِحُّ الاستثناءُ الثاني؛ فإنَّه يؤثر في الإيقاع لأن الاستثناء من النَّفْي إثباتٌ، ولو قَالَ: أنتِ طالقٌ واحدةً ونصْفاً إلا واحدة، ذكرَ الحناطي -رحمه الله- نَقلاً أنه تقع طلقة، واحتمالاً، أنَّه تقع طلقتان (¬1)، والوجهان مبنيان على أن الاستثناء ينْصَرِف إلى المذكورين جميعاً أو إلى الثاني، وعلى التقدير الثاني يكون الاستثناء مستغرقاً، فيبطل، ويقع طلقتان. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّانِي في التَّعْلِيقِ بِالمَشِيئَةِ): فَإذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللهُ لَمْ يَقَعْ لأَنَّهُ لاَ يَدْرِي أنَّهُ شَاءَ الله تَعَالَى أَمْ لاَ، وَكَذَلِكَ في العِتْقِ (م)، وَنَصَّ عَلَى أنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إنْ شَاءَ اللهُ لاَ يَكُونُ مُظَاهِراً، وَقَدْ قِيلَ بِطَرْدِ هَذَا القَوْلِ فِي ¬
سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، وَلَوْ قَالَ يَا طَالِقُ إنْ شَاءَ اللهُ يَقَعُ فِي الظَّاهِرِ لأَنَّ الاسْمَ لاَ يَحْتَمِلُ الاسْتِثْنَاءَ، وَلَوْ قَالَ: يَا طَالِقُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثاً إِنْ شَاءَ الله وَقَعَتْ وَاحِدَةً بِقَوْلِهِ يَا طَالِقُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثاً يَا طَالِقُ إنْ شَاءَ اللهُ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ وَيكُونُ قَوْلُهُ يَا طَالِقُ وَصْفاً بِالثَّلاَثِ فَيَرْجعْ الاسْتِثْنَاءُ إِلَى الثَّلاَثِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال: أنْتِ طالقٌ إن شاء الله، نُظِرَ، إِن سَبَقت الكلمة إلى لسانه، بتعوده لها، كما هو الأدب أو قصد التبرك بذكر الله تعالى، وأراد الإِشَارة إلى أن الأمور كلَّها بمشيئة الله، ولم يقْصِد تعليقاً محقَّقاً لم يؤثر ذلك، ووقع الطلاق وإن قَصَد التعليق حقيقة لم يقع الطلاق، نصَّ عليه في "المختصر" وغيره، وعن رواية صاحبة "التقريب" والشيخ أبي عليٍّ -رحمهما الله- قول آخر: أنَّه يقع الطلاق، ولا يُؤَثِّر الاستثناء، وأخذ بعضُهم هذا القَوْل من نصٍّ رُوِيَ في الظِّهَار: أنَّه لو قال: أنْتِ عَلَيَّ كظَهْر أمِّي إن شاء الله، يكون مظاهراً، ويلْغُو الاستثناء ووجه القول: بأن الاستثناء يَرْفَع الطلاق أصْلاً ورأساً فأَشْبَه الاستثناء المستغرق، وما إذا قال: أنتِ طالقٌ طلاقاً لا يقع عليْكِ، فإنَّ الكلام في الصورتين متناقض غيْر منتظم، وهاهنا التَّعْلِيق منتظم، والصفة المعلَّق عليها قدْ تُعْلَم، وقد تُجْهل، وإذا جُهِلَت لم يُحْكَم بنزول الطلاق، وفَرَّق بعضهم بين الطلاق والظهار بأن الطَّلاق إخبارٌ، والإِخبارُ عن الواقع لا يتعلَّق بالصفات، بخلاف الإِنشاء، وهذا القائِلُ ذَهَب إلى أنَّه لو قال: لِفُلاَنٍ عليَّ عشرة إن شاء الله، يلزمه العشرة، ولا يُعْمَل الاستثناء، وظاهر (¬1) المَذْهَب، وإن سلم قول في المسألة أنَّه لا يقع الطلاق عند الاستثناء، رُوِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَعْتَقَ أَوْ طَلَّقَ وَاسْتَثْنَى فَلَهُ ثُتيَاهُ" (¬2) وجهوه بشيئين: أحدهما: إن المشيئة المعلَّق عليها عَيْبٌ عنا، فإذا لم يُعْلَم حصول الوَصْف المعلَّق عليه، لم يُحْكَم بوقوع الطلاق. والثاني: إن قوله: "إن شاء الله" يقتضي حصول المشيئة وحدوثها بعد التعليق، كما لو قال: "إن شاء زيد أو دخل الدار" فإن اللَّفْظ يقع على مشيئة، ودخول يحدثان من بعد، ومشيئةُ اللهِ تعالى قديمةٌ لا يُتَصَوَّر حدوثها، وعن الحليمي: أنَّه اختار التوجيه ¬
الثاني، واعترض على الأول بأن قضيته أن يَقَع ثلاثُ طلقات، فيما إذا قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً إن شاء الله، ثم قال: أنتِ طالقٌ، فإنا عَرَفْنَا مشيئة الله تعالى، حيْث وقَع الطلاق، كذا حكاه أبو الحسن العَبَّادِيِّ، ولك أن تقول: إنما يَلْزم ذلك، وأن لو كان المعنى "إن شاءَ الله أن تطلقي" أما إذا كان المعنى: إنْ شَاء الله أن تُطَلَّقِي ثلاثاً، فلا يلزم، والظاهر: الثاني؛ لانصراف اللفظ إلى جملة المذكور، ثم مشيئة الله تعالى، وإن كانَتْ قديمة، لكنَّها تتعلَّق بالحادثان، ويصير الحادث عنْد حدوثه مراداً، فقدله: "إن شَاءَ الله تعليق بذلك التعليق المتجدد، ولا فرق بين أن يقول: أنتِ طالق وبيْن أن يقول إن شاء الله فأنتِ طالقٌ وأَلْحَق بهما في "الشامل" ما إذا قال: إن شاء الله، أنتِ طالِقٌ، وذكر الحناطي في هذه اللفظة وجْهاً آخر، ولو قال: أنتِ طالقٌ متى شاء الله، فهو كقوله: إن شاء الله، وكذا يَمْنَع الاستثناء انعقاد التعليق، مثْل أن يقول: أنتِ طالقٌ إن دخلْتِ الدار، وان شاء الله، أو إذا شاء الله، وَيمْنَع العتق إذا قال: أنتَ حرٌّ، إن شاء الله، وانعقادَ اليمين والنَّذْر، وصحة العَفْو عن القِصَاص، والبَيْع، وسائر التصرُّفات. وقال أحمد: الاستثناء يُؤَثِّر في الطلاق؛ ولا يؤثر في العِتْق؛ لأن العتق محبوب، والطلاق مكروه، فكأنه يشاء العتق دون الطلاق، وروى الإِمام -رحمه الله- وجماعة عن مالك -رحمه الله- مثله، والأثبت عنْه أنَّه لا يؤثِّر الاستثناء في العِتْق، ولا في الطلاق، وإنَّمَا يُؤثِّر في اليمين بالله تعالى، ولو قال: أنتِ طالقٌ إذا شاء الله أو أن شاء الله بفتح الهمزة، ويقع الطلاق في الحال؛ لأنَّه تعليق، وهذا لو قال: إذا شاء زَيْدٌ أو إنْ شاء، ونقل الحناطي في "إن شاء الله" وجْهاً ثانياً أنَّه لا يقع الطلاق، وثالثاً: أنَّه يُفرَّق بيْن الخبير والجاهل باللغة وهذا ما اختاره القاضي الرُّويانيّ -رحمه الله- ولو قال: أنتِ طالقٌ ما شاء الله، ففي "التتمة" وغيره أنَّه يقع الطلاق، ولا يقع أكثر من واحدة (¬1)؛ لأنا لا نَدْري هلْ شَاء أكْثَرَ من ذلك، ولو قال: أنتِ طالقٌ ثَلاَثاً، وثلاثاً إن شاء الله أو ثلاثاً وواحدةً إن شاء الله أو واحدةً وثلاثاً إن شاء الله، قال ابن الصَّبَّاغ -رحمه الله- الَّذي يقتضيه المَذْهَب أنَّه لا يقع شيْء، وتابعه المتولي [والوجه بناؤه على الخلاف السابق أن والاستثناء بعد الجملتين ينصرف إليهما أم إلى الأخيرة فقط وكذا ذكره الإِمام] وقد ذَكَرنا ¬
أن الظاهر الانصراف إلى الأخيرة وحْدَها، ويوافق هذا البناء ما ذكر في "التهذيب" أنه لو قال: حفْصَة وعمرة طالقتان، وإن شاء الله، فيرجع الاستثناء إلى عمرة وحدها أو إليهما جميعاً؟ والأصحُّ الأول (¬1). ولو قال: أنتِ طالقٌ واحدةً واثنتين إن شاء الله، ففي "النهاية" تخريجه على الوجهَيْن إن جمَعْنا المُفَرَّق، لم يقع شيْء، وإن لم يُفَرَّق، وقعَتْ واحدة، وعن رواية الشيخ أبي محمد عن القَفَّال أنه لو قال: أنتِ طالقٌ واحدة ثلاثاً إن شاء الله، من غير واو، لم يقع شيْء؛ فإن الواحدة المقدَّمة عائدةٌ في الثلاث، والاستثناء راجِعٌ إلى جميع الكلام، [ولو] (¬2) قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً ثلاثاً، إن شاء الله، فكذلك الجواب، وفي معناه ما لو قال: أنتِ طالقٌ، أنْتِ طالقٌ أنتِ طالقٌ إن شاء الله، وقصد التأكيد. ولو قال: يا طالقُ، إن شاء الله، ففيه وجهان: أظهرهما: أنه يقَع الطَّلاق ويلغو الاستثناء؛ لأن الاستثناء إنَّما يُعَاد، ويعمل في الأفعال دون الأسماء؛ ألا تَرَى أنَّه لا ينتظم أن يقال: يا أَسْوَد، إن شاء الله، لكن قضية هذا القَدْر من التوجيه أنه يختصَّ الاستثناء بقوله: طلقُتكِ، ولا يدخل في قوله: "أنْتِ طالقٌ وقد يتخيل فرْق بينهما، ويقال يا كذا، يقتضي حصول ذلك الاسم أو الصفة حال النداء ولا يقال للحاصل: إن شاء الله. وقوله: "أنْت كذا" قد يُسْتَعْمَل عند القرب منْه، فيدفع حصوله، كما يقال للقريب من الرسول: أنْتِ وَاصِلٌ، والمريض المتوقع شفاؤه على القرب: إنَّه صحيحٌ، وحينئذٍ فينظم الاستثناء. والوجه الثاني، وإليه ميل الإِمام -رحمه الله-: أنَّه لا يقع؛ لأنَّه إنشاء في المعنى، كقوله: "طلقْتُكِ، وأنت طالقٌ"، ولو قال: يا طالقٌ، أنت طالقٌ ثلاثاً إن شاء الله، وقعَت طلقة بقوله: يا طالقُ، ولم يقع شيْء بقوله: "أنْتِ طالقٌ ثلاثاً" للاستثثاء. ولو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً يا طالقٌ إن شاء الله، فالمذكور في الكتاب، هو الذي حكاه الإِمام عن القاضي والأصحاب؛ تَفْريعاً عَلَى أن النداء: لا يدخله الاستثناء أنه لا يقع عليها شيْء أما بقوله: أنت طالقٌ ثلاثاً؛ فلأن الاستثناء مُنْصَرِف إلَيْه لامتناع انصرافَهُ ¬
إلى قوله: يا طالقُ، وتخلُّل هذه الكلمة يَقْدَحُ؛ لأنه ليس أجنبيًّا عن هذه المخاطبة، فأشبه ما إذا قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً، يا حفصة إن شاء الله، وأما بقوله: طالقُ فلأن؛ وصْفَها بالطالقية، والصيغة هذه، تشعر بأنه بناه على الطلقات الَّتي أوقعها، فإذا لغت بسبب الاستثناء، لغى الوصف المبنيُّ عليها، ووراء هذا وجْهَان: أحدهما: وهو المذكور في "التتمة" أنَّه تقع طلقة واحدة بقوله: يا طالقُ، كما في الصورة السابقة. والثاني: أنَّه تقع الثلاث، ووجهه الإِمام -رحمه الله- بطريقتين: أحدهما: البناء على أن النداء يدخله الاستثناء، فإن الاستثناء حينئذٍ يتعلَّق بقوله: يا طالقٌ، ومنصرف عن قوله: أنتِ طالقٌ ثلاثاً، فيقع. والثاني: أنَّ قوله "طالقٌ" يَقْدَح في اتصال الاستثناء بأوَّل الكلام؛ لأنه فضلة، فيستغنى عنْها بخلاف قوله: "يا حفصة" فإنه جار على الاستقامة وحسن النظم، ولتعلَّم لهذين الوجهين قولُه في الكتاب "لم يَقَعْ شَيْء" بالواو، ويشبه أن يكون الأظهر الوجْه الذاهب إِلى وقوع طلقة واحدة فإن قوله: "يا طالق" كلام مستقل بنفسه؛ فينبغي أن يترتَّب حكمه عليْه تقدَّم أو تأخَّر؛ ويؤيده أنَّه ذكر صاحب "التهذيب" وغيْره أنه لو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً يا زانية إن شاء الله، يَرْجِع الاستثناء إلى الطلاق، ويجب الحدُّ بقوله: "يا زانية"، فكما ترتَّب موجب قوله: "يا زانية" عليه كذلك يترتب موجب قوله: "يا طالق" (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ يَشَأ اللهُ أَوْ إِلاَّ أنْ يَشَاءَ اللهُ لَمْ يَقَعْ لِلجَهْلِ بِالمشِيئَةِ، وَلأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ الوُقُوعُ عَلَى خِلاَفِ المَشِيئَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وَصَفَهُ بِمُحَالٍ فَيَلْغُو وَيَقَعُ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إِلاَّ أنْ يَدْخُلَ زَيْدٌ الدَّارَ لَمْ يَقَعْ إِلاَّ إِذَا مَاتَ زَيْدٌ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَتَبَيَّنَ وُقُوعُهُ أَوَّلاً، فَلَوْ شَكَّ في دُخُولِهِ فَقِيلَ إِنَّهُ يَقَعُ؛ لأَنَّ الاسْتِثْنَاءَ صَارَ مَشْكُوكاً فِيهِ، وَقِيلَ: لاَ يَقَعُ؛ لأَنَّ عَدَمَ الدُّخُولِ مُعَلَّقٌ عَلَيْهِ وَصَارَ مَشْكُوكاً فِيهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: بين الحكم فيما إذا علّق الطلاق بمشيئة الله تعالى، فأمَّا إذا علَّقه بعدم المشيئة، فقال: أنتِ طالقٌ إن لم يشأ الله، لم يقع الطلاق؛ لأنَّ عَدَم المشيئة غير معلوم، كما أن المشيئة غيْر معلومة؛ ولأن الوقوع بخلاف مشيئة الله تعالى محالٌ، فأشْبَه ما إذا قال: أنتِ طالقٌ إن صعدت السماء وإن اجتمع السواد والبياض لا يقع الطلاق، وعن صاحب "التخليص" أنَّه يقع؛ لأنه رَبَط الوقوع بما يضاده؛ لأن الوقوع بِخلاَفِ مشيئة الله تعالى محالٌ، فكان كما إذا قال: أنتِ طالقٌ طلاقاً لا يقع عليْكِ، وكذا الحُكْم ¬
لو قال: أنتِ طالقٌ إن لم يشأ الله، أو ما لم يشأ الله، وقرب الخلاف في المسألة من الخلاف في مسألة دَوْر الطلاق؛ من جِهَة أنه لو وقع الطلاق، لكان بمشيئة الله، ولو شاء الله وقوعه لما وقع؛ لأن التعليق بعدم المشيئة، وقد يعكس فيقال: إذا لم يقع لم يشأ اللهُ وقوعه، وإذا لم يشأ حَصَلَت الصفة، فيجب أن يَقَع، لكن لو وَقَع، لَمَا وقع لِمَا تبين فإذن الشرط والجزاء متضادَّان لا يجتمعان، كما أنَّ في مسألة الدَّوْر، وقوع طلقة في الحال، وثلاث قبلها يتضادَّان، فاختلفوا فيه، كما في مسألة الدَّوْر، منْهم من ألغى اللفظ من أصله، ومنهم من ألْغَى ما يجيْء منه التضادُّ والدَّوْر، وليس هذا كالتعليق باجتماع السواد والبياض؛ فإن التضَادَّ هناك بين السواد والبياض، لا بين الشرط والجزاء، وأمَّا التعليق بالصُّعُود فسيأتي الكلام فيه، ثم الصعود مُمْكن في نفسه، والوقوع بخلاف المشيئة غيْر ممكنٍ، ولو قال: أنتِ طالقٌ إلا أن يشاء الله، فعن القفَّال أنَّه حكى عن النَّصِّ أنه لا يقع، واختاره؛ لأن هذه الصيغة أيضاً [إنما] تعليق لعَدَمِ المشيئة لأنها تُوجِبُ حَصْر الوقوع في حال عدم المشيئة، وعن ابن سُرَيْج -رحمه الله- أنَّه يقع الطلاق؛ لأنه أوقعه وجعل الخلاف المخرج عنْه المشيئة، وأنها غيْر معلومة، فلا يحصل الخلاص، وصار كما لو قال: أنتِ طالقٌ إلا أن يشاء زيد ولمْ تعلم مشيئة، فإنه يقع الطَّلاَق، وهذا ما أورده العراقيون، ورجَّحه صاحب "التهذيب" -رحمه الله-. والأَقوى الأَوَّل وهو الذي صحَّحه الإِمام وغيْره وعليْه جَرَى صاحب الكتاب؛ فسوى بين الصيغتين، والراجح في الصيغة الأولى باتفاق الأصحاب عَدَم الوقوع. وأما إذا قال: أنْتِ طالقٌ إن لم يشأْ زَيْدٌ، فاعْلَمْ أن تعليق الطَّلاَق بعدم مشيئة الغَيْر ودخولِهِ، وسائرِ أفعاله واحدٌ والحكم فيه أنه إن وُجِدَ منْه الدُّخُول أو المشيئة أو سائر الأفعال المعلَّق عليها في مدة عمره، لم يقع الطلاق، وإن لم يُوجَدْ، حتى مات، وقع الطلاق، إنَّما يقع قبيل الموت، ولا يستند إلى وَقْت التعليق؛ لأن العَدَم المعلَّق عليه حينئذٍ يتحقق، وقد يعرض قبيل الموت ما يمنع حصول ذلك الفِعْل، وتحقُّق اليأس، فيتبين وقوع الطلاق من وقْت حصول اليأس، وكذلك ما إذا علّق على عدم مشيئة تجيء أو غَبِيَ غباوة متَّصِلَةً بالموت، فإنما يحقق عدَم المشيئة من وقْت حدوث العلة المخِلَّة بالمشيئة المعتبرة، وإن مات، وشككنا في أنَّه هل وُجِدَ منْه الصفة المعلَّق عليها فوجهان: أحدهما: أنه يقع الطلاق؛ لأن الطلاق معلَّق بعدم الدخول، وإذا شككنا في الدخول، فالأصْل العَدَم. الثاني؛ لا يقع؛ لأنا إذا شككنا في الوصْف المعلَّق عليه، فلا يُرْفَع الطَّلاق بالشك، ويُسْتَصْحب أصل النكاح، والوجهان جاريان سواءٌ كانت الصيغة أنْتِ طالقٌ إن لم يدخل زَيْدٌ الدار أو كانت الصيغة "أنْتِ طالقٌ إلاَّ أن يدخُلَ زيْدٌ الدارَ" والوقوع في
الصورة الثانية أظْهَرُ منه في الصورة الأولى؛ لأن التعليق إيقَاعٌ عنْد الشرط والاستثناء، كأنه استدراكٌ بعد الإيقاع، وقد شَكَكْنا في حصُول حالة الاستدراك، فلو قال: أنتِ طالقٌ اليوم إلا أن يشأ زيْدٌ أو يدخل الدار، فاليوم هاهنا بمثابة العمر ثَمَّ. واعْلَم أن الأكثرين أجابوا بوقُوع الطَّلاق فيما إذا مَات، وشَكْكنا في حصول الفعل المعلَّق عليه، واحتج به من قال بالوُقُوع فيما إذا قال: أنتِ طالقٌ إلا أن يشاء الله، وقَالَ: ومشيئةُ الله مبهمةٌ كمشيئة زيْدٍ هاهنا، وكما يقع الطلاق فيما إذا قال: "إلا أنْ يَشَاءَ زَيْدٌ" وأشكل الحال، يقع الطلاق فيما إذا قال "إلا أن يَشَاءَ الله". والذين لم يقولوا بالوقوع هناك منهم من فَرَّق أن المشيئة صفة طارئة على زَيْدٍ، والأصل عدمها ومشيئة الله قديمةٌ لا مَجَال فيها لهذا الأصْل، وهذا ضعيف؛ لما مرَّ أن الكلام في تعليق المشيئة لا في نفسها وأما الإِمام -رحمه الله-: فإنه اختار في هذه الصُّورة عَدَم الوقوع، كما في قوله: "إلا أن يَشَاءَ اللهُ" وكفى نفسه مؤنة الفَرْق، وهو أوجه (¬1) وأقوى في المَعْنَى، ويجوز أن يُعَلَّم قوله في الكتاب "فيلغو، ويَقَع" يجوز أن يعلَّم بالحاء؛ لأنه حكي أن الكرخي رَوَى عن أبي حنيفة -رحمه الله-، الوقوع كما حَكَاه القفَّال عن نص الشافعيِّ -رضي الله عنْه -. ولْيُعْلَمْ أن قول القائل: "أنتِ طالقٌ إلا أن يشاء الله، أو إلا أن يشاء زيْدٌ" معناه إلا أن يشاء وقوع الطلاق، كما أن قوله: "أنتِ طالقٌ إن شاء الله" معناه إن شاء وقوع الطلاق وحينئذٍ فالطلاق معلَّق بعَدَم مشيئة الطَّلاق لا بمشيئة عدم الطلاق، وعدم مشيئة الطلاق تحصل، بأن يشاء عدم الطلاق وبأن لا يشاء شيئاً أصلاً أما بعدها بلغها خبر التعليق، أو من غير أن يبلغها الخَبَر، فعلى التقديرين؛ يقَع الطلاق، وإنَّما لا يَقَع إذا شاء زيْدٌ أن يقع، وذكر بعضُهم أن معناه "أنْتِ طالقٌ إلا يشاء زيْدٌ أن لا تُطَلَّقِي" وعلى هذا، فلو شاء أن تطلق تطلق، وكذلك ذكره في "التهذيب" والصحيح (¬2) الأوَّل إلا أن يقول المعلِّق: أردتُّ الثاني. ¬
الباب الخامس في الشك في الطلاق
البَابُ الخَامِسُ فِي الشَّكِّ فِي الطَّلاَقِ قَالَ الغَزَالِيُّ: فَإِذَا شَكَّ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لاَ؟ فَالأَصْلُ عَدَمُ الطَّلاَقِ، وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ: إنْ كَانَ هَذَا غُرَاباً فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، وَقَالَ الآخَرُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ غرَاباً فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَأَشْكَلَ لَمْ تَحْرُمْ عَلَى واحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجَتُهُ، وَلَوْ قَالَ وَاحِدٌ إنْ كَانَ غُرَاباً فَزَيْنَبُ طَالِقٌ وَإِلاَّ فَغَمْرَةُ فَعَلَيْهِ أن يَمْتَنِعَ عَنْهُمَا، وَلَوْ جَرَى مِنْ شَخْصَيْنِ فِي عَبْدَيْنِ تَصَرَّفَا فِيهِمَا، فَلَوِ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا العَبْدَ الآخَرَ صَارَ مَحْجُوراً فِيهِمَا، وَقِيلَ يَتَعَيَّنْ للِحَجْرِ المُشْتَرَى. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا شكَّ الرجُل في طلاق امرأته، لم يُحْكَم بوقوع الطلاق؛ لأن الأصْل عَدَمُه وبقاء النكاح، وهذا كما أنَّه يَسْتَصْحِب أصْل التحريم عنْد الشكِّ في النِّكَاح, وأصْلَ الطهارة عنْد الشك في الحَدَث، وبالعكس قال الإِمام -رحمه الله- وهذا إذا انحسم باب الاجتهاد، وطرأ الشك يؤيد أحَدَ طرفي الشَّك باليقين السابق، ويستصحب ما كان، فأما إذا أمكن الاجتهاد؛ كمسائل الاختلاف نحو اختلاف العُلَمَاء في بَقَاء النِّكاح وعدمه مثلاً، فإنا لا نقول: تردُّدُنا في بقاء النكاح يستصحب الأصْل الذي كان، بل الطريق فيها الاجتهاد والاعتماد على الدلائلِ، والشكُّ في الطَّلاق قد يتفق في صورة التنجيز، وقدْ ينشأ في صُورة التعليق من الشك في حصول الصفة الملعَّق عليها، كما إذا قال: إنْ كان هذا الطائر غرابًا فزوجتي طالقٌ، وشَكَّ في أنه هل كان غراباً أو قال: إنْ كان غُرَاباً فزينبُ طالقٌ، وإن كان حَمَاماً، فعَمْرة طالقٌ، وتردَّد في أنه كان غراباً أو حماماً أو جِنْساً آخر، ولو شَكَّ في عَدَدِ الطَّلاق، فيأخذ بالأقَلِّ،
ويستصحب الأصْل في الزيادة، كما يستصحب عنْد الشك في الطلاق. وقال مالك -رحمه الله-: إذا شَكَّ في عددِ الطَّلاق بعْد ما تحقَّق أصْلَه، يأخذ بالأكثر كما إذا تحقَّق النجاسة في ثوبة، ولم يَعْرِفْ قدْرها، أخذ بالأكثر؛ ويغسل جميع الثوب، وأجاب الأصْحَاب -رحمهم الله- بأنَّ هناك ليس للنجاسة قدْرٌ معلومٌ حتى يستصحب أصْل العدم فيما عداه، وقد يتيقن التحريم، فوجب استصحابه إلى أن يتيقن الطهارة، وهاهنا قَدْر الطلاق من واحدة أو اثنتين مَعْلُومٌ، فيستصحب أصل العدم فيما عداه، ووزان النجاسة من مسألتنا أن يتحقَّقها في طَرَف من الثوب، ويشُكَّ في إصابتها طرفاً آخر، وحينئذٍ فلا يجبُ غَسْل الموضع المشكُوك فيه، والوَرَعُ في صورة الشَّكِّ الأخذُ بالاحتياط، فإذا كان الشكُّ في أصل الطلاق فيراجعها؛ ليكون على يقين من الحِلِّ، وإن طاب نفساً بالإِعراض عنها طلَّقَها ليحصل الحل لغيره يقيناً، وإن شكَّ في ثلاث طلقات، فإن كان الشكُّ في أنه وَقَع ثلاثٌ أو ثنتان، لم يَنْكِحْها حتَّى تنكح زوجاً غيْره، وإن شك في أنَّه وَقَعَ الثلاث أو لم يَقْع شيء طلقها ثلاثاً؛ لتَحِلَّ لغيره يقيناً. ولو كانت تحته امرأتان؛ زينب وعمرة، فقال: إنْ كان هذا الطائِرُ غراباً، فزينبُ طالقٌ، وإلا فعمرة، وأشْكَل الحال، فيقع الطلاق على واحدةٍ منهما؛ لحصول إحدى الصفتين، وعليه الامتناع منهما إلى أن يتبين الحال، وعليه البَحْث والبيان، ولو تنازع اثنان في الطائر، فقال أحدهما: إن كان غراباً فامْرأتي طالقٌ، وقال الآخر: إن لم يَكُنْ غراباً، فامرأتي طالقٌ، لم يحكم بطلاق واحدة منهما، بخلاف ما إذا اتَّحَد الشخص، وتعدَّدت المنكوحة؛ قال الإِمام -رحمه الله-؛ لأن الشخص الواحد يمكن حمله على مقتضى الالتباس، وربط [بعض] (¬1) أمره ببعض، والرجلان يمتنع الجَمْع بينهما في توجيه الخطاب، ومعلوم أن أحدهما لو انفرد بما قال لَمْ يُحْكَم بوقوع طلاقه، فيستحيل أن يتغيَّر حكمه بمقالةٍ تصْدُر من غيره، وهذا كما أنَّا إذا سَمِعْنا صَوْتاً حَدَث بيْن اثنين، ثم قام كلُّ واحد منهما إِلى الصَّلاة لم يكُنْ للآخر أن يعرض عليه، ولو أن الواحد صلَّى صلاتين تيقَّن الحَدَث في أحدهما التبست عليه يؤمر بقضاء الصلاتين، فعُلِمَ أنه إذا كان الشَّخْص واحداً، لم يمتنع توجيه الخِطَاب عليْه بمؤاخذة تتعلق بواقعتين، ولو جَرَى التعليق من اثنين كما ذَكْرنا في العِتَاق، فقال أحدهما: إن كان غُرَاباً فعبدي حُرٌّ، وقال: الآخر: إن لم يكن غُراباً فعبْدي حرٌّ، فكذلك لكل واحد منهما إمْسَاك عبْده، والتصرف فيه، لكن إذا مَلَك أحدُهما عبْدَ الآخر بشراء أو غيره، واجتمع العبدان عنْده، فيُمْنَع من التصرف فيهما لكن يؤمر بتعيين العِتْق في أحدهما؛ لأنَّه قد اتَّحَد المخاطب الآن، فأشْبَه ¬
ما إذا كانا في ملكه عنْدَ التعليقين، وعليه أن يتفحَّص عن سبيل البَيَان، وعن صاحب "التقريب" وجْهٌ آخر: أنَّه يتعيَّن للحَجْر العبْدُ المشتري فلا ينصرف فيه إلى أن يتبين ولا يمنع من (¬1) التصرف في الأول؛ لأنَّه كان يتصرَّف، فلا ينْقَطِع تصرُّفه بما طرأ، ولو باع الأول ثم اشترى الثاني، قال في "البسيط": لم أره مسطُوراً، والقياس أن ينفذ تصرفه فيه؛ لأن بيع الأول كواقعة قد انقضت، وتصرفه في الثاني واقعةٌ أخرى؛ فهو كما لو صلَّى إلى جهتين باجتهادَيْن (¬2). وهذا فيما إِذا لم يَصْدُر منْه غير التعليق السابق، فإن كان قَدْ قال للآخر: حنث في يمينك، فقال: ما حنثتُ أنا في يميني، ثم مَلَك عبْده، فيُحْكَم عليه بعتقه؛ لأنَّه قد أَقَرَّ بديته، ومن أقر بحرية عبْدٍ لغيره، ثُمَّ اشتراه، حكم (¬3) عليه بعتقه؛ مؤاخذةً له ولا رجوع له بالثمن، إذا كان قد اشتراه؛ لأنَّه عتق لإقراره، والبائع يُكذِّبه، ولو صدر التعليقان من الشريكين في عبد واحد يأتي حكمه في كتاب "العتقَ"؛ إن شاء الله تعالى، فالصورة مذكورة هُنَاك. فرع: قال إسماعيل البوشنجي: لو قال: أنْتِ طالقٌ بعَدَدِ كلِّ شعْرة على جسد إبليس، فقياس مذهبنا أنَّه لا يقع شيْء؛ لأنا لا ندري هل على جسده شَعرٌ أمْ لا؟ والأصل العَدَمُ، وعن صاحب بعْض أصحاب أبي حنيفة أنَّه تقع طلقة (¬4). ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ طَلَّقَ إِحْدَاهُمَا وَنَسِيَ فَعَلَيْهِ التَّوَقْفُ إِلى التَّذَكُّرِ، وَلَوْ قَالَ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَخَاطَبَ زَوْجَتَهُ وَأَجْنَبِيَّةً ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُّ الأَجْنَبِيَّةَ قُبِلَ فِي أَحَدِ الوَجْهَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: كان الغَرَض في الفَصْل السابق القَوْلَ في الشَّكِّ في أصْل الطَّلاق، وعدده إمَّا من شخصٍ واحد أو شخصين، والغرَضُ الآن القَوْلُ في الشَّكِّ في محَلِّ الطلاق، وقد يشتمل الفصْل على مسألتين: إحداهما: إذا طلَّق الرجُل إحدى امرأتيه بعينها، ونسي المطلقة، فعليه، أن يتوقَّف عنْهما, ولا يغشى واحدةً منهما إلى أن يتذكَّر، وهذا قد يتَّفِق فيما إذا خاطَبَ معيَّنة بالطَّلاَق، ثم نَسِيَ، وقد يفرض فيما إذا قال: إحداكما طالقٌ، ونوى معيَّنةً ثم نَسِيَ المنوية، قال الإِمام وغيره: ولا مطالبة بالبيان، والحالة هذه، إن صدَّقناه في النِّسْيان، وإن كذَّبناه، وبادَرَتْ واحدةٌ وقالت: أَنَا المطلَّقة، لم يقنع (¬1) منه في الجواب بأنْ يَقُول: نَسِيتُ، أو لا أدري، وإن كان ما يقوله محتملاً، ولكِنْ يُطَالَب بيمين جازمة عَلَى أنَّه لم يطلِّقْها، فإن نَكَل، حَلَفت، وقضى باليمين المردودة. الثانية: إذا حضَرَتْ زوجةٌ وأجنبية، فقال: إحداكما طالقٌ، ثم قال: عنيت الأجنبية، فهل يُقْبَل فيه وجهان، حكاهما الإِمام: وأصحهما: وهو الذي أوردهَ أكثر الأصحاب، وحكى عن نصه -رضي الله عنه- في "الإمْلاء" أنَّه يُقْبَل قوله بيمينه؛ لأن الكلمة متردِّدة بينهما، محتملة لهذه ولهذه، فإذا قال: عنيتها، صار كما لو قال للأجنبية: أنتِ طالقٌ. والثاني: لا يُقْبَل، وتطلَّق زوجته، لأنَّه أرْسَل الطَّلاق بين محله، وغير محله فينصرف إلى محلِّه؛ لقوته وسرعة نفوذه، وهذا كما أنَّه لو أوْصَى بطبل من طبوله، وله طبل حَرْبٍ، وطبْل لَهْوٍ تنزل الوصية على طَبْل الحَرْب تصحيحاً لها، والطَّلاق أقوى وأولى بالنفوذ من الوصية، ولو قالت زوجته، وهما حاضرتان: طلِّقْنِي، فقال: طَلَّقْتُكِ، ثم قال: عَنَيْت الأجنبية، لم يُقْبَل، ذَكَره في "التَّهْذيب"، وأمَتُه مع زوجته كالأجنبية مع الزوجة. ¬
ولو كان معَها رَجُلٌ أو دابَّةٌ فقال: عنَيْت الرجُلَ أو الدابَّة، لم يُقْبَل؛ لأنَّه ليس لهما محلية الطَّلاق، ولو كانَتْ زوجته تُسَمَّى بزينب، فقال: زينب طالقٌ، ثم قال: أردتُّ جارتي زينب لا زوجتي، فالمشهور أنَّه لا يُقْبَل، وتُطلَّق زوجته ظاهراً، لكن يدين، وفرقوا بيْن هذه الصورة والصورة السابقة؛ بأن قوله: "إحداكما" يتناولهما تناولاً واحداً، ولم يوجد منْه تصريحٌ باسم زوجته، ولا وصْف لها ولا إشارة بالطلاق، وهاهنا صَرَّح باسم زوجته، والظاهر أنَّه تُطلَّق من الزيانب زَوْجَتُه لا غيرها، وعن حكايته الشَّيْخ أبي عاصم واختيار القاضي أبي الطيِّب وغيرهما: أنَّه يُصَدَّق بيمينه، كما في الصورة السابقة؛ لأن التسمية محْتَمَلَة، والأصْل بقاء النكاح، وفرق إِسماعيل البوشنجي، فقال: إنْ قال: زينب طالقٌ، ثم قال: أردتُّ الأجنبية يُقْبَل، وإن قال: طلَّقْتُ زينبَ، وقال: أردتُّ الأجنبية لا يقبل؛ لأن هذا إنشاءٌ للطلاق، والإِنسان إنما يُطَلِّق امرأة نفسه دون الأجنبية وقوله: "أنتِ طالقٌ" إخبارٌ محتملٌ، ولا قوة لهذا الفرق؛ فإن قوله: "أنْتِ طالقٌ" محمولٌ على الإِنْشَاء أيضاً. وقوله: "طلَّقْتُك" محتملٌ للإِخبار أيضاً، ثم قضيَّته أن يفرق في الصورة الأُولى بين أن يقول: إحداكما طالقٌ (¬1)، يقول: طلَّقْتُ، أو يقول: طَلَّقْتُ إحداكما، وفيما حكَيْنَا عن "التهذيب" أنَّه لو قالت الزوجة: طَلَّقْنِي، فقال: طَلَّقْتُك، وقال: أردتُّ الأجنبية، لا يُقْبَل ما يُشْعِر بأنَّه لو لم يسبق التماس الزوجة، يُقْبَل، وحينئذٍ فيرتفع الفَرْق بين قوله: "طَلَّقْتُك" وأنْتِ طَالِقٌ" ولو كان قد نَكَح امرأة نكاحاً صحيحاً، وأجْرى نكاحاً فاسداً، فقال لهما: إحداكما طالقٌ، وقال: أردتُّ الفاسِدَ نكاحُهَا، فيمكن أن يرتب، ويقال: إن قبِلْنَا التفسير بالأجنبية، فهذه أَوْلَى، وإلا فوجهان؛ لأنها لا تُطَلَّق، لكن لها تعلُّق لا يوجد مثله للأجنبية. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ خَاطَبَ بِهِ زَوْجَتَيْهِ لَزِمَهُ التَّعْيِينُ عَلَى الفَوْرِ وَعَصَى بالتَّأْخِيرِ وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُمَا إِلَى البَيَانِ، وَيَقَعُ الطَّلاَقُ بِاللَّفْظِ أَوْ بِالتَّعْيِينِ فِيهِ وَجْهَانِ، وَعَلَيْهِمَا يَنْبَنِي وَقْتُ احْتِسَابِ العِدَّةِ، وَلَوْ وَطِئَ إِحْدَاهُمَا وَقُلْنَا: يَقَعُ الطَّلاَقُ بِاللَّفْظِ كَانَ تَعْيبناً، وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّعْيينِ لَمْ يُؤَثِّرِ الوَطْءُ، ولَوْ مَاتَتَا لَمْ تَسْقُطِ المُطَالَبَةُ بِالتَّعْيينِ لأَجْلِ المِيرَاثِ وَلَكِنْ إِنْ قُلْنَا: يَقَعُ بِالتَّعْيينِ فَيَتَبَيَّنُ وُقُوعُ الطَّلاَقِ قبلَ المَوْتِ عَلَى هَذا الوَجْهِ أَوْ عِنْدَ الإِبْهَامِ للِضَّرُورَةِ فِيهِ خِلاَفٌ، وَلَوْ قَالَ: أَرَدتُّ هَذِهِ بَلْ هَذِهِ كَانَ إِقْرَاراً بِهِمَا، وَلَوْ قَالَ: عَيَّنْتُ هَذِهِ وَهَذِهِ تَعَيَّنَتِ الأُولَى، وَلَوْ قَالَتْ فِي مَسْئَلَةِ الغُرَابِ: كَانَ غُرَاباً وَأنَا طَالِقٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى البَتِّ أَنَّهُ لَمْ يَكُن غُرَاباً أَوْ يَنْكُلَ، وَلاَ يَكْفِيهِ اليَمِينُ لاَ عَلَى نَفْيِ العِلْمِ وَلاَ عَلَى النِّسْيَانِ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال لزوجتَيْهِ: إحداكما طالقٌ، فأما أن يَقْصِدَ واحدةً بعينها، وإما أن يُرْسِلَ اللفظ، ولا ينوي معيَّنة. إن قَصَد واحدة بعينها فهِيَ المطلقة، واللفظ الصالِحُ لهما إذا انضمت إلَيْه النية الصادرة المعينة، كان مقتضاها وقوع الطلاق على ما هو سَبِيلُ الكنايات، ويحتاج، والحالة هذه، إلى تبيين الزوج؛ لتعرف المطلَّقة. وإن أرسل اللفظ ولم يَقْصِد معيَّنة، وقَع الطلاق على واحدة منْهما، ويرجع إلى الزوج في تعينها، والقسمان يشتركان في أحكام، ويفترقان في أحكام، والنَّظَر في النوعَيْن يتعلَّق بحالة الحياة وبما إذا طرأ المَوْت، ونُورِد في هذا الفَصْل ما يتعلَّق بحال الحياة، وفي الذي يليه ما يتعلَّق بحال حدوث الموْت. أمَّا الأول ففيه مسائل: الأولى يُؤْمَر الزوج بالتبيين إذا نوى واحدة بعينها، وبالتعيين إذا لم يَنْوِ؛ ليرتفع جنسه عمَّن زال ملْكه عنْه، ويُمْنَع من قربانهما إلى أن يبين أو يعين، وذلك بالحيلولة بينه وبينهما؛ لأن المحْظُور اختلط بالمُبَاح، فيمنع من الكُلِّ، كما لو اختلطت أُخْتُه من الرضاع بأجنبية، مُنِعَ من نكاحهما جميعاً، ويلزمه التعيين أو التبيين على الفور فلو أخَّر عصى، وهذا فيما إذا أَرْسَلَ اللفظ، ولم ينْوِ واحدة، وشُبِّه بما إذا أسلم وتحْته أكثر من العَدَد الشرعيِّ حيث يُؤْمَر باختيار أربع، وإذا وجب البِدَار، والحالة هذه، مع أنه يحتاج إلى ضَرْب من النَّظر والتروي، فَلأَنْ يجِبَ فيما إذا قَصَد واحدة بعينها, ولا حاجةَ إلى النظر والتروي، أوْلَى، فإن امتنع حُبِسَ وعُزِّرَ، ولا يقنع منْه بقوله: "نسيتُ المعيَّنة" وإذا بين في الحالة الأولى، فللأخرى أن تَدَّعِي عليه، أنَّك عنيتني وتُحَلِّفَه، فإن نَكَل، حَلَفَت وطلقتا وإذا عيَّن في الحالة الثانية، فلا دَعْوى؛ لأنَّه اختيار ينشئه، وكأنه طلَّق واحدة؛ ابتداء، وهذا كلُّه في الطلاق البائن، ولو أبهم طلقة رجعيَّة بينهما، فهل يلزمُه أن يبيِّن أو يعيِّن، حكى الإِمام فيه وجهَيْن: أحدهما: المنع؛ لأن الرجعية زوجة. والثاني: يلزمه لحصول التحريم، قال: والأصح الأول، ويجوز أن يعلَّم قوله في الكتاب "لزمه التعيين بالميم؛ لأن عن مالك أن في صورة الإِبهام والإِرسال يُطَلَّقَان معاً، وبالألف؛ لأن عند أحمد يُعيِّن المطلقة بالقرعة. الثانية: يلزمه الانْفَاق عليهما إلى البيان أو التعيين، وإذا بَيَّن أو عيَّن، فلا يسترد المصروف إلى المطلقة لأنها محبوسة عنْده حبْس الزَّوْجَات. الثالثة: وقوع الطلاق فيما إذا نَوَى طلاق واحدة بعينها، يحصل بقوله إحداكما
طالقٌ وتحسب عدة التي بين الطلاق فيها من وقْت اللفظ، وخرج قول أنَّها تُحْتَسَب من حين البيان، وبُنِيَ القولان على القولين في أن المستفرشة بالنكاح عِدَّتُها من آخر وطئة أو من وقْت التفريق بينهما، ووجْه الشبه أن الأمر ملتبس هاهنا إلى البيان، كما أنَّه ملتبِسٌ هناك إلى التفريق، قال الإِمام: وهذا غير سديدٍ، والصورتان مفترقتان؛ لأن غِشْيَان الواطئ بالشُّبْهة ومخالطته إياها ينافي صورة الانعزال الَّتي أُمِرَتْ بها المعتدَّة، وهاهنا الحيلولة ناجزةٌ إلى أن يوجد البيان. وأمَّا إذا عيَّن، ولم يكن نوى من الابتداء معيَّنةً، فيقع من وقت التلفظ بقوله: "إحداكما طالق" أو من وقت التعيين؟ فيه وجهان: أحدهما: أنَّه يقع من وقت التلفظ، لأنَّه جزم بالطلاق، ونجَّزه، فلا يجوز تأخيره إلا أن محلَّه غيْر متعين، فيؤمر بالتعيين؛ ولأن التعيين يبين التي اختارها للنِّكاح، فيكون اندفاع نكَاح الأخرى باللفظ السابق، كما أن التعيين فيما إذا أسْلَم على أكثر من أربع لما تبين به مَنْ يختارها للنكاح كان اندفاع نكاح الأخريات بالإِسلام السابق. والثاني: من وقت التعيين لأن الطلاق وقت التعيين؛ لأن الطلاق لا يَنْزِلُ إلاَّ في مَحَلٍّ معين، وربما عبر عن هذا الخلاف بأن التعيين تباع موقع وإيقاع، وقد يعبر عنْه بأن إرسال اللفظ المُبْهِمِ إيقاعُ طلاق، أو التزامُ طلاق في الذِّمَّة. وعن القاضي الحُسَيْن؛ يُشْبِه بها الخلاف في أن القِسْمَة بيع أو إفراز حتى من حيْث إنَّا إذا جعلناها إفرازاً قلنا: إنه يبين بالآخرة ما كان حقًّا لكل واحد منهما، ويضاهي قولنا: إن المطلقة كانَتْ هذه المعينة، وإذا جعلناها بيعاً قلنا: إن من خَرَج له الجانب الشرقيُّ، باع حصته من الغربي بحصة صاحبه من الجانب الشرقي، وكان ذلك الحصار من قِبَل شائعين في القسمين فبالقسمة ثبت اختصاص كُلِّ واحد منْهما بما خَرَج له، ويضاهيه المصير إلى وقُوع الطَّلاق بالتعيين من غيْر إسنادٍ إلى اللفظ، واضطربوا في الرَّاجِح من الوجهين، فرَجَّح مرجِّحُون الوقوع عنْد التعيين، منْهم الشيخ أبو علي، وقال: ظاهر المذهب أن التعيين إيقاع الطَّلاق؛ لأنَّه وإن أرْسَل الطلاق، فلا يَقَع على واحدة منهما، حتى يُعَيِّن، فإذا عيَّن وَقَع، وكان ذلك بمنزلة قوله: من دخل منْكما الدار فهي طالقٌ، فإذا دخلَتْ إحداهما طُلِّقَتْ عنْد الدخول بالقول السابق. وذهب الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيِّب والروياني وآخرون إلى ترجيح الوُقُوع عند التلفظ، وقالوا: لولا وقوع الطَّلاق، لَمَا مُنِعَ منهما (¬1)، واستبعدوا التحريم قبْل وقوع الطلاق، والنَّفْسُ إِلى قَبُول هذا أَسْرَعُ، والله أعلم. ¬
وعلى هذا الخلاف يبنى وَقْت احتساب العدة، فإِن قلْنا بالوقوع عنْد التعيين، فمنه وتُحْسَبَ العدة، قال في "الشامل" وهو مذهب أبي حنيفة وأَصحابه، وبهذا الوجه قال ابن أَبي هريرة، وهو عنْد بعضهم مصير منه: إلى أَن الطلاق يَقَع عنْد التعبير. وقال الشيخ أبو حامد: إن الوُقُوع عنْده باللفظ لكنْ يجوز أن تجب العدَّة بالطَّلاق، ثم يتأخر الاحتساب عنْه، كما أن العدَّة في النكاح الفاسِدِ تجب بالوطء وتحتسب من وقت التفريق، وإن قلنا: إنه يقع من وقْت اللفظ، فعلى الخلاف المذكور فيما إذا نَوَى عنْد ابتداء اللفظ واحدةً معيَّنةً، فيكون الظاهر احتسابَ العِدَّة من يومئذٍ، وبه قال أبو إسحاق -رحمه الله- والاحتساب من وقْت التعيين أرجَحُ عنْد أكثرهم، كيف قُدِّر البناء، وهذا كله في حياة الزوجين، وسنذكر أنهما إذا ماتتا أو إحداهما، تبقى المطالبة بالتعيين؛ ليتبين حكم الميراث وحينَئِذٍ، فإن أوقعْنا الطلاق باللفظ فذَاك، وإن أوقعنا بالتعيين، فلا سَبِيلَ إلى إيقاع الطَّلاق بَعْد الموت، ولا بُدَّ من إسناد بالضرورة، وإلى ماذا يستند، فيه وجهان: أحدهما: أنه يستند، والحالة هذه، إلى وَقْت اللفظ، ويرتفع الخلاَف إذا وَقَع التعيين بعد الموت. والثَّاني: إلى ما قبل الموت فيقع الطلاق حينئذٍ؛ لأَن عمرها كان وقْت التعيين فإذا انصرم، أسندنا الطلاق إلى آخر، حالة من حالات إمكان التعيين، وهو كحكمنا فيما إذا تلف المبيع قبْل القبض بارتداده إلى مِلْك البائع قبل التلف، ورجَّح صاحب الكتاب هذا الوَجْه، قال.: "على الأوجه يعني من هذَيْن الوجهَيْن، وجعل في "النهاية" الأصحَّ الوجه المقابل له، وقوله: أو "عند الإِبهام" وهو الوجه الآخر، وإن أراد بالإِبهام إرسال اللفظ المبهم أولاً، وفي بعض النسخ "على هذا الوجه أو عند الإبهام للضرورة" فيه خلافٌ وهو صحيح أيضاً. الرابعة: لو وَطِئَ إحداهما، نُظِر؛ إن كان نوى واحدةً بعينها، فهي المطلَّقة، وقد تعينت هي بالنية المقترنة باللفظ والوطء لا يكون بياناً لذلك التعيين، وتبقى المطالبة بالبيان، فإن بين الطلاق في الموطوءة، فعَلَيْه الحَدُّ إن كان الطَّلاق بائناً، وعليه المَهْر؛ لجهلها بأنها المطلَّقة، وإن بيَّن في غير الموطوءة، قُبِلَ، فلو ادعت الموطوءة أنَّه أرادها حُلِّفَ، فإن نَكَل، وحَلَفَتْ، حُكِمَ بطلاقها، وعليه المَهْر، ولا حَدَّ للشبهة؛ فإن الطلاق ثَبَت بظاهر اليمين، وإن لم ينوِ واحدةً بعينها، فهل يكون الوطء تعييناً؟ فيه وجهان، ويقال قولان: أحدهما: أن الوطء يعيِّن الأخرى للطلاق؛ لأنَّ الظاهر أنَّه إنَّما يطأ مَنْ تحلُّ له، وصار كوطْء الجارية المبيعة في زمان الخيار، فإنَّه يكون فسْخاً أو إجازة وبهذا قال أبو
حنيفة والمُزَنِيُّ، وأبو إسحاق، حكاه القاضي أبو الطيِّب عن أبي الحَسَنُ الماسرجسي سماعاً ورجَّحه القاضي ابن كج. والثاني: وبه قال ابن أبي هريرة: أنَّه لا يكونَ تَعْييناً، كما لا يكون بياناً؛ لأن ملك النكاح لا يَحْصُل بالفعْل ابتداءً فجاز (¬1) أن يتدارك بالفعل ولذلك لا تحصل الرجعة بالوطء ونخالف وطء الجارية المبيعة بشرط الخيار وإن ملك اليمين فيحصل بالفعل ابتداء فجاز أن يتدارك بالفعل وفي "الشَّامِل" و"التتمة" (¬2) أن هذا ظاهرُ المَذْهَبِ، والخِلاف مبنى عند بعْضِهم على أن الطَّلاق يقَع عنْد اللفظ أو عند التَّعْيين إن قلْنا عند اللفظ فالوطء تعين وإن قلنا عند التعيين، فالفعل لا يصلح موقعاً، وهذا ما أورده في الكتاب، وإذا جعلْنا الوطء تعيينًا فهل تكون سائر الاستمتاعات تعييناً؟! فيه وجهان بناءً على الخلاف في أن المباشرة فيما دون الفرج هل تحرم الربيبة فإن جعلنا الوطئ تعييناً للطلاق في الأُخْرَى، فلا مَهْر للموطوءة وإلا فتطالب بالتعيين، فإن عيَّن الطلاق في الموطوءة، وجَب المَهْر، إن قُلْنا بوقوع الطَّلاق عنْد اللفظ، وإن قلْنا بالوقوع عنْد التعيين، حَكَى الفوراني أنَّه لا يجب المهر، وذكر فيه احتمالاً آخر؛ أخذاً من وجوب المَهْر في وطء الرجعية. فَرْعٌ: ذَكَر صاحب "الشامل" وغيره تفريعاً على أن الوطء تعيين أن الزوج لا يمنع من وطء أيتهما شاء، وإنما يمنع الوطء فيهما إذا لم يجعل الوطء تعييناً ولما أطلق الأكثرون المَنْع منهما جميعاً أشْعَر ذلك بأن الظاهر عنْدَهُم أنَّه ليْس بتعيين. الخامسة: في صُورة ألفاظ البيان والتعيين إذا كان قد نَوَى واحدةً بعينها، فيحصل البيان بأن يَقُول مشيراً إلى واحدة: المطلقةُ هذه. ولو قال: الزوجة هذه، تبيَّن الطلاق في الأخرى، وكذا لو قال: لم أُطَلِّقْ هذه، ولو قال: أردت هذه بل هذه، حُكِمَ بطلاقهما جميعاً؛ لأنَّه أقر بطلاق المشار إلَيْها أولاً، ثم رجع، مستدركاً، وأقر بطلاق الثانية فلا يقبل الرجوع عن الإقرار الأول، ويؤاخذ بالثاني كما لو قال: لفلان عليَّ درهمٌ بل دينارٌ. ولو قال: أردتُّ هذه وهذه، فكذلك الجواب فإنَّه أقر أنَّه طَلَّقهما، وكذا لو حَذَف الواو، فقال: هذه هذه، وأشار بكل لفظة إلى واحدة، أو قال: هذه مع هذه، قال ¬
الإِمام وهذا فيما يتعلَّق بظاهر الحُكْم، فأما بينَه وبيْن الله تعالى، فالمطلقة هي التي نواها لا غير، حتَّى لو قال: إحداكما طالقٌ ونواهما جميعاً قال: الوجْه عنْدنا أنهما لا يطلقان، ولا يجيْء فيه التردُّد المذْكُور فيما إذا قال: أنتِ طالقٌ واحدةً، ونوى ثلاثةً؛ لأنَّ حمل إحدى المرأتين عليهما جميعاً لا وجْه له، وهناك يَتطرَّق إلى الكلام تأويلٌ بيناه. ولو قال: أردتُّ هذه ثم هذه، فالمذكور في "التهذيب" و"التتمة" أنَّه تُطلَّق الأُولَى دون الثانية، ويمثله أجابا فيما إذا قال: أردتُّ هذه فهذه، وعلل ذلك بأن قضيَّة الحرفين الترتيب والتعقيب، فقد أثبت في الثانية طلاقاً على موجب الترتيب، وهو لم يُطلِّقْ إلا واحدةً، وهذا حكاه الإِمام عن القاضي الحُسَيْن -رحمهما الله-، واعترض بأنَّه كيف ما قَدَّر موجب الكلام، ففي قوله: "أردتُّ هذه ثم هذه" اعترافٌ بالطلاق فيهما، فليكن الحكم كما في قوله: أردتُّ هذه وهذه، والحق هو الاعتراض (¬1). ولو قال: أردتُّ هذه بعْد هذه، فقياس الأَوَّل أن تطلَّق المشار إليها بائناً وحدها، ولو قال هذه قبل هذه أو بعدها هذه فقياس الأول أن تطلق المشار إليها أولاً وحدها، وقياس الاعتراض الحُكْمُ بطلاقهما في الصورتين. ولو قال: أردتُّ هذه أو هذه، واستمر الإِشكال والمطالبة بالبيان، ولو كانَتْ تحْته أربعٌ، فقال: إحداكن طالقٌ، ونوى واحدةً بعينها، ثم قال: أردتُّ هذه بل هذه بل هذه بل هذه طُلِّقْن جميعاً، وكذا لو عطف بحرف الواو، ولو عطف بـ"ثمَّ" أو بـ"الفاء" عاد المنقول عن القاضي، والاعتراض. ولو قال، وهنَّ ثلاثٌ؛ أردتُّ أو طلقتُ هذه بل هذه أو هذه، طُلِّقَت الأولى وإحدى الأخريين، ويؤمر بالبيان، وإن قال: هذه أو هذه بل هذه طُلِّقَت الأخيرة، وإحدى الأولين يؤمر بالبيان، ولو قال: هذه، وهذه، أو هذه فيُنْظَرُ إن فصل الثالثة عن الأوليين بوقفة، أو بنغمة أو أداء فالطلاق متردِّد بين الأوليين وبين الثالثة وحدها، وعليه البيان فإن بين، في الثالثة طُلِّقَت وحْدها، وإن بين في الأوليين أو إحداهما، طُلِّقَتَا؛ لأنَّه جَمَع بينهما بالواو العاطفة، فلا يفترقان، وإن فَصَل الثانية عن الأُولَى تَردَّد الطلاق بيْن الأُوَلى، وإحدى الأخريين، فإن بين في الأولى، طُلِّقت وحدها، وإن بَيَّن في الأخريين أو إحداهما طُلِّقَتا جميعاً، وإن سرد (¬2) الكلام سَرْداً ولم يفصل احتمل كون الثالثة مفصولة عنهما، واحتمل كونها مضمومة إلى الثانية مفصولة عن الأولى فيسأل ويعمل بما ¬
أظهر إرادته (¬1). ولو قال هذه أو هذه وهذه فإن فصل الثالثة عن الأوليين تردد الطلاق بين إحدى الأوليين والأخرى مطلقة وحدها وإن فصل الأخريين عن الأولى فالتردد بين الأولى وحدها وبين الأخريين معاً وإن سرد الكلام ولم يفصل، فهما مُحْتَملان. ولو قال، وهن أربع، وقد طلق واحدة: أردتُّ هذه أو هذه لا بل هذه وهذه طلقت الأخريان وإحدى الأوليين ولو قال هذه وهذه بل هذه أو هذه، طُلِّقت إحدى الأخريين، والأوليان، ولو قال هذه وهذه وهذه أو هذه، فإن فَصَل الآخرة عن الثلاث يَتردَّد الطَّلاق بيْن الثلاث الأوليات وبين الرابعة، وإن فصَل الثالثة عفا قبلها طُلِّقَت الأوليان وإحدى الأخريين، وإن فَصَل الثانية عن الأُولَى، فينبغي أن يُقَال: تُطَلَّق الأولى، ويتردد الطلاق بين الثانية والثالثة معاً، وبيْن الرابعة وحْدها، فعليه البيان، وإن سرد الكلام سرداً قال: في ""التهذيب" يُطَلَّق الثلاث أو الرابعة، وُيؤْمَر بالبيان، فإن بيَّن في الثلاث أو في بعضهن طُلِّقْن جميعاً، وإن بين في الرابعة طُلِّقت وحْدها، والوجه أن يُقَالَ: صورة السرد تحتمل الاحتمالات الثلاثة، فيراجع، ويحكم بمُوجب ما يبينه على ما سَبَق نظيره، ولو قال: هذه وهذه أو هذه وهذه، فقَدْ يفرض فصْل الأُوَلى عن الثلاث ¬
الآخرة، وضم بعْضها إلى بعْض، فتُطَلَّق الأولى، ويتردد بيْن الثانية وحْدها، وبين الأخريين معاً، وقد يفرض الفَصْل بين الأوليين والأخريين، والضَّم فيهما، فتطلق الأوليان والأخريان، [وقد يفرض فصل] الرابعة عما قبلها، فتطلَّق الرابعة، ويتردَّد الطلاق بين الثالثة وحْدها وبين الأوليين معاً، وإذا قال لواحدة أن المطلقة هذه، ثم قال لا أدري، أهي هذه أو واحدةٌ من الباقيات، فتلْك الواحدة، مطلَّقة بكل حال، وتوقف الباقيات، فإن قال بعْد ذلك: تَحقَّقْتُ أن المطلقة الأُولَى، قُبِل، ولم يُطَلَّق غيرها، وإن عيَّن أخْرى، حُكِم بطلاقها, ولم يُقْبَل رجوعه عن الإقرار الأول، واعلم أن الوقفة التي جعلناها فاصلةً بين اللفظين مع إعمال اللفظين هي الوَقفة اليسيرة، فأمَّا إذا طالَقْ فَقَطَعَت ونظم الكلام كما إذا قال: أردتُّ هذه، ثم قال بعد طول المدة أو هذه وهذه، فهذا الكلام الثاني لغو لا يستقل بالإفادة، وهذا كلُّه فيما إذا نوى عند اللَّفْظ المبهم واحدةً بعينها، أما إذا أرْسَلَه إرسالاً، ولم ينوِ شيئاً، فلما طولب بالتعيين، قال مشيراً إلى واحدة: هذه المطلقة تعيَّنت ويلغو ذكْر غيرها، سواء عطف الثانية عليها "الواو" أو "الفاء" أو "ثُمَّ"، وكذا لو قال: وهذه بَلْ هذه؛ لأن التعيين هاهنا ليْس إخباراً عن ما سَبَق، وإنَّما هو إنشاءُ اختيار، وليس له إلا اختيار واحدةٍ، فيلغو اختيار ما بعدها ولا فَرْق في ذلك بين أن نوقع الطلاق عنْد التعيين، وأسنده إلى وقت إطلاق اللفظ المبهم؛ لأنا، وإن أسندناه، فلا نجعل التعيين اختياراً، وإنما هو إنشاء تتمة، اللفظ، ويخالف الحالة الأولى؛ فإنه يُخْبِرُ هناك عن أمر سابق، ويجوز أن يكون صادقاً في الخبر الثاني دون الأول، فإذا اجتمع الإِقراران، لم يَكُنْ بُدٌّ من المؤاخذة بهما. السادسة: قد سَبَق أنه إذا قال لزوجَتِه: إن كان هذا الطائر غُرَاباً، فأنْتِ طالقٌ، وأشْكَل الحال، لا يُحْكم بوقوع الطلاق، وأنه لو قال: إنْ كان غراباً، فزينب طالقٌ، وإن كان حماماً فعَمْرةُ، لا يحكم بطلاق واحدة منهما، فلو ادَّعَتِ التي عَلَّق طلاقها بكونه غراباً أنَّها مطلقة، فعليه أن يَحْلِفَ جزماً على نَفْي الطلاق، كما إذا طَلَّق واحدة، ونَسِيَ عيْنَها، وقالت إحداهما: أنا المطلَّقة وقد ذكرناه، وإن قالت كان غراباً فأنا طالقٌ، فعليه أن يَحْلِفَ على البَتِّ أنَّه لم يكن غراباً ولا يكفي أن يقول: لا أعلم كوْنَه غراباً، أو نسيت الحال، ذكره الإِمام، وفَرَّق بينه وبين ما إذا علَّق طلاقها على دخُولِها أو دُخُول غيرها، وأنْكَر حصوله، حيث يكون الحَلِف على نفْي العِلْم بالدخول بأن الدُّخُول هُنَاكَ فِعْل الغير، والحلف على نفْي فعْل الغير يكون على العِلْم، ونفْيُ الغرابية ليس كذلك، بل هو نَفْيُ صفة في الغير ونَفْيُ الصفة كثبوتها في إمكان الاطلاع، وإذا كان الشَّيْء ممَّا يُطَّلَع عليْه في الجملة لم تُغَيَّر القاعدة بأن يفرض بعد رؤيته؛ بأن كان الطيران في الليلة المظلمة، والرجل في كن، لم يَكُن الأمر في مظنة البَحْث والمراجعة. قال في "البسيط" وفي القلب منه الفَرْق بين نفي الغرابية ونفي الدخول شيء
فليتأمل ويشبه أن يقال إنما يلزمه الحلف على نَفي الغرابية إذا تَعرَّض في الجواب لذلك أما إذا اقتصر على قوله لست، بمطلقة فينبغي أن يكتفي منه بذلك كما ذكَرْنا في جواب البَائِع إذا ادَّعى المشتري العَيْبَ القديم، وأراد الرد، وسيأتي نظائره في مواضعها. وقوله في الكتاب "ولو خاطب بِه زوجتيه" هذا القدر من التصوير يشتمل على ما إذا نَوَى واحدةً بعينها، وما إذا لم ينوِ واحدةً، وأرسل اللفظ، والمسائل التي ذكَرَها فيها ما يَشْمَل الحالَيْن، ومنها ما يختص بإحداهما، فقوله "لزمه التعيين" يصحُّ إطلاقه في الصورتين، وإن كان اللَّفْظ بصورة الإِرسال أحقُّ؛ لأن التعيين بيانٌ رافع للإبهام والبيان فيما إذا نوى واحدةً معيَّنةً تعيين لواحد من محتمل اللفظ، وكذلك أطْلَقَ في الكتاب التعيين تارةً والبيان أخرى فقال: "لزمه التعيين" ثم قال: "وعليه نفقتهما إلى البيان"، وأما قوله: "ويقع الطَّلاق باللفظ بالتعيين" فهذه المسألة تختص بحالة الإِرسال، وقوله "كان تعييناً" يجوز إعلامه بالألف؛ لِمَا مَرَّ أن عند أحمد -رحمه الله- التعيين بالقرعة فلا يكون الوطء تعييناً، ولا القول. وقوله: "لم يُؤَثِّر الوطء" معلَّم بالحاءِ؛ لِمَا ذكرنا، وقوله: "ولو ماتتا، لم تَسْقُط المطالبة بالتعيين ... " إلى آخره أَخَّرْنا إشباع القول في حالة المَوْت إلَى الفَصْل الثَّاني لهذا؛ لأن الغَرَض الآن الكَلاَم في وقْت الطلاق حالَةَ المَوْت، وليعلَّم قوله "تسقط" بالحاء والواو؛ لما سيأتي وقوله: "أردتُّ هذه وهذه" يعني فيما إذا أرسل اللفظ ولم ينوِ معينة. وقوله "ولو قالت في مسألة الغراب" في الكتاب ما إذا قال الرجل: إن كان غراباً، فامرأتي طالقٌ، وقال الآخر: إن لم يكن غراباً فامرأتي طالقٌ، فأيضاً، أمَّا إذا قال: إنْ كَانَ غراباً، فزينبُ طالقٌ، وإلا فعمرةُ، والتداعي المذكورُ يُمْكِن فرضه في هاتين الصورتين، ويمكن فرضه فيما إذا لم يُوجَد إلاَّ تعليقٌ واحدةٌ من شَخْص واحد. قَالَ الغَزَالِيُّ: وإذَا مَاتَ الزَّوْجُ وَمَاتَتَا فَهَلْ لِلوَارِثِ التَّعْيِينُ لأَجْلِ المِيرَاثِ؟ فِبهِ ثَلاَثةُ أَقْوَالٍ، وَفِي الثَّالِثِ لَهُ أَنْ يَقُولَ: أَرَادَ الزَّوْجُ هَذِهِ وَلَيْسَ لَهُ إِنْشْاءُ التَّعْيينِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا طَرَأَ المَوْت قبْل البيان أو التعيين، فله حالتان: إحداهما: أن تموت الزوجتان أو إحداهما، ويبقى الزَّوْجُ، فتبقى المطالَبَةُ بحالها بالبيان، أو التعيين، لتبين حال الميراث. وقال أبو حنيفة: إذا ماتَت سقَطَت المطالَبَةُ بالتعيين؛ بناءً على أن الطَّلاَق يقَعْ عند التعيين، ويستحيل الوقوع (¬1) بعْد الموت، وإذا ماتَتْ إحداهما، قال؛ يتعين الطلاق في ¬
الأخرى، إلى مَذْهَبِه مال الشيخ أبو محمَّد -رحمه الله- وأقيم ذلك وجهاً، والمَذْهَب المشْهُور الأول، ويوقف له من تركة كلِّ واحدة منهما، أو من تركة الميتة منهما ميراث زَوْج إلى أن يبين أو يعين، فإذا بُيِّن أو عُيِّن، لم يرث من المطلَّقة، إذا كان الطلاق بائناً، سواء قلْنا بوقوع الطلاق عنْد اللَّفْظ أو التعيين، قال صاحب "التتمة" وغيره؛ لأن الإِيقاع سَابِقٌ، وإن كان الوقوع حينئذٍ، وأما الأخرى فيرث منها، ثم إن كان قد نَوَى معينة وبين فقال وَرَثَةُ الأخْرى: هي التي أَرتها للطلاق، ولا وارث لكَ، فلهم تَحْلِيفُه، فإن حَلَف فذاك، وإن نكل حَلَفُوا، وحرم ميراثُها أيضاً باليمين المردودة، وإن لم يَنْوِ معيَّنة، وعَيَّن فلا يتوجه عليه لورثة الأخرى دعوى؛ لأن التعيين يتعلَّق بشهوته واختياره. وعن أبي حنيفة -رحمه الله-: أنَّه لمَّا صار إلى انحتام التعيين بموتهما, وَرِثَ الزوْج منْهما جميعاً، لكن قال: يرث من كل واحدةٍ منهما نصْفَ ميراث زَوْج، والشيخ أبو محمَّد في التفريع على ما مال إليه كَمَّلَ له الإِرث منهما. فرْعٌ: قال القاضي ابن كج: إذا حَلَّفَهُ وَرَثَةُ التي عيَّنها للنِّكَاح وأخذوا جميع المهر، إن كان بَعْد الدخول، وإن كان قبله، أخذوا نصفه، وفي النِّصْف الثاني وجهان: وجه يأخذونه أيضاً إمضاء للحكم على موجب تصديقه، ووجْه المَنْع أنَّها مطلَّقة قبْل الدخول بقولهم، ولو كذَّبه ورثة الَّتي عيَّنها للطلاق، وغرضهم استقرار جميع المهر، إذا كان قبل الدُّخُول، فلَهُمْ تحليفه، وهم مقرون له بإرْث لا يدعيه. الحالة الثانية: إذا مات الزَّوْج قبْل البيان أو (¬1) التعيين، ففي قيام الوارث مقامه طريقان: أشهرهما: [أن] فيه قولان: أحدهما: أنَّه يقوم مقامه، كما يَخْلُفُه في سائر الحقوق، كالرد بالعيب، وحق الشفعة وغيرهما، وكما يقوم مقامه في الاستلحاق النسب. والثاني: المَنْع؛ لأن حقوق النِّكَاح لا يُورث، ولأنَّه إسقاط وارث، فلا يتمكن (¬2) الوارث منْه، كنفي النسب باللِّعَان، وفي مَحَلِّ القولَيْن طرُقٌ: أحدها: أن الخلاف فيما إذا كان قَدْ نَوَى واحدة بعينها، أمَّا إذا أرْسَل اللَّفْظ، ولم ينوِ معيَّنة، فليس للوارث التعيين بلا خلاف. والثاني: أنَّ له البَيَانَ بلا خلاف، والقولان في التعيين وقيل لا يقوم في التعيين والقولان في البيان والفرق على الطريقتين أن البيان إخبارٌ، وقد تعرف إرادة المُوَرِّث، ¬
ويطلع عليها بخبر أو قرينة، والتعيين اختيار يَصْدُر عن شهوة، فلا يحْلُفُه الوارث فيه، كما لو أسْلَم الكافر على أكْثَرَ من أرْبَع، ومات قبْل الاختيار. والثالث: وبه قال أبو إسحاق أنه يطَّرد الخلاَف في البَيَان والتعيين معاً. والطريق الثاني في الأصل، وبه قال القَفَّال: أنه إن مات والزوجتان حيتان، فنقطع بأنَّه لا يقُوم الوارث مَقَامه في البيان ولا في التعيين؛ لأنَّه لا غَرَضَ له في ذلك، فإن الحال لا يختلف بين أن يُخَلِّف زوجة أو أكثر، وإن ماتَتْ إحداهما، ثم مات الزوج، ثم الأخرى، وعَيَّن الوارث الأُولَى للطَّلاق، فنقطع بقبول قوله؛ لأنه يَضُرُّ بنفسه؛ من جهة أنَّه يحرم مورثه عن ميراث الأُولَى، ويشرك الثانية في تركه مورثه، وإن عيَّن الأولى للنكاح، والثانية للطلاق، أو مات الزوج بعدما ماتَتَا، ففيه القولان، ثم يَعُود التَّرْتِيب المَذْكُور في البيان والتعيين وذَكَر الشيخ أبو حامد أنَّه إنَّما يوجد القولان منصوصَيْن فيما إذا توسَّط موْت الزوج موتيهما، وعيَّن الوارث الآخرة للطلاق، ومنهما أُخِذَ الخلاف في سائر الصُّوَر، ولذلك عَبَّر معبِّرون عن الخلاف بالوجهين والأظهر حيْث اتفقت الطريقتان على إثبات الخلاف، فيقوم الوارث مقام الموروث، وحيث اختلف المَنْع (¬1). التفريع: إذا لم يقمِ الوارث مقام الموروث، أو قلنا يقوم فقال الوارث: لا أعْلَمُ، فإن مات الزَّوْج قبلهما، فيُوقَفُ ميراث زوجه بينهما حتى يصطلحا، أو يصطلح ورثتهما بَعْد موتهما، وإن ماتتا قبْل موت الزَّوْج، فيُوقَفُ من تركتهما ميراثُ زَوْج، وإن توسط موته موْتَهُما، وُقِفَ من تركة الأولى ميراثُ زوج؛ ومن تركة زوج؛ ميراث زوجة حتَّى يحصل الاصطلاح، وإن قلنا: يقوم مقامه، فإن مات الزَّوْج قبلهما فتعْيينُ الوارث لتعيينه، وقد بيَّنا حُكْمه، وإن ماتت الزوجتان ثم مَاتَ الزَّوْج، فإذا بيَّن الوارث إحداهما، فلورثة الأخرى تَحْلِيفُه أنه لا يَعْلَم أن مورِّثَه طلَّق مورثتهم، وإن توسَّط موْتُه موتيهما وبيّن الوارث الطَّلاقَ في الأولى، وجرينا على قوله، لم نُحلِّفْه؛ لأنه يُقِرُّ على نفسه وَيَضُرُّ بِهَا (¬2)، وإن بين الطلاق في المتأخرة، فلوارثِ الأُولَى تحليفُه؛ لأنَّه يروم الشركة في تركتها، فيحلف أنَّه لا يعْلَم أن مورثه طلَّقها, ولوارث الثانية تحليفُه؛ لأنَّه يروم حرمانه من ميراث الزَّوْج فيحلف على البَتِّ أن مورثه طلَّقها؛ لأن يمين الإِثبات تكون على البَتِّ. وقوله في الكتاب "وإذا ماتَ الزَّوْجُ وماتَتَا" كلمة و"ماتتا" لا حاجة إليها، إذا قلْنا ¬
بالطريق الأشْهَر، وإذا وقعت فليحمل على أن المعنى: "وقَدْ مَاتَتَا" إشارةً إلى أنَّه إذا مات بعد موتهما فهو موضِعُ الخِلاَف في أن الوارث هلْ يَقُوم مقام المورِّث باتفاق الطريقتين؟ أمَّا إذا كانتا حيتين، فلا يجيء الخلاف على الطريق الثاني. فرْعٌ: شَهِدَ شاهدان مِنْ ورثة الزَّوْج أَنَّ المطلَّقة منهما فُلانَةٌ فتقبل شهادتهما إذا مات الزوج قبلهما؛ لأنه لا تهمه، ولا تقبل إن ماتتا قبْلَه لجرهما نقل (¬1) الميراث بشهادتهما، وإن توسَّط موت الزوج موتهما، فإن شهدا بطَلاَق التي ماتَتْ قبله، قُبِلَتْ؛ لأن هذه الشَّهَادة تُضِرُّ بهما من وجْهَيْن: أحدهما: حرمان الزوج من ميراث الأُولَى. والثاني: شركة الأُخْرَى في إرثه، وإن شهدا بطلاق التي ماتت بعده [لا تقبل] لجرهما النفع بشهادتهما بعكس الوجهين. قَالَ الغَزَالِيُّ: ولو قال: إن كَانَ هَذَا غُرَاباً فَعَبْدِي حُرٌّ وَإِلاَّ فَزَوْجَتِي طَالِقٌ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ البَيَانِ فَفِي وَجْهٍ يُعَيِّنُ الوَارِثُ، وَفِي وَجْهٍ نَقْرَعُ بَيْنَهُمَا لأَنَّ القُرْعَةَ تُعْمَلُ فِي العِتِقْ، فَإنْ خَرَجَ عَلَى العَبْدِ عَتَقَ، وإنْ خَرَجَتْ عَلَى المَرأَةِ لَمْ تُطَلَّقْ إِذْ لاَ أَثَرَ لِلقُرْعَةِ فِي الطَّلاَقِ، وَهَلْ يَرِقُّ العَبْدُ فِيهِ وَجْهَان. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذه البقيَّة فيما إذا كان الإبْهَام بين الطَّلاق والعِتْق، فإن قال: إنْ كان هذا الطَّائِر غراباً، فعَبْدي حُرٌّ، وإن لم يكنَ فزوجتي طالقٌ، أو (¬2) دخل جماعة في ظلمة، فقال: إنَّ كان أوَّلَ من دَخَل زيْدٌ، فعَبْدي حرٌّ، وإلا فزوجتي طالقٌ، وأشكل الحال، وفيه مسألتان: إحداهما: ذكر القاضي ابن كج أن أبا الحُسَيْن حَكَى وجْهاً، أنَّه يُقْرَع بين العبد والمرأة، كما سنذكر فيما إذا مَاتَ الحالف وعلى هذا فلو فَرَعْنا فخرجت القُرْعةُ على العبْد، ثم قال: تبينت أن الحنث كان في الطلاق، لم ينقص حُكْم القرعة، وحكَمْنا بوقوع الطلاق، والصحيح أنه لا قُرْعَة ما دام الحالف حياً؛ لأنَّ البيان متوقَّع منْه، وقد يُطْلِعُه الفحْص على كيفية الحال بعد الشَّك والتردد، ولكن يُمْنَع من الاستمتاع بالمرأة، ومن استخدام العَبْد والتصرُّف فيه؛ لتيقن التحريم في أحدهما، وعليه نفقة المرأة إلى البيان، وكذلك نفقة العَبْد في أصحِّ الوجهين. والثاني: أنَّه يؤجره الحاكم، وينفق عليه من أجرته، فإن فَضَل شيْء منها حَفِظَه إلى أن يتبيَّن الحال، وإذا تبيَّن، وقال؛ حنثت في يمين المرأة، طُلِّقَتْ، ثم إن صدَّقه ¬
العَبْد، فذاك، ولا يمين عليه، وحكى الحناطي وجهاً أنه يحلفَ؛ لِمَا فيه من حَقِّ الله تعالى، وإن كَذَّبه، وادعى العِتْقُ صدِّق السيد بيمينه، فإن نَكَل، حَلَف، وحُكِمَ باليمين المردودة، وإن قال حنثت في يمين العبد، عَتَقَ العبد، ثم إن صَدَّقته المرأة، فلا يمين عليه، وفيه الوجْه المذكور، وإن كَذَّبته حَلَف، فإن نكل حلَفَت، وحكم بطلاقها أيْضاً وقوله: "لم أحنث في يمين العَبْد" في جواب دَعْواه وغير جواب دَعْواه، كقوله: حنثت في يمين المرأة؛ وكذا قوله: "لم أحْنَثْ في يمين المرأة، وقوله حنثت في يمين العَبْد". ولو قال: لم أعلم في أيِّهما حنثت، ففي "الشامل" وغيره، أنَّهما إن صدَّقَاه بقي (¬1) الأمْر موقوفاً كما سَبَق، وإنْ كذَّباه، حلف على نفي العِلْم، فإن حلف، فالأمر موقوفٌ، وإِن نَكَل، حَلَف المُدَّعِي منهما، وقُضِيَ به بما يدعيه، ولو ادعى أحدهما الحَنِث في يمينه، فقال في الجواب: لا أدري، لم يكُنْ هذا إقراراً بالحَنِث في حَقِّ الآخر، فإن عُرِض عليه اليمين، وحلف على [نفي] ما يَدَّعي، فهو مقر بالحنث في حق الآخر، ولو كان قَدْ علَّق طلاق نسوة، وادَّعَيْن الحَنِث عليه، فإن نَكَل، فحلف بعضهن دون بعض، حُكِمَ بطلاق من حلَفَتْ دوَّنْ لم تحلف، ولو ادَّعَت واحدة، ونَكَل عن اليمين، فحلَفَتْ، حُكِم بطلاقها, وله أن يحلف إذا ادَّعَت الأخرى ولا يُجعَل نكوله في حقِّ واحدة نكولاً في حقِّ الأخرى، واعْلَمْ أن ما سَبَقَ ذكْره من الأمر بالبيان أو التعيين والحبس والتعزير عنْد الامتناع، قد أشاروا إلى مثْله هاهنا، لكن إذا قُلْنَا إنه إذا قال: لا أَدْرِي يحلف عليه وقنع منه بذلك، فيكون والتضييق إلى أن يبيِّن أو يقول: لا أدري، ويحلف علَيْه، وهكذا ينْبَغِي أن يكون في الحكم الطلاق بين الزوجتين، والله أَعلْم. الثانية: إذا (¬2) مات الزَّوْج قَبْل البيان، فهل يقُوم الوارث مَقَامه، فيه طريقان: أحدهما: أنَّه على الخلاف في الطلاق المبهم بين الزوجين. والثاني: القَطْع بالمَنْع، لظهور تُهْمة الوارث؛ بأن يزعم الحَنِث في الطلاق، فيسقط زحمة المرأة في التركة ويستبقي الملك في العبد، وبأن للقرعة مدخلاً في العتق، فكان تحكيمها أَوْلَى من الرجوع إلى الوارث، وقضية هذا التوجيه تحكيم القرعة عنْد إبهام العِتْق بيْن الرقيقين والذي نَصَّ الفحول على ترجيحه أنَّه لا يقوم الوارث مَقَام المُوَرِّث في البيان وإن أثبتنا الخِلاَف، وفي "أمالي" أبي الفرج السرخسيِّ تخصيصُ الخلاف بما إذا عيَّن الوارث الحَنِث في يمين المرأة، أما إذا عَكَس، فيقطع بالجواز على موجب قوله؛ لأنَّه يُقِرُّ على نفسه وَيضرُّ بِهَا بتشريك المرأة في التركة وإخراج العبد عن التركة، وهذا حسن موافق تقدَّم في الطلاق المبهم. ¬
وإذا لم يُعْتَبَر بيان الوارث أو اعتبرناه، وقال: لا أعْلَم لي بالحال فيقرع بين المرأة والعبد، فلعلها تخرج على العبد، فإنها مأمورة في العِتْق، وإن لم تُؤَثِّر في الطلاق، كما يصغي إلى شَهَادة رجُل وامرأتين في السرقة لتأثيرها في الضَّمَان، وإن لم تُؤَثِّر في القطع، وإن خرجَتْ على العبد عَتَق، ويكون العِتْق من الثلث، إن كان الحَلِف في مَرَض المَوْت، وترث المرأة إلاَّ إذا كانت وادعت الحَنِث في يمينها، والطلاق بائن، وإن خرجت على المرأة لم تُطَلَّق لكن الورع أن تَدَع الميراث، وهل يَرِقُّ العبد؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن القرعة تعمل في العتق والرق، فكما يعتق إذا خرجت القرْعة، يَرِقُّ إذا خرجت على عديله؛ وعلى هذا يزول الإِشكال، ويتصرف الوارث في العبد كيْف شاء، وأصحُّهما المَنْع؛ لأنَّ القرعة لم تؤثر فيما خرجت عليه، فيبعد تأثيرها في غيره، وعلى هذا فوجهان: أحدهما: أن القُرْعة تُعَاد إلى أن تَخْرُجَ عليه قَال الإِمام: وعنْدي؛ يجب أن يخرج القائل به عن أحزاب الفقهاء، ومن قال به فلْيقطع بِعِتق العَبْد، وليترك تضييع الزمان في إخراج القُرْعَة، وهذا قوي قويم، لكن الحنّاطي حكى الوجْه عن أبي علي بن أبي هريرة، وهو زعيم عظيم الفقهاء لا يتأتى إخراجه عن أحزابهم. وأصحهما: أن الإشكال يَبْقَى بحاله ويوقف عنْهما جميعاً في الابتداء، والحاصل أنَّا كنَّا نبغي من القُرْعةَ بياناً، فلم نظفر به، وإن قلنا: إن الوارث تقوم مقامه، رجَعْنا إلَيْه، فإن عيَّن الحنث في يمين العَبْد عتق، وورثت المرأة، وإن عكس، فللمرأة تحليفه، ويكون حلفه على البت، وللعبد أن يَدَّعِيَ العتق، ويحلفه، ويكون حلفه على أنَّه لا يَعْلَم أن مورثه حَنَث في يمينه، ونقل الحناطي وجْهاً عن ابن سُرَيْج: أنَّه إذا لم يبين الورثة، يوقف إلى أن يموتوا، ويخلفهم آخرون، وهكذا إلى أن يحصل له بيان، والظاهر ما بيَّنَّا، وهو الإِقْرَاع إذا لم يبينوا ونقل وجهاً أن الحالف إذا لم يبين حكم عليه بالعتق والطلاق معاً وإذا لم يبين إلى أن مات أو جن أقر بالبيان، وضُيِّق عليه، وكيف ما قُدِّرَ فهو ضعيف، والله أعلم. وهذا تمام الكلام في الشطر الأول من الكتاب ونختمه بصور هي من شرائط هذا الشَّطْر، وربَّما يقع فيها ما تَسْهُل معرفته من أصولها أو أخواتها الَّتِي تقدَّمت، لكنَّا أوردْناها إذْ وجدْنَاها مسطُورةً، فلا تخلو في الأغلب عن زوائد وفوائِدَ: فيما جمع من "فتاوى القفَّال" وغيره أنَّه لو قال: طلقْتُ، ولم يزد، لا يقع الطلاق، وإن نوى لأنَّه لم يَجْرِ للمرأة ذكرٌ، ولا دلالة، فهو كما [لو] (¬1) قال: "امرأتي" ونوى الطلاق، وأنه لو قال ¬
[يتوارزني من يك] (¬1) ولم يزد عليه، لا يقع الطلاق، وإن نَوَى، ولو قال [اكريتوزن منى بهزار طلاق] (¬2) ولمْ يقل (هشته اى) (¬3) فإن كان في غرضه أن يقول (هشته اى) (¬4) (شم ندم)؛ فسكت أو أسكته غيره لا يقع الطلاق؛ لأن الطلاق يقع بتمام اللفظ ولم يتم، وإن أراد الإِيقاع بقوله (هزار طلاق) (¬5) وقع وصلح للكتابة. وأنه لو قال: طلقتك واحدة أو ثنتين، على سبيل الإنْشَاء فيختار ما شاء من واحدة أو اثنتين، كما لو قَالَ: أعتقت هذه أو هذَيْن، وأنَّه لو قال لوليِّ امرأته: زَوِّجْها، كان إقراره بالفراق، ولو قال: لها: انْكِحي، لم يكن إقراراً لأنها لا تَقْدِر على أن تنْكِح، لكن السابق إلى الفَهْم من ذلك ما هو المفهوم من قوله تعالى: {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وأنه لو قال لامرأته وزمرته (هرجائي كي خواهى، رويم) (¬6) لم يدر أنوى الطلاق أم لا؟ وإن نواه، أَنَوَى واحدةً أو أكثر؟ فالاحتياط أن يراجعها، إن لم تنقض مدة العدة، وتجدِّدُها إن انقضت، والاحتياط التمام أن يطلقها طلقة ولا ينكحها حتى تَنْكِح زوجاً غيْره، وأنَّه إذا قالت له زوجته: تزوجت عائشة بنت عبد الله، فقال: إن تزوجْتُ عائشةَ بنْت عبد الله، فهي طالقٌ، ثم قال: أردتُّ غيرها, لم يُصَدَّق، كما لو قال لزوجته وأجنبية: إحداكما طالقٌ، وقال: أردتُّ الأجنبيَّة، وقد سَبَق ما في الصورتين من الخلاف، وفي "فتاوى الشيخ الحُسَيْن الفرَّاء" أنه إذا قال لزوجته وأجنبية: إحداكما طالقٌ، ثم قال ما عينت واحدة بقلبي، يحكم بوقوع الطلاق، وإنَّما يتصرف الطَّلاَق عن الزوْجة، إذا قال: أردتُّ الأجنبية، حُكيَ عن أبي العبَّاس الرُّويانيِّ روايةُ وجهَيْن فيمن له امرأتان، فقال: امرأتي طالقٌ مشيراً إلى واحدة منْهما، وقال: أردتُّ الأخرى. أحد الوجهين أنَّه يُقْبَل، ويقع الطلاق على الأخرى، ولا تلزمه الإِشارة شيئاً. والثاني: يحكم بوقوع الطلاق عليهما على المشار إليها بظاهر الإِشارة، وعلى الأخرى (¬7) بقوله: "أردتها". وفيه أنَّه لو قال: أنْتِ طالقٌ كألف، يُرْجَع إلى نيته، فإن نوى اثنين أو ثلاثاً، فهو ¬
ما أراد، وإن لم يَنْو شيئاً فواحدة وأنَّه لو قال: أنتِ طالقٌ، حتى تتم ثلاثٌ، ففيه وجهان: أحدهما: أنَّه تقع ثلاثاً، وبه قال: أبو حنيفة -رحمه الله-. والثاني: يُرْجَع إليه، فإن لم ينوِ شيئاً، فتقع واحدة، ويقرب منْه ما إذا قال: أنتِ طالقٌ حتى أكمل ثلاثاً أو أوقع عليك ثلاثاً، وأنه لو قال: أنتِ طالقٌ ألواناً من الطَّلاق، فيُرْجع إلى نيته، فإن لم يَنْوِ شيئاً، وقَعَت واحدة، وأنَّه لو قال: يا مطلَّقة، أنت طالقٌ، وكان قد طلَّقها قَبْل ذلك، فقال أردتُّ تلْكَ الطلقة، يُقْبَل قوله، أو يقع طلقة أخْرى؟ فيه وجهان، وأنه لو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً أوْ لا بإسكان الواو لا يقع شيْءٌ؟ قال في "التتمة" هو كما لو قال "هل أنت طالقٌ ولو قال أوْ لا أنتِ طالقٌ، بتشديد الواو، وهو يعرف العربية، يقع الطلاق، والمعنى أنْتِ أوَّلٌ في الطلاق، وذكر إسماعيل البوشنجي أنَّه لو قال لإِحْدى نسائه: أنْتِ طالقٌ، وفلانة أو فلانة، فإن أراد ضمَّ الثانية إلى الأُولى فهما حزب والثالثة: حزب والطلاق مردّد بين الأوليين والثالثة، فإن عين الثَّالثَة: طُلِّقت وحدها، وإن عيَّن الأوليين أو إحداهما طُلِّقَتَا، وإن ضَمَّ الثانية إلى الثالثة، وجعلهما حزباً، والأولى حزباً طلقت الأُولَى وإحدى الأخريين، والتعيين إليه، وهذا الضم والتخريب يعرف من قرينة الوقْفة والنغمة على ما ذَكرْنا في صيغ التعيين، فإن لم تُوجَدْ قرينةٌ قال: الذي أراه أن يفصل إن كان الرجُل عرافاً بالعربية، فقضية الواو العاطفة الجَمْع بيْن الأولى والثانية في الحُكْم، فيجعلان حزباً واحداً، والثَّالثة حزباً، وإن لم يكن عارفاً بها فتُطَلَّق الأُولَى بيقين ويخيّر بين الأخريين، للشَّكِّ، وأنه إذا قال: أنْتِ طالقٌ ثلاثاً إلا نصفاً، يراجع، ولو قال عنيت إلا نصفَها، تقع طلقتان، وإن قال إلا نصْفَ طلقة طُلِّقت ثلاثاً، ويجيْء الوجه الذاهب إلى أن استثناء النِّصْف كاستثناء الكُلِّ، وإن قال: طَلَّقْت ولم أنْوِ شيئاً، حمل على استثناء النِّصْف من الجميع، وأنه لو قالت له امرأته: طلِّقني وطلِّقني وطلِّقني، فقال: طلَّقتك أو قد طلَّقْتك، إن نوى الثلاث، تقع الثلاث، وإن نوى واحدةً وقعَتْ واحدة، وإن لم ينوي شيئاً فالقياس أن تقع واحدة، وكذا لو قالت طلِّقني طلِّقني طلِّقني، فقال: طلَّقْتك أو قد طلَّقتك أو قَالَتْ: طلِّقْني ثلاثاً، فقال أنتِ طالقٌ أو طلقتك أو قد طلقتك، وأنَّه لو طلقها طلقة رجعيَّة، ثم قال: جعلتها ثلاثاً، فهو لغْوٌ لا يقع به الثلاث؛ لأنَّه تصرُّف في طلاق قد قضى ونفذ. وقال: أبو حنيفة يقع الثلاث، وأنَّه لو قال: لنسائه الأرْبَع، وقد جلَسْن صفاً: الوُسْطَى منكن طالقٌ، فعن أصحاب أبي حنيفة أنَّه لا يقع الطَّلاق على واحدة منْهن، لأنَّه ليس للأربع وسْطَى قال فيه وجهان، ولم يزد على هذا، والمفهوم مما أجْراه في المسألة أنَّ أحد الوجهين يوافق مذهبهم.
الشطر الثاني من الكتاب في التعليقات
والثاني: أنَّه يقع الطلاق على الوسطيين؛ لأنَّ الاتحاد ليس بشرط في وقوع اسم الأوسط والوسطى (¬1)، وأنه لو قال لامرأتيه، المدخول بهما: أنتما طالقتان، ثم قال قبل أن يراجعهما إحداكما طالقٌ ثلاثاً، ولم يَنْوِ معيَّنة أو قال: أنْتِ يا طالق يا فلانة ثلاثاً أو أنت طالق يا فلانة ثلاثاً، ثم انقضت عدَّة إحداهما، لم تتعيَّن الأخرى؛ لوقوع الطلاق عليهما خلافاً لمحمد بن الحَسَن، بل يبقى الإبهام، فإن عيَّن في التي بَقِيَت عدتها، فذاك وإن عيَّن في الثانية، فيُبْنَى على أن التّعْيينَ بيان الواقع أو هو إيقاع؟ إن قلْنَا بالأول صَحَّ، وإن قلنا بالثاني فلا لأن الثانية لا تَقْبَلُ الإِيقاع، قال [و] (¬2) الأوَّل أشبَه بالمَذْهب، وإذا انْقَضَت عدَّتها, لم يجز التزويج بواحدة منهما قبْل التعيين إلاَّ إذا نَكَحَت زوجاً آخَر، وذكر البوشنجي -رحمه الله- أنَّه لو قال لامرأته: أنْتِ طالقٌ عن هذا العَمَل لا ينبغي أن يقضي بوقوع الطلاق عليها لا ظاهراً ولا باطناً؛ لأن التطليق (¬3) تخليص، وإنما خَلَّصَها عن العمل لا عن قيد النكاح، وإنما ينصرف عنْد الإطلاق إلى قيد النكاح؛ للعرف الشائع، وحَكَى فيما إذا قال لعبده (ازاد كردم ويرا) (¬4) أمرين، هَلْ يعتق؟ اختلافَ جواب عن مشايخه الَّذين لقيهم -رحمهم الله- وإيانا. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الشَّطْرُ الثَّانِي مِنَ الكِتَابِ في التَّعْلِيقَاتِ، وَفِيهِ فُصُولٌ وَفُرُوعٌ: (الفَصْلُ الأوَّلُ في التَّعْلِيقِ بِالأَوْقَاتِ): فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ طُلِّقَتْ عِنْدَ اسْتِهْلاَلِ الهِلاَلِ، وَلَوْ قَالَ: فِي يَوْم السَّبْتِ فَعِنْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ، وَلَوْ قَالَ: آخِرَ شَهْرِ رَمَضَانَ فَهُوَ آخِرُ جُزْءٍ مِنْهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَوَّلُ النِّصْفِ الأخِيرِ، وَلَوْ قَالَ: أَوَّلَ آخِر الشَّهْرِ فَهُوَ أَوَّلُ اليَوْمِ الأَخِيرِ، وَقِيلَ: أَوَّل النِّصْفِ الآخِرِ، وَلَوْ قَالَ: آخِر الأَوَّلِ فَهُوَ آخِرُ اليَوْمِ الأوَّلِ، وَقِيلَ: آخِرَ اللَّيْلَةِ الأُولَى، وَقِيلَ: آخِرَ النِّصْفِ الأَوَّلِ، وَلَوْ قَالَ: فِي سَلْخِ الشَّهْرِ فَهُوَ آخِرُ جُزْءٍ مِنَ الشَّهْرِ، وَقِيلَ: أَوَّلَ اليَوْمِ الأَخِيرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تبيَّن في أوَّل الطَّلاَق أن غَرَض هَذا الشَطْرِ الكَلاَمُ في تعليق الطَّلاَق بالشروط، وهو جائِزٌ، واستأنسوا له بما رُوِيَ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "المُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ" (¬5) وقاسُوه على العِتْق؛ فإن الشرع ورد بالتدبير، وهو تعليق العتق بالموت، ¬
والطلاق والعتق يتقاربان في كَثِير من الأحكام قالُوا: والمعنى فيه أن المرأة قدْ تخالف الرَّجُل في بَعْض مقاصده، فتفعل ما يَكْرَهُه، وتمتنع عن ما يرغب فيه، ويَكْرَه الرَّجُلُ طلاقَهَا، من حيْث إنَّه أبْغَضُ المباحات، ومن حيْثُ إنَّه يرجو موافقتها، فيحتاج إلى تعْليق الطَّلاق بفعل ما يكْرَهُه، أو ترك ما يريده، فإمَّا أن تمتنع ولا تفعل، فيحصل غَرَضُه، أو تخالف، فتكون هي المختارة للطلاق، وإذا علَّق الطَّلاق بشرط، لم يجُزْ له الرجوع عنه كما لو عَقَد اليمين على فعْل، ولا فَرْق في جواز التَّعليق أن يكُون الشَّرْط معلومَ الحُصُول، أو موهومَ الحْصُول، ولا يقع الطلاق في النوعين إلا بوجوده، وعن مالك أنَّه إذا علَّق بصفة يتحقق وجودها كمجيء الشَّهْر، وطلوع الشمس يقَع الطَّلاق في الحال. ولا يحْرُم الوطء قبْل وجُود الشَّرط، ووقوع الطلاق، وعن مالك -رحمه الله- أنَّه قال: إذا قال: إنْ لم أفْعَلْ كذا، فأنْتِ طالقٌ يمتنع من الوطء إلى أن يفْعَلَه؛ لأن الحَنِثَ يَحْصُل بترك الفِعْل، والأصْل في الفعل العَدَمُ، ولو علَّق طلاقها بصفة، ثم قال: عَجَّلت تلْكَ الطلقة المعلقة، لم تتعجل، لتعلُّقها بذلك الوقت المستقبل، كما لو نَذَر صوم يوم معين، وكَمَا أن الجُعْل في الجعالة لَمَّا تعلق استحقاقه بالعَمَل، لم يتعجَّل بتعجيل، المالك وفيه وجْه آخر عن رواية الشَّيْخ أبي عليٍّ وغيره، وإذا قلنا بالظاهر فلو طلق وقال: عجلت لك الطَّلاق، راجَعْنَاه فإن قال: أردتُّ تلك الصفة، صدَّقاناه بيمينه، ولم يتعجَّل شيْء، وإن أراد طلاقاً مبتدأً وقعت طلقة في الحال ولو عقب لفظ الطلاق بحَرْفِ الشرط، فقال: أنْتِ طالقٌ، إنْ، فمنعه غيْره من الكلام؛ بأنْ وضَعَ يده عَلى فيه، ثم قال: أردتُّ أن أعلِّق بصفة كذا، صُدِّق بيمينه، لدَلالَة حرف الشرط على ما يَدَّعيه، وإنما حَلَّفْناه؛ لجواز أن يَكُونَ قَصْده التعليق على شيء حاصل مثْل أن يقول: إن كُنْتُ قد فعَلْتُ كذا، وكان قدْ فَعَل، ولو قطَع الكلام مختاراً حُكِمَ بوقوع الطلاق؛ لأن ظاهر الحَال أنَّه نَدِمَ على التعليق إن قَصَده وعَدَل إلى التنجيز، ولو ذَكَر حرْف الجزاء، ولم يذْكُر شرطاً بأن قال: فأنْتِ طالقٌ، ثم قال: أردتُّ ذكْر صفة، فسَبَق لساني إلى الجزاء، فعن القاضي كحُسَيْن؛ أنَّه لا يُقْبَل قوله في الظاهر؛ لأنَّه متهم قد خاطبها بصريح الطلاق، وحَرْف الفاء يحتمل غير الشَّرْط، وربما كان في عزْمه أن يقول: أمَّا بعدُ، فأنتِ طالقٌ، ولو قال: إن دخلت الدَّار أنت طالق، وحذف، حرف الجزاء، فقد أطْلَق في "التهذيب" وغيْره أنَّه يحمل على التَّعْليق. وقال إسماعيل البوشنجي: يراجع، فإن قال: أردتُّ التنجيز، آخذناه به، وإن قال: أردتُّ التعليق، أو تعذرت المراجعة حُمِل على التعليق، ولو قال: إن دخلْت الدار، وأنت طالقٌ بالواو قال صاحب "التهذيب" -رحمه الله- إن قال: أردتُّ التعليق، فأقمت الواو مُقَام الفاء، قُبِلَ قوله.
ولو قال: أردتُّ جَعْل الدخول وطلاقها شرطين لعتق أو طلاق قبل، وإن قال: قَصَدتُّ التنجيز، تنجز الطلاق، قال البوشنجي -رحمه الله- إن قال لم أقصد شيئاً قضي بوقوع الطلاق في الحال، وألغى حرف العطف؛ كما لو قال لامرأته ابتداءً: وأنت طالقٌ، ولو قال أنت طالقٌ وإن دخلت الدار طلقت في الحال، دخلت الدار أو لم تدخل، وكذا لو قال وإن دخلت الدار أنت طالقٌ ولم يذكر الواو في "أنت طالق". ولو علق الطلاق بشرط ثم قال: أردت إيقاع الطلاق في الحال فسبق لساني إلى الشرط؛ فإذا تغليظ منه على نفسه فيؤاخذ بموجبه، وقد ذكرنا من قبل معرض الاستشهاد. إذا، عرفت ذلك فإن صاحب الكتاب أودع هذا الشطر فصولاً هي قواعد ممهدةٌ وفروعاً هي توابع مبددة فهما قسمان: أولهما: الفُصُول، وهي ستة: الأول: في التعليق بالأوقات، فإذا قال أنتِ طالقٌ في شَهْر كذا، طُلِّقت عنْد استهلال الهلال، لأنَّ اسم رمضان مثلاً متحقِّق عند مجيْء أول جزء منه، وإذا تحققت الصفة الَّتي هي متعلَّق الطلاق، وقع الطلاق، ولم يعتبر دوامها وانتهاؤها؛ ألا تَرَى أنَّه إذا علَّق الطلاق بدخول الدار، فحَصَل في أوَّلِها، وقَع الطَّلاق، ولم يعتبر بوسْطها والوصول إلى صدْرها، قال الإِمام -رحمه الله- وقد يظن أن الشهر لَمَّا جُعِل ظرفاً للطلاق، فيشترط لوقوع الطلاق سَبْق زمان من ذلك الشَّهر، لكنه وَهِمَ، وليس المعنيُّ بالظَّرْف من الزمان إلا زمان ينطبق عليه الفِعْل، ولم يذكروا هاهنا خلافاً؛ أخذاً مما سَبَق في السَّلَم مع اتجاه التسوية، ولو قال: أنتِ طالقٌ في غُرَّة شهر كذا، أو أوله أو في رأس الشهر، أو ابتدائه أو دخوله أو استقباله أو إذا جاء شهْر كذا، تُطلَّق عنْد أوَّل جزْء من الشهر، ولو رأى الهلال قبْل غروب الشمس، لم يقع الطَّلاق حتَّى تغرب الشَّمس؛ لأن أول الشَّهْر حينئذ يحْصُل، ولو قال: في نهار شهْر كذا أو في أول يَوْم منْه، وقَع عنْد طُلُوع الفَجْر في اليوم الأوَّل لا عنْد الاستهلال. ولو قال: أنْتِ طالقٌ في يَوْم كذا، وقع عند طلوع فجْر ذلك اليَوْم، وعنْد أبي حنيفة عند انتهاء ذلِكَ اليَوْم بغروب الشمس، كما أن الصَّلاة عنْده تجب بآخر الوقت، وحكى الحناطي قولاً مثْل مذهبه، وطرَده في الشَّهر أيضاً، وعلى هذا قياسُ ما لَوْ قال: في وقْت الظهر أو العَصْر، ولو قال: أردتُّ بقولي في شَهْر كذا، أو يَوْم كذا وسْط الشهر، أو اليوم أو آخرهما، لم يُقْبَل في الظاهر ويدين، هذا هو المَشْهُور، وفي كتاب القاضي ابن كج وغيره وجْه: أنَّه يُقْبَل في الظاهر، ولو قال: أردت بقولي "في غُرَّة شهر كذا" اليَوْمَ الثاني أو الثالث، فكذلك الحُكْم؛ لأن اسْم الغُرَّة، يقع على الثلاث، أما لو قال: أردتُّ به المنتصف لم يُدَيَّن، وكذا لو قال: في رأْس الشَّهر، ثم قال: أردتُّ السادسَ عَشَرَ.
ولو قال: في رَمَضَان: أنْتِ طالقٌ في رمضان، وقع في الحال، ولو قال: في أول رمضان أو إذا جاء رمضان، وقع في أول رمضان القَابل. وقوله في الكتاب "فعند طلوع الفجر" ليعلم بالحاء والواو، وكذا قوله: "عند استهلال الهلال" بالواو وأُعْلِمَ بالحاء أيضاً؛ لأنَّهُ حُكِي عن أبي حنيفة في الشَّهْر مثْل ما رُوِيَ عنه في اليوم، والله أعلم، الكلام في صورتين: إحداهما: لو قال: أنتِ طالقٌ في آخر شَهْر كذا، فوجهان: أحدهما: أنَّه يقع الطلاق في آخر جُزْء من الشَّهْر، فإنَّه الآخر المطلق، وهو المفهوم من اللفظ. والثاني: يقع في أول جُزْء من لَيْلة السَّادس عشر؛ لأن النصف الثاني كلَّه في آخر الشَّهْر، فيقع الطلاق في أوَّله، كما وقع في أول الشهر إذا قال: أنتِ طالقٌ في شهْر كذا وفي "التهذيب" وجْه ثالث؛ وهو أنَّه يقَعُ في أول اليوم الأخير؛ حمْلاً للآخر على اليوم الآخر، وإيراده يقتضي ترجيحَهُ، وعلى هذا القياس، لو قال: أنتِ طالقٌ في آخِرَ السَّنة، فعلى الوجه الأوَّل تطلَّق آخر جزء من السنة، وعلى الثاني: أَوَّلَ الشهْر السابع، ولو قال: أنتِ طالقٌ في آخر طهر له تطلق في آخر جزء من الطُّهْر، وعلى الثاني: في أول النصْف الثاني منْه، ولو قال: أنتِ طالقٌ في أول آخر الشهر، فوجهان، وقال أكثرهم: يقع في أول اليوم الأخير، وعن ابن سُرَيْج: في أول النصْف الآخر، وهو أول جُزْء من ليلة السَّادس عشر، وحَكَى القاضي ابن كج عن أبي بكر الصيرفي -رحمه الله- أو غيره: أنَّه يقَعُ في أول [اليوم] السَّادِسَ عَشَر؛ لأنَّه أول يوم من النِّصْف الآخر، ولو قال: أنْتِ طالقٌ في آخر أول الشهر، فوجهان، قال أكثرهم، يقع الطَّلاق عنْد غروب الشمس في اليوم الأول، وعن ابن سُرَيْج: يقع في آخر النِّصْف الأول، وهو عنْد غروب اليَوْم الخامسَ عَشَرَ، وفيه وجْه ثالث: أنَّه يقع عنْد آخر الليلة الأولى، ولا يُعْتَبَر مُضِيُّ اليوم، وهذا ما ذَكَره صاحبُ "التتمة" بدلاً عن الوجْه الأوَّل، فقال: لو قال: "أنتِ طالقٌ آخِرَ أوَّل آخر الشهر، فمَنْ جعَل آخر الشهر اليومَ الأخير، قال: يقع الطلاق عنْد غروب الشمس في اليوم الأخير؛ لأنَّ ذلك اليَوْم هو آخر الشهر، وأوَّلُه طلوع الفجر، وآخر أوله غروب الشمس، ومَن حَمَل الآخر على النِّصْف الثاني، فأوَّلُه ليلة السادس عشر، فيقع الطلاق في آخر جُزْء من هذه الليلة، ولو قال: أنتِ طالقٌ أوَّلَ آخر الشهْر، قاله: يقع الطلاق عنْد استهلال الهلال على الوجهين؛ لأنا إن جعلْنا الأول الليلة الأولى، فآخِرُها عنْد طلوع الفجر، وأوَّل هذه الآخرة عنْد الاستهلال، وإن جعلْنا الأول النِّصْف الأول، فآخره غروب الشَّمْس اليوم الخامس عشر، وأول هذا الآخر الاستهلاك. الثانية: إذا قال: أنتِ طالقٌ في سَلْخ الشهر، ففيه وجوهٌ:
أحدها: أنَّه يقَعُ في آخر جُزْء من الشهر؛ لأن الانسلاخ يَحْصُل به، وهذا ما أجاب به الشيخ أبو حامد -رحمه الله- وإيراد الكتاب يَقْتضي ترجيحه. والثاني: وهو المذكور في "التهذيب" و"التتمة" أنَّه يقع في أول اليوم الآخر من الشهر، فإن السلخ المُطْلَق، يقَعُ عليه، فيتعلَّق الطَّلاق بأوله، وعن رواية صاحب "التقريب" وجْهٌ أنَّه يقَع بمضيِّ أول جزء من الشهْر؛ فإنه يأخذ في الانسلاخ من حينئذٍ، قال الإِمام: اسْم السَّلْخ يقَع على الثلاثة الأخيرة من الشهر، كما تقع الغرة على الثلاثة الأُوَل، فيُحْتَمَل أن يقع في أول جزء من الأيَّام الثلاثة (¬1). فرْعٌ: عن "التتمة" لو قال، أنتِ طالقٌ، عنْد انتصاف الشهر، يقع الطلاق عنْد غروب شمْس اليوم الخامس عشر، وإن كان الشَّهْر ناقصاً؛ لأنه المفهومُ من إطلاق النصْف، ولك أن تقول: يُحْتَمَل أن يقَع في أول الخامس عشر؛ لأنَّه يُسَمَّى النصف والمنتصف، فيتعلق الطَّلاق بأوله؛ ويوضِّحه أن ليلة [البراءة] تسمى ليلة النصف من شعبان. ولو قال: أنْتِ طالقٌ نصْف النصف الأول من الشهر، يَقع الطَّلاق عنْد طلوع فجْر اليوم الثامن لأن نصف النصف سبع ليالي، ونصف وسبعة أيام ونصف والليل سابقٌ على النهار، فيُقَابَل نصف ليلة بنصف يوم، ويُجْعَل ثمان ليال وسبعة أيام نصفاً وسبع أيام نصفاً، وسبع ليال وثمانية أيام نصفاً. ولو قال: أنتِ طالقٌ نصْفَ يوم كذا، طُلِّقَت عنْد الزوال؛ فإنَّه المفهوم من لَفْظ النصْف، وإن كان اليوم يُحْسَب من طلوع الفَجْر شَرعاً، ويكون نصفه الأول أطول. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: بِاللَّيلِ إِذَا مَضَى يَوْمٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتُطَلَّقُ آخِرَ الغَدِ، وَلَوْ قَالَ بِالنَّهَارِ فَإِذَا عَادَ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الوَقْتِ، وَلَوْ قَالَ: إِذَا مَضَتِ السَّنَةُ فَعِنْدَ أَوَّلِ هِلاَلِ المُحَرَّمِ وَإنْ كَانَ قَرِيباً، وَلَوْ قَالَ: إِذَا مَضَتْ سَنَةٌ فَإِلَى مُضِيِّ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْراً، وَالشَّهْرُ الأوَّلُ المُنْكَسِرُ يُكَمَّلُ ثَلاَثينَ يَوْماً مِنَ الآخِرِ يُحْتَسَبُ أَحَدَ عَشَرَ شَهْراً بِاْلأَهِلَّةِ بَعْدَهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لو قال: إذا مَضَى يَوْمٌ فأنْتِ طالقٌ، نُظِرَ؛ إن قاله باللَّيْل، فتُطَلَّق عنْد غروب الشمس من الغدِ، فحينئذٍ يتحقَّق مضي يوم، وإن قاله بالنهار، طُلِّقَتْ، إذا جاء مِثْلُ ذلك الوقت من اليَوْم الثاني، هكذا أطلقوه، ولكن فيه تلفيق اليوم من البعضين [المفترقين]، فقد سَبَق في "الاعتكاف" أنَّه لو نذر أن يعتكف يوماً، لم يَجُزْ تفريق السَّاعَات في أصَحِّ الوجهين. ولو فرض انطباق التعليق على أول نَهَارٍ، طُلِّقَت عنْد غروب الشمس ولو قال: ¬
أنت طالقٌ إذا مضى اليَوْم، بالأَلِف والَّلام"، فإن قاله نهاراً [طلقت عنْد غروب شمسه] وإن لم يبق من الغروب إلا قَدْر يسير؛ لأنه عرف بالألِف واللام، فيَنْصَرِف إلى اليَوْم الَّذي هو فيه، بخلاف ما إذا نَكَر، فإنَّه يقتضي يوماً كاملاً، ولو قال ذلك بالليل كان لَغْواً؛ لأنه لا نَهَار، حتَّى يُحْمَل على المعهود، ولا يمكن العمل على الجِنْس، قال في "التتمة". ولو قال: أنْتِ طالقٌ اليَوْمَ، طُلِّقَت، وفي الحال، إن قاله نهاراً، وإن قاله ليلاً فكذلك، ويلغو قوله اليوم؛ لأنَّه لم يعلق، وإنما أوقع وسَمَّى الوقت بغير اسْمٍ، ولو قال: أنْتِ طالقٌ الشهر أو السنة، وقَعَ في الحال. ولو قال: إذا مَضَى شهْرٌ، فأنتِ طالقٌ، فلا يقع حتَّى يمضي شهرٌ كاملٌ، فإن اتَّفَقَ في ابتداء هلال الشَّهْر وقع الطلاق، إذا مضى كاملاً أو ناقصاً، إلا فإن قاله بالليل، اعْتُبِرَ مُضِيُّ ثلاثين يوماً ومن ليلة الحادي والثلاثين تقدر ما سَبَق من تلْك الليلة على النقلين، وإن قاله (¬1) بالنَّهَار، فيُكَمَّل بعْد التعليق من اليوم الحادي والثلاثين، ولو قال: إذا مضى الشهر طلقت، إذا انقضى الشَّهر الهلالي، وكذلك لو قال: إذا مَضَتِ السنة، كان التعليق ببقية السنة العربية، فيقع الطَّلاَق عنْد استهلال المحرم، وإن كَانَ قريبًا, ولو قال: إذا مَضَت سنة، بالتنكير لم يقَعْ، حتى يمضي اثنا عَشَر شَهْراً، ثم إن لم ينكسر الشهر، الأول، وَقَع الطلاق بمعنى اثني عشر شهراً بالأهلة فرِضَتْ كاملةً أو ناقصةً، وأشار، الإِمام -رحمه الله- إلى أن تصور عدم الانكسار عَسِيرٌ، لكن يظهر قرينته فيما إذا قال: إذا مضَتْ من أول رمضان سَنَةٌ، فأنتِ طالقٌ، وإن انكسر الشهْر الأول عد ما بقي إلى الاستهلال، واحْتسِبَ بعْده أحَدَ عَشَرَ شهْراً بالأهلة، ويُكمل الباقي من شهْر التعليق ثلاثين وعند أبي حنيفة -رحمه الله- إذا انكسر شَهْرٌ، انكسر الكُلُّ، واعتبر الجميع بالعدد، وللأصحاب وجْه مثله، وقد ذَكرنا ذلك في "السَّلَم"، ولو شك فيما كان قد بَقِيَ من شهْر التعليق بَعْد ما انقضى أَحَدَ عَشَرَ شَهْراً لم يقع الطلاق إلا باليقين، وذكر الحناطي وجهَيْن (¬2) في حل الوطء حال التردُّد. ولو قال: أردتّ بالسنة السنة الفارسية أو الرومية دِينَ، ولم يُقْبَل، في الظاهر؛ لأنها تطوَّلت، فهو يريد تأخير الطَّلاق، ونقل الحناطي وجْهاً آخر أنَّهُ يُقْبَل، وهو الذي أورده القاضي ابن كج؛ لعموم العرف به، والمشهور الأوَّل (¬3). ولو قال: أردتُّ بقولي: "السنة" سنةً كامةً دِينَ ولم يُقْبَل في الحكم. ولو قال: أردتُّ بقولي: "سنة" بقية السنة، فقد غَلَّظَ على نفسه. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بِالأَمْسِ لَمْ يُسْتَنَدْ إلَى الأَمْسِ وَيَقَعُ في الحَالِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ الآنَ طَلاَقاً يَنْعَكِسُ حُكْمُهُ إلَى المَاضِي نَفَذَ فِي الحَالِ وَلَمْ يَنْعَكِسْ، وَقِيلَ: يَلْغُو لأَنَّهُ وَصَفَهُ بِمُحَالٍ فَصَارَ كَمَا إِذَا قَالَ: إنْ طِرْتُ أَوْ صَعِدْتُّ إلَى السَّمَاءِ أَوْ أَحْيَيتُ مَيِّتاً، وَقِيلَ في التَّعْلِيقِ بِالصُّعُودِ وَالإِحْيَاءِ إنَّهُ أَيْضاً يَقَعُ، وَقِيلَ في الإِحْيَاءِ يَقَعُ دُونَ الصُّعُودِ فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِ فُلاَنٍ بِشَهْرِ أَوْ قَبْلَ قُدُومِهِ ثُمَّ مَاتَ أَوْ قَدِمَ بَعْدَ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ تَبَيَّنَ وُقُوعُ الطَّلاَقِ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ: طَالِقٌ أَمْسٍ غَداً أَوْ غَداً أَمْسِ وَقَعَ اليَوْمَ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي الشَّهْرِ المَاضِي ثُمَّ قَالَ: أَردتُّ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً أَوْقَعْتُهَا بِالأَمْسِ قُبِلَ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدتُّ أَنَّ زَوْجاً آخَرَ طَلَّقَهَا أَوْ طَلَّقْتُهَا وَأَبَنْتُهَا ثُمَّ جَدَّدتْ النِّكَاحَ لَمْ يُقْبَلْ إلا بِبَيِّنَةٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صور نوردها كما ينبغي، ولا نحافظ على ترتيب الكِتَاب: إحداهما: إذا علَّق الطَّلاق بصفة مستحيلةٍ عُرفاً؛ كما إذا قال إن طِرْت أو صَعِدت السماء، فأنتِ طالقٌ، أو عَقْلاً؛ كما إذا قال: إنْ أحييت مَيِّتاً، ففي "النهاية" أن حاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثةُ أوجه: أحدها: أنَّه لا يقع الطلاق؛ لأنَّه لم ينجّزه حتَّى ينجّز، ولكن علَّقه، ولم توجَد الصفة المعلَّق عليها، وقد يكون الغرضُ من التعليق بِغَيْر المُمْكِن أن يمتنع وقوع الطلاق حسب امتناع المعلَّق عليه، كما قال تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]. الثاني: أنَّه وَقَعَ في الحال، ويلغو، التعليق بالمحال؛ لأن التعليقَ أيضاً يثْبُت إذا كان المعلَّق عليه مما يرتقب حصولُه، فإذا لم يكُنْ، كذلك بَطَل التعليق، وبَقِيَ التطليقُ من غَيْر تعليق؛ ولهذا نَقُول إذا قال: لغَيْرِ المدخول بها: أنتِ طالقٌ للسَّنة يلْغُو الوصْف، ويقَعُ الطَّلاق. والثالث: يُفْرَق بين الطيران والصُّعُود، وبين الإِحياء، فلا يقع فيهما ويقع الإِحياء، والفرق أن الاستحالة فيهما عرفيَّة، وهما ممكنان في العَقْل، وفي قدرة الله تعالى الإِقدار عليهما وقد أُسْرِيَ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورُفِعَ عيسَى -عليه السلام-، وأُعطِيَ جعفرٌ -رضي الله عنه- جناحَيْن يطير بهما، وأمَّا الإِحياء فلا يَقْدِرُ علَيْه إلا الله تعالى، والتعليقُ بما لا إمكان له مستنكرٌ، فيُلْغَى، واتفق الناقلون في التعليق بالمستحيل عرفاً؛ كالطيران والصعود، وحَمْل الجبل الثقيل، ونحوها أن الأظهر عَدَم الوقوع وهو المنصوص، وكذا حال الخلاف عنْد الإِمام وجماعة في التعليق المستحيل عقلاً، كإحياء المَيِّت، والجمع بين السواد والبَيَاض.
وقال صاحب "التتمة" -رحمه الله- "المَذْهَبُ أن يُلْغَى التعليق به، ويقع الطَّلاق في الحال، وأُلْحِق به التعليق بالمستحيل شرعاً، كما لو قال: إنْ نُسِخَ وجوبُ المكتوبات الخمس أو صَوْمِ رمضان، فأنْتِ طالقٌ، ولا يَخْفى أن المراد من إحياء الميِّت الذي أطلقْناه حقيقته فأما إذا علَّق بالإِحياء بالمعنى المراد في قوله تعالى: {وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} فيُلْحَق ذلك بالطيران، وصعود السماء. الثانية: إذا قال: أنْتِ طَالِقٌ أمْسِ أو الشهر الماضي أو في الشهر الماضي، فله أحوال: إحداها: أن يقول: أردتُّ أن يقع في الحال طلاقٌ يستند إلى أمس أو الشهر الماضي، فلا شك أنَّه لا يُسْنَد، وهل يَقَع في الحال؟ فيه وجهان: أظهرهما: وهو المذكور في "التهذيب": نعم؛ لأنَّه أوقع الطَّلاق في الحال، وقَصَد إثبات حُكْم من قَبْل أيضاً، فيثبت ما يمكن ثبوتُه، ويلغو ما لا يمكن. والثاني: ونسبه أبو الفرج الزاز إلى أبي إسحاق، أنَّه لا يقع؛ لأنَّه إنَّمَا أوقع طلاقاً مستقلاًّ أمَّا إذا لم يمكن إسناده، وجَب ألاّ يقع. الثانية: أن يقول: لم أوقع في الحال طلاقاً، ولكن أردتُّ إيقاعه في الزمان الماضي، فالنصُّ أنه يقع في الحال، وحَكَى الربيعُ قولاً: أنَّه لا يَقَع، كما لو قال: إنْ طِرْت أو صعدت السماء، فأنت طالقٌ؛ فإنَّه نصَّ على أنَّه لا يقَعُ، واختلف الأصحاب، فعن ابن خيْران أنَّ الصورتَيْن على قولَيْن بالنقل والتخريج، وجْه الوقُوع أنَّه خاطَبها بالطلاق وربَطه بشيْءٍ ممتنعٍ، فيلغو الرَّبْط، ويقع الطلاق، كما لو قال: أنتِ طالقٌ للبدعة ولا بدعة في طلاقها، ووجْه المنع أنَّه أوْقَع الطَّلاق في الزمان السابق أو بشرط، وهو ممتنِعٌ، فإذا امتنع وقُوع ما أوقَعَه، لا يَقَع ما لم يُوقِعْه، والوجه الذاهب إلى وقوع الطلاق في التعليق بالصعود ونحْوه على ما تقدَّم مأخوذ من هذا التصرُّف، والأكثرون لم يثبتوا ما حَكَاه الرَّبيع قَوْلاً، وقَطَعوا بوقوع الطَّلاق هاهنا، ووجهوه (¬1) "بأنه أرسل الطلاق وأراد رفعه بالإِضافة إلى ما مضى، فكان كما لو قال؛ أنتِ طالقٌ طلاقاً لا يقع علَيْكِ، وهناك لم يرسل الطَّلاق، وإنَّما علقه ولمْ يُوجَد المعلَّق علَيْه، وأيضاً فإن الطيران والصُّعود ممكنان في نفسهما وإيقاع الطلاق في رمضان مضى وتصرم بحال. الثالثة: إذا أراد بهذا الكلام إيقاع الطَّلاق لا في الحال ولا فيما مَضَى، وإنما أردت أني طلّقتها في الشَّهْر الماضي في هذا النِّكَاح، وهي في عدَّة الرجعية، أو بائن ¬
الآن فَيُصدَّق بيمينه، وتكُونُ عِدَّتُها من الوَقْت الَّذي ذَكَره إن صدقته، ويبقى النظر في أنه كان يخالطُها أو لم يخالطها وإن كذَّبته، فالعِدَّة من وقت الأِقرار، وعن القاضي الحُسَيْن: أنَّها إن صدقت، قُبلَ، وإلا فالقَوْل قولها في أنه إنشاءُ الطَّلاق، وحينئذٍ فيُحْكَم علَيْه بطلاقين. أحدهما: هذا الذي أنشأه. والثاني: ما أقرَّ به. ولو قال: أردتُّ أني طلقتُها في الشهر الماضي، وبانت منى، ثم جدَّدتُ النكاحَ أو أن زوجاً آخر طلقها في نكاح سابق، وبانت، فنكحتها، قال الأصحاب: يُنْظر؛ إن عرف نكاح سابق وطلاقه فيه أو أقام (¬1) على ذلك بيِّنةً، وصدّقته في إرادته، فذاك، وإن كَذَّبَتْه، وقالت لم تُردْ ذلك، وإنما أردتَّ إنشاء طلاق الآن، فيحلف، قالوا: ويخالف هذا ما إذا قال: طلَّقْتُها في هذا النكاح حيْثُ يُصَدَّق، ولا نطالب بالبينة؛ لأنَّه معْتَرِفٌ هناك بطَلاق في هذا النكاح، وهاهنا يريد صرْف الطلاق عن هذا النكاح، وإن لَمْ يُعْرف نكاح سابق، وطلاق في ذلك النكاح، وكان محتملاً، فينبغي أن يُقْبَل التفسير به، وإن لم تقم بيِّنة، وإلاّ يقع الطلاق، وإن كان كاذباً؛ ألا تَرى أنَّه لو ابتدأ، فقال: طَلَّقَكِ في الشهْر الماضي زوجٌ غيْرِي، لا يُحْكَم بوقوع طلاقه، وإن كذب. الرابعة: لو قال: لم أُرِدْ عند الطلاق شيئاً أو مات، ولم يُفسِّر أو جُنَّ أو خرس، وهو عاجز عن التفهيم بالإِشارة، فالمشهور أنَّه يقع الطَّلاق في الحال، قال الإِمام -رحمه الله- وسببُه أن قوله: "أنْتِ طالق" صريح في تنجيز الطلاق، وقوله "في الشهر الماضي" ملتبس متردِّد بين محامل، فإذا لم يَقْصِد به شيئاً، لُغيَ، وعمل اللفظ المستقل، وحاصله أنَّا نحْكُم بوقوع الطلاق إلا إذا فُسِّر بشيء من التفاسير المذكورة، فيكون الحُكْم عَلَى ما بيّنا، وحكى [الحناطي] (¬2) وجْهاً آخر: أنَّا لا نحكم بوقوع الطَّلاق، إذا لم نَقِفْ على تفسير، ولو قال: أنتِ طالقٌ للشَّهْر الماضي، ففي "المُجَرد" للقاضي أبي الطيِّب: أنَّا نحكم بوقوع الطلاق في الحال قولاً واحداً، كما لو قال: أنتِ طالقٌ إن شاء فلانٌ، لكن الكلام في مثْل ذلك يُسْتَعْمل للتاريخ، واللفظ محتمل للمعاني المذكورة، فيما إذا قال في الشهر الماضي، والله أعلم. الصورة الثالثة: قال: إذا مات فلانٌ أو قَدِمَ فلانٌ، فأنتِ طالقٌ قبْله بشهر أو قال: أنتِ طالقٌ قبل أن أضرِبَك بشهْر نُظِرَ إن مات فلان أَو قَدِم فلان أو ضَرَبَها قبْل مُضيِّ شهر من وقْت التعليق، لم يَقَع الطَّلاق سابقاً؛ لأن وقوع الطَّلاق لا يَسْبِق اللفظ الموقع، وأمَّا في الحال ففي "المهذب" حكايته وجْه: أنَّه على الخلاف المذكور في الصُّورة ¬
السابقة، وهي ما إذا قال: أنْتِ طالقٌ للشهر الماضي، والصحيح المعروف أنَّه لا يقع قولاً واحداً، والفرق أن القُدُوم يمكن أن يتأخَّر عن شهْر، ويمكن أن يتقدَّم، والطلاق في الحقيقة معلَّق بزمان يكون بينه وبين القُدُوم شهْرٌ، فوجب اعتبار الصفة، وهناك لا تعليق، وإيقاع الطلاق في الزمان الماضي مُحالٌ، فلُغِيَ، وإذا لم يَقَع الطلاق، فتنحل اليمين، حتى لو ضربها بعْد ذلك، وقد مَضَ شهْرٌ، أو أكثر، لم يَقَع الطلاق. قال الإِمام -رحمه الله-: ولو قال قائِلٌ: الضرْب المعقود علَيْه ضرْبٌ يقع الطلاق قَبْله بشهر، فلا تنحل اليمين بالضَّرب الأول؛ لما كان بعيداً تخريجاً، على أن المعلَّق عليه إذا وُجِدَ في حال البينونة، لا ينحَلُّ اليمين على ما سبقَتْ حكايته عن الإِصطخري، وإن وُجِدَ الموت أو القُدُوم أو الضرب بَعْد مضيِّ شهر من وقت التعليق، تَبيَّن وقوع الطلاق قبْله بشَهْر، وبحسب العدَّة من يومئذٍ، ولو ماتت وبينها وبيْن القدوم دون شَهْر، لا يرث الزوج منْها، وعن أبي حنيفة أنه يقع الطَّلاق في صورة القدوم، والضرب في الحال، وسَلَّم في صورة الموت الوقوع قبله بشَهْر، ولو خالَعَها قبل قدوم فلان أو موته، فإن كان بين الخُلْع وبين قدوم فلان أو موته أكْثَرُ من شهْر وقَع الخُلْع صحيحاً، ولم يقع الطلاق المعلَّق، وإن كَان بينهما دُون شَهْر، والطلاق المعلَّق ثلاثٌ، فالخُلْع فاسِدٌ، والمال مردود، ولو علَّق عتق عبده كذلك، ثم باعه، وبَيْن البَيْع وموت فلانٍ أو قُدومه أكثر من شَهْر، صحَّ البيع ولم يحصل العتق. الرابعة: إذا قال: أنت طالقٌ غداً أمْسِ، أو أمْسِ غَد، على الإضافة وقع الطلاق في اليوم لأنه عند أمس وأمس غد ولو قال: أمسِ وغداً أو غداً أمس، لا على الإِضافة، طُلِّقَتْ إذا طلع الفجْر من الغد، ويلغو ذكر الأمس، هكذا أطلقه في "التهذيب" ونقل الإِمام مثْلَه فيما لو قال: أنتِ طالقٌ أمس غداً، وأبدى فيه توقُّفاً؛ لأن قوله أنتِ طالقٌ أمسِ، كقوله أنتِ طالقٌ الشهر الماضي، ولو أطلق هذا اللفظ لتنجز الطَّلاق في الحال، فذِكْر الغَد معه لا يغيِّر هذا المعنى، ولا يقتضي تأخير الطَّلاق، ولو قال: أنتِ طالقٌ اليوم غداً وقَعَتْ في الحال طلقةٌ، ولا يقع الغد أخرى؛ لأنها إذا طُلِّقت اليوم، كانَت طالقاً غداً أيضاً ويُحْتمل أنه لم يُرد إلا ذلك، فلو قال: أردتُّ اليوم [طلقةً] (¬1) وغداً طلقةً، طُلِّقَت كذلك، إذا لم تبين (¬2) بالأولى، وإن قال: أردتُّ إيقاع نصْف طلقة اليوم، ونصف طلقة غداً، فكذلك تطلق طلقتين، وإن قال: أردتُّ أن تقع نصْف طلقة اليوم، ونصْفها الآخر غداً، ففي وجه تُطلَّق طلقتين أَيْضاً والأشْبَه أن لا تقع إلا واحدةً لأن النِّصْف الَّذي أخره قدْ تعجل، وهذا ما أورده في "التتمة" وحكى فيما لو قال: أنتِ طالقٌ غداً اليوم، وجهان: ¬
أحدهما: أنَّه لا يقع في الحال شَيْءٌ، ويقع طلقة غداً؛ لأن الطلقة تعلَّقت بالغد، وقوله "اليوم" بعد ذلك كتعجيل الطلاق المعلَّق، وقد مر أنه لا تتعجل، وبهذا قال أبو حنيفة والقاضي أبو حامد، وذكر الشيخ أبو عاصم أنه الصحيح. والثاني: أن الحكم فيه كما لو قال: أنتِ طالقٌ اليَوْمَ وغداً وهو المذكور في "التهذيب"، ولو قال: أنتِ طالقٌ اليوم وغداً وبعد غدٍ، تقع في الحال طلقةٌ، والمطلَّقة في وقْت مطلَّقةٌ فيما بعْده، فلا يقع شيْء آخر، كذلك حكاه صاحب "التتمة" ويقربُ من الصورة ما إذا قال: أنتِ طالقٌ اليوم، وإذا جاء الغد، قال إسماعيل البوشنجي -رحمه الله-: يراجَعُ إن قال: عنيْتُ طلقةً، تقع اليوم وتبقى مطلقة بعد هذا، لم يقع إلا واحدة، وإن قال: أردتُّ طلقةً اليوم، وطلقة غداً، أوقعناه (¬1) كذلك وإن كانت مدخولاً بها، وإن لم يكُنْ له نيَّة لا يقضي بالتعدُّد، كما لو قال: أنتِ طالقٌ اليوم وغداً، ولو قال: اليوم، ورأس الشهر، فهو كما لو قال: أنتِ طالقٌ اليوم وغداً، ولو قال: اليوم، ورأس الشهر، فهو كما لو قال: اليوم وغداً. وقال المتولِّي: ولو قال: أنتِ طالقٌ اليومَ، وفي الغدِ وفيما بعْد الغد، يقع في كل يَوْمٍ طلقةٌ؛ لأن الاختلاف في الظرف يوجب التعدد من المظروف وبمثله حَكَم فيما إذا قَل: في الليل وفي النهار، وليس التوجيه بواضح، ويجوز أن يختلف الظرف، ويتَّحد المظروف، ولو قال أنتِ طالقٌ بالليل والنهار، لم تطلَّق إلا واحدة، ولو قال: أنتِ طالقٌ اليوم أو غداً؛ فوجهان عن رواية الشيخ أبي عاصم: أصحُّهما: أنَّها تُطلَّق غداً؛ لأنَّه اليقين، وهذا ما ذكرناه من قبْلُ مستشهدين بالمسألة. والثاني: يقع في الحال؛ تغليباً للإِيقاع ويوافق الوجه الأول ما ذكَره الشيخ البوشنجي أنه لو قال: أنتِ طالقٌ غداً أو بعْد غد أو إذا جاء الغَدُ أو بعد غد، لا يُقْضَى بوقوع الطلاق في الغد، قال: وعليه استقر رأْيُ أبي بكر الشاشي وابن عقيل ببغداد -رحمهما الله-. ولو قال: أنتِ طالقٌ اليوم إذا جاء الغد، فعَنِ ابْنِ سريج وصاحب "التقريب": أنَّه لا يقع الطلاق أصْلاً؛ لأنه علَّقه بمجيْء الغد، فلا تُطلَّق قبْله، وإذا جاء الغد مَضَى اليوم الذي جعَلَه محلاًّ للإِيقاع. والثاني: أنَّه إذا جاء الغد، وقع الطَّلاق مستنداً إلى اليوم، ويكون كما لو قال: إذا قِدَم زيْد، فأنتِ طالقٌ [اليوم] قبل ما إذا جاء الغَدُ مستحيل فيلغو ما ينشأ منْه الاستحالة. وأمَّا لَفْظ الكتاب، فقوله: "ولو قال: أنْتِ طالقٌ أمْسِ لم يستند إلى الأمس" المراد منْه ما إذا قَصَد إيقاع الطلاق بالأمس. ¬
وقوله: "ولو قال طلقتك الآن طلاقاً" ينعكس حُكْمُه إلى الماضِي المراد منْه إذا قَصَد الإِيقاع في الحال على أن ينعطف، وينعكس على ما مَضَى، وذلك بين في "الوسيط". وقوله: "وقيل يلغو لأنَّه وصَفَه بمحال" أراد به ما حكي عن الربيع -رحمه الله- الخِلاَفُ حاصلٌ في الصورَتَيْنِ جميعاً إلا أن الإِمام وصاحب الكِتَاب -رحمهما الله- نقَلاَ كلام الرَّبيع فيما إذا أوقع في الحال على أن يَعْطِف على ما مَضَى، والذي تطابقت علَيْه كتب الأكثرين، منْهم ابن الصَّبَّاغ، وصاحِب "التهذيب" نقل كلامه فيما إذا لم يَقْصد الإيقاع في الحال، وإنما قصده في الماضي على ما سَبَق، وقوله آخراً ولو قال "أنتِ طَالقٌ في الشهر الماضي إلى آخره" كان الأحْسَنُ أن يذكره مع مسألة الأمس المذكورة أوَّلاً؛ لأن الحُكْم فيما إذا قال: أنتِ طالقٌ أمس، وأنتِ طالقٌ في الشهر الماضي واحدٌ، وقوله: "أردتُّ طلقةً رجعيَّةً" حالةً من أحوال المسألة، والأَوْلَى أن يذكر الأحوال مجموعةً، ويجوز إعلام قوله: "قُبل في التعليق بالصعود" والإحياء إنه أيضاً، يقع الطلاق" بالواو؛ لأن في "المهذَّب" وغيره نقل طريقةً قاطعةً بأنه لا يقع الطلاق في التَّعْليق بالصعود، وقوله "تبيَّن وقوع الطلاق قبله بشهر" معلم بالحاء؛ لِمَا حكيناه في صورة القُدُوم. وقوله: "لم يُقْبَل إلا ببَيِّنة يعني بينةً تقوم على نكاح سابق في طَلاَق فيه، ثم لا يكفي القَبُول بذلك البينة، بل يحلف إذا ادَّعَتْ أنَّه أراد الإِنشاء لا ذلك الطلاق. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثاً فِي كُلِّ سَنَةٍ طَلْقَةً طُلِّقَتْ طَلْقَةً وَاحِدَةً فِي الحَالِ وَالثَّانِيَةَ أَوَّلَ المُحَرَّم إِنْ أَرَادَ السِّنِينَ العَرَبِيَّةَ وَإِلاَّ فَإِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ سَنَةٌ كَامِلَةٌ، وَلَوْ قَالَ: فِي كُلِّ يَوْمٍ طَلْقَةً طُلِّقَتْ فِي الحَالِ طَلْقَةً وَاحِدَةً وَالثَانِيَةَ صَبِيحَةَ الغَدِ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدتُّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ كُلِّ طَلْقَةْ يَوْمٌ فَيُدَيَّنُ، وَهَلْ يُقْبَلُ ظَاهِراً؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قَالَ لامرأته المدخول بها: أنت طالقٌ ثلاثاً في كلِّ سنة، طلقة تعلَّقت الطلقات الثلاثة بالسنين المتَّصلةِ بالتَّعليق، كما يتعلَّق قوله: أجَّرْتُكَ هذه الدار سنةً، بالسنة المتصلة (¬1) بالعَقْد، وكذا قولُه: واللهِ، لا أُكَلِّمك سنةً، وإذا تعلَّق بها، وقَع في الحال طلقة، ثم إنْ أراد السِّنين العربية، وقَعَت أخْرى عنْد استقبال المُحَرَّم، وأخرى أوَّلَ المُحَرَّم الذي يليه، وإن أراد أن يَكُون بين كل طلقتين سنَةٌ فيقع الثانية عند انقضاء سنَةٍ كاملةٍ من وقْت التعليق، والثالثة عنْد إنقضاء سنة أخرى، وهذا في الحالتين مفروضٌ فيما إذا امتدت العدَّة أو راجَعَها فلو بانت وجدَّد النكاح، ومدَّةُ اليمين باقيةٌ، ففي وقوع ¬
الطَّلاق قَوْلاَ عَوْدِ الحَنِثِ، فإن قُلْنا: يعود، وكان التجديد في خلال السنة، يقَعُ الطَّلاَق، في الحال وإن كان الوقوع في أول السنة لولا البينونة، ولا نقول: إذا مضى أول السنة، فقَدْ فات وقْتُ الوقوع؛ لأنَّ جميع السنة وقت، وإنما وقَع الطلاق في أوَّلها عنْد الإِمكان؛ اتباعاً للرسم، فإذا تعذَّر الوقوع في الأوَّل، تام ما بعْده مَقَامه، وشبه ذلك بأنا توجب الصلاة بأول الوقت، ونوجبها على المَعْذُور إذا زال عُذْره في أثناء الوقت؛ إقامةً لآخر الوقت مُقَام أوَّلِه، فإن أطلق اللفظ فيُنَزَّل على السنين العربية، أو على الاحتمال الثاني فيه وجهان: أشبههما: الثاني وهو الموافق للفظ الكتاب، وإلاَّ فوجهان إن لم يرد شيئاً أصلاً. ولو قال: أنْتِ طالقٌ ثلاثاً في ثلاثة أيام، أو في كل يوم طلقة، نُظِرَ، إن قاله بالنَّهار، وقعت في الحال طلقةٌ، وبطلوع الفجر في اليوم الثاني أخرى، [وبطلوعه في الثالث أخرى] فلو قال: أردتُّ أن يكون بين كل تطليقتين يومٌ، فَيُدَيَّن، وهل يُقْبَل ظاهراً؟ فيه وجهان: أحدهما: نَعَم، كالسنّة. والثاني: لا؛ لأنَّ اليوم عبارةٌ عن، هذا الزمان المَحْصُور، لا يدخل بعضه في بعض بخلاف (¬1) الستة الوجهان ينطبقان على الوجهين في أن من نَذَر اعْتِكَاف يوم هل يجُوز له أن يعتكف ساعاتٍ متفرِّقةً بقَدْر ويوم وقياس ما أجابوا به فيما إذا قال: إذا مَضَى يوم، فأنْتِ طالقٌ أن يقبل، وإن قال: ذلك بالليل، وقعت ثلاث طلقات عند طلوع الفجر في الأيام الثلاثة التالية للتعليق، هذا تمام ما في الكتاب، ويتعلق به كما يتعلق بالأوقات ممَّا يَدْخُل في هذه الترجمة هذه المسائل، لو قال: أنْتِ طالقٌ اليَوْمَ، إن لم أطلِّقْك اليوم، فمضى اليَوْم، ولم يطلِّقْها، فعن ابن سُرَيْج: أنَّه لا يقع الطَّلاق؛ لأنه لم يتحقَّق ما جعَلَه شرطاً للطلاق إلا بمُضِيِّ اليوم، فإذا مَضَى اليوم لم يبق وقت للوقوع، فلا يقع. وقال الشيخُ أبو حامد -رحمه الله- يَقَع في آخر لحظة من اليَوْم؛ لأنَّ الشَّرْط عدم التطليق (¬2) في اليوم، والتطليق يقع في اليوم إذا بقي زمان يحتمله، فإذا لم يبق من الزَّمَان ما يتَّسِع للتطليق بعد تحقُّق الشرط، حينئذ فيقع الطلاق (¬3)، والوقوعُ حكْمُ الشرع، فلا يستدعي زماناً يستدعيه، والشرط والجزاء لا يُتَصَوَّر اجتماعهما، ومِثلُ هذا التعليق فَاسِدٌ، كما سيأتي في مسائل الدَّوْر، وفي "فتاوى القَفَّال" -رحمه الله- أنَّه لو ¬
قال: أنتِ طالقٌ في أفْضل الأوقات، طُلِّقَتْ في ليلة القَدْر. ولو قال: أفضل الأيام، طُلِّقَت يَوْمَ عرفة. وفي وجه يوم الجمعة عنْد الغروب (¬1). ولو قال: أنت طالقٌ بيْن الليل والنهار، لا يحكم بوقوع الطلاق ما لم تغْرُب الشمس (¬2). وأنَّه لو قال: أنتِ طالقٌ قبْل موتي يقَعُ الطَّلاق في الحال، ولو قال: قُبَل موتي -بضم القاف أو قُبَيل موتي، لا يقع إلا في آخر جُزْء من حياته، ولو قال: بَعْد قبل موتي يقع في الحال؛ لأنَّه بعد قبل الموت، ويُحْتَمَل ألاَّ يَقَع؛ لأن جميع عمره قبْل الموت. ولو قال: أنْتِ طالقٌ قبل أن أضربك أو تدخلي الدَّار أو ما لا يتحقَّق وجوده. قال إسماعيل البوشنجي، هذا يحتمل وَجْهَيْن: أحدهما: أنه يقع الطَّلاَق في الحال، كما لو قال: قَبْل موتي أو مَوْت فلان، وأصحُّهما: أنَّه لا يقَعُ حتَّى يوجد ذلك الفِعْل، فحينئذٍ يَقَع مستندًا إلى أوَّل اللَّفْظ؛ وهذا لأن قولنا هذا قبْل هذا، يستدعي وجودهما، وربَّما لا يكون لذلك الفعْل وجودٌ، ولو قال: أنْتِ طالقٌ تطليقاً قبْلها يوم الأضحى، فيراجع إن أراد الأضحى الذي بين يديه فلا تُطَلَّق حتَّى يجيْء ذلك اليوم، وينقرض ليكون قبل التطليقة، وإن أراد الذي مضى، فيقع الطلاق في الحال، كما لو قَال: يَوْم السبت أنْتِ طالقٌ تطليقةً قبلها يوم الجمعة (¬3)، ولو قال: أنتِ طالقٌ قبْل مَوْت فُلاَن، وفلان بشَهْر، فإن مات أحدهما قبْل الشهر لم يقَعِ الطلاق، وإنْ مات أحدُهُمَا بعْد مُضِيِّ شَهْر فوجهان: أحدهما: أنَّه يقع الطَّلاق قبْل موته بشهْر، وإذا أُوْقِع قبل موته بشَهْر، كان واقعاً قبل موت آخرهما موتاً بأكثر من شَهْر وفي أكثر من شهْر فيكون واقعاً قبْل موتهما بشهر. الثاني: لا يقع الطلاق أصْلاً؛ لأن الصفة المذكورة لا تَتحقَّق،؛ لأنَّه إذا وقع الطلاق قبل موت الأول بشهر، يكُون قبْل موت الآخر بأكثر من شهْر، فحينئذٍ فلا يقال في مطرد العرف إنَّه قَبْله بشَهْر، إنَّما يُطْلَقُ ذلك إذا انحصر السَّبْق في مقدار شهْر، بلا زيادةٍ ولا نُقْصَانٍ، وهذا الثاني خرجه البوشنجي -رحمه الله-، ونظير المسألة ما إذا ¬
قال: أنتِ طالقٌ قبْل عيدي الفطْر، والأضحى بشَهْر، فعلى الوجْه الأول: تُطلَّق أول رمضان، وعلى الثاني: لا تُطلَّق (¬1)، وفي فتاوى القاضي الحُسَيْن -رحمه الله-: أنه لو قال: أنتِ طالقٌ قبل ما بعده رمضان، وأراد المشهور، طُلِّقت في آخر جزء من اليَوْم من رَجَب، وإن أراد اليوم بليلته، ففي آخر جُزْء من أجزاء اليوم التاسع والعشرين من شعبان، وإن أراد، مجرَّد اليوم فقبيل فجر يوم الثلاثين من شعبان، وإن قال: بعْد ما قبله رمضان، وأراد الشهور، يقع عند استهلال ذي الحجة، وأن أراد الأيام، ففي اليوم الثاني من شوَّال، وحكى أبو العباس الرُّويانيُّ -رحمه الله- وجهَيْن، فيما لو قال أنتِ طالقٌ كلَّ يوم: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-: أنَّها تُطلَّق كلَّ يوم طلقة، حتى يكمل الثلاث. والثاني: لا تطلَّق إلا واحدة، والمعنى: أنْتِ طالقٌ أبداً (¬2)، وأنه لو قال: أنتِ طالقٌ يوماً ويوماً لا, ولم ينوِ شيئاً، وقعت واحدة، وقال: إسماعيل البوشنجي -رحمه الله-: المفهوم من مُطْلَق اللفظ، وقوعُ ثلاث طلقات، يقع آخرها في اليوم الخامس، فإن قال: عنيت طلقةً يثبُتُ حكمها في يوْم دون يوم، أو تقع في يوم دون يوم، قُبلَ. ولو قال: أنتِ طالقٌ إلى شَهْر، ففي "التتمة" وغيره أنَّه يقع الطلاق بعْد مضيِّ شهر، ويتأبد إلا أن يريد تنجيز الطلاق، وتأقيته، فيقع في الحال ويتأبد، واحْتُجَّ [له] (¬3) بما رُوِيَ عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنَّه سئل عن رجُلٍ قال لامرأته أنتِ طالقٌ إلى سنة، فقال: هي امرأته [سنة]، وبأن هذه اللفظة، كما تحتمل تأجيل الواقع, تحتمل تأجيل الإِيقاع؛ ألا ترى أن القائل يقول إني مسافرٌ إلى شهرين (¬4)، يريد بعْد شهر، وإذا ثَبَت الاحتمالان، وجَب الأخذ باليقين وذكر البوشنجي وجهاً آخر احتمالاً: أنَّه يقع (¬5) في الحال؛ لأنَّه نجز، وأقَّت كما لو قال إن (¬6) بعتُك بكذا إلى شَهْر، وذكر أنَّه لو قال: أنتِ طالقٌ غداً، أو عبدي حرٌّ بعد غد، يؤمر بالتعيين، وإذا عيَّن الطَّلاق أو العتق تعيَّن في اليوم الذي ذكَره فيه، وأنه لو قال: طالقٌ أمس، وقد تزوَّجها اليوم، كان الحكم كما لو تزوَّجها قبْل الأمس؛ لأن الطلاق لا ينعطف على الماضِي، فلا فَرْق بين أن تكون منكوحَتَه في الماضي أو لا تكون، وأنه لو قال: أنتِ طالقٌ تطليقةً لا تقع عليْك إلاَّ ¬
الفصل الثاني في التعليق بالتطليق ونفيه
غداً، أوقعت طلقة بعد مَجِيء الغد [كما لو قال أنتِ طالقٌ الساعة إذا دخلت الدار كان كما لو قال: أنتِ طالقٌ تطليقةً تقع عليك غداً، وأنه لو قال: أنتِ طالقٌ الساعة، إذا دخلْتِ الدار، كما كان لو قال: أنتِ طالقٌ اليومَ، إذا جاء الغَدُ، وأنه لو قال: أنتِ طالقٌ اليوم وإن جاء رأس الشهْر، يقع الطلاق في الحال، كما لو قال: أنتِ طالقٌ اليوم]، وإن دخلْتِ الدار. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّانِي فِي التَّعْلِيقِ بالتَّطْلِيقِ وَنَفْيهِ): فَإِذَا قَالَ: إنْ طَلَّقْتُكِ أَوْ إِذَا أَوْ مَهْمَا أَوْ مَتَى مَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإذَا طَلَّقَهَا طُلِّقَتْ طَلْقَتَيْنِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَطَلْقَةً قَبْلَ الدُّخُولِ؛ لأَنَّ المُعَلِّقَ يُصَادِفُ حَالَ البَيْنُونَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا خَالَعَهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَنَّ الجَزَاءَ يَتَأَخَّرُ عنِ الشَّرْطِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لِلمُضَادَّةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ترجمة الفَصْل التعليق بالتطليق ونفَيْهِ، لكن المسائل الواقعة فيه تنقسم إلى ما يختص بهذا التعليق إلى ما يَشْمَل سائر التعليقات، فلا يختص به على ما نبينه، وأول ما نفتح به الفَصْل بيانُ أدوات التعليق؛ لأنَّه ذكَر عدداً منها في أوَّله، قال الأصحاب: الألفاظ التي يتعلَّق بها الطلاق بالشروط والصفات "من"، "وإن" "وإذا" "ومتى" "ومتى ما" "ومهما" "وكلما" "وأي" (¬1) مثْلَ أن يقول: من دخلَتِ الدار من نسائي، فهي طالقٌ أو يقول: إن دخلْتِ الدَّار أو (¬2) "إذا" دخلت أو "متى" أو متى ما أو مهما أو كلما أو "أيَّ" وقت أو زمانٍ، دخلْت الدَّارَ، فأنتِ طالقٌ ثم إن كان التعليق بإثبات فعل، لم يقتضِ شيْء منها الفَوْر، ولم يُشْترط وقوع المعلق عليه في المجلس، إلا إذا كان التعليق بتَحْصيل مالٍ، بأن يقول: إن ضمنت لي ألفاً أو (¬3) إذا أعطيتني ألفاً، فإنَّه يُشْتَرط الفور في الإِعطاء والضمان في بعض الصيغ المذكورة على ما تقرَّر في "الخُلْع"، وإلاَّ إذا علَّق الطلاق بمشيئتها، فيعتبر الفَوْر في المشيئة على ما سَبَق وسيعود، ولا يقتضي شيْء، من هذه الصيغ تعديد الطَّلاق بتكَرُّر الفعل، بل إذا وُجِد الفعل المعلَّق عليه مرَّةً تنحل اليمين، ولا يؤثر وجوده، مرة ثانية وثالثة إلا كلمة "كلما"؛ فإنها تقتضي التكرار بالوضع والاستعمال، وحكى أبو عبد الله الحناطي وجهاً غريباً أن "متى" ومتى ما ¬
مما تقتضيان التكرار مثْل "كلما"، ووجهاً آخر أن متى ما تقتضيه دون "متى"، إذا عُرِف ذلك، فلو قال "إنْ طلقتُكِ" أو إذا أو متى ما طلقتك، فأنتِ طالقٌ، ثم طلقها، نُظِرَ؛ إن كانت مدخولاً بها، وقَعَت طلقتان إحداهما المنجزة، والأخرى المعلَّقة بالتطليق، ولا فرق بين أن تُطلَّق بالتصريح، أو بالكناية مع النية، ولو طَلَّقها طلقتين وقَعَت طلقتان بالتنجيز وثالثة بالتعليق، فلو قال: لم أْرِد التعليق، وإنما أردتُّ أني إذا طلقتها تكُون مطلَّقة لتلك الطلقة، لم يُقْبَل في الظاهر، ويدين، ولو وَكَّل وكيلاً، فَطلَّقها، وقَع المنجَّز دون المعلَّق؛ لأنَّه علَّق بتطليقه، وينتظم أن يقال: إنه ما طلَّقها وإنما طلقها وكيله، وإن لم يكن مدخولاً بها، وقع ما نجَّزه، وحصَلَت البينونة، فلا يقع شيْء آخر، وتنحل اليمين بما نجز حتى لو نكحها، بعْد ذلك، وطلَّقها لا يجيء الخلاف في عود الحنث، ولو خَلَعها، وهي مدخولٌ بها أو غير مدخول بها، فكذلك لا يقع الطلاق المعلَّق لحصول البينونة بالخُلْع، ثم إن جعلْنا الخُلْع طلاقاً انحلت اليمين، وإن جعلْناه فسخاً، لم تنحل، وقوله في الكتاب وليس ذلك لأن الجزاء يتأخر عن الشرط، ولكن ذلك للمضادَّة أراد به أن من الأصْحَاب مَنْ ذهب إلى أن الطَّلْقة المعلَّقة إنما لم تقع؛ لأن المعلَّقة تتأخَّر عن المنجَّزة، وتترتب عليها, ولا تقع في غير المدخول بها طلقة بعْد طلقة، واحتجوا للترتيب بأن "الفاء" للترتيب والتعقيب، وبالفاء يوصل الطلاق بالشرط، فيقال: إن دخَلْتِ الدار، فأنتِ طالقٌ، وبأن الجزاء يتأخر عن الشرط؛ ألا ترى أن قوْل القائل: إن جئتني، أكرمتُك، وأنه لو قال في مرض موتة: إن عتقت غانماً، فسالمٌ حرٌّ، ثم أعتق غانماً، والثلث لا يفي إلا بأحدهما، فيعتق غانم، ولا يُقْرَع بينهما, ولولا تقدُّم الشرط، لأُقْرع بينهما، كما لو قال: أعتقتكما، والَّذي ارتضاه الإِمام -رحمه الله- ونسب إلى المحقِّقين أن المعلَّق بالصفة يقع مع وجود الصفة، فإن الشرط علَّة وضعية، والطلاق معلولها فيتقاربان في الوجود، كالعلة الحقيقة مع معلولها، وإنما التقدُّم والتأخُّر فيها، وأجابوا عن حرف الفاء بأن قول (¬1) القائل: أنتِ طالقٌ، إن دخلْتِ الدارَ, كقوله إن دخلتِ الدارَ، فأنتِ طالقٌ، ولا فاء، وعن الاستشهاد بقوله: إنْ جئتَنِي, أكرمتك، بأن الإِكرام، فعْل منشأ ولا يتصور إنشاؤه إلاَّ متأخراً عن المجيْء، فيلزم الترتيب ضرورةً وقوعُ الطلاق حكْمٌ شرعي لا يفتقر إلى زمان محْسُوس، فسبيله سبيل العلة مع المعلول، وعن مسألة غانم وسالم بأن عِتْق سالم مشروعٌ بعتق غانم، فلو أقرعنا أمْكَن أن تخرج القرعة على سَالِم فيمكن إعتاقه بدون الشرط، وعتْق غانم ليس بمشروط قال هؤلاء: وإنما لم تقع الطلقة الثانية؛ لأن قوله: إن طلقتُكِ، فأنتِ طالقٌ، معناه إذا صرْتِ مطلَّقة، وكما صارت (¬2) مطلَّقة، صارت بائناً، والبينونة تنافي وتُضَادُّ وقوع طلقة أخرى، ¬
سواء فيه ابتداؤها ودوامها, وليس كما لو قال: أنتِ طالقٌ طلقتين، فإن البينونة هناك معلولُ الطلقتين، وليست إحداهما مميّزة عن الأخرى، والمنجز هنا يَنْفَصل عن المعلَّق؛ ولذلك قلنا: لو قال: أنتِ طالقٌ طلقةٌ معها طلقة لم تُطلَّق إلا واحدةً على أحَد الوجهين؛ لأنه حصَل وقوع انفصال، وهذا مجازاة على المذْهَب المشهور، وهو أنَّه لا يقع إلا طلقة واحدة، وفي "المجرَّد" للحناطي -رحمه الله- وجْه غريب أنَّه يقع في غيْر المدخول بها، وفي الخلع طلقتان أيضاً، فيجوز أن يعلم؛ لذلك قولُه "وطلقة [قبل] (¬1) الدخول" بالواو، وكذا قولُه "وكذلك إذا خالَعَها" ويمكن أن يعلم قولُه: "وليس ذلك، لأن الجزاء يتأخر عن الشرط" لِمَا ذكرنا أن بعضهم علَّل به. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإِنْ علَّقَ طَلاقَهَا علَى صِفَةٍ وَوُجِدَتْ فَهُوَ تَطْلِيقٌ وَمُجَرَّدُ الصِّفَةِ لَيْسَ إِيقَاعاً وَهُوَ وُقُوعٌ، وَمُجَرَّدُ التَّعْلِيقِ لَيْسَ بِإِيقَاعٍ وَلاَ وُقُوعٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: كما أن تنجيز الطلاق تطليقٌ يقع به الطلقة المعلَّقة بالتطليق، إذا كانت المرأة مدخولاً بها، فكذلك تعليق الطلاق مَعَ وجود الصفَة تطليقٌ، حتى لو قال: إن طلقتك، فأنت طالقٌ، ثم قال: بعْد ذلك: إن دخْلتِ الدار، فأنتِ طالقٌ، ودخلَتْ، فتطلَّق طلقة بالدخول، وطلق بوجود المعلق، وهو التعليق بالدخول مع الدخول، وكما أن التعليق بالصفة مع الصِّفة تطليقٌ، فهو مع الصفة إيقاع للطلاق أيضاً حتى لو قال: إن أوقعْتُ عليك الطلاق، فأنتِ طالقٌ، ثم إن قال: إن دخلْتِ الدار، فأنتِ طالقٌ، ودخلَتْ، تقع طلقتان، وفي تعليق الشيخ أبي حامد -رحمه الله- أنه لا يقع إلاَّ طلقة، ولا تقع الطلقة المعلقة بالإِيقاع، وهذا الوجه قد حكاه صاحب "التهذيب"، "والمهذَّب" وادَّعى الذاهب إليه أن لفظ الإِيقاع يقَع على طلاق يباشره، بخلاف لفْظ التطليق، والصحيحُ أنَّه لا فَرْق، ومجرَّد الصفة المعلَّق بها ليْسَت بتطليق ولا بإيقاع للطلاق، لكنه وقوع، فلو كان قد قال: إن دخلْتِ الدار، فأنتِ طالقٌ، ثم قال: إن طلقتُكَ، فأنتِ طالقٌ، أو إذا أوقعْتُ عليك الطلاق، فأنتِ طالقٌ، ثم دخلَتِ الدار، لا يقع الطلاق المعلَّق بالتطليق، أو الإِيقاع، وإنَّما تقع طلقة واحدة بالدخول، ولو كان قد قال: إن دخلْتِ الدار، فأنتِ طالَقٌ، ثم قال: إن وقَع عليْك طلاقي، فأنت طالقٌ، ثم دخلَتِ الدار، تقع طلقتان، إحداهما للدخول، والأخرى لحُصُول الوقوع، كما لو نجَّز الطلاق أو تأَخَّر التعليق بدخول الدار عن التعليق بوُقوع الطَّلاق، ويكون بتطليق الوكيل كتطليقه؛ لأن الواقع طلاقُه، وإن باشره الوكيل هذا هو الصحيح، وفي "المهذب" ذكْر وجه آخر: أنَّه لا يقع بطلاق الوكيل الطَّلْقة المعلَّقة بالصفة، كما لو كان التعليق ¬
بالتطليق، وأما مجرد التعليق، فليس بتطليق ولا إيقاع ولا وقوع حتى لو قال: إن طلقتُكِ وأوقعْتُ عليْكِ الطلاق، أو وقع عليْك طلاقي، فأنتِ طالقٌ، ثم قال: إن دخلْتِ الدار، فأنتِ طالقٌ، لم يقَعْ بهذا التعليق شيْءٌ] ولو قال: كُلَّما وقَع عليْك طلاقي، فأنت طالقٌ ثم طلَّقها، يقع عليها ثلاثُ طلقات؛ لأن "كلما" تقتضي التكرار، فتقع ثانية بوقوع الأولى، وثالثة بوقوع الثانية. ولو قال: كُلَّما طلقتُك، فأنتِ طالقٌ، ثم طلقها، تقع الطلقة المنجزة، وتقع طلقة أخرى؛ لحصول التعليق، وحكى القاضي ابن كج عن القاضي أبي حامِدٍ -رحمه الله- وغيره: أنَّه تقع طلقة ثالثة؛ لأن الثانية الواقعة بوجُود التطليق هو الموقع لها بالتعليق السابق، فكأنه طلَّق مرَّة أخرى، وجعل الحناطي هذا قولاً، ونسَبَه إلى كتاب البويطيِّ، والأصح الاقتصار على طلقتين، ومن أوقع ثلاثاً، يلزمه أن يَجْعَلُ مُجرَّد الصفة بعْد التعليق تطليقاً وإيقاعاً، وإذا قلْنا بالأصح، فلا تنحل اليمين؛ لاقتضاء اللفظِ التكرارَ. قال في "التهذيب": ولكن لا يظهر له فائدة هاهنا؛ لأنه إذا طلقها مرةً أخرى، كان بالطلقة المنجزَّة مستوفياً للثلاث، ولا تعود اليمين بعد استيفاء الثلاث على المَذْهب، ولو قال: كلما طلقتك فأنتِ طالقٌ، ثم قال: إذا أوقعت عليكِ طلاقِي، فأنتِ طالقٌ، ثم طلقها، طُلِّقت ثلاثاً؛ واحدة منها منجَّزة، واثنتان بالتعليق. فرُوعٌ: قال: لامرأته: إن أعتقت عبْدي، فأنتِ طالقٌ، ثم قال للعبد: إن دخلْت الدار، فأنتَ حرٌّ، فدخل، عتق، وطُلِّقت المرأة؛ لأن تعليق العتْق بالدخول مع الدخول إعتاق، كما أنه تطليق، ولو قدَّم تعليق العتْق، فقال له: إن دخلْتَ الدار، فأنْتَ حرٌّ، ثم قال لامرأته: إن أعتقْت عبْدي، فأنتِ طالقٌ، ثم دخل العبد الدار، عَتَق، ولم تُطلَّق المرأة؛ لأن الَّذي وُجِد بعْد تعليق طلاقها مجرَّد صفة الدخول، وأنه ليس لإعتاق، كما أنه ليس بتطليق، ولو قدَّم تعليق العتق لكن كان صيغة تعليق الطلاق إذا عتق عبدي أو وَقَع العتق على عبْدي، فأنتِ طالقٌ، ثم دخل عتق، وطُلِّقَت، لحصول العِتْق بعْد تعليق الطَّلاق. ولو كانَت تحته امرأتان حفْصة وعمرة، فقال لحفصة: إن طَلَّقتُ عمرة، فأنتِ طالقٌ، ثم قال لعمرة: إن دخلتِ الدَّار، فأنت طالقٌ، ودخلَت، طُلِّقت عمرة بالدخول، وحفصة؛ لأن طلاقها معلَّق بتطليق عُمرة، فقد وُجدَ تطليق عمرة بتعليق طلاقها بالدخول مع الدخول. ولو قال أولاً لعمرة: إن دخلْتِ الدار، فأنتِ طالقٌ، ثم قال لحفصة إن طَلَّقْتُ عمرة، فأنتِ طالِقٌ، ثم دخلَت عمرة الدار، طُلِّقت هي، ولم تُطلَّق حفصة؛ لأنه لم يوجَدْ بعْد تعليق طلاق حفصة إلا مجرَّدُ الدخول، ومجردُ الصفة ليس بتطليق. ولو كان صيغة تعليق حفصة؛ مَتَى وقَع طلاقِي على عمْرَةَ، فأنتِ طالقٌ، وعلَّق
طلاق عمرة بدخول الدار قبْل تعليق حفصة أو بعده، ودخلَت عمرة بعْده الدار، طُلِّقَت كلُّ واحدة منهما؛ لوقوع طلاقه على عمرة على التقديرين. ولو قال لحفصة: إن طَلَّقت عمْرة، فأنتِ طالقٌ، ثم قال لعمرة: إن طَلَّقْت حفْصة، فأنتِ طالقٌ، ثم طَلَّق حفْصة، طُلِّقت حفْصة طَلْقَةً منجَّزة، وتطلَّق عمْرة طلْقةً لأنَّه علَّق طلاقها بتطليق حفْصة، وإذا وقَع الطلاق على عمْرة، طُلِّقت حفْصة طلقةً أُخرى؛ لأن تعليق طلاق عمْرة بطلاق حفْصة يتأخَّر عن تعليق طلاق حفصة، فيكون تعليق طلاق عمرة بطلاق حفْصة وتطليقها مُطَلِّقاً عمرة؛ لما مرَّ أن الصفة مع (¬1) التعليق تطليق، وحينئذٍ فيكون حانثاً في تعليق طلاقِ حفْصة، فيقع عليها طلْقة أخرى سوى المنجَّزة. وقال ابن الحدَّاد في "المولدات": لا تقع على حفْصة أيضاً إلا طلقة، وغلَّطَهُ الشارحون فيه، والعجب أنَّه أبْدَى العَذَق من نفسه في جَواب هذِه الصورة، وعرض بالبناء عليها، وهو كما أبْدَى وقوفه إلاَّ أن العُجْبَ أخَذَ برِجْلِه، فزل. ولو أنَّه طلَّق عمرة بدَلاً عن حفصة، والتعليقات كما صورنا، طُلِّقت عمرة طلْقة منجَّزة، وطلقت حفصة؛ لأنَّ طلاقها معلَّق بتطليق عمْرة، وقد طَلَّقها ولا يعود من وقوع الطلاق عليها طلقة أخرى على عمرة لأن تعليق طَلاَق حفْصة سابقٌ، ولم تُطلَّق حفْصَة بعد تعليق طلاق عمرة منجزًا ولا أحدث تعليق طلاقها، وإنما الَّذي أحْدَث مجرَّد الصفة التي علَّق عليها طلاق حفْصة، ومجرَّد الصفة ليس بتطليق على ما تقدَّم، ولو كان تعليقُ الطَّلاقَيْن بصيغة "إذا" أو "متى" أو "مهما" فكذلك الجواب، وكذا لو كان بصيغة "كلَّما" وإن كانَتْ تقتضي التَّكرار؛ لأن التَّطْليق لم يتكرر كما تقرَّر ولو قال لحفصة: إن وقَع طلاقي على عمرة، فأنتِ طالقٌ، وقال لعمرة: إن وقَع طلاقي على حفْصِة، فأنتِ طالقٌ، ثم طلَّق واحدة منهما، طُلِّقت هي طلقةً منجَّزةً، ويقع على صاحبتها طلقة بحكم الصفة، ثم يَعُود إلى المنجَّز طلاقها طلقة أخرى؛ لحصول صفة الوقوع على صاحبتها، ولو علَّق هكذا بصيغة "كلما" ثم طلَّق واحدة منْهما، طُلِّقت كل واحدة منهما ثلاثاً، ولو قال لحفصة: إذا طلقتك، فعمرة طالقٌ، ثم قال لعمرة: إذا طلقتك، فحفصة طالقٌ، فقد علَّق في هذه الصورة بطلاق المخاطبة طلاق صاحبتها، وفي الصورة السابقة علَّق طلاق المخاطبة بطلاق صاحبتها، والحكم أنَّه إن طَلَّق بعْد ذلك حفْصة طُلِّقَت بالتنجيز طلْقَةً، وطُلِّقت عمْرة بالصفة، وهو طلاقُ حَفْصة، ولم تعُدْ طلقة أخرى إلى حفصة؛ لأن طلاقها معلَّق بتطليق عمرة، ولم تُطلَّق عمرة بعْدما علَّق طلاق حفصة تنجيزاً ولا أحدث تعليقاً، وإنما الذي وُجِدَ الصفةُ الَّتي علَّق بها طلاقَ عمرة، ولو طلَّق عمرة أولاً، ¬
طُلِّقت، وهي طلقة منجزة، وطلقت حفصة بالصفة، وعاد إلى عمرة طلقة أخرى؛ لأنَّه علَّق طلاق حفْصة، بعْد تعليق طلاقها، ووجدت الصفة، وذلك تطليق لحفصة. ولو قال، وله أربع نسوة: كلَّما طلَّقْتُ واحدةً مِنْكن، والأخريات طوالقُ، فإذا طلق واحدة منْهن، طُلِّقت هي بالتنجيز، والأخريات بحصول الصفة، فإن طَلَّق ثانية، وقَعَت على كل واحدة طلقة أخرى، فإن طلَّق ثالثة؛ ثَمَّ على كل واحدة ثلاث، ولو قال: كلَّما طلقتُ واحدةً منكن، فأنتن طوالقُ، ثم طلق واحدة، تُطلَّق هي طلقتين؛ لأن طلاقها معلَّق بتطليقها، وتُطلَّق كل واحدة من الأخريات طلقة، فإن طلق ثانية، ثَمَّ عليها وعلى الأولى ثلاثُ طلقات، والثالثة والرابعة طلقتا طلقتين طلقتين، فإن طلق الثالثة ثم على الكل ثلاثٌ. ولو قال: وله ثلاث نسوة، ونكحهن على الترتيب: إن طَلَّقتُ الأولى، فالثانية طالقٌ، وإن طلقتُ الثانية، فالثالثة طالقٌ، وإن طلقت الثالثة، فالأولى طالقٌ، فإن طلق الأولى، طُلِّقت هي بالتنجيز، والثانية بالصفة، ولم تُطلَّق الثالثة؛ لأن طلاقها معلَّق بتطليق الثانية، ولم تُطلَّق بعْد تعليق طلاقها الثانية تنجيزاً، ولا أحدث لها تعليقاً، وإن طَلَّق الثانية، طُلِّقت بالتنجيز، والثالثة بالصفة، ولم تُطلَّق الأولى لِمِثْل ما ذَكَرْنا، وإن طلَّق الثالثة، طُلِّقت بالتنجيز، والأولى بالصفة، وطلقت الثانية أيضاً؛ لأنه بعْد تعليق طلاق الثانية، على طلاق الأولى بطلاق الثالثة، وطلاق الثالثة، والتعليق مع الصفة تطليقٌ، فيكون مطلقاً للأولى، ولو طَلَّق واحدةً منْهن بعينها، ومات قبْل البيان، فإن كان الطلاق قاطعاً للميراث، إما, لأنه طلق ثلاثاً أو لكونه، قبل الدخول، فليس للثانية المخاصمةُ في الميراث؛ لأنها مطلَّقة على كلِّ تقدير على ما تبين، وللأولى والثانية المخاصمةُ؛ [في الميراث] (¬1)؛ لأن احتمال عدم الطلاق قائم في حقِّ كل واحدة، فيتوقَّف الأمر إلى الاصطلاح؛ وهذه الفروع عسرة التصوير، لما فيها من التعقيد، وإذا تَمَّ تصورها, لم يكن فيها إشكال من جهة المعنى، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ وَلَهُ أَرْبَع نِسْوَةٍ: إِذَا طَلَّقْتُ وَاحِدَةً فَعَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي حُرٌّ وَإِنْ طَلَّقْتُ اثْنَتَيْنِ فَعَبْدَانِ وإنْ طَلَّقْتُ ثَلاَثاً فَثَلاثَةُ أَعْبُدٍ وَإِنْ طَلَّقْتُ أَرْبَعاً فَأَرْبَعَةُ أَعْبُدٍ ثُمَّ طَلَّقَ الأَرْبَعَ عَتَقَ عَشَرَةُ أَعْبُدٍ لأَنَّهُ حَنِثَ فِي الأَيْمَانِ الأَرْبَعَةِ، وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا بَدَّلَ إِنْ عَتَقَ خَمْسَةَ عَشَرَ عَبْداً لأَنَّ فِي الأَرْبَعَةِ أَرْبَعَةَ آحَادٍ وَاثْنَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَثَلاثَةً مَرَّةً وَأَرْبَعَةً مَرَّةً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من له أربعُ نسْوة وعبيد، فقال: إن طلقْتُ واحدةً من نسائي، فعبد ¬
من عبيدي حُرٌّ، وإن طلقت اثنتين، فعبدان حرَّان، وإن طلقتُ ثلاثة، فثلاثة أحرار، وإن طلقت أربعة، فأربعةُ أعبد أحرارٌ، ثم طلَّقهن معاً، أو على الترتيب، عَتَق عشَرةُ أعبدٍ، لأنه طلَّق واحدةً، واثنتين، وثلاثاً، وأربعاً، وهذه الأعداد إذا جمعت بلغت عَشَرة، وكذلك الحُكْم لو علَّق بـ"إذا" أو "متى" أو "مهما" أو "ما" لا يقتضي التكرار، أما إذا علَّق هذه التعليقات بكلمة "كلما" ثم طلقهن معاً أو على الترتيب، فظاهر المذهب، وهو المذكور في الكتاب: أنَّه يعتق خمسة عشر عبداً؛ لأن "كلما" تقتضي التكرار، وإذا طلَّق واحدة، حَصَلَت [صفة وهي تطليق واحدةٍ طلاق واحدة فيعتق عبد، وإذا طلَّق أخرى، حصلتْ صفتان طلاق واحدة مرة أخرى، وطلاق ثلاث، فيعتق أربعة أعبد، فإذا طلَّق الرابعة، حصَلَت ثلاث صفات، طلاق واحدة مرةً أخرى، وطلاق اثنتين غيْر الأوليين، وطلاق أربع (¬1) فيعتق سبْعة، والمجموع خمسة عشر، ووراء هذه وجُوهٌ: أحدها: عن ابن القطَّان: أنه يعتق عشرة، والثاني: أنه يعتق سبعة عشر عبداً؛ لأن في طَلاَق الثالثة وراء الصفتين المذكورتين صفةً أخرى، وهي طلاق اثنتين بعْد الأولى فيعتق عبدان آخران. والثالث: يعتق عشرون عبداً؛ سبعة عشر؛ لِمَا ذكرنا، وثلاثة؛ لأن في طلاق الرابعة صفةً أخرى وراء الصفات الثلاث، وهو طلاق ثلاثٍ بعْد الأولى، قال في "الشامل" وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة، وهذه الوجوه ضعيفة باتفاق الأئمة، أمَّا الأول، فلأنه إسقاطٌ لمقتضي "كلما"، وأما الآخران فلأن الثانية معدودة مع التي قَبْلها في يمين الاثنين، والثالثة معدودة على اللتين قبلها (¬2) في يمين الثلاث، فلا يعدان مع مَنْ بعدهما من اليمينين، فإن ما عد في عدد مرَّة، لا يُعَدُّ فيه مرة أخرى، واستشهد على ذلك بأنَّه لو قال كلَّما أكلْت نصْفُ رمَّانة، فعبد من عبيدي حُرٌّ، ثم أكل رمانةً، يعتق عبدان؛ لأن أكْلَ نصفي رمانة، لا يقال: يعتق ثلاثة أعبد؛ لأن الربع الثاني مع الثالث نصْف رمانة؛ لأن الربع الثاني عُدَّ مرة مع الأول، فلا يُعد مرة أخرى، وبأنه لو قال: كلما دخلْتُ الدار، فأنتِ طالقٌ، فدخلت [الدار] (¬3) مرة، وطُلِّقت، ثم دخلت مرة أخرى، تُطلَّق طلقة ثانية، ولا يقال: تُطلَّق طلقتين؛ طلقة بهذه الدخلة، وأخرى بالدخلة الأولى؛ لأن الأولى قد حسبت مرة، فلا تُحْسَب مرَّة أخرى، والشيخ أبو حامد، والإِمام، وجماعة نَفَوْا وجه العشرين، وألزموا مَنْ قال بسبعة عشر أن يقول يعتق العشرين، ترتيباً لما صاروا إلَيْه، ووجه إعتاق سبعة عشر أَوْلَى بالنفي؛ لأن مَنْ لم يقل به، لم يَقْل، ومَنْ قال به يلزمه إلاَّ يقتصر علَيْه، ويقول بالعشرين، وفي "المجرَّد" للقاضي أبي الطيِّب وجْه ¬
آخر أنَّه يعتق ثلاثة عَشَر عَبْداً، وأخذ بتطليق واحدة، وثلاثة بتطليق الثانية، وأربعة، بتطليق الثالثة، وخمسة بتطليق الرابعة، لم يكرّر هذا القائل بالرابعة يمين التبيين، واعلم أن العبيد المحكُوم بعتقهم في المسألة مبهمون والرجوع في التعيين إليه. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ عَدَمَ الطَّلاَقِ لِمَوْتِ أَحَدِهِمَا فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ وُقُوعُ الطَّلاَقِ قُبَيْلَ المَوْتِ، وَلَوْ قَالَ: إِذَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ طُلِّقَتْ إِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا عَلَى الفَوْرِ، وَقِيلَ فِي لُزُومِ الفَوْر قَوْلاَنِ في الْمَسْأَلَتَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تَكلَّمنا في التعليق بالتطليق والغرض الآن فيما إذا علَّق بنفي التطليق، وفي معناه التعليق بنفي الدُّخُول، والضرب، وسائر الأفعال، فإذا قال: إن لم أطلقْك، فأنتِ طالقٌ لم يقع الطلاق، وإنما يقع إذا حصَل اليأس عن الطلاق، ولو قال: إذا لم أطلِّقك، فأنْتِ طالقٌ فإذا مضى زمان يمكنه أن يطلِّق فيه، فلم يطلِّق، طُلِّقت، هذا هو المنصوص في اللفظين، وللأصحاب -رحمهم الله- فيه طريقان: أحدهما: التسوية بين اللفظين؛ لاستعمال كل واحد منهما لمعنى الآخر، والتصرف في النصين بالنقل والتخريج: إحداهما: أنَّه لا يقع الطَّلاق فيهما بمُضِيِّ زمان يمكن فيه التطليقُ من غَيْر تطليق، وإنما يقع عنْد اليأس، كما أن في طرف الإِثبات، لا يختص التعليق بالزمان الأول، وبهذا قال، أبو حنيفة، وأحمد -رحمهما الله-. والثاني: يقع: إذا مَضَى زمان يمكن فيه التطليق من غير تطليق؛ لأنَّه أول وقت تحقق فيه عَدَم التطليق، والطلاق يقع بأول حُصُول الصفة. وأصحُّهما: الأخذ بالمنصوص في الطرفين، والفرق أن حَرْف "إن" يدل على أن مجرد الاشتراط لا إشعار له بالزمان، "وإذا" ظرف زمان نازل منزلة "متى" في الدلالة على الأوقات؛ ألا ترى أن القائل إذا قال لك: متى ألقاك استقام لك أن تقول في الجواب: إذا شِئْت، وقَع موقع قولك "مَتَى شِئْت"، ولا يستقيم أن تَقُول، إن شِئْت، وإذا كان كذلك، فقوله: "إن لم أطلقْكِ" معناه: إن فاتني طلاقُكِ، ومدةُ إمكان الطلاق فسيحة، فينتظر الفوات، ومدة ذلك إذا مَضَى زمان يسع التطليق، فلم تطلق، فإذا مَضَى زمانٌ هذا حالُهُ، وجب أن يقع الطَّلاق. ولو قال: متى لم أطلقك، أو "مهما" أو "أيّ" حِينِ أو وقْتٍ أو كُلَّمَا لم أفعل أو تفعلي كذا، فإذا مَضَى زمان يتسع ذلك الفعل، فلم يَحْصُل، وقَع الطَّلاق، كما في "إذا" على الصحيح، وأشار الحناطي إلى طَرْد الخلاف فيها، وعبَّر الأئمة عن الغرض جواباً على الصحيح، بأن أدوات التعليق كلَّها تقتضي الفور في طرف النفي إلا حَرْف "إن"
فإنها للتراخي، ولك أن تقول: مقصود اللفظ معلومٌ، لكن في إطلاق لفظَي الفور والتراخي هاهنا نَوْعُ توسُّع؛ لأنهما إنما يستعملان في الأفْعَال الَّتي لها أوقات متوسعة، والنظر في التعليقات إلى حُصُول الصفة الَّتي ارتبط بها الطَّلاق، ويستوي في ذلك طرف النفي والإِثبات، وكلمة "إن" حرف شرط يتعلَّق بمعلق الفعل من غير دلالة على الزمان، ففي طرف الإِثبات إذا حَصَل الفعل في أي وقت كان، وقَع الطلاق، وفي طرف النفي يعسر انتفاؤه، والانتفاء المطلَقُ بالانتفاء في الأزمان؛ ألا ترى أنَّه لو حلف أن يكلمه، بَرَّ، إذا كَلَّمَهُ مرةً في عمره، ولو حلَف ألاَّ يكَلِّمه، فإنما يبر إذا امتنع عنه في جميع العمر، أمَّا "إذا"، "ومتى"، "وأي"، "وحين" وما يدل على الزمان، فحاصلها أنه يقول في طرف الإِثبات: أيَّ وقت فعَلْتُ كذا، فأنتِ طالقٌ، فأي وقت فعل، يقع الطلاق، سواءٌ فيه الزمان الأول، وغيره، ويقول في طرف النفي؛ أيِّ وقْت لم أفْعَل كذا، فأنتِ طالقٌ، إذا مضى زمان لم يفْعَلْه، حصلت الصفة، فتعلق (¬1) بها الطلاق، فلا فرق إذن بين طرفي النفي والإِثبات، إلاَّ في كيفيَّة حصول الصفة. ولو علَّق النفي بكلمة "إن" وقيده بزمان فقال: إن لم أطلقْكِ اليوم، فأنتِ طالقٌ، فإذا مضى اليوم، ولم يُطلِّق نحكم تفريعاً على الصحيح بوقوع الطلاق قبيل غروب الشمس؛ لحصول اليأس حينئذٍ، ولو قال: إن تركْتُ طلاقك، فأنتِ طالقٌ، فإذا مضى زمانٌ يمكنه أن يُطلِّق، فلم يُطلِّق، طُلِّقَتْ بخلاف طرف النفي، وإن طَلَّقها في الحال واحدةً، ثم سكت لا تقع أخرى؛ لأنَّه لم يترك طلاقها، قال في "التهذيب" ويمثله لو قال: إن سكت عن طلاقك، فأنتِ طالقٌ، فلم يطلقها في الحال طُلِّقت لحصول الصفة، وإن طَلَّقها في الحال، ثم سكت طُلِّقت أخرى بالسكوت، ولا تُطلَّق بعْد ذلك لانحلال اليمين (¬2). ولو قال: كُلَّما سكت عن طلاقك أو كلما لم أطلقْكِ، فأنت طالقٌ، ومضى ثلاثة ¬
أوقات تسع ثلاث طلقات بلا تطليق، وقعَتْ عليها ثلاثُ طلقات، وهذه الصورُ في المدخول بها، أما غير المدخول بها، فإذا قال لها: كلَّما لم أطلقْكِ، فأنت طالقٌ، ومضَت لحظة، لم يُطلِّقها فيها فَتْطلَّق وتَبِين، ولاَ تُطلَّق الثانية والثالثة، فلو جدَّد نكاحها، وقضينا بعود اليمين، فإذا مضت لحظة، طُلِّقت طلقة أخرى، ولو قال للمدخول بها عقيب هذا التعليق بـ"كلما" طلقتُكِ على ألْفٍ، فقبلت بانت منْه، ولم تُطلَّق الثانية والثالثة، فإن جدَّد نكاحها، عاد قولا عوْد اليمين، ذَكَره في "التهذيب". قَالَ الغَزَالِيُّ: يَحْصُلُ اليَأْسُ بِجُنُونٍ مُتَّصِلٍ بِالمَوْتِ وَلَكِنَّ تَوَهُّمَ الإِفَاقَةِ يَمْنَعُ الطَّلاَقَ فَإِذَا مَاتَ مَجْنُوناً تَبَيَّنَ وُقُوعُ الطَّلاَقِ قُبَيْلَ الجُنُونِ، وَلَوِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ تَجْدِيدِ نِكَاحٍ وَطَلاَقٍ تَبَيَّنَ وُقُوعُ الطَّلاَقِ قَبْلَ الانْفِسَاخِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا فَيُؤَدِّي تَقَدُّمُهُ عَلَى الانْفِسَاخِ إِلَى الدُّورِ، وَإنْ جَدَّدَ النِّكَاحَ بَعْدَ الفَسْخِ وَطَلَّقَهَا فَقَدْ حَصَلَ البرُ، وَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا وَجَوَّزْنَا عَوْدَ الحِنْثِ طُلِّقَتْ في النِّكَاحِ الثَّانِي قَبْلَ المَوْتِ، وَإِنْ لَمْ نَرَ عَوْدَ الحِنْثِ وَجَبَ إِسْنَادُ الطَّلاَقِ إِلَى مَا قَبْلَ الفَسْخِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: عرفْتَ الخلاف في أنه إذا علَّق الطَّلاق بنفي فعْل إما بـ"إِنْ" بـ"إذا" يقع الطلاق بأول زمان يمضي خالياً عن ذلك الفعل، وإنما يقع بفواته واليأس عنْه والغرض التفريع على ذلك الخلاف، فإذا قال: إذا لم أطلقْكِ أو إن لم أطلقْكِ فأنتِ طالقٌ، قلنا: يقع الطلاق إذا مضى زمانٌ, يتسع للتطليق من غَيْر تطليق، فلو أنَّه أكره على الامتناع من التطليق، أو أمسك رجُلٌ على فيه، قال الحناطي -رحمه الله-: يخرج على الخلاف في حنث الناسي والمكره، وإن قلْنا بالصحيح، وفرَّقنا بين "إن" "وإذا"، فلو قال المعلق: أردتُّ بـ"إذا ما يراد بـ"إِنْ"، فيدين، وفي القبول ظاهراً وجهان عن صاحب التقريب" -رحمه الله-، والأشْبَه القَبُول، فقد يقام كل واحد منهما مقام الآخر، وحيث قلْنا: لا يقع الطلاق حتَّى يتحقَّق الفوات واليأس عن التطليق، فلذلك طرق إذا وقَفْتَ عليها عرفْتَ أن قوله في الكتاب "فإنما تبين عدم الطلاق لموت أحدهما" ليْس للحَصْر؛ لأن الموت أظهر الأسباب، وهو واقع لا محالة، فبادر إلى ذكْره؛ لأنه أغلب الطريق الأول، إذا مات أحد الزوجين وَلم يطلِّقها تبين فوات التطليق، فيُحْكَم بوقوع الطلاق قبيل الموت. قال الإِمام: ولم يَصِرْ أحدٌ من الأصحاب إلى أنه إذا تبيَّن اليأس، يسند الطلاق إلى وقْت اللفظ، وهو محتمل كما إذا (¬1) مضت عليه سنون، وهو مستطيع للحج، ¬
وقلنا: إنَّه يموت عاصياً، ففي الأصحاب من يبسط المعصية على أول وقْت الاستطاعة، ومنهم من يخصها بالسنة الأخيرة. قال صاحب الكتاب في "البسيط" إنما لم يصيروا إلَيْه؛ لأن قوله: "إن لم أفعل كذا، فأنت طالقٌ، يحتمل أن يراد به إيقاع [الطلاق في الحال إن لم يتحقق الفعل في العمر، وقد يراد به الإِيقاع إذا حصل إخلاء العُمر عنه، والأصل أن لا طلاق، فأخذ باليقين. الطريق الثاني: إذا جُنَّ الزوج، لم يوجب ذلك بأساً؛ لأنَّ الإفاقة والتطليق بعده يمكن، فإذا اتصل بالموت تبينا حصول اليأس من وقت الجنون، فتَطلَّق قبيل الجنون، قال في "البسيط" وفي الإسناد إلى ما قَبل الجنون إشكالٌ، [و] (¬1) كان يجوز أن يقال: يقع قبيل الموت أيضاً، ولا يستند الطلاق إذا لم تحْصُل الإِفاقة المتوقعة إلى ما قَبْل زمان التوقف، كما لم يستند إذا لم يَحْصُل التطليق المتوقع إلى أوَّل زمان التوقف. الثالثة: إذا فسخ النكاح بسبب، أو انفسخ بردة وغيرها، فلا يَحْصُل اليأس؛ لأنَّ من الجائز أن يجدد نكاحها، وينشئ فيه طلاقاً، وحينئذٍ فلا يكون لمعلق به، وهو فوات التطليق حاصلاً، ولا يختص ما به البِرُّ والحنث بحال النكاح؛ ولذلك نقول: تنحلُّ اليمين بوجود الصفة في حال البينونة، فإذا ماتا أو أحدهما, ولم يوجد تجديدٌ وتطليق، فقد تحقق الفوات، ولا يمكن القوْلُ بوقوع الطلاق هاهنا قبيل الموت فيتعين الإِسناد إلى ما قبل الانفساخ (¬2) كما أسندنا إلى ما قبل الجُنُون كذلك، ذكره الإِمام على تلوم وتردُّد فيه، وتابعه المصنِّف وغيره على ما ذكَره. قالوا: وإنما يتأتى، فرْض ذلك في الطَّلاق الرجعيِّ؛ ليمكن اجتماعه مع حصول الانفساخ، فأما إذا كان الطلاق بائناً؛ لكونه قبْل الدخول أو الطلاق الثالث، فلا يمكن إيقاعه قبل الانفساخ لما فيه من الدَّورْ؛ فإنه لو وقع لَمَا حَصَل الانفساخ، ولو لم يَحْصُل الانفساخ، لم يَحْصُل الْيَأْس، وإذا لم يحصل اليأس، لم يقع الطلاق، فيلزم من وقوعه عَدَم وقوعه، وهذا من قبيل الدَّوْر الحكمي، ولو جدَّد نكاحها بعْد الانفساخ، فإن طلقها في النكاح الثاني، لم يَفْتِ التطليق، بل وقع الطلاق، وإن لم يطلقْها حتَّى مات أحدهما في النكاح المجدَّد، فيبنى على قولي عود الحنث، إن قلْنا بعود الحنث، طُلِّقَت في النكاح الثاني قبيل الموت، وبنينا على النكاح، وإن قُلْنا لا يعود الحنث، فلا يمكن إيقاع الطلاق قُبَيْل الموت، كما لو كان الموت في حالة البينونة، فيُسْتند إلى ما قبل ¬
الانفساخ، كما سبق، واعلم أن هذه الطرق الثلاثة فيما إذا كان التعليق بنفي التطليق أما إذا علَّق بنفي الضَّرْب وسائر الأفعال، فالجنون لا يوجب اليأس، وإن اتصل به الموت. قال في "الوسيط"؛ لأن ضَرْب المجنون في تحقيق الصفة ونفيها كضرب العاقل على الصحيح، ولو أبانها، ودامت البينونة إلى المَوْت، ولم يتفق الضربُ، فلا يقع الطلاق، ولا يُحْكَم بالوقوع قبل البينونة بخلاف ما في قوله: "إن لم أطلقك"؛ لأن الضرب بعد البينونة ممْكِنٌ، والطلاق بعد البينونة، غيْر ممكن [و] (¬1) إذا كان التعليق بنفي الضرب ونحوه من الأفعال، فعُروض الطلاق كعروض الفسخ والانفساخ، لكن ينبغي أن ينفي من الطلاق عدَدٌ يمكن فرْضُه مستنداً إلى ما قبل الطلاق، فأما في التعليق بنفي التطليق، فإنما تفرض البينونة بالانفساخ؛ لأنَّه لو طلقها بطَلَت الصفة المعلَّق عليها، ويمكن أن تفرض في طلاق الوكيل، فإنَّ ذلك لا يفوت الصفة. وقوله في الكتاب "قبل تجديد نكاح وطلاق" أي في النكاح المجدَّد. وقوله: "فإن لم يكن الطلاق رجعيًّا فيؤدي تقدمه على الانفساخ إلى الدور" أي فلا يقع. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإِنْ قَالَ: إِنْ لَمْ أُطَلِّقُكِ أَوْ إِنْ طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهَذَا للِتَّعْلِيلِ فَيَقَعُ فِي الحَالِ إِلاَّ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ اللُّغَةَ فَهُوَ تَعْلِيقٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الذي هو حرف شرط "إن" بِكَسْر الهمزة، فإن فتحها فهو للتعليل لا للتعليق، وقول القائل "إنْ كَانَ كَذَا" أي لأَنْ كَانَ وحذف اللام، وقال تعالى جَدُّه: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 14] فإن قال: أنتِ طالقٌ، أن لم أطلقْكِ، وقع في الحال؛ لأنَّه أوقعه وعلَّله بأنه لم يطلِّقْها، وإذا أوقع الطلاقَ، وقع، ولا يُنْظَر إلى ما علَّل به، ثمَّ الذي أورده صاحب الكتاب والإِمام وصاحب "التهذيب" وحكي عن الشيخ أبي حامد أن هذا في حقِّ من يعرف اللغة، ويَفْصل بيْن "أن" "وإنَّ"، فأمَّا إذا لم يميِّز بينهما، فالظاهر أنَّه يقْصِد التعليق، فتكون للتعليق، وقال القاضي أبو الطيِّب؛ يُحْكَم بوقوع الطلاق في الحَال، إلا أن يكونَ الرَّجُل ممَّن لا يعرف اللغَة، ولا يميز فقال: قصدتُّ التعليق، فيصدَّق، وهذا أشبه، إلى ترجيحه ذهب ابن الصبَّاغ وهو المذكور في "التتمة" (¬2)، وعلى هذا القياس طرف الاِثبات، فإذا قال: أنتِ طالقٌ، أن دخلْتِ الدار، ¬
(الفصل الثالث في التعليق بالحمل والولادة)
أو أن دخلْتِ الدَّارَ، فأنتِ طالقٌ، يقع الطلاق في الحال، وإن لم تدْخل، ولو قال: أنتِ طالقٌ أنْ طلَّقْتك، يُحْكَم بوقوع طلقتين؛ واحدةٍ بإقراره، وواحدةٍ بإيقاعه في الحال؛ وذلك لأن المعنى؛ أنْتِ طالقٌ؛ لأني طلقتك، ولو قال: أنتِ طالقٌ، إذ دخلْتِ الدار، فيقع الطلاق في الحال، فإن معناها: لدخولك الدار، بخلاف صيغة "إذا" فإن لم يميز الرجُل بَيْن "إذْ" و"إذا" فيُمْكِن أن يكون الحُكْم كما لو لم يميز بيْن "إن" و"أن" والله أعلم. فروع: لو قال لامرأته: أنتِ طالقٌ طالقاً، فعن الشيخ أبي عاصم أنه لا يقع في الحال شيْء، لكن إذا طلقها تقع عليها طلقتان، فيكون التقدير: إذا صرْتِ مطلَّقة، فأنتِ طالقٌ، وليكن هذا في المَدْخُول بها, ولو قال أنتِ طالقٌ دخلْتِ الدار طالقاً، فإن طلَّقها قبل الدخول، فدخلت طالقاً، وقعت الطلقة المعلَّقة إذا لم تحْصل البينونة بذلك الطلاق، وإن دخلَتْ غيْر طالقٌ، لم تقع تلْك الطلقة. ولو قال: أنتِ طالقٌ فطالق إن دخلَت الدار طالقاً، فإذا التعليق طلقتين بدخولها الدار طالقاً، فإن دخلت طالقاً، وقعت الطلقتان. ولو قال: أنتِ، إن دخلت الدار، طالقاً (¬1)، واقتصر عليه، قال في "التهذيب" إن قال نَصَبْتُ على الحَال، ولم أتم الكلام، قُبِلَ، ولم يقع شيْءٌ، وإن أراد ما يراد عنْد الرفع ولَحَنَ، وقع الطلاق إذا دخلَتِ الدار. وذكر إسماعيل البوشنجي؛ أنه لو قال: أنتِ طالقٌ حين؛ لا أطلقك، أو حيث لا أطلقُكِ، ولم يطلقها عقيبه، وقع الطلاق في الحال على قياس قولنا، وكذا لو قال: حين لم أطلقْك أو حيث لم أطلقْك، وكذا لو قال: أنتِ طالقٌ، ما لم أطلقْك، وأنه لو قال: أنتِ طالقٌ إن لم أضربْك، وإن لم أضربْك، فأنتِ طالقٌ، وقال: عنَيْتُ به وقتاً معيناً، سواءٌ عيَّن الساعة أو وقتاً آخر قريبًا أو بعيداً، وهكذا يكون الحكم في التعليق يبقى الطلاق وسائر الأفعال. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّالِثُ في التَّعْلِيقِ بِالحَمْلِ وَالوِلاَدَةِ): وَفِيهِ مَسَائِلُ: (الأُولَى): إِذَا قَالَ: إِنْ كُنْتِ حَامِلاً فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يَقَعْ فِي الحَالِ للِشَّكِّ لَكِنْ إِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ تَبَيَّنَ وُقُوعُ الطَّلاَقِ، وَإِنْ كَانَ لأَكْثَرَ من أَرْبَعِ سِنِينَ فلاَ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فقَوْلاَنِ، وَالأَظْهَرُ أَنَّ الوَطْءَ لاَ يَحْرُمُ في الحَالِ كَمَسْأَلَةِ الغُرَابِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَحْرُمُ إِلَى أَنْ يَسْتَبرِئَهَا بِقُرْءٍ عَلَى وَجْهٍ، وَبِثَلاثَةِ أَقْرَاءٍ عَلَى وَجْهٍ، وَبِالأَشْهُرِ في حَقِّ الصِّبِيَّةِ ¬
المُرَاهِقَةِ، وَفِي حَقِّ الآيِسَةِ هَلْ يُكتَفَى بِالإِيَاسِ دَلاَلَةً فِيهِ خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال لامرأته: إن كنتِ حاملاً، فأنتِ طالقٌ، نُظِرَ؛ إن كان الحَمْل ظاهراً، بها، وقع الطلاق في الحَال، وإلا، وهو المقصود من لفظ الكتاب، يُحْكَم بوقوع الطَّلاق في الحال مع الشَّك والتردُّد، ثم يُنْظر إن أتَتْ بولد لأقَلِّ من ستة أشْهُر من وقْت التعليق، تبين وقوع الطلاق، وكونها حاملاً حينئذٍ، وإن أتتْ به لأكثر من أربع سنين، تحقَّقْنا أنَّها ما كانتْ حاملاً، وأن الطلاق لم يقع وإن أتت به لستة أشهر، فأكثر ولأربع سنين فما دونها، نُظِرَ؛ إن كان الزوج يطأها، وكان بين الوطء والوضع ستة أشهر فأكثر، لا يقع الطلاق؛ لأن الأصْل بقاءُ النكاح واحتمال حدوثه من الوطء ظاهراً، وهو الأظهر، وإن لم يطأها بعد التعليق، أو كان بين الوطء والوضع دون ستة أشهر، فقولان أو وجهان: أحدهما: أنَّه لا يقع الطلاق؛ لأن أصْل بقاء النكاح والاحتمال غيْر منقطع. وأظهرهما: الوقوع؛ لتيقن الحمل في الظاهر؛ ولذلك حكَمْنا بثبوت النَّسَب. وإذا لم يكن الحمل ظاهراً عند التعليق، فينبغي أن يفرَّق بيْن الزوجين إلى أن يستبرئها, وليمتنع الزوج عن وطْئها، وهل التفريق واجبٌ والاستمتاع حرامٌ أم لا فيه وجهان: أحدهما: نعم، تغليباً للتحريم في محَلِّ التردد، وهذا ما يوجد للشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيِّب وجماعة. وأظهرهما لا, ولكنهما مستحبان؛ لأن الحَمْل عارض، والأصل عدمه، وأيضاً فإن الأصل بقاء النكاح، والمحرم مشكوك فيه، فأشبه ما إذا قال: إنْ كان هذا الطائرُ غراباً، فامرأتي طالقٌ، ولم يعلم الحال، ويحكى هذا عن نصِّه في "الإِملاء"، وجْه أجاب الحناطي، وحكاه القاضي ابن كج عن أبي إسحاق وغيره، وبم يكون الاستبراء؟ فيه وجْهان: أظهرهما: بقرء واحد؛ لأن المقصود قيام ما يدل على البراءة، وفي القرء الواحد دلالةٌ [على] البراءة، وبهذا اكتفى في "الإِملاء". والثاني: بثلاثة أقراء؛ لأنَّه تربُّصٌ في حق حُرَّة منكوحة، فيكون بالأقراء كالعدة، وعلى هذا فالأقراء الأطهار، وإن قلنْا: إنه بقرء واحد، فالظاهر أنه حيض، وفيه وجه آخر أنَّه طهر؛ تفريعاً على ما يأتي في الاستبراء، ولو جرى هذا التعليق في مراهِقَة لم تَحِضْ بعْدُ، وأمكن أن تكون حاملاً، فيشبه أن يقال: إن قلْنا الاستبراء بثلاثة أقراء، فالاستبراء بثلاثة أشهر في حقِّها، وإن قلنا: بقرء واحد، فاستبراؤها بشهْر واحد، أو
بأشهر فيه خلاف، كما في استبراء الرقيقة؛ والأظهر من الخِلاَف هناك أنها تستبرئ بشَهْر بدلاً عن قُرْء، والذي أورده في "التهذيب" هاهنا حكايته عن القفَّال: أنه ينظر مجيْء ثلاثة أشهر حرَّة كانت أو أمة؛ لأن الحَمْل لا يَظْهَر في أقل من هذه المدة، وفي حق الآيسة، هل يعتبر مضيُّ المدة؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما في العدة، وأشبههما أنَّه يكتفى بدلالة سن اليأس؛ لأن المقصود ظهورُ الحَال، وهذا الخلاف قريبٌ من الخلاف فيما إذا استبرأ منكوحةً قبْل التعليق ثمَّ علَّق الطلاق، كما ذكرنا: فيه وجهان: أحدهما: ويحكى عن أبي إسحاق: أنه لا يكتفى به؛ لأنه استبراء تقدَّم سببه، فلا يغني كما إذا مضَتْ مدة العدة قبْل الطلاق أو الاستبراء قبْل حصول الملك في الرقيقة وأصحُّهما عنْد صاحب "التهذيب" وغيره، وبه قال ابنُ أبِي هريرة: أنَّه يُكْتَفَى به، بخلاف العدة، فإن الطلاق سبَبٌ يوجبها، وانتقال الملك سبب يوجب الاستبراء؛ فلا يعتد بما تقدَّم على وقت الوجوب، وهاهنا الاستبراء ليس بواجب في نفسه، وإنَّما علَّق الطلاق بصفة، والمقصود معرفة أنَّ الصفة حاصلة أو غير حاصلة، ولا يختلف طريق المعرفة بين أن يتقدَّم أو يتأخر، وفي "المجرَّد" للقاضي أبي الطيِّب أن أبا إسحاق ذهَب إلى الوجه الثاني، وهو خلاف المشهور عنْه، وإذا جرى الاستبراء، لم يَمْنَع من الوطء بعده، ثم إن ولدَتْ بَعد ما وطئ، واقتضى الحال وقوع الطلاق على مما بيَّناه، أوقَعْنَا الطلاق، و (¬1) كان ذلك الوطءُ وطءَ شبهة، يجب به المَهْر، ولا يجب الحد. ولو قال: إن أحبَلْتُك، فأنتِ طالقٌ، وكانت حاملاً في الحال، لم تُطلَّق، بل يقتضي ذلك حمْلاً حادثاً، قاله في "التهذيب"، فإن وضعت أول كانت حائلاً، فلا يمنع من الوطء، فإن وطئها مرةً، مُنِع حتى تحيض. وقوله في الكتاب "بالأشهر في حق الصبية المراهقة" يمكن أن يجعل معلقاً بما قبله، وهو قوله "وبثلاثة أقراء على وجه" فلا يحتاج إلى إعلامه بالواو، ويمكن أن يجعل مستقلاًّ بنفسه، فيحتاج إلى الإعلام بالواو، للوجه الذاهب إلى أن يستبرئها بشَهْر، ولو لم يذْكر لفظ الصبية، واقتصر عَلى المراهقة كان جائزاً. فرْعٌ: عن نصه -رضي الله عنه- في "الإِملاء" [أنه لو قال لامرأته: إن كنت حاملاً فأنتِ طالقٌ على مائة دينار وهي حامل في غالب الظن طلقت] إذا أعطته زوجته مائة ¬
دينارٍ، وله عليها مهْرُ المثل، لفساد المسمى ووجه فساد المُسمَّى بأن الحَمْل مجْهولٌ لا يمكن التوصل إلَيْهِ في الحال، فأشبه ما لو جعله عوضاً. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِيَةُ): لَوْ قَالَ: إنْ كُنْتِ حَائِلاً فَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ وَلَكِنْ عَلَى العَكْسِ فَحَيْثُ يَقَعُ في الحَمْل لاَ يَقَعُ هَهُنَا، وَالتَّحْرِيمُ أَوْلَى فِي الحِيَالِ؛ لأَنَّ الأَصْلَ الحِيَالُ، وَلَوْ انْقَضَتِ الأَقْرَاءُ وَقَعَ الطَّلاَقُ لِظُهُورِ الحِيَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لاَ يَقَعَ لأَنَّهُ لاَ يُوجِبُ اليَقِينَ وَالصِّفَةُ لاَ بُدَّ مِنَ اسْتِيفَائِهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال: إن كنت حائلاً، أو قال: إن لم تكوني حائلاً، فأنتِ طالقٌ، نُظِرَ، إن علم أنَّها حائل بأن كانَتْ في سن لا يحتمل الحَمْل، يقع الطلاق في الحال، وإلا فلا نحكم في الحال بالوقوع؛ للتردُّد، ولكن يُنْظَر إن أتتْ بولَدٍ لأَقلَّ من ستة أشهر من وقْت التعليق تبين أنها كانَتْ حاملاً، ولم يقع الطلاق، وإن أتت به لأكثر من أربع سنين، تحقَّقنا أنها كانت حائلاً حيئنذٍ، وأن الطلاق قد وَقَع، وإن أتت به لستة أشهر، فأكثر ولأربع سنين، فما دونها، فإن وطئها الزوج إمَّا بأن استبرأها، وحكَمْنا بوقوع الطلاق، كما سيأتي ثم راجَعَها، ووطئها، أو من غَيْر استبراء، وكان من بين الوطء والوضع ستة أشهر، فأكثر، ففي وقوع الطلاق وجْهان: أظهرهما: الوقوع؛ لأن الظاهر حبالها حينئذٍ وحدوث الولد من هذا الوطء، وإن جرى الاستبراء تأكَّد احتمال الحدوث منه وقَوِيَ. والثاني: لا يقع؛ لاحتمال وجود الولد عنْد التعليق، والأصل بقاءُ النكاح، وُيرْوَى هذا عن أبي [علي] (¬1) الطَبَريِّ، وحكاه في "المهذب" عن [ابن] (¬2) أبي هريرة، والأثبت عنْه الوجه الأوَّل، وكذلك نقَلَه القاضي أبو الطيِّب، وإن لم يطأْها، أو كان بَيْن الوطء والوضْع دون ستة أشْهُر تبيَّن كونها حاملاً وقْت التعليق، فلا يقع الطَّلاق، وفي تحريم الوطء إلى أن يستبرئها وجْهَان عن القَفَّال: أنَّه لا يحرم، ولكن الامتناع مستحبٌّ، وذلك لأن الأصل بقاءُ النِّكاح، والطلاق المحرم مشكوكٌ فيه، وأصحهما التحريم؛ لأن الأصْل والغالب في النساء الحبال، والظاهر وقوع الطلاق، والقول فيما به الاستبراء، وفي أن الاستبراء السابقَ على التعليق، هل يكتفي به على ما مَرَّ في المسألة الأُولَى وفي "المهذَّب" طريقةٌ قاطعة؛ أن الاستبراء هاهنا بثلاثة أقراء، كأن الفَرْق أن أثر الاستبراء هاهنا وقوعُ الطلاق فيُحْتَاط له، وهناك أثره نفْيُ الطلاق، وإذا استبرأها حكَمْنا بوقوع الطلاق؛ بناءً على ظاهر الحال فإن كان الاستبراء بثلاثَة أقراء، فقد انقضت العدةُ، ¬
وإن كان بقرء أتمَّت العدَّة فإن ظَهَر بَعْد الاستبراء حَمْل ووضْع، فعلى ما قدَّمنا، وأبدى الإِمام وشيخه احتمالاً آخر؛ وهو أنَّه لا يقع الطلاق بمضيِّ مدة الاستبراء؛ لأنه لا يفيد إلا الظنَّ والصفات المعلق عليها يعتبر فيها اليقينُ؛ ألا ترى أنه لا يفرق بين أن يقول: إن قدم زيدٌ، فأنت طالقٌ، وبين أن يقول إن استيقنت قدوم زيد، ولو قال: إن استيقنْتُ براءة رحمك، فأنت طالقٌ، لا يُطلَّق بمضيِّ مدة الاستبراء، فكذلك إذا أطلق، وقوله في الكتاب "فحكمه ما سبَقَ" يعني على قياس ما سبَق وقوله: "التحريم أولى" يعني تحريم الوطء. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثَةُ): لَوْ قَالَ: إِنْ كُنْتِ حَامِلاً بِذَكَرٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَإِنْ كَانَتْ حَامِلاً بأُنْثَى فَطَلَقْتَيْنِ فَوَلَدَتْ ذَكَراً وَأُنْثَى وَقَعَتْ ثَلاَثاً، وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ حَمْلُكِ كَذَا وَكَذَا لَمْ تُطَلَّقْ لأَنَّهُ يَخُصُّ الجِنْسَ، وإنْ أتَتْ بِذَكَرَيْنِ قِيلَ: طُلِّقَتْ وَاحِدَةً، وَقِيلَ: لا لأَنَّ التَّنْكِيرَ للِتَّوْحِيدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: التعليقُ بكونها حاملاً بحمْلٍ خاصٍّ يشتمل على التعليق بكونها حاملاً، وقد مرَّ في المسألة الأُولَى أنه إذا علَّق الطلاق بالحَمْل متى يحكم بوقوع الطلاق ومتى لا يحكم، وكلُّ ذلك عائدٌ هاهنا، والمقصود الآن النَّظَر في ألفاظ التعليق يحمل خاصٍّ، وما هو موجب تِلْك الألْفَاظ، فإذا قال: إنْ كنتِ حاملاً بذكرٍ أو كان في بطْنِك ذكَرٌ، فأنتِ طالقٌ طلقةً، وإن كنْتِ حاملاً بأنثى، أو كان في بطنك أنثى، فأنتِ طالقٌ طلقتين، فإن ولدَتْ ذكراً تبين وقوعُ الطَّلاَق، وإن ولدَتْ أنثى، تَبَيَّن وقوع طلقتين، وإن ولدَتْ خنثى، لم تُحْكَم إلاَّ بطلقة؛ لأنها المتيقنة، والأخرى موقوفة إلى أن يتبين حال الخنثى، وإن ولدت ذكراً وأنثى تبيَّن وقوع ثلاث طلقات، لحصول الصفتين، وتنقضي العدة في جميع هذه الصور بالولادة ويكون الوقوع عنْد اللفظ، ولو قال: إن كان حَمْلُكِ أو كان ما في بطْنِك ذكَراً، فأنتِ طالقٌ طلقةً إن كان حملك أنثى أو كان ما في بطنك أنثى فأنتِ طالقٌ طلقتين فإن ولدَت ذكراً لا غير أو أنثى لا غَيْر، لم يَخْفَ الحكم، وإن ولدَتْ ذكراً وأنثى، لم يقَعْ شيْء؛ لأن قضية اللفظ كوْن جميع ما في البطن ذكراً أو أنثَى، وجميع ما في البطن ليس بذكره ولا أنثى، ولو ولدَت ذكرين أو أنثيين، فوجهان: أشهرهما: وبه أجاب الحناطي، ويحكى عن القاضي الحُسَيْن: أنه يقع؛ لأن المفهوم من اللفظ ما في البطْن من جنس الذَّكَر والأنثى. والثاني: وبه قال الشيخ أبو محمد، وميل الإِمام أنه لا يَقعُ، كما لو أنْت بذكَر وأنثى؛ لأن قضية التنكير التوحيدُ، وهذا عند إطلاقَ اللفْظ أمَّا إذا قال: أردتُّ الحَصْر في الجنْس، قُبِلَ وحُكِم بوقوع الطَّلاق لا محالة، ولو ولدَتْ ذكراً وخنثى أو أنثى وخنثى، فعلى الوجْه الثاني؛ لا يقع الطلاق، وعلى الأول؛ إن بَانَ الخنثى المولود مع
الذكر ذكراً، تقع طلقة، وإن بَانَ أنثى، لم يَقْع شيْء، وإن بَانَ الخنثى المولود مع الأنثى ذكَراً، لم يقع شيْء، وإن بَانَ أنثى، وقعت طلقتان. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرَّابِعَةُ): لَوْ قَالَ: إِنْ وَلَدَتِّ وَلَداً فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ طُلِّقَتْ بِالأَوَّلِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالثَّانِي، فَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا وَلَدتِّ وَلَداً لَمْ تُطَلَّقْ بِالثَّانِي في القَوْلِ الجَدِيدِ، لأَنَّهُ طَلاَقٌ قَارَنَ انْقِضَاءَ العِدَّةِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ انْقِضَاءِ العِدَّةِ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ وَلَدْتِّ وَلَداً فَطَلْقَةً وَإِنْ كَانَ ذَكَراً فَطَلْقَتَيْنِ فَوَلَدَتْ غُلاَماً طُلِّقَتْ ثَلاَثاً لِلحِنْثِ في اليَمِينِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال لامرأته: إن ولدتِّ أو إذا ولدتِّ، فأنت طالقٌ، وقَع الطلاق، إذا أنْت بولدٍ حيٍّ، أو ميِّتٍ ذكراً أو أنثى، وإنما يقع إذا انفصل الولد بتمامه، قال القاضي ابن كج: ولو أسْقَطَتْ ما بأن فيه خلق الآدميِّ، وتصير الأمة مستولدةً، طُلِّقَتْ، وإن لم يبن فيه خَلْق الآدمي، لم تُطلَّق، وفي المسألة صورتان: إحداهما: إذا قال: إن ولدتِّ ولداً، فأنت طالقٌ، فأنْت بولدين على التعاقب، طُلِّقَتْ بالأول، ثم إن كانا في بَطْنٍ واحدٍ، بأن كان بينهما أقَلُّ من ستة أشهر، فتنقضي عدتها بالثاني، ولا يتكرَّر الطلاق، وإن كانا من بطَنيْن، فانقضاء العدة بالثاني يُبْنَى على لحوقه بالزوج، وهو لاحِقٌ إذا أتَتْ به لأقل من أربع سنين، وتحسب هذه المدَّة مِنْ وقْت الطلاق، أو منْ وقْت انقضاء العدَّة فيه قولان يُذْكران في العدَّة، وإذا ألحق انقضت به العدَّةِ (¬1). ولو قال: كلَّمَا ولدتِّ ولداً، فأنتِ طالقٌ، فإذا يقتضي التَّكْرَار، فإن أتَتْ بالأولاد من بَطْن واحدٍ، نُظِرَ؛ إن كانوا أربعةً، وانفصلوا على التعاقب، فتطلَّق ثلاثاً بولادة ثلاثة، وتنقضي عدتها بالرابع، ولا إشكال، وإن كانوا ثلاثةً، فتُطلَّق بالأولين طلقتين، وتنقضي عدتها بالثالث، ولا تطلَّق بولادته الطلقة الثالثة، هذا هو النص المشهور ونقل ابن خيران وغيره عن "الإِملاء" قولاً: أنه تقع لولادة الثالث طلقة ثالثة، وتعتد بعْد ذلك بالأقراء، أما النَّصُّ المشهور، فتوجيهه أن المرأة في عدة الطلقتين الأوليين، وقتُ انفصالِ الثالث هو وقْت انقضاءِ العدَّة، وبراءة [الرحم] (¬2)، ولو وقع الطلاق، لوقع في تلْك الحَالَةِ لِمَا ذكَرْنا أن الطلاق المعلَّق بالولادة يقع عنْد الانفصال، ولا يجوز أن يقع ¬
الطلاق في حال انقضاء العدَّة، وحصول البينونة، ولهذا لو قال: أنتِ طالقٌ مع موتي لَمْ يِقع الطلاق إذا مات؛ لأنه وقْتُ انتهاء النكاح، ولو قال: إذا طلقتكِ، فأنتِ طالقٌ، وهي غَيْر مدخول بها, لم تقَعْ طلقة أخرى، لمصادفتها حال البينونة وأمَّا ما نُقِلَ عن "الإِملاء" ففيه طريقان: أحدهما: تسليمه قولاً آخر في المسألة، والقائلون به وجَّهوه بطريقين: أحدهما: أن هذا الطلاق لا يتأخَّر عن العدَّة، وإنَّما يقارن آخرها وإذا كان وقْت الوقوع وانقضاء العدة واحداً، كفى (¬1) ذلك وحُكِمَ بالوقوع تغليباً للطلاق المبنيَّ على سُرْعَة النفوذ، هكذا وجَّهه أبو يعقُوب الأبيورديُّ -رحمه الله- تعالَى جَدُّهُ وهؤلاء قالوا: -لو قال للرجعية: أنتِ طالقٌ مع انقضاء عدتك، ففي وقوع الطلاق قولان، بخلاف ما لو قال: بعْد انقضاءِ عدَّتك، وربما استشهد بما إذا قال لغير المدخول بها: أنتِ طالقٌ طلقةً مَعَها طلقةٌ فإنا (¬2) نحكُم بوقوع طلقتين على وجْه، بخلاف ما إذا قال: طلقةً بعد طلقةٍ، وعن الخضري وغيره تخريجُ قول فيما إذا قال: "مع" موتي، أنها تطلق في آخر جزء من أجزاء الحياة. والثاني: عن الخضري والقفَّال؛ بناء القولين على القولَيْن في أن الرجعية إذا طُلِّقَت هل تستأنف العدَّة أم لا؟ إن قلنا: لا، لم تطلَّق [هنا ولم يلزم العدَّة] وإن قلْنا: نعم، فكما وقَعَ الطلاق، ارتفعت العدَّة، ولزمت عدة أخرى هنَاك فكذلك هاهنا؛ وعلى هذا حكى الإِمام عن القفَّال، أنَّه لا يقضي بأن الطلاق يقع وهي في بقية من العدَّة الماضية، ولا بأنَّه يقع في مستفتح العدَّة المستقبلة، ولكن يَقَع على مُنْفَصِل الانقطاع والاستقبال، فهو كما لو قال لامرأته: أنت طالقٌ بين الليل والنهار، يقع لا في جزء من النهار، ولا في جزء من الليل، ثم تكلم عليه فقال: لا معنى للمنفصل (¬3)، وليس بين انقضاء العدة الأولَى، واستفتاح الثانية لو قدرناها زمان، والحكم بوقوع الطلاق لا في زمان محالٌ، وذكَرَ قوله [بين] (¬4) الليل والنهار" أنَّه، يقع الطلاق في آخر جزْء من النهار؛ لتكون متصفة بالطلاق في منقطع النهار، ومبتدأ الليل، وأما الشَّيْخ أبو عليٍّ، فإنَّه ذكر في "التقريب" [وجه] المسألة المستشهد بها على وجْه آخرَ، فقال: إذا اتَّصَل أول العِدَّة الثانية بآخر العدة الأولى، كان الطَّلاق في العدَّة، وهو كقول القائل: أنتِ طالقٌ بين الليل والنهار، تطلق إذا جاء أول الليل، ولا يقال: وقع لا في الليل ولا في النهار؛ لأنَّ طرف أحدهما متصل بطرف الآخر، وليس بينهما زمان، والله أعلم. ¬
والطريق الثاني: وهو الأصحُّ عنْد المعتبرين: القطع بالمشهور، والامتناع من إثبات ما حكي عن الإِملاء قولاً آخر، وأوَّلُوه من وجهين (¬1): أحدهما: حمْله على ما إذا ولدتْهُمْ دفعة واحدة، بأن كانوا في مَشيمَةٍ، وفي هذه الحالة يقع بكُلِّ واحدٍ طلقة، وتعتد بالأقراء؛ لأنها ليستْ حاملاً وقْت وقوع الطلاق. والثاني: الحَمْل على ما إذا كان الحَمْل من الزنا، وأصابها الزوج، فيقع بكُلِّ واحدٍ طلقة، تنقضي (¬2) العدَّة بولادتهم، ولو أتَتْ بولدين على التَّعَاقُب من بَطْنٍ واحدةٍ، والتعليق بصيغة "كلما" فتنقضي عدتها بالثاني، ولا يقع شيْء أو تقع طلقة أخرى، فيه مثْلُ هذا الكلام، وهذا الصورة هي المذكورة في الكتاب، ويجوز أن يُعلم قوله: "في القول الجديد" بالواو؛ للطريقة القاطعة، وكذا قوله: "وكذا لو قال: أنت طالقٌ مع انقضاء العدَّة" وأمَّا تسميته جديداً، فليس على معنى أن الذي يقابله قديمٌ، فإن مقابله منقول عن "الإِملاء"، وهو محسوب من الجديد، ولكن قد يُذْكَر الجديد، ويراد به الأم خاصَّةً، فهو المحمل هاهنا، فإن القول الصحيح منْصوصٌ عليه في "الأم" وعامة الكتب. الثانية: قال: إن ولدتِّ ولداً، فأنتِ طالقٌ طلقة (¬3) تُطَلَّق ثلاثاً لوجود الصفتين، ولو قال: إن ولدت ذَكَراً، فأنتِ طالقٌ طلقةً، وإن ولدتِّ أنثى، فأنتِ طالقٌ طلقتين، فولدَتْ ذكراً، طُلِّقت واحدةً، وشرعت في العدَّة بالأقراء، لوقوع الطلاق بالولادة، وإن ولدَتْ أنثى، طُلِّقَت طلقتين، واعتدَّتْ بالأقراء، وإن ولَدَتْ ذكراً وأنثى، نُظِرَ، إن ولدتهما معاً، طُلِّقت ثلاثاً؛ لأن الصفتين وُجِدَتا معاً، وهي زوجةٌ، وتعتد بالأقراء، وإن ولدت ذكراً أولاً ثم الأنثى، طُلِّقت واحدةً بولادة الذكر، لا تقع شيء بولادة الأنثى، على الصحيح، وتنقضي بها العدَّة على ما نُقِلَ عن "الإِملاء" تطلق بولادة الأنثى طلقتين أخريين، وتعتد بالأقراء، وإن ولدت الأنثى أولاً طُلِّقَتَ طلقتين، وهل يقع شيْء بولادة الذَّكَر فيه الخلاف، وإن أشكل الحال، فلم يُدْرَ أولدتهُما معاً أو أحدهما قبْل الآخر؟ أو عُرِفَ الترتيبُ ولم يُعْرف المتقدم منْهما؟ فعلى الصحيح: يؤخذ باليقين، وهو وقوع طلقةٍ والورع تركها عنْد احتمال المعيَّة إلى أن تنكح زوجاً غيره، وعلى ما نقل عن "الإِملاء" تطلَّق ثلاثاً كيف ما قدر وتعتد بالأقراء، وإن ولدَتْ ذكرين وأنثى، نُظِرَ؛ إن ولدتهم معاً، طُلِّقَت ثلاثاً، وإن ولدَتِ الذكرين معاً أو على الترتيب ثُمَّ ولدت الأنثى، طُلِّقت، بولادة الذكرين، أو باولهما طلقة وتنقضي العدة بولادة الأنثى على الصحيح، ¬
ولا يقع بها شيْء آخر، وإن ولدَت الأنثى، ثم الذكرين (¬1) على الترتيب، طُلِّقت بولادة الأنثى طلقتين وبالذكر الأول طلقةً أخرَى، وتنقضي العدة بولادة الثاني، وإن ولدَتْها ثم الذكرين معاً، طُلِّقت بها طلقتين، وتنقضي (¬2) العدة بوضع الذكرين، ولا يقع شيْء آخر على الصحيح، ولو ولدَتْ ذكراً ثم أنثى، ثم ذكراً، وقعت طلقة، ثم طلقتان، وتنقضي العدة بالذَّكَر الثاني. ولو قال: إن كنتِ حامِلاً بذكر، فأنتِ طالقٌ طلقةً، وإن ولدتْ أُنْثَى، فأنْتِ طالقٌ طلقتين، فإن ولدت ذكراً، تبيَّن وقوع طلقة عنْد اللَّفْظ بالشَّرْط الذي تقدَّم، وانقضت العدَّة بالولادة، وإن ولدَتْ أنثى، وقع بالولادة طلقتان، وتعتد بالأقراء، وإن ولدت ذكراً وأنثى، نُظِرَ، إن ولدَت الأنثى أولاً، وقَعَت بولادتها طلقتان، [و] بولادته، تبيَّن وقوع طلقة أولاً؛ لكونها كانت حاملاً بذكر، وتنقضي عدتها عن الثلاث بولادة الذكر، وإن ولدَتِ الذكر أولاً، تبيَّن وقوع طلقة، وتنقضي العدَّة بولادة الأنثى، ولا يقع شيْء آخر على الصحيح، وإن ولدتهما معاً، فكذلك تبيَّن وقُوع طلقة، ولا (¬3) تقع بالولادة شيْء على الصحيح. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ لأَرْبَعِ نِسْوَةٍ حَوَامِلَ: كُلَّمَا وَلَدَتْ وَاحِدَةٌ فَصَوَاحِبَاتُهَا طَوَالِقُ فَوَلَدْنَ عَلَى تَعَاقُبٍ وَتَقَارُبٍ طُلِّقَتِ الأوُلَى وَالرَّابِعَةُ ثَلاَثاً وَطُلِّقَتِ الثَّانِيَةُ وَاحِدَةً وَطُلِّقَتِ الثَّالِثَةُ طَلْقَتَيْنِ فَيُلْتَفَتُ إِلَى عَدَدِ صاحِبَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ وَإِلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِوِلاَدَتِهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قَال لأربع نسوة حوامل: كلَّما ولدتْ واحدةً منكن، فصواحباتها طوالقُ، فَوَلَدْنَ جميعاً، فيُنْظَر في كيفية ولادتهن، ولَها أحوال: إحداها: إذا وَلَدْنَ معاً، فتطلق كل واحدة منْهنَّ ثلاث طَلَقاتٍ؛ لأن لها ثلاثَ صواحبَ، ويقع عليها بولادة كل واحدة منهنَّ طلقةٌ، ويعتددْنَ جميعاً بالأقراء الثانية، وهي المذكورة في الكتاب: إذا وَلَدْنَ على التعاقب، ففيه وجهان: أظهرهما: وهو المذكور في الكتاب، وبه أجاب ابن الحدَّاد: أنه إذا ولَدَتِ الأولى، طُلِّقَتْ كلُّ واحدة من الأخريات طلقةً ولا يقع عليها شيْء؛ لأنَّ المعلَّق بولادة كلِّ واحدة منْهُنَّ طلاق الأخريات، فإذا ولدَت الثانية، انقضت عدَّتُها، وبانت، وَيقَع عَلَى الأولى بولادتها طلقةٌ، وعلى كلِّ واحدةٍ من الأخريَيْن طلقةٌ أخْرَى، إن بقيتا في العدَّة، فإذا ولدَتِ الثالثة، انقضت عدَّتها عن طلقتين، ووقَعَتْ على الأولى طلقةٌ أخْرَى ¬
إن بَقِيَتْ في العدَّة، وعلى الرابعة طلقة ثالثة، فإذا ولدَتِ الرابعة، انقضت عدتها عن الطلقات الثلاث، ووقَعَتْ طلقة ثالثة على الأُولَى وعدة الأولى تكون بالأقراء وفي استئنافها العدَّة لوقوع الطلقة الثانية والثالثة من الخلاف ما في طَلاَق الرجعية، وقوله في الكتاب "على تعاقب وتقارب" أشار بلفظ "التقارب" إلى بقاء المطلَّقة في العدة إلى ولادة التي تلد بعْدَها. والثانية: وبه أجاب ابن القاصِّ في "التلخيص"، واختاره القاضي أبو الطيِّب: أن الأُوَلى لا تطلَّق أصْلاً، وتطلق كلُّ واحدة من الأخريات طلقةً، وتنقضي بولادتهن، عدتهن ووجْهُه أن الثلاث وقْتُ ولادة الأُولَى صواحبها لأنَّهن جميعاً زوجاتُه، فيطلقن طلقةً طلقةً؛ وإذا طُلِّقْنَ خرجْنَ عن كونهن صواحبَ الأُولَى، وكون الأولى صاحبةً لهن، فلا يؤثر بعْد ذلك ولادتُهُنَّ في حقِّها وولادة بعضهن في حقِّ بعضٍ، ومن قال بالأول قال إنَّهُنَّ ما دُمن في عدَّة الرجعية، لا يخرجن عن كونهن زوجاتٍ له، وكون بعضهن صواحبه البواقي، ولذلك (¬1) ولو حلَف بطلاق نسائه، دخلت الرجعية فيه. الثالثة: إذا وَلدَتِ اثنتان معاً، ثم اثنتان معاً، فعلى جواب ابن الحدَّاد، تُطلَّق كل واحدة من الأوليين بولادة الأخرى طَلْقةً، وكل واحدة من الأخريين بولادة الأوليين طلقتين، وإذا ولدَتِ الأخريان وقَعَتْ على كلِّ واحدةٍ من الأوليين طلقتان أخريانِ، ولا يقع على الأخريَيْن شيْء آخر وتنقضي عدتها بولادتهما على الصحيح، وعلى ما نَقَل عن "الإِملاء" تقع على كل واحدة منْهما طلقة أخرى، وتعتدان (¬2) بالأقراء، وعلى جواب ابن القاصِّ، لا تُطلَّق كل واحدة من الأوليين سوى طلقةٍ، وعلى كلِّ واحدة من الأخريين سوى طلقتين؛ لخروجهن بما وقع عن الصاحبية، وتنقضي عدة الأخريين بالولادة، والأوليان يعتدان بالأقراء على الوجهين: الرابعة: [وَلَدَتْ] (¬3) ثلاثٌ منْهن معاً، ثم ولدتِ الرابعة، وقَعَتْ على الرابعة ثلاث طلقات، بلا خلاف، تُطلَّق كل واحدة من الثلاث على جواب ابن الحدَّاد ثلاثاً طلقتان بولادة اللتين ولدتا معها، وثالثة بولادة الرابعة، إن بقين في العدة، وعلى جواب ابن القاص، لا تُطلَّق كلَّ واحدة منهن إلا طلقتين، ولو كان الأمر بالعَكْس، ولدَتْ واحدة [منهن] (¬4) ثم ثلاث معاً، فعلى جواب ابن الحدَّاد تُطلَّق كل واحدة من الثلاث طلقةً بولادة الأولى، ثم تنقضي عدتهن بولادتهن، فلا يقع عليهن شيْءٌ آخَرُ على الصحيح، وعلى ما نقل عن "الإِملاء" يقع [على] (¬5) كل واحدة طلقتان أخريان ويعتددن بالأقراء، ¬
الأولى تطلق بولادتهم ثلاثاً وعلى جواب ابن القاصِّ يقع على الأولى شيْءٌ، ولا يقع على كلِّ واحدة من الثَّلاث إلاّ طلقة. الخامسة: ولدت اثنتان على الترتيب، ثم ثنتان معاً، يقع على الأولى ثلاث بولادتهن وعلى كل واحدةٍ من الأخريات طلقةٌ بولادتها فإذا ولدت الثانية، انقضت عدتها، ووقعت على كل واحدةٍ من الأخريات طلقةٌ أخرى بولادتها، وتنقضي عدَّة الأخريين بولادتهن، ولا يَقَع على كلِّ واحدة منهما شيْء آخر بولادة صاحبتها على الصحيح، وهذا قياس ابن الحدَّاد، وعلى جواب ابْن القاصِّ؛ لا يقع على الأُولَى شيْءٌ ولا على كل واحدة من الأخريات إلاَّ طلقة، ولو ولدت ثنتان معاً، ثم ثنتان على الترتيب، فعلى قياس ابن الحدَّاد؛ يقع على كل واحدة من الأوليين بولادتهما طلقة، وعلى كل واحدة من الأخريين طلقتان، فإذا ولدت الثالثة انقضتْ عدتها، ووقعت على كل واحدة من الأوليين طلقةٌ أخْرَى إن بقيتا في العدَّة ووقَعَتْ على الرابعة طلقةٌ ثالثة، فإذا ولدت، انقضت عدتها، ووقعَتْ على كل واحدة من الأوليين طلقةٌ، إن بقيتا في العدة، وعلى قياس ابن القَاصِّ؛ لا تطلَّق كل واحدة من الأوليين إلا طلقة، ولا كل واحدةِ من الأخريين إلاَّ طلقتين. ثم قال ابن الحدَّاد: ولو خاطب الأربع بما وصفنا، ثم طلَّق كل واحدة منهن طلقة ثم ولدْتَ على الترتيب فالأولى مطلقة بالتنجيز، وتنقضي عدتها بولادتها، [ويقع على الثانية بولادة الأولى طلقة وهي مطلقة بالتنجيز وتنقضي عدتها عن طلقتين بولادتها] وتُطَلَّق كل واحدة من الثالثة والرابعة ثلاثاً؛ واحدة بالتنجيز، واثنين بولادة الأولى والثانية، وعلى قياس ابن القاصِّ؛ لا يقع عليهن إلا الطلقتان المنجَّزة. ولو قال للأربع: كلَّما ولدَتْ [واحدة] منكن، فأنتن طوالقُ، فالمعلَّق هاهنا بولادة كل واحدة منهن طلاَقُ الوَالِدة وغيرها فإن ولدْنَ معاً، طُلِّقْنَ ثلاثاً ثلاثاً، وإن ولدْنَ على التعاقب، طُلِّقَت الأولى ثلاثاً طلقةً بولادة نفْسِها وأخرى بولادة الثانية وأخرى بولادة الثالثة، إن بقيت في العدة، وتعتد بالأقراء، وتطلَّق الثانية بولادة الأولى، ولا تطلَّق طلقة بولادة نفسها على الصحيح، وتنقضي عدتها، وعلى ما نقل في "الإِملاء" تطلق طلقة أخرى، وتعتد بالأقراء، والثالثة، تطلَّق بولادة الأولى والثانية، وهل تَطلَّق بولادة نفْسها طلقةً ثالثة، فيه الخلاف، والرابعة تطلَّب بولادة الأوليات ثلاثاً، وتنقضي عدتها بولادتها, ولا يقع بولادتها شَيْءٌ على الأوليات، إذا قلنا بالصحيح لبينونتهن. ولو قال للأربع كُلَّما ولدَتِ اثنتان منكن، فالأخريات طالقان، فولدْنَ على الترتيب فلا تطلَّق واحدة منهن بولادة الأولى؛ لأنَّه علَّق بولادة اثنتين فإذا ولدت الثانية، حَصَلت الصفة، فتطلَّق الثالثة والرابعة طلقةً طلقةً، ولا يقع على الأوليَيْن شيْء؛ لأن المعلَّق
بولادة اثنتين منْ طَلاَق الأخريين، فإذا ولدت الثالثة، فوجهان سَبَق نظيرهما في مسألة تعْلِيق عتْق العبد بِطَلاق الزوجات: أصحهما: أن الثالثة لا تضمُّ إلى الثانية، ولا تطلَّق بها واحدة منهن إلى أن تَلِد الرابعة، فإذا ولدَتْ، فعلى قياس ابن الحَدَّاد، طُلِّقت الأوليان طلقةً طلقةً، ويعتدان بالأقراء، والأخريان تنقضي عدتهما بالولادة، وعلى قياس ابن القاصِّ؛ لا تُطلَّق الأوليان بولادة الأخريين. والوجه الثاني: أن الثالثة تضمُّ إلى الثانية وتُطلَّق بولادتهما الأولى طلقةً، والرابعة طلقةً ثانية، ثم إذا ولدَت الرابعة طُلِّقت الثانية، وطُلِّقت الأولى طلقةً ثانية. ولو كانت تحته امرأتان، فقال: كلما ولدَتْ واحدة منكما، فأنتما طالقان، فولدتا على الترتيب، فيقع بولادة الأولى عليها طلقةٌ، وعلى الأخرى طلقةٌ، وإذا ولدتِ الثانيةُ، وقعَتْ على الأولى طلقةٌ أخرى إن بقيت في العدَّة، وتنقضي عدَّة الثانية، ولا يقع عليها شيْء آخر على الصحيح، ولو ولدت زينب منهما يوم الخميس ولداً، وولدت عمرة يوم الجمعة ولداً، ثم زينب يوم السَّبْت ولداً، وعَمْرة يوم الأحد ولداً، فأتَتْ كل واحدة منهن بولدين، فيقع بولادة يوم الخميس، وولادة يوم الجمعة على كل واحدة طلقتان، وتنقضي عدَّة زينب بولادتها يوم السبت، ولا يقع عليها شيْء آخر على الصَّحِيح، ويقع على عمْرة طلقة ثالثة، وتَنْقضي عدتها يَوْم الأحد عن ثلاث، ولو قال لها كلَّما ولدتُّما، فأنتما طالقان، فولدَتْ إحداهما ثلاثة أولاد من بَطْنٍ واحدٍ، ثم الثانية كذلك لم تُطلَّق واحدة منهما بولادة الأولى أو ولادتها؛ لأن التعليق بولادتهما جميعاً، فإذا ولدَت الثانية الوَلَدَ الأوَّل [وقعت] (¬1) على كلِّ واحدة منهما طلقة، وإذا ولدت الثاني، وقعتْ على كل واحدة طلقةٌ أخرى، وإذا ولدَتِ الثالثة، وقعت على الأولى طلقة ثالثة ولا يقع على الثانية شيْء وتنقضي عدتها عن طلقتين على الصحيح، ويعود ما نقل عن "الإِملاء" ولو ولدت إحداهما ولداً، ثم الأخرى وَلَداً، ثم الأولى ولداً، وهكذا إلى أن ولدَتْ كل واحدة ثلاثاً من بطن واحد، فبولادة الثانية الولدَ الأَوَّلَ يقع على كل واحدةٍ طلقةٌ وبولادتها الثاني يقع على كل واحدة طلقة أخرى، ثم إذا ولدَتِ الأولى الوَلَدَ الثالثة، انقضَتْ عدتها، وإذا ولدَتِ الثانية الوَلَدَ الثالث، هل يَقَع عليها طلقةٌ أخرى؟ فيه الصحيح، وخلاف الإملاء، ولو ولدَت إحداهما (¬2) ولداً، ثم الثانية ثلاثةً على الترتيب، ثم الأُولَى ولدين اَخريَن، فبولادة الثانية الولدَ الأوَّل يقع على كلِّ واحدة طلْقةٌ، ولا تقع بولادتها الولَدُ الثاني والثالث شيءٌ وتنقضي بالثالث عدَّتها، ثم إذا ولدَتِ الأُولَى الولَدَ ¬
الثَّانِي انضمَّت ولادتها إلى ولادة الثانية الوَلَد الثاني، فيقع على الأولى طلْقَة ثانيةٌ، وإذا ولدَت الثالث، انقضت عدَّتُها ولا يقع عليها شيْء آخرُ على الصحيح، وعلى ما ما نقل عن الإِملاء ينضمُّ هذه الولادة إلى ولادة الثانية الولد الثالث فيقع عليها طلقة ثالثة. فُرُوعٌ: قد سَبَق أن الطَّلاق المعلَّق بالولادة إنَّمَا يقع إذا انفصل الولَدُ بتمامه، فلو خَرَج بعْضُه، ومات الزوج أو المرأة، لم يقَع الطلاق، وورث الثاني منْهما من الماضي. ولو قال لامرأته: إن ولدتِّ فعبدي حر، فخرج بعض الولد، وباع العبْدَ حينئذٍ، وتفرقا عن المجلس، أو تخايرا ثم ولدت لم يعتق العبد، ولو انفصل الولد قَبْل التفرُّق والتخاير عتق العبد؛ لأنه له أن يعتق في زمان الخيار. الثَّاني: في فتاوى القَفَّال أنَّه إذا قال لامرأته: إن كنتِ حاملاً، فأنتِ طالقٌ، فقالت: أنا حاملٌ، فإن صدَّقَها الزَّوْج، حُكِم بوقوع الطلاق في الحال، وإن كذبها لم يقَعْ حتَّى تلد، فإن لمسها النساء فقالت أربع منهن فصاعداً: إنها حاملٌ لم تُطلَّق؛ لأن الطلاق لا يَقَع بقَوْل النِّسْوة، وسيذكر في "كتاب الشهادات". ولو علَّق الطلاق بالولادة، فشَهِدت أربع نسوة بالولادة، لم يقع الطلاق، وإن ثَبَت النَّسَب والميراث؛ لأنهما من توابع الولادة، وضروراتها بخلاف الطَّلاق. والثالث: لو قال: إن كان أوَّل ولَدٍ تلدينه من هذا الحَمْل ذكراً، فأنتِ طالقٌ، فولدت ذكراً، ولم يكن غيْره قال الشيخ أبو عليٍّ لا يختلف أصحابنا أنَّه يقع الطلاق، وليس من شرط كوْنِه أولاً أن تَلِدَ بعْده آخَرَ، وإنما الشرط أن لا يتقدَّم علَيْه غيره، وفي "التتمة" وجه آخر؛ أنه لا يقع شيْءٌ، والأول يقتضي آخراً، كما أن الآخر يقتضي أولاً (¬1) ولو قال: إن كان أول ولَدٍ تلدينه ذكراً، فانتِ طالقٌ واحدة، وإن كان أنثى، فأنتِ طالقٌ ¬
ثلاثاً، فولدت ذكراً وأنثى، نُظِرَ، إن ولدت الذَّكَر أولاً، طُلِّقت واحدةً، وانقضت عدتها بولادة الأنثى، [وإن ولدت الأنثى] (¬1) أولاً، طُلِّقَت ثلاثاً، وانقضت عدتها بولادة الذَّكَر، وإن ولدتهما معاً لم يقعْ شْيء؛ لأنَّه لا يوصَفُ واحدٌ منهما بأوليته؛ ولهذا لو أخرج رجُلٌ ديناراً للمتسابقَيْنِ، وقال: من جاء منكما أَوَّلاً فهُو له، [فجاءا] معاً لم يستحقَّا شيئاً. قال الشيخ أبو عليٍّ: ويُحْتَمَل أن تُطلَّق ثلاثاً؛ لأنَّهما إذا ولدتْهما معاً، فكل واحدٍ منهما موصوفٌ بأنه أول ولد ولدَتْه، إذا لم تَلِدْ قبْله غيْره؛ ولأنَّه لو قال: [أول من رَدَّ آبقِي]، فله درْهَمٌ فردّهُ اثنان استحقا الدِّرْهم، وقال وعرَضْتُهُ على الشَّيْخ، يعني القفَّال، فلم يستبْعِده، ولو لم يعلم أنها ولدتْهما معاً، أو ولدت أحدهما قبْل الآخر، لم تحكم بوقوع الطلاق؛ لاحتمال أنَّها ولدتْهما معا، ولو كان كذلك، لم يقع شيْءٌ على الظاهر، فلا يوقع بالشك، ولو علم الترتيب، ولم يعلم السابق أخذْنا باليقين، وهو وقوع طلقةٍ واحدةٍ، ولو قال: إنْ كان أوَّل ولدٍ تلدينه ذكراً، فأنتِ طالقٌ، وإن كان أنثْى فضرتك طالقٌ، فولدتْهما على الترتيب، ولم يُعْلَم السابقُ، فقد وقع الطلاق على إحداهما، فيوقف عنها ويؤخذ بنفقتهما حتَّى تبين المطلقة منهما, ولو قال: إن كان أوَّلُ ولد تلدينه ذكراً، فأنت طالق]، وإن كان أنثى فعبْدي حرٌّ، فولدتهما على الترتيب، ولم يُعْلَم السابق. قال الشيخ أبو عليٍّ: يُقْرَع بيْن المرأة والعَبْد، فإن خرجت على العَبْد، عَتَق، وإن خرجَتْ على المرأة لم تطلَّق. قَالَ الغَزَالِىُّ: (الفَصْلُ الرَّابعُ في التَّعْلِيقِ بِالحَيْضِ): فَلَوْ قَالَ: إِنْ حِضْتِ حَيْضَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ طُلِّقَتْ بِتَمَامِ الحَيْضَةِ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ حِضْتِ، طُلِّقَتْ إِذَا مَضَى يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ مِنْ أَوَّلِ الحَيْضِ لَكِنْ بِطَرِيقِ التَّبَيُّنِ، وَقِيْلَ: تُطَلَّقُ بِأَوَّلِ الحَيْضِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ، وَلَوْ قَالَ لِلْحَائِضِ: إِنْ حِضْتِ فَلاَ تُطَلَّقُ إِلاَّ بِحَيْضَةٍ مُسْتَأنفَةٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال لامرأته إذا حضت حيضة، أو إن حِضْتِ، حيضة فأنتِ طالقٌ، لم تطلق (¬2) حتَّى تحيض، ثم تطهر، وحينئذٍ, فيقع سُنيّا, ولو قال: إن حِضْتِ، فأنتِ طالقٌ ولم يَزِدْ عليه، فلا يعتبر بتمام الحيْضَة، ومتى يحكَم بوقوع الطلاق؛ فيه وجْهَان: أحدهما: أنا لا نَحْكُم بوقوع الطلاق بأول ظهور الدم؛ لأنَّه قد يكُون دم فَسَادٍ، فإذا بلَغَ حد أقل الحَيْض، تبيَّن وقوع الطلاق منْ أول الظهور. والثاني: أنه يحكم بالوقوع [إذا] (¬3) ظهر الدم؛ لأن الظاهر أنه حيض؛ ألاَ ترى ¬
أنها تُؤْمَر بتَرْك الصوم والصلاة، ثم إن انقطع قبْل أن تَبْلُغ أول الحيْض، ولم يعد إلى خمسة عشر، فتبين أن الطلاق لم يَقَع، ونظْم الكتاب يقتضي ترجيح الوَجْه الأول، وإلى ترجيحه ذَهَب الإِمام، وقال تفريعاً علَيْه إذا رأت الدم، فهل يجب التحرُّز عن الاستمتاع بها؛ ناجزاً؟ هذا بمثابة ما لو قال: إن لم تكوني حاملاً، فأنتِ طالقٌ، وقد مر حكمه، والأظهر في المذهب الوجْهُ الثاني، ولم يورد الجمهورُ سواه وإذا قال: إن طهرت أو إذا طهرت فأنْتِ طالقٌ، طُلِّقَت في أول الطهر، ولو قال: إذا طَهُرْتِ طهراً واحداً، قال الحناطي: تُطلَّق إذا انقضى الطُّهْر، ودخلت في الدم، وحكى وجهاً آخر أنَّها تطلَّق إذا مضى جزءٌ منه، ثم قوله: "إن حضت" أو "إذا حضت" يقتضي التعليق بالحيضة المستقبلة، حتى لو كانت حائضاً في الحال، لا يقع الطلاق حتَّى يَطْهُر ثم تحيض، ولو قال، والثمار مدركة: إذا أدركتِ الثمار، فأنتِ طالقٌ، فهذا تعليق بالإدراك المستأنف في العام المقبل وعلى هذا قياسُ سائِرِ الأوصافِ إلاَّ أنَّه سيأتي في باب الأيمان، إن قَدَّر الله -تعالى جَدُّه- أن استدامة اللُّبْس والركوب لبس وركوبٌ، فليكن الحُكْم كذلك في الطلاق. وفي "الشامل" و"التتمة" وجه آخر أنه: إذا استمر بها الدَّمُ بعد التعليق ساعةً، يقع الطلاق، ويكون دوام الحيض حيضاً. ولو قال: كلَّما حِضْتِ، فأنتِ طالقٌ، طلِّقَتْ ثلاثاً في أول ثلاث حِيَض مستقبلة، وتكون الطلقات بدعيَّةً، ولو قال: كلَّما حِضْتِ حيضة، فأنتِ طالقٌ، طلِّقَتْ ثلاثاً في انتهاء ثلاث حيض مستقبلة، ويكون الطلقات سُنّيِّةٌ. ولو قال: إِن حضْتِ حيضةً، فأنت طالقٌ، ثم إن حضْتِ حيضتين، فأنتِ طالقٌ، فإذا حاضت حيضَةً وقعت طلقة، فإذا حاضت أخرى، تحقَّقَت الصفة الثانية، فتقع طلقة أخرى؛ لأن كلمة "ثم" تُشْعِر بالتعليق بحيضتين غير الأولى. ولو قال: كلما حِضتِ حيضةً، فأنت طالقٌ، وكلما حِضْتِ حيضتين، فأنتِ طالقٌ، فإذا حاضت حيضةً طُلِّقت، وإذا حاضت حيضةً أخرى، طُلِّقت طلقةً ثانية، لاْنها حاضت حيضةً مرَّة أخرى، و"كلما" تقتضي التكرار، وطلقة ثالثة؛ لأنَّها حاضت حيضتين. فرع: قال لامرأتيه إن حضتما حيضةً، فأنتما طالقان، ففيه وجهان: أحدهما: أنه لغو، يُطلَّقان، وإن حاضتا، لأنَّهما إذا حاضتا، حصَلَت حيضتان ويستحيل أن تحيضا بحيضة واحدة. وأظهرهما: أنَّه لا يلغو، ثم اختلف الناقلون، فقال الإِمام: يُحْتمل أن يُرَاد به؛ إذا حاضَتْ كل واحدة منهما حيضةً، إذ هو السابق إلى الفَهْم منْ مثل هذا اللفظ، فيُنَزَّل عليه، تصحيحاً للكلام الذي ذكره الشيخ أبو حامد، وصاحب,"التهذيب" "والمهذَّب" أنَّه
يلغى قولُه "حيْضة"، ويُسْتَعمل قوله: "إن حضتها"، وقضية التنزيل الأول وقوع الطلاق عند تمام الحيضتين، وقضية الثاني: الوقوع إذا ابتدأ الحيْض بهما، ويجري الخلاف فيما إذا قال لامرأتيه: إن ولدتما ولداً، فأنتما طالقان، فعَنْ صاحب "التلخيص" أنَّه يَلْغو، ولا يقع الطلاق بحال، وعن غيره أنَّه كما لو قال: إذا ولدتُّما، ويُحْمل قوله "ولداً" على ذكْر الجنس. قال أبو عبد الله الحناطي: فأمَّا إذا قال: إذا ولدتُّما ولداً واحداً، فأنتما طالقان، فإنه محالٌ ولا يقع الطلاق، وعلى الوجْه الَّذي يقول؛ إذا علَّق بالمحال، يقع في الحال، يقع هاهنا أيضاً ولدتا أو لم تلدَا. قَالَ الغَزَالِىُّ: فَالقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينها في حَيْضِهَا وَفِي إِضْمَارِهَا البَعْضَ؛ لأَنَّ ذَلِكَ بَاطِنٌ لاَ فِي دُخُولِهَا، وَفِي سَائِر أَفْعَالِهَا، وَفِي زنَاهَا وَوِلاَدَتِهَا خِلاَفٌ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ حِضْتِ فَضَرَّتُكِ طَالِقٌ لَمْ يُقْبَلْ يَمِينُهَا في حَقّ الضَّرَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إِنْ حِضْتُمَا جَمِيعاً فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ وَصَدَّقَ إِحْدِاهُمَا دُونَ الأُخْرَى طُلِّقَتِ المُكَذَّبَةُ دُونَ المُصَدَّقَةِ لأَنَّ المُكَذَّبَةُ ثَبَتَ حَيْضُ ضَرتِّها في حَقِّهَا بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ وَحَيْضِهَا بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا وَأَمَّا المُصَدَّقَةَ فَلَمْ يَثْبُتْ حَيضُ ضَرَّتِهَا مَعَ تَكْذِيبِ الزَّوْجِ في حَقِّهَا، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لأرْبَعٍ ثُمَّ صَدَّقَ اثْنَتَيْنِ فَقَطْ لَمْ تُطَلَّقْ وَاحِدَةٌ، وإِنْ صَدَّقَ ثَلاَثاً طُلِّقَتِ المُكَذَّبَةُ. قَالَ الرَّافِعِىُّ: إذا علَّق طلاقها بحيضها، فقالت: حِضْتُ، وأنكر الزوج، صُدِّقت بيمينها؛ لأنها أعرف، بحيضها، ويتعذَّر إقامة البينة عليه، فإن الدَّم، وإن شُوهِد لا يُعْرَف أنَّه حيْضٌ بل يجوز أن يكون استحاضة، وكذلك الحُكْم فيما لا يُعْرف إلاَّ من جهتها، كما إذا قال: إن أضمرْتِ بُغْضِي، فأنْتِ طالقٌ، فقالت: أضمرته تُصدَّق بيمينها [ويحكم بوقوع الطلاق، ولو علق بزناها، فوجهان: أحدهما: تصدق فيه] لأنه أمر خفيٌّ لا يُطَّلع عليه إلا على نُدُور، فأشبه الحَيْض، وهذا ما رجَّحه في "الوسيط". والأصحُّ على ما ذكر الإِمام وآخرون المَنْع، كالدخول وسائر الأفعال إذا علَّق بها؛ لأن معرفته والاطلاع عليه ممكَنٌ، فيستدام النكاح إلى أن تَقُوم علَيْه حجَّةٌ، وطرد الخلاف في الأفعال الخفية التي لا يكاد يُطَّلع عليها، وإذا علق الطلاق بالولادة، فقالت: ولدتُّ، وأنكر الزوج، وقال: ما ولدَتْ، وهذا الولد مستعارٌ، ففيه وجهان مشهوران: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة، وحكاه القاضي ابن كج عن أبي حامد القاضي: أنها تُصدَّق بيمينها كما في الحَيْض، وهذا؛ لأنها مؤمنة في رحمها حيْضاً وطهراً ووضع حمل؛ ألا ترى أنها تُصدَّق في انقضاء العدَّة بالأقراء، ووضع العمل جميعاً، وبهذا قال
ابن الحدَّاد، وأصحهما المنع، ويطالب بالبينة كما في سائر الصفات، بخلاف الحيض، فإن إقامة البينة عليْه متعذِّر. قال الإِمام: ووراءها من الأسباب الظاهرة، والأسباب الخفية أن يصدقوها في الخفيِّ دون الظاهر والمودع يصدق في دعوى التَّلَف بالسبب الظاهر والخفي، والفرق أن المودع قد ائتمنه المالك في ماله فيكلف تصديقُه، والزوج لم يصدِّقْها ولم يأتمنها في خفيٍّ ولا جليٍّ، لكن قد سبَق في "الوديعة" أنَّه إذا ادَّعَى التَّلَف بسبب ظاهر، لا يُصدَّق في السبب بل يحتاج إلى إقامة البينة عليه، ثم يُصدَّق في التلف، ولو علق طلاق امرأة بِحَيْض أخرى؛ بأن قال: إن حِضْتِ، فضرتك طالقٌ، فقالت: حِضْتُ، وأنكر الزوج، فالقول قولُه مع يمينه، ولا تصدَّق هي في حق الضرة؛ لأنه لا سبيل إلى قبول قولها من غيْر يمين، ولو حلَّفناها، كان التحليف لغيرها؛ فإنه لا تعلُّق للخصومة بها، والحُكْم للإِنسان يحلف غيره محالٌ فجرينا على الأصْل وصدَّقنا المنكر، ولو قال: إذا حضْتِ، فأَنتِ وضرتك طالقان، فقالت حضْتُ، فنصدقها بيمينها، ونحكم بوقوع الطلاق، ولا نوقع على الضَّرَّة لأن الأيمان لا تدخلها النِّيَابة، واليمين يؤثِّر في حق الحالف دون غيْره وذلك لو مات وخلف اثنين، فادَّعَى أحدهما دَيْناً، وأقام عليه شاهداً، وحلف معه، لا يثْبُت إلاَّ حصته وعن صاحب "التقريب" أن الطلاقين متعلقان بحيضها، فإذا صدَّقْناها بيمينها، وقع الطلاق على الضَّرَّة، ولو قال لامرأتيه: إذا حضتما، فأنتما طالقان، فطلاق كُلِّ واحدة منْهما معلَّق بحيضهما جميعاً، فإذا حاضتا معاً أو على الترتيب طُلِّقَتا، فإن كذبهما، فهو المصدَّق بيمينه، فإذا حلف، لم تطلَّق واحدة منهما، وإن صدَّق إحداهما، وكذَّب الأخرى، طُلِّقت المكذَّبَةُ، إذا حلفت على حيضها، ولم تُطلَّق المصدَّقة؛ لأن المكذبة ثبت حيض ضرتها بتصديق الزوج، وقولُها مع يمينها في حيض نفسها كافٍ، وأما المصدَّقة فإن حيض ضرتها لم يثبت في حقَّها، فلم تُطلَّق، ويجيْء على ما نقل عن صاحب "التقريب" أن يقال: ثَبَت حيْض ضرتها بحلفها، فإذا ثبت في حقِّها، ثبت في حقِّ المصدقة أيضاً، فَتُطلَّقان جميعاً، ويجوز أن يُعْلَم لذلك قولُه في الكتاب "دون المصدَّق" بالواو. ولو قال لحفْصَة: إن حِضْتِ، فعمرةُ طالِقٌ، وقال لعمرة: إن حِضْتِ، فحفصة طالقٌ، فقالتا: حضنا، فإن صَدَّقَهما طُلِّقتا، وإن كذبهما، لم تطلقا، وإن صَدَّق إحداهما طُلِّقت المكذبة دون المصدقة. ولو كانت تحته ثلاثُ نسوة، فقال: إذا حضتن، فانتُنَّ طوالقُ، فقد علق طلاق كل واحدة منْهن بحيض الثلاث، فإذا قُلْن: حضْنَا، وصدَّقَهن، طُلِّقَن، وإن كذَّبَهن، لم تُطِلَّق واحدةٌ منهن، وإن صَدَّق واحدة، وكذَّب اثنتين، فكذلك؛ لأن المصدَّقة لم يَثْبُت
في حقِّها إلا حيضها، وأما المُكذَّبتان، فحيض المصدَّقة ثابتٌ حقها وحيْضُ كلِّ واحدةٍ منْهما يكْفِي فيه قولُها، لكن حيض المكذَّبة الأخرى، لم يثبت في حقِّها، فلم يجتمعْ في حق واحدة منْهن حيضُ الثَّلاث، وإن صَدَّق اثنتين، وكذَّب واحدةً، طُلِّقَت المكذَّبة؛ لأن حيضا يكفي فيه قولُها، وحيض صاحبتها ثبت بتصديق الزوج، ولا تُطلَّق المصدَّقتان؛ لأن حيض المكذَّبة لم يثبت في حقِّهما. ولو قال لأربع: إن حضتن، فأنتن طوالقُ، فطلاقُ كلِّ واحدة معلَّقٌ بحيض الأربع، فإذا حِضْن، [أو قلن حضن وصدقهن] طُلِّقْن، فلو قلْن: حِضنا، فكذَّبَهُن، أو كذَّب اثنتين أو ثلاثاً، وحلف، لم تُطلَّق واحدةٌ منْهن، وإن كَذَّب واحدةٌ منْهن، وصدَّق ثلاثاً طُلِّقت المكذَّبة؛ لأن حيض الثلاث ثبت بتصديقه وقولها بيمينها كافٍ في حق نفسها ولا يقع على المصدَّقات شيْءٌ؛ لأن قول المكذَّبة غير مقبول في حقِّهن، وعلى قياس ما نقل عن صاحب "التقريب" يقع عليهن أيضاً بيمين المكذَّبة وكذلك يقع على المصدَّقتين في صورة الثلاث. ولو قال للأربع: كلما حاضَتْ واحدةٌ منْكن، فأنتُنَّ طوالقُ، فإذا حِضْن أو ثلاث منهن طُلِّقن ثلاثاً ثلاثاً؛ لأن "كلَّما" للتكرار، وإذا قلْن: حضْنا، فكذَّبهن، وحلفت، وقعت [على] (¬1) كل واحدة منهن طلقةٌ لأن يمين كل واحدة تكفي مثبتاً لحيض نفسها، ولو صَدَّق واحدة منهن، وكذَّب ثلاثاً، وقع على المصدَّقة طلقةٌ بقولها، ووقَع على كل واحدة من المكذَّبات طلقتان؛ طلقةٌ بثبوت حيْضها بقولها، وطلقةٌ بحيض التي صدَّقها الزوج، ولو صدَّق اثنتين، وكذَّب اثنتين، وقَع على كل واحدةٍ من المصدقتين طلقتان، وعلى كلِّ واحدة من المكذبتين ثلاثُ طلَقَات [ولو صدق ثلاثاً طلق الجميع ثلاثاً ثلاثاً]. ولو قال: كلَّما حاضَتْ واحِدةٌ منْكن، فصواحبتها طوالقُ، وقلن: حضْتا، فإن صدَّقَهن، طُلِّقن ثلاثاً ثلاثاً، وإن كذَّبهن، لم يقَعْ شيْءٌ، وإن صدَّق واحدةٌ منهن، لم يقَعْ عليها هي؛ لأنه لم يثبت في حقِّها حيض واحدةٍ من صواحبها ويقع على كُلِّ مكذبة طلقةٌ؛ لثبوت حيْض واحدةٍ بالتصديق، وإن صَدَّق اثنتين وقَعَ على كلِّ مصدَّقة طلقةٌ لأن لها صاحبةً واحدةً، وعلى كل مكذَّبة طلقتان؛ لأنَّ لها صاحبتين، وإن صدَّق ثلاثاً، طُلِّقت كل مصدَّقة طلقتين، والمكذب ثلاثاً؛ لأن لها ثلاثَ صواحب، إذا صدَّقنا المرأة في الولادة عنْد التعليق بالولادة، فإنما تُصدَّق فيما يتعلق بها؛ ولا يقبل قولُها في حق غيرها، كما ذكرنا في الحَيْض، حتى لو قال: إذا ولدتِّ، فأنتِ طالقٌ، وعبْدي حرٌّ، فقالت: ولدتُّ، وحلَفَتْ طُلِّقَت، ولم يُعْتَقِ العبد، ولو قال لأمته: إذا ولدتِّ، فأنتِ ¬
حرَّةٌ، وامرأتي طالقٌ، فقالت: ولدتُ، عَتَقَتْ هِيَ، ولم تُطلَّق المرأة، ولو قال لها: إذا وَلَدتِّ، فامرأتي طالقٌ، وولدك حرٌّ، وكانت حاملاً بولد مملوك، لم تُطلَّق المرأة، ولم يُعْتق العبْد بقولها ولدت؛ لأن كل واحدٍ منهما تتعلقَّ بحق الغير. ذكر القفَّال تفريعاً على أنَّه لا يُقبل قولها "زنَيْتُ" إذا علِّق الطلاق بزناها، وبه أجاب أنَّه ليس لها تحليفه على أنَّه لا يَعْلَم أنها زَنَتْ، ولكن إذا ادَّعتْ حُصُول الفراق بينهما فيحلف على أنَّه لم تقع الفرقة، ولا يَعْلَم أنها زنَتْ، وكذا في التعليق بالدخول وسائر الأفعال. وإذا قال لامرأته إن رأيتِ الدم، فانتِ طالقٌ، فعن أبي العباس الرُّويانيِّ وجهان: الظاهر منهما: أنَّه يُحْمَل على دم الحيْض؛ لأنه المراد في العادة. والثاني: بأنَّه يحمل على كل دم؛ رعايةً لحقيقة اللفْظ، وإذا قلنا بالأول، فلا يُعْتبر رؤيتها حقيقة، بل المعتبر العِلْم، كما في التعليق برؤية الهلال. وذكر إسماعيل البوشنجي: أنَّه لو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً في كل حيض طلقةً، وهي حائضٌ في الحال، فالذي يقتضيه ظاهر اللفْظ أنَّه يقع طلقة في الحال، وطلقةً في أول الحيض الثانية أخرى في أول الثالثة، وأنه لو قال: إذا حضْتِ نصْف حيضة، فأنْتِ طالقٌ، وعادتها ستَّة أيَّام مثَلاً، فإذا مضَى ثلاثة أيام، يقضي (¬1) بوقوع الطلاق على ما يقتضيه ظاهِرُ اللفْظ. وأنه لو قال: أنتِ طالقٌ قبل أن تَحِيضِي حيضةً بشَهْر فرأت الدم بعْد شهْر على عادِتها المستمرة، تطلق في الحال أو بعْد مضيِّ يوم وليلة، يخرج على قولَىْ تقابل الأَصْل والظاهر، وهذا هو الخلاف الَّذي أسلفناه في أنَّه إذا قال: إذا حِضْتِ فأنت طالقٌ، يحكم بوقوع الطلاق بأول رؤْيَة الدم [أو] (¬2) لا يُحْكَم به حتَّى يمضي يوْم وليلة، والمستفاد منه تخريجُه على الأصْل المذكور. وذكر الإِمام إشكالاً على القَوْل بوقوع الطلاق فيما إذا علَّق طلاق امرأته علَى حَيْضها، أو حيض غيرها فقالَتْ: حضْتُ وصدَّقها، وقال: بم يَعْرِف الزوج صدْقَها، وكيف يُحْكَم بوقوع الطَّلاق بقوله صَدَقَتْ، وليس ذلك إقراراً بوقوع الطلاق حتَّى يؤاخذ به، ونهاية الأمر أنَّه قد يَغْلب على ظنه صدقها بقرائن ومخايل تدل عليْه، ومعلوم أنَّه لو قال: سمعْتُها تقول: حضْتُ، وأنا أُجَوِّز صدْقَها، وكذبِهَا، وغالب ظَنِّي صدْقُها، لا يُحْكَم بوقوع الطلاق، فليكن كذلك إذا أطلق التصديق، لأنَّه لا مستَنَد له إلا ذلك، ¬
(الفصل الخامس في التعليق بالمشيئة)
وسمعت بعْض أكابر العراق يَحْكِي عن القاضي أبي الطيِّب عن الشيخ أبي حامد تردُّداً في وقوع الطلاق؛ لمكان هذا الإِشكال، هكذا أسنده قال: وليس ذلك كما إذا علَّق طلاقَها بحيضها، فقالت: حضْتُ وكذبها، فَحَلَفَتْ، فإن اليمين حُجَّة شرعية يجوز بناء الحكْم عليها، وسبيل الجواب على ما أطبق علَيْه الأصحاب؛ أن الإقرار حجَّةٌ شرعيةٌ، كاليمينِ واليمينُ قد يستند إلى قرائن تفيد الظنَّ القويَّ، كما تحلف الَمرأة على نية الرَّجُل في كنايات الطَّلاق، فلذلك لا يَبْعد أن يستند الإِقرار إليها، فيحكم به والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الخَامِسُ في التَّعْلِيقِ بِالمَشِيئَةِ): فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ فَقَالَتْ فِي الحَالِ: شِئْتُ: طُلِّقَتْ، وَإِنْ قَالَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تُطَلَّق، وَلَوْ قَالَ لأجْنَبِىٍّ: إِنْ شِئْتَ فَزَوْجَتِي طَالِقٌ فَفِي وُجُوب الفَوْرِ خِلاَفٌ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَلَّقَ عَلَى مَشِيئَةِ زَوْجَتِهِ الغَائِبَةِ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ شِئْتِ وَشَاءَ أبُوكِ فَهَلْ يُعْتَبَرُ الفَوْرُ في مَشِيئَةِ أَبِيهَا؟ وَجْهَانِ، وَلَوْ قَالَتْ: شِئْتُ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُطَلَّقْ إِذ المَشِيئَةُ لاَ تُعَلَّقْ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثاً إلاَّ أَنْ يَشَاءَ أَبُوكِ وَاحِدَةً فَشَاءَ أَبُوهَا وَاحِدَةً لَمْ تُطَلَّقْ أَصْلاً، وَقِيلَ: تُطَلَّقُ وَاحِدَةً، وَلَوْ قَالَتْ: شِئْتُ وَهِيَ كَارِهَةٌ بَاطِناً طُلِّقَتْ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَلَوْ قَالَتِ الصَّبِيَّةُ شِئْتُ فَوَجْهَانِ، وَلاَ نَظَرَ لِقَبُولِ المَجْنُونَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تعليق الطلاق بمشيئة الله -تعالى جَدُّهُ- قد سَبَق حُكْمُه، وأمَّا إذا علَّق بمشيئة غيْره، فيُنْظَر؛ إن علَّق بمشيئة الزوجة على وجْه المخاطبة، فقال: أنتِ طالقٌ، إن شئْتِ، فيُشْتَرط مشيئتها في مجلس التواجب على ما سَبَق ذكْرُه في "الخُلْع"، فلو أخَّرَت، لم يَقَع، وهو موجه بمعنيين: أحدهما: أن هذا التعليق استدعاءُ رغبةٍ وجوابٍ منها، فينزل منزلة القَبُول في العقود. والثاني: أنه يتضمَّن تخييرها وتمليكها البُضْعَ، فكان كما لو قال: طلِّقي نفْسَكِ، ونقلنا في "الخلع" قولاً غريباً أنها متى شاءت، طُلِّقت، ولا يُشْترط الفور، فيجوز أن يُعْلَم بذلك قولُه "وإن قالَتْ بعد ذلك، لم تطلَّقْ" بالواو، ويُبْنَى على المعنيين ما لو قال لأجنبىٍّ: إن شئت، فزوجتي طالقٌ، إن علَّلنا اشتراط الفَوْر هناك؛ بأنه خطاب واستدعاء جواب، فكذلك يُشْتَرط هاهنا، وإن علَّلنا بمعنى التمليك، فلا, لأنه لا تمليكَ هاهنا، فأشبه التعليق بدخوله الدار أو بصفة أخرى، وهذا أظْهَر فيما ذكَره جماعة، ورأى صاحب "التتمة" الوجْه الأول، ولو علَّق الطلاق بمشيئة زوجته، لا على وجْه خطاب، بأن قال: زوْجَتِي طالقٌ، إن شاءت، فإنْ عللنا بأنه خِطَاب واستدعاء جوابٍ، فلا خطاب هاهنا، فلا يشترط الفَوْر، وإن عللنا بمعنى التمليك، يُشْترط، وعلى هذا فلو كانت المرأة حاضرةً، فينبغي أن تقول في الحالِ: شئْتُ: ليقع الطلاق، وإن كانت غائبةً،
فتبادر إليْه إذا بلغها الخبر ومال الإِمام -قدَّس الله روحه- إلى أن الفَوْر لا يُشْترط في هذه الصورة أيضاً, وقال: الصيغة بعيدةٌ عن قصْد التمليك إذا لم يكُنْ على وجْه الخطاب، ويشبه تمكنها من الفراق بما إذا قال: إن دخلْتِ الدَّار، فأنتِ طالقٌ، فإنه يتضمن تمليكها التسبب إلى الطلاق، ولا يُشْترط الفور في الدخول بالاتفاق، وإذا كان الأظْهر في الصورتين أنَّه لا يشترط الفوْرُ، حَسُن أن يعلَّل اشتراط الفور فيما إذا علَّق الطلاق بمشيئة الزوجة على وجْه الخطاب بمجموع المعنيين، ولو قال: امرأتي طالقٌ إن شاء زيْدٌ، فليس هاهنا خطاب، ولا تمليك، فسبيلُه سبيلُ سائِر التعليقات بلا خلاف، ولو علَّق الطلاق بمشيئتها ومشيئة غيرها، كما إذا قال: إن شئت وشاء وأبُوكِ، فأنتِ طالقٌ، أو إن شئت، وشاء فلانٌ، فلا بد من مشيئتهما؛ ليقع الطلاق، ويُشْتَرط الفور في مشيئتها، وفي مشيئة الأب أو الأجنبي وجهان: أحدهما: وبه قال القاضي الحُسَيْن: أنَّه يشترط الفَوْر فيها لأنه قرن مشيئته بمشيئتها، فيكتسب مشيئته مشيئتها اشتراط التعجيل. وأصحُّهما: المَنْعُ، ويجري على مشيئة شرطها, لو انفردت، وهذا كما أنَّه لو قال: أنتِ طالقٌ، إن شئت ودخلت الدَّار يؤثر على كلُّ واحد من الوصفَيْن حُكْمَه لو انفرد. ولو علَّق الطلاق بمشيئتها أو مشيئة غيرها، فقال المعلِّق، بمشيئة الزوج شئت إن شئْت أو إن شاء فلانٌ، لم يقع الطلاق، وإن قال الزوج [أو قال فلان] شئْتُ؛ لأنه علَّق الطلاق بمشيئة مجْزوم بها، وتعليق المشيئة ليس خبراً عن مشيئة محقَّقة، والمشيئةُ المحقَّقةُ لا تُعلَّق، وكذا لو قال: شئْت غدًا، إذا علَّق الطلاق بمشيئتها، فقالت: شئْتُ، وهي كارهةٌ بقلبها وقع الطلاق في الظاهر، وهل يقع باطناً باختلاف فيه القفَّال وأبو يعقوب الأبيوردي وتناظرا، فقال أبو يعقوب: لا يقع كما لو علَّق بحيضها فقالت: حِضْتُ وهي كاذبةٌ، وإلى هذا مال القاضي الحُسَيْن، وقال القَفَّال؛ يقع، وذكر صاحب "التهذيب" أنَّه المذْهَب؛ لأن التعليق في الحقيقة بلفظ المشيئة (¬1)؛ لا بما في الباطن؛ ألا ترى أنَّه لو علَّق بمشيئة الأجنبي، فقال: شئْتُ، صُدِّق، ولو كان التعليق بما في الباطن، لَمَا صُدِّق، كما إذا علَّق طلاق ضرتها بحيضها، لا تُصدَّق في حق الضُّرَّة. ويخالف ما إذا علَّق بحيضها، فقالت: حِضْتُ، وهي كاذبة, لأن دم الحيض محسوسٌ مشاهدٌ، وإنما اعتمدنا قوْلَها فيه؛ لأنها مؤتمنة والمشيئة تحس ولا تُعْرَف إلا من جهتها، وكان التعليق بقولها "شئت" ويجري الخلاف فيما إذا عَلَّق بمشيئة زيد، فقال زيْد: شئْتُ، وهو كارهٌ بقلبه، ولو وُجِدَت الإِرادة دون اللَّفْظ، فعلى ما قال القَفَّال: لا يقع الطلاق، ¬
وعلى ما قال الأبيوردي فيه تردُّد؛ لأن كلامه يستدعى جواباً على العادة، وارادةُ القَلْب لا تكفي جواباً للخطاب. ولو علَّق الطلاق بمشيئتها، وهي صبيَّة أو بمشيئة صبيٍّ أجنبىٍّ فقال المعلَّق بمشيئته شئْتُ، فوجهان: أظهرهما: عنْد أبي سعد المتولِّي، وهو الذي أورده أبو الفَرَج السرخسي، وذكر الإِمام أن ميل الأكثرين إلَيْه: أنَّه لا يقع الطلاق؛ لأنه لا اعتبار بمشيئة الصبيِّ في التَصرفات؛ ولأنه لو قال: طلِّقِي نفْسَك، فطلقت، لم يقع فكذلك إذا عَلَّق بمشيئتها. والثاني: يقع، كما لو قال: أنتِ طالقٌ، إن قلت شئت، ولأن مشيئة الصبيِّ معتبرة في اختيار الأبوَيْن، وقد يُؤَكّد بالوجْه الأول ما قاله الأبيوردي، وهذا الخلاف في الصبي المميِّز، وأما إذا علَّق بمشيئتها، وهي صغيرة غير مميِّزة أو مجنونة أو بمشيئة غيرها، وهو بهذه الحالة، فقالَتْ أو قال: شِئْتُ، فلا يقع الطلاق بلا خلاف، ووجَّه بأنَّا، وان اعتمدْنا اللفْظ، فلا بدَّ من صدوره ممن يُتصوَّر أن يكون لفظه إعراباَ عن مشيئة قلبية وليس للمجنون قصْدٌ وَإعرابٌ صحيحٌ ولو قال المعلَّق بمشيئته شئْتُ، وهو سكران، فيخرَّج على أن السَّكْران كالمجنون أو كالصاحي، ولو علَّق بمشيئة أخْرس، فقال بالإِشارة: شِئْتُ وقَع الطلاق، ولو كان ناطقاً، فَخَرَس، ثم أشار بالمشيئة، فوجهان: أصحهما: وقوع الطلاق إقامةٌ لإِشارته مَقام النُّطْق على المعهود في حقه. والثاني: المَنْع؛ لأن التعليق حينئذٍ وقع بقوله "شئْتُ" ولم يبق له قَوْل، وينسب هذا إلى ظاهر النص، واختيار الشيخ أبي حامد. ولو قال لامرأته: أنتِ طالقٌ إذا شئْتِ، فهو كما لو قال: إن شِئْتِ، ولو قال: متى شئْتِ، تقدَّم في الخُلْع أنَّه لا يُشْترط المشيئة في الحال، ويقع الطلاق متى شاء. وإذا علَّق الطلاق بمشيئتها؛ ثم أراد أن يرْجِع قبْل أن تقول، شئت، لم يتمكن لأنه تعليقٌ في الظاهر، وإن تضمن تمليكاً، وهذا كما لو قال: إن أعطيتني ألفاً، فأنتِ طالقٌ، ثم قال: رجَعْتُ يُؤَثِّر الرجوعُ، وإن كان ذلك معاوضةً. ولو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلا أن يشاء أبوكِ أو فلان واحدةً، فشاء واحدةً، فوجهان: [أصحهما]: أنَّه لا يقع شَيْءٌ كما لو قال: أنتِ طالقٌ إلا أن يدخل أبوكِ الدارَ، فدخل، وعلى هذا، فلوْ شاء اثنتين أو ثلاثاً، لم يقع شيء أيضاً؛ لأنه شاء واحدةً وزيادةً. والثاني: أنَّه إذا شاء واحدةً، يقع واحدةً؛ لأن المفهوم منْه إلا أن يشاء أبوكِ واحدةً فتطلقي واحدةً لا ثلاثاً، وفى "التتمة" نقل وجْه ثالث وهو أنها تُطلَّق طلقتين،
وتقدير الكلام أنْتِ طالقٌ ثلاثاً إلا أن يشاء أبْوك ألاَّ يقع واحدة منها، فلا تقع تلك الواحدة، ثم الوجهان المعروفان عنْد الإِطلاق، فأما إذا قال: أردتُّ المَعْنَى. الثاني: فلا شَكَّ في أنَّه يُقْبَل، وتقع طلقةً، ولو قال: أردتُّ المعنى الأوَّل، وفرَّعنا على الوْجه الثاني، فهل يُقْبل حتَّى لا يَقع شيْء فيه وجهان: أظهرهما: نعم، ولو قال: أنتِ طالقٌ واحدةً إلا أن يشاء أبُوكِ أو تشائي ثلاثاً، فإن شاء أو شاءت [ثلاثاً لم يقع شيء تفريعاً على الأصح وإن لم يشأ شيئاً أو شاءت واحدةً أو اثنتين وقَعَتْ واحدة، ولو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً إن شئْتِ، فقالتْ: شئْتُ واحدةً: أو اثنتين، لم يقَع شيْءٌ، ولو قال: أنتِ طالقٌ واحدةً إن شئْتِ، فقالت: شئْت اثنتين أو ثلاثاً، وقعت الواحدة. ولو قال: أنتِ طالقٌ لولا أبوكِ، لم يقع الطلاق، والمعنى: لولا أبُوكِ لَطَلَّقْتك، وفِيهِ وجْه آخر مذكورٌ في "التتمة" ولو قال: أنتِ طالقٌ، لولا أبوكِ لَطَلَّقْتُك، فالمنقول أنَّه لا يَقَع الطَّلاق, لأنه لم يُطلِّق، وإنما أخبر أنَّه لولا حرمة أبيها لطَلَّقها، وأكد هذا الخبر بالحَلِف بطلاقها، كما نقول: والله، لولا أبوكِ لَطَلَّقْتك، قال المتولي: وإنما لا يقع الطلاق، إذا كان صادقاً في خَبَره، أما إذا كان كاذباً، فيقع الطلاق في الباطن، ولو أقرَّ أنَّه كان كاذباً، حكم بالوقوع في الظاهر أيضاً. ولو قال أنتِ طالقٌ إن شاءَتِ الملائكة، لم يَقَع الطلاق, لأن لهم مشيئةً، وحصولُها غير معلوم؛ فصار كما لو قال: إن شاء الله، ولو قال: إنْ شاء الحمار قالوا: هو كما لو قال: إن طِرْتِ أو صَعِدتِّ السماء، ولو قال: أنْتِ طالقٌ إن شئْتُ أنا، فهو تعليق، فمتى شاء، وقع الطلاق. ولو قال: أنتِ طالقٌ إلا أن أشاء أو يبدو لي، قال في "التهذيب" يقع في الحال (¬1)؛ لأنَّه ليس بتعليقٍ بل أوقع الطلاق، وأراد رفْعَه، إذا بدا له، ويمكن أن يُقَال: هو كما لو قال: إلا أن يشاء فلان، أو إلا أن يشاء الله، وذكر أنَّه لو قال لها أحبي الطلاق أو أهوي أو أريدي أو أرضي، وأراد تمليكها الطَّلاق، فهو كقوله "شَائِي" أو "اختاري" فإذا رضيَتْ أو أحبَّتْ أو أَرَادَتْ، يقع الطلاق، هذا لفظه، وقال إسماعيل البوشنجي: إذا قال: شائي الطلاق، ونوى وقوع الطلاق بمشيئتها، فقالت: شئْتُ، لا يقع الطلاق، وكذا لو قال: أحِبِّى أو أريدي؛ لأنَّه استدعى منْها مشيئةَ الطلاق، ولم يُطلِّقْها, ولا علَّق طلاقها, ولا فوض إلَيْها تطليقَ نَفْسِها, ولو قُدِّر تفويضٌ فقولها "شئْتُ" ليس بتطليق، وهذا أقوى، ولو قال: إذا "رضَيْتِ" أو"أحببتِ" أو"أردتِ" ¬
[الطلاق فأنتِ طالقٌ فقالت رضيت أو أحببت أو أردت وقع الطلاق، ولو قالت الصورة هَذِه "شِئْت" قال البوشنجي: لا ينبغي أن يقضي بوقوع الطلاق، وكذا لو قال: إن شِئْتِ فقالت: أحببت أو هَوِيتُ؛ لأن كلَّ واحد من لَفْظَي المشيئة والمحبة يقتضي ما لا يقتضيه الآخَرُ؛ ألا ترى أنَّه يقال الإنسان يشاء دخولَ الدار، ولا يقال: يُحِبُّه، ويحبُّ ولده، ولا يسوَّغ لفْظُ المشيئة فيه. وذكر أنَّه لو قال: لامرأتيه إن شئتما، فأنتما طالقان، فشاءت كلُّ واحدة منهما طلاق نفْسها، دونَ ضرَّتها، فالقياس وقوعُ الطَّلاق من جهة أن المُبْتَدر إلى الفهْم منْه تعليقُ طلاق كل واحدة منهما بمشيئتها طلاقَ نفسها لا غير؛ لأن الظَّاهر أن الإنسان يُعلِّق طلاق امرأته، على مشيئتها لا على مشيئةِ الضرة، وفي "التتمة" ما يتنازع في ذلك، ويقتضي تعليق طلاقِ كل واحدة منهما بالمشيئتين. وأنه لو قال: أنتِ طالقٌ إلا أن يَرَى فلان غيْر ذلك، أو إلا أن يشاء أو يريد غَيْر ذلك أو إلا أن يبدو لفلانٍ غَيْر ذلك، فلا يقع الطلاق في الحال، بل يُوقَف الأمر على ما يَبْدو من فلان، ولا يختص ما يَبْدو منْه بالمجلس، وإذا مات فلانٌ، وفات ما جَعَله مانعاً من وقوع الطلاق تبيَّن وقوع الطلاق قُبَيْل موْتِه. وأنه لو قال: أنتِ طالقٌ، إن لم يشأ فلان، فقال فلان، لم أشأْ، يقع الطلاق، وكذا لو قال إن لم يَشَأْ فلان: طلاقك اليوم، فقال فلان: في اليوم لا أشأ، يقع الطلاقُ، لكن قياس التعليق ينفي الدخولَ، وسائرُ الأفعالِ أن يقال: إنَّه، وإن لم يَشَأْ، في الحال، فقد يشاء من بعد، فلا يقع الطلاق، إلا إذا حَصَل اليأس، وفاتت المشيئة، وفي صورة التقييد باليوم، لا يقع إلا إذا مضى اليوم خالياً عن المشيئة، ويجوز أن يوجَّه ما ذَكَره بان قوْلَه "أنْتِ طالقٌ إن لم يشأْ فلانٌ" محْمولٌ على التعليق بتلفُّظه، بعَدَم المشيئة كما حمل قوله: أنْتِ طالقٌ على التعليق بتلفظه بالمشيئة، وإذا كان كذلك، فإذا قال: لم أشأْ, يتحقَّق الوصْفُ بوقوع الطلاق، وأنَّه لو قال: أنْتِ طالقٌ، إن شئْتِ أو أبيتِ فقضيَّة اللفْظ وقُوع الطَّلاق بأحد الأمرين، إما المشيئة أو الإِباء، كما لو قال: أنتِ طالقٌ إن قمت أو قعَدتِّ، ولو قال: أنتِ طالقٌ شِئْتِ أو أَبَيْتِ وقَع الطَّلاق في الحال، ولا تعليق هاهنا، وفي "التهذيب" أنَّه لو قال: أنتِ طالقٌ كيْف شئت، فعن أبي حنيفة؛ أنَّه يقع (¬1) الطَّلاق شاءت أو لم يشأ وبه قال أبو زيد والقفَّال، وعن أبي يوسف ومحمَّد؛ أنَّه لا يقَع حتَّى توجد مشيئة في المجلس، إما مشيئة أن تطلَّق أو مشيئة أن لا تطلَّق، وهو اختيار الشيخ أبي عليٍّ، وقال صاحب "التهذيب" وكذا الحكم لو قال: أنتِ طالقٌ على أىِّ وجه ¬
(الفصل السادس في مسائل الدور)
شِئْتِ، وقوله في الكتاب "إذا المشيئةُ لا تعلَّقُ" يمكن تنزيله على ما سبق أن المشيئة المعلَّق بها هي المشيئةُ المجزوم بها، ومثل هذه المشيئة لا مدْخَل للتعليق فيها، ويجوز أن يُعْلَم قولُه: "لم تُطَلَّق" بالواو؛ لأن أبا عبد الله الحناطي حكَى وجهاً غريباً؛ أنَّه يصحُّ تعليق المشيئة، ويقع الطلاق إذا قال الزوج: شِئْتِ، وقوله: "طُلِّقَتْ على أحد الوجْهَيْنِ" يعني في الباطن، وأما في الظاهر، فلا خلاف في وقوع الطلاق. قَال الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ السَّادِسُ في مَسَائِلِ الدَّورْ): فَإِذَا قَالَ: إن طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلاَثاً انْحَسَمَ بَابُ الطَّلاَقِ عَلَى الوَجْهَيْنِ، وَقِيْلَ: إِذَا نَجَّزَ وَاحِدَةً وَقَعَتْ تِلْكَ الوَاحِدَةُ، وَقِيلَ يَقَعُ الثَّلاَثُ إِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَمِنَ الدَّوْرِ أَنْ يَقُولَ: إِنْ آلَيْتُ أَوْ ظَاهَرْتُ أَوْ رَاجَعْتُ أَوْ فَسَخْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ، وَإِذَا قَالَ: إِنْ وَطِئْتُ وَطئاً مُبَاحاً فَأَنَتْ طَالِقٌ قَبْلَهُ فَوَطَئَ فَلاَ خِلاَفَ أنَّهَا لاَ تُطَلَّقُ قَبْلَهُ، وَمِنَ الدَّوْرِ أنْ يَقُولَ: إِنْ طَلَّقْتُ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً فَأنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلاَثاً. قَالَ الرَّافِعِي: إذا قال لامرأته: إذا طلَّقْتُك أو"إن طلقتك" أو "مهما" أو "متى" فأنْتِ طالقٌ قبله ثلاثاً، ثم طلقها ففيه ثلاثةُ أوجه: أحدها: أنَّه لا يقع عليها الطلاق؛ لأنَّه لو وقَع لوقع ثلاثٌ قبْله، ولو وقَع ثلاثٌ قبله، لمَا وقع هذا الواحد، وإذا لم يقَعْ هذا الواحد (¬1)، لم يقع ما قبله؛ لأنه مشروط ¬
به؛ فيلزم مِنْ وقوعه عدَمْ وقوعه، ودار على نفسه، وبهذا السبب يُسَمَّى هذا اليمينُ الدائرة، تُسَمَّى المسألة مسألة الدَّوْر، وهذا كما إذا ابَاع العَبْد من زوجته الحُرَّة قبل الدخول بصداقها الَّذي ضمنه السيد، فإن الشافعيَّ -رضي الله عنه- حَكَم ببطلان البَيْع؛ لأنه لو صَحَّ لَمَلَكَتْهُ، ولو مَلَكَتْه، لانفسخ النكاح، وإذا انفسخ، سقط الصَّدَاق، وإذا سَقَط الصَّدَاق، بطل البَيْع؛ لأنه العوض. الثاني: أنَّه يقع الطَّلاَق المنجز، ولا يقع المعلَّق؛ لأنه إن وقَع المعلَّق، لمنع وقوع المنجز، وإذا لم يقع المنجَّز، بطل شرط المعلَّق، واستحال وقوع المعلَّق، أمَّا المنجَّز فلا استحالة في إيقاعه، فيقَعُ, وقد يتخلَّف الجزاء عن الشرط بأسباب، وشبه هذا بما إذا أقرَّ الأخ بابن للميت، ثبت النَّسَب دون الميراث، ولأن الجَمْع بيْن المعلَّق والمنجز ممتَنِعٌ، ووقوع أحدهما غيْر ممتنع، والمنجز أولَى بأن يقع؛ لأنه أقْوَى من حيث إن المعلَّق يفتقر إلى المنجز، ولا ينعكس، ولأنه جعل الجزاء سابقاً على الشرط، حيث قال: فأنْتِ طالقٌ قبْله ثلاثاً، والجزاء لا يتقدَّم على الشرط، فيلغو التعليق، ولأن الطلاق تصرُّف شرعيٌّ، والزوج أهْلٌ له وهي محلٌّ، فيبعد أن ينسد عليه باب هذا التصرف. الثالث: أنَّه يقع ثلاث طلقات، وله تنزيلان أظهرهما أنَّه تقع الطلقة المنجَّزَة، وطلقتان من الثلاث المعلَّقة؛ لأنه إذا وقعَتِ المنجز حصل شرط وقوع الثلاث إلاَّ أن الطَّلاق لا يزيد على ثلاث، فيقع من المعلَّق تمام الثلاث، ويُجْعَل كما لو قال: إن طلقتكِ، فأنتِ طالقٌ ثلاثاً، ويُطَّرَح قوله: "قبله" فإن الاستحالة تجيء منه. والثاني: أنَّه يقع الثلاث المعلَّقة، ولا تقع المنجزة، ويُجْعَل كأنه قال: متى تَلفَّظْتُ بأنَّك طالقٌ، فأنتِ طالقٌ قبله ثلاثاً، قال الإِمام: وهذا رديْء لا خروج له إلا على قوْل مَنْ يحمل اللفظ المُطْلَق على الصحيح، والفاسد جميعاً، والوجهان الأولان يجريان في المدخول بها وغير الدخول بها [وأما الثالث فمختص بالمدخول بها فإن غير المدخول بها] لا يتعاقب عليها طلاقان؛ فلذلك قال في الكتاب بعد ذكْر الوجهَيْن المطردين "وقيل يقع الثلاث، إن كان بعد الدخول".
ويجري الوجهان فيما لو قال لرقيقه: إن أعتقتك، فأنْتَ حُرٌّ قبله، ثم أعتقه، فعلى الأوَّل لا يعتق، وعلى الثاني يعتق، ويبطل التعليقُ. ولو قال إذا طَلَّقْتك، فأنتِ طالقٌ ثلاثاً قبله بيوم، وأمهل يوماً ثم طلَّقها، ففيه الخلاف أو في هذه الصورة صور ابن الحدَّاد الدَّوْر، ولو طلَّق قبل تمام يَوْم مِنْ وقْت التعليق، فلا خلاف في أنَّه يَقَع، ولا يقع المعلَّق؛ لأن الطَّلاق لا يسبق وقوعه اللَّفْظ، كما سَبَق فيما إذا قال: أنْتِ طالقٌ قبْل موتي بشهر؛ وعلى هذا لو قال: متى طالقتُكِ، فأنتِ طالقٌ قبله بشهرين، أو ببينة، فإن طلَّقها قبْل مضيِّ تلْك المدة، وقع ما أوقَعَه، ولم يقع المعلَّق، وإن مضَتْ تلك المدَّة، فعلى الوجه الأول؛ إن كانت غيْرَ مدخول بها, لم يقعْ شيْءٌ؛ لأنَّه لو وقع قبل المنجزة شيْءٌ، لَمَا وقعت المنجزة، وإن كانت مدخولاً، فإن كانَتْ عدتها منقضيةً في تلك المدة، لو أوقعْنا طلقةً مِن الوقْت الَّذي ذَكَر، فكذلك، وإن لم تَكُنْ منقضية، وقعَتْ عليها طلقتان. وعلى الوجْه الثاني؛ إن لم يكنْ مدخولاً بها، يقع ما نجزه، وإن كانتْ مدخولاً بها، وكانت عدتها منقضية في تلْك المدة، فكذلك، وإن لم تكُنْ منقضية، وقعَتْ طلقتان. وإذا قال: أنتِ طالقٌ اليوم، ثلاثاً إن طلقتك غدًا، واحدةً ثُمَّ طلَّقها من الغدِ واحدةً، ففيه الخلاَف، وفي هذه الصورة صور صاحِب "التلخيص"، الدَّوْر وإذا كان التعليق بالتطليق، كما صوَّرناه في هذه الصُّوَر، فلو كان قد عَلَّق طلاقها بدخول الدار ونحوه، قَبلَ التعليق بالتطليق، ثم دخلت الدار، يقع الطلاق المعلَّق بالدخول بلا خلاف؛ لأنَّه ليس بتطليق، وكذا لو وكَّل وكيلاً، طلَّقها؛ لأنه لم يطلِّقها الزوج إنما، وقع عليها طلاقُه، أما إذا قال: إنْ وقع عليْكِ طلاقي، فأنتِ طالقٌ قبله ثلاثاً، فلا يفترق الحُكْم بيْن أن يطلِّق بنفسه، أو يطلِّق وكيلُه، هكذا ذكر الإِمام وصاحب "التتمة"، وسمِعْت بعضهم في المباحثة يقول: ينبغي أن لا يَقَعَ طلاق الَوكيل على الوَجْه الأول، سواءٌ قال: مهما طلقتكِ، فأنتِ طالقٌ، قبله ثلاثاً، أو قال: مهما وقَع علَيْك طلاقي؛ لأنه إذا لم ينفُذْ منْه الطلاق، لا ينفذ من وكيله، وكذلك لا يزوِّج وكيل المولى في إحرامه. ولو كان قَدْ علَّق طلاقها بدخول الدَّار، ثم قال: متى وقع عليك طلاقي، فأنتِ طالقٌ قبله ثلاثاً، أو قال: إن حنثتُ في يميني، فأنتِ طالقٌ ثلاثاً ثم دخل الدار، فهل يَقَعَ الطلاق المعلَّق بالدخول. إذا فرعنا على الوجْه الأول، فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه قد إنعقدَتْ يمين قبْل اليمين الدائرة، فلا يملك رفعها وحلها باليمين الدائرة.
وأظهرهما: وبه قال القاضيان أبو الطيِّب والرُّويانيُّ: "لا"، لما ذكرنا من معْنَى الدَّوْر، ويجوز أن ينعقد اليمين، ثم يحلها ويسقطها؛ ألا ترى أنَّه لو قال إذا جاء رأسُ الشَّهْر، فأنتِ طالقٌ ثلاثاً، كان تعليقاً منعقداً، ثم إنه يمْلِك إسقاطه بأن يقول: أنتِ طالقٌ قبْل انقضاء الشهر بيوم، وعلى هذا الوجه، هذا الطريق أسْهَلُ في دفع الطلقات الثلاث من الخُلْع، وإيقاع الصفة في حال البينونة، ولو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً قبل أن أطلقك واحدةً، ثم طلقها واحدة فعلى الوجْه الأول، لا يقع شيْء، وكذا لو طلق ثلاثاً، أو اثنتين؛ لاشتمال العَدَد على الواحدة وإذا مات أحدهما، يُحْكَم بوقوع الطلاق قبل الموت، كما لو قال: إنْ لم أطلقْكِ، فأنتِ طالقٌ قاله في "التتمة". وعلى الوجه الثاني: يقع المنجَز، ولو قال: إذا طلقتُكِ ثلاثاً، فأنتِ طالقٌ قبلها طلقة، فطلَّقها ثلاثاً؛ فعلى الوجه الأول لا يقع شيْءٌ: وعلى الثاني؛ تقع الثلاث، ولو طلَّقها واحدةً أو اثنتين يقع المنجز بلا خلاف، ولو قال: إذا طلَّقتك، فأنتِ طالقٌ قبله (¬1) طلقتين، وهي غير مدخول بها فطلَّقها لم يقع على الأوَّل شيْءٌ. وعلى الثاني يقع ما نجزه وإن كانتْ مدخولاً بها، وقعَتْ طلقتان. ولو قال: إن آليتُ عنْك أو ظاهرْتُ، فأنتِ طالقٌ قبْله ثلاثاً، فإذا آلى أو ظاهر، لم يقع الثلاث قبله، وإلا فتكون مبتوتةً، ويلغو الإيلاء والظِّهار، ويمكن أن يقال؛ تفريعاً على أن ألْفَاظ العُقُود تَقَعُ على الصحيح منْها والفَاسِدْ يقع على الثلاث قبْل الإيلاء والظهار، وان كانا فاسِدَيْن وإن لم يقع الثلاث منْهما، ففي صحَّة الإيلاء والظهار والوجْهَان إن صحَّحنا الدَّوْر لم يصحَّا, [وإن أوقعنا] الطلاق المنجَّز، صحَّا، وكذا الحكم لو قال: إن لاَعَنْتُ عنكِ أو حلَفْتُ بطلاقك، فأنتِ طالقٌ قبله ثلاثاً أو قال للرجعية إن راجَعْتُك، فأنتِ طالقٌ قبله طلقتين أو ثلاثاً ولو قال: إن فسخت [النكاح] (¬2) بعيبك، فأنتِ طالقٌ قبله ثلاثاً، [وإذا] (¬3) وجدَ منْه التصرُّف المعلَّق علَيْه، ففي نفوذه الوجْهَان، ذكَرَه الشيخ أبو عليٍّ والقاضي الحُسَيْن والأئمة. ولو قال إن فسختُ النكاح بعيبي أو بعيبك، فأنتِ طالقٌ قبْله ثلاثاً أو قال: إن استحققت الفساخ بذلك أو بالإعسار بالنفقة أو إن استقر مهرك بالوطء، أو استحققت الطلاق في الإِيلاء، فأنتِ طالقٌ قبْله ثلاثاً [ثم] (¬4) فسخت أو وجدت الأسباب المثبتة لهذه الاستحقاقات، فينفذ الفَسْخ ويثب الاستحقاقُ، ولا تقول بإلغائها وإبطالها، للتعليق الدائر، وإن قُلْنَا على الوجْه بإلغاء الطلاق المنجَّز للتعليق الدائر، والفرق أن هذه ¬
فُسُوخ وحقوقٌ تثبت عليه قهراً ولا تتعلق بمباشرته واختياره، فلا يصلُحُ تصرُّفُه دافعاً لها ومبطلاً لِحَقِّ الغير، والطلاق يتعلق بمباشرته واختياره، فجاز أن يندفع بالتعليق الَّذي يتعلَّق باختياره، وأيضاً فليس من ضرورة النِّكاح أن ينفُذَ فيه الطلاق، ومن ضرورة أسباب الأحكام المذكورة ثبوت هذه الأحكام، كذلك ذكَر الجَوابَ في هذه الصُّور صاحبُ الكتاب في "غاية الفور" وتابعه غَيْرهُ ومشهُور أنَّه لو قال: إن انفسخ نكاحُكِ، فأنتِ طالقٌ قبله ثلاثاً، ثم ارتد أو اشتراها، ينفسخ النكاح، ولا يقع الطلاق، ولا نقول بامتناع الانفساخ؛ للتعليق الدائر، وإن قلنا بامتناع الطلاق للتعليق الدائر لوجهين: أحدهما: أن الانفساخ حكم قهريٌّ لا اختيار له فيه، والطلاق (¬1) يتعلَّق باختياره، والاستحالة جاءت من اليمين الدائرة المتعلقة باختياره، وتسليطُ اختياره علَى دَفْعِ ما ثبت باختياره أهونُ من تسليط اختياره عَلَى دَفْع ما ثبت قهراً بِحُكْمِ الشرع. والثاني: [أن] (¬2) في الانفساخ عند الرِّدَّة والشراء حقُّ الشَّرع كما [أن] (¬3) في الانفساخ عند فسخ المرأة: يجب الزَّوْج وسائر عيوبه حقّ المرأة وما يصْدُر منْه لا يصلُح أن ينهض مبطلاً لحق الغير، وإن جاز أن يكون مبطلاً لحقه، ذكر الوجهين هكذا في غاية الغَوْر، وقال: الَّذي نراه: أنَّه إذا قال إن آليتُ عِنكِ، فأنتِ طالقٌ قبله ثلاثاً، ثم آلى، يصح إيلاؤه، وكذا في اللِّعَان، وإن قلنا بأن التعليق الدائر يَمْنَع وقوع الطلاق وصحة الظهار، والفَرْق أن الإيلاء: يمين على الامتناع من الوطء، وذلك ينعقد في حقّ الأجنبية، واللعانُ يمين على نفْي النسب، وقد يُؤْتَى به في الموطوءة بالشبهة، وبعد الطلقات الثلاث لنفي النسب، فهما مستقلان منعقدان، وإن لم يكُنْ نكاح، لكن إذا صادف الإِيلاء النِّكَاح [أثبت المطالبة بالغي أو الطلاق، وإذا صادف اللعان النكاح وجب التفرقة بينهما كالشراء المستقل بالانعقاد، وإن لم يكن نكاح فكما إذا اشترى زوْجَتَه تحكم بصحته وإفادته المِلْكَ، ولا نحكم بوقوع الطلاق، كذلك الإِيلاء واللعان ينبغي أن ينعقد إنعقادَهُما في حق الأجنبية، ثم إذا تعرَّض لوجوب الكفارة لوَ وطئها، سلَّطَها ذلك على المطالبة، بالفيئة أو الطلاق، كما تسلطها عنته عَلى الفَسْخ، وإذا انعقد اللعان، ترتبت الفرقة عليه ترتبها على الشراء، ويجوز أن يُعْلَم لهذا قوله في الكتاب "إن آليْتُ" بالواو؛ لأنه أراد بقوله: "ومِنَ الدَّوْرِ أن يقول إن آلَيْت" إلى آخر أن نفوذ هذه التصرفات على الخلاف في نفوذ الطَّلاق، وعلى ما اختاره ينفُذ الإِيلاء بلا خلاف، كما ينفذ الانفساخ، وفسخها بعنته. ¬
ولو قال: إن وطِئْتُك وطْئاً مباحاً، فأنتِ طالقٌ قبله، ثم وطئها لم تُطلَّق قبله؛ لأنها لو طُلِّقت، لخرج الوطء عن كونه مباحاً، ولا فرق بين أن يذكر الثلاث في هذه الصورة أو لا يذكر، قال الإِمام وغيره ولا يجيْء في هذه الصورة خلافٌ؛ لأن موضع الخلاف ما إذا انحسَمَ بتصحيح اليمين الدائرة بابُ الطلاق أو غيره من التصرفات الشرعية، وها هنا لا ينحسم باب الطلاق، ولو قال إن طلقتُكِ طلقةً رجعيَّةَ، فأنتِ طالقٌ قبلها ثلاثاً، أو اثنتين وطلقها (¬1) واحدةً، ففيه الخلاف؛ لأنَّه وقع قبلها ثلاث أو اثنتان لما كانت رجعية، ولو طلقها ثلاثاً أو خالَعَها أو كانت غيْرَ مَدْخُول بها، فطلقها واحدةً أو اثنتين، وقَع ما أوقع؛ لأنه إنما علَّق الثلاث بالطلقة الرجعية، وفي هذه الصورة ما أوقعه ليس برجعيٍّ، ولو قال إن طلقت طلقة رجعيَّةً، فأنت طالقٌ قبلها واحدةً، فطلقها واحدة، وهي مدخولٌ بها، فلا دَوْر، وتُطلَّق طلقتين، ولو قال للمدخول بها: متى طلقتك طلاقاً رجعيّاً فأنتِ طالقٌ ثلاثاً، ولم يقِل "قبله" ثم طلَّقها، فعن ابن سُرَيْجٍ أنَّه قال الذي كتابه "الغُنية" لا يقع المنجز ولا المعلَّق؛ لأنه لو وقع المنجز، لوقع الثلاث، وإذا وقع الثلاث لم تُثبت، فلا يكون الطلاق رجعيّاً، وإذا لم يكن الطلاق رجعيًّا، وجب أن لا يقع الثلاث، قال الشيخ: أبو عليٍّ، هذا غَلَطٌ من ناسخ أو ناقِلٍ، وابن سُرَيْج أجلُّ من أن يقول ذلك، بَلْ يقع الثلاث، ولا دوْر؛ لأنه إذا طلق واحدةً، كانت رجعيةً، ثم يترتب عليها طلقتان، فتقع الرجعة. نعم، لو قال: إذا طلقتك طلقةً رجعيةً فأنتِ طالقٌ معها ثلاثاً، فإذا طلَّقها، خُرِّج ذلك على وجهَيْن، بناءً على الوجهين فيما إذا قال لغير المدخول بها: أنتِ طالقٌ طلقةً معها طلقةٌ، تقع طلقتان أو طلقة، إن قلنا: يقع طلقتان معاً، فما هنا لا يقع شيْء على تصحيح الدَّوْر؛ لأن المعلَّق إذا وقع مع الواحدة لا يكون الواحدة رجعيَّة وإن قلْنا: لا يقع هناك إلا واحدة، فهاهنا تقع الثلاث، كما لو لم يقُلْ معها؛ لأنَّه لا حالة تَعْرِض فيها الرجعة، بل كما: يقع الواحدة تقع الثلاث، وقوع الثلاث يَمْنَع كون الواحدة رجعيةً، فِإن قلْتَ: قد عَرَفْتُ جميع ذلك، فما الأظهر من الخلاف في مسألة الدَّوْر؟ والفتوى وُقُوع الطلاق، أو انحسام البَاب، فاعْلَمْ أن الأصحاب متحزِّبون فيه، واختيارهم مختلفٌ، فالمشهور عن ابن سُرَيْج؛ أنَّه لا يقع الطلاق، وبه اشتهرت المسألة بـ"السُّرَجِيَّةِ" وإليه ذهب أبو بَكْرِ بْنُ الحدَّادِ، وأيضاً القفَّالان، والشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيِّب، واختاره الشيخ أبو عليٍّ وأبو إسحاق الشيرازيُّ، وعن المزنيِّ، وبه أجاب في "المنثور" ورأيْتُ في بعض المعلَّقات أن صاحب الإِفْسَاح حكَاه عن نَصِّ الشَّافعي -رضي الله عنه- وذَكَر أنَّه مذهب زيْدِ بْنِ ثابِتٍ -رضيَ الله عنه- وذهب أبو عبد الله ¬
الختني إلى الوجه الثالث، وهو وقُوع الثلاث إذا نجّز واحدة، وحكاه في "التهذيب" عن أبي بكر الإِسماعيلي. وأما الوجه الثاني، وهو وقوع المنجز في قول صاحب "التلخيص"، والشيخ أبي زَيْدٍ، ومذهب أبي حنيفة واختاره ابن الصباغ، وصاحب "التتمة" والشريف ناصر العمري -رحمهم الله- وإيانا، وحكاه القاضي أبو الطيِّب عن ابن سُرَيْج في زيادات الطلاق، ولصاحب الكتاب قَدَّس الله رُوحَهَ في المسألة تصنيفان مطوَّلٌ في صحيح الدَّوْرِ، وسماه "غاية الغَورْ في دَرايَةِ الدَّوْر ومختصرٌ في إبطاله وسماه "الغَوْر في الدَّوْر" رجع فيه عن التصحيح، واعتذر عما سَبَق منْه، ويشبه أن تكون الفتْوَى به أولَى، وذكر القاضي الرّويانيُّ بعد اختيار التصحيح؛ أنَّه لا وجه لتعليم العوامِّ المسألة، لفساد الزمان (¬1) ومما احتجوا به للبطلان وجْهَان مشبهان (¬2) من أصْل واحد: أحدهما: قال صاحب الكتاب: لفظ الدَّوْر يشتمل على المُحَال، فوجب إلغاؤه، ووجْه اشتماله على المحال قولُه "إن طلَّقتك، فأنتِ طالقٌ قبله ثلاثاً" تعليقُ " ثلاث" موصوف بقبلية رابعٍ، وقوله: لغير المدخول بها، إن طلقتك، فأنتِ طالقٌ قبله" تعليقُ طلاقٍ موصوفٍ بقبلّيةِ طلاقٍ آخَرَ، ووقوعُ ثلاثٍ موصوفةٍ بقبلية رابع محالٌ، وكذا وقوعُ الطلاقِ موصوفٌ بالتقدم على طلاق آخر في حقّ غيْر المدخول بها، وإذا كان كذلك وجَب أن يبطل تعليقه، كما يبطل، تنجيزه، فإنه لو قال لغَيْر المدْخُول بها: أنتِ طالقٌ طلقةٌ قبل طلقة، لا يعتبر كلامُه، ولا تقع طلقتان كما ذكروا، والكلام في أنَّه يلْغُو بالكلية، أو يلغو القَدْر الذي يجيْء، منه الاستحالة، وهو قوله قبل طلقة كذلك، هاهنا لا ينْبَغِي أن يصحَّح التعليق، ويرد الكلام إلى أنَّه يلغو مطلقاً، فيقع المنجَّز أو يحذف قولة: "قبله"، حتَّى يقع المنجز وتتمة الثلاث من المعلَّق. والثاني: قال الشيخ الإِمام أبو الفتح العِجْلِيُّ؛ تصحيح الدَّوْر يلزم منه المُحَال فلا يصار إليه ووجْهه أن يلزم منْه تملك أربع طلقات؛ لأن قوله: "إن طلقتك" إما أن يريد به التلفظ بالطَّلاق أو الطلاق المعتبر؛ إن أراد الأول لم تكُن ذلك صورة الدَّوْر، فإنه لو قال: مهْما تلَفَّظْت بلفظ الطَّلاق، فأنتِ طالقٌ قبله ثلاثاً، ثم تلفظ، يقع الثلاث لا محالة، فتعين (¬3) أن يكون المرادُ الطَّلاقَ المعتبر، وإنما معتبر إذا كان الشَّخْص مالكاً له والثلاث المعلَّقة غير تلك الواحدة، فإن الشَّرْط غير الجزاء، ولا بدّ وأن يكون مملوكاً، ليصحَّ التعليق؛ ألا ترى أنَّه لا يصحُّ تعليق طلاق امرأةٍ سينكحها؛ لأنه لا يَمْلِك طلاقَها، ¬
فظَهَر أنَّه يلزم من تصحيح هذا التعْلِيق تمْليك أربع طلقات، وهو مُحَال فيلغو. فُرُوعٌ: إذا صحَّحنا الدَّوْر، فلو قال: مهما وقع طلاقٍ على حفصة، فعمرة طالقٌ قبله ثلاثاً، ومهما وقع طلاقي على عمرة، فحفصة طالقٌ قبله ثلاثاً، ثم طلَّق واحدة منهما، لم تطلَّق ولا صاحبتُها؛ لأنها لو طُلِّقَت، لطُلِّقت الاْخرى قبلها ثلاثاً، ولو طُلِّقَت الأخرى قبلها ثلاثاً، لطُلِّقت هذه قبلها ثلاثاً، ولو كان كذلك، لَمَا وقعت هذه الطلقة، لكن لو ماتت (¬1) عمرة ثم طُلِّقت حفصة طُلِّقت؛ لأنه لا يلزم والحالَةُ هذه مَن إثبات الطَّلاق نفيه (¬2) ولو قال رَجُل لآخر: مهما وقَع طلاقك على زوْجتك، فزوجتي طالقٌ قبله ثلاثاً، وقال المقُولُ له للقائِلِ مثل ذلك، لم يقع طلاق واحد منهما على زوجته، ما دامت زوجة الآخر في نكاحه، ولو قال لامرأته: متى دخلْت الدار، وأنتِ زوجتي، فعَبْدِي قبله حُرٌّ، وقال لعبده متى دخَلْتَ الدار، وأنتَ عَبْدِي، فزوجتي طالقٌ ثلاثاً قبله، ثم دَخَلا الدَّار معاً، لم يُعْتَق العبد، ولم تُطَلَّق المرأة؛ لأنه لو حصل العتْق والطلاق، لحصلا معاً قبل الدخول، ولو كان كذلك، لم يكُن العبد عبْدَه وقْت دخوله، ولا المرأة زوجته فلا (¬3) تكون الصفة المعلَّق عليها حاصلةً، قال الإِمام وأبو زيد: لا تَخَالُفَ في هذه الصُّورة لأنَّه ليس فيها (¬4) سدُّ باب التصرف، فلو دخلت الدار أولاً ثم العبد عتق العبْدُ لأنها دخَلَت وهي زوجته، ولم تُطلَّق هي؛ لأنه حين دَخَل، لم يكن عبْداً له، فلم تحْصُل الصفة المعلَّق عليها الطلاق، ولو دخل العبد أولاً، ثم دخلَتِ المرأة، طُلِّقَت المرأة، ولَمْ يُعْتَق العبد، ولو قال لها: مَتَى دخلْتِ الدار، وأنتِ زوجَتِي، فعبْدِي حُرٌّ، وقال للعبد: متى دخلتها، وأنت عبْدِي، فزوجتي طالقٌ، ولم يقل في الطرفين "قبله"، فدخلا معاً، عتق العبد، وطُلِّقت المرأة؛ لأن كل واحدٍ منهما عنْد الدخول بالصفة المشروطة، ولو دخلَتِ المرأة أولاً، ثم العبد أو بالعكس، فالحُكْم كما في الصورة السابقة لا تختلف. في تصويرات ابن الحدَّاد، إذا قال لامرأته: متى أعتقت جارِيَتِي هذه، وأنت زوْجَتِي، فهي حُرَّة، ثم قال مَتَى أعتقتها، فأنتِ طالقٌ قبل عتقك إيَّاها بثلاثةَ أيام، ثم أعتقها قبْل مضيِّ ثلاثة أيام، فتعتق الجارية؛ لأنه أعتقها، وهي زوجةٌ له، ولا تُطلَّق المرأة؛ لأنه أوقع الطَّلاق قبْل العتق بثلاثة أيام، ولو أوقعنا الطَّلاق قبْل العِتْق بثلاثة أيام، لقدمناه على اللفظ، وذلك مما لا سبيل إلَيْه، وإن أمهلْت ثلاثة أيام، ثم أعتقها ,لم تعتق؛ لأنه إنما أَذَن لها في العِتْق بشرط، أن تكون زوجةً له، وبهذا الشرط علق (¬5) العِتْق [قد] (¬6) ¬
وعلق الطَّلاَق بثلاثة أيام قبْل العتق، فلو نفذ العتْق، لوقع الطلاق قبْلَه بثلاثةِ أيَّام، ولو كان كذلك لم تكُنْ زوجةً، وإذا لم يحْصُل العِتْق لا يقع الطلاق أيضاً، لأنَّه معلَّق به والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (القِسْمُ الثَّانِي في فُرُوعِ التَّعْلِيقَاتِ): فَنَذْكُرُهَا أَرْسَالاً، وَجُمْلَةُ نَظَرِنَا في تَحْقِيقِ الصِّفَاتِ إِذَا عُلِّقَ عَلَيْهَا، فَلْنَذْكُرِ الصِّفَاتِ حَتَّى لاَ نُطَوِّلَ فَنَقُولُ، تَعْلِيقُ الطَّلاَقِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ لَيْسَ حَلِفاً سَوَاءٌ كَانَ بِصِيغَةِ إِنْ أَوْ إِذَا، وَبالأَفْعَالِ حَلِفٌ بِالصِّيغَتَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: عرفْتَ أن الكلام في التَّعْليقات قسمان فصول، وقد انصرمت وفروع وهي التي نشرعُ فيها الآن، ولمّا كان مُعْظَم الغَرَض فيها البَحْثَ عن الصفات المعلَّق عليها، وأنها بم تحصل كقولنا: إن الحَلِفَ بالطلاق، بم يحصل، وأن البشارة ما هي؟ أثراً للإِيجاز، فلم يتكرَّر لفظِ التعليق بالحَلِف بالبشارة وغيرها، وتكلَّم في الصفات، وهذا مَعْنَى قوله: "وجملَةُ نَظَرِنا .. " إلى آخره. وقوله: "أَرْسَالاً" أي متتابعةً، نوعاً بَعْد نَوْع، يقال: جاءت الخيل أرسالاً أو قطيعاً واحدها رسل وهو القطيع من الإِبل والغَنَم وغيرهما من الفروع. وقال ابن سُرَيْج، وتابَعَه مُعْظَم الأصحاب: الحَلِفُ ما يتعلَّق به منع من الفِعْل أو حَثّ عَلَيْه أو تحقيق خبر وجلب تصديق، فإذا قال إن حلَفْت بطلاقك، فأنْتِ طالقٌ، ثم قال لها: إذا طلَعَتِ الشمس، أو جاء رأس الشَّهْر، فأنتِ طالقٌ، لم يقَع الطلاق المعلَّق بالحَلِف بالطلاق؛ لأنَّه ليس في هذا التعليق مَنْع، ولا حَثَّ، ولا غَرَض تحقيق، وكذا لو قال إذا حِضْتِ أو ظَهُرْتِ أو إذا شئت فأنتِ طالقٌ، ولو قال: (¬1) بعد التعليق بالحلف، إن ضَرَبْتُك، أو (¬2) إن كَلَّمْتِ فُلاناً أو إن خرجْتِ مِنَ الدَّار أو إن لم تَخْرُجي، أو إن لم تفعلي (¬3) كذا، أو لم يكُنْ هذا كَما قُلْت، فأنتِ طالقٌ، وقع في الحال الطلاق المعلّق بالحلف، فإن هذا حلفٌ ثم إذا وُجِدَ الضَّرْب أو غيره ممَّا علَّق عليه، وقَعَت طلقة أخرى، إن بقيت في العِدَّة، ولو قال: إن قدم فلان، فأنت طالقٌ، وقَصَد منعه، وهو ممن تخلفه، فهُوَ كقوله: إن دخَلْتِ الدار، وكذا لو قال الزوج: طلعَتِ الشمسُ فكَذَّبَتْهُ المَرْأة، فقال: إن لم تَطلعْ؛ فأنت طالقٌ؛ لأن غرضه هاهنا التَّحْقيق، وحملُها على التصديق، فهُو حَلِفٌ، وإن قَصَد بقوله: "إن قدم فلانٌ" التأقيت أو كان فلان ممن لا يمتنع تحلفه كالسلطان، أو قال: إذا قدم الحجيج، فأنْتِ طالقٌ، فهذا ليس بحَلِفٍ وما جعلْنا التعليق [به] (¬4) حلفاً، فلا فَرْق فيه بيْن أن يعلق بصيغة "إن" أو صيغة "إذا"، اعتباراً بأنَّه موضع المنع، والحَثّ، والتصديق، وفيه وجْه أنَّه إذا علَّق بصيغة "إذا" لم ¬
يكن حلفاً بل كان محض تأقيت، فإن "إذا" ظرفُ زَمَانٍ، وما لم يجعل التعليق به حلفاً (¬1)، كطلوع الشمس وقدوم الحجيج، فلا فَرْق فيه بين التعليق بصيغة "إذا" وبصيغة "إن" وفيه وْجه أنَّه إذا علَّق بصيغة "إن" كان حلفاً؛ لأنه صَرَفه عن التأقيت بالعدول عن كلمة التأقيت، وهي إذا والظاهر التسوية، وقال أبو حنيفة، وأحمد: التعليقُ بالطُّلوع ونحوه حَلِفٌ؛ كالتعليق بالدخول ونحوه إلا في قوله: إذا حِضْتِ، وإذا طَهُرْتِ إذا شئت فأنْتِ طالقٌ، وحكى الفورانيُّ وجهاً من غير استثناء، فليعلَّم لذلك قوله في الكتاب "ليس حَلِفاً" بالحاء، والألف، والواو، وقوله: "بصيغة إن" بالواو وكذا قوله: "بالصيغتين" (¬2). ولو قال: إن أقسمتُ بطلاقك، أو إن عقَدتُّ يميني بطلاقك، فأنْتِ طالقٌ، فهو كقوله: إن حلفت بطلاقك، فأنتِ طالقٌ، وإن قال إن لم أحلف بطلاقك أو إذا لم أحلِفْ بطلاقك، فأنتِ طالقٌ، فالحُكْم كما سَبَق في التعليق في طَرَف الإثبات والعبارة المشهورة على الجواب الظَّاهر انَّ [إنْ] لا تقتضي الفَوْر والبِدار إلى الحَلِف، و"إذا" تقتضيه، فلو قال إذا لم أحلف بطلاقك، فأنتِ طالقٌ، ثم أعاد ذلك مرَّة ثانية وثالثة، نُظِرَ؛ إن فَصَل بيْن المرات بقدر وما يمكن فيه الحلف بطلاقها، وسكت فيه، ولم يحلف عقب المرة الثالثة، وقعت الطَّلقات الثلاثة، وإن وصل بيْن الكلمات لمْ يَقَع بالأولى والثانية شيْءٌ ويقع بالثالثة طلقةٌ، وإذا لم يَحْلِف بعْدها بطلاقها ,ولو قال: كلما لم أحْلِفْ بطلاقك، فأنتِ طالقٌ، ومضى من الزمان ما يمكنه أن يحْلِفَ فيه، فلم يَحْلِفْ، وقعت طلقة، فإذا مَضَى مثْل ذلك، ولم يَحْلِف وقعَتْ ثانية، وكذلك الثالثة، ولو قال: إن حَلَفْتُ بطلاقك، فأنتِ طالقٌ، ثم أعاد هذا القول مرة ثانية وثالثة ورابعة، فإن كانَتِ المرأة: مدخولاً بها وقعت بالمرة الثانية طلقةٌ؛ لأنه حَلَف بطلاقها، وتحل اليمين الأولى، ثم تَقَع بالثالثة طلقة بحكم اليمين الثانية وتحل الثانية، وتقع بالرابعة طلقةٌ، بحكم اليمين الثالثة، وتنحل هي، وتكون الرابعة يميناً مُنْعَقِدةً حتَّى يقع بها الطلاق، وإذا حَلَف بطلاقها في نكاح آخَرَ، إن قلْنَا يعود الحنث بعد الطَّلقات الثلاث، وإن لم يكُنْ مدخولاً بها، فتقع طلقة بالمرة الثانية وتبين وتنحل الأولى والثانية يمين منعقدة، وفي ظهور أثرها في النِّكَاح المجدّد الخلافُ في عَوْد الحَنِث، والثالثة والرابعة واقعان في حال البينونة لا ينعقدان، ولا ينحل بهما شيْء ومثله لو قال: لغَيْر المدخول بها: إن كَلَّمْتُك، فأنْتِ طالقٌ، وأعاد ذلك مراراً، فتقع طلقة بالمرة الثانية، وهي يمين منعقد، وتنْحَلُّ بالثالثة؛ لأن التعليق هاهنا بالكلام، والكلام قد يَقَع في حال البينونة وهناك التعليق بالحَلِف بالطلاق، والحَلِف بالطَّلاق لا يتحقَّق في حال البينونة. ¬
وقال أبو حنيفة في مسألة الكلام لا تنعقد اليمين الثانية؛ لأنها تَبينُ بقوله: "إن كَلَّمْتُك" فيقع قوله: "فأنتِ طالقٌ" في حال البينونة وتلغو الثالثة والرابعة، وبهذا قال سَهْل الصعلوكي، ووجَّه الأول بأن قوله "إن كلمتك فأنتِ طالقٌ" كلامٌ واحدٌ؛ فلا يُفْصَل بعضُه من بعض. ولو قال لامرأتيه: إذا حَلَفْتُ بطلاقكما، فأنتما طالقان، وأعاد هذا القَوْل مراراً، فإنْ كان قدْ دخل بهما، طُلِّقَتا ثلاثاً ثلاثاً، وان لم يدْخُل بواحدة منهما، طُلِّقَتا طلقةً طلقةً وبانتا وفي عوْدِ الحَنثِ باليمين الثانية الخلافُ، وان كانت إحداهما مدخولاً بها دون الأُخْرَى فبالمرة الثانية تُطلَّقان جميعاً، وتبين غير المدخول بها، وبالمرة الثالثة لا تُطلَّق واحدة منهما، أما الَّتي بانت فظاهر، وأما الأخرى؛ فلأن شَرْط طلاقها الحَلِفُ بطلاقهما جميعاً، والثانية لا يصحُّ الحلف بطلاقها، فإن نَكَح التي بانت، وحلف بطلاقها وحْدها، طُلِّقت المدخول بها إن راجعها، أو كانَتْ في عدة الرجعة، لأنَّه حَصَل الشرْط، وهو الحَلِف بطلاقها، وهل تُطلَّق هذه الَّتِي جدد نكاحها؟ فيه الخلاف في عَوْد الحَنِث. ولو قال لامرأتيه: إذا حلفْتُ بطلاقكما، فعَمرَةٌ منْكما طالقٌ، وأعاد ذلك مراراً، لم تطلَّق عمرة؛ لأن طلاقها معلَّق بالحَلِف بطلاقهما، وهذا حلف بطلاقها وحْدها، وكذا لو قال بعْد التعليق الأول: إن دخلتما الدَّار فعَمْرة طالقٌ، فإنما تطلَّق عمرة، إذا حلف بطلاقهما مَعاً؛ إما في يمين واحدةٍ أو في يمينين، وذلك مثْل أن يقْول بعد التعليق الأوَّل: إن دخلْتما الدَّار فأنتما طالقتان أو يعيد التعليق الأول، ويقول للأخرى: إنْ دخلْتِ الدار، فأنتِ طالقٌ. ولو قال: إِن حلَفْتُ بطلاقكما فإحداكما، طالق، وأعاد ذلك مراراً، لم تطلَّق واحدة منهما، فإن قال بعْد ذلك: إن حلَفْتُ طلاقها فأنتما طالقتان، طُلِّقت بإحداهما بموجب التعليق الأول، وعليه البيان، ولو قال: إن حلَفْتُ بطلاق إحداكما، فأنتما طالقتان، وأعاد مرَّة ثانية، طُلِّقتا جميعاً؛ لأن طلاقهما هاهنا معلَّق بالحلف بطلاق إحداهما ,ولو قال: أيما امرأة لم أحْلِف بطلاقها منْكما، فصاحبتها طالقٌ، قال صاحب "التلخيص" إذا سكت ساعةً يمكنه أن يحلف فيها بطلاقهما طلقتا، قال الشيخ أبو عليٍّ: قد عرضْتُ المسألة على القفَّال، وشارحي "التلخيص" فصوَّبوه، والقياس أن هذه الصيغة لا يَقْتَضِي الفَوْر، وأنه لا يقع الطَّلاق على واحدة منهما بالسكوت إلى أن يتحقَّق اليأس عن الحَلِف بموته، أو موتهما؛ لأنَّ قوله "أيّما امرأة" لَيْس فيه تعرّض للوقت، بخلاف ما إذا قال: "أي" وقت أو"متى" لم أَحْلِفْ" وتابعه الإِمام وغيره على ما ذَكَره واستبعدوا جوابَ صاحب "التلخيص" (¬1) والله أعلم. ¬
ولا يخفى بعْد الوقوف على الشَّرْح أنَّ قوله في الكتاب "وبالأفعال حَلِفٌ بالصيغتين" ليس المراد منْه جميعَ الأفعال؛ لما تبيَّن أن قدوم السلطات ونحوه، كطلوع الشمس ومجيْء الشهر والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَبأَكْلِ رُمَّانَةٍ يَحْنَثُ فِي التَّعْلِيقِ بِهَا وَبِنِصْفِ رُمَّانَةٍ، وَالبِشَارَةُ هِيَ الخَبَرُ (ح) الأَوَّلُ، وَالكَذِبُ خَبَرٌ كَالصِّدْقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه ثلاث صور: إحداها: لو قال: إن أكلْتِ رمَّانةً، فأنتِ طالقٌ، وإن أكلْتِ نِصْفَ رمَّانة، فأنْتِ طالقٌ، فأكلَتْ رمانة، طُلِّقَت طلقتين، لحصول الصفتين، فإنها إذا أكلَتْها، فقَدْ أكلت رمَّانة، وأكلت نصْف رمَّانة، ولو كان التعليقان بصيغةِ "كلما" [بأن يقول كلما أكَلْتِ رمَّانةً] طُلِّقَت ثلاثاً؛ لأنها أكلت رمانةً، وأكلت نصْف رمانة مرتين. وقوله في الكتاب: "وبِأَكلِ رمَّانةِ يَحْنَث في التَّعليقِ بهَا، وبِنِصْفِ رمَّانَةٍ" أي بأكلها وبأكل نصف رمانة. الثانية: تحْته امرأتان وأكثر، فقَال: من بشرتني منكما أو منكن بكذا، فهي طالقٌ، فبشَّرتْه واحدةٌ بعْد واحدةٍ، طُلِّقَت الأولى دون الثانية؛ لأن اسم البِشَارة يقَع على الخَبَر (¬1) الأوَّل، ولو أنَّه شاهد الحال قبْل أن يخبر، فأتت البشارة، ولو بشَّره أجنبيٌّ، ثم ذكَرَتْ له واحدةٌ منهما لم تُطلَّق، وفي "الإِبانة" للفوراني وجْه آخر؛ أن البشارة لا تختص بالخَبَر الأوَّل، وأن الحُكْم فيه كما سنَذْكُر فيما إذا قَال: منْ أخْبَرَنِي منْكما بكذا، ولو بَشَّرتْه امرأتان معاً، فالمنقول أمنهما تُطلَّقان، وقد يفهم من قوله: "مَنْ بشَّرني منْكما" استقلال الواحدة بالبشارة، وكذلك يَصْدُق أن يقال: ما بشَّرَتْه حفصة ولا عمرة، وإنما بشَّرته زينب، ولو قال: مَنْ أكَل منكما هذا الرغيف، فأكَلَتَاه، لَمْ يُطلَّقا (¬2)، ¬
ويُشْترط في البشارة الصِّدْق، ولا يسمى الخبر الكاذب بشارةً، فلو قالَتْ واحدة: كان كذا، وهي كاذبةٌ [ثم] (¬1) ذكرته الثانية، وهي صادقة، تُطَلَّق الثانية دون الأولى، والبشارة تحْصُل بالكتابة، كما تحْصُل بالقَوْل، ولو أرْسَلَتْ رسولاً، لم تُطلَّق؛ لأن المبشر هو الرسول قاله فيه "التهذيب". الثالثة: لو قال: من أخبرني منْكما بكذا، فهي طالقٌ، فلفظ الخبر يقَع على الصِّدْق والكذب معاً، ولا يختص بالخبر الأوَّل، فإذا أخبرناه صادِقَتَيْن أو كاذبَتَيْن على الجميع أو على الترتيب، طُلِّقَتَا جميعاً، ولا فَرْق بين أن يقول: من أخبرني منْكما بقدوم زيدٍ وبين أن يقُولَ: من أخبرني منْكما أن زيْداً قدم أو بأن زيداً قدم، وفيما إذا قال مَنْ أخبرني بقدوم زيْد وجْهٌ آخر؛ أنَّه لا يقع الطلاق، إذا أخْبَرْته كاذبةً، وهو الذي أورده الفورانيُّ، ووجَّهه في "التتمة" بأن الباء للإلصاق، وذلك يقتضي حُصُول القدوم، وصيرورته شرطاً في الإِخبار، كما لَوْ قال: مَنْ أخبرني عَنْ كذا بالعربية، يُشْتَرط العربية في الخبر، وهَذَا يقتضي أن يكون قوله: "من أخبرني بأن زيداً قدم" كقوله "بقدوم زيد" لوجود حَرْف الإِلصاق، لكنَّ الفوراني فَرَّقَ بيْن أن يقول "بقدوم زيد" لوجود حرْف الإِلصاق وبيْن أن يقول: "بأن زيداً قدم" مع وجود حرف الباء فيهما، قال صاحب الكتاب في "البسيط": كأنَّه يتخيَّل أن قوله: "من أخبرني بأن زيْداً قدم" معناه من قال: إنَّه قدم، والظاهر الأول والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: فَإذَا قَالَ: يَا عَمْرَةُ فَأَجَابَتْ حَفْصَةُ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ: حَسِبْتُ عَمْرَةَ طُلِّقَتْ حَفْصَةُ ظَاهِراً وَفِي عَمْرَةَ تَرَدُّدٌ إِذْ لَمْ يَجْرِ مَعَها إلاَّ مُجَرَّدُ النِّدَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهَا أَيْضاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تحْته امرأتان عَمْرة وحَفْصة، فقال: يا عمرة، فأجابته حفْصة، فقال: أنتِ طالقٌ، فَيُرَاجَع ويُسْأل عن قَصْده، فإن قال: حَسِبْت أن المجيبة عمْرة، وعندي [أنها] (¬2) التي أوَجِّهُها بالطلاق، لم تطلَّقْ عمرة؛ لأنه ناداها, ولم يخاطبْها بالطلاق وإنَّما ظَنَّ أنَّهُ يخاطِبها بالطَّلاق، وظَنَّ الخطاب بالطلاق لا يوجب وقوع الطلاق؛ ألا تَرَى أنَّه لو قال لواحدة من نسائه: أنت طالقٌ، وهو يظُنَّ أن المخاطبة غيرها، يقع الطلاق على المخاطبة دون المظنونة، ولو قال للأجنبية: أنت طالقٌ، وهو يظُنَّ أنها زوجته، لا يقع الطلاق على زوجته، وأمَّا حفْصة المواجهة بالطَّلاق، ففيها وجهان: أصحهما: أنْها تُطلَّق؛ لأنه خاطبها بالطلاق وهي زوجته. والثاني: لا تُطلَّق، لأنَّه لم يَقْصِدْها، وإن واجهها في بعض الطرق ما يشير إلى أن ¬
هذا الخلاف في الوقوع باطناً وأنه لا خِلاَف في أنَّها تُطلَّق ظاهراً، هذا هو الترتيب المشهور، وهو الَّذي ذكره ابن الحدَّاد وقال الإِمام لو قيل تُطلَّق حفْصة ظاهراً بلا خلاف، وفي عمرة وجهان؛ لأنَّها المقصود بالطلاق، لكان محتملاً، وهذا ما أورده صاحب الكتاب، وترك الطريقة المشهورة، ويجوز أن يعلَّم قوله: "طُلِّقَت حفصة" بالواو، وكذا لفظ التردُّد في قوله: "وفي عَمْرَةَ تَردُّد"؛ لأنها لا تطلَّق جزماً على المشهور، وقوله: "ويُحْتَمَل أن يقَعَ عليها أيْضاً" حشْو؛ فإن التردُّد يعرف بالاحتمال، فلو قال: علمت أن التي أجابتني حفْصة دون عمرة الَّتي نادْيتُها، وهذه الحالة غير مذكورةٍ في الكتاب، فيُسْأَل عن التي قَصَدها بالطَّلاق، فإن قال قصدتُّ طلاق حفْصة المواجهة، دون عمرة الَّتي ناديتها، قُبِل قولُه، لاحتماله، وطلقت فطُلِّقَتْ حفصة دون عمرة؛ لأنه ربَّما ناداها لشُغْل آخر، فلما أجابتْه حفصة شغَلَهُ طلاقها عن جَوَاب عمْرة، وبتقدير أن يكون نداؤها للطَّلاق، فقد يَبْدُو له ألاَّ يطلِّقَها ويُطلِّق حفْصَة. ولو قال: قصَدتُّ طلاق عمْرة دون حفصة المجيبةِ فتُطلَّق عمرة ظاهراً وباطناً؛ لأنَّه سمَّاها في النِّداء وأقر بأنه خاطبها، وأوقع الطلاق عليها، وتطلَّق حفْصَة في الظَّاهر أيضاً؛ لأنَّه واجهها بالطَّلاق، ولا يُقْبل قوله في دَفْعه عنْها ظاهراً، ولكن بُدَيَّن، وعن الشيخ أبي حامد وغيره وجْه آخر: أن حفْصَة لا تُطلَّق؛ لأن عنده الَّتي يخاطبها عمرة، ورأى الإِمام في هذه الحالة تفصيلاً فقال: إن جَرَى الزوج في كلامه، فَبَانَ بالأداء والإِيراد، أنَّه مسترسل في الكلام، وغير منتظر جواباً، ثم قال: أردتُّ عمرة، فلا تُطلَّق إلا عمْرة، وإن بأن بالأداء انتظارُهُ الجواب، فاتَّصل جواب حفْصة وربْط به قوله: أنتِ طالقٌ، فتُطلَّق حفْصة، ولا يظهر طلاق عمْرة، والحالة هذه، لكن إذا قال أردتها: يؤاخذ بقوله وتأثير الأداء والنغمة قد سَبَق نظيره، ولو كان النِّداء والجوابُ كما سَبَق، وقال بعد جواب حفصة: زينبُ طالِقٌ لامرأةٍ له ثالثةٍ، طُلِّقت هي، ولم تُطلَّق عمْرة ولا حفصة، ولو قال: أنتِ وزينب طالقان، فتطلَّق زينب لا محالة، ثم يُرَاجع، فإن قال: ظننتُ أن المجيبة عمْرة، لم تُطلَّق هي، وتُطلَّق حفْصة في أصحَّ الوجهين، وإن قال عَرَفْت أن المجيبة حفْصة، وقصَدت طلاقها، طُلِّقت هي، ولم تُطلَّق عمرة، ولو قال: قصدتُّ طلاق عمرة، طُلِّقَت عمرة ظاهراً وباطناً، وحفصة ظاهراً، على الجواب الظاهر، واعْلَم أن المسألة ليست من التعليقات في شيْء [لكن التزام ترتيب الكتاب اقتضى جعلها ههنا]. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإِذَا قَالَ العَبْدُ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ مَاتَ سَيِّدِي فَأنْتِ طَالِقٌ طَلْقَتَيْنِ وَقَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: إِنْ مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ لَمْ تُحَرَّمْ بِالطَّلْقَتَيْنِ لِمُقَارَنَةِ العِتْقِ، وَقِيلَ: تُحَرَّمُ، وَلَوْ عَلَّقَ طَلاَقَ زَوْجَتِهِ المَمْلُوكَةِ لأَبِيهِ عَلَى مَوْتِ أَبِيهِ لَمْ يَنْفُذ لأَنَّهُ وَقتُ انْفِسَاخِ النِّكَاحِ بِالمِلْكِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَنْفُذُ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ.: فيه مسألتان؛ بينهما بعض التقارب، وكلتاهما من فروع ابن الحدَّاد: إحداهما: إذا قال العَبْد لزوجته إذا مات سيدي، فأنتِ طالقٌ طلقتين، وقال السيِّد لعبده: إذا متُّ، فأنتَ حرٌّ، فوقوع الطلقتين وعتْق العبد يتعلقَّان جميعاً بموت السيد، فإذا مات لم يحل، إما أن يحتمل الثلُثَ العبْدُ أو لم يحتملْه، إن لم يحتمله، فيُرَقُّ ما زاد على الثلث، ومَنْ بعْضه رقيقٌ كالقنِّ في عدد الطلقات، فإذا وقعت الطلقتان، لم تثبت له رجعة، ولم يكن له أن ينكحها حتَّى تنكح زوجاً غيره، وإن احتمله الثلث عتق العبد، وهل تحرَّم عليه فيه وجهان: أظهرهما: وهو جواب ابن الحدَّاد: أنها لا تحرم عليه، بل له الرَّجْعة وتجديد النكاح قبْل أن تنكح زوجاً غيْره؛ لأن العِتْق والطلاق وقعا معاً، ولم يكن رقيقاً بعْد وقوع الطلاق، حتَّى يحكم بالتحريم. والثاني: أنها لا تحل (¬1) له إلاَّ بعْد زوج آخر؛ لأن العتق لم يتقدَّم وقوع الطلاق، فصار كما لو طلَّقها اثنتين، ثم عتق، ومن نصر الأول قال: العتق كما لم يتقدَّم، لم يتأخر أيضاً، وإذا وقع العِتْق والطلاق معاً، جاز أن يُغلَّب حكم الحرية، ألا تَرَى أنَّه لو أوصى لأم ولده أو لمدبره، والثلث يحتمله تصح الوصية؛ لأن العِتْق، واستحقاق الوصية متقاربان (¬2)، فجعل كما لو تقدَّم العتق، ولا تختص المسألة بالتعليق بمَوْت السيِّد بل يَجْري الخلاف في كل صورة تعلَّق عتق العبد ووقوع طلقتين على زوجته بصفة واحدة، كما لو قال العبد: إذا جاء الغد فأنتِ طالق طلقتين وقال السيد: إذا جاء الغَدُ، فأنتَ حر ولو قال العبد لزوجته إذا عتقت فأنتِ طالقٌ طلقتين وقال السيد إذا جاء الغد فأنتِ طالقٌ إذا جاء الغدُ، فأنتِ طالقٌ طلقتين حر قال الشيخ أبو عليٍّ: إذا جاء الغدُ، عَتَقَ العبْد، وإذا أعتق طُلِّقَت زوجته وطلقتين، ولا تحرَّم عليه بحال؛ لأن العتْق تقدَّم وقوع الطلاق، ولو علَّق السيد، عَتَق العبد بموته، وعلق العبد الطلقتين بآخر جزء من أجزاء حياة السيِّد، انقطعت الرجعة لا محالة لأن الطَّلاق صادف حالة الرِّقِّ. الثانية: من له نكاح الأمة، إذا نَكَح أمة مُورِّثه، كأبيه وأخيه وعمه، ثم قال لزوجته إذا ماتَ سيِّدُك، فأنتِ طالقٌ، فمات السيد والزوج يرثه، ففي وقوع الطلاق وجهان: أظهرهما: وهو جواب ابن الحَدَّاد: أنَّه لا يقع الطلاق، وذكر في "المهذب" أن ابن سُرَيْج قال به، ووجَّهه الشيخ أبو علي بمعنيين. أحدهما: أن الطلاق قطَع النكاح فيستدعي قيام النكاح؛ ليصادفه الطلاق إذا مات ¬
السيد، والزوج وارث تدخل في ملكه كلّها أو بعضها، وينفسخ النكاح، فوَقْت وقوع الطَّلاق وقْتُ حُصُول الملك وانفساخ النكاح، وإذا كان كذلك لا يقَع الطَّلاق، كما لو قال: أنتِ طالقٌ مع موتي، لا يقع الطلاق؛ لأنَّه وقْت زوال النكاح. والثاني: أنه اجتمع المقتضي للانفساخ ووقوع الطلاق في حالة واحدةً؛ والجمعُ بينهما ممتنع فيُقَدَّم أقواهما، والانفساخ أقوى، [لأن الطلاق حكم يتعلَّق باختيار العبد وانشائه تصرفاً بوقعة، الأولى أقوى] ألا ترى أن حج من لم يحجَّ يقع عن (¬1) حَجَّة الإِسلام، لا عن النذر والتَّطَوُّع؛ لأن الوقوع عن حجَّة الإِسْلام تتعلَّق بالشرع، ووقوعه عن التَطوع والنذر يتعلَّق بإيقاعه عنْهما، وإذا اشترى قريبة، ونوى عِتْقَه عن الكفارة [لم يقع عن الكفارة] (¬2) لأن عتقه بالقرابة حكم قَهْرِيٌّ والعتق عن الكفارة يتعلَّق بإيقاعه واختياره. والوجه الثاني: وبه قال الشيخ أبو حامد: أنَّه يقع الطَّلاق، ولا ينفُذ الانفساخ؛ لأن الموت يوجب ثبوت المِلْك للوارث، ثم المِلْكُ يوجب الانفساخ، فالانفساخ يترتب على ما يترتَّب على الموت، والطلاقُ يتَرتَب على الموتِ؛ فكان الطلاق سابقاً بمرتبة وأشير إلى انتزاع الوجهَيْن من القولَيْنِ المنقولَيْنِ فيما إذا قال: كلَّما ولدتِّ ولداً، فأنتِ طالقٌ، فولدَتْ ولداً بعْد ولدٍ، فعلى الأصح؛ لا يقع الطلاق؛ لمقارنة وقْته وقْت انفساخ النِّكاح، كما لا يقع هناك بالولد الثاني؛ لمقارنته (¬3) انقضاء العِدَّة، وعلى الثاني؛ يقع ويكتفي بمصادفته طرف النكاح كما يكتفي هناك بمصادفة طَرَف العِدَّة، وهذا إذا لم يكن على السيد دَيْن أو لم يكن ما (¬4) عليه من الدين مستغرقاً, وإن كان عليْه دَيْن مستغرقٌ، فكذلك الجواب على الصحيح؛ لأن الدَّيْن لا يمنع انتقال المِلْك إلى الورثة، وعلى الوجْه الذي يقول إنه يَمْنَع من [انتقال الملك إلى الوارث] ينفذ الطَّلاق، فإنْ أدى الورثة الدَّيْن من عندهم، بَانَ انتقال المِلْك إليهم، وعاد الخلاف في نُفُوذ الطلاق، ولو علَّق الزوج الطلاق كما ذكرنا [و] (¬5) قال السيد: إذا متُّ، فأنتِ حرَّةٌ، فإن كانت تخرج من الثلث، عتقت ونفذ الطلاق، وإلا عاد الخلاف في نُفُوذ الطَّلاق؛ لأن ما زاد على الثُّلُث يرثه الزوج أو بعضه، فإن أجاز (¬6) الزَّوْج، عتقها وكان جائز للإرث أو أجار سائر الورثة معه، إن لم يكن جائزاً، فيخرج على [أن] (¬7) إجازة الورثة تنفيذٌ أو ابتداء تصرُّف منهم؛ إن جعلْناه تنفيذاً، وقع الطلاق؛ لأنها لم تدْخُل في مِلْك الورثة، وان جعلْناه ابتداء تصرُّف منهم، فقد دخلَتْ هي في ملكهم، فيكون وقوع الطلاق على الخلاف، ولو ¬
كاتبها السيد، ومات، قال الشيخ أبو عليٍّ: في وقوع الطلاق الخِلاف؛ لأن المكاتبة تورث، ولهذا تقول: لو مات وابنته تحْت مكاتبة، ينفسخ النكاح؛ لأنها ورثة بعْض الزوج، ولو لم يكن الزوج وارثاً لسبب من الأسباب، وقَعَ الطلاق، ولا انفساخ. قوله في الكتاب "لم تُحرَّم بالطلقتين يعني الحرمة المحوجة إلى زوج آخر، بل له الرجْعة وتجديد النِّكَاح، وأما أصْل الحرمة، فلا شكَّ في حصوله، وقوله لمقارنة أي لمقارنة وقوع الطلاق، وقوله: "لأنَّه وقْت انفساخ النكاح بالملك" يعني وقْتَ وقوع الطلاق، وهو أول وقْت الانفساخ، ولا يقَع الطلاق مع الانفساخ، وهذا كما سبَق أنَّه لو قال لغير المدخول بها: إذا طَلَّقْتُك، فأنْتِ طالقٌ، فطلقها, لا تقع الطلقة المعلَّقة, لأن وقْت وقوعها هو أوَّل حال البينونة. فرْع: قال الحرُّ لزوجته الأمة: إن اشتريتك، فأنتِ طالقٌ، وقال سيدها: إن بعتك، فأنتِ حرةٌ، ثم باعها من زوجها، فتعتق الجارية في الحال؛ لأن الوقت وقتُ خيار المجلس، فإن قلنا إن المِلْك في زمانِ الخيار للبائع أو قلنا: إنه موقوف، فالجاربة مِلْكه، وقد وُجِدَتِ الصفة المعلَّق عليها العِتْق، فتعتق، وإن قلْنا: إن المِلْك للمشتري فللبائع الفَسْخ والإِعتاق فسخٌ منْه؛ فتعود الجارية بالإِعتاق إلى ملكه، وتعتق، وأمَّا الطلاق، فقد أطلق ابن الحدَّاد أنَّه يقع، قال الأئمة: هو جوابٌ عَلَى أن المِلْك في زمان الخيار للبائع، فإنَّ النكاح على هذا القول باقٍ بحاله، وقد وُجِدَ شرْط الطلاق، فيقع، وهكذا يكون الحُكْم على قوْلنا: إنه موقوف؛ لأنه لم يتمَّ البيع بينهما, ولم يَمْلِكْها الزوج، فأما على قولنا: إنه للمشتري، فلا يقع الطلاق على الأصحِّ؛ لمصادفته حُصُول الملك، ووقوع الانفساخ على ما ذكَرْنا في المسألة السابقة، ويجيْء فيه الوجْه الأخير، ولو قال: إنْ ما ملكتك، فأنتِ طالقٌ، بدل "إن اشتريتك" لم يجئ فيه إلا هذا الخلاف الأخير. وإذا اشترى زوجته الأمة، وطلَّقها في مجْلس العَقْد، فإن قلنا إن الملْك في زمان الخيار للبائع، فيقع الطلاق؛ لأنها منكوحة، كما كانت، ولم يملكها بعْدُ وإن قلنا: إن المِلْك له، لم يقع الطلاق؛ لانفساخ النكاح، كما سبق ولو فسخ البَيْع بحكم الخيار، لا تكون زوجةً له على هذا القَوْل، وعلى قول التوقُّف إن تمَّ العقد تَبيَّن أنَّه لا طلاق، وإن لم يتم تبيَّن نفوذه وهو كما إذا طلَّق امرأته المرتدة بعْد الدخول يكون الطلاق موقوفاً إلى أن يرجع إلى الإِسلام، أو يصر قال الشيخ أبو عليٍّ: ومهما وَقَع الطلاق، ثم تم البيع بينهما، فإن كان الطلاق رجعياً، فله الوطء بِمِلْك اليمين، ولا يلزم الانتظار إلى انقضاء العدَّة؛ لأن العدَّة منْه كما أن له أن ينكح المختلعة في العدَّة، وإن طلقها ثلاثاً، فهل له وطؤها بملك اليمين؟ فيه وجهان؛ الأصح المنع. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدمُ فلاَنٌ فَقَدِمَ نِصْفَ النَّهَارِ طُلِّقَتْ فِي
الحَالِ عَلَى وَجْهٍ، وَتَبَيَّنَ الوُقُوعُ أَوَّلَ النَّهَارِ عَلَى وَجْهٍ. وَلَوْ قَدِمَ لَيْلاً لَمْ تُطَلَّقْ أَصْلاً عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال: أنْتِ طالقٌ يوْمَ يَقْدَمُ فلان، فإن قَدِم في أثناء النَّهار، فلا شكَّ في وقوع الطلاق؛ لحصول الوصف المعلَّق علَيْه، لكن يقع في الحال أو يتبين وقوعه في أول النهار، فيه وجهان: أقواها: وبه أجاب ابن الحَدَّاد: أنَّه يتبين وقوعُه من وقْتِ طُلوع فجر ذلك اليوم؛ لأن الطلاق معلق باليوم الَّذي يوجد فيه القُدُوم، وإذا وُجِدَ القُدوم، فهو ذلك اليوم، فأشبه ما إذا قال: أنتِ طالقٌ يوم الجمعة تطلق (¬1) بطلوع الفجر يوم الجمعة. والثاني: ونسب إلى ابن سُرَيْج: أنها تطلَّق عَقِيب القُدُوم؛ لأن الطلاق معلَّق باليوم والقدوم، فلا يقع قبْل القدوم كما لا يقع قبْل مجيْء اليوم، والوجهان كالقولين فيما إذا نَذَر صوْم اليوم الَّذي يَقْدَمُ فيه فلانٌ، فقَدِم في خلال اليوم، هل ينعقد النَّذْر فيلزم به صوْم يوم أو هما مأخوذان من هَذْين القولين؟ وهما مذكوران في "كتاب النَّذْر" لو ماتَت المرأة، ثُمَّ قَدِمَ فلان في ذلك اليوم، فعلى الوجه الأول: باتت مطلقة، ولا ميراث للزوج منها، إذا كان الطلاق بائناً، وكذلك لو مات الزوج بعْد طلوع الفجر ذلك اليوم، ثم قدِم فلان، لا ترث هي منه، وعلى الوجه الثاني؛ يثبت الإِرْث، ولو خالعها في أول النهار، ثم قَدِم فلان، فعلى الوجه الأول؛ الخُلْع باطلٌ إن كان الطلاق بائناً، وإن كان رجعياً، فهو على الخلاف في خُلْع الرجعية، وعلى الثاني الخُلْع صحيحٌ، ولا يقع الطلاق بالقُدُوم، ولو كانت ظاهراً في أول النَّهار، فحاضَتْ، ثم قدِم فلان، فعلى الوجْه الأول؛ يحسب بقية ذلك الظُّهْر قرءاً وعلى الثاني بخلافه، ويجري الخلاف فيما إذا قال: عبْدي حرٌّ يوْم يَقْدَمُ فيه فلان، فباعه في ذلك اليوم، وقَدِم آخَرِهُ، هل يصحُّ البيع وهذه الصورة مذكورة في الكتاب في النُّذُور، ولو قَدِم فلان ليْلاً، فوجهان: أصحُّهما: وهو الذي أورده أكثرهم: أنَّه لا يقَعُ الطَّلاق؛ لأن الشرط لم يحْصُل. والثاني: يقع، ويُحْمَل اليوم في مثل ذلك على الوقت والزمان، كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] أراد وقت القتال، ومن قال بالأول، قال: اللفظ لحقيقته، فإن فُسِّرَ بالوقت ألزم حكمه. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلاَثِ طُلِّقَتْ ثَلاَثاً، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْداً إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَمَعْنَاهُ تَعْلِيقُ التَّعْلِيقِ فَإِذَا كَلَّمَتْ زَيْداً أَوَّلاً ¬
تَعَلَّقَ طَلاقُهَا بِالدُّخُولِ، وَلَوْ قَالَ: أَرْبَعَتُكُنَّ طَوَالِقُ إِلاَّ فُلانَةَ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الاسْتِثْنَاءُ عِنْدَ القَاضِي حُسَيْنٍ رَحِمَهُ الله، كَمَا لَوْ قَالَ: هَؤُلاَءِ الأَعْبُدُ الأرْبَعَةُ لِفُلاَنٍ إِلاَّ هَذَا الوَاحِدَ لأَنَّ الاسْتِثْنَاءَ في المُعَيَّنِ لاَ يُعْتَادُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه ثلاث مسائلَ: إحداها (¬1): لو قال: أَنْتِ طالقٌ، هكذا، وأشار بإصبع واحد، لم يَقع إلا [طلقة] (¬2) واحدةً، وإن أشار بإصبعين، طُلِّقَت طلقتين، وإن أشار بثلاثٍ، طُلِّقَت ثلاثاً، قاله ابن سُرَيْج، وقال الإِمام: هذا إذا أشار إشارة مفهمة للطلقتين، أو الثلاث، بأن انضمت إليه قرينة النَّظَر للأصابع أو تحريكها وترديدها وما أشبه ذلك، وإلا فقَدْ يعتاد الإنسان الإشارة بإصبعه في الكلام، فلا يظهر الحُكْم بوقوع العدد إلاَّ بالقرينة، ولو حَصَلت الإِشارة المعتبرة، وقال: أردتُّ الإشارة إلى الإصبعين المقبوضتين صدق بيمينه؛ للاحتمال، ولو قال: أردتُّ وحدة، قال في "التهذيب" لا يُقْبَل، والإِشارة صريحة في العدد، ثم حكي عن صاحب "التقريب" أنَّه يُقْبَل، وأن الإشارة كناية فيه، ولو قال: أنتِ طالقٌ أشار بالأصابع، ولم يقل: هكذا لم يُحْكم بوقوع العدد إلا بالنية إن دخلت الدار، وحكمت زيداً، فأنتَ الثانية: إذا قال إن دخلت الدار، أو كلَّمْت زيداً، فأنتِ طالقٌ، يقع الطلاق بأيَّة واحدة من الصفتين، وُجِدت، ثم تنحل اليمين، فلا يقع بالأخرى شيء، وكذا لو قال: أنتِ طالقٌ، إن دخلت الدار أو كلمت زيداً، فقدم الجزاء، ولو قال: إن دخلْتِ الدَّار و (¬3) إن كلمْتِ زيداَ، فأنتِ طالقٌ، أو قال: أنتِ طالقٌ، إنْ دخلْتِ الدار وإن كلَّمْت زيداً، فقد كرَّر حرف الشرط، وذلك يوجب تَكْرار الجزاء، فيقع الطلاق بأية واحدة من الصفتين وُجِدت، وإذا وجدتا جميعاً، وقعت طلقتان، ومِنْ هذا القبيل ما إذا قال: إن دخلْتِ هذه الدار، وان دخلت الدار الأخرى، فأنتِ طالقٌ. قال ابن الصَّبَّاغ وفي معناه ما إذا قال: إن دخلْتِ هذه الدار، فأنتِ طالقٌ، وإن دخلْتِ الدار الأخرى أن الجواب عائد في الدخول الثاني، ولو قال: إن دخلْتِ الدار وكلمتِ زيْداً، فأنتِ طالقٌ، فلا بدّ من وجودهما؛ لوقوع الطلاق، ولا يقع بهما إلا طلقة، ولا فَرْق بين أن يتقدَّم الكلام أو يتأخَّر، وفي "التتمة" ما يقتضي إثبات خِلاَف فيه، لأنَّه قال: من جَعَل الواو للترتيب، فلا بدّ عنْده مِنْ أن يتقدَّم الدخول على الكلام، ومن الأصحاب من جَعَل الواو للترتيب، ولو قال: إن دخلْتِ الدارَ، فكلمْتِ زيْداً، أو ¬
قال: إن دخلْتِ ثم كلَّمْتِ، فلا بدّ منهما، وُيشْترط فَتقَدُّم الدخول على الكلام، ولو قال: إن دخلْتِ الدار، إن كلمت زيداً، فأنتِ طالقٌ، أو قال: أنتِ طالقٌ، إن دخلت [الدار] (¬1) إن كلَّمْتِ، فلا بُدَّ منهما، ويشترط تقدم المذكور آخراً، وهو الكلام على المذْكور أولاً، وهو الدخول؛ لأنه جعل الكلام شرطاً لتعليق الطلاق بالدخول، ويُسمَّى ذلك اعتراض الشرط على الشَّرط، والتعليق يَقْبَل التعليق، كما أن التنجيز يَقْبَلُه، ألا ترى أنَّه لو قال لعبده: إن دخلْتَ الدار، فأنتَ مدبر، كان ذلك تعليقاً للتدبير بالدخول، والتدبير تعليق العتق، ونظيره قوله تعالى: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] المعنى إن كان الله يريد أن يغويكم، فلا ينفعكم نصحي، إن أردت أن أنصح لكم، ومال الإِمام إلى أنَّه لا يشترط الترتيب ويتعلق الطلاق بحصولهما، كيف اتَّفق، وقال: إنه ذكر صفتين من غير عاطف، فلا معنى لاعتبار الترتيب، والظاهر الَّذي ذكره الجُمْهور الأول، وقالوا: لو كَلَّمَته، ثم دخلت، طُلَّقت، وإن دخلت، ثم كلَّمَتْه، لم تُطلَّق، وفي "التتمة" أن تنحل اليمين حتى لو كلمته، ودخلَتْ بعد ذلك، لم تطلَّق؛ لأن اليمين تنعقد على المَرَّة الأولى، ولا فَرْق بين أن تكون صيغة الشرْط في الصفتين [إن] أو غيْرَهَا, ولا بيْن أن تتحد (¬2) فيهما (¬3) الصيغة، أو تختلف، حتَّى لو قال: أنتِ طالقٌ إذا دخلْتِ إن كلَّمْتِ، أو قال: إن دخلْتِ إذا كلَّمْتِ، وبالعكس، أو قال متى كلَّمْتِ كان الجواب كذلك، ولو قال: إنْ أعطَيْتُكِ إن وعدتُّكِ إن سألتِنِي، فأنتِ طالقٌ، فيُشْترط أن يوجد السؤال منها، ثم الوعد منه، ثم العطية، والمعنى: إن سألتني، فوعدتك، فأعطيتك، فأنتِ طالقٌ، وذكر صاحب "المهذب" أنه لو قال: إن سألتِنِي إن أعطيتُكِ، إن وعدتك، فأنتِ طالقٌ، فيُشْتَرَط أن يوجَد السؤال، ثم الوَعْد ثم العطية، لكن قضية ما تمهَّد أن يشترط وجُود الوَعْد، ثم العطية، ثم السؤال، والمَعْنَى إن سألتِنِي، وأعطيتك، إن وعدتك، فأنتِ طالقٌ، وكأنه صوَّر رجوع الكل إلى مطلوب واحد، ولم ير للموعد معنى بعد العطية، ولا للسؤال معنى بعْد الوعد والعطية، فأوَّلَه على ما ذكره، فهَذا بيان الاحتمال الَّذي مال إليْه الإِمام، والظاهر الذي عليه الاعتماد ممَّن جرى على هذا الظاهر، وأورده أبو عبد الله القطَّان، ذكره في المطارحان، ووراءهما شيْء ثالث غريبٌ، وهو أنَّه يُشْتَرط وجُود المذكور أولاً، وهو الدخول في المثال المذكور، حتَّى لو كلَّمَتْ زيْداً ثم دخلت الدار، لم يقع الطلاق، كذلك رأيت الجواب فيما جُمِع في فتاوى القَفَّال، وجعله بمثابة قوله: "إنْ دخلْتِ الدار، فأنتِ طالقٌ، إنْ كلَّمْت زيداً" وأما لفظ الكتاب فإنه صَوّر المسألة فيما إذا ¬
قدَّم شرط الكلام، فقال: "إن كلَّمتِ زيداً، إن دخلْتِ الدار، فأنتِ طالقٌ"، على خلاف التصوير الذي ذكرناه، ومعلوم أن الجواب في مثْل ذلك يختلف باختلاف التصوير، فعلى المشهور يُشْترط هاهنا تقدُّم الدخول، فإذا دخلَتْ تعلَّق طلاقها بالكلام، والذي ذكر في الكتاب أنها إذا (¬1) كلمت أولاً، تعلَّق طلاقها بالدخول ينطبق على ما حَكَيْنا عن فتاوى القفَّال، لكنه لم يُرِد ذلك؛ لأنه صَوَّر في "البسيط" فيما إذا قال: إن دخلْتِ الدار، إن كلَّمْتِ زيداً، فأنتِ طالقٌ، وأجاب بالجواب المشهور، فالذي اتَّفَق هاهنا محمولٌ على سبْق القلم، فإما أن يعتبر قوله: "إن كلمتِ إنْ دخلْتِ" بالتقديم والتأخير، ويُتْرك الجواب بحاله وإما أن يُجْعَل الجواب إذا دخلْتِ ولا يعلَّق طلاقها بالكلام، ويُتْرَك التصوير بحاله. فروع: لو قال: إن دخلْتِ الدار، فأنتِ طالقٌ، إن كلَّمتِ زيداً، فهذا يحتمل أن يراد به أنها إذا دخلَتِ الدار، تَعلَّق طلاقها [بالكلام وقد يراد به أنها إذا كلمته تعلق طلاقها] بالدخول، فيراجع ويحكم بموجب تفسيره. ولو قال: إنْ كلَّمتِ زيداً وعمراُ أو بكراً مع عمرو، فأنتِ طالقٌ، فإنما يقع الطلاق، إذا كلَّمَتْ زيداً وعمراً، وأظْهَرُ الوجهيْن أنَّه يُشْترط كوْن بكر مع عمْروٍ وقْت الكلام معه، كما لو قال: إن كلَّمتِ فلاناً، وهو راكب. قال: أبو سعْد المتولِّي، وفي كلام البغداديين إذا أراد أحدُهم أن يعلِّق طلاق امرأته بالدخول، يقول: أنتِ طالقٌ، لا دخَلْت الدار، كما يقول الحالف: والله، لا دخلْتُ الدار، والمعنى: إن دخلْت الدار، فأنتِ طالقٌ، وعلى هذه العادة. قال ابن الصبَّاغ: إذا قال: أنتِ طالقٌ، لا كلَّمت زيداً وعمراً وبكراً، فإن كَلَّمَتْهم، طُلِّقَت، وإن كلَّمت بعضَهُم، لم تُطلَّق، ولو قال لا كلَّمت زيداً ولا عمراً ولا بكراً، فأيَّهم كلَّمتْه، طُلِّقت. ذكر ابن سريج أنَّه لو قال: أنتِ طالقٌ، إن كلمتِ زيداً حتى يدخل عمرو الدار أو إلى أن يدخل، فالغاية تتعلق بالشرط، لا بنفس الطلاق، والمعنى إن كلَّمتِ زيداً قبْل دخول عمرو، فأنتِ طالقٌ، فإنما تُطلَّق إذا كلمته قبل قدومه. المسألة الثالثة: إذا قال لأربع نسوة تحته: أربعكن طوالقُ إلاَّ فلانة، أو إلا واحدة على الإِبهام. فعن القاضي الحُسَيْن، وهو المذكور في التتمة: أنَّه لا يصحُّ هذا الاستثناء، ويطلَّقْن جميعاً، ووجهه بسببين. ¬
أحدهما: قال في "التتمة" لأن الأربعة ليست صيغة عموم، وإنما هي اسم خاصٌّ لعدد خاص، فقوله: "إلا فلانة" رَفَع للطلاق عَنْها بعد التنصيص عليها، فكان كما لو قال: أنتِ طالقٌ طلاقاً لا يقع عليْكِ، وقضية هذا الوجه ألا يصحُّ الاستثناء عن الأعداد في الإِقرار في الطلاق أصلاً؛ لأنها جميعاً أسماء خاصة لتلك الأعداد ومعلوم أنَّه ليس كذلك. والثاني: وهو المذكور في الكتاب: أن الاستثناء من المعيَّن يعتاد، وإنما المعهود الاستثناء من الطَّلقات، وقد يقوي ذلك بأن للإشارة أثراً ظاهراً في تثبيت الكلام، وتقريره، وهذا يضعف وبأن الإِمام حَكَى عن القَاضي أنَّه لو قال: أربعُكُنَّ إلا فلانة طوالقُ، يصحُّ الاستثناء، وادعى أن هذا معهودٌ، وذلك غير معهود [وهذا كلام كما تراه وقد حكينا في الإقرار أن الاستثناء صحيح من المعينات على الصحيح] ويساوي في الوجهين الإِقْرار والطلاق. وقوله في الكتاب "كما لو قال: هؤلاء الأعبد الأربعة لفلان إلا هذا الواحد لم يصحَّ" ظاهره يُشْعر باتخاذه أصلاً مفروعاً عنه، وليس كذلك، ولم يذْكره الإِمام هكذا، لكن قال: لعلَّ القاضي يقول بأنه لمْ يصحَّ هذا الاستثناء، وبالظاهر أجاب في "باب الإِقْرار" على ما قدَّمناه، ويجوز أن يعلم قوله: "لم يصح" بالواو. فرْعٌ: لو قال: أنتِ، هكذا، وأشار بأصابعه الثلاث، ففي "فتاوى القفَّال"، أنَّه إن نوى بقَلْبه الطَّلاق، طُلِّقَت ثلاثاً، والإشارة صريحة في العدد، وإن لم ينوِ أصل الطلاق لم يقع شيْء، كما لو قال: [أنتِ] (¬1) ثلاثاً، ولم ينوِ بقلبه الطَّلاق، وقال غيره: يُحْتمل أن لا يُجْعَل هذا كناية؛ لأن اللفظ لا يُشْعر بالطلاق (¬2) بحال والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قِيلَ لَهُ: أَطَلَّقْتَ زَوْجَتَكَ اسْتِخْبَاراً؟ فَقَالَ: نَعَمْ كَانَ إِقْرَاراً، وَإنْ كَانَ لالْتِمَاسِ الإِنْشَاءِ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي قَوْلٍ، وَكِنَايَةٌ في قَوْلٍ، وَلَوْ قَالَت: (مرا طلاق ده) فَقَالَ: (دا زم) فَيَصِيرُ الخِطَابُ معْتَاداً فِيهِ وَيكُونُ صَرِيحاً عَلَى وَجْهٍ، وَلَوْ قَالَ الدَّلاَّلُ لِبَائِعِ المَتَاعِ: بِعْتُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَمْ يَكُنْ هَذَا خِطَاباً مَعَ المُشْتَرِي، وَلَوْ قِيلَ لَهُ: أَلَكَ زَوْجَةٌ؟ فَقَالَ: لاَ فَهُوَ صَرِيحٌ في الإِقْرَارِ، وَقِيلَ: كِنَايَةٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قيل له على سبيل الاستخبار: أطلقْتَ زوْجتَك أو (¬3) فارقتها، أو ¬
زوجتك طالقٌ، فقال: نعم كان ذلك إقراراً منْه بالطلاق، فإن (¬1) كان كاذباً، فهي زوجته في الباطن، ولو قال: أردتُّ الإِقرار بطلاقٍ سابقٍ، وقد راجعْتُها، صُدِّق، وإن قال: أبنتها، وجدَّدتُّ النكاح، فعلى ما ذكَرْنا فيما إذا قال: أنْتِ طالقٌ أمسِ، أو في الشَّهْر الماضي، وفسَّره، بذلك، ولو قيل له ذلك على سبيل التماس الإِنشاء فإن قال في الجواب: نَعَم، طُلِّقَت، ولا إشكال في وقوع الطلاق، وإن اقتصر على قوله "نعم"، فقولان: أحدهما: أنَّه كنايةٌ لا يقع الطلاق به إلا بالنِّيَّة؛ لأنه لم يلْفِظْ بالطلاق، وما في معناه. والثاني: ويُحْكَى عن الإِمْلاء واختيار المزني: أنَّه صريح؛ لأن السُّؤال يَعُود في الجواب، وقد جَرَى اللفظ الصريح في السؤال، فكأنَّه قال نعم، طَلَّقْت، ولهذا كَانَ صريحاً في الإِقرار حتَّى لو قال القاضي للمُدَّعَى عليه: أعَلَيْك المالُ الَّذي يدعيه، فقال: نعم، كان مقرًّا، قال الأئمة: والقولان مبنيان على أنَّه إذا قال الوليُّ: زوجتُكَ ابنتي، فقال: قبِلْتُ، ولم يقُلْ نكاحَهَا، هل يصحُّ النكاح، وقضية هذا البناء ترجيحُ قول الكناية، لكنَّ ابن الصباغ والقاضي الرُّويانِيّ رجحا كونه صريحاً، ومنهم من لا يذكر غيره، وفي كلام بعْض النقلة، إثبات الخلاف على الإِطْلاَق من غير فَرْق بين قصْد الاستخبار والتماس الإِنْشَاء، حتَّى لا يكون قوله "نعم" في صورة الاستخبار صريحاً في الإِقرارِ على قولٍ، فيجوز أن يعلَّم لذلك قولُه:"كَانَ إقْرَاراً" بالواو، والظاهر التفصيل كما بيَّنَّاه، ولو قيل له: ألَكَ زوجَة؟ فقال: لا فعن "الإِملاء": أنَّه لا يقع به الطلاق، وإن نوى، وإنَّما هو كذِبٌ محضٌ، وهذا ما أورده كثير من الأصحاب، ولم يجْعلوه إنشاءً، ولا بأْس لو فرَّق بين أن يكون السائل مستخبراً أو ملتمساً إنشاءَ الطلاقِ، كما في الصورة السابقة؛ لأنا ذكرنا في كنايات الطلاق أنَّه لو قال مبتدئاً: لسْتِ بزوجةٍ لي، كان كناية على الظاهر، وذَكَرَوا وجهَيْن، في أنَّه صريحٌ في الإِقرار أو كناية. أحدهما: وبه قال القاضي الحُسَيْن: أنَّه صريحٌ، كما لو ادعت أنَّك نكحتني فأنْكَر، يحكم بأنه لا نكاح بينهما, ولو رَجَع، وادَّعى الزوجية، لم يُقْبَل، وأشبههما أنَّه كناية (¬2) فيه؛ لجواز أن يريد نَفْيَ فائدة الزوجات؛ لما بينهما من سوء العشرة، وهذا ما أورده في "التَّهْذيب" قال: ولها تحليفُه أنَّه لم يُرِدْ طلاقها. ¬
ولو قال قائلٌ مشيراً إليها، هذه زوجتُكَ فقال: لا، فهذا أظهر في كونه إقْراراً بالطلاق، ولو قال (مر اطلاق ده) (¬1) فقال الزوج: (دا دم) (¬2) فهو صريح في إيقاع الطلاق أو كناية؟ فيه مثل هذَيْن الوجهين، قال القاضي: هو صريحٌ يعود الخطاب في الجواب، ونَظْم الكتاب يقتضي ترجيحه. وقال غيره: هو كناية، وهو الأشبه وعن طريقة القاضي أنَّه لو قيل له: (طلاق زن داده اى) (¬3) فقال: (دادم) (¬4)، فهُوَ إقرار بالطلاق، ولو قال: (دادم) (¬5)، لم يقع به الطلاق، وفي "فتاوى القَفَّال": أنَّه لو قيل له (زن طلاق دادى) (¬6) فقال: (داده) (¬7) فهو إقرارٌ بالطلاق، وليكن هذا فيما إذا كان القائل مستخبراً، فإن قول القائل بالعجمية (زن إطلاق دادى) (¬8)، يصلح للاستخبار ولالتماس الإِنشاء، فأما قوله (زن طلاق داده اى) (¬9) فهو صريح في الاستخبار. ولو قيل له: (زن طلاق) (¬10) فقال: نَعَمْ أو قيل: (زن دادى) (¬11) فقال: (دادم) (¬12) لم يكن ذلك إيقاعاً، قاله القفَّال، وأورد صاحب الكتاب في خلاَل هذه الصورة صورةً هي من جنْسها، وإن لم تتعلَّق بالطلاق؛ اقتداءً بالإِمام، والصورة ما إذا قال الدلال لبائع المتاع: بعْت هذا من فلان بكذا؟ فقال: نعم، قال الإِمام وصاحب الكتاب: إنه جواب للدَّلاَّل، وليس هذا خطاباً مع المشتري، ويمثله أجابا فيما إذا قال: بعْت، ولم يذكر الثمن، ولم يأتِ بما يصلُح أن يجعل ابتداءَ خطاب مع المشتري، والحاصل بأنهما قالا إنه لا ينقعد البَيْعُ بذَلِك، وإن قَبِلَ المشتري، ونحن قد حَكَيْنا في صيغ البَيْع وجهَيْن في انعقاد البيع، سواءٌ قال: نعم أو قال: بعْت، وقبل المشتري، وحكينا في مثل ذلك وجهَيْن في النكاح، وبيَّنَّا أن الأظهر عند الأئمة فيهما الانعقاد، ولو فرق بين البيع و [بين] النكاح، فجعل الأظهر في النكاح المنْعَ؛ لأنَّه لم يُصرِّح بأنَّه زوج منها كان ذلك مناسباً، لما قيل فيما إذا قال: زُوِّجْتُها منك، فقال: قَبِلْتُ، ولم يقل نكاحَها، ويجوز أن يعلَّم؛ لما ذكرنا قولُه "لم يكن هذا خطاباً مع المشتري" بالواو. فَرْعٌ: إذا قيل له أطلقق زوجْتَك؟ فقال: قد كان بَعْض ذلك، لم يجعل ذلك إقراراً بالطلاق، لأنَّه ربما جرت بينهما مخاصَمَةٌ، وملاحَّة، وسؤال طلاق من جهتها، أو ¬
وعده بالطلاق من جهته، أو تعليق طلاق، ومثل ذلك يصحّح مثل هذا اللفظ، فإن فسّر بشيْء من ذلك، قبل وأن كان السُّؤَال [كان] (¬1) عن ثلاث، ففسر بواحده وإن كان عن أو اثنتين، قُبِل، وإن لم يُفَسر بشيْء قال في "التتمة": إن السؤال عن ثلاث لزمه الطلاق [وإن كان عن واحدة] واحدة لم يلزمه شيء؛ لأن الطلقة الواحدة، لا بَعْض لها، والأصل أنْ لا طلاقَ فِي وَاحِدٍ من الطرفين نظر (¬2) لا يخفى. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ عَلَّقَ طَلاَقهَا بِتَمْييزِ النَّوَاةِ الَّتِي أَكَلَتْهَا عَمَّا أَكَلَهُ فَبَدَّدَتْ برَّتْ إِذَا لَمْ يَكُنْ نِيَّتُهُ التَّفْرِيقَ، وَلَوْ عَلَّقَ طَلاقَهَا عَلَى ابْتِلاَعِ تَمْرَةٍ فِيهَا وَعَلَى القَذْفِ وَالإمْسَاكِ بَرَّتْ بِأَكْلِ النِّصْفِ، وَلَوْ عَلَّقَ بِالنُّزُولِ مِنَ السُّلَّمِ وَبِالصُّعُودِ وَالوْقُوفِ تَخَلَّصَتْ بِالطَّفْرَةِ وَبِالحَمْلِ وَالانْتِقَالِ إِلَى سُلَّمٍ آخَرَ، وَلَوْ عَلَّقَ بِأَكْلِ رُمَّانَةٍ أَوْ رَغِيفٍ تَخَلَّصَتْ بِتَرْكِ حَبَّةِ مِنَ الرُّمَانَةِ وَفُتَاتٍ مِنَ الرَّغِيفِ، وَمَهْمَا كَانَ لِلَفْظِهِ مَفْهُومٌ في العُرْفِ وَوَضْعٌ في اللِّسَانِ فَعَلَى أَيُّهِمَا يُحْمَلُ فِيهِ تَرَدُّدٌ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يُضْبَطُ بَلْ تَارَةً يُرَجَّحُ العُرْفُ وَتَارَةً اللُّغَةُ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ دَرَجَاتِ العُرْفِ وَظُهُورِ اللَّفْظِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذه صورة يتلطف فيها للتحرز من الحَنِث بضرب من الحيلة، وهي أربع إحداها إذا أكَل الزوجان تَمْراً أو مشمشاً وخَلَطا النَّوَى، ثم قال إن لم تميزي نوى ما أكَلْتِ عنْ نَوَى ما أكلْتُ، فأنْتِ طالقٌ، أو خلَطَتْ دراهمها بدراهمه، فقال: إن لم تتميزي دراهمَك عن دراهمي، فأنتِ طالقٌ قال الأصحاب: يَحْصُل الخَلاَصُ عن الحَنِث بأن تبددها؛ بحَيْث لا يلتقي منْها اثنان؛ فإنها إذا فعَلَتْ ذلك، فقد ميَّزت، نعم، لو أراد التمييز الَّذي يحْصل به التنصيص والتعيين لم يَحْصُل الخلاص بذلك، قال الإِمام: هذا اللَّفظ عنْد الإطْلاق يتبادر إلى الفَهْم منْه التعريف والتعيين، فكان ينبغي أن يُحْمَل اللفظ عليه، فإن أرَاد مُقْتَضَى الوَضْع في اللغة، فيبقى تردُّدٌ في أنَّه هل، يزال الظاهر للإطلاق والأشبه أنَّه يزال، فيمكن أن يعلَّم لهذا قوله في الكتاب "وإذا لَمْ يكن نيته التفريق"؛ لأنَّ على ما ذَكَره الإمَام لا يَحْصُل البرُّ بذلك، إذا لم ينوِ التعريف، وإنما تحصل البينونة إذا نَوَى معْنى اللفظَ بالوَضْع، وهو الفَصْل والتفريق. قال في "الوسيط" كأن الأصحاب اكْتَفَوْا بوضْع اللغة، إذا لم تكن نية، وقوله في الكتاب "ولو عَلَّق طلاقَها بتمييز النواة التي أكلتها" أي نواة التمر أو التمرة الَّتي أكلتها، ¬
ثم المراد بعد من التمييز، فإن التصوير فيما إذا قال: لم تُمَيِّزِي، على ما بيَّنَّاه. الثانية: في فمها تمرةٌ، فقال لها الزوج: إن ابتلعتهَا، فأنتِ طالقٌ، وإن قَذَفْتِها، فأنتِ طالقٌ، وإن أمسكْتِها، فأنْتِ طالقٌ، فيحصل الخلاص عن الحنث فيها جميعاً؛ بأن تأكل نصْفها، وتقذِف النصْف، وهذا إذا وقع التعليق بالإمْساك آخرًا، وكما تَمَّت التعاليق، يحْصُل أكْل النصف، فأما إذا وقَع مُكْث، فقد حصَل الإمساك، ولو علَّق بالإمساك أولاً، وأكلت النصْف بعد تمام الأيمان، كان حانثًا في يمين الإمساك، ولو قَالَ: إن أكلْتها، فانتِ طالقٌ، وإن لم تأكليها، فأنْتِ طالقٌ، فلا تتخلَّص بَأكْل النصْف بل يَقَع الطَّلاق المعلَّق على عَدَم الأكل، وإذا علَّق الطَّلاَق بالأكْل، ففي الحَنِث بالابتلاع وَجْهان أوردهما: صاحب "التتمة". والأظهر المنع؛ لأنه يصحُّ أن يقال ابتلع وما أكل. الثالثة: كانَتْ تصْعَد سُلَّمًا فقال لها: إن نزلْتِ، فانتِ طالقٌ، وإن صعدتِّ، فانتِ طالقٌ، وإن وقفْتِ فأنتِ طالقٌ، فيحصل الخلاص بالطفرة إن أمكنتها، وبأن تحمل، فيصعد بها، أو ينزل، وينبغي أن يكون الحَمْل بغير أمْرها وبأن تضجع السُّلَّم على الأرض، وهي علَيْه، فتقوم من موضعها، وبأن يكون تحْتَهُ سُلَّم آخَرُ، فينتقل إلَيْه، وإن مَضَى في نَصْب سُلَّم آخر زمان، فيحنث في يمين الوقوف. الرابعة: قال: إنْ أكلْتِ هذه الرمَّانة وإن أكلْتِ رمَّانة، فانتِ طالقٌ، فأكلَتْها إلا حبَّةً، لم يحنث. قال الإِمام: وقد يقول القائل في العُرْف: أكلت رمَّانةً، وإن فاتَتْه حبَّة، لكنْ من قال: إنَّه لم يأكل الرمانة لا يُعَدُّ حائرًا على ظاهر الكلام، فإذن العُرْف متردد، والوضع يقتضي ألا تطلَّق، فلا وجْه للحُكْم بوقُوع الطَّلاق. ولو قال: إنْ أكلْتِ هذا الرغيف، فأكَلَتْه إلا فُتَاتًا، فعَن القاضي: أنَّها لا تُطلَّق كما في حبة الرمان، وفصَّل الإِمام؛ فقال: إن بقيت قطعة تُحَسُّ، ويحصل لها مَوْقِع، فهي كالحَبَّة من الرمان، وربَّما ضُبِطَ ذلك بأن يسمى قطعة خبز وأما ما يَدِقُّ مُدْرَكُهُ، فلا يَظْهَر به أثر في بِرٍّ ولا حنث. قال: وهذا مقْطُوع به عنْدي في حُكْم العُرْف، والوجه تنزيل المُطْلَق على هذا التفصيل، والله أعلم. وهذه صورة أخرى من هذا الطور (¬1): لو قال: إنْ لَمْ تخبريني بعَدَد حبَّات هذه ¬
الرمانة قبْل كَسْرها، فانتِ طالقٌ أو قال: إنْ لم تخبريني بعَدَد ما في هذه البيْت من الجوز اليَوْم، فأنْتِ طالقٌ، أو قال: إن لم تذكري لِي ذَلِكَ، وقد يضيق الوقْتُ، ولا يتأتى الوقُوف علَيْه، قال الأصحاب: يَحْصُل الخَلاَص بأن تبتدئ من عددٍ تستيقن أن الحَبَّات أو الجوز في البيت، لا ينقص عنه، وتذكر الأعداد بعدها على الولاء؛ بأن تقول: مائة مائة وواحد مائة واثنان، وهكذا إلى أن تنتهي إلى العدد الَّذي تستيقن أنَّه لا يزيد علَيْه، فتكون مخبرة عن ذلك العدد وذاكرةً له، وهذا إذا لم يَقْصِد التعيين والتعريف، وإلا فلا يحصل البِرُّ، كما ذَكْرنا في الصورة الأولى، [وتكلم الإِمام] (¬1) ها هنا بِمِثْل كلامه هناك؛ لأن المتبادر إلى الفَهْم مِنْ مثله التعريف والتعيين، وفي مَعْنَى هذه الصورة ما إذا أَكَل تَمْرًا، ثم قال: إنْ لم تخبريني بعَدَد ما أكلْتِ فانْتِ طالق، وكما إذا اتَّهَمَها بِسَرِقة، فقال: إن لم تَصْدُقِيني في حال هذه السرقة، فأنتِ طالقٌ، فقالت: سرقْتُ وما سَرَقَتْ قالوا: إنه لا يحنث؛ لأنَّها صادقة في أحد الخَبَريْن. ولو كان الزوجان جالسَيْن، فوقع حَجَرٌ من السطح فقال: إن لم تخبريني بأن هذا الحَجَر مَنْ رماه، فأنْتِ طالقٌ، ففي "فتاوى القاضي الحُسَيْن": أنَّها إن قالت: رماه مخلوقٌ، لم يقع الطلاق، ويجيْء، فيه كلام الإِمام للعرف، وإن قالتْ: رماه آدميٌّ، وقع لجَوَاز أنه رمَاه كَلْب أو الرِّيح، فقَدْ وجد سببَ الحَنِث، وشككنا في المانع، وشبهه بما إذا قال: أنتِ طالقٌ إلا أن يشاء زَيْد اليوم (¬2) فمضى اليوم، ولم يَعْلَم مشيئته، فإنا نَحْكُم بوقوع الطلاق على اختلاف فيه. ولو قال: من لم تُخْبِرْني بعدد ركعات الصلوات المفروضة في اليوم والليلة منْكن، فهي طالق، قال لثلاث نسوة، فقالت واحدةٌ سَبْعَ عَشْرَةَ، وثانية: خمْسَ عَشْرَةَ، وثالثة: إِحْدَى عَشْرَةً، لم تُطلَّقْ واحدةٌ منهن؛ الأول في غالب الأحوال، والثاني يوم الجمعة، والثالث في حقِّ المسافر، كذلك أورده صاحب "التتمة" ونقله القاضي الحُسَيْن أيضاً، ونقل أنه لو قال لزوجته [أكرمن فرد اهمه ديناراد ركار توبهم توهسته اى) (¬3) فالطريق أن يضع المُصْحَف في حجرها؛ لأن ما في الدنيا موجود فيه على ما قال تعالى جدُّهُ: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] وفيه توقُّفٌ. وأنَّه لو قال: كلُّ كلمة كلَّمْتِنِي بها إن لم أقل مثلها، فأنْتِ طالقٌ، فقالت المرأة أنتَ طالقٌ ثلاثاً، فينبغي أن يقول: أنتِ تقولين أنْتَ طالقٌ ثلاثاً أو يقول: أنتِ طالقٌ ثلاثاً عن وثاق، وإذا قالت الزوجة: إذا قُلْت لك: طَلِّقْني ما تقول؟ فقال: أقول: طلَّقْتُكِ، لا ¬
يقع الطلاق؛ لأنَّه يُخْبِر عما يَفْعَل في المستقبل. ولو كان في يدها كوز مَاءٍ، فقال: إن قلبت هذا الماء، فأنتِ طالقٌ، وإن تركتيه فانتِ طالقٌ، وإن شربتيه أو غيرك، فأنتِ طالقٌ، فيَحْصُل الخلاص؛ بأن تضع فيه خرقة فتبلها به. ولو كانت في ماء جار، فقال لها: إن مَكَثت فيه، فأنتِ طالقٌ وإن خرجت منْه، فأنتِ طالقٌ، قال الأصحاب لا تُطْلَق مكثت أو خرجت؛ لأن ذلك الماء قد فارقها، بجريانه ويجيء فيه ما ذكره الإِمام للعُرف، وإن كان الماء راكداً، فالطريق أن يحملها إنسانٌ في الحال، ولو قال إن لَم تَعُدِّي الجوز الَّذي في هذا البَيْت اليوم، فأنْتِ طالقٌ، فقد حَكَى الإِمام في طريق البِرِّ وجهَيْن: أحدهما: أنها تأخذ من عدد تستيقنه وتزيد علَيْه واحداً بعْد واحد، حتى تنتهي إلى العدد الذي تستيقن أنه لا يزيد عليه، كما ذكرنا فيما إذا قال: إن لم تخبريني عن عدده. والثاني: يلزم أن تبتدئ من الواحد وتزيد حتَّى تنتهي إلى الاستيقان، قال: واكتفوا على الوجهَيْن بذكْر اللسان، ولم يعتبروا تولي العد، ولست أرى الأمر كذلك، فإنَّ من جَلَس بعيدًا عن البيت الذي فيه، الجوز، وأخذ يذكر الأعْداد، لا يُسَمَّى عادًّا، نعم، لو كان يرمق الواحد بعد الواحد، ويضبط، فهذا يُقَام مقام الفعل باليد ويعد عدًّا، وأما قوله في الكتاب "ومهْمَا كان لفظه مفْهُوم في العرف، ووضع في اللسان فعلى أيِّهما يُحْمَل؟ [فيه تردد] " (¬1) فهو إشارة إلى أصل، نبني هذه الصور وأجناسه عليه، والمقصودُ أنَّه لا بُدَّ من النظر في مثْل هذه التعليقات في وضع اللسان، وفيما يَتَبَادَرُ إلى الفهْم معَها في العُرْف الغالب، فإن تطابَقَ الوَضْع والعرف، فذاك، وإن اختلَفَا، وكان المَفْهُوم في العُرْف منْه شيئاً، وحقيقة الوضع شيئاً آخر، فالاعتبار للوضع أو العرف؟ فيه طريقان، كلام الأصحاب يميل إلى اعتبار الوضع، واستحب الإِمام اتباع العُرْف، وساعده صاحب الكتاب، وذكَرَ كما ذكَرْنا في قوله إن لم تميزي نوى ما أكلتُ عن نوى ما أكلْتِ فإن حقيقته بالوَضْع الفعْلُ وَالتَّفريق، والمفهومُ منْه في العرفِ الغالبِ التعيينُ، وردَّد مثْل ذلك في صُوَر أخرى، ثم بَيِّن بقوله: "والتحقيق أن ذلك لا يضبط" أنه لا يمكن ترجيح أحَدِ الجانبين، وإدارة الحُكْم عليه على الاطراد والإطلاق، ولكن تختلف الحال فيه باختلاف العُرْف اطرادًا أو اضطراباً، ويكفيه دلالةُ اللَّفْظ على المَعْنَى قوةً وضعفًا؛ فقد يقوى العرف، ويترجَّح، فيقتضي هجران الوَضْع، وقد يضطرب، فيُؤْخَذ بمقتضى الوضع، وعلى الناظر التأمل والاجتهاد فيما يستقبله، والله (¬2) الموفق. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَتْ: يا خَسِيسُ فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ كَذَلِكَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ قَصَدَ ¬
المُكَافَأَةَ طُلِّقَتْ بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ فَلاَ تُطَلَّقُ إِلاَّ بِوُجُودِ الخِسَّةِ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَالعُرْفُ يَقْضِي بِأَنْ يُحْمَلَ اللَّفْظُ عَلَى المُكَافَاَةِ فَقَدْ تَرَدَّدَ اللَّفْظُ وَالصِّيغَةُ للِتَّعْلِيقِ وَهُوَ أَوْلَى هَهُنَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذه الصورة مثَالٌ لتعلُّقات (¬1) تجري في المخاصمة والمشاتمة بَيْن الزوجين، وموضعهما في الأغلب إذا واجَهَتِ المرأة زَوْجَها بمكروه، وأسمعته قبيحاً فيقول الزوج على سبيل المكافأة: إن كُنْتُ كذلك، فأنتِ طالقٌ، يريد أن يَغِيظَها بالطلاق، كما غاظَتْه بالشَّتْم وإسماع المكروه، وكأنَّه يقول: تزعمين أنِّي كذا، فأنتِ طالقٌ إذنْ فإذا قالت له: يا خسيسُ، فقال: إن كنْتُ كذلك، فأنتِ طالقٌ، نُظِرَ، إن أراد المكافأة، كما أوضحناها، طُلِّقَت، سواء كان خسيسًا أو لم يكْن، وإن قصد التعليق، لم تُطلَّق إلا بوجود الخسَّة كما هو سبيل التعليقات قال أبو الحسن العبَّادي: الخسيسُ مَنْ بَاع دينه بدُنْياه وأخس الأخساء من باع دينه بدنيا غيْره، ويشبه أن يقال: الخسيس في العرف، من يتعاطى ما لا يليق بحاله؛ لشدة البُخْل، فإن وقَعَت الصفة المذكورة في مَحَلِّ الإِشكال، وكثيراً ما يَتَّفِق ذلك في أنواع الشتم والإيذاء، فالأصل أن لا طَلاَق، وإن أطلق اللَّفْظ، ولم يَقْصِدْ المكافأة، ولا حقيقة التعليق، جريْنا عَلَى حقيقة اللفْظ، وهي التعليق، فإن عم العرف بالمكافأة كان على الخلاف الَّذي سبَق في أنه يراعي وضع اللَّفْظ أو العرف، والأصح، وهو المذكور في "التتمة" أنَّه يراعي اللَّفْظ ولا يكاد يطّرد عرف في مثْل ذلك، وجواب القاضي الحُسين يوافِقُ الوجْه الآخر، فإنه قال في فتاويه: لو قالت المرأة لزوجها (مراز تويسك دارد) (¬2) فهي طالق، فظاهره المكافأة، فيقع الطلاق، فإن ادَّعَى أنه أراد التعليق، صُدِّق بيمينه، فإذا حلف، فقالت المرأة بعد ذلك (ازتويسك مى دارم) (¬3) صُدِّقت، ووقع الطلاق، قال: ولو سكتَتْ، واختلعت، ثم قالت: كُنْتُ مستنكفة منْك، فالطلاق واقع، والخُلْع باطل، لم يُقْبل قولها؛ لأنَّها تسقط بدْل الخُلْع عن نفسها, ولو قالت يا سفيهُ، فقال إن كنُتُ كذلك، فأنتِ طالقٌ فإن قَصَد المكافأة، طُلِّقت في الحال، وإن قَصَد التعليق، طُلِّقت، إن كان سفيهًا، وإن أطْلَق، فعلى الخلاف، ويمكن أن يُحْمَل السفه، على ما يوجب الحَجْر، وعلى هذا نظائرُ ما يقع به الشتْم والإِيذاء وتكلموا في كلمات يدخل بعضها في حد الإِفحْاش ففي "التتمة" أن القوَّاد مَنْ يحمل الرجال إلى أهِلْه، ويخلى بينهم وبيْن الأهل، وُيشْبه أن لا يختص هذا الاسْم بالأهل بل هو الذي يجمع بين الرجال والنساء بالحرام (¬4)، وأن القرطبان ¬
الذي يعرف من يَزْنِي بزوجته، ويسكت عليه (¬1)، وأن القليل الحمية الذي لا يَغَار على أهله، (¬2) ومحارمه، وأن القلاش الذواق الذي يُرى أنه يشتري الطعام ليتذوق منه، وهو لا يريد الشِّرَاء وأن الديوث من لا يمانع الناس من الدخول على زوجته، وفي "الرقم" للعبَّادي أنَّه الذي يشتري جاريةً تغني للنَّاس، وأن البخيل هو الذي لا يُؤَدِّي الزكاة، ولا يقري الضيف فيما قيل، وأنه لو قيل له: يا زوج القُحْبَة، فقال: إن كانَتِ امرأتي بهذه الصفة، فهي طالقٌ، فإن قَصَد التخليص من عارها، وقَع الطلاق، كما لو قَصَد المكافأة، وإلا فهُو تعليق، فيُنْظَر، هل هي بالصفة المذكورة (¬3)، وأنه لو قال لها في الخصومة أيْش تكونين أنْتِ؟ فقالت: وأَيْشٍ تكون أَنْتَ؟ فقال: إن لم أكنْ أنا منْك بسبيل، فأنْتِ طالقٌ، ذكر القاضي الحُسَيْن أنه إنْ قَصَد به التعليق، لا يقَع الطلاق؛ لأنها زوجته، فهو منْها بسبيل، وإن قَصَد المغايظة والمكافأة يقع، والمقصود إيقاع الفرقة وقطْع ما بينهما من السَّبَب، وأنَّها لو قالت لزوجها: أنْتَ من أهل النَّار، فقال: إن كُنْتُ من أهل النار، فأنْتِ طالقٌ، فلا يحكم بوقوع الطلاق، إن كان الزوْج مسلماً؛ لأنه من أهل الجنَّة في الظاهر، وإن كان كافراً، حكم بوقوع الطلاق، فإن أسلم بعد ذلك بان أنه لم يَقَع، ولو قالَتْ: يا سَفِلَة، فقال: إن كنْتُ كذلك، فأنتِ طالقٌ، فلأصحاب أبي حنيفة اختلافٌ شديدٌ في تفسيرِ هذه اللفظة. قال إسماعيل البوشنجي: والأولى أن يُقَال: هو الَّذي يتعاطى الأفعال الدنيئة، ويتعودها, ولا يقع هذا الاسم على الإِنسان بأن يَتَّفِق منه نادرًا؛ كاسم الكريم السيد في نقيضه، ولا يخفى أن النَّظَر في تحقيق هذه الأوصاف إنَّما يُحْتَاج إليه عند حمْل اللَّفْظ على التعليق، فأما إذا كان محمولاً على المكافأة، فيقع الطلاق في الحَال، ولا يحتاج إلى هذا النَّظَر، والكَوْسَج من قل شَعْر وجْهه مع انحساره عن عارضيه. وعن أبي حنيفة أنَّه الذي عدد أسنانه ثمانية وعشْرون. وذكر أبو العباس الرُّوياني أن الأحمْقَ من نقَصَتْ مرتبة أموره وأحواله عن مراتب ¬
أمثاله نقصانًا متباينًا بلا مرض ولا سبب (¬1)، وأن الغوغاء: الذي يخالط المفسرين والمنحرفين يخاصم الناس ولا تقية فيه. ولو قال: إن خرجتِ إِلاَّ بإِذني، فانتِ طالق، فقالت: أَنتَ أعظم سجن، فقال إن لم أكن عظيمًا، فأنتِ طالقٌ. قال إسماعيل البوشنجي: لا يجُوزُ فيه على قياس المَذْهب إلاَّ أحد قولين، إما أن يراعي الصفة، وإما أن يقْضِيَ بوقوع الطلاق في الحال، حمْلاً على طريقة المكافأة، ولو قالَتْ: يا جهودروي فقال: إن كنت كذلك، فأنْتِ طالقٌ، وقصد التعليق، قال الإِمام: وقع ذلك في الفتاوى، وأكثروا في التعبير، عن هذه الصفة، فقيل هي صُفْرة الوجه، وقبل الذلةُ والخساسة، وكان جوابنا فيه أن المُسْلِم لا يكون على هذا النعت، فلا يَقَع الطلاق، قال في "الوسيط": وفيه نظر؛ لأن الحال يتصور وصفًا في المُسْلِم حتَّى يُصَدَّق في تارةُ، ويكذَّب أخرى، وذكر أنه وقع في الفتاوى أن رجلاً قال لزوج ابنته في مخاصمتها: لم تحرك لحيتك، فقد رأيت مثل هذه اللِّحْية كثيراً؟ فقال: إن كنت رأيت مثل هذه اللحية كثيراً، فابنتك طالقٌ، قال وليس المراد المماثلة في الشَّكْل، والصورة وعدد الشعرات، وإنما يُكْنَى باللحية في مثل هذا الموضع عن الرجولية والفتوة ونحوهما، فإن حُمِلَ اللفظ على المكافأة، وقَع الطلاق، وإلا فلا يقع؛ لكثرة الأمثال، وفي "التَّتِمة" أنَّه إذا نُسب إلى فعْل سيئ كالزنا، واللواط، فقال: مَنْ فعْلُه مثْلُ هذا فامرأته طالق، وكان ذلك فعْلَه لم يُحْكَمْ بوقوع الطلاق؛ لأنه لم يوقع الطلاق، إنما غرضه ذَمُّ من يفعل ذلك، وكأنَّه يقول: لا يستحسن إمساك امرأة مجرمة في بيته لا يفعل مثل هذا الفِعْل. ولو قال لامرأته زنيت أَوَ سَرَقْتِ كذا؟ فقالت: لم أفعْلْ، فقال: إنْ كنت زنيت أو سرقت فأنتِ طالقٌ، يحكم بوقوع الطلاق في الحال، لإقراره السابق والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ عَلَّقَ عَلَى مُخَالَفَتِهَا لِلأَمْرِ ثُمَّ قَالَ: لاَ تُكَلِّمِي زَيْداً فَكَلَّمَتْ لَمْ تُطَلَّقْ لأَنَّهُ مُخَالَفَةٌ لِلَنَّهْيِ، وَهَذَا يُنَازعُ فِيهِ العُرْفُ، وَلَوْ عَلَّقَ عَلَى النَّهْي فَقَالَ: قُوْمِي فَقَعَدَتْ قِيلَ: إِنَّهَا طُلِّقَتْ لأَنَّ الأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ وَهُوَ فَاسِدٌ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إلَى حِينٍ أَوْ زَمَانٍ طُلِّقَتْ بَعْدَ لَحْظَةٍ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي العَصْرِ وَالحُقُبِ وَهوَ بَعِيدُ، ¬
وَلَوْ عَلَّقَ عَلَى الضَّرْبِ لَمْ يَحْنَثْ بِالضَّرْبِ مَيِّتًا، وَالمَسُّ بَعْدَ المَوْتِ مَسٌّ، وَلَمْسُ الشَّعَرِ وَالظُّفُرِ لاَ يُحْنِثُ، وَالقُدُومُ بِالمَيِّتِ لَيْسَ بِقُدُومٍ، وَقَذْفُ المَيِّتِ قَذْفٌ، وَرُؤْيَةِ المَيِّتِ رُؤْيَةٌ، وَالرُّؤْيَةُ فِي المَاءِ الصَّافِي رُؤْيَةٌ، وَفِي المِرْآةِ فِيهِ تَرَدُّدٌ، وَرُؤْيَةُ غَيْرِهَا الهِلاَلِ كَرُؤْيَتِهَا، وَالهَمْسُ بِالكَلاَمِ بِحَيْثُ لاَ يُسْمَعُ لَيْسَ بِكَلاَمٍ، وَكَذَلِكَ عَلَى مَسَافةٍ لاَ تُسْمَعُ، فَإنْ حَمَلَ الرِّيحُ الصَّوْتَ فَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنْ مَنَعَ الذُّهُولُ أَوِ اللَّغَطُ السَّمَاعَ فَهُوَ كَلاَمٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا علق الطلاق على مخالفة الأمر والنهي [فلو قال: إن خالفت نهيي فأنتِ طالقٌ، ثم قال: قومي، فقعدت، وقع؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن أضداده، وهذا فاسد؛ إذ ليس الأمر نهياً عن ضده فيما يختاره، وإن كان، فاليمين لا ينبي عليه، بل على اللغة أو العرف، لكن في المسألة الأولى نظر بسبب العرف (¬1) ولو قال: أنتِ ¬
طالقٌ إلى حين أو زمان، أو بعد حين طلقت بمعنى لحظة، ولو قال: إذا مضى حقب أو عصر فأنتِ طالقٌ، قال الأصحاب: يقع بمعنى لحظة، وقال الإِمام وصاحب الكتاب هذا مشكل؛ لأن اسم الدهر والعصر والحقب لا يقع إلاَّ على الزمان الطويل، قال الإِمام والعصر هو الذي يحوي أممًا، فإذا انقرضوا انقرض العصر ومن قول الناس انقرض عصر الصحابة، ومن قول الأصوليين هل يشترط في انعقاد الإجماع انقراض العصر، وهذا بين في معنى العصر، وليس ينقدح في الذهن يعني إذا أطلق وقرن بالمعنى إلاَّ العمل على العصر، ولست واثقًا بهذا لكن استبعاد وقوع الطلاق بمعنى الزمان اللطيف والتعليق بالعصر والدهر والحقب حق، ويؤيده أن أهل اللغة أوردوا أن الحقب بسكون القاف ثمانون سنة، وربما زادوا على الثمانين، والحقب بضمتين: الدهر، والحقبة بكسر الحاء واحدة الحقب وفسر أهل اللغة الحقب بسكون القاف بثمانين سنة، وليس في كتب الفقه ما يخالفه وإذا علَّق الطلاق بالضرب، طُلِّقت إذا حصل الضرب بالسوط أو الوكز أو اللكز، ولا يشترط إلاَّ تكون حائل، والأشْهَر أنَّه يعبر أن يكون فيه إيلام، ومنهم من لم يشترط الإيلام، واكتفى بالصَّدْمة لأنَّه قد يضرب مجتمع اللَّحْم من الإِنسان بجميع الكَفِّ فيلتذ به التذاذ المَغْمور، وهو ضَرْب، وليس بإيلام وإلى هذا قال الإِمام أنَّ الإِيلاَم وحْده لا يكْفِي؛ فإنه لو وضع حَجَرًا ثقيلاً عليه انصدم حتى تحْته، لم يكن ذلك ضربًا، وإن حصل الإِيلام، وإن الصدمة المجردة لا تكفي فإنَّه لو ضَرَب أنملة على إنْسَان، لا يقال: إنه ضربه، وكان المعتبر في إطلاق اسْم الضَّرب الصدم بما يُؤْلم أو يتوقع منه إيلام، ويدل عليه اتفاق الأصحاب على أنَّه لا يقع الطلاق، إذا كان المَضْروب مَيِّتًا؛ لأنه ليس في مظنة الإيلام، وأثبت القاضي الرُّوياني فيه خلافاً، فقال بعد ذكر المسألة وحُكْمها وَغَلَطِ من قال غيره، والعض، وقطْع الشّعر، لا يسمى ضربًا، فلا يقع به الطلاق المعلَّق بالضرب، قاله ابن سُرَيْج، وعن المُزَنِّي توقُّفٌ في العض؛ لحصول الصدمة والإِيلام، فكأنه ضَرْبٌ بالسن. الثانية: لو علق بالمس، وقع الطلاق إذا مسَّت شيئاً من بدنه حيًّا، كان أو ميتاً، ولا يُشْتَرَط ألاَّ يكون وراءه حائلٌ ولا يقع بمَسِّ الشعر والظُّفُر، قال الإِمام: الوجْه القطع وإن ذكرنا تردُّداً في أن الطهارة هل تنتقض بمسها من إنسان إن لمسه؟ وليس هذا بالبين، والأشبه مَجِيْء التردُّد فيه. الثالثة: إذا علَّق بقدوم زيد، طلِّقَتْ إذا قَدِم راكبًا أو ماشياً، وإن قدِم به ميتاً لم يقع فإنه لم يَقْدَم، وإن حُمِل وقَدِم به، نُظِرَ؛ إن كان بأمره واختياره، فهو كما لو قَدِم راكبًا، وإن لم يكن بأمره، لم يقَعْ، سواءٌ كان زَمِنًا أو صحيح البدن، هذا هو الظاهر، ويأتي فيه خلاَفٌ لأن صاحب "المهذب" وغيره نقلوا طريقاً فيما إذا حلف أن يدخل الدار، فحمل بغَيْر إذنه واختياره وأُدْخِل؛ أنه على القولَيْن فيما إذا أُكْرِه حتَّى دَخَل
بنفسه، ووجهوه (¬1) بأنا سوَّينا في حال الاختيار بيْن دخوله بنَفْسه، ودخوله محمولاً، فكذلك يستوي في حال عدم الاختيار بيْن دخوله بنفسه ودخوله محمولاً. الرابعة: إذا علَّق الطلاق بقذف زيْد، وقع الطلاق بقذفه حيًّا كان أو ميتاً؛ لأن قذف الميت كقذف الحيِّ في الحكم، ووقوع اللفظ عليه ولو قال: إن قذفت فلانًا في المسجد فأنتِ طالقٌ، فالمعتبر كون القاذف بالمسجد، بخلاف ما لو قال: إن قتلت فلانًا من المسجد فأنتِ طالقٌ، كان يعتبر المقتول في المسجد. والفرق أن قرينة الحال تشعر بأن المقصود الامتناع مما يهتك حرمة المسجد، وهتك الحرمة يكون القذف والقتل في المسجد يحصل إذا كان القاذف فيه، والقتل من المسجد إنما يحصل إذا كان المقتول فيه، فلو قال المعلِّق: أردت في القَذْف كَوْن المقذوف في المسجد، وفي القَتْل كَوْنَ القاتل في المسجد، فهل يُقْبل ظاهراً. وحكى الإِمام فيه تردُّدًا، والظاهر القبول، لصلاحية اللفظ للمعنيين، وإذا كان الفَرْق عنْد ذكْر المسجد مأخوذًا من قرينة الحال، فلو قال: إن قَذَفْت في الدار، وقتلت وجب الحال وُيرَاجَع المعلِّق. الخامسة: إذا قال: إن رأَيت فلانًا، فأنْتِ طالقٌ، فرأتْه حيًّا أو ميتاً، مستيقظًا أو نائمًا، وقع الطلاق، ولا بأْس يكون المرئي أو الرائي مجنونًا أو سكرانًا ويكْفِي رؤية شيْء من بدنه، وإن قلَّ. وفي وجْه المعتبر رؤية الوجْه، وإن كان كله ملفوفًا في الثوب، لم تُطلَّق، ولو رأتْه في المنام، لا تُطلَّق؛ فإنَّه لا يقع اسم الرؤية المُطلقَة، عليْه، وإن كان في ماءٍ صافٍ لا يمنع الرؤية، فَرَأَتْهُ فيه، فعن القاضي الحُسَيْن: أنه لا يقع الطلاق، والصحيح الوقوع، والماء اللطيف بَيْن الرائي والمرئي كأجزاء الهواء بينهما, ولهذا لا تصحُّ صلاة الواقف في هذا الماء ويكونُ حكمه حُكْمَ العارين، ولو رأَتْه من وراء زُجَاج شفَّافٍ، فهو كما لو كان في الماء، فرأته ولو نظرت في المرآة أو في الماء فرأتْه؟ قال الإِمام هذا فيه احتمال؛ لأنه، إن حصَلَت الرؤية في الحقيقة، لكنه يصحُّ في العرف أن يقال: ما رآه، وإنما رأى مثاله أو خياله، والظاهر أنَّه لا يقَعُ الطلاق، وبه أجاب صاحب "التهذيب" في المرآة والمتولِّي في المرآة والماء جميعاً، ولو كانت المرأة عمياء، فقال: إن رأيت فلاناً، فأنتِ طالقٌ، ففي "النهاية" أن المذهب أن الطلاق معلَّق بمستحيلٍ، فلا يقع، وفيه وجْه أنَّه يحمل (¬2) على حضورها عنْده، واجتماعهما في مجْلس واحد؛ لأن الأعمى يقول رأيتُ اليَوْم فلانًا، ويريد الحضور عنْده. ¬
وقوله في الكتاب "والرؤية في المَاءِ الصَّافِي رؤيةٌ" يريد به ما إذا كان المرئيُّ في الماء الصافي، فأما النَّظَر في الماء، ورؤية الشخْص فيه كالنظر في المرآة، ولا فَرْق بينهما, وليعلَّم قوله: "في الماء الصافي رؤية" بالواو لما حكينا عن القاضي، لو علَّق الطلاق برؤيتها الهلال أو برؤية نفْسِه فهو محمول على العِلْم، فرؤية غيْر المعلَّق برؤيته كرؤيته، وعلى ذلك حُمِلَ قوله -صلى الله عليه وسلم-: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ" ويقال: رأينا (¬1) الهلال ببلد كذا، ويراد رؤية بعْض أهل البلد، وتمام العدد كرؤية الهلال، حتى يقع به الطلاق، وإن لم ير الهلال لحائل، حُكِيَ ذلك عن أبي إسحاق، ولو قال المعلِّق أردتُّ بقولي: "إن رأيْتِ أو رأيْتِ" المعاينة قُبلَ قوله في الباطن، وفي الظاهر وجْهان: أشبههما القَبُول أيضاً، والمذكور في "التهذيب" أنه لو كان المعلّق برؤيته أعمى، لمْ يُقْبل التفسير بالمعاينة في الظاهر، ويجيْء على قياس ما ذكرنا فيما إذا قال للعمياء، إنْ رأيْتِ، فلاناً فأنتِ طالقٌ، أن يسوي بين الأعمى والبصير، في قَبُول التفسير بالمعاينة، وبالقبول أجاب الحَنَّاطِيُّ، وحَكَى فيما إذا أطلقَ فلم يُرِدْ شيئاً قوليْن في أنَّه هلْ يَقَعُ الطلاق برؤية الغَيْر وجميع ما ذكَرْنا فيما إذا جرى التعليق برؤية الهلال بالعربية، أمَّا إذا جَرَى بالعجمية، فعن القفَّال: أنَّه يُحْمَل على المعاينة دون العلْم، سواءٌ فيه البصير والأعمَى، وادعى أن العُرْف المذكور لم يُثْبت إلا في العربية، ومَنَع الإِمامُ الفَرْق فيه بين اللغتين. وفي "التهذيب" وَجْهٌ أنه يحمل في حق الأعمَى على العلم، وإذا أطْلَق التعليق برؤية الهلال، حُمِلَ على أوَّل شَهْر تستقبله حتَّى إذا لم تر في الشهر الأول، ترتفع اليمين، قاله في "التهذيب"، وهذا يخالف القَوْلَ بوقوع الطَّلاَقِ بتمام العدد على ما مَرَّ، ويمكن أن يُحْمَل ذلك على ما إذا صَرَّح بالمعاينة، أو فسر بها، وقبلناه. قال: والرؤية في اللَّيْلة الثانية والثالثة كهي في الأولى، ولا أثَرَ للرؤْية في الليلة الرابعة، فإنه لا يُسَمَّى هلالاً ثلاث وفي "المُهَذَّب" أنَّه لو لَمْ يرَ حتَّى صار قَمَرًا، لمْ تُطَلَّق بالرؤية بعْده، وحكى وجهين في أنه بم يصير قَمَرًا. أحدهما: باستدارته. والثاني: بأن يُبهر ضوءه (¬2). ويعتبر أن تكون الرؤية بعد غُرُوب الشمس، ولا أثر للرؤية، قبله، وقوله في الكتاب "ورؤية غيرها الهلال كرؤيتها" يعني إذا كان التعليق برؤيتها، ويجوز أن يعلَّم ¬
بالحاء؛ لأن الحكاية عن أبي حنيفة أنَّه يُعْتَبَر رؤية المعلق برؤيته خاصَّة. السَّادِسَة: قال: إن كَلَّمْتِ فلانًا، فأنْتِ طالقٌ، فكلمته، وهو سكران أو (¬1) مجنونٌ، يقع الطلاق، والشَّرط؛ على ما بيناه وفي "الشامل" يشترط أن يكون السكران؛ بحيث يَسْمَع ويكلم، وإلا فهُو كالنائم، ولو كلَّمتْه، وهو نائم، أو مغمى عليه، لم يقَع الطَّلاق، وكذا لو هذت في نومها، أو إغمائها, ولو كلَّمَتْه، وَهي مجنونة، أطْلَق ابن الصَّبَّاغ القول أنه لا يقَع الطَّلاق، وعن القاضي الحُسَيْن: أنَّه يقع، والظاهر تخريجه على الخلاف في حنث الناسي، والمكره، فإن قصد الجنون أضعف من قصد المكره، وسكرها حتى تكلمه لا يؤثر على الأصح إلاَّ إذا انتهت إلى السُّكْر الطافح، ولو خفَضَتْ صوتها بحيث لا يُسْمَع، وهو الهمس بالكلام، لم يقع الطلاق، وإن وقَع في سمْعِه شيْء اتفاقاً، وفهم (¬2) المقصود لأنه لا يقال: إنها كلَّمَتْه، وكذا الحكم لو كلَّمَتْه من مسافة بعيدة لا يُسْمَع الصوت منها, ولو اختطف الريح كلامها، وحمَلَه، وأوقعه في السَّمْع، فقد أشار الإِمام إلى تردُّد فيه، ولا ظاهر أنَّه لا يقع الطلاق، وإن كانت المسافة بحيْث يسمع منها الصوت، وقع الطلاق، إن لم يَسْمَع المكلم؛ لذهول أو شغل، فإن لم يسمع لعارض أو لغط أو ريح أو لما به من الصَّمم، فوجهان: أحدهما: وهو الَّذي أورده الإِمام، وصاحب الكتاب في اللغط، وبه أجاب القاضي الروياني أنه يقع الطلاق؛ لأنها كلَّمَتْه وعَدَم السماع إنما كان لعارض، فأشبه ما إذا كان للذُّهُول. وأصحهما: عند صاحب "التهذيب" أنَّه لا يقع الطلاق حتَّى يرتفع الصوت بقَدْر ما يسمع في مثل تلْك المسافة مع ذلك العَارِض، فحينئذٍ يَقَع، وإن لم يسمع وذلك؛ لأن الاعتبار بما يَكُون تكليمًا مع مَثْله، ولهذا يختلف حُكْم القريب والبعيد، ورأى الإِمام القَطْع بالوُقُوع إذا كان اللغط بحَيْث لو فُرضَ معه الإِصْغَاء، لأَمْكن السماع، وكذا في تَكلُّم الأصم إذا كان وجهه إليه، وعَلِمَ أنَّه يكلمه (¬3)، وقطع الحنَاطي بعَدَم الوقوع إذا كان الصَّمَم بحيث يَمْنَع السماع أصلاً، ويحكى قولين فيما إذا قال: إن كلَّمْتِ نائماً أو غائبًا عن البلد، هل يقع الطلاق في الحال بناء على الخلاف في التعليق بالمستحيلات، يحتمل أن يقال: لا يقع الطلاق حتى تخاطبه مخاطبة المكلّمين وبنحو منه، أجاب القاضي أبو الطيِّب فيما إذا قال: إن كلَّمْتِ ميتاً أو جمادًا، فأنتِ طالقٌ والله أعلم. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَكُلُّ فِعْلٍ عُلِّقَ بِهِ فَإِذَا حَصَلَ مِنَ المُكْرَهِ أَوِ النَّاسِي فَفِيهِ قَوْلاَنِ، فَإِنْ قَصَدَ مَنْعَهَا عَنِ المُخَالَفَةِ فَنَسِيَتْ لَمْ تُطَلَّقْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا علَّق الطلاق بفِعْل إنسان، فوجد ذلك الفعْل منْه، وهو مُكْرَةٌ أو ناسٍ للتعليق أو جاهِلٌ به، فعن القفَّال أنه لا أثَر لوُقُوع الفعْل في هذه الأحوال، ولا يخْرج وقُوع الطَّلاق على الخلاف في حصول الحنث إذا حلَف أن لا يدخل الدار، فدَخَل مكرهًا أو ناسيًا، وفَرقَ بأن التعويل في اليمين على تعْظيم اسم الله (¬1) تعالى، والحنث في هتْك حُرْمَته، وهذه الأحوال تَمْنَع حصول الهتْك، والتعويل في تعليق الطلاق على حُصُول الصفات المعلَّق عليها، وهي حاصلةٌ، وإن فُرِضَتْ هذه الأحوال فظاهرُ المَذْهب أنَّ لذلك الخلافِ مجالاً هاهنا أيضاً، فقد يقصَد بتعليق الطَّلاق الحنث، والمَنْع كما في اليمين، وعلى هذا؛ فيُنْظَرُ؛ إن علَّق الطلاق بفِعْل نفْسِه ففعله مكرهاً أو ناسيًا، ففي وقوع الطلاق قولان؛ وجه الوقوع: وجودُ الفعْل المعلَّق به، ووجه المنْع: أن الإِكراه والنسيان مرفوعان عن الأمة، فكأنه لم يوجَدِ الفعل؛ ولهذا قلنا: إنَّه لا يقع طلاق المكْرَه، وقد ذكَر صاحب "المهذب" والقاضي الرُّويانيُّ وغيرهما: أن الأظهر في الأيمان أنَّه لا يَحْصُل الحنث بفعل الناسي والمكره، ويشبه أن يكون الحال (¬2) في الطَّلاق (¬3) مثْله، وإن علَّق الطلاق بفعْل المرأة أو بفعْل أجنبي، فإنْ لم يكن المتعلَّق بفعله شعورٌ بالتعليق، ولم يقْصِد الزوج إعلامه أو كان المعلَّق بفعله ممَّن لا يبالي بتعليقه، كما لو علَّق بقدوم الحجج أو السلطان، وقَع الطلاق، إذا وُجِدَ ذلك لفعل، وإن كان مع الإكراه والنِّسْيان، لأنَّه ليس في التعليق، والحالَةُ هذه، غرَضُ حَثٍّ ومنع، وإنما الطَّلاق مَعلَّق بصورة ذلك الفِعْل، ومنْهم من أَجْرَى القولَيْن في صورة الإِكراه؛ لأن الإِكراه يُضْعِف الاختيار، وكأن الموجود فعْل المكره، وإن كان المعلَّق بفعله شاعراً بالتَعليق وكان (¬4) مِمَّن لا يبالي بتعليقه، فيَجْري في صورتي النسيان والإِكراه الخلافُ، ولْيُعْتَبَر معَ ذلك قَصْده الحث والمَنْع، وكذلك فَعَل ابن الصبَّاغ والإِمام؛ فإنَّه قد يَقْصِد التعليق بصورة الفِعْل، وإن كان الشخص ممَّن يبالي بتعليقه، ويلائمه ما ذَكَر صاحب الكتاب هاهنا، وفي "الوسيط" أنه لو قَصَد منْعَها من المخالفة، فنَسِيَتْ لم تُطلَّق؛ لأنَّه لم تتحقَّق مخالفة لكنَّه نفى في "الوسيط" الخلاف، وُيشبه أن يُرَاعَى معْنى ¬
التعليق، ويُطْرَد الخلاف (¬1) ولو علَّق الطلاق بدخول الطفل والبهيمة والسّنّوْر، ووُجِد الدخول، حَصَل الحنث، قال الحناطي: ويُحْتمل أن لا يحْصُل إن حَصَل الدخول كرهًا، فلا حَنِث، قال: ويُحْتمل أن يحْصُل الحنث؛ لأنَّه ليْس لهُمْ قصد واختيار صحيح [فلا أثر لإِكراههم] (¬2) قوله في الكتاب: ففيه قولان يجوز إعلامه بالواو لِمَا حكينا عن القَفَّال، وأيضاً فإنَّه مطْلَقٌ، وذكرنا أنه لو كان المعلَّق بفعله ممن لا يبالي بالتعليق، لم يُؤثِّر الإِكراه في أحد الطريقين، وهو الأظهر ولا أثر للنسيان في هذه الصورة، بلا خلاف والله أعلم. وإذْ وفق الله تعالى لشرح [هذا] (¬3) فنعقبه بمسائل وصُوَر مبددة: إذا قال لأربع نسوةٍ تحته: إن لم أطأْ واحدةً منْكُنَّ اليوم، فصواحبها طوالقٌ، فإن وطئَ واحدةً منْهُنَّ في ذلك اليوم، انحلَّت اليمين، وإن لم يطأْ واحدةً، وقعَتْ على كلِّ واحدةٍ منهن طلقةٌ، ولو قال: أيَّتُكُنَّ لم أطأها اليوم، فالأُخرياتُ طوالقُ، ومضى اليوم، ولم يطأْ واحدةً، طُلِّقت كل واحدة ثلاثاً؛ لأن لها ثلاث صواحِبَ لَمْ يطأْها, ولو وَطِئَ واحدةً، طُلِّقت هي ثلاثاً، [لأن لها ثلاث صواحب لم يطأهن] وكل واحدة من الأخريات طُلْقْنَ؛ لأن لكل واحدة منهن صاحبتَيْن لم يطأْهُمَا, ولو وطئ اثنتين طُلِّقَت كلُّ واحدة منْهما طلقتين، وكل واحدة من الأخريين طلقةً، ولو وطئ ثلاثاً، طُلِّقت كل واحدة منْهن طلقةً، ولم تُطلَّق الرابعة؛ لأنَّه لَيْس لها صاحبة غيْر موطوءه، ولو قال: أيتكن لم أطأها، فالأخريات طوالق، ولم يقيِّد بِوَقْت، فجميع العمر وقْتٌ له، فإن مات أو مُتْن قبل الوطء، طُلِّقت كل واحدة ثلاثًا قبيل الموت، وإن ماتَتْ واحدة قبل الوطء، والزوج حيٌّ، لم يُحْكَم بوقوع الطلاق على الميتة؛ لأنه قد يطأ الباقيات، ويقع كل واحدة من الباقيات طلقة، ولو ماتت ثانية قبل الوطء: تبيَّن وقوع طلقة على الأولى قبل موتها، وطُلِّقت كل واحدة من الباقيتين طلقةً أخرى، وإن بقيتا في العدة، فإن ماتَتْ ثالثة قبْل الوطء، تبيَّن وقوع طلقتين على الأوليين قبل موتهما، وطُلِّقَت الباقية طلقةً ثالثة، فإن ماتَت الرابعة قبيل الوطء تبينَّ وقوع الثلاث على الجميع. ولو قال: أنتِ طالقٌ عشْرًا، فقالت تكفيني ثلاث، فقال: الباقِي لضرَّتِكِ، لا يقَعَ على الضَّرَّة شيءٌ؛ لأن الزيادة على الثلاث لغْوٌ، ولو قالت تكفيني واحدةٌ فقال: الباقي ¬
لِضَرَّتِك، يقع عليها ثَلاَثٌ، وعلى الضَّرَّة طلقتان، إذا نوى، قاله في "التهذيب". قال: إن سرقْتِ منِّي شيئاً فأنتِ طالقٌ، فدفع إليها كيسًا فأخذت منْه شيئاً، لا تطلَّق؛ لأنه يُسمَّى خيانةً: لا سرقةً، والعُرْف قد تنازع في ذلك. قال لامرأته: إن كلَّمْتُك، فأنتِ طالقٌ، ثم أعاد مرَّة أخرى، طُلِّقَت؛ لأنَّه قد كلَّمها وبالإِعادة، ولو قال: إن كلَّمْتُك، فأنتِ طالقٌ، فأعلمي ذلك، طُلِّقَتْ بقوله فاعلمي ذلك وقيل: إنَّه إذا كان موصولاً بالكلام الأول، لم يُؤَثِّر؛ فإنه من تتمته، ولو قال: إن كلَّمْتُك، فأنتِ طالقٌ، إن دخلْتِ الدارَ، فأنتِ طالقٌ، فالتعليق الثاني كلامٌ معها، فتطلَّق، وإن قال: إن برأتُكِ بالكلام، فأنتِ طالقٌ، وقالت: إن برأتُكَ بالكلامِ فعَبْدي حرٌّ، ثم كلمها ثم كلمته، لم تُطَلَّق هي، ولم يُعْتَق العبد؛ لأن يمينه انحلَّت بتعليقها، ويمينها انحلت بكلامه أوَّلاً، ولو قال لغيره إن برأتك بالسَّلام، فعَبْدي حرٌّ، وقال ذلك الغير: إن برأتك بالسَّلام، فعَبْدِي حُرٌّ ثُمَّ سَلَّمَ كُلُّ واحد منهما على الآخر دفعة واحدةً قال في "النهاية: لا يُعْتَقُ عبْدُ واحد منْهما؛ لأنَّه لم توجَد البداية بالسلام منْ واحد منهما وتنحل اليمين فإذا سلَّم بعد ذلك أحدهما على الآخر لم يعتق واحد من عبديهما لأنه ليس مبتدئًا. قال المَدْيون لرب الدين: إن أَخَذْتَ ما لك عليَّ، فامرأتي طالقٌ، فأخذه مختارًا، طُلِّقت امرأة المديون، سواءٌ كان مختارًا في الإعطاء أو مكرهًا، وسواء أعْطَى بنفسه أو بوكيله، أو استلبه ربُّ الدَّيْن. وَبِمِثْلِهِ أجاب صاحب "التهذيب" فيما إذا أخذه السلطان، فدفعه إلَيْه، وفي كتب العراقيين أنَّه لا يقع الطَّلاق إذا أخذه السلطان، ودَفَعه إليه؛ لأنه تبرأ ذمَّة المديون إذا أخَذَه السُّلْطَان، ويصير المأخوذ مِلْكًا له، وإذا كان كذلك، فلا يَبْقَى له حقٌّ عليه، حتى يقال: أخَذَ حقَّه عليه، ولو قضَى عَنْه أجنبيٌّ قال الداركي: لا يقع الطلاق؛ لأنَّه بدل حقّ المستحقِّ، لا حقّه، ولو قال: إن أخذْتَ حقَّكَ منِّي، فهي طالقٌ، لم تطلَّق بإعطاء وكيله ولا بإعطاء السلطان من ماله، فإن أكرهه السُّلْطَان، حتى أعْطَى بنفسه، فعلى القولين في فِعْل المكره، ولو قال: إن أعْطَيْتُكَ حقَّكَ، فأعطاه باختياره، حنث، سواءٌ كان الآخَرُ مختارًا في الأخذ أو لم يكن، ولا يحنث بإعطاء الوكيل والسلطان. قال: أنتِ طالقٌ مريضة بالنصب لا يقع الطلاق إلا إذا مَرِضَتْ؛ لأن الحال كالظَّرْف للفعل ولو قال: أنتِ طالقٌ مريضة بالرفع فقد قِيلَ، يقع الطلاق في الحال، وقوله: "مريضةٌ" وصف لها واختار ابن الصَّبَّاغ الحمل على الحال أيضاً؛ لأنه لَحْنٌ في الإِعراب (¬1). ¬
قال لامرأتيه إن دخلتما هاتَيْن الدارين، فانتما طالقتان، فدخلَت كل واحدة منهما إحْدى الدارين، فوجهان: أحدهما: يُطَلَّقان، لدخولهما الدارين. والثاني: لا؛ لأن قضيَّته دخول كل واحدة منهما الدارين، ألاَ ترى أنه لو قال لواحدة إن دخلْتِ الدارَيْن اعتبر أن تدخلهما. ولو قال: إنْ أكلتُما هذين الرغيفين، فأكَلَتْ كلُّ واحدة رغيفًا وقالوا: يقع الطلاق؛ لأنَّه للمساغ فيه للاحتمال (¬1) الثاني. ولو قالت أنت تملك أكثر من مائة قال: إن (¬2) ملكْتُ أكْثَرَ منْ مائةٍ، فأنتِ طالقٌ، وكان يملك خمسين، روجعَ، فإن قال: أردتُّ أني لا أملك الزيادة على مائة، لم يَقَع الطلاق، وإن قال: أردتُّ أَنِّي أملكُ مائةً بلا زيادة، وقَع، وإن أطلق فعلى يُحْمَلُ؟ فيه وجهان (¬3). ¬
ولو قال: إن كنْتُ أملك إلا مائةٌ، وكان يملك خمسين، فمِنْهم مَنْ طَرَد الوجهين (¬1)، ومنهم من قطع بالوقوع. إذا قال: إن خرجْتِ إلا بإذني، فأنتِ طالقٌ، فالصورة بفروعها تأتي في الأيمان إن يسر الله -تعالى-؛ لأن لها ذكراً في الكتاب هناك، ولو قال: إن خرجْتِ إلى غيْر الحَمَّام بغير إذني، فأنتِ طالقٌ، فخرجَتْ إلى الحمام، ثم قَضَتْ حاجةً أخرى، لم تُطلَّق، وإن خرجَتْ لحاجة أخْرَى، ثم عدَلَتْ إلى الحمام، طُلِّقَت، وإن خَرَجَتْ للحمام وغَيْره؛ ففَي وجْهٍ تُطَلِّق، كما لو قال: إنْ كلمْتِ زيْدًا وعمرًا، وفي وجْه لا تُطَلَّق؛ لأن المفهوم من قوله: "إن خرجت إلى غير الحمام" المقصود أجنبيٌّ عن الحمام، وهاهنا الحمَّام مقصُودٌ بالخروج (¬2). ولا يقع الطلاق في النكاح الفاسد، وعن مالك وأحمد: أنَّه يقع في النكاح المُخْتَلَف [منه] (¬3). وفي فتاوى القَفَّال: أنه لو قال: وَقَدْ خرجَتْ زوجته إلى دار أبيها: إن ردَدتُّها إلى دَارِي [أو رَدَّها] (¬4) أحدٌ، فهي طالقٌ، فاكترت بهيمة وعادت إلى داره مع المكاري، لم يَقَع الطلاق؛ لأن المكاري ما رَدَّها، وإنما صَحِبَها في الطريق، ولو عادَتْ ثُمَّ خرجَتْ، فردَّها الزوج، لم تُطَلَّق؛ لأنه ليس في اللفظ ما يقتضي التَّكرار، وأنه لو قال: (حلال ¬
خد اى من حرام) (¬1) بمعنى طلاق (اكَرآن جامه كه توكنى دربو شم) (¬2) فلبس ثوباً غزلَتْه في السَّنة الماضية، لم تطلَّق؛ لأن اللفظ للمستقبل، ولا يختص الحنث بما غزلته وخاطته لأنَّه يقال (فلانرن بنو هزار جامه كرد) (¬3) وإن كانتْ قد اشترته، ويقول الرجل (من فلان را جامه كردم) (¬4) وإن لم يكُنْ منْه غَزْلٌ. وأنه لو قال: المرأة التي تدْخُل الدار من نسائي طالقٌ، فما لم تدخل واحدةٌ [الدار]، لا يقع الطلاق، ولو أشار إلى واحِدَة بعَيْنها، وقال: هذه الَّتي تدخل الدار طالقٌ، طُلِّقت في الحال، دخلت أو لم تدخُلْ، وأنَّه لو قال: (حلال برمن حرام اكَراز خانه بيرون سوى) (¬5) (واكَراز مال من كسى واجيزى وهي) (¬6) (واكَر يخانه ماذن ئو) (¬7) طُلِّقَتْ بأية صفة من هذه الصفات، وجدت. ولو قال: (اكَراز خانه بيرون شوى وكسى جيزى وهى) (¬8) لَمْ تُطَلَّق إلاَّ بهما، وأنَّه لو قال (حلال برمن حرام واكَر خواهر توفردادر خانه من بأشد) (¬9) فلَمَّا أصبحت الأخْتُ، جَمَعَتْ أمْتِعَتَها وخَرَجَتْ، إنْ خرجَتْ قبْل الفجْر، لم تطلَّق، وإن خرجَتْ بعْده، فالظاهر وقُوعه؛ لأنَّه يقتضي جميعَ نَهَار الغد (¬10) هذا لفظه، وهو بعَدَمِ الوقوع أشدُّ إشعاراً، وأنه إذا كان يَخْرُج من بيته، فقالت المرأة: ألا (¬11) تريد الخروج إلى السُّوق اليوم، فقال: أريده، فكذَّبته، فقال (حلال خداى يرمن حرام اكَرمن من بيازا رشوم امروز) (¬12) فإن راعَيْنا المعنى، فالتقديرُ: حلال اللهِ عليَّ حرامٌ، إن لم أخرجْ إلى السُّوق اليَوْم، وإن راعَيْنَا اللفْظَ، وإن قدمنا المُؤَخَّر، فكأنه قال (كه من بازار شوم حلال خداى برمن حرام) (¬13) أي إذا خرجْتُ إلى السوق، فحلال الله عليَّ حرامٌ، وإن لم يقدَّم المؤخر، فقضيته أن يقع في الحال، ويلغو قوله (كه من بازا ¬
رشوم) (¬1) فقال الشَّيْخ القفَّال في هذا كالمتحيِّر، وأن الأقرب الاعتماد على المَعْنَى، وأنه لو قال (اكَرمن ارزشت ازبافت شود رتوشمر توبه طلاق هشته) (¬2) حنث إذا لبس من غزلها، وإن لم تَنسُجْه، ومن نسجها [فلبس ثوباً]، وإن لم تَغْزله، فلو قال (اكَرمن ارزشت وبافت تودر بوشم) (¬3) فلو لَبِسَ ثوباً نسجًا من غزلها, ولم تنسجه، لم يحنث، ولأنَّ الطلاق معلَّق بالصفتين؛ الغزل والنسج، ولو لبس ثوباً نُسِجَ من غزلها، وآخر نسجته هي حَنَث، لاجتماع الصفتين في الثوبين. ولو ادَّعَت امرأة على رجُل أنَّه نكَحَها، وأنكر فَمنَ الأصحاب مَنْ قال: لا يَحِلُّ لها أن تنكح غيْره وهو الظاهر، ولا يجعل إنكاره إطلاقًا، بخلاف ما إذا قال: نكَحْتُها، وأنَا واجد للطَّوْل، فيجعل ذلك فرقةً بطلقة؛ لأن هناك أقر بالنكاح وادعى ما يُمْنَع صحته، وهاهنا لم يَقر أصلاً وقِيل: يتلطَّف الحاكم به حتَّى يقُول: إن كنت نكحتَها، فقد طلَّقْتَها، وأنَّه لو قال: حلالُ اللهِ عليَّ حرامٌ، لا أدخل هذه الدار كان ذلك تعليقاً، وإن لم [يكن] فيه أداة تعليق، وأنَّه لو قال: حلفْتُ بطلاقك إلاَّ تَخْرُجِي من الدَّار، ثم قال: ما حَلَفْتُ، وإنما قَصَدتُ تفريغها, لا يُقْبَل في الحكْم ويدين، أنها لو قالت لزوجها: اجعل أمر طلاقي بيَدي، فقال: إن خرجْتِ من هذه القرية، أجْعَلْ أمْر طلاقك إلَيْك، فقالت: أخْرُجُ، فقال: جعلْتُ أمرك بيدك، فقالت: طَلَّقْت نفسي، فإن ادعى الزوج أنه أراد بعْد خروجها من القرية، صُدِّقَ، وإلا وقَع الطلاق في الحال، وأنَّه لو قال: إن أبرأْتِنِي عن الدَّيْن الذي لك عليَّ، فأنْتِ طالقٌ، فابرأَتْه، يقَع الطلاق بائنًا، ولو قال: إن أبرأت فلانًا، فابرأتهُ، يقع الطَّلاقُ رجعيّاً، [و] أنَّه لو قال لأم امرأته: بنتُك طالقٌ، ثم قال: أردتُّ البنت الَّتِي ليست بزوجة لي صدق وأنه لو قال إذا فعلت ما ليس لله فيه رضا، فأنتِ طالقٌ، فتركت صومًا أو صلاة فينبغي ألاَّ يقع الطلاق؛ لأنَّه تَرْك، ولَيْس بفِعْلٍ، ولو سرقت أو زَنَتْ يقَعَ (¬4). عن الشيخ أبي العاصِم العَبَّادِيِّ أنه لو قال: أنْتِ طالقٌ يا طالق لا طلقتك تقع طلقتان وأنه لو قال لزوجته: إن وَطِئْتُ أمتي بغَيْر إذْنِك، فأنتِ طالقٌ، ثم استأذنها، ¬
فقالت: طَأْهَا في عينها لا يكون هَذَا إذنًا، وسئل عمَّن له أمة، وتحته امرأة، فدعا الأمة إلى فِرَاشِه، فحضرت الحرَّةُ فوطِئَها، ثم قال: وهو يظنُّ أنها الأمة: إن لم تَكُونِي أحْلَى من الحرَّة، فهِيَ طالقٌ، فقال: أفتى أبو حامد المروزي تطلق لأنَّها هي الحرَّة: فلا تكون أحْلَى من الحرة، وحكى أبو العبَّاس الرُّوياني وجْهًا أنَّها لا تُطلَّق؛ لأن عنده أنه يخاطب غيْرها قال: وهو الأظهر، وبه أفتى أبو عبد الله الحنّاطي. وسئل القاضي الحسين، عمن حلف بالطلاق أنه يقرأ عشْرًا من أول سورة البقرة بلا زيادة وأن يقف، وللقراء اختلافٌ في رأس العشْرة، فقال تدور المسألة على اعتقاد المفتي، فما أدى إليه اجتهاده أَخَذَ المستفتي به، وعن امرأة صعِدَتْ بالمفتاح فقال الزوج: إن لم تُلْقِي المفتَاحَ من السطح، فأنتِ طالقٌ، فلم تلقه، ونَزَلَت فقال: لا يقع الطلاقُ، ويُحْمَل قوله: "إن لم تُلْقهِ" على التأبيد، كما قال أصحابنا: فيمن دخل عليه صديقه، فقال تغد معي، فامتنع، فقال: إن لم تَتَغَدَّ معي، فامرأتي طالقٌ، فلم يفْعَل، لا يقع الطلاق، ولو تغَدَّى بعْد ذلك يوماً من الدهر انحلت اليمين، نعم لو نوى الحال فامتنع، وقع الطلاق، ورأى صاحب "التهذيب" حمْل المُطْلَق على الحال، [للعادة] (¬1)، وهو المَحْكِي عن أبي حنيفة -رحمه الله- وفي فتاوى القاضي الحسين: أنه لو كانت له دجاجات تُفْسِد الثياب، فقال: إن لم تبيعي هذه الدجاجات، فأنتِ طالقٌ، فرمت واحدةً منْها، وقتلتها، وقع الطلاق؛ لتعذر البيع، وإن جرحتها ثم باعتها، فإن كانت، بحيث لو ذُبِحَتْ لم تَحِلَّ، لم يصح البيع، ووقع الطلاق، وإن كان بحيث لو ذبحت حلَّت، أصح، (¬2) البيْع، وانحلت اليمين، وأنَّه لو قال: إن قرأْتُ سورةَ البَقَرة في صلاة الصبح، فأنتِ طالقٌ، فقرأها، ثم فسدتْ صلاتُه في الركعة الثانية، لم يقع الطَّلاق على ظاهر المذهب؛ لأن الصلاة عبادةٌ واحدةٌ، ففساد آخرها فسادُ أولها، وأنَّه لو قال لامرأته: مهما قَبَّلْتُكِ فضَرَّتك طالقٌ فقَبَّلَها بعْد موتها لم تطلَّق الضرة، ولو قال لأمّه: مهما قَبَّلْتُكِ، فامرأتي طالقٌ، فقَبَّلَها بعْد موتها، طُلِّقت امرأته، والفرق أن قُبْلةَ المرأة قبلةُ شَهْوة، ولا شهوة بعْد الموت، وقُبْلَة الأم قبلة كرامة، فتستوي فيْه حالة الحياة والموت، وأنَّه لو قال: (اكَرابن دستار كه توكرده اى در سر يندم يادركه خداى من آيز تو هشته، اى) (¬3) فباعته، ودفعت الثمن إليه، فصَرَّفه في حوائجه، لم يقع الطلاق لأن عيْن المنديل لم تدخله في (كد خدا يته) (¬4) ولو ابتزرنه أو تفحص لحنث وأنه لو قال: (حلال ¬
خداى بر مني حرام كه درنكاح من نباش) (¬1) يقع في الحال؛ لأنها في نكاحه، ولو قال: (اكَرتودا دارم توهشته اى) (¬2) فعن القفَّال: أنَّه كنايةٌ، فإن أراد الإِمساكَ في الزوجية، فإذا مَضَى عقيب اللفظ زمانٌ يمكن أن يُطَلِّقَ فيه، فلم يُطَلِّق، وقَع الطلاق، فإن طلَّق وثم راجع، كان ممْسكاً بالرجعة (¬3)، وإن نوى الإِمساك باليد، أو في الدار، قُبِلَ منها، فإن أخرجها من الدار، ثم ردَّها، وقع الطلاق بالرد، وإن فسرناها بالاتفاق عليها، ففي القَبُول وجهان، عن أبي العبَّاس الروياني وأنه لو قال: إن غَسَلْتِ ثوبي فأنتِ طالقٌ، فغسلته أجنبية ثم غَمَسَتْه المحلوف بطلاقها في الماء تنظيفًا له، لا يَحْنَث، لأن العُرْف في مثْل ذلك يغلب، والمراد في العرف الغسل بالصابون والأشنان، وإزالة الدَّرَن، وسئل عنْه غيْرُه فقال: إن أراد الغسل من الدَّرَن، لم يحْنَث، وإن أراد التنظيف، حَنَث، قيل: فإن أطلق قال: لا أجيب فيه (¬4) وفي فتاوى الشَّيْخ الفَرَّاء أنَّه لو طلَّق امرأته ثلاثاً ثم قال كنْتُ حرَّمتها على نفْسي قبل هذا، فلم يقع الثلاث، لم يُقْبَل قولُه، وأنه لو قال: إن ابتلعت شيئاً، فأنْتِ طالقٌ، فابتلعت ريقَها، حنث، فإن قال، عنيْتُ غير الريق صُدِّقَ في الحكم، ولو قال إن ابتلعت الريق، فأنتِ طالقٌ، حَنَث، إذا ابتلعَتْ ريقَ نَفْسها أو ريق غيرها فإن قال: عنَيْتُ ريقك خاصَّة، قبل في الحُكْم: وإن قال: عنيْتُ ريق غيرك خاصَّةً، لم تقبل في الحُكْم، ودين، وأنَّه لو قال: إن ضربتُكِ، فأنتِ طالقٌ، فقصَّد، ضرب غيرها، فأصابها, لم يُقْبَل؛ لأن الضَّرْب يقينٌ، يُحْتَمَل أن يقبل؛ لأنَّ الأصْل بقاءُ النِّكاح، وأنَّه لو نادى أُمَّه، فأجابتْه، فلم يسمع فقال: إن لم تُجِبْني أمي، فامرأتي طالقٌ، فإن رفعَتِ الأم صوْتَها في الجواب؛ بحيث يسمع في تلْك المسافة، لم ¬
يحْنَثْ، وإلا حنث، وأنه لو قال: إن دخلْت على فلان داره، فامرأتي طالقٌ، فجاء فلانٌ وأخذه بيده، فأدخله الدار، فإن دخلا الدار معاً، لم يحْنَث، وإن دخل فلان أوَّلاً، حنَث، وأنَّه لو حلف لا يخرج عن البلد حتَّى يقْضِيَ دين فلانٌ بالعمل، فعَمِل له ببعض دَيْنِه، وقضى الباقي من موضع آخر، ثم خَرَج، حَنَث، فإن قال: أردتُّ أني لا أخْرُج حتى أَخْرُج من دينه، وأقضي حقَّه قُبِلَ قوْله في الحُكْم (¬1). وعن أبي العبَّاس الرُّويانيِّ أنَّه إذا طلَّق امرأته، فقيل له (طلَّقتها ثَمَّ) قال: طلقة واحدةً، قُبِلَ قولهُ؛ لأن قوله طلقتها صالح للابتداء غيْر متعين الجواب، وأنه إذا قال: إن سرقْتِ ذهباً، فأنتِ طالقٌ فسرقت ذهباً مغشوشًا، فالمذْهَب وقوعُ الطَّلاق (¬2)، وفيه وجْه. وأنَّه لو قال: إن أجبتني عن خِطَابِي، فأنْتِ طالقٌ، ثم خاطبها فقرأت آية تتضمن جوابه، فإن قالت: قصدت بقراءتها جوابه طلقت، وإن قالت قصدت قراءة القرآن دون الجواب، لم يقع، أو إن لم تبيَّن الحال، فالأصْل أن (¬3) لا طلاق، وأنَّه لو قال: إن لم تستوفي حقَّك من تركة أبيك تامًّا، فأنتِ طالقٌ، وكان إخوتها قد أتلفوا بعض التركة، فلا بدّ وأن تستوفي حِصَّتها من الباقي وضمان حصتها من التالف ولا يكفي الإبراء لأن الطَّلاقَ معلَّق بالاستيفاء إلا أن الطَّلاق إنَّمَا يقع عنْد اليأس، من الاستفتاء، وأنَّه لو قال (حلال خدائى برمن حرام معْنى طلاق اكَر من ريس تودر بوشم) (¬4) والتحف بملاءة من غَزْلها، فعن القفَّال: أنه لا يحْنَث؛ لأنه لا يُسمَّى ذلك بالفارسية (دربو شيدون) (¬5). ولو جرى التعليق بالعربية: يحنث لأنَّه لا يسمى لُبْسًا، قال: وعنْدي أنه لا فَرْق بين اللغتين، ولكن يُنْظَر إن اضطجع، فأُلْقَتِ الملاءة علَيْه، فهذا ليس بلُبْس، وإن كان بعْضُه تحته، وبعضه فوقه، فهذا يُحْتَمَل أن يُجْعَل لبسًا لارتداء، وعن القفَّال: أن قوله (ازرشته تودر نبوشم) (¬6)، تناول المغزول، وقُبِلَ اليمين، وقولُه (انج توديسي) (¬7) يتناوَل ¬
المغزول بعدها، وقول (ازريس تو) (¬1) يتناولهما جميعاً. وأنه لو أشار إلى ذَهَب، وحَلَف بالطلاق أَنه الَّذي أخذه من فلان، وشَهِد شاهدان أنّه ليْس ذلك الذهب، وأنه حانِثٌ، فظاهر المَذْهَب وقوعُ الطَّلاق، وإن كانت هذه شهادةً على النفي؛ لأنه نَفْيٌ يحيط العِلْم (¬2) به وأن الشاهد رُبَّما رأى ذلك المذهب، وعلم أنه غير المحلوف علَيْه. وفيه وجْه: أنه لا تُقْبَل هذه الشهادة، ولا يقع الطلاق، وأنه لو حَلَف بالطلاق أنه لا يَفْعَل كذا، فشَهِد شاهدانِ عنْده إنه فعَلَه، وتُيُقِّنَ صدقهما، أو غلب على ظنه صدْقهما، لَزِمَه أن يأخُذ بالطَّلاق (¬3)، وأنه لو غَلَّق الباب على أرْبعَ نِسوة له فتحت إحداهن الباب، فقال: من فتحَت الباب منْكُنَّ، فهي طالق، فقالت كلُّ واحدة: أنا فتحْتُ لم يُقْبَلْ قولهن؛ لإمَكان إقامة البيِّنة عليْه، قال: فإن اعترف الزوْج أنَّه لا يَعْرِف أيتهن فتحَتْ، لم يكن له التعيين في كلِّ واحدة منْهُنَّ، وإنما يُرْجَع إلى تعينه، إذا كان الطَّلاق مبهماً (¬4) ولو حلف بالطَّلاق أنَّه أنفذ فلاناً إلى بَيْت فلان، وعلم أن المبْعوث، لم يَمْض إليه، ففي وجهٍ: يقع الطلاق؛ لأن اللفْظ يقتضي حصولَه هُنَاك، والصحيح المَنْع؛ لأنه يصْدُق أن يقال: أنفذه، فلم يمتثل، وأنَّه لو قال لها: إن لم تطيعيني (¬5)، فأنتِ طالقٌ، فقالت: لا أطيعُكَ، ففي وجه: يقَعُ الطلاف بقولها "لاَ أُطِيعُكَ"، والأصحُّ؛ أنه لا يقَع حتَّى يأمرها بشيْءٍ، فتمتنع أو ينهاها عن شيْء فتفعله، وأنه لو قال: امرأتي طالقٌ إن دخلت دارها, ولا دار لها وقْت اليمين، ثم مَلَكَت دارًا، فدخلَها، حصَل الحنث، وأنَّه لو قال إن لم تَكُوني الليلة في داري، فأنتِ طالقٌ، ولا دار له، ففي وقوع ¬
الطلاق وْجهان مبنيان تارة على التعليق بالمستحيل، وأُخرى على الحنث، هل يحْصُل بفْعِل المكره. وأنه لو قال: امرأتِي هذه تَحْرُم عليّ لا تَحِلُّ لي أبداً، فلا طلاق؛ لأنه قد يظن أنها تحرم عليْه باليمين على أن لا يُجَامِعَها، واللفظ ليْس صريحاً في الطلاق، وقيل: يُحْكم بالبينونة بهذا اللفظ، وأنه لو قال: لِمن يُسمَّى زيْداً: يا زيدُ، فقال: امرأةُ زيْدٍ طالقٌ، طُلِّقَت امرأته، وقيل: لا تُطلَّق إلا أن يريد نفسه، وأنه لو قال: إن أجبتِ كلامي، فأنْتِ طالقٌ، ثم خاطب الزوج غيْرَها، فأَجَابَتْ هي، فظاهر المذهب أنها لا تُطلَّق؛ لأنَّه إنما يُسمَّى جواباً إذا كانَتْ هي المخاطبة، وأنه لو حلَف أن لا تَخْرُج من الدار إلا بإذنه، فأخرجها هو، هل يكون الإخراجُ إذْناً؟ فيه وجهان، القياس المَنْع، وأنه لو عُزل القاضِي فقال: امرأة القاضي طالقٌ [هل] (¬1)، يَقَع طلاقه، فيه وجْهَان، وأنه لو قيل لَهُ: طَلَّقْت امرأتك، فقال: أَعْلَمُ أَن الأمْرَ على ما تقول، هل يكون هذا إقرارًا بالطَّلاق؟ فيه وجْهَان؛ الأصح المنع، وأنه لو دَخَل موضعًا فيه جماعةٌ، فخرج، وقد لَبس خُفَّ غيره غلطاً، فقالت له زوجته: قد استبدلْتَ خُفَّكَ، ولبستَ خفَّ غيرك؛ فأنكر، وحَلَف بالطلاق أنَّه لم يفْعَل ذلك، فإن كان خَرَج بعْدما خرج القَوْم، ولم يبق هناك إلا ما لبسه لم يقع طلاقُه؛ لأنه لم يستبْدِلْ إنما استبدل الَّذين خرجوا قبْلَه، وإن بقي هناك غيره، وقع الطلاق (¬2). وأنه لو رأى امرأته تنحت خشبة، فقال: إن عُدتِّ إلى مثْل هذا الفِعْل، فأنتِ طالقٌ، فنحتت خشبةً من شجرة أخْرَى ففي وقوع الطلاق وجهان؛ لأن النحت مثْل النَّحْت، لكن المنحوت ليس مثل المنحوت (¬3)، وأنه لو قال: إن لم تخْرجي الليلة من هذه الدَّار، فأنتِ طالقٌ، فخالَعَ مع أجنبي من الليل وجدَّد النكاح، ولم تخرج، لا يقع الطلاق؛ لأن الليل كلَّه محلُّ اليمين، ولم يمضِ كل الليلة، وهي زوجة له حَتَّى يقع الطلاق، وأنَّه لو حَلَف أن لا يخرج من البلد إلاَّ مَعَ امرأته، فخرجا لكنه تقدَّم عليها بخطوات، ففي وجْه: لا يحنث للعُرْف، وفي آخر يحنث. وإنَّما يحْصُل البرُّ أن يخرجا ¬
معاً من غيْر تقدُّم، وأنه لو قال: إن خرجْتِ من هذه الكُوَّة، فأنتِ طالقٌ، فوسع موضع الكُوَّة حتَّى صار باباً فخرج منْه، يُحْتمل أن يقال: إن خرجَتْ من موضع الكُوَّة، حنَث، وإلاَّ فلا، ويُحْتَمَل أن يُقَال: إن كان بحيث يسمَّى كوة، يقع الطلاق، وإلاَّ فلا، وأنه لو حَلَف إلاَّ يضربها إلا بالواجب فشتمته فضربها بالخشب، يحنث؛ لأن الشَّتْم لا يوجب الضَّرب بالخشب، وإنما المستحق به مطلق التعزير، وقيل بخلافه (¬1)، وأنه لو قال لزوجته إن علمتي من أختي شيئاً، فلم تقوليه لي فأنتِ طالقٌ، فينصرف ذلك إلى ما يوجب ريبة ويوهم فاحشة دون ما لا يقُصْدَ العِلْم به؛ كالأكل والشرب ثم لا يَخْفَى أَنَّه لا يعتبر أن تقوله على الفَوْر، وأنها لو سَرَقت من زوْجها دِينارًا، فحلف بالطلاق أن تردَّه عليْه، وهي قد أنفقته لا يقَع الطلاق، حتَّى يحْصُل اليأس عن الرد بالمَوْت، فإن تَلَف الدينار، وهما حيَّان، فوقوع الطلاق على الخلاف في الحنث بفعل المُكْرُه (¬2)، وأنه لو سمع لفْظ الطلاق من رجل وتحقَّق أنَّه سَبَق لسانه إليْه، لم يكن له أن يَشْهَد على مُطْلَق الطلاق، وأنَّه لو قال: إن رأيت الدَّم، فأنتِ طالقٌ، فالظاهر حمْلُه على دم الحيض. وقيل: يحمل على كلِّ دم؟ وأنَّه لو قال: إن دخلْتِ هذه الدَّار، فأنتِ طالقٌ وأشار إلى بُقْعة من الدار فدخلَتْ غيْر تلك البقعة من الدار، ففي وقوع الطلاق وجهان (¬3). وأنه لو قال: إن كانَتِ أَمَتِي في الحمام، فامرأتي طالقٌ وكانتا عنْد التعليقَيْن كما ذكر، عتقت الأمة، ولم تُطلَّق المرأة؛ لأنَّ الأمة عتقت، عنْد تمام التعليق الأول، وخرجَتْ عن أن تكون أمته، فلم يَحْصُل شَرْط الطلاق، ولو قَدَّم ذكْر الأمة، فقال: إن كانَتْ أمتي في المأتم، فامرأتي طالق، وان كانت امرأتي في الحَمَّام، فامتي حُرَّة وكانَتَا كما ذَكَر، طُلِّقَت المرأة، ثم إن كانت رجعيَّة، عتقت الأمة أيضاً، وإلا فلا, ولو قال: إنْ كانَتْ هذه في المأتم، وهذه في الحمَّام، فهذه حُرَّة، وهذه طالقٌ، فكانتا كما ذَكَر، حَصَل العتق والطلاق، وأنه لو قيل له: طَلَّقت زوجتك، فقال: طلَّقتُ، فقد قيل: هو كما لو قَال: نَعَمْ، وفي كونه صريحاً في الإِقرار أو كنايةً خلافٌ قدَّمْناه. وقيل: إنه ليْس بصريح لا محالةَ لأن:"نَعَمْ" متعين للجواب. وقوله "طلَّقْتُ" مستقلٌّ بنفسه، فكأنه قال، ابتداءً. طلَّقْتُ، واقتصر علَيْه، [وقد سبق أنه لو اقتصر عليه فلا طلاق] وأنه لو طَرَح العصير في الدَّنّ، وأحكم رأسه، ثم حَلَف بالطَّلاق أنه استحال خَمْرًا، ولم يفتح رأسه إلى مُدَّة، ولما فَتَح، قد صار خَلاًّ، ¬
ففيه وجهان: أحدهما: أنه إن كان ظاهر الحالِ صيرورته خمْرًا، وقْت ما حَلَف، يُحْكَمْ بوقوع الطلاق، وإلاَّ فلا. والثاني: لا يُحْكَم بالوقوع؛ لأنَّ الأصْل عَدَم الاستحالة والطلاق، وأنَّه لو قال: إن كان هذا مِلْكي، فأنْتِ طالقٌ، ثم وكَّل إنساناً، ببيعه هل يكُون ذلك إقْرارًا بأنه مِلْكُه، فيه وجهان، وكذا لو تقدَّم التوكيل على التعليق (¬1)، وأنَّه لو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً قبْل أن أُطَلِّقك فعلى وجْه: يقع الطلاق في الحال، كما لو قال: قبْل موتي، على آخر: لا يقع؛ لأنَّه لا حالَةَ بعْد هذا الحَلِف تكون هي قبْل الطلاق، وأنه لو كانَتْ بين يدَيْه تُفَّاحَتَان، فقال لزوجته: إن لم تأكُلي هذه التفاحة اليوم، فأنتِ طالقٌ، ولأمته إن لم تأكلي الأخرى اليوم، فأنتِ حرة واشتبهت تفاحة الطلاق بتفاحة العتق، فعن بَعْض الأصحاب أن الوَجْه أن تأكل كُلُّ واحدة منهما تفَّاحَةً، فلا يقع الطلاق ولا العتق؛ لأن الأصْل بقاء النِّكاح والملك، والزوال غير (¬2) معلوم وعن آخرين أن الوجْه أن تأكل كلُّ واحدة منهما ما يَغْلِب على ظنها أن يمينه معقود علَيْه، ويجتهد الزَّوْج معهما, ولو خَالَع زوجَتَه ذلك اليوم، وباع الأمة ثم جدَّد النكاح والشراء، تخلص، وقيل يبيع الأمة من المرأة في ذلك اليوم، وتأْكل المَرْأة التفاحتَيْن، وأنَّه لو قال لامرأتيه كما كلَّمْتُ رجلاً، فأنتما طالقان، ثم قال للرجلين أخرجا إلى السُّوق، طُلِّقت المرأتان، ولو قال لامرأته: كلَّما كَلَّمْتُ رجلاً، فأنتِ طالقٌ، فكلَّمَتْ رجلين بكلمة، وقَعَتْ طلقتان على المذهب، وقيل واحدة. وأنه لو قال: أنتِ طالقٌ، إن تزوجْت النساء أو اشتريت العبيد، لم يحْنَث إلا إذا تزوَّج ثلاث نسوة، أو اشترى ثلاثة عبيد، وأنَّه لو حَلَف لا يخرج من الدَّار فرقي غصْناً من شجرة في الدار، والغُصْن خارج هل يحنث؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم، أنه ولو قال: إنْ لم تصومي غدًا، فأنتِ طالقٌ فحاضت، فوقوع الطلاق على الخلاَف في حنث المكروه، وأنَّه لو قال لنسائِه الأربع: منْ حَمَلَتْ مِنْكُنَّ هذه الخشبة، فهي طالقٌ، فحَمَلها ثلاثٌ منْهنَّ، فإنْ كانَتِ الخشبة ثقيلةً لا تستقلّ بحملها واحدةٌ طُلِّقْن، وإن استقلَّتْ بها الواحدة، لم تُطلَّق واحدة منْهن، وقيل: يُطلَّقن، وأنه لو قال: أنْتِ طالقٌ ثلاثاً، إن لم أطأْكِ الليلة فوجدها حائضاً أو مُحْرِمَة، فعن المزنيِّ أنه ¬
حَكى في العقارب عن مالك أنَّه لا حَنثَ علَيْه، وأن الشافعيَّ والنعمان ساعَدَاه، واعترض بأنَّه ليْس التحليل والتحريم من الأيمان في شَيْء، ومن حلف أن يعصي الله، فلم يعصه، حَنَث، وإن عَصَى بر، وقد قيل: إن المذهب ما قاله المزنيُّ، وهو اختيار القَفَّال. وقيل: هو على الخلاف من فَوَات البِرِّ بالإِكراه، وأنَّه لو قال: إن لم أُشْبِعْك من الجِمَاع الليلةَ، فأنتِ طالقٌ، فقد قيل: يبر إذا جامعها (¬1)، وأقرت بأنها أنْزَلَتْ. وقيل: ويعتبر مع ذلك أن تقول: لا أريدُ الجَمَاع ثانياً، فإن كانت لا تُنْزِل، فيجامعها إلى أن تَسْكُنَ لذَّتُها، فإن لم تَشْتِه الجماع، فيُحْتَمَل أن يبنى على تعليق الطلاق بصفة مستحيلة، وأنه لو قال: أنتِ طالقٌ الطلقة الرابعة، هل تُطلَّق، فيه وجهان يقربان من الخِلاَف في التعليق بالمحال وأن الوكيل بالطلاق إذا طَلَّق زوجة موكِّله، هل يحتاج إلى أن يَنْوِي إيقاع الطلاق عَنه فيه وجهان الأقرب، أنَّه لا يحتاج. وأنه لو قال: إن بتّ عنْدك الليلة، فأنتِ طالقٌ، فبات في مسكنها، وهي غائبةٌ، لم تُطَلَّق؛ لأن البيت عنْدها يفتقد إلى حُضُورها، وأنَّه لو طار طائرٌ، فقال: إن لم أصْطَدْ هذا الطائر اليوم، فأنتِ طالقٌ ثم اصطاد طائرًا، وادَّعَى أنَّه ذلك الطائرُ يُقْبَل قولُه؛ لأنَّه محتمل، والأصْل بقاء النِّكَاح، ولا ظاهر يخالفه، فإن قال الخالف: لا أعرِفُ الحال واحتمل الأمرين، فيجوز أن يقال بوقوع الطلاق؛ لأنَّ الأصْل أنَّه لم يَصْطَد ذلك الطير، ويجوز أن يُقَال بخلافه (¬2)؛ لأن الأصْل بَقَاء النِّكَاح. في المسائل المشتركة من تخريج إسماعيل البوشنجي؛ أن أبا حنيفة سُئِل عن رجُل قال: إذا بلَغ ولَدي الختان، فلم أخْتِنْه، فامرأتي طالقٌ، قال والَّذي أراه أنَّه إذا بلغ حدًا يحتمل الختان، فلم يختنه، يحنث، لأنَّه لم يُرِدْ توقيته في وقته، فيتقيد بوقْت الإِمكان، كما لو قال: إذا بَلَغ ولدي التعلم (¬3)، فلم أعلمه، يتقيد بوقت إمكان التعلم (¬4)، وأنه لو قال إن ساكَنتْ فُلانًا شهر رمضان، فالحنث يتعلق بالمساكنة معه في جميع الشَّهْر، ولا يحنث بالمساكنة ساعةً، وبه أجاب إمام العراقيين لمَّا راجَعْتُه يعني أبا بكر الشاشيَّ، وعن محمد بن يحيى أنَّه يحنث بالمساكنة ساعةً من الشهر، كما لو حلَف لا يكلِّمُه شهْر رمضان، يحْنَث بالتكليم مرَّة، وأنه لو قال امرأته طالقٌ إن أفطر بالكُوفة، وكان يوْم الفِطْر بالكوفة، لكنه لم يأْكُل في يومه، ولم يشرْب، فقياس قوْلِنا أنَّه لا ¬
يحنث؛ لأن الإِفْطَار عبَارَةٌ عن تناول المأكول والمشروب، وأنَّه مُمْسِك عنْه، ولو حَلَف لا يعيد بالكوفة، فأقام بها يوم العيد، ولم يخْرج إلى العيد، يحنث، ويحتمل ألاَّ يحنث أيضاً، وأنه لو قال: إن أكلْتُ اليوم إلاَّ رغيفًا، فهي طالقٌ، فأكل رغيفاً، ثم فاكهةً حنث، وإن قال إن أكلْتُ أكثر من رغيف، فأكل خُبْزًا بأدم، فكذلك الجواب، وأنه لو قال: إن أدركتُ (¬1) الظهر مع الإِمام، فهي طالقٌ فأدركه فيما بَعْد الركعة الأولى، لم يَقَع الطلاق في قياس مذْهَبِنا؛ لأن الظهر عبارةٌ عن الركعات الأربَع، وهو لم يُدْرِكْها (¬2)، إنَّما أدرك بعضها، وأنَّه لو قال لعبدَيْه إن ضربتُكُما إلاَّ يوماً، فامرأتي طالقٌ، هذا الكلام يحتمل معنيين: أحدهما: اعتبار الضربين في يوْم واحد، فكأنه قال: إن ضربْت كلَّ واحد منْكما إلا في يوم أضرب الآخر فيه، فعلى هذا يحنث بضرب أحدهما في يوم، وضرب الآخَر في يوم آخر. والثاني: أن يريد الامتناع عن ضَرْب كلِّ واحد منْهما إلاَّ في يَوْم واحد من غيْر أن يعتبر اجتماع الضربين في يوم، وعلى هذا لو ضَرَب أحدهما في يوم الآخر، والآخر في يوم آخر، لا يحنث، وإذا أطلق الكَلام إطلاقًا، فالمَحْمَل الثاني أَوْلَى أن يُجْعل محملاً، وأنه لو طَلَّق نسوته طلقة رجعية ثم قال كل امرأة أراجعها فهي طالق كلَّما كلمتُ فلاناً، فراجع امرأة، ثم كلَّم فلاناً، ثم راجع أخْرَى طلقت الأولَى دون الثانية؛ لأنَّ شَرْط الحَنِث المراجعة قبْل الكلام، ولم توجد، فإن كلَّمه مرَّةً أخرى، طُلِّقَتِ الثانية أيضاً، وأنه لو قال: آخر امرأة أراجعها، فهِيَ طالقٌ، ثم راجع نسوة، ومات، يقع الطلاق على آخِرِ امرأة راجَعَها بطريق التبين، حتى لو انقضت العدة من ذلك الوَقْت، لم تورث، ولو دَخَل بها، فعلَيْه مَهْر مثلها، وأنه لو علَّق الطلاق بنكاح امرأة، فهو محمُولٌ على العَقْد ¬
دون الوطء إلا إذا نوى، وأنَّه إذا تخاصَمَ الزَّوْجَان في المراودة، فقال: إن لم تجيء السَّاعَة إلى الفراش، فأنْتِ طالقٌ ثم طالب الخصومة، حتى مضَتِ السَّاعة ثم ذهبت إلى الفراش، فالقياس أنَّها تُطلَّق وأنَّه لو قال: إن كلَّمت بني آدم، فالقياس أنه لا يَحْنث بكلام الواحد والاثنين، إلاَّ إذا أعطيناهما حكْم الجَمْع، وأنَّه لو قال: إن دخلْتُ الدارَ، فعبدي حرٌّ أو كلمتُ فلانًا، فامرأتي طالق، فيراجع؛ ليتبين أي اليمين، فما أراده منها تَقرَّر، وأنه لو قال لامرأته: أنْتِ طالق في الدار، فمُطلَق هذا يقتضي وقوع الطلاق، إذا دخَلَتْ هي الدار، وأنَّه لو قال: إن ملكتما عبداً، فامرأته طالقٌ فشرط الحَنث على ما يَقْتَضِيه القياس إن تملَّكاه معاً حتى (¬1) لو مَلَك أحدهما عبْداً ثم باعه من صاحبه، لا يَحْنَث، ولو قال: إذا لبْستُ قميصين، فأنتِ طالقٌ، فاغتسل فلبسهما على التوالي، حنث على قياس المَذْهب، وأنَّه لو قال: إن اغتسلْتُ في هذه الليلة، وامرأته طالقٌ، فاغتسل من غيْر جنابة، وقال: قصدتُّ به الاغتسال من الجنابة، فالقياس أنَّه يُدين، ولا يُقْبَل في الظاهر، أنَّه لو حَلَف في جَنح اللَّيْل بالطلاق إن لم يكلم فلانًا يوماً، ولا نية له، فعليه أن يمتنع من الكَلاَم في اليوم الَّذي يليه؛ ولا بأس أن يُكَلِّمه في بقيَّة الليل، وأنه لو قال لزوجته: (اكَر توبا كسى حرام كنى) (¬2) فأنْتِ طالقٌ، فطلقها طلْقَةً [رجعيَّةً] (¬3) وجامعها في عدَّتها، يُمْكن أن يتبين وقوع الطَّلاق على أن المُخَاطب هل ينْدَرج تحت الخطاب ويُحْتَمَل أن يقال؛ لا يَقَع؛ لأن غَرَض المعلِّق منعها عن الغير؛ لما يلْحَقُه بذلك من الغضاضة والمعرَّة، وأنه لو قال: أنتِ طالقٌ إن دخَلْت الدار ثنتين أو ثلاثاً أو عشْرًا، فهو مُجْمَل، وإن قال: أردتُّ أنَّها تُطلَّق واحدةً إن دخلتِ الدار مرتَيْن أو ثلاثاً، يُصدَّق، فإذا اتُّهَم، حَلَف، وإن أراد وقوع الطلاق بالعَدَد المذكور، تقع الثلاث وتلغو الزيادة، وأنه لو قال: إن خرجْتِ من الدار، فأنتِ طالقٌ، وللدار بستان بابه مفتوح إليها فيها، ثم خرجت إلى البستان، فالذي يقتضيه قياس المَذْهب أنَّه إن كان بحيث يُعَدُّ من جملة الدَّار ومرافقها, لا (¬4) يحنث، وإلا فيحنث، وأنَّه لو قال لأبوَيْهِ: إن تزوجْتُ ما دمتما حيين، فامرأتي هذه طالقٌ، فمات أحدهما، فتَزَوَّج، لا ينبغي أن تُطلَّق امرأته، وإن المنويَّ إذا لم يكُنْ له لفْظ مُشْعِرٌ به، لا يعمل، كما لو حَلَف ألاَّ يَشْرب لفلان ماءً، فأكل مِنْ ماله، لا يحنث وإن نوى، وأنه لو حَلَف لا يطعنه بنصل هذا الرمح، أو نصْل هذا السَّهم، فنَزَع الزُّج، وأدخل فيه زُجًّا آخر، فطعنه به، يحْنَث، وأنَّه لو قال: إن ¬
شَتَمْتِنِي، ولعَنْتِنِي، فأنتِ طالقٌ، فلعنَتْه، لا يقع الطلاق؛ لتعلُّقه بهما، وأنها إذا خرجَتْ للضيافة إلى قرية، فقال: إن مَكَثْتِ هناك أكْثَرَ من ثلاثة أيام، فأنتِ طالقٌ، فخرجَتْ من تلك القرية؛ لثلاثة أيَّام أو أقلَّ ثم رجَعَتْ إليها، فلا ينبغي أن يحنث، وأنه لو قال في نصف الليل: إن بتُّ مع فلان، فأنتِ طالقٌ، فباتَ معه بقيَّة الليل، حنث على ما يقتضيه القياس، ولا يشترط أن يبيت في جميع الليل، ولا أكثره، [وأنه] (¬1) لو حَلَف أنه لا يَعْرف فلاناً، وقد عرفه بوجهه، فطالَتْ صحبته، معه إلاَّ أنه لم يعلَمِ اسمه، يحنَثُ في قياس المذهب، وبه قال سعد الأَسْترَاباذِيُّ، وأنه إذا قال: آخرُ امرأة أراجعها، فهي طالقٌ، فراجع حفْصة، ثم عمرة، ثم طلق حفصة، ثم راجعها، فالَّذِي أراه أنَّها تُطلَّق، لأنها صارت بالآخرة آخرًا، بعْد ما كانَت أوَّلاً، وأنه لو قال: إن نِمْتُ على ثوبك، فأنْتِ طالقٌ، فوضع رأْسَه على مرقعة لها, لا تُطلَّق، كما لو وَضَع عليها يَدَه أو رجْلَه، وأنَّه لو حلف أن لا يَأْكُل مِنْ مال فُلاَنٍ، فنثر مأكولاً فالتقطه، وأكَلَه، حَنَث، وكذا لو تناهد فأكل، من طعامه (¬2)، وأنَّه لو قال: (اكَربخانه درشوى هشته اى) (¬3) فإطلاقه محمول على دخول البيت دون مُجَرَّد الذهاب إلى البَلَد، وأنَّه لو حَلَف بالطَّلاق ألاَّ يكلم أحداً أبداً إلاَّ فلانًا وفلانًا، إلاَّ هذا وهذا، فكلمهما جميعاً، ولو قال: إن دخلْت دار فُلان، ما دام فيها، فأنتِ طالقٌ، فتحوَّل فلانٌ عنْها ثُمَّ عاد إلَيْها فدخلتها لا يقضي بوقوع الطَّلاق؛ لأن إدامة المقام الذي انعقد عليها اليمينُ قد انقطعَتْ، وهذا عَوْد جديد وإدامة إقامة مستأنفة، وأنه لو قَال: إن قتلته يوْم الجمعة، فهي طالقٌ، فضربه يوم الخميس، ومات يوم الجمعة، بسبب ذلك الضرب لم يَقَع الطلاق؛ لأنَّ القتْل عبارة عن الفعل المفوِّت للروح، وأنه لم يُوجَد يوم الجمعة، وأنَّه لو قال: إن أغضبتك، فأنتِ طالقٌ، فضرب صبيانها، فغضبت، يقَع الطلاق، وإن ضربَه لسوء أدب، وأنَّه لو حَلَف ألاّ يصوم زمانًا، فالقياس أنه يحنث بصوم ساعة من يَوْم، إذا قُلْنا فيمن حلف ألاَّ يصوم، أنه يحنث بالشروع فيه، ولو حَلَف أن يصوم الأيام، فإما أن يُحْمَل على أيام العمر، أو على صَوْم ثلاثة أيَّام، وهو الأَوْلَى، ولو حَلَف أن يصوم أزمنة، بر بصوم يوم؛ لاشتماله على أزمنة، وأنه لو قال: إن كان الله يُعَذِّب الموحِّدين، فهي طالقٌ، يقَع ¬
الطلاق؛ لأنه صَحَّ في الأخبار تعذيبُ بَعْض المسلمين على جرائمهم، (¬1) وأنه لو قال (اكَرر شته توبرتن من ايز) (¬2) فأنتِ طالقٌ، فظاهر اللفظ يقتضي وقُوع الطلاق، إذا لبسه أو ألقاه على نَفْسه، وأنه لو اتهمْته امرأته بالغلمان، فحَلَف ألا يأتي حرامًا، ثم قَبَّلَ غلامًا أو لَمَسه، يحنث؛ لعموم اللفظ، بخلاف ما لو قالت: فعلْتَ كذا حرامًا، فقال: إن فعلْتُ حرامًا، فأنتِ طلقٌ؛ لأن هاهنا ترتب كلامه على كلامها، وهناك اختلف اللفظ، فحمل كلامه على الابتداء، فكأنها اتهمته بنَوْع من الحرام، فنفي عن نَفْسه جنْسَ الحرام، وأنه لو قال: لامرأته: أنتِ طالقٌ إن خرجْتِ من الدار، ثم قال: ولا تخرجين من الصفة أيضاً، فخرجت من الصف، لم يقع الطلاق؛ لأن قوله: "ولا تخرجين من الصفة" كلام مبتدأ ليس فيه صيغة تعليق، ولا هو متطرِّف على ما سَبَق، وعن البُوَيْطِيِّ: أنَّه لو قال: أنتِ طالقٌ في مكة أو بمكة أو في البَحر، طُلِّقت في الحال (¬3)، إلاَّ أن يريد إذا حَصَلَتْ هناك، وكذا لو قال: في الظل، وهما في الشمس، بخلاف ما إذا كان الشيء منتظرًا غيْر حاصل، كما إذا قال في الشتاء، وهما في الصيف، لا يَقَع حتَّى يجيْء الشتاء. في الزيادات لأبي العاصم العبَّادي: أنه لو قال: إن أكلْتُ من القِدْر الَّذي تطبخه، فهي طالق، فوضعت القدر على الكانون،، وأوقد غيرُها, لم يحنث، وكذا لو سجر التنور غيرُها، ووضعَتِ القدر فيه، وأنه لو قال: إن كان في بيتي نارٌ، فأنتِ طالقٌ، وفيه سراجٌ، حنث، وأنه إذا قال (اكَريخانه من يناي بشام) (¬4) فهي طالقٌ، فالبر بأن يحضرْ (¬5) هناك، ويأكل، وأنه لو حَلَف ألا يأكل من مال ختنه، فدفع إلَيْه الدقيق ليخبزه له فخبزه، بخمير من عنْده، لم يحنث؛ لأنه مستهلِكٌ، وأنَّه إذا قالت امرأة لزوجها: لا طاقة لي ¬
معَك على الجُوع، فقال الزوج: إنْ كنتِ جائعةً يوماً في بيتي، فأنتِ طالقٌ، ما نوى المجازاة يُعْتَبر حقيقةُ الصفة، ولا تُطلَّق بالجوع في أيام الصوم، وأنه لو قال: إن دخلْت دارَكِ، فأنتِ طالقٌ، فباعت دارَها، ودخلتها، ففيه وجهان: اظهرهما: أنه لا يقع الطَّلاق. قال إن لم تكوني أحْسَن من القمر أو إن لم يَكُن وجْهُك أحْسَنَ من القمر، فأنتِ طالقٌ، فعن القاضي أبي عليٍّ الزجَّاجِيِّ، والقفَّال، وغيرهما: أنه لا يقع الطلاق، واستشهدوا علَيْه بقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] (¬1) ولو قال: أضوء من القمر، فلا أعلم كلامه. في فتاوى أبي عبد الله الحناطي: أنه لو قال لامرأته: إن قصدتك بالجِمَاع، فأنتِ طالقٌ، فقصدته المرأة، فجامعها, لا يقع الطلاق، ولو كان قَدْ قال: قصدتُّ جماعك في الصورة هذه، يقع الطلاق. نقل أبو العباس الرُّويانيُّ أن رجلا ببلخ قالت لَهُ امرأته: [اصنع] (¬2) لي ثيابًا ليكن لك فيه أجرٌ، فقال الرجل: إن كان لي فيه أجْرٌ فأنْتِ طالقٌ، فقالت المرأة: قد استفتيت في ذلك إبراهيم بن يوسف العَالِمَ (¬3)، فقال: إن كان إبراهيم بن يوسف عالماً، فأنتِ طالقٌ، فاستفتي إبراهيم بن يوسف، فقال: لا يحنث في اليمين الأُولَى, لأنه مباحٌ، والمباح لا أجْرَ فيه، ويحنث في الثانية لأن الناس يسمونني عالماً. وقيل: يحنث في الأولى أيضاً لأن الإنسان يؤجر في مثل ذلك إذا قصد البر وإدخال السرور على الغير، وقد حكى الوجهَيْن القاضي الرُّويانيُّ في "التجربة" وقال: الصحيح الثاني (¬4). قال شافعيٌّ: إن لم يكن الشَّافعيُّ أفْضَلَ من أبي حنيفة، فامرأتي طالقٌ، وقال حنفيٌّ: إن لم يكن أبو حنيفةَ أفْضَلَ، فامرأتي طالقٌ، لا يقع طلاق على واحدٍ منهما، وشبهوه بمسألة الغُرَاب. وعن القفَّال: لا يجيب عن هذه المسألة، وفي مجموع الشيخ إبراهيم المروزي أنه ¬
لو قال السُّنِّيُّ: إن لم يكن الخَيُر والشَّرُّ من الله تعالى، فامرأتي طالق، وقال المعتزليُّ: إن كان من الله، فامرأتي طالقٌ، أو قال السُّنِّيُّ: إن لم يكُنْ أبو بكر أفْضَل من عليٍّ -رضي الله عنهما- فامرأتي طالقٌ، وقال رافضي: إن لم يكُنْ عليٌّ أفْضَلَ من أبي بكر، فامرأتي طالقٌ يقع طلاق المعتزليِّ والرافضيِّ، وأنه لو قال: أفرغي عن هذا البيت من قماشك، فإن دخلتُ وجدت فيها شيئاً من قماشك، ولم أكسره على رأْسِك، فأنتِ طالقٌ، فدخل البيت [و] (¬1) وجد فيه هاوُنًا لها فَمِنَ الأصحاب من قال: لا يقَع الطَّلاقِ، للاستحالة، ومنْهم من قال: يقع عند اليأس قبيل موتها أو موته، وأنه لو تَخَاصَم الزوجان، فخرجت الزوجة مكشوفة الوجه، فعدا خلْفَها، وقال: كل امرأة: لي خرجَتْ من الدار مكشوفةً؛ ليقع بصر الأجانب علَيْها، فهي طالقٌ، فسمعت قوله، فرجعَتْ ولم يبصرها أجنبي، يقع الطلاق. ولو قال: كلُّ امرأة لي خرجت مكشوفة، ويقع بصر الأجانب علَيْها، فهي طالقٌ، فخرجت ولم يقَعْ بَصَر الغَيْر عليْها, لا يقع الطلاق، والفرق أن الطَّلاق في الصُّورة الثانية: مُعلَّق على صفتين، ولم توجد إحداهما، وفي الأولى على صفة واحدة، وقد وجدت (¬2). وسئل بعْضُهم عن الحَنْبلي يقول: إن لم يَكُن الله على العرش، فامرأتي طالقٌ، والأشعريُّ يقول: إن كان على العَرْش فامرأتي طالقٌ فقال: إن أرادَ الحنبليُّ المعنى الَّذي ورد به والقرآن لم تُطلَّق امرأته، وهذا بابُ متَّسع وفيما أوردناه مَقْنَع، وفوق المقنع. وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ. ¬
كتاب الرجعة
(كِتَابُ الرَّجْعَةِ (¬1) * وَفِيهِ فصْلاَن) (الأَوَّلُ في أَرْكَانِهَا) وهي أَرْبَعَةٌ: الأَوَّلُ: المُوجبُ لَهَا وَهُوَ كُلُّ طَلاَقٍ يَسْتَعْقِبُ عِدَّةً ¬
وَلاَ عِوَضَ فِيهِ وَلَمْ يَسْتَوْفِ عَدَدَ الطَّلاَقِ. قال الرَّافِعِيُّ: قال أهل اللغة يقال: لفلان على امرأته رَجْعَةٌ ورُجْعَة، أفصحُ، وهي المرَّة من المرجع والرجوع (¬1)، وفلان يقول بالرَّجْعَةِ: أي بالرُّجوعِ إلى الدُّنْيا، وهل جاء رجعة كتابِكَ؟ أي جوابه، والراجعة: الناقة الَّتي يشتريها الرجُل (¬2) بثمن ناقة كانت له فباعها، ويقال: باعَ إِبِلَهُ، فارْتَجَع منها رِجْعةً صالحةً، -بالكسر- ويقال: رَجَعَهُ يَرْجعه رجعًا ورَجَع رجوعًا، وهذا لازمٌ، وذلك متعدٍّ. والأصل في الباب قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] وقولُه تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وقوْلُه عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] والرد والإمساك مفسَّران بالرَّجعة، وقوله {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي قاربن انقضاء ¬
العدَّة، وقوله -صلى الله عليه وسلم- في قصة طلاق ابن عُمَرَ -رضي الله عنهما- "مُره فَليُرَاجِعْهَا". ومقصود الكتاب مرتَّب في فصْلَيْن: أحدهما: في أركان الرَّجعة. والثاني: في أحكام الرجعة والرجعية. أما الأول، فقد جَمَع فيه بين ما يلتئم منْه نفْس الرجعة، وبين ما يثبت ولاية الرَّجعة، فقال الأول: الموجب لها، يعني الحالة المثبتة لولاية الرجعة، والمطلقات قسمان: أحددهما: المطلَّقة الَّتي لم يستوف زوْجُها العدد المملوك من طلاقها، وهي نوعانِ: بائنةٌ، ورجعيَّةٌ، فالبائنة: المطلَّقة قبل الدخول، والمطلَّقة على عوض، فلا تحل للزوج إلاَّ بنكاحٍ جديدٍ، والرجعيَّة، المطلَّقة بعد الدخول بلا عِوَض. والثاني: مطلَّقة اسْتُوفِيَ عدد طلاقها، فلا سبيل إلى رجعتها، وَيفْتَقر تجديد نكاحها إلى المحلِّل، وإذا اقتصرْتَ، قلْتَ الرجعيةُ: هي المطلَّقة بعد الدخول بلا عوض ولا استيفاء عدد، وقد تبيَّن في الكتاب اعتبارُ الأمور الثلاثة، وعبر عن كون الطلاق بعد الدخول بقوله: "يستعقب عدة". وإذ عرفت ما ذكرناه وتذكَّرْت ما مر أنَّ الحُرَّ يملك ثلاث طَلَقات، وأن العبد لا يملك إلاَّ طلقتين، عَرَفْت أن الحرَّ يملك رجعتين، سواءٌ كانت الزوجة حُرةً أو أمة، وأن العَبْد لا يَمْلِك إلاَّ رجعةً واحدةً، سواء كانت الزوجة حرةً أو أمةً. وعند أبي حنيفة؛ الاعتبار بالمرأة كما قال في الطلاق، فتراجع الحرَّةُ مرتين، والأمة مرةً. ولا فرق في ثبوت الرجعة بيْن أن يكون الطلاق بالصرائح أو الكنايات. وعند أبي حنيفة؛ الصرائح تُعْقب الرجعة، والكنايات بوائن إلاَّ قوله " [اعتدي] (¬1) واستبرئي رَحِمَكِ، وأنت واحدةٌ" وقاس الأصحابُ ما خالف فيه على ما وافَقَ عَلَيْه. ولو طَلَّق امرأته باللفظ الصريح، ثم قال: أسقطْتُ حقَّ الرجعة، أو (¬2) طلقتها بشَرْط أن لا رجعة علَيْها, لم تَسْقُط الرجعة [كما لا يسقط الولاء بالعتق بالشرط، وقال أبو حنيفة: تسقط الرجعة] (¬3)، ولا مدْخَل للرجعة في الفُسُوخ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِي): المُرْتَجِعُ وهو كل من له أهلية النكاح (الثالث: الصيغة) ¬
وصريحها قوله: رجعت* وَرَاجَعْتُ* وَارْتَجَعتُ* وَقَوْلُهُ: رَدَدتُّهَا إِلَى النِّكَاحَ فِيهِ خِلاَفٌ* وَكَذَلِكَ لَفْظُ الإِمْسَاكِ* وَالتَّزْوِيجُ صَرِيحٌ عَلَى وَجْهٍ وَكِنَايَةٌ عَلَى وَجْهٍ* وَلَغْوٌ عَلَى وَجْهٍ* وَالأَظْهَرُ أَنَّ صرَائِحَهُ مَحْصُورَةٌ* وَقَوْلُهُ: أَعَدتُّ الحِلَّ وَرَفعْتُ التَّحْرِيمَ لَيْسَ بِصَرِيحٍ* وَالأَصَحُّ أَنَّ الكِنَايَةَ تَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا لأَنَّ الصَّحِيحَ الجَدِيدَ أَنَّ الإِشْهَادَ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا* وَالتَّعْلِيقُ لاَ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا بِخِلاَفِ الطَّلاَقِ* وَلاَ تَحْصُلُ الرَّجْعَةُ بِالوَطْءِ (ح) وَسائِرِ الأَفْعَالِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الرُّكْن الثاني: الزَّوْج المرتَجِع، ويُعْتبر فيه أهلية النكاح، والاستحلال، فلا بدَّ فيه من العَقْل والبلوغ، وليس للمرتد الرجْعة، كما ليس له ابتداء النِّكاح [وسيأتي ذلك، وينبغي أن يجوز للولي الرَّجْعة؛ حيث يجوز له ابتداء النكاح] (¬1) لكن إذا جوَّزْنا التوكيل بالرَّجْعة، وهو الأظهر، والخِلاَف فيه مذْكورٌ في "الوكالة" وإنما يُفْرَض ذلك في المجنون، بأن يُطَلِّق زوجته، ثم يُجَنّ ولا يتصور في حق الصبيِّ. الثالث: الصيغة، وفيها مسائل: [إحداها]: تحصل الرجعة بقوله: رَجَعْتُكِ، وراجَعْتك، وارتَجَعْتُك، وهذه الألفاظ صريحةٌ (¬2)؛ لشرعها، وورودِ الأخبارِ والآثارِ بها، ¬
ويُستحبُّ أن يضيف إلى النكاح أو الزوجية أو إلى نفسه فيقول: راجعتُك إلى نكاحي أو زوجينني أو إليَّ، ولا يُشترط [ذلك ولا بد من إضافة هذه الألفاظ إلى مظهر أو
مضمر، كقوله: راجعت فلانة، أو راجعتك، فأما مجرد راجعت وارتجعتُ, فلا ينفع] ولو قال: راجعْتُك للمحبة أو الإهانة أو الأَذَى وقال: أردتُّ أنِّي راجعْتُكِ؛ لمحبتي إياك، أو لأهينك، أو أوذيك، قُبِلَ، وحصلت الرجعة، وإن قال: رجَعْتك إلى المحبَّة أو الإهانة أو الإيذاء أو إني كُنْت أحبك أو أهينك قبلَ النكاح، فرددتُّكِ إلى تلك الحالة، قُبِلَ، ولم تحصل الرجعة، وإن تَعذَّر الرجوع إليه؛ بأن مات أو كان قَدْ أطلق (¬1) فالرجعة حاصلةٌ؛ لأن اللفظ صريحٌ، وقوله للمحبة أو الإهانة الظاهرُ منْه المعنى الأوَّلُ وأشيرَ فيه إلى احتمالٍ آخَرَ، ومنع كونُه صريحاً مع هذه الزيادات، وفي لفْظ الرد وْجهان: أصحُّهما: أنه صريح، لورود القرآن والسُّنَّة به قال الله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] ورُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "رَكَانَةُ، ارْدُدْهَا" (¬2). والثاني: المنع؛ لأنه لم يشتهر، ولم يتكرَّر؛ بخلاف لفظ الرَّجعة، وإذا جعلْناه صريحاً، فهل يُشْتَرط أن يقول: رددتها إليَّ أو إلى نكاحِي؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، كما في لفظ الرجعة. وأظهرهما: الاشتراط؛ لأن الرجعة مشهورةٌ في معناها، والرد المطلق بالمعنى المقابل للقبول (¬3) أشدُّ إشعارًا وقد يُفْهَم منه الرَّدُّ إلى الأبوين بسَبَب الفِرَاق. ولو قال: أمسكْتُكِ، ففيه وجهان، كما ذكرنا في الرَّدِّ. وقال القفَّال: وآخرون: قولان. أحدهما: أنه ليس بصريحٍ؛ لأنه يحتمل الإمساك في البيت وباليد، وإلى ترجيحه، ذَهَب الشيخ أبو حامد، والقاضيان أبو الطيِّب والرُّويانيُّ وغيرهم. والثاني: أنه صريح؛ لورود القرآن به غَيْرَ مرة، ويُحْكَى هذا عن أبي الطيِّب بن سلمة والأصطخري (¬4) وابن القاصِّ. وفي؛ "التهذيب": أنه الأصح، وإذا قلّنا: إنه صريحٌ فيشبه أن يجيْء في اشتراط الإضافة الخلافُ المذكورُ في لفظ الرَّدِّ، والذي أورده في "التهذيب" أنه يُسْتَحَبَّ أن يقول: أمسكتك على زوجتي، مع حكايته الخلاف في الاشتراط هناك، وإن قلنا: إنَّه ليس بصريح، فهل هو كنايةٌ فيه وجهان، نقلهما الإِمام: أظهرهما: نعم، وبه قال الشيخ أبو عليّ والقاضي الحُسَيْن (¬5). ¬
والثاني: المنع؛ لأن الإمساك باستدراك ما أصابه حَلَلٌ، وإنما يُشْعر بالاستدامة والاستصحاب، وهو معنى قوله تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] ولو قال: تزوجتك أو نكحتك، فوجهان: أحدهما: أنهما صريحان في الرجعة لأنهما صالحان لابتداء العَقْد والحلِّ، فَلأَن يَصلُحَا للتدارك وتقويمِ المتزلزل (¬1) أوْلَى. وأصحهما: على ما ذكره في "التهذيب": المنْعِ؛ لأنهما غير مستعملَيْنِ في الرجْعة، ولأن ما كان صريحًا في شيْء لا يكون صريحًا في غيره، كالطلاق والظهار، فهما صريحان في ابتداء العقد وعلى هذا، فوجهان: أحدهما: أنهما كنايتان، ويُحْكَى ذلك عن القاضي، ووجْه المنع أنه لا إشْعار فيهما بالتدارك وإعادة الحل، وهذا في قول الزوْج "نكحتك أو تزوجتك" وحده، ويجري الخلاف فيما لو إذا جرى العقْد على صورة الإيجاب والقبول. قال القاضي الرُّويانيُّ في "التجربة": لو عقد على الرجعية نكاحًا جديدًا، قال بعض أصحابنا (¬2): يحلُّ؛ لأن العقد آكَدُ في الإباحة. وقال ابن أبي أحمد: لا يحل، قال: والأول أظهَر (¬3). والصحيحُ صحَّةُ الرجعة بغير العربية من اللغات، وهو الذي أورده الأستاذ أبو منصور البغدادي، وقال: ترجمة اللفظ بالفارسية (ترابزنى باخويشتن كرفتم) (¬4) أو (ترابازنى خويشتن أوردم) (¬5)، ولك أن تقول: هذا الثاني أولى، والأول يستعمل وحده، لكن اللفظة قد اشتهرت في العربية، وترجَمَتُهَا بالفارسية وحْدها لم يَشْتَهِر، فكذلك اعتبر التعريض لمعنى النكاح بالفارسيَّة، وحكى القاضي ابن كج عن أبي الحُسَيْن طريقةٌ أنه إن أحسن العربية، لم تَصحَّ رجعته بالفارسية، وإن لم يحسنها، فعلى وجهَيْن، وعن أبي حامد طريقةٌ أخرى: إن أحسنها، فعلى وجهَيْن، وإن لم يحسْنها صحَّت بالفارسية، بلا خلاف. وقوله في الكتاب "وصريحُها قولُه رَجَعْتُ" و"رَاجَعْتُ" و"ارتَجَعْتُ" يعني إذا اتَّصَلتْ بمُظْهَر أو مُضْمَر، بأن يقول: راجعْتُ فلانة أو راجعتُكِ، فإما بمجرَّدها، فلا يخفى أنَّه لا يُغْنِي، وقوله "رددتُّها إلى النكاح" ففيه خلافٌ صريحٌ في إثبات الخلاف، ¬
مع قوله [إلى النكاح، والذي ذكَره القفَّال في "شَرْح التلخيص" قوله:] (¬1) "رددتها إلى النكاح" صريح بلا خلاف، وكذلك أورد الإِمام في قوله: "رددتها إليَّ" وخصص الخلاف بما إذا اقْتصرَ على قوله: "رددتها" ولكن نقل القاضي ابن كج أنَّ القاضي أبا حامِدٍ حَكَى في كتابه قولاً عن الربيع أن قوله "رددتُّها إليَّ" ليس بصريح، فيَجُوز أن يُعْلَم لطريقة القطع فيه خلاف بالواو، على أن إيراد جماعة من الأصْحَاب يُفْهم القطع بأن لفْظ الرد صريحٌ، وإن لم يقل "إِليَّ" أو "إلى نكاحي". وقوله: "والتزويج صريح على وجْه آخَرَ" يجوز أن يُجْعَل مبتدأ، فلا يكون في اللفظ حكاية الوجوه الثلاثة في لفظ الإِمْسَاك، ويجوز أن يُجْعَل متعلقاً بقوله: "وكذلك لفظ الإمساك" فيكون اللفظ متعرِّضًا لذِكْر الوجوه الثلاثة، وهي جاريةٌ في اللفظَيْن على ما بيَّنَّا، فأما لفْظُ الردِّ، فلم يُنْقَل فيه وجْه اللغو، والخلاف في لفظ الإمساك وقد تعرَّض مرةً في أول "الخُلْع" لكن على سبيل الاستشهاد. المسألة الثانية: ذكَروا وجهَيْن في أن صرائح (¬2) الرجعة هل تَنْحصِر أو كل لفظ يؤدي معناه، فهو صريح مثْل قوله: رفَعتُ التحريم، وأعدتُّ الحِلَّ، ونحوهما. أظهرهما: الانحصار؛ لأن صرائح الطلاق محصورةٌ حتى لو قال: قطَعْتُ النكاح، أو رَفَعْتُه، أو استأصلْتُه، كان ذلك كنايةً، وإذا كانت صرائحُ الطلاق محصورةً، مع أنه إزالةُ مِلْكٍ وحِلٍّ، فلأن تكون صرائحُ الرَّجْعةِ محصورةً، مع أنها اجتلابُ حِلٍّ، كان أَوْلَى. والثاني: أنها غير محصورة؛ لأن حكم الرَّجعة يُبْنَى عنْه لفظها فيقوم مقامه ما يؤدي معناه، بخلاف الطلاق؛ فإنه يشتمل على أحكام غريبةٍ لا يحيط بها أهْلُ اللغة، فتُؤْخَذ صرائحها من الشَّرْع. الثالثة: في صحَّة الرجعة بالكنايات وجهان بُنِيَا على الخِلاَف في أنَّ الإشْهَاد، هل هو من شروط الرَّجْعة فيه قولان: أحدهما: نعم، وبه قال مالك إنه شَرْطٌ؛ لظاهر قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. وأصحهما، وبه قال أبو حنيفة: أنه ليس بشَرْط؛ لأن الرَّجعة في حُكْم استدامة النكاح السابق؛ ولذلك لا يحتاج إلى الوليِّ ورضا المرأة، وَرُوِيَ أن عمران بْنِ الحُصَيْن -رضي الله عنه- سُئِلَ عَمَّن راجع امرأته، ولم يُشْهِد، فقال: راجع من غير سنة، ¬
فليُشْهِد (¬1)؛ لأنه لو كان الإشْهاد شَرْطًا، لَمَا كان للإشهاد على ما سَبَق معنى، وإنما يُستَحَبُّ الإشهادُ على الإقرار بالرجعة؛ لأنهما قد يتنازعان، فلا يُصدَّق على ما سيأتي، والآية محمولةٌ على الاستحباب كما في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وعن أحمد روايتان كالقَوْلَيْنِ، فإن قلْنا: لا يُشْتَرط الإشهاد، ويستقل الزوج بالرجُعة، فتصحُّ بالكناية، وإن قلْنَا باشتراطه، فالشُّهود لا يَطَّلِعون على النية، فلا تصحُّ الرجْعة بالكناية كالنكاح، وهذا الوجه هو الذي أورده القاضي ابن كج وقوله: "إنه الصحيح" أشار به إلى أنَّ الخِلاَف في صحَّتها بالكناية مبنيٌّ على الخلاف في اشتراط الإشهاد، وتسميته جديداً يُشْعِر بأن مقابله قديمٌ، وكذلك ذَكَر جماعة منْهم الإِمام، وقالوا: اشتراطُ الإشهادِ قوله القديم، لكن لا يثبت، وهو الَّذي ذكَره أصحابُنا العراقيون: أن قوله في القديم "والأم" عدم الاشتراط، ونسبوا قول الاشتراط إلى "الإملاء" وإذا صحَّحنا الرجْعة بالكنايات، فتصحُّ بالكناية، وإن قَدَرَ على النطق، وذكر القاضي الحُسَيْن أَنا إذا شَرَطْنا الإشهاد، نَزَّلْنا الرجعة منزلة ابتداء النكاح، فلا يمتنع ألاَّ تصح الرجْعة من العبد، إلاَّ بإذن السيد، وقد أقام في "التتمة" هذا الذي جكاه وجْهًا، قال الإِمام: وهذا في نهاية البُعْد، ولو كان كذلك، لكان رضا المرأة أوْلَى بالاشتراط، وليس اشتراط الإشهاد لكون الرَّجْعَة بمثابة ابتداء النكاح، وإنما معتمد ذلك القَوْلِ ظاهرُ الآية. الرابعة: الرجعة لا تَقْبَل التعليق، كالنكاح والبيع وسائر العقود، فلو قال: إذا طلقْتُك، فقد راجَعْتُك، ثم طَلَّقها, لم تحْصُل الرجعة، ولو قال: راجَعْتُك إن شِئْتِ فقالت: شِئْتُ، فكذلك، بخلاف ما لو قال إذا شِئْتِ أو أنْ شِئْتِ (¬2)، -بفتح الهمزة- صح فإنَّ ذلك تعليلٌ. ولو طلَّق إحدى امرأتيه على الإبهام؛ ثم قال: راجَعْتُ المطلَّقة، فهل تحْصُل الرجْعة؟ فيه وجهان: أظْهَرُهما: المَنْع، وليست الرجْعَة في احتمال الإبهام، كالطلاق كما أنها ليْسَتْ في احتمال التعليق، كالطلاق، وأما تعليقُ الطَّلاَق بالرجْعة، فهو صحيح، حتى لو قال للرجعية؛ مهما راجعتك (¬3)، فأنتِ طالقٌ أو قال للتي هي في صلب النكاح؛ إذا طَلَّقْتُكِ ¬
وراجَعْتك، فأنتِ طالقٌ، تُطَلَّق عنْد حصول الشرط، وعن رواية القاضي الحُسَيْن وجْه: أنَّ هذا التعليق لاغ؛ لأن مقصودَ الرَّجْعة يحل؛ فلا يجوز تعليقُ نقيضه به، وفي "التتمة" وجه: أن الرجْعة لا تصحُّ؛ لأن مقتضى الرجْعة أن تَعُود إلى صُلْب النِّكَاح، وهذه الرجْعة قد قارنها ما يمنع ثبوت مقتضاها، والظاهِر الأوَّل، وعليه بناء فروع تقدَّمتْ في "الطَّلاَق". الخامِسُ: لا تحْصُلُ الرجعة بالوطْء والتقبيل وسائر الأفعال (¬1). [وقال أبو حنيفة: تحصُل بالوطْء والتقبيل واللمس] والنظر إلى الفَرْج (¬2) بشهوة. وعن أحمد مثْلُه. وقال مالك: إن نوى الرجعة، حَصَلت، وإلاَّ لم تَحْصُل، واحتج الأصحاب: بأنه قادرٌ على القَوْل، فلا تحْصُل له الرجْعة بالفعل، كما لو أشار بالرجْعة، والله أعلم. قال الغزالِيُّ: (الرَّابعُ الُحِلُّ) وَهِيَ المُعْتَدَّةُ القَابِلَةُ لِلحلِّ* فَلَو ارْتَدَّتْ فَرَاجَعَهَا فَرَجَعَتْ إِلَى الإِسْلاَمِ لَزِمَ اسْتِئْنَافُ الرَّجْعَةِ* وَإِذَا انْقَضَتِ العِدَّةُ فَلاَ رَجْعَةَ* وَإِنْ أَوْجَبْنَا العِدَّةَ بِالاِتْيَانِ فِي غَيْرِ المَأْتَى أَوْ بِالْخلوَةِ ثَبَتَتِ الرَّجْعَةُ عَلَى الأَظْهَرِ. قال الرَّافِعِيُّ: الرُّكن الرَّابع مَحَلُّ الرجْعَة، وهي المرأة، ولا يُشْتَرط في الرجْعَة رضاها، قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] وكذلك لا يُشْتَرَط رضا سيِّد الأَمَة، ويُسْتَحَبُّ الإعلام، ويُشْتَرَط في المرأة؛ لصحة الرجْعة، وصفان: بقاؤها في العدة، وكونها قابلةً للحِلِّ أي في محل الاستحلال، أما الثاني، فلو ارتدَّ الزوجان أو أحدهما في عدة الرجعة، لم تَصحَّ رجعتها في حال الردة، وإذا اجتمعا على الإسْلام قبل انقضاء مدة العدة، فلا بد من الاستئناف، نصَّ عليه، وبه أخذ الأصحاب. وقال المُزَنيُّ: تكون الرجعة موقوفة، إن اجتمعا على الإِسلام في العدة، تبيَّن صحتها. قال الإِمام: وهذا له وجْهٌ، ولكن لم أَرَ أحداً من الأصحاب يجعله قولاً مخرجًا، ووجَّهوا النص: بأن المَقْصود من الرجْعة الاستباحة، وهذه الرجعة لا تفيد الإباحة، فإنَّه لا يجوز الاستمتاع بها, ولا الخلوة معها، ما دامت مرتدة، وبأنها جارية إلى البينونة، وانقطاع ملك النكاح، والرجعة لا تلائِمُ حالها، وتُخَالف الطلاق في حال الردة، حيث يكون موقوفاً؛ لأنَّ الطلاقُ محرَّمٌ كالردة، فيتناسبان، وليست الردة كالحيض، والنفاس، والإحرام إذا لم يُجْعل الإحْرام مانعًا من الرجعة؛ لأن هذه أسبابٌ عارضة، ولا أثر لها ¬
في زوال النِّكاح، وعلى النص، لو ارتد الزوجان أو أحدهما بعْد الدخول، ثم طَلَّقها في مدة العدة، فراجَعَها، فالطلاق موقوف، إن جمعهما الإِسلام في العدة تبينا نفوذه والرجعة (¬1) لاغية، ولو كان الزوجان ذِمِّيَّيْنِ، فأسلمت المرأة، فراجعها، وهو متَخَلِّف، لم يصحَّ حتى لو أسلم في مدة العدة، احتاج إلى الاستئناف، وأما بقاؤها في العدَّة، فلا بد منْه، ولا سبيل إلى الرَّجعة بعد انقضاء العدة، واحتج له بقوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] ولو كان حقُّ الرجعة باقياً، لما كان يُبَاح لهُنَّ النكاح، وإذا أوجبنا العدة بالإتيان في غير المأتي، وهو الأظهر، فتثبت الرجعة في تلْك العدة. وفيه وجه آخر، وقد ذكَرْنا الخلافَيْن في "القِسْم الخامس من كتاب "النكاح "", وإذا قلنا: إن الخلوة توجب العدَّة، ففي ثبوت الرَّجعة وجهان ذكرناهما في "كتاب الصداق"، والظاهر ثبوتُها، ويجوز أن يُعْلَم قوله في الكتاب "ثبتت الرجعة" بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة لا تثبت الرجعة في عدة الخلوة، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: وَإِذَا ادَّعَتِ انْقِضَاءَ العِدَّةِ بِوَضْعِ الحَمْل مَيِّتًا أَوْ حَيًّا نَاقِصاً أَوْ كَامِلاً صُدِّقَتْ بِيَمِينِهَا في أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ* وإِذَا ظَهَرَتِ الصُّورَةُ الأَولَى انْقَضَتِ العِدَّةُ بِوَضْعِهَا* وَفِي المُضْغَةِ قَوْلاَنِ* وَيُقْبَلُ دَعْوَاهَا مَعَ الإِمْكَانِ* وَإمْكَانُ الوَلَدِ الكَامِلِ إِلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ إِمْكَانِ الوَطْءِ* وَإمْكَانُ الصُّورَةِ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا* وإمْكَانُ اللَّحْمِ إِلَى ثَمَانِينَ يَوْمًا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: سيأتِي في "كتاب العدَّة" -إن شاء الله تعالى- أن عدَّة الطلاق ثلاثَةُ أنواع: وضْع الحَمْل، والأقراء، والأشهر، أما المعتدَّة بالأشهر، فإذا -ادعت انقضاءَ العِدَّة، وأنكر الزوج، فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن هذا الاختلافَ راجعٌ في الحقيقة إلى وقْت الطلاق، ولو اختلفا في أصْل الطلاق، كان القول فيه قَوْلَ الزوج، فكذلك إذا اختلفا في وقته. ولو قال: طلقْتكِ في رمضان، فقالتْ: بل في شوال، فقد غلَّظت على نفسها، فتوآخذ بقولها، وأما المعتدة بوَضْع الحمل، فلا كلام في أن العدَّة تنقضي بوضْع الحمل التامِّ المدَّةِ، سواء كان حياً أو ميتاً كامل الأعضاء أو ناقصها، وكذا بإسقاط السقط إذا ظَهَرت فيه صورة الآدميين، وإن أسقطت مُضْغَةً لم تَظْهر فيها صورةٌ، ففيها قولان، وموضع وبسط الكلام في ذلك "كتابُ العِدَّة" [ومسهما] ادَّعت وضْع الحَمْل أو إسقاطَ ¬
السقط أو إلقاءَ المُضْغة على قولنا بانقضاء العدة به، فيُقْبَل قولها مع يمينها؛ لأن النساء مؤتمنات في أرحامهن قال الله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] ولولا أن قولهن مقبول، لم يُؤْتَمَن بالكتمان؛ لأنه لا اعتبار بكتمانهن حينئذ، وشبه ذلك بقوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] والمعنى فيه: أن إقامة البيِّنة على الولادة تعسُر، وقد يَتعذَّر، هذا ظاهر المذهب. وقال أبو إسحاق المروزيُّ: تُطَالَب بالبيِّنة إذا ادَّعت وضْع الولد الكامل؛ لأنها مدعية، والغالب أن القوابل يشهَدْنَ الولادة. وعن الشيخ أبي محمَّد وجْهٌ في السَّقْط مثله؛ لأن ما نالَها من العُسْر يمكنها من الإشهاد، وفيما إذا ادَّعَتْ وضْع وَلدٍ ميِّت [و] (¬1) لم تظهره وجْه: أنها لا تُصدَّق، والمشهور الأول. قال الأئمة -رحمهم الله-: وإنما تُصدَّق فيما يَرْجِع إلى انقضاء العِدَّة، فأما فيما يَرْجِع إلى النَّسَب والاستيلاد، إذا ادَّعت الأَمةُ الولادةَ، فلا بُدَّ من البينة، وإنما تُصدَّق فيما يَرْجع إلى انقضاء العدة بشرطَيْن: أحدهما: أن تكون ممن يحيض؛ لأن من لا تحيض (¬2) لا تحبل. والثاني: أن تدعي الوضْع لمدة الإمكان، ويختلف الإمكان بحَسَب دعواها، فإن ادعت ولادة ولد تامٍّ، فأقلُّ مدة تُصدَّق فيها ستة أشهر ولحظتان من يوم النكاح؛ لحظة لإمكان الوطء، ولحظةٌ للولادة، فإن ادَّعَت لمدة أقل من ذلك، لم تُصدَّق، وكان للزوج أن يراجِعَها، واحتج لتقدير مدَّة الحَمْل بستة أشهر بما رُوِيَ أنه أُتِيَ عُثْمَان -رضي الله عنه- بامرأة وَلَدَتْ لستة أشهر، فشاور القَوْمَ في رجْمِها فقال ابن عبَّاس -رضي الله عنهما-: أَنْزَل الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، وأنزل {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]، وإذا كان الحَمْل والفصال ثلاثين شهراً، والفِصَال عامين، كان العمل ستة أشهر (¬3)، وحكى القتيبي (¬4) وغيره أن عبد الملك بْنَ مروان وُلِدَ ¬
لستة أشهر، فإِن ادَّعَت إسقاطَ سَقْطٍ ظهرت فيه الصُّورة، فأقلُّ مدَّةِ الإمكان مائَةٌ وعشرون يوماً، وهي أربعة أشهر ولحظتان من يوم النكاح، قال -صلى الله عليه وسلم- "يُخْلَقُ أَحَدُكُمْ في بَطْن أُمِّهِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا نُطْفَةً، وَأَرْبَعُونَ عَلَقَةً وَأَربَعُونَ يَوْمًا مُضْغَةً ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ" (¬1) وإن ادعت إلقاء مُضْغة لا صورةَ لها، فأقلُّ مدة الإمكان ثمانون يَوْمًا ولحظتان من يوم النكاح، ولا يخفى أن هذا الكلام في المضغة مُفَرَّع على قولنا بأن العدَّة تنقضي بها, ولا يُطالَبُ بإظْهَار الولَدِ والسقْطِ بحال. وقوله في الكتاب "صُدِّقَتْ بيمينها على أظهر الوجهين" الوجه المقابل له أنها تُصدَّق باليمين، ولكن تُطالَبُ بالبيِّنة، وذلك ما حكَيْنَاه في الوَلَد الكامل عن أبي إسحاق، وفي السَّقْط عن الشيخ أبي محمَّد، وفي المَيْتَة عن بَعْض الأصحاب. وفي "التتمة" وجْه شامل أنها تُطالَبُ في دَعْوَى الولادة بالبينة. وقوله: "من وقت إمكان الوطء" تبين أنه لاَ بُدَّ من زيادةٍ على ستة أشهر يفرض فيها الوطْء، ولم يَتعرَّض للحظة الِولادة للظهور، ولفظ إمكان الوَطْء قد يُشِير إلى (¬2) شيء آخر؛ وهو اعتبار كَوْن الزوجَيْن بحيث يُفْرَض وصول أحدهما إلى الآخر [لا] (¬3) كالمشرقي مع المغربية. وقوله: "إلى مائة وعشرين يوماً" أي من وقت الإمكان. وقوله: "وإمْكَانُ اللحم" أراد به المُضْغَة بلا صورة. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإِمْكَانُ انْقِضَاءِ الأَقْرَاءِ إِذَا طُلِّقَتْ فِي الطُّهْرِ اثْنَانِ وَثَلاثُونَ يَوْمًا (ح) وَلَحْظَتَانِ* وَإِنْ طُلِّقَتْ في الحَيْضِ سَبْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا وَلَحْظَتَانِ* وَفِي المُبْتَدَأَة كَذَلِكَ إِلاَّ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ القُرْءَ هُوَ طُهْرٌ مُحْتَوَشٌ بِحَيْضٍ فَلاَ أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثةِ أَطْهَارٍ وَثُلُثِ حَيْضٍ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا وَلَحْظَتَانِ* وَيُقْبَلُ قَوْلُهَا في مُدَّةِ الإِمْكَانِ عَلَى خِلاَفِ عَادَتِهَا عَلَى الأَصَحِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المعتدَّة بالأقراء، إن طُلِّقت في الطُّهْر، حُسِب باقي الطهر قرءًا، وإن طُلِّقت في الحيض، فلا بد من مُضِيِّ ثلاثة أطهار كاملةٍ على ما سيأتي بيانه في "العدة"، فأقلُّ مدَّةٍ يمكن انقضاء العدَّةِ منه، إذا طُلِّقت في الطُّهر، اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان، وذلك بأن يكون الباقي من الطُّهْر الذي طُلِّقَت فيه لحظةً، ثم تحيض يوماً وليلةً، فتطهر يوماً [ثم تحيض يومًا وليلةً، وتطهر خمسة عشر] ثم تطعن في الدم، هذا هو الظاهر المشهور، ولا بد فيه من معرفة أمور: ¬
أحدها: قال الإِمام وغيره: إن قُلْنا: إن القرء الانتقالَ من الطُّهْر إلى الحيض، لم يُعْتبر اللحظة الأولى، حتى لو صادف الطلاقُ آخرَ جُزْءٍ من أجزاء الطُّهْر، احْتُسِبَ ذلك الانتقال قرءًا، وإنما يَظْهر تصوير ذلك فيما إذا كان الطلاق معلَّقًا بآخر جزءٍ من أجزاء الطهر. والثاني: فيما جمعه الشيخ إبراهيم المَرْوَزِيُّ وغيره حكايته نَصّ عن البويطيِّ أنه لا يحكم بانقضاء العدة بالطعن في الدم آخراً، بل لا بدَّ من مضيِّ يوم وليلة، حتى يُحْكَم بانقضاء العدة، وهذا كالخلاف الذي سَبَق في أن الطلاق المعلَّق بالحيض، هل يُحْكَم بوقوعه بمجرَّد ظهور الدم. والثالث: لحْظَة الطعن في الدم آخراً، ليست من نفس العدة، وإنما هي لاستيقان (¬1) انقضاء القرء الثالث، هكذا قاله القفَّال وغيره، ولذلك يرى بعضُهم يقول أقل مدة الإمْكَان اثنان وثلاثون يوماً ولحظةً، ويشير إلى إخراج اللحظةِ الأخيرةِ عن الاعتبار، وفي "الرقم" كشرح "مختصر الجويني" وجه آخر؛ أن لحظة الطَّعْن في الدم من نفس العدَّة، وكأنه مبنيٌّ على أن القرء الانتقال من الطُّهر إلى الحيض، فيكون الحُصُول في الحيض من العدة، ونقل المروزيُّ تفريعًا على النصِّ المنقول عن البويطي وجْهَيْنِ في أنه هل يجعل اليوم والليلة من صُلْب العدة؟ قال: وتظهر فائدتهما في ثُبوت الرَّجْعة في تلْك المدة، وإذا جَعَلْنا اليوم والليلة من صُلْب العدة، زادت مدة الإمكان على المدة المذكورة. والرابع: تقدير الأقل بالمدة المذكورة، يتفرَّع على أنَّ أقلَّ الحيض يوم وليلة، فإن جعلْناه يومًا، نقص عن المدَّة المذكورة، هذا في طهر غير المبتدأة، فأما إذا طُلِّقت المرأة قبْل أن تحيض ثم ظهر حيضها، فيبنى أمرها على أن القرء طُهْر مُحْتَوَشٌ بدمَيْن أو لا يشترط فيه الاحتواش، فإن لم يُشْترط، فحكمها في مدَّة الإمكان حُكْم غيرها، وإن قلْنا: إن القرء الطُّهْر المحتَوَش بدمين، فأقلُّ مدة الإمكان في حقِّها ثمانية وأربعون يوماً ولحظةٌ، وذلك بأن تُطلَّق في آخر جزء من طُهْرها وتحيض يوماً وليلةً، ثم تطهر خمسةَ عشر يوماً، وتحيض يوماً وليلةً، وتطْهُر خمسة عشر، وتحيض يومًا وليلةً، وتطهر خمسةَ عَشَرَ يوماً، وتطعن في الحيض، وذلك ثلاث (¬2) حيض، وثلاثة أطهار وإن طُلِّقَتْ في الحيض، فأقل مُدَّة الإمكان سبعة وأربعون يومًا ولحظةٌ، وذلك بأن يُقدَّر وقوع الطلاق في آخر جزء من الحيض، ويظهر تصويره فيما إذا عَلَّق الطلاق بآخر جزء من الحيض، ثم تطهر خمسة عشر، وتحيض يومًا وليلةً، وتطهر خمسة عشر، وتحيض يوماً وليلةً، وتطهر خمسة عشر، وتطعن في الدم، ولحظةُ الطَّعْنِ فيها ما ذكرنا فيما إذا طُلِّقت في الطهر، ولا تحتاج هاهنا إلى تقدير لحْظة في الأول، بخلاف ما إذا كان الطلاق في ¬
الطُّهْر، فإن اللحظة تُحْسَب قرءًا هذا حُكْم الحُرَّة. وأما الأَمَة، فإن طُلِّقت في الطهر، فأقل مدة الإمكان في حَقِّها ستة عشر يوماً ولحظتان، وإن طُلِّقت، ولم تَحِضْ قطُّ، ثم ظهر بها الدم بعد الطلاق، وقلْنا: القرء الطهر المُحْتَوَشُ بدمَيْن، فأقل مدة الإمكان في حقِّها اثنان وثلاثون يوماً ولحظةٌ، وإن طُلِّقت في الحيض، فالأقل أحد وثلاثون يوماً ولحظةٌ. إذا تَقرَّر ذلك، فإن لم يكن للمطلقة عادةٌ في الحيضِ والطُّهْر مستقيمةٌ -وتَدْخُل في هذه الحالة الَّتي لم يحضْ قطُّ، ثم بدأ حيضها، والتي له عاداتٌ مضطربةٌ، أو كانت لها عاداتٌ مستقيمةٌ دائرةٌ على الأقل حيضًا وطهرًا، فيُقْبَل قولها إذا ادَّعَت انقضاء الأقراء في زمان الإمكان، مع يمينه كذا، فإن نكلت، حلف الزوج، وكان له الرجعة، وإن كانت لها [عادة] (¬1) دائرةٌ مستقيمة على ما فَوْق الأقل، فتُصدَّق في انقضاء العِدَّة على وَفْق العادة، وإن ادعت الانقضاء بما دونَها، فوجهان: أصحُّهما: عند الأكثرين أنَّها تُصدَّق باليمين أيضاً؛ لأن العادة قد تَتغيَّر. والثاني: المَنْع؛ للتهمة، وعن الشيخ أبي محمَّد: -رحمه الله- أنه المذْهب. قال القاضي الرُّويانيُّ؛ وهو الاختيار في هذا الزمان، وإذا قالت لنا امرأة: انقضت عدتي، فالواجب أن تسألها عن حالها، كيف الطُّهْر؟ وكيف الحيض؟ ونُحلِّفها عند التهمة؛ لكثرة الفساد، [هنا] (¬2) لفظه. وإذا ادعت المرأة انقضاء العدة لِمَا دون زمان الإمكان، وردَدْنا قولها، فجاء زمان الإمكان، نُظِرَ؛ إن كَذَّبَت نفسها، أو قالت: غَلِطْت، وابتدأت دعوى الانقضاء صُدِّقت بيمينها، وإن أصرَّت على الدعوى الأُولَى، فهل نصدِّقها الآنَ؟ فيه وجهان: أصحهما: نَعَمْ، وإصرارها على ما سبق (¬3) يتضمن دعوى الانقضاء الآن، والزمانُ زمانُ الإمكان، وشُبِّه هذا الخلافُ بالخلاف فيما إذا ادعى المَخْرُوصُ عليه في الزكاةِ غَلَطاً متفاحشًا، ورددنا قوله في القَدْر الفاحش، هل نقبله في القَدْر الذي يقع مثله في الخرص. وقوله في الكتاب "وإمكان انقضاء الأقراء ... " إلى آخره، ولا يخفى مما ذكرناه أن المراد الحُرَّة، وإن كان اللفظ مطلقاً، وليُعْلَم قوله: "باثنين وثلاثين يوماً ولحظتين" وكذا قوله "بسبعة وأربعين يوماً ولحظة" لأن عند أبي حنيفة: القُرْءُ الحَيْضُ، وأقل الحيض عنده ثلاثةُ أيامٍ، فتختلف مدة الإمكان، ثم المعتبر عنْده أقلُّ الطهر، وأكثر ¬
الحيض، فإن طُلِّقتْ في الطُّهْر، فلا تُصدَّق إلاَّ بعد ستين يومًا ولحظةٍ بقدر كَأَنَّ الطلاق وقع في آخر جزء من الطُّهْر، ويعتبر ثلاث حيضٍ عشرة أيامٍ وطهران، كلُّ واحد منهما خمْسَةَ عَشَرَ يوماً، والطَّعْنُ في الطهر الثالث، وإن طُلِّقتْ في الحيض، فلا تُصدَّق إلاَّ بعد خمسة وسبعين يوماً [ولحظةٍ] (¬1) بقدرٍ كأنَّ الطلاق وقع في آخر جزء من الحيض، ويعتبر مضيّ ثلاثة أطهار، كلُّ واحد خمسةَ عَشَرَ، وثلاث حيض، كلُّ واحد عشرة أيام، والطعن في الطهر الرابع؛ ليتبين تمام القرء. وقوله: "وفي المبتدأة كذلك" يعني التي طُلِّقتْ قبل أن يبتدئ حيْضَها، ثم ظهر الحيض، وتسميتها مبتدأةً على مَعْنى أن دمه يَظْهَر مبتَدَأً بها. فرع: قال لامرأته: إذا ولَدْتِ، فأنتِ طالقٌ، فطُلِّقت بالولادة، فأقلُّ زمان يمكن فيه انقضاء أقرائها يُبْنَى على أن الدم الذي تَرَاهُ المرأة في الستين، هل يُجْعل حيضاً أم لا؟ وفيه خلاف مذكور في "الحَيْض"، إن جعلْناه حَيْضًا، وهو الأظهر، فأقل مدة تَصْدُق في انقضاء الأقراء فيها سبعةٌ وأربعون يومًا ولحظةٌ؛ كما لو طُلِّقت في (¬2) خلال الحيض، فتقدَّر كأنها وَلَدَت، ولم ترَ الدمَ، ويعتبر مضيُّ ثلاثة أطهار، وثلاث حيض، والطَّعْن في الحيضة الثالثة، وإن لم نجلْعه حيضاً، فلا تُصَدَّقُ فيما دون اثنين وتسعين يومًا ولحظةٍ، ستون منها مدةُ النِّفَاس، ويُحْسَبُ ذلك قرءاً، وبعدها (¬3) مدة حيضتين وطهرين، واللحظة للطَّعْن في الحيضة الثالثة، هكذا ذكره في "التهذيب" ولم يعتد صاحب "التتمة" بالنفاس قرءاً، واعتبر مُضِيَّ مائة وسبعة أيام ولحظة، -وهي مدة النفاس- مدةَ ثلاثةِ أطهارٍ وحيضتَيْن، واللحظةُ للطَّعْن. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإِذَا وَطِئَهَا بَعْدَ قُرْءَيْنِ اسْتَأنَفَتْ ثَلاَثةَ أَقْرَاءٍ* وَلاَ رَجْعَةَ إِلاَّ فِي الأَوَّلِ مِنْهَا* فَإنْ أَحْبَلَهَا فَوَضَعَتْ رَجَعَتْ إِلَى بَقِيَّةِ الأَقْرَاءِ عَلَى وَجْهٍ وَفِيهَا الرَّجْعَةُ* وَهَلْ تَثْبُتُ في مُدَّةِ الحَمْلِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. ¬
الفصل الثاني في أحكام الرجعية
قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصود الفَصْل بيان أن الرَّجْعة تختص بعدَّة الطلاق، وإن فرض فيها وطء، وطالت بسببه العدة، فإذا وطء الزوج الرَّجعية في العدة، فعليها أن تستأنف ثلاثة إقراء من وقت الوطء، ويدخل فيها ما بقي من عدة الطلاق، فإن العدتين من شخص واحد يتداخلان، ولا يثبت الرجعة إلاَّ في الباقي من عدة الطلاق، وإن وقَع الوطء بعد قَرءَيْن، فإنما تثْبُت الرَّجعة في القرء الأول من الثلاثة المستأنفة، وهو الثالث من عدَّة الطلاق إن كان بعد قرء، فله الرجعة في القرءين الأولين من الثلاثة، ويجوز له تجديدُ النِّكاح فيما زاد بسبب الوطء، ولا يجوز لغيره، ولو أحبلها بالوطء وجهان: أحدهما: تدخل، وبوضع الحمل تخرج عن العدتين؛ لأن المقصود الأصليَّ براءة الرَّحِم، وهما عدتان من شخص واحد، فيتداخلان، والباقي لا تدْخُل؛ لأنهما عدتان مختلفا الجنس، ولا تداخُلَ مع اختلاف الجنس، والأول أشبه، وبه أجاب بعض المتأخرين. التفريع: إن قلنا بدخول الباقي في عِدَّة الوطء، فهل له الرَّجْعة في مدة الحَمْل، فيه وجهان مذكوران في "التهذيب": أحدهما: لا؛ لأنه عدة الوطْء، وعدة الطلاق، كأنها إنقطعت بالوطء، وسقطت. وأظهرهما: نعم، لوقعها عن الجهتين، كالباقي من الأقراء عنْد التداخل إلاَّ أن ذَلِك يَتبعَّض، ومدَّة الحَمْل لا تَتبعَّض، وإن قلنا: لا تداخل، فقد انقطعت عدة الطلاق، فإذا وَضَعت، رجَعَت إلى بقية الأقراء، وللزوج الرجعة في البقية التي تعود إليها بعد الوضع، وفي ثبوتها قبل الوضع وجْهَان: أحدهما: لا تثبت؛ لأنها في عدة وطْء الشبهة. وأصحهما: على ما ذكره في "التتمة" الثبوت؛ لبقاء عدَّة الطلاق عليها، وثبوت الرجعة فيها، ومن البعيد أن تكون المرأةُ بَائنةً، ثم تثير رجعيَّةً، ولأنه إذا رجَعَها، يُسْقِط العدة، والعدة التي لا تبقى بعد المراجعة لا تمنع من المراجعة. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّانِي في أَحْكَامِ الرَّجْعِيَّةِ) وَهِي مُحَرَّمَةُ (ح) الوَطْءِ وَلَكِنْ لاَ حَدَّ في وَطْئِهَا* وَبَجِبُ المَهْرُ إِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا* وَإِنْ رَاجَعَهَا فَالنَّصُّ أنَّهُ يَجِبُ* وَالنَّصُّ في الْمُرْتَدَّةِ إِذَا وَطِئَهَا ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الإِسْلاَمِ أنْ لاَ مَهْرَ* وَقِيلَ: فِيهِ قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ* وَيَصِحُّ مُخَالَعَتُهَا عَلَى الجَدِيدِ* وَلاَ خِلاف فِي صِحَّةِ الإِيلاَءِ وَالظِّهَارِ وَاللِّعَانِ وَالطَّلاَقِ وَجَرَيانِ التَّوَارُثَ وَلُزُومِ النَّفَقَةِ* وَلَوْ قَالَ: زَوْجَاتِي طَوَالِقُ انْدَرَجَتْ تَحْتَهُ عَلَى الأَصَحِّ* وَإِنِ اشْتَرَاهَا وَهِيَ رَقِيقَةٌ فَعَلَيْهِ الاَسْتِبْرَاءُ؛ لأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ.
القول في أحكام الرجعية والرجعة
القول في أحكام الرجعية والرجعة قال الرافعي: فيه صورٌ: الأولى: الرجْعيَّة محرَّمة الوَطْء، وبه قال مالك؛ خلافاً لأبي حنيفة، وعند أحمد -رحمه الله- روايتان. واحتج الأصحاب بأنها معتدَّةٌ، فيحرم وطؤها كالمبتوتة، وبأنَّها طلْقة واقعةٌ، فأشبه ما إذا قال: أنتِ بائنٌ ونوى، وبأنَّها جاريةٌ إلى البينونة بعْد زَوَال العقدْ أو اضطرابه، فيَحْرُم على الزَّوْج، كما إذا أسْلم أحد الزوجين الوثنيين بعد الدخول، فإنه لا يحلُّ للزَّوْج وطؤُها في مدة العِدَّة، وكما يحرم الوطء يحرم سائر الاستمتاعات كاللَّمْسِ والنظر بالشهوة. الثانية: إذا وطَئَها، فلا حد عليه، وإن كان عالماً بالتحريم؛ لاختلاف العلماء في حله. وفيه وجهٌ ضعيفٌ، قيل: إنه مأخوذٌ من القول القديم في وجوب الحَدِّ إذا وطئ مملوكته المحرَّمة عليه بالرضاع، أو بكونها منكوحة الغَيْر، ولا يجب التعزير أيضاً، إن كان معتقدًا للحل أو جاهلاً بالتحريم، وإلاَّ وَجَب. الثالثة: إذا وطئها, ولم يراجعها، فعليه مَهْر المثل، ووجَّه ذلك بأنها في تحريم الوطء كالبائنة، فكذلك في المَهْر، وفي "تعليق" الشيخ أبي حامد -رحمه الله- توجيه: بأنه إذا لم يراجِعْها حتى انقضت العِدَّة، -بان أنها (¬1) - بانت بالطلاق، واعترض عليه ابن الصَّبَّاغ بأنه لو طَلَّق الرجعية، وقع، ولو بَانَ بانقضاء العدَّة من غير رجْعة بينونتها من وقت الطلاق؛ لَبَانَ عدم وقوع الطلاق، كما لو أسلم أحد الزوجين بَعْد الدخول، وطلقها من مدة العدَّة، ومضت، ولَمْ يُسْلِم المتخلِّف، فإنه تَبيَّن أن الطلاق لم يَقَع، وإن راجَعَها بَعْد الوطء، فالنصُّ وجوب المَهْر أيْضاً، والنص فيما إذا ارتدت المرأة بعد الدخول، فوطئها الزوج في مدة العدة، وعادت إلى الإِسلام: أنه لا مَهْر، وكذا لو أسلم أحد الزوجين المجوسيين أو الوثنيين، ووطئها، ثم أسْلَم المتخلِّف قبل انقضاء العدة، وللأصحاب طريقان: أحدهما، وبه قال الإصطخريُّ: أنَّ المسألة على قولين بالنقل والتخريج: أحدهما: وجوب المهر؛ لوقوع الوطْء في حال ظهور الخَلَل، وحصول الحيلولة بينهما. والثاني: المنع؛ لارتفاع الخَلَل آخرًا، وعَوْدها إلى صُلْب النكاح، وحكى القاضي ¬
ابن كج أن أبا الحُسَيْن قال: وجدت القولين منصوصين. والطريق الثاني: القَطْع بظاهر النصين، والفرق أن أثر الطلاق لا يرتفع بالرجعية، بل يبقى نقصان العَدَد، فيكون (¬1) ما بعد الرجعة وما قبل الطلاق بمثابة عقْدَيْن مختلفين، وأَثَر الرِّدَّة وتبديلِ الدِّين يرتفع بالاجتماع في الإِسلام، فيكون الوطء مصادفًا للعقد الأول، والظاهر [الأول] (¬2) هاهنا وجوب المهر، وفي تبديل الدِّين المنع، وإن ثَبَت الخلاف. الرابعة: في صحة مخالعة الرجعية قولان مذكوران في الأصل والشرح في "كتاب الخُلْع"، والجديد الصِّحَّة، ويصح الإِيلاء عنها، والظهار واللعان، ويلحقها الطلاق، وإذا مات أحدهما، وهي في العدة، ورِثه الآخر، وتجب نفقتها في العدَّة، كما في صُلْب النكاح، وهذه الأحكام في أبوابها. ولو أرسل الطلاق على زوجاته، فقال: نسائي أو زوجاتي طوالقُ، وقد طَلَّق واحدة طلقةً رجعيةً، هل تُطلَّق [منه] (¬3)؟ فيه وجهان، ويقال قولان: منصوص ومخرج: أصحهما، وهو المنسوب إلى النص، وبه قطع الشيخ أبو محمَّد: أنها تُطلَّق، وهي زوجَةٌ بدليل الأحكام المذكورة. والثاني: المنعُ؛ لاضطراب العَقْد في حقها، وقد قيل: أخذه من الخلاف فيما إذا قال: عَبِيدِي أحرار، هل يَدْخُل المكاتبون؛ فيه قال الإِمام: وقد يفرق بأن الكتابة توقِعُ حيلولةٌ لازمةٌ من جهة السَّيِّد، والطلاق الرجعيُّ بخلافه. الخامسة: سنذْكُر وجهَيْن في وجُوب الاستبراء إذا اشترى زوجته الرقيقة في "باب الاستبراء"، والأظهر أنه لا يجب؛ لأنها كانت حلالاً له، وإنما نقلها من سبب حل، فلا معنى للاستبراء، ولو طلق زوجته الرقيقة طلقةً رجعيةً ثم اشتراها، وجَب الاستبراء؛ لأنها كانت محرَّمةً علَيْه بالطلاقِ، وإحداثُ المِلْكِ لا يكون كالرَّجعة؛ لأن ملك اليمين يقطع النكاح ويضاده، فلا يَصلُح استدراكاً لما وقع فيه من الخلل، وبم يستبرئها؟ ملخص ما ذكره الإِمام أنه إن بَقِيَتْ من العدة حيضةٌ كاملةٌ وقع الاكتفاء بها، وإن بقيَتْ بقيةٌ من الطُّهْر، فمن الأصحاب من يكتفي بها، ومنهم من يشترط حيضة كاملة، وهو القياس، وهذا إذا قلْنا: إن الاستبراء بالحَيْض، وهو الصحيح، فإن قلنا: إن الاستبراء بالطهر، وقلنا [إن] (¬4) الطهر كافٍ للاستبراء، حَصَل الغرض بها. ¬
واعلم أن الأصْحَاب لَمَّا نَظَروا في الأحكام المجموعة في هذا الفصل، وَجَدوا لها دلالاتٍ متعارضةً، فأنْشَؤوا منْها أقوالاً ثلاثة في أن الطلاق الرجعيَّ هل يَقْطع النكاح، ويزيل الملْك أم لا: أحدها: نعم، ويدل عليه تحريم الوطْء، ونصه على وجوب المهر، وإن راجع، وأنه لا يصحُّ مخالعتها في قول، وأنه يجب الإشهاد في قول، فإن ذلك تنزيل له منزلة الابتداء. والثاني: أنه لا يزيل الملك، ويدل عليه أنه لا يجِبُ الحد بوطئها، وأنه لا يجب الإشْهَاد على قول، فإنه يصح الخلْع على قول وأنه يقع الطلاق، ويصح الظهار واللعان والإيلاء، ويثبت الميرَاث، واشتهر عن لفظ الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- أن الرجعيَّة زوْجَةٌ في خمس آي من [كتاب الله تعالى]، وأراد الآياتِ المشتملة على هذه الأحكام. والثالث: أنه موقوف، إن لم يراجعها حتى انقضت العدة، فَتَبين زوال الملك بالطلاق، وإن راجَعَها، تبيَّن أن المِلْك لم يَزُل، وأخذ ذلك من قَوْل من قال من الأصحاب: إن المَهْر موقوفٌ، إن لم يراجعْها، وإن راجَع، لم يحلف، وشبَّهوا هذه الأقوال بالأقوال في المِلْك في زمان الخيار، واختلف اختيار صاحب الكتاب وشيخه الإِمام، فاختار الإِمام القولَ الذَّاهب إلى بقاء الزوجية والملك، واعتذر عن تحريم الوطء بأن الطلاق يَجُربِهَا إلى البينونة والتحرم سبب يَثْبُت بعوارضَ تطرأ مع تمام المِلْك؛ للاحتياط، فأَوْلَى أن يَثْبُت عند ظهور الخلل والاضطراب، وعن وجوب المَهْر، بأنه ممنوعٌ من الوطْء؛ لخلل [فيه] (¬1) واضطراب وقَع في العَقْد، فإذا وَطئَ، ولم يجعل ذلك ردًا وإصلاحًا للشعث، كان كوطْء شبهة يتفق، قال: وأما إفساد المخالعة، فليس ذلك لزوال الملك، ولو كان لزواله، لَمَا لَحِقها الطلاق بغير عِوَض أيضاً، وأما وجوب الإشهاد، فمستنده ظاهرُ الآية على ما تَقدَّم، واختار صاحب الكتاب في "الوسيط" القَوْلَ بزوال الملك، واعتذر عن عَدَم وجوب الحَدِّ بأن سلطنة الرد قائمةٌ فتنهض شبهة، وعن عدم وجوب الإشهاد بأنه في الرَّجعة مستغنٍ عن رضا المرأة، وعن الولي، وكما لا يلتحق بالرجعة بالنكاح فيها, لا يلتحق بالنكاح في اعتبار الشهود، وصحة الخلع؛ لدفع سلطته وولايته، وكفت بذلك السلطنة لوقوع الطلاق؛ لفائدة تنقيص عدد، وكذلك لصحة الإيلاء والظهار وثبوت الميراث، وأنتَ إذا نَظَرْتَ في المسائل، وفيما هو الأظهر من الصور المختَلَف فيها, لم تُطْلِق القول بترجيح زوال الملك ولا بقائه. وقوله في الكتاب "وهي محرمة الوطء" مُعْلَم بالحاء والألف، وقوله: "ولكن لا ¬
حدّ" بالواو، وقوله: "وقيل فيه قولان بالنقل والتخريج" بعد رواية نصين يفهم الطريقة الأخرى المقررة للنصين، وإن لم يصرح بهم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإِنْ ادَّعَى أنَّهُ رَاجَعَ قَبْلَ انْقِضَاءِ العِدَّةِ فَأنْكرَتْ فَالقَوْلُ قَوْلُهَا إِذِ الأَصْلُ عَدَمُ الرَّجْعَةِ* وَقِيلَ: هُوَ المُصَدَّقُ إِذِ الأَصْلُ بَقَاءُ النِّكَاحُ* وَلَوْ قَالَ: رَاجَعْتُكِ الآنَ فَقَالَتِ: انْقَضَتْ عِدَّتِي بِالأَمْسِ وَأَنْكَرَ أَوْ قَالَت: انْقَضَتْ عِدَّتِي فَقَالَ: رَاجَعْتُكِ بَالأَمْسِ فَأنْكَرَت فَالخِلاَفُ جَارِ* وَالأَظْهَرُ أَنَّ القَوْلَ قَوْلُهَا: لأَنَّ الزَّوْجَ يَقْدِرُ عَلَى الإِشْهَادِ *وَلأَجْلِ هَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الإِشْهَادُ وَهِيَ مُؤْتَمَنَةٌ عَلَى مَا فِي رَحِمهَا* وَلَوْ قَالَ قَبْلَ انْقِضَاءِ العِدّةِ: رَاجَعْتُكِ بِالأَمْسِ فَأنْكَرَت فَالصَّحِيحُ أَنَّ القَوْلَ قَوْلُهُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الإِنْشَاءِ* فَإِنْ صَدَّقْنَاهَا فَالصَّحِيحُ أَنَّ إِقْرَارَهُ لاَ يُجْعَلُ إِنْشَاءً بَلْ عَلَيْهِ الإِنْشَاءُ إنْ أَرَادَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وإذا ادَّعَى الرجْعَة في العِدَّة، وأنْكَرَت المرأة، لم يَخْلُ اما أن يقع هذا الاختلاف قبل أن تَنْكح زوجًا آخر أو بعده. القسْم الأوَّل: أن يقع قبل أن ينكح زوجًا آخر، فإمَا أن تكون العدة منقضية أو باقيةً. الحالة الأولى: إذا كان العدَّة منقضيةً، وادَّعَى الزوج سَبْق الرجعة، وادَّعَتْ هي سبْقَ انقضاء العدة، فلهذا الاختلاف صور: إحداها: أن يتفقا على وقْت انقضاء العدَّة؛ كيوم الجمعة، وقال الزوج: راجَعْت يوم الخميس، وقالت: بل راجعت يوم السبت، فالقول قولها مع يمينها؛ لأن وقْت انقضاء العدَّة متفق عليه، والاختلاف في أنه؛ هل راجع قبله أم لا؟ والأصل أنه راجع، ووُجِّه أيضاً بأن الزوج يدعي [بعدم] انقطاع سلطنته وأنه راجَعَ قبله، فأشْبَه ما إذا ادَّعَى الوكيل بعْد العزل أنه باع قبل العزل، لا يُصدَّق، ويطالب بالببنة، هذا هو الظاهر، وبه أجاب أصحاب القفَّال وغيرهم، وعليه جرى صاحِب "التهذيب" و"التتمة". قال في "التتمة"، ويحلف هي أنها لا تَعْلَم أنَّه راجَع يَوْم الخَمِيس فإن الحلف على نَفْي فعل الغَيْر، هكذا يكون، وحكى الإِمام وصاحِب الكتاب في غيْر هذا الكتاب وراء الظاهر وجهَيْن آخرين، في الصورة المذكورة: أحدهما: أن القَوْل قول الزوج مع يمينه؛ لأن الرجْعَة تتعلَّق به، وهو أعلم بحال نفسه، ولأنه يستقي النكاح، فتُصدَّق كما لو ادَّعَى الإصابة في مدَّة العِدَّة. والثاني: أنها لو قالَت: انقضَتْ عدتي يوم الجمعة، وساعدها الزوج، وقال: راجَعْتُ يوم الخميس، فهي المُصدَّقة؛ لأن قولها في انقضاء العدَّة مقبولٌ، وإذا حكمنا بانقضاء العدة، لم يُلتَفَت إلى دعوى الرجْعة بعْد ذلك، وإن قال الزوج أولاً: راجَعْتُك
يوم الخميس، فهو يُصدَّق لاستقلاله بالرَّجْعة، [والرجعة] تَقْطَع العدة، وإن كان انتهاء الأقراء يوم الجمعة، وإذا صحَّحنا الرجعة منْه، لم نلتفت (¬1) إلى قوْلها: إنك راجَعْتَ يوم السبت، قال: فإن تساوق كلاماهما، سقط هذا الوجه، وبقي الوجهان الأولان. الصورة الثانية: أن يتفقا على وقْت الرَّجعة؛ كيوم الجمعة، وقالت: انقضت عدتي يوم الخميس، وقال الزوج: بل يوم السبت، فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن وقْت الرجعة متَّفَقٌ عليْه، والأصل أن العدَّة لم تنقض قبله، وحكى الإِمام وجهَيْن آخرين: أحدهما: أن القول قول المرأة مع يمينها؛ لأنها مصدَّقةٌ في دعوى انقضاء العدَّة، وقد ادعت أنها انقضت قبل أن يُرَاجِع. والثاني: أن المصدَّق السابق إلى الدَّعوى، فإن قال الزوج أولاً: راجَعْتُك يوم الجمعة، فقالت: نعم، لكن انقضت عدتي يوم الخميس، فهو المصدَّق، وإن قالت أولاً: انقضَتْ عدتي يوم الخميس، فقال: بل انقضت يوم السبت، ووقعت الرجعة في يوم الجمعة، فهي المُصدَّقة. الصورة الثالثة: ألاَّ يتَّفِقَا على وقت أحدهما بل يقتصر الزوج على أن الرجعة سابقةٌ، والزوجة على أن انقضاء العدة سابقٌ، فالنص أن القول قوْلُ الزوجة، والنص فيما إذا أسلمت المرأة بعد الدخول، ثم أسلم الزوج، واختلفا، فقال الزوج: أسلَمْتُ قبل انقضاء عدتك، وقالت: بل انقضت عدتي قبل إسلامك أن القول قَوْلُ الزوج، وذكرنا في آخر "نكاح المُشْركات" طريقين: أحدهما: أن المسألتَيْن على قولَيْن، وكلام الإِمام يوافق هذه الطريقة، وأنه حَكَى فيها وجهَيْن عن رواية الشيخ أبي مُحمَّد: أحدهما: أن القول قول الزوج استبقاءً للنكاح، ولأن الأصل بقاء الرجعة. والثاني: أن القول قولها؛ لأنها تخْبِر عما لا مُطَّلِع عليه إلاَّ من جهتها، فلا بد من ائتمانها وتصديقها فيه، والزوج يخبر عن الرجْعة، ولا ضرورة إلى تصديقه؛ لتمكنه (¬2) من الإشهاد على الرجعة. والطريق الثاني، وهو الأصح: أن النصين منزَّلان على حالين، وذكرنا أن المَحْكيَّ عن ابن سُرَيْج، وأبي إسحاق، والمرضيَّ عنْد الشيخ أبي حامد وأصحابه، وعلى ذلك جرى صاحب "التهذيب" وغيره -رحمهم الله-: أن النظر إلى السَّبْقِ، والسبقُ المصدَّقُ، فإن قالت هي أولاً: انقضت عدتي، ثم قال الزوج: كنت راجَعْتُكِ قبل انقضاء العدَّة، ¬
فهي المصدَّقة بيمينها، وإن قال الزوج أولاً: راجعتك قبل انقضاء عدتك، ثم قالت: بل بعْد انقضاء عدتي، فعن القفَّال، وبه أخذ "التهذيب" و"التتمة". أنه يُنْظَر؛ إن تراخى قولها عن قوله، فالمصدَّق الزوج، ويُجْعل كأن عدتها قد انقضت قبيل كلامها، وإن اتصل قولها بقوله، فهي المصدَّقة بيمينها؛ لأن الرَّجعة قولية، فيجعل قوله "راجعتك" كإنشاء الرجعة في الحال، وانقضاء المدة، وليس بشَيْءٍ حَوليِّ، فقولها انقضت عدتي إخبارٌ عن أمر كان من قبل، فكأن قوله: "راجعتك" صادف انقضاء العدة، فلا يصح، وإذا اعتبرنا السبق إلى الدعوى، فلو وقَع كلام الزوجين معاً، فعن ابن سُرَيْج، وهو الجواب في "التهذيب" وغيره: أن القول قولها، وكأنَّ الرجعة صادفت انقضاء العدة، أو تأخرت عنه وَيجِيْء على قياس ما ذكره الإِمام، وفيما سَبَق وجْه: أن القَوْل قولُه. وفي "الشامل" أن القاضي أبا الطيِّبِ روى وجْهاً أنه يُقْرَعُ بينهما، وَيُقَدِّمُ قولُ من خَرَجَتْ قرعته، وفي المسألة طريقة أخرى، ويقال إن صاحب "الإفصاح" اختارها، وهي أنه (¬1) يُسأل الرجُل عن وقت الرَّجعة [فإذا بَيِّن، فإن صدقته المرأة فقد توافقا على وقْت الرجْعة،] (¬2) وإن كذَّبَتْه، صُدِّق بيمينه، وتُسْأل المرأة عن وقت انقضاء العدة، فإذا بَيَّنَتْه، فإن صدَّقها، فقد توافقا على وقت انقضاء العدة، وإلا فتُصدَّق بيمينها، ثم يُنْظَر في وقت الرجعة، ووقت انقضاء العدة، ويُجْعل الحكم للسابق منْهما، ويخرج من هذه الطرق عنْد الاختصار وجوه أو أقوال: أحدها: تصديق الزوج [في انقضاء العدة] (¬3). [والثاني: تصديق الزوجة في انقضاء العدة]، ويُرْوَى الأوجُهُ عن ابن أبي هريرة، وكذلك ذَكَرها الشيخ أبو حاتم القزوينيُّ ثم في "النهاية" عن صاحب "التقريب"، أن ما صوَّرناه من الاتفاق على وقْت انقضاء العدة، والاختلاف في الرجْعة فيما إذا اتفقا على أصل الرجعة، واختلفا في التقدُّم والتأخر، فأما إذا أنكرت أصل الرجعة، وقالت: إنه لم يتلَفَّظ بها، فالقول قول المرأة بلا خلاف. قال الإِمام: وهذا خطأ صريح، فإن قولَها "أنه راجع بعد انقضاء العدة" اعترافٌ بصيغة الرجعة لا بحقيقتها، فلا فرق. ولو قال الزوجان: نعلم حصول الأمرين، الرجعة وانقضاء العدة على الترتيب، ولا ندري أن السابق ماذا؟ فالأصل بقاء العدَّة، وولاية الرجعة. الحالة الثانية: إذا كانت العدة باقيةً، واختلفا في الرجْعة، فالقول قول الزوج؛ لأنه ¬
ادَّعَى الرجعة في وقْت يقدر على إنشائها، فيُقْبل إقراره بها كالوكيل إذا قال: بعْتُ قبل العزل، وعن صاحب "التقريب" وجه أن القول قوْلُها؛ لأن الأصْل عدَمُ الرجْعَة، وبقاء أثر الطلاق، فإن أراد الرَّجْعة، فعلَيْه إنشاؤها، وإذا قَبِلْنا قولَه، فقد أطْلَق جماعةٌ منهم صاحب "الكتاب" (¬1) أن إقراره ودعواه يُجْعل إنشاءً, وحَكَى ذلك عن القفَّال، وذكر الشيخ أبو محمَّد أن من قال به يَجْعَل الإقرار بالطلاق إنشاءً أيضاً. قال الإِمام: وهذا لا وجْه له؛ فإن الإقرار والإنشاء يتنافيان، فذلك إخبار عن ماضٍ، وهذا إحداث في الحال، وذلك يَدْخُله الصِّدق، والكَذِب، وهذا بخلافه، ونختم القسم بكلامين: أحدهما: فيما يَتعلَّق بلفظ الكتاب. قوله: وَإِنْ ادَّعى أنه رَاجَع قبل انقضاء العدة، فأنكرت، الأقرب أنه أراد بهذه هذه الصورة ما إذا اختلفا في التقدُّم والتأخر من غَيْر أن يتفقا على وقْت أحدهما، وأراد بقوله: "ولو قال راجعتك الآن"، فقالت: "انقضت عدتي بالأمس" ما إذا اتفقا على وقت الرجعة، واختلفا في وقت انقضاء العدة؛ وبقوله (¬2): "أو قالت" انقضت عدتي، فقال: "راجعتك بالأمس" ما (¬3) إذا اتفقا على وقت انقضاء العدَّة، واختلفا في وقت الرجعة، والخلاف في أن القول قولُه أو قولها شامل للصور جميعاً على ما قدَّمنا، لكنه قال: والأظهر أنَّ القول قولُها، وسيأتي الكلام يَقْتَضِي ترجيحَ هذا الوَجْه في الصور كلِّها، وهو غير مساعد عليه فيما إذا اتفقا على وقت الرجْعة، واختلفا في وقْت انقضاء العدَّة بل الظاهر أن القول قولُه، وكذا إذا لم يتفقا (¬4) على وقت واحد منهما، والظاهر تصديقُ مَنْ يسبق إلى الدَّعْوَى، ولم يَتعرَّض له في الكتاب. والثاني: نقل المزنيُّ عن الشَّافعي -رضي الله عنه- أنه لو قال: راجعْتُكِ اليوم، فقالت المرأة: انقضت عدتي قبل رجعتك، تُصدَّق المرأة، واعتُرِض بأنه لم يوجَدْ من واحد منهما دعوى (¬5) [انقضاء العدة، حتى حصلت المراجعة باتفاقهما، فينبغي أن يُصدَّق] الرجُلُ، وحمل الأصحاب -رحمهم الله- النص على ما إذا اتَّصَل كلامها بكلامه، وقالوا: قولُه "راجَعْت" إنشاء، وقولها: "انقضت عدتي" إخبارٌ، فيكون الانقضاء سابقاً على قولها، وقد سَبَق ما يقرب من هذا أو هو هو. القسم الثاني، ولم يذكره في الكتاب: أن يقع الاختلاف بعْد ما نَكَحت زوجًا ¬
آخر، فإذا نكحت بعْد مضي العدة زوجًا لعلَّه زوجها الأول، وادعى الرجْعة وعذرها في النكاح، لجهلها بالرجعة أو نسبه إلى الخيانة والتلبيس، نُظر إن أقام عليها بيِّنة، فهي زوجة الأول، سواءٌ دخل بها الثاني أو لم يَدْخُل. وعن مالك: أنه إنْ دخل بها، فهي زوجة الثاني، وإن لم يدْخُلْ بها، فعنه روايتان في أنَّها للأول أو الثاني، ويجب لها مَهْر المثل على الثاني، إن دَخَل بها، وإن لم تكن بيِّنة، وأراد التحليف، فتسمع دعواه على الزوجة (¬1)، ويجيْء فيه خلافٌ؛ بناء على أن إقرار المرأة بالنكاح غَيْر مقبول، والظاهر القَبُول، وهل تسمع الدعوى على الزوج الثاني، فيه وجْهَان: أحدهما: لا؛ لأن الزوجة ليست في يده، وهذا ما ذكره الإِمام أنه المَذْهب. والثاني: تُسْمَع؛ لأنها في حباله وعلى فراشه، وبه أجاب المحامليُّ وغيره من العراقيين فإن قلنا: لا تسمع الدعوى عليه، فتتعين هي للدعوى، وإذا ادعى عليها، فإنْ أقرت به بالرجعة، لم يُقْبَل إقرارها على الثاني، بخلاف ما إذا ادعى امرأة في حبالة رَجُل أنها زوجته (¬2)، فقالت: كنت زوجةً لَك، فطلقْتَني، حيث يكون ذلك إقرارًا له، وتجعل زوجةً له، والقول قوله في أنه لم يُطَلِّقْها (¬3)؛ لأن هناك لم يَحْصُل الاتفاق على الطلاق، وهاهنا حَصَل، والأصل عدم الرجعة، وتغرم المرأة للأول مَهْر مثلها؛ لأنها فَوَّتَت البُضْع عليه بالنكاح الثاني. وقال أبو إسحاق: لا غُرم عليها، كما لو قَتَلَت نفْسها أو ارتدت، وهذا هو خلاف الغُرْم بالحيلولة، وإن أنْكَرت، فهل تحلف؟ فيه اختلافٌ؛ بناء على أنها لو أقرت هل تَغْرم إن قلنا: لا، فإقرارها بالرجعة غير مقبول، وهو غير مؤثر في الغرم، فلا معنى للتحليف، ومقصود التحليف الحَمْل على الإقرار، والظاهر التحليف، فإن حلفت، ¬
سقطت دعوى الزوج، وإن نكلت، حلف، وغرمها مَهْر المثل، ولا نحكم بطلان نكاح الثاني، وإن جعَلْنا اليمين المردودة كالبينة؛ لأنها وإن جُعِلت كالبينة، فإنما تكون كالبينة في حق المتداعيين خاصَّةً، وفي "النهاية" نقل وجه ضعيف: أنه يحكم ببطلان النكاح (¬1)، إذا قلْنا: إنها كالبينة، وإن قلْنا: إن الدعوى على الزوج الثاني مسموعةٌ، فيُنْظر؛ إن بدأ بالدعوى على الزوجة، فالحكم على ما بيَّنَّا، لكن إذا انقطعت الخصومة بينهما، بَقِيَتْ دعواه على الثاني وإن بدأ بالدعوى على الثاني، فإن أنكر، صُدِّق بيمينه؛ لأن العدة قد انقضت، والنكاح وقع صحيحاً في الظاهر، والأصل عدم الرجعة، وإن نَكَلَ، رُدَّت اليمين على المدعي، فإن حلف، حكم بارتفاع نكاح الثاني، ولا تصير المرأة للأول بيمينه، ثم إن قلْنا: إن اليمين المردودة كالبينة، فكأنه لم يكن بينها وبين الثاني نكاح، فلا شَيْءَ لها على الثاني إلاَّ مهر المثل، إن دخل بها، وإن قلْنا: إنها كالإقرار، فإقراره عليها غَيْر مقبول (¬2)، فلها كمال المُسمَّى، إن كان بعد الدخول، ونصْفه، إن كان قَبْله. قال في "التهذيب" والصحيح عندي أنها إن جُعلَت كالبينة، لا تؤثر في سقوط حقِّها عن المسمَّى، بل يختص أثر اليمين المردودة بالمتداعيين، فإذا انقطعت الخصومة بينهما، فله الدعوى على المرأة، ثم يُنْظَر؛ إن بقي النكاح الثاني، بأن حلف، فالحكم كما ذكرنا فيما إذا بدأ بها، وإن لم يبق بأن أقر الثاني للأول بالرجعة، أو نَكَل، فحلف الأول، فإن أقرت المرأة، سُلِّمت إليه، وإلا فهي المُصدَّقة باليمين، فإن نَكَلت، وحَلَف المدعي، سُلِّمت إليه، ولها على الثاني مَهْر المثل، إن جَرَى دخول، وإلاَّ، فلا شَيْء عليه، كما لو أقرت بالرجعة، وكل موضع قلنا: لا تُسلَّم المرأة إلى الأول، لحق الثاني، وذلك عنْد إقرارها، أو نكولها، ويمين الأول، فإذا زال حق الثاني بموت وغيره، سُلِّمت إلى الأول، كما لو أقر بحرية عبْد في يد غيره، ثم اشتراه، يحكم عليه بحريته. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَمَهْمَا أَنْكَرَتِ الرَّجْعَةَ ثُمَّ رُجِعَتْ صُدِّقَتْ وَإِنْ كَانَ في إِنْكَارِهَا إِقْرارٌ بِالتَّحْرِيمِ؛ لأنَّهَا جَحَدَتْ حَقَّ الزَّوْج ثُمَّ أَقَرَّتْ فَيَتَرَجَّحْ جَانِبُه* وَلَوْ أَقَرَّتْ بِتَحْرِيمِ رَضَاعٍ أَوْ نَسَبٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا الرُّجُوعُ* وَإِنْ زَعَمَتْ أَنَّهَا لَمْ تَرْضَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ ثُمَّ رَجَعَتْ فَالأَظْهَرُ أنَّهُ يُقْبَلُ لِحَقِّ الزَّوْجِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا أنكرت المرأة الرجعة، واقتضى الحال تصديقها، ثم رجَعَت، صُدِّقت في الرجوع، وقُبِلَ إقرارها، نصَّ عليه، ورأى الأصحاب فيه إشكالاً؛ لأن قضية قولها الأول تحريمُها عليه، وقضية الإقرار بالتحريم ألا يُقْبَل منها نقيضه، كما لو أقَرَّت ¬
أنها بنْت فلان من النَّسَب أو الرضاع، ثم رجَعَت، وكَذَّبت نفسها, لا يُقْبل رجوعها، وتَكلَّموا في الفَرْق من وجوه: أحدها: أن حرمة الرضاع مؤكَّدة مؤبَّدة، بخلاف حرمة البينونة بانقضاء العدة. والثاني: أن الرضاع يَتعلَّق بها، فإقرارها به يَصْدُر عن علم وتحقُّق، والرجْعةُ قد تجري في غيبة، وهي لا تَشْعُر فلا يبعد أن تنكر، ثم تَعْرف، وتَعْتَرِف. قال الإِمام: ولا خير في هذين القولين؛ أما الأول، فهو بيان التفاوت في كيفية الحرمة، وأصل الحرمة حاصِلٌ شامل للصورتين، وأما الثاني، فالرَّضَاع يجري في الصغر، فلا يَشْعُر به المرتَضِع. والثالث: أن الإقرار بأخوة النسب والرضاع تستند إلى أمر ثبوتي، وإنكار الرجعة، وإن صُدِّقت، فيه نفي شيء، والثبوت أقرب إلى العِلْم والإحاطة من النفي؛ ولذلك كان الحَلف في طرف الثبوت على البَتِّ، وفي النفي على العلْم، وإذا كان كذلك كان الرجوع في طرف الإثبات رجوعًا عن المحقَّق المعلوم، فلا تقبل، ولذلك نقول: لو ادَّعتِ الطلاق على الزوج، فأنْكَر، ونكل، فحلفت، ثم رُجِعَت، وكَذَّبت نفسها, لا يُقْبل رجوعها؛ لاستناد قولها إلى الإثبات، وأما في طرف النفي، فكأنه لم يَعْلَم، ثم عَلِم، نَعَمْ، لو قال: ما أتلف فلان مالي، ثم رَجَع، وادَّعَى أنه أتلف، لا يُقْبَل؛ لأن قوله: "ما أتلف" تضمَّن الإقرار على نفْسه ببراءته. والرابع: أن الرجل ادَّعَى حقّاً، فأنكرته، ثم عادت إلى الاعتراف به، فإذا توافقا على ثبوت حقه، لم يجز إبطاله، كما لو ادَّعى أنها زوجته، فأنْكَرَت، ثم أقرت أو ادَّعى على إنسان قصاصًا، فأنكر، ثم أقر بخلاف قولها: فُلان أخِي، ولو زُوِّجت المرأةُ، وهي ممن يُحْتَاج إلى رضاها، فقالت: لم أرْضَ بعقد النكاح، ثم رجَعَت، وقالت: رَضِيتُ، وكنتُ نسيته، وجهان: أحدهما: أنه يقبل رجوعها؛ لأن قولها الأول راجِعٌ إلى النفي، وأيضاً، فإنها أنكرت حق الزَّوْج، وعادَتْ إلى التصديق، فيُقْبل؛ لِحَقِّه. والثاني: المنع؛ لأن النفي إذا كان تَعلَّق بها كالإثبات؛ ألا ترى أن الإنسان يحلف على نفي فعله على البَتِّ، كما يحلف على الإثبات على البت، وقد ذكرنا أن الإقرار بالأمر الثبوتي يبعد الرجوع عنه، وعلى هذا فلا يحل له إلاَّ بعقد جديد، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطَّيِّب -رحمه الله- عن النص، والأول أظْهَر عنْد صاحب الكتاب -رحمه الله- والله أعلم بالصواب. فروع: إذا طلَّقها طلقةً أو طلقتين، واختلفا في الإصابة، فقال الزوج: طلقتها بعد
الدخول، ولي الرجعة، وأنكرت هي، فالقول قولها مع يمينها؛ فإن الأصل عدم الدخول فإذا حلفت، فلا رجعة له، ولا سكنى ولا نفقة لها, ولا عدة عليها, ولها أن تنكح في الحال، وليس له أن ينكح أختها, ولا أربعاً سواها، حتى ينقضي زمان يمكن انقضاء العدة فيه، وهو مُقِرٌّ لها بكمال المَهْر، وهي لا تدَّعِي إلا النصف، فإن كانت قد قَبَضَت المهر، فليس له مطالبتها بشَيْء، وإن لم يُقبضه، فليس لها إلاَّ أخذ النصف، فإذا أخذته، ثم عادت، واعترف بالدخول، فهَلْ لها أخْذ النِّصْف الآخر أم لا بد من إقرار مستأنف من جهة الزوج؟ نقل إبراهيم المروزي فيه وجهَيْن، وفي شرح "المفتاح" للأستاذ أبي منصور البغدادي: أنها إذا كانت قَبَضت المَهْر، وهو عَيْن، وامتنع الزَّوج من قَبُول النِّصْف أو يبرئها منه. ولو كنت العين المصدَّقة في يده، وامتنعت من أخذ الكُل، فيأخذه الحاكم، وإن كان دَيْنًا في ذمته، فيقول لها: إما أن تقبليه أو تبرئيه عنه. ولو انعكس الخلاف، وادَّعت المرأة الدخول، وأنكر الزوج، فالقول قوله، فإذا حلف، فلا رجعة ولا سكنى ولا نفقة، وعليها العدة، ولو عادت، وكذَّبتْ نفْسَها, لم تَسْقط العدة، ولا فرق بين أن يكون الاختلاف في الدخول قبل جريان الخلوة، أو بعدها على الصحيح، وحكينا في آخر فصل العُنة قولاً أن يُرجَّح جانبُ مَنْ يدعي الدخول ويُجْعَل القول قوله مع يمينه، وفي "التتمة" أنه لو طلق زوجته الأمة، واختلفا في الرَّجعة، فحيث قلنا: إن القول قول الزوج إذا كانت المطلقة حُرةً، فكذلك هاهنا، وحيث قلنا: إن القول قول الزوجة هاهنا فالقول قول السيد؛ لأن نكاح الأمة حقُّه. وعن أبي حنيفة ومالك: أن القول قولُ الأمة، وبمثله أجاب صاحب "التهذيب" وقال: لا أثر لقول السَّيِّد، وعن نصه -رضي الله عنه- في "الأم" أنه لو قال: أخبرتني بانقضاء العدة ثم إنه راجَعَها مكذِّبًا لها، فقالت بعد ذلك: ما كانَتْ عدتي منقضيةً، وكذَّبت نفْسَها، فالرجعة صحيحة؛ لأنه لم (¬1) يُقِرَّ بانقضاء العدة [وإنما أخبر عنها، والله أعلم (¬2)]. ¬
كتاب الإيلاء
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الإِيلاءِ (¬1) * وَفِيهِ بَابَانِ البَابُ الأَوَّلُ فِي أَرْكَانِهِ * وَهِيَ أَرْبَعَةٌ الرُّكنُ الأَوَّلُ: الحَالِفُ وَهُوَ كُلُّ زَوْجِ يُتَصَوَّرُ منْهُ الوِقَاعُ حُرًّا كَانَ أَوْ رِقِيقًا كافِراً كَانَ أَوْ مُسْلِماً كَانَتْ رَجْعِيَّةً أَوْ في صُلْبِ النِّكَاحِ كَانَ الزَّوْجُ مَرِيضًا أَوْ صَحِيحاً أَوْ خَصِيًّا أَوْ مَجْبُوبَ بَعْضِ الذَّكَرِ* وَإِنْ جُبَّ جَمِيعُ ذَكَرِهِ فالصَّحِيحُ أنَّهُ لاَ يَصِحُّ إيلاَؤُهُ* وَقِيلَ: قَوْلاَنِ* وَإِنْ آلى ثم جُبَّ انْقَطَعَ الإيلاَءُ* وَقِيلَ بِطَرْدِ القَوْلَيْنِ* وَلَوْ قَالَ لأَجْنَبِيَّة: وَاللهِ لاَ أُجَامِعُكِ ثُمَّ نَكَحَهَا لَمْ يَكُنْ مُوْلِيًا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الإيلاء في اللُّغَة: الحلف، يقال آلَى يُولِي إيلاءً، وتَألَّى تَألِّيًا، والأَلِيَّة اليمين، والجمع آلاء، مثل عطية وعطايا. ¬
وفي الشرع هو: الحَلِف على الامتناع من وطء الزوجةُ مطلقاً مدَّةً تزيد على أربعةُ أشهر، وكان الإيلاء طلاقًا في الجاهلية، فغَيَّر الشرعُ حكْمه، والأصل فيه قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] الآية، ولما لم يكن بُدٌّ من معرفة الإيلاء الصحيح من غير الصحيح، ومن معرفة حكم الصحيح منه، رتب الكتاب على بَابَيْن: أحدهما: في أركانه، وُيبَيَّن بها صحيحه من فاسده. والثاني: في أحكام الصحيح، أمَّا الأركان، فهي أربعة؛ لأن التفسير المذكور يَعْتَمِد حالفًا، ومحلوفًا، ومحلوفًا على الامتناع منه، ومدة وهي ظرف الامتناع. الركن الأول: الحالف، واعتبر فيه وصفين: أحدهما: كونه زوجًا، فلو قال لأجنبية: واللهِ، لا أطَؤُك، تمحَّض ذلك يمينًا حتى لو وطئها قبل النكاح أو بعده، يلزمه كفَّارة يمين؛ ولا تَنْعقد الإِيلاء حتى إذا نَكَحها, لا تُضْرَب المدة. وفي "التتمة" نقل وجْه: أنه يصير مُولياً إذا نَكَحها؛ لأن اليمين باقيةٌ، وهي مانعة من الوطء، تحتاج إلى رفع الضرر، ونسَبَ هذا الوجْه ناسبون إلى رواية صاحب "التقريب"، وبه قال مالك، والمذْهَب الأول: لأن الإيلاء، يختص بالنكاح؛ فلا ينعقد بخطاب الأجنبية؛ كالطلاق (¬1)، ولأن ضَرْب المدة والمطالبة يتعلَّقان بالإيلاء عن الزوجة. قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] وليست هذه الصورة في معناه؛ لأنه لا يتحقق قصْد الإيذاء، والإضرار وهي أجنبية. ولو قال لها: إن تزوَّجْتك، فوالله لا أطؤك فهو كتعليق الطلاق بالملك، ويجيء فيه خلاف أبي حنيفة، ويصح الإيلاء من الرجعية كما يلحقها الطلاق، ولا تحتسب المدَّة عن الإيلاء، وإنما تضرب المدة من وقْتِ الرجعة؛ لأنها زمان العدة مفارقة جارية إلى البينونة، وعن أبي حنيفة، وأحمد: أن مدة العدة تُحْتَسَب من مدَّة الإيلاء. والثاني: تصوُّر الوقاع، فمن جُبَّ ذكره، وآلَى هل يصحُّ إيلاؤه؟ فيه اختلاف، نص وذكر الأصحاب -رحمهم الله- طرقًا: أظهرها: أن المسألة على قولَيْن: أحدهما: أنه يصحُّ إيلاؤه، كما يصح إيلاء المريض العاجز؛ لعموم الآية. ¬
والثاني: وهو اختيار المزنيِّ: أنه لا يصحُّ؛ لأنه لا يتحقَّق منه قصدُ الإيذاء، والإضرار؛ لامتناع الأمر في نَفْسه، وهذا أصحُّ على ما ذَكَره القاضيان أبو الطيِّب والرُّويانيُّ، وهو نصه -رضي الله عنه- في "الإملاء"، الأول عن الأُمِّ، والثاني: القطع بالمنع -كما في "الإملاء"، وحُمِلَ ما في "الأم" على أنه إذا آلى ثم جُبَّ ذكَرُه، لا يبطل الإيلاء، وسنذكره. والثالث، حكاه أبو الفرج السرخسي -رحمه الله- القطع بالصِّحة، وحمل ما في "الإملاء" على أنه لا يُطَالَب بالوقاع؛ لعجزه، بخلاف إيلاء القادر، وإنما يؤمر بالفيئة باللسان؛ بأن يقول: نَدِمْت على ما قلت وزاد الشيخ أبو حامد -رحمه الله-؛ ولو قَدَرْتُ لَفَعَلْتُ (¬1)، ولا يقول: إذا قَدَرْت، وطئت بخلاف المريض بعْد، إذا طولب؛ لأن قدرته متوقعة، وإن جُبَّ ذكره، فلها الخيار بالجب الطارئ على الأصحِّ على ما سَبَقَ في موضعه، وفي الإيلاء طُرُق: أحدهما: أنه على القولين في الصورة السابقة، إن صحَّحنا الإيلاء هناك فض هاهنا أولى، وإلاَّ بَطَلَ. والثاني: القطع بأنه لا يبطل. والثالث: القطع بالبطلان، حكاه الإِمام، والأظهر هاهنا طريقة القولين، لكن الأظْهَر بقاء الإيلاء؛ لأن العَجْز عَرَض في الدوام، وكان قَصْد الإيذاء والإضرار صحيحاً منه في الابتداء، واختار الإِمام بطلانه، وقال: يستحيل بقاء اليمين مع استحالة الحنث، واحتج أيضًا بأنه لو بقي الإيلاء، لكانت المُطَالبة بالفَيْءِ باللِّسان، وهي أن يقول: لولا المانع، لوطئت. قال: وهذا عندي في حُكْم العبث الذي لا يليق بمحاسن الشرع، وضرْبُ المدَّةِ لذلك فسْخٌ، والأشل ومن بقي من ذَكَره بعد الجب ما دون قدر الحشفة كالذي جُبَّ جميع ذكره، وإذا كانت المرأة رَتْقَاءَ أو قرناء، ففي صحَّة الإيلاء منها الخِلاَف المذْكُور في المجْبُوب. قال في "الشامل": لكن إذا صحَّحناه، لا تضرب مدة الإِيلاء؛ لأن الامتناع بسبب من جهتها، كما إذا آلى عن الصغيرة، لا تضرب المدة حتَّى تدرك، وحُكِيَ عن أبي حنيفة أنه تُضْرَب المدَّة عقيب الإيلاء، وهذا قضية ما أورده في الكتاب في الباب الثاني على ما سيأتي، وفي شرح "مختصر الجُوَيْني" حكايةُ قول عن القديم: أنه لا يَصِحُّ الإيلاء عن الصغيرة والمريضة المضناة لامتناع الجماع كما في الرَّتْقَاء، ويشترط زيادة على الوصفين المذكورين كونه مُحَلَّفاً، فلا يصح إيلاء الصبيِّ والمجنون كطلاقهما, ولا ¬
فرق في صحة الإيلاء بين الحُرِّ والرقيق، ولا بين الحُرَّة والرقيقة، ولا بيْن الزوجين المسلمَيْن والكافرين، ولا ينحل الإيلاء بإسلام الكافر خِلاَفاً لمالك، وإذا ترافع إلينا الزوجان الذميان، وقد آلى الزوج، فإن أوجبنا على حاكِمِنا الحُكْم بينهم، حَكَمَ كما يَحْكُم في المسلمين، وإن لم نُوجَبْ لم يَجْبرِ الحاكم الزوج على الفيئة ولا الطلاق، ولا تطلق عليه بل لا بد من رضاه؛ لأن الحكم على هذا القول إنَّمَا يجوز برضاهما، فإذا لم يرضيا ردَدْناها إلى حاكمهم. ويصح إيلاء المريض كإيلاء الصحيح، وكذا إيلاء الخصيِّ والمجبوب بعْضُ ذكره، إذا بقي قَدْر الحشفة؛ لأنه قادرٌ على الجماع، ويصح إيلاء العرَبِيِّ بالعجمية، وبالعكس، إذا كان يعرف معنى اللفظ، والحكْمُ فيه على ما بينَّا في الطلاق. وقوله في الكتاب "أو مجبوبُ بعْضِ الذَّكَر" محمول على ما إذا كان قدْر الحشفة باقيًا، وان كان اللفظ مطلقاً. وقوله "فالصحيح أنه لا يصح إيلاؤُه" أي من الطريقين، واتبع الإمام في اختيار هذا الطريق، والظاهر عند الأصحاب طريقةُ القولَيْن، وقوله "لا يصح إيلاؤه" مُعْلَم بالحاء، فان أبا حنيفة يصحِّحه، وقوله فيما "إن آلى ثُمَّ جُبَّ، انْقَطَعَ الإيلاءُ، وقيل يَطْردِ القَوْلَين" يعبر عن الطريقة الأولى، والثالثة من الطُّرُق التي حكَيْنَاها في هذه الصورة وإيراده يُشْعِر بترجيح طريقة البطلان على موافقة الإِمام؛ والظاهرُ إثباتُ القولين، ثم الظاهر فيه أنه لا يَنْقَطِع الإيلاء، وهو الذي أورده جماعةٌ من الأصحاب منْهم صاحب "التهذيب"، وقوله "وقيل: يطرد القولين" إنما كان يحسن موقعه أن لو كان المذكور قبله الطريقة القاطعة بعَدَم الانقطاع؛ تنبيهاً على أن هذه الصورة أَوْلَى ببقاء الإيلاء من الصورة السابقة بالصحة؛ لقوة الدوام وتحقق قصد الإيلاء، في الابتداء، ثم يقول: "وقيل بطرد القولين" أي مع هذا التفاوت (¬1)، فأما إذا كان المذكور في هذه الصورة الطريقتين المذكورتين في الأولى بعينهما، فالأَحْسَن أن يُقَالَ: ولو آلَى، ثم جُبَّ جرى الطريقان، وقوله "لم يكن مُولِيًا" معلمٌ بالواو. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الثَّاني: المَحْلوفُ به) وَهُوَ الله تَعَالَى أَوْ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ* فَإِنْ حَلفَ بِاللهِ ثُمَّ وَطِئَ لَزِمَتْهُ الكَفَّارَةُ عَلَى الجَدِيدِ وَلاَ يَخْتَصُّ الإيلاَءُ بِاليَمِينِ بِاللهِ عَلَى الجَدِيدِ بَلْ كُلُّ مَا فِيهِ الْتِزَامٌ مِنْ عِتْقٍ وَطَلاَقٍ أَوْ لُزُومِ صَوْمٍ وَصَدَقَةٍ وَعُلِّقَ بِالوَطْءِ فَهُوَ إِيلاَءٌ ثُمَّ إِذَا قَالَ: إِنْ وَطِئْتِ فَلِلَّهِ عَليَّ صَوْمٌ أَوْ صَدَقَةٌ فَهُوَ يَمِينُ لَجَاجٍ وَفِيمَا يَلْزَمُ فِيهِ أَقْوَالٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الامتناع عن الوطء من غير يمين لا يُثْبت حكْم الإيلاء، سواء كان ¬
هناك عذرٌ أو لم يكُنْ؛ لأنه ليس فيه إيذاء وإضرار بنصب مانع من الوطء، فإذا حلف لا يطؤها أكثر من أربعة أشهر، ثم طالبته بالوطء بعد أربعة أشهر، فوطئ لزمه الكفارة وعن أحمد: أنه يلزمه كفارة اليمين؛ لأنه قد حلف باليمين بالله تعالى، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَليُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ"، وفي القديم قولان: أحدهما: هذا. والثاني: أنه لا كفارة عليه؛ لأن الإيلاء باقتضاء الفيئة أو الطلاق مُنْتَزَع من حُكْم الأيمان؛ فكان التضييق عليه الفيئة أو الطلاق قائم مقام المؤاخذة، أيضاً قال الله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] وذلك يُشْعِر بالعفو، والصفح وانتفاء المؤَاخذة، فإن وطئها قبل مضي المدة، فمنهم من قَطَع بوجوب الكفارة؛ لأنه حانث باختياره غير محمول عليه، والوعدُ، والمغُفرةُ في الآية مرتَّب على الفيئة بعد المدة، ومنهم من أجرى فيه الخلاف، وقال: إنه مُبادِر إلى التدارك، معجِّل لم يُطَالَب به في ثاني الحال، فاستحق التخفيف، ولو حَلَف على ألاَّ يطأها أربعة أشهر فما دونها، ثم وطئ، فعليه الكفارة؛ لأنه لَيْس بمُولٍ؛ وفي "البسيط" و"الوسيط" أن بعضهم أجرى الخلاف فيه وهو ضعيف. وهل يختص الإيلاء باليمين بالله تعالى وصفاته؟ فيه قولان: القديم، وهو رواية عن أحمد: نعم؛ لأنه المعهود من إيلاء الجاهلية، وإنما غَيَّر الشرح حُكْمَه لا صورته. والجديد أنه لا يختص به، بل إذا قال: إن وطئتك، فعبدي حرٌّ أو فأنت طالقٌ، أو ضَرَّتك طالقٌ، أو قال: فلله عليَّ إعتاق رقبةٌ، أو صومٌ، أو صلاةٌ، كان مُولِيًا؛ لأن العتق والطلاق المعلقان بالوطْء ينزلان لو وطئ، وإذا علق قُرْبَةٌ، تلزمه إمَّا كفارة اليمين، أو الوفاء بالملتزم أو يتخير بين الأمرين على ثلاثة أقوالٍ مذكورة في "كتاب الأيمان"، وإذا كان كذلك، كان ما يلزمه بالوطْء مانعًا له من الوطء، وكان هو بِتَعَلُّقِ المحْذُور به مُضِرًّا بها، فينبغي أن يثبت لها المطالبة بالفيئة أو الطلاق، كما لو حَلَف بالله تعالى؛ ولأن جميع ذلك يُسمَّى يميناً، فتناوله إطلاق آية الإيلاء، وبنى هذا الخلاف بعضهم على الخلاف في أنه إذا حَلَف بالله تعالى، ثم وَطِئَ، هل تلزمه كفارة يمين؟ إن قلنا: نعم، انعقد الإيلاء بهذه الالتزامات؛ لتعلق محذور بالوطء، وإن قلنا: لا، وتبعنا المعهود، لم يُحْكَم بانعقاد الإيلاء بها، وذكر بناء على هذا البناء أنه يلزمه تخريج قوله "في القديم على موافقة الجديد" لأن له في لزوم الكفارة قولَيْن:
أحدهما: موافقة الجديد. وعند أبي حنيفة ينعقد الايلاء [بجميع ذلك، كما في الجديد إلا إذا كان المعلَّق به صلاة (¬1) وشرط انعقاد الإيلاء] بالالتزامات المذكورة أنْ يلزمه شيء، لو وطئ بعْد أربعة أشهر أما إذا كانت اليمين تنحل قبل مضي مدة الإيلاء، فلا ينعقد الإيلاء فلو قال: إن وَطِئْتُك، فلِلَّه عليَّ أن أصلي هذه الليلة، أو هذا الأسبوع أو أصوم هذا الشَّهْر، أو شَهْر كذا وذكر شهراً ينقضي قبل أربعة أشهر من وقت اليمين، لم ينعقد الايلاء. قال في "التتمة": وليس هذا كما إذا قال: لله عليَّ أن أصوم اليوم الذي يقْدَمُ فيه فلانٌ، فقَدِم، وهو مفطر؛ حيث يلزم قضاء ذلك اليوم على قَوْل، وهاهنا إذا وطئ، لا يلزمه بالقضاء، ولا تثْبُت أحكام الإيلاء، بسبب ذلك القضاء؛ لأن الوفاء ممكنٌ، بأن يعرف قدومه قبل ذلك اليوم، فيصبح فيه ناويًا صائماً، وهاهنا لا يمكن القضاء؛ لانقضاء وقت الصوم حين تتوجه المطالبة. ولو قال: إن وطئتك، فلله عليَّ أن أصوم شهراً أو عَيَّن شهراً متأخراً عن أربعة أشهر من وقت اليمين، فهو مُولٍ ولو قال: فعليَّ صوْم الشهر الذي وطئتك فيه، يلزمه أن يصوم بقيَّة ذلك الشهر، إن أوجبْنا في نَذْر اللَّجَاج، وفي قضاء اليوم الذي وطئ فيه وْجهان أخذاً من الخلاف في مسألة القُدُوم، ولو قال: فعلَيَّ صوم هذه السَّنة، فيكون مُوليًا إن بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر، وإلاَّ فلا, ولو قال: إن وطئتك فكل عبد يَدْخُل في مِلْكي حرٌّ، فهو لغُو؛ لأن تعليق العتاق بالملك لغو، وكذا لو قال: فعليَّ أن أُطلِّقك لأنه [لا] (¬2) يلزمه بالوطئ شيء، إذا قلنا بالجديد، ولو قال: إن وطئتك، فأنتِ طالقٌ إن دخلْت الدار، أو فعبدي حرٌّ بعد سنة، يكون مُوليًا؛ لأنه يلزمه بالوطء تعلُّق الطلاق بالدخول، والعِتْق بمضي السَّنة، كذا أطلقه (¬3) في "التهذيب" حَكَى الإِمام عن القاضي الحُسَيْن -رحمهما الله- القَطْع به، وعن الشَّيْخ أبي محمَّد: أنه على الخلاف فيما إذا قال: إن أصبْتُكِ، فوالله، لا أصبتك فيكون الراجح على ما سنذكره أنه [لا] (¬4) يلزمه شيْء بالوطء في الحال، وإنما يتعلَّق بسببه الطلاق بالدُّخُول كما يتعلَّق اليمين بالله تعالى بالوطء، وهذا أوْجَه، وبه قال الإِمام، والظاهر من ذلك الخلاف: أنه لا يكون مُولِيًا في الحال على ما سيأتي إن شاء الله [تعالى جَدُّه]. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: إِنْ جَامَعْتُكِ فَعَبْدِي حُرٌّ ثُمَّ مَاتَ العَبْدُ أَوْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ انْحَلَ الإِيلاَءُ* وَإِنْ قَالَ: فَعَبْدِي حُرٌّ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ مُولِيًا وَلَكِنْ بَعْدَ انْقِضَاءِ شَهْرٍ مِنَ اللَّفْظِ* ¬
وَلَوْ قَالَ: إِنْ وَطِئْتُكِ فَعَبْدِي حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي وَكَانَ قَدْ ظَاهَرَ صَارَ مُوْليًا لالْتِزَامِهِ تَعْيينَ العَبْدِ وَتَعْجِيلَهُ* فَإنْ وَطِئَ انْصَرَفَ العِتْقُ إِلَى الظِّهَارِ عَلَى الصَّحِيحِ* وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ ظَاهَرَ فَيَكُونُ مُقِرًّا عَلَى نَفْسِهِ بِالظِّهَارِ فَيُعْتَقُ عَبْدُهُ إِنْ وَطِئَ وَيكُونُ مُوْلِياً* وَإِنْ قَالَ: فَهُوَ حُرٌّ, عَنْ ظِهَارِي إِنْ تَظَاهَرْتُ فَإنَّمَا يَصِيرُ مُولِياً إِذَا ظَاهَرَ، لأَنَّهُ عُلِّقَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُعْتَقُ عَبْدُهُ إِنْ وَطِئَ بَعْدَ ذَلِكَ لاَعَن الظِّهَار لأَنَّهُ قُدَّم تَعْلِيقَهُ عَلَى الظِّهَارِ* وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا لَمْ يَنْصَرِفْ إلَى الظِّهَارِ لَمْ يُعْتَقْ لأَنَّهُ وَصَفَهُ بِمُحَالِ فَيَنْدَفِعُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: كلام الفصل ومسائل بعده تتفرع على الجديد الصحيح، وهو أن الإيلاء لا يختص بالحلف بالله تعالى، وبصفاته، ولا مجال لها على القول القديم، ويشتمل الفصل على مسألتين: إحداهما: لو قال [إن] (¬1) وطئتك فعبدي حر، وجعلناه موليًا ثم مات العبد، أو أعتقه انحل الإيلاء لأنه لا يلزمه بالوطء شيء، ولو زال الملك عنه ببيع أو هبة فكذلك فإن ملكه بعد ذلك ففي عود الإيلاء قولا عود الحنث. ولو دبر العبد، أو كاتبه لم ينحل الإيلاء؛ لأنه يعتق لو وطئها، وكذا لو علق بالوطء عتق جارية واستولدها, ولو قال: إن وطئتك فعبدي حر قبله بشهر، فإنما يصير موليًا إذا انقضى شهر من وقت تلفظه بذلك؛ لأنه لو وطئها قبل تمام شهر لم يحصل العتق فإن معلق العتق مستند إلى ما قبل الوطء بشهر، والعتق لا يتقدم على اللفظ، وينحل الإيلاء بذلك الوطء فإذا انقضى شهر من غير أن يطأها فتضرب مدة الإيلاء وتتوجه المطالبة في الشهر الخامس، هذا ما ذكروه هاهنا, ولا شك أنه الجواب الظاهر لكن ذكرنا فيما إذا قال إن قدم فلان فأنت طالق قبله بشهر، وقدم قبل مضي شهر ما يخرج منه وجه أنه يقع الطلاق في الحال فعلى ذلك الوجه لو وطئها قبل مضي شهر يعتق العبد، ويصير موليًا في الحال، ولا حاجة إلى مضي شهر، وإذا قلنا بالظاهر فلو وطئها في مدة الإيلاء أو بعد ما توجهت المطالبة بالفيئة، أو الطلاق حكم (¬2) بعتق العبد قبله بشهر، وإن طلقها حين طولب ثم راجعها ضربت المدة مرة أخرى، وإن جدد نكاحها بعد انقضاء العدة ففي عود الإيلاء قولاً عود اليمين ولا خلاف في أنه لو وطئها يحكم بعتق العبد قبله بشهر، وإن وقع الوطء على صورة الزنا, ولو باع العبد في الشهر الرابع فإن وطئ قبل تمام الشهر من وقت البيع بَانَ حصول العتق قبل البيع، وإن تم من وقت البيع شهر ولم يطئها ارتفعِ الإيلاء؛ لأنه لو وطئ بعد تمام ذلك لم يحصل العتق ¬
قبله بشهر لقدم البيع على شهر، هذا ما ذكره أكثر الأئمة المتكلمين في هذه المسألة تصويرًا، وحكمًا، وحكى أبو القاسم الفوراني وجهاً: أنه يطالب بعد تمام أربعة أشهر من وقت اللفظ لأنه ربما يطلقها، والطلاق لا يستند، وتابعه أبو سعد المتولي في هذه الحكاية وزاد شيئاً آخر (¬1) وهو التصوير فيما إذا قال: عبدي حر. قبل أن أطأك بشهر [وادعى أنه إذا قال: إن وطئتك فعبدي حر قبله شهر] فهي من صور اليمين الدائرة، وفيها الخلاف المشهور فإن ألغيت لم ينعقد الإيلاء وإن ألغي قوله قبله [وقدر] (¬2) كأنه قال: إن طلقتك فأنت طالق فهاهنا يكون موليًا في الحال، ويصير كما لو قال [إن] (¬3) وطئتك فعبدي حر [وإن صححنا اليمين الدائرة فالحكم (¬4) كما لو قال عبدي حر] قبل أن أطاك بشهر، فهذا شيء لا يتضح لي. المسألة الثانية إذا علق بالوطء عتق العبد عن جهة الظهار فقال: إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري فإن كان قد ظاهر صار موليًا على الجديد لأنه، وإن لزمته كفارة الظهار فعتق ذلك العبد بعينه، وتعجيل الإعتاق عن الوطء زيادة التزمها بالوطء ليست هي من موجب الظهار ثم إذا وطئ في حدة الإيلاء، أو بعدها فهل يعتق العبد عن الظهار؟ فيه وجهان: أحدهما لا؛ لأن العتق عن الظهار ينبغي أن يكون خالصاً للظهار، وهذا قد يتأدى به حق الحنث فلا يتأدى به حق الظهار وأصحهما نعم؛ لأن العتق المعلق بالشرط كالمنجز عند حصول الشرط فكأنه قال: عند الوطء أعتقتك عن ظهاري، وطرد هذا الخلاف في سائر التعليقات كما إذا قال: إن دخلت الدار فأنت حر عن ظهاري. فإن لم يكن قد ظاهر فلا إيلاء ولا ظهار فيما بينه وبين الله تعالى، ولكنه مقر على نفسه بالظهار فيحكم في الظاهر بكونه مظاهرًا، وموليًا ولا يقبل قوله إني لم أكن مظاهرًا، وإذا وطئ عاد في كون العتق عن الظهار في الظاهر الوجهان ولو قال: إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري إن ظاهرت فلا يكون موليًا في الحال؛ لأنه لا يعتق العبد لو وطئها قبل الظهار، ولا يناله محذور فإذا ظاهر صار موليًا؛ لأن العتق حينئذ يحصل لو وطئ وذكر القاضي ابن كج والإمام أن من الأصحاب من جعل كونه موليًا في الحال على قولين لأن العتق معلق بوصفين الوطئ والظهار، ولو وجد الوطء الذي هو أحد الوصفين قرب حاله من الحنث، والقرب من المحذور محذور فيخرج على القولين فيما إذا قال لأربع نسوة والله لا أجامعكن هل يكون موليًا عن جميعهن في الحال لأنه يقرب ¬
من الحنث بوطء أية واحدة وطئها، والظاهر الأول، ويوافق الطريقة الأخرى ما ذكر جماعة منهم "صاحب التتمة" أنه لو وطئ، ثم ظاهر عتق العبد كما لو ظاهر أولاً ثم وطئ؛ لاجتماع الصفتين المعلق عليهما, ولك أن تقول وجب أن ينظر في صيغة التعليق إن قال إن وطئتك إن ظاهرت منك فعبدي حرٌ أو قال: عبدي حر إن وطئتك إن ظاهرت منك، ويشترط أن يتقدم الظهار على الوطء، ولو تقدم الوطء ثم وجد الظهار فلا يعتق العبد كما ذكرنا فيما إذا قال: إن دخلت الدار إن كلمت زيداً فأنت طالق، أو قال أنت طالق إن دخلت إن كلمت، وإذا لم يحصل العتق عند تأخر الظهار عن (1) الوطئ لا يكون الوصف مقربًا من الحنث، وإن كان الصيغة إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري إن ظاهرت وهذه الصيغة هي التي استعملوها، وتكلموا فيها فهي محتملة يجوز (2) أن يريد بها أنه إذا وطئها تعلق عتقه بالظهار ويتحمل أن يريد بها أنه إذا ظاهر عنها تعلق العتق بالوطء والوجه أن يراجع الشخص كما ذكرنا فيما إذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيداً فإن أراد أنه إذا ظاهر تعلق عتق العبد بالوطء فعلى موجب ما مر في مسألة الطلاق لا يعتق العبد إذا تقدم الوطء على الظهار، ولا يكون الوطء مقرباً من الحنث، وإن أراد (3) أنه إذا وطئ تعلق العتق بالظهار فالذي قيل من حصول العتق إذا ظاهر بعد الوطء صحيح، والوطء حينئذ يكون مقربًا من الحنث فيتجه تخريجه على الخلاف المذكور والله أعلم بالصواب. وقد ذكر "صاحب التتمة": أنه [لو] (4) قال: إن وطئتك فعبدي حر إن ظاهرت، ولم يقل عن ظهاري: يكون موليًا في الحال؛ لأنه التزم بالوطء تعليق العتق بالظهار، وهو كما تقدم أنه لو قال: إن وطئتك فعبدي حر بعد سنة يكون موليًا في الحال. قال: ويخالف ما إذا قال: عن ظهاري؛ لأن هناك جعل العتق عن الظهار، وهاهنا علق بالوطء (5) تعلقه بالظهار [ولم يجعل العتق في مقابله شيء آخر ثم إذا قلنا بالظاهر] وهو أنه إنما يصير موليًا إذا ظاهر، فلو وطء في مدة الأيلاء، أو بعدها حصل العتق لوجود الظهار والوطء متأخر عنه، ولا يقع هذا العتق عن الظهار باتفاق الأصحاب، ولِمَ لا يقع قال أبو إسحاق؛ لأن تعليق [العتق] سبق الظهار، والعتق لا يقع عن الظهار [إلا بلفظ يوجد بعده وقال ابن أبي هريرة لأنه لا يقع خالصًا عن الظهار] (6) لتأدي حق الحنث به فأشبه ما إذا اشترى قريبه، ونوى أن يكون عتقه عن الكفارة والأول أصح عند الأئمة، وبنوا على التعليلين المذكورين الوجهين في وقوع العتق عن الظهار إذا كان قد ظاهر،
وقال: إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري ثم وطئ فعلى التعليل الأول يقع العتق عنه؛ لأن الظهار سابق هناك وعلى الثاني لا يقع (¬1) وكذا لو قال إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري إن ظاهرت وكان قد ظاهر ونسي فيكون موليًا في الحال فهذا وطئ عتق العبد عن الظهار على التعليل الأول دون الثاني هذا هو المنقول، وذكر صاحب الكتاب هاهنا وفي "الوسيط" احتمالاً: أنه [لا] (¬2) يعتق العبد إذا وطئ بعد الظهار؛ لأنه لا يمكن وقوع العتق عن الظهار وهو إنما أعتق عن الظهار وعلى هذا فلا يصير موليًا؛ لأنه لا يلزمه بالوطء شيء. قال: في "الوسيط" إلاَّ أن يقال يلغى قوله عن ظهاري؛ لأنه جعل العتق محالاً ويبقى قوله فعبدي حر وقوله هاهنا "لأنه وصفه بمحال فيندفع" يعني الوقوع عن الظهار وهو محال فيندفع العتق، ولو قرئ "إلا أنه وصفه بمحال فيندفع" [كان جواب الاحتمال كما ذكره في الوصف أي فيندفع] (¬3) الوصف بكونه عن الظهار. فرع: قال: لامرأته إن وطئتك فلله عليّ أن أعتق عبدي هذا عن ظهاري وكان قد ظاهر عنها أو عن غيرها وعاد فلزمته الكفارة فهل يكون موليًا يبنى على أنه إذا كان في ذمته إعتاق رقبة فنذر على وجه التبرر أن يعتق العبد الفلاني عما (¬4) هو عليه فهل يتعين ذلك العبد أم لا؟ النص فقول عامة الأصحاب أنه يتعين كما لو نذر ابتداء إعتاق عبد معين واختار المزني أنه لا يتعين وخرجه على أصل الشَّافعي -رضي الله عنه- واستشهد عليه بأنه لو كان عليه صوم فنذر صوم يوم الخميس عن الصوم الذي هو في ذمته لا يتعين ذلك اليوم وعدّ الإِمام ما ذكره قولاً في المذهب فقال تخريجه أولى من تخريج غيره (¬5) والذاهبون ¬
إلى التعيين في العتق اختلفوا في الجواب عن مسألة الصوم فمنعها ابن أبي هريرة. وقال: يتعين ذلك اليوم وسلمها الأكثرون وقالوا العتق أشد تعلقًا بعتق العبد من تعلق الصوم باليوم؛ ألا ترى أنه لو نذر في الابتداء صوم يوم بعينه ففاته الصوم فيه يقضي يوماً مكانه، ولو نذر عتق عبد بعينه فمات لا يلزمه أن يعتق غيره وأيضاً فإن العبد المعين صاحب حق في العتق فيراعى حقه بخلاف تغيير اليوم، ونقل الإمام أن القاضي الحُسين وَفّى بقضية هذا الفرق. فقال: لو نذر أن يصرف زكاته إلى أشخاص معينين من الأصناف تعينوا رعاية لحقهم وأن الأكثرين قالوا لا يتعينون وربما فرقوا بقوة العتق وبأن غرض العتق أولى بالرعاية وبأن عتق العبد المعين بابتداء النذر يتعين فألحق التعيين في الدوام بالتعيين في الابتداء والمصرف إلى الفقراء المعنيين بخلاف ذلك، إذا عرف ذلك فإن قلنا إن العبد الذي عينه لا يتعين عما كان عليه فلا يكون موليًا؛ لأنه لا يلزمه بالوطء شيء وبه قال المزني رحمه الله. وعن أبي حنيفة مثله وإن قلنا يتعين فقد اخرج الالتزام هاهنا مخرج نذر اللجاج والغضب فكان كما لو قال إن وطئتك فلله عليّ صوم أو صلاة فيكون موليًا في الحال على الجديد وهذا نصه رضي الله عنه في "الأم" ونقل المزني في "المختصر": أنه لا يكون موليًا فمن الأصحاب من حمل ما نقله على القول القديم في أن الإيلاء لا ينعقد إلاَّ بالحلف بالله تعالى وقال أكثرهم إنه لم يقصد الحكاية عن القديم لكنه أخطأ في النقل وإذا قلنا بصحة الإيلاء فإن طلق بعد المطالبة خرج عن موجب الإيلاء وكفارة الظهار في ذمته يعتق عنها ذلك العبد أو غيره وإن وطئ في مدة الايلاء أو بعدها فالواجب ما يلزم [في نذر] اللجاج فإن قلنا عليه كفارة يمين أو خيرناه فاختار كفارة اليمين [فإن] (¬1) أطعم أو كسا فعليه الإعتاق عن الظهار وإن أعتقه أو عبداً آخر عن اليمين فعليه الإعتاق عن الظهار وإن قلنا عليه الوفاء بما سمى أو خيرناه فاختار الوفاء وأعتق ذلك العبد عن ظهاره فقد خرج عن عهدة اليمين. وهل يجزئه عن الظهار فيه وجهين: أصحهما وبه قال أبو إسحاق نعم. والثاني وبه قال أبو علي بن أبي هريرة والطبري: لا؛ لأنه لا يتأدى به حق الحنث فلا يخلص للظهار. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: إنْ وَطِئْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا فَهُوَ مُوْلٍ* فَإن وَطِئَ فَعَلَيْهِ ¬
النَّزْعُ عِنْدَ تَغْيِيبِ الحَشَفَةِ* وَقِيلَ: يَحْرُمُ بِهِ الوَطْءُ لأَنَّ النَّزْعَ مِنَ الجِمَاعِ* وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِ المَدْخُولِ بِهَا: إِنْ وَطِئْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَقَعَ بِالوَطْءِ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ لاِقْتِرَانِ المَسِيسِ بِالطَّلاَقِ* وَلَوْ قَالَ: إنْ وَطِئْتُكَ فَضَرَّتُكِ طَالِقٌ فَهُوَ مُوَلٍ* فَإنْ مَاتَتِ الضَّرَّةُ انْحَلَ الإِيلاَءُ* وَإِنْ أَبَانَهَا فَكَمِثْلِ* وَإِنْ جَدَّدَ نِكَاحَهَا وَقُلْنَا: يَعُودُ الحِنْثُ فَيَعُودُ الإيلاَءُ وَتُبنَى العِدَّةُ عَلَى مَا مَضَى فَلاَ تُسْتَأْنَفُ* وَلَوْ قَالَ: إنْ وَطِئْتُ إحْدَاكُمَا فَالأُخْرَى طَالِقٌ وَأَبَى الفَيْئَةَ فَلِلْقَاضِي أَنْ يُطَلِّقَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الإِبْهَامِ ثُمَّ عَلَى الزَّوْجِ أنْ يُبَيِّنَ مَا نَوَى أَوْ يُعَيِّنَ* وَقِيلَ: لاَ يَصِحُّ دَعْوَاهُمَا مَعَ الإِبْهَامِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذا الفصْل فيما إذا علَّق بالوطء الطلاق، فأمَّا طلاق الموطوءة أو طلاق زوجة أُخْرى، فقد ذكرنا أنه ينعقد به الإيلاء على القول الجديد، وفي الفَصْل صُورٌ: إحداها: إذا قال: إن وطئتك، فكنت طالقٌ أو فأنت طالقٌ ثلاثاً، فيطالب بعد مُضيِّ المدة، وَبِمَ يطالب؟ فيه وجهان: أحدهما، وهو قول ابن خيران: أنه يُطالَب بالطلاق على التعيين، ويمتنع من الوطء؛ لأن الطلاق يقَع بعد تغيب الحَشَفة، والنزع يقع بعد وقوع الطلاق، وأنه نوع استمتاع، ولا يجوز الاستمتاع بالمطلَّقة، وأيضاً فإنه لا يتأتى وصْل النزع بآخِر التغيب، بل يقع بينهما فصْلٌ، وهي في تلك الحالة محرَّمة عليْه، وأيضاً فإن الصائم إذا خشي طلوع الفجر ووقوع النَّزْع بعد الطلوع، يمنع من الوطء، فكذلك هاهنا. وأظهرهما، وقد نَصَّ عليه: أن يُطَالب بالفيئة أو الطلاق. وقال في "الوسيط" ويبيَّن أن عليه النزع، كما غابت الحشفة، ولا يمنع من الوطْء بتعليق الطلاق [به] (¬1)؛ لأن الوطء يقع فيْ النكاح، والذي يقع بعد وقوع الطلاق هو النزع، والنزع تَرْك الجماع والخروج عن المعصية، وشُبِّه ذلك بما لو قال لغيره: ادْخُلْ دارِي، ولا تقم فيه، يجوز له الدخول، والقول بأنه يقع بينهما فصْل لا حاصل له، فإن التكليف بما في الوُسْع، والفَصْل الذي [لا يحس]، لا عبرة به، ومسألة الصوم ممنوعةٌ، إن تحقَّق وقوع الإيلاج في الليل، ولا فرق بين الصورتين، وإذا وطئ إمَّا قبل مضي المدة، وإما بعدها، فإن نَزَع كما غيب الحشفة، فذاك، وإن مكث، فلا حَدَّ؛ لأنه وطءٌ كان ابتداؤه مباحاً، وفيه وجه عن رواية ابن القطَّان وغيره: أنه يجب الحدُّ إذا كان عالماً بالتحريم تنزيلاً للاستدامة منزلة الابتداء، كما يجب بدأ الكفارة في رمضان، واختاره القاضي الرُّويانيُّ، والمذهب الأول وفي وجوب مَهْر المِثْل بالمُكث اختلافٌ قد ¬
[مَرَّ] ذِكْره (¬1) في "كتَاب الصَّوْم"، والظاهر أنه لا يجب، وإن نزع ثم أولج، فلا حَدَّ إن كان رجعيةٌ، وحكم المَهْر ما ذكَرْنا في الرجْعة، وإن كان قد عَلَّق به الطلاق الثلاث، فإن كانا جاهلَيْن بالتحريم؛ بأن اعتقدا أن الطَّلاق لا يقع إلاَّ بالاستيعاب، فلا حد للشبهة، ويجب المهر، ويثبت النسب والعدة، وإن كانا عالِمَيْن بالتحريم، فوجهان: أحدهما: أنه يجب الحد؛ لأنه وطء مستأنفٌ خالٍ عن الشبهة، وعلى هذا، فلا مهر ولا نسب ولا عدة. والثاني: المَنْع؛ لأن الناس يعدون الإيلاجات (¬2) المتتابعة وطأة واحدةً، وعلى هذا، يجب المهر، ويُحْكى هذا الوجه عن أبي الطيِّب بن سلمة، ورجَّح الشيخ أبو حامد ومن تابعه هذا، والأول أقوى، وهو اختيار القَفَّال، والقاضيين الطبري والروياني. وبترجيحه قال الإِمام وصاحب "التهذيب" -رحمهم الله-، وإنْ علم الزَّوْج التحريم دون الزوجة، فلا حدَّ عليها, ولها المَهْر، وكذا لو علِمَتْ، ولم تَقْدِر على الدَّفْع، وفي وجوب الحد على الزَّوْج الوجْهَان، وإن كان الزَّوْج جاهلاً بالتحريم، وهي عالمة قادرةً على الدفْع، فأظهر الوجْهَيْن: أنه يجِبُ عليها الحدُّ، ولا يجب لها المَهْر. وأما قوله في الكتاب: "ولو قال لغير المدخول بها: إن وطِئْتُك، فأنت طالقٌ واحدةً، وقَع بالوطْء طلقةٌ رجعيَّة"، فهذا فَرْع ذكره الإِمام -رحمه الله- في هذا المَوْضع، ووافَقَه صاحب الكتاب، وحظُّ الإيلاء منْه أن يكونَ موليًا بهذا التَّعْليق، فأما أنَّ الطلاق يقَع رجعيًّا فلا اختصاص له بالباب، وإنما كان رجعيًّا؛ لأن الطَّلاَق المعلَّق بالصِّفة، إن وقع مترتِّباً علَيْها، متأخِّراً عنْها، فهذا طلاقٌ وقَع بعْد المسيس، فيكون رجعيّاً، وإن وقع مقارنًا لها، وهذا ما تعرَّض له في الكتاب؛ بقوله: "لاقتران المسيس بالطلاق" والوطْء الجاري يقتضي العدة؛ فيكون الطلاق مع العدَّة، وذلك يقتضي ثُبُوت الرجْعة ربما قَبْل الوطْء والطلاق، وإن تَقَاربا، لكن الوطْء مقرر، والطلاق مُبَيّن، فإذا اجتمعا يُغَلَّب جانب تقرير النكاح، والصورة شيبهة بما سَبَق أن العَبْد لو قال لزوجته: إذا مات سيدي فأنْتِ طالقٌ طلقتين وقال السَّيِّد: إذا متُّ، فأنْت حرٌّ [لا] يحتاج في نكاحها إلى المُحلِّل؛ لمقارنة الطلقتَيْن، وقد ذكَرْنا هناك وجْهًا آخر، ولا يبعد مجيء مثله هاهنا, ولفْظ الواحدة من قَوْله "فَأنْتِ طالقٌ واحدةً" غير محتاج إليه في التصوير؛ فإن ¬
قضية قوله "فأنتِ طالقٌ" هي قضية قوله "أنتِ طالقٌ واحدةً". الصورة الثانية: إذا قال: إنْ وطِئتكِ، فضَرَّتُك طالقٌ، فهو مُولٍ عن المخاطبة في الجديد، معلِّق طلاق ضَرَّتها بوطئها، فإن وطئ المخاطبة قبل مضيِّ المدة أو بعدها، طُلِّقت الضَّرَّة، وانحل الإيلاء، وإنْ طلَّقها بعد المطالبة، ولم يطأها سقَطَت المطالبة. ولم يطأها، وخَرَج عن موجب الإيلاء، فإن راجَعها بعد ذلك عاد الإيلاء، فهذا حكْم كل الإيلاء على ما سيَأْتي، وإن بانَتْ فجدَّد نكاحها، ففي عَوْد الإيلاء أقوالُ عَوْدِ اليمين، وهذا يشملُ كلَّ إيلاء، وقد ذكَرْناه في "الطلاق"، فإن قلنا يَعود الإيلاء، استُؤْنِفَت المدة من يَوْم النكاح. نصَّ عليه القاضي أبو الطيِّب وغيره. وسواءٌ قلْنا يعُود الإيلاء أو لا يَعُود، فطلاَقُ الضرَّة يبقى معلَّقاً بوطء المخاطبة، حتى إذا وطِئ المخاطبة بعد الرَّجْعة أو التجديد وقع بلا (¬1) خلاف، وكذا لو وَطِئَها، وهي بائن زانياً، ولا يعود الإيلاء، لو نَكَحها بعد ذلك لانْحلاَل اليَمِين. بوطء الزنا ولو ماتت الضرة، انحلَّ الإيلاء؛ لأنه حينئذ لا يلْحَقه محذورٌ بوطئها, ولو طلَّقها لم يرتفع الإيلاءُ ولا المطالبة ما دامَتْ في عدة الرجْعة؛ لأَنَّه لو وَطِئ المخاطبة، لَطُلِّقت، فإذا انقضتْ أو أبان الضَرَّة بالخلع، أو بطلاق بأن كانَتْ غير مدخول بها، أو باستيفاء الثَّلاَث، فيرتفع وتسْقُط المطالبة، وإن كان ذلك بعد مضيِّ مدة الإيلاء؛ لأنه لو وَطِئَها بعْد ذلك، لم يقَع الطَّلاق، ثم إنْ وَطِئ المخاطبة، انحلَّت اليمين، ولا يعُود إيلاَؤُها لو نُكِح الضرة. وإن نَكِحَ الْضَرَّة قبل أن يطأَها، فعلى الخلاف في عَوْد اليمين، إن قلْنا: لا يعود، ولا تُطلَّق في النكاح بوطْء المخاطبة [لم يعد] الإيلاء، وإن قلنا: تعود عاد، وإنْ حكْمنا بعَوْد الإيلاء، فيستفتح المدة أو يبني على ما مضى، قال الإِمام: الظاهرُ عندنا: أنها لا تسْتَفْتِح وتبنى على ما مَضَى، بخلاف ما إذا طُولِبَ المولَى بالفَيْئة أو الطَّلاق، وطلَّقها ثم راجَعَها حَيْث تَضْرب مدة مستفتحة على ما سيَأْتي: أنه لو طولب بما يَدْفع الضرر، إما بالرجوع إليها أو بتخلعيها، فإذا طلَّقها فقد سعَى في التخليص، وأسْعَف بأحد طَرَفِي المطلوب، فأثَّر الطلاق في استحداث مدَّةٍ أخْرَى، وأمّا إبانة الضَّرَّة، فلَيْس إسْعافًا بوجه من وجُوه الطلب. هذا ما أورده صاحب الكتاب قال الإِمام: وقد يتجه المصير إلى استفتاح المدة، فإن الزوج بإبانة الضرة، رفع المانع من الوطء، فكان ذلك قطعاً لسبب الضرر وتسهيلاً للإقدام على الوطء، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب" وغيره، ويشبه أن يكون هو ¬
الأظْهَر، فليُعْلَمْ لذلك قوله وتبنى العدة على ما مَضَى، فلا تستأنف المدة بالواو. الثالثة: إذا قال لامْرأتيه: إن وطئْت إحداكما، فالأخرى طالق، فإما أن يُعيِّنَ بقلبه واحدةً منهما، أو لا يعين، إن عيَّن، فهو مُولٍ عنها وحْدها, لكن الأمر في الظاهر مبهم، فيقال له بعد المدة؛ مَنِ التي أردتها، وألَيْتَ عنها؟ فإن بيَّن، فلها مطالبته بالفيئة أو الطلاق، ولا إشكال، والقول قولُه مع يمينه في أنَّه لم يُرِدِ الأخرى، وإن لم يبيِّن، وطالبناه جميعاً، قال له القاضي: فيء [إلى] التي آليت عنها أو طلِّقها، فإن امتنع، طلَّق قال له القاضي: فيء [إلى] التي آليت عنها أو طلِّقها، فإن امتنع، طلَّق القاضي إحداهما على الإبهام. تفريعًا على أن القاضي يُطْلِق على المُولي إذا امتنع، وهذا ما أجاب به ابن الحدَّاد في المسألة، وعن القفَّال: أنه لا يُطلِّق القاضي إحداهما على الإبهام واعترض على ما قاله ابن الحدَّاد بأنهما معترفان بالإشكال، فدعواهما أنه آلَى عن إحداهما مبهمة غير مسموعة، كما إذا أحْضَرَ رجلان عنْد القاضي، وقالا لأحدنا على هذا كذا، وزاد في "التتمة"، فقال: هذا إن جاءنا معاً وادعتا كذلك، فإن انفردت كلُّ واحدة، وقالت: آلى عنِّي، فإن أقر بها قالتا: أُخِذَ بمُوجب إقراره، وإن كذَّب الأولى منهما، تعيَّن الإيلاء في الثانية، وتعجَّب الإِمام من الشيخ أبي علي، حيث لم يحل اعتراض القَفَّال، مع أنه من أقْدَم أصحابه، وأنه تَبَسَّط في نَقْل ما قِيلَ، ولا تعترض علَيْه من تلقاء نفسه. وقال كثير من الأصحاب: إن ما قاله ابن الحدَّاد جيِّدٌ، ووجَّهوه بأن الضرر حاصلٌ مع اعترافهما بالإشكال، ولا سبيل إلى إهمال الواقعة، ولا إلى تطليق واحدة بعينها، فأدت الضرورة إلى ما ذكره، وإذا قيل به، فلو قال الزوج: راجَعْت التي وَقَع عليها الطَّلاق، ففي صحة الرَّجعة هكذا وجْهان سَبَقا في "الرَّجعة"، وبالصحة أجاب ابن الحدَّاد؛ وعلى هذا تضرب المدة مرةً أخرى، ويُطلِّق القاضي مرة أخرى على الإبهام، وهكذا إلى استيفاء الثلاث، والأظهر أن الرَّجعة لا تَصِحُّ على الإبهام بل تبين المطلقة أولاً ثم يراجع إن شاء، ولو أنه وطئ واحدةً منهما قبل البيان قال الشيخ أبو علي -رحمه الله-: لا يُحْكَم بطلاَق الأُخرى؛ لأنا لا ندري أن التي عناها هي الموطوءة أو الأخرى، ويبقى الأمر بالبيان، كما كان فإن قال: أردت الأخرى، لم تُطلَّق واحدة منهما، ويطالب لهما بالفيئة أو الطلاق، فإن وطئها، طُلِّقت الموطوءة الأولى، وإن قال: أردت الإيلاء عن الموطوءة، طُلِّقت الأخرى، وخرج عن موجب الإيلاء، فهذا إذا كان قد عيَّن بقلبه واحدة منهما أما إذا قال: إن وطئت إحداكما، فالأخرى طالقٌ، ولم يعين بقلبه واحدةٌ منهما، فالذي ذكره الشيخ أبو علي وأورده صاحب "التهذيب" أنه يكون مُولِياً عنهما؛ لأنَّ أية واحدةٍ [منهما وطئها] تُطلَّق الأخرى، ويلحقه المحذور، ويشبه أن يُقال: إنه يكون مُولِيا عن واحدة منهما، ويؤمر
بالتعيين كما في الطلاق (¬1)، وسيأتي مثله (¬2) فيما إذا قال: لنسائه والله، لا أجامع واحدةً منكن، ولا يُعيِّن واحدة بقلبه، ويوافق هذا كلام صاحب الكتاب لأنه قال "فللقاضي أن يُطلِّق إحداهما على الإبهام"، ولم يُفَرِّق بيْن أن يعيِّن واحدةً بقلبه أو لا يعيِّن، ولو كان مُولِيًا عنهما جميعاً، لَطَلَّق كل واحدة منهما عند إلامتناع، وقد صرَّح به الشيخ أبو علي؛ بناء على ما ذكره، وقوله "ثم على الزوج أن يبيِّن ما نوى أو يعيِّن" أراد به أن يبيِّن التي عناها، إن كان قد عَيَّن واحدةً بقلبه والطلاق الذي أوقعه القاضي يَقَع مصادفاً لها أو يعيّن الآن (¬3) إن لم يكن قد عَيَّن واحدة عنْد اللفظ، ويكون ما أوقعه القاضي بيْنهما إلى أن يعيِّن، كما لو أبهم بنَفْسه، ثم ذكر الشيخ -رحمه الله- بناءً على جوابه أنه إذا طُولِب بالفيئة أو الطلاق، فلو وطئَ واحدةً منهما، طُلِّقَت الأخرى، وتَخلَّص عن الإيلاَءَيْن، ولو طلَّق واحدةً منهما، لم يسقط حكم الإيلاء، في الثانية: لأن بالوطء تنحل اليمين، وبالطلاق لا تنحل، حتى لو وطئ الَّتي لم يِطَلِّقْها، وقَعت طلقة أخرى على الَّتي طلَّقها إذا كانَتْ في عدَّة الرَّجعة (¬4). ولو قال: كما وطئْت إحداكما، فالأخرى طالقٌ، ووطِئَ بعْد المطالبة إحداهما وطُلِّقت الأخرى، يتخلص عن موجب الإيلاء في حقِّ الموطوءة، ولا يتخلَّص بالكلية ¬
في حقِّ الأخرى، وان سقطت المطالبة في الحال بوقوع الطلاق، وإنما لا يحصل الخلاص الكليُّ في حق الأخرى، لبقاء اليمين في حقها، واقتضاء اللفظ التَّكرار، فإذا راجَعَها عاد فيها الإيلاء، وحكى "صاحب الشامل" كلام ابن الحدَّاد في المسألة، ثم قال: ومِنَ الأصحاب -رحمهم الله- مَنْ قال: إنه يكون مُولِياً عنهما جميعاً، وهذا أصحُّ ولم يُفرِّق بين ما إذا عيَّن واحدةً بقلبه، وما إذا لم يعيِّن، ولا وجه لكونه مُوليًا عنْهما مع تعيين واحدة بالقلب بحال. قَال الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ لأَرْبَعِ نِسْوَةٍ: وَالله لاَ أُجَامِعُكُنَّ فَإِنْ جَامَعَ ثَلاَثًا صَارَ مُولِيًا عَنِ الرَّابِعَةِ* وَالكَفَّارَةُ تَجِبُ بِوَطْءِ الجَمِيعِ* وَبِوَطْءِ وَاحِدَةٍ يَقْرُبُ مِنَ الحِنْثِ وَلاَ يَحْنَثُ* وَالقُرْبُ مِنَ الحِنْثِ مَحْذُورٌ وَلَكِنَّهُ لاَ يَصِيرُ بِهِ مُوليًا عَلَى الجَدِيدِ* وَلَوْ قَالَ: وَاللهِ لاَ أُجَامِعُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ فَهُوَ مُولٍ إِذْ يَلْزَمُهُ الكَفَّارَةُ بِوَطْءٍ أَيِّ وَاحِدَةٍ وَطِئَهَا* وَلَوْ قَالَ: وَاللهِ لاَ أُجَامِعُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ وَأَرَادَ لُزُومَ الكَفَّارَةِ بِوَطْءِ أَيِّ وَاحِدَةٍ كَانَتْ فَهُوَ مُولٍ* وَإِنْ أَرَادَ وَاحِدَةً مُبْهَمَةً فَهُوَ مُولٍ وَلَكِنْ لَهُ أَن يُعَيِّنَ وَاحِدَةً فيَخْتَصُّ الإِيلاَءُ بِهَا وَيَقُولُ: هِيَ الَّتي أَرَدتُّهَا وَأَنْشَأْتُ تَعْيِينَهَا عَنِ الإبْهَام* وَقِيلَ: إنَّهُ لاَ يَكُونُ مُوليًا لأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ تَرْجُو أنْ لاَ تَكونَ هِيَ المعَيَّنَةَ* وَلَوْ أَطلَقَ اللَّفْظَ فَعَلَى أَيِّ الاحْتمَالَيْنِ يُحْمَلُ فِيهِ وَجْهَانِ* وَلَوْ قَالَ: لاَ أُجَامِعُكِ في السَّنَةِ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإذَا وَطِئَ مَرَّةً صَارَ مُوليًا إنْ بَقِيَ مِنَ السَّنَةِ زِيَادَةٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ* وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لاَ أُجَامِعُكِ إِلاَّ عَشْرَ مَرَّاتٍ أَوْ مِائَةً فَإذَا اسْتَوْفَى العَدَدَ صَارَ مُوليًا إنْ بَقِيَتِ المُدَّةُ. قال الرَّافِعِيُّ: في الفَصْل مسألتان مبنيتان على أصل، وهو أنه قد تبيَّن في الباب أن المُوْليَ مَن علَّق بالوطء مانعًا منه مِن حنث في يمين أو عتق أو طلاق، فإذا كان الوطء بهذه المثابة، كان الشخص مُولِيًا، أما إذا لم يتعلَّق الحنث بالوطء، لكنه كان مقرباً من الحنث، فهل يكون مُولياً؟ فيه قولان: أصحهما، وهو الجديد، وأحد قولَي القديم: لا؛ لأنه لا يتعلَّق به لزوم شيء، ولا يلحقه به ضرر. والثاني، وهو الثاني من قولي القديم: نعم؛ لأن القُرْب من الحنث محذورٌ أيضاً، فأشبه ما إذا تعلَّق به نفسْ المحذور، إذا عُرِف ذلك، فالمسألة الأولى: إذا كانت تحته أربع نسوة، فقال: والله، لا أجامعكن، فالكلام فيما يَتعلَّق باليمين والحنث، ثم في الإيلاء أما الأوَّل، فلا يحْصُل الحنث، إلا بجماعهن جميعاً؛ لأن اليمين معقودةٌ على الكلِّ وإذا وَطئهن، لم يلْزَمْه إلا كفَّارة واحدةٌ؛ لأن اليمين واحدةٌ، ولو مات بعضهن
قبل الوطء، انحلت اليمين؛ لأنه تحقق امتناع الحنث، ولا نظر إلى تصور الإيلاج بعد الموت؛ فإنَّ اسم الوطء يُطْلَق على ما يقع في الحياة، وفي كتاب القاضي ابن كج ورواية الشيخ أبي علي -رحمهما الله-: أن البِرَّ والحنث يتعلقان بوطء الميتة أيضاً، وأشار بعضهم إلى وجه فارق [بين] (¬1) ما قبل الدفن وما بعده، ولا أَثَر لِمَوْت بعْضهم بعْد الوطء. قال الإِمام: والذي أراه أن الاتيان في غير المأتَي كهو في المأتي؛ في حصول الحنث (¬2)، ولو طلقهن أو بعضهن قبل الوطء، لم تنحل اليمين، بل تجب الكفارة بالوطء بعد البينونة، وإن كان زنا؛ لأن الاسم يشمل الحلال والحرام، وأما الإيلاء، فقد نقل المزنيُّ -رحمه الله- في المسألة أنَّه يكون مُولِيًا عنهم كلهن، ويُوقَف لكل واحدة منهن، واعترض عليه، وقال: القياس أنه ليس بمُولٍ حتى يطأ ثلاثة منْهن، فيكون مُولِيًا من الرابعة، وهذا بقوله أوْلَى، وللأصحاب في نقله واعتراضه ثلاثةُ طرق: أحَدُها: قال أبو إسحاق وجماعة: المَذْهَب ما قاله المزنيُّ أنه لا يلزمه شَيْءٌ بوطء ثلاث منهن، وإنما الحنث بوطء الرابعة، وأولوا ما نقله على أنه خالف على وطئهن [و] ¬
يوقف لكل واحدة منهن، إذا واقعت رابعة، وربما قالوا: المراد أنَّه يوقف لكل واحدة، إذا تعلَّق الحنث بوطئها، وذلك إذا تقدَّم وطء الثلاث، وربما عبَّروا عنه بأنه مُولٍ عن كل واحدة منهن على البدل، وبأن كل واحدة منهن بمَحَلٍّ أن يكون مُولِياً عنها. الثاني، وبه قال أبو يعقوب الأبيوردي أن الذي نقله أحدُ قولَيْه في القديم: أنه إذا كان الوطء مقربًا من الحنث، كان مُولِياً، والأمر كذلك هاهنا، فإن وطء كل واحدة منْهن، يقرب من الحنث، واعتراضُه يوافق الجديد. والقول الثاني من القديم، ووجه كونه مُوليًا بأنه منَع نَفسَه من وطْئهن باليمين بالله تعالى، فكان مُولِياً كما لو قال: والله، لا أطَأُ كل واحدة منْكن، وقول المنع أنه متمكن منْ وطْء كلِّ واحدة منهن بغير حنث، فصار كما لو لم يحلف. والثالث ذكر في "الشامل": أن بعض الأصحاب قال إن قوله الجديد ما نقله المزنيُّ، وعلى هذا، ففي الجديد قولان، كما في القديم، والطريق الثاني أقرب، ونظْم الكتاب يوافقه، وظاهر المَذْهب، وإن ثبت الخلافُ أنه لا يكون مُولِياً في الحال، وقال: ولو وَطِئَ ثلاثاً منهن، صار مُولِياً عن الرابعة، وهذه رواية عن أبي حنيفة -رحمه الله- والأظهر أنه مُولٍ عن جميعهن في الحال، وبه قال أحمد، وعن مالك مثله. التفريع: إن قلنا: إنه لا يكون مُولِياً عنْهن في الحال، فلو مات بعضُهن قبْل الوطء، ارتفع حكم الإيلاء على المذهب؛ لحصول الياس من الحَنث، ولو مات بعْضُهن بعد الوطء، لم يرتفع، ولو طَلَّق بعضهن قبل الوطء، أو بعده، فكذلك، حتى لو أبان ثلاثًا، ووطئهن بعد البينونة زنيا صار مُولِيًا عن الباقية في نكاحه، ولو أبان واحدة قبل الوطء، ووطئ الثلاث في النكاح، ثم نَكَح المطلقة، ففي عَوْد الإيلاء قولاَ عَوْد اليمين، وحكم اليمين باق لا محالة، حتى يلزمه الكَفَّارة إذا وطئها، وان جعلْناه مُولِياً عنْهن في الحال، ضُرِبت المدة، ولجميعهن المطالبة بعْد المدة، فإن وطئهن أو طلقَّهن، تخلَّص من الإيلاء، وإن وطئ بعضَهُن دون بعض، ارتفع الإللاء في حقِّ من وطئها، ولا يرتفع في حقِّ من طلَّقها، بل إذا راجَعَها، تُضْرب المدة لها ثانياً. وقوله في الكتاب "ولكنه لا يصير به مُوليًا في الجديد" ليعلم بالحاء والميم والألف؛ لِمَا نقلْنا من مذهبهم، ويجوز أن يُعْلَم بالواو أيضاً؛ لطريقة من قال: إن مذهبه الجديد ما نقله المزنيُّ -رحمه الله- ووراء الصورة المذكُورة في الكِتَاب صورتان في المسألة: إحداهما: إذا قال للنسوة الأربع: والله، لا أجامع كلَّ واحدة منكن، فالذي ذكَره الأصحاب: أنه يكون مُولِيًا عنهن جميعاً؛ لتعلق المحذور بوطء كل واحدة منهن، وهو الحنث ولزوم الكفارة، وقالوا: تضرب المدة في الحال، فإذا مضت، فلِكل واحدة
مطالبته بالفيئة أو الطلاق، فإن طلَّقهن سَقَطت المطالبة، ثم تضرب المدة ثانياً لو راجَعَهن، وإن طلَّق بعضهم، فالباقيات على مطالبتهن، وإن وطئ واحدة منهن، تنحل اليمين حتى يرتفع الإيلاء في حَقِّ الباقيات، وفيه وجهان عن الشيخ أبي حامد -رحمه الله-: أنه لا يرتفع، وعن أبي إسحاق وابن أبي هريرة وغيرهما: أنه يرتفع كما سنَذْكر فيما إذا قَالَ: والله، لا أجامع واحدةً منكن، وبالأول أجاب الإِمام، وقال: قوله "والله لا أجامع واحدةً منكن" يتضمن تخصص كل واحدة بالإيلاء، على وجْه لا يتعلَّق بصواحباتها حتى أفرد كل واحدة بيمين، كأنه قدر قائلاً: والله، لا أجامع هذه، ووالله، لا أجامِعُ هذه، إلى آخرهن، ونقل الوجه الثاني عن القاضي الحُسَيْن، نقل الشيْء المستبعد، وأحاله على خطأ الناقل، لكن الأظهر عند الأكثرين انحلال اليمين، وارتفاع الإيلاء في حقِّ الباقيات، ولم يورد صاحب "التهذيب" غيره، وجعلوا على هذا الخلاف، ما لو قال: والله، لا كلَّمتْ واحداً من هذيْن الرجلَيْن ونظائره، ولك أن تقول: إن أراد بقوله "والله، لا أجامع كلَّ واحدةٍ منكن" [مثل] (¬1) المعْنَى الَّذي قدَّره الإِمام، فالوجه بقاء الإيلاء في حق الباقيات، وإلاَّ فينبغي أن يَكُون لحُكْم في هذه الصورة كالحكم فيما إذا قال: والله، لا أجامِعُكن حتَّى لا يحصل الحنث، ولا يلزم الكفارة إلاَّ بوطء الجميع، ويكون صيرورته مُولِياً في الحال على الخلاف المذكور هناك؛ لوجهين [أحدهما] (¬2): أنه إذا وطئ بعضهم كالواحدة مثلاً صَدُق أن يقال إنَّه لم يطأ كل واحدة منهن، وإنما وطئ واحدةً [منهن] (¬3) كما يُصدَّق أنَّه لم يظاهر، وإنما وطئ إحداهن، وذلك يَدُلُّ على أن مفهوم اللفظين واحدٌ، والثاني أن قوْل القائل "طلقت نسائي" [وقوله] (¬4) "طلقت كل واحدة من نسائي". يؤديان معنى واحداً، وإذا اتحد معناهما في طرف الإثبات، فكذلك في طرف النفي؛ فيكون معنى قوله "لا أجامع كل واحدة منكن" معنى قوله "لا أجامعكن" الصورة الثانية. إذا قال: والله، لا أجامع واحدة منكن، وله ثلاث أحوال: إحداها: أن يريد الامتناع عن كل واحدة منْهن؛ فيكون مُولِياً عنهم جميعاً، قال الإِمام: -رحمه الله- وليس التعميم هاهنا كالتعميم في قوله: واللهِ، لا أجامعكن؛ فإن اللفظ هناك تَنَاوَل كُلَّهن، ولا يَحْصُل الحنث بجماع بَعْضِهن، وهاهنا اليمين يتعلق بآحادهن، وينزل على كل واحدة منهن على البدل، فيكون مُوليًا عنهن جميعياً؛ لتعلُّق الكفارة بوطء أيَّة واحدة وطئها, ولهن المطالبة بعْد المدة، فإن طلَّق بعضهن، بقي (¬5) ¬
الإيلاء في حق الباقيات، وإن وطئ بعضَهن، حَصَل الحنث؛ لأنه خالف قوله "لا أجامع واحدةً منكن" فتنحل اليمين، ويرتفع الإيلاء في حق الباقيات. الثانية: إذا قال: أردتُّ الامتناع عن واحدة منهن لا غير، فيُقْبل قوله: لاحتمال اللفظ له، وعن الشيخ أبي حامد -رحمه الله- أنه لا يُقْبل، ووجَّهه في "التتمة" بأن اللفظ يقع على كل واحدةٍ على البدل، وهو متهم في إخراج بعْضِهن عن موجب اللفظ، والظاهر الأول، ثم لا يخلو إمَّا أن يريد واحدةً بعينها أو واحدةً غيْر معيَّنَة [إن أراد واحدةً معيَّنة]، فهو مولٍ ويؤمر بالبيان كما في الطلاق، وإذا بين واحدة، فإن صدَّقه الباقيات، فذاك، وإن ادَّعَتْ غيرُها أنَّه عناها، وأنكر، فهُو المصدَّق بيمينه، فإن نكل حلَفَت المدعية، وحُكِم بكونه مُولِيًا عنْها أيضًا، فلو أقَرَّ في جواب الثانية، بأنه عناها، وآخذناه بموجب الإقرارين وطالَبْناه بالفيئة أو الطلاق، فلا يُقْبل رجوعه عن الأولى، وإذا وطئهما في صورة إقراره، تعدَّدت الكفارة، وإن وطئهما في صورة نكوله، ويمين المدعية، لم تَتعدَّد؛ لأن الإيلاء عنْها لا يصلح لإلزام الكفارة عليْه، ولو ادعت واحدةٌ أولاً أنَّكَ عنَيْتَني، فقال ما عنيتك أو ما آليت عنْك وبمثله؛ أجاب ثانية، وثالثةً، تعيَّنت الرابعة للإيلاء، وإن أراد واحدةً مبهمة، فيؤمر بالتعيين. قال أبو الفرج السرخسي؛ ويكون مُولِياً عن إحداهن لا على التعيين، وإذا عيَّن واحدة، لم يكن لغيرها المنازعة، ويكون ابتداء المدَّة من وقْت التعيين أو من وقْت اليمين، فيه وجْهانِ؛ بنَاءً عَلى أن الطلاق المُبْهم إذا عيَّنَه يَقَع عنْد التعين أو يسند إلى اللفْظ، وإن لم يعيِّن ومَضَت أربعة أشْهُر، فقد ذكروا أنَّه يطالَبُ، إذا طالَبْنَ (¬1) بالفيئة أو الطَّلاق، وإنما يُعْتير طلَبهُن؛ ليكون طلَب المُولِي عنْها حاصلاً، فإن امتنع طلَّق السلطان واحدةٌ على الإبهام، ومُنِعَ منْهن إلى أن يعيِّن المطلَّقة، وإن فاء إلى واحدة أو اثنتين أو ثلاث أو طلَّق، لم يخْرُج عن موجب الإيلاء؛ لاحتمال أن المُولَى عنْها الرابعةُ، وإن قال: طلَّقت التي آلَيْت عنها، خرج [عن] (¬2) موجب الإيلاء لكن المطلَّقة مبهمة، [من غير تعيين] (¬3) فعليه التعيين، والذي ذَكَروه في المطالبة بعْد مضيِّ أربعة أشهر من غَيْر تعيين، يُمْكن أن يكون بنَاءً على أن المُدة تُحْتَسَب من وقت اليمين، ويمكن أن يقال: الخلاف [في] أن المدَّة تُحْتَسَب منْ وقْت اليمين فيما إذا امتثل ما أمرناه به من التَّعْيين، فأما إذا امتَنَع، فتُحْتَسَب من اليمين لا محالة، ولا يمكن [من الإضرار (¬4) بهنَّ، ويجيء] في طلبهن ما سَبَق من الإشكال في المدَّعية المستحقة، هذا ظاهر المذهب في الحالة ¬
الَّتي نحن فيها، واعرف معه (¬1) شيئين: أحدهما: نقل في "التتمة" فيما إذا أراد واحدةً لا يعيِّنها: أن عامَّة الأصحاب قالوا: نضرب المدَّة في حقِّ الكل، وإذا مضَتْ، ضيق الأمر عليه في حق مَنْ طالَب منْهن؛ لأنه ما مِن امرأة منْهن إلا من الجائز أن يُعيِّن الإيلاء فيها، وظاهر هذا القوْل: أنه لا يكون مُوليًا عنْهن جميعًا، وهو بعيد. والثاني: حَكَى صاحبُ الكتاب هاهُنَا وفي "الوسيط" وجْهًا أنَّه لا يكون مُولِيًا عن واحدة منْهن حتى يبين إن أراد معيَّنة أو يُعيِّن إن أراد واحدةً لا يعيِّنها؛ لأن قصْد الاضرار حينئذ يتحقق، فأما قبْل ذلك، فكل واحدة يجوز أن يكُون المُولَى عنها (¬2) غَيْرَها، فلا تكون آيسةً عن الفيئة، يقْرُب من هذا ما ذكر في "التتمة" أن القاضي الحُسَيْن قال فيما إذا أراد واحدة غيْرَ معينة: إنه لا تضرب المُدَّة في الحال، وإنما تُضْرب بعد التعيين، ولم يعبر في "النهاية" هكذا عن هذا الوجه، [و] لكن قال: روى الشيخ أبو عليٍّ وجهاً: أنَّه إذا قال: أردتُّ واحدةً منهن، لا يؤمر بالبيان، ولا بالتعيين، بخلاف إيهامه الطلاق؛ لأن المطلَّقة خارجة عن النكاح، فإمساكها على صورة المنكوحات من غيْر نكاح منكر والإيلاء بخلافه. وقوْله في الكتاب "وإن أراد واحدةً مبهمةً، فهو مُولٍ ولكنْ له أن يُعَيِّن" أي فهُوَ مولٍ لا عن جميعهن، كما كان في الصورة السابقة، وهي أن يريد لُزُوم الكفارة بأية واحدة، ولكنَّه مولٍ عن واحدة، فله أن يعيِّنها، ويختص الإيلاء بها، هذا وجْه الاستدراك بكلمة "لكن" وقوله "ويقول هي الَّتي أردتها" أي في الابتداء، والمقصود ما إذا كان عيَّن واحدةً بقلْبه، وقوله "وأَنْشَأْتُ تَعْيِينَهَا عنِ الإبْهام" يعني ويقول: أنشَأْتُ، والمقصود ما إذا أراد واحدةٌ لا يعيِّنها، وجعل التعيين شاملاً للحالتين، وحيث قال بتعيين "واحده" فيختص الإيلاء بها، إمَّا بقوله "أردتَّ" أو بقوله "أنْشَأْتُ" وذلك لأن الذي يأتي به يزيل الإشكال والتردُّد، وتختص الواحدة منْهن بالإيلاء، والأشهر من الاصطلاح تخصيصُ لَفْظ التعيين بما إذا أراد واحدةً لا يعيِّنها, ولفْظ البيان بما إذا أراد واحدةً يعينها. الحالة الثالثة: إذا أطْلَق اللفظ، فلم ينو التعميم ولا التخصيص بواحدة، ففيه وجهان عن رواية الشَّيخ أبي عليِّ: أحدهما: أنَّه يُحْمَل على التخصيص بواحدة؛ لأن اللفظ محتمل له، وهو أقلُّ المحملين؛ وعلى هذا فيَكُون الحُكْم كما لو أراد واحدةً لا يعينها. وأشبههما الحَمْل على التعميم، وبه قال القاضي أبو حَامِد؛ لأنه المعنى المشهور ¬
عنْد الإطلاق والاستعمال؛ ولذلك يقال: النكِرَةُ في سِيَاقِ النَّفْي تَعُمُّ (¬1)، وهذا ما أورده صاحِبُ "التهذيب" وغيره، والله أعلم. المسألة الثانية: إذا قال: والله، لا أجامعك سنةً إلا مرَّة، فهل يكون مُولياً في الحال؟ فيه قولان: الجديد، واحد قولَي القديم، لا لأنه لا يَلْزمه بالوطء شيء؛ لاستثنائه للوطء مرة، فإذا وطئها نُظِرَ؛ إن بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر، فهو مُولٍ من يومئذٍ؛ لحصول الحنث ولزوم الكفارة لو وَطِئ، وإن بقي أربعة أشهر فما دونها، فهو حالفٌ، وليس بمولٍ. والثاني: أنه يكون مُولِيًا في الحال؛ لأن الوطأة الأولَى، وإن لم يتعلَّق بها الحنث، فهي مُقرِّبة من الحنث، وعلى هذا، فيطالَبْ بعْد مضي مدة الإيلاء، فإن وطئ، فلا شَيْء عليه؛ لأن الوطأة الواحدة مستثناةٌ، وتضرب المدَّة ثانيةً، إن بقي من السَّنة مدَّة الإيلاء وعلى هذا القياس: لو قال: لا أجامعك إلا عَشْر مرات أو عدداً آخر، فعلى الصحيح: لا يكون مُولِياً في الحال، وإنَّما يكون مُولِياً، إذا استوفى ذلك العدد، وبقي من السنة مدَّة الإيلاء، وعلى القَوْل الآخر [يكون] (¬2) مُولياً في الحال؛ لأن كل وطأة مقرّبة بعض التقريب، ولو قال: إن أصَبْتُكِ فوالله، لا أصَبْتُك، ففيه طريقان: أحدهما: إجراء القولين في كونه مُوليًا في الحال؛ لأنه التزم بالوطء الحَلِف بالله سبحانه وتعالى على الامتناع من الوطء، فكان الوطء مُقَرَّبًا من الحنث. وأصحُّهما: القَطْع بالمنع، والفرق أن في الصورة السابقة عقْدَ اليمين، واستثنى وطأة واحدة، وهاهنا اليمينُ غيْر معقودة في الحال، وإنَّما ينقعد إذا أصابها، وإثبات الإيلاء قبْل انعقاد اليمين بعيدٌ، ويجري الخلاف فيما إذا قال: إن وطئتك، فوالله، لا دَخَلْتُ الدار، ولو قال: لا أجامعك سنَةً إلا يوماً، فهو كما قال إلا مرَّة. وقوله في الكتاب "لا أجامعك في السنة إلاَّ مرة" وذكر السنة معرفة، وهكذا صَوَّر كثير من الأصحاب، لكن قدْ مرَّ في الطَّلاق أن السنة إذا ذكرت معرَّفَةً، انصرفت إلى السنة العربية، والمقصود ما إذا قال: لا أجامعك إلى سنة أو سنة، كما ذكرنا في افتتاحِ المسألة، وكذلك لفْظ الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- في "المختصر"، وبتقدير أن يُعَرِّف الحالف، فيقع النظر أولاً، في أن الباقي من السنة عند اليمين [أو بقي] دون مدة الإيلاء، فلا يكون مُولياً بلا خلاف، وإن بَقِيَ مدة الإيلاء، ففي كونه مُولِياً في الحال ¬
القولان ولْيعَلّم قوله "فإذا وطئ مرَّة" وقوله "فإذا استوفى العدد" كلاهما بالواو؛ إشارة إلى القَوْل الذاهب إلى كونه مُولِياً في الحال. فرع: حكى القاضي ابن كج وجهَيْن فيما إذا مَضَت السنة من غير وطء، وقد قال: لا أجامعك سنةً إلا مرةً، هل يلزمه الكفارة؟ في وجه، نعم؛ لأن اللفظ يقتضي أن يُفْعَل مرة، وفي وجْه لا؛ لأن المقصود باليمين أن لا يزيد على واحدةٍ، ولو وطئَ في هذه الصورة، ثم نَزَع، ثم أولج ثانياً، لزمته الكفارة بالإيلاج الثاني، وهو وطءٌ مجدد، وقد ذكرنا وجهاً فيما إذا علَّق الطلاق بالوطء، فوطئ، ونزع، ثم أولج: أنَّه لا يجب الحدُّ، ويجعل الايلاج ثانياً، كالاستدامة، وذلك الوجْه جاد هاهنا. قال الإِمام: -رحمه الله- وهو أقرب فيما نحن فيه؛ لأن الأيمان يُرْجَع فيها إلى العرف، والإيلاجات المتتابعة في العُرْف تُعَدُّ وطأة واحدةً، كما أن اسْم الأكلة يقع على ما تحويه [جلسته] (¬1) على الاعتياد. قال الغَزَالِيُّ: وَلَوْ آلَى عَن امْرَأَةٍ ثُمَّ قَالَ لأُخْرَى: أَشْرَكْتُكِ مَعَهَا وَنَوَى لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ لأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرُ اسْم الله تَعَالَى وَلاَ صَرَّحَ بِالْتِزَامٍ* وَفِي الطَّلاَقِ يُمْكِنُ الاشْتِرَاكُ* وَفِي الظِّهَارِ خِلاَفٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أنَّه يَغْلِبُ فِيهِ اليَميِنُ أَوْ الطَّلاَقُ* وَلَوْ قَال: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لِغَيْرِهَا: أَشْرَكْتُكِ وَأَرَادَ تَعْلِيقَ طَلاَقِهَا بِدُخُولِهَا نَفْسِهَا فَهَلْ يَصحُّ هَذِهِ الكنَايِةُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا آلى عن امرأة، بأن قال: واللهِ، لا أجامعك، ثُمَّ قال لامرأة أخرى: أشرَكْتُك معَها، أو أنت شريكتها أو مثْلُها، ونوى [بذلك] (¬2) الإيلاء عنها, لم يَصِرْ مُولِيًا عن الثانية؛ لأن عماد اليمين بالله تعالى ذكْر اسم معظَّم؛ فلا ينعقد في الكناية بالمحلوف "به"، حتى لو قال "به" لأفعلن كذا، ثم قال: أردت بالله، لم تنْعَقِد يمينه (¬3) عن امرأته، [وإن آلى منها] بالتزام طلاق أو عتاق، ثمَّ قال للأخرى: أشركْتُك معها، فيُرَاجَع، ويُبْحَث عمَّا أراده، فإن قال: أردتُّ أن الأُولَى لا تُطَلَّق إلاَّ إذَا أصَبْتُ الثانية مع إصابة الأولى، وجعلتها شريكةَ الأولى في كَوْن إصابتها شرطاً لطَلاَق الأولى، كما أن ¬
إصابة الأولى شرطٌ لطلاقها, لم يُقْبَل، وإذا وطئ الأولى، طُلِّقت؛ لأن الطلاق إذا تعلَّق بصفة لا يجوز نقض ذلك التعليق، وضم أخرى إليها، وإن (¬1) قال: أردتُّ أني [إذا] أصبت الأولى، طُلِّقت الثانية أيضاً، فجعلها شريكةً للأولى، فإنه يقع طلاقُها بوطء الأولى، كطلاق الأُولى، قُبل؛ لأن الطلاق يقع بالكناية، فإذا وطئ الأولى، طُلِّقتا جميعاً، وفي الحالين لا يكون مُولِيًا عن الثانية، وإن قال: أردتُّ تعليق طلاق الثانية بوطئها نَفْسِها كما علقت طلاق الأولى بوطئها، ففي صحة هذا التشريك وجْهان: أحدهما: المَنْعُ؛ لأنه تشريك في اليمين، فأشبه التشريك في اليمين بالله تعالى. وأظهرهما: الصحة، وبه أجاب القاضي أبو الطيِّب، والشيخ أبو حامد وغيرهما، لأن التشريك جائزٌ في تنجيز الطلاق، فكذلك في تعليقه، فعلى هذا يكون مُولِياً عن الثانية، إذا قلْنا بالجديد، ويجري (¬2) هذا التفصيل فيما إذا علَّق طلاق امرأة بدخول الدار وسائر الصفات، ثم قال لأخرى: أشركتك معها, ولو قال: إنْ دخلْتِ الدار، فأنتِ طالقٌ، لا بل هذه، وأشار إلى امرأة أخْرَى، فإن قَصَد أن يُطلَّق الثانية، إذا دخلَت الأولى الدار، طُلِّقتا جميعاً عند دخولها، سواءٌ قَصَدَ ضَمَّ الثانية إلى الأولى، أو قَصَد أن يُطلَّق الثانية عند دخول الأولى، لا الأولى؛ لأَن الرجوع عن تعليق طلاق الأول لاغٍ، وإن قال: أردتُّ تعليق طلاق الثانية بدخول نفسها، ففي قبوله وجهان، كما ذكر في لفظ الإشراك في اليمين واختار القفَّال منْهما على ما ذكر الإِمام أنه لا يُقْبَل، ويحمل على تعليق طلاقها بدخول الأولى حتى إذا دخلَتْ، طُلِّقتا جميعاً، قال: وإذا تعلَّق طلاق واحدةٍ بدخول النار، ثم قَالَ لأخرى أشْرَكْتُك معها، وقلنا: إنه لا يصحُّ التشريك، فلا يقع طلاقها بدخول الأولى؛ لأن قوله "لا بل هذه" مترتب على كلام صريح في الطلاق منتظم معه انتظامًا يقتضي الطلاق. وقوله "أشركتك معها [أو] (¬3) وأنت شريكتها" كلام مبتدأ متردِّد، فإذا لم يكن المحمل صحيحاً، بطل اللفظ والمحمل. ولو قال رجل لآخر: يميني في يمينك، ففي "التهذيب" وغيره: أنَّه إن أراد أنه إذا حَلَف الآخر صرت حالفاً لم يصر حالفاً إذا حفل الآخر سواء فرض ذلك في الحلف بالله تعالى، أو في الحَلف بالطلاق، وإذا كان ذلك الرجل قد طلَّق امرأته، أو حَلَف بالطلاق، وحَنَث فقال ذلك، وأراد أن امرأته طالق، كامرأة الآخر، طُلِّقت، وإن أراد أنه متى طلَّق الآخر [امرأته] طُلِّقت امرأته فإذا طلَّق الآخر، طُلِّقت هذه. ¬
وقوله في الكتاب "ولو آلى عن امرأة .... " إلى آخره المراد ما إذا كان الإيلاء بالله سبحانه وتعالى على ما بيَّنا. وقوله "لأنه لم يذكر اسْم الله تعالى ولا صرَّح بالتزام أي، ولم يلتزم شيئاً من الطلاق أو عتاق، حتى يجعله مُولِيًا. وقوله "وفي الطلاق يمكن الاشتراك" يعني أنه إذا قال لواحدة: أنت طالقٌ، ثم قال للأخرى: أشركتك معها، ونوى، طُلِّقت الثانية أيضاً، وقد مر ذلك في "الطلاق"، وكنا أخَّرْنا الاشتراك في تعليق الطلاق؛ لأنه ذكره هاهنا. وقوله [و] في الظهار خلافاً أي إذا ظاهر عن امرأة، وقال للأخرى أشركتك معَها، ونوى، يصير بنيته مظاهرًا، يبني على أنه يغلب في الظهار مشابهة (¬1) الأيمان أو الطلاق؟، إن قلْنا بالأول، لم يَصِرْ مظاهرًا عن الثانية، وإن قلْنا: بالثاني، صار مظاهرًا، وهو أصحُّ، وهذا أصل يتبين في "كتاب الظهار"، [إن شاء الله تعالى،] (¬2) وقوله "وأراد تعليق طلاقها بدخولها نفسها" أشار بهذه اللفظة إلى أنَّه أراد التعليق بدخول الأولى، [ويبقى طلاق الثانية أيضاً عنْد دخول الأولى] (¬3) على ما قدَّمناه، ولم يذكر الأصحاب -رحمهم الله- الخلاف في هذه الصورة، لكن التوجيه المذكور لأحد الوجهين فيما إذا أراد تَعْليق طلاقها بمثل ما عَلَّق به طلاق الأولى، وهو الإلحاق بالحلف بالله سبحانه وتعالى، من حيث إنَّه اشتراك في اليمين يقتضي مجيء الخِلاَف، فيما إذا أراد تَعْليق طلاقها، يعين ما علق به طلاق الأولى؛ فإنه تعليقٌ ويمينٌ أيضاً، ولفْظُ الاشتراك يحتمل الأمرين جميعاً. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى الإِيلاَءَ انْعَقَدَ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ؛ لأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ وَرَدَ في الكِتَابِ لإيجَاب الكَفَّارَةِ* وَلَوْ قَالَ: وَاللهِ لاَ أُجَامِعُكِ إِنْ شِئْتِ فَقَالَتْ: شِئْتُ صارَ مُولِيًا* وَهَلْ يَخْتَصُّ المَشِيئَةُ بِالْمَجْلِسِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ* وَالإيلاَء يَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ حَالِ الغَضبِ* وَلاَ يَنْعَقِدُ بِمِثْلِ قَوْلهِ: إِنْ وَطِئْتُ فَأنَا زَانٍ أَوْ أَنْتِ زَانيَةٌ إِذْ لاَ يُتَعَرَّضُ بسَبَبِهِ لِلُزُومٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في هذه الفيئة صور أربعٌ: أحدها: ذكَرْنا في الطلاق أنَّه لو قال لامرأته: أنتِ عليَّ حرامٌ، ونوى الطلاق أو الظهار، كان كما نوى، وأنه لو نوى تحريم عينها, لزمَتْه كفارة يمين، وأن الصحيح وجوب تلْك الكفارة في الحال. ¬
وفي وجْه: إنما يجِبُ إذا أصابها، وأنه على هذا الوجه يكون مُولياً [إذا] (¬1) نوى تحريم عيْنها، ويُنْسب هذا الوجه إلى تخريج ابْنِ الوكيل وابن سلمة، وأنه لو أراد بقوله "أنتِ عليَّ حرامٌ" الامتناع عن الوطء، ففي قبوله وجهان، وهذه الصورة هي قوله هاهنا، "ولو قال: أنتِ عليَّ حرامٌ، ونوى الإيلاء" فأحد الوجهَيْن: أنَّه يكون مُولِياً؛ لأن هذه اللفظة ورَدَت في كتاب الله مقرونةً بكفارة اليمين، فهي من حيث إيجابها للكفارة نازلةٌ منزلة القسم شرعاً، وأظهرهما: أنه لا يكُون مُولِياً لما ذكَرْنا أن اليمين باللهِ تعالى لا تنعقد بالكنايات، ولا بُدَّ منْ ذكْر اسم معظَّم؛ وعلى هذا فيلزمه الكفَّارة في الحال، إذا قلْنا: إن مُطْلَق هذه اللفظة تُوجب الكفارة، ولو قال: أردتُّ بقولي "أنتِ عليَّ حرامٌ إن وطئتك، فأنْتِ عليَّ حرامٌ" فالمشهور أنَّه لا يُقْبل منْه ذلك في الحُكْم؛ لأنه يريد تأخُّر الكفارة، وظاهر اللفْظ يقتضي وجُوبَها في الحال، وفي "التتمة" أن هذا مبنيٌّ على أن للإمام أن يأمره بإخراج الكفَّارة، أما إذَا قُلْنا: ليْسَ له الأمر بالإخراج، فلا يتعرض له، ورأى صاحب "التتمة" وابن الصباغ أن يؤاخذ بموجب الإيلاء، لإقراره بأنه مُولٍ. ولو قال: إن جامعتك، فأنتِ عليَّ حرام، فإن أراد الطلاق أو الظهار، كان مُولِيًا إذا فرَّعنا على الجديد، كما إذا صرَّح؛ فقال: إنْ وطئتك، فأنتِ طالقٌ أو فأنْتِ عليَّ كظَهْر أمي، وإن أراد تحريم عَيْنها أو أطلق، وقلنا: إن مطلقه يوجب الكفَّارة فكذلك؛ لأن ضَرَر وجُوب الكفَّارة يمْنعه من الوطء، فيتحقق (¬2) الأضرار، وإن قلْنا: إن مُطْلقه لا يوجب الكفَّارة، فلا يكون مُولياً. الثانية: الإيلاء يَقْبل التعليق؛ كالطَّلاق وكالأيمان، فلو قال: إن دخَلْتُ الدار، فوالله، لا أجامعك، يصير مُولِيًا عند الدخول، ولو قال: والله، لا أجامعك، إن شئْتِ، وأراد تعليق الإيلاء بمشيئتها، كأنه قال: إن شِئْتِ أن لا أجامعك، فوالله، لا أجامعك، فلا بد من مشيئتها؛ ليكون مُوليًا، وقد ذكَرْنا في "الطلاق": أنه لو قال: أنتِ طالقٌ، إنْ شئْتِ، يعتبر الفور في المشيئة على ظاهر المذهب، وهاهنا في اعتبار الفَوْر وجهان بُنِيَا على أن اعتبار الفور هناك؛ لأن التعليق بالمشيئة استدعاءُ رَغْبة، وجواب منها، فيكون كالقبول في العُقود أو لأنَّه يتضمن تمليكها البُضْع، فيكون كقوله: طَلِّقي نفْسَك إن قلْنا بالثاني، لم يُعْتَبر الفور، وإن قلْنا بالأَول، فيعتبر، وهو الأظهر، وأعلم قوله في الكتاب "صار مُولِيًا" بالميم؛ لأن عند مالك -رحمه الله- أنه لا يكون مُولِياً إذا علَّق بمشيئتها [فشاءت]؛ لأنه لم يقْصِد الإضرار، إنما فوَّض الأمر إلَيْها، فرضيت به، وأجاب ¬
الأصحاب بأن الإيلاء لا يختلف حكْمُه بالرضا والسخط؛ ألا ترى أنها لو رضِيَتْ بعد المدة، كان لها أن تَعُود إلى المطالبة. وقوله "وهل يختص المشيئة بالمجلس"؟ لفظ المجلس يقع على مجْلس التواجُب، وهو [على] (¬1) مناط الخيار، والظاهر أن الاعتبار بالأوَّل، وعلى ما سَبَق في "الخُلْع"، ولو علَّق على وجْه المخاطبة؛ بأن قال: والله، لا أجامع زَوْجتي، إن شاءت، أو قال لأجنبي: لا أجامعها، إن شِئْتَ، وفرَّعنا على اعتبار الفور لو خاطبها، وقال: شِئْت، ففي اعتبار الفور الخِلاَف المذكور في مثله في الطلاق، ولو قال: إن شاء فلانٌ، لم يعتبر الفور، وكذا لو قال: متى شئْت، لا يعتبر الفور، وكل ذلك على ما ذكَرْنا في الطلاق، هذا إذا أراد تعليق الإيلاء بالمشيئة، أما إذا قَصَد تعليق فعْل الوطء بمشيئتها، فكأنه قال: لا أجامِعُك إن شِئْت أن لا أجامِعَك، فلا يكون مُولِياً، كما لو قال: لا أجامعك إلا برضاك؛ لأنها مهْما رَغِبَتْ، ورَضِيت، فوطئها, لا يلزَمُه شيْء. قال الإِمام: ولو قال: لا أجامعك [متي شئت، وأراد أني أجامعك متى] (¬2) أردتّ، فلا يكون مُولِياً، وإنما هو إعراب عن مقتضى الشرع، وحَلِفٌ عليه، وحكى وجهَيْن فيما إذا أطْلَق أنَّه هل ينزل على تعليق الإيلاء؟ ولو قال: لا أجامعك إلاَّ أن تشائي أو ما لم تشائي، وأراد الاستثناء عن اليمين أو تعليقها ففي "التهذيب" وغيره: أنه يكون مُولِياً لأنه حَلَف وعلَّق رفْع اليمين بالمشيئة، فان شاءت أن يجامِعَها على الفَوْر، ارتفع الإيلاء، وإن لم تشأ أو شاءت في غيْر وقْت المشيئة، فالإيلاء بحاله، وكذا الحكم فيما لو قال: لا أجامِعُك حتَّى يشاء فلانٌ، إن شاء أن يجامعها قبْل مدة الإيلاء أو بعدها، ارتفعت اليمين، وإن لم يشأ المجامعة حتَّى مضَت مدة الإيلاء، سواءٌ شاء إلاَّ يجامعها أو لم يشأ شيئاً، هل يُحْكم بكونه مُولِياً؛ لحصول الضرر (¬3) في المدة؟ فيه وجهان يأتيان في نظائرها، وإن مات فلان قبْل المشيئة صار مُولِياً، ثم إن قلنا في حال الحياة إذا مضَت المدة من غَيْر مشيئة، يجعل مُولياً، فهاهنا تحسب المدَّة من وقْت اللفظ، فإن مات فلانٌ بعْد تمامها، توجَّهت المطالبة في الحال، وإن قلنا: هناك، لا يُجْعل مُولِياً، فتضرب المدة من وقْت الموت. ولو قال: لا أجامعك، إن شئْت أن أجامعك، فإنما يصير مُولِياً إذا شئت أن ¬
يجامعها، وفي اعتبار الفور ما سبق أوإذا أطلق قوله: إن شئت، حملناه على مشيئة عدم المجامعة كما سبق؛] (¬1) فإنه السابق إلى الفَهْم عنْد الإطلاق. الثالثة: لا فرق في الإيلاء بيْن حالة الرضا والغضب؛ لأن آية الإيلاء مُطْلَقة، ولأنه لا فرق في الطلاق والظهار والإيمان بين الحالتين، فكذلك هاهنا. وعن [مالك] أنه يختص بحالة الغضب. الرابعة: لو قال: إن وطئتك، فأنا زان -وأنتِ زانيةٌ، لم يكْن موليًا؛ لأنه لا يتعرَّض بذلك للزوم شَيْء، لو وطئ، ولا يصير قاذفًا بوطئها؛ لأن القذف المعلّق لا يُلْحِق عارًا، وذكر أبو الفرج السرخسي أنَّه يلزمه التعزير، كما لو قال: المسلمون كلهم زناة، ولزوم التعزير لا يجْعَلهُ مُولِياً؛ لأنه يتعلَّق بنفس اللفظ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الثَّالِثُ في المُدَّةِ) وَالإِيلاَءُ أنْ يَحْلِفَ عَلَى الامْتِنَاعِ مُطْلَقاً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ* فَلَوْ قَالَ: واللهِ لاَ أُجَامِعُكِ ثَلاَثةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ (ح) لاَ يَكُونُ مُولِياً* فَلَوْ أَعَادَ اليَمِينَ فِي آخِرِ الأَشْهُرِ مَرَّةً أُخْرَى وَلَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ كَذَلِكَ فَلَيْسَ بِمُولٍ* وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: وَاللهِ لاَ أُجَامِعُكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَإِذَا انْقَضَت فَوَالله لاَ أُجَامِعُكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرَ وَهَكَذَا مَرَّاتٍ لَمْ يَكُنْ مُولِياً إذِ المُطَالَبَةُ بَعْدَ المُدَّة تَقَعُ بَعْدَ انْحِلاَلِ اليَمِينِ* وَلَوْ قَالَ: لاَ أُجَامِعُكِ خَمْسَةَ أَشْهُرِ وَإِذَا انْقَضَتْ فَوَاللهِ لاَ أُجَامِعُكِ سَنَةٌ فَيُطَالَبُ بِالفَيْئَةِ فِي الشَّهْرِ الخَامِسِ* وَإِنْ تُرِكَتْ حَتَّى انْقَضَى الخَامِسُ سَقَطَتِ المُطَالَبَةُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أُخْرَى تَنْقَضِي مِنَ اليَمِينِ الثَّانِيَةِ* وَلَوْ طَلَّقَ ثُمَّ رَاجَعَ في الخَامِسِ لَمْ تعُد المُطَالَبَةُ لأَنَّهُ قَدْ دَفَعَ طَلَبُهُ اليَمينَ الأُولَى لَكِنْ بَعْدَ الخَامِسِ يُسْتَأْنَفُ عَلَيْهِ اليَمِينِ الثَّانِيَة. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الحالف على الامتناع من وطء زوجته، إما أن يُطْلِق الامتناع، فيحمل على التأييد، فيه يحصل الانتفاء المُطلَق، ويكون مُولِياً، وإما أن يقيِّده، فهو ضَرْب من التأكيد، وإما أن يقيِّده بالتأقيت، إما بزمانٍ مقدَّر؛ كشهر وسنة أو بالتعليق بأمْر مستقبل، لا يتعين وقته، فهما قسمان [أما] الأول إذا قدر زمانًا، يُنْظَر؛ إن كان أربعة أشهر فما دونها, لم يكن مُولِياً، والذي جرى يمين، أو تعليق كما يجري في سائر الأفعال، وقال أبو حنيفة: إذا حَلَف على الامتناع أربعة أشهر، كان مُولِياً، والخلاف مبنيٌّ على أصل سيأتي، إن شاء الله تعالى، وهو أن الفيئة عنْده في الأشهر الأربعة، فإذا مضت ولا فيئة، طُلِّقت، وعندنا هذه المدَّة مدة المهلة، ولا يَقع الطلاق بانقضائها، ¬
ولكن يُطَالَب عند إنقضائها بالفيئة أو الطلاق، وإذا قُدِّر الامتناع بأربعة أشهر فما دونها، كانَتِ اليمين منحلَّة بعد الأربعة، ولا مطالبة بَعْد انحلال اليمين كما إذا امتنع عن غير يمين. قال الأصحاب: وإنما تقدر المهلة بهذه المدة، ولا تَتَوجَّه المطالبة إذا حَلَف على الامتناع أربعة أشهر فما دونها؛ لأن المرأة تصبر على الزَّوْج مدة أربعة أشهر، وبعد ذلك يَفْنَى صبرها أو يشق عليها الصَّبْر، ورووا أن عمر -رضي الله عنه- كان يطوف ليلاً، فسمع امرأة تقول في جوف بيتها [الطويل]: أَلاَ طَالَ هَذَا اللَّيْلُ وَأزْوَرَّ جَانِبُهْ ... وَأَرَّقَنِي أَنْ لاَ خَلِيلَ ألاَعبُهْ فَوَاللهِ لَولاَ اللهُ لاَ شَيْءَ فَوقَهُ ... لَزُعْزعَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهْ مَخَافَةُ رَبِّي وَالحَيَاءُ يَصُدُّنِي ... وأُكرِمُ بَعْلِي أنْ تُنَالَ مَرَاكِبُهْ فبحث عمر -رضي الله عنه- عن حالها، فأخبر أن زوجها غائب فيمن غزا فسأل عُمَر -رضي الله عنه- النساء كم تصبر المرأة عن زوْجها؟ تصبر شهراً؟ فقلْنَ: نعم، فقال: تصْبِر شهْرَيْن؟ فقلن: نعمْ، فقال: ثلاثة أشهر؟ فقلن: نعم، ويقلُّ صبرها. قال: أربعة أشهر؟ قلن: نعم، ويفْنَى صبرها، فكتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابُوا عن نسائهم أربعة أشهر؛ أن يردوهم، وروي أنَّه سأل عن ذلك حفْصة -رضي الله عنهما-، فأجابت (¬1) بذلك قال الإِمام: وإذا زاد مدَّة الامتناع على أربعة أشهر، اكتفى بأقلِّ القليل، ولا يعتبر أن تكون الزيادة بحَيْث تتأتى المطالبة بمثلها، وإذا كانت الزيادة لحْظةً لطيفةً، لم تتأت المطالبة؛ لأنها إذا مضَت، تنحل اليمين، [ولا مطالبة بعْد انحلال اليمين]، وأثَّر كونه مُولِياً، والصورةُ هذه أنَّه يأْثَم بإيذائها والإضرار بها، يقْطَع طمعها ¬
بالحلف عن الوطء في المدَّة المذكورة، ثم في الفصل مسألتان. إحداهما: إذا حلف ألاَّ يجامعها أربعة أشهر فما دونها، ثم أعاد اليمين بعْد مضيِّ تلْك المدة مرَّة أخرى، وهكذا فعَل مراراً، فلا يكون مُولِياً؛ لأن هذه الأيمان ليس في واحدة منها ما يتضمَّن الإيذاء، والإضرار بها في المدة المذكورة، ولو وصَل اليمين باليمين، فقال: والله، لا أجامعك أربعة أشهر أو ثلاثة [أو سنة] (¬1) [فإذا مضيت، فوالله، لا أجامعك أربعة أشهر أو ثلاثة أو سنة]، وهكذا مراراً، فهل يصير موليًا؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه لو وطئها يحنث، وذلك يمنعه من الوطء، ويوجب قطْع الطمع، وحصول الضرر. وأصحهما، وهو المذْكُور في الكتاب: أنه لا يكون مُولِياً؛ لأن بعْد مضيِّ أربعة أشهر، لا يمكن المطالبة بموجب (¬2) اليمين الأولى؛ لانحلالها ولا بموجب الثانية, لأنه لم تمض المهلة من وقْت انعقادها، وأيضًا فكل يمين تُعْطَى حكم نفسها, لو انفردت، وشبه ذلك بما إذا اشْتَرَى أَوْسُقًا كبيرةً في صفقات متعدِّدة على صورة العرايا، يجوز، وإن كان لا يجوز شراؤها في صفقة واحدة، ولا تُجْعَل الصفقات المتعدِّدة كالصفقة المتحدة، قال الإِمام -رحمه الله- وهل يأثم المُولِي بين الأيمان كما ذكَرْنا فيما إذا زادَتْ مدة الإيلاء على أربعة أشهر بلحظة لطيفة، يحتمل أن يقال: لا يَأثم؛ لأنه لا إيلاء، ويحتمل أن يقال: يأثم ولكن إثْمَ الإيذاء والإضرار، لا إثْمَ المولين (¬3). الثانية: إذا قال: والله، لا أجامعك خمسة أشهر، فإذا انقضت، فوالله، لا أجامعك سنة، فقد أتى بيمينين كلُّ واحدة منهما يشتمل على مدة الإيلاء، فلها المطالَبَة بعْد مضيِّ أربعة أشهر بموجب اليمين الأولى، فإن أخَّرت المطالبة حتى مضَى الشهر الخامس، فلا مطالبة لموجب تلك اليمين؛ لانحلالها، وإن طالَبَتْه في الخامس، ففاء إليها، خَرَج عن موجب الإيلاء الأول، فإذا مضى الشهر الخامس، استحقت مدة الإيلاء الثاني، وإن طلَّق، سقَطت عنْه المطالبة في الحال، ثم إن راجَعَها في الشهر الخامس، لم تضرب المدة في الحال؛ لأن الباقي من مدَّة اليمين الأولى قليلٌ، فإذا انقضى الخامِسُ، ضُربت المدة للإيلاء الثاني ولو وطئها بعْد الرجعة في باقي الشهْر، انحلت اليمين، والظاهِر لزوم الكفارة، وإن قلنا: إن المُولِي إذا فاء، لا يلزمه ¬
الكفارة؛ لأن ذلك الخلاف في الوطء الَّذي تحصَّل به الفيئة التي هو مطالب بها، وهاهنا، قد خَرَج بالطلاق عن موجب الإيلاء، وسَقَطت عنْه المطالبة، وإن راجَعَها بعْد الشهر الخامس، نُظِر؛ إن راجع بعْد سنة من انقضاء الشهر الخامس، فلا إيلاء؛ لانقضاء المدتين، وانحلال اليمينين، وإن راجَع قَبْل تمام السنة، فإن بقي منْها أربعة أشهر، أو أقَلُّ فلا إيلاء، وإن بقي أكثر منها عاد الإيلاء، وضُرِبَت المدة في الحال، ولو جدَّد نكاحها بعد البينونة، ففي عَوْد الإيلاء حيْث يعود الإيلاء، لو راجَعَها، الخِلاف المَذْكور في عود الحنث، وتبقى اليمين ما بَقِيَ شيْء من المدَّة، وإن لم يعد الإيلاء حتَّى لو راجع، وقد بقي من السّنة أقلُّ من أربعة أشهر، فوطئها في تلْك الباقية، يلزمه الكفارة، ولو عقَد اليمين على مدتين تدخل إحداهما في الأخرى، كما إذا قال: والله، لا أجامعك خمسة أشهر، [ثم قال والله لا أجامعك سنة فإذا مضت أربعة أشهر] فَلهَا المطالبة، فإن فاء انْحلَّت اليمينان، وإذا أوْجَبْنا الكفارة، فالواجب كفارة واحدة أو كفارتان؟ فيه خلاف يجري في كل يمينين يحنث الحالف فيهما بفِعْل واحدٍ، كما إذا حَلَف أن لا يأكل الخبز، وحَلَف أن لا يأْكُل طعام زيد، فأكل خبزه، وسيأتي ذلك، وإن طَلَّقها، ثمَّ راجَعَها أو جدَّد نكَاحَها، فإن بقي من السنة أربعة أشهر أو أقل، لم يَعُد الإيلاء، وتبقى اليمين، وإن بقي أكثر من أربعة أشهر يعود الإيلاء في الرجعية، وفي التجديد الخلاف في عود الحنث، هذا ظاهر المَذْهَب وفي "التتمة" أن السنة تحسب بعْد انقضاء الأشهر الخمسة؛ فيكون الحُكْم كما في الصورة السابقة، ولو قال: إذا مَضَتْ خمسة أشهر، فوالله، لا أجَامِعُك، فيَكُونُ مُولِياً بعْد انقضاء الخمسة، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: لاَ أَطَؤُكَ حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَوْ يَخْرُجَ الدَّجَّالُ أَوْ يَقْدمَ فُلاَنٌ وَهُوَ عَلَى مَسَافَةٍ يَعْلَمُ تَأَخُّرَ قُدُومِهِ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُولٍ* وَلَوْ قَالَ: حَتَّى يَدْخُلَ زَيْدٌ الدَّارَ فَمَضَى أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَدْخُلْ لَمْ يَكُنْ لَهَا المُطَالَبَةُ لأَنَّهُ يُنْتَظَرُ دُخُولُهُ كُلَّ سَاعَةٍ* وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يُطَالَبُ* وَلَوْ قَالَ: إِلَى أَنْ أَمُوتَ أَوْ تَمُوتِي فَهُوَ مُولٍ* وَلَوْ قَالَ: إِلَى أَنْ يَمُوتَ زيْدٌ فَهُوَ كَالتَّعْلِيقِ بِدُخُولِ زَيْدٍ وَقُدُومِهِ مِنْ مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ* وَقِيلَ: إِنَّهُ كَالتَّعْلِيقِ بِخُرُوجِ الدَّجَّالِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القسم الثاني: تقييد الامتناع عن الوطء بأمر مستقبل لا يتعيَّن، فينظر إن كان المعلَّق به أمراً يُسْتَبْعَد في الاعتقادات حُصُوله في أربعة أشهر، وإن كان محتملاً، كما لو قال: حتى يَنْزل عيسَى -عليه السلام- أو حتَّى يخرج الدَّجَّال أو يأجوج ومأجوج، أو تَطلُع الشمس من المغرب، أو أمرًا يُعْلَم تأخُّره عن أربعة أشهر، كما لو
قال: حتى يَقْدَمَ فلان أو حتى آتِيَ مكَّة، والمسافة بعيدة لا تُقطع في أربعة أشهر، فهو مُولٍ، وإذا حصل الإيلاء في مثْل هذه الصورة، فلو علَّقه بما لا يتَكَوَّن ويُعَد من المستحيلات؛ مثْل أن يقول حتَّى تَطِيري أو تَصْعَدي السماء، فهو أولى [لحصول] (¬1) الإيلاء، فلو قال في مسألة القدوم: ظننت أنَّه على مسافة قريبةٍ، فهل يُصدَّق بيمينه ذكر الإِمام فيه احتمالين، والأقرب: القَبُول، وفي الشرح "مختصر الجويني" للموفَّق ابن ظاهر: أن في التعليق بنُزول عيسى -عليه السلام- وما في معناه لا يُقْطَع بكونه مُولِياً في الحال، ولكن يترقب فإذا مضت أربعة أشهر، ولم يُوجَد المعلَّق به، بيّنا أنه كان مُولِياً، ومكَّنَّا الزوجة من المطالبة، والمشهور الأول، وإن كان المعلَّق به مما يتحقَّق وجوده قبْل أربعة أشهر، كذبول البقل، وجفاف الثوب، وتمام الشهر أو يغلب على الظنِّ وجود كمجيء المَطَرِ في وقْت غلبة الأمطار، ومجيء زَيْد من القرية، وعادَتُه الحضور في الجمعات، أو قدوم القافلة، والغَالِبُ تردُّدها في كلِّ شهر، فلا يتعلَّق به إيلاء، وإنما هو يمين، وإن كان المعلَّق به مما لا يستبعد حصوله في أربعة أشهر، ولا يتحقَّق، ولا يظن حصوله، كما لو قال: حتى يدْخُل فلان الدار أو أخرجك من البلد أو أمرض أو يمرض فُلاَنٌ أو يَقْدم، وهو على مسافة قريبة، وقد يَقْدُم، وقد لا يَقْدَم، فلا يحكم بكونه مُولِياً في الحال، فإن مضَتْ أربعة أشهر، ولم يوجد المعلَّق به، ففيه وجْهان: أحدهما: أنه يُحْكم بكونه مُولِياً ويثبت (¬2) لها المطالبة؛ لحصول الضرر، وأيضاً فقد تبيَّن إمداد مدة اليمين أكثر من أربعة أشْهر. وأظهرهما، وبه قال المزنيُّ -رحمه الله- المنعُ: لأنه لم يتحقَّق قصْد المُضارَّة في الابتداءِ وإحكامُ الإيلاء مَنُوطَة به، لا بمجرَّد الضرر بالامتناع عن الوطء، ألا ترى أنه لو امتنع من غَيْر يمين، لا يكون مُولياً، ولا خلاف في وجُوب الكفارة لو وَطئ قبل وجُود المعلَّق به [ولا في ارتفاع اليمين؛ لوجود المعلّق به] (¬3) قبْل الوطء. ولو قال: لا أجامعك حتَّى أموت أو تموتي أو قال: عمري وعمرك، فهو مُولٍ، لحصول اليأس مدة العمْر، وهو كما لو قال: لا أجامِعُك أبداً؛ فإنَّ أبَدَ كُلِّ إنسان عُمْره، ولو قال: حتى يموت فلان، فوجهان: أحدهما: أن الجواب كذلك؛ لأن الموت كالمستبعد في الاعتقادات، فيلحق بالتعليق بنزول عيسى -عليه السلام- وخُروج الدجال. ¬
والثاني: أنه كالتعليق بالمَرَض ودخول الدار، ولَفْظُ الكتاب يُشْعِر بترجيح هذا الوجْه، وحكاه القاضي ابن كج عن اختيار أبي الحُسَيْن بن القطان؛ والأكثرون على ترجيح الأول؛ وقالوا: الموت يُسْتَبْعَد في الاعتقادات، والتعليقُ به بعيد يبعد، بخلاف المرض ودخول الدار، ولو قال: لا أجامعك حتَّى تفطمي ولدَكِ، نقل المزنيُّ عن الشَّافعي -رضي الله عنه- أنه يكون مُولِياً، قال: وقال في موضوع آخر: لا يَكُونُ مُولِياً، واختاره فأوهم أن المسألة على قولَيْن، وبه قال ابْنِ القطَّان. والجمهور، قالوا: لا خِلاَف في المسألة، ولكن يُنْظَر، إن أراد وقْت الفِطَام، فإن بقي أكثر من أربعة أشهر إلى تمام الحولَيْن، فهو مولٍ، وإلاَّ فليس بمولٍ، وإن أراد، فعل الفطام، فإن كان الصبيُّ لا يحتمله إلا بعْد أربعة أشهر؛ لصِغَر أو ضَعْفِ بنيته، فهو مولٍ، وإن كان يحتمله لأربعة أشهر فما دونها، فَهُو كالتعليق بدخول الدار وما في معناه، والنص الأول محمُولٌ على الحالة الَّتي هي مول، والثاني على الحالة الَّتي هي غير مولٍ. ولو قال: حتى تَحْبَلِي، فإن كانت صغيرةً أو آية، فهو مولٍ، وإلا فهو كالتعليق بالقُدُوم من مسافة قريبة ودخول الدار. وإذا علَّق بالقدوم أو الفطام، ولم يحكم بكونه مُولِياً، فلو مات المعلَّق بقدومه قبل القدوم، أو الصبي قَبْل الفطام، فهو كما لو قال: حتى يشاء فلانٌ، فمات قبل المشيئة، وقد قدَّمناه. والله أعلم. فَرْعٌ: لو قال: والله، لا أجامعك، ثم قال: أردتُّ شهراً أو شهرين دِينَ ولم يُقْبل ظاهرًا (¬1)؛ لأن المفهوم منْه التأبيد، بخلاف ما إذا قال: لَيَطُولَنَّ تَرْكي لجماعك، ثم فسر بشَهْر وشهرين، حيْث يُقْبَل؛ لوقوع اسم التطويل علَيْه والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الرَّابعُ في الْمَحلُوف عَلَيْهِ) وَهوَ الجِمَاعُ* وَلَفْظُهُ الصَّريِحُ الَّذِي لاَ يَدِينُ مُتَأوِّلُهُ تَغْيِيبُ الحَشَفَةِ فِي الفَرْجِ وَإيلاَجُ الذَّكَرِ وَالنَّيْكُ* أَمَّا الجِمَاع وَالوَطْءُ فَيَدِينُ فِيهِ النَّاوِي وَلاَ يُقْبَلُ ظَاهراً* وَأَمَّا المُبَاضَعَةُ وَالمُلاَمَسَة وَالمُبَاشَرَةُ فَقَوْلاَنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا كَالجِمَاعِ* وَالآخَرُ أنَّهُ كِنَايَةٌ كَقَوْلهِ: لاَ يَجْمَعُ رَأْسِي وَرَأْسَكِ وِسَادَةٌ* وَقَوْلِهِ: لأَبْعُدَنَّ عَنْكِ* وَالإِصَابَةُ قَرِيبَةٌ مِنَ المُبَاشَرَةِ* وَالقُرْبَانُ وَالغَشَيَانُ وَالإِتْيَانُ بِالكِنَايةِ أَشْبَهُ* وَقِيلَ: هِيَ كَالمُبَاشَرَةِ وَالمُبَاضَعَةِ وَلَوْ قَالَ: لاَ أُجَامِعُكِ في الحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَفِي الدُّبُرِ فَهُوَ مُحْسِنٌ وَلَيْسَ بِمُولٍ أَصْلاً. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: ذَكرنا أن الإيلاء في الشريعة الحَلِف على الامتناع [من الجماع، فالحَلِف على الامتناع عن] سائر الاستمتاعات ليس بإيلاء، والألفاظ المستعملة في الجِماع قسمان صريحٌ وكنايةٌ. فمن الصريح لفْظ النَّيْك، وكذا قوله: لا أُغَيِّب ذَكَري أو حَشَفتي (¬1) أو لا أُدْخِل أو لا أُولِجُ في فرجِك، ولا أجامِعُك بذَكَري، وللبِكْر: لا أفتضك بذَكَري؛ فيحصل الإيلاء بهذه الألفاظ ولو قال: أردتُّ بها غير الجِمَاع، لم يدين؛ لأنها لا تَحْتَمِل غيْره، ولفظ الجماع والوطء أيْضاً صريحان مستغنيان عن النيَّة لاشتهارهما في ذلك عُرْفًا وشرعاً، ولكن لو قال: أردتُّ بالجماع الاجتماع، وبالوطء الوطء بالقَدَم، دين؛ لاحتماله، بخلاف ما إذا قال: لا أجامعك بذَكَري، فإنَّه لا يُقْبَل في الظاهر، هذا ظَاهِرُ المذهب في لفْظ الجماع والوطء، وفي "التهذيب" [وغيره] طريقة أخرى في لفْظ الوطء أنَّ في كونه صريحاً الخلاَفَ الَّذِي سنَذْكُره في المباشرة، وما في معناها، ويقال: إن الشيخ أبا محمَّد ذهَب إليها، وفي كتاب القاضي ابن كج أن ابْنِ سُرَيج طرد ذلك الخِلاَف في لفْظ الجماع أيْضاً، فيجوز أن يُعْلَم لذلك قوْلُه: "فيدين فيه الناوي، ولا يقبل ظاهرًا" بالواو؛ لأنا إن جعلناهما كنايتين قبلنا، قوله "لم أنْو" بل إنَّما يحكم بالإيلاء إذا قال "نَوَيْتُ". ولو قال للبكر: لا أفتضك، ولم يَقُل "بذَكَري" فهو صريح (¬2) كالجماع؛ لاشتهاره، فلو قال: لم أرد الجماع، لم يُقْبَل في الظاهر، وفي التدين وْجهان: أظهرهما، وبه قال القاضي أبو حامد: أنه يُدين؛ لاحتمال أن يريد الافتضاض بالإصبع وغيره (¬3)، وبالثاني قال الشيخ أبو حامد، وذكر الإِمام: أنه لو قال أردتُّ به ¬
الضَّمَّ والالتزام، فالأصح أنه لا يدين، وفي المباضعة والملامسة والمباشرة قولان: الجديد أنها كناياتٌ تفتقر إلى النيَّة؛ لأن لها حقائقَ غَيْر الجماع، ولم تشهُر فيه اشتهار الجماع والوطء. والقديم، وهو اختيار المزنيِّ: أنه صريح، كالجماع، وبه قال أحمد، ويجوز أن يُعْلَم قوله في الكتاب "كناية" بالألف؛ لذلك، وبالحاء أيْضاً؛ لأن ابن الصبَّاغ حكَى عن أبي حنيفة أن لَفْظ المباضعة صريح؛ لأنه مأخوذ من البُضْع، وقيل: بل هو مأخوذ من البضعة، وهي القطعة، ويجوز أن يُعْلَم قوله "فقولان" بالواو؛ لأن في المباضعة طريقةً قاطعةً؛ بأنها كناية، ولو قال: لا أُمْسِك، ولا أفضي إلَيْك أو أُبَاعِلك، فعلى القولَيْن، وأَلْحَق بها في "التتمة" قولَه لا أفْتَرِشُكِ، ولا أَدْخُلُ بكِ، وفي المباعلة طريقة قاطعة، كما في المباضعة، وفي لفظ الإصابة طريقان: أحدهما: أنه على القولَيْن، وإليه أشار في الكتاب بقوله "والإصابة قريبةٌ في المباشرةِ" ويجوز أن يُعْلَم (¬1) بالواو للثاني والثاني: أنَّه كالجماع حتَّى يكون صريحاً على المَذْهب الظاهر، وبالأول قال القاضي أبو الطيِّب، والثاني أرجح فيما يقتضيه إيراد "التهذيب"، وبه قال الشيخ أبو عليٍّ والشيخ [أبو] (¬2) حامد وأكثر العراقيين والشيخ أبو حاتم القزوينيُّ، وفي القربان والغشيان والإتيان طريقان: أحدهما: القطعُ بأنهما كنايات، وهذا أشبه عنْد صاحب الكتاب. والثاني: أنها على القولَيْن، كالمباشرة والملامسة، وهو الأقوى، وبه قال ابْن القطَّان "وصاحب الإفصاح"، وهو الَّذي أورده القاضي [الرُّويانيُّ و] (¬3) ابن كج، وأورد صاحب "التهذيب" في القربان والإتيان، الطريقة الأولى، وفي الغشيان الثانية، ولا يتضح بينهما فَرْق، والفعل من القربان: قَرِبَ يَقْرَبُ مثْل غَضِبَ يَغْضَبُ، يقال: قَرِبْتُ منْه أقْرَبُهُ قُرْبَاناً أي دَنَوْت منه، وقَرَّب الشَّيْء يُقَرِّب قرباناً (¬4) إذا أدناه وليكن قولُه "لا أقرب منك" كناية لا محالة، بخلاف قوله "لا أقربك" وقوله "لا يجمع رأسي ورأسك وسادة" كناية بلا خلاف؛ لأنه ليس من ضرورة الجماع اجتماع الرأسين على وسادة، وكذا لو قال "لا يساقف رأْسي ورأْسك" أي لا يجتمعان تحْت سَقْف، ومن الكنايات قولُه "لأَبْعَدَنَّ عنْكِ" وهذا يُحتَاج فيه إلى نيَّة الجماع والمُدَّة جميعاً، ولو قال "لتَطُولَنَّ غيبتي عنْك أو لأسوأنَّكِ أو لأغصبنك" فهو كناية في الجماع والمدة أيضاً، ولو قال: ليَطُولَنَّ تَرْكي لِجِماعك أو لَأُوئِسَنَّكِ من الجماع، فهو صريحٌ في الجماع، كناية في المدة. ¬
الباب الثاني في أحكامه
ولو قال: لا أغتسل عنْكِ، سئل عما أراد، فإن قال: أردتُّ أن لا أجامِعَها، فهو مُولٍ، وإن قال: أردتُّ الامتناع عن الغُسْل أو أردتُّ أني لا أمكث إلى أن أنْزل، وعنْدي أن الجماع من غَيْر إنزال لا يُوجِب الغُسْل أو إني أُقْدِم على وطئها، وَطِئَ غيرها، فيكون الغسل عن الأولى؛ لحصول الجنابة بوطئها، قبل: ولم يكن مُولياً، ولو قال: لا أجَامِعُك في الحيض أو في النفاس أو في الدُّبُرْ، لم يكن مُولِياً، بل هو مُحْسن فيما قال؛ لأنه ممنوع من ذلك، فأكَّد الممنوع منه بالحَلِف، ولو قال: لا أجامع إلا في الدُّبُر، فهو مولٍ، قال أبو الفرج السرخسي: ولو قال: إلا في الحَيْض والنفاس، لم يكن مُولِياً؛ لأنه لو جامَع في هذه الحالة، حَصَلت الفيئة، فاستثناؤه يَمْنع انعقاد الإيلاء، والذي أجاب صاحب "التهذيب" في "فتاويه" أنه يكون مُولِياً، وكذا لو قال: إلا في نهار رمضان -أو إلا (¬1) في المسجد؛ لأن الوطء حرام في هذه الأحوال،- قال: فإن فاء إليها في الحَيض وما في معناه، سَقَطت (¬2) المطالبة في الحال، ولكن لا تَرْتَفِع اليمين، فتُضْرب المدة ثانياً، ولو قال: لا أجامعك جماع سوء، لم يكن مُولِياً، وكذا لو قال: لا جامعتك جماع سُوء؛ لأنه لم يمتنع عن (¬3) سائر أنواع الجماع، فصار كما لو قال: لا أجامِعُ في هذا الَبيْت، أو قال: لا أجامِعُكِ في القُبُل إلاَّ من الدُّبُر، ولو قال: لا أجامِعُك إلا جِمَاعُ سِوء، رُوجِع، فإن أراد أن لا يجامعها إلا في الموضع المكروه، أو فيما دون الفَرْج أو لا يَغِيب إلى ما فَوْق الحَشَفة، فهو مُولٍ، وإن أراد الجماع الضعيف، لم يكن مُولِياً؛ لأن ضعْف الجماع كقوته في الحُكْم، ولو حَلَف لا يُجَامِع بعْضَها، فالحُكْم ما سيأتي في "الظهار" والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (البَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِهِ) وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: (الأَوَّلُ: ضَرْبُ المُدَّةِ) فِإِذَا قَالَ: وَاللهِ لا أُجَامِعُكِ أَمْهَلنَاهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ لَمْ يَطَأْ رَفَعَتْهُ إِلَى الَقاضِي لِيَأْمُرَهُ بِالفَيْئِةِ فَإِنْ أَبَى طَلَّقَ (ح) القَاضِي عَلَيْهِ* وَلاَ تَحْتَاجُ المُدَّةُ إِلَى ضَرْبِ القَاضِي بِخِلاَفِ العُنَّةِ* وَتَرَبُّصُ الأَمَةِ أرْبَعَةُ أَشْهُرٍ (ح) كَالحُرَّةِ* وَالتَّرَبُّصِ عَنِ العَبْدِ (م) كَهُوَ عَنِ الحُرِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: للزَّوْج مهْلة بعد انعقاد الإيلاء لا يُطَالب فيها بشَيْء، ثم للمرأة مطالبته ورفعُه إلى القاضي، ليَفِيَ أو يُطَلِّق، ويحتاج فيما ذكرنا [هـ] إلى معْرفة مدة المهلة، وكيفية المطالبة، وأحكامها ومعرفة ما به المطالبة، وأن الفيئة بم يُحْصُل؟ فهذه أربعة أمور عَبَّر عنها بأحكام الإيلاء. الأوَّل: ضرب المدة، وهي أربعة أشهر على ما نَصَّ عليه في القرآن. ¬
قال الشَّافعي -رضي الله عنه-: وهذه المدَّة حقُّ الزوج، كالأجل في الدَّيْن المؤجل؛ فإنَّه حقُّ المديون، وتحتسب (¬1) من وقْت الإيلاء، ولا يحتاج إلى ضَرْب القاضي، بخلاف مدة العُنَّة لِمَا ذكرنا [هـ] هناك، ولا فَرْق فيها بَيْن أن يكون الزوجان حُرَّيْن أو رقيقَيْنِ أو أحدهما والآخر رقيقاً؛ لأنَّها شرعت لأمر جِبِلِّيٍّ، وهو قلَّة الصبر عن الزوج، وما يتعلق بالجبلة والطبع لا يختلف بالحُرِّيَّة والرِّق، كم ذكَرْنا في مدة العُنَّة، وكمُدَّتَي الرضاع والحيض. وعند أبي حنيفة ومالك -رحمهما الله- تنتصف بالرِّق، ثم أبو حنيفة ينصفها برق الزوجة، ومالكٌ برِقِّ الزَّوج، كما هو مذهبهما في الطلاق، وعن أحمد روايتان: إحداهما: كمذهبنا، والأخرى: كمذهب أبي حنيفة، فيجوز أن يُعْلَم؛ لذلك قولُه "وَتَرَبُّصُ الأَمَةِ أَرْبَعَةُ أَشْهَرٍ" بالحاء والألف، وقوله "كهو عن الحُرِّ" بالميم، وقوله في الكتاب "فإذا قال: والله لا أُجامِعُك" إلى قوله "طَلَّق القاضي عليه" غير محتاج إلَيْه في هذا الموضع، أما التصويرُ بقَوْله ["فإذا قال:] (¬2) والله، لا أجامِعُك" فظاهر؛ لأن صورة الإيلاء قد تقرَّرت، وتكررت، وأمَّا ما سواه فلأن المقصود هاهنا الكلام في المدَّة، فلو قال: ضرب المدة، فيُمْهَلَ المُولِي أربعة أشهر ووصل قوله ولا تحتاج المدة إلى ضرب القاضي تبين أنَّه لو وَطئَ في المُدَّة، انحلت اليمين، ولا مطالبة ولا رفع بعد انقضائها، والثانية: قوله "ليأمره بالفيئة، فإن أبى طلَّق القاضي عَليْه" يبين أنه لا يطالبه بالطلاق ابتداءً وإنما تطالب المرأة بالاستمتاع الذي هو حقُّها، فإذا لم يُوفِ، يأمْره الحاكم بإزالة الضَّرر عنها بالطلاق، وهذا لفْظ صاحب "التتمة" وعلى هذا فحَيْث قلْنا "يأمره القاضي بالفيئة أو الطلاق" يعبر عن مجموع ما يأمره به، ويجوز أن يُعْلَم قوله "رفعته إلى القاضي" بالحاء؛ لما مر أن عنْده تَطلَّق بنفس مُضيِّ المدة؛ فلا حاجة إلى الرفع، وقوله "طَلَّق القاضي علَيْه" يجوز إعلامه بالواو، ويقول آخر سيأتي إن شاء الله تعالى في الحكم الثَّالث. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَتَنْقَطِعُ المُدَةُ بِالطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ وَالرِّدَّةِ فَإِذَا رَاجَعَهَا أَوْ عَادَتِ اسْتُؤْنِفَتِ المُدَّةُ لِيَتَوَالَى الإِضْرَارُ* وَكَذَلِكَ إِذَا طَلَّقَ طَلاَقاً رَجْعِيًّا بَعْدَ المُدَةِ* وَكَذَلِكَ لَوِ ارْتَدَّ اسْتأْنفِ المُدَّةَ عِنْدَ العَوْدِ* وَأَمَّا طَرَيَانُ الصَّوْمِ وَالإِحْرَامِ عَلَيْهِ لاَ يَقْطَعُ المُدَّةَ* وَكَذَلِكَ مَرَضُهُ وَحَبْسُهُ وَجُنُونُهُ* فَإِنْ كَانَ المَانِعُ فيهَا مَنْعَ احْتِسَابِ المُدَّةِ كَصِغَرِهَا وَجُنُونِهَا وَحَبْسِهَا وَمَرَضِهَا العَظِيمِ* وَلَكِنْ لَوْ طَرَأَتْ ثُمَّ زَالَتْ المُدَّةَ بَلْ تَبْنِي عَلَى المَاضِي فِي أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ* أَمَّا إِذَا طَرَأَت بَعْدَ المُدَّةِ مُنِعَتِ المُطَالَبَة فِي الحَالِ* وَلَكِنْ إِذَا زَالَ لَمْ ¬
يُوجِبِ اسْتِئْنَافَ المُدَّةِ بِخِلاَفِ الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ وَالرِّدَّةِ* أَمَّا صَوْمُهَا فَلاَ يَمْنَعُ مِنَ احْتِسَابِ المُدَّةِ وَلاَ حَيْضُهَا وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُ طَلَبَ الوَطْءِ فِي الحَالِ. قَالَ الرَّافِعِي: مقصود الفصْل بَيَان ما يَمنع الاحتساب بالمدَّة، إما بأن يقارن ابتداء الإيلاء، فيمنع ابتداء الاحتساب أو يطرأ في أثناء المُدَّة، فيقطعها، ويمنع استدامة الاحتساب، وفيه مسألتان: إحداهما: قد مر في أول الكتاب أنَّه إذا آلَى عن الرجعية، صحَّ، والمدة إنما تُحْتَسَب من وقْت الرجعة لا من وقت اليمين، ولو آلى عن زوجته، ثم طلَّقها طلاقًا رجعيًا، انقطعت المدة، لاختلال النكاح، وجريانها إلى حال البينونة، وإذا كانت في زمان يقتضي [قضية] البينونة، لم يجز احتسابه من مدَّةٍ تَقْتَضِي مُضيُّها المطالبَةَ بالوطء، فلو راجعها بعْد ذلك، استؤنفت المدة؛ لأن المطالبة مَنُوطَةٌ بالإضرار والإيذاء في الأشهر الأربعة على التوالي في النكاح السليم. وقوله في الكتاب "ليتوالى الإضرار" أي لا بد من إضرار هذا حاله؛ لتتمكَّن من الطَّلب ولو ارتد أحَدُ الزوجين بعْد الدخول في المدة، فتنقطع المدة أيضاً، ولا يُحْتَسب زمان الردَة منها؛ لأن الردة تؤَثّر في قَطْع النكاح، كالطلاق، وإذا عاد من ارتد منهما إلى الإِسلام قبْل انقضاء مدة العدة، استؤنفت المدة، هذا هو المذهب المشهور، وفي رِدَّة الرجُل وجْه أنَّه إذا عاد بني على المدة، ولا يستأنف، بخلاف الطلاق؛ لأنه إذا عاد المرتد إلَى الإسْلاَم، تبيَّن أن النكاح لم يتحرَّم، وبالرجعة لا يهدم الطلاق الماضي، وفي كتاب القاضي ابن كج أن أبا القاسم الأنماطيَّ ذكر ذلك على سبيل الاحتمال فيما علَّق عنْه أبو العبَّاس بن سُرَيْج، وحكى أبو الفرج السرخسي وجْهًا: أن ردته لا تَقْطَع الاحتساب، كمرضه وسائر الأعذار فيه، وزاد صاحب "التتمة" فنقل في الرَّجعة أيضاً وجْهًا مُخرَّجًا أنه يبني المدة على ما مَضَى، ولا يستأنف؛ أخذاً من الخلاف فيما إذا راجَع المُطلَّقة، ثم طلَّقها أخْرَى قَبْلَ أن يدْخل بها، يستأنف العدة أو يبني، ولْيُعْلَم؛ لذلك قولُه في الكتاب "استؤنفت المدة" ولو جدَّد النكاح بعْد ما بَانَت الرَّجعيَّة أو كان الطلاق بائنًا أو بَعْد حصول البينونة بالردة، إما بالإضرار أو بأن كانت الردة قبْل الدخول، وقلنا: يعود الإيلاء، فتستأنف المدة أيضاً، وهذه الصورة أولى بالاستئناف، لأنه نكاح آخر، ولو طلقها بعد مضي المدة طلقةً رجعية، إما بمطالبتها، أو ابتداء (¬1) ثمَّ راجعها، فيعود الإيلاء، وتستأنف المدة، إن كان اليمينُ علَى التأييد، أو كانت مؤقتةً، وقد بقي من وقت اليمين مدة الإيلاء؛ لأن المَنَافِع من وقْت الوطء باقية والمضارّة ¬
حاصلةً، وكأنه راجع ثم حَلَف ثانياً، قال الإِمام: وكان ينقدح في القياس أن يُقَال: كما راجعها يعود الطلبة؛ لاتحاد النكاح، لكنه لمَّا طلَّق، فقد أتى بأحد الأمرين اللَّذَيْن طولب بأحدهما فأثر ذلك في سقوط الطلبة، ولو ارتد أحد الزوجين بعْد مضيِّ المدة، وعاد إلى الإِسلام قبْل انقضاء العدَّة، فيعود الإيلاء، وتستأنف (¬1) المدة أيضًا وألحق في ¬
"التَّهْذيب" العدَّة عن وطء الشبهة بالطلاب الرجعيِّ والردة في منْع الاحتساب، ولزوم الاستئناف عنْد انقضائها من حيْث إنَّها تنقض ملْك الاستمتاع وتنافي النِّكاح في الجُمْلة، والذي ذكره من حُكْم الشبهة صحيحٌ، ولكنَّ إلحاقَها بالطلاق الرجعيِّ والردة ليس بواضح، وفي عدة الشُّبهة ما يُغني عن ذلك؛ فإنها معْنًى مانعٌ في المرأة، فالمانع إذا كان يَمْنَع احتساب المدة على ما سيأتي على الأثر. الثانية: ما يمنع الوطء من غير أن يُخِلَّ [ملك] (¬1) النكاح، إن وُجِد في الزوج، لم يَمْنَع احتساب المدة، بل تضرب المدة مع اقتران المانع بالإيلاء، ولو (¬2) طرأ في المدَّة، لم يقطعْها، بل يُطَالَب بالفيئة بعد أربعة أشهر، إذا كان العذر إيلاءً يومئذ؛ وذلك لأن التمكين حاصلٌ من جهتها، والمانع فيه، وهو القصد بالإيذاء، وقصد المضارة، ويستوي في ذلك الموانع الشرعية؛ كالصوم والإحرام والاعتكاف، والحسية؛ كالمرض والحَبْس والجنون، وإن كان المانع فيها كما إذا كانت صغيرةً لا تحتمل الوطء، وكالنشوز والمرض المضني المانع من الوطء، فإن قَارَنَ ابتداء الإيلاء، لم يبدأ بالاحتساب إلى أن يَزُول، وإن طرأ في المدة، قطعها؛ لأنه إذا وجد منها ما يمنع الوطء، لم يتحقَّق المضارَّة فيه، هذا هو المذْهَب الظاهر في الجانبين، ونقل المزنيُّ -رحمه الله- في حَبْس الزوج قولاً آخر أنه يمنع احتساب المُدَّة واعترض عليه، وقال قد نصَّ الشَّافعيّ -رضي الله عنه- عَلَى أن المرض لا يَمْنَع، فكذلك الحبس وغلَّطه عامة الأصحاب في نَقْل هذا القول، وقالوا إنَّما ذكر الشَّافعيُّ -رضي الله عنه- منْع الاحتساب في حبسها لا في حبسه، وحكى القاضي ابن كج أن بعْضَهم سلَّم صحة النقل، وأن هؤلاء المسلمين اختلفوا في تنزيله، فمنهم منْ نزَّله على ما إذا كانت هي الَّتي حبَسَتْه، وقال: إنَّه يمنع الاحتساب؛ لأنها تَقْدِر على تخليته، فكان المانع فيها، ومنهم مَنْ نزَّله على ما إذا كان محْبُوسًا ظُلماً، وقال: مثْل هذا الحَبْس يمنع الاحتساب، وحق هذا القائل أن يطرد ما ذكره في المرض، وما لا يتعلَّق باختياره من الموانع، وهذا شيْء قَدْ ¬
مال إلَيْه الإِمام. قال: وكان يُحْتمل أن يُصدَّق المزنيُّ في النقْل وقال فيه وفي نص المرضُ إنهما على قولَيْن (¬1) بالنقل والتخريج، وذلك لأنه إذا تَحقَّق المانع في الزوج، لم تظْهَر المضارة، وهي المعتمد في الإيلاء، وعن صاحب "التقريب" أن البويطيَّ حكى قولاً أن الموانع الطارئة فيها لا تَمْنع الاحتساب؛ لحصول قصْد المضارة في الابتداء، نقله الإِمام وأبو الفرج الزاز، فيجوز أن يُعْلَم؛ لذلك قوله في الكتاب "وحبسه" بالواو، وكذا قوله فإن كان المانع فيها منع احتساب المدة، وقوله "كصغرها"، المراد: الصغر المانع من الوطء، فأما إذا آلى عن الصغيرة الَّتي تحتمل الجِمَاع، فيبتدي الاحتساب. وقوله "وجنونها" محمول على ما إذا امتنعت، فتكون كالناشزة، فأما المجنونة الَّتي لا تمنع منْه، فتحتسب المدة في حقِّها فإذا قلْنا بظاهر المَذْهب فيما يُوجَد فيها مِنَ الموانع، فلو طرأ فيها مانعٌ في المدة، ثم زال، فتُبْنَى المدة على ما مضى، أو تستأنف؟ فيه وجهان: أحدهما: تبنى كما لو وطئت المعتدة بالشُّبْهة، وحبلت منْه، فإنها بعْد الوضْع تبنى على ما مضى من العدَّة. والثاني: تستأنف كما قدَّمنا في عروض الطلاق الرجعيِّ والردة؛ وهذا لأن المُضَارَّة إنَّما تتحقَّق إذا توالَتِ المدَّة، وكان الامتناع من جهة الزوج، وقد ذكر (¬2) في الكتاب أنَّ الأوَّل أظْهَرُ ولم يذكر ذلك في سائر كتبه، ولا ذكره الإِمام، والصحيح المنْصُوص الثاني، ولم يُورِدِ الجُمْهور غَيْرَه، ولو طرَأَت هذه الموانعُ بعد تمام المدة، وقبْل المطالبة، وزالَتْ، فقد قال الإِمام -رحمه الله-: المذهب المثبوت أنَّه تعود المطالبة، ولا حاجة إلى استئناف المدَّة؛ لتحقق (¬3) المضارَّة منْه في المدَّة على التوالي، وأَبْعَدَ بعض الضعفة، فقال: إذا أوجَبْنا الاستئناف فيها إذا طرأت في المدَّة، وزالت، فكذلك هاهنا، وقوْلُه "بخلاف الطلاق الرجعيِّ والردة" أراد به ما قدَّمنا أنه لو طلَّق بعد المدة طلاقًا رجعيّاً، ثم راجَعَها تستأنف المدَّة، وكذا لو ارتدَّ أحد الزوجين، وعاد إلى الإِسلام في مدة العدة؛ لأنه مطالَبٌ بأن يُطلِّق إن لم يَفِء وقد فَعَل، وخرج عن عُهْدة تلْك المدة، لكن بَقِيَتْ مدة اليمين، فاستؤنفت (¬4) مدة أخرى، وألحقت الردة بالطلاق؛ لأنها سبب انقطاع النكاح في الجملة، وهاهنا بخلافه. وأما قوْلُه "منعت المطالبة في الحال" فهو دخيل في هذا الموضع؛ لأن المَقْصُود الآن بَيانُ ما يقطع المدَّة، وما لا يقطعها، والكلام فيما إذا وُجِدَ مانعٌ وقْت المطالبة يأْتي ¬
في الحُكْم الثالث. وكذا الحال في قوله عنْد ذكْر الحيض، "وإن كان يمنع طَلب الوطء في الحال"، وقد أعاد الكلام في أنَّه لا مطالَبَة للمريضة، ولا للحائض من بعد. هذا هو الكلام فيما يُوجَدُ بينهما من الموانع الحسِّيَّة، وأما الشرعية، ففي بعض التعاليق التي لا يُؤْمن في مثْلها الغَلَط أنَّها لا تَمْنَع الاحتساب أصْلاً، وأطلق في الكتاب: أن صوْمها لا يمنع الاحتساب، وكذلك حَكَى الإِمام عن شيخه أنه لا يمنع الاحتساب، ولا يقطع المدة، ثم قَال: إنْ كَانَ الصَّوم تَطوُّعاً، فالأمرْ كذلك؛ لأنه متمكن (¬1) من غشيانها وتحليلها، وإن وَقَع رمضان في الأشْهر، فكذلك؛ لأنه لاَ بُدَ لَهَا من الصَّوْم، وفي الليالي مقنع الاستمتاع، ولو (¬2) أرادت تعجيل قَضَاء عليها، وأن تبادر إلى الصلاة في أول الوقت، وأراد الزوج أن تؤخرهما، وطلب الاستمتاع، ففي تمكُّنه منْه خلاف يُذْكر في موضعه، فإن تَمكَّن، فهو كصوم التطوع، وإلاَّ فَفِي المسألة احتمالٌ، قال: والأظهرُ أنه لا أثر له، ويكتفي بالتمكن في الليالي، وما ذَكَره في صوْم التطوع مساعدٌ عليه، وأما في صوم الفَرْض، فالمشهود في كتب الأصحاب أنَّه يمْنَع الاحتساب، وكذلك الاعتكاف فالمفروض، وعلى هذا، فمَهْما وقع رمضان في المدة، أحوج إلى الاستئناف، وهذا كما أنَّه يقطع تتابع الشهرين في الصوم عن الكفارة، فأعْلِمْ؛ لما ذَكَرنا قوله "أما صوْمُها فلا يمنع من احتساب المدة" ولا خلاف في أن حيضَها لا يمنع الاحتساب؛ لأن ذات الأقراء لا تَخْلو في مدة الإيلاء عن الحيض غالباً، فلو جُعل مانعًا، لم يتخلص عن الضَّرر، وهذا كما أنَّه لا يَقْطَع التتابع في صوْم الشهرين، وفي النفاس وجهان: أحدهما: أنَّه لا يُلْحَق بالحَيْض؛ لأنه نادر. وأصحهما، على ما ذكر في "التهذيب": أنه كالحيض، كما أنه يشاركه في أكثر الأحكام، واعلم أن ما ذكرنا في الصِّغَر والمرض المانعين من الوطء مبنيٌّ على ظاهر المذهب، وهو صحة الإيلاء، وقد سَبَق في أول الكتاب حكايةُ قَوْل عن القديم أنَّه لا يصحُّ الإيلاء عن الصغيرة والمريضة المُضْنَاة، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الحُكْمُ الثَّانِي: المُطَالَبَةُ) وَلَهَا ذَلِكَ إِذَا مَضَتِ المُدَّة مِنْ غَيْرِ قَاطِعٍ* فَإِنْ رَضِيَتْ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهَا وَكَانَ لَهَا العَوْدُ بِخِلاَفِ العُنَّةِ بَل هَذَا كَرِضَاهَا بِإعْسَارِ الزَّوْجِ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَى الطَّلَبِ* وَلاَ مُطَالَبَةَ لِوَلِيِّ الصَّغِيرَةِ وَالمَجْنُونَةِ وَلاَ لِسَيِّدِ الأَمَةِ بَلْ يَخْتَصُّ هَذَا بِالْمَرْأَةِ* وَلاَ مُطَالَبَةً لِلمَرِيضَةِ الَّتِي لاَ تَحْتَمِلُ الوِقَاعَ* وَلاَ لِلرَّتْقَاءِ* وَلاَ لِلحَائِضِ ¬
حَالَةَ الحَيْضِ* وَإِنْ كَانَ فِي الرَّجُلِ مَانِعٌ طَبعِيٌّ فَلَهَا مُطَالَبَتُهُ بِالفَيْئَةِ بِاللِّسَانِ وَوَعْدِ الوِقَاعِ* وَإنْ كَانَ شَرْعِيّاً كَالطَّهَارَةِ وَالصَّوْمِ وَالإِحْرَامِ فَلَهَا المُطَالَبَةُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ يَعْصَى بِالوِقَاعِ إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ يَنْقَدحُ إِنْ جَوَّزْنَا لَهَا التَّمْكِينَ* وَلاَ خِلاَفَ أنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلرَّجْعِيَّةِ التَّمْكِينُ* وَكَذَلِكَ إِذَا كانَ المَانِعُ فِيهَا كَالصَّوْمِ وَالإِحْرَامِ وَالحَيْضِ* وَإِنْ كَانَ فِيهِ وَعَصَى بِطَلَبِ الوِقَاعِ قِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهَا التَّمْكِينُ لأَنَّهُ حَقُّ الزَّوْجِ فَيُوَفَّى وَإِنْ كَانَ عَاصِياً بِالاسْتِيفَاءِ* وَقِيلَ: لاَ يَجِبُ وَلاَ يَحِلُّ فَعَلَى هَذَا لاَ يُمْكِنُ طَلَبُ الوَطْءِ وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ: طَلِّقْ* فَإِنْ وَطِئَ مَعَ التَّحْرِيمِ انْدَفَعَ* وَقِيلَ: إنَّهُ يَكْتَفِي هَهُنَا بفَيْئَةِ اللِّسَانِ إلَى زَوَالِ المَانِعِ إِذْ لاَ وَجْهَ لِلإرْهَاقِ إِلَى الطَّلاَقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قوله "المُطَالَبَة ولها ذلك إذا مضت المدة من غيْر قاطع" يشعر [بأن المطالبة إنما تتوجه إذا مضت المدة من غير قَاطِع]، وإنما يستمر هذا الكلام على الوجْه الصحيح، إذا طرأ قاطِعٌ، وجب الاستئناف، أما إذا قلْنا بالبناء بعْد زوال الطارئ، لم تكن المدَّة ماضيةً من غيْر قاطع، وفقْه الفَصْل تحْصُره مسألتان: إحداهما: للمرأة المطالبة بأن يفيء أو يُطَلِّق إن لم يفء فما لم تُطَالِب، لم يؤمر الزوج بشَيْء، ولا يسقط حقُّها بالتأخير، ولو تركت حقَّها، ثم رَضِيَتْ، ثم بَدَا لها، فلها العَوْد إلى المطالبة ما لم تنته مدة اليمين، لتجدد الضرر على ما ذَكَرْنا في فضل خيار العُنَّة، وهذا كما أنها إذا رَضِيَتْ بإعسار الزوج ثم أرادت الفسخ [تمكن منه لتجدد الضرر بفوات النفقة يومًا بيوم، ويخالف ما إذا رضيَتْ بعُنَّة الزوج، ثم أرادت الفسخ لا] (¬1) تمكّن منْه، فُرِّق بأن العُنَّة خصْلة نادرة لا تبسط على الأيام، وحق الاستمتاع والنفقة تبسطان عليها، وبأن العُنَّة عيْب، والرضا بالعَيْب يُسْقِط حقَّ الفسخ، واعْتُرض عليْه بأنه لو كان سبيلها سبيلَ العيوب، لَمَا ثبت لها الفَسْخ إذا نكَحَتْه عالمةً بعُنَّته، وأجِب عَنْه بأن العُنَّة لا تتحقَّق، فقد يُعَنُّ في نكاح ولا يُعَنُّ في آخر، فاقتضى ذلك الفَرْق بيْن العُنَّة وبينهما، قال في "التتمة": ومثلهما ما إذا اشترى عبْداً، فأبق قبْل القبض، ورضي المشتري بترك الفسخ، ثم بَدَا له، يُمكَّن من الفسخ؛ لأن التسليم مستحقٌّ له في الأوقات كلها، فالإسقاط يُؤثِّر في الحال دون ما يستحق من بعد، وتختص المطالبة بالزوجة كالفسخ بالعنة، وكما أن الطَّلاق يختصُّ بالزوج فليس لوليِّ الصبية المراهقة والمجنونة المطالبَةَ، وحَسُنٌ أن يقول الحَاكِمُ للزَّوْج على سبيل النصيحة: اتق الله، فيء إليها أو طلِّقها، وإنما يضيق الأمر عليه إذا بَلَغت تلْك أو أفاقت ¬
هذه، وطَلَبَتَا، وكذلك ليس لسيِّد الأمة المطالبةُ، فإن الاستمتاع يتعلَّق بها والله أعلم. المسألة الثانية: إذا وُجدَ مانع الجماع بعْد مضيِّ المدة المحسوبة، فيُنْظَر؛ أهُوَ فيها أم في الزوج؟ فإن كان فيها بأن كانَتْ مريضةً؛ بحَيْث لا يمكن وطؤها أو محبوسة لا يمكنه الوصول إليها, لم تثْبت المطالبة بالفيئة لا فعْلاً ولا قَوْلاً؛ لأنه معذور، والحالة هذه، ولا مضارَّة، وكذا لو كانَتْ مُحْرمة أو حائضًا أو نفساء أو صائمة أو معتكفة عن فَرْض. وأما قوله في الكتاب "ولا للرتقاء" فهو مَفرَّع على صحة الإيلاء عن الرتقاء، وقد سبق [فيه] الخلاف [فيه] ثم سياقُ الكتاب يقتضي ضرب المدَّة إذا قُلْنَا بصحته، وذكر في "البسيط" تفريعًا علَيْه أنَّه يطالب بالفيئة باللسان، وقال لا مَعْنى لصِحَّته إلا ذلك، لكن قدَّمنا في أول الكتاب [أن صاحب "الشامل" قال: لا تضرب المدة للرتقاء، وإن صحَّحنا الإيلاء،] (¬1) ومن ذهب إلَيْه، فإنه يُقْصِر أثر الصِّحَّة على التأثيم، وإن كان المانع في الزوج، فهو إمَّا طبَعِيٌّ أو شرعيٌّ، أما الطَّبَعيُّ فكالمرض الذي لا يقدر معه على الوطء وفي معْناه إذا خاف من الوطء منه زيادة العلّة أو بدء البرء، فيطالَبُ بالفيئة باللسان أو الطلاق، إن لم يفء. قال الإِمام قدَّس اللهُ رُوحَه: ولا بُعْدَ في المطالَبَة بالفَيْئة باللِّسَان، فإن حكْم الإيلاء مبنيٌّ على الإضرار باللسان، وشبهها مشبهون بإشهاد الشفع على طَلَب الشُّفْعة عنْد الغيبة، وتعذُّر الطلَب في الحال، ولو استمهل للفيئة باللسان، لم يجب بحال؛ فإن الوعد هيِّن متيسر، ثم إَذا زال المانع، فيطالب بالفيئة أو الطلاق؛ فإنه لم يوف بفيئة اللسان حقَّها، وإنما أخرها لانتظار القدرة، ولا يحتاج هذا الطَّلَب إلى استئناف المدَّة، وعن أبي حنيفة أنه يحتاج. وقوله في الكتاب "فلها مطالبته بالفيئة باللسان ووعد الوقاع" [لفظ بالوعد بالوقاع] بيان وتفسير للفيئة باللسان. ومن الموانع الطبيعية الحَبْس المانع من الوصول لَهَا، فإن حُبِسَ يظلم، فهو معذور؛ كالمريض، وإن حُبِسَ في دَيْن يقدر على أدائه، فيُؤْمر بالأداء أو بالفيئة أو الطلاق. وأمَّا الشَّرْعِيُّ، فكالظِّهَار، فإنه إذا ظَاهَر وَعَاد قَبْل الإيلاَء أو بعده، حرم الوطء حتَّى يكفر، وكالصوم والإحْرام، ففيه طريقان: الحُسْنى منهم ابناء الأمْر على أن الزَّوْج لو قَصَد وطئها، وهناك مانِعٌ شرعي، هل يلزم التمكين، وفيه تفصيل؛ فإن كان المانع يتعلَّق بهما، كالطلاق الرجعيِّ، فلا يلزمها التمكين، بل لا يجوز، ولو اختص المانع ¬
بها؛ كالحيض والصوم والإحرام، فكذلك وإن اختصَّ به كصومه وإحرامه، فوجهان: أحدهما: أنَّه يلْزمُها التمكينُ؛ لأنَّه لا مانِع فيها, وليس لها مَنْع ما عليها مِنَ الحق، وأظهرهما، على ما ذكر صاحب "الشامل" و"المهذب" وغيرهما: المنع؛ لأنه موافقة على الحرام وإعانةٌ عليه، وإن كان التحريم بسبب الظهار، فمنهم من ألْحَقَه بالطلاق الرجعيِّ، حتى لا يجوز لها التمكينُ؛ لأن الظهارَ يُحَرِّم المرأة، كالطلاق، ومنهم من ألحقه بالصوم والإحرام؛ حتى يكون على الوجهَيْن؛ لأن الظهار لا يَحِلُّ بالنكاح؛ كالصوم والإحرام، فإن قلْنا يجوز (¬1) التمكين، فلها المطالبة بالفيئة أو الطلاق، فإن أراد الفيئة فامتنعت، سَقَط حقُّها من الطَّلَب، وإن قلْنَا بالمنع، فوَجْهان: أحدهما: أنه يقنع منْه بالفيئة باللسان، كما في المانع الطبيعيِّ، ولأن الأمْر بالطلاق على التعْيِين بعيدٌ. وأشبههما، وبه أجاب في "الشامل": أنه يطالَبُ بالطلاق إزالة للضرر عنْها، ويخالف المانع الطبيعي، فإن الوطء هناك متعذِّر في نَفْسه، وهاهنا الإمكان حاصلٌ، وهو الذي ضيَّق على نفسه. والطريقة الثانية: أنَّه يقال له: قد ورَّطْت نفسك بالإيلاء إن فِئْتِ إليها عَصَيْتَ وأفْسدتَّ نسكك وصومك، وإن لم تطأ ولم تُطلِّق طلقناها عليك، وشُبِّه ذلك كما إذا غصب لؤلؤة ودجاجة، فابتلعت الدجاجة اللؤلؤةَ، يقال له: إن لم تُذْبَح الدجاجة، غَرَّمناك اللؤلؤة، وإن ذبحتها، غرمناك الدَّجَاجة. ولو قال في صورة الظهار: أمهِلُوني، حتى أَكفِّرَ؛ نُظِرَ؛ إن كان يُكَفِّر بالصيام، لم يُجِب، وان كان يُكَفِّر بالإعتاق أو الإطعام، فعن أبي إسحاق أنه يُمْهَل ثلاثة أيام، وفي "التهذيب" يُمْهَل يوماً أو نصف يوم، ويمكن ذلك بحيث يتيسر الْمقصود في تلْك المدة، وهذا إذا لم تطل مدة الانتظار، فإن طالت لِفِقْدَان الرقبة أو مصرف الطعام، فلا يمهل قاله في "التتمة" على كل حال، فلو وَطِئَ مع التحريم، اندفعت المطالبة، وخرج عن مُوجِب الإيلاء. وقوله في الكتاب "فلها المطالبةُ، وعليه أن يُطَلِّق أو يعصى بالوقاع إلا أن ذلك ينقدح إن جوَّزنا لها التمكين" إشارةٌ إلى بناء المطالبة على جواز التمكين، لو أراد الزوج الوطء، على ما بيَّنا في الطريقة الأولَى، وهي الَّتي أوردها في الكتاب. وقوله "ولا خلاف (¬2) أنَّهُ لا يجوز للرجعية التمكين" [وفي بعض النسخ "لا تتعلَّق بهذه المسألة" لكن لمَّا وقع التعرُّض لجواز التمكين] مع قيام المانع، بيّن أنه متى يجوز، ومتى لا يجوز، وقوله "ثم قيل: يجب عليها التمكين" وفي بعض النسخ "يجب عليها ¬
التمكين" وليس في الأول ما يقتضي ترجيح هَذا الوجْه على مقابِلِهِ، وهو قوله "وقيل لا يجب ولا يحل" ويوافقه إيراد "الوسيط" وعلى التقدير الثاني، فقضية النَّظْم ترجيح الوجْه الذاهب إلى وُجُوب التمكين، وقد رجَّحه صاحب "التهذيب" أيضاً، وعن الشيخ أبو حامد أنه قَطَع به في الصوم والإحرام، لكنه لا يكاد ينساغ، ويجوز أن يُعلَّم، قوله "وقيل لا يجب ولا يحل". وقوله "فعلى هذا لا يمكن طلب الوطء ولكن يقال له طَلَّق" يشعر بترجح الوجه المذاهب إلى المطالبة بالطلاق، كما بيَّنَّاه، وقوله "للإرهاق إلى الطلاق" يقال أرْهَقَه عُسْراً "أي كلَّفه إياه"، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الحُكْمُ الثَّالِثُ) فِيمَا يَجبُ عَلَى الزَّوْجِ وَهُوَ الوَطْءُ أَوِ الطَّلاَقُ* فَإنْ أَبَي فَالصَّحِيحُ أَنَّ القَاضِيَ يِطَلِّقُ* وَفِيهِ قَوْلٌ أَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُطَلِّقَ* فَإِنِ اسْتَمْهَلَهُ ثَلاَثةَ أَيَّامٍ فَأَصَحُّ الوَجْهَيْنِ أنَّهُ يُمْهَلُ فَلَعَلَّهُ يَنْتَظِرُ نَشَاطًا وَقُوَّةً* فَإنْ أَمْهَلَ القَاضِي ثُمَّ طَلَّقَ قَبْلَ تَمَامِ المُهْلَةِ لَمْ يَقَعْ* لاَ كَقَتْلِ المُرْتَدِّ قَبْلَ تَمَامِ المُدَّةِ فَإِنَّهُ هَدَرٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد تكرر أن المُولي بَعْد المدة يُطَالَب بالفيئة أو الطلاق، فتبين أن المقصود الفيئة، لكنه يؤمر بالفيئة أو الطلاق، إن لم يفئ، قال الإِمام: وليس لها توجيه الطَّلَب نحو الفيئة وَحْدها، فإن النَّفْس قد لا تُطَاوع، بل يجِب أن يَكُونَ الطَّلَب متردِّداً، فإن لم يَفئْ، وأبى أن يُطلِّق، فقولان: الجديد، وأحد قولي القديم، وبه قال مالك واختاره المزنيُّ: يطلقها القاضي علَيْه طلقةً واحدةً؛ لأنه حقٌّ قد توجَّه علَيْه، وهو ممَّا يدخُلُه النيابَةُ، فإذا امتنع، ناب عنْه القاضي، كقضاء الدَّيْن، وكما إذا عضل الوليّ. ووجه أيضاً؛ بأن مدة الإيلاء مقدَّرة بالشَّرْع يقطعها الوطء، فيثبت للقاضي التَّفْريق إذا انقضت بلا وطْء كمدة العُنَّة. الثاني: من قولي القديم: أنّه لا يُطلِّق عليه، بل يَحْبِسُه [وُيعزِّره] إلى أن يَفِيء، أو يُطلِّقَ لِمَا رُوِيَ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "الطَّلاَقُ بِيَدِ لمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ " (¬1) ولأنه مخيَّر (¬2) بين الفيئة والطلاق، فإذا امتنع، لم يَقُم القاضِي مَقَامه، كما إذا أسْلم على أكْثَر من أرْبَع، فخُيِّر. وعن أحمد -رحمه الله- روايتان كالقولين، وفي "التتمة" ما يدُلُّ على أن أظهرهما ¬
موافقةُ القديم، ويجوز أن يُعلَم؛ لما ذكَرْنا قوله في الكتاب "أنَّه يُحْبَس" بالميم وقولُه "إن القاضي يُطَلِّق" بالألف، ويجوز إعلام كليهما بالحاء؛ لما مرَّ أن عند أبي حنيفة أن الطَّلاق يقع بمضيِّ المدَّة، ولو أنَّه لم يبد الإيلاء ولكنه استمهل؛ ليفيء، فلا خلاف أنه يُمْهل بقدر ما يتهيَّأ لذلك الشُّغل، فإن كان صائماً، فيمهل إلى أن يُفْطِر، وإن كان جائعًا، فحتى يَشْبَع، وإن كان ثقيلاً من الشبع، فحتى يخِفَّ، وإن كان يغلبه النُّعاس، فحتى يزُولَ ما به، ويحصل التهيؤ والاستعداد في مِثْل هذه الأحوال في قدر يوم فما دونه، وهل يُمْهَل ثلاثة أيام؟ فيه قولان يقال وجْهان: أحدهما: نعم؛ لأنها مدة قريب، وقد ينتظر فيها نشاطًا وقوةً. الثاني: المنع؛ لأن الله تعالى قدَّر مدة الإيلاء بأربعة أشهر، فلا يزاد عليها؛ ولأنه حق حَلَّ عليه، فلا يُمْهَل أكْثَر من قَدْر الحاجة، والأصحُّ عند صاحب الكتاب الأول، وعنْد أصحابنا العراقيين الثاني، وهو اختيار المزنيِّ، وقضية إيراد صاحب "التهذيب" وإذا أمُهَلَه ثمَّ طلَّق علَيْه في المدة، لم يقع الطلاق إن وجدت الفيئة في مدة المُهْلة، وإن مَضَت المدة بلا فيئة، ففيه وجْه أنَّه ينْفُذ، والظاهر المَنْع، وهو المذكور في الكتاب؛ لتظْهَر فائدة الإمْهَال، ويخالف ما إذا أَمْهَل المُرْتَدَّ ثم قَتَله القاضي أو غَيْرُهُ، فإنه يكون قتله هَدَرًا؛ لأنه لا عصمة له، والقتل الواقع لا مدْفَع له، وأما الطَّلاَق، فهو قابِلٌ للرَّدِّ والإبطال، قال الإِمام -رحمه الله- وفي التصوير عُسْر، فإنَّ طلاَق القاضِي قد استند (¬1) إلى رأْيه في الإمهال، وإذْ كَانَ كَذَلِك، فالطَّلاق يَنْفُذ اتباعاً لاجتهاده، والكلام في الإمهال ثلاثاً، يجري في قَتْل تارك الصلاة، وفي الأخْذ بالشُّفعة، وخيار العتق والعُنَّة والفسخ، بالإعسار واستتابة المرتد. فَرُوعٌ: ذكرها القاضي ابن كج لو طلَّق القاضي عليه، ثُمَّ ثبت أنه قد وَطِئ قَبْل ذلك، تبيَّن أن الطلاق لم يقع، وكذا لو تبيَّن أنه طلَّق قبل طلاق القاضي، لم يقَعْ طلاق القاضي، ولو وقَع طلاق الزوج، والقاضي معاً، نفذا؛ لأن كل واحد منهما فعل ما له أن يَفْعَلَه، وحكى وجْهًا آخر: أنَّه لا ينْفُذ طلاق القاضي؛ لأنه إنما يُطْلَق إذا امتَنَع الزَّوج ولم يمتنع. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ غابَ الزَّوْجُ إِلَى مَسَافَةٍ لاَ تُقْطَعُ في أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلِوَكيلِهَا أَنْ يُطَالِبَهُ عِنْدَ القَاضِي إِمَّا بِالطَّلاَقِ أَوِ الرُّجُوعِ إلَيْهَا* فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ الإِمْكَانِ، فَقَالَ: الآنَ أَرْجِعُ لَمْ يُمَكَّن* وَلِلقَاضِي أن يُطَلِّقَ* وَلَوِ ادَّعَى بَعْدَ المُدَّةِ عُنَّةً لَمْ يُطَلِّقْ وَضَرَبْنَا مُدَّةَ العُنَّةِ فَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ فَيَطَأَ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صورتان: إحداهما: إذا آلَى عن امرأته، وهو غائب أو آلَى ثم غاب عَنْها، حُسِبَتِ المدَّة عليْه كما تحسب مدَّة حبسه، ولها أن تُوَكِّل من يطالبه، فإذا انقضت المدة، رفَعَه الوكيل إلى قاضي ذلك البلد، وطالبه، والقاضي يأَمْره بالفيئة باللسان في الحال للمانع الحسيِّ، وبالمسير إلَيْها أو يحملها إلَيْه أو بالطلاق، إن لم يفعل ذلك، فإن لم يَفئْ باللسان أو فاء به، ولم يَرْجِع إلَيْها, ولا حمْلها إليه حتى مضت مدَّة الإمكان، ثمَّ قال: ارجع الآن لم يمكن، والقاضي يُطَلِّق عليه بطلب وكيلها، على القول الأصحِّ، ويحبسه لِيُطَلِّق على القول الآخر، ويعذر في التأخير؛ ليهيئ أهبة السَّفر، ولخوف الطريق إلى أن يَزُول الخَوْف، ولو غاب عَنْها وهَرَب بعد مطالبته بالفيئة أو الطلاق، لم يرض منه بفيئة المعذورين، ولا يُمْهَل للمسير، ذكره أبو الفَرَج السرخسيُّ أو نحْوًا منه. الثانية: إذا طولب، فادَّعى العُنَّة والعجز عن الفيئة، نُظِر؛ إن لم يدْخُل بها في ذلك النِّكاح سواءٌ كانت ثَيِّبًا أو بِكْرًا، وادعى العَجّز عن الافتضاض، ففيه وجهان: أحدهما: أنها إذا صدَّقته أو كذبته، فحلف على العَجْز، لا يُطَالب بالفيئة الحقيقية، ولكن يطالب بفيئة المعذورين أو بالطلاق، إن امتنع عن فيئة المعذورين؛ لظهور عجْزه، فإن فاء، ضُرِبَت عدة العنة إن طلبته، فإن وطئ في المدة، فذاك، وإلا أمْضَى حُكْم العُنَّة، وهذا هو ظاهر النَّص، والمذكور في الكتاب. والثاني: وبه قال أبو عليٍّ بن أبي هريرة والطبري: أنه يتعيَّن عليه الطلاق؛ لأنه متَّهَم في تأخير حقها والإضرار بها, ولأن من خُيِّر بين شيئين، وتعذر عليه أحدهما، تعيَّن الثاني، وإن كان قدْ دخل بها في ذلك النكاح، لم تسقط المطالبة، ولم يعتبر قوله؛ لأن العُنَّة بعد الوطء لا حُكْم له فتظهر تُهْمة الدَّفْع في قوله. وقوله في الكتاب "وللقاضي أن يُطَلِّق" يعني تفريعًا على [القول الصحيح. وقوله في الصورة الثانية: "لم يطلِّق"، أي القاضي، والله أعلم] (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: (الحُكْمُ الرَّابعُ فِيمَا بِهِ الفَيْئَةُ) وَهُوَ تَغْيِيبُ الحَشَفَةِ فَلاَ يَحْصُلُ بِنُزُولِهَا عَلَيْهِ* وَيَحْصُلُ بِوَطْئِهِ مُكْرَهًا إِنْ قُلْنَا: يَلْزَمُ بِهِ الكَفَّارَةُ أَوْ قُلْنَا: ينْحَلُّ بِهِ اليَمِينُ وَإِلاَّ فَالصَّحِيحُ أَنَّ الطَّلَبَ لاَ يَنْقَطِعُ* وَلَوْ جُنَّ فَوَطِئَ فَالنَّصُّ أنَّهُ يَنْحَلُّ يَمِينُهُ وَلاَ كَفَّارَةَ فَيَنْقَطِعُ الإِيلاَءُ* وَفِيهِ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ مِنَ النَّاسِي فَيَكُونِ تَفْصِيلُهُ كَتَفْصِيلِ المُكْرَهِ* وَإِذَا جُنَّ ¬
الرَّجُلُ لَمْ تَنْقَطِعِ المُدَّةُ وَلَكِنْ لاَ يُطَالَبُ قَبْلَ الإِفَاقةِ لأنَّهُ لَيْسَ امْتِنَاعهُ لأَجْلِ اليَمِينِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: والمقصود الآن الكلام في أن الفيئة بم تَحْصُل؟ قال الشَّافعي -رضي الله عنه -: وأقلُّ ما يكون به المُولِي فائياً في الثيِّب أن يغيب الحشفة؛ وفي البِكْرِ إذْهَاب العذرة، وذكر الأئمة منْهم صاحب "الشامل" والإمام أن تغييب الحشفة يُزِيل العذرة؛ وعلى هذا فالاقتصار على تَغْييب الحشفة يفيد الغرض، ولا تحصل الفيئة بالجماع فيما دون الفرج، ولا بالإتيان في غير المأْتَى، ثم الكلام [محصور] (¬1) في صور: احداها: لو نزلت عليه، واستدخلت ذَكَرَه، فلا تنحل اليمين حتى [و] لو وطئها بعْد ذلك لزمَهُ الكفَّارة. وهل تحْصُل به الفيئة، ويرتفع (¬2) الإيلاء؛ وفيه وجهان: أحدهما، وهو المذكور في الكتاب: لا؛ لأن اليمين نافية (¬3) مانعة من الوطء، كما كانت، فيبقى الضرر. وأظهرهما، وهو الذي ذكره صاحب "التهذيب" والمتولى وغيرهما: حصول الفيئة، وارتفاع الإيلاء؛ لوصولها إلى الحق وزوال الضرر به، ووجه أيضاً بأن أخذ صاحب الحق الحق، كتسليم مَنْ عنده الحقُّ كما في الوديعة، قال الإِمام: وفي بعض التعاليق عن شيخي -رحمه الله- أنَّه يَخْرُج في انْحلال اليمين إذا نزلت عليه الخلافُ الذي يأتي ذِكْره في وطء المجنون والكرَه، وعدَّه غلَطًا. الثانية: لو وطئها مكْرهاً، ففي وجوب الكفارة القولان المعروفان، فيما إذا فَعَل المحلوف عليه ناسيًا أو مكرهاً؛ إن أوجبناها فتنحلُّ اليمين، ويرتفع الايلاء، وإن لم نوجبها، ففي انحلال اليمين وجهان جاريان في كل يمين وُجِد فيها الفِعْل المخلوف عليه عن إكراه أو نسيان. أحدهما: الانحلال؛ لأنه وُجِد المحلوف عليه في الحقيقة، إلا أنا لم نؤاخذ بالكفارة؛ لأنه لا تقصير منْه وأوفقهما لكلام الأئمة: المنْع؛ لاختلال الفعل الصادر عن النسيان والإكراه؛ ولذلك لم يُحْكَم بوجوب الكفارة، وقد قطع بهذا القاضي أبو الطيِّب والشيخ أبو حامد، ونفيا الخلاف. وإن حكَمْنا بالانحلال، حصلت الفيئة، وارتفع الإيلاء، وإن لم تحكم به، فوجهان: ¬
أحدهما: (¬1) أنَّه لا تحصُل الفيئة، وتبقى الطلبة؛ لأن اليمين قائمة. والثاني: يحصل، ويرتفع الإيلاء؛ لوصولها إلى حقِّها واندفاع الضرر، والأصحُّ عند صاحب الكتاب -رحمه الله- الأول، وهو يوافق جوابه في صورة نزولها عليها، وبالثاني أجاب صاحب "التهذيب" وغيره، وهُو يوَافق جوابَهُم هناك. وصورة المسألة مبنيَّة على أنَّه لا يتصور الإكراه على الوطء، [وهو الظاهر، وفيه وجْهٌ: أنه لا يتحقق الإكراه على الوطء]؛ لأن المكره فزع مسلوب الاختيار، ومَنْ كان كذلك، لم تنشط شهْوته، ولم تنتشر آلته. وقوله في الكتاب "فلا يحصل بنزولها عليه" مُعْلم بالواو، والظاهر عند الأكثرين الحُصُول. وقوله "أو قلنا يَنْحَلُّ به اليمين" يجوز إعلامه بالواو؛ لقطع القاضي والشيخ -رحمهما الله-. الثالثة: إذا آلَى، ثم جُنَّ، فوطئها في الجنون؛ إما في المدة أو بعدها، ففيه طريقان: الذي أروده العراقيُّون: القَطْع بأنه لا يحْنَث، ولا ينحل اليمين، ولا يلزمه الكفارة؛ لأنه ليْس للمجنون قصْد صحيحٌ، ولأن الحنث ولزوم الكفارة حقُّ الله تعالى والمجنون غير مؤاخذ بحُقُوق الله تعالى، فإنه مرفوع القَلَم. والثاني، وهو الذي أورده صاحبُ "التهذيب" و"التتمة" أن في وجوب الكفارة قولَيْن (¬2) كما في الناسي؛ لأن المجنون مُلْحَق بالمخطئ في كفَّارة القتل، فكذلك في كفارة اليمين، فعلى هذا، إن أوجبنا الكفارة، فتنحل اليمين، وإلا فعَلَى وجهَيْن، كما ذكَرْنا في المكره، وحكى أبو الفرج السرخسي الترتيب من وجْه آخر، فقال: في حُصُول الحنث بوطء المجنون قولان؛ وَجْه الحصول أنَّه أتى بالمحلوف عليْه، ووجْه المَنْع أنَّ يمينه لا تنعقد في هذه الحالة، فكذلك لا يحْصُل الحنث إلحاقًا لأحد الطرفين بالآخر، فإن حَنث، ففي الكفارة قولان؛ في قولٍ: تلزم كما حنث، وفي قولٍ لا؛ لعَدَم التكليف، هكذا رتَّب ووجَّه، وكيفما قدر، فالظاهر أنَّه لا يحْنَث، ولا تنحل اليمين ولا كفارة. قوله في الكتاب "فالنص أنَّه ينْحَل يمينه ولا كفارة" هكذا نقل صاحب الكتاب والإمام عن النص، ووجَّه بعضُهم الانحلال بأنَّ الوطء فعْل، وفعل المجنون معتبر بخلاف قوله: ولذلك ينفذ استيلاده، وحكاية نفي الكفارة عن النص ظاهرٌ، وأما حكايته ¬
الانحلال، فقد سَكَت عنها الجمهور، وليس في المختصر تعرُّض لذلك، وإنما نَصَّ على أنَّه يخرج عن الإيلاء، ولا يَلْزم من الخُروج عن الإيلاء انحلالُ اليمين، كما سبق في صورة نزولها علَيْه. وهل يسقط حقُّها بالوطء الجاري في الجنون؟ فيه وجهان مشهوران في كُتُب الأصحاب -رحمهم الله-: أحدهما، ويحكى عن المزنيِّ: أنه لا يسقط، ولها (¬1) المطالبة بعْد الإفاقة، كما لا يحصل به الحنث، ولا تنحل اليمين. وأظهرهما: نعمْ، ووجه بأن الوطء حقٌّ عليه، فتصح توفيته في حال الجنون، كما لَوْ رَدَّ في الجنون وديعةً إلى صاحبها. وأيْضاً، فإن وطء المجنون كوطء العاقل في التحليل، وتقرير المهْر، وتحريم الربيبة، وسائر الأحكام، وكذلك فيما نحن فيه، وفرَّ قوانيْنَه وبيْن الحنث والكفارة؛ بأن ذلك حَقُّ الله تعالى، والفيئة حق المرأة، ويعتبر في حقِّ الله تعالى من القَصْد الصحيح ما لا يُعْتَبَر في حق الآدميِّ؛ ألا ترى أن الذمية إذا اغتسلَتْ عن الحيض، يصحُّ؛ اغتسالها في حق الزوج، ولا يصح في حق الله تعالى؛ لأنَّه ليست لها نيَّة صحيحة، وإذا قلْنَا بالأول ثبتت لها المطالبة، كما أفاق أم لا بد من استئناف مدَّةٍ، فيه وجهان: أحدهما، يقال: إن أبا يعقوب الأبيوردي حكاه عن ابن سُرَيْج: -رحمهما الله- أنه لا بُدَّ من استئناف المدة؛ لأن الوطء أحد الأمرين المطلوبين، فإذا وُجِدا بَطَلت المدة، كما لو طلَّقها، ثُمَّ راجَعَها، يجب الاستئناف، وأقيسهما على ما ذكر الإِمام -رحمه الله- أنَّها تثْبُت في الحال؛ لأن المدَّة قد انقضت، ولم يتخلل ما يُخِلُّ بالنكاح؛ كالطلاق والردة. ولو آلى عن إحدى امرأتيه بعينها، ووطئها، وهو يظن أنه يطأ الأخرى، قال في "التهذيب" [يخرج] (¬2) عن الإيلاء، وفي الكفارة الخلاف المذكور في الناسي، وقوله في الكتاب "وإذا جُنَّ الرجل، لم تنْقَطِع المدَّة" مكرر قد ذكره مرَّةً؛ حيث قال في الحكم الأول "وكذلك مرَضُه وحبْسُه وجنونه"، وزاد هاهنا أنه إذا انقضت المدَّة، وهو مجنون، لا يُطالَب بشَيْء، حتى يفيق؛ لأنه ليس أهلاً للتكليف والمطالبة، وأيضاً فإن الامتناع عنْد الجنون ليْس لليمين وقَصْد المضارَّة والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ: وَطِئْتُ قَبْلَ المُدَّةِ فأنْكَرَتْ فَالقَوْلُ قوله كَمَا فِي العُنَّةِ ¬
عَلَى خِلاَفِ قِيَاسِ الخُصُومَاتِ* فَلَوْ طَلَّقَهَا وَأَرَادَ الرَّجْعَةَ بِدَعْوَى الوَطْءِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ لَمْ يُمَكَّنْ وَكَانَ القَوْلُ قَوْلَهَا في نَفْيِ العِدَّةِ وَالوَطْءِ عَلَى قِيَاسِ الخُصُومَاتِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المسألة مذكورة في فصْل العُنَّة معادةٌ هاهنا؛ لحق الباب مع زيادة مضمومة إليها، وقد بيَّنا أنَّ هناك، إذا اختلف الزَّوْجَان في الإصابة، فالقول قول النافي إلا في مواضع: أحدها: إذا قال الزَّوْج بعْد مدة العُنَّة: أصَبْتُها في المدة أو بعدها. والثاني: إذا ادَّعَى مثل ذلك بعد مدة الإيلاء، فالقَوْل قَوْل الزوج؛ لما ذَكَرْنا هناك. وقوله "على خلاف قياس الخصومات" معناه أن الأصْل عدَمُ الإصابة، وقياس الخصومات تَصْدِيق النافي. وإذا صدَّقْناه بيمنه، وطلَّقها بعْد ذلك، وقال: هذا طلاقٌ بعْد المسيس، فإنَّكم صدِّقْتُموني أنِّي وطئتها، وأراد الرجعة، وهي على إنكارها الوطء وإنكار العدة والرجعة. قال ابن الحدَّاد، وساعده جمهور الأصحاب: لا يُمَكَّن من الرجعة، والقول قولُها على قياس الخصومات، كما لو اختلفا في الرجْعة ابتداءً، وليست يمينُ الزوج مثبتةً للإصابة على الإطلاق، وإنما استعملناها (¬1) في استيفاء النكاح حين كانت المرأة تبْغي التفريق، فأما إذا وقَع الطلاق، فهو مدعي الرجْعة، فيطالَبُ بالبينة وشبه بعض الأصحاب ذلك بما إذا ادَّعَى المُودَع تَلَف الوديعة عنده، وأنكر المُودِعُ التَّلَف، فصدقنا المودع بيمينه، ثم جاء آخر، وأثبت الاستحقاق لنفسه، وغرم المُودَع، فأراد هو الرجُوع إلى المودع، فقال: قد صدقتموني في التلف عندي، وهو الذي أوقعني في هذا الغرم؛ فإنا لا نُمَكنُه من الرجوع، بل إذا حَلَف المودع على أن الوديعة لم تتْلَف عنده، وهو خائنٌ يستقر الضمان على المُودع، ولا يلزم [من] (¬2) تصديقه؛ لدفْع الضمان عن نَفْسِه تصديقُه لإثبات الغُرم على غيره، وكذا لو وَجدْنا دارًا في يد اثنين، وادَّعَى أحدهما أن جميعها لهُ، والآخر أنها بينهما [نصفان،] (¬3) وصدَّقنا الثاني بيمينه؛ لأن اليد تشْهَد له ثم باع مدعي الكل نصيبه من ثالث، فإن أراد الآخر أخْذَه بالشفعة، وأنكر المشتري ملْكَه، فإنه يحتاج إلى البيِّنة، ويمينه في الخصومة مع الشريك أفادت دفْع ما يدَّعِيه الشَّريك لا إثبات الملك له. وحكى الشيخ أبو عليٍّ وجْهًا: أنه يمكن من الرجعة، ويُصدَّق في الإصابة ¬
للرجعة، كما يُصدَّق في الإصابة لدفع التفريق؛ لأن [في] (¬1) الرجعة استبقاء ذلك النكاح أيضاً. الموضع الثالث: إذا طلَّق زوجته، فأتت بولد يلْحَقُه في الظاهر، واختلفا في الإصابة؛ فقالت: أصبتني (¬2)، فلي كمال المهر، وقال الزوج: ما أصبتك، وليس لك إلا نصْف المهر، فالقول قولُها؛ لقوَّة جانبها بالوَلَد، وثبوت النسب، وقد ذكَرْنا في المسألة في فصْل العُنَّة، ولم يذكر غير هذا الجواب، وهو الظاهر والمنصوص في رواية المزنيِّ وغيره، وحكى الربيع قولاً آخر أن القوْل قولْ الزوج مع يمينه، وذكر الشَّيْخ أبو عليٍّ -رحمه الله- أن للأصحاب في المسألة ثلاثة طرق: أحدها: أنَّ فيها قولَيْن، ووجه ما قاله الربيع أنَّها قد تستدخل ماءه، وقد يُجَامِع فيما دون الفَرْج فيسبق الماء، وحينئذ يَثْبُت النَّسَب، فلا تكون الإصابَة حاصلةً. والثاني: القطع بالأول، وعدَّما جعله الرَّبيع من كيسه. والثالث: تنزيلُ الروايتَيْن على حالَيْن، إن اختلفا قبْل حدوث الوَلَد، وحكَمْنا بِنِصْف المَهْر تصديقاً له، ثم أتت بالولد، لا يغير حكم المهر، ويلحق الولد بالإمكان، وإن اختلفا بعْد حُدوث الولد، ومات الزوج، فلا يقبل قَوْل الورثة، بل نُصدِّقها، ونوجب كمال المَهْر. ولو اختلفا في انقضاء مدَّة الإيلاء، [وأنكر الرجل، فلا مطالبة لها،]، (¬3) فالمُصدَّق الزوج في وقْتِه، ولو اعترفت المرأة بالإصابة بعْد انقضاء المدَّة، وأنكر الرَّجُل، فلا مطالبة لها، فلو رجعت وقالت: لمْ يُصِبْني، لم يُسْمَع قولُها؛ لأنها أقرَّت بوصول حقِّها إليها، فلا يقبل رجوعها، قاله في "التتمة"، هذا شَرْح مسائل الكتاب، فرَّغنا منه بتوفيق من بيده (¬4) الخير ووراءنا مسائل تَتعلَّق بالباب، نوردها ولاءً إذا قال لامرأة واحدة: والله، لا أجامعُك مرَّتَيْن فصاعدًا، نُظِر؛ إن أطْلَق في المرتين أو قيَّد بمدة واحدةٍ كسنة وسنة، فإن قال: أردتُّ بالمرة الثانية تأكد الأولى قُبِل وكانت اليمين واحدةً؛ ولا فرْق بيْن أن يتحد المجلس أو يختلف، ولا بيْن أن يطول الفَصْل أو لا يطول، وفي "النهاية" حكايةُ وَجْهٍ أنَّه إذا طَال الفَصْل، لا يُقْبل، وتكون اللفظة الثانية يميناً أخْرَى، ويجري مثْل هذا الخلاف، فيما إذا كرَّر تعْلِيق الطلاق ببَعْض الصِّفَات، وفرَّق على الظاهر بيْن الإيلاَء والتَّعليق بالطلاق، وبين تنجيز الطلاق؛ بأن التنجيز (¬5) إنشاء وإيقاع، والإيلاء ¬
والتعليق يتعلَّقان بأمر مستقبل، فالتأكيد بهما ألْيَقُ، وإن قال: أردتُّ الاستئناف، فهما يمينان، وإن أطْلَق، فقولان (¬1) في أنَّه يُحْمَل على التأكيد أو على الاستئناف، قال أبو سعْد المتولِّي: إن اتَّحَد المجلس، فالظاهر اتِّحَاد اليمين، وحمل التكرار على التأكيد، وإن اختلف المجْلِس، فالظاهر التعدد (¬2)؛ لبعد التأكيد مع اختلاف المجلس، وإن اختلَفَتِ المدة المعتد بها، كما إذا قال: والله، لا أجامعُكِ خمْسَةَ أشْهُرٍ، ثمَّ قال: والله، لا أجامعك سنةً، فوجهان: أشبههما، وبه أجاب الشيخ أبو حامد: أن الحُكْم كما لو اتحدت المُدَّتان المذكورتان. والثاني: أنهما يمينان بكل حال، ويُحْكَى هذا عن اختيار صاحب "الإيضاح"، لماذا لم يتعدَّد اليمين، لم يجب بالوطء إلا كفَّارة واحدة، وحيْث حكَمْنا بالتَّعدُّد فبالطلاق يتخلَّص عن الإيمان كلِّها، وبوطأةٍ واحدةٍ ينحل الكُلُّ، وفي الكفارة قولان: أحدهما: أنها تتعدَّد بحَسَب تعدُّد الأيمان [وسيأتي] (¬3) إن شاء الله تعالى، وعن أبي إسْحَاق طريقةٌ قاطعةٌ بإتحاد الكفَّارة، وفي كتاب القاضي ابن كج طريقةٌ قاطعةٌ بالتعدُّد عن ابْنُ سُرَيْج -رحمه الله-. ولو آلَى عن امرأته الرقيقة، ثم ملَكَها، ثم باعها أو أعتقها، ونَكَحها، ففي عَوْدِ الإيلاءِ الخلافُ في عود الحنث، وكذا لو آلَى العَبْد عن امرأته، ثم ملكته، وأعتقته، ونكحته، وفي كيفيَّة الخلاف (¬4) العائد وجْهَان: أحدهما، وبه قال أبو إسحاق: أن البينونة بالفَسْخ كالبينونة بالطلقات الثلاث؛ لأن الفسخ يُزِيل عُلْقة النكاح بينهما، كالطلقات الثَّلاث. والثاني: أنها كالبينونة بما دُون الثلاث؛ للاستغناء فيها (¬5) عن المحلل. وفي "فتاوى صاحب التهذيب" أنَّ القاضِيَ إذا طالَبَ المُولِيَ بالفيئة أو بالطَّلاق فامتنع (¬6) منْهما، وطَلَبت المرأة من القاضي أن يُطلِّق عليه، لم يشترط حُضُوره في تطليق القاضي علَيْه، ولو شهد شاهدان أنَّ فلانًا آلَى، ومَضَت المدة، وهو ممتنع من الفيئة أو ¬
الطَّلاق، لم يُطَلِّق القاضي عليه وفي المسألة الأُولَى حَصَل الإمتناع بَيْن يدَيْه، وهذا كما يعتبر في الفصْل أن يحضر الولي عنْد القاضي، ويمتنع فلا بد أن يمتنع بيْن يدَيْه. نعم، لو تعذَّر إحضاره بتمرد أو توار أو غيبة، فحينئذ يحكم عليه بالعضل بشهادة الشهود، قال: ويحتمل أن نَحْكُم بالعَضْل بشهادة الشاهدَيْن مع إمكان الإحْضَار والله أعلم.
كتاب الظهار
[بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] كِتَابُ الظِّهَارِ (¬1) وَفِيهِ بَابَانِ (الأَوَّلُ فِي أَرْكانِهِ) وَهِيَ ثَلاَثةٌ: (الأَوَّلُ المُظَاهِرُ وَالمُظَاهَرُ عَنْهَا* وَكُلُّ مَنْ يَصِحُّ ¬
الطَّلاَقُ بَيْنَهُمَا يَصِحُّ الظِّهَارُ فَيَصِحُّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ (ح) وَالظِّهَارُ عَنِ الرَّجْعِيَّةِ وَتَكُونُ الرَّجْعَةُ عَوْدًا* وَيَصِحُّ ظِهَارُ المَجْبُوبِ بِخِلاَفِ الإِيلاَءِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ظاهَرَ أوس بن الصَّامِتَ -رضي الله عنه- عن زوجته خولة بنت ثَعْلَبَة على اختلاف في اسمها، ونسبها، فأتَتْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشتكيةً منه، فأنزل الله تعالى [فيها] قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة: 1] إلى آخر الآية .. ، وصورة الظهار الأصلية: أن يقول لامرأته: أنْتِ عليَّ كظهر أمِّي، ومن لفظ الظَّهْر أُخِذ الظِّهار، ويقال: ظَاهَرَ من امرأته، وتظهَّر وظَهَّر تظهيرًا، كلُّها بمعنى، وكان الظِّهار طلاقًا في الجاهلية كالإيلاء، ويقال: كان أحدهم إذا كره صُحْبة امرأته، ولم يرد أن تتزوج بغيره، آلَى عنها أو ظاهر، فتبقى محبوسةً عنده لا ذات زوج يستمتع بها ولا خليَّة تنكح غيره، وهذا يُشْعِر بأنَّه كان كلُّ واحد من الإيلاء والظِّهار عنْدهم طلاقًا من وجْه دون وجْه، وكيفما كان، فقد غيَّر المشرع حُكْمه على ما سيأتي بيانه، والظِّهار حرامٌ، قال: الله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] قال الأئمَّة: وليس قولُه: "أنتِ عليَّ حرامٌ" محرمًا؛ وإنما هو مكروه؛ لأن الظهار علّق به الكفارة العظمى، والمعلّق بالحرام كفارة اليمين، واليمين والحنث ليسا محرمَيْن، وأيْضًا، فالتحريم مع الزوجية قد يجتمعان، والتحريم الذي هو كتحريم الأم
مع الزوجية لا يجتمعان، وفقْه الكتاب يحويه بابَانِ: أحدهما: في أركان الظهار [والثاني في أحكامه؛ أما الأرْكان فقد (¬1) عَلِمْتَ أن الظهار] تشبيهُ الزوجِ زوجَتَه، في الحُرْمة، بمحرمة، وهذه الحقيقة تعتمد الزوجين، ولفظ التشبيه والمشبه بها، فهي ثلاثة أركان (¬2): الأوَّل: الزوجان، فيصح الظهار من كل زوج مكلَّف حرًّا كان أو عبدًا، مسلمًا كان أو ذمِّيّاً، وعند أبي حنيفة -رحمه الله- ومالك: لا يصحُّ ظهار الذمي، واحتج الأصحاب بأنَّه زوج يصح طلاقه (¬3)، فيصحُّ ظهاره كالمسلم، وهذا لأن الظِّهار يقْتَضِي التحريم، كالطلاق، ويتصور منه الإعتاق عن الكفارة، بأن يَرِثَ عَبْدًا مسلمًا، أو يكون له عبْد كافرٌ، فيُسْلِم، وبأن يشتري عبْدًا مسلمًا، أو يقول لمسلم: أعْتِقْ عبْدك عن كفارتي، فيجيبه، إن جوَّزناهما (¬4)، وإن لم نجوز الشراء، وتعذَّر تحصيله، فما دام موسرًا، لا يباح له الوطء، ويقال له: إن أردتَّ الوطء، فأسْلِم، وأعتق؛ لأن الرقبة موجودة، والتعذر لمعنى فيه، وكذا لو كان مُعْسِرًا، وهو قادر على الصوم، لا يجوز له العدول إلى الإطعام؛ لأنه يمكنه أن يسلم، فيصوم، فإن كان عاجزًا عنْه؛ لمرض أو هرم، فحينئذ يطعم في كفره هكذا أورده صاحب "التهذيب" والتتمة وحكاه الإِمام عن القاضي الحُسَيْن -رحمه الله- وتردَّد فيه، من حَيْث الذمي مقرَّر على دينه، فحَمْله على الإِسلام بعيدٌ، وأيضًا، فالخطاب بالعبادة البدنية لا يتوجَّه على الكافر الأصْلي، فكان الصَّوْمُ مخرجًا عن كفارة الذمي، وقد يجاب عنْه بأنا لا نَحْمِل الذمي على الإِسلام، ولا نخاطبه بالصوم، ولكن نقول: لا نمكنك من الوطء إلاَّ هكذا، فإمَّا أن تتركه أو تسلك طريق الحلِّ، وأيضًا فالإطعام يُدلُّ عن الصيام، وتقدير البَدَل في حقِّ من لا يَتحقَّق في حقِّه المبدل مستبعدٌ (¬5)، وهكذا الجواب الثاني قَدْ أجراه الإمَامُ وفي تردُّده يصحُّ ظهار الصبيِّ والمجنون، كالطلاق، ولا يجيْء فيه الخلافُ، كطلاقهما، وظهار السكران ¬
كطلاقه، وقد سَبَق الكلام فيه في "الطلاق"، وبيَّنَّا أن السكرانَ منْ هو، وذكر الشيخ أبو حامد وابن الصَّبَّاغ أن السَّكْران الذي لا يَعْقِل من أموره، وله تنفيذ ما ينفذ طلاقه، وظهاره في الظاهر والباطن، وإن كان سَاقِطَ التمييز بالكليَّة، فوجهان عن ابن سُرَيْج، وأبي إسحاق: أن الجواب كذلك، وعنْ غيرهما: أنَّه لا ينفُذ في الباطن إلاَّ أنَّه لا يُقْبَلُ في الظاهر قوله لم يكن منه تمييز وكل من يلحقها الطَّلاق من الزَّوْجَات يصحُّ الظهار منها، وتستوي فيه الصغيرة، والمجنونة، والأمة، والذمية، والرتقاء، والحائض، والنفساء، والمعتدة عن الشبهة، وغيرهن، وليست حُرْمَة مَنْ هي حرامٌ منهن كحرمة الأمة، ويصحُّ ظهَارُ الرَّجعية، ولا يصح الظِّهَار عن الأجنبية، سواء أطْلَقَه أو عَلَّقه بالنكاح، فقال: إذا نكحتك، فأنت عليَّ كظَهْر أُمِّي، وأبو حنيفة ومالك يخالفان فيما إذا علَّق بالنكاح، كما في الطلاق، ويجيء فيه القَوْل المحكيُّ هناك، ولا يصحُّ الظهار عن الأَمة وأمِّ الوَلَد، وقال مالك: يصحُّ الظهار عن كلِّ أمة؛ واحتج الأصحابُ بأنَّه لفظ يتعلَّق به تحريم الزوجةُ فلا تحرم به الأمة، كالطلاق. وقوله في الكتاب "وتكون الرَّجْعَةُ عَوْدًا" هذا غيْرُ محتاجٍ إلى ذكْره في هذا الموضع، فهو يفَصْل العَوْد ألْيَقُ، ونذكره هناك مع ما يناسبه، ويجوز أن يُعْلَم بالواو؛ لما سيأتي. والقول في أن ظهار الرجعية صحيحٌ قد سَبَق مرَّةً في "باب الرَّجعة" وقوله "ويصحُّ ظهار المجْبُوب (¬1) بخلافِ الإِيلاَءِ" فهو على الخلاف السابق. قَالَ الغَزَلِيُّ: (الرُّكْنُ الثَّانِي: اللَّفْظُ) وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ كَأمِّي أَوْ مَعِي أَوْ عِنْدِي أَوْ مِنِّي كَظَهْرِ أُمِّي وَالكُلُّ صَرِيحٌ* وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ الصِّلَةَ* وَقَالَ: أَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي فَهُوَ كَمَا لَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ يَقُلْ: مِنِّي* أمَّا لَوْ قَالَ: كَشَعْرِ أُمِّي أَوْ يَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا فَهُوَ ظِهَارٌ عَلَى الجَدِيدِ* وَلَوْ قَالَ: كَعَيْنِ أُمِّي وَرُوحِهَا أَوْ كَأُمِّي وَأَرَادَ الكَرَامَةَ فَلَيْسَ بِظِهَارٍ* وَإِنْ قَصَدَ الظِّهَارِ فَظَهَارٌ* وَإِنْ أَطْلَقَ فَوَجْهَانِ* وَالرَّأْسُ كَالعَيْنِ أَوْ كَاليَدِ فِيهِ وَجْهَانِ لأَنَّهُ قَدْ يُذْكَرُ لِلْكَرَامَةِ أَيْضًا* وَلَوْ قَالَ يَدُكِ أَوْ نِصْفُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَهُوَ ظِهَارٌ عَلَى الجَدِيدِ* وَكَذَا الإِيلاَءُ إِذَا أَضَافَهُ إِلَى بَعْضِهَا انْعَقَدَ* وَكُلُّ مَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ يُكَمِّلُ بَعْضَهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: صريح لفْظ الظِّهار: أنتِ عليَّ كظَهْر أُمِّي، وفي معناه سائر الصلات كقوله: أنتِ مَعِي أو عنْدِي أو مني أوْ لِي كَظَهْر أُمِّي، وكذا لو ترك الصلة، فقال: أنتِ ¬
كظَهْر أمِّي، وهذا كما أن قوله: أنتِ طالقٌ صريحٌ وإن لم يقل مني، وعن الداركي أنه إذا ترك الصلة، كان كنايةً، لاحتمال أن يُريد أنَّها محرمة على غيره حُرْمة ظهر أمّه عليه، بخلاف الطَّلاق، فإن (¬1) للإطْلاق، وهي في حبْسه دون حبس غيره، وهذا أرجح عنْد الشيخ أبي حاتم القَزْوِينِيِّ، والمشهور الأول ومهما أتى بصرائح لفْظ الظهار، ثم قال: أردتُّ غيره [لم يُقْبَل،] [كما لو أتى بصريح الطلاق وادعى غيره] وحكى القاضي ابن كج وجْهَاً، أنه يُقْبَل، وفرَّق بأن الظهار حقُّ الله تعالى، والطلاق حقُّ الآدميِّ، وقوله جملتك أو نفسك أو ذاتك أو جسمك أو بدنك عليَّ كظَهْر أمي، كقوله أنت علىَّ، وكذا قوله: أنتِ عليَّ كبدن أُمِّى، أو لجسمها أو جملتها أو ذاتها؛ لدخول الظَّهْر فيها (¬2)، ثم فيه مسألتان: إحداهما: إذا شبَّهها ببَعْض أجزاء الأم سِوَى الظَّهْر، نُظِرَ؛ إن كان ذلك فيما لا يُذْكَر في مَعْرِض الكرامة والإعزاز، كاليد والرجل والصدر والبطن والفرج والشَّعَر، ففيه قولان: الجديد، وأحَد قولَي القديم: أنه ظهار، وبه قال مالك وأحمد -رحمه الله-؛ لأنه يُشبه الزوجة ببَعْض أعضاءَ الأمِّ، فكان كالمُشبِّهِ بالظَّهْر. والثاني: المنع؛ لأنه ليس على صورة الظِّهار المعهودة في الجاهلية، ويُقَال: إنَّه مخرَّج من قول في القديم؛ أن التَّشْبيه بغير الأم من المحارم لَيْس بظهار؛ لعُدُوله عن الصورة المعهودة، وربما شبّه الخلاف بالخلاف في أن الإيلاء هل يختص باليمين باللهِ تعالى؟ فعَلَى الجديد: لا يخْتَصُّ؛ اتِّباعًا للمعنى، وعلى القديم: يختص اتِّباعًا للمعهود، ويجوز أن يُعْلَم قوله "فهو ظهار" بالحاء؛ لأن عنْد أبي حنيفة: إنْ شبَّهها بعضو يحْرُم النظر إلَيْه من الأم؛ كالفرج والفَخِد، كان ظهارًا، وإن كان مما لا يحْرُم النظر إليه؛ كالرأس والوجه واليد، لم يكن ظهارًا، وأن يُعْلَم قوله " [على] (¬3) الجديد" بالواو؛ لأن في "المهذَّب" طريقةً قاطعةً بأن ذلك ظهارٌ، وعن الشيخ أبي عليٍّ تخصيص هذه الطريقة بما إذا قال: كفَرْجِ أمِّي؛ لما فيه من التصريح بمقصود الكلام، والتشبيه بعضو آخر ليس كالتشبيه به، وحكى أبو الفرج الزاز مثْلَه، وقال: ما يصحُّ إضافة الطَّلاق إلَيْه، فيصح إضافة الظِّهار إليه والإيلاء، وإن كان مما يُذْكَر في معرض الإعزاز والإكرام، كما لو قال: أنت عليَّ كعَيْنِ أمِّي، فإن أراد الكرامة، لم يكن ظهارًا، وإن أراد الظِّهَار، فهُو ¬
ظِهارٌ إذا فرَّعنا على الجديد في الصَّدْر والبطن، وإن أطْلَق، فيحمل على الكرامة؛ لاحتمالها، أو يَكُون ظِهَارًا؛ لأن اللَّفْظ صريحٌ في التشبيه ببَعْض أجزاء الأمِّ، فيه وجْهَانِ، ويحكى الأول عن اختيار القفَّال، ونظم "التهذيب" يُشْعِر بترجيح الثاني، وهو اختيار القاضي الحُسَيْن، ولو قال: كرُوح أمِّي، فعلى ما نقله جماعة منهم صاحب "التهذيب" هو كما لو قال: كعَيْن أمِّي وعن ابن أبي هريرة أنَّه لا يكون ظهارًا، ولا تصْلُح هذه اللفظة كنايةٌ عنه؛ لأن الرّوح ليس مما يحله التحريم، وهذا الخلاف ينْطَبِق على خلاف قدمناه فيما إذا قال: رُوحُكِ طالقٌ، وبيَّنَّا هناك أن الأشْبَه وقوع الطلاق، والتشبيه برأْس الأم كهو باليد والرجل، أو كالتشبيه بالعين حتى يكون على التَّفْصيل، فيه وجهان جواب (¬1) العراقيين الأول (¬2): والأقرب أنَّه كالعَيْن؛ لأنه يذكر في معرض الكرامة أيضًا، وبه أجاب الشيخ أبو الفَرَج، ولو قال: أنتِ عليَّ كأميِّ أو مثل أمِّي، فإن أراد الكرامة، لم يكن ظِهَارًا، وان أراد الظِّهار، فهو ظهار، وان أطْلَق، فوجهان: أحدهما: أنَّه ظهارٌ كما لو قَالَ: كجملة أمي أو بدنها، وُيرْوَى هذا عن مالك وأحمد، رحمهما الله. والثاني: المَنْع، وبه قال أبو حنيفة، وهو جواب ابن الصبَّاغ وصاحب "التهذيب" وغيرهما، والوجهان قريبان مِنَ الوجهَيْن فيما إذا قَالَ: كعَيْن أمِّي وأطْلق أوهُمَا هما، ويشبه أن يُرجح في الصُّورتَيْن المَنْع، ويجوز أن يُعْلَم قوله "وإن قصد الظهار، [فظهارٌ] " للوجه المذكور في الرُّوح. المسألة الثانية: لو شبَّه بعْض زوجته بظَهْر الأم، كما إذا قال: رأْسُك أو يَدَك أو ظَهْرك أو فَرْجُك أو جِلْدك أو شَعْرك علىَّ كظَهْر أمي، كان مظاهرًا، أو كذا لو ذَكَر جزءًا شائعًا؛ كالنصف والثلث، ويجيء فيه القَوْل المنسوب إلى القَدِيم؛ للعدول عن معْهود الجاهلية، وتعود الطريقة القاطعة، فيجوز أن يُعْلَم لها قوْلُه "على الجديد" بالواو، وليعْلَم قوله "فهو ظهار" بالحاء؛ لأن عن أبي حنيفة إنَّه إن شَبَّه رأْسَها أو عنقها أو عُضْوًا يُعبَّر به عن جميع البَدَن يَظْهر الأم، فهُو ظهارٌ، وإن شبَّه بسائر الأعضاء فلا، نقله صاحب "التهذيب"، ولو شبَّه بعْض أجزاء الزَّوْجة ببَعْض أجزاء الأمِّ، فقال: رأسُك وظَهْرك عليَّ كيد أمي أو رِجْلها، صحَّ الظهار، وفيه الخلاف المنسوب إلى القديم، وأمَّا ¬
قوله "وكذا الإيلاء إذا أضافه إلى بعْضِها، انعقد" إلى آخره، فهذا ضَابْطٌ ذَكَره الأئمة، وقالوا: ما يَقْبَل التعليق منَ التصرفات، تَصِحُّ إضافته إلى بَعْض محل ذلك التصرف؛ كالطلاق والعتاق، وما لا يَقْبَل التعليق، لا يصِحُّ إضافته إلى بعض المحل؛ كالنكاح والرجْعَة والإيلاَء ممَّا يَقْبَل التعليق على ما مَرَّ، وقد أطْلَق في الكتاب أنَّه إذا أضافه إلى بعْض الزوجةَ، انْعَقَد، لكِن فيه تفصيلٌ، إن أضافه إلى عضو معيَّن؛ كاليد والرجل، لم ينعقد إلا أن يضيفه إلى الفَرْج، فيقول: لا أجامِعُ فَرْجَك، ولو قال: لا أجامع بعْضَكِ، لم يكن مُولِيًا إلا أن يريد بالبعض الفَرْجَ، ولو قال: لا أجامع نِصْفَك فعن الشيخ أبي عليٍّ: إطلاقُ القول بأنه لا يكون مُولِيًا، وقال الإِمام -رحمه الله-: إن كان المراد أنَّه ليس بصريح، فالأمر كذلك؛ لأن الجماع لَفْظ مستعارٌ جُعِلَ كناية عن أصْله المعلوم، فاستفاض وشَاع حتَّى التحق بالصريح، وشَرْطُ الالتحاق أن يُسْتعمل على الوجْه المعهود، والإضافة إلى الجزء الشائع غير معهودة، فأمَّا إذا نَوَى، ففيه احتمالٌ؛ لأن ترك الجِمَاع في النِّصْف منْ ضرورته التّرك في الكُلِّ، فصَار كما لو أضاف الطَّلاق إلى النِّصْف، يقع على الكل، ويجوز أن يقال (¬1): إضَافَةُ الطَّلاق إلى النِّصْف، كإضافة العِتْق والبيع والرَّهْن، أما الجماع، فهُو فِعْل محْسُوسٌ لا يُعْقَل وقوعه في الجُزْء الشائع، فلا يَصْلُح إضافَتُه إلَيْهُ والله أَعْلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الثَّالِثُ: المُشَبَّهُ بِهَا) وَهِيَ الأُمُّ وَيُقْتَصَرُ عَلَيْهَا في القَوْلِ القَدِيمِ* وَعَلَى قَوْلٍ آخَرَ لاَ يَلْحَقُ بِهَا إِلاَّ الجَدَّاتُ* وَعَلَى قَوْلٍ آخَرَ يَلْحَقُ بِهَا كُلُّ مُحَرَّمَةٍ عَلَى التَّأْبِيدِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ صِهْرٍ* وَعَلَى قَوْلٍ رَابعٍ لاَ يَلْحَقُ الصِّهْرُ وَلاَ مِنَ الرَّضَاعِ مَنْ عُهِدَتْ مُحَلَّلَةً* وَلاَ خِلاَفَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَي كَأجْنَبِيَّةٍ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا لأَنَّ التَّحْرِيمَ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ* وَكَذَلِكَ المُلاَعَنَةُ وَإِنْ تَأبَّدَ تَحْرِيمُهَا فَلَيْسَتْ كَالأُمِّ إذْ لاَ مَحْرَمِيِّة* أَمَّا قَوْلُهُ: أَنْتِ كَظَهْرِ أَبِي فَهُوَ لاَغٍ لأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلاًّ لِلاسْتِحْلاَلِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الأصْل المعهود في الظِّهار تشبيه الزوجة بظهر الأم، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ} [المجادلة: 2] الآية، ولو قال: أنتِ عليَّ كظهر جَدَّتي، فهو ظهار أيضًا؛ تستَوي فيه الجدة من قبل الأب والجدة من قبل الأم؛ لأن الجدات كلّهن أمهاتٌ ولدنه، ويشاركن الأم [في] (¬2) حصول العِتْق، وسقوط القصاص، ولزوم النفقة، ومن الأصحاب من جَعَل الجدَّات على الخلاف الذي يذْكره في ¬
البَنَات والأخَوَات، والأشهر القَطْع بالتحاقهن بالأم، وأمَّا سائر المَحَارِم، فقسمان: أحدهما: المحرَّمات بالنَّسَب كالبَنَات والأَخَوات والعَمَّات والخَالاَت وبَنَات الأَخِ والأُخْت، فإذا شَبَّه الزوجة بظَهْرِ واحدةٍ منهن، ففيه قولان: الجديد، واحد قولَي القديم: أنَّه ظهارٌ؛ لأنه شبَّهها بظهر امرأة لم تحل ولا تحل له بحال، فأشبه التشبيه بالأم. والآخر: المَنْعُ؛ للعدول عن المعهود. والقسم الثاني: المحرَّمات بالسبب، وهن ضربان: أحدهما: المحرمات بالرَّضَاع، وفي التشبيه بهنَّ قولان؛ تفريعًا على الجديد في المحرَّمات بالنسب، ويقال وجهان: أظهرهما: أنَّه ظهار؛ لأن حُرْمة الرضاع كحرمة النَّسَب؛ ولذلك نسوي بينهما في جواز الخَلْوة والمُسَافرة. والثاني: المَنْعُ؛ لأن الرَّضاع مكتسبٌ لا يساوي النَّسَب في القوة، ولذلك لا يَتعلَّق به النفقة والميراث والولاية، وفي محل القولَيْن طرُقٌ: أحدها: أن القولَيْن في التي لم تَزَلْ محرَّمة علَيْه بالرضاع كالمولودة بعد أن ارتضع أما التي كانَتْ تحلُّ له، ثُمَّ حُرِّمت بالرضاع، كالتي أرضعته، فصارَتْ أمًّا وكأمها وابنتها المولودة قَبْل أن ارتضع، فالتشبيه بها ليْس بظهار بلا خلاف، وبهذه الطريقة قال راويا المذهب الرَّبيعُ والمُزَنِيُّ وشيْخَا وابن سُرَيْج وأبو إسحاق، -رحمهما الله- كذلك حكاه الشيخ أبو عليٍّ وغيره. والثَّاني: أن القولَيْن في التي كانَتْ تحِلُّ، ثمَّ حُرِّمت بالرضاع، وأمَّا الَّتي لم تَزَل محرَّمةً علَيْه، فالتشبيه بظَهْرها كالتشبيه بظَهْر الأخت بلا خلاف، والفَرْق على الطريقتَيْن أنَّ التي لم تَزَلْ محرَّمة عليه تُشْبِه الأخْت والبنت، والتي كانت حلالاً ثم حُرِّمت تشبه الملاعنة والمطلقة ثلاثًا. والثالث: طرد القولَيْن في النوعين جميعًا، ويُحْكى هذا عن أبي الطيِّب بن سلمة. والضرب الثاني: المحرَّمات بالمُصَاهرة، وفي التشبيه بظَهْرهن طريقَان: أحدهما: القطْع بأنَّه ليْس بظهار، بخلاف المحرمَّات بالرضاع؛ لأن الرضَّاع أقْرب إلى النَّسَب منْ حيْث إنَّه يُؤَثِّر في إنْبَات اللَّحْم؛ ولذلك يَتعدَّى تحْريم الرضاع إلى الأمهات والأولاد، وفي المصاهرة لا يَتعدَّى التحريم في حليلة الأب والابن (¬1) إلى أهلهما وولدهما. ¬
وأظْهَرهما أن الحكْم كما في المحرَّمات بالرضاع لاستواء النوعين في المَحْرَمِيَّة والحرمة المؤبدة، وكون التشبيه بهنَّ مبتكرًا من القَوْل وزورًا، وعلى هذا فتعود الطُّرق في الفَرْق والتسوية بيْن التي لم تَزَل محرَّمة بالمصاهرة، كحليلة الأب التي نكحها الأبُ قبل ولادته وَرَبيبَتُهُ الحاصلةُ بعْد دخوله بأمها مثل أن نكح امرأةً، ودخَل بها، وطَلَّقها، فنَكَحَت غيرُهُ، وولدت منه بنتًا وبيْن التي كانَت حلالاً، ثم حُرِّمت بالمصاهرة، كحليلة الأب وأم الزوجة وربيبته الحاصلة قبْل دخوله بامها، والظاهر عنْد الأئمة في النوعَيْن، كيف رتبت الطرق أن التشبيه بالَّتي لم تَزَلْ محرمةٌ ظهارٌ، وبالتي كانَتْ حلالاً ثمَّ حُرِّمت، ليْس بظهار، ويخرج من الاختلافات المذكورة عنْد الاختصار أقوالٌ ووجوهٌ: أحدها: اقتصار الظَّهار على التشبيه بالأم. والثاني: إلحاق الجدَّات بها لا غير. والثالث: إلحاق محارم النَّسَب بها. والرابع: إلحاق مَحَارم الرِّضَاع أيضًا إذا لمْ يعْهَدْن محللات. والخامس: إلحاقهن من غير اعتبار هذا الشرط. السادس: إلحاق مَحَارم المصاهرة أيضًا بالشرط المذكور. السابع: إلحاقهن من غير اعتبار هذَا الشَّرْط المذكور في الكِتَاب، [منها] (¬1) الأول والثاني والسادس والسابع ويجوز أن يُعْلَم من هذه الأربعة المذكورة في الكتاب ما سوى الثالث بالميم والألف؛ لأن عند مالك وأحمد -رحمهما الله-: التشبيه بجميعهن ظِهارٌ، وأن يُعْلَم قوله "في القول القديم" بالواو، لقطع من قطع بإلحاق الجدات بالأم في الجديد والقديم جميعًا. ولو شبه زوجته بامرأة، لا تَحْرُم عليه على التأبيد، كالأجنبية والمطلَّقة والمعْتَدَّة والمجوسية والمرتدة وأخت المرأة، لم تَكنْ ظهارًا؛ لأنهن لا يُشْبِهْن الأمَّ ولا فرْق بيْن أن يطرأ بعد ذلك ما يُوجب التحريم المُؤبَّد، كما لو نكح بنت الأجنبية أو شبه امرأته بربيبة امرأة غير مدخول بها، ثم دخل بها، وبين إلاَّ يطرأ، ولو شبَّهها بملاعنته، فكذلك؛ لأن تحريمها، وإن كان مؤبَّدًا، لكنه ليس للمحرمية والوصلة، وكذا لو شبَّهها بزوجات النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ولو قال: أنتِ عليَّ كظَهْر ابْنِي أو أبِي أو غُلاَمي، فهو لَغْوٌ؛ لأن الرَّجُل ليس محَلَّ الاستمتاع، ولا في معرض الاستحلال. وقال أحمد في إحدى الروايتين: التشبيه بمحارم الرجال ظهارٌ. ¬
ولو قالت المرأة لزوجها: أنْتِ عليَّ كظَهْر أمي [أو أنا عليْكِ كظَهْر أُمِّك]، لم يلْزَم به شيْء، بل يختص الظهار بالرجال (¬1) كالطَّلاق، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَيَقْبَلُ الظِّهَارُ التَّعْلِيقَ* فَلَوْ قَالَ: إِذَا ظَاهَرْتُ مِنْ فُلاَنَةٍ الأَجْنَبِيَّة فأنْتِ عَلَيَّ كظَهْرِ أُمِّي صَحَّ* فَإذَا نَكَحَ الأَجْنَبِيَّةَ وَظَاهَرَ عَنْهَا حَنِثَ* وَإنْ قَالَ: ظَاهَرْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ فَهُوَ لَغْوٌ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إنْ بِعْتُ الخَمْرَ فَإنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تعليق الظِّهار صحيح، واحتج له بما رُوي أنَّ سلمة بْن صخر -رضي الله عنه- جَعَل امرأته على نَفْسه، كظهر أمِّه إنْ غشِيَها، حتى ينتصف رمضان، فذكَرَ ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فقال: "أعْتِقْ (¬2) رقَبَةً"، وأيضًا، فإن الظِّهار كان طَلاقًا في الجاهليَّة، وهو يشبه الطلاق من حيْث إنه لفْظ يتعلَّق بالتحريم واليمين من حيْث إنه يتعلَّق به الكفَّارة، وفي المُغَلَّب من الشبهين اختلافُ قَوْلٍ سيأتي، وكل واحد من الطلاق واليمين قابلٌ للتعْليق، فكذلك الظِّهار، فإذا قال: إن دخَلْتُ الدار، وإذا جاء رأس الشهر، فأنْتِ عليَّ كظهر أمي، فوجدت الصفة، صار مظاهرًا عَنْها، ولو قال: إنْ ظاهَرْتُ عنْ حفْصة، فعمرة عليّ كظَهْر أمي، وهما في نكاحه، ثم ظاهر عن حفصة، صار مظاهرًا عنهما جميعًا، أما عن عمرة، فموجب التعليق، وأما عن حفصة فتنجيزًا. ¬
ولو قال: إن ظاهَرْتُ عن إحداكما أو أيكما ظاهَرْت عنها، فالأُخْرَى عليَّ كظَهْر أُمِّي، ثمَّ ظاهر عن إحداهما، صار مُظَاهِرًا عن الأخْرَى أيضًا. ولو قال: إن ظاهَرْتُ عن فلانَة، فأنتِ عليَّ كظهر أمي، وفلانة أجنبية عنه، ثم خاطب: فلانة بلَفْظ الظهار، لم يصر مظاهرًا عن زوجته؛ لأن الظهار عن الأجنبية غيْر منعقدٍ إلا أن يريد التلَفُّظ بلفظ الظهار، فيصير بالتلفظ مظاهرًا عن زوجته، ولو نَكَح فلانة، ثم ظاهر منها، صار مظاهرًا عن زوجته الأولى بحُكْم التعليق، ولو قال: إنْ ظاهَرْتُ عن فلانة الأجنبية، فأنْتِ عليَّ كظهر أُمِّي، فتعرض لفظه لكونها أجنبيةً، فيُنْظَر؛ إن خاطبها بلَفْظ الظهار قبْل أن ينْكَحِها، فالحكمْ كما في الصورة السابقة، وإنْ نَكَحَها، فظَاهر عنْها، يَصِير مظاهرًا عن الزوجة الأوَلى، فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه إذا نَكَحَها، خَرجَت عن كوْنِها أجنبيةً. وأصحهما، وهو المذكور في الكتاب: نَعَمْ؛ لأن ظهارها معلَّق بظهار فلانة، وذكر الأجنبية في مثْل ذلك للتعريف دون الشرط، كما لو قال: لا أدخُل دار زَيْدٍ هذه، فباعها زيْد، ثم دخَلَها، يَحْنَث. والوجهان [كالوجهين] (¬1) فيما إذا قال: لا أكلِّم هذا الصبيِّ، فكلَّمه بعْدما صار شيْخاً، ونظائره، ولو قال: إن ظاهَرْتُ من فلانةٍ أجنبيةً أو وَهِيَ أجْنبيةٌ، فأنتِ عليَّ كظهر أمي، فسواء نكحها، وظاهَرَ عنْها أو خاطَبَها بلفظ الظهار قبْل أن ينْكِحَها، لا يصير مظاهرًا عن زوجته الَّتي علَّق ظهارها؛ لأنه شَرَط وقوع الظهار في حال كونها أجنبيَّةٌ وما دامت أجنبيةً، فلا ينعقد الظهار، إذا انعقد الظهار، لمْ تكُنْ هي أجنبيةً؛ فكان التعليق بشَيْءٍ مُحَالٍ، وهو كما إذا قال: إن بِعْتُ الخَمْرة، فأنتِ طالقٌ أو فأنْتِ عليَّ كظَهْر أمي فأتى بلفظ البَيْع، لا يقع الطلاق، ولا يَحْصل (¬2) الظهار؛ تنزيلاً لألفاظ العقود على الصحة؛ وعند المزنيِّ ينزل في مثْل ذلك على صُورة الظِّهَار والبيع، فيجوز أن يُعْلَم قوله "فهو لَغْو" بالزاي؛ لذلك، ويجوز أن يعلم بالواو أيضًا؛ لأن الإِمام ذَكَر من الأصحاب مَنْ نُسب لموافقته، وسيأتي ذلك في الأيمان -إن شاء الله تعالى- وأيضًا، فإنَّ في التعْلِيق بالمستحيلات (¬3) خلافًا، قد تقدَّم في "الطلاق". فرْعٌ: لو قال: إن دخَلْتِ الدار، فأنتِ عليَّ كظهر أمي، فدخَلَتْ، وهو مجنونٌ أو ناسٍ، فعن أبي الحُسَيْن بن القطَّان: أن في حصُول العَوْد ولزوم الكفَّارة قولين. قال القاضي ابن كج: وعنْدي أنَّها تلزم بلا خلاف، كما لو علَّق طلاقها ¬
بالدخول، فدخلت، وهو مجنونٌ، وإنما يؤثر الإكراه والنسيان في فِعْل المَعْلوف على فِعْله، وهذا هو الوجه (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كَظَهْرِ أُمِّي وَأَرَادَ التَّأْكِيدَ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا* وَإنْ أَرَادَ الظِّهَارَ بِآخِرِ كَلاَمِهِ نَفَذَ إنْ كَانَ رَجْعِيًّا* وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ حَرَامٌ عَلَى كَظَهْرِ أُمِّي وَأَرَادَ مُجَرَّدَ الطَّلاَقِ أَوْ مُجَرَّدَ الظِّهَارِ كَانَ كَمَا نَوَى* وَلَوْ نَوَاهُمَا جَمِيعًا فَلاَ سَبِيلَ إِلَى الجَمْعِ فيُغَلّبُ الطَّلاَقُ لِقُوَّتِهِ عَلَى وَجْهٍ* وَيُغَلَّبُ الظِّهَارُ؛ لأنَّ لَفْظَهُ صَرِيحٌ عَلَى وَجْهٍ* ويُخَيَّرُ بَيَنَهُمَا يَخْتَارَ أَحَدَهُمَا عَلَى وَجْهٍ* وَلَوْ قَالَ أَرَدتُّ الطَّلاَقَ بالحَرَامِ والظِّهَارِ بآخِرِ الكَلاَمِ كَانَ كَمَا نَوَى* وَلَوْ عَكَسَ ذَلِكَ لَمْ يَحْصُلِ الطَّلاَقُ بِلَفْظِ الظِّهَارِ لأَنَّهُ صَرِيحٌ* وَيَحْصُلُ الظِّهَارُ* وَلَوْ قَالَ: لَمْ أَقْصِدْ إِلاَّ تَحْرِيمَ عَيْنهَا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ وَيلْزَمُهُ كَفَّارَةُ اليَمِينِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد مرَّ أنَّ كل واحِدٍ من لفْظَي الطَّلاق والظهار لا يَجُوز أن يُجْعل كنايةً عن الآخر، وأنَّ قوْل الزوج لزوْجته: أنت علي حرام، يصْلُح كنايةً عن الطَّلاق والظهار جميعًا، والفصْل يشتمل على مسألتين يتعلَّقان بهذَيْن الأصلَيْنِ: الأولى: إذ قال لامرأته: أنتِ طالقٌ كظهر أُمِّي، فله أحوال: إحداها: أن لا ينوي شيئًا فيقع الطَّلاق؛ لإتيانه بلفظه الصريح، ولا يصح الظهار؛ لأن قوله "كظهر أمي" لا استقلال له، وقوإنقطع عن قوله "أنت" بالفاصل الحاصل بينهما، فخرج عن الصَّراحة، ولم يقصد به الظهار. الثانية: إذا قصد بمجْمُوع كلامه الطَّلاق وحْده، وجعل قوله "كظهر أمي" تأكيدًا لتحريم الطَّلاق، وقع الطَّلاق ولا ظِهَار. الثالثة: إذا قَصَد بالجميع الظِّهَار حَصَل (¬2) الطَّلاق دون الظهار؛ [أما حصول الطَّلاق فللفظ الصريح، وأما عدم حصول الظهار] فلأن لفْظ الطَّلاق لا ينْصَرف إلى الظهار، والثاني: ليس بصريح كما بيَّناه، وهو لم ينْو به الظهار، وإنما نواه بالجميع، وعن أبي عليٍّ الطبَريِّ وأبي الحُسَيْن فيما رواه القاضي ابن كج أنَّه يلزمه الظهار أيضًا بإقراره. والرابعة: إذا قصد الطَّلاق والظهار جميعًا، نُظِرَ؛ إن قَصَدَهما بمجموع كلاَمه، حصل الطَّلاق دون الظِّهَار؛ لما تبيَّن، وإن قصد الطَّلاق بقَوْله: أنْتِ طالقٌ، والظهار بقوله: كظَهْر أمي، فإن كانت تَبِين بالطَّلاق، لم يصحَّ الظهار وإن كانَتْ رجعيَّةً، يصح ¬
الظِّهار مع وُقوع الطَّلاق، وفيه وجْه حكاه أبو الفَرَج السرخسي عن القَفَّال أنه لا يصحُّ الظِّهار؛ لأنا إذا استعملْنا قوله: أنتِ طالقٌ في إيقاع الطَّلاق، لم يَبْق إلا قوله: كظهر أُمِّي، وأنه لا يصحُّ كنايةً؛ إذ لا خطاب فيه، والظاهرالأول، ومَنْ نَصَره قال: كلمة الخطَاب السابقة تعود في الظِّهار، إذا نَوَى، ويصير كأنه قال: أنتِ طالقٌ، أنتِ كظَهْر أُمِّي، والوجْه المنقول عن الطَّبَري وأبي الحُسَيْن عائدٌ هاهنا لإقراره بالظهار، حيْث قال: أردتُّ الطَّلاق والظهار، ولو عَكَس؛ وقال: أردتُّ بقولي: أنْتِ طالقٌ الظِّهارَ، وبقوله: كظهر أمي الطَّلاق، وقع الطَّلاق بقوله: أنتِ طالقٌ، ولا يصح الظِّهار؛ لِمَا ذَكَرْنا أن قوله: كظهر أمي خَرَج عن الصراحة، ولم يُقْصَد به الظِّهار، ويمكن أن يقال: إذا خَرَج عن كونه صَرِيحًا في الظِّهار، وقد نوى به (¬1) الطَّلاق، يَقَع به طلقة أُخْرَى، إن كانت الأولى رجعيَّةً، ولو قال: أنت [علي] (¬2) كظَهْر أمي طَالِقٌ. قال القاضي ابن كج: إن أراد الظِّهار والطلاق، حَصَلاَ، ولا يكون عائدًا؛ لتعقيبه الظِّهار بالطلاق، فإن راجَعَ، كان عائدًا، وإن لم يرد شيئًا، صحَّ الظِّهار، وفي وقوع الطَّلاق وجْهَان؛ لأنه ليس في لفْظ الطَّلاق مخاطبةٌ. المسألة الثانية: إذا قال: أنتِ عليَّ حرامٌ كظَهْر أُمِّي، فله أحوال: إحداها: أن يريد بكلامه مجرَّد الطَّلاق، ففي بعْض نسخ المختصر: أنه يكون ظهارًا، وفي أكثرها أنه يكون طلاقًا، وكذلك نقل الرَّبيع والبُوَيْطِيُّ والأصحاب طريقان: أظهرهما: أن المسألة على قولَيْن: أحدهما، وبه قال أبو حنيفة: أن يكون ظهارًا؛ لأن لفْظ الحرام صالحٌ للظهار، وقد اقترن به لفْظ الظِّهار ونية الطَّلاق، واللفظ الظاهر أقْوَى من النية الخفية. وأصحهما: أنه طلاقٌ؛ لأن قوله: أنْتِ عليَّ حرامٌ، مع نيَّة الطَّلاق بمنزلة صريح الطَّلاق، ولو قال: أنْتِ طالقٌ كظهر أمِّي، كان طلاقًا، فكذلك الكناية مع النيَّة. الثاني: القطع بكونه طلاقًا والامتناع من إثبات قولِ آخَر حكاه أبو الفرج السرخسي، وفي كتاب القاضي ابن كج طريقةٌ قاطعةٌ بحصول الظِّهار رادَّةٌ للخلاف إلى أنَّه هل يَقَع الطَّلاق معَ الظِّهَار؟ والثانية: أن يريد به الظَّهار، فهو ظهار؛ لأن قوله: أنْتِ عليَّ حرامٌ، ظهارٌ إن أراد به الظِّهار فإذا (¬3) أراده وانضم إلَيْه اللفظ كان أوْلَى. ¬
وقوله في الكتاب "وأراد مجرَّد الطَّلاق أو مجرد الظِّهار كان كما نوى" مُعْلَم بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة -رحمه الله- إذا نوى به الطَّلاق، لمْ يَكُن كما نوى، وبالواو؛ للقول الموافق له. وأيضًا فقد حكَيْنا في قوله "أنْتِ عليَّ حرامٌ" وجهًا أنه لا يصلُح كناية عن الطَّلاق، إذا فرَّعنا على أنَّه صريحٌ في التزام الكفارة، وذلك الوجْه عائد هاهنا، وقضية ذلك الوجْه أن لا يُجْعَل كنايةً عن الظِّهار أيضًا، والله أعلم. الثالثة: إذا نوى الطَّلاق والظهار جميعًا، فيُنْظر؛ إن أرادهما بمجموع الكلام أو بقوله "أنتِ عليَّ حرامٌ" لم يثبتا جميعًا؛ لاختلاف توجيههما، وفيما يثبت ثلاثة أوجه: أحدها، وبه قال ابن الحدَّاد قال الشيخ أبو علي، ووافقه الجمهور: أنه يُخيَّر؛ فما اختاره ثَبَت، والثاني: أنه يقع الطَّلاق؛ لأنه لا سبيل إلى إبطالهما جميعًا، كما لا سبيل إلى إثباتهما جميعًا، فيثبت ما هو أقوى، وهو الطَّلاق، والثالث: أنه يَثْبُت الظِّهار؛ لأن قوله: أنت عليَّ حرامٌ، يحتملها جميعًا، فهذا نواهما تعارضَا وتَسَاقَطَا وقوله بعد ذلك "كظهر أمي" لا صريحُ لفْظ الظِّهار، فثَبَت. وإن أراد بقوله: أنتِ عليّ حرام، الطلاَق، وبقوله: كظهر أُمِّي الظِّهار، وقع الطَّلاق، ويصح الظِّهار أيضًا إن كان الطَّلاق رجعيًّا، وإن كان بائنًا، لم يصِحَّ، ولفظ الحرام مع نيَّة الطَّلاق كقوله: أنتِ (¬1) طالقٌ كظَهْر أمي، والوجه المذكور هناك -أن الظِّهار لا يَحْصُل؛ لأن قوله: كظهر أمي، غيْر مفيد وحْده- عائدٌ هاهنا، ولو عَكَس فقال: أردتُّ بقولي: أنْتِ عليَّ حرامٌ، الظِّهَارَ، وبقوله: كظهر أمي، الطَّلاق، صحَّ الظِّهار، ولم يقع الطَّلاق؛ لأن لفْظ الظِّهار صريحٌ في معناه، لا يُجْعل كنايةً عن الطَّلاق، وعن الشيخ أبي محمَّد وغيره: أنه يقع الطَّلاق؛ لأن قوله: كظهر أمي، لعدم الاستقلال قَدْ خَرَج عن كونه صريحًا في الظِّهار، كما تقدَّم، فأمكن (¬2) أن يُجْعل كنايةً عن الطَّلاق، وليُعْلَمْ؛ لما حكينا قوْله في الكتاب "لم يحصل الطَّلاق" بالواو، وكذا قوله "كان كما نوى" فيما إذا قال: أردتُّ بالحرام الطَّلاق، وبآخر الكلام الظِّهار؛ لأن على الوجه الذاهب إلى أنَّه لا يَصِحُّ الظِّهار، لا يكون الأمْرُ كما نَوَى، ثم قوله "كان كما نوى" محمول على ما إذا كان الطَّلاق رجعيًّا غَيْر مُجْرى على إطلاقه، وفي "تعليق" الشيخ أبي حامد -رحمه الله- وغيره؛ أنه إذا نوى الطَّلاق والظهار جميعًا، فيبنى على ما إذا نوى الطَّلاق وحْده، إن قلْنا: إنه يكون ظهارًا، فكذلك هاهنا، وإن قلنا: إنَّه يكون طلاقًا هناك، فهاهنا يكُون مطلّقًا مظاهرًا، وذكر في "المهذب" مثل ذلك، إن كان الطَّلاق بائنًا، فإن كان رجعيًّا، قال: يكون مطلِّقًا ومظاهرًا، فإن كان ما ذكروه شاملاً لما ¬
إذا نواهما بجُمْلة الكلام، أو بقوله: أنْتِ عليَّ حرامٌ، أحوج إلى إعلام قوله في الكتاب "فلا سبيل إلى الجمع" بالواو، وهذا قضيَّة إطلاقهم، وان أرادوا ما إذا نوى بالحرام الطلاق، وبآخر الكلام الظهار، كان قوله "كما نوى" معلمًا بالواو، لشيء آخَر، وهو قول من قال: إنه يكون ظهارًا لا طلاقًا. الرابعة: إذا قال: أردتُّ بقولي: أنْتِ عليَّ حرامٌ، تحريمَ ذاتها الذي موجبُهُ الكفَّارة، ففيه وجْهان: أظهرهما: أنه يُقبل؛ لموافقته لفْظ الحرام. والثاني: لا يقبل، ويكون مظاهرًا؛ لأنه وصف التحريم بما يوجب الكفارة العُظْمَى؛ فلا يُقْبل في الرد إلى الصغرى، وإذا قلنا بالأول، فإن لم ينو بقوله: كظهر أمي، الظهار، لم يلزمْه شيْء سوى كفَّارة اليمين، وكان قوله: كظهر أمي، تأْكيدًا لتحريم الذات، وإن نوى به الظِّهار، لزمته الكفَّارة، وكان مظاهرًا، وقوله في الكتاب "لم تحرم عليه" غير محتاج إلَيْه في هذا الموضع، وقد سَبَق ذلك في كتاب الطلاق، وقوله "ويلزمه كفارة اليمين" معلم بالواو؛ للوجه الذاهب إلى أنّه مظاهرٌ، وهذا التفسير غير مقبول. الخامسة، وهِيَ غيْر مذكورة في الكتاب: إذا أطْلَق اللفظ، ولم ينو شيئًا أصْلاً، فلا طَّلاق؛ لأنه لا يوجَدْ صريح لفظه ولا نيته، وفي الظهار وجْهَان: أظهرهما، ويُحْكى عن نصه في "الأم": أنه يثْبُت؛ لأن لفظ الحرام يكون ظهارًا بانضمام نية الظهار إلَيْه، فَلأَنْ يكونَ ظهارًا بانضمام لفظه إلَيْه كان أولى، فإن اللفْظ فوق النيَّة. والثاني، وهو المذكور الذي أورده الشيخ أبو عليٍّ: أنه لا يثبت، بناء على أن قوله: أنتِ عليَّ حرامٌ، صريح في التزام الكفارة، فيكون قوله: أنت علي حرام [كظهر أمي، هذا كقوله: أنت طالق أمي من غير نية، وقد] (¬1) ذكرنا في هذه الصورة أنَّه يقع الطَّلاق، ولا يحْصُل الظهار؛ كذلك هاهنا، تجِبُ الكفارة ولا يحصل الظهار، ومن نصر الأول قال: إنما يكُون قوْله: أنْتِ عليَّ حرام، صريحًا في الكفارة، إذا تجرَّد، فأما مع قوله "أمي" فهو تأكيد لمقصود الظهار. والله أعلم. فرْعٌ: لو قال: أنْت [عليَّ] (¬2) كظهر أمي حرامٌ، كان مظاهرًا؛ لصريح لفظه، ثم قال في "التتمة": إن لم يَنْو بقوله "احرام" شيئًا، كان تأكيدًا للظهار، وإن نوى تحريم عينها، فكذلك، ومقتضى التَّحْريم، وهو الكفارة الصُّغْرى، يدخل في مقتضى الظهار، وهو الكفارة العظْمَى، وإن نوى بالحرام الطلاق، فقد عقَّب الظهار بالطلاق، فلا عود ¬
الباب الثاني في حكم الظهار
آخر في "اللطيف" لأبي الحُسَيْن بن خيران: أنه لو قال: أنْتِ مثْل أمِّي، ونوى الطلاق، كان طلاقًا بخلاف قوله: أنت عليَّ كظَهْر أمي؛ وهذا لِمَا مرَّ أن قوله "مثل أمي" ليس صريحًا في الظهار، وعلى هذا قياسُ قوله "كعين أمي وروحها" (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: (البَابُ الثانِي في حُكمِ الظِّهَارِ): وَلَهُ حُكْمَانِ: (أَحَدُهُمَا): أنَّهُ يُحَرَّمُ الجِمَاعُ عِنْدَ العَوْدِ تَحْرِيمًا مَمْدُودًا إِلَى التَّكُفِيرِ سَوَاءٌ كَانَتِ الكَفَّارَةُ بِالإِطْعَامِ (ح) أَوْ بِغَيْرِهِ* وَهَلْ يَحرُمُ اللَّمْسُ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ: (أَحَدُهُمَا): نَعَمْ كَمَا تَحْرُمُ الرَّجْعِيَّةُ وَالمُحَرَّمَةُ وَالمُعتَدَّةُ مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ وَالمُسْتَبْرَأَةُ بِمِلْكِ اليَمِينِ (وَالثَّانِي): لاَ كَمَا لاَ تَحْرُمُ الحَائضُ والصَّائِمَةُ* وَعَلَى هَذَا هَلْ يَحْرُمُ الاسْتِمْتَاعُ بِمَا تَحْتَ السُّرةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ كَمَا في الحَائِضِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من حكم الظهار الصحيح تحْريم الوطء، إذا وجبَ الكفَّارة إلى أن يُكَفِّر، فلو وَطِئَ قبْل التكفير، ويحرم عليه العود ثانيًا إلى أن يُكَفِّر، قال الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] ثم قال: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] وكذلك الحُكْم لو كان يكفر بالإطعام، لا يجوز له أن يطأَها، حتَّى يُطْعِم، وإن لَمْ تتعرَّض الآية في الإطعام للتَّمَاسِّ، بل قال: فإطعام ستين مسكيناً؛ حمْلاً للمُطْلَق على المُقَيَّد عنْد اتِّحَاد الواقعة، وروي عن أبي حنيفة أنَّه إذا كان يُكَفِّر بالإطعام، فلا يحرم الوطء قبْله، ومن الأصحاب من يَنْسُب هذا المَذْهَب إلى مالك، وقد يحتج للتحريم قبْل التكفير، وللتسوية بين الإطعام وغيره بما رُوِيَ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرَجُلٍ ظَاهَرَ من امْرَأَته وواقعها: "لاَ تَقْرَبْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ" وُيرْوى اعْتَزلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ (¬2)، وهل ¬
تحرم القبلة واللمس بالشهوة وسائر الاستمتاعات؟ فيه قولان، ويُقَال وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنها تدْعو إلى الوطء، وتفضي إليه؟ ولأن لفْظ الظِّهار لفْظٌ يوجب تحريم الوطء، فيحرم سائر الاستمتاعات، كالطلاق، وأيْضًا فقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] يشْمَل الوطء والاستمتاعات، وبهذا القول قال أبو حنيفة ومالك. والثاني: المنع لأن الظِّهار معنى لا يخل بالملك، فأشبه الصوم والحيض، ولأنه وطء حرام، لا يتعلق به مال ولا تشاركه في التحريم مقدماته؛ كوطء الحائض. والقصْد بقولنا "لا يتعلَّق به مال" الاحْترازُ عن وطء المحرم وقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] محمولٌ على الوطء كقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] وعن أحمد روايتان كالقولين وما الأظهر من الخلاف؟، قال ابْن الصَّبَّاغ والإمام وصاحب "التتمة" إلى ترجيح التحريم. والأكثرون رجَّحوا القول الآخر؛ يؤيِّده أن التحريم منسوبٌ إلى القديم، ومقابل إلى الجديد، وحكى القاضي ابن كج طريقةً [أخرى] (¬1) قاطعةً بعدم التحريم، ثم عد الإِمام هاهنا الصُّور التي يحرم فيها القُبْلة وسائر الاستمتاعات مع الوطء، والصور الَّتي يختص فيها التحريم بالوطء، فقال: ما يحرم الوطء، لتأثيره في الملك، كالطلاق الرجعي وغير الرجعي والردة.، فإنه يحرم كل استمتاع، وكذا لو حَلَّت الأَمَّةُ للغير كالأمة المزوَّجة أو حرم الوطء لاستبراء الرَّحِم عن الغير، كالمعتدة عن وطء الشبهة في صلْبِ النكاح، يحرم الاستمتاع، وكذا المستبرأة بِمِلْك اليمين بشراء ونحوه؛ لأنَّها لو كانَتْ مستولدة الغَيْر، كانت محرَّمة من كل وجه. وما يحرم الوطء بسبب الأذى، فإنه لا يحرم كلُّ استمتاع. وأمَّا العِبَادَات المحرَّمة للوطء؛ فالإحرامُ (¬2) يُحَرِّم كل استمتاع تعبُّدًا (¬3)، والصَّوْم والاعتكاف يحَرِّمانْ كلَّ ما يُخْشَى منْه الإنزال؛ لتأثرهما بالإنزال، فإذا قلْنا في الظهار: لا تحرم القبلة واللمس، ففيما بين السُّرَّة والركبة احتمالان: أقواهما: أنَّه على الخلاف في حقِّ الحائض، والثاني: أنه كسائر الاستمتاعات، والاحتمالان مبنيَّان على أن التحريم في ¬
حقِّ الحائض لأنه يحوم حول الحمى أو لأنه لا يُؤْمَن انتشار الأذَى إلى ذلك المَوْضِع. وقوله في الكتاب "سواء كانت الكفارة بالاطعام أو بغيره" قَصَد به التعرُّض للمذهب المذكور وقوله "فيه قولان" يجوز إعْلاَمُه بالواو؛ للطريقة القاطعة، وقوله: "والمعتدة مِنْ وطُءِ الشبهة" عدها في اللواتي يَحْرُم الاستمتاع بهن مع الوطء، اتباعًا لما حَكَيْناه عن الإِمام، لكن يجُوز إعْلامه بالواو، ففي "التهذيب" حكايةُ وَجْهَيْن في جواز الاستمتاع بها، ذكرهما في "باب الاستبراء". وقوله "والمستبرأة بمِلْك اليمين" المراد ما سوى المسببة ففي المسببة خلافٌ مذكورٌ في "الاستبراء". وقوله "وعلى هذا هل يحرم الاستمتاع .... " إلى آخره، جواب على إلحاقها بالحائض في مجيء ذلك الخلاف، وبجوز إعلام قوله "فيه خلاف" بالواو؛ للاحتمال الآخر، ويشبه أن يجيْء في الاستمتاع بالجارية المرهونة (¬1) خلافٌ والله أعْلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِي) وُجُوبُ الكَفَّارَةِ بِالعَوْدِ وَالعَوْدُ هُوَ إِمْسَاكُهَا عَقِيبَ الظِّهَارِ وَلَوْ لَحْظَةً وَذَلِكَ بِأَنْ لاَ يَنْقَطِعَ نِكَاحُهَا* فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ جُنَّ الزَّوْجُ أَوْ قَطَعَ بِطَلاَقٍ بَائِنٍ أَوْ رَجْعِيِّ مِنْ غَيْرِ رَجْعَةٍ أَوْ بِشِرَائِهَا (و) وَهِيَ رَقِيقَةٌ أَوْ بِاللِّعَانِ عَنْهَا عَقِيبَةُ أَوْ بِالبِدَارِ إِلَى فِعْلٍ كَانَ قَدْ عَلَّقَ عَلَيْهِ الطَّلاَقَ مِنْ قَبْلُ فَلَيْسَ بِعَائِدٍ وَلاَ كَفَّارَةَ* وَالاشْتِغَالُ بِأسْبَابِ الشِّرَاءِ أَوْ رَفْعِ الأَمْرِ إِلَى القَاضِي فِي اللِّعَانِ هَلْ يَرْفَعُ العَوْدَ؟ فيهِ خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الكفَّارة الواجبةُ في الظِّهَار تتعلَّق بالعَوْد (¬2)؛ قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ ¬
يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 2] والعَوْد هو أن يُمْسكها في النكاح بقَدْر ما يمكنه مفارقتها فيه، واحتج له بأنَّ العَوْد للقَوْل عبارة عن مخالفته، فيقال قال فلانٌ قولاً، ثم عاد فيه، وعادله، أي خالفه ونَقَضه، وهو
قريبٌ من قولهم: عاد في هبته، ومقصود الظِّهار ومعناه وصْف المرأة بالتحريم، فكان (¬1) بالإمساك عائدًا. وقال مالك وأحمد -رحمهما الله-: العَوْد هو العَزْم على الوطء، وهو رواية عن أبي حنيفة، ويُرْوَى عن مالك أن العَوْد هو الوطء، فليُعْلَم قوله في الكتاب "والعود هو إمساكها عقيب الظِّهار" بعلاماتهم وبالواو أيضًا؛ لأن الشيخ أبا حاتم القزوينيَّ حكى عن القديم قولاً أن العَوْد هو العزم على الوطء، ونقل الأمام وغيْره عن القديم أن العَوْد هو الوطء. واعلم قوله "وجوب الكفارة" بالحاء؛ لأن المشهور عن أبي حنيفة أنَّ الكفَّارة لا تجب على المُظَاهر، وإنما هي شَرْط حل الوطء، فيكفر إن أراد الاستباحة. وقوله "بالعود" يقتضي كون العَوْد سبب الكفارة، واختلف عبارات الأصحاب [فيه] (¬2) بعد الاتفاق على أن العَوْد إنما يَجِب إذا ظاهَرَ، وعاد، فمِنْهم مَنْ قال: سبب الكفارة يتركَّب من العَوْد والظهار، ومنهم منْ يضيفها إلى العَوْد؛ لأنه الخبر الأخير، ومنهم مَنْ يقول: تجِب الكفَّارة بالظهار، والعود شرط له، إذا تقرر ذلك، فلَوْ مَات أحد الزوجين عقيب الظِّهار، فلا عَوْد لفوات الإمساك على النكاح، وكذا لو فَسَخ أحدهما النكاح بسبب يقتضيه أو جُنَّ الزوج؛ لأنه تعذَّر عليه الفراق، ولو قطع النكاح بطلقة بائنة أو رجعية، ولم يراجع، لم يكن عائدًا ولم تلزمه الكفَّارة. ثم في الفصْل صوَرٌ: إحداها: لو كانت الزوجَة رقيقةً فظاهر منها، ثم اشتراها مِنْ مالكها على الاتصال، ففيه وجهان: أظهرهما، وبه قال أبو إسحاق وابن أبي هريرة، وهو المذكور في الكتاب: أنه لا يكون عائدًا؛ لأنه قَطَع النكاح بالشراء، فأشبه ما لو طلَّق. والثاني: [أنه] (¬3) عائد؛ لأنه لم يحقِّق التحريم، وإنما نقَلَها من حِلٍّ إلى حِلٍّ، وذلك إمْساك لها، وإذا قلنا بالأول، فالاشتغال بأسباب الشراء كالمساومة وتقدير الثمن، هل يمنع العَوْد؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأخذه في المفارقة وتحقيق الوصْف بالتحريم. والثاني: لا؛ لأنه مُمْسِك إلى أن في يشتري، قادِرٌ على المفارقة، بالأول أجاب صاحب "التهذيب" والأشبه ¬
الثاني، ورجَّحه أبو سعد المتولي وغيره، وهو الحكاية عن ابن الحدَّاد، قال الإِمام: وهذا الخلاف فيما إذا كان الشراء متيسرًا، أما إذا كان متعذِّرًا، فالاشتغال بتسهيله لا ينافي العَوْد عندي. الثانية: لو لاعن عنْها عقيب الظِّهار، فقد نص -رضي الله عنه- أنه لا يكون عائدًا، واختلفوا في صورة النَّصِّ على ثلاثة أوجهٍ: أحدها، وبه قال ابن الحدَّاد: أن المراد ما إذا سَبَق القذف والمرافعة إلى الحاكم، أو أتى بما قبل الخامسة من كلمات اللِّعَان، ثم ظاهَرَ عنها، وعقَّبها بالكلمة الخامسة؛ لأنَّه، والحالة هذه، فارَقَها بكلمة واحدة، فكان كما لو طلَّقها أو اشتراها، وهي رقيقة. فأمَّا إذا قذف بعْد الظِّهار أو قَذَف قبْله، وقَعَت المرافعة [و] الإتيان بالكلمات بعده، فيكون عائدًا؛ لأنه أمكنه أن يفارقها بكلمة واحدة، فهذا طول مع إمكان الفراق كان عائدًا. وأظهرهما، وبه قال أبو إسحاق وابن أبي هريرة وابن الوكيل؛ إن سَبَق القَذْفَ شرْطٌ، ولكن لا يشترط تقدم شيْء من كلمات اللعان بل إذا وصَلَها بالظهار، لم يكن عائدًا؛ لأن الكلمات بمجموعها موقعة للفرقة، وإذا اشتغل بما يوجب الفراق، لم يفترق (¬1) الحال بين أن يطول أو يقصر؛ ألا ترى أن قوله: أنتِ طالقٌ ثلاثًا أو يا فلانةُ بنْتَ فلانٍ، أنتِ طالقٌ، بمثابة قوله: طلَّقْتُك، وإن كانت هذه الطريقة أقصر، ويفارق القذْف، فإنه ليس موجبًا للفرق، وشَرَط الإِمام وصاحب "التهذيب" -رحمهما الله- على هذا الوجْه سَبْق المرافقة إلى الحاكم أيضًا. والثالث، وبه قال ابن سلمة، وحكاه المزني في "الجامع الكبير": أنه لا يُشْترط سَبْق القذف أيضًا (¬2)، فلو ظاهر وقذف على الاتصال، واشتغل بالمرافقة وتعهد أسباب اللعان، لم يكن عائدًا، وإن بقي أيامًا فيه؛ لأن القذف لا بُدَّ منه، إذا كان يريد الفراق باللعان، فكان الاشتغال به شروعًا في أسْباب الفرقة، وشبه ذلك بما إذا قال عقيب الظِّهار: أنتِ طالقٌ عَلَى ألْفِ درْهَمٍ، فلم تُقْبَل، فقال [عقيبةُ] (¬3): أنت طالق بلا عوض ¬
لا يكون عائدًا؛ لأنه كان مشغولاً بسبب الفراق، وقوله في الكتاب "أو باللعان عنها عقيبه" يُشْعر ظاهره بأنَّه لا بأس بتَأَخُّر جميع كلمات اللِّعَان، فإن اللعان يقع على جميعها، وهو الوجْه الأظهر، ويجوز أن يُعْلم بالواو؛ للوجه الصائر إلى أنَّه لا يجوز أن تتأَخَّر جميع الكلمات، وقولها "أو رَفْع الأَمْرِ إِلَى القَاضِي" إلى آخره إشارةٌ إلى الخلاف في أن المرافعة إلى القاضي، هَلْ يشترط تقدُّمها؟ ومن شَرَط تقدُّم المرافعة، فيشترط تقدُّم القذف لا محالة، ومَنْ لم يشترط تقدُّم المرافعة، جوز آخرًا تأخير القذْف أيضًا. فرْعٌ: لو قال: أنتِ عليَّ كظهر أمي، يا زانية، أنْتِ طالقٌ، ففيه وجهان: قال ابن الحدَّاد: هو عائدٌ؛ لأنه مُمْسِك لها حالَة القذف، وكان قادرًا على أن يُطلَّقها بدَلاً عنه. قال الشيخ أبو عليٍّ: هذا صحيحٌ، إن لم يُلاَعِن بعْده، وكذا إن لاَعَن جوابًا على أنَّه يُشْتَرط سبْق القذف، فاما إذا لم يَشْترط، فلا يكون عائدًا؛ لأن الاشتغال بالقَذْف، ثم بالمرافعة واللعان اشتغالٌ بأسباب الفراق. والوجْه الثاني: أنه لا يكون عائدًا، ويكون قوله "يا زانية، أنتِ طالقٌ" كقوله "يا زينبُ، أنتِ طالقٌ" في منْع العود، وتردَّد الإِمام في أن ابن الحدَّاد هل تَسْلَم [له] (¬1) هذه الصُّورة (¬2) الثالثة. لو علَّق طلاقها عقيب الظِّهار بصفة، كان عائدًا؛ لأنه أخَّر الطلاق مَعَ إمْكان التعجيل، فكان ممسكًا لها إلى أن توجَدَ الصِّفَة، ولو كان قدْ علَّق الطلاق بدخوله الدار، ثم ظاهر، وبادر عقب الظِّهار إلى الدخول، لم يكُنْ عائدًا لتحقيقه الفراق. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ طَلَّقَ طَلاَقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ رَاجَعَ فَعَيْنُ الرَّجْعَةِ عَوْدٌ* وَلَوْ ارْتَدَّ فَعَيْنُ الإِسْلاَمُ لَيْسَ بِعَوْدِ* وَكَذَلِكَ لَوْ أَبَانَهَا ثُمَّ جَدَّد النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ عَائِدًا وَإِنْ قُلْنَا بعَوْدِ الحِنْثِ مَهْمَا طَلَّقَ عَقِيب النِّكَاحِ وَالإِسْلاَمِ* وَفِيهِمَا وَجْهٌ أنَّهُ كَالرَّجْعَةِ* وَلَوْ عَلَّقَ الظِّهَارَ بِفِعْلِ غَيْرِهِ فَفَعَلَ وَلَمْ يَعْرِفْ لاَ يَصِيرُ عَائِدًا حَتَّى يَعْرِفَ وَلاَ يُطَلِّق عَقِيبَهُ* وَإِنْ عَلَّقَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ فَفَعَلَ وَلَمْ يُطَلَّقْ كَانَ عَائِدًا وَإنْ كَانَ قَدْ نَسِيَ الظِّهَارِ؛ لأَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ فِي نِسْيَانِ الظِّهَارِ* وَمَهْمَا عَادَ وَلَزِمَتِ الكَفَّارَةُ لَمْ يَسْقُطْ بِالطَّلاَقِ المُبَين بَعْدَهُ* وَلَوْ جَدَّدَ النِّكَاحَ كَانَ التَّحْرِيمُ مُسْتَمرًا وإنْ لَمْ نْقَضْ بِعَوْدِ الحِنْثِ لأَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ سَبَقَ* وَلَوِ اشْتَرَاهَا فَفِي تَحْرِيمهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ خِلاَفٌ. ¬
ّقَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسائل: إحداها: إذا ظاهر ثُمَّ طلَّق المظاهَرُ منها طلاقًا رجعيًّا، عقبه ثم راجَعَها، فلا خلاف في أنه يعود الظهار وأحكامه، ولو طلَّقها طلاقًا بائنًا أو رجعيًّا، وتركها حتَّى بانَتْ ثم جدَّد نكاحها، ففي عَوْد الظهار الخلافُ في عود اليمين، ويجري الخلاف فيما إذا كانَتِ الزَّوْجة رقيقةً، فاشتراها وأعتقها أو باعها ثم نكحها، وعَوْد النكاح بَعْد الانفساخ بالملْك كعَوْده بعْد البينونة بالثلاث، أو كعَوْده بَعْد البينونة بما دُون الثَّلاث، فيه طريقان، قد سَبَقَ نظيرهما. ولو ارتد الزوْج عَقِب الظِّهار بعْد الدخول، ثم عاد إلى الإِسلام في مدَّة العِدَّة، فلا خلاف في عَوْد الظهار وأحكامه؛ لأنَّه تبيَّن دوام النكاح، إذا عُرف ذلك، فهل الرَّجعة وتجديدُ النكاح والإِسلام بَعْد الردة نَفْسها عودًا أم لا، وإنما يكون عائدًا إذا أمسكها بَعْد هذه الأمور؟ فيه خلاف، وفي كيفيته طريقان: أشهرهما: أن في صورة الرجعة قولَيْن: أصحُّهما، ويُحْكى عن نصه -رضي الله عنه- في الأم أن نَفْس الرجعة عَوْد؛ لأن العود هو الإمساك، والرجعة إمساكٌ، ولأن الرجعة استحداث حل، وذلك أبْلَغ في مخالفة الوَصْف بالتحريم مِنَ الإمْسَاك على حُكْم الحل السابق. والثاني: ويُحْكَى عن نصه -رضي الله عنه- في "الإملاء" أنَّه لا يكون عائدًا بنَفْس الرجعة، وإنما يصير عائدًا إذا أمْسَكَها بعْد الرجعة قَدْرَ مَا يتأتى فيه (¬1) المفارقة؛ لأن الرجْعَة رد [إلى] (¬2) النكاح، وإنما تَحْصُل المخالفة بالإمساك في النكاح، ويجري الخِلاَف فيما إذا ظاهر عن الرجْعيَّة، ثم راجَعَها، ولا يكون عائدًا قبل الرجْعة بحال؛ لأنها جارية إلى البينونة، وهذا كما أنه يصحُّ الإيلاء عن الرجعيَّة ولا تضرب المدة في الحال (¬3)، وفي صورة تجْديد النكاح المجدَّد خلافٌ، والفرق أن الرجْعة إمساك في ذلك النكاح، والتجديد بخلافه، والإِسلام بعْد الردة كالنكاح المجدَّد، وأَوْلَى بأن لا يكون عائدًا، والطريق الثاني: حكى القاضي أبو الطَّيَّب جماعة، منهم صاحب الكتاب: أن النص في الرجْعة أنَّها عَوْد، [و] في الإِسلام بعد الردة أنه ليس بعود، فمِنَ الأئمة من جعلها على وجهَيْن أو قولَيْن بالنقل والتخريج، ومنهم من اقتصر في كلِّ صورة على النص فيها، والفَرْق أن مقصود الرجعة استباحة البُضْع، وهي تخالف الوصف بالتحريم الذي هو مضمون الظِّهار، ومقصود الإِسلام تَبْدِيل الدِّين الباطل بالحق، والحِلُّ والحُرمة ¬
في تبديل الدِّين يقعان تابعَيْن وأحرى في تجديد النكاح مثْل هذا التصرُّف، لكن الذي حكاه صاحِبُ الكِتَاب وغَيْره عن النَّصِّ أن التجديد ليس بِعَوْد كالإِسلام، وفرق على هذا بأن النكاح يُقْصَد به تجديد الملك، والرجعة لا معْنَى لها إلا إمساك الزوْجَة، وحكى أبو الفرج الزاز عن النَّصِّ أن التجديد عَوْد كالرجعة، وكيفما قُدِّر الخلاف، فالظاهر أن نَفْس الرجعة عَوْد، وهو الذي أورده في الكتاب هاهنا فيما إذا طلَّقها طلقةً رجعيةً، وراجَعَها، وفي أول الباب فيما إذا ظاهر [عن] (¬1) الرجعية. وإذا ارتدَّ أحد الزوجين عَقِيب الظِّهَار [و] كان ذلك قبل الدخول، فلا عَوْد؛ لانقطاع النِّكَاح، وكذا لو كان بعْد الدُّخول، وأصر المرتد إلى انقضاء العدة، ولو ظاهر الكافر عن امرأته (¬2) ثم أسْلَمَا في الحال معًا، أو أسلم الزوج وهي كتابيَّةٌ، فالنكاح دائمٌ؛ ولا أثر لمَا جرى في مَنْع العود، وإن أسلم وهي وثنيةً أو أسْلَمَت المرأة، وتخلَّف الزوج، وهو كتابيٌّ أو وثنيٌّ، نُظِر؛ إن كان ذلك قبْل الدخول، فلا عود؛ لارتفاع النكاح، وإن كان بعْده، فكذلك لا عَوْد في الحال؛ لأنها جارية في البينونة، ثم إن لم يُسْلِم المتخلِّف إلى انقضاء مدة العدة، بَانَ حصول الفراق مِنْ وقت إسلام أسبقهما إسلامًا، ولا عَوْد، فإن نَكَحها بَعْد ذلك، ففي عَوْد الظهار الخِلاَفُ في عود اليمين، وإن أسلم المتخلِّف [في مدة العدة، دام النكاح، ثم إن كان الزَّوْج هو المتخلِّف،] (¬3) فنَفْس الإِسلام منْه عَوْدٌ، أو إنما يكون عائدًا إذا أمسكها بعْد الإسْلام، وفيه الخلاف السَّابق، وإن كانَتْ هي المتخلفة، فنَفْس إسلامها لا يكون عودًا منْه بحال؛ لأنه لا يتعلَّق باختياره. نعم، إذا مَضَى زمان إمكان المفارقة بعْد إسلامها، ولم يفارقْها فيَكُون عائدًا، وذلك بعد أن يعْلَم إسلامها. فرْعٌ: لو جُنَّ عقيب الظهار، ثم أفاق بعْد ذلك، ذكر الشيخ أبو عليٍّ أن بَعْض الأصحاب جَعَل كون الإفاقة في نَفْسها عودًا على الخلاف المذكور في الرجْعَة، وهذا ظاهر الفساد. الثانية: قد سَبَق أن تعْلِيق الظِّهار صحيحٌ، فلو علَّقه، ووجد المعلَّق عليه، وأمسكها جاهلاً، نُظِرَ؛ إن علَّق على فعْل غيره، فلا يكون عائدًا حتى يَعْلَم، ويمسكها بعد العلم، وإن علَّق على فعْل نفْسه، ونَسِيَ الظهار، فالمشهور أنه يكون عائدًا؛ لأنه بسبيل من أن يَتذكَّر تصَرُّفه؛ فلا يعذر في نسيان الظهار، ورأى صاحب "التهذيب" وغيره تخْريج المسألة في الطرفَيْن على حِنْث الناسي والجاهل، وهذا أحسن، وهو الذي أورده صاحب "التتمة" -رحمه الله-. ¬
الثالثة: مهما عاد المظاهر فلَزِمَت الكفارة، ثم طلَّقها طلاقًا بائنًا أو رجعيًّا، لم تَسْقُط الكفارة، وكذا لو مات أحَدُهما، أو فسخ النِّكَاح، فإن كان لوجود شيْء منْها عقيب الظهار، مُنِع وجوب الكفارة؛ لأنها إذا وجدت عقيب الظهار، لم يحْصُل شرط الوجوب، وهو العَوْد، ولو جدَّد النكاح بَعْد البينونة، استمر التحريم إلى أن يُكَفِّر، سواء حكَمنا بعَوْد الحنث (¬1)، أو لم نحْكم، وليس كما إذا طلَّقها عَقِيب الظِّهار، ثمَّ جدَّد النكاح، فإنَّ عود الظهار وأحكامه يُبْنَى على الخلاف في عود الحنث؛ لأن التحريم هاهنا قَدْ حَصَل في النكاح الأول، وقد قال تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 2] فلو كانت الزوجة رقيقة، وحَصَل العود، ثم اشتراها، فهل تحِلُّ قبْل التكفير بمِلْك اليمين فيه وجهان: أصحهما: المنع، ووجُّه الثاني، بأن الظهار لا يَصِحُّ في ملْك اليمين، فلا يتعدى (¬2) تحريمه إليه، وهذا الخلاف كالخلاف فيما إذا طلق زوجته الأمة ثلاثًا، ثم ملكها هل تَحِلُّ له بملك اليمين؟ قَالَ الغَزَالِيُّ: (فرُوعٌ: الأَوَّلُ) لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيّ كَظَهْرِ أُمِّي خَمْسَةَ أَشْهُرَ قِيلَ: إِنَّهُ يَلْغُو التَّأقِيتُ* وقيل: يَصِحُّ مُؤبَّداً كَالطَلاقَ وَقِيلَ: يَصِحُّ مُؤَقتًا وَهُوَ الأصَحُّ* ثُمَّ لاَ يَكُونُ عَائِدًا بِمُجَرَّدِ الإِمْسَاكِ لأَنَّهُ يَنْتَظِرُ حلاً بَعْدَ المُدَّةِ وَلَكِنْ بالوَطْء قَبْلَ خَمْسَةِ أَشْهُرٍ يَصِيرُ عَائِدًا وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الوَطْءُ* فَإِنْ وَطِئ فَعَلَيْهِ النَّزْعُ عَقِيبَهُ* وَقِيلَ بِالوَطْءِ يَتَبَيَّنُ العَوْدُ عَقِيبَ الظِّهَارِ فَيَكُونُ الوَطْءُ الأَوَّلُ أَيْضًا حَرَامًا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا أقَّت الظهار، فقال: أنتِ عليَّ كظَهْر أمِّي يومًا أو شهرًا، أو قال: إلى شَهْر أوْ إلى سَنَةٍ، ففي صحَّته قولان: أصحهما، وبه قال أبو حنيفة وأحمد: [أنه] صحيحٌ؛ لأنه منْكَرٌ من القول وزور، كالظهار المُطْلَق، وأيضًا فرُويَ أن سلمة بْن صَخَرْ -رضي الله عنه- ظاهَرَ من امرأته حتَّى ينسلخ رمضانُ ثُمَّ وطئها في المدَّة، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بتَحْرير رقبة (¬3). والثاني: المنع؛ لأنه لم يُؤَيِّد التحريم، فأشبه ما إذا أشبهَها بامرأة لا تَحْرُم عليه على التأبيد. وبُنِيَ القولان على أنَّهُ يُتْبَع في الظهار المَعْنى أو يُنْظَر معْهُود الجاهلية، وَينْتَسِب الصحَّة إلى الجديد، والمنع إلى القديم، واستحسن الإِمام أن يقال: لا يصحُّ في القديم، وفي الجديد قولان؛ بناءً على أنَّه يغلب في الظهار مشابهة الطلاق أو مشابهة ¬
الأيمان إن غَلَّبْنا مشابه الإيمان صحح، وإلا لُغِيَ؛ لأن الطلاق لا يقع مؤقتًا، بل يؤبَّد مؤقتة؛ لقوته، وليس للظهار تلْك القوة. التفريع: إن صحَّ، فيصح مؤبدًا أو مؤقتًا وفيه قولان، ويقال وجهان: أحدهما: أنه يصحُّ مؤبدًا؛ إلحاقًا له بالطلاق، وتغليبًا لمشابهته. وأصحهما، وهو ظاهر نصِّه -رضي الله عنه- في "المختصر": أنه يتأقَّت كما هو قضية اللفظ، ويُلْحَق في ذلك بالأيمان، وإذا اقتصرت، جعلت ثلاثة أقوال، كما في الكتاب، البُطْلاَن، والصِّحة مؤبَّدًا، والصحَّة مؤقتًا. وروى ابن الصَّبَّاغ عن مالك مثْل القَوْل الثاني، وصاحب "التهذيب" مثْل الأول، وليُعْلَم قوله في الكتاب "يصحُّ مؤبدًا" بالميم، وقوله "يلغو" بالحاء والألف. التفريع: إن قلْنا يتأبد، فالعَوْد فيه كالعود في الظهار المطلق (¬1)، وإن قلْنا: يتأقت، فلو قال لامرأته: أنتِ عَلَيَّ حرامٌ شهرًا أو سنةً، فالأصحُّ صحَّته؛ لأن التحريم أشبه باليمين من الظهار من حيْثُ إنَّه يوجِبُ كفَّارة اليمين، وفيه وجْه أنَّه يلْغُو؛ لأن التحريم الذي علَّق الشرع الكفارةَ به، هو التحريم المُطْلَق، هكذا رتَّب الإِمام، ويُشْبه أن يُفَرَّع هذا على تأقيت الظِّهار، ويقال في صحة التحريم المؤقَّت خلافٌ كَما في الظهار المؤقَّت، وبم يحْصُل العَوْد في الظِّهار المؤقَّت؟ فيه وجهان: أحدهما، وبه قال المزني: -رحمه الله- العَوْد فيه كالعَوْد في المُطْلَق؛ إلحاقًا لأحد نوعَيِ الظهار بالآخر. وأصحُّهما، وهو ظاهر النَّصِّ، والمذكور في الكتاب: أنَّه لا يكونُ عائدًا بالإمساك؛ لأنه ينتظر الحِلَّ بعد المدة، فالإمساك يحتمل أن يكُون بعْد المدة، ولا يقع مخالفًا للوصف بالتحريم في تلك المدة، وإنما يكون عائدًا بالوطء في المدَّة، ومَنْ قال بالأول، حَمَل النص على قَوْلٍ قد سبق في الظهار المُطْلَق؛ أن العَوْد هو الوطء، لكن ذلك القَوْل منقولٌ عن القديم، وهذا مذْكور في الجديد. التفريع: إنْ قُلنَا إنه لا يكون عائدًا بالإمساك، إنما يصير عائدًا إذا وَطِئَ، فلو قال: أنتِ عليَّ كظَهْر أمِّي خمسة أشهر، فهذا شخْص لو وطئ في هذه المدَّة، للزمته الكفارة، وهذه صفة المُولِي، فيكون مُولِيًا معَ كَوْنه مظاهِرًا، وهذا كما ذكرناه في قوله: أنتِ عليَّ حرامٌ، تفريعًا على أن الكفارة إنَّما تلزم بالوطء. وعن الشيخ أبي محمَّد: أنَّه لا يكون مُولِيًا؛ لأنه ليس بحالف، وليَجْرِ هذا هناك، ¬
ومتى يصير عائدًا إذا جرى الوطء فيه وجهان: أشبههما: أنَّه يصير عائدًا عنْد الوطء، وعلى هذا، فالوطء الذي هو العَوْد، لا يحرم، لكن إذا غَيَّب النَّزْع، كما ذكَرْنا فيما إذا قال: إن وطِئْتُك، فأنت طالقٌ، قد ذكرنا هناك وجْهًا: أنه لا يَحِلُّ له الوطء. قال الإِمام: ولا شك في جريان ذلك الوَجْه هاهنا. والثاني: عن الصيدلاني وغيره: أنه إذا وَطِئَ، تبيَّن كونُه عائدًا من وقْت الإمساك عقيب الظِّهار؛ لأنه تبيَّن أن الإمساك لم يكُنْ كما بعد المدة، ومن قال بالأول، قال: يجوز أن يمسك، ولا يقصد شيئًا، ويجوز أن يقْصِد بالأمساك ما بعد المدة، ثم يتفق الوطء، فلا معنى للحكم بانعطاف العَوْد إلى الأول، وعلى هذا الوجه، يحرم ابتداء الوطء أيضًا، كما لو قال: إن وَطِئْتُكِ، فأنت طالق قبْله، لا يجوز الإقدام على الوطء. ويحرم عليه الوطء بعْد ذلك الوطءَ، بإتفاق الوجهَيْن إلى أن يُكَفِّر أو تمضي المدَّة، فإن مضَت المدة، حَلَّ له الوطء؛ لإرتفاع الظِّهار، وبقيت الكفارة في ذمَّته، ولو لم يطَأْ حتَّى مضَت المدة، فلا شيْء عليه، وتردَّد الإِمام فيما إذا ظاهَرَ ظهارًا مطْلقًا وعاد؛ في أن التحريم يحْصُل بنَفْس الظِّهار أم بالظهار والعود جميعًا؟ قال: والظاهر الثاني؛ لأن الكفَّارة مرتَّبة عليهما جميعًا، والتحريم مرتَّب على وجُوب الكفارة، والخُرُوجُ منْه مرتَّب على أدائها، وتَظْهَر فائدة التردُّد في لمسه، وقبلته بغرض عقيب الظِّهار إلى أن يُتِمَّ زمن لفْظ (¬1) الطلاق، وإذا حَصَل العَوْد في الظِّهار المؤقت على اختلاف الوجهين، فالواجب كفَّارة الظِّهار على ظَاهِر المَذْهَب، وعليْهِ يتفرع الأحكام المذكورةُ، وفيه وجْه أن الواجب كفَّارة اليمين، وينزل لفْظ الظِّهار منزلة لفظ التحريم، وذكر القاضي ابن كج تفريعًا عليه أنَّه يَجُوز له الوطء قبْل التكفير، ويجوز أن يُعْلم لذلك قوله في الكتاب "ويحرم عليه الوطء" وقوله "فيكون الوطء الأول أيضًا حرامًا" وقوله قبل ذلك "ثم لا يكون عائدًا" معلم بالزاي والواو. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِي): لَوْ قَالَ لأَرْبَعِ نِسْوَةٍ: أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَمِّي، فَإِنْ أَمْسَكَ ¬
الكُلَّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فِي قَوْلٍ* وَأَرْبَعُ كَفَّارَاتِ فِي قَوْلٍ* فَإِنْ قُلْنَا: كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ طَلَّقَ ثَلاَثًا لَزِمَتْهُ الكَفَّارَة لإِمْسَاكِ الرَّابِعَةِ* وَلَوْ ظَاهَرَ عَنْهُنَّ بِأرْبَعِ كَلِمَاتٍ عَلَى التَّوَالِي صَارَ عَائِدًا إلَى الثَّلاَثِ فَعَلَيْهِ ثَلاَثُ كَفَّارَاتٍ إِنْ طَلَّقَ الأَخِيرَةَ عَلَى الاتِّصَالِ وَإِلاَّ فَأرْبَعُ كَفَّارَاتٍ* وَلَو كَرَّرَ لَفْظَ الظِّهَارِ عَلَى وَاحِدَةٍ وَأَرَادَ التَّأْكِيدَ لَمْ يَكُنْ عَائِدًا بِاشْتِغَالِهِ بِلَفْظِ التَّأْكِيدِ عَلَى الأَظْهَرِ* وَإِنْ قَصَدَ تَكْرِيرَ الظِّهَارِ كَانَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ عائِدًا* ثُمَّ في تَعَدُّدِ الكَفَّارَة مَعَ اتِّحَادِ المَحَلِّ خِلاَفٌ* فَإِنْ لَمْ نُعَدِّدْ فَلاَ فَائِدَةَ لِلثَّانِي* وَإِنْ عَدَّدْنَا فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ إِنْ لَمْ يطلَّق عَقِيبَ الثَّانِي* وَلَوْ كرَّرَ الظِّهَارَ بَعْدَ تَخَلُّلِ فَصْلٍ وَقَالَ: أَردَتُّ التَّأْكِيدَ قُبِلَ عَلَى الأَظْهَرِ لأَنَّهُ إِخْبَارٌ بخِلاَفِ الطَّلاَقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صورتان: إحداهما: إذا ظَاهَر عن أربع نسوة بكلمه واحدة، فقال: أنتُنَّ عَلَيَّ كظَهْر أمِّي، صار مظاهرًا عنْهن، ثم إنْ طلَّقَهُنَّ، فلا كفَّارة (¬1) علَيْه، وإن أمسكهن جميعًا، فقولان: الجديد، وبه قال أبو حنيفة: أنه يلزمه أربَعُ كفَّارات؛ لأنه وجد الظِّهار والعود في حقِّهن جميعًا. والقديم، وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله-: أنه لا يجب إلا كفَّارة واحدةٌ؛ لورود الأثَر عن عُمَر -رضي الله عنه- ولأنَّ الظِّهار كلمةٌ تقتضي مخالفتُها الكفَّارَةَ؛ فإذا تعلَّقت بجماعة، لم تقتض إلاَّ كفارةً واحدةً، كاليمين، والخِلاَف مردودٌ إلى أن المُغَلَّب في الظِّهار مشابهة الطلاق أو الأيمان؛ إن غلَّبْنا مشابهة الطلاق، لَزِمَتْه أربع كفارات، ولم تختلف الحال بين أن يظاهر بكلمة أو كلمات، [كما لا تختلف الحال بيْن أن يطلِّقَهن بكلمة أو كلمات]، وإن غلَّبْنا مشابهة الأيمان، لم تجب إلا كفارةٌ واحدةٌ، كما لو حَلَف أنْ لا يكلِّم جماعةً كلَّهم. وعن القاضي الحُسَيْن: أن الخلاف في أن المُغلَّب في الظِّهار شبه الطلاق أو اليمين، حاصلٌ من الخلاف في هذه المسألة، وقد يُوجَد الخلاف في الأصول من الخلاف في الفروع، وشُبِّه القولان بالقولين فيما إذا قَذَف جماعة بكلمة واحدة، يَلْزَمه حَدٌّ واحد أو حُدُودٌ لأن الكلمة واحدةٌ والمتعلّق متعدِّد، فإن قلنا: يلزمه أربع كفاراتٍ، لم يحْصُل العود في بعْضهن بالطلاق عقيب الظِّهار أو بالموت، وحَيْث أوجبنا الكفارة، بعدد من حَصَل فيها العَوْد، وإن لم نُوجِب إلاَّ كفَّارة واحدة، كفى العَوْد في بعضهن؛ ¬
لوجوب الكفَّارة حتَّى وَلو طلَّق ثلاثًا، وجَبَت الكفارة للرابعة وفي "التتمة" عنهما [لا تجب كما لو حلف ألاَّ يكلم جماعة لا تلزمه الكفارة] (¬1) .. وإن كلم بعضهم والمشهور المذكور في الكتاب هو الأول، وذكر في الفرق شَيئيْن: أحدهما، عن القَفَّال وغيره: أن الكفارة إنَّما وجَبَت؛ لما في الظِّهار من شبه الطلاق، والشيء إذا نَزعَ (¬2) إلى شيئين، تَثْبُت فيه بعْض أحكام هذا، وبَعْض أحكام هذا، رعايةٌ للشبهين. والثاني: قال الإِمام -قدس الله روحه-: كفَّارة اليمين إنَّما تجب بالحِنْث، والحِنْث لا يحْصُل إلا بأن يكلِّم الجميع، وفي الظِّهار إنَّما وجَبَت الكفارة؛ لأنه بالإمساك خَالَف قوْله، والمخالَفَة تحْصُل بإمساك واحدة [كما تحصل بإمساك الجميع، وهذا إذا ظاهر عنهن بكلمة واحدة] (¬3). أمَّا إذا ظَاهَر عنْهُن بأربع كلمات، فإنْ لم يُوَال بَيْنهن، لم يَخْفَ حكمه إن وَالَى صار بظهار الثانية عائدًا عن الأولَى، وبظهار الثالثة عائدًا عنِ الثَّانِيَة، وبظهار الرابِعَةِ عائدًا عن الثالثة، فإن فارق الرابعة عَقِيبَ ظهارها، فعليه ثلاثُ كفَّاراتٍ للأوليات، وإلا فعلَيْه أرْبَع كفَّارات. فَرْعٌ: لو قال لأربع نسوة: أنْتُنَّ عليَّ حرام، وقصد تحريم أعيانهن، فالقول في تعدُّد الكفارة واتحادها، كما في الظِّهار، قاله في "النهاية". الصورة الثالثة: لو كرَّر لفْظ الظِّهار في امرأةٍ واحدةٍ مرَّتَيْن أو أكثر، فإما أن يأتي بها متواصلَة أو مع تخلُّل فَصْل، فإن أتى بها متواصلةً، نُظِرَ؛ إن أراد بالمَرَّة الثانية وما بعدها التَّأْكِيدَ، فالحاصل ظهارٌ واحدٌ فإن (¬4) أمسكها عقيب المرَّات، فعليه الكفَّارة، وإن فاوقها، ففي لزوم الكفارة وجهان: أحدهما: تلزم؛ لأنَّه كان متمكنًا من الفراق بدَلاً عن التأكيد بالتكرار، فكان بالاشتغال بالتأكيد عائدًا. وأظهرهما: المَنْع؛ لأن الكلمات المتكرِّرة للتأكيد، حُكْمُها [حكم] (¬5) الكلمة الواحدة، فإن أراد بالمرة الثانية ظهارًا آخَرَ، ففي تعدُّد الظهار طريقان: أحدهما: أنَّه على قولَيْن: ¬
القديم، وبه قال أحمد -رحمه الله-: أنه ظهارٌ واحد ولا يتعلَّق به إلا كفَّارة واحدة، كما لو كرَّر اليمين على الشيْء الواحد مرَّات. والجديد: التعدُّد، وبه قال أبو حنيفة ومالك -رحمهما الله-؛ لأنه كلام يتعلَّق به التحريم، فإذا كرَّره يقْصِد إلاستئناف، تكرَّر حُكْمُه كالطلاق، وربَّما أُخِذَ القولان من القولين فيما إذا ظاهر عن نسْوة بكلمة واحدة، اتَّحد بتعدُّد الكلمة، والمَحَلُّ مُتَّحِد بتعدُّد المحل، والكلمة متَّحِدة. والطريق الثاني: القَطْع بالتعدُّد، فإذا (¬1) قلنا بالتعدد، فإن فارَقَها عَقِيب المرة الأخيرة، فهل يلْزَمه الكفارة للظهار الأول؟ فيه وجْهَان: أظهرهما: نعم؛ لأنه بالاشتغال بالظهار المجدَّد عائدٌ. والثاني: لا؛ لأن الظِّهَارَيْن من جنْسٍ واحدٍ، فما لم يُفرَّع مِنْ هذا الجنس، لا يجعل عائدًا، وقد يرتَّب؛ فيقال: إن جعل بالتأكيد عائدًا، ففي التجديد أوْلَى، وإلا فوجهان، والفرق أن التأكيد كالتتمةِ والجُزْءِ منَ الكَلاَم، بخلاف التجديد، فإن أطْلَق، ولم ينو التأكيد ولا التجديد، فيُحْمل على هذا أو ذاك؟ جَعَلُوه على قولَيْن، كما في الطلاق، لكن الأظهر هاهنا المصيرُ إلى الاتِّحَاد، وفي "الشامل" و"التتمة" (¬2) القَطْع به، وفرق بينهما بأن الطلاق أقْوَى؛ لأنه مُزِيلٌ للمِلْك، وبأن الطَّلاق له عَدَد محصُورٌ، والزوج مالكٌ له، فإذا كرَّره، كان الظاهر استيفاء المَمْلُوك، والظهار ليس بمتعدِّد في وضعه ولا هو مملوك للزوج، وأما إذا تفاصَلَت المرَّات، وقصد بكل واحدة ظهارًا أو طَلَّق، فكل مرةٍ ظهَارٌ برأسه، وفيه قولٌ أنَّه لا يكون [الثاني] (¬3) ظهارًا آخَرَ، ما لم يُكَفِّر عن الأول، وإذا قال: أردت بالمرَّةِ الثانيةِ إعادةَ الظِّهَار الأول، فعن القَفَّال اختلافُ جواب في قَبُوله، قال الإِمام: وهو بناء على أن المُغلَّب في الظِّهار معْنَى الطلاق أو اليمين؟ إن غلَّبْنا الطلاق، لم يُقْبَل، وإن غَلَّبْنا مشابهة اليمين، فالظاهر قَبُوله، كما ذكَرْنا في الإيلاء، وإلى هذا الأصل يُلْتفت الخلاف المذكور في هذه الصور، والأظهر تغْلِيب مشابهة الطلاق على ما سَبَق؛ فيكون الأظهر فيما إذا قال: أردتُّ التأكيد أنه لا يقبل، وكذلك ذكره صاحب "التهذيب" (¬4) وغيره على خلاف ما في الكتاب، ولم يستحسن ¬
الإِمام لفْظَة [التأكيد في المسألة، وقال التأكيد إنما يجعل موقعه إذا توالت الألفاظ،] ما (¬1) [و] قوله "لأنه إخْبَارٌ بخلاف الطلاق" أراد أنه إذا كان إخبارًا كان كالإقرار، ولو كرَّر الإقرار مع طول الفصل، وقال أردت التأكيد، يُقْبَل، لكن هذا ممنوع، والظاهر أنَّه تصرُّف مُنْشِئُ كالطلاق. وقوله قبل ذلك "وإن قصد تكرير الظِّهار" يعني قصد ظهارًا آخر. وقوله قبل "ثم في تعدُّد الكفارة مع اتحاد المَحَلِّ خلاف" أراد بالخلاف الطريقَيْن المذكورين، وقوله "فإن لم نعدد فلا فائدة للثاني .... " إلى آخره مبنيٌّ على أنه إذا قَصَد باللفظ الثاني ظِهَارًا آخر، كان عائدًا عن الأول، وهو الظاهر كما تبيَّن. فرْعٌ: قال في"التهذيب" قال لها: إن دخَلْت الدار، فأنت عليَّ كظَهْر أمي، وكرَّر هذه اللفظة ثلاثًا، فإذا دخَلَتِ الدار، صار مظاهرًا عنها، ثم إن قصد التأكيد، لم يَجِب إلا كفارةٌ واحدةٌ، وإن قالَها متفرِّقة في مجالس، وإن قصد الاستئناف تعدَّدت الكفارة، ويجِب الكُلُّ بِعَوْد واحدٍ بعْد الدخول، فإن طلَّقها عقيب الدُّخول، لم يجب شَيْءٌ، وإن أطلق، فيحمل على التأكيد أو الاستئناف (¬2)؟ فيه قولان، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثُ) إِذَا قَالَ: إِنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْك فَأنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَإِنَّمَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا عِنْدَ اليَأْسِ وَذَلِكَ بِالْمَوْتِ فَإِنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أنَّهُ قُبَيْلَ المَوْتِ صَارَ مُظَاهِرًا عَائِدًا فَعَلَيْهِ الكَفَّارَةُ* وَقِيلَ: صَارَ مُظَاهِرًا لاَ عَائِدًا لأَنَّهُ مَاتَ عَقِيبَ صَيْرُورَتهِ مُظَاهِرًا* وَإنْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ أَعْتَقَ عَنِ الظِّهَارِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يُجْزِهِ كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَوَاللهِ لاَ أُكَلِّمُكِ ثُمَّ أَعْتَقَ قَبْلَ الدُّخُولِ* وَقِيلَ: يُجْزِئُ لأَنَّ التَّعْلِيقَ أَحَدُ الأَسْبَابِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صورتان مِنْ مولَّدات ابن الحدَّاد: أحداهما: إذا قال: إن لم أتزوَّجْ عليْك، فأنت عليَّ كظهر أمي، فهذه الصورة تتعلَّق بأصْلَيْن: أحدهما: أن تعليق الظِّهار صحيحٌ. ¬
والثاني: أن التعليقُ يبقي الشيء بصيغة تقتضي ذوات ذلك الشَّيْء على الإطلاق، على ظاهر المَذْهَب، وقد ذكرناه في الطلاق، وإذا تذكَّرت الأصلَيْن، ففي الصورة المذكورة؛ لو تزوَّج فلا ظِهَار، ولا عَوْد وإن لم يمكنه التزوُّج عليها؛ بأن مات هو، أو ماتَتْ هي عقيب التعليق، وكذلك لا ظهار ولا عَوْد، وإنما يَصِير مظاهرًا، إذا فات التزوُّج عليْها مع إمْكَانه وحصل الياس عنه بأن تَمُوت هي، أو يموت هو، وحينئذ يُحْكَم بكونه كان مظاهرًا قبيل الموت، وفي لزوم الكفَّارة وحُصُول العَوْد وجْهَان: قال ابن الحدَّاد: [تلزمه الكفارة، ويصير عائدًا عُقيب صيرورته مظاهرًا، وقال الجمهور:] (¬1) لا كفارة عليه، والعَوْد إنما يَحْصُل إذا أمْسكَها بعْد الظِّهار مدَّة يمكنه الطّلاق فيها، فلم يطلِّق، ولا ضرورة هاهنا إلى تقديم الظِّهار، وتقدير العَوْد، ولو لم يتزوَّج عليها مع الإمكان، حتى جُنَّ، فإن أفاق، ثم مَاتَ قبل التزوُّج، فالحُكْم ما بينَّا، وإن اتصل الموت بالجنون، فتَبَيَّن صيرورته مظاهرًا قبيل الجنون، لتبيُّن الفوات من يومئذ، وحكى الشيخ أبو عليٍّ أنَّا لا نحْكُم بصيرورته مظاهرًا إلا قُبَيْل الموْت، ويجيءْ مثله في تعليق الطَّلاق، ولم يذكره هناك ولا تَظْهَر فائدة هذا الخلاف في الظِّهار، إذا قلْنا بالصحيح؛ وهُوَ أنه لا تجب الكفَّارة، ولا يُحْكم بحصول العَوْد، وعلى جواب ابن الحدَّاد؛ تظهر فائدة الخلاف فيما إذا اختلف حالُهُ في اليَسَار والإعسار، فإن قلْنا: صار مظاهرًا عنْد الموت، نَظَرْنا في يساره وإعساره حينئذ، وإن اعتبرنا قبيل الجنون، فكذلك (¬2) ولو قال: إذا لم أتزوَّج عليْكِ، فأنتِ عليَّ كظهر أمي، فأذا مضى عقيب التعْليق مدةُ إمْكَان التزوُّج عليها، ولم يتزوَّج، صار مظاهرًا، والفَرْق بين "إن" و"إذا" قد مَرَّ في "كتاب الطلاق"، وقد ذكرنا أن من الأصْحَاب مَنْ خرَّج الجواب من كل صُورة في الأخرى، فيجوز أن يُعْلَم لذلك قوله في الكتاب "فإنما يصير مظاهرًا عند اليأس" لأن على ذلك التخريج يصير مظاهرًا إذا مَضَى زمان يُمْكنه أن يتزوَّج عليها، فلم يتزوَّج، واعلم أن نَظْم الكتاب يشعر بتَرْجيح هذا الوجْه الَّذي قاله ابن الحدَّاد، والظاهر خِلاَفُه. الثانية: لو قال: إن دخَلْتِ الدار، فأنتِ عليَّ كظهر أمي (¬3)، ثم أعْتَقَ عن كفَّارة الظِّهار، ثم دخلَتِ الدار، هل يُجْزئه إعتاقُه عن الكفَّارة؟ فيه وجهان: ¬
أحدهما، وبه قال ابن الحدَّاد: نعم؛ لأن الحَقَّ الماليَّ إذا تعلَّق وجوبُهُ بكثر من سَبَب واحدٍ، جاز تقديمه على وقْت وجوبِهِ كما تُقدَّم الزكاة على الحول، وكفارة اليمين على الحنث. والثاني، وهو جواب الأكْثَرين: أنه لا يُجْزئ؛ لأن الأصْل أن لا يُقدَّم الواجب على وقته، وإنما جوَّزنا تقْدِيم الحَقِّ المالي إذا تعلَّق بشيئين، ووجد أحدهما، والكفارة هاهنا تتعلَّق بالظهار والعود، فلا يجوز تقديمها [عليهما،] (¬1) كما لا يجوز تقديم الزكاة على الحَوْل والنصاب جميعًا، وكفارة اليمين على اليمين والحنث [جميعًا] (¬2) ويجري الخِلاَف فيما لو أطْعَم عن الظِّهَار قبْل أن يدْخُل الدار، وهو مِنْ أهْل الإطعام، وأما (¬3) الصوم فهو عبادةٌ بدنيَّةٌ، والظاهر منْع التقديم فيه على الإطْلاق، والوجهان جاريان في تعليق الإيلاء، فإذا قال: إن دخَلْتِ الدَّار، فوالله لا أطاك، ثم أعتق عن كفارة اليمين قتل دُخُول الدار، قال ابن الحدَّاد: يُجْزِئُه، ولو قال: إن دخَلْتِ الدار، فأنتِ عليَّ كظهر أمّي، وقال: متى دخلْتِ الدار، فعَبْدِي فلانٌ حرٌّ عن ظهاري، فدخلَتْ، فعلى قول ابن الحدَّاد؛ يصير مظاهرًا، ويعتق العبد [عن الظِّهار، وكما يصح إعتاقه عند الظِّهار قبل الدخول، يصح التعليق] (¬4)، وعلى الأظهر كما لا يَصحُّ الإعتاق قبْل الدخول، لا يصح تعليقه، وأما الإعتاق عن الظِّهَار بعد الظِّهَار، وقبْل العود، فهُو جائز؛ كالتكفير بعد اليمين وقبل الحنث، وقد ذكره في الكتاب في "باب الأَيْمَان"، وهناك نذكر أنه كيْف تصور تقديم (¬5) الإعتاق على المَوْت. ولو قال: أنتِ عليَّ كظهر أمي أعْتقت هذا العبد عن كفارتي، أو أنتِ عليَّ كظهر أمِّي، وسالم (¬6) حر عن ظهاري، فهذا إعتاق مع العَوْد (¬7)؛ لصيرورته مُمْسِكًا بكلمة الإعتاق عَقِيب الظِّهار، ويجزئه عن الكفَّارة؛ لتأخره عن الظِّهار. وقوله "كما لو قال: إنْ دخلْتِ الدارَ، فوالله لا أكلِّمُك، ثم أعتق قبل الدخول" لَيْست [هذه] (¬8) الصورة متَّفقًا عليها، بل الخلاف في الصورتين واحدٌ، ومَنْ جوَّز الإعتاق عن الظِّهار قبل الدخول، جَوَّز الإعتاق عن كفَّارة اليمين، كما ذكَرْنا في صورة الإيلاء. وقوله "لأن التعليق أحَدُ الأسباب" يشير إلى أن وجوب الكفارة يتعلَّق بثلاثة أسباب: دخول الدَّار المعلَّق عليه، والظِّهَار، والعَوْد، ثم التقريب ما ذكَرْنا أن الحَقَّ ¬
الماليَّ إذا تعلَّق بأكثر من سببٍ واحدٍ، يجُوز تقديمُه على وجوبه. وهذا فرْع ثالثٌ عن المولَّدات: لو ظاهر عن زوجته الأمة، وعاد، ثُمَّ قال لمالكها: أعْتِقْها عن ظهاري، ففعل، وَقَعَ عتقها عن كفارته، وانفسخ النِّكاح بينهما؛ لأن إعتاقها عنه يتضمَّن تمليكه، وإذا ملك زوجته، انفسخ النكاح، وكذا لو أعْتَقَها عنْه باستدعائه عن كفَّارةٍ أخرَى، ولو مَلَكها بعْد ما ظاهَرَ عنْها، وعاد فانفسخ النكاح بينهما، ثم أعتقها عن ظهاره منْها، جاز، ولو آلَى عن زوجته الأمة، ووطئها ولزمتَه الكفَّارة، فقال لسيدها: أعْتِقْها عن كفَّارة يميني [ففعل،] (¬1) جاز وانفسخ النِّكَاح، وَلَوْ آلَى (¬2) عن زوجته الذِّميَّة، ثم وطئها أو ظاهَرَ منها، وعاد، ثم نقَضَتِ المرأة العهد، فاسترقت، وملكها، الزوْج، وأسْلَمَت، فأعْتَقَهَا عن كفَّارة يمينه وظهاره، جَازَ، والله أعلم. ¬
كتاب الكفارات
[بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] كِتَابُ الكَفَّارَاتِ وَهِيَ ثَلاَثُ خِصَالٍ: (الأُولَى: العِتْقُ) وَلاَ يُجْزِئُ في الظِّهَارِ إلاَّ رَقَبَةٌ مِؤْمِنَةٌ (ح) سَلِيمَةٌ كَامِلَةُ الرِّقِّ خَالِيةٌ عَنْ شَوْبِ العِوَضِ* وَتَجِبُ النِّيَّةُ في الكَفَّارَةِ* وَلاَ يَجِبُ (ح) تَعْيِينُ الجِهَاتِ* وَيصِحُّ الإعْتَاقُ (ح) وَالإِطْعَامُ مِنَ الذِّمِّيِّ بِغَيْرِ نِيَّةِ تَغْلِيبًا لِجِهَةِ الغَرَامَاتِ* وَلاَ يَصِحُّ الصَّوْمُ لأَنَّهُ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ* وَإِنْ أَخْطَأَ فِي تَعْيِينِ الجِهَةِ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الكَفَّارَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الكفَّارة (¬1) الاسم من التكفير، وتكفير اليمين فعْل ما يجب بالحِنْث ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فيها، والتكْفِير عن الظِّهَار فعْل ما يجب بالعَوْد فيه، وقد ورَدَ في القُرْآن لفْظ الكفارة كقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89]. وتنقسم الكفارات إلى ما لا مدخل للإعتاق فيها؛ كالواجبات في محظورات الإحرام، وقد تقدَّم القول فيها، وإلى مَا يدْخُل الإِعْتَاق في خِصَالها. وهذا القسْم نَوعَانِ: أحدهما: الكفارات التي تترتَّب خصالها؛ ككفارة الظِّهار (¬1) والجِمَاع في نَهَار رمضان. الثاني: الكفَّارة التي يَتخيَّر الشَّخْص في خِصَالِها، وهي كفارة اليمين والكتاب وإن كان مُتَرْجماً بمُطْلَق الكفَّارات، لكن المقْصِد منْه الكلام في القسم الثاني، ومُعْظَم المقصود كفَّارة الظهار، ثم يدخل فيه شيْء من حُكْم سائر الكفارات سِيَمَا الأحْكَامُ المشتركة (¬2)، وقد سَبَقَ في "كتاب الصوم" طرَفٌ ممَّا يتعلَّق بكفَّارة الجماع، ويأتي في كفارة القتل ما يتعلَّق بها، وفي "باب الأيمان" ما يختَصُّ بكفارة اليمين، إن شاء الله تعالى -وخصال القسم الثاني: الإعْتَاقُ، والصِّيَامُ، والإِطْعَام، وتشترك هذه الثلاثةُ في أحْكَامٍ، وتفترق في أحكام على ما سَيتَّضح في الباب. وفقه الفصل ثَلاثُ جُمَلٍ: إحداها: تجب النِّيَّة في الكفارات؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-[إنما] (¬3) "الأعْمَالُ بِالنِّيَّات" ولأن الكفَّارات حقٌّ ماليٌّ وجب تطهيرًا، وتكفي نيَّة الكفارة، ولا يحتاج إلى التقييد ¬
بالوجوب؛ لأن الكفَّارة لا تَكُونُ إلاَّ واجبةً، أورده صاحب "الشامل" وغيره (¬1)، ولا تكفي نية العتق الواجب من غير التعرُّض للكفارة؛ لأن العِتْق قد يَجِب بالنذر. نَعَمْ، لو نَوَى العتق الواجب بالظهار أو القَتْل، كفى، ويَجِب أن تَكُون النية مقارنةً للإعتاق والإطعام، وأمَّا الصَّومْ، فينوي من الليل، كما سيأتي، وفي وجْهٍ: يجوز تقديمُهَا على الإعْتَاقِ والإطعام، كما ذكَرْنا نظيره في الزكاة والظَّاهِر الأوَّل، وإذا علَّق العتْق عن الكفَّارة بشَرْطٍ، فلا يجوز أن تكون النية متأخِّرةً عن التعليق، بل يجب أن تكون مقارنةً للتعليق، إن اعتبرنا المقارنة [في التنجيز]، ويجُوز أن تَكُون متقدِّمةً عليه على الوجه الآخَرِ، هكذا قال -رحمه الله- في "التهذيب". ولا يجب في النِّيَّة تعْيِين الكفارة، كما لا يجب في زكاة المال تعيين المال المزكَّى، حتى لو كان عليْه كفَّارة الظهار والقتل، فاعتق عبدَيْن بنيَّة الكفارة، أجزأه عنهما, ولو اجتمعت عليه كفارات، فاعتق رقبةً بنيَّة الكفارة، وقع محسوبة عن واحدة منها, ولا فَرْق بين أن يتَّفق الجنْس؛ ككفارتي ظهار أو يختلف؛ ككَفَّارة الظهار والقتل، وكذا الحُكْم في الصَّوْم والإطعام. وقال أبو حنيفة: إن اختلف الجنْس، كالظِّهَار والقتل، فلا بد من التعيين. لنا أنَّه لا يجِب التعيين عند الاتحاد، فكذلك عنْد التعدُّد، وأنَّه لا يجِبُ التعيين عنْد اتحاد الجنْس، فكذلك عند إلاختلاف، ولو كانَتْ علَيْه كفَّارةٌ، ونَسِيَ سببها، فاعتق، ونَوَى ما عليه، جاز، ولو كانت عليه ثلاثُ كفارات، فاعتق رقبةً عن واحدة، ثم أعْسَر، فصام شهرَيْن عن واحدة، ثم عجز، فأطعم عن الثالثة، ولم يعيِّن شيئاً، يجزئه، وفرق بيْن نية الصلاة والصوم؛ حيث يعتبر فيه التعيين؛ بأن الأمر في العبادات البدنية أضْيَقُ؛ ولذلك لا يجري فيه التوكيل بخلاف العبادات المالية، وبأن العِبَادَاتِ الماليَّةَ نازعةٌ إلى الغرامات، فاكتفى فيها بأصْل النية، وبأن العباداتِ البدنيَّةَ مراتبُ ¬
متفاوتةٌ، وما يتعلَّق بها من النَّصبِ والتَّعَب يختلف مَوْقِعُه ووجوهه، فالمشقَّة في صلاة الصُّبْح من وجه، وفي صلاة الظهر من وجه آخر؛ لاختلاف الوَقْت وأعداد الركعات، والعِتْق في الظهار والقَتْل واحدٌ لا اختلاف فيه، فلم يحتج إلى التعيين، ولو كانَتْ عليْه كفَّارة ظهار، فنوى كفارة القتل عمدًا أو خطأً، لم يُجْزِئه عن كفارة (¬1) الظهار؛ لأنه نوى غَيْر ما عليه، فلا ينصرف إلى ما عليه، ونظيره ما إذا نَوَى عنْد إخراج الزكاة مالاً معيَّنًا، فكان تالفاً، لا ينصرف إلى غيْره، وكذا لو نَوَى [الاقتداء بمعيَّن، وكان الحاضر غيره لا ينصرف الاقتداء*] (¬2) إليه، ولو كان علَيْه كفَّارتان، وأعتق عبدًا بنيَّة الكفارة المُطْلَقة، ثم صرَفَه إلى واحدة معينةٍ، تعيَّن العَتْق لها, ولم يتمكن من صرْفه إلى الأخرى، كما لو عيَّن في الابتداء. الثانية: الذميُّ إذا ظاهر يُكَفِّر بالإعتاق أو الإطعام؛ لأن له أن يعتق ويطعم في غير الكفارة، فكذلك في الكفَّارة، ولا يُكَفِّر بالصيام، كما لا يصوم عن غير الكفارة، والمعنى فيه [أن] (¬3) العبادة البدنية لا تصِحُّ من الكافر، وما يتعلَّق بالمال يُرَاعَى فيه جانِبُ المدفوع إليه، وإن لم يصحَّ من الكافر نيَّة التقرب فيه، فهذا معنى قوله: "تغليباً لجهة الغرامات"، ولو ارتد من لزمته الكفارة لم يَصِحّ منْه التكفير بالصوم، وهل يُكَفِّر بالإعتاق [أو الإطعام] (¬4) عند العَجْز عن الإعتاق والصِّيَام؟ فيه طريقان: أحدهما: أنَّه على الخلاَف في ملْك المرتدِّ، إن قلْنا: يزُولُ مِلْكُه، لم يُكَفِّر، وإن قلْنا ببقائه كَفَّر، وإن وَقَفْنَاه، فإن عاد إلى الإِسلام، تبيَّن وقُوعُه عن الكفارة، وإن مات أو قتل على الردَّة، فلا. والثاني: القطع بإجزائه؛ لأنه مستحقٌّ عليه قبْل الردة؛ فكان كالديون على أن في الدُّيُون وجْهًا عن الإصطخري، حكاه صاحب "التقريب" أنها لا تُقْضَى على قَوْل زوال المِلْك، ويجعل كأن أمواله تلفت، والمَذْهَب خلافه، وكذا الظاهر أنَّهُ يُكَفِّر، وإن ثبت الخلاف، وإذا كَفَّر في الردَّة، ثم عاد إلى الإِسلام، حل له الوطء، وعن صاحب "التقريب" حكايته وجْه في الكفارة المخيرة أنه لا يخرج من ماله إلا أدْنَى الدرَجَات. ¬
الثالثة: يُعْتَبَر فيٍ الرقَبَة؛ ليجزئ إعتاقها عن الكفَّارة، أربَعَةُ قُيُودٍ: الإيمان, والسَّلاَمة، وكمال الرِّقِّ، والخُلُوُّ عن العِوَض، وهذا ما ضَبَطه بقَوْله: "ولا يجزئ في الظِّهَّارِ" إلى آخره، والكلام في هذه القُيُود يأْتي على الأثر في فُصُول، ولو قَدَّم صاحب الكتاب القوْل في النية، ثم اشتغل بذِكْر الضابط، وشَرْحِ قيُودِه، لكان أحْسَنَ، ويجوز أن يُعْلَمَ قيْد "الإيمان" بالحاء؛ لما سنذكره. وقوله: "ولا يجب تعْيين الجِهَات" بالحاء؛ لأنه يعتبر التعيين عند اختلاف الجنْس. وقوله: "يصح الإعتاقُ والإطْعَامُ من الذِّمِّيِّ بغير نية" التَّقَرُّب وأما نية التمييز، فيشبه أن تعتبر كما في قَضَاء الديون. وقوله: "تغليبًا لجهة الغرامات" أشار به إلى ما ذَكَره الإِمام -رحمه الله- أن الكفَّارة فيها معْنَى العبادات؛ لما يتعلق بها من الإرفاق في سد (¬1) الحاجات، وفيها معْنَى المؤاخذات والعقوبات، وغرضها الأظْهَر الإرفاق، وما يناط بسببين يستَقِلُّ بالأظهر منهما؛ [كالحد] (¬2)؛ فإنه مُمَحِّضٌ، وزاجرٌ، ويجب على الكافر زجْرًا، وإن لم يكن مُمَحِّطًا، ويخالف الزكاة؛ فإنها وظيفةٌ لمحاويج المسلمين على أغنيائهم، والكافر لم يلْتَزِم ما سِوَى الجِزْية، فلا يَحْسُن أن يحملَ كَلَّ المسلمين. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلاَ نَعْنِي بِالسَّلِيمَةِ السَّلاَمَةَ عَنِ العُيُوبِ القَادِحَةِ في المَالِيَّةِ بَلْ مَا يُؤَثِّرُ فِي العَجْزِ عَنِ العَمَلِ تَأْثِيرًا ظَاهِرًا* فَلاَ يُجْزِئُ الزَّمِنُ وَالأَقْطَعُ (ح) وَالأَعْمَى وَالمَجْنُونُ وَالهَرِمُ (و) العَاجِزُ وَالمَرِيضُ الَّذِي لاَ يُرْجَى زَوَالَهُ* فَإنْ زَالَ هَلْ يَتَبَيَّنُ وُقُوعُهُ مَوْقِعَهُ؟ فِيهِ خِلاَفٌ* وَيُجْزئُ الأَقْرَعُ وَالأَعْرَجُ وَالأَعْوَرُ وَالأَصَمُّ وَالأَخْرَسُ (ح) الَّذِي يَفْهَمُ الإِشَارَةَ* وَمَقْطُوعُ أَصَابِعِ الرِّجْلِ (ح) * وَمَقْطُوعُ أُنْمُلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ اليَدِ لاَ مِنَ الإبْهَامِ* وَمَقْطُوعُ الخِنْصَرِ أَوِ البِنْصَرِ* دُونَ مَقْطُوعِهِمَا جَمِيعًا مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ* وَدُونَ مقْطُوعِ الإِبْهَامِ وَالوْسُطَى أَوِ المُسَبِّحَةِ* وَيُجُزِئُ المَرِيضُ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ* فَإِنْ مَاتَ فَفِي لُزُومِ الإِعَادَةِ خِلاَفٌ* وَيُجْزِئُ الصَّغِيرُ* وَلاَ يُجْزِئُ الجَنينُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القيد الأول من القيود المُعْتَبَرَة في الرَّقَبة الإيمان؛ فلا يجوز إعتاق الكافرة في شَيْء من الكفارات، وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: يجوز إلا في كفَّارة القتْل؛ لأن الله تعالى قال فيها: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}. لنا قياس غير كفَّارة القَتْل علَيْها، وحمل الشَّافعيُّ -رضي الله عنه- المُطْلَق على ¬
المُقَيَّد، وشبهوه بقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] فإنه محمول على المُقَيَّد في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ويجوز إعتاق الصغير, إذا كان أحد أبويه مسلمًا أصليًا أو أسْلَمَ قبْل انعقاده، ولا يجوز إذا كان أبواه كافرَيْن؛ لأنه محكوم بكُفْره، ولو أسْلَمَ بنفسه، لا يصحِ على ما بيَّنَّا في "اللقيط" وحكَيْنا أن الإصطخري صحَّح إسْلام المميِّز، وأن بعْضَهم وقَفَه، وقال: إنْ بلَغَ، وثَبَتَ، بَانَ صحة إسلامه، وإلاَّ بَانَ فسادُهُ، فعَلَى ما ذكره الإصطخريُّ؛ يجوز إعتاقه عن الكفارة، إذا كان مملوكًا له، وعلى وجه الوَقْف، إن بلغ وثَبَت، ففي إجزائه وْجهان: المَنْعُ لنقصان حاله في الدين؛ ولذلك لو أعْرَبَ بالكفر، لا يُجْعَل مرتدًا، ولو أسلم أحد أبويه، وهو صغيرٌ أو حمل في البطن، فنَحْكم بإسلامه على ما مَرَّ في "اللقيط"، ويجزئ إعتاقه عن الكفارة، إن كان عبْدًا إذا مات في الصِّغَر، وكذا إذا مات بَعْد البلوغ، وقَبْل مضيِّ مدَّة يُمْكن فيها الإعراب، وإن أعرب بالكُفْر بعْد البلوغ، فأصَحُّ القولين أنَّه مرتدٌّ، والثاني: أنه كافِرٌ أصليٌّ، وقد ذكرناهما هناك، وبيَّنَّا حُكْم الكفارة على القولَيْن، وفي التهذيب: أن القَوْلين فيما إذا كان إسْلام أحد الأبوين بعْد انفصال الولد، أما إذا أسْلم أحدُهما، وهُو جنين، ثم بَلَغ، وأعرب بالكفر، فقد حَكَى فيه طريقين: أصحُّهما: أن الحكم كما لو أسلم بعد انفصال الولد. والثاني: أنه كما لو أسلم قبل البُلُوغ، ونَقَلْنا هناك هذا التردد عن كلام الإِمام - رحمه الله-، على سبيل الاحتمال، وبهذا يُقَاس إعتاق من حُكِم بإسلامه بتبعيَّة السابي على ما بيناه في "اللقيط"، وفي "التهذيب": أنه لو سَبَى الصغير سابٍ، وسَبَى أبويه غيرُه، فإن كانا في عسكر واحد، لم يُحْكَم بإسلامه، بل هو تبع لأبويه، وإن كانا في عسكرين كان تبعاً (¬1) للسابي، وأنَّ حُكْمَ المجنون في تبعيَّة الوالدَيْن والدار، حُكْمُ الصبيّ، وإذا أفاق، وأعرب بالكفر، فهو مرتد أو كافر أصليٌّ؟ فيه الخلاف المذكور فيما إذا بَلَغ الصبي، وأعرب بالكفر وأنه هل يجب التلفُّظ بكلمة الإِسلام بعد البلوغ والإفاقة؟ إن قلنا: لو أعرب بالكفْر، جُعِل مرتدًا، فلا يجب؛ لأنه محكوم بإسلامه، وإن قلنا لا يجعل مرتدًّا، فيجب، حتى لو مات قبل الإعراب، مات كافراً، ثم هاهنا مسألتان: إحداهما: يصح إسلام الكافر بجميع اللغات، ذكره صاحب "الشامل" وغيره، وينبغي أن يَعْرِف معنى الكلمة، فلو لُقِّنَ العجميُّ الكلمة بالعربية، فتلفَّظ بها، وهو لا يعرف معناها, لم يُحْكَم بإسلامه، وإذا وصف العبد الإسْلام بلُغَته، والسيد لا يعرف ¬
لُغَتَه، فلا بُدَّ ممَّن يترجم له؛ ليعتقه عن الكفارة (¬1)، ويصحّ إسلام الأخرس بالإشارة المفهمة، كما تصح عقوده بالإشارة، وفيه وجه: أنه إنما يُحْكم بإسلامه إذا صلَّى بعد الإشارة، [لأن الإشارة] (¬2) غير مصرِّحة بالغرض، فيؤكَّد بالصلاة، وهذا ظاهر النصَّ المحكيِّ عن "الأم "، والمَذْهَب الأول، ومنهم من حَمَل اشتراط الصَّلاة على ما إذا لم تَكُن الإشارة مفْهِمَةً، ويدل على (¬3) الاكتفاء بالإشارة ما رُوِيَ أن رجُلاً جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومَعَهُ جاريةٌ أعجميةٌ أو خرساءُ، فقال: يا رسول الله، عليَّ عتْق رقبة، فهل يجزئ عني هذه؟ فقال لَهَا النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أيْنَ اللهُ؟ فَأشَارَتْ إلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: مَنْ أَنَا، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ أنَّهُ رَسُولُ اللهِ (¬4) -صلى الله عليه وسلم- فقال لَهُ: أَعْتِقْهَا؛ فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ" قال ¬
صاحب "التتمة": وإنما جعلت الإشارة إلى السَّماء دليلاً على إيمانها؛ لأنهم كانوا عَبَدة الأصنام، فأفهمت الإشارة البراءة منْها. الثانية: ذكر الشَّافعيُّ -رضي الله عنه- في "المختصر" في هذا الباب أن الإسْلاَم أن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويبرأ من كُلِّ دينٍ يخالف دين الإِسلام، واقتصر في مواضع على الكلمتين، ولم يشترط البراءة، فقال الجمهور: ليس في ذلك اختلافٌ، ولكن يُنْظَرُ، إن كان الكافرُ مِمَّن يعترف بأصْل رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- كقَوْمٍ من اليهود يقولون: إنه رسولٌ مبعوثٌ إلى العَرَب خاصَّة، فلا بد من هذه الزيادة في حقِّه، وذكر أن في أهل الكتاب مَنْ يقول: إن محمداً نبيٌّ يبعث من بعد، وإن كان ممن يُنْكر أصْل الرسالة، كالوثنيِّ، فيكفي لإسلامه الكلمتان. قال الشيخ أبو حامد: وقد رأيْتُ هذا التفصيل منصوصًا عليه في كتاب قتال المشركين، ونقل الإِمام اختلافاً للأصحاب في أنه هل يُشْتَرط مع الكلمتين البراءةُ عنْ كلِّ دين يخالف دين الإِسلام، قال: والأصحُّ أنها (¬1) لا تُشْترط، والظَّاهر المشهور أنَّ الكلمتين لا بُدَّ منهما، وأن الإِسلام لا يَحْصُل إلا بهما، وحَكَى الإِمام مع ذلك طريقةً أخْرَى منسوبةً إلى المحقِّقين، وهي أن مَنْ أتى من الشهادتين بكلمة تُخَالِفُ معتقده، يحكم بإسلامه، وإن أتى منهما بما يوافقه، لا يُحْكم، حتى أن الثنويَّ إذا وَحَّدَ، حكم بإسلامه، والمُعَطِّل إذا قال: لا إله إلا الله، جُعِل مسلماً، ويعرض عليه شهادة الرسالة، فإن أنْكَر كانَ مرتدًّا، واليهودي إذا قال: محمَّد رسول الله، حُكِم بإسلامه، وحكي على هذه الطريقة خلافٌ في أنَّ اليهوديَّ أو النصرانيَّ إذا اعترف بصلاة توافق ملَّتنا أو حُكْمٍ ¬
يختص بشريعتنا، هل يكون ذلك إسلامًا؟ وقال ميل معظم المحققين إلى كونه إسلاماً، وعن القاضي حُسَيْن أنه قال في ضبْطه: كُلُّ ما يَكْفره المُسْلم بِجَحْدِهِ، يصير الكافر المخالف له مسلماً بِعَقْدِهِ، ثم إن كَذَّب غير ما صُدِّقَ به، كان مرتدًّا، والظاهر من المذهب (¬1) ما سَبَق. واستحب الشَّافعيُّ -رضي الله عنه- أن يُمْتَحَن الكافر عنْد إسلامه؛ بالإقرار بالبَعْث بَعْد الموت. القيد الثاني: السلامة عن العُيْوب، وليس النظر هاهنا إلى العُيُوب التي يثْبُت بها الرَّدُّ، وتعتبر السلامة عنْها في غرة الجنين، وإنما المُؤَثِّر العيوب الَّتي تُخِلُّ بالعمل والاكتساب، وتضر به ضررًا بيِّنًا، وذلك لأنَّ المَقْصود هناك المالية، فيؤثر ما ينقصها (¬2)، والمقصود من العتق تكميل حاله؛ ليتفرغ للعبادات، والوظائف المخصوصة بالأحرار، وإنما يحصل هذا الغَرَض، إذا استقل وقام بكفايته، أما إذا لم يَكُنْ كذلك، لم يتفرَّغْ، وصار كَلاًّ على نفسه أو غيره، وهذا أصْلُ الفَصْل، وعليه تنبني صورة أخرى وضْعًا، فلا يجزئُ الزَّمِنُ لعَجْزه، ولا يلحق به نِضْوة الخلق الَّذي يقدر على العَمَل، ولا يجزئ مقطوع اليدين أو إحداهما, ولا مقطوع الرِّجْلين أو إحداهما, ولا المجنون إن كان جنونه مطبقًا، وإن كان منقطعًا، فكذلك، إن كان زمان جنونه أكثر، ويجزئ إن كان زمان الإفاقة أكثر، وإن تساويا فوجهان، حكاهما القاضي ابن كج وغيره، وعن الداركيّ المنع. والأظهر (¬3) الجواز [ويجزئ الأحمق، وفُسِّر بأنه الذي يضع الشيء في ¬
غير موضعه، مع العلم بقبحه، والمجنون لا يعلمه] (¬1) ويجزئ الشيخ الكبير عن الكفارة إلا أن يَكُون عاجزًا عن العمل والكسب، وفي التجربة للقاضي الرويانيِّ أن الأصحاب جوَّزوا إعتاق الشيخ الكبير عن الكفارة، وأن القَفَّال منَعَه، إذا كان عاجزاً عن العمل، وهو الأصح، وفي هذا إثبات خلاف في مُطْلَق الشيخ، فيجوز أن يُعْلَم قوله: "والهرم [و] العاجز" بالواو؛ لذلك، ولا يجزئ المريض الَّذي لا يُرْجَى زوال مرضه [مثل صاحب السُّلِّ,. فإنَّه كالزَّمِنِ، وإن كان يُرْجَى زواله، فيجوز، وإن أعْتق الذي لا يُرْجَى زوال مَرَضِه،] (¬2) فاتفق أنه زال، فهل يتبين وقوعه الموقع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه لم ينو كفَّارة صحيحة، وإنما هو كالمتلاعب. وأظهرهما، عنْد الإِمام: نعم؛ لأن المنع كان بناءً على ظَنٍّ قد تبين خلافُهُ، وإن أعتق الذي يُرْجَى زوال مرضه، فمات ولم يزل، فوجهان: أصحُّهما: أنه لا تجب إعادة الكفَّارة؛ لقيام الرضا عند الإعتاق، واتصال الموت [به] (¬3) مُحْتَمَل أن يكون لهجوم علة أخرى، والعبد الذي وَجَب عليه القَتْل -عن القَفَّال - أنه إن أعتقه قبل أن يُقَدَّم للقتل، أجزأه، وإن أعتقه بعد التقديم، لم يُجْزئْه؛ كمريض لا يُرْجى [برؤه] (¬4)، [ويجزئ] (¬5) الأقرع والأعرج إلا أن يكون العَرَجِ شديداً يمنع متابعة المَشْي، والأشَلُّ كالأقطع، ويجزئ الأعور، وفَرْق بين ما نَحْن فيه وبَيْن الأضحية؛ بأنَ العَيْن مقصودةٌ بالأكل، وبأن العَوَر ينْقص قوة الرعْي، ويورث الهزال، ويجزئ الأصَمُّ؛ لأن الصَّمَم لا يَمْنع العمل والاكتساب، وحُكيَ فيه قولٌ آخر، ومنهم من لم يُثْبِت الخلاف، وحَمَل ما نقل على ما إذا كان بحَيْث لا يسمع مع المبالغة في رَفْع الصوت، وهذا يُشْعِر بالجزم بالمنع في هذه الحالة، ويجزئ الأخرس الذي (¬6) يَفْهم الإشَارَةَ، وعن القديم: المنْعُ، وفيهما طريقان: أحدهما: [أن] (¬7) المسألة على قولَيْن: وجه المنع؛ أنه تعثر مناطقته، ويجر ذلك إلى الخلل في العمل والاكتساب. وأشهرهما: حَمْل النصين على حالَيْن، ثم منهم من حَمَل الأجزاء على ما إذا فَهِم الإشارة، والمَنْعَ على ما إذا لم يَفْهَم، ومنهم من حمل المَنْع على ما إذا انضم إلى ¬
الخرس الصَّمَمُ والإجزاء على ما إذا تجرَّد، وحكى القاضي ابن كج عن أبي حَفْصِ بْنِ الوَكِيلِ: القَطْعَ، بالمنع، إذا اجتمعا، وقولين فيما إذا تجرَّد الخرس، فهذه طريقة ثالثة، ويجوز مقطوع الأذنين، والأَخْشَم، [ومقطوع الأنف] [ومقطوع أصابع الرِّجْلين، وعن أبي هريرة؛ أن الحكم في أصابع الرِّجْلين] (¬1) كهو في أصابع الَيَديْن؛ لأن قَطْعها يُؤَثِّر في المَشْي والتردُّد، ولا يجزئ (¬2) مقطوع أصابع اليد؛ لأن البطش والعمل لا يحصل، وإن كان مقطوع [بعضها، نُظِرَ؛ إن كان مقطوع] (¬3) الإبهام أو السبابة أو الوسطى، لم يَجُز إعتاقه، سواء كان القَطْع من إحْدى اليَدَيْنِ أو منهما؛ لأن معْظَم العمل يتعلَّق بهذه الثلاث، وإن كان مقطوع الخِنْصِر أو البِنْصِر، فيجوز، وإن كان مقطوعهما جميعاً، فإن كانتا مقطوعَتَيْن من يد واحدة، لم يَجُزْ؛ لأن العمل بالثلاث يحتاج إلى الاستعانة بإحداهما، وإن كانت الخِنْصِرَ مقطوعةً عن يد، والبنْصَر مقطوعةً عن أخرى، فلا بَأْس، وإن كان القطع في شَيْء من الأنامل، فقطع أنملتين (¬4) من أصبع واحدة كفقد (¬5) ذلك الإِصبع؛ فلا يضر ذلك في الخِنْصِر والبنْصِر، ويمنع الإجزاء في غيرهما، وقطْع أنملة واحدة يَمْنَعُ الإجزاء في الإبهام؛ لأنهما أُنْمُلَتَان، فتختل منفعتها إذا فُقِدَت إحداهما، وفي غير الإبهام لا يُؤَثِّر حتى لو كان مقْطوع الأنامل العُلْيَا من الأصابع الأربع، أجزأه إعتاقه، وتردَّد الإِمام -رحمه الله- في هذه الصورة، ويُجزئُ الأبرص والمجذوم ومفقود الأسنان وضعيف البطش والخَصِيُّ، والمجبوب، والأَمةُ الرَّتْقَاء، والقَرْنَاء، وولد الزنا، ويجزئ الصغير, ولا يجزئ الجنين، وإن انفصل لِمَا دون ستة أشهر مِن وَقْت الإعتاق؛ لأنه لا يُعْطَى حُكْمَ الأحياء، ولذلك لا تجب فطرته، وحكي وجه: أنه إن انفصل كذلك تبيَّن الإجزاء. قال الإِمام -رحمه الله-: ولا شك أنا لا نَحْكُمُ ببراءة الذمة في الحال، ولا نُسَلِّط المظاهر على الوطء. وعن أبي حنيفة فيما ذكر صاحب "التهذيب" وغيره: أن كل عيب يُفَوِّت جنْسًا من المنفعة، يمنع الإجزاء، وإن لم يَمْنع الجنس، فلا؛ حتى لا يُجْزئ إعتاق مقطوع الأذنين، ومقطوع الأنف، ومقطوع اليدين، والأصم، والأخرس، ويجزئ إعتاق مقطوع إحدى اليدين أو الرجلين، وأُعْلِمَ لذلك من لفظ الكتاب "الأقطع" و"الأصم والأخرس" بالحاء، ولُيُعْلَم "الأخرس" بالميم أيضاً، والحكاية عن مالك أنه لا يُجْزئ، وليُعْلم "الأصم والأخرس" "ومقطوع أصابع الرجل" بالواو، وكذا قوله: "ولا يجزي الجنين"؛ لمَا تَبَيَّن. ¬
قاَلَ الغَزَالِيُّ: (وَأَمَّا) كَمَالُ الرِّقِّ فَاحْتَرَزْنَا بِهِ عَنِ المُسْتَوْلَدَةِ وَالمكَاتبَةِ (ح) كتَابَةً صَحِيحَةً فَإِنَّهُمَا لاَ يُجْزِئَانِ* وَالمُكَاتَبَة كِتَابَةً فَاسِدَةً تُجْزِئُ (و) * وَعِتْقُ المَرْهُونِ وَالجَانِي يُجْزِئُ إن نَفَّذْنَاهُ* وَيُجْزِئُ نِصْفَانِ مِنْ عَبدٍ وَاحِدٍ في دَفْعَتَيْنِ* وَهَلْ يُجْزِئُ نِصْفَا عَبْدَيْنِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ* وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ عَنْ كَفَّارَتَيْنِ وَقَالَ: عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفٌ مِنْ كُلِّ عَبْدٍ أَجْزَأَهُ* وَلَوْ أَعْتَقَ المُوسِرُ نِصْفًا مِنْ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ وَنَوَى صَرْفَ الكُلِّ إِلَىَ الكَفَّارَةِ انْصَرِفَ إِنْ قُلْنَا: يَتَنَجَّزُ العِتْقُ* وَإِنْ قُلْنَا بالتَّوَقُّفِ إِلَى الأَدَاءِ وَنَوى عَنْدَ الأَدَاءِ النِّصْفَ الأَخِيرَ أَجْزَأَهُ* وَإِنْ نَوَى النِّصْفَيْنِ عِنْدَ اللَّفْظِ دُونَ الأَدَاءِ لَمْ يُجْزِهِ على أَحَدِ الوَجْهَيْنِ* وَالعَبْدُ الغَائِبُ المُنْقَطِعُ الخَبَرُ لاَ يْجُزِئُ عَلَى القَوْلِ المَنْصُوصِ وَإِنْ وَجَبَ إِخْرَاجُ الفِطْرَةِ عَنْهُ* وَفِيهِمَا قَوْلٌ مخَرَّجْ* وَالعَبْدُ المَغْصُوبُ يُجْزئُ (و). قَالَ الرَّافِعِيُّ: القيد الثالث: كَمَال الرِّقِّ، وفيه مسائل: إحداها: لا يجزئ إعتاق المستولَدَة عن الكفَّارة؛ لأنها مستحقة العتاقة بجهة الاستيلاد، وكذلك إعتاق المكاتب سواءٌ أدَّى شيئاً من النجوم أو لم يُؤَدِّه. قال مالك وأبو حنيفة: يجزئُ إعتاقه، إذا لم يُؤَدِّ شيئاً من النجوم، وبه قال أحمد في رواية, ووافَقَنا في رواية, واختلف الأصحاب -رحمهم الله- في تعليل المَذْهب، فمنهم من علَّل بأن المكاتب ناقصُ الرق كالمستولدة، وربَّما قيل: إن إعتاقَهُ ناقصٌ؛ لأنه ليس مَحْض إعتاق، بل هو مشوب بالإبراء، ولو كان إعتاقًا محضًا، لحَصَلَ العتق، وبقيت الذِّمَّة مشغولةً بالعوض، ومنهم من عَلَّل بأن العِتْق يَقَع عن جهة الكتابة؛ لكونه مستحقًّا بها، فلا يقع عن جهة أخرى، وإن كان مُكَاتَبًا كتابةً فاسدةً، فأعتقه، قال الإِمام: هذا مرتَّب على أن السيد إذا أعتقه، هل يستتبع الأولاد والاكساب؟ فيه خلاف يُذْكر في موضعه -إن شاء الله تعالى-، فإن قلْنا: لا يُسْتَتْبَع، فإعتاقه فسخ الكتابة، فيجزئ؛ عِن الكفاَرة، وإن قلْنا بالاستتباع، ففي إجزائه وجْهان، مبنيان على أن المنع في البكتابة الصحيحة لماذا؟ إن علَّلنا بنقصان الرِّقِّ أو العتق، أجزأ عن الكفارة؛ لأن الرِّقِّ كاملٌ هاهنا، والعتق (¬1) لا يتضمن الإبراء عن شيْء واجب، وإن علَّلنا بوقوعه عن جهة الكتابة، فلا يجزئ، والظاهر الإِجزاء، وهو المذْكُور في الكتاب، ولو قال للمكاتَب: إذا عجَزْتَ عن النجوم، فأنتَ حُرٌّ عن كفارتي، فعجز، عَتَقَ، ولم يجزئ عن الكفارة؛ ¬
لأنه حين عَلَّق، لم يكن بحَيْث يجزئ عن الكفَّارة، وكذا لو قال لعبده الكافر: إذا أسلَمْتَ، فأنت حرٌّ عن كفارتي، فأسلم أو قال لجنين البطن: إن خَرَجَ سليماً، فهو حرٌّ عن كفارتي، فخرج سليمًا، ويُحْتمل أن يقال: إذا لم يَقَعْ عن الكفَّارة، لم يُعْتَق على ما مَرَّ نظيره في الإيلاء، ولو علَّق العتق عن الكفَّارة بدخول الدار، ثم كاتب العبد، ثم دَخَل الدار، ففي إجزائه عن الكفار وجْهانِ: في وجه يجزئ؛ اعتبارًا بوقت التعليق، وفي وجْه: لا يُجْزئ؛ لأنه يستحقُّ العتق عن الكتاب وقْت حصول العتق، قال في "التتمة": هذا الخلاف مبنيُّ على الخلاف فيما إذا عَلَّق عتق العبد بصفة توجد في الصِّحَّة، وقد توجد في المرض، فوجدت في الصحَّة، يعتبر العتق من الثلث أو من رأس المال؟ ولو اشترى من يعتق عليه، ونوى كَوْن العِتْق عن الكفَّارة، لم يجزئه وعن الأودنيِّ: أنه يُجْزئ، والمذهب الأول، وكذا لو وهب منْه فقبل، [أو أوصى له به فقبل] وقلنا: تملك الوصية بالقبول، ونوى العِتْق عن الكفَّارة، وكذا لوْ وَرِثَهُ، ونوى أو ملك المكاتَب من يعتق على سيِّده، ثم عجزه السيد، ونوى عتْقَ قريبه عن الكفَّارة، وذلك لأنَّ العتْق مستحقٌّ بجهة القرابة، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: يجزئ في الشراء والاتهاب، ولا يجزئ في الإرث، وعن أصحابه اختلافٌ في صورة تعجيز المكاتَب. ولو اشترى عبْداً بشرط العتق، فقدْ مَرَّ في "البَيْع" إن أَصَحَّ القولَيْن صحَّةُ البيع؛ فإن الأظهر أنه لا يجزئ إعتاقه عن الكفَّارة، وذكر القاضي ابن كج تفريعًا على صحَّة البيع وجهَيْن فيما إذا باع بشرط العتق وتعليقه عتقه بصفة وقال: الأصح أنه لا يَصِحُّ، ووجهين فيما إذا اشْتَرَى جاريةً حاملاً بشرط العتق، فولَدَتْ، ثم أعتقها هو، يتبعها الولد، وأنه لو بَاعَ عبْدًا بشَرْط أن يبيعه المشتري، فشَرَطَ العتْق، فالصحيح بُطْلان البَيْع، وعن أبي الحُسَيْن تخريجُهُ على وجهين، وإعتاق العَبْد المرهون عن الكفَّارة يُبنى على الخلاف في نُفُوذ إعتاقه، وقد ذكَرْناه في الرَّهْن، فإن نَفَّذْناه أجزأ عن الكفَّارة، إذا نواها، وكذا إذا لم ينفذ في الحال ونفَّذناه بعد الانفكاك باللفظ السابق، ويكون كما لو عَلَّقَ عِتْقَ عبده عن الكفَّارة بشَرْط، وإعتاقُ الجاني عن الكفَّارة ينبني على الخلاف في نُفُوذ إعتاقه، وقد ذكَرْناه في البَيْع، وحكَى القاضي ابن كج أنَّ من الأصحاب -رحمهم الله- مَنْ لم يجوِّز إعتاق المرهون والجاني عن الكفَّارة، وإن قلْنا بنفوذ العِتْق؛ لتعلق حق الغير بهما ونُقْصان التصرفات، وهو ضعيفٌ، فإن الإِعتاق إذا نَفَّذناه، يتَضمَّن رفْع تَعلُّق [الغير] (¬1) وُيرَدُّ حقه إلى الفداء، وليس كذلك إعْتاق المُكَاتَب؛ فإنه يقَعُ على حُكْم ¬
الكتابة والعبد المُوصَى بمنفعته، وقد ذكَرْنا في الوصية أن أصحَّ (¬1) الوجهين أنَّه لا يجوز أن يُعْتِقه الوارِثُ عن كفَّارته، وهو الذي أوْرَدَه صاحبُ "التَّتمَّة" وذكر أنه لو أعْتَقَ عن كفارته العَبْد المستأجر، فإن قلْنا: إنه يرجع على السيد بأجرة ومنافعه، فيجزئه، وإن قلْنا: لا يرجع، فلا يجزئه؛ لنقصان العِتْق بما سُلِّمَ له من عوض منفعته (¬2) بعْد العتق. ويجزئ إعتاق المُدبر عن الكفَّارة، وكذا إعتاق العبد المُعَلَّق عتقه بصفة كمضي مدة وغيره، ولو أراد بعْد التعليق أن يَجْعَل العتْق المعلَّق عند حصوله عن الكفَّارة، لم يجزئه، وذلك مثْل أن يقول: إنْ دخلْتَ الدَّارَ، فأنْتَ حُرٌّ، ثم قال بعد ذلك: إن دخلْتَهَا، فأنتَ حُرٌّ عن كفارتي، فيُعْتَق عند الدخول، ولا يجزئ عن الكفَّارة؛ لأنه صار مستحقًّا بالتعليق الأول. ولو أعتق جاريةً حاملاً عن الكفَّارة أجزأه وعَتَق العمل تبعاً، ولو استثنى الحَمْلَ، لم يصح الاستثناء، وحصل العِتْق، كَمَا لَوِ استثنى عُضْوًا من العبد، وهل يُجْزئ، والصورةُ هذه، إعتاقُها عن الكَفَّارة؟ قال في "التتمة": المشهور في المذهب الإجزاء، وإذا لم يُمْنَع الاستثناءُ بعَوْد العتق، لم يُمْنَع سقوط الفرض، وفيه قول آخر: أنه لا يجزِئُه؛ لأنَّ الإجزاء عن الكَفَّارة غير مبنيٍّ على التغْلِيب، فالاستثناء يبطله، كما يُبْطل البَيْع والهبة، وإنما لم يتأَثَّر العِتْق به؛ لأنه مبنيٌّ على التغليب. المسألة الثانية: لو كان يملك نصْف عبْدٍ، فأعتقه عن الكفَّارة، وهو معسر ثم مَلَك الباقي، فأعتقه عن تلْك الكفَّارة، أجزأه، وإن وَقَع العِتْق في دفعتين، كما لو أطعم في أوقات مختلفة، ولو لم يَنْو الكفَّارة عند إعتاق الباقي، لم يجزئه، ولم تبرأ ذمته عن الكفَّارة، وفيه وجْه حكاه الفوراني؛ إلحاقاً بما إذا فَرَّق الوضوء، وجوَّزناه، فإنه لا يَجِبُ تجديد النية، ولو ملك نصفًا من عبْد، ونصفًا من آخر فاعتق النصفين عن الكفَّارة، وهو مُعْسِر، فهل يجزئه؟ فيه ثلاثة أوجه: ¬
أحدها: لا، وبه قال أبو حنيفة ومالك، وحكا الموفَّق بن طَاهِرٍ عن ابن سُرَيْجٍ وابن خيران، ووُجَّه بأنه مأمور بإعتاق رقبة، ولا يقال، والحالة هذه: إنَّه أعتق رقبةً، وبأن وضْعَ الوظيفةِ الواحدةِ من الطَّعَام في شخصَيْن لا يَجُوز، [فكذلك وضْع العِتْق في شخصَيْن، وبأنه لا يجزئ] في الأضحية شِقْصَان، فكذلك هاهنا. والثاني: نَعَم؛ تنزيلاً للأشقاص منزلة الأشخاص، ولذلك إذا شارك ذِمِّيًّا في ثمانين شاةً بالسوية، يلزمه ما يلزمه لو ملك أربعين شاةً، ولو ملك نصفاً من عبْدٍ ونصفاً من آخر، يلزمه صاعٌ في الفِطْر، كما لو مَلَك عبداً. وأظهرهما، على ما ذكر الموفَّق [بن طاهر] (¬1) وغيره: أنه يجزئه، إن كان باقي العَبْدَيْن حُرًّا وإلا فلا (¬2) يَجُوز، والفَرْق أنه إذا كان الباقي حُرًّا، أفاد الإعتاقُ الاستقلالَ والتَّخْليص من الرِّقِّ، وهو المقصود من الإعتاق، ويَجْري الخلاف في ثلث أحدهما وثُلُثَي الآخر ونظائرهما, ولو كان عليه كَفَّارتان عن ظهارين أو عن ظهار وقتل، فأعتق (¬3) عبْدَيْن عن كل واحدة منهما نِصْفًا من هذا، ونصفًا من هذا، فالحكاية عن نَصَّ الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- أنه يجزئه، وذكر الإِمام وصاحب الكتاب -رحمهما الله- في "البسيط": أن منهم من أثْبَتَ خلافاً، والظاهر الإجزاء، وتخليص كلِّ واحدة من الرقبتين حاصلٌ في هذه الصورة، وحكى اختلاف في كيفية وقوع العتقين: فأحد الوجهين، وُيرْوَى عن أبي إسحاق: أنه يعتق نصْفُ كلِّ واحدٍ منهما عن كفَّارة كما أوقعه. والثاني، وُيرْوَى عن ابن سرَيْجِ وابن خيران: أنه يقع عبْدٌ عن هذه الكفَّارة، وعَبْدٌ عن هذه، ويلغو تَعَرُّضُه للنصف من هذا، والنصف من ذاك، وبَنَى بَانُونَ الخِلافَ في الصورة السابقة على هَذَا الاختلاف، فعَلَئ ما حكي عن أبي إسحاق؛ يجزئ إعتاقه (¬4) النصفين، وعلى الثاني؛ لا يجزئ، ويجري الخلاف فيما لو أعتق رقَبةً واحدةً عن كفارتين، فعَلَى وجْه؛ يعتد به، وعليه إتمام كل واحدة من عَبْدٍ عن كفارة أو يعتق عن ¬
كل واحدة نصْفاً من هذا، ونصفاً من هذا، قال الإِمام: ولا حاجة إلى هذا التقدير والتصوير، وظاهرِ إعْتَاقِ العَبْدَيْنِ عن الكفارتين صرف عتق كامل إلى كل كفارة. وإذا أعتق الموسر نصيبه من العَبْد المشترك، سَرَى إلى نصيب صاحبه، وتحصل السراية بنفْس اللفظ أو عنْد أداء القيمة أو يتوقَّف، فإذا (¬1) أدَّى، تبيَّن حصول العتق من وقت اللفظ، فيه ثلاثة أقوال، ولو أعتق جميع العبد المشترك، فمَتَى يعتق نصيب الشريك؟ فيه الأقوال، [الثلاثة] (¬2) فإن قلْنا يُعْتق بنفس اللفظ، فكيف يقدر أنقول: يُعتق الجميع دفعةً أو نقول: يُعتق نصيبه، ثم يَسْرِي إلى نصيب الشريك؟ فيه وجهان، وكل ذلك يأتي في الشرح في موضعه -إن يسر الله تعالى- وحظ الكفَّارة أن إعتاق العبد المُشْترك عن الكفَّارة جائزٌ. وقال أبو حنيفة: لا يجزئُ إعْتَاق العبد المُشْتَرَك عن الكفَّارة لا للموسر ولا للمُعْسِر؛ لأنه إذا أعتق نصيبه، صار عِتق الثاني مستحقًّا، فلا يجزئ، كإعتاق أمِّ الولد، وفَرَّق الأصحاب بأن سَبَب اسْتحقاق العتق في الباقي إعتاق نصيبه، وقَدِ اقترن به نيَّة الكفَّارة، والعِتْقُ في الباقي (¬3) يُتْبَع [العتق] (¬4) في نصيبه كما يتْبَعهُ في أصل العِتْق، وجاز [له] (¬5) أن يتبعه في الوقوع عن الكفَّارة، وهناك لم تقترن النيَّة بسبب العِتْق، وليس نفوذ العتق في المستولدة على سبيل التبعية، ولا فرق في الإجزاء بيْن أن يُوجِّه العتق على جميع العَبْد، وبين أن يوجهه على نصيبه؛ لحصول العِتْق بالسراية في الحالَتَيْن، وعن القفَّال تخريجُ (¬6) وجُهِ أنه لا يجزئ عن جميع الكفَّارة، إذا وَجَّه العتْق على نصيبه؛ لأنه مأمور بإعتاق رقَبَةً، ويحْسُن أن يقال، والصورة هذه، بأنه أعتق جميع العَبْد، وإنما أعتق نَصِيبَه، وَعَتَقَ الباقي عليه بِحُكْم الشرع، وشبه ذلك بوَجْهٍ مذكورٍ فيما إذا نَوَى استباحة صلاةٍ بعينها: أنه يُبَاح لَه تلك الصلاة دون غيرها، والظَّاهِر الأوَّل، ثم يُنْظَر، إن أعتق نصيبه، ونوى عِتق الجميع عن الكفَّارة، أجزأه عنها، إن قلْنا بالسراية عند اللفظ أو قلنا بالتَّوقُّف، وان قلْنا بأن العتق إنما يحصل عند أداء القيمة، فهل تكفي هذه النيَّة لنصيب ¬
الشريك فيه أم يحتاج إلى تجْديد النيَّة عند الأداء؟ وجهان: أصحُّهما: أنها تكْفي؛ لأن النية اقترنت بالعتق، إلا أن العتْقَ حَصَل على ترتُّب وتدرُّج. والثاني: أنه لا بُدَّ من التجديد؛ لتقترن النية بعتق نصيب الشريك كما اقترنت بعتق نصيبه، ولو نوى في الحال صَرْف العِتْق في نصيبه إلى الكفَّارة، ونوى عند أداء القيمة صَرْفَ العتق في نصيب الشريك إلَيْها، أجزأه اقتران النية بحالة حصول العتق، وعن أبي حامد وجْه أنه لا بُدَّ، وأن ينوي الكُلَّ في الابتداء؛ لأن سبب حصول العِتْق في الكل لفظه، وهو السبب الأول، فينبغي أن تُقَارِنَه كما لو عَلَّق العتق بدخول الدَّار، يشترط في الإجزاء نية الكفَّارة عند التعليق، لا يَكْفِي مقارنتها للدخول، والأظْهَر والمَذْكُور في الكتاب الأول، وذَكَر الأئمة جواباً عن الأظْهَر في هذه الصورة والتي قَبْلها بناءً على أن العِتْق في نصيب الشريك يَحْصُل عند أداء القيمة؛ أنَّه يتخيَّر في نصيب الشريك بيْن أن يُقدِّم النية [عند اللفظ] أو يؤخرها إلى الأداء، وهذا كله فيما إذا نَوَى عتْق الجميع عن الكفَّارة، وإن وجَّه العِتْق على نصيبه، أما إذا وجَّهه على نصيبه، ونوى صَرْف العتق فيه إلى الكفَّارة، [ولم ينو الباقي] لم ينصرف الباقي إلَيْها، وإن حكَمْنا بعتقه في الحال، وَيجْرِي في وقوع نَصِيبه عن الكفَّارة الخلاف الَّذي سَبَق في أن إعتاق بَعْض الرقبة، هل يُجْزئ؟ وفي "الشامل" وغيره ذكْرُ وجْه أن الباقي ينصرف إلى الكفَّارة، ويتبع نصيبه في الوقوع عن الكفَّارة، كما تبعه في أصْل العِتْق، ولو أعتق الجميع بِنِيَّة الكفَّارة، وقلنا بحصول العِتْق بنفس اللفظ أو بالتوقُّف، أجزأه، وإن قلْنا بحُصُوله عند أداء القِيمَة، ففي "التهذيب" القَطْعُ بالإجزاء، وأنه لا يحتاج إلى تَجْدِيد النية عنْد الأداء، ويُشْبِه أن يَعُود فيه الوجهان المذكوران فيما إذا وَجَّه العتق على نَصِيبه، ولا يخفى مواضع الحاجة إلى الإعْلاَم. المسألة الثالثة: العَبْد الغائب، إن عَلِمَ حياته، وتواصل خيره، أجزأه عن الكفَّارة، وإن انقطع خبره، فالنَّصُّ أنه لا يجزئ عن الكفَّارة، والنص أنه تجبُ فطرته وكلام الأصْحَاب في النصين وتصرفهم قد ذكَرْناه في باب الفِطْرة، والأظهر عدم الأجزاء، كما نَصَّ عليه، ولو أعتقه عن الكَفَّارة، ثم تواصَلَتْ أخبار حياته، تبيَّنا وقوع العتق موقعه فيما سبق. ويجوز إعلام قوله "وفيهما قول مخرج" بالواو. والعبد المغصوب يجزئ عن الكفَّارة إذا علم حياته لكمال رقه، وفيه وَجْه لنقصان التصرُّف؛ ولأن الغضب يمنعه من الاستقلال، وهذا ما أورده الشيخ أبو حَامِدٍ وابن الصَّبَّاغ، والظاهر الأول، وهو المَذْكُور في الكِتَابِ، والآبِقُ كالمَغْصُوب (¬1)، والله أعلم. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: (وَأَمَّا) قَوْلُنَا: خَالٍ عَنْ شَوَائِبِ العِوَضِ أَرَدْنَا بِهِ أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ عَلَى أنْ يَرُدَّ دِينَارًا عَتَقَ عَنِ الكَفَّارَةِ* وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنْ كَفَّارَتكَ وَلَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ فَأعْتَقَ لَمْ يَنْصَرِف إِلَى الكَفَّارَةِ وَعَتَقَ* وَهَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الأَلْفَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: قَالَ الرَّافِعِيُّ: القيد الرابع: كوْنُ الإعتاق خالياً عن شوب العِوَض، فلو أعتق عبْدَهُ عن كفَّارة على أن يَرُدَّ ديناراً [عليه] (¬1) ديناراً أو عَشَرةً، لم يجزئه عن الكفَّارة؛ لأنه لم يُجَرِّد النية لها، بل قَصَد العوض مع الكفَّارة، وفي كتاب القاضي ابن كج: أن أبا الحُسَيْن حكى وجْهاً أنه يُجْزِئه؛ لأن العتق حاصلٌ، والعوض ساقِطٌ، فأشبه [ما] (¬2) إذا قيل له: صَلِّ الظهر لنَفْسِك، ولك كذا، فصلَّى، تُجْزئُه صلاته (¬3)، وإن شرط عوضاً عن غير العبد، فإن قال الإنسان: أعتقت هذا العَبْد عن كفَّارتي بألف [عليْكَ] (¬4)، فقبل، أو قال له إنسان: أعتقْهُ عن كفَّارتك، وعليَّ كذا، ففَعَل [لم يجزئه عن الكفَّارة] ولا فَرْق بيْن أن يُقَدِّم في الجواب ذِكْرَ الكَفَّارة؛ بأن يَقُول: أعتقته عن كفارتي على ألْفٍ عليك، وبَيْن أن يُقَدِّم ذِكْر العِوَض؛ بأن يقول أعتقته عَلَى أنَّ لي عليك ألفاً عن كفارتي. وعن أبي إسحاق وجْهٌ: إذا قدَّم ذكْر الكفَّارة أجْزأه، وسَقَط العِوَض، وقَرَّب هذا الوجه مما قيل إنه لو سمع المُتَيَمِّم قائلاً يقول: عندي ماءٌ أودعنيه فلانٌ، بَطَل تيمُّمه، ولو قال: أوْدَعَني فلانٌ ماءٌ، لا يبطل، والظاهر الأَوَّل، ولا فَرْق بين أن يقول في الجواب أعْتَقتْه عن كفارتي [على أن لي عليك كذا، وبين أن يقول: أعتقته عن كفارتي]، (¬5) فإنه مبنيٌّ على الخطاب والالتماس، وهل يستحق العِوَضَ على الملتمس؟ فيه وجهان، يأتي ذكرهما, ولا يختصَّان بما إذا قال: أعْتَقْتُه عن كفَّارتك، بل يجريان ¬
فيما إذا التمس منْه أن يعتق عبْده عن نَفْسه بعوض مطلقاً، فإن قلنا: لا يستحق العوض عليه، وَقَع العِتْق عن المعتق، وله الولاء، وإن قُلْنا: يستحقه، فالعتق يقع عنه أو يقع لبَاذِلِ العِوَض؟ فيه وجهان عن رواية صاحب "التقريب" والشيخ أبي محمَّد: أنه يقع عن باذل العوض، وإلا، فلا مَعْنَى لوجوب العوض عليه، [و] هذا ما أوْرَدَه، أصحابُنا العراقيُّون، وأصحُّهما أنه يَقَع عن المعتق؛ لأنه لم يُعْتِقْه عن باذل العِوَض، ولا هو استدعاه لنَفْسِه، وهذا ما أورده صاحِبُ "التهذيب" و"التتمة"، ولو قال المعتق: أَرُدُّ العِوَضَ ليكُونَ العتق مجزئاً عن كفارتي، لم ينقلب مجزئاً. نعم، لو قال في الابتداء عقيب الالتماس: أعتقته عن كفَّارتي، لا على الألْف، كان ردًّا لكلامه، وأجزأه عن الكفَّارة، وإذا قلْنا: إنه لا يستحقُّ العوض على الملتمس، فيشبه أن يَجِيء في الإجزاء عن الكفَّارة الوجْهُ المنسوب إلى رواية أبي الحُسَيْن فيما إذا شَرَط العوض على العَبْد، ويمكن أن يُخَرَّج من وجوب العوض على غَيْر العَبْد وجْه في وجوبه على العَبْد، ولم يذْكُروه. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلاِلْتِمَاسِ العِتْقِ صُوَرٌ* فَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْ مُسْتَوْلَدَتَكَ عَلَى أَلْفٍ فَأعْتَقَ اسْتَحَقَّ الألْفَ وَهُوَ فَدَاءٌ* وَهَلْ يَسْتَحِقُّ فِي العَبْدِ القِنِّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ* وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْ مُسْتَوْلَدَتَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفٍ فَأعْتَقَ عَنْهُ نَفَذَ عَنه المَالِكَ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ العِوَضَ (و) * وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي مَجَّاناً فَأعْتَقَ نَفَذَ (ح) وَلاَ عِوَضَ* وَلَوْ شَرَطَ عِوَضاً اسْتَحَقَّ* وَلَوْ أَطْلَقَ فَهَلْ يَقْتَضِي العِوَضَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ* وَلَوْ قَالَ: إِذَا جَاءَ الغَدُ فَأعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي بِأَلْفٍ فَأعْتَقَ في الغَدِ نَفَذَ وَاسْتَحَقَّ* وَإِنْ قَالَ: عَبْدِي عَنْكَ حُرٌّ بِألْفٍ إِذَا جَاءَ الغَدُ فَقَالَ: قَبِلْتُ فَهَذَا كَتَعْلِيقِ الخُلْعِ وَقَدْ سَبَقَ* وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقْهُ عَنِّي عَلَى خَمْرٍ أَوْ مَغْصُوب نَفَذَ وَرَجَعَ إِلَى قِيمَةِ المِثْلِ وَلَمْ يَضُرَّ فَسَادُ العِوَضِ كَمَا في الخُلْعِ لأَنَّ العِتْقَ وَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَى مِلْكِ المُسْتَدْعِي فَهُوَ مِلْكٌ ضِمْنِيٌّ لاَ يَسْتَدْعِي الشَّرَائِطَ* وَكَذَلِكَ لاَ يُسْتَدْعَى القَبْضُ فِي الإعْتَاقِ عَنْهُ مَجَّانًا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: جرت العادة بذِكْر صور التماس العِتْق من المالك هاهنا، واعْلَمْ أولاً أن العِتْق على مالٍ كالطلاق على مال، فهُوَ من جانب المَالِك معاوضةٌ، فيها مشابَهَةُ التَّعْليق، ومِنْ جانب المستدعي معاوضةٌ نازعةٌ إلى الجعالة على ما تبيَّن (¬1) في كتاب الخُلْع، ثُمَّ في الفصْل صُوَرٌ. ¬
إحداها: إذا قال: أعتق مستولدتك على ألْف، فاعتق، [نفذ العتق،] (¬1) وثبت العوض، وكان ذلك افتداءً من المستدعي نازلاً منزلةَ اختلاع الأجنبي (¬2)، ولو قال: أعْتِقْها عنِّي على كذا أو وَعليَّ كذا، فقال: أعتقها عنك، نفذ العتق، ولُغِيَ قولُه "عَنِّي"، وقول المعتق "عنك" فإن المستولدة لا تنتقل من شخْص [إلى شخص] (¬3) وقد احتج بهذه المسألة على أنه إذا وصَفَ العِتْق أو الطلاق بمحال، ينفذ العتق والطَّلاق، ويلْغو الوصف، كما ألغي "عنك" من قوله "أعتقت عنك"، ثم الظاهر، وهو المذكور في الكتاب أنه لا يستحقُّ عوضاً؛ لأنه التزم العِوَض على أن يَكُون العِتْق عنه، وهو ممتنع، وفيه وجْه أنَّه يلغي قوله "عنِّي" ويجعل باقي الكلام افتداءً، فيثبت العوض، ولو قال: طَلِّق زوجك عنِّي على ألْفٍ، فقد قال الإِمام: الوجْه إثبات العِوَض، وألغي قوله "عني" أو حمله على الصرف إلى استدعائه، كأنه قال: طَلِّقها لاستدعائي، وقد يُتَخَيَّل في المستولدة الانتقال إلَيْه إلى أن يعرف امتناعه. الثانية: إذا قال: أعتق عبدك عن نَفْسِكَ، ولك عليَّ كذا، أو وعلى كذا، فأجاب، فهل يستحقُّ العوض؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم، كما لو قال: أعتق مستولدتك أو طَلِّق زوجتك على كذا. والثاني، وبه قال أبو حنيفة، واختاره الخضري -رحمهما الله-: أنه لا يستحقُّ، بخلاف استدعاءِ عتْق المستولدة والطلاق؛ لأن ذلك إنما جُوِّز على سبيل الافتداء ضَرُورَة أنه لا يُمْكِن انتقال المِلْك فيهما، وهاهنا يُمْكن تملكه (¬4) بالشِّرَاء وغيره، وتخليصه، ولو قال: أعْتِقْه عنِّي، ففعل، نُظِر؛ إن قال: مَجَّانًا، فلا شَيْء على المُسْتَدْعي، وإن ذكر عوضاً، لزمه العوض، وإن أطْلَق، فهل يستحق عليه قيمة العَبْد؟ فيه وجهان، عن رواية صاحب "التقريب" وغيره؛ بناء على الخلاف فيما إذا قال لغَيْره: اقض دَيْنِي، ولم يشترط الرجوع، وخصص الإِمام وأبو الفرج السرخسي إذا البناء بما إذا قال: أعْتِقْه عن كفَّارتي؛ فإن العتق حقٌّ ثابث عليه كالدَّيْن، فأما إذا قال: أعتقه عنِّي، ولا عتق عليه أو لم يَقْصِدْ وقوعه عنه، فقد أطلق أبو الفرج أنه لا شَيْء عليه، ¬
ورأى الإِمام -قدس الله روحه- تخريجه على أن الهِبَة هل تقتضي العوض؟ ثم العتق سواءٌ نفى العوض أو أثبته (¬1)، يقع عن المستدعي، وعند أبي حنيفة والمزنيِّ إذ قال: أعتقه عني مجَّانًا، ففَعَل، لا يقع العتق عن المستدعي؛ لأنه إذا نفى المال، كان الحَاصِل هبةً ونيابةً [عن] (¬2) المستدعي في الإعتاق عنه، واعتاق الموهوب قبل القبض لا يجْوز، وإذا سَمَّى المال، كان الحاصِلُ بيعًا ونيابة في الإعتاق، وإعتاق المَبِيع قبل القبْض جائز. وعن أحمد روايتان، كالمذهبين. واحتج الأصحاب بأنه أعتق عنْه بأمره، فيَقَع عنْه، كما لو سَمَّى العوض، وقالُوا: المُعْتق بعِوَض، جُعِل كالمبيع المقبوض حَتَّى استقر عِوَضُه، فكذلك يُجْعَل عند عدم العوض، كالموهوب المقبوض، ويجعل القبض مندرجًا تحْت العتق لقوته، وذَكَرُوا بناءً على هذا أن إعتاق الموهوب قبل القبْض بإذن الواهب جائزٌ، وإذا قال: أعتقه عن كفَّارتي أو عَنِّي، ونوى الكفَّارة، فأجابه أجزأه عن كفارته، ولو قال: أعْتِق عبدك، ولك عليَّ كذا, ولم يَقُلْ "عن نفسك" ولا "عني" فوجهان: أحدهما: أنه كما لو قال: أعتِقْهُ عنِّي لقرينة الاستدعاء والتزام العوض. وأشبههما، وهو المذكور في "التهذيب": أنه كما لو قال: أعتقه عن نَفْسك، ولو قال: أعْتِقْ عبدك عني وعليَّ كذا بشرط أن يكون الولاء لَكَ، قال في "التتمة" في باب الخُلْع: المذهب المشهور أنَّ هذا الشَّرْط يفسد، ويقع العتق عن المستدعي، وعليه القيمة، وفيه وجْه: أن العتق يقع عن المالك، ويكون الولاء له، وعن القَفَّال أنه لو قال: أعتق عبدك عني على ألْفٍ، والعَبْد مستأجرٌ أو مغصوبٌ، [فأعتق]، جاز، ولا يضر كونه مغصوبًا، وإن كان المعتق عنه ممَّن لا يَقْدِر على الانتزاع، ولا يخرج في المستأجر على الخِلاَف في بَيْع المستأجر؛ لأن البيع يَحْصُل في ضمن الإعتاق، ولا يعتبر في الضِّمْنيَّات ما يعتبر في المقاصد، وأنه لو قال: أعتْق عبدك عن ابني الصغير, ففعل، جاز، وكان اكتساب ولاء له من غَيْر ضرر [يلحقه،] (¬3) وليس كما لو كان له رقيقٌ، فأراد الأب أن يُعْتِقه، وأنَّه لو وَهَب عَبْداً له من إنسان، فقَبِله الموهوب منه، ثم قال للواهب (¬4): أعتقه عن ابني، وهو صغيرٌ، فأعتقه، جاز، وكأنه أمره بتسليمه إلى ابنه، وناب عنه في الإعْتَاق للابن، واعْلَمْ أن العتْق في صورة الاستدعاء إنَّما يقَع عن المستدعي، والعوض إنما يجب عليه، إذا اتَّصل الجَوَاب بالخطاب، فأما إذا طال ¬
الفَصْل، فالعتق يقع عن المالك، ولا شَيْء على المستدعي. الثالثة: لو قال: إذا جاء الغد، فأعْتِق عبدك عني بألف، فصبر حتى جاء الغد، فأعْتَقَه عنه، فعن حكاية صاحب "التقريب" عن الأصحاب: أنه ينفذ العتْق عنه، ويثبت المُسَمَّى عليه، وأنه لو قال المالك لغيره: عبدي عنْكِ حرٌّ بألْف، إذا جاء الغَدُ، فقال المخاطَبُ: قَبِلْتُ، فهو كتعليق الخُلْع، وصورته أن يقول: طَلَّقتك على ألْفٍ إذا جاء الغد، فقالت للمخاطب: قَبِلْتُ، وقد سَبَقَ ذكْر وجهَيْن في وقُوع الطلاق عند مجيء الغد، أظهرهما الوقوع، ووجهين إذا وقع في أن الواجب مهْر المِثْل أو المسمى، أقربهما: الثاني؛ فلذلك يجيء الخلاف هاهنا في وقُوع العِتْق عن المخاطَبِ، وإذا وقع، فالخلاف في صحَّة المسمَّى وفساده، وذَكَروا في الفَرْق بين الصورتين أَنَّ في الصُّورة الأولى، وهي قوله: إذا جاء الغد، فاعتق عبْدك عني بكذا، فاعتق في الغد، لم يُوجَدْ تعليق في العِتْق. وفي الصورة الثانية: العِتْق باطلٌ [معلَّق] (¬1) بمجيء الغد، فأُلْحق بتعليق الخُلْع، لكن قوله: أعتق عبدك عني بكذا، إذا جاء الغَدُ، كقول المرأة: طلِّقني غداً، ولك عليَّ كذا، أو عَلَى كذا، وقد ذكَرْنا هناك خلافاً في أنَّه إذا طلَّق في الغد أو قبله تستحق المسمى أو مهر المثل فليجِيء الخلاف هاهنا أيضاً في ثبوت المسمَّى، إذا أعْتَقَ في الغد، ولذلك تردَّد صاحب "التقريب" فيما حكاه عن الأصحاب، واستصوب الإِمام وغيره التردُّد، ويجوز أن يُعْلَم لذلك قوله "نفذ واستحق" المسمى بالواو، ولو قال: أعْتِقْ عبدك عنِّي على خمر أو مغصوب، نفذ العتق عن المستدعي، ولزمته (¬2) قيمة العبد كما في الخُلْع (¬3)، وقوله في الكتاب "لأن العِتْق وإن رتب على ملك المستدعي" إلى آخره، فهُوَ (¬4) إشارةٌ إلى إشْكَال يَعْرِض في إلحاق العِتْق عن الغير بالخُلْع، وإلى الجواب عنه، أما الإشكال، فهو أن يُقَال: ليس في الخُلْع اختلافُ مِلْك، وإنما هو إسقاط حقٍّ يستقل به الزوج، والعتق [عن] (¬5) المستدعَى يتضمَّن نقل الملك، فوجب ألاَّ ¬
يحتمل جِهَات الفَسَاد من التعليق، وفساد العوض وغيرهما، كما في سائر التمليكات، فَإِذَنْ لا يتجه إلحاق الإعتاق عن الغير بالخُلْع، وإنما المتجه أن يُلْحَق به إعتاقه عن نَفْسه، وأما الجواب، فهو أن المِلْك الحاصل للمستدعي يَحْصُل في ضمن الإعتاق عنه، فكأن قوة الإعتاق تُوجِب تضمينه وتقديره، والملك الضمني لا تعتبر فيه الشرائط الَّتي تعتبر في التصرُّفات الأصلية؛ ولذلك لا يُعْتبر القبض في الإعتاق عن الغير باستدعائه مَجَّانًا، وإن كان ذلك يتضمَّن الهبة، والهبة تفتقر إلى القبض. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَيَحْصلُ المِلْكُ عَقِيبَ لَفْظِ الإِعْتَاقِ وَالعِتْقِ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ عَلَى أَظْهَرَ الوُجُوهِ وَقِيلَ: يَحْصُلُ المِلْكُ قَبْلَ الفَرَاغِ مِنْ لَفْظِ الإِعْتَاقِ وَهوَ بَعِيدٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذ لا خلاف في أن العَبْدَ المُعْتَق عن الغير باستدعائه يَدْخُل في مِلْك المُعْتق عنه، فلا عِتْق فيما لا يَمْلكه ابْن آدَمَ، ومتى يدخل في ملكه، وكيف التقدير؟ قال الأصحاب: هذا فيه إشكالٌ؛ لأنه لا يُمْكن القول بتأخير الملك عن العتق، ولا بتقديم المِلْك على التلفظ بالإعتاق؛ لما فيه من تَقْديم ما يوجبه اللفظ على اللفظ، ولا يَحْصُل المِلْك والعِتْق معاً، فإنَّه جَمْع بين النقيضين، وذكروا فيه وجوهًا: أحدها: أنَّه يحْصُل الملْك للمستدعي بالاستدعاء، ويعتق عليه إذا تلفَّظ المالك بالإعتاق. والثاني: أنه يحْصُل الملْك؛ بشروعه في لفْظ الإعتاق، ويعتق إذا تم اللفظ. والثالث: يحْصُل الملْك والعتق معاً عند تمام الإعتاق ويُحْكَى هذا عن أبي إسحاق. وأظهرها: أن العتق يترتَّب على المِلْك في لحظة لطيفة، وأن حصول الملك لا يتقدَّم على آخر لفظ الإعتاق، ثم قال الشيخ أبو حامد: وأكثر الَّذين اختاروا هذا الوَجْه أن المِلْك يَحْصل عقيب الفراغ من لَفْظ الإعتاق على الاتصال، وعن الشيخ أبي محمَّد، وربما نُسب إلى القَفَّال أن المِلْك يحْصُل مع آخر جزء من أجزاء اللَّفْظ، وليس في هذا الوجْه الأخير سوى أنه يتأخَّر العِتْق عن الإعتاق بقدر ما يتوسَّطهما المِلْك. قال الإِمام: وسَبَب تأخِيره أنَّه إعتاقٌ عن الغير، ومعنى الإعتاق عن الغَيْر نَقْل الملك إليه، وإيقاع العِتْق بعده، وقد يتأخَّر العِتْق عن الإعتاق بأسْباب؛ ألا ترى [أنَّه] (¬1) لو قال: أعتقت عبدي عنك بكذا، لا يعتق إلا أن يُوجَد القبول، ثم رد الإِمام اختلاف عبارة الشيخَيْن إلى خِلاَف الأصحاب في أن حُكْم الطَّلاَق والعتاق وسائر الألفاظ، يثبت مع آخر جزء من اللفظ أم بَعْد تمام أجزائه على الاتِّصَال؟ فعبارة الشيخ أبي محمَّد تنطبق ¬
الثانية: الصيام
على الوجْه الأوَّل وعبارة الشيخ أبي حامد تُوَافِق الثاني (¬1)، وقوله في الكتاب "وقيل يَحْصُل المِلْك قبْل الفراغ من لَفْظ الإعتاق" هذا القدر يشمل الوجه الأول والثاني، فيجوز أن يريد أحدهما، ويجوز أن يريد المُشْتَرَك بينهما، واستبعد ذلك؛ لِمَا فيه من تقديم المسبب على السَّبَب. فَرْعٌ: ولو قال: أعْتِقْ عبدك عنِّي على كذا، فأجابه ثم ظَهَر بالعبد عَيْب، فلا مرد للعتق، بل يرجع المستدعى علَيْه بأرْشِ العَيْب، ثم إن كان العَيْب بحَيْث يمنع الإجزاء عن الكفَّارة، لم تسقط عنه الكفَّارة، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ: الصِّيَامُ) وَيَجُوزُ العُدُولُ إِلَيْهِ لِمَنْ يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ العِتْقُ* فَإِنْ مَلَكَ عَبْدًا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى خِدْمَتِهِ لِمَرَضِهِ أَوْ لِمَنْصِبِهِ (ح) الَّذِي يَأْبَى مُبَاشَرَةَ الأَعْمَالِ فَلَهُ (ح) الصَّوْمُ* وَكذَلِكَ لَوْ مَلِكَ دَارًا إلاَّ أنْ يَكُونَ فِي اتِّسَاعِ خُطَّتِهَا زِيَادَةٌ يُسْتَغْنى عَنِهَا* وَلَوْ كَانَتْ لَهُ دَارٌ نَفِيسَةٌ أَوْ عَبْدٌ نَفِيسٌ أَلِفَ خِدْمَتَهُ فَالظَّاهِرُ أنَّهُ لا يَلْزَمُهُ البَيْعُ (ح) * وَعَلَى هَذَا لاَ يَبْعُدُ أَنْ لاَ يُكَلَّفَ بَيْعَ رَأْسِ مَالِهِ وَضَيْعَتِهِ الَّتِي تُلْحِقُهُ بالْمُسْكِينِ الَّذِي يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ* وَالمَالُ الغَائِبُ لاَ يُجَوِّزُ العُدُولَ إِلَى الصَّوْمِ؛ لأَنَّ الكَفَّارَةَ عَلَى التَّرَاخِي* وَيُمْكِنُ أَدَاؤُه بَعْدَ المَوْتِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: كفارة الظِّهار -كما نَصَّ عليه القرآن- مرتَّبة؛ قال الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 3، 4] الآية، فإن كان في مِلْكه عبْدٌ فاضلٌ عن حَاجته، الإعتاق، فإن احتاج إلى خدمته؛ لمرضه أو كبره أو زمانته أو ضخامته المانعة من خدْمة نفسه، فهو كالمعدوم، كما أن [المَاءَ] (¬2) المحتاج إلَيْه للعَطَش كالمعدوم في جواز التيَمُّم، وكذا الحُكْم، لو كان من ¬
أهْل المروءات، ومنْصِبه يأبى أن يخدم نفسه، ويباشر له الأعمال الَّتي تُسْتَخْدَم فيها المماليك، فلا يُكَلَّفُ صَرْفَهُ إلى الكفَّارة، وإنْ كَانَ من أَوسَاطِ النَّاس، فوجهان: أصحُّهما: أنه يلزمه الإعتاق؛ لأنه لا يلْحَقُه ضرر شديدٌ، وإنما يفوته نوع رفاهية، وقال أبو حنيفة ومالك: إذا كان في مِلْكه عبْدٌ يلزمه الإعتاق، وإن كان محتاجاً إلَيْه، ويمكن أن يُخَرَّج فيه وجْه على أصلنا؛ أخذاً من الخلاف في أن العَبْد والمسكِن، هل يباعان في الحج؟ وقد ذكرناه (¬1) هناك، ولو لم يكن في مِلْكه عَبْدٌ، ووجد ثمنه، لزمه تحصيله والإعتاق، ويشترط أن يكون فاضلاً عن حاجته؛ لنفقته وكسوته ونفقة عياله وكسوتهم، وعن المَسْكن وما لاَ بُدَّ منه من الأثاث، ولم يُقدِّروا للنفقة والكسوة مُدَّةً، ويجوز أن تعتبر كفاية العُمْر، ويجوز أن يعتبر سَنَة؛ لأن المؤمنات تتكرَّر فيها، ويجدد الإعداد لها، وقد يؤيِّده أن صاحب "التهذيب" قال: يُتْرَك له ثَوْب الشتاء وثوب الصيف (¬2)، ويخالف المفلس؛ حيْثُ لا يترك له إلا دست ثوب لا المسكن ولا الخادم؛ لما سَبَق في "التفليس"، وعند مالك ثمن العَبْد يُصْرف في الإعتاق، وإن كان محتاجاً إلى الثمن، ولو مَلَك دارًا واسعةً يفضل بعْضها عن حاجته، وأمْكَن بيْعُ الفاضل، لَزِمه البيع وتحصيل رَقَبةٍ يُعْتقها, ولو مَلَك داراً نفيسة؛ يجد بثمنها مسكناً يكفيه، ويفضل ثمن [عبد] (¬3) أو كان له عبْد نفيس يَجِدُ بثمنه عبْدًا يخدمه، وآخر يُعْتِقه، لَزِمَه البيع والإعتاق، [إن] (¬4) لم يكونا مألوفَيْن، وإن كانا مألوفين، فوجهان: أظهرهما: المنع، وجواز العدول إلى الصَّوم؛ لعُسْر مفارقة المألوف. والثاني، هو الذي أورده ابن الصَّبَّاغ: أنه يلزمه البَيْع والإعتاق، كما لو كان له ثَوْب نفيس يجد بثمنه ثوباً يليق به وعبْدًا يُعْتقه، وحكى صاحب "التتمة" وغيره طَرْدَ الخلاف [في] (¬5) الثوب، والجوابُ المَشْهور في الحَجِّ: أنه يلزمه البَيْع للحج، والحالة ¬
هذه وكأن الفَرْق أن الحَجَّ لا بَدَلَ له والإعتاق له بَدَلٌ يُعْدَل إليه. ولو كانت له صنيعه أو رأس مال يَتَّجِر فيه، وكان يحْصُل منهما كفايته بلا مزيد، ولو باعهما لتحصيل عبد، لارْتَدَّ إلى حدِّ المساكين، لم يُكلَّف ذلك؛ لأن المصير إلى حالة المسكنة أشدُّ من مفارقة الدار والعبد المألوفين، هذا ما أطلقه أكثرهم. وقوله في الكتاب "فالظاهر أنه لا يَلْزمه البيعُ، وعلى هذا لا يبعد أن لا يُكَلَّف بَيْع رأس ماله وضيعته" يُشْعِر بإثبات الخلاف فيه، وهو صحيحٌ؛ فإنا ذَكَرْنا في الحج وجهَيْن؛ في أنه هل يلزم بيعهما وصرفهما إلى الحَجِّ، وفي "تعليقة إبراهيم المروزي" ترتيب ما [نحن فيه] (¬1) على الحجِّ؛ إن قلْنا لا تباع في الحج فهاهنا أَوْلَى، وإن قلنا: تباع هناك، فهاهنا وجْهَين، والفرق أن الكفَّارة لها بَدَلٌ، وفي "المجرَّد" للقاضي أبي الطيِّب -رحمه الله- ذكر وجهَيْن في أن من مَلَك بضاعةً، لا يكفيه ما يحْصُل منها، وتحل له الزكاة، هل يلزمه الإعتاق أم يجوز له العُدُول إلى الصيام، وإذا جاء (¬2) الخلاف في المسكين، ففي الذي يخاف المَسْكَنة أوْلَى. ولو كان ماله غائباً أو لم يجد الرقبة، فلا يجوز العُدُول إلى الصَّوْم في كفارة القتل واليمين والجماع في نهار رمضان، بل يصير إلى أن يَصِلَ إلى المال أو يجد الرقبة؛ لأن الكفَّارة على التراخِي، وبتقدير أن يَمُوتَ لا يَفُوتُ، بل يُؤدَّى من تركته، ويخالف ما إذا لم يَكُنْ عنده ثَمَنُ الماء، حيث يتيمَّم؛ لأن وقْت أداء الصَّلاة مضيِّقٌ، فإن كان [ما] (¬3) يؤدِّيه بالتيمُّم القضاء الذي هو على التراخي، فلأنه لا يمكن تداركه بعد الموت، وفي كفارة الظِّهار وجهان: الموافق منهما لإطلاق الكتاب أنه لا يجوز العُدُول إلى الصوم أيضاً، وسياق "التتمة" يُشْعر بترجيحه. والثاني: يجُوز؛ لتضرُّره بفوات الاستمتاع. ولو كانت الرقبة تُبَاع بثَمَن غَالٍ لم يلزمه الشراء كما إذا بِيعَ المَاء بثَمَن بأكثر من ثمن المثل (¬4). قال صاحب "التهذيب": يلزمه أن يشْتَرِي بثمن غالٍ (¬5)، إذا قدَرَ عليه. ¬
ولو كانت [تباع] نسيئةً، وله مال غائبٌ، فعلى ما ذكَرْناه في شراء الماء في التّيمم ولو وهب منه عبداً أو ثمن عبد، لا يَلْزمه القَبُول للمنة، ويُسْتحب أن (¬1) يَقْبل، وُيعْتِق. وقوله في الكتاب "ويجوز العَدُول إليه لِمَنْ يتعسَّر علَيْه العتق" فيه إشارةٌ إلى أنه لا يُشْترط العَجْز عن العتق وتعذُّره، ولكن يبنى الحُكْم على العُسْر والمشقة. قال الإِمام: قد اتفق الأصْحَاب على ضَرْب توسّع في الباب، وإن كان قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ [مُتَتَابِعَيْنِ]} [المجادلة: 4] يُشْعر ظاهره بالتَّضْييق، حتَّى لا يجوز العدول عن الرقبة إذا كان للوِجْدان وجْه. وقوله "فله الصَّوم" مُعْلَم بالحاء والميم، ويجوز أن تعاد العلامتان على قوله "لا يلزمه البيع"، وقوله "لا يكلف بيع رأس ماله وضيعته الذي يلحقه بالمِسْكين" يعني البيع الذي يلحقه، وفي بعضه "التي تلحقه بالمسكين" ردا إلى الضَّيْعة، وحينئذ، فالبيع معاد، التقدير "وضَيْعَتَهُ الَّتي يُلْحِقُه بَيْعُها بالمِسْكين". وقوله "الذي يأخذ الصدقة" ضَرْبُ إيضاح، وفي لفظ "المِسْكِين" ما يغني عنه. فرْعٌ: ذكر القاضي ابن كج بَعْد ما ذَكَر حُكْم المسكن والعبد المحتاج إليهما في الحج والكفارة وجهَيْن؛ في أنه هل يجوز لمن يَمْلِك العَبْد والمسكن نكاحُ الأمة أم يبيعهما، وَيصْرِف الثمن إلى طَوْلِ الحُرَّة، ووجهَيْن في أنهما هل يباعان [عليه كما إذا أعتق شركاء] له في عَبْد، وإن (¬2) أبا الحُسَيْن قال: لا يجب على العُرْيَان بيْعُهما، قال: وعندي يجب [عليه] (¬3) ذلك، والذي قاله غَلَطٌ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالاعْتِبَارُ فِي اليَسَارِ وَالإعْسَارِ بِوَقْتِ الوُجُوبِ عَلَى قَوْلٍ* وَبِوَقْتِ الأَدَاءِ عَلىَ قَوْلٍ* وَيُعْتَبَر أَغْلَظُ الحَالَيْنِ عَلَى قَوْلٍ* وإذَا اعْتَبَرنَا وَقْتَ الوُجُوبِ فَأيْسَرَ ¬
بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ لَمْ يَلْزَمْهُ العِتْقُ (وح) * وَلَوْ تَكَلَّفَ المُعْسِرُ الإعْتَاقَ جَازَ عَلَى قَوْلٍ* وَالعَبْدُ إِذَا عَتَقَ فَأيْسَرَ قَبْلَ الصَّوْمِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الإعْتَاقُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهيْنِ* وَالعَبْدُ لاَ يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ عَلَى الجَدِيدِ* فَلاَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الإعْتَاقِ وَالإِطْعَامُ* وَلاَ يَصُومُ العَبْدُ إِلاَّ برِضَا السَّيِّدِ إِلاَّ إِذَا كانَ قَدْ حَلَفَ وَحَنِثَ بِإِذْنِهِ* وَإِنْ حَلَفَ بِإذْنِهِ وَحَنَثَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَسْتَقِلَّ بِالصَّوْمِ* وَإِنْ كَانَ بِالعَكْسِ فَوَجْهَانِ* وَمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ عَبْدٌ فَهُوَ كَالأَحْرَارِ (ح). قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: تبينَّ أن المُوسِر المتمكِّن من الإعتاق يُعْتِق، ومن يتعسّر عليه الإعتاق، يُكَفِّر بالصوم؛ إذ الاعتبار بحالة الوجُوب؛ لأن الكفَّارة نَوْعُ تَطَهُّرِ يختلف حاله بالرِّق والحرية، فيُنْظَر فيه إلى حالة الُوجُوب كالحَدِّ، وأنه لو زَنَا، وهو رقيق، ثم عَتَقَ أو بِكْرٌ ثم صار محْصنًا يقام علَيْه الأرِقَّاء والأبكار. والأصح، وبه قال أبو حنيفة ومالك -رحمهما الله-: أن الاعتبار بحَالَةِ الأداء؛ لأنَّ خصَالَ الكفَّارة عباداتٌ، فيراعى فيها حالة الأداء، كما في الوُضُوء، والتيمم، فإن النظر في القُدْرة على استعمال الماء والعَجْز عنه إلى حالة الأداء، وكما في الصلاة، فإن النَّظَر في القُدْرة على القيام والعَجْز عنه إلى حالة الأداء، حتَّى لو عَجَز عن القيام عِنْد الوجوب، وقدر عند الأداء، يُصَلِّي صلاة القادرين، ولو انعكس الحالُ، انعكس الحُكْم، وعبَّر مُعَبِّرون عن الغَرَض بأن القولَيْن مبنيان على أن المُغَلَّب في الكفَّارة شوائبُ العُقُوبات أو شوائب العبادات؟ إن قلْنا بالأول، اعتبرنا حالَة الوجوب، وإن قلنا بالثاني، فحالة الأداء. والثالث المُخَرَّج: أنه يعتبر الحالة الَّتي هي أغْلَظُ؛ لأنه حقٌّ يجب في الذمَّة بوجود المال، فيراعى أغلظ الأحوال، كالحَجِّ؛ فإنه يجب متى تحقَّق اليسار، وهاهنا كلامان: أحدُهما: قال الإِمام -رحمة الله عليه-: إذا قلْنا: إن الاعتبار بحالَةِ الأداء، ففي التعبير عن الواجب قبْل الأداء غموض، ولا يتجه إلاَّ أن يقال: الواجب أصْلُ الكفَّارة، ولا تُوصَف خصلة على التعيين بالوجوب، كما يقول بوجوب كفارة اليمين على المُوسِر من غير تعيين خَصْلة أو يقال: يجب ما يقتضيه حالُ الوُجُوب، ثم إذا تَبدَّل الحال، تَبدَّل الواجب، كما أنه يَجب عَلَى القَادر صلاة القادرين، ثم إذا عَجَز تبدَّلت صفةُ الصَّلاة. والثاني: اختلفوا في التعبير عن القول المخرَّج، فقال بعضهم: يعتبر الأغلظ منْ حَالَتَي الوجوب والأداء، وربما أشعر كلاَمُهم بقَطْع النَّظَر عن الحالات المتقلّلة بينهما، بل صرَّح الإِمام -رحمه الله- بأنه لو كان مُعْسِرًا في الحالتين، وتخلَّلت بينهما حالةُ يَسَارٍ، لم تعتبر تلك الحالة، وأشار إلى اتفاق الأصحاب -رحمهم الله-، وقال: السَّبب
فيه أن الوُجُوب مضاف إلى الوقْت، والمعنى الذي هو مَنَاطُ الكفَّارة، ووقت الأداء منتظر، فلا يتبدَّل الوجوب من غَيْر تقدير الأداء. وقال الأكثرون، منهم القاضي أبو الطيِّب وصاحب "التهذيب": يُعْتَبَر أغْلظُ حالة من وقْت الوجوب إلى الأداء، حتى لو كان معسراً من وقت الوجوب إلى الأداء وأيسر في وقْت ما كان واجِبُهُ الإعتاقَ؛ أخْذاً بالاحتياط. ولنَعُدْ إلى التفريع؛ إنْ قلْنا: الاعتبار بحالة الوجوب، فلو كان موسرًا يوم الوجوب، ففرضه الإعتاق، وإن أعسر من بَعْدُ، واستحب الشَّافعيُّ -رضي الله عنه- أن يصوم ليكون آتياً ببعض أنواع الكفَّارة إن اخترمته المنية وإن كان معسراً يومئذ ففرضه الصيام، ولا يلزمه الإعتاق، وإن أيسر من بعْدُ، [إذا أعسر قبل التكفير] لكنه يجزئه؛ لأن الإعتاق واقعٌ في الرتبة العُلْيَا، فإذا أجزأه الأدْنَى، فَلأَنْ يُجْزِئَهُ الأعْلَى، كان أولى، وفي "النهاية" أن صاحب "التقريب" حَكَى وجهاً أنه لا يجزئه إلاَّ الصَّوم؛ لتعينه في ذمته (¬1)، وإن قلنا: الاعتبار بحالة الأداء، فإن كان موسرًا يومئذ، ففرضه الإعتاق، وإن كان معسرا من قَبْلُ، وإن كان معسرًا، ففرضه الصوم، وإن اعتبرنا الأغلظ، فإن كان موسرًا عند الوجوب أو الأداء، فعليه الإعتاق، وإن كان مُعْسرًا في الحالتين (¬2)، وأيسر بينهما، فعلى القولَيْن الأوَّلَيْن، فَرْضُهُ الصَّوْم، ولو أعتق، كان أحبَّ، وكذا الحُكْم على القول الثالث في رواية بعضْهم، وعَلَى ما ذكره الأكثرون: الفَرْض الإعتاق، وإذا كان موسرًا في حالَتَي الوجوب والأداء، وكان معسرًا بينهما، ففرضه الإعتاق على جَمِيع الأقوال، ولو تكلَّف المعْسِرُ الإعتاقَ باستقراض وغَيْره، أجزأه؛ لأنه رَقَى إلى الرتبة العُلْيا، وعن رواية صاحب "التقريب" وجْه أنه لا يجزئه، وقَدْ سبَقَ نظيره، وهذا بعيدٌ عند الأئمة -رحمهم الله-، وقالوا: لو أعتق العَبْد بعْد وجوب الكفَّارة عليه، وأيسر قبل التكفير، هل يجزئه الإعتاق؟ فيه وجهان قريبان، ويقال قولان: أحدهما: لا؛ لأنه لم يَكُنْ أهلاً للإعتاق يوم وجوب الكفَّارة؛ بناءً على أن العَبْد لا يَمْلِك. وأصحهما: نعم، وهو المذكور في "التتمة"؛ لأن الإعتاق في الرتبة (¬3) العليا، وهذا إذا اعتبرنا حالَةَ الوجوب، أما إذا اعتبرنا حالة الأداء، فهل يلْزَمُه الإعتاق؛ فيه وجهان، أو قولان: أظهرهما، وبه أجاب إبراهيم المروزيّ وصاحب "التهذيب": -رحمهما الله- نَعَم، كما لو كان معسرًا حينئذ، فأيْسَرَ. ¬
والثاني، وهو الجواب في "الشامل": أنه لا يَلْزم؛ لأنه لم يكُنْ من أهل الإعتاق يوْمَئِذٍ. ولو شرع (¬1) المعسر في الصوم، ثم أيسر، كان له المُضِيُّ في الصيام، ولم يلزمْه الإعتاق، ولو أعتق، كان أحَبَّ، ووقع ما مَضَى من الصوم تَطَوُّعاً، وبهذا قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة والمزني: يلزمه الانتقال إلى العِتْق، وعن رواية الشيخ أبي محمَّد مثله. واحتج الأصحاب للمَذْهب بأنَّه قَدَر على المبدل بعْد الشروع في صوم البَدَل، فلا يَلْزَمه الرُّجُوع إلى المُبْدل، كما لو وجد الهَدْي بعْد الشروع في صوم السبْعة، ولو أيْسَر بعْد ما فَرَغَ من الصوم، لا يلزمه الرجوع إلى العِتْق بلا خلاف، ولو كان وقْتَ الوُجُوبِ عاجزًا عن الإعتاق والصوم، فأيسر قبل التكفير، فإن اعتبرنا حالَةَ الوجُوب، ففَرْضُهُ الإطعام، وإن قلنا بأحد القولين الآخرين، فعليه الإعتاق. وقوله في الكتاب "والاعتبار في اليَسَار والإعْسَار بوقت الوجوب" فيعلم بالحاء والميم وقولها "وبوقت الأداء" بالألف، ويجوز أن يُعْلم القول الثالث بها (¬2) جميعاً. وقوله "وإذا اعتبرنا وقْت الوجوب" هكذا أجده في النسخ، والحكم المعلَّق به صحيحٌ في نفسه، لكنه أوْضَحُ من أن يحتاج إلى ذِكْره، ولو كان مكانه، "وإذا اعتبرنا وقْت الأداء" كان أقوم، وليعلم أن حالة الأداء، إنَّما تُعْتبر إذا أيْسَر قبْل الخَوْض في الصوم، وأنه لا أثر له بعْد الخوض، وهكذا هو في "النهاية" و"الوسيط" على أن جواز المضيِّ في الصوم، وعدم وجوب الانتقال إلى العِتْق، لا يختص ببَعْض الأقوال (¬3)، بل هو جارٍ على الأقوال عنْدنا؛ فلا حاجَةَ إلى تخصيص التفريع ببَعْضِها وكذلك لو أطعم بعض المساكين، ثم قَدَرَ عَلَى الصوم، لا يَلْزَمُه العُدُول إلى الصَّوْم. المسألة الثانية: العَبْد لا يملك بتمليك غيْر السيد، وهل يملك بتمليك السيد؟ فيه قولان، سبق ذكرهما، والجديد (¬4) المنع، وإذا لم يَمْلِك، فلا يُتصوَّر منه التكفير بالإعتاق والإطعام، وإن قلنا: إنه يَمْلك [بتمليك] (¬5) السيد، فلو مَلَّكه طعاماً لِيُكَفِّر به أو كسوة، لِيُكَفِّر بها في كفَّارة اليمين، جاز، وعليه التكفير بما ملَّكه وإن ملّكه عبداً؛ ليعتقه، لم يجز؛ لأن العِتْق يَسْتَعْقب الولاء، ولا يمكن إثبات الولاء للعبد، هذا هو ¬
الظاهر المشهور، وعن صاحب "التقريب" أنه يصحُّ إعتاقه، ويثبت له لولاء، وعن القَفَّال تخريجُ قول إن إعتاقه يُجْزئ عن كفارته، والولاء موقوفٌ إن عَتَقَ، فهو له، وإن دام رقه، فلسيده، وأما تكفيره بالصَّوْم، فإن جرى ما تتعلَّق به الكفَّارة بغَيْر إذن السيد كما إذا حَلَف وحَنِث بغَيْر إذنه، فلا يَصُوم إلا بإذْنه، ولو تبرَّع دُون إذْنِه، كان له تحليله، كما لو أحرم بالحج بغير إذنه، وقال أحمد -رحمه الله-: ليس له تحليله، وإن جرى بالإذْن كما إذا حَلَف وحنِثَ بإذنه، فيصوم، ولا يحتاج إلى إذْن السيد، وإن حَلَفَ بإذنه وَحنِثَ بغَيْر إذنه، فوجهان: أحدهما: أنَّ له أنْ يصوم بغَيْر إذنه؛ لأن الإذْن في الحَلِف إذْنٌ فيما يتعلَّق به، ويترتَّب عليه، كما أنَّ الإذْن في النكاح إذْنٌ فيما يتعلَّق به من اكتساب المَهْر والنفقة، وهذا ما رجَّحه في "التهذيب". وأصحُّهما عند الأكثرين، وهو المذكور في الكتاب: أنه لا يستقل بالصَّوْم؛ لأن لزوم الكفَّارة لا يلازم اليمين، [بل اليمين] (¬1) مانعةٌ من الحِنْث، فالإذن فيها لا يكون إذناً في التكفير، وإن حَلَف بغير إذنه وحَنِثَ بإذنه، ففيه طريقان: أحدهما، وهو الذي أورده في الكتاب: أن فيه وَجْهَيْن: أحدهما: أنه لا يَصُوم إلا بإذنه؛ لأن الحَلِفَ هو السبب الأول، ولم يأْذن السيد فيه، وإنما العَبْد ورَّطَ نفْسه فيه. والثاني: له أن يصُوم بغَيْر إذن السيد؛ لأن الحنث يستعقب الكفَّارة، فالإذن فيه إذنٌ في التكفير، كما أن الإذن في الإحرام بالحَجِّ يكون إذنًا في الأفعال. والطريق الثاني: القطع بالوجه الثَّاني، وهو الأظهر على طريقة إثْبات الخِلاَف وحيث قلنا: يَصُومُ بغير إذن السيد، فلا يختلف الحَالُ بَيْن أن يكون النهار طويلاً أو قصيراً، شديدَ الحَرِّ أو غيره، وإذا قلْنا: لا بُدَّ من الإذْن، فذلك في الصوم الذي يورث ضَعْفًا من شدة الحر، وطول النهار، فإن لم يكُنْ كذلك، فهل يحتاج إلى الإذْن؟ فيه خلاف نذكره -إن شاء الله تعالى- في باب الأيمان، والظاهرُ، وبه أجاب هناك: أنه ليْس له المنع، والمُراد ممَّا أطْلَقَه هاهنا ما إذا أوْرَثَ الصَّومُ ضُعْفًا، قال الأئمة: وإنما اعتبر إذْن السيد، وإن كان الصوم واجباً؛ لأن صَوْم الكفَّارة على التَّرَاخِي، وحقُّ السيد على الفَوْر بخلاف صَوْم رمضان، هذا ما يتعلَّق بكفَّارة اليمين، قال في "الوسيط": ومنْعُه من صوم الظهار غَيْر مُمْكِنٍ؛ لِمَا فيه من الإضرار بالعَبْد باستمرار التحريم (¬2). ¬
ومَنْ بَعْضه حُرٌّ وبعْضُه رقيقٌ كالحرِّ في التكفير بالمال، على ظاهر المَذْهب، والمسألة معتادةٌ في كتاب الأَيْمان، ونَذْكرها هناك مع زيادات فيما يتعلَّق بكفارة العَبْد، إنْ وفَّق الله تعالى. وقوله في الكتاب "والعبد لا يَمْلِكُ بالتَّمْلِيكِ على الجديد" هذا وقد ذكره في باب معاملة العبيد، والغَرَض من إعادته هاهنا بيانُ أنَّه لا يُتصوَّر منه الإعتاق والإطعام؛ تفريعًا عليه، ويجوز أن يُعْلَم بالميم والألف؛ لِمَا سبَقَ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَأَمَّا حُكْمُ الصَّوْمِ فَهُوَ أنَّهُ تَجِبُ فِيهِ نِيَّةُ الكَفَّارَةِ بِاللَّيْلِ* وَلاَ يَجِبُ (ح) تَعْيِينُ جِهَةِ الكَفَّارَةِ* وَهَلْ تَجِبُ نِيَّةُ التَّتَابُعِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ* وَإِذَا مَاتَ لَمْ يَصُمْ عَنْهُ وَلِيُّهُ عَلَى الجَدِيدِ* وَيَصُومُ شَهْرَيْنِ بِالأَهُلَّةِ* فَإِنِ انْكَسَرَ الشَّهْرُ الأَوَّلُ صَامَ أَحَدَ الشَّهْرَيْنِ بِالهِلاَلِ (ح) وَتَمَّمَ المُنْكَسِرَ ثَلاَثِينَ* وَلاَ يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ بِوَطْءِ المُظَاهِرِ لَيْلاً وَلَكِنْ يَمْضِي* ويَنْقَطِعُ بِإفْسَادِهِ يَوْمًا وَلَوْ كَانَ الَيوْمَ الأَخِيرَ فَيَجِبُ الاسْتِئْنَافُ* وَالحَيْضُ لاَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ* وَفِي المَرَضِ قَوْلاَنِ* وَفِي السَّفَرِ قَوْلاَنِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلى بِأنْ يَقْطَعَ* وَنِسْيَانُ النِّيَّةِ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ* وَلَوْ أَفْطَرَتْ عَلَى عَزْمِ أَنْ تَسْتَأْنِفَ بَعْدَ زَوَالِ الحَيْضِ الَّذِي لاَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ فَالظَّاهِرُ أنَّهَا لاَ تَعْصَى بِإسْقَاطِ وَصْفِ الفَرِيضَةِ مِنَ الصَّوْمِ السَّابِقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: غَرضَ الفَصْل بيانُ حُكْم الصوم، إذا كَفَّر به، وفيه مسائل: أحدُها: يجب أن ينوي صَوْم الكفَّارة من الليل؛ كصوم رمضان، ولا بُدَّ لصوم كلِّ يوم من نية، وعن مالك: يكفي نيَّة صوم الشهر في الليلة الأُولَى، ولا بد، وأن ينوي كَونَه عن الكفَّارة، ولا يجب تعْيِينُ الجهة، وهذا قد سبَقَ ذكْره في أوَّل الكتاب، ولا فَرْق فيه بين الصَّوْم وغيره من الخِصَال، وفي اشتراط نية التتابع وجهان: أحدهما: الاشتراط؛ ليكون متعرِّضًا لخاصَّة هذا الصوم، وشبه أيضاً بالجَمْع بين الصلاتين؛ لما فيه من ضَمَّ بعض العبادات إلى بَعْض. وأصحُّهما: المَنْع؛ لأن التتابعَ هيئة مشروطة في هذه العبادة، ولا يجبُ في العبادات التعرُّض للهيئات والشرائط وتخصيصها بالنية، وإذا قِيلَ بالأول، فيَكْفِى بنية التتابع بني الليلة الأولى؛ لحصول التمييز أم يجب التعرض له في كل ليلة كسائر مَا يَجِبُ التعرُّض له في النية؟ فيه وجهان. وإذا مَاتَ، وفي ذِمَّته صوْم كفارة، فهَلْ يصوم الوَلِيُّ عنْه؟ فيه قولان: الجديد المَنْع، وقد سَبَق ذكرهما في كتاب الصوم، وأعادهما في الوصيَّة، وهذه مرةٌ ثالثةٌ.
وفي "التجْربة" (¬1) للقاضي الرُّويانيُّ: أنه لو نَوَى الصَّوْم باللَّيْل قَبْل طَلَب الرقبة، ثم طلبها بالليل فلم يَجِدْها, لم يُجْزِئه صومه إلا أن يُجَدِّد النية بعْد الفِقْدَان؛ لأن تلْك النيَّة تقدَّمت على وقْت جواز الصوم. الثانية: إذا ابتدأ بالصَّوْم لأول شَهْر هلاليٍّ، صام شهرين بالأهلة على ما يَتَّفِق لهما (¬2) منْ كمالٍ أو نقصانٍ، وإذا ابتدأ به في خِلاَل الشَّهْر، وهو المراد من قوله "فإن انكسر الشَّهْر" فيصوم ما بَقِيَ من الشهر، ويصوم الذي بعده بالهلال، ثُمَّ يكَمِّل الباقي بالعدد؛ مثاله: مَضَى مِنَ المُحرَّم عشرة أيام، يصوم الباقي منْه، ويصوم صَفَرًا بِالهلال، ويصوم عَشَرة أيَّام من ربيع إن كان المُحرَّم كاملاً، وأحَدَ عَشَر إن كان ناقصاً. وعن أبي حنيفة: أنه إذا انْكَسَر شَهْر بطل اعتبار الأهِلَّة، وصار المرعيُّ العَدَدَ، قال الإِمام: وقد مال إليه بعض الأصحاب، ونظير المسألة قد مَرَّ في السَّلَمِ والطلاق وغيرهما، ويجوز أن يُعْلَم؛ لذلك قوله في الكتاب "صام أحد الشهرين بالهلال" مع الحاء بالواو. الثالثة: يجب التتابع في صوم الشهرَيْن بنص القرآن، ولو وطئ المظاهَرَ عنها ليلاً قبل تمام الشهرين، عَصَى بتقديم (¬3) الوطء على تمام التكفير، ولكن لا يَنْقَطع به التتابع، ولا يجب استئناف الشهْرَيْن، خلافاً لأبي حنيفة ومالك، واحتج الشَّافعيُّ -رحمه الله - رضي الله عنه- بأنَّا لو أوجَبْنا الاستئناف، لوقع صَوْم الشهرين بعد التَّمَاسِّ، ولو لم نوجبه، كان بعض الشهرين قبل التَّمَاسِّ، وهذا أقرب إلى ما هو مأمُورٌ به من الأول، واحتج الأصحاب بأنه جِمَاع لا يؤثر في الصَّوْم، فلا يقْطَع التتابع، كالأكل بالليل، وجماع غَيْر المُظَاهَر عنها، وإذا فَسَدَ صوْم يومٍ، انقطع التتابع وإن فُرضَ ذلك في اليوم الأخير، ووجب استئناف الشهرَيْن وما مضى يحكم بفساده أو يَنْقَلِبُ نفلاً؟ فيه القولان المذكوران فيما إذا نَوَى الظُّهْر قبل الزوال ونظائره، والحيض لا يقطع التتابع في صوم المرأة عن كفَّارة القتل، والوِقَاع في نهار ¬
رمضان، إن ألزمت (¬1) كفرة الوقاع بل تبنى إذا طَهُرت؛ لأن ذات الأقراء لا تخلو عن الحَيْض في الشهرين غالباً، والتأخير إلى سِنِّ اليأس مُخَطِّر، والنِّفَاس ملْحق بالحَيْض كما في سَائِرِ الأحْكَام كذلك، حكاه صاحب "التهذيب" وغيره، ونقل أبو الفَرج السرخسيُّ وجْهًا آخر أنه يقطع التتابع؛ لنُدْرته، وإذا أفْطَرَ المُكفِّر تعذر المرض، فهل ينقطع به التتابع؟ فيه قولان: أصحُّهما، وهو الجديد: نعم، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنَّ المرض لا ينافي الصَّوم، وإنما خرج عن الصوم بِفِعْله بخلاف الحيض. والثاني، وبه قال مالك وأحمد، واختاره المزنيُّ: أنه لا ينقطع؛ لأنه أفْطَرَ لما لا يتعلَّق بالاختيار، فيعذر كالحائض، وإذا بطل الصوم بالاغماء، فمنهم من جَعَله كالإفطار بالمرض، ومنهم من ألحقه بالجُنُون، وهو الأشبه، وفي الجنون طريقان: أحدهما: طرد القولين فيه. والثاني: القطع بأنه لا يَقْطَع التتابع؛ لعدم الاختيار، ولمنافاته الصوم، كالحيض، قاله في "التتمة"، وهو الصحيح، ولو أفطر بعُذْر السَّفر، فطريقان: أنه على القولين في المرض، وثانيهما القَطْع بانقطاع التتابع؛ لأن السفر يتعلَّق باختياره وانشائه، وقوله في الكتاب: "وفي السَّفَرٍ قوْلاَنِ مرتَّبان" إلى آخره، يُشِير إلى الطريقين (¬2)، ولو أفطرت الحامل أو المُرْضِع، خَوْفًا على الولد، ففي طريقٍ: هو إفطارٌ بعُذْر؛ فيكون على القولين في المَرَض، وفي طريق: ينقطع التتابع لا محالة؛ لأنهما يفطران لغيرهما، بخلاف المريض؛ ولهذا فارقتا المريض في لزوم الفدْية في رمضان. ونسيان النية في بعض الليالي بقَطْع التتابع؛ كترك النية عمداً، ولا يجعل النسيان عُذْراً في ترك المأمورات (¬3)، قال الإِمام ولذلك مَنْ نَسِيَ النِّيَّة في رمَضَان، لزمه (¬4) إمساك بقيَّة اليوم على الأصح كما لو تعمَّد الترك. ¬
وإذا أكْرِهَ على الأكْل، فأكل، وقلنا: يبطل (¬1)، صومه، انقطع التتابع؛ لأنه سببٌ نادرٌ، هذا هو المشهور في الصورتَيْن، وجعَلَهُما القاضي ابن كج على الخِلاَف في المرض، وذكر أنه لو استنشق فوصل الماء إلى دماغه، وقلنا ببطلان صومه، فانقطاع التتابع (¬2) على الخلاف. ولو ابتدأ بصَوْم الشهرين في وقْت يدخل عليه رمضان قَبْلَ تَمَامِ الشهْرَيْن أو يدخل يوم النَّحْر لم يُعْتَدُّ بصومه عن الكفَّارة؛ لإنشائه في وقْت يَتعذَّر فيه الوفاء بالتتابع، قال الإِمام: ويَعود القولان في أنَّه هل ينعقد نفْلاً؟ فهذا مضى رمضان ويوم العيد، اعْتُدَّ بما بَعْد ذلك, وكذا إذا مَضَى يوم النحر وأيام التشريق [إلا إذا قلْنا: إنَّ أيَّام التشْريق] تقْبَل الصوم الَّذي له سَبَبٌ تفريعًا على أن للمتمتِّع أن يصومها؛ فيكون الاعتداد من أول أيام التشريق، ولا يجوز أن يصوم رمضانَ عن الكفَّارة؛ لأن زمانَ رَمَضان متعيِّنٌ لغيرها، وإذا [نوى الصيام] عن الكفَّارة، لم يُجْزه عن رمضان؛ لأنه لم يَنْوه، ولو نواهما، لم يُجْزِه عنْهما، وحكى القاضِي أبو الطيِّب في "المُجَرَّد" عن أبي عُبَيْد بن حربويه إجزاءه عنْهما، وغلَّطه فيه، وفي كتاب القاضي ابن كج أنَّ الأسير إذا صام عن الكفَّارة بالاجتهاد، فغلط فجاء رمضان أو يومُ النَّحْر قبل تمام الشهرين، فانقَطَاعُ التتابع على الخلاف في الإفطار بالمرض. وإذا أوجَبْنا التتابع في كفَّارة اليمين، فحاضَتْ في خلال الأيَّام الثلاثة، فقد قيل: هو كالإفطار بالمرض في الشَّهْرين، بخلاف الحيض في الشهْرَيْن؛ لأن الغالب اشتمالهما على الحيض، ويُشْبِه أن يكون فيه طريقةٌ قاطعةٌ بانقطاع التتابع؛ لأن إيقاع الثلاثة في الوقْت الَّذي لا يطرأ الحَيْض فيه مُتَيَسِّر. وإذا شَرَع في صوم الشهرَيْن، ثم بَدَا له أن لا يُتِمَّ، ويستأنف بعد ذلك، فقد ذكروا في جوازه احتمالين: أحدهما: يجوز، كما يجوز تأخيره في الابتداء، وليس في الامتناع من الإتمام إبطالُ عبادةٍ، فإنَّ صوْمُ كلِّ يَوْمٍ عبادةٌ مستقلةٌ. والثاني: لا يجوز؛ لأنه تبطل صفَةُ الفرضية، والوقوع عن الكفَّارة فيما مَضَى، ¬
الثالثة: الإطعام
ولو عرض ما لا يبطل التتابع في خلال الشهرين؛ كالحيض وأرادَتِ الحائض ترْك الصوم بعد زوال الحيض، واستئْنَافَ الشهرين بَعْد ذلك، ففيه الاحتمالان، وهذه الصورة هي التي ذَكَرها في الكتاب، وفي "الوسيط" والحُكْم فيها وفي التَّرْك من غير أن يعرض عُذْرٌ واحدٌ، ولو عَمَّمَ وقال: الحائض في صوم الشهرين لو تركَتْه من غير عذر على عَزْم أن تبتدئ شهرَيْنِ بعْده، هل له ذلك؟ فيه خلافٌ لجاز أو كان أولى، وكذلك أورد الإِمام، وصاحب الكتاب في "البسيط" ثُمَّ في المسألة كلمتان: إحداهما: صوَّر الإِمام فيما إذا لم ينو صوْمَ الغَدِ، وقال: الإفطار في اليوم الذي شَرَع فيه، يبعد التسليط عليه؛ لِمَا فيه من إبطال العِبَادة، وصاحب الكتاب أطْلَقَ لفْظ الإفطار فقال: "ولو أفطَرَتْ على عَزْمِ أن تستأنف"، فيمكن أن يترك، ويُحْمل على ما قاله الإِمام، ويجوز أن يقال: إذا كان تَرْكَ الصوم يبطل صفة الفرضية عَمَّا سبق، ويجعله نفْلاً، فكذلك الإفطار في خِلاَل اليوم يجعله نفلاً، والنَّفْل يجوز الخروج منه. وقوله "بَعْد زوال الحيض" متعلِّق بقوله "أفطرت"، وفي بعض النسخ "بعد زوال العذر" وهما قريبان. والثانية: الأظْهَرُ من الاحتمالين عند صاحب الكتاب جوازُ الترك واستئناف الشهرين، وقال القاضي الرُّويانيُّ: والذي يقتضيه قياس المذهب أنَّه لا يجوز؛ لأن صوم الشهرين عبادةٌ واحدةٌ كصوم يَوْمٍ واحدٍ، فيكون قطعه كقطع فريضة شَرَع فيها، وأنه غير جائز، وهذا حسن والله أعلم -بالصواب. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ: الإِطْعَامُ) وَهوَ سِتُّونَ مُدًّا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالقَتْلِ وَالوِقَاعِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بَدَلاً عَنْ صَوْمِ سِتِّينَ يَوْمًا* وَيُصْرَفُ إِلَى سَتِّينَ مَسْكِينًا* وَلاَ يَكْفِي الصَّرْفُ إِلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي سِتِّينَ يَوْمًا* وَجِنسُهُ كجِنسِ زَكَاةَ الفِطرِ * وَيجِبُ فِيهِ التملِيكُ، وَلاَ يجزِئُ التغذِيَةُ (ح) وَالتعشِيَةُ * وَلاَ يُعْدَل إِلَيْهِ إِلاَّ بِعُذْرِ الهَرَمِ أَوِ المَرَضِ الَّذِي يَدُومُ شَهْرَيْنِ* وَأَمَّا الشَبَقُ (و) فَلاَ يُرَخِّصُ في تَرْكِ الصَّوْمِ عَلَى الأَظْهَرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قال الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] والكلام في هذه الخصلة يقع في فُصُول: أحدها: في قَدْر الطعام، وهو في كفارة الظهار والوقاع في نهار رمضان وكذا في كفارة القتل إن أوجبنا فيه الإطْعام ستُّون مدًا لستين مسكيناً بدلاً عن صوم ستين يوماً، والاعتبار بمُدِّ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وهو رطل وثُلُثٌ، [بالبغدادي] وذلك رُبُعُ صَاعٍ، فالصاع أربعة أمدادٍ على ما سَبَق، ولا يختلف [ذلك باختلاف] (¬1) جنس المُخْرَج، وقد قَدَّمنا أن ¬
عنْد أبي حنيفة المُدُّ رطلان، والصاع ثمانية أرطالٍ؛ أربعة أمناء وأمداد ووظيفة كلِّ مسكين إن أخرج البُرَّ نصْفُ صَاعٍ مُدَّان، ومن التمر والشَّعير صاعٌ أربعةُ أمْدَادٍ، وعنه في الزبيب روايتان، وقال مالك: الاعتبار في كفَّارة الظِّهار بِمُدِّ هشام بن عبد الملك بن مروان، وهو أزيد من مُدِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قِيلَ: هو مدَّانِ بِمُدِّ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وقيل: هو مدٌّ ونصْفٌ، وقيل: مد وثُلُثٌ، وساعَدَنا في غير كفارة الظهار، وقال أحمد: لكلِّ مسكينٍ منَ البُرِّ مُدٌّ، ومن الشعير والتمْرِ مُدَّان، واحتج أصحابنا بِمَا رُوِيَ في حديث الأعرابيِّ الذي جامَعَ في نهار رمَضَان أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ فِيهِ خمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، فَقَال: خُذْ هَذَا، وَأَطْعِمْ عَنْكَ سِتِّينَ مِسْكِيناً، وهذا المبلغ إذا قُسِّمَ على ستين، كان لكلِّ واحدٍ منْهم مُدٌّ لا صَاعٌ، ويجوز أن يُعْلَم قوله في الكتاب "وهو ستون مداً" بالحاء؛ لأن الواجب عنده من البر مائةٌ وعشْرُون مُدًّا، ومن غيره سِتُّونَ صَاعًا، وبالألف؛ لأن عنده الواجب من غير البُرِّ مائةٌ وعِشْرون مُدًّا, ولاَ ينبغي أن يُعْلَم بالميم، فإنه لم يخالف في عدد المد، وإنما الخلاف في قَدْر المد، وأعلم قوله "والقتل" بالواو؛ لخلافٍ سيأتي في كفَّارة القتل في أن الإطْعَام هل له مدخل فيها؛ وأعلم أنَّ في قَدْر الكفَّارة والفَطْرة (¬1) ونحوهما نَوْعُ إشكالٍ؛ وذلك لأن الصيدلانيَّ وغَيْره [من الأئمة] (¬2) ذكروا في أن الاعتبار في ذلك بالكيل دُون الوَزْن، وأرادوا به أن المِقْدار الذي يَحْويه الصَّاع يَخْتلف وزْنُه باختلاف جنْس المَكِيلِ (¬3) ثِقلاً وخفةً، فالبر أثْقَلُ من الشعير، وأنواع البُرِّ أيضاً قد تختلف أوزانِّهَا، فالواجب الَّذي يحويه المكْيل بالغًا وزنه ما بلغ، وذكر بعضهم أن الذي قيل في وزن الصالح على ما قدَّمنا في زكاة الفطر، كأنّه اعتبر فيه البُرَّ أو التمر، وقضية هذا الكلام أن يجزئ من الشعير ما هو دُونَ ذلك المِقدار في الوزن، إذا كان يَمْلأُ الصَّاع، لكن اشتهر عن أبي [عُبَيْد] القاسم بن سَلاَّم [ثم] عن ابن سُرَيْج أن دِرْهم الشَّرِيعَة خمسون حَبَّةً وخُمْسَا حَبَّةٍ ويُسَمَّى ذلك درْهَمَ الكيل؛ لأن الرَّطْل الشرعيَّ منه يُرَكَّب، ويركب من الرَّطْلِ المُدُّ، ومن المد الصَّاعُ، وذكر الفقيه أبو محمَّدٍ عبْدُ الحَقِّ بْنُ أبِي بَكْرٍ بْنِ عطيَّةَ أنَّ الحَبَّة التي يتركَّب منها الدرْهَم هي حبَّة الشعير المتوسِّطة الَّتي لم تُقَشَّر، وقُطِعَ من طرفَيْها ما امْتَدَّ، وقضيَّة هذا أن يحوي الصالح هذا المقدار من الشعير، وحينئذ، فإن اعتبر الوزن، لَمْ يملأ البر بهذا الوَزْنِ الصَّاعَ، ولم ينتظم القول بأن الوَاجِبَ ما يحويه المِكْيَال، وإن اعتبر الكيل، كان ما يجزئ من البُرِّ أكثر مما يجزئ من الشعير (¬4) بالوزن والله أعلم. ¬
الفصل الثاني: في المصروف إليه، وهو ستون مسكيناً، ولا يجزئ الصرْفُ إلى واحِدٍ في ستِّين يوماً، ولا يجْزئ الصَّرْف إلَيْه دفْعةً واحدةً، واختلف الرُّويانيُّ في الصَّرْف في يوم واحدٍ لستِّين دفْعَةً، واحتج الشَّافعيُّ -رضي الله عنه- بأن قوله تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] يشتمل على وَصْف، وهو المَسْكَنَة، وعلى عَدَدٍ وهوَ السِّتُّون، فكما لا يجوز الإخلال بالوصف، لا يجوز الإخلال بالعَدَد، كما أن قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فيه تعرُّضٌ لوصفٍ وعَدَدٍ وكما لا يجوز الإخلال بالوصف، لا يجوز الإخلال بالعَدَد، حتى لا تَكُونَ شَهادةٌ واحدةٌ كشهادةِ اثنين. ولو جمع ستين مسكيناً، ووَضَع بيْن أيديهم سِتِّين مُدّاً، وقال: مَلَّكْتُكم هذا، وأطْلَق أو قال بالسَّويَّة، فقَبِلُوه، جاز وقال الإصْطخريُّ: لا يجوز (¬1)؛ لأن علَيْهم مُؤْنَةَ القِسْمَة، فأشبه ما لو دفع إليهم سنابل، والمذهب الأول، وهذه المؤنة خفيفة، ولو قال: خذوا، ونوى الكفَّارة، فإن أخذوا بالسوية، أجزاه، وإن أخذوا على التفاوت، لم يجزئه إلا واحدٌ، لأنَّا بَتَيَقَّنُ أن أحدَهُمْ أخَذَ مُدّاً، فإن تُيُقَّنَ أن عَشَرة أو عشرين منْهم قَدْ أخَذَ كلُّ واحد منهم مُدّاً، أجزأه ذلك القَدْر، وتدارك الباقي، ولو صَرَف الستين إلى ثَلاَثِين مسْكيناً أجْزأه منها ثَلاثُونَ مُدّاً، ويصرف إلى ثلاثين غَيْرهم ثلاثين مدّاً، ويستَرِدُّ الأمداد الزائِدَة من الأوَّلِينَ إن شَرَط كَوْنه كفَّارةً، وإلا لم يسترد، ولو صرف ستين مدًا إلى مائةٍ وعشرين، أجزأه من ذلك ثَلاثونُ مُدًّا، ويصرف ثلاثين مُدًّا إلى ستين منْهم يختارهم، فالاسترداد من الباقين على التفصيل المَذْكُور، ويجوز صَرْف الكفَّارة إلى الفقراء؛ فإنهم أشَدُّ حالاً من المَسَاكِين، ولا يجُوزُ صَرْف الكفَّارة إلى الكفار خِلافًا لأبي حنيفة في أهل الذِّمَّة، ولا إلى "الهاشِمِية" كالزكاة، ذكره صَاحِبُ "التهذيب" في فتاويه، ولا إلى من تَلْزَمُه نفقته؛ كالزَّوجة والْقَرِيب، ولا إلَى عبْد ولا مكاتَبٍ، خلافًا لأبي حنيفة في المُكَاتَب، ولو صرف إلى عبد بإذْن سيده، والسيِّد بصفةِ الاستحقاق، جاز؛ فإنه صَرْف إلى السَّيِّد وبغَيْر إذنه، يبنى على قَبُوله الوصية بغيْر إذن السَّيِّد، ويجوز أن يصرف [نصيب] (¬2) المجْنون إلى الولي، ولا يجوز أن يَنُقص المَصْروف إلى الصغير (¬3) عن المُدِّ، وإن كان يكْفيه اليسير، وعن الداركي: أن أبا إسحاق ذَكَر وجهاً: أنه إن كان الصَّغيرُ رضيعًا، لم يصح الصَّرْف له؛ لأن طعامه اللَّبَن دون الحَبِّ. وحكى القاضي ابن كج فيما لو دَفَعه إلى الصَّغير، فبلَّغه الصغير وَلِيَّهُ (¬4). الفصل الثالث: في جنْسِهِ، وجنْسُ الطعام المُخْرَج في الكفَّارة جنْس الفطرة، وفي ¬
الأرز وجْه، نقله السرخسي: أنه لا يجزئ، وحكى القاضي ابن كج وجهاً: أنه لا يجزئ، إذا نحيت (¬1) عنه القِشْرة العليا؛ لأن ادخاره فيها، والظاهر الآخر. ثم إن كان في القشْرة العليا، فيُخْرِج قَدْرَ ما يَعْلَم اشتماله على مُدٍّ من الحب، ولم يَجْرِ في الفطرة ذِكْرُ هذا الخلاف مع الأرز، وجرى ذكْر قول في العَدَس والحُمُّص، ويُشْبه أن يجيْء في كل بابٍ ما نقل في الآخر، وفي الأقط الخلافُ المَذْكور هناك، فإن قلنا بإجزائه، فيخص أهل البادية أم يعم الحَاضِر والبادي؟ وذكر القاضي ابن كج فيه وجهَيْن، وفي اللحم واللبن خلافٌ مرتَّبٌ على الأَقِطِ، وأولى بالمنع؛ لأنه لا يُدَّخَر، ثم يتعيَّن على المُكَفِّر من الأجناس المجزئة غالبُ قوت البلد (¬2)، فإن كان الغَالِبُ ما لا يجزئ؛ كاللَّحم، إذا قلنا: إنه لا يُجْزئ، فيخرج من القوت الغالب في أقرب البلاد إلَيْه، وقال أبو عبيد بن حربويه -رحمه الله-: عليه الاعتبار بغالب قُوته على الخُصُوص، كما قاله في الفطرة، وقد ذكرنا في الفطرة وجهاً أو قولاً: أنَّه يَتَخيَّر بين الأجناس المجزئة، وهو جارٍ هاهنا؛ ألا تراهم يقولون: إذا تعيَّن قوتٌ، جاز إخْراج ما هو أعْلَى منه، وفي الأدنى خلافٌ، ويجوز الأدنى يختبر، ولا يجزئ الدقيق ولا السويق ولا الخبز، خلافاً لأبي حنيفة. وعن أبي القاسم الأنماطيِّ: تجويز الدقيق كما قاله في الفِطْرة، وحكى القاضي أبو الطيِّب عنْه التجويز في السويق أيضاً، ونقل القاضي الرُّويانيُّ عنه إجزاء الخبز أيضاً، وروي مثل ذلك عن ابن أبي هريرة والصَّيْمَرِي واختاره لنفسه، وعن ابن خَيْران: أنه يجوز أن يُعطَى كل مسكين رطْلَيْ خُبز، وقليلَ أدَمٍ, والظاهر ما سبق ولا تُجْزئ الدراهم والدنانير؛ بدلاً، خلافاً لأبي حنيفة. والرابع: طريق الصَّرْف إلى المستحقِّين، وهو التمليك والتسليط التام، فلا يكفي التغذية والتعشية، كما في الزكاة، وعند أبي حنيفة: تجزئ التغْذية والتعشية، قال في "التتمة": وإنما يظهر الخِلاَف في التَّمْر؛ فإن الخبز يجزئ عندنا بحالته (¬3) كما يجوز العُدُول من الصيام إلى الإطعام، فإذا عَجَز عن الصوم لِهَرَمٍ أو مرض، كان له العدول إلى الإطعام، وبمثله أجابوا فيما إذا لم يَعْجَز، ولكن كان يلْحَقُه من الصوم مشقةٌ شديدةٌ أو كان يَخَاف زيادةً في المرض، ثم لم يعتبر الإِمام وصاحب الكتاب في المَرَض أن لا يُرْجَى زواله، بل قالا (¬4): لو كان يدوم شهْرَيْن في غالب الظنِّ المستفاد من اطراد العادة ¬
في مثْله أو [من] (¬1) مراجعة الأطباء، فله أن يَعْدِل إلى الإطعام، ولا ينتظر زواله؛ ليصوم بخلاف ما إذا كان مالُه غائبًا؛ حيث لا يجوز له الصيام، بل ينتظر وصول (¬2) المال؛ ليعتق، والفرق أن الله -تعالى- قَالَ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} ولا يقال لمن يملك مالاً جمًّا غائبًا عنه: إنه غير واحد للرَّقبَة، وقال في الصيام: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} ويقال للعاجز بالمرض الناجز: إنه غير مستطيع للصوم، وأيضاً، فوُصول المال يتعلَّق باختياره، والاختيار في مقدِّمات الشيْء، والسبب إليه، كالاختيار في نفسه، وزوالُ المرض لا يتعلَّق بالاختيار، وقضية كلام الأكثرين (¬3): أنه لا يَجُوز الإطعام بمثْل هذا المرض، بل يعتبر في المرض أن يكون بحَيْث لا يُرْجَى زواله، وصرح صاحب "التتمة" بتشبيه المَرَض عنْد رجاء الزوال بالمال الغائب، حتى لا يعدل بسببه إلى الإطعام في غير كفَّارة الظهار، وحتى يجيءْ في كفارة الظهار الخلافُ المذكور فيها في المال الغائب، فلْيُعْلَمْ؛ لذلك قوله في الكتاب "يدوم شهرين" بالواو. فإن جوَّزنا العدول إلى الإطعام مع رجاء الزوال، فأطعم ثم زال، لم يلزمه العَوْد إلى الصيام، وإن اعتبر ألاَّ يكون المرض مَرْجُوَّ الزوال، فلو كانْ كذلك، ثم اتفق الزوال نادرًا، فيشبه أن يُلْحَق بما إذا أعتق عبْداً لا يرجى زوالُ مَرَضه، واتفق الزوال (¬4). ولا يلحق السفر فيما نحن فيه بالمرض على الظاهر؛ لأنَّ المسافر مُسْتَطيع ¬
للصوم، وفي "النهاية" عن القاضي الحسين وغيره: أنَّ السَّفَر الذي يُجَوِّز الإفطار في رمضان، يُجَوِّز العدول إلى الإطعام. وفي جواز العدول إلى بدل الاطعام؛ لعذر الشَّبَق وغلبة الشهوة وجْهان، وقد مرَّت المسألة مرَّةٌ في كتاب الصيام، والأظهر عند الإِمام وصاحب الكتاب: لا يَجُوز، والأكثرون مالوا إلى التَّجْويز، وبه أجاب أبو إسحاق فيما روى الداركيُّ، ولم يورد القاضي حُسَيْن غيره، قالوا: ويخالف هذا صوم رمضان، حيث لا يُتْرَك بهذا العذر؛ لأنه لا بَدَل (¬1) له، ولصوم الكفَّارة بَدَلٌ، وهذه صورة تدْخُل في باب العاجز عن جميع خصال الكفَّارة، هل تستقر الكفَّارة في ذمته؟ فيهِ خلافٌ ذكرناه في كتَاب الصَّوْم، والظاهر الاستقرار، وقد بُنِيَ الخِلاف على أن الاعتبار في الكفَّارة بحال الوجوب أم بحال الأداء؟ إن اعتبرنا حالَ الُوجُوب، لم يستقر عليه شيْء، وكان للمظاهر أن يطأ، ويستحب أن يأتي بما يَقْدِرُ عليه، وإن اعتبرنا حال الأداء، لزومه أن يأتي بما يَقْدِر عليه من الخِصَال، ولا يطأ المظاهر حتَّى (¬2) يكفر، ومن لا يجد إلا بعض رقبة كمن لا يجد شيئاً، فيصوم، فإن لم يقدر، والحالة هذه، على الصيام والإطعام، فعن أبي الحُسَيْن بن القطان تخريجُ أوجه فيه: أحدها: أنه يُخْرِج المقْدُور عليه، ولا شيْءَ عليه غيره. والثاني: يخرجه، وباقي الكفَّارة في ذمَّته. والثالث: لا يُخْرِجه أيضاً ولا يجوز تفريق الكفَّارة الواحدة، بأن يعتق نصْف عبد ويصوم شهراً أو يصوم شهراً، ويطعم (¬3) ثلاثين. ويجوز (¬4) أن يصرف إلى مسْكين واحدٍ مُدَّيْن عن كفارتَيْن، ولو دفع مدّاً إلى مسكين، ثم اشتراه منْه ودفَعَه إلَى آخر، ولم يزل يفعل ذلك إلى استيعاب السِّتِّين أجزأَ، ¬
لكنه مكروه. ولو وطئ المظاهِرُ المظاهَرَ عنها في خلال الإطعام، لم يجب الاستئناف، كما لو وطئ في خلال الصيام ليلاً. ولو أطعم بعض المساكين، ثم قَدَر على الصَّوم، لم يلزمه الصوم، كما لو شَرَع في الصوم، ثم قَدَر على الإعتاق، لا يعود إلى الإعتاق. وفي تجربة القاضي الرُّويانيُّ: أنه لو دفع الطعام إلى الإِمام، فتلف في يده قبل التفريق على المساكين، فظاهر المذهب أن الفَرْض لا يسقط عن المُكفِّر بخلاف الزكاة؛ لأن الإِمام لاَ يد له في الكفَّارة. وفي فتاوى صاحب "التهذيب": أنه لو قال لغيره: أعْتِقْ عندك عنِّي على كذا، فقال: أعتقته عنك مجانًا كان كما لو ابتدأ به، فيقع العتْق عن المُعْتِقِ دون المُسْتَدْعِي. والله أعلم.
كتاب اللعان
كِتَابُ اللِّعَانِ (¬1) وَالنَّظرُ فِي القَذْفِ ثُمَّ اللِّعَانِ* وَفِي القَذْفِ بَابَان الأَوَّلُ فِي ألْفَاظِ القَذْفِ وَمُوجبِهَا* وَفيهِ فَصْلاَن (الأَوَّل فِي الألْفَاظِ) وَصرِيحُهَا أَنْ يَقُولَ: زنَيْتَ أَوْ يَا زَانِي* وَكَذَلِكَ لَفْظُ النِّيْكِ وإيلاجَ الحَشَفَةِ* وَالكِنَايَةُ كَقَوْلهِ لِلقُرَشِيِّ: يَا نَبَطِيُّ* فَإنْ أَرَادَ الزِّنَا فَهُوْ قَذْفٌ* وَإِنْ أَنْكَرَ فَعَلَيْهِ اليَمِينُ* وَلَيْسَ لَهُ أنْ يَحْلِفَ كَاذبًا عَلَى إخْفَاءِ نيَّتهِ* وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ فَلَهُ أَنْ لاَ يُقَرَّ بِالنِّيَّةِ حَتَّى لاَ يُؤْذِيَ المَقْذُوفَ* وَلَكِنَّ الحَدَّ يَجِبُ عَلَيْهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى* وَلاَ يَبْعُدُ أنْ يَجِبَ الاعْتِرَاف لتوْفِيَةِ الحَدِّ* وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَابْنَ الحَلاَلِ وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ بِزَانٍ فَهُوَ تعْريضٌ (م) لَيْسَ بِكِنَايَةٍ وَلاَ صَرِيحٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: اللعان مصْدرُ: لاَعَنَ يُلاَعِنُ، ويعبر عنه: كلماتٌ معلومةٌ جُعِلَت حجَّةً للمضْطَرِّ إلى قذف من لطخ فراشه، وألحق العار به، سميت لعانًا؛ لاشتمالها على ¬
كلمة اللَّعْن، قال الإِمام -قدس الله رُوحَهُ-: وخُصَّت بهذه التَّسْمية؛ لأن اللَّعْن كلمةٌ عربيةٌ في مقام الحُجَج من الشهادات والأيمان، والشيْء يشتهر (¬1) بما يقع فيه من الغريب، وعلى ذلك جَرَى معْظَم مسميات (¬2) سور القرآن، ولم يُسَمِّ بما يسبق من الغَضب؛ لأنَّ لفْظ الغَضب يقع في جانب المرأة، وجانب الرجل أقوى، وأيضاً فلعانه يسبق لعانَهَا، وقد ينفك عن لعانها. وقد ورد باللعان الكتابُ والسنّة، قال الله تعالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ [بِاللَّهِ] (¬3)} [النور: 6] الآيات، وروى ابن عباس (¬4) -رضي الله عنهما-: "أن هلال بن أُمَيَّةَ قذَفَ امْرأته عنْد النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِشُرَيْكِ ابْن سَحْمَاء، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "البَيِّنَة أو حَدٌّ في ظَهْرِكَ" فقال: يا رَسُولَ الله، إِذَا رَأَى أَحَدٌ عَلى امْرَأَتِهِ رَجُلاً، ينْطَلِقُ يلْتَمِس البَيِّنَةَ، فَجَعَل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: البَيِّنَةُ حَدٌّ في ظَهْرِكَ فقال هلال: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، إِنِّي لَصَادِقٌ، وَلَيُنْزِلَنَّ اللهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ، فنزل جبريل -عليه السلام- وأنزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآيات، وروى سهل بن سعد الساعدي أن عُوَيْمِرَ العجلانيَّ قال: يا رسولَ الله: أَرَأَيتَ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، أَيَقْتلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَل؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قَد أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ، فَأْتِ بِهَا، فقال سَهْلٌ، فَتَلاعَنَّا في المسجد، وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وَذَكَرُوا أَنَّ الآيَاتِ وَرَدَتْ فِي قصَّة هلال (¬5). وقوله في القصة الثانية "أَنْزَلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ" حُمِلَ على أن المراد: أنَّهُ بَيِّن حكم الواقعة بما أنزل في حقِّ هلال، والحكم على الواحد حكْمٌ على الجماعة، واعلم أن اللعان سبقه القَذْف، ويحتاج في الباب إلى معرفة سورة القَذْف واللعان وأحكامهما، فيقع الكلام في قسْمَيْن: أحدهما: في القَذْف، والثاني: في اللعان، وهذا ما أراد بقوله: "والنظر في القَذْف ثم في اللعان"، والقذف ينقسم إلى: قَذْفِ الزوج زوجَتَه، وإلى غيره، والقِسْمان يشتركان في أحكام، ويفترقان في أحكام، فعَقَد فيه بابَيْن: أحدهما: في ألفاظ القذف وأحكامه العامَّة، والثاني: في قذف الأزواج خاصَّةً، ¬
ومن أحكام هذا القذف اللعان، وذلك يُحْوِج إلى معرفة صورة اللعان، فاشتمل البابُ عَلَى فصل في أركان اللعان، واندرج في القِسْم الأول: بيان سورة اللعان ويُجرَّد القسْم الثاني لأحكام اللعان، وذلك هو الباب الذي ذكَره آخرًا، والأحْسَنُ أن يُبْدَلَ لفظ الباب الثالث بالقسم الثاني، وقوله في خلال الباب الثاني "الفصل الثالث: في فروع متفرقة" هكذا يوجد في النسخ، وهو بعيد عن انتظام [الكلام]؛ لأنه واقع بين الرُّكْن الثالث والرابع، وغرض الفصْل بيان الأركان، فلا مَعْنَى لايراد فصْلٍ آخَرَ بينهما، والوجه أن يُطْرَح لفْظ الفصْل الثالث، ويُقْتَصَر على فُروع متفرِّقة ويقال في أول الباب الثاني "وفيه فصلان" وبالجملة ففي ترتيب الباب ضبط في الكتاب، وقد وَقَع في "البسيط" و"الوسيط" مثله أو أعظم منْه، وطريق تحقيقه ما أتيْنا به. أما الباب الأوَّل، ففيه فَصْلان: أحدهما: في ألفاظ القَذْف، والثاني: في موجبه: أما الأول، فاللفظ الذي يُقْصَد به القذف يَنْقسم إلى صَرِيح، وكناية، وتعريضٍ: أما الصريح: فهو لفظ الزنا؛ بأن يقول للرجل: زنَيْتَ أو يا زَانِي، وللمرأة زَنَيْتِ أو يا زانيَةُ، والنَّيْك، وإيلاج الحَشَفة، والذَّكَرِ صريحان أيضاً، لكن مع الوصْف بالتحريم (¬1)، فإن مُطْلَقَها يقع على الحلال والحرام, والخلاف المذْكُور في "باب الإيلاء" في الجماع، وسائر الألفاظ هل هي صريحةٌ تَعُودُ هاهنا؟ فما كان صريحًا وانضم إلَيْه الوصف بالتحريم، كان قذفًا، ولو قال: علَوْت عَلَى رَجُلٍ حتى دخل ذكره في فَرْجك، فهو قاذفٌ، والرمْيُ بالإصابة في الدُّبُر بأن قال: "لاَطَكَ فلانٌ" قذف، سواء خوطب به الرَّجُلُ أو المرأة، وعن المزنيِّ: أنه قال في "المختصر الكبير" كالمنكر لذلك: لا أدري على ماذا أَقِيسُه، فقال الأصحاب: قِسْه على القُبُل بجامع أنه وطء يتعلَّق به الحدُّ، وأبو حنيفة لا يجْعلهُ قذفًا؛ بناء على أنه لا يتعلَّق به الحدُّ، [ولو قال يا لوطي، فهو كناية] (¬2) ولو قال: أتَيْتَ البهيمةَ، فهو قَذْفٌ إن جعلنا إتيان البهيمة زِنًا، وحكم القذف إنما يتعلَّق بالنسبة إلى الزِّنَا، أما النسبةُ إلى سائر الكبائر والإيذاءُ بسَائِر الوجوه فلا يتعلَّق به حدٌّ، وإنما الواجب فيه التعزير، وكذا لو قرطبه أو ديَّثه، وكذا لو ¬
قال لامرأته: زنَيْتِ بفلانة، أو زَنَتْ بكِ أو أصابَتْكِ فلانةٌ، بنسبتِها إلَى السُّحَاق. وأما الكتابة، فكقوله للقرشي: (¬1) يا نَبَطِيُّ وللرجل: يا فاجر ويا فاسق، ويا خبيثُ، وللمرأة: يا خبيثة، ويا شبقة وأنت تحبين الخَلْوة، وفلانة لا تردُّ يَدَ لامس، وما أشبه ذلك، فإن أراد النسبة إلى الزنا، فهو قذْف، وإلا فلَيْس بقَذْفٍ، وإذا أنكر الإرادة، صُدِّق بيمينه، وإذا عرضت اليمين عليه، فليس له أن يحلف كاذباً؛ دفعًا للحد أو تحرُّزاً من إتمام (¬2) الإيذاء ولو خلى، ولم يَحْلف، فالحكاية عن كلام الأصحاب -رحمهم الله-: أنه يجب عليه الإظْهار، ليستوفى منه [الحدّ، وتبرأ ذمته؛ كمن قتل إنساناً في خفية يجب عليه إظهاره ليُسْتَوْفَى منه القصاص، أو يُعْفَى عنه، وهذا قولٌ يوجب الحدَّ عليه فيما بينه وبيْن الله -تعالى-، وفيه احتمال آخر: أنه لا يجب الإظْهار؛ لأن إظهار التفْسير إتمامُ الإيذاء، فيبعد إيجابه، وعلى هذا، فلا يُحْكمُ بوجوب الحدِّ ما لم يوجد الإيذاء التامُّ، ونظم الكتاب يميل إلى ترجيح هذا الاحتمال، والأول أشْبَه، والله أعلم. وأما قول الزوج لزوجته: لم أجِدْكِ عذْرَاءَ، فَلَيْسَ بصريح في القَذْف، وكذا قوله: وجدتُّ معك رجلاً، وحكي عن القديم: أنه صريحٌ، ولو قاله أجنبي لأجنبية، لم يكن صريحاً، بلا خلاف؛ لأنه قد يريد زوْجَها, ولو قال: زنَيْت مع فلانٍ، فهو صريح في حقِّ المخاطبة دون فلان. وعن أبي حنيفة: أن صريح في حقِّ فلانٍ أيضاً. وأما التعريض، فليس بقَذْف، وإن أراده، وذلك كقوله: يابْنَ الحَلاَلِ، وأما أنا، فلَسْتُ بزانٍ، وأمي ليست بزانية، وما أحسن اسْمَكِ في الجيران، وما أشبه ذلك؛ لأن النيَّة إنما تؤثر إذا احتمل اللفظ المنويّ، وهاهنا لا دَلاَلة [له] (¬3) في اللفظ ولا احتمال، وما يتخيل، ويفهم منه، فمستنده قرائن الأحوال. هذا هو الأصح، وفيه وجْهٌ: أنه كنايةٌ، فإذا انضمَّت إليه النيَّة كان قذْفًا؛ اعتمادًا على الفهم وحصول الإيذاء، وهذا ما أورده الشيخ أبو حامدٍ وجماعة، وعن مالك وأحمد -رحمهما الله- أنه صريح في حال الغَضَب، وربما أطلق النَّقْل عن مالك، فيجوز أن يُعْلَم قوله في الكتاب "ليس بكناية" بالواو، وقوله "ولا صريح" بالميم والألف، والمثال المذكور في الكتاب للكناية وهو قوله للقرشي "يا نبطيُّ"، يكون قذفاً للأم إذا أراد أنها زَنَتْ، لا للمخاطب. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ: (إِحْدَاهَا) لَوْ قَالَ لامْرَأةٍ: زَنَيْتُ بِكِ فَهذَا إِقْرَارٌ وَقَذْفٌ* فَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ: زَنَيْتُ بِكِ وَأرَادَتْ زِناً قَبْلَ النِّكَاحِ فَعَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا وَحَدُّ القَذْفِ وَسَقَطَ الحَدُّ عنِ الزَّوْجِ* وَإِنْ قَالَتْ: أَرَدتُّ نَفْيِ الزِّنَا لأَنِّي لَمْ يُجَامِعْني غَيْرُهُ فِي النِّكَاحِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا وَيَبْقَى حَدُّ القَذْفِ عَلَى الزَّوْجِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مُفْتَتَح الفصّل كالقاعدة المؤسسة لألفاظ القَذْف، وعقَّبها بمسائل تتعلَّق بها، وتوضحها. فمنها: إذا قال لامرأته أو لأجنبية: زنَيْتُ بكِ، فهذا إقرار منْه على نفسه بالزنا، وقذف لها، فعليه حدُّ الزنا والقَذْف، ويُقدَّم حدُّ القذف؛ لأنه حقُّ الآدميِّ، فإن رجع سقط حد الزنا دون القذف. ولو قالت امرأة لزوجها أو لأجنبي: زنَيْتُ بكَ، فكذلك الحُكْم هي مُقِرَّة بزناها، وقاذفة له، هذا هو المشهور، ورأى الإِمام أن لا يُجْعل ذلك قذفًا صريحاً؛ لاحتمال أن يكون (¬1) المخاطَبُ مسْتَكْرهاً، وانتظام الكلام مع ذلك، وهذا متين، ويؤيِّده ما ذكَرْناه، ولو قال: زنَيْتِ مع فلان، كان ذلك قذفًا لها دون فلان. فلو قال لامرأته: يا زانية، فقالت: زنَيْتُ بِكَ، أو بِكَ زنَيْتُ، فهو قاذف لها، وليستْ هي بمصرِّحة بالقذف؛ لأن الجواب متردِّد محتَمَلٌ، فإن أرادت حقيقة الزِّنا، وأنهما زَنَيا قبل النكاح، فهي مُقِرَّة على نفسها بالزنا، وقاذفة للزوج ويسْقُط عنه حدُّ القذف؛ لإقرارها, ولكن يُعزَّر للإيذاء كذلك حكاه الصيدلانيُّ عن القَفَّال، وإن أرادت أنها هي التي زنَتْ، وهو لم: يزنِ، كأنها تقول: زنَيْتُ به قبْل النكاح، وهو مجنونٌ أو نائمٌ أو وَطِئَنِي بالشُّبهة، وأنا أعرف صورة الحال، فيسقط عنه حدُّ القذف، ويثبت عليها حدُّ الزنا بإقرارها, ولا تكون قاذفةً، فإن كذبها الزوج، وقال: أردتِّ قذفي، فهي المصدَّقة بيمينها، فإن نكَلَتْ، فحلف، فله حدُّ القذف، ولو قالت: أردتُّ أني لم أزْنِ؛ لأني لم يجامعْني غيره، ولم يجامعني هو إلا في النِّكَاح، فإن كان ذلك زنا، فهو زانٍ أيضاً أو إن قالت: أردتُّ أني لم أزْنِ كما لم يَزْن هو، كما يقول الرجل لغيره: سَرَقْتَ، فيقول: سرَقْتُ معك، ويريد نَفْيَ السرقة عنه، وعن نَفْسِه، فتُصدَّق بيمينها, لاحتمال ما تقوله، وإذا حلَفَتْ، فلا حد عليها، وعلى الزوج حدُّ القذف، وإن نَكَلَت، حَلَف، واستحق حد القذف، ولو قالت المرأة لزوجها: يا زاني، فقال: زنَيْتُ بِكِ ففي جوابه مثل هذا التفصيل، ولو قال لأجنبية: يا زانِيَةُ، أو أنْتِ زانيةٌ، فقالت: زنَيْتُ بِكَ، فقد أطْلَق في "التهذيب": أن ذلك إقرار منها بالزنا، وقذْفٌ له، وقضيَّة ما ذكَرْنا من إرادة نفي الزنا عنه وعن نفسها، كما في مثال السرقة أن لا يفرق بين الزوجة والأجنبية. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِيَةُ): لَوْ قَالَ: يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ: أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي فَلَيْسَتْ قَاذِفَةً لأَنَّهَا لَمْ تَعْتَرِف بِزِنَا نَفْسِهَا* وَإِنْ قَالَتْ: زنَيْتُ وَأَنْتَ أَزْنَى مِنِّي فَقَاذفَةٌ وَمُقِرَّةٌ* وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَنْتَ أَزْنَى النَّاسِ لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا* وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلاَنِ إِلاَّ أَنْ يَقُولَ: زَنَى فُلاَنٌ وَأَنْتَ أَزْنَى مِنْهُ* أَوْ فِي النَّاسِ زُنَاةً وَأَنْتَ أَزْنَى مِنْهُمْ* فَإنْ كَانَ ثَبَتَ زِنَا فُلاَنٍ بِالبَيِّنَةِ وَالقَاذِفُ جَاهِلٌ بِهِ فَهُوَ غَيْرُ قَاذِفٍ* وَإِنْ كَانَ عَالِمًا فَهُوَ قَاذِفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال: يا زانية، فقالت: أنْتَ أزْنَى مني، أو بل أنت أزْنَى مني، فلا تكون قاذفةً له إلا أن تُريدَ القَذْف؛ لاحتمال أن تريد أنه أهْدَى إلَى الزنا، وأحْرَص عليه منْها، فإن جَرَى ذلك بين الزوجَيْن، فيحتمل أن تريد: أنه لا يطأني غيرك، فإن كنْتُ زانيةً، فأنْتَ أزْنَى مني. نعم، لو قالت: زنَيْتُ، وأنت أزنى مني، أو قالت ابتداءً: أنا زانيةٌ، وأنت أزْنَى مني، فهي قاذفة له، ومقرة بالزنا على نفسها، ويسقط حد القَذْف عن الرَّجُل، فإن خطر بالبال أن "كلمة المبالغة" تقتضي الاشتراك في الأَصْل وإثبات الزيادة، فليكن قولها "أنْتَ أزنَى مني" قذفًا وإن لم تَقل: زنيت، وقد اعتذروا عنه بوجهَيْن: أحدهما: أنَّ معْظَم الناس في محاوراتهم لا يحافظون على منْهَاج الاسْتِقَامة، وإنما يراعيه نفَرٌ يَسيرٌ هم الموفقون في كل عصر، فلا يمكن قصْر النَّظر على الموضع الأصليِّ، بل ينظر إلى معتاد المحاورات. والثاني: أن ألفاظ المبالغة في مَعْرضِ الذمِّ والمشاتمة تُحْمَل على وَضْع اللسان، كما في قوله تعالى؛ حكايته عن يوسُفَ -عليه السلام- حيث قال لإخوته: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} [يوسف: 77] ولو قالت ابتداءً: أَنْتَ أزْنَى مني، ففي كونه قذفًا وجهان، حكاهما القاضي ابن كج -رحمة الله عليه-، ويجوز أن يفرق بين الجواب والابتداء، كما سبق في قولها: زنَيْتُ بكَ، ولو قالت في الجواب: زَنَيْتُ وأنْتَ أزنَى مني، فتكون مقرةً بزناها، وقاذفةً له، ولو قال لغَيْره: أنتِ أزْنَى الناس أو أزنى من الناس أو يا أزنى النَّاس، لم يكن قاذفاً إلا أن يريده (¬1)، وكذا لو قال [أنْتِ] (¬2) أزْنَى من فلان، خلافاً ¬
لمالك فيما حكى القاضي ابن كج، وعن الداركي فيما روى أبو الفرج السرخسي: أنه يكون قذفًا لهما جميعاً؛ لأن ظاهر اللَّفْظ يقتضي اشتراكهما في أصل الزنا، واختصاص المخاطَبِ بمزيد، وهذا كالوجهَيْن فيما إذا قالت ابتداءً: أنت أزنى مِنِّي على ما سَبَق، والمشهور الأوَّل، ولو قال: زنى فلان، وأنتِ أزنَى منه، فهذا تصريح بقذفهما جميعاً، وعن أبي الحُسَيْن بن القطَّان، وأبي الطَّيِّب بن سلمة: أنه لا يكون قذفًا للمخاطَب، والظاهر الأول، وكذا لو قال: في الناس زناةٌ وأنْتِ أزْنَى منهم، أو قال: أنتِ أزنَى زناة الناس، قال في "البسيط": وقد يعتاض الفرق بينه وبين أن تقول: أنت أزنَى الناس؛ لأنَّا نعْلَم أن في الناس زناةً، ولعل السبب اتِّبَاعُ لفظه، ولشى في لفظه إثْبَات زناهم، ولفظ الناس يتناول الكُلَّ، ومعلوم أن الناس كلَّهم ليسوا زناة، حتى لو قال: الناس كلُّهم زناةٌ، وأنْتِ أزنى منهم، فقد قال الأئمة: لا يكونُ قذْفًا لعلمنا بكذبه، وبمثله أجابوا فيما إذا قال: أنتِ أزنَى من أهل بغداد إلا أن يُرِيدَ: أنتِ أزنَى من زناة أهل بغداد (¬1)، ولو قال: أنتِ أزنَى من فلان، ولم يثبت في لفظه زنا فلان، ولكنه كان قد ثبت زناه بالبينة أو بالإقرار، فإن كان القائل جاهلاً به، فهو غيْر قَاذِفٍ، ويقبل قوله إنِّي كنت جاهلاً مع يمينه، ويجيء فيه الوجْه المنقول عن الداركيِّ، وإن كان عالماً به، فهو قاذف لهما، فيحد للمخاطب، ويعزَّر لفلان؛ لأنه منْهُوك العِرْض، إذ ثبت زناه، ويجيء في كونه قاذفًا الوجْه المنسوب إلى ابن القطَّان، وابن سلمة، وفي تعليق الشيخ إبراهيم المروروزي وَجْهٌ على الجواب الظاهر في هذه الصور: أنه لو قال بالفارسية [بوروسى تزار فلانه] (¬2) لا يكون قاذفًا، ولو قال [فلانة روسيى ايست وتواروى روسيى ترى] (¬3) يكون قاذفًا لهما جميعاً، ولو قال [تورسى بدارهمه زمانى] (¬4) لا يكون قاذفًا، ولو قال: ¬
[دُرزمان روسيا نندرتوازيشان روسى ترى] (¬1) يكون قاذفًا، والغرض من ذلك أن هَذا اللفظه في الفارسية صريحٌ في القَذْف، ولو قال لامرأته: يا زانية، فقالت: بل أنْت زانٍ، فكل واحد منهما قاذفٌ لصاحبه ويسقط حد القذف عنه باللعان ولا يسقط حَدّ القذْف عن المرأة إلا بإقرار الزوج أو بينته، وليست هذه الصورة كما إذا قالت: في الجواب: أنْتَ أزنى مني، فإن ذلك يستعمل لنَفْي الزنا، على ما سبق، ولو تقاذف شخْصَان، فعلى كلِّ واحد منهما الحدُّ لصاحبه، ولا يتقاصان الحدَّان؛ لأنَّ التقاص إنما يكون عند اتحاد الجنْس والقدر والصفة، ومواقع السباط وآلام الضربات متفاوتةٌ، وليعلم قوله في الكتاب "وكذلك لَوْ قال: أنْتِ أَزْنَى مِنْ فُلاَنٍ" بالميم والواو، وقوله: "إِلاَّ أَنْ يَقُولَ" بالواو، وكذا قوله: "فهو غير قاذف" فهو قاذف؛ لِمَا تبيَّن، واطلاق لفظ "القاذف" في قوله: "والقاذف جاهل به" على سبيل التوسع؛ اعتمادًا على فَهْم المقصود منه، وإلا، فكيف يقال: القاذف غَيْرُ قاذف. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثَة) لَوْ قَالَ لِلرَّجُلِ: يَا زَانِيةُ فَهُوَ قَاذِفٌ* وَكَذَا لِلْمَرْأَةِ يَا زَانِي* وَلَوْ قَالَ: زَنَأْتِ فِي الجَبَلِ وَأَرَادَ الرُّقِيَّ فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ* وَلَوْ قَالَ: زنَيْتِ فِي الجَبَلِ وَصَرَّحَ بِاليَاءِ ثُمَّ قَالَ: أَرَدتُّ الرُّقِيَّ وَترَكْتُ الهَمْزَ قبِلَ عَلَى وَجْهٍ* وَلَمْ يُقْبَلْ عَلَى وَجْهٍ* وَيفَرَّقُ عَلَى وَجْهٍ بِيْنَ الجَاهِلِ والبَصِيرِ بِاللُّغَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال للرجل: زنَيْتِ أو للمرأة: زَنيْتَ، فهو قاذف، واللَّحْن لا يمنع الفَهْم، ولا يرفع العار، ولو قال للرجل: يا زانِيَةُ فهو قاذف، خلافاً لأبي حنيفة. لنا: أنه إذا حَصَلَت الإشارة إلَى العَيْن، لم ينظر إلى علامة التذكير والتأنيث، كما لو قال لعبده: أنْتِ حُرَّة، ولأمته: أنْتَ حُرٌّ، وهذا المعنى الذي ذكَرْنا في "زنَيْتِ وزنيتَ"، ومِن الأصحاب مَنْ يقول: الهاء قد ترَاد للمبالغة، كقولهم: "رواية وعلاَّمة ونسَّابة" فيمكن تنزيل هذه الهاء على المبالغة، ولم يرتض الإِمام وآخرون ذلك، وقالوا: ليس هذا ممَّا يجري فيه القياس، ولا يصح أن يقال لِمَنْ يُكْثِر القتل "قاتله" أو "قتالة"، ولو قال للمرأة: يا زانِ أو يا زَانِي فهو قاذف أيضاً، وعن الداركي قال: سمعت أبا محمد الفارسِيَّ يحكي عن نصِّ الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- في الدعاوَي والبينات: أنه لا يكون قذفًا؛ [لأنه] ربما نسب ذلك إلى القديم، والمشْهُورُ الأوَّل. قال الدراكيُّ: وطلبت ما نقله في المَوْضِع المُحَال علَيْه، فلم أجدْه، ثم حمل ¬
الشَّافعيُّ -رضي الله عنه- حَذْف الهاء على التَّرْخيم في النداء، كقوله في "مالك": يا مَالِ، وفي "حارث"؛ يا حَارِ، واعترض عليه بأن الترخيم يُحْذَف منه حرْفٌ واحد، فينبغي أن [ألاّ] تحذف سوى هاء التأنيث، وقول القائل: "يا زَانِ" فيه حذف حرفين، وبأن الترخيم يقع في أسماء الأعلام دون الأسماء المُشْتقَّة، وأجيب عن الأوَّل بأنَّ الرواية في حرملة يا زاني لا يا زان، وإلحاقُ "يَا زَانِ" بـ"يَا زَانِي" من تصرُّف المزنيِّ، وبأنه لا يزاد على حَذْف الحرف الواحد، إذا كان ما قبل الحرف الآخر صحيحاً، فأما حرف العلة، [فلا اعتبار به، وأيضاً،] (¬1) قالوا يَا صَاحِ، فرخموا، مع أن "الصاحب" اسم مشتقٌّ، وعن صاحب "التقريب" حكايةُ قَوْلٍ عن القديم: فيما إذا قال للرجل: يا زانية أيضاً أنه ليس بقَذْفٍ، فيجوز أن يُعْلَم، لذلك قوله في الكتاب "فهو قاذف" بالواو مع الحاء. وقوله "وكذلك" بالواو. ولو قال: "زَنَأْتِ في الجَبَلِ" بالهمز، لم يكن قذْفًا، إلا أن يريده؛ لأن الزناء في الجَبَل هو الصُّعُود فيه، فلو قال المقول له: أردت القذف، وأنكر، صُدِّق بيمينه، فإن نَكَل، حلف المقول له، واستحق حدَّ القذف، وجعل أبو حنيفة قوله "زَنَأْتِ في الجَبَل" قذفًا، وعن أحمد مثله، ولو قال: "زَنَأْتِ في البيت" فظاهر المذهب أنه قذْف؛ لأنه لا يُسْتَعمل بمعنى الصُّعود في البَيْت ونحوه (¬2)، ولو قال: "زَنَأْتِ" واقتصر عليه أو قال: "يَا زَانِيء" بالهمز، ففيه وجوهٌ: أظهرهما، وبه قال القفَّال والقاضي أبو الطيِّب -رحمهما الله-: أنه ليس يقذف، إلا أن يريده؛ لأن ظاهره الصُّعُود. والثاني: أنه قذْف، والياء قد تبدل همزةً، كقوله: "رَوَيْتُ وَرَوَأْتُ". وعن الداركيِّ: أن أبا أحمد الجرجانيَّ نسبه إلى نصه في "الجامع الكبير". والثالث: الفرق بين أن يُحْسن العربية، فلا يكون قذفًا منه، إلا أن يريده وبين أن لا يُحْسِنَها, ولا يضبط موضع الهمز وتركه، فيكون قاذفًا، ولو قال: "زنَيْتِ في الجبل" ¬
وصرح بالياء، ففيه ثلاثة أوجه أيضاً، حكاها صاحب الكتاب والشيخ أبو الفرج السرخسيُّ وغيرهما. أصحُّهما: أنه قذْفٌ. والثاني: ليس بقذف إلا أن يريده؛ لاحتمال أنه أراد الصُّعُود، وسهل الهمزة ويروى هذا عن صاحب "التلخيص". والثالث: الفرق بين الجاهل باللغة والبصير بها، فيجعل صريحاً من البصير، فلا يُقْبَل قوله "أردت الرُّقِيَّ وتركت الهمزة" ويقبل ذلك من الجاهل والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرَّابِعَةُ) لَوْ قَالَ: زَنَى فَرْجُكِ فَهُوَ قَذْفٌ* وَلَوْ قَالَ: زَنَتْ عَيْنُكِ وَيدُكِ فَلَيْسَ بِقَذْفٍ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من صريح القَذف: أن يقول: زَنَى فرْجُك أو ذَكَرُك أو قُبُلك أو دُبُرك؛ لأنه آلةُ ذَلِك العَمَل، وهذا المعنى، إن أضاف الزنا إلى جُمْلة الشخص، ولو قال لامرأته: زنَيْتُ في قُبُلك، كان قذفًا لها, ولو قال لرجل، لم يكن قذفًا إلا أن يريده؛ لأن زنا الرجل يكون من القُبُل لا فيه، ذَكَرهُ في "التهذيب" ولو قال: زنا يدك أو رِجْلك أو عينك، ففيه طريقان، المذكور منهما في الكتاب أن فيه وجهَيْن، وربما سميا قولين: أحدهما، وهو ظاهرٌ منقولِ المُزَنِيِّ، وبه قال مالك: أنه يكون قذفًا؛ لأنه أضاف الزنا إلى عُضْو من الجملة, فأشبه ما إذا أضاف إلى الفَرْج؛ ولأن ما تصحُّ إضافته إلى الفَرْج، تصح إضافته إلى اليد والرجل، كالطلاق، والظهار. وأصحُّهما: أنه ليس بقَذْف، إلا أن يريده؛ لأن المَفْهوم من زنا هذه الأعضاء اللَّمْسُ والمشي والنظر، على ما قال -صلى الله عليه وسلم- (¬1): "العَيْنَانِ تَزْنيَانِ، وَاليَدَانِ تَزْنِيَانِ" وعلى هذا ¬
والطريق الثاني، وبه قال أبو إسحاق، وابن أبي هريرة، والأكثرون. القطع بأنَّهُ ليس بصريح، وغلَّطوا المزنيَّ في النقل، ولو قال: زنا بدنك، فوجهان: أحدهما: أنه ليس بصريح في القذف؛ لاحتمال أنه أراد المماسة. والأصحُّ (¬1)، وبه قال أبو حنيفة: أنه صريح؛ لأنه أضاف الزنا إلى جملة الشخض، فأشبه ما إذا قال: زنَيْتِ (¬2) والله أعلم. قاَلَ الغَزَالِيُّ: (الخَامِسَةُ) لَوْ قَالَ لِوَلَدِهِ: لَسْتَ ابْنِي فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ إِلاَّ إِذَا نوَى* وَالأَجْنَبيُّ لَوْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ قَاذِفٌ لأَنَّهُ لاَ يُحْسَنُ مِنْهُ قَصْدُ التَّأْدِيبِ بِذَلِكَ* وَقِيلَ قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ* وَالأَقْيَسُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ* وَلَوْ قَالَ لِلوَلَدِ المَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ: لَسْتَ مِنَ المُلاَعِنَ فَهُوَ قَاذِفٌ إنْ أَرَادَ تَصْدَيقَ الزَّوْجِ المُلاَعِنِ* فَإِنْ أَرَادَ النَّفْي الشَّرْعِيَّ فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ* وَلَوْ قَالَ لِلقُرَشِيِّ لَسْتَ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ قَالَ: أَرَدتُّ أَنَّ وَاحِدَةً مِنْ أُمّهَاتِهِ زنَتْ فَلَيْسَ بِقَاذِفٍ لأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ* وَنَعْني بِالقَذْفِ مُوجِبَ الحَدِّ* أَمَّا التَّعْزِيرُ فَيَجِبُ بِأَكْثَرِ هَذهِ الكَلِمَاتِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيهما صورتان: أحدهما: إذا قال لولده اللاحق به في الظَّاهر: لَسْت ابْنِي أو لَسْتَ مني، فالنص أنه ليس بقاذف لأمه إلا أن يريد القَذْف؟ ولو قال لأجنبي: لست ابن فلان، فالنص أنه قاذف، وفيهما طُرُقٌ: أصحهما: تقرير النصين، والفرق أن الأب يحتاج في تأديب الولد إلى مثْل هذا الكلام؛ زجْرًا له عما لا يليق بنسبه وقومه، فيحمل ذلك منه عَلَى التأديب، والأجنبيُّ بخلافه. ¬
والثاني: نَقْل الجواب من كل صورة إلى الأُخْرى، وتخريجهما على قولَيْن: أحدهما: أنه صريح في القَذْف؛ لأنه الظَّاهر السابق [إلى الفَهْم منه] (¬1)، والثاني وأقيسهما: أنه كناية في الصُّورتين؛ لأنَّه يحتمل غير القذف على ما سيأتي. والثالث: ويُحْكَى عن أبي إسحاق: القَطْع بأنه ليس بقَذْف في الصورتين، وحمل قوله "إنه قذف" على ما إذا أراده. والرابع: ويحكى عن ابن الوكيل: القطع بأنه قَذْف في الصورتين، وتأويل ما ذَكَره في حقِّ الوالد، وإذا قلْنا بالأصح، فيما إذا قال: لسْتَ ابْنِي، فيُسْتَفْسر، والتفسير يفرض من وجوه: أحدها: أن يقول: أردتُّ أنه من زناً، فهو قاذف، ولا يَخْفَى حكمه. والثاني: أن يقول: أردتُّ أنه لا يُشْبِهُني خَلْقًا أو خُلُقًا وطبعًا، فيُقْبل، ويحلف عليه إن كَذَّبَته المرأة، وقالت: أردتَّ القذف، فإن نَكَل، حلَفَتْ، واستحقَّت حدَّ القذف، وله أن يلاعن لإسقاط الحد، وفيه وجه: أنه لا يلاعن لإنكاره القذف، وسيأتي نظيره. والثالث: [أن]: (¬2) يقول: أردت أنه من وطئ شُبْهة، فلا قَذْف، فإن قالت: أردتَّ القذف، حلف على ما ذكرنا، والولد لاحق به، إن لم يعيِّن الوطء بالشبهة، أو عيَّنه، فلم تصدِّقْه، ولم يَقْبَل الولد، وإن صُدق، وادَّعى الولد، أرى القائف، فإن ألحقه به، فذاك، وإلا، لَحِقَ الزوج، والكلامُ في جواز اللعانِ عنْد النسبة إلى الوطء بالشبهة يأتي في الركن الثالث من أركان اللعان، إن شاء الله تعالى. والرابع: أن يقول: إنه (¬3) كان من زَوْجٍ قبلي، فلا يكون قاذفًا، سواءٌ عُرِف لها زوجٌ أو لم يُعْرف، قاله أبو الفرج السرخسي. وأما الولد، فإن لم يعرف لها زوج قبله، يُقْبل قوله، ولَحِقه الوَلدُ، وإن عُرِف، فسنبين في كتاب العِدَّة إن شاء الله تعالى أن الوَلَد بمن يلحق، فإذا التحق به، فإنما ينتفي عنه باللعان، وكذلك ذكره صاحب "المهذب" و"التهذيب" وغيرهما، وإذا لم يُعْرف وقت فراق الأول، ونكاح الثاني، فلا يلحق الولَدُ به؛ لأن الولادة عَلَى فراشه وحصول الإمكان لم يتحقَّق إلا أن يقيم بيَّنة على أنها ولَدَتْه في نكاحه لزمان الإمكان، وتقبل فيه ¬
شهادة النساء المتمحِّضات، فإن لم تكن بيَّنة، فلها تحليفه (¬1)، فإن نَكَل، فعلى ما سنذكر في التفسير الخامس. والخامس: أن يقول: إنَّها لم تلِدْه، بل هو مستعار أو لقيط، فلا قذف، والقول قوله مع يمينه في نفي الولادة، وعليها البينة، فإن لم يكن بيِّنة، فهل يُعْرض معها على القائف؟ فيه وجهان مذكوران في موضعهما؛ لأن الولادة محسوسةٌ يمكن إقامة البينة عليها؛ فلا يعتمد فيها على حسبان القائف، بخلاف جانب الرَّجُل، فإن قلنا: نعم، وألْحَقَه القائف بها، التحق بالزوج، واحتاج في النَّفيِ إلى اللعان، وإن قلْنا: لا يعرض عليه أو لم يلْحَقه بها أو أشكل علَيْه أو لم يكن قائفٌ، فيحلف الزوج؛ أنه لا يَعْلَم أنها ولدته، فإن حلف، انتفى عنه وفي لحوقه بالأم الوجهان المذكوران في "باب اللقيط"؛ في أن ذات الزوْج هل يلحقها الولد بالاستلحاق؛ وإن نكل الزوج، فالنص أنه تُرَدُّ اليمين عليها، ونص فيما إذا أتَت بولد لاكثر من أربع سنين؛ وادعت أن الزوج كان قَدْ رَاجَعها أو وطئها بالشبهة، وأن الولد منه، وأنْكَر الزوج، ونَكَل عن اليمين المعروضة عليه؛ أنه لا تُرَدُّ اليمين على المرأة، فمن الأصحاب من جَعَلَها على قولَيْن، نقلاً وتخريجًا، ومنهم مَنْ أخذ بالنصين، والفرق أن في صورة دعوى الاستلحاق الفراش قائم، فيتقوى به جانبها، وفي صورة دعوى المراجعة، ووطء الشُّبْهة الفراشُ مرتفع، فهي تدَّعِي شيئاً حادثًا، والأصل عدمه، فلم تُرَد اليمين عليها؛ لضعْف جانبها، والظاهر هاهنا الرد، وإن ثبت الخلاف، وإذا قلْنا بالرد، فإن حلَفَتْ، لحقه الولَدُ، وإن نكلت، فهل يوقف الأمْرُ، حتى يبلغ الصبيُّ ويحلف؟ فيه وجهان أو قولان؛ أخذا من الخلاف فيما لو أقر الراهن بأن العَبْد المرهون كان قد جنى قبل الرَّهْن، وقلنا: إن القول قولُ المرتهن، فأنكر، ولم يَحْلف، ونَكَل الراهن أَيْضًا، هل ترد اليمين على المجنيِّ علَيْه؟ وجهان: أحدهما: أنه يوقف حتى يبلغ، فيحلف؛ لأن الحَقَّ له. والثاني: لا يوقف وليس له أن يَحْلِف؛ لأن يمين الرد لا تُرَدُّ، فإن قلنا يوقف، فحلف بعد البلوغ، لحق، وإن نكل، أو قلنا: لا يوقف، انتفى الولد عنه، وفي لحوقه بها الخلاف السابق. الصورة الثانية: إذا قال للولد المنفيِّ باللعان: لسْتَ ابن فلان، يعني المُلاعِن، فهذا ليس بصريح في قَذْف أمه؛ لتردُّده، واحتماله، بل يُسْأل؛ فإن قال: أردتُّ تصديق ¬
الملاعِنِ في نسبة أُمِّه إلى الزنا، فهو قاذف، وإن أراد أن الملاعن نفاه، أو أراد انتفاء نسبه شرعاً، أو أنه لا يشبِهُهُ خَلْقًا أو خُلُقاً، صُدِّق بيمينه، وإذا حلف عليه، فقد ذكر القفَّال أنه يُعزَّر عليه للإيذاء وتجديد ذكر الواقعة، وإن نكل، حلَفَت الأم؛ أنه أراد قذْفها، واستحقَّت (¬1) الحد، ولو أن النافي استلحقه، ثم قال له قائل: لسْتَ ابن فلان، فهو كما لو قاله لغير المنفي، والظاهر أنه قَذْف [صريح] على ما سَبَق، وقد يقال: إذا كان أحد التفاسير المقبولة أن المُلاَعِن نفاه، فالاستحاق بعْد النفي لا ينافي في صدْق القول بأنه نفاه؛ فلا يبعد أن لا يُجْعَل قذفًا صريحاً، ويقبل التفسير (¬2) به. ولو قال القُرَشيِّ: لسْتَ من قريش، أو [قال لقريشي]: يا نبطيُّ أو لتركيِّ: يا هندي، أو بالعكس، وقال: أردتُّ أنه لا يشبه من يُنْسَب إليه في السّير والأخلاق أو الهنديُّ تركيُّ الدار أو اللسانِ، صُدِّق بيمينه، فإن ادعت أمُّ المَقُول له؛ أنه أراد القَذْف، ونَكَلْ القائل، فحَلَفت هي، وجَب الحدُّ أو التعزيرُ، وإذا أراد القذف فمطلقه محمول على أُمِّ المقول له، فإن قال: أردتُّ أن واحدةً من جداته زنَتْ، نُظِر؛ إنْ عيَّنها، فعلَيْه الحدُّ أو التعزير، وإن قال: أردتُّ جدَّة لا بعينها؛ إما في الجاهلية أو الإِسلام، فلا حد علَيْه، كما لو قال أحد أبَوَيْك زانٍ أو قال: في البلدة زناةٌ أو في السِّكَّة زانٍ، ولم يعيِّن، ولكن يُعزَّر للأذى، ولأُمِّ المقذوف تحليفه، إذ كذَّبته، وقالت: أردتَّنِي، هذا قضية ما أطلقه في الكتاب، وأورده الأئمة منهم صاحب "التهذيب" وفي "التجربة" للقاضي الرُّويانيِّ: أنه لو قال لعلويِّ: لسْتَ ابن عليِّ بن أبي طالب -عليه السلام- وقال: أردتُّ أنك لسْتَ من صُلْبه، بل بينك وبينه آباء، لا يُصَدَّق، بل القول قوْلُ من يتعلق به القَذْف: أنك أردتَّ قذْفي، فإن نَكَل، فيحلف القائل، ويعزر، وقضية هذا أن لا يُصدَّق القائل في قوله "أردتُّ جدَّةً من جدات المقول له" مهما نازعته أمه، بل تصدَّق هي؛ لأنَّ المُطلَق محمول عليها، والسابق إلى الفهم قذْفُهما، كما أن السابق إلى الفَهْم من قوله للعلوي: لست ابن علي -كرم الله وجهه- ما يقوله المقول له، فإن نكلت، فحينئذ يحلف القائل ويبرأ (¬3) والله أعلم. ¬
(الفصل الثاني في موجب القذف)
وأما قوله في الكتاب: "ونَعْنِي بِالقَذْفِ مُوجِبَ الحَدِّ، أَمَّا التَّعْزِيرُ فَيَجِبُ بَأَكْثرِ هَذِهِ الكَلِمات" فسنذكر المقصود منه على الأثر، إن شاء الله تعالى. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّانِي فِي مُوجِبِ القَذْفِ) وَهُوَ التَّعْزِيرُ إلاَّ إِذَا قَذَفَ مُحْصَنًا فَمُوجِبُهُ ثَمَانُونَ جَلْدَةً وَهُوَ الحَدُّ* وَالمُحْصَنُ هوَ المُكَلَّفُ المُسْلِمُ الحُرُّ العَفِيفُ عَنِ الزِّنَا* وَيَسْقُطُ إِحْصَانُ الزِّنَا بِكُلِّ وَطْءٍ مُوجِبِ لِلْحَدِّ* أَمَّا الحَرَامُ الَّذِي لاَ يُوجِبُ الحَدَّ كَوَطْءِ المَمْلُوكَةِ المُحَرَّمَةِ بِالرَّضَاعِ أَوِ الجَارِيَةِ المُشْتَرَكَةِ أَوْ جَارِيةِ الابْنِ أَوِ المَنْكُوحَةِ بِغَيْرِ وَلِيِّ مِنَ الشِّفْعَوِي فَيَسْقُطُ الإِحْصَانُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ* أَمَّا الوَطْءُ بِالشُّبْهَةِ وَالوَطْءُ فِي الصِّبَا لاَ يُسْقِطُ عَلَى الأَظهُرِ* وَأَمَّا وَطْءُ الحَائِضِ وَالْمحرِمِ وَالصَّائِمِ فَلاَ يَسْقِطِ* وَلاَ يَسْقُطُ بِالقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَمُقَدِّمَاتِ الوَطْءِ لِلزِّنَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا بد من الإحصان في المقذوف؛ ليجب الحدُّ على القاذف، قال الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآيةُ فإن فُقِدَ الإحصان، فالواجب التعزير، ومقصود الفصل الكلامُ في الإحصان، وقد جرت العادَةُ بذكره هاهنا، وإن كان بابُ حَدِّ القذف أحقّ به. وقوله "في موجب القذف؛ وهو التعزير إلا إذا قذف محصناً" فهو ذهابٌ إلى أن القذف بمطلقه يوجب التعزير، والذي يُوجب الحدَّ، فهو قذف المحصن خاصَّةً، ويمكن توجيهه بأن القذف هو الرمْيُ، يقال: قَذَفَ الحجارة أي رماها، وهذا المعنى شاملٌ لنسبة المحصن وغير المحصن إلى الزنا، بل لسائر أنْوَاع السَّبِّ والإيذاء، وكان السَّابُّ يرمي المسبوب بالكلمة المؤذية، والتعزيرُ هو التأديبُ، وذلك يشمل الحدَّ وما دونه، وإن اشْتهر في اصطلاح الفقه بما دون الحَدِّ، وإذا تناول لفْظُ القذف المُحْصَنَ وغيره، ولفظُ التعزيرِ الحدَّ وما دونه، انتظم أن يقال: القذف بمطلقه يوجب التعزيرَ، وقذفُ المُحصَنِ بخصوصة يوجب الحدَّ، وهو ثمانون جلدةً على ما سيأتي في بابه -إن شاء الله تعالى-، وما ذكره في آخر الفَصْل الأوَّل: "أنا نعني بالقذف موجب الحد" إلى آخره؛ فإنه لا ينافي قوْلَه "بأن مُوجِب القَذْف التعزير"، بل هذا يعرض لحقيقة الأمر، والمراد هنا بيان أنَّه عني بما أطلقه في صُوَر الفصْل أن هذا قذف، وهذا ليس بقذف الصريح الَّذي يتعلق به الحدُّ عند حصول شرطه، والتعزير قد يجب، وإن لم يكن اللفظ صريحًا؛ لما يتعلَّق به من الإيذاء، كما سبق فيما إذ قَالَ: لسْتَ ابن الملاعِنِ، وكذا الحكم في قوله: زنا عينك أو يدك، ونظائرهما. إذا عرف ذلك فشرائط الإحصان أربعٌ: التكليفُ، وهو يعتمد العَقْل، والبلوغ، والحرية، والإِسلام والعفة عن الزنا فلو
قَذَف مجنونًا أو صبيًا أو عبداً أو كافراً، لم يُحدَّ، ويعزر للإيذاء، وتبطل العفة عن الزِّنا بكل وطء يوجب الحدَّ. ومنه ما إذا وطئ جارية زوجتِهِ أو أَحَدِ أبويه، [أو محرماً له] (¬1) أو وطئ المرتَهِنُ الجاريةَ المرهونَة، وهو عالم بالتحريم، ويدخل فيه [الإتيان] (¬2) في غير المأتَي. ثم روى صاحب "التهذيب": أنه يبطل حصانة الفاعل دون المفعول؛ لأن الإحْصَان لا يحصل بالتمكين (¬3) في الدبر، فكذلك لا تبطل به، ورأى أن تَبْطل حصانتهما جميعاً؛ لوجوب الحد عليهما (¬4) جميعاً، وأما الوطء الذي لا يوجب الحدَّ، وهو غير مسوَّغٍ، فللأصحاب -رحمهم الله- في ترتيب صُوَره وبيان أحكامها طرق أشهرها: أنه يُنْظَرُ؛ أَجَرَى ذلك في مِلْك نكاح أو مِلْك يمين، أو جرى بلا ملك؟ والقسم الأول على ضربَيْن: أحدهما: ما يحرم حرمة مؤيدة، كوطء المملوكة التي هي أخته أو أمه من الرضاع [أو أخته] (¬5) أو عمته من النَّسَب مع العلم بالتحريم، فإن قلنا: إنه يُوجِب الحدَّ، فتبطل الحصانة كالزنا، وإن قلنا لا يوجبه، فوجهان: أحدهما: لا يبطلها؛ لعدم التحاقها بالزنا. والثاني: يبطلها؛ لدلالته على قلة مبالاته، بل غشيان المحارم أفْحَشُ من الزنا بالأجنبيات، وهذا أشبه، ونَظْم "التهذيب" يقتضي ترجيحَه، ولو أتى امرأته في غَيْر المأتي، ففي بطلان الحصانة مثْل هذيْن الوجهَيْن: والضرب الثاني: ما يحرم حرمة غير مؤبَّدةً، وهو نوعان: أحدهما: ما له حظٌّ من الدوامِ كوطء زوجته المعتدة عن الشبهة وأمته المعتدة أو المزوَّجة أو المرتدَّة أو المجُوسية أو أمَتِه في مدة الاستبراء، فيه وجهان: أحدهما: أنه تبطل الحصانة؛ لكونه حرامًا مؤكَّدًا. وأظهرهما: المَنْع؛ لقيام الملك، وعدم تأبد الحرمة، وليس للوُقُوع في مثْله دلالةٌ ظاهرةٌ على قلة المبالاة بالزِّنا. ¬
والثاني: ما حُرِّمَ بِعَارِضٍ سريع الزوال، فلا تبطل الحصانة لوطئ الزوجة أو المملوكة في الحيض أو النفاس أو الصَوم أو الإحرام أو الاعتكاف، وكوطئ المظاهَرِ [منها] (¬1) قبل التكفير. ومنهم من جعله على الخِلاَف، واكتفى في سقوط الإحصان بحرمة الوطء وربما عُدَّت العِدَّة من شبهة، من هذا القبيل. القسم الثاني: الوطء البخاري في غير الملك كالوطء بالشبهة ووطء جارية الابن، وفي النكاح الفاسد والنكاح بلا وليٍّ، ولا شهود (¬2)، وفي الإحرام ونكاح المتعة والشغار ووطء المكاتبة، ووطْء الرجعية في العدة، ففي بطلان الحصانة بها وجهان: أحدهما: البطلان؛ لوقوعه في غير المِلْك كالزنا, ولأن الشبهة تسقط الحَدَّ عن الواطئ، فكذلك تسقط حدّ القذف عن القادف، ويُحْكَى هذا عن اختيار أبي إسحاق، وذكر القاضي الرُّويانيُّ أنه أقرب. والثاني: لا يبطل؛ لأنه وطْء يثبت به النسب، فلا يتعلَّق به الحد، فأشبه الوطء الحرام الواقع في المِلْك، وهذا أصح عند الشيخ (¬3) أبي حامِدٍ، وهو في وطء الشبهة أظهر، وقد رجَّحه فيه صاحب الكتاب، ووطء الجارية المشتركة بين الواطئ وغيره من هذا القبيل فيما حكى عن الداركيِّ، وأشار صاحب "الشامل" وجماعة إلى القَطْع بأنه كوطء المنكوحة في الحَيْض أو النفاس، واكتفوا بوقوع المِلْك في المحلِّ، ولم يشترطوا حصوله في جميع المحلِّ، هذا أحد الطرق. والثاني: وعليه ينطبق إيراد الكتاب، إن وطئ المملوكة المحرَّمة بالرضاع والنسب، هل يَسْقط الحصانة؟ فيه وجهان وفي وطء الجارية المشتركة، وجارية الابن وجهان مرتَّبان، وأوْلَي بعدم الإسقاط للاختلاف في المحل، وفي الوطء بالشبهة وجهان مرتَّبان؛ لوقوعه طريقًا إلى الاسْتِحْلال بنقْلِ الملْكِ بالاستيلاد وفي وطء المنكوحة بغَيْر وليّ وشهودٍ وجْهان مرتَّبان، وأولى بعدم الإسقاط؛ لأنه غير موصوف بالتحريم، ووجْهُ تأثيره أنَّه يُشْعر بترك التحفُّظ والاحتياط، وقد يناط به ما يناط بالتعمُّد كحرمان الميراث بالقتل، هكذا ¬
وجَّهه الإِمام -رحمه الله- وفي الوطء البخاري في الصبيِّ على صورة الزنا وجهان مرتَّبان، وهو أولى بأن لا يؤثر لعدم التكليف، وهو الأصح، وكذلك لا يؤثر الوطء الجاري في الجُنُون، حتى إذا بلغ الصبيُّ، وأفاق المجنون، فقذفهما قاذفٌ وجَبَ علَيْه الحدُّ. والطريق الثالث: أن الحصانة لا تَبْطُل بالوطء الواقع في المِلْك، ولا بما يكون الواطئ معذورًا فيه كالوطء بالشبهة، وتبطل بالوطء الخالي عن المعنيين كوطء جارية الابن واحد الشريكين. والرابع: أنه تبطل الحصانة بكل وطء حرام، ومنه الوطء في حال الحَيْض، ولا يبطل بما لا يحرم كالوطء بالشبهة؛ فإنه لا يوصف بالحرمة. والخامس: أنَّ كلَّ وطء يتعلَّق به الحدُّ عند العلم بحاله يُسْقِط الحصانة كوطء الشبهة لا يوجب الحد، وكل وطء لا يتعلَّق به الحد عند العِلْم لا يسقطها كوَطَء جارية الابن، والجارية (¬1) المشتركة، وذكر في "التهذيب" أن الكافر إذا كان قريب العَهْد ¬
بالإِسلام، فغصب امرأة، ووطئها على ظن الحِلِّ، لا تبطل حصانته، ويشبه أن يجيْء فيه الخلاف المذكور في وطء الشبهة. ومقدِّماتُ الزنا كالقُبْلة واللمس وغيرهما لا تؤثِّر في الحصانة بحالٍ، وأبدى الشيخ أبو محمَّد -رحمه الله- فيه احتمالاً. وقوله في الكتاب "على أحد الوجهين" يجوز إعلامه بالواو؛ لقطع من قطع في وطء الجارية المشتركة؛ بأنه لا يسقط الحصانة. وقوله "من الشفْعويِّ" يشير إلى اعتبار اعتقاد التحريم، فأما الحنفيُّ، فإنه يعتقد الحِلَّ في النكاح بلا وليِّ، فلا يدل ذلك مِنْ حاله على قلَّة المبالاة والتجاسر على المحرَّمات، ويجوز أن يجري فيه الخلاف كما في شُرْب الحنفيِّ النبيذَ، وقوله "فلا يقسط" مُعْلَم بالواو. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَيَسْقُطُ بالزِّنَا الطَّارِئِ (ز) بَعْدَ القَذْفِ* وَلاَ يَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ الطَّارِئَةِ* وَإِذَا سَقَطَ الإِحْصَانُ بِالزِّنَا مَرَّةً لَمْ يَعُدْ بِالعَدَالَةِ بَعْدَهُ* وَلَوْ عَجَزَ القَاذِفُ عَنِ البَيِّنَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ يَمِينَ المَقْذُوفِ عَلَى أنَّهُ لَمْ يَزْنِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه ثلاثة فروع (¬1): أحدها: إذا قذف عفيفاً في الظاهر، فرنى المقذوف قبْل أن يُحَدَّ القاذف، سقَطَت حصانَتُه، وسقط الحدُّ عن القَاذِف وقال أحمد والمزنيُّ: لا يسقط، وعن صاحب "التلخيص" أنه قول قديم للشافعيِّ -رضي الله عنه-، ووجْهُه أن المَعْنَى الطارئ بعْد وجوب الحدِّ لا يمنع من إقامته، كما لو ارتد المقْذُوف أو نَقَصَت قيمة المَسْروق، والمَذْهَب الأوَّل، واحتج الأصحاب -رحمهم الله- له بأن الإحصان طريقه غلبة الظن، دون اليقين، وظهورُ الزِّنَا يورث الرِّيبَة، ويخدش وجْه الظَّن، فأشبه ما إذا شَهِد شاهدان، ظاهرهما العدالةُ، ثم ظهر فسْقُهما قبل الحكم، ولو ارتد المقذوف قَبْل أن يُحَدَّ القاذف، لم تؤثر ردته في سقوط الحد، وقال أبو حنيقة: تؤثر فيه كالزنا الطارئ، وعن القاضي أبي الطيِّب تخريجُ وجْه مثله، وحكاه القاضي ابن كج عن ابن أبي هريرة، وفرقوا على ظاهر المَذْهب من وجوه: أحدها: أن الزنا يُكْتم ما أَمْكَن، وإذا ظَهَر، فالغالب سبق مثله؛ لأن الله تعالى كريمٌ؛ لا يَهْتك الستر أول مرة على ما قاله عمر -رضي الله عنه- لِزَانٍ قُدِّم ليقام عليه الحدُّ وادَّعَى أنه أول ما ابتلى به، والردَّة عقيدةٌ والعقائد لا تَخْفَى في الغالب، فإظْهَارها لا يدل على سَبْق الإخفاء. ¬
والثاني: أن الزنا معْنًى يمنع ماضيه الحصانة، ويسقط حدّ القذف على ما سيأْتي، فجاز أن يبطل مستقبله الحَصَانة، ويسقط حد القذف، والكفر لا يُؤثِّر ماضيه، فكذلك مستقبله كالجنون. والثالث: ذكَر الإِمام أن الركْن الأعظم في الإحْصَان العفَّة عن الزنا، فإن الغَرَض من حدِّ القذف صيانة العِرْض، فإذا زنى المقذوف انهتك عرضه، وتعذَّرت صيانته، وأما الإِسْلام، فيعتبر على سبيل الشُّروط والتتمات (¬1)، فلا يُراعَى إلا في حال الجنابة، وإذا قلنا بالمَذْهب، فلو قذف زوجته، ثم زَنَتْ، سقط عنه الحَدُّ واللعان. نَعَمْ، لو كان هناك ولدٌ، وأراد نفْيَه، فله اللعان. فَرْعٌ: لو سرق المقْذُوف أو قَتَل قبِل أن يقام الحد على القاذف، لم يؤثِّر ذلك، ولم تبطل الحصانة، وفي كتاب القاضي ابن كج أن أبا الحُسَيْن حكى فيه وجهَيْن: الثاني: مَنْ زنى مرةً، سقَطَت حصانته، ولم يعد بالعفة والصلاح بعده، فلا يحد قاذفه، ولكن يُعزَّر للإيذاء، وهذا ظَاهِرٌ إن قيد القذْف بالزنى السابق، أو أطلق، فإنه صادق في أنه زنَى، فأما إذا قيد القذف بزنى متأخِّر، فقد استبعد سقُوطَ الحدِّ مستبعِدُون، ولم يقيموه مع ذلك وجهاً، وقالوا العِرْض إذا انخرم بالزنى، لم يزل الخَلَل بما يطرأ من العفَّة، وكذلك لو زَنَى كافر أو رقيق ثم أسلم ذاك، وعتق هذا، وصلحت سيرتهما، لا يحد قاذفهما بخلاف ما إذا جَرَتْ صورة الزنى في الصَّبِيِّ أو المجنون، قلنا: إنه يُحدُّ قاذفهما بعد البلوغ والإفاقة؛ لأن فعل الصبيِّ والمجنون ليس بزنى؛ لعدم التكليف. الثالث: إذا قذف زوجته أو غيرها وعجز عن إقامة البينة على زنى المقذوف، وأراد أن يُحلِّفه على أنه لم يَزْنِ، ففي تمكُّنه منه قولان، ويقال: وجهان: أحدهما، ونُسِب إلى نصه -رضي الله عنه- في "الإملاء": أنه لا يتمكَّن إذ لا عهد باليمين على نَفْي الكبائر، وأيضاً، فإن شُرَيْكَ ابْن السحماء الذي رُميَتْ به الملاعنة على عَهْد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ، فأنكر، فلم يُحلِّفه النبي -صلى الله عليه وسلم-. والثاني: يتمكن، فلعله يُقرُّ، فيسقط الحد عن القاذف، وفي "التهذيب" و"التتمة" أن الأول أظهر، لكن الموافق لجواب الأكثرين الثَّاني، وقالوا: لا تسمع الدعوى بالزنى والتحليف على نفيه إلا في هذه المسألة (¬2). ¬
ولنا إلى المسألة عودةٌ في الدعاوى والبينات بعْد عودة. فرْعٌ: عن أبي إسحاق -رحمه الله-: أنه يجب على الحاكم البَحْث عن إحصان المقذوف؛ ليقيم الحدَّ على القاذف، كما يجب البحث عن عدالة الشهود؛ ليحكم بشهادَتِهم، وقال غيره: لا يجب، وهو الذي رجَّحوه، وفرقوا بوجهين: أحدهما: أن البحْث عن الإحصان يؤدي إلى هَتْكِ الستر وإظهار الزنا المأمور بسَتْره، والبحْثُ عن العدالة بخلافه. وأقواهما: أن القاذف عَصَى بالقذف، فغُلِّظَ الأمرُ عليه؛ بإقامة الحد بظاهر الإحصان، والمشهود عليه لم يصدر منه ما يقتضي التغْليظ عليه. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ مَاتَ المَقْذُوفُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الحَدِّ قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ لَكِنْ يَخْتَصُّ بِالعَصَبَاتِ عَلَى وَجُهٍ* وبِالعَصَبَةِ الَّتِي تُزَوَّجُ دُونَ الابْنِ عَلَى وَجْهٍ* وَيَعُمُّ كل قَرِيبٍ بِالنَّسَبِ عَلَى وَجْهٍ* وَيُوَزَّعُ عَلَى فَرَائِضِ الله تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ* فَإِنْ عَفَا وَاحِدٌ سَقَطَ الجَمِيعُ عَلَى وَجْهٍ*وَبَقِيَ الجَمِيعُ عَلَى وَجْهٍ* وَسَقَطَ حِصَّتُهُ عَلَى وَجْهٍ* وَوَلِيُّ المَجْنُونِ المَقْذُوفِ قَبْلَ الجُنُونِ لاَ يَسْتَوفِي حَدَّهُ إِلَى أَنْ يَمُوتَ* وَسَيِّدُ العَبْدِ لاَ يَسْتَوْفِي التَّعْزِيرَ الوَاجِبَ لِلعَبْدِ في حَيَاتِهِ* وَيَسْتَوفِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ* وَيَسْتَحِقُّ العَبْدُ عَلَى السَّيِّدِ التَّعْزِيرَ إِنْ قَذَفَهُ عَلَى الأَصَحِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أصل مسائل الفصْل: أن حدَّ القذْف حقُّ الآدميِّ أو المغلَّب فيه حقُّه، حتى يورث عنه، ويسقط بعفوه، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: هو حق الله تعالى، فلا يورث، ولا يسقط بالعفو، واحتج الأصحاب بأنه حق يتوقَّف استيفاؤه على مطالبة الآدميِّ [به،] (¬1) فكان حقاً له، كسائر حقوقه فيه، وأيضاً، فقد سلَّم أبو حنيفة؛ أنه لو قذف ميتاً، ثبت لورثته الحدُّ، وإنما ¬
يثبت ذلك بطريق التلقِّي؛ ألا ترى أنه يعتبر الإحصان في المقذوف لا في الوارث. ولو قال لغيره: اقذفني، فقذفه، ففي وجوب الحدِّ وجهان: قال أكثرهم: لا يجب وفاء بكونه حقًّا للآدمي، كما لو قال: قاتلني، فقتله، لا يجب القِصَاص. والثاني: يجب، وفُرِّق بأن القتل يباح في الجُمْلة، فيحتمل (¬1) أن يكون الذي أَمَر بقتل نفسه مُهْدَرًا بِزنًا أو غيره، والقَذْفُ لا يباح، وإن كان المقذوف زانياً، وكما يورث حدث القذف، يورث التعزير، إذا وجب بالقذفِ التعزيرُ. إذا تقرَّر ذلك، فإحدى مسائل الفصْل فيمن يرث حد القذف، [وفيه] (¬2) أوجه: أصحهما، أنه يرثه جميعُ الورثة، كالأموال وحقوقها وكالقصاص. والثاني، ويُحْكَى عن ابن سُرَيْج: أنه يرثه الجميعُ سوى الزوج والزوجة؛ لارتفاع النكاح بالموت وانقطاع واسطة التعيير. والثالث، يختص برجال العصبة؛ لأنه لرفع عار يرجع إلى النسب، فاختص بهم كولاية التزويج، وعلى هذا ففي البنين وجهان: أحدهما: يستحقون، ويكونون في مرتبتهم القويَّة من العصبة. والثاني: المنع، كما في ولاية التزويج؛ وعلى هذا فيستثنى البنون (¬3) عن رجال العَصَبة، وتصير الأوجه أربعةً على ما ذَكَرَ في الكتاب، واستحقاق الزوْج والزوجةِ في القذْف المنشأ بعد الموت يترتب على الاستحقاق إذا قذفه في حياته، إنَّ لم نُثْبِتْ لهما حقًّا، فهاهنا أَوْلَى، وإن أثبتنا، فهاهنا وجْهان، والفرق أن الوصلة (¬4) منقطعة هاهنا حالة القذف (¬5) ولو لم يكن للمقذوف وارث خاصٌّ، فهل يقيم السلطانُ الحدَّ؟ فيه قولان كما ¬
في القصاص، وكذا لو قذف ميتاً لا وارث له، والأظهر أنه يقيمه. الثانية: أحد الذين يَثْبت لهم حد القذف، إذا عفى عن حقه، وهو من أهل العفو، فيه ثلاثة أوجه: أصحها: أنه يجُوز لمَنْ بَقِيَ استيفاء الجميع، وهذا الحَقُّ يثبتُ لهم ولكل واحد منهم، كولاية التزويج وحقِّ الشُّفعة. والثاني: أنه يسقط جميعُه، كما لو عفا بعض المستحِقِّين عن القِصَاص، ومن نصر (¬1) الأول قال للقصاص بدل يعدل إليه ولا بَدَلَ لِحَقِّ القذف، فتسليطُ بعْضِهم على إبطال حقِّ الآخرين بالكليَّة بعيدٌ. والثالث: أنه يَسْقُطُ نصيب العافي، ويستوفي الباقي؛ لأنه قابلٌ للتقسيط والتوزيع (¬2)، بخلاف القصاص، وعلى هذا يسقط السَّوطُ الَّذي تقع فيه الشركة، ولا يتوزع. وإذا قذف رجُلٌ مُورِّثه، فمات المقذوف، سقط عنه الحدُّ، إن كان حائزًا؛ الإرث لأنه ورث ما عليه، بخلاف ما إذا قطع يد مورثه، فمات من القطع؛ حيث لا يسقط القِصاص؛ لأن القتل يمنع الميراث، ولو قذف أباه، فمات الأب عن القاذف، وابن آخَرَ، فإن قلنا: إنه إذا عفا بعض المستحقين، كان للآخر استيفاء الجميع، فللابن الآخر استيفاءُ الحدِّ بتمامه، وإن قلْنا: سقط الكل، فكذلك هاهنا، وإن قلْنا: يسقط نصيب العافي وحْده، فللابن الآخر استيفاءُ نصيبه من الحد. الثالثة: مَنْ قُذِفَ، وهو عاقل، فجُنَّ قبل استيفاء الحدِّ، لم يكن لوليه استيفاؤه، فإن المقصود التشفِّي والانتقام، وذلك يتعلَّق بنظر صاحب الحَقِّ واختياره، فلا بد من الصَّبْر إلى أن يفيق أو يموت، فينتقل الحق إلى ورثته، وكذا لو قُذِفَ المجنون أو الصغير, وجب التعزير، لم يكن لوليهما التعْزِيرُ، بل يجب الصَّبْر، وإذا قُذف العبد، ووجب التعزير، فالطَّلب والعقوبة والعفو إليه لا إلى السيد؛ لأن عرْضه له لا للسيد، حتى لو قذف السَّيِّدُ عَبْدَهُ، كان له رفْعُه إلى الحاكم؛ ليعزره، وهذا هو الظاهر، وفيه. ¬
الباب الثاني في قذف الأزواج خاصة
وجه: أنه ليس له طلبُ التَّعْزير، ولكن يقال له: لا تَعُدْ، فإن عاد، عَزِّرَ حينئذ، كما يُعزَّر المستخدِم له فوق ما يحتمله، ويليق بحاله، ولو مات العَبْد، وقد استحق تعزيرًا على غير السيد، فحاصل ما نقل ثلاثة أوجه: أصحها (¬1): على ما ذكر الشيخ أبو حامد والقاضي الرُّويانيُّ: أنه يستوفيه السيد؛ لأن التعزير عقوبة وجبت بالقذف، فلا يسقط بموت المقذوف، كالحد، قال الأصحاب: وليس ذلك على سبيل الإرث، ولكنه أخصُّ الناس به، فما ثَبَت له في حياته، يكون لسيده بعْد موته بحقِّ الملك كمال المكاتب. والثاني: أنه يستوفيه أقاربه؛ لأن العار يَعُود إلى النسب، والسيد لا يتَغَيَّر به. والثالث: أنه يَسْقط (¬2)، ويُنْسب هذا إلى القَفَّال؛ لأن الأقارب لا يرثونه والسيد لا يتغيَّر بقذفه، ومنهم من قال: إذا قلنا: لا يستوفيه السيد، هل يستوفيه السلطان؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه فيمن لا وارِثَ له، فيخرج من هذا وجْه رابعٌ؛ أنه يستوفيه السلطان، والله أعلم (¬3). البَابُ الثَّانِي فِي قَذْفِ الأَزْوَاجِ خَاصَّةً* وَفِيهِ فُصُولٌ قَالَ الغَزَالِيُّ: (الأَوَّلْ فِيمَا يُبِيحُ القَذْفَ وَنَفْيِ النَّسَبِ) فَنَقُولُ: الزَّوجُ كَالأَجْنَبِيِّ فِي القَذْفِ إِلاَّ أنَّهُ قَدْ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ أَوَّلاً* وَقَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ* وَلَهُ دَفْعُ العُقُوبَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِاللِّعَانِ وَإِيجَابِ عُقُوبَةِ (ح) الزِّنَا عَلَى المَرْأَةِ* ثُمَّ لِلمَرْأَةِ الدَّفْعُ بِلِعَانِهَا* وَيُبَاحُ لِلزَّوْجِ القَذْفُ إِذَا اسْتَيقَنَ أَنَّهَا زَنَتْ فِي نِكَاحِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثمَّ وَلَدٌ لِلتَّشَفِّي* وَكَذَلِكَ لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ بِأَنِ اسْتَفَاضَ بَيْنَ النَّاسِ أنَّهَا زَنَتْ بِفْلاَنٍ وَانْضَمَّ إِلَيْهِ مَخْيَلَةٌ بِأنْ رَآهَا مَعَهُ فِي خَلْوَةٍ* ولاَ يَجُوزُ بِمُجَرَّدِ الاِسْتِفَاضَةِ* وَلاَ بِمُجَرَّدِ أَنْ يَرَاهَا مَرَّةً فِي خَلْوَةٍ إِلاَّ أَنْ يَرَاهَا مَعَهُ تَحْتَ شِعَارٍ* أَوْ يَرَاهَا مَرَّاتٍ كَثِيرةً* أمَّا نَفْي الوَلَدِ بِاللِّعَانِ إِنَّمَا يُبَاحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى إِذَا تَيَقَّنَ أنَّه لَيْسَ منْهُ* وَعِنْدَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ القَذْفُ وَاللِّعَانُ حَتَّى لاَ يُلْحَقَ بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ* وَإِنَّمَا يِتِيِقَّنُ إِذَا لَمْ يَطَأَهَا أَوْ أتَتْ بِالوَلَدِ لأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنينٍ مِنْ وَقْتِ الوَطْءِ* أَوْ ¬
لأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ* أَوْ وَطِئَهَا وَعَزَلَ* فَإِنِ اسْتَبْرَأَهَا بَعْدَ الوَطْءِ بِحَيْضَةٍ وَرَأَى مَعَ ذَلِكَ مَخْيَلَةَ الزِّنَا جَازَ* وَإِنْ لَمْ يَرَ المَخْيَلَةَ لَمْ يَجُزْ عَلَى أظْهَرِ الوَجْهَيْنِ* وَلاَ يَجُوزُ النَّفْيُ بِمْجَرَّدِ مُشَابَهَةِ الوَلَدِ لِغَيْرِهِ في الخُلْقِ والقُبْحِ وَالحُسْنِ* فَإنْ كَانَ الأَبَوَانِ فِي غَايَةِ البَيَاضِ وَالوَلَدُ فِي غَايَةِ السَّوَادِ أَوْ بِالعَكْسِ وَانْضَمَّ إِلَيْهِ مَخْيَلَةُ الزِّنَا جَازَ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الزوج كالأجنبي في ألْفَاظِ القَذْف وصرائحها وكناياتها، وفي أنه يلْزَمُه بقَذْفها الحَدُّ إن كانت الزوجة محصَنَةً، والتعزير إن لم تكن محصَنَةً إلا أن الزَّوْج يخْتَصُّ بأنَّه قد يباح له القَذْف، وقد يجب عليه، وبأن الأجنبيَّ لا يتخلَّص من الحد إلا ببينة تقوم على زنا المقذوف أو بإقرار المَقْذُوف، وللزوج طريقٌ ثالثٌ إلى الخلاف، وهو اللعان، وكما يندفع به حدُّ القذف عنه، يجب به حدُّ الزنا عليها, ولها أيضاً دفْعُه باللِّعان، والسبب في اختصاص الزوج به أنَّها، إذا لَطَّخَت فراش الزوج، اشْتَدَّ غيْظُه عليها، وعَظُمت عداوته، واحتاج إلى الانتقام والتبرؤ منها, ولا يكاد تساعده البينة والإقرار، فأبيح له القَذْف، وشُرعَ له طريق الخَلاَص. وقوله في الكتاب: "وله دَفْعُ العُقُوبَةِ عَنْ نَفْسِهِ باللِّعانَ" إلى آخره، معادٌ مِن بَعْدُ، والغرض الآن بيانُ مفارقة الزوج للأجنبيِّ فيه، والمَعْنَى، ولأن له دفْع العقوبة عن نفسه، ومقصود الفصْل أن الزوج إذا تيقَّن أنها زنَتْ بأن رآها بعَيْنِهِ تزني، فيباح له القَذْف، وكذا لَوْ ظَنَّه ظَنًّا مؤكدًا؛ بأن أقرت (¬1) هي بالزنا، ووَقَع في قلبه صدْقُها أو سمعه ممَّن يشق به، قال القاضي ابن كج: والإمامُ سواءٌ كان من أهل الشهادة أم لم يَكُنْ أو استفاض بين الناس أنَّ فلانًا يَزْنِي فيها, ولم يخبر أحد عن عيان وانضمَّت إلى الاستفاضة مَخْيَلةُ الفَاحشة؛ بأن رأه معها (¬2) في خَلْوه، أو رآه يخرُج من عندها, ولا يباح القذف بمجرَّد الاستفاضة؛ فإنَّه قد يذْكره غَيْر ثقة، فيستفيض أو ينشره عَدُوُلَها، أَوْ لَهُ، أو مِنْ طمع فيها فخاب (¬3)، ولا بمُجَرَّد أن يراها مع رجل في خَلْوة، أو يراه يَخْرج من عنْدها؛ لأنه ربَّما دَخَل لخوف أو سرقة أو طمع، وإنما يباح إذا اجتمع الأمران، وعن الداركيِّ: أنه يجُوز بمجرَّد الاستفاضة. وعن ابن أبي هريرة: أنَّه يباحُ بمجرَّد المخيلة، حكى الوجهين الشيخُ أبو الفرج الزاز، والاكتفاء بالاستفاضة أشْهَرُ من الاكتفاء [بالمخيلة] (¬4)، وقد أورد الخلاف فيها صاحب "المهذب" والظاهر المشهور الأول. ¬
نَعَمْ، قال الإِمام: الذي أراه أنه لو رآها مَعَه مراتٍ كثيرةً في مَحَلِّ الريبة، كان ذلك كالاستفاضة مع الرُّؤْية مرةً، وكذا لو رآها معه تحْتَ شِعَارٍ على هيئة منْكَرة، وتابعه عليه صاحبُ الكتاب وغيره. ثم ما لم يكن هناك ولَدٌ، فلا يجب على الزوج القَذْف، بل يجوز أن يستر عليها، ويفارقها بغَيْر طريق اللعان، ولو أمْسَكَها, لم يَحْرُم (¬1)؛ لِمَا رُوِيَ أن رجلاً أتى رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬2) وقال: لِيَ امْرَأَةٌ لاَ تَرُدُّ يَدَ لاَمِسٍ، قَالَ: طَلِّقْهَا، قَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا، قَالَ: فَأمْسِكُهَا". وإذا كان هناك ولَدٌ يتيقن أنه ليس منه، فيباح له نَفْيُه، بل يجب عليه النَّفْيُ؛ لأن ترك النفي يتضمَّن الاستلحاق، ولا يجوز له استلحاق مَنْ ليس منْه كما لا يجوز نفْيُ مَنْ هو منْه، وقد روي أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- (¬3) قال "أيّام امرأة أدْخَلَت على قوْم مَن ليس منْهم، فليست مِنَ الله في شَيْءً"، فنص على المرأة، ومعلومٌ أنَّ الرَّجُل في معناها، قال الإِمام: وفي القَلْب من هذا شَيْء، ويجوز أن يقال: المُحَرَّم التصريح بالاستلحاق كذباً ¬
دون السكوت عن النفي، وذلك لأن في اقتحام اللِّعانِ شُهرةً وفضيحةً يَصْعُب احتمالها على ذي المروءات، فيبعد إيجابه، وقد حكى القاضي الرُّويانيُّ عَدَمَ وجُوب النفي وجْهًا عن جماعة [من] (¬1) الأصحاب -رحمهم الله- ثم في "التهذيب" وغيره: أنَّه إن تيقَّن مع ذلك أنَّها زنَتْ، فيقذفها، وَيُلاَعِنُ، وإلاَّ فلا يقذفها؛ لجواز أن يكُون الوَلَد من زوج قبله أو من وطء شُبْهة، قال الأئمة: وإنَّما يحْصُل اليقينِ (¬2)، إذا لم يطأْها أصلاً أو وطئها، وأتَتْ بالولد لأكثر من أربع سنين من وقْت الوطء أوْ لأقل من ستَّة أشهر، وإن وطئها، وأتت به لأكْثَرَ من ستة أشهر، ولأقل من أربع سنين، فإن لم يستبرئْها بحيضةٍ أو استبرأَها، وأتَتْ لِدُونِ ستة أشهر منْ وقْت الاستبراء، فلا يَحِلُّ له النفي ولا عبرة بديبة يجدُها في نَفْسه أو شبهة تُخَيِّلُ إليه فسادًا. وقد روي أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- (¬3) قال: "أَيُّهَا رَجُل جَحَدَ وَلَدَهُ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، احْتَجَبَ اللهُ مِنْهُ، وَفَضَحَهُ عَلَى رُؤوس الأَوَّلينَ والآخِرِينَ" وإن استبرأها، وأتت به، لأكثر من ستة أشهر، ففيه وجُوهٌ جمَعَها الإِمام -رحمه الله-. أحدها: أنَّه يُبَاح لَهُ النفي؛ لأن الاستبراء أمارةٌ ظاهرةٌ على أن الوَلَد ليْس منْه؛ ولذلك ينتفي (¬4) به النسب في ملك اليمين. والأَوْلَى أن لا يَنْفِيَهُ؛ لأن الحامل قد تَرَى الدَّمَ. والثاني: إن رأى بعد الاستبراء مخْيَلَة الزنا الَّتي تسلطه على القذف أو يتيقَّن الزنا، جاز النَّفْي، بل وَجَب لأن الغالب على الظَّنِّ، والحالة هذه، أنه ليس منْه، وإن لم ير شيئاً، فلا يجوز. والثالث: يجوز النفي، سواءٌ وُجِدَتْ مخيلة أو أمارة، أو لم تُوجَدْ، ولا يجب بحال الاحتمال؛ لمكان التردُّدِ، والاحتمال الأوَّلُ من هذه الوجوه هو المذكور في "التهذيب"، والراجح عند صاحب الكتاب -رحمه الله-؛ [الثاني] لأنه حَكَمَ بجواز النَّفْي، إذا رأى مخيلةً، ولم يتعرض لخلاف فيه، وحكم بأن الظاهر عدم الجواز، إذا لم يَرَها، وكلام أصحابنا العراقيين يوافقه (¬5) أو يَقْرُب منه. ¬
ولو كان الزوج يطأ، ويعزل، فأتَتْ بولد، فالصحيح، وهو الجواب في "المهذب" و"التهذيب" وغيرهما: أنه لا يجوز له النفْي بذلك؛ فإن الماء قد يَسْبق من غير أن يَحُسَّ به الواطئُ، وعدَّه صاحب الكتاب هاهنا، وفي "الوسيط" من الأسباب المجوزة للنفي، وحكِي عن مالك -رحمه الله- أنه لا عبرة به، والله أعلم. والمجامعة فيما دون الفَرْج، هل تمنع جواز النفي؛ فيه وجْهَانِ: أحدهما: نعم؛ لأن الماء قد يَسْبِق إلى الفَرْج، وينعقد الولد. وأظهرهما: لا, ولحوق (¬1) الولد من أحكام الجماع، فلا تتعلَّق بما دونه، وفي إتيانه في غير المأتَي (¬2) وجهان يقربان من هذَيْن الوجهين، وإن أتَتْ بولد لا يُشْبِهه، نُظِرَ؛ إن رَجَع الاختلاف إلى نُقْصان وكمال في الخِلْقة أو إلى الحُسْن والقبح ونحوهما فذلك لا يُورِث تُهْمةً، ولا يَجُوز النفي به بحَالٍ، وإن أتَتْ بولَدٍ أسودَ، والزوجان أبيضان، أو بالعكسْ، فإن لم ينضم إلَيْه مخيلة الزنا، لم يجز النفي به، روى أبو هريرة أن رجُلاً قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلامًا أسْوَدَ، قال: هل لك من إِبِل؟ قال: نعم، قال: ما لونها؛ قال: حمر قال: هل فيها من أوْرَقُ؟ قال: نعم، قال: أنى أتاها ذلك قال: لعلَّه أن يكون نَزْعَهُ عِرْقٍ، قال: فلَعَلَّ هذا نزعةُ عرْقٍ، وإذا انضمَّت إليه مخيلة الزِّنَا، فوجهان، وكذا لو كان يتهمها برجُلٍ، أتت بولد على لَوْن ذلك الرجل: أحد الوجهين: أنه لا يجوز؛ لأن العِرْق نَزَّاع، وهذا أظهر عند القاضي أبي الطيب (¬3) والشيخ أبي حامد. والثاني: يجوز لتأكد الظن بانضمام المخيلة إلى اختلاف اللون، وليس ذلك بأقل من انضمام المخيلة إلى الاستفاضة، وهذا أرْجَحُ (¬4) عند البندنيجي، والقاضي الرُّويانيِّ وغيرهما. قوله في الكتاب: "أما نفي الولد باللعانِ إنما يباح بينه وبين الله تعالى" أشار بهذه اللفظة إلى أنَّه لو نَفَى الولد، ولاعَنَ، حكم بنفوذه في الظاهر، ولا يُكَلَّف (¬5) بيان ¬
السبب الذي بني عليه النَّفْي، لكن يجب عليه فيما بينه وبين الله تعالى؛ رعايةً لِلأسباب المذكورة وبناء النفْيُ على ما يجوز البناء عليه. وقوله ["بمجرد] (¬1) مشابهة الولد لغيره في الخلق والقبح" يجوز أن يُقْرَأَ الخَلْق بفتح الخاء، أي كمالاً ونقصاناً، ويجوز أن تقرأ بالضَّمِّ أي سوءا وحُسْنًا، وقوله "القبح" يريد أو الحسن، وقد يغني ذكْر أحد الضدين عن الآخر، كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]. وقوله "فإن كان الأبوان في غاية البياض، والولَدُ في غاية السَّواد" يشير بهذه اللفظة إلى ما ذَكَره الإِمام أن الاختلاف في الألوان المتقاربة لا يؤثر كالأدمة والسمرة، وكالشُّقْرة القريبة من البياض، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإِذَا نَكَحَ المَشْرِقيُّ مَغْرِبيَّةً وَأتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلاَ حَاجَةَ إِلَى اللِّعَانِ فَإِنَّهُ لاَ يَلْحَقُهُ (ح) إِذْ لاَ إمْكَانَ* وَلَوْ أتَتْ بِالوَلَدِ لِزَمَانِ الإمْكَانِ وَلَكِنْ رَآهَا تَزْنِي وَأَرَادَ اللِّعَانَ دُونَ نَفْيِ الوَلَدِ بِمْجَرَّدِ الانْتِقَامِ لَمْ يَجُزُ عَلَى المَشْهُورِ نَظَرًا للوَلَدِ حَتَّى لاَ تَطُولَ فِيهِ الألْسِنَة. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صورتان: إحداهما: لا يُلْحَق الولَدُ بالزوج، إذا لم يتحقَّق إمْكَان الوطء، كما إذا نَكَح امرأة، وطلَّقها في المجْلِس أو غاب عنْها غيبة بعيدة، لا يحتمل وصول أحدهما إلى الآخر، وأتَتْ بولدٍ لأكثر من أربع سنين منْ وقْت الغيبة أو جَرَى العقْد، والزوجان متباينان، وأحدهما بالمَشْرق، والآخر بالمغرب، وأتتْ بولَدٍ لستة أشْهُر من وقْت العَقْد، ولا حَاجَة في مثْل هذه الصُّور إلى اللِّعَان، وبه قال مالك وأحمد، -رحمهما الله- ولم يَشْتَرِط أبو حنيفة إمكان الوطء، وحكم باللحوق في هذه الصورة. لنا القياس على ما إذا أتَتِ امْرأةُ الصغيرِ بولد، والجامع عدم إمكان الوطء. الثانية: إذا أتت بولد يحتمل أن يكون من الزوج لكنه رآها تزني، واحتمل أن يكون من الزنا أيضاً، فلا يباح له نفي الولد، وهل له القذف واللعان من غير نفْي الولد؟ حكى الإِمام عن العراقيِّين والقاضي الحُسَيْن: أنه ليس له ذلك قال: والقياس جوازُهُ؛ لجواز القذف إذا تيقَّن الزنا ولا ولد؛ انتقامًا منها، وتعريضًا لها للحد، قال: وربما ضَمَّنْتُ أنهم ردُّوا الفكر إلى الولد، فأبْطَلوا نفْي القذف واللعان، وهم يعنون أنه لا يقذف ولا يلاعن لنَفْي الولد، ولكن غالب الظن منعهم من اللعان إذا وُجِدَ الوَلَد على ما ¬
الفصل الثاني في أركان اللعان
يقتضيه ظاهِرهُ، فحصل وجهان: والمشهور منهما أنه ليس له القَذْف واللعان، ووُجِّه بأن اللعان حُجَّة ضرورية، إنما يصار إليها للحاجة إلى قطْع النسب أو إلى قَطْع النكاح، حيث لا ولد؛ خوفاً من أن يحْدُث ولَدٌ على الفراش المُلطَّخ، ولم يُوجَدْ هاهنا حاجَةٌ [إلى] قطع النسب، ومحْذُور حدوث الولد على الفراش الملطَّخ، وقد وقع، فلا يصار إلى اللِّعان [فيه] وأيضاً فإن نسبتها إلى الزنا وإثباته عليها يُعَيِّر الولد به وتطلق الألسنة، ولا يحتمل ذلك؛ لغرض الانتقام، وللفراق طريق أسلم منه، وهو الطلاق، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّانِي فِي أَرْكَانِ اللِّعَانِ) وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الثَّمَرَة وَالقَذْفُ وَالأَهْلُ وَاللَّفْظُ (الأَوَّلُ: الثَّمَرَةُ) وَهِيَ نَفْيُ النَّسَبِ وَقَطْعُ النِّكَاحِ وَدَفْعُ العُقُوبَةِ وَدَفْعُ عَارِ الكَذِبِ* وَيَجُوزُ اللِّعَانُ بِمُجَرَّدِ نَفْيِ النَّسَبِ* وَإِنْ سَقَطَتِ العُقُوبَةُ بِعَفْوِهَا* وَيَجُوزُ لِمُجَرَّدِ إِسْقِاطِ العُقُوبَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ سَوَاءٌ كَانَ حدًّا أَوْ تَعْزِيرًا إِلاَّ تَعْزِيرَ (ح) التَّأْدِيبِ وَهُوَ أنْ يُؤْذِيَهَا بِالقَذْفِ بزِناً اعْتَرَفَتْ بِهِ أَوْ ثَبَتَ بالبَيِّنَةِ فَإنَّهُ لاَ يُلاَعِنُ لِمْجَرَّدِ دَفْعِهِ عَلَى أَسَدِّ الوَجْهَيْنِ لأَنَّهُ مُصَدَّقٌ فَلاَ مَعْنَى لِلعانِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد ذكَرْنا أنَّ اللعان يخْتَصُّ بقذف الزوج، ولا يخْفَى أن اللِّعان سَبَبًا يترتب عليه، وهو القَذْف، وأن للملاعن مقصوداً يبتغيه باللعان وهو ثمرته به، فهاهنا أربعة أمور؛ يُحْتَاجُ إلى معْرِفتها ومعرفة أحوالها، وهي: ثمرة اللعان، والقذف الذي هو سببه، والشخص الملاعِنُ، ولفظ اللعان، وتُوُسِّع في تسميتها أركان اللعان، وربما أراد أركان النَّظَر في اللعان، أما الثمرة، فإنه عَدَّها أربعة أمور: نَفْي النَّسَب، وقَطْع النكاح، ودَفْع عقوبة الكَذِب، ورَفْع عار الكذب في نسبتها إلى الزنا بتحقيقها باليمين، أو يمكن ردُّ هذَيْن الآخرين إلى شَيْءٍ واحدٍ، وهو دفْع المحذور الَّذي يلحقه بالقَذْف، وقد يُنَاقش في قوله الثَّمَرة، وهي نفْي النسب إلى آخر الأربعة، فإنه يقتضي الحَصْر، ويجوز أن يُعَدَّ من ثمراتِه تأبيدُ التَّحريم، وإثبات حد الزنا (¬1) عليها انتقامًا منها على ما يعرض له في أثناء الكلام، ولا يشترط لجواز اللِّعَان تعلُّق هذه الثمرات به، بل منْها ما يستقل بإفادة جوازه، ومنها خلافه أما نفي النسب، فهو المقصود الأصليُّ من شرْع اللِّعان، فإنَّه لا يثبت بالبينة، وإنْ كان يحْصُل بها دَفْعُ حدِّ القَذْف، وإتيان حد الزنا عليها، فيجوز ¬
اللعان، لمجرد نفي النسب، وإن لم ينقطع به النكاح؛ بأن كان قد أبانها أو لم ينهض (¬1) دافعًا للعقوبة؛ بأن كانت قد عَفَتْ، أو أقام البينة على زناها. وأما دفع القذْف، فيجوز اللعان لمجرَّد دَفْع الحد، وإن لم يتعلَّق به قطْع النكاح، ولم يكن هناك وَلَدٌ، وإن كان الواجِبُ التقرير، فالتعزير المشروع عند القَذْف على نوعين: تعزير تكذيب، وهو الذي يُشْرَع في حق الرَّامِي الكاذب ظاهرًا، فإنه (¬2) يكذب بما يَجْري عليه، وذلك إذا قَذَف زوجته الذمية [أو الرقيقة] (¬3) أو الصغيرة التي يُوطَأ مثلها. وتعزير تأديب؛ وهو أن يكون كذبه معلومًا أو صدْقُه ظاهرًا، فيُعزَّر لا تكذيبًا له ولكن تأديبًا؛ لئلا يعود إلى السّبِّ والإيذاء؛ وذلك كقذف الصغيرة التي لا يوطأ مثلها، وكما إذا قذفها بزنًا ثبت بالبينة أو اعترفت به، فإنه لا يُحَدُّ؛ لسقوط حصانتها ويُعزَّر؛ للإيذاء بتجديد ذكْر الفاحشة. فأما النَّوع الأول من التعزير، فإنه يُسْتَوْفَى بطلبها، وله دفْعُه عن نفسه باللعان، وفيه وجهٌ ضعيفٌ، نقله الإِمام وغيره -رحمهم الله-. وأما النوع الثاني، فلا يلاعن؛ لدفع التعزير فيما إذا قذفَ صغيرةً لا يوطأ مثلُها، وإن كَبِرَتْ، وطَلَبت؛ لأن التعزير هناك ليس من جِهَةِ أنه قَذْفٌ، فإنه أتى بالمحال، لا يُلْحِق بها عارًا، وإنما يعزَّر؛ منْعًا له من الإيذاء والسب، وزجرًا عن الخوض في الباطل، وفيه وجه ضعيفٌ، وفيما إذا قَذَفها، وقد ثبت زناها بالبينة أو الاعتراف، قال الشَّافعي -رضي الله عنه- في رواية المزنيَّ -رحمه الله-: عُزِّر إن طلبت ذلك يعزر ولم يلتعن، وظاهره الحكم، بأنه لا لعان، وقال في رواية الربيع -رحمه الله-: إن طلبت ذلك إن لم يلتعن فجعل عدم الإلتعان شرط. وذلك يُشْعِرُ بأنَّ له أن يلاعن، وفيها طرق للأصحاب: أشهرها، وبه قال ابن سلمة والداركي وابن القَطَّان: أن المسألة على قولَيْن: أحدهما: له أن يلاعن دَفْعًا للعقوبة، كما في تعزير التكذيب، وأيضًا، فلقطع النِّكَاح ودفعًا للعار. وأصحهما: المنع؛ لأن اللعان؛ لإظهار الصدق وإثبات الزِّنا، والصدق ظاهر، والزنا ثابتٌ، فلا معنى للِّعَان، وأيضًا فإن التعزير هاهنا للسَّبِّ والإيذاء، فأشْبه قَذْف الصغيرة الَّتي لا يُوطَأُ مثْلُها. وأظهرهما، وبه قال أبو إسحاق والقاضي أبو حامد: القطع بالقَوْل الثَّاني، وجعل ¬
ما رواه الرَّبِيع من كسبه (¬1). والثالث: القطع بما رواه الربيع، وتأويل كلام المزنيِّ بجعل قوله "ولم يلتعن" معطوفًا على قوله "إن طلبت" لا على قوله "عُزِّرَ" كأنه قال: عُزِّر، إن طلَبَتِ التعزير، وامتنع هو عن اللعان. والرابع: أنَّ ما رواه المزنيُّ محمولٌ على ما إذا قذفها بزنا أضافه إلى ما قبل الزوجية، وأقام عليه البينة، ثم أعاد القذف بذلك الزنا، وما رواه الربيع محمولٌ على ما إذا قَذَفَها بزنا إضافةً إلى حالة الزوجية، وأقام عليه البينة ثم أعاد القذف بذلك الزنا، والفرق أنه إذا ابتدأ القذف بالزنا السابق على الزوجية لم يتمكَّن من إسْقَاط ما يجب بِهِ اللعان، فكذلك إذا أعاد القَذْف به، وإذا ابتدأ القذف بالزنا الواقع في الزوجية، تَمَكَّنَ من إسقاط ما يجب به باللعان، فكذلك، إذا أعاد القَذْف به، ثم ظاهر، لفظ الشافعيِّ -رضي الله عنه- في الروايتين، حيث قال: "إِنّ طَلَبَتْ" يدل على أن التعزير الواجب في هذه الصورة إنما يستوفى بطَلَبِها، وحكى الإِمام وجْهًا أنَّه يستوفيه السلطان على سبيل السياسة؛ لما صدر منه من سوء الأدب، ولا يَتوقَّف على طلبها، كما أنه يُؤدِّب من يقول: الناس زناة، وإن لم يَطْلُبْ تأديبَه أحدٌ، والمذهب الأول؛ لأنها المقصودة بالإيذاء والمتضرِّرة بإشاعة الفاحشة، وإن ثبت أصْلها، قال الإِمام -قدس الله روحه-: وليس هذا مَوْضِعَ التردُّد، وإنما يليق التردُّد بما إذا أضاف الزنا إلى حالة لا تحتمل الوطء، كما إذا قال: زنَيْتِ، وأنْتِ بِنْتُ شَهْرٍ، فإن المحال لا يُتاذَّى منْه، وقوله في الكتاب "على أسَدِّ (¬2) الوجهين" يجوز إعلامه بالواو؛ للطريقين القاطعين، والمشهور عند مَنْ أثبت الخلاف التعبير عنه بالقَوْلين دون الوجْهَيْن. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ عَفَتْ عَنِ الحَدِّ وَلاَ نَسَبَ فَلاَ يَبْقَى غَرَضٌ إِلاَّ قَطْعَ النِّكَاحِ وَدَفْعَ عَارِ الكَذِبِ وَالانْتِقَامِ مِنْهَا* وَفِي جَوَازِ اللِّعَانِ لِمْجَرَّدِ هَذِهِ الأَغْرَاضِ وَجْهَانِ* فَإِنْ سَكَتَتْ عَنْ طَلَبِ الحَدِّ وَمَا عَفَتْ فَوَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ* وَأَوْلَى بِالجَوَازِ* وَهَذَا خِلاَفٌ فِي أَنَّ طَلَبَهَا هَلْ يُشْتَرَطُ لِلِّعَانِ؟ * فَإِنْ كَانَتْ مَجْنُونَةً فَأَوْلَى بِالجَوَازِ* وَمَهْمَا قَصَدَ نَفْيَ الوَلَدِ لَمْ ¬
يَتَوَقَّفِ اللِّعَانُ عَلَى طَلَبِهَا قَطْعًا* إِنَّمَا ذَلِكَ في لِعَانٍ لِمْجَرَّدِ دَفْعِ العُقُوبَةِ* وَلَوْ قَالَ: زَنَى بِك مَمْسُوحٌ أَوْ هِيَ رَتْقَاءُ فَلاَ لِعَانَ لأَنَّهُ كَاذِبٌ قَطْعًا وَيُعَزَّرُ تَأْدِيبًا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ذَكَرْنا منْ قبْل أن حدَّ القذف يسْتَوْفى بطَلَب المقذوف، وذِكْرُنا الآن حَالَ التعزير في اعتبار الطَّلَب، وما يستوفى بطلب الشَّخْص من الحد والتعزير، فإنه يسقط بعفْوه وإسقاطه إذا كان من أهْل العَفْو، إذا عُرِفَ ذلك، فلو قَذَف زوجته [فعفت عن الحد]، ولا وَلَد هُنَاك، فهل له اللَّعان أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: نَعَمْ؛ لغرض قطع النكاح والفرقة المؤبدة، ولدفع عار الكَذِبِ والانتقام منْها؛ بإيجاب حد الزنا عليها وإلْصَاق العار بها. وأصحُّهما: لا؛ لأن اللعان حجَّة ضرورية إنما يستعمل لغرض مُهِّم، وهو قطع النسب ودرء الحد، وهذه الأغراض ضعيفة، وقطع النكاح وغَسْل العار عن نَفْسه مُتَيَسِّر بالطلاق، ويجْري الخلاف فيما إذا أَقَام بيِّنة على زنَاها أو صدقه، فاندفع الحدُّ ولا ولَدَ، فلو سَكَتَت، ولم تَطْلُبِ الحد، ولا عفت عنه، ففي جواز اللِّعان وجْهان مرتَّبان، وأوْلَى بالجواز؛ لأن الطلب متوقَّع؛ فيحتاج إلى دفعه. ووجه المنْع؛ أنه لا نَسَب، والحد غير مطلوب، وإنما يُصَار إلى اللِّعان إذا أرهقته الضرورة إلَيْه، وذكر الإِمام -رحمه الله- أن وجْه الجواز أصحُّ في هذه الصورة، والجمهور على ترجيح المَنْع ويتولد من الخلاف المذْكُور خلافٌ في أن طَلَبَ المرأة للعُقُوبة، هل هو شرطٌ لجواز اللعان؟ ويجري الوجهان فيما إذا قَذَف زوجته الصغيرة أو المجنونة، فعلى وجْه؛ له اللعانُ؛ ليُسْقِط التعزير عن نفسه، ويقطع النكاح، وعلى الأظهر ينتظر بلوغ الصبية، وإضافة المجنونة وطلبهما التعزير، والوجهان في هذه الصورة إن رُتِّبَا على الوجهين في صورة السكوت كانَتْ هذه أَوْلَى بالمنع؛ لأنه لا يتوقَّع الطلب إلا بَعْد زوال المانع، وهناك يتوقَّع لحظة فلحظة، وإن رُتِّبَا عَلَى الوجهين في صورة العَفْو، كانَتْ هذه أوْلىَ بالجواز؛ الطَّلَب متوقَّع في الجُمْلَة، ولو قذف زوجته، ثم جُنَّتْ أو قَذَفها في جنونها بزنا إضافة إلى حال الإفاقة، فعَلَيه الحد، وهل يُلاَعِنُ إذا لم يَكُن ولدٌ، أو ينتظر إفاقتها وطلَبَها؟ فيه الوجهان، وإذا كان هناك ولدٌ، وأراد نَفْيَه باللعان، فله ذلك (¬1)، ولا يُشْتَرط طَلَب العقوبة في شَيْء مِنَ الصور المذكورة. وإذا قال: زَنَى بِكِ ممْسُوحٌ أو صبِيٌّ ابْنُ شَهْر أو قال للرَّتْقَاء، أو القَرْنَاء: زَنَيْتِ، فلا حد، ويُعزَّر للأذى، وكذا لو قال لممسوح: زنَيْتَ أو لبالغ زنيت، وأنْتَ في المهد، ¬
لا يجب الحَدُّ، ولا لِعَان في مِثْله، فإنَّه كاذبٌ يقينًا، فكيف تُمَكِّنهُ من الحلف على أنَّه صادقٌ، ومنهم مَنْ حَكَى فيه وجهًا لدفع التعزير عن نَفْسه، وهو الوجه الذي تقدَّم ذِكْره، ولو قال لزوجته الكبيرة: زنَيْتِ وأنتِ صغيرةٌ، فسيأتي القول فيه -إن شاء الله تعالى-: في آخر الركن الثالث. وقوله في الكتاب "فإن كانَتْ مجنونةً، فأَوْلَى بالجواز" يعني في صُورَة العَفْو والإسقاط، وقوله "وهما قصَد نفي الوَلَدِ" إلى مسألة الممسوح غير محتاج إلَيْه، بل مقصوده مفْهُومٌ مما سَبق، وذلك؛ لأنه قد بَيَّن من قبل أنه يجوز اللِّعان لنَفْي الولد، وإن سَقَطَت العقوبة، ومَنْ عرف أنه يُلاَعِن؛ لنفي الولد حيْث لا عقوبة، عرف أنه لا يتوقَّف اللعان على طلب استيفاء العقوبة. والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الثَّانِي: المُلاَعِنُ) وَلَهُ شَرْطَانِ: (أَحَدُهُمَا): أَهْلِيَّةُ اليَمِينِ فَيَصِحُّ مِنْ كُلِّ مُكَلَّفٍ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا (ح) أَوْ ذِمِّيَّاً (ح) * وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ ذِمِّيَّةً وَلَكِنَّهَا إنْ لَمْ تَرْضَ بِحُكْمِنَا لاَ تُجْبَرُ عَلَى اللِّعَانِ إِذْ لَيْس عَلَيْهَا إِلاَّ حَدُّ الزِّنَا وَهُوَ لله تَعَالَى* نَعَمْ لَوْ رَضِيَتْ هِيَ وَامْتنَعَ الزَّوْجُ الذِّمِّيُّ فَفِي إِجْبَارِهِ قَوْلاَنِ* لأَنَّ حَدَّ القَذْفِ ثَابِتٌ لَهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يعتبر في المُلاَعِن شرطان: أحدهما: أهليَّة اليمين، واعلم أن المَشْهُور من قَوْل أصحاب أبي حنيفة أن اللِّعَان شهادةٌ، ومن قول أصحابنا أن اللِّعَان يمين مؤكدةٌ بلَفْظ الشهادة، واحتجوا لكونه يمينًا بما رُوِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- (¬1) قال لهِلاَل بْن أُميَّةَ: "احْلِفْ بِاللهِ الَّذِي لاَ إلَه إلاَّ هُوَ إِنَّكَ لَصَادِقٌ" وأنه لمَّا أَتَتِ المرأة بالوَلَد على النَّعْت المكروه، قال (¬2): "لَولاَ الأَيْمَانُ، لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ"، وبأنه يَصِحُّ من الفاسق والأعمى، وشهادَتُهما غير مقبولة، وبأن اللِّعان يؤتى به في معرض الخصومة، ويُلاَعِنُ الملاعِنُ لنفسه، وشهادة الإنسان لنَفْسِه غير مقبولة، ومن الأصحاب مَنْ يقول: إنه يمين فيه شائبة الشهادات (¬3)؛ ألا ترى أنَّه يُدْرَأ به ¬
الحدُّ عن نفسه، فيثبت حدُّ الزنا عليه، كالبينة، وأنه إذا امْتَنَع من اللعان، ثم رَغِبَ فيه، يُمْكَّن منه كمن امتنع مِنْ إقامة البينة، ثم أراد إقامتها، والنَّاكِل عن اليمين لاَ يعُود إلَيْها بعد النكول (¬1) ولما كان اللعان يمينًا أو كان المُغلَّب فيها اليمين، أُلْحِق باليمين؛ وقيل: يعتبر فيه أهليَّة اليمين، وذلك بالتكليف؛ فلا يصح لعانُ الصبي (¬2) والمجنون، ولا يقتضي قذفهما اللِّعَانَ بعْد البلوغ والإفاقة. نَعَمْ، يُعزر المميِّز على القَذْف، فإن لم يتَّفق تعزيره حتى بَلَغ، فعن القَفَّال أنَّه يسْقُط عنه التعزير؛ لأن تعزيره كان للزجر عن إساءة الأدب، وقد حَدَث زاجرٌ أقوى منه، وهو البلوغ وجَرَيان القَلَم عليه، ويصحُّ لعانُ الذميِّ والرقيق والمحدود في القَذْف، وكذا اللعان عن الزوجة الرقيقة (¬3) والذمية والمحدودة في القَذْف، وبه قال مالك، وعنْد أبي حنيفة: إذا كان أحَدُ الزوجَيْن بصفة من الصفات المذكورة، لم يجر بينهما اللِّعَان؛ بناءً على أن اللِّعان شهادةٌ، وأن لعان الرَّجُلِ يوجب اللعان عليها، دون الحَدِّ، فلا يلاعن الرجل، إذا كان بإحْدَى الصفات المذكورة؛ لأنه ليس من أهْل الشهادة، ولا يُلاَعِن إذا كانَتِ المرأة كَذلِك؛ لأنَّ فائدة لعانه إن تلاعن، وهي ليْست من أهل الشهادة، وعن أحمد -رحمه الله- روايتان كالمذهبَيْن، واحتج الشافعيُّ -رضي الله عنه- بعُمُوم آيات اللِّعَان، وبأن اللعان ليس سبيله سبيل الشهادات على ما تبيَّن، إذا تَقرَّر ذلك، فلو قَذَف زوجته الذمية، وترافع الزوجان، ولاَعَنَ الزوج، فنصُّ الشافعيِّ -رضي الله عنه- أنَّهَا تُجْبَر على اللعان، ولا تحد، إن امتنعت من اللعان حتى ترضى بحكمنا، فإذا رَضِيَتْ ¬
حَكْمنا في حقِّها بما تَحْكُمُ به في حق المُسْلمة، وفيه طريقان؛ حكاهما الإِمام، والمشهور منهما تخريجُ المسألة على القَوْلَيْن في أن الذِّمِّيِّينَ إذا ترافَعَا إلى حاكمنا، هل يجبُ علَيْه الحكْمُ بينهما؟ وقد ذكرناهما في النكاح؛ إن قلْنا: يجبُ، فإذا لَم تلاعن، نقيم علَيْها الحَدَّ، رضيت أو لم ترْضَ، وإن قلنا: لا يَجِبُ، فإنما نَحُدُّها إذا رَضِيَتْ بحُكْمنا، والنص جوابٌ على هذا القول. والطريق الثاني: القَطْع بأنها لا تُجْبَر، ولا يجْري عليها الحُكْم إلا إذا رَضِيَت؛ لأنه إذا لاَعَنَ الزَّوْج، انقطعت خصومته، معها وكان الباقي بعده حدّ الزنا، وهو (¬1) محض حقِّ الله تعالى، ونحن لا نَجْبُر أهل الذِّمَّة على حقوق الله تعالى، ولا يليق بها الإجْبَار؛ لأنها مبنيَّة على المسامحة، وعن القَفَّال؛ بناءً على انقطاع خصومة الزوج باللعان: أنه إذا كان التَّلاعُنُ بيْن المسلمين، فإذا لاَعَنَ الزوج، لم يتوقف عرض اللعان عليها على طَلَبه، بل يقوم به الحاكم، ويقول لها: إن لاعَنْت، سَلِمْتِ، وإلا، أقمت عليك الحدَّ، ويقرب من هذا الكلام أن الَّذِين جعلوا المسألة على القَولَيْن، ذَكرُوا أنه لا فرْق بين أن يكون الزوج الملاعن مسلمًا أو ذِمِّيَّاً، وإن قطَعْنا بوجوب الحُكْم فيما إذا كان أحد الخصمين مسلمًا، والآخر: ذِمِّيَّاً؛ لأن الزوج إذا لاَعَنَ، خَرَج عن أن يكون خَصْمًا لها وما بعد لعانه يتعلَّق بها على الخصوص، فتخرج الصورة عن أن تكُونَ خصومةَ مسلم وذِمِّيِّ، ولك أن تقول: توجيه طريقة القَطْع تنْسَاق إلى أن القولَيْن في أنَّه هل يجب الحكم بين أهل الذمة في حقوق العباد [فأما في حقوق الله تعالى فلا يجب] (¬2) قولاً واحدًا، وهذا لم يسبق ذكره في باب النكاح، لكن ذكرنا في نقل (¬3) القولين هناك ثلاثةَ طُرُقٍ: أحدها: أن القولَيْن في حقوق العباد، فإما في حقوق الله تعالى، فيجب الحُكْم لا محالة؛ كيلا (¬4) تضيع. والثاني: أن القولَيْن في حقوق الله تعالى، فأما في حقوق العباد، فيجب لا محالة؛ لأنها مبنية على الضيق (¬5). والثالث: إجراء القولين في النوعين، وقد مر أنه أظهر؛ على ما قاله الشيخ أبو حامد، وعلى هذا، فيَلْزم مَجِيْء الخلاف في الإجبار (¬6)، وإن كان الباقي محْضَ حقِّ الله تعالى، هذا في جانب الزوجة. ¬
وأما في جانب الزَّوْج، فلو أن الذِّمِّيين ترَافَعَا بعْد القذف، ولم يرض الزَّوْج بحُكْمنا، وطلبته المرأة، فيُجْبر الزوج على اللِّعَان، ويُعَزَّر إن لم يُلاَعِن أو يتوقَّف ذلك على رضاه؟ فيه القولان في وجوب الحُكْم بين أهل الذمة، ولا يجيْء فيه الطريقة القاطعة؛ لأن اللعان في جانبه، ومطالَبَتُه بالتعزير تتعلَّق بحقوق الآدميين، ولو كان الزوج مسلمًا؛ فإن لاَعَنَ، فذاك، [إن لم يلاعن]، وطلبت المرأة: التعزير، استوفاه الحاكم جبرًا؛ بناءً على وجوب الحُكْم إذا كانت الخصومة بين مسلم وذميِّ والواجب على الذمي في قذف الذمية التعزير، إن كان هو مكافئًا لها، كما أن الواجب بِقَذْف الأمة التعزيرُ، وإن كان القاذف رَقِيقًا. وقوله في الكتاب "لا تجبر على اللعان" قصَد به الجَوَابَ على الطريقة القاطعة، وخصص القولين في الإجبار بجانب الزوج، وليعلم بالواو؛ للطريقة الأخرى، ولا يخفى أن المعنىَّ مِنْ قوله "لا تجبر على اللعان" أنه لا يُحْكَم باللعان أو الحَدِّ عليها من غير رضاها، واللعان بعَيْنه لا إجبار عليه بحال. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الشَّرْطُ الثَّانِي): الزَّوْجِيَّةُ فَلاَ لِعَانَ لِلأَجْنَبِيِّ* وَالطَّلاَقُ الرَّجْعِيُّ لاَ يَمْنَعُ اللِّعَانَ قَبْلَ الرَّجْعَةِ* وَلَوِ ارْتَدَّ الزَّوْجُ فَلاَعَنَ وَعَادَ إِلَى الإِسْلاَمِ تَبَيَّنَ صَحَةُ اللِّعَانِ* وَلَوْ أَصَرَّ تَبَيَّنَ فَسَادُهُ* وَلَو وَطِئَهَا في نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ بِشُبْهَةٍ ثُمَّ قَذَفَهَا وَكَانَ ثَمَّ وَلَدٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ اللِّعَانُ وَيَنْدَفِعُ بِهِ الحَدُّ وَالنَّسَبُ* وَهَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَأبُّدُ الحُرْمَةِ وَوُجُوبُ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهَا حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى الدَّفْعِ بِلِعَانِها؟ فيهِ وَجْهَانِ* فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ فَلاَ يُلاَعِنُ كَالأَجْنَبِيِّ* فَإِنْ ظَنَّ صِحَّةَ النِّكَاحِ فَلاَعَنَ فَيَنْدَفِعُ الحَدُّ بِاللِّعَانِ الفَاسِدِ عَلَى وَجْهٍ لِسُقُوطِ الحَدِّ بِالشُّبْهَةِ* وَكَذَا يَسْقُطُ حَدُّ المُرْتَدِّ إِذَا لاَعَنَ وَأَصَرَّ عَلَى هَذَا الوَجْهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ذكَرْنا أن اللِّعان حجَّةٌ، شُرِعَتْ للزوج من حيْث إنَّه قد يضطرُّ إلى القذف، ولا تُسَاعده البينة، فيحتاج إلى دَفْع الحد عن نفسه، وإلى الانتقام منها، وهذا المَعْنَى يقتضي اختصاصه بالنكاح فلا لعان للأجنبي، فإنه لا ضرورة له في القذف، ولو طَلَّق زوجته طلْقَةً رجْعيَّة بعد ما قذفَها أو قَذفَها، وهي في عِدَّة الرجعة، فله أن يُلاَعِن منْها، كما يجوز أن يطلِّقها، وأن يُولِيَ عنها ويُظَاهِر، ويصح لعانه في الحال، وتتربب عليه أحكامه من غَيْر توقُّف على الرجعة، بخلاف ما إذا ظاهر عنْها أو آلَى حيث يتوقَّف أمرها على الرجْعة؛ لأن حُكْم الإيلاء فيها بالمُضَارَّة، ولا مضارَّة مع حُرْمتها عليه، والكفارة في الظهار تتعَّلق بالعَوْد، وإنما يَحْصُل العود بالرجعة، وأما اللعان فمَدَارُه على الفراش ولحوق النسب، والرجعيَّةُ في ذلك كالمنكوحة، وفي التأخير حظْرُ الفوات بالموت، فلم يتوقَّف أمره على الرجعة، ثم في الفَصْل مسألتان:
إحداهما: لو ارتدَّ الزَّوْج بعْد الدخول، وقَذَفها، وعاد إلى الإِسْلام في مدَّة العِدَّة فالنكاح دائمٌ، وله اللِّعَانُ، وإن لاَعَن في الرِّدَّة ثم عاد إلى الإِسلام في مدة العدة، كان اللِّعان واقعًا في صُلْب النكاح، فيقع موقعه، كما لو طَلَّقها في الردة، ثم عاد إلى الإسْلام قبْل انقضاء العدَّة، والكُفْر لا يمنع نفوذ اللِّعان، ألاَ ترى أن الذميَّ يلاعن، وإن أصر حتى انقضت العدة تبين وقوعه في حال البينونة، فإن كان هناك ولدٌ ونفاه باللِّعان فهو نافذ، وإلا، فقد تبيَّن فسادُهُ، وفي اندفاع حَدِّ القذف به وجْهانِ، سيأتي ذكرهما في نظيرها. والأصَحُّ، وبه أجاب ابن الحدَّاد: أنه لا يَنْدَفع، وعن الشيخ أبي محمَّد -رحمه الله- بناءُ هذا الخلاف على تردُّد ذُكِرَ؛ في أن الجارية في العِدَّة لتبديل الدين، سبيلها إذا تبيَّن ارتفاع النكاح سبيلُ الرجْعِيَّات أو سبيل العائنات، وقضية هذا البناء أن يقال: هل يتبين فساد اللعان، وترتد أحكامُه؟ فيه خلاف، ولا تقصر النظر على أنه، هل يندفع به الحَدُّ؟ قال الإِمام -قدس الله روحه-: قد أطلقوا له اللِّعان في حال الرِّدَّة مع إحتمال الإضرار، وكان يَجُوز أن يُوقَف أمر اللعان إلى أن يعود إلى الإِسلام أو يُصرَّ. الثانية: إذا وطئ امرأةً في نكاح فَاسِدٍ أو بشبهة؛ بأن ظنَّها زوجته أو أمته، ثم قذفها، وأراد اللِّعان، فإن كان هناك ولد؛ فله اللعان، خلافاً لأبي حنيفة. لنا أنه نسبٌ لاحقٌ، لا بملك اليمين، فكان له نفْيُه باللِّعان، كما في النكاح الصحيح، وإذا لاَعَنَ؛ لنفي الولد، انقطع نسبه، ويسقط حد القذف تَبَعًا؛ لأن اللعان حُجَّةٌ يثْبُت بها الزِّنا، فكيف تقبل الحجة في نفي النَّسَب، وتوجب الحَدّ معه؟ وفي أمالي أبي الفرج السرخسي -رحمه الله- في نظر المسألة وجْه أنه لا يَسْقُط؛ لأن اللعان إنما يُؤَثِّر في إسْقَاط الحد، إذا لَطَّخَتْ فراشه، واحتاج إلى الدَّفْع عن نفسه والإنتقام منْها، فهي حجة ضرورية، ولم يوجدْها هنا تلْطيخُ فراشٍ، وكان يمكنه أن يقتصر على أن الوَلَد ليس مني، ولا يقذفها، والأول هو الصحيح والمذكور في الكتاب. وهل يتعلَّق تَأَبُّد الحرمة بلعانها فيه وجهان، أحدها: لا، وبه قال ابن الحدَّاد -رحمه الله-؛ لأنه لعانٌ لا يؤثر في التحريم وقطع النكاح، فلا يؤثر في تأبيد الحرمة (¬1) الذي هو كالفرع والوصف له. وأصحهما (¬2): نعم؛ لإطلاق الخَبَر، وهو ما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- (¬3) قال: "المُتَلاَعِنَانِ ¬
لًا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا" ولأن اللعان معنى لو وجد في صلب النكاح، أوجب التحريم المؤبَّد، فكذلك إذا وجد خارجه كالرَّضَاع، وهل يجب بلعانه حد الزنا عليها؟ فيه وجهان، وربما بين على أن المرأة هل تلاعن في معارضة لعانه؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما في النكاح الصحيح؛ فعلى هذا لعانه يقتضي حدَّ الزنا عليها. وأصحهما: المنع؛ لأن لعانه لِنَفْي النسب، وذلك لا يَتعلَّق بها، فعلَى هذا لا يوجب لعانُه الحَدَّ عليها، وإلا فقد أرهقناها إلى مما لا محيص لها عنه، هذا إذا كان هناك ولَدٌ منفصل. وهل الحمل كالوَلَد في جواز اللعان؟ فيه خلاف نذكره في الفَصْل التالي لهذا الفَصْل فيما إذا أبان زوْجَتَه، ثم قذفها، وصاحب الكتاب تعرَّض له في أحكام نَفْي الولد قريبًا من آخر اللعان، وإن لم يكن هناك ولَدٌ ولا حمل، فلا لعان، كما في قَذْف الأجنبيِّ، ولو قَذَف في نكاح يعتقد صحته، ولاَعَنَ على ذلك الاعتقاد، ثم بان فَسَاد النكاح، ولا ولَدَ، فيُقَضَى بإندفاع الحد أم لا؟ فيه وجهان، حكاهما الإِمام وقرَّبَهما من الخلاف المذكور فيما إذا لاَعَنَ في الرِّدَّة، وأصر. أحدهما: نَعَمْ، ويكون اللعان الفاسِدُ درء الحد. وأصحهما، وبه أجاب ابن الحدَّاد، وعليه جرى الشيخ أبو علي -رحمهما الله- لا لأنَّا تبيَّنَّا فساد النكاح، فيلغو، كما لو علمنا الحال الذي في الإبتداء، لا تمكنه من اللِّعان، وعلى هذا لا يتأبَّد التحريم، ولا يثبت شيْءٌ من أحكام اللعان. قَالَ الغَزَالِيُّ: فَإِنْ قَذَفَهَا ثُمَّ أَبَانَهَا لاَعَنَ (ح) لِدَفْعِ النَّسَبِ إِنْ كَانَ وَلَدٌ وَإلاَّ فَيُلاَعِنُ لِدَفْعِ الحدِّ* وَإنْ عَفَتْ فَلاَ* وَإِنْ قَذَفَ بَعْدَ البَيْنُونَةِ لاَعَنَ (ح) إِنْ كَانَ وَلَدٌ وَإِلاَّ فَلاَ* وَإِنْ قَذَفَهَا فِي النِّكَاحِ بِزِناً قَبْلَ النِّكَاحِ لَمْ يُلاَعِنْ (ح) إِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ* وَإِنْ كَانَ فَوَجْهَانِ لأنَّهُ قَصَّرَ بِذِكْرِ التَّارِيخِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه ثلاث صور: أحدها: قذف زوجته، ثم أبانها له أن يلاعن لنَفْي الولد، إن كان هناك وَلَدٌ، ولإسقاط عقوبة القذف، إن لم يكن وَلَدٌ، إذا طالبت بالعقوبة؛ وهذا لأن القذف وُجِدَ في النكاح، وبه حاجة إلى إظهار الصِّدْق، وإلى الإنتقام منْها لتلطيخها فراشه، وإن
عفَتْ، فلا يلاعن؛ لحصول الفراق وفوات سائر أغراض اللعان، وإن لم تَطْلُب، فكذلك، ويجيْء فيه الخلاف الذي سَبَقَ؛ لتوقُّع الطلب من بعد، وعند أبي حنيفة: لا لعان بعد الإبانة، واحتج الأصحاب بظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآية وهذا قد رمى زوجته، فإذا لاعن، وجب عليها الحدُّ، ولها إسقاطه باللعان، وفي تأبُّد الحرمة بلعانه الوجهان المذكوران في اللِّعان في النكاح الفاسد؛ لوقوعه خارج النكاح. الثانية: لو ماتَتْ زوجته أو أبانها بخُلَع أو ثلاثِ طَلَقاتٍ أو فسخ أو كانت رجعية، فبانَتْ بانقضاء العِدَّة ثم قذفها إمَّا بزَنَا مُطْلَقٍ أو بزناً إضافةً إلى حالة النكاح، فيُنْظَر؛ إن كان هناك وَلَدٌ يلحقه على حُكْم النكاح السابق، فله اللعان؛ للحاجة إلى النفي، كما في صُلْب النكاح، وعن أبي حنيفة وأحمد -رحمهما الله- خلافُهُ، ثم إذا لاَعَنَ، سَقَط عنه الحدُّ، قال في "التهذيب" ويجب عليها حدُّ الزنا إن أضاف الزنا إلى حالة النكاح، ولها إسقاطه باللعان؛ ولا يجب إن لم يُضِف (¬1)، وهل يتأبد التحريم، وهل لها معارضته باللعان؟ فيه الخلاف السابق، والخلاف في المعارضة جَارٍ في كل لعانٍ بمُجرَّد نفْي الوَلَد كما لو أقام البيِّنة على الزِّنَا أو صدَّقَتْه، ولو كان هناك حمل، فهل له اللِّعان قبل الانفصال؟ روى المزنيُّ في "المختَصَرِ" أنَّ له ذلك، وفي "الجامع الكبير" أنه يؤَخِّره إلى الانفصال، وللأصحاب طريقان: أصحهما: أن فيه قولين: أحدهما: أنه لا يلاعن قَبْل الانفصال؛ لأن هذا اللِّعَان؛ لنَفْيِ الولد، فيَعْسُر (¬2) تحققه، وقد يكون الذي يجده ربحًا، وهذا أظهر عند الشيخ أبي حامد وجماعة. والثاني: له ذلك، كما في صُلْب النكاح، وهذا أظهر عنْد أكثرهم، ومنهم صاحب "المهذب" و"التهذيب"، وربما بُنِيَ القولان على أن الحَمْل هل يُعْرَف؟ والثاني، وبه قال أبو إسحاق: القطْعُ بالمنع، وتأويل الرواية على تجويز اللِّعَان بعد البينونة، إذا كان ولَدٌ أو حمل في الجملة، لا كما يقوله أبو حنيفة، وأما اللعان في صُلْب النكاح؛ لنفي الحمل، فسيأتي ذكره -إن شاء الله تعالى- فإنا جوزنا اللعان بَعْد البينونة؛ لنفي الحمل، فلاعن بتوهم الحمْل، ثم بان أن لا حَمْل، بان فساد اللعان، وإن لم يكُنْ ولَدٌ ولا حملٌ، فلا لعان؛ لأنه لا ضرورة إلى القَذْف بعد البينونة، وفي شَرْح الشيخ أبي عليٍّ -رحمه الله- أن له اللِّعَانَ، إذا كان قَدْ أضاف الزِّنَا إلى حالة النِّكَاح؛ لأنَّها لطَّخَت فراشَهُ بزعمه، فكان مضطرًا إلى القَذْف حينئذ. ¬
الثالثة: قَذَف زوجته بزنا أضافه إلى ما قبل الزوجة، فإن لم يكُنْ هناك ولَدٌ، فليس له النَّفْيُ باللعان، ويُحَدُّ إذا لم يأْتِ بينة؛ لأنه لا حَاجَة [به] (¬1) إلى القَذْف بذلك الزِّنا، وبهذا قال مالك، وعن أبي حنيفة: له اللعان؛ اعتبارًا بحالة القَذْف، وعن أحمد روايتان، وإن كان هناك ولدٌ، فوجهان: أحدهما، وبه قال أبو إسحاق: لا يلاعن؛ لأنه مُقَصِّر بذكر التاريخ، وكان من حقه أن يَقْذِف مطلقًا؛ وعلى هذا فله أن يُنْشئَ قذْفًا، ويلاعن لنفي النسب، فإن لم يَفْعل، فيحد، وهذا الوجه أرْجَح عند الشيخ أبي حامد وجماعة، -رحمهم الله-. والثاني، وبه قال أبو علي بن أبي هريرة، والطبريُّ: أن له اللعان، كما لو قذف مطلقًا، وقد برئ الولَدُ من ذلك الزِّنَا وهذا أصح عند القاضي أبي الطيِّب، وإلى ترجيحه مال الإِمام والقاضي الرُّويانىُّ وغيرهما؛ فعلى هذا يندفع الحد إذا لاَعَنَ، وهل عليها حدُّ الزنا؟ فيه وجهان؛ لأنها لم تُلَطِّخ فراشه، حتى يجب الحد عليها بلعانه انتقامًا، وهل لها معارضته باللعان؟ فيه الوجهان السابقان (¬2). قَالَ الغَزَالِيُّ: (فُرُوعٌ: الأَوَّلُ) لَوْ لاَعَنَ ثُمَّ أَبَانَهَا وَقَذَفَهَا بِتِلْكَ الزَّنْيَةِ فَلاَ حَدَّ وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ وَلاَ لِعَانَ* وَإنْ قذَفَهَا بِزَنْيَةٍ أُخْرَى فَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُلاَعِنْ وَحُدَّتْ لَمْ يَجِبِ الحَدُّ عَلَي أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لِسُقُوطِ حَصَانَتِهَا بتِلْكَ الزَّنْيَةِ بِمْوجِبِ لِعَانِهِ* وَإنْ لاَعَنَتْ وَجَبَ الحَدُّ عَلَى الصَّحِيحِ إِذْ بَقيَتْ حَصَانَتُهَا بِلِعَانِهَا* وَإِنْ كَانَ القَذْفُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فإيجَابُ الحَدِّ أَوْلَى لأَنَّ أَثَرَ لِعَانِ الزَّوْجِ لاَ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قَذَف زوجته، ولاعَنَ ثُمَّ قَذَف مرَّةً أخْرَى، فَلهَا حالتان: إحداهما: إذا لم تُلاَعن في مُعَارضة لعانه، وحُدَّت حد الزنا فالقذف. الثاني: إما أن يَصْدُر من الزوج أيضًا أو من أجنبيٍّ إن قَذَفها الزوج، فيُنْظَر؛ إن قَذَفها بتلك الزنية أو أطْلَق، لم يلزمْ إلا التَّعْزير (¬3)؛ لأنا قد صدَّقناه في تلك الزنية، وإنما يعزِّر؛ للسب والإيذاء، وإن قَذَفَها بزنية أخرى، فوجهان نقلهما صاحب الكتاب وغيره: أحدَهما: وجُوبُ الحَدِّ، كما لو لم يسْبقه لعان. وأصحهما، وهو المذكور في "التهذيب": أنه لا يجب إلا التعزير أيْضًا؛ لأن اللعان في حقِّ الزوج كالبينة، وليس لَهُ أن يُلاَعن؛ لدَفْع التعزير؛ لأنه قَذْف بعْد البينونة، ¬
وإن قَذَفَها أجنبيٌّ، نُظِرَ؛ إن قذفها بزنية أخرى (¬1)، فعليه الحد، وإن قذفها بالزنية الأولى (¬2)، فوجهان: أحدهما: لا يجب الحدَّ؛ لأنه قَذْفٌ بزنا هي محدودة فيه، فأشبه ما إذا حدث بالبينة؛ ولأن اللعان من الزوج ونكولها من اللعان؛ إما أن يُجْعَل كالبينة، أو كإقرارها، [و] (¬3) على التقديرين، فما يَنْبَغِي أن يجب الحَدُّ. وأصحهما، ويُحْكَى عن ابن سلمة: أنه يجب؛ لأن اللعان حجة تختص بالزوج، فيؤثر في سُقُوط الحصانة بالإضافة إلى الزوج خاصَّة، ونَسَب ناسِبُون، منْهُم الشيخ أبو حامدٍ، وصاحب "التهذيب"، -رحمهم الله- وجْه المنع إلى ابن سُرَيْج، والوجوب إلى أبي إسحاق -رحمهما الله- عكس القاضيان أبو الطيب والرُّويانيُّ وغيرهما النِّسْبة إلى الإمامين، والعكس أثبت، وحكى القاضي ابن كج: أن منْهم مَنْ خَرَّج ما إذا قذفها بغَيْر تلْك الزنية على الخلاف أيضاً. الحالة الثالثة: إذا لاعَنَتْ في معارضة لِعَانِ الزوج، ثم قَذَفها مرةً أخْرَى، فإن قذف بتلك الزنية أو أطلق، ليس عليه إلا التعزير، وإن قذفها بزَنْيَةٍ أُخرَى، فطريقان: أشهرهما: أنَّ فيما عليه وجْهَيْن: أحدهما: ليس علَيْه إلا التعزير؛ لأن اللعان في حَقِّ الزوج كالبينة، فيسقط الحصانة في تلْك الزنية وغيرها. والآخر: أن الواجِبَ الحَدُّ كما لو قذف أجنبية، واللعان إنما يُسْقِطُ الحَصَانة، إذا لم يعارضْه لعانها، فإذا عارَضَه، بَقِيَتْ الحصانة بحالها على أن اللعان حُجَّةٌ ضعيِفةٌ، فيختص أثرها بتلْك الزنية، كما يختص بالزوج، ومنْهم من يَحْكي بدل الوجهَيْن قولَيْن، وعن القَفَّال، -وذكر من أصحابه الشيخان أبو علي والصيدلاني- أن وجوب الحَدِّ هو قوله القديم. والثاني: القَطْع بوجوب الحدَّ، ويُرْوَى ذلك عن ابن سُرَيْج -رحمهم الله- والمثبتون للخلاف مِنْهُم مَنْ رَجَّح (¬4) وجوب التعزير دون الحد، ومنهم القاضي أبو الطيب، وتابعهم صاحب "التهذيب" والقاضي الرُّوَيانيُّ، ومنهم من رجَّح وجوب الحَدِّ، منهم الشيخ أبو عليٍّ وصاحب "التتمة" وهو الذي أورده ابن الصَّبَّاغ، وكأنه أقْرَبُ، والخلاف على ما ذكره المتولِّي مُطَّرِدٌ في القذف بزنا آخر متأخَّرٍ عن اللعان، وبزنًا آخَرَ ¬
سابِقٍ علَيْه مُتقدِّم على النكاح أو غيرُ متَقَدِّم، ووجوب الحدَّ في الزنا المتقدِّم على اللعان أظهر؛ لمصادفته حال الحصانة، وسواء قُلْنا بالحد أو التعزير، فليس له إسقاطُه باللعان؛ لارتفاع النكاح بالأول، ولا لعان بالقَذْف بعد البينونة، إذا لم يَكُن ولَدٌ وإن قذفها أجنبي فعليه الحد، سواءٌ قَذَفَ بتلك الزنية أو بغيرها، وأَثَرُ اللِّعَان يختص بالزَّوْج كما تكَرَّر، وقيل: إن قَذفَها بتلْك الزنية، ففيه خلافٌ، والظاهر وجوب الحَدِّ، ولا فرق في الزوج والأجنبي بيْن أن يكون هناك وَلَدٌ نفاه باللعان وبين أن لا يكون، ولا إذا نفاه، بيْن أن يبقى أو يموت، وعند أبي حنيفة: إن كان هناك وَلَدٌ قد نفاه [وهو حَيٌّ،] (¬1) فلا حَدَّ على قاذِفها، وإن لم يَكُنْ ولدٌ أو لم يَنْفِهِ أو ماتَ، وجَب الحَدُّ على الأجنبي، إذا قذَفَها بغَيْرِ تلْك الزنية، واحتج الأصْحَاب بما رُوِي أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- (¬2) فَرَّق بين المتلاعنَيْن، وقضى بأن لا تُرْمَى ولا ولدها، فمَنْ رماها أو رَمَى ولدها، فعليه الحَدُّ، أطْلَقَ ولم يُفَرِّق، هذا كلُّه فيما إذا قذف زوجته، ولاَعَنَ ثم قذف، وأمَّا إذا قذفها ولم يُلاَعِنْ، فحُدَّ حَدَّ القذف، ثم قذفها بتلْك الزنية، لم يُحَدَّ؛ لأنه ظَهَر كذبه بالحَدِّ الأول، وُيعَزَّر تأديبًا؛ لما فيه من الإيذاء، وقد سبق أنه لًا يُلاَعن؛ لإسقاط مثل هذا التعزير على الظاهر، وإن قذفه بزنية أخرى، فيُعَزَّر أو يُحَدُّ؟ فيه وجهان، قال فى "التهذيب": أصحهما: الأول، وقال أبو الفرج الزاز: الأصحُّ الثاني؛ لأن كَذِبَه في القَذْف الأول لا يُوجِب الكَذِبَ في الثاني، فلا بُدَّ من الحدِ، لِدَفْعِ العار، وَهَلْ يُلاَعِنُ لإسقاط عقوبة الحَدِّ أو التعزير؟ فيه وجهان: أصحُّهما: لاَ؛ لظهور كذبه بالحد، ولو قَذَفَها أجنبيٌّ، إما بذلك الزنا أو غيره قال أبو الفرج: يلزمه الحدَّ؛ لأن زناها لَمْ يَثْبُت بحال، فهو كما لو قَذَفها أجنبيٌّ، فحُدَّ ثم قذَفَها آخر. وقوله في الكتاب "لو لاعن ثم أبانها وقَذَفَها بتلْك الزنية فلا حد، وعليه التعزير، ولا لِعَان" يشمل بإطلاقه مما إذا لاَعَنَتْ هي، ومما إذا لم تلاعن، وهو مُجْرى على إطلاقه؛ فلا فَرْق في تلك الزنية بيْن الحالَتَيْن، كما تبيَّن أنَّ الكَلاَم في القَذْف بزنية أخرى. وقوله "وجب الحد على الصحيح" يمكن أن يريد مِنَ الطريقين، ويمكن أن يريد من الوَجْهَيْن؛ جوابًا على أشهر الطريقين، وعلى التقدير الثاني يجوز أن يُعْلَم بالواو. وقوله "وإن كان القذف من أجنبي، فإيجابُ الحدَّ أَوْلَى" يشعر بإثبات الخلاف في صورة الخلاف في الزوج بالترتيب، وأكثرهم ساكتون عن ذكر الخلاف في الحالة الثَّانِيَة، والله أعلم. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِي): إِذَا قَذَفَ أَجْنَبِيَّةَ ثِمَّ نَكَحَهَا وَقَذَفَهَا وَلاعَنَ انْدَفَعَ الحَدُّ الثَّانِي أَمَّا الأَوَّلُ فَيُسْتَوْفَى وَلاَ يَنْدَرجُ تَحْتَ الحَدِّ السَّاقِطِ بِاللِّعَانِ وَإِنْ قُلْنَا بِالتَّدَاخُلِ لأَنَّ قَوْلَ الإتِّحَادِ يَجْرِي عِنْدَ الاسْتِيفَاءِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قذف زوجتَهُ أو أجنبيةً مرتَيْنِ فصاعدًا، وأراد زَنْيةً واحدةً، لم يلْزَمْه إلا حَدٌّ واحدٌ؛ لأنه لم يَقْذِفْ إلا بفاحشةٍ واحدةٍ، إن حُدَّ مرة، أعاد، عُزِّرَ للثاني؛ لما فيه من الإيذاء، ولا يَحَدُّ لظهور كذبه؛ ويدل عليه قصة (¬1) أبي بَكْرة الثقفيُّ؛ فإنه كَرَّر قذف المغيرة -رضي الله عنه- فلم يُكَرَّر الحَدُّ عليه، وإن قَذَف بزنية أُخْرَى مثْل أن قَالَ: زنَيْتِ بفلان، ثم قال: زَنَيْتَ بآخر؟ فقولان: الجديد، واحد قولَي القديم: أنه لا يَجِبُ إلا حَدٌّ واحدٌ؛ لأنهما قَذْفَانِ لشخص واحد، فيتداخل موجبهما، كما لو قذف مرتين بزَنْية واحدة؛ وهذا لأنَّ الحدَّ الواجب يُظْهِر الكذب، ويدفع العار. والثاني مِنْ قولَي القديم: أنه يتعدَّد الحدُّ؛ لأنه حقُّ الآدميِّ، فلا يجري فيه التداخل، كالقصاص وسائر الحقوق، وهذا يُشْكَل بما إذا قَذَف ثانيًا بالزنا الأوَّل، ورأى القاضي ابن كج القَطْع بأنه لا يجب إلا [حدٌّ]، (¬2) واحدٌ، وعلى هذا القول، لو قَذَفُ وُحَّد ثم قذف ثانياً يحد ثانيًا؟، كما لو شرب الخَمْر، فحُدَّ ثم شربها، أو يعزر للثاني، ويكتفي بظهور كذبه بالحد الأول؟ فيه وجهان أو قولان، ذكر القاضي ابن كج أن المَذْهب منهما أنَّه لا يُحَدُّ ثانيًا، ولو قَذَف زوْجَته مَرَّتَيْن فصاعدًا بزناءين، ففي الاتحاد والتعدد (¬3) هذا الخلاف، فإن قلْنا بالاتحاد، كفى لعان واحد، وإن قلْنا بالتَّعدُّد، فوجهان: أحدهما: يتعدَّد اللعان بحسب تعدُّد الحَد، وأصحهما أنه يكفي لعانٌ واحدٌ؛ لأن اللعان يمين، وإذا كان الحَقَّان لواحد، كفت يمين واحدة عنْهما إلا أنه يقول في اللعان: أشْهَد باللهِ إني لَمِنَ الصادقين فيما رَمَيْتُهَا به من الزناءين، وإن سَمَّى، الزانيين ذكرهما في اللعان، ولو وقع به أحَدُ القذْفَيْن في حال الزوجية، والآخر خارجها، ففيه مسألتان: إحداهما، وهي مسألة الكتاب: إذا قَذَف أجنبيةً ثم نكحها قبل أن يُحَدَّ ثم قذفها، نُظِر؛ إن قذفها بالزنا الأَوَّل، لم يجبْ إلا حَدٌّ واحدٌ، ولم يكن له إسقاطُهُ باللعان، بل يحتاج إلى البيِّنة وإن قَذَفَها بزنا آخر، ففي اتحاد الحَدِّ وتعدُّده طريقان: أحدهما: أنه على القولَيْن فيما إذا قَذَف زوْجَتَه أو أجنبيةٌ بزنائين. ¬
والثاني: القطع بالتعدُّد، والفرْقُ أن القذف في الزوجية، والقَذْف خارج الزوجية يختلفان في الحُكْم؛ فالثاني لا يسقط موجبه إلا بالبَيِّنَة، والأوَّل يسْقط مُوجِبه بالبينة واللعان فينزل ذلك منزلة حدين (¬1) مختلفين، ولا تداخل مع الاختلاف؛ ألا ترى أنه لو زَنَى، وهو بكر، ثم زنى، وهو مُحْصَنٌ، لا يتداخل الحدان، والطريق الثاني أصَحُّ عنْد القاضي أبي الطيِّب، وهو الذي أورده الشيخ أبو حامد ومَنْ تابعه، ورجَّح مُرَجِّحون طريقة القولَيْن، وقالوا: موجب القذْفَيْن الحدُّ، وذلك لا اختلاف (¬2) فيه، وإنما الخلاف (¬3) في طريق الخَلاَص، وإيراد صاحب "التهذيب" يوافقه، فإن قلنا بالاتحاد، فإن لم يُلاَعِنْ، حُدَّ لهما حدًّا واحدًا، وإن لاَعَنَ للثاني، حُدَّ للأول، وإن حُدَّ للأول قبل أن يُلاَعِن، سَقَط اللعان للثاني إلا أن يكون هُنَاك ولَدٌ، فيُلاعن لنفيه، فإن لم يكُنْ، فعلى الخلاف في أنَّه هل يجوز اللعان؛ لمُجَرَّد غرَض قطْع النكاح وإلصاق العار بها؟ وقد سبق، وإن قُلْنا بالتعدد، فإن طالَبَت أوَّلاً للقذف الأوَّل، فأقام بيِّنة على زِنَاها، سَقَطَ عنه الحدان جميعًا؛ لأنه ثَبَت أنَّها غيْرُ مُحْصَنة، وإن لم يَقمْ حُدَّ، ثم إذا طالَبتْ للثاني، فإن أقام بيِّنة أو لاعن، سَقَط عنه الحدُّ الثاني، وإلا حدَّ ثانيًا، وإن طالَبَتْ أولاً للثاني، فإن أقام بينة، سَقَط الحدان، وإلا فَإِنْ لاعن، سقَط عنْه الحد الثاني دون الأول، وإن لم يلاعن، حُدَّ للثاني، ثم يحد للأول، دهان طالبت بهما جميعًا، حُدَّ للأول؛ لِسَبْقِ وجوبه، ثم للثَّاني إن لم يُلاَعن، وإن حُدَّ في القَذْف الأول، ثم قَذَفَها في النِّكَاح، ولم يلاعن، فيُحَدُّ ثانيًا [و] (¬4) قال ابن الحَدَّاد: لا يُحَدُّ للثاني، قال الشيخ أبو عليٍّ -رحمه الله-: وهذا ما رضيه أحَدٌ من أصحابنا، وقالوا: يحد ثانيًا إذا لم يلتعن تفريعًا على قَوْل التعدد، وقالوا: لا فرق بين أن يقذف في النِّكاح بعْد أن يُحَدَّ للأول أو قبله، في أنَّه يُحَدُّ للثاني، إذا لم يلتعن. نعم، إذا كان قبله، حُدَّ لكلِّ واحد منهما. وقوله في الكتاب "اندفع الحد الثاني" إلى آخره المقصودُ منْه أن حدًّا واحدًا مستَوْفًى لا محالة سواءٌ قلنا بالتداخل أو لم نقل به؛ لأن اللعان لا يُؤَثِّر في موجب القذف الأول، وإنما يُؤَثِّر في الثاني، فالأول ثابتٌ مستقرٌّ، والتداخل إنما يُحْكَم به عنْد الاستيفاء، فيقال: يتداخل الواجبان (¬5)، ويعودان إلى واحد، وأما السَّاقط، فلا يدخل منه (¬6) شَيْءٌ. المسألة الثانية: قذف زوجته، وأبانها من غَيْر لعان، ثم قَذَفها بزنًا آخَرَ، فإن حُدَّ للأول، ثم نَكَحها، فهل يُحَدُّ للقذف الثاني؟ فيه قولان، كما لو قذف أجنبية وحُدَّ ثم ¬
قذفها (¬1) ثانيًا، وأشار ابن الحدَّاد إلى أنه لا حَدَّ عليه، وغَلِطَ فيه، وإن لم تطالب بموجب ذلك القَذْف حتى أبانَها، فإن لاعن (¬2) للقذف الأول، فهل يُحَدُّ للثاني؟ فيه طريقان: أحدهما، وبه قال ابن سُرَيْج: نعم. والثاني: أن فيه قولَيْن، وهذان الطريقان هما المذكوران في الكتاب فيما إذا قَذَف (¬3) زوجته ولاعن، فبانَتْ باللعان ثم قَذَفها بزنًا آخَرَ، وإن لم يَلْتَعِنْ فالواجب حَدٌّ أو حدَّان؟ فيه طريقان: أحدهما: أن فيه قولَيْن، والثاني: القطع بأنه يلزمه حدان؛ لإختلاف القَذْفَيْن في الحكم، وبه قال ابن (¬4) الحدَّاد، والله أعلم. فَرْعٌ: قذف زوجته، وهي بكر، فلم تطالبْه بموجب القَذْف، حتى فارَقَها، ونكَحَت غيره، وأصابَهَا الزوْج الثَّاني، فصارت محصَنَةً، وقذَفَها الثاني، ثم طالبتهما (¬5) فَلاَعَنَ كلُّ واحد منهما، وامتنعت هي عن اللِّعَان، فقد ثبت عليها بِلِعَانِ الأول زنَاها، وهي بكْرٌ وبلعان الثاني زناها، وهي محصنة، وفيما علَيْها وجهان: أحدهما: أنه لا يلزمها إلا الرَّجْم؛ لأن مِنْ شأن الحَدِّ التداخُل. والثاني، وبه قال ابن الحدَّاد: أنها تُجْلَد ثم تُرْجَم قال الشيخ أبو عليٍّ -رحمه الله-: وهذا ظاهرُ المَذْهَب؛ لأنهما حَدَّانِ مختلفان، وإنما يكون التداخُلُ عند الإتفاق، قال: وعلى هذا لو زنا العَبْد ثم عَتَق، فزَنَا قبل الإحصان، فقَدْ قِيلَ: عليه خمسون؛ لزناه في الرِّقِّ، ومائةٌ (¬6) لاختلاف الحدين، والأصح أنه يُجْلَدُ مائةً، ويدخل الأقل في أكثر؛ لأن الجنس واحدٌ، وإنما (¬7) الاختلاف في القدر (¬8)، وعلى هذا فلو زنا، وهو حُرٌّ بكْرٌ، فجُلِدَ خمسين، وترك بعذر، فزنا مرة أخْرَى، يجلد مائة وتدخل الخمسون الباقية فيها، ولو قذف مُحْصَنًا وغير مُحْصَن بكلمة واحدة، وقلْنا: يتحد (¬9) الحدُّ، فيدخل التعزير في الحدِّ، ولمتوقف أن يتوقف هاهنا؛ لأن الحد والتعزير قد يختلفان (¬10) جنسًا ولو كانت في صورة الفَرْع بكرًا في القذْفَيْن، فالصحيح أنه يتَدَاخل الحَدَّان، فلا تُحَدُّ إلا حدًا ¬
واحدًا، كما لو ثَبَت زنيان؛ أحدهما بالبينة، والآخر بالإقرار، أو كلاهما بالبينة، وثبوت الزنا باللعان ليس بأقوى من ثبوته بالبينة، وقال ابن الحدَّاد: يلزمهما حدَّان، ويجعلان كالجنسين المختلفين؛ لأن لعان كلَّ واحدٍ منهما حجَّةٌ في حقه، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثُ) لاَ يُنْفَى نَسَبُ مِلْكِ اليَمِينِ بِاللِّعَانِ عَلَى الصَّحِيحِ* فَلَوِ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لاَ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَلَهُ اللِّعَانُ* وَإِنِ احْتُمِلَ فَلاَ لِعَانَ* فَلَوِ ادَّعَى الوَطْءِ فِي المِلْكِ وَالإسْتِبْرَاءِ لَمْ يَلْحَقْهُ نَسَبُ مِلْكِ اليَمِينِ لِلاسْتِبْرَاءِ وَلاَ بِالنِّكَاحِ لانْقِطَاعِ ذَلِكَ الفِرَاشِ بِفِرَاشِ مِلْكِ اليَمِينِ* وَفِيهِ وَجْهٌ أنَّهُ يَلْحَقُهُ نَسَبُ النِّكَاحِ فَعَلَى هَذَا لَهُ النَّفْىُ بِاللِّعَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: المشهور أن النَّسَب الذي يُلْحَق بملك اليمين في الأمة الموطوءة والمستولدة لا يُنْفَى باللعان، وعن أحمد بن حنبل: أنه قال: ألا تعجَبُون من أبي عبد الله؛ يقول يُلاَعِن السيِّد عن أُمِّ ولده، وللأصحاب في المسألة طريقان: أحدهما: القطع بأنه لا يلاعن، بل اللعان من خواصِّ النكاح، كالطلاق والظهار، وهذا لأن اللعان حجَّة ضروريةٌ، ولا ضرورة إليه في ملْك اليمين؛ لإمكان النَّفْي، بدعوى الإستبراء، على ما سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى. فيقتصر على مورد النَّصِّ، وهؤلاء القاطعون [فرقتان] (¬1) فرقةٌ أنْكَرت أنه أراد الشَّافِعيِّ -رضي الله عنه- ثم منْهم من حَمَل "أبا عبد الله" على مالك، ومنهم من حَمَله على سُفْيَان، قال القاضي الرُّويانيُّ: وهذا ضعيف؛ لأنه قد روي عنه أنه قال: ألا تَعْجَبُون من الشافعيِّ -رضي الله عنه- وفرقة سلَّمت أنه أراد الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- ثم منهم من حمله على ما إذَا كانت أمَة الغير زَوْجَتَه، وعن صاحب "التقريب" حَمْل اللعان على اليَمين إذا ادَّعَى الاستبراء، فعبر عن اليمين باللعان؛ إما لأن اللعان يمين أو لإشتراكهما في نفي الولد، وأظهرهما أن المَسْأَلة عَلَى قولَيْن: أحدهما: أنه يلاعن لنفي النَّسَب؛ لأنه نسب لاحق بالفراش، فكان كفراش النكاح، وهذا حكايةُ القَاضِي ابن كج عن ابن سُرَيْج. وأصحهما: المَنْع؛ لما سبق. وقوله في الكتاب "لا ينفي نسب ملك اليمين باللعان" فيه إشعار بأن الخلاف في ¬
أنه هَلْ اللعان مخصوص بما إذا كان هناك ولد؟ فإن لم يكُن [ولد] (¬1)، فلا لعان بلا خلاف، وهكذا رأيته لبعضهم، فيما أحسب، ومنهم مَنْ يُطْلِق الكلام إطلاقًا، ويجوز أن يُعْلَم قوله "على الصحيح" بالواو؛ للطريقة القاطعة، وإن كان الأمر على ما قيل في أحد التأويلات المذكورة، فيما رواه أحمد -رحمه الله-، فيَجُوز أن يُعْلَم قوله "لا بنفي" بالميم. المسألة الثانية: القول في أن دَعْوَى الاستبراء في ملْك اليمين هل تَقْطَع النَّسَب؟ وفي أن الأمة متى تصير فراشًا لسَيِّدها حتى يَلْحَق به الولد الَّذي تَلِدُه؟ مبسوط في أكثر الكتب في هذا الموضع، وصاحب الكتاب -قدس الله روحه- أَخَّره إلى آخر الاستبراء، فنشرحه إذا انتهينا إليه؛ بتوفيق الله تعالى. والذي عَجَّله هاهنا مبنيًا على هذا الأصْل، وعلى المسألة الأولى: أنه لو اشْتَرَى زوجته الأمة، فانفسخ النكاح، ثم أتَتْ بولد، نُظِرَ؛ إن أتتْ به لأقل من ستة أشهر من يوم الشراء، فهو لاَحِقٌ بُحْكم النكاح، وله نفيه باللعان، ويكون اللعان بعد الانفساخ كهو بعد البينونة إذا قذف زوجته ثُمَّ أبانها، وإن أتت به لستة أشهر فصاعدًا من يوم الشراء فإن لم يطأْها بَعْد الشراء أو وطئها، وأتت بولد لما دون ستة أشهر من يَوْم الوطء، نُظرَ؛ إن كان لأربع سنين فَمَا دونها من يوم الشراء، فكذلك الجواب، وإن كان لأكثر منْ أربع سنينَ، فهو منفيٌّ [عنه بغير لعان] وإن وَطِئها بَعْد الشراء وأتت به لستة أشهر فصاعدًا من يوم الوطء، ولما دون أربع سنين من يوم الشراء، فإن لم يَدَّع الاستبراء بعد الوطء، فالولد مُلْحَقٌ بملك اليمين، وهل له نَفْيُه باللعان فيه ما سبق في المَسْألة الأولى، وإن ادعى الاستبراء بَعْده، فإن أتَتْ به لأقلَّ من ستَّة أشهر منْ وقْت الاستبراء، فكذلك الجواب، ويلغو دعوى الاستبراء، للعِلم بكَوْن الولد حاصلاً يومئذ، وإن كان لستة أشهر فأكبر منْ وقت الاستبراء، فالأظهر أنه لا يُلْحَق الولد بحُكْم المِلْك، وهذا الخلاف مذكورٌ في آخر باب الاستبراء، وكما لا يَلْحَقُه بحُكْم الملك، لا يلحقه بالنكاح، وإن كان الاحتمال باقيًا؛ لأن فراش النكاح قد انقطع وحَدَث فراش بنسخه؛ فيزول حكم الأول، وهذا كما أنه إذا طُلِّقَت المرأة واعتدت ونكحت (¬2) زوجًا آخر، وأتت بولد لستة أشهُرٍ فصاعدًا من يوم النكاح الثاني، وَلِدُونِ أربع سنين مِنْ فراق الأول، يكون الولد للثاني، وإن احتمل أن يَكُونَ مِن الأوَّل، حتى كان مُلْحَقاً به، لو لم يحدث فراش. الثاني، وحكى الشيخ أبو عليٍّ وجهًا أنه يلحقه بحُكْم النكاح، ولا ينتفي إلا باللعان؛ لقيام الإمكان وامتناع الإلحاق بالمِلْك، وقد يُعَبَّر عن هذه الأحوال والصور بأن ¬
يقال: إن احْتُمِل كونه من النكاح دون الملك، فهو ملحق بالنكاح، وإن احْتُمِلَ مِنَ المِلْك دون النكاح، فهو مُلْحَق بالملك، كذا (¬1) لو احتمل منهما، وفيه ما رواه الشيخ، وإن لم يُحْتَمَل واحدٍ منهما، فلا إلحاق للإستبراء بعد الوطء، واللائق عند الإقرار بالوطء لفظ الإقرار، وبالإستبراء لفظ الدَّعْوَى، وسيتضح ذلك في آخر الاستبراء. وقوله "لم يلحقْه نسَبُ مِلْك اليمين؛ للاستبراء" يجوز أن يعلم بالواو؛ للخلاف في أن الاستبراء، هل يكون نافيًا للنسب؟ ومهما وقع اللعان بعد الشراء، هل يُوجِبُ التَّحْرِيمَ المؤبَّد؟ فيه وجهان، كما ذكَرْنا فيما إذا وَقَع بعد البينونة؛ لأنَّها لم تكن زوجًة له حين لاَعَنَ، فإن قلْنا لا يُوجِبُه (¬2)، فهي حلال له بملك اليمين، وإن قلنا: يوجبه، فهل تحل له بملْك اليَمِين؟ فيه خلاف مبنيٌّ على أنه لَوْ لاَعَنَ عن زوجته الأمة، ثم اشتراها، هل يجوز لَه وطؤها بمِلْك اليمين؟ وفيه طريقان: أحدهما: أن فيه وجهَيْن كالوجهين المذكورين فيما إذا طَلَّق زوجته الأَمَة [ثلاثًا]، (¬3) ثم اشتراها. والثاني: القَطْع بالمنع؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- (¬4): "المُتَلاَعِنَانِ لاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا" والفرق من وجهين: أحدهما: أن الطلاق يَخْتَصُّ بالنكاح، فيختص تحريمه بالنكاح، واللِّعان لا يَخْتَصُّ بالنكاح، بل يَجْرِي بعد البينونة، وفي النكاح الفَاسِدِ فيثبت تحريمه في غير النكاح. والثاني: أن تحريم الطَّلاق غير مؤبَّدٍ بل يزول بالزَّوْج، والإصَابَة، وتحريم اللعان مؤبَّد، فجَازَ أن يكون أوْسَعَ حالاً؛ لِغِلَظِهِ، وكونه أوْلَى بالاحتياط، والله أعْلَمُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الثَّالِثُ: القَذْفُ) وَهُوَ نِسْبَتُهَا إِلَى وَطْءٍ حَرَامٍ* فَلَوْ نَسَبَهَا إلَى زِناً هِيَ مُسْتَكْرَهَةٌ عَلَيْهِ فَوَجْهَانِ* وَلَوْ كَانَ وَطَءْ شُبْهَةٍ مِنَ الجَانِبَيْنِ فَوَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلَى بِمَنْع اللِّعَانِ؛ لأَنَّ اللِّعَانَ فِي القُرْآنِ وَرَدَ مُرَتَّبًا عَلَى الرَّمْيِ بِالزِّنَا* وَإِنْ كَانَ الوَاطِئُ بِالشُّبْهَةِ مُعْترَفاً وَأَمْكَنَ إِلْحَاقُ الوَلَدِ بِهِ عُرِضَ عَلَى القَائِفِ وَلاَ لِعَانَ قَطْعًا* أَمَّا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: لَيْسَ الوَلَدُ مِنِّي فَوَجْهَانِ وَأَوْلَى بِجَوَازِ اللِّعَانِ لأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الزِّنَا وَالشُّبْهَةَ* وَلاَ يُشْتَرَطُ (م) أَنْ يَقُولَ فِي القَذْفِ وَاللِّعَانِ: رَأَيْتُهَا تَزْنِي* وَلاَ أنْ يَقولَ: اسْتَبْرَأْتُهَا بَعْدَ الوَطْءِ (م). ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان (¬1): إحداهما: اللعان مَسْبُوق بقَذْفِ المَرْأة أو نفي الولد، ومهما نسبها إلى وطء حرام من جانبها، وجانب الرَّجُل، فقد قَذَفها، وإن نسبها إلى زِنًا هي مكرهة عليه أو نائمةً [في] (¬2) أو جاهلةٌ، فلا حَدَّ عليه، وفي التعزير وجهان: أحدهما: لا يجب؛ لأنه نَسَبَها إلى ما هي غير ملومة عليه، ولا مأثومة به. وأصحُّهما: نعم؛ لأن فيه عارًا، وفي ذكره تذكُّرًا وإيحاشًا، فأشبه قَذْف المجنونة بل أولَى، فإن المجنونة، تُزْجَر عن الشَّيْء القبيح بالضرب ونحوه؛ لأنَّ لها نَوْع طلب وقصد والمكرهة بخلافه، وهل له أن يُلاَعن؟ فيه طريقان، أطلقهما كثيرون: أحدهما: [أن] (¬3) فيه قولين أو وجْهَيْن، فوجه (¬4) التجويز الحاجة إلى نفي الوَلَد؛ لئلا يَلْحَق به من ليس منه، والمَنْع بأن آية اللعان وَرَدَتْ في الرمي بالزِّنَا، وهناك يُحْتَاج إلى الانتقام من المرأة واشتهار (¬5) حالها. والثاني: القطع بأنه يُلاَعِنُ. ويُحْكَى هَذا عن أبي إسْحَاق وأبو علي بن أبي هريرة والطبري، ونقل القاضي ابن كج طريقةً بأنه لا يُلاَعِنُ عن ابن سُرَيْج، ويُشْبه أن يكُونَ الأظْهَرُ من الطريقَتَيْن فيما إذا كَانَ هناكَ وَلَدٌ القَطْعَ بأنَّه يلاعن لنفيه (¬6)، وفيما إذا لم يكن وَلَدٌ إثباتَ الخِلاَفِ؛ [بناءً على الخلاف] (¬7) في أنَّه هل يَجِبُ به التعْزِير، إن وَجَب، وهو الأصحُّ؛ فله أن يلاعن لإسْقَاطه، وإلا لم يَجِبْ، وإيراد صاحب "التهذيب" يوافق ذلك، ولو عَيَّن الزاني بها، فقال: زنى بِكِ فلانٌ، وأنت مكرهةٌ أو قال: قَهَرَكِ فلانٌ فزنى بكِ، فعليه الحدُّ، وله إسْقَاطه باللعان، قال في "التهذيب": ويخالف هذا ما إذا قَذَف امرأته (¬8) وأجنبيةً بكلمة واحدة؛ حيث لا يتمكَّن من إسقاط حد الأجنبية باللعان؛ لأن فعْلها ينفك عن فعل الأجنبية، وفعْلها لا ينفك عن فعل الزاني (¬9) بها ولو قال لزوجته: وِطئْت بالشُّبْهة، فقد خرج وجُوب التعزير على الوجْهَيْن، فيما إذا نَسَبَها إلى زناً، وهي مُكْرَهَةٌ عليه، وبنى على الوجهين في أنه هلْ يُلاَعِن إذا لم يكن هناك وَلَدٌ؟ وإن كان هناك ولَدٌ، فمنهم من أطْلَقَ وجْهَيْن في جواز اللعان، وقال: أظهر الوجهين: أنَّ نسبة الوَلَد إلى الوطء بالشبهة، كنسبته إلى الزِّنَا، في جواز النفي باللِّعان إلا أنه إذا لم ¬
يُلاَعِنْ لَحِقَه الوَلَد، ولم يُحَدَّ للقذف، وقال الأكثرون: إن لم يعيِّن الواطئ بالشبهة أو عيَّنه فلم يصدقه، فالولد ملحَقٌ بالنكاح، وله نفيه باللعان، وإن صدَّقه، وادَّعَى الولد، عُرِضَ على القَائِفِ، فإن ألحقه بذلك المعيَّن (¬1) فهو ولده، ولا حاجة إلى اللعان، وإلا فيَلْحَق بالزوج، وليس له نفْيُه باللَّعَان؛ لأنه كان له طريق آخر ينقطع به النَّسَب؛ وهو أن يلحقه القائف بذلك المُعَيَّن إذا عرض عليه، وإنَّمَا ينفي النَّسَب باللعان، إذا لم يَكُنْ للانتفاء (¬2) طريقٌ آخر؛ ولذلك قلنا: لا يُنْفَى ولد الأمة باللِّعَان؛ لأنَّه يمكن منه بطريق آخر، وهو دَعْوى الاستبراء، فحصلَتْ طريقتان، والأولى هي التي أوْرَدَها في الكتاب، والثَّانية أَوْلَى بالاعتماد فإن لم يكن قائف، تُرِك، حتى يَبْلغ الصبي، فينتسب إلى أحدهما، فإن انتسب إلى ذلك المعيَّن، انقطع نسبه عن الزوج بلا لِعَانٍ، وإن انتسب إلى الزَّوْج، فله اللِّعان؛ لأنَّ نفْسَه بغير اللعان لا يُمْكِنُ، هكذا أورد صاحب "التهذيب" وغيره، ولك أن تقول: إن كان النظر إلى آخر الأمر ووقت انقطاع الطَّمَع عن انتفاء النسب بطريق آخر، فهذا المعنى حاصلٌ فيما إذا ألحقه القَائِف بالزوج، فليجز (¬3) اللعان، وإن كان النَّظَر إلى الابتداء، وتُوقِّع الانتفاء بطريق آخر، فهذا المعنى حاصلٌ فيما إذا توقفنا إلى بلوغه وانتسابه، فلْيَمْتَنِع اللعان إذا انتسب إلى الزوج، ولو قال: زنَيْتِ بفلان، وفلانٌ غَيْر زانٍ بكِ، بل كان يظُنُّكِ زوجَتَه، فهو قاذِفٌ لها، وله أن يلاعن لإسقاط الحَدِّ والولدُ المنسوبُ إلى ذلك الواطئ منسوبٌ إلى وطء الشبهة، فإن صدَّقه فلانٌ، عُرِضَ على القَائِفِ، كما ذكرنا ولو اقتصر على قوله "ليس هذا الولد منِّي" فعن صاحب "التقريب" حكاية تردُّد في أنه هل يلاعن؟ وهذه الصورة أوْلَى بجواز اللعان، إذا أُضيفَتْ إلى صورة الشبهة؛ لأنَّه كما يحتمل الجهة التي يثبت فيها النَّسَب يحتمل جهة الزِّنَا، والذي أجابه به المُعْظَم أنه لا يُلْتَفَت إلى ذلك، ويُلْحق الولد بالفراش، إلا أن يُسند (¬4) النَّفْيُ إلى سبب معيَّن، ويلاعن، ويجوز إعلام لفظ الوجهين من الكتاب في الصور الثلاث بالواو؛ للطُّرق القاطعة. المسألة الثانية: لا يشترط لجواز اللعان أن يقول عند القذف: رأيتها تَزْنِي، بل لو قال زنَيْتِ أو يا زَانِيَةُ أو قال، وهي غائبة: فلانةٌ زانيةٌ، ولم يتعرَّض للرؤية، جاز اللعان، وكذلك لا يُشْتَرط أن يدعي أنه استبرأها بعد الوطء بحيضة، وعن مالك -رحمه الله- أنه خالف في المسألتين. لنا إطلاق آية اللِّعان، وأيضًا فاللعان حجَّةٌ يخرج بها عن موجب القذف المفيد، فكذلك عن مُوجِب القَذْف المُطلَق كالبينة، وذكر الأصحاب -رحمهم الله- أنه لو أقر ¬
(الفصل الثالث في فروع متفرقة)
بوطْئها في الطُّهْر الذي قَذَفها بالزنا فيه، يجوز له أن يلاعن، وَينْفِي النسب، قال في "البسيط": ولعل هذا في الحُكمِ الظاهر، فأما بيْنَه وبيْن الله تعالى، فلا يَحِلُّ له النفْيُ مع تعارُضِ الاحتمال، ويجوز أن يعوَّل الزوْجُ فيه على أمْرٍ يختص بمعرفته كعَزْلٍ، أو قرينة حال. والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّالِثُ في فُرُوعٍ مُتَفَرِّقَةٍ) وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: (الأَوَّلُ): إِذَا قَذَفَهَا بِأجْنَبِيِّ وَذَكَرَهُ في اللِّعَانِ فَلاَ حَدَّ لِلأَجْنَبِيِّ* وَإِنْ لَمْ يَذْكُرهُ فَقَوْلاَنِ لأَنَّ اللِّعَانَ حُجَّةٌ عَلَى الجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَتْ قَاصِرَةً* وَمَنْ قَذَفَ عِنْدَ القَاضِي فَهَلْ عَلَى القَاضي إِخْبَارُ المَقْذُوفِ لِطَلَبِ حَدِّ القَذْفِ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفرع يحْوِي مسألتين: إحداهما: إذا قذف زوجته برجُل معيَّن، فالقول في أنَّ الواجب حدٌّ أو حدَّان؟ سيأتي في الفرع الثاني، ثم إن ذَكَر المرميَّ (¬1) به في اللعان؛ بأن قال: أشهد بالله إنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فيما رَميْتُهَا به من الزنا بفُلانٍ، سَقَطَ حقُّه، كما يسقط حقُّها، سواء أو جنبًا، حدًّا أو حدَّيْن، حتى لو قذفها بجماعةٍ، وذكرهم، سقط حق الكل، وقال أبو حنيفة ومالك: لا يسقط الحدُّ للمرميِّ به، بل يُحَدُّ له بعد اللعان، وعند أبي حنيفة: لو حُدَّ له قبل اللعان، تَعذَّر اللعان؛ بناءً على أن المحدود في القَذْف لا يُلاَعنُ. لنا أن اللعان حُجَّةٌ في ذلك الزنا في طَرَفِ المرأة، فكذلك في طَرَف الرجل؛ وهذا لأن الواقعة واحدة، وقد قامت فيها حجة مصدَّقة فتنتهض (¬2) شبهةً بارئةً للحد، وإن أغفل ذكْر المرميِّ به، ففي سُقُوط حقه قولان: أحدهما، ويروى عن "الإملاء" "وأحكام القرآن": أنه يسقط، وبه قال أحمد واختاره المزنيُّ؛ لأنه ظهر صدقه باللِّعَان، فيسقط حقُّه كما يسقط حقُّها، وقد يحتج له بأن الملاعن في عصر رسول (¬3) الله -صلى الله عليه وسلم- رَمَى زوجته بشريك ابْنِ السحماء، ولم يتعرض له في اللعان، ولم يُحَدَّ له، وأصحهما على ما ذَكَره القاضي الرُّويانىُّ، ويحكى عن "الأم": أنه لا يَسْقُط؛ لأنه لم يذْكُرْه في اللعان، وسقوط الحد يَفْتَقِر إلى تسْمِيَته في اللِّعان كما في حق الزوجة؛ وَعَلَى هذا فلو أراد إسْقاطه، فالطريق أن يعيد اللِّعَانَ ويذكره، وفي كتاب القاضي ابن كج: أن القولَيْن مبنيان على أن حَقَّ الرجل يَثْبُت أصلاً أو تابعًا لقذف الزوجة، فإن قُلْنا: يثبت تابعًا، كفى ذكر المرأة: وسَقَط به حقُّ الرجل، ¬
وإن جعلْناه أصلاً، فلا بد من تسميته، ويشهد للتبعية أنَّه يكْفي طلَبُها لِلِّعان، ولا يشترط موافقته، ولو امتنع الزوج من اللعان، ولا بيِّنة له، فَحُدَّ بطلبها، ثم جاء المرمي به يطلب الحد، فإن قُلْنا: الواجب حَدٌّ واحدٌ، فقد استوفى، وإن قلنا: حدان، اسْتُوفِيَ حَدٌّ آخَرُ، وله إسقاطه باللعان، ولو ابتدأ المرميّ به بطلب حقِّه، ولم تَطْلُبْ هي، فهل يلاعن له؟ حكى أبو الفرج السرخسيُّ فيه وجهَيْن، وقد يبنيان على أن حقَّه يثبت (¬1) أصلاً أو تابعًا، وإن عفا المرميُّ به عن حقِّه، فله المطالبة، وإن عَفَتْ هي، فكَذَلك للأجنبي المطالبة سواءٌ قلْنا: الواجب حدٌّ أو حدان؛ لأن الحدَّ لا يتبعَّض؛ ولذلك قلْنا: إن الأصحَّ أنه إذا عَفَا بعْضُ ورثة، المقذوف كان للآخرين استيفاءُ الحَدِّ بتمامه، وله أن يلاعن لإسقاطه، وعن ابن القطَّّان: أنا إذا قُلْنا: إنَّ حقَّه تابعٌ، فلا حَدَّ، ولا لعان، والظاهر الأول، وبمثله أجاب ابن الصَّبَّاغ؛ فيما لو لم يذكر المرميَّ به في اللعان، وقلْنا: إنَّه لا يَسْقُطُ حقُّه، فطالب بموجب القذف، وامتنع الزَّوْج من إعادة اللِّعان، قال: يُحَدُّ سواءٌ قلْنا: يجب حدٌّ واحد لهما أو حدَّان؛ لأنَّ الحدَّ لا يتبعَّض، ولا يجب باللعان حدُّ الزنا على الرَّجُل المرميِّ به بحال، وإذا لاعن لإسقاط حَدِّ المرمي به، قال في "التهذيب" قد قيل: إنه تتأبد الحرمة، وخلافه محتمل. وقوله في الكتاب "لأن اللعان حجَّةٌ على الجملة، وإن كانت قاصرةً" يجوز أن يجعل إشارة إلى توجيه القولين، كأنه قال: في قول يسقط؛ لأن اللعان حجَّةٌ فيسقط حقُّهما جميعًا، كالبينة، وفي الثاني؛ لقُصور أثر اللعان على الزَّوْجة، ولذلك لا يلاعِنُ في قذف الأجنبيِّ، ويجوز أن يُجْعَل بتمامه علَّةً للسقوط والله أعلم. المسألة الثانية: إذا قَذَف امرأته عنْد الحاكم بمعيَّن أو قذف أجنبيّ أجنبيًّا، والمقذوف غائبٌ، فهل يَبْعث إليه الحاكم ويُخْبره بالحال؟ نقل ناقلون أنَّه يبعث ويُخْبِره، ثم اقتصر بعْضُهم على الاستحباب، منْهم الشيخ أبو حَامِدٍ، وذكر أكثرهم: أنه يجب عليه ذلك، ونقل أبو الفرج السرخسي أن الشَّافعيَّ -رضي الله عنه- نَصَّ عليه، وأنَّه نصَّ فيما إذا أقرَّ عنده مُقِرٌ لآخر بَديْنٍ لا يجب عليه إخبار المُقر له، وأن للأصحاب فيه ثلاثةُ طُرُقٍ: أحدها: تنزيل النصَّيْن على حالَيْن، إن كان الذي يتعلَّق به الحَقُّ حاضرًا عالمًا بالحال، فلا حاجة إلى إخباره في النوعين، وإن كان غائبًا أو عاقلاً عما جَرَى، وجَبَ إخْباره؛ يضيع حقُّه. والثاني: الفَرْق بين الحَدِّ والمال، بأن الحد يستوفيه الإِمام، ويتعلَّق به، فيختبره ¬
ليستوفي إن أراد، والمال لا يختص استيفاؤه بالإمام. والثالث: جعْلُهما على قولَيْن بالنَّقْل والتخريج، ويُحْكَى طريقة الخلاف هذه عن رواية صاحب "التقريب" وهي التي أوردها في الكتاب، واحتج لقَوْلِنا أنه لا يُخْبِر المقذوف، بأن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ ينبه شُرَيْكَ ابْنَ السحماء ولم يخبره بالقَذْف. ولقولنا إنه يخبر بقصة (¬1) العسيف، وذلك أن رجُلَيْن اختصما إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أحدُهُمَا: اقْضِ بَيْنَنَا بكِتَابِ اللهِ وَأْذَنْ لِي [في] (¬2) أنْ أَتَكَلَّمَ، [فقال: تكلمي (¬3)] فَقَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفاً (¬4) لِهَذَا، فَزَنَى بامْرَأَتِهِ؛ فَاخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّحْمَ فَأفْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمائَةِ شَاةٍ وَبِجَارِيةٍ لِي، ثُمَّ إِنِّي سَألْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ؛ فَأخْبَرُونِي أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَام، وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: لأَقْضَيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ [تَعَالَى]، أمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَجَلَدَ ابْنَهُ مَائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا، وَأَمَرَ أُنَيْسًا الأسْلَمِيَّ أنْ امْرَأَةَ الآخَرِ قَالَ: إِنِ اعْتَرَفَتْ فِارْجُمْهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا". قال العلماء: وإنَّما بعث أُنَيْسًا ليُخْبِرها بأن الرَّجُل الآخر قَذَفَها بابنه لا يتفحص عن زناها، وعن القَفَّال عن بَعْضهم: أنه كان قد شَهِد على إقرارها بالزِّنا أبو الزَّانِي و (¬5) مع آخر، فَبَعث إليها [أُنيْسًا] ليتثَّت؛ إن رجَعَتْ عن إقْرَارها، تركها، وإلاَّ أقام [عليها] (¬6) الحَدَّ، والظاهر في مسْأَلَةِ الإخبار أنه يخبره، وإن أثبت الخِلاَفَ، والَّذي قاله في "المختصر": وليس للإمام إذا رَمَى رجُلاً بزناً أن يبعث إلَيْه يسأله عن ذلك، ففي تنزيله وجُوهٌ: منها أن المراد أنَّه لا يُسْأَل؛ هل زنَيْتَ؟ ومنها أن المراد منه ما إذا لم يكن الرَّامِي مُعَيَّنًا، كما إذا قال رَجُلٌ: بين يَدَيِ الحاكم: إنَّ الناس يقولون: إنَّ فُلانًا قد زَنَى، لا يَبْعَث الحاكم إليه، ولا يَتفحَّص عن الحال، وكذا لا يتفحَّص إذا لم يكن المقذوف معيَّنًا، كما إذا قال "في هذه السكة أو في هذه المحلة زانٍ" أو رمى بحجر، فقال: من رَمَانِي، فَهُوَ زَانٍ، وهُو لا يَدْرِي مَنْ رماه، وعن أبي الطيَّب بن سلمة: أن المُراد ما إذا رماه بالزنا تَعْريضًا لا تصريحًا، وعن ابن سُرَيْج وأبي إسحاق -رحمهما الله- أن المراد مَا إذَا كان كَذَلِكَ، ولاعن، سقط حَقُّ ذلك المعيَّن، إما بأن ذكره في اللعان أو قلنا: [إنه] (¬7) يسقط وإن ¬
أطلق فلا (¬1) حاجة إلى إعلامه، والحالة هذه، وقال أبو إسحاق: لا يُخْبِره، وإن لم يُلاَعِن بَعْد؛ لأن الزوجة ستُطَالِب، ومُطَالَبَتُها مُغْنية عن مطالبته (¬2)، ويخالف ما إذا قَذَف أجنبيًّا، وذكر أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لهذا السبب؛ لم يُخْبِر شُرَيْكًا بما جرى، وبعث أُنَيْسًا إلى المرأة، ويَجُوز أن يُعْلم قوله في الكتاب وجهان؛ لطريقة مَنْ نَفَى الخلاف. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِي): إِذَا قَذَفَ نِسْوَةً بكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَفِي تَعَدُّدِ اللِّعَانِ قَوْلاَنِ مُرَتَّبَانِ عَلَى تَعَدُّدِ الحَدِّ* وَاللِّعَانُ أَوْلَى بِأَنْ يَتَعَدَّدَ لأَنَّهُ حُجَّةٌ فَلاَ يَتَدَاخَلُ* وَإِنْ قُلْنَا بِتَعَدُّدِهِ لَمْ يَتَّحِدْ بِرِضَاهُنَّ بِلِعَانٍ وَاحِدٍ كَاليَمِينِ* وَإِنْ قُلْنَا: يَتَّحِدُ فَذَلِكَ حَيْثْ لاَ يُشْتَرَطُ طَلَبُهُنَّ أَوْ تَوَافُقُهُنَّ* فَإِنْ انْفَرَدَتْ وَاحِدَةٌ بِالطَّلَبِ لاَعَنَ عَنْهَا ثُمَّ اسْتَأنَفَ لِلبَاقِيَاتِ* وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ فَقَدْ قَذَفَهَا وَأُمَّهَا بِكلِمَتَيْنِ فَعَلَيْهِ حَدَّانِ* فَإِنْ قُلْنَا: يقَدَّمُ حَدُّ المَقْذُوفِ أَوَّلاً عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ فَهَهُنَا يُقَدَّمُ حَدُّ الأَمِّ وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً عَلَى وَجْهٍ لأَنَّ حَدَّ البِنْتِ مُتَعَرِّضٌ لِلسُّقُوطِ بِاللِّعَانِ فَحَدُّ الأمِّ أَقْوَى. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قذف اثْنَيْن فصاعدًا، لم يَخْلُ إما أن يكون المقذوفُونَ أحَدَ الصِّنْفَين من الأجانب، والزوجات، وإما أن يتركَّبوا على (¬3) الصنفين. القِسْم الأول: إذا كانوا أحَدَ الصِّنْفَيْن، فاما أن يكون قَذَفَهُم بكلمات أو بكلمة واحدة. الحالة الأولى: إذا قَذَف كلِّ واحد منهم بكلمة، فعليه لكل واحدٍ حدٌّ. وقال أبو حنيفة -رحمه الله- لا يجب إلا حدٌّ واحدٌ بناءً على أن المُغَلَّب في حد القذف حقُّ الله تعالى، فيتداخل إذا تكرَّر موجبه، كما لو زنى مرارًا، ولو قذف امرأتَيْه بكلمتَيْن أو أرْبَعَ نسوةٍ، له، بأربع كلمات، فعليه أربعةُ حُدودٍ، وإذا أراد اللِّعان، أفْرَدَ كل واحدة بلعان، ويجعل اللعان عنْهن على ترتيب قَذْفِهن، كذا أطلق ويُشْبِه أن يكون المرادُ ما إذا طَلَبْن جميعًا أو حيْث لا يُشْتَرط طلب المرأة لِلِّعَانِ، ولو لاَعَنَ عنْهن لعانًا واحدًا، لم يُعْتَدَّ به عن الجميع، لكن إنْ سمَّاهن، احتسب به عن الَّتي سماها أوَّلاً، وإن أشار إليهن جميعًا، وجعلْنا الإشارة مُغُنِيةً عن الاسم على ما سيأْتِي، فلا يُعْتدُّ به عن واحد منْهن؛ لأنه ليس بعضهم بأوْلَى من البَعْض. ¬
والثانية: إذا قذفهم بكلمة واحدة بأن قال: زَنَيْتُمْ أو أنْتُمْ زناةٌ، فقولان: الجديد أنه يجب لكلِّ واحد منهم حدٌّ؛ لأن حد القذف من الحُقُوق المقصودة للعِبَاد، فلا تتداخل كالديون، وأيضًا، فإنه أدْخَل العار علَيْهم، فأشبه ما إذا قذَفَهم بكلمات متعدِّدة. والقديم، وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله- أنه لا يجب إلا حَدٌّ واحدٌ؛ لإتِّحاد اللفظ (¬1)، وأيضًا، فإنها حدُودٌ من جنس واحد، فتتداخل، كحدود الزنا، وعلى هذا، فلو حضر واحدٌ وطلب الحدَّ، حُدَّ له، وسقط حَدُّ الباقين، ولو قال: يَابْنَ الزانيَيْنِ، فهو قذف لأَبَوَي المخاطب بكلمة واحدة، ففيه القولان، ولو قذف أربع نسوة [له] (¬2) بكلمةٍ واحدةً، فالحدُّ على الخلاف، وإن أراد اللِّعَان، فإن قلنا: يتعدَّد الحدُّ، تعدَّد اللعان، وإن قلنا: يتَّحِد الحدُّ ففي اللعان وجْهَان: أصحهما: أنه يتعدَّد أيضًا؛ لأن اللعان يمينٌ، والأيمان المتعلِّقة بحقوق جماعة (¬3) لا تتداخل؛ ألا ترى أنه إذا ادعى رجلان على رَجُل مَالاً فأنكر، يَحْلِفُ بكل واحدٍ منهما يميناً تامَّةً، والثاني، نسبه القاضي ابن كج إلى أبي إسحاق وابن القطان: أنه يَكْفى لِعانٌ واحدٌ جمعهن فيه بالاسم أو بالإشارة، إن إكتفينا بالإشارة؛ لأن هذه اليمينَ حجَّةٌ تثبت الحَدَّ، فأشبهت البينة، وكذا لو أقام شاهدًا على رجُل بحَقِّ وعلى آخر بحَقِّ آخر، يجوز أن يَحْلِف معه يمينًاواحدةً يذكر فيها الحَقَّيْن وإذا قلنا بالتعدَّد، فلو رَضِيْنَ بلعانٍ واحدٍ، لم ينفع، كما لو رضي المدعون بيمين واحدة إذا قلنا: ثم يلاعن عنهن على الترتيب الذي يوافقْنَ عليه، فإن تشاحن في البداية، أقرع بينهن، ولو قدَّم الحاكم واحدة منهن، قال الشافعيَّ -رضي الله عنه-: رجَوْتُ أن لاَ يأْثَم، ونقل القاضي أبو الطيِّب عن الأصحاب، أن ذلك فيما إذا لم يقصد تفضيل بعضهم على بَعْض، وتجنَّب الميل، وإن قلنا بالاتحاد، فذلك إذا توافَقْنَ على الطَّلَب أو لم يشْتَرط طَلَبُهن، أما إذا اشترط، وانفرد بعْضُهن بالطلب، فلاعن، ثم طَلَبت الباقيات، فيحتاج إلى اللعان، ويحصل التعدد، وإذا لاعَنَ عنهن، لزمهن الحدُّ، فمن لاعنت منْهن، سقط عنها الحدُّ، ومن أبَتْ حُدَّت، وإذا امتنع من اللعان، كفَاهُ حدٌّ واحدٌ على قَوْلنا باتحاد الحَدِّ، وجميع ما ذكرنا فيما إذا قذف اثنتين فصَاعِدًا بكلمة واحدة، ولم يعلِّق قذفهما بزنًا واحدٍ، فإن خلق كما إذا قال لأجنبية أو لزوجته: زنَيْتِ بفُلاَن، فطريقان: أظهرهما طرد القولين في تعدُّد الحد واتحاده. ¬
والثاني: القطع بالاتحاد؛ لأنه لم يَرْمِهما إلا بفاحشة واحِدَةٍ (¬1). والقسم الثاني: إذا تركب المقذوفون من الصنفين؛ كما إذا قَذَف زوجته وأجنبيةً، فيُنْظَر؛ إن قذفهما بكلمتين، فعليه حدَّانِ، فإن لاعَنَ عن زوجته، سَقَط حدُّها وبقي حد الأجنبية، ولو قال لزوجته: يا زانية بنْتَ الزانية، أو قال: زنَيْتِ، وزَنَتْ أمُّك، فهذا قَذفٌ لها ولأمها بكلمتَيْن، وله إسقاط حَدِّ لزوجة بالبينة أو اللعان، وإسقاط حد أمها بالبينة وحْدِها وإذا طلبت واحدةٌ منهما أو وكيلُها حَدَّها ولا دافع، لم يخْفَ الحكم، ولو حَضَرَتَا معاً، وطَلَبَتَا، فهَلْ يراعى في استيفاء الحدَّيْن ترتيب فيه وجهان: أحدهما: لاَ، بل يقرع بينهما، كمن [أتلف] (¬2) أموالاً، ولزمه ضمانُها، لا يُنْظر فيه إلى التقديم والتأخير. وأصحهما: نعم، كما لو قتل شخْصَيْن على التعاقب يقنَص بالأول، وعلى هذا فوجهان: [أحدهما يبدأ بحد البنت (¬3) لأن قذفها متقدم]. وأصحهما، وهو المنصوص: أنه يبدأ بالأم؛ لأن حقها أقوى، فإنَّ حدَّها لا يَسْقُط إلا بالبينة، وحدُّ البنت كما يسقط بالبينة، يسقط باللعان، وأقوى الحقين أوْلَى بالتقديم ولو قَذَف أجنبية وأُمِّها على الوجه المُصَوَّر (¬4) في الزوجة، سَقَط، وجه تقديم الأم، ويبقى وجهان: أظهرهما: تقديم البنت. والثاني: القرعة ولو قذف أُمَّ زوجته [أوَّلاً ثم زوجته] (¬5)، سقط وجه تقديم البنت ويبقى وجهان: أظهرهما: تقديم الأم. والثاني: القرعة، وإن قذف زوجته وأجنبية بكلمة واحدة بإن قال: زنَيْتُما أو أنْتُما زانيتان، ولم يلاعن الزوجة فطريقان (¬6): أظهرهما: تعدُّد الحد واتحاده، على القولين السابقين. ¬
والثاني: القطع بالتعدُّد؛ لإختلاف القذفَيْن في الحُكْم؛ فإن أحدهما يَسْقُط حدُّه باللعان دون الآخر، فإن قلْنا بالإتحاد، فلو جاءت الأجنبية طالبةً للحد، فحد لها، سقط (¬1) الحد واللعان في حقِّ الزوجة إلا أن يكون هُنَاك وَلَدٌ، وأراد نَفْيه، وإن لاَعَنَ عن الزوجة، فيُحَدُّ للأجنبية، وإن عَفَتْ إحداهما، حُدَّ للأخرى، إذا طلبت على القَوْلَين جميعًا. ذكره صاحب "التهذيب" وغيره، ومهما وَجَب حدان لواحد أو لاثنين وَأُقِيمَ أحدُهُما، أمْهِل إلى أن يبرأ جلْدُه ثم يقام الثاني، وقد يعود هذا في الحدود. وقوله في الكتاب "لأنَّه حجَّةٌ، لا تتَداخَل" يعني به أن العقوبات هي التي يليق بها التداخل، واللعان من جملة الحُجَج المثبتة أو الدافعة، والتداخُلُ بَعِيدٌ عنها. وقوله "فقد قذفها وأمها بكلمتين، فعليه حدَّان" يجوز أن يعلم بالواو؛ لأن بعضهم أبعد؛ فجعل قوله "يا زانية بنت الزانية" كما إذا قال: أنتِ وأمك زانيتان [حتى] (¬2) يكون على الخلاف في تعدّد الحدِّ واتحاده، وعدَّ ذلك من قَذْف الزوجة والأجنبية بكلمةٍ واحدةٍ، وعليه جرى صاحب "التتمة". وقوله "فإن قلنا: يُقَدَّم حد المقذوف أوَّلاً" يريد به الخلاف في أن الحَدَّيْن إذا أثبَتَا يستوفيا على تَرْتيب القَذْف أم لا؟ فإن قلنا: نَعَم، ففي قوله "يا زانيةُ بنْتَ الزَّانِيَةِ" الوجهان في أنَّه يُقَدَّم حق الأم أم البنت؟ قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثُ): إِذَا ادَّعَتِ القَذْفَ فَأَنْكَرَ فَقَامَتِ الحُجَّةُ عَلَى القَذْفِ فَلَهُ أنْ يُلاَعِنَ إِنْ أَظْهَرَ لإنْكَارِهِ تَأوِيلاً وإلاَّ فَوَجْهَانِ* فَإِنْ أَنْشَأَ قَذْفاً فلَهُ اللِّعَانُ وَانْدفَعَ عَنْهُ ذَلِكَ الحَدُّ أَيْضًا إِلاَّ إِذَا كَانَ قَدْ قَالَ: مَا قَذَفْتُ وَمَا زنَيْتُ فَإِنَّ قَذْفَهُ بَعْدَهُ ينَاقِضُ شَهَادَةَ البَرَاءَةِ إِلاَّ إِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ احْتُمِلَ طَرَيَانُ الزِّنَا بَعْدَهَا* وَلَوِ امْتَنَعَا عَنِ اللِّعَانِ فَلَمَّا عُرِّضَا لِلْحَدِّ رَجَعَا إِلَيْهِ جَازَ كَمَا في البَيِّنَةِ* بِخَلاَفِ اليَمِينِ* وَلَوْ حُدَّ الرَّجُلُ فَأَرَادَ أنْ يُلاَعِنَ بَعْدَهُ مُكِّنَ مِنْهُ إِنْ كَانَ ثَمَّ وَلَدٌ وَإِلاَّ فَلاَ فَائِدَةَ لِلِعَانِهِ فَلاَ يُمَكِّنُ. قَالَ الرَّافِعيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: ادعت المرأة على زَوْجها أنه قَذْفها، فله في الجَوَاب أحوالٌ: أحدها: إذا سكت، فأقامتْ عليه البينة، فله أن يُلاعَن، وليس السكوت إنكارًا للقذْف، ولا تكذيبًا لبينة في الحقيقة، ولكنه جُعل كالإنكار في قبول البينة، فإذا لاعن قال: أشهد بالله، إني لمن الصادقين فيما أثبتت على من رمى إياها بالزنا. ¬
والثانية: إذا قال في الجواب: لا يلزمني الحَدُّ، فأقامت البينة على القَذْف، فله اللعان أيضًا، ويجوز أن يريد بقوله: "لا يلْزَمُنِي الحدُّ"؛ أني صدقت فيما قلْتُ، وسأحقِّقه باللعان فلا يكون عليَّ حدٌّ. والثالثة: إذا أنكر القَذْف، فأقامت الشاهدين علَيْه، ثم أراد أن يُلاَعِن، فيُنْظَر؛ إن أوَّل الإنكار، وقال: لم أردْ أني ما رمَيْتُها بالزنا؛ وإنما أردتُّ أن هذا الرمي حقٌّ، وليس بقذفٍ باطلٍ، قُبِلَ ذلك [منه] (¬1) ومُكِّن من اللعان، وإن لم يتأَوَّل الإنكار، لكنه أنشأ في الحال قَذْفاً، فله أن يُلاَعن، فإذا لاَعَنَ، سَقَط عنه الحَدُّ، وإن كانت هي صادقةٌ في دَعْواها؛ لأنَّ مَنْ كرَّر قذف امرأته كَفَاه لعانٌ واحدٌ، وإن لم يَذْكر تأويلاً ولا أنشا قذفًا، ففي جواز اللعان وجْهان: وجه المَنْع: أنه يُنْكِر نسبتها إلى الزنا، فكيف يَشْهَد بالله إنه لمن الصادقين، فيما نسبها إليه؟ والثاني: يجوز؛ لأنه لم ينكر زناها، وإنما أنكر القَذْف، والقَذْف يُسْتعمل في القول الباطل، فيجوز أن يريد: إن قَوْلي صدْقٌ، وليس بقذفٍ باطلٍ، وإن لم يتلفظ (¬2) بالتأويل ولأن قوله مردود عليه بالبينة فصار فكأنه لم ينْكُرْه، وشبه ذلك بما إذا قال المُشْتَري في جواب من يدعي الاستحقاق: إنه مِلْكي، وكان ملكًا لفلان إلى أن اشتريته منه، ثم قامت البينة على الاستحقاق، وانتزع المال من يده وتمكن من الرجوع على البائع، وإن أقرَّ له بالمِلْك؛ لأن إقراره قد صار مردُودًا عليه بالبينة، وهذا ظاهر النَّصِّ في "المختصر" وبه أخذ أكثر الأصْحَاب، وربَّما نفى العراقيون الخلافَ فيه. الرابعة: إذا لم يَقْتَصِر في الجوابِ على إنْكَار القذْف، ولكن قال: مَا قذَفْتُ وما زنَيْتِ، فيحد ولا لعان؛ لأنه شهد بعفَّتها وبراءتها، فكيف يُحقِّق زناها باللعان، وقوله الأول بكذبه، وليس له أن يقيم البينة على زِنَاها، والحالة هذه؛ لأنه كَذَّب الشهود بقوله "ما زَنَيْتِ" وشبه ذلك بما إذا أنكر المُودَع أصْل الإيداع، فأُقيمت البينة علَيْه، فادَّعى التلف أو الرد، لا تُسْمَع دعواه، وفي هذه الحالة، لو أنشأ قذفاً، فعن القاضي حسين إطلاقُ القول بجواز اللِّعان، والذي استقر عليه كَلامُ الإِمام، وتابعه صاحب الكتاب: أن ذلك محمولٌ على ما إذا مضى بعْد الدعوى والجواب زمانٌ يُمْكن تقدير الزنا فيه، وإلا، فيؤاخذ بإقراره ببراءتها ولا يُمَكَّن من اللعان، فإذا لاَعَنَ، فهل يسقط حدُّ القذف الَّذي قامت البيَّنة علَيْه، حكى الإِمام -رحمه الله- وغيره فيه خلافًا، وقضية لفظ الكتاب الجواب سقوطه؛ لأنه قال في إذا أنكر في الجواب القذف: "فإن أنشأ قذفًا آخر، فلَهُ ¬
اللِّعان، واندفع عنه ذلك الحَدُّ أيضًا" ثم استثنى ما إذا قال: "ما قذَفْتُ، وما زَنَيْتِ"، أي فلا لِعَان، ولا يندفع عنه ذَلِك، ثُمَّ اسْتَثْنى من المستثنى ما إذا مضت مدة يُمْكن فيها حدوث الزنا، أي فَلَهُ اللعان، ويندفع ذلك الحدُّ، هذا قضية ظاهر النظم. المسألة الثانية: إذا امتنع الزَّوْج عن اللعان، فعرض للحد أو استوفى بعْض الجلدات، ثم بَدَا له أن يُلاَعِن، مُكَّن منه، وإذا لاعَنَ، سَقَط عنْه ما بَقِيَ من الحَدِّ، كما لو بَدَا له أن يقيم البينة، وكذلك المرأة إن امتنعت من اللعان، ثم عادت إليه، مُكِّنَتْ، ويسقط عنْها ما بقي من الحد، قال الأصحاب: واللِّعان، وإن كان يمينًا عندنا، لكن أُلْحِقَ في هذا الحكم بالبينة، لمشابهته إياها من حيث إن الزَّوْج يأتي به من غير أن يُطْلَب منه كالبينة، ويؤثر لِعَانُه في إثبات الحَدِّ عليها، كالبينة، ولم يُلْحَق باليمين، حيث لا يجوز العَوْد إليها بعد النكول؛ لأن اليمين بعْد النكول] (¬1) تنتقل إلى جنبة المدعي [ففي تمكُّن المدَّعَى عليه من اليمين] (¬2) بعد الإنتقال إبطالُ حَقِّه، واللعان بالامتناع عنه لا يَنْتَقِل إلى جنبة الغير، ولو أُقيم عليه الحَدُّ بتمامه ثم أراد أن يُلاَعِن، فلا معنى له؛ لأنه قد ظَهَر كذبه بإقامة الحد عليه، قال القفَّال: إلا أن يكون هناك ولَدٌ، فله أن يلاعن (¬3) لنفيه، وهذا أورده مُورِدُون في مَعْرِض البيان لما أطلقه الأولون، ولم يجعلوا جواز اللِّعان عند قيام الولد مختلفًا فيه، وأثبت الإِمام الخلاَف؛ فقال: فعل القفَّال عن الأصْحَاب أنَّه لا يُلاَعِن، ووجَّهَه أن القَذْف سَقَط بإقامة الحد، وكان الزوج بعد الحد لَيْس قاذفًا، والقَذْف لا بد منه في نَفْي الولد، واختار (¬4) لنفسه أنه يُلاَعِنُ لغَرَض نفي النسب، ولا يَبْعد أن يقال: إن القَذْف يتأكَّد بالحد، وهو باللعان يُخْرِج نفسه عن أن يَكُون قاذفاً؛ وعلى هذا يجوز أن يُعُلَم قوله في الكتاب "مُكِّن منه" بالواو. وأما إذا لم يكن هناك وَلَدٌ، فالذي أطلق أنه لا يلاعِنُ اقتصارًا مثله على الأصح، ويجيْء فيه الخلاف المذْكُور في أن ما سوى غرض دفع الحد، ونفي النسب هل يجوز له اللعان؛ ذَكَره في "التتمة". والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرَّاِبعُ): إِذَا قَالَ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ فَيَجِبُ التَّعزِيرُ* فَإِنْ قَالَ: وَأَنْتِ مَجْنونَةٌ أَوْ مُشْرِكَةٌ فَكَمِثْلِ إِنْ عَهِدَ لَهَا ذَلِكَ وَإِلاَّ فَالحَدُّ* وَقِيلَ: لاَ حَدَّ إِذَا لَمْ تُعْهَدْ تِلْكَ الحَالَةُ لأَنَّهُ جَاءَ بِمُحَالٍ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال لزوجته: زنَيْتِ وأنتِ صغيرةٌ، فقد أطْلَق صاحب الكتاب أن علَيْه التعزير، وكذلك ذكره صاحب "التهذيب"، وفَصَّل الأكثرون، فقالوا: يراجع، ويؤمر ببيان حالة الصغر، فإن ذكر سنًا لا يحتمل الوطء، كما إذا قال: بنت ثلاث أو أربع، فهو ليس بقاذف، مدة للسبِّ والإيذاء، ولا لعان بمثله على ما مرَّ، وإن ذَكَر شيئًا يحتمله كما إذا قال: كانت بنت عَشْرٍ، فهو قاذفٌ، وعليه التعزيرُ، وله إسقاطه باللعان، ولو قال: زَنَيْتُ وأنْتِ مجنونةٌ أو مُشْرِكةٌ أو أمةٌ، فإن عُرِفَتْ لها هذه الأحْوَال أو ثبتَتْ بإقرار أو بينَة، فعليه التعزير، دُون الحَدِّ، وله اللعان؛ لإسقاطه، وإن عرف ولادتها على الإِسلام والحرية واستقامة عَقْلها، فالمشهور أنه يجب الحَدُّ للقذف الصريح، وتلْغَى الإضافة إلى تلك الحالة، وعن صاحب "التقريب" وجْه أنه لا حَدَّ؛ لأنه نسَبَها في تلْك الحالة إلى الزِّنَا، وإذا لم يكُنْ لها تلْك الحالة، فيكون ما أتى به لَغْوَاً من الكلام ومحالاً، فأشبه ما إذا قال: زنَيْتِ، وأنتِ رتْقَاءُ، وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: يجب الحد فيما إذا قال: وأنتِ مشركةٌ أو أمةٌ؛ لأنها مكلفة في الحالَتَيْن، ولا يجب في الحالتين، فيما إذا قال: وأنتِ صغيرةٌ أو مجنونةٌ. وإن لم يَعْلَمْ حالها، واختلفا، ففيه قولان: أحدهما: أن الزوج هو المُصدَّق بيمينه: ولا حدَّ عليه؛ لأن الأصل براءة ذمته؛ وعلى هذا، فَلَوْ نَكَلَ، فحلَفَت، حُدَّ. والثاني: أن الزوجة هي المصدَّقة باليمين؛ [لأن الظاهر مَنْ في دار الإِسلام الحرية، والغالب سلامةُ العَقْل؛ وعلى هذا، فلو نكَلَت، فحَلَفت، فالواجب التعزير، ويشبه أن يكون هذا أرْجَحَ القولَيْن، وموافقة قوْله في الكتاب، وإلا، فالحد؛ فإنه حَكَم بوجوب الحد، إذ لم تُعْهَدْ تلك الحالَةُ ونظْم "التهذيب" يقتضيه أيضًا، ويجيْء القولان فيما إذا اختَلَفا؛ فقال الزوج: أنتِ أمَةٌ في الحال، وقالت: بَلْ حرَّةٌ ولا يجيئان فيما إذا قال: أنتِ مشركةٌ في الحال، وقالَتْ: بل مسلمة، فإنها إذا قالت: أنا مسلمةٌ، فيحكم بإسلامها (¬1)، وإذا قالت المرأة: أردتَّ بقولك "زنَيْتِ، وأنْتِ صغيرةٌ" قذفي في الحال، ووصفي في الحال بالصغر، ولم تُردْ القذف بِزِناً في الصِّغَر، فعن الشيخ أبي حامد: أن القول قَوْلُها، وكذا لو قال: وأنتِ مجنونةٌ أو مشركةٌ، إذ أقرت بتلْك الحالة، وقالت: ¬
أردتَّ القذف في الحال، واستبعده ابن الصَّباغ وغيره؛ لأن الواو في مثله للحال، والسابِقُ إلى الفَهْم تعليق الزنا بتلْك الحالة؛ ولذلك يقال: لو قال: أنتِ طالقٌ، إن دخَلْتِ الدار، وأنتِ مسلمةٌ، يتعلَّق الطلاق بالدخول في حالة الإِسلام، ولو أطلق النسبة إلى الزنا، ثم قال: أردتُّ في الصغر أو في الكُفْر أو في الجنون والرق، فالمشهور أنه لا يُقْبَل منه ذلك؛ لأنه قذف في الحال ظاهرًا، وأنه موجبٌ لِلْحَدِّ، ولا فَرْق في ذلك بيْن أن تُعهَدِ لها تلْك الحالة أو لا تُعْهَد، فإن قال: هي تعلم أني أردت ذلك حلفت على نفي العلم، وحُدَّ، وفي أمالي أبي الفرج السرخسي: أنه يُقْبَل إذا عُهِدَت لها تلْك الحالة، ويجب التعزير، وإن لم تُعْهَد، فعلى قولين (¬1)، والصورة شبيهةٌ بما إذا قال: أنتِ طالقٌ، ثم قال: أردتُّ إن دخلَتِ الدار، وقد سَبَق القول فيها. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الرَّابعُ: اللَّفْظُ) وَالنَّظَرُ فِي أَصْلِهِ ثُمَّ في تَغْلِيظَاتِهِ وَسُنَنِهِ (أَمَّا اللَّفْظُ) فَأَنْ يَقُولَ أَرْبَعَ مرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاللهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا* وَفِي الخَامِسَةِ أَنَّ لَعنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنَ الكَاذِبِينَ* وَيَجِبُ إعَادَةُ ذِكْرِ الوَلَدِ فِي كُلِّ مَرَّةِ إِنْ كانَ ثَمَّ وَلَدٌ* وَالمَرْأَةُ تَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ إِنَّهُ لَمِنَ الكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ* وَفِي الخَامِسَةِ أَنَّ غَضَب اللهِ عَلَيْهَا إَنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ* وَلَيْسَ عَلَيْهَا إِعَادَةُ ذِكْرِ الوَلَدِ* وَلاَ يَقُومُ (ح) مُعْظَمُ الكَلِمَاتِ مَقَامَ الجَمِيعِ* وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُتَعَيَّنُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ فَلاَ يُبْدَلُ بِالحَلِفِ* وَلاَ لَفْظُ الغَضَبِ بِاللِّعْنِ* وَالأَصَحُّ أنَّهُ يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي تَأْخِيرِ اللَّعْنِ* وَتَجِبُ المُوَالاة بَيْنَ الكَلِمَاتِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المقْصُود الآن القوْلُ في كيفية اللِّعَان، وهو مُدْرَج في ثلاثة فصول: أحدها: في ألفاظه الأصليَّة، والثاني: في التغليظات المشروعة فيها، والثالث: في سنتها. أما الفصل الأول، فكلمات اللعان خَمْسٌ: وهي أن يقول الزوج أرْبَعَ مرَّاتٍ: أشهد بالله إنِّي لمن الصادقين فيما رمَيت به زَوْجَتِي من الزنا، ويسميها، ويرفع في نَسَبِها قَدْرَ مَا يَحْصُل به التمييز، إن كانَتْ غائبةٌ عن البَلَد، أو لم تَكُنْ معه في المَسْجد؛ لحيض أو كُفْر وفي تعليق الشيخ أبي حَامِدٍ: أنه يَرْفَع في نسبها قَدْرَ ما تتميَّز عن سائر زوجاته، إن كان في نكاحه غَيْرها، وقد تشْعِر هذه اللفظة بالاستغناء بقوله "فيما رميتُ به ¬
زوجتي" عن الاسم والنسب، إذا لم يكن تحته غَيْرُها، وإن كانت المرأة حاضرة عنده، وأشار إليها، وهل تحتاج مع الإشارة إلى التسمية؟ فيه وجهان: أصحهما: لا، كما في سائر العقود، والحلول كالنكاح والطلاق. والثاني: نَعَم؛ لأن اللعان مبنيٌّ على التغليظ والاحتياط (¬1)؛ فيُؤكَّد الإشارة بالتسمية، وقد يقال على قضية هذا التوجيه: لا يُكْتَفَى في الحاضرة بالتَّسْمِيَةِ، ورَفْع النَّسَب، حتى تضم إليهما الإشَارَةُ، بل أَوْلَى؛ لأن الإعراض عن الإشَارَةِ، والعُدُولُ إلى التسمية في الحاضرة قد يجر لبسًا، فإذا لم يُكْتَفَ في حقِّها بالإشارة، فَأَوْلَى أن لا يكتفي بالتسمية، ثم يقول في الخامسة: أَنَّ لَعْنة اللهِ عليْه، إن كان من الكاذبين، فيما رماها به من الزنا وتعريفُها في الغيبة والحضور كما في المرات الأربع، وإذا كان هناك ولَدٌ ينفيه، يتعرض له في الكلمات الخمس، فيقول: "وأنَّ الولد الذي ولَدَتْه، أو هذا الولد، إن كان حاضرًا، من الزنا وليس مني"، فلو قال: "هو من زنا" واقتصر عليه، فوجهان، أجاب كثيرون: بأنه لا يَكْفِي، ولا ينتفي به الوَلَدُ؛ لأنه قد يعتقد الوطء بالشبهة أو وفي النكاح الفاسد زنًا. وأصحهما، على ما ذكر في "التهذيب": الاكتفاء به؛ حملاً لِلَّفظ على حقيقته، وإذا كان من زنا، لم يلتحق به، ولو اقتصر على أنه ليس مني فالمشهور أنه لا يكفي؛ لإحتمال أن يراد به عدم المشابهة خَلْقًا وخُلُقًا، وفيه وجه، ولو أغفل نَفْي الولد بَعْض الكلمات الخمس، إحتاج إلى إعادة اللعان لنفيه، ولا تحتاج المرأة إلى إعادة لعانها، بل يقع معْتَدًّا به، وحكى أبو الفرج السرخسي تخريج قَوْلٍ فيه. وصورةُ لعانِ المرأة: أن تقول أربع مرات: أشهد باللهِ إِنَّه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، وفي الخامسة أن غضب الله عليَّ إنْ كان من الصادقين، فيما رماني به، والقول في تعريفه غائبًا وحاضرًا، كما ذكرنا في جانب المرأة، ولا تحتاج إلى ذكر الولَد؛ لأن لعانها لا يُؤثِّر فيه، ولو تعرَّضت له لم يضُرَّ، [و] في "جمع الجوامع" للقاضي الرُّويانيِّ: أن القفَّال حكى وجهًا ضعيفاً: أنها تَذْكُر الولَدَ، فتقول: وهذا الولد ولده، ليستوي اللعان ويتقايلان، ثم الكلام في صور: ¬
إحداها: لا يثبت شيْء من أحكام اللعان إلا إذا تمَّت الكلمات الخمْس، وقال أبو حنيفة: إذا حكم الحاكم بالفرقة بأكثر كلمات اللعان، نَفَذ، وأقام أكثر مُقَام الجميع، وإن كان هو مُخْطئًا في الحكم، واحتج الأصحاب بأنَّ هذا الحُكْم غير جائز بالإجماع، فلا ينفذ كسائر الأحكام الباطلة. الثانية: لو قال بَدَل كلمة الشهادة: أحلِفُ باللهِ أو أُقْسِم أو أولى إني لَمِنَ الصادقين، فوجهان: أحدهما: صحة اللعان؛ لأن اللعان يمينٌ، وهذه ألفاظ اليمين. وأصحُّهما: المنع، وتعيين لفظ الشهادة، كما في أداء الشهادة؛ اتباعًا لما ورد به النص، وأجرى في "التهذيب" الوجهين فيما إذا قال: "بالله إني لمن الصادقين" من غير زيادة، وقطع صاحب "التتمة" بالمنع؛ لأن الشرع غلَّظ حكمه بالجمْع بين كلمتين، فلا يجوز الاقتصار على واحِدَة، ويجري الوجهان في إبدال لَفْظ اللعن بالإبعاد، ولفظ الغَضَب بالسَّخط، وفي إبدال اللعن بالغضب، والظاهرُ في الكل المَنْع، وأما إبدال الغَضَب باللَّعُن فمنهم من أجرى الخلاف فيه، وهو الذي أورده في الكتاب، ومنْهم من قطع بالمَنْع، وقال: الغضبُ أشدُّ وأبلغُ من اللعن؛ ولذلك خُصَّ جانب المرأة بلَفْظ الغَضَب؛ لأن جريمة الزنا منْها أقبح من جناية القذف منه؛ ولذلك تفارق الحدَّان، وبنوا على هذا: أن كل مغضوبٍ عليه ملعونٌ ولا ينعكس. الثالثة: في وجوب تأخُّرِ لفظ الغضب واللعن عن الكلمات الأربع وجهان: في وجهٍ: لا يجب؛ لأن المعنى لا يختلف، والتغليظ يحصل تأخر اللفظان أو تقدما والأصح الوجوب؛ إتِّباعًا؛ ولأن المعنى إن كان من الكاذبين في الشهادات الأربع، فوجب تقدمهما ويقرب من هذين الوجْهَيْن وجهان ذكرا في أن المُوالاة بَيْن كلمات اللعان، هل تشترط؟ والأشبه الاشتراط حتَّى لو تخلَّل فصْلٌ طويلٌ منع الاعتداد، والمذكرر في "التهذيب": جواز التفريق، ويشترط في اللعان في حق الرجل والمرأة جميعًا أن يأمر الحاكم به، وَيُلَقَّنَ الكلماتِ، فيقول: قل: أشهد بالله، إني لمن الصادقين، إلى آخرها، فلو ابتدأ به، لم يعتبر لأن اللعان يمينٌ، واليمين لا يُعْتد بها قبل استحلاف القاضي، وإن غلبنا معنى الشهادة، [فالشهادة] (¬1) تؤدي عند القاضي، ويشترط أن يُؤخَر لعان المرأة عن لعان الزوج؛ لأن لعانها لإسقاط الحد، وإنما يجب الحدُّ عليها بلعان الزوج، فلا حاجة بها إلى أن تَلْتَعِنَ قبله، وعن أبي حنيفة ومالك -رحمهما الله-: أنه يجوز الابتداء بلعانها. والله أعلم. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَيَصِحُّ لِعَانُ الأخْرَسِ (ح) وَقَذْفُهُ* وَعَلَيهِ أَنْ يَكتُبَ مَعَ الإِشَارَةِ لِيُتَبَيَّنَ لَفْظُ الْغَضَبِ وَاللِّعْنِ* أَوْ يُورِدَ عَلَيْهِ نَاطِقٌ فَيُشَيرُ بِالإجَابَةِ* فَإِنْ قَالَ بَعْدَ انْطِلاَقِ اللِّسَانِ: لَمْ أُرِدْ ذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ* وَلَوِ اعْتُقِلَ لِسَانُ النَّاطِقِ قَبْلَ اللِّعَانِ وَكَانَ يُنْتَظَرُ زَوَالُهُ عَلَى قُرْبٍ أمُهِلَ ثَلاثةَ أَيَّامٍ* وَالعَاجِزُ عَنِ العَرَبِيَّةِ يَقُومُ في حَقِّهِ تَرْجَمَةُ اللِّعْنِ وَالغَضَبِ وَالشَّهَادَةِ مَقَامَهَا وَلَكِنْ لاَ بُدَّ مِنْ تُرْجُمَانَيْنِ يُعرِّفَانِ القَاضِيَ* وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَرْبَعَةٌ؟ فِيهِ خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: إن لم يكن للأخرس إشارةٌ مفهومة (¬1) ولا كتابة، لم يصحَّ قَذْفُهُ ولا لِعَانُه، ولا سائر تصرفاته؛ لتعذُّر الوقوف على ما يريده، وإن كان له إشارةٌ أو كتابة، فيصحُّ قذْفُه ولعانه، وقال أبو حنيفة: لا يَصحَّان حتَّى قال: لو كانَتِ المَرْأة خرساءَ، لم يصحَّ لعان الرجل أيضًا؛ لأنه يُشْترط في اللعان أهليَّة الزوجيْنِ جميعًا، ويَجْرِي الْخِلاَف فيما إذا قَذَف وهُو ناطقٌ ثم خَرس، هل يلاعن؟ لنا: القياس على البَيْع والنِّكاح والطَّلاق وغيرها (¬2) بل أَوْلَى؛ لأن اللَّعَن مما تَدْعُو الضَّرورة إليه، وليس كالشهادة؛ حيث لا تُقْبل مِنَ الأخْرَس على أظهر الوجْهَيْن؛ لأن المُغلَّب في اللِّعَان معْنَى الأَيْمَان دون الشَّهادات على ما سَبَق، وأيضًا، فإن الشهادة يقوم بها الناطِقُون، فلا ضرورة إلَى أن يتحمَّلها الأخْرَس، واللِّعَان يختَصُّ بالأَزْوَاج، فإذا كان الزَّوْج أخْرَس، لم يكن بُدٌّ من تصحيحه منْه، ثم المفهوم منْ كَلاَم أكثرهم [و] في "الشَّامِل" وغيره تصريحٌ: أنه يَصحُّ منه اللِّعَان [بالإشارة وحدها وبالكتابة وحدها وذكر المتولي أنه إذا لاعن بالإشارة أشار بكلمة الشهادة أربع مرات ثم بكلمة اللعن]، وإن لاَعَنَ بالكتَابَة، فيكتب كلمة الشهادة، وكلمة اللَّعْن، ويشير إلى كَلِمَة الشَّهادة أربع مرات، [ولا يكف أن يكتب أربع مرات] وهذا الطريق الآخر (¬3) جَمْعٌ بين الإشارة والكتابة، وهو جائزٌ، لكن قضيَّة التصْحِيح بالكتابة المُجَرَّدة تكرير كناية كلمة الشَّهَادة (¬4). وأمَّا قوله في الكتاب "وعليه أن يَكْتُب مع الإشَارَة؛ ليتبين لفْظ الغَضَب واللَّعْن أو يورد عليه ناطقٌ، فيشير بالإجابة" واعلم أن الإمَام بعْد نقْل المَذْهَب في صحَّة لعان ¬
الأخرس، قال: ويختلج إشْكَالٌ في الصَّدْر في تأدية كلمات اللِّعان سِيَمَا إذا عينا لفظ الشهادة؛ لأن الإشَارَات لا تُرْشِد إلى تفضيل الصِّيغ قال: والَّذي ينقدح في وجْه القياس أنَّ كلَّ مقصود لا يختصُّ بصيغة، فلا يمتنع (¬1) إقامة الإشَارَةِ مُقَام العبادة، وما يختصُّ بصيغةٍ مخصوصةٍ، فيغمض إعراب الإشَارَة عنها ولو كان في الأَصْحَاب من يَشْترط في الأخْرَس الكتابة، إن كان يُحْسنها أو يشترط (¬2) من ناطق أن يَنْطق بها، ويشير على الأخرس، فيقول: تشهد هكذا، فيقرره الأخرس بالإجابة كقُرُب بعض القرب، فأما الإشَارَة المجرَّدة، فلا أهتدي إلَى مجرَّد دلالتها عَلَى مخصُوصَة؛ هذا كلام الإمَام، فاء صاحِبُ الكتَاب، وقال: ما تمنَّى الإِمام أن يَكُون في الأَصْحاب مَنْ يقوم به، وحكَاه في "البسيط" عن بعض الأصحاب، وهو كالمُنْفَرد بالقَوْل [به] (¬3)، ولم ينقل عن غيره (¬4) ولْيُعْلَم؛ لِمَا ذكَرْنا قوْلُه "وعليه أن يكتب مع الإشَارة" بالواو. وإذا قذف ولاعن بالإشارة ثم عاد نطقه وقال: لم أرِدِ اللِّعان بإشارتي، قبل قوله فيما عليه، حتى يلحقه النَّسَب، ويلزمه الحَدُّ، ولا يُقْبل فيما له حتى لا ترتفع الفرقة، ولا التحريم المؤبَّد، وله أن يُلاَعِن في الحال، لإِسْقَاط الحَدِّ، وله اللِّعان لِنَفْي النَّسَب أيضًا، إذا لم يمض من الزمان ما يَسْقُط فيه حقُّ الَنَّفْي، ولو قال: لم أرد القَذْفَ أصْلاً، لم يُقْبَل قوله؛ لأن إشارته أثْبتَتْ حقًّا لغيره، وإن قَذَف لناطق، لم أعْتُقِل لسانه، وعجز عن الكلام؛ لمرض وغيره، نُظِر؛ إن كان لا يُرْجَى زوال ما به، فهو كالأَخْرَس، وإن كان يُرْجَى، فهل يُنْتَظَر زوالُه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، ويُلاَعِن بالإشارة؛ لحصول العَجْز في الحال، وربَّما يموت، فيَلْحَقه نَسَبٌ ليْس منه. وأشْبَهُهُما: أنه يُنْتَظِر زوالَهُ ولا يغير (¬5) الحكم بالعوارض الَّتي تَطْرَأ وَتزول، وعلى هذا، فكم يَنْتَظر؟ فيه وجهان: أحدهما: أنَّهُ يَنْتَظِر وإن امتدَّت لمدة. والثاني: أنَّه لا يزادُ الانْتِظَار عَلَى ثلاَثَة أيَّام؛ لما في التأْخِير منَ الإضْرار ¬
بالمَقْذُوفة، وهذا أَحْسن، وذكر الإِمام أن الأئمة -رحمهم الله- صحَّحوه، وعليه جَرَى صاحب الكتاب، وعلى هذا، فالوَجْه أنْ يقال: إنْ كَانَ يتوقَّع زواله إلى ثلاثة أيَّام، فَينْتَظِر، وإلا، فلا يَنْتَظِر إصلاً. الثانية: مَنْ لا يُحْسِن العربية أصلاً يلاعن بلسانه، ويراعي ترجمة الشهادة واللعن والغضب، وفيمن يُحْسِنها وجْهان: أحدَهُما: أنه لا يُلاَعن إلا بالعَرَبيَّة؛ لأنَّ الشرع وَرَدَ بها؛ فلا عدول عنها عند القُدْوة، كما في أركان الصَّلاة. الثاني: يُلاَعن بأيِّ لسان شاء؛ لأنَّ اللِّعَان، إما أن يُغَلَّب فيه معنى الْيَمِين أو الشهادة، وهما باللغات (¬1) سواءٌ، وهذا أقوى وأظهر، وأجاب كثيرٌ من العراقيين بالأَوَّل، وإذا جرى اللِّعان بغَيْر العربية، فإن كان القاضِي يُحْسن تلْك اللغة، فلا حاجَةَ إلَى المترجم، وُيسْتَحَبُّ أن يحضره أربعة مِمَّنْ يُحْسنها، وإن لم يُحْسِنْها، فلا بُدَّ مِنْ مُتَرجُمَين، وُيكْتَفَى بهما في جانب المرأة؛ فإنها تلاعن لنَفْي الزنا لا لإثباته، وفي جانب الزَّوْج [طريقان أحدهما: أنه على قولين مبنيان على أن الإقرار بالزنا هل يثبت بشاهدين أم يشترط أربعة؛ لأن لعان الزوج] قول يثبت به الزنا عليها، كما (¬2) أن الإقرار بالزنا قول يَثْبُتُ به الزنا. والثاني، وُيرْوَى عن أبي إسحاق، وأبِي الطيِّب بن سلمة: القطع بالاكتفاء بشاهدَيْن؛ لأنه نقْلُ قوْل إلَى القاضي، فصار كسائر الأقْوَال، وهذا أصَحُّ فيما ذكر القاضي الرُّويانيُّ في جَمْع الجوامع، وإذا قيل بالنَّظَر (¬3) عنه الأُولَى، فالأصحُّ في مسألة الإقْرَار ثبوته برجُلَيْن. وقوله في الكتاب "فيه خلاف" إن حُمِلَ على الطريقَيْن، فذاك، وإلاَّ فيَجُوز إعْلامه بالواو للطريقة القَاطِعَة. وقوله، "ولكن لا بدَّ من ترجمانين" يجوز إعلامه بالحاء؛ لأنَّ عند أبي حنيفة يَكْفِي مترجِمٌ واحدٌ، وسيأتي ذَلِكَ في أدَب القضاء، إن شاء الله تعالى. قَالَ الغَزَالِيُّ: (أَمَّا التَّغْلِيظُ) فَهُوَ بالزَّمَانِ وَالمَكَانِ وَالجَمْعِ (أَمَّا الزَّمَانُ) فَبِالتَّأْخِيرِ إِلَى وَقْتِ العَصْرِ* وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَلَبٌ حَاثٌّ فَيَوْمَ الجُمُعَةِ (وَأَمَّا المَكَانُ) فَأشْرَفُ مَوَاضِعِ البَلَدِ وَهُوَ مَقْصُورَةُ الجَامِعِ* وَفِي مَكَّةَ عِنْدَ المَقَامِ* وَفِي المَدِينَةِ بَيْنَ المِنْبَرِ وَالمَدْفَنِ* وَفِي ¬
بَيْتِ المَقْدِسِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ* وَفِي حَقِّ الذِّمِّيِّ الكَنِيسَةُ وَالبَيْعَةُ*وَفِي المَجوسِيِّ بَيْتُ النِّيرَانِ عَلَى وَجْهٍ وَأَمَّا بَيْتُ الأَصْنَامِ فَلاَ يَأْتِيهِ* وَيُغَلَّظُ عَلَى الزِّنْدِيِقِ لِيَنَالَهُ شُؤْمُهُ* وَالحَائِضُ تُلاَعنُ عَلَى بَابِ المَسْجِدِ* وَالمُشْرِكُ الجُنُبُ وَالمُشْرِكَةُ يُلاَعِنَانِ فِي المَسْجِدِ (ح) وَلاَ يؤَاخِذُهُمَا الْقَاضِي بِتَعَبُّدِ الشَّرْعِ (وَأَمَّا الجَمْعُ) فَهُوَ أنْ يَحْضرَ جَمَاعَةٌ وَلاَ تَنْقُصَ عَنْ أَرْبَعَةٍ* وَلاَ يَصِحُّ اللِّعَانُ إِلاَّ فِي مَجْلِسِ الحَاكِم أَوْ في مَجْلِسِ المْحَكَّمِ عَلَى قَوْلٍ* ثُمَّ التَّغْلِيظُ بِالمَكَانِ فِي وُجُوبِهِ قَوْلاَنِ* وَفِي الزَّمَانِ وَالجَمْع طَرِيقَانِ* وَأَوْلَى بِأَنْ لاَ يَجِبَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفصْل الثَّانِي: في التغليظات المشْرُوعة في اللِّعان: فمِنْها التَّغليظ بالزَّمان، وذلك بالتأخير إلى ما بَعْد صلاة العصر، فإن اليمين الأئمة حينئذ أغْلَظُ عقوبةً، وفُسِّر قوله تعال {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ} [المائدة: 106] الآية بصلاة العصر، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- (¬1) قال: "ثَلاَثةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عذابٌ أَليمٌ: رَجُلٌ حَلَفَ يَمِينًا عَلَى مَالِ [مُسْلِمٍ] فَاقْتَطَعَهُ، وَرَجُلٌ حلَفَ [عَلَى يَمِين] (¬2) بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِسِلْعَتِهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى، وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ" وإن لم يكُنْ طلبٌ حاثُّ، فلْيؤخر إلى يَوْم الجُمُعة، ذكره القَفَّال (¬3) وغيره، ووُجِّه بما اشتهر عن رَسُول الله (¬4) -صلى الله عليه وسلم-: "أنَّ في الجُمُعَةِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ الله شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ" قال كَعْب الأحبار [-رضي الله عنه- عنه -]: "هي الساعة بعد العصر" واعْتُرِض عليه بأنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "يُصَلْي" وَالصَّلاَةِ بَعْدَ صَلاَةِ اَلْعَصْرِ مَكْرُوهَة [فأجاب] بأن العَبْد في الصلاة ما دام يَنْتَظِر الصَّلاة. ومنها التغليظ بالمَكَان بأن يجري اللعان في أشْرَف مواضع البَلَد، وذكر بمكة بين الركن والمقام، وقد يُقَال: بيْن البيت والمقام، وهما متقاربان، وفي "جَمْع الجَوَامِع" للقاضي الرُّويانيُّ عن القَفَّال: أنه يَحْلِف في الْحَجْر، وبالمدينة عند المِنْبَر، وقوله: "بين المِنْبر والمدفن" فيه كلام يَأْتي في الفَصْل بَعْد هذا، [الفصل] (¬5) وُيلاَعن [ببيت] (¬6) ¬
المَقْدِس في المَسْجد الأقصى عند (¬1) الصخرة، وفي سائر البلاد: في المسجد الجامع عنْد المِنْبر، وهو المقصورة. ومنهم مَنْ لم يعتبر في سائر البلاد مَوْضع المنبر، ويلاعن الحاكم بين أهْل الذمة في المَوْضع الذي يُعَظِّمونه، وهو الكنيسة لليهود، والبَيْعة للنصارى، وهل يأتِي الحاكِم بيْتَ النار في لِعَان المَجُوس؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، وبه قال القَفَّال؛ لأنه لم تكن له حرمةٌ وشرف قطٌّ، بخلاف البيعة والكنيسة؛ وعلى هذا، فيلا عن بينهما في المَسْجد أو في مجْلس الحُكْم؟ وأظهرهما: نَعَم؛ لأن المقصود تعظيمُ الوَاقِعة، وزَجْر الكاذب عن الكَذِب، واليمينُ في الموضِعِ الَّذي يعظِّمه الحالف أغلَظُ، ويجوز أن يراعَى اعتقادهم؛ لشبهة الكتاب، كما رُوعِي في قَبُول الجزية، ولا يأتي بيْتَ الأصنام في لِعَان الوثنيِّين؛ لأنه لا أصل له في الحُرْمة، واعتقادُهم غيْرُ مَرْعِيٍّ، بل يلاعن بينهم في مجْلس الحُكْم، وهذا إذا دخَلوا عليْنا بأمانٍ أو هُدْنةٍ، وإذا كان الزوْجُ مسلماً، والمرأة ذمِّيَّةً، لاعن الزوج في المَسْجد، وهي الموضع الذي تُعَظِّمه، فإن قالت: ألاعن في المَسْجد، ورضي به الزوج، جاز، وكذا يجوز أن يتلاعن الذِّمِّيَّان في المَسْجد إلا في المَسْجد الحرام (¬2). ومنْها التغليظُ بحُضور جماعة من أعيان البَلَد وصلحائه، فإنَّ ذلك أعْظَمُ للأمر، وقد حَضَر اللعانَ على عَهْدِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬3) ابنُ عبَّاس، وابنُ عُمَرَ وسَهْلُ بن سَعْدٍ -رضي الله عنهم- وهم من أحداث الصَّحابة -رضي الله عنهم-، فاسْتَدَلَّ به الشافعيُّ -رضي الله عنه- على أنَّه حَضَر جمْعٌ كثير؛ فإن العادة في الصِّغار ألا يحضروا وحْدَهم، وأقلُّ ما يتأدَّى به هذا التغليظُ أربعةُ نفرٍ؛ فإن الزنا يثْبُت بهذا العَدَد، فيحضرون لإثباته. ومنها التغليظُ اللفظيُّ، وسيأتي في الدعاوى والبينات، إن شاء الله تعالى. ¬
وهذه التغليظاتُ تجبُ أم تُسْتَحب؟ أما بالمكان ففيه قولان: أحدهما: أنه يَجِب؛ لأن اللعان في عَصْر رسُول لله -صلى الله عليه وسلم- كذلك جَرَى، فأشبه العدَدَ في لفظة الشهادة. وأصحُّهما: الاستحبابُ كتغليظ اليمين بتعديد أسماء الله تعالى، وفي التغليظ بالزمان والجمع طريقان. أحدهما: طرد القولين. والثاني: القطع بالاستحباب، وطريقة القولَيْن في الزمان أظْهَرُ، والقطع في الجَمْع أظهرُ، وعن ابن القاصِّ: القَطْع بالاستحباب في المكان أيضاً، فيجوز أن يُعْلَم قوله في التغليظ بالمكان "قولان" بالواو، وعند أبي حنيفة: لا تغليظ بالمكان، ولا الزمان، ولا الجَمْع، وربَّما يُحْتَاج إلى إعادة هذه الصُّورة في الدعاوى والبينات، ثم في الفَصْل صُوَرٌ تخلَّلَت في نظْم الكتاب المَسَائِلَ المذْكُورة. إحداها: مَنْ لا يَنْتَحِل ديناً كالزنادقة، والدهرية، هل يُغَلَّظ على من يلاعن منهم بالوجوه المذكورة فيه وجهان: يوجه أحدهما (¬1) بأنه لا يعظم بقعة ولا زماناً فلا يؤثر التخصيص في زجره (¬2). والثاني: يُغَلَّظ عليه؛ لتناله عقوبة اليمين الفاجرة بصفَةِ التَّغْليظ، وشيْء منْها، وقد (¬3) وَرَد أنَّ اليمين الفاجرةَ تدَعُ الديار بَلاَقِعَ، وهذا كما أنه يُغَلَّظ عليه في أصْل ¬
التحليف بالله -تعالى-، وإن كان لا يُعَظِّم اسم الله تعالى، ولا يَعْرِفه، والتغليظ أظْهَر عند صاحب الكتاب، وبه أجاب هاهنا، والَّذي ذكَره الأكثرون أنه لا يُغَلَّظ عليه بالمكان، ويُلاَعن في مجْلس الحُكْم، وهو المنصوص، وإذا لم يُغَلَّظ بالمكان، ففي الزمان والجَمْعِ أوْلَى، ويُخَالَف التغليظُ بأصل اليمين، فإن الأحكام المتعلِّقة باللِّعان موقوفة على ذلك (¬1)، واستحسن أن يقال في التحليف: قل باللَّه الذي خَلَقك ورَزَقَك، فقد قيل: إن المعطِّل، وإن غلا في الإنكار بلسانه، فإذا رَجَع إلى نفسه وجَدَها مذعنة لخالق مُدَبِّر. الثانية: الحائض تلاعن علي باب المَسْجد، ويخْرُج الحاكم إلَيْها أو يَبْعث نائباً والمشرك والمُشْركة يُمَكَّنان من المُكْث في المَسْجد واللِّعان فيه في حال الجنابة والحيض، ولا يؤخذان بتفاصيل الأحكام المتعلِّقة بحق الله -تعالى- هذا هو الظاهر، وفيه وجْه مذكور في آخر الباب الخَامِس من "كتاب الصلاة". الثالثة: اللِّعان يحتاج إلى حضور الحاكم كما مَرَّ، ولو حَكَّمَ فيه الزوجان، فهل يقوم المُحَكَّم مَقَام الحاكم يُبْنَى على جواز التحْكيم في الأموال، إن لم يُجَوَّز في الأموال؛ فهاهنا أَوْلَى، وإن جوَّزناه في الأموال، فهاهنا وجْهان، والفَرْق أنه أمْرٌ خطَر، فاللائق تفويضُه إلى نَظَر القاضي ومنصبه، وأيضاً، فإنَّ الحقَّ فيه يتعلَّق بثالث، وهو الولد فلا يؤثِّر رضاهما في حقِّه، وجزم صاحب "التتمة" بأنه لا يَصحُّ اللعان بالحُكْم، إذا كان هناك ولدٌ إلا أن يكون بالغاً ويرضى (¬2) بحكمه، وذَكَر أيضاً أن العَبْد إذا قَذَف زوجته وطلبت [الحدّ، ففي تَوَلِّي السيد اللعان خلافٌ مبنيٌّ على أن السَّيِّد، هَلْ يستوفي] (¬3) الحد من العبد، ويسمع البينة أم لا؟ إن قلنا: نَعَم، تَولَّى اللعان. وزَوْج الأَمَة إذا قَذَفَها ولاَعَن، هل يَتولَّى سيِّدُها لعانَها؟ فيه هذا الخِلاَف، وإذا عرفت ذلك، أَعْلَمْت قوله في الكتاب "وأما التغليظ فهو بالزمان، والمكان، والجمع" بالحاء، ويجوز إعلامه بالألف أيضاً؛ لأن عن أحمد مثْله، ولفظ "المَقْصُورة" بالواو، لأن في وجْه لا يختص بالمَقْصُورة. ¬
وقوله "عند المَقَام" كذلك؛ لما قيل: إنه يَحْلف في الحِجْر، وكذا قوله "ويغلَّظُ على الزنديقِ"، وقوله "يلاعنان في المسجد". قَالَ الغَزَالِيُّ: (وَأَمَّا السُّنَنُ) فَثَلاَثةٌ أَنْ يُخَوِّفَهُمَا القَاضِي بِاللَّهِ فَلَعَلَّهُمَا يَنْزَجِرَانِ* وَأَنْ يَكُونَ عَلَى المِنْبَرِ أَعْنِي القَاضِيَ عَلَى وَجْهٍ* وَالزَّوْجَ عَلَى وَجْهٍ* وَأَنْ يَأْتِيَهُ رَجُلٌ مِنْ وَرَائِهِ عِنْدَ الخَامِسَةِ فَيَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ وَيِقُولَ لَهُ صَاحِبُ المَجْلِسِ: اتَّقِ اللَّه فَإنَّهَا مُوجِبَةٌ* وَالمَرْأَةُ تَأْتِيَهَا امْرَأَةٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفَصْل الثالث: في سُنن اللِّعان: منها: أن يخوِّفهما القاضي بالله تعالى، وَيعظَهما، ويخبرَهُما أن عذاب الآخرة أشدُّ من عذاب الدنيا، ويقرأَ عليهما {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ [وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا]} الآيةُ، ويروى أنه -صلى الله عليه وسلم- (¬1) قال للمتلاعنَيْنِ: " حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا [مِنْ] تَائِب؟ " ومِنْهَا: ذكرنا أن بالمدينةِ يُلاَعن عنْد المنبر، وهو لفظ الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- في "المختصر" وقال في موضع آخر: يلاعن علي المنبر، وروي القطان عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- (¬2) [فعن أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم-] قال: "مَنْ حَلَفَ عند مِنْبَرِي عَلَى يَمِينٍ آثمة، وَلَوْ بِسِوَاكٍ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ". وعن جابر -رضي الله عنه- أنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- (¬3) قال: "مَنْ حَلَف عَلَى مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ ثَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"، واختلف الأصحاب في أن الملاعن هَلْ يَصْعَدُ المنبر؟ على ثلاثةِ أوجُهٍ: أصحهما، على ما ذَكَر صاحب "التهذيب": لما رُوِيَ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لاَعَنَ بيْن العجلانيِّ وامرأته على المِنْبَر. والثاني، وبه قال ابن أبي هريرة: أنه لا يَصْعَد؛ لأن الصعود لا يليق بحالهما؛ ¬
لأنهما فَاسِقَان أو أحدُهما؛ فَلاَ يستحقان الإكْرَام، والخَبَر محْمُول على أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان على المِنْبَر، وقَدْ تُحْمَلْ "على" "عند". والثالث، وبه قال أبو إسحاق -رحمه الله-: إنْ كثر القَوْم، صَعِدَ ليراه النَّاس، وإلاَّ، لاعن عنْدَهُ، ولم يَصْعَد؛ لأنه لا حَاجَة إلَيْه وفي كتاب القاضي ابن كج طريقةٌ عن ابن أبي إسحاق قاطعةٌ بأنَّه يَصْعَد، وفي "التتمة": أنا إذا قلْنا إنَّه في المدينة يصعد (¬1) المنبر، فكذلك في سائر البلاد، وإن قلْنا: لا يصعد، فهل يُلاَعن عند المِنْبَر؟ فيه وجهان: أحدهما: نَعَم، كالمدينة والثاني: أنَّه لا اختصاص في ذلِكَ المَوْضِع، بخلاف تلْك البُقْعَة في المتكلِّمين، فهي على ما وَرَد في (¬2) الخَبَر "رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاض الْجَنَّةِ" وهذا هو الوجْه الَّذي حكَيْناه في الفَصْل السابق، وإذا وقَفْتَ على ما نقلناه، وتأَمَّلْتَ قوله في الكتاب في الفَصْل المتقدِّم، "والمدينة بيْن المنبر والمَدْفن" عرَفت أن هَذا لا يستمر على قَوْلنا: إنه يصْعد المِنْبر، أما إذا قُلْنا: إنه لا يَصْعد، يلاعن عنْده، فليكن ممَّا يلي المدفن، فيكون بينهما، ويمكن؛ لذلك إعْلاَمُ قوله:. "بين المنبر والمدفن" بالواو. وقوله هاهنا "وأن يكون على المنبر" قصد حكايته اللفظ المنقول في قصَّة العجلاني؛ وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (¬3) لاَعَنَ بيْن العجلانيِّ وامرأته على المِنْبَر، وأشار إلى الوجْهَيْن لاختلاف الأصحاب في معْنَاه. ومنها إذا فرغ من الكلمات الأربع، وانْتَهَى إلى كلمة اللَّعن، بالغ القَاضِي في تخْوِيفه وتحذيره وأمر رجُلاً أن يضع يَدَه على فيه، فلَعَلَّه ينْزَجر ويمتنع، وقال له الحاكم أو صاحب مجلسه: اتَّقِ اللَّهَ، فقولك "عَلَيَّ لَعُنَةُ اَللَّهِ" يوجب اللَّعنة، إن كُنْتَ كاذباً وتَضَعُ امرأةٌ [يَدَها] (¬4) على فم المرأة، إذا انتهت إلى كلمة الغضب، فإن أبَيَا إلا المضيَّ ¬
الباب الثالث في جوامع أحكام اللعان ونفي الولد
لقنهما الكلمة الخامسة، وَرَدَ النَّقْلُ بذلِكَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رواية ابْن عبَّاس -رضي الله عنه-. ومنها أن يَتَلاَعَنَا عنْ قيام، فتكون المرأة جالسةً عند قيام الرجل، وإذا أرَادَتْ أن تلاعن، قَامَتْ، والغَرَض منه إشهار أمرهما، وأن يراهما النَّاس، ويُقَام الحدُّ على المرأة، وهِيَ جالسةٌ؛ حَذراً من التكشُّف، والله عز وجل أعلم بالصواب. البَابُ الثَّالِثُ فِي جَوَامِعِ أحْكَامِ اللِّعَانِ وَنَفْيِ الوَلَدِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَيَتَعَلَّقُ بِلِعَانِهِ خَمْسَةُ أَحْكَامٍ:* الفِرَاقُ* وَتَأَبُّدُ الحُرْمَةِ* وَسُقُوطُ الحَدِّ عَنْهُ وَانْتِفَاءُ النَّسَبِ* وَوُجُوبُ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهَا* وَيَتَعَلَّقُ بِلِعَانِهَا سُقُوطُ الحَدِّ عَنْهَا فَقَطُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ذكَرْنا في أولَّ الكتاب أن الوجْه إبدال الباب الثالث بالقِسْم الثاني: وبيَّنَّا أن مقصوده القَوْل في أحكام اللِّعَان، وأحكام نَفْي الولد، واعلم أن كلام الفَصْل قد يولج أكثر (¬1) مسائل اللِّعَان مِنْ أَوَّل الكتَاب، والمذكور هاهنا كالضَّابط الجامع، ثم لا يَخْلو عن زيادات، والَّذي يفتتح به أحكام اللِّعَان أن الزَّوْج غيْرُ محْمُول على اللِّعَان بعْد القذف، بل إذا امتنع، حُدَّ كالأجنبيِّ إذا قَذَف، ولم يُقم البيِّنَة، لكنه مُكِّن من اللعان؛ للضرورة الداعية إلَيْه على ما تقرَّر، وكذا المرأة غَيْر محمولةٍ على اللعان بعد لعان الرجل، وعند أبي حنيفة: قذف الزوج لا يُوجِب الحَدَّ عليه، ولكنه يوجب اللعان، فإن امتنع، حُبِس حتى يلاعن، واللعان عقوبة هذا القذف دون الحَدِّ قال: وإذا لاَعَنَ، تحبس المرأة إلى أن تُلاَعن، ولا تحد، وكذلك قال أحمد: لا يجبُ علَيْها الحدُّ بلعانه، وعنْه في حبْسِها روايتان، ويتعلَّق بلعان الزَّوْج خمسة أحكام: أحدها: حصول الفِرَاق بيْن الزوجَيْن، واحتج له بما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- (¬2) قال: "الْمُتَلاَعِنَانِ لاَ يَجْتَمِعَانِ أَبَداً" ولو لم تَحْصُل الفرقة، كان الاجتماع حاصلاً، وبأن اللعان يَنْفِي النَّسب، ولولا الفُرْقة، لكان الفراش باقياً، والولد للفراش، وهذه الفُرْقة تحصل ظاهراً وباطناً، سواءٌ كان الزوج صادقاً أو كانت هي صادقة [وحكى أبو الفرج (¬3) وجْهاً أنَّها لا تَحْصُل باطِناً، إذا كانت هي صادقة] (¬4) وهي فُرْقة فسخ خلافاً لأبي حنيفة؛ حيث قال: هي فرقةُ طَلاَقٍ. لنا: أنها تَحْصُل بغَيْر لفظٍ فأشْبَهَت الفرقة بالرضاع والرِّدة [و] قال أبو سعْدٍ ¬
المتولِّي: وتظهر فائدة الخِلاَف فيما إذا عَلَّق طلاق امرأة أُخْرَى بوقُوع الطَّلاق على هَذِه، ولاَعَنَ عَنْ هَذِه. والثاني: تَأَبُّد التحريم؛ للحديث، وقال أبو حنيفة: لا يتأبَّد التحريم بل لو كَذَّب نفسه، له أن يجدِّد نكاحها، ويروى مثلُه عن أحمد، -رحمه الله-. والثالث: سُقُوط حَدِّ القذف عن الزوج، وأبو حنيفة يُخَالف فيه؛ لأنه لا يقول بوُجُوب الحد على الزوج حَتَّى يسقط. والرابع: وُجُوب حدِّ الزنا عليها، خلافاً لأبي حنيفة وأحمد -رحمهما الله- على ما قدَّمناه. والخامس: انْتِقَاءُ النَّسب إذا نُفِيَ الوَلَد في اللعان ومن الأصحاب مَنْ يرد أحكام اللعان إلى ثَلاَثةٍ، ويقول: الفرقة في الحال تدْخل في التحريم المُؤَبَّد، وانتفاء النَّسَب تختص بما إذا كان هناك وَلَدٌ ونفاه، فليس ذلك حُكْماً لمُطْلَق اللِّعان، ولا اختلاف في الحقيقة إنَّما هذا شَيْء يَتعلَّق بالضَّبْط والإيراد، ثم هَذه الأحكامُ تَثْبُت بمجرَّد لعان الزَّوْج، ولا يتوقَّف شيْء منها على لعانها، ولا علَى قضاء القاضي، ولا يتعلَّق من هذه الأحكام بإقامة البيِّنة على زناها إلا ربع حد القذف، وإثْبَات حدِّ الزِّنا علَيْها، ولذلك تقول: يجوز للزوج أن يلاعن مع التَّمكُّن من إقامة البينة؛ لأن فيه فوائِدَ لا تَحْصُل بإقامة البيِّنة ثم إذا أرادَتِ المرأة: إسْقاط حَدِّ الزنا عن نَفْسها، فلها اللعان، ولا يتعلَّق بلعانها إلا هَذا الحُكْم، ولو أقام البيِّنة علَى زناها، لم يمكنها دَفْع الحد باللِّعَان؛ لأن اللِّعان حجَّةٌ ضعيفةٌ لا تقاوم البيِّنة، ويجوز أن يُعْلَم قوله في الكتاب: "ويتعلق بلعانه خمسة أحكام" بالحاء، والميم، والألف. أما بالحاء، فلأن عند أبي حنيفة إنَّما يثبت من الأحكام الخمسة في اللِّعان حُكْمان: حُصُول الفُرْقة، وانتفاء النَّسَب، ولا يتعلَّقان بلعان الزَّوْج وحْده، بل يتعلَّقان بلعان الزوجين جميعاً، أو بقضاء القاضي، حتى لو مات أحدُهما بعْدما تلاعنا، وقبل أن يقضي القَاضِي يرثُه الآخر، ولو طَلَّق، وقَع الطلاق، ولكن على القاضِي التَّفْريق بينهما بعْدما يَتَلاعَنَا، ولا يجوز تقريرُهُما علَى النكاح. وأما بالميم: فلأن عند مالك -رحمه الله-: أحكامُ اللِّعان تَثَبَتْ بلعنهما جميعاً، لا بلعانه وحْده، ولم يعتبر قضاء القَاضِي، وهذا أشْهَر الرِّوَايَتَيْن عنْ أحمد والثانية: اعتبار قَضَاء القَاضِي أيضاً، ويجوز أن يُعْلم قوله "ويتعلَّق بلعانها سقوط الحد عنها" بالحاء، والألف؛ لما بيَّنَّا أنهما لا يقولان بوجوب الحد عليها بلعانه، حتى يقال بسقوطه بلعانها.
قَالَ الغَزَالِيُّ: أَمَّا حُكْمُ نَفْيِ الوَلَد فَفِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: (الأَولَى): أَنَّ اللعَانَ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الوَلَدُ مِنَ الزَّوْجِ* فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِمَّا لِقُصُورِ المُدَّةِ عَنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ* أَوْ لِطُولِ المَسَافَةِ (ح) بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ* أَوْ لِكَوْنِ الزَّوْجِ صَبِيّاً دُونَ عَشْرِ سِنِينَ* أَوْ لِكَوْنِهِ مَمْسُوحاً مَجْبُوبَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَيَيْنِ فَلاَ يَلْحَقُهُ* وَالبَاقِي الأُنْثَيَيْنِ يَلْحَقُةُ الوَلَدُ قَطْعاً* وَكَذَلِكَ الخَصِيُّ البَاقِي الذَّكَرِ عَلَى الأَصَحِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إِنَّما يُحْتاج إلى نَفْي الوَلَد باللِّعَان إذا لَحِقَه لوْلا اللِّعَان، وذلك عنْد قيام (¬1) الإمكان، أما إذا لم يُمْكن، فهو منفيٌّ بلا لعان، ولعَدَمِ الإمكان صُوَرٌ منها: أنْ تأتي بالوَلَد لستة أشهر؛ فما دونها منْ وقْت العقد. ومنها أن تَطُول المسافة بيْنَهما، كالمَشْرقي مع المغربية إلى صُوَرٍ قد ذكرناها منْ قبل، ووراءها صورتان: إحداهما: في أقل زمان إمكان اللحوق من الصغير وجهان: أحدهما: يبتدئ من وقتْ استكماله عَشْر سنين، وإذا أتَتِ امْرأةُ الصبيِّ بولد لسِتَّة أشهر وساعة يفرض (¬2) فيها الوطء بعد تمام عشر سنين، لحقه، وإن أتت به لِمَا قَبْل ذلك، فهو مَنْفِيٌّ عنْه بلا لعان. والثاني: أنه يبتدئ زمان الإمكان منْ أوَّل السنة العاشرة، حتى إذا أتَتْ بوَلَد لستة أشهر وساعة منْ أول العاشرة، كان لاحقاً به، وهذا أصحُّ علَى ما ذكَرَهُ الشيخ أبو حامدٍ، وأصحابُه وصاحبُ "التَّهْذيب" والقاضي الرُّويانيُّ -رحمهم الله- وظاهر النص في "المختصر" الأوَّل، ويوافِقُه قوله في الكتاب "أو يكون الزوج صبيَّا دون عشر سنين"، وهذان الوجهان كوجهين ذكرناهما في باب "الحجر" في أن وقْت إمكان الاحتلام وخُروح المنيِّ يدخل بأول السنة العاشرة أو بتمامها أو هما هما؟ وذكرنا هناك وجْهاً آخر: أنَّه يدْخُل بمضيِّ ستة أشهر منَ العَاشِرة، وعلى قِيَاس ذلك الوَجْه إذا ولَدَتْ لرأس العشر، لحقه (¬3)، وحكى الإِمام وجهاً ضعيفاً: أنه يتصور الاحتلام بعْد مضيِّ ستة أشهر من السنة التاسعة، وأن على هذا الوجه: لَوْ أتت بالوَلَد كما طعن في العاشرة، يلحقه، وهذا لم يَجْرِ ذكره في "الحجر"، فحصل في ابتداء حَدِّ اللحوق أربعة أوجُه: عشر سنين وستة أشهر، عشر سنين، تسع سنين وستة أشهر، تسع سنين وإذا حكمنا بثبوت النسب؛ لحصول الإمكان، فلا نحكم بسبب ذلك بالبُلُوغ؛ لأن النَّسَب يثْبُت ¬
بالاحتمال، والبلوغ لا يكْفِي فيه الاحتمال، لكن لو قال: أنا بالغ بالاحتلام، فله اللِّعَان، ولو قال: أنا صَبِيٌّ، لم يصِحَّ لعانه، فإن قال بَعْد ذلك: أنا بالغٌ، وأراد النفْيَ قُبل قوله، ومُكِّن من اللعان، فإن البلوغ لا يُعْرَف إلا منه، وربما حَدَث سببه، قال الإِمام: في كلام الأصْحَابِ ما يَدُلُّ على أنه لا يُقْبَل قوله "أنا بالغ" بعد ما قال: أنا صبيٌّ؛ للتهمة، ويقْرُب من هذا ما أورده صاحب "التتمة": وهو أنه إن لم يَتَّهِمْه الحاكم، حَكَم ببلوغه، ومَكَّنَه من اللعان، وإن اتُّهِم، ترك الأمر موقوفاً إلى أن يُتحقَّق بلوغه. الثانية: مَنْ لم يَسْلَمْ ذَكَرُهُ وأنثياه، فإما أن يفقدهما جميعاً أو يَفْقِدَ الذَّكَر، دون الأنثيين، أو بالعَكْس. الحالة الأولَى: إذا كان ممسوحاً فقد الذكر والأنثيين، فظاهر المَذْهب أنه لا يلْحَقُه الوَلَدُ، ولا يحتاج إلى اللِّعَان؛ لأنه لا يُنْزِل، ولم تَجْرِ العادة بأن يُخْلَق لمثله وَلَدٌ، وفيه قول يُحْكَى عن الإصطخريِّ: أنه يلْحَقُه؛ لأن مَعْدِن الماء الصُّلْب، وأنه ينفذ في ثقبه إلى الظَّاهِر، وهما باقيان، وذُكِرَ أن الصيدلانيَّ والقاضي الحُسَيْن أخذا بهذا الجَوَاب. الثانية: إذا كان مجْبُوب الذَّكَر باقِيَ الأنثيين، فأتَتْ زوجته بولَد، لحقه لبقاء أوْعِيَة المنيِّ، وما فيها من القُوَّة المحيلة للدَّمِ، والذَّكَرُ آلةٌ توصِّلُ الماءَ إلى الرَّحِم بواسطةِ الإيلاج، وقد يُفْرَض وصول الماء بغَيْر إيلاج. الثالثة: الخَصِيُّ الباقي الذَّكَر، هل يلحقه الولَدُ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن الوَلَد من المَاءِ، والخصيُّ لا ماء له. وأظهرهما: نَعَمْ، لأن آلة الجِمَاعِ باقيةٌ، وقدْ يبالغ في الإيلاج، فيَلِد، وينزل ماء رقيقاً، وإدارة الحُكْم على الوطء، وهو السبب الظاهر، أولى من إدارته على الإنْزال الخفيِّ، وعن الفورانيِّ: أنه يراجع أهْل الخبرة، فإن قالوا: إنه لا يُولَدُ له، لم يلْحَقْه الولد، وإلا، لَحِقَه. واعلم أنه نَصَّ في "المختصر" على أنه إذا كان الزَّوْج مجبوباً، يلحقه الولد إلا أن يَنْفِيَه باللَّعَان. وفي رواية الربيع: أنه يُنْفَى عنه بلا لعان، واخْتَلَفوا في حال النَّصَّيْن، وفي المراد من المجبوب، فعن أبي إسحاق: حَمْل ما في "المختصر" على ما إذا كان مجبوب الذَّكَرِ باقي الأنثيين، وحَمل ما ذكره الربيع على الممسوح، وعن القاضي أبي حامدٍ: أن في الذكر ثقبتين: إحداهما: للمنيِّ، والأخرى: للبَوْل، فإن انسدَّت التي هي للمنيِّ، لم يُلْحَقِ الوَلَد، وهو المراد من رواية الرَّبيع، وإن لم تَنسَدَّ، لحق، وهو المراد ممَّا في "المختصر". وقيل: إن بعْض الرواة صحَّف، لفْظَ الشافعيِّ -رضي الله عنه- إذا كان الزَّوْج مجنوناً، يلحقه الولد، ولا يُنْظَر إلى أنه لو كان عاقلاً، كأن يقبله أو ينفيه، فإن لاعن
بعد الإفاقة، انتفى حينئذ، ومنْهُم مَنْ جعلهما قولَيْنِ. وقال: المراد صورةُ المَمْسوح، ويُمْكن الحَمْل على مقطوع الخِصْيَتَيْنِ السَّلِيمِ الذَّكَر، فقد ذكرنا الخِلاَف فيه. ولا أثر لِجَبِّ بعْض الذَّكَر إذا كان الباقي قَدْر الحَشَفَة. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِيَةُ): اللِّعَانُ عَنِ الحَمْلِ جَائِزٌ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لأَنَّهُ جَائِزٌ بِمْجَرَّدِ عْرَضِ القَطْعِ دُونَ الوَلَدِ* وَبَعْدَ البَيْنُونَةِ فِيهِ قَوْلاَنِ مَأَخَذُهُمَا أَنَّ اليَقِينَ هَلْ يُشْتَرَطُ لِلِّعَانِ أَمْ يَجْوزُ بِالظَّنِّ لِخَطَر المَوْتِ؟ قَالَ الرَّافِعِيُّ: ذكَرْنا فيما إذا أبان زوْجَتَه ثم قَذَفها، وهناك حَمْل، فأراد أن يلاعن؛ لنَفْيه، طريقَيْن: في أنه هل يُمَكَّن من اللِّعَان؟ أصحُّهما: أن فيه قولَيْن: أظهرهما: أنَّ له ذلك. والثاني: القَطْع بالمنع، ولْيُعْلَم؛ للطريقة الثانية قوله "وإن كان بعد البينونة، ففيه قولان" بالواو، وأما إذا لاَعَنَ النفي الحمْل في صلْب النكاح، فقد نُقِل فيه طريقان: أحدهما: طَرْد القولين؛ بناء على أن الحَمْل هل يُعْرف؟ وأصحهما: القَطْع بجوازه؛ لأن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- (¬1) لاعن بيْن هلال بن أمية وزوْجته وكانت حاملاً، ونفى هلال الحَمْل؛ ولأن اللِّعَان في صُلْب النكاح جائزٌ، وإن لم يكن له ولدٌ؛ لسائر الأغراض (¬2) والفوائد المتعلِّقة به؛ فَلأَنْ يجُوزَ عنْد توَقُّع الولد بظُهُور مخايل الحَمْل، كان أوْلَى، وعن أبي حنيفة وأحمد -رحمهما الله-: أنه لا يجوز اللِّعَان؟ لنفي الحَمْل، ثم في مذهب أبي حنيفة: أنه إذا كان قَدْ صَرَّح بالقذف، ولاَعَن عن الحَمْل، رُتِّبَ عليه حكْمُه إلا أنَّ الولَد يلْزمه، ولا يُمكن نفيه بعْد الانفصال؛ لأنها تَضَع الحَمْل بعد البينونة، ولا لعان عنْده بعْد البينونة. وقوله في الكتاب: "لأنه جائِزٌ بمجرَّد غرض القطع دون الولد" يعني غرض قَطْع النكاح، وفي جواز اللعان لمجرَّد قطع النكاح خلافٌ قد مَرَّ، والظاهر منْعُه، فلْيُحْمَل ما ذَكَره على عرضُ القَطْع. وسائر ثمرات اللعان في صُلْب النكاح، ولفظ التجريد يرجع (¬3) إلى التجريد عن نَفْي الولد. وقوله "مأخذهما أن اليقين هل يشترط" إلى آخره معناه أنه يُوجَّه أحد القولَيْن بأن ¬
الحَمْل لا يُتيقَّن، واللِّعَان حجَّة ضروريةٌ، فيشترط فيه يقين (¬1) الولد. والثاني: بأنه مظنونٌ إن لم يكن متيقناً، وقد يموتُ الشَّخْص قبل الولادة، فيَبْقَى الولد مُلْحقاً به، فوَجَبَ تجويزه بالظَّنِّ. فَرْعٌ: لو استَلْحَق الحَمْل، لزمه، ولم يكُنْ له نَفْسُه بعْد ذلك، خلافاً لأحمد، -رحمه الله-. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثَةُ) إِذَا أَتَتْ بتوءمين فَنَفَى أَحَدَهُما لَمْ يَنْتَفِ* وَإِنْ نَفَاهُمَا ثِمَّ اسْتَلْحَقَ أَحَدَهُمَا لَحِقَهُ الثَّانِي لأَنَّهُ لاَ يَتَبَعَّضُ وَيُغَلَّبُ جَانِبُ الإِثْبَاتِ* وَلَوْ نَفَى الحَمْلَ فَأَتَتْ بِتَوْءَمَيْنِ انْتَفَيَا* وَلَهُ أَنْ يَنْفِيَ أَوْلاَداً عِدَّةً بلِعَانٍ وَاحِدٍ* وَبَيْنَ التَّوْءَمَيْنِ المَنْفِيِّيْنِ أُخُوَّةُ الأَمِّ* وَلاَ تَثْبُثُ أُخُوَّةُ الأُمِّ* وَلاَ تَثْبُتُ أُخْوَّةُ الأَبِ عَلَى الصَّحِيحِ (و). قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا ولَدَتْ زوجته توْءمين، فنَفَى أحدهما دون الثاني، لم يَنْتَفِ واحدٌ منهما، ولو نَفَاهُما، ثم اسْتَلْحَق أحدَهُما، لَحِق الثاني أيضاً؛ لأن الله تعالَى لم يُجْرِ العادة بأن يجتمع في الرَّحِم ولَدٌ من ماء رجُلٍ، وولَدٌ من ماء آخر، فلا يتبعَّض التوءمان لُحوقاً والانتفاءً؛ وإذا تعذَّر التبعيضُ، فيُغَلَّب جانب اللحوق؛ لأن الثُّبوت إلى النَّسَب أسرعُ من الانتفاء؛ ألا ترى أنَّه يلحق بثبوت النسب؛ بالإمكان ولا يُحْكَم بانتفائه؛ بالإمكان، النسب يثبت بالإقرار وبالسُّكوت المُشْعِر بالإقرارِ، والاقتضاءُ لا يحْصُل إلا بمجرِّد النفي، وإذا أتَتْ بولد، فنفاه بعْد الولادة باللِّعان، ثم أتَتْ بولدٍ آخر، فإما أن تَكُونَ المدةُ بين الولدَيْنِ دون ستَّة أشهر أو تكُونَ ستةَ أشْهُرٍ فصاعداً: الحالة الأولى: إذا كان [كُلٌّ] منهما أقَلَّ من ستة أشهر، فهما حمْل واحدٌ، فيُنْظَرُ؛ إن نَفَى الثانِيَ بلعان آخر، انتفى الثاني (¬2) أيضاً، وفي "جمع الجوامع" للقاضي الرويانيِّ حكايةُ وجهين: في أنه هل يَحْتاج [في] (¬3) اللعان الثاني ذكْرُ الولد الأوَّل؟ قال: والأصح عندي: أنه لا يحتاج، وهل تَحْتاج المرأة إلى إعَادة اللّعان، إذا كانت قد لاعَنَتْ بعد لعانه الأوَّل؟ قال الشيخ أو عليِّ -رحمه الله-: فيه وجهان كالوجهين فيما إذا أَغْفَل في اللِّعَان ذكْر الولد، وأعاد اللعان لنفيه بَعْد ما التعنت المَرْأة، هل تحتاج إلى إعادة اللعان؟ الأصحُّ المنع، وإن لم يَنْفِ الثاني، بل استحلقه أو سكت مع إمكان النفي، لحقاه جميعاً؛ لأنهما [حمل] (¬4) واحد، وإذا ثبت أحدهما، ثَبَت الآخر، وإذا لحقاه، والحالةُ هذه، فهل يلْزمه الحدُّ بقذفها؟ نُظِرَ؛ إن استلحق الثانِيَ صريحاً، لزمه كما لو كذب ¬
نفسه، وإن سكت، فلَحِقه لم يلزمْه الحدُّ؛ لأن اللحوق حُكْم الشَّرْع، ولم يأت هو بما يناقض قوله الأول ولو قذفها ثم لاعن (¬1) عنها في البينونة، وأتت بولد آخر لأقلَّ من ستة أشْهُرٍ، فسواء اسْتَلْحق الثانِيَ صريحاً أو سكَتَ عَنْ نفْيِه، فلحقاه، يلزمه الحَدُّ والفرْقُ أن اللِّعَان بعْد البينونة لا يكون إلا لنَفْي النَّسَب، فإذا لحق النَّسب، لم يبق لِلَّعان حُكْم، فحُدَّ، وفي صلْب النكاح له أحكام وفوائد أُخَر، وتلك الأحكام لا ترتفع بلحوق النَّسَب، فلذلك لا يلزمه الحدُّ، حُكِيَ هذا عن القَفَّال واستحسنه القاضي الرُّويانيُّ، وقال: لم أره لغيره، وقد يقال: اللعان، وإن كان بعد البينونة يُؤَثِّر في تأبيد التحريم على أظْهَر الوجهَيْن، كما تَقدَّم، والتأبُّد لا يرتفع بلحوق النَّسب، فجاز أن يبقى أثر اللعان في سُقُوط الحدِّ أيضاً. الثانية: إذا كان بينهما ستة أشهُر فصاعداً، فالثاني حَمْل آخر؛ لأن هَذه المدَّة مدَّة الحَمْل، فلو أمكن وقُوعُها بيْن ولدين مِنْ حَمْلِ واحدةٍ؛ لخرجَت عن أن تكون كلَّ مدة الحمل، ثم يُنْظر؛ إن نَفَى الثانِيَ باللعان، انتفى أيضاً، وإن استلْحَقَه أو سكَتَ عن نفيه، لَحِقه، وإن بانَتْ باللعان؛ لاحتمال أنه وطئها بَعْد وضع الأَوَّل فعلقت قبل اللعان، فتكون حاملاً حَالَ حُصُول البينونة، فأشبه ما إذا طَلَّق امرأته ثلاثاً، فأتت بوَلَدٍ لأقل من أرْبَع سنين منْ وقْت الطَّلاق يثبت نسبه؛ لاحْتمال كونها حاملاً يوم الطلاق، ولا، يلزم من لحوق الولد الثاني لُحُوقُ الأول؛ لأنهما حملان [فلا يلحقه الأول] بخلاف ما في الجملة الأَولَى، وما ذكَرْناه من لُحُوق الوَلَد الثاني، إذا لم يَنْفِه، هو الصحيح الذي أوْرَدَه الجُمْهور. وقال الشيخ أبو إسْحَاق -رحمه الله- في "المهذَّب": إن أتتْ بوَلَدٍ، فنفاه باللِّعَان، ثم أَتَتْ بالولد الثاني لستة أشْهُر من ولادةِ الأوَّل، انتفى الثاني بغَيْر لعان؛ لأنها علقت به بعْد زوال الفراش، وهذا ليْس وجهاً آخر، بل الأشبه أنه سهْو، والتوجيه الذي ذكَرَه ممْنُوع، وجميع ما ذكَرْناه فيما إذا لاَعَن عن الولد المُنْفَصِل ثم أتَتْ بولد آخر، أما إذا لاعن عن الحَمْل، أما في النكاح أو بعد البينونة إذا جوَّزناه، فَوَلَدَتْ ولداً، ثم ولدت آخر، نُظِر؛ إن لم يكن بينهما ستة أشهر، فالثاني منفي أيضاً؛ لأنه لاَعَن عن الحَمْل، والحمْلُ اسم لجميع ما في البَطْن، فالإشارة إلى الحَمْل إشارةٌ إليهما جميعاً، وهو كما لو نَفَى بلعانٍ واحدٍ ولدَيْن أو أولاداً عدةً بعد الانفصال، وإن كان بينهما ستَّة أشهر، فصاعداً، فالأول منفيٌّ باللعان، وينتفي الثاني بلا لِعَان؛ لأن النكاح ارتفع باللعان، وانقضتِ العدة بوضع الولد الأول، وتحقق براءة الرحم، فيكون الثاني حادثاً بعد البينونة ¬
وزوال الفراش، وليس هذا كما إذا بانَتْ زوجته بطلاق أو لعان وغيرهما، وانقضت عدَّتها بالإقراء، ثم أتت بولدٍ لما دون أربع سنين من وقْت البينونة، يلحقه الولد (¬1) إلا أن ينفيه باللعان؛ لأن هناك إنما يُحْكَم بانقضاء العدة ظاهراً، ومن الجائز أنها قد حاضت على الحَمْل، وكانت حاملاً يوم الإبانة (¬2) فألحقنا، الولد بالإمكان، وهاهنا نَقْطع ببراءة الرَّحِم بوضع الولد الأوَّل، فيكون الثاني حادثاً بعد البينونة، قال الشيخ أبو حامد -رحمه الله- وكذلك الحُكْم لو طلقها أو مات عنها، فانقضت عدَّتُها بوضح العمل، ثم أتَتْ بولدٍ لستة أشهر، فصاعدًا من يوم الوَضْع [لا] يلحقه الولد الثاني. قال في "الشامل": ولا ينظر إلى احتمال حدوثه من وطء شبهة؛ لأن ذلك لا يَكْفِي لِلُّحوق، وإن كان محتملاً؛ لأنه بعد البينونة كسائر الأجَانِب، فلا بد من اعترافه بوطَء الشُّبْهة وادعائه الولد، وعن القفَّال: أنه إذ لم يُلاَعِن لنفْيِ الثاني، يلحقه الثاني، كما ذكرنا فيما إذا لاعن عن الولد المنفصل، ثم أتت بالثاني. قال الرُّويانيُّ -رحمه الله-: وهذا غَلَطٌ، ولم يذكره غيره، وفي "المولَّدات" تفريعاً على ما عُهِدَ في الفصّل: أنه إذا أتتْ زوجته بولَدٍ، فنفاه باللعان، فإذا ألحق الثاني، لَحِق الأول، ولو كان بينهما ستة أشهر فأكثر (¬3)، لحق الثاني دون الأول، ولو نَفَى الحمل، ومات، وولدت ولداً آخر، وبينهما أقل من ستة أشهر ينتفيان جميعاً؛ لأن العمل اسمٌ لجميع ما في البَطْن، وقد نفاه. وأما قولُهُ "وبين التوءمين" إلى آخره، فإذا أتَتْ بولدَيْن من بطْنٍ واحدٍ، ونفاهما باللعان، فهما أخوان لأم أو أخوان لأب وأم. فيه وجْهَان، قد أوردناهما في الفرائض: أصحهما: أنهما أخوان لأمِّ لا غير، وقد ذكر في الكتاب المسأَلَة هناك، واقتصر على ذكر الأصحِّ، بم هاهنا تعرَّض للخلاف، ولا يختص الجواب بالتوءمين [المنفيَّيْن] بل يجري في غير التوءمين المنفيين بلعانٍ واحدٍ أو بلعانَيْن، وولدا الزنا يتوارثان بأخُوِّة الأم، وحكَيْنا في الفرائض وجْهاً آخر، وقد ذكر القاضي أبو الطيِّب وغيره أن ذلك الوجْه اختيار الداركيِّ، وقد يُجْمع بين المنفيين باللعان وولدي الزنا، ويقال: في كيفية توارثهما ثلاثة أوجه: الثالث: الفرق بين المنفيين باللعان فيتوارثان بأخوة الأبوين، وبين ولدَيِ الزنا، فيتوارثان بأخوة الأم، والفرق أن المنفيِّ باللعان يعرض اللحوق بأن يكذب نفسه، وولدا الزنا بخلافه، يُحْكَى وجْه الفَرْق عن أبَوَيْ علي بن أبي هريرة والطَّبَريِّ، -رحمهما الله-. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرَّابِعَةُ): إِذَا مَاتَ الوَلَدُ فَلَهُ اللِّعَانُ (ح) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلوَلَدِ وَلَدٌ حَيٌّ* وَلَوْ نَفَاهُ فَلَمَّا مَاتَ اسْتَلْحَقَهُ قَبْلُ وَوَرِثَهُ* وَكَذَلِكَ لَوْ نَفَى بَعْدَ المَوْتِ ثُمَّ اَسْتَلْحَقَ عَلَى الأَظْهَرِ (و). قَالَ الرَّافِعِيُّ: كما يجوز نفي الولد باللعان في حَيَاته، يجوز نفيه بعْد موته؛ لأنَّ نسبه لا ينْقَطِع بالموت بل يقال: مات ولد فلان، وهذا قبر (¬1) ابن فلان، ولأنه يحتاج إلى إسقاط مؤنة التجهيز والدفن، ولا فرق بين أن يخلف الميِّتَ وَلداً؛ بأن كان الرجُل غائباً، فكبر المولودَ، وتزوَّج، ووُلِدَ له، وبين أن لا يُخلِّف. وعند أبي حنيفة: إن حلَّف ولداً، جاز نفْيُه باللعان، وإلا، فلا، ولو مات أحد التَّوْءَمَيْنِ قبل اللعان، فعندنا: له أن يلاعن وينفي الحي والميت جميعاً، وعنده: إذا مات أحدهما، استحكم نسبهما وبطل (¬2) النفي، ولو نفى ولداً باللعان، ثم مات فاستلحقه لحقه، وأخذ بالإرث ماله ودينه إن قُتِلَ، سواء خلَّف ولداً أو لم يُخلِّف، وذلك لأن النسب يُحْتَاط لثبوته، والظاهر: أنه لا يلزم نفسه الحدّ، ولا يلحق به غير ولده طمعاً في المال، وعنْد أبي حنيفة: إن خلَّف الميت ولداً، صح استلحاقه، وإلا، فلا، ولو نفاه بعد الموت، ثم عاد واستلحقه فيه وجهان: احدهما: لا يلحقه؛ لأنَّه إذا نفاه بعْد الموت، فقد أسقط الإرْث، ولا رجُوع إلَيه، بخلاف النفْي في الحياة. وأصحُّهما: اللحوق؛ لأن النَّسَب يُحْتَاط لثبوته، وإذا ثبت النَّسَب، ثبت الإرث، وعلى هذا، فلو قُسِّمت تركته، اتبعت القسمة بالنقض، وقد سب طَرَفٌ من هذا في الفرائض. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الخَامِسَةُ) حَقُّ نَفْيِ الوَلَدِ عَلَى الفَوْرِ وَيسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ عَلَى قَوْلٍ* وَلاَ يَسْقُطُ إِلاَّ بالاِسْتِلْحَاقِ عَلَى قَوْلٍ* وَيُمْهَلُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ عَلَى قَوْلٍ* فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ عَلَى الفَوْرِ فَلَوْ صَبَرَ عِنْدَ الحَمْلِ إِلَى انْفِصَالِ الوَلَدِ جَازَ* وَلَوْ قَالَ عَرَفْتُ الحَمْلَ وَلَكِنِ انْتَظَرْتُ الإِجْهَاضَ جَازَ عَلَي وَجهٍ* وَإِنْ قَالَ: لَمْ أَسْمَعِ الوِلاَدَةَ إِلاَّ مِنْ فَاجِرٍ فَلَمْ أُصَدِّقْ عُزِّرَ* أَمَّا مِنْ عَدْلَيْنِ فَلاَ* وَمِنْ عَدلٍ وَاحِدٍ فَوَجْهَانِ* وَلَوْ قِيلَ لَهُ: مَتَّعَكَ اللَّهُ بِوَلَدِكَ فَقَالَ: آمِينَ فَهُوَ اسْتِلْحَاقٌ* وَإِنْ قَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْراً أَوْ أَسْمَعَكَ اللَّهُ مَا يَسُرُّكَ فَلاَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا أتت امرأتُه بولَدٍ، فأقر بنسبه، لم يكن له النفْيُ بعد ذلك؛ لأن ¬
للمولود حقًّا في النَّسَب، فإذا أقر، فقد التزم تلك الحقوق، ومَنْ أقر بما يُوجب عليه حقًّا من حقوق الآدميين، لم يتمكن من الرجوع عنه، وقد رُويَ عن عُمَر -رضي الله عنه- (¬1) أنه قال: "إذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ بِوَلَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ"، وإن لم يُقِرَّ بِنَسَبه، وَأَراد نَفْيَهُ فقولان: الجديد: أن حق النفي على الفور؛ لأنه خيارٌ ثَبَت لدفع ضرر متحقَّق، فإذا لم يتأبد، كان على الفور، كالرَّد بالعَيْب. والثاني: أنه لا يُشْترط وقوعه على الفَوْر؛ لأن أمر النسب خطيرٌ، وقد ورد الوعيد في نفْي مَنْ هو منه، وفي استلحاق مَنْ ليس منه، وقد يَحْتاج فيه إلى نظر وتأمُّل، فوجب أن يكون له مهْلة فيه، وعلى هذا فقولان: أحدهما: أنه يمتد ثلاثة أيام، وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-؛ لأنها مدة قريبة، وفيها مُهْلة النظر والتأمُّل، وقد قدَّر الشرْع بها مُدَداً. والثاني: أن له النفي متى شاء، ولا يَسْقط إلا بالإسقاط، فهذه ثلاثة أقوال، وقد سبق في الشفعة وخيار العتق نظيرها. وعن الشَّافعي -رضي الله عنه-: أنه قال في بَعْض كتبه: إذا عَلِمَ به، يعني بالولد، فله نفيه بعد يوم أو يومين، فعن ابن سلمة أن التقدير باليومين قولٌ آخرُ، ولم يثبته سائر الأصحاب قولاً آخر، وقالوا: المراد أو ثلاثاً إذا تقرَّر ذلك، فالفصْل يتضح بصُوَرٍ: إحداها: إذا قلْنا: إن النفي على الفَوْر، فلو أخَره بلا عذر، سقَطَ حقُّه، ولزمه الولد، وإن كان معذوراً بأن لم يجد الحاكم لغيبته أو تعذَّر الوصول إليه، أو بلغه الخبر، فأخَّر، حتى أصبح، أو حضرَتْه الصلاة، فقدَّمها (¬2)، أو أحرز ماله أولاً أو كان جائعاً أو عارياً، فأكل أو لبس أولاً، أو كان محبوساً أو مريضاً أو مُمَرِّضاً، لم يبْطُل حقُّه، ولكن إن أمْكَنَه الإشهاد، فعليه أن يَشْهد أنَّه على النفي، فإن لم يفعل، بَطَل حقه، وذكر ابن الصبَّاغ وغيره أن المريض، إن قَدَر على أن يُنفِذ إلى الحاكم، ويستدعي منه أن يبعث إليه نائباً، ليلاعن عنْده، فلم يفعل، بَطَل حقه، وإن لم يَقْدر، فيشهد حينئذ، وليَطرِدْ ¬
هذا في المحبوس ومن يَطُول (¬1) عذْره. وقال الشيخ أبو حامد وجماعة: المريض ومن يلازمه غريمهُ أو يلازم غريمه؛ لخَوْفِه من ضياع ماله لو تركه يبعث إلى الحاكم، ويعلمه أنه على النفي، وإن لم يقدر على ذلك، يُشْهِد، ويمكن أن يجمع بينهما، فيقال: يبعث إلى القاضي، ويُطْلعه على ما هو عليه، ليبعث إليه نائباً أو ليكون عالماً بالحال إن أخر بعث النائب، فإن ذلك أقوى من الإشهاد، وأما الغائب، فإن كان في المَوْضِع الذي غاب إلَيْه قاضٍ فنفى الولد عنْده، فذاك، ففي أمالي وإن أراد تأخيره حتى يرجع أبي الفرج: المنع من ذلك، والذي ذكره صاحب "التهذيب" و"التتمة" جوازه؛ لأن له عذراً ظاهراً فيه، وهو الانتقام منها بإشهار أمرها في قومها وبَلَدِها، وحينئذ، فإن لم يمكنه المسير في الحال لخوف الطريق وغيره، فينبغي أن يُشْهد، وإن أمكنه، فليأخذ في السَّيْر ويشهد، فإن أخَّر السير، بَطَل حقه، أشهد أو لم يُشْهد، وإن أخَذَ في السير، ولم يُشْهد، فكذلك في أصحِّ الوجهَيْن (¬2)، وإن لم يكن هناك قاضٍ، فالحكم كما لو كان، وأراد التأخير إلى بلده وجوَّزناه. الثانية: الحَمْل، وإن جاز نفيه، يجوز أن يؤخِّر نفيه إلى الوضع، فإن المتوهم حملاً قد يكون رِيحاً، فينفش، فلو صبر إلى أن انفصل الولد، وقال: أخَّرت؛ ليتحقق الحال، فله النفي، وإن قال: عَرَفْت أنه ولد، ولكني أخَّرت طمعاً في أن تُجْهَض؛ فلا احتاج (¬3) إلى كشف الأمر ورفع الستر ففيه وجهان: أحدهما: أن له النفي؛ لأن الحَمْل لا يتيقن، فلا أثر لقوله: عرفه أنه ولد. وأظهرهما، وهو المنصوص في "المختصر": أنه يبطل حقُّه؛ لتأخر النفي مع القدرة علَيْه ومعرفة الولد، فصار كما لو سكت عن نفْي الولد المنفصل طَمَعاً في أن يموت. الثالثة: لو أخَّر النفي، وقال: أخَّرته؛ لأني لم أعْلَم أنها ولَدَت، فإن كان غائباً، قُبِلَ قوله بيمينه. قال في "الشامل": إلا أن يستفيض وينتشر، وإن كان حاضراً، قُبل قوله في المدَّة التي يحْتَمِل أن يخفي الأمر، ولا يُقْبل في المدة التي لا تحتمل، ويختلف ذلك بين أن يكون في محلة أخرى أو في محلة المرأة وبين أن يكونا في دار واحدة أو دارين أو بيت ¬
أو بيتين، ولو قال: أُخْبرت بالولادة، ولكن لم أصدِّق المخبَر، نُظِرَ؛ إن أَخْبَرَه فاسق أو صبيّ، صُدِّقَ بيمينه، وعُذِرَ، وإن أَخْبَرَه عدْلان، لم يُعْذَر؛ لأنهما مُصدَّقان شرعاً، وإن أخبره عدل واحد أو عبْدٌ ذكراً أو أنثى؟ ففيه وجهان: أحدهما: أنه يُصدَّق، وُيعْذَر؛ لأنه أخبره مَنْ لا يثبت بشهادته الحق. وأظهرهما، وهو المذكور في "التتمة": أنه لا يُصدَّق، ويسقط حقه؛ لأن روايته مقبولة (¬1)، وهذا سبيله سبيل الإخبار، وقد ذكرنا في "الشفعة" نحو ذلك، ولو قال: عرفت الولادة، ولكن لم أعلم أن لي حَقَّ النفي، فإن كان فقيهاً، لم يُقْبل قوله، وإن كان حديثَ العَهْد بالإسلام أو ناشئاً في بادية بعيدَة، قُبِلَ، وإن كان من العَوَامِّ الناشئين في بلاد الإسلام، ففيه وجهان، كما سبق في خيار (¬2) العِتْق. الرابعة: إذا هُنِّئ بالولد؛ فقيل له: متَّعَكَ الله بولدك أو جعَلَهُ لك ولداً صالحاً، أو هنئت فارساً؟ نُظِرَ؛ إن أجاب بما يتضمن الإقرار والاستلحاق؛ كقوله "آمين" أو "نعم" أو "استجاب الله دعاءك"، فليس له النفي بعْد ذلك، وإن أجاب بما لا يتضمَّن الإقرار؛ كقوله "جزاك الله خيراً"، أو "بارك عليك"، أو "أسمعك ما يسرك"، أو "رزقك مثله" لم يبْطُل حقه من النفي، خلافاً لأبي حنيفة؛ لأنه لا يَتضمَّن الإقرار، والظاهر أنه قصد مكافأة الدعاء بالدعاء، والله أعلم. فرُوعٌ وصور نختم بها اللعان، بمعونة الله تعالى: إحداها: إذا اختلف الزَّوْجَان بعد قَذْف الزوج إيَّاها، فقالت الزوجة: قَذَفنِي قبل النكاح، فعلَيْكَ الحد ولا لعان، وقال الرجل: بل بعد النكاح، فهو المُصدَّق بيمينه؛ لأنه القاذف، فهو أعلم بوقْت القَذْف؛ ولأنهما لو اختلفا في أصْل القَذْف، كان القول قوله، فكذلك إذا اختلفا في وقْته، ولو اختلفا بعْد حصول الفُرْقة بيْنَهما، فقالت: قذفَتني بعْد ارتفاع النكاح، وقال الزوج: قبل ارتفاع النكاح، فكذلك الجواب، ولو قال: قذفْتُكِ وأنتِ زوجتي، وقالت: ما نكَحْتَني قطُّ، فهي المُصدَّقة بيمينها، ولو قال: قَذَفْتُك وأنْتِ مشركة أو أمَةٌ، وقالت: قذَفْتِنِي وأنا مسْلِمةٌ حرةٌ فإن علم لها حالةُ كُفْر أَوْ ¬
رِقِّ، صُدِّق بيمينه، ولم يلزمه إلا التعزير، وإن لم يُعْلَم لها حالة كُفْر أو رِقٍّ، فالقول قولُها مع يمينها في أصح القولين. والثاني: أن القول قوله بيمينه (¬1)، ولا يجيء هذا القول في الصورة السابقة، وهي قولها: ما نكحتني أصلاً؛ لأن الزوج إذا قال: قذفْتُكِ وأنتِ مشركةٌ أو أمةٌ، لم يكن مقراً بقذف يوجِبُ الحدَّ، وإذا قال: قذفتك وأنتِ زوجتي، كان مقرًّا بقذف يوجب الحد، لكنه يَدَّعِي ما يتوصَّل به إلى رفع الحد، وهي تنكره، ذكره الشيخ أبو عليٍّ، ولو قال: قَذَفْتُكِ، وأنتِ مجنونةٌ، فهو كما لو قال: وأنتِ أمةٌ، ولو قال: وأنتِ صغيرةٌ وأنْكَرَتْ فالمُصدَّق القاذف بيمينه، ولا يخْفَى أن هذه الصورة لا تختص بالزوجين، وأن الكلام فيما إذا كان كلُّ واحد من الكلامين في محَلِّ الاحتمال، ولو قال لمن قذفه من زوجة وغيرها قذفتك، وكنتُ مجنوناً يوم القذف، وأنكر المقذوف وقوعه في الجنون. فطريقان: أحدهما: أنه إن عُرِف له جُنُون أو قامت عليه البينة، فقولان في أن المُصدَّق القاذف أو المقذوف؟ والقولان مبنيان عند بعضهم على القولَيْن فيما إذا قَدَّ ملفوفاً بنصفين، واختلف القادُّ ووارث الملفوف في أنه هل كان حيًّا حينئذ، وإن لم يثبت له جنون، فالمُصدَّق المقذوف؛ أخْذاً بأن الظاهر، والغالب السلامة. والطريق الثاني: أنه، إن ثَبَت له جُنُون، فالمُصدَّق القاذف، وإن لم يَثْبُت فيُصدَّق أيضاً؛ لأن الأصْل براءة الذمة، أو يصدق المقذوف؛ لأن الأصل عدم الجنون؟ فيه قولان، ويخرج من الطريقين ثلاثةُ أقوال: تصديق القاذف مطلقاً، وتصديق المقذوف مطلقاً، والفرق بين أن يُعْهد له جنون؛ فيُصدَّق القاذف أوْ لاَ يُعْهد؛ فيُصدَّق المقذوف، وهو الأصحُّ، ولو قال: قذَفْتُكِ وأنا صبيٌّ، فالصبا كالجنون المعهود، ولو قال: جرى القذف على لساني، وأنا نائم، لم يُقْبَل؛ لبعده، ولو أقام القاذف بَيَّنةً على أن القَذْف كان في الصغر أو الجنون، والمقذوفُ بينةً على أن القَذْف في حالة الكمال، فإن كانت البَيِّنتَان مطلقتين أو مؤرختين بتاريخين [مختلفين] (¬2) أو إحداهما مطلقةً، والأخرى مؤرخةً، فلا تعَارُض، وهما قذْفَان، وعليه الحد؛ لِمَا وقع منهما في حالة الكمال، وإن كانتا مُؤَرَّخَتَيْن بتأريخ واحدٍ، فهما متعارضتان، وفي صورة التَّعارُضِ أقوالٌ معروفةٌ. قال الإِمام -رحمه الله-: ولا يجري هاهنا القسْمة، ولا الوقف، وحكى عن القاضي الحُسَيْن -رحمه الله- قول القرعة، واستبعده، وقال: الوجه القطع بالتهاتر، وحينئذ، فالحكم كما لو لم تكن بيِّنة، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب"، وحيث ¬
صدَّقنا القاذف بيمينه، فلو نكل، وحلف المقذوف، وجَب الحدُّ على القاذف، ويجوز اللعان في الزوجة. [الثالثة]: إذا صدَّقته المرأة في القذف، واعترفَتْ بالزنا بعْدَما لاَعَنَ الزوْج تأكد لعانه، وحَدُّ القذف مندفع عنْه، وحَدُّ الزنا واجبٌ عليها، فإن كانَتْ قد لاعَنَتْ، فعليها حدُّ الزنا؛ لاعترافها إلا أن ترجع عن الإقرار، وإن صدَّقته قبل لعانه أو في أثناء لعانه، سَقَط عنْه الحدُّ، ووجب عليها حد الزنا، والظاهر أنه لا يُلاعِن بعد ذلك، ولا يتم اللعان، إذا صدَّقته في أثنائه إلا أن يكون هناك ولَدٌ ينفيه، وعند أبي حنيفة: إذا صدقته لم يكن له اللعان، ولزمه الولد؛ لأنه لا يصح منها اللعان مع التصديق، ولا يلزمه الحَدُّ بالاعتراف مرة واحدة، وإذا سقط لعانها، سقط لعانه، وقال الشَّافعي -رضي الله عنه- كيف تَنْفِي ولد العفيفة، وتُلْزمه ولد الزانية المُقرَّة بالزنا. [الرابعة]: إذا مات أحد الزوجين قَبْل أن يتم لعان الزوج، ورثه الآخر، ثم إن كان المَيِّت الزوْج، استقر نسب الولد، فليس للوارث نفيه، وإن كان الوارث يلحق بإقراره النسب بالمورث، فان الاستلحاق أقوى من النفي؛ ولذلك يجوز الاستلحاق بعد النفي، ولا يجوز العَكْس: وإن ماتَتْ هي، فيجوز له إتمام اللعان، إن كان هناك ولدٌ، وإن لم يكن هناك ولَدٌ، نُظِر؛ إن لم يكن لها وارث غير الزوج؛ بأن كان ابن عمر، وفرَّعنا على الأصح، وهو أن حدَّ القذف يثبت لجميع الورثة، قرب الحد فيرث ويسقط وكذا لو لم يرثها غير الزوج وأولاده منها لأن الولد لا يجوز له أن يستوفي حدَّ القذف من أبيه، وإذا سقط الحد، ولا ولد، فقد مَرَّ أنه لا يجوز اللعان لسائر الأغراض، ولو كان يرثها غيْر الزوج وأولاده، فما يرثه الزوج وأولاده يسقط، ويجيْء الخلاف فيما إذا سَقَط بعْض الحد بِعَفْوِ بعْض الورثة، إن قلنا: يسقط الكل، فكذلك هاهنا، كما لو ورث جميع الحد، وإن قلنا: للباقين المطالبةُ بجميع الحد أو بقِسْطِهم، وطلبوا، فله اللعان للدفع، وفي جواز اللعان قبل المطالبة الخلافُ السابق. [الخامسة]: عبد قذف امرأته ثم عَتَقَ، فطالبته المرأة، فله اللعان، فان نكل حُدَّ حَدَّ العبيد؛ لأنه وجب عليه في الرق، فلا يتغيَّر الواجب بانتقاله إلى الحرِّيَّة، وكذا لو زنى العبْدُ، ثم عَتَقَ، لا يُحَدُّ إلا حَدَّ العبد، والذمي إذا قَذَفَ أو زنا، ثم نقض العهد، فَسُبِيَ، واسترق، حُدَّ حَدَّ الأحرار، ولو كانت الزوجة أمةً، فنَكَلَتْ عن اللعان، فليس عليها إلا التعزير، وإن لاعن حُدَّتْ حَدَّ الإماء، وإن عَتَقَتْ بعْد القذف، وإن قذف المسلم زوجته الذمية أو الصغيرة أو المجنونة، ثم طلبت الذمية أو طلبتا بعد البلوغ والإفاقة، فإن نَكَل، فعليه التعْزير، وإن لاَعَنَ، ونَكَلَت الذمية، فعليها حدُّ الزنا، وإن نكلت الأُخرَيان، فلا شيْء عليهما.
[السادسة]: وفي "التتمة": أن الملاعن، لَوْ قَتَل الذي نَفَاه، وقلنا: يلزمه القصاص، فاستلْحقه، بحُكْم بثبوت النَّسَبِ وسقوطِ القِصَاص، وأن الذمِّيَ إذا نَفَى ولداً، ثم أسْلَم، لم يتبعه المنْفِيُّ في الإسلام، ولو مات وقسم ميراثه [بين] أقاربه الكفار، ثم استلحقه الذمي الذي أسلم، ثبت نسبه وإسلامه، واسترد المال، وصرف إليه، وأن المنفي باللعان، إذا كان قد وُلِدَ على الفراش الصحيح، لو استلحقه غيره لم يصح كما لو استلحقه قبل أن ينفيه صاحب الفراش؛ لأنه، وإن نفاه، فحق الاستلحاق باقٍ له، فلا يجوز إبطاله علَيْه، ولو كان يْلحَقُه نسبه بالشبهة أو بالنكاح الفاسد، فنفاه، ثم جاء غَيْره، واستلحقه، لَحِقَه؛ لأنه لو نازعه فيه قبل النفي، تسمع دعواه. [السابعة]: فيما جمع في فتاوى القَفَّال وغيره: أن سقوط حد القذف عن القاذف، وعدم حد الزنا على المقذوف لا يجتمعان إلا في مسألتين: إحداهما: إذا أقام القَاذِف بينة [على زنا المقذوفة، وأقامت هي بينة على] أنَّها عذراء. والثانية: إذا أقام شاهِدَيْن على إقرار المقذوف بالزنا، وقلنا: الإقرار بالزنا لا يثبت بشاهدَيْن، ففي سقوط الحد عن القاذف وجْهان، والظاهر السُّقُوط، وكان المراد ما سوى صورة التلاعن، فإن الزوجَيْن إذا تلاَعَنَا، اندفع الحدان، ولو أقام البينة على إقرار المقذوف بالزنا، سقط عنْه الحد، رجع المقذوف عن الإقرار، سقَطَ عنْه حدُّ الزنا، ولا يُقْبل رجوعه في حقِّ القاذف، فلا يلزمه الحدُّ، وهذه مسألةْ أخرَى اجتمع فيها سُقُوط حدِّ القذف عن القاذف، وعدم الحد على المقذوف (¬1). أتت زوجته (¬2) بولد، وادَّعَت أنها ولَدَتْه على فراشه، وأنكر الزوج، فقَدْ سَبَق أن القول قولُه، وعليها البينة وأنه، إن نكل، فالظاهر أن اليمين تُرَدُّ عليها، وأنها، إن نكَلَتْ، فتنتهي الخصومة نهايتها، وينقطع النسب عنه، أو توقف الأمر إلى أن يبلغ الولد، فيحلف؟ فيه وجهان، ذكر الشيخ أبو محمَّد -رحمه الله- في السلسلة أن هذَيْن الوجهَيْن ينبنيان على الوجهَيْن، فيما إذا ادَّعَى السيد أنَّه جُنِي على العبْد المرهون جنايةً ¬
تُوجب المَالَ، واستحْلَف الجاني، فنكل، ورُدَّت اليمين على الراهن، فنكل، تنتهي الخصومة نهايتها أو ترد على المرتهن لتعلُّق حقه بالعبد؟ وأن الوجهَيْن في هذه المسألة مبنيَّان على وجهَيْن فيما إذا أقرَّ الراهن بان العَبْد المرهون كان قد جَنَى قبل الرَّهْن، وادعاها المجنيُّ عليه، وأنكر المرتهن، فقلنا: إنه يُصدَّق بيمينه، فلم يحلف، وقلنا: ترد اليمين على الراهن، فنكل، فهل تُرَدُّ اليمين على المجنيِّ عليه، وأن الوجهَيْن في هذه المسألة ينبنيان على قولَيْن فيما إذا أوْصَى لأم ولده بعبد فقُبِل قبل قَسامه، ومات السيد قبل القَسَامة، ونكل وارثه عن اليمين، هل تُرَدُّ اليمين على أمِّ الولد؟ وأن القولين في هذه المسألة مبنيان على قولَيْن، في أنَّ مَنْ باع منْ إنْسَان، فأفْلس المشتري، وهي مطلعة، فاختار البائع عين ماله، وتأبرت النخلة، واختلف المتبايعان، فقال المشتري: أبرتها قبل أن فسخت العقد، فالثمرة لي، وقال البائع: بل فسخت قبل التأبير، والثمرة لي، فعرضنا اليمين على المشتري؛ ليُعْمَل بقوله، فنكل، هل ترد اليمين على الغُرَماء؟ وأن القولين في هذه المسألة ينبنيان على قولَيْن، فيما إذا مات، وعليه دين، وأقام الوارث شاهداً واحداً على دَيْن لمورثه على إنسان، ونَكَل عن اليمين مع الشاهد، هل تُرَدُّ اليمينُ على الغريم؟ وهذه سلسلة طَوَّلَها الشيخ، وقد يقال: بناء الوجهين على مسألة على قولَيْن، في أخرى معهود، فأما بناء قولَيْن في مسألة على قولَيْن في أخْرَى، ووجهين في مسألة على وجهَيُن في أخرى، فلا يكاد يترجَّح عَلَى عكسه، والله أعلم.
كتاب العدة
كِتَابِ العِدَّةِ (¬1) قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالنَّظَرُ فِي عِدَّةِ الطَّلاَقِ وَالوَفَاةِ وَالاِسْتِبْرَاءِ* أَمَّا عِدَّةُ الطَّلاَقِ فَفِيهَا بَابَانِ: ¬
الباب الأول في عدة الحرائر والإماء
البَابُ الأَوَّلُ فِي عِدَّةِ الحَرَائِرِ وَالإِمَاءِ وَهِيَ بِالأقْرَاءِ* أَوْ بِالأَشْهُرِ* أَوْ بِالحَمْلِ (النَّوْعُ الأَوَّلُ الأقْرَاءُ) وَجمِيعُ ذَلِكَ يَجِبُ لِلبَرَاءَةِ وَلَكِنْ يَكُفِي جَرَيَانُ سَبَبِ الشِّغْلِ مِنْ تَغْيِيبِ الحَشَفَةِ وَوَطْءِ الصِّبيِّ وَالخَصِيِّ* وَيَجِبُ عَلَى المُعَلَّقِ طَلاَقُهَا عَلَى يَقِينِ البَرَاءَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: العدَّةِ؛ الاسم من الأعداد، يقال: أنفَذْتُ عِدَّة كتب أي جماعة كتب، وقد يُجْعل مصدراً، وعَدَدتُّ الشَّيْءَ عدًّا، فالاسم العَدَد والعَدِيدُ، واعتدَّتِ المرأة اعتداداً، ويقال: عَدّه فاعتدّ أي: صار مَعْدُوداً، ويقال: اعتد بكذا. وفي الشريعة: العدة اسم لمُدَّة معدودةٍ تَتَرَبَّصُ فيها المرأة؛ لتعرف براءة الرَّحم. والأصّل فيها الآيات كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وقوله {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] وقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ [أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ]} وقال: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ [مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا]} [البقرة: 234] والأخبار على ما سنذكرها إن شاء الله تعالى. واعلم أن المُدَّة المستدَلَّ بمُضِيِّها على براءة الرَّحِم تتعلَّق تارة بالنكاح، ووطء الشبهة، وتشهر باسم "العِدَّة"، وأخرى بملك اليمين، إما حصولاً في الابتداء أو زوالاً في الانتهاء، وتشهر باسم "الاستبراء"، والنوع الأول ينقسم إلى: ما يتعلَّق بفرقة تحصل بين الزوجَيْن، والزوج حي؛ كفرقة الطلاق واللعان والفسوخ، وتشهر بعدة الطلاق؛ لأنه أظهر أسباب الفراق، وحكم العدة عن وطء الشبهة حُكْمُها، وإلى: ما تتعلق بفُرقة تَحْصل بموت الزَّوْج، وهو عدَّة الوفاة، فاشتمل الكتاب على ثلاثة أقسام: عدة الطلاق، وعدة الوفاة، والاستبراء. القسم الأول: عدَّة الطَّلاَق، وما في معناه؛ وإنما تجب إذا حَصَلت الفُرْقة بعْد الدخول، فإن حَصَلتْ قبْله، لم يَجِبْ، قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا]} [الأحزاب: 49] الآية واستدخال المرأة مَنِيَّ الزوْج مقام الدخول في وُجُوب العِدَّة، وكذا في ثبوت النَّسَب (¬1)، وكذلك استدخال مَاءِ مَنْ تظنُّه ¬
زوجها (¬1) يقوم مقام وطء الشبهة، ولا اعتبار بِقَوْل الأطبَّاء: إن الماء إذا ضرَبَهُ الهواء، لم ينعقد منْه الولد، فهو شيْء مقول بالظَّنِّ لا ينافي الإمْكَان وفي "التتمة" حكاية وجه آخر: أن الاستدخال لا يوجب العدَّة إعراضاً عن النظر إلى شغل الرحم وإدارة للحكم على الإيلاج، ولا تقوم الخَلْوة مقام الدُّخول في القول الجديد، على ما مَرَّ في كتاب الصَّدَاق، قال الأئمة: ولمَّا كانَتِ عدَّة الطلاق لِطَلَب البراءة، لم تجب بالفراق عن مُطْلَق النكاح، بل اعتبر جريان سبب شغل الرحم؛ ليحتاج إلى معرفة براءته، ثم لا يُعتبر تَحقُّق الشغل، ولا تَوَهُّمُه، فإنَّ الإنزال خفيٌّ يختلف في حقِّ الاشخاص، وفي الشخص الواحد باعتبار ما يَعْرض له من الأشغال، فيعسر تَتبُّعه ويفتح، فأعرض الشرح عنْه، واكتفى بسَبَب الشّغل، وهو الوطء، الوطء بتغييب قَدْر الحشفة، وهذا صنيعه في تعْلِيق الأحكام بالمعاني الخفيَّة؛ ألا ترى أن للاعتقاد الصحيح الَّذي هو المطلوب. وبه تحصل النجاة، لَمَّا كان أمراً خفيًّا؛ لكونه في الضمير، عُلِّقت الأحكام بالكلمة الظاهرة، حتَّى لو توفَّرت القرائن الدالَّة على أن الباطن يُخالِفُ الظَّاهر، كما إذا أُكْره على الإسلام بالسيف، لا يُبَالَي بها، ويدير الحكم على الكلمة، وأن مناط التكليف، وهو العقل والتمييز، لما كان خفيًّا يحصل على التدريج، ويختلف بالأشخاص والأحوال أعرضنا عن تتبعه ومعرفة كَمَالِهِ، وعلَّقنا البلوغ بالسن أو الاحتلام. إذا عُرِفَ ذلك، فلو طلَّق الخَصِيُّ زوجته بعد ما دخل بها، وجبت العدة، وإن بَعُد احتمال العُلُوق منه، على أنَّا قد ذكرنا أنَّه يلْحَقه الوَلَد على الأظْهَر، والمراد من الخَصِيِّ المسلول الخصيتين البَاقِي الذَّكَرِ، وأما مجبوب الذَّكَر الباقي الأنثيين، فلا يوجد منه الدُّخُول، فلا تجب عدَّة الطلاق على زوجته، إذا كانت حَائِلاً، فإن ظَهَر بها حمْل فقد ذكرنا في اللعان: أنه يلحقه الولد، فعليها العدة بوَضْع الحمل، والممسوح الذي لم يبق له شَيْءٌ لا يِتَصوَّر منْه دخول، ولو أتت بولد لا يلحقه على الظاهر، فلا يجبُ على زوجته عِدَّة الطلاق، ووطء الصبي، وإن كان في سنٍّ لا يولد له، يكفي في إيجاب العدة من الطلاق لأن الوطء شاغلٌ في الجملة على ما ذَكَرْنا، ولذلك لو عُلِّق الطلاق على براءة الرَّحِم يقيناً، وحصَلَت الصفة، وقَع الطلاق، ووجبت العدة، إذا كانت مدخولاً بها، ثم إن المصنِّف أودع الكلام في عِدَّة الطلاق في بابَيْن: أحدهما: في كيفية العدة في الحرائر والإماء. والثاني: في أنَّه إذا تعدَّد السبب الموجِبُ للعدة، متى تتداخل العدة، ومتى يمتنع التداخُل، وبَيَّن في صدْر الباب أن عدَّة الطلاق ثلاثة أنواع: الأقراء، والأشهر، ¬
والحمل. ولا مدخل للأقراء في عدَّة الوفاة، وإنما هي بأحد النوعين الآخرين، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالأَقْرَاءُ هِيَ الأَطْهَارَ (ح) * وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةً لَمْ يَقَعْ إلاَّ فِي الطُّهْرِ* ثُمَّ بَقِيَّةُ الطُّهْرِ قرْءٌ وَاحِدٌ وَلَوْ لَحْظَةً* وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ آخِرِ جُزْءٍ مِنَ الطُّهْرِ فَالانْتِقَالُ لَيْسَ عَلَى القَوْلِ الجَدِيدِ* وَالقُرْءُ هُوَ الطُّهْرُ المُحْتَوَشُ بِدَمَيْنِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ* فَبَقِيَّةُ طُهْرِ الصَّبِيَّةِ قَبْلَ الحَيْضِ لَيْسَ بقُرْءٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القَرْء بالفتح يُجْمع على أَقْراء وقُرُوء وأَقْرُؤ، ويقال أيضاً: قُرْء بالضم، وزعم بعضهم أن القَرْء بالفتح هو الطهر وهو الذي يجمع على فُعُول، كَحَرْب وحُرُوب، وضَرْب وضُرُوب، والقُرْء بالضم الحيْضُ، ويُجْمع على أَقْرَاء كفعل وأفعال، والصحيح أنه لا فَرْقَ بين الضم والفتح، ويقع هذا الاسم على الحيض والطهر جميعاً، والحيض هو المراد فيما روي أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لفاطمة بنت أبي حُبَيش: "دَعِي الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ" وفي قولهم: دفع فلانٌ جارِيَتَهُ إلَى ثلاثة تقرئها أي تمسكها حتَّى تحيض عنْدها، للاستبراء والطُّهْر هو المراد، بما روي أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال لابْن عمر -رضي الله عنه- وقد طَلَّق امرأته في الحَيْض "إنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ بِهَا الطُّهْرَ ثُمَّ تُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلقَةً" وقول الأعشى: ...................... ... لمَا ضَاعَ فِيهَا من قُروءِ نِسانكَا (¬1) والكناية راجعة إلى الفرقة؛ والَّذي يضيع في غيبة الزوج طُهْر المرأة، وأما الحيض، فيستوي في حال الحضور والغيبة، ويقال: أقرأت المرأة فهي مُقْرِئٌ، إذا حاضت، وأقرأت إذا طَهُرَت، وقد قيل: إن اللفظة مأخوذةٌ من قولهم: قَرَأْتُ الطَّعَامَ في الشِّدْف، وقرأْتُ الماء في الحوض، أي: جمعْتُه، وقد تُحْذَفُ الهمزة، فيقال: قَرَبْتُ المَاءَ. وزمان الطهر تجمع الدم في الرحم، وزمان الحيض تجمع شيئاً وترسل شيئاً، إِلى أن يدفع الكُلُّ، فيحصل معنى الجمع فيهما، وقيل: الأصل فيه الضَّمُّ، يقال: ما قَرَأَتْ فلانة جنيناً أي: لم تَضُمَّ رَحِمُهَا على وَلَدٍ، ومنه يسمى القرآن قُرْآناً؛ لأنه يضم السور والآيات، وهذا والجمع متقاربان، وقيل: هو مأخوذ من القرء والقارئ، وهو الوَقْت الذي يأتي فيه الشَّيْء، يقال: أَقْرَأَتْ حاجَتُكَ، أي دَنَتْ وَأَقْرَأَتِ الريح، إذا هبت لوقتها، وأَقْرَأَتِ المَرْأةُ، إذا دنا وقْتُ حَيْضَها أو طُهْرها، والقرء ذلك الوقت. ثم في كيفيَّة وقوع الاسم وجْهَان للأصحاب: ¬
أحدهما: أنه حقيقة في الطُّهْر مجازٌ في الحيض، فإن الطُّهْر هو الذي يجمع الدم في الرحم، ويحبسه، وقد قيل: إنَّه مأخوذٌ من قولهم أَقْرَأْتُ النُّجُوم إذا تأَخَّر مَطَرها، وأيام الطهر هي التي يتأخَّر فيها خروج الدم. وأصحهما: أنه حقيقة فيهما جميعاً، والوجهان مبنيَّان على أنَّه يعتبر في اللفظ خصوصُ المعنيين وأنه ليس عبارة عن المعنى المشترك بينهما، وإلاَّ كان وقوعه علَيْهما كوقوع الحَيَوان على الإنْسَان وغيره، ولم يكن حقيقةً في أحدهما (¬1)، مجازاً في الآخر، لا مشتركاً بْينَهما. هذا ما يَتعلَّق بحال اللفظ ثم المراد عنّدنا من القُرْء المذكور في القرآن، والمحسوب من العدة الأطهار، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: المراد الحَيْض، وبه الاعتداد، عن أحمد روايتان، كالمذهبين، واحتج الشافعيُّ -رضي الله عنه- بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُن [لِعِدَّتِهِنَّ]} [الآية] (¬2) والمعنى: في زمان عدتهن، وقد توضَعُ اللاَّم موْضِع "في" كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] أي في يوم القيامة، وحذف لفظ "الزمان"؛ لأن العدة تستعمل مصدراً، والمصادر يُعَبَّر بها عن الزمان، يقال: آتيك خُفُوقَ النَّجْم أي زَمَانَ طُلُوعه وإشراقَهْ، وفعَلْتُ كذا مَقْدِمَ الحَجِيج أي زمان قدومهم، وإذا كان المعنى "فَطَلِّقُوهُنَّ في زمانِ عدتهن" كانت الآية إذْناً في زمان العدة، ومعلوم أن الطَّلاق في الحيض محرَّم، فينصرف الإذْن إلى زمان الطهر، ويتصف كونه زمان الطهر بكونه زماناً للعدة، وأيضاً قد مر في أول الطلاق أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم (¬3) - قرأ "لِقَبْلِ عِدَّتِهِنَّ" وأن قَبْل الشَّيْء أوله، والطلاق المأذون فيه هو الطلاق في الطهر، فيكون ذلك أول العدة، ويروى أن الشَّافعيَّ وأبا عبيد القاسم بن سلام -رحمهما الله- تناظَرَا في القرء، وكان الشَّافعيُّ -رضي الله عنه- يقول: إنه الحَيْض، وأبو عبيد يقول "إنه الطُّهْر" فلم يزل كل واحد منهما يقرِّر قوله حتى تفرَّقا، وقد انتحل كلِ واحد منهما مذْهَب صاحبه، وتأثَّر بما أورده من الحُجَج والشواهد، وهذه الحكاية تقتضي أن يكون للشافعيِّ -رضي الله عنه- قولٌ قديم أو حديث يوافق مذهب أبي حنيفة، ثم الطهر المُفَسَّر به القرء، كيف يعتبر؟ فيه قولان: ¬
قال الشَّافعي -رضي الله عنه- في كتاب "الرسالة": المُعْتَبَر فيه الانتقال إلى الحَيْض، وهو الذي يُسمَّى قرءاً؛ أخذاً من قولهم "قَرَأَ النَّجْمُ" إذا طلع، "وقرأ" إذا غاب، وقد يقال قرأ أي انتقل من برج إلى برج، وقد يقتضي الاشتقاق وقوع الاسم على الانتقال من الحيض (¬1) إلى الطُّهْر؛ لوقوعه على الانتقال [من الطهر إلى الحيض،] وذكَرْنا شيئاً من التفريع عليه في أوَّل الطلاق. وقال أبو سعد المتولِّي: الانتقال من الحَيْض إلى الظهر لا يَدُلُّ على براءة الرَّحِم؛ فإنَّها قد تحبل من الوطء في زمان الحيض، ثم ينقطع فيها، والانتقالُ من الطهر إلى الحيض يدل على البراءة؛ لأن الغالب أن الحَامِل لا ترى الدَّم، فاعتبر الشرع هذا الانتقال، ولم يعتبر ذلك الانتقال. وقال -رضي الله عنه- في "الأم": المعتبر طهر مُحْتَوَشٌ بدمين لا مجرَّد الانتقال من الطهر إلى الحيض؛ وفي هذه المدة يحْصُل معنى الجمع والضم، وقد ذكر صاحب "التهذيب" والقاضي الرُّويانيُّ وغيرهما أن هذا الثاني أصحُّ، لكنه يخالف ما حكينا في الطلاق؛ أن أكثرهم حكموا بوقوع الطلاق في الحَال، إذا قال للتي لم تحفل: أنتِ طالق في كل قرْءٍ طلقةً مع تعلُّق الصور بهذا الأصل، ويجوز أن يجعل ترجيحه، لوقوع الطلاق لمعنًى يختص بتلك الصورة، لا لرجحان القول بأن القُرْء هو الانتقال من الطهر إلى الحيض، وإذا طلَّقها، وقد بقيت من الطهر بقية، فتحسب تلك القية قرءاً، ويجوز أن يسمى بعْض القرء مع قرءين تامين ثلاثةَ أقراء، كما يقول القائل: خرجَت من البلد لثلاثٍ مضين مع وقوع خروجه في الثالثة، وقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} والمراد شوال، وذو القَعْدة، وبَعْضُ ذي الحجَّة، ولا فرق في الاعتداد بالبقية بين أن يكون قد جامَعَها فيه، أو لم يجامعْها، ويترتب على الخلاف في أن القرء الحيض أو الطُّهْر، قِصَرُ المدَّة وطُولُها، فمن قال: إنه الطهر، قال: إذا طلَّقها، وهي طاهر، فحاضت، ثم طَهُرت، ثم حاضت، ثم طَهُرت، ثم حاضت، فقد انقضت العدة، وإن طلقها في الحيض، فهذا شرعت في الحيْضة الرابعة، انقضت العدة [و] عنْد أبي حنيفة ومَنْ قال: إن القرء الحيض، إذا طُلِّقَت في الطهر، فلا تنقضي العدة ما لم تَطْهُر من الحيضة الثالثة وَلاَ تُحْتَسَب بقية الطُّهْر قرءاً، وإذا طُلِّقت في الحيض، لم تنقض العدة ما لم تطهر من الحيضة الرابعة. واشترط أبو حنيفة مع الطهارة من الحيض أن تغتسل أو تتيمَّم عند العجز عن الماء أو يمضي عليها وقْت صلاة، إن انقطع دمها لما دون أكثر الحيض، وإن انقطع لأكثر، سَلَّم أنه لا يشترط شيْء من ذلك. ¬
وعن أحمد تفريعاً على أن القُرْء الحيض: أن العدة لا تَنْقَضِي حتى تغتسل، سواء انقطع الدم للأكثر أو لما دونه، قال الشَّافعي -رضي الله عنه-[و] (¬1) ليس في الكتاب والسنة ما يدل على اشتراط الغُسل في انقضاء العدة، وهل يُحْكَم بانقضاء العدة برؤية الدم للحيضة الثالثة أو الرابعة؟ الذي رواه الربيع والمزنيُّ: أنَّا نحْكُم به، وعن رواية البويطيِّ وحرملة اعتبار مضي يوم وليلة، وفيهما طريقان [للأصحاب:] (¬2) أشهرهما: أن المسألة على قولَيْن: أحدهما: أنه يعتبر مضيه، ليُعْلَم أنه دم حيض. وأصحهما: المنع؛ لأن الطاهر أن الذي طهر دم حيض، ولا يجب للعدة إلا ثلاثة قروء وقد رُوِيَ عن عائشة وزيْدِ بن ثابت -رضي الله عنهما- أنهما قالا: إذَا طَعَنَتِ المُطَلَّقَةُ فِي الدَّمِ مِنَ الحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ. وعن عثمان وابن عمر -رضي الله عنهما-: [أنَّها] "إذا طَعَنَتْ في الحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَلاَ رَجْعَةَ لَهُ". والثاني أن رواية الأولين محمولةٌ على ما إذا [رأت الدم على عادتها، ورواية الآخرين محمولة على ما إذا] رأته على خلاف عادتها، وإذا حكمنا بانقضاء العدة برؤية الدم، فلو لم يبلغ أقل الحيض، ولم يعد حتى مضي أقل الطهر بان خلاف ما ظَنَنَّاه، ولم تكن العدة منقضيةً حينئذ، ولحظة رؤية الدم أو اليوم والليلة إن اعتبرناهما [هل هما] من نفس العدة أو يتبين بهما انقضاء العدة، وليسا من نفس العدة؟ فيه وجهان: أصحهما الثاني، ثم في الفصل صورتان متعلقتان بالخلاف في أن القُرْء طُهْر محتَوَش بدَمَيْن، أو هو الانتقال من الطُّهر إلى الحيض: إحداهما: إذا قال: أنتِ طالقٌ في آخر طُهْرِكِ (¬3) أو في آخر جزء من أجزاء طُهْرِكِ، فهل يعتد بذلك الجزء أقراءً؟ فيه وجهان: إن قلنا: القرء الانتقال منَ الطُّهْر إلى الحيض، فقد حصل، وإن قلنا: طُهْر محتوش بدَمَيْن، لم يمض عقيب الطلاق طُهْرُ، هذا حالُهُ، ولا بَعْضٌ، فيشْتَرَط بعد الحيضة المتصلة بالطلاق ثلاثةُ أطهار كاملة. الثانية: التي لم تحض أصْلاً، قرؤها طهر أم لا؟ إن قلنا: القرء الانتقال، فَنَعْم، وإن قلنا: طُهر محتوش بدمين، فلا، وقد سبق ذكْر هذا فيما إذا قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً ¬
في كل قرء طلقة، وسيعود في العدة لغرض آخر. ونختم ما أوردناه بكلامين (¬1): أحدهما: إذا أجَدتَّ التأمل فيه، عرفت أن قولهم "القرء هو الطهر المحتوش بدمين أو الانتقال من الطهر إلى الحيض" مَا عَنَوْا به الطهر بتمامه، كما هو قضية ظاهر اللفظ؛ لأنه لا خلافَ عنْدنا في أن بقيَّة الطهر محسوبٌ قرءاً، ولكن المُرَاد به، هل يعتبر من الطُّهر المُحْتَوَش شيْءٌ أم يكفي الانتقال؟ والمكتفون بالانتقال قالوا: الانتقال وحده قرء ثم إن وجد شيء من الطهر قبْله، فقد لا يخرجونه عن الاعتبار، ويجعلونه متناولاً باسم القرء؛ ألا ترى أنهم ذكَرُوا فيما إذا قال للتي لم تحض: أنتِ طالقٌ في كل قُرْء طلقةً؛ تفريعاً على هذا القول: أنه يقع الطلاق في الحال، ولم يؤخِّروا الوقوع إلى أن تحيض للانتقال، وهذا كما أن اسمْ البَدَن يقع على الجُنَّة التي لا يَدَ لَهَا، ثم اليَدُ مِنْ سليم اليَدَيْن متناولةٌ باسم البدن. والثاني: لِيُعْلَم قوله في الكتاب "والأقراء هي الأطهار" بالحاء، والألف، ولو عُلِّم بالواو للمناظرة المحكية لم يبعد. وقوله "ولو قال: أنتِ طالقٌ في كل قرء طلقةً لم يقع إلا في الطهر" تفريع يتضح به معنى القرء، والمسألة بأحوالها مذكورةٌ في كتاب الطلاق. وقوله "ثم بقيَّةُ الطهر قرءٌ" مُعْلَم بالحاء والألف، وقوله "أنت طالق مع آخر جزء من الطهر، فالانتقال ليس قرءاً على القول الجديد" لفظ: "الجديد" محمول على "الأمّ"، و"الرسالةُ" أيضاً تُحْسَب من الجديد، والقول بأنه ليس بقرء هو القول الذاهب إلى أنه طُهْر محتوش بدَمَينْ، فلو لم يتعرض لذكر الوجهين بعْده، ولم يقل "والقرء هو الطهر المحتوش بدمين على أحد الوجهين" وقال "فالانتقال ليس قرءاً على الجديد، بل هو الطهر المُحْتَوشَ بدَمَيْنِ، فبقية طُهْرِ الصبية قبل الحيض ليس بقرء" كان حسناً مُفيداً، وكأنه قصد بالسياق الذي ذكره أن في الطهر المحتوش قولَيْن: أن القرء هو مجرَّد الانتقال منه، أو يعتبر مع الانتقال كل الطهر أو بعضه. وأما غير المحتوش، فهل الانتقال منْه مع بعضه طُهْرٌ أم لا؟ فيه وجهان: قَالَ الغَزَالِيُّ: وَعِدَّةُ الحُرَّةِ ثلاَثَةُ أَقْرَاءٍ* وَعِدَّةُ الأَمَةِ قُرْآنِ* فَإِنْ أُعْتِقَتْ فِي أَثْنَاءِ العِدَّةِ فَهِيَ كَالحُرَّةِ فِي قَوْلٍ* وَكَالأَمَة في قَوْلٍ. وَفي القَوْلِ الثَّالثِ إِنْ كَانَتْ رَجْعيَّة التْحَقَتْ بالحُرَةِ، وإِنَّ كَانَتْ بَائِنَةً فَتَعْتَدُّ بِقُرْءَيْنِ* وَلَوْ وَطِئَ أَمَةً عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا حُرَّةٌ فَعَلَيْهَا ثَلاَثَةُ أَقْرَاءٍ عَلَى أَحَدٍ الوَجْهَيْنِ* وَلَوْ وَطِئَ حُرَّةً عَلَى ظَنِّ أنَّهَا أَمَةٌ لَمْ يُؤَثِّرِ الظَّنُّ أَصْلاً. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: مسألتان: إحداهما: الحُرَّة التي تَطْهر وتحيض، تعتد من الطلاق بثلاثة قروء، والأَمَة تَعْتدُّ بقرءين عن عمر -رضي الله عنه (¬1) - أنَّه قال: "يُطَلِّقُ العَبْدُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الأمَةُ بِقُرْءَيْنِ". ويُرْوى ذلك عن ابن عمر (¬2) موقوفاً ومرفوعاً، قال الأئمة -رحمهم- الله تعالى: ومقتضى الأصول أن تعتد بقرء ونِصْفٍ؛ لأن كلَّ عددٍ يُؤَثِّر فيه الرِّقُّ بالنقصان، يكون الرقيق فيه على النصف مما عليه الحر كالحدود وعدد المنكوحات والقَسْم، إلا أن القروء لا تتبعض، فكُمِّل، كالطلاق، ووجَّهوا قولهم أن القُرْء لا يَتبعَّض، بأن القرء مُفسَّر بالانتقال نصفه أو بالطُّهْر بَيْن الدمَيْن، والانتقالُ لَيْس شيئاً يَتبعَّض، والطُّهْرُ بَيْنَ الدَّمَيْن إنَّما يظهر نصفه إذا طهر كلُّه يعود الدم، فلا بد من الانتظار إلى أن يَعُود الدَّم والمكاتبة وأم الولد [والمدبرة] في العدة؛ كالقُنَّة، وكذا مَنْ بعضها رقيقٌ، ولو وُطِئَت أمةٌ بنكاح فاسد أو بشبهة نكاحٍ اعتدت (¬3) بقرءين كما في الطلاق عن النكاح الصحيح، وإن وُطِئَتْ بشبهةِ مِلْكِ اليمين فتَسْتَبْرئ بقُرْء واحد. وإن عَتَقَتِ الأمة المُطَلَّقة في العدَّةِ، نُظِرَ؛ إن كانت رجعيَّة، فقولان: الجديد واحد القولين في القديم: أنه يجب عليها تكميل عدة الحرائر. والثاني، من قولَيِ القديم: أنَّها تقتصر على ما وجب في الابتداء، وهو قرءان، وإن كانت بائنة، فالقديم وأحد قولَي الجديد: أنها تعتد بقرءَيْن. وللثاني أنها يُكَمِّل عدة الحرائر، وإذا أطلقت، قلت فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تقنع بقرءين بائنةً كانت أو رجعيَّةً، وبه قال مالك -رحمه الله-؛ لأن الحرِّيَّة طرأت بعْد دخول العدَّة علَيْها، فلا يتغير الواجب بها. والثاني، وبه قال المزنيُّ، أنها تكمل عدة الحرائر بائنةً كانت أو رجعيةً؛ لأنه وُجِدَ سبَبُ العدة الكاملة في أثْنَاء العدَّة، فتنتقل عليها كما لو رأَت الدم في خلال الأشهر. والثالث، وبه قال أبو حنيفة وأحمد -رحمهما الله-: إن كانت رجعيةً، تكمل (¬4) عدة الحرائر، وإن كانت بائنةً، فلا؛ لأن الرجعية كالمَنْكُوحة في كثر الأحكام، فصار كما إذا عَتَقَت قبْل الطلاق، وهذا كما أن الرجْعِيَّة تنتقل إلى عدَّة الوفاة، لو مات عنها زوْجُها، والبائنة لا تنتقل، وهو أصَحُّ الأقوال، فيما ذكر صاحب "التهذيب" وجماعة. ¬
وعن أبي إسحاق الثاني -الذي اختاره المزني-، وعلى ذلك جرى المحامليُّ وصاحب "المهذب" وغيرهما: ولو طلَّق العَبْد زوْجَتَه طلاقاً رجعيًّا، فَعَتَقَتْ في العدَّة، فقد مر في خيار العتق أن لها أن تفسخ (¬1) في الحال أو تؤخر، وأنَّها إنْ فسَخَت، فتستأنف عدَّةٌ أخْرَى أوْ تُبْنَى على تلْكَ العِدَّة فيه خِلاَف يُذْكَر فيما إذا طَلَّق الرجعية طلقةً أخرى، وعن أبي إسحاق وغيره: القَطْع بأنها تبني، ويجري الطريقان فيما لو أخَّرت الفسْخَ، حتى راجعها الزوج ثم فسَخَتْ قبْل الدخول، قال في "التتمة": والمذهب أنها تستأنف؛ لأنها فسَخَت، وهي زوجه، والفَسْخ يوجب العدة، وحيث قلنا: تستأنف فتستأنف عدة الحرائر، وإذا قلْنا تبني، فتكمل عدة الحرائر أو تقتصر على عدة الإماء؟ فيه الخلافُ المذكُورُ فيما إذا عَتَقَتْ في عدتها، ولا فَسْخَ، وعن ابن أبي إسحاق: القَطْع بأنها تستأنف؛ لأن الفسْخ سَبَبٌ لانقضاء العدَّة. الثانية: [ولو] (¬2) وطئ أمةَ إنسانٍ على ظنِّ أنها أمته، قال في "التتمة": لا يلزمها إلا قرء واحدٌ؛ لأنها في نَفْسها مملوكة، والشبهة شبهةُ ملك اليمين، ولو ظنها زوجته المملوكة، حكى فيه وجهَيْن: أحدهما: أنه يجب قرء واحدٌ؛ لأنها مملوكَةٌ في الحقيقة. وأظهرهما، وبه أجاب العبَّادِيُّ: أنه يجب قرءان؛ لأن الزوجة المَمْلوكة كذلك تَتربَّص وهو يعتقدها زوجة مملوكة، وإن ظنها زوجته الحُرَّة فهذه صورةُ الكتاب، وفيها الوجهان: إن اعتبرنا اعتقاد (¬3) الرجل، فعليها ثلاثة أقراءٍ، وإلا ففي "التتمة" أنه لا يجب إلا قرء واحدٌ، وفي "الوسيط" وغيره: أنه يجب قرءان؛ لأن الزوجة المملُوكَةَ هكذا تتربَّص (¬4)، ولو وطئ حرَّةً على ظَنِّ أنها أمته المملوكة، فقد قطع قاطعون بأنه يلزمها (¬5) ثلاثة أقراء؛ لأن الظنَّ يُؤثِّر في الاحتياط لا في المساهلة، وأجرى المتولِّي الوجهَيْن، إن اعتبرنا حالها، وجب ثلاثة أقراء، وإلا، فيكفيها قرءٌ واحدٌ؛ لأن الزَّوْج يعتقد أنَّه وطئها وطْئاً لا يوجب الاستبراء، وأجرى الوجهَيْن فيما إذا ظنها زوجته المملوكة، ففي وجْهٍ: يجِبُ ثلاثة أقراء، وفي وجْهٍ قرءان، والأشبه النَّظَر إلى ظَنِّ الرجل، واعتقاده فإن العدة إنما تجب رعايةً لحقه، وأنها كانت على ظَنِّه، فكما يؤثر الظنُّ في أصل العدَّة جاز أن يؤثر الظن في صفة العدة وقدرها (¬6). ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالعِدَّة بِالأَقْرَاءِ ظَاهِرَةٌ فِي المُسْتَقِيمَةِ العَادَةِ* وَكَذَلِكَ فِي المُسْتَحَاضَةِ المُمَيِّزَةِ أَوِ الحَافِظَةِ لِلعَادَةِ* وَأَمَّا النَّاسِيَةُ فَيَكْفِيهَا ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ بِالأَهَلَّةِ فَإِنْ طُلِّقَتْ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الشَّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً فَيَكْفِيهَا بَقِيَّةُ الشَّهْرِ وَشَهْرَانِ آخَرَانِ* وَإِنْ بَقِيَ أَقَلُّ فَلاَ بُدَّ مِنْ ثَلاَثِينَ يَوْماً لِلشَّهْرِ المُنْكَسِرِ وَشَهْرَيْنِ آخَرَيْنِ* وَقِيلَ: يَكْفِيهَا شَهْرَانِ آخَرَانِ* وَقِيلَ: إِذَا انْكَسَرَ شَهْرٌ انْكَسَرَ الثَّلاَثُ فَلاَ بُدَّ مِنْ تِسْعِينَ يَوْماً* وَقِيلَ: إِنَّ عَلَى النَّاسِيَةِ الصَّبْرِ إِلَى سِنِّ اليَأْسِ* أَوْ أَرْبَعِ سِنِينَ* أَوْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ* لأَنَّ الطُّهْرَ رُبَّمَا زَادَ عَلَى أَشْهُرٍ* وَهَذَا يُسْتَمَدُّ مِنْ قَوْلِ الاِحْتِيَاطِ* وَلَكِنْ لاَ يَجْرِي هَذَا فِي الرَّجْعَةِ وَالسُّكُنَى بَلْ فِيمَا عَلَيْهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المرأة بالقِسْمة الأُولَى؛ إما أن ترى دماً أو لا تراه، إن كانَتْ تراه؛ فإما أن يكون لها طُهْرٌ وحيضٌ صحيحانِ، وإما أن تكون مستحاضةٌ، وإن كانَتْ لا تراه، فإما أن تفْقِده بسبب يُعْهَد، ويستمر كالصغيرة الَّتي لم يُفَاتِحْها الدم والآيسة، وإما أن تفْقِده، لأمر عارضٍ فهؤلاء أصنافٌ مِنَ النِّسْوة، الصنف الأول: اللواتي لهن حَيْضٌ وَطُهْر صحيحان، فيَعْتَدِدْن باقرائهن، وإن تباعد حيْضُهن، وطال طهرهن. والثاني: المستحاضات فإن كان للمستحاضة مَرَدٌّ، فتعتد بالأقراء المردود إلَيْهَا، وقد عَرَفْت في الحيض أن المعتادة مردودة إلَى عادتها، وأنَّ المميِّزة مردودةٌ إلى التمييز، وأن في المبتدأة قولَيْن: أحدهما: الرد إلى الغالب، وأصحهما: الردُّ إلى الأقل، وعلى القولَيْن: إذا مضت ثلاثة أَشْهُرٍ، فقد انقضت عدَّتُها لاشتمال كلِّ شَهْر على حَيْض، وطهر غالباً وشَهْرها (¬1) ثلاثون يوماً، والحساب من أول رؤية الدَّم، هكذا أطلق، ويمكن أن يعتبر بالأهلة على ما سنَذْكر في الناسية، وقد أشار إلَيْه مُشيرون (¬2)، وإن لم يكن لها مَرَدٌّ، وهي الناسية المتحيرة، فقد ذكرنا في الحَيْض قولين: أحدهما أنها كالمبتدأة. ¬
والثاني، وهو الأصح: أن عليها الاحتياطَ، فإن جعلناها كالمبتدأة، فتنقضي عدتها إذا مضت ثلاثة أشهر، وإن قلنا بالاحتياط، فوجهان: أصحُّهما، وهو المذكور في الكتاب، في "باب الحيض": أن الجواب كذلك كيلا تبقى معلَّقة طُولَ عُمْرها، وليس كالاحتياط في العبادات، فإن المَشَقَّة فيها لا تَعْظُم عِظَم مشقة الانتظار، والتعطيل إلى سنِّ اليأس. والثاني، عن رواية صاحب "التقريب" وغيره: أنها تُؤْمَر بالاحتياط، كما سنذكر في التي تباعد حيْضها، وعلى هذا تُؤْمر بالتربُّص إلى سن اليأس، أو أربع سنين أو تسعة أشهر، ولا نقول بامتداد الرجعة وحق السكْنَى جَمِيعَ هذه المدَّة؛ لأن الزوج يتضرَّر به، بل لا يزيد ذلك على ثلاثة أشْهُر، ويختص الاحتياط بما يتعلَّق بها، وهو تحريم النكاح، وإذا قلنا: تنقضي عدتها بثلاثة أشهر، فالاعتبار بالأشهر الهلالية، فإن انطبق الطلاق على أول الهلال، فذاك، وإن وقع في أثناء الشَّهْر الهِلالِيِّ؛ فإن كان الباقي أكْثَرَ مِنْ خمسةَ عَشَرَ يَوْماً، يُحْسَبُ ذلك قُرْءاً أيضاً وإن كان خمسة عَشَر فما دونها يحتسب قرءاً؟ فيه وجهان: أحدهما نعم لأن الغالب أنه طُهْر، وأن الحيض يكون في أول الهلال. وأظهرهما، على ما ذكره الإِمام وغيره، وبه أجاب الشيخ أبو حامد: أنه لا يُحْسَب ذلك قرءاً؛ لاحتمال أن يكون كُلُّه حيضاً، والتوجيه المذكور غير مُسلَّم، ولا معلومٍ، وعلى هذا، فقد ذكر أكثرهم أنَّ ذلك الباقي لا اعتبار به، وتدخل في العدة عنْد استقبال الهلال، فتمكث ثلاثة أشهر، وتنقضي بها عدتها، والمفهوم مما لهم من تصريح وتلويح: أن الشُّهور ليست متأصِّلة في حق الناسية، ولكن يحسب كلُّ شهر في حقِّها قرءاً؛ لاشتماله على حَيْض وطُهْر في الغالب، وأشار بعْضُهم إلى أن الشَهور أصْلٌ في حقها، كما في حقِّ الصَّغِيرة والمجنونة (¬1)، وقضية هذا أن تدخل في العدة من وقت ¬
الطلاق، وتكون كما إذا طَلَّق ذَاتَ الأَشْهُر في أثناء الشهْر الهلاليِّ، فتعد المنكسر، وتمكث شهرَيْن بالأهلة، وتتم المنكسر ثلاثين أو تَعُدّ تسعين من يوم الطلاق، على خلاف سنذكره، وعلى هذا، ينطبق قوله في الكتاب "وإن بَقِيَ أقلُّ فلا بدَّ من ثلاثين يوماً للشهر المنكسر" إلى آخره، وهذا لم أره في المستحاضة الناسية، إلا في هذا الكتاب، واعلم أن الشافعيَّ -رضي الله عنه- قال في "المختصر": فإذا أهلَّ الهِلاَل الرَّابع، انقضتْ عدَّتها، يعني الناسية، [و] في رواية الربيع -رحمه الله-: أنه قال: إذا أهلَّ الهلالُ الثالثُ، انقضَت عدَّتُها، وكذلك نُقَل عن رواية المزنيِّ في "الجامع الكبير" وللأصحاب فيهما طريقان، فالذين جعلوا الباقي من الشَّهْر قرءاً كم كان قالوا: إنه عُدَّ على رواية المزنيِّ الشَّهْر الذي وقع فيه الطلاق من الأهِلَّة؛ لأنه محسوب من الأقراء، فكذلك يُحْسَب من الأهلة، وعلى رواية الرَّبيع: لم يعدَّه من الأهلة؛ لأنَّه متقدِّمِ على وقوع الطلاق، ولا خلاف في الحقيقة، والذين شَرَطوا أنْ يكون الباقي أكْثر من خَمْسة عشر، حَمَلوا رواية المزنيِّ على ما إذا كان الباقي خمْسةَ عَشَر فما دونها، وقالوا: الذي ذكره ذَهَابٌ إلى أنه لا يُحْسَب قرءاً وتعتد بعده بثلاثة أشهر، فإذا أهلِّ الهلال الرابعُ، انقضت العدة، وحملوا رواية الرَّبِيعِ على ما إذا كان الباقي أكْثَرَ منْ خمسة عشر، فتعتد به قرءاً، وتمكث بعده شهرين، فإذا أهل الثالث، انقضت العدةُ، والشَّهرُ الَّذي وقع فيه الطلاقُ على هذه الطريقةِ غَيْر محسوب من الروايتين جميعاً، ولو كانت الناسية منقطعة الدم ترى يوماً دماً، وآخر نقاءً، فلا تنقضي عدتها ما لم يمض ثلاثة أشهر، سواءٌ قلنا بالتلفيق، أو لم نَقُلْ، والأطْهار والنَّاقصة المتخلِّلة بين الدماء لا تنقضي بها العدَّةُ بحال، وهذا قد وَقَع التعرُّض له في الحيض، وقوله في الكتاب "والعدة بالأقراء ظاهرة في المستقيمة العادة" عني بالمستقيمةِ العادةِ التي لها حَيْضٌ وطُهْرٌ صحِيحَانِ، وفي بعض النسخ "والحيض والأقراء ظاهرة" وهو قويم أيضاً. وقوله: "وكذلك في المستحاضة المميِّزة الحافظةِ للعادة" يعني أن الأمر ظاهر في حقهما أيضاً؛ لأن لهما مرداً يردان إليه حيضاً وطُهْراً. وقوله "وأما الناسية، فيكفيها ثلاثة أشهر بالأهِلَّة" يجوز أن يُعلَم قوله "بالأهلة" بالواو؛ لأنه حُكِيَ عن القفَّال وجْه: أن الناسية لو كانَتْ قد جُنَّت في الصِّغَر، ثم أفاقت
بعد البلوغ، وقد استمر بها الدَّمُ، ولا يُعرف أنه كيف كان حيضها وطهرها، يجعل ابتداءُ شهرها يوم إفاقتها، وتَعْتَدُّ من يومئذٍ ثلاثين ثلاثين، وقد ذكَرْنا هذا طرفاً منه في "كتاب الحيض". وقوله "وإن بقي أقلُّ فلا بد من ثلاثين يوماً للشهر المنكسر وشهرين آخرين" يجوز إعلامه بالواو؛ لأمرين: أحدهما: للوجه الذاهب إلى أن الباقي، وإن كان أقلَّ من خمسةَ عَشَرَ، يُحْسب قرءاً، ويكفيها معه شهران آخران. والثاني: ما ذكرنا أنه من تفرُّدَات الكتاب، وأن الذي يُوجَد لغيره تفريعاً على أن الباقي إذا كان دون خمسةَ عَشَرَ لا يُحْسب قرءاً؛ لأنها تمْكُث ثلاثةَ أشْهُرٍ بالأهلَّة بعد تلك البقية. وقوله "وقيل: إنَّ عَلَى النَّاسِية الصَّبْرَ إلَى سِنَّ اليَأْسِ" هو الوجه المفرَّع على قول الاحتياط، المقابل لقوله أولاً "فيكفيها ثلاثة أشهر بالأهلة" والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (أَمَّا) الصَّغِيرَةُ وَالآيِسَةُ فَتُعْتَدَّانِ بِالأَشْهُرِ* وَلَوْ رَأَتِ الصَّغِيرَةُ دَماً قَبْلَ تِسْعِ سِنِينَ فَدَم فَسَادٍ* وَإِنْ رَأَتْ بَعْدَ الاعْتِدَادِ بِالأَشْهُرِ لَمْ تَسْتَأنِفْ* وَإِنْ رَأَتْ قَبْلَ الفَرَاغِ اسْتَأْنَفَتْ (وَأَمَّا الأَمَةُ) فَتَعْتَدُّ بِشَهْرَيْنِ بَدَلاً عَنْ قُرْءَيْنِ* وَقِيلَ بِشَهْرٍ وَنِصْفٍ لأَنَّهُ التَّبْعِيضَ* وقيلَ بِثَلاَثِةِ أَشْهُرٍ أَخْذاً مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي أُمِّ الوَلَدِ إِذَا عَتَقَتْ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ* وَبِشَهْرٍ عَلَى قَوْلٍ بَدَلاً عَنْ قُرْءٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الصِّنْف الثالث: اللواتي لا يَريْنَ الدم لِصِغر أو يأْس يعتَدِدْنَ عن الطلاق بثلاثة أشهر، قال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] وليس المراد من الصغيرة التي لم تَبْلُغ بل التي لم تَحِضْ كما هو لَفْظ القرآن، سواء بلَغَتْ سن المحيض، أو لم تبْلُغ، وعن أحمد في إحدى الروايتين: أن التي بلَغَتْ سنَّ المحيض تتربَّص تسعة أشهر، هي غالب مدة الحمل؛ لتظهر براءة الرَّحِم، وثلاثة أشْهُر بعدها. وقوله في الكتاب "ولو رأَتِ الصَّغيرة دماً قبْل تسْعِ سِنِينَ، فدَم فَسَادٍ" لا ضرورة إلى ذكره هاهنا، فالقول في سن الحيض قد سَبَق في "كتاب الحيض"، والمذكور هاهنا هو الجواب الأصح، ويجوز أن يُعْلَم بالواو؛ للوجه الذاهب إلى أنَّ أوَّل السنة التاسعة أوَّل إمكان الحيّض، والوجه الآخر، أنَّه يدْخل وقْت الإمكان بمضي ستة أشهر منْها، والكلام في سنِّ اليأس سيأتي من بعد، ولو ولَدَتِ المرأة ولم تر حيضاً قبل الولادة ولا تقاسا بعدها، فتعتد بالشُّهور؛ لظاهر الآية أو هي كمن انقطع دمُها بلا سببٍ ظاهر؛ لأن الحَمْل لا يكون إلا لذوات الأَقْراء، فيه وجهان، وينسب الأول إلى الشيخ أبي
حامد (¬1) -رحمه الله- ثم الأشهر: معتبرة بالخلال، وعليه تَدُور المواقيت الشرعية، فلو انطبق وقوع الطلاق على أول الشهْر الهلالي، فلا إشكال، وان وقع في أثنائه، وانكسر ذلك الشهْر، فيعتبر بعده شهران بالهلال، ويكمل المنكسر ثلاثين، سَوَاءٌ كان ذلك الشهر كاملاً أو ناقصاً، وعن ابن بنْتِ الشَّافعيِّ -رضي الله عنه-: أنه إذا انْكَسَر شهْر، انكسر كل شهر؛ لأن المنكسر يتمم بما يليه، فينكسر أيضاً، والظاهر الأَوَّل، وقد مرَّ للمسألة نظائرُ، وعن أبي حنيفة: مثل ما عن ابن بنت الشَّافعي؛ والأثبت عنه: أن الشهرَيْن بعْد المنكسر، يعتبران بالهلال، ويُتَدَارك من الرابع قدْرُ ما فات من المنكسر، وإذا وقع الطلاق في أثناء النهار أو الليل، أدخل الباقي في الحساب، وعن مالك: أنه لا يَدْخُل، وتُحْسب العدة من أول الليل أو النهار، وانطباقُ الطَّلاق على أول الشهر يَظْهر فيما إذا علّق الطلاق بانسلاخ الشَّهْر أو بأول الشهر الَّذي عليه، أما التنجز فإنه، وإن ابتدأ به في أول الشهر، فإلى أن يتمَّ لفْظه، يذهب جزء من الشهر وينكسر، وقد يُصوَّر الابتداء باللفظ، بحيث يعتمد (¬2) الفراغ منه بأول الشهر، ولو اعتدت الصغيرة بالأشْهُر، ثم حاضت بعْدها، لم يجب الانتقال إلى الأقراء، ولو وجَب، لم يَحْصُل الاعتداد بالأشهر؛ لأن الغالب من كل (¬3) صغيرة الانتهاء إلى الأقراء؛ فإن حاضت قبل تمام الأشْهُر، فقد قدرت على الأصل قبل الفراغ من البدل، فتنتقل إلى الأقراء، كالمتيمم إذا وَجَد الماء في خلال التيمم، وهل يُحْسَب ما مضي قرءاً فيه وجهان: أحدهما، وبه قال ابن سُرَيْج: نعم؛ لأنه طُهْر يعقبه حيْض. والثاني، وبه قال أبو إسحاق: لا، كما أن ذات الأقراء إذا يئست قبل تمام الأقراء ¬
تعتد بثلاثة أشهر، ولا يُحْسَب ما مضى شهراً، وهذا أقرب إلى ظاهر (¬1) النصِّ، وقد تَبيَّن الخلاف على ما مَضَى أن القرء طُهْر محتَوَش بين دمَيْن أو هو مجرَّد الانتقال، هذا حكم الصغيرة والآيسة الحرتين، أما إذا كانت الأمة صغيرةً أو آيسة فبم تعتد؟، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تعتدُّ بشَهْرَيْن؛ لأن الشُّهور بَدَلٌ عن الأقراء، والأمة تعتد بقرءين، إن كانت من ذوات الأقراء، فإذا لم تكُنْ تعْتَدُّ بشهرين. والثاني: تعتدُّ بشَهُّر ونصف، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن الأصْلَ فيما ينقص بالرِّقّ من الأعداد النِّصْف، والشهر قابل للتنصيف، بخلاف الأقراء، و [صار] كما أنها تعتد عن الوفاة بشهْرَيْنِ وخَمْس ليالٍ. والثالث: أنَّهَا تعتدُّ بثلاثة أشْهُر؛ لأنَّ الماءَ لا يَظْهر أَثَره في الرَّحِم إلا بَعْد هذه المدة؛ إذِ الولد يَتَخَلَّق في ثمانين يوماً، ثم يتبيَّن الحمل بعْد ذلك، وما يتعلَّق بالطبع لا يختلف بالرِّقِّ والحرية، وهذا القول الثالث؛ يخرج من أحد قولَيْه في المستولدة، إذا أعتقت أنها تعتدُّ بثلاثة أشهر، وفيها قول آخر: أنها تعتد بشهر بدلاً عن قرء، وهو كقول الشهرين هاهنا، ولا مجال للشَّهْر والنصف، وعن أحمد ثلاث رواياتٍ؛ كالأقوال، وذكر المحامليُّ -رحمه الله- أن الصَّحيح من الأقوال: أنها تعتد بثلاثة أشْهُر، واختاره الرُّويانيُّ؛ للاحتياط، وقال: إن القياس وظاهر المذهب: الشَّهْر والنَّصْف، وعليه جمهور أهل خراسان من أصحابنا، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (فَرْعٌ) الَّتِي تَبَاعَدَتْ حَيْضَتُهَا بِرِضَاعٍ أَوْ عِلَّةٍ فَعَلَيْهَا انْتِظَارُ الحَيْضِ وَلاَ تَعْتَدُّ بِالأَشْهُرِ* وَالَّتِي لَمْ تَحِضْ أَصْلاً وَإِنْ كَبِرَتْ فَتَعْتَدُّ بِالأَشْهُرِ* وَإِنْ كَانَ الانْقِطَاعُ بَعْدَ الحَيْضِ بغَيْرِ عِلَّة فَالقَوْلُ الجَدِيدُ أَنَّهَا تَصْبِرُ إِلَى سِنِّ اليَأْسِ ثِمَّ تَعْتَدُ بِثَلاَثةِ أَشْهُرٍ* وَالقَوْلُ القَدِيمُ أَنَّهَا تَتَرَبّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ لِنَفْي الحَمْلِ ثُمَّ تَعْتَدُّ بِالأَشْهُرِ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-* وَقَوْلٌ ثَالِثٌ قَدِيمٌ أنَّهَا تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الصنف الرابع: اللواتي فَقَدْنَ الدم، على خِلاَف المعْهُود؛ لعارض، يُنْظَر فيهن، فان انقطع دمُها؛ لعلةٍ تعرف كرضاعٍ، ونفاس، ومرض وداءٍ بَاطِنٍ، فتصبر إلى أنْ تحيض (¬2)، فتعتد بالأقراء أو إلى أن تَبْلُغ سنَّ اليأس، فتعتد بالأشهر، ولا تبالي ¬
بطول مدة الانتظار، وقد روي أن حبان (¬1) بن منقذ طَلَّق امرأته طلقةً واحدةً، وكانَتْ لها [منه] بُنَيَّة صغيرة تُرْضِعها، فتباعد حيضها، ومَرِضَ حبان، فقيل له: إنَّكَ إنْ مِتَّ وَرَثَتْكَ، فَمَضَى إِلَى عُثْمَانَ وَعِنْدَهُ عَلِيُّ وَزَيدٌ -رضي الله عنه- فسأله عن ذلك فقال لِعَلِيٍّ وزَيْدٍ -رضي الله عنهما-: ما تَرَيَانِ، فَقَالاَ: تَرَى أنَّهَا إِنْ مَاتَتْ، وَرِثَهَا، وَإِنْ مَاتَ وَرِثَتْهُ؛ لأنها ليست من القواعد اللائي يئسْن من المحيض، ولا من اللائي لم يَحِضْنَ، فرجع حبان إلى أهْلِهِ، فانتزع البِنْتَ منْها، فعَادَ إلَيْها الحَيْض، فحاضَتْ حيضتين، ومات حبان قَبْل انقضاء الثالثة، فَوَرَّثَهَا عثمانُ -رضي الله عنه-. وإن انقطع لا لعلة تُعْرف، ففيه قولان: الجديد، وبه قال أبو حنيفة: أنها تصبر إلى أن تحيض، فتَعْتَدُّ بالأقراء أو تبلغ سن اليأس، فتعتد بثلاثة أشهر؛ لأنَّ الاعتداد بالأشْهُر إنما وَرَدَ في اللائي لم يَحِضْن أو يئسن وهذه خرجت عن اللائي لم يحضن، فينتظر دخولُها في اللائي يئسن، وأيْضاً، فإنها مطلَّقة ترْجو عَوْدَ الدَّم، فلا تعتدُّ بالشهور، كما لو انقطع دَمُها لِعَارض معْلُوم (¬2)، وروي أن علقمة طلَّق امرأته طلقةً أو طلْقَتَيْن، فحاضَتْ حيْضَةً ثم ارتفع حيْضُها سبعةَ عشَرَ شَهْراً، ثم ماتت، فأتى ابن مسعود -رضي الله عنه- فقال: "حَبَسَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِيرَاثِهَا"، وَوَرَّثَهُ مِنْهَا، والقديم: أنها تتربَّص زمان الحمل؛ لتعرف فراغ الرحم، ثم تعتد بثلاثة أشْهُر؛ وذلك لأن الانتظار إلى سن اليأس مما يشتدُّ ضرره؛ أما في حقِّ الزوجة، فلأنها تبقى محبوسة إلى سن اليأس، ولا يكاد يُرْغَب فيها بعْد تلك الغاية، وبتقدير أن يرغب راغبٌ، فلا يمكن تدارُكُ ما فات، ولا يعود الشباب، وأما في حقِّ الزوج؛ فلأنه يلْزَمُه النَّفَقَة، إن كانت رجعيَّة، وكذلك السُّكْنَى، على هذا، فقولان: أظهرهما، وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله-: أنها تتربَّص مدة العمل غالباً، وهي تسعة أشهر، فإذا انقضت، اعتدت بثلاثة أشهر، وهذا مذهب عمر -رضي الله عنه- وروي (¬3) أنه قال: "أيّمَا امرأة طُلِّقَتْ، فحَاضَتْ حَيْضَةً أو حَيْضَتَيْن، ثمِ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا، فإِنَّهَا تَنْتَظِرُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، فإنْ بَانَ بِهَا حَمْلٌ فَذَاكَ وَإلاَّ، اعْتَدَّتْ بِثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ وَحَلَّتْ ". والثاني: أنها تتربَّص أربع سنين لتتيقن براءة الرَّحِم، فهي أكثر مدَّة الحمْل، ثم تعتد بعده بثلاثة أشهر، وقد تجب العدة تعبُّداً مع معرفة البراءة، كما إذا علق الطلاق بوَضْع العمل، فوضعت، يلزمها العدة، وإن تَحقَّقت البراءة، فهذه ثلاثة أقوال، إذا ¬
جُمِعَت؛ جديدٌ وقديمان، ونسب أبو الفرج الزاز الأول من القديمين إلى رواية الزَّعْفَرَانِيِّ، والثاني إلى رواية البُوَيْطِيِّ، وذكر أن بعض أصحاب خَرَّج قولاً ثالثًا على القديم؛ وهو اعتبار أقل مدة الحَمْل، وهو ستة أشْهُر؛ لأنه تظهر أمارات الحمل في هذه المدة وإن لم تَلدْ، فإذا لم تظْهَر، اعتدت بالأشهر، وفي "جمع الجوامع" للقاضي الرُّويانِيِّ وغيره: أن بعض الأصحاب رَجَع عمَّا قاله في القديم صريحًا، ولْيُعْلَم قوله "تصبر إلى سن اليأس" بالميم والألف، وقوله "تَتَرَبَّصُ تسعة أشهر" و"تتربَّصُ أربع سنين" بالحاء. قَالَ الغَزَالِيُّ: فَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى القَدِيمِ فَحَاضَتْ بَعْدَ التَّرَبُّصِ وَالعِدَّةِ وَالنِّكَاحِ اسْتَمَرَّ النِّكَاحُ* وَإنْ حَاضَتْ قَبْلَ تَمَامِ التِّسْعَةِ بَطَلَ التَّرَبُّصْ وانْتَقَلَتْ إِلَى الأَقْرَاءِ* فَإنْ لَمْ يُعَاوِدْهَا اسْتَأْنفَتِ التَّرَبُّصَ وَالعِدَّةَ جَمِيعًا* وَإِنْ حَاضَتْ بَعْدَ التَّرَبُّصِ بِالتِّسْعَةِ وَلَكِنْ فِى العِدَّةِ اسْتَأنفَتِ التِّسْعَةَ وَلَكِنْ هَلْ تَبْنِي عَلَى الثَّلاَثةِ أَمْ تَسْتَأْنِفُ فِيهِ خِلاَفٌ* فَإِنْ قُلْنَا بِالبنَاءِ اسْتَكمَلَتْ ثَلاَثةَ أَشْهُرٍ بِالحِسَابِ* وَقِيلَ: يَكْفِيهَا شَهْرَانِ وَمَا مَضَى يُجْعَلُ قُرْءًا وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ البَدَلِ وَالمُبْدَلِ وَهُوَ بَعِيدٌ* وَلَوْ رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ المُدَّتَيْنِ وَقَبْلَ النِّكَاحِ فَالنَّصُّ أنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الأَقْرَاءِ* وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّ العِدَّةَ قَدْ تَمَّتْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذا الفصْل للتفريع على القديم، والذي يليه التفْريع على الجديد. أما تفريع القديم؛ فلو أن التي أمرناها التربُّص، والعدة حاضَتْ، فلها أحوال: إحداها: أن تحيض بعْد التَّربُّص والعدة، وبعد ما نَكَحت زوجاً آخر، فيستمر النكاح لِحَقِّ الثاني، ولا أثر لرؤية الدم بعْد ما ترتَّب على بدله مقصودُه، كما لو رأى المتيمِّم الماء بعْد ما صلَّي، ويُخَرَّج مما في أمالي أبي الفرجالسرخسي وجْهٌ: أنه يتبين بطلان النكاح؛ لأنها إذا حاضَتْ، تبيَّن أنها لم تكن من ذوات الأشهر. والثانية: إذا حاضَت قبل تمام التربُّص، يبطل التربُّص، وتنتقل إلى الأقراء، ويُحْسب ما مضى قرءاً، فتَضُمُّ إليه قرءين آخرين، وإنما وجَب الانتقال إلى الأقراء؛ لأنها الأصْل، وقد قَدرت عليها قبل الشروع في البَدَل، فإن لم يعاودْها الدم، ولم تتم الأقراء، استأَنَفَتْ مدة التربص؛ لتعتد بعده بالأشهر، وذلك التربُّص قد بَطَل بظهور الدم، وقال في "التتمة": إنما أَمرْناها باستئناف التربص؛ لأنَّا على هذا القَوْل لا تَعتبر اليأس، إنما تَعْتبر ظهور براءة الرَّحِم، وقد ظهرت البراءةُ وَرُؤْيَةُ الدم تولِّد ظن البراءة، والمشهور الأول. والثالثة: إذا حاضت بعد التربُّص، ولكن في مدة العدة، تنتقل إلى الأقراء كما في الحالة الثانية، فإن لم يعاودْها الدم، عاد المشهور، والمذكور في "التتمة" وإذا تربَّصت
فتبني الأشهر على ما مضى من الأشهر الثلاثة أم تستأنف الأشهر؟ فيه وجهان: أحدهما: تستأنف كما تستأنف مدة التربص. وأظهرهما: أنها تبني؛ لأن ما مَضَى من الأشهر كان من صلب العدَّة فلا معنى لإبطاله، بخلاف مدة الانتظار، وعلى هذا، ففي كيفية البناء وجهان: أحدهما، ويُحْكى عن رواية صاحب "التلخيص": أن ما مضى يُعَدُّ قرءاً؛ لأنها انتقلت منْه إلى الحَيْض، ويبقى عليها قرءان، فتعتد بدلها بشهرين (¬1) وعلى هذا، فلو حاضت مرتين، ضمت إليهما شهراً بدلاً عن القرء الثالث. وأصحهما، ويقال إنَّه المنصوص: أنها تنظر فيما مضى، وتضم إليه ما يَبْلُغ ثلاثة اْشهر، ولا تضمُّ ببعض الأشهر إلى بعْض الأقراء؛ فإنَّ المشهور بَدَل الأقراء، والواجب الواحد لا يُؤَدَّى ببعض الأصْل، وبعض البدل كما في خصال الكفَّارة، وكما في الوضوء مع التيمُّم، وهذا معنى قوله في الكتاب "وهَذا جَمْعٌ بين البدل والمبدل" وهو بعيد، هذا [على] (¬2) ما ذكره الأصحاب -رحمهم الله- فيما إذا لم يعاودْها الدم في الحالة الثانية والثالثة، ولم يقولوا: إذا لم يعد إلى مدة كذا [ويشبه أن يضبط بعادتها القديمة أو بغالب عادات النساء]. والرابعة: إذا حاضت بعد التربّص والأشهر، وقبل النكاح وجهان أو قولان: أحدهما، ويُنْسب إلى النص: أَنَّها تنتقل (¬3) إلى الأقراء؛ لأن البَدَل لم يتَّصل بالمقصود، ولم يتعلَّق بها حقُّ زوج آخر، وكان يكتفي (¬4) بالأشهر على ظن أنها لا تَرَى الدم، فقد ظهر خلافُه. والثاني: المنع؛ لأنا قد حكَمْنا بانقضاء العدَّة، فلا تُغيِّر الحكْم بما يوجد (¬5) من بعدُ، كما لو حاضَتْ بعد نكاح زوج آخر، ورجَّح القاضي الرُّويانيُّ -رحمه الله- هذا الوجْه، ونَظْم الكتاب يُشْعِر بترجيح الأول، وبه قال الشيخ أبو حامد وغيره -رحمهم الله- وعن ابْن أبي هريرة: أنها إن اعتدَّت بالأشهر بحكم الحاكم، لم يُنْتَقَضِ الحُكْم، ولم تنْتقل إلى الأقراء، وإن اعتدت بها بمجرد الفتوى، انتقلت إلى الأقراء. وأحكامُ هذه الأحوال لا تختلف بين أن تَجْعل مدة التربُّص تسعة أشهر أو ستةً أو أربع سنين. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَأمَّا إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الجَدِيدِ فَسِنُّ اليَأْسِ أَقْصَى مُدَّةِ يَأْسِ امْرَأَةٍ فِي العَالَمِ مِمَّنْ تُعْرَفُ عَلَى قَوْلٍ* أَوْ نِسَاءِ عَشِيرَتِهَا عَلَى قَوْلٍ* وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِالعَصَبَاتِ مِنَ النِّسَاءِ* وَقِيلَ: يُنْظَرُ إِلَى البَلَدِ لاَ إِلَى العَالَمِ* وَعَلَى هَذَا القَوْلِ لَوْ رَأَتِ الدَّمَ قَبْلَ مُضِيِّ الأَشْهُرِ بَعْدَ سِنِّ اليَأْسِ انْتَقَلَتْ إِلَى الأَقْرَاءِ* فَإِن لَمْ يُعَاوِدْهَا فَتَسْتَأنفُ (و) الأَشْهُرِ قَطْعًا لأَنَّ المَطْلُوبَ اليَقِينُ* وَهَلْ عَلَيْهَا تِسْعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ أَرْبَعُ سِنِينَ لِلتَّرَبُّصِ إِذْ زَالَ اليَأْسُ بِالحَيْضِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ* وَالأَصَحُّ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ* أَمَّا إِذَا رَأَتْ بَعْدَ الأشْهُرِ فَلاَ يُؤَثِّرُ عَلَىٍ قَوْلٍ* وَيُؤَثِّرُ عَلَى قَوْلٍ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ النِّكَاحِ* وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ قَبْلَ النِّكَاحُ يُؤَثِّرُ وَبَعْدَهُ لاَ يُؤَثِّرُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: التفريع على الجديد: يُتبيَّن غرضه بمسألتين: إحداهما: النظر في سِنِّ اليأس إلى جميع النساء أو بعضِهن؟ فيه قولان: أحدهما: أنه يُنْظر إلى جميعهن، فتعتبر أقْصَى مدة يأس النِّساء فَتُؤْمَرُ بالتربُّص إليه؛ احتياطًا وطلبًا لليقين. قال الإِمام -رحمه الله-: ولا يمكن طوف (¬1) العالَمِ والفحص (¬2) عن سكانه، وإنما المراد ما تبلغ خبره، ويعرف؛ وعلى هذا القول: الأشْهَر أن سن اليأس اثنان وستُّون سنةً، وفي "اللطيف" لأبي الحسن بن خيران وغيره وجهان: أحدهما: أن سن الياس ستون سنة. والثاني: خمسون. وذكر أبو الفرج السرخسي أن المرأة، إنما تَبْلُغ سن الياس، إذا جاوزت تسعين سنةً، وحُكِيَ أن امرأة حاضت لِتِسْعين سنَةً. والقول الثاني: أنَّ النَّظَر إلى بعْضِهن، وعلَى هذا فالمَشْهور، ويُحْكَى عن نصه في الأم: أنه يُنْظر إلى يأس نِسَاء عشيرتها منَ الأبوين؛ لتفاوتهن في الطَّبْع والخُلُق والخَلْق ونزوع بعضهم إلى بعض، فإذا بلغت السن التي ينقطع فيها حِيَضُهن، ولم تر دَمَاً، فقد بلغَتْ سنَّ اليأس، وحُكِيَ وجهان آخران: أحدهما: أن الاعتبار بنساء العَصَبَات؛ كمهر المثل، إلا أن مَهْر المثل يتعلّق بالرغبات، والنسبُ من أركان الرغبة، فاختص مهْر المثل بالعصبات، وهاهنا بخلافه. والثاني: أن الاعتبار بنساء البَلَد؛ لأن للأهوية تاثيرًا في الأمزجة وتفاوت الطباع، ¬
ونَظْمُ "التهذيب" يُشْعِر بترجيح القول الثاني؛ وهو أن الاعتبار بنساء العشيرة، وإيرادُ أكثرهم يقتضي ترجيح الأول، وفي "جمع الجوامع" للرُّويانيِّ: أن أبا إسحاق قال: لعله أصحُّ القولَيْن، ويذكر أن القولَيْن في الأصل مبنيان على أنَّه يُرَاعَى اليقينُ أو الغالب؛ إن اعتبرنا اليقين، تفحَّصنا حال النساء كلِّهن، وإن اكتفينا بالغَالِب، كفى النظر إلى النسوة اللاتي تقاربهن، وأما إذا قلنا بالقول الثاني، فالغالب من نساء العَجَم أن لا يَحِضْنَ بعْد خمسين سنةً، ومن نساء العَرَب أن لا يحِضْنَ بعد ستين، وقيل: إن العربيَّة لا تحيض إذا بلَغَتْ ستين سنةً إلا أن تكُون قرشيَّةً. ويجوز أن يُعْلَم قوله في الكتاب "أقصى مدة بأس امرأة في العَالَم" بالواو؛ لأن عن أبي علي الطَّبَرِيِّ تخريجَ وَجْه: أنه يُعتبر سنُّ اليأس غالباً، ولا يُنْظَر (¬1) إلى الأقْصَى، كما يعتبر في المستحاضة المبتدأة إلى ذلك الغَالِب في قَوْل. المسألة الثانية: لو رأت الدَّم بعْد سن اليأس، نُظِرَ؛ إن رأته قبْل تمام الأشْهُر، فينتقل (¬2) إلى الأقراء؛ لأن ما تراه حيضٌ، ولا اعتداد بالأشهر مع الأقراء، وما مضى يُحْسَب قرءًا بلا خلاف، فتَضُمُّ إليه قرءين آخرين. واعلم أنا إذا اعتبرنا أقصَى سن اليأس في العالَمِ، وبلغت ذلك السنن؛ ثم رأت الدم، فيصير أقْصَى السن الَّتي رأَت الدَّم فيها، ويعتبر بعد ذلك غيرها بها، وإن لم يعاودْها الدم، فيرجع إلى الأشْهُر، وهل تؤمر بالتربص بتسعة أشهر أو أربع سنين قبل الأشهر؟ ذُكِر فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ استظهارًا واحتياطًا، والأصح: المنع؛ لأنَّها قد بلَغَتْ سنِّ اليأس (¬3)، والدمُ العارض قد زَالَ، فعاد ظن اليأس، وحينئذ، فلا حاجة إلى التربص، وفي "التتمة" أنها تعتدُّ بشهرين بدلاً من قرءين، والذي صحَّحه الأئمة، وحكَوْه عن القفَّال وغيره: أنها تعتدُّ بثلاثة أشهر تستأنفها ولا تبني، ولا يَجِيْء فيه الخلاف المذكور: أنها تبني أو تستأنف تفريعًا على القديم، وفرَّقوا بأنا على القديم نَكْتَفِي بالظن الغالب، وفي الجديد: يطلب اليقين أو القرب منه، وإذا رأت الدم، بَطَل ما ظنَنَّاه من اليأس، وبَطَل ما ترتَّب عليه من العدة، فوجب الاستئناف، وليس هذا على الخلاف في أنها هل تُؤْمر بالتربُّص إن قلنا: لا تُؤْمَر به، فلا بد من إكمال ثلاثة أشهر؛ لأن ما دون ثلاثة ¬
أشهر لا يدل على البراءة، وإنما اكتفينا بالبناء على أحد الوجهين؛ تفريعًا على القديم؛ لأنه قد مضت مدة العمل عقيب الإقراء، ووجد ما يدل على البراءة، فجاز أن لا يستانف، وهاهنا بخلافه، وإن قلنا تؤمر بالتربص، فيشبه أن يجيْء في البناء والاستئناف الخلاف المذكور في التفريع على القديم، وإن رأت الدم بعْد تمام الأشهر، فإن لم تنكح بعْد، ففيه قولان: أحدهما: أنها لا تنتقل إلَى الأقراء لانقضاء عدتها في الظاهر بالأشهر، وصار كما إذا رأت الصغيرةُ بعد الأشْهر دماً. وأصحُّهما: الانتقال؛ لأنه تبيَّن أنها ليست من اللاتي يئسْن، فتكون من ذوات الأقراء، وتخالف الصغيرة، فإنها تعتدُّ بالأشهر من حيث إنها لم تحض، ورؤية الدم لا تمنع صدْق القول، بانها لم تحض، وقرَّب القفَّال وغيره هذا الخلاف من الخلاف فيما إذا أناب المعضوب فشفى، أو رأَوْا سوادًا، فظَنُّوه عَدُوًّا، وصلَّوْا صلاة شدة الخوف، فبان خلافه، وإن كانت قد نكحت، فطريقان: أحدهما: أن القولَيْن يَطَّردان، فإن قلنا: تنتقل إلى الأقراء، تبيّن بطلان النكاح. والثاني: وهو الذي أورده صاحب "الشامل" و"التتمة" في كتابهما: القطع بعدم الانتقال؛ لِتعلُّق حق الزوج والشروع في المقصود كالمتيمم إذا رأى الماء بعد الشروع في الصلاة، وإذا أطْلَقْتَ، قلتَ: في المسألة ثلاثة أقوال، كما في الكتاب. ثالثها: الفرق بين مَا إذا نُكِحت أو لم تُنْكح، وهذا أشبه بالرُّجْحان على ما يدل عليه كلام أكثرهم، وفي "التهذيب": أن الصحيح [لزم الانتقال] بكل حال، وإذا عرفت ما ذكرنا، أعلمت قوله في الكتاب "فتستأنف الأشهر قطعاً" بالواو، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (النَّوْعُ الثَّالِثُ) هُوَ العِدَّةُ بِالحَمْلِ فَإِنَّ النَّوْعُ الثَّانِيَ هُوَ الأَشْهَرُ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ* وَلانْقِضَاءِ العِدَّةِ بِهِ شَرْطَانِ: (أَحَدُهُمَا): أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ ممن مِنْهُ العِدَّةُ أَوْ يُحْتَملُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ كَوَلَدَ اللِّعَانِ* أَمَّا المَنْفِىُّ قَطْعًا كَوَلَدِ الصَّبيِّ وَالمَمْسُوحِ (ح) فَلاَ تَنْقَضِي (ح) العِدَّةُ بِهِ* وَلَوْ أتتْ زَوْجَةُ البَالِغِ بِوَلَدٍ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لاَ يَلْحَقُهُ وَلَكِنْ يَنْقَضِي العِدَّةُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لاحْتِمَالِ جَرَيَانِ وَطْءِ الشُّبْهَةِ قَبْلَ النِّكَاحِ* وَلاَ تَنْقَضِي (ح) عَلَى وَجْهٍ لأَنَّهُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا* وَعَلَى ثَالِثٍ لَوِ ادَّعَتْ وَطْءَ شُبْهَةٍ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا لأَنْ القَوْلَ فِي العِدَّةِ قَوْلُهَا* وَإِنْ نَكَحَ (م) حَامِلاً مِنَ الزِّنَا وَهِيَ تَرَى الأَدْوَارَ وَقُلْنَا: إِنْهَا حَيْضٌ فَفِي انْقِضاءِ العِدَّةِ بِهِ وَجْهَانِ لأَنَّ حَمْلَ الزِّنَا كَالمَعْدُومِ فِي حَقِّ العِدَّةِ وَالتَّحْرِيمِ (م). قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد مر أن عدة الطلاق ثلاثة أنواع: الأقراء، والأشهر، ووضع الحمل. ثم إن صاحب الكتاب لمَّا شرع في النوع الأول، وهو الأقراء، واندفع في ذِكْر
أصناف النسوة وأحوالهن في الحَيْض والطُّهر تأدى ذلك إلى القول في الأشهر وكيفية الاعتداد بها، ويولج النوع الثاني في الأول. أما الثالث: فوضع الحمل أحد أسباب انقضاء لعدة، قال الله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ويشترط في انقضاء العدة بالحمل شرطان: أحدهما: أن يكون الحْمل منسوبًا إلى مَنْ العدة منه إما ظاهراً وإما احتمالاً، فالأول: ظاهرٌ، والثاني: كالولد المنفي باللِّعان، وإذا لاعن عن الحامل، ونفى الحَمْل ثم وضعته، انقضت عدتها به، وإن انتفى الولد في الظاهر؛ لأنه يمكن أن يكون الأمر كما تزعمه، والقَوْل في العدة قول المرأة إذا تحقَّق الإمكان، أما إذا لم يُتصوَّر أن يكون الولد منه، كما إذا مات الصبيُّ الذي لا ينزل، ولا يجامع، وامرأته حاملٌ، لم تنقض عدَّتها بوضع الحمل، بل تعتد بالأشهر، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: إن مات، وحملها ظاهر، انقَضَتْ عدتها بوَضْع الحَمْل، وإن ظَهَر الحمل بعْد موته لم تنقض العدة. لنا: أنه منفيٌّ عنه يقيناً، فأشبه ما سلمه. والممسوح الذي لم يتق ذكره وأنثياه، لو مات وامرأته حاملٌ لم تنقص عدتها بالوضع؛ بناءً على ما مَرَّ أنه لا يلْحَقه الولَدُ في ظاهر المَذْهب، وعن أبي بكر الصيرفي والإصطخري: أنه يلحقه الولد، وهو جواب القفَّال، ويُحْكَى ذلك قولاً للشافعيِّ -رضي الله عنه-، وقد قدمنا ذكْره، وعلى ذلك القول تنقضي عدَّتها بالوضّع، والمسلول الخصيتين الباقي الذَّكَرِ كالفحل في لحوق الولد على الظاهر، فتنقضي العدة عنه بالوضع سواء في ذلك عدة الوفاة والطلاق. وفيه وجه: أنه لا يلحقه الولد، فعلى ذلك الوجه لا تنقضي العدة، وعن حكايته القاضي أبي الطيِّب وجه: أنه إن كان مسلول الخصية اليمنَى، لا يلحقه الولد، وإن بقيت اليسرى؛ لأنه يقال: إن الماء من الخصية اليُمْنى، والشَّعْرُ من اليسرى، ونقل القاضي الرُّويانيُّ -رحمه الله- في "جمع الجوامع": أنه كان الإِمام أبو بكر بْن الحدَّاد فقيد الخصية اليمنى، وكان لا يُنْزِل، وكانت لحيته طويلةً، وهذا شيء لم يعتمده الأكثرون. والمجبوب الذكر الباقي الأثنيين، قد تقدَّم أنه يلحقه الولد، فتعتد امرأته عن الوفاة بوَضْع الحمل، ولا تجب عدة الطلاق عليها؛ لأنها إنما تجب بعْد الدخول، ولا يُتصوَّر منْه (¬1) دخول. ¬
ومَن مات عن زوجته أو طَلَّقها، وهي حامل بولد، [لا]، يمكن أن يكون منه؛ بأن وضَعَتْه لدون ستة أشهر مِنْ يوم النكاح أو لأكثر، وبين الزوجين مسافةٌ لا يُقْطَع في تلك المدة، فلا تنقضي العدة به، كما ذكرنا في وجْه الصبي؛ لأنه (¬1) ليس منه، هذا هو الظاهر، ولم يورد غيره الأكثرون، وأورد في الكتاب فيه وجهَيْن آخرَيْن: أحدهما: انقضاء العدة؛ لاحتمال أنه جرى وطء شبهة قبل النكاح، فيكفي في انقضاء العدة به قيام الاحتمال، كما في المنفي باللعان. والثاني: أنها إن ادعت وطء شبهة، حكَمْنا بانقضاء العدة؛ لأن القوْل في العدة قولُها، إذا حصل الإمكان، ولم يذكر في"الوسيط" و"البسيط" الوجهين في صورة الكتاب، لكن ذكر الوجوه الثَّلاثة فيما إذا قال لامرأته: إذا ولَدَتِّ، فأنت طالق، فولدَتْ، وشرعت في العدة، ثم ولدَتْ بعْد ستة أشهر ولداً آخر. والثالث الفرق بين أن تدعي وطئًا محترمًا من الزوج بعْد الولادة الأولى، فتنقضي العدة أو لا تدعي، فلا يحكم بانقضاء العدة، فإذا قلنا بظاهر المذهب، فإنْ كان الحَمْل الذي وضعته ملحقًا بغيره بوطء شبهة أو في عقدٍ فاسدٍ، انقضت عدة الوطء بوضْعه، وتعتد عن الزوج بعْد ذلك، وإن كان مِنْ زنا، فتعتد عدة الوفاة من يَوْم الموت أو عدة الطلاق مِنْ يوم الطلاق، وتنقضي الأشهر مع الحَمْل في عدَّة الوفاة؛ وفي عدة الطَّلاق إذا كانت المرأة منْ ذوات الأشهر وإن كانت من ذوات الأقراء، فإن لم تر الدم أو قلنا: ما تراه الحامل ليس بحيض، [فكذلك] وإن كانت تراه، وقلنا: إنه حيض، ففي انقضاء العدة بأطهارها، وهي حامل، وجهان: أحدهما: لا تنقضي؛ لأنها لا تدُلُّ على براءة الرحم، والعدَّة ما تدل على البراءة، وأظهرهما: الانقضاء؛ لأن حمْل الزنا كالمعدوم في إثبات التحريم وإيجاب العدة، فلا تمنع العدة، وعلى هذا، فلو زنت في عدة الطلاق أو الوفاة، وحبلت من الزنا، لم يَمْنَغْ ¬
ذلك انقضاءَ العدة، ولو كان الحْمل مجْهولَ الحال، حُمِل على أنَّه من زنا؛ قال الرُّويانِيُّ في "جمع الجوامع" (¬1) ويجوز أن يُعْلَم لفظ "الممسوح" من الكتاب بالواو؛ للوجه الذي بيناه. وقوله "فلا تنقضي العدة" بالحاء، وكذا قوله في مسألة البالغ "ولا تنقضي على وجه" لأن أبا حنيفة -رحمه الله- قال في مثل قوله في امرأة الصبيِّ. وقوله "وإن نكح حاملاً من الزنا" صَحَّ، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنها ليست في نكاح ولا عدة من الغير. وعن مالك خلافه، ثم إذا نكحها، فهل لَهُ وطْؤها قبْل الوضع؟ ذهب ابن الحدَّاد إلى منْعه، وبه قال أبو حنيفة؛ لما رُويَ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم (¬2) - قال: "لاَ تَسْق مَاءَكَ زَرْعَ غَيْرِكَ" والظاهر جوازه؛ لأنه لا حُرْمة لحَمْل الزنا ولو منع الوطء، لمنع صحة النكاح كوطء الشبهة، ويجوز أن يُعْلَم قوله "والتحريم". قَالَ الغَزَالِيُّ: (الشَّرطُ الثَّانِي) وضْعُ الحَمْلِ التَّامِّ فَلاَ تَنْقَضِي العِدَّة بِوَضْعِ أَحَدِ التَّوْءَمَيْنِ* وَأَقْصَى المُدَّةِ بَيْنَ التَّوْءَمَيْنِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ* وَلاَ تَنْقَضِي بِانْفِصَالِ بعْضِ الوَلَدِ بَلْ هُوَكالجَنِينِ فِي الأَحْكامِ كُلِّهَا* وَقِيلَ: هُوَ كَالمُنْفَصِل إِلاَّ فِي العِدَّةِ* وَلاَ تَنْقَضِي بِإِسْقَاطِ العَلَقَةِ* وَتَنْقَضِي إِذَا ظَهَرَتِ الصُّورَةُ وَالتَّخْطِيطُ وإنْ خَفِيَ* وإنْ كَانَ لَحْمًا فَالنَّصُّ أَنَّ العِدَّةَ تَنْقَضِي بِهِ* وَلاَ تَجِبُ بِهِ الغُرَّةُ* وَلاَ يَحْصُلُ بِهِ الاسْتِيلاَدُ* وَقِيلَ قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا وضعَتِ الحمل بتمامه على ما قال تعالى: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ويتعلَّق بذلك صور: إحداها: لو كانت حاملاً بتوءمين، فإنما تنقضي العدة، إذا انفصل الثاني بتمامه، حتى لو كانت رجعيَّة، وولدت أحدهما، فله الرجعة إلى أن تلد الثاني، ومهما وقَع بيْن ¬
الولدَيْن ستة أشهر فصاعدًا، فالثاني حمْلٌ آخر، وإنما يكون الولدان توءمين، إذا كانت المدة بينهما دون ستة أشْهُر أو وُلِدًا معاً، وقوله في الكتاب: "وأقصى المدة بين التوءمين ستة أشهر" فيه اختلال؛ فإن هذه المدة: مدة أقل الحمل، وإذا تخلَّلت ستة أشهر، كان الثاني حملاً آخر، والشرط أن يكون المتخلِّل أقلَّ من ستة. الثانية: لا تنقضي العدَّة بخروج بعْض الولد؛ لأنه لا تَحْصل به براءة الرحم ولا وضْع الحمل، وإذا خرج بعضُه منفصلاً أو غير منفصل، ولم يخرج الباقي، بقيتِ الرجعة في الرجعية، ولو طلَّقها، يقع الطلاق، ولو مات أحدهما، ورثه الآخر، وكذلك تبقى سائر أحكام الجنين في الذي خرج بعْضه دون بعض؛ كنفي توريثه وسراية العتق إليه من الأم، وعدم إجزائه عن الكفَّارة، ووجوب الغُرَّة عند الجناية على الأم، وتبعته الأم في البيع والهبة وغيرهما. وفي وجْه: إذا صَرَخ واسْتَهَلَّ، كان حكمه حكم الولد المنفصل في جميع ما ذكَرْنا، إلا في العدة؛ فإنها لا تنقضي إلا بفراغ الرَّحِم، وُينْسَب هذا إلى القفَّال -رحمه الله- في "البسيط"، وهو منقاس، وان كان بعيدًا عن المذهب، وسيعود ذكْر هذا الخلاف في غرة الجنين. الثالثة: تنقضي العدة بانفصال الولد حيًّا أو ميِّتاً، ولا تنقضي بإسقاط العَلَقة والدم (¬1)، فليس ذلك بولد، ولا يُتَيَقَّن أنه أصْل ولد، ولا يكاد يسمى حَمْلاً، ولو أسقطت قطعةً، فلها أحوال. إحداها: أن يظهر فيها شيْء من صور الآدميين وخلقتهم؛ كيد وأصبع وظفر وغيرها، فتنقضي العدة به، ولو سَقَط مثْل هذا اللحم بجنايةِ جَانٍ، وجَبَت الغرة والكفارة، ولو أسقطت الأمة مثْلَها من سيدها، صارت أُمَّ ولَدٍ له. والثانية: إذا لم تَظْهر الصورة والتخطيط لكل أحد، ولكن قالت القوابل وأهل الخبرة من النساء: إنَّ فيه صورةً خفيةً، وهي بينة لنا، وإن خفيت على غيرها، فتُقْبَل شهادتهن، ويحكم بانقضاء العدة وثبوت سائر الأحكام أيضاً. ويقال: إن الإصطخريَّ أتى بسقط على هذه الصفة (¬2)، فلم يحكم بثبوت الاستيلاد، فجاءت القوابل فَصَبَبْنَ عليه ماءً حارًا وغسلنه، فظهرت الصورة. والثالثة: إذا لم تكن فيه صورة ظاهرة ولا صورة خفية تعرفها القوابل، ولكنهن ¬
قلْن: إنَّه أصل آدمي، ولو بقي، لتصوَّر؛ وتخلَّق، فقد نص الشافعيُّ -رضي الله عنه (¬1) - على أن العدة تنقضي به [في الحال،] (¬2) ونص في الجنايات على أنه لا تجب فيه الغرَّة، وأشعر كلامه في أُمَّهات الأولاد بأن الاستيلاد لا يثبت به، وللأصحاب -رحمهم الله- طرق: أحدها: إثبات قولَيْن في الصور بالنقل والتخريج: أحدها: أنَّه تنقضي العدَّة، وتجب الغرة، ويحصل الاستيلاد؛ لأن القوابل شهِدْن بأنه أصْل الولد، فأشبه ما إذا شَهِدْن بالتخطيط، وقد رُوِيَ عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "كَيْفَ تُتْبِعُهُنَّ وَقَدْ خَالَطَتْ لُحُومُنَا لُحُومَهُنَّ وَدِمَاؤُنَا دِمَاءَهُنَّ (¬3) وإذا أسقطت بهذه الصفة سقطًا، فقد حصلت المخالطة". والثاني: لا يثبت شيْء من هذه الأحكام؛ لأنها منوطة بالولدِ، واسمُ الولد لا يقع عليه، فصار كما إذا ألقت عَلَقَةً. والثاني: تقرير النصَّيْن، والفرق أن الأصل براءة الذِّمَّة، فلا تجب الغرة إلا عند تيقُّن الولدِ، وأمومةُ الولد إنما تَثْبُت تبعًا، وأما العدة فإنها لبراءة الرحم، فإذا ألقته حصلت البراءة. والثالث: القَطْع بأنه لا يتعلَّق به شيْء من هذه الأحكام، وحمل نصُّهُ في العَدَّة على ما إذا كانت فيه صورةٌ خفيةٌ وتخطيطٌ دقيقٌ. والرابع: القطْع بتعلُّق جميع الأحكام به، وحمل المَنْعُ على ما إذا لم يُعْلَم أنه مبتدأ خلق آدمي، وإذا شكَّت القوابل في أنه لحم آدمي أم لا، فلا خلاف في أنه لا يَثْبُت [شيْء] (¬4) من هذه الأحكام، والأصح من الطرق عند صاحب "التهذيب" الطريقة الثالثة، ويشبه أن تُرَجَّح طريقة القولين، وأن يقال: الأظهر انقضاء العدة (¬5) وعدم الاستيلاد، وكذلك ذكره أبو الحسن بن خيران في "اللطيف" والقاضي الرُّويانيُّ وإبراهيم المروزي. ¬
ولو اختلف الزوجان، فقالت الزوجة: كان السقْط الذي أسقطته بحيث (¬1) تنقضي به العدة بوضعه، وأنكر الزوج، وقد ضاع ما أسقطته، فالقول قولها؛ لأنها مؤتمنة في العدَّة. وقوله في الكتاب: "وتنقضي إذا ظهرت الصورة والتخطيط وإن خفي" أي إذا ظهرت لأهل الخبرة، وإن خفيت على سائر الناس. وقوله "وإن كان لحمًا" إلى آخره، المراد باللحم الذي يشهد القوابل بأنه أصْل آدمي. قَالَ الغَزَالِيُّ: (فُرُوعٌ: الأَوَّلُ) المُرْتَابَةُ بِالحَمْلِ بَعْدَ الأَقْرَاءِ لِثِقَلِ بَطْنِهَا لاَ تُنْكَحُ إنْ ظَهَرَ الأثَرُ* وَمجَرَّدُ الشَّكِّ لاَ يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ* وَقِيلَ يُخَرَّجُ عَلَى قَوْلَيْ وَقْفِ العُقُودِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا كانَتْ تعتدُّ بالأقراء أو الأشهر، فظَهَر بها حمْلٌ من الزوج، فتعتد بوَضْع الحمل، ولا اعتبار بما مَضَى من الأقراء والأشهر؛ لأنهما إنما يدلان (¬2) على البراءة ظاهراً، ووضع الحمل يدل عليها قطعًا، وإنما يكتفي بالظاهر بَدلاً عن القَطْع المطلوب؛ لتعذُّر تحصيله، فإذا قَدَرْنا على الأصْل، بطل البدل، وإن لم يَظْهر الحمل بأمارة، ولكنها ما كانت [ترتاب؛] (¬3) لثقلٍ وحركةٍ تجدهما (¬4)، فيُنْظَر؛ إن كان ذلك قبل تمام الأشهر أو الأقراء، فليس لها أن تنكح بعد تمامها حتى تَزُول الريبة، ولو نكحت، كان النكاح باطلاً؛ للتردُّد في انقضاء العدَّة، وإن عرضت الريبة بعْد تمام الأقراء والأشهر، فإما أن تَعْرض بعدما نكحت زوجًا، فلا يُحْكم ببطلان النِّكَاح؛ لحكمنا بانقضاء العدة ظاهرًا، وتعلُّق حق الزوج الثاني، لكن لو تحقَّقنا كونها حاملاً يوم النكاح؛ بان ولدَتْ لأقل من ستة أشهر من يوم النكاح تبيَّن بطلان النكاح، وإن ولدت لستة أشهر فصاعدًا، فالولد للثاني، والنكاح مستمرُّ، وإمَّا أن يعرض قبل أن تنكح زوجاً آخر، فالأَوْلَي أن تصبر (¬5) إلَى زوال الريبة، فإن لم تفعل، ونكحت، فقد قال في "المختصر". والأم: هو موقوف، إن بان أنَّها حائل (¬6)، بان صحته وإن بان الحَمْل، بان بطلانه في الحال؛ لأنَّا قدْ حكمنا بانتهاء العدة بالاجتهاد، فلا ينقض الحكم بمجرَّد الشك، وحمَلُوا نصَّ البطلان على ما إذا ارتابَتْ في أثناء الأقراء والأشهر ونكحت قبل زوال الريبة. والثاني: أن في المسألة قولَيْن (¬7)، واختلف الصائرون إلَيْه، فمنهم من قال: هما ¬
مبنيان على القولَيْن في وقْف العقود، إن قلنا: إن العُقُود لا توقف؛ فالنكاح باطل، وإلا، فينعقد موقوفاً، قال الشيخ أبو عليٍّ: وهذا فاسدٌ؛ لأن العُقُود لا تُوقَف على الجديد، والقول بالوقف هاهنا منقولٌ عن الجديد. ومنْهم من بناهما (¬1) على الخلاف فيما إذا باع مال أبيه، على ظَنِّ حياته، فبان موته، هل يَصِحُّ البيع؟ أو على القولين في أن مَنْ شَكَّ في عدد الركعات بَعْد الفراغ من الصَّلاة، هل يؤمر بالتدارك؟ ويُحْكَي هذا عن القفَّال. والثالث: عن ابن سُرَيْجٍ: أن رواية المزنيِّ محمولةٌ على ما إذا حدَثَت الريبة بعدما انقضَتِ الأقراء، ونكحت، فلا يبطل النكاح، ويتوقَّف الزوج عن الوطء إلَى أن يتبين الحال، فأمَّا إذَا نكحت والريبة حاصلةٌ، فلا يَصِحُّ النِّكَاح؛ لأنَّها لا تدري أعدتها بالأقراء أو الأشهر؟ وقد حلت بمضيها أو بوضْع الحمل، ولم تحلَّ، فلا تنكح إلا بيقين، قال ولو قلنا بصحة هذا النكاح، لجعلناه موقوفًا، والعقود لا تُوقَف على أصْل الشَّافعي -رضي الله عنه- في الجَدِيد، وأجيب عنْه: بان المذكور في الجديد هُوَ التوقف في الانعقاد ابتداءً، وقد تخلَّف شرط الصَّحة إلى أن يوجد ذلك الشَّرْط، كالوقف على إجازة المالك، وهاهنا لا يتوقَّف في الانعقاد، بل يُحْكم بأن النكاح منْعَقِدٌ؛ بِناءً على الظاهر، ثم إن بان خلافُه غَيَّرْنا (¬2) الحكم، وهذا كما أنَّه إذا حدثت الريبة بعد ما نكحت، لا يحكم ببطلان النكاح، لكن إذا تحقَّق الحمل يوم النكاح، (¬3) تَبيَّن أنه كان باطلاً، والمذكور في الكتاب من الطُّرُق الثلاث الأولَى والثانية. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانيِ) إِذَا أَتَتْ بَعْدَ العِدَّةِ بِوَلَدٍ لأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ لَحِقَ الزَّوْجَ وَإنْ لَمْ تَنْكِحْ زَوْجاً آخَرَ* وَإِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً حَسَبَ أَرْبَعَ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ انْصِرَامِ العِدَّةِ* أَوْ مِنْ وَقْتِ الطَّلاَقِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ* فَإِنْ قُلْنَا مِنْ وَقْتِ تَصَرُّمِ العِدَّةِ تَمَادَي الإِلْحَاقُ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ وَزِيَادَة إِذِ الطُّهْرُ قَدْ يَتَبَاعَدُ سِنِينَ* وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ لاَ يُحْتَمَلُ فَلاَ يُحْسَبُ لِلعِدَّةِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلاَثةِ أَشْهُرٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الأصل الَّذِي تبنى عليْه المسألةُ، ومسائل كثيرة مذكورة من قَبْل، ¬
ومن بَعْد أن أكثر مدَّة الحَمْل أربع سنين، وبه قال مالك، وهو روايةٌ عن أحْمَدَ، واحتج لَهُ بأن عُمَر -رضي الله عنه (¬1) - قال في امرأة المفقود: تتربَّص أربع سنين، ثم تعتد بَعْد ذلك، وسبب التقدير بأربع سنين أنها نهايةُ مدة الحَمْل، وعن مالك: أنه قال: هذه جارتنا امرأة محمَّد بن عَجْلان امرأة صِدْق، وزوجها رَجُلُ صِدْقٍ، حملت ثلاثة أبْطُن في اثنتي عشر سنَةً تحمل كل بطن أربع سنين. وروى القتيبي أن هرم بن حيان حملت به أمُّه أربع سنين. وقال أبو حنيفة: أكبر مدَّة الحَمْل سنتان. وعن مالك روايتان أُخْرَيَان: إحداهما: خَمْس سنين. والثانية: سَبْع. إذا عرف ذلك، فلو أبان زوجته بالخُلْع أو باستيفاء عَدَد الطلاق، أو بأن فَسَخ النكاح بعَيْب (¬2) أو بأن لاَعَنَها ولم ينف الحمل، ثم أتت بولد لأربع سنين فما دونها مِنْ يوم الفراق، فهو ملحق بالزوج؛ لمكان الإمكان، هكذا أطلقوه في أربع سنين، واعترض منصور التميمي (¬3) في المستعمل، وقال: إذا لحقه الولد الذي أتت به لأربع سنين منْ وقْت الطلاق، لزم أن تكون مدَّة الحَمْل أكبر من أربع سنين؛ لتقدم العلوق على الطلاق، فينبغي أن يقال: لأربع سنين من وقْت إمْكان العلوق قبْل الطلاق، وهذا قويم وفي الإطْلاق تساهلٌ، ولا فرق بين أن تقر المرْأة بانقضاء عدَّتها به وبيْن أن لا تقر؛ لأن النسب حق الولدِ، فلا ينقطع بإقرارها، وقد تبني إقرارها على الغالب، فتبين خلافه، ويظهر أنها كانت تحيض على الحبل، وهذا قول مالك. وقال أبو حنيفة وأحمد: إذا أقَرَّتْ بانقضاء عدَّتها ثم وَلَدَت، لم يلحقْه الولد إلا أن يأبى به لِمَا دون ستة أشهر مِنْ وقت الإقرار، وبهذا (¬4) قال ابن سُرَيْج، وشبَّهه بما ¬
إذا صارت الأمة فراشًا بالوطء، ثم استبرأها سيِّدُها، ثم أتَتْ بوَلَدٍ بعْد الاستبراء لستة أشهُرٍ فصاعدًا، لم يلحقْه الولد، نص عليه، واختلفوا في الجواب عَنْ هذا الاحتجاج. فمنْهم من جَعَل المسألة على قولَيْن بالنقل والتخريج. ومنهم من جَعَل مسألة الأمة على قولَيْن، وما تخرج من الأمة فيما نَحْن فيه، وعلى التقديرَيْن، فالمذكور هناك جوابٌ على أحَدِ القولَيْن، والجمهور امْتَنَعوا من التَّخْريج في الطرفين (¬1)، وفرَّقوا بأنَّ فراش النكاح أسرع ثبوتًا؛ ألا ترى أنه يثبت النسب فيه بمجرَّد الإمكان، وفي الأَمَة لا يثبت بمجرَّد الإمكان، بل يعتبر الإقرار بالوطء، فإذا استبرأها، جاز (¬2) حكْم الوطء في الظاهر، وبقي مجرَّد الإمكان، فلا يقنع به، وفي الحُرَّة الإمْكَان باقٍ، وإنْ أقرَّت بانقضاءِ العدَّة فينتفع به لإِثْبات النَّسب، وإن أتت بالولد لأكثر من أربع سنين، فهو منفي عنه بلا لعان؛ لأنه لا إمكان، ونقل المزنيُّ أنه ينتفي عنه باللِّعان، واعترض علَيْه، فقال: يشبه أن يكون هذا غَلَطاً منْ غير الشَّافعيِّ -رضي الله عنه-، قال الأصحاب: والأمر على ما ذكَرَه، وقد نصَّ -رضي الله عنه- في رواية الرَّبيع: أنه ينتفي بلا لعان، ولو طلَّقها طلاقًا رجعيّاً؛ ثم أتت بالولد، فالحُكْمُ على التفصيل المذكور إلا أن السنين الأربع تُحْسب من وقت انصرام العدة أو من وقت الطلاق فيه قولان: أحدهما: من وقت انصرام العدة لأن الرجعيَّة كالمنكوحة في مُعْظَم الأحكام. وأصحُّهما، على ما ذكر صاحب "التهذيب" وغيره: من وقْت الطلاق؛ لأنها كالبائنة (¬3) في تحريم الوطء، فكذلك في أمر الولد الذي هو نتيجته، وهذا الخلاف كالخلاف الَّذي يذكر في أن الرجعية هل هي فراش أم لا أو هو هو؟ وإذا قلْنا بالاحتساب منْ وقْت انقضاء العدَّة، فقد أطلق الشيخ أبو حامد وابن الصَّبَّاغ وغيرهما حكاية وجْهَيْن عن أبي إسحاق: أنه يلحقه متَى أتت به من غير تقدير مدَّة؛ لأن الفراش على هذا القول إنما يزول بانقضاء العِدَّة، قالوا: والأصح أنه إذا مضَتِ العدَّة بالأقراء أو الشهور، ثُمَّ ولَدت لأكثر من أربع سنين من انقضائها لم يلْحقه؛ لأنا نتحقَّق أن الحَمْل لم يكن موجودًا في الأقراء والأشهر، فتبيَّن بانقضائها، ويكون كما لو بانت (¬4) بالطلاق، ثم أتت بولَدٍ لأكثر من أربع سنين، ولك أن تقول: هذا إن استمر في الأقراء لا يستمر في الأشهر، فإن التي تَحْمل من النساء، لا تعتَدُّ بالأشهر، فإذا حمَلَتْ، بان أن عدتها لم تُنْقَض بالأشهر، وسيأتي نظيرُ هذا، ثم هذا الخلاف على ما ذكره القاضي الرُّويانيُّ في "التجربة" وغيرُهُ، فيما إذا أقرت بانقضاء العدَّة، وذكر أنها إذا لم تقر ¬
بانقضائها، فالولد الذي تأتي به يلحقه، وإن طال الزمان؛ لأن العدة قد تمتدُّ ويتباعد الطُّهْر، وأن القفَّال نقل وجهًا ضعيفًا: أنه إذا مضت ثلاثة أشهر، ثم أتت بالولد لاكثر من أربع سنين، لم يلْحقْه؛ لأن الغالب انقضاءُ العدة في ثلاثة أشهر، وليُحْمَل الخلافُ المذكور في الكتاب على هذه الحالة؛ لأنه مائل إلى ترجيح اللُّحوق من غير التقدير بمدة، وفيما إذا أقرت بانقضاء العدَّة، رجَّح أكثرهم التقدير، وحكَوْه عن نص الشافعيِّ -رضي الله عنه-، فالأحْسَنُ أن يوافق اخْتِياره اختيار مَنْ قبله، ومتى حكَمْنا بثبوت النسب، فتكون المرأة معتدَّة إلى الوَضْع حتى يثبت للزوج الرجعةُ، إذا كان الطلاق رجعيًا، ولها النفقة والسُّكنَى. فرْعان: أحدهما: لو أتت الولد لأكثر من أربع سنين، لكن ادعت في الطلاق الرجعيِّ أن الزوج راجَعَها أو ادعت أنَّه جدَّد نكاحها أو أنه وطئها بشُبْهة، وأنها ولَدَت على الفراش المجدَّد، نُظِرَ؛ إن صدَّقها الزوج، ألزم بموجب إقراره، فعليه المَهْر في التجديد، والنفقة والسكنى في الرجعة والتجديد، ويَلْحَقه الوَلَد بالفِرَاش، [وإن أنكر استحداثَ فِرَاشٍ]، فهو المُصدَّق بيمينه، وعليها البينة، فإذا نكل، حلفت، وثبت النسب إلا أن ينفيه باللعان، ونقل أبو الفرج الزاز قولاً: أنه إذا نَكَل، لا ترد اليمين عليها؛ لأنَّها لو حلَفَتْ، لثبت نسب الولد، ويبعد أن يحلف الإنسان؛ لفائدة غيره، فلو لم يحْلِفْ أو نكَلَتْ، فهل يَحْلِف الولَدُ إذا بلغ؟ فيه خلاف مذكورٌ في نظائره (¬1)، وإن سلم الفراش الجديد، وأنكر وِلاَدَتَها، وادعى أنها التقطته أو استعارته، فيُصدَّق بيمينه، [وعليها البينة] (¬2) على الولادة، فإن نَكَلَ، حلفت وثبتت الولادة والنسب بالفراش، إلا أن ينفيه باللعان، ويعود في تحليفها الخلافُ السابقُ، ثم قال الأئمة -رحمهم الله-: العدة تنقضي بوضعه (¬3)، وإن حلف الرجل على النفي، لم يثبت ما ادعته؛ لأنها تزعم أن الولد منه، فكان كما لو نفى الرجلُ حمْلَها باللعان، فانه، وإن انتفى الولد، تنقضي العدة بوضْعه؛ لزعمها أنه منْه (¬4)، وإن ادَّعَتْ عَلَى الوارث بعْد موت الزوج أنَّ الزوج ¬
كان قَدْ راجَعَها أو جَدَّد نكاحها، فإن كان الوارث ممَّن لا يحجب، نُظِرَ؛ إن كان ابنًا (¬1) واحدًا، فالحكم كما إذا ادَّعَت على الزوج، إلاَّ أن الوارث يحْلِف على نفْي العلم، وإلا أنه إذا ثبت النسب، لم يكن نفيه باللعان، وإن كان له ابنان، وادَّعت عليهما، فإن صَدَّقاها، أو كَذَّبا وحَلَفَا أو نكلا، فحلفت، أو صدَّقها أحدُهما، وكذَّب الآخرُ، وحلَف، ثَبَت المهر والنفقة، بحصة (¬2) المصدِّق. ولا يثبت النسب؛ لأن جميع الورثة لم يتفقوا، وهل يثبت ميراث الزوجة في حصَّة المصدِّق؟ فيه خلاف مذكور في موضعه، وإن كان الوارث مِمَّن يُحْجِب كالأخ، فإن صدَّقها، فذاك، ولا يرث الولد إن ثبت نسبه؛ لئلا يخرج الأخ عن كونه وارثًا بحجبه، وإنْ كذَّبها، فعلى ما تبيَّن. والثاني، وقد سبق طَرَف منه في الطلاق: علَّق (¬3) طلاق امرأته بولدتها، فولدت ولدين، نُظِرَ؛ إن كان بينهما دون ستة أشهر، لحقاه جميعاً، وطُلِّقت بوضع الأول، وانقضت عدَّتها؛ بالثاني وإن كان ستة أشهر وأكثر، طُلِّقت بولادة الأول، ثم إن كان الطلاق بائنًا، لم يلْحَقْه الثاني؛ للعلم بأن العلوق بالثاني لم يكن في النكاح، بخلاف ما إذا لم يعلق بالولادة حيث يلحقه الولد إلى أربع سنين؛ لاحتمال العلوق في النكاح، وإن كان الطلاق رجعيًّا، فيبنى على أن السنين الأربع تعتبر من وقْت الطلاق أو من وقت انقضاء العدَّة، إن قلْنا بالأول، لم يلحقه، وإن قلْنا بالثاني، لحقه إذا أتتْ بهِ لما دون أربع سنين من ولادة الأوَّل، وتنقضي العدة بوضعه، لحقه أو لم يلحقه؛ لاحتمال وطء الشبهة بعد البينونة. قاله ابن الصبَّاغ، ولو أتتْ بثلاثة أوْلاَد، فإن كان الكلُّ حملاً واحدًا؛ بأن كان بين الأول والثالث أقل من ستة أشهر، فتُطلَّق بالأول؛ وتنقضي العدة بالثالث، ولحق الكل، وإن كان بين الأولين أقل من ستة أشهر، وبين الثاني والثالث أكثر منها، لحقه الأول، وانقضت عدتها بالثاني، ولا يلحقه الثالِث للعِلْم بأن العَلُوق به لم يكن في النكاح ولا في العدة، وإن كان بَيْن الأول والثاني أكثر من ستَّة أشهر، وبين الثاني والثالث دون الستة طُلِّقت بالأول، ولم يلحقه الآخران، إن كان الطَّلاق بائناً، وإن كان رجعيًّا، فعلى الخلاف، ولو زاد ما بيْن الأولين على ستة أشهر، وكذا ما بينهما وبين الثالث، فالثالث غير لاحق، وكذا الثاني، إن كان الطلاق بائنًا، وإن كان رجعيًّا، فعلى الخلاف، ولو كان ما بيْن الأولين دون الستة، وكذا ما بينهما وبين الثالث، وكان ما بين الأول والثالث أكثر من الستة، فالأوَّلان لاحقان دون الثالث. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثُ) إِذَا نُكِحَتْ ثم أَتَتْ بِوَلَدٍ لِزَمَانٍ يُحْتَمَلُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أُلْحِقَ بِالثَّانِي إنْ كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحاً إِذْ لاَ سَبِيلَ إِلَى إِبْطَالِ الصَّحيحِ* وَإِنْ كانَ فَاسدًا يُعْرَضُ عَلَى القَائِفِ لأَنَّهُ كَوَطْءِ شُبْهَةٍ* ثُمَّ مُدَّةُ احْتِمَالِ الثَّانِي تُحْتَسَبُ مِنَ العَقْدِ الفَاسِدِ* أَوْ مِنَ الوَطْءِ فِيهِ خِلاَفٌ* وَكَذَلِكَ عِدَّةُ النِّكَاحِ الفَاسِدِ يُبتَدَأُ بَعْدَ آخِرِ وَطأةٍ* أَوْ بَعْدَ التَّفَرُّقِ بِانْجِلاَءِ الشُّبْهَةِ فِيهِ خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: كان الفرع الثاني مصوَّراً فيما إذا لم تَصرْ بعد الطلاق فراشًا لغيره، حتى أتت بولد، فإن صارتْ فراشًا لغيره؛ كما إذا نكحت بعْد انقضاء العدَّة، ثم ولَدَتْ، نُظِرَ؛ إن ولَدَتْ لما دون ستَّة أشهر من النكاح الثاني، فكأنها لم تنكح، والحكم (¬1) على ما مَرَّ، وإن أتت به لستة أشهر فأكثر، فالولد (¬2) للثاني، وإن أمكن أن يكون من الأوَّل؛ لأن الفراش للثاني حاضرٌ قائمٌ، فالإلحاق به أَوْلى من الإلحاق بفراشٍ قَدِ انقطع وانقضى، وأيضًا، فإنَّ النكاح جرى على الصَّحة ظاهرًا، وعلى تقدير أن يكون الولَدُ من الأول، يكون في العدة ويبطل النكاح، ولا سبيل إلى إبطال الصحيح بالاحتمال، ولو نُكِحَت نكاحًا فاسدًا؛ بأن نُكِحَت في العدة، لم يَقْطع بمجرَّد العقدِ العدةَ، ولكن تسقط نفقتها وسكناها؛ لنشوزها، ثم إن وطئها الزوج عالمًا بالتحريم، فهو زان لا يؤثِّر وطؤه في العدة، وإن جهل التحريم، إما لظنه انقضاء العدة، أو لظنه أن المعتدة لا يَحْرُم نكاحها، فتنقطع به العدَّة؛ لصيرورتها فراشًا للثاني. وقال أبو حنيفة وأحمد -رحمهما الله-: لا تنقطع، قال القاضي الرُّويانيُّ: دعواه الجَهْلَ بأنها معتَّدة تُقْبَل بكل حال، ودعوى الجَهْلِ بأنَّ نكاح المعتدة حرامٌ لا يقبل إلا من قريب العهْد بالإِسلام، ثم إذا فرق بينهما، تكمل عدة الأول، ثم تعتد عدة الثاني، ولو أن هذه المنكوحة أتتْ بولد لزمان الامكان من الأول دون الثاني، فيلحق الولد بالأول، وتنقضي عدته بوضْعه، ثم تعتد للثاني، فإن أتت به لزمان الإمكان من الثاني دون الأول؛ بأن أتت به لأكثر من أربع سنين من طلاق الأول، فإن كان الطلاق بائنًا، فهو ملحق بالثاني، وإن كان رجعيًّا، فالجواب كذلك: أو يقال: فراش الأول باقٍ، فيعرض على القائف؟ فيه قولان، وإن أتت به لزمان الإمكان منها جميعًا، فيعرض على القائف، فإن ألحقه القائف بأحدهما، فالحكم كما لو أتَتْ به لزمان الإمْكان منْه خاصَّةً، وإن ألحقه بهما أو نفاه عنهما أو اشتبه الحال علَيْه أو لم ¬
يكن [ثَمَّ] (¬1) قائفٌ، انتطر بلوغه وانتسابه لنفسه، وإذا وضعته، ومر بها ثلاثة أقراء، حلَّت للأزواج، وإن أتتْ به لزمان لا يمكن أن يكون مِنْ واحد منهما، بأن كان لما دون ستة أشهر من نكاح الثاني، ولأكثر من أربع سنين من طلاق الأول، فلا يلحق بواحد منهما، إن كان الطلاق بائنًا، وإن كان رجعيًّا، عاد الخلاف في أنها هل هي فراش؟ وإذا نفيناه عنهما، فعن الشيخ أبي حامد: أنه لا تنقضي العدَّة بالوضع عن واحدٍ منهما، بل بعد الوضع تكمل العدة عن الأول، ثم تعتد عن الثاني، قال صاحب "الشامل": وقياس ما ذكرنا فيما إذا علَّق طلاقها بالولادة، فولدت ولدَيْن بينهما ستة أشهر: أن الثاني لا يلحقه، وتنقضي العدة بوضعه أن نقول هاهنا بانقضاء العدة عن أحدهما، ومدَّةُ الإمكان من الزوج الثاني تُحْسب من وقت النكاح الفاسد أو من وقت الوطء؟ فيه وجهان: أحدهما، ويُحْكَى عن القفَّال الشاشيِّ -رحمه الله-: أنها تُحْسَب من وقْت النكاح، كما في النكاح الصحيح، وأظهرهما: الاحتساب من وقت الوطء، ولا عبرة بمجرَّد العقد الفاسد، وقرب من هذا الخلافِ الخلافُ في أن العدَّة في النكاح الفاسد تحسب من (¬2) آخر وطأة أو من وقت التفريق بينهما [بانجلاء] (¬3) الشبهة وظهور الفساد. والأصحُّ على ما ذكر في "التهذيب" أنها تُحْسب من وقت التفريق؛ لأن الاستيلاد (¬4) ينقطع، والفراش حينئذ يزول، قال: والتفريق بأن فرق القاضي بينهما في معْناه ما إذا اتفق الزوجان على المفارقة، وما إذا مات الزوج عنها أو طلَّقها على ظنِّ الصحة، ولو غاب (¬5) عنها على عزم أن يعود إليها لم تحسب مدة الغيبة من العدة، ولو عزم أن لا يعود، فمدة الغيبة من العدَّة، وخُرِّجَ على الخلاَف المذكور: أن لحوق الولد في النكاح الفاسد، هل يتوقَّف على إقراره بالوطء، كما في ملك اليمين أو يكفي فيه مجرَّد العقد كما في النكاح الصحيح [وأما] إذا أحوجناه إلى الإقرار بالوطء، فهل ينتفي الولد بدعوى الاستبراء كما في ملك اليمين أَوْ لاَ ينتفي (¬6) إلا باللعان؟ والظاهر الاحتمال الثاني، ولو وطئت في العدة بالشبهة، وأتت بولد لزمان الإمكان من الزوج، والواطئ، فيعرض الولد على القائف، كما ذكرنا في النكاح الفاسد، ولو وُطِئَت بعد انقضاء العدَّة، فهل هو كالنكاح الثاني في قَطْع فراش الأول؟ فيه وجهان: أحدهما: لا بل يُعْرض الولد على القائف، كما لو وُطِئت في العدة. ¬
وأصحهما: نعم؛ لانقطاع النكاح الأول (¬1) والعدة عنه على الظاهر؛ فعلى هذا، لو أتت بولدٍ، لزمان الإمكان منها يلحق بالواطئ، كما يلحق بالزوج الثاني، والله أعلم بالصواب. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرَّابعُ) لَوْ قَالَ: طَلَّقَتْ بَعْدَ الوِلاَدَةِ فَأَنْكرَتْ وَقَالَتْ: بَلْ قَبْلَهَا فَالقَوْلُ قَوْلُهُ سَوَاءْ اتَّفَقَا عَلَى وَقْتِ الوِلاَدَةِ أَوْ أُبْهِمَ* وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي وَقْتِ الوِلاَدَةِ وَاتَّفَقَا عَلَى وَقْتِ الطَّلاَقِ فَالقَوْلُ قَوْلُهَا* وَلَوِ ادَّعَتْ تَقَدُّمَ الطَّلاَقِ فَقَالَ: لاَ أَدْرِي فَعَلَيْهِ يَمِينٌ جَازِمَةٌ أَوِ النُّكُولُ* فَإِنْ جَزَمَ الزَّوْجُ فَقَالَتْ: لاَ أَدْرِي فَلَهُ الرجْعَةُ وَلَيْسَ يُقْبَلُ دَعْوَاهَا مَعَ الشَّكِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا ولَدَتِ المرأة، وطلَّقها زوجها ثم اختلف الزوجان، فقال الزوج: طلَّقْتُك بعد الولادة، فأنْتِ في العدَّة، ولي الرجعة، وأبت المرأة فقالت: طلَّقْتَني قَبْل الولادة، وانقضت عدتي بالوَضْع، نُظِرَ؛ إن اتفقا على وقْت الولادة كيوم الجمعة، وقال: طَلَّقْتك يوم السبت، وقالت: بل يوم الخميس، فهو المُصدَّق بيمينه؛ لأن الطلاق بيده، فيُصدَّق في وقته، كما يُصدَّق في أصله؛ ولأن الأصل عدَمُ الطلاق يوم الخميس، وإن اتفقا على وقْت الطلاق، كيوم الجمعة، واختلفا في وقْت الولادة، فقال: وَلَدتُّ يوم الخميس، قالت، بل يوم السبت، فهي المُصدَّقة بيمينها؛ لأن القول في أصْل الولادة قولها، فكذلك في وقْتِها؛ ولأن الأصْل عدم الولادة يوم الخميس، ولو لم يتفقا على وقْت الولادة، ولا وقْت الطلاق، وادعى الزَّوْج تَقدُّم الولادة، وهي تقدِّم الطلاق، فهو المُصدَّق؛ لأن الأصْل بقاء سلطة النكاح، ولو ادعتِ المَرْأة تقدُّم الطلاق، فقال الزوج: لا أدْرِي، لم يُقْنَع (¬2) منه بذلك، بل إما أن يَحْلِف يمينًا جازمة على أن الطَّلاق لم يَتقدَّم أو يَنْكُلِ لِتَحْلِف هي؛ لأن الزوج بقوله "لا أدري" منكرًا؛ فتُعْرَض (¬3) عليه اليمين، وإن أعاد كلامه الأول جُعِل ناكلاً، فتحلف المرأة ولو لم يُفعل ذلك، لعجز المُدَّعَى عليه في الدعاوى كلِّها عن الدفع بهذا الطريق، وإذا حلَفَتِ المرأة، فلا عدة عليها ولا رجعة للزوج، وإن نَكَلَت، فعليها العدَّة وقال الأصحاب: وليس ذلك قضاء بالنكول، لكن الأصْل هنا بقاء النكاح، وآثاره، فيُعْمَل بهذا الأصْل، إذا لم يَظْهر دافع، وإن جزم الزَّوْج بِتقدُّم الولادة، وقالت هي: لا أدري، فله الرجْعة، فله يقنع منها بقولها "لا أدري" والورع أن لا يُرَجِعَها، وكذا (¬4) الحكم لو قالا جميعًا "لا تَدْرِي السابقَ منهما" وليس لها أن تنكح حتى تمضي ثلاثة أقراء (¬5). ¬
الباب الثاني في تداخل العدتين
وقوله في الكتاب "وليس يقبل دعواها مع الشك" يعني أن الأصل ثبوت الرجعة، وهي مدعية لما يَدْفَعه، فلا بد من دعْوَى صحيحةِ، ودعوى الشَّاكِّ غَيْرُ صحيحة. البَابُ الثَّانِي فِي تَدَاخُلِ العِدَّتَيْنِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالعِدَّتَانِ المُتَّفَقَتَانِ بِالأَقْرَاء أَوِ الأَشْهُرِ تَتَدَاخَلاَنِ (و) مِنْ شَخْصٍ واحِدٍ وَذَلِكَ بِأَنْ يَطَأَهَا الزَّوْجُ فِي العِدَّةِ فَيَكْفِيهَا ثَلاثةِ أقْرَاءٍ مِنْ وَقْتِ الوَطْءِ* لَكِنِ الرَّجْعَةُ لاَ تَتَجَاوَزُ ثَلاَثةَ أَقْرَاءٍ مِنْ وَقْتِ الطَّلاَقِ* أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا بِأَنْ كَانَ إِحْدَاهُمَا بِالحَمْلِ انْدَرَجَتِ الأُخْرَى تَحْتَ الحَمْلِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ وَانْقَضَتَا بِالوَضْعِ وَدَامَتِ (و) الرَّجْعَةِ إِلَيْهِ* فَإِنْ قُلْنا: لاَ يَنْدَرجُ فَإِنْ كَانَ الحَمْلُ مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ انْقَطَعَ عِدَّةُ الطَّلاَقِ فَتَعُودُ إِلَى بَقِيَّتهَا بَعْدَ الوَضْعِ وَلَهُ الرَّجْعَةُ أَوْ تَجْدِيدُ النِّكَاحِ فِي البَقِيَّةِ* وَهَلْ يَجُوزُ الرَّجْعَةِ قَبلَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ* وَمَهْمَا ثبَثَ الرَّجْعَةَ ثبَتَ المِيرَاثُ وَسَائِرُ الأَحْكَامِ* وَلَوْ كَانَتْ تَرَى الدَّمَ وَهِيَ حَامِلٌ انْقَضَتِ العِدَّةُ الأُخْرَى بِالأَقْرَاءِ مَعَ الحَمْلِ عَلَى الأَظْهَرِ لِأَنَّهُ لِمُجَرَّدِ التَّعَبُّدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا اجتمعَتْ على المرأة عدتان، فإما أن يكونا من شَخْصٍ واحدٍ أو مِنْ (¬1) شخصَيْن. القِسْمُ الأَوَّل: إذا كانا من شَخْصٍ واحدٍ بأن طَلَّق زوجته، وشرعت في العدة بالأقراء أو الأشهر، ثم وطئها في العدة، إما جاهلاً إن كان الطلاقُ بائنًا، وإما جاهلاً، أو عالمًا، إن كان الطلاق رجْعيًّا، فتَتَداخل العِدَّتان، ومعْنَى التداخل: أنها تعتد بثلاثة أقراء أو بثلاثة أشهر من يوم الوطء، ويندرج فيها ما بقي من عدة الطلاق، وقدر تلك البقية يكون مشتركًا واقعًا عن الجهتَيْن جميعًا، ويجوز له الرجْعة في تلك البقية إن كان الطلاق رجعيًّا، ولا رجعة بعْدها، ويجوز تجديد النكاح في تلْك البقية وبعدها، إذا لم يكن عَدَدُ الطلَّاق مستوفَّى. هذا هو المشهور والأظْهَرُ، ووراءه تقديران، قد أخذ بكلِّ منهما آخذون. أحدهما: أن عدة الطلاق تنقطع من الوطء [بما طرأ] (¬2) من الوطء ويسقط باقيها وتَتمخَّض العدَّة الواجبة عن الوطء، هذا حكاه أبو الحسن العَبَّاديُّ عن الحليمىِّ قال: وقياسه أن لا تثبت الرجْعة في البقية، لكن الإجماع صد (¬3) عنه، وقد ينقطع ¬
أثر (¬1) النكاح في حُكْم دون حُكْم. والثاني: أن الباقي من عدَّة الطلاق ينقضي متمحضًا عن الطلاق، والوطء لا يوجب إلا ما وراء ذلك إلى تمام ثلاثة أقراء، وهذا ضعيفٌ، وإن كانت العدَّتان من جنْسين بأن كانت إحداهما بالحَمْل، والأخرى بالأقراء، إما بأن طلقها (¬2)، وهي حائل، ثم وطئها في (¬3) الأقراء وأحبلها (¬4) أو بأن طَلَّقها، وهي حامل، ثم وطئها قبل الوَضْع، فهل تدْخل العدة الأُخْرَى في الحمل؟ فيه وجْهان: أشبههما الدُّخول؛ لأنَّهما من شخْص واحدٍ، فأشبهتا (¬5) المتجانستَيْن، فإن قلنا بالتداخل، فتنقضي العدتان جميعاً بالوضع، وله الرَّجْعة في الطلاق الرجعيِّ إلى أن تضعه إن كانَتْ عدة الطلاق بالحَمْل، وطَرَأَ الوطء، وإن كانت عدة الطلاق بالأقراء وَحَدَثَ (¬6) الحَمْل من الوطء، فوجهان: أظهرهما: أن الجواب كذلك؛ لأنها في عدة الطَّلاق، وإن وجَبَتْ عدة أخرى، وهذا هو المذكور في الكتاب. والثاني: أنه لا رجْعة له؛ بناء على أن عدة الطلاق قد سَقَطَتْ، وهي الآن معتدَّة عن الوطء، وإن قلنا: لا يتداخلان، فإن كانَتْ حاملًا عند الطلاق، ووطئها قبل الوضع، فتعتد بعْد وضع الحمل بثلاثة أقراء، ولا رجْعَةَ إلاَّ في مدة الحَمْل، وإن كانت تعْتدُّ عن الطلاق بالأقراء، وحده الحْمل من الوطء فهي معتدة بالحمل عن الوطء إلى أن تَضَع، فإذا وضعت، عادت إلى بقية عدة الطلاق، وله الرجعة في تلك البقية إن كان الطلاق رجعيًّا، وهل تجوز الرجْعةُ قبْل الوضع فيه وجهان أصحهما نعم، وله تجديد النكاح قبل الوضع وبعْده، إذا لم يكن الطلاقُ رجعيًّا، ولم يحتج إلى المُحَلِّل؟ فإن العدة منْه. وإن لم يَدْرِ أنَّ الحَمْل حدث من الوطء أو كانت حاملاً عنْد الطلاق. قال في "التتمة": يلزمها الاعتداد بثلاثة أقراءٍ كاملة بعْد الوضع؛ لجواز أن تكون عدة الطلاق الوَضْع، وفي الفَصْل بعد هَذا مسألتان: إحداهما: حيث قلنا بثبوت الرجعة، فلو مات أحدهما، ورِثَهُ الآخر، ولو طلَّقها، لحقها الطلاق، ويَصِحُّ الظهار، والإيلاء عنها، ولو مات الزَّوْج، انتقلت إلى عدة ¬
الوفاة، وحيث قلنا: لا تثبت الرجْعة، لا يثبت شيء من هذه الأحكام. الثانية: في جميع ما ذكرناه فيما إذا كانَتْ لا ترى الدم على الحَمْل أو كانت تراه، وقلنا إنَّه ليس بحيض، فأما إذا جعلْناه حيضًا، فهل ينقضي مع الحَمْل العدة الأخرى بالأقراء؟ فيه وجهان: أظهرهما: نَعَمْ، وبه قال الشيخ أبو حامد، والقاضي الحسين (¬1)؛ لأن البراءة معلومةٌ بالوضع، والحُكْمُ بعدَم التداخُل مع اتحاد الشَّخْص ليس إلا للتعبد برعاية صورة العدتين، وقَدْ حَصَلت. والثاني، وبه قال الشيخ أبو محمَّد، وإلى ترجيحه مال الإِمام: أنها لا تنقضي؛ لأن الأقراء إنما يُعْتدُّ بها إذا وقَعَت في مظنة الدلالة على البراءة، وهاهنا الشُّغْل معلوم، فإن قلنا: تنقضي، فلو كان الحمل حادثًا من الوطء، فمضت الأقراء قبل الوضع، فقد انقضت عدَّة الطلاق، وليس للزوج الرجْعة بعْد ذلك، فإن وضعت الحْمل قبل تمام الأقراء، فقد نقضت عدة الوطء، وعليها بقية عدة الطلاق. قال صاحب "التهذيب": وللزوج الرجْعة قبل الوضْع وبعده إلى تمام البقيَّة بلا خلاف (¬2)؛ لأنها كانت ترى الدم على الحبل، وجعلناه حيضًا، فزمان الحمل محسوب من عدة الطلاق، ولو كانت حاملًا عند الطلاق، ووطئها قبل الوضع، فالأقراء محسوبة من عدَّة الوطء، وللزوج الرجْعة إلى وَضْع الحمل، فإن وضعت قبل تمام الإقراء، اكملت ما بقي من عدة الوطء، ولا رجْعة فيه. وقوله في الكتاب "والعدتان المتفقتان بالأقْرَاء أو الأشْهر تتداخلان" يمكن أن يُعْلَم بالواو، ولأن من قال "يسقط الباقي (¬3) من عدة الطلاق، والعدة الواجبة ممحضة (¬4) لا ¬
يحكم بدخول شَيْء من هذه في هذه، وكذا صاحب الوجه الآخر لا يقول بدخول إحداهما في الأخرى". وقوله "وله الرجعة (¬1) أو تجديد النكاح في البقية" تجديد النكاح: لا يختص بالبقية، بل يجوز قبل الوضع أيضًا، وكان الأحسن أن يؤخره عن مسألة الرجعة بتمامها، ويبين جوازه على الإطلاق، واعلم أن أكثر مسائل الفَصْل مذكورةٌ في الكتاب في "باب الرجعة" معادةٌ هاهنا، وهذا الباب أحق بها ولما ذكرنا هناك في شرْحها ما فيه مقْنَعٌ ضمَمْنا أطراف الكلام هاهنا في مواضع. قَالَ الغَزَالِيُّ: أَمَّا إِذَا كَانَ وَطْءُ الشُّبْهَةِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ لَمْ يتَدَاخَلَ العِدَّتَانِ (ح م و) وَلَكِنْ إِنْ سَبَقَ الطَّلاَقُ اسْتَتَمَتْ عِدَّةُ الطَّلاَقِ ثُمَّ اعْتَدَّتْ عَنِ الشُّبْهَةِ* وَإِنْ سَبَقَ الوَطْءُ فَقَدْ قِيلَ: يُقَدَّمُ عِدَّةُ السَّابِقِ* وَقِيلَ: النِّكَاحُ أَقْوَى* فَإِنْ قَدَّمْنَا عِدَّةَ الشُّبْهَةِ أَوْ كَانَ قَدْ أَحْبَلَ فَإِنَّ الحَمْلَ يُقَدَّمُ بِكُلِّ حَالٍ فَفِي الرَّجْعَةِ قَبْلَ اشْتِغَالِهَا بِعِدَّةِ الزَّوْجِ وَجْهَانِ* وَلاَ يَجُوزُ تَجْدَيدُ نِكَاحِهَا إِنْ كَانَتْ بَائِنَةً فِي حَالَةِ عِدَّةِ الشُّبْهَةِ* أَمَّا فِي حَالِ عِدَّتِهِ إِذَا كَانَ فِي ذِمَّتِهَا عِدَّةُ الشُّبْهَةِ فَوَجْهَانِ: قَالَ الرَّافِعِيُّ: القسم الثاني: إذا كانت العدَّتان من شخصَيْن، كما إذا كانَتْ في عدة نكاحٍ؛ إما في عدة وفاةٍ أو طلاقٍ، أو في عدَّة وطء شبهة، فوطئها بالشبهة غيره أو نَكَحها جاهلاً، ووطئها، أو كانت المنكوحة في عدة وطء شبهة، فطلقها زوجها، فلا يتداخلان، بل تعتد عن كل واحد منهما عدةً كاملةً، وبه قال أحمد -رحمه الله-. وقال أبو حنيفة: يتداخلان، فيكفيها عدة واحدة من وقت حدوث سَبَب الثانية، وهو أظهر الروايتين عن مالك. لنا، بعد الأثر عن عمر وعلي -رضي الله عنهما- أنهما حقَّان مقصودان لآدمِيِّيْن، فلا يتداخلان كالديتين؛ واحتج الأودني بأن العدَّة نوع حبس يستحقه (¬2) الرجُل على المرأة، فلا يجوز أن تكون محبوسةً لاثنين في وقت واحدٍ، كالنكاح. إذا عرف ذلك، فإمَّا أن يكون هناك حملٌ أو لا يكون؛ إحدى الحالتين إذا لم يكن [هناك] (¬3) حمْلٌ، فإن سبَق الطلاق، وطء الشبهة، أتمت عدة الطلاق؛ لتقدمها (¬4) ولقوتها؛ فإنها تَسْتَند إلى عَقْدٍ جائز، وسبب مسوِّغٍ، فإذا فرغت، استأنفت عدة الثاني، ¬
ثم يُنْظَر؛ إن لم يوجَدْ من الثاني إلاَّ الوطْء بالشبهة فتبني علي عدة الطَّلاق، كما فرغت من ذلك، وإن نَكَح ووَطِئ، فزمان كونها فراشًا له لايُحْسَب عن واحدةٍ من العدَّتَيْن وبم تنقطع عدة الطلاق؟ فيه اختلافٌ مذكورٌ في الكتاب من بعد ومتى (¬1) تعود إلى عدة الطلاق على وجهَيْن؟ أحدهما، ويُنْسَب إلى القَفَّال الشاشيِّ: أنها تعود إلَيْها من آخر الوطئات الواقعة في ذلك النكاح. والثاني، وهو ظاهر المذهب: أنها إنما تَعُود إلَى عدة الطلاق، إذا فرق بينهما، وللزوج الرجْعة في عدته، إن كان الطلاق رجعيًّا، وكما راجَعَها تنْقطع عدته، وتشرع في عدَّة الوطء بالشبهة، وليس للزوج الاستمتاع بها إلى أن تقضي (¬2)، وهَلْ له تجْدِيد نكاحِها، إن كان الطلاق بائنًا؟ فيه وجهان: أحدُهما: نعم، كما يجوز له رجْعَتها؛ لأنها في عدَّته، ثم كما نَكَحَها تسقط عدَّته، وتفتتح عدة الثاني. والثاني لا؛ لأنه نكاح لا يستعقبه الحِلُّ، ويخالف الرجعة؛ فإنها إمساكٌ بحكم الدوام، فلا يشترط أن يستعقب الحِلّ، وهذا كما أن ابتداء نكاح المحرمة والمعتدة لا يجوز، وإذا عرض الإحرام والعدة في الدوام، لم يرتفع النكاح، وهذا الوجه الثاني يُحْكَى عن الشيخ أبي حامد، والأصح عند القَفَّال،: الأول، وبه أخذ صاحب "التهذيب" والقاضي الرويانيُّ وغيرهما ولو وطئت منكوحة إنسانٍ بالشبهة،،ثم طلَّقها زوجُها، وهي في العدة، ففيه وجهان: أحدهما: أنها تستمرُّ عدة الوطء، ثم تعتد عن الطلاق؛ لأن وُجُوب عدة الوطء سابق. والثاني: يُقدم عدة الطلاق، ثم تعود إلى بقية عدة الشبهة، وذلك لأَنَّ سبب عدة الطلاق أقْوَى، فإنها تتعلَّق بالنكاح، وبوطء مستحق فيه، واختار بعض المتأخرين الوجْه الأوَّل، ويُحْكَى الثاني عن أبي إسْحَاق، وعند الأكثرين: أنه الأظهر، فإن قلنا: تقدم عدة الوطء بالشبهة، فللزوج الرجْعة في الطلاق الرجعيِّ، إذا اشتغلت بعدته (¬3) وهل له الرجعة قَبْل ذلك؟ فيه وجهان، كما ذكرنا في العدتين المختلفتين من شَخْص واحد، إذا قلْنا بعدم التداخل، ولذلك عرف في النكاح، فقال: "ففي الرجعة قبل اشتغالها بعدة ¬
الزوج الوَجْهَان"، لكن ذكرناهناك أن في "التَّتِمَّة" ترجيح (¬1) ثبوت الرجعة، ويجيْء من بعد ما ينازع في ترجيحه هاهنا، ولا يجوز تجديد نكاحها في عدة الشبهة، إذا كان الطلاق بائنًا؛ لأنها في عدَّة الغَيْر، وإن قلْنا: تقدم عدة الطلاق، فتشرع فيه كما طلَّقها فيها، فإذا أتمَّت، عادت إلى بقية عدة الشبهة، وللزوج الرجْعة في عدَّته إن كان الطلاق رجْعيًّا، وهل له تجديد النكاح إذا كان بائنًا؟ فيه ما سَبَق من الوجهَيُن، وإذا طرأ وطء شبهة في عدة وطء شبهة، فتستمر عدة الواطئ الأول بلا خلاف، ولو نكح امرأة نكاحًا فاسدًا، ووطئها غيره بالشُّبْهة، ثم فُرِّق بينهما؛ لظهور فساد النكاح، في "التهذيب": تقدم عدة الواطئ بالشبهة وجْهًا واحدًا؛ لأن عدته من وقْت الوطء وعدة الناكح (¬2) مِنْ وقت التفريق، ومعناه أن عدة الواطئ قد سبق وجوبها وليس للنكاح الفاسدِ قوَّة الصحيح، حتى يرجح بها، فهما كواطئَيْن وَطئَا بالشبهة، ويجوز أن يُعْلَم قوله في الكتاب "لم تتداخل العدتان" مع الحاء والميم بالواو؛ لما سيأتي في الفرع الأول من الفروع المذكورة في الباب. وقوله " [أو] (¬3) كان قد أحْبَل، فإن الحبل يُقَدَّم (¬4) بكل حال" هذا تعلق بالحالة الثانية؛ وهو أن يكون هنا حَمْلٌ، وسيأتي. وقوله "ولا يجوز تجديد نكاحِها" إلى آخر الفصْل، يشمل ما إذا سبقت عدة الطلاق، وما إذا تأخَّرت، وفرَّعنا على أنَّها تُقدَّم، وهو صحيح، فجرى على إطلاقه على ما فصَّلناه. واعلم أنَّه قد تُعوَّض إحدى العدتين فيما نحْن فيه بالأقراء، والأُخْرَى بالأَشْهُر مثْل أن يُطلِّقها زوجُها، ويمضي بها قرءان مثلاً، ثم ينكحها غيره، ويديم استفراشها، إلى أن تَبْلُغَ سنَّ اليَأْس، ثم يفرق بينهما، فتكمل عدة الزوج بشهر بدلاً عن قرء، ثم تعتد الثاني بثلاثة أشهر، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ رَاجَعَهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنَ الشُّبْهَةِ لَمْ يَحِلَّ الوَطْءُ* وَإِنْ كَانَتْ حَامِلاً مِنْهُ وَلَكِنْ فِي ذِمَّتِهَا عِدَّةُ الشُّبهَةِ فَفِي جَوَازِ الوَطْءِ وَجْهَانِ جَارِيَانِ فِي وَطْءِ الحَامِلِ مِنَ الزَّوْجِ إنْ وُطُئَتْ بِالشُّبْهَةِ* هَذَا كُلُّهُ إِذَا عُلِم مَن مِنْهُ الحَمْلُ* وَإِنْ احْتُمِلَ مِنْهُمَا عُرِضَ عَلَى القَائِفِ وَحُكِمَ بِمُوجِبِهِ* لَكِنَّ الزَّوْجَ إنْ أَرَادَ الرَّجْعَةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرَاجِعَ قَبْلَ الوَضْعِ وَبَعْدَهُ لِيَقَعَ ذَلِكَ فِي عِدَّتِهِ بِيَقِين* ويَحْتَمِلُ الرَّجْعَةَ هَذَا الوَقْفُ عَلَى الأصَحِّ* وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا لَمْ يَحِلَّ (و) لَهُ* وَإِن كَانَتْ بَائِنَةً فَعَقْدُ النِّكَاحِ مَرَّتَيْنِ فِيهِ وَجْهَانِ ¬
*وَجْهُ المَنْعِ أَنَّ النِّكَاحَ لاَ يَحْتَمِلُ الوَقْفَ وَلاَ تُطَالِبُ بِالنَّفَقَةِ وَاحِدًا مِنْهُمَا فِي الحَالِ وَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ عَلَى الوَاطِئِ بِالشُّبْهَةِ لأنَّهُ الآنَ مُشْكِلٌ* فَإِنْ قَضَى القَائِفُ عِنْدَ الوَضْعِ لِلزَّوْجِ فَلَهَا المُطَالَبَةُ لِلزَّوْجِ* وَإِنْ قَضَى لِلوَاطِئِ فَلاَ لِأَنَّ مُضِىَّ الزَّمَانِ يُسْقِطُ نَفَقَةَ القَرِيبِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الحالة الثانية: إذا كان هناك حَمْل، فتقدم عدة مَنِ الحْمل منْه سابقًا كان الحْمل أوْ لاحقاً، فإن عدَّة الحمْل لا تَقْبل التأخير، فإن طلَّقها زوْجُها، وهي حامل ثم وطئت بالشبهة، فإذا وَضَعَتِ (¬1)، انقضت عدة الطلاق، وتَعْتدُّ بالأقراء للواطئ بعد أن تَطْهُر من النفاس، وللزوج أن يراجِعَها قبْل الوضع، إن كان الطلاق رجعيًّا لكن ذكر الرُّويانيُّ في البحر: أنَّه لا يراجِعُها في مدة اجتماع الثاني معَها؛ لأنها حينئذ خارجةٌ عن عدة الأول وفراشٌ لغيره، فلا يصِحُّ الرجعة في تلْك الحالة (¬2)، وهل له تجْديد نِكَاحِها قبْل الوضع، إن كان الطلاق بائنًا؟ فيه الوجهان السابقان، ويجريان فيما لو وطئ امرأةً بالشبهة، وأحْبَلَها ثم وطِئَها بالشبهة آخَرُ، هل للأول أن ينكحها قبل الوضع؟ وليس له أن ينكحها في عدة الثاني بحال، وللثاني أن ينكحها في عدته، وإن كان الحمل وطء الشبهة، فإذا وضعت، انقضت عدة الوطء، وتعود إلى بقية عدة الطلاق بَعْد الوضع، وللزوج الرجْعة في تلْك البقية، إن كان الطلاقُ رجعيًّا، ولا فرق في ذلك بين مدة النفاس وغيرها؛ لأنها من جُمْلة العدة، كالحيض الذي يقع فيه الطلاق، وفي مدة النفاس وجْه: أنه لا رجْعة فيها، وإذا ثبتت الرَّجْعة، فلو طلَّقها يلحقها الطلاق، ولو مات أحدهما وَرِثه الآخر، وتنتقل بوفاة الزَّوْج إلى عدة الوفاة، وهل له الرجعة قبل الوضْع إن كان الطلاق رجعيًّا وتجديد النكاح إذا كان الطلاق بائنًا؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه لم تنقض عدته بعْد، وإنما تنقطع الرجْعة بالفراغ منْ عدته، وهذا حكاه الشيخ أبو حامد عنْ أبي إسحاق، وذكر أنه الصحيح، وهو موافق لِمَا قدَّمناه في العدتين المختلفتين من شَخْصٍ واحدٍ. والثاني: المَنْع؛ لأنها في عدَّة غيْره، قال في "التهذيب": وهو الصحيح، ويُرْوى مثله عن أقضى القضاة الماوَرْدِيِّ، وقد يُفَرِّق الصائر إليه بين ما نحن فيه وبين العدتين من الشخص الواحد؛ فإنهما إذا كانتا من واحدٍ، كان الحقُّ له، ورعايةُ العَدَدِ ضَرْبٌ من ¬
التعبد، والرجعةُ في أية عدة وقَعَتْ، لا تصادف حق الغير، كما هنا بخلافه ثمَّ في "التهذيب" أنه لو طلَّقها قبل الوضْع يَلْحَقها الطَّلاق، وإذا مَاتَ أحدُهما، ورثه الآخر، وإذا مات الزَّوج، تنتقل إلى عدة الوفاة، حتى إذا وضَعَت، تَعْتدُّ عن الزوج عدَّةَ الوفاة، وإن كانَ لا تصِحُّ رجعتُهُ؛ لأنا نَجْعَل زمان الرجْعة كزمان صُلْب النكاح، هذا لفظه، وإذا راجَعَها، وهي حاملٌ من الأجنبيِّ، وجوَّزناه، فليس له وطؤها (¬1) إلى أن تَضَع، كما إذا وطئت المنكوحة بالشُّبْهة فاشتغلَتْ (¬2) بالعدة، وإن كانَتْ حاملاً منْه، ولكن في ذمَّتها عدَّةُ الشبهة فراجعها تنقطع عدَّته في الحال، وتَبْقَى عدَّة الشُّبْهة مؤَخَّرة إلى أن تَضَع، وتعود إلى أقرائها، وهل له وطؤها في الحال؟ فيه وجهان: قيل: نعم؛ لأنها منكوحةٌ، وليست في الحال في عدَّة غيره. وقيل: لا؛ لأنها متعرِّضة للعدة، والزَّوْج ممنوعٌ منْها حينئذٍ، ولا يليقُ بمحاسنِ الشَّرْع تسليطُهُ عليها في الحال، والمَنْع في الاستقبال، ومال صاحب "التتمة" إلى ترجيح الثاني، ومنْهم من رجَّح (¬3) الأوَّل، ويجري الوجهان فيما لو وطئت المرأة بالشُّبهة في صُلْب النكاح، وهي حاملٌ من الزوج، هل يُمْنَع منها قبل الوضْع؟ وخَرَّج مُخرِّجُون هَذا الخِلاَفَ على الخِلاَف في أنه هَلْ تَثْبُت الرجْعة في عِدَّة الشُّبُهة، وفي ذمتها عدَّة الطلاق؟ إنْ قلنا: نعم، جَعَلْنا عدَّة الطلاق التي ستنْتَهي إلَيْها كالموجودة في الحال، فيحرم الوطء وإلاَّ، فلا يَحْرُم، ولو كانت تَرَى الدم على الحَمْل، وجعلْنَاه حيْضاً، فعن القاضِي الحُسَيْن: أن العدة الأخرى تنقضي بالأقراء على قياس ما مَرَّ في العدتَيْنِ مِنْ شخْصٍ واحدٍ، وهذا ضعيفٌ عنْد الإِمام وصاحب الكتاب -رحمهما الله- وقال في "البسيط": لأن فيه مصيرًا إلى تداخُل العدَّتَيْن مِنْ شخصين (¬4)، وهو بعيدٌ على أصْل الشافعيِّ -رضي الله عنه-. وجميعُ ما ذكرنا فيما إذا عُلِمَ أن الولَد منْ هذا أو من ذاك؛ لانحصار الإمكان في هذا أو ذاك ووراءه حالتان: إحداهما: إذا لم يُحْتَمل أن يَكُون الولَدُ مِنْ واحد منهما؛ بأن أتت به لأكثر من أربع سِنِينَ مِنْ طلاقِ الأوَّل، وهو بائنٌ أو رجعيٌّ على قول، ولِمَا دون ستة أشهر من ¬
وطء الثاني، فالولد منفيٌّ عنْهما ولا تنقضي بالوَضْع عدَّةُ واحدٍ منهما على الوجْه الأشهر، بل تكمل بعْد الوضع عدَّة الأوَّل، ثم تستأنف عدة الثاني، وفيه وجه آخر عن الشيخ أبي حامد -رحمه الله-: أنها تَعْتدُّ بالوَضْع عن أحدهما، لا بعينه، لإمْكان كونه مِنْ أحدهما بوطء شبهة يفَرْض من الزوج بعد الطلاق أو يفرَضَ من الواطئ قبل وطئه الظاهر، والإمكانُ كافٍ في انقضاء العدَّة، ثم إذا وضَعَتِ اعتدَّتْ عن الآخر بثَلاَثةِ أقراء، وهذا ما ارتضاه الإمامُ، وقد نقل صاحب"المهذب" الوجهَيْن جميعًا، ويتفرَّع عليهما فرعان: أحدهما: [لو كانت ترى الدم والحالة هذه وجعلناه حيضًا قال الروياني: إن قلنا تنقضي عدة أحدهما بالوضع] لا تعتدُّ بأقرائها؛ لئلا تتداخل، عدَّتان في حقِّ شخصَيْن، وإن قلنا: لا تنقضي، ففي الاحتساب بأقرائها وجْهان: أشبههما: الاحتساب؛ فإنها لم تَعتدَّ بالحمل، كانت كالحائل (¬1)، وهذا ما أورده ابن الصَّبَّاع في "الشامل" وقد يمنع قول القائل: إن القَوْل باعتدادها بالأقراء مع الاعتداد بالحَمْل مُصَيِّرٌ إلى التداخل [بأن] الذي ينكر أن يعتد بالقرء بالواحد مثلاً عن اثنين، وهاهنا لا تعتدُّ بشيْءٍ واحدٍ عنهما جميعًا، بل تعتد عن أحدهما بالحَمْل، وعن الآخر بالأقراء إلا أنَّهما وَقَعا في زمانٍ واحدٍ. الثاني: إن قلْنا: تنقضي بالوضْع لحمْل إحدى العدتَيْن، فلا تصح رجعةُ الزوج في مدة الحَمْل، ولا رجعته في الأقراء بعْد الوضع للشَّكِّ في أن عدته هذه أو هذه، فإن راجَعَ مرَّةً في الحَمْل، وأُخْرى في الأقراء، ففي صحة الرجْعة وجهان مَحكيَّان عن "الحاوي" وسيأتي -إن شاء الله- نظيرهما (¬2). وإن قلْنا: لا تنقضي بالوضع (¬3) واحدةٌ من العدَّتَيْن، فتكمل بعْد الوضع عدَّةُ الأول، وهو الزوج، وله الرجْعة فيه، وهل له الرجْعَة في مدة الحَمْل قبله فيه الوجْهَان السَّابقان. الحالة الثَّانِيَةِ: إذا احْتُمِل أن يكُون الوَلَد من الزوْح، واحتمل أن يكون من الواطئ بالشبهة، فيُعْرَض بعْد الوضْع على القائف، فإن ألْحَقَه بالزَّوْج أو الواطئ، فالحُكْم كما بَيَّنَّا فيما لو اختص الاحتِمَال به، وإن لم يَكُن قائف أو أشْكَل علَيْه أو ألْحَقَه بهما أو نَفَاه عنْهما أو ماتَ الولَد، وفات العرَض، فتنقضي عدَّة أحدهما بوضع الحَمْل؛ ¬
لأنه مِنْ أحدِهِما، ثم تعتدُّ بعد الوضع عن الآخَرِ ثلاثة أقراء؛ لأنه إنْ كان الوَلَد منَ الثَّاني، فعلها بعْد الوَضْع بَقِيَّة عدَّة الأول، وإنْ كان من الأوَّل، فتحتاج بعْد الوضْع إلَى عدَّةٍ كاملةٍ للثاني، فيُؤْخذ بالاحتياط، قال القاضِي الرُّويانيُّ: وقَوْل الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه-: "فإن لم يكن قائفٌ" ليس المراد منه أن لا يوجد في الدنيا، بل المراد أن يوجد في موضع الولد وما قرب منه، وهي المسافة التي تُقْطَع في أقلَّ من يوم (¬1) وليلة، وفي موْضِع العَرْض على القائف كلامان: أحدهما: أن مَوضِعَه ما إذا ادعياه جميعًا، أما إذا ادعَى أحدهما دون الآخر، فوجهان: أشهرهما: العرض أيضًا لِحَقِّ الولَدِ وحَقِّ الشرع في النسب. والثاني: أنه يختص بالذي يدَّعيه كما في الأموال. والثاني: قال في "التتمة": إن كان الطلاقُ بائنًا، فيُعْرَض على القَائِف كما ذكَرْنا، وإن كان رجعيًّا، يُبْنَى على أن الرجْعِيَّة هل هي فراش أم لا؟ إن قلْنا: لا، فكذلك الجَوَاب، وإن قلْنا: إنَّها فراشٌ وأن السنين الأربع في حقِّها تعتبر مِنَ انْقِضاء العِدَّة، فالولَدُ مُلْحَق بالزوج، ولا يُعْرض على القائف، ثم في هذه الحالة الأخيرة مسألتان: أحدهما: إذا رَاجَع الزوجُ في مدَّة الحَمْل يُبْنَى على أن الزوج إذا تأخَّرت عدته؛ لإحبال الواطئ بالشبهة إياها، هل له الرجْعة في مدَّة الحمل؟ إنْ قلْنا: نَعَمْ، صحَّت رجعته؛ لأنه إما زمان عدته أو زمان عدة غيره الذي تصِحُّ فيه رجْعَتُه، وإن قلنا: لا، لم يُحْكَمْ بصحة الرجْعة؛ لجواز أن يكون الحَمْل من وطء الشبهة، فلو بأن بعْد الوضع أنَّ الحَمْل منْه بإلْحَاق القائف، فهَلْ يحْكُم الآن بأنَّ الرجْعة صَحَّتْ وحلَّتْ مَحلَّها؟ فيه وجهان مأخُوذَانِ مِنَ الخلاف فيما إذا باع مالَ مُوَرِّثهِ عَلَى ظَنِّ أنه حيٌّ، فبان أنه كان مَيِّتًا، والأظْهَر الحُكْم بالصِّحَّة، ولو راجعَ بعْد الوَضْع في الأقراء، لم يُحْكم بصحة رجعته أيضًا؛ لجواز أن يكون الحمل منه، وتكون عدته منقضيةً، فلو بان بإلْحاق القائِفِ أن الحَمْل من وطء الشبهة، ففي الحكم الآن بصحَّة الرجْعة الوجهان السابقان، وهذا إذا راجَعَ في القَدْر المستيقن بعْد الوضَعْ من الأقراء دون القَدْر الذي أوجَبْناه احتياطًا. بيانه: لو وطئ الثاني بعْد مضيِّ قرء مِنْ بعد الطلاق، فالقَدْر الذي يتيقن لزومه بعد الوضْع قُرْءان؛ لأنه لو كان الحَمْل من الواطِئ بالشبهة، لم يلزمها إلا بقيَّة عدَّة الطَّلاق، والقرء الثالِثُ إنما نوجبه احتياطًا؛ لاحتمال كوْن الحَمْل من الزَّوْج، فلو راجع ¬
في القرءين بعد الوضع، ثم بأن أن الحَمْل من وطء الشبهة، فهو موضع الوجهين. أما إذا راجَعَ في القرء الثالث، فلا يحكم بالصِّحَّة؛ لأنه لَيْس مِنْ عدَّة الزوج يقينًا ولو راجع مرتين [مرة] (¬1) قبْل الوضع، وأخرى بعده في القرءين، ففيه وجهان: أصحُّهما، وبه قال القفَّال: أن رجعته صحيحةٌ؛ لوقوع إحدى اللفظتَيْن في عدته يقينًا. والثاني: المَنْع؛ للإيهام والتردُّد في كلِّ واحدة منْهما، وأما تجديد النكاح إذا كان الطلاق بائنًا، فينظَر؛ إن نكَحَها مرةً واحدةً، إما قبل الوضع أو بعده، لم نَحْكُمْ بصحَّة النكاح؛ لجواز كونها في عدة الواطئ بالشبهة حينئذ، فإن كان الطلاق بائنًا، فيُنْظَر، إن نكَحَها مرةً واحدةً، إما قبل الوضع أو بعده، لم نَحْكُم بصحة النكاح، فإن بأن أنَّ العدة منه بإلْحاق القائف، ففي "التتمة": أنه على الخلاف المذكور في الرجْعة، قال: وليس ذلك من جنس وقْفِ العُقُود على الإجازة، وإنما هو وقف على ظهور أمر كان عند العَقْد، ولو نَكَحها مرَّتَيْن مَرَّةً قَبْل الوَضْع، ومرةً بعْده كما صوَّرْنا في الرجْعة، فوجهان كما ذَكَرْنا هناك؛ ورأى الإِمام الأصَحُّ هاهنا: المنع، وقال: الرجْعة تحتمل مَا لاَ يحتمل النكاحَ؛ ألا ترى أنها تَصِحُّ في حال الإحرام، ولا يصح النكاح، فجاز أن يحتمل الوَقْفَ، ولا يحتمل النكاح، والوجهان مبنيان على أنه يجوز للزوج تجديد النكاح في عِدَّته وفي ذمَّتها؛ عدة الوطء بالشبهة، وإلا، فيجوز أن يكون الحَمْل من الزوج حينئذٍ، فلا يَصِحُّ واحِدٌ من النكاحين، أما ما قبل الوضع؛ فلأَنَّ في ذمتها عدَّةَ الوطء بالشبهة، وأما بعد الوضع؛ فلكونها في عدة الوطء بالشبهة، ولو نكحها الواطئ بالشبهة قبل الوضع أو بعده في القرءين، لم يَصحَّ؛ لجواز كونها في عدَّة الزوْج حينئذٍ. نعم، لو (¬2) نكَحَها بعد الوضع في القرءَيْن، ثم بان بإلْحَاق القائف أن الحَمْل من الزوج، ففي تبيُّنِ الصِّحَّة الخلافُ السَّابِق، ولو نكَحَها في القرء الثالث، صَحَّ النكاح؛ لأنها في القرء الثالث في عدَّته، إن كان الحْمل من الزوْج، وغير معتدة إن كان الحمل منْهُ. المسألة الثانية: سنذكر -بعون الله تعالى جَدّه- من بَعْد: أن الرجعيَّة تَسْتحق النفقة في العدة، وأن البائنة لا تستحقها إلا إذا كانَتْ حاملاً، وسنذكر قولَيْن في أن تلْك النفقة للحَمْل أو للحَامِل؛ وقولَيْن في أن تلْك النفقة تُصْرَف إليها يومًا بيوم، أو يُصْرَف إلَيْها الجميع عنْد الوضع، وأن المعتدَّة عن وطء الشبهة لا نَفَقَةَ لها على الواطئ، إذا قلْنا: النفقة للحَامِل إذا عرَفَتْ هذه الجمل، فإن جعلْنا النفقة للحامِلِ، وهو الصحيح، فلا ¬
تطالب المرأة بالنفقة مدَّة الحمل المحتمل الزوج، ولا الواطئ، أما الواطئ؛ فلأنه لا نفقة علَيْه على هذا القَوْل، وأما الزَّوْج، فإنما يطالب بالنفقة، إذا كان الحَمْل منه، والحَمْلُ مشكوك فيه، فلا تلزمه النفقة بالشك، فإذا وَضَعت، نُظِر؛ إن ألحقه القائف بالزوج، فلها مطالبته بنفقة مدَّة الحْمل الَّتي مضَتْ، وهذا إذا لم تَصِر فراشًا للثاني؛ بأن لم يوجد إلا وطء شبهة، ويشبه أن يستثنَى زمانُ اجتماعها مع الثاني على قياس ما حَكَيْنا عن "البحر" أنه لا رجْعَة في تلْك الحالة؛ لخروجها عن عدَّته، وإن صارتْ فراشًا له بأن نَكَحَها جاهلاً، وبَقِيَتْ في فراشه إلى أن وَضَعَت، فلا نفقة لها على الزوج؛ لكونها ناشزةً بالنكاح، وإن فَرَّق الحاكم بينهما قبل الوَضْع، طالبته بالنفقة من يوم التَّفْريق إلى يَوْم الوَضْع، ثم لا نفقة لها على الواطئ في عدَّتها عنه بالأقراء، وإن ألحقه القائف بالواطئ بالشبهة، لم يلزمْ واحدًا منهما نفقة مدة الحمل، ولَزِم الزوْج نفقة مدة القرءين بعْد الوضع، إن كان الطلاق رجعيًّا، وفي نفقة زمان النفاس وجهان: أحدهما: لا تَجِب؛ لأنه تابعٌ للحمل ومتولِّد منْه، وليس محسوبًا في عدة الزوج. وأشبههما الوجوبُ كما أنَّ له أن يراجع في زمان النفاس، ويجوز أن لا يكون محسوبًا من العدَّة، وتجب نفقته كزمان الحَيْض الذي طلَّقها فيه، وإن لم يلحَقْه بواحدٍ منهما، أو إذا لم يكن قائفٌ، فلا نفقة على الواطئ، ولا على الزوج، إن كان الطلاق بائنًا؛ لأنَّا لا نَعْلَمُ حال الحَمْل، ولا نفقة، إذا لم يكن حَمْلٌ، وإن كان رجعيًّا، فلا نفقة لمدة كونها فراشًا للثاني، ولها عليه الأقلُّ من نفقتها منْ وقْت التفريق إلى الوضع، ونفقتها (¬1) في القَدْر الذي يكمل عدة الطَّلاَق بعد الوضع، وهو قرءان في المثال الذي تَكَرَّر؛ لأن الأقل منْهما واجبٌ بيقين، [فإنه إن] (¬2) كان الحَمْل من الأول، فنفقة زَمَانِ الحمل عليه، وإن كان من الثاني، فنفقة العدَّة عليه، هذا إذا قلْنَا: إن النفقة للحامل، أما إذا قلْنا: للحمل، فعلى أحدهما نفقةٌ مدةَ الحَمْل بيقين، فإذا أشكل الحال، أنفقا عليه بالسَّويَّة، فإن قلْنا: يصرف الجميع إلَيْها بعْد الوضع، أخذت من كل واحد منهما نصْفَ نفقتها، هكذا رتب أبو نصر صاحب "الشامل"، والقاضي الرُّويانيُّ في "جمع الجوامع" وهو الأقوم، وسيأتي على الأثَر ما يشهد له، ومنْهم مَنْ أطلق القول بأنه لا تطالَبُ واحدٌ منهما بنفقتها في مدة الحَمْل؛ لأنه لا يَدْرِي أن الحَمْل من أيهما هو، ولا يفرق هؤلاء بين قولنا: إن النفقة للحامل أو للحَمْل، وهذا ما أورده في الكتاب، فقال: "ولا تطالَبُ بالنفقة واحدًا منهما [في الحال] وإن قلْنا: يجب على الواطئ بالشبهة؛ لأنه الآن مشكل"، وعلى هذا، فإذا وضعته، فألحقه القائف بالواطئ، ففي الكتاب أنَّه لا تُطَالَبُ ¬
بالنفقة الماضية بِنَاءً على أن نفقة القريب تَسْقط بمُضِيِّ الزمان، وهكذا ذكره الإِمام، والذي أورده صاحب "التهذيب" وجماعة: أنه يُطَالَب بتلْك النفقة، وقالوا: هذه النفقة تَصِير دَيْنًا في الذمة، وليست هي كنفقات الأقارب، قال الإِمام -قدس الله روحه-: ولم يَصِرْ أحدٌ من الأصحاب إلى أنه إذا ألحقه القائفُ بالزَّوْج، لا يُطَالَب بالنفقة الماضية تفريعًا على أنها للحَمْل، وأنها تسْقُطُ بمضي الزمان، والقياس يقتضي المَصِيرَ (¬1) إليه، هذا هو الكلام في نفقة المرأة. وأما نفقة الوَلَدِ بَعْد الوضْع، فَهُوَ عَلَى مَنْ أَلْحَقَهُ القائِفُ به منْهما، وكذا حضانَتُه، فإن لم يكُنْ قائفٌ أو أشْكَلَ عليْه، فالنفقةُ عليْهِما مُنَاصَفَةً إلى أن يُوجَد القائف أو يبلغ الصبيّ، فينتسب إلى أحدهما، وفيه وجْهٌ ضعيفٌ: أنهما لا يطالبان بالنفقة في زمان الإشكال، وفَرَّقوا على المذهب نفقة الولَد، حيث أوْجَبْنَا عليْهما نصفين، وبين نفقة المرأة حيْثُ لا نوجبها في مدَّة الحَمْل تفريعًا على أن النفقة للحَامِل، بان (¬2) وجوبها على أحدهما غير مستيقنٍ؛ لجواز أن يكون الحَمْل من الواطئ بالشبهة، ولا نفقة علَيْه على هذا القول، ونفقةُ الولد يستيقن وجوبها على أحدهما، وليس أحدهما بأوْلَى من الآخر، فوزعناها عليهما، وهذا يَشْهَد لِمَا مرَّ أن نفقتها في مدة الحْمل تَجِبُ عليهما وتوجد منهما إذا فَرَّعنا على النفقة للحَمْل؛ لأنَّا على ذلك القوْلِ نتيقن وجُوبَها عَلَى أحدهما؛ كما نتيقن هاهنا وجوب نفقة الولد، ثم إذا أنفقنا ثم (¬3) لحق الولد أحدهما إما بإلحاق القائف أو بانتسابه، فيرجع الآخر علَيْه بما أنفق بشرطَيْن: أحدهما: أن يكون الإنفاقُ بإذْن الحاكم، وإلا، فهو مُتَبَرِّعٌ. والثاني: أن لا يكونَ مُدَّعِيًا للوَلَدِ، فإن كان يدَّعِيه، فلا رجُوع له؛ لأنه أنْفَقَ عَلَى ولده بزعمه، ويتعلق بما نَحْن فيه فرعان: أحدهما: لو مات المولودُ في زمان الاشكال، فتَكْفِينُه عليهما كنفقته، وللأم من ماله الثُّلُثُ، والباقي يوقف بيْن الواطئ والزوج، حتى يصطلحا، فإن كان لها ولَدَان آخرَانِ، أو كان لكلِّ واحدٍ من الزوج والواطِئ ولدان آخران، فلها السُّدُس، فإن كان لأحدهما ولدان دون الآخر، ففيما للأم وجهان: أحدهما: الثلث؛ للشَّكِّ في أنَّهُما أخَوَانِ للميِّتِ أَمْ لا. والثاني: السدس؛ لأنه متيقنٌ. ¬
الثاني: أوصى إنسانٌ لهذا الحَمْل بشيْءٍ، وانفصل حيًّا، ثم مات، نُظِر؛ إن مات بعد قبول الزوج والواطئ الوصية، فالوصية مستقرة؛ لأن أحدهما أبوه، والمال لورثته، كما تبيَّن، وإن مات قبل أن يَقْبَلاَ، فحَقُّ القبول للورثة، ولو سَمَّى المُوصِي أحدَهُما؛ فقال: أوصَيْتُ لحَمْل فلان، فإن ألحقه القائف بغير المسمَّى، بَطَلَت الوصية، وإن ألحقه به صَحَّت، فإن نفاه باللعان، ففي بطلانها وجهان: وقوله "ويحتمل الرجعة هذا الوقف" كأنه يعني بالوَقْف ما في كل واحد من الرجعتين من التردُّد والتَّوقُّف. وقوله "ولو اقتصر على إحداهما لم يحل" ليعلم بالواو؛ لما قدمناه، ويُشْبِه أن يرجح الحلُّ إذا اقتصر على الرجعة قَبْل الوضع، وليعلم أيضًا قوله "فإن قلنا يجب على الواطئ بالشبهة" بالواو، والأشْبَهُ أنها تُطَالِب على هذا القول، وكذا قوله "وإن قضى للواطئ فلا والأقرب المطالبة". قَالَ الغَزَالِيُّ: (فُرُوعٌ: الأَوَّلُ) العِدَّتَانِ مِنْ حَرْبِيَّيْنِ تَتَدَاخَلاَنِ عَلَى النَّصِّ لِأَنَّ اسْتِيلاَءَ الثَّاني يُبْطِلْ حَقَّ الأَوَّلِ* وَقِيلَ: قَوْلاَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ما ذكَرْنا أن العدَّتَيْن مِنْ شخصين لا تتداخلان، كان في الشخصَيْنِ المُحْتَرَمَيْنِ، فأما إذا طلَّق الحربيُّ زوجتَهُ فوطئها في العدَّة، حربي آخر بشبهة أو نكحها، ووطئها ثم أسلَمَتْ مع الثاني أو دَخَلاَ بأمان، وتَرَافَعَا إلينا، فقد حُكِيَ عن النصِّ أنه لا يجمع علَيْها بين عدتين، بل يكفيها واحدةٌ من يوم إصابة الثَّانِي، ورُبَّما نُسِبَ هذا النَّصُّ إلى باب التعريض بالخِطْبة، وعن القاضي أبي عليٍّ البندنيجي: إسناده إلى "الجامع الكبير" للمزنيِّ -رحمه الله- واختلف الأصحابُ في المَسْألَة على ثلاثة طرق: أحدها: القطْع بأنه لا تَكْتَفِي بعِدَّةٍ واحدةٍ، بل تُكَمِّلُ عدة الأوَّل، وتَسْتأنِفُ عدة الثاني كما في العدَّتَيْن عن مسلمَيْنِ، وذلك لأن العدَّة معتَبَرة في حقِّ الكفار، كما هي معتَبَرة في حقِّ المسلمِينَ، فيتساويان في حُكْمها، وهؤلاء لم يُثْبِتوا رواية النص. والثاني: أن المسألة على قولَيْن: أحدهما: هذا. والثاني: الاكتفاء بِعِدَّةٍ واحدة، لأنَّ حقوقهم ضعيفة، وماؤُهم غير محتَرَمٍ، فيراعى أصْل العدة، ويجعل جميعهم كالشخص الواحِدِ على هذه الطريقة، فالقول الثاني منْصوصٌ، والأول مُخرَّج من المَذْهب المقرّر في العدَّتَيْن منْ مسلِمَيْن، ونقل الشيخ أبو الفرج السرخسي، والقاضي الرُّويانيُّ: أن بعضهم خَرَّج من هذا النص فيما إذا كانت العدَّتان
من مسلِمَيْنِ أيضًا، وجَعَل الصورتَيْن على قولَيْن نقلاً وتخريجًا، وهذا غريبٌ (¬1) ضعيف. والثالث: الأخْذُ بما نص عليه هاهنا، والقطْع به، وإذا قلنا: تَكْتفي بعدَّة واحدةٍ، فكيف التقدير؟ فيه طريقان: أحدهما: أن بقية العدة الأُولَى لا تَدْخُل في الثانية، بل تسقط؛ لأن حقوق الحربيين ضعيفةٌ متعرِّضة للسقوط بقهر الغير واستيلائه؛ ألا ترى أن الحرْبِيَّ يُسْتَرَقُّ، فتَبْطُل حقوقه في نفْسه وَتُسْتَرَقُّ زوجته، فيبطل نِكَاحُه، وتسترق مُعْتَدَّتُه، فتسقط العدَّة، ولو قهر حربيٌّ زوجة حربىِّ، يرتفع نكاح الأول، فكذلك استيلاء الثاني يبطل حقَّ الأوَّل. والثاني: أن بقية العدَّة الأُولَى تدخل في الثانية، بخلاف عِدَّتَي المسلِمَيْنِ، وفرق بأن العدة عن الشخص المحترم تمنع سبب عدَّة أُخْرَى فلا تنقضي العدة الأخرى بالأقراء التي يمُرُّ بها حتى تتم العدَّة الأولى، والعدة عن غير المحترم (¬2) لا تمنع سبب عدة أخرى، حتى لو نكَحَها في العدَّة، وأسلما بعْد إنقضائها يُقَرَّانِ على النكاح، وإذا لم يمنع سبب عدة أخرى، لم يمنع ثُبُوت عدة أخرى، فجاز أن يجْتَمعا، والثانيةُ أقْوَى من الأولَى، فتدخل بقية الأولى فيها، وقد يختصر، ويقتصر على حاصل الخِلاَف، ويقال: في المسألة وجهان: أحدهما: تُكْمِل عدَّةَ الأولَى ثم تَعْتَدُّ عن الثاني. والثاني: يَكْفِيها عِدَّةٌ واحدةٌ منْ وقْت إصابة الثاني، والأرْجَح منْهما: الأوَّل عنْد الإِمام والقاضي الرُّويانيُّ، وعليه جَرَى الأودني في المناظرة -رحمهم الله تعالى- والثاني عند البندنيجي وصاحب "التهذيب"، ونظْمُ الكتاب إلى هذا أقْرَبُ، ثم ذكر أبو سعْد المتولِّي -رحمه الله- أنه لو أسْلَمَتِ المرأةُ ولم يُسْلم الثاني، فلا بد من أن تكمل العدةَ ¬
الأُولَى، ثم تعتدَّ عن الثاني؛ لأنَّه ليستِ العدَّة الثانية أقوى هاهنا، حتَّى تسقط بقية الأُولَى أو يدخل فيها، وأنَّ الأوَّل لو كان قد طلَّقها طلْقةً رجعيةً، وأسلمت مع الثاني ثم أسْلَم الأوَّل، وأراد الرجْعَة، فله الرجعة في بقيَّة عدته إن قلنا بدخولها في العدة الثانية، وإن قلنا بسقوطها، فَلاَ، وأنه، لو أراد الثاني أن ينكحها، فله ذَلِكَ، إنْ قلنا بسقوط بقيَّة العدَّة الأولى؛ لأنها في عدته، وإنْ قلنا بدخولها في الثانية، فلا، حتى تنقضي تلْك البقية، وأنَّها إن كانت حاملًا من الأول، لم يكْفِها عدةٌ واحدةٌ بل تستأنِفُ بعد الوضْع عدَّةَ الثاني، وان أحبلها الثاني، فإن قلنا: إن بقية العدة الأولى تَسْقُط، فكذلك هاهنا، ويكفيها وضْع الحَمْل، وإن قلْنا بالتداخل، فتعود بعْد الوَضْع إلى بقيَّة الأُولَى؛ لأن الحَمْل ليْسَ من الأوَّل، فلا تنقضي به عدته (¬1). ولو طلَّق الحربيُّ زوجَتُه، فوطئها في العدَّة حربيٌّ آخرُ في نكاح، وطلَّقها، جَرَى فيه الخلاف، وفيه صور الإِمام وصاحب الكتاب -رحمهما الله- في "الوسيط" المسألة، ويجوز أن يُعْلَم قوله في الكتاب "على النص" بالواو؛ لإنكار من أنكر النص. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِي): البَائِنَةُ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ يُعَاشِرُهَا عَلَى الأَقْيَسِ (و) * وَالرَّجُعِيَّةُ لاَ تَنْقَضِي عِدَّتهَا مَعَ المُجَالَسَةِ عَلَى الأَظْهَرِ* فَإِن طَالَتِ المُفَارَقَةُ ثُمَّ جَرَتْ خَلْوَةٌ احْتَمَلَ أَنْ تَنْقَطِعَ وَاحْتَمَلَ أَنْ يُبْنَى مَا بَعْدَهَا عَلَيهَا* وَمُخَالَطَةُ الأَجْنَبِيِّ لاَ تَمْنَعُ العِدَّةَ* وَمُخَالَطَةُ الزَّوْجِ فِي النِّكَاحِ الفَاسِدِ بَعْدَ انْجِلاَءِ الشُّبْهَةِ لاَ يُؤَثِّرُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا طلَّق زوجته، وهجرها، أو غاب عنها، انقضتْ عدتها بمضيِّ الأقراء أو الأشهر، ولو لم يهجُرْها، بل كان يطؤها، فإن كان الطلاق بائنًا، لم يمنع ذلك انقضاء العدة؛ لأنَّه وطأه زِناً لا حرمة له، وإن كان رجعيًّا، قال في "التتمة": لا تَشْرع في العدَّة ما دام يطؤها؛ لأن العدَّة لبراءة الرَّحِم، وهي مشغولَةٌ بما يشغل الرحم، وإن كان يطؤها، ولكن يخالِطُها ويعاشرها معاشرةَ الأزواج، في انقضاء العدَّة وجهان: أحدهما: أن ذلك يمنع الاحتساب؛ فإنَّها تشبه الزوجاتِ دون المطَلقات. والثاني: لا يمنع؛ لأن المخالطة لا تقتضي عدَّة، فلا يمنع مضيَّ العدة بخلاف الوطء، وهذان الوجهان أطلقهما أبو سعْد المتولِّي، هكذا، ولم يفرِّق بين الطلاق البائن والرجعىِّ، كذلك نقل صاحب الكتاب في "الوسيط"، وأضاف وجْه المنع إلى قدماء الأصحاب، وحكي عن المحقِّقين أن القياس الاحْتِساب؛ لأن أمْر العِدَّة مبنيٌّ ¬
على مضيِّ المدة والإخلال بما فيها من الواجبات؛ كالإحداد، وملازمة المسكن لا تمنع انقضائها، فكذلك الإخلال بالاعتزال (¬1)، ثم حكي عن القاضي الحُسَيْن الفَرْق بين أن يكون الطَّلاق بائنًا أو رجعيًّا، فإن كان بائنًا، لم يمنع انقضاء العدة بالمخالطة والمعاشرة، وإن كان رجعيًّا امتنع وهذا الوجْه كوجْه فارق مضموم إلى الوجهَيْن المُطْلَقَيْن، وهو الحاصل مما رجَّحه صاحب الكتاب، وبه أخذ الأئمة -رحمهم الله- منْهم القَقَّال، وبه أجاب صاحب "التهذيب" في الفتاوى، وهو المذكور في "التهذيب"، وفي "الحلية" للقاضى الرُّويانيِّ، وفرق بأنه إذا كان الطلاق بائنًا، فالمخالطة محرمة بلا شبهة، فلا تؤثِّر في العدة كوطئها الذي هو زنا، وفي الرجعيَّة الشبهةُ قائمةٌ، وهو بالمعاشرة والمخالطة مستفرش لها، فلا يُحْسَب زمانُ الاستفراش من العدَّة، كما لو نكحت زوجًا في العدة، وهو جاهل، لا بحسب زمان افتراشه، فلا بد [من] (¬2) أن يقوى بالاعتزال، ومخالطةُ الأجنبيِّ لا تؤثِّر، كما أن وطاه لا يؤثر، فإن كانت المخالطة عن شُبْهة، فيجوز أن لا تُحْتَسب كما مَرَّ أنها في زمان الوطء بالشبهة خارجةٌ عن العدة، ومخالَطَةُ الزوْج بعْد ظهور الحال وانجلاء (¬3) الشبهة كمخالطة الأجانب، ثم في الفرع فائدتان: إحداهما: قال الشيخ الفراء -رحمه الله - في الفتاوى الذي عنْدي أنَّه لا رجعة للزوج بعد انقضاء الأقراء، وإن لم تنقض العدَّة بسبب المفارقة أخْذًا بالاحتياط من الجانبين، كما لو وطئ الرجعيَّة بعْد مضيِّ قرءين منْ وقت الطلاق، عليها أن تعتد بثلاثة أقراء منْ وقت الوطء، ولا تجوز الرجْعة في القرء الثالث منْها، وفي فتاوى القَفَّال -رحمه الله- ما يوافق هذا، وأما لحوق الطَّلْقة الثانية والثالثة، فيستمر إلى انقضاء العدة، فإنه مُقْتَضَى الاحتياط، وقد صرَّح به الرُّويانيُّ في "حليته". والثانية في "البسيط": أنه يكفي في الحكم بالمعاشرة الخَلْوة، ولا يكفي دخول دار هي فيها، ولا يُشْترط تواصُلُ الخَلوة، بل يكفي أن يَخْلُوَ بها الليالي، ويفارقها الأيام، كما هو المعتاد بين الزوجين، ولو طالت مدة المفارقة، ثم جَرَتْ خَلْوة، ففيه احتمالان مذكوران في الكتاب: أحدهما: تنقطع العدَّة، ويجب الاستئناف؛ لأن تلفيق أوقات المفارقة بعيدٌ. وأشبههما: البناء على ما مَضَى، وأُجُرِيَ الخلاف في الفَرْع فيما إذا طَلَّق زوجته ¬
الأمة، فأخَذ السيد في معاشرتها، هل يمنع ذلك من الاحتساب بالعدَّة؟. قال صاحب "التهذيب" في الفتاوى: وإذا طلَّق زوجته ثلاثًا، ونكحها في العدة على ظن أن عدَّتها قد انقضت، وأنها نكحت زوجًا آخر، فينبغي أن يقال: زمان استفراشه إيَّاها لا يُحْسب من العدة، كزمان استفراش الرجعيَّة، وهذا كما ذكرنا في مخالطة الأجنبي بالشبهة، وجميع ما ذكرناه فيما إذا كانت حائلاً، أما المعتدة بالحَمْل، فلا شك أن معاشرتها لا تَمْنع انقضاء العدة بالوَضْع. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثُ) إِذَا نَكَحَ مُعْتَدَّةً عَلَى ظَنِّ الصِّحَّةِ انْقَطَعَتْ عِدَّةُ النِّكَاحِ* وَتَنْقَطِعُ بِمْجَرَّدِ العَقْدِ أَوْ بِمُجَرَّدِ الزِّفَافِ أَوْ بِحَقِيقَةِ الوَطْءِ فِيه تَرَدُّدٌ* وَلاَ تُحَرَّمُ (م) المُعْتَدَّةُ عَلَى نَاكِحِهَا عَلَى التَّأْبِيدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صورتان: إحداهما: عرف (¬1) أنه إذا نكح معتدة على ظنِّ الصحة ووطئها، لم يُحْسب زمان استفراشه إيَّاها عن عدَّة الطلاق، ومِنْ أي وقت يُحْكَم بانقطاع العدة؟ فيه وجهان: وقيل قولان: أحدهما، وبه قال القفَّال الشاشيُّ -رحمه الله- مِن وقْت العقد؛ لأنها بعقد النكاح مُعْرِضة عن عدة الأول. وأصحهما: من وقت الوطء لأنَّ النكاح الفاسد لا حرمة له، ولا تُجْعل المرأة فراشًا ما لم يوجد الوطء فإن قلْنا: من وقت العقد، فلو لم تُزَفُّ إليه، فجواب الإِمام، وهو الأقوى: أنه يَتَبَيَّن أن العدة لم تنقطع؛ لأنه لم يوجد إلا لفْظ فاسدٌ، وذلك بعيد عن تأثُّر العدَّة، وحكاية غيره عن الشاشيِّ تفهم أن مجرَّد النكاح قاطعٌ وإن لم يوجد وطء وزفاف، وإذا زُفَّت إليه، فكان يخلو بها ويعاشرها ولكن لم يطأها، فهل يكون ذلك كالوطء؟ أشير فيه إلى تردُّد، ويمكن أن يوجد ذلك من الخلاف؛ في أن مخالطة الرجعيَّة هل هي كوطئها؟ وأفصح صاحب "التجريد" بذكر الخلاف وروايته، فقال: لو تزوَّج امرأةً بنكاح فاسد، وخلا بها ولم يطأْها، هل تصير بهذه الخَلْوة فراشًا؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن الخَلْوة تُسلَّط على الإصابة، فصارت كالاصابة، ذكره أصحابنا الخُرَاسانِيُّون. والثاني، وهو الصحيح: أنها لا تصير فرشًا ما لم يطأْها؛ لأن العَقْد فاسد، ¬
فأقيمت الخَلْوةُ أو المخالطة مقام الوطء، فتنقطع العدة بالعَقْد المستعقب للخلوة، كما تنقطع بالعقد المستعْقب للوطء، وإذا قلْنا إن الانقطاع من وقت العقد، فينقطع بالزَّفَاف كما ينقطع بالوطء، إذا قلنا بالقول الآخر، ويخرج من ذلك ثلاثة مذاهب فيما تنقطع به العدة، كما أشار إليها في الكتاب. الثانية: الجديد الصحيح أن المعتدَّة لا تُحرَّم مؤبدًا على من نَكَحَها في العدَّة جاهلاً ووطئها، وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-، واحتج له بأنه وطء شبْهة، فلا يقتضي التحريم المؤبَّد، كالوطء [في] (¬1) النكاح بلا وليِّ ولا شهود، وعن القديم: أنها تُحَرَّم عليه على التأبيد، وبه قال مالك. [ووجِّه بأنه استعجل الحق، قبل وقته، فأورث الحرمان] كما لو قتل مورِّثه، وعن أحمد -رحمه الله- روايتان، كالقولين، ومن الأصحاب مَنْ لم يجْعل المنقول عن القديم قولاً للشافعيِّ، وقال إنَّه يُحْكَى مذهب الغَيْر، وذكر الذين سلَّموه وجهَيْن في أن التحريم المؤبَّد، هل يشترط فيه تفريق الحاكم؟ فعلى وجْه، لا بد فيه من الحاكم، كتفريق اللعان، وعلى وجه: لا حاجة إليه كتحريم الرضاع، ونقل القاضي الرُّويانِيُّ إجراء القول القديم في كل وطء يفسد النسب كوطء زوجته الغير أو أمته بالشبهة. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرَّابعُ) إِذَا رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَفِي جَوَازِ الاكْتِفَاءِ بِبَقِيَّةِ العِدَّةِ السَّابِقَةِ قَوْلاَنِ* وَإِنْ كَانَتْ بَائِنَةً فَجَدَّدَ نِكَاحَهَا ثُمَّ طَلَّقَ قَبْلَ المَسِيسِ يَكْفِيهَا (ح) بَقِيَّة العِدَّةِ السَّابِقَةِ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةِ عَادَتْ إِلَى نِكَاحِ كَانَ فِيهِ وَطْءٌ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لاَ تَسْتَأْنِفُ* وَحَيْثُ نَقُولُ بِالاسْتِئْنَافِ فَلَوْ كَانَتْ حَامِلًا فَيَكْفِيهَا وَضْعُ الحَمْلِ* وَلَوْ رَاجَعَهَا فَوَضَعَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَقُلْنَا بِالبِنَاءِ رَجَعْنَا إِلَى قَوْلِ الاسْتِئْنِافِ لِلضَّرُورَةِ وَتَعَذُّرِ البِنَاءِ* وَقِيلَ: سَقَطَتْ عَنْهَا البَقِيَّةُ للتَّعذُّرِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ* أَمَّا إِذَا رَاجَعَ الحَائِلَ فِي الطُّهْرِ الثَّالِثِ ثُمَّ طَلَّقَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهَا إِذْ بَعْضُ الثَّالِثِ كَجَمِيعِهِ فَلاَ بَقِيَّةَ عَلَيْهَا* وَقِيلَ: البَعْضُ مِنْ أَوَّلِ الطُّهْرِ لاَ أَثَرَ لَهُ فَعَلَيهَا قُرْءٌ آخَرُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا طلق امرأته طلاقًا رجعيًّا، ثم راجعها انقطعَت العدة بالرجْعة، فإن طلَّقها بعْد ذلك، فإما أن تكون حائلاً أو حاملاً. الحالة الأولى: أن تكون حائلاً، فيُنْظر؛ إن مسها بعد ما راجَعها، فلا بد من استئناف العدَّة؛ لأن المسيس يقتضي عدةً كاملةً، فإن لم يراجعْها ولم يَمَسَّها، فقولان: القديم، وُيرْوى عن مالك: أنها تبنى (¬2) على العدة السابقة، وتكفيها أيامها؛ لأنها ¬
حُرِّمت عليه بالطلاق الأول، ولم يمَسَّها في الحل المستحدث، فأشبه ما إذا أبانها ثم جدَّد نكاحها، وطلَّقها قبل أن يَمَسَّها، فإنها تبني. والجديد، وبه قال أبو حنيفة والمُزنيُّ: أنها تستأنف؛ لأنها بالرجْعة عادت إلى النكاح الذي مَسَّها فيه، فالطلاق الثاني طلاقٌ في نكاح وُجِد فيه المسيس، وصار كما إذا ارتدَّت المرأة بعْد المسيس وعادَتْ إلى الإِسلام ثمَّ طلَّقها تستأنف العدَّة، فإذا قلْنا بالبناء، فلو راجَعَها في خلال طُهْر مثل أن يراجعها في الطهر الثالث، فهَلْ يحسب ما مَضَى من الطهر قرءاً؟ حكى في الكتاب فيه وجهَيْن: أحدهما: نعم؛ لأن بعْض القرء نازل منزلة جميعه؛ فعَلَى هذا إذا كانت الرجْعة في الطهر (¬1) الثالث، ثم طلَّقها، فلا شيء عليها على قول البناء؛ لتمام الأقراء بما مضَى. والثاني: لا، وعليها في هذه الصورة قرء ثالث، وإنما يجعل (¬2) بعض الطهر من آخره قرءاً؛ لاتصاله بالحيض، ودلالته على البراءة، وأما البَعْض من الأول، فلا معْنَى لجعله قرءاً، ونظْم الكتاب يقتضي ترجيح الوجْه الأول، ونسبه في "البسيط" و"الوسيط" إلى القَفَّال، ونسب الثاني إلى الشيخ أبي محمَّد، والظاهر الثاني، وهو الذي أورده صاحب "التتمة" والقاضي الروياني، وحكاه الرُّويانيُّ عن القفَّال، والله أعلم. الحالة الثانية: أن تكون حاملاً، فإن طلَّقها ثانية (¬3) قبل وضع (¬4) الحمل، انقضت عدتها بالوضع، مسَّها أو لم يَمَسَّها، والبقيَّة إلى الوضع تصلح أن تكون [عدةً] (¬5) مستقبلة، وإن وضعت ثم طلَّقها، فإن مَسَّها، إما قبل الوضع أو بعده، فعليها استئناف العدَّة بالأقراء، وإن لم يمَسَّها، فإن قلْنا: الحامل تستأنف، فكذلك هاهنا، وإن قلْنا هناك بالبناء، فتتعذر [بناء] (¬6) الأقراء على الحَمْل، وفيها وجهان: أظهرهما: أنها تستأنف العدَّة بثلاثة أقراء؛ لأنه طلاق في نكاح وُجِدَ فيه المسيس، على ما ذكرنا، فيوجب العدَّة، والوضْعُ حَصَل في صُلْب النكاح، والعدَّة لا تنقضي بما يُوجَد في صُلْب النكاح. والثاني: أنه لا عدَّة عليها، ويحكم بانقضائها بالوضْع، وإن كانتْ تحت الزوج، ويجوز أن تنقضي العدَّة بالحَمْل تحت الزوج، وإن كانت لا تنقضي بالأقراء والأشْهُر تحته، كما أن المعتدة لو وطئها واطئ بالشبهة، وأحْبَلَهَا، تنقضي عدتها عن الوطء بوضع الحمل، ولولا الحمْلُ، لكان لا ينقضي بالأقراء والأشهر؛ لاشتغالها بعدَّة الزوج، فهذا إذ ¬
راجعها ثم طلقها ثانياً. ولو لم يراجعْها، وطلَّقها طلقةً أخرَى، ففيه طريقان: أحدهما: أن وجوب الاستئناف على القولَيْن؛ لأن الطلاق مَعْنى لو طرأ على الزَّوْجة الممسوسة أوجب العدَّة، فإذا طرأ على الرجْعية أوجبها كالوفاة. والثاني: القطْع بالبناء؛ لأنَّ الطلاق الثاني يُؤَكِّد الأول والعدَّةَ منْه، بخلاف الرجعة، فإنها تضادُّه فتنقطع العدة، [و] (¬1) لأنهما طلاقان لم يتخلَّلْها وطء [ولا رجعة،] (¬2) فصار كما إذا طلقها طلقتين معاً، وبهذه الطريقة قال أبو إسحاق، ورجَّحها غير واحد من الأصحاب، وبالأُولَى قال الإصطخريُّ وابن خيران، ورجَّحها القفَّال، واحتج بأن للشَّافعيِّ -رضي الله عنه- قولاً في "الإملاء" فيما إذا قال لامرأته: كلَّما ولدتِّ ولداً، فأنتِ طالقٌ، وولدت ثلاثة أنها تُطلَّق بالثالث الطلقة الثالثة، وأنها تستأْنف الأقراء، وذلك لا يُخَرَّج إلا على قولنا: إن الطلقة اللاحقة توجب استئناف العدة، وقد مرت المسألة في موْضِعِها، والظاهر هاهنا البناء، وإن قلنا بطريقة الخلاف، ولو راجعها ثم خالعها، فإن جعلْنا الخُلْع طلاقاً، فهو كما لو طلَّقها بعد الرجعة، وإن جعلْناه فسخاً، فطريقان: أحدهما: أن وجوب الاستئناف على القولَيْن في الطَّلاق. والثاني: القطْع بالاستئناف؛ لأن الفَسْخ ليس من جنْس الطلاق، فلا تبنى عدَّة أحدهما على عدة الآخر، وهذا أظْهَر عند القاضي الرُّويانيِّ -رحمه الله-، ويجري الطريقان في سائر الفُسُوخ، وذلك مثْل أن ينكح عبْدٌ أمَةً ثم يُطلِّقها طلاقاً رجعيّاً ثم تُعْتَق الأمة، ويفسخ النكاح. هذا كلامُنا في الطلاق الرجعيِّ. ولو طلَّق امرأته الممسوسة على عوض أو خالَعَها، فله أن ينكحها في العدَّة، وفي "المهذب" أن المزنىِّ لم يجوز له أن يَنْكِحَها، كما لا يجوز لغيره، وهو غريبٌ، وإذا نكحها، فعن ابن سريج: أنَّه لا تنقطع العدَّة ما لم يطأْها كما لو نكحها أجنبيٌّ في العدَّة جاهلاً. والصحيح: أنه تنقطع بنفس النكاح؛ لأنَّ نكاحَه صحيح، وإذا صارت المرأة زوجةً له، لم يجز أن تكون معتدَّة منه، ونكاح الأجنبىِّ فاسدٌ؛ وعلى هذا فلو طلَّقها بعْد التجديد، نُظِرَ؛ إن كانت حاملاً، انقضت عدتها بوضْع الحمل، وإن كانت حائلاً، فإن لم يدْخُل بها، بنت على العدة السابقة، ولم يَلْزمْه إلا نصْف المهر؛ لأن هذا نكاحٌ جديد طلَّقها فيه قبل المسيسى، فلا تتعلَّق به العدة وكمال المهر، بخلاف ما سبق في الرجعية، فإنها تعود بالرجعة إلى ذلك النكاح. ¬
وقال أبو حنيفة: تستأنِفُ العدَّة، ويكمل مهرها، والله أعلم. وأما لفْظ الكتاب فقوله "إذا راجعها ثم طلَّقها" يعني قبل أن يَمَسَّها، وفي تصريحه بذلك في مسْألة البائنة بعْده ما يفهم. وقوله: "يكفيها بقيَّة العدة السابقة" ليعلم بالحاء وفي قوله "فالصحيح أنها لا تستأنِفُ" يمكن حَمْله على الصحيح من الطريقَيْن كما اختاره مختارون، وبمكن حمله على الصحيح من القولَيْن، جواباً على طرد الخلاف، وقوله فيما إذا وضعت بعد الرجعة ثم طلَّقها، "وقيل سقطت عنها البقية للتعذر" يجوز أن يقال معناه: إن البقية كان من حقِّها أن لا تكون في صلْب النكاح، فإذا وقعَتْ فيه، وتعذَّر تداركها، سَقَطَت، ولم يبق شيء تبنيه على ما مضى. وقوله "أما إذا راجع الحائل في القرء الثالث" لما تأخَّرت الصورة عن الكلام في الحامل، احتاج إلى لَفْظ الحائل، ولو تقدَّمت عليه، لكان أحْسَنَ من تفرعه على قوْل البِنَاء، وإن لم يتعرَّض لفْظ الكتاب له، وأما على قول الاستئناف، فعليها ثلاثة أقراء أخرى. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الخَامِسُ) إِذَا خَالَعَ المَمْسُوسَةَ ثُمَّ جَدَّد وَوَطِئَ وَخَالَعَ انْدَرَجَتِ البَقِيَّةُ الأُولَى تَحْتَ هَذِهِ العِدَّةِ* وَإِنْ مَاتَ فَهَلْ تَنْدَرجُ تِلْكَ البَقِية تَحْتَ عِدَّةِ الوَفَاةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ذكرنا الآن أنه إذا خَالَع الممسوسة، ثم جدَّد نكاحها ومسَّها، ثُمَّ طلَّقها أو خالَعَها (¬1) ثانياً، يلزمها استئناف العدَّة، ويدخل في العدة المستأنفة بقية العدة السابقة على قياس ما ذكَرْنا فيما إذا طلَّق ثم وطئ في (¬2) العدَّة في الصورتين جميعاً مِن شَخْص واحد، ولو مات هاهنا بعد التجديد، فقد حكى صاحب الكتاب وجهَيْن في اندراج تلْك البقية تحْت عدة الوفاة؛ لأن عدَّة الطلاق وعدة الوفاة مختلفا الجنْس (¬3)، وهما كالوجهَيْن في التداخُل فيما إذا وطئ الزوْجُ المعتدَّةَ عن الطلاق، كانت إحدى العدتين بالحمل، والأخرى بالأقراء، واعلم أن نصْب الوجهين في الاندراج وعَدَمِه يُشْعر بلزوم البقية، ورد النظر إلى أنها هل تَدْخُل في عدَّة الوفاة؟ والذي أورده صاحب ¬
القسم الثاني من الكتاب في عدة الوفاة والسكنى
"التهذيب" وغيره -رحمهم الله- أن تلْك البقيَّة تسْقُط كما لو مات عن الرجعيَّة يسقط ما بقي من عدتها، ويكفيها عدَّة الوفاة بلا خلاَفٍ، وهذه فروعٌ تتعلَّق بالباب نختمه بها. نكحت المعتدَّة من الوفاة بعْد مضي شهرين مِنْ عدتها مثلاً، ووطئها الزوج جاهلاً، وأتت بولَدٍ يمكن أن يكون منْ كل واحد منْهما، ولا قائف، فعدتها تنقضي بوضْع الحمل مِنْ أحدهما، وعليها بعْد الوضع أقصى الأمرين مِنْ بقية عدة الوفاة أو ثلاثة أقراء، فإن مضت الأقراء قبل تمام عدة الوفاة، فعليها إكمال عدة الوفاة؛ لاحتمال أن يكون الحَمْل مِنَ الثَّانِي، وإن مضَتْ بقية عدَّة الوفاة قبْل تمام الأقراء، فعليها إتمام الأقراء؟ لاحتمال أن يكون الحَمْل منَ الأوَّل. وطئ الشريكان الجارِيَةَ المشتركةَ، فعليها الاستبراء عنْ كلِّ واحدٍ منهما، ولا يتداخل الاستبراءان كما لا تتداخل العدَّتان عن شخصين، ونقل الرُّويانيُّ وجهاً: أنه يكفيها قرءٌ واحدٌ عنْهما، وضعَّفه. أحبل امرأة عن وطء شبهة، ثم نكَحَها، ومات عنْها قبْل أن تضع الحَمْل، فهل تنقضي عدَّة الوفاة بوضع الحَمْل؟ فيه وجهان: لابن سريج في وجْه: تنقضي، وفي وجه: أنها تنقضي إذا مضى أكثر الأجلين من وضع الحمل ومدة عدة الوفاة، ولو طلَّقها بعد الدخول، ففي انقضاء العدتين بالوَضْع الوجهان. القِسْمُ الثَّانِي مِنَ الكِتَابِ فِي عِدَّةِ الوَفَاةِ وَالسُّكْنَى* وَفِيهِ بَابَانِ قَالَ الغَزَالِيُّ: (الأَوَّلُ فِي العِدَّةِ) وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ وَإِنْ لَمْ تَحِضْ (م) * فَإِنْ كَانَتْ حَامِلاً فَلَوْ وَضَعَتْ فِي الحَالِ حَلَّتْ لِلأَزْوَاجِ (و) وَيَحِلّ لَهَا غَسْلُهُ بَعْدَ الوَضْعِ وَبَعْدَ نِكَاحَ زَوْجٍ آخَرَ أَيْضاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا مات زوْجُ المرأة، لزمتها عدَّة الوفاة بالإجماع والنصوص، وعدةُ الوفاة، إن لم تكن المرأة حاملاً، أربعةُ أشهرٍ وَعَشَرَةُ أيام بلياليها؛ قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وكانت هذه العدَّة في ابتداء الإِسلام بسنة على ما قال تعالىَ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} الآية [البقرة: 240] ثم نُسِخَتْ وتستوي في عدَّة الوفاة الصغيرة والكبيرة وذات الأقراء وغيرها، والمدخول بها، وغيرها؛ أخذاً بإطلاق الآية؛ ولم تُخَصَّص بالمدخول بها، بخلاف قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] حيث خَصَّصت بالمدخول بها؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:
49] ولا يقاس المتوفَّى عنها على المطلَّقة؛ لأن عدَّة الوفاة لو شرط فيها الدخول لم يُؤْمن أن ينكر الدخول، حِرْصاً على الأزواج، وليس هاهنا من ينازعها، فيقضي الأمر إلى اختلاط المياه، وفي المطلَّقة صاحق الحق حَيّ ينازع، فلا يتجاسر على الإنكار (¬1) وأيْضاً ففُرْقَة الموت لا اختيار فيها، فأُمِرَتْ بالتفجع وإظهار الحزن؛ لفراق الزوج، ولذلك وجب فيه الإحداد، وفُرْقة الطلاق تتعلَّق باختيار المُطَلِّق، وقد جفاها بالطلاق، فلم يكن عليها إظهار التفجُّع والحزن، وأيضاً، فالمقصود الأعظم في عدة الطلاق تعرف براءة الرحم، ولذلك اعتبرت بالأقراء، وفي عدة الوفاة المقصود الأعظم حقُّ الزوج ورعاية حرمة النكاح؛ ولذلك اعتبرت بالشهور التي لا تقوى دلالتها على البراءة، وتعتبر مدة العدة بالهلال ما أمكن، فإن مات الزوج في خلال شَهْر هلاليِّ، وكان الباقي أكْثَرَ من عَشَرة أيام، فتعتد بما بقي، ويحسب ثلاثة أشهر عقيبه بالأهلة، ويكمل ما بقي من شهر الوفاة ثلاثين من الشهر الرابع بعْد الثلاثة، وتضم إليها عَشَرة أيام، فإذا انتهت إلى الوقت الذي مات فيه الزوْجُ يوم مات، فقدإنتهت العدة، وإن كان الباقي أقلَّ من عشرة أيام فَتَعُدَّهُ وتحسب أربعة أشهر بالأهلة عقيبه، وتكمل الباقي من الشهر السادس، وإن كان الباقي عَشَرَةً بلا زيادةٍ ولا نقصان، فتعتد إليها، وتضم إليها أربعة أشهر (¬2) بالأهلة، وحكى أبو الفرج السرخسي عن أبي حنيفة وبعض أصحابنا: أنه إذا انكسر البَعْض، انكسر الكل، فيراعى العدد، وقد سبق مثله في نظائره، وإن انطبق الموت على أول الهلال، حُسِب أربعةَ أشهر بالأهلة، وضُمَّت إليها عشرة أيام من الشهر الخامس، ولو كانت محبوسةً لا تعرف الاستهلال اعتدت بالأيام، وهي مائة وثلاثون يوماً، والأمة تعتدُّ بنصف ما تعتدُّ به الحرة، وهو شهران وخمسة أيام، ولا فرق بين أن ترى المعتدة في المدة المذكورة دم الحيض على عادَتِها أو لا تراه، وتنقضي العدة على التقديرَيْن؛ لإطلاق الآية، وقال مالك -رحمه الله-: تُشْتَرَط أن تَرَى الحَيْض فيها على عادتها، وبعضهم ينقل أن الشرط عنده أن تحيض في المُدَّة. واعلم قوله في الكتاب "وَإنْ لَمْ تَحض" بالميم؛ لما حكينا من مذْهبه، ولو مات الزَّوْجُ، والمرْأَةُ في عدَّة الطلاق، فإن كانت رجعيَّةً، سَقَط عنْها عدة الطلاق، وتنتقل إلى عدة الوفاة، حتى يلزمها الإحداد، ولا تستحق النفقة، وإنما قدمت عِدَّة الوفاة؛ ¬
لأنها آكد؛ ألا تراها تجب قبْل الدخول وبعده، وإن كانت بائناً، تكمل عدة الطلاق، ولها النفقة إذا كانت حاملاً (¬1)، ولا تنتقل إلَى عدة الوفاة وعنْد أبي حنيفة -رحمه الله- المبتوتة في مرض الموت يلزمها عدَّة الوفاة، ولا تسقط فيها عدَّة الطلاق فتعتد بأقصاهما، هذا إذا لم يكن المتوفَّى عنها زوجُها حاملاً، فإن كانَتْ حاملاً، فعدَّتها بوَضْع الحمل على الشرائط المذكورة في عِدَّة الطلاق، ولا فَرْق بيْن أن يتعجَّل الوضع، أو يتأخَّر. قال الأئمة -رحمهم الله-: وظاهر الآية يقتضي وجوب الاعتداد بالمدة، وإن كانت حَامِلاً. لكن ثبت أن سبيعة الأسلمية وَلَدَتْ بعد وفاة زوْجها بنصْف شهر، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬2): "حَلَلْتِ فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ من الأزواج" وعن عمر (¬3) -رضي الله عنه- أنه قال: "لَوْ وَضَعَتْ وَزَوْجُهَا عَلَى السَّرِيرِ (¬4)، حَلَّتْ" وقد قدمنا في "كتاب الجنائز" أن الزوجة تُغَسِّل زوجها، ورُوِيَ (¬5) عن عائِشَةَ: أنها قالت: لو استقبلنا مِنْ أمرنا ما استَدْبَرْنا مَا غَسَّلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا نساؤه، وغسل أبا بكر (¬6) زوجته أسماء بنت ¬
عُمَيْس -رضي الله عنهما- وكان قَدْ أَوْصَى بذلك. وإلى متى تُغَسِّلُه؟ فيه ثلاثة أوجه، ذكرناهاهناك، ففي وجه: تغسله ما لم تنقض عدتها؛ لبقاء أثر النكاح ما بقيت العدَّة، فعلى هذا، وضعت، والزوج لم يُغَسَّل بعْدُ، لم يكن لها غسله، وفي وجْهٍ: ما لم تَنْكِحْ زوجاً غَيْرِه، فإذا نَكَحَتْ، لم يجز، وشبه ذلك بامتداد لحوق النسب إلى أن تنكح غيره، والأظهر، وهو الذي أورده صاحب الكتاب: أنه لا ضبط، ولها غسله أبداً بحُكم النكاح الذي كان. وقوله في ترجمة القسم "في عدَّة الوفاة والسكنى" كانه قصد إيراد السكْنَى بعد عدة الطلاق والوفاة، جميعاً؛ لأن لها مدخلاً فيهما جميعاً، أما في عدَّة الطلاق فوفاق، وأمَّا في عدة الوفاة، فعلى خلافٍ سيأتي، إنْ شاء الله تعالى. فَرْعٌ: عدَّة الوَفَاة تَخْتَصُّ بالنكاح الصحيح، فاما إذا نكح نكاحاً فاسداً، ومات قبْل الدخول، لم تلزم العدة، وكذا لو فرق القاضي بينهما، وإن جرى دخولٌ ثم مات أو فُرْق بَيْنهما فتعتد للدخول، كما تعتد عن الوطء للشبهة. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأتَيْهِ وَمَاتَ قَبْلَ البَيَانِ فَعَلَى إِحْدَاهُمَا عِدَّةُ الطَّلاَقِ وَعَلَى الأُخْرَى عِدَّةُ الوَفَاةِ فَعَلَيْهِمَا أَقْصَى الأَجَلَيْنِ إِنْ كُنَّ مِنْ ذَوَاتِ الأَقْرَاءِ لِلاحْتِيَاطِ* وَإِنْ كُنَّ حَوَامِلَ فَيَكْفِي الوَضْعُ* أَوْ مِنْ ذَوَاتِ الأَشْهُرَ فَيَكْفِي أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا طَلَّق إحْدى امرأتيه، ومات قبْل أن يبين التي أرادها، وقبل أن يعيِّن واحدةً منهما، إن أبهم، فيُنظر؛ إن لم تكونا ممسوستين، فعليهما الاعتداد بِعِدَّة الوفاة؛ لأن كل واحدة منهما تحتمل أن تكون مفارقة بالموت، كما يحتمل أن تكون مطلَّقة، فلا بد مِنَ الأخذ بالاحتياط، وإن كانتا ممسوستين، فإن كانَتَا مِنْ ذَوات الأشهر، فكذلك الجواب؛ لأن كل واحدةٍ بين أن يلزمها ثلاثة أشهر، وبين أن يلزمها أربعة أشهر وعشر، فيجب الأكثر، فإن كانتا حاملَيْن، فتعتدان بِوَضْع الحَمْل؛ لأن عدَّة الحامل لا تخْتَلف بالتقديرَيْن، وإن كانتا مِنْ ذوات الأقراء، فإما إنه أراد واحدة بعينها أو أبهم إن أراد واحدةً بعينها، فعلى كل واحدةٍ منهما الاعتداد بأقصى الأجلَيْنِ مِنْ عدة الوفاة (¬1) من ثلاثة اقراء؛ لأنها إن كانَتْ مطلْقةً، فعليها الأقراء، وإن كانت مفارَقَةً بالموت، فعلَيْها عدة الوفاة، فيطلب يقين البراءة، ثم الأقراء تُحْسب من وقت الطلاق، وعدة الوفاة [من حين الموت] حتى لو مضى قرء من وقت الطلاق، ثم مات الزوج، ¬
فعليها الأقْصَى من عدة الوفاة، ومن قرءين من أقرائها، فلو مضَى قرءان، ثم مات الزوج، فعَلَيْها الأقْصَى من عدة الوفاة، ومن قروء (¬1) هذا هو الظاهر المشهور، وفي "البَحْر" نقل وجْه أنَّ الأقراء أيضاً تُحْسَب من وقْت الموت؛ لأنهما يُشْبِهان الزوجين إلى وقْت الموت، وعَلَى هذا، فيجب أن تكون الأقراء كلُّها بعد الموت، وهذا في الطلاق البائن، فان كان رجعيّاً، فالرجعة تنتقل إلَى عدَّة الوفاة، إذا مات زوْجُها، وهي في العدَّة، فعلَى كل واحدة منهما الاعتداد بِعِدَّة الوفاة، وإن كان قد أبهم الطلاق، ومات قبْل التعيين، فيبنى على أنَّه لو عيّن وقَعَ الطلاق مِنْ وقْت اللفظ أو مِنْ وقْت التعيين؟ وفيه خلافٌ مذكورٌ في الطلاق [من وقت اللفظ، فالحكم كما ذكرنا فيما إذا أراد واحدةً بعينها، وإن قلنا] (¬2) التعيين، فوجهان: أشهرهما: أن عليهما الاعْتِدادَ بأقْصَى الأجلَيْنِ أيضاً، لكن الأقراء هاهنا تُحْسَب من يوم الموت أيضاً؛ لأن بالموت حَصَل اليأس من التعيين. والثاني، وهو المذكور في تعليق الشيخ أبي حامد: أن كل واحدة منهما تعتدُّ عدَّة الوفاة؛ لأنَّا نفرِّع على أن الطَّلاق يَقَع بالتعْيين، فإذا لم يُعَيَّن، فكأنه لم يُطلِّق، وإذا اختلف حال المرأتين، فكانت إحداهما ممسوسة، والأخرَى غَيْر مَمْسُوسةٍ أو إحداهما حاملاً، والأخرى ممن يَعْتَدُّ بالأقراء، فيراعى في كل واحدة منهما قضية الاحتياط في حقها كما تبيَّن، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَمَن انْدَرَسَ خَبَرُ زَوْجِها فَلَيْسَ لَهَا إِلاَّ الصَّبْرُ إِلَى المَوْتِ على القَوْلِ الجَدِيدِ (ح م) * نَعَمْ إِنْ لَمْ يَتْرُك النَّفَقَةَ فَلَهَا طَلَبُ الفَسْخِ بِسَبَبِهِ* وَعَلَى القَدِيمِ إِنْ تَرَكَ النَّفَقَةَ فَلَهَا أنْ تَتَرَبَّصَ أَرْيَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الوَفَاةِ وَتَنْكِحُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الغائب عَنْ زوجته، إن لم ينقطع خبره، وكان يأتي كتابه، وُيعْرف مكانه، فنكاحه على زوجته مستمرّ، وينفق الحاكم عليها من ماله، إن كان له في بلد الزوجة مالٌ، وإن لم يكن، كَتَبَ إلَى حاكم بلَدِهِ؛ ليطالبه بحقِّها، وإن انقطع خبره، ولم يوقف على حاله حتَّى يتوهم أو يظن موته. فالقول الجديد: أنَّه لا يجوز للمرأة أن تنكح زوجاً آخراً؛ حتى يُتَيقن موته أو طلاقه؛ وتعْتد. وعن القديم، وبه قال مالك وأحمد: أنها تتربَّص أربع سنين، وتعتد عدَّة الوفاة، ثم تنكح، ويروى ذلك عن عمر، وعثمان وابن عباس -رضي الله عنهم-، واحتج ¬
للجديد بما رُوِيَ عَن المغيرة بن شُعْبة -رحمه الله- أنَّ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- (¬1) قال: "إنَّ امْرَأَةَ الْمَفْقُودِ تَتَربَّصُ حَتَّى يَأْتِيَهَا يَقِينُ مَوْتِهِ أَوْ طَلاَقِهِا" (¬2) وعن علي -كرم الله وجهه- أنه قال "هَذِهِ امْرَأَةٌ ابْتُلِيَتْ فَلْتصْبِرْ" وبأنه لا يحكم بموته، مع انقطاع الخبر، في قِسْمة ماله وعِتْق أم ولده، فكذلك في فِرَاقِ زَوْجته، وبأن النكاح معلومٌ بيقين، فلا يُزَال إلا بيقين، وللقديم بأن عمر -رضي الله عنه- قَضَى بذلك، واشتهر من غَيْر إنكار، فَصَار مُجْمَعاً علَيه، وبأن للمرأة الخروج من النكاح بالجَبِّ والعُنَّة؛ لفوات الاستمتاعِ، وبالإعسار بالنفقة؛ لفوات المال، فَلأنْ تَخْرُج هاهنا، وقد اجتمع الضرران، كان أَوْلَى، وعن أبي حنيفة: أنها تصبر حتى يبلغ سنُّ الزوج مائةً وعشرين سنة، ثم تعتد عدَّة الوفاة وتنكح، وفي تعليق الشيخ أبي حامد: أن الرواية الصحيحة مثْل مذهبنا، وقوله في الكتاب "ومن اندرس خبر زوجها" تشمل المفقود في جَوْف البلد وفي السفر وفي القتال، وفيما إذا انكسرت سفينته، ولم يعلم حاله، فالحكم (¬3) في الكلِّ واحدٌ. وقوله "فليس لها إلا الصبر إلى الموت" ويجوز، إعلامه بالميم والألف وبالحاء أيضاً؛ لما روينا [هـ]. وقوله "إلى الموت" يجوز أن يريد موتها، ولا يخفى أن المراد على هذا؛ إذا لم يَأْتها يقينُ موته ولا طلاقه، ويجوز أن يريد موته يعني تصبر إلى أن تَتَيَقَّنَ موته، وعلى هذا، فالمراد ما لم يَأتها يقين طلاقه. وقوله "نعم، إن لَمْ يَتْرُكِ النَّفَقَة، فَلَهَا طَلَبُ الفَسْخِ بِسَبَبِهِ" ونقل في هذا الموضع، وهو مبيَّين في موضعه، لكنه لَمَّا حكم بانها تصبر، وفيه مشقة شديدة، وضررٌ ظاهرٌ، نبه على طريق الخلاص، وفيه مما تبين أن نفقتها تتوجَّه على الغائب، وذلك؛ لأنها ممكنة لا تقصير منها، ويمكن أن يُعْلَم قوله "فلها طلب الفسخ بِسَبَبِهِ" بعلامة من خالف عليه على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى. وقوله "وعلى القديم" يجوز أن يعلم بالواو؛ لأن بعضهم ذكر أن القديم في المسألة مرجوعٌ عنه غير معدودٍ من المذهب؛ وعلى ذلك جرى صاحب الكتاب في "الوسيط" وإن أمكن حَمْل انقطاع الخبر على شدة البُعْد والإيغال في الأسفار، فقد ¬
حَكَى الإِمام تَرَدُّداً في إجراء القول القديم، والظاهر إجراؤه، فيتفرَّع على القولَيْن صورٌ ومسائلٌ: منها: إذا قلْنا بالقديم، فتتربص أربع سنين، ثم يحكم الحاكم بالوفاة وحصول الفرقة، فتعتد عدة الوفاة، ثم تنكح، كذا (¬1) حكم العراقيُّون وغيرهم، وهل تفتقر مدة التربُّص إلى ضَرْب القاضي أم لا؟ وتحسب من وقْت انقطاع الخبر وفِقْدَان الأثر؟ فيه وجهان، ويقال قولان: أحدهما، وبه قال أبو إسحاق: أنها تفتقر إلى ضرب القاضي، ولا تعتد بما مضى قبْل ذلك؛ لأنَّ هذه مدَّة ثبتت بالاجتهاد فتفتقر إلى حكم الحاكم، كمدة العنة. والثاني: أنها تُحْسَب من وقْت انقطاع الخَبَر؛ لإشعار الحال بالوفاة ودلالته عليها، وإيرادُ كثير من الأئمة يُشْعِر بترجيح الأوَّل، ومنهم من رجح الثانِيَ، وهو اختيار القَفَّال، ويروى عن أحْمَدَ -رحمه الله- وإذا ضرب القاضي مدة التربُّص بعد رفْعِها إلَيْه وظهور الحال عنْده، فمضت المُدَّة، فهل يكون ذلك حكماً بوفاته أم لا بُدَّ من استئناف حكم؟ قال في "التجربة": فيه وجهان محتملان: أحدهما: أن ضَرْب المدة حُكْم بالوفاة بعْد انقضائها، فإذا انقضت، شَرَعَت في العدة، [و] (¬2) لا تحتاج إلى معاودة الحاكم. وأظهرهما: أنه لا بُدَّ من الحكم بالفرْقة بعْد انقضائها، كما لا بُدَّ من الحكم بعد انقضاء المدة المضروبة في العُنَّة، ثم حكم الحاكم بالفرقة ينفذ ظاهراً وباطناً أو ظاهراً لا باطناً؟ فيه وجهان أو قولان (¬3): وجه الأول: أنَّه فسْخٌ مجتَهَدٌ فيه، فأشبه الفَسْح بالعُنَّة والإعسار. ووجْه الثاني: أن عمر (¬4) -رضي الله عنه- لمَّا عادَ المَفْقُود مكَّنه مِنْ أن يأخذ زوْجَتَه. ¬
ومنْها: إذا جرى الحَاكِم عَلَى مُوجِب القول القديم، فهل ينقض قضاؤه تفريعاً على الجديد؟ فيه وجهان، رواهما صاحب "الحاوي" وغيره -[رحمهم الله]-. والأظهر منهما عند أكثرها، وهو الذي أورده صاحب الكتاب -رحمه الله- في أدب القضاء منْسوباً إلى النص: أنه ينقض، واستبعد الوجهَيْن هنالك. وإذا نَكَحَتْ بعد التربص والعِدَّة، ثم بان أن المفقود كان مَيِّتاً وقْت الحكم بالفرقة، ففي صِحَّة النِّكاح على الجديد وجهان؛ بناءً على الخلاف فيما إذا بَاعَ مال ابْنِه على ظَنِّ حياته، فبان أنه كان ميِّتاً. ومنها: لو طلَّقها المفقود أو آلَى أو ظاهر عَنْها أو قَذَفَها، نظر؛ إن كان ذلك قبل رفْع الأمر إبى القاضي أو بعده؟ وقيل: أن يحكم القاضي بالفرقة، فلهذه التصرفات أحكامها، وإنْ كان بَعْد حكمه بالفرقة، فقد ذكروا أن عَلَى الجديد تَلْزَمُه أحكام هذه التصرُّفات؛ لأنها زوْجَتُه، ولَيْس للحاكم التفْرِيق بينهما؛ [وليكن] (¬1) هذا جواباً على أنَّه ينفض حكم مَنْ جرى على موجب القول القديم، وإذا قلنا بالقديم، فإن قلنا: ينفذ حكمه ظاهراً وباطناً تثبت أحكام هذه التصرفات، وإن قلنا ينفذ ظاهراً وباطناً فهو كالأجنبي يباشرها. ومنها نفقها واجبة على المفقود؛ لأنها مسلمة نفسها غير مقصرة، فإن رفعت الأمر إلى الحاكم، وطلبت الفرقة، فنفقة مُدَّة التربُّص عليه أيْضاً؛ لكونها محبوسةً علَيْه، فإذا ¬
انقضَتْ، وحكم الحاكم بالفرقة والاعتداد، قال الأئمة: إن قلْنا بالقديم، فلا نفقة لها في مدة العدَّة؛ لأنَّها عدَّة الوَفاة، وفي استحقاقها السُّكْنَى قولان، قال في"البسيط": إلا إذا عاد المفقود، ورأينا أن النكاح لا ينفسخ باطناً، فيحتمل أن يقال: لا نفقة لها (¬1) إلا إذا كانَتْ ناشزةً بقَصْد الاعتداد، ويجوز ألَّا تُجْعَل ناشزةً بمجرَّد القصد حتى يَتَّصِل به نكاح، وإن قلنا بالجديد، فالنفقة على المفقود؛ لأنها زوجته، ويستمر ذلك إلى أن تنكح، فحينئذ يسقط؛ لأنها ناشزة بهذا النكاح، وإن كان فاسد. وعن القاضي أبي الطيِّب: القَطْع بان نفقة مدة العدَّة علَيْه عَلَى القولين جميعاً كما في مدة التربُّص، والأظهر الأول، وإذا فرّق بينهما وقد عاد المفقود، فسلمت إليه، عادت نفقتها، وإن كان الثاني دخل بها، لم يلزم المفقودَ نفقةٌ زمانَ العدة؛ لأنها مانعةٌ نفْسَها مدَّةَ العدة كمدة النكاح، وإن لم يعد المفقود، وعادت هي بعْد التفريق إلى بيته، فالمفهوم من كلامه في "المختصر" عود النفقة. وقال في "الأم": لا تعود، وللأصحاب طريقان: أشهرهما: أن فيه قولَيْنِ: وجه العَوْد: أن سقوط النفقة كان بسَبَب النُّشوز، وقد زال النشوز، ووجْه المَنْع أنَّ التسليم الأوَّل قد بَطَل، فتحتاج إلى تسليم آخر، والتسليم لا يَحْصُل إلا بالتسليم منه، وقد شبه بما إذا ترك المودع الخيانة. والثاني: حملهما على حالتين، إن أنكحت نفْسها من غير أن يحكم حاكمٌ عادَتِ النفقة؛ لأنها سقَطَتْ بفعلها، فتعود بِفِعْلها، وإن نكحت بحكم الحاكم، لم تعد النفقة إلا بتسْلِيمٍ جديدٍ. قال القاضي الرُّويانيُّ: والأصحُّ: أنها لا تعود، فينبغي أن يُقْطَع به، إذا لم يَعْلَم الزوج عودها إلى الطاعة، قال، وهو الذي ذكَرَهُ القفَّال -رحمه الله-: وأمَّا النفقة على الزَّوْج الثاني فلا يخفى حُكْمها على القديم، وأما على الجديد، فقد قالوا: لا نفقة علَيْه في زمان الاستفراش؛ لأنه لا زوجية بينهما، وإن أنْفق لم يَرْجِع عليها؛ لأنه مُتَطَوِّع إلا أن يُلْزِمَه الحاكِمُ الإنفاقَ، فيرجع عليها، وذُكر وجهاً أنه إذا ألزمه، رجع عَلَى الأول، وإذا شرعت في عدته، فلا نفقة لها أيضاً إلا أن تكون حاملاً، ففيه قولان مبنيان على أن النفقة للحَمْل أو للحَامِل. ومنْها: إذا ظَهَر المفقود، فقلنا بالجديد، فهي زوجته بكل حال، فإن نَكَحَت غيره، فإنما يطؤها المفقود إذا انْقَضت عدتها من الثاني، وإن قلنا بالقديم، ففيه طرق: ¬
أحدها عن أبويْ عليِّ بن أبي هريرة والطبريِّ: أن الجواب كذلك؛ لأن الحاكم إنما حكم بوفاته، وأمرها بِعِدَّةِ الوفاة؛ باجتهاده، فإذا بان حيَّا، تيقن الخطأ في اجتهاده، فينقضه كما لو حكم باجتهاده، ثم وجد نصًّا بخلافه، وهذا أصحُّ عند القاضي الرُّويانيِّ. والثاني عن أبي إسحاق: أنه يبني الحُكْم على الخلاف في أن الحُكْم بالفرقة يَنْفُذ ظاهراً وباطناً أو يقتصر النفوذ على الظاهر؟ إن قلنا بالأول، فقد ارتفع نكَاحُ المَفْقُودِ، كما في الفسخ بالإعسار والعُنَّة، وإن نكحت غيره، فهي زوجته، وإن قلنا بالثاني، فالحكم كما ذكرنا في الجديد. والثالث عن الداركيِّ قال: سمعت أبا إسحاق مرَّةً أخْرَى يقول: إن ظهر، وقد نكحت زوجاً غيره، لم تُرَدَّ إليه، فإن لم تَنْكِحْ غَيْرَه، رُدَّت إليه، وإن حَكَم المحاكم بالفُرْقة؛ لأن المقصود من هذه الفرقة إزالةُ الضرر عنها وتمكِينُها من نكاح غيره، فإذا لم يَحْصُل مقْصُود الفرقة، كان الأوَّل أولَى. والرابع: القطع بأنها لا تُرَدُّ إلى الأول، ويُحْكَى ذلك عن "الحاوي". والخامس: عن الكرابيسيِّ عن الشافعيِّ -رضي الله عنه-: أن المفقود الخيار بيْن أن ينزعها من الثاني، وبيْن أن يتركها، ويأخذ مهر المثل منه، وبِهذَا قال مالك وأحمد - رحمهما الله- وينسب إلى حكايته الشخَيْن أبي محمَّد والصيدلانىِّ؛ ومسْتَنَدُهُ أن عمر -رضي الله عنه (¬1) - كذلك قَضَى، وعن القاضي الحُسَيْن زيادةٌ فيه؛ وهو أنه إن فَسَخ، غُرِّمَ للثاني مهْرَ مثلها. والسادس: أن ذلك النكاح قد ارتفع بما جَرَى بلا خلاف، ولكن إذا ظهر المفقود، هل يُحْكَم ببطلان النكاح الثَّاني؟ فيه وجهان: أظهرهما: المنع لكن للمفقود الخيارُ كما ذكَرْنا، وإذا قلنا ببطلان النكاح الثَّاني، فكيف التقدير أنقولُ: وقع صحيحاً، ثم إذا ظهر المفْقود، بَطَل أو نقول: نتبين بظهور المفقود أنه وقع باطلًا؟ ذُكِرَ فيه وجهان؛ فعلى الثاني، يجب مهْر المثل، إن جرى دخولٌ، وإلا، لم يجب شيْءٌ، وعلى الأول، الواجبُ: المسمَّى أو نصْفُه، وإذا ظهر المفقود، وقد ماتت المرأة بعْد ما نكحت زوجاً آخَرَ، يرثها الأول أو الثاني؟ فيخرج على هذه الطرق. ومنها: لو نكحت زوجةُ المفقودِ غيره عَلَى الصورة المجوَّزة في القديم، وأتت ¬
بولدٍ لزمانٍ يُمْكِن أن يكون من الثَّاني، وجاء المفقود، ولم يَدَّعِ الولد، فهو للثاني؛ لأنَّ بِمُضِيِّ أربع سنين يتحقَّق فراغ الرَّحِم من المفقود، وإن ادعاه، فوجهان: أظهرهما: أنه يُسْأل عن جهة ادعائه، فإن قال: إنه ولَدِي؛ لأن زوْجَتي ولدته على فراشِي، بيَّنَّا له بطلان هذه الجهة، وقلنا له: إن الولد لا يبقى في الرحم هذه المدة؛ وإن قال: قدِمْتُ عليها في خلال هذه المدة وأصبتها، وكان ما يقوله مُمْكناً، فيُعْرض الوَلَدُ على القائف، والثاني: أنه يُعْرض على القائف، من غير بحث واستفصال، وفي "البحر" أن هذين الوجهين أُخِذَا من وجهَيْن نُقِلَا في أن هذه المرأة لو أتَتْ بولدٍ من غير أن يتزوَّج، هل يُلْحق بالمفقود؟ إن قلنا: نعم، فلا حاجة إلى الاستفصال، وإن قلنا: لا، وهو الظاهر، فلا بد منه، وعن أبي حنيفة: يُلْحَق الولد بالأول، ادَّعاه أو لم يدعه، وإن طالت المدة، وحيث قلْنا: الولد للثاني، وحكَمْنا ببقاء نكاح المفقود، فله منعها من إرضاع الوَلَدِ إلا اللبن الذي لا يعيش إلا به، وكذا إذا لم يكن بُدٌّ من الارضاع، ولم يوجد غيْرُها، ثم إن لم تخرج من بيت الزوج، وأرضعته فيه، ولم يقع خَلَلٌ من التمكين، فعلى الزوج نفقتها، قال في "الشامل": سواء وجَبَ عليها الإرضاع أو لم يجب، وإن خرَجَتْ للإرضاع بغير إذنه، سقَطَتْ نفقتها، وإنْ خَرَجَتْ بإذنه، فوجهان، كما لو سافرت في حاجتها بإذنه، وإن كان الإرضاع واجباً، فعليه أن يأذن. ومنْها، إذا نكَحَتْ زوجاً آخر بعْد العدَّةِ والحكم بالفُرْقة، ودخل بها، ثم عُرِف أن الأول كان حيًّا وقت نكاحه، وأنه مات بَعْد ذلك كلِّهَ، فإن قلنا بحصول الفُرْقة ظاهراً وباطناً، فهي زوْجة الثاني، وبموت الأول، لا يلزمها عدَّة، وإن قلنا: لم تَحْصُل الفرقة أو لم تحْصُل إلا ظاهراً، فعليها عدَّة الوفاة عن الأوَّل، ولكنْ لا تشرع فيها، وهي فراش للثاني حتَّى يموت الثاني أو يفرق بينه وبينها، وحينئذ، فتعتد للأول عدَّة الوفاة، ثم تعتد عن الثاني ثلاثة أقراء أو ثلاثة أشهر، ولا تتداخل العدتان؛ فإنهما لشخصَيْن، وإن مات الثاني أَوَّلًا أو فرق بينهما، شَرَعَتْ في الأقراء، فإن تمَّت الأقراء، ثم مات الأوَّل، اعْتدَّت عن الأول عدَّةَ الوفاة، وإن مات الأول قَبْل تمام الأقراء، فأظهر الوجهَيْنِ: أن الأقراء تنقطع، فتَعْتَدُّ عن الأول عدَّة الوفاة، ثم تعود إلى بقية الأقراء، والثاني أنها تُقَدِّم ما شرَعَتْ فيه أَوَّلاً وإن ماتا معاً، أو لم يعلم، هل سبق مَوْتُ أحدهما موْتَ الآخر أو عُلِمَ سبْقُ موتِ أحدِهِما، ولم يُعْلَم السابق، فتعتد بأربعة أشهر وعَشْرٍ وبعدها بثلاثة أقراء؛ لتبرأ ذمتها عن العدتين بيقين، ولو لم يُعْلَمْ موتهما حتى مَضَت أربعةُ أشهرٍ وعَشْرٌ، وثلاثة أقراء بَعْدها، فقد انقضت العدَّتان، ولو كانَتْ حاملاً من الثاني، فتعتد منْه بالوضع، ثم تعْتدُّ عن الأول عدَّة الوفاة، وأصحُّ الوجْهَيْن: أنه يُحْسَب منها زمان النفاس؛ لأنه ليس من عدَّة الثاني.
والثاني: لا يُحْسب؛ لتعلُّقه بالحمل. فَرْعٌ: عن القَفَّال -رحمه الله- أن زوجة الغائب، إذا أخبرها عدْلٌ بأن زوْجَها ماتَ، حَلَّ لها أن تَنْكِحَ فيما بينها وبين الله تعالى؛ لأنَّ ذلك خبَرٌ، وليس بشهادة. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَيَجِبُ الحِدَادُ فِي عدَّةِ الوَفَاةِ وَهُوَ تَرْكُ التَّزْيِينِ بِلُبْسِ الإِبْرَيْسَمِ أَوِ المَصْبُوغِ لِلزِّينَةِ دُونَ الأَسْوَدِ وَالأَكْهَبِ الكَدِرِ* وَيَجُوزُ الأَبْيَضُ مِمَّا سِوَى الإِبْرَيْسَمِ* وَلاَ يَجُوزُ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالَّلآلِئِ* ويَحْرُمُ كُلُّ طَيِّبٍ يَحْرُمُ عَلَى المُحْرِمِ* وَكَذَا تَدْهِينُ الشّعْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ* وَفِي المَصْبُوغِ الخَشِنِ تَرَدُّدٌ* وَلاَ يَجُوزُ المَصْبُوغُ وَإِنْ صُبغَ قَبْلَ النَّسْجِ* يَجُوزُ لُبْسُ الكَتَّانِ وَالخَزِّ وَالدَّبِيقِيِّ الأَبْيَضُ* يَجُوزُ التَّزُيِينُ في الفَرْشِ وَأَثَاثِ البَيْتِ* وَلاَ تَكْتَحِلُ البَيْضَاءُ بِالإِثْمِدِ إِلاَّ بِسَبَبِ الرَّمَدِ لَيْلاً وَتَمْسَحُهُ نَهَاراً* وَلاَ بَأْسَ بِالتَّخَتُّمِ بِخَاتِمٍ يَحِلُّ لِلرِّجَالِ* وَلاَ بَأسَ بِالتَّنَظُّفِ بِالقَلَمِ وَالاسْتِحْدَادِ وَإِزَالَةِ الوَسَخِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يقال: أَحَدَّتِ المرأة (¬1) تَحِدُّ إحداداً، وحَدَّت تَحُدُّ حِدَاداً، وذلك من ¬
المَنْع؛ لأنها تمتنع عن التزيُّن، ويجب عَلَى المرأة الإحْداد في عدَّة الوَفَاة، رُوِيَ عن أمِّ عطيَّة أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- (¬1) - قال: "لاَ تُحَدُّ المَرْأَةُ (¬2) فوق ثَلاَثٍ (¬3)، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ أَرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً" وَلاَ تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلاَ تَكْتَحِلُ، وَلاَ تَمسُّ طِيباً إِلاَّ إِذَا طهرت نُبْدةً من قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ" وعن أم سَلَمة -رضي الله عنها- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "المُتَوَفَّى عنْهَا زَوْجُهَا لاَ تَلْبَسُ المُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيَاب، وَلاَ المشقة وَلاَ الحُلِىَّ وَلاَ تَخْتَضِبُ وَلاَ تَكْتَحِلُ" والعصب: ضَرْبٌ من بُرُودِ اليَمَنِ (¬4)، ويقال: هو ما صبغ غزلُه قَبْل أن ينسَج، والنبذة: الشَّيْء اليسير، ويقال: ذهب مالُهُ، وبقي نبذ منه وأَصَابَ الأَرْضَ نبذٌ مِنَ المَطَرِ أيْ شَيء يَسِيرٌ، وأُدْخِلَ فيه الهاء؛ لأنَّه نَوَى القِطْعَة. وقوله "من قُسْطٍ أو أظفار" وهما نوعان من البخورِ ويقال: القُسْط من عقاقير البحر، والمعنى: "لاَ تَمَسُ طِيباً إلاَّ إذَا طَهُرَت مِنَ الحَيْضِ تَمَسُّ شَيْئاً يَسِيراً مِنْها يقطع الرائحة الكريهة، والممشقة: المصبوغة بالمشق وهو المغرة ويقال: شبه المغرة، وهي الطين الأحمر، وقد تُحَرَّك الغَيْن، وعن عائشة وحفْصَة -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْم الآخِرِ أن تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً" (¬5) قال الأئمة: إِلَّا على زَوْج مُسْتَثنًى، وقوله "لا يحل" ظاهِرُهُ لا يقتضي إلا الجواز، لكن أجْمعوا على أنه أراد الوُجُوب، وأنه استثنى الواجب من الحَرَام، ولا يجب الإحْداد في عدَّة الرجعة؛ لبقاء أحكام النِّكَاح فيها، وتوقع الرجعة، لكن في رواية أبي ثَوْر عن الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- أنَّهُ يُستحَبُّ لها الإحْداد، ومن الأصحاب مَنْ قال الأَوْلَى أن يتحمَّل وتتزيَّن بما يدعو الزَّوْج إلى رجْعَتها، وفي عدَّة البائن إما بالخُلْع أو (¬6) استيفاء الطلقات الثلاث قولان: القديم، وبه قال أبو حنيفة: أنه يَجِبُ الإحداد؛ لأنَّها بائنٌ معتدَّةٌ عنْ نكاح، فأشبهتِ المتوفَّى عنْها زوجُها. والجديدُ، وبه قال مالك: يُسْتحب، ولا يجب؛ لأنَّها معتدَّة عن طلاق، فأشبهت ¬
الرجعيَّة، وأيضاً فهي مجفُوَّة بالطلاق، فلا يليق بها تكلُّف التفجع بخلاف المتوفَّى عنْها زوجُها، وعن أحمد روايتان كالقولَيْن، وفي المَفْسُوخ نكاحُها بعيب ونحوه طريقان: أشبههما: أنه على القولَيْنِ، والثاني: القطع بأنه (¬1) لا إحْداد علَيْها؛ لأن الفسْخ لمعنًى فيها أو هي المباشرة لَه، فلا يليق إظْهَار التَّفَجُّع بحالها ولا إحداد على المعتدَّة في الوطء بالشبهة والنكاح الفاسد وأم الولد؛ لأنهُنَّ غير معتدات عن نكاح، والإحْدادُ لإظْهَار الحُزْن على الزوج وما فات من عصمة النكاح. وقوله -صلى الله عليه وسلم (¬2) -: "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ باللهِ" الحديث، قد يُحْتَجُّ به لتحْريم الحِدادِ على الموطوءة بالشبهة وأم الولد. والذمية والأمة والصبيَّة والمجنونة، كغيرهن في الإحداد، ووليُّ الصبيةِ والمجنونةِ يمْنَعُها مِمَّا تمتنع (¬3) منه العاقلة البالغة. وقال أبو حنيفة: لا إحداد عليهن، وإذا عَرَفْتَ أن الإحداد على من يَجِب، فالكلام بعْده في كيفيته، فالواجب (¬4) ترك التزيُّن في الثياب الملُبُوسة، والحلي والتطيب، فهي ثلاثة أنواع، هي: النَّوْع الأوَّل: الثياب، فلا يحْرُم جنْس القُطْن، والصوف، والوبر، والشعر، بل يجوز لبس المنسوج منها على ألوانها الخِلْقيَّة، وكذا الكتان، والقصب، والدبيقي، وإن كانَتْ نفيسة ناعمةً؛ لأن نفاستها وحُسْنها مِن أصل الخِلْقة، لا من زينة دخَلَتْ عليها، وأما الإبريسم، فلم يُنْقَل فيه نصُّ الشافعيِّ -رضي الله عنه- هو عنْد معظم الأصحاب، كالكتان وغيره، إذا لم تَحدث فيه زينة، وذهب القفَّال إلى أنه يَحْرُم عليها لُبْس الإبريسم، وإن كان المنسوج منْه على لونه الأصليِّ، وقال: إن لُبْسَه تزيُّن، وهي ممنوعة في حالة الإحداد (¬5) عن التزيُّن، وهذا ما اختاره الإِمام، واورده المتولِّي وصاحب الكتاب، وعلى هذا، فلا تلبس العتابي الذي غلب فيه الإبريسم، وأما الخَزُّ فلها لُبْسه، قال في "البَحْر"؛ لأن الإبريسم فيه مستتر بالصوف، وللرجل لُبْسُ الخَزِّ، وهذا التوجيه يتفرَّع على تحريم لُبْس الإبريسم إذا لم يكن مستتراً، وما لا يحرم في جِنْسه، لو صُبَغ، يُنْظَر في صَبْغه، إن كان ممَّا يقصد به الزِّينة غالباً؛ كالأحمر والأصفر والورد، فليس لها لُبْسه؛ لما مَرَّ من الأخبار، ولا فرق بين أن يكون لَيِّناً أو خَشِناً في ظاهر المذْهب، وهو المنصوص في "الأمِّ" وعن صاحب "التقريب" حكايته قولٍ آخر (¬6) أنَّه إذا تفاحَشَت الخشونة، لم يُعَدَّ لابِسه متزيَّناً، ويدخل في هذا ¬
القسم الدِّيباج المُنَقَّش، والحرير الملوَّن، فيحرم لبسها، ولم يحرم الإبريسم على لونه الأصليِّ، والمصبوغُ غَزْله قبْل النسيج؛ كالبرود -كالمَصْبوغ بعْد النسج على المَذْهب وعن أبي إسحاق: أنه لا يحرم المصبوغ قبل النسج، قال أبو سليمان الخطَّابِىُّ، وهو أشبه بالحديث، وذلك لأنه ق الذي حديث أم عطية: "إلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ" على ما سَبَق، ومن قال بالظاهر احتجَّ بأنَّه قال: لا تلبس المُعَصْفَر ولا المُمَشَّق، ولم يفصل وعارَض قَوْلَه "إلا ثوب عصب" ما روي أنَّه قال: "ولا ثوب عصب"، وربما أوَّله على الصبغ الذي لا يحرم كالأسود، وإن كان الصبغ مما لا يقصد به الزينة، بل يعمل للمصيبة واحتمال الوسخ كالأسود والكُحْليِّ، فلها لُبْسه؛ إذ لا زينة فيه، وهو أبلغ في الحداد، على أن في "الحاوي" حكايةَ وَجْهٍ أنه يجب عليها لُبْس السواد في الحداد، وإن كان الصبْغ متردَّداً بين الزينة وغيرها، كالأخضر والأزرق، فإن كانا برَّاقَيْن صَافِيَي اللون، لم يكن لها لُبْسة؛ لأن [النقيَّ] والصافِيَ منهما مستحْسَنٌ يُتَزَيَّن به، وإن كانا كَدِرَيْنِ أو مُشْبَعَين، فلا بأس؛ لأن المُشْبَع من الأخْضَر يقارب السواد، ومن الأزرق يقارب الكُحْلِيَّ، وفي معناهما الأكْهَب، والكهبة لونٌ يضرب إلى الغُبِرةِ، والطرازُ على الثوب إن كان كبيراً منع جواز اللبس؛ لظهور الزينة، وإن كان صغيراً، ففيه ثلاثة أوجُه؛ يفرق في الثالث بيْن المنسوج مع الثوب وبين المركب علَيْه بعْد نسج الثوب، فيحرم؛ لأنه محْض زينة. والنوع الثاني: الحليُّ، فليس لها لُبْسه يستوي فيه الخلخال، والسوار، والخاتم، وغيرها ولا فَرْق بين أن يكون مِنْ ذهب أو فضة؛ لإطْلاق الخبر حيث قال: "لاَ تَلْبَسُ المُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيَاب وَلاَ الممشقَة وَلاَ الحُلِيَّ" وهذا ما أورده الأكثرون، وذكر الإِمام: أنه يجوز لها التختُّم بَالخاتم الَّذي يَحِلُّ للرجال، وهو خاتم (¬1) الفضة؟ وإنما المُحرَّم عليها ما يختص النساءُ بتحليله في غير حالة الحداد (¬2)، وهذا ما أورده في الكتاب التحلِّي باللآلئ تردُّدٌ للإمام؛ لأنها ليست كالذهب، وكذلك لم يحرم على الرجال، لكن الزينة ظاهرة فيها، وهذا أظهر، وهو الذي أورده في الكتاب. فرعان: عن البحر: أحدهما: قال بعض الأصحاب: لو كانت تلْبَسُ الحليَّ ليلاً، وتَنْزَعُه نهاراً، جاز، لكنه يكره لغير حاجة، ولو فعلَتْه؛ لإحراز المال، لم يكره. والثاني: لو تحلَّت بالصفر والرصاص، فإن كان مُمَوَّهاً بالذهب والفضة، أو مشابهاً لهما؛ بحيث لا يُعْرف إلا بعْد التأمل، لم يجز، وإلا، فإن كانت المعتدَّة منْ قوم يتزيَّنون بمثل ذلك، لم يجز أيضًا، وإن كانت من قوم لا يتزيَّنون، ولا يتحَلَّوْن به، لكنهم يستعملونه؛ لمنفعةٍ يتوهمونها، جاز. ¬
والنوع الثالث: الطِّيب، فليس لها أن تتطَيَّب في بدنها وثيابها، روي عن أم عطية -رضي الله (¬1) عنها- قالت: "كُنَّا نُنْهَى أَنْ نحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً، وَأَنْ نَكْتَحِلَ وَأَنْ نَتَطَيَّبَ وَأَنْ نَلْبَسَ ثَوْباً معصفراً، ونُنْهَى أَنْ نَكْتَحِلَ" وتفصيل القول في الطِّيب قد سَبَق في الحجِّ، وإلى ذلك أشار بقوله في الكتاب: "ويحرم كل طيب يَحْرُم على المُحْرِم" ولا تَدْهن رأسها سواءٌ كان في الدُّهْن طيبٌ أو لم يكُنْ، لما فيه من تزيِّين الشَّعر، حتى لو كانَتْ لها لحية، لم يكن لها تدْهِينُها، ويجْوز لَهَا تدْهِين البَدَن بما لا طيب فيه مِنَ الأدْهَان، كالشِّيرج، والسمن والزيت، ولا يجوز بما فيه طِيَبٌ [كدُهْنِ الوَرْد والبنفسج، وكذا لا يجوز لها أكْل طَعَام فيه طيبٌ]، ولا أن تتكحل بكُحْل فيه طِيبٌ، وأما الكُحْل الذي لا طيبَ فيه، فإن كان أسود، وهو الإِثْمُدِ، فلا يجوز لها الاكتحالُ به؛ لأن فيه زينةً وجمالًا للعَيْن، وعن الماسرجسي وجْه: أنه يجوز الأكتحال به للمرأة السوداء، فإنه لا يفيدها جمالاً، وُيرْوَى ما يقرب من هذا عن القَفَّال، وفي "النهاية" أن الشافعيَّ -رضي الله عنه- نصَّ في بعض المواضع على جواز الاكتحال بالإِثْمِدِ، وأن الأصحاب حمَلُوه على العربِّيَات؛ لأنهن إلى السواد، فلا يزينهن الإثْمِدُ، أما البيض فلا يكتحلن به، ووجْه الفرق هو الذي أورده في الكتاب، حيث قال: ولا تكتحل البَيْضَاء بالإثمد، والظاهر عنْد الأكثرين: أنه لا فَرْق بين البيضاء والسوداء، وقالوا: أثر الكحل يَظْهر في بياض العَيْن، ويدل عليه إطْلاق الأخْبَار، وإذا احتاجَتْ إلى الاكتحال به؛ لرمدٍ وغَيْره، اكتحلت لَيْلاً، ومسحته نهاراً، فإن دعَتِ الضرورة إلى الاستعمال نهاراً [أيضاً،] (¬2) عُذِرَتْ، ولا بأس باستعماله في غير العَيْن إلا الحاجب، فإنه لا تَتزيَّن به، وأما الكحل الأصفر، وهو الصبر، ففي "التهذيب": أنه لا يجوز الاكتحال به؛ لأنه أصفر يُحسِّن العين، وقد روي أنه -صلى الله عليه وسلم (¬3) - دَخَلَ عَلَى أم سلَمَة -رضي الله عنها- وهي حادَّة على أبي سلمة وقد جعلت على عينها صبراً، فقال: ما هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ؟ هُوَ صَبْرٌ لاَ طِيبَ فِيه، قال: "اجْعَلِيهِ بِاللَّيْلِ وَامْسَحِيهِ بِالنَّهَارِ" وفي "التتمة": أنه يَحْرُم الاكتحال به على السوداء دون البيضاء، والأَظهر الأول ولو طَلَتْ به ¬
وَجهَهَا، لم يجز أيضاً؛ لأنه يُصَفِّر الوجه، فهو كالخضاب، فكان بأم سلمة حاجة إلى استعماله، فقال اجعليه بالليل دُون النَّهَار، والكُحْل الأبيض الذي يقال له بالفارسي تُوتَيا ونحوه، فلا زينة فيه، ولا مَنْع من الاكتحال به، وفي "البحر" وجه أنه تمنع منه المرأة البيضاء، حيث تتزين به، ولا يجوز لها استعمال الدمام وقد فسر ذلك بما يُطْلَى به الوجه للتحسين، ويقال له الكُلْكُون الذي يُحَمِّر الوجه، وكذا في استعمال الاسفيداج، ويحرم عليها أن تَخْتَضِب بالحِنَّاء (¬1) ونحوه؛ لما سبق من الخبر، وذلك فيما يظهر من البَدَن؛ كالوجه واليدين والرجلين، ولا مَنْع منه فيما تحْت الثياب، ذكره القاضي الرُّويانيُّ، والغاية، وإن ذهبت رائحتها كالخضاب؛ لأنَّها تسود، قال الإِمام -رحمه الله-: وتجعيد الأصداع وتصفيف الطرة (¬2) لا نقل فيه عن الأصْحاب، ولا يمنع أن يكون كاستعمال الحُلِيِّ. ويجوز للمُحِدّة التزيُّن في الفرش والبُسُط والسُّتور وأثاث البَيْت؛ لأن الحداد في البَدَن لا في الفراش والمكان، ولها التنظيف بغسل الرأس، والامتشاط، ودخول الحمام (¬3)، وقَلْم الأظفار، والاستحداد، وإزالة الأوساخ؛ فإنها ليست من الزينة. فرْعٌ: عن بَعْض الأصحاب: أنا إذا قلْنا: لا يجب الإحداد على المبتوتة، ففي تحريم التطيب عليها وجْهانِ؛ لاختصاصه بتحريك الشهوة. آخر: قصة قوله -صلى الله عليه وسلم- "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ" الحديثُ فيه إشعارٌ بأنه يَجُوز الإحْداد ثلاثة أيام فما دونها على غَيْر الزَّوْج من الموتى، وكذلك أورده صاحب الكتاب. في "البسيط" وأبو سعْد المتولِّي -رحمهما الله- تعالى. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَعَلَيْهَا مُلاَزَمَةُ المَسْكَنِ إِلاَّ لِحَاجَةٍ* فَإن تَرَكَتْ جَمِيعَ ذَلِكَ عَصَتْ، وَانْقَضَتِ العِدَّةُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القول فيمن تستحق السّكْنَى من المعتدَّات، ومَنْ لا تستحق، وفي أنَّ المعتدة يجب عليها ملازمة المَسْكَن الَّذي تعْتَدُّ فيه، ولا يجوز لها الخروج منه إلا بضرورة أو حاجة، وفي سائر أحكام السُّكْنَى سيأتيك مجموعاً في الباب الثاني، والغَرَضُ الآن أنَّها لو تركت واجب الملازمة، وكانت تَخْرج مِنْ غير حاجةٍ، كانت عاصيةً لكن تنقضي العدَّة بمضيَّ المدة، كما لو بلغها خَبَرُ وفاةِ الزَّوْج الغائب بَعْد أربعة أشعر تكون العدة منقضية، وكذا لو تركت الإحْداد الواجب عليْها في مدة العدة أو بعْضها، عَصَتْ، وانقضت العدة، والله أعلم. ¬
الباب الثاني في السكنى
البَابُ الثَّانِي فِي السُّكْنَى قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالنَّظَرُ في أَمْرَيْنِ: (الأَوَّلُ في المُسْتَحِقَّةِ) وَهِيَ المُعْتَدَّةُ عَنْ طَلاَقٍ بَائِنَةً كَانَتْ أَوْ رَجْعِيَّةً* وَفِي المُعْتَدَّةِ عَنِ الوَفَاةِ قَوْلاَنِ* وَفِي المُعْتَدَّةِ عَنِ الفَسْخِ طَرِيقَانِ* وَقِيل: قَوْلاَنِ * وَقِيْلَ: لاَ سُكْنَى لَهَا قَطْعاً، وَإِنْ كَانَ الفَسْخ تَعَلَّقَ باختِيَارِهَا أوْ عَيْبِهَا* وَإِنْ كَانَ بِرِدَّةِ الزَّوْج فَقَوْلاَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ضمن الكلام في السكنى طرفين: أحدهما: فيمن تستحق السكْنَى. والثاني: فيما يتعلَّق بتوفية هذا الحَقِّ، ولكل واحدٍ من الطرفين أصولٌ ومسائلُ أُخَرُ تتعلَّق بالسكنى لا تُنْبِئ عنها الترجمتان، أما الطَّرَف الأول، فالمعتدات أنواع: منها: المعتدة عن طلاق رجْعِيِّ أو بائن؛ لكونه على عوض، أو لاستيفاء الثلاث، فلها السكْنَى حاملاً كانت أو حائلاً، قال الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6]، {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [وَلَا يَخْرُجْنَ]} [الآية] (¬1) [الطلاق: 1] وذهب أحمد إلى أنه لا سُكْنَى للبائنة، و [قد] روى أبو سليمان الخَطَّابِيُّ عنه موافقة الجمهور. ومنْها: المعتدَّة عن الوفاة في استحقاقها السُّكْنَى قولان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزنيُّ: المنع؛ لأنه لا نفقة لَهَا، وإن كانت حاملاً، فلا سُكْنَى لها كالموطوءة بالشبهة، وُيرْوَى أن عليًّا -عليه السلام- نقل ابنته أم كلثوم بعدما استشهد عمر -رضي الله عنه- بسبع ليالٍ. والثاني: تستحق، وبه قال مالك وأحمد؛ لما رُوِيَ أن فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخُدْرَيُّ قُتِلَ زوجها، فسألَتْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ترجع إلى أهْلِها، وقالت: إنَّ زَوْجي لم يَتْرُكْني في منْزِلٍ يملكه، فأَذِنَ لها في الرجوع، قالت: فانصرفتُ حتى إذا كنتُ في الحُجْرة أو في المسجد دعاني، فقال: "امكثي في بَيْتِك، حتى يبلغ الكتابُ أجَلَه، قالت فاعتددتُّ فيه أربعة أشْهُرٍ وعشْراً" ومَنْ قال بالأوَّل، قال: قوله "امكثي في بيتك" ندْبٌ لها إلى الاعتداد في ذلك البيت، والمذكرر أوَّلاً بيان أنه لا سكْنَى لها، وذَهَب كثيرٌ من الأصحاب إلى بناء القولَيْن على التردُّد في أن حديث فريعة مُنزَّلٌ على هذا التنزيل أو الأول حكم بأنه لا سكنى لها، والذي ذكره آخراً ينسخ الأول، وربما ¬
أشير إلى حَمْل الأول على السهو، والثاني: على التدارك، وقد يسهو النبي -صلى الله عليه وسلم- لكنه لا يُقرّ على الخطأ، والأصحُّ من القولَيْن، على ما ذكره منصور التميمي في "المستعمل"، وصاحب الكتاب في "الخلاصة": أنه لا سكنى لها ومقابله عند الشيخ أبي حامد والعراقيين، وتابعهم القاضي الروياني وغيره. ومنها: المعتدَّة عن النكاح بما سوى الطلاق من أسباب الفراق في الحياة، كالتي فُسِخَ نكاحها بالردة أو الإِسلام أو الرضاع، ففيها طرق: أحدها: إطلاق قولَيْن في استحقاقها السكنى، كما في عدة الوفاة، في قول: تستحق؛ كالمطلقة؛ تحصيناً للماء. وفي قول: لا تستحق؛ لان إيجاب السُّكنَى بعْد زوال لنكاح؛ كالمستبعد؛ ولذلك لم تجِبِ النفقة، ونص السكنى إنما ورد في المطلَّقة، فيبقى حُكْم غيرها على الأصلْ. والثاني: إن كان لها مَدْخَلٌ في ارتفاع النِّكاح، بأن فسخت بخيار العِتْق أو بعيب (¬1) الزوج أو فسخ هو بعيبها، فلا سُكْنى لها قَطعاً، وإن لم يكن لها مدْخَل في ارتفاع النكاح، كما إذا انفسخ بإسلام الزوْج أو ردَّته أو الرِّضاع من الأجنبي، ففي استحقاقها السكْنَى القولان، وهذان الطريقان هما المذكوران في الكتاب (¬2) والثالث: في تعليقه إبراهيم المروروذي التفصيل المذكور في الطريق الثاني مع القطع باستحقاق السُّكْنَى في القِسْم الأوَّل. والرابع: في "التهذيب": أن الفُرْقة، إن كانت بالعيب أو الغرور، فلا سُكْنَى لها، وإن كانت بسبب رضاع أو صهرية، أو خيار عِتْقٍ وجهان: أحدهما: أن الجَوَاب كذلك. والمذهب أنها كالمُطَلَّقة، وفُرِّق بأن الفُرْقة بالرَّضَاع والصهرية وخيار العتق لم تكُنْ بسبب موجودٍ يوْمَ العَقْد، ولا [بسبب] يستند إليه الفسخ، فيجعل مفسوخاً مِنْ أصْله بدليلِ وجوبِ المسمَّى، وفي العيب، والغرور كانت بسبب في العقد، ولذلك يُوجَب مَهْر المِثْل، هَذا لفْظُه في الفرق، قال: والملاعنة كالمُطلَّقة ثلاثاً. والخامس: القطْع بأنها تستَحِقُّ السكنى؛ لأنَّها معتدَّةٌ عن (¬3) فراق النكاح في حياة الزوج، فأشبهت المُطلَّقة قال في "التتمة": وهذا هو المذهب (¬4)، وقد يؤيد ذلك بأن ¬
الفسخ كالطَّلاق في إيجاب العدة، فكذلك في كيفيتها وحُقُوقها، ولذلك قلْنا: إن الأشبه التسويةُ بينهما في الإحْدَاد. ومنْهَا: المعتدة عن الوطء بالشبهة، وعن النكاح الفاسد، وأم الولد، إذا أعتقها سيدها لا سُكْنَى لهن؛ لأن أسباب التربُّص فيهنَّ لا تتأكَّد حُرْمَتُها، فلا تُلْحق بالنكاح الصَّحيح، وأيضاً، فإنه لا سُكْنَى لها في النكاح الفاسد، فكذلك في التربُّص الذي هو من آثاره، بخلاف النكاح الصحيح؛ هذا هو الكلام لِمَنْ تستحق السكْنَى، ومن لا تستحق، وأما القول في النفقة والكسوة فمؤخَّر إلى كتاب النفقات. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَمَنْ لاَ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي النِّكَاحِ فَلاَ سُكْنَى لَهَا كَالصَّغِيرَةِ وَالأَمَةِ عَلَى وَجْهٍ وَالنَّاشِزَةِ* وَفِي وُجُوبِ لُزُوم المَسْكَنِ عَلَى الأَمَةِ إِذَا كَانَ السَّيِّدُ هُوَ الَّذِي عَيَّنَ المَسْكَنَ وَقُلْنَا: لَيْسَ لِلزَّوْجِ ذَلِكَ تَرَدُّدٌ* وَالظَّاهِرُ أنَّهُ لاَ يَجِبُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صور: إحداها: الصغيرة الَّتي لا تحتمل الجِمَاعَ، هل تستحق السكنى؟ يُبْنَى ذلك عَلَى أنه هل تستحق النفقة في النكاح؟ وفيه خلافٌ يُذْكر في موضعه، فإن استحقت النفقة في النكاح، استحقت السُّكْنَى في العدَّة، وإلا، فلا. الثانية: الأمة المزوَّجة قد مَرَّ أنَّه ليس على السيِّد أن يسلمها ليلاً ونهاراً بل [له أن] (¬1) يستخدمها نهاراً، وكذلك الحال في زَمَان العدة، فإن سلَّمها ليلًا ونَهَاراً ورفع اليد عنها، فلها السكنى، كما تستحق النفقة، والحالة هذه، في صُلْب النكاح، وإن كان يستخدمها نَهاراً، فيبنى استحقاق السُّكْنَى في العدة على النفقة في صُلْب النكاح إن استحقتها [استحقت] (¬2) السكنى، وإلا، فلا، ولكن للزوج أن يسكنها حالة فراغها من خدْمة السَّيِّد؛ ليْحْصنها. هذا ما ذكره الأصحاب، وزاد الإِمام: فبنى استحقاقها السكْنَى على أنَّه هل يجب عليها ملازمة المسكن في العدة؟ وبنَى وجوب الملازمة على أنها في صُلْب النكاح تكون في المسكن الذي يعينه الزوج أم للسيد أن يُبَوِّئ لها بيتاً، وفيه خلاف، فإن قلْنا: تكون في المسكن الذي عيَّنه الزوج، فعليها ملازمة المسكن، وإلا، فإذا طلَّقها، وهي في البيت الذي عينه السيد، ففي وجوب ملازمته وجهان: ¬
وجه الوجوب: أنه المسكن الذي تراضَوْا به، وكانت في صُلْب النكاح فيه. وأظهرهما: المنع؛ لأن العدة فرْع النكاح، وأثره، فإذا لم تستحق إسكانها في صُلْب النكاح لم يستحقَّه في العدة. الثالثة: إذا طلَّقها، وهي ناشزة، لم تستحق السكنى في العدة؛ لأنَّها لا تَسْتحِقُّ النفقة والسكنى في صلْب النكاح؛ لتعدِّيها؛ فَلأَنْ لا تستحق بَعْدَ البينونة كان أوْلَى. هكذا حكي عن القاضي حُسَيْن، وزاد صاحب "التتمة" فقال: وكذا لو نَشَزَتْ في العدة، تسقط سكناها، ولو عادت إلى الطاعة، عاد حق السكنى، قال الإِمام: إذا طُلِّقت في مسْكن النكاح، فعليها ملازمة المَسْكن؛ لِحَقِّ الشرع، فإذا أطاعت، [فتستحق السكنى، فيتجه] أن يقال: لا يلزمه مؤنة السكنى، وعبَّر بعضهم عن كلام الإِمام -رحمه الله- بأنها إن نَشَزت على الزوج، وهي في بيته، فلها السكنى في العدَّة، وإن خرجت من بيته، واستعصت عليه مطلقاً، فلا سكنى لها، ويجوز أن يُعْلَم لهذا قوله في الكتاب "والنَّاشِزَةِ" لأنه مُطْلَق موافق لما حكي عن القاضي. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإنَّمَا يَجبُ مُلاَزَمَةُ مَسْكَنِ النِّكَاحِ* فَلَوْ طُلِّقَتْ بَعْدَ الاِنْتِقَالِ لاَزَمَتِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ* فَإنْ أَذِنَ في الاِنْتِقَالِ وَطَلَّقَهَا فِي الطَّرَيقِ فَالمَسْكَنُ هُوَ الأَوَّلُ عَلَى وجْهٍ* وَالثَّانِي عَلَى وَجْهٍ* وَالعِبْرَةُ في الاِنْتِقَالِ بِالبَدَنِ لاَ بِالأَمْتِعَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من استحقت السكنى من المعتدات، تَسْكن في المسكن الذي كانت فيه عنْد الفراق، إلا أن يَمْنع منه مانع، على ما سيأتي (¬1)، فلَيْس للزوج ولا أهْلِه إخراجُها منْه، ولا لها أن تخْرُج؛ على ما ورد به الخبر، فلو اتفق الزوجان على أن تنتقل إلَى مسكن آخر منْ غير حاجة، لم يَجُزْ، وكان للحاكم المَنْع؛ لأن في العدة حقَّ الله تعالى، وقدْ وجَب في ذلك المَسْكَنُ، فكما لا يجوز إبطال أصل العدة، باتفاقهما لا يجوز إبْطال صفاته وتوابعه، وليس كما في صُلْب النِّكَاح يسكنان، وينتقلان كيف شاءا لأن هناك الحقَّ لهما على الخُلُوص، ولو تركا المكث والاستقرار، وأداما على السيْر والسفر، جاز، وهاهنا بخلافه. إذا عَرَفْتَ ذلك، فلو انتقلت مِنْ مَسْكن إلى مسكنٍ بغير إذن الزوج، ثم طلَّقها أو ¬
مات عنها، فعليها أن تعود إلى الأَوَّل، وتعتد فيه، ولو أذِنَ لها بعْد الانتقال في أن تقيم، فيه، كان كما لو انتقلت بالإذْن، وإذا انتقلَتْ بالإذن، ثم طَلَّق أو مات، فتَعْتَدُّ في المنْتَقَل إليه؛ لأنه المسْكِن عند الفراق، وإن خرَجَتْ مِنَ المَسْكن الأول، ولم تصل إلى الثاني، فطَلَّقها في الطريق، ففيه ثلاثة أوجه: أحدُها: أنها تعتد في المسْكَن الأوَّل؛ لأنَّها لم تحْصُل في مسكن آخر قبْل الفراق. وأصحَّهما، ويحكى عن نصِّه -رضي الله عنه- في "الأم" وبه قال أبو إسحاق: أنها تعتد في المسكن الثاني؛ لأنَّها مأمورةٌ بالمقام فيه ممنوعةٌ من غيره. والثالث: تتخيَّر بينهما؛ لأنَّها غير مستقرةٌ في واحد منهما، ولها تعلُّق بكل واحدٍ منهما، وفي "البحر" بدل الوجه الأول وجه آخر؛ وهو أن يعتبر القُرْب، فإن كانت إلى المسكن الأول أقرب. [عادت إلَيْه، واعتدت فيه، وإن كانت إلى الثاني أقرْب،] مضَتْ إليه، والاعتبار في الانتقال بالبَدَن لا بالأمتعة والخدم حتَّى لو كانت قد انتقلت إلى المسكن الثاني بنفسها، ولم تنْقل الرحلُ [و] الأمتعة، فمسكنها الثاني، ولو نقلت الأمتعة، ولم تنتقل هي، فالمسكن الأول كما أن حاضر المسجد الحرام مَنْ هو بمكة لا مَنْ رحله، وأمتعته بمكة، وعند أبي حنيفة: الاعتبار بالأمتعة لا بالبدن، والحكم على العَكْس، ولو أَذِنَ لها في الانتقال إلى المَسْكن الثاني، فانتقلت، ثم عادت إلى الأوَّل؛ لنقل متاع وغيره، وطلَّقَها، فالمسكن الثاني فتعتد فيه وهو كما لو خرجت عن المسكن لحاجة، فطلقها، وهي خارجة، قال الإِمام -رحمه الله-: وهذا إذا كانَتْ قد دخَلَتِ الثاني دُخُولَ قَرَارٍ، فأما إذا لم تدْخُلْه على قَصْد القرار، بل كانت تتردَّد بينهما، وتنقل أمتعتها، فإن طلَّقها، وهي في المسكن الثاني، فتعتد فيه، وإن طلَّقها، وهي في الأول، ففيه احتمالان. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ أَذِنَ لَهَا فِي سَفَرٍ وَطَلَّقَ قَبْلَ مُفَارَقَةِ عُمْرَانِ البَلَدِ فَلَهَا الانْصِرَافُ* وَلَمْ يَجِبْ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ كَيْلاَ يُبْطِلَ عَلَيْهَا أُهْبَةَ السَّفَرِ* وَإِنْ كَانَ في الطَّرِيقِ لَمْ يَلْزَمْهَا (وح) الانْصِرَافُ وَكَانَ لَهَا إِتْمَامُ حَاجَتِهَا، وَيجِبُ الرُّجُوعُ اِلَى المَسْكَنِ بَعْدَهُ لِبَقِيَّةِ المُدَّةِ* وَإِنِ انْقَضَتِ المُدَّةُ فَلاَ يَجِبُ* وَإِنْ كَانَ سَفَرَ نُزْهَةٍ وَأَذِنَ الزَّوْجُ مُدَّة فَفِي جَوَازِ اسْتِيفَاءِ المُدَّةِ قَوْلاَنِ* وَكَذَلِكَ في وُجُوبِ الاِنْصِرَافِ عَنِ الطَّرِيقِ* وَفِي وُجُوبِ ترْكِ الاِعتكاف المَأْذُونِ فِيهِ خِلاَفٌ* وَلَوْ خَرَجَتْ مَعَ الزَّوْجِ فَطَلَّقَهَا وَجَبَ عَليْهَا الاِنْصِرَافُ إِذْ لَيْسَ يُبْطلُ أهْبَتَهَا إِذَا خَرَجَتْ بِأُهْبَةِ الزَّوْجِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لو أذِنَ لها في الانتقال إلى بَلَدٍ آخر، ثم طلَّقها أو مات عنْها،
فالحُكْم كما ذكرنا فيما لو أذن في الانتقال من مَسْكن إلى مَسْكن، فإن وُجِدَ سببُ الفراق بغد الانتقال إلى البلد الآخر، اعتدَّتْ في المنتقل إلَيْه، وإن وُجِدَ قبْل مفارقة عمْران البلد المنتقل عنه، لم تخرج بل تَعُود إلى المَسْكن، وتعتد فيه وإن كان في الطريق، فعَلَى الخلاف، وإن أذن في غير سفر النَّقْلة، نُظِر؛ إن تعلَّق بغرض مهمٍّ، كالتجازة أو حج وعمرة والاستحلال عن مظلمة ونحوها، ثم وُجِدَ سببُ الفراق، فيُنظر؛ إن حدث قبل أن تخرج من المسكن، فلا خلاف أنها لا تخرج بل تعْتد هناك، وإن خرجت منْه على قصْد السَّفَر ولم تفارق بعد عمران البلد، فوجهان: أحدهما: وهو ظاهرُ النَّصِّ، واختيار الاصطخريِّ عن ابن أبي هريرة: أنه يلزمها الانصراف والاعتداد في المسكن؛ لأنَّها لم تشْرَع في السفر بعْد، فأشبه ما إذا لم تخرج من المنزل. [والثاني: تتخير بين العود والمضى في السفر لأن عليها ضرر في إبطال سفرها وفوات غرضها] وحكي وجهٌ غريبٌ فارقٌ بين أن يكُون السفر سَفَر الحج، فلا يلزمها الانصراف وبين أن يكون غيره، فيلزم، وإنْ وُجِد سبَبُ الفراق في الطَّريق، فلا يجب الانصراف بل تتخير بين أن تمضِيَ، وهي معتدة في سيرها [وبين أن تعود] وذلك؛ لأن قطْع السفر مشقَّة ظاهرة بلحوق التعب من غير الوصول إلى المقصد وبالانقطاع عن الرُّفْقَة وغيرهما، وعن رواية ابن أبي هريرة وجهٌ ضعيف: أنه إن حدث قبل أن تقطع مسافة يوم وليلة، يلزمُها الانصراف، وإن استقر السفر، بقطع هذه المسافة لم يلزم وتخيرت، وعن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه إذا طلَّقها أو مات عنْها وبيْنها وبيْن المسْكن ثلاثة أيام، لزمها المضيُّ إليه والاعتداد فيه، وإن كان بيْنهما مسيرة ثلاثة أيام، فإن كان ذلك الموضع موضِعَ إقامة، فتقيم فيه، وتعتدُّ [و] (¬1) إلا فلها المضيُّ إلى المقصد، ويجوز أن يُعْلَم؛ لذلك قوله في الكتاب: "وإن كان في الطريق، لم يلزمْها الانصراف" بالحاء والواو، وإذا خيَّرناها، فإن اختارت العَوْد إلى المسكن والاعتداد به، فذاك، وفي تعليق الشيخ أبي حامد أنه الأوْلَى، وإن اختارت المضيَّ إلى المقصد، فمضت إليه أو حدث سبَبُ الفراق بعْدما دخَلَتِ المقصد، فلها أن تقيم إلى قضَاء حاجتها، فإن زادَتْ إقامتها على مدة إقامة المسافرين، فإن قضَت الحاجة قبْل تمام هذه المدة المذكورة، ففي "التهذيب" و"الوسيط" وغيرهما: أن لَهَا أن تقيم إلى تَمَام مُدَّة المسافرين (¬2)، وهذا ¬
حكاه (¬1) القاضي الرويانيُّ عن بعضهم، وغلط قائله، وقال: نهاية سفرها قضاء الحاجة لا غَيْر، وإن كان الزوج أَذِنَ لها في سفر النزهة، وبلغت المقصد، ثم حدث ما يوجب العدة، فإن لم يقدر مدة، لم تقم أكثر من مدة المسافرين، وإن قدر لها مدة، فهل الحُكْم كذلك أم لها استيفاء تلْك المدَّة؟ فيه قولان: أحدهما: أن الحُكْم كذلك؛ لأنَّها ليْسَتْ منتقلة إلَيْه، وقد بَطَل حكْم إذنه بزوال ملكه عنها. وأصحُّهما، وهو اختيار المزنيُّ: أن لها استيفاءَ تلْك المدَّة [منه،] (¬2) كما يجوز في سفر الحاجة الإقامةُ إلى قضاء الحاجَة؛ للإذن فيه، وكما أنَّه إذا أذِنَ في سفَر النقلة تقيم وتعتد هناك، ولا يقال: زال (¬3) الإذن بزوال الملك، وأجْرى القولان فيما إذا قَدَّر مدة في سفر الحاجة زائدةً على قدْر الحاجة، فإن المكْث الزائد على قَدْر الحاجة كسفر النزهة، فعلى قول: يجب الانصرافُ إذا قضَتِ الحاجة، وعلى قول: تجوز الإقامة إلى تمام المدة المقدَّرة، ويجريان فيما إذا أمَرَها بالانتقال إلى مسكن آخر في البلدة مدة قدَّرها، ثم طلقها، أو مات. كذلك حكاه الرويانيُّ عن نصه في "الأم"، وفي "البسيط" و"الوسيط": أن الطلاق يُبْطِل تلك المدَّة، ولم يجعله على الخلاف، وقد يفرق بينهما بأن الضرر فيه لا يُضَاهي ضَرَر قطْع السفر، ويجريان فيما إذا أذن لامرأته في الاعتكاف ¬
مدَّة، ولزمتها العدَّة قبل تمام المدة، هل لها إدامة الاعتكاف إلى تَمَام المدَّة، أو يلزمها الخروج، لتعتد في المَسْكن؟ فإن لم يلزمْها الخُرُوج، فخرَجَت، بَطَل اعتكافها، ولم يكن لها البناء عليْه، إذا كان منذوراً، وإن ألزمناها، فيبطل بالخروج أو يجوز البناء عليه؟ فيه خلاف مذكور في الاعتكاف، والظاهر جواز البناء، ومنْهم مَنْ يبنى الخلاَف على جواز البناء، إن جاز، فعليها الخروج، وإلا، فإبطال العبادة علَيْها كإبطال أهبة السفر، وإن حدَثَ سببُ وجوب العدَّة في سفر النزهةِ قبْل البلوغ إلى المقصد، فحيث قلْنا في سفر الحاجة: يجب الانصراف، فهاهنا أوْلَى، وإذا قلنا: لا يجب، فهاهنا وجْهان وعن القَفَّال؛ بناؤهما على القولَيْن في أنه هل يجوز استيفاء المدَّة المقدَّرة؟ إن جوَّزناه، لم يجب الانصراف من الطريق، وإلاَّ، وجب، [و] هذه الطريقة هي التي أوردها في الكتاب، ويجوز أن يُعْلَم قوله "وكذلك في وجوب الانصراف عن الطريق" بالواو؛ لأن منهم مَنْ يقطع بأنه لا يجب كما في سَفَر الحاجة، وكذلك أورده صاحب "الشامل" ثم سفر الزيارة كسفر النزهة في ظاهر النَّصِّ، ومنْهم مَنْ يُلْحقه بسفر الحاجة، ثم إذا انتهت مدة جواز الإقامة، فعليها الانصراف في الحال، إن لم تنْقَض مدة العدَّة، بتمامها؛ لتعتد بقيَّة العدَّة في المسكن، فإن كان الطريق مخوفاً أو لم تجدْ رفقة، فتعذر في التأخر، وإذا علمت أن البقيَّة تنْقَضِي في الطريق، ففي لزوم العَوْد وجهان: أحدهما، ويُحْكى عن أبي إسحاق، واختيار القَفَّال: [المنع؛] (¬1) لأنَّها لا تَقْدِر على العدَّة في المسكن، والاعتدادُ وهي مقيمة، أوْلَى من الاعتداد، وهي سائرة. وأظهرهما، وهو نصه -رضي الله عنه- في "الأم": أنه يلزمها العَوْد؛ لتكون أقرب إلى المسكن، وأيضاً، فتلك الإقامة غير مأذونٍ فيها، والعَوْدُ مأذونٌ فيه، وهذا كلُّه فيما إذا أذِنَ لها في السفر، فأما إذا خرَجَت مع الزوج، ثم طلَّقها أو مات، فعَلَيها الانصراف، ولا تقيم أكثر من مدة المسافرين (¬2)، إلا إذا كان الطريق مخوفاً أو لم تَجِدْ رُفْقة، وعلَّله في الكتاب بأنَّها إذا خرَجَتْ مع الزوج، خَرَجَت بأهبته، فلا يبطل عليها أهبة السفَرِ، وآخرون منْهم صاحب "التتمة": بأن سفرها كان بسفره، وقد انقطع سفَرُها بانقطاع سفَرِه أو زال سلطانه عنها، فيلزمها العَوْد إلى المسكن. هذا إذا كان سفره لغرض نفسه واستصحبها ليستمتع بها فأما إذا كان السفر لغرضها وخرج الزوج بها، فليكن الحُكْم كما ذكرنا فيما إذا أذِنَ لها، فخرجَتْ، وفي نَظْم "المختصر" ما يشعر بذلك والله أعلم. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ أَذِنَ لَهَا فِي الإِحْرَامِ وَطَلَّقَ قَبْلَهُ لَمْ تُحْرِمْ* وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحِجٍّ* وَهِيَ فِي البَلَدِ وَقَبْلَ تَأْخِيرِ الْحَجِّ فَفِي وُجُوبِ التَّأْخِيرِ تَرَدُّدٌ لِمَا في مُصَابَرَةِ الإِحْرَامِ مِنَ العُسْرِ* وَمَنْزِلُ البَدَوِيَّةِ مَسْكَنُهَا فَلاَ تُفَارِقُ إلاَّ إِذَا رَحَلُوا* فَإِنْ رَحَلَ أَهْلُهَا وَهِيَ فِي أَمْنٍ لَوْ أَقَامَتْ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ إِذ مُفَارَقَةُ الأَهْل تَعْسُرُ* وَلَوْ رَحَلَتْ مَعَهُمْ وَأَرَادَتِ المُقَامَ بِقَرْيَةٍ جَازَ بِخِلاَفِ البَلَدِيَّةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: السفر فيه مسألتان: إحداهما: لو أذِنَ لامرأته في الإحرام بحَجِّ أو عمرة، ثم طلَّقها قبْل الإحرام، فلا تُحْرِم، ولا تنشئ السفر بعْد لزوم العدَّة، ولو أحرمتْ، فهو كما لو أحرمَتْ بعْد الطلاق من غير تقدُّم الإذن، وحكمه: أن لا يجوز لها الخُرُوج في الحال، وإن كان الحجُّ فرضاً بل تقيم وتعتدُّ؛ لأن لزوم العدة سبق الإحرام، فإذا انقضت العدَّة، أتمت عمرتها، إن كان الإحرام بعمرة، وكذا حكْم الحج، لو بقي وقته، وإن فات، تحلَّلت بعمل عمرة، وأراقت دماً، وقفت ولو أحرمت أوَّلاً، إما بإذن الزوج أو غير إذنه، ثم طلَّقها، فإن كانت لا تخْشَى فوات الحج، لو أقامت، اعتدت أولاً أو كان الإحرام بعمرة، فوجهان، وهو المذكور في "المهذب" أنه يلزمها أن تعتدَّ هناك أوَّلًا [و] (¬1) تؤخِّر الخروج لأداء النسك؛ لأنه أمكن رعايةُ الحَقَّيْن، فلا يجوز إسقاط أحدهما. وأظهرهما، وهو الذي أورده الشيخ أبو حامد والأكثرون: تتخير بين أن تعتد أولاً وبين أن تخْرُج في الحال؛ لأداء النسك؛ لأن مصابرة الإحرام عَسِرَةٌ، وقد تزداد مشقة الانصراف من الطريق، وإن كانت (¬2) تخشى فوات الحج؛ لضيق الوقْت فتخرج إلى الحج معتدةً؛ لأن الإحرام سَبَقَ وجُوب العدة؛ ولأنها إذا خرجَتْ، حَصَل الحج، وانقضت العدة، وإن أخلت صفة الوقوع في المسكن، ولو اشتغلت بالاعتداد هناك فات، أصل الحج. وعن أبي حنيفة: أنَّها تقيم وتعتدُّ ولا تخرج للنسك بحال. الثانية: منزل البدوِيَّة وبيتها من صوف أو شعر كمنزل الحضرية من طين وحجر، فإذا لزمتها العدَّة فيه فعليها ملازمته ثم إن كانت البدويَّة مِنْ حيٍّ نازلين على ما لا ينتقلون عنه، ولا يظعنون إِلاَّ لحاجة، فهي كالحضرية منْ كلِّ وجه، وإن كانَتْ من حيّ ينتقلون عنْه شتاءً أو صيفاً، فإن ارتحلوا جميعاً، ارتحلت معهم؛ للضرورة وإنِ ارتحل بعْضُهم، نُظِر؛ إن كان أهلها ممن لم يرتحل، وفي الذين لم يرتحلوا قوةٌ وعددٌ، فليس ¬
لها الارتحال، وإن كان أهْلُها ممن يرتحل، وفي الباقين قوةٌ وعددٌ، فوجهان: أحدهما: أنه ليس لها الارتحال، وتعتد هناك لتيسره (¬1). وأصحهما: أنها تخيَّر بيْن أن تقيم وبيْن أن ترتحل؛ لأن مفارقة الأهل عَسِرة موحِشَةٌ، ولو هرب أهْلُها، خوفاً من عدوٍّ ولم ينتقلوا، ولم يكُنْ لها خوفٌ، لم يجز لها الارتحال، وسيعود المرتحلون عن قريب إذا أمنوا، ولو ارتحلتْ حيث يجُوز بها الارتحال، ثم أرادت المقام بقَرْية في الطريق والاعتداد فيها، جاز؛ فإنه أحسن من السَّيْر والانتقال، وأليق بحال المعتدة، وتخالِفُ البلديةُ المأذونةَ في السفر لا يجوز لها الإقامة ببعض القرى في الطريق؛ لأنَّها ساكنة متوطِّنة، والسفر طارئٌ عليها، فتعتد في الوطَن أو المقصد، وليس لأهل البادية مقْصد، ولا إقامة محقَّقة؛ [و]، (¬2) لذلك لم تُوظَّفْ عليهم الجمعة. فرْع: لو طلَّق زوجته أو مات عنها، وهْي في سفينة، فإن ركبتها مسافرةً، فحُكْم السفر ما مرَّ؛ وإن كان الرجل ملًاحاً، ولا منزل له سوى السفينة، فإن كانت السفينة كبيرةً فيها بيوتٌ متميزةُ المرافق، اعتدَّت في بيْت منها معتزلةً عن الزوج، ويسكن الزوج بيتاً آخَرَ، وكانَتْ هذه السفينةُ كدارٍ فيها حُجَرٌ مفردةُ المرافق، وإن كانت صغيرةً، نُظِر؛ إن كان معها مَحْرَمٌ لها يمكنه أن يعالج السفينة، خرج الزوج واعتدت هي فيها، وإلا، فتخرج وتعتد في أقرب المواضع إلى الشَّطِّ، فإذا (¬3) تعذَّر خروجها أو خروجه، فعليها أن تتستر، وتبعد عنه بحسب الإمكان، هذا ما أورده صاحب "التهذيب" و"الشامل" وغيرهما -رحمه الله-، وفيه إشْعَار بأنه لا يجوز لها ابخروج من السفينة، إذا أمكن الاعتِدَاد فيها، وقد نصَّ عليه ناصُّون، ونقل القاضي الرُّويانيُّ: أنها تتخيَّر بين أن تعتدَّ في السفينة وبين أن تخْرُج، فتعتد خارِجَها، فإن اختارت الاعتداد في السفينة، فحينئذ يُنْظَر في السفينة، أهِيَ كبيرةٌ أم صغيرةٌ؟ ويراعى التفصيل (¬4) المذكور، وذكر فيما إذا اختارت الخروج وجهَيْن، في أنها أين تعتد؟ وأظهرهما، وبه قال الماسرجسي: أنَّها تعْتدُّ في اْقرب القُرَى إلى الشطِّ. والثاني عن أبي إسحاق: أنها تعتدُّ في أي موضع شاءت، والله أعْلَم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ كَانَتْ فِي دَارٍ أُخْرَى فَقَالَتْ: لاَ أَنْتَقِلُ فإِنِّي انْتَقَلْتُ بالإِذْنِ فَأَنْكَرَ فَالقَوْلُ قَوْلُهُ* وَإِنْ جَرَى الخِلاَفُ مَعَ الوَرَثَةِ فَالقَوْلُ قَوْلُهَا إِذْ وُجُود الانْتِقَالِ يُقَوِّي جَانِبَهَا ¬
* وَقِيلَ فِي المَسْأَلَتَيْنِ قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا خرجت الزوجة إلى غَيْر الدار المألوفة أو غير البلد المألوف، ثم طلَّقها زوْجُها، واختلفا، فقال الزوج: أذِنْتُ لك في الخروح؛ للنزعة أو بغرض كذا، فعودي إلى المنزل الأوَّل، واعتدي فيه، فقالت الزوجة: بَلْ، أذنْتَ للنقلة، وإنما أعتد في المنزل الثانيِ، فَفِي مَنْ يُصدق منْهما اختلافُ نصِّ وفي كيفيَّة النصيْن طريقان للأصحاب: أحدهما، وهو الذي أورده الشيخان صاحب "التهذيب" وإبراهيم المروروذي، وحكاه الصيدلانيُّ عن القَفَّال: أن النَّصِّ في صورة اختلاف الزوجين أن القول قوْلُها، وهو ظاهر كلامه في "المختصر" ونصَّ فيما إذا خرجَتْ بالإذن، ومات الزوج، وجرى هذا الخلاف بيْن وارثه وبينها: أن القول قول الوارث، وربَّما نسب ذلك إلى رواية المزنيِّ، في "الجامع الكبير"، واختلفوا فيهما على طريقَيْن: أحدهما: أن في الصورتَيْن قولَيْن، بالنقل والتخريج. وجهُ تصديقِ الزوجِ والوارثِ: أنَّ الأصل عدم الإذْن في النقلة، وأيضاً، لو جرى الخلاف في أصْل الإذْنَ في الخروج كان القوْل قوْلَ الزوجِ أو وارثِهِ، فكذلك، إذا اختلفا في كيفية الإذْن، ووجْه تصديق الزوجة أنها في الحال في المنْزِل الثاني، فالظاهر يشهد لها، وهي كشَيْء في يد إنسان يدَّعيه غيره، وخرَّج مُخَرِّجون على تقابُل الأصل، والظاهر، وقالوا: الأصْل مع الزوْج، والظاهر معها. والثاني: تنزيلهما على حالَيْن، وهؤلاء اختلفوا على طريقَيْن: أحدهما: أن موضع تصديقها ما إذا اتفقا على أنَّه أذِنَ في الخروج مطلقاً، وقال الزوج: أردتُّ النزهة، فقالت: بل النقلة، فيكون القول قولها؛ لأن الإذْن في الخروج إلى موضع آخر في الانتقال، وفي هذه الحالة، لو كان الاختلافُ مع الوارث، فهِيَ المصدَّقة أيضًا، وموضع تصديق الزوج أو الوارث ما إذا كان الاخْتِلافُ في اللَّفْظ، فقال الزوج قلْتُ: اخرجي للنزعة، أو قال وارثه ذلك، وقالت المرأة: بل قال: اخرجي للنقلة؛ لأن الأصل أنَّه لم يقل ذلك. والثاني: أنه، إنّ تحوَّل الزوج معها إلى المنزل الثاني، فهي المُصدَّقة، سواءٌ جرى الخلاف مع الزوج أو وارثه، وإن انفردتْ بالتحوُّل، فالمُصدَّق الزوج أو وارثه؛ للقرينة. والطريق الثاني في الأصل، وهو الذي أورده صاحب الكتاب، وأبو الفرج السرخسيُّ: أن النص فيما إذا كان الاختلافُ بيْن الزوجين أن القول قول الزوج، وفيما إذا كان الاختلاف بينها وبين الوارث: أن القول قولُها، واختلف ناقلو النَّصَّيْن هكذا على ثلاثة طرق:
أحدها: الأخْذ بهما، والفرق أن كونها في المنزل الثاني يشهد بصِدْقها، ويرجِّح جانبها على جانِب الورثة، وإن لم يترجَّح على جانِبِ الزَّوْج؛ لأن الواقعة تتعلَّق بهما، والوارث أجنبيٌّ عنها، فتكون الزوجة أعرف بما جرى. والثاني: جعْلهما على قولَيْن نقلاً وتخريجاً. والثالث: تنزيلهما على حالين، كما ذكرنا في الطريقة الأولى، والأولان من الطرق الثلاثة مذكوران في الكتاب، فهذان الطريقان في كيفية اختلاف النَّصِّ في المسألة، وفيها طريقة ثالثةٌ؛ وهي أنهما، إن اتفقا على جريان لفظ الانْتِقَال لغير الإقامة بأن قال: انتقلي إلى موضع كذا، أو قال اخرجي إلَيْه، وأقيمي به، وقال الزوج: ضمَمْت إليه للنُّزْهة أو شهراً أو نحوهما، فأنكرت الزوجة هذه الضميمة، فالقول قولها؛ لأن الأصل في هذه الضميمة العَدَمُ، وإن كان المتفق عليه الإذن في الخروج لا غير، وقال الزوج: أردتُّ النزهة، وقالت: بل أردتَّ النقلة؛ فالظاهر أن القول قولُه؛ لأنه أعْرَفُ بقصْده ونيته، وفيه وجْه أو قولٌ: أن القول قولها، والإذن في الخروج مطلقاً محمولٌ على الانتقال، وإن كان الاختِلافُ مع الوارث، فإن اتفقا على جريان لفْظِ الانتقال والإقامة، فهي المصدَّقة بطريق الأوْلَى وإن لم يتفقا إلا على الإذْن في الخروج، فكذلك تُصدَّق المرأة؛ لأنهما مختلفان في إرادة الزوْج وقصْدِه، وكل منهما أجنبيّ عن ضميره ويرجح (¬1) جانبها بأنها شاهدت الحال؛ فكان الخطاب مهماً، وكان أوْلَى بالتصديق، ومن قال بهذه (¬2) الطريقة، حمل نص "المختصر" على ما إذا كان الخلاف بينها وبين الورثة، أو على ما إذا كان بيْن الزوجين واتَّفقَا على جرَيَان لفْظ الانتقال، وادَّعَى الزوج زيادة (¬3) قيد. ومنْهم مَنْ نسب المزنيَّ إلى السهو، والذي يميل الأصحاب على طبقاتهم إلى ترجيحه: تصْدِيقُ الزَّوْج، إذا كان الاختلاف بين الزوجين، وتصديقُها، إذا كان الاختلافُ بينها وبيْن وارثه، ويُحكَى ذلك عن أبي حنيفة، وابن سُرَيْج -رحمهما الله-، والحكم فيما إذا اتفقا على تلفظه بالانتقال كما بيَّنَّا في الطريقة الثالثة، ولم يذكر فيه خلافاً، لكن لفظ الانتقال ليس صريحاً في المعْنَى الذي يريده كسفر النقلة بل يقع موقع الذَّهَاب والسفر والخروج، فقضيَّته أن يقال: إذا ادَّعى أنه أراد به النزهة ونحوها، جاز، كما إذا ادعاها في لفظ الخُرُوج، وإن صدَّقناها في أنه لم يتلفَّظ بالزيادة التي يدعيها. وقوله في الكتاب "ولو كانت في دار أخرى، فقالت: لا أنتقل؛ فإني انتقلْتُ ¬
بالإذن" المراد منه الصورة التي شرحناها، والمعنى: طلَّقها وهي في دار غير الدار المعهودة، فقال لها ارجعي إلَيْها، فقالت: لا أرجع، فإني انتقلت إلى هذه الدار، [بإذنك؛ ليكون المسكن هذه] وليس المراد ما يسبق إلى الفَهْم من ظاهره القول [قول] (¬1) الزوج بلا خلاف على أن الإِمام قال: يحتمل أن يجعل القولُ قوْلَها، كوجه ذُكِرَ فيما لو قال صاحب اليد: أعَرْتَني هذه الدار، وقال المالك: ما أَعَرْتُكَ، أنه يجعل القول قول صاحب اليد، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَيجُوزُ لَهَا مُفَارَقَةُ المَسْكَنِ بِعُذْرٍ ظَاهِرٍ لِحَاجَةِ الطَّعَامِ أَوْ خَوْفِ المَالِ وَالنَّفْسِ وَالهِجْرَةِ وَإِقَامَةِ الحَدِّ عَلَيْهَا* وَلاَ يَجُوزُ في طَلَب زِيَادَةٍ كَتِجَارَةٍ وَكَتَعْجيلِ حَجَّةِ الإسْلاَمِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هي يجب على المرأة ملازمة السكن الذي تعتد فيه؛ فلا تَخْرج إلا لضرورة أو عذر، إن خرجت غصباً، وقد روي عن ابن عمر (¬2) -رضي الله عنهما- قال: "لاَ يَصْلْحُ لِلْمَرْأَةِ أنْ تَبِيتَ لَيْلَةً وَاحِدَةً إِذَا كَانَتْ فِي عِدَّةِ طَلاَقٍ أَوْ وَفَاةٍ إِلاَّ في بَيْتِهَا، وَللزَّوْج أنْ يمنَعَها من الخروج؛ حفظاً لمائه، ولورثته المنعُ أيضاً عند موته، وتُعْذر في الخروج في مواضع: منها: إذا خافَتْ على نفسها أو مالها من هدم أو حربق أو غَرَق، فلها الخُرُوج، وشحتوي فيه عدة الطلاق (¬3) والوفاة، وكذا لو لم تكن الدار حصينة، وكانت تخاف اللصوص، أو كانت بين قوم فسقة تخاف منْهم على نفسها، أو كانت تَتأذى من الجيران أو من الأحماءَ تَأَذِّياً شديداً، وكذا لو كانت تبْذُو وتستطيل بلسانها على أحمائها، يجوز إخراجها من المسكن، قال الله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] الفاحشة مفسَّرة بذلك فيما روي عن ابن عباس وغيره -رضي الله عنهم- وإضافة البيوت إليْهنَّ من جهة أنَّها سكناهن، وليس المراد به ملكهن، فإن البذاءة لا تسلط على إخراج المالك من ملكه، ويروى (¬4) أن فاطمة بنت أبي حُبَيْش بَتَّ زوجها طلاقَها، فأمرها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أن تَعْتَدَّ في بَيْت ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، ¬
قال سعيد بن المسيِّب: في لسانها ذراية، فاستطالت على أحمائها، ثم في "التهذيب" أنها إذا بذت على أحمائها، سقط سُكْناها، وعليها أن (¬1) تعتد في بيت أهلها، والذي ذكره العراقيون والقاضي الرُّويانيُّ والجمهور: أنه ينقلها الزوْج إلى مسكن آخر، ويتحرى القرب من مسكن العدَّة، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- في نظائره، وموضع النقل بالبذاءة ما إذا كانت الأحْماء معَها في دار واحدة تتسع لجميعهم (¬2) وإن كان ضيِّقة لا تسع جميعهم، فينقل الزوج الأحماء، ويترك الدار لها، وإن كانت الأحْماء في دارٍ أخْرَى، لم تنقل المعتدة عن دارها بالبذاءة، [ونقل المتولي أنها تنقل لإيذاء الجيران كما تنقل لإيذاء الأحماء هذا إذا كانت في دار والأحماء في القرى فإنها لا تنقل للإيذاء] إذا لم تكن الداران متجاورَيْن، ولو كانت البذاءة من الأحْماء دُونَها، فينقل الأحماء دونها، ولو كانت في دار أبَوَيْها؛ لأن الزوج كان يسكن دارهما، فبذت على الأبوين أو بد الأبوان عليها، لم ينقل واحد منهم؛ لأن الشر والوحشة لا تطول بينهم، كما يكون بينها وبين الأحماء (¬3)، فلو كانت أحماؤها في دار أبوَيْها أيضاً، وبذت عليهنَّ، فينقلْن دونها؛ لأنها أحقُّ بدار الأبوين. ومنها: إذا احتاجت إلى شراء الطعام أو (¬4) القُطْن أو بيع الغزل أو ما أشبه ذلك، فيُنْظَر؛ وإن كانت رجعيَّةً، فهي كالزوجات، وعليه القيام بكفياتها، ولا تخْرُج إلا بإذنه، قال في "التتمة"، وكذلك الحكم في الجارية المشتراة أو المسبية في زمان الاستبراء، وأما سائر المعتدات، فيجوز (¬5) للمعتدَّة عن الوفاة أن تخرج لهذه الحاجات نَهاراً، وكذلك لها أن تخرج بالليل إلى دار بعْض الجيران؛ للغزل والحديث، لكن لا تبيتُ معهم، وتعود للنوم إلى مسكنها، روي عن (¬6) مجاهد أن رجالاً استشهدوا بأُحُدٍ، فقال نساؤهم: يا رسول الله، إنا نستوحش في بيوتنا، أقبيت عند إحدانا، فأذن لهن رسول ¬
الله -صلى الله عليه وسلم- "أن يتحدَّثْن عند إحداهن، فإذا كان وقت النوم، تأوي كل امرأة إلى بيتها"، وحكم الموطوءة بالشبهة وفي النكاح الفاسد في عدتهما حكم المتوفَّى عنها زوجُها، قال في "التتمة": إلا أن تكون حاملاً، وقلْنا: إنها تستحق النفقة، فلا يباح لها الخروج، وفي المعتدَّة عن الطلاق البائن، وفي معناها المفسوخ نكاحُها قولان: القديم: أنه ليس لها الخروج؛ لقوله تعالى: {وَلَا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} وهذا قول أبي حنيفة -رحمه الله-. والجديد: أنها كالمعتدة عن الوفاة؛ لما روي عن جابر -رضي الله عنه (¬1) - قال: طُلَّقَت خَالَتِي ثلاثاً، فخرجَتْ تجذ نخلًا فنهاها رجُلٌ، فأتتْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكَرَتْ له، فقال: "اخرجي فجُذِّي نخلَك، لعلك أن تصدقي منْه أو تفعلي خيراً"، قال في "التتمة": وهذا في الحائل أما الحامل، إذا قلْنا: تُعَجَّل نفقتها، فهي مكفية بها، فلا تخرج إلا لضَرُورة (¬2). ومنها: لو لزمتها العدَّة، وهي في دار الحرب فعليها أن تهاجر وتخرج إلى دار الإِسلام، ولا تقيم هنا لتعتد، قال المتولِّي: إلا أن تكون في موْضع لا تخاف على دِينها، ولا على نَفْسها، فلا تخرج حتى تعتدَّ. ومنها: إذا وجب عليها حقٌّ احتيج إلى استيفائه، فإن أمكن استيفاؤه في مسْكنها كالدَّيْن والوديعة، فَعَل، وإن لم يمكن، واحتيج. فيه إلى الحاكم كما إذا وجب عليها الحد، أو توجه يمين في دعوى، فإن كانت برزة، أخرجت، واْقيم عليها الحد أو حلفت ثم تعود إلى المسكن، وإن كانت مخدرةً، بعث الحاكم إليها نائباً أو يحضر بنفسه، واحتج للفَرْق بين البرزة والمخدرة بأن الغامدية (¬3) لما أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- واعترفت بالزنا، رحَمَها بعد وضْع الحمل، وقال في قصية العسيف (¬4): "وَاَغْدُ، يَا أَنيسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِن اَعْتَرَفَتْ، فَارْجُمْهَا" ولم يأمر بإحضارها، وتمام الكلام في التحذير يأتي في موضعه -إن ¬
شاء الله تعالى-. ومنها: إذا كان المسكن مستعاراً، فرجع المُعْير أو مستأجراً، ومضت المدة، وطلبه المالك، فلابد من الخُرُوج، وسيأتي إن شاء الله تعالى. ومنها: البدوية تفارق المنزل، وترْتَحل مع الحيِّ إذا ارتحلوا، وقد سَبَق ذلك، ولا تُعذَر في الخروج؛ لأغراض تُعدُّ من الزيادات دون المهمات؛ كالزيارة والعمارة واستنماء المال بالتجارة، وتعجيل حَجَّة الإسلام وأمثالها. والله أعلم. فرْعٌ عن أبي إسحاق: زنَتِ المعتدَّة عن الوفاة، وهي بكر في عدَّتها، فعلى السلطان تقريبها، ولا تُؤَخَّر إلى انقضاء العِدَّة لا كتأخير الحد؛ لشدة الحر والبرد؛ لأنهما، يؤثِّران في الحد، ويعينان على الهلاك، والعِدَّة لا تُؤَثِّر في الحد، وعن "الحاوي" وجْه أنها لا تَغْرِب لحقِّ الزوج (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: (النَّظَرُ الثَّانِي فِيمَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ) وَعَلَيْهِ أَلاَّ يُخْرِجَهَا من مِلْكِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ نَفِيساً لاَ يَلِيقُ بِحَالِهَا فَلَهُ أنْ يَنْقُلَهَا إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ* وَلْيَطلُبْ مَوْضِعاً قَرِيباً حَتَّى لاَ يَبْعُدَ اَلاِنَتِقَالُ* وَإِنْ كَانَتْ قَدْ رَضِيَتْ بِدَارٍ خَسِيسَةٍ فَلَهَا الانْتِقَالُ إِلَى أُخْرَى وَعَلَيْهِ الإِبْدَالُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: عرفت أن مستحِقَّة السكنى من المعتدَّات لا تخرج من المسكن إلا لعُذْر، وعلى الزَّوْج أن يسكنها مسكناً يليق بحالها، ويصلح لمثلها عنْد حصول الفراق، فإن كان مسكن النكاح كذلك، فلا تعدل عنه، وحيث قلنا بأنه تجب ملازمة مسْكن النكاح، فهو المراد، وإن أطلق الكلام إطلاقاً، فإن كان قد أسكنها في النكاح داراً نفيسةً، هي فوق سُكْنَى مثلها، وطلَّقها، وهي فيها، فله أن لا يرضى الآن، وينقلها إلى دار كما تستحقه، ولو كانت قد رضِيَتْ بدار خسيسة، فطلقها، وهي فيها، فلها أن لا ترضى الآن، وتطلب النقل إلى ما يليق بها، وعليه الإبدال، وفي الصورتين احتمال (¬2) محكيٌّ في "البسيط" عن إشارة المراوزة؛ [والمعروف للأصحاب ما سبق] وينبغي أن تطلب مسكناً قريباً، ولا ينقلها إلى الأبعد مع وجود الأقرب كيلا يطول ترددها، حتى لو أمكنه أن يضم حجرةً إلى الدار الخسيسة، لتصير الجملة سكْنَى مثلها، فيضم ولا يخرجها، ويشبه ذلك أن مستحِقَّ الزَّكَاة، إذا لم يوجد في بلد الوجوب، تنقل الزكاةُ إلى أقرب البلاد إليه، ثم ظاهِرُ كلام الأصحاب -رحمهم الله- أن رعاية القُرْب هكذا ¬
واجبةٌ، واستبعد صاحبُ الكتاب الوجوب، وتردَّد في الاستحباب، والصورتان ملحقتان بما تقدَّم من أعذار الخروج. وقولُهُ في الكتاب "وعليه ألا يخرجها من مِلْكه" أشار بقوله: "مِنْ مِلْكِهِ إلى أن المنزل قد يَكُون ملكاً للزوج، وقد يكون مستعاراً أو مستأجراً، وقد تكلم فيها من بعد، لكن الحُكم المذكور، وهو أن عليه أن لا يخرجها، لا تَخْتص بالمِلْك، بل لو كان مستأجراً، ولم تنقص مدة الإجارة، فكذلك لا يخرجها. وقوله "إلا إذا كان نفيساً" يقتضي حصر الإخراج فيه، ومعلوم أن له أن يخرجها بسائر الأعذار، كما سبق، وَيحْسُن أن تحمل "إلا" على "لكن". ويجعلى هذا استثناء منقطعاً، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلاَ يَجُوزُ لَهُ مُدَاخَلَةُ الدَّارُ لِأَجْلِ الخَلْوَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا مَحْرَمٌ أَوِ امْرَأَةٌ يُحْتَشَمُ جَانِبُهَا* أَوْ مَعَهُ زَوْجَةٌ أُخْرَى* أَوْ جَارَيةٌ أَوْ مَحْرَمٌ لَهُ* وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ رَجُلاَنِ بِامْرَأَةٍ* وَيَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ رَجُلٌ بِنِسْوَةٍ ثِقَاتٍ* وَلَهُ الدُّخُولُ إِنْ كَانَتْ في حُجْرَةٍ مُنْفَرِدَةِ المَرَافِقِ وَإِلاَّ لَمْ يَجُزْ إِلاَّ مَعَ مَحْرَمٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا يجوز مساكنة المعتدَّة في الدَّار التي تعتدُّ فيها، ولا المداخلة لما يَقَع فيهما من الخَلْوةِ، والخَلوةُ بالمعتدة كهي بالأجنبية، فقد اشتهر عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ" ويستثنى موضعان؛ لفقدان المحرم فيهما: أحدهما: أن يكون في الدار مَحْرَمٌ لها من الرجال، أو مَحْرَمٌ له من النساء (¬1)، أو زوجةٌ أخْرَى أو جاريةٌ، ولا بد من المَحْرَم، ومَنْ في معناه من التمييز، ولا عبرة بالمجنون والصغير الذي لا يميز، واشترط الشافعيُّ -رضي الله عنه- البلوغَ، قال القاضي أبو الطيِّب: لأنَّ مَنْ لم يبْلُغ لا تكليف عليه، فلا يلزمه إنكار الفاحشة، وقال الشيخ أبو حامد: يكْفِي عنْدي حضُور المُرَاهِق والنِّسْوة الثقات، كالمحرم، وفيه وجْه آخر؛ وهو كالخلاف في أن المرأة إذا وجدت نسوةً ثقاتٍ يخْرجْن للحج، هل عليها أن تخرج مَعَهُنَّ؟ والظاهر وجوبه، وفي "البسيط" وغيره ذُكِر تردَّدٌ في أنه إذا كان في الدار أجنبيةٌ أو معتدَّة أخْرَى، هل يمنع حضورها الخَلْوة، وهو كخلاف سبَقَ في أن المرأة هل ¬
يلزمها الخُروجُ للحج مع المرأة الواحدة، والظاهر هناك أنه لا يلزم، والجواب في "الشامل" وغيره هاهنا: أنه يكفي حضُور المرأة الواحدة، إذا كانت ثقةً، ويجوز أن يُفَرَّق بينهما بالسفر وما فيه من الأخطار، والحكاية عن الأصحاب: أنَّه لا يجوز أن يخلو رجلان بامرأة واحدة، ويجوز أن يخلُوَ رجل بامرأتين أو نسوة، إذا كنَّ ثقاتٍ، وقد يفرق في الاكتفاء بالمرأة الأجنبية دون الرجل الأجنبي بان استحياء المرأة من المرأة أكثر من استحياء الرجُل من الرجل (¬1) وضبطت هذه الصورة بأنه إذا كان هناك من يُحْتَشَم جانبُه أو يُخَاف بأن يَمْنَع فيما يكاد يَجُرِي، إما بنفسه وإما بالاستعانة بغيره، فيؤمن محذور الخلوة ظاهراً، فلا يحرم؛ وإلى هذا أشار بقوله في الكتاب "أو امرأة يحتشم جانبها"، وهو جواب على الاكتفاء بالمرأة الواحدة، ثم لا يخفى أن مساكنة الزوْج والمَحْرَمِ وَمنْ في معناهُ إنَّما يُفْرض فيما إذا كان في الدار ما يَفْصُل عن سكنى مثلها، فإن لمَ يكن كذلك، فعلى الزوج تخليتها للمعتدة، والانتقال عنها إلى أن تفرغ من العدة، قال الله تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] ثم المساكنة، وإن جازت بسبب المَحْرم، فتبقى الكراهية؛ لأنه لا يُؤمَن النَّظَر. والموضع الثاني: إذا كان في الدار حُجْرة، وقد أراد أن يَسْكُن في إحداهما، ويُسْكِنها الأخرى، فإن كانَتْ مرافق الحجْرة كالمطبخ المستراح، والبئر (¬2) والمرقى إلى السطح في الدار، لم يجُزْ إلا بشرط المَحْرَم؛ لأنَّ التوارد على المرافق يُفْضِي إلى الخَلْوة، وإن كانت المرافق في الحُجْرة، جاز كالحجرتَيْن والدارَيْن المتجاورَتَيْن (¬3)، وحكم السفل والعلو حُكم الدار والحجرة، ثم ذكر صاحب "التهذيب" و"التتمة" وغيرهما: أنه يُشْترط أن لا يكون ممر إحداهما على الأخرى، ويغلق ما بينهما من الباب أو يسده، وهو أحسن، ويشهد له ما ذكر الأئمة أنه لو كانت الدارُ واسعةً، ولكن لم يكن فيها إلا بيت واحدٌ، وكان الباقي صفف لم يجز أن يساكنها، وإن كان معها مَحْرمٌ؛ لأنَّها لا تتميز من السُّكُنَى بموضع، فلو قال: أبني بيني وبينها حائلاً، وكان ما يبقى لها سكنى، فله ذلك، ثم إن جَعَل باب ما يسكنه خارجاً عن مسكنها، فلا حاجة إلى المَحْرَم، وإن جعله في مسكنهلالم يجز أن يسكنه إلا بشرط المَحْرَم، أو مَنْ في معناه، ومنهم مَنْ لم يشترط ألا أن تكون ممر إحداهما في الأخرى، واكتفى بأن يكون ¬
على الحجرة بابٌ يُغْلَق، ويشهد له ما ذكر أن البيتين من الدار الكبيرة، إذا انفرد كل واحد منهما بباب (¬1) يُغْلَق، يجوز أن يسكُنَ الزوجُ إحداهما، ويُسْكِنَها الآخر، كالبيتين من الخان، ووفى القاضي الرويانيّ بالقضية الأولى، فقال: لا يجوز ذلك في البيتين من الدار؛ لأنه تحْصُل الخَلْوة في المدخل والمخرج من باب الدار، وفي الخان لا تحْصُل الخَلْوة. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلاَ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ الدَّارِ إِلاَّ أن تَكُونَ عِدَّتُهَا بِالأَشْهُرِ فَيُخَرَّجُ عَلَى بَيْعِ الدَّارِ المُكْرَاةِ لِأَنَّ آخِرَ الأَقْرَاءِ وَالْحَمْلِ مَجْهُولٌ* وَذَاتُ الأَشْهُرِ إِذَا تُوُقِّعَ طَرَيَانُ حَيْضِهَا فَفِي البَيْعِ خِلاَفٌ* فَإنْ صَحَّحْنَا فَحَاضَتْ خُرَّجَ عَلَى اخْتِلاَطِ الثَّمَارِ بِالمَبِيْعِ* وَإِنْ كَانَ المَنْزِلُ مُسْتَعَاراً أَوْ مُسْتَأْجَرَاً فعَلَى الزَّوْجِ الاِبْدَالُ عِنْدَ رُجُوعِ الْمُعِيرِ وَانْتِهَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ* فَإنِ احْتَاجَ إِلَى الأُجْرَةِ وَأَفْلَسَ ضَارَبَتْ بِاُجْرَةِ مُدَّةِ الأَقْراء إنْ كَانَتْ مُسْتَقِيمَةَ العَادَةِ* أَوُ الأَقَلِّ إن لَمْ تَسْتَقِمْ* وَلِلْحَمْلِ إِتْمَامُ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَلاَ يُنْظَرُ إِلَى الزِّيَادَةِ* وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِباً اسْتَقْرَضَ القَاضِيَ عَلَيْهِ* فَإِنِ اسْتَقَلَّتْ بِذَلِكَ فَفِي رُجُوعِهَا خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسائل: إحداها: إذا كانت تعتدُّ بالأقراء أو وضع الحمل، لم يَصِحَّ بيع الدار التي تستحق سكناها، ما لم تنْقَض العدة؛ لأن مدَّة الأقراء والحَمْل مجهولةٌ، ولو كانَتْ لها عادة مستقيمة في الأقراء (¬2) والحمل، فلا يبْعُد تغيُّر العادة، فهو كما لو باع داراً، واستثنى منفعتها مدَّة مجهولة، وإن كانَتْ تعتدُّ بالأشهر، ففي البيع طريقان: أشهرهما، وهو المذكور في الكتاب وفي "التهذيب" واختاره السرخسيُّ: أنه على القولَيْن في بيع الدار المكراة؛ لتعلُّق حق الغير بالمنفعة مدةً معلومةً. والثاني: القطْع بالمنع، وبه قال صاحب "الإفصاح" والفرق أن منفعة الدار المكراة للمستأجر؛ ألا ترى أنه لو مَاتَ، كانت لورثته، والمعتدَّة لا تملك منفعة الدار؛ ألا ترى أنه لو ماتَتْ كانت الدار بمنافعها للزوج، فإذا بَاعَها، كان كمن باع داراً، واستثنى منفعتها لنفسه مدةً معلومةً، والظاهر فيه البطلان، هذا إذا لم يتوقع أن يطرأ الحيض في الأشهر؛ بأن كانت المرأة آيسةً أو صغيرةً، لم تبْلُغ سنَّ احتمال الحيض، أما إذا توقع بأن كانت بنْت تسع فصاعداً، فإن قلنا: لا يجوز البيعُ هناك، فهاهنا أوْلَى، وإن جوَّزنا هناك، فهاهنا وجهان: ¬
أحدهما: لا يجوز، وبه قال ابن أبي هريرة؛ لأنَّها قد تَحِيضُ فتصير مدة الاستحقاق مجهولةً، والظاهر التسويةُ؛ نَظراً إلى الحال، ولو نَظَر إلى ما يحتمل في المستقبل، لزم أن يقول إذا كانت رجعيَّة، وهي آيسة أو صغيرةٌ لا تحيض، لا يجوز بَيْع الدارِ في عدَّتها؛ لاحتمال أن يموت الزَّوْج، وتنتقل إلى عدة الوفاة، وتزيد المدة، وإذا جوَّزْنا البيع، فلو (¬1) طرأ الحيض، وانتقلت إلى الأقراء، فيخرَّج ذلك على اختلاف الثمار المبيعة بالثمار الجارية بعْد البيع فيما لا تَغْلِب فيه التَّلاحُق، وفيه قولان مذكوران في موضِعِهما. والظاهر: أنه لا يَنْفَسِخ البيع، ولكن يثبت الخيار للمشتري (¬2). وقوله في الكتاب "ففي البيع خلاف" فإن قلْنا بالصحة فيما إذا لم يتوقع أن تحيض (¬3)، وإلاَّ، فأصْل الخلاف لا يختص بما إذا توقع. الثانية: إذا كان المنزل مستعاراً لزمَتْه ما لم يَرْجِع المُعير، وليس للزوج نقْلُها إلى منزل آخر، وحكي وجه أن له نقْلَها في البلد الَّذي لا يعتاد أهْلُه إعارة (¬4) المنازل؛ كيلا تحتاج إلى تحمل منه، وإذا رجع فيه، قال صاحب "التتمة" وغيره: على الزوج أن يطلبه منه بأجرة، فإن امتنع أو طلب أكثر من أجرة المِثْل، فحينئذ ينقلها إلى مسْكَن آخر، وإذا نقَلَها، ثم بذل المنزل الأول مالكه (¬5) ففي البذل للقاضي الرُّويانيُّ: أنه إن بذل (¬6) بالإعارة، لم يلزمْ ردُّها إليه، وإن بذل بالإجارة؛ فإن كان المنقول إليه مستعاراً، وجب ردُّها إلى الأول، وإن كان مستأجراً، فوجهان، وإن كان المنزل الذي تعتد فيه مستأجراً، فانقضت مدة الإجارة، ولم يجدِّد المالك إجارةً، فلا بُدَّ من نقلها، وإذا احتاج إلى النقل، فالقول في تَحرِّي (¬7) أقرب المواضع على ما سَبَق، وإذا كانت المرأة تسكني منزل نفْسها، ففي "المهذب" و"التهذيب": أنه يلزمها أن تعتدَّ فيه، لكن لها أن تطالِبَه بأُجْرة المسكن؛ لأن ¬
السُّكْنَى عليه، والأوْلَى ما ذكره صاحب "الشامل" وغيره، وهو أنها إن رَضِيَتْ بالإقامة فيه بإجَارة أو إعارة، جاز، وهو الأوْلَى، وإن طلبت أن ينقلها، فلها ذلك وليس عليها بذل مسكنها بالإعارة ولا بالإجارة. الثالثة: إذا طلَّق امرأته، وهي في منْزِلٍ مملوكٍ للزوج، ثم أفلس وحُجِر عليه، فيبقى لها حقُّ السكنى، وتتقدم به على الغرماء، وكذا لو مات، وعليه ديون، تتقدم به على الورثة؛ لأن حقَّها متعلِّق بعَيْن المسكن (¬1) كحق المكتري والمرتهن، وهل يجوز للحاكم أن يبيع رقبته فيه الخلاف الذي تقدَّم، ولو أفلس وحُجِر عليه أولاً ثم طلَّقها، فتضارب الغرماء بالسُّكْنى، وليس ذلك كدَيْن يَحْدُث (¬2) بعد الحَجْر لا يُزَاحِمُ صاحبُهُ الغرماء؛ لأن حقَّها، وإن كان حارثاً، فهُو مستندٌ إلى سبب متقدِّم، وهو النكاح والوطء فيه، وأيضاً؛ فإنه حق ثبت لها بالطَّلاق من غير اختيارها، فأشبه ما إذا أتْلَف المُفْلِس مالاً على إنسان، فإنَّه يزاحم الغرماء، ولو طلَّقها، وليسَتْ هي في مسكن الزوج، فتضاربهم بالأجرة، سواء كان الطَّلاق قبل الحَجْر أو بعده؛ لأن حقَّها هاهنا مرسَلٌ غير متعلِّق بعين، ومتى وقَعَت الحاجة إلى المضاربة بالحِصَّة، فإن كانت ممَّن تعتد بالأشْهُر، فتضارب بأجْرة المثل لمدة ثلاثة أشهر، وإن كانت ممَّن تعتد بالأقراء أو وضع الحمل، نُظِرَ؛ إن لم تكُن لها عادةٌ في الأقراء، وفي مدَّة الحمل، فوجهان: أشهرهما: أنه يُؤْخَذ باليقين، فتضارب بأجرة أقل مدَّة يمكن انقضاء الأقراء فيها، والحامل تُضَارب بأجرة ما بَقِيَ من أقل مدة الحَمْل، وهي ستة أشْهُر من يوم العلوق؛ لأنَّ استحقاقَ الزِّيادة مشكُوكٌ فيه. والثاني: أنه توجد بالعادة الغالبة؛ لأن الظَّاهر كوْنُها من جُمْلة الغَالِب، فتضارب ذات الأقراء بالغالب من مدَّة الأقراء، وهي ثلاثة أشْهُر، وفي الحامل بما بقي من مدة عادَةِ الحَمْل، وهي تسعة أشهر، وهذا ما اختاره صاحب "الحاوي"، والوجهان كالقولَيْن في أن المبتدأة الَّتي لا تتميز لها ترد إلى اليقين أو [إلى] (¬3) الغَالِب، وإن كانَت لها عادةٌ سابقةٌ في الأقراء أو مدَّة الحمل، فتضارب بالأُجْرة لعادتها المعْهُودة، إن كانت مستقيمةً مطَّرِدةً، وفيه وجْه: أنها لا تضارب إلا بالأَقلِّ، والظاهر الأوَّل؛ لأن الأصْل والظاهر استمرارُ عادَتِها [و] (¬4) إن كانت لها عاداتٌ مختلفةٌ، فإن راعينا العادَةَ المستقيمةَ، فالنَّظَر في المُضَاربة إلى الأقلِّ من عادتها، وإلاَّ، فالنظر إلى أقل مدة الإمكان، وفرَّق الشيخ أبو حامد وغيره بيْن ما نَحْن فيه؛ حيث بنينا المفماربة على الأخْذ بالأقل أو بعَادَتِها أو ¬
بغالب عادَاتِ النِّساء، ولم نَبْنِ الأمر في بيْع المَسْكن على ذلك، بل قطَعْنا بالبطلان، إذا كانَتْ تعْتدُّ بالأقراء أو بِوَضْع الحمل، بأنا وإن أخَذْنا بالظاهر، فاحتمال الزيادة والنُّقْصان قائمٌ، وذلك يطرق الجهل إلى المبيع؛ إذْ (¬1) لا يَدْرِي. المشتري متى يستحق المنفعة، والجهالةُ تمنع صحَّة البيع، وهاهنا الجهالةُ تقع في [صحة] (¬2) القسمة، فلا تدري أن ما أخَذَه، كلُّ واحد هو قَدْرُ حِصَّته أم لا، وأنها لا تمنع صحة القسمة؛ ولذلك لو قُسِّم مال المُفْلِس بيْن غرمائه، فظَهَر غريمٌ آخرٌ، تستأنف القسمة بَلْ يرجع على كلِّ بالحصة، وإذا تضارَبَتْ بأجرةٍ مدَّة، وانقضَتِ العدَّة على وفْق تلْك المضاربة، فهَلْ يُرْجَع على المُفْلِس بالباقي (¬3) من الأجرة عنْد يَسَاره؟ حكى الشيخ أبو عليٍّ -رحمه الله- فيه طريقَيْنِ: أحدهما: أنه علَى وجهين؛ بناء على أنَّ المرأة إذا لم تطالِبْ بالسكنى مدَّة، إما في النكاح أو فِي العِدَّة، هل تصير سكْنَى المدة الماضية دَيْناً في ذمته؟ وهل لها مطالَبَتُه بذلك فيه خلاف نذكره في موضعه -إن شاء الله تعالى-. وأصحُّهما: القطْع بالرجوع، كلما في الباقي من ديون الغرماء بعْد المضاربة، وليس كصورة الوجهَيْن، فإنها طلبت الكلَّ إلا أن زحْمة الدُّيون، مُنِعَت من التوفية، ولو انقضت العدَّة قَبْل تمام المُدَّة التي بُنيت عليْها المُضَاربة، رَدَّت الفضْل على الغرماء، وفي رجُوعها على الزَّوْج المفْلِس بما تقتضيه المحاصَّة للمدة التي انقضت العدَّة فيها -الطريقان، ولو امتدَّتِ العدَّة، وزادَتْ على مدة المضاربة، ففي رجوعها بحِصَّة المدةِ الزائدةِ وجْهان: أصحُّهما: أن لها أن ترجِع بها علَى الغرماء؛ لأنَّه يتبين استحقاقُها الزيادة، فأشْبه ما إذا ظَهَر غريم آخَرُ، ولها أن تَرْجع به عَلَى المُفْلِس إذا أيسر. والثاني: لا ترجع على الغرماء؛ لأنا قدَّزنا حقَّها بما أعطيناها مع تجويز استحقاق الزيادة، فلا (¬4) يغير الحكم، وتخالف الغريم الذي ظَهَر، فإنَّا لم نشعر بحاله أصلاً، ويُنْسب هذا إلى النص وهو الذي صحَّحه القاضي الرُّويانيُّ في "التجربة". والثالث: يُفَرِّق بين الحامل والتي تعْتدُّ بالأقراء، فالحامل تَرْجِع علَيْهم بالزيادة، ولا ترجع ذات الأقراء، والفَرْق أن الحمل محسوسٌ تقُوم البينة علَيْه، والأقراء لا تُعْرف إلا مِنْ قولها، فلو مكَّنَّاها من الرجوع، لم يأمن أن تدَّعِي تباعد الحيْض؛ طلباً للزيادة، وإن قلنا: لا ترجع على الغرماء، فهل ترجع على الزوْج المُفْلِس إذا أيسر؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم. ¬
والثاني: لا، وقد انفصل الأمْر بما جرى، قال الإِمام: والخِلاَفُ في أنها هل تَرْجِع على الغرماء فيما لم يصدِّقُوها أمَّا إذا صدقوها، فترجع عليهم لا مَحَالَة، قال: وفي غير صورة الإفْلاس إذا مَضَى زمان العادة، فادَّعت مزيداً وتغيُّراً في العَادة، فالذي يَدُلُّ عليه كلامُ الأصْحاب أنها تُصدَّق، وجهاً واحداً، وعلى الزوج الإسكان، والفرق أنَّا، إذا قَسَّمنا المال، وبنينا المضاربة على اْقدار معْلُومة، جرى ذلك مناقصة يعسر نقضها، وهذا المعنى لاَ يتحقَّق في حقِّ الزوج، ثم أبدى فيه احتمالاً أيضاً؛ لأنَّا، لو صدَّقناها، فربما تتمادى في دعْواها إلى سن اليأس، وفيه إجْحَاف بالزوج. وإذا ضارَبَتْ بالأُجْرة، فتستأجر بحِصَّتها المَنْزل الذي وجبت فيه العِدَّة، فإن تَعذَّر، فيجري القُرْب على ما تقدَّم، فقال ابن الصَّبَّاغ: وتسكن حيث شاءت فيما جاوز ما أَخَذَتْ أجرته. وقوله في الكتاب "فإن احتاج إلى الأُجْرة" لو كان بدله، فإن احتيج، كان أحسن أي مَسَّت الحاجة في الواقعة إلى طَلَب الأجرة، ويدخل فيها ما إذا طلَّقها، وهو محجور علَيْه، وما إذا طلَّق المحجور أو غير المحجور زوجته، وليست هي في مسْكنه، [على ما بيَّناه، وكذلك إذا ماتَ، وليست في مسْكنه]، وعليه ديْون لا تَفِي التركةُ بها، فيضارب أيضاً بالأجرة، وقوله "بأُجْرَةِ مدَّة الأقراء، إن كانت مستقيمة العادة" يعني مدة أقرائها، ويجوز إعلامه بالواو؛ للوجه الذاهب إلى أنه تُبْنَى المضارَبَةُ على أقلِّ مدة الإمكان. وقوله "أو الأقلِّ، إنْ لم تَسْتقم" يعني الأقلَّ من عادتها، إن كانَتْ عادتها مختلفةً، ويجوز إعلامه أيضاً، وكذا إعلام قوله "تسعة أشهر". فرْعٌ: ولو كانَتِ المطلَّقة رجعيةً أو حاملاً، فتستحق النَّفَقة مع السُّكْنَى، وتضارب الغرماء عندي إفلاس الزَّوْج بالنفقة والسُّكْنَى جميعاً، والقول في كيفية المضاربة والرجوع (¬1) على ما مضَى، [و] (¬2) يزيد هاهنا النَّظَر إلى أن نفَقَة الحَامِل هلْ تُعَجَّل قبل الوضع، فإن قلنا: لا تُعَجَّل، فلا يدفع إليها حصة النفقة في الحال. الرابعة: إذا كان الزوْجُ غائباً، فطلَّقها، وهي في دار بِمِلْك أو إجَارَة، اعتدَّت فيه، فإنْ لم يكن له مسْكَن، وكان له مالٌ، فيكتري الحاكم من ماله مسكناً، تعتدُّ فيه إن لم يجد من يتَطَوَّع به، وإن لم يكن له مالٌ، فيستقرض عليه، ويكتري به، فإذا رجع قضاه، فإن أذن لها، أن تستقرض علَيْه، أو تكتري المسكن من مالها، ففعلَتْ، جاز، وترجع وإن اكْتَرَتْ من مالها أو استقرضَتْ على قصْد الرجوع، ولم تستأذن الحاكم، نُظِر، إن قَدَرَت على الاستئذان، لم ترجع، وإن لم تَقْدِر، ولم تُشْهد، فكذلك، وإن أشْهَدت، فاصحُّ الوجْهَيْن الرُّجوع، وكلُّ ذلك على ما مَرَّ في مسألة "هرب الجمال" ونظائرها. ¬
وإذا مضَتْ مدة العدَّة أو بعضها، ولم تَطْلُب حقَّ السكنَى، سقط، ولم يصر ديناً في الذمة، نص عليه، ونص في نفقة الزوجة: أنها لا تَسْقُط بمضي الزمان وتصير دَيْناً، وللأصحاب فيهما طريقان: أحدُهما: أنَّ فيهما قولين نقلاً وتخريجاً [لترددهما بين الديون ونفقة] القريب. والثاني: المَنْع، كنفقة الأقارب. وأظهرهما تقرير النَّصَّيْن، وفرقوا بان النفقة في مقابلة التمكين، وقد وُجِد، فلا يسقط بتَرْك الطلب والسكنى؛ لتحصين مائه على موجب نظره واحتياطه، ولم يتحقَّق، وعن القفَّال الفَرْق بأن السكْنَى؛ لكفاية الوقت، وقد مضي الوقْت، والمرأة لا تَمْلِك المسكن، وإنما تَمْلك الانتفاع به والنفقة عين تملك، وتثبت في الذمة، وذكر أن حكْم الكسوة حكم السكنى، فإن الزوج لا يملكها الثوب، وإنما يمنعها به [وفي] هذا خلاف يأْتي في النفقات -إن شاء الله تعالى-، وحكم السكنى في صلب النكاح على ما ذكرنا في العدَّة، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإِنْ أَلْزَمْنَا السُّكْنَى فِي عدَّةِ الوَفَاةِ فَهُوَ مِنَ التّرِكَةِ* فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تِركَةٌ وَرَضِيَ الوَارِثُ بِمُقَامِهَا لَزِمَهَا المُلاَزَمَةُ* وَقِيلَ: إِنَّمَا يَجِبُ إِذَا كَانَ الشُّغْلُ مَوْهُوماً* فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَيْسَ لِلْوَارِثِ تَعْيِينُ المَسْكَنِ عَلَيْهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا مات الزوج في خِلاَل العِدَّة، لم يَسْقط ما استحقته المبتوتة من السُّكْنَى، وفي كلام ابن الحدَّاد ما يُوهِم جعْلَه على الخلاف في أن المتوفَّى عنها زوجُها، هل تستحق السكنى؟ ولم يصحِّحه الأئمة -رحمهم الله- وإذا لم يَسْقُط، أو قلنا بوجوب السكنى في عدة الوفاة، فإن كانت في مسكن مملوكٍ للزوج، لم يقتسمه الورثة، حتى تنقضي العدَّة، كالدار الَّتِي أجرها جماعته من إنْسان، ولو أرادوا التمييز بخطوط ترسم من غير نقض وبناء، جاز، إن جعلنا القسمة إفراز حق، وإن جعلناه بيعاً، فالحكم في بيع مسكن العدَّة على ما مَرَّ، وذكر وجه أنا: إذا قلْنا القسمة إفراز حق، فلهم أن يَقْتسموا كيف شاؤوا، وإن كانت في مسكن مستأجر أو مستعار ومست الحاجة إلى الانتقال، فعلى الوارث أن يستأجر لها من التَّرِكة؛ فإن [لم] ينقل [أو] لم يكن وارث، فعلى السلطان أن يستأجر من التَّرِكة، فإن لم تَكُنْ تركه، فليس على الوارث إسكانُها، لكن لو تبرَّع به، فعليها الإجابة، وإذا لم يتبرَّع ففي "التهذيب": أنه يُستحبُّ للسلطان أن يهيئ (¬1) لها مسكناً من بيت المال [لا سيَّما]، إذا كانت تُزَنُّ بربيَةٍ، ولفظ ¬
الرويانيِّ في "البحر": أن السلطان لا يلزمه أن يَكْترِيَ لها إلا عنْد الريبة، فيلزم، وإن قلْنا: لا تجب السكنى في عدة الوفاة، فالمشهور أن للورثة أن يسكنوها حيْث شاؤوا، وليس لها الامتناع، وحكى صاحب الكتاب في "الوسيط" وغيره وجهَيْن فيما إذا رضي الوارث بأن تلازم مسكن النكاح: أظهرهما: أنه تلزمها الإجابة مُطْلقاً. والثاني: أنَّ ذلك إنَّما يلزم إذا توقع شغْل الماء بالرحم، أما إذا لم يتوقَّع، فإن لم يَكُنْ مدخولاً بها، فليس للوارث تعيين المسكن علَيْها. وقوله في الكتاب "فإن لم تَكُنْ تركة، ورضي الوارث بمقامها، لَزِمها الملازمة" إلى آخره، ذكره تفريعاً على وجوب السُّكُنَى [في عدة الوفاة، ونقل الوجهين على القول بوجوب السكنى] (¬1) يكاد يكونُ مِنْ تفرُّدات الكتاب إن لم تكن سهْو؛ وذلك لأن إلاكثرين سكَتُوا عن الخلاف فيما إذا تبرع الوارث بإسْكانها، وأطْلَقوا القول بأنَّ عليها الإجابَةَ على القَوْلين، وصاحب الكتاب إنما حَكَى الوجهين في "البسيط" و"الوسيط" تفريعاً على قول عدم الوجوب، ولم يذكر خلافاً في أن للوارث أن يُسْكنها على قوْل وجوب السكنى، ولو لم يتبرَّع الوارثُ بإسكانها، ملك السلطان أن يحصنها (¬2) بالإسكان احتياطاً لمن تعتد منه، وفي "البسيط" و"الوسيط": أنه ليس للسلطان أن يعين (¬3) المسكن بخلاف الوارث؛ فإنه ذو حظ في صون الماء، [و] (¬4) هذا خلافُ المنْصُوص والمشهور، وإذا لم يُسْكِنْها الوارث والسلطان، سكَنَتْ حيث شارت، ولو أسكنها أجنبيٌّ متبرعاً، ففي "البحر" للقاضي الرُّويانيِّ: أنه إذا لم تكن [المتبرع] ذا ريبة، كان تبرعه كتبرُّع الوارث، فعليها أن تَسْكُن حيث (¬5) يسكنها، وللزوج في النكاحِ الفاسِدِ وللواطئ بالشبهة إسكانُ المعتدَّة والله أعلم. فَرْعٌ ومسائل من باب العدَّة: إذا طَلَّق الزوْجُ الغائبُ أو مات، فالعدة من وقْت ¬
الطلاق أو الموت، لا من وقْت بلوغ الخبر، وعن بعْض الصحابة خلافُهُ. وفي فتاوى القفَّال: أن المعتدة بِعِدَّة الطلاق لو نكحت بعد مضيِّ قرءٍ من عدتها، ووطئها الزوج الثاني، ثم جاء الأول ووطئها بشبهة، وفرق بينها وبين الثاني، فكما فرق يشتغل بالباقي من عدة الطلاق، وهي قرءان، ويدخل فيه قرءان من عدة وطء الشبهة، ثم تعتد عن الثاني بثلاثة أقراء، ثم بقرء لما بقي من عدة الوطء بالشبهة. وأنَّه لو مات زوج المعتدة، فقالت: قد انقضتْ عدتي قبل موته، لم يقبل قولها في: أنه لا تلزمها عدَّة الوفاة، ولا ترث بإقرارها. وأن المعتدَّة، لو أسقطت مؤنة السُّكْنى عن الزَّوْج، لم يصحَّ الإسقاط؛ لأن السُّكْنى تجب يوماً يوماً، ولا يصح إسقاط ما لم يَجِبْ بعد. وأن المنكوحة، إذا وطئت بالشُّبْهة، وصارت في العدَّة، فوطئها الزوج، لم يقطع وطؤه عدة الشبهة؛ لأن وطء الزوج لا يوجب العدَّة، فلا يقْطع العدَّة، كما لو وزنت المعتدَّة. وذكر صاحب "التهذيب" في فتاويه أن التي لم تحض قط، إذا ولدت، تعتد بالأشهر، ولا يجعلُها النفاس من ذوات الأقراء بخلاف ما لو حاضت.
القسم الثالث من الكتاب في الاستبراء
القِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الكِتَابِ فِي الاسْتِبْرَاءِ* وَفِيهِ فُصُولُ قَالَ الغَزَالِيُّ: (الأوَّلُ) فِي قَدْرِهِ وَحُكْمِهِ وَشَرْطِهِ* (أَمَّا القَدْرُ) فَقُرْءٌ وَاحِدٌ وَهِيَ حَيْضَةٌ كَامِلَةٌ وَلاَ يَكْفِي بَقِيَّةُ حَيْضَةٍ* وَقِيلَ: إِنَّهُ طُهْرَ* ثُمَّ في الاكْتِفَاءِ بِبَقِيَّةِ طُهْرِ خِلاَفٌ* وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الأَشْهُرِ فَشَهْرٌ واحِدٌ عَلَى قَوْلٍ* وَثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ عَلَى قَوْلٍ* وَالمُسْتَوْلَدَةُ إِذَا عَتَقَتِ اسْتَبرَأَتْ بِقَرْءٍ (ح) وَاحِدٍ* وَإِنْ كَانَتْ حَامِلاً فَاسْتَبْرَاؤُهَا بِالوَضْعِ* وَإِنْ كَانَ مِنَ الزِّنَا كَانَ انْفِصَالَهُ كَانْفِصَالِ الحَيْضِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الاستبراء (¬1) عبارةٌ عن التربُّص الواجب، بسبب مِلْك اليمين حدوثاً وزوالاً؛ خُصَّ بهذا الاسم؛ لأن هذا التربُّص مقدَّر بأقل ما يدل على البراءة من غير تَكرُّر وتعدُّد فيه، وخص التربُّص الواجب بسَبَب النكاح باسْم العدَّة اشتقاقاً من العدد؛ لما يقع فيه من التعدُّد، قاله في "التتمة"، ورتب صاحب الكتاب فقه الفصّل على ثلاثة فصول: فصل: فيما يتعلَّق بنفس الاستبراء. وفصل: في سببه. وفصل: فيما تصير به الأمة فراشاً. وهذا الفصْل الثالث احتيج إليه، من جِهَة أن أحد سَبَبَيِ وجوب الاستبراء زوالُ الفراش عن الأمة، على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى-، وذلك يحوج (¬2) إلى معرفة أنَّها بِمَ تصير فراشاً. ¬
أما الأول، فالمستبرأة، إن كانتْ من ذوات الأقراء، تُسْتَبْرأ بقرءٍ واحدٍ وأما القُرْء المعتَبَر في الاستبراء، ففيه قولان: أحدهما، وُينْسب إلى القديم و"الإملاء": أنه الطُّهر كما في العدَّة. وأظهرهما، وينسب إلى الجديد: أن الاعتبار فيه بالحَيْض؛ لِمَا رُوِيَ أنه صلَّى (¬1) الله وسلم قال في سَبَايا أوْطَاس: "لا توطأ حامِلٌ حَتَّى تَضَعَ؛ وَلاَ حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ" وتخالف العدَّة، فإن الأقراء يتكرَّر هناك، فيعرف بتخلُّل الحَيْض براءةُ الرَّحم، وهاهنا لا يتكرَّر، فيعتمد الحيض الدال على البراءة، ومنْهم مَنْ يذكر في المسألة وجهَيْن، بدلاً عن القولين، وفي "التَّتمة" وجْه مُفَصَّل، وهو أن الاستبراء، في أمِّ الولد، إذا مات سيِّدها أو أعتقها بالطُّهْر، وفي الأَمَةُ تمْلك، بالحَيْض، والفَرْق أن استبراء أمَّ الولد قضاءُ حقِّ السيِّد، فيشبه (¬2) العدَّة التي هي قضَاء حقِّ الزوج، والاستبراء عند حدوث المِلْك؛ لمعرفة فراغ الرحم، فيعتبر ما يدل على الفراغ؛ وأيضاً، فإن الاستبراء هناك لاستباحة النكاح، كما أن عدة الحرائر لاستباحة النكاح، والاستبراء عنْد حدوث المِلْك، ليحل الوطء، فيعتبر به ما يستعقب الوطء، وهو الحَيْض، وأما الطُّهر، فإنه يستعقب الحيض، فزمان الحَيْض كزمان الاستبراء في تحريم الوطء، وغَيَّر صاحب "الحاوي" عن الخلاف في المسألة بعبارة أُخْرى، فقال: المقصود في الاستبراء الحيض، والطُّهْرُ تَبَعٌ، أو الطُّهْرُ والحيضُ تَبَعٌ أو هما جميعاً مقصودان؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: أن المقْصُود الطُّهْر، والحَيْض تَبَعٌ، كما في العدَّة. والثاني: أن المقصُود الحيضُ، والطُّهْر تبع، بخلاف العدَّةِ؛ لمَا مَرَّ. والثالث: أنهما جميعاً مقصودان، فإذا قلنا: إن القرء الطُّهْر، فلو صادف سبب وجوب الاستبراء آخِرَ الحيض، كان الطُّهر الكامل بعْده استبراءً، لكن يكفي ظُهُور الدم، أو يُعْتبر مُضِىُّ يوم وليلة؟ فيه مَثَلٌ الخلاف السابق في العدَّة. وحكي وجْه: أنه لا بُدَّ من مضيَّ حيضةٍ كاملةٍ بعْد ذلك الطُّهْر، وهذا بعيدٌ فيما ذكر صاحب الكتاب وغيْره -رحمهم الله-، وذكر القاضي الرُّويانيُّ: أنه الأظهر، [وأنه] الأقْيَس، واختيار القفَّال خلافُه. ولو وُجِدَ سبَبُ الاستبراء، وهي طاهرٌ، فهل يكتفي ببقيَّة الطُّهر؟ فيه وجهان: أحدهما: نَعَم، وتعتد به طهراً، كما تعتد به في العدَّة، وهذا ما رجَّحه في "البسيط"، وحكاه أقضى القضاة الماوردِيُّ -رحمه الله- عن (¬3) البغداديين من (¬4) ¬
الأصحاب -رحمهم الله- والعماني، وهو المذكور في "التهذيب"، ونسبه الماوردي إلى البصريين (¬1) أنه لا يكتفي به، ولا ينقضي الاستبراء حتى تحيض ثم تطْهُر، ويخالف العدَّة، فإن فيها عدداً، فجاز أن يعبر بلَفْظ الجمع عن اثنين وَبَعْضِ الثالث، ولا يَجِيْء الوجْه الَّذي ذُكِر في اشتراط حيْضةٍ كاملةٍ بَعْد الطُّهر هاهنا؛ لأنَّ [فى] الحَيْضة السابِقَة عليها ما يكتفي به دلالة. وإن قلْنَا: إنَّ الاعتبار بالحَيْض، فلا يَكْفي بعْض الحيض، بل يعتبر حيْضةً كاملةً حتى لو كانَتْ حائضاً عند وجُوب الاستبراء، لم يَنْقَض الاستبراء، حتى تَطْهر وتَحِيض حَيْضةً أخْرَى؛ لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم (¬2) - قال في سَبَايَا أَوْطَاس؛ "وَلاَ حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ" ويخالف بقية الطهر، حيث يعتد بها طُهراً في العدَّة، وفي الاستبراء عَلَى رأْي؛ لأن بقيَّة الحيض [حتمٌ] (¬3) يستعقب الطَّهر الَّذي لا دَلاَلة فيه على البراءة، وعن مالك: أنَّه إن وجب الاستِبْراء في أوَّل الدَّمِ، حُسِب الباقي، [قُرْءاً]، وإن وَجَب في آخره، لم يُحْسَب، وذات الأقراء إذا تباعدت حِيضَتُها، فحُكْمها حُكْم المعتدة، وإن كانت المستبرأة من ذوات الأشْهُر، فقولان: أحدهما: أنها تُسْتَبْرأُ بشهرٍ واحدٍ، بدلاً عن قُرْء. والثاني: بثلاثة أشْهُر؛ لأنَّ الماء لا يَظْهر أثره في الرَّحِم قبل مضى ثلاثة أشهر، فهي أقل مدَّة تدُلُّ على براءة الرحم، وهذا أرْجَح عنْد جماعة؛ منْهم صاحب "المهذب"، والأصح عند المُعْظم [الأوَّل]، وإن كانت حاملاً، فإذا زال الفراش عن أَمَت أو مستولدَتَه، وهي حاملٌ، فاستبراؤها بالوَضْع، وإذا مَلَك جارية، فقد أطْلَق صاحب "التتمة" أنَّ الحكم كذلك، إن كان الحَمْل ثابتَ النَّسب مِنْ زوج أو وطء شبهة، والأقْوَم أن يُفَصَّل، ويقال: إن مَلَكَ الأمةَ بالسَّبْي (¬4)، حَصَل استبراؤها بالوَضْع، وإن مَلَك بالشراء، فهي كالحرة، فإن كانت حاملاً من زوج، وهي في نكاحه أو عدته أو من وطء شبهة، معتدَّةٌ هي ذلك الوطء فالمَشْهور على ما سيأتِي أنَّه لا استبراءَ في الْحَال، وفي وجُوبه بعد انقضاء العدَّة خلافٌ، وإذا كان كذَلِك، لم يكنْ الاستبْرَاء حاصلاً بالوَضْع؛ لأنَّه إما غَيْر واجبٍ أو مؤخر عن الوضع، وقال في "التهذيب": هل يخرج عن ¬
الاستبراء، إذا وضعت الحمل؟ فيه قولان: أحدهما: نَعَمْ، كالمملوكة بالسبْيِ. والثاني: لا، كما أن العدَّة لا تنقضي بالوَضْع، إذا كان الحمل من غير صاحب العدَّة، بخلاف المَمْلوكة بالسبْيِ، فإن حَمْلَها من كافر، فلا يكون له من الحرمة ما يمنع انقضاء الاستبراء، هذا لفْظُه في المسألة. وإن كان الحَمْلِ مِن زِناً، ففي حُصُول الاستبراء بوَضْعه، حيث يحْصُل بوضعٍ ثابتِ النَّسَبِ وجهان: أحدهما، وهو الذي أورده أبو الفرج السرخسيُّ: أنه لا يَحْصُل كما لا تنقضي العدَّة بوضع الحمل مِنَ الزنا، وأيضاً، فاشتغال الرَّحِم بماء الزنا لا يوجب منْعاً، فالفراغ منْه لا يُفيد حِلاًّ. وأصحُّهما، على ما ذكر أبو سعد المتولي، وهو الذي أورده في الكتاب: أنه يَحْصُل (¬1) لإطلاق [الخبر] (¬2) حيث قال: "لاَ تُوطَأ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ"، ولأن المقْصُود براءةُ الرَّحِم، وانفصال الولد أدلُّ على البراءة من انفصال دَمِ الحيْض، وليس الاستبراء كالعدَّة، فإنها مخصوصة بالتأكيد؛ ألا تَرَى أنه يُشْترط فيها العَدَد، ولا يشترط في الاستبراء، وعن القاضي الحُسَيْن تقريبُ هذا الخلافِ من الخِلاَف في أن استبراء ذات الأقراء بالحيض أو الطُّهر؟ إن اعتبرنا الطُّهْر لم يحْصُل الاستبراء، وإن اعتبرنا الحيْض. فالنَّظر إلى ما تُعْرف به البراءة، والحمل من الزنا يُعْرف، بوضْعِه البراءةُ، وإذا قلنا: لا تحْصُل البراءة، فلو كانث ترى الدَّم على الحبل، وجعلْناه حيضاً، فيحصل الاستبراء بحيضة على الحبل في أصحِّ الوجهين، وإن لم نجعلْه حيضاً أو كانت لا تَرَى الدم، فاستبراؤها بحيضة بَعْد الوضع، ولو ارتابت بالحَمْل إما في مدَّة الاستبراء أو بعدها، فعلى ما ذكَرْنا في العِدَّة. وقوله في الكتاب "أما القَدْرُ فقرْءٌ واحدٌ" يجوز أن يُعْلَم بالواو؛ ولأنه قدر مُطْلَقِ الاستبراء به، وعند أبي حنيفة: المستولدة تسْتبرأ بثلاثة أقراء أو ثلاثة أشهر، ¬
ويجوز أن يُعْلَم قوله "فَشَهْرٌ واحد" على ذلك القول أيضاً. وقوله "والمستولدة إذا عَتَقَتِ استبرأت أنْ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ" أحق بهذه العلامة، وليس إلى ذكر المستولدة كبيرُ حاجَةٍ في هذا المَوْضِع، والمسألةُ معادَةٌ مِنْ بعد، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (أَمَّا حُكْمُهُ) فَهُوَ تَحْرِيمُ الاسْتِمْتَاعِ إلاَّ في المَسْبِيَّةِ فَإنَّهُ لاَ يَحْرُمُ إلاَّ وَطْؤُهَا* وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّه يَحْرُمُ الاسْتِمْتَاعُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ليْس الَّذي ذكَرَه مِن حُكْم الاستبراء، ومِنَ الشَّرْط بعْده، حُكْماً، وشرطاً المُطلَق الاستبراءُ، بل هما مخصوصان بأحَد نَوْعَيْ الاستبراء، وهو الاستبراء بِحُذوث المِلْك، فكان الأحسن في الترتيب بعْد ذِكر قَدْرِ الاستبراء: أن يَذْكُر سَبَبَيْ الاستبراء، وُيودِعَ هذا الحُكْمَ والشَّرْطَ في النَّوْع الذي يَخْتَصَّان به الفقه مَنْ مَلَك أمةً، لم يَجُزْ له أن يطأها، حتى ينقضي زمان الاستبراء؛ للحديث الذي سبق، وكما لا يجوز الوطء، لا يجوز سائر الاستمتاعات، كاللمس والقُبْلة والنَّظَر بالشهوة (¬1)، إن مَلَكَها بغَيْر السبْيِ؛ لأنَّها قد تكون حاملاً من سيِّدها أو من وطء شبهة، فتكُونُ أمَّ ولدٍ لغيْره، ويتبيَّن أنه لم يَمْلِكْها، وإن مَلَكَها بالسبْيِ، فوجهان: أحدهما: أنه يَحْرُم كما في غير المَسْبِيَّة، وأيضاً، فإن هذه الاستمتاعات تدعو إلى الوطء المحرَّم. وأظهرهما: الحِلُّ؛ لما رُوِيَ عن ابن عمر أنه قال: "وَقَعَتْ فِي سَهمِي جَارِيةٌ مِنْ سَبْي جَلُولاَءَ، فنَظَرْتُ إِلَيْهَا، فَإِذَا عُنُقُهَا مِثْلُ إبْرِيقِ الفِضَّةِ، فَلَمْ أَتَمَالَكْ أَنْ وَثَبْتُ عَلَيْهَا فَقَبِّلْتُهَا، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيَّ أَحَدٌ" وتفارق المَسْبِيَّةُ غيْرَهَا؛ لأن غايتها أن تكون مستولَدَة حَرْبيِّ، وذلك لا يمنع المِلْك، بل هي والولدَ يُمْلَكَان بالسبْيِ، وإنما حَرُم الوطء صيانة لمائه لئلاَّ يخْتَلِط بماء حربيِّ، لا لحُرْمة مالء الحرْبي، وإذا قلْنَا بتحريم سائر الاستمتاعات، فإذا طَهُرَت من الحيض، حل سائر الاستمتاعات، ويبقى تحريم الوطء إلى أن تَغْتَسِل، وفيه وجْه يمتد تحْريمها إلى أن يحل الوطْء. قَالَ الغَزَالِيُّ: (وَأَمَّا شَرْطُهُ) فَأَنْ يَقَعَ بَعْدَ حُصُولِ مِلْكٍ لاَزِمٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَقَعَ قَبْلَ قَبْضِ المُشْتَرَاةِ* وَلاَ يَجُوزُ فِي الهِبَةِ قَبْلَ القَبْضِ* وَيجُوزُ فِي الوَصِيَّةِ وَلَكِنْ بَعدَ القَبُولِ وَمَوْتِ المُوصِي* وَلاَ يَجُوزُ في مُدَّةِ الخِيَارِ إن قُلْنَا: المِلْكُ لِلبَائِع* وَإِنْ قُلْنَا: ¬
إِنَّهُ لِلْمُشْتَرِي فَهُوَ كَمَا قَبْلَ القَبْضِ وَأَضْعَفُ* وَلَوْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةَ أَوْ مُرْتَدَّة فَأَسْلَمَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ حَيْضَةٍ بَعْدَ المِلْكِ فَفِيهِ خِلاَفٌ لِعَدَمِ مَظَنَّةِ الاسْتِحْلاَلِ* وَلَوْ تَعَدَّى بِوَطْئِهَا قَبْلَ الاسْتِبْراءِ لَمْ يَنْقَطِعِ الاسْتِبْراءُ* فَإن أَحْبَلَهَا وَهِيَ حَائِضٌ حَلَّتْ لِتَمَامِ الحَيْضِ بِسَبَبِ انْقِطَاعِهِ بِالْحَمْلِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وجوب الاستبراء لا يمنع المِلْك عن إثبات اليد على الجارِيَة، بل هو مُؤتَمَنٌ فيه منْ جهة الشَّرع، ويدل عليه أنه لم يَمْنع سبايا أَوْطَاس منَ الَّذين وقعْن في سهامِهِمْ، وعن مالك أنَّ الجارية المشتراة (¬1) إن كانت حسناء، فتوضع مدة الاستبراء في يدِ عَدْلٍ، وإن كانت قبيحةً، فيستبرئها المشتري عنْده، ويُرْوَى أن البائع يُمْسكها، ثم في الفصل مسائل: إحداها؛ ما يحْصُل به الاستبراء، لو وقع بعْد المِلْك، وقبل القبض، هل يعتد به؟ يُنْظر؛ إن ملك الجارية بالإرْث، فيعتد به؛ لأن المِلْك بالإرث متأكِّدٌ نازلٌ منزلةَ المقْبُوض، وإن لم يحصُل القبض حسًّا؛ ألا ترى أنه يصِحُّ بيعه، وإن ملكها بالشراء فوجهان: أحدهما: لا يعتد به، لعدم استقرار المِلْك. وأصحُّهما: وهو اختيار القاضي أبي الطيِّب والرويانيِّ: الاعتداد؛ لأن المِلْك تام لازم، فأشبه ما بعد القبض قال في "التتمة": وأصل المسألة أن المَبِيع إذا هلكَ قبل القَبْض، يرتفع العقد من أصْله أم لا؟ وفيه خلاف ذُكِرَ في موضعه، وإن ملكه بالهِبَة، لم يعتد؛ لِمَا يقع قبل القبْض؛ لتوقف المِلْك على القبْض، وفي الوصية: لا اعتداد بما يقع قبل القبول، وبعتد بما يقع بعده (¬2) وقبل القبض لتمام الملْك واستقراره، وأشار إلى القَطْع به مسْيرُونَ وقالوا: لا أثر للقبْض في الوصيَّة، وأَجْرَى صاحب "التهذيب" -رحمه الله- فيها الخِلاَفَ المَذْكُورَ في الشراء، ويجوز أن يُعْلَم لذلك قوله في الكتاب "ويجوز في الوصية". ¬
وقوله "ولكن بَعْد القَبُول، وموت الموصِي" لو لم يَتعرَّض لموت الموصي؛ لحَصَل الغرض، فإن القبول المعتد به ما يَقَع بعْد الموت. الثانية: إذا وقَع الحيْض أو وضع الحمل في زَمَان الخيار المَشْروط في الشرى، ففي حصول الاستبراء به على الخلاف في المِلْك، إن قلنا: إن المِلْك للبائع لم يَحْصُل، فإذا طَهُرت من النفاس، وطَعَنت في الحيض، انقضى الاستبراء، إن قلنا: إنَّ الاستبراء بالطُّهْر، وإن قلْنا: إنه بالحَيْض، فإنما ينقضي إذا تمَّت الحيضة، وإن قلنا: إنَّ المِلْك للمشتري أو قلْنا بالوقف، فوجهان عن أبي إسحاق: أحدهما: يحصل الاستبراء؛ لوُقُوعه في المِلْك، وإمكانُ الفَسْخ لا يمنع الاعتداد به، كما لو كان بها عيْبٌ. أظهرهما: المنع؛ لأن الملُك في زمان الخيار غيْرُ لازم، بخلاف ما قبل القبض، وعن صاحب الكتاب: تخصيص الوجهَيْن بما إذا حاضَت في زمان الخيار، والقطْعُ بحصول الاستبراء إذا وضعت الحمل؛ لأن الاستبراء بالوضْع أقوى من الاستبراء بالأقراء. الثالثة: لو اشترى مجوسيِّة أو مرتدَّةَ فمَرَّتْ بها حيْضة أو وضعت الحَمْل، ثم أسْلَمَت، فوجهان: أحدهما: أنه يعتد بما جرى في الكفر؛ لوقوعه في المِلْك المستقر. وأظهرهما: المنع، ووجوب الاستبراء بعْد الإسلام؛ لأن الاستبراء استباحةُ الاستمتاع، وإنما يُعْتَدُّ بما يستعقب حل الاستمتاع، وربما بُنِيَ الوجهان على أن المُوجِب للاستبراء حدوثُ المِلْك أو حدوثُ حِلَّ الاستمتاع، وهذا أصْلٌ سيأتي -إن شاء الله تعالى-. وإذا اشترى العبدُ المأذونُ جاريةً، فللسيد وطؤها بعد الاستبراء، إن لم يكن هناك دَيْن، فإن كان هناك دَيْنٌ للغرماء، لم يكن له وطؤها؛ لئلا يُحْبِلها، فيَبْطُل حق الغرماء، فإذا انفكت عن الدُّيون بقضاء أو إبْراء، وقد جَرَى ما يَحْصُل به الاستبراء قبل (¬1) الانفكاك فيُحْسَب ذلك، أم يُشْترط وقوع الاستبراء بعْد الانفكاك؟ فيه وجهان، كما في مسألة المَجُوسية، وبالثاني أجاب العراقيون، وذكر في "الشامل" أنه لو اشترى جاريةً ورهنَهَا قبل الاستبراء، ثم انفك الرَّهْن، يستبرئها، ولا يُعْتدُّ بما جرى، وهي مرهونةٌ، وغلَّطه القاضي الرُّويانيُّ فيه. ¬
(الفصل الثاني في السبب)
الرابعة: لو وطئها قبل الاستبراء، فَقَدْ تعدَّى وأَثِمَ، وكذا لو استمْتَعَ بها، إن حرَّمناه، ولا ينقطع الاستبراء، قال في "التتمة": لأن قيام المِلْك لم يمنع الاحْتِساب، وكذا المعاشَرَة بِخِلاَف العِدَّة، ولو أحبلها بالوطء الواقع في الحَيْض، وانقطع الدم، حَلَّت له؛ لتمام الحيضة، وان كانت طَاهِراً عنْد الإِحْبال، لم يَنْقَضِ الاستبراء حتَّى تضع الحمل هذا لفظ "الوسيط" (¬1). قَالَ الَغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّانِي فِي السَّبَبِ) وَهُوَ اثْنَانِ: (الأَوَّلُ): حُصُولُ المِلْكِ بِإِرْثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ بَيْعٍ أَو فَسْخٍ (ح) أَوْ إِقَالَةٍ (ح) * وَإنْ كَانَ الانْتِقَالُ مِنَ امْرَأَةِ أَوْ صَبِيٍّ وَجَبَ أَيْضاً* وَيَجِبُ في البِكْرِ (و) وَالصَّغِيرَةِ (م) وَالآيِسَةِ* وَلاَ يُجْزِئُ اسْتِبراؤُهَا قَبْلَ البَيْعِ* وَيَجِبُ (ح) اسْتِبُرَاءُ المُكَاتَبَةِ إِذَا عَادَتْ إِلَى الرِّقِّ بِالعَجْزِ* وَلاَ أَثَرَ لِتَحْرِيمِ الصَّوْمِ وَالرَّهْنِ* أَمَّا زَوَالُ تَحْرِيمِ الرِّدَةِ وَالإِحْرَامِ فَفِيهِ خِلاَفٌ* وَكَذَا فِي زَوَالِ تَحْرِيم التَّزْوِيجِ بِالطَّلاَقِ قَبْلَ المَسِيسِ* وَلَوْ بَاعَ بِشَرْطِ الخِيَارِ فَعَادَتْ إِلَيْهِ بِالفَسْخِ فَيَجِبُ الاسْتِبرَاءُ إنْ قُلْنَا بِزَوَالِ مِلْكِهِ أَوْ بتَحْرِيمِ الوَطْءِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لوجوب الاستبراء سببان: أحدهما: حصول المِلْك، فمن مَلَك جاريةً بإرْثٍ أو اتِّهَاب أو ابتياع أو قَبُول وصيةٍ أو سبْيٍ، لزمه الاستبراء، وكذا لو عاد المِلْك فيها بعد الزوال بالرد بالعيب في التحالف أو بالإقالة أو خيار الرؤية أو الرجوع في الهِبَة، يلزم الاستبراء، وخالف أبو حنيفة إنْ جَرَتْ قبل القبض في الرد بالعيب وخيار الرؤية والرجوع في الهبة، وقاس الأصحاب ما خالَفَ فيه على ما وافَقَ، ولا فرق بين أن يكون الانتقال مِمَّن يُتصوَّر اشتغالُ الرحم بمائه أو ممَّن لا يُتصوَّر، كامرأة وصبيِّ ونحوهما، ولا بين أن تكون الجاريةُ صغيرةً أو آيسةً أو غَيْرَهُما، ولا بين البكر والثيِّب، ولا بيْن أن يستبرئها البائع قبل البَيْع أو لا يستبرئها. وعن مالك أنَّها إنْ كانَتْ ممَّن توطأُ قبْل ملكها، وَجَب الاستبراء، وإلا، لم يَجِب، وعنه أنَّه يجب الاستبراء في الشريعة دُون الدنية، وفي أمالي أبي الفرج ¬
السرخسيِّ تخريجٌ عن ابن سُرَيْجِ في البِكْر: أنه لا يجب (¬1) الاستبراء، وعن المزنيِّ في "مختصر المختصر": أنه إنما يجب الاستبراء، إذا كانت الجارية موطوْءَة أو حاملاً قال القاضي الروياني: وأنا أميل إلى هذا، واحتج الشافعيُّ -رضي الله عنه- بإطْلاق الخَبَر في سبايا أوطاس مع حصول العِلْم بأنه كان منهم أبكار وعجائز، ويجوز أن يُعْلَم؛ لما روينا لفْظ "الفسخ" "والإقالة" بالحاء، ولفظ "البكر" بالواو، ولفظ "الصغيرة" بالميم. ولا يجب على بائع الجارية استبراؤها، سواءٌ وطئها أو لم يطأْها، لكن يُسْتحبٌ إن وطئها؛ ليكون على بصيرةٍ عند البيع، ولو أقرض جارية لا تحِلُّ للمستقرض، ثم استردَّها قبل أن يتصرف المستقرض فيها، وجب على المُقْرِض الاستبراء، إن قلنا: إن القرض يُمْلك بالقبض، وإن قلْنا: يملك بالتصرف، ولم يجب. ثم الفصْل يشتمل على صور: إحداها: "لو كاتب جارِيتَه، ثم فسخت الكتابة أو عجَّزَها السيد، لزمه الاستبراء؛ لأنه زالَ مِلْك الاستمتاع بها، وصارت إلى حالة، لو وطئها استحقَّت المَهْر، ثم عاد المِلْك، فأشبه ما لو بَاعَها ثم اشتراها، وقال أبو حنيفة: لا يَجِب الاستبراء". الثانية: إذا حُرِّمَت على السيِّد بصومٍ أو صلاةٍ أو اعتكافٍ أو حيْض أو نِفَاسٍ، ثم حلَّت بارتفاع هذه المَعَانِي، لا يجب الاستبراء؛ لأنه لا خَلَل في المِلْك، وإنما حُرِّمَت بهذه العوارض، وكذا لو حُرِّمت عليه بالرهن، ثم انفك الرَّهْن؛ لأن مِلْك الاستمتاع باقٍ، وإنما راعيْنا (¬2) جانب المرتهن؛ أَلاَ تَرى أنه يجوز له القُبْلة والنَّظَر بالشهوة، وأنه لو أذن المرتهن في الوطء، حَلَّ. الثالثة: لو ارتدت جاريته، ثم أسلمت، هل يجب على السيِّد الاستبراء؟ فيه وجهان: أصحُّهما: نعم؛ لأنه زال مِلْك الاستمتاع ثُمَّ عاد، وقال في "التهذيب": الوجهان مبنيان على الوجهَيْن فيما إذا اشترى مرتدَّة ثم أسلَمَتْ، هل يحسب حيضها في زمان الردة عن الاستبراء؟ إن قلْنا: يُحْسَب، لم يجب الاستبراء هاهنا، وإلا وجب ولو ارتد ¬
السيد، ثم عاد إلى الإِسلام، فإن قلنا بزوال المِلْك بالردة، فعَلَيْه الاستبراء لا محالة، وإلا، فوجهان، كما في ردَّة. الاَّمَة، والأصحُّ الوجُوب، وعند أبي حنيفة: لا يجب في رِدَّتها، ولا في ردته. ولو أحْرَمَت، ثم تحلَّلت، حكى صاحب الكتاب، وأبو سعْد المتولِّي -رحمهما الله- في وجوب الاستبراء الخِلاَفَ المذكور في الردَّة؛ لأن الأحرامَ سببٌ يتأكَّد التحريم به. والظاهر الذي أورده الجُمْهور: أنه لا يجب، كما في التحريم بالصَّوْم والاعتكاف، ولو زوج أمَتَه، فَطلَّقها زوجُها قَبْل الدخول، فهل على السيد الاستبراء؟ فيه قولان: أحدهما، وبه قال أبو حنيفة: لا؛ لأن المِلْك لم يَزُلْ. والآخر: نَعَم؛ لأنَّ ملْك الاستمتاع زال ثم عاد وسنعيد هذه الصورة والقَوْلين في موضعَيْن منْ بَعْدُ. الرابعة: إذا باع جاريةً بشرط الخيار، ثم عادت إليه بالفسخ أو عادتْ بالفَسْخ في مجلس العقْد، ففي "البسيط" و"الوسيط": أنا إن قلنا: إنَّ مِلْك البائع لم يَزَلْ، لم يجب الاستبراء، وان قلنا بزوال مِلْكه، ينبني على أنه هَلْ يحل له الوطء؛ لتضمُّنه الفسخ؟ إن قلْنا: لا يحِلُّ، فيجب الاستبراء، وإن قلنا: يحلُّ، فيجوز أن يقال: يجِبُ؛ لتجدد المِلْك، ويجوز أن يقال: لا يجبُ لإطرادِ حَلَّ الاستمتاع، وقد حكينا في البيع وجْهاً: أنه يحرم الوطء، وإن قلْنا بعدم زوال الملك؛ لأنه مِلْكٌ ضعيف، فيجيْءُ على ذلك الوجْه أن يقال بوجوب الاستبراء، وان لم يزل الملُك؛ لعَوْد الحل بعْد زواله، وهذا طريقٌ قد أورده صاحب "التتمة" -رحمه الله-. والظاهر: حلُّ الوطء إن قلنا ببقاء المِلْك، وتحريمه إن قلْنا بزواله، فتخرج منه الفتوى: أنه لا يجب الاستبراء إنْ قلْنا ببقاء الملك، وأنه يجب إن قلْنا بزواله، وهذا ما اقتصر على إيراده صاحب "التهذيب". وقوله في الكتاب: "إن قلنا بزوال مِلْكِهِ أو بتحريم الوطء" هكذا يُوجَد في النسخ (¬1)، لكنه لا يوافق ما في "البسيط" و"الوسيط"؛ لأن المفْهُوم منه إن قلْنا بزوال المِلْك أو قلنا بتحريم الوطء، وان لم يَزُلِ المِلك، وهو لم يُورِدْ فيما إذا لم يزل الملك إِلاَّ أنه لا يجب الاستبراء، ولو قرئ "إنْ قُلْنَا بزوال ملْكه، وبتحريم الوطء" بالواو وافق ما في الكتابين، فتدبر، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوِ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ وَجَبَ الاِسْتِبرَاءُ عَلَى وَجُهٍ لِتَبَدُّلِ جِهَةِ الحَلِّ ¬
وَتَجَدُّدِ المِلْكِ* وَلَوِ اشْتَرَى مُعْتَدَّةَ أَوْ مُزَوَّجَةً اسْتَبْرَأَهَا بَعْدَ العِدَّةِ أَوِ الطَّلاَقِ* وَقِيلَ: إِذَا لَمْ يَجِبْ عِنْدَ التَّمَلُّكِ فَلاَ يَجِبُ بَعْدَهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: إذا اشترى زوْجَتَه الأمة وانفسخ النكاحُ، فهل يجب الاستبراءُ أم يَدُوم حلُّ الوطء؟ فيه وجهان: أظهرهما، وُيحْكَى عن النَّصِّ: أنه يدومِ الحِلُّ، ولا يجب الاستبراء، لكن يُستَحَبُّ (¬1)، أما أنه لا يجب، فلأنها كانت حلالاً، فإذا لم يتجدَّد الحِلُّ، فلا حاجة إلى الاستبراء؛ ولأن الاستبراء لِحِفْظِ المياه عن الاختلاط والماءان له، وأما أنه يُستحَبُّ؛ فَلِيميز الولد في النكاح عن الوَلَد في مِلْك اليمين لأنه في النكاح ينعقد مَمْلوكاً، ثم يُعْتَق بالمِلْك [ولا تصير به أم ولد]، وفي مِلْك اليمين ينعقد حراً، وتصير الأم أمَّ وَلَدٍ. والثاني: أنه يجب الاستبراء؛ لتجدُّد الملك وتَبدُّل جهة الحِلِّ، ولو جرى الشراء بشرط الخيار، فيجوز الوطء في مدة الخيار؛ لأنَّها إما مملوكةٌ أو منكوحةٌ أَوْ لا يجوز؛ لأنه لا يدري أنها مملوكة أو منكوحةٌ، حكى صاحب "التهذيب" فيه وجهَيْن، ونسب الثاني إلى النصِّ، وذكر أنه لو طَلَّق زوجته الاَمَةَ، ثم اشتراها في العدَّة، وجب الاستبراء؛ لأنه اشتراها، وهي مُحرَّمة عليه، ولو اشترى زوجته (¬2) ثم أراد تزويجَها من غيره، لم يجز إن كان قد دَخَل بها قبل الشرى، إلا بَعْد مضيِّ قرءين؛ لأنه إذا انفسخ النكاح، وجَب عليها أن تعتد منْه، فلا تَنْكِح غيره، حتى تنقضي العدَّة، ولو مات عَقِيبَ الشراء، يلزمها عدَّة الوفاة، وتكمل عدة الانفساخ، ذَكَره ابن الحدَّاد، وُيحْكَى عن نصه -رضي الله عنه- في "الإملاء" (¬3). الثانية: إذا اشترى جاريةً مُزوَّجة أو معتدَّةً عن زَوْج أو وطء شبهة، واختار المشتري إمْضاء البَيْع أو كان عالماً بحالها، فلا استبراء في الحال؛ لأنَّها مشغولةٌ بحقِّ الغير غير محلَّلة للمشتري، فإن طلَّقها زوجُها قبْل الدخول أو بعْده، وانقضت العدَّة أو ¬
انقضت عدَّة الشبهة، فهل يجب الاستبراءُ على المُشْتَرِي؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب، وله وطؤها في الحال؛ لأن المُوجِب للاستبراء حُدُوثُ المِلْك، ولم يكن يومَئِذ في مظنة الاسْتِحْلال، وإذا تخلف الحكم عن المُوجِب، سقط أثره. وأظهرهما: الوجوب؛ لأن الموجِبَ قدْ وُجِد، لكن لم يَترتَّب عليه موجِبُه في الحال، فإذا أمكن، رتَّب، ولا بُعْد في تراخي الحُكْم عن السبب؛ ألا ترى أن المعتدة عن النكاح إذا وُطِئَت بالشبهة، تَعْتدُّ عن الوطء بعْد الفراغ من عدة النِّكاح؟ وقد يقال بوجوب الاستبراء، وُيرَدُّ الخلاف إلى أنه هل تَدْخل في العِدَّة، ويقْرُب منه ما حكَيْنا عن "التهذيب" من قبل، وهاهنا فائدتان: إحداهما: استنبط القاضي الحُسَيْن من القولَيْن عبارتَيْن يتخرَّج عليها مسائل: إحداهما: أن الموجب للاستبراء حدُوثُ مِلْك الرقبة مع فراغ مَحَلِّ الاستمتاع، ووجه اشتراط الفراغ بأن مقْصود الاستبراء حِلُّ الاستمتاع، فإذا كانتْ مشغولةً بنكاح أو عدة، لم تَحْصُل الاستباحة عند انقضاء الاستبراء، فلا يكون مُؤَدِّياً. والثانية: أن الموجَب حدوثَ حِلِّ الاستمتاع في المملوكة بمِلْك اليمين، ووُجِّه بأن مِلْك الجارية قد يقصد للاستمتاع، وقد يُقْصد لغيره، فتعلُّق الحُكْم بُحِلُّ الاستمتاع لا بالمِلْك، فعلى العبارة الأُولَى، لا يجب الاستبراء عنْد انقضاء العِدَّة؛ لأنه لم يَحْدُث المِلْك حينئذ، وحين حَدَث المِلْك، لم يكن محلُّ الاستمتاع فارغاً، وعلى العبارة الثانية يجب، وعلى العبارتَيْنِ خَرَّج بعْضهم الخلاف فيما إذا اشْتَرَى مجوسيةً، فحاضَتْ ثم أسلَمَتْ، هل يلزم الاستبراء بَعْد الإسلام أم تعتد بما سَبَق وكذا الخلاف فيما إذا زَوَّج أمته وطلَّقها زوجها قبل الدخول، هل على السيد الاستبراء؟ فَعَلَى العبارةِ الأُولَى لا يَجِب، وعلى الثانية؛ يجب، ويجري الخلاف فيما إذا زَوَّجها، وطلَّقها بعد الدخول، وانقضَتِ العدة أو وُطِئَت بالشبهة، وانقضت العدة. واعلم أن الحكاية عن نصِّه في "الأم" -رضي الله عنه- فيما إذا اشترى أمةً معتدةً من زَوْج: أنه لا يلزم الاستبراء بعْد انقضاء العدَّة، وفيما إذا زوَّج أمته، وطلَّقها الزوْج بعد الدخول: أنَّه يَلْزم الاستبراء بَعْد انقضاء العدَّة، وعن نصِّه في "الإملاء" عكس الجوابين في الصورتين، فحصل في الصورتين قولان منصوصان. والثانية: إذا قلْنا يما إذا اشترى مزوَّجةٌ، وطلَّقها الزوج: لا يجب الاستبراء، فلمن يريد تعجيل الاستمتاع أن يتخذه حيلةً في إسقاط الاستبراء، فيسأل البائع أن يزوجَهَا ثم يشتريها، ثم يسال الزوج أن يُطلَّقها، فتَحِلُّ له في الحال، لكن لا يجوز تزويج الجارية الموطوءة إلا بعْد الاستبراء، فإنما يحْصُل الغرض إذا لم تَكُن موطوءة،
أو كان البائع قد استبرأها، وإذا كانت الجارية كذلك، فلو أعْتَقَها المشْتَرِي في الحَال، وأراد أن يزوِّجها من البائع أو غيره، أو أن يتزوِّجها بنَفْسِه، ففي جوازه وجْهان مذكوران في "التهذيب" وغيره. والأصحُّ: الجواز، فعلى هذا، فمعجل الاستمتاع يمكنه أن يُعْتِقها في الحال [ويتزوجها]، ولا يحتاج إلى أن يسأل البائع تَزْويجَها أولاً، إذا كان لا يبالي بفَوَات ماليتها (¬1)، وعند أبي حنيفة -رحمه الله-: لا يُشْترط استبراء الجارية الموطوءة، ليتزوجها، وإذا أعتقها، سَقَط الاستبراء، ويُذْكَر أن هارون الرّشِيدَ -رحمه الله- طَلَب حيلة مسْقِطَةً للاستبراء، فقال أبو يوسف القاضي -رحمه الله-: أعْتِقْها ثم تزوَّجْها، ويقال إنَّه قال: مُرْ مالكها ليزوجها لبعض خدَمِك، ثم اشْتَرِها، وأشر على الزوج بطلاقها، فنَفَقَتْ سوقُه عنده. فُرُوعٌ وفوائد: إذا تَمَّ ملكه على جارية مشتركلة بينه وبين غيره، لَزِمَه الاستبراء، وكذلك، لو أسلم في جاريةٍ وقبضها، فوجدها بغير الصفة المَشْرُوطة، فرَدَّها، يَجبُ على المُسَلَّم إليه الاستبراء. وإذا كانت الجاريةُ المشتراةُ مَحْرَماً للمشتري أو اشترتها امرأة، فلا معنى للاستبراء؛ لأن الاستبراء أجَلٌ يُضْرب؛ لحِلِّ الوطء، ولا مجال له هاهنا، وكذا لو اشترى اثنان جارية لا معنى للاستبراء، إلا فيما يرجع إلى التزويج. ولو ظَهَر بالجارية المشتراة حَمْلٌ، فقال البائع: إنه متى نظر إن صدقه المشتري، فالبيع باطلٌ باتفاقهما، والجارية مستولَدَةٌ للبائع، وإن كَذَّبه، نُظِر؛ إن لم يقر البائع بوطئها عند البيع، ولا قبله، لم يُقْبَل قوله، كما لو قال بعْد البيع: كنت أعتقته، لكن يحلف المشتري أنَّه لا يَعْلَم أن الحَمْل منه، وفي ثبوت نَسَبِه من البائع خِلافٌ؛ لأنه يَقْطَع إرث المشتري بالولاء، وإن كان قَدْ أقر بوطئها، فإن استبرأها، ثم بَاعَها، ثم إنْ وَلَدت لِمَا دون ستة أشهر منْ وقت استبراء المشتري،، فالولد لاحِقٌ بالبائع، والجارية مستولَدَةٌ له والبيعُ باطلٌ، وإن ولَدَت لستة أشهر أو أكثر، لم يُقْبل قوله، ولم يَلْحَقه الولد؛ لأنه، إن كان في مِلْكِه، لم يلْحَقه، ثم يُنْظر؛ إن لم يطأْها المشتري أو وطئَها، ووَلَدَتِ لِمَا دون ستة أشهر من وقْت وطئه، فالولد مملوك له، وإن ولَدَتْ لستة أشهر واْكثر من وقْت وطئه، فالولد لاَحِقٌ بالمشتري، والجاريةُ مستولدةٌ له، وإن لم يستبرئها البائعُ قَبْل البيع، فإن وَلَدتْ لأقلَّ من ستة أشْهُر مِنْ وقْت استبراء المشتري أو لأكثر، ولم يطأْها المشتري، فالولد للبائع، والبيعُ باطلٌ، وإن وطئها المشتري، وأمكن أن ¬
يكون الولَدُ مِنْ هذا، وأن يكون من ذاك، فيُعْرَض على القائف. ولا يجب في شراء الأمة التي يطاُها البائع إلا استبراءٌ واحدٌ، ولا تقول: إن الشرى يُوجِبُ الاستبراء، وإن لم تكن موطوءة البائع، ووطئ البائع، قد يحوج (¬1) إلى الاستبراء، ولذلك لا يجوز تزويجُها إِلاَّ بعْد الاستبراء، فلْيتعدَّد الاستبراء؛ وذلك لأن المقصود معرفةُ براءة الرَّحِم، وقد حصَلَت. ولو استبرأها شريكان، ووطئاها في طُهْرٍ واحدٍ، فيكفي استبراءٌ واحدٌ؛ لدلالته على البراءة أو يجب استبراءان؟ كالعِدَّتَين من شخصَيْن؟ فيه وجهان، فيما لو وَطِئَاهَا، وأرادا تزْويجها، هل يكفي استبراءٌ واحدٌ؟ وقد سبق لهذا ذِكْر، ولو وطئَ أمةَ غَيْرِه على ظَنِّ أنها أمته، ووطئها آخَرُ على هذا الظن أيضاً، قال في "التتمة": وطء كل واحد منهما يَقْتضي الاستبراءَ بقُرْء، وفي تَدَاخُلهما وجهان، أصحهما المنع (¬2). قَالَ الغَزَالِيُّ: (السَّبَبُ الثَّانِي) زَوَالُ الفِرَاشِ عَنِ الأَمَةِ المَوْطُوءَةِ وَالمُسْتَوْلَدَةِ بِالعِتْقِ إمَّا بِالاِعْتَاقُ أَوْ بِمَوْتِ السَّيِّد يُوجِبُ التَّرَبُّصِ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ* وَمَنْ أَرَادَ تَزْوِيجِ الأَمَة المَوْطُوءَةِ فَعَلَيْه الاسْتِبرَاءُ بِحَيْضَةٍ (ح) قَبْلَ التَّزْوِيج* وَلَوِ اسْتَبْرَأَهَا ثمَّ أَعْتَقْهَا لَمْ يَجُزْ تَزْويجُهَا عَلَى وَجْهٍ إلاَّ بَعْدَ التَّرَبُّصِ بِقُرْءٍ عَلَى وَجْهٍ؛ لَأَنَّ العِتْقَ أوجب ذَلِكَ* وَكَذَا الخِلاَفُ لَوْ زَوَّجَهَا المُشْتَرِي وَقَدِ اسْتُبْرِئَتْ قَبْلَ الشِّرَاءِ* وَقِيلَ: ذَلِكَ يَمْتَنِعُ في المُسْتَوْلِدَةِ دُونَ الرَّقِيقَةِ لِشَبَهِ فِرَاشِهَا بِفِرَاشِ النِّكَاحِ* وَالمُسْتَوْلَدَةُ المُزَوَّجَةُ إِذَا أُعْتِقَتْ فَفِي وُجُوبِ الاسْتِبْرَاءِ عَلَيْهَا خِلاَفٌ* وَلَوْ أَعْتَقَ مُسْتَوْلَدَتَهُ وَأَرَادَ أنْ يَنْكِحَهَا فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ فَفِيهِ خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا أعتق الرجُل أمته الَّتي وطئها أو مستولَدَته أو مات عَنْها، وليست هي في نكاح ولا في عدة نكاح، لَزِمها الاستبراء؛ لأنَّها كانت فراشاً للسَّيِّد، وزوالُ الفراش بعْد الدخول يقتضيِ التربُّص، كما في زوال الفراش عن الحُرَّة، ويُرْوَى (¬3) عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّه قال: "عِدَّةُ أُمِّ الوَلَدِ إِذَا هَلَكَ سَيِّدُهَا بِحَيْضَة، واسْتِبْرَاؤُهَا ¬
بِقُرْءٍ وَاحدٍ" وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: بثلاثة أقراء؛ لأنَّها حُرَّة، وعن أحمد روايتان: أظهرهما مساعدتنا والثانية: أن عليها، إذا مات السيِّد، عِدَّةَ الوفاة، واحتَجَّ الأصحاب -رحمهم الله- بأنه استبراءٌ وجب؛ لزوال مِلْك اليمين، فكان بقُرِءٍ واحدٍ، كاستبراء الأمة المتملكة، ولو مضتْ مدة الاستبراء على أم الولد، ثم أعتقها سيَّدُها أو مات عنْها، فهل تَعتدُّ بما مضَى أم يلزمها الاستبراء بعْد العتق؟ قال المتولي: فيه وجهان، وكذلك حكاه الرُّويانيُّ عن القَفَّال، وقال في "التهذيب": فيه قولان: أصحُّهما: أن عليها الاستبْرَاءَ، ولا تَعتدُّ بما مضى كما لا تعتد [المنكوحة] بما تَقدَّم من الأقراء على ارتفاع النكاح، والخلاف مبنيٌّ عَلَى أنَّ أم الولد، هل تَخْرُح عن كونها فراشاً بالاستبراء أو الولادة؟ وهل تعود فراشاً للسيِّد، إذا مات زوجُها أو طلَّقها، وانقضت عدَّته أو لا تعود، ولا تحِلُّ له إلا بعْد الاستبراء؟ ولو استبرأ الأمة الموطوءة ثم أعتقها؟ قال الأئمة: لا استبراء علَيْها، ولها أن تَتزوَّج (¬1) في الحال، ولم يطرد فيها الخلاف المذكور في المستولدة؛ لأن المستولَدَة ثبت لها حقُّ الحرية، وفراشها يُشَبَّه بفراش النكاح، ولو لم تَكُن الأمة موطوءةً، لم تكن فراشاً، ولم يوجب إعتاقُها استبراءً، ثم في الفصْل مسائل: إحداها: لا يجوز تزويج الجارية الموطوءة قَبْل الاستبراء بخلاف بيعها، والفرق أن المقصود من النكاح الوطء؛ فينبغي أن يَسْتَعْقَبَ الحِلِّ، وأن يتقدَّم عليه ما يُطلَب في معرفة فراغ الرحم، والشَّرْفُ قد يُقْصد للوطء، وقد يُقْصَد لغيره، فلا معنى لمنع البائع من البيع، وعلى المشتري أن يَحْتاط إن قصد الوطء، وجَوَّز أبو حنيفة تزويجَها قَبْل الاستبراء، وللزوج الوطء في الحال، ولا يخفى ما فيه من اختلاف الماءين، واحتَجَّ الأصحاب بأنَّه وطء، لو أتتْ منْه بولد، وأقر به ثَبَت نَسَبُه، فيوجب التربُّص كوطء الشبهة، وما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- (¬2) - قال: "لا تَسْقِ مَائكِ زَرْعَ غَيرِكِ" وأما أمُّ الولد، ففِي جواز تزويجِها خلافٌ مذكورٌ في الكتاب في أمهات الأولاد، وإذا جوَّزناه، وهو الأصح، فَلاَ تُزوَّج قبل الاستبراء أيضاً، ولو استبرأها، ثم أعتقها، فهل يَجُوز تزويجُها في الحال أم تحتاج إلى استبراءٍ جديدٍ؟ فيه وجهان: وجه الأول: بأنه جاز التزويج بالاستبراء قَبْل الاعتاق، فكذلك ما بَعْده. والثاني: بأنَّها كالمالكة لنَفْسها بالعتق، فتَبدُّلُ المِلْكِ يقْتضي الاستبراء تعبُّداً قال في "البسيط": كان الخلاف راجعٌ إلى أن يُقَال: المِلْك يستقل بإيجاب الاستبراء، وإنما يجب الاستبراء عنْد توهُّم الشغل؛ لتحل للأزواج ويشبه أن يبنى الخلاف على أن فِرَاش ¬
أمِّ الولد، هل ينقطع بمجرَّد الاستبراء؟ [وقضيةُ قولنا "لا ينقطع" وجوبُ الاستبراء]. ولو اشترى أمة، وأراد تزويجها قَبْل الاستبراء، فإن كان البائع قَدْ وطئها، لم يَجُزْ [إلا] أن يزوِّجها منه، وإن لم يطأها البائع أو وطِئَها، واستبرأها قبْل البيع، أو كان الانتقال من امرأة أو صبيٍّ، فوجهان: أحدهما: أنه لا يجوز تزويجُها، كما لا يجوز له وطؤها. وأصحُّهما: الجواز، وهو اختيار القَفَّال، وبه قال أبو حنيفة، كما كان يَجْوز للبائع أن يزوِّجها بَعْد الاستبراء، ونَسَب القَفَّال الوجْه الأوَّل إلى اختيار أكْثر الأصْحَاب، ونُوقِشَ في هذه النِّسْبة، وما ذكرنا من التردُّد في أن المستولَدَةَ هل تَخْرُج عن كونها فراشاً بالاستبراء، لا يَجِيْء في الفقه. الثانية: لو أعتق مستولَدَتَه أو مات، وهي في نكاح زوجٍ أو عدةٍ، فلا استبراء عليها، لأنَّهَا ليست فراشاً للسيِّد، وإنما هي فراش للزَّوْج، وأيضاً، فإن الاستبراء لطلب حِلٍّ واستباحةِ نكاح، وهي مشغولةٌ بحق الزَّوْج، لا يُطْلَب منها حِلٌّ ولا تَنْكح غيره، [و] هذا هو الظاهر المنصوص، قَالَ الشيخ أبو عليِّ: وخَرَّج ابن سُرَيْج قولاً: أنه يلزمها الاستبراء، إذا مات السيِّد، وهي في نكاح زَوْجِ أو عِدَّته بعْد الفراغ منْ عدَّة (¬1) الزَّوْج كما لو وُطِئت منكوحةُ إنسانٍ بالشبهة، فشَرَعَتْ في عدَّة الوطء، ثم مات الزوج أو طلَّقها، تلْزمها العدَّة عنه، قال الشيخ: فعلى الظاهر المنْصُوصِ، متى انقضت عدَّة الزَّوْج، والسيِّدُ حيٌ، فتعود فراشاً للسيد، وعلى التخريج؛ لا تعود فراشاً حتى يستبرئها، وفي "أمالي" أبي الفرج السرخسيِّ: أن ما خَرَّج ابن سُرَيْج منصوصٌ عليه في القديم، وأضاف في "التتمة": القول بالوجوب إلى الإصطخريِّ، وأشْعْر إيراده بتَخْصِيص الوجوب بما إذا أعْتَقَها، أو مات عنها في نِكَاحٍ زَوْح، ولو أعتقها أو مات عَقِيب انقضاء عدَّة الزوج، ففي وجْه لا اسْتِبْرَاء عليها؛ لأنا قد عَرَفْنا بالعدة براءة الرحم، وبهذا أجاب بعض الآخذين (¬2) من الإِمام، والمنصوصُ: أنه يجب الاستبراء، قال الشيخ أبو علي: وهو ظاهر المَذْهَب، إلا أنَّ من أصحابنا مَنْ اشترط لوجوبه أن يَقَع إعْتاق السَّيِّد أو موته بَعْد انقضاء العدَّة بلَحْظة؛ لِتَعُود فيها فراشاً للسيد، ومنْهم مَنْ لم يشترط ذلك، وقال صيرورتها فراشاً أمُرٌ حكميٌّ لا يحتاج إلى زمان محسوسٍ، وإلى هذا ذَهَب ¬
شيخي -رحمه الله-، وقد يبْنَى الخلاف في وجوب الاستبراء هاهنا، على ما إذا انْقَضَت عدَّة الزوج، والسيِّدُ حَىٌّ، والظاهر المنصوصُ في الجديد: أنها تعود فراشاً للسيِّد، وتَحِلٌّ له مِنْ غير استبراء [وحكى قول قديم؛ أنها لا تحل له بلا استبراء]، وَوْجِّه الأول بأن الملك لم يَزُلْ، وإنما عرض ما يمنع الوطء، فأشبه ما إذا رَهَنَها، ثم انفك الرهْن. والثاني: بأنها حُرِّمت بعقْدِ معاوضةٍ، ثم عادت إليه، فكان كما إذا بَاعَها، ثم اشتراها، فإن قلْنا: يَحِلُّ بلا استبراء، فإذا مات السيد، فعليها الاستبراء، وإن أحوجناه إلى الاستبراء، لم يلزمْ الاستبراء إذا مات؛ لأنَّها عَتَقَتْ وليست هي فراشاً له، والخِلاَفُ في حِلِّ أم الولد إذا زال حق الزوج، [كالخلاف فيما إذا زال حق الزوج] عن الأمة المزوَّجة، هل يحتاج السيد إلى الاستبراء، لكن يُشْبِهُ أن يكون الأظْهَرُ في الأمة الفتنَّة الحَاجَة، وعن البندنيجي أنه نصّ عليه، وفرق بينهما بأن فراش أمِّ الولَدِ بالنِّكاح أشبه؛ ألا تَرَى أن موْت السيد يوجب التربُّص على أمِّ الولد، ولا يوجبه على الأمة، وولد أمِّ الولد يلحقه إذا أتَتْ به بَعْد ستة أشهر مِنْ يوم اسْتِبْرَائِها، وولد الأمة لا يَلْحَقُه؟ قاله في "البحر". ولو أعتق مستولدته أو مات عنها، وهي في عدة [وطء] شبهة، فهل يلزمها الاستبراء؟ فيه وجهان؛ تفريعاً على المنصوص فيما إذا كانَتْ في عدَّة زوْج: أحدهما: أنه لا يلزم أيضاً، وإليه مال في "التهذيب". وأشهرهما: الوجُوب، ويوجه بأن عدَّة الشبهة لا تَقْوَى على رفْع الاستبراء الَّذي هو في مُقْتَضَى الإعتاق، وبانها لم تَصِرْ فراشاً لغير السيد، وهناك صارَتْ فراشاً للزوج. الثالثة: لو أعتق مستولَدَتَه، وأراد أن يَنْكِحَها قَبْل تمام الاستبراء، ففيه وجْهان، حكاهما الإِمام وغيره -[رحمهما الله]-. أصحُّهما: الجواز، كما يجوز للرجُل أن ينكح مُعْتَدَّته عن النكاح أو وطء الشبهة. والثاني: المنع؛ لأن الإعتاق يَقْتَضِي الاستبراء، فلا يُمكن من استباحة مفتتحة إلا بعد رعاية حقِّ التعبد، وقَرُب هذا الخلاف مِنْ الخلاف في أنَّه إذا أعْتَقَ مستولدته بعْد الاستبراء، يجوز تزويجها في الحَالِ، [أو] لا بُدَّ مِنْ استبراء آخر قضية الإعتاق. وأما لفظ الكتاب، فقوله "زوال الفراش عن الأمة الموطوءة" التعرُّض للفراش يُغْني عن ذكر الوطء (¬1)، فإنَّ الأمة لا تكون فراشاً إلا بالوطء، وقوله "بِقُرْءٍ واحِدٍ" مُعْلَم بالحاء، وكذا قوله "فعليه الاستبراء بحيضة" ثم لا يخفى أن الحيضة إنما تُعْتَبر في ذَاتِ ¬
الأقراء، وأما ذات الأشْهُر، فيعتبر في حقَّها بَدَل الحيضة. وقوله: "ولو استبرأها ثم أعتقها". أراد في المستولدة والقِنَّة جميعاً؛ ألا تراه ذَكَر مِنْ بَعْدُ وجهاً ثالثاً فارقاً، وقيل: ذلك يمتنع يعني التزويج في المستولَدَة دُون الرَّقِيقَة، وهو من جِهَة اللَّفْظ راجعٌ إلى الجارية الموطوءة، وهذا اللفظ ينظم (¬1) المستولَدَة وغيرها. وقولُه "ففي وجوب الاستبراء عليها خلاف" يمكن أن يُعْلَمَ بالواو، لِقَطْع من قَطَع بأنه لا يجب الاستبراء، والله أعْلَم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالمُسْتَوْلَدَةُ المُزَوَّجَةُ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا وَسَيِّدُهَا فَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ أَوَّلاً فَعَلَيْهَا لِوَفَاةِ الزَّوْجِ عَدَّةُ الحَرَائِرِ* وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ أَوَّلاً فَعَلَيْهَا عِدَّةُ الإِمَاءِ* وَبَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهَا التَّرَبُّصُ للسَّيِّدِ بِحَيْضَةٍ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ إِنْ لَمْ تَحِضْ فِي مُدَّةِ العِدَّةِ* فَإِنْ مَاتَا مَعاً فَالصَّحِيحُ أَنَّ عِدَّتَهَا عِدَّةُ الإِمَاءِ [وَبَعْدَ ذَلِك عَلَيَّهَا التَّربْصُ بِحَيْضَةٍ] (¬2). قَالَ الرَّافِعِيُّ: المستولَدَة المزوَّجة إذا مات سيِّدها وزوْجُها جميعاً، فلذلك أحوال: أحدها: إذا مات السيد أوَّلاً، فقد مات، وهي تحت زَوْجٍ، وقد ذَكَرْنا أنَّه لا استبراء علَيْها على الصَّحيح، فإذا مات الزَّوْج بعْده اعتدَّت عدَّة الحرائر، وكذلك لو طَلَّقها. والثانية: إذا مات الزَّوْج أوَّلاً، فتعتدُّ عدَّة الإماء شهرَيْن وخمس ليالٍ، ثم إن مات السيِّد، وهي في عدَّة الزوْج، فقد عَتَقَتْ في أثناء العدَّة، والخلاف في أنها تُكْمِل عدَّة الحرائر أو تَكْفيها عدَّة الأماء عَلَى ما ذكرنا، فيما إذا عَتَقَتْ في أثناء العِدَّة عن الطلاق البائن، في (¬3) أول "كتاب العدة" والأصحُّ: أنها لا استبراء عليها، كما تَبَيَّن في الفصل السابق، وإن أوجبْنَاه؛ فإن كانت من ذوات الأشْهُر فتتربَّص شهْراً آخَرَ بعد مضيِّ العدة، وإن كانَتْ مِنْ ذوات الأقْراء فتتربَّص بحَيْضةٍ بعْد العِدَّة، إن لم تحض في مدة العدة، وإن حاضَتْ في مدة العِدَّة بعْد ما عتَقَتْ، كفاها ذلك، وهذا قوله في الكتاب، "وبعد ذلك عليها التربُّص للسيد بحيضةٍ على أحَدِ الوجهَيْن، إن لم تَحِضْ في العدَّة" وإن مات السيِّد بعْد خروجها من العدَّة، ففي وجوب الاستبراء علَيْها وجهان؛ بناءً على أنها، هل تَعُود فراشاً للسيد بالخروج عن العِدَّة؟ والأظْهَر وجوبه. والثالثة: إذا مات السَّيِّد والزوج معاً، فلا استبراء عليها؛ لأنَّها لم تَعْدُ إلى فراشه، ويَجِيْء فيه الخلافُ المذكُور فيما إذا أعْتِقَتْ، وهي معتدَّة، هل تعتد عدَّة الوفَاةِ للإماء أو الحرائر؟ فيه وجهان: ¬
أصحهما عند صاحب الكتاب: أنها تعْتدُّ عدَّة الإماء؛ لأنَّها لم تكن كاملة الفراش، والنَّظَر إلى كمال الفراش الزَّائِلِ لا إلى كمال المعتدَّة في حال العدَّة. والثاني: تعتد عدَّة الحرائر، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب" احتياطاً للعدة؛ أخذاً بالأغلظ، وذكر في "الوسيط" أو الوجهَيْن مبنيان على قولْنا إنَّ التي عَتَقَتْ في العدَّة، لا تكمل عدة الحرائر، أمَّا إذا قلْنا: إنها تكمل، إذا طرأ العتق في أثناء العدة، فَلأَنْ تكمل وقد اقترن العتق بأول العدَّة، كان أوْلَى. والرابعة: إذا ترتَّب موتهما، وأشكل السابق (¬1)، فله أحوال: أحدها: أن يَعْلَم أنه لم يتخلَّل بين موتهما شهران وخمسة أيام، فعليها أربعة أشهر وعشر ليالٍ من موت آخرهما موتاً؛ لاحتمال أن السيد مات أولاً، فهي في نكاح الزَّوْج عند موْتِهِ وإن مات الزَّوْج أوَّلاً، فهي في عذته عنْد موْت السيِّد، [واستبراء عليها على الأظهر لأنَّها عند موت السيد زوجة أو معتدة] وإن قلنا بوجوب الاستبراء، فيكون الحُكْم على ما سنذكر في الحالة الثانية، ولو تَخلَّل شهْران وخمس ليالٍ بلا مزيد، فهو كما لو كان المتخلِّل أقل مِنْ هذه المدة، أو لو كان المتخلِّل أكثر منها، فيه الوجهان السابقان. والثانية: أن تَعْلَم أنه تَخلَّل بيْن المدتين أكثر من شهرين وخمس ليالٍ، فعليها أن تعتدَّ أربعة أشهر وعشراً مِنْ موت آخرهما موتاً، لاحتمال أن السيد مات أوَّلاً، وأن عليْها لوفاة الزوْج عدةَ الحَرَائِرِ، ثم إنْ لم تحِضْ في هذه المُدَّة فعليها أن تتربَّص بعْدها إلى أن تحيض [حَيضةً]؛ لاحتمال أن الزَّوْج مات أولاً، وأن عدتها قَدِ انْقَضَت، وعادت فراشاً للسيد؛ تفريعاً على القَوْل الأظهر، وحينئذ، فيلزمها الاستبراء بموته، وإن حاضَتْ في هذه المُدَّة، فلا شيْء عليها بعْدها، ولا فَرْق بين أن يكون الحَيْض [في] (¬2) أول المُدَّة أو آخرها، وعن أبي إسحاق -رحمه الله- رِوَايَة وجْه أنَّه يُشْترط أن يكون الحَيْض بعد مضىِّ شهرين وخمسة أيام من هَذِه المدَّة، لئلا يقع الاستبراء وعدَّة الوفاة في زمانٍ واحدٍ، قال الأَئِمَّة: وهَذا غلطٌ من قائله؛ لأنَّ الاستبراء إنَّما يجبُ عَلَى تقدير تأخر موت السيد، وحينئذ، فتكون عدَّة الوفاة منقضيةً بالمدَّة المتخلَّلة، فلا يتصور الاجتماع، سواءٌ ¬
كان الحيْض في أوَّل هذه المدة أو آخِرِها، وإذا كانت المستولَدَة مِمَّن لا يحيض، كفاها مضىُّ أربعة أشهر وعَشْرٍ. والثالثة: إذا لم تَعْلَمْ أن المدَّة المتخلَّلة كم هي، فعليها التربُّص كما ذكرنا في الحالة الثانية؛ أخْذاً بالأحوط، ولا نورثها مِنْ الزوج، إذا شككنا في أن أسبقهما موتاً مَنْ هو؟ لأنا لا نعلم حريتها عنْد موته، والأصل دَوَامُ الرِّقِّ، فإن ادعت علم الورثة بأنها كانَتْ حرة يوم موت الزوج، فلها أن تُحَلِّفهم على نَفْيِ العِلْمِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَمَهْمَا قَالَتْ: حِضْتُ حَلَّ للسَّيِّدِ وَطْؤُهَا في الاسْتِبْراءِ* وَلَو امْتَنَعَتْ عَلَى السَّيِّدِ فَقَالَ: أَخْبَرَتْني بِتَمَامِ الاسْتِبْرَاءِ صُدِّقَ السَّيِّدُ* وَهَلْ لَهَا أَنْ تُحَلِّفَهُ؟ نِيهِ وَجْهَانِ* وَكَذَلِكَ إِذَا ادَّعَتْ تَحْرِيمًا بِسَبَبِ وَطْءِ المُوَرِّثِ فَهَلْ تُسْمَعُ دَعْوَاهَا لِلتَّحْلِيفِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قالَتِ الأمة المستبرأة: حِضْتُ، اعتُمِد قوْلُها، فإن ذلك لا يُعْلَم إلا منْها، ولا تُحَلَّف، فإنها لو نَكَلَت، لم يقدر الرجوع (¬1) على الحَلِف [قال في "الوسيط": فإن السَّيد لا يَقْدِر على الحَلِف، ولا اطِّلاَع له على حَيْضتها،] ولو امتنعت على السيد، فقال: قد أخبرتْنِي بتمام الاستبراء، فقد أطْلَق في الكتاب: أنه يُصدَّق السيد ووُجِّه بأن الاستبراءَ بابٌ من التَّقْوَى مُفوَّض إلى السيد، وليس ذلك مجَالَ الخصومات، ولو لم يكن كذلك لحلنا بين السيد وبينها، كما نحول بين الزوج والمعتدة عن وطء الشبهة، وأشير فيه إلى وجْه آخر توجيهاً بأن الأصْل عدم انقضاء الاستبراء، وهل لها أن تُحلِّفه؟ فيه وجهان: حقيقتهما هل لِلأمَة المخاصمة فيه. والخلاف مأخوذٌ من الخلاف في أنَّه هل للأمة أن تَمْتَنِع من السيد الأبْرَص والمجذوم؟ وقد مَرَّ ذلك في موْضِعه، فإن قلْنا: نعم، فهي صاحبة حقِّ فلها المخاصمة، ويقرب من هذا ما إذا وَرِث جاريةً، فامتنعت، وادعت أن مُوَرِّثه أصابها، وأنها حُرِّمَت عليه بإصابته، فلا يلزمه تصديقُها، وطريق الورع لا يَخْفَى، وهل لها تحليفه؟ فيه هذان الوجهان (¬2). وقوله "فهل تُسْمَع دعواها للتَّحليف" يعني لغرض التحليف، وفيه إشارةٌ إلى أنها لا تُصدَّق، ولا يُقْبل قولُها؛ فإنَّ الأصل فيما تدعيه العَدَمُ. فرْعٌ: لابن الحدَّاد: وطئ السيدُ أمَتَه في عدتها عن وفاة الزوج، ثم مات السيِّد، فعليها أن تُكْمِل عدة الوفاة عن الزوج ثم تتربَّص حيْضةً لموت السيد بعد الوطء، ولو ¬
مرَّت بها حيضةٌ في بقية عدة الوفاةِ، لم تعتدَّ بها بخلاف ما ذكَرْنا فيما إذا مات زوْجُ أمِّ الولد وسيِّدُها جميعاً، وبين موتهما (¬1) أكثر من شهرين وخمس ليالٍ، حيث قلنا: إنها تتربَّص أربعة أشهر وعشراً، وفيها حيضة، وتعتد بالحيضة في المدة؛ لأن الواجب هناك أحَدُ الأمرين، وهاهنا تَجِبُ عدَّة الوفاة مِنْ الزوج، والاستبراء مِنْ السيد، فلا يدخل أحدهما في الآخَر، ولو لَمْ يمت السيد، ولكن أراد تزويجَها، فكذلك تُكْمِل عدَّة الوفاة، ثم تتربَّص بحيضة ثم يُزَوِّجها، ولو أراد أن يطَأَها بعْد أن تكمل عدَّة الوَفَاة، فالصحيح جوازُهُ، ولا حاجَةَ إلى الاستبراء، كما لو لم يطأْها حتى أتمَّت عدَّة الزوج، ولو كانَتْ في عدَّة الطلاق عن الزوج، فوطئها السَّيد، ثم مات، فتُكْمل عدَّة الزوج، ثم يتربَّص بحَيْضة لموت السيد بعد الوطء، فلا تُحْسب المدَّة من وقْت وطء السيد إلى موته، إذا كان يفترش (¬2)، كما لو نكحت في العدة، وكان الزوج الثاني يستفرشها جاهلاً. هذا كله فيما إذا وطئها، ولم يَظْهر بها حمْلٌ، أما إذا وطئها السَّيد في عدَّة الوفاة، ومات، فظهر بها حمْل، وولَدَتْ لزمانٍ يُمْكن أن يكون من الزوج، ويمكن أن يكون من السيد، فيُعْرَض على القائف، فإن ألحقه بالزوج، انقضت عدَّته بالوضع، وعليها حيْضةٌ بعْد أن تطْهُر من النفاس، وإن ألحقه بالسَّيِّد، حَصَل الاستبراء بالوَضْع، وعليها إتمام عدة الوفاة، فإن لم يكن قائفٌ، فعليها إتمام بقية العدَّة، إن كان الولد من السيد وينقضي الاستبراء بالوضع أو التربُّص إلى أن تحيض حيضةً، إن كان الولد مِنْ الزَّوْج، وتنقضي عدَّة الوفاة بالوضع، فعلَيْها أطول المدتين، فإن وقَعَت الحيضة في بقيَّة عدَّة الوفاة، كفاها ذلك، ولو ظهر بها الحَمْل في عدَّة الطلاق، وولدت لزمانٍ محتملٍ بينهما، فإن ألحق بالزوج، فعليها بعد الوضع حيضة، وإن ألْحق بالسيد، فعليها [بعده] بقيَّة العدة، وإن أَشْكَل، فعليها بقيَّة عدَّة الطلاق أو حيضة. فَرْعٌ آخَرُ له: [اشترى أمةً ذات زوج، ووطئها قَبْل أن يعْلَم أن لها زوجاً، وظهر بها حمْلٌ، ومات الزوج، فإن وَلَدت لزمان يَحْتَمِلُ أن يكون من هذا، ويحتمل أن يكون من ذاك؛ بأن ولدت لستة أشهر فصاعداً مِنْ وطء السيد، ولأَرْبَع سنين فما دونها من وطء الزوج، عُرِضَ على القائف، فإن ألحقه بالزَّوْج، انقضت العدَّة بالوضع، وإن ألحقه بالسيد، لم تنقض بالوضع؛ لأَنَّ الولد نفى عن الزوج؛ ولذلك لو لم يكن قائِفٌ وأشْكَلَ الأمْر علَيْه، لم تنْقَضِ العدة بالوضع؛ لاحتمال كوْنِهِ منَ السيد، وعليها إتمام عدَّة الوفاة شهرَيْن وخمس ليالٍ، ولا تُحْسب مدة افتراش السيد من العدة، [وإن احتمل] أن يكون الولد من السَّيِّد، ولم يحتمل أن يكون مِنْ الزوج، فكذلك الحكم، وإن ¬
(الفصل الثالث)
احتمل أن يكون من الزوج، ولم يُحْتمل أن يكون مِنْ السيد، انقضت العدة بوضْعِه، وهل على السيد الاستِبْراء بعْد انقضاء العدَّة؟ فيه ما سَبَق من الخلاف، ولو لم يظهر بها حَمْلٌ، والتصوير ما ذكَرْنا، فإمَّا أن يموت الزوج عقيب الوطء أو [بعده بمدة، فإن مات عقبه] تعتد عدَّةَ الوفاة، وهل تحل بعدها للسيد أم تحتاج إلى الاستبراء؟ فيه الخلاف، ولا يجوز تزويجها بلا خلاف إلا بَعْد الاستبراء، وإن عاش بعد الوطء مدَّةً، فعليه أن يَعْتَزل عنْها إذا علم الحال إلى أن تنقضيَ مدَّة الاستبراء، كالمنكوحة توطأ بالشبهة، وإذا مات بعد انقضائها، فليس عليها إلا عِدَّة الوفاة، وتحلُّ للسيد بعْدها، وله تزويجُهَا بلا استبراءٍ جديدٍ، ولو كان يستفرشها الزوْجُ بعْد وطء السيد جاهلاً، ثم مات، فإذا اعتدَّت عنه، فهل تحِلُّ للسيِّد مِنْ غير استبراء؟ فيه ما سَبَق من الخلاف، ولا يجوز تزويجُها إلا بعد الاستبراء. فرْعٌ: أورده الشيخ أبو عليٍّ -رحمه الله- في الشَّرْح: رجل له امرأةٌ وأمةٌ مزوَّجةٌ حَنثَ في طلاق امرأته أو في عِتْق أمته، ومات قبل البيان، ثم مات زَوْج الأمة، فعليها أن تعتدَّ أربعة أشهر وعشراً مِنْ يوم وفاة الزوج؛ لاحتمال أن سيِّدها حَنثَ في عِتْقِها، فتكون حرَّةً يوم وفاة زوْجها، وعلى امرأته أربعةُ أشهرٍ وعشْرٌ أو ثلاثة أقراءٍ؛ لأنَّها متوفَّى عنْها أو مطلَّقةٌ، فعليها أطَول المدتين، فإن اشتملت المدة على الأقراء اكتفت بها، ولو كان الزَوْج الأَمَة أمةٌ، وحنث هو أيضاً في عتْقها أو طلاق زوجته، وماتا قبل البيان، فعلى كل واحدة الاعتدادُ بأربعةٍ أشهرٍ وعشْرٍ أو ثلاثةِ أقراء؛ لأن كلَّ واحدة تحْتمل أن تكون مطلَّقة، وأن يكون متوفَّى عنْها زوجُها، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّالِثُ) فِيمَا تَصِيرُ بِهِ الأَمَةُ فِرَاشاً وَهُوَ الإقْرَارُ (ح) بالوَطْءِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الاسْتِبْرَاءِ* فَإِنِ ادَّعَى الاسْتِبْرَاءَ بَعْدَ الوَطْءِ لَمْ يَلْحَقْهُ الوَلَدُ عَلَى الأَظْهَرِ* وَقِيلَ: يَلْحَقُ وَلاَ يَنْتَفِي إِلاَّ بِاللِّعَانِ* وَلَوِ ادَّعَتْ أُمِّيَّةَ الوَلَدِ فَلَهَا تَحْلِيفُهُ فَيَحْلِفُ أنَّهُ مَا وَطِئَهَا بَعْدَ الحَيْضِ* وَعَلَى وَجْهٍ يَقُولُ في اليَمِينِ: وَلَيْسَ الوَلَدُ مِنِّي* وَلَوْ أتَتْ بَعْدَ إِقْرَارِ الوَطْءِ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَع سِنِينَ فَهَذَا أَوْلَى بِأَنْ لاَ يَلْحَقَ مِنْ صِورَةِ دَعْوَى الاسْتِبْرَاءِ* وَكَذَا الخِلاَفُ في الوَلَدِ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ إِلاَّ منْ وَطْءٍ آخَرَ وَكَأَنَّ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى أنَّهَا لاَ تَصِيرُ فِرَاشاً بِمُجَرَّدِ الإِقْرَارِ وَلَكِنْ مَا يَقْتَضِيهِ الإِقْرَارُ يُؤَاخَذُ بِهِ* وَلَوِ ادَّعَى العَزْلَ لَحِقَهُ عَلَى الأَظْهَرِ* وَلَوْ أَقَرَّ بِإِتْيَانِهَا فِي غَيْرَ المَأتَي لَمْ يَلْحَقْهُ الوَلَد. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الأمة لا تصير فراشاً بالمِلْك حتى لا يلحقه الوَلَد الذي تَأْتي به، وإن حَلَّت له وخلا بها، وأمكن أن يكون منه بخلاف النِّكَاح، حيْث يلحق الولد فيه بمُجَرَّد الإمكان؛ لأن مقْصُود النكاح هو الاستِمْتاع، والولَدُ ومِلْكُ اليمين قد يُقْصَد به ذلك،
وقد يُقْصد به التجارة أو الاستخدام؛ ولهذا لاَ يَنْكِح منْ لاَ تَحِلُّ، وَيمْلك بملك اليمين مَنْ لا تَحِلّ، وإذا كان المقصُود مِنْ النِّكَاح ذلك، اكتفى فيه بمجرَّد الإمكان، وإنما تصير الأمة فراشاً، إذا وطئها، فإذا أتَتْ بالولد بعْد الوطء لزمانٍ يمكن أن يكُون منْهُ، لحقه، والوطء يُعْرف بالبينة أو بإقراره، وعند أبي حنيفة لا تصير الأمَةُ فراشاً بالوطء، وإن دوام عليه سِنينَ، ولا يلحقه الولد إلا إذا استلْحَقَه، وقال: إنه منِّي، لنا: ما رُوِيَ أن سَعْد بن أبي وقَّاص -رضي الله عنه- وعبْد بن زمعة تنازعا عامَ الفَتْح في ولَدٍ وليدة زمْعَة، وكان زمعة قد مات فقال سعْدٌ: يا رسولَ الله، -صلى الله عليه وسلم- إنَّ أخِي كان قَدْ عَهِدَ إلَيَّ وفيه، وذَكَر لي أنَّه أَلَمَّ بِهَا في الجَاهِلِيَّة، وقال عبْد: هُوَ أَخِي، وابْنُ وليدة أبِي، وُلِدَ على فراشه، فقال (¬1) رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "يَا عَبْدُ بْنَ زَمعَةَ، هُوَ لَكَ، الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَللْعَاهِرِ الحجْرُ" ووجْه الاسْتدْلال: أنه أثبت الفراش لزمعةَ، وألحق الوَلَد بِهِ مِنْ غير استلحاقه، وقال عمر -رضي الله عنه (¬2) - "لاَ تَأْتِينِي أُمُّ وَلَدٍ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أنْ قَدْ أَلَمَّ بِهَا إِلاَّ أَلْحَقْتُ بهِ وَلَدَهَا، فَأَرْسِلُوهُنَّ بَعْدُ أَوْ أَمْسِكُوهُنَّ" اعتبر الاعتراف بالإلمام لا الاعتراف بالولد. ولو نفى الولَد مع الاعتراف بالوطء بان ادعى الاستبراء بعد الوطء بحيضةٍ، فيْنُظَر؛ إن ولَدَت لما دون ستة أشهر منْ وقت الاستبراء، فالاستبراء لَغْوٌ، للعِلْم بأنها كانَتْ حاملاً يومئذ، فيلحقه الولد، فلو أراد نفيه باللعان، فقد مَرَّ أن الصحيح أنَّ نسَب مِلْك اليمين لا يَنْفي باللعان، وادعى أبو سعد المتولِّي أن الصَّحِيح في هذه الصورة أنَّ له أن يلاعن؛ لأن من وطِئَ زوجته في طُهْر ورماها بالزنا في ذلك الطُّهر، وأتت بولَدٍ، كان له نفيه باللِّعان، فيَبْعُد أن يلزمه نَسَبُ ولد الأمة في هذه الحالة، ولا يلزمه نَسَب المنكوحة، وإن ولدت لستة أشهر إلى أربع سنين، فالمنصوص، وظاهر المذهب أنه لا يَلحقُه (¬3) الولد، واحتج بأن عُمَرَ وزَيْد بن ثابت وابْنَ عبَّاس -رضي الله عنهم- نَفَوْا أولاد جوارٍ لهم، وعن البويطِيِّ وغيره تخريجُ قول مِنْ الحُرَّة إذا طُلِّقت، ومضَتْ ثلاثة ¬
أقراء، ثم أتت بولدٍ لزمانٍ يُمْكِنُ أن يكون مِنْ النِّكاح، فإنه يلحق به، وهذا قد ذكَرْناه مِنْ قبل، وبيَّنَّا اختلاف تصرُّف الأصحاب في النصَّيْن، وفرقنا بينهما بأن الوطء سبب ظاهر، والاستبراء ظاهرٌ يعارضه، وإذا تعارَضَا، سَقَط الظهور، وبقي الإمكان، والإمكانُ لا يُكْتَفَى به في الأمة، بخلافه في المسألة الأُخْرَى، وإذا قلنا بالظاهر، فلو أنكرت الاستبراء، فهل يحلف السيد أم يُصدَّق مِنْ غير يمين؟ فيه وجْهَان مَحْكِيَّان عن الحاوي وغيره، ورُبَّما بُنيا على أن الانْتِفَاء معلَّق بدعوى الاستبراء، أو بفعل الاستبراء، والظاهر تعليقُه بنفي الاستبراء ووجوب اليمين، وهو قضيَّة ما ذكره الشيخ أبو حامد وصاحب "المهذب" -رحمهما الله-، وصرح به أبو الفرج السرخسيُّ والمتولِّي، وحكاه القاضي الرُّويانيُّ عن الجمهور، وإذا قلْنا: يحلف فمحصول ما ذكر في كيفية يمينه، ثلاثة أوجه: أحدها: أن يحلف على الاستبراء، ويكفي ذلك نافياً للنسب. والثاني: وهو اختيار الداركيِّ، وصاحب الحاوي، أنَّه لا بُدَّ، وأن يضم إليه؛ أن الولد ليس مني. والثالث: وبه قال أبو إسحاق -رحمه الله-: أنَّه لا يحتاج إلى التعرُّض للاستبراء، ويَحْلِف على أن الولد ليْس منه، وهذَا كما أنَّ في نفْي ولد الحُرَّة لا يحتاج إلى التعرُّض للاستبراء ويحلف على أن الولد ليس منه وقد ذكرَ القاضي الطبَرِيُّ وغيره: أن هذا أصحُّ، وفيه ما يُفْهِم أنه لو عَرَف أن الولد مِنْ غيره، ولم يَسْتَبُرِئْهَا يجوز له بقية والحلف عليه، لا على سبيل اللعان، والله أعلم. وعن الحاوي حكايةُ وجهين في أنه كيف يتعرَّض في يمينه للاستبراء، أيقول: استبرأتُهَا قبل ستة أشهر من ولادة هذا الوَلَد، أو يقول: ولَدَتْه لستة أشهر بعْد استبرائي، ووجهين فيما إذا نكل: أحدهما: أنه يلحقه بنكوله، والثاني: أنه تحلف الأمة، فإن نكلت، توقَّفْنا إلى بُلُوغ الصبيِّ، فإذا حَلَف بعْد البلوغ لَحِقَه. ولو ادَّعت الوطء وأمِّيَّة الوَلَدِ، وأنكر السيد أصْل الوطء، فالمشهور، وهو اختيار القَفَّال: "أنه لا يُحَلَّف، وإنما حُلِّف في الصورة السابقة؛ لأنه سبق منْه الإقْرار بما يقتضي ثبوت النسب، وهو الوطء، وفيه وجْه: أنه يحلف؛ لأنه لو اعترف به، ثبت النسب، فإذا أنكر، حُلِّف، وحكاه في "التَّتِمَّة" عن اختيار القاضي الحُسَيْن، وإذا لم يكن ولد، فلا يحلف بلا خلاف. وفي الفصل بعد هذا مسائل: إحداها: لو أقر بالوطء فأتتْ بولدٍ لأكثر مِنْ أربع سنين مِنْ وقْت الوطء، هل
يلحقه؟ فيه وجان يبنيان على أن الوَلَد، هل ينتفي بالاستبراء بعد الوطء، إن قلنا: فمضيُّ هذه المدة أَوْلَي بان يمنع اللحوق، ويقرب مِنْ هذا الخلافِ الخلافُ فيما إذا أتَتْ بولدٍ بعد الولد الذي ألحقْناه بالسيد لستة أشهر فصاعداً، هل يلحقه الولد الثاني؟ فأحد الوجهين: أنه يلحقه؛ لأنَّها قد صارت فراشاً؛ فيلْحَقُه أولادها عنْد الإمكان، كما في النكاح. والثاني: أنه لا يَلْحَقه، إلا أن يُقِرَّ بوطء جديد؛ لأن هذا الفراش يَبْطُل بالاستبراء، فَلَأَنْ يبْطُل بالولادة كانَ أَوْلَي [أما لو أتت بالولد الثاني لدون ستة أشهر فهما حمل واحد فإذا لحقه الأول لحقه الثاني بلا خلاف] وذكروا أن أصْل هذا الخلاف في أن أمَّ الولد هل تعود فراشاً للسيد، إذا انقطعت عُلْقة الزوج عنْها نكاحاً وعدَّةً وفيه قولان: أحدهما: أنها تعود فراشاً، حتى لو مات السَّيِّد أو أعتقها بَعْد ذلك، يلزمها الاستبراء، ولو أتت بولَدٍ لستة أشهر فصاعداً منْ وقت انقطاع عُلْقة الزوج لِحَقِّ السيد. والثاني: لا تعود فراشاً ما لم يطأها حتى لو أتَتْ بولَدٍ لما دون أربع سنين منْ وقْت الطلاق، يلحق بالزوج، فإنْ قلْنا: تعود فراشاً، لحقه الثاني منْ غير إقرار بالوطء، وإلا، فلا بدَّ مِنْ الإقرار بوطءٍ جديدٍ [لكنَّهم مائلون هاهنا إلى أنَّه لا يلحق الولد الثاني إلا بالإقرار بوطء جديد]؛ لأنَّ الولادَةَ أقْوَى من الاستبراءِ، والاستبراءُ بفَصْل هذا الفراش، كما تَقرِّر وقضيَّة الأخْذ من الأصْل المذْكُور ترجيحُ اللُّحوق؛ لِمَا سبق أن الظاهر أن المستولدة تعود فراشاً، وعند أبي حنيفة: إذا لحقه وَلَدٌ بالاستلحاق، لحقه سائر أولادها، وإن لم يسْتَلْحِقْهم. الثانية: لو اعترف بالوطء، وقال كُنْتُ: أَعْزَلُ وأمتنع مِنْ إرْسال الماء في الرَّحِم، فوجهان: أحدهما: أن دعوى العَزْل كدعوى الاستبراء حتى ينتفي به النَّسَب. وأصحُّهما: أنه لا عبرة به ويَلْحَقُه؛ لأنه قد يَسْبِق الماء، وهو لا يحسُّ به، وأيضاً، فإِنَّ كونها فراشاً حُكْم مِنْ أحكام الوطء، [فلا يُشْترط فيه الإنزال كسائر أحكام الوطء] (¬1). والثالثة: الإقرار بالإتيان في غير المأْتَى لا يكون كالاقرار بالوطء، فلا يُلْحَق به الولد، وفيه وجْه ضعيفٌ، وقد سبق نظير هذا الخلاف [ولو قال: كنت أصيبها فيما دون الفرج]. فالأصح (¬2): أن الولد لا يُلْحَق به؛ لأن سَبْق الماء إلى الفَرْج بالاصابة فيما دون ¬
الفرج بعيد، ولأن سائر أحكام الوطء كالتَّحْليل والتحصين لا تَتعلَّق بالإصابة فيما دون الفرج، فكذلك فيما نحن فيه، وأما لفظ الكتاب فقوله "وهو الإقرار بالوطء مِنْ غيْر دعْوَى الاستبراء" أي خالياً عن دعوى الاستبراء؛ يُعْلَم بالحاء؛ لما ذكرنا أن عنْده لا تصير الأمة فراشاً بالإقرار بالوطء. وقوله "وقيل: تَلْحَقُ" بعْدَ ذكر الأظهر هو الوجه الثاني في المسألة. وقوله "لا ينتفي إلا باللعان" هكذا ذكَرَها هنا وفي "الوسيط" و"البسيط" وذلك يقتضي أنه يَجُوز اللعان عن الأَمَة إلا أن الوَلَد لا ينتفي بدَعْوَى الاستبراء، وهو مناسبٌ للفِقْه الَّذي ذكَرْناه في باب اللِّعَان في المسألة؛ لكنَّه غَيْر مُحقَّق من جهة النقل. وقوله "ولو ادَّعَتْ أمة الولَدِ" يعني إذا ادعى السيد الاستبراء، وأنكرته هي، وادعت أنها أمُّ ولدِهِ، وفيه إشعار بانها إنما تحلف إذا ادَّعَت الاستيلاد؛ لأن ذلك حقٌّ لها، وكذلك ذكَره في غير هذا الكتاب، وأكثرون لم يتعرَّضوا لذلك، ويشبه أن يقال: الخِلاَفُ الذي قدَّمناه في أنه هل يحلف لا يجيء فيما إذا ادَّعت أُمِّيَّة الولد، [وإن لم يكن الأمْر على ما أشْعَر به اللفظ من اختصاص التحليف بما إذا ادَّعت أمية الولد]، وقوله "وعلَى وجْهٍ يقول في اليمين: "وَلَيْسَ الوَلَدُ مِنِّي" أراد به الوجه الثاني، وهو أنَّه يضم ذلك إلى دعوى (¬1) الاستبراء، وأما الوجه الثالث، فهو غير مذكور في الكتاب. وقوله "وكَذَا الخِلاَفُ في الوَلَدِ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ إِلاَّ مِنْ وَطءٍ آخَرَ" قَصَد بهذا اللفظِ الاحترازَ عن ما إذا كان بين الولدَيْن أقلُّ مِنْ ستة أشهر؛ فإنه إذا كان كذلك كانا توءمين؛ فإذا لحق الأول لحق الثاني بلا خلاف. وقوله "وَكَأَنَّ هذا يرجع إلى أنها لا تصير فراشاً" بمجرد الإقرار بالوطء إلى آخره، معناه أنَّا إذا لم نلحق الولد الثاني به لَمَّا زاد على أربع سنين، لم نجْعل الأمة فراشاً مطلقاً بالإقرار، [بالوطء] (¬2)، [ولكلنا نجري على مقتضى (¬3) الإقرار،] ويؤاخِذه به، وفيما عَدَاه نجري عَلَى أصل العدم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوِ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ فَوَلَدَتْ لِزَمَانٍ يُحْتَمَلُ مِنَ المِلْكَيْنِ لَحِقَهُ فَلَمْ تَصِرْ أَمَّ وَلَدٍ مَا لَمْ يُقِرَّ بِالوَطْءِ* فَإِنْ أَقَرَّ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنَ النِّكَاحَ فَفِي أُمِّيَّةِ الوَلَدِ مَعَ الاحْتِمَالِ تَرَدُّدٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا اشترى زوجته الأمة، فوَلَدَتْ بعْد الشراء، فقد بان ممَّا قدمناه في ¬
اللِّعَان في هذه الصورة أنَّه متى لا يلحقه، وإنه إذا لحق بالنكاح، متى يلحق بملك اليمين، ولا يَحْكم بكونها أُمَّ ولَدٍ، إذا احتمل أن يكون من النكاح، فلم يقر بالوطء بعْد الشراء؛ لأن أمومة الولد إنَّما تَثْبُت إذا كان اللُّحوق بحُكم المَلْك، ولم يظهر ذلك، وعن رواية القفَّال وجهٌ ضعيفٌ: أنها تثبت، ويكتفي باللحوق في مِلْك اليمين مع احتمال الحُدُوث في ملك اليمين، وإن أقر بالوطء بعْد الشراء، ولحق الولد بمِلْك اليمين، ولكنه احتمل كونه مِنْ النكاح، فوجهان في ثبوت أمومة الوَلَد. وجه المنع قيامُ الاحتمالِ. والأظهر: الثبوت؛ للحكم باللحوق بملك اليمين، وأجرى هذا الخلاف فيما إذا زَوَّج أمته، وطلقها قبل المسيس، وأقر السيِّد بوطئها، وأتتْ بولَدٍ لزمان يحتمل أن يكون منهما، وقد انقضى "كتاب العدَّة" بأبوابه بتيسير الله تعالى.
كتاب الرضاع
كِتَابُ الرَّضَاع (¬1) * وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ البَابُ الأَوَّلُ في أَرْكَانِهِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَهِيَ ثَلاَثةٌ: (الأَوَّلُ: المُرْضِعَةُ) وَهِيَ كُلُّ امْرَأَةٍ حَيَّةٍ تَحْتَمِلُ الوِلاَدَةَ* ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَلاَ حُكْمَ لِلَبَنِ البَهِيمَةِ وَلاَ لِلَبَنِ الرَّجُل (و) وَلاَ لِلَبَنِ المَيْتَةِ (ح) * فَإِنْ حُلِبَ لَبَنُهَا فَمَاتَتْ فَشَرِبَ الصَّبِيُّ بَعْدَ مَوْتِهَا حُرِّمَ عَلَى أَصَحِّ المَذهَبَيْنِ (و) * وَلاَ حُكْمَ لِلَبَنِ الصَّغِيرَةِ دُونَ تِسْعِ سِنِينَ* وَبَعْدَ تِسْعِ سِنِينَ يُحْرَّمُ لَبَنُهَا لاحْتِمالِ البُلُوغِ وَإنْ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدُ اللَّبَنِ دَلِيلَ البُلُوغِ* وَفِي لَبَنِ البِكْرِ وَجْهُ أَنَّهُ لاَ يُؤَثِّرُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الكتاب ثم السنة ناطِقَانِ بتحريم الرضاع؛ قال الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]-رضي الله عنه- أن رسُول الله -صلى الله عليه وسلم (¬1) - قال: "يحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ ما تحْرُمُ مِنَ النَّسَب"، ويعضدها إجماع الأمة، وإما يؤثِّر الرضاع في تحريم النكاح وثبوت المَحْرَمِيَّة المفيدة لحل الخَلْوة والنظر دون سائر أحْكَام النسب؛ كالميراث والنفقة والعِتْق [بالملك] وسقوط القصاص ورد الشهادة، وغيرها بالاتِّفَاق (¬2)، ولا تخفَى الحاجة في الكتاب إلى معْرفة الرَّضَاع المُحرِّم، ومعرفة من يُحَرِّمُه، ثم الرضاع المحرِّم قد سبق النكاح، فيمنع انعقاده، وقد يطرأ عليْه، فيقطعه، ومنه ما يحْصُل الاتفاق عليه، وفيه ما يقع فيه نزاع قريبٌ. الكلام على أربعة أبواب: بابٌ في أركان الرضاع وبيان شرائطه، ليمتاز ما يَحْرُم من الرضاع عما لا يَحْرُم. وباب: فيمن يحرمه. ¬
وباب: في الرَّضاع الذي يطرأ على النكاح وأحكامه. وباب: في النزاع. الباب الأول: في أركانه، وهي ثلاثة: الذي ينفصل منه اللبن، وهو المُرْضِع، والذي يَتَّصل به، وهو: المُرْتَضِع، واللبن المتوسط المُنْفَصِل من هذا والمتَّصِل بذاك. الأول: المرضع، وُيعْتبر فيه ثلاثة قيود: أحدها: كونه امرأةً، فلبن البهيمة لا يتعلَّق به تحريم، حتى إذا شرب منْه صغيرَانِ، لم يثبت بينهما أخوَّة، ولم تحرم الأنْثَى منهما على الذكر؛ لأنَّ الأخوَّة فرع الأمومة، ومنْها ينتشر تحريم الرضاع، فإذا لم تثبت الأمومة التي هي الأصل، لا تثبت الأُخُوَّة، وأيضاً فلبن البهيمة لا يصلح غذاءً للطفل صلاحِيَةَ لَبَنِ الآدميات، فلا يشاركها في التحريم، ويروى عن مالك أنَّه يتعلَّق به التحريم، ولم يصحِّحوا الرواية, ولو دُرَّ لرجل لَبَنٌ، لم يتعلَّق به التحريم (¬1)، واللبن من أثر الولادة، والولادةُ تختص بالنساء، وأيضاً، فإنَّه لم يُخْلَق لغذاء المولود، فلم يتعلَّق به التحريم [كسائر المائعات، عن الكرابيسي من أصحابنا: أنه يتعلَّق به التحريم،] (¬2) والخنثى المُشْكِلُ إذا دُرَّ لبنه، فعن أبي إسحاق -رحمه الله-: أنَّه يُعْرَض على القوابل (¬3)، فإن قلْنَ: مثْلُ هذا اللبن لا يكون إلا للنِّسَاء؛ لغَزَارته، حُكِمَ بأنوثته، وعن ابن أبي هريرة: أنه يستدل باللَّبن علي الأنوثة عند فقْد سائر الأمارات، وظاهر المذْهَب: أن اللبن لا يقتضي الأنوثة، وقد أشَرْنا إلى الخلاف فيه وفي كتاب الظِّهار، وإذا قلنَا بالظاهر، فلو أرضع بلبنه صغيراً، توقَّف التحريم على تبيُّن حاله، فإن بأن أنه أنثَى، تعلَّق به التحريم، وإلا، فلا. والثاني: أن تكُونَ المرأة حيَّة، فلو حلب لبن المرأة بعد موتها، وأوجر الصبيُّ أو ارتضع من ثَدْي ميتة، لم يتعلَّق به التحريم خلافاً لأبي حنيفة، ومالك، وأحمد -رحمهم الله- واحتج الأصحابُ بأنَّه لبَنٌ حرامٌ قبل انفصاله، فلم يتعلَّق به التحريم، كاللبن المنفصل من الرجُل، وبأن اللبن ضعُفَت حرمته بمَوْت الأصْل؛ ألا ترى أنه تسقط حرمة الأعضاء بالمَوْت حتى لا يجب الضمان بقَطْعها، وبأنها بعد الموت جثَّة منفكة عن الحِلِّ والحرمة، فصارت كجثة البهيمة، وبأن الحرمة المؤبَّدة تختصُّ ببدن الحي؛ ولذلك لا تثبت حرمة المصاهرة بوطء الميتة، وبأنه لو وصل اللبن إلى جوف الصبيِّ الميِّت، لم تثبت الحرمة، فكذلك إذا انفصل منْها بعد موتها؛ قياساً لأحد ¬
الطرفين على الآخر، وإن حلب لبن المرأة في حياتها وأوجر الصبي بعد موتها، ففيه وجهان: أصحُّهما، وهو المنصوص: تعلُّق التحريم به؛ لأنه انفصل منْها، وهو حلال محرم. والثاني عن رواية القاضي الحُسَيْن: أنه لا يتعلَّق؛ لبُعْد إثبات الأمومة بعْد المَوْت، وذكر أنه مُخرَّج مما إذا علَّق طلاقها في الصِّحة، ووجدت الصفة المعلَّق عليها في المرض يعتبر وقْت التعليق أو وقْت وجود الصِّفة. والثالث: كوْن المرأة محتملةً للولادة، فلو ظهر لصغيرة لبنٌ، نُظِرَ؛ إنَّ لم تبلغ تسْع سنين، لم يتعلَّق به التحريم؛ لأنها لا تحتمل الوِلادةَ، واللبن فرْعُ الولد، وهذا كما أنها إذا رأتْ دماً، لم يحكم بكونه حيضاً، وإن بلغتْ تسع سنين، تعلَّق به التحريم، لأنه، وإن لم يُحْكم ببلوغها باللبن، فاحتمال البلوغ قائمٌ، والرّضَاع صنو النسب، فيكتفي فيه بالاحتمال (¬1) كالنَّسب، ولا فَرْق بيْن أن تكون المرضعة خليَّة (¬2) أو ذات زوج، ولا بين أن تكون بكراً أو ثيِّبَاً؛ لاحتمال الولادة وصلاحية اللبن للغذاء، هذا هو الظاهر، وُيحْكَى عن نصِّه -رضي الله عنه- في البويطيِّ. وفي لبن البكْر وجْه أنَّه لا يُحَرِّم؛ لأنه نادر، فأشبه لبن الرَّجُل. وقوله في الكتاب "المرضعة: وهي كل امرأةٍ حيَّةٍ تَحْتمل الولادة" لا يخفى أنه ليس تفسيراً لنفس المرْضعة، وإنما المراد أن التحريم إنما يثْبُت إذا كان بهذه الصفات. وقوله "فلا حكم للبن البهيمة، ولا للبن الرجل" يعني حكم التحريم، وعن نصه في البويطى: أنه إذا نزل للرَّجُل لَبَنٌ، فأرضع به صبيَّةً يُكْرَه له أن يَتزوَّج بها، وقوله "على أصح المذهبين" يعني الوجهين. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّانِي: اللَّبَنُ) وَالمُعْتَبَرُ وُصُولُ عَيْنِهِ أَوْ عَيْنِ مَا حَصَلَ مِنْهُ مِنْ جُبْنٍ ¬
(ح) أَوْ أَقِطٍ (ح) سَوَاءٌ كَانَ صِرْفاً أَوْ مَخْلُوطاً بِمَائِعٍ مَا لَمْ يَصِرْ مَغْلُوباً بِحَيْثُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي التَّغْذِيَةِ قَطْعاً* فَإِنْ صَارَ مَغْلُوباً فَإِنِ امْتَزَجَ بِأَقَلَّ مِنْ قُلَّتَيْنِ وَشَرِبَ الصَّبِيُّ كُلَّهُ فَفِيهِ قَوْلاَنِ وَإنْ شَرِبَ بَعْضَهُ فَقَوْلاَنِ مُرَتِّبَانِ* فَإِنِ امْتَزَجَ بقُلَّتَيْنِ وَشَرِبَ بَعْضَهُ لَمْ يُؤَثِّرْ وَإنْ شَرِبَ كُلَّهُ فَقَوْلاَنِ* فَلاَ يَحْسُنُ اعْتِبَارُ القلَّتَيْنِ مِنْ غَيْرِ المَاءِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا يشترط لثبوت الحُرْمة أن يكون اللَّبَن على الهيئة الَّتي كانَتْ عند الانفصال عند الثَّدْي، بل لو تغيَّر بحموضة أو انعقادٍ أو إغلاءٍ تعلَّقت الحرمة به، وكذا لو اتُّخِذ منه جبنٌ أَو أَقطٌ أو زُبُدٌ أو مخيض وأطعم الصبيُّ؛ لوصول عين اللبن إلى الجَوْف، وحصول التَّغَذِّي، وبهذا قال أحمد؛ وقال أبو حنيفة: تثبُت الحرمة بالجُبْن ونحوه، وُيرَوَى عنه في المغلي مثله، ولو ثرد فيه طعام أو عُجِنَ به دقيقٌ وخبزٌ، تعلَّقت الحرمة به أيضاً، وفي صورة العَجْن والخبز وجْه عن القاضي الحُسَيْن -رحمه الله-، ولو شيب بمائع دواء أو غيره حلال؛ كالماء ولبن البهيمة أو حرام، كالخمر، فيُنْظَر؛ إن كان اللبن غالباً، تعلَّقت [الحُرْمة] بالمخلوط، حتى لو شرب منه الصبي خمس رضعات، ثبتت الحرعة، وإن كان مغلوباً فقولان: أحدهما: أنَّه لا يتعلَّق به الحرمة؛ لأنَّ المغْلُوب المستهلك كالمعدوم؛ ألا ترى أن النجاسة إذا استهلكت في الماء الكثير، كانَتْ كالمعدومة، وأن الخمر إذا استهلك فيما خالَطَه، لم يتعلَّق بشربه الحد، وأن المُحْرِمَ، لو أكل طعاماً استهلك فيه الطيب، لم تلزمه الفدية. وأصحُّهما: التعليق، لوصول عين اللَّبَن إلى الجوْف، وهو المعتبر في الباب؛ ولذلك يُؤَثِّر كثير اللبن وقليله الذي لا يُغذِّي بحال، وليس كالنجاسة؛ فإن اجتنابها لما فيها من الخَبَث والاستقذار، والكثرةُ دافعةٌ له، ولا كمسألة الخَمْر، فإن الحدَّ منوطٌ بالشدة المزيلة للعقل، ولا كمسألة المَحْرَم، فإنه ممنوعٌ من التطيُّب، وذاك ليس بتطيُّب، وإذا قلنا بالأصح، فلو شرب جميع المخلوط، تعلَّقت الحُرْمة به، وإن شرب بعْضه، فوجهان عن صاحب الإفْصَاح. أحدهما: أنَّه تثبت الحرمة [أيضاً] إذا شربه في خمْس دفَعَات، أو شرب منه دفعةً بعْد أن شرب من اللبن الصّرف أربعاً؛ وذلك لأنَّ المائعِ إذا خالَطَ المائع، فما مِنْ قَدْر يوجد إلا وفيه شيْءٌ من هذا، وشيْءٌ من هذا، ويُحْكَى هذا عن اختيار الصيمري والقاضي أبي الطيب الطبريِّ. وأظهرهما، وبه قال ابن سُرَيْج، وأبو إسحاق وأقضى القضاة الماوَرْدِيُّ: المنع؛
لأنا لا نتحقَّق وصول اللَّبن إليه (¬1)، والخلاف فيما إذا لم يُتحقَّق وصول اللبن، كما إذا وقعَتْ قطرة لبنٍ في جب ماء، وشرب بعضه، فإن تحقَّقنا انتشاره في الخليط وحصول بعضه في المشروب أو كان الباقي في المخْلُوط أقلَّ من قَدْر اللبن، فيُقْطَع بالحرمة. ذكره الإِمام وغيره، وهل يُشْترط أن يكون اللبن قَدْراً يمكن أن يسقى منه خمس دفعات، لو انفرد عن الخليط؟ حكى أبو الفرج السرخسي فيه وجهَيْن، وقال: أظهرهما: الاشتراط. ¬
هذه هي الطريقةُ الظَّاهرة في اختلاط اللَّبَن بالمائعات، وليس فيها فرْق بين أن يكون الاختلاطُ بالماء أو بغيره، ومنْهم مَنْ فرَّق بين الماء وغيره فجَعَل غير الماء على ما ذَكَرْنا، وقال في الماء واللبن: مغلوب فيه، إن امتزج بما دون القُلَّتَيْن، وشَرِب الصبيُّ كلَّه، ففي ثبوت الحرمة قولان، وإن شرب بعْضه، فوجهان أو قولان مُرَتَّبان؛ إن لم تثبت الحرمة في شرب الكل، ففي شرب البعض أوْلَى، وإن ثَبَت في الكل، ففي البعض وجهان؛ للتردد في وصول اللَّبن، وإن امتزج بقلتين فصاعداً، فإن قلْنا: لا تتعلَّق الحرمة بالمغلوب بما دون القلتين، فهاهنا أوْلَى، وإن قلْنا: تتعلَّق، فإن تناول بعْضُه، لم يُؤَثِّر، وإن تناول كلَّه، فقولان مُرَتَّبان على القولَيْن فيما دون القُلَّتَيْن، وأَوْلَى بأن لا يُؤَثِّر، وقد أورد الإِمام -رحمه الله- هذه الطريقة، وعليها جرى صاحب الكتاب، لكن الفرق بين القلتين وغيره رعاه الشَّرْع في أحكام النجاسات؛ لأن القليل يَسْهل إحرازه وصونه عن النجاسات، والكثير يَعْسُر صونه، فجعل ذلك حدًّا فاصلاً بين القليل والكثير، وهاهنا النَّظَر إلى وصول اللبن وعدم وصوله؛ فلا معنى للفرق بين القلتين، وما دون القلتين كما في سائر المائعات؛ وقال أبو حنيفة:. إنْ كان الخَلْط بجامدٍ، كما لو ثُردَ فيه الخبز لم تَتعلَّق به الحرمة، سواءٌ كان اللبن غالباً أو مغلوباً، وإن كان بمائعٍ، فإن كان اللبن غالباً، تعلَّقت الحرمة به، وإلا، فلا. وقال مالك والمزنيُّ: لا فرق بيْن الجامد والمائع، والحكم للغالب، وفرَّق أحمد في المسألة كقولنا؛ وليُعْلَم في الكتاب لفظ "الجبن والأَقِط" بالحاء؛ لما ذكرنا. وقوله "ما لم يصر مغلوباً بحيث لا يُؤَثِّر في التغذية قطعاً" فيه إشارة إلى أن معنى صيرورة اللبن (¬1) مغلوباً خرُوجه عن كونه مغذياً، وهذا وجْهٌ محكيٌّ عن رواية الشيخ أبي عليٍّ -رحمه الله-، والظاهر الذي أورده الأكْثَرُونَ أنَّ الاعتبار بصفات اللبن؛ اللون والطعم والرائحة، فإن ظهر شَيْءٌ منها في المخْلُوط، فاللبن غالبٌ، وإلاَّ، فهو مغلوبٌ، ونقل أبو الحسن العبَّادِيُّ في "الرقم" تفريعاً على هذا عن الحليميِّ ما يُفْهِم منه أنه لو زايَلَتْه الأوصاف الثلاثةُ، فيُعْتَبَر قدْر اللبن بمَا لَهُ لونٌ قويٌّ يستولي على الخليط، فإن كان ذلك القَدْر منْه يظهر في الخليط، تثبت الحرمة، وإلا فلا، قال: وهذا شيْءٌ استنبطته أنا، وكان في قلْبي منه شيء حتى عرَضَتْهُ على القفَّال الشَّاشِيِّ وابنه القاسم، فارتضياه، فسَكَنْتُ، ثم وجدتُّه لابن سُرَيْج، فسَكَن قلبي إلَيْه كل السُّكُون، وقد سبق نظير (¬2) ما ذَكَره في اختلاط الماء بما يوافقه في الصِّفات، وفي الحكاية ما يبين ذَهَابَه إلى أن المَغْلُوب من (¬3) اللبن لا يُؤَثِّر. ¬
وقوله "وَشَرِبَ (¬1) بَعْضَهُ لَمْ يُؤَثِّرُ" يجوز أن يُعْلَم الواو. وقوله "فَلاَ يَحْسُن اعْتِبَارُ القلتين من غير الماء" يعني أن الفرق بين القلَّتَيْن وما دون القلتين يختص بالماء، وأمَّا سائر الممائعات، فكثيرها وقليلها سواءٌ. فَرْعٌ: لو وقَعَت من اللَّبَن في فم الصَّبيِّ، واختلط بريقه ثم وَصَل إلى جَوْفه، فطريقان. أحدهما: أنَّه يُنْظَر إلى كونه غالباً أو مغلوباً، على ما ذكرنا. والثاني: أنَّه يقطع بثبوت (¬2) التحريم، ولا يُنْظَر إلى الامتزاج بالرِّيق كما لا يُنْظَر إلى الامتزاج برطوبات المَعِدة. آخر: إذا اختلط لَبَن امرأة بلَبَن أخرى، وغلب أحدهما، فإن علَّقنا الحرمة بالمغلوب ثبتت الحرمة فيهما، إلا اختصت بالَّتي غَلَبَ لبنها. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثُ: المَحَلُّ) وَهُوَ مَعِدَةُ الصَّبِيِّ الحَيِّ فَلاَ أَثَرَ لِلإِيصَالِ إِلَى مَعِدَةِ المَيِّتِ وَلاَ إِلَى جَوْفِ الكَبِيرِ أَعْنِي بَعْدَ الحَوْلَيْنِ* وَأَمَّا الحُقْنَةُ وَالسَّعُوطُ وَالتَّقْطِيرُ فِي الإِحْلِيلِ وَالجِرَاحَةِ فَحَيْثُ لاَ تَحْرِيمَ* وَحَيْثُ يَحْصُلُ الإِفْطَارُ نَفِيهِ قَوْلاَنِ* وَأَوْلاَهُمَا بِالتَّحْرِيمِ السَّعُوطُ لاِتِّصَالِ الدِّمَاغِ بِالمَعِدَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تكلَّمنَا فيمن ينفصل مِنْه اللبن، وفي اللبن المتوسِّط، وأما الركن الثالث فهو المَحَلُّ الذي يتَّصل به اللبن، قال في الكتاب: "وهُوَ مَعِدةُ الصبيِّ الحَيِّ"، وهذه ثلاثة ألفاظ: أحدهما: المعدة، والوُصُولُ إلَيْها تثبت الحرمة، سواءٌ ارتضع الصبيُّ أو اتصل اللبن بفِعْل غيره، وعن أحمدَ روايةُ أنَّه لا تَثْبُت الحرمة بالوجود، ولو صُبَّ في أنفه حتى وَصَل إلى دماغه، وهو السَّعُوط، ففيه طريقان: أحدهما: أن في ثبوت الحرمةِ قولَيْن، كما سنذكر في الحُقْنة. وأصحُّهما": القطع بثبوتها؛ لأن الدماغ جوفُ التغذي، كالمعدةِ، والأدهانُ الطيبَّةُ إذا حصَلَت في الدماغ، انتشرت في العروق، وتغَذَّت بها، كالأطعمة الحاصلة في ¬
المعدة، ويقال: إن الحاصل في الدماغ ينحدر (¬1) إلى المَعِدة في عروق متَّصِلة بهما، وعن أبي حنيفة: أن الحرفة لا تثبت بالسَّعُوط، وهو رواية عن أحمد -رحمه الله-، ولو حُقِنَ باللبن، ففيه قولان منصوصان: أحدهما، وهو اختيار المُزنيِّ: أنَّه يُثْبِتُ الحرمة كما يَحْصُل به الفِطْر. وأصحُّهما، ويقال: إنه الجديد، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد -رحمهما الله-: أنها لا تَثْبُت؛ لأن الحقنة لإسهال ما انعقد في الأمعاء، فلا يَحْصُل بها التعذِّي، وقد يُبْنَى القولان عَلَى أنَّه لم تثبت الحرمة بالسَّعُوط، فَمِن قائلِ بأنها تَثْبُت؛ للوصول إلى محَلٍّ يحْصُل الفطر بوصول الواصل إليه، ومِنْ قائِل؛ إنها تَثْبُت؛ للوصول إلى جوف التغذِّي، ولو قَطَّر اللبن في إحليله، حتى وَصَل إلى المثانة، ففيه قولان، كما في الحُقْنة، وكذا لو كان على بطْنه جراحةٌ فَصَبَّ فيها اللَّبَنَ، حتى وَصَل إلى الجَوْف، قل في "التهذيب": ولو وصل إلى المَعِدَةِ؛ لِخَرْق في الأمعاء أو وَصَل إلى الدماغ بالصَّبِّ في مأْمُومةٍ، تثْبُت الحرمة قولاً واحداً، ولو صُبَّ في أذنه، فالذي أورده الرويانيُّ في البحر أنه تثبت الحرمة، وفي "التهذيب": أنَّها لا تَثْبُت؛ لأنَّه لا مَنْفَذ لها إلى الدِّماغ، ويشبه أن يُقَال: إنه على الخلاف في الحُقْنة، والصبُّ في العين لا يُؤَثِّر بحال، كما لا يؤثر الاكتحال في الصوم، وإذا تأمَّلْتَ هذه الصور، عَرَفْت أن المَعِدة غير معيَّنة لعينها، بل الدماغ في معناها على الأظْهَر، وعَرَفْت أن حصول الفِطْر أوْسَعُ مجالاً من حُرْمة الرضاع، وسببه أن حرمة الرِّضاع تنشأ من تأثيره في إثبَات اللحم، وإنشاز العظْم، فيراعى مظنَّته، والفِطْر مَنُوطٌ بالوصول إلى الجَوْف؛ ولذلك اختص الرضاع باعتبار العدد فيه، إلى هذا المعنى يُشِير قوله في الكتاب "فَحَيْثُ لا إفْطَارَ لاَ تَحْرِيمَ" وحيث يَحْصُل الإفطار، ففيه قولان، والذي ذكره في السُّعُوط هو طريقة القولَيْن، والظاهر: القطع بأنه تَثْبت الحرمة، والله أعلم. فرْعٌ: لو ارتضع وتقيَّأَ في الحال، حَصَل التحريم؛ لأن الاعتبار بوصوله إلى الجوف، وقد وَصَل، ولأنه يبقي شيْءٌ، وإن قلَّ، وحكى القاضي الرويانيُّ أن جَدَّه روى فيه وجهاً آخر، وفيه وجه: أنه إن تَقَيَّأَ قبل أن يتغير اللبن، لم تَثْبُت الحرمة، وإن تغيَّر، ثبتت. اللفظ الثاني: الصبيُّ، والمراد منها الذي لم يبلغ حولَيْن، فأما من بَلَغ حولَيْن فصاعداً، فلا يتعلَّق التحريم برضاعه، وبه قال أحمد، واحتج له بما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم (¬2) - ¬
قال: "لاَ رَضَاعَ إِلاَّ مَا كَانَ في الحَوْلَيْنِ"، ولقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] جعل تمام الرَّضَاع في الحولَيْن، فأَشْعر بأن الحكم بعْد الحولين بخلافه، وعنْد أبي حنيفة: مدَّة الرضاع ثلاثون شهراً، وعن مالك روايات: أحداها: كمذهبنا، والثانية: حولان وشهر، والثالثة: حولان وشهران، والرابعة: تَثْبُت الحرمة، ما دام محتاجاً إلى اللَّبن غير مستغنٍ عنْه بالطعام، ويعْتبر الحولان بالأهلَّة، فإن انكسر الشهر الأول، اعتد ثلاثة وعشْرين شهراً بالأهلَّة، ويكمل المنكسر بالعَدَد عن الشَّهْر الخامس والعشرين، وقد سَبَق نظيره في مَوَاضِع، والقياسُ: أن يُحْسَب ابتداء الحولَيْن مِنْ وقت انفصال الولد بتمامه (¬1)، وقال في "البحر": لو خرج نصْفُ الولد ثم بَعْدَ مدة، خرج البَاقِي، فابتداء الحولَيْن في الرضاع عنْد ابتداء خروجه، هذا لَفْظُه، وحكى القاضي ابن كج وجهَيْن فيه، وحكى وجهَيْن أيضاً فيما لو ارتضع قَبْل أن ينفصل جميعُهُ، هل تتعلَّق به الحرمة؟. الثالث: الحيُّ؛ فلا أثر للوصول إلى معدة الميِّت؛ لخروجه عن التغذِّي ونبات اللحم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَشَرْطُ الرَّضَاعِ العَدَدُ (ح م و) وَهُوَ خَمْسُ رَضَعَاتٍ* وَيَحْصُلُ التَّعْدِيدُ بِتَخَلُّلِ فَصْل بَيْنَ الرَّضَعَاتِ* وَلاَ يَحْصُلُ بَأَنْ يَلْفِظَ الصَّبِيُّ الثَّدْيَ أَوْ يَتَحَوَّلَ إِلَى الثَّانِي أَوْ يَلْهُوَ لَحْظَةً* بَلْ مَا يُعَدُّ في العُرْفِ وَالتَّمْيِيزِ رَضْعَتَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: حرمة الرَّضَاع لا تَثْبت بأقلَّ من خمس رضَعَات (¬2)؛ لِمَا رُوِيَ عن ¬
عائشة -رضي الله عنها (¬1) - قالت: كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى في الْقُرْآنِ (عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَات يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ)، فتوُفيَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وهيَ مِمَّا يُقرأُ في القُرآنِ وحمل ذلك على قراءة حُكْمِها، ورُوِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: ............. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"لاَ تُحَرِّمُ المَصَّةُ (¬1) [وَلاَ المَصَّتَانِ، وَلاَ الرَّضْعَةُ وَلاَ الرَّضْعَتَانِ" قبل: المصة] الجرعة يتجرَّعها، والرَّضعة المراد به الرضعة الثانية في العادة، وعند أبي حنيفة ومالك: تثبت الحرمة بالرَّضْعَةِ الواحدةِ، وعن أحمد روايتان كالمذهبَيْن، ولنا وراء ظاهر المذهب وجهان: أحدهما: كمذهب أبي حنيفة، والثاني: أنَّه يثبت الحرمة بثَلاَث رضَعَاتٍ، وبه قال ابن المُنْذِر، واختاره مشايِخُنا, ولو حكم حاكم بالتحريم برضعةٍ، لم ينقض حكمه، وإن كنا نفرِّع على ظاهر المَذْهَب، وعن الإصْطَخْرِيِّ: ينقض، والرجوع في الرَّضْعة الواحدة والعدد من الرَّضَعات إلى العُرْف، وَمَا تُنَزَّلُ علَيْه الأيْمَانُ في مثْل ذلك، ومَهْما تَخلَّل زمانٌ طويلٌ لم يخف التعدد، ولو ارتضع، ثم قَطَعه، قطَعْ إعراض، واشتغل بشَيْءٍ، ثم عاد، وارتضع، فهما رضعتان، وقطع المرضعة كقطع الصبي في أصحِّ الوجهين. والثاني: أنه لا اعتبار بقَطْعها, ولو قَطَعَت، ثم عادت إلى الإرضاع، لم يُحْسَب ذلك رضعتين، ولا يحْصُل التعدُّد بأن يَلْفِظ الثدْيَ، ثم يعود إلى الالتقام في الحال، ولا بأن يَلْهُوَ عن الامتصاص، والثَّدْيُ في فمه، ثم يعود إلى الامتصاص، ولا بأن يَتحوَّل من ثَدْيٍ إلى ثديٍ أو تحوله لِتَقَادِمَا فِي الثَّديِ الأول، ولا بأن يقطع للتنفس، ولا بأس بتَخلَّل النومة الخفيفة، ولا بأن تقوم هي، وتَشْتغِل بشُغْلٍ خفيفٍ، ثم تعود إلى الإرضاع (¬2)، ذَكَره الشيخ إبراهيم المروزي، قال الأصحاب -رحمهم الله-: ويُعْتَبَر ما يجيْء فيه بمرات الأكل، وإذا حَلَف أن لا يَأْكُل في اليوم إلا مرةً، وأكل لقمة، ثم أعرض عنه، واشتغل بشُغْل، [طويل] ثم عاد، وأكل، حَنِثَ في يمينه، فلو أطال الأَكْلَ على المائدة، فكان ينتقل من لون إلى لون، ويُحْدِثُ في خلال الأكل، ويقوم، ويأتي ¬
بالخبز عند نفاذه، لم يَحْنَث، فإن كل ذلك يعد في العرف أكْلةً واحدةً، ولو ارتضع من ثَدْيِ امرأة، ثم انتقل في الحال إلى ثَدْيٍ آخر، ففيه خلافٌ سنذكره من بَعْدُ. ولا يُشْتَرط أن يكون وصول اللبن في المَرَّات الخمس على هيئة واحدةٍ، بل لو ارتضع في بعْضِها، وأوجز في بعْض، وأسْعَط في بعْضٍ، حتى تَمَّ العدد، يَثْبُت التحريم، وكذا في الصَّبُّ في الجراحة الحقنة، إذا جعلْناهما مؤثرتَيْن. ولو حَلَب لبن امرأة [دفعة] (¬1) واحدة، وأوْجَرَ الصبيُّ في خمس دفعاتٍ؟ نقل المزنيُّ والربيع أنها رضْعةٌ واحدةٌ، ثم قال الربيع: وفيه قولٌ آخر: أنَّها خمس رضعات، وللأصحاب طريقان: أظهرهما: أن في المسألة قولَيْن: أحدهما، وبه قال أبو إسحاق: أنها خمس رضَعَاتٍ تنزيلاً للإناء المنتقل منه منزلة الثدي، وأيضاً، فاعتباراً بالوصول إلى جَوْف الصبيِّ، وربما شبه ذلك بما إذا وضع الطعام دفعةً واحدةً، وأكله في دفعات يكون ذلك أكلاتٍ، حتى لو حَلَف؛ لا يأكل في اليوم إلا مرةً واحدةً، وفعل هذا، يحنث. وأصحهما عند أكثر الأصحاب: أنَّها رضعة واحدةٌ؛ لأنه انفصل دفعةً واحدةً، وربما قيل: طرف الانفصال أَوْلَى بالاعتبار؛ ألاَ ترى أنه لو ارتضع الطِّفْل مِنْ لبنها بعْد موتها, لم تَثْبت الحُرْمَة، ولو حَلَب اللبن في حياتها وأوجر الصبيّ بعْد موتها، تثبت الحرمة، قالوا: وليْسَ الإناء كالثدي؛ فإن اللبن يَحْدُث في الثدي شيئاً فشيئاً، فكلما ارتضع، حدث غيره، فَيَحْصُل التفريق (¬2)، وفي الإناء لا يَحْدُث شيئاً بعد شيْءٍ. والطريق الثاني: القَطْع بأنها رضْعة، وجعل ما نقله الربيع من كيسه، ويُحْكَى هذا عن القاضي أبي حامِدٍ -رحمه الله-، وإن حَلَب في خمس دفعات، وأوجر الصبيّ دفعةً واحدةً، فمَنْ قطع بالاتحاد في الصورة الأُولَى، قطع هاهنا أيضاً، وهؤلاء يشترطون التعدُّد في طريق الاتصال والانفصال جميعاً، والذي أثبتوا هناك على قولَيْن؛ افترقوا هاهنا، فَمِنْ طاردين لهما بانين للقولَيْنِ على أنَّ النظر إلى حالة الانفصال والاتصال، وبهذا قال صاحب "الإفصاح" وأبو إسحاق، ومِنْ قاطِعِينَ بالاتحاد [في طرف الاتصال،] (¬3) ذاهِبِين إلى أنه أوْلَى بالاعتبار؛ لأن أَثَر الإرضاع، وهو التغذي وثبات اللحم، يتعلَّق به، ولو حَلَب في خمس دفعات وأوجر الصبيّ في خمس دفعات، نُظِرَ؛ إن خلَط المَخْلُوط، ثم أوجر، فطريقان: ¬
أصحُّهما: أنَّها خمس دفعات في الطرفَيْن، وبهذا قال أكثر الأصحاب وابن سُرَيْج وأبو إسحاق وابن أبي هريرة. والثاني: أن فيها قولين أيضاً؛ لأنه بالخَلْط، صار كالمَحْلُوب دفعةً واحدةً؛ وإن لم يُخْلَط، فلا خلاف أنَّها خمْسُ رضعات، ولو حلب خمس نسوة في إناء واحد وأوجر الصبي دفعةً واحدةً، حصَلَت من كل واحدةٍ رضعةً، وإن أوجر في خمس دفعاتٍ، فقد حُكِيَ فيه وجهان، والذي أورده القاضي الرُّويانيُّ -رحمه الله- منْهما بثُبوتُ الحرمة (¬1)، فإذا عرفت ما ذكرنا، أعْلَمْت قوله في الكتاب "فشَرْطُ الرَّضَاعِ العَدَدُ" بالحاء، والميم، والألف والواو، وقوله "وهو خمس رضعات" بالواو. قَالَ الغَزَالِيُّ: (فَرْعٌ) لَوْ شَكَكْنَا فِي العَدَدِ فَلاَ تَحْرِيمَ* وإنْ شَكَكْنَا فِي وُقُوعِهِ بَعْدَ الحَوْلَيْنِ فَقَدْ تَقَابَلَ أَصْلاَنِ وَهُوَ بَقَاءُ المُدَّةِ وَعَدَمُ التَّحْرِيمِ* لَكِنَّ الأَصَحَّ أنَّهُ لاَ تَحْرِيمَ إِلا بِيَقِينٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا وقع الشكُّ في أنها أرضعَتْه خمْسَ رضَعات أو أقلَّ، لم تثبت الحرمة بالشَّكِّ، وطريق الوَرَع لا يَخْفَى، وكذا لو وَقَع الشكُّ في أنه هلْ وصل اللَّبَن في بعْض المرَّات إلى جوْفه، ولو وقع الشك في أنَّها أرضعته الخمس في الحولَيْن أو أرضعَتْه بعْض المرات بعْد الحولَيْن، فقد ذُكِرَ فيه قولان أو وجهان؛ لأنه تَقابَلَ أصْلان، فالأصل بقاء مدة الحولَيْن، والأصْل عدَمُ التَّحريم، والأصحُّ أنه لا يثْبُت التحريم، حتى يحصل اليقين، وُيسْتصحب أصْل الحِلِّ، كما أن الشك في انقضاء مدة المَسْح يأخذ بالأصل، وهو غَسْل الرِّجْلَيْن، ويُحْكى وجْه التحريم عن الصَّيْمري. قَالَ الغَزَالِيُّ: (قَاعِدَةٌ) لَوْ كَانَ لِلرَّجُلِ خَمْسُ مُسْتَوْلَدَاتٍ أَوْ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَمُسْتَوْلَدَةٌ فَأَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِلِبَانِهِ مَرَّةً لَمْ يُحَرَّمِ المُرْتَضعُ عَلَيْهِنَّ* وَيُحَرَّمُ عَلَى الفَحْلِ (و) لأَنَّهُ اجْتَمَعَ العَدَدُ فِي حَقِّهِ وَهُوَ لَيْسَ تَابِعاً لِلأُمِّ هَذَا أَصَحُّ الوَجْهَيْنِ* وَلَوْ كَانَ بَدَلَهُنَّ خَمْسُ بَنَاتٍ فَوَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلِىَ بِأنْ لاَ يَحْصُلَ* وَالأَخَوَاتُ كَالبَنَاتِ وَلَوْ كُنَّ مُخْتَلِفَاتٍ كَأُمٍّ وَبِنْتٍ وَأُخْتٍ وَزَوْجَةٍ وَجَدَّةٍ فَالظَّاهِرُ أنَّهُ لاَ يُحَرَّمُ إِذْ لاَ تَحْصُل مِنْ مَجْمُوعِهَا قَرَابَةٌ وَاحِدَةٌ* وَلَوْ أَرْضَعَ خَمْس مُسْتَوْلَدَاتٍ عَلَى التَّوَالِي فَهِيَ خَمْسُ رَضَعَاتٍ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لِتَعَدُّدِ المُرْضِعِ* وَقِيلَ: تَعَدُّدُ المُرْضِعَةِ كتَعَدُّدِ الثَّدْيِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الأصل الذي تتعلَّق به صورة القاعدة، وقد صرَّح به في الكتاب من ¬
بعْد: أن لبنَ الفَحْل يُحَرِّم، وتصير المرضعة، أُمّاً للمرتضع، ويصير الفَحْل الذي منْه اللبن أَباً له، وينتشر منه الحُرْمة إلى أولاده، وبه قال عامَّة العلماء، وعن بعْض الصحابة -رضي الله عنهم- خلافُه، واختاره عبد الرحمن ابنُ بنتِ الشافعيِّ -رضي الله عنه-. لنا: ما روي عن عائشة -رضي الله عنها- أن أفلح أخا أبي القعيس [جاء] (¬1) يستأذن عليها، وهو عمُّها مِنَ الرضاعة بعْد ما نزلت آية الحِجَاب، قالت: فأبيت أن آذَنَ له، فلما جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخْبَرْته بالذي صنَعْتُ، فقال: إنَّه عَمُّكِ، فأْذَنِي له، فقلتُ يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما أرضَعَتْنِي المرأةُ، ولم يرضِعْني الرَّجُل، فقال [رسول الله] (¬2) -صلى الله عليه وسلم- إنه عمُّكِ فَلْيَلجْ عليك، وأبو القعيس كان زوج المرأة التي أرضعت عائشة -رضي الله عنها-، وروى الشافعيُّ أن ابن عباس (¬3) سُئِلَ (¬4) عن رجُلٍ له امرأتان، أرضعتْ إحداهما غلاماً، والأخرى جاريةً، أينكح الغلامُ الجاريةَ، قال لا اللِّقاح واحدٌ، يعني أنهما أخوان لأبٍ. إذا عُرِفَ ذلك، ففي القاعدة صِوَرٌ: إحداها: إذا كان للرجل خمسُ مستولداتٍ أو أربعُ نسْوةٍ ومستولدةٌ، فأرضعت كلُّ واحدة منْهن بِلِبَانِهِ (¬5) صغيراً مرَّةً، لم يَصِرْنَ أمهاتِ الصغير, وهل يصير الرجل أباً له؟ فيه وجهان: أحدهما، وبه قال أبو القاسم الأنماطي، وابن سُرَيْج وابن الحَدَّاد: لا؛ لأنَّ الأبوَّة متابعةٌ للأمومة؛ لأن انفصال اللبن عنها مشاهدٌ محسوسٌ، فإذا لم تثْبُتِ الأمومة التي هي الأصْلُ، لا تثبت الأبوة. وأصحهما، وبه قال أبو إسحاق وابن القاصِّ: أنَّه يصير أباً؛ لأنَّ لَبَن الكُلِّ منه، فإذا حَصَل في جوفه خمسُ مراتٍ، لم يُفرِّق الحالُ بين أن يكون الانفصال من ثَدْيٍ واحدٍ، أو مِنْ ثِدْي جماعةٍ، وكأنهن ظروف للبنه، ويجوز أن يثبت الأُبوَّة دون الأمومة، كما يجوز أن تثبت الأمومة دون الأبوة كما ذكَرْنا فيما إذا دُرَّ لَبَنُ بِكْرٍ أو ثيِّب لا زَوْجَ لها، وكذلك لو أرضَعَتْ صغيراً بلِبَانِ زوجها ثلاثَ رضعاتٍ، فطلَّقها زوجُها، ونكحت غيره، وأرضعَتْ بلبان الثاني ذلكَ الصغيرَ رَضْعتَيْنِ، ثبتت الحرمة بينها وبين الرضيع، ولا تثبت بينه وبين الرجُلَيْن، وإذا قلْنا بأنه يصير أباً، فالمرضعات يَحْرُمن على الرضيع، ¬
وإن لم يكُنَّ أُمَّهَاتٍ؛ لأنهن موطوءات أبيه، ولو كانت تحته صغيرةٌ، وله خمس مستولداتٍ، فأرضعَتْها كلُّ واحدة بِلِبَانِهِ رضْعةً، لم ينفسخ نكاح الصغيرة على الوجْه الأوَّل، وينفسخ على الوجه الثاني على الأصح، ولا غُرْمَ عليهن؛ لأن السَّيِّد لا يثبت له دَيُن على مَمْلوكه، ولو أرضعت زوجَتَه الصغيرةَ ثلاثُ نسوةٍ له ومستولداتان، فانفساخ نكاح الصغيرة على الوجهَيْن، قال الشيخ أبو عليٍّ: وأما غرامة مهرها، فإن أرضعْنَ على الترتيب، فالانفساخ يتعلَّق بإرضاع الآخرة، فإن كانت الأخيرةُ إحدى المستولدتَيْن، فلا شيء عليها، وإن كانت إحدى النسوة، فعليها الغُرْم، وإن أرضعْنَ معاً بأن أخذت كلُّ واحدة لبَنَها في مُسْعُط، وأوجرته معاً، فلا شيْء على المستولدتَيْن؛ [لأنهم لم يصرن أمهات الزوجة] [وعلى النسوة ثلاثةُ أخماسِ الغُرْم، ولا ينفسخ نكاحُ النسوة الثلاث، لاْنهن لم يصرن أمهاتٍ الزوجة,] ولو كان للرجل أربع نسوة، فأرضعت واحدةٌ منهم صغيراً رضعتَيْنِ، والثلاث الباقيات [أرضَعْنَه] (¬1) رضعة رضعة أو كانت له ثلاثُ مستولدات، فأرضعَتْ كل واحدة منْهن بِلِبانه صغيراً ثلاث رضعات (¬2)، والباقيتان أرضعتاه رضعةً رضعة، جرى الخلاف في صيرورة الأب أباً للصغر؛ ولا تفسير المرضِعَات أمَّهات، وعلى هذا قياس سائر النظائر. الثانية: إذا كان للرَّجُل أو المرأة خمْسُ بناتٍ أو أخواتٍ مراضع، فأرضع كل واحدة منهنَّ صغيراً رضعةً، لم تَصرْن أمَّهات الصغير, ولا أزواجُهن أباً له، وهل تثْبُت الحرمة بيْن الرضيع وبين الرجل والمرأة؟ إن قلْنا: لا يثبت التحريم في الصورة السابقة، ولا يصير الرجل أباً، فهاهنا أوْلَى بأن لا تثبت الحُرْمة، وإن أثبتناها هناك، فهاهنا وجْهان: أحدهما، وبه قال ابن القاصِّ -رحمه الله-: أنَّه يَثْبُت أيضاً؛ لأن البنت الواحدة، لو أرضعت خمساً، لثبتت الحرمة بينه وبين الرضيع، فإذا أرضَعَت البناتُ الخمسُ كلُّ واحدةٍ واحدة وجب أن تثبت الحرمة، كما أنا أنزلْنا إرضاع المستولَدَات الخمس منزلة إرضاع الواحدة خَمْساً. وأصحُّهما: المنع، بخلاف الصورة السابقة، والفَرْق أنَّه، لو ثَبَت التحريم، لكَانَ؛ لصيرورة الرجل جَدًّا لأم في صورة البنات، وخالاً في إرضاع الأخوات، كصيرورة المرأة جدةً لأمٍّ أو خالةً، والجُدُودة والخئولة لا تثبتان إلا بتوسُّط الأمومة، فإن لم تكن المرضعات أمهات، استحال أن يكون أبوهن جدًّا أو أخوهن خالاً أو أمُّهنَّ جدةً أو أختُهُنَّ خالةً, وهناك اللَّبن مشترَكٌ بيْن الرجُل والمرضعات، ولا استحالة في ثُبُوت الأبوَّة دون الأمومة، وبالعكس، وإذا أثبتنا الحرمة، فقد قال صاحب "التهذيب" -رحمه ¬
الله- يحرم المرضعات على الرضيع، لا لكونهن أمهاتٍ، ولكن لكون البنات أخواتٍ له وكون الأخوان عماتٍ، إذا كان الرجل أباً، والحرمة هاهنا لو ثَبَتَتْ، إنَّما تثبت من جهة كونه جداً لأم أو خالاً، وفيه وضع بعْضُهم الخلاَفَ صريحاً؛ فقال: في صيرورة الرجل جدَّ الأم أو خالاً وجْهان، وإذا كانت الحرمة بهَذِهِ الجهةِ، فينبغي أن يقال: إنَّهنَّ يَحْرُمْنَ؛ لكونهم كالخالاتِ؛ وذلك لأنَّ بنْتَ الجَدِّ للأم، إذا لم تَكُنْ أمّاً، كانت خالةً، وكذلك أخت الخال، والله أعلم. الثالثة: لو كان للرجل أمٌّ وبنتٌ وأختٌ وبنتُ أخٍ من أب وبنت أخت من الأب مراضع، أرضعت كلُّ واحدة منْهن صغيراً رضعةً، إن قلنا: لا يثبت التحريم في الصورة الثانية، فهاهنا (¬1) أَوْلَى، وإن أثبتاه، فهاهنا وجهان: أصحُّهما: المنع، والفرق أن هناك يمكن نسبة الرضيع إلَيْه بكونه [ابن ابن] [نافلةً له] ونسبته إلى الرضيع بكونه جدًّا، وهاهنا لا يمكن لاختلاف الجِهَات، ولا يجوز أن يكون بَعْض الرضيع أخاً وبعضه ولد بنت. والثاني: وبه قال صاحب "التلخيص"، أنه تثبت الحرمة؛ لأن الواحدة منهن، لو انفردت بخمس رضعات، لئبتت الحرمة بينه وبين الرضيع، وإرضاع الخمس كالرضعات الخمس من واحدة، وعلى هذا، فتحرم المرضعات على الرضيع، لا لأنهن أمهاتٌ، ولكن بجهات مختلفة فأما الرجل كأنها زوجة أبيه؛ لأن لبنها (¬2) من أبي [الرجل و] (¬3) الرضيع بمثابَةِ ولدِهِ، وبنت الرجل بنْت ابن أبيه فتكون بنت أخيه، وأخت الرجل بنْت أبيه، فتكون أخته وبنت أخي الرجل بنْت ابن أبيه [فتكون بنت أخيه] وبنت أخت الرجل بنت أخيه أيضاً، ولو كان بدل هؤلاء المرضعات زوجةٌ أو جدَّةٌ، كان الحكم كما ذكرنا، وفيه صُوَر صاحبِ الكتاب، ولو أرضعتْ كلُّ واحدةٍ من هؤلاء صغيرةً في نكاح الرجُل رضعةً واحدةً، فانفساخ النكاح على الوجهَيْن، وإذا قلْنا بالانفساخ، فإن أرضعْنَ على الترتيب، غُرِّمت الأخيرة للزوج، وإن أرضعْنَ معاً، اشتركن فيه، فإن اختلفَ عدَدُ الرضعات؛ بأن كن ثلاثاً، فأرضعتْ واحدةٌ رضعتين، والثانية كذلك، والثالثة رضعة، فيُغَرَّمن أثلاثاً على عدد الرؤوس، أو أخماساً على عدد الرضعات، فيه وجهان، وجميع ما ذكَرْنا في هذه الصور فيما إذا أرضعَتِ النسوة الخمْس في أوقات متفرقة، أمَّا إذا أرضعْنَ على التواصل والتوالي، وحكمنا بثبوت الحُرْمة لو انفردت الأوقات فههنا وجهان: ¬
أحدهما، وبه قال ابن القَاصِّ -رحمه الله-: أنَّها لا تثبت؛ لأنَّ الحرمة لا تَثْبت في حقِّ المرضِعات، وإنَّما تثبت في حقِّ الرجْل، وهن جميعاً كالمرأة الواحدة، [بالنسبة إلى الرجل]، وإرضاع المرأة الواحدة إنَّما يحرم إذا تفرَّقت الأوقات، فكذلك إرضاعُهُن. وأظهرهما: الثبوت؛ لأن تعدد المرضِعَات يقتضي تعدُّد الرضعات عُرْفاً، فإن قلنا بالأول، فلو أرضعْنَ على التواصل، ثم أرضعَتِ الصغيرَ واحدةٌ منْهن أربعَ رضَعاتٍ، فهل تصير أمّاً له؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم؛ لأنَّه ارتضع منها خمْسَ (¬1) مرات متفرِّقات. والثاني: المنع؛ لأن تِلك الرضعة، لم تكن تامة، ويطرد هذا الخلاف في انتقال الصبيِّ من ثدْي امرأة إلى ثدْيِ امرأة أخرَى على الإطلاق، فأحد الوجهَيْن أنَّه كالتَّحُّول من ثَدْيِ امرأة إلى الثدْي الآخر، ولا يحسب ذلك رضعةً في حقِّ واحدةٍ منهما. وأصحُّهما: أنَّه يُحْسب رضْعةً في حقِّ كل واحدة منهما؛ لأن الاشتغال بالارتضاع من الأخرى قطع الارتضاع من الأُولَى كالاشتغال بشيْء آخر، ويقرُب منْ هذا الخلافِ الخلافُ فيما إذا أرضعَتْ في الحولَيْن أربعَ رضعاتٍ، ثم شرعت في إرضاعه الخامسةَ، فتم الحولان في خلالها، فالأصح: أنه يثبت (¬2) التحريم؛ لأن ما يَصِلُ إلى الجَوْف في كلِّ رضعة [غيْر] مقدَّر، وفي وجْه: لا يثبت؛ لأنَّ الرضعة ما تمت في الحولَيْن. وقوله في الكتاب: "ولو أرْضَعَ خَمْسُ مُسْتَوْلَدَاتٍ عَلَى التَّوَالِي" بيَّن بذِكْر التوالي أنَّ الصورة المذكورةَ أوَّلاً في قوله الو كان للرجل خمس مستولدات" مفروضة فيما إذا كان الإرضاع في أوقات متفرقة. وقوله "وقيل: تعدُّد المرضِعة كتعدُّد الثَّدْي" هو الوجه الثاني. فروع (¬3) من القبيل الذي نحْن فيه: رجل له ابْنٌ، وابنُ ابنٍ، وأبٌ، وجَدٌّ، وأخٌ أرضعت زوجةُ كلِّ واحدٍ منْهم بلبنه صغيرة رضعةً، لا تصير الصغيرة بنتاً للمرضِعَات، ولا أزواجهِنَّ، وهل تحرم على الرجل؟ فيه وجهان: ¬
أصحُّهما: أنَّه لا يحرم. والثاني: وهو قول صاحب "التلخيص": يحرم؛ لأنها لو ارتضعت من لبن أحدهم خمْسَ مراتٍ، لحُرِّمَتْ عليه، فإنَّ زوجة الابن، لو أتمَّتِ الخمس، لَكَانَت المرضعة بنتاً، ولو أتمَّتْ زوجة ابن الابن، لكانت حافدة (¬1)، ولو أتمَّتْ زوجة الأب، لكانت أختًا، ولو أتمَّتْ زوجة الجَدِّ، لكانت عمة، ولو أتمَّتْ زوجة الأخ، لكانت بنت أخ، وإذا ثبتت الحُرْمة لو ارتضعت مِنْ لبنٍ أحدهم خمْساً، فتَثْبُت، إذا ارتضعَتْ مِنْ لبن خمستهم، وكما تَحْرم المرضعة عليه، تحرم على أبيه، ولا تحرم على ابنه وابن ابنه؛ لأنها بارتضاع لَبَنِ أخيه، تكون بنت عمِّ الابن، وبنتُ العَمِّ لا تحرم، ومهما كان في الخَمْسة مَنْ لا يقتضي لبنه تحريماً، فلا يثبت التحريم. خمسة إخْوَةٍ، أرضعت زوجةُ كلِّ واحدٍ منْهم بِلِبانه صغيرةً رضْعةً، هل تحرم الصغيرة على الإخوة فيه (¬2) الوجهان؛ لأنه لو أرضعَتْها واحدةٌ منْهن خمساً، لَحُرِّمَت على الإخوة، فكذلك، إذا أرضعتها الخَمْس. ثلاث بنات، ابن بعضهن أسفل من بعض، وهن بنت ابن، وبنت ابن ابن، وبنت ابن ابن ابن أرضعت العليا صغيراً ثلاثَ رضَعاتٍ، والأخريات رضْعةً رضعةً، فهل تفسير المرأة جَدَّةً للرَّضيع؟ فيه الوجهان: قال في "الرقم" إن قلنا: نعم، فهل تحرم المرضعات على الرضيع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن العَدَد لم يتمَّ في أرضاع واحدة منْهن. والثاني: أن الرضعات من الجهات المختَلِفة تجمع، إذا كانت كل واحدة منها (¬3) بحيث لو تم العَدَد منها، تَثْبت الحرمة، فعَلَى هذا، يُنْظَر؛ إن كانت الوسْطَى بنت أخ العليا، والسفلى بنْتَ أخ الوُسْطَى، حُرِّمت العليا علَيْه؛ لأن إرْضَاعها, لو تم، لكان الرضيع ابنها، وإرضاع الوسْطَى، لو تم الرضيع ابن بنت أخي العليا [وإرضاع السفلى لو تم لكان للعليا ابن بنت ابن أخ]، وهذه الجهات كلُّها محرمة فيجمع ما فيها من عدد الرَّضَعات، وإن كانت الوُسْطَى بنت ابن عم العليا، والسفَلى بنت ابن ابن عمِّها, لم تحرم العلْيَا عليه؛ لأنَّ إرضاع الوسطَى، لم تمَّ يجعل الرضيع للعليا ابْنَ بنِت ابْنِ العم، وإرضاع السفْلَى، لو تم، لَجَعله لها ابنَ بنْتِ ابن [ابن] (¬4) العم وذلك [لا] يَقْتَضي التَّحْريم، وأما الوسْطَى والسفْلَى، فلا يُحرَّمان علَيْه بحال؛ لأن إرضاع العلْيَا، لو تَمَّ، لجعل للوسطى ابن العمة، والسفلى ابن عمة الأب، وذلك عنْد الفرض فيما إذا كانت ¬
الوسطى بنت أخ العليا والسفلى بنت أخ الوسطى، وهي الحالة التي حكَمْنا فيها بتحريم العُلْيا، ومعلومٌ أن ذلك مما لا يقتضي التَّحْريم. نَعَمْ، يحرم عليه الجَمْع بينهن في النكاح، والحالةُ هَذه؛ لأنَّ العليا عمة الوسْطَى، والوسطى عمة العليا, ولا يجُوزُ الجَمْع بين المرأة وعمتها، وإذا أرضعته إحداهن خَمْسَ رضعات، حَرْمَت هي عليه، وحَرُمت التي قولها، إذا كانت المرضعة بنْتَ أخِ التي فوقها؛ لأن التي فوقها تكون عمَّة الأم، وهي مُحرَّمة. رجل (¬1) له زوجتان مرضعتان (¬2) بلبنه (¬3)، حلبت كلُّ واحدةٍ منهما من لبنها حلبةً في إناء ثم خُلِط اللَّبَنَان، وسقى منهما صغيرٌ دفعةً واحدةً، ثبت لكل واحدة منْهما رضعةٌ، ولو سُقِيَ مرتين ثبت لكل واحدةٍ رضْعةٌ نظراً إلى الحَلْب أو رضعتان، نظراً إلى وصول اللبن فيه وجْهان، وهذا، كما مر، فيما إذا حَلَب لبن خمس نسوة فأوجر الصبيّ من ألبانهن المخلطة دفْعة أو خمس دفعات، وأما بين الرضيع والزوج، فإنْ لم نجمع في حقِّه رضَعات زوجاته، فتثبت رضعة واحدة، وإن جَمَعْنا فإنْ نَظَرْنا إلى الحَلْب ثبت في حقه رضعتان، وإن نظرنا إلى وصول (¬4) اللبن، ثبت أربع رضعات. كانت له أربع نسوة وأمَةٌ قد دخل بِهِنَّ، ثم أرضعت كل واحدة منهن صغيراً بلبن غيره رضعةً واحدةً، ذكر صاحب "التَّلخيص" تفريعاً على ثبوت الأُبُوَّة، لو أرضعته بلبنه أنَّه يحرم الصغيرة عليه؛ لأنها ربيبته، وإن كان فيهن مَنْ لم يدخل بها, لم تحرم عليه، لما سبق أنَّه، لو كان فيهن من لو انفردت بالرَّضَعات الخَمْس، لم تثبت الحرمة والله أعلم. ¬
الباب الثاني فيمن يحرم من الرضاع
البَابُ الثَّانِي فِيمَنْ يُحَرَّمُ مِنَ الرَّضَاعِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالأُصُولُ فِيهِ المُرْتَضِعُ وَالمُرْضَعَةُ وَالفَحْلُ، وَلَمَّا حُرِّمَتِ المُرْضِعَةُ عَلَى الرَّضِيعِ حُرِّمَ أَيْضاً عَلَيْهِ أُمَّهَاتُهَا مِنَ الرِّضَاعِ وَالنَّسَبِ فَإنَّهُنَّ جَدَّاتٌ، وَأَخَوَاتُهَا مِنَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ خَالاَتٌ، وَأَوْلادَهَا مِنَ الجِهَتَيْنِ إِخْوَةٌ، وَكَذَلِكَ أَوْلاَدُ الإِخْوَةِ، وَكذَلِكَ أَوْلاَدُ الرَّضِيعِ أَحْفَادُ المُرْضِعَةِ، وَلاَ يُحَرَّمُ المُرْضِعَةَ عَلَى أَبِ الْمُرْتَضِعِ وَعَلَى أَخِيهِ، وَكذَلِكَ زَوْجُ المُرْضِعَةِ أَبُو المُرْتَضِعِ، وَأَبُوهُ جَدُّهُ، وَأَخُوهُ عَمُّهُ، وَوَلَدُهُ أَخُوهُ وَعَلَى هَذَا القِيَاسِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تحريم الرضاع يتعلَّق بالمرضعة، والفَحْل الذي منه اللبن، والطِّفل المرتضع، فهم الأُصُول في الباب، تنتشر منهم الحرمة إلى غيرهم: أما المرضعة فينتشر منْها التحريم إلى آبائها من النَّسَب والرِّضاع؛ فَهُم أجْدادُ الرضيع، فلو كان الرضيع أُنْثَى، حُرِّم عليهم نكاحها، وإلى أمهاتها من النسب والرضاع؛ فهن جدات للرضيع فيحرم عليه نِكَاحُهُنَّ إذا كان ذكراً وإلى أولادها من النسب والرَّضاع، فهم إخْوَتُه وأخواته، وِإِلى إخوتها وأخواتها مِنَ الجهتَيْن؛ فهُمْ أخواله وخالاته، وأولادُ أولادِها أولادُ إخوةٍ، وأَخَوَات للرَّضِيعِ، ولا تَثْبُت الحُرْمة بيْن الرضيع وبَيْنَ أولاد إخوة المرضعة وأخواتها؛ فإنَّهم أولاد أخواله وخالاته. وأما الفحل، فكذلك تنتشر الحُرْمة منه إلى آبائه وأمهاته؛ فهم أجداد الرضيع وجداته، وإلى أولاده؛ فهم إخوته وأخَوَاتُهُ، وإلى إخوته وأخواته؛ فهم أعمامه وعماته. وأما المرتضع، فتنتشر منْه الحُرْمة إلَى أولاده مِنَ الرَّضاع والنَّسَب، فهم أحفادُ المرضِعة والفحلِ، ولا تنتشر الحرمة منه إلى آبائه وأمهاته وإخوته وأخوَاته، فلأبيه أن يَنْكِح المرضِعَة؛ إذْ لا منع من نكاح أم الابن، وأَن ينكح بنتها، وإن كانت أخْتَ وَلَدِهِ، ولأخيه أن ينكح المرضِعَة، وأن ينكح بنتها، وقد سبق في النكاح أن أربع نِسْوَةِ يَحْرُمْنَ من النَّسَب، ومثلهن قد لا يَحْرُمْنَ من الرضاع، وجعلت تلْك الصور مستثناةً من قولنا
[يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ] (¬1) مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ". وقد يقال: المراد من قولنا "مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" والحرمة في تلْك الصُّور ليست من جهة النَّسَب، وإنما هي من جهة المُصَاهرة على مَا تبين هناك. ويمكن أن يُعْلَم قوله في الكتابِ "والفحل". وكذلك قوله: "وكذلك زَوْجُ المرضِعَة أَبُو المرتضع" بالواو؛ لِمَا قدَّمنا في السابق من اختيار ابن بنت الشَّافعي -رضي الله عنه-. قَالَ الغَزَالِيُّ: لَكِنْ يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ اللَّبَنُ مِنْ وَلَدِ الفَحْلِ، فَإِنْ كَانَ الوَلَدُ مِنَ الزِّنَا أَوْ مَنْفِيّاً بِاللِّعَانِ فَلاَ نِسْبَةَ لِلَّبَنِ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الوَلَدُ مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ انْتَسَبَ الوَلَدُ عَلَى الأَصَحِّ أَيْضاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إنَّما تَثْبُت الحُرْمة بين الرضيع وبين الفَحْل، إذا كان منتسباً إِلى الفَحْل؛ بأنْ ينتسب إليه الولد الذي نَزَلَ اللَّبَنُ عليه. أمَّا اللَّبَن النَّازِل عَلَى وَلَدِ الزنا، فلا حُرْمة له حتَّى لا يحْرُم على الزَّانِي أَن ينكح الصَّغِيرة التي ارتضَعَت من ذلك اللَّبَن، لكنه يكره وقد حكَيْنا في النكاح وجهاً أَن الزَّانِيَ لا يجُوز له أن يَنْكِح بنْتَ الزنا التي يعلم أنها من مائة (¬2) فيشبه أَن يجيْء ذلِكَ الوَجْه ها هنا أيضاً، ولو نفَى الزوْج ولَدَه باللعان، وأرْضَعَتَ المرأة باللبن النازل علَيْه صغيرة، لم تثْبُت الحُرْمة، ولم يُنسبِ اللبن إليه، كما لا ينسب الوَلَد ولو أَرْضَعَتْ به، ثم لاَعَن الزوْجُ انتفى الرضيع عنه، كما انتفى الوَلَد، فلو استلْحق الولد بعْد ذَلِك، لحق الرضيع أَيضاً، ولم يَذْكُروا هاهنا الوجهَيْن المذكورَيْن في نكاح المتغيبة باللعان ولا يَبْعُدُ أن يُسوَّى (¬3) بينهما، وإِذا كان الوَلَد من وطء شبهة، فاللَّبَن النازِل إِلَيْه يُنْسَب إِلى الواطئ، ¬
كما يُنْسَب إليه الولد اتْباعاً للرَّضَاع بالنَّسَب. هذا هو الصحيح وعَنْ صاحِبَي "التقْريب" و"التَّلْخِيص" و"الجامع الكبير" للمزنيِّ -رحمه الله- في روايةُ قولٍ أن اللبن من وطء الشبهة لا يُثْبِتُ الحرمةَ من جهَة الفَحْل؛ لأنَّه لا ضَرُورة إِلى إِثبات حُرْمة الرَّضاع، بخلاف النسب والعِدَّة؛ فإن الضرورة تُلْجئُ إِليهما، وقرب هذا القول من قول ذُكِرَ أن وطء الشُّبهة هل يُثْبِتُ حرْمةَ المصاهرة. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَلَوْ وُطِئَتِ المَنْكُوحَةُ بِالشُّبْهَةِ وَأتتْ بِوَلَدٍ يُحْتَمَلُ مِنْهُمَا فَأَرْضَعَتْ صَغِيرَةً فَهِيَ وَلَدُ مَنْ يَثبُتُ لَهُ نَسَبُ الوَلَدِ بِإِلْحَاقِ القَائِفِ أَوْ بِانْتِسَابِ الصَّغِيرِ بَعْدَ بُلُوغِهِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الانْتِسَابِ انْتَسَبَ الرَّضِيعُ عَلَى وَجْهٍ بِنَفْسِهِ، وَبَقَى مُشْتَبَهَاً عَلَى وَجْهٍ فَيُحَرَّمُ عَلَيْهَمَا جَمِيعاً، وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ لَهُ أَنْ يُوَاصِلَ أَيُّهُمَا شَاءَ وَلَكِنْ إِذَا وَاصَلَ أَحَدَهُمَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ الثَّانِي. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا وُطِئَتْ منكوحةُ إنسانٍ بالشبهة أو وَطِئ اثنان امرأةً بالشبهة، أو نَكَح رجلٌ امرأةً في العدة عن جَهْل، وأتَتْ بولد وأرضعَتْ باللبن النازل علَيْه صغيراً، فهو تبع للولد، فإن لَحِقَ الولد أحدهما؛ لانحصار الإمكان في حقه؛ فالرضيع ولَدُه من الرَّضَاع، وإن لم يَلْحَق واحداً منْهما؛ لعدم الإمكان، فالرضيع منقطع عنهما، وإن تَحقَّق الإمكان في حقِّهما جميعاً، عُرِضَ الولَدُ على القائف؛ فبأيِّهما ألحقه، تبعه الرَّضِيع، فإن لم يكن قائفَ أو نفاه عنهما أو أَشْكل علَيْه، توقفنا إلى أَن يبلغ المولود، فينتسب إلى أَحدهما، فإن بلغ مجنوناً صبرنا إلى أن يضيق فينتسب، فإذا انتسب، تبعه الرَّضِيع، فإن مات قبل الانتساب، وكان له ولَدٌ، قام مَقَامَهُ في الانتساب، فإن كان له أولادٌ، فانتسب بعضُهم إلى هذا، وبعضهم إِلى هذا، استمر الإشكال، وإن لم يكن له ولد، وبقي الاشتباه، ففي الرضيع قولان محكيان عن نصه رضي الله عنه في "الأم": أحدهما: أنَّه يكون ابنهما جميعاً، ويجوز أن يكون للواحد أبوان من الرَّضَاع بخلاف أُبوَّهُ النَّسَب وأيضاً، فقد اشتركا في الوطء واللبن قَدْ يكون من الوطء، كما يكون من الولادة. وأَصحُّهما: أنَّه لا يكون ابنهما؛ لأنَّ اللَّبَن فَرْع الولَدَ، فإذا كان الولَدُ مِنْ أحدهما، كان اللبن من أحدهما. التفريْعُ: إنَّ قلْنا بالأوَّل، فهل يحتاج إلى عشرِ رضَعَات أم تكفي خمْسٌ؟ سُئِل الداركيُّ عَنْه فقال: يحتمل وجهَيْنِ، قال القاضي أبو الطيِّب: هما مبنيان على أنَّه إذا ارتضع من امرأتين على التواصُل، هل يكون ذلك رضْعةً في حَقِّ كل واحدة منهما، وذكر في "البسيط" أَن معنى هذا القَوْل على ضعْفِهِ إثباتُ أبوتهما في الظاهر دُون
الباطن؛ لأنا نعلم قطعاً أن الوَلَد مِنْ أحَدِهِما، واللبن يتبعه، لكن لمَّا عسر الرسول إلَيْه، أطلق ثبوت أبوتهما والذي ذكره (¬1) الأصحابُ توجيهاً وتفريعاً يخالف ذلك، وإن كان القَوْل ضعيفاً بالاتِّفَاق، وإن قلْنا بالأصحِّ، فهل للرضيع أن يَنْتَسِب بنفسه؟ فيه قولان منقولان عن "الأم": أحدهما: لا، كما لا يُعْرَض على القائف، ويخالف المولود، فإنه يعول على ميل الطبع [بسبب] أنَّه مخلوق من مائة. وأصحهما: نعم، كالمولود، والرضاعُ يؤَثِّر في الطباع والأخلاق، وقد يميل الإنسان إلى من ارْتَضَعَ بلَبَنِهِ لتشابههما في الأخلاق، واستشهد لذلك بما رُوِيَ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ بَيْدَ أني مِنْ قريش [وَنَشَأْتُ فِي بَنِي سَعْد، وَارْتَضَعْتُ في بَنِي زُهْرَة"، وَيُرْوى: أَنا أَفْصَحُ العَرَبِ بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْش إِلى آخره] (¬2) وكانت هذه القبائل أفْصَحَ العرب، وافتخر بالرَّضَاع كَما افتخر بالنَّسَب، ويخالف العَرْض على القائف، فإنَّ مُعْظَم تعويله على الاشتباه الظَّاهر في الخِلقة دون الأَخْلاق، على أن القاضِيَ ابن كج نقل وجهَيْن عن [أبي] الحُسَيْن وأبي حامِدٍ؛ في العرض على القائف، وهو غريب. التفريع: إن قلْنا: إن له الانتساب، فهل يجبر عليه؟ فيه وجهان، وقال في "المُهَذَّب": قولان. أَحدهما: أنه يجبر عليه كالمولود. وأَصحُّهما: المَنْع، والفرق أن النسب يَتعلَّق به حقُوقٌ له وعليه؛ كالنفقة والميراث والعتق والشهادة وغيرها، فلا بد من رقع الإشكال، والذي يَتعلَّق بالرضاع حرمةُ النكاح، والامتناع منه سهل، وإذا انتسب إِلى أحدهما، كان ابْنَهُ، وانقطع عن الآخَرِ، فله أن ينكح ابنته، ولا يخْفَى الوَرَع، وإن لم ينتسب أو قلْنا: ليس له الانتساب، فلَيْس له أن يَنْكِح، بنت هذا أو بنت ذاك جميعاً؛ لأنَّ إحداهما مُحَرَّمة لا محالة، وعن صاحب "الحاوي" حكايةُ وجْهٍ ضعيفٍ: أنَّه يجوز ويُحْكَم بانقطاع الأُبوَّة عنهما، وهل له أن ينكح بنْتَ أحدهما؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأنا نتقين أن إحداهما أخته، فأشبه ما إذا اختلَطَتْ أخته بأجنبية ¬
والثاني، وهو ظاهر ما نقله المزنيُّ: أنَّه يجُوز؛ لأن الأصْل الحِلُّ، والحرمة في التي ينكحها غير معلومةٌ، وفرق بينهما وبين اختلاط الأُخْتِ بالأَجْنَبِيَّة بأن الأصْل في الأخت التحريم، فغُلِّب التحريم، كما إِذا اشتبه علَيْه ماءٌ وبَوْلٌ يُعْرض عنْهما جميعاً، وهاهنا الأصْل في كل واحدٍ منهما الإباحَةُ، فيجوز أخْذ أحدهما كما إذا اختلط ماءٌ طاهرٌ بنجس. التفريع: إن جوَّزنا له نِكَاح إحداهما، فالمَشهُور أنَّه لا يُحْتاج في نكاح، إحداهما إلى الاجتهاد، بخلاف الأواني المشتبهة؛ لأنَّ التنجس له علاماتٌ ظاهرةٌ، وذكر الفورانيُّ في "الإبانة" أنه يجتهد في الرجُلَيْن أيهما الأب ثم ينكح بنت مَنْ لا يَرَاه أباً، وإِذا نكَح واحدةً، ثم فارقها، فهل له أن ينكح الأُخْرَى؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: نعم؛ لأن التحريم غير متعيِّن في واحدةٍ منْهما، ويشبه ذلك بما إذا صلَّى إلى [جهة الاجْتهاد، يجوز أن يصلِّي إلى] (¬1) جِهَةٍ أخْرَى باجتهادٍ آخَرَ. وقال ابن أبي هريرة واختاره القاضي أبو الطيب: لا يجوز له نكاج الأُخْرَى، وتحْرُم عليه أبداً؛ لأنه إذا نَكَحَ إحداهما، تعيَّنت الأخوة في الأُخرى فكان نِكَاحُ واحدةٍ اعترافاً بالأخوة في الأخرى، وهذا كما أنَّه إذا اشْتَبَهَتْ ثَلاَثُ أَوَانٍ طَاهِرَانِ وَنَجِسٌ، فاختلف فيها اجتهادُ ثلاثةٍ، واستعملوها، واقتدى أحدهم بأحد صاحبيه، لا يجوز له الاقتداء بالثاني؛ لتعينه للنجاسة في زعمه. وقوله في الكتاب "فأرضعت صغيرة" لا ضرورة إلى التَّصْوير في الصَّغيرة، بل الصغير كالصغيرة. وقوله "بإلحاق القائف، أو بانتساب الصغير بعْدَ بلوغه" يعني بإلحاق القائف إن كان هناك مألف فيستفاد من العرض أو بانتساب الصغير [بعد بلوغه] إن لم يكن قائف أو لم يُفِدْ تبيُّناً قوله: ولفظ الصغير في قوله: "أو بانتساب الصغير بعد بلوغه". حشوٌ وكان يَكْفِي أن يقول: "أو بانتسابه" ردّاً إلى الولد وهو المراد، وإذا لم يقنع بالكتابة، كان الأحسن أن يقولُ بانتساب الولد". وقوله: "وإن مات قبل الانتساب" يعني الولد، والوجوه الثلاثة التي ذَكَرَها مستخرجةٌ من الخلاف الذي بيَّنَّاه، وسماها في "البسيط" أقوالاً وفي الحقيقة [هي] مختلطة؛ منهما هو قولٌ، ومنها ما هو وجْهٌ. فقوله: "انْتَسَبَ الرضيعُ على وجْهٍ بنفسه" هو أظهر القولَيْن في أن للرَّضِيعِ أن ينتسب كالمَوْلود، وقوله: "وبقي مشبهاً على وجْهٍ" يشير إلى القول الآخر، وهو أنَّه لا ينتسب وعلى هذا، فالأظهر أنَّه يُحَرَّم عليهما جميعاً ثم ذكر الوجه الآخر، وهو أنه يواصل مَنْ شاء منهما، فإذا وصَلَه، تعيَّن التحريم في الثاني، وأَمَّا أنَّ الرَّضِيع يكُون ابناً لهما جميعاً، وأنَّه ¬
إذا وصل أحدهما، ثمَّ فَارقَهُ، يجوز له مواصلة الثاني، فقد سكت عنهما، ويجوز أن يعلم قوله "أيهما شاء" بالواو؛ لقول مَنْ قال: إنه يواصل أحدهما بالاجتهاد. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ كَانَ لَبَنُ المُطَلَّقَةِ دَارّاً فَرَضِيعُهَا ابْنُ المُطَلَّقِ وَلَوْ بَعْدَ عَشَرْ سِنِينَ إِلَى أَنْ تَضَعَ حَمْلاً مِنْ وَطْءِ غَيْرِهِ فَإِذْ ذَاكَ يَنْقَطِعُ نَسَبُ اللَّبَنِ عَنْهُ، أَمَّا فِي مُدَّةِ الحَمْلِ فَاللَّبَنُ لِلثَّانِي عَلَى وَجْهٍ، وَلِلأَوَّلِ عَلَى وَجْهٍ، وَلَهُمَا عَلَى وَجْهٍ وَهَذَا الحُكْمُ لَوْ كَانَ قَدِ انْقَطَعَ ثُمَّ عَادَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَنْقَطِعْ فَهُوَ لِلأَوَّلِ عَلَى وَجْهٍ، وَلَهُمَا عَلَى وَجهٍ، وَلاَ صَائِرَ إِلَى تَخْصِيصِهِ بِالثَّانِي. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا طلَّق امرأته أو مات عَنْها ولَهَا منْه لَبَنٌ فأرضَعَتْ به صغيراً قَبْل أن تنكح زوجاً آخَرَ، وتحمل من غيره، فالرضيع ابْنُ الَّذِي طلَّق أو مات، كما هو ابنها، ولا تنقطع نسبةُ اللَّبَن عنه بموته، ولا فرق بيْن أن يرتضع في مدَّة العدَّة أو بعْدها, ولا بين [أن تقصر المدَّة أو تَطُول كعشر سنين مثلاً، ولا بَيْن] (¬1) أن ينقطع اللبن ثم يَعُود أو لا ينقطع؛ لأنَّه لم يَحْدُث ما يُحَال اللبن عليه، فهو على استمراره منْسوبٌ إليه، وفي وجْهٍ: إن انقطع ثم عاد بعْد ما مضى أربع سنين من وقْت الطلاق، لم يكُنْ منسوبًا إليه، كما لو أتت بولد بعْد هذه المدة لا يلحقه. هكذا خصَّص في "التهذيب" هذا الوجْه بما إذا انقطع وعاد، ومنهم من يُشْعِر إيراده باطِّرَاده في صورة استمرار اللبن (¬2)، وإن نكحت بعْد مضي مدة العدة زوجاً آخر، وولدت منه، فاللبن بعد الولادة للثاني، سواءٌ انقطع وعاد، أو لم ينقطع؛ لأنَّ اللبن تَبَعُ الوَلَدِ، والوَلَدُ للثاني، فكذلك اللبن، وعن أحْمد: أنه يكون لهما جميعاً، وأمَّا قبل الولادة مِنَ الزَّوْج الثاني، فإن لَمْ يُصِبْها أو أصابها, ولم تحْبَل أو حبلت، ولم يدْخُل وقْت حدوث اللَّبَن لهذا العمل، فاللبن للأوَّل، سواءٌ زاد على ما كان أو لَمْ يَزدْ، وسواءٌ انقطع وعاد، أو لم يَنْقَطِع، ويقال: إن مدة يَحْدُث فيها اللَّبَن للحمل أربعون (¬3) يوماً، وإن دخل وقْت حدوث اللبن للحمل، فإما أن ينقطع اللبن ¬
مدةً طويلةً، ثم عاد أو لم يكن كذلك بأن لم ينقطع أو انقطع مدة يسيرة. أَمَّا في الحالة الأُولَى: ففيها ثلاثةُ أقْوَالٍ: أصحها: وبه قال أبو حنيفة: أن اللبن للأَول؛ لأن اللبن تَبَعٌ للولد وغذاؤه لا غذاء الحمل، فيتبع الولد المنفصل دون الحمل. والثاني: أنه للثاني؛ لأن الأول قد انقطع، وقُرْبُ وقْتِ الولادة سبب لظهور اللبن؛ فأشبه اللبن النازل بعد الولادة، وقد يُبْنَى هذان القولان عَلَى قول تقابل الأَصْل والظاهر. والثالث: أنه لهما جميعاً، لتقابل المعْنَيَيْنِ. وأَما فيٍ الحالة الثانية: إِن لم يزد اللبن، فهو للأَوَّل؛ لأن بقاءه بحالِهِ يُشْعِر بأن الحمل لم يُؤَثِّر، وإن زاد عَلَى ما كان، فقولان: أحَدُهما: وبه قال أحمد -رحمه الله-: لهما جميعاً؛ لأن بعْض الحاصل هو الذي كان، وبعْضه حادِثٌ لم يكن، فيحال على الحمل، ويشتركان فيه. وأَصحُّهما: ويه قال أبو حنيفة: أنه للأوَّل، أيضاً؛ لأن كون الزيادة من الحَمْل غير مُتحقَّق، بل كما يجوز ذلك يجوزُ أن يكُونَ لغذاءٍ مُوافِقٍ، فلا نترك اليقين بالشَّك، وينسب هذا القول إلى الجديد، والأول إلى القديم، ومنهم مَنْ لم يُفَرِّق بين أن يزيد اللبن أو لا يزيد، وطرد القولَيْن، فيحصل من الطريقين ثلاثةُ أقوالٍ، كما ذكر في "الوسيط": أحدهما: أنه لهما، والثاني: أنَّه للأوَّل، والثالث: أنَّه إنْ زاد، فهو لهما، وإلاَّ، فلِلأوَّل، ويتفرع على الاختلاف في المسألة. فُرُوع: أَحَدُها: لو نزل للبكر لبَنٌ، ونكحت، فهي ذاتُ لَبَنٍ ثم حبلت من الزَّوْج، فحيْث قلنا: في المسألة: إن اللبن للثَّانِي أوْ لَهُما، فهاهنا يكون للزوج، وحيث قلنا] إنه يكون للأول، فهو للمرأة وحْدها, ولا أَبَ للرَّضِيع. [والثاني: إِن حبلت من الزنا، وهي ذات لَبَنٍ من الزوج، فحيث قلْنا هناك: إن اللبن للأول أو لهما، فهو للزوج، وحيث قلْنا: إنه للثاني، فلا أب للرضيع، والثالث: نُكِحَتْ، ولا لبن لها، فحبلت، ونزل لها لبن، قال في "التتمة" في ثبوت الحرمة بين الرضيع والزوج وجْهان؛ بِنَاءً على الخِلاَف المذكور، إِن جعلْنا اللبن للأوَّل، لم نجْعَل الحمْل مُؤَثِّراً، فلا يثبت الحُرْمة حتى ينفصل الوَلَد، وإنْ جعلْناه للثاني أَوْلهما، تثبت الحرمة، وأَما لفظ الكتاب فقوله "ولو بعد عشر سنين" أعلم بالواو؛ للوجْه المقدَّر بالأربع.
الباب الثالث في الرضاع القاطع للنكاح وحكم الغرم
وقوله: "إلى أن تضع حملاً من وطءِ غَيْرِهِ" يدخل فيه ما إِذا نَكَحَتْ وَحَبِلَتْ من الزوج، وما إذا حَبِلَتْ من وطء شُبْهَة، والحكم واحد فيهما. وقوله: "فإِذْ ذاك يَنْقَطِع نسب اللبن عنْه" يجوز إعلامه بالألف، وليُعْلَم قولُهُ "فاللبن للثاني" بالحاء والألف، وقوله "وللأول" بالألف، وقوله "ولهما" بالحاء؛ لما حكينا من مذهبهما، وقوله: "وهذا الحكم لو كان قد انقطع بعد ذلك ثم عاد ففي بعض النسخ وفي بعض وهما صحيحان"، وقد يوجد بدلهما "وكذا الحكم لو كَانَ قَد انْقَطَعَ" ولَيْس بصواب. وقوله: "وَلاَ صَائِرَ إلى تخصيصه بالثاني" يعني أنَّ القول "بأن اللَّبَن للثاني خاصَّةً مخصَّصٌ بما إذا انقطع ثم عاد ولا يحال له فيما إذا لم ينقطع، ولفظ الانقطاع مُطْلَقٌ في الكتاب، لكن هو محمول هاهنا على الانقطاع مدَّةً يسيرة على ما بيَّنَّاه، وقد عبر عن الخلاف في المسألة بالوُجُوه، وهي أقوال مشهورة في ذلك، والله عَزَّ وَجَلَّ أعلم بالصواب. البَابُ الثَّالِثُ فِي الرَّضَاعِ القَاطِع لِلنِّكَاحِ وَحُكْم الغُرْمِ، وَفِيهِ أَصْلاَنِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: الأوَّلُ إِذَا كَانَ تَحْتَهُ صَغِيرَةٌ فُأَرْضَعَتْهَا أُمُّهُ أَوْ زَوْجَتُهُ بِلِبَانِهِ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا، وَيَجِبُ عَلَى المُرْضِعَةِ تَمَامِ مَهْرِ المِثْلِ (ح) عَلَى قَوْلٍ، وَنِصْفُهُ عَلَى قَوْلٍ، وَتَمَامُ المُسَمَّى عَلَى قَوْلٍ، وَنِصْفُهُ عَلَى قَوْلٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ تَحْتَهُ كَبِيرَةٌ وَصَغِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْ أُمُّ الكَبِيرَةِ الصَّغِيرَةَ حَتَّى صارَتَا أُخْتَيْنِ انْدَفَعَتَا جَمِيعَاً وَغُرِّمَتِ المُرْضِعَةُ مَهْرَ الكَبِيرَةِ المَمْسُوسَةِ عَلَى القَوْلِ الصَّحِيحِ، وَفِي قَوْلٍ: لاَ تُغَرَّمُ شَيْئَاً كَمَا لَوِ ارْتَدَّتِ الزَّوجَةُ، وَالغُرْمُ يَجِبُ بِفِعْلِهَا، فَلَوْ نَامَتْ فَدَبَّتْ إِلَيْهَا الصَّغِيرَةُ وَارْتَضَعَتْ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهَا (و)، وَيَسْقُطُ مَهْرُ الصَّغِيرَةِ بِفِعْلِهَا عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَقِيلَ: لَهَا نِصْفُ المُسَمَّى. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقْصُود الباب كما بَيَّنا مِنْ قَبْلُ الكَلاَمُ في الرَّضاع الَّذي يَطْرَأُ على النكاح فيقطعه، وفي الغرم المتعلِّق به، وقد رتَّبَه على أصلَيْن وفروع يَتَشعَّب عَنْها أَحَدُ الأصْلَيْنِ عند انقطاع النكاح، واعْلَمْ أولاً أن الرضاع الطارئ (¬1) قد يَقْطَع النكاح، وإن لم يقتض حُرْمَةٌ مؤبَّدةٌ، وسيأتي أمثلته -[إن شاء الله تعالى] وقد تَقْطَعه لاقتضائه الحرمة المؤيَّدة فكل امرأة يَحْرم عليه أن ينْكِح ابنتها، فإذا أرضعت تلْك المرأةُ زوجَتَهُ الصغيرةَ خمْسَ رضعات، تثبت الحرمة المؤبَّدة، وانقطع النكاح، فإِذا كانَتْ تحته صغيرةٌ، ¬
فأرضعَتْها أُمُّه من الرضاع أو النسب خمْسَ رضعات، انفسخ النكاح؛ لأنها [صارت بنْتاً لها، وكذا لو أرضعتها جَدَّتُه من الرضاع أو النسب؛ لأنها] (¬1) صارت خالةً له إن أرضعَتْها أم أُمِّه أو عمة [له] إن أرضعتها أُمُّ أبيه، وكذا لو أرضعتها بنته من الرضاع أو النسب؛ لأنها تَصِير حافدته، ولو أرضعتها زوجة أبيه بلَبَنِ أبيه، أو زوجة ابنه أو زوجة اْخيه بلبن أخيه، فكذلك؛ لأنها تصير أختاً له في الصورة الأُولى وحافدة في الثانية، وبنت أخٍ في الثالثة، وإن كان اللبن من غير الأب أو الابن أو الأخ [لَمْ يُؤَثِّر؛ لأن غايته أن تفسير ربيبة الأوَّل أو الابن أو الأخ] (¬2) ولا يَحْرُم على الرجل أن ينكح ربيبة أبيه أو ابنه أو أخيه، ولو أرضعتْها زوجة أُخْرَى له كبيرة بلبنه، فكذلك ينفسخ النكاح، وتثبت الحُرْمة؛ لأنها صارت بنتاً له، وإن كان اللَّبَن مِنْ غيره، فسيأتي، وإِنما كان الرضاع في هذه الصورة قاطعاً للنكاح؛ لأن ما يُوجب الحُرْمَةَ المُؤَبَّدة، كما يمنع ابتداء النِّكَاح يمنع استدامته؛ ألا ترى أنَّه إذا وَطِئَ الابْنُ زوجةَ أبيه بشبهة، ينفسخ النكاح، وتَحْرُم عليه، وتخرج على هذا العدَّةُ والردَّةُ الطارئتان فإنهما لا يوجبان التحريم المؤبَّد. إذا تقرَّر ذلك، فالصغيرة التي انفسخ نِكَاحُها تَسْتحق على الزَّوجْ نصْفَ المسمَّى، إن كان صحيحاً، ونصْفَ مهْرِ المثل، إنَّ كان فاسداً نعم، لو جاء الانفساخ مِنْ قِبَلِها؛ بأن دَبَّتْ إلى صاحبة اللبن، وهي نائمةٌ، فارتضعت، فالظاهر أنَّهَا لا تستحقُّ شيئاً، وسنذكره على الأثر إن شاء الله تعالى، ويجب على المُرْضِعة الغُرْم للزَّوْج؛ لأن البُضْعَ مضمون بالعَقْد في الخُلْع، فكذلك يضمن بالإتلاف كالأموال، ولا فَرْق بين أن تَقْصِد بالإرْضَاع فسْخَ النكاح أوْ لا تقصده، ولا بأنْ يجب عليها الإرْضاع بأنْ لا يكونَ هناك مرضِعَةٌ أُخرَى أَوْ لاَ يجب؛ لأن غرامة الإتلاف لاَ تَخْتَلِف بهذه الأَسباب، وبهذا قال أَحْمَدُ، وعَنْ مالك: لا يجب الغُرْم على المرضِعَة، وعند أَبي حنيفة: لا غرم عليها، إن لم تقصد فَسْخ النكاح، وعَنِ الشَّيْخ أَبِي حامدٍ: احْتمالُ أَنَّهُ لا غرم عليها، إِذا لزمها الإرضاع، وما الغُرْم الواجب على المُرضِعَة؟ نَصَّ هاهنا عَلَى أن الوَاجِب نصْفُ مَهْر الَمِثْل، وإِذا رجع شهود الطَّلاق قَبْل الدخول، فالنصُّ أَنَّه يجِب عليهم جميعُ مَهْر المثل، وللأَصْحَاب فيه طريقان: أحدهما: وبه قال الإِصطخري: أَنهما على قولَيْن نقلاً وتخريجاً: وجه وجوب الجميع: أنَّ قيمةَ الْبضَعْ مهْرُ المِثْل، وإِتْلاف الشَّيْء المتقوَّم يوجب قيمته، ووجْه الآخر: أن الزوج لا يُغَرَّم إلا النِّصْف، فلا يُغرم إلا النِّصْف؛ وهذا لأن الفرقة إِذا حصَلَتْ قبل الدخول، جُعِلَ كأن الزوج لا يَمْلِك إلا نصْف المعقود عليه، ¬
فروع
ولذلك لا يلزمْهُ إلا نصْفُ المسمَّى، وإذا لم يملك إلا النصْف، لم يُغَرَّم له إلا النِّصْف. والثاني: وبه قال أبو إسحاق: القطْع بتقرير النصَّيْن، والفَرْق أن الرِّضَاع يوجب الفُرْقة حقيقةً، وحقيقةُ المفارقة قبْل الدخول لا توجب إلا النصف كالمفارقة بالطلاق، وفي الشهادة؛ النِّكاحُ باقٍ في الحقيقة بزعم الزوج والشاهدَيْن، لكنهما بالشهادة حَالاَ بينه وبين البُضْع، فيُغرَّمان قيمته، كالغاصب يحول بين المالك والمغصوب، وحكى الشيخ أبو عليٍّ -رحمه الله- وآخرون على طريقة إثبات الخلاف قولَيْن: أَحدهما: أنَّه يَرْجِع بنِصْف المسمَّى؛ لأنَّه الذي يُفَوَّت على الزوج، وينسب هذا إِلى رواية القَفَّال، وفي شرح "مختصر الجوينيِّ": أن القفَّال خَرَّجه من الضمان، إذا ضمن ألْفاً، وأدى خَمْسَمَائة، لا يرجِعِ إِلا بما ضَمِنَ، والرابع: أنَّه يرجع بتمام المُسمَّى؛ لأنه قد التزمه، والتشطير أمر ثَبَتَ على خلاف القياس، فيختص بالزوجين، وقد أورد صاحب الكتاب أربعتها والصحيح منْها عند الشيخ أبي عليٍّ والإمام وجماعة: أنَّه يَرْجِع بتمام مهْر المثل، وعند الأكثرين: يرجع بنِصْفِه، ويجوز أن يُعْلَم قوله: "ويجب على المرضعة" بالميم، وقوله: "تمام مهر المثل" بالحاء والألف، وكذا قوله: "ونصفه"، وقوله: "وتمام المسمى على قول، ونصفه وعلى قولٍ" بالواو؛ للطريقة القاطعة، والقول في غُرْم شهود الطَّلاق يَعُود في كتاب الشَّهَادات، ورُبَّما تكرَّر بعْض ما ذكَرْناه هناك. فُرُوعٌ: الأول: لو نكح العَبْدُ صغيرة، فأرضعَتْها أمه، وانفسخ النكاحُ، فللصغيرةِ نِصْفُ المُسمَّى في كَسْبه، ولسيده الرجوعُ على أمِّ العَبْد بالغرم، قال في "التتمة": وإِنما أثبتنا للسيد الرجُوعَ علَيْها, لأنَّ العَبْد إذا خَالَع زوْجَتَه، كان العوض للسَّيِّد، فكذلك إذا وَجَبَ المَال بتفْوِيت البُضْع علَيْه. والثاني: عن ابن الحدَّاد -رحمه الله- أنَّه لو كانت الصغيرةُ مفوَّضةً، وأرضعتها أُمُّ الزوج، فالواجب لها عَلَى الزوج المتعة، والزوج يرجع على المُرْضِعة بالمُتْعَة. قال الأئمة -رحمهم الله-: وهذا إِنما يُتصوَّر أَوَّلاً فيما إِذا كانَتِ الصغيرةُ أُمَّةً، فَزَوَّجَها السيِّدُ بلا مَهْر، وأَمَّا الحُرَّة الصغيرة، فلا يُتصوَّر في حقِّها التفويض (¬1)، ثُمَّ القَوْلُ "بأن الزوج يَرْجِع بالمتعة، يوافق من الأقوال المذكورة القَوْلَ الذاهبَ إلى أَنه ¬
يَرْجِعَ بنصْف المُسمَّى. [والظاهر: أَنه يَرْجِعِ بنِصْف مهْر المِثْل] (¬1) أو جَمِيعه، وإِن كان الَّذي غرمه نصْفَ المسمَّى، فكذلك الحُكْم هاهنا. والثالث: لو حَلَب أجنبيٌّ لبنَ أُمِّ الزوج أو غيرها مِنَ المذكورات، أو كان اللَّبَن محلوباً، فأخَذَه وأَوْجره الصغيرةَ تحته، فيكون الغُرْم على الأجْنَبِيِّ، وفي قَدْرِهِ الخلاف، ولو أوجرها خمسةُ أَنْفُسٍ منْ لبن إحداهُنَّ، كل واحدٍ مرة، فعَلَى كلِّ واحدٍ منْهم خُمْس الغُرْم، ولو أوجر واحدٌ مرةً، وآخران، كلُّ واحدٍ مرتين ففي كيفية التوزيع عليهم وجهان: أَحدهما: أَنه يُوَزَّع الغُرْم عليهم؛ لاشتراكهم في إفساد النكاح، كما لو طرح إِنْسَانٌ قدرين متفاوتين من النجاسات في مائعٍ يستويان في الضَّمان. وأصحهما: عَلَى ما ذَكَر القاضي ابن كج: أَنه يُوزع على عدد الرضعات؛ لأَنَّ انفساخ النِّكَاحَ يتعلَّق بالعَدَد؛ فعلَى هذا يجب على الأَوَّل خُمْسُ الغُرْم، وَعَلَى كلِّ واحدٍ من الآخرين خُمْساه. الرابع: لو أرضعت بتَخْوِيفِ الغَيْر، قال في "البَحْر": الغرامة علَيْها في أصحِّ الوجْهَيْن، وعلى المُخَوِّف في الثاني، ثم في الفصل مسألتان: إحداهما: لو كانَتْ تحته صغيرةٌ وكبيرةٌ، فأرضعتْ أُمُّ الكبيرةِ الصغيرةَ خَمْساً، اندفع نكاحُ الصغيرة؛ لأنها صارَتْ أُختاً للكبيرة، ولا سبيل إِلى الجَمْع بين الأُخْتَيْن، ويندفع نكاحُ الكبيرة أيضاً أَمْ يختص الاندفاع بالصَّغِيرة؟ فيه قولان مذكوران في نظائر المسألة، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- توجيهُهما، واقتصر ههنا على إيراد أصحِّهما؛ وهو أنَّ نكاحها يَنْدَفع أَيضاً، ولو أرضعَتْها جَدَّة الكبيرة أو أختها،، فالحُكْم كذلك؛ لأن في صورة إرضاع الجَدَّة تُصَيِّر الصغيرةَ خالةً للكبيرة، وفي صورة إرضاع الأُخْت تَصِيرُ الكبيرة خالةً للصغيرة، ويصير الرجل جامعاً بين المرأة وخالتها، وكذلك لو أرضعَتْها بنتُ أخِ الكبيرةِ؛ لأنها تَصِيرُ بنْتَ بنت أخِ الكَبيرةِ [أو بنْتَ أُختِ الكبيرةِ؛ لأَنَّها تَصِير بنْتَ بنْتِ أُخْتِ الكبيرة] (¬2)، ولا يجوز الجمعُ بَيْن المرأَة وبيْن عمة أُمِّها، وبينها وبيْن خالة أُمِّها، ويجوز في الصورة أن يَنْكِح واحدةً منهما بعْد ذلك، ولا يَجْمَع، ولو أرضعَتْها بنْتُ الكبيرة، فحُكْمُ الاندفاع على ما ذكَرْناه، وتَحْرُم الكبيرة على التأْبِيد، وكذا الصغيرةُ إِنْ كانَت الكبيرةُ مدخولاً بها؛ لكونها ربيبةً له، وحُكْم مهْرِ الصغيرة عَلَى الزَّوْج، والغُرْمُ على المرضعة للزوْج على ما سبق، وكذا القول في الكبيرة، إذا قلْنا باندفاع نكاحها, ولم تكن ممسوسة أمَّا إِذا كانت ممسوسةً، فعلى الزوج مَهْرها المسمَّى وهل يُغَرَّم المرضِعَة له؟ فيه قولان: ¬
أحدهما: ويُنْسَب إلى رواية المزنيِّ -رحمه الله- في "منثوراته": أنه لا تُغَرَّم؛ لأن البُضْع بعد الدخول بها لا يتقوم للزَّوْج، ألا ترى أنَّها إذا ارتدَّت، وأصرَّتْ حتَّى انفسخ النِّكَاح، لا تُغَرَّم للزوج شيئاً، وأنه استوفَى بالمسيس ما يُقَابِل المهْر، فلا يأخذ عوضاً. وأصحهما: أنها تُغَرَّم له مهْرَ المثل، كما لو شهدوا على الطلاق بَعْد الدخول، ثم رجعوا، يُغَرَّمون مهْرَ المثل [و] أيضاً، كما لو ادَّعَى الزوْجُ أنه راجعَهَا قبل انقضاء العدَّة، وأنكرت، وصدَّقْناها بيمينها، فَنَكَحَتْ زوجاً آخر، ثم أقَرَّتْ للأول بصِحَّة الرجْعة، لا يُقْبل إِقرارها على الثَّاني، وتُغَرَّم للأوَّل مهْرَ مثْلِها؛ لأنها أتْلَفَت بُضْعَها علَيْه. المسأَلة الثانية: إِنما يجب الغُرْم في الصورة السابقة على أُمِّ الزوج وَمَنْ في معناها، إِذا أرضعت أو مكنت الصغيرة من الارتضاع، فلا يُعْتَبَرُ مع إِرضاعها ارتضاعُ الصغيرة، ولا يحال الانفساخ علَيْه، قال في "البسيط": لأن الارتضاع منْها بِحُكْمِ الطبع، فلا وقع له، ولم ينزل هذا منزلة إفْلات الطائر عنْد فتْح باب القَفَصِ، حتى يكون على الخِلاَف، والفرق غامِضٌ، أمَّا لو كانت صاحبةُ اللَّبَن نائمةٌ، فَدَبَّت إليها الصغيرةُ، وارتضعت، وانفسخ النكاح، فيحال الانفساخ على فعْل الصغيرة، ولا غُرْم عَلَى صاحبة اللبن؛ لأنها لم تصنع شيئاً، وعن الشيخ أبي عليٍّ روايةُ وجْهٍ؛ وعن الداركيِّ: أن عليها الغُرْمَ؛ لأن اللبن لها، وقد يعد نومها بحيث تَصِل الصغيرة إلى الارتضاع منْها نوعاً من التَّقْصِير والظَّاهر الأول. ولا مهْر للصغيرة؛ لأن انفساخ النِّكاح حَصَل بفِعْلها، وذلك يُسْقِط المهر قبل الدخول، هذا أصحُّ الوجهَيْن. والثاني: أن لها نصْفَ المُسمَّى ولا يُعْتبر فعلها في الإِسْقَاط، وإذا قلْنا بالأصح، فيرجع الزوْج في مالها، حيث يندفع نكاح الكبيرة بنسبة ما يغرم لها من مهْرِ مِثْلِها؛ لأنها أتْلَفَت عليه بُضْعَ الكبيرة، ولا فَرْق في غرامة المُتْلِفات بين الكبيرة والصغيرة، ولو وصلت القطرة إلى جوف الصبية بتطيير الريح، فلها نصْفُ المَهْر، ولا غُرْم على صاحبة اللبن؛ لأنه لا صنيع مِنْ واحدةٍ منهما، ويجيْءُ في وجوب الغُرْم عليها الوجْه المنقول عن الداركيِّ، ولو ارتضعَتِ الصغيرةُ أمِّ الزوج مثلاً رضعتَيْن، وهي نائمةٌ، ثم أرضعَتْها الأمُّ ثلاث رَضَعَات، فعلى الوجهَيْن السابقَيْنِ في أن الغُرْم يُوزَّع على عدد المُرْضِعَات أو على عدد الرَّضَعَات، إن قلنا بالأول، فيسقط مِنْ نصْفِ المسمَّى نِصْفُه، وَيجِبُ على الزَّوْج نصْفُه، وهو الربع، وإن قلْنا بالثاني، فيسقط من نصْفِ المسمَّى خُمُسَاه، ويجب على الزوج ثلاثةُ أخماسه، وكذلك أورد صاحب "المهذب" و"التهذيب"، قال في "التهذيب": يرجع الزوج على المرضِعَة بربع مهْر المثْلِ، على الوجه الأول، وثلاثةِ أخْماسِ نِصْفِ مهْرِ المثْلِ؛ على الوجه الثاني.
وهذا تفريعٌ [على الأظهر] من الأقوال السابقة في أن الزَّوْج يرجع على المرضِعَة بِنِصْف مَهْر المثْل. ولو أرضعَتْها الأمُّ أرْبَعَ رَضَعَاتٍ، ثم ارتضعَتِ الصغيرة منْها، وهي نائمة المرة الخامِسَة، فقد قال صاحب "التتمة": في نظيره لأصحابنا اختلاف؛ وهو أن الرجل إذا طَلَّق زوجته ثلاثاً على التلاحُقِ، يتعلَّق التحريم بالطَّلْقة الثالثة وحدها أو بالطلقات الثلاث؛ إن قلْنا: يَتعلَّق بالثالثة وحدها فكذلك هاهنا يحال التّحْرِيم عَلَى المرضعة الأخيرة فيكون الحكْمُ، كما لو ارتضعَتِ الخَمْسَ، وصاحبةُ اللبَنِ نائمةٌ، ولا يحرم عليها، ويسقط مهْر الصغيرة، وإن علَّقْنا التحريم بالطَّلقَات الثلاثِ، فهاهنا يتعلَّق التحريم بالرَّضَعَات، وعلى هذا فقياسُ التوْزِيعِ على الرَّضَعَات أن يسقط من نِصْف المهر خُمْسَهُ، ويجب على الزوج أربعةُ أخْمَاسِهِ، ويجب على المُرَّضِعة أربعة أخماس مهْر المِثْل تفريعاً على القوْل الأظْهَر. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الأَصْلُ الثَّانِي المُصَاهَرَةُ وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِالرِّضَاعِ فَمَنْ نَكَحَ رَضِيعَةٌ حُرِّمَ عَلَيْهِ مُرْضِعَتُهَا لأَنَّهَا أُمُّ زَوْجَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَبَانَ صَغِيرَةٌ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ مَنْ أَرْضِعَتْهَا بَعْدَ الطَّلاَقِ، وَلاَ نَظَرَ إِلَى التَّارِيخِ فِي ذَلِكَ، وَإذَا نَكَحَتِ المُطَلَّقَةُ صَغيراً أَوْ أَرْضَعَتْهُ بِلِبَانِ الزَّوْجِ حُرِّمَتِ المُرْضِعَةُ عَلَى المُطَلِّقِ لأَنَّهَا صَارَتْ زَوْجَةَ الرَّضِيعِ وَالرَّضِيعُ ابْنُ المُطَلِّقِ، وَكَذَلِكَ المُسْتَوْلَدَةُ، وَإذَا نَكَحَ زَيدٌ كَبِيرَةٌ وَعَمْرو صَغِيرَةً فَطَلَّقَاهُمَا ثُمَّ نَكَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجَةَ صَاحِبِهِ فَأَرْضَعَتِ الكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ حُرِّمَتِ الكَبِيرَة عَلَيْهِمَا لأَنَّهَا أُمُّ الصَّغِيرَةِ الَّتِي كَانَتْ زَوْجَتَهُمَا، وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَرَبِيبَتُهُ لأَنَّهَا بِنْتُ الكَبِيرَةِ فَيُنْظَرُ إِلَى أَنَّ الكَبِيرَةَ مَدْخُولٌ بِهَا أَمْ لاَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذا الأصل لبيان أن المُصَاهرة تَتَعلَّق بالرَّضاع، فلنف به. فمَنْ نكح صغيرةً أو كبيرةً، حُرِّمَت عليه مرضِعَتُها؛ لأنَّها أمُّ زوجته مِنَ الرَّضَاع، وهذا ما ذكَرَه في أوَّل النِّكَاح: أنه يَحْرُم على الرجُل بالنكاح الصحيحِ أُمَّهَاتُ الزوجة من الرضاع والنَّسب، ولو نكح صغيرةً ثم طلَّقها، فأرَضعَتْها امرأة حرمت المرضِعة على المُطلِّق؛ لأنها صارتْ أُمَّ مَنْ كانت زوجَتَهُ، ودخَلَتْ تحْت أمهات النساء، ولا نَظَر في ذلك إلى التاريخ, والتقدم والتأخُّر، ولو كانَت تحْته كبيرةٌ، وطلقها، فنكحت صغيراً، وأرضعته بلبان المطلِّق، حُرِّمت على المطلِّق أبداً، وكذلك على الصَّغير، أمَّا على المُطلِّق؛ فلأن الصغير صار ابناً له، وهي امرأةُ الصغير, فيَدْخُل في حلائل الأبْنَاء، وأمَّا على الصغير, فلأنَّها أمه، ولأنَّها زوجةُ أبيه، ولو نكحت صغيراً، وفَسخت النكاح بعيب وجدته فيه، ثم نَكَحَتْ زوجاً آخر، وأرضعتِ الأوَّل بلبان الثاني، انفسخ نكاحهما،
وتَحْرُم عليهما على التأبيد؛ لأن الأوَّلَ صار ابناً للثاني فهي زوجةُ ابنِ الثانِي، وزوجة أبي الأول، ولو جاءت زوجةٌ أخرى للثاني، وأرضعت الأول بلبان الثاني يَنْفَسِخ نكاحُ الزوجةِ الَّتي كانَتْ زوجةَ الصَّغير، ولو زوج مستولدته من عبْده الصغير, فأرضعته بلبان السيد، حُرِّمت على السيد والصغير معاً، وانفسخ نكاح الصغير, أمَّا حرمتها على الأوَّل فلأنها زوجةُ ابنه، وأما على الصغير؛ فلأنها موطوءة أبيه، وحكى ابن الحدَّاد أن المزنيَّ رَوَى عن الشَّافعي -رضي الله عنه- في مسائله: أنها لا تَحْرُم على السيد، وأنه أنْكَرَ ذلك على الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- وعلى ذلك جرى ابن الحدَّاد والأصحاب -رحمهم الله-[فجعلوا الرواية غَلَطاً، قال الشيخ أبو عليٍّ] (¬1): ولكن يُمْكن تخريجُ ما نُقِلَ على قولٍ في أن العبْد الصغيرَ لا يَجُوز إجباره على النِّكاح، أو عَلَى قولٍ في أُمِّ الولد أنه لا يجوز تزويجها بحالٍ، أو على وجْهٍ ذَكَرَ أنه لا يجوز للسيد أن يُزَوِّج أمته من عبْده بِحَالٍ، فإنَّا إذا لم نصحح النكاح على أحَدِ هذه الأوْجُه، لم تكن هي زوجةَ الابْنِ، فلا تحرم على السَّيِّد، ومهما أمْكَنَ تخريج المنقول على تنزيلاتٍ صحيحةٍ، لم يجز الحمل على الغَلَط المُطْلَق، ولو أرضعَتْه بلِبان غَيْر السيد، انفسخ النكاح؛ لكونها أُمَّاً له، ولكنْ لا تَحْرُم على السيد؛ لأن الصغيرَ لم يَصِرِ ابْناً له، فلا تكون هي زوجة الابن، وكذلك لو أرضعَتِ المطلَّقة الصغيرَ الَّذي نكحته بغَيْر لبن الزوج، ينفسخ النكاح، ولا تَحْرم هي على المطلِّق، ولو كانت تَحْتَه صغيرةٌ، فأرضعتها أَمَةٌ له، قد وَطِئَها بلَبَنِ غيره، بَطَل نكاح الصغيرة، وحُرِّمَتا على التَّأْبيد، أمَّا الأمة، فلأنَّها أُمُّ زوجته، وأَمَّا الصغِيرةُ، فلأنها ربيبة موطوءة، ولو كان تحْت زَيْد كبيرةٌ، وتحت عمرو صغيرة، فطَلَّق كلُّ واحدٍ منهما زوجَتَه، ونكح زوجةَ الآخَرِ، ثم أرضعَتِ الكبيرةُ الصغيرةَ، واللبَنُ من غيرهما، فتَحْرُم الكبيرةُ عليهما على التَّأْبِيد، وينفسخ نكاحُها؛ لأنها أمُّ الصغيرة، وقد كانَتِ الزوجةُ الصغيرةُ زوجةً لكلِّ واحدٍ منهما، وأما الصغيرةُ، فهِيَ بنْتُ زوْجَة كلِّ واحدٍ منهما، فإن كانا قَدْ دَخَلا بالكبيرةِ، فالصغيرةُ محرَّمةٌ عليهما على التأبِيد، وينفسخ نكاحُها أيضاً، وإن لم يَدْخُل [بها] واحدٌ منهما، لم تَحْرُم عليهما, ولم ينفسخ نكاحُها، وكذا لو لم يدخل زيد بها، حين كانت في نكاحِهِ، لا تحرم عليه الصغيرة، ولا ينفسخ نكاحُهَا، وإذا انفسخ نكاحها، فعلى زوجِها نصْف المُسَمَّى، ويرجع بالعزم على الكبيرة، ولا يجِبُ للكبيرة شيْءٌ على زوْجها، إن لم يكن مدخولاً بها؛ لأن الانفساخ جَاءَ مِنْ قِبَلِها, ولو كانَتْ تَحْت زَيْدٍ كبيرة وصغيرة، فطلَّقها فنكحها عمرو، ثم أرضعت الكبيرةُ الصَّغِيرةَ، فحُكْمَ تحريمها عليهما على ما فصَّلناه، وَيَنْفَسِخ نكاحها إذا أرضعت الكبيرة الصغيرةَ وإن لم يدْخُل عمرو بالكبيرة؛ لاجتماع الأمِّ والبِنْتِ في نكاحٍ واحدٍ. ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيَتَشَعَّبُ مِنْ هَذَيْنِ الأَصْلَيْنِ فُرُوعٌ الأَوَّلُ إِذَا كَانَ تَحْتَهُ كَبِيرَةٌ وَصَغِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْهَا الكَبِيرَة بِلِبَانِهِ حُرِّمَتَا أَبَداً لأَنَّ الكَبِيرَةَ أُمُّ زَوْجَتَهُ وَالصَّغِيرَةَ بنْتُهُ، وإنْ كَانَ بِلِبَانِ غَيْرِهِ لَمْ تَصِر الصَّغِيرَةُ بِنْتَاً بَلْ رَبِيبَةً مُحَرَّمَةً إنْ كَانَتِ الكَبِيرَةُ مَدْخُولاً بِهَا، وَإِنَّمَا يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا لأَنَّهَا اجْتَمَعَتْ مَعَ الأُمِّ فِي النِّكَاحِ فَيَنْدَفِعَانِ وَلَهُ تَجْدِيدُ نِكَاحِ الصَّغِيرَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وتَحْته زوجَتَانِ صغيرةٌ وكبيرةٌ، فأرضعَتِ الكبيرةُ الصغيرةَ خَمْسَ رضَعَاتٍ، انفسخ نكاحهما؛ لأنَّ الجَمْع بيْن الأمِّ والبنْتِ في النكاح ممتنع، وقد صارَتِ الصغيرةُ بِنْتاً، والكبيرة أُمَّاً دفعةً واحدةً، واندفعتا، ثم إنْ كانَ الإرْضَاع بلَبَنِهِ، حُرِّمَتا عليه على التأبِيد؛ لأن الكبيرة أُمُّ زوجته، والصغيرة بِنْته، وإنْ الإرضاع بلَبَنِ غيره، فالكبيرة كذلك، والصَّغيرة ربيبة، فإن كانت الكبيرةُ مدخولاً بها، فهي محرمةٌ أيْضاً، وإلا، لم تكن الصغيرةُ محرَّمةٌ على التأبيد، ويجب على الزَّوْج للصغيرة نصفُ المسمَّى، وفيما يرجع به على الكبيرة الأقوال التي سبَقَت، ولا مَهْر للكبيرة، إن لم تكن الكبيرة مدخولاً بها؛ لأن الانفساخ حصل بصنعها، وإن كانتْ مدخولاً بها، استحقت المَهْر، قال الأئمة -رحمهم الله- ولا نقول: يرجع عليها بمَهْرِها؛ لأنَّها أتلفت عليه بُضْعَها؛ لأن تغريمها وتمكينه من الرجوع إسقاطٌ للمَهْر فيصير كالموهوبة، وذلك من خصائصِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ولَيْس كما لو وقَعَت الرجعة قبل انقضاء العِدَّة، وأنكرت، وصدَّقناها باليمين، فنَكَحَت زوجاً آخر، ثم صدِّقت الأول في الرجعة، حيث نغرمها للأوَّلِ مهْر المِثْل؛ لأن هناك؛ النكاحُ الأولُ باقٍ بزعمه وزعمها، إلا أنها حالَتْ بينها وبينه باليمين، وكذلك لو طَلَّقها الثاني، عادت إلى الأوَّل من غير تجديد عَقْدٍ، فألزمناها ضمانَ الحَيْلُولة، إلا أنَّها تَرُدُّ المهر عليه، حتى لو طَلَّقها الثاني أو مات عنها وعادت إلى الأول، يلزمه ردُّ المَهْر إليها. ولو كانت الكبيرة نائمةً، فارتضعت منها الصغيرةُ، فلا مهر لها, وللكبيرةِ نصْفُ المَهْر المسمَّى إن لم يدخل بها، وجميعه إن دخل بها، ويرجع بالغرم في مال الصغيرة على ما سبق، ولو أرضعتْها الكبيرةُ أرْبَعَ مراتٍ، ثم ارتضعت الصغيرةُ، وهي نائمة، مرةً خامسةٍ، قال في "التتمة" إن قلنا: يتعلَّق التحريم بالرَّضَعَات، ولم نحِلْه على الرَّضْعة الخامسة الأخيرة، فيسقُطُ خمْسُ مهْرِ الصغيرة، بسبب فِعْلِها، ونصْفُه بالفُرْقة قبل الدخول، ويجب على الزَّوْج خُمْسٌ ونِصْفٌ، وهي ثلاثةُ أعشار، ويرجع على الكبيرة بثلاثة أعشار مهْرِ المِثْل، على القَوْل الأظْهر، وبأربعة أخماسه على قَوْلٍ آخَرَ، والخُمْس السَّاقِط بفِعْلِها لا رُجُوع فيه، وهذا القول الآخر هو القول الذَّاهِب إلى الرجوع بجميع مهْر المثل، والله أعلم قال: وأما الكبيرة، فيسقط أربعةُ أخماس مهرها بفِعْلِها، والباقي بالفُرْقة قبل الدخول، فإن قضيتها سُقُوطُ النِّصْف، والباقي دون النصف فيسقط، وقياس ما قدَّمنا عن "المهذَّب" و"التهذيب" أن يقال يسْقُط الخُمْس من نِصْف مهْر الصغيرة،
ويجب أربعةُ أخماسِهِ وهو خُمْسَا الكُلِّ، وأن يقال: يسقط أربعة أخماس من نصْف مهْر الكبيرة، ويجب خُمْسُهُ، ولو كانت الكبيرةُ أَمَةً قد نَكَحَها، فأرضَعَتِ الصغيرةَ، تعلَّقَ الغُرْمُ برَقَبَتَها؛ لأنَّ ذلك كجناية منْها على نفْسٍ أو مال، فإن لم يسلِّمْها سيِّدُها لِلبَيْع، واختار الفداءَ، فَدَاها بالأقلِّ من قيمتها، وقدر الغرم في أظهر القولَيْن، وبقدر الغرم في الثاني، وإن أرضَعَتِ الصغيرةَ أمتُه أو أمُّ وَلَدِهِ، فلا غرم عليها للزوج؛ لأن السيد لا يستحق على مملوكه مالاً، ولو كانَتْ أمته أو أُمُّ وَلَدِهِ [مكاتبة] فأرضعته المكاتَبَةُ الصغيرةُ، فعليها للسيد الغُرْم فإن عَجَّزها، سَقَطت المطالبة بالغُرْم، كما في تعجيز النجوم تسقط النجوم، قال الشيخ أبو عليٍّ -رحمه الله- له خَمْسُ أمهات أولاد كاتبهن فأرضعت كلُّ واحدةٍ منْهنَّ زوجته -الصغيرةَ رضْعةً، صارَتِ الصغيرةُ بنتاً له على ظاهر المَذْهَب وانفسخ نكاحُها, وله الرجُوعُ عليهن بالغرم إن أُرْضَعْنَ معاً، وإن أرضَعْنَ على التعاقب، فجمع الغرم على الخامسة, ويُمْكن أن يجيْء فيه خلافٌ، ويحال التحريم على الرضعات كلِّها وحينئذ يكُونُ الحكم كما لو أرْضَعْنَ مَعاً، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِي: لَوْ كَانَ مَعَ الكَبِيرَةِ ثَلاثُ صَغَائِرَ فَأَوْجَرَتَهُنَّ لَبَنَهَا المَحْلُوبَ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ انْدَفَعَ نِكَاحُ الصَّغَائِرِ لأُخُوَّةِ بَيْنَهُنَّ وَللاجْتِمَاعِ مَعَ الأُمِّ، وَلَهُ تَجْدِيدُ نِكَاحِهِنَّ سِوَى الكبِيرَةِ، فَإِنْ كانَ بِلِبَانِهِ حُرِّمْنَ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَلَوْ أَرْضَعَتِ الأوُلَيَيْنِ مَعَاً ثُمَّ الثَّالِثَةَ لانفَسَخَ نِكَاحَهَا مَعَ المُرْتَضِعَتَيْنِ الأُوَلَيَيْنِ وَلَمْ يَنْفَسِخ نِكَاحُ الثَّالِثَةِ فَإِنَّهَا أَرْضَعَتْ بَعْدَ انْدِفَاعِ نِكَاحِ أُمِّهَا فَأُخْتَيْهَا، وَلَوْ أَرْضَعَتِ الجَمِيعَ عَلَى التَّوَالِي انْدَفَعَ نِكَاحُ الكبِيرَةِ مَعَ الأُولَى وَلَمْ يَنفَسِخْ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ في الحَالِ وَينْفَسِخُ نِكَاحُ الثَّالِثَةِ فَقَد أَرْضَعَتهَا وَتَحْتَهُ الثَّانِيَةُ، وَهَل يَخْتَصُّ الانْدِفَاعُ بِالثَّالِثَةِ، أَمْ يُقَالُ: هِيَ وَإِنْ كانَتْ أَخِيرَةً وَسَبَبَاً لِلاجْتِمَاعِ فَلَيْسَتْ بِأَوْلَى مِنَ الثَّانِيَةِ فَيَنْدَفِعَانِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ، وَكَذَا لَوْ أَرْضَعَتْ أَجْنَبِيَّةَ صَغِيرَتَيْن تَحْتَ زَوجٍ عَلى التَّوَالِي انْدَفَعَتِ الثَّانِيَةُ وَفِي الأُولَى القَوْلاَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تحْتَهُ كبيرةٌ وثلاثُ صغائِرَ فأرضعتِ الكبيرةُ الصغائرَ خَمْسَاً خمساً، نُظِر؛ إن كانا للبن منْه أو كانَتِ الكييرةُ مدْخولاً بها، انفسخ نكاحُهُنَّ جميعاً، وحُرِّمِنْ عَلَى التأبِيد، سواءٌ أرضعَتْهُنَّ معاً أو على التعاقُبِ؛ لأنَّ الكبيرةَ أمُّ زوجَاتِه، والصغائر بَنَاتُه أو ربائبُ زوجته المَدْخُولِ بها، وعليه المسمى للكبيرة، ونصف المسمَّى لكل صغيرةٍ وعلى الكبيرةِ الغُرْمُ، وإن لم يكن اللبنَ منْهُ، ولا كانت الكبيرةُ مدخولاً بها، فيُنْظر، إن أرضعَتْهن معاً بأن أوجرتهن معاً الرضعة الخامسة مِنْ لبنها المحلوب، أو ألقمت اثنتين ثدييها وأوجرت الثالثة من لبنها المحلُوبِ، فينفسخ نكاحُهُنَّ جمَيعاً؛ لصيرورتهن أخواتٍ، ولاجتماعهن مع الأم في النِّكَاح، وتحْرُم الكبيرة على التأبيد؛
لأنها أمُّ زوجاته، ولا تحرم الصغائر ولأنهن بناتُ امرأةٍ لم يدخل بها، فله أن يجدِّد نكاح واحدةٍ منهن، ولا يَجْمَع بين اثنتين لأنهن أخوات، وإن أرضعتهن على ترتيب فتَحْرُم الكبيرة على التأبيد أيضاً، ولا تَحْرُم الصغائر على التأبيد؛ ثم للترتيب أحوالٌ: إحداها: أن تُرْضِع اثنتين معاً ثم الثالثةَ، فينفسخ نكاح الأوليين مع الكبيرة؛ لثبوت الأُخُوَّة بينهما, ولاجتماعهما مع الأم في النكاح، ولا ينفسخ نكاح الثالثة؛ لانفرادها، ووقوع إرضاعها بعْد اندفاع نكاح أُمِّها وأُخْتها. والثانية: أن يرضع واحدةٌ أولاً ثم ائنتين معاً، فينفسخ نكاح الكلِّ، أما نكاحُ الأُولَى مع الكبيرة؛ فلاجتماع الأمِّ والبنت في النكاح، وأما الأخريان فلأنهما صارتا أُخْتَيْن معاً. والثالثة: أن ترضع جميعَهُنَّ على التعاقُب، فينفسخ نكاح الأُولَى مع الأُمِّ؛ لِمَا ذكرنا, ولا ينفسخ نِكَاحُ الثانية، إذا أرضعَتْها؛ لأنها ليست مُحَرَّمةً، ولم تجتمع معها أمٌّ ولا أخْتٌ، فإذا أرضعت الثالثةَ، انفسخ نكاحُها؛ لأنها صارَتْ أختاً للثانية الَّتي هي في نكاحه، وهل ينفسخ معَها نِكَاحُ الثانية أم يختص الانفساخ بنكاح الثالثة؟ فيه قولان: أحدهما: أنَّه ينفسخ نكاح الثانية أيضاً؛ لأنهما صارتا أختين معاً، فأشبه ما إذا أرضعْتهما معاً، وأيضاً، فلو أرضعت زوجَتُهُ [الكبيرة زوجَتَهُ] (¬1) الصغيرةَ، انفسخ نكاحُها؛ لصيرورتهما أماً وبنتاً [معاً] فكذلك هاهنا. والثاني: أن الانفساخ يختص بنكاح الثالثة؛ لأن الجمع تَمَّ بإرضاعها، فاختص الفسادُ بها، كما لو نكح أُختاً على أخْتٍ يختص نكاح الثانية بالفَسَاد؛ لأنَّ الجَمْع حَصَل بنكاحِها، وهذا القول ينسب إلى الجديد، وفي تعليق الشيخ أبي حامِدٍ ترجيحه، والأول القديم، وهو الصَّحِيحُ عنْد أكثر الأصحاب، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، واختاره المزنيُّ؛ وعلى هذا، فالمسألة من المسائل التي يُرَجَّح فيها القديم، واحتج بعضهم للقول الذاهب إلى اندفاع نكاحهما جميعاً؛ [بأنه إذا كان تحته كبيرةٌ وصغيرةٌ، فارضَعَتْ أُمُّ الكبيرةِ الصغيرةَ، ينفسخ نكاحهما جميعاً] (¬2) ومنهم من طرد فيها القولَيْن، وهو الأشبه [فينفسخ نكاح الصغيرة وتكون الكبيرة على القولين] وبه قال القاضي أبو الطيب، ولو كان تحته صغيرتان، وأرضعتهما أجنبيةٌ، نُظِرَ، إن أرضعتهما معاً، انفسخ نكاحهما، لأنهما صارتا أختين معاً، وحُرِّمت الأجنبية على التأبيد؛ لأنها صارَتْ مِنْ أمهات نسائهِ، وله نكاح واحدةٍ من الصغيرتين، ولا يجمع بينهما, ولو أرضعتهما على التعاقب، لم ينفسخ نكاحُ الأُولَى بإرضاعها، فإذا أرضعَتِ الثانية، انفسخ نكاحها لأنها صارت أختاً ¬
للأُولَى، وهل ينفسخ نكاحُ الأُولَى؟ فيه القولان السابقان، والأصَحُّ: الانفساخ. وقوله في الكتاب "فأوجرتهن لبنها المحلوب في دفعة" يعني في الرضعة الخامسة. وقوله في الكتاب "وله تجديد نكاحهن سوى الكبيرة" إنما كان يحسن الاستثناء من جهة اللَّفْظ، لو حكم باندفاع نكاحِهِنَّ جميعاً، لكن لفظه لا يتناول إلا نكاح الصَّغَائر، فإنَّه قال: اندفع نكاح الصغائر للأخُوَّة بينهن ولو قال اندفَعَ نكاحُهُنَّ للأُخوَّة بيْن الصغائِرِ، وللاجتماع مع الأم، لَحَسُنَ الاستثناء. وقوله: "فإن كان بِلِبَانِهِ حُرِّمْنَ على التأبيد" تبيَّن أن ما سبق مفروضٌ فيما إذا كان اللبن مِنْ غيره. وقوله: "ولو أرضَعَتِ الجميع على التوالي" لفظ "التوالي" مستعملٌ غالباً في التعاقُب الخَالِي عن الفصْل، ولا فَرْق فيما نحن فيه بين أن يكون هناك فَصْل أوْ لا يكون، فكان الأحْسَنُ أن يقول التعاقب أو الترتيب دون التوالي. وقوله: "أم يقال هي، وإن كانت أخيرةً وسبباً للاجتماع فليست بأَوْلَى من الثانية" فيه إشارة إلى مأخذ القول المُخصّص للانفساخ بنكاح الثالثة، وإلى الجواب عنه، فإنه، وإن كان كذلك، لكنَّ الأُخوَّة تَحْصُل دفعةً واحدةً، فليست إحداهما بالاندفاع أَوْلَى من الأُخْرَى، وهذه صُوَرٌ تناسب الفرع: تحته صغيرة وثلاث كبائر أرضعَتْها كلُّ واحدةٍ من الكبائر خَمْساً، فينفسخ نكاحهن جميعاً، أما التي أرضعت أولاً فينفسخ نكاحُها مع الصغيرةِ؛ لاجتماع الأمِّ والبِنْت في النكاح، وأيضاً، فقد صارت أمُّ الزوجة وأمَّا الأخريان، فينفسخ نكاحُهُما للمَعْنَى الثاني، وتُحَرَّم الكبائر لذلك على التأبيد، وتُحرَّم الصغيرة أيضاً كذلك، إن كان في الكبائر مدخولاً بها، وإلا، فلا تُحَرَّم على التأبيد. تحته أربع صَغَائر أرْضَعَتْهن أجنبيةٌ واحدةً بعد واحدةٍ، فلا أثر لإرضاع الأُولَى في نكاح واحدة منهن، فإذا أرْضَعَتِ الثانيةَ، صارتْ أختاً للأُولى، وانفسخ نكاحُهَا، [وفي انفساخ الأُولَى القولان، فإن أبطلنا نكاحَهُما، فإذا اْرضعت الثالثةَ، لم ينفسخ نكاحُها، فإذا أرضعت الرابعةَ، انفسخ نكاحُهُما، وإن قلْنا: لا يبطل نكاح الأُولَى، فإذا أرضعت الثالثة، انفسخ نكاحها] (¬1) لأنها صارَتْ أختاً للأُولى، وكذا الرابعَةُ، لو أرضعتهن معاً، أو أرْضَعَت اثنتين معاً، ثم اثنتين معاً، انفسخ نكاحُ الكُلِّ. ¬
تحته كبيرتان وصغيرتان، فأرضَعَتْ كلُّ واحدةٍ من الكبيرتين واحدةً من الصغيرتين، فيحرمن جميعاً على التأبيد، إن دخل بالكبيرتين، وإن لم يَدْخُل بهما، تُحَرَّم الكبيرتان على التأبيد، وينفسخ نكاح الصغيرتين في الحال، وله تجْدِيد نكاحهما والجَمْعُ بينهما لعدم الأخوة ولو أرضعتْهُما إحْدَى الكبيرتين على الترتيب، انْفَسَخ نكاحُ الأُولَى والمرضعة؛ لاجتماع الأمِّ والبنت، ولم ينفسخ نكاحُ الثانية، فإن أرضعتهما الكبيرة الثانية بعْد إرضاع الأُولَى على ترْتِيبِ إرْضَاع الأُولَى، انفسخ نكاحُها بإرضاع الصغيرة الأُولَى، ولم ينفسخ نكاحُ الصغيرةِ الثانية؛ لأنه لم يَحْصُل في حقِّها اجتماع الأم والبنت في النكاح، وإن أرضعَتْها على غير تَرْتِيب المرضعة الأُولَى، انفسخ نكاح الكُلِّ، وله تجديد نِكَاحِ كلِّ واحدة من الصغيرتَيْن، إذا لم تكن الكبيرتان مدخولاً بهما, ولا يجوز الجَمْع بينهما. تحته ثلاثُ نسوةٍ كبيرتانِ وصغيرةٌ فأرضعَتْها الكبيرتان دفعةً واحدةً؛ بأن أوجرتاها لبنها المحْلُوب المخلوط ينفسخ نكاحُهُن جميعاً؛ لاجتماع البنت مع أُمَّيْهَا في النكاح، وتحرمن على التأْبيد، إن دَخَل بالكبيرتين، أو بإحداهما؛ لأن الكبيرتين أُمَّا زوجته، والصغيرة ربيبته مدخولٌ بها، وإن لم يدخل بواحدةٍ منهما، لم تُحَرَّم الصغيرة على التأبيد، وعلى الزوج للصَّغِيرة نصْفُ المسمَّى، ويرجع على الكبيرتين بالغُرْم، وأما الكبيرتان، فإن كان قد دَخَل بهما، فعليه لكلِّ واحدةٍ منهما جميعُ المُسَمَّى ويرجع على كلِّ واحدةٍ منْهما بنِصْفِ مهْرِ [مثل] صاحِبَتِها تفريعاً على القول الصحيح، وهو الرُّجُوع في غرم مهر الكبيرة المَمْسُوسة، وذلك لأَنَّ انفساخ نِكَاح كلِّ واحدةٍ منْهما حصل، بفعلها وفعل صاحبتهما، فسقَطَ النِّصْفُ بفعْلها، ويجب النصف على صاحبتها، وإنْ لم يدخل بواحدة منْهما، فلكلِّ واحدةٍ منهما رُبْع مهرها المُسمَّى لأن الانفساخ حَصَل بفعلهما، فسقط بفعل كل واحدة منهما نصْفُ الشطر الذي الواجب قبل الدخول، ويجب النصْفُ الآخر، ويرجع الزوْج على كل واحدة منهما برُبْع مهْرِ مثْل الأخرَى؛ تفريعاً على قولنا "إن التغريم في حق غير الممسوسة يكون بنصْف مَهْر المثْل" وإن كانت إحداهما مدخولاً بها دون الأخْرَى؛ فللمدخول بها تمام المسمَّى وللأخرى ربْعُ المسمَّى ويرجع الزوج على الَّتِي لم يَدْخُل بها بِنِصْف مَهْرِ المثْل للمَدْخُول بها، وعلى المدْخُول بها بربع مهر المثلُ التي لم يَدْخُلْ بها. قال الشيخ أبو عليٍّ: لم أر الكلام بالرجُوع بمَهْر المثل للكبيرتين للأصْحَاب، وإنَّما خرَّجته بتوفيق الله تعالى ثم رأيته لأصْحَابنا بعْد ذلك بزمان، وأمَّا أصْل المسألة، فهو من المولَّدات. ولو كانتِ المسألةُ بحالها, لكن أوجرتها اللَّبَنَ المخْلُوطَ في الخامسة إحدى
الكبيرتين وحْدها، فحُكْم التحريم كما سَبَق، ورجوع الزوجَ بمَهْر الصغيرة عَلَى المُرْضِعَة في الخامسة وَحْدَهَا، وفيما يَرْجع به الأقوال، وأما الكبيرتان، فالَّتي لم تُوجر، إن كانتْ مدخولاً بها، فلها على الزوْجِ تمامُ المسمَّى، ويرجع الزوْجُ بمهر مثلِها على التي أوْجَرَتْ على القول الأصح وإن لم تكن مدخولاً بها، فلها على الزوجِ نصْفُ المسمَّى، ويرجع بالغُرْم على التي أوجَرَتْ كما في الصغيرة، والتي أوجِرَتْ، إن كانت مدخولاً بها، فلها جميع المَهْر، وإن لم تكن مدخولاً بها، فلا شَيْء لها؛ لأنها أفسدَتِ النكاح قَبْل الدُّخُول، وهذا كلُّه فيما إذا كان اللَّبَن من غير الزَّوْج، فإن كان اللَّبَن منْه، والتصوير كما ذَكَرْنا فتصير الصغيرة بنته، وتحرم عليه على التأبيد، ولو تمَّ العدَدُ في حقِّ الزوج، دون الكبيرتين، بأن أرضَعَتْ هذه بعْضَ الخمس وهذه بعض الخمس فيحصل التحريم في حقِّه على ظاهر المذهب، وينفسخ نكاح الصغيرة، وتحرم عليه على التأبيد، ولا ينفسخ نكاح الكبيرتَيْنِ؛ لأن واحدةً منهما لم تَصِر أُمَّاً حتى تَكُونَ من أمهات نسائه، ثم إن حصَلَتِ الرضعات متفرِّقةً مثل أن أرضعت إحداهما ثلاثاً والأُخْرَى رضعتن، فالغُرْم على التي أرضَعَتِ الخامسة، هكذا ذكره الشيخ أبو عليٍّ وقد سبق ما يقتضي مجيء خلاف فيه، وإن اشتركتا في الرضْعَة الخامسة، بأن أرضعت كل واحدة منهما رضعتين، ثم أوجرتاها لبنهما المحْلُوب في إناء واحد دفعةً واحدةً، فالغُرْم عليهما بالسوية، ولو حَلَبَتْ إحداهما لَبَنَها ثلاثَ دفَعَاتٍ في ثلاث أوانٍ، والأخرى دفعتَيْنِ في إناءين، ثم جَمَع الكل، وأوجرت الصبية منه، فإن أوجرتْها إحْداهما، فالغُرْم عليها، وإن أوجرتاها، فيُغرَّمان بالسوية، أو أخماساً؟ فيه وجهان: أظهرهما: الأول. ولو حلَبَتْ إحداهما [أربعاً في أربع أوانٍ، والأخرى ثلاثاً في ثلاث أوان، ثم خَلَطَتَا الكلَّ فاوجرتاها معاً، فيُغَرَّمان بالتسويَة أو أسْباعاً]، فيه الوجهان: تحْتَه ثلاثُ صغائِر فجاءت ثلاث خالاتٍ للزوج من الأبوين، وأرضعت كلُّ واحدةٍ صغيرةً منهن يؤثر ذلك في نكاحهن، إذ ليس فيه إلا أنهن صِرْنَ بنات خالاتٍ، ويجوز نكاحُ بناتِ الخَالاَتِ، والجمع بينهن فلو جاءت جدة للزوج بعْد ذلك أم أمه، وأرضعت الصغيرةُ الرابعةَ، بَطَل نكاحُها، وحُرِّمت على التأبيد؛ لأنَّها صارَتْ خالةً للزوج، للصغائر الثَّلاَثُ، واجتمعْنَ معها في النِّكَاح، وفي انفساخ نكاحِ الثَّلاَث القولانِ السابقَانِ، وكذلك الحُكم لو أرضَعَتِ الرابعةَ امرأةٌ [أبي أم الزوج بلبنه ولو كانَتِ الحالَاتُ الثلاثُ متفرقاتٍ، وأرضعن الثلاثَ، ثم أرضعت الرابعة] أم الزوج، انفسخ نكاحها, ولا ينفسخ نكاحُ الصغيرة الَّتي أرضعَتْها خالة الزوج لأب لأن الرابعة لا تَصِير خَالةً لهذه الصَّغِيرَة، وفي الأخريين القولانِ، ولو كُنَّ متفرقات وأرضعت الرابعة امرأة
أبي أم الزوج، فينفسخ نكاحُ الرابِعَةِ، ولا ينفسخ نكاح الصغيرة التي أرضعتها خالَةُ الزوج للأم، وفي الأُخْرَيَيْن القولان، ولو أرضعت الصغائِرُ الثلاثُ ثلاثَ عمَّاتٍ للزوج من الأبوين أو من الأب، ثم أرضعت الرابعة أم أبيه أو أرضعت الرابعة امرأة أبي أبيه بلبنه فالحكم على ما ذكرنا في الخالات. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثُ: تَحْتَهُ كَبِيرَةٌ وَثَلاَثُ صَغَائِرَ وَلِلْكَبِيرَةِ ثَلاَثُ بَنَاتٍ أَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ صَغِيرَةً صَارَتِ الْكَبِيرَةُ جَدَّةَ الصَّغَائِرِ وَحُرِّمَتْ عَلَى التَّأْبِيدِ وَأَمَّا الصَّغَائِرُ صِرْنَ رَبَائِبَ فَيُحَرَّمْنَ عَلَى التَّأْبِيدِ إنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِالكَبِيرَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تحْتَهُ كبيرةٌ وثلاثُ صغَائِرَ وللكبيرةِ ثلاثُ بناتٍ مَرَاضِع فأرضعت كلُّ واحدةٍ منهن صغيرةً من الثلاثِ، فإن كانتِ الكبيرةُ مدْخُولاً بها، حُرِّمْنَ على التأبيد أرضعن معاً أو على الترتيب؛ لأن الكبيرة جدَّةُ نسائه والصغائر حوافدُ زوجة المَدْخُولِ بها، وعلى الزوج مَهْر الكبيرة بتمامه، ويرجع بالغُرْم على الصحيح عليْهِنَّ، إن أرْضَعْنَ معاً، لاشتراكهن في إفساد النكاح، وعلى الأُوْلَى إن أرضعْنَ عَلى الترتيب، ولكل واحدة من الصغائر نصْفُ المسمَّى على الزوج، وَيرْجع بالغرم بمَهْر كل صغيرة على مرضِعَتها، وإن لم تكن الكبيرةُ مدخولاً بها، فإن أرضعن معاً في المَرَّةَ الخامسة، انفسخ نكاحُهُنَّ؛ لاجتماع الجَدَّة مع الحوافد، وتحرم الكبيرةُ على التأبِيد دون الصغائر، وعلى الزَّوْج نصْفُ المسمَّى للكبيرة، ولكلِّ واحدةٍ من الصغائر، ويَرْجِع بالغُرْم لِمَهْر كل صغيرة على مرضعتها وبنصف مهر مثل الكبير، على المرضعات الثلاث على كل واحدة سدس؛ لاشتراكهن في إفساد نكاحها، وإن أرضعْنَ على الترتيب، فبإرضاع الأُولَى ينفسخ نكاح الكبيرة وتلك الصغيرة، ولكل واحدة منهما نصْف المسمَّى على الزوج، وَيرْجع بالغُرْم، ولا ينفسخ نكاح الأُخريين أرضعتا معاً أو على الترتيب؛ لأنهما لم يصيرا أختين، ولا اجتمعا مع الجَدَّة في النكاح، ولو أرضَعَتِ اثنتان صغيرتَيْن معاً، ثم أرضعَتِ [الثلاثة] الثالثةَ، لم ينفسخْ نكاحُ الثالثة، وانفسَخَ نكاحُ الكبيرةِ وَالصَّغِيرتيْن الأُولَيَيْن، وعلى الزوج نصْفُ المسمَّى لكل واحدة منهن، ويرجع الزَّوْج بالغُرْم لمهر كلِّ صغيرة على مرضعتها، وبمهر الكبيرة على المرضعتين معاً. فَرْعٌ: لابْنِ الحَدَّادِ: [إذا] نكح صغير بنت عمه الصغيرة، فأرضعت جدتهما أم أبي كل واحد منهما إحداهما ثبتت الحُرْمة بيْنَهُما، وانْفَسَخ النكاح؛ لأنها إن أرضعت الصغير, صار عمَّاً للصغيرة، وإن أرضعَتِ الصغيرةَ، صارَتْ عمَّةَ الصغير، ولذلك الحكم لَوْ كانت أمُّ أبي الصغيرِ غَيْرَ أمُّ أبي الصغيرة، بأن كان أبواهما أخوَيْن من الأب دون الأم، فأرضعَتْ إحداهما أحْدَ الصغيرين بلبن جدهما، ينفسخ النكاح؛ لأنَّ جَدَّة الصغير إن أرضعَتِ الصغيرة، صارت عَمَّةً للصغير من جِهَة الأَبِ، وكذا، لو أرضعَتْ
الباب الرابع في النزاع
جَدَّة الصغيرة أحدهما, ولو نكح صغيرٌ بنْتَ عمته الصغيرةَ، فجاءت الجَدَّة التي هي أمُّ أب الصَّغير، وأم أم الصغيرة، فأرضعت إحداهما، فكذلِكَ يَنْفَسِخ النكاح؛ لأنها إن أرضعَتِ الصغير, صار خالاً للصغيرة، وإن أرضعت الصغيرةَ، صارت عمَّةً للصَّغِير [وكذلك الحكْمُ، لو كانت أمُّ أبِ الصغيرِ غَيْرَ أم الصغيرة، وأرضعَتْ جدتهما أمّ أم كلِّ واحد منهما إحداهما، فكذلك؛ لأنها إن أرضَعَتِ الصغير, صَارَ خالاً للصغيرة، وإن أرضعت الصغيرة صارت خالة للصغير] (¬1) ولو نكح صغيرٌ بنْتَ خالِهِ الصغيرةَ، فأرضعت جدتهما أُمَّ أُمِّ الصغيرِ، وأم أب الصغيرة أحدهما، فكذلك؛ لأنها إن أرْضَعَت الصغير, صار عمّاً للصغيرة، وإن أرضَعَتِ الصَّغيرة، صارت خالَةً للصغير (¬2). البَابُ الرَّابعُ فِي النِّزَاعِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَإِنْ تَوَافَقَا عَلَى الرِّضَاعِ أَعْنِي الزَّوْجَيْن فَلاَ مَهْرَ وَانْدَفَعَ النِّكَاحُ، وَإِنِ ادَّعَى الزَّوْجُ وَأَنْكَرَتِ انْدَفَعَ النِّكَاحُ وَلَمْ يَسْقُطْ مَهْرُهَا إلاَّ بِبَيِّنَةٍ، وَإِنِ ادَّعَتْ هِيَ وَأَنْكَرَ لَمْ يَنْدَفِعَ النِّكَاحُ وَلَكِنَّهَا لاَ تَقْدِرُ عَلَى طَلَبِ المَهْرِ، فَإِنْ كَانَ المَهْرُ مَقْبُوضاً لَمْ يَقْدِرِ الزَّوْجُ عَلَى اسْتِرْدَادِهِ مَعَ الإِنْكَارِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فإذا قال: فلانةٌ أخْتِي من الرضاع أو ابْنَتِي، أو قالت المرأة: فلانٌ أخِي من الرضاع أو ابني، واتفقا على ذلك، لَمْ يَحِلَّ النكاح بينهما؛ لأنه إقرار منهما أو من أحدهما على نفسه، ليس فيه ضرر على غيره فيؤاخذ بمُوجِبِه، وهذا بشَرْط (¬3) الإمكان، أما لو قال: فلانةٌ ابنتي، وهي أكبر، سنّاً منه، فهو لَغْو، وعن أبي حنيفة: أنه يُثبتُ الحرمة، وإذا صحَّ الإقرار فلو رجعا أو رجع المقرُّ منهما وكذَّب نفسه، لم يُقْبَل رجوعه، ولم يَصِحَّ النكاح، وقال أبو حنيفة: يُقْبَل، ويجوز النكاح. لنا القياس على الإقرار بأُخُوَّة النسب، وعلى الإقرار بالطَّلاقَ، وللمسألة ذِكْر في الكتاب في آخر "باب الرجعة" حيث قال: "ولو أقرَّ بتحريمِ رَضَاعٍ أو نَسَبٍ، لم يكن ¬
لهما الرجُوعُ، هذا في الإقرار بالرضاع قبل النكاح. وأما بعد النكاح، فلو توافَقَ الزوجان على أن بيْنَهما رضاعاً مُحَرِّماً فُرِّق بينهما وسَقَط المسمَّى، ويجب مهْر المثل إن جرى الدُّخُول، وإلاَّ، لم يجبْ شيْءٌ، وإن اختلفا فيه، ولا بينة، فإن ادعاه الزَّوْج، وأنكرت المرأة، قُبِلَ قوله في حقِّه، ولم يُقْبل في حقِّها، فنَحْكُم بانفساخ النكاح، ويُفرَّق بينهما، ويجب لها نصْف المسمَّى إن كان ذلك قبل الدخول، وجميعُهُ إن كان بعد الدخول وله وتحليفها قبل الدُّخول وكذلك بعده إن كان المسمَّى أكثر من مهْر المِثْل، فإن نَكَلَتْ، حَلَف الزوج، ولا شَيْء لها قبل الدخول، ولا يجبْ أكْثَر من مهْر المثل بعْد الدخول، كما لو أقام بيِّنةً على الرضاع. وإن ادَّعَتِ المرأة الرضاع، وأنكر الزَّوْج، فقد مَرَّ في آخر "كتاب النكاح" أنَّه إنْ جَرَى التزويج منه برِضَاها, لم يُقْبَلْ قولُها، بل يُصدَّق الزوج بيمينه، وإن جَرَى بغير رضاها، فالمُصدَّق باليمين الزوجُ أو الزوجة؟ فيه وجهان: والأصح عند صاحب الكتاب: أنَّهُ يُصدَّق كَلامُ الزَّوْجِ، وهو ظاهر كلام الشافعيِّ -رضي الله عنه- في الباب، وعليه جرى العِرَاقيُّونَ، وذكَرْنا هناك أن الأصحَّ عند الشيخ أبي عليٍّ وجماعة تصديقُ الزَّوْجة، وبه قال صاحب "التهذيب" والمتولِّي، وحكاه القفَّال عن النصِّ (¬1)، وإذا مكنت الزوجَ وقد زُوِّجت بغَيْر، رضاها، تام تمكينها مقام الرضا. وقوله في الكتاب: "لم يندفع النكاح" إن أراد به أنه لا يندفع؛ لمجرد إقرارها بخلاف إقرار الرجُلِ، فالأمر كذلك، وإن أراد أنها لا تُحَلَّف، ولا يندفع النِّكاح بيمينها، بل يُصدَّق الزوج، فهو اختيار لوجه تصديقَ الزَّوْج كما ذكره في الكتاب في آخر النكاح. والورع للزوج إذا ادعت الرضاع أن يُحَرِّم نكاحهن بطلْقَةٍ، لتحلَّ لغيره، إن كانت كاذبةً، نَصَّ عليه -رضي الله عنه- وليس لها المطالبة بالمسمَّى إذا ادعت الرضاع، فإنها لا تستحق بقولها ولها المطالبة بمهر المثل إن جرى الدخول، فإن كان ذلك بَعْدَما وَفَّى الزَّوْجُ الصَّدَاقَ، لم يتمكَّنْ من الاسترداد لِقوله، ويشبه أن يكون فيما يفعل بذلك المالِ الخلافُ المذكورُ فيما إذا أقرَّ بمال لغيره، وأنكره المُقَرُّ له. ولو أقرت أمة بأخوة الرضاع لغير سيدها، يُقْبَل، فإذا اشتراها ذلك الغير، لم يَحِلَّ له وطؤها، وإن أقَرَّتْ لسيدها, لم يُقْبَل بَعْدَ التمكين، وقبله فيه وجهان، والله أعلم. ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الحِلِفِ فَيَحْلِفُ مُدَّعِي الرِّضَاعِ عَلَى البَتِّ، وَمُنْكِرُهُ عَلَى نَفْيِ العِلْمِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من الأُصول الممهِّدة أنَّ الحالِفَ عَلَى فِعْل الغَيْر يحلف على البت إن كان يثبت، وعلى نفي العلم إن كان يَنْفِي [وحَظُّ الرضاع مِنْ هذا الأصل أنَّ مُنْكِر الرِّضاع يَحْلِف عَلَى نَفْي العِلْم؛ لأنَّه ينفي] (¬1) فعل الغير، ومُدَّعيه يَحْلِف على البَتِّ يستوي فيه الرَّجُل والمرأة، فلو نَكَلَتْ عَنِ اليَمِينِ ورَدَدْناها على الزَّوْج أو نَكَل الزوج، وردَدْنا اليمين على المرأة فَتَكُون اليمين المردودةُ على البَتِّ؛ لأنها مثبتةٌ، وعن القَفَّال: أن اليمينَ المردودةَ تكون على نفي العِلْم؛ لتكون موافقةً ليمين الابتداء، [وقيل إن غير المنكر منهما على البت] ويُحْكَى عن الحاوي وجْهَانِ مُطْلَقَانِ في يمين الزوج إذا أنكر الرَّضَاع. أحدهما: أنَّها عَلَى العِلْمِ كيمين الزوجة، إذا أنْكَرَتْ. والثاني: على البت والقَطْع، وفُرِّقَ بأنَّ في يمينِ الزَّوْج مع تصحيحِ العَقْد فيما مَضَى إثباتَ استباحةٍ في المستقبل، فكانت على البت تغليظاً، ويمينُ الزوجة لبقاء حقٍّ ثَبَت بالعَقْد ظاهراً، فيُقْنِع فيه بالعِلْم، وليس هذا الفرق بمُتَّضِح وبنى على الوجْهَيْن ما إذا ادَّعَتِ الرضاع، فشَكَّ الزوج، فلم يقع في نفسه صِدْقُها, ولا كَذِبُها إن قلْنا: إنه يحْلِف على نَفي العِلم، فله أن يَحْلِفَ هاهنا، وإن قلنا على البت، فلا يحلف، وأشار في "التتمة" إلى طَرْد الوجهَيْن في يمين الزوجَيْن والزوجةِ جميعاً، ووَجَّه كون اليمين على البت بأنَّه ينفي حُرْمةً يدعيها المُدَّعِي للرضاع، فيحلف على القَطْع، وإذا عَرَفْتَ ما ذكرنا أعْلَمْتَ قوله في الكتاب "على البَتِّ" بالواو، وكذا قوله: "على نفي العلم". قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَمَّا الشَّهَادَةُ فَتَثْبُتُ (ح) بِقَوْلِ أرْبَعِ نِسْوَةٍ، فَإِنْ شَهِدَتْ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا وَهِيَ مُنْكِرَةٌ قبل، وَإِنْ كَانَتْ مُدَّعِيَةً فَلاَ، وَيُقْبَلُ ابْتِدَاءً مِنْهُمَا بِطَرِيقِ الحِسْبَةِ، وَتُقْبَل شَهَادَةُ المُرْضِعَةِ لِأَنَّ فِعْلَهَا غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالإِثْبَاتِ بَلْ وُصُولُ اللَّبَنِ إِلاَّ أنْ يَطْلُبَ الأُجْرَةَ فَلاَ يُقْبَلُ قَوْلُهَا، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ الشَّاهِدُ وُصُولَ اللَّبَنِ إِلَى الجَوْفِ بِقَرِينَةِ مُشَاهَدَةِ الالْتِقَامِ وَالتَّجَرُّعِ وَحَرَكَةِ الحَلْقِ ثُمَّ يَشْهَدُ عَلَى البَتِّ بِأَنَّ بَيْنَهُمَا رَضَاعاً مُحرِّماً، وإنْ شَهِدَ عَلَى فِعْلِ الإِرْضَاعِ فَلْيَذْكُرِ الوَقْتَ وَالعَدَدَ، وَهَلْ عَلَيْهِ ذِكْرُ وُصُولِ اللَّبَنِ إِلى الجَوْفِ؟ فيه خِلاَفٌ، وَلاَ يَكْفِي أَنْ يَحْكِيَ القَرَائِنَ فَيَقُولَ: رَأْيْتُهُ قَدِ التَقَمَ الثَّدْيَ وَحَلْقُهُ يَتَحَرَّكُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: كلام الباب الرابع قد رتبه في فُصُولٍ ثلاثةٍ: ¬
أحدها: في دعْوَى الرضاع وحكمها. والثاني: في كيفية اليَمِين فيه، وقد فَرَغْنَا. والفصل الثالث: في الشهادةِ على الرِّضاع، وفيه مسألتان: إحداهما: يثبت الرضاع بشهادة رجُلَيْنِ ورَجُل وامرأتين، وكذا يقبل شهادةُ أربع نسوةٍ؛ لأنه مِمَّا يخْتصُّ النساء بالإطلاع عليه غالباً، فأشبه الولادةَ، ولا يَثْبُت بما دون أربعِ نسوةٍ فإن كل امرأتين بمثابة رجل واحد، وقال أبو حنيفة: لا يَثْبُت الرَّضاعُ بالنِّسْوة المتمحِّضات، وعن مالك: لا حاجة إلى أربع نِسْوَةٍ، ويكفي ثنتان، وقَبِلَ أَحمدُ -رحمه الله- شهادةَ المُرْضِعة وحْدَها، ويجوز أن يُعْلَم؛ لذلك قوله في الكتاب "فَيَثْبُتُ" بالحاء. وقوله: "أربع نسوة" بالميم والألف. ولا يَثْبُت الإقْرارُ بالرضاع إلا بشهادةِ رجلَيْن؛ لأن الإقرار ممَّا يَطَّلع عليه الرجال غالباً، بخلاف نَفْس الرضاع، وفي "التتمة": أنه له كان التنازُعُ في شُرْب اللبنِ من ظَرْف، لم تُقْبَل فيه شهادةُ النساء المتمحضات لأنَّه لا يختص باطِّلاع (¬1) النساء علَيْه، وإنما تُقْبَل شهادتهن، [إذا كان النزاع في الرَّضَاع من الثَّدْي، وإنه تُقْبَل شهادَتُهُنَّ] على أن اللَّبَنَ الحاصل في الظرف لَبَنُ فلانةٍ؛ لأن الرجال لا يَطِّلعون على الحَلْب غالباً. ولو شهدَتْ فيمن شَهِدَ أمُّ المرأة أو ابْنَتُها على حُرْمة الرضاع بَيْنَها وبين الزوج، فإنْ كان الرجُلُ مدَّعِياً والمرأة مُنْكِرة، تُقْبَل؛ لأنها شهادة على البِنْتِ أم الأم وإن كانت المرأَةُ مدَّعِيَةً، والرجُلُ منكراً، لم تُقْبَل لأَنَّها شهادةُ البِنْت للأُم قال الأئمة: ولا يُتصوَّر أن تشهد البنت على أمها بأنها ارتضعت من أم الزوْج، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- لأن الشهادة عَلَى الرَّضَاع تَعْتَمِدُ المشاهدة، ولكن يُتصوَّر أن تَشْهد عليْها بأنَّها أرضَعَتِ الزوْجَ في حال صِغَرِه أو أرضعته أمها أو أختها, ولو شهدت الأمُّ أو البنْتُ من غَيْر تقدُّمِ دَعْوى على سبيل الحِسْبةَ قُبِلَتْ، وإن احتمل أن تَكُونَ هي المُدَّعِية، وسنذكر -إن شاء الله تعالى- أن الرضاع مما تُقْبَلُ فيه شهادةُ الحِسْبَةَ في موضعه، وهذا كما أنَّه لو شَهِد أبو ¬
الزَّوْجة [وابنُها أو ابناها] (¬1) ابتداء على أن زوْجَها قد طلَّقْها، يُقْبَل ولو ادعَتِ الطلاق، فشهدا، لم تُقْبَلْ. ولا تقبل شهادةُ المرضِعة وحْدَها، وهل تُقْبَل شهادتها فيمن يشهد، إن ادَّعَت أجرة الرَّضاع، لم تُقْبَل؛ لأنها مُتَّهَمةٌ تشهد لنفسها، وعن "الحاوي" حكايةُ وجهَيْنِ في أنَّه إذا لم تُقْبَل شهادتها في الأجرة فهل تُقْبل في ثبوت الحرمة تخريجاً على الخلاف في تَبْعِيض الشهادة، واختار أبو إسحاق منْهما القَبُول، واختار ابن أبِي هُرَيْرة (¬2) المَنْعَ، وإن لم تَدَّعِ الأجرة، فإن لم تتعرَّض لِفِعْلها، بأن شَهِدَتْ بأخوَّة الرضاع بينهما أو على أنهما ارتضعا منها، فتقبل، ولا نَظَر إلى ما يَتعلَّق به من ثُبُوت المحرمية، وجواز الخَلْوة والمسافرة، فإنَّ الشهادة لا تُرَدُّ بمثل هذه الأغراض، ألا ترى أنَّه لو شَهِدَ شاهدانِ عَلَى أنَّ فلاناً طَلَّق زوْجَتَه، أو أعتق أمته (¬3)، يقبل، وإنْ كان يَسْتَفيدان حِلَّ المنكاحة، وإن شهِدَتْ على فِعْلِ نَفْسِها، فقالت أرْضَعْتُهما؟ فوجهان: أحدهما: أن شهادتَهَا لا تُقْبَل، كما لو شهِدَتْ على ولادَتِها، وكما أن الحاكم، لو شَهِد على حُكْم نَفْسِه بعْد العزل، لا يُقْبل، وكذا القَسَّام، لو شهد على القسمة، وهذا أصح عند صاحب "التهذيب". وأظهرهما، -وبه أجاب الأكثرون-، وهو المذكور في الكتاب: أنها تقبل؛ فإنها لا تَجُرُّ بهذه الشهادة نَفْعاً، ولا تَدْفَعُ ضرراً، وليس الرضاع كالولادةِ فإنَّه يتَعلَّق بها حقُّ النفقةِ والميراثِ وسقُوطِ القِصَاصِ وغيرها، وتخالف شهادة الحاكم والقَسَّام؛ لأن فعلهما مقصودٌ، وفِعْل المرضعة غَيْرُ مقصود بالإتيان، وإنَّما الاعتبار بوُصُول اللبن إلى الجَوف؛ لأن الشهادة بالحُكْم والقسمة تَتَضمَّن تزكيةُ النَّفْس، فإنَّ الحكم والقسمة يفتقدان إلى العدَالَةِ والإرضاغ بخلافه، وسيذكر -إن شاء الله تعالى- في "أدب القضاء" أن المَعْزُول، لو شَهِد بأن حاكماً حكم به، ولم يُضِفْ إلى نفسه، ففي قَبُول شهادته ¬
خلاف، فَيُمْكِن أن يُخَرَّج في الرضاع مثله. وإذا لم يتم نصاب الشهادة؛ بأن شهد بالرضاع امرأةٌ واحدةٌ؛ إمَّا المُرْضِعة أو غيرها، أو شَهِدت اثنتان، فالوَرَعُ أن يَتْرُك نكاحَها، وأن يُطَلِّقها، إن كان ذلك بعد الدخول، ويُرْوَى أن عقبة بن الحَارِثِ نَكَحَ بنْتاً لأبي إهَاب بْنِ عَزيز، فَأَتَتْهُ امرأةً، وقالت: قَد أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي نَكَحَهَا، فَقَالَ لَهَا عُقبَةُ: أَعلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي، وَلاَ أَخْبَرْتَنِي، فأرسل إلى آل أبي إهاب فسألهم فقالوا ما علمناها أرضعت صاحبتك فَرَكِبَ إلى النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-، بالمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "كَيْفَ، وَقَدْ قِيلَ"، فَفَارَقَهَا، وَنَكَحَتْ زَوْجَاً (¬1) غَيْرَهُ، وَلَوْ شهد اثنان بالرضاع، وقالا: تعمَّدْنا النظر إلى الثدي، لاَ لِتَحَمُّلِ الشهادة، لم تُقْبَل شهادَتُهما؛ لأنهما فاسقان بقولهما، وفي النَّظَر إلى الثدي لتحمل الشهادة خلاف مذكورٌ في أوَّل النكاح، والظاهر جوازه (¬2). المسألة الثانية: أطلق جماعة منهم الإِمام -رحمهم الله تعالى- أن الشهادَة المُطْلَقة على أن بينهما رضاعاً مُحَرِّماً أو حُرْمَةَ الرضاع أو أُخُوَّتَهُ أو بنوته مقبولةٌ، ويوافقه قوله في الكتاب: "ثم يَشْهَدُ على الْبَتِّ بأن بَيْنَهُمَا رَضَاعاً مُحَرِّماً. وقال الأكثرون: لا تُقبل شهادةُ الرَّضاع مُطْلَقَة بل لا بد من التفصيل والتعرُّض للشرائِطِ، وهو ظاهر النَّصِّ؛ لأن مَذاهِبَ الناس مختلفةٌ في شرائط الحرمة، فلا بد من التفصيل لِيَعْمَل القاضي باجتهاده، وحكى صاحب "التهذيب" الوجهَيْن جميعاً. وقال: الصحيح الثاني، وَيحْسُن أن يُتَوَسَّطَ بينهما، فيّقال: إن كان المطلِّق (¬3) فقيهاً موثوقاً بمَعْرِفَتِه، فيُقْبَل منْه الإطْلاَق، وإلا، فلا بُدَّ من التفصيل، وُينَزَّل الكلامان على هاتين الحالَتَيْن أو يُخَصَّص الخلاف بما إذا لم يكن المُطَلِّق فقيهاً؛ وقد سَبَق مثله ¬
في الإخْبار عن نجاسة الماء وغيره، والمانعون مِنْ قبول الشهادة المُطْلَقة في الرَّضاع ذَكَروا وجهَيْن في قَبُول الشهادة المُطْلَقَة على الإقْرار بالرَّضَاع، ولو قال: هي أخْتِي مِنَ الرضاع، ففي "البحر" وغيره: أنه لا حاجَةَ إلى التعرُّض للشرائط، إن كان من أهل الفِقْه، وإلا، ففيه وجْهان، وفرق بين الإقرار والشهادة بأَنَّ المُقِرَّ يحتاطُ لنفسه، فَلاَ يُقِرُّ إلا عن تَحْقيق. ولو شهد الشاهِدُ على فِعْلِ الرضاع، والارتضاع، لم يَكْفِ، وكذلك في الإقْرار بل لا بد من التعرُّض لِلْوَقْت والعدد؛ بأن يشهد أنَّه ارتضع منْها أو أرْضَعَته في الحولَيْن خمْسَ رضَعَاتٍ متفرِّقَاتِ (¬1)، هكذا ذكَروا [و] في التعرُّض للرضعات ما يغني عن ذِكْر التفرُّق، فإنه إذا لم يَكُنْ تَفرُّق، لم يكُنِ الحاصِلُ رضَعَاتٍ، بل رضعةٌ طويلةٌ، وهل يشترط ذِكْرُ وصول اللبن إلى الجَوْف؟ فيه وجهان: وأظهرهما: وهو المذكور في "التتمة" وغيره: أنَّه يُشْتَرط كما يُشْتَرط ذِكْر الإيلاج في شَهَادَة الزنا, ولأن الحُرْمة تَتَعلَّق بالوصول إلى الجَوْف. والثاني: أنَّه لا يُشْترط؛ لأنه لا يشاهد قال في "البسيط": ولا شك أن للقاضي أنْ يَسْتَفْصل، ولو مات الشَّاهِد قبْل الاستفصال (¬2)، هل للقاضِي التوقُّف؟ فيه وجهان، واعلم أن الشاهد قد يستَيْقنُ وصُولَ اللبن إلى جَوْف الصغير؛ بأن يعاين الحَلْب وإيجار الصغير المَحْلُوبَ وازدراده، وحينئذ يَشْهَد به، ولا إشكال, وقد يُشَاهِد القرائِنَ الدالَّة عليه، وهي الْتقَامُ الثَّدْي وامتصاصه وحركة الحَلْق بالتجرُّع والازدراد بعْد العلم، بكونها ¬
ذات لَبَنٍ، ومشاهدةُ هذه القرائن قد تفيد اليقين، وبتقدير أن لا تفيده، فتفيد الظن القويَّ، وذلك يسلُّط على الشَّهادة، فلا يكاد يُتيقَّن اليد والتصرُّف الدَّالَّيْنِ على الملْك. ولا يجوز أن يشهد على الرضاع؛ بأن يَرَى المرأة أخذَتِ الصبيَّ تحت ثيابها، وَأَدْنَتهُ منها، كما تفْعَلُ المرضعة، فإنَّه قد تُوجِرَهُ لبن غيرها في شَيْءٍ على هيئة الثَّدْي، ولا بأَنْ يسمع صوت الامتصاص، وقد يمتصُّ أصبعه أو أصْبُعَها. وذكر أبو الفرج السرخسيُّ أن مشاهدة الالتقام والامتصاص وهيئة الازدراد، هل تُحِلُّ له الشهادةَ مِنْ غير أن يَعْرِفَ كونها ذاتَ لَبَنٍ؟ حكى فيه وجهَيْن: أحدهما: نعم، أخذ بظاهر الحال. وأشبهَهُما: المنع؛ لأن الأصْل عَدَمُ اللبن، ولا يكْفي عند أداء الشَّهادة حكايةُ القرائِنِ؛ بأن يشهد برؤية الالتقام والامتصاص والتجرُّع، ولاَ يتعرَّض لوصول اللبن إلى الجوف، ولا للرضاع المُحَرِّم، وإن كان مُسْتَنَدُ عِلْمِهِ رؤيةَ تلْكَ القرائن؛ لأنَّ مُعَاينتِهَا تُطَّلِع على ما لا تُطَّلَع عليه الحكاية، فإن أطلعته على وصول اللبن، فلْيَجْزم به على قاعدة الشَّهَادَاتِ. فرْعَانِ: قد سَبَق ما نُرْشِد إلى مثلهما. أحدهما: تحته ثلاثُ صَغَائِرَ أرضعت أجنبيةٌ إحداهُن، ثم أرضَعَتْ أمُّ المرضعةِ أخْرَى، ثم أرضعَتْ بنْتُ المرضعةِ الثالِثَةَ، فنكاح الأُولَى لا يتأثر برضاعها وينفسخ نكاح الثانية عند إرضاعها؛ لصيرورتها خالةً للأُولَى، واجتماعهما في النكاح، وهل ينفسخ نكاحُ الأُولَى مع نكاح الثانية أم يختص الانفساخ بنِكَاحِ الثانية؟ فيه قولان، وعليهما يتفرَّع حكم الثالثة، إن حكَمْنا بانفساخ الأُولَى، بَقِيَ نكاح الثالثة، وإلا انفسخ نكاح الثالثة لصيرورتها بنْتَ أخْتِ الأُولَى، واجتماعهما في النكاح. والثاني: أرضعَتِ امرأةٌ صغيرةً ثلاثَ رَضَعَاتٍ أو أربع فنكحها أو نكح إحداهما دون الأخْرَى، ثم أتمت العدَدَ، فكذلك ينفسخ نكاحُها، وفي كتاب القاضي ابن كج: أنَّه لو كان الصَّبِيُّ يرتضع الرضعة الخامسة، [فمات أو ماتَتِ المرضعةُ قَبْل أن يتمها، ففي ثُبُوت التحريم وجهان، كالوجهين فيما إذا قطَعَت المُرْضِعَةُ الرَّضْعَةَ. وأنه وإن كانت تَحْتَه كبيرةٌ وصغيرةٌ] (¬1) فَارْتَضَعَتِ الصَّغِيرةُ من الكبيرة، وهي ساكتة، فهل هو كما لو كانت نائمة، فارتضعَتْ منها الصغيرة، أو يقال سكوتها كالرِّضَى فيحال الفسخ على فِعْلِها فيه وجهان، والله أعلم بالصواب. تم الجزء التاسع، ويليه الجزء العاشر وأوله: "كتاب النفقات" ¬
كتاب النفقات
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ النَّفقَاتِ وَأَسْبَابُهَا ثَلاَثَةٌ: النِّكَاحُ وَالقَرَابَةُ وَالمِلْكُ، السَّبَبُ الأَوَّلُ النِّكَاحُ، وَفِيهِ ثَلاثَةُ أَبْوَابٍ. البَابُ الأَوَّلُ فِي قَدْرِ النَّفَقَةِ وَكَيْفِيَّتِهَا، وَفِيهِ فَصْلاَن قَالَ الْغَزَالِيُّ: الفَصْلُ الأَوَّلُ فِي وَاجِبَاتِ النفَقَةِ وَهِيَ سِتَّةٌ: الوَاجِبُ الأَوَّلُ الطَّعَامُ وَهُوَ مُدُّ (ح م و) عَلَى المُعْسِرِ، وَمُدَّان (ح م و) عَلَى المُوسِرِ، وَمُدٌّ وَنِصْفٌ (ح م و) عَلَى المُتَوَسِّطِ، وَلاَ تُعْتَبَرُ الكِفَايَةُ (ح م ز)، وَلاَ يُعْتَبَرُ حَالُ المَرْأَةِ (ح) في مَنْصِبِهَا، وَالمُعْسِرُ هُوَ الَّذي لاَ شَيْءَ لَهُ وَهوَ المِسْكِينُ الَّذِي يَأْخُذُ سَهْمَ المَسَاكِينِ، وَالمُتَوَسِّطُ هُوَ الَّذي لَوْ كُلِّفَ مُدَّيْنِ لَرَجَعَ إلَى المَسْكَنَةِ، وَمَنْ جَاوَزَ ذَلِكَ فِهُوَ مُوسِرٌ، وَالمُكَاتَبُ والعَبْدُ مُعْسِرَانِ، وَكَذَا من نِصْفُهُ (ز) حُرٌّ وَنصْفُهُ عَبْدٌ، أمَّا جِنْسُ الطَّعَامِ فَغَالِبُ قُوتِ البَلَدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَمَا يَلِيقُ بِالزَّوْجِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لوجوب النفقة أسباب ثلاثة: مِلْك النِّكاح، ومِلْك اليَمِين،، وَقَرابة البعضية، والأول والثاني يوجبان النفقة للمملوك على المالك دون العكس؛ لاشتغال المَمْلوك وكَوْنِهِ مَحْبوساً برقِّه ليتفرَّغ لمالكه، فجبر ما لحقه من التَّعَب بالقيام بمؤنته. والثالث: يوجب النفقة لكلِّ واحدٍ من الفريقَيْنِ على الآخر لشمول البعضية والشفقة، والأصل في السبب الأول للإجماع؛ فلا خلاف في وجوب نفقة الزوجَاتِ على الأزْوَاج في الجُمْلة، ثم احتج له من الكتاب بقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] يقول:
إن خفتم أن لا تعدلوا بيْن النساء، فاقتصروا على واحدةٍ وعلى ما ملكت أيمانكم، فذلك أدنى أن لا تَكْثُر عيالكم، ولا تلزمكم المؤن الكثيرة؛ فدل على وجوب مؤنة العِيَال، وهاهنا كلامان: أحدهما: اعترضوا على تفسير الشافِعِيّ -رضي الله عنه- وقالوا: قوله: "أَلَّا تَعُولُوا" معناه ألا تَجُورُوا؛ لئلا تكثر عيالكم، يقال: عال إذا جار، وأعال إذا كَثُرَ عياله، وأجيب عنه بأن ما ذكره الشافعيُّ -رضي الله عنه- منقولٌ من جِهَة الأثر عن زيد بن أَسْلَمَ -رحمه الله- ومن جهة اللُّغَة عن الكسائيِّ -رحمه الله- وإن كان أعال في العيال أكثر. والثاني: ذكر الشَّافعيُّ -رضي الله عنه- هاهنا استحبابَ الاقْتصار على امرأة واحدة، وذلك لِعُسْر العدل والتسوية بينهن، والعَجْز عنه قال الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] وقال الماوردِيُّ: هذا إذا كان تكْفيه الواحدة، ومن لا يقنع بالواحدة لقوة شهوته، فالأَوْلَى به الزيادة؛ ليكون أغضَّ لطرفه. ومِنَ السنة ما رُوِيَ أن هنْدَ امرأة أبي سفيان جاءت إلى رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت يا رسول الله إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لاَ يُعْطِينِي [من النفقة] مَا يكْفِينِي وَوَلَدِي إِلاَّ مَا آخُذُ منْهُ سِرّاً، وَهُوَ لاَ يَعلَمُ، فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؟ فَقَالَ: "خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوف" (¬1) واستخرج الأصحاب من الخبر وراء وجوب نفقة الزوجة ووَلَدِها فوائِدَ: منْها: أنه يجوز للمرأة الخُرُوج من بيتها لتستفتي، وأنَّ صَوْتها لَيْسَ بعورة، وأنه يَجُوزُ لِمَنْ مُنِعَ حَقَّه أن يَشْكُو وَيتظلَّم، وأنه يجوز ذِكْر الغائب بما يسوءه عند الحاجة، فإنها وصَفَتْه بالشُّحِّ، وأنه يجوز لِمَنْ له حقٌّ على غيره، وهو ممتنع، أن يأْخُذ من ماله بغَيْر إذنه، وأنه لا فَرْق بين أن يكون من جنْس حقِّه أو من غير جنسه، وأنه يَجُوز للقاضِي أن يَقْضِي بعلْمِه على الغائب وأجيب عنْهما: بأنه أفتى ولم يَقْضِ، وأن الأم تكون قيِّمة الوَلَد، فإنه جوَّز لها الأَخْذ والإنفاق في حياة الأَبِ، فكذلك بعْد موته، وهذا وجه قد مر في موضعه، وصححه الجُوَيْنِيُّ في "المنهاج" وأفتى به القاضي الرُّويانيُّ، وظاهر المَذْهَب خلافُهُ، وإذا شهد ذلك، فلا بد في نفقة الزوجات من معرفة ما يجب، وأنَّه كيف تُوَفِّي وأنه متى يجب، ومَتَى يسْقُطُ، وأنه إذا عَجَزَ الزوْجُ عن الواجب، ما الذي تعمل؟ فضمن القول في هذه الأمور في ثلاثة أبواب: أحدها: في قَدْر الواجب وكيفيته. ¬
والثاني: في الأحوال التي تسقط فيها النفقة. والثالث: فيمن أعسر، وعجز عن توفية الواجب. أما الباب الأول: ففيه فصلان: الفصل الأول: فيما يجب، وهو أنواع: أحدهما: الطعام؛ أما قدره، فيختلف باختلاف حال الزوج في اليسار والإعسار، ولا يُعْتَبَر فيه الكفاية، ولا يُنْظَر إلى حال المرأة في الزهادة والرغبة، ولا في منصبها وشرفها وتستوي المُسْلمة والذمية والحرة والأمة، واحتج الأصحاب -رحمهم الله- لأصل التفاوت بقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي ضُيِّق. ثم قالوا: وجَدْنا الشرع قد قَدَّر في الكفارات فأكثر ما أوجب فيها للمسكين الواحد مُدَّيْنِ، وذلك في كفَّارة الأذى وأقل ما أوجب للواحد مد واحد، وذلك في كفارة اليمين والظهار والوقاع في نهار رمضان، فاعتبرنا النفقة بهما؛ لأن كل واحدٍ منْهما مالٌ يجِبُ بالشرع وَيَسْتَقِرُّ في الذمة، فأوجبنا على الموسر الأكْثَر، وعلى المُعْسِر الأقلَّ وجعَلْنا المتوسِّط بينهما، وألزمناه مدّاً ونصْفَ مُدٍّ، وقال الإِمام -رحمه الله- ومن نحا نحوه في توجيه المَذْهَبِ: إن نفقة الزوجات ليست على الكفاية كنفقة القريب لأنها تُسْتَحَقُّ في أيَّام مَرَضِها وشبعها، وإذا بَطَلَت الكفاية، حَسُن تقريبها من الكفارات، فالمُدُّ الواحد يَكْتَفِي به الزهيد، ويتبلَّغ به الرغيب والمدان قدر للمتوسِّعين. والمعتبر مُدُّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وهو مائَةُ ودِرْهَم وَثَلاثةَ وَسَبْعُونَ دِرْهَمَاً وثلث درهم (¬1) والمدان ثلاث مائة درهمٍ وستة وأربعون درهماً والمد والنِّصفْ مائتا درهمٍ وستون درهماً. هذا ظاهر المذهب، وما وُجِّه به، وثلثا درهم، ووراءه قولان: أحدهما: عن رواية الشيْخ أبي مُحَمَّد: أنه يعتبر فيه الكفايَةُ كما في نفقة القَرِيب، وقد يُحْتَجُّ له بما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قَاَلَ لِهِنْدَ: "خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِاَلْمَعْرُوفِ" (¬2). والثاني: عن رواية صاحب "التقريب": أن الاعتماد في قَدْر النَّفَقة على فرض القَاضِي، وعليه أن يَجْتهد، وعند أبي حنيفة، ومالك: أن الاعتبارَ بحَال المرأة، ويختلف القَدْر برغبتها وزهادتها، ويقال: إن النَّظَر عند أبي حنيفة إلى شَرَفِها وضعتها، وعند أحمد: يُنْظَر إلى حال الزوجين جميعاً حتى يَجِبَ على المُوسِر للفقيرة نفقة متوسطة. والأُمَ يُنْظَرُ في اليَسَار والإعسار والتوسُّط؟ فيه وجوه: ¬
أحدها: أنَّ الرجوع فيها إلى العَادَة، وتختلف العَادَةُ باختلاف الأحوال والبلاد، وهذا ما أورده صاحب "التتمة" وغيره. والثاني: عن القاضي الحُسَيْن: أن الموسر مَنْ يزيد دخله على خرجه، والمُعْسِر من يزيد خرجه على دخله، والمتوسِّط من يستوي دخله وخرجه، وهذا والأول ما أورده صاحب "التهذيب" والثالث عن "الحاوي": أن النَّظَر في هذه المراتب في باب النفقة إلى الكَسْب؛ فَمَنْ يَقْدِر على نفقة المُوسِرِين في حقِّ نَفْسِه وحق من في نفقته من كسبه، لا من أصْل ماله، فهو موسر، ومَنْ لا يَقْدِر على أن يُنْفِقَ مِنْ كسبه، فهو مُعْسِر، والمتوسِّط هو الذي يَقْدِر عَلَى أن ينفق من كسبه نفقةَ المتوسِّطين. وأحْسَنُها، وهو الذي أورده الإِمام وصاحب الكتاب: أن من لا يملك من المال شيئاً أصلاً، أو يملك من المال مالاً يُخْرِجه عن استحقاق سَهْم المساكِين، فهو مُعْسر، فإنْ مَلَك ما يُخْرِجه عن استحقاق سهم المساكِين؛ فإن كان لا يتأثَّر بتكليف المدين، فهو موسر، وإن كان يتأثر؛ بأن يرجع إلى حد المسكنة أو كُلِّف بدَيْنٍ، فهو متوسِّط، ولا بد في ذلك من النظر إلى الرُّخْص والغَلاَء. والقُدْرة على الكَسْب الواسع لا يخرجه عن حدِّ الإعسار في النفقة، وإن كانت تخرجه عن استحقاق سهم المساكين (¬1). يُنْظَر في اليسار والإعسار إلى وقت طلوع الفجر، وهو الوقت الذي يجب فيه تَسْلِيم النفقة، فإن كان مُوسِراً حينئذ، فعليه نفقة الموسرين لذلك اليوم، وإن أعسر في أثناء النهار. وإن كان معسراً، لم يلزمْه إلاَّ نفقةُ المُعْسِرِين، وإن أيْسَرَ بعده، ذكَره في "التهذيب". وإذا كان الزَّوْج عبداً، فلَيْس عليه إلا نَفَقَةُ المُعْسِرين، وكذلك المكاتَبُ، وإن كثر ماله؛ [لأنه غير أمِّ المِلْك، وفيمن بعْضُه حرٌّ وبعضه رقيقٌ وجهان: أصحُّهما: أنَّه ليْسَ عليه إلا نفقةَ المُعْسرين؛ لنقصان (¬2) حاله، وإن كثر ماله] ببعض الحر. ¬
والثاني: وبه قال المزنيُّ: أن عليه ببعضة الحُرِّ نَفَقَةَ المُوسِرِين، إذا كثر ماله كما أنه يخرج صدقة الفِطْر ببعضة الحر بالقِسْط، فعلَى هذا، لو كان نصفُه حرّاً، ونصفه رقيقاً، فعليه مدٌّ ونصفٌ. وأما جنس الطعام، فغالب قوت البلد من الحنْطَة أو الأَرز أو التَّمْر أو غيرها، حتى يجب الأَقِطُ في حقِّ أهل البوادي الَّذين يقتاتونه وذلك (¬1) لأن الله تعالى أوجب النفقة والكسوة بالمعروف، ومِنَ المَعْروف أن يطعمها ما يَطْعَمُ أهلُ البلد، وأيضاً، فالواجب في الفطرة والكفارة الجنس الغالب فاعتبرت النفقة بهما، وعن تخريج ابن سُرَيْجٍ -رحمه الله- وجهٌ: أنَّه لا يُنْظَر إلى الغالب، وإنَّما يُعْتَبَر بما يليق بحال الزوج إلحاقاً للجنس بالقَدْر، وإذا قلْنا بالظاهر، فلو اختلف قُوتُ البلد، ولم يَكُنْ غالباً، وجب ما يليق بحال الزَّوْج. وأمَّا لَفْظ الكتاب، فقوله: "وهو مد على المعسر" يجوز أن يُعْلَم بالحاء والميم والألف والواو؛ فإنه إذا اعتبرت الكفاية، أو اعتبر حال الزوجين جميعاً، لم يَتقدَّر الواجب، وأيضاً، فقد حَكَى القاضي ابن كج عن ابن خيران وغيره -رحمهم الله-: أن النفقة لا تتقدَّر بالمقادير المذْكُورة، ولكن يُتْبَع [فيه] عُرْف الناس في البلد، ويجوز أن تعاد العلاماتُ على لَفْظ المُدِّ، وعلى المد والنِّصْف وعلى قول: "ولا يُعْتَبَر الكفاية"، وكذا قوله: "من نصفه حر" مُعْلَمٌ بالواو والزَّاي. وقوله: "فغالِبِ قوت البلد" بالواو. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الوَاجِبُ الثَّانِي الأُدْمُ وَهُوَ مِكْيَلَةُ زَيْتٍ أَوْ سَمْنٍ كُلَّ يَوْمٍ تَقْرِيباً، وَرَطْلُ لَحْمٍ فِي الأُسْبُوعِ لِلْمُعْسِرِ، وَرَطْلاَنِ للِمُوسِرِ، وَقِيلَ: يُزَادُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ البِلاَدِ إِذَا كَانَتِ العَادَةُ تَقْتَضِيهِ، وَلَوْ تَبَرَّمَتْ بِجِنْسٍ وَاحِدٍ مِنَ الأُدْمِ فَلَهَا السَّعْيُ فِي الإِبْدَالِ، وَلَهَا أنْ تَأْخُذُ الأُدْمَ وَإِنْ لَمْ تَأْكُلْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يجب على الزوج للزوجة الإدام؛ لأنه مأمور بالمعاشرة بالمعروف، وليس من المعاشرة بالمعروف وتَكْليفها الصَّبْرَ عَلَى الخُبْز البَحْث، وجنسه غالب أُدْم البلَدَ من الزيت والشيرج والسمن والتَّمْر والخَلِّ والجُبْن وغيرها (¬2)، ويختلف ذلك ¬
باختلاف الفصول، وقد تغلب الفَوَاكِهُ في أوقاتها، فتجب وقد تَعَرَّض لذلك في "التتمة" والوجه المذكور في جنس القوت أنَّه يُنْظَر إلى عادة الزَّوْج دون الغالب يعود في الإدام أيضاً. وأما ففي لفظ الشافعيِّ -رضي الله عنه- مِكْيَلَةُ زَيْتٍ أو سَمْنٍ، ويقال: إنه أراد بها الأوقية قال الأصْحَاب: وإنما أمر بذلك على التَّقْرِيب، ولا يُتَقَدَّر الأُدْم بل هو إلى فرض القاضي واجتهاده، فيَنْظُر في جِنْس الأُدْم، ويُقَدِّر باجتهاده ما يحتاج إليه المُدْمِنُ الطَّعَامِ، فَيَفْرِضهُ على المَعْسِر، ويفرض على المُوسر ضعْفَه، وَيَفْرِضُ [على] المتوسِّط بينهما، ويجب عليه أن يطعمها اللحْمَ أيضاً، وفي كلام الشَّافعيِّ -رضي الله عنه-: أنه يُطْمِعَها في كل أُسْبُوع رطْلَ لَحْمٍ، وهو محمول على المُعْسِر وعلى المُوسِر رَطْلاَن، وعلى المتوسِّط رطْلٌ ونصْفٌ، واسْتُحِبَّ أن يكون الإعطاء يوم الجمعة، فإنه أَوْلَى بالتوسُّع فيه، [ثم] قال الأكثرون: إنما قال الشافعيُّ -رضي الله عنه-؛ على عادة أهل مِصْر؛ لعزة اللحْم عندهم يومئذ، فأما حيث يكثر اللحم، فيزاد على عادة أهْل تلْك البلدة، وفصل صاحب "التهذيب" -رحمه الله- فقال: يجب في وقت الرُّخَص على المُوسِر في كل يوم رَطْلٌ وعلى المتوسِّط في كل يومين أو ثلاثة، وعلى المُعْسِر في كل أسبوع وفي وقت الغلاء يجب في أيامٍ مرةً على ما يراه الحاكم، وقال قائلون: وحكاه الشَّيْخ أبو محمَّد عن القَفَّال: أنه لا مزيد على ما ذَكَره الشافعيُّ -رضي الله عنه- في جميع البلاد، والحاجةُ تُقَدَّر به، وفيه كفاية لِمَنْ قنع، ويُشْبه أن يقال: لا يجب الأُدَمْ في اليوم الذي يعطيها اللَّحْم، ويكفي ذلك للإيدام، ولم يَتعرَّضوا له، وُيمْكِن أن يقال: إذا أوجبنا على الموسر اللحْمَ في كل يوم، يلزمه الإدامُ أيضاً، ليكون أحدهما غداء، والآخر عشاء على العَادَةِ، ولو تبرمت المرأة بالجنْس الواحِدِ من الأُدْمِ، فوجهان: أحدهما: أن على الزوج أن يُبْدِله؛ إذ لا ضرر عليه فيه، ولا مشقَّة. وأظهرهما وهو المذكور في الكتاب: أنه لا يَلْزَمُه ذلك، وعلَيْها الإبْدَال إن شاءَتْ (¬1)، وفي "أمالي أبي الفرج" -رحمه الله- أيضاً: أنها لو صرفت شيئاً من القوت إلى الأُدْم أو بالعكس أو أبدلت الجِنْس الذي أخَذَتْه من الأُدْم بجِنْس آخر، فلا بأس، وَلاَ اعتراض للزوج عليها، فإنها متعرِّضة في مِلْكها، وأنَّ من الأصحاب مَن جَوَّز له ¬
المَنْع من إبدال الأشرف بالأخس، وَلاَ يَسْقط حقُّها عن الأُدْم بأن لا تَأْكُلَهُ، وتقنع بالخبز كما لا يَسْقط حقُّها عن الطعام؛ بأن لا تأكل بعضه، وعلى الوجه المذكور في أن للزَّوْجِ أن يمنعها من إبدال الأشرف بالأخس له أن يمنعها من ترك التَّأَدُّم بطريق الأَوْلَى. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الوَاجِبُ الثَّالِثُ نَفَقَةُ الخَادِمَةِ لِمَنْ يَقْتَضِي مَنْصِبُهَا الخِدْمَةَ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ شِرَاءُ خَادِمَةٍ وَتَمْلِيكُهَا، وَلَكِنْ يَجِبُ الإِخْدَامُ بِاسْتِئجَارِ حُرَّةٍ أَوِ اسْتِخدَامِ مَمْلُوكَةٍ أَو الإِنْفَاقِ عَلَى جَارِيتَهَا، وَلِلْخَادِمَةِ مُدٌّ عَلَى المُعْسِرِ، وَمَنٌّ عَلَى المُوسِرِ وَلاَ مَزِيدَ وَهُوَ قَدْرُ كِفَايَتَهَا فِي الغَالِب، وَفِي اسْتِحْقَاقِهَا الأُدْمَ وَجْهَانِ، وَلَوْ خَدَمَتْ بنَفْسِهَا فَلَيْسَ (و) لَهَا نَفَقَةَ الخَادِمَةِ، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَتَوَلَّى الخِدْمَةَ فِيمَا لاَ يُسْتَحْيَى مِنْهُ لِيخَفِّفَ عَنْ نَفسِهِ بَعْضِ مُؤْنَةِ الخَادِمَةِ، وَلَيْسَ لَهُ إِبْدَالُ خَادِمَتِهَا المأَلُوفَةِ إِلاَّ بِرِيبَةٍ، وَلَهُ أَنْ يُخْرِجَ سَائِرَ خَدَمَتِهَا سِوَى الوَاحِدَةِ إِذْ لَيْسَ عَلَيْهِ سُكْنَاهُنَّ، بَلْ لَهُ مَنْعُ أَبوَيْهَا مِنَ الدُّخُولِ، وَمَنْعُهَا مِنَ الخُرُوجِ لِلزِّيَارَةِ، وَالرَّقِيقَةُ المَنْكُوحَةُ الَّتِي تَخْدُمُ لِجَمَالِهَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَةَ الخَادِمِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: النساء صِنفان: أحدهما: اللواتي لا يَخْدِمْنَ أنْفُسَهُن في عادة البلد، بل يكون لهن من يَخْدُمُهُن، فإذا كانت الزوجةُ منْهُنَّ وَجَبَ على الزوج إخْدَامُها (¬1)؛ لأنها من المعاشرة بالمعروف، وهو مأمور بالمعاشرة، وأشار المزني -رحمه الله- إلى اختلاف قَوْلٍ في وجوب الإخْدَام، وعلى ذلك جرى جَارُونَ، وأثبتوا الخِلاَفَ فيه على ما حكاه أبو الفَرَجِ السرخسيُّ وغيره، والجمهور قطَعُوا بالوجوب، وحملوا النُّصوص المُشْعوة بخلافه على ما إذا لم تكن الزوجةُ من هذا الصِّنْف، ولا فَرْق في وجوب الإخدام بيْن أن يكون الزوج موسراً أو معسراً حرّاً أو مكاتباً أو عَبْداً، والاعتبار بحال المرأة في بيت أبيها دون أن ترتفع بالانتقال إلى بَيْت زوجها، ويليق بحالها؛ بسبب الانتقال أن يكون لها خَادِمٌ، وكذلك هو في تعليقِ الشيْخِ أبي حامد، ولا يجب أكْثَرُ مِنْ خادِمٍ واحدٍ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد؛ لحصول الكفاية به، وقال مالك -رحمه الله-: إن كانت مِمَّنْ يخدم في بَيْت أبيها بخادِمَيْنِ أو أكثر، وجب إخدامها بذلك العدد ولا يلزمه تمليك جارية إياها، ¬
بل الواجب إخدامها بحرة أو أمةٍ أو مستأجَرَةٍ أو ينْصِب مملوكة [له] تَخْدِمُهَا أو بالاتفاقِ على الَّتي حَمَلَتْها معها من حُرَّة أو أمة ولا يجوز أن يكون الخادِمُ إلا امرأة أو صبيّاً أو مَحْرَماً لها، وفي مملوكها والشَّيخ الهم اختلافٌ، وفي جواز كون الخادِمِ من أهل الذمَّة وجهان: عن أبي إسحاق -رحمه الله- جوازه؛ لأنهم أَذَلُّ نُفُوساً، وأسرع إلى الخدمة. وعن غيره: المنع؛ لأن النفس قد تعافُهُم، وأيضاً، فلا يُؤْمَن عداوتهم الدِّينيَّة. ثم في الفصل مسائل؛ إحداها: أن أخْدَمَها بحرة أو أمة مستأجرة، فليس عليه إلا الأُجْرة، وإن أخدمها بجاريةٍ، فنفقتها تجِبُ بحقِّ المِلْك، وإن كان يُخْدِمها بكفاية مؤنة خادمتها الحرة أو الأمةِ، فإذا موضع نفقة الخادمة، والقول في جنْس الطعام لهو في جنس طعام المخدومة. وأما القَدْر، ففي "أمالي أبي الفرج": أن نفقة الخادم تقدَّر بِمُدٍّ، ولا تختلف باختلاف حال الزوج، والصحيح أنها تختلف، فعلى المُعْسِر مُدٌّ، وإن كان فيه تسوية بين الخادمة والمخدومة في حقِّه؛ لأن النفس لا تقوم بما دُون المُدِّ غَالِباً، وعلى الموسر مُدٌّ وثُلُثٌ، وفي المتوسِّط ثلاثَةُ أوجُهٍ: أصحُّهما: أن عليه مدّاً كالمعسر. والثاني: أن عليه مدّاً وثلثاً كالموسر، حكاه في "البحر"، وغَلَّطَ قائله. والثالث: قال أبو الفرج السرخسيُّ: استحسن الأصحاب أن يكون عليه مدٌّ وسدُسٌ؛ لتفاوت المراتب في حقِّ الخادمة، كما تتفاوت في حق المخدومة ووجَّهوا التقدير في حق الموسر بالمد والثلث، بثلاثة طرق: أشهرها: أن للخادمة والمخدومة في النفقة حالَةَ كَمَالٍ، وحالة نُقْصَانٍ. وهما في حالة النقصان يستويان، وفي حالة الكمال يُزَاد للمفضولة ثلث ما يزاد للفاضلة، كما أن للأبوين في الميراث حالتا كمالٍ ونقصانٍ، وهما في حالة النُّقْصَان، وهو أن يكون للميِّت ابْن يستويان فيكون لكل واحدٍ منهما السُّدُسُ، وفي حالة الكمال، وهو إذا انفردا، يكون المال بينهما أثلاثاً، فيزاد للأم ثلث ما يزاد للأبِ. ويُحْكَى هذا عن القفَّال الشاشيِّ -رحمه الله-. والثاني: أن نفقة الخادمة على المتوسِّط ثُلُثَا نفقة المخْدُومة؛ لأنَّ نفقة المخدومة عليه مدٌّ ونصفٌ ونفقة الخادمة مدٌّ تفريعاً على الصحيح، فكذلك ينبغي أن تكون نفقة الخادمة على الموسر ثُلُثَيْ نفقة المخدومة علَيْه، وثُلُثَا المُدَّيْنِ مُدٌّ وثُلُثٌ.
والثالث: أن الموسِرَ زادت نعمةُ اللهِ عليه فيليق به الزيادةُ في الإنفاق، والنَّظَر إلى الثلث قريبٌ كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهُ تَعَالَى أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ" قال في "البسيط": وهذه المسالك بأصول أبي حنيفة أشبه منْها بأصولنا، لكن لمّا تطلبت الكفايةُ، اكتفوا بمثل هذه التفريعات، وفي "الوسيط" أن الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- ذكر المُدَّ والثُّلُثَ على التقريب، وأن الصحيح يُنْظَر إلى كفايتها، وهذا القَدْر قَدْرُ كفايتها في الغالب، ويليق بالعادة في حق الخادمة. وقوله في الكتاب: "وهو قدر كفايتها في الغالب" يشير إلى نْحوِ مِنْ هذا، وهو غير ملائم لما ساقه الأصحاب. والثانية: هل تَسْتَحِقُّ الخادمة الأُدْمَ فيه وجهان: أحدهما: وُيحْكَى عن ابن أبي هريرة: لا، ويكتفي بما يَفْضُلُ من المخدومة. وأصحُّهما: الاستحقاق كما في المخدومة، وذلك لأن العيش لا يتم دونه، وعلى هذا فجنسه جنس أُدْمُ المخدومة، وفي النوع وجهان: أحدهما: أنه يُسوَّى بينهما فيه، كما في الجنس. وأصحُّهما: وينسب إلى النصِّ: أنَّه يُجْعَلَ جنس أدم المخْدُومة أجود للعادة، وطُردَ الوجهان في نوع الطعام أيضاً، وفي استحقاق الخادمة اللحْمَ وجْهان، وربما بُنيا على الوجْهَيْن في التسوية في الإدام، إن قلنا: إن إدامها مثل إدام المخدومة، فلها اللحم، وإلا فلا يَجِب، وأما قدر إدامِها، فيُجْعَل بحسب الطعام. الثالثة: لو قالت: أنا أخْدُمُ نَفسِي، وطلبت الأجرة أو نفقة الخادم، لم يلزمه ذلك؛ لأنها أسْقَطَتْ مربيتها, وله أن لا يَرْضَى بذلك؛ لأنَّها تصير متبذِّلةً، وأشار في "البسيط" و"الوسيط" إلى خلافٍ فيه، وإذا قلْنا بالظاهر، فلو توافقا على ذَلِكَ، ففي "التتمة": أنه على الخلاف في الاعتياض (¬1) عن النفقة، ولو قال الزوج: أنا أخدُمُها، وأراد إسقاط مؤنة الخادمة، فوجهان: أحدهما: وبه قال أبو إسحاق، واختاره الشيخ أبو حامد: أن له ذلك؛ لأنَّ الخدمة حقٌّ عَليْهِ، فله أن يوفيه بنَفْسِه وبغيره، وعلى هذا، فالواجب إخدامها بأحد الطرق التي سَبَقَتْ، أو أن يَخْدُمَهَا بنفسه. ¬
وأظهرهما: المنع؛ لأنها تستحي منْه وتتعيَّر به، وعن القَفَّال وغيره: أن له ذلك فيما لا يستحي منْه، كغسل الثوب واستيقاء الماء وكنس البيت وطبخ الطعام، دون ما يرجع إلى خدمة نفسها غصب الماء على يَدها، وحمله إلى المستحم ونحوهما، لأنها تحتشمه وتَسْتَحْيِي منْه، وهذا ما ذكره في الكتاب؛ حَيْث قال: "وللزوج أن يتولى الخِدْمَةَ فيما لا يُسْتَحْيَى مِنْه" وهو كوجه ثالثٍ فارقٍ، وفيه إشعار ظاهِرٌ بأن النوعين جميعاً من وظيفة الخادمة، وبُنيَ عليه أنَّه إذا تولَّى بنفسه ما لا يُسْتَحْيَى منه فقد تَحْمِل بعض أعمال الخادمة، فهل تَسْتَحِقُّ النفقة التامَّة؟ فيه وجهان؛ بناء على أن السَّيِّد إذا سلَّم الأمة المزوجة ليْلاً، واستخدمها نهاراً، هل تَسْتَحِقُّ تمام النفقة؟ وأنا إذا قلْنا: لا تَسْتحقُّ التمام، فيحتمل أن نشطر ويحتمل أن تُوزَّع على الأفعال، وإلى هذا أشار بقوله في الكتاب: "ليخفف عن نفسه بعض مُؤْنَة الخادمة" لكن فيه كلامان: أحدهما: ذكر أبو الفرج الزاز أن الذي يَجِبُ على الزَّوْج كفايته في حق المخدومة الشريفة؛ الطَّبْخ والغَسْل ونحوهما، دون حمل الماء إليها للشُّرْب، وحمله إلى المستحم، والترفُّعُ عن ذلك مَحْضُ رعونةٍ، لا عبرة بها. والثاني: في "التهذيب": أنا نَعْنِي بالخدمة في الباب ما يَئُولُ إلى حاجتها؛ كحمل الماء إلى المستحمِّ، وصبه على يَدِهَا وغسل خرق الحيض ونحوها، فأما الطبخ والغَسْل والكنس، فلا يجب شَيْءٌ منْها على المرأة، ولا على خادمتها، بل هو على الزوْج، إن شاء فعله بنفسه، وإن شاء، بغيره، فالكلامان متفقان على النوعَيْنِ جميعاً لا يتوظَّفان على الخادمة، حتى يُفْرَض توزيع النفقة، وتخفيف بعض المؤنة، والاعتماد من الكلامَيْن على ما في "التهذيب" (¬1) دون الأَوَّل ويُخَرَّج مِمَّا ذكَرْناه أن للزَّوْج أن يتولَّى ما لا يُسْتَحْيَى منه بلا خلاف، والخلافُ مخصوصٌ بما يُسْتَحْيَى منه. الرابعة: لو تنازعا في تعيين الخادمة التي تخدمها من الخادمة التي يستأجرها الزوج لِخِدمتها أو الجارية التي يُخْدِمُها من جواريه فوجهان: أحدهما: أن المُتَّبَع اختيارها؛ لأنَّ الخِدْمةَ لها، وقد تكون التي عينتها أوفق لها وأسرع إلى الامتثال. وأظهرهما: أن المتبع اختياره؛ لأن الواجب عليه يَكْفِيهَا الخدمة دون أن تكفي تلك المعيَّنة، وهذا كما أنه لا يجوز تطليقه توفير النفقة من طعام معيَّن، ولأنه قد تدخله ريبة وتهمة تختارها هذا في الابتداء. ¬
فأما إذا توافقا على خادمة، وألْفَتْها أو كانت قد حملت خادمة مع نفسها، فأراد إبدالها, لم يجز؛ لأن قطْعَ النَّفْس عن المألوف شديدٌ، إلا إذا ظهرت ريبة أو خيانة، فله الإبدال. ولو أرادت استخدام ثانية وثالثة من مالها، فللزوج أن لا يرضى بدخولهن داره، وكذا لو حَمَلَتْ مَعَها أكثر من واحدة، فله أن يَقْتَصِر على واحد؛، ويخرج الأخريات من داره، وهذَا كما أن له أن يكلِّفها إخراج مالها من داره، وأن يمنع أبوَيْها من الدخول عليها، وأن يُخْرِجَ ولدَهَا من غيره إذا استصحبته معها. الخامسة: إذا كانت المنكوحةُ رقيقةً، لكنها ذاتُ جمالٍ تُخْدَمُ في العادة، فهل يجب إخْدامها فيه وجهان: أحدهما: نَعَمْ (¬1)؛ للعادة. وأظهرهما: واقتصر الأكثرون على إيراد [هـ]: المنع؛ لأنها ناقصةٌ بالرِّقِّ وحقُّها أن تَخْدُمَ دون أن تَسْتَخْدِم. وقوله في الكتاب: "نَفَقَةُ الخَادِمَةِ" المراد منها مؤنة الإخدام، والنفقة في الحقيقة مخصوصةٌ ببعض الأحوال على ما تَبيَّن، واعلم بالواو؛ لقول من أثبت خلافاً في وجُوبِ الإخدام. وقوله: "ومنعها من الخروج للزيارة" صحيح في نفسه، إلا أنَّه لا يلائم المقصود هاهنا، فإن المقصود أن الدار مِلْكُه، فله مَنْع الغَيْرِ مِنْ شغلها وسكانها، والمنع من الخروج ليس من هذه الجهة. وقوله: "والرقيقة المنكوحة" هذا هو الصحيح، وقد يوجد في النسخ "والرقيقة المملوكة" وهو غَلَطٌ. الصِّنْفُ الثاني: من النساء اللواتي يَخْدِمْنَ أنْفُسَهُنَّ في العادة، فإذا كانت الزوجة منهن، نُظِرَ؛ إن احتاجت إلى الخدْمة؛ لِزَمَانَةٍ أو مرض، فعلَى الزوج إقامةُ مَنْ يَخْدِمُهَا ويُمَرِّضُها، وإذا لم تَحْصُل الكفاية بواحدة، فيزاد بحسب الحاجة، ولا فرق هاهنا بين أن تكون المنْكُوحة حُرَّةً أو أمةً، وهذا ما أطلقه الشافعيُّ -رضي الله عنه- وأكثر الأصحاب في المَرَضِ. ومنهم: من فصَّل أمر المَرَضِ، وقال: إن كان المرض دائماً، وجب الإخدام؛ لأن العذر الدائم لا ينقص عن مراعاة الحشمة، وإن لم يكن دائماً، لم يجب كأسباب ¬
المعالَجَة، وعلى هذا جرى المتلقون عن الإِمام -رحمهم الله- وإن لم يكن بها عذر محوج إلى الخِدْمة، فليس عليه الإخدام، ولو أرادت أن تتخذ خادمةً بما لها، فله منْعُها من دخول داره، قال في "التتمة": وعلى الزوج أن يَكْفِيَهَا حمل الطعام إلَيْهَا، وحمل الماء إلى المنزل، وما أشبه ذلك. فَرْعٌ: المبتوتة الحامل، هل تَسْتَحق نفقة الخادمة؟ فيه وجهان، بناهما ابن المرزبان على أن النفقة للحمل أو للحامل؟ إن قُلْنَا بالأول، لم تجب، وإن قلنا بالثاني، وجَبَتْ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الوَاجِبُ الرَّابعُ الكُسْوَةُ وَهِيَ فِي الصَّيْفِ خِمَارٌ وَقَمِيصٌ وَسَرَاوِيلُ وَمُكعَّبُ، وَفِي الشِّتَاءِ يَزيدُ الجُبَّةَ، وكُلُّ ذَلِكَ مِنْ لَيَّنِ البَصْرَةِ لِلْمُوسِرِ أَعْنِي الكِرْبَاسَ، وَمِن غَلِيظِهِ للْمُعْسِرِ، وَمَا بَيْنَهُمَا لِلْمُتَوَسِّطِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عَادَتِهَا الحَرِيرُ وَالكتَّانُ لَمْ يَلْزَم عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ فَإِنَّهُ رُعُونَةٌ، وَلاَ بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ مِلْحَفَةٍ وَشِعَارٍ وَمُضَرَّبَةٍ وَثِيرَةٍ وَمِخَدَّةٍ وَلَبَدٍ تَحْتَهُ أَوْ حَصِيْرٍ، وَهَلْ لَهَا طَلَبُ زِلِّيَّةٍ تُفْرَشُ، نَهَاراً؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ آلَةِ الطَّبْخِ وَآلَةِ الشُّرْبِ مِنْ كُوزٍ وَجَرَّةٍ وَقِدْرٍ وَمِغْرَفَةٍ، وَيَكْفِي أنْ يَكُونَ مِنَ الخَزَفِ وَالحَجَرِ وَالخَشَبِ، وَكُسْوَةُ الخَادِمَةِ أَخْشَنُ جِنْساً، وَطَعَامُهَا مِثْلُ طَعَامِ المَخْدُومَةِ، وَفِي جِنْسِ إِدَامِهَا تَرَدُّدٌ، وَتَسْتَحِقُّ الخَادِمَةُ الخُفَّ دُونَ المَخْدُومَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يجب على الزَّوْج كسوةُ زوجته على ما قال تعالى: {وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وُيرْوَى أنَّه سئل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عن حقِّ الزوجة على الزَّوْج، فقال: "أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمتَ وَتَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَيتَ" (¬1) ولأن الكسوة كالقوت في أن البَدَن لا يقوم إلا بهما, ولا تقاس الكسوة هاهنا بالكُسْوة في الكفارة؛ لأن هناك يَكْفِي ما يقع عليه الاسم، وهاهنا لا يكْفي بالإجماع، ويجب على قَدْر كفاية المَرْأة، فيختلف بطُولها وقِصَرها وهُزَالها وسمنها، واختلاف البلاد في الحَرّ والبَرْدِ، ولا يختلف عدد الكُسوةِ، باختلاف يسار الزوج وإعْسَاره، لكنهما يُؤَثِّران في الجودة والرداءة [و] في كلام أبي الفرج وإبراهيم المروزي: أنهُ يُنْظر في الكسوة إلى حال الزوجَيْن جميعاً، فيجب عليه ما يُلْبس مثْلُه مثلَها في العادة، ثم لا بد من بيان عدد الكُسْوة وجنسها. أما العَدَد، فيجب في الصيف قميصٌ وسراويلُ وخمارٌ، وما تلبسه في الرِّجْل من ¬
مكعَّبٍ أو نعل وفي الشتاء يزاد جُبَّة محْشُوَّة تَدْفَع البرد، وقد يقام الإزار مقام السَّراويل، والفَرْو مقام الجُبَّة، إذا كانت العادة لُبْسَها، ذكره في "التتمة" وعن "المنهاج" للجوينيِّ: أن السراويل لا تَلْزَم في الصيف، وإنما تلزم في الشتاء، لدفع البرد، وفي "الحاوي" أن نساء أهل القُرَى إذا جرت عادتهن بأن لا يلبسن في أرجلهن شيئاً في البيوت لم يَلْزَم لأرجلهن شيء، ويجوز أن يُعْلَم لذلك في الكتاب لفظ "السراويل" و"المكعب" بالواو، وأما الجنس فقد ذكر الشَّافعيُّ -رضي الله عنه- أن الموسر يُعْطِيَ جميع ذلك من لَيِّن البصْرة، أو الكوفة أو وَسَطَ بغْدَاد (¬1)، والمُعْسِر من غليظها، والمتوسِّط ما بينهما، وأراد المتَّخَذ من القطْن، فإن جَرَتْ عادة البلد بالكَتَّان، [أو الخَزِّ] أو الحَرِيرِ، فوجهان: أحدهما: ويُحْكَى عن الشيخ أبي محمَّد -رحمه الله-: أنه لا يلزم ذلك [بل له الاقتصار] على القطْن. وأصحُّهما: اللزوم على عادة البلد. ويفارق بين الموسر والمعسر في مراتب ذلك الجنس. قال الأصحاب: وإنما ذكر الشَّافعيُّ -رضي الله عنه- ما ذَكَر على عادة ذَلِكَ الوَقْت (¬2). نَعَمْ، ولو كانتِ العادةُ لُبْسَ الثياب الرقيقة، كالقصب الذي لا يصلح ساتراً، ولا تصح فيه الصلاة، فلا يعطيها منه، ولكن من الصفيق الذي يَقْرُب منه في الجودة، كالدبيقي والكتَّان المرتفع. فرع: قال أبو الفرج السرخسي: إذا لم تستغْنِ بالثياب في البلاد الباردة عن الوقود، فيجب من الحَطَب أو الفَحْم بقدر الحاجة. هذا هو الكلام في ملبوس البَدَن. وأما ما يُفرَشَ، فعلى الزوج أن يُعْطِيها ما تفرشه على الأرض للقُعُود عليه، ويختلف ذلك باختلاف حالِ الزَّوْج. قال في "التَّتمة": فعلى الغنيِّ الطنفسة في الشتاء ونِطْع في الصيف، [وعلى المتوسِّط زِلِّيَّةٌ، وعلى الفقير وحصير في الصيف، ولبد في الشتاء، ويُشْبه أن تكون الطنفسة والنِّطْع بعد بسط زِلِّيَّة أو حصير، فإن الطنفسة والنطع لا يُبْسَطَان وحْدهما (¬3)، وهل عليه فراش لتنامَ علَيْهِ؟ فيه وجهان. ¬
أحدهما: لا، وتنام على ما يَفْرشه نهاراً. وأصحُّهما: نعم، على العادة (¬1) الغالبة، وعلى هذا، فيلزمه مُضَرَّبَة وَثيرَةٌ أو قطيفةٌ، ولم يذكروا خلافاً في أنه تجب مِخَدَّة ولِحَافٌ؛ لدفع البرد في الشتاء وفي البلاد الباردة أو كساءٌ هكذا قيد الأئمة -رحمهم الله- بالشتاء، وإن أطلق ذكْر الملحفة في الكتاب، ويكون كل ذلك لامرأة الموسر من المرتفع، ولامْرأة المعسر من النازل، ولامرأة المتوسِّط مما بينهما، وحكى صاحب الكتاب عن العراقِيِّين وجهَيْن في أنه هل يَجِبُ لها زِلِّيَّةٌ تفرش نهار أو ربما أفهم إيرادُه كَوْن الزِّلِّيَّة غير اللبد أو الحصير تحْت المُضَرَّبة، والمفهوم من كلام الجُمْهور أن المَفْرُوش على الأرض من الزِّلِّيَّة، إِما اللبد أو الحصير واحدٌ ليلاً ونهاراً، والذي يوجَدُ الخلافُ فيه من كتب العراقيِّين الفراشُ دون الزِّلِّيَّة، ويجوز أن يُعْلَم؛ لِمَا حكيناه لفْظ "المضربة" بالواو، أما "الشعار" الذي ذكره في هذه الجملة فالأكثرون سكتوا عنه، ويمكن أن يُخصِّص الشِّعَار بالصيف، كما يخصَّص اللحاف بالشتاء، ويمكن أن يقال: في الشتاء يجب الشِّعَار معِ اللِّحَاف، كما يجب القَمِيص مع الجُبَّة، والحُكم في جميع ذلك مبنيٌّ على العادة نوعاً وكيفيَّةً، حتى قال القاضي الرويانيُّ في "البحر": لو كانوا لا يعتادون في الصَّيْف لنومهم غطاءً غير لباسهم، لم يلزمه شيْءٌ آخر، ثم في الفَصْل مسألتان: إحداهما: عَلَى الزوْج للزوْجَة: آلات الطبخ والأكل والشرب كالكوز والجرة والقدر والمغرفة والقَصْعَةَ ونحوها، ويكفي أن يكون من الخشب أو الحَجَر أو الخَزْف،] (¬2) وذكر الإِمام وغيره: أنَّه يُحْتَمَل ألا يُزَاد في الجنْس على ذلك، ويقال: إن الزيادات من رُعونَات الأنفس، ويحتمل أن يجب للشريفة الظروف النحاسية للعادةِ، واعلم أنه لا اختصاص لِهَذا النَّوع بفصل الكُسْوة، والأَوْلَى أن يجعل كحالة للطعام والإدام، أو يجعل جنساً برأسه. ¬
الثانية: يجب للخادمة الكُسْوةُ كالنفقة، فلا بُدَّ من القميص، وفي السراويل وجْهَانِ: أصحُّهما: عند صاحب "التهذيب" والقاضي الرويانيِّ: الوجوب. والثاني: لا يجب؛ لأن المقصود من السراويل الزينةُ وكمال الستر، والخادمةُ لا تحتاج إلى الزينة، ولا إلى كمال السِّتْر، إذا كانت أمةً، فإنَّ ساقها ليست من العَوْرَة، وكلام أكثرهم إلى هذا أَمْيَلُ، وأطلَقَ مُطْلِقُون وجوبَ المقنعة وفي "التتمة": أنها تجب في الشتاء لدفع البَرْدِ، وفي الصيف: تجب إنْ كانت حرَّةً وإن كانَتْ أَمَةً فلا تجب، إِذا كانت عادة الإماء في البلد كَشْفَ (¬1) الرأس، وتجب في الشتاء جُبَّة أو فروة وَيجِب الخف للخادمة (¬2)، ولا يجب للمخدومةِ؛ لأن الخادمة تحْتَاجُ إلى الخروج، والنُّقُلة في الحوائج، ويجب لها ما تَلْتَحِف به عند الخروج أيضاً، وأمَّا ما يُفْرَش وُينَام فيه، فقد قال المتولِّي: لا بد مِنْ شَيْء تَجلْسِ علَيْه كبارية في الصيف، وقطعة لبد في الشتاء، ولا بد من مِخَدَّة وشَيْءٍ تَتَغَطَّى به في الليل من كساءٍ ونحوه، قال في "البحر": ولا يجب لها الفراشُ، بلِ يَكْتَفِي بالوسادة والكساء (¬3)، ما يجب يجب مما يليق بالخادمة جنْساً ونوعاً، ويكون أخْشَنَ من كُسْوة المخدومة، وإن كان الطعام لا يختلفون وفي الإدام خلاف ذكرناه منْ قَبْل، وأورده صاحب الكتاب هاهنا، وقوله في الكتاب: "وكلُّ ذَلِكَ مِنْ لَيِّنِ البَصْرة يعني الكرباس مذكور على التمثيل، يعني من لَيِّنْ البصرة أو الكوفة، أو ما في معناهما، والبَلَدَانِ مذكوران في لفْظِ الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- واسم "الكِرْبَاسِ" قد يختص بالنوع الغليظ الذي يختص بالخَادِمَة، ويستعمل مقابلة اللَّيِّن، وكذلك وقع في لفظ الشَّافعيِّ -رضي الله عنه-. وقوله قبل ذلك "خمار وقميص وسراويل" أراد بالخمار المقنعة، وقد يختص اسم "الخمار" بما يجعل فوق المقنعة؛ ولذلك ذكر بعضُهُمْ أنَّه يجب في الشتاء الخمارُ مع المقنعة، إذا وقعتِ الحاجة إلَيْه، وقياس مسائلِ البابِ أن تَجِبَ الزيادةُ على الجُبَّة الواحدةِ، حيث يشتد البرْدُ، ولا تكفي الواحدة (¬4). قَالَ الْغَزَالِيُّ: الوَاجِبُ الخَامِسُ آلَةُ التَّنْظِيفِ وَهُوَ المُشْطُ وَالدُّهْنُ، وَلاَ يَجِبُ ¬
الكُحْلُ وَالطِّيبُ، وَيَجِبُ المرتك لِلضُّنَان، وَلِلْزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْ تَعَاطِي الثَّومِ وَمَا لَهُ رَائِحَةٌ مُؤْذِيَةٌ وَمِنْ تَنَاوُلِ السُّمِّ، وَهَلْ لَهُ المَنْعُ مِنَ الأَطْعِمَةِ المُمَرِّضَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلاَ تَسْتَحِقُّ الدَّوَاءَ لِلمَرَضِ، وَلاَ أُجْرَةَ الحِجَامَةِ، وَلاَ أُجْرَةَ الحَمَّامِ إِلاَّ إِذَا اشْتَدَّ البَرْدُ، وَالخَادِمَةُ لاَ تَسْتَحِقُّ آلَةَ التَّنْظِيفِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وعلى الزوْج أن يعطي الزوجة ما تتنظف به وتزيل الأوْسَاخ الَّتي تؤذيها أو تُؤْذي بها؛ كالمُشْط والدُّهْن (¬1) وما تغسل به الرأْسَ من السِّدْر أو الخطمي أو الطِّين، على عادة البقعة، والرجوع في قَدْرها إلى العادة، ويجب من الدُّهْن ما يعتاد استعماله غالباً، كالزيت والشيرج وغيرهما، وإن كانوا يعتادون التطيب بالورد أو البنفسج، وجب المطيب وأبدى الإِمام وغيره احتمالاً في الدُّهْن، إذا قال الزوج: هو للتحمُّل والتزين، وأنا لا أريده، والمشهور الأوَّل، وما يُقْصَد للتلذُّذ والاستمتاع، كالكحل والخِضاب (¬2) فلا يجب على الزوج بل ذلك إلى اختياره، فإنْ شاء هَيَّأه لها وإذا هيا لها أسباب الخضاب، لزمها الاخْتضَاب، ومِنْ هذا القبيل الطِّيبُ، ولا يجب إلا ما يقصد به قطع السهولة، ويجب المرتك، وما في معناه لدَفْع الصُّنَان، إذا لم ينقطع بالماء والدّراب، وحكى فيه بعْضُ أصحاب الإِمام وجهاً آخر. وأما قوله: "وللزوج منْعُها من تعاطِي الثُّومِ [وأكل] ما له رائحةٌ مؤذيةٌ" فهذا فيه قولان، ذكرناهما في أوَّل الجنْس الرابع مِنْ موانع النِّكاح، والأصحُّ ما ذكره في الكتاب وليُعْلَم للقول الآخر، وأما قوله: "ومن تناول السُّمِّ" فإذا لا خلاف فيه؛ فإنه إهلاك للنفس، وهو مُحرَّم، ولكلِّ واحدٍ أن يَمْنَعَ منه، وهل له المَنْعُ من تناول الأطعمة التي يخاف منْها حدُوث المَرَض؟ فيه وجهان؛ لأنَّه لا يتحقَّق، والأصحُّ على ما ذكره القاضي الرويانيُّ وغيره أن له المَنْعَ. ولا تستحق الزوجة الدواء للمرض، ولا أجرة الطبيب والفِصَاد والحجام والختان، بخلاف المُشْط والدُّهْن، ووُجِّه ذلك بأن الزوج بمثابة المُكْتَري والمرأة بمثابة المُكْرِي، ¬
والدواء وما في معناه لحفظ البدن، ومؤناتُ حفْظِ الأصْلِ على المُكْرِي كعمارة الدار، والمُشْطُ والدُّهْنُ للتنظيف، ومؤنة التنظيف على المُكْتَري كغسل الدار وكنسها. نعم، يلزمه الطعام والأُدمْ في أيام المرض، ولها صرف ما تأخذ إلى الدواء ونحوه، إن شاءت. وأمَّا أجْرةُ الحَمَّام، فقد أشار بعْض أصحاب الإِمام إلى خِلاَفٍ في وجوبها، والذي أورده في الكتاب أنَّه لا يجب إلا إذا اشتد البَرْدُ وعَسُر الغسل إلا في الحَمَّام، والظاهر، وهو الذي أورده صاحب "التهذيب" والقاضي الرويانيُّ وغيرهما: أن أجرة الحمَّام تَجِبُ إلا إذا كانت المرأة مِمَّن لا يعتادون دخُولَ الحمَّام؛ كأهل بعض الرساتيق، وإذا وجَبَت، فعند [صاحب] "الحاوي" -رحمه الله- أنها تَجِبُ في كلِّ شهر مَرَّةً، ولا يجب على الزوج (¬1) ثمن ماء الاغتسال، إذا احتيج إلى الشراء إن كانت تغتسل مِنَ الاحْتِلام، وكذا لو كانَتْ تغتسل من الحَيْض في أصح الوجهين، ويجب إن كانت تغتسل من الجماع أو من النفاس في أصحِّهما؛ لأنَّ الحاجة إليه جاءت مِنْ قَبلِهِ، ويُنْظَر على هذا القياس في ماء الوضوء إلى أن السَّبَب مِنْ جهته؛ كاللمس أو ليس من جهته. ولا يجب عليه أن يُضَحِّيَ عن زوجته، نذَرَتِ التضحية أو لم تنذر، ولا يجب للخادمة آلات التنظيف لأنها لا تَتنظَّف له، بخلاف المخْدُومة، بل اللائق بحالِ الخادمة أن تكون شعثة؛ لئلا تمتد إليها الأعْيُنُ، لكن لو أكثر الوسخ، وتأذَّت مِنَ الهَوامِّ، فعليه أن يعطيها ما تترفَّه به، استدركه القفَّال، واستحسنُوه، وأطْلَق صاحب العِدَّة وجهَيْن؛ في أنه هل يعطي الخادمة المُشْط والدُّهْنَ ولهذا يجوز إعلام قوله في الكتاب: "والخادمة لا تستحق آله التنظيف" بالواو. وفي وجوب تجهيز الزَّوْجة، إذا ماتَتْ وجهان مذكورانِ في الجنائز، ويَجْرِيَان في تجهيز الخادمة ورأى في "التتمة" وترتيبهما على الوجهَيْنِ في المخدومة؛ لأن عُلْقَةَ النكاح تَبْقَى بعْدَ الموت في التوارُث والغسل، فكذلك [في] التجهيز. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الوَاجِبُ السَّادِسُ: السُّكْنَى وَعَلَيْهِ أَنْ يُسْكِنَهَا دَاراً تَلِيقُ بِهَا إِمَّا بِعَارِيَّةٍ أَوْ بِإِجَارَةٍ أَوْ مِلْكٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ومما يجب على الزوج تهيئة المَسْكَن للزوجة؛ فإنه لا بد منْه، وقد سَبَق أن المُعتدَّة تستحقه؛ فالمنكوحة أَوْلَى، ويجب أن يُسْكِنَها الموْضِع الذي يليق بحالها في العادة، فالتي لا يليق بحالها [في العادة] الخَانُ، لا بد من إسكانها في دارٍ أو حُجْرةٍ، ويُنْظَر أيضاً إلى سَعَتها وضِيقِها، وذكر في الفرق بينه وبين القوت حيْثُ نَظَرْنا ¬
الفصل الثاني في كيفية الإنفاق
فيه إلى جانب الزوج أن الواجب في القوت التمليكُ، فراعنا فيه جانبه، وفي المسكن المعتبر الإمتاع دون التمليك، وطُرِدَ هذا الافتراقُ فيما يجب فيه التمليك وما لا يجب. وفي "التتمة" أنا إذا اعتبرنا المَسْكَن الذي يليق بها فيفاوت بين الغني والفقير كما في النفقة وهذا يتضمن النَّظَر إلى الجانبين معاً، ولا يُشْترط أن يكون المَسْكَن مِلْكاً له، بل يجوز إسكانها في المنزل المستعار والمستأجر بالاتفاق. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الفَصْلُ الثَّانِي فِي كَيْفِيةِ الإِنْفَاقِ أمَّا الطَّعَامُ فَيَجِبُ فِيهِ تَمْلِيكُ الحَبِّ وَمُؤنَةُ الطَّحْنِ وَالخَبْزِ وَإِصْلاحُ اللَّحْمِ، وَلَيْسَ لَهُ أنْ يُكَلِّفَهَا الأَكْلَ مَعَهُ، فَإِنْ كَانَتْ تَأْكُلُ سَقَطَ نَفَقَتُهَا عَلَى أَحْسَنِ الوَجْهَيْنِ، وَيَجُوزُ أن تَعْتَاضَ الدَّرَاهِمَ عَنِ النَّفَقَةِ قَبْلَ القَبْضِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، فَإِنْ أَخَذَتِ الخُبْزَ فَهُوَ أَوْلَى بِالمَنْعِ لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّبا، وَلَهَا طَلَبُ النَّفَقَةِ صَبِيحَةَ كُلِّ يَوْمٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا الصَّبْرُ إلى اللَّيْلِ، وَلَوْ مَاتَتْ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ لا يُسْتَرَدُّ، وَلَوْ نَشَزَتْ يُسْتَرَدُّ، وَلَوْ سَلَّمَ إِلَيْهَا نَفَقَةَ أَيَّامٍ مَلَّكَتَ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ ثُمَّ يُسْتَرَدُّ بِالنُّشُوزِ، وَهَلْ يُسْتَرَدُّ بِالمَوْتِ فِيهِ وَجْهَانِ، أمَّا الكسوَةُ فَيَكْفِي فِيهَا الإِمْتَاعُ دُونَ التَّمْلِيكِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ كَالمَسْكَنِ والأَثَاثِ، وَلَوْ سَلَّمَ إِلَيهَا كُسْوَةَ الصَّيْفِ فَتَلِفَتْ في يَدِهَا أَوْ أتْلِفَتْ فَعَلَيهِ الإِبْدَالُ إنْ قلْنَا إنَّهُ إِمْتَاعٌ وَلَكِنْ عَلَيْهَا قِيمَةُ المُتْلَفِ، وَإِنْ مَاتَتْ فِي أَثْنَاءِ الصَّيْفِ يُسْتَرَدُّ إِنْ قُلْنَا: إنَّهُ إِمْتَاعٌ، وَإِنْ قُلْنَا: تَمْلِيكٌ فوَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: غرْض الفصْل بيان كيفية الإنْفَاق وَتَوْفِيَةُ الواجبات المذكورة، وهي صِنْفان: أحدهما: ما ينتفع به باستهلاكه؛ كالطعام، وفيه مسائل: إحداها: يجب التمليك في الطعام، كما في الكفَّارة، وكذا حُكْم الادام، وما يُسْتَهْلك من آلة التنظيف، كالدهن والطِّيب (¬1)، وإذا أخذت المرأة نفقتها فلها إبدال المأخوذِ، والتصرف فيه بالبيع والهبة وغيرهما، لكن لو قترت على نفسها بما يَضُرُّ بها فله المنع، ونفقةُ الخادمة يجِب فيها التمليك أيضاً، وذكر صاحب الكتاب أن في تصوُّره عُسْراً؛ لأن الرقيقة لا تَمْلِك، والحرَّة المستأجرة بأُجْرة لا تستحق إلا الأجرة، وإنما يُتصوَّر ذلك في حرة وعُدَتْ بأن تَخْدُمِ بالنفقة، فتطالب كل يوم بالنفقة كالمرأة، وتستحق التمليك، وإن لم يكن ذلك عقْداً لازماً، وكان لها أن ترد النفقة إذا بَدَا لَهَا، ¬
وهذا مأخوذ من الإِمام في غالب الظَّنِّ، ولك أن تقول: قد تَقدَّم أن موضع نفقةِ الخَادِمة ما إذا أخْدَمَها بخادمتها المملوكة أو الحُرَّة، غير المستأجرة فإن كانَتْ مملوكةً لها فيملكها نفقتها، كما يملكها نفقة نفْسها، وإن كانت حُرَّةً، فيجوز أنْ يقال: يُمَلِّكُها نفقتها، كما يَمْلِك الزوجةُ نفقَتَها، وتستحق المرأةُ المطالبة بذلك، لتَوفُّر حقُّ الخدمة، ويجوز أن يقال: يملك الزوجة؛ لتَدْفَعَهَا إلى الخادِمَة؛ وعلَى هذا، فلها أن تتصرَّف في المأخوذِ، وتكفي مؤنة الخادمة من مالها. ولو أخَذَتِ الزوجةُ النفقةَ فَتَلِفَتْ في يدها أو سُرِقَتْ، لم تَلْزَمِ الزَّوْجَ مرةً أخرَى. الثانية: الذي يجب تمليكه من الطَّعَام الحَبُّ، كما في الكفَّارات لا الخُبْز والدَّقِيق، فإنهما لا يَصْلُحان لكل ما يَصْلُح له الحَبُّ فلو طلبت غير الحَبِّ، لم تَلْزَمْه الإجابة، ولو بذل غيره من خُبْزٍ ودقيقٍ ودرهم وثوب، عوضاً، لم يلْزَمْها القَبُول، وهل عليه مع [الحَبِّ مؤنةُ] (¬1) الطَّحْنِ والخَبْزِ؟ فبحصول ما قيل فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وهو الذي أورده القاضي ابن كج: أنها لا تلزم كما في الكفارات. والثاني: عن الحاوي: أن المرأة إن كانَتْ من أهل السواد الَّذين عادتهم الطَّحْن والخَبْز بأنفسهم، لم تجب المؤنة على الزَّوْج، وإن كانَتْ من غيرهم، وجَبَتْ. وأظهرها، وهو الذي أورده في الكتاب: أنها تجب؛ لأنها في حبسه، فعليه أن يكفي مؤنتها بخلاف ما في الكفارات؛ وعلى هذا، فيلْزَم مؤْنة طَبْخ اللَّحْم، وما يُطْبَخُ به، ولو باعت الحَبَّ المأخوذ أو أكلته حَبّاً، ففي استحقاق مؤنة الإصلاح احتمالان للإمام: أحدهما: الاستحقاق؛ لأَنَّهُ بعض ما وَجَبَ عليه. وثانيهما: المنْع؛ لِأَنها تجب تبعاً للحَبِّ؛ فلا تُفْرَد بالإيجاب وقد يؤيَّد ذلك بأنهم ذكَرُوا أن الزوج يُخيرُ بين أن يبذل المؤنة مع الحَبِّ، وبين أن يكفيها مؤنةُ الطَّحْنِ والخَبْزِ بنفسه، أو بأن يقيم لذلك مَنْ يتولاه، ولو مكناها من التصرُّف في المأخوذ وطلب المؤنة، بطلت خيرته. وليس له أن يُكلِّفها الأكْل معَه لا مع التمليك ولا دونه؛ لأنها حينئذٍ لا تَتَمكَّن مِنَ التصرُّف فيه كما تريد، ولو كانت تأكُلُ معَهُ عَلَى العادة، ففي سقوط نفقتها وجهان: أقيسهما: وهو الذي ذكره الرُّويانيّ في "البحر": أنها لا تسقط، وإن جَرَيَا على ذلك سِنِينَ؛ لأنه لم يُؤَدِّ الواجب، وتَطوَّع بما ليس بواجب. والثاني: تسقط؛ فإنه اللائق بالباب، وسماه أحسن الوجهَيْن؛ لجريان الناس عليه ¬
في الأعمال، واكتفاء الزوجات به، وقال في "الوسيط": لو طلبت المرأة النفَقَةَ للزمان الماضي، والصورة هذه، لا تُستنكر، و [بنى] بعضهم هذا الخلاف على الخلاف في المعاطاة، هل تَجْعَل بيعاً؟ وقال: إِن جعلْناه بيعاً برئت ذمته عن النفقة، إلا لم تبرأ، وعليها غرامةُ ما أَكَلَتْ، وليكُنْ هذا مُفَرَّعاً على جواز اعتياض الخُبْز عن النفقة؛ ليجعل ما جرى قائماً مقام الاشتراط، وفي جواز الاعتياض خلافٌ سيأتي -إن شاء الله تعالى- ثم الوجهان فيما إذا كانت المرأة بالغةً أو صغيرةً، وكانت تأْكُلُ معَهُ بإذْنِ القَيِّم، فأما إذا لم يأْذَنِ القيِّم، فالزَّوْج متطوِّع، ولا تسقط [نفقتها] (¬1) بلا خلاف (¬2). ولو اعتاضت عن النفقة دراهم أو دنانير أو ثياباً ففي جوازه وجهان: وجه المنع: أنه طعام يَثْبُت في الذمة عوضاً، فلم يَجُزْ الاعتياض عنْه قبل القَبْض، كالمُسلَّم فيه، وأيضاً، فهو بَيْع طعام في الذمة فأشبه بيْع طعام الكفَّارة. ووجه الجواز وهو اختيار أبي إسحاق، والأصحُّ (¬3) أنَّه طعام مستقِرُّ في الذمة لمعيَّن، فأشبه المعاوضة مع الطعام المغصوب المُتْلَف، وُيخرَّج عليه المُسلَّم، فيه، فإنه غير مستقر، وطعام الكفارةُ فإنه لا يستقر لمعيَّن، ولو اعتاضت عنْه الخُبْزَ أو الدقيقَ أو السَّوِيق، فوجهانِ أيضاً: ووُجِّهَ الجَوَاز بأنَّها تستحق الحَبَّ والإصلاح، فإذا أخذَتِ الطعام المصلح، فقد أخذت حقِّها لا عوضه، وأيضاً قد يَشُقُّ عليها تكلف الإصلاح والمعالجة، وعليه بَذَلُ المؤنة. ¬
والمنع بما سبق، وأيضاً، فإن بَيْع الحِنْطة بالخبز والدقيق رِباً، ورتب في الكتاب لهذا المعنى الخلاف في اعتياض الخُبْز على الخلاف في اعتياض الدَّرَاهم، وجعَلَهُ أوْلَى بالمنع، وإلى ترجيح المنع ذهب أصحابنا العراقيُّون، وتابعهم القاضي الرُّويانيُّ وغيره، وأجاب صاحب "التهذيب" بالجواز، ولم يذكر فيه خلافاً مع حكايته الخلاف في اعتياض الدراهم والدنانير، والأوَّل أقوم. ولا يجوز الاعتياضُ عن النفقة للزمان المستقبل، ولا أن تبيع النفقة [الحالة] من غير الزوج [قبل قبضها] بحال. الثالثة: النفقة تستحق يوماً فيوماً، ولها المطالبة بها صَبِيحة كل يوم، إذا طلع الفجر، هكذا ذكره الأصحاب، وفي "المهذب": إذا طلعت الشمْسُ (¬1)، ولا يلزمها الصبر إلى الليل؛ لأنها تحتاج إلى الطَّحْن والخَبْز، فلو لم تُسلَّم إلَيْها في أوَّل النَّهار، لم تنله عند الحاجة. ولو ماتَتْ في أثناء النَّهار، أو طلَّقها, لم يكن له الاسترداد، ويكون المدفوع من تركتها لوجُوبه بأول النهار، ولو ماتت أو طَلَّقها في أثناء النهار، ولم يَدْفع إليها نفقة اليوم، كانت دَيْناً عليه، هذا هو ظاهر المذهب المشهور وفي كتاب القاضي ابن كج حكايته وجه: أن له الاسْتِرْدَادَ وإن نشزت في أثناء النهار، فله الاسترداد (¬2)، وكأن ذلك لِمَنْعِها من النشوز، ولو سَلَّم إليها نفقة شَهْرٍ أو أيامٍ، فهل تَمْلِك الزيادة على نفقة اليوم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن سبب الاستحقاق غَيْرُ متَيَقَّن، فقد يموت أو تموت. وأشبههما: وهو ظاهر ما قاله ابن الحدَّاد: أنها تملكها كالأجرة والزكوات المُعَجَّلة؛ وعلى هذا، فلو نشزت، ليسترد نفقة المدة الباقية، ولو ماتت [أو] طلقها، فوجهان؛ تفريعاً على ظاهر المذهب [في] نفقة اليوم الواحد: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة: أنه لا يسترد؛ لأنها صلةٌ اتصل بها القبض. وأصحُّهما: الاسترداد، وبه قال أحمد -رحمه الله- لأنه دفع عما يلْزَمه، ويستقرُّ عليه في المستقبل، فإذا تبيَّن خلافه، استرد كالزكاة المعجَّلة، وإذا قلْنا: لا تملك ما زاد على نفقة يوم واحد، فكلما دخل يوم، مَلَكَتْ مقدار نفقته ونفقة الخادمة في وقْتِ ¬
وجوبِ التسليم، وفي استرداد المُسلَّم إليها كنفقة المخدومة بلا فرق. القسم الثاني: من الواجبات: ما ينتفع به مع بقاء عَيْنِهِ، كالكُسْوة، وفي وجوب تمليكها وجهان: أحدهما: لا يجب، وبه قال ابن الحدَّاد؛ لأن عين الكسوة لا تُمْلَك في الانتفاع، فيُعْطَى امتاعاً لا تمليكاً كالمَسْكَن والخَادم. ويقال: إنَّ هذا قضيَّة نصه في "الإملاء"، وهو اختيار القَفَّال. وأصحُّهما: على ما ذكر صاحب "المهذب" والتهذيب والقاضي الرويانيُّ، ويُنْسَب إلى النص: أنَّه يجب لها كما في النفقة، والإدام، وكما في كُسْوة الكفَّارة، وليست الكُسْوة كالمَسْكَن، فإن الكُسْوة تُدْفَع إليها، والمسكن لا يدفع إليها وإنما يسكنها الزوج معَه، ويجري الخلاف في كُسْوة الخادمة وطرده صاحب "التهذيب" في كل ما يُنْتَفَعُ به مع بَقَاء عينه؛ كالفُرُشِ وظروف الطعام والشراب والمُشط من آلات التنظيف، وألحق صاحب الكتاب في "البسيط" الفُرُشَ والظروف بالمسكن، وأخرجهما عن حيز الخلاف، وهو قضية قوله هاهنا "كالمسكن والأثاث"، ويتفرَّع على الخلاف المذكور صُوَرٌ تَقدَّم عليها: أن الكسوة تُدْفَع إليها في كل ستة أشهر (¬1)، ثم تُجدَّد كُسْوة الصيف للصيف، وكُسوة الشتاء للشتاء، وأمَّا ما يبقى سنة وأكثر؛ كالفرش والبُسُط والمشي، فإنما تُجدَّد في وقْت تجديدةً، وكذلك جُيَّة الخَزِّ والإِبْرِيسمَ، لا يجدد في كل شتوة، وعليه تطريتها على العادة. وأمَّا الصور، فمنها: لو سلم إليها كُسْوة الصيف، فتَلِفَتْ في يدها قَبْل مُضِيِّ الصيفِ مِنْ غير تقْصِير، فعليها الإبدال، إنَّ قلنا: الواجب في الكُسْوة الإمتاع، وإن أوجبنا التمليك، لم يَلْزَمْه (¬2) ¬
البدل؛ لأنه قد وَفَّى ما عليه، فأشبه ما إذا مَلَّكها النفقة فتلفت في يَدِها، وذُكِر وجْه ضعيفٌ: أنه يلزمه البدل؛ لأن المقصود الكفاية. فلو أتْلَفَتْ هي بنَفْسِها, لم يلزم الإبدال، إن قلْنا بالتمليك وإن قلنا بالامتاع، فعليها قيمة ما أتلفت، وعليه الإبدال، وأورد في "البسيط" احتمالاً فيه أَخْذاً من وجوب التجديد، إذا طَلَّق الأب بعْد الإعفاف، قال: ولكن هذا إنما يتَّجه في أنها، هل تُطَالِب قَبْل أن تَضْمَنَ القيمة؟ ولا يتَّجه في الأصْل، فإنها إذا ضَمِنَتْ ما أتْلَفَت، فكأنها لم تُتْلِف بخلاف الأب، ولو تَخرَّقَت الكُسْوة قبل مجِيْء وقْت التخرق؛ لكثرة تردُّدها فيها، وتحامُلِها عليها، فهو كما لو أتلَفَتْها. ومنها: لو سلَّم إليها كُسوة الصَّيْف، فماتَتْ في أثنائه أو مات الزوج، أو طَلَّقها، [فيسترد]، إنْ قلنا: إِنَّ الواجب الإمتاع، وإن قلنا: الواجب التمليك، فلا يسترد، والصيف بالنسبة إلى كُسْوة الصيف، كاليوم بالنسبة إلى النفقة، هذا هو الظاهر. وفيه وجْه: أنها تُسترد؛ لأنه أعطاها للمدة المستقبلة، فأشبه ما إذا أعطاها نفقَةَ أيَّامٍ، ويمكن تنزيل وجْه الاسترداد على الوجه القريب الذي ذكره القاضي ابن كج في نفقةَ اليوم الواحد مَعَ تسليم أن كُسْوة الصيف كنفقة اليوم. ومنها: إذا لم يَكْسُها مدَّةً، صارت الكُسْوة دَيْناً عليه، إنَّ أوجبنا التمليك، وإن قلنا: إن الواجب الإمتاع، لم تَصِرْ دَيْناً. ومنها: لا يجوز الاعتياض عن الكسوة على وجْه الإمتاع، كما لا يجوز للقريب أن يعتاض عن النفقة، وعلى وجه التمليك في جواز الاعتياض الخلافُ المذكور في الاعتياض النفقة، قاله في "التتمة". ومنْها: لو أعطاها كُسْوة الصَّيْف، فمضى الصيف، وهي باقيةٌ لرفقها بها، فعليه كُسْوة الشتاء، إن قلنا بوجوب التمليك.
الباب الثاني في مسقطات النفقة
وعلى الوجه الآخر: لا يلزمه إلا ما يزاد للشتاء، حتى يَبْلَى ما عندها. ومنها: أن له أن يأخذ المدفوع إليها ويعطيها غيره على وجْه الإمتاع، ولا يجوز على وجْه التمليك إلا برضاها ما لو ألبسها ثياباً مستعارةً أو مستأجرة، لم يجُزْ على وجْه التمليك، ولَها أن لا تَرْضَى بها، ويجوز على وجْة الإمتاع، فلو تَلِفَ المستعارُ، فالضمان على الزوج. ومنها: لا يَصِحُّ منْها بيْعُ المأخوذ على وجْه الإمتاع، ويصحُّ على وجْه التمليك كما في القوت والأَدْم؛ وعلى هذا، فعن أبي إسحاق: أن لها أن تلبس ما دون المأخوذ، كما في النفقَة، والظَّاهِر المنع؛ لما للزوج من غرض التزيُّن (¬1) والتجَمُّل، والله أعلم. قَالَ رَحِمَهُ اللهُ: البَابُ الثَّانِي فِي مُسْقِطَاتِ النَّفَقَةِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَتَجِبُ النَّفَقَةُ بِالعَقْدِ بِشَرْطِ عَدَمِ النُّشُوزِ، وَعَلَى قَوْلٍ تَجِبُ بِالتَّمْكِين، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَنَازَعَا فِي النُّشُوزِ فَعَلَيْهَا بَيِّنَةُ التَّمْكِينِ، وَعَلَى القَوْلِ الأَوَّلِ عَلَيْهِ بَيِّنَةُ النُّشُوزِ، وَتَسْتَحِقُّ الَّتِي لَمْ تُزَفَّ عَلَى القَوْلِ الأَوَّلِ إِذَا كَانَتْ سَاكِنَةً إِذْ لاَ نُشُوزَ، وَلاَ تَسْتَحِقُّ عَلَى الثَّاني إِذْ لاَ تَمْكِينَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقدِّمة الباب أنَّ النفقة تَجِبُ بالعَقْدِ أو بالتمكين. اعلم أن الشيْءَ قد يَثْبُت في الذِّمَّة ويتأخَّر وجوب تسليمه كالدَّيْن المؤجَّل، ولا خلاف في أن وقْت وجوبِ التَّسْليم في النفقة صبيحةُ كلِّ يوم، وفي الكُسْوة أول كُلُّ صيف وشتاء على ما مَرَّ، وذلك بعد حصول التمكين. وأما وقْت ثبوتها في الذِّمَّة فلا شك أن للنفقة تعلُّقاً بالعقد والتمكين جميعاً، فإنها لا تجب قبل العقد، ولو نشزت بعد العقد، لم تُطَالِبْ بالنفقة، واختلف القول في أنها بم تَجِبُ؟ فالقديم أنها تجب بالعَقْد، كالمَهْر، ولا تجبُ بالتمكين؛ بدليل وجوبها للمريضة والرتقاء، لكن لو نَشَزَتْ، سقَطَتِ النفقة، فالعقد مُثْبِت، والنشوزُ مُسْقِطٌ، فإذا حصل التمكين، استقر الواجب يوماً فيوماً، كالأجرة المعجَّلة، إلا أن الأجرة يَجِبُ ¬
تسليمها بالعَقْد جملةً؛ للعلم بها، وجملةُ النفقة غَيْرُ معلومةٍ؛ لأن نهاية النكاح غيْر معلومة. والجديد: أنَّها لا تجب بالعقد؛ لأن المهر يجب به، والعقد لا يوجب عوضَيْن مختلفين، ولأن النفقة مجهولة الجملة، والعَقْد لا يوجب مالاً مجهولاً وإذا لم تجب بالعقد فتجب بالتمكين يوماً فيوماً (¬1). وما حال القَوْلَيْن؟ قال أبو الفرج السرخسيُّ: هما مذكوران في "الإملاء". وقال قائلون: هما مستخْرَجَان من معانِي كلام الشافعيِّ -رضي الله عنه- غير منصوص عليه، ويدل عليه شيئان: أحدهما: أن أبا نصر بْنَ الصَّبَّاغ في آخرين: ذكروا أن القديم مأخوذٌ من تجويزه في القديم ضمانَ نفقة المدة المستقبلة، فإن الشافعيَّ -رضي الله عنه- لا يُجَوِّز ضمان ما لِمِ يجب، لكن قد مر في "كتاب الضَّمان" نَقْلُ قول عن القديم: أنه يجوز ضمان ما لم يَجِبْ. والثاني: عن صاحب "الحاوي"، ونقل اختلاف الأصحاب في تجويزه عن سبب النفقة، فالبغداديون علَّقوها بالتمكين، وجعلوا سبْق العقد شرطاً، فقالوا: تجب بالتمكين المستند إلى العَقْد، والبصريون قالوا: تجب بالعقد؛ بشرط التمكين، فَرَدَّ الأمر إلى كلام الأصحاب، وتصرُّفِهِم، ثم ذكر في الكتاب من فوائد القولَيْن صورَتيْن: إحداهما: لو اختلفا في التمكين، فقالت المرأة: مكنَتَ وسلمت نفسي إليك [منْ] وقْت كذا، وأنكر ولا بينة، فإنْ قلْنا: إن النفقة تجب بالتمكين، فالقول قول الزوج، وعليها البيِّنة؛ لأن الأصل عدم التمكين، وهو الأصح، وإن قلْنا؛ تجب بالعقد، فالقول قولها؛ لأن الأصل استمرارُ ما وَجَبَ بالعَقْد، وهو يدَّعي السقوط، فعليه بيِّنة النشوز المُسْقِط. هذا هو المشهور، وأشار الرُّويانيُّ إلى طريقةٍ قاطعةٍ بأن القول قوْلُ الزوج. ولو تَوَافَقَا على تسليمها نَفْسَها، وقال الزوج: قد أدَّيت نفقة المُدَّة الماضية، وأنكرتِ الزوجة، فالقول قولُها، سواءٌ كان الزوج حاضراً عنْدها أو غائباً، وعن مالك -رحمه الله-: أنه إذا كان حاضراً عنْدها، فالقول قولُهُ؛ لأن معاشرتها إياه تَدُلُّ على أخذها النفقة. ¬
الثانية: إذا لم يطالبها الزَّوْج بالزفاف، ولم تمتنع هي منه، ولا عَرَضَتْ نفسها علَيْه، وَمَضَتْ على ذلك مدَّة، فتجب نفقة تلك المدة، إن أوجبنا النفقة بالعَقْد لوجودِ المُوجِبِ وعَدَمِ المُسْقِط، وهو النشوز، وإن أوجبنا بالتمكين، لم تجب؛ إذْ لا تَمْكِينَ. وقوله في الكتاب: "وتجب النفقة بالعَقْد بشرط عدم النشوز" ليس المرادُ أنَّ عدم النشوز شرطُ الوجوب، وإلا، لم يكن العَقْد موجباً بِمُجرَّده، ولم يَسْتَمِرَّ قَوْلُنَا في الصورة الأولى: "إن الأصل استمرار ما أوجب بالعقد"، وإنما المعنى أنها تَبْقَى بشرط عدم النشوز، فالعَقْد على هذا القول مُوجِبٌ، والنشوز مُسْقِط. وقوله: "فعلى هذا، لو تنازعا في النشوز" كذلك ذَكَرهَا هنا، وفي "الوسيط"، ولفظ الأكثرين: "لو تنازعا في التمكين" كما ذكرنا، وكذلك هو في "البسيط"، ويُشْبِه أن يكون الذي ذَكَره هاهنا مَحْمُولاً عليه، فأما إذا توافَقَا على حُصُول التمكين، واختلفا في أنَّها هل نَشَزَتْ، وخَرَجَتْ عن طاعته؟ فينبغي أن يُقْطَع بتصديقها؛ فإن الأصل عدم النشوز واستمرار الواجِب، وهكذا ذكره القاضي ابن كج -رحمه الله- بَعْدما أجاب فيما إذا اختلفا في أصل التمكين بأن القول قوله. وحكي مع ذلك وجهاً ضعيفاً: أن القول قولها؛ لأن الأصل براءة الذِّمَّة. وقوله في الكتاب: "إذا كانت ساكتة" يجوز أن تقرأ بالتاء أي "سَاكِتَةً" عن العرض، وطلب الزفاف، ويجوز أن تقرأ "سَاكِنَةً" بالنون أي لم يكن منها امتناع وعصيان، قال الأصحاب: وإذا سلَّمت المرأةُ نفْسَها إلى الزوج، فعليه النفقة من وقْت التسليم، ولو بعَثَتْ إليه؛ أنِّي مسلِّمةٌ نفْسي إليك، فعليه النفقة من وقت ما بَلَغَه الخبر فإن كان غائباً، فترفع الأمر إلى الحاكم، وتُظْهِر له التسليم والطَّاعة، ليكتب إلى حاكم بلَدِ الزوج؛ ليحضره ويُعْلِمَه الحال، فإن شاء، سار إليها كما أعلمه، وتَسلَّمها، أو بعث وكيلاً فتسلمها، وجبت النفقة من وقْت التسليم (¬1)، فإن لم يفعل، ومضى زمانُ، إمكان الرسول إليها فرض القاضي نفقتها في ماله وجُعلَ كالمتسلِّم لها؛ لأنَّ الامتناع (¬2) منْه. قال في "التتمة": ولو لم يعرف موضعه، فالحاكم يَكْتُب إلى حكام البِلاد الذي تَتَوجَّه ¬
إلَيْها القوافل من تلْك البلدة في العادة؛ ليُطْلَب، وينادى باسمه، فإن لَمْ يَظْهَر، فَرَضَ الحاكِمُ نفَقَتَها من مَالِهِ الحاضر وأخذ منْها كَفيلاً (¬1) بما يُصْرَف إلَيْها؛ لأنَّه لا يُؤْمَن أن تظهر وفاته أو طَلاَقُه، ومن الأصحاب من لم يتَعرَّض للرَّفْع إلى القاضي، ولا لكتابه، وقال: تجب النفقة من حين يصل الخبر إليه، ويمضي زمان إمكان القدوم عليها وهكذا أورده صاحب "التهذيب"، ولو لم تَعْرِضِ المرأةُ نفْسَها على الزوج الحاضر أو الغائب، ولا بَعَثَت إليه فلا نَفَقَةَ لها، وإن طالت المدة، إذا فرَّعْنا على أن النفقة تجب بالتمكين. وغَيْبَةُ الزوْج بعد التسليم، لا تُؤَثِّر ما دامت مقيمة على طاعته وإن طالت المدة، [وهذا] كله فيما إذا كانت المرأة عاقلةً بالغةً، فأما المراهِقَةُ والمجنونة، فلا اعتبار بعَرْضِها وبذلها الطاعة، وإنَّما الاعتبار في حقِّهما بعرض الوَليِّ وبذله ولَو سلَّمت المراهِقَةُ نفْسَها، وتسلَّمها الزَّوْج، وَنَقَلَها إلى دَارِهِ، وجَبَت النفقَةُ وكذا لو سَلَّمت المرأة نفْسَها إلى الزَّوْج المراهِقِ بغير إذْن الوَليِّ وجبت النفقة بخلاف تسليم المبيع إلى المراهق؛ لأن المقصود هناك أن تصير اليد للمشتري، واليد في عقد المراهق للوَلِيِّ لا لَهُ، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَمَوَانِعُ النَّفَقَةِ أَرْبَعَةٌ: المَانِعُ الأَوَّلُ: النُّشُوزُ وَمَنْعُ الوَطْءِ وَالاسْتِمْتَاعِ نُشُوزٌ، وَالخُرُوجُ بِغَيرِ إِذْنِهِ نُشُوزٌ، وَالخُرُوجُ فِي بَعْضِ اليَوْمِ يُسْقِطُ بَعْضَ النَّفَقَةَ عَلَى وَجْهٍ، وَجَمِيعَهَا عَلَى وَجْهٍ، وَتَجِبُ النَّفَقَةُ لِلرَّتْقَاءِ وَالمَرِيضَةِ وَالمَجْنُونَةِ فَإِنَّ هَذِهِ أَعْذَارٌ دَائِمَةٌ، وَتَسْقُطُ بِنُشُوزِ المَجْنُونَةِ، وَلَوْ خَرَجَتْ فِي حَاجَةِ الزَّوْجِ بِإِذْنِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ، وَإِنْ خَرَجَتْ فِي حَاجَةِ نَفْسِهَا فَقَوْلاَنِ، وَإذَا امْتَنَعَتْ عَنِ الزِّفَافِ بِغَيْرِ عُذْر فَنَاشِزَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ مَرِيضَةَ يَضُرُّ بِهَا الوَطْءُ فَمَعْذُورَةٌ، وَلاَ يؤْتَمَنُ الرَّجُلُ فِي قَوْلِهِ: لاَ أَطَؤُهَا، وَإِنْ أَنْكَرَ كَوْنَ الوَطْءِ مُضِرّاً ثَبَتَ بِقَوْلِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَهَلْ يَثْبُتُ بِقَوْلِ وَاحِدَةٍ؟ فِيهِ خِلاَفٌ، وَلَوْ نَشَزَتْ بِالخُرُوجِ عَنِ المَسْكَنِ فَنَابَ الزَّوْجُ فَعَادَتْ لَمْ تَعُدُ النَّفَقَةُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ حَتَّى يَقْضِيَ القَاضِي بِطَاعَتِهَا أَوْ يَرْجِعَ الزَّوْجُ أَوْ تَنْقَضِيَ مُدَّةُ اِمْكَانِ الرُّجُوعِ، وَإذَا سَقَطَ نَفَقَتُهَا بِرِدَّتِهَا عَادَتْ بِمُجَرَّد إِسْلاَمِهَا دُونَ قَضَاءِ القَاضِي عَلَى أَفْقَهِ الطَّريقَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا نفقة للزوجة الناشز لأن النفقة وجَبَت لكَوْنها معطلة المنافع؛ ¬
بسبب الزَّوْج محبوسةً عنده ولهَذَا لو امتنع مِنَ الإنفاق، كان لها أن تمتنع من التمكين، فإذا نَشَزَتْ عليه، سقط ما يقابل التمكين، ولو نشزت في بَعْض النهار، فهل لها بعض النفقة؛ فيه وجْهَان يَقْرُبان من الخلاف، فيما إذا سَلَّم السيد الأَمَةَ لَيْلاً لا نهاراً: أحدهما: أنه لا شَيْءَ لها؛ فإن نفقة اليوم لا تتبعَّض؛ ألا ترى أنَّها تُسلَّم دفعةً واحدةً، ولا تفرق غداء وعشاء. والثاني: أنَّها توزَّع بحَسَب زمان الطَّاعة والنشوز، واستثنى عن التوزيع هكذا ما إذا اْطاعت نهاراً ونشزت ليلاً أو بالعكس، وحكم بشطر النفقة، كما مر في مسألة الأَمَةُ، ولم يُنْظَر في الليل والنهار إلى الطُّول والقِصَر، وبالوجه الثاني أجاب أبو الفرج السرخسيُّ. ومنهم: مَنْ رجَّح الأول، وهو أوفق لما سَبَق مِنْ مسألة الأَمةَ. ونشوز المجنونة والمراهقة كنشوز العاقلة البالغة؛ لاستواء الفعلَيْن في التفويت على الزَّوْج. ثم فيه مسائل: إحداها: الامتناعُ عن الوطءِ والاستمتاعِ وعن الزِّفَافِ من غير عذر نشوزٌ، فلو قالت: سَلِّم المَهْر لأسَلِّم نفسي، فإنْ جرى الدخول أو كان الصَّداق مُؤَجَّلاً، فهي ناشزة؛ إذ ليس لها حَبْس نفسَهَا، والحالة هذه، وإذا لم يجر دخولٌ، والصَّداق حَالٌّ، فلها النفقة من حينئذ. هذا هو الأظْهَر، وفيه خلافٌ مذكورٌ في الصَّدَاق، والمُؤجَّل إذا حَلَّ كالحَالِّ أو كالمُؤَجَّل، فيه خلاف، وبالثاني أجاب في "التهذيب" لأن العَقْد لم يُثبِتْ هذا الجنس، ولو كانت مريضةً أو كان بها قرح يضرها الوطء، فهي معذورة في الامتناع عن الوطء وعليه النفقة إذا كانت عنده، وكذا لو كان الرجل عَبْلاً لا يحتمله، فإن أنكر القرح المَانِعَ من الوطء، فلها إثباته بقول النسوة، وتكفي امرأةٌ واحدةٌ سُلوكاً بها مَسْلَك الأخبار، أم لا بد من أربع نسوةٍ؛ لأنها شهادةٌ مُسْقِطَةٌ لحق الزوج؟ فيه وجهان: وبالأول، قال (¬1) أبو إسحاق، والأظهر: الثاني، وكذا لو أنكر الضَّررَ من جهة العبالة وكبر الآلة يُرْجَع فيه إلى النسوة، ولا بأس أن ينظرن إليها عند اجتماعهما؛ ليَشْهَدْنَ، وليس لها الامتناع من الزِّفَاف بعُذْر عبالة الزوج على ما مَرَّ في أول الصداق، ولكن لها الامتناع بعذر المرض، فإنَّه متوَقَّع الزوال. فإن قال الزوج: لا أطؤها حتى تبرأ الألم، لم يؤتمن فيه. هكذا أطلقه في الكتاب، وقد سبق هناك في الكتاب ما يَقْتَضي إعلامه بالواو. ¬
ولو قالت المرأة، لا أُمَكِّنُ إلا في بَيْتِي أو في بيت كذا أو بلد كذا، فهي ناشزة؛ لأن التمكين التامَّ لم يُوجَدْ، وهكذا لو سَلَّم البائعُ المَبِيعَ، وشَرَط أن لا ينقله إلا إلى موضع كذا. وهَرَبُ المرأة وخروجُها من بيت الزَّوْج والسفر بغير إذْنِهِ (¬1) نُشوزٌ أيضاً، ويستثنى عن الخروج ما إذا أشرف المنزل على الانهدام، أو كان المنزل لغَيْرِ الزوج، فأُزْعِجت. ولو سافرت بإذنه، فإن كان الزوج معها، أو لم يكن، وكان السفر في حاجته؛ بأن بعثها لبَعْضِ أشغاله، وجبت النفقة، وإن كانت في حاجَتِها، فظاهر نصِّه -رضي الله عنه- هاهنا أنه تَجِبُ النفقة، وفي غير هذا الباب أنَّها لا تجب، وللأصحاب طريقان: أحدهما: ويُحْكَى عن أبي إسحاق: القطع بعَدَمِ الوجوب؛ لخروجها عن قبضته، وإقبالها على شأنها، وحمل النص الأوَّل الدالُّ علىَ الوجوب على ما إذا كان الزوج مَعَها. وأظهرهما: أن المسألة على قولَيْنِ: أحدهما، أنَّها تجِبُ؛ لأنها سافَرَتْ بإذنه، فصار كما لو سافرت في حاجَتِهِ. وأظهرهما: وبه قال أبو حنيفةَ وأحمد: المنع؛ لأنها غير ممكِّنة، وقد يبنيان على أن النفقة تَجِب بالعقد أو التَّمْكِين، إن قلْنا بالعقد بشرط عدم النشوز، وجَبَتْ؛ لأنه لا نُشُوز، وإن قلْنا بالتمكين، لم تَجِبْ؛ إذ لا تمكين. الثانية: تجبُ النَّفَقَةُ للمريضة والمجنونة والرتقاء والمُضْناة الَّتي لا تَحْتَمِل الجماع، سواءٌ حدَثَتْ هذه الأحوالُ بَعْد ما سَلَّمَتْ نفسها، وما إذا سلَّمت كذلك؛ لأنَّ هذه الأعذار دائمةٌ وهي معذورةٌ فيها، وقد سلَّمت التسليمَ المُمَكِّن، وتَمَكَّنَ من الاستمتاعِ بها من بعض الوجوه، وكذا الحُكْم في أيام الحَيْض والنِّفاس، وألحق في "التهذيب" ما إذا غُصبت المرأة بما إذا هربت لا بما إذا مَرِضَتْ، وإن كانت معذورةً؛ لخروجها من قبضته فوات الاستمتاع بالكلِّيّة. الثالثة: لو نَشَزَتِ المرأةُ، فغاب الزوج، فعادت إلى الطاعة، كما إذا خرجَتْ عن مَسْكَنِه بغير إذنه، ثم عادَتْ، وهو غائب، فهل يعود الاستحقاق للنفقة؟ فيه وجهان، وفي "التتمة" قولان: ¬
أحدُهما: نَعَمْ؛ لأنَّ الاستحقاق زالَ بِعَارِضٍ من الخروج، فإذا زال العارض، عاد الاستحقاق. وأظهرهما (¬1): لأنها خرجَتْ عن قبضته، فلا بد من تسليم وتسلم مستأنفَيْنِ، وهما لا يَحْصُلان بمجرَّد عَوْدِها إلى مسكنه؛ فعلى هذا يرفع الأمر إلى القاضي؛ ليقضي بطاعتها، ويُخْبِر الزوج بذلك، فإذا عاد إليها أو بَعَثَ إليها وكيله، واستأنف تسليمها، عادَتِ النفقة، وإن مضى زمانُ إمكَانِ العَوْد، ولم تَعُدْ، ولا بَعَثَ وكيله، تعود النفقة، وهذا كما ذكرنا في ابتداء التسليم في غيبة الزوج، ولو عاد الزَّوْج إليها أو بَعَثَ وكيله، واستأنف التَّسْلِيم، حَصَل الاستغناء عن الرَّفْع إلى القاضي وحكمه، ولو ارتدَّتِ المرأة، وسقطت نفقتها على ما بَيَّنَّا في آخر باب "نكاح المشركات"، فغاب الزوج، وعادت في العدة إلى الإِسلام، وهو غائب، فتعود النفقة بمجرَّد الإِسلام، وإن فُرِضَ، فيه خلاف، والفرق أن نفقة المرتدة قد سقطت؛ لردتها، فإذا عادت إلى الإِسلام، ارتفع المُسْقِط، فعمل الموجب عمله، والناشِزَة سَقَطَتْ نفقتها؛ لخروجها عن يد الزوج وطاعته، فإنما تَعُود، إذا عادت إلى قَبْضَته، وذلك لا يَحْصُل في غيبته، ولو خرَجَتِ المرأة: في غيبة الزوْج إلى بيت أبيها؛ لزيارةٍ أو عيادةٍ، لا على وجه النشوز، لم تَسْقُط نفقتها، قاله في "التهذيب" (¬2). وقوله: "ولو خرجَت في حاجة الزوج" إلى قوله: "فقولان" يشمل من جهة اللفظ ما إذا كان الزَّوْج معها, وإذا لم يَكُنْ وقضيته إجراء القولين فيما إذا خَرَجَتْ في حاجة نَفْسِها، وإن كان الزَّوْج مَعَها، وكذلك رواه القاضي ابن كج عن أبي حَفْصِ ابْنِ الوَكِيلِ، والأكثرون قد فَصَّلوا كما سَبَقَ، وخصَّصوا القولَيْنِ بما إذا لم يكن الزَّوْج معها، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: المَانَعُ الثَّانِي: الصِّغَرُ وإذَا زُوِّجَتْ صَغِيرَةٌ مِنْ بَالِغٍ فَلَهَا النَّفَقَةُ إنْ قلنَا: تَجِبُ بِالعَقْدِ، وَإِنْ قُلْنا: تَجِبُ بِالتَّمْكِين فَلاَ، وَإِنْ تَزَوَّجَتْ بَالِغَةً مِنْ صَغِيرٍ فَقَوْلاَنِ مُرَتَّبانِ، وَأَوْلَى بِالوُجُوبِ لِأَنَّ المَانِعَ مِنْ جَانِبِهِ، وَقِيلَ: إنْ كانَتْ جَاهِلَةً بِصِغَرِهِ اسْتَحَقَّتْ ¬
وَإِلاَّ فَلاَ، وَإِنْ زُوِّجَتْ صَغِيرَةٌ مِنْ صَغِيرٍ فَقَوْلاَنِ مُرَتَّبَانِ، وَأَوْلَى بِأَنْ لاَ تَجِبَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه ثلاث صور: الأُولَى: إذا كانت المرأةُ صغيرةً، فسُلِّمَتْ إلى الزوجِ البالِغِ، أو عُرِضَتْ عليه، فقولان: أحدهما: أنَّها تستحِقُّ النفقة؛ لأنها محبوسةٌ عليه، وفوات الاستمتاع بسَبَبٍ هي معذورة فيه، فأشبهت المريضة والرتقاء. وأصحُّهما: المنع، وهو المنصوص عليه في الأم، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد -رحمهم الله-؛ لأنَّه تعذر الاستمتاع بها؛ لمعنى فيها، فأشْبَهَت ما إذا نَشَزَتْ، وليست كالمريضة، فإن المرض يطرأ ويزول، ولا يفوت الأنس وجميع الاستمتاعات، ولا كالرتقاء؛ فإن الرتق مانعٌ دائمٌ، ولا يمكن إدامة الحَبْس عليها مع نفْي النفقة، وقد يبنى القولَيْن على أن النفقة تَجِبُ بالعَقدْ أو بالتمكين، فعَلَى الأَوَّل: تَجِبُ، وعلى الثاني: لا؛ وعلى هذا جرى في الكتاب. الثانية: لو كانت المرأة بالغةً، والزوجُ صغيراً، فقولان في النفقة أيضاً: أحدهما: لا تجب؛ لأنه لا يستمتع بِهَا؛ بسبب هو معذورٌ فيه، فلا يُلْزَمُ غُرْماً. وأصحُّهما: وهو المنصوص في "الأم": أنها تَجِبُ وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه لا مَنْعَ من جهتها، والتعذُّر جاء من جهته، فصار كما لو سلَّمت نفسها إلى الزوج، فَهَرَبَ، وقد تَرتَّب القولان في هذه الصورة على القولَيْن في الأُولَى، ويقال: هي أَوْلَى بالوجوب، وكذلك فَعَل في الكتاب، وَيتولَّد من الترتيب طريقان. أحدهما: طَرْدُ القولَيْن. والثاني: القطع بالوجوب، وقد حَكَى القطْعَ هكذا القاضي ابن كج عن أبي إسحاق وغيره، ولك أن تقول: إنه قضية القولَيْنِ في أنه تَجِبُ النفقة بالعَقْد أو بالتمكين معاً، وفي الصورة طريقة ثالثة؛ وهي القَطْع بالوجوب، إذا كانَتِ المرأةُ جاهلة بصغره وتخصيص القولَيْن، بما إذا كانت عالمة، وعن أحمد -رحمه الله- في الصورة الثانية: [روايتان كالقولين] (¬1). الثالثة: إذا كانا معاً صغيرَيْنِ، ففي النفقة قولانِ أيضاً، وقد يترتبان على القولَيْن في الصورة الثانية، وهذه أوْلَى بعَدَم الوجوب؛ لوجود المانع من الطرفَيْنِ، واختصاصه بطرف الزَّوْج هناك، وهو الأصحُّ المنصوص، وقيام المانع فيها يكْفِي لِمَنْع النفقة، وعن القَفَّال: أنه جمع بين الصور الثلاث، وقال: هل يَمْنَعُ صِغَرُ الزوجَيْنِ النفَقَةَ؟ فيه ثلاثة أقوال: ¬
أحدها: أن صغر كل واحد منهما يَمْنَعُ. والثاني: لا يَمْنَعَ صِغَرُ كلِّ واحِدٍ منهما. والثالث: يَمْنَعُ صِغَرُها, ولا يمنع صِغَرُه. واعلم: أن التصوير فيما إذا سُلِّمت إلى الزوج، أو عرَضَتْ نفسها علَيْهِ، كما بيَّنَّا في الصورة الأُولَى، ما بيَّنه على أنه إذا لم يُوجَد تسليمٌ ولا عَرْضٌ، كان الحُكْم كما في حقِّ الكبيرة، وفي "البسيط" و"الوسيط" ما يقتضي خلافَهُ، والظاهِرُ الأَوَّل، وإذا كان الزوْجُ صغيراً، فيكون العَرْضُ على وَلِيِّه لا عليه، وليس المراد من الصِّغَر والبُلُوغ في الصور ما يتعلَّق به التكليف وعدمه، بل يُعْنَى بالصغير من يتأتى منه الجماع، ولا يَلْتَذُّ به وبالبالغ من يَتأَتَّى [منه]، ويدخل فيه المُرَاهِقُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: المَانِعُ الثَّالِثُ: الْعِبَادَاتُ: وَإذَا أَحْرَمَتْ بِإِذْنِهِ فَقَد سَافَرَتْ فِي غَرَضِ نَفْسِهَا، وَهَلْ تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا قَبْلَ الخُرُوجِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَقُلْنَا: لَهُ تَحْلِيلُهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ مَا دَامَتْ مُقِيمَةً عَلَى أَشْهَرِ الوَجْهَيْنِ، وإِنْ قُلْنَا: لاَ يُحَلِّلُهَا فَهِيَ نَاشِزَةٌ مِنْ وَقْتِ الإحْرَامِ، وَلاَ تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا بِصَوْم رَمَضَانَ، وَلَهُ مَنْعُهَا عَنْ نَوَافِلِ الصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ، وَفِي الرَّوَاتِبِ وَجْهَانِ، وَصَوْمُ عَاشَورَاءَ وَعَرَفَةَ كَالرَّوَاتِبِ لاَ كَصَوْمِ الاثْنَينِ وَالخَمِيسِ، وَكَذَا الخِلاَفُ فِي مَنْعِهَا مِنَ الفَرْضِ فِي أَوَّلِ الوَقْتِ، وَفِي البِدَارِ إِلَى القَضَاءِ الَّذِي هُوَ عَلَى التَّراخِي، وَلَوْ مَنَعَهَا مِنْ صَوْمِ نَذْرٍ بَعْدَ النِّكَاحِ فَإِنْ لَمْ يُحَلِّلْهَا فَفِي النَّفَقَةِ وَجْهَانِ كَمَا فِي الإِحْرَام. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مِنَ العباداتِ ما يُفَوِّت الاشتغالُ به استمتاعَ الزَّوْج، فيسْقُط النفقة، وفي تفصيله مسائل: إحداها: إذا أحرمَتْ بحجٍّ أو عمرة، فلها حالتان: إحداهما: أن تُحْرِم بإذنه، فإذا أحرمت، فقد سافرت في غرض نفسها، فإنْ كان الزَّوْج معَها, لم تَسْقُط نفقتها، وإلا، فقولان قدَّمْنَاهما, ولا فرق بين أن تخرج بإذنه أو لا تخرج بإذنه [إذا كان الإحرام بإذنه] (¬1) فلا أثر لنهيه عن الخُرُوج، وعن القَفَّال: أنه إذا نهاها، فخَرَجَتْ، سقَطَتِ النفقة قطْعاً، وأما قبل الخروج، فوجهان: أحدهما: أنَّه لا نفقةَ لها؛ لفوات الاستمتاع. ¬
وأظهرهما: وقطع به قاطعون: أنها تَجِب؛ لأنها في قَبْضَته، والفوات جاء من سَبَبِ مأذونِ فيه، ومَنْ قال بالأول، فلا بد من أن يَطْرُدَه فيما إذا خَرَج معها. الحالة الثانية: إذا أحرمَتْ بغير إذنه، فيبنى عَلَى أنه هلْ للزوج تَحْليلها؟ وقد ذكرنا في الحَجِّ أن له أن يُحَلِّلها في حج التَّطَوُّع، وكذا في حَجِّ الفرض على أصح القولَيْن، فإن جوَّزْنا [له] التحليل، فلمْ يَحَلِّلها، فلها النفقة ما لم تخْرُجْ؛ لأنها تحْت يده، وهو قادِرٌ على التحْليل والاستمتاع، وإذا لم يَفْعَلْ، فهو المفوِّت على نفسه، وفيه وجْه: أنها لا تستحِقُّ؛ لأنها ناشزة بالإحرام، والناشزة لا تَسْتَحِقُّ النفَقَة، وإن قدر الزَّوْج على ردِّها إلى الطاعة قهْراً، والظاهر الأول، فإذا خرَجَتْ بغير إذْنه، فلا نفقة لها، فإن خَرَج معها، فعلَى ما تقدَّم، وإن أذن لها في الخروج، فليكن كما لو أنشأت سفَراً بإذنه، وإن قلْنا: ليس له التحليل، فهي ناشزةٌ من وقت الإحرام، مانعةٌ من الاستمتاع، وفيه وجه: أنَّ لها النفَقَةَ ما دَامَتْ مقيمةً؛ لأنها في قبضته، وقد خرج الأمر من يدها بعد الإحرام، بخلاف النُّشُوز الذي تَقْدِر على تركه، وشُبِّهَ ذلك بالخلاف فيما إذا رمى نفسه من شاهق، وتَعذَّر عليه القيام، هل يلزمه القضاء؟ وحكى وجه آخر أو قول مُطْلِقٌ: أن الإحرام لا يؤثِّر في النفقة؛ لأنها تَسْقُط، فرضاً عن نفسها. الثانية: الصوم أنواعٌ منها صوْمُ رمضان، فلا تُمْنَعَ منه، ولا تَسْقُط به النفقة بحالٍ؛ لوجوبه [على الفور شرعاً] (¬1) وقد يُراوِدُها [الزوج]، إذا كان قد أفْطَرَ لمرض أو قَدِمَ من سفر [هـ] مُفْطِراً. ومنها قضاءُ رمَضَان، فإن تعجَّل لتعديها بالإفطار في رمضان، فلا تُمْنَع منه، وفي النفقة وجهان: المذكور منهما في "التهذيب": أنها لا تسقط ورجَّحه غيره أيضاً. وفي "التتمة": أنها تَسْقُط؛ لأن فوات حَقِّ الزوج جَاءَ مِن تَعدِّيها، وشبه الخلاف بالخلاف فيما إذا سَلَّم السيد الأمة إلى الزوْج ليلاً لا نهاراً، وإن فات الأداء بعذر وتضيق وقْت القضاء، بأن لم يَبْقَ من شعبان إلا قَدْرُ أيام القضاء، فهو كالأداء، وإن كان الوقْتُ واسعاً، فقد حَكَى صاحب الكتاب وغيره وجهَيْن في أنه: هل يجوز للزوْجِ منْعُها من المُبَادرة إليه؟ وجواب الأكثرين منهم جوازُ المَنْعِ وتنزيله منزلةَ صَوْم التطوُّع، وَيقْرُب من الوجهَيْن وجهان مرويَّان عن "الحاوي" في أنه هل يُمَكَّن من إلزامها الإفطار، إذا شَرَعَت إليه أو هما وذكر صاحبه أنهما مُخرَّجان من القولَيْنِ في جواز التحليل من الحج، وأنه إذا لم يتمكَّن منه، ففي سُقُوط النفقة وجهان: أحدهما: تَسْقُط، كما في الحج. ¬
والثاني: لا؛ لقصر زمان الصوم وقدرته على الاستمتاع (¬1) بالليل. ومِنْها صوم التطَوُّع، فإذا كان بإذن الزوج، لم يُؤَثِّر في النفقة، ولا ينبغي أن تشتغل به بغَيْر إذن (¬2) الزَّوْج، فإن شَرَعَتْ فيه، فله قَطْعُه، وأمرها بالإفطار، فإن أفطرْت، فالنفقةُ واجبةٌ، وإن أبت، سقَطَتِ النفقة في أصَحِّ الوجهَيْنِ؛ لامتناعها من التمكين وإعراضها عنه بما ليس بواجب عليها. والثاني: لا تَسْقُط؛ لأنها في دارِهِ وقَبْضَتِهِ، ولها الخروج عما شَرَعَتْ فيه، متى شاءَت وحاصِلُ هذا الوجْه أنَّ صَومَ التطَوُّع لا يُؤَثِّر في النفقة، وفي العِدة وجه فارقٌ بيْن أن يدْعُوها إلى الأكل فتأبى، فلا تَسْقُط النفقة؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك، وبين أن يدعوها إلى الوطء، فتأبى فتسقُطُ النفقة لامتناعها مِنْ توفية حقه، وإذا قلْنا: بسقوط النفقة بإبائها، فعن "الحاوي" أن ذلك فيما إذا أمرها بالإفطار في صَدْر النهار، أما إذا أَنْفَقَ في آخره فلا تسقط ولفوت زمان التمكين ومشابهة تلْك البقية لزمان الأكل والطهارة، واستحسنه القاضي الرُّويانيُّ، والأكثرون سَكنُوا عن هذا التفْصِيل، ولو نكحها، وهي صائمة، ففي تعليق إبراهيم المروروذي: أنَّه لا يجبُرها على الإفطار، وأن في نفقتها وجهَيْن. ومنْها: صوم النذر، فإن كان النذرُ مطلقاً، فللزوج منْعُها منه؛ لأنَّه لا يتضيَّق وقته وإن نذرت صوم أيام معينة، فيُنْظَر؛ إن نذَرَتْ قبل النكاحِ، لم يكن له (¬3) المنع لتعين الوقْت، وتقدَّم وجوبه على حقِّ الزوج، وإن نذرتْ بعده فإن أَذِنَ الزوْج، لم يكن له المنع، وإن لم يأذن، فله ذلك؛ لأنها بالنَّذْر منَعَتْ حقه السابق، وحيث قلْنا: له المنع، فلو شَرَعَتْ فيه وأبت أن تُفْطِر، فعلَى ما ذكرنا في صوم التَّطَوُّع. ومنها: صوم الكفَّارة، وهو على التراخي، فللزوج المَنْع، وعن أقْضَى القضاة المَاوَرْدِيِّ: أنه إذا لم يمنعها حتى شرعت فيه، فهل له إجبارها على الخروج منه؟ فيه وجهان، وحيث قلنا بسقوط النفقة بالصوم، يسقط جميعها أو نصفها؛ للتمكن من الاستمتاع بالليل؟ فيه وجهان مذكوران في "التهذيب" (¬4). ¬
الثالثة: فرائض الصلوات الخَمْس لا منع منْها ولا تتأثَّر النفقة بالقيام بها بحَالٍ وهل للزوج المنع من المبادرة إليها في أَول الوقْت؟ فيه وجهان: الأصح: عدَم المنع، ويحكى عن نص الشَّافعي -رحمه الله- لتجوز فضيلته أول الوقت، ويخالف الحج، حيث جوزنا له المنع من المبادرة إليه؛ لأن زمان الصلاة لا يمتد، ولأن الصلاة في أول الوقت مخصوصة بزيادةِ الفضيلة، والحج في السَّنَة التي تبادر إليها، كالحج في غيرهما في الفضيلة. والتطَوُّعات المُطْلَقَة كصوم التطوُّع، وفي السنن الرواتِبِ وجهان: أصحُّهما: أنَّه ليس للزوج منْعُها؛ لتأكدها وتقررها بخلاف النوافل المُطْلقة، وله منعها من تطويلها، وصومُ يومِ عرفةَ وعاشوراءَ في الصيام كرواتب الصلاة، وصومُ يومِ الاثنين والخميس كالتطوُّعات المُطْلَقة، فله المنْع بلا خلاف، وله منْعُها من الخروج لصلاة العيدين والخسوفَيْن، وليس له المَنْعُ من فعلها في المنزل، وقضاءُ الصلواتِ والصلاةِ المنذورةِ كمثلهما في الصوم. الرابعة: الاعتكاف والخروج له إلى المسجد، إن كان بإذنه، وهو معها, لم تَسْقُطِ النفقة، وإن لم يكن معها، فعلَى الخلاف المذكور للخروج في الحج، وفي كتاب القاضي ابن كج -رحمه الله- وجهٌ: أنه إن قصرت مدته، بأن لم يَزِدْ على يوم، لم يؤَثِّر، ولم يُجْعَلْ ذلك على الخلاف وإن لم يكن بإذْنِه، فإن كان عن تطوُّع أو نَذْراً مطلقاً في الذمةَ سَقَطَت نفقتها وإن كان عن نَذْرِ معيَّن من صوم نذر فإن تأخَّر عن النكاح، فكذلك الجواب، وإن تقدَّم عليه، فلا منع منه، ولا تسقط النفقة به. وقوله في الكتاب: "ولو منعها من صوم نذرٍ بعد النكاح" التقييد بما بعد النكاح يبين أنَّه لا مَنْع فيما نذرته قبل النكاح، وهذا الفَرْقُ فيما إذا نَذَرتْ أيَّاماً معينة على ما بيَّنَّا، فأما عند الإطلاق، فله المنع في الحالَتَيْن، هذا هو الظاهر المشهور، ونقل إبراهيم المروروذي فيه وجهَيْنِ، سواء نَذَرَتْ قبل النكاح أو بعده. وقوله: "فإن لم يُحَلِّلْها، فَفِي النَّفَقَةِ وَجْهَانِ، كما في الإحْرَام" يعني في الصوم المعيَّن المنذور بعد النكاح، وكذلك الحُكْم في صوم التطَوُّع، وفي "البسيط" وغيره: أن الوجهَيْنِ في الصَّوْم مُرَتَّبان على الوجهَيْن في الإحْرام، وأن صورة الصوم أَوْلَى بالاستحقاق؛ لأن الاستمتاع هاهنا جائزٌ من غير أن يُقَدِّم تحليلاً، ويكون الجِمَاع تحليلاً، وفي الإحرام لا بد، وأن يحلِّلها أولاً ثم يجامع. فرع: قال في "التتمة": لو كانَتْ قد أجَّرتْ نفْسَها قبل النكاح إجارةَ عَيْنِ، لم يكن للزوج منْعُها من العَمَل، ولا تستحقُّ النفقةَ عليه، وعن "الحاوي": أن له الخيارَ إنْ كان
جاهلاً بالحال؛ لفوات الاستمتاع عليه بالنهار، وأنَّه لا يَسْقُطْ خِيَاره، بأن يرضى المستأجر بالاستمتاع نهاراً، فإنه متبرع بذلك، وقد يرجع فيه، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: المَانِعُ الرَّابعُ: العِدَّةُ، وَالمُعْتَدَّةُ المُطَلَّقَةُ إنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً فَلَهَا النَّفَقَةُ إلاَّ إِذَا أُحْبِلَتْ مِنَ الشُّبْهَةِ وَتَأخَّرَتْ عِدَّةُ الزَّوْج وَقُلْنَا: لاَ رَجْعَةَ لَهُ فِي الحَالِ فَلاَ نَفَقَةَ، وَإِنْ قلنَا: لَهُ الرَّجْعَةُ فَفِي النَّفَقَةِ وَجْهَانِ وَقِيلَ بِعَكسِ ذَلِكَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المعتدَّة الرجعيَّةُ تستحِقُّ النفقة والكُسْوة وسائر المؤنات؛ لِبَقَاءِ حبْس الزوج وسُلْطَته، ويستثنى من المؤنات آلةُ التنْظِيف، فإن الزوج مُمْتَنِعٌ عنها، ذكره في "البسيط" وغيره، ولا فَرْقَ بين أن تكون الرجعية حُرَّةً أو أمة، حائلاً أو حاملاً، ولا تسقط نفقتها إلا بما تسقط به نفقة الزوجات (¬1) وتستمر إلى انقضاء العدَّة بِوَضْع الحمل أو غيره، ولو ظَهَر [ت] بها أماراتُ الحمل بَعْد الطلاق، فعلى الزَّوْجِ الإنفاق علَيْها، وإذا أنْفَقَ، ثم بأن أنه لم يكن حَمْلٌ، فله استرداد ما دَفَعَ إليها بعْد انقضاء العِدَّة، وتُسْأَل عن قَدر الأقراء، فإن عَيَّنَت قدْرَها، صدَّقْناها باليمين، إن كَذَّبها الزوج، ولا يمين إن صدَّقَها، وإن قالتْ: لا أعلم متى انقضت عدتي، سألْنَاها عن عادة حَيْضها وطُهْرها، فإن ذَكَرَتْ عادةً مضبوطةً، بنينا الأمر على قَوْلِها، وإن قالت: عادتي مختلفة، أخذنا بأقلِّ عاداتها، ورجع الزَّوْج فيما زاد فإنه المستيقن، وهي لا تَدَّعي زيادةً عليه، وإن قالت: نسيت عادَتِي، فعن نص الشافعيِّ -رضي الله عنه-: أنه يرجع في نفقة ما زاد على نفقة ثلاثة أشهرٍ، ويأخذ بغالب العادات، وقال الشيخ أبو حامد: يُكتب الأمْرُ عَلَى أقلِّ ما يمكن انقضاء العدَّة فيه، وهذا ما أورده أبو الفَرَجِ السرخسيُّ، والخلاف قريب من الخلاف في مَرَدِّ المبتدأة، وإن انقطع الولد الذي أتت به عنه، بأن ولَدَتْ لأكثر من أربع سنين، إما مِنْ وقْت الطلاق أو مِنْ وقْتِ انقضاء العدة على اختلافٍ سَبَق، سئِلَتْ عن حال الولَدِ، فإن قالت: هذا الولد من زوج نكحته، أو من وطء شبهة، وقع بعد إنقضاء ثلاثة أقراءٍ، فعليها رَدُّ المأخوذ بعد الثلاث؛ لاعترافها بانقضاء العدة بها، وإن قالَتْ: وقع ذلك في أثناء الأقراء فقد انقطعت عدَّتها بوطء، الثاني وإحباله، فتعود بعد الوضع إلى ما بَقِيَ منْها، وعليه النفقة في البقيَّة، وأَما في مدَّة الحَمْل، فيبنى على أنه هل للزَّوْج الرجْعة فيها؟ وفيه وجهان قد سَبَقَ ذكرهما في "كتاب الرجعة" و"العِدة" وفي كيفية البناء طريقان: ¬
أظهرهما: أنَّا إنْ قلنا: لا رجعة في الحال، فلا نفقة، وإن أثبتنا الرجعة، ففي النفقة وجْهان: وجه المنع: أنها صارت في حَبْس الغير. والثاني: أنا إنْ قلنا: لا رجعة، ففي النفقة وجهانِ، وإن قلنا: له الرجعةُ، فعليه النفقة، والظاهر مِنْ ذلك الذي أجابَ به أكثرهم: أنه لا نفقة ولها [في مدة الحمل، فيَسْتَرْجِعُ ما أخذت لها, ولو قالت: واطأني الزوج، وأنكر، فهو المصدَّق بيمينه، وتُسْأَلُ] (¬1) عَنْ وقَتْ وطئه، فإن قالت بَعْد انقضاء الأقراء، رَدَّتْ ما زاد، وإن قالَتْ: عقيب الطلاق، فقد بأن أنَّها ما قضت عدته، فترد ما أَخَذَتْ، وتعتد بعد الوضع بثلاثة أقراء ولها النفقة فيها. هكذا ذكره صاحب "الشامل" وغيره، وإنما يستمر ذلك على قَوْلنا إن العدتَيْنِ المُخْتَلِفَتَي الجِنْسِ من شخصٍ واحدٍ لا تتداخلان. فرْعٌ: لو ادعت الرجعيَّةَ تباعد الحَيْضُ وامتداد الظهر، فظاهر المذهب: أنَّها تُصدَّق في وجوب النفقة، كما تُصدَّق في بقاء العدة، وثبوتِ الرجعةِ، وتستمر النفقة إلى أن تعترف بمُضِيِّها، وعن بَعْضِ الأصحاب فيما حكاه القاضيان ابن كج وأبو الطيِّب: أنَّها لا تُصدَّق في النفقة، فإنه حقٌّ لها بخلاف العِدَّة والرجْعة، فهما عليها، وهذا ما توهمه المُزنيُّ من لفظ الشافعيُّ -رضي الله عنه- واعترض عليه. فرْعٌ: لابن الحدَّاد: وضعَتِ امرأةٌ حَمْلاً وطلَّقَها، واختلف الزَّوْجَان، فقال الزوج: طلَّقْتكِ قبل الوضع، وانقضت عدتك بالوضع، فلا نفقة لك الآن، وقالت: بل طلَّقْتَنِي بعد الوضع، وطلبت النفقة، فعليها العدة مِنَ الوقت الذي يزعم أنَّه طَلَّقها فيه، ولها النفقة؛ لأن الأصل بقاء النكاح إلى الوَقْت الذي يَقُولُه وبقاءُ العدَّة والنَّفَقَةِ، وليس له الرجعة؛ لأنها قد بانت بزعمه، ومَنْ أقرَّ بشَيْءٍ قُبِلَ فيما يَضُرُّه ولم يُقْبَل فيما يَضُرُّ غيره؛ ألا ترى أنه لو أَقَرَّ ببَيْعِ عبده، ممن يُعْتَقُ العَبْدُ عليه يُحْكَم عليه بِعِتْق العبد، ولم يُقْبَل قولُه في لزوم الثَّمَنَ على زعم أنه اشترى، ولو كان الزَّوْج قَدْ أصابها قَبْل الوضع في الوَقْت الذي زَعَمَ أنَّها مُطَلَّقة فيه، لم يلزمه مهْر المِثْل؛ لأنها تقول: إنَّما طَلَّقَنِي بعْد الولادة، فتكون الإصابة في النكاح، ولو اختلفا على العَكْس، فقال الزوج: طَلَّقْتُكِ بعد الولادة، وأنْتِ في العدةِ، والرجعةُ لي، وقالت: بل قَبْلَها، وقد انقضت عدَّتِي، فالقول قول الزوج في بقاءِ العدَّةِ وثُبُوتِ الرجْعةِ، ولا نفقة لها (¬2) في العِدَّة. ¬
وقوله في الكتاب: "والمعتدة المُطَلَّقة إن كانت رجعيَّةً" لفظ المُطلَّقة مستغنًى عنه؛ فإن المُعتدَّةَ لا تكون رجعيَّةً إلا إذا كانَتْ مُطَلَّقة. وقوله: "فلها النفقة، إذا إذا أُحْبلَتْ من الشبهة" لا شك أن المراد: فلها النفقة في العدَّة، لا على الدوام، وحينئذ، ففي ظاهر الاستثناء نَظَرٌ؛ لأنها إذا أُحْبلَتْ من الشبهة، وتأخَّرت عدة الزوْج، فلا تكون في عدة، حتى تَسْتَثْنَى من الحكم؛ بأنَّ لها النفقةَ في عدته. وقوله: "وقيل بعكس ذلك" المراد منه الطريقة الثانية، وقد بيَّنَّاها. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَأَمَّا البَائِنَةُ فَلَهَا السُّكْنَى وَلَيْسَ لَهَا النَّفَقَةَ (ح) إلاَّ أَنْ تَكُونَ حَامِلاً، وَالفَسْخُ كَالطَّلاَقِ إنْ حَصَلَ بِردَّتِهِ، وإِنِ اسْتَنَدَ إلى اخْتِيَارِهَا أَوْ إِلَى عَيْبِهَا سَقَطَ جَمِيعُ المَهْرِ وَسَقَطَتِ النَّفَقَةُ إِلاَّ إِذَا قُلْنَا: النَّفَقَةُ لِلحَمْلِ، وَفِرَاقُ اللِّعَانِ يُضَافُ إِلَيْهَا كَالفَسْخِ، أَوْ يُحَالُ عَلَى فِعْلِ الزَّوْجِ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلَوْ أَنْفَقَتْ عَلَى الوَلَدِ المَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ ثُمَّ كَذَّبَ نَفْسَهُ فَلَهَا الرُّجُوعُ بِالنَّفَقَةِ لِأَنَّ لِلزَّوْجَةِ وِلاَيَةَ الاسْتِقْرَاضِ بِدَلِيلِ قِصَّةِ هِنْدَ، وَأَمَّا المُعْتَدَّةَ عَنْ شُبْهَة إِنْ كَانَ فِي نِكَاحٍ فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا عَلَى أَفْقَهِ الوَجْهَيْنِ، وَإِنْ كانَتْ خَلِيَّةً عَنِ النِّكَاحِ فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الوَاطِئِ إِلاَّ إِذَا كانَتْ حَامِلاً فَفِيهِ قَوْلاَنِ يَنْبَنِيَانِ عَلَى أَنَّ النَّفَقَة لِلحَمْلِ أَوْ لِلْحَامِلِ، فَإِنْ قلنَا لِلحَمْلِ اعْتُبِرَ كِفَايَتُهُ وَلَمْ تَتَقَدَّرْ عَلَى أَقْيَسِ الوَجْهَيْنِ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الوَضْعِ سَقَطَتْ إِذْ لاَ نَفَقَةَ لِلْقَرِيبِ بَعْدَ المَوْتِ، وَإِنْ قُلْنَا لِلحَامِل فَهِيَ فِي التَّقْدِير كَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَلاَ تَسْقُطُ بِالمَوْتِ عَلَى أَقْيَسِ الوَجْهَيْنِ لِأَنَّ عُلْقَةَ الحَبْسِ دَائِمَةٌ وَكَأَنَّ الطَّلاَقَ أَوْجَبَهَا دَفْعَةً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: البائنة بالخُلْع أو بالطَّلاق الثلاثِ لا نَفَقَةَ لها, ولا كسوة إن كانت حائلاً وإن كانت حاملاً، فعلى الزوج النفقة والكُسْوة، وبهذا قال مالك وأحمد. وعن أبي حنيفة: تستحق النفقة كلَّها، حائلاً كانت أو حاملاً، لنا: ما روِيَ في خبر فاطمة بنت قَيْسٍ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها: "لا نَفَقَةَ لَكِ عَلَيْهِ" (¬1) وكانت مبتوتة حائلاً، والتقييد في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] بعد الإطلاق من قَبْلُ في قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} إشعار بأنَّ الحائل لا يُنْفَق عليهن، والنفقة الواجبة إذا كانت حاملاً للحَمْل أو للحَامِل فيه قولان: ¬
أحدهما: أنَّها للحَمْل، والحامل طريق وصول إليه، وربما يُنْسب هذا إلى القديم و"الإملاء"، ووُجِّه بأنها لا تجب لَوْلا الحَمْل، وتسقط إذا وضَعَت، وذلك يُشْعِر بأنها للحمل، وبأن الحمل يَسْتَحِقُّ النفقة والتربية بَعْد الانفصال، فكذلك قبله، بل هو قبل الانفصال أضْعَفُ، وأصحُّهما: أنها للحَامِلِ بسبب الحمل، ووُجِّه بأنها لو كانَتْ للحمل، لتقدرت بقَدْر كفايته، وبأنَّهَا تجب على المُوسِر والمُعْسِر، ولو كانت للحَمْل، لَمَا وجبت على المُعْسِر، وبأنها مختلفة القدر بيسار الزوج وإعساره، كما هو شأن نفقات الزَّوْجات، وبأن الولد بعْد الانفصال، إذا احتاج إلى حاضِنَةٍ، تجب النفقة للحاضنة، والحامل لا تَتَقاعَدُ عن الحاضنة، وهذا التوجيه الآخر ذكره الإِمام وغيره. ثم الكلام في مسائل تَتَعلَّق أكثرها بهذَيْنِ القولَيْنِ. إحداها: المعتدَّة عن فراق الفَسْخ، هل تستحق النفقة إذا كانت حاملاً؟ الذي حكاه الإمام وصاحب الكتاب: أنه، إن حَصَل الانفساخ بما لا مَدْخَل لها فيه، كرِدَّة الزوج فهو كالطلاق في استحقاق النفقة، كما أنه كالطلاق في تَشْطِير المَهْر، وإن كان لها فيه مَدْخَلٌ، كما إذا فسَخَتْ بخيار العتق أو بعَيْبٍ فيه أو فَسَخَ الزوج بعيب فيها؟ ففي النفقة قولان، والقولان عنْد أكثرهم مبنيَّان على أن النَّفقةَ للحَمْل أو للحَامِلِ؟ إن قلنا: للحمل، وجبت، وإلا، لم تجب، كما يسقط المهر بهذه الفسوخ قَبْل الدخول، ولم يرتَضِ الإمامُ هذا البِنَاء، وقال: إنَّما تُوجَبُ النفقةُ للحامل؛ لأنها كالحاضنة ومؤنة الحاضنة على الأب، ولا فَرْق في ذلك بين المُطلَّقة والمفسوخ نكاحُها، فلنوجه أحَدَ القولَيْنِ بالقياس على المُطَلَّقة. والثاني: بأن القياس أن لا نَفَقَةَ بَعْد البينونة، والخروج عن مظنة الاستمتاع، وإنما خالفنا في المُطلَّقة؛ للنص، ووراء هذه الطريقة طريقتان، حكاهما الشيخ أبو عليٍّ. إحداهما: طرد القولين في المعتدَّات عن جميع الفسوخ، بناءً على أنَّها للحمل أو للحامل؟ إن قلْنا للحامل، لم تجب؛ لأنها معتدَّةٌ لاَ عَنِ طلاق، فأشبهت المعتدَّة عن الشبهة، وهذا ما أورده صاحب "الشامل". والثانية: وهي التي أوردها في "التهذيب" ونسبها الشيخ أبو عليٍّ إلى عامة الأصحاب؛ بأنه إن كان الفراق بسبب عارِضٍ، كالرضاع والرِّدَّة، فهو كالطلاق؛ لأنه قاطعٌ للنكاح، وإن استند إلى سبب قارِنُ العَقْد؛ كالعيب والغرور، ففيه قولان؛ لأن مثل ذلك يَرْفَعُ العقد من أصله، ولذلك لا يجب المَهْر، إذا لم يكن دُخُولٌ، وفي "التتمة" أن المفسوخ نكاحها تَسْتَحِقُّ النفقة، حيث قلْنا: إنها تستحق السكْنَى، وحيث قلنا: إنها لا تَسْتَحِقُّ السكْنَى، فتكون كالمعتدَّة عن وطء الشبهة، ففي نفقتها قولاَنِ، والكلام في السُّكْنَى قد تَقدَّم.
وأمَّا المفارقة باللعان، إذا كانت حاملاً، ولم ينف حمْلَها، فهل تستحقُّ النفقة، أما على الطريقة المذكورة في الكتاب [فقد اختلفوا:] (¬1) قال بعضُهم: اللعانِ مِنَ الفراق الذي لها مدْخَلٌ فيه؛ لأنها أحوجته إليه على ما يزعمه. والأصح أنَّه كالطَّلاَقِ، وهي مُنْكِرةٌ لما يزعمه، فتستحق النفقة، وَتَجْري فيه الطريقتان الأخريان، ولا يَخْفَى على الطريقة المرجَّحة أن اللعان من قبيل العَوَارِضِ، والفراق به ليس مستنداً إلى حال العقد، وإن نفى حمْلها باللعان، لم تجب النفقة سواءٌ جِعلْنَاها للحَمْل أو للحَامِلِ؛ لأنه قد انقطع الحَمْل عنه، وصارت في حق الزَّوْج كالحائل، وحكى القاضي أبو الطيِّب وجهَيْن في أنها هل تستحق السُّكْنَى والحالةُ هذه، والأظْهَرُ الاستحقاقُ، وهو الذي ذكره الشيخ أبو حامِد. ولو أبان امرأته بالطَّلاَقِ، ثم ظَهَرَ بها حَمْلٌ، وقلْنا: له أن يلاعن لِنَفْيِهِ، فلاعن، سقَطَتِ النفقة، وعن القاضي أبي الطيِّب: أنا إن أثبتنا للملاعنة السكْنَى فههنا أَوْلَى لأنها معتدة عن الطلاق وإلا فيحمل على وجهين، وإذا لاعن عنها، وهي حامل، ونفى الحمل، ثم عاد وكذَّب نفسه، واستلحق الولد، طولب بنفقة ما مضى، نصَّ عليه واختلف الأصحاب: فعَنْ بعضهم: أن هذا الجواب على أن النفقة للحَامِلِ، أمَّا إذا جعلْنَاها للحَمْل، فلا مطالبة؛ لأن نفقة القريب تسقط بِمُضيِّ المدة، ولا تصير دَيْناً في الذمة. وقال الأكثرون: تثبت المطالبة على القولَيْنِ؛ لأنها، وإن كانت للحَمْل، فهي مصروفةٌ إلى الحامل، وهي صاحبة حقٍّ فيها، فتصير دَيْناً، كنفقة الزوجة، ولو أكْذَبَ نفْسَه بعْد ما ولَدَتْ، وأرضعت الولَدَ، رجَعَت عليه بأجرة الرَّضَاع، نصَّ عليه في "الأم". وحكى أبو عليٍّ -رحمه الله- وجْهاً أنها لا ترجع. ولو أنفقت عليه مدَّة، ثم رجع، رجعَتْ عليه بما أنفقَت، في الظاهر، الوجْهُ الآخر، ووجْهُ المذهب الظاهر أنها أنفقت عليه وفيه على ظن أنه واجِبٌ عليها, لا على سبيل التبرُّع، فإذا بانَ خلافه، ثبت الرجوع، وشبه ذلك بما إذا ظَنَّ أن عليه دَيْناً، فقضاه، ثمَ تبيَّنَ خلافَهُ، يرجع به، بخلاف ما إذا تَبرَّع على غيره بمال، وبما إذا أنفق على أبيه على ظن إعساره، فبان يسَارُهُ، يرجع بما أنفق ولو تبرَّع عالماً بإيساره، لا يرجع. المسألة الثانية: في وجوب نفقة المعتدَّة عن النكاح الفاسد، وعن وطء الشبهة، إذا كانت حاملاً وجهان، بناهما الجمهور على أن النفقة للحَمْل أو للحَامِلِ، وقالوا: إن ¬
قلْنا: إنها للحمل، وجبت النفقة على الواطئ كما لزمه نفقته بعد الانفصال، وإن قلنا: للحامل، لم تجب، فإن النكاح الفاسِدَ، لا يوجب النفقة، فعدَّته أَوْلَى بأن لا توجب، والإمام ما رضي بهذا البناء، وقال إنَّما توجب النفقة للحامل من جِهَة قيامها بتربية الولَدِ، فنزلناها منزلة مؤنة الحاضنة، وهذا المعنى يَقْتَضِي الوجوب على الواطئ أيضاً، ولكن مأخذ الخلاف أن الوَلَد إذا كان مجْتَنْاً هل تجب مُؤنَتُه؟ فَعَلَى قولٍ: تجب كالمنفصل، وعلى قولٍ: لا؛ لأنَّ الولد جزء من الأمِّ, ما دام مُجْتَنّاً لا استقلال له، واعلم أن تنزيل نفقةِ الحامل منزلة مُؤْنَة الحاضنة بعد الانفصال، لا اتجاه له، وإن ردَّده الإِمام مراراً لأَنَّ الواجب هناك كفايةُ أمْرِ مَنْ يحضنه إمَّا تبرعاً، وإما بأُجْرة مِنْ غير تقْدِير، وهذه النفقةُ مقدَّرةٌ كنفقة الزوْجَاتِ. هذا إذا كانت الموطوءة بالشبهة غير منكوحة، فإن كانت منكوحةً وحمَلَتْ من الوطء بالشبهة، فإن أوجبنا النفقة على الواطئ بالشبهة، سقطت عن الزوْج، ولم نَجمع بين نفقتين، وإن لم نوجبها على الواطئ، ففي سقوطها عن الزَّوْج وجهان: أَفْقَههما: السقوط؛ لفوات الاستمتاع عليه. والثاني: لا يسقط؛ لأنها معذُورةٌ فيه، وهذا ما أورده في "البسيط" واستحسن في "الوسيط" توسُّطاً، وهو أنها إن كانَتْ نائمةً: أو مكرهةً، فلها النفقة، وإن مكَنَتْ على ظَنِّ أنَّه زوجُها، فلا نفقة؛ لأنَّ الظن لا يؤثر في الغرامات (¬1). الثالثة: المعتدَّة عن الوفاة، لا نفقة لَهَا حائلاً كانت أو حاملاً أمَّا إذا كانت حائلاً؛ فلأن البائنة الحائلة لا نفقة لها على الزوج في حياته، فبعد الموت أَوْلَى، وأما إذا كانت حاملاً، فلأَنَّ النفقة للحَمْل أو للحَامِلِ، إن كانت للحَمْلِ، فنفقة الأقارب تَسْقط بالمَوْت وإن كانت للحامل فبسبب استحقاقها الحَمْل، فإذا كانت نفقته في نفْسِهِ بعد الانفصال، لا تجب بَعْد المَوْت (¬2)، فكذلك النفقةُ الواجبة بسببه. الرابعة: تَتَقَدَّر النفقة الواجبة كنفقة الزَّوْجة في صُلْب النكاح، أو تعتبر كِفَايَتُها ويزاد وينقص بحَسَب الحاجة؟ فيه طريقان نقلهما الإِمام ومَنْ تابَعَه. أحدُهُمَا: وهو المذكور في الكتاب: أنا إن قلْنا: إن النفقة للحَمْل؟ ففيه وجهان: وجه اعتبار الكفاية النظر للحَمْل؛ حتى لا يتأثر إذا لم يَكْفِها المقدور، وعَدَّه أقيس ¬
الوجهين، وإن قلْنا: للحامل، فلا زيادة كما في صلب النكاح، والثاني أنا إذا قلْنا: إنها للحمْل فتعتبر الكفاية، وإن قلنا: للحامل، فوجهان احتياطاً للحَمْل، ولا بد للتفريعِ عَلَى كلِّ واحدٍ من القولَيْن مِنَ النَّظَرِ إلى معنى القَوْل الآخر، لتعلق الواجِب بالعمل والعامل جميعاً. والذي أورده أكثرهم: أن هذه النفقة مُقَدَّرة كما في صُلب النكاح، ولا زيادةَ ولا نُقْصَان، وَقَدْ يرونه مُتَّفِقَاً عليه. الخامسة: إذا مات الزوج قَبْل أن تضع الحَمْلَ، فإن قلنا: إن النفقة للحَمْل، سَقَطَت؛ لأنَّ نفقة القريب تَسقُط بالمَوْت، وإن قلْنا: إنها للحامل، فوجهان: عن ابن الحَدَّاد: أنها تسقط أيضاً لأنها كالحاضنة للولد، ولا تجب نفقة الحاضنة للولد بعد الموت. وعن الشيخ أبي عليٍّ: أنها لا تَسْقط؛ لأنها لا تنتقل إلى عدة الوَفَاة بخلاف الرجعيَّة بل تعتدُّ عن الطلاق، والطلاق كأنَّه (¬1) يوجِبُ هذه النفقة دفْعَةً واحدةً فتكون كدَيْنٍ عليه؛ ولهذا يبقى لها حقُّ السكْنَى، ولا يجيءْ فيه القولان في أن المتوفَّى عنها زوجُها، هل تستحق السكْنَى، ورأَى صاحب الكتاب هذا أقْيَسَ، [وقال] كأن الشرع جعل عُلْقة الحَمْل كعُلْقة الرجْعة في إيجَابِ النفقة، وعُلْقة الحمل باقيةٌ، والأصحُّ عند الإِمام ما نُقِلَ عن ابن الحدَّاد وقال: النفقة تجب يوماً فيوماً، ولا تصير الجملة دَيْناً كما في صُلْب النكاح، وأمَّا لفظ الكتاب فقوله: "فلها السكْنَى" لا حاجة إلى ذكْره في هذا الموضع، وقد سَبَقَ ذكْره في باب السُكْنَى في العدة. وقوله: "والفسخ كالطلاق إن حصل بردته" يجوز أن يُعْلَم بالواو، كسائر الطرق المذكورة. وقوله: "سَقَطَ جمِيعُ المَهْر" مذكور في موضعه وليس إلى ذكره هاهنا كبير حاجة إلا أنه أشار، به إلى أنه كما يسقط المَهْر، تَسْقط النَّفَقَةُ. وقوله: "لأن للزوجة ولاية الاستقراض" يشتمل على مسألة مقصودة، نَذْكرْها مع أخواتٍ لها في الباب الأول من "نفقات الأقارب"، ولْيُعْلَم بالواو؛ لما نبينه هناك، ووُجِّه وجْه الرجوع بما إذا أنفقت على الولَدِ المنْفِيِّ باللعان، أنه إذا كانَتْ متمكِّنة من الاستدانة، لم تُجْعَل متبرِّعة بالإنفاق ولا شك أنها إنما ترجع إذا قَصَدَتِ الرجوع، ولا ترجع إذا قصَدَتِ التبرُّع. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (فَرْعٌ): الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ تَعْجِيلُ النَّفَقَةِ قَبْلَ الوَضْعِ بِنَفْسِ الحَمْلِ ¬
لِظَاهِرِ الآيَةِ، فَإِنْ بَانَ أَنْ لاَ حَمْلَ اسْتَرَدَّ، وَإِنْ تَأخَّرَ وَظَهَرَ الحَمْلُ وَجَبَ التَّسْلِيمُ إِلاَّ إِذَا قُلْنَا: إنَّهُ لِلْحَمْلِ فَإنَّهُ يُسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الرَّقِيقِ وَلاَ عَلَى الحُرِّ فِي المَوْلُودِ الرَّقِيقِ، وَإِنْ قُلْنَا لِلحَامِلِ وَجَبَ عَلَيْهِمَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ولا يجب تسليمُ النفقة قَبْل أن يَظْهر الحَمْل سواءٌ جعَلْنَاها للحَمْلِ أو للحَامِلِ، وإذا ظَهَر، فيَجِبُ التسليم يوماً بيومِ أو تُؤَخَّر إلى أن تضع، فيُسلَّم الكلُّ دفعةً، واحدةً؟ فيه قولان: أحدهما: تُؤَخَّر؛ لأن البينونَة مُسْقِطة للنَّفقَةَ، والحَمْلُ غير مستيقَنٍ. وقد يُظَنَّ، فيتبين خلاف المظنون، فلا يوجب التسليم إلا بيقين، وأصحُّهما، وهو اختيار المزنيِّ أنه يعجل التسليم، لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، والقولان يبنيان على الخِلاَفِ المعرُوفِ في أن الحَمْل هل يُعْرف، والأصحُّ أنه يعرف، ولذلك نقول: لو خرجَتِ الجارية المشتراةَ حاملاً يَردُّها, ولا تُؤْخَذ الحامل في الزكاة، وتجب الخلفات في الدية وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أَلاَ لاَ تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ" (¬1). التفريع: إن قلْنَا: يُؤخَّر التسليم، فلو قالت: وضعْتُ الحمل، وأنكر الزوجْ فعليها البيِّنةُ على الوضْع، وإن قلْنا: يعجل، وادعت ظهور الحَمْل، وأنكر، فكذلك، وتُقبل فيهما شهادة النساءِ, وذكر القاضي ابن كج أنَّ أبا الحُسَيْنِ حكَى عن بعض الأصحاب أنه لا يُعْتَمد قولُهُن، إلا بعد مضي ستة أشهر، وأن الجمهور لم يشْتَرِطوا ذلك، ولو كان ينفق على ظَنِّ الحملْ، ثم بأن أنه لا حَمْلَ، فإن أوجَبْنا التعجيل قبل الوضع، فله الاسترداد؛ لأنه سلَّم عن جهة الواجب، وقد تَبيَّن خلافُه، فأشبه ما إذا ظن أن عليه دَيْنَاً، فأداه، ثم بأن خلافُهُ، وما إذا أنْفَقَ على أبيه على ظَنِّ إعساره، وبان يساره، وعن القاضي الحُسَيْن أنه احتجَّ لذلك بما رُوِيَ أن أبَيَّ بن كعْب -رضي الله عنه- عَلَّمَ رَجُلاً القُرآنَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ، فَأَهْدَى لَهُ قَوْساً، فقال له النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- "إنْ أَخَذْتَهَا، أَخَذْتَ قَوْساً مِنَ النَّارِ" (¬2) ويقال: إن ذلك الرجل ظَنَّ وجوب الأجرة عليه مِنْ غَيْر شرط، وكان يُعْطِي ¬
القوس على ظَنِّ أنه يعطي عن الواجب عليه، فمنع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أخذه، وإن قلْنا: لا يجب التسليم قَبْل الوضْع، فإن أمر الحاكم به، فيسترد أيضاً، وإلا فإنْ لم يَذْكُر أن المدفوع نفقةٌ معجَّلةٌ، لم يسترد، وجُعِلَ متطوعاً، وإن ذَكَرَ أنه نفقة معجَّلَة، فإن شرط مع ذلك الرجُوعَ، رَجَعَ، وإلا فوجهان: أصحُّهما: أنه يرجع، وقد يُرتَّبان على الخلافِ في مثل هذه الصُّورة في تعجيل الزكاة، وهذه أوْلَى بالرجوع؛ لأنه تَبيَّن بالأجرة حُصُول الوجوب عند التسليم، وفي الزكاة بخلافه، وخرج القفَّال مما نحن فيه أن الدَّلاَّل إذا باع متَاعاً لرجل، فأعطاه المشتري شيئاً، وقال: وهَبْته منك، أو قال له الدلال وهبته منى، فقال: نَعَمْ، هل يحلُّ له قَبُوله وأخْذُه؟ قال: إن علم المشتري أنَّه لَيْس علَيْه أن يعطيه شيئاً، فله قَبُوله، وإن ظَنَّ أنه يجب عليه أن يعطيه، ويهب منه، فلا, وللمشتري الرجُوعُ فيه، وأجرة الدَّلاَّل على البائع الذي أمره بالبَيْع (¬1). فَرْعٌ: لو أنفق على التي نكَحَها نكاحاً فاسداً مدَّةً، ثم بان فسادُ النكاح، وفرق بينهما، قال الأصحاب لم يسترد ما أنفق بل يجعل ذلك في مقابلة استمتاعه بها وإتلافه منافعها فإن كانت حاملاً أوجبْنا النفقة بناء على أن النفقة للحَمْل، فعدم الاسترداد أظهر ثم في الفصْل صُوَرٌ تتعلَّق بالخلاف في أن النفقة للحَمْل أو للحامل. إحداهما: لو لم يُنْفِق عليها، حتى وضَعَتِ الحمل، أو لم ينفق في بَعْض مدة ¬
الحَمْل، فإن قلْنا: لا يجب التعجيل، بل يُؤَخّر إلى الوضع، لم تسقط نفقة المدة الماشية، وإلاَّ، فلا يكون الايجابُ مفِيداً وإن أوجبْنا التعجيل، فمنهم مَنْ قال: يُبْنَى سقوط نفقة المدة الماضية على أن النفقة للحَمْل أو للحاملْ؟ إن قلْنا: للحامل، لا تسقط، وتصير دَيْناً في الذمة، كنفقة الزوجة، وإن قلْنا: للحمل، يسقط؛ لأن نفقة القَرِيب تَسْقط بمضيِّ الزمان، وهذا ما أورده المتولِّي وصاحب الكتاب، ومنْهم مَنْ قال: لا تسقط، وإن قلْنا: إنها للحَمْل؛ لأن المرأةَ مستحقةٌ لها، وانتفاعها بها أكبر من انتفاع الحمل، فكان كنفقة الزوجة؛ ولذلك قلنا بأنها تَتقدَّر، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب" وغيره. وقد حكى الطريقَيْنِ الشيخُ أبو عليٍّ وقال: ظاهر المذهب ما عليه الجمهور: أنها لا تسقط على القولَيْنِ، ويجوز أن يُعْلَم لذلك قوله في الكتاب: "فإنه تسقط بمضي الزمان" بالواو. [و] الثانية: نفقة البائنة الحَامِل، هل تجب على الزوج الرقيق قال الأصحاب: يُبْنَى ذلك على القولَيْن في أنَّ النفقة للحَمْل أو للحَامِل؟ إن قلْنا: للحمل، لم تجِبْ عليه؛ لأن الرقيق لا يلزمه مؤنة القريب ونفقته، وإن قلنا: للحامل، وجب، وكان شَغْل مائِهِ الرَّحمَ كرابطة الزَّوْجية. الثالثة: لو كان الحمل رقيقاً لكون الأم رقيقةً، ففي وجوب النفقة على الزوْج حرّاً كان أو رقيقاً قولان: إن قلْنا: إن النفقة للحَمْل، لم تجب عليه، بل هي على المالك، وإن قلْنا: للحامل، وجبت، ومن فروع القولَيْن صور أخر: منها: ذكر القاضي ابن كج أنَّه إذا كان الحمْل موسراً، وقلْنا: إنَّ النفقة للحَمْل، وإنَّها تُؤَخَّر إلى الوَضْع، فإذا وضَعَتْ، سلمت النفقة من ماله إلى الأم، كما تنفق عليه من ماله في المستقبل، قال: ويُحْتمل عنْدِي أن يكون ذلك على الأب، وإن قلْنا: يجب التعجيل، فلا تُؤْخَذ من مال الحمل، كما لا يوجب فيه الزكاة والمؤنَات، ولكِنْ ينفق الأب عليها، فإذا وضَعَت، ففي رجوعه في مال الصبيِّ وجهان. ومنها: قال ابن الحدَّاد: لو اختلف المبتوتة والزوج في وقْت الوضع، فقالت: وضعت اليوم وطالبته بنفقة شَهْرٍ قبله، وقال: بل وضعَتْ منذ شهر، فالقولُ قول المرأة، وعليه البينة؛ وذلك لأنَّ الأصْل عدم الولادة، واستمرار النفقة، ولأنها أعرف بالولادة، وهذا ظاهر على قوْلِنا: إن النفقة للحامل، أما إذا جعلْناها للحمل، فهو مبنيٌّ على أن هذه النفقة لا تسقُطُ بمضيِّ الزمان، إلا فلا يمكنها المطالبة بنفقة ما مضى، ولو كانت المبتوتة رقيقةً، وفرض هذا الاختلاف، فإن قلْنا: إن النفقةَ للحَمْل، فلا معنى لِهَذا الاختلافِ، ولا شَيْء عليه لا قَبْل الوضع ولا بعده، وإن قلْنا: للحامل، فالحُكْم كما في الحُرَّة، ولو وقع هذا الاختلاف بين الموطوءة بالشبهة أو المنكوحة نكاحاً فاسداً وبين
الباب الثالث في الإعسار بالنفقة
الواطئ، فإن أوجبْنا لها النفقةَ بناءً على أن النفقة للحَمْل، فالقَوْلُ قولُهَا مع اليمين، وإن لم نُوجِبْ، فلا معنى لهذا الاختلاف، لكن لو اختلفا عَلَى العكس؛ لنفقة الولد، فقالت: ولدت منذ شَهْرٍ، فعليك نفقة الوَلَدِ لمدة شهر، وقال: بل وضعْتِ أمس، فإذا يبنى على أن الأم إذا أنفقت على الوَلَدِ أو استدانت لنفقته، هل ترجع على الأب وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. ومنها: ذكر أبو سعيد المتولِّي أنَّها لو أبرأَتِ الزوْجَ عن النفقة، فإن قلْنا: إنها للحامل، سقَطَت، وإن قلْنا: للحمل، لم تسقط، ولها المطالبة بعْد الإبراء، ولك أن تقول: إن كان الإبراء عَنْ نفقة الزمان المستقبل، فقد مَرَّ حكمه، وإن كان عَمَّا مضى، فالنفقة مصروفة إليها على القولَيْن، وقد مر أن الظاهر أنها تَصِيرُ دينًا لها حتى تصرف إليها بعْد الوضع أيضاً، فينبغي أن يصحُّ إبراؤها على القولين. وذكر أنه لو أعتق أم ولده، وهي حاملٌ منه، لزمت نفقتها، إنْ قلْنا: إن النفقة للحمل، ولا يلزم إنْ قلنا: إنها للحامل، وأنه لو مات وترك أباه وامرأته حُبْلَى، لها مطالبة الجَدِّ بالنفقة، إن قلْنا: إن النفقة للحمل، وإن قلْنا: إنها للحامل، فلا مطالبة، وقطع في "التهذيب" بأنها لا تطَالِبُ الجَدَّ؛ لأنها نفقة مصروفة إلى الزوْجة؛ فلا يجب على غير الزوج، ويقرب منه كلام الشيخ أبي عليٍّ. ومنْها: لو نشزت المرأة، وهي حامل، حكى القاضي ابن كج تخريجَ سقُوطِ النفقة على أنها للحامل أو للحمل؟ والصحيح سقُوطها، والتردُّد في البائنة لا في الزوجة، والله أعلم. البَابُ الثَّالِثُ فِي الإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهُوَ مُوجِبٌ (ح) لِلْفَسْخِ فِي أَظْهَرِ القَوْلَيْنِ، وَالنَّظَرُ فِي أَطْرَافٍ (الطَّرَفُ الأَوَّلُ فِي العَجْزِ) وَنَعْنِي بِهِ أَنْ يَعْجَزَ عَنِ القُوتِ بِالفَقْر، فَإِنْ تَعَذَّرَ بِالمَنْعِ مَعَ الغِنَى فَقَدْ قِيلَ بِطَرْدِ القَوْلَيْنِ، وَقِيلَ: لاَ فَسْخَ لأَنَّهُ ظُلْمٌ، وَالقَادِرُ بِالكَسْبِ كَالقَادِرِ بِالمَالِ، وَالعَجْزُ عَنِ الأُدْمِ لاَ يُؤَثِّرُ عَلَى الأَصَحِّ، وَفِي العَجْزِ عَنِ الكُسْوَةِ أَوِ المَسْكَنِ أَوْ نَفَقَةِ الخَادِمِ وَجْهَانِ، وَلاَ يؤَثِّرُ العَجْزُ عَنِ المَهْرِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلاَ يُؤَثِّرُ العَجْزُ عَنْ نَفَقَةِ الزْمَانِ المَاضِي بَلْ ذَلِكَ دَيْنٌ مُسْتَقِرٌ فِي ذِمَّتِهِ فَرَضَهُ القَاضِي أَوْ لَمْ يَفْرِضْهُ (ح)، وَلَوْ قَدَرَ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى ثُلُثِ المُدِّ فَلَهَا الفَسْخُ، وَإنْ قَدَرَ عَلَى النِّصْفِ فَوَجْهَانِ إِذْ فِي الخَبَزِ أَنَّ طَعَامَ الوَاحِدِ يَكْفِي الاثْنَيْنِ قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصودُ البَابِ الكلامُ فيما إذا أعْسَرَ الزَّوْجُ، وعَجَز عن القيام بمؤنات
الزوْجَةِ الموظفات عليه والذي نصَّ عليه الشافعي -رضي الله عنه- في كتبه قديماً وحديثاً: أنه إذا أعْسَرَ بالنفقة، كانت المرأة بالخيار، إن شاءت، صَبَرَتْ وأنفقت من مالها، أو استقرضت ونفقتها في ذمته إلى أن يُوسِرَ، وإن شاءت، طلَبَتْ فسْخَ النكاح. وقال في بعض الكتب بعد ذكر ذلك: وقد قيل: إنه لا خيار لها، واختلف الأصْحَابُ عَلَى طريقَيْن: أظهرهما: أن في المسألة، قولَيْنِ: أصحُّهما: أن لها خيارَ الفَسْخ، وبه قال مالك وأحمد؛ لِمَا رُوِيَ عن أبي هريرة -رضي الله عنهما-: أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: في الرجل لا يجِدُ ما يُنْفِقُ على امرأته: "يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا" (¬1): ويروى مَنْ أَعْسَرَ بِنَفَقَةِ امْرَأَتِهِ، يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وسئل سعيد بن المُسيِّب -رضي الله عنه- عن رَجُلٍ لا يجد ما ينفق على أهْلِهِ قال: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، فقيل له: سُنَّةٌ؟ قال: نَعَمْ، سُنَّةٌ (¬2) " قال الشافعيُّ -رضي الله عنه-: الذي يشبه أن يكون قول ابن المسيِّب -رضي الله عنه- أنَّه سُنَّةُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأيضاً فالعجز عن الوطء بالجبِّ والعُنَّة يُثْبِت حق الفسخ، فالعَجْز عن النفقة [أولى؛ لأنَّ الصَّبْر عن الاستمتاع أسْهَلُ من الصبر عن النفقة] وعبر عن ذلك بأن النفقة أمْرٌ مقصودٌ بكل نكاحٍ، فيَثْبُت الخِيَارُ بفَقْدِهِ، كالاستمتاع، وقَصَدَ بالقيد المذكور الاحترازَ عن الزيادة على نَفَقَةِ المُعْسِرين، وعن نفقة الخادمة. والثاني: وبه قال أبو حنيفة: أنَّه لا فَسْخ لها؛ لأنَّ المُعْسِر مُنْظَرٌ، ولأنَّ الفَسْخ يُفوِّت حقه، وترك الفسخ يُؤَخِّر حقها، والتفويت أشَدُّ من التأخير، ولأنها نفقةٌ واجبةٌ، فلا يثبت بها حقُّ الفَسْخ، كالنفقة الماضية. قال القاضِي الرُّويانيُّ: قال جَدِّي: وبهذا أفتى. والطريق الثاني: القطْعُ بالقَوْل الأوَّل، وحمْلُ الآخر على حكايته مذْهَب الغَيْر، وهذا أظهر عند القاضيين ابن كج والرويانيِّ، وإذا قلْنا بالأصحِّ، احتجنا إلى معرفةِ ما يثبت طلَبَ التفريق، ومعرفة حقيقة هذا التفريق، ووقته ومَنْ له طلبه، فجعل صاحب الكتاب الكلامَ في أربعة أطراف: أما الأول، ففيه مَسَائِلُ: ¬
إحداها: المُثْبِت لِحَقِّ الفَسْخ العجزُ والإعسارُ، أما إذا امتنع عن تسليم النفقة، مع وِجْدَانها، ففيه وجهان: أحدهما: أن لها حقَّ الفسخ؛ لأنها لا تصل إلى حقِّها وتَتضرَّر، فيجعل الامتناع كالعجز. وأظهرهُما: المَنْعُ؛ لأنها تَتَمكَّن من تَحْصِيل حقِّها بالسلطان؛ بأن يلزم بالحبس وغيره، وإن كان له مالٌ ظاهرٌ، أنفق السلطانُ منه، وليس ذلك موْضِعَ الخلاف، وكذا لو قَدَرَت المرأة على شيْءٍ من ماله (¬1)، ولو غاب، وهو مُوسِرٌ في غيبته، ولا يوفيها حقَّها، جرى الوجهان، فعلى الأظهر: لا فسخ، وكان المؤثر، تعيّبه بخراب الذمة وهو من الموسرين، ولكن يبعث الحاكم إلى حاكم بَلَدِهِ ليطالبه، إنْ كان موضعه معلوماً، وعلى الوجْهِ الآخر: يجوز الفسْخُ إذا تعذَّر تحْصيلُها, ولا تكلف أن تصبر وتتحمل الضرر، وهو اختيار القاضي الطبريِّ، وإليه مال ابن الصبَّاغ، وذكر القاضي الرُّوياني وابن أخته صاحب العُدَّة: أن المصْلَحَة الفتوى به، وإذا لم نُجَوِّزِ الفسخَ، والغائبُ موسرٌ، فلو لم نَعْلَمْ أنَّه موسر أو مُعْسِر، فكذلك الحُكْم؛ لأن السبب لم يَتَحقَّق، ومهْما ثبَتَ إعسار الغائِب عند حاكم بلَدِها، فيجوز الفسْخُ أو لا يَفْسَخ حتى يبعث إلَيْه، فإن لم يَحْضُرْ، ولم يبعث النفقةَ فحينئذ يَفْسَخ؟ ذُكِرَ فيه وجهان: أصحُّهما: الأول، وهو الذي أورده في "التتمة"، ولو كان الرجل حاضراً، وماله غائب، فإن كان على ما دون مسافة القَصْر فلا خيار، ويؤمر بتعجيل الإحضار، وإن كان على مسافة القصر فلها الخيار، ولا يلزمها الصبر، وقد يحتج بهذا لأحد الوجهَيْن، فيما إذا غابَ، وهو موسر في الغَيْبة، وفرق صاحب "التهذيب" بينهما بما لا يَقَع، فقال: إذا كان المال غائباً، فالعجز عن جهة الزوج، وإذا كان الزوج غائباً، وهو موسر، فقدْرَتُه حاصلةٌ، والتَّعذُّر مِنْ جهتها. ولو كان له دَيْنٌ مُؤَجَّل على إنسانٍ، فلها الخيار، إلاَّ أنْ يَكُون الأجَلُ قريباً، وُيشْبه أن يضبط القرب بمدَّة إحضار المال الغائب إلى ما دون مسافة القَصْر (¬2)، ولو كان حالاً، فإن كان على المُعْسِر، فلها الخيار، وإن كان على مُوسِر، حاضر، فلا خيار، وإن كان غائباً، فعن "الحاوي": أنَّه على وجْهَيْنِ، كما لو كان الزَّوْج غائباً، وهو موسر، ولو كان له على زوجته دَيْنٌ، فأمرها بالإنفاق منه، فإن كانتْ موسرة، فلا ¬
خيار، وإن كانت معْسِرةً، فلها الخِيَار؛ لأنَّها لا تَصِلُ إلَى حقِّها من ماله، والمُعْسِر مُنْظَرٌ، وعلَى قياس هذه الصُّوَر، لو كان له عقار ونحْوهُ، لا يُرْغَب في شرائه، ينبغي أن يكون لها الخيارُ، ومَنْ عليه دُيُونٌ تسْتغرق مالَهُ، لا خيار لزوجته، حتى يُصْرَف ماله إلى الدُّيُون، ولو تَبرَّع متبرِّع بأداء النفقة عن المُعْسِر، لم يلزمُها القبول، ولها الخيار، كما لو كان له ديْنٌ على إنسانٍ، فَتَبَرَّع غيره بقضائه، لا يلزمُهُ قَبُولُه؛ وهذا لأنَّ فيه تحمُّل مِنَّةٍ من المتبرِّع، وحكَى القاضي ابن كج: أنه لا خيار لها والظاهر الأوَّل، ويجُوز أن يُوَجَّه الخلاف؛ بأن الفسخ لنُقْصان الزوج وتعيبه بخراب ذمته أو لتضرُّرها بتَعذُّر النفقة، كما وُجِّه بالمعنَيَيْنِ الخلاف فيما إذا كان الزوْجُ غائباً، وهو موسر وفي "التَّتمة": أنه لو كان بالنفقة ضامِن، ولم نُصحِّح ضمان النفقة فالضامن كالمتبرِّع، وإن صحَّحناه، فإن ضَمِن بإذْن الزوج، فلا خيار لها، والضامن في أداء النفقة ينزل منزلة الزوج، وإنْ ضَمِن بغير إذْنِهِ، فوجهان؛ لأنه كالمتبرِّع، لكن الحق ثابتٌ، والمطالبة متوجِّهة. ولو أن المُوسِر كان لا يعطيها إلا نفقةَ المُعْسِر، فلا خيار لها؛ لأنَّهُ يكفي قواماً، والباقي يصير دَيْناً في ذمته. الثانية: القُدْرة بالكسب كالقُدْرة بالمال، فلو كان يكسب كلَّ يومٍ قَدْر النفقة، فلا خيار؛ لأنَّ النفقة هكذا تجب، وليس علَيْه أن يَدَّخِر للمستقبل، ولو كان يَكْسِب في يوم ما يكفي لثلاثة أيام، ثم لا يكْتَسِب يومَيْنِ أو ثلاثاً، ثم يكتسب في يوم ما يَكْفِي للأيام الماضية، فلا خيار؛ لأنه ليس بمعسر، ولا تشق الاستدانة؛ لما ينفق من التأخير السِيَر، وكذلك الحُكْم في النساج الذي ينسج في الأسبوع ثوباً تَفِي أجرته بنفقة الأسبوع، حكاه صاحب "الحاوي" عن أبي إسْحَاقَ، وأورده كذلك صاحب "المهذب" و"التهذيب" لكن ذكَرْنا في المال الغائِب على مسافة القَصْر: أن لها الخِيَارَ، وقد يمكن إحْضَاره فيما دون أسبوع، والوجه التَّسْوِية (¬1). ¬
وإذا عَجَز العامل عن العمل لمرض، فلا فَسْخ، إن كان يُرْجَى زواله يومين أو ثلاثةً، وإن كان تَطُول مدته، فلها الخيار، وحكى في "التتمة" وجهَيْنِ فيما إذا كان يكسب في بعض الأسبوع ما يكفي لجميعه، فتعذَّر عليه العَمَل في بعض الأسابيع، لِعَارِضٍ، وقال: الصحيح ثبوتُ الخيار، وإذا لم يستعمل البَنَّاء والنَّجَّار أحد، وتعذَّرَت النفقةُ كذلك، فعن الماوَرْدِيِّ: أنَّه لا خيار، إن كان ذلك يَقَع نادراً، وإن كان يقع غالباً، فلها الخيار. والقادِرُ عَلَى الكسب إذا لم يكْتَسِبْ، كالموسر الممتنع، إن أوجبنا عليه الاكتسابَ، لنفقة الزوجة، وفيه خلافٌ سنذكره. الثانية: النفقة التي تُثْبت الفسْخَ بالعجز عَنْها نفقةُ المعسرين دون نفقة المتوسطين والموسرين، وهذا شخْصٌ قد عاد من حَدِّ اليسار إلى حَدِّ الإعسار، ولو قَدَرَ كلَّ يوم على دُونَ نصْفِ المُدِّ، فلها الفسخ؛ لأنه لا يَكْفِي، ولو قَدَرَ عَلَى النِّصْف، فوجهان: أصحُّهما: الجواز كذلك. والثاني: المَنْعُ؛ لأنه يصلح بلاغاً، وقد ورد في الخبر أنَّ طعامَ الوَاحِدِ يَكْفِي الاثْنَيْنِ (¬1) ويجْرِيان فيما لو كان يجد يوماً مدّاً، ويوماً نصْفَ مُدٍّ، وأجريا أيضاً فيما إذا كان يجد يوماً مدّاً، ويوماً لا يجد شيئاً، ولو كان يجد بالغداة ما يُغَديها، وبالعَشِيِّ ما يُعَشِّيها، فوجهان: أحدهما: أن لها الخِيَارَ؛ لأنَّ نفقة اليَوم لا تبعَّض، وأصحُّهما على ما قال في "التهذيب" (¬2): لا خيار لَهَا؛ لوصول وظيفة الَيوم إلَيْها، وهل يثبت الخيار بالإعسار [بالأُدْم] (¬3) فيه وجهان: أحدهما: نَعَم؛ لعسر الصبْر على الخُبْز البحت دائماً، وبه قال الداركيُّ، ورجَّحه الرويانيُّ. والثاني: لا؛ لأنَّه تابعٌ، والنفس تقوم بدونه، وهذا أصحُّ عند الإمامين أبي حامد والقَفَّال وغيرهما -رحمهم الله- وتابَعَهُمُ الإِمام وصاحب الكتاب والفرَّاء -رحمهم الله- وعن "الحاوي" تَوَسُّطٌ وهو أن القُوتَ إنْ كان بحيث ينساغ للفقراء بلا أُدْم، فلا خيار لفقد الأُدْم، وإلاَّ، فيثبت الخيار. ¬
ويثبت الخيار بالإعسار بالكُسْوة؛ لأنه لا بُدَّ منها, ولا تَبْقَى النفس بدُونها، وفيها وجْهٌ آخَرُ: لأنها ليست من ضرورات الخِلْفة، ويقال: إن من الناس صنْفاً لا يلبَسُون الثِّيَاب، والظاهر: الأول. ومنهم مَنْ قطع به، وفي الإعْسَار بالمسكن وجهان: وجه المنع: أن النفس تَقُوم بدُونِه، فإنها لا تَعْدَمُ مسجداً أو موْضِعاً مباحاً، وبهذا قال الشيخ أبو حامِدٍ فيما حكاه عن الشيخ أبي عَلِيٍّ سماعاً، ورجَّحه صاحب "التهذيب"، والأصحُّ: ثبوت الخيار؛ لأن الإنسان لا بُدَّ له من مسكن يأْوِيهِ من الحَرِّ والبَرْدِ يقيه، والحِوَالَةُ على المسجد كالحِوَالَة في النفقة على السؤال والْتِقَاطِ السنابل، وهذا أوجه، واختاره الشيخ أبو عليٍّ وابن الصبَّاغ والرُّويانيُّ، والإعسار بنفقة الخادمة لا يَثْبُت الخيار؛ على الظاهر المنصوص؛ لسهولة الصَبر عنْها، وأكثر الناس يقومون بأمرهم بلا خادم وذكر وجه: أنه يُثْبِت الخيار؛ لأنها نفقة مستحَقَّة بالنكاح، فأشبَهَتْ نفقة المخدومة. الرابعة: في الإعسار بالمَهْر طرقٌ: أحدها: وبه قال أبو عليٍّ وابن أبي هُرَيرَةَ والطبريُّ وأبو حفْصٍ ابن الوَكِيلِ والقاضي أبو حامِدٍ: أنه إن كان قَبْل الدخول، ففي ثبوت الخيار به قولان: أحدهما: المنع؛ لأن النفْس تقوم بدون الصداق، فأشبه نفقة الخادمة. والثاني: يثبت؛ لأنه عَجْزٌ عن تسليم العوضِ، والمُعَوَّضُ باقٍ بحاله، فأشبه ما إذا أفْلَسَ المشتري بالثمن، وإن كان بعد الدخول، فلا فسخ بلا خلاف؛ لأنه تلف المُعَوَّض، وصار العِوَض دَيْناً في ذمَّته، ولأن تسليمها يُشْعِر برضاها بذمته، وإذا مَنَعْنَاها مِنَ الامتناع بعد ما سَلَّمَت نفْسَها، فَلأَنَّ لا تُسلِّطَهَا على الفَسْخ كانَ أَوْلَى، وأظهرهما عند الشيخ أبي حامِدٍ والقاضي الرُّويانيِّ وغيرهما: أنه يَثْبُت الخيار قبل الدخول بلا خلاف، وفيما بعده قولان: أحدهما: لا يثبت؛ لما ذكرنا. والثاني، ويحكى عن نَصِّه -رضي الله عنه- في "الإملاء" أنه يثبت؛ لأنَّ البُضْع لا يتْلَفُ حقيقةً بوطأةٍ واحدةٍ، وقد أشير إلى بناء القولَيْن على تردد في أن المقابل بالمهر الوطاة الأُولَى فيكون المُعوَّض تالِفاً، ويمتنع الفَسْخ أو في مقابلة جميع الوطآت، فيكون بعض المعوَّض تالفاً، فيشبه بقاء بعْض المبيع في يدِ المُفْلِس. والثالث: طرد القولَيْنِ في الحالَيْنِ. والرابع: القطْعُ بثبوته قبل الدخول، وبالنفي بعْده وبه قال أبو إسحاق. والخامس: القطْع بأنه لا يثبت في الحالتين، وهو الأصحُّ عند الإِمام وصاحب الكتاب -رحمهما الله-؛ لأنه ليس في فوات المَهْر وتأخيره مثْلُ ضَرَرِ فوات النفقة، وليس هو على قياسِ الأعواض، حتى ينفسخ العَقْد بتَعذُّره، ورتَّب مُرتِّبون المَهْر عَلَى
النفقة، ثم اختلفوا، فقال قائلون: إن لم يثبت الخيار بالإعسار في النفقة، فالإعسار بالمَهْرِ أوْلَى، فإن أثبتناه فَفِي المَهر قوْلاَن، وعكس آخرون، فقَالُوا: إن أثبتا الخيار في النفقة، ففي المَهْرِ أوْلَى، وإلاَّ فقولان، والفرق على هذا أن النفقة في مقابَلَةِ التمْكِين والاستمتاع، فإذا أعسر بها، فحقها أن تقطع التمكين والطاعة؛ لأن الفسخ والمَهْر في مقابَلَةِ مِلْك البُضْع، فإذا أعْسَرَ به، كان لها أن تَقْطَع الملك، وتخرج من هذا الترتيب الثاني: طريقةٌ قاطعةٌ بثبوت الخيار بالإعسار وبالمهر، فإذا أخذت حاصل الطرق ورمت الاختصار، قلت: في المسألة ثلاثةُ أقوالٍ ذكره في التهذيب. أحدها: ثبوت الخيار قبل الدُّخُول أو بعده. والثاني: المنع في الحالَيْنِ. والثالثْ الفرق بين ما قَبْلَ الدُّخُول وَبَعْده، والأصَحُّ منها الأول عنْد صاحب "التهذيب" وغيره. والرابعة: الفارق عند أكثرهم، ولا خيار للمفوضة بعَجْزه عن المَهْر؛ لأَنَّها لم تستَحِقَّ المَهْرَ بالعَقْد على الصحيح، ولكنْ لها المطالبة بالفرض، فإذا فرض، كان كالمُسمَّى في العَقْد. الخامسة: إذا لم يَنفِقْ على زوجته مدَّةً، وعَجَز عن أدائها, لم يكن لها الفَسْخ بسبب ما مَضَى حتَّى لو لم تفسخ في اليوم الَّذِي يَجُوز لها الفسخ ثم وجد النفقة فيما بعده عن الأيام لم يكن لها الفسخ بنفقة الأمس وما قبله، وينزل ذلك منزلة دَيْنٍ آخَرَ لها عليه، وفي "التتمة" ذكر وجْه أنَّ الإعسار بنَفَقَةِ الزمان الماضي كالإعسار بالصَّدَاق بَعْد الدخول، والمَشْهُور الأوَّل، ثمَّ نفقَةُ الزَّمَانِ الماضِي لا تسقط، بل تَصِير دَيْناً في الذمة، إذا كانت مقيمةً على طاعته، سواء ترك الإنفاق متعدياً أو لعَجْزه وسواء قَضَى القاضي بنفقتها، وفَرَضَ، أوْ لَمْ يَفْرِض، وبه قال مالك وعند أبي حنيفة: لا تَصير دَيْناً إلا بِفَرْض القاضي وعن أحمد -رحمه الله- روايتان كالمذهبَيْن. لنا: أن النفقة عِوَضٌ عن الطاعة والتمكين، فإذا بَذَلَتْ ما عليها، وَجَب أن ما يستقر لها, وليست كنفقة القريب؛ لأنها تجب على سبيل المواساة؛ صيانة له على الهلاك، ونفقة الزوجة تجب عوضاً، ولذلك تجب على الموسر والمعسر بخلاف نفقة القريب، والإدَامُ ونفقةُ الخادِمَةِ يَثْبُتَان في الذمة كنفقة (¬1) الزوجة: وثبوت الكسوة في ¬
الذِّمَّة ينبني على أن الواجب فيها التمليك أو الإمتاع، إن أوجبنا التَّمْليك، تثبت في الذمة، وإلا، لم تثبت كمؤنة السُّكْنَى وخُرِّجَ من النفقة في [مؤنة] السكنى أنها تثبت أيضاً وفي كتاب القاضي ابن كج: أن أبا الحُسَيْن حكَى عن القديم قولاً أن نفقة الخادِمِ لا تَصير دَيْناً، وهذا ما أورده في "التتمة" ويعود إلى لفظة الكتاب قوله: "وهو موجب للفسخ" مُعْلَم بالحاء، ويجوز أن يعلم قوله: "في أظهر القولين" بالواو؛ للطريقة القاطعة. وقوله: "فإن تَعذَّر بالمنع مع الغِنَى، فقد قيل بطَرْدِ القولَيْن، وقيل: لا فَسْخَ" إطلاق الطريقين في سياق الكتاب غَيْرُ مُسْتَحْسَن؛ لأن قوله: "والنظر في أطراف" إلى آخرها مفرَّعٌ على أظهر القولَيْن، وهو ثبوت الفسخ بالإعسار؛ ألا تراه يقول في آخر الباب "وإن قلْنا: إن الإعسار لا يُوجِب الفَسْخَ أصلاً"، وإذا كان التفريعُ عليه لم يحسن التعرُّض فيه للقول الآخر. بل الحسن الاقتصارُ على ذِكر الوجهَيْن أعني فيما إذا امْتَنَع مَعَ الغِنَى. وقوله: "لأنه ظُلْمٌ" يعني أن العجز هو المحوج إلى الفسخ، فأما الظلم، فأما الظلم، فيدفعه السلطان وقوله: "وفي العجز عن الكسوة أو المسكن أو نفقة الخادم وجهان: يجوز أن يُعْلَم لفظ "الوجهان" منه بالواو؛ لما حكينا من القطْع في نفقتها، وقوله: "ولا يؤَثِّر العَجْز عن المهر على الصحيح" الذي أورده صاحب الكتاب في "الوسيط" طريقان: أحدهما: القطْع بأنه لا خيار بالإعْسَار بالمَهْر. والثاني: أن فيه قولَيْنِ كما في النفقة، ويشبه أن يريد بقوله: "على الصحيح" الأول من هذين الطريقين، والراجِحُ عند الأكثرين خلافُهُ، كما عرفته، وقوله: "ولا يؤثر العجز عن الزمان الماضي" ليعلم بالواو وقوله "أو لم يفرضه" بالحاء والألف؛ لما مَرَّ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الطَّرَفُ الثَّانِي فِي حَقِيقَةِ هَذَا الرَّفْعَ فَالرَّفْعُ بِالجَبِّ فَسْخٌ، وَبِالإِيلاَءِ طَلاَقٌ، وَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَهُمَا فَفِيهِ خِلاَفٌ، فإن قُلْنَا: طَلاَقٌ رَفَعَتَ الأَمْرَ إِلَى القَاضِي حَتَّى يَحْبِسَهُ لِيُنْفِقَ أَوْ يُطَلِّقَ، فَإِنْ أَبِى طَلَّقَ القَاضِي طَلاَقاً رَجْعِيّاً، فَإِنْ رَاجَعَ طَلَّقَ ثَانِياً وَثَالِثاً، وَإِنْ قُلْنَا: فَسْخٌ فلاَ بُدَّ مِنَ الرَّفْع لإِثْبَاتِ الإِعْسَارِ، ثُمَّ لَهَا الفَسْخُ إذَا أَقَامَتِ البَيِّنَةَ أَوْ أَقَرَّ الزَّوْجُ، فَإِنْ فَسَخَتْ قَبْلَ الرَّفْعِ عِنْدَ عِلْمِهَا بِالعَجْزِ فَفِي الانْفِسَاخِ بَاطِناً تَرَدُّدٌ وَلاَ يَنْفَسِخُ ظَاهِراً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا ثبَتَ حقُّ التفريق [بسبب] الإعسار، فقد حكى أبو سعيدٍ المتولِّي وغيره [وجهين] أن لِلْمَرْأةِ أن تَتَولَّى الفَسْخَ بنَفْسِها، وأنَّ هذا الخيار يُشْبه خيار الردِّ بالعَيْب، والمشتري يستقل بالفسْخِ هناك، فكذلك المرأة هاهنا، والصحيح المشهور أنها لا تستقل به، بل لا بُدَّ من الرفْع إلى القاضي، كما في العُنَّة، فإنه في محل النَّظَر والاجتهاد، وعلى هذا، فما حقيقة هذه الفُرْقَة؟ فيه قولان: أحدُهما: وهو مُخرَّج: أنَّها فُرْقة طلاَقٍ، كما في "الإملاء" واستدل له أبو يعقوب
الأبيوردي بما روي أن عُمَر بْن الخطَّاب -رضي الله عنه- كَتَبَ إلَى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم، وأمرهم أن يامروهم، إمَّا أن يُنْفِقُوا وإما أن يُطَلِّقوا، فإن طَلَّقوا، بَعَثوا بنفقة ما حَبَسُوا (¬1)، فعلَى هذا، إذا ثبت الإعسار عند الحاكم، أمره أن يتحملى وينفق، فإن أبى، فيُطلِّق الحاكم بنَفْسه أو يَحْبِسْه لِيُطلِّق؟ فيه الخلافُ المذكورُ في الإيلاء، والظاهر أن القاضي يُطلِّق، وإذا طلق طلقَ طلقة رجعيةً، فإن راجَعَ، طلَّق ثانيةً وثالثةً. وأصحُّهما: وهو المنصوصُ: أن هذه الفُرْقة فرقَةُ فَسْخٍ لا يَنْقُص بها عدد الطلاق، كالفسخ بالجَبِّ والعُنَّة، ويخالف الإيلاء لأنَّ المُولِي لا عيْب فيه، وإنما قَصَد الإضْرار بها، فمُنِع منه، وأمره بأن يفيء أو يطلِّق، والعجز عن الإنفاق عيب فالحق بالعجز عن الوطء فعلى هذا إذا [شكت الإعسار، تولَّى القاضي الفسْخَ بنفسه، أو أذن لها بالفَسْخ، ومنهم من قال: إنَّها تستقل بالفَسْخ بَعْد] (¬2) ثبوت الإعسار عنْده وإذا قُلْنا بظاهِر المَذْهَب، وهو أنه لا بُدَّ من رفْع الأمر إلى القَاضِي فلو لم يرفع وفَسَخَتْ بنَفْسها بعلْمِها بعَجْزه، لم ينفذ في الظاهر، وهل ينفذ باطناً، حتى إذا ثبت إعْسَاره متقدِّماً على الفَسْخ إما باعتراف الزوج أو البينة، يكتفي به، ويحتسب العدَّة منه؟ فيه تردُّد وَجْهٍ، قال في "البسيط": ولعل هذا فيما إذا قَدَرَتْ على الرفع إلى القاضي، فإن لم يكن في الصقع حاكمٌ ولا مُحَكَّمٌ، فالوجْه إثباتُ الاستقلال بالفَسْخ. وقوله في الكتاب: "في حقيقة هذا الرفع" يعني رفْع النكاح بسبب الإعسار، وذكر صورتي الجب والإيلاء أوَّلاً ثم ذَكَرَ الخِلاَف إشارةً إلى أن هذَا الرَّفْع يلحق على رأْيٍ بهذا، وعلى رأي بهذا، وقد ذكر في "التتمة" أن الخلاف في أنه فسْخٌ أو طلاقٌ مبنيٌّ على القولَيْنِ فيَ أن القاضِيَ يُطَلِّق على المُولِي أو يَحْبِسه؛ ليطلِّق أو يفيء إن قلْنا: فيطلِّق هاهنا أيْضاً؛ لأنها لا تصل إلى حقها، وإن قلْنا بالثاني: فهاهنا لا يمكن الحَبْس؛ لأنه عاجزٌ، فلا يبقى للخلاص طريق إلا الفسخ، ولك أن تَقُولَ: العاجِزُ عن الإنفاق لا يجوز حَبْسه؛ لينفق، ولكن لا يَبْعُدُ أن يُحْبَس ليكلَّف الإنفاق أو يُطَلِّق عَلَى ما ذكر في الكتاب حتى يحسبه؛ لينفِقَ أو يطلِّق. وقوله: "طلق القاضي طلاقاً رجعيّاً" يجوز أن يُعْلَم بالواو؛ للقول الآخر في أن ¬
القاضي لا يطلِّق على المُولِي، بل يحبسه، ليُطلِّق وقد ذكرهما جميعاً أبو الفرج السرخسي تفريعاً على أن هذه الفُرْقَةَ طَلاَقٌ. وقوله: "وإن قلنا: فسْخٌ، فلا بُدَّ من الرفْع؛ لإثبات الاعسار" هذَا لا يَخْتَصُّ بقولنا: "إنه فَسْخٌ، بل الرفع وإثبات الإعسار لا بُدَّ منْه، سواء جعَلْنا هذه الفُرْقة فسخاً أو طلاقاً، لكن لَمَّا ذكر من بَعدُ أن لها أنْ تَفْسِخَ بعْد ما ثَبَت الإعْسَار، أشار إلى أن الرَّفْع على هذَا القَوْل؛ لإثبات الإعْسَار والطَّلاَقِ [أما الفَسْخ بعد ذلك، فهو بيدها، وأمَّا على قول الطلاق، فيرفع الأمْر لإثبات الإِعْسَار]؛ فإنها لا تُمَكَّنُ من التطليق. وقوله: "ثم لَهَا الفَسْخُ، إذَا أَقَامَتِ الْبَيِّنَة أو أقرَّ الزوج" يشبه أن يكون جواباً على الوجْه الذي قِيل: إنها تستقل بالفَسْخَ بعد ثبوت الإعْسَار، وجْه يُشْعِر إيراد "البسيط" و"الوسيط"، والأشهر أن القاضِيَ يَفْسَخ أو يأذن لها في الفسخ على ما بَيَّنَّاه، والله أعلم بالصواب. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي وَقْتِ الفَسْخِ وَلَهَا المُطَالَبَةُ صَبِيحَةَ كُلِّ يَوْمٍ بِالنَّفَقَةِ، وَلَكِنَّ المُعْسِرَ هَلْ يُمْهَلُ ثَلاَثةَ أَيَّامٍ لِيَتَحَقَّقِ عَجْزُهُ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ أَحَدُهُمَا: لاَ يُمْهَلُ وَلَكِنْ لاَ يُفْسَخُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ بَلْ آخِرِ النَّهَارِ، أَوْ بَعْدَ انْقِضَاءِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِيَسْتَقِرَّ الحَقُّ، نَعَمْ لَوْ كَانَ يَعْتَادُ الإِتْيَانَ بِالطَّعَامِ لَيْلاً فَلَهَا الفَسْخُ، وَلَوْ قَالَ صَبِيحَةَ النَّهَارِ: أَنَا اليَوْمَ عَاجِزٌ فَيُحْتَمَل أَنْ يُقَالَ: لاَ يُفْسَخ فِي الحَالِ إِلَى انْقِضَاءِ اليَوْمِ وَالقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُمْهَلُ ثَلاَثةَ أَيَّامٍ، وَهوَ الأَحْسَنُ، وَلَهَا الفَسخُ صَبِيحَةَ الرَّابِعِ إِنْ لَمْ يُسَلِّمِ النَّفَقَةَ، فَإِنْ سَلَّمَ لِلرَّابعِ لَمْ يَكنْ لَهَا الفَسْخُ لِلمَاضِي، وَإِنْ سَلَّمَ لِلثَّالِثِ صَبِيحَةَ الثَّالِثِ وَعَادَ إلى العَجْزِ فِي الرَّابع يَسْتَأْنِفُ المُدَّةَ عَلَى وَجْهٍ، وَيبْنِى عَلَى المُدَّةِ السَّابِقَةِ عَلَى وَجْهٍ فَيَصِيرُ يَوْمَاً آخَرَ، وإنْ رَضِيَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ المُدَّةِ فَلَهَا الفَسْخُ بَعْدَ ذَلِكَ كَزَوْجَةِ المُوْلي لاَ كَزَوْجَةِ العِنِّينِ، وَقَوْلُهَا: "رَضِيتُ بِإِعْسَارِهِ أَبداً" وَعْدٌ لاَ يَجِبُ الوَفَاءُ بِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد تَقدَّم أن النفقة تَجِبُ صبيحةِ كلَّ يوم، وإنَّما تُسلَّمُ كلَّما طلع الفَجْر، فإذا عَجَز عن تسليمها، فينجز الفسخ أو تُمْهَل ثلاثة أيام فيه قولان: أحَدُهما: أنها لا تُمْهل؛ لأن السبب الإعسار، وقد حَصَل، ولأنه فَسخ؛ لتعذر الرسول إلى الغَرَض، فأشبه فسخ البيع بإفلاس المشتري بالثَّمَن، ويُنْسب هذا إلى القَدِيم. وأصحُّهما: أنه تُمْهَل ثلاثة أيامٍ؛ ليتحقق عجزه، فإنَّ الإنسان قد يَتعسر عليه وجْه الإنفاق؛ لعوارض ثم نزول، وهذه مدَّةٌ قريبةٌ لا يَصْعُب تزجيتها باستقراض وغيره، وقيد بعْضُهم التصوير بما إذا اسْتَمْهَلَ الزوجُ، والظاهر أنه لا حاجَةَ إليه، والقولان كالقولين في أن المُولِيَ والمرتَدَّ يُمْهَلاَن هذه المدة، وفي المسألة طريقةٌ قاطعةٌ بالإمْهَال، وادعى
القاضي ابن كَجٍّ: أن جمهور الأصحاب عليها، والمشهور طريقةُ القولَيْنِ. التفريعُ: إنْ قلنا: لا يمهل ثلاثاً، فمتى يفسخ؟ فيه وجهان: أحدهما: أنَّ لها المبادرةَ إلَى الفَسْخ من أول النهار بعَجْزه عن توفية الواجب وقْت وجوبه وأقر بهما، وهو المذكور في الكتاب: المنع؛ ليرتفع النهار، ويتردَّد ويكْتَسِب وكثير من الناس يَكْتَسِبون نفقة اليوم في اليوم، والتسليمُ في أوَّل النهار إنما يجب على الوَاجِد، وعلى هذا فقد ذكرت احتمالات: أحدهما أنها تؤَخِّر الفَسْخ إلى شَطْر النهار؛ فإنه لا يؤخر الأكل عنه غالباً. والثاني: إلى آخره، وهو وقت إفطار الصائمين. والثالث: إلى انْقِضَاءِ اليوم والليلة بعْده؛ لأن النفقة لها وبِمُضِيِّهما يستقر العجز عن الحَقِّ يتحقَّق بعد استقراره، وفي هذا التوجيه توقُّفٌ؛ لأن الاستقرار غير موقوف على مُضِيِّهِمَا؛ ألا تَرَى أنه لو سَلَّم النفقة، فماتَتْ في أثناء النهار، لا يسترد ورأَى صاحبِ الكتاب مع ذلك الاحتمال الثالث أوجه، وذكر في "الوسيط" أن حاصِلَهُ الإمهالُ يَوماً وليلةً واعْلَم أنه قد نَقَلَ عن "الإملاء" أنه يمهل المعسر بالنفقة يَوماً، وجعله أبو الفرج السرخسيُّ قولاً ثالثاً، والأكثرون امتنعوا منْه، وقالوا: المراد منه أنه لو أمْهَلَه يوماً، جَازَ؛ لأنه لا يزيد عليه. ثم هذا إذا لم يتَّخِذْه عادةً، فأما إذا كان يعتاد الإتْيانَ بالطعام لَيْلاً، لم يحتمل وكان لها الفسخ؛ لأن فيه تكليفَ صِيَامِ الدَّهْر، وهو سياق، وليس ما يُحْتَمَل نادراً يُحْتَمَلُ، إذا تكرَّر ويَقْرُب منْ هذه الصورةِ ما ذكر في "العُدَّة" أنه لو لم يجد النفقة في أول النهار، وكان يجِدُها في آخِرِ النَّهَار، فلها حق الفسْخ في أصحُّ الوجهين، أو هي؟ وإذا قلْنا: لا فَسخ في أول النهار، فلو قال صبيحة اليوم: أنا عاجزٌ لاَ أتوقَّع شيئاً، فقد ذُكِرَ فيه احتمالان: أحدهما: أن لها الفَسْخَ في الحال؛ لتصريحه بالعَجْز وعدم التوقُّع. وأقربهما: التأخير فقد يرزق الإنسان من حَيْثُ لا يحتسب، وأما إذا فرَّعنا على الأصحِّ، وقلنا: إنَّه يُمْهل ثلاثَةَ أيَّامٍ، ففيه مسائل: إحْدَاها: إذا مَضَتِ الأيام الثلاثة، فلها الفَسْخ صبيحة اليوم الرابع، إن لم يُسلِّم النفقة (¬1)، وإن سلَّمها, لم يجُزِ الفسخ لما مضى وليس لها أن تَقُول: آخذ هذا عن نفقة ¬
بعْض الأيَّام الثلاثة، وأفْسَخُ بعَجْزه اليوم؛ لأن الاعتبار في الأداء بقَصْد المؤدِّي، فلو توافقا على جعْلها عما مَضَى، فيمكن أن يقال: لها الفَسْخُ، ويمكن أن تُجْعَل القدرة عليها مُبْطِلةً للمُهْلَة، ولو مَضَى يومان بلا نفقة، ووجد نفقة اليوم الثالث، وسلَّمها، وعجز في اليوم الرابع، فيستأنف المُدَّةَ أو يَبْنِي؟ فيه وجهان: أحدهما: يَسْتَأْنِف؛ لأن العجْز الأوَّل قد زال، وأظهرهما البناء؛ لأنها تَتضرَّر بطول المدة للاستئناف، فعلَى هذا تصبر يوماً آخر، ليَنْضَمَّ إلى اليومَيْن، وتَفْسَخ في اليوم الذي يَلِيه ولو لم يَجِدْ نَفقَة يَوْم، ثم وَجَد في اليوم الثاني، ولم يجد في الثالث، ووجد في الرابع فينفق أيام العجز فإذا تمت مدَّة المهلة، كان لها الفسخ، ولو قضت ثلاثة أيَّام على العَجْز، ووجد نفقة اليوم الرابع، وعجز في الخامس، فالأظهر، وبه قال الداركيُّ: أن لها الفسْخَ، ويكتفي بالإمهال السابق، وذكر القاضي الرويانيُّ وجهاً أنه يُمْهَل مرة أخْرَى. قال: وهذا إذا لم يتكرَّر، فإن تكرَّر، لم يُمْهل إمْهالاً بَعْد إمهال. الثانية: يجوز لها في مدَّةَ الإمْهال أن تَخرج لتُحَصِّل النفقة بالكسب والتجارة، أو بالسُّؤَال، وليس له مَنْعُها، وإن قدَرَتْ على الإنفاق من مالها أو كانت تكتسب بما لا يُحْوجها إلى الخروج؛ كالغزل والخياطة، ففي هذه الحالة وجْه: أن له المنع، وذُكِرَ وجْهٌ مطلَقٌ أنه يُدَامُ حقُّ الحبس في المدة، والظاهر المنصوصُ (¬1) الأوَّل، فإن التمكين والطاعة عَلَيْهَا في مقابلة النفقة، فإذا لم يوف ما عليه، لم يستحق الحَجْر. قال القاضي الرويانيُّ في "البحر": عليها أن ترجع باللَّيْل إلى منزل الزوْج؛ لأنه وقْت الدعة، ولو أراد الاستمتاع بها, لَمْ يُمْنع، وقضيَّةُ التوجيه المذكور أن لها المَنْع، وكذلك ذكره صاحب "التهذيب" ولا كلام أنها إذا منعت نفسها منه لم تستحق النفقة لمدة الامتناع ولم يصر ذلك دينًا عليه. الثالثة: إذا قلنا بالإمهال، فمضت المدة فرضيت المرأة بإعساره، والمقام معه، أو لم نقل بالإمْهال، فرضِيَتْ ثم بَدَا لها أن تفسخ، فتُمَكَّن منه؛ لأن النفقة يَوْماً فيوماً تجب والضرر يَتَجدَّد وقد تقدر له يساراً وسَعَةً، فالمال غادٍ ورائحٌ، ولا أثر لقَوْلها: رضيت بإعساره أبداً فإنه وَعْدٌ لا يلزم الوفاء به، وليس كما إذا أبرأته عن نفقة سَنَةٍ مثلاً، حيث يصح على رأْي؛ لأن فيه تصريحاً بالإسْقَاط، وهذا وعْدٌ بِتَرْك الفَسْخ، ولو نكحَتْه عالمةً بإعْسَاره ثم طلَبَتِ الفسخ، مكنت منه، أيضاً إذا عادت إلى طَلَبِ الفَسْخ بعْد الرضا، ¬
فيتجدد الإمْهَال على قولنا: إنَّه يُمْهَل ولا يعتد بما (¬1) مضى، وفيه احتمال للإمام والقاضي الرويانيِّ، والظاهر الأول، بخلاف امرأة المُولِي، إذا رَضِيَتْ، ثم عادَتْ إلى المطالبة لا تستأنف مدة الإيلاء، وفرق بأن المدة هناك منْصوصٌ عليها غير موقوفةٍ على طلَبِها، وهاهنا مدَّةُ الإمهال يَقَع بعد طلبها، وإذا تَعلَّقت بطلبها، سَقَطَ أثرها برضاها، وإذا اختارَتِ المُقَام معه، لم يَلْزَمْها التمكين من الاستمتاع، وكان لها الخروج من المنزل، ذكره صاحب "التهذيب" وغيره، وإذا لم تمنع نفسها [منه]، ثبت في ذمته ما يجب على المُعْسِر من الطعام والإدام وغيرهما، وخروجها بالنهار للاكتساب لا يوجب نقصاناً، فيما يثبت دَيْناً في ذمته، بخلاف ما إذا سَلَّمت الأمة ليلاً، ومَنَعَت نهاراً؛ لأنَّ المُحْوِج إلى الخروج المُنْقِص للاستمتاع هاهنا إعسارُه حُكِي هذا عن "الحاوي" وهذا في النفقة، أما إذا أعْسَرَ بالصَّداق، وتَرافَعَا إلى الحاكم، فَمَكَّنَها من الفسخ، فرضيت بإعساره، ثم بدا لها أن تفسخ، لم تُمَكَّن؛ لأنَّ الضَّرَر فيه لا يَتجدَّد، والحاصِلُ مَرْضِيٌّ به، هذا ما أطلقه الجمهور. وعن أقْضَى القضاة: المَاوَرْدِيُّ: أن ذلك فيما إذا كانت المحاكمتان مَعاً قبل الدُّخُول أو بَعْدَه، فأما إذا كانتِ المحاكَمَةُ الأُولَى قبل الدخول، والأخرى بَعْدَه، فوجهان: وجْهُ تجويز الفَسْخ أن بالدخول يستقر ما لم يكن مستقراً قبله، فالإعسار به يجوز أن يُجَدِّد خياراً، ولو نكَحته وهي تَعْلَم إعساره بالصداق، فهل لها الفسخ؟ فيه وجْهان نقلهما القاضي الرويانيُّ (¬2). أشهرهما: المنع كما لو رضيت به في النِّكاح، ثم بدا لها بِخِلاَف النفقة، وليس لها الامتناع بعد الدخول إذا مكَّنَّاها من الفسخ، واختارت المُقَام معه، ولا بد في الإعسار بالصَّدَاق مِنَ المرافَعَة إلى القَاضِي كما في النفقةِ، والخيار فيه بعْد المرافعة على الفور، فلو أخَّرت الفَسْخ، سقَط، ولو علمت إعساره، وأمسكت عن المرافعة والمحاكمة، نُظِرَ؛ إن كان ذلك بَعد ما طالَبَتْهُ بالصَّداق، كان الإمساك عن المحاكمة والمرافعة رضاً بالإعسار، وسَقَطَ خيارها، وإن كان قبل المطالبة، لم يَسْقُط، وقد تُؤخِّر المطالبة على توقُّع اليسار، ذكر ذلك القاضي الرُّويانيُّ. ¬
وقوله في الكتاب: "فيه قولان" يجوز إعلامه بالواو؛ للطريقة القاطعة، وكذا قوله: "لا يُفْسَخ في أول النهار". وقوله: "بل آخِر النهارِ، أو بَعْدَ انقضاءِ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ" لا يخفى أنه ليس على التخيير، بل هو إشارةٌ إلى احتمالَيْن من الاحتمالات المَذْكُورة، وقوله: "فيحتمل أن يقال لا يفسخ في الحال إلى انقضاء اليوم" فيه تنبيه على الاحتمال الآخر، وإن لم يُصرِّح به، وقوله: "وإن رضيت بعْد انقضاء المدة، فلها الفسخ" يجوز أن يعلم بالواو؛ لما حكيناه عن الماوَرْدِيُّ. وقوله: "كزوجة المُولِي لا كزوجة الْعنِّين" قد ذَكَرَ حُكْمَ العُنَّةِ في بابها، مع ذِكْر مخالفة الإيلاء لها، وذكَرَهُما مع حكم الرِّضَى بالإعْسَار في الإيلاء مرَّةً أخْرَى، وأعاد الصور الثلاث هاهنا مرَّةً ثالثةً، فكان من شرط الإيجاز أن يذكر كل صورة في بابها، أو يقتصر على إيرادها مجموعةً مرةً واحدةً. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الطَّرَفُ الرَّابعُ فِيمَنْ لَهُ حَقُّ الفَسْخِ وَذَلِكَ لِلزَّوْجَةِ خَاصَّةً، وَلَيْسَ لِوَلِيِّ المَجْنُونَةِ وَالصَّغِيرَةِ طَلَبُ الفَسْخِ بَلِ الفَسْخُ كَالطَّلاَقِ لاَ يَقْبَلُ النِّيَابَةَ، وَفِي سَيِّدِ الأمَةِ الصَّغِيرَةِ وَالمَجْنُونَةِ المُزَوَّجَةِ وَجْهَانِ، وَإِنْ كَانَتِ الأَمَةُ بَالِغَةً فَحَقُّ الفَسْخِ لَهَا، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ الفَسْخُ عَلَى الأَصَحِّ لَكِنْ لاَ نَفَقَةَ عَلَيْهِ فَإِمَّا أَنْ تَصْبِرَ الأمَةُ عَلَى الجُوعِ أَوْ تَفْسَخَ، وَالنَّفَقَةُ تَدْخُلُ فِي مِلْكِ السَّيِّدِ وَلَكِنْ لَهَا حَقُّ الوَثِيقَةِ حَتَّى لاَ يَجُوزَ لِلسَّيِّدِ أَخْذُهَا إِلاَّ ببَدَلٍ، وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهَا قَبْلَ الإِبْدَالِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا ثبت حقُّ الفسخ بإعسار [الزوج] بالنفقة، تخيَّرت الزوجة بين أن تَفْسَخ وبين أن تَصْبِر على الإعسار، ولا اعتراض للوَلِيِّ عليها, وليس له الفَسْخ نيابةً عنها، كما لا ينوب في الطلاق، وذلك؛ لأن الأمر فيهما يتعلَّق بالطبع والشهوة، فلا يفوَّض إلى غير صاحب الحَقِّ، وهذه مقدمة تتدَرَّج منها إلى مسأَلَتَيْنِ: إحداهما: وَليُّ الصغيرة والمجنونة ليس لهما الفسْخُ بإعسار الزوج بالنفقة، وإن كانت المصلحة [تقتضيه، كما لا يُطلّق على الصغير والمجنون، وإن كانت المصلحة] (¬1) فيه، وينفق على الصغيرة والمجنونة مِنْ مالهما، فإن لم يكن لَهُما مالٌ، فنفقتهما على مَنْ عليه نفقتها, لو كانَتَا خَلِيَّتَيْن، وتصير نفقة الزوجة دَيْناً عليه يُطَالَبُ به إن أيسر، وكذلك لا يفسخ الوليُّ بالإعسار بالمهر، إن جعلْناه مثبتاً للخيار، وأشار في "التتمة" إلى أنه لا مصْلَحة لهما فيه؛ لأنه إن فسَخَ قبل للدخول، يسقط نصْفُ المهر، وإن فَسَخَ ¬
بعده، فالمهر في ذمته، كما كان، وبطل رفق النفقة. الثانية: إذا أعسر زوْج الأمة بالنفقة، ثَبَتَ لها حقُّ الفسخ، كما أنها تَفْسَخ بِجَبِّ الزوج وَعُنَّتِهِ، وهذا؛ لأنها صاحبةُ حقٍّ في تناول النفقة، فإن أرادَتِ الفَسخ، لم يكُنْ للسيِّد منْعُها، فإن ضمن النفقة، فهو كالأجنبي (¬1) يضمنها, وللإمام احتمالُ أن للسَّيد منْعَها؛ لأنَّ المِلْك في النفقة له، وإن رَضِيَتْ، فهل للسيد الفَسْخ؟ فيه وجهان: أحدهما: نَعَمْ؛ لأنَّ المِلْك في النفقة له، وضرر فواتها يعود إليه. والثاني: لا؛ لأنها تستحق النفقة، فَهِيَ في الأصل لها، ثم يتلَقَّاها السيد؛ لأنها لا تَمْلِك، فيكون الفسخ إليها، كما أنه إذا أوصى للعَبْد أو وهب منه يكون القَبُول إليه, وإن كان يَحْصُل المِلْك للسيد، وعلى هذا لا يجب على السيد نفقتُها، بل يقول لها: افْسَخِي أو اصْبِرِي على الجوع، وهذه طريق يلجئها السيد بها إلى الفَسْخ، فإذا فسَخَتْ أنفق عليها، واستمتع بها أو زَوَّجها من غَيْره، وكَفَى نفسه مؤنتها، ويجري الوجهان في أن السيِّد، هل يفسخ إذا كانتِ الأمةُ صغيرةً أو مجنونة؟ وقد يرتبان على الوجهَيْن فيما إذا كانت مستقلَّةً، ويقال: هذه الصورةُ أوْلَى بجواز الفَسْخ؛ لأنَّ النفقة تلزمه، ولا يمكن الجاؤها إلَى الفسخ، فإنه لا اعتبار بقَوْلِها، وسع هذا الترتيب، فالأظْهَرُ عنْد أكثرِهِمْ: أنه لا فَسْخَ له، وجْه أجاب ابن الحدَّاد، ولم يورد صاحب "التهذيب" وجماعةٌ غَيْرُه، وأما إذا أعسر زوجها بالمَهْرِ، وأثبتنا به الخيار، فيكون الفَسْخ للسيد؛ لأنه محض حقه، لا تعلَّق للأمة به، ولا ضرر عليها في فواته، ولأنه في مقابلة البُضْع، فكان المِلْك فيه للسيد وشبه، ذلك بما إذا بَاعَ عبْدًا، وأفلس المشتري بالثمن، يكون حقُّ الفسخ للبائع لا للعبد، وأشار صاحب "التتمة" إلى وجْهٍ آخَر: أن السيد لا يَفْسَخ بالإعسار بالمَهْر، ولا وجه له، ثم هاهنا مسألة نشأَتْ من توجيه الخلافِ، في أن السيد هل يَفْسَخ؟ وهي النظر في حال النفقة، قال الإِمام، وحكاه صاحب الكتاب: هي متعلَّق حقِّ السيدِ والأمةِ جميعاً، أما السيد؛ فلأنها تدْخُل في ملكه؛ لأن الأمة لا تَمْلِك، لكنَّها بحُكْم النكاح مأذونةٌ في الأخذْ والقَبُول، وبحكم العرف في تَنَاوُل المأْخُوذ، وأمَّا الأَمَةُ، فلها أن تُطَالِب الزَّوْج، كما كانَتْ تُطَالِب السيِّدَ، وإذا أخَذَتْ، فلها أن تتعلَّق بالمأخوذ، ولا تسلمه إلى السيد، حتى تأخذ بَدَلَه وله الإبدال بحق الملك، والحاصل أن له حقَّ الملك، ولها حقُّ التوثُّق، كما أن نفقة زوجة العبد تتعلَّق باكتسابهِ، والملكُ فيها للسيد ويُبْنَى على هذا أنه لا يجوز للسَّيِّد الإبراء عن نفقتها ولا بيع المَأخوذ قبل تسليم البَدَل ¬
إليها وفي "التتمة": ما يخالف بَعْض هذه الجملة، فإنه قال: حَقُّ الاستيفاء للسيِّد حتى لو صَرَفَ الزوْجُ النفقة إليها، بدون إذن السيد، لم يبرأ عن العهدة، ولهذا لو استوفَى النفقة، وأنفق عليها من ماله جاز، والأشبه الأوَّل، وذَكَرَ في "التهذيب": أنها لو أبرأت الزوج عن نفقةِ اليَوْم، جاز، وما صار من النفقة دَيْناً في الذمة، ليس لها الإبراء عنه كما في الصداق وقد تنازع قياس الملك في الإبراء عن نفقة اليوم إلا أن نفقة اليَوْم للحاجَةِ الناجزة وكأنا لا نثبت المِلْكَ للسيد إلا بَعد الأخْذِ، وقبله تمحض الحقِّ لها, ولذلك نقول: ليس له الفسْخُ على الأظهر، ولو اختلفتِ الأمة وزوجُها في تسليم نفقة اليوم أو نفقة أيام مستقبلة، فالقول قَوْلُها مع يمينها, ولا أثر لتصديق السيد الزوج ولو اختلفا في النفقة الماضية فقد حكَى القاضي الرويانيُّ فيه وجهَيْن: أحدهما: أن السَّيِّدَ يكون شاهداً له، ولا يثبت المُدَّعَى بتصديقه. وأصحُّهما: أنه يثبت للمُدَّعَى بتصديقه، والخصومة في النفقة الماضية للسيِّد لا لها كالصداق، وحقُّها فيما يتعلَّق بالمستقبل، وهذا ما أوردها في التتمة (¬1)، وشبه بما إذا أقر السيِّدُ على عبده بأنه جَنَى خَطَأَ، وأنكر العبدُ، لا يُلْتَفَتُ إلى إنكاره، قال: ولو أقرَّت الأمة بالقَبْض، وأنكر السيد، فالمنصوص في كتاب "عِشْرة النساء" وذكره المزنيُّ -رحمه الله- في "الجامع الكبير": أن القول قولُها؛ لأنَّ القبض إليها، إمَّا بحُكْم النكاح، أو بتصريحه بالإذْن، وفيه صُوَرُ المسألة، وحكى أبو يعقوب الأبيوردي عن بعضهم أن القَوْلَ قَوْلُ السيِّدِ؛ لأن المِلْكَ له. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وإنْ قلْنَا: إِنَّ الإِعْسَارُ لاَ يُوجِبُ الفَسْخَ أصْلاً فالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُبْطِلُ حَقَّ الحَبْسِ في المَنْزِلِ، وَلَهَا مَنْعُة مِنَ الوَطْءِ إنْ لَمْ تَكُنْ قَد أَبْطَلَتْ حَقَّهَا بِالتَّمكِينِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: جميع ما ذكَرْنا مفرَّعٌ على أن الإعْسار بالنفقة يُثْبِتُ حقَّ الفسخ، أما إذا قلْنا: إنَّه لا يُثْبِتُه، فلها الخروج من المسكن؛ لطَلَب النفقة، إن كانَتْ تحتاج إلى الخروج لتحصيلها، وإن أمكن أن تُنْفِقَ من مالها، أو أن تكتسب بغَزْلٍ ونحوه في المسكن، فوجهان: أحدهما: أنَّها لا تخرج إلا بإذنه، لأنها قادرةٌ على توفية حقِّه وإن كان هو عاجزاً عن توفية حقِّها. ¬
فروع [من باب الإعسار وغيره]
وأظهرهما: أن لها الخُرُوجَ، وليس له الحَبْس، إلا إذا كَفَى مؤنتها وقوله في الكتاب: "ولها منعه من الوطء إن لم تكن قد أبطلت حقها بالتمكين" هذا اللفظ إنما يَحْسُن موقعه حيث نقول: إن لها الامتناع لتقبض الصداق، فإذا مكنت مرةً، بطل حقُّها من الامتناع، وأراد أنَّ لها المَنْعَ، إن لم تكن قد مكَّنَتْ مِنْ قبل، وهذا لفْظُه في "الوَسِيط"، وأطلق مُطْلِقُون في جواز الامتناع لَهَا, ولم يشترطوا هذا الشَّرْط، ويجيء فيه ما حَكَيْنَاه عن القاضي الرُّويانيِّ في مدَّة الإمهال على القول الأصحِّ، والله أعلم. فُرُوعٌ [من باب الإعسار وغيره] (¬1): إذا عجز عن نفقة أمِّ الوَلَدِ، فعن الشيخ أبي زَيْدٍ: أنه يُجْبَرُ على عتقها أو تزويجها، إنْ وُجِدَ راغبٌ فيها، وقال غيره: لا يُجْبَرُ عليه، كما لا يرفع ملك اليمين بالعَجْز عن الاستمتاع، ولكن يخليها لتكتسب، وتنفق على نَفْسِها (¬2). وقد سبق أن نفقة زوْجة العَبْد من أين تكون، وإذا لم يَكُنِ العَبْد مأذوناً له في التجارة، ولا كسوباً، فقد حكينا قولاً قديماً أنه يكون المَهْرُ على السيد، ويكون بالإذْن في النكاح ضامناً. قال الشيخ الخضري وغيره: وذلك القول يجيء في النفقة بطريق الأَوْلَى، إذِ الحاجَةُ إليها أمَسُّ من الحاجة إلى المَهْر، فلو كان العَبْد ينفق من كَسْبه، فعجز لزمانة وغيرها فعلى القديم: لزوجته مطالبةُ السيِّد، وعلى الأظهر: إما أن تفسخ أو تصبر، وتصير نفقتها دَيْناً في ذمته. وليس للزوج أن يَدْفَعَ ثَمَنَ الكُسْوة إلى الزوجة بل يجب تسليم الثياب، وعليه مؤنة الخياطة. وإذا مَضَتْ مدَّةٌ، لم يُنْفِقْ فيها على زوجته، واختلفا فقَالَتِ المرأة: كُنْتَ مُوسراً في تلك المدة، وقال الزوج: كُنْتُ مُعْسِراً، فإن عرف له مالٌ، فالقول قَوْلُها؛ لأن الأصْل بقاؤه، وإلا، فالقول قوله؛ لأن الأصْل عدمه. وضمان النفقة قد ذكرناه في باب الضمان. ¬
السبب الثاني للنفقة القرابة
السَّبَبُ الثَّانِي لِلنَّفَقَةِ القَرَابَةُ، وَفِيهِ ثَلاَثةُ أَبْوَابٍ البَابُ الأَوَّلُ فِي أَصْلِ النَّفَقَةِ وَتَجِبُ بِقَرَابَةِ البَعْضِيَّةِ دُونَ المَحْرَمِيَّةِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى المُوسِرِ، وَهُوَ الَّذِي فَضُلَ مِنْ قُوتِ يَوْمِهِ شَيْءٌ، وَيُبَاعُ عَبْدُهُ وَعَقَارُهُ (ح) فِيهِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ الكَسْبُ لِأَجْلِ نَفَقَةِ القَرِيبِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ لِلَّذِي لاَ شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَادِراً عَلَى الكَسْبِ اسْتَحَقَّ عَلَى قَوْلٍ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَى قَوْلٍ، وَيسْتَحِقُّ الأَبُ وَالأُصُولُ دُونَ الفُرُوعِ عَلَى قَوْلٍ، أمَّا الطِّفْلُ الكَسُوبُ فَيَسْتَحِقُّ لاَ مَحَالَةَ إِذَا لَمْ يَكْتَسِبْ، فَإِنْ شَرَطَ العَجْزَ عَنِ الكَسْبِ فَهَلْ تُشْتَرَطُ الزَّمَانَةُ حَتَّى لاَ يَقْدِرَ عَلَى كَسْبٍ لاَ يَلِيقُ بِهِ أَيْضاً؟ فِيهِ خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد سَبَقَ أنَّ أحد أَسْبَابِ وجوب النفقةِ والقِيَام بالمُؤنِ القرابةُ، واحتج له بقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] أوجب أجرة إرْضَاعِ الولد كغاية لمؤنته، ولقصَّة هنْد، حيث قال: " [خذي ما يكفيك] وولدك بالمعروف" (¬1) والكلام فيه بوبه صاحب الكتاب على ثلاثة أبواب: أحدها: في مناط هذه النفقة، وشرائط وجوبها وكيفيَّتها. والثاني: في ترتيب الأَقَارب المُنْفِقِينَ وَالمُنْفَقِ عليهم. والثالث: في حَضَانَةِ الصَّغِيرِ. أما الأول: ففي الفصل مسائل: إحداها: أنَّها تجب بقرابة البعضية فتجب للولد على الوالد وبالعكس، أما للولد على الوالد فلقصَّة هنْد، وأما بالعكس، فبالقياس عليه يجامع البعضية وبل أَوْلى لأن حرمة الوالد أعْظَم، والولد بالتعهُّد والخدمة أحق وأليق، ويروى أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، قال: "إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ من كَسْبِهِ وَوَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ فَكُلُوا من أَمْوَالِهِمْ" (¬2)، وكما تجب نفقة ¬
الولد على الوالد تجب نفقته على الوالدة في الجملة؛ لشمول معنى البعضية ورد الشهادة، والعتق بالمِلْك، وعنْد مالك: لا نفقة على الأُمِّ بحال، وأَغْرَبَ القاضي ابن كج، فنَقَلَ أن أبا الحُسَيْن حَكَى وجْهاً مثله، وكما تجب نفقة الأولاد، تجب نفقة الأحفاد، وعند مالك: لا نفقة على الجَدِّ بحال، وكما تجب نفقة الوالدين على الولد تجب عليه نفقة الأجداد والجدات خلافاً لمالك أيضاً، ولم يوجب نفقة الأم على الولد أيضاً، ويستوي في أصل الاستحقاق الذكَرُ والأنْثَى والوارثُ وغيْرُ الوارث، والقَرِيب من الأحفاد والأجداد والبعيد، ولا يُشْتَرَط اتفاق الدَّين (¬1)، كما لا يُشْترط اتفاق ذلك في العتق بالملك، وفي كتاب القاضي ابن كج وجْه أنه لا يجب على المُسْلِم نفقة الكافر، ولا يُلْحَق بالأصول والفروع سائرُ الأقارِبِ؛ كالأخ والأخت والعم والخال والخالة وأولادهم، ويختص وجوب النفقة بقرابة البعضية، وعنْد أبي حنيفة: تجب نفقة كل ذي رَحِمٍ محرم، لكنَّه شرط اتفاق الدين، فقال الأصحاب: ولو كانت هذه القرابة موجبةً للنفقة، شرط اتفاق الدين، كما في قرابة البعضية، وعن أحمد اعتبار العصوبة، ويُرْوَى عنه اعتبار الإرْثِ، حتى تجب على ابن العَمِّ نفقة ابنِ العمِّ، ولك أن تُعْلِم بعد الوقوف على هذه المذَاهِبِ قوله: "بقرابة البعضية" بالميم والألف والواو. وقوله: "دون المَحْرَمِيَّةِ" بالحاء. الثانية: لا تجب النفقةُ إلا على المُوسِر، وهو الذي يَفْضُل عن قوت يومه وليلته وقُوتِ عياله ما يصْرِفه إلى القريب (¬2)، فإن لم يفْضُل شيْءٌ، فلا شيء عليه؛ لأنه ليس ¬
من أهل المواساة، وهذه النفقة مشروعة على وجْه المواساة، وفي "التهذيب" وغيره وجْه أنَّه لا يُشْتَرَطَ يَسَارُ الوالد في نفقة الولد الصغير, لأنه من تتمة مؤنة الاستمتاع، كنفقة الزوجة، فعَلَى هذا يستقرض علَيْه، ويؤمر بقضائه إذا أيسر، والأظهر الأولُ، ويباع في نفقة القريب ما يباع في الدين من العقار وغيره؛ لأن النفقة حقٌّ مَاليٌّ لا بَدَلَ له، فأشْبَه، الدّين، وعند أبي حنيفة -رحمه الله-: لا يباع العقار. وكيف يباع العَقَار؟ حكى القاضي ابن كج فيه وجهَيْن: أحدهما: أنه يباع كل يوم جزءٌ بقدر الحاجة. والثاني: أن ذلك يشق، فيستقرض عليه إلى أن يجمع ما يسهل بيع العقار له. وإن لم يكن له مال، ولكنه كان كسوباً يمكنه أن يَكْتَسِب ما يَفْضُل عنْه، فهل يؤمر بالاكتساب لنفقة القريب؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، كما لا يُكلَّف الاكتسابَ لقضاء الدَّيْن. وأصحُّهما: وهو الذي أورده أكثرهم، نعم؛ لأنَّه يلزمه إحياء نَفْسِه بالكسب فكذلك، إحياء بعْضه، وليست النفقة كالدين، فإن قدرها يسير، والدين لا ينضبط قدْرُه، وذكر في "التتمة" الخلافَ في أنه هل يجب الاكتساب لنفقة الوالد مع القطع بوجوبه لنفقة الوَلَدِ، وفرَّق بأن نفقة الوالد سبَبُها المواساة، فلا [يكلف] (¬1) أن يكتسب ليصير من أهل المواساة، وأما الولد فَسَبَبُ حصولها الاستمتاعُ فألحقت نفقته بالنفقة الواجبة للاستمتاع وهي نفقة الزوجة، وهذا ذهاب إلى أنه يَجِبُ الاكتِسَاب لنفقة الزوجة، وهو الظاهر، لكن في كلام الإِمام وغيره: أن في وُجُوب الاكتساب لنفقتها وجهَيْنِ مرتَّبَيْن على وجُوب الاكتساب لنفقة القريب، وهي أوْلَى بالمَنع، لالتحاق نفقتها بالديون، وليُعْلَم قوله في الكتاب: "وإنما تجب على الموسر" بالواو؛ للوجه المذكور في أن اليسار لا يُشْترط لنفقة الولد، ويجوز أن يُعْلَم قوله: "ويباع عبده وعقاره" مع الحاء بالواو؛ لأنه قد سبق في الدَّيْن ذكْرُ خلاف في بيع المَسْكَن والخادم، وذلك الخلاف عائد في النفقة. الثالثة: مَنْ لَهُ مالٌ يكفيه لنفقته، لم تجب نفقته على القريب مجنوناً كان أو ¬
عاقلاً، صغيراً أو كبيراً، زمِناً أو صحيحَ البَدَنِ، ومن يكتسبْ ويغنيه كسبه، فكذلك، ومَن لا مال له ولا كَسْبَ، يُنْظَرُ في حاله؛ إن كان به نقصان حُكْماً؛ بأن كان صغيراً أو مجنوناً أو خِلْقةً؛ بأن كان زَمِناً، فيجب على القريب نفقته؛ لِعَجزِه عن [كفاية] (¬1) نفسه، وأَلْحَق صاحب "التهذيب" بالزَّمِن ما إذا عجز لمرض أو عمًى، فإذا بلغ الصغير [والمجنون] حَدّاً يمكن أن يَعْلَم حرفة أو يحمل على الاكتساب، فللوليِّ أن يَحْمِلَه عليه، وينفق عليه من كسبه، لكن لو هَرَبَ عن الحرفة، وترك الاكتساب في بعض الأيام، فعلى الأب الإنْفاقُ علَيْه وبمثله أُجِيبَ إذا كانَ لا يليق بحاله الحِرْفَة، فإن لم يكن به نقصان لا في الحْكْم، ولا في الخِلْقة، لكنه لا يكتسب، فإن كان الفرع بهذه المثابة، ففي وجوب نفقته على الأَصْل طريقان: أظهرهما: أن فيه قولَيْنِ: أحدهما: وبه قال أحمد: أنها تجب, لأنه يقبح أن يكلِّف قريبه الكسب مع اتساع ماله. والثاني: المنع؛ لأنه قادر على الاكتساب، مستغْنٍ عن أن يحمل غيره كلّه، وهذا أصحُّ عند الأصحاب، [قال في "العدة"] (¬2): لكن الفتْوَى اليوم على الوجوب، والثاني: القطع بالقول الثاني، ولا فرق على القولين بين الابن والبنت. وقال أبو حنيفة ومالك: لا تجب للابن، وتجب للبنت إلى أن تتزوَّج؛ لعَجْزها عن الاكتساب، ثم لا يعود استحقاقُ النفقة بالطلاق عنْد أبي حنيفة، وقال مالك: إن كان الطلاق قبل الدخول، عاد، وإن كان بَعْده، فلا، ومنع الأصحاب عجْزها، وقالوا: هي تَقْدِر على الاكتساب بالغَزْل والخدمة وغيرهما. وإن كان الأصل بالمثابة المذكورة، ففي وجوب نَفَقَتِهِ على الفرع القولان ومال ها هنا جماعة إلى ترجيح الوجوب، قالوا: إن الوَلَد مأمورٌ بأن يصاحب والديه بالمعروف على ما قال تعالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] وليس من الصحبة بالمعروف تكليفُهما الكَسْبَ على كِبَرِ السن، وامتنعوا من طَرْد طريقة القطْع في هذا الطرف؛ لِعِظَم حرمة الوالدين، ولذلك اختصا بسقوط القِصَاص، ووجب إعفاف الأب، وإذاَ جَمَعْتَ بين الطَّرَفَين، حصلَتْ ثلاثة أقوال: قولان مُطْلَقان، وقول مفصِّل بين الفروع والأصول. هذه هي الطريقة المشهورة للأصحاب، ولم يفرِّقوا بين اكتساب واكتساب، ومنهم مَنْ وضع الخلاف أولاً في اشتراط العَجْز عن الكسب اللائق به، ثم قالوا: إن شَرَطَ ذلك، ففي اشتراط العجْز عن كل ¬
كسبٍ [يليق به] بالزَّمانة وجْهان، ورأوا الأعدل والأقرب الاكتفاء بعَجْزه عما يليق به من الأكساب، وأوجبوا النفقة مع القدرة على الكنس وحمل القاذورات وسائر ما لا يليق به وهذا حَسَنٌ، وهذه الطريقةُ هي [الطريقة] التي أوردها في الكتاب. وقوله: "استحق على قول" يجوز أن يُعْلَم بالحاء؛ لفرقه بين الأصول والفروع، بين الابن والبنت على ما ذَكَرنا. وقوله: "ولم يستحق" بالألف، وقوله: "أما الطفل الكسوب فيستحق لا محالة إذا لم يكتسب" يعني أنه، وإن كان قادراً على الكسب، فإذا لم يكتسب، لم تَسْقط نَفَقَتُهُ؛ بخلاف البالغ المُكلَّف. قَالَ الْغَزَالِيُّ: ثُمَّ نَفَقَةُ القَرِيبِ عَلَى الكِفَايَةِ وَهُوَ مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ دُونَ مَا يُشْبعُ، وَلاَ يَسْتَقِرُّ فِي الذِّمَّةِ إِلاَّ بفَرْضِ القَاضِي، وَيَسْتَحِقُّ الأَبُ الإِعْفَافَ وَنَفَقَةَ زَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا مَنَعَ الأَبُ النَّفَقَةَ فِلْلأُمِّ الأَخْذُ مِنْ مَالِهِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَفِي اسْتِقْرَاضِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلَى بِالمَنْعِ، وَفِي إِنْفَاقِهَا عَلَى الطِّفْلِ مِنْ مَالِهِ دُونَ إِذْنِ الأَبِ وَجْهَانِ وَأَوْلَى بِالجَوَازِ، وَالقَرِيبُ إِذَا عَجَزَ عَنِ القَاضِي فَاسْتَقْرَضَ فَفِي لُزُومِ قَضَاءِ قَرْضِهِ وَجْهَانِ، وَكَذَا الخِلاَفُ فِي الجَدِّ الحَاضِرِ إِذَا اسْتَقْرَضَ عَلَى الأَبِ الغَائِب. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صُوَرٌ: إحداها: نفقة القريب لا تُقَدَّر بل هي على الكفَايةَ، وعن ابن خيران فيما حكى القاضي ابْنُ كج وغيره: إنها تَتقدَّر بما تَتقدَّر به نفقة الزوجة، والظاهر المشْهُور الأول؛ لأنها تجب على سبيل المواساة؛ لتزجية الوقْت ودفع حاجته الناجزة فيعتبر أصْل الحاجة وقدرها، حتى لو استغنى في بعض الأيام بضيافة وغيرها, لم تجب، ويعتبر حالُه في سنه وزهادته ورغبته فالرضيع، تكفي حاجته بمؤْنة الإرْضاع في الحولَيْن والفطيم والشيخ على ما يليق بِهِما, ولا يُشْتَرط انتهاء حال المنفَقِ علَيْه إلى حد الضَّرورة، ولا يكفي ما يسد الرَّمَق، بل يعطيه ما يستقل به، وَيتمكَّن معه من التردُّد والتصرُّف (¬1)، ويجب الأُدْم ¬
كما يجب القُوت، كي لا تختل القوى بالخبز البَحْت، وفي "التهذيب" ما ينازع في وجوب الإدام، وتجب الكسوة والسُّكْنَى على ما يليق بالحال، وإذا احتاج إلى الخدمة، وجب مؤنة الخادم أيضاً. وتسقط نفقة القريب بمُضِيِّ الزمان، ولا يصير دَيْناً في الذمة، وإن تَعدَّى بالامتناع من الإنفاق، وفي نفقة الصغير وجْهٌ أنَّها تثبت في الذمَّة تبعاً لنفقة الزوجة، لاعتنائها به كاعتنائها بنفسها، والظاهر الأول؛ لأنها ليست عوضاً، وإنما هي معونة ومواساة، ولذلك قال الأئمة: لا يجب فيها التمليك، وإنما الواجب الإمتاع، ولو سلَّم نفقة القريب إليه، فتلفت في يده، فعليه الإبْدَال، وهذا لو أتلفه المُسَلَّم إليه بنفسه لكن يؤخذ منه الضمان، إذا أيسر، ويستثنى ما إذا فرض القاضي، وأذن في الاستقراض؛ لغيبة أو امتناع، فيصير ذلك دَيْناً في الذمة (¬1). الثانية: سَبَقَ في النكاح حكايةُ قولَيْن: في أنه هل يجب على الابن إعفافُ الأب، وإذا أوجبناه، فأحد الطُّرُق أن سبيلَهُ سبيلُ النفقة في مواضِعِ الوفاق، وهو المُعْسِر الزَّمِن، والخلاف وهو المُعْسِر الصحيح. والثاني: أن النفقة أوْلَى بالوجوب. والثالث: أن الإعفاف أوْلَى به، وإليه ذهب أبو إسحاق والإصطخريُّ، وأنه إذا أعفَّه بزوجة أو ملَّكَه جاريةً، لذمته نفقتها، والقيام بمؤناتها، وأعاد مسألة الإعفاف مقتصراً على الأصح، وهو وجوبه [للأب]، فإذا كانت للأب زوجةٌ، فعلَى الابن الإنفاق عليها، حيْث ينفق على الأب, لأنه إذا وجب عليه أن يُعِفَّه ابتداءً، فعليه أن ينفق على ¬
زوجته استدامةً للنكاح، ولذلك، لو كانَت له أمُّ وَلَدٍ. ولو كانت تحْته زوجتان أو أكثر لم تلزمه إلا نفقة زوجةٍ واحدةٍ، كما لا يعفه في الابتداء إلا بواحدةٍ، ويدفع تلْك النفقة إلى الأَبِ، وهو يوزعها عليهما، ويكون لكلِّ واحدةٍ منهما حقُّ الفَسْخِ، لعدَم وصولها إلى تَمام حقها، وإن فسخت واحدةً تحت النفقة للأخرى، وحكىَ الشيخ أبو عليٍّ وجهاً ضعيفاً. أنه إذا كانَتْ تحته زوجتان أو أكثر، لم تَلْزَمْه النفقة؛ لأنَّ المستحِقَّ لا يتعيَّن، ولو كان للأب أولادٌ، ففي "التتمة": أنه يجب على الابن الإنفاقُ عليهم من جِهَة أنَّ نفقتهم واجبةٌ على الأب، فيتحمل الابن عنه كنفقة الزوجة، والظاهر، وهو الذي أورده الشيخ أبو عليٍّ: أنها لا تَجِبُ وفرق بينهما وبين نَفَقَة الزوجةِ من وجهَيْن: أحدهما: أنه إذا لم ينفق عليها، فسخَت النكاح، فيتضرر الأب. والثاني: أن نفقتها تجب على الأب وإن كان معسراً، فيتحمل عنْه الابن، ونفقة الأولاد لا تجب على الأب، وهو مُعْسِرٌ، فلا معنى لتحمُّل الابن عنه وإذا كان الابن في نفقة أبيه، وله زوجة، فهل على الأب الإنْفَاق علَيْها؟ عن القاضي أبي حامِدٍ وغيره: أنه على وجْهَيْنِ، والأظهر: المَنْع؛ لأنه لا يجب على الأب إعفافُ الابْنِ، والذي أورده صاحب "المهذب": أنه يجب عليه الإنفاقُ عليها، وأنه يجب الإنفاق على زوجةِ كل قريب، وجَبَتْ نفقته؛ لأنه من تمام كفايته، وقد حكاه القاضي الرويانيُّ عنه واستغربه، وأما إذا كان لِلابْنِ أولادٌ، فعلى الأب الإنفاق عليهم بحُكْم الجدودة وإعسارِ الأبِ. وكما يجب على الابن نفقةُ زوْجَةِ الأب (¬1)، يجب عليه كُسْوَتُها. قال في "التهذيب": لا يجب الإدام، ولا نفقة الخادم؛ لأن فقْدَهما لا يُثْبِت الخيار، ولكن قياس ما ذكرنا أن الابْن يتحمَّل ما وجب على الأب وجوبهما؛ لأنهما واجبان على الأب مع إعساره. الثالثة: إذا امتنع الأب من الإنفاق على الوَلَدِ الصغير أو كان غائباً، أذن القاضي لأُمِّه في الأخذ من ماله أو الاستقراض عليه، والإنفاق على الصغير بشرط أهليتهما لذلك، وهل تستقل بالأخْذِ من ماله؟ فيه وجهان: أظهرهما: عند صاحب الكتاب وغيره: نعم؛ لقصة هند. والثاني: لا؛ لأنها لا تلي التصرف في ماله، فلا تلي التصرُّف في مال أبيه، ومَنْ ¬
قال به، حمل ما ذكره -صلى الله عليه وسلم- لهنْد على أنه كان قضاء أو إذْناً لها, لا إفتاءً وحكْماً عامّاً (¬1) وفي استقلالها بالاستقراض عليه، إذا لم تجِدْ له مالاً وجهان بالترتيب، وهو أَوْلَى (¬2) بالمنع؛ لخروجه عن صورة الحديث ومخالفته القياسَ، ويُحْكَى عن القفَّال تجويزه، فإن أثبتنا لها الاستقلال أو لم يكن في البلد قاضٍ، وأشهدت، فعليه قضاءُ ما استقرضته، وإن لم تُشْهِدْ، فعلى وجهَيْن، وإن أنفقت على الطِّفْل المُوسِر من ماله من غير إذن الأب ولا القاضي، فوجهان وجعلت هذه الصورة أَوْلَى بالجواز؛ لأنها لا تتعدَّى مصْلَحة الطِّفْل، ولا تتصرف في مال غيره، ولو أنفقت عليه من مال نَفْسها على قَصْد الرجوع، وأشهدَتْ، رجَعَتْ، وإلا، فوجهان: وإذا امتنع القريبُ من نفقة القريب، فللمستحق أخذ الواجب من ماله إن وجد جنسه وفي غير جنسه خلافٌ مذكورٌ في موضعه، وإن كان غائباً ولا مالَ له هناك، راجع القاضي، لِيَسْتَقْرض عليه فإن لم يكن هناك قاضٍ، واستقرض بنفسه، فيُنْظَر، أَشْهَد أو لم يُشْهِد على ما ذَكَرْنَاه [في اقتراض الأم للطفل]. ولو كان الأبُ الذي عليه الإنفاق غائباً، والجد حاضرًا، فإن تَبرَّع بالإنفاق، فذاك، وإلا استقرض القاضي علَيْه، أو أذن للجَدِّ في الإنفاق؛ ليرجع على الأب، وفي "البحر" حكايته وجْهٍ أنه لا يرجع عليه، وإن استقل الجَدُّ بالاستقراض، فإن أمكنه مراجعةُ القَاضِي، فليس على الأب قضاؤه، وفيه شيْءٌ ضعيف هنا وإلا، فينظر في الإشهاد وعَدَمِهِ كما سبق، وهذه الصورة: تَقْرُب من مسألة هَرَب الجمال ونظائرها. وإن وَجَبَتْ نفقة الأب أو الحد على الصغير أو المجنون، أخذها مِنْ ماله بحكم الولاية، ولهما أن يؤاجراه لما يطيقه من الأعمال، وَيأْخُذا من أجرته نفقةَ نَفْسِهما، والأم لا تأْخُذ إلا بإذن الحاكم، وكذا الابن إذا وجَبَتْ نفقته على الأب المجْنُون، فلو كان ¬
يصلح لصنْعَة، فللحاكم أن يُوَلِّيَ ابنه إجازته، وأخذ نفقة نفسه من أجرته. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيجِبُ عَلَى الأُمِّ أنْ تُرْضِعَ وَلَدَهُ اللِّبَأَ الَّذِي لاَ يَعِيشُ إلاَّ بِهِ، ثُمَّ لَهَا الأُجْرَةُ عَلَى الأَبِ، وَلاَ يَجِبُ (م) عَلَيْهَا الإِرْضَاعُ إلاَّ إِذَا فُقِدَ غَيْرُهَا، فَإِنْ رَغِبَتْ بِأُجْرَةٍ وَرَغِبَتْ أَجْنَبيَّةٌ مَجَّاناً وَجَبَ الأَجْرُ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ نَظَراً لِلطِّفْلِ، وَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنَ الإِرْضَاعِ لِحَقِّ الاِسْتِمْتَاعِ إِذَا وَجَدَ مُرْضِعَةً أُخْرَى. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يجب على الأم أن ترضع ولدها اللبأ (¬1) لأنه لا يعيش إلا به هكذا اْطلقوه، والمراد الغالب أو أنه لا يقوى ولا تشتد بينته إلا به وإلا فنشاهد هل يعيش بلا لبأ ثم لها أن تأخذ الأجرة عليه إن كان لمثله أجرة، ولا يلزمها التبرع بإرضاعه كما أن مالك الطعام يلزمه بذلِ الطعام للمضطر ولكن بالبدل، وفيه وجه منقول عن الحاوي أنه لا أجرة لها لأنه حتى تعين عليها، والأب عاجز عنه فهو كما إذا أيسرت بالنفقة والأب معسر، ثم إذا لم يوجد بعد سقي اللبأ مرضعة أخرى وجب عليها الإرضاع إبقاء للولد، وكذلك لو لم يوجد إلا أجنبية فإن وجد غيرها وامتنعت من الإرضاع لم تجبر (¬2) عليه سواء كانت في نكاح الأب أو بائنة، وسواء كانت ممن يرضع مثلها الولد في العادة أو ممن لا يرضع لقوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] وإذا امتنعت فقد حصل التعاسر، وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد وعن مالك روايتان: إحداهما: أنه لا يلزمها الإرضاع. وأشهرهما: أنه يلزمها الإرضاع إن كان مثلها يرضع الولد في العادة. وإن رغبت الأم في الإرضاع فأما أن تكون في نكاح أب الرضيع أو مفارقة. الحالة الأولى: إذا كانت في نكاحه فهل للزوج منعها؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو اختيار القاضي الطبري لا لأنها أشفق على الولد من الأجنبية، ولبنها له اصلح وأوفق. وأقواهما: وهو اختيار الشيخ أبي حامد له المنع لأنه يستحق الاستمتاع في ¬
الأوقات المصروفة إلى الإرضاع فإذا ما أورده صاحب الكتاب والشيخ أبو إسحاق في المهذب، وقال: يكره (¬1) له المنع. فإن قلنا: ليس له المنع أو توافقا عليه فإن كانت متبرعة فذاك، وهل تزاد نفقتها للإرضاع فيه وجهان. أحدهما: وبه قال أبو إسحاق والإصطخري نعم لأنها تحتاج في زمان الإرضاع إلى زيادة الغذاء ويجتهد الحاكم في تقدير الزيادة. وأصحهما: المنع لأن قدر النفقة لا يختلف بحالة المرأة وحاجتها, ولذلك تستوي الزهيدة والرغيبة والأولى أن يقال هذه الزيادة تحتاج إليها لتربية الولد وعلى أبيه القيام بكفايته. فإن طلبت أجرة بني على أن الزوج هل يجوز له أن يستأجر زوجته لإرضاع ولده وفيه وجهان قد ذكرناهما في الإجارة قال العراقيون: لا يجوز لأنه يستحق الاستمتاع بها في تلك الحالة فلا يجوز أن يعقد عليها عقداً آخر يمنع استيفاء الحق كما إذا استأجر إنساناَ للخدمة شهراً لا يجوز أن يستأجره تلك المدة لخياطة ثوب أو عمل آخر، وربما طردوا ذلك فيما إذا استأجر زوجته للخدمة وغيرها، وبه قال أبو حنيفة، والأصح أنه يجوز استئجارها عليه، ويكون الاستئجار رضاً بترك الاستمتاع، واحتج له بقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] ولو لم يجز استئجارها لم يكن لها أجر فإن جوزنا استئجارها فليكن الحكم فيما إذا طلبت الأجرة كالحكم فيما إذا طلبت البائنة الإرضاع بالأجرة وسنذكره إن شاء الله تعالى وإذا أرضعت بالأجرة فإن كان الإرضاع لا يمنع من الاستمتاع ولا ينقصه فلها مع الأجرة النفقة، وإن كان يمنع أو ينقص فلا نفقة لها كما ذكره صاحب التهذيب وغيره ويشبه أن يجيء فيه الخلاف فيما إذا سافرت لغرض نفسها بإذنه، وإن قلنا لا يجوز الاستئجار، وأرضعت على طمع الأجرة ففي استحقاقها أجرة المثل وجهان، قال ابن خيران تستحق لأنها لم تبذل منفعتها مجاناً، وقال أكثرهم لا تستحق (¬2)، ولو استحقت لجاز استئجارها. ¬
الحالة الثانية: إذا كانت مفارقة، وتبرعت بالإرضاع لم يكن للأب المنع وانتزاع الولد منها، فإن طلبت أجرة نظر إن كانت أكبر من أجرة المثل لم يجب عليه الإجابة، وكان له استرضاع أجنبية بأجرة المثل، وإن طلبت أجرة المثل فهي أولى من سائر المراضع بأجرة المثل، وإن وجد أجنبية تتبرع أو ترضى بما دون أجرة المثل فطريقان أشهرهما وبه قال ابن الوكيل وابن سلمة وصاحب الإيضاح (¬1) أن في المسألة قولين: أحدهما: وهو اختيار المزني أنه لا ينزع الولد منها، ويجاب نظراً لها وللطفل، فإنها أشفق عليه ولبنها له أوفق، وأيضاً فلظاهر قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}. وأصحهما: أن له الانتزاع ولا يلزمه بذل الزيادة كما لو طلبت أكثر من أجرة المثل، وهناك من يرضى بها. والثاني: القطع بالقول الثاني، وبه قال: أبو إسحاق والإصطخري، وحكاه ابن كج عن ابن سريج وابن أبي هريرة أيضاً وعلى الصحيح لو اختلفا فقال الأب أجد متبرعة وأنكرت فهو المصدق بيمينه، ووجهه بأنها تدعي استحقاق الأجرة عليه، والأصل عدمه ولأنه يعسر إقامة البينة على ما يقوله، فيصدق بيمينه كما لو ادعت المطلقة ثلاثاً أنها نكحت غيره وأنه أصابها تصدق لعسر إقامة البينة على الإصابة. وقوله في الكتاب في أنه يجب على الأم "إرضاع اللبأ" ثم لها الأجرة يجوز إعلامه بالواو للوجه الذي حكيناه، ويخرج أيضاً إذا كانت الأم زوجته على الوجه الذي قلنا إنه لا يجوز له استئجار زوجته. وقوله: "على الأب" مفروض فيما إذا كان المولود معسراً وهو الغالب، فإن كان يملك مالاً فيؤدي الأجرة منه، ولا تلزم على الأب. وقوله: "ولا يجب عليها الإرضاع" يجوز إعلامه بالميم. وقوله: "فإن رغبت بأجرة ... " إلى آخره مطلق من جهة اللفظ لكنه أراد ما إذا لم تكن الأم في نكاحه على ما هو مبين في الوسيط والبسيط، ويجوز أن يعلم "القولين" بالواو للطريقة القاطعة. وقوله: "بأجرة" يعني بأجرة المثل. وقوله: "وللزوج منعها" معلم بالواو، والله أعلم بالصواب. ¬
الباب الثاني في ترتيب الأقارب
البَابُ الثَّانِي فِي تَرْتِيبِ الأَقَارِبِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالنَّظَرُ فِي أَطْرَافٍ: الأَوَّلُ اجْتِمَاعُ الأَوْلاَدِ وَفِيهِ طَرِيقَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ التَّقْدِيمَ بِالقُرْبِ، فَإِنْ تَسَاوَيا فَهَلْ يُقَدَّمُ الوَارِثُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، فَإِنِ اعْتَبَرْنَا الإِرْثَ فَهَلْ تَتَفْاوَتُ بِتَفَاوُتِ مِقْدَارِ الإِرْثِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصودُ الباب الكلامُ فيما إذَا كان للمُحْتَاج أقاربُ، يَجِبُ على كُلِّ واحدٍ منهم نفقته لو انفرد، على مَنْ تكون نفقته عند الاجتماع؛ وفي أنه إذا اجتمع للشخص أقاربُ محتاجُون، كَيف ينفق عليهم؟ والأقاربُ في المقْصد الأوَّل، إما أن يَكُونُوا من الأصول أو من الفُرُوع أو منْهما جميعاً، فرتب الكلام في الباب على أربعة أَطْرَافٍ، والثلاثة الأول في أقسام المقصد الأول، والرابع في المقصد الثاني. وقوله في ترجمة الطرف الأول: "اجتماع الأولاد" يعني الفروع الدين يلْزَمُهم النفقة للأصْل المُحْتَاج، وإذا اجتمعَ اثْنَانِ منهم، نُظِرَ؛ إن استويا في القرب والوراثة أو عَدَمِها، والذكورة والأنوثة، فالنفقة عليهما بِالسَّوِيَّة، سواءٌ استويا في اليَسَار أو تَفَاوَتَا، وسواء كانا قادرَيْنِ بالمال أو بالكسب أو أحدهما بالمال والآخَر بالكسب، فإن كان أحدهما غائباً، أخذ قسطه من ماله، فإن لم يكن، استقرض (¬1) عليه. مثاله ابنان أو ابنتان، أو ابنا ابن أو بنتا ابن، وإن اختلفا في شيء من ذلك، ففيه طريقتان: إحداهما: النظر إلى القرب، فإن كان أحدهما أقْرَبَ، فالنفقة عليه؛ لأنه أوْلَى بالاعتبار، ولا فرق بين أن يكون الأقرب وارثاً أو غير وارث، ولا بين أن يكون ذكراً أو أنْثَى، فإن استويا في القُرْبِ، ففي التقديم بالإرْثِ وجهان: أحدهما: أن [النفقة] على الوارث؛ لقوَّة قرابته. والثاني: أنه لا أثر للإرث؛ لأن القرابة [المجرَّدة] عن الإرث موجبة للنفقة، فالإرث غير مَرْعيٍّ في الباب. فإن قدَّمْنا بالإرث، فلو استويا في أصل الإرث، فيستويان أو تتوزع النفقة بِحَسَب ¬
الإرث؟ فيه وجهان (¬1): وجه الثاني: إشعار زيادَةِ الإرْثِ بزيادة قُوَّة القرابة. والطريقة الثانية: أن النَّظَر أوَّلاً: إلى الإرث، فإن كان أحدهما وارثاً دون الآخر، فالنفقة على الوارث وإن كان غير الوارث أقرب، فإن تساويا [في الإرث، وأحدُهما أقرب، فالنفقة على الأقرب، فإن تساويا] (¬2) في القرب أيضاً، فالنفقة عليهما ثم تستوي أو يراعى قدْر الإرث؟ فيه الوجهان، وإذا تساويا في المنْظُور إلَيْه على اختلاف الطريقين، وأحدهما ذكر، والآخر أنثى، هل يختص الذكَّرَ بوجوب النفقة عليه؟ فيه وجهانِ: وجْهُ الاختصاص: أنه أقوى وأقْدَرُ على الكسب، وأيضاً، فإنه إذا اجتمع الأب والأمُّ، تكون النفقة على الأبِ دون الأم، هكذا قيده في "البسيط"، وجْه اعتبار الذكورة بما إذا استويا في سائر الأسْبَاب عن رواية الشَّيْخ أبي عليٍّ، وكأنه لذلك لم يجعلْه هاهنا طريقة قاطعةً تقابل الطريقتين السابقتين، بل جعَلَه وجهاً بين الطريقتين، ومنهم مَنْ حكاها طريقة يرأسها، فقال إن كان أحدهما ذكراً، فالنفقة عليه قريبًا كان أو بعيداً، وارثاً كان أو غَيْرَ وارثٍ، وإن كانا ذكَرَيْن أو أنْثَيَيْنِ، فالنفقة على المدلي بالذَّكَر، فإن استويا في الإدلاء فهي على الأقرب، والأظهر عند صاحب الكتاب والإمام وصاحب "التهذيب" وغيرهم الطريقة الأولى: دون اعتبار الإرْث والذُّكورة، واحتجُّوا بأن الإرث والذكورة لا يُشْتَرَطَانِ في وجوب النَّفقة، والمنفرد منهم تلزمه النفقة، وإن لم يكن حائزاً ولا وارثاً، ويدل على قوة القرب أن مَنِ اعتبر الإرْثَ والذكورة، قَطَع عند استوائِهِما في الإرْث والذكورة بالاعتماد على القرب، والمُعْتَبِرون للقُرْب تردَّدوا عند استوائهما في الدَّرَجة في أنَّه، هل يُعْتبر الإرث والذكورة؟ واختيار العراقيين يخالف اختيار هؤلاء في بعْض المَنَازِل، كما نبينه في الأمثلة. أمثلة: ابن وبنْتٌ، النفقة عليهما بالسوية إن اعتبرنا القُرْب، وبه قال أبو حنيفة، وكذا على اعتبار الإرث، إن اكتفينا بأصْلِهِ، وإن اعتبرنا مقدار الإرْث فيكون عليهما أثلاثاً، وبه قال أحمد، وهي على الابن، إن اعتبرنا الذُّكُورة، وهذا ما اختاره العراقيون، وربما لم [يوردوا] غيره. ¬
بنت وابن ابن، هي على البنْتِ، إنِ اعتبرنا القُربَ وبه قال أبو حنيفة، وعليهما بالسوية، إن اعتبرنا الإرث، وعلى ابن الابن إن اعتبرنا الذكورة، وهذا ما اختاره العِرَاقيُّون، وعن أحمد: أن النفقة عليهما أثلاثاً؛ لأن الذَّكَر والأنْثَى يرثان أثلاثاً، فينفقان كَذَلِكَ. بنْتٌ وبنْتُ ابْنٍ، هي على البِنْتِ، إن اعتبرنا القرب، وعليهما إن اعتبرنا الإرث (¬1). [بنت وابن بنت هي على البنت إن اعتبرنا القرب أو الإرث وعلى ابن البنت إن اعتبرنا الذكورة]. ابن ابن وابن بنت عليهما إن اكتفينا بالقرب وعلى الأول إن رجحنا الإرث بنت ابن، وابن بنت هي علي بنت الابن، إن اعتبرنا الإرْثَ، وعلى ابن البنت، إن اعتبرنا الذُّكُورة، وعليهما، إن اكتفينا بالاستواء في الدرجة (¬2) وتحكى الأوجه الثلاثة على الثاني [بنت بنت وبنت ابن ابن هي على الأولى إن اعتبرنا القرب وعلى الثانية إن اعتبرنا الإرث]. بنت ابن وبنت بنت، عليهما، إن اكتفينا بالاستواء في القُرْب وإن اكتفينا بالإرث، فعلى الثانية. ابنٌ وولدٌ خُنْثَى، إن قلنا في اجتماع الابن والبنت: تكون النفقة عليهما كذلك ها هنا، وإن قلْنا: تكون على الابن، فوجهان: أحدهما: أن على الابْنِ نصْفَها؛ لأنه المستيقن، والنصف الآخر يستَقْرِضه الحاكِمَ فإنْ بان ذَكَراً، فالرجوع عليه، وإلا، فالرجوع على الابْنِ، وهذا كما أنه إذا كان أحَدُهما غائباً يُؤْخَذ النِّصْف مِنَ الحاضر، ويستقرض على الغائب. وأظهَرُهما: أنَّه يُؤْخَذ الجميع مِنَ الابْنِ؛ لأنه بِصَدَد أن يكُونَ الكُلُّ عليه، فهو ¬
أوْلَى بالمطالبة من غيره، فإن بأن الخنثى ذَكَرَاً، رجع عليه بالنصف. بنتٌ وولَدٌ خنْثَى، إن قلْنا: لو اجتمع الابن والبنت، تكون النفقة عليهما، فكذلك هاهنا، وإن خصَّصْناها بالابن، فوجهان: أحدهما: الإنفاق على الخُنْثَى؛ لاحتمال كونه ذكراً فإن بانت أنوثَتُه، رَجَعَت على أختها بالنِّصْف. [والثاني]: لا تُؤْخذ منه إلا النصف؛ لأنه المستيقن، ويُؤْخَذ من البنتِ النصْفُ، فإن بانت ذكورته، رجَعَتْ أخته (¬1) عليه بما أَنْفَقَتْ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةُ: أَنَّ الإِرْثَ مُقَدَّمٌ فَإنْ تَسَاوَيَا فَالأَقْرَبُ، فَإنْ تَسَاوَيَا وُزِّعَ عَلَيْهِمَا، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أنَّهُ يُقَدَّمُ بِالذُّكُورَةِ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الابْنِ لاَ عَلَى البِنْتِ الطَّرَفُ الثَّانِي: اجْتِمَاعُ الأصُولِ فَالأَبُ مُقَدَّمٌ عَلَى الأُمِّ فِي الصِّغَرِ، وبَعْدَ البُلُوغِ وَجْهَانِ، فَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمَا فَهَلْ يَتَفَاوَتَانِ بِمِقْدَارِ الإِرْثِ؟ وَجْهَانِ، أَمَّا الأَجْدَادُ وَالجَدَّاتُ فَالقَرِيبُ مُقَدَّمٌ عَلَى البَعِيدِ المُدْلي بِهِ، فَإنِ اخْتَلَفَتِ الجِهَةُ خُرِّجَ عَلَى الطَّرِيقَيْنِ، وَطَرِيقَةٌ ثَالِثَةٌ أَنَّ الوَلِيَّ أَوْلَى، فَإنِ اسْتَوَيَا فَالمُدْلِي بِالوَلِيِّ أَوْلَى، فَإنِ اسْتَوَيَا فَالأَقْرَبُ، وَطَرِيقَةٌ رَابِعْةٌ أَنَّ الذَّكرَ أَوْلَى، وَإِلاَّ فَالمُدْلِي بِالذَّكَرِ، وَإِلاَّ فَالأَقْرَبُ، وَقِيلَ: الذُّكُورَةُ وَالوِرَاَثَةُ تُجْبَرُ إِحْدَاهُمَا بِالأُخْرَى فَيَتَسَاوَيَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا اجتمع للمُحْتاج قريبانِ مِنْ أصوله، لو انفرد كلُّ واحد منهما، لَوَجَبَت النفقة عليه، نُظِرَ: إن اجتمع أبوه وأمه، فإن كان المحتاجُ صغِيراً، فالنفقةُ على الأب؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] أوجب أجرة الإرْضَاع على الأبِ، ولقصَّة هنْد، وإن كان بالغاً، فوجهان: أصحُّهما: أن الجواب كذلك ويستصحب ما كان في الصِّغَر، وبه قال أبو حنيفة: والثاني، ويُنْسَب إلى القفَّال: أنَّها توزَّع عليهما؛ لاستوائهما في القُرْب والولادةِ، والايجابُ عليه قَبْل البلوغ كان من أثر الولاية على الصَّغِير؛ وعلى هذا، فيُسَوَّى بينهما، أو يُجْعَلُ بينهما أثلاثاً بحَسَب الإرْثِ؟ فيه وجهان، رجَّح منهما الثاني، وإن اجتمع واحدٌ من أباء الأب مع الأمِّ, فالظاهر تنزيله منزلة الأَبِ؛ لأنه يشاركه في الولاية والعصوبة، وقد يقع عليه اسم الأب، وفيه وجهان آخران: أحدهما: أن النفقة على الأم لقربها. ¬
والثاني: يُوزِّع عليهما؛ لتعارض القرب والعصوبة، وإذا وزعت عليهما، فيسوى أو يثلَّث؟ فيه الوجهان، ويحكى التثليث عن أبي حنيفة وأحمد -رحمهما الله- وإن اجتمع اثنان من الأجْدَاد والجدات، نُظِرَ؛ إن كان أحدهما يُدْلِي بالآخر، فالنفقة على القريب دُون البَعِيد، وإلا، ففيه طرق: أحدها: اعتبار القْرْبِ. والثاني: اعتبار الإرث على ما ذَكَرْنا في طَرَف الفُرُوع. والثالث: وهو اختيار المَسْعوديِّ: أن الاعتبار بولاية المَالِ، فإنها تُشعِر بتفويض التربية إلَيْه، وقد يحتج له أيضاً بأن النفقة عند اجتماع الأم والأب على الأَبِ، فإنْ لم يكُنْ لِوَاحِدٍ منهما ولايةٌ وأحدهما يُدْلِي بالوليِّ أو هو أقرب إدلاء بالولِيِّ، فالنفقة عليه، فإن استويا في الإدلاء به وجوداً وعدماً واعتبر فيه القرب والمراد في هذه الطريقة من الولاية الجهةُ التي تُفِيدها, لا نفْس الولاية التي قد يمنع منْها مانع مع قيام الجهة. والرابع: أن الاعتبار بالذُّكورة، فالنفقة على الذكر فإن كانا ذكَرَيْن أو انثَيَيْن، فالنفقة على المُدْلِي بالذَّكَر، فإنِ اسْتَوَيَا، اعتبر (¬1) القرب. والخامس: أنه يُعْتَبَر الإرث والذكورة معاً، فإن اختص أحدهما بالمعنيين، فالنفقة عليه، وإن وُجِدَا فيهما، أو لم يُوجَدَا أو وُجِدَ أحدهما في أحدهما، والثاني في الثاني، فيعتبر القرب، ويُجْبَر على هذه الطريقة فِقْدَان كلِّ واحدٍ من المعنيين بالآخر. الأمثلة: اجتمع أبُ الأبِ وأبُ الأمِّ, إن اكتفينا بالقرب سوَّيْنا بينهما، وإن اعتبرنا الإرْثَ أو الولاية فالنفقة على أَبِ الأبِ. أمُّ الأب وأمْ الأم، إن اعتبرنا القُرْبَ أو الإرْث، سوَّينا بينهما، وإن اعتبرنا الإدْلاء بالولي أو بالذَّكَر، فهي على أمِّ الأبِ أب الأم وأم الأب، إن اعتبرنا القرب، فهما سواءٌ، وإن اعتبرنا الإرث أو الإدلاء بالوليِّ، فهي على أم الأب، وعلى الطريقة الخامسة يُجْبَرُ فِقْدَانُ الإرث في أب الأم بالذكورة، وفِقْدانُ الذكورة في أم الأب بالوراثة، فيستويان، وخَرَّج بعضهم الخلافَ في اجتماع الجَدِّ والأمِّ على هذه الطرق، وقال: إن اعتبرنا القُرْب، فالنفقة على الأمِّ، وإن اعتبرنا الإرْثَ، فهي عليهما، وإن اعتبرنا الولاية ¬
أو الذكورة، فعَلَيْهِ، إلا أنَّ ما رجَّح في الصورتين لا يلائم ما رجّح من الطرق، وهو اعتبار القرب. وقوله في الكتاب: "وقيل: الذكورة والوراثة إلى آخره، هو الطريق الخامِسُ مختصراً، ولْيُحْمل قولُه تجبر إحداهما بالأخْرَى" على أنه يجبر فِقْدَانُ إحداهما بالأخْرَى، وإلا، فهما صفتا كمالٍ، ولا يجبِر الكمال بالكمال، وإنَّما يُجْبَر النقصان بالكمال. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الطَّرَفُ الثَّالِثُ: اجْتِمَاعُ الفُرُوعِ وَالأُصُولِ ابْنٌ وَأَبٌ قِيلَ: الأَبُ أَوْلَى لِلوِلاَيَةِ، وَقِيلَ: الابْنُ لِلْخِدْمَةِ، وَقِيلَ: يَتَسَاوَيَانِ، وَالأُمُّ كَالأَبِ، وَقِيلَ: الابْنُ أَوْلَى مِنْهُمَا قَطْعَاً، وَكَذَا الخِلاَفُ فِي الجَدِّ وَالابْنِ أَعْنِي أَبَ الأَبِ، ثُمَّ تَعُودُ تِلْكَ الطُّرُقُ الخَمْسُ، وَإنَّمَا يَزِيدُ النظَرُ إِلَى وِلاَيَةِ التَّرْبِيَةِ وَإِلَى الخِدْمَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا اجتمع للمُحْتَاجِ واحدٌ من الأصول وواحدٌ من الفروع، قال الأئمة: تجيء فيه الطُّرُق، فيقدَّم الأقْرَب في طريق، والوارثُ في طريق، والوليُّ في طريق، والذَّكَر في طريق، ويُسوَّى بين الذكر والأنثى في طريق، وإذا وجبت النفقةُ على وارثين، فيجيء الخلافُ في أن التوزيع يَكُونُ بالسوية، أو بحسب الإرث، ويزيد هاهنا النظرُ إلى أن الإنفاق فيه معْنَى التربية، وَالتَّربيةُ بالأصُول أليقُ، ومعنى الخِدْمَةِ، والخِدْمَةُ بالفُروعِ أليقُ، وتفصيل هذه الجملة بِذِكْرِ صُوَرٍ: أبٌ وابْنٌ، فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن النَّفقَة عَلَى الأب استصحاباً لما كان في الصِّغَر، وأيْضاً، فنفقة الوَلَد على الأب منصوصٌ عليها في قصة هنْد وغيرها بخلاَفِ نفقةِ الأب عَلَى الولد، وأيضاً، فإنه مخصوص بالولاية، ويُحْكَى هذا عن اختيار أبي عبد الله الحُسَيْن. وأصحُّهما: على ما ذكر صاحب "التهذيب" والقاضي الرويانيُّ وغيرهما، وهو اختيار صاحب "التلخيص": أنها على الابْنِ؛ لأن عصوبته أقوى، ولأنه أولَى بالقيام بشأن أبيه، لِعِظَمِ حرمته. وثالثها: أنها عليهما لاستوائهما في القُرْب، ولتعارض المعانِي، وعلى هذه الوجوه، ما إذا اجتمع أبٌ وبنْتٌ، ويتوجه الوجوب على الأب بأنه ذَكَرٌ أيضاً، وما إذا اجتمع جَدٌّ وابنُ ابنٍ. وفي أمٍّ وبنْتٍ طريقانِ: أظهرهما: مَجِيْءِ الأوجه.
والثاني: القطْع بأنها على البنْت، ويُحْكَى هذا عن القاضي أبي حامد وغيره، وكأنهم اعتمدوا في الإيجاب على الأب معنى الولاية واستصحابِ مَا كَانَ في الصِّغَر والذكورة، وهذه المعانِي لا تُوجَدُ في الأم. أمٌّ وابْنٌ، فيه طريقان: أحدهما: طَرْدُ الأوجه الثلاثة. والثاني: القطْعُ بتقديم الابْنِ؛ لضعف الإناث، وبُعْدِ حالهن عن تَحمُّلِ المؤنات عن الغَيْرِ، ويجري الطريقان في جَدٍّ وابْنٍ، وفي أبٍ وابنِ ابنٍ أقوى (¬1). قال في "التهذيب": والأصحُّ أنه لا نفقة على الأصول ما دام يوجد واحدٌ من الفروع قريباً كان أو بعيداً، ذكراً كان أو أنْثَى. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الطَّرَفُ الرَّابعُ فِي ازْدِحَامِ الآخِذِينَ فَإِذَا لَمْ يَفضُلْ مِنْهُ إِلاَّ قُوتٌ وَاحِدٌ فَالزَّوْجَةُ أَوْلَى، وَفِي الأَبْعَاضِ تعُودُ الطُّرُقُ، وَلَكِنَّ الأُنُوثَةَ هَهُنَا تَرْجَحُ لِلآخِذِ -لِلأخْذِ حَيْثُ رَجَّحْنَا، ثُمَّ الذُّكُورَةُ فِي الالْتِزَامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَهُنَا لاَ يُؤثِّرُ تَفَاوُتُ الإِرْثِ، ثُمَّ إِنِ اسْتَوَوْا وُزِّعَ عَلَيْهِمْ، فَإنْ كَانَ قَلِيلاً أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا اجتمع على الشَّخْص الواحِدِ محتاجون، يلزمه نفَقَةُ كلِّ واحدٍ منهم، نُظِرَ إن وَفَّى مالُه أو كَسْبُه بنفقتهم، فعلَيْهِ نفقة الجميعِ القريب منْهم والبعيد، وإن لم يَفِ بالكل، ولم يكْفِ ما يفضل عنه إلا نفقة واحدٍ، فيُقدَّم نفقَةُ الزوجَةِ، على نفقة الأقارب؛ وذلك لأنها أثبت وأقْوَى؛ ألا ترى أنَّهَا لا تَسْقُطُ بغناها، [ولا بإعساره] ولا بِمُضِيِّ الزمان، وبأنها وجبت عِوَضاً، والنفقة على القَرِيبِ مواساةً والعِوَضُ أوْلَى بالرعاية مِنَ المواساة، واعترض الإِمام بأنها إذا كانت كذلك، كانت [كالديون] (¬2)، ونفقة القريب من مال المُفْلِس، تُقَدَّم على الديون، وخَرَّج لذلك احتمالاً في المسألة، وأيَّده بما رُوِيَ أن رجلاً جاء إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: "مَعِي دِينَارٌ، فَقَالَ: أَنْفقْهُ عَلَى نَفْسِكَ، فَقَالَ: مَعِي آخَرُ، فَقَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِك، قَالَ مَعِي آخَرُ، فَقَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ" (¬3) فقدَّم نفقةَ ¬
الولَدِ على نفقة الأهْلِ، كما قدم نفقة النفس على نفقة الولد. وروى صاحب "التتمة" وجهاً: أن نفقة الولَدِ الطِّفْلِ تُقدَّم على نفقة الزوجة، وأما الذِّيْن ينفق عليهم بالقرابة، فتعود فيهم الطُّرَق، فيُصْرف الفاضل إلى الأقرب، أو الوارث، أو الوليِّ، وفي الطريق الذي قلْنا: إنها تجب على الذَّكَر، يُصْرَف الفاضل ها هنا إلى الأنثى؛ لِعَجْزِها، وزيادَةِ ضعْفها، ويُسَوَّى في الطريق الآخر بين الذكر والأنثى، وإذا صُرِفَ إلى وارِثينَ، فَيُوزَّع بالسوِيَّة أو بِحَسَبِ الإرث، يَعُود فيه الوجهان، وعن الأكثرين: أنه لا يُنْظَر هاهنا إلى مقادير الإرْثِ، ونُورِدُ للتفصيل والتمثيل صوراً: ابنان أو ابنتان يُصْرَف الموجُودُ إليهما، فإن اختص أحدهما بمزيد عجز؛ بأن كان مريضاً أو رضيعاً، فهو أوْلَى قاله في "البَحْر". ابن وبنت، فالصحيح أنَّهما كالابنين أو كالبنتين، وفيه وجهٌ أن البنْتَ أوْلَى؛ لِضَعْفها. ابن بنت وبنت ابن، حكى الرويانيُّ أن بنت الابن أوْلَى؛ لضعفها، وعصوبة أبيها، ويثبه أن يُجْعَلاَ كالبنْتِ والابن. أبٌ وَجَدٌّ أو ابنٌ وابنُ ابن، في وجْهٍ: هما سواءٌ؛ لتساويهما في القرابة، والأصحُّ: تقديم الأب والابن؛ لزيادة القُرْب، فإن كان الأبْعَدُ زَمِناً، ففي "التهذيب" أنه أوْلَى وذكر أنه لو اجتمع جدَّانِ في درَجَةٍ واحدة، وأحدهما وعصبة، كأبِ الأبِ معَ أبِ الأمِّ, فالعصبة أوْلَى، وأنه لو اختلفت الدرجة، واستويا في العصوبة أو عدمها فالأقرب أوْلَى، وإن كان الأبعد عصبةً، تعَارِضُ القرْبَ والعصوبة، واستويا. ابنٌ وأبٌ إن كان الابن صغيراً، فهو أوْلَى وإلا، فثلاثة أوجه. أحدها: أن الابن أوْلَى أيضاً، كما في الصغير. والثاني: الأبُ أَوْلَى؛ لعظم حرمته. والثالث: أنهما سواءٌ، ويُحْكَى عن اختيار القفَّال، وتجري الأوجه في الابْنِ والأمِّ، وفي الأب والبنت، ويشبه أن تجيء طريقةٌ قاطعةٌ بتقديم الأب وتجري الأوجه في الجد وابن الابن. أبٌ وأمٌّ، فيه ثلاثة أوجه: أصحهما: تقديم الأم؛ لزيادة عجزها, ولأنها انفردت بجملة إرضاعه وحضانته، فكان حقُّها آكَدَ، ويُرْوَى أن رجلاً أتَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "مَنْ أَبَرُّ فَقَالَ: أُمَّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ أُمَّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ قَالَ: أُمَّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ قَالَ: أَبَاكَ" (¬1). ¬
والثاني: يُقدَّم الأب مكافأةً لاتفاقه علَيه في الصغر. والثالث: التسوية بينهما؛ لاستوائهما في القرب. جدٌّ وابنٌ، فيه طريقان أحدهما: طرْدُ الوجوه. والثاني: القطْعُ بتقديم الابن، وعن "الجامع" للقاضي أبي حامد: أنه لو اجتمعت جدتانِ لإحداهما ولادتان، وللأخرى ولادةٌ واحدةٌ، فإن كانتا في دَرَجَةٍ واحدةٍ، [فذات] الوِلاَدتَيْنِ أوْلَى، وإن كانت هي أبْعَدَ، فالأُخْرَى أَوْلَى وأنه لو اجتمعت بنتٌ بنْتُ بنتٍ، أبوها ابْنُ ابنِ بنْتٍ مع بنتِ بنتِ بنتٍ، ليس أبوها من أولاده، فإن كانتا في دَرَجَةٍ واحدةٍ، فصاحبه القرابتين أولَى، وإن كانَتْ هي أبْعَدَ، فالأخْرَى أوْلَى، ومهما استوى اثنان، وُزِّعَ المقدور عليه بينهما، وإن كثروا بحيث لو وزَّعْنا، لا يسد قسْط كل واحد منهما مسداً، فالطريقُ الرجوعُ إلى القُرْعة، وكان يَجُوز أن لا يُصَار إلى التوزيع أصلاً؛ لأن كلَّ واحدٍ منهم لا يكفيه ما يَخُصُّه؛ ولذلك قلْنا: لو قَدَر الزوجُ على نصْف المُدِّ، كان لها حقُّ الفسخ على الأظهر. وقوله في الكتاب: "في ازدحام الآخذين" أشار بلفظ "الازدحام" إلى أن الكلام في الكتاب فيما إذا لم يتيسر له الإنفاق على جميعهم، وفَضَلَ عَنْه شيء وازدحموا عليه. وقوله: "فالزوجة أوْلَى" يجوز أن يُعْلَمَ بالواو. وقوله: "ترجح للأخذ" يجوز أن يُقْرَأَ الآخِذ على موافقة لفظ الآخذين، ويجوز أن يقرأ "الأخْذ"، وهو أوْلَى؛ لقوله في مقابلته: "الالتزام". فُرُوعٌ: إذا أوجبنا النفقة على أقرب القرابَتَيْنِ، فمات أو أَعْسَرَ، وجَبَ على الأبْعَدِ، ثم إن أَيْسَرَ الأقرب بعْد ذلك، لم يرجع الأبْعَدُ عليه بما أنفق. وفي "البحر": أنه لو كان له وَلَدَانِ، ولم يَقْدِر إلا على نفقة أحدهما, وله أب موسِرٌ، وجب على الأب نفقةُ الآخرِ فإنِ اتفقا على الإنفاق بالشَّرِكة، أو على أن يَخْتَصَّ كُلُّ واحدٍ بواحدٍ، فذاك، وإن اختلفا، عُمِلَ بقول مَنْ يدعو إلى الاشتراك. وذكر أنه لو كان للأبوَيْنِ المحتاجَيْنِ ابنٌ، لا يَقْدِر إلا على نفقة أحَدِهما, وللابْنِ ابنٌ موسرٌ، فعلى ابْنِ الابْنِ باقي نفقتهما، فإن اتفقا على أن ينفق عليهما بالشركةَ أو عَلَى أن يختص كلُّ واحدٍ منهما بواحدٍ، فذاك، وإن اختلفا رجعنا إلى اختيار الأبوين، إن
استوت نفقتهما، وإن اختلفت، اختصَّ أكثرهما نفقة، بمن هو أكثر [هما] يساراً وجوابا الصورتين متفاوتان كما ترى والقياس أن يُسَوَّى بينهما بل ينبغي في الصورة الثانية أن يقال: تختص الأم بالابْنِ تفريعاً على الأصَحِّ، وهو تقديم الأمِّ على الأبِ، وإذا اختصَّتْ به، تعين الأبُ لإنفاق ابْنِ الابْنِ. ولا يجب على العَبْد نفقةُ ولَدِهِ، ولكن، إن كانتِ الأم حرةً، فالولد حرٌّ، وعليها نفقته، وإن كانَتْ رقيقة: فهو رقيق أيضاً، والنفقة على المالك، وإن كان الوَلَدُ حُرّاً، والأبوان رقيقين، فنفقته في بيت المال، إلا أن يكون في فروعه مَنْ تلزمه نفقته، ولا يجب على المكاتَبِ أيضاً نفقةُ ولَدِهِ من زوجته، سواءٌ كانَتْ زوجته أمَةً أو حُرَّةً أو مكاتَبَةً، أمَّا إذا كانتْ حرَّةً، فِلأنَّ ولدها يكون حرّاً، والمكاتَبُ لا يُنْفِق على أقاربه الأحْرَارِ، ولأنه ليس من أهل المواساة، وأما إذا كانت أمةً، فلأَنَّ ولدَها يكون لِمَالِكِها، ونفقته عليه لِحَقِّ المِلْك، وأما إذا كانَتْ مكاتَبَةً، فوَلَدُها ملك للسيد، أو يتكاتب عليها حتَّى يَعْتِقَ بعتقها، وَيرِقَّ بِرِقِّها؟ فيه قولان، فإن قلْنا: إنه مِلْكٌ لسيدها، فنفقته عليه، وإن قلْنا: يتكاتب عليها، فنفقته على المكاتبة، أو على سَيِّدها؟ فيه قولان بِنَاءً على أنه لَوْ قبْل لمن تكون القيمة؟ وفيه قولان: أحدهما: للسَّيِّد، فعَلَى هذا تكون النفقة. والثاني: أنها للمكاتَبَةِ، تستعين بها على أداء النُّجُوم، فعلَى هذا تنفق هي على الولَدِ مِنْ كسبها. قال القاضي الرُّويانيُّ: هذا أصح ويتبيَّن بما ذكرنا: أن ولَدَ المكاتَبَةِ لا تجِبُ نفقته على أبيه بحال، حرّاً كان أو عبداً، أو مكاتباً، وكما لا يجب على المكاتَبِ أن يُنْفِق على وَلَدِه من زوجته الأمة أو المكاتَبَةِ، لا يجوز له عَجَزَ أن ينفق عليه؛ صَيانةً لحق السيد، فإن كانت الأمة أو المكاتَبَة لسَيِّده أيضاً، فيجوز أن يُنْفِقَ على الوَلَدِ، وإن لَمْ يجب، أما في ولَدِهِ من الأَمَة، فعلى الإطلاق، فإنه مِلْكٌ للسيِّد فإن عَجَزَ المكاتَبُ، فقد أنفق من مال السيد على ملكه، وإن رَقَّ، فقد أنفق من مال نفسه على مِلْكِ السيد، وأما في وَلَدِه من المكاتَبَة، فكذلك، إن جعلْناه مِلْكاً للسيد، وإن قلنا: يتكاتب علَيْها، فلا يجُوزُ له أن يُنْفِق عليه، لجواز أن تُعْتَق ويُعْتَق الولد، ويعجز المكاتَبُ، فيكون قد فَوَّت مال سيده؛ هكذا أطلقوه، ولا يصح القول بتجويز الإنفاق من ماله على ملكه بغَيْر إذنه، ولو استولد المكاتَبُ جارية نَفْسِهِ، فإنْ قلْنا: لا يجوز له ذلك، فيتكاتب الولد عليه، وينفق المكاتَبُ عليه من اكتسابه؛ لأنه لَوْ أُعْتِقَ، فقد أنفق من ماله على وَلَدِهِ، وإن رَقَّ الولدُ أيضاً، فيكون قد أنفق مال السيد على عبده. وهل تجب نفقة المكاتَبِ على ولده الحُرِّ؟
الباب الثالث في الحضانة
عن "الحاوي": أنه يحتمل وجهَيْن: أحدهما: لا، لبقاء حكم الرَّقِّ عليه. والثاني: نعم؛ لانقطاع نفقته عن السيِّد (¬1)، ومَن نصْفه حرُّ ونصفُه رقيقٌ، قال في "البسيط": الظاهر أنَّه يلزمه نفقة القريب؛ لأنها كالغرامات، وهل يلزمه نفقة تامَّة أو نصْف النفقة، فقد حكى القاضي ابن كجٍّ فيه وجهَيْنِ (¬2) وذكر وجهَيْنِ (¬3) أيضاً فيمن نصفه، حرٌّ ونصْفه رقيقٌ، هل يجب على قريبه الحرِّ نفقته بقدْر ما فيه من الحرية، والله أعلم. البَابُ الثَّالِثُ فِي الحَضَانَةِ، وَفِيهِ فَصْلاَنِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: الأَوَّلُ فِي صِفَاتِ الحَاضِنَةِ فَنَقُولُ: الحَضَانَةُ وِلاَيَةٌ وَسَلْطَنَةٌ لَكِنَّهَا بِالإِنَاثِ أَلْيَقُ، وَالأُمُّ أَوْلَى مِنَ الأَبِ وإِنْ كَانَتِ المُؤْنَةُ عَلَى الأَبِ لَكِنْ بِشَرْطِ أنْ تَكُونَ الأُمُّ مُسْلِمَةً (ح) إِذَا كَانَ الوَلَدُ مُسْلِماً، وَعَاقِلَةً وَحُرَّةً إِذْ لاَ فَرَاغَ لِلرَّقِيقَةِ وَلاَ وِلاَيَةَ لَهَا وَإِنْ أَذِنَ السَّيِّدُ، وَأَمِينَةً إِذ لاَ يُوثَقُ بِالفَاسِقَةِ، وَفَارِغَةً فَإِذَا نَكَحَتْ بَطَلَ حَقُّهَا إِلاَّ إِذَا نَكَحَتْ عَمَّ الطِّفْلِ أَوْ مَحَارِمَهُ، وَلاَ يُؤَثِّرُ رِضَا الزَّوْجِ، وَيَرْجِعُ حَقُّهَا إِنْ طُلِّقَتْ (م) وَإِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً لِأَنَّهَا فَارِغَةٌ، وَفِيْهِ قَوْلٌ إِنْ كَانَتْ فِي مَسْكَنِ الزَّوْجِ فللزَّوْجِ أن لاَ يَرْضَى بِدُخُولِ الطِّفْلِ دَارَهُ، وَمَهْمَا امْتَنَعَ الأَوَّلُ أَوْ غَابَ انْتَقَلَ حَقُّ الحَضَانَةِ إِلَى البَعِيدِ (و) لاَ إِلَى السُّلْطَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الحضانة القِيَامُ بحفظ من لا يميِّز، ولا يَسْتَقِلُّ بأمره، وتربيتُه بما يُصْلِحه، ووقايته عما يهلكه، فهي نوع ولايةٍ وسلطنةٍ، لكنها بالإناث أليقُ؛ لأنهن أشفقُ وأهْدَى إلى التربية، وأصبر على القيام بِهَا، وأشدُّ ملازمةً للأطفال، وقد روِيَ عن عَبْدِ اللهِ بْن عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّ امرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءٌ، وَثَدْيِيْ لَهُ سِقَاءً، وَحجْرِي لَهُ حَوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أن يَنْزَعَهُ مِنِّي، ¬
فَقَال النَبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَنْتِ أَحَقُّ به مَا لَمْ تَنْكِحِي" (¬1) ومؤنة الحضانة على الأب؛ لأنها من أسباب الكفاية كالنفقة، وفي "أمالي أبي الفرج" -رحمه الله- وجْهٌ: أنه ليسَ للأمِّ طلَبُ الأجرة بعْد الفطام (¬2)، وأمَّا أجْرَةُ مدة الرضاع، فقد سبق الكلامُ فيها، وفي الباب فصلان: أحدهما: في صفات من تَحْضُنُ ويُحْضَن، والحضانة لا تخْتصُّ بالإناث، لكنَّهن الأصْلُ فيه؛ ولذلك أتت في ترجمة الفَصْل، فقال: "في صفات الحاضنة". والثاني: في بيان المستحقِّين للحضَانَةِ وتربيتهم: أَما الفَصْلُ الأَوَّل: فقوله في الكتاب: "فالأم أَوْلَى من الأَب" معادٌ مِنْ بَعْدُ، وليس الغرض الآن الكلام في الترتيب، لكنِ الأُمُّ أَوْلَى الأقارب بالحضَانة، فَتَكلَّم في الصفات المعتبرة فيها، ويقاس بما يعتبر فيها ما يعتبر في غيرها، واعلم أن أبوَيِ الطفل، إن كانا مجتمعَيْنِ على النكاح، فيكون الطفل معهما، يقومان بكفايته الأبُ بالإنفاق، والأُمُّ بالحَضَانَةِ والتَّرْبية، وإنْ وَقَع بينهما فراقٌ بفسخ أو طلاق، فالحضانةُ للأُمِّ، إن رغبتْ فيها كما نطق به الخَبَر، لكنَّ استحقاقها بشروط: أحدها: أن تكون مُسْلِمَةٌ، إذا كان الولَدُ مُسلِماً، فالكافرةُ لا حَضَانَةَ لها على الولَدِ المُسْلم، بإسلام أبيه؛ لأنه لا حظ له في تربية الكافرة؛ لأنها تفتنه، وهو ينشأ على ما يألفه منها؛ ولأنه لا ولاية للكافر على المسلم، وعن أبي سعِيدِ الإصطخريِّ: أنه يثبت للكافرة حقُّ الحضانة، احتجاجاً بما رُوِيَ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "خَيَّرَ غُلاَماً بَيْنَ أَبيهِ المسْلِمِ وَأُمِّهِ المُشْرِكَةِ، فَمَالَ إلى الأُمِّ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ، اهدِهِ، فمال إلى الأب" (¬3)، وعن ¬
بعض الأصحاب فيما حُكَى عن القاضي الرويانيِّ: أن الأم الذمِّيَّةَ أحقُّ بالحضانة من الأب المسلم، إلى أن يبلغ المولودُ سَبْع سنين، ثم الأبُ بعد ذلك أوْلَى قال الأصحاب: والمذهبُ الأولُ، والخبَرُ منسوخٌ، أو محمُولٌ على أنه -صلى الله عليه وسلم- عَرَفَ أنه يُستجابُ دعاؤهُ، وأنه يختار الأب المسلم، وقصد بالتخيير استمالة قلْبِ الأم، وعلى المذهَبَيْنِ تكون الحضانة لأقاربه المسلمين على ما يقتضيه الترتيب، فإن لم يوجد حد، فحضانته على المسلمين، والمؤنةُ في ماله، فإن لم يكن له مالٌ، فعلَى أمه، إن كانت موسرةً، وإلا، فهو من معاويج المسلمين، ووَلَدُ الذِّمِّيِّينَ في الحضانة كولد المسلمين، فالأم أحق بها, ولو وصف صبيٌّ منهم الإسْلاَمَ، نُزعَ من أهل الذمة، ولم يمكنوا من كفالته (¬1) صحَّحْنا إسلامه أو لم نُصَحِّحه احتياطاً للإسلام، والطفل الكافر هل يثبت لقريبه المسلم حقُّ حضانته؟ قال في "التتمة": الصحيح (¬2) مِنَ المذهب ثبوتُهُ، وفيه نَظَرٌ له، فقد تصير تربية المسلِمِ سَبَباً لإسلامه، وفيه وجْهٌ آخَرُ بناءً عَلَى أن القريب الذي لَيسَ بوارث لا حضانة له. قال: ويجري هذا الخلاف فيما إذا جُنَّ الذميُّ، وله قريبٌ مسلمٌ، هل يثبت له حقُّ الحضانة؟ والثاني: أن تكون عاقلةً، فالمجنونة لا حضانَةَ لها؛ لأن المجنون لا يتأتى منه الحفْظُ والتعهُّدُ، بل هو في نفسه محتاجٌ إلَى مَنْ يحضنه، ولا فَرْقَ بين أن يكون الجنونُ مطبقاً أو منقطعاً، إلا إذا كان لا يقع إلا نادراً، ولا تطول مدته، كيوم في سنين مثلاً، فلا يبطل الحقُّ، بل هو كمرض يطرأ (¬3) ويزول، والمرضُ الذي لا يرجَى زواله، كالسل والفالج، إن كان بحيث يُؤْلمه ويشغله الألم عن كفالته وقد بين أمْرِهِ، يسقط حقُّ الحضانة، وإن كانَ تأثِيرُه في تعسر الحركة والتصرُّف، فكذلك في حقِّ مَنْ يباشر الكفالة بنفسه دُونَ مَنْ يدبِّر الأمور ويباشرها غيره (¬4). ¬
والثالث: أن تكون حرَّةً، فلا حضانة للرقيقة؛ لأن منفعتها للسَّيِّد، وهي مشغولة به، غير مُتَفرِّغَة للحَضَانة، ولأنها نوع ولاية واحتكامٍ بالحفظ والتربية، والرقيق لا ولاية له، وإن أذن السَّيِّد. ثم يُنْظَرُ؛ إن كان الولَدُ حُرّاً فحضانته لِمَنْ له الحضانة بعْد الأم مِنَ الأب وغيره، وإن كان رقيقاً، فحضانته على السيِّد، وهل له نزعه مَن الأب وتسليمه إلى غيره؟ فيه وجهان بنَاءً عَلَى القولَيْنِ في جواز التفريق، ولو كانت الأمُّ حُرَّةً، والولدُ رقيقاً، كما لو سُبِيَ، الولد ثم أسْلَمَتِ الأمِّ أو قبلت: الذمة، فكذلك حضانته للسيد وفي الانتزاع منْها الخلافُ، والمدبرة والمُكَاتَبَةَ والمُعْتَقُ بعْضُها لا حَضَانَةَ لَهُنَّ كالقنة. نعَمْ، وَلَدُ المكاتَبة، إذا قلنا: هو إنها تستعين به في الكتابة، فَيُسلَّم إليها؛ [لا] لأن لها ولايَةَ الحضانة، [لكن الحقَّ لها] (¬1) وولَد أُمِّ الوَلَدِ منَ الزَّوْج أو الزنا حُكْمه حكم الأم يُعْتَق بموت السيِّد، وحضانته للسيِّد مدةَ حياته، وهل لها حق الحضانة في وَلَدِها من السَّيِّد؟ فيه وجهان: الصحبح المشهور، وهُوَ الذي أورده الشيخ أبو عليٍّ -رحمه الله-: المنع؛ لنقصانها بالرِّقِّ، وعن الشيخ أبي حامِد: أن لها الحضانةَ إلى سَبْع سنين، ثم السيد أوْلَى بالولد بعْد السبع، قال القاضي الرويانيُّ: والمصلحة الفَتْوَى بما ذكره، وإن كان الصحيحُ الأوَّلَ، ولا حضانة لِمَنْ بعضها رقيقٌ أيضاً؛ لنقصانها, ولو كان نصْفُ الولد حرّاً، ونصفه رقيقاً، فنصف حضانته للسيد، ونصْفُها لمَنْ يلي حضانته من أقاربه الأحْرَارِ، فإن اتفقا على المهايأة، أو على استئجار من تحضنه، أو رضي أحدهما بالآخر، فذاك، وإن تمانَعَا، لم يضيع واستأجر الحاكم من تحضنه، وأوجب المؤنة على السيد وعلى من تقتضي الحال الإيجاب عليه. والرابع: أن تكون أمينة، فلا حضانة (¬2) للفاسقة؛ لأن الفاسق لا يلي، ولأنها لا يُؤْمَنُ أن تخون في حفظه، ولأنه لا حَظَّ له في حضانتها؛ لأنه ينشأ على طريقتها. ¬
والخامس: أن تكون فارغةً خليَّةً، فلو نكحت أجنبيّاً، سقط حقُّها من الحضانة؛ لما سبق من الخبر، ورُوِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الأم أَحَقُّ بِوَلَدِهَا مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ" ولأن النكاح يشْغَلُها، بحَقِّ الزوج، ويمنعها من الكفالة، ولا أثر لرضا الزوج، كما لا أثر لرضا السيد، [بحضانة الأمة] وقد يرجعان، فيشوش أحد المولود، ولو نكَحَتْ عمَّ الطفل، ففيه وجهان: أشهرهما: أنه لا يَبْطُل حقُّها؛ لأنَّ العمَّ أيضاً صاحبُ حقٍّ في الحضانة، وشفقته تحمله على رعاية الطِّفْل، فيتعاونان على كفالته، بخلاَف الأجنبيِّ، وهذا هو المذكور في الكتاب وفي "التتمة" وبه قال القَفَّال، ويقال: إن صاحب "التلخيص" خَرَّجَه من قول الشافعيِّ -رضي الله عنه- فيما إذا نَكَحت الجدَّةُ جدَّ الطفل: أنه لا يَبْطُل حقُّها من الحضانة (¬1)، وكذا لو كانت [في نكاحه، يثبت لها حقُّ الحضانة، بخلاف ما لو كانت] (¬2) في نكاح أجنبيٍّ. والثاني: أنه يَبْطُل حقُّهما؛ لإطلاق الخبر، وليس العمُّ كالجَدِّ؛ لأنَّ الجد ولي تام الشفقة، قائمٌ مقامَ الأبُ بخلاف العَمِّ. وقوله في الكتاب: "عم الطفل أو محارمه" من محارمه عمُّ أبيه، وابْنُ أخيه، وابن أخته لكنْ لفظ "المحارم" إنَّمَا كان يحسن أن لو كان المحارمُ هم الملحقين بالعم، وليس كذلك، بل الخلافُ في الأمُّ والعمِّ مُطَّرِدٌ في نكاح الَّتِي لها الحضانة قريبًا للطِّفْل له حَقُّ في الحضانة، كما أنه إذا نَكَحَتْ أمه ابن عم الطفل، أو خالته، إذا صارت الحضانة لها أو عم الطفل أو عمته إذا صارت الحضانة لها خالة، هكذا ذكره الشيخ أبو علي وغيره، ثم إنَّما يبقى الحقُّ، إذا نكحت الجَدَّةُ جدَّ الطفل أو الأم عمه على أصح الوجهَيْن, إذا رضي الذي نكحته بحضانتها، فإن أبى، فله المنع، وعليها الامتناع ثم إذا اجتمعت هذه الشروطُ، فإنما تَثْبُت لها الحضانَةُ، إذا كان الأبوان مقيمَيْن في بلدٍ واحدٍ، فأما إذا سافر أحدهما، فسيأتي حكمه من بعد، وهل يُشْتَرَط؛ لاستحقاقها الحضانة، أن تُرْضِع الوَلَدَ إنْ كان رضيعاً؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، ولها الحضانَةُ، وإن لم يكُنْ لها لَبَنْ أو امتنعت من الإرضاع، وعلى الأب أن يستأجر مرضعةً تُرْضِعه عنْد الأم. والثاني: نعم؛ لعسر استئجار مرضعة تخلي بيتها وتنتقل إلى مَسْكَن الأمِّ؛ وعلَى ¬
هذا، فلا تُمنَعُ الأم من زيارته (¬1)، والأولُ أصحُّ عند صاحب "التهذيب" وأجاب الأكثرون بالثاني، ونَسَبُوا الأَوَّلَ إلى مذْهَب أبي حنيفة، [ثم] في الفصل مسألتان، نذكرهما مع ما يناسبهما: إحداهما: لو أسلمت الكافرةُ أو أفاقتِ المجنونةُ أو عَتَقَتِ الأمة أو حَسُن حال الفاسِقَةِ، تثبت لها الحضانة؛ لارتفاع المانع، ولو طُلِّقت التي سَقَطَ حقُّها بالنكاح، عاد حقُّها خلافاً لمالك. لنا القياس على الصورة المذكورة، ولا فرْقَ بين أن يكون الطَّلاق بائناً أو رجعيّاً؛ لحصُول الفراغ في الحالَتَيْنِ، هذا هو الظاهر المنصوص. وقال أبو حنيفة والمزنيُّ لا يعودُ حقُّها بالطلاق الرجعيِّ، حتى تنقضي العدة، وعن ابن سُرَيْج: تخريج قول مثله لمضاهاة الرجعية المَنْكُوحة في الأحْكَام، واحتج له الشيخ أبو عليٍّ، بأن الرجعيَّة تستحق النفقة علَيْه، ولو كان لها أن تحصن ولدها منْ غَيْرِه وتُرْضِعَه، لسقطت نفقتها، كما قال الشافعيُّ -رضي الله عنه-: في امرأة المفقود، إذا اعتدت بأمْرِ الحاكم، ونكَحَتْ ثم عاد الزوْج الأول، وقد ولدت من الثاني: أنه لا نفقةَ علَيْه في إرْضَاعِها وَلَدَ غيرِهِ، وعلى الأول: فإنما يعود حقُّها في [الحضانة] إذا كانت تعتد في بيْتِ الزوج، إذا رضي أن يَدْخُلَ الولد بيته، فإن لم يَرْضَ، لم يَكُنْ لها أن تُدْخِلَه بيته، وكذا في البائنة، وإذا رَضِيَ، لم يكن رضاه كالرِّضَا في صُلْب النكاح؛ لأن المنع هناك؛ لاستحقاقه الاستمتاع، واستهلاك منافعها فيه، والمنع هاهنا يَرْجع إلى المسْكَن، فإذا أذن كان كالمعير. والثانية: إذا امتنعت الأمُّ من الحضانة، أو غابت، فهَلْ ينتقل حقُّ الحضانة إلى الجَدَّة؟ فيه وجهان: ¬
أصحُّهما: نعم، كما لو ماتت أو جُنَّت. والثاني: وبه قال ابن الحدَّاد: لا؛ لأن أصليتها باقية، وإنما تركت حقها، بخلاف ما إذا ماتت أو جُنَّتْ، فصار كولاية التَّزْويج، إذا مات الأقرب أو جُنَّ، يُزَوَّج الأبعد، وإذا غاب أو عضل ينوب عنْه السلطان، [ولا يزوج الأبعد، وذكروا على هذا: أن الحضانة تَكُونُ للأب ونزلوه منزلة السلطان،] (¬1) وهو بعيد، وحق التشبيه بولاية النكاح أن تكُونَ الحضانة للسُّلْطان؛ ولذلك حكاه في "التتمة" عن ابن الحدَّاد. والصحيح: [أنه] مهما امتنع الأقرب عن الحضانة، تكون الحضانة لِمَنْ يليه، لا للسلطان؛ لأنَّ الحضانة لحظ الطفل، فتفويضها إلى القريب الذي هو أشفق وأشدُّ اهتماماً به وأكْرَمُ إِعَالَة أَوْلَى، بخلاف ولاية النكاح؛ لأن الغائب يمكنه التَّزْوِيج في الغيبة، فإذا لم يفعل، ناب عنه السُّلْطَان، ولا يمْكنه الحضانة في الغَيْبَة، فصار كما إذا نَكَحَت مستحقة الحضانة لم يمكنها القيامُ بها، سَقَط حقُّها، وانتقل إلى مَنْ بعدها، والله أعلمُ. وليُعْلَمُ قوله في الكتاب: "أن تَكُونَ الأُمُّ مُسْلِمَةً" بالواو وبالحاء؛ لأن عن أبي هريرة وغيره من الأصحاب أنَّ عند أبي حنيفة [لا] يبْطُل حق الحضانة بالكفر، وأعلم بالواو قوله: "إلا إذا نَكَحَتْ عمَّ الطفل أو مَحَارِمَه" واحتج في "التتمة" لبقاء حق الحضانة، إذا نكحت مستحقة الحضانة مَنْ له حقُّ [في] الحضانة، أو إذا كانت في نكاح مثله؛ لِمَا رُوِيَ أن عليّاً وجعفراً وزيْدَ بْنَ حارِثَة -رضي الله عنهم- تنازعوا في حضانة بنت حمزة -رضي الله عنه- بعْدما استشهد، فقال عليٌّ -كرم الله وجهه-: بِنْتُ عَمِّي وعندي بنت رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وقال زَيْدٌ -رضي الله عنه-: بِنْتُ أَخِي، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَدْ آخى بيْن زَيْدٍ وحمزةَ، وقال جعفرٌ -رضي الله عنه-: الحضانة لي في بِنْتُ عَمِّي وعنْدي خالتها (¬2)، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخَالَةُ أُمٌّ وَسَلَّمَهَا إلى جَعْفَرٍ وجعل لها الحضانة، وهي ذات زوج (¬3). وقوله: "وإن كانت رجعية" مُعْلَم بالحاء والزاي. ¬
وقوله: "إلى البعيد لا إلى السلطان" بالواو. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (أَمَّا صِفَةُ المَحْضُونِ) فَهِيَ أَنْ لاَ يَسْتَقِلَّ كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالمَعْتُوهِ، وَالبِكْرُ البَالِغَةُ عَلَيْهَا وِلاَيَةُ الإِسْكَانِ لِلأَبِ وَالجَدِّ، وَالثَّيِّبُ فَلاَ، إِلاَّ عِنْدَ تُهْمَةٍ فَيَثْبُتُ حَقُّ الإِسْكَانِ لِأَوْلِيَائِهَا أَعْنِي العَصَبَاتِ، ثُمَّ الأُمُّ أَوْلَى بِالصَّغِيرِ، أمَّا إِذَا بَلَغَ سِنَّ التَّمْيِيزِ خُيِّرَ بَيْنَهُمَا (ح م)، فإنِ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا سُلِّمَ إِلَيْهِ، فَإِنْ رَجَعَ اسْتُرِدَّ، وَيَسْتَوِي (ح) فِيهِ الغُلاَمُ وَالجَارِيَةُ، وَهَلْ يَجْرِي التَّخْييرُ بَيْنَ الأُمِّ وَمَنْ عَلَى حَاشِيةِ النَّسَبِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَيَجْرِي هَذَا الخِلاَفُ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الأَبِ وَالأُخْتِ وَالخَالَةِ، وَإذَا اخْتَارَ الأبَ لَمْ يَمْنَعِ الأُمَّ مِنَ الزِّيَارَةِ، وَإذَا اخْتَارَ الأُمَّ فَعَلَى الأَبَ مُرَاعَاتُهُ بِالتَّسْلِيمِ إِلَى المَكْتَبِ وَالحِرْفَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: المحْصُون مَنْ لا يستقلُّ بمراعاة نفسه، ولا يهتدي إلى مصالِحِهِ، إما الصِغَرِ أو جنونٍ أو خَبَلٍ قلَّةِ تمييز أو فَقْده، ومهما بلغ الغلام رشيداً وَليَ أَمْرَ نفسه، واستغنى عمن تحْضُنُه، ولا يُجْبَر على أن يكون عند الأبوين أو أحدهما، إن افترقا، ولكن الأَوْلَى أن لا يفارقهما ليخدمهما، ويصل إليهما بِرُّهُ، وإن بلغ عاقلاً غيْرَ رشيدٍ، فقد أطْلَقَ مُطْلِقُون: أنه كالصبيِّ لا يفارِقُ الأبوين وتُدَام حضانته، وقال القاضي ابن كج: إن لم يكنْ مُصْلِحاً لماله، ولم يُحْسِن تدبير نفسه، فالحكم كذلك، وأما إذا كان اختلال الرشيد لعدم الصلاح في الدين، فالمَذْهَب: أنه يسكن حيث يشاء، ولا يُجْبَر على أن يكون عند الأبوين أو أحدهما، وعن أبي الحُسَيْن: أنَّ بعْض الأصحاب قال: تُدَام حضانته إلى ارتفاع الحَجْر عنه، وهذا التفصيل حَسَنٌ وأما الأنثى إذا بَلَغَتْ، وكانت ذاتَ زَوْجٍ، فَتَكُون عند زوجِها، وإلا فإنْ كانت بِكْراً فتكون عند أبَوَيْهَا أو مع أحدهما، إن افترقا، وتختار مَنْ تشاء منهما، وهل تُجْبَر على ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: نَعَمْ، وليس لها الاستقلال؛ لأنها في معرض الآفَاتِ، وإذا كان للأبِ والجدِّ إجبارُهَا على النكاح، وهو أعظم حَبْساً، فَلأَنْ يجوز لهما الحَبْسُ في البيت كان أَوْلَى. والثاني: لا، ولها أن تَسْكُنَ حيث شاءت، ولكن تُكْرَه لها مفارقتهما؛ لما يخاف من الآفات، وهذا ما يوجد في كتب الأصحاب العراقيين، ورأَى الإمامُ وصاحبُ الكتابِ الأَوَّلَ (¬1) أظْهَرَ، وكذلك ذكر القاضي ابن كج: أنَّه ظاهر المذهب. ¬
وقوله في الكتاب: "عليها ولاية الإسكان للأب والجد" يعني إسكانها عنْدهما وضمها إليهما، وقد أشار إلى تخصيص هذه الولاية بالأب والجد، كولاية الإجْبَار على النِّكَاح، وصرَّح به في "الوسيط" و"البسيط" لكن في "التهذيب": أن للأب أن يَضُمَّها إلى نَفْسِه إلى أن تُزَوَّج، وتُزَفَّ، وكذا الجَدُّ عند عدمه، وفي الأخ والعم وجْهان (¬1)، وإن كانت ثيِّبَاً، فالأوْلَى أن تكون عند الأبوين أو أحدهما, ولا تجبر عليه باتفاق الأصحاب -رحمهم الله-؛ لأنها صاحبة اختيار، وممارسة وبعيدة عن الخديعة، وهذا إذا لم تكن تهمة، ولم تُزَنَّ بريبةٍ فإن كان هناك شيْءٌ من ذلك، فَلِلأَب والجَدِّ ومَنْ يَلِي مِنَ العَصَبَات تزويجُها منعها من الانفراد، ثم المَحْرَم منهم يضمها إلى نفسه، إن رأَى ذلك، وغير المَحْرَم يُسْكِنُها موضعاً يليق بها، ويلاحظها صيانةً لها، ودفْعاً للعار عن النَّسَب، وهذا كما أنَّهم يعترضون على النكاح، إذا فقدت الكفاءة، وعبر في الكتاب عن هذه الجملة بقوله: "فيثبت حقُّ الاسكان لأوليائها يعني، العصبات" وقَدْ يُفْهَم [من] هذا تخصيصُ هذه الولايةِ بالعَصَبَاتِ الدين [يعترضون] على النكاح؛ لفوات الكفاءة، ولكن ذكر في "التهذيب": أن في مَوْضِع التهمة يَضمُّها إلى نفسه أحدُ الأبوين، وأي الأولياء كانَ مِنْ جَدٍّ أو أخٍ أو عَمٍّ، فأثبت ذلك للأم، كما أثبته للعَصَبَاتِ، ولو فُرِضَتِ التهمة في حقِّ البكر، فهي أوْلَى بالاحتياط، فتمنع مِن الانفراد بلا خلافٍ، وحكي في "العُدَّة" عن الأصحاب: أنهم ذَكَروا في الأمرد إذا خِيفَ من انفراده فتنةٌ، وانقدحت تهمة: أنه يُمْنَعُ من مفارقة الأبوين (¬2). إذا ادَّعَى الوليُّ ريبةً، وأنكرتْ هي، فقد ذكروا احتمالَيْن: أحدهما: لا يقبل لأنَّ الحكم على العَاقِلَة الحرة؛ لمجرد الدعْوَى بعيدٌ. والثاني: وهو الأقرب: أنه يُؤْخَذُ بقوله، ويحتاط بلا بينة، فإنَّ إسكانها في موضع البراءة أهون من الافتضاح، ولو أقام بينةً. الثانية: إنَّما يحكم بأن الأم أَوْلَى بالحضانة من الأب في حَقِّ من لا تمييز له أصلاً، وهو الصغيرُ في مبدأ الأمر، والمَجْنُونُ، فأما إذا حصل للصغير التمييزُ، فيُخَيَّر بَيْن الأبوين عنْد افتراقهما، ويكون عند من اختار منهما؛ لما رُوِيَ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خَيَّرَ غُلاَماً بَيْنَ أَبِيهِ وَأمِّهِ وَعَنْهُ -رضي الله عنه- أَنه اخْتَصَمَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فِي وَلَدِ [هِ] مِنْهُمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فقالت المرأَةُ: يا رسول الله، إِنَّ ابْنِي ¬
هَذَا قَدْ نفعني، وسقاني من بئر أبي عنبة وإِن أباه يُرِيدُ أن يأخُذَه منِّي، فقال الأب: أأحد يُحَاقُّني في ابني؟ فقال رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: يَا غُلاَمُ، هَذِهِ أُمُّكَ، وَهَذَا أَبُوكَ، فَاتَّبعْ أيُّهُمَا شِئْتَ، فَاتَّبَعَ أُمَّهُ (¬1). وقولها: "نفعني وسقاني" أي بلغ حداً أنتفع به؛ بحَمْل ماءٍ أو متاعٍ، ورُوِيَ أنَّ رَجُلاً وامراةً أَتَيَا أبا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- يختصمان في ابْنٍ لهما فقال أبو هريرة: لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِمَا شَهِدتُّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقْضِي بِهِ؛ يَا غُلاَمُ، هَذَا أبوك وَهَذِهِ أُمُّكَ، فَاخْتَرْ أَيُّهُمَا شِئْتَ (¬2). وعن عمرو -رضي الله عنه- أنه خيَّر غلاماً بيْن أبوَيْهِ (¬3)، ويستوي في التخيير الغلامُ والجاريةُ، كما يستويان في الانتساب، وقال أبو حنيفة ومالكٌ -رضي الله عنهما-: لا يُخيَّر، ثم عند أبي حنيفة: يكون الغلام مع الأمِّ حتى يستقلَّ؛ بأن يأكل ويلبس ويستنجي بنفسه، ثم يُسَلَّم إلى الأب، والجارية تَكُونُ مَعَها حتَّى تُزوَّج، أو تحيض، وعند مالكٍ -رحمه الله-: يكون الغلامُ مع الأم حتَّى يثغر ويُرْوَى حَتَّى يَبْلُغَ، وتكون الجارية مَعَهَا حتى تزوج، ويَدْخُلَ بها الزَّوْجُ. وقال أحمد: يُخَيَّر الغلام، ولا تُخَيَّر الجارية، بل الأم أحقُّ بها. وسِنُّ التمييز في الغالب سَبْعٌ أو ثمانٍ على التقريب، قال الأصحاب -رحمهم الله-: وقد يَتقدَّم التمييزُ على سَبْعٍ، وقد يتأخر عن ثمان، والحُكْمُ يُدَار على نَفْس التمييز، لا على سِنِّهِ، وإنَّما يُخيَّر بين الأبوَيْنِ، إذا اجتمع فيهما شرائطُ الحضانة؛ بأن يكونا مسلمَيْنِ حُرَّيْنِ عاقِلَيْنِ عَدْلَيْنِ مقيمَيْنِ في وطَنٍ واحدٍ، على ما سيأتي الكلامُ [فيه] في هذا الشرط -إن شاء الله- وأن تكون الأمُّ خليَّةً عن النِّكَاح، فإن اخْتَلَّ في أحدِهِما بعْضُ الشروط، فلا تخيير، والحضانة للآخر، فإن زال الخَلَل أنشئ التخيير، ولو وجدت الشرائط فيهما، واختصَّ أحدهما بزيادهّ في الدِّينِ أو المالِ أو محبة الوَلَدِ، ففيه وجهان عن "الحاوي": ¬
أحدهما: أنه يرجح من اختص بتلك الزيادة، وأظهرهما التخيير ويجري التخيير بين الأم والجد عند عدم الأب كالتخيير بين الأبويين وهل يجري التخيير بين الأم وبين من على حاشية النسب؛ كالأخ والعم تفريعاً على ثبوت الحضانة لهم، وهو الظاهر؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، بل الأم أحق لقربها وولادتها، كما قبل التمييز. وأظهرهما: نعم، ويَدل عليه ما رُوِيَ عن عِمَارةَ الجرمي -رضي الله عنه- قال: خَيَّرنِي عَلِيٌّ -كرم الله وجْهَه- بَيْنَ [أمي وعمي وأنا ابن سبع سِنِينَ أو ثمان، وفي ابن العم مثْلُ هذا الخلاف، ولكن في الولد الذكر، أما الأنثى، فلا تخير، بل تكون مع الأمِّ؛ لأنه ليس بمحرم، قاله في "التهذيب" ويجري الخلاف في التخْيير بيْن الأبِ وبين الأخْتِ والخالة، إذا قدَّمْناه عليهما قَبْل التمييز [على] ما سنبينه -إن شاء الله تعالى-. وإذا اختار أحَدَ الأبوَيْنِ ثم اختار الآخَرَ، حوَّلْناه إليه، فإن عاد، واختار الأوَّل، أعدناه إلى الأَول، وذلك لأنه قد يبدو له الأمر على خلاف ما ظنه، ولأن المتبع شهوته، وقد اشتهى المقام عنْد أحدهما في وقْت، وعند الآخر في وقت آخر [كما يشتهي طعماً في وقت، ويميل عنه في وقْت آخَر]، ولأنه قد يقصد مراقبةَ الجانبَيْنِ، فإن أكثر التردُّد بحيث غلب على الظن أن سببه نقصانه وقلة تمييزه، فيُجْعَل عند الأم، كما قبل وقت التمييز، وكذا لو بلغ، وهو على نقصانه وخَبَله، ويتعلَّق بالتخيير مسألتان أخريان: إحداهما: إذا اختار الأَبَ، وسُلِّم إليه، فإن كان ذكراً، لم يمنعه الأب من زيارة الأم، ولا يحوجها إلى الخروج لزيارته، وإنْ زارته، لم يمْنَعْها من الدخول (¬1) علَيْه وله منْع الأنثَى من زيارة الأمِّ, والأم إذا شاءت خَرَجَت إلَيْها للزيارة، فهي أولى بالخروج من البنت؛ لسنها وتجربتها، والزيارةُ تكون في الأيام مرةً على العادة لا في كلِّ يوم، وإذا دخَلَتْ، لم تُطِلِ المكث، وإذا مرض الولدُ ذكراً كان أو أنْثَى، فالأم أولَى بتمريضه؛ لأنها أشفق وأهدى إلَيْه، فأشبه الحضانة في مبدأ الصِّغَر، فإن رَضِيَ بأن تُمَرِّض في بيته، فذاك، وإلا، فينتقل الولَدُ إلى بَيْتِ الأمِّ, ويجب الاحتراز عن الخَلْوة، إذا كانَتْ تُمَرِّض في بيته، وكذا إذا زارَتِ الولَدَ، فإن لم يكُنْ هناك ثالثٌ، فيخرج حتى تدخل، وإذا مات، لم تمنع من الحضور للغسل والتجهيز، إلى أن يدفن وإذا مرضت الأم، لم يَمْنع الأبُ الولدَ مِن عيادتها ذكراً كان أو أُنْثَى، ولا يُمَرِّضُها. ¬
قال الرويانيُّ: إلا إذا أحْسَنَتِ الأنثَى التمريض. وإذا اختار الأمَّ فإن كان الولد ذكراً، فيأوي إليها ليلاً، ويكون نهاراً عند الأب يؤدبه ويعلِّمه أمور الدين والمعاش، وشملمه إلى المكتب والحرفة (¬1)، والأنثَى تكون عند الأم ليلاً ونهاراً، والأب يَزُورُها على العادَةِ، ولا يطلب إحضارها عنده، وهكذا الحُكْم فيما إذا كان الوَلَدُ عند الأم قبل أن يبلغ سن التمييز. وقوله في الكتاب: "فعلى الأب مراعاته بالتسليم إلى المكتب والحرفة" إشارة إلى أنه ليس للأب إهمالُهُ باختياره للأم بل عليه القيام بتأديبه وتعليمه، إما بنفسه أو بتحمل مؤناته، وكذا المجنون الذي لا يستقل الأمُّ بضبطه يجب على الأب رعايتُهُ، وإنما تُقدَّم الأم فيما يتأتى منها ويكون من شأنها (¬2). والثانية: لو خيَّرناه فاختارهما جميعاً، أُقْرعَ بينهما، وإن لم يختر واحداً منْهما، ففيه وجهان، حكاهما القاضي الرُّويانيّ -رحمه الله-. أحدهما: أنه يُقْرَع بينهما؛ لأنه لا بد من كفالته إلى البلوغ، وهذا ما أورده في "التهذيب". وأشبههما: أن الأم أحقُّ بحضانته؛ لأنه لم يختر غيرها، وكانت الحضانة لهما، فيستصحب ما كان، وهذا ما أورده في "البسيط"، وذكر الرُّويانيُّ أيضاً أنَّه لو أسْلَمَ أحد الأبوين في وقْت التخيير، كفالته للآخر، كان الآخر أحقَّ به، ولا اعتراضَ للولَدِ، فإن عاد، وطَلَب الكفالة عُدْنا إلى التخْيير، [وأنه] لو تدافَعَ الأبوان كفالته وامْتَنَعَا منْها فإن كان بعْدهما من يستحقُّ الحضانة كالجَدِّ والجَدَّة، فيُخَيَّر بينهما، وإلا، فوجهان: أحدهما: أنه يُخَيَّر الولد، ويُجْبَرُ مَنِ اختاره على كفالته نَظَراً له. والثاني: يُجْبَر عليها مَنْ تلزمه نفقته (¬3). ¬
وإن [كان] على الوجْه الأوَّل، لو امتنعا من الحضانة قبل سن التخْيير، أقرع بينهما، ويُجْبَرَ مَنْ خرجت قرعته على حضانته، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَإذَا سَافَرَ الأَبُ سَفَرَ نُقْلَةٍ سَقَطَ حَقُّ الأُمِّ فَلَهُ أَخْذُ الصَّغِيرِ مِنْهَا، إلاَّ إِذَا رافَقَتْهُ فِي الطَّرِيقِ، وَلَبْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي سَفَرِ النُّزْهَةِ، وَلاَ فِي التِّجَارَةِ وإنْ طَالَتِ المُدَّةُ، وَهَلْ لَهُ ذَلِكَ في النُّقْلَةِ إِلَى مَا دُونَ مَرْحَلَتَيْن؟ فِيهِ وَجْهَانِ: قَالَ الرَّافِعِيُّ: ما ذكرنا [في] أن الأم أوْلَى من الأب قَبْل أن يميز الولد، وأنه يُخَيَّر بينهما بعْد تمييزه، هو فيما إذا كان الأبوان مقيمَيْن في بلَدٍ واحدٍ، فأما إذا أراد أحدُهُما أن يُسافِر، [أو أرادا سفراً]، وكان يختلف بلَدُهُما، نُظِر؛ إن كان السفر لحاجةٍ؛ كحجٍّ [وغزوٍ] وتجارةٍ، فلا يسافر بالوَلَدِ؛ لِمَا في السفر من الخطر والضرر، بل يكون مع المقيم إلى أن يَعُود المسافر، ولا فَرْق بين أن تَطُول مدَّة السَّفَر أو تقصر، وعن الشيخ أبي محمَّدٍ وجْه: أن للأب أن يسافر به، إذا كان تَطُول مدَّة سَفَره (¬1)، وإن كان السفَرُ سَفَر نُقْلةٍ، فيُنْظَر؛ إن كان ينتقل إلى مسافة القَصْر، فللأب أن ينتزعه من الأم، ويستصحبه مع نفسه، سواءٌ كان المنتقل الأب أو الأم أو ينتقل أحدهما إلى بَلَد، والآخر إلى بلدٍ آخر، والمعنى فيه الاحتياط لنسبه؛ فإن النَّسَبَ يتحفظ بالآباء دون الأمهات وإذا طالتِ المفارقةُ بيْنه وبين الولد، لم يُؤْمَن اندراس نسبه وخفاؤه، فيتضرَّر به الوالد، وأيضاً، فإن مصْلَحَة التأديب والتعليم وسهولة الإنفاق علَيْه والقيام بمؤناته، تقتضي ذلك. نعْم، لو رافقته الأمُّ في الطريق والمقصد، دام حقُّها, ولو عاد مِنْ سَفَر النُّقلة إلى بلدها، عاد حقها، وإن كان الطريق الذي يَسْلكه مخُوفاً، والبلد الذي يقْصِده غَيْرَ مأمون؛ لغارة ونحوها, لم يكُنْ له انتزاع الوَلَدِ واستصحابُه، وساعَدَنا مالك وأحمد [على] أن للأب أنْ ينتزعَ الوَلَد وينقله، ولا فَرْق بين أن يكون قَدْ نَكَحَها في بلَدِها، أو في بلدِ الغربة، وعن أبي حنيفة: أنه إن [كان] نكَحَها في بَلَدِ الغربة، فكذلك، وإن نكحها في بَلَدِها، فالأُمُّ أحق به، ويُرْوَى عنه أنه إذا كانَتِ الأمُّ تنتقلُ، والأب مقيماً، فهو أحقُّ به، إلا إذا كانَتْ تنتقل من بلدة إلى قرية، وإن كان الانتقال إلى ما دون مسافةِ القَصْر، فوجهان: أحدهما: أنه لا يؤثر، ويكونان كالمقيمَيْنِ في محلتين من بلدة واحدة، وهذا ما اختاره الشيخ أبو حامد، والقاضي المَاوَرْدِيُّ، وهو الذي أورده في "التهذيب". ¬
الفصل الثاني في اجتماع الحواضن
وأشبههما: وهو الأصح عند ابن الصبَّاغ والقاضي الرُّويانيُّ: أنه كالانتقال إلى مسافة القَصْر؛ لانقطاع مصلحة التعليم والتأديب وكأن الخلافَ مبنيٌّ على أن المرعيَّ في الانتقال إلى مسافة القصْر حفْظُ النَّسبَ، [أ] وأن يتأدَّب الولَدُ ويَتعلَّم، فَمَنْ قال بالأول، فارق بين الانتقالين، فإنَّ القوافل والأخبار فيما دُونَ مسافة القَصْر تتواصل، ولا يخشى اندراسُ النَّسَب ومن قال بالثاني مسو بين الانتقالين في فوات التأديب، ولو اختلفا، فقال الأب: أريد النقلة، وقالت الأم: بل تريد التجارة، فهو أعرف بنيته، فيُصدَّق، ولكن بيمين أو بغَيْر يمينٍ؟ فيه وجهان: أحدهما: بغير يمين. ويحكى عن القفَّال. وأصحُّهما: بيمين؛ لأنه يُبْطِلُ حقِّها من الحضانة، فإنْ نَكَلَ، حلفَتْ وأمسكت الولد، وسائر العصبات من المحارم، إذا لم يكن أبٌ كالجَدِّ، والأخُ والعمُّ بمثابة الأب في انتزاع الولد ونقْله، إذا أرادوا الانتقال احتياطاً للنسب، وكذا من ليس بمَحْرَمٍ كابن العم، إذا كان الوَلَدُ ذكراً، وأما الأنْثَى فلا تسلم إليه، قال في "التتمة": إذا لم تَبْلُغ حَدّاً يُشْتَهَى مثلُها، وفي "الشامل": أنه إن كانت له بنْتٌ ترافقه، فتُسلَّم إلى بنته، والمَحْرَم الذي لا عُصُوبة له، كالخالِ، والعمِّ لْلأُمً، ليس له نقْلُ الوَلَد، إذا كان ينتقل؛ لأنه لا حقَّ له في النسب. وإنَّما يثبت حقُّ النقل للأب وغيره، إذا استجمع الصفاتِ المعتبرة في الحضانة، وذكر في "التتمة": أنه لو كان للوَلَدِ جَدٌّ مقيمٌ، فأراد الأب الانتقال، كان له أن ينقل الوَلَد، ولم تُمْنَع إقامةَ الحَدِّ منه، وكذا حكم الجَدِّ عنْد عَدَمِ الأب، ولا تمنعه منْه إقامةُ الأخ والعَمِّ، لكن، لو لم يكن أبٌ ولا جدٌّ، وأراد الأخ الانتقالَ، وهناك ابن أخ أو عم مقيمانِ فليس له انتزاع الوَلَدِ من الأم ونَقْلُه، وفُرَّقَ بأن كلَّ واحدٍ من الأب والجدِّ أصلٌ في النسب، فلا يعتني به كعنايتهما والحواشي يقرب بعضهم من بعض، فالمقيم منْهم يعتني بحِفْظِه والله أعلم. فَرْعٌ: يشبه أن [يدام] (¬1) حق الأم إذا كان كل واحد من الأبوين يُسَافِرُ سَفَرَ حاجةٍ، واختلف بهما المَقْصد والطريق، ويجوز أن يقال: يكون مع الذي مقْصِدَه أقْرَبُ أو مُدَّةُ سَفَرِه أَقْصَرُ (¬2)، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الفَصْلُ الثَّانِي في اجْتِمَاعِ الحَوَاضِنِ فَإِنْ تَدَافَعُوا، فَالحَضَانَةُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ النَّفَقَة، وَإِنْ تَزَاحَمُوا، فَالنَّظَرُ في أَطْرَافٍ الأوَّلُ: فِي الكُسْوَةِ وَالجَدِيدُ أَنَّ الأُمَّ أَوْلَى، ¬
ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا المُدْلِيَاتُ بِالإِنَاثِ، ثُمَّ أُمُّ الأَبِ وَجَدَّاتُهُ المُدْلِيَاتُ بالإِنَاثِ، ثُمَّ أُمُّ الجَدِّ وَجَدَّاتُهُ كَمَا سَبَقَ، ثمَّ أُمُّ أَبِ الجَدِّ وَجَدَّاتُهُ كَمَا سَبَقَ، ثُمَّ الأَخَوَاتُ ثُمَّ الخَالاَتُ، ثُمَّ بَنَاتُ الإِخْوَةِ، ثُمَّ العَمَّاتُ، وَفِي القَدِيمِ قَدَّمَ الأَخَوَاتِ لِلأُمِّ وَالخَالاَتِ عَلَى أُمَّهَاتِ الأَبِ لإدْلاَئِهِنَّ بِالأُمِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: معظم الغرض الآن بيان ترتيب المستحقِّين للحضانَة، ومَنْ يستحقها من الأَقَارِبِ، ومن لا يستحقُّها، والكلام في الغرض الثاني مخْلوطٌ بالكلام [في] الأول، فنوردها كذلك، ونقول: مهما اجتمع اثنان فصَاعِداً مِنْ مستحقِّي الحضانةِ نُظِرَ؛ إن تراضَوْا بواحِدٍ فذاك، وإن تدافعوا، فقد أطْلَق في الكتاب أنَّها تَجِبُ على مَنْ عليه النفقة؛ لأن الحضانة من الكفاية، ولا شَكَّ أنه الصحيح، لكن يجوز إعْلامه بالواو؛ لما ذكرناه عن حكايته الرويانيِّ في أنه إذا امتنع الأبوان مِنَ الحضانة يُقْرعُ بينهما، ويُجْبَرُ عليها من خرجت قرعته، وإن طلبها كلُّ واحد منهم، وتزاحموا، وهم جميعاً بالصفات المشروطة في الحضانة، فهم إمَّا محضُ الإناثِ أو محْضُ الذكور أو مخْتَلِطون من الصنفين، فهذه ثلاثة أطراف: أحدها: الإنَاثُ المَحْضُ، فأولاهن الأمُّ؛ لقربها ووفور شفقها، ثم أُمَّهاتُها المُدْلِيَاتُ بالإناث؛ لأنهن يشاركِنْها في الإرث والولادة، ويُقدَّم منهن الأقربُ فالأقربُ، ويُقدَّمن عَلَى أمهات الأب والجَدِّ، وإن بَعُدْن، وقَربت أم الأب لاختصاصهن بالولادة المحقَّقة، وولادة [أم] الأَب والجد ظاهرةٌ، ولأنهن أقوى في الإرث لا يَسْقُطْن بالأب، بخلاف أمهات الأب، ثم بَعْد أمهات الأم قولان: الجديد: أنه تُقدَّم أمُّ الأب ثم أمهاتُها المُدْلِيات بالإناث، ثم أم [أب الأب، ثم أمهاتها المدْلِيَات بالإناث، ثم أمُّ أب] أب الجد، ثم أمهاتها كذلك، وتتقدَّم منهن الأقرب فالأقرب، وتتأخَّر عنهن الأخوات والخالات، وبهذا قال أبو حنيفة، ووُجِّه بأنهن جداتٌ وارثاتٌ، فيتقدمن على الأخت والخالة، كأمهات الأم وبأنهن أكثر شفقةً وأقْوَى قرابةً، ولذلك يعتقن على الوَلَدِ. والقديم: أنه تقدَّم الأخوات والخالات، على هؤلاء الجدات، أما الأخوات؛ فلأنهن رَقَدْنَ مع المولود في رحِمٍ واحد [ة]، وصلب واحدٍ، وأما الخالات؛ فلما رُوِيَ في قصَّة بنْتِ حمزة -رضي الله عنهما- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: الخالة بمنزلة الأمِّ، ولأنهن يُدْلِينَ بالأم، وهؤلاء للجدات يُدْلِينَ بالأب، والأم تُقدَّم على الأب في الحضانة، فكذلك مَنْ يدلي بها على مَنْ يدلي به، والقولان متفقان على تقديم جنْس الأخوات على الخالات؛ لِقُرْب الأخوات، وعلى أن الخالاتِ يَتقدَّمْن علي بنات الأخوات وبنات
الأخوة والعمات؛ لأنهن يشاركونهن في المَحْرميَّة والدرجةِ وعدم الإرث، وتختصصن بالإدلاء بقرابة الأم الَّتي هي أقْوَى في الحضانة مِنْ قرابة الأب، ثم الحضانَةُ بَعْدَ الخالاتِ لبنات الأخوات وبنات الإِخوة يَتقدَّمن على العمات، كما يتقدَّم ابن الأخ في الميراث على العمِّ، كذلك رَتَّب الإمام وصاحب الكتاب وصاحب "التهذيب" وحكى الرويانيُّ هذا وجهاً لبعْضِ الأصحاب، وادَّعَى أن الصَّحِيح تقديم العمَّات علي بناتِ الأخَوَاتِ وبنات الإخوة، ثم حَكَى وجهين فيمن يُقدَّم بعد العمات. أحدهما: أنه تُقدَّم بناتُ الأخواتِ والإخوة، ثم بنات سائر العصبات بعْد الإخوة، ثم بنات الخالات، ثم بنات العمات، ثم خالات الأم، ثم خالات الأب، ثم عماته. [والثاني: تقدم بعد العمات خالات الأم ثم خالات الأب ثم عماته] ولا حضانةِ لعَمَّات الأم؛ لإدلائهن بِذَكرٍ غير وارث، ثم لخالات الجد، ثم لعماته، وهكذا، فإنْ فُقِدْنَ جميعاً، فالحضانةُ لبنات الأخوات والاخوة، وفي أيَّةِ رُتْبَة وقَعْن، فيتقدَّم بنات الأخوات علي بنات الإخوة، كما تُقدَّم الأخْتُ على الأخ، والَّذِي وَقَعَ في الترتيب من ذكر بنات الخالات والعمات [يتفرَّع على استحقاقهن الحضانة، وفي أصْلِ استحقاقِهِنَّ خلافٌ سيأتي -إن شاء الله تعالى. وقوله في الكتاب: "ثم أم الأب وجداته" لا يخفى أن المراد ترتيبُ الجَدَّات على الأم، وأن مَعْنَى "ثم جداتُهُ" على ما ذكر في أمر المحضون، وكذلك الخلاف في قوله: "ثم أم الجد وجداته". وقوله: "كما سبق" يمكن أن يجعل إشارة إلى اشتراط الإدلاء بالإناث إزالتهما جميعاً. وقوله: "وفي القديم قَدَّم الأخوات" إلى آخره، فيه بيانٌ أن مخالفةَ القديمِ للجديدِ في تقديم الصِّنْفَينِ على أمهاتِ الأبِ، فلا خلاف في التَّرْتيب، قبلهن ولا بعدهن. وقوله: "قدم الأخوات للأم" قد يُوهِمُ تخْصِيصَ الأخوات للأمِّ بالتقديم، وليس كذلك، بل في القديم يتقدمن، وإن كُنَّ من جهة الأب وحده، على أمهات الأب، فإذا وقع اللفظ هكذا، فليُحْمَلْ على أنهنَّ والخالات يتقدمن على القديم؛ لمعنى إدلائهن بالأم، وأما الاخواتُ للأب، فإنَّهنَّ، وإن تَقدَّمن على القديم، فليس ذلك لإدلائهن بالأم، ولو حذف لفظ الأمِّ, لم يَضُرَّ، وهو محذوف في "البسيط" وفي "الوسيط". قَالَ الْغَزَالِيُّ: فُرُوعٌ: لأَوَّلُ الأُخْتُ لِلأَبِ مُقَدَّمَةٌ (ح وز) عَلَى الأخْتِ لِلأُمِّ فِي الجَدِيدِ لِقُوَّتِهَا، وَفِي القَدِيمِ وَجْهٌ أَنَّ الأُخْتَ لأُمِّ أَوْلَى، وَالخَالَةُ لِلأَبِ هَلْ تُقَدَّمُ فِي الجَدِيدِ عَلَى الخَالَةِ لِلاُمِّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. الثَّانِي: النَّصُّ أَنْ لاَ مَدْخَلَ لِكُلِّ جَدَّةٍ سَاقِطَةٍ فِي المِيرَاثِ وَهِيَ الَّتِي تُدْلِي بِذَكَرٍ بَيْنَ أُنْثَيَيْنِ، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ لَهُنَّ الحَضَانَةَ وَلَكِنَّهُنَّ
مُؤَخَّرَات عَنِ الكُلِّ، وَفِيهِ وَجْهٌ أنَّهُنَّ مُقدَّمَاتٌ عَلَى الأَخَوَاتِ وَالخَالاَتِ. الثَّالِثُ: الأُنْثَى الَّتِي لاَ مَحْرَميَّةَ لَهَا كَبِنْتِ الخَالَةِ وَبِنْتِ العَمَّةِ لاَ حَضَانَةَ لهُمَا عَلَى أَظْهَر الوَجْهَيْنِ، فَإِنْ أَثْبَتْنَا لَهَا فَبَنَاتُ الخَالاَتِ مُقَدَّمَاتٌ عَلَى بَنَاتِ العَمَّاتِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: آخر الفروع أنَّ الأخت منْ الأبَويْنِ مقدَّمة على الأخت للأب، وعلى الأخت للأم؛ لزيادةِ قرابتهما، وهل تُقدَّم الأختُ للأبِ عَلَى الأختِ للأمِّ؟ الظاهرُ، وهو الحكاية عن نَصَّه -رضي الله عنه- في الجديد والقديم معاً: أنها تَتقدَّم لأنهما يستويان في الشَّفَقَةُ والقُرْب، واختصت هي بقوَّة الإرث، وبانها قَدْ تصير عصبة، فتترجَّح، وأيضاً أختان مِنْ أهل الحضانة فيتقدم أقواهما ميراثاً، على الأخرى، كالأخت مِنَ الأبوين مع الأخت مِنْ الأب، وبهذا قال أحمد، وقال المزنيُّ وابن سُرَيْجٍ يتقدم الأختُ منْ الأم على الأخت من الأب، وهو مذْهَب أبي حنيفة؛ لأن من تدْلِي بالأم تتقدم على منْ تدلي بالأب، كما تتقدَّم الجدة أمُّ الأمَّ على الجَدَّة أمِّ الأب، وحكى القاضي ابن كج: أن أبا إسحاق كان يَقُول به برهةً من الدهر، ثم رَجَع عنه، ورجح ابن سُرَيْج للمعنى الذي ذكره تقديم الخالة على الأخْتِ من الأب أيضاً، وعن أبي حنيفة فيه روايتان، وذكر الأئمة بناءً على ظاهِرِ المذهَب أن الشَّافعيَّ -رضي الله عنه- يُقَدِّم في الجديد بالولادة المحقَّقة ثم بالولادة الظَّاهرة، ثم بقُوَّة الإرث، وأراد بالولادة المحقَّقة بالأم وأمهاتها، وبالولاَدَةِ الظَّاهرةُ [آباء الأمهات] (¬1)، وأشاروا بقوَّةِ الأَب إلى تقْديم الأخت على الخالة والأُخْتِ للأبِ على الأخْت للأُمِّ، وبقوة الإدلاء: إلىَ تقديم الخالة على العَمَّة. وأما الخالة للأب مَعَ الخالة للأمِّ والعمَّة، فإن قُدِّمَتِ الأختُ للأمِّ على الأختِ للأبِ، فكذلك هاهنا، وإن قدمت الأخْتُ للأبِ، فهاهنا وجهان: أحدهما: أنها تَتقدَّم الخالة للأم والعمَّة للأم أيضاً؛ لأن التقديم هناك كان لِقوَّتها في الإرث، وهاهنا، لا إرث لواحدةٍ منهما، وأظهرهما تقديمُ التي هي للأبِ لقُوَّة الجهة، واستدلَلْنا هناك بالإرْثِ على قوة الحجة ولا يراعى غير الإرث. وفي الخالة للأب وجْهٌ: أنَّها لاَ تستَحِقُّ الحضانةَ أصْلاً؛ لأنها تدْلِي باب أب الأم، فأشبهت أمُّ الأبِ. وقوله في الكتاب: "الأخت للأب مقدَّمةٌ على الأخت للأم في الجديد" ويجوز أن يُعْلَم مع الحاء والزاي بالواو؛ لأنهنَّ خصصن في الذكر وجه تقديم الأخت بالقديم، ¬
حيث قال: "وفي القديم وجْهٌ وذلك الوجه مطرد على الجديد والقديم، ويجوز أن يكون تخصيصه بالذِّكْر؛ لأنَّه على القديم أظْهَر وأشار بعْضُهم إلى أنَّه منْصُوصٌ عليه، وبجوز أن يُعْلَم قوله: "أولى" بالألف، وأن يُعْلَم قوله في الفصل السابق: "ثم الأخوات ثم الخالات" بالواو، لتقديم ابن سُرَيْجٍ الخالة على الأخْتِ للأب. الفَرْعُ الثاني: النَّصُّ أنَّه لا مدْخَل في الحضانة لكل جَدَّة ساقطةٍ في الميراث، وهي التي تُدْلِي بذكَرِ بَيْن أنثيين؛ كأمِّ أب الأمِّ، وهو ظاهر المَذْهَب، ووُجْه بأنَّها تُدْلِي بمَنْ لا حَقَّ له في الحضانة بحالٍ، فأشَبَهَتِ الأجانب، وتخرج علَيْه أم الأم إذا كَانَتِ الأمُّ فاسقةً أو مزوَّجةً؛ لأن لها حقّاً في الحضانة [فى الجملة والتوجيه، مبني على أن أب الأم لا حق له في الحضانة بحال] (¬1)، وفيه خلاف سيأتي -إن شاء الله تعالى- وفي الجدَّات الساقطات وجْهان آخران: أحدهما: أنَّ لهنَّ الحضانة؛ لقرابتهن، وشمول أحكام البعضية لهن؛ مِنْ رد الشهادة والعِتْق ولزوم النفقة، وغيرها؛ لكنهن يتأخَّرْن عن جميع المذكورات مِنْ قَبْلُ لضَعْفِهِنَّ. والثاني، عن رواية الشيخ أبي عليٍّ: انَّهنَّ "يَسْتَحْقِقنَ" الحضانة، ويتقدمن على الأخوات والخالات؛ لأنهن أصول ويتأخَّرْنَ عن الجَدَّات الوارثات، وفي معنى الجَدَّة الساقِطَةِ كلُّ مَحْرم تُدْلي بذَكَر لا يرث، كبنت ابن البنت وبنت العم [للأم]. الفرع الثالث: الأُنْثَى التي لَيْسَتْ بمَحْرَم؛ كبنت الخالة وبنْتِ العمة وبنْتِ الخال وبنت العم، في استحقاقِهِنَّ الحضانَةَ وجْهان مذكورانِ في الكتاب: أحدهما: أنه لا تستَحِقُّها؛ لأن الحضانة تُحْوِج إلى معرفة بواطن الأمورِ، ويقع فيها الاختلاط التَّامُّ، فالأَوْلَى تخصيصها بالمحارم. ووجه الثاني: شفقتهن بالقرابة، وهدايتهن بالأنوثة، والأول أظْهَرُ عنْد صاحب الكتاب، والأشْبَهُ بكلام غيره ترجِيحُ الثاني، وعليه ينطبق إيراد الفورانيَّ وصاحب "التهذيب" والقاضي الرويانيَّ ويُفَرَّق بينهن وبيْن الجَدَّة الساقِطَةِ بأنَّها تُدْلِي بغير وارث بخلاف هؤلاء، وإذا قُلْنا بالوجه الثاني، فإذا كان المولود ذكراً، فإنما يكونُ لَهُنَّ حضانَتُه، إذا لم يبلغ حَدّاً يُشْتَهَى مثله، وتُقدَّم بنات الخالات عَلَى بنات الأخوال، وبنَاتُ الأعمام علي بنات العمات، وبناتُ الخُئُولَة علي بنات العمومة. فِرْعَانِ: لبنت المجنون حضانَتُهُ، إذا لم يكن له أبوان، ذَكَره القاضِي ابن كج، وذكر الرويانيُّ أنه لو كان للمحضون زوجةٌ كبيرةٌ، وكان له استمتاعٌ بها، أو لَهَا استمتاعٌ ¬
به، فهي أَوْلَى بكفالته منْ جميع الأقارب، وإن لم يُفْرض استمتاعٌ، فالأقارب أولَى، وكذا لو كان للمحضونة زوْجٌ كبيرٌ، وفرض استمتاع، فهُو أَوْلَى، وإلا، فالأقارب، فإن كان لها قرابَةٌ أيضاً، فهل يرجع بالزوجية؟ فيه وجهان (¬1)، والله أعلم بالصواب. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الطَّرَفُ الثَّانِي فِي اجْتِمَاعِ الذُّكُورِ وَهُمْ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: الأَوَّلُ مَحْرَمٌ وَارِثٌ فَيَتَرتَّبُونَ تَرْتِيبِ العَصَبَاتِ فِي الوِلاَيَة إِلاَّ الأَخَ لِلْأُمَّ فَإنَّهُ يُؤَخَّرُ عَنِ الأُصُولِ وَعَنْ إِخْوَةِ الأَبِ (و)، وَهَلْ يُؤَخَّرُ عَنِ العَمِّ لِلْوِلاَيَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ الثَّانِي وَارِثٌ لَيْسَ بِمَحْرَم كَابْنِ العَمِّ (و) لَهُ الحَضَانَةُ فِي الصَّغِيرِ وَفِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي لاَ تُشْتَهَى دُونَ الصَّغِيرَةِ الَّتِي تُشْتَهَى الثَّالِثُ: المَحْرَمُ الَّذِي لَيْسَ بِوارِثٍ كَالخَالِ وَأَبِ الأُمَّ وَالعَمِّ لِلأُمَّ وَابْنِ الأخُتِ فَهُمْ مُؤخَّرُونَ عَنِ الوَرَثَةِ، وَهَلْ لَهُمْ حَقٌّ عِنْدَ فَقْدِهِمْ؟ فِيهِ وَجْهَانِ الرَّابعُ قَرِيبٌ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ وَلاَ وَارِثٍ كَابْنِ الخَالِ وَالخَالَةِ فَالصَّحِيحُ أَنْ لاَ حَقَّ لَهُمْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هَذَا الطَّرَفُ لبيان مَنْ يستحق الحضانة من المذكور، ومَنْ لا يستحقُّ، وأنه إذا اجتمع منْهُمْ مستحقُّون، كيف يرتبون، والذَّكر، إما أن يكون مَحْرماً، أو وارثاً ليس بمَحْرَمٍ، أو بالعكس، أوْ لاَ محرماً ولا وارثاً، فهذه أربعةُ أَقْسَامٍ: الأول: المَحْرَمُ الوارِثُ كالأَب والجَدِّ والأخِ وابْنِ الأخِ والعمِّ، فهؤلاء يثبت لهم الحضانة لوفور شفقتهم، وقوَّة قرابتهم بالإرْثِ والولايةِ والمَحْرمية، وفي "التهذيب" وغيره: حكايته وجْهٍ: أنه لا حضانة إلا للأب والجَدّ؛ لتكامل شفقتهما واعتنائهما بأمر الوَلَدِ، وإلاَّ، فالذكور بعيدون عن الحضانة وفي الأخ منْ الأم خاصَّةً وجْهٌ أنَّه حضانة له لأنه لا عصوبة له، ولا ولاية، وظاهر المذهب: الأَوَّلُ، ثم يُقَدَّم [منهن] الأب ثم الجَدُّ، وإنْ علا، ويَتقدَّم منْ الأجداد الأقْرَبُ فالأقْرَبُ، ثم الحق بعْدهم للإخْوة، وَيتقدَّم منهم الأخ للأبوَيْنِ، ثم الأخ للأب، ثم الأخ للأم (¬2). وعلى ما ذكره ابن سرَيْجٍ -رَحِمَهُ الله- يُقَدَّم الأخُ منْ الأمِّ في هذا القِسْم؛ لأنهم لا يرتبون. ثم الحق بعدهم للعَمِّ منْ الأبوين ثم للعَمِّ مِنَ الأبِ، ثم لعَمِّ الأب، ثم لعمِّ الجَدِّ. هذا هو الظَّاهِر. ¬
وحكى القاضي الرويانيُّ وجهاً آخَرَ: أن الأعمام يتقدَّمون علي بني الإخْوة (¬1)، وفي الأخ منْ الأمِّ وجْه: أنه يتأخَّر عن الأعمام؛ لاختصاص العَمِّ بالعصوبة والولادة، والظاهر تقديمه عليهم لاختصاصه بمزيد القُرْب والشفقة، وعلى ذلك يُبْنَى أمر الحضانة، بخلاف ولاية النكاح؛ فإنها منوطَةٌ بمن يدفع العار عن النسب، والوجهان فيمَنْ يُقدَّم ويُؤخَّر من الأخ للأم والعمِّ مذكوران في الكتاب، ويجوز أن يُعْلَم قوله: "فَيَتَرَتَّبُونَ ترتيب العَصَبات" بالواو؛ لأن ترتيبهم مبنيٌّ على ثبوت الحضانة لجَمِيعِهِمْ، وقد ذكَرْنا وجْهاً: أنه لا حضانة إلا للأبِ والجَدِّ، وأيضاً، للوجه المرويُّ بتقديم الأعمام علي بني الإخوة، فإنهم على ذلك الوجْه لا يترتَّبون ترتيب العصبات، وقوله: "إلا الأخ للأم" ليس الغرض استثناء الأخ من العصبات؛ فإنه لا يَدْخُل فيهم، بل المعْنَى إلا أن الأخ من الأم يدْخُل فيهم، ولا مدخل له في ترتيب العصبات، ولفظ "الوسيط" يترتَّبون ترتيب العصبات في الولاية فإنهم باجمعهم أولياءُ يترتَّبون ترتيبهم في الولاية؛ إلا الأخ من الأم ثم ذكر حكمه وقوله "وعن إخوة الأب" مُعْلَم بالواو ولوجه ابن سُرَيْجٍ -رحمه الله-. القسم الثاني: الوارِثُ الذي ليْسَ بمَحْرَم كابْنِ العَمِّ وابنه وابن عم الأب والجد، والوجه المذكورُ في غَيْر الأبِ والجَدِّ من المحارم الوارثين يجيْء فيهم بطريق الأوْلَى، والظاهر ثبوتُ الحَضَانَةِ، فإن كَان الولد ذكراً أو صغيرةً لا تُشْتَهى مِثْلُها سلمت إليه وأنْ بلَغَتْ حَدّاً يشتهى مثلُها لم تسلَّم إليه، ولكن له أن يطالب بتسليمها إلى امرأة ثِقَةٍ، وتُعْطى أجرتَهَا، فلو كانت له بنْتٌ، سُلِّمت إليه، وإذا أثبتنا الحضانَةَ لهؤلاء، ففي ثبوتها للمُعْتَقِ وجهان: أحدهما: تثبت؛ لأنَّ حقَّ الولاء يَلْحَق بالقرابة في الإرْث، وتحمل العَقْلَ وولاية النِّكَاح، فكذلك في الحضانة. وأظهرهما: المنْعُ؛ لعدم القرابة التي هي مظنة الشفقة؛ وعلى هذا، فلو كانَتْ له قرابةٌ، وهناك مَنْ هو أقرب منه، فهل يترجَّح لانضمام عصوبة الولاء إلى عصوبة القرابة فيه وجهان نقلهما القاضي الرويانيُّ. ومثاله: عم أب مُعْتَق (¬2)، وعمُّ [القسم] الثالث المَحْرَم، والذي ليس بوارث ¬
كالخال وأبي الأم والعم [للأم] وابن الأخت وابن الأخ للأم، ففي استحقاقِهِمُ الحضانةَ وجهان: وجه الاستحقاق: أنَّ لهم قرابةً تدْعو إلى الشفقة والتربية، وأيضاً، فالخالة مُلْحَقَةٌ بالأم، فكذلك الخال مُلْحَقٌ بالأب، والأظهر المَنْع؛ لضَعْفِ القرابة؛ ألا ترى أنها تقاعدت عن إفادة الولاية والإرثِ وتحمل العَقْل، فكذلك تتقاعد عن إفادة هذا الحَقَّ، وإنما تثبت الحضانة للخالة؛ لانضمام الأنوثة إلى القرابة، ولها أثر في الحضانة على ما سبق، وإذا أثبتنا لهُمُ الحضانة، فيتأخرون عن المحارم الوارِثينَ، وعن [الوارثين] الذين لا محرميَّة لهم. القسم الرابع: من ليس بمَحْرَمٍ ولا وارِثٍ من الأقارب؛ كابن الخال والخالة وابن العمة، لا حضانَةَ لهم، وفيه وجْهٌ ضعيف؛ لقيام أصل القرابة، والصحيح الأول، ومنهم مَنْ قَطَع به، وإذا أثبتنا الحَضَانَةَ لجميع المذكورين في الأقسام الأربعة تفريعاً على الأصحِّ في بعضهم، والأضْعَفِ في بعضهم، وتركنا التقْسيم قلنا: الأَوْلَى الأب، ثم أب الأب [وإن علائم] الإخوة، ثم بنوهم، ثم الأعمام، قال في "التتمة": ثم بنوهم، ثم أعمام الأب، ثم بنوهم، ثم أعمام الجد، ثم بنوهم، ثم الجَدُّ أب الأم وكلُّ جَدٍّ يدلي بذكر بين أُنْثَيَيْن يقدم الأقرب منهم فالأقرب، ثم الخال، ثم العم للأم، ثم ابن الخال ثم ابن العم للأم ثم المُعْتَق، ثم عصباته ومنهم مَنْ يقتضِي كلامُه بني العمِّ عن أعمام الأب والجَدِّ؛ لأن لهم محرمية مع الوراثة. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الطَّرَف الثَّالِثُ فِي اجْتِمَاعِ الذُّكورِ وَالإِنَاثِ، وَأَوْلاَهُمُ الأُمُّ وَأمَّهَاتَهُا المُدْلِيَاتُ منْ جِهَةِ الإِنَاثِ، ثُمَّ بعْدَهُنَّ الأَبُ أوْلَى مِنَ الجَدَّاتِ عَلَى أَصَحِّ القَوْلَيْنِ، وَكَذَلِكَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الأَخَوَاتِ لِلأبِ لأَنَّهنَّ فُرْوعُهُ، وَفِي تَقْدِيمِ الأُخْتِ لِلأُمِّ وَالخَالاَتِ عَلَى الأَبِ خِلاَفٌ، وَكُلُّ جَدَّةِ لَيْسَتْ فَاسِدَةً فَهِيَ أَوْلَى مِنْ كُلِّ ذَكَرٍ عَلَى حَاشِيَةِ النَّسَبِ، وَأَمَّا الَّذِينَ عَلَى الحَوَاشِي إِذَا استَوَوا فِي القُرْبِ وَالإِرْثِ فَالأُنْثَى أَوْلَى مِنَ الذَّكَر، وَالأُخْتُ أَوْلَى مِنَ الأَخِ، وَالخَالَةُ مِنَ الخَالِ، وَالأُنْثَى البَعِيدَةُ هَلْ تُقَدَّمُ عَلَى الذَّكَرِ القَرِيب؟ وَجْهَانِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا اجتمع الذكور والإناث من أهْل الحضانة، فإن كان فيهم أمٌّ فهي أوْلَى من الأب وغيره، على ما وَرَدَ في الخَبَر "أنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي" (¬1) والمعنى فيه أنَّها تساوي الأب في القرب والشفقة وتختص بالولادة المحقَّقة ولصلاحية الحضانة بسبب الأنوثة، وأيضاً، فالأب لا يَسْتَغْنِي في الحضانة عن النِّساء، ولا يكاد يباشرها وهي تباشرها، ثم أمُّ الأمِّ، وإن علَتْ كالأم؛ لأنها تشاركها في الشفقة [والأنوثة] والولادة المحقَّقة، ولو نكَحَتِ الأمُّ، ورضِيَ أبُ المولود بأن يكون عنْدها، ورضِيَ زوْجُها أيضاً، فيسقط حقُّ الجدة أو يقال: لها الحضانة، ولا يتأثر حقُّها بتراضيهما؟ ذَكَرَ في "التهذيب" فيه وجهَيْن، وجَعَل أصحَّهما (¬2) أوَّلَهُما، وأما الجَدَّات من قِبَلِ الأب، إذا اجتمعْنَ مع الأب [قدم عليهن]؛ لأنهن يُدْلِينَ به، فيبعد أن يتقدَّمن عليه، هذا هو الصحيح المشهور، وفيه وجْهٌ، ويقال: قول: مخرج أنهن يتقدَّمْن عليه لولادتهنَّ وزيادة صلاحيتهن (¬3)؛ للحضانة. قوله في الكتاب: "على أصح القولين" يعني المنصوص، والمُخرَّج على أن أكثرهم سكَنُوا عن الخلاف في المسألة، وأجرى الخلاف مثبتوه في الأخْتِ من الأب، مع الأب وإن كانَتْ فَرْعاً له ومُدْلِيَةً به، [لصلاحيتها] وأما الأخت من الأبوين أو من الأم والخالة، فإن قلنا: بالقديم وقدَّمْناهُنَّ على أمهات الأب فكذلك يتقدَّمن على الأب، لا سيَّما إذا قدَّمْنا أمهات الأب على الأب، وإن قلنا بالجديد، وقدَّمنا أمهاتِ الأبِ على الأخْتِ والخالة، ففي الأخت المدْليَة بالأم والخالة مع الأب وجهان: أحدهما: أنهما يتقدَّمان عليه، وبه قال أبو حنيفة وابن سُرَيْجٍ وأبو إسحاق والإصْطَخْريُّ؛ لأنوثتهما وإدلائهما بالأم، فأشبها أمهاتِ الأُمِّ. وأظهَرُهُمَا، وبه قال صاحب "الإفصاح": أن الأب يتَقدَّم عليهما؛ لقربه وولادته وعصوبته، وهو ظاهر رواية المزنيِّ، ونص رواية الربيع واختيار الأكثرين، وإذا قدَّمْناهُمَا على الأبِ، فلو اجتمعَتْ مع الأب أو الأخت للأم، والخالة أم الأب فوجهان: قال ¬
الإصطخريُّ: تكون الحضانة للأب؛ لأن الأخْتَ تسقط بأم الأبِ، وهي تَسْقُطُ بالأب ويجوز أن يَسْقُطَ الشخْص، ثم لا يحصل له ما كَانَ يأخُذه المحجوب، كما أن الأخوين مع الأبوين يَرُدَّان الأمَّ من الثلث إلى السُّدُس، ولا يَحْصُل لهما ما حجَبَاها عنه، وقال أكثرهم: تكون الحضانة للأخْتِ من الأم؛ لأنها مقدَّمة على الأب على الوجْه الذي عليه يُفَرَّع وتسقط أم الأب بالأب، وإذا اجتمعَتِ الأختُ من الأب والأختُ من الأمِّ مع الأب وقلْنا بالظاهر، وهو تقديم [الأخت للأم على] الأخت من الأب، تكون الحضانةُ للأب أو الأخت من الأم؟ فيه هذان الوجهان، وإذا فرَّعنا على الصحيح، وهو تقديم الأب على الجدات من قبله، وعلى الظاهر في تقديمه على الأخوات للأم والخالات، فالمُقَدَّم بعد أمهات الأمِّ الأبُ ثم أمهاتُهُ المُدْلِيَاتُ بالإناث، ثم الجَدَّ أبو للأب، وفيه مع أمهاته ما ذكَرْنا في الأب مع أمهاته ثم أبو الجَدِّ وأمهاته كذلك، ويتقدَّمون جميعاً على الأقاربِ الواقِعِينَ على حواشي النَّسَب، وُيؤَدِّي بعضَ هذا المعْنَى قولُه في الكتاب: "وكلُّ جَدَّة ليْسَتْ فاسدةً، فهِيَ أوْلَى مِنْ كُلِّ ذَكَرٍ على حاشية النَّسَب". وأما الجدات الساقطاتُ، فقد سبق الكلام في استحقاقهن وفي ترتيبهن، إن استحْقَقْنَ، وإذا لم يوجد أحد من مستحقي الحضانة من الأجداد والجدات فثلاثة أوْجُهٍ: أحدها: أن نساء القرابة، وإن بَعُدْنَ أوْلى بالحضانة من الذكور، وإن كانوا عصباتٍ؛ لأنهن أصلح للحضانة على ما تكرَّر، فعلى هذا تقدَّم الأخوات والعمات والخالات وبناتهن على الإخوة والأعمام وبنيهم. والثاني: العصَبَاتُ أوْلَى منهن؛ لقُوَّةِ نسبهم وقيامهم بالتأديب والتعليم. والثالث: وهو الأصحُّ؛ على ما ذكر القاضي الرويانيُّ: أنه لا يترجَّح واحد من الفريقين على الآخر، ولكن يُقدَّم منهم الأقْربُ فالأقْربُ كما يُقدَّم في الإرث الأقربُ فالأقرب من العَصَبات، فإن استوى اثنان في القرب، قدَّمنا بالأنوثة، فعَلَى هذا الحَقِ بعْد الآباء والأمهات للإخوةُ والأخواتُ وتُقدَّم الأخوات على الإخوة، [ويقدم بعد الأخوات والإخوة] (¬1) بناتُ الأخواتِ ثُمَّ بنوا الأخوة، وتُقدَّم بنت الأخ على ابن الأخت؛ اعتباراً بمَنْ يحضن لا بمن يُدْلِي به فإن فقدوا جميعاً، فالحضانة لِمَنْ في درجة الأمِّ وهم الخئولة، ومن في درجة الأب، وهم العمومة، وتُقدَّم الخئولة على العمومة، والخالات على الأخوال، والعمات على الأعمام، فإن فقدوا، فالحضانة لأولادهم، وترتيب الأولاد وتقديم الإناث على المذكور كما في الأصول ثم يرتقي إلى مَنْ في درجة الجَدِّ والجَدَّة، وهم خئولة الأبوبن وعمومتها، فيُرَاعَى فيهم هذا الترتيب، وإذا استوى ¬
اثنانِ مِنْ كل واحد كأخوين أو خالتين، وتنازعا، قَطَعْنا النزاعَ بالقرعة، وكان يجوز أن يُقدَّم بما يقدم به المتزاحمان على اللقيط، فإن لم يوجدُ أحد من نساء القرابة، ولا من العصبات، وهناك رجال من ذوي الأرحام، فحكمهم ما ذكَرْنا في الطرف (¬1) الثاني. وقوله في الكتاب: "والأنثى البعيدة هلى تُقدَّم على الذَّكَر القريبِ؟ وجهان" يشير إلى الخلاف الذي نقَلْنا في الأقارب الواقِعِينَ على الحواشِي، فإن قلْنا بالتقديم بالأنوثة، قَدَّمناها على الذَّكَر القريب. مثاله: ابن الأخ مع بنت بنت الأخ، وإن لم نُقدِّمها بالأنوثة، فيقدِّم الذكر القريب ترجيحاً بالعصوبة أو بالقرب. فرُوعٌ: الأختُ مع الجدِّ، كهي مع الأب، قال المتولِّي: ويخالف الميراث، فإنه يقبل التبعيض، والحضانة لا تقبله. ولو كان في أهْلِ الحضانة خَنْثَى [مُشْكِلٌ]، فهل يتقدَّم على الذكر في موضع لو كان أنثى لاحتمال الأنوثة، أو لا يتقدم، لعَدَم الحُكْم بها؟ فيه وجهان (¬2) وإذا أخبر عن ¬
السبب الثالث في النفقة على ملك اليمين
ذكورته أو أنوثته، عمل بقوله في سقُوط الحضانة، وهل يُعْمَل به في استحقاقها أم لا يعمل للتهمة؟ نقل القاضي الرويانيُّ فيه وجهين (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: السَّبَبُ الثَّالِثُ فِي النَّفَقَةِ عَلَى مِلْكِ اليَمِينِ وَيَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ نَفَقَةُ الرَّقِيقِ بِقَدْرِ الكِفَايَةِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالعَادَةِ، وَيُقْتَصَرُ فِي الكُسْوَةِ عَلَى الخَشِنِ، وَلاَ يُقْتَصَرُ عَلَى سَتْرِ العَوْرَةِ، وَلاَ يَجِبُ تَفْضِيلُ النَّفِيسِ عَلَى الخَسِيسِ فِي جِنْسِ الكُسْوَةِ عَلَى الأَصَحِّ، وَقِيلَ: يَجِبُ تَفْضِيلُ السَّريَّةِ عَلَى الخَادِمَةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْلِسَ الرَّقِيقَ مَعَهُ فِي الأَكْلِ أَوْ يُوَزِّعَ لَهُ لُقْمَةً، وَيَجِبُ ذَلِكَ فِي وَجْهٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فَرَغْنَا بمعونة الله -تعالى- مِنَ القول في نفَقَةِ الزَّوجَات والأقارب، والسبَبُ الثالث لوجوب النفقة مِلْكُ اليَمِين، فيجب على السيد نفقة رقيقة قُوتاً وأُدْماً وكُسْوةً وسائر مؤناته، قنّاً كانَ أو مُدَبَّراً أوأمَّ وَلَدٍ، يستوي فيه الصغير والكبير والزَّمِنُ والأعمَى والسليم والمستأجر والمَرْهُون وغيره. رُوِيَ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لِلْمَملُوكِ طَعَامُهُ وَكُسْوَتُهُ بِالْمَعرُوفِ، وَلاَ يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا يُطِيقُ (¬2) وَإِذَا كَانَ كَسُوبًا، فَكَسْبُهُ لِلسَّيِّدِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَ كَسْبَهُ، وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ كَسْبِهِ" فإن لم يف والشركاء، فالباقي عليه وإن زاد فالزيادة له في الملك عليهم النفقة بحَسَب الملك، ولا تجب النفقة للمُكَاتَبِ على (¬3) السيد؛ لاستقلاله، ولذلك توجب نفقة عبده عليه. ولا تتقدَّر نفقته كنفقة القريب، ولكن تُعتَبَرُ فيه الكفاية، وذكروا فيما تعتبر كفايته وجْهَيْنِ: أحدهما: تعتبر بما يَكْفي مثلَهُ في الغالب، ولا تُعْتبر حالُهُ في نفْسِهِ. والثاني: تُعْتَبَر حاله في نَفْسه، ويُرَاعَى رغبته وزهادته، فإن لم يكفه ما يَكْفِي مثْلَه غالباً، فعلى السيد الزيادة، وهذا ما اختاره صاحب "الشامل" وهو المفهوم من إطلاق لفْظ الكتاب، وعن صاحب "الحاوي" أنه إن كان يُؤَثِّر فقد الزيادة في قُوَّتِهِ وبَدَنِهِ، لزمت على السيد، إلا فلا، وينبغي أن تجيْء هذه الوجوهُ قويُّها وضعيفُها في نفقة القريب. وأما الجنْسُ، فيعْتَبَرُ غالبُ القوت الذي يَطْعَم منه المماليك في البلد؛ من الحنطة ¬
والشعير وغيرهما وكذا الأُدْمُ الغالب والكُسْوة الغالبة؛ من القُطْن والكَتَّان والصوف، ويراعى حال السيد في اليسار والإعسار، فيجب ما يليق بحاله مِنْ رفيع الجنس الغالب وخسيسه ولا يجوز الاقتصار في الكُسْوة على ستر العورة، وإن لا يتأذَّى بحرٍّ ولا بِبردٍ، لأن ذلك يُعَدُّ تحقيراً وإذلالاً، ولو كان السيد يتنعم في الطَّعَام والإدَامِ والكُسْوة، فيستحب أن يدفع إلَيْه مثْلَهُ، ولا يجب بل يجوز الاقتصار على ما دونه، إذا كان هو الغالِبَ، وما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحتَ يَدِهِ فَلْيُطعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ" (¬1) حمله الشافعيُّ -رضي الله عنه- على الاستحباب، أو على أن الخطاب للعَرَب الذِينَ مطاعمهم وملابسهم متقاربة، أو على أنه جوابُ سائلٍ، علم حاله، فأجاب على ما اقتضاه الحال؛ وإن كان السيد يطعم ويلبس دون المعتاد غالباً، إما بُخْلاً أو رياضةً، فيلزمه رعايةُ الغالب للرفيق، أوْ لَهُ الاقتصار على ما اقْتَصَر عليه لنفسه؟ ذكر في "التهذيب" فيه وجْهَيْن، المشهور منهما الأول، وإذا كان له عبيدٌ، فالأَوْلَى التسوية بينهم في الطعام والكُسْوة (¬2)، وفيه وجْه أنه يفضل ذاتَ الجَمَالِ والفراهة للعادة، وإذا وَلَّى رقيقه معالجة طَعَامِهِ، وجاءه به فينبغي أن يُجْلِسَه معه؛ ليتناول منه، فإن لم يفْعَلْ أو امتنع الرقيقُ منْه توقيراً للسيد، فينبغي أن يروغ له لقمة أو لقمَتيْنِ ويناوله، رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ قد ولى حُرَّه ودخانه، فَلْيُقْعِدْهُ يَأْكُلُ مَعَهُ، وَإلاَّ فَلْيُنَاوِلهُ أُكْلَة من طعامه" (¬3)، وَيُرْوَى أنه قال: "إذَا كَفَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ طعامه حَرَّهُ وَدُخَانَهُ فَلْيُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَإنْ أَبَى فَلْيُرَوِّغْ لَهُ لُقْمَة" (¬4) والأُكْلة بالضم: اللقمة وروغها: إذا رَوَّاها دسماً، وأشار الشَّافعي -رضي الله عنه- في ذلك إلى احتمالات ثلاثة: أحدها: أنه يجبَ التَّرْوِيغُ والمناوَلَةُ، فإن أجلسه معه، فهو أفضل. وثانيها: أن الواجب أحدُهُمَا، لا بعينه وأصحُّهما: أنه لا يجب واحدٌ منهما، والأمر بهما على سبيل الاستحباب نَدْباً إلى التواضُع ومكارم الأخلاق، ومنْهم مَنْ نَفَى الخلاف في الوجُوبِ، وذكر قولَيْنَ في أن الإجلاس أفضل أم هما متساويان؟ والظاهر ¬
الأول؛ ليتناول القدْر الذي يشتهيه، وهذا الاستحباب فيمن يعالج الطعامَ آكد، وأصل الاستحباب في مناولة الطعامِ اللذيذِ يَشْمَلُ المعالِجَ وغيره ورعاية هذا الخُلُق في حَقِّ الحاضرين أهم، وليكن ما يناوله من اللقمة كبيرة تَسُدُّ مسداً دون الصغيرة التي تهيج الشهوة، ولا تقضي النهمة، ونفقة الرقيق كنفقة القريب؛ في أنها لا تصير دَيْناً في الذمة وتسقط بِمُضِيِّ (¬1) الزمان، ولو دفع إليه الطعام، ثم أراد إبدالَهُ، ذكر القاضي الرويانيُّ: أنه ليس له ذلك عند الأكل ويجوز قبله، وعن الماوَرْدِيِّ أنه إن تضمَّن الإبدالُ تأخرَ الأكل، لم يجز. وقوله في الكتاب: "ولا يجب تفضيل النفيس على الخسيس في جنس الكسوة" لفظ الوجوب لم يستعمله أكثر الأئمة في هذا الموضع في أولوية التَّسْويَة وكراهية التفضيل وعدَمِها ثم التفضيل لا يختص بالكُسْوة [بل] الطعام كالكسوة، وقوله: "على الأصح" يعني من ثلاثة أوجُهٍ تحْصُل إذا أخذ مطلق الرقيق. وقوله:"وقِيلَ يجب تفضيل السرية على الخادمة" وهو الثالث الفارق بين التفضيل في العبيد والتفضيل في الجواري، وهذا هو الأصحُّ عند عامَّة الأصحاب، وهو المنصوص عليه، ولفظ التسوية يُشْعِر بتخصيص التفضيل بها، لكن لفْظ الشافعيِّ -رضي الله عنه- وعامَّة الأصحاب أن ذاتَ الجَمَال [والفراهة] تُفَضَّل، ولم يُفرِّقوا بين السرية وغيرها، بل صرَّح صاحب "التهذيب" بنَفْيِ الفرق. وقوله:"ويستحب أن يُجْلِسَ الرقيقَ مَعَهُ" محمول على الرقيق الذي عالج الطعام، وإن أطلق إطلاقاً على ما هو مبيَّن في "الوسيط"، وكان يمكن حمله على الاستحباب الشامل إلا أنه ذَكِّرَ بعده الوجْه الذاهِب إلى الوجُوب والخلافَ، والاحتمالاتُ المذكورةُ في الوجوب مخصوصةٌ بالرقيقِ الذي عَالَجَ الطعام، ولا مجال لها في غيره. وقوله: "ويجب ذلك" يمكن أن يريد به أحدهما، ويجوز أن يريد شيئاً من ذلك، والله عزَّ وجلَّ أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيَجِبُ إرْضَاعُ الوَلَدِ عَلَى المُسْتَوْلَدَةِ، وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا بِالتَّسْلِيمِ إلَى مُرْضِعَة أُخْرَى، وَلاَ تُكَلَّفُ أَنْ تُرْضِعَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَلَيْسَ لَهَا فِطَامُ وَلَدِهَا قَبْل الحَوْلَيْنِ، وَلاَ الزِّيَادَةُ عَلَى الحَوْلَيْنِ إلاَّ بِرِضَا السَّيِّدِ، وَأَمَّا الحُرَّةُ فَلَهَا حَقٌّ فِي الفِطَامِ فَلاَ فِطَامَ إلاَّ بِتَوَافُقِهِمَا، فَإنْ أَبَتِ الفِطَامَ قَبْلَ الحَوْلَيْن فَعَلَيْهِ الأُجْرَةُ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا ولَدَتْ أمته أو أمُّ ولده منه فله أن يجبرها على إرضاعه؛ لأن لَبَنَهَا ومنافعها له، ولو أراد أن يُسَلِّم الولَدَ إلى غيرها، وأرادَتْ هي أن ترضعه، ففي "التتمة": حكاية وجهَيْن في أنه هل يتمكَّن منه؟ أحدُهما. نَعَم؛ لأنها ملكه، وقد يريد استخدامها والاستمتاع بها. وأظْهَرُهما، وهو المذكور في الكتاب: المنع لما فيه من التفريق بين الوالِدَة وولَدِها، نعَمْ له أن يضمه في أوقات الاستمتاع إلى غيرها، ولا يكلفها أن ترضع ولداً آخر مَعَ ولدها بأُجْرةٍ أو بغَيْر أُجرةٍ، إلا أن يفضل لبنها عن ريِّ ولَدِها إما لقِلَّة شُرْبه، أو لكثرة اللَّبَن، أو لاجتزائه بغير اللبن في أكثر الأوْقَات، ولوْ مَاتَ، ماتَ ولَدُها أو استغنى عن اللبن، فله ذلك، وله إجْبارها على الفِطَام قبل الحولَيْن، إذا اجتزأ الولد بغَيْر اللبن، وعلى الإرضاع بعد الحولين، وإن كان يجتزئ بغيْرِ اللبن، إلاَّ إذا تضررت [به]، وليس لها الاستقلال بالفِطَامِ ولا الرضاع، وأما الحُرَّة، فهِيَ صاحبةُ حقٍّ في تربية الولَدِ، فليس لواحدٍ من الأبوين الاستقلالُ بالفِطَامِ قبْل تمام الحولَيْن، وعلى الأب الأجْرَةُ، إذا امتنعت منه الأُمُّ إما لها أو لغيرها، وذكر فيه احتمالٌ: إذا لم يَتضرَّر به الولد، وإن اتفقا عليه جاز إذا لم يَتضرَّر به الولد وبعد الحولين يجوز لكل واحدٍ منهما الفِطَامُ، إذا كان يجتزئ بالطعام، ويجوز أن في اد في الإرضاع بالإنفاق، ولو لم يكن وَلَدُ الأمة مِنَ السيد، بل مملوكًا له، وكان من زوْجٍ أو زناً، فحضانته على السيد، وحُكْمُ الإرضاعِ على ما ذكرنا، وإن كان حرّاً، فله طلب الأجرة على إرضاعه، ولا يلزمه التبرُّع كما لا يجب على الحُرَّة التبرُّع (¬1) بالإرضاع، ولو رَضِي بأن ترضعه مجاناً، لم يكن لها الامتناع. وقوله في الكتاب: "فلا فطام إلا بتوافقهما" يعني قبل الحولَيْن كما قال عقيبة "فإن أَبَتِ الفِطَامَ قَبْلَ الحَوْلَيْنِ" أما بعد تمام الحولين، فلا حاجة إلى التوافُقِ، ولكلِّ واحدٍ منهما ذلك؛ على ما ذكرنا، كذلك أورده صاحب "التهذيب" وغيره. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلاَ يَتَعَيَّنُ مَا يُضْرَبُ عَلَى العَبْدِ مِنْ خَرَاجٍ مُعَيَّنٍ بَلْ عَلَيْهِ بَذْلُ المَجْهُودِ، وَلاَ يُكَلِّفُهُ السَّيِّدُ إلاَّ مَا يُطِيقُ، فَإِنْ لَمْ يُنْفِقْ عَلَى عَبْدِهِ بِيْعَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُرْغَبْ فِي شِرَاِئهِ فَهُوَ مِنْ مَحَاوِيجِ المُسْلِمِينَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: ¬
إحداهما: تجوز المُخَارَجَة وهو ضرب خراجٍ معلوم على الرقيق يؤديه كل يوم أو كل أسبوع ممَّا يكتسبه، وليس للعبد أن يَجْبُر السيِّد عليها، ولا للسيد إجبار العَبْدِ كعَقْدِ الكتابة، وعن القاضي أبي حامِدٍ تخريجُ قولٍ: أن للسيد إجبارَ العَبْدِ عليها، كما ينقل منافعه على كُرهٍ منه إلى غيره، والمذهب الأول، وإذا تراضيا، فليكن له كَسْبٌ دائمٌ [يفي] بذلك الخراج فاضلاً عن نفقته وكسوته إن جعلهما في كسبه، وإذا وَفَّى وزاد ما يكفيه، فالزيادة مبرة من السيد إلى عَبْدِه وتوسيع للنفقة عليه، وإن ضرب عليه خراجاً أكثر مما يليق بحاله، وألزمه أداءه، منعه السلطان منه. روي أن عثمان -رضي الله عنه- قال: "لاَ تُكَلِّفُوا الصَّغِيرَ الكَسْبَ؛ فَيَسْرِقَ، وَلاَ الأَمَةَ غَيْرَ ذَاتِ الصَّنْعَةِ فَتَكْتَسِبَ بفرجها" ويجبر النقصان في بعض الأيام بالزيادة في بعضها، ولا يخفى أن المُخَارَجَةَ لا تلزم وقوله في الكتاب: "ولا يتعين ما يضرب على العبد من خراج معيَّن" أي لا يلزم العَبْد ذلك، ولا يجبر عليه، ويجوز أن يُعْلَم بالواو؛ للتخريج المذْكُور. ولا يجوز للسَّيِّد أن يُكلِّف رقيقَهُ من العمل إلا ما يطيقه، ولا يكلِّفه الأعمال الشاقة إلا في بعض الأوقات، ولا ما إذا [ما] قام به يوماً أو يومين، عَجَزَ وضَعُفَ شهراً أو شهرين، وإذا عمل بالنهار، أراحه بالليل، وكذا العكس، ويريحه في أيام الصيف في وقت القيلولة ويستعمله في الشتاء النهارَ مع طرفي الليل، ويتبع في جميع ذلك العادةَ الغالبة، وعلى العبد تَرْكُ الكسل، وبَذْل المجهود. الثانية: إذا امتنع من الإنفاق على مملوكه، باعَ الحَاكِمُ مالَه في نفقته، وكيف يبيع؟ أيستدين عَليْه، فإذا اجتمع عليه شيْءٌ صالحٌ باعه فيه أو يبيع شيئاً فشيئاً؟ حكى القاضي الرويانيُّ فيه وجهَيْنِ (¬1)، فإن لم يظْهَر له مالٌ، أمره بأن يبيعه أو يُؤَجِّره أو يعتقه، فإن لم يفعل، باعه الحاكمُ أو أجَّره، فإن لم يرغب فيه، أنفق عليه من بيت المال، فإن لم يكن فيه مالٌ، فهو من محاويج المسلمين يقومون بكفايته (¬2)، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيجِبُ عَلَفُ الدَّوَابِّ لِحُرْمَةِ الرُّوحِ، وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عِمَارَةُ العَقَارِ وَالدَّارِ، وَيَجُوزُ غَصْبُ العَلَفِ وَالخَيْطِ لِجِرَاحِ الدَّابَّةِ عِنْدَ العَجْزِ، وَلاَ يَجُوزُ نَزْفُ لَبَنَهَا ¬
بِحَيْثُ يَضُرُّ بِنِتَاجِهَا، وَإذَا أَجْدَبَتِ الأَرْضُ وَجَبَ عَلَفُ السَّائِمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلِفْ بيعَتْ عَلَيْهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من ملك دابَّةَ لزمه علفها وسقْيُها؛ لحرمة الرُّوح، ويقوم مقام السَّقْي والعَلَفِ تخليتها؛ لترعى، وترد الماء، إن كانت مما يَرْعَى ويجتزئ به لخصيب الأرض، ولم يكن مانعُ ثلج وغيره، فإن أجدبت الأرض، وكانت لا تجتزئ بما ترعى، فعليه أن يُضِيفَ إلَيْه من العَلَف ما يكفيها، ويطرد ذلك في كل حيوانٍ محترمٍ، وقد ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ مَسكَتْهَا حَتَّى مَاتت مِنَ الجُوعِ، فَلَم تَكُنْ تُطْعِمُهَا وَلاَ تُرْسِلُهَا فَتَأْكُلَ مِنْ خَشَاشِ الأَرضِ" (¬1) وخِشَاش الأَرْض هوامُّها بفتح الخاء وكسره، فإن امتنع المالك من ذلك أجْبَرَه السلطَانُ في المأكول على بيعها أو صيانتها عن الهلاك بالعلف أو التخلية أو ذبحها، وفي غير المأكول على البَيْع أو الصيانَة، فإن لم يفعل، ناب الحاكِمُ عنه في ذلك على ما يراه ويقتضيه الحالُ، وعن أبي الحُسَيْن: أنه لا يخليها لخَطَرِ الذئب وغيره، فإن لم يُعْرَفْ له مالٌ، باع الدابَّةَ أو جزءاً منها، أو إكراهًا، فإن لم يرغب فيها لعَمًى أو زمانةٍ، أنفق عليها من بيْت المال، ولا تُضيع كالرقيق، وبهذا كلِّه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: لا يجبره السلطان على العَلَف ولا يبيع ماله فيه، ولكن يأمره به عَلَى سبيل الأمر بالمعروف. ولا يكلف الدابَّة ما لا تطيقه من تثقيل العمل وإدامة السير وغيرهما، ويجوز غصب العَلَف لإبقاء الدابة، إذا لم يوجَدْ غيره، ولم يبعه المالك، وكذا غصب الخيط؛ لجراحتها، وذكر فيها وجه، والظاهر الأول، وهو كالعدول إلى التيمم، وسقْيها الماء ومسألة الخَيْط مذكورةٌ مرةً في "الغصب" ولا يجوز نزف لبن الدابة بحيث يضر بنتاجها، وإنما يحلب ما يفضل عن رِيِّ ولدها. قال القاضي الرويانيُّ: ويعني بالري ما يقيه حتى لا يموت، وقد يتوقَّف في الاكتفاء بهذا، وذكر في "التتمة" أنه لا يجوز الحَلْب، إذا كان يضر بالبهيمة؛ لقلة العَلَف، وأنه يكره ترك الحلب إذا لم يكنِ في الحَلَب إضرارٌ بها؛ لما فيه من تضييع المال والإضرار بالبهيمة وأنَّ المستَحَبَّ ألاَّ يستقصى في الحَلْبِ، ويُبْقى في الضّرْع شيء، وأن يقُصَّ الحالبُ أظفاره، كيلا يؤذيها بالقرص. وييقى للنحل شيئاً من العسل في الكوارة، فإن كان الاشتيار في الشتاء، وتعذر ¬
الخروج، فينبغي أن يكون المتبقي لها أكثر، وإن قام شيء مقام العسل لغذائها، لم يتعين إبقاء العسل، وقد قيل: يشوي دجاجة، وتعلق بباب الكوارة،. فتأكل منها. وديدان القَزِّ تعيش بورق الفرصاد، فعلى مالِكِهَا تخليتها؛ لتأكل منها، فإن عز الورق، ولم يعتن المالك بها، بيع ماله في الورق؛ كي لا يهلك من غير فائدة. نعم، إذا جاء الوقْت، جاز تجفيفها بالشمس، وإن كانت تَهْلَكُ لتحصيل (¬1) فائدتها، وأما ما لا روح فيه كالعقار والقنى والزرع والثمار، فلا يجب القيام بعمارتها، ولا يكره ترك زراعة الأرْضِ، لكن يكره ترك سقي الزَّرْع والأشجار عند الإمكان؛ لما فيه من إضاعة المال، وفي "التتمة": أنه يكره أيضاً ترْك عمارة الدَّارِ إلى أن تخرب (¬2)، ولا يكره عماراتُ الدُّورِ وسائر العقارات؛ للحاجة، والأَوْلَى ترك الزيادة، وربما قيل تَكْرَهُ الزيادة. وقوله في الكتاب: "وإِنْ لم تجب عمارة العقار والدار" الدار داخلةٌ في العقار، ولو قال "كالدار" أو قدم الدار على العَقَار، لكان أحسن وقوله: "يجوز غَصْبُ العَلَف" أعلم بالواو. وقوله: "وإذا أجدبت الأرض، وجب علف السائمة" وقد يشير إلى أن المراد مِنْ عَلَف الدواب في قوله أو لا تجب علف الدواب القيام بكفايتها بإسامتها أو تهيئة علفها من البيت، وَبَيَّنَ هاهنا أنَّه إذا تعذَّرت الإسامة، تعين العَلَف من البيت. وقوله: "فإن لم يعلف بيعت عليه" لا اختصاص له بهذه الصورة؛ على ما بيَّنَّا [وبالله سبحانه التوفيق والإعانة، هذا آخر ربع النِّكَاح]. قَالَ الْغَزَالِيُّ: تَمَّ رُبْعُ النِّكَاحِ يَتْلُوهُ رُبْعُ الجِرَاحِ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ وَالصَّلاةُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أجْمَعِينَ. ¬
كتاب الجراح
كِتَابُ الجِرَاحِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: القَتْلُ كَبِيرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَا الكَفَّارَة وَالقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ، وَالنَّظَرُ في القِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَالطَّرَفِ، وَمِنَ النَّفْسِ فِي المُوجِبِ وَالوَاجِبِ، وَالمُوجِبُ لِلْقِصَاصِ لَهُ ثَلاثةُ أَرْكَانٍ: الرُّكْنُ الأَوَّلُ: القَتْلُ وَهُوَ كُلُّ فِعْلٍ عَمْدٍ مَحْضٍ عُدْوَانٍ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مُزْهِقَاً لِلرُّوحِ. قَالَ الرَّافِعِيَّ: هذا الكتاب يُتَرْجَم تارةً بكتاب "الجِرَاح" وأخرى بكتاب "الجِنَايَاتِ" والغَرَضُ لفظ يَشْمَل القتل والقَطْع والجرُوحَ الَّتي تُزْهِقُ، وَلَاَ تُبِينُ، فإِنَّ للقصاص والدية مدخلاً فيها جميعاً ولا شبهة في شمول لفْظ الجنايات لجميعها، وأما الجِرَاحُ، فهي جمْعُ جِرَاحَةٍ بالكسر، فتتناول الجراحة المزهقة، والمبينة والتي لا تُزْهِقُ ولا تُبِينُ، والقتل، وإنْ كان لا ينحصر طريقه في الجراحة، لكنها أغلب طُرُقِهِ، فحسنت الترْجَمَة بذلك، ويقال جَرَحَهُ جَرْحاً، والجُرْح بالضم الاسم، والجمع جروح، وقَتْلُ النفسِ من غير جريحة محرَّمٌ، بل هو من أعظم الكبائر (¬1). قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] وسُئل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّ الذَّنْب أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ -عزَّ وجلّ- فَقَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لله نِدّاً، وَهُوَ خَلَقَكَ قِيلَ: ثُمَّ أيُّ؟ قَالَ: أَنْ ¬
تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ" (¬1). وعن عثمان -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال:"لاَ يَحِلُّ قَتْلُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ، وزِنَاً بَعْدَ إِحْصَان، وَقتلَ نفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ" (¬2). وفي الخَبَر: "لَقَتْلُ مُؤْمِنٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنْ زَوَال الدُّنْيَا" (¬3) أيضاً "مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِم، وَلَو بِشَطْرِ كَلِمَةٍ، لَقَى الله -تَعَالَى- وَهُوَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ" والإجماع منعقِدٌ عليه، ويتعلَّق بالقتل المحرَّم وراء العقوبة الأخروية مُؤَاخَذَاتٌ في الدنيا. إحْداها: القِصَاصُ؛ قال الله تعالى: {وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وقال عز اسمه: {كُتِبَ عَلَيكُمُ القِصَاصُ في القَتْلَى} [البقرة: 178] وقال -عزَّ وجلّ-: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بالنَّفْسِ} [المائدة: 45] قال الأصحاب - رحمهم الله-: هذا، وإن كان خَبَراً عما في التوراة، لكنْ شرْعُ من قبلنا شَرْعٌ لنا، إذا لم يَردْ نَاسخ له، على رأْي الأصوليين، وبتقدير أن لا يكون كذلك، فإن وَرَدَ ما يقرِّره، فهو شرعٌ لنا، لا مَحالة وقد رُوِيَ أن: الرُّبَيَّعَ بنْتَ النَّضْرِ عمَّةَ أنس بن مالك -رضي الله عنهما- كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جارَيةٍ فأَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالِقصَاص، فَقَالَ: "أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّع، لا، واللهِ، فقالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- "كِتَاب اللهِ القِصَاصُ" وليس في كتاب الله تعالى ذكْرُ قِصَاصِ إلا في هذه الآية. والثانية: الدِّيَة. والثالثة: الكفَّارة ولهما بابان مفردان سيأتيان في موضعهما -إن شاء الله تعالى- والمقصود الآن الكلامُ في القصاص، وأشار بقوله في الكتاب: "والقصاص أو الدية" إلى أنهما لا يجتمعان لا وجوباً ولا استيفاء، وقد يوجَدُ في النسخ "والقِصَاصُ وَالدِّيَةُ" هو صحيحِ أيْضاً أي يتعلَّقان بالقتل في الجملة، وقدَّمَ الكفارة عليهما في الذِّكْر؛ لأنهما أعم مجالاً، وتجامع كلاً منهما [وقد تنفرد عنهما] (¬4). ¬
ثم القِصَاصُ لا يختص بالنَّفْس، بل يجري في غير النفس من الأطراف وغيرها، والكلام فيه فَنَّانِ: أحدهما: في المُوجِب للقِصَاص. والثاني: في حكم القصاص الواجب استيفاءً تارةً وعفْواً أخْرَى. أما الفَنُّ الأول: فهو مرتَّب على نوعين: قِصَاصِ النَّفْسِ، وقِصَاصِ الأطراف والجراحات. أما النوع الأول: فللموجب فيه ثلاثةُ أركانٍ، وهي: القَتْلُ والقَتِيلُ، وَالْقَاتِلُ، وإذا كانت هذه الأركان بالصفات المفصَّلة من بعد، تعلق بها القصاص، هذا هو الترتيب المسبوق في الكتاب، وكان من حقِّه أن يقول: "والنَّظَر في القِصَاصِ في المُوجِب والوَاجِبِ، ومِنَ الموجِبِ في النفس والطرف"، وكذلك فعل في "الوسيط". وقوله هاهنا: "والنظر في القصاص في النفس والطرف، ومن النفس في الموجب والواجب" لا يلائم موضع التفصيل. الركن الأول: القَتْلُ قال: "وهو كل فعل عمد محْض عدوان مِنْ حيْثُ كَوْنُهُ مَزْهِقاً للروح" ومعناه أن القتل الَّذِي هو ركْنٌ وجوب القصاص ومتعلّقه هذا لا أنَّ كل قتل هذا، وإنما قال فِعْل ليشمل الجُرْح وَغيره، واحترز بقوله: "عمد محْض" عمَّا ليس بِعَمْد أصْلاً، وعما هو عَمْدٌ من وجه دون وجه، ويُسمِّى شبْهَ العَمْد، وبقوله: "عدوان" عن أنواع القتل الجائز. وقوله: "من حيث كَونُهُ مُزهِقاً للروح" يبَّين أن هذا الفعل لا بُدَّ وأن يكون مزهقاً، والتقدير: فعل مزهق عدوان، من حيث هو مزهق، وفي هذا القيْدِ الآخر احتراز عما إذا غَرَزَ فيه إبرةً، ومات في الحال من غير استعقاب ألَمٍ وورمٍ، فإنه لا يتعلَّق به القِصَاص؛ لأنه ليس بعدوان مِنْ حيث هو مُزْهِقٌ؛ لأنه ليس بمزهق، أو لا يدري هل هو مُزْهقٌ أم لا، وعما إذا استحق حزَّ رقبته قِصَاصاً، فَقَدَّهُ بنصفَينِ، فإنه لا يتعلَّق به القصاص، وإن كان ذلِك عدْوانًا؛ لأنه ليس بعدوان من حيث إنه مزهق، وإنما هو عدوان من حيثُ إنه عَدَلَ عن الطريق المستَحَقِّ إلى غيره، ولَمَّا كانت الحاجة تَمَسُّ في الضبْطِ المذكور إلى تمييز العمْد عن غيره، وإلى معرفة الفعْل المُزهِق الذي يتعلُّق به القصاص مباشرةَ وتسبُّياً، فإن اسم المزهق يقع على الطريقين جميعاً، وإلى معرفة الحكم، فيما إذا اجتمع الطريقانِ المباشرةُ والسَّبَبُ، وما إذا اجتمعت مباشرتان، وعقد السلام في هذه المقاصد أربعة أطراف:
أحدها: في العَمْدِ به. والثاني: في بَيَانِ المُزْهِق، وتعلُّق القصاص بالمباشرة والسَّبَب. والثالث: في اجتماع السَّبَبِ والمباشرة. والرابع: في اجتماع المباشرتين وأما إذا اجتمع سببان، فالقول فيما يُرَجَّحُ منهما مذْكُورٌ في "كتاب الدِّيَاتِ". قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالنَّظَرُ في أَطْرَافٍ الطَّرَفُ الأَوَّلُ فِي العَمْدِ المَحْضِ وَالخَطَأُ مَا لاَ قَصْدَ فِيهِ إِلَى الفِعْلِ كَمَا لَوْ تَزَلَّق رِجلُهُ فَسَقَطَ عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ مَا لاَ قصْدَ فِيهِ إِلَى الشَّخْصِ كَمَا لَوْ رَمَى إلى صَيْدٍ فَأصَابَ إِنْسَاناً، وَالعَمْدُ الَّذِي قُصِدَ بِهِ الشَّخْصُ وَكَانَ مَا قُصِدَ بِهِ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِباً وإنْ كَانَ بِمُثَقَّلٍ لاَ يَجْرَحُ (ح) أَوْ مَا يَقْتُلُ كثِيراً وإنْ لَمْ يَكُنْ غَالِبَاً إنْ كَانَ بِجَارحٍ، أمَّا مَا لاَ يَقْتُلُ غالِباً وَإِنْ قَتَلَ كَثِيراً كَالسَّوْطِ وَالعَصَا، أَوْ يقْتُلُ نَادِرَاً كَغرْزَةِ الإِبْرَةِ الَّتِي لاَ تُعْقبُ أَلَمًا ظَاهِرَاً فلاَ قِصَاصَ فِيهِ، وَإِنْ أعْقَبَ وَرَماً وَأَلَماً حَتَّى مَاتَ عَقِيبَهُ وَجَبَ القِصَاصُ، وإنْ لَمْ يُعْقب وَرَماً وَمَاتَ عَقِيبَهُ فوَجْهَانِ، وَلَوْ سَقَى غَيْرَهُ دَوَاءً يَقْتُل كَثِيراً لاَ غَالِبَاً فَالظَّاهِرُ (و) أنَّهُ كَغَرْزِ الإبْرَةِ لِأَنَّ أَغْشِيَةَ البَاطِنِ دَقِيقَةٌ فَتَنْقَطِعُ بِالدَّوَاءِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا صَدَر منْه فعلٌ قَتَلَ غيره، وإن شِئْتَ قلْتَ أهْلَكَهُ، نُظِرَ؛ إن لم يقصد أصل الفعل، كما لو تَزْلَقُ رجْلُه، فسقط على غيره، فمات أو لم يَقْصِد الشخص المتأثّر، وإن قَصَدَ الفعل، كما إذا رمى إلى صَيْدٍ، فأصاب إنساناً، أو قصد إنساناً فأصاب غيره، فهذا خطأٌ محْضٌ لا يتعلَّق به قصاص، وإن قصد الفِعْل والشخص معاً، فقد يكون ذلك عمداً محضاً، وقد يكون شبه عمْد، وفي التمييز بينهما عباراتٌ وطرقٌ للأصحاب -رحمهم الله-. أحدها: أنه إذا وجد القَصْدَانِ معاً، وعلِمْنا أن الموت حَصَلَ بفعله، فهو عمد موجِبٌ للقصاص، سواءٌ قصد الإهلاك أو لم يقْصِدْه، وسواء كان الفعْل مهلكاً غالباً أو نادراً؛ كقطع الأنملة، وإن تردَّدنا في أن الموت هلْ حَصَل به، فهو شبْهُ عمْدٍ. والثاني: أنه إن ضربه بجارحٍ، فالحكم كما ذكرنا، وإن ضربه بمثقل، فيعتبر مع ذلك أن يكون مهلكاً غالباً، فإن لم يكن مهلكاً غالباً، ومات به، فهو شبْهُ عَمْدٍ، واعترض في "الوسيط" على الطريقة الأولَى؛ بأنه لو ضرب كوعه بعصاً، فتورم الموضع، ودام الألَمُ، حتى مات فإنا نعْلَم حصول الموت به، ولا يجب القصاص، وإنما الواجب فيه الدية على ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قَتِيلُ السَّوْطَ والعَصَا فِيهِ مَائَةٌ مِنَ الإِبِل".
وعلى الثاني: بأن العمديَّة قضيَّة حسِّيَّة لا تختلف بالجارح والمثقل، وكما يُؤَثِّر الجارح في الظاهر بالشَّقِّ والتخريب، يؤثِّر المثقل في الباطن بالهدِّ والترضيض، وفي كلام الإِمام -رحمه الله- نحو من ذلك، واختار في "الوسيط" بعد الاعتراض طريقةً ثالثةً، وهي التي أوردها [ها] هنا، وهي مشتملة على الفارق بين الجارح والمثقل بالمُعْتَرَضِ عليه، وشرْحُها أن إفضاء الفعْلِ إلى الهلاك عَلَى ثلاث مراتِبَ غَالِبٍ وكثيرٍ ونادرِ، والكثيرُ مرتبةٌ متوسطةٌ بين الغالب والنَّادِرِ، ومثَّل ذلك بالصحَّة والمرض والجذام مثلاً، فالصحَّة هي الغالبة في الناس، والجذام نادرٌ ومطلق المَرَضِ ليس غالباً ولا نادراً، فهو الذي نسميه كثيراً، فإن ضَرَبَه بما يُهْلِك غالباً، جارحاً كان أو مثقلاً، فهو عَمْد يتعلَّق به القصاصُ، وإن كان يهلك كثيراً، فكذلك الحُكْمُ، إن كان جارحًا كالسِّكِّين الصغير، وإن كان مثقلاً، كالسوط والعَصَا، لم يتعلَّق به القصاص، وإن كان يهلك نادراً، فكذلك لا يتعلَّق به القصاص، وإن كان جارحاً كغرز الإبرة التي تعقب ألماً، ولا ورماً، وفرق بين الجارح وغيره؛ بأن الجراحات لها نكاية في الباطن، وتأثيراتٌ خفيةٌ يَعْسُر الوقوف عليها، وقد تهلك الجراحةُ الصغيرةُ، ولا تهلك الكبيرةُ الواسعةُ، فنعتبر نفس الجراحة وصلاحيتها، وبأن الجرح هو الطريق الذي يسلكه من يَقْصِد الإهلاك غالباً، فيناط به القصاص، وإن لم يكُنْ قدر ذلك الجرح مهلكاً غالباً وما لا يجرح، ليس طريقاً غالباً، فيعتبر فيه كونُهُ مهلكاً لمثل هذا الشخص غالباً، فيحتاج فيه إلى النَّظَر والاجتهاد؛ لاختلافه باختلاف الأشخاص والأحوال، والعبارَةُ الدائرة في كلام أكثر الأصحاب أنَّه إنْ ضَرَبَهُ عمْداً، بما يموت منه غالباً، فمات منه، فقد قتله عمْداً، وإن ضربه عمْداً بما لا يموت منه غالباً، فمات منه فهو شبْهُ (¬1) عَمْدٍ؛ ويمكن ردُّ هذا وما أورده في الكتاب، واختاره إلى شيْءٍ واحدٍ. إذا تقرَّر ذلك، فلو جَرَحَه بمحدّد من حديد أو خشب أو حجر أو قصب أو زجاج أو نحاس وغيرها، فمات في الحال أو بَعْد مدَّةِ بِسِرَايَةِ تلْكَ الجراحةِ، وجَب القصاصُ، والطَّعْنُ بالسَّنَان وغَرْزُ المَسلَّة كالضرب بالسيف، وهذا في الجراحات الَّتِي لها وقْعٌ وتأثيرٌ، فأما إبانة فَلْقَة خفيفة مِنَ اللحم، فهو كغَرْز الابرة كذلك، ذكره الإِمام -رحمه الله-، ولو غرز فيه إبرةً، فمات، نُظِرَ؛ إن غرزها في مَقْتَلٍ، وجب القصاص؛ لِخَطَرِ الموضع، وشدة تأثره، ومما عُدَّ من المقتلِ الدماغ والعينان، وأصول الأذُنَيْن، والحَلْقُ، ¬
وثُغْرَةُ النَّحْرِ، والأخْدْعُ، وهو عرق في العْنُقِ، والخاصرة، والإحليل، والأنثيان والمثانة، والعجان (¬1)، وإنْ غَرَزَهَا في غَيْرِ المقتل، نُظِرَ؛ إن ظهر أثَرُ الغَرْز؛ بأن تورَّم الموضع للإمعان في الغرز، والتوغل في اللحم، وبقي متألماً ضمناً إلى أن مات، وجب القصاص بظهور أثر الجناية وسرايتها إلى الهلاك، وإن لم يَظْهَر له أثر وتورم، ومات في الحال، ففيه وجهان: أحدهما، وبه قال أبو إسحاق وأبو الطيَّب بن سلمة: يجِبُ القصاص كالجراحات الصغيرة بغير الإبرة؛ وهذا لأن الجراحات لا يُضْبَط مورها ونكايتها في الباطن؛ فَيُدَار على ظاهر الجرح، ولأن في البَدَن مقاتل خفية سوى المقاتل الظاهرة، فالمَوْتُ بعْدَ الغرز يشعر بإصابة الجِرَاحَةِ بعْضَ تلك المقاتل، ويُرْوَى هذا عن أبي حنيفة، وذكر القفَّال أنه الأصح. والثاني: وبه قال ابن سُرَيْج والإصطخريُّ، وأبو علي بن خيران، والطبري: أنه لا يجب القصاصُ؛ لأنه لا يُقْضِي إلى الهلاك غالباً من غير سراية وتورُّم، فأشبه السوط الخفيف، وهذا ما اختاره القاضيان الطبريُّ والرويانيُّ، وذكر في "العدة": أنه المذهب، وطرد طارِدُون؛ متهم القاضي ابن كج وابن الصباغ الوَجْهَيْنِ فيما إذا تورَّم الموضع، ودام الألم إلى الموت، وقالوا: الفعل في نفسه لَيْسَ مما يقصد به الهلاك، فإنه دون الفَصْد والحجامة اللَّذَيْنِ يُقْدِمُ عليهما الناس بالاختيار، ولا يَعُدُّونهما قتلاً، والوجهان في وجوب القصاص جاريانِ في الدية أيضاً فيما ذكر صاحب "العدة" وغيره، وذكر في "التهذيب" على الوجه الذاهب إلى نفْي القِصاص: أنه شبْهُ عَمْدٍ وهو أوْلَى وفي "الرقم" للعبادي: أن الغرز في بدن الصغير والشيخ الهم وَنضْوِ الخلقة، يوجب القصاص بكل حال، وأن الفرق بين المقتل وغير المقتل في حقِّ الكامل المعتَدِل الحال والأعضاء، ولو غرز الإبرة في جلدة العقب ونحوها، ولم يتألَّم به، فلا قصاص (¬2) ولا دية، للعِلْم بأنه لم يمت منه، والموت عقيبه موافقةُ قَدَرٍ، فهو كما لو ضربه بقلم أو ألْقَى عليه خرقةً، فمات، ولو ضرب إنساناً بمثقل كبير يهلك غالباً؛ كالحجر والدبوس الكبيرين، أو حرقه أو صلبه أو هَدَمَ عليه جداراً أو سقفاً أو أوطأه دابة أو دفنه حياً أو عصر خصيتيه عَصْراً شَديداً، فمات، فعليه القصاص، وبه قال مالك وأحمد، وعند أبي حنيفة: لا قصاص، إلا إذا جرحَهُ بمحدَّد أو حرقه. ¬
لنا: ما روي أن يهوديّاً رضَّ رأسه جارية بين حجَرَيْنِ، فَقَتَلَهَا فأَمَرَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- برض رَأْسِهِ بَيْنَ حَجَرَيْنِ وأيْضاً، فقد تعمد إهلاكه بما يهلك غالباً، فأشبه القتل بالمحدَّد، وأيضاً، فلو أسقطنا القِصَاص لاتخذه أولو العرامة والفساد ذريعةً إلى إهلاك [الناس]، وإن ضربه بسوطٍ أو عصاً خفيفةٍ أو رماه بحَجَرٍ صغيرٍ، فإن وَالَى الضرباتِ، حتى مات أو اشتد الألم وضعف، وبَقِيَ ضمنًا إلى أن مات، وجب القصاص (¬1)، وإن لم يوال واقتصر على سوط أو سوطَيْنِ، فإن ضربه في المقتل، أو في شدة الحَرِّ أو البرد المعينَيْن على الهلاك، أو كان المضروبُ صغيرًا أو ضعيفاً بأصْل الخلقة، أو بعارض علَّةً، فكذلك؛ لأنه يهلك غالباً في هذه الأحوال، ولهؤلاء الأشخاص، وإن لم يكن شيْءٌ من ذلك ومات، فهو شبه عمد، ولو خَنَقَهُ أو وَضَع يده عَلَى فيه أو مخدة ونحوها، حَتَّى مات بانقطاع النفْسِ، فعليه القصاص، وإن خلاَّه وهو حيٌّ، فكذلك، إن انتهى إلى حالة حركة المذبوح أو ضَعْف، وبقي متألماً إلى أن مات، فإن زال ما أصابه من الضعف والألم، ثم مات فقد انقطع أثر ذلك الفعْل، وإن كانت مدَّة الإمساك [على الفم] قصيرةً، لا يموت مثلُه في مثْلِها غالباً، فهو شبه عمد، وألحق الضَّرْب بجمع الكَفِّ بالضَّربْ بالعصَا الخفيفة. وقوله في الكتاب: "كما لو تَزْلَقُ رجلُهُ" في بعض النسخ زلق وهما واحد، وفي معناه ما إذا تولَّد مِنَ اضطرابِ يَدِ المرتعش هلاك. وقوله: "وإن كان بمثقل لا يجرح" أعلم بالحاء؛ لأن المقصود ضبط العَمْد الذي يتعلَّق به القصاص، ونفى أبو حنيفة تعلُّقه بالمثقل. وقوله: "أما ما لا يقثل غالباً وإن قتل كثيراً" يعني من غير الجارح. وقوله: "أو يقتل نادراً" أي من الجارح. وقوله: "كَغَرْزَة الإبرة الَّتِي لا تُعْقِبُ أَلَمَاً ظَاهِرَاً" أي التي لا يعقب غَرْزُها، ولو قال: "الذي لا يعقب" لرجع إلى الغرز المتلفظ به، كان أَوْلَى وأشار بقوله: "لا تعقب ألماً ظاهراً" إلى الغرز في الجِلْد الخَشِن الذي لا يُؤْلِم، والمراد من الظاهر الشَّديدُ، ولا عبرة بالألم الخفيف الذي لا وقْع له ولا تأثير. ¬
وقوله: "وإن أَعْقَبَ ورماً وألماً حتى مات عَقِيبَهُ وجب القصاص" يجوز إعلامه بالواو؛ لطريقة من طَردَ القولَيْنِ مع ظهور أثر الغرز بالتورم، ولو لم يتعرض للألم، لم يَضُرَّ؛ لأن الورم لا يَخْلُو عن الألَمِ بخلاف عكْسه. وقوله: "وإن لم يعقب ورماً ومات عقيبه" هكذا صور في المسألة، ويُشبه أن لا يفترق الحال بين أن يتألم، ويموت في الحال، وبين أن يستمر التألُّم، ويموت بعد مدة، بل وجوب القصاص، إذا توالت الآلام أوْلَى؛ لتأثيرها في الضعف والسراية، وكان سبب التصوير فيما إذا ماتَ في الحال؛ أنه إذا لم يمُتْ، والألم دائمٌ، فالغالب حدوثُ التورُّم ويتبين الألم على البَشَرَةَ، فتكون عين الصورة السابقة، وأما قوله: "وإن سَقَى غَيْره دواءً يقتل كثيراً لا غالباً" إلى آخره فالمقصود منه أن الأئمة تكلَّموا في أنه لو سقاه دواءً أو سُمّاَ لا يُوحَّي ولا يقتل غالباً، لكنه يقتل كثيراً، فيكون ذلك كالضرب بالمثقل، أو كالجارح. قال الإِمام: والذي حصَّلْته من قول الأصحاب: أنه كغرز الإبرة في غير المقتل؛ لأنه يلقى في الباطن أغشية رقيقة يجْرَحُها، وتنقطع هي به، فيشبه تأثيره تأثير الجارح في ظَاهِر البَدَن، ووجه إلحاقه بالمُثْقلات سلامةُ الظَّاهِرِ عن الخراب. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ حَبَسَهُ وَجَوَّعَهُ حَتَّى مَاتَ وَجَبَ القِصَاصُ، وَكَذَا لَوْ قَتَلَهُ بِالسِّحْر (ح و) وَاعْتَرَفَ بِأَنَّ سِحْرَهُ يَقْتُلُ غَالِباً، وَإِنْ قَالَ: يَقْتُلُ نَادِراً فَلاَ قِصَاصَ، وَالكَثِيرُ غَيْرُ النَّادِرِ وَالغَالِبِ إِذِ المَرَضُ كَثِيرٌ وَلَيْسَ بِغالبٍ وَلاَ نَادِرٍ، وَلَوْ كَانَ بِهِ بَعْضُ الجُوعِ وَحَبَسَهُ حَتَّى مَاتَ جُوعاً فَإِنْ عَلِمَ جُوعَهُ لَزِمَهُ القِصَاصُ كَمَا لَوْ ضَرَبَ مَرِيضاً ضَرْباً يَقْتُلُ المَرِيضَ دُونَ الصَّحيحِ، وإنْ كَانَ جَاهِلاً بِجُوعِهِ وَجَبَ القِصَاصُ فِي أَحَدِ القَوْلَيْنِ (و)، فَإِنْ لَمْ يُوجَبِ القِصَاصُ وَجَبَ كُلُّ الدَيَّةِ فِي قَوْلٍ، وَنِصْفُهَا فِي قَوْلٍ إِحَالَةً للْهَلاَكِ عَلَى الجُوعَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: إذا حبسه في بيْت، فمات جوعاً أو عطَشاً، نُظِرَ؛ إن كان عنده الطعامُ والشرابُ، لكنه لم يتناونهُ خوفاً أو حزناً، أو أمكنه طلبه، ولو بالسؤال؛ فلم يفعل، لم يجب على مَنْ حبسه قِصاصٌ ولا ضمانٌ، والمحبوسُ هو الذي قَتَل نفْسَه، وإن منعه من الطعام والشراب ومنعه منَ الطلب، حتى مات، نظر؛ إن مضت مدة يموت مثله فيها غالباً من الجوع أو العطش، فعليه القِصَاص، وتختلف المدة باختلاف حال المحْبُوس قوةً وضعفاً، والزمان حرّاً وبَرْداً، [فإنَّ] فقد الماء في الحرِّ ليس كهو في البرد، وإن لم تمْضِ هذه المدَّةُ، ومات، فإن لم يكن به جوعٌ وعطشٌ سابقٌ، فهو شبه عمد، وإن كان به بعضُ الجوع أو العطش، ففيه طريقان:
أظهرهما: وهو المذكور في الكتاب: أنه إن علم الحابس جوعه السابقَ، لزمه القصاص؛ لظهور قصد الإهلاك، وإن لم يعلمه، فقولان: أحدهما: أنه يجب أيضاً كما لو ضرب مريضاً ضرباً يهلكه، ولا يهلك الصحيح، وهو جاهل بمرضه. وأصحُّهما: على ما ذكر صاحب "التهذيب" [وغيره]: المنع؛ لأنه لم يَقْصِد إهلاكه، ولا أتى بما هو مُهْلِك وشبه ذلك بما إذا دَفَع إنساناً دفعاً خفيفاً، فسقط على سِكَّينٍ وراءه، وهو جاهلٌ، لا يلزمه القصاص، وفي مسألة ضرب المريض: وجهٌ يأتي مِنْ بَعْدُ، وبتقدير التسليم، وهو الصحيح، فقد فُرِّق بينهما بأن الضَّرْب ليس من جنْس المرض، فيمكن إحالة الهلاك عليه، والجوعُ من جنس الجوع، والقدر الذي يتعلَّق منه بصنعه، لا يمكن إحَالَةُ الهلاكِ علَيْهِ، حتى لو ضعُفَ من الجوع، فضربه ضرباً يقتل مثْلَهُ، وجب القصاص. والطريق الثاني: أنه إن كان جاهلاً، فلا قصاص قطعاً، وإن كان عالماً، ففيه قولان، فإن أوجبنا القِصَاصَ، فتجب الدية بتمامها، دية العمد إن كان عالماً ودية شبه العمد، إن كان جاهلاً، وإن لم نوجَبِ القصاصُ، فقد حكى صاحب الكتاب وغيره في الدية قولين: أحدهما: أنها تجب بتمامها، وإنما أسقطنا القصاص للشبهة. والثاني: تجب نصْفُ ديةِ العَمْدِ أو شبْه العمد؛ لحصول الهلاك بالجوعَيْن معاً، وخروج أحدهما عن صنعه، وهذا ما أورده أكثرهم؛ تفريعاً على أنه لا يجب القِصَاصُ، وشُبِّهَ الخلاف بالخلاف فيما إذا وَضَعَ في السفينة المُشْرِفَةِ على الغرق لثقلها متاعاً زائداً فَغرقت، يجب علَيْه كلُّ الضمان أو بعْضُه. ولو منعه الشرابَ دون الطعام، فلم يأكل المحبوسُ خوفاً من العطش، فمات، فلا قصاص، وحكى أبو الحَسَنُ العَبَّاديُّ عن القفَّال: أنه يجب الضمان، وعن غيره: المنع؛ لأنه المُهْلِكُ لنفسه، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب" ولو راعى المحبوسَ بالطعام والشراب؛ لكنه مات في الحبس، فإن كان عَبْداً ضَمِنَهُ باليد، وإن كان حرّاً، فلا ضمان، سواءٌ مات حتْفَ أنْفِهِ أو بانهدامِ سَقْفٍ أو جدارٍ عليه أو بِلَسْعِ حيَّةٍ أو عَقْرَبٍ. وعن أبي حنيفة: أنه يجب الضمان، إن كان صغيراً أو كان الموت بسببٍ؛ كانهدام أو لَسْعٍ، ولو حبس إنساناً وعراه حتى مات برْداً، فهو كما لو حبسه ومنعه الطعام والشراب، ذكره القاضي الحُسَيْن (¬1) -رحمه الله- ولو أخذ زَادَهُ أو ماء أو ثيابه في ¬
مفازة، فمات جوعاً أو عطَشاً أو بَرْداً، فلا ضمان؛ لأنه لم يُحْدِث فيه صُنْعاً. المسألة الثانية: إذا سحر الساحر إنساناً، فمات، سئل عن سحْره، فإن قال: قَتَلْتُهُ بسِحْري، وسِحْرِي يقتل غالباً، لزمه القصاص (¬1)، وإن قال: قد يقتل، لكنِ الغالبُ أنه لا يَقْتُلُ، فهذا إقرارٌ منْه بشِبْهِ العمد، وإن قال: قصدتُّ غيره، فتأثر به؛ لموافقة الاسم الاسْمَ، فهذا إقرارٌ منْه بالخَطَأ، وفي الحالتين ديةُ شبه العمد أو الخَطأ تكون في ماله، لاَ على العاقلة، إلا أن يُصدِّقوه، فإن إقْرَارَه لا يلزمهم، وسنعود إلى الكلام في القَتْل بالسِّحْر في "كتاب الديات" ثم في "كتاب دعوى الدم" إن شاء الله تعالى، وفي "المختصر" باب مفرَدٌ به هنالك. وقوله في الكتاب: "وكذا لو قتله بالسحر" يجوز أن يعلم بالحاء؛ لأن عنده لا قصاص في القتل بالسحر؛ بناء على أصله في القتل بغَيْر الجارح، ويجوز أن يُعْلَم بالواو، لوجه مذكور في الموضع المُحَالِ عليه ذَاهب إلى أن السِّحْر لا حقيقةَ له، [فلا قصاص فيه] وإنما قال واعترف بأن سحره يقتل غالباً؛ لأن القتل بالسحر لا يثبت إلا بالإقرار، ولا مَدْخَل فيه للشهادة على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى-. وقوله: "والكثير غير النادر والغالب" إلى آخره، قد ذكَرْناه في الفصْل السابق، وكان إيراده هناك أوْلَى من تأخيره إلى هَذَا الموضع. وقوله: "فإن علم جوعه لزمه القصاص" وقولُه: "في أحد القولين" فيما إذا كان جاهلاً، يجوز أن يُعْلَمَا بالواو؛ للطريقة المثبتة للخلاف في حالة العِلْمِ القاطعةِ بنَفْي القصاص في حالة الجَهْل. وقوله: "كما لو ضرب مَرِيضاً ضرباً يقتل المريض دون الصحيح" فليس عليه حالة العلم ولا خلاف في وجوب القصاص، إذا علم الضاربُ أنه مريضٌ، فأما إذا جهل مرضه، فقد ذكره في الكتاب من بعد، ومسألة التجْوِيع أورد بعْضَها قَبْل مسألة السِّحْر، وبعضها بعْدها، ولو لَفَّق بينهما ولم يُخَلَّلْهما بمسألة السِّحْر، لكان أحسن. فَرْعٌ: لو ضربه اليوم ضَربةً وغداً ضربةً أُخْرَى وهكذا؛ فَرَّق عليه الضرباتِ، حتى مات، فقد حكى القاضي ابن كج فيه وجهَيْن؛ لأن الغالب السلامة عند تفريق الضربات، وعن المسعوديِّ: أنه إذا ضربه ضربةً واحدةً، ولم يكن على قصْدٍ أن يزيد عليها، فشتمه فضربه ضربةً أخْرَى، ثم شتمه فضربه ضربةً أخْرَى، حتى قتله، فلا ضمان؛ لعدم الموالاة، وينبغي ألا ينظر في الباب إلى صورة الموالاة، ولا تُقدَّر مدة ¬
التفريق، ولكن يُنْظَر إلى بقاء أثر الضَّربةِ السابقَةِ والآلام الحاصِلَةِ بها، فإن بَقِيَتْ، وضَرَبَ ضربةً أخْرَى، فهو كما لو وَالَى، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الطَّرَفُ الثَّانِي فِي بَيَانِ المُزْهِقُ وَهُوَ إمَّا شَرْطٌ مَحْضٌ كَحَفْرِ البِئْرِ بالنَّسْبَة إِلَى التَّرَدِّي إِذِ التَّرَدِّي عِلَّتُهُ التَّخَطِّي وَلَكِنَّهُ عِنْدَ الحَفْرِ لاَ بِالحَفْرِ، وَإِمَّا عِلَّةٌ كَالجِرَاحَاتِ القَاتِلَةِ فَإنَّهَا تُوَلِّدُ السِّرَايَةَ وَالسِّرَايَةُ سَبَبُ المَوْتِ، وَإمَّا سَبَبٌ فَلاَ يَتَعلَّقُ القِصَاصُ بِالشَّرْطِ وَيَتَعلَّقُ بِالعِلَّةِ، وَالسَّبَبُ هُوَ الَّذِي لَهُ أَثَرٌ مَا فِي التَّوْلِيدِ كَمَا لِلْعلَّةِ وَلَكِنَّهُ يُشْبِهُ الشَّرْطَ مِنْ وَجْهٍ فَهَذَا عَلَى ثَلاَثِ مَرَاتِب. الأُولَى الإِكْرَاهُ فَإِنَّهُ يُولِّدُ في المُكْرَهِ دَاعِيَةَ القَتْلِ غَالِبَاً فَيَتَعلَّقُ بِهِ القِصَاصُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفعل الذي له مدخل في الزهوق إما أن لا يُؤَثِّر في حصول الزهوق، ولا في حصول ما يُؤَثِّر في الزهوق ويُحَصَّلُه، هاما أن يؤثر في الزهوق، ويحصله، وإما أن يُؤَثِّر في حصول ما يؤثر في الزهوق ويحصله أما الأول، فَكحَفْر البئر، مع الرَدى، أو التردية أو كالإمساك مع القتل، فإنَّ الحفر له مدْخَلٌ في الهلاك، ولولاه، لَمَا حَصَلَ الهلاك بهذا الطريق، لكنه لا يُحَصِّل الزهوقَ ولا ما يحصل الزهوق، فإن المُحَصِّل للزهوقِ التَّردِّي في البئر ومصادفتها، والحفْرُ لا يؤثر فيه، إنما المُؤَثِّر فيه التخطِّي والحركةُ في ذلك الصوب. وأما الثاني: وهو الذي يؤثِّر في الزهوق ويَحَصِّله؛ كالقَدِّ والحَزِّ والجراحات السارية. وأما الثالث: فالإكراه المؤثِّر في القَدِّ والحَزِّ وعبر صاحب الكتاب عن القسم الأول بـ"الشرط" وعن الثاني بـ"العلة"، وعن الثالث بـ"السبب"، ولا يتعلَّق القِصَاص بالشَّرْط ويتعلق بالعلَّة، وكذا بالسبب على تفْصِيل واختلافٍ سيظهر، وهاهنا كلامان: أحدهما: ذكَرْنا في "باب الغصب" أن صاحب الكتاب لم يَفِ برعاية هذا الإصطلاح في الشرط والسبب، وسمي الحَفْر سبباً في غير هذا الموضع من الكتاب. والثاني: قال في "الوسيط" ما يَحْصُلُ الموت عقيبه ينقسم إلى علَّةٍ وشَرْطٍ وسببٍ، وليحمل على ما يَحْصُل الموت عقيبه من الأفعال التي لها مدخل في الزهوق، وله تعلُّق بها وإلاَّ، فالقسمة غير حاضرة، ثم قال: العلة ما تُوَلِّدُ الموْتَ، إما بغير واسطة، كحز الرقبة، وإما بوسائط؛ كالرمْي؛ فإنه يُولَّد الجُرْح، والجُرْح يولِّد السراية، والسرايةُ تولِّد الموت، ولك أن تقول: الروح غير متناوَلٍ باليد ولا بالسَّيْف والسَّهْم، والجراحةُ الحاصلةُ بسهم الرامي كالجراحةِ الحاصلةِ بسَيْف المجيل والمُحَرِّك، [له] فَإِن صدَقَ القَوْلُ بأن الرمْيَ يولَّد الجُرْحَ، والجرحُ السرايةَ، والسرايةُ الموْتَ، وكان ذلك
مولداً للموت بوسائط صدَقَ القوْلُ بأن تحريك السيف في جهة الشخص، وإصابته تولِّد الجراحة، والجراحةُ السرايةَ والسرايةُ الموت، حتى يكون ذلك مولداً للموت بوسائط. ولا فَرْق بينهما إلاَّ أن الجراحة بالحَزِّ أوحى، ثم إذا كانت العلَّة ما تُولِّد الموت بوسائط أو بغَيْر واسطة، دَخَلَ في تفسيرها ما عَدَّه سبباً، لا علَّةً، كالإكْرَاه؛ فإنه يولد الضرْبَ بالسيف أو الرمْيَ من المكره، وهو مولدُّ للموت. وقوله في الكتاب: "في بيان المزهق" ليُحْمل لفْظُ المُزْهِقِ على ما له مَدْخَلٌ في الزُّهُوق إلا على حقيقته، وهو الفعْل المفيد للزهوق، وإلا لم يدْخُل الحَفْر فيه. وقوله: "والسبب هو الَّذِي له أَثَرٌ مَا في التَّوْلِيدِ كما للعلة ولكنه يشبه الشَّرْط من وجْهٍ" معناه أن السبب يُشَارِك العلة في مُطْلَق توليد الموت، إلا أن توليد السبب بواسِطَةٍ، وتوليد العلة بلاَ واسِطَةٍ ويُشْبه الشَّرْطَ من حيث إنه لا يولد الموت نفسه، وقد يوجد ويتخلف عنه الموت، ويمكن أَن يفرق بين السَّبَب والمباشرة؛ بأن المتسبب إلى القتل هو الذي يصْدُقُ أن يقال فيه إنه ما قَتَل، لكنه أَمَرَ به أو حَمَلَ عليه أو سَلَكَ الطريق المفضي إليه، وما أشبه ذلك، والمباشِرُ هو الذي لا يصْدُق فيه هذا الكلام، ثم إنه جَعَلَ السبب على ثلاث مراتب. إحداها: الإكراه، فإذا أكره إنساناً على قتل آخر بغير حق، فقتله، وَجَب القصاص على المُكْرِهِ؛ ووُجِّه بأنه أهلكه بما يقصد به الهلاك غالباً، فأشبه ما إذا رَمَى إلى إنسانٍ فقتله؛ وهذا؛ لأن الإكراهُ يولِّد داعية القتل في المُكْرِه غالباً؛ ليدفع الهلاك عن نفسه، فيتعلَّق به القصاص. وحكى الشيخ أبو عاصم العبَّادِيُّ، عن شيخه الأستاذ أبي طاهر عن شيخه الأستاذ أبي الوَلِيدِ عن شيخه ابن سُرَيْجٍ -رحمة الله عليهم-: أنه لا قِصَاصَ عليه؛ لأنه متسبِّب، والمُكْرَهُ مباشرٌ مأثومٌ بفعله، والمباشرة تتقدَّم على السبب، وقد يوقف هذا على أبي الوليد، والمذهب المشهور الأوَّل، والكلام فيما يكون إكراهاً قد قدمناه في الطلاق وأوردنا فيه طرفاً، والذي مال إليه المعتبرون هاهنا ورجَّحوه أن الإكراه في القَتْل لا يَحْصُل إلا بالتخويف بالقَتْل أو ما يُخَاف منه التَّلَفُ؛ كالقطع والجرح والضرب الشديد، بخلاف الطلاق، فإنَّ الإكرَاه فيه لا ينْحَصِر في ذلك، على الأظهر، وحكْمُ الإكراهِ الصادرِ من الإِمام أو نائبه، والصادرِ من المتغلب واحدٌ فيما ذكرناه. وعن أبي حنيفة أن الإكراه لا يتحقَّق إلاَّ من السلطان. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةُ: شَهَادَةُ الزُّورِ فَإنَّهَا تُوَلِّدُ فِي القَاضِي دَاعِيَةَ القَتْلِ غالِباً مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ فَيُنَاطُ (ح) بِهَا القِصَاصُ عِنْدَنَا إلاَّ إِذَا أعْتَرَفَ الوَلِيُّ بِكوْنِهِ عَالِماً بِتَزْوِيرِهِمْ. فَلاَ يَجِبُ القِصَاصُ إلاَّ عَلَيْهِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا شهدوا على إنسانٍ بما يُوجِب القتْل إما قصاصاً أو بالرِّدَّة أو بالزِّنَا، وهو مُحْصَن، فحَكَمَ القاضي بشهادتهم، وقتل بموجبها، ثم رَجَعُوا، وقالوا: تعمَّدنا، وعلِمنا أنه يُقْتَل بشهادَتِنا، لَزِمَهم القصاص (¬1) خلافاً لأبي حنيفة. لنا: أنهم تَسبَّبُوا إلى قتله بما يفضى إليه غالباً، فيلزمهم القصاص كالمُكْرِهِ؛ وهذا لأنَّ الشهادة تُولِّد في القاضي داعيةَ القتْل شرعاً كما أن الإكراه تُولِّدُ الداعية حِسّاً. قال الإِمام: بل الشهادة أبْلَغُ من الإكراه؛ لأن المُكْرَه قد يتحرَّز وُيؤْثِر هلاك نفْسِهِ على سَفْك دَمٍ مُحَرَّم، والقاضي لا محيص له عن الحُكْم بشهادة العُدُول، ولو شهدوا بما يوجِبُ القطْع قصاصاً أو سرقة، فقَطَعَ، ثم رجَعْوا، فعليهم القَطْع، فإن سرى، فعليهم القِصَاصُ في النفس. وقد رُوِيَ أن رجلَيْن شهدَا عنْد عليٍّ -كرم الله وجهه- على رَجُل بسرقةٍ، فقطعه ثم رَجَعَا عن شهادَتِهما، فقال: لو أعلم أنكما تعمَّدتما، لقَطَعْت أيديكما (¬2). وإنْ رَجَع الشهود، وقالوا: لم نعلم أنه يُقْتل بقولنا، أو رجع المزكي أو رجع القاضي، إما مع الشهود أو دونهم أو رجع الوَلِيُّ إما وحده أو معهم، فكُلُّ ذلك سيأتِي في "كتاب الشهادات" إن شاء الله تعالى. وإنما يجب القصاص على الشهود، إذا أخرجت شهادتهم مباشرة [الولي] القتل عن أن يكون عدواناً، أما إذا اعترف الوليُّ بكونه عالماً بكذبهم، فلا قصاص (¬3) عليهم. ¬
قال في "الوسيط": لأنهم لم يلجئوه حِسّاً، ولا شرعاً، فصار قولُهُم شرطاً محضاً، كالإمساك. وقوله في الكتاب: "شهادة الزور" المراد ما إذا شهدوا ورَجَعُوا، والقصاص يُنَاط برجُوعِهم واعترافهم بالتعمُّد لا يكذبهم، حتى لو تَيَقَّنَّا كذبهم؛ بأن شاهدنا المشْهُود بقتله حَيّاً فلا يظهر وجُوبُ القِصَاص عليهم؛ لجواز أنهم لم يتعمَّدوا. وقوله: "فيناط به القِصَاصُ عندنا" كلمة "عندنا" على خلاف عادة الكتاب، ثم هي غير مغنية عن الإعلام بالحاء؛ لأنه لا يعرف مِنَ الملفوظ أنه عنْد مَنْ لا يُنَاطُ بها القصاص؟ وقوله: "إلا إذا اعترف الوليُّ بكونه عالماً بتزويرهم" هاهنا يكفي الاعتراف بكذبهم، ويقتضي ذلك وجوبَ القِصَاص عليه، رجَعُوا أو لم يَرْجِعُوا. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثَةُ: ما يُولِّدُ المُبَاشرَةَ تَوْلِيداً عُرْفِيًّا لاَ حِسِّياً وَلاَ شَرْعِيّاً كَتَقْدِيمِ الطَّعَامِ المسْمُومِ إلَى الضَّيْفِ وَحَفْرِ بِئْرٍ فِي الدَّهْلِيزِ وَتَغْطِيَةِ رَأسِهِ عِنْدَ دَعْوَةِ الضَّيْفِ، وَفِي ارْتبَاطِ القِصَاصِ بِهِ قَوْلاَنِ لِأَنَّ الضَّيْفَ مُخْتَارٌ لَيْسَ مُلْجَأً حِسّاً وَشَرْعاً، فإِنْ قُلْنَا: لاَ قِصَاصَ وَجَبتِ الدِّيَةُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لَمَّا كان التوليد في المرتبة الأُولَى، وهي الإكراه حسيّاً، وفي المرتبة الثانية، وهي الشهادة شَرعيّاً، أشار إلى ذلك بقوله في هذه المرتبة. "توليداً عرفيّاً لا حسيّاً ولا شرعيّاً" والمقصود أنه إذا أوجر غيره سُمّاً صِرْفاً أو مخْلُوطاً، وهو مما يقتل غالباً موجباً أو غير موح، فمات، لَزِمَه القصاص، وإن كان لا يقتل غالباً، وقد يقتل، فهو شبه عمْدٍ لا يتعلَّق به القِصَاص، لكن لو كان المُوجَرُ ضعيفاً لمرض أو غيره ومثْلُهُ يَقْتُلُ مثْلَه غالباً، وجب القصاص؛ هذا هو الظاهر المعروف. وفي كتاب القاضي ابن كج قوْلٌ أن السمَّ، وإن كان مما لا يَقْتل غالباً، فإذا مات الموجَرُ به، وجب القِصاص؛ لأن السموم لها نكايات في الباطن؛ كالجراحات، فالموت به كالموت بالجراحة الخفيفة التي لا تَقْتل غالباً. ولو قال الموجِر: الذي أوجرته كان ممَّا لا يقتل غالباً، ونازعه الوليُّ، فالقول
قول الموجَر مع يمينه، فإن ساعدته بينة على ما يقولُه، حُكِمَ بها، ولا يمين عليه، وإن أقام الوليُّ بينة عَلَى ما يقوله، وجب القصاص، ولو اتفقا على أنه كان من هذا السم الحاضر، وشهد عدلان بأن هذا يقتل غالَبَاً، تمَّتِ البينة، ولو قال: لم أعلم كونَه سُمّاً أو كونه قائلاً غالباً، ونازعه الوليُّ، فقولان: أحدهما: أنه لا يُلْتفت إلى قوله، ويلزمُهُ القِصَاص، كما لو جَرَحه، وقال لم أعلم أنه يَمُوتُ من هذه الجراحة. والثاني: المنع؛ لأنه مما يشتبه ويَخْفَى بخلاف الجراحة ورأى القاضي الرويانيُّ الأولَ أظْهَرَ فيما إذا قال: لم أعلم كونَة قاتلاً غالباً. ولو لم يُوجِره السمَّ القاتلَ ولكن أكرهه عليه حتى شرب بنفسه، فعن الداركيِّ وغيره: أن في وجوب القصاص عليه قولين، قال في "العدة": أصحُّهما: وجوب القصاص والوجه أن يكون هذا كما لو أكرهه، على أن يقتل نَفْسَه، وسيأتي -إن شاء الله تعالى-. ولو نَاوَلَهُ الطعامَ المسْمُومُ، وقال: كُلْه، أو قَدّمه إليه وأضافه به، فأكله ومات، فإن كان صبياً أو مجنوناً، لزمه القصاص، سواء قال لهما: إنه مسموم قاتِلٌ، أو لم يقل، وبمثله أجابوا في الأعجميِّ الذي يعتقد أنه لا بُدَّ من الطاعة في كلِّ ما يشار عليه به، ولم يفوقوا بين الصبيِّ المميِّز وغيره، ولا نَظَروا إلى الخلاف في أن عَمْدَ الصَّبيِّ عمْدٌ أو خطأٌ، وللنَّظَرَيْن مجالٌ وإن كان بالغاً عاقلاً، فإن بَيَّن له حال الطعام، فلا شيء على المُنَاوِل والمقدِّم، والآكِلُ هو الذي أهْلَك نفسه، وإن لم يبيِّن، ففي القصاص قولان مرويَّان عن "الأم" وهما جاريان فيما إذا غطَّى رأْسَ البئر في دهليزه، ودعا إلى داره ضيفاً، وكان الغالب أنه يَمُرُّ على ذلك الموضع، إذا أتاه، فأتاه، وهلك به. أحد القولين: أنه يلزمه القِصَاصُ؛ لأنه تغرير يفضي إلى الهلاك غالباً في شخْصٍ معيَّنٍ، فأشبه الإكراه. والثاني: المنْع؛ لأنه فعل ما هلك به باختياره من غير إلجاء حسَّيٍّ ولا شرعيٍّ، ورجَّح القاضي الرويانيُّ وغيره الأول من القولين، ومال الإِمام وغيره إلى ترجيح الثاني، وهو قياس ما سبَقَ في مسائل التغرير والمباشرة في "كتاب الغصب" وغيره وطرد في "التهذيب" القولَيْنِ فيما إذا قال: كُلْ، وفيه شيْءٌ من السُّمِّ، لكنه لا يَضُرُّ، وفيما إذا جعل السُّمَّ في دَنِّ ماءٍ على الطريق، فشرب منه إنسانٌ، ومات، وليكن الفرض فيما إذا كان طريقَ شخصٍ معيَّنِ إما مطلقاً أو في ذلك الوقْت، إلا لم تتحقَّق العمدية به، وإذا قلْنا: لا يجب القِصاص، ففي الدية قولان، حكاهما الشيخ أبو حامِدٍ والقاضي أبو الطيِّب والإمام عن رواية شيخه:
أحدهما: لا يجب أيضاً تغليباً للمباشرة على السبب. والثاني: يجب لأن تقديم الطعام المسموم يُعَدُّ قتْلاً في مستقر العادة، وهو على كل حال أقوَى من حفر البئر، فلا يمكن إحباطه، والقصاص إنما اندفع للشبهة، والأوَّل هو الذي أورده في "التهذيب". والثاني: أظهر عند الإِمام، وهو المذكور في الكتاب، ويقال إن القاضي الحُسَيْن قطع به، وقد يعبر عن الغرض؛ بأن في الدية طريقَيْن: أحدهما: أنها على قولَي القِصَاص. والثاني: القطع بوجُوبِها، ولو دَسَّ السُّمَّ في طعامِ إنسانٍ، فأكله صاحبه جاهلاً بالحال ومات، فطريقان. أظهرهما: أنه على القولَيْنِ في تقديم الطعام، إذا كان الغالبُ أنَّه يأكل منه، والثاني: القطْع بالمنع؛ لأنه لم يوجَدْ منه تغرير، وحمل على الأكل وإنما الذي وجد منه إتلاف طعامه، فعليه ضمانه، ولو دسه في طعام نَفْسه، فدخل عليه إنسان داره بغير إذنه فأكله، فلا ضمان عليه، فإن كان الرجل ممَّن يدخل دارَهُ، ويأكل انبساطاً، فيجري القولان في القِصَاصَ، أو يُقْطَع بنفيه حكى الإِمام فيه طريقين. ولْيُعْلَم قوله في الكتاب: "فإن قلنا: لا قِصَاصَ، وجبت الدية" بالواو؛ للخلاف الذي بيَّنَّاه، وقد ذَكَر الخلاف في الضمان صاحب الكتاب في مسألة الدهليز في "الديات"، وإن لم يورده هاهنا، وفي "الشامل" وغيره نقل طريقةً قاطعةً في مسألة الدهليز تَمْنَعُ القصاص؛ لأنه تتيسر معرفة البئر بخلاف السُّمِّ، ويجوز أن يعلم قوله: "وفي ارتباط القصاص به قولان" بالواو لذلك. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ جَرَى سَبَبٌ وَقَدَرَ المَقْصُودُ عَلَى دَفْعِهِ فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مُهْلِكاً وَالدَّفْعُ غَيْرَ مَوْثُوق بِهِ كَتَرْكِ مُعَالَجَةِ الجُرْحِ وَجَبَ القِصَاصُ عَلَى الجَارحِ، وَإِنْ فُقِدَ المَعْنَيانِ كَمَا لَوْ فَتَحَ عِرْقَهُ فَلَمْ يَعْصِبْ حَتَّى نَزَفَ الدَّمُ، أَوْ تَرَكهُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ فَبَقِيَ مُسْتَلْقِياً حَتَّى غَرِقَ فَلاَ قِصَاصَ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مُهْلِكاً لَكِنَّ الدَّفْعَ سَهْلٌ كَمَا لَوْ أَلْقَى مَنْ يُحْسِنُ السِّبَاحَةَ فِي مَاءٍ مُغْرِقٍ فَلَمْ يَسْبَحْ فَوَجْهَانِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُدْهَشُ عَنِ السِّبَاحَةِ، وَلَوْ أَلْقَاهُ فِي نَارٍ فَوَقَفَ فَالظَّاهِرُ وُجُوبُ القِصَاصِ لِأَنَّ الأَعْصَابَ قَدْ تَتَشَنَّجُ بِإلقَائِهِ فِي النَّارِ فَتَعْسُرُ الحَرَكَةُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفصْلُ ثلاثُ مسائلَ نذكرها ثم نعود إلى ما يَتعلَّق بترتيبها وتنزيلها منازِلَها.
الأُوْلَى: إذا جَرَحَه جراحةً مُهْلِكةً، فلم يعالجْها المجروح، حتى ماتَ، وجَبَ القصاص على الجارح؛ لأن البُرْء غيْرُ موثوق به ولو عالج، والجناية في نفسها مهلكةٌ، وليس كما إذا حَبَسه في بيت، والطعامُ حاضرٌ، فلم يأكلْه حتى مات؛ لأن الحبس بمجرَّده ليس بمُهْلك. الثانية: لو غرَّقه في ماء فإن أمسكه فيه، حتى مات أو خلاَّه، وفيه حياةٌ، ولكن تألَّم به وبقي ضمناً إلى أن مات، وجَب القصاص، وإن ألقاه في الماء، فمات به نظر؛ إن كان الماء بحيث لا يتوقَّع الخلاص منه كَلُجَّة البَحْر التي لا يمكن الخروجُ منها، ولا تنفع فيها السباحةُ، وَجَبَ القصاص سواءٌ، كان المُلْقى مِمَّنْ يُحْسِنُ السباحة أو لا يُحْسِنها، وإن كان بحيث يتوقَّع الخلاص منه، فإن كان قليلاً، لا يعد مثله مغرقاً، كما لو كان واقفاً في موضع منبسطٍ، فمكث الملقَى فيه مضطجعاً أو مستلقياً حتى هَلَك (¬1)، فلا قصاص ولا دية؛ فإنه الذي أهْلَكَ نفسَه، والإلقاء في مثله يجري على سبيل المداعبة (¬2)، فلا يعد إهلاكاً. نعم، لو كَتَّفَه، وألقاه على هيئة لا يمكنه الخلاص، فعليه القِصاص، وإن كان يعد مغرقاً؛ كالأنهار الكبيرة التي لا يتخلَّص منها إلا بالسِّبَاحةِ، فإنْ كان الملْقَى مكتوفاً أو صبيّاً أو زَمِناً أو ضعيفاً، وجب عليه القصاص؛ لأنه مُهْلِكٌ لمثله، وكذا إن كان قوياً لكن لا يحسن السباحة، وإن كان يحسنها، فمَنَعَهُ من ذلك عارضُ موج أو ريحٍ، فلا قصاصَ، والحاصِلُ شبْهُ عَمْدٍ، وإن امتنع من السباحة، ولا مانع حزناً أو لجاجاً، ففي وجوب الدية وجهان أو قولان: أحدهما: يجب؛ لأنه قد يمنعه من السباحة دهْشَةٌ وعارضٌ باطن وأيضاً، فالإلقاء في الماء المُغْرِق مهلِكٌ، والسباحة حيلةٌ دافعةٌ له، فأشبه ما إذا امتنع من معالجة الجُرْح. وأصحُّهما: على ما ذكر صاحب "التهذيب" وغيره: المنع؛ لأنه بتَرْكِ السباحة مُعْرِضٌ عما ينجيه يقيناً، متلف نفسه، فصار كإعراض المحبوس عن أكل الطعام، وفيه طريقتان أخريان: إحداهما: حكى الشيخ أبو محمَّد وآخرون، القطع بعَدَمِ الوجوب. والثانية: نقَلَها القاضي الرويانيُّ عن القفَّال: القطْع بالوجوب، وتنزيل ترك السباحة منزلةَ ترْك المعالجة، وهذا في الضمان، أما القِصَاصُ، فالمشهور منْعُه، وحكى ¬
الإِمام وجهاً: أنه يجب على القَوْل بوجوب الضَّمَان؛ لأنا إذا أوجبنا الضَّمان، ألحقنا تارك السباحة الذي يُحْسِنها بمَنْ لا يحسن السباحة في الضمان، فكذلك في القصاص. الثالثة: لو ألقاه في نارٍ لا يمكنه التخلُّص منها إما لعظمها أو لكونها في بئر أو وهْدَةٍ، أو لكونه مكتوفاً أو زَمِناً أو صغيراً، فمات فيها أو خرج منْها متأثراً متألماً، وبقي ضَمَناً إلى أن مات، فعليه القِصاصُ، وإن أمْكَنَه التخلُّص والخروج منْها، فلم يفعل حتى هَلَك، ففي الدية قولان منسوبان إلى رواية الرَّبيع، والأصحُّ منهما على ما ذكره القاضيان الطبريُّ والرويانيُّ وصاحب "التهذيب" وغيرهم -رحمهم الله-: المنع، كما سبق في مسألة الماء، وإذا لم نوجب الدية بتمامها، وجب ضمان ما يتأثر بالنار بأول الملاَقَاة إلى تقصيره وتقاعُدِه عن الخروج من أرش عضْوٍ أو حكومةٍ لا محالة، وأما القِصَاصُ، فالمشهور أنه (¬1) لا يَجِبُ كما ذكرنا في الماء، وفيه وجهٌ حكاه القاضي ابن كج عن أبي الحُسَيْن وجماعةٍ عن القفَّال، ومن تابعه: أنه يجب، وإن لم يجب في مسألة الماء، وفرَّقوا بأن النار تُؤثِّر، وتقرح بأول المس، والقُرُوح الحاصلةُ بها جراحات قاتلة، بخلاف ملاقاة الماء، ولذلك يَرُدُّ الإنسانُ الماءَ اختيارًا، ولا يرد النار، وبأن لفح النار يورث دهشة وحيرة تمنع من الخروج، بخلاف الوقوع في الماء القَليلِ، وهذا ما أجاب به أبو الحسن العباديُّ في "الرقم" وادعى أن بعض البغدادية من الأصْحَاب، نَقَل هذا الجواب إلى "مسألة الماء"، فأوجب فيه القِصَاص، والجواب المعروف في "مسألة الماء" إلى هذه فمنعه وجعلهما على قولَيْن، والجمهور على التسوية بيْن الصورتين، وإلَيْه ذهب القاضي الحُسَيْن ومنع الإِمام قال: ولو كانَتِ النارُ بحَيْث تُؤثِّر بأوَّل المس، ويمنع من الخروج، فليست الصورة كالصورة التي يتكلم فيها، وقد يُتصوَّر الإلقاءُ في النار؛ بحيث لا يَتأثَّر البدَنُ في أول الأمر؛ لكثافة الملبوس وغيرها والله أعلم، وأما لفظ الكتاب وترتيب المسائل فاعلم أنه أدرج المسائلَ الثلاثَ في جملةٍ واحدةٍ، فقال: "إذا تسبب إلى ما أفضى إلى هلاك الغير، وتَمَكَّن المقصودُ من الإتيان بما يتوقَّع [منه] دفْعَه، فلم يفعل" فله ثلاث مراتب: إحداها: أن يكون السبب ما يُقصَد به الهلاكُ غالباً، ولم يكن طريقُ الدفع موثوقاً به كترك معالجة الجُرْح، فيجب القصاص. ¬
والثانية: أن يُفْقَدَ المعنيان؛ بأن لا يكون السبب مهلكاً، ويكون الدفع موثوقاً به، كما إذا تَرَكَ المحبُوس تناوُلَ الطَّعَامِ الحاضرِ أو قَصَدَه فلم يَعْصِب العرق، حتى مات أو ألقاه في ماء قليل، فلم يَخْرُجْ، فلا قصاص. والثالثة: أن يكون السَّبب مهلكاً، والدفْعُ سهلاً موثوقاً به، كما إذا ألقاه في ماءٍ مُغْرِقٍ، أو نارٍ، فلم يخرج مع سهولته، ففيه الخلاف. وقوله: "حتى نزف الدم" يجوز نَزَفَ، ونُزِفَ، ويقال: الدم نَزَفَ الدم يَنْزِفُ، إذا خرج منْه دمٌ كثيرٌ، حتى ضَعُف، ونزف دمه وعقْلُه، ويقال نَزَفَتِ البئْرُ، إذا أخرجت ماءها كُلَّهُ، ونزفت تتعدى ولا يتعدى. وقوله: "رُبَّمَا يُدْهَش" أو يدهش يقال دَهِشَ دَهَشاً، إذا تحيَّر ودُهِشَ يُدْهَشُ على ما لم يُسَمَّ فاعله. وقوله: "فلم يسبح، فوجهان" يعني في القصاص، وإن كان الخلاف جَارِياً في الدية، على ما بيناه؛ لأن المذكور في الصورةِ السابقةِ القِصَاصُ، حيث قال: "فَلاَ قصاص" ولأنه أورد الخلاف في "الوسيط" في الدية، ثم رتَّبَ عليه الخِلاَفَ في القصاص. وقوله: "فالظاهر وجوب القصاص" اختيارٌ للوجهِ المحكيِّ عن القفَّال -رحمه الله-، والراجح عند أكثرهم المَنْعُ على ما بيَّن. فَرْعٌ: قال الملقى: كان يمكنه الخروجُ مما ألقيته فيه من الماء أو النارِ، فقصر، وقال الوليُّ: لم يمكنه، فالمُصدَّق بيمينه المُلْقِي؛ لأن الأصل براءة ذمته أو الوليُّ؛ لأن الظاهِرَ أنَّه لو أمكنه الخروج لخرج فيه وجهان (¬1)، ويقال قولان: آخَرُ كتَّفَه وطَرَحَه على السَّاحل، فزاد الماءُ وهَلَكَ، إن كان في موضع يُعْلَم بزيادة الماء فيه، كالمد بالبَصْرة، وجب القَود، وإن كان قد يَزيد وقد لا يزيد، فهو شبه عمد، وإن كان بحيث لا يتوقَّع الزيادة، فاتفق سيلٌ نادرٌ، فهو خطأ محْضٌ (¬2). قَالَ الْغَزَالِيُّ: الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي اجْتِمَاعِ السَّبَبِ وَالمُبَاشَرَةِ أمَّا الشَّرْطُ فَلاَ يَبْقَى لَهُ حُكْمٌ مَعَ المُبَاشَرَةِ كَالمُمْسِكِ مَعَ القَاتِلِ وَالحَافِرِ مَعَ المُرْدِي، وَأَمَّا المُبَاشَرَةُ وَالسَّبَبُ فَعَلَى مَرَاتِبٍ: الأُولَى أَنْ يَغْلِبَ السَّبَبُ المُبَاشَرَةَ وَهُوَ إِذَا لَمْ تَكُنِ المُبَاشَرَةُ عُدْوَاناً كقَتْلِ القَاضِي وَالجَلاَّدِ مَعَ شَهَادَةِ الزُّورِ فَالقِصَاصُ عَلَى الشُّهُودِ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقْصُود الطَّرَفِ الكلامُ فيما إذا اجتمع سَبَبٌ ومباشرةٌ، وقَدَّمَ عليه أن الشرط والمباشرة إذا اجتمعا، فالمُؤَاخذة بالقِصَاص، والضمانُ يَكُون على المباشِرِ، لا على صاحب الشرط، حتى إذا حفر بئراً في محَلِّ عدوان أو غيره، فرَدِي غيره فيها إنساناً، فالقِصَاصُ أو الضَّمانُ على المُرْدِي دون الحافر، ولو أمسك إنساناً، فقتله آخرُ، فالقِصَاص أو الضَّمانُ على القاتل، ولا شَيْءَ على المُمْسِك إلا أنه يأثم، إن أمسكه؛ ليقتله الآخر، ويُعزَّر عليه، واحْتُجَّ له بما رُوِيَ أنه -عليه السلام- قال: "يُقْتَلُ القَاتِلُ، وَيُصَبرُ (¬1) الصَّابِرُ" قيل معناه: أنه يُحْبَس تعزيراً، أو بأنه لو أمْسَكَ امرأة حتى زَنَى بها غيره، يكون الحدُّ على الزاني دون المُمْسك، قال مالك: إن أمسكه للقَتْل، فهما شريكان، وعليهما القصاص. وهذا الذي ذكرناه في الحُرِّ، أما إذا كان المَقْتُول عبداً، فيطالب المُمْسك بالضَّمان لليَدِ والقرارُ على القاتل، ولو أمسك محرمٌ صيْداً، فقتله مُحْرِمٌ آخر، فقرار الضمان على القاتل وتتوجه المطالبة على المُمْسِك، وُينَزَّل إمساكُ الصيْدِ منزلةَ إمساك العبد. قال الإِمام وغيره: هذا هو الظاهر، وقد ذكَرْنا المسألة والخلافَ في "الحَجِّ". ولو قدَّم صبيّاً إلى هدَفٍ، فأصابه سهْمٌ [كان أرسله الرامي قبل تقديم الصبي]، فقتله، فالرامِي كالحَافِرِ، والمقدِّم كالمرْدِي، فالقصاص علَيْه، فأما إذا اجتمع السببُ والمباشرةُ، فقد رتَّبَه على ثلاثة مراتب؛ لأنه إما أنْ يَغْلِبَ السببُ المباشرةَ أو المباشرةُ السببَ أو يعتدلان. المرتبة الأولى: إذا غَلَبَ السببُ المباشرةَ؛ بأن أخرجها عن كونها عدواناً، مع توليده لَهَا، كما إذا شَهِدوا على إنسانٍ بما يُوجِب الحَدَّ، فقتله القاضي، أو جلده أو بما يوجب القِصَاص، فقتله الوليُّ أو وكيلُهُ، فالقِصَاص على الشُّهُود دون القاضي والوليِّ، لأن شهادتهم ولَّدتِ المباشرة، كما سبق، وأخرجَتْها عن أن تكون عدواناً. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةُ أَنْ يَصِيرَ السَّبَبُ مَغْلُوباً كَمَا إِذَا أَلْقَاهُ مِنْ سَطْحٍ فَتَلَقَّاهُ إِنْسَانٌ بِسَيْفِهِ فَقدَّه بِنِصْفَينِ فَلاَ قِصَاصَ عَلَى المُلُقِي عَرَفَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يعْرِفْ، وَلَو ألْقَاهُ فِي مَاءٍ مُغْرِقٍ فَالْتَقَمَهُ الحُوتُ وَجَبَ القِصَاصُ عَلَى المَنْصُوصِ لِأَنَّ فِعْلَ الحُوتِ لاَ يُعْتَبَرُ فَهُوَ كَنَصْلٍ مَنْصُوبٍ فِي عُمْقِ البِئْرِ إِذْ حُصُولُ الجُرْحِ بِهِ لاَ يَمْنَعُ وُجُوبَ القِصَاصِ عَلَى ¬
المُرْدِي، وَخَرَّجَ الرَّبِيعُ قَوْلاً أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الحَيَوَانِ شُبْهَةٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المرتبة مسألتان: إحداهما: لو رَمَاه إنْسَانٌ من شاهقِ جبلٍ، فتلقَّاه إنسانٌ بسيفه، فقده بنصْفَيْن، أو ضرب رقبته -قبْل أن يصيب الأرض، فالقِصَاصُ على المُتَلَقَّي دون المُلْقِي، سواء عرف الملْقِي الحالَ أو لم يعرفْه، ووجَّه بأن الإلقاء إذا طرأتْ عليه مباشرةٌ مستقلةٌ، صار شرْطاً محْضاً، وكما لا يجب القِصَاصُ على الملْقِي، لا يجب عليه الضمانُ أيضاً، وعن الشيْخِ أبي حامد حكايةُ وجهٍ: أنه يجب عليه الضَّمَان، والظاهر الأول. الثانية: لو ألقاه في ماءٍ مغْرِقٍ؛ كلجة البحر، فالتقمه الحوتُ، ففيه قولان منصوصٌ وَمُخَرَّجٌ للربيع. المنصوص، وهو الأصح: أنه يجب عليه القصاصُ على المُلْقِي؛ لأنه ألقاه في مهلكة، وقد هلك بسبب إلقائه، فلا يُنْظَر إلى الجهة التي بها هَلَك، ووجه أيضاً بأن لُجَّة البحر مَعْدِن الحوت، فالإلقاء فيها إلقاءٌ إلى الحوت، فصار كما لو كتَّفه وعَرَضَه للسَّبُع. وتخريج الربيع أنه لا قِصَاصَ، كما في "مسألة الإلقاء من الشاهق"؛ لأن الهلاك حَصَلَ بغير ما قصد به المُلْقِي الإهلاكَ، وإذا لم يكن بسبب الهلاك متعلَّق قَصْدِه، صار ذلك شبهةً دارئة للقصاص، إلا أنه تلزمه الدية المغلَّظة من حيث إنَّه تسبَّب إلى الإهلاك، وما جرى من الهلاك منسوبٌ إلى إلقائه، والناصرون للنص أجابوا بأنه إذا قَصَد الإهلاكَ، وأتى بالفعل المهلك، لم يكن حصُولُ الهلاك بغَيْر ذلك السبب دافعاً للقِصَاص؛ ألا ترى أنه لو جَرَحَه بسكِّين مسمومٍ، فمات، وتبيَّن أن موته كان بالسُّمِّ، ولم يعْلَم الجارح حالَ السكين، يلزمه القصاص؛ لقَصْده الإهلاك وإتيانه بالجُرْح المهلك، وفرقوا بين مسألة تلقي القادِّ والتقام الحُوتِ؛ بأن الدية لا تجب على المُلْقِي هناك، وقد سلَّم الربيع وجوبَها في "مسألة الحوت"، وذكروا من حيث المعنى وجوهاً: أحدها: أن الإلقاء من الشاهِقِ، غَيْرُ مهلِكٍ ما لم ينصَدِم المُلْقَى بالأرض، وفعْلُ القَادَّ طَرَأ قبل الانصدام، وإصابة الجناية بدنه وقضية هذا الفَرْقَ أن يقال لو رفع الحوتُ رأسَهُ، والتقمه قَبْل أن يصِلَ إلى الماء، لا يجب القصاص [على الملقي، وأن يخصَّص النَّصَّ بالالتقام بعد الوصول] (¬1)، وكذلك ذكر بعضُهم، وحكاه أبو الحسن العبَّاديُّ عن القفَّال، لكن في "التهذيب" وغيره: أن الصحيح أنه لا فرْقَ بيْنَ الحالَتَيْنِ. ¬
الثاني: أن الإلْقاء من الشَّاهِق قدْ لا يُهْلِك، فإن الريح ربما رفعت الملْقَى إلى الماء، وعظمته فيصيب الأرض لا بشدَّة ولا صدْمة، فيَسْلَم، فهذا طرأ عليه القَدُّ أبطل أثره، والإلقاء في الماء المُغْرِق مهلِكٌ، لا محالة، فلا ينْظَر إلى ما يَحْدُث بعده، وقد يفْهِمُ هذا الفرق تخصيصَ القولين؛ بما إذا كان الالتقام قبل وصوله إلى الماء، والقطع بوجوب القصاص، إذا كان بعده، وفي إيراد الشيخ أبي حامد وغيرِهِ مِنْ أئمة العراقيين ما يُشْعِرُ به. والثالث: قال الإِمام: القَدُّ قتل صدَرَ مِنْ فاعلٍ مختارٍ يفعل برأي ورؤْيَةٍ، فيقطع أثر السبب الأول، والحوت يلتقم بطَبْعِهِ، كالسبع الضاري، فجاز أن لا يَقْطَعَ أثرَ السَّبَبِ الأول، ولذلك نقول: لو أمسك إنساناً، حتى قَتَله غَيْرُه، فالقصاص على القاتل دون الممُسِك، ولو أمسكه وهدَّفَه لوثبة صبع ضارٍ، فافترسه، فالقصاص على المُمْسك المُهَدِّف، وهذا لأن الحيوان الضَّارِيَ بطَبعه يفعل فعْله عنْد التمكُّن، فكأنه آلة لصاحب السبب الأول، نازلٌ منزلة ما لو ألقاه في بئر، وكان في عُمْقها نصول منصوبة، فأصابته، ومات، يجب القصاص على المُلْقِي، ولم يمنَع حصولُ الهلاك بها، وإن لم يقْصِد وجوبَ القصاص، بخلاف ما إذا كان الطارئ فعلاً صادراً عَنْ رأْي ومشيئة، فإنه يبعد تنزيله منزلة الآلات، ويُبْنَى على هذا أنه إذا كان في أسفل البئر حية عادية بطبعها، أو نمرٌ ضارٍ، فأهلكه، يجب الضمان على المُرْدِي، ولو كان هناك مجْنونٌ ضار على طباع السباع، فكذلك، وإن لم يكن ضارياً، كان كالعاقل في إسقاط الضمان عن الملقي، ولم يُجْعَل الهلاكُ الحاصلُ بالسبع الضارِي بمثابة التلقِّي بالسيف والقد بنصفين، وأطلق في "التهذيب" نفْيَ الضمان، إذا افترسه سَبْعٌ قبل أن يصيب الأرضَ، ولا فرْقَ في مسألة القَادِّ بين أن يكون القادُّ ممَّن يضمن أو ممَّن لا يضمن، كالحَربيَّ، ولو رفع الحوتُ رأْسه، فألقمه فَاهُ، فعليه القصاص بلا خلاف، ولو ألقاه في ماء غير مُغْرِقٍ، فالتقمة حوتٌ، فلا قصاص؛ لأنه لم يقصد إهلاكه، ولم يشعر بسبب الهلاك (¬1) الذي حَصَل، فأشبه ما إذا دفَعَ رجلاً دفعاً خفيفاً، وألقاه، فجَرَحَه سكِّينٌ كان هناك، ولم يَشْعُر به الدافع، لا يلزمه القصاص، ولكن يجب الضمان في الصورتَيْن، وتكون الديَةُ الواجبة دية شِبْهِ العمد، كذلك ذكره صاحب "التهذيب" وابن الصباغ وغيرهما، وحكاه القاضي ابن كج (¬2) عن الأصحاب واستنكره، وقال: ينبغي أن لا يتعلَّق به ضمان، كما لا يتعلَّق به قصاص. ¬
وقوله في الكتاب: "أن يصير السبب مغلوباً" إلى آخره يتضمَّن جعْلَ الإلقاءِ من الشاهِق سَبَباً، وتلقي المتلقي وقدَّهُ مباشرةً، وليس ذلك بواضحٍ كلَّ الوضوح على ما ذكرنا في تمييز المباشرة والسَّبَبِ. وقوله: "لأن فعل الحوت لا يعتبر فهو كنصل منصوب" المراد يه ما حكيناه عن الإِمام: أن الحوت يلتقم بطَبْعِهِ، فينزل فعْلُه منزلة النصل الخارج ونحوه. وقوله في تخريج الربيع: "لأن اختيار الحيوان شبهة" إشارة إلى الفرق بين التقام الحُوتِ والجِرَاحةِ الحاصلةِ بالنَّصْل، فإن النَّصْل لا اختيارَ لَهُ ولا شعور، وللحَيَوان قصْدٌ واختيارٌ، وإن كان عادياً ضارباً، فكان ما يفعله الحيوان بالطبع متردَّداً بين الأثر الحاصل من غير الحيوان، وبَيْن فعل الحيوان بالاختيار والمشيئة، فاختلف القول في أنه بم يلحق؟ قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثَة: أَنْ يَعْتَدِلَ السَّبَبُ وَالمُبَاشَرَة كَالإِكْرَاهِ عَلَى القَتْلِ، وَالقِصَاصُ عَلَيْهِمَا (ح) في أَحَدِ القَوْلَيْنِ، وَفِي قَوْلِ يَخْتَصُّ بِالمُكْرِهِ، وَعَلَى هَذَا فَفِي الدِّيَةِ قَوْلاَنِ، فَاِنْ أَسْقَطْنَا الدِّيةَ إِحَالَة عَلَى المُكْرِهِ فَفِي الكَفَّارَةِ وَجْهَانِ لِأَنَّ الإِثْمَ بَاقٍ، فَإِنْ أَسْقَطْنَا الكفَّارَةَ فَفِي حِرْمَانِ المِيْرَاثِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعيُّ: المكرِه على القتل يلزمه القصاص على ما مر، وفي المُكْرِهِ قولان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة: "أنه لا يلزمه القِصَاص؛ لأنه قتله دفعاً عن نَفْسه، فأشبه قَتْلَ الصائل وأيضاً، فإن المُكْرَهَ آلةٌ للمُكْرِهِ"؛ ولذلك وجب القصاص على المُكْرِهِ، فصار كما لو ضَرَب به المُكْرِهِ على قَتْلِهِ، فقَتَله، وأصحُّهما: الوجوب، وبه قال مالك وأحمد؛ لأنه قتله عُدْواناً لاستبقاء نفسه، فصار كما لو قَتَل المُضْطَرُّ إنساناً، فأكَلَه، يلزمه القصاص، ولا يشبه قَتْل الصائل؛ لأنه بالصيال متعدٍّ مُمَكَّنٌ من دفْعه، ولهذا لا يأثَمْ بقتل الصائلِ، والمُكْرَهُ يَأْثَمُ كما المختارُ، وبهذا يَبْطُل كونه آلةً، وفي موضع القولَيْن طريقان: أظهرهما: أنهما يَطَّردان فيمَنْ أكرهه السلطانُ، ومن أكرهه المتغلب. والثاني: تخصيصُهما بمن أكرهه السلطانُ، والقَطْع بوجوب القصاص على من أكرهه المغلِّب، والفرق أن السلطانَ واجبُ الطاعة في الجملة، فأمْرُه وإكراهُهُ يُورث شبْهةً تَدْرأ القصاص. التفريع: إن أوجبنا القصاص، فإذا آل الأمر بالعفو إلى الدية، فهي موزعة
علَيْهِمَا، وهما كالشريكَيْن، وللوليِّ أن يقتص من أحدهما، ويأْخذ نصْفَ الدية من الآخر، وان لم نوجب القصاص على المُكْرَهِ ففي الدية وجهان: أحدهما: أنها لا تجب أيضاً؛ تنزيلاً له منزلة الآلة. والثاني: تجب نصْفُ الدية، والقِصَاصُ إنما يسقط لشبهة الإكراه، والديَةُ لا تَسْقُطُ بالشبهة. والأول: أصحُّ عند صاحب "التهذيب" والثاني، وهو المنصوص، وهو الذي أورده الأكثرون، وقد يُقَال: في الدية قولان مرتَّبَان على القَوْلَيْن في القصاص؛ وهي أوْلَى بالوجوب. التفريع: إن أوجبنا على المُكْرَهِ نصْفَ الدية، فعليه الكفَّارة، ويتعلق بقتله حرمانُ الميراث. ونصْفُ الدية الواجبةِ يكونُ عَلَى عاقلته أو في ماله قال الإِمام: فيه (¬1) تردُّد عندي، يجوز أن يقال: في ماله؛ لأنه قاصِدٌ للقتل آثِمٌ، ويجوز أن يجعل على عاقلته ويُجْعَل الإكراه مبطلاً لاختياره وتعمده. وان قلْنا: لا دية علَيْه، ففي الكفَّارة وجهان: أحدهما: المَنْع؛ لمعنى الآلة. وأصحُّهما: الوجوبُ؛ لحصول الإثْم المُحْوج إلى التكفير، فإن أوجبنا الكفَّارة، تَعلَّق به حرمان الميراث، وإلا، ففي الحرمان وجهان: أظهرهما: ثبوته على ما يقدَّم بيانُ الخلاف فيه في "الفرائض"، وهو قضيةُ ما أورده هنالك، وعند أبي حنيفة: لا دية ولا كفَّارة على المُكْرَهِ، كما لا قِصَاصَ. وقوله في الكتاب: "أن يعتدل السبب والمباشرة كالإكراه" إنما يجعل الإكراه على القتل مع مباشرة القتل في مرتبة الاعتدال؛ لأنه لا يخرج المباشرة عن كونها عدواناً، فلا يصير غالباً عليها، وهو المولِّد للمباشرة، والمؤثِّر فيهما، فلا يصير مغلوباً. وقوله: "فإن أسقطنا الدية إحالةً على المُكْرِهِ" أي إحالةً للقتل علَيْه، وتنزيلاً للمُكْرَهِ منزلةَ الآلة. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَإِنْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِمَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا وَجَبَ عَلَى الثَّانِي لأِنَّ شَرِيكَ غَيْرَ المُكَافِئِ يُقْتَلُ وهُمَا كَالشَّرِيكَيْنِ كُفْئاً، وَلَوْ أَكْرَهَ إنْسَاناً عَلَى أَنْ يَرْمِيَ إِلَى ظُلَلٍ عَرَفَهُ المُكْرِهُ إنْسَاناً فَظَنَّهُ الرَّامِي جُرْثُومَةَ فَهوَ شَرِيكُ الخَاطِئِ وَلَكِنْ فِي وُجُوبِ القِصَاصِ ¬
وَجْهَانٍ لأنَّ هَذَا خَطَأٌ هُوَ نَتِيجَةُ تَلْبِيسِهِ وَإكْرَاهِهِ فَفِي حَقِّهِ عَمْدٌ، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ إِذَا كَانَ المُكْرَه المَحْمُولُ صَبِيّاً وَقُلْنَا إِنَّ فِعْلَهُ خَطَأٌ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى صُعُودِ شَجَرَةٍ فَتَزْلَقُ رِجْلُهُ وَمَاتَ وَجَبَ (و) القِصَاصُ وَلَمْ يُجْعَل شَرِيكٌ خَطَأَ، وَلَوْ أكْرَهَهُ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ فَقَتَلَ فَلاَ قِصَاصَ عَلَى المُكْرِهِ إِذْ لاَ مَعْنَى لِهَذَا الإِكْرَاهِ، وَلَوْ قَالَ: اقْتُلْنِي وَإلاَّ قَتَلْتُكَ فَلاَ قِصَاص لِلإِذْنِ وَالإِكْرَاهِ، وَقِيلَ: تَجِبُ القِصَاصُ إِذْنُهُ لاَ يُعْتَبَرُ لأَنَّ القِصَاصَ لِوَارِثهِ لاَ لَهُ، وَلَوْ قَالَ: اقْتُل زَيْداً أَوْ عَمْراً وَإلاَّ قَتَلْتُكَ فَقَتَل أَحَدُهُما فَلاَ إِكْرَاهَ لأِنَّهُ مُخْتَارٌ فِي التَّعْيِينِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فِي الفصْلِ صورٌ: إحداها: إذا أوجبنا القِصَاصَ على المُكْرِهِ والمُكْرَهِ جميعاً، وكان أحدهما مكافئاً للمكره على قتله دون الآخر وجب القصاص على المكافئ دون الآخر؛ لما ذكَرْنا أنهما كالشريكَيْن، وشريك غير المكافئ يلزمه القصَاصُ؛ بدليل شريك الأب، فإذا أَكْره عبدٌ حرّاً على قَتْل عبدٍ أو ذميٌّ مسلماً على قتل ذميٍّ، وجب القصاص على المكرِه دون المكره، ولو أكره حرُّ عبداً على قتْلِ عبْدٍ أو مسلمٌ ذمياً على قتل ذميٍّ، انعكس الحكم، وفي "الرقم" للعباديِّ أن بعض النُّظَّار ضايق في تصوير إكراه الذميِّ المُسْلِمَ، وقال: إنه إذا أكرهه، انتقض عهْدُهُ، وصار حربياً، ولو أكره الأبُ الأجنبيَّ على قتل وَلَدِهِ أو الإجنبيُّ الأبَ، فالقصاص على الأجنبي دون الأب. الثانية: لو أكره بالغ صبياً مراهقاً على قتْل إنسان، فقتله فلا قصاص على المُكْرِه، وأما المُكْرهُ، فوجوب القصاص عليه يُبْنَى على أن عمد الصبيِّ عمدٌ أو خطأٌ؟ إن قلنا إنه عمد، وهو الأصح فعليه القصاص (¬1)، وإن قلنا: خطأ، فلا قِصَاصَ عليه؛ لأنه شريك خاطِئٌ. قال الإِمام -رحمه الله-: هذا إذا فرَّعنا على أنه يجب القصاص على المكرِه والمُكْره، وتنزيل المكرِه والمكره منزلة الشريكين. أما إذا قلنا: لا قصاصَ على المُكْرَه، ففي وجوب القصاص على المُكْرِه مع الحُكْم بأن عَمْد الصبيِّ خطأٌ وجهان [اثنان]، أشار إليهما القاضي الحُسَيْن. وجه الوجوب: أن إكراهه هو الذي وَلَّد هذا الخطأ وأنتجه، وهذا الوجه هو الذي رأى صاحب "التهذيب" الجوابَ به، إذا لم نُوجِب الديةَ على المُكْرَه، ونزَّلناه منزلةَ الآلة وأما الديَةُ فجميعُها على المُكْرِه، إن لم نُوجب الدية على المُكْره وإن أوجبْنَا علَيه نصْفَها، فنصف الدية على المُكْرِهِ، ونصفها في مال الصبيِّ، إن جعلنا عمْدَه عمداً وعلى عاقلته، إذا جعْلناه خطأً، ولو أكره صبيٌّ مراهقاً بالغاً، فلا قصاص على المُكْرهِ، وفي ¬
المكره القولان، إن جعلنا عمْدَ الصبيِّ عمْدًا وإن جعلناه خطأً، فلا قصاص، عليه أيضاً؛ لأنه شَريكٌ خاطئٌ. ولو أكره إنسانٌ إنساناً على أن يَرْمِيَ إلى طَلَلٍ عرفه المُكْرِهُ إنساناً، وظنه المُكْره جرثومةً أو صيْداً أو أن يَرْمَي إلى سِتْرٍ وراءه إنسانٌ وعرفه المُكْرِهُ دون المُكْرَهِ، فقد ذكر الإِمام وصاحب الكتاب: أن في وجوب القصاصِ على المُكرِهِ وجْهَيْن كالوجهين المذكورَيْن، فيما إذا أكره صبياً على القَتْل، وجعلْنا عمْدَ الصبى خَطَأً. وجه الوجوب أن هذا الخطأ نتيجة تلبيسه وإكراهه، فيجعل عمداً في حقه ومال صاحب "التهذيب" إلى القطْع به توجيهاً بأن المُكْرَهَ جاهل بالحال ظانٌّ حل الفعل، فكان كالآلة للمُكْرِه، فأشبه ما إذا أمر صبياً لا يَعْقِل، أو عبْداً أعجمياً بقتل إنسانٍ، فقتله، يجب القصاص على الآمر، وإذا آل الأَمْرُ إلى الدِّيَّة، فرَوَى صاحب "التهْذيب" أَنَّا إذا أوجَبْنا الضَّمان على المُكْرِهِ، فنصْفُ الدية على عاقلة المُكْرِهِ، ونصفها في مال المُكْرِهِ، وإن لم نُوجِب عليه الضَّمانَ، فكلُّ الدية على المُكْرِه، ورأى أن يقطع به، وأن لا يجب شيْء على المُكْرَه بحال؛ لمَا ذكرنا في القصاص، ولو أكرهه على أن يرْمِيَ إلى صيدٍ، فَرَمَى وأصاب إنساناً، فقتله، فلا قِصَاصَ عَلَى واحدٍ منهما؛ لأنهما لم يتعمَّدا قتله، وأما الدية، فجَمِيعُها على عاقلة المكرِه، إن لم نوجب الضمان على المُكْره وإن أوجبناه عليه، فنِصْفُها على عاقلة هذا، ونصفْها على عاقلة ذاك، وإن أكرهه على صعود شجرةٍ أَوْ على أن ينزل في بئْرٍ أو مُنْحَدَرٍ، ففعَلَ، وزَلِقَتْ رجْلُه، وهلَكَ، فالجواب في الكتاب: أنه يجب على المُكْرِهِ القصاصُ، ولا يُجْعَلُ شريكَ خاطئٍ. قال في"الوسيط": ولا يجيْء فيه الوجهان المذكوران في الصبى المُكرِهِ وجَهْله، والأظهر ما ذكره الفوراني وصاحب "التهذيب" وحكاه القاضي الرويانيُّ واستقر به أنه عمْدُ خَطَأ لا يتعلَّق به القصاص؛ لأن الفعْلَ ليس مما يُقْصَد به الهلاك. وقوله في الكتاب: "وهما كالشَّرِيكَيْن" وقوله: "فهو شريكُ لخاطئ" مبني على أن المُكْرِه والمكره، كَالشريكَيْن على ما قدَّمنا، لكنْ ذكر الإِمام -رحمه الله- أن حقيقة الخلافِ المذكورِ، فيما إذا أَكْرَهَ صبيّاً عَلَى القَتْل، وجعلْنا عَمْدَه خطأً أنه هل يجب القصاصُ على المُكْرِهِ، يرجع إلى أننا ننقل فعْلَ المُكْرهِ إلى المكْرِهِ على صفته، أم نَجْعل المُكْرِه كالمباشر للقَتْل، ولا يُنْظَر إلى صفة فِعْل المُكْرَه، فهذا قد يَقْدَحُ في معْنَى الشَّركة. وقوله: "وعليه يُخَرَّجُ" أي على الخلاف، أو على التوجيه المذكور. وقوله: "وقلنا: إن فعله خطأٌ" لفظ "الفعل" يشمل العَمْد والخَطَأ، والمراد فعْلُه العَمْد، والمشْهُور في الاستعمال أن عمده عَمْد أو خطأ، أي يُعْطَى حكم هذا أو ذاك وإن كان عمداً في الحقيقة.
الثالثة: لو كرهه، على قَتْل نفْسِهِ؛ بأن قال: اقْتُلْ نَفْسَكَ، وإلا قَتَلْتُكَ، فَقَتَل نَفْسَه، ففي وجوب القصاص على المُكْرِهِ قولان مشهوران منقولان في "التهذيب": أحدهما: يجب؛ لأنه بالإكراه على القَتْل والإلْجَاء إلَيْه قاتلٌ له. وأظهرهما: وهو المذكور في الكتاب، وبه أجاب القفَّال: المَنْع، وما جرى ليس بإكراه حقيقةً؛ لأَنْ المُكْرَه من يتخلص بما أمر به عما هو أشَدُّ عليه، وهو الذي خوفه لمكره به وهاهنا المأمور به القتل والمخوف به القتل، ولا يتخلَّص بقتل نفسه عن القتل، فلا معنى لإقدامه علَيْهِ، فإن قلْنا: يجب القصاص عليه، فلو فُرِضَ العفْوُ، وجب كمال الدية، وإنْ قلنا: لا تجب، فعَلَيْهِ نِصْفُ الدية، إن أوجبْنا الضمَانَ على المُكْرِهِ، وجميعه، إن لم نوجبْهُ (¬1)، ويجري القولان فيما لو أكرهه على شُرْب سُمٍّ [قاتل] فشربه، وهو عالمٌ به، وإن كانَ جاهلاً، فعلى المُكْرِهِ القصَاصُ ولو قال: لَتَقْطَعَنَّ يَدَكَ أو أُصْبُعَكَ وإِلاَّ قتَلْتُكَ، كان ذلك إكراهاً، بخلاف ما إذا قال لتقتلن نَفْسَكَ، أو لأَقْتُلَنَّكَ ذكره أبو الحَسَنِ العباديُّ -رحمه الله-. الرابعة: إذا قال: اقتلني، وإلاَّ قتلْتُكَ، فهذا إِذْنُ منه في القتْلِ، وإكراهٌ، ولو تجرَّد الإذْن، فقتله المأذونُ له ففي وجوب الدية قولان مبنيَّان على أن الديَّةَ، تجب للورثة ابتداءً عقيب هلاك المقْتُول، أو تجب للمقتول في آخِرِ جزْءٍ من حياته، ثمَّ تَنْتَقِلُ إلَيْهم، إن قلنا بالأول، وجبت ولم يؤَثِّرْ إذْنُه وإن قلْنا بالثاني، لم تجبْ، وهذا الثاني أصحُّ على ما ذكره صاحب "التهذيب" وصاحب الكتاب في "الوسيط" وغيرهما، واحتجُّوا عليه بأنه يَنْفُذ منه وصاياه، وتقضى ديونه، ولو ثبتت للورثة ابتداءً، لَمَا كان كذلك، وفي ¬
القصاص طريقان، المشهورُ منهما القطْعُ بنفيه، وجَعْل الإذْنِ شبهةً دارئةً. والثاني: تخريجُ الخلافِ فيه، وقد نُسِبَ التخريجُ إلى الإِمام سهْلٍ الصعلوكيِّ، وتوجيه الوجوب بأن القصاص أيضاً يثبت للورثة ابتداءً وبأن القتل لاَ يباح بالإذن، فأشْبَهَ إذْنَ المرأة في الزِّنَا، ومطاوعتها لا تُسْقِط الحَدَّ ولو قال: اقطعْ يدي، فقطعها، فلا قصاص ولا دية؛ لأنه إتلافٌ مأذونٌ فيه، فصار كما أو أتُلَفَ ماله بإذنه، وقد يقتضي المعْنَى الثاني في توجيه وجوب القصاص على الطريق الثاني تخريجَ خلافٍ فيه، وعن أبي حنيفة أنَّ الإذن في القتل لا يُسْقِط الديةَ، وسلَّم في الإذن في القطع السقوطَ، ولو أذن عبْدٌ في القتل أو القطع، لم يَسْقُط الضمان؛ لأنه حق للسيد، وفي القصاص إذا كان الماذونُ له عبداً وجهان (¬1): وجْه المنعٍ: أن القِصَاص يَسْقُط بالشبهة، وقول العبد فيه مقبولٌ، إذا أقرَّ عَلَى نفيه، فكذلك يُؤثِّر رضاه في سقوطه، ومسألة الإذْنِ في القَتْل معادةٌ في الكتاب "في باب العفو"، فأما إذا انضمَّ الإكراهُ إلى الإذْن، فسقوطُ القصاصِ أَوْجَهُ وأَوْلَى. وقوله: "للإذن والإكراه" إن قُدِّرَ الإكراه ضميمة مقويةً لشبهة الإذْن، فَذَاكَ والمُسْقِط معنى واحدٌ، وإن قدر الإكراه مسقطاً برأسه، فذلك يتفرع على القول بأن المُكْرَهَ لا قصاص عليه، وأما الدية، فإن لم نوجبها عند تجُّرد الإذْن، فمع الإكراه أَوْلَى وإن أوجبْنَاها، فيُبْنَى على أن المُكْره هل عليه نصْفُ الدية، إن قلْنا: نعم، فعليه نصفُها، وإلا، فلا. وهاهنا كلام، وذلك أنَّ الأئمة -رحمهم الله- نَقَلوا أنَّ المُكْرَهَ على قَتْلِهِ يجوز له دفْعُ المُكْرِهِ والمُكْرَهِ جميعاً، وأنه لا شيْء علَيْهِ إذا قتلَهُما، وأن للمُكْرِهِ أيضاً دفْع المُكْرِهِ ولا شيء عليه، إذا أتى الدَّفْع على نفْسه، وعلى هذا، فإذا قتله دفْعاً، فينبغي أنْ يُحْكَم بأنه لا قصاص، ولا دِيَة عليه بلا تفصيل ولا خلاف، وقد أشار إلى هذا الشيخ أبو الحسين العبادي، فقال: إذا قال: اقْتُلْنِي، وإلاَّ قَتَلْتُكَ، فإنْ لم يقتلْه، فهو استسلام، وإنْ قتله، فهُوَ دَفْعٌ، ويمكِنُ أنَّ يقال: موْضِعُ التفصيل والخلافِ ما إذا أمكنه الدَّفْع بغير القَتْل، والدافِعُ بالقَتْل إنَّما لا يلزمه شيْءٌ، إذا لم يمكِنه الدَّفْع بغَيْره، ولو قال اقْذِفْنِي وإلا قتلْتُك، فقذفه، ففي وجْهٍ: لا حدَّ عليه، كما لو قال: اقْطَعْ يَدِي، فقطعها. قال في "التهذيب": والصحيح وجوبه، بخلاف القصاص؛ لأنه يستعين بغيره في ¬
قَتْل نَفْسِهِ وقطعه، ولا يستعان بالغَيْر في القَذْف، فيُجْعَلُ القاذف مبتدِئاً (¬1). الخامسةُ: لوْ قال: اقْتُلْ عمراً أو زيداً، وإلا قَتَلْتُكَ، فهذا تخْييرُ لا إكْرَاه، ومن أقْدَم على قتلهِ منهما، كان مُخْتاراً في تعيينه، وَالمُكْرَهُ هو المحْمُول عَلَى قَتْل معيَّن، لا يَجِدُ عنه محيصاً، وهذا أظهر فيما إذا قال: اقْتُلْ واحداً من أهْل البَلَد، وإلاَّ قتلْتُك، وقد سبق نظيره فيما إذا قال: طلِّقْ إحدى زوجاتك وإلا قتلْتُك، وفي "الرقم" نقل وجْه أنَّه يكون إكراهاً؛ لأنه لا يتخلص إلاَّ بقتل إحداهما، وهو ملْجَأٌ إليه، وفي "التتمة" نسبته إلى اختيار القاضي الحُسَيْن، وليجيءْ مثله في الطَّلاق، وإذا قلْنا بالمشهور، فمَنْ قتله منْهما، لزمه القصاص، ولا شَيْء على المُكْرِهِ سِوَى الإثم، ولو أُكْرهَ إنْساناً على أن يُكْرِه ثالثاً على قَتْل رابع فأكره الثانِي، وقتل الرابع، وجب القصاصُ عَلى الأوَّل، وفي الثاني والثالثِ قولاَنِ؛ لأنهما مُكْرَهَانِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ أَمَرَهُ مُتَغَلِّبٌ عُلِمَ مِنْ عَادَتِهِ السَّطْوُ. عِنْدَ المخُالَفَةِ فَهُوَ كَالإِكْرَاهِ عَلَى أَقْيَسِ الوَجْهَيْنِ، وَلَوْ أَمَرَهُ سُلْطَانٌ وَاجِبُ الطَّاعَةِ عَلَى الجُمْلَةِ فَقَتَلَ مَنْ عَلِمَهُ المَأْمُورُ ظُلْماً فَفِي الْتِحَاقِهِ بِالإكْرَاهِ وَجْهَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ القَتلَ فَسَادٌ وَالخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ السُّلْطَانِ أَيْضاً مُهَيِّجٌ لِلفَسَادِ وَالفِتْنَةِ فلاَ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ شُبْهَةَ، بِخِلاَفِ العَبْدِ إِذَا قَتَلَ بِأمْرِ سَيِّدِهِ فالقِصَاصُ عَلَى العَبْدِ إِذْ لَيْسَ فِي مُخَالَفَتِهِ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ مَا يَفْتَحُ بَابَ الفِتْنَةِ، وَإِنْ كَانَ العَبْدُ أَعْجَمِيّاً ضَارَيًا بِطَبْعِهِ فَالسَّيِّدُ بِأمْرِهِ كَالمُغْرِي لِلسَّبْع فَعَلَيْهِ القِصَاصُ، وَفِي تَعَلُّقِ الدِّيَة بِرَقَبَتِهِ وَجْهَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ شَدِيدُ الشَّبَهِ بِالبَهِيمَةِ، وَكَذَا المَجْنُون الحُرُّ إِذَا كَانَ هَذَا طَبْعَهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصود الفصْل: الكلام فيما إذا أَمَر بقَتْل إنسان بلا إكْرَاه، وفيه مسألتان: إحداهما: إذا أمر السلطانُ أو نائبه الجلاَّدَ أو غيْرَهُ بقَتْل إنسانٍ ظلماً، فقتله المأمورُ، نُظِرَ؛ إنْ ظَنَّ المأمورُ أنَّه يقْتُله بحقِّ، فلا شيْءَ على المأمور؛ لأن الظاهر أنه لا يأمر بالقَتْل إلا بالحَقِّ، ولأن الطاعة للسلطانِ واجبةٌ فيما لا يعلمه معصيةً، واستَحَبَّ الشَّافعيُّ -رضي الله عنه- له أن يُكَفِّر لمباشرته القَتْلَ، وأما الأمر، فعليه القصاص أو الدية والكفارة، وإن عَلِم المأمورُ أنه يقتله ظُلْماً، فهل ينزل أمره منزلة الإكراه؟ فيه وجهان، ويقال قولان: ¬
أحدهما: لا وإنَّما يحْصُل الإكراه بالتخويف والتهديد صريحاً كما في غير السُّلْطان، فعلَى هذا لا شيْء على الآمر سوَى الإثْم، والقصاص أو الدِّيَة والكفَّارة على المأمور. والثاني: أنه ينزل منزلة الإكراه، ووُجِّه ذلك بمعنَيَيْنِ: أحدهما: أنَّ الغالِب من حالة السطوة عند المخالفة، وحالُ الخوف عند التصريح بالوعيدِ أشدُّ ولك أنَّ تقول: السلطانُ قدْ يَعْفُو كما يسطو وقد يترجَّح عفْوه على سطوته، ثم المكروه المخُوفُ قد يكون مما يحْصُل به الإكراه على القتل، وقد يكون مما لا يحصل كالحبس، فحَقُّ هذا المعنى ألا يحصل الأمر كالإكراه، إلا في حقِّ السلطان الذي تَغْلب منه السطوة بما يكون إكراهاً في القتل، ولا يُعَمَّم. والمعنى الثاني: أنَّ طاعة السلْطَانِ واجبةٌ في الجُمْلَةِ، وفي مخالفته إثارةُ الفتنة، وتجرئة الناس عليه، وفيه فساد عظيمٌ، ولدفع هذا المحذور، قلنا: إنه لا ينْعَزل بالفِسْق، إذا خيف من الاستبدال به الفتنة، فكأنه ازدحم على القَتْل موجبٌ ومحرِّمٌ، فانتهض شبهة دأرته للقصاص، وإذا نزَّلْناه منزلة الإكراه، فعلى الآمِرِ القِصَاصُ، وفي المأمور القولانِ في المكره، واعلم أنَّ المنقول عن نصِّ الشَّافعيِّ -رضي الله عنه-: في "الأم": أنَّ المأمور بالقتل لو كان يَعْلَم أنَّ الإِمام أمر بقتله ظُلْمَاً، كان عليه، وعلى الإِمام القود، واختلفوا في هذا النصِّ، فمن جعل أمر السلطان إكراهاً، يجيء على قوله إجراؤه على ظاهره، وجعله في المأمور جواباً على أصح القولَيْنِ في المكره ويقرب من هذا حكايةُ القاضي ابن كج عن القيصري والقاضي أبي حامد -رحمهما الله- والذين لم يجعلوا أمر السُّلطان إكراهاً اختلفوا، فعن أبي إسحاق وغيره: حمله على ما إذا أكره مع الأمْرِ وضُعِّفَ ذلك؛ لأنه نص على صورة الإكراه عقيب هذه الصورة، وعن رواية أبي عليٍّ الطبري -رحمه الله-: حمله على ما إذا قال المأمور: عَلِمْتُ أنَّه ظلمٌ، لكني جوَّزْت أن يكون ذلك على قوْلِ بعض الفقهاء، وأن الإِمام أدى اجتهاده إليه، فيجب القصاصُ، والحالةُ هذه، عليهما، أما الإِمام، فلأنه ألجأه إليه لوجوب طاعته في الظاهر، وأمَّا المأمور، فلأنه أقْدَمَ على قتل محرَّم عن اعتقاد التحريم. وصاحب الشوكة من أهل البغْي أمره كامر إمام أهْل العَدْل (¬1)؛ لأن أحكامه نافذة، وأما إذا أمَرَ غيْرُ السلطان بالقتل بغير حتى، كالزعيم والمتغلِّب، وقَتَل المأمورُ، نُظِرَ إن لم يخَفْ من مخالفته المحذور، فعلى المأمور القِصَاصُ والدية والكفارة، وليس على الأمر إلا الإثْمُ ولا فرق بين أن يعتقده حقاً أن يعْرِف كونه ظلماً؛ لأنه ليس بواجب ¬
الطاعة، ولا في مخالفته إثارة فتنة، بخلاف الإِمام، وإن كان يخاف من مخالفته المحذور، بأن اعتيد منه ذلك، ففيه الخلاَفُ المذكور في حقِّ الإِمام: لأن المعْلُوم هَلْ يُجْعَل كالملفوظ المصرَّح به، والقياس جعْلُه كالملفوظ، إلى ترْجِيحه مالَ صاحِبُ الكتاب وغيره. وفي أمر السلطان، قضية ما أورده الجمهور تصريحاً ودلالةً: أنه لا ينزل منزلةَ الإكْرَاهِ، فيخرج من هذا أن أمر السلطان من حيث إنَّه سلطانٌ لا أثر له، وإنَّمَا النَّظَر إلى خَوْفِ المحْذُور. الثانية: لو أمر السَّيِّد عبْدَهُ بقتل إنسانٍ ظلماً، فقتله، فإنْ كان العَبْد مميزاً، لا يرى طاعة السيد لازمةً في كل ما يأمره به، فالقصاصُ على العبد، وليس على السيد إلا الإثمُ، فإن عفا أو كان مزاهقاً، تعلَّق الضمان برقبته، وكذا لو أمره بإتْلاَفِ مال، فأتلفه، وإن كان صغيراً لا يُميَّز أو مجنوناً ضارياً أو أعجميّاً يرى طاعة السَّيِّد لازمةً في كل ما يأمره به، ويبادر إلى الامتثال، فهو كالآلةِ، والقصاصُ أو الديةُ على السَّيِّد، وفي تعلُّق المال برقبة مثل هذا العبد وجهان. أحدهما: التعلُّق؛ لأنه عبْدٌ صدَر منه الإتلاف. وأصحُّهما: المنع؛ لأنه كالآلة (¬1) المستعملة، فأشبه ما إذا أغرى بهيمةً صائلةً على إنسان، فقتلته، لا يتعلَّق بها الضمان، ولو أمر عبد غيره، فكذلك الحكْمُ، إن كان العبد لا يفرِّق بين أمر السيد وأمر غيره، ويسارع إلى ما يؤمر به، ثم إن قلْنا: يتعلَّق الضمانُ برقبته فبيع فيه، فعَلَى الأمر قيمته للسيد، وإذا لم تفِ قيمته بالواجب، فعلَى الأمر الباقي، وكذا لو كان الآمر السَّيِّدَ وليس هذا التعلُّق كتعلق الأَرْش برقبة سائر العبد، ولو أمر الأجنبي مثل هذا العبد بقتل نفسه، ففعل، فعلى الآمر الضمانُ، إن كان صغيراً أو مجنوناً، ولا يجب إن كان أعجميّاً؛ لأنه لا يعتقد لزوم الطَّاعة في قتْل نفسه بحال. نعم، لو أمره بِبَطِّ جراحة أو فتح عِرْقٍ على مقتل، وجب الضمان؛ لأنه لا يظنه قاتلاً فيجوز أنَّ يعتقد لزوم الطاعة فيه، هكذا حكَى عن النص، فإن كان الأجنبيُّ الآمِرُ عبداً، فليكنِ القصاصُ على هذا التفصيل، كما سيأتي، نظيره (¬2) -إن شاء الله تعالى-. ولو أمر صبياً حرّاً أو مجنوناً حراً بقتل إنسان، فَقَتَلاَ، قال في "التهذيب": إن كان لهما تمييز، فلا شيْء على الآمر سوى الإثم، وتجب الدية مغلَّظَةً، أو مخففة؛ بناء على ¬
الخلاف في أن عمدهما عمدٌ أو خطأٌ؟ وإن لم يكن لهما تمييز، وكانَا يسارعان إلى ما أُغْرِيَا به أو كان المجنون ضارياً، فالقصاص أو كمالُ الدية على الآمِرِ، وليّاً كان أو أجنبيَّاً، ولو أمر أحدهما بقَتْل نفسه، فعلى الآمر القصاصُ، ولو قَتَلَ مثلُ هذا الصبيِّ أو المجنونِ أو أتلفا مالاً من غير حَثٍّ من أحدٍ، فهل يتعلَّق الضمان بما لهما؟ عن الشيخ أبي محمد تخريجه على الخلاف المذكور في التعلق برقبة العبد؛ لأنه يشبه إتلاف البهيمة (¬1) العادية، وإذا وَقَفْتَ على ما أودْرنَاه لم يَخْفَ عليك أن قوله في الكتاب: "ولو أمره متغلِّب، علم مَنْ عادته السَّطْوُ عند المخالفة" المراد منه السطوة بما يحْصُل به الإكراه، وأن الحكم لا يختص بالمتغلِّب بل السلطان، إذا عُرِفَ ذلك من عادته، كان كالمتغلِّب بطريق الأوْلَى. وقوله: "بخلاف العبد إذا قتل سَيِّده" المراد من الإذنِ الأَمْرُ لا مجرَّد الترخيص؛ ألا تَرَاه يقول: "إذْ ليس في مخالفته" وليس للترخيص المجرد مخالفة. وقوله: "على وفق الشرع" لا يتعلَّق بذكره كبيرُ حاجة، فإنَّ مخالفة السيد على أي وجْهٍ كانت، لا تفتح باب الفتنة التي تعرض مثلها في مخالفة السلطان. وقوله: "فالسيد يأمْرِهِ كَالمُغْرِي للسَّبُع" المراد الصورة التي يتَعَلَّق القصاص فيها بإغراء السبع، ولا يَتعلَّق بالقصاص بمُطْلَق إغرائه على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى. وقوله: "وكذا المجنونُ الحرُّ إذا كان هذا طبعه" يعني أنه يجري الخلاف في تعلُّم الدية والضمان بِمَالِهِ إذا قتل من غير حثٍّ وإغراء. فَرْعٌ: العبد الصغير المميز، ولو أُكْرِه على القَتْل، فقَتَل، هل تتعلَّق الدية برقبته؟ قال الإِمام: يبنى على أن المُكْره الحُرَّ هل تلزمه الدية، إن قلنا؛ نعم، فنعم، وإن قلنا: لا، ففي التعلُّق برقبته الخلافُ المذكورُ في التعليق برقبة العبد الأعجميِّ؛ لنزوله منزلة الآلة آخر: أمره الإِمام بصُعُود شجرة أو النزول في بئر، فامتثل، وهَلَكَ به، فإن لم نجْعَلْ أمره إكراهاً، فلا ضمان، كما لو أمره واحِدٌ من الرعية، وإن جعلْناه إكراهاً، فإن كان يتعلق بمصلحة المسلمين، فالضمان على عاقلة الإِمام أو في بيت المال فيه قولان، نذكرهما في نظائرهما، وإن كان يتعلق به خاصةً، فالضمان على عاقلته، قاله في التهذيب، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلاَ يُبَاحُ بِالإكْراهِ الزِّنَا وَالقَتْلُ، وَيُبَاحُ بِهِ شُرْبُ الخَمْرِ وَالإِفْطَارُ ¬
وَإتْلاَفُ مَالِ الغَيْرِ بَلْ يَجِبُ، وَيُبَاحُ بِهِ كَلِمَةُ الرِّدَّةِ، وَهَلْ يَجِبُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الإكراه عَلَى القتل المحرَّم لا يبيحه بل يبقى مأثوماً به، كما كان (¬1) بالاتفاق، وكذا للإكراه على الزِّنَا (¬2) وهذا في الزنا يتفرَّع على الصحيح، وهو أنه يتصور الإكراه في الزِّنَا، ومن الأصحاب من أحاله، وقال: الانتشار لا يتحقَّق إلا مع نشاط النفس وانبساط الشَّهْوة، وذلك لا يحصل مع الإكراه، وقيل في الجواب عنه: هَبْ أنه كذلك، لكن الانتشار ليْسَ بشرْطٍ في الزنا، وإنما يعتمد في الزنا الإيلاج، والإكراهُ لا ينافيه. وأما أنَّ الإكراه هل يُسْقِط الحدَّ، فسيأتي -إن شاء الله تعالى- "في باب حد الزنا" بحسن تيسيره. ويباح بالإكراه شربُ الخمر استبقاء للمهجة، كما إذا غصَّ بلقمة، ولم يجدْ ما يسيغها، سوى الخمر، [كان]، له أنَّ يسيغها بالخمر، وكذلك الإفطارُ في نهار رمضان واتلاف مال (¬3) الغير يباحان بالإكراه، وفي معنى الإفطار الخروجُ من صلاة الفرض، ويباح بالإكراه أيضاً كلمةُ الردَّة على ما قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] وهل يجب التلفُّظ بها فيه؟ وجهان: أحدهما: نعم حفظاً لنفسه كما يجب دفع الهلاك بتَنَاوُلِ الميتة. وأصحُّهما: المنع مصابرةً وثباتًا على الدين، كما يعرض النفس للقتْلِ جهاداً أو ذَبَّاً عن الدين، وعلى هذا فالأفضل أن يثبت ولا يتكلَّم بكلمة الردَّةِ، رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "كَانَ الرَّجُلُ ممن كَانَ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فيه فَيُجَاءُ بِالمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيَشُقُّ نِصْفَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ عَنْ دِينِهِ، ويُمَشَّطُ بِأمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ وعَصَب، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ" (¬4). ومن الأصحاب من قال: إن كان ممَّن يَتَوقَّع منه النكاية في العدوِّ أو القيام بأحكام الشرع، فالأفضل أن يتكلّم بها، ويدفع القتل عن نفس هـ؛ لما في بقائه من الصلاح، ¬
وإلا، فالأفضل أن يمتنع، وهل يجب شرْبُ الخَمْر عند الإكراه؟ في "الوسيط": أنه على وجْهَيْن مرتَّبيْنِ على الوجهَيْنِ في كلمة الردة، وهو أولن بمنع الوجوب (¬1)، ويمكن أن يجيْء مثله في الإفطار في نهار رمضان، ولا يكاد يجيء في الإكراه على إتلاف المال. وقوله في الكتاب: "بل يجب" يجوز أن يعلم بالواو، إن رجع إلى شرب الخمر وما بعْده، ولم يختص بالإتلاف وعن الأودي في ضَبْط هذه الصور: إنَّ ما يسقط بالتوبة، يَسْقُط حكمه بالإكراه، وما لا يسقط بالتوبة، لاَ يَسْقُطُ حكمه بالإكراه. وإذا أَتْلَفَ مال الغير مُكْرَهاً، كان للمالك مطالبة المُكْرِه بالضمان؛ لأنَّ الإكراه تَسبَّب إلى الإتلاف، وهذا القدر مذكور في الكتاب في أول "الغصب" حيث قال: "فيجب الضمان على المكره على إتلاف المال" وفي مطالبة المُكْرهِ وجهان: أحدهما: لا يُطالب؛ لأن الإتلاف مباح له عند الإكراه. وأصحهما: المطالبة، لكنه يرجع بما يُغَرَّم على المكْرِه؛ لعُدوانه، ويعبر عن هذا الغرض بأن القرار على المُكْرِهِ لا محالة وفي مطالبة المُكْره وجْهان، هذا هو الطريق الظاهر، ووراءه وجهان: أحدهما: أن الضمان على المكره المتلف وإنما تعلق الضمان والقصاص بالإكراه على القَتْل؛ لِعِظَمِ خَطَرِ النفس. والثاني: عن القاضي أبي الطيِّب: أنَّ الضمان يتقرر عليهما بالسوية، ويُجْعَلاَن كالشريكَيْن، كما في الإكراه على القتل، ويجوز أن يُعْلَم لهذا قوله في الغصب: "فيجب الضمان على المكره" بالواو، والقولِ في جزاء الصيد إذا قتله المُحْرِم مكْرَهَاً، كالقول في ضمان المال. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَرْعٌ لَوْ أَنْهَشَهُ حَيَّةٌ يَقْتُلُ مِثْلُهَا غَالِبَاً فَالحَيَّةُ كَالسِّكِّينِ، وَإِنْ قَتَلَ نَادِراً فَكَالإِبْرَةِ، وَإِنْ أَلْقَى عَلَيْهِ الحَيَّةَ وَكَانَ مِنْ طَبْعِهَا النَّفَارُ فَلاَ قِصَاصَ، وَكَذَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي بَيْتٍ، وَلَوْ جَمَعَهُ فِي بَيْتٍ مَعَ سَبُع فَافْتَرَسَهُ وَجَبَ القِصَاصُ إِذ السَّبُعُ فِي المُضِيقِ يقْصدُ، وَإِنْ أَغْرَى بِهِ فِي الصَّحْرَاءِ فَلاَ إلاَّ إِذَا كَانَ السَّبُعُ ضَارِيَاً وَالهَرَبُ غَيْرَ مُمْكِنٍ، وَالمَجْنُونُ الضَّارِي كَالسَّبُعِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا أَنْهَشَهُ حَيَّةٌ أو ألدغه عقْرباً؛ بأن ضبطها وأدنى ذَنَبَهَا منْه مع ضَغْطٍ، أو كره فقتلته، نُظِر؛ إن كانت تقتل غالباً كأفاعي مكَّةَ وثعابين مصر، وعقارب ¬
نَصِيبينَ، وجب القصاص، وإن كانت مما لا تقتل غالباً، فقولان. أحدهما: أنه شبه عمْدٍ؛ لأنه لم يظهر منه قصْد القتل. والثاني: أنه يتعلَّق به القصاص؛ لأن نهشها يشق الجلْدَ، فيرتقب منه الغور والنكاية والجراحة، وإن صغرت، يتعلَّق بها القصاص، كما تقدَّم في غرز الإبرة، وهذا ما أورده الإِمام وصاحب الكتاب، والأول أصحُّ عند صاحب "التهذيب" والقاضي الرويانيُّ، وعنهما: إن لم يُنْهِشْهُ، ولكن ألقى الحية عليه، أو ألقاه عليها أو قيَّده وطَرَحَه في موْضِع فيه حيَّات وعقاربُ، فقتله، فلا قصاص ولا ضمان، سواءٌ كان الموضع ضيقاً أو واسعاً؛ لأنه لم يُلْجئْها إلى القتل (¬1)، وإنما قتلَتْه هي باختيارها، فَفِعْلُهُ مع قتْلِها كالإمساك مع مباشرة القَتْلِ، ولو عرضه لافتراس السَّبُع الذي يقتل غالباً، كالأسد والذئب، هدفه له، حتى صار السبع كالمُضْطَر إليه، لزمه القصاص (¬2)، كما في انتهاش الحيَّة، حكاه القاضي ابن كج عن النصِّ، فإن كان السَّبُع مما لا يقْتُل غالباً، فليكن كالحية التي لا تَقْتلُ غالباً، وإن أرسل إليه السبع أو أغْرَى عليه كَلباً عَقُوراً في موضعٍ واسعٍ؛ كالصحراء، فقتله، لا يجب القصاص، وكذا لو طرحه في مسبعة أو بَيْن يدَي السبع في الصحراء مكتوفاً أو غَيْرَ مكتوف؛ لأنه لم يُلْجِئْه إلى القَتْل، والذي وُجِدَ منه ليس بمهلك كما لا قصاص لا ضمان، كما في المُمْسِك مع القاتل، ولا فرْق بين أن يكون المطرُوح صغيراً أو كبيراً، وفي الصبى وجه: أنه يجب الضمان، وبه قال أبو حنيفة، وقد ذكر صاحب الكتاب الخلافَ فيه في الغصْب، ولو أغراه به في موضعٍ ضيقٍ أو حبَسه معه في بِئْرٍ أو بيت، فقتله، وجب القصاص مكتوفاً كان أو لم يكن؛ لأنه ألجأ السبع إلى عقره وقَتْلِه، وليس السَّبُع كالحية حيث لم يفرق فيها بين الموضع الواسع والضيق؛ لأن الحية، تنفر من الآدمي، والسبع يقصده في المضيق، ويتوثب عليه، وفي الموضع الواسعِ لا يقْصِده قصْدَه في المضيق، إنما يقصد قصد الدافِعِين، ويمكن التحرز والقرار منه، فهذا هو المشهور والمنقول عن النص، وعن القاضي الحُسَيْن وغيره: أن الحية، إن كانَتْ تقصده ولا تنفر، كانت كالسَّبُع، وأنها أنواعٌ مختلفةُ الطباع، وأن السَّبُع، إذا كان ضارياً شديد العَدْو، وكان لا يتأتى الهَرَبُ منه في الصحراء، وجب القصاص، وهذا جعله الإِمام كالبيان والاستدراك لما أطلقه الأصحاب، وأرسلوه وصاحب "التهذيب" وغيره من أصحاب القاضي جعَلُوا المسألة مُخْتَلَفاً فيها، وأقاموا هذا وجهاً آخَرَ، وعليه جرى صاحب الكتاب كيفما قدر، فقيد صورة الحية بما إذا كان من ¬
طبْعِها النفار، واستثنى من صورة السبع ما إذا كان ضارياً، والهَرَبُ غَيرَ مُمْكِنٍ، وقد وُجِّه ذلك بأن عَقْر السبع المُغْرَى يضاف إلى فعل المُغْرِي، وإن كان في الصحراء، ولذلك يحل به الصيد، وأجيب عنه: بأن الحيوان عُلِّمَ الاصطياد، والحاجة إلى الصيد حملَتْ على الإضافة إلى المُغْرِي، وهذا بخلافه، وحيث قلنا: بوجوب القصاص في الحية والسبع، فذاك، إذا قتل في الحال أو جرح جراحة تقتل في الغالب، أما إذا جرحه جراحة لا يقتل مثلها غالباً، فالحاصل شبْهُ عمْدٍ، فكأنه صدَرَت تلك الجراحة من المُغْرَى، وإذا تمكَّن المُغْرَى عليه من الفرار، فلم يفعل؟ قال الإِمام: هو كترك السباحة، والمجنون الضاري في ذلك كالسبع (¬1)، هكذا أطْلَقَ، ومقتضاه الفرق بين أنَّ يُغْرَى وُيبْعَث في المضيق أو الصحراء، لكن إن أمكن أنَّ يقال: إن طبع السبع أن ينفر من الآدميِّ في الصحراء، ولا يقصده، فلا يتضح أنَّ يُدَّعَى مثله في المجنون؛ فالجنون فنون، ولو رَبَطَ في دِهْلِيز داره كلباً عقوراً، ودعا إليه غيره، فافترسه الكلب، فلا قصاص ولا ضمان، ولم يُجْعَل على الخلاف الذي سبق في حفر البئر في الدهليز وتغطية رأْسِها؛ لأن الكلْب يفترس باختياره، ولأنه ظاهرٌ يمكن دفْعه بالعَصَا (¬2) والسلاح. ويجوز أن يُعْلَم قوله في الكتاب: "وكذا لو جمع بينهما في بيت" واحد بالواو؛ لأن القاضي ابن كج حكَى قولان: الجمع بينه وبين الحية في البَيْت، كالجمع بينه وبين السَّبُع، وكذا قوله: "فافترسه وجب القصاص" لأنه حكى قولاً: أنه لا يجب، وبحال الهلال على اختيار الحيوان، وأشار فيهما إلى النقل والتخريج، وإذا جعل ما ذكره القاضي وجهاً وأثبت الخلاف، فلا بأس لو أعلم قوله: "إلا إذا كان السبع ضارياً" بالواو أيضاً. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الطَّرَفُ الرَّابِعُ فِي طَرَيَانِ المُبَاشَرَةِ عَلَى المُبَاشَرَةِ وَحُكْمُهُ تَقْدِيمُ الأَقْوَى فَلَوْ جَرَحَ الأَوَّلُ وَحَزَّ الثَّاني فَالقَوَدُ عَلَى الثَّانِي، وَلَوْ أَنْهَى الأوَّل إلَى حَرَكَةِ المَذْبُوحِ وَقَدَّ الثَّانِي بِنِصْفَيْنِ فَالقَوَدُ عَلَى الأوَّلِ، وَلَو قَطَعَ أَحَدُهُمَا مِنَ الكُوعِ وَالثَّانِي مِنَ المِرْفَقِ فَمَاتَ بِالسِّرَايَةِ فَالقَوَدُ (ح) عَلَيْهِمَا، وَلَو قَتَل مَرِيضاً مُشْرِفَاً وَجَبَ القَوَدُ، وَلَوْ قَتَلَ ¬
مَنْ نُزِعَ أَحْشَاؤُهُ وَهُوَ يَمُوتُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاثةٍ لاَ مَحَالَةَ وَجَبَ القَوَدُ لِأَنَّهُ أَزْهَقَ حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً بِخِلاَف حَرَكَةِ المَذْبُوحِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا صدر فِعْلاَنِ مُزْهِقَانِ من شخصَيْن، نُظِرَ؛ إن وجدا معاً، فهما قاتلان سواء كانا مُذَفِّفَيْن كما إذا حَزَّ أحدهما رقبته، وَقَدَّه الآخر نصفَيْن، أو لم يكونا مُذَفِّفيْن، كما إذا أجاف كل واحد منهما جائفةً أو قَطَع عضواً، ومات منهما، وإن كان أحدهما مُذَفِّفاً دون الآخر، فقياس ما سنذكر أن يكون القاتل صاحبَ الفِعْل المُذَفّف، وإن طرأ فعْلُ أحَدِهما على فعل الآخر، فله حالتان: إحداهما: أن يوجد فعل الثاني انتهاء المجنيِّ عليه إلى أنْ صارَتْ حركته حركةَ المذْبُوحين، إما عَقِيبَ الفعل الأول؛ لكونه مذففاً أو لسرايته وتأثيره مدَّةً، فيكون القاتلُ الأَولَ ولا شيْءٌ على الثاني إلاَّ التعزير؛ لأن المُنْتَهِي إلى الحالة الثانية مقتول والثاني: هاتك حرمة مَيِّت، فَيُعذَّر، كما لو قَطَع عضواً من ميِّت أو حَزَّ رقبته، والمراد من حركة المذبوح الذي لا يبقى معها الإيْصَار والإدراك والنطق والحركة، والاختياريان وقد يقد الشخص وتترك أحشاؤه في النِّصْف الأعْلَى، فيطرف ويتكلَّم بكلماتٍ لكنها لا تَنْتَظِم، وإن انتظمت، فليستْ صادرةً عن رؤية واختيار، والحالةُ المذكورةُ هي التي تُسَمَّى حالة اليأس لا يصحُّ فيها الإِسلام ولا شيءٌ من التصرّفات، وتصير فيها المالُ للورثة، ولو مات قريبٌ لِمَنْ انتهى إلَيْها لم يُورث منه، ولو أسلم له ابن كافرٌ، أو أعتق رقيق، لم يُزَاحم سائر ورثته، وكما لا يصحُّ الإِسلام في تلْك الحالة، لا تصح الردة، هذا هو المشهور. وفي كتاب القاضي ابن كج: أنها تصحُّ؛ لأنَّ الكافِرَ يُؤْمن ويوقن حينئذٍ، فإعراض المؤمن جحودٌ (¬1) قبيحٌ، واعلم أنَّ مَنْ قطع حُلْقومَهُ ومريئه أو قلعت حشوته وأبينَتْ من جوفه، فقدإنتهى إلى حركة المذبوح (¬2)، وفي بعض نسخ "المختصر": ولو قطع حُلْقُومَهُ أوْ مَرِيئهُ، ثم ضَرَبَ عنُقَهُ آخرُ فالقاتل الأول دون الثاني، ونسب القفَّال وغيره المُزَنِيَّ إلى الإخلال، وقالوا: إنما قال الشَّافعي -رضي الله عنه- حلقومه ومريئه بالواو وقطع أحدهما قد لا ينتهي إلى حركة المذْبُوح في الحال. قال القاضي الرُّويانيُّ: ورأيته في كثير من النسخ بالواو على الصحَّة، ويمكن أن يطلق أو بمعنى الواو. ¬
والحالة الثانية: أن يوجد فعل الثاني قبْل انتهائه إلى حركة المذبوحين، فيُنْظَر؛ إن كان الثاني مُذْففًا كما لو جرحه واحدٌ، ثم جاء آخر وحَزَّ رقبته، أو قَدَّهُ بِنصفَيْن، فالقاتل الثاني؛ لأن الجراحة كانَتْ تؤثِّر بالسراية والحَزُّ أبطل أثرها ومرايتها، وإنما يجب على الأول القصاصُ في العضْو المقطوعَ أو المال على ما يقتضيه الحال، ولا فَرْقَ بين أن يَتوقَّع البرء من الجراحة السابقة لو لم يَطْرَأ الحَزُّ، وبيْنَ أنَّ لا يَتوقَّع، ويسْتَيْقن الهَلاَك بعد يومين أو أيام؛ لأن له في الحال حياةً مُسْتَقِرَّةً، والتصرّفات فيها نافذةٌ، وقد عهد عمر -رضي الله عنه- وأوصى في هذه الحالة، فعمل بعهده ووصاياه. وعن مالك: أنه إذا تيقن هلاكاً بالجراحة السابقة، فالقاتل الأوَّلُ دون الثاني، وإن لم يكن الثاني مذففًا أيضاً، ومات بسرايتهما جميعاً كما لو أجاف الأول ثم أجاف الثاني، أو قطع الأوَّل يده من الكُوع، ثم قطع الثاني السَّاعِدَ من المِرْفق، فمات، فهما قاتلان لأنَّ القطْع الأوَّل قد انتشرت سرايته وألمه، وتأثرت به الأعضاء الرئيسية، وانضم إليها آلام الثاني، فأشبه ما إذا أجاف واحد منهما جائفةً، وجاء آخر، ووسَّعَها، فمات، يحب القصاص عليهما، وعند أبي حنيفة القِصَاصُ في الصورة الثانية على الذي قَطَعَ من المرفق دون الأوَّل، وإذا شك في الانتهاء إلى حركة المذبوحين، روجع فيه أهل الخبرة، وعُمِلَ بقولهم. والمريضُ المُشْرِف على الوفاة إذا قُتِلَ، وجب القصاص على قاتله، قال القاضي الرويانيُّ وغيره: سواء انتهى إلى حالة النَّزْع، وصار عيشه عَيْشَ المذبوحين، أم لا ولفظ الإِمام: أن المريض لو انتهى إلى سَكَرَاتِ الموْتِ، وبَدَتْ مخائِلُه، وتغيَّرت الأنفْاس في الشَّراسيف، فلا يُحْكَم له بالمَوْت، بل يلزم قاتله القصاص وإن كان يُظَنَّ أنه في مثل حالة المقدود، وفرَّقوا بأن انتهاء المريض إلى تلْك الحالة أن موته غير مقطُوع به، وقد يُظَنُّ به ذلك، ثم يُشْفَى بخلاف المقدود، ومَنْ في معناه، وأيضاً بأن في المريض لم يَسْبِقْ فعْلٌ يحال القتل وأحكامه علَيْه، حتى يهدر الفعْل الثاني، وهاهنا بخلافه. وقوله في الكتاب: "ولو جَرَحَ الأَولُ وحَزَّ الثاني" وقوله على الأثر: "فَقَدَّ الثانِي بِنِصْفَيْن" ليس لتخصيص الحَزِّ بالصورة الأولَى، والقَدِّ بالثانية، بل حكمهما واحدٌ في الصورتين، وقوله: "ولو قَتَلَ مَنْ نُزعَ أحشاؤُه" ظاهره يفهم التصوير فيمن أبينت حشوته، وأخرجت من جوفه، لكن مَنْ فُعِلَ به ذلك مقبول منته إلى حركة المذبوح لا محالة. نعم، لو أصاب الحشو خرق وقطْعٌ، وكان يتيقن موته بعْد يوم أو يومين، فهو الذي يجب القصاص بقَتْلِه، وكان عمر -رضي الله عنه- كذلك على ما رُوِيَ أن الطبيب سقاه لبناً، فخرج من جوفه لما أصاب أمعاؤه من الخَرْق، فقال الطبيب: اعهد يا أمير
المؤمنين، والصورتان [الإبانة والخرق بلا إبانة] (¬1) منصوصتان مثبتتان في "المختصر" وكتب الأصحاب فَلْيُؤَوَّل لفظ النزع على التَّخْريق، والنزع عَنِ الموضع الأصليِّ، وما أْشبهه، وموضع الإعلام بالحاء والميم؛ في الفصل لما ذكرنا مِنْ مذهب أبي حنيفة ومالك ظاهرٌ. قَالَ الَغَزَالِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: ظَنُّ الإِبَاحَةِ هَلْ يَكُونُ شُبْهَةً؟ قُلْنَا: مَنْ قَتَلَ رَجُلاً فِي دَارِ الحَرْبِ عَلَى زِيَّ أَهْلِ الشِّرْكِ فَإذَا هُوَ مُسْلِمُ فَلاَ قِصَاصَ وَتَجِبُ الكَفَّارَةُ، وَفِي الدِّيَةِ قَوْلاَنِ، وَلَوْ قَتَلَ مَنْ عَهِدَهُ مُرْتدّاً فَظَنَّ أنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ فَإذَا هُوَ عَادَ إِلَى الإِسْلاَمِ فَقَولاَنِ إِذْ لَيْسَ لَهُ قَتْلُ المُرتَدِّ بَلْ هُوَ إلى الإِمَامِ، وَلَو ظَنَّهُ قَاِتلَ أَبِيهِ فَقَوْلاَنِ، وَلَوْ قَالَ: تَبَيَّنْتُ أَنَّ أَبِي كَانَ حَيّاً وَجَبَ القَوَدُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ، وَلَوْ ضَرَبَ مَرِيضاً ظَنَّهُ صَحِيحاً ضَرْباً يُهْلِكُ المَرِيضَ وَجَبَ القَوَدُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْذورِ إِذْ ظَنُّ المَرَضِ لاَ يُبِيحُ الضَّرْبَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: غرَضُ الفَصْلِ: البحثُ عمَّا إذا قَتَل إنساناً قَصْداً على ظنِّ في حالة المقتول، ثم تبيَّن خلافه، وفيه صورتان. إحداهما: إذا قَتَل شخصاً على ظَنِّ أنَّه كافرٌ، فإن كان علَيْه زِيُّ الكفَّار، قال في "التهذيب". أو رآه يعظم آلهتهم، فبان أنه كان مسلماً، فَيُنْظَرُ؛ إن اتفق ذلك في دارِ الحَرْب، فلا قصاص، وعليه الكفَّارة وفي الدية قولان: أحدهما: تجب؛ لأنها تَثْبُت مع الشبهة. وأصحُّهما: المنع؛ للجعل ووضح العذر فيما فعل هناك، وإن اتفق في دَارِ الإِسلام، وجبت الدية والكفارة، وفي القصاص قولان: أحدهما: لا تجب، كما في دَارِ الحَرْب، وعلى هذا؛ فتَكونُ الديَةُ مغلَّظة أو مخففة على العاقلة؟ فيه قولان، والثاني، وهو الذي رُجِّحَ منهما أنَّه يجب [عليه] القصاص؛ لأن الظاهر من حال مَنْ في دار الإِسلام العِصْمَة. الثانية: قَتَلَ من ظنه مرتداً أو حربياً فلم يكن، لزمه القصاص؛ فإن عَهِدَهُ مرتدّاً، فظن أنه لم يُسْلِمْ، وكان قَدْ أسْلَمَ، فالنَّصُّ وجوب القصاص، ونص فيما إذا عهده ذِمِّيّاً أو عبْداً وقَتَلَه على ظنِّ أنه لم يُسْلِم، ولم يعتق، فبان خلافُه: أنه لا يجب القصاص، وللأصحاب طريقان: أحدهما: طرْدُ القولَيْن في الصور. ¬
وجْه الوجوب: أنه قتل عمداً شخصاً مضموناً بالقصاص، ووجه المَنْع شبهةُ ظَنِّه المعتضد باستصحاب مَا عَهِدَ. والثاني: القطْعُ بالوجوب في المرتدِّ، وفرقٍ بينه وبين الصورتين الأخْرَيَيْنِ بأن المرتدَّ يُحْبَس في دار الإِسلام، ولا يُخْلَّى فقاتله وهو مخلَّى مقصِّر، بخلاف الذميِّ والعبْد، وفي كلام بعضهم ما يُشِير إلى طريقة قاطعةٍ بوجوب القِصَاصِ في قتلهما؛ لأنه ظنُّ لا يُنْتِج القتْلَ، ولا يقتضي إلا هدْرًا، والظاهر في الصُّوَر وجوبُ القصاص، وإن أثبت الخلاف، وقد يُوجُّه بأنه ظنٌّ لا يقتضي الإباحة، أما في العبد والذميِّ، فظاهر، وأما في المرتدِّ، فلأن قتله إلى الإِمام لا إلى آحاد الناس، فأشبه ما إذا زنى عالماً بالتحريم، جاهلاً بوجوب الحدِّ، حيث يلزمه الحَدُّ، وإن عهده حربيّاً، فظن أنه لم يُسْلِم، فمنهم مَنْ جعله كالمرتدِّ، ومنهم مَنْ قطع بأنه لا قصاص، وفَرَّقَ بأن المرتد لا يُخلَّى، والحَرْبِيُّ قد يُخَلَّى بالمهادنة وفُرِّق بينه وبين الذمِّيِّ والعبْد بأن الظن هناك لا يقتضي الحل والإهدار، وهاهنا بخلافه، ولو ظنه قاتل أبيه، فقتله، فبان خلافه، فقد حكى صاحب الكتاب وغيره فيه قولين: أحدهما: أنه لا يجب القصاص؛ لأنه ظنَّ إباحةَ القَتْل له. وأظهرهما: الوجوب؛ لأنه كان من حقِّه التثبت، ولم يعْهَدْه قاتلاً حتى يستصْحِبه والمفهوم مما أورده إذا ظَنَّه مرتداً أو حربيّاً من غير أن يعْهَدَه كذلك، ولم يكن كما ظنَّه القطْعُ بوجوب القصاص، والوجه التسوية بينهما، وبَيْنَ ما إذا ظنه قاتِلَ أبيه، إمَّا في القطع أو في إثبات القولَيْن، وقد يُرجَّح القطع بأن من أثبت القولين سلَّم القطْعَ بالوجوب فيما إذا قال: تَبَيَّنْتُ أن أبي كان حَيّاً حين قتلته مع أن أصْل الظنِّ والشبهة قائمٌ، وحيث قلنا: إنه لا قِصَاص في هذه الصور، فلو قال الوليُّ، عرفت إسلامه وحريته، وقال القاتل: ظننته كافراً أو رقيقاً، فالقول قوله؛ لأنه أعرف بحاله، ونقل صاحب الكتاب في "الوسيط" طريقين في موضعِ القولَيْن، فيما إذا ظنه قاتِلَ أبيه. أحدهما: أن موضع القولين ما إذا تنازعا أما إذا صدَّقه وليُّ الدم، فلا قصاصَ بلا خلاف. والثاني: طرد القولَيْن؛ لأنه ظنٌّ مِنْ غير مُسْتَندٍ شرعيٍّ. الثالث: إذا ضرب المريض ضرباً يَقْتل المريض دون الصحيح، فمات منه، نُظِرَ؛ إنْ علم أنه مريض، فلا خلافَ في وجُوبِ القصاص، وقد سبق ذكره في الكتاب استشهاداً في مسألة "التجويع"، وإن كان جاهلاً بمرضه، فالصحيح وجوب القصاص أيضاً؛ لوجود القتل بصفة التعدَّي، فإنَّ ظنَّ الصحة لا يُبِيحُ الضرب، وفيه وجه: أنه لا يجب؛ لأن ما أتى به ليس بمهلك غيره، فلم يتحقَّق قصْدُ الإهلاك، وذكر أن هذا الوجه مأخوذٌ من
الركن الثاني: القتيل
الخلاف فيما إذا شَهِدُوا على إنْسانٍ بما يوجب القتْلَ، ثم رجَعُوا، وقالوا: تَعمَّدْنا، ولم نَعْلَم أنه يُقْتَل بقولنا، وأقرَبُ منه أخْذُه من الخلاف في الصورة السابقة، ويجوز أن يُعْلَم قوله في الكتاب: "فقولان" في مسألة المرتد بالواو، وكذا قوله: "فقولان" فيما لو ظن أنه قاتل أبيه؛ لما بيَّنَّا من اختلاف الطرق، وكذا قوله: "وجب القود" في مسألة المريض للوجه الآخر، وقد أعاد المسْألةَ في "باب الرجوع عن الشهادة" من "كتاب الشهادات" وذكر فيها الخلاف هناك واقتصر هاهنا على إيراد الصحيح. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الثَّانِي: القَتِيلُ وَشَرْطُ كَوْنِهِ مَضْمُوناً بِالقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ مَعْصُوماً، وَالعِصْمَةُ بِالإِسْلاَمِ وَالحُرِّيَّةِ وَالأَمَانِ، وَالحَرْبِيُّ مُهْدَرُ الدَّمِ، وَكَذَلِكَ المُرْتَدُّ لَكِنْ فِي حَقِّ المُسْلِمِ، وَفِي حَقِّ الذِّمِّي وَالمُرْتَدِّ خِلاَفٌ، وَمَنْ عَلَيْهِ القِصَاصُ مَعْصُومُ فِي حَقِّ غَيْرِ المُسْتَحِقِّ، وَالزَّانِي المُحصَنُ يَجِبُ القِصَاصُ عَلَى قَاتِلِهِ الذِّمِّيِّ وَفِي المُسْلِم وَجْهَانِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ المُرْتَدِّ وَمَنْ عَلَيْهِ القِصَاصُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يُشْتَرَط لوجوب القصاص كَوْنُ القتيل مَحْقُونَ الدَّم مَعْصُوماً، إما بالإِسلام أو بعَقْد الحرية أو بالعَهْد والأمان (¬1)، فالحربيُّ مهدر؛ لأنه لا إيمانَ له، ولا أمان، وكذلكَ المرتدُّ مُهْدَرٌ، إنْ قَتَله مسلمٌ، وإن قتله ذمي أو مرتد، ففيه خلافٌ سيعود عن قريب وهناك نشرحه -إن شاء الله تعالى- فإن قيل بوجوب القصاص عليهما، فإما أن يقال: هذا مستثنًى عن قولنا: إن شرْطَ وجوب القصاص عصمةُ المقتول بأحد الوجوه الثلاث، وإما أن يقال: [إن] المرتد: معصومٌ عن الذميِّ والمرتدِّ بِمَا لَهُ من عُلْقة الإِسلام، على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى- ومَنْ عليه القِصاصُ، لو قتله غَيْرُ المستَحِقِّ يلزمه القصاص؛ لأنه ليس بمباح الدم، وإنما ثبت عليه حقٌّ قد يُتْرك، وقد يُسْتَوْفَى، والزَّاني المحصَنُ لو قتله ذميٌّ يلزمه القصاص؛ لأنه لا تسلُّط له على المسلم، ولا حق له في الواجب عليه، ولو قتله مسلمٌ، فوجهان: أحدهما: يجب القصاص؛ لأن الرجْم إلى الإِمام، وأيدِي الآحادِ مصروفةٌ عنه، فأشبه ما إذا قَتَلَ مَنْ عليه قصاصٌ غَيْرُ مُستحِقِّه. ¬
الركن الثالث: القاتل
والثاني: المنع؛ لأنه مباح الدمِ، فصار كالمرتدِّ، وربما بُنِيَ الخلافُ على أن الحدَّ لله تعالى، أو للمسلمينَ، والإمامُ نائب عنهم في الاستيفاء. إن قلنا: لله تعالى، فإذا قتله غير المستحِقَّ ونائِبِه، لزمه القصاصُ، كما لو قَتَل مَنْ عليه القصاصُ غيرُ المستحِقِّ ونائِبِه، وإن قلْنا: للمسلمين، فقد قتله أحد المستحِقِّين، فلا قصاص، والظاهر من الوجهَيْنِ على ما اختاره الإِمام، ورواه عن المراوزة ورآه صاحب "التهذيب": أنه لا يجب القصاصُ، ويُعزَى ذلك (¬1) إلى النص، وفي فتاوى القَفَّال: أن مَنْ ترك الصلاة عمْداً حتى خرج وقْتُها، وكان يُؤْمر بفعلها، فلا يفعَلُها، فلو قتله إنسان فلا قصاص عليه، وليكن هذا جواباً عَلَى وجْهِ المنعِ في الزاني المُحْصَن. قال: فلو جُنَّ قبل فعْلِها لا يُقْتَل في حال الجنون، فلو قتله قاتلٌ حينئذ، وَجَب عليه القصاص، وكذا لو سَكِر، ولو جُنَّ المرتدُّ أو سَكِرَ، فقتله قاتل، فلا قِصاص لقيام الكُفْر. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الثَّالِثُ: القَاتِلُ وَشَرْطُهُ أنْ يَكُونَ مُلْتَزِمَاً لِلأَحْكَامِ فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالمَجْنُونِ وَالحَربْيِّ، وَيجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ، وَفِي السَّكْرَانِ خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا يجب القصاصَ على الصبيِّ والمجنونِ؛ لأن القَلَم مرفوعٌ عنهما، كما لا قِصَاص على النائم، إذا انقلب على إنسان؛ فقتله، ولأنهما لا يُكلَّفان بالعبادات الدينية، فأوْلَى أن لا يؤاخذا بالعقوبات البَدَنيَّة، والمنقطع جنونُه كالعاقل في وقْتِ إفاقته، وكالمُطْبِق جنونه في وقْت جنونه، ومَنْ وجب عليه القصاص، ثم جُنَّ، استوفى منه القصاص، سواءٌ ثبت موجب القصاص بإقراره أو بالبَيِّنة، بخلافِ ما إذا أَقرَّ بما يُوجِبُ الحدَّ ثم جُنَّ حيث لا يُسْتَوفى منه الحَدُّ في جنونه؛ لأن الإقرار هناك يقْبَل الرُّجُوع. وعن أبي حنيفة: أنه لا يقتص، منه في الجنون، وعن بعض أصحابه: أنه إن جُنَّ حين قَدِمَ للقصاص، اقتص منه، وإن جُنَّ قبله، لم يقتص منه، وفي وجوب القِصَاص على السكران طُرقٌ مختلفةٌ، على ما مرت في "الطلاق"، والظاهِرُ وجوبُه وألْحَق به المتعدِّي بتناول الأدوية المزيلة للعقل. ولو قال القاتل: كنت يوم القتل صغيراً، وقال الوارث: كنت بالغاً، فالمصدَّق باليمين القاتل؛ لأن الأصل بقاءُ الصَّغَر، ولا يخفى أن هذا بشَرْط الإمكان، ولو قال: أنا صغير، فلا قصاص، ولا يُمْكن تحليفه؛ لأن التحليف لإثبات المحلوف عليه، ولو ثبَتَ صباه، لبطلت يمينه، ولو قال: كنت مجنوناً عند القتل، وكان قَدْ عُهِدَ له جنونٌ، ¬
فكذلك هو المصدَّق. وحكى القاضي الرويانيُّ وجهاً: أنَّ المصدَّق الوارثُ، إن كان الجنونُ الذي عُهِدَ له منقطعاً، وفي"الشامل" وجه مُطْلَقٌ: أنه المصدَّق لأن الأصل السلامة، ولو اتفقا على أنه كان زائلَ العَقْلِ، وقال القاتل: كنتُ مجنوناً، وقال الوارث: بل سكران، فالمُصدَّق القاتل، ولو أقام الوارثُ بينةً على أنَّ القاتل كان عاقلاً يومئذ، وأقام القاتل بينةً على أنه كان مجنوناً، تعارضتا ولا قصاص على الحربيِّ؛ لأنه غير ملتزم للأحكام، ويجب على المرتد الذميِّ لالتزامه الأحكام والانقياد لها، هذا ما قاله الجمهور. وحكى الشيخ أبو الحَسَن العبَّادِيُّ، أنَّ أبا إسحاق الإسفراييني ذهب إلى أنه يجبُ على الحربيِّ ضمانُ النفسِ والمال تخريجاً من أن الكفار يُخَاطَبُون بالشرائع، قال: ويُعْزَى هذا إلى المزنيِّ في"المنثور" فيمكن أن يُعْلَم لذلك قوله في الكتاب: "والحوبي" بالواو. وقوله: "أنَّ يكون ملتزِماً للأحكام" جعل الالتزام قيْداً يخرج به الصبيُّ والمجنونُ والحربيُّ جميعاً، أما الحربي، فإنه لم يلْتَزِمْ، وأمَّا هما، فليس لهما أهليَّةُ الالتزام. قَالَ الْغَزَاليُّ: وَقَدْ يَتَصَدَّى النَّظَرُ فِي سِتِّ خِصَالٍ يَفْضُلُ بِهِ القَاتِلُ القَتِيلَ الخصْلَةُ الأوُلَى الدِّينُ فَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وُيقْتَلُ اليَهُودِيُّ بِالنَّصْرَانِيِّ، وَلَوْ قَتَلَ ذِمِّيٌّ ذمِّيّاً ثُمَّ أَسْلَمَ القَاتِلُ اسْتُوفِيَ القَوَدُ، وَلَوْ أَسْلَمَ بَيْنَ الجُرْحِ وَالمَوْتِ فَوَجْهَانِ، وَلَوْ قَتَلَ عَبْدٌ مُسْلِمٌ عَبْداً مُسْلِماً لِكَافِرٍ لَمْ يَجِبِ القَوَدُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لِأَنَّ المُسْتَحِقَّ كَافِرٌ عِنْدَ القَتْلِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لمَّا تَكلَّم فيما يُشْتَرَط في القاتل والقتيل، تَدَرَّج منه إلى الكَلامِ، فيما فَضَلَ القاتل القتيل، وهذه نسبةٌ تقوم بالطرفين، لا تَخْتَصُّ بأحدهما، ومن المعلوم: أن الخِصَال التي قد يَفْضُل بها القاتلُ القتيلَ كثيرةٌ، وأنها بأسْرِها لا تُؤَثِّر في [منع] القصاص، فتكلَّم في ستِّ خضال، فالثلاث الأولَى منها تُؤثِّر في منْع القَصاصِ عندنا، والثلاث الأخيرةُ قد جَعَل بعض العلماء لها أثراً فَيَمسُّ الحاجةُ إلى النَّظَر فيها، وذكر الأصحاب -رحمهم الله- لضبط الثلاث: الأُولى: أنه تعتبر الكفاءة مِن القاتل والمقتول في الإسْلام، أو في الكُفْر، إذا كان الكافران محقونَي الدَّم، وفي الحرية أو الرق، وفي انتفاء ولادة (¬1) أحَدِهما للآخر، فإن لم يكن الشخصان متكَافِئَيْنِ في ذلك، قتل المفضولُ بالفَاضِل، ولم ينْعَكِسْ، ولو قيل: الشرْطُ أن لا يفْضُلَ القاتل القتيل بالإِسلام والحرية والولادة، لكان مؤدياً للغرض، وذكر ¬
بعض الأصحاب للضَّبْط: إن من يُحدُّ بقَذْفِ الغَيْر، يُقْتَل بقتله، ومن لا، فلا. إذا تقرَّر ذلك، فالخصْلة الأُولَى الدِّين فلا يقتل المُسْلم (¬1) بالكافر، حربيّاً كان، أو معاهَداً، أو ذميّاً. وبه قال مالك وأحمد، خلافاً لأبي حنيفة في الذميِّ، وعنْه في المُعَاهَدِ أيضاً روايةٌ غير مشهورة. لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ" والقياس على المُعَاهَدِ بجامع أن المقتول ناقصٌ بالكفر وَيقْتَل الذميُّ والمعاهَدُ بالمُسْلِم، والذِميِّ بالذميُّ، وإن اختلفت الملل كاليهوديِّ والنصرانيِّ؛ لأن الكفر كله كالملة الواحدة، ولو قَتَلَ ذِمِّيٌّ ذميّاً، ثم أسْلَم القاتلُ، فيُسْتَوْفَى منه القَوَدُ؛ لأنهما كانا متكافِئَيْنِ حال الجناية، والاعتبارُ في العقوبات بحالِ الجنايات، ولا يُنْظَر إلى ما يَحْدُث بعدها؛ ألا تَرَى أنَّ العبْدَ إذا زَنَى أو قَذَفَ، ثم أُعتِق، يقام عليه حدُّ العبد. ولو جَرَحَ ذِميٌّ ذميّاً أو معاهداً، وأسلم الجَارحُ ثم مات المجروح بالسِّراية، ففي وجوب القصاص وجهان. أحدهما: يجب؛ لأنه وُجِدَ التكافؤ حالة الجرح، والاعتبار بتلْك الحالة، فإنَّه [وقت] الفعْل الداخل تحْت الاختيار، ولذلك نقول: لو جُنَّ الجارح ثم مات المجروح يجب القصاص. والثاني: المنْع؛ اعتباراً بحالة الزهُوق؛ فإنَّ القصاص إنَّما يجِبُ بسَبَبِ الزهوق؛ ولذلك نقُول: لو جَرَحَ مُسْلِمٌ مُسْلِماً، فارتدَّ المخروح، ومات لا يوجب القِصَاص، وهذا أصحُّ عند الإِمام وجماعةٍ، والأكثرون رجَّحوا الأوَّل ورُبَّما لم يذكر غيره، وهذا الخلاف في قِصَاص النَّفْس، أما إذا كانت الجراحة بحَيْث يَجِب فيها القصاصُ، كما إذا قطع ذميٌّ يَدَ ذميٍّ، وأسلم القاطع ثم سَرَى القَطْعُ، وجب القصاص في الطرف لا محالة، ثم القصاص فيما إذا طرأ إسلام القاتل بعد القتل وفيما إذا طرأ الإِسلام بيْن الجرح والموت، وإن أوجبناه يستوفيه الإِمام بطلب الوارث، ولا يفوضه إليه تحرزاً من ¬
تسليط الكافر على المُسْلم إلاَّ أن يُسْلِم، فيفوِّضه إليه، ولو قَتلَ مسلمٌ ذمِّيّاً، ثم ارتدَّ أو جرَحَه وارتَدَّ، ثم مات المجْروحُ، فلا قصاص؛ لعدم التكافؤ حالَةَ الجناية، ويمكن أن يُقدَّر في الصورة الثانية خلافٌ، ولو قَتَل ذميٌّ مسلماً، ثم أسلم، لم يَسْقُط عنه القصاص، ولو قتل عبْدٌ مسلماً عبْداً مسلماً لكافرٍ، ففي وجوب القصاص وجهان: أحدهما: المنْع؛ لأن فيه إثباتَ ابتداء القصاص لكافر على مسلِمٍ. وأظهرهما: يجب؛ لأن العبدَيْنِ متكافئان متساويان في سبَب العِصْمَة، والسَّيِّد كالوارث، ولو مات وليُّ القتيلِ الذمّي وقد طرأ إسلام القاتل بعد القتل ثبت القصاص لوارثه، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب" والعبَّاديُّ في "الرقم" وللخلاف نَظَرٌ إلى أن القصاص يثبت للوارث ابتداءً أو تَلَقِّياً، ولا فرق بين أنَّ يكون العبد القاتلُ لمسلمٍ أو لكافرٍ، وإذا قلْنا: بالوجوب، فيستوفيه الإِمام بطَلَب السيِّد المستَحِقِّ، كما سبق، ولو قَتَل عبْدٌ كافرٌ عبْداً كافراً لمُسْلِمٍ، فعن القاضي الحُسَيْن فيه احتمالان: وقوله في الكتاب: "عند القتل" مِنَ الكافِرِ في الفصْل الذي بلغته الدَّعْوة وفي الذي لم تَبْلُغْه الدعوةُ وجْهٌ أن المُسْلِم يُقْتَل به، وسيأتي ذلك في"الديات" إن شاء الله تعالى. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَتَلَ مُسْلِمٌ مُرْتَدَّاً فَلاَ قِصَاصَ، وَلَوْ قَتَلَهُ مُرْتَدٌّ فَالظَّاهِرُ الوجُوبُ لِلتَّسَاوِي وإنْ كَانَ الحَرْبِيُّ لاَ يُقْتَلُ بالحَرْبِيِّ، وَلَوْ قَتَلَهُ ذِمِّيٌّ وَجَبَ عَلَيْهِ القِصَاصُ أَوِ الدِّيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَلَمْ يَجَبْ شَيْءٌ فِي قَوْلٍ لأَنَّهُ مُهْدَرٌ، وَيجِبُ القَتْلُ فِي قَوْلٍ دُونَ الدِّيَةِ لِأنَّهُ مُهْدَرٌ لَكِنَّهُ مَعْصُومٌ عَنِ الذِّمِّيِّ، وَفِي قَتْلِ المُرْتَدِّ بِالذِّمِّيِّ قَوْلاَنِ، وَجْهُ المَنْعِ أَنَّ فِيهِ عُلْقَةَ الإِسْلاَمِ وَيجِبُ القِصَاصُ سِيَاسَةً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: وهي موجزة في الكتاب: لو قتل مرتدٌّ ذميّاً، ففي وجوب القصاص عليه قولان: أصحهما: وهو اختيار المزنيِّ: يجب؛ لتساويهما في الدِّين، ولأن المرتد أسوأ حالاً في الذميِّ؛ لأنه لا تحل ذبيحته، ولا يُقَرُّ بِالجِزْية، فأوْلَى أن يُقْتل بالذميِّ. والثاني: المنع، ويحكى ذلك عن اختيار ابن سُرَيْج -رحمه الله- لأن عُلْقَةَ الإِسلام باقيةٌ في المرتد؛ ألا ترى أنه يجب عليْهِ قضاء الصلوات، وَيحْرُم استرقاقه، ولا يُمَكَّنُ الذميُّ مِنْ نكاح المرتدَّة، وإذا قلنا: بوجوب القصاص، فلو جَرَحَ مرتدٌّ ذميّاً، وأسلم الجارحُ، ثم مات المجْروح، فعلى ما ذكرنا فيما إذا جَرَح ذميٌّ ذميّاً، وأسلم الجارحُ، ثم مات المجروح، ويُقدَّم القتل بالقصاص على القَتْل بالرِّدَّة، فإن عفا
المستَحِقُّ، قُتِلَ بالردة، وتُقْضَى الديةُ من ماله وكذا الحكم إذا قلْنا: لا يجب القصاص. الثانية: لا قصاصَ على المُسْلِم بقتل المرتدِّ، ولو قتل مرتدٌّ مرتداً، ففي وجوب القصاص عليه وجهان: الصحيح منهما: الوجوب، كما لو قتل ذميٌّ ذميّاً. والثاني: المَنْعُ؛ لأن المقبول مباحُ الدَّمِ، وأجرى الخلافُ فيما لو قتل الزاني المحصنُ مثلَهُ، أو قتل المرتدُّ زانياً محصَنًا، ولَا خلاف في أنه لا يجب القصاص على الزاني المحْصَن، إذا قتل ذميّاً أو مرتدّاً، وإن كان يستحقُّ القتْلَ لاختصاصه بفضيلة الإِسلام، ولو قتل ذميٌّ مرتدّاً، ففي وجوب القصاص قولان أو وجهان: أصحهما: المنع؛ لأنه مباح الدم، ولا يجب القصاص بقتله، كالحربيِّ، وكما لو قتله مسلِمٌ. والثاني: يجب؛ لأن استحقاق قتْلِه للمسلمين، فإذا قتله غيرهم، كان كما قَتَل مَنْ عليه القصاصُ غيرُ المستحِقِّ، وعن القفَّال وغيره: بناء هذا الخلاف على القَوليْن في المسألة الأُولى، فإنْ قلنا يقتل المرتدِّ بالذميِّ؛ لأنه أسوأ حالاً منه، فلا يُقتل الذميُّ بالمرتدِّ؛ لأنه معصومٌ، وإن قلْنا: لا يُقتل المرتدُّ بالذميِّ؛ لبقاء عُلْقة الإِسلام فيه، فيُقْتل الذميُّ به، وفي "التهذيب" طريقة أخرَى قاطعة بِمَنْعِ القصاص. تفريعٌ: إن قلْنا بوجوب القصاص، فقد ذكر الإِمام: أن الشيخ أبا عليٍّ -رحمه الله- قال: يستوفيه الإِمام أو مَنْ يَنُوب عنْه، وأنه حَكَى قولاً غريباً: إن حقَّ الاستيفاء لقريبه المسلم الذي كان لو كان مسلماً، وإذا عفا المستحِقُّ واختار الدية، أو كان القتْلُ خطأً، ففي وجوب الدية وجهان: أحدهما: تجبُ الدية كما يجب القصاص. والثاني: المنْع؛ لأنه لا قيمة لدمه، وإنما أوجَبْنا القصاص؛ لأن الذميَّ يقتله عناداً لا تديُّناً؛ فإنه يعتقده محقون الدم، بخلاف المُسْلِم، فقتلْنَاه به زجْرًا وسياسةً، وقد يقال: هذا المعنى إنْ كان يَقْتَضِي الفرْقَ بين الذميِّ، والمسلمِ في القصاص فكذلك يقتضي الفَرْق بينهما في الدية، حتى يقال: لا قيمة لدمه في حَقِّ المسلم دون الذمي، كما لا يقال: لا قِصَاصَ بقتله في حق المسلم دون الذمي، وليس في التوجيه المذكور ما يوجِبُ الفَرْق بين القصاص والدية، وإذا جمعنا بين القصاص والدية، واختصرْنا، حَصَلَتْ ثلاثةَ أوجه أو أقوالٍ، كما في الكتاب. أحدهما: يجب القصاص في العَمْد والدية في الخَطَأ، وبه قال ابن أبي هُرَيْرة. وأصحُّهما: لا يجب واحدٌ منهما، وبه قال أبو إسحاق.
والثالث: الفرق بين القصاص والدية وبه قال أبو الطيِّب بن سلمة، وحكاه صاحب "التهذيب" والإمام عن الاصطخريُّ. وإذا فرَّعنا على وجوبِ القِصاص فيما إذا قَتَل مرتدٌّ مرتدّاً، فيجيْء في وجوب الدية مثْلُ هذا الخلاف، وفيَ الديةِ الواجبةِ يُقْتل المرتدُّ تفريعاً على قولِ مِنْ أوجبها؟ وجهان حكامهما القاضي الرويانيُّ أحدهما: دية المُسْلمين؛ لبقاءُ عُلْقة الإِسلام. والثاني: أخسُّ الديات، وهي دية المجوسيِّ؛ لأنه لا دِينَ له، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب". وقوله في الكتاب: "والظاهر وجوبه للتساوي وإن كان الحربيُّ لا يقتل بالحربيِّ" يعني أنهما متساويان في الدِّين، متكافئان فلْيُقْتَل أحدهما بالآخر، بخلاف الحوبي مع المرتد، فإن الحربيَّ لم يلتزمْ أحكام الإِسلام، والمرتدّ التزمه فأديم حكمه عليه. وقوله: "فيما إذا قتله الذمي "في قول" "وفي قول" يجوز أن يُعْلَم بالواو؛ للطريقة القاطعة بِمَنْعِ القصاص. وقوله: "ويجب القصاص سِيَاسَةً" أبدل في بعض النسخ لفظ "القصاص" بالقتل إشارةً إلى أنه يقتل به زجراً، وليس سبيلُه سبيلَ القصاص الذي تَخْلُفه الدية، لكن قضيَّة هذا إلحاقُه بالحُدُود وإخراجه عن أنَّ يكون حقُّ الوليِّ وأن لا (¬1) يؤثر عفوه فيه، وليس الأمر كذلك عند مَنْ يقتله به، فيَجُوز إبقاء لفْظِ "القصاص" بحاله وكذلك هو في "الوسيط". وقوله: "لأنه مهدر" و"لكنه معصوم عن الذميِّ" لِيُحْتُلْ على ما قدَّمنا أن إهداره بالإضافَةِ إلى المُسْلِم دون الذِّمِّيِّ على ما فيه من الإشكال. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الخُصْلةُ الثَّانِيَةُ: الحُرِّيَّةُ فَلاَ يُقْتَلُ حُرٌّ بِرَقيقٍ كَمَا لاَ يُقْطَعُ يَدُهُ بِيَدِهِ، وَيُقْتَلُ الرَّقِيقُ بالرَّقِيقِ وَبالحُرِّ، ويَقُتَلُ المُسْتَوْلَدَةُ وَالمُكَاتَبُ بِالقِنِّ، وَمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنصْفُهُ عَبْدٌ لاَ يُقْتَلُ بِمَنْ هُوَ فِي مِثْلِ حَالِهِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لأنَّ تَخْصِيصَ جُزْءِ الحُرِّيَّةِ بِمِثْلِهَا غَيْرُ مُمْكِنِ، وَالإِشَاعَة تُؤَدِّي إلَى اسْتِيفَاءِ الحُرِّ بِالرَّقيقِ، وَلاَ قِصَاصَ بَيْنَ العَبْدِ المُسْلِمِ وَالحُرِّ الذِّمِّيِّ إِذِ الفَضِيلَةُ لاَ تُجْبَرُ بِالنَّقِيصَةِ، وَلَوِ اشْتَرَى المُكَاتَبُ أَبَاهُ ثُمَّ قَتَلَهُ فَفِي القِصَاصِ وَجْهَانِ، وَلَوْ قَتَلَ غَيْر أَبِيهِ مِنْ عَبْدِهِ فَلاَ قِصَاصَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا يُقْتَل حرٌّ برقيق ولا قِنٌّ ولا مُدَبَّرٌ ولا مكاتَبٌ ولا أمُّ ولَدٍ ولا مَنْ بعضُه رقيقٌ، سواءٌ كان هؤلاء له أو لغيره، وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: يُقْتَل الحرُّ بعبد الغير، واحتج الأصحاب بما رُوِيَ عن ابن عباسٍ -رضي الله عنه- أن ¬
النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يُقْتَلُ حُرٌّ بعَبْدٍ" (¬1) وبأن حرمة النفس أعظم من حرمة الطَّرَف، وبالاتفاق لا يُقْطَع طَرَف الحرِّ بطًرَف العبد، فأوْلَى أن لا يُقْتَلَ به، ويقتل القِنُّ والمكاتَبُ والمُدَبَّر وأمُّ الولد بعضُهم ببعضٍ، وعن أبي حنيفة: أنه لا يُقْتل القِنُّ بالمُكَاتَب إذا خلَّف وفاء ووارثاً، ولو قَتَل عبدٌ عبداً، ثم عَتَق القاتلُ، أو جَرَحَ وعَتَقَ، ثم مات المجْروح، فعلى ما ذكرنا فيما إذا قَتَل ذميٌّ ذميّاً أو جرَحَهُ، ثم طرأ الإِسلام، ولو عَتَق بعْد إرسال الحر السَّهْم وقبل الإصابة، فلا قصاص، وكذا في إسلام الذميِّ عقيب إرسال المسلم السَّهْمَ، ذكره القاضي الرويانيُّ وغيره، ولو قَتَلَ مُسْلِمٌ حُرٌّ مَنْ لا يَعْلَمُ أنه مُسْلِمٌ أو كافرٌ أو مَنْ لاَ يعْرِفُ أنه حُرٌّ أو عَبْدٌ، فلا قصاص للشبهة قاله في "البحر" وحكى القاضي ابن كج: أنه لو حَكَم حاكمٌ بقتل حُرٍّ بعبدٍ، لم يُنْقَضْ حكمه، وأنه لو حكم بقَتْل مسْلِمٍ بذميٍّ، نقض حكمه قال: ويحتمل أن لا ينقض أيضاً وهو الوجه. ثم في الفصل الثالث صور: إحداها: مَنْ بعضه حرٌّ وبعضه رقيقٌ؛ إذا قَتَل مَنْ بعْضُه حرٌّ وبعضُه رقيقٌ، نُظِر؛ إن كان القَدْرُ الحرُّ من القاتل أكْبَرَ، فلا قصاص، وإن تساوى القَدْران، أو كان ما هو حُرٌّ من المقتول أكْبَر، ففيه وجهان: أشهرهما: عند المتقدِّمين وبه قال الشيخ أبو حامد والقاضي الماورديّ: أنه يجب القصاص، أما في الصورة الأُولَى؛ فلتساويهما في الرِّقِّ والحرية. وأما في الثانية: فلأن المفضول يُقْتَلُ بالفاضل. وأظهرهما: عند المتأخرين، وهو اختيار القاضي أبي الطيِّب والقفَّال، المنع؛ لأنه لا يُقْتَل ببغضِه الحرِّ البَعْضُ الحرُّ وبالرقيق الرقيق، بل يُقتَل جميعُه بجميعه (¬2)؛ ولهذا لو كان القتل خطأً أو آل الأمْرُ إلَى المال، تفريعاً على أنه يجب القصاصُ، أوجبنا نصْف الدية ونصْفَ القيمة مثَلاً، فلا نقول: نصْف الدية في مال القاتل، ونصْفُ القيمة يتعلَّق ¬
برقبته بفدية السيِّد، إن شاء، بل يجب ربُعُ الديةِ وربُعُ القيمة في ماله، ويتعلَّق ربع الدية وربع القيمة برقبته، وإذا وقع الاستيفاء شائعاً، لزم قتل البعْضِ الحرِّ بالبعض الحرِّ والرقيق معاً، وشُبِّهَ هذا بما إذا بَاعَ شِقْصاً وسيفاً قيمةُ كلِّ واحدٍ عَشَرةٌ بعَبد، وثوب قيمةُ كل واحد عَشَرةٌ، فإنه لا يجعل الشِّقْصَ مثلاً في مقابلة العبد أو الثوب بل المقابل له النصْفُ من هذا والنصْفُ من ذاك. الثانية: إذا قَتَل عَبْدٌ مسلمٌ حرّاً ذميّاً، فلا قصاص؛ لأن المسلم لا يُقْتَل بالذميِّ هاذا قتل حرٌّ ذميٌّ عبْداً مسلماً، فلا قال الإِمام: قصاص؛ لأن الحرَّ لا يُقْتَل بالعَبْد، القول في كفاءة النكاح: إن الفضيلة تجبر بالنَّقِيصَة، فلا يجيْء مثْلُها هاهنا، وكذلك لو قَتَل الكافرُ ابْنَهُ المُسْلِمَ أو الابْنُ المُسْلِمُ قَتَلَ أَبَاهُ الكَافِرَ فلا قصاص؛ لاختصاص القاتل بما يَمْنَعُ القصاص. الثالثة: لو قتل المكاتَبُ أباه، وهو في مِلْكِهِ ففي القصاص وجهان: أشبههما: المنع؛ لأنه مملوكه، والسيد لا يُقْتَلُ بعبده. والثاني: وَيُحْكَي عن إشارة النص: أنه يجب؛ لأن أباه إذا دخل في مِلْكه تكاتب عليه، ويثبت له حقُّ الحرية، كما يثبت للمكاتَبِ، فأشبه ما إذا قَتَل الحرُّ أباه، ولو قتل المكاتَبُ سائرَ عَبيدِهِ، فلا قصاص، كما قول قَتَلَ الحرُّ عبْدَهُ، هذا هو المذهب المشهور وفي "البحر" حكاية وجه آخر بناءً على أن المكاتَبَ عبد ما بَقِيَ عليه درْهَمٌ (¬1). وقوله في الكتاب: " وتُقْتَلُ المستولدةُ والمكاتب بالقِنِّ" خصهما بالذِّكْر بعد قوله: "ويقتل الرقيق" لِيُعْرَف أن توقُّع الحرية واستحقاقَهَا في المستقبل لا يَمْنَع القصاص، وإنَّما المؤثِّر الحريةُ النَّاجِزَة عنْد القتل، حتى لو قتلت مستولدةٌ قِنّاً، ولم يُقْتَصَّ منها، حتى عَتَقَتْ، لم يَسْقُطِ القصاص، ولو قتل ذميٌّ عبداً ثم التحق بدار الحرب فسُبِيَ وأُرِقَّ لم يُقْتَصَّ منه؛ لأنه كان حرّاً يَوْمَ القتل. وقوله: "ولو اشترى المكاتَبُ أباه" التصوبر في الشراء إنما يصحُّ فيما إذا اشترى بإذن السيد على أحَدِ القولين فأما بغير إذنه فلا يصحُّ بلا خلاف. قَالَ الْغَزَاليُّ: الخَصْلَةُ الثَّالِثَة: الأُبُوَّةُ وَلاَ يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ، وَكَذَا الأَجْدَادُ ¬
وَالجَدَّاتُ، إِذْ لاَ يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ مُعْدِماً لِسَبَبِ وُجُودِهِ وَكَذَلِكَ لاَ يَقْتُلُ الجَلاَّدُ أبَاهُ وَلاَ الغَازِي، وَلَوْ قَتَلَ زَوْجَةَ ابْنِهِ فَلاَ قِصَاصَ إِذْ ابْنُهُ وَارِثٌ فَيَسْقُطُ نَصِيبُهُ، فَلَوْ تدَاعَى رَجُلاَنِ مَوْلُودًا فقَتَلَهُ أَحَدُهُمَا تَوَقَّفْنَا فَإِنْ أَلْحَقَهُ القَائِفُ بِهِ فَلاَ قِصَاصَ، وإنْ أَلْحقَهُ بِالثَّاني اقْتَصَّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا قصاص على الوالد بقَتْل الولَدِ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وعن مالك: أنه إن تعمَّد قتله، فعليه القصاص، وُيرْوَى أنه إن أضْجَعَه وذبحه، فعليه القِصاص، وإن حذفه بالسيف، فلا؛ لاحتمال أنه قَصَد التأديب. لنا: ما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يُقَادُ الوَالِدُ بِالوَلَدِ" (¬1) ولأن الوالد سبب لوجود الولد، فلا يَحْسُنُ أن يَصِيرَ الولَدُ [سبباً معدماً له، ولا يليق ذلك بحرمة الأبوة، ولرعاية حرمته، قلنا: إنه لا يُحَدُّ بقذف ابنه، وكرِهْنا للجلاَّد أن يقتل أباه حدّاً وقصاصاً، وللغازِي أن يَقتل أباه الكافِرَ، وستعود صورة الغازِي في " [كتاب] السير". والأمُّ كالأب، وكذا الجدات والأجداد لا يُقْتلُون بالأحفاد، سواءٌ قَربُوا أو بَعدُوا، وسواء كانوا من قبل الأب أو من قبل الأم. وعن صاحب "التلخيص" وأبي الطيِّب بن سلمة روايةُ قول في الأجداد والجدات، قال الإِمام وهذا لا يقبله الأصحابُ منْصوصاً ولا مُخرَّجاً، ولعله أخِذَ من قول الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- في أن الرجُوعَ في الهبة تختص بالأبَويْنِ، وليس هذا على وجهه، فإن اللائق بالهبة منْعُ الرجوعِ والاقتصار على مورد الخبر، واللائق بالقِصَاصِ إذا عهد ما يَدْرَأ العقوبة ألاَّ يخصّص وحَكَى خلافاً ذُكِرَ في أن القصاص لا يَجِبُ على الأبِ أو يجِبُ ثم يسقُط؛ لتعذُّر الاستيفاء؟ قال: وهذا من حشْوِ الكلامِ، والمانعُ من الاستيفاء مانعٌ من الوجوب، ولو قضى قاضٍ بقتل الوالد بولده قال القاضي ابن كج: يُنْقَضُ حكمه، وليكُنْ هذا في الموضع ¬
الذي يساعدنا فيه مالك، ويُقْتَلُ الولدُ بالوالِدِ، وكذا سائرُ المحارِم يُقْتَل بعضُهم ببعض، ولو قَتَل الأبُ الرقيقُ عَبْدَ ابنه، فلا قصاص العبد لأن قصاص العبد لسيده والابن لا يقتص من أبيه، [ولو قَتَلَ الابْنُ الرقيقَ عبد الأب فله أن يقتصَّ] (¬1). ثم في الفصْل مسألتان: إحداهما: لو قَتَل مَنْ يرثه ولَدُ القاتل، لم يجب القصاص، كما لو قتل زوجةَ ابنه، أو زوجته ولها منه ولدٌ أو قتلت أم الولد سيِّدَها، وورثه ولدُها منه، ولو ثبت القصاص لغَيْر ولدِ القاتل، ثم انتقل أو بعْضُه إليه، كما إذا قَتَل أبا زوجته، ثم ماتَتِ الزوجة، ولها منه ولد، أو قَتَلَ ابْنُ معتق ابنه، ثم مات المُعْتَق، وورثه ابنه، فلا قِصَاص، وكذلك الحُكْم، لو ورث القاتلَ مستَحِقَّ القصاص الواجب عليه، كما إذا قتل أباه، وثبت القصاص لأخيه، ثم مات الأخ، ولم يُخلِّف إلا القاتل أو خَلَّف معه بنتاً. قال الإِمام -رحمه الله-: والوجه هاهنا أن يُقَال: ورث ولده القِصَاصَ ثم قتل أو وَرِث القصاص الواجب عليه، ثم سقط لأنه لو لم يرث القصاص، لورثه غيره، ولَمَا سقط، وقد يتعلَّق بهذا من يقول: يجب القصاصُ على الأب بِقَتْلِ الابن، ثم يسقط، لكن سبب السقوط هاهنا استحقاقُ الولَدِ واستحقاقُه قصاصُ نفسه، مما لَمْ يَثْبُت الاستحقاق، لا يتوجه السقوط، فهو كما لو اشترى قريبه الذي يُعْتَق عليه، لَمَّا لم يتصوَّر العتق، إلا في المِلْك، ثبت الملك ثم زال، وإذا اشترى نفسه من سَيِّده، ملك نفسه، ثم ترتَّب العِتْق عليه. المسألة الثانية: إذا تداعَى رجلان مولوداً مجهولاً ثم قَتَله أحدهما أو قتلاه، فلا قصاص في الحال؛ لأن أحدهما اْبوه ثم إن ألحقه القائف بأحدهما، فإن كانا قد اشتركا في قتله، فلا قصاص على الذي ألْحَقَ به، ويُقْتَصُّ من الآخر فإنه شريكُ الأب، وحكَى القاضي ابن كج وجهاً: أنه لا يقتص من الآخر أيضاً، ووجَّهه بأن إلحاق القائف، مبني على الإمارات وهو ضعيف، فلا يُنَاط به القصاص الذي يَسْقُط بالشبهات، بخلاف الإلحاق بالفراش، وإن كان قد قتله أحدهما، فإن ألحقه بالقاتل، فلا قصاص، وإن ألحقه بالآخر، اقُتُصَّ من القاتل، وكذا لو ألحقه بغيرهما، وينْبَغِي أن يَعُودَ الوَجه الذي حكاه القاضي (¬2) [ابن كج]. وإن رَجَعا عن الدعوة، لم يُقْبَل رجوعهما؛ لأنه صار ابناً لأحدهما، وفي قَبُول ¬
الرجُوعِ إبطالُ حقِّه من النسب، وإن رجع أحدهما، وأصر الآخر، فهو ابن الآخر، فيُقْتَصُّ من الواجع، إن اشتركا في قتله، أو كان هو القاتلَ هذا إذا لَحِقَ المولودُ أحدَهما بالدعوة، أما إذا لَحِقَ بالفراش، كما إذا نَكَح معتَّدةَ، فأتت بولد يتصوَّر أن يكون من الزوج الأول، وأن يكون من الثاني، أو فرض وطء شبهة، فإنما يتعيَّن أحدهما بإلحاق القائف أو بانتساب المولود بعْدَ البلوغ فلو نفاه أحدهما، فيتَعيَّن للثاني، أو يبقى الإبهام حتى يُعْرَض على القائف أو يَنْتَسب؟ فيه قولان مذكوران في باب القائف، والأصح الثاني، وإذا ألحقه القائف بأحدهما، [وقد قتلاه، فيقتص من الآخر، وإنْ قتله أحدهما، لم يَخْفَ الحكم، وإن ألحقه بأحدهما،] (¬1) أو انتسب بعد البلوغ إلى أحدهما، ثم قتله الَّذي لَحِقَه، لم يقتص منه، فإن أقام الآخر بَيِّنةً على نسبه لحقه، واقْتُصَّ من الأول وحيث فرضْنا إلحاق القائف بعْد القتل، فذاك مُفَرَّعٌ على جواز عرْضِ المولود بَعْدَ موته على القائف وهو الصحيح، وفيه وجه آخر يذكر في موضعه ويمكن أنْ يُفْرَض العَرْض في حياته، وتأخيرُ الإلحاق إلى ما بعد المَوت. وقوله في الكتاب: "ولا يُقْتَل والدٌ بولَدِه" مُعْلَم بالميم. وقوله: "وكذا الأجْدَاد والجدَّات" ويجوز أنَّ يقرأ وكذلك باللام وقوله: "ولذلك لا يَقْتُل الجَلاَّد أباه" يجوز أن يقرأ "لذلك" ويجوز أن يقرأ "ولذلك" بالواو وقوله: "وإن ألحقه بالثاني اقْتَصَّ" قياس ما حكاه القاضي ابن كج إعلامه بالواو، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَتَلَ أَخَوَانِ؛ أبوَيْهِمَا مَعاً أَحَدُهُمَا الأَبُ وَالآخَرُ الأُمُّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ قِصَاصَ صاحِبِهِ فَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا إلى الاقْتِصَاصِ سَقَطَ قِصَاصُهُ لِأنَّهُ وَرِثَ مِنْ أَخِيهِ قِصَاصَ نَفْسِهِ إِذَا قُلْنَا: القَاتِلُ بِالحَقِّ لاَ يُحْرَمُ المِيرَاثَ، وَلَوْ قَتَلَ أَحَدُهُمَا الأَبَ أوَّلاً ثُمَّ قَتَلَ الثَّانِي الأُمَّ سَقَطَ القِصَاصُ عَنْ قَاتِلِ الأَبِ لِأنَّهُ وَرِثَ مِنَ الأُمِّ حِصَّةَ قِصَاصِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَرِثْ قَاتِلُ الأُمِّ مِنَ الأُمِّ لأنَّ القَاتِلَ مَحْرُومٌ هَذَا إِنْ كَانَتِ الأُمُّ زَوْجَةَ الأبَ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ فَكُلُّ واحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ قِصَاصَ صاحِبِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أخوانِ لأَبٍ ولأُمٍّ، قَتَل أحدُهما الأَبَ، والآخَرُ الأمَّ، فإما أن يقْتُلاَهما معاً أو عَلَى التعاقُبِ، والاعتبار في المعيَّة، والتعاقبُ بزهوق الرّوح لا بالجُرْح. الحالَة الأُولَى: إذا قتلاهما معاً، فكلُّ واحدٍ منهما يستحقُّ القصاص على الآخَرِ، فإنْ عفا أحدهما، فللمعفو عنه أن يقتصَّ من العافي يُقَدَّم لاستيفاء القصاص مَنْ خرجَتْ ¬
قرعته، وإذا استوفَى أَحَدُهُما القِصاصَ بالقرعة، أو بادر إليهِ مِنْ غير قرعة، فإنْ قلْنا: القاتل بالحَقِّ لا يُحْرَم الميراث، ولم يكن للمقتصِّ منه مَنْ يحجبه سَقَطَ القِصَاصُ عن المُبَادِرِ؛ لأنه ورث القصاص المستَحقَّ على نفسه أو شيئاً منه، وإن قلْنا يحرم الميراث، وهو الأظهر أو كان هناك من يَحْجّبه، فللوارث المقتَصِّ منه أن يقتص من المُبَادِرِ. الحالة الثانية: إذا وَقَعَ القَتْلان على التعاقُب، فإن كانت الزوجية قائمةً بين الأبوين، فلا قصاص على مَنْ قَتَل أولاً؛ ويجب على من قَتل آخراً؛ وذلك لأنه إذا سَبَق أحدُهما إلى قتْل الأب، لم يَرِثْ من الأب، وكان حقُّ القصاص للابْنِ الآخِر، وللأم بالزوجية، فهذا قَتَل الآخرُ الأمَّ، كان الأوَّل هو الذي يرثُهَا، فينتقل إليه القِصَاص المستحَقُّ عليه، ويَسْقُطِ، ولو تقدَّم قتْلُ الأمِّ وتأخَّر قَتْل الأب، سقَّطَ القصاص عن قاتل الأم، وَثَبَت على قاتل الأب، وإذا اقتص القاتل الأوَّلُ من الآخر، وقلْنا: القاتل بالحق يحرم عن الميراث، أو كان للمقتصِّ منه مَنْ يحجبه، فلورثة المقتص منه نصيب من دية القتيل الأول، يُطَالِبُون به القاتِلَ [الأول]، وإن لم تَكُنِ الزوجيةُ قائمةً بين الأبوين، فلكل واحد منهما حقُّ القصاص على الآخر، ويكون التقديمُ بالقُرْعة أو يقدَّم للقصاص مَنِ ابتدأ بالقَتْل؟ فيه وجهان: ميل الإِمام والقاضي الحُسَيْن إلى الأوَّل منهما، وبالثاني أجاب القاضي الرويانيُّ وغيره (¬1)، ولو بادر الذي أردْنا الاقتصاص منْه، إما بالقرعة أو لابتدائه بالقَتْل، عاد النَّظَر في أن القاتل بالحقِّ، هل يُحْرَمُ الميراث، وأنه هل خَلَّف المقتُول من يحْجُبه على ما بيَّنا وحكى القاضي الرويانيُّ عن الأصحاب فيما إذا وقَع القتلان معاً، وأقْرَعْنا للبداية فخرجَتِ القرعة لأحدهما؛ أنه لو وَكَّل مَنْ خرجَتْ له القرعة جاز؛ لأنه يقتصُّ له في حياته، ولو وكَّل الآخَرَ، لم يَجُزْ؛ لأنه يقتص له بعد قتله ولا تبقى الوكالة حينئذ، قال: وعندي أنَّ توكيله صحيحٌ أيضاً؛ ألا ترى أنَّه لو بادر وكيلُه، فقَتَل، لم يلزمْه شيْءٌ، لكن إذا قتل الموكّل، بطَلَتِ الوكالة (¬2). وقوله في الكتاب: "كُلُّ واحدٍ منهما يستحق قِصَاص صاحبه" يجوز أن يُعْلَم بالواو؛ لأن القاضي أبا القاسم ابن كج حكى وجهاً عن أبي علي بن أبي هريرة وأبي الحُسَيْن بن القطَّان فيما إذا قتل زيد ابناً لعمرو وعمرو ابناً لزيد، وكلّ واحد من الأبوين متفرد بالإرث أنه يقَعُ التقاص، ولا قصاص بينهما وفي "الرقم" للعبَّادِيِّ مثلُه ذلك الوجه ¬
لا بد وأن يجيْء فيما نحْنُ فيه .. وقوله: "لأنه ورث من أخيه قصاص نفسه، إذا قلْنا: القاتل بالحَقِّ لا يُحْرَمُ الميراثَ" التفريعُ على هذا القول لا يكفي لميراثه أنه قصاصُ نفسه بل له شَرْطٌ آخَرُ، وهو أنه لا يخلف المقتص منه مَنْ يحجبه على ما تَبيَّنَ. وقوله: "هذا إنْ كانت الأم زوجةَ الأب" يرجع إلى صورة تعاقب القَتْلَيْن، فأمَّا في الحالة الأُولَى، وهو وقوع القتلين معاً، فلا فرق بين أن تكون زوجته أو لا تكونُ؛ لأنهما إذا ماتا معاً، لم يرث واحدٌ منهما من الآخر وقد يُؤدَّى مقصود الفصْل في إيراد آخر، فيقال: إن لم تكن الأمُّ زوجةَ الأب، فلكلِّ واحدٍ منهما القصاصُ على الآخر، وإن كانَتْ زوجته، فيُنظَر، أوقع القتلان معَاً أو على التعاقُبِ، والمعنى لا يختلف. فرْعٌ: أربعة إخوة، قَتلَ الثاني أكْبَرَهم ثم الثالثُ أصْغَرَهُمْ، ولم يُخلِّف القتيلان غير القاتلين، فللثاني أن يقتص من الثالث، ويَسْقُط عن الثاني القصاصُ؛ لأنه لَمَّا قَتلَ الأكبَرَ، كان القصاص للثالثِ وللصغير، فإذا قَتَل الثالثُ الصغيرَ، وَرِثَ الثانِي حقَّ الصغيرِ مِنْ قصاصه. آخر عن ابن أبي هريرة: شهادةُ الابن علي الأب بما يوجب القَتْل لا تُقْبَل؛ لأنه لا يُقْتَل بقَتْلِه، فلا يُقْتَل بقوله: كيلا يصير سبباً لهلاك الأب، نقلَه عنه القاضي ابن كج، والظاهر خلافُه. والله أعلم. قَالَ الْغَزَاليُّ: الخُصْلَةُ الرَّابِعَةُ التَّفَاوُتُ فِي تَأْبُّدِ العِصْمَةِ وَذَلِكَ لاَ يُعْتَبَر فَيُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِالمُعَاهَدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يقتل الذميُّ بالمعاهَدِ، وبالعكس، كما يُقْتَل الذميُّ بالذميَّ والمعاهَدُ بالمعاهدِ لحصول العِصْمة في الحال، ولا أثر للتفاوُتِ في تأبُّدها وتأقيتها، ويشهَدُ له تساوي الذميِّ والمعاهَدِ في الدية. وعند أبي حنيفة: لا يُقْتل الذميُّ بالمعَاهَدِ، وعنه في قتل المعاهَدِ بالمعاهد روايتان، وأبْدى الإمامُ تردُّداً في قتل الذميِّ بالمعاهد، وإن أطلقه الأصحاب، قال: لأني رأيتُ نصوصاً ثُقِلَتْ في أن المعاهَدَ إذا سَرَق، هل يُقْطع، ويترتَّب عليه تردُّدٌ في أنه لو سَرَقَ ماله، هل يجب القطع، وينشأ منه تردُّد في القِصَاصِ، فإن أقيم ما ذكره وجهاً، فليُعْلَم قوله في الكتاب: "فيقتل الذمي بالمعاهد" مع الحاء بالواو، وبه يُشْعر نَظْم "الوسيط". فَرْعٌ: إذا أسر الإِمام بالغَاً مِنْ أهل الحرْب، فقتله ذميٌّ قبل أن يرى الامامُ فيه رأَيَهُ مِنَ الإرقاق وغيره، فلا قصاص عليه؛ لأنه باقٍ على حُكْمه الذي كان [حتى] يرقه الإِمام. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الخَصْلَةُ الخَامِسَةُ فَضِيلَة الذُّكُورَةِ لاَ يُعْتبَرُ فَيُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالمَرْأَةِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: قال: ويُقْتل الرجلُ بالمرأة، وبالعكس، والخُنْثَى بهما، وبالعكس، كما يُقْتل العالِم بالجاهِلِ، والشريفُ بالخسيس، والشِّيْخُ بالشابِّ، وبالعكس، ويُرْوَى عن عمرو بن حزم: "أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَتَبَ في كِتَابِهِ إلى أَهْلِ اليَمَنِ أَنَّ الذَّكَرَ يُقْتلُ بِالأُنْثَى" (¬1) وكما لا يؤثر اختصاص القاتِلِ بفضيلة الذكورة في منْع القصاص لا يؤثِّر ¬
اختصاص القتيل بهذه الفضيلة في ضمِّ شَيْء من الماء إلى القصاص، وعن عطاءٍ والحسَنِ البَصْرِيِّ: أَنه إنْ قتل الرَّجُل المَرْأَةَ يُخَيَّر الوليُّ بين أنَّ يأخُذَ دِيَتَها، وبيْنَ أن يَقْتُلَه ويبْذُل نصْف ديته، وإن قتَلَتِ المرأةُ الرجُلَ يخيَّر الوليُّ بين أنَّ ياًخذ جميع ديته مِنْ مالها، وبين أن يَقْتُلَها، ويأْخُذَ نصْفَ الدية، ويُرْوَى مثلُه عن عليٍّ -كرم الله وجهه- روايةً وإنما ذكَرْنا مذهَبَهم في المسألة؛ لما بينا أنه تَكلَّم في الصفات التي لها أَثَرٌ في القِصاصِ عنْد بعض العلماء. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَرْعٌ إِذَا قَطَعَ رَجُلٌ ذَكَرَ خُنْثَى مُشْكِلٍ وَشَفْرَيْهِ فلاَ قِصَاصَ لاِحْتِمَالِ أَنَّ المَقْطُوعَ امْرَأَةٌ، وَلَوْ عَفَا عَنِ القِصَاصِ سُلِّمَ إِلَيْهِ دِيَةُ الشَّفْرَيْنِ وَحُكُومَة أَخْذاً بِأحْسَنِ التَّقْدِيرَيْنِ فَإنَّهُ المُسْتَيْقَنُ، فَإِنْ لَمْ يَعْفُ فَلاَ تُقَدَّرُ دِيَةُ الذَّكَرِ؛ لِأنَّ القِصَاصَ فِيهِ مُتَوَقَّعٌ بَلْ يُصْرَفُ إِلَيْهِ أَقَلَّ الأمْرَيْنِ مِنْ حُكُومَةِ الشَّفْرَيْنِ بِاعْتِبَارِ الذُّكُورَةِ، أَوْ دِيَةُ الشَّفْرَيْنِ وَحُكُومَةُ الذَّكَرِ وَالأُنْثَيَيْنِ عَلَى تَقدِيرِ الأنُوثَةِ، وَإِنْ كَانَ القَاطِعُ امْرَأَةً فَلاَ تُقَدَّرُ دِيَةُ الشَّفْرَينِ بَلْ تُصْرَفُ حُكُومَة الذَّكَرِ وَالأُنْثَيَيْنِ عَلَى تَقْدِيرِ الأُنُوثَةِ فَإنَّهُ أَقَلُّ مِنْ تَقْدِيرِ حُكُومَةِ الشَّفْرَيْنِ مَعَ دِيَةِ الذَّكَرِ، وَإِنْ كَانَ القَاطِعُ خُنْثَى لَمْ نُصْرِفْ إِلَيْهِ قَبْلَ العَفْوِ شَيْئًا إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْرُجَا مُتَوَافِيَيْنِ فَنُجْرِي القِصَاصَ فِي العُضْوِ الزَّائِدِ مَعَ الأَصْلِيِّ، وَقِيلَ: إِذَا لَمْ يَعْفُ عَنِ القِصَاصِ لَمْ يُصْرَفْ إِلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَدْرِي أَنَّ المَأْخُوذَ دِيَةٌ أَوْ حُكُومَةٌ، وَلَوْ كَانَ القَاطِعُ رَجُلاً فَقَالَ: أَقْرَرْتِ بأنَّكِ امْرَأَةٌ فَلاَ قِصَاصَ فِي الذَّكَرِ وَقَالَ المَقْطُوعُ: بَلْ أَقْرَرْتُ بِأنِّي رَجُلٌ فَالقَوْلُ قَوْلُ الجَانِى فِي قَوْلٍ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَمَ القِصَاصِ، وَقَؤلُ الخُنْثَى فِي قَوْلٍ لأَنَّا نَحْكُمُ لَهُ بِالذُّكُورَةِ بِقَوْلِهِ مَهْمَا قَالَ إِنِّي رَجُلٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفَرْعُ يَنْظُر إلى أَصْلَيْنِ:
أحدهما: أنَّه هلْ يجبُ القِصَاص في شُفْرَي المرأة، وفيه خلافٌ. وجوابُ الكتابِ: أنه يجب. والثاني: أن العضْو الأصليَّ لا يُقْطَع بالزائد، ويُقْطع الزائد بالزائد بشَرْط اتحاد المحلِّ، وهل يشترط أن يكون ما للجانِي أكْبَرَ أوْ لا يُنْظر إلى الصغر والكبر فيه وجهان، وسيأتي شرْح الأصلَيْن في موضعهما -إن شاء الله تعالى- إذا عُرِفَ ذلك. فلو قطع رجلٌ ذكَرَ خنْثَى مشكِل وأنثييه، وشُفَريْه، فلا قصاص في الحال؛ لاحتمال أن المقطُوع امراةٌ، وأن الذكر الأنثيين منْه زائدةٌ، ثم يُنْظَر؛ إنْ صبر المقطوعُ إلى أن ينكشف حاله في الذكورة والأنوثة، فذاك، فإن بأن ذكَرَاً، اقتصر من القاطع في الذكَر والأنثيين، وأخذت حكومة الشُّفْرَين، وإن بأن أنثى، فلا قصاص وتؤخذ دية الشفرين، وحكومةُ الذكر والأنثيين، وإن لم يصبر إلى انكشاف الحال، فإن قال عفَوْتُ عن القصاص، إن كان لي قصاصٌ، وطالب بحقه من المال، فالذي يستحقه بتقدير الذكورةِ مائةٌ من الإبل للذَّكَر، ومائة للأنثيين، وحكومةُ الشَّفْرَيْن معتبرةٌ بهذه الدية وبتقدير الأنوثة خمسون من الإبل للشفرين وحكومة الذكر معتبرة بهذه الدية، وحكومة الأنثيين كذلك فإن حكومة كلِّ عضو بتقدير الأنوثة تعتبر بدية الإناث، والمَبْلَعُ الثاني أقل من الأول بكثير، فيُدْفَعْ إليه هذا المبلغُ المستيقَنُ، ثم إن بأن بعد ذلك أُنْثَى، فقد أخذ حقه، وإن بأن ذكَراً، سُلِّم إليه تتمة المبلغ الأول. وحكى الإِمام عن بعض الأصحاب أنَّا نوجب في كل عضْوٍ الحكومةَ؛ لأنه يُحْتَمَل أن تكون واجبةَ الحكومة، فلا نوجب الدية بالشك. قال: وهذا ضعيف؛ لأن استحقاق القدر المذكور مستيقَنٌ، وإن لم تتحقَّق جهَتَه، وإنما يتجه ذلك إذا تعدَّد الجاني، فقطع قاطع ذكره وأنثييه، والآخر شفريه، وعفا المقطوعُ عن القصاص، لا نوجب على كل واحد إلا حكومة ما قطعه، وإن لم يَعْفُ عن القصاص، وقال القصاص غير متوقَّع في جميع ما قَطَعَ منى، وطالب بما يجبُ له مع القصاص، فهل يُعْطَى شيئاً؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، وبه قال ابن أبي هريرة، ويُحْكَى عن القفَّال أيضاً؛ لأنا لا ندري أن الواجب ديةٌ أو حكومةٌ، وأنه إن وجَبَتِ الحكومةُ، فهي حكومةُ الذَكَرِ والأنثيين أو حكومة الشَّفْرَيْن وأيضاً، فإن حكومة الذكر مشكوك فيها لجواز كونه رجُلاً، وكذا حكومة الشَّفْرَيْن؛ لجواز كونه امرأة، نوجب شيئاً بالشَّك. وأصحُّهما: نعم؛ لأنا نستيقن وجوب شيْء من المال، وإن اتفق القِصَاصُ، فليعطَ المستيقَنُ، وعلى هذا، ففيما يُعْطَى أوجه:
أحدهما: أقلُّ الحكومَتَيْنِ من حكومة الشَّفْرَيْن على تقدير المذكورة، وحكومة الذكر والأنثيين على تقدير الأنوثة، حكاه الإِمام وغيره. والثاني: حكومة العضْو المقطُوع آخِراً؛ لأنه قَطَعَه، والدمُ سائلٌ مِنَ الأول، فتكون حكومَتُهُ أقلَّ. والثالث: حكومةُ الشَّفْرَيْنِ؛ لأنَّ القصاص متوقَّع في الذَّكَر والأنثيين، فلا يقدر لهما مالاً فتردد الشفرَيْنِ بين أن يجب فيهما الديةُ أو الحكومةُ، فتجب الحكومة التي هي أقلُّ، وهذا أصح عند العراقيين وغيرهم، وذكر الإِمام في تهذيب هذا الوجه أن حكومة الشَّفْرَيْنِ [بتقْدير الذكورة قد تزيد على حكُومة الذَّكَر والأنثيين بتقدير الأنوثة؛ لأن حكومة الشَّفْرَيْن] بتقدير الذكُورة تُعْتَبَر بدية الرَّجُل، وقد تزيد على دِيَة المَرْأَةُ هي الواجبة على تقْدِير الذُّكُورة، وعلَى تقْدِير الأنوثة تجب دية الشَّفْرَيْن، وحكومةُ الذكر والأنثيين والمسلك المهذَّب أن يقال: يُعْطَى أوَّلَ الأمرَيْنِ من حكُومَة الشفْرَيْن بتقدير الذكورة وحكومةُ الذكر والأنثيين مضمومةٌ إليها دِيَة الشفرين، وهذا حَسَنٌ سواء قدر تلخيصاً للوجه الثالث أو وَجْهَاً رابعاً، وهو الذي أورده صاحب الكتاب تفريعاً على القول بأنه يُعْطَى شيئاً هذا إذا كان القاطعُ رَجُلاً. ولو قَطَعَتِ امرأة ذَكَرَهُ وأنثييه وشفرته، فإن صبر إلى انكشاف الحال، توقَّفنا كما يُفْعَل في الرجُلِ، فإن بان ذكراً، فله ديتان للذَّكَرِ والأنثيين وحكومةُ الشفرين، وإن بأن أنثى، فلها حكومة الذَّكَر والأنثيين، ولها القصاص في الشفرين، إن أجرينا فيهما القصاص، وإلا، فلها ديتُهما، وإن لم يصبر إلى انكشاف الحَالِ، فيبنى على أن القصاص هَلْ يجري في الشفْرَيْن، إن قلْنا: نعم، قيست الصورة بما ذَكَرْنا فيما إذا كان القاطعُ رجلاً، فإنْ عفا عن القصاص، سُلِّم إليه دية الشَّفْرَيْن، وحكومةُ الذَّكَر والأنثيين، لأن لم يَعْفُ، ففي وجهٍ: لا يُعْطَى شيئاً أصلاً، وفي وجْهٍ: يُعْطَى أقلَّ الحكومتين، وفي وجه: حكومة المقطوع آخراً وفي وجه: حكومة الذكر والأنثيين؛ ليُوقَعَ القصاصُ في الشفرين وذلك على تلخيص الإِمام؛ لأن حكومة الذكر والأنثيين التي تَجِبُ بتقدير الأنوثةِ أقلُّ لا محالة من ديتي الذَّكَرِ والأنثيين، وحكومة الشفرين الواجبة بتقدير المذكورة، فإنْ قلنا: لا يجري القصاص فيهما، فالحكم كما لو أجريناه، فعفا. ولو قطَع رجُلٌ ذكَرَه وأنثييه وامرأةٌ شُفْرَيْهِ، ولم يَعْفُ، فلا يطالب واحدٌ منهما بمالٍ؛ لأن توقُّع القصاص ثابتٌ في حقِّهما جميعاً، كذلك ذكره الإِمام وغيره؛ بناء على أن القصاصَ يجري في الشفرين، فإن منع، فلا يوقع في حق المرأة فعليها حكومة الشفرين، ولو قَطَع رجلٌ شفْرَيْهِ وامرأةٌ ذكَرَهُ وأنثييه، فلا مجال للقصاص، ويُطَالَبُ كلُّ واحد منهما بحكومةِ ما قَطَعَ، ولو قطَعَ مُشْكِلٌ جميعَ ذلك من مُشْكِلٍ، فلا قصاص في
الحال، فإن بانا ذكرين أو أنثيين، قطع الأصلىُّ [بالأصليّ] والزائد بالزائدة إن تساويا على ما أشرنا إليه، وإلا، ففي الزائدِ الحكومةُ، وإن بان أحدهما ذكراً والآخر أنثَى، فقد تبيَّن الحكم، ولو عفا المجنيُّ عليه قبل تبين الحال، دُفِعَ إليه مِنَ المستيقن وهو دية الشفرَيْنِ، وحكومة الذكر والأنثيَيْنِ، وإذا لم يَعْفُ، فقد نقل الإِمام وأبو الحَسَن العبَّاديُّ: أنهُ يدْفَع إليه أقلُّ الحكومتين، والصحيح أنه لا يُدْفَع إليه شيْءٌ في الحال، إذ كان القصاص متوقَّعاً في الكلِّ، واعلم أن انكشاف حال الخُنْثَى قد يكون بشَيْءٍ من الإمارات الخِلْفية، كالبول والمَنِيِّ، فالحُكْم على ما بينا، وقد يكون بالرجوع إلى قوله: ليخبر عن ميله إلى الرجال، فيكون امراة أو إلى النساء فيكون رجلاً، فإن أخبر عن حاله، ثم جَرَتِ الجناية، اعتمد قوله حتى إذا كان القاطِعُ رجلاً، وكان قد قال: أنا رجلٌ، استوفى القصاص، وإن جرَتِ الجنايةُ، ثم قال: أنا رجلٌ، فهل يُقْبَل قوله، لإيجاب القصاص، ولإيجاب دية الذكر والأنثيين؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم كما يقبَل قبل الجناية؛ ولأنه أعرف بحاله وأظهرهما؛ على ما ذكره القفَّال والإمام: المنْعُ؛ لأنه متَّهَم فيه وشُبِّهَ ذلك بما إذا شَهِدَ برؤبة هلالِ شَوَّال فلم يَقْبَل القاضِي شهادَتَه، ثم رآه يَأْكُلُ، لا يعزره، ولو رآه يأكل، فقال: رأيت الهلال، يعزره؛ لأنه متَّهم بالدفع، ولو ثبت الغَصْب عليه بشهادة رجل وامرأتينِ، ثم قال: إن كنت غَصَبْت، فامرأتي طالقٌ، يقع الطلاق، ولو قال أولاً: إن كنت غَصَبْتُ، فامرأتي طالقٌ، فأقامت رجلاً وامرأتين على أنه غصب، لا يقع الطلاق على الأظهر، ولو اختلف الجاني والمقْطُوع، فقال الجاني قد أقررتِ بِأنَّكِ امرأةٌ، فلا قصاصَ لك، وقال: بل قلْتَ: إنِّي رجُلٌ، فقولان في أن القولَ قولُ من الحكايةُ عنْ نَصه -رضي الله عنه- في مواضع، وهو الذي رجَّح أن القول قولُ الجانِي؛ لأن الأصْل أنَّه لا قصاصَ والمقطوع متهم في قوله. والثاني: ويُنْسَب إلى رواية ابن سُرَيْج: أن القول قوْلُ المَقْطُوع؛ لأنه أعرف بحاله، واختلاف الجانِي والمقْطُوع يجوز أن يُفْرَض في. إخباره عن الذُّكُورة والأنوثة قبل الجناية، ويجوز أن يُفْرَض في إخباره بعْد الجناية، إذا قلْنا: إنَّ قوله بعد الجناية مقبولٌ معمولٌ به. وقوله في الكتاب: " إذا قطع رجلٌ ذكَرَ خنْثَى مشكِل وشفْريْه" يريد قطع الذكر مع الأنثيين وإن لم يتلفَّظ بالأنثيين؛ ألا تراه كرَّر ذكْرَهما في الفَرْع غَيْرَ مَرَّةٍ. وقوله: "سُلِّم إليه دية الشفرين" يجوز إعلامه بالواو؛ للوجه الذي نقل الإِمام أن الواجِبَ في كلِّ واحدٍ منهما الحكومة. وقوله: "بل يصرف إليه أقلُّ الأمرين" إلى آخره ينازع فيه الوجه الذاهِبُ إلى أَنَّ الواجب أقَلُّ الحكومتين والوجْه الآخر: إن الواجب حكومةُ المَقْطُوعِ آخراً وللإعلام فيه
مجال، وكذا يجوز أن يُعْلَم لفظ "الحكومة" من قوله: "وحكومة الذَّكَر والأنثيين" فيما إذا كان القاطع امرأةً لوجه ذكرناه أن الواجب أقلُّ الحكومتين، ووجّه أنَّ الواجب حكومةُ المقطوع آخراً. وقوله: "عقيب الكلام فيما إذا كان القاطع خنثى" وقيل: "إذا لم يُعْفَ عن القصاص" إلى آخره يرجع إلى الصورتَيْنِ السابقَتَيْنِ في قطْع الرَّجُل وقطْع المرأة، ويجوز أن يُعْلَم قوله فيما إذا كان القاطع خنثى: "لم تُصْرَف إليه قبل العفو شيئاً" بالواو. وقوله: "لأنا نحكم له بالذكورة، مهما قال: إنِّي رجُلٌ" هذا لا يسلمه مَنْ يقول: لا يُقْبَل قوله بعد الجناية. فَرْعٌ: لو قُطِعَتْ يد الخنثى، وجب القصاص، قطَعَها رجُلٌ أو امرأة، لكن لو آل الأمر إلى المال، لم يؤخذ إلا المستيقن وهو نصْفُ دية المرْأَة، وكذا لو قتل، لا يؤخذ لديته إلا المتيقن. وهو دية المرأة. آخر: لو قَطَع المُشْكِل ذكَرَ رَجُلٍ وَأُنْثَيَيْه، وقف، فإن بأن أنه ذَكَرٌ اقتص منه، وإن بَانَ أُنثَى، فعليه ديتان، ولا قصاص، وقبل التبين، لو طلب المجنيُّ عليه مالاً، ولم يعْفُ، لا يُجَاب؛ لأن القصاص متوقَّعُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الخَصْلَة السَّادِسةُ التَّفَاوُتُ فِي العَدَدِ لاَ يُؤَثِّرِ بُلْ يُقْتَلُ الجَمَاعَةُ بِالوَاحِدِ، وَالوَاحِدُ إِذَا قَتَلَ جَمَاعَةً قُتِلَ بِوَاحِدٍ وَللبَاقِينَ الرُّجُوعُ إِلَى الدِّيَّاتِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: إذا قَتَل الجماعةُ واحداً، قُتِلوا به سواءٌ قتلوه بمحدَّد أو مُثَقَّل، أو ألْقَوْه من شاهق أو في بحْر أو جرَحُوه جراحاتٍ مجتمعةً أو متفرِّقة، وهكذا قال أبو حنيفة وأحمد، ويُحْتجُّ له بأن القصاص عقوبةٌ تجب للواحِدِ على الواحِدِ، فتجب للواحد على الجماعة، كحد القذف، وبأن القصاص شُرعَ لحقْنِ الدماء، فلو لم يجبْ عند الاشتراك، لاتُخِذُّ ذريعةً إلى سَفْكِهَا، رُوِيَ أنَّ عُمَرَ -رضي الله عنه-: "قَتَلَ خَمْسَةً أَوْ سَبْعَةً بِرَجُلٍ قَتَلُوهُ غِيلَةً، وقال: "لَوْ تَمَالأ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ، لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعاً (¬1) " أو كيف التقدير في قتل الجماعة بالواحد، قال الجمهور: دمُ كلِّ واحدٍ منهم مستحَقٌّ للوليِّ، وعن الحليميِّ: أن ¬
القصاص مفروض عليهم، فإذا قَتَل عشرةٌ واحداً، فالمستَحَقُّ لوليَّ العُشْرُ مِنْ دم كل واحد، إلا أنه لا يمكن استيفاؤه، إلا باستيفاء الباقي وقد يَسْتَوْفى من المتَعدِّي غَيْرُ المستَحِقِّ، [إذا لم يمكن استيفاء المستَحقِّ] (¬1) إلا به، كما إذا أدْخل الغَاصِبُ المغصوبَ في بيْتٍ ضيقٍ، واحتاج في ردِّه إلى قلْع الباب أو هدم الجدار، قال الإِمام: وهذا بعيدٌ، فإنه لو قَطَع يَدَ غَيْره مِنْ نصْف الساعد، لا يجري القصاص فيه خوفاً من استيفاء الزيادة على الجناية بجُزْء يسيرِ، فكيف يُريقُ تسْعة أعْشَار الدَّمِ من غير استحقاقٍ لاستيفاءِ عُشْرِ واحدٍ، ولا يمكن اعتبار القصاص بالدية حَيْثُ لا يجب على كلِّ واحد إلا العُشْر، كما أن الرجل يُقْتَل بالمرأة، وإذا آل الأمر إلى المال، لم يلزمه إلا نصْف دية نفْسِه، فهذا هو المشهور في قتل الجَمَاعة بالوَاحِد، ووراءه شيئان: أحدهما: عن أبي حفص وعن ابن الوكيل إثبات قولٍ: إن الجماعة لا يُقْتَلُون بالواحدِ؛ أخْذاً مما قال الشَّافعيُّ -رضي الله عنه- في "الأم" "لو قَتَلَ عَشَرَةٌ رجُلاً، فَقَتَل ولي المَقْتُولِ أحدَهُمْ وَعَفَا عَنِ البَاقِينَ كَانَ لَهُ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الدِّيَةِ فِي قَوْلِ مَنْ يَقْتُلُ الجَمَاعَةَ بِالوَاحِدِ" فأشعر بأن له قولاً آخر. والثاني: نقل الماسرجسي والقفَّال قولاً عن القديم: أن الوليَّ يَقْتل واحداً من الجماعة، أيَّهم شاء، ويأخذ حصَّة الآخرين من الدية، ولا يَقْتل الجميع، ويَكْفي للزَّجْر كوْنُ كلِّ واحدٍ منهم على وَجَلٍ من القتل، ويُرْوَى هذا عن مالك، ويُرْوَى عنه مثْلُ مذهبنا المشهور، والأشهر الرواية الثانية. وقال الرويانيُّ: الأصح الرواية الأولَى، وليُعْلَمْ؛ لما بيَّنا قوله في الكتاب: "ويقتل الجماعة بالواحد" بالميم والواو، وإذا قلنا بظاهر المذهب، فللوليِّ أن يقتل جميعهم، وله أن يقتل بعْضَهم، ويأخذ حصَّة الباقين من الدية، وإن اقتصر على الدية، فتكون الدية موزَّعة على عدَدِ رؤوسهم سواءٌ كانت جراحةُ بعْضِهم أفحَشَ أو عدد الجراحات من بعضهم أكْثر، أو لم يكن كذلك؛ لأن تأثير الجراحات لا تضبط، وقد تزيد نكاية الجراحةِ الواحدةِ على نكايات جراحات كثيرةٍ، فلا نظر إلى أعدادها، وكذلك لا فَرْقَ بين أن يكون لجراحة بعْضِهم أرْشٌ مقدَّر أو لا يكون. الثانية: إذا قَتَل الواحدُ جماعةً، قُتِلَ بواحدٍ منهم، ووجَبَتْ دية الباقين في ماله، والقول في أنه مَنْ يَقْتُل منهم؟ مذكور في "الفن الثاني" ولو قطع واحدٌ أيدِيَ جماعة، فكذلك، يُقْطع بواحد، وللباقين الدية. وعند أبي حنيفة ومالك: يُقْتل الواحدُ بالجماعة، ولا يَجب شيْءٌ من الدية، وإذا ¬
بَادَرَ واحدٌ من الأولياء، فقتله، سقَطَ حقُّ الباقين، وقال في الطَّرَف: إذا قطَعَ واحدٌ يدَيْ رَجُلَيْنِ، يُقْطَع بهما، ولكلِّ واحدٍ منهما نصْفُ دية اليد، فقاس الأصحاب النفْسَ على الطَّرَف في أنه لا يتأدَّى بالشيء الواحد حقوقُ الجماعة التي يتأدَّى بها الواحد منهما عند الانفراد، والطَّرَف على النفس في أنه لا يُجْمَع في حقِّ الواحد بين القصاص والدية. وقال أحمد: إن اجتمع أولياءُ القتيل على طلب القصاص، قُتِلَ بالكل، وإنْ طَلَب بعضُهم القصاص، والبَعْضُ الديةَ، قُتِل بمَنْ طَلَب وليُّه القصاص، وللباقين الدِّيَة فقال الأصحاب: إذا كان لواحدٍ منهم أن يقتص عند إنفراده بالمطالبة، فإذا ازدَحَمُوا على المطالبة، لم تتداخَلْ حقوقُهم كما في سائر الحقوق، ولْيُعْلَم لمذاهبهم. قوله في الكتاب: "قُتِلَ بواحد وللباقين الرجوع إلى الديات بعلاماتهم، ويجوز أن يُعْلَم بالواو، أيضاً؛ لأن القاضي الرويانيَّ حَكَى في "جمع الجوامع" أنه إذا وقَعَتِ الجنايات دفعةً واحدة يُقْتَلُ أو يُقَطَعُ بهم جميعاً، وَيرْجِع كلُّ واحد من المستحِقِّين إلى حصته من الدية، واعْلَمْ أنَّ ما ذكرناه فيما إذا كان القاتِلُ حرَاً، وقتل جماعة لا في المحاربة، فأما إذا كان القاتِلُ عبْداً أو قَتَل الحرُّ جماعةً في المحاربة، فسيأتي -إن شاء الله تعالى-. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلاَ قصَاصَ عَلَى شَرِيكِ الخَاطِئِ، وَيَجِبُ عَلَى شَرِيكِ الأَبِ، وَشَرِيكُ كُلِّ عَامِدٍ ضَامِنٌ، وَفِي شَرِيكِ الحَرْبِيِّ وَشَرِيكِ الجَلاَّدِ وَمُسْتَوْفِي القِصَاصِ وَالجَارحِ فِي حَالَةِ الرِّدَّةِ وَكُلِّ عَامِدٍ لَيْسَ بِضَامِنٍ قَوْلاَنِ، وَالسَّبُعُ مُلْحَقٌ بِالخَاطِئِ فِي أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ لاَ بِالحَرْبِيِّ، وَشَرِيكُ السَّيِّدِ كَشَرِيكِ الأَبِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْن؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ الكفَّارَةَ وَإِنْ لَمْ يَضْمَنِ الدَّيَةَ، وَشَرِيكُ مَنْ جَرَحَ بِنَفْسِهِ كَشَرِيكِ السَّيِّدِ إِنْ قُلْنَا: تَتَعَلَّقُ الكَفَّارَة بِقَتْلِ النَّفْسِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الجناياتُ الصادِرَةُ من الجماعة الواردة عَلَى الواحد المستعقبة للموت، إن كان بحَيْثُ يجب القصاص بكل واحدٍ منها، لو انفردت، فيجبُ القصاص على الشركاء؛ كما ذكرنا، وإلا فإما أن لا يجبَ القصاصُ بواحدٍ منها، إما لتقاعُدِ الفعل عن إيجاب القصاص، كما إذا قَتَل اثنانِ أو جماعةٌ واحداً خطأً، أو لعَدَمِ الكفاءة إذا قَتَل حران عبداً ومسلمان ذميّاً، فلا قصاص على واحدٍ منهم، وإما أن يجبَ القصاصُ ببعْضها دون بعْضٍ، ولعدم الوجوب في حقِّ البعْضِ أسبابٌ. أحدهما: أن تكونَ جنايةُ بعضهم ضعيفةً لا تؤثِّر في الزهوق؛ كالخدشة الخفيفةِ، فلا اعتبار بها وكأنه لم توجدْ سوى الجناياتِ الباقِيَةِ. والثاني: أن يُغَلَّبَ بعضُها؛ لقوته بحيث يقطع نسبة الزهوق إلَى سائر الجنايات، كما إذا جَرَحَ اثنانِ أو جماعةٌ ثم جاء آخرُ، وَحَزَّ الرقبةَ، فقِصَاص النفْسِ عَلَى الحَازِّ،
والأولون جارحون يتعلَّق بفعلهم مقتضاه من قصاص أو ديةٍ مغلَّظة أو مخفَّفة وقد سبق ذكْر ذلك في الطَّرَفِ الرابعِ من الركنِ الأول، وعُدَّ من نظائره أن يصْعَد به على كرسيِّ ويربط في عنقه حبلاً ويشده إلى فوق، فيجيء الآخر فيُنحِّي ما تحْتَ قدميه عنه، فالقاتل الثاني. والثالث: أن تندمل بعضُ الجراحاتِ، ثم يوجد سائرُ الجراحات، فعلى مَنِ اندملت جراحتُه ما تقتضيه الجراحة، ولا يلزمُه قصاصُ النفسِ والقتل، وهو الجراحة الساريةُ، وإذا جَرَح اثنان على التعاقب، وادَّعى الأولُ الاندمال، وأنكر الوليُّ، فلا قصاص على الأوَّل بقَوْلِ الوليِّ، وإذا عفا عن الثاني، لم يأخذ منه إلا نصْفَ الدية، ولا يُقْبل قولُه عليه، وإنما يأخذ كمالَ الدية، إذا قامت بيَّنَة: على الاندمال. والرابع: أن يكون امتناعُ القصاصِ على بعْضِهم لكَوْن فعله خطأً، كما إذا جرحه أحدُهما عَمْدَاً، والآخَرُ خطأ، فلا قصاص على واحدٍ منهما، وعلى عاقلة الخاطئ نصف دية الخطَأ، وفي مال العامِدِ نصْفُ دية العَمْد، إن كانتْ جراحتُه لا توجِب قصاصاً، أو آل الأمر إلى الدية، وعليه قصاصُ الطَّرَفِ، إن كانَ قَدْ قطعَ طَرَفاً، وكذا لو جرح أحدَهُما عمْداً، والآخر شبه عمْدٍ، لا قصاص على واحدٍ منهما، ويجب نصف دية شبه العمد على عاقلة صاحِبِهِ وقال مالك: يجب القصاصُ عَلَى شريكِ الخاطئِ وشريك الجارح شبْه العَمْد، وبه قال أحمد في رواياته واختاره المزنيُّ ويجوز أن يُعْلَم قوله: "ولا قصاص على شريك الخاطئ" مع الميم والألف والزاي بالواو؛ لأن القاضي أبا المحاسِنِ الرويانيُّ ذكر في "جمع الجوامع" مع أنه قد قيل: إنه قول للشافعيِّ -رضي الله عنه- وذكره المزني في "العقارب"، وهذا لم ينقلْه الإمامُ، ولكن تمناه فقال: وَدِدتُّ أن يكون هذا قولاً معدوداً في المذْهَب، وقد يوجَّه ذلك بأن العامد لو انفرد بقتله، قُتِلَ فإذا شارك غيره، قُتِلَ، كالأجنبي، إذا شارك الأب، واحتج لظاهر المذْهب بأنَّ الزهوقَ حَصَل بجراحَتَيْن عمْد وخطأ، فلا يجب القصاص، كما لو جرحه واحدٌ جراحَتيْنِ إحداهما عمْدٌ والأخرَى خطأٌ. الخامسُ: أن يكون امتناعُ القصاصِ على بعْضِهم لمعنًى في نفسه، فله حالتان: إحداهما: أن يكون فعْل مَنْ لا قصاصَ عليه مضموناً، كما إذا شارك الأبُ أجنبيّاً في قَتْل الابن، فعلى الأبِ نصْفُ الدية المغلَّظة، وعلى الأجنبيَّ القصاصُ، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا قصاصَ علَيْه. لنا: أنه لو انفرد بقَتْله، وجَبَ عليه القصاص، فإذا شارَكَ مَنْ لا يقتص منْه لا لمعنى في فعله، وجب أيضاً كما لو كانا عامِدْينِ، فعفا الوليُّ عن أحدهما، وأيضاً، فإن الزهُوق حصَلَ بجنايتَيْن عمْدَيْن مضمونَيْنِ، فامتناعُ وجوب القِصاص عَلَى أحدهما، لا يمنع الوجوب على الآخَرِ، كما لو رَمَى اثنانِ سهْماً إلَى واحدٍ، ومات أحَدُ الراميَينِ قبل
الإصابة، يجب القِصَاصُ على الآخر، وليس شريكُ الأب كشريكِ الخاطِئِ، فإنَّ الخطأ شبهةٌ في فعل الخاطئ، والفعلان مصادِفَان لمحلٍّ واحدٍ فأورث الخطأ في أحدهما شبهةً في القصاص، كما لو جرح واحدٌ جراحتين إحداهما (¬1) عمدٌ والأخرى خطأٌ، وشبهة الأبوة في نَفْسِ الأب لا في الفِعْل، وذات الأب يتميز عند ذات الأجنبيِّ، ولا تُؤثِّر شبهة في حقِّه وعلى هذا القياس، لو شارك حر عبداً في قتل عبد أو مسلمٌ ذميّاً في قتل ذميٍّ، لا قصاص على الحرِّ والمُسْلِم، ويجب على الذميِّ والعبْد. وأبو حنيفة: يوجب القصاص عليهما جميعاً. ولو جرح ذميٌّ ذمياً ثم أسلم المجروح، فجرحه مسلمٌ، أو عبدٌ عبداً، ثم عَتَق المجروح، فجَرَحَه حرَّ ومات منهما، فيجب القصاص عليهما جميعاً؛ لأن القصاصَ يجبُ عَلَى كلِّ واحدٍ منهما بتقدْير الانْفِرَادِ. والثانية: ألا يكون مضموناً، كما إذا جرح حربىٌّ مسلماً، وجرحه مسلمٌ أيضاً، ومات منهما أو قُطِعتْ يَدُ إنسان في سرقة أو قصاصٍ ثم جرَحَه جارحٌ متعدَّياً أو جرح مسْلمٌ مرتدّاً أو حربيّاً، فأسْلَم فجرحه غيْره أو ذميٌّ حربياً، ثم عقَدَتِ الذمة للمَجْرُوح، فجَرَحَه ذميٌّ آخَرُ أو جَرَح الصَّائِل عليه ثم جرحه آخر، ففي وجوب القصاص على الشَّرِيك في الصور قولان: أصحُّهما: على ما ذكر الرويانيُّ وغيره: أنه يجبُ؛ لحصول الزهوقِ بفعلَيْن عَمْدين، وامتناع القصاصِ على الآخر؛ لمعنى يَخُصُّه، فصار كشريك الأب. والثاني: لا يجبُ؛، بل عليه نصْفُ الدية؛ لأن مَنْ لا يضْمَنُ أخفُّ حالاً من الخاطئِ الَّذي فعْلُه مضمونٌ بالدية، فهذا لم يجبْ على الشريك الخاطئِ، فأَوْلَى أن لا يجبَ عَلَى الشريكِ في هذه الصورة وفي شريك الجلاَّد ومستَوْفِي القصاصِ طريقة قاطعة بالوجوب؛ لأن فعلهما في مقابلة ما سبق من جناية المقطُوع، فهو كالمضمون به. ولو جرحه سَبُعٌ أو لدغته حيَّةٌ أو عقرب، وجرحه مع ذلك آدَمِيٌّ، ففي وجوب القصاص عليه طريقان: أشهرهما: طرد القولَيْن. والثاني: القطْع بأنَّه لا قصاص (¬2) علَيْه؛ لأنه لا تكْليفَ على السَّبُع، فكان شريكه ¬
كشريك الخاطِئِ، ولأنَّ فعْل السَّبُع لا يَصْدُر عن فِكْر وَرَويَّة، فلا يوصف بالعمدية، وهذا الأصحُّ عند القاضي الحُسَيْن والإمام وصاحب الكتاب، وهذان الطريقان على ما يقتضيه كلامُ الإِمام فيما إذا قصد السبعُ الجُرْحَ، ففي طريق يجيْء في شريكه الخلافُ المذكورُ، فيمن شارك عامداً غيْرَ ضامن، وفي طريقٍ لا يُنْظَر إلى صفة فعله، ويُجْعَل عمْدُه كالخطأ، وأما إذا وَقَع السبُع عليه من غير قصد، فليس ذلك مَوْضِعَ الخلاف [فلا قصاص قطعاً]. وفي "التهذيب" أنَّا إذا أوجبْنا القصاصَ على شريك السَّبُع، فلا فرق بين أن يقْصده السبعِ بالجرح، أو لا يقصده، وهذا ذَهَابٌ إلى تنزيل خطئه منْزلةَ العَمْد على خلاف ما حَكاه الإِمام وعلى كل حَالٍ، فالخلاف فيما إذا كان جُرْح السَّبُع بحَيْث يَحْصُل منه الموت غالباً فإن كان لا يُفْضِي إلى الموْت غالِباً، فشريكه كشريك الجارح شبهه، العمْد ولو جرح رجُلٌ عبْدَه، وجرحه عبد أيضاً وعتق فجرحه عبْدٌ أو حرٌّ، ومات من الجرحَيْن ففي وجوب القصاص على الجارحِ الآخَرِ طريقان. أشهرهما: طرد القولين. والثاني: القطْع بالوجوب؛ لأن فعل السيد مضمونٌ بالكفارة، فشريكه شريكُ عامدٍ ضامنٍ، كشريك الأب، والخلافُ راجعٌ إلى أن المُعْتَبَر مُطْلَقُ الغُرْم أو كون الفِعْل مضموناً بالدِّيَة، فإنَّها التي تتعلَّق بحقِّ القتل، والكفَّارة تجبُ لحَقِّ الله تعالَى ولو جَرَحَ نفْسَه وجَرَحَهُ غيره، فوجوب القِصَاصِ على الشَّريك ينبني عَلَى أن قاتل نفسه هل تلزمه الكفَّارة إن قلْنا: نعم، فهو كشريك السيِّد، وإن قلنا: لا، فكشريك الحربي، وكيفما كان، فالظاهر الوجوب، ولو رمى اثنان سهمَيْنِ إلى صَفِّ الكفار، وأصابا مسلماً في الصفِّ وقد علم أحدهما أن هناك مسلماً، ولم يَعْلَمِ الآخرُ، فوجوب القصاص على الذي عَلِمَ يبنى على الخلافِ في شَرِيك السَّيِّد؛ لأن فعْل الجاهل مضمونٌ بالكفارة. وقوله في الكتاب: "وشَرِيكِ الجلاَّد و [شريك] مستوفي القصاص" يجوز إعلامهما بالواو إشارةً إلى الطريقةِ القاطعةِ بوُجُوب القِصَاصِ عَلَى الشريك في الصورتَيْنِ. وقوله: "والسبع ملحَقٌ بالخاطئ في أصح الوجهين" الوجهان محمولان على الطريقين الذين بيَّناهما. وفي قوله: "لا بالحربي" بيان أن المقابل للأصح أنه كالحربيَّ، فيكون في شريكه القوْلاَن المذكور أن في شريك الحربيِّ، وكذا الحال في قوله: "وشريك السيد كشريك الأب على أحد الوجهين"، والوجه والطريق قَدْ يقام أحدُهُما مقامَ الآخر. فَرْعٌ: وجوب القصاص على شريك الصبيِّ والمجنونِ العامدين يُبْنَى على الخلاف في أن عمْدَهُما عمْدٌ أو خطأٌ، إن قلْنا: عمد، وجَبَ، وهو الأصح، وإن قلْنا خطأٌ،
فلا، كشريك الخاطئ، وبه قال أبو حنيفة، هكذا أطْلَق مُطْلِقون، وعن القفَّال وغيره: أن الخلاف في الصبيِّ الذي يعقل عقْلَ مثله، وفي المجنون الذي له نوْعُ تمييز فأما من لا تمييز له بحال، فعَمْده خطأٌ، وشريكه خاطئٌ، لا محالة، وهذا ما جرى عليه الأئمة منهم صاحب التهذيب رحمه الله وإيانا والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَرْعٌ: إِذَا صَدَرتْ جِرَاحَتَانِ مِنْ وَاحِدٍ وَإِحْدَاهُمَا غَيْرُ موجِبةٍ فَلاَ قِصَاصَ كمَا لَوْ جَرَحَ عَمْداً وَخَطَأ، أَوْ جَرَحَ حَرْبيّاً ثُمَّ أَسْلَمَ فَجَرَحَهُ ثَانِياً، أَوْ جَرَحَ مُسْتَوفِي القِصَاصِ والحَدِّ بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أحد الفروع، إذا صدَرَتْ جراحتان مِن شخص، إِحداهُمَا عَمْدٌ، والأخرى خَطَأٌ، ومات المجْرُوحُ منْهما، لم يلزمْه قصاصُ النَّفْسِ؛ لأن الزهوق لم يَحْصُل بالعمْد المحضِ، ولكن يجبُ نصف الدية المخففة على العاقِلة، ونصف الدية المغلَّظة في ماله، وقد يتعلَّق القصاصُ بجراحة العَمْد، كما إذا قطع طَرَفاً، وكذلك لو جرح حربيّاً أو مرتدّاً، فأسْلَم وجرَحَه ثانياً أو قطع يَدَ إنسانٍ قصاصاً أو في سرقة، ثم جرحه، أو قَطَع يده الأخْرَى، ظُلْماً أو قَطَع يد الصائل عليه دفعاً، فلما وَلَّى، جرَحَه أو قطَع يده الأخرى ظُلماً، لا يجب قصاص النفْس ويثبت موجِب الجراحةِ الواقعةِ في حال العصمة من القصاص أو الدية المغلَّظة وكذا لو جَرَح العادِلُ الباغِيَ في القِتَال ثم جَرَحَه بعد انقضاء القِتَال أو السيدُ عبْدَه ثم جرَحَه بعد ما عَتَقَ، أو جرح حربيٌّ مسلماً ثم أسلم القاطع، فجرحه ثانياً، ولو قطَع مسلمٌ يَدَ ذميٍّ، فأسلم، فقطع يده الأخرى، أو حز يد عبْدٍ، فعَتَق، فقطع يده الأخرى، ومات بالسراية، لم يجبْ عليه قصاصُ النفْس، ويجب قصاصُ الطَّرَف المقطوع بعْد الإِسلام والحرية، فإن اقتصَّ المستحِقُّ الطرَفِ، أخذَ نصف الدية، وإنْ عفا أخَذَ دية حُرٍّ مسْلِّم، ولو قَطع ذميٌّ يَدَ ذِمِّيِّ، فأسلم الجارحُ، ثم قطع يده الأخرى، ومات بالسراية، لمَ يجب القصاص في النفس، ويجب قصاصُ الطَّرَف المقطوع أولاً فإن عفا المستحقُّ، أخذ دية ذمِّيِّ. قال الإِمام: "وقد انتظم من هذه المسائل أن الجراحتين من شخص واحد، إذا أفْضيا إلى الزهُوق وأحدَهُما ممَّا لا يتعلَّق به القصاص لا يجب القصاص قولاً واحداً، يستوي فيه ما إذا كان أحدُهما عمداً، والآخر خطأ، وما إذا كان العمْدُ الذي لا يتعلَّق به القصاص موجباً للضمان، أو لم يكنْ وإذا كان الجُرْحان من شخصَيْن، فَرَّقْنَا بين ما إذا كان أحدُهما عمْداً، والآخر خطأ فنفينا القصاص عنهما، وبين ما إذا كانا عمْدَيْن فقلْنا: إذا كان الذي لا يتعلَّق به القصاص موجباً للضمان، وجب القصاص على الشريك، وإذا لم يكن موجباً للضمان، ففي القصاص على الشريك قولان، ولم يجعلوا الإنسانَ بأحَدِ فعْلَيْهِ شريكاً لنفسه في الفعْل الآخر.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ دَاوَى المجْرُوحَ بِنَفْسِهِ بِسُمٍّ مُذَفَّفٍ يَسْقُطُ القَصَاصُ عَنِ الجَارحِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُذَفَّفاً صَارَ الجَارحُ شَرِيكَ النَّفْس، وَكَذَا إِذَا خَاطَ المَجْرُوحَ جُرْحَهُ فِي لَحْمِ حَيٍّ، وَقِيلَ: إِنَّ المُتَدَاوِيَ مُخْطِئٌ فَهُوَ شَرِيكُ الخَاطِئِ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ قُرُوحٌ أَوْ بِهِ مَرَضٌ وَالجَارحُ لاَ يَصِيرُ بِهِ شَرِيكًا لِأنَّ ذَلِكَ لاَ يُضَافُ إلى الاِخْتِيَارِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذا الفرْع الثانِي فيه صورتان: إحداهما: إذا داوَى المَجْرُوحُ نفْسَه بسُمٍّ قاتلٍ، إما بأن شربه أو وضعه على الجراحَةِ، فإما أن يكون مذفَّفاً أو لاَ يَكُون، وحينئذ فإما أن لا يَقْتُل غالباً أو يَقْتل غالباً، فهذه أحوالٌ ثلاثةٌ. إحْداها: إذَا كانَ مَذَفَّفاً، فالمجروح قاتِلُ نَفْسه، كما لو جرحه إنسانٌ، فَذَبَح المجروحُ نفْسَه، ولا يجبُ عَلَى الجارح، قصاصُ النفْسِ، وإنما الذي عليه أرْش الجراحَةِ أو القصَاص، إن تعلَّق بها قصاصٌ كما لو قطعَ طَرَفًا. والثانية: إذا لم يَقْتُل غالباً، فهو شبْه عمد، والجارح شريكٌ لصاحب شبْه العَمْد، فلا قصاص عليه، وإنما الذي يلزمه نصْف الدية المغلِّظة أو القصاصُ إن كانتِ الجراحةُ ممَّا يجب فيها القصاصُ. الثالثة: إذا كان السمُّ قاتلاً غالباً، فإن لم يَعْلَم المجروجُ أنَّه كذلك، فكما في الحالة الثانية، وإن عَلِمهُ، ففِي وجوب القصاصِ على الجارحِ طريقان: أحدهما: أنه كشريك منْ جرَح نفْسَه، وقدْ مرَّ حكمه، وهذا أظهر عند ابن الصباغ، وهو قضية إيراد الكتاب. والثاني: القَطْع بنفي القصاص؛ لأنه قصد التَّداوي والإصلاح دون الهلاك والإفساد، فشريكه شريك خاطئ. الثانية: إذا خاطَ جَرْحَه في لَحْمِ ميِّتٍ، لم يُؤَثِّر؛ لأنه لم يُؤْلِم وعلى الجارح القصاصُ أو كمالُ الدية، وإن خاطَه في لحْمِ حيٍّ تدَاوَيا، وكان ذلك ممَّا يُهْلِك غالباً، ففي وجوب القِصَاص على الجارح الطريقان المذكوران في التَّداوِي بالسَّمِّ الذي يَقْتل (¬1) غالباً، وفي الصورتَيْن لا فَرْقَ بين أن يَفْعَل المجروحُ ذلك بأمْر نفسه أو يَأْمُر به غيره، ولا شيء على المأمور، ولو استقل به الغير، فهُوَ والأول جارحان متعدِّيان ولو تولاه الإمامُ فِي مجْرُوحٍ، فإن كان بالغاً رشيداً، فكذلك؛ لأنه لا ولاية للإمامِ علَيْه وإنْ كان ¬
صغيراً أو مجنوناً، ورأى المصلحَةَ فيه، فمات، ففي وجوب القصاصِ قولانِ، كما لو قَطَع سلعةً مِنْ صغيرٍ أو مجنونٍ، فمات منْه، فإن قلْنا: لا قصاص، وجَبَ نصْفُ دية مغلَّظة، ويكون على عاقلة الإِمام أو فِي بَيْت المال؟ فيه قولان يُذْكَران في موضعهما، وحُكُم الجَارِحِ يُبْنَى على الخلافِ فيما إذا تولاَّه المجْرُوح بنَفْسه، إن جعَلْنا وجوبَ القِصاصِ عليه على الخلاف، فيما إذا شَارَكَ عامداً غيْر ضامِنٍ، فهاهنا يجب القصاص عليه؛ لأنه شارَكَ مَنْ فِعْلُه مضمونٌ بالقصاص أو الدية، فإن نزَّلْنا المجروحَ منزلة الخاطئ لقصده التداوي، ولم يوجب القصاص على شريكه فلذلك هاهنا؛ لأن الإِمام أيضاً قصد الإصلاح والتداوي، ولو قصد [الخياطة] (¬1) في لحْم ميتٍ، فغلط، وخاط في لحْمِ حيٍّ، فالجارح شريكُ الخاطئ لا محالة، قال القفَّال: وَكذلك، لو قَصَد الخياطَةَ في الجِلْد، فغلظ، وأصابت الإبرة اللحْم، والكيُّ كالخياطةِ، فيُنظر أَكَوَى لحْماً ميتاً أو حيًّا يُؤْلِم، ويَكُون له سرايةٌ ونكايةٌ ولا اعتبار بالمداواة بما لا يضُرُّ ولا يخْشَى منه الهلاك، وكذلك لا اعتبار بما على المَجْرُوح من القروح، وبما به من المرض والضَّنَى، فإن ذلك لا يضاف إلَى أحَدٍ، ولا يَدْخُل تحْت الاختيار. ولو قطع أصبع رَجُلٍ فتآكل موضع القطع فقطَعَ المقطوعُ كفَّة خوفاً من السراية، نُظِر؛ إن لم يتآكل إلا موْضِعُ القَطْعِ، فليس على الجَارحِ، إلا القصاص في الأصبع أو أرشها، إن لم يَسْرِ إلى النفسِ، وإن سَرَى، ففي وجوب القصاص على الجانِي في النفس الخلافُ المذكورُ في الخياطة، فإن سرَتِ الجراحةُ إلى الكفِّ ثم قطعها، فيُنْظَر أقطع من لحمٍ حيٍّ أو من لحْمٍ ميِّتٍ، ويكون الحُكْم كما ذكَرْنا في الخياطة ولو جَرَح عضواً فداواه المجْرُوحُ فتآكل العُضْو، وسقط فإن كان ما داواه به مما لا يورثُ التآكل، فعَلَى الجارحِ ضمانُ العُضْو، وإنْ كان ممَّا يورث التآكل، فليس عليه إلا أرْش الجراحة، ولو قال الجاني: داوَيْتُه بما حدث منه التآكل، وأنكر المجنيُّ عليه، فهو المصدَّق بيمينه؛ لأنَّ الجناية معلومةُ الأسباب وغَيْرُها من الأسباب غير مَعْلُومٍ. قال صاحب "التهذيب": ويُحْتَمَلُ أن يقال: القول قول الجانِي بيمينه لأن الأصْل براءة ذمَّتِهِ عمَّا سوى أرْش الجراحةِ، كما لو قَطَع يد إنْسانٍ، فمات، وقال الجانِي: إنَّه قتل نفْسَه، فليس عليَّ إلا نِصْف الدِّيَة، وقال الوارث: بل ماتَ بالسرايةِ، فمَنِ المصدَّق منهما فيه وجهان: أحدهما: يُصدَّق الوارثُ، وهو الحكاية عن نصِّهِ في "الأم" فيما إذا قال الجارح: داوي نفسه بما يهلك، وقال الوارثُ: بل بمَا لا يَضُرُّ ولا يُهْلِكُ. ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ تَمَالَأَ جَمْعٌ عَلَى وَاحِدٍ وَضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ سَوْطاً سَقَطَ القِصَاصُ فِي وَجْهٍ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ خَاطِئٌ، وَوَجَبَ فِي وَجْهٍ حَسْماً للذَّرِيعَةِ، وَوَجَبَ فِي الثَّالِثِ إِنْ كَانَ عَنْ تَوَاطُؤٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الثالث: إذا ضرب جماعةٌ واحداً بِسُيُوطٍ أو عصِيٍّ خفيفةً حتى قتلوهُ نُظِر؛ إن كانت ضرباتُ كلِّ واحد منهم قاتلةً، لو انفرد، فعليه القصاص، وإذا آل الأمر إلى الدية، فتُوزَّع عليهم جميعاً. ويكون التوزيع على عدَدِ الرؤوس أو على عدد الضربات؟ فيه قولان: أحدهما: على عدد الرؤوس كما في الجراحات، لو جرَحَه واحدٌ جراحةً، والآخر جراحاتٍ توزع الدية على عدد الجارحين دون الجراحات. والثاني: على عدد الضربات؛ لأن الضربات تُلاَقِي الظاهر، ولا يَعْظُم فيها التفاوتُ، والجراحاتُ تؤثِّر في الباطِنِ، ونكاياتُ الباطنِ كبيرةُ التفاوت لا يمكن ضبْطُها، فقَصَرْنا لذلك النظَرَ على الجارحين، وهذا الخلاف كالخلافِ فيما إذا زاد الجلاَّد على المائة، أو على الثمانين في الحدِّ يكون عليه نصْف الدية أو يُوَّزع على عَدَدِ الجلدات، وكالخلاف فيما لو استأْجَرَ دابَّة لحمل مائة مَنٍّ مثلاً، فزاد على المائة، وهو غير منفرد باليد، فتلفت الدابَّة؛ أن الضمان ينتصف أو يتوزَّع على مقدار المحمول، وقد سبق في الإجارَةِ ذكْرُ المسألتين، وأن الشيخ أبا محمد رجَّح قول التنْصيف، وأن الأقرب مقابِلُهُ، وإن لم يكن ضَرْبُ كلِّ واحدٍ منهم قاتلاً، كما لو اجتمع عددٌ كبيرٌ وضربه كلُّ واحدٍ ضربةً، فمات فقَدْ أطلق الإِمام وصاحب الكتاب فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا قصاص على واحدٍ منهم؛ لأن فِعْل كل واحد منهم ليس عمدًا مقتضياً للقصاص، ومَنْ عداه شركاؤه، ولا قصاص على شركاء الخاطئ، ولا شركاء صاحب شبه العمد. والثاني: يجب؛ لئلا يصير ذلك ذريعةً إلى سفْكِ الدماء. والثالث: أنهم إن تَوَاطَؤوا على أن يضربوا تلْكَ الضربات، لَزِمَهم القصاص، وإن وقَعَت اتِّفاقاً، لم يلزم، وتخالف الجراحات لا يُشْتَرط فيها التواطُؤُ لأن نفْسَ الجُرْح قَصْدٌ إلى الإهلاك والضرب بالسوط الخفيف لا يَظْهر فيه قصد الإهلاك إلا بالموالاة مِنْ واحدٍ أو المواطأةِ مِنْ جماعة، وهذا ما اختاره القاضي الحُسَيْن، وأورده أصحابُهُ، منهم صاحب "التهذيب" ثم رأى الإِمام طرْحَ الوجه الذاهب إلى وجُوبِ القِصَاص على الإطلاق، وقال: الوجه القَطْع بنفيه، إن لم يكن تواطؤٌ، وإن كان، فوجهان، وأيد وجه الوجوب؛ بأن هذه الضرباتِ إذا والَى عليها الواحِدُ، لزمه القصاص، وإن لم تكنْ واحدةٌ منهما عمْداً مقتضيًا للقصاص وكما لا يجب القصاص على شريك غير العامد، لا
يجب القصاص على مَنْ قَتَلَ بفعلين عَمْدٍ وغيرِ عمْدٍ، وكما جُعِلَ الواحدُ عامداً بموالاته عليها، جُعِلَتِ الجماعةُ عامدِينَ بموالاتهم. قال: وإذا لم يجب القصاصُ، فيجب الضمان لا محالة، وإن كان فعلُ كلِّ واحدٍ لا يقتضي ضماناً لو انفرد، وذكر في "التهذيب": أنه لو ضَرَب واحدٌ سوطين أو ثلاثةً، وجاء آخر وضرَبَ خمسين أو مائةً قبل أن يزُولَ ألمُ الضَّرْب الأوَّل ولا تواطؤ، فلا قصاص على كلِّ واحد منهما؛ لأن ضرب الأول شبْهُ عَمْدٍ، وَالثاني شريكٌ له، ويجب بضَرْب الأوَّل نصفُ دية شبْهِ العمد، وبِضَرْب الثانِي نصْفُ دية العمد، وأنه لو ضَرَبَ واحدٌ أولاً خمسين، ثم ضرب آخرُ سوطَيْن أَو ثلاثةً قَبْل أن يزول ألَمُ الأول، فإن كان الثاني عالمَاً بضَرْب الأولِ، فعليهما القصاصُ؛ لظهور قصد الإهلاك (¬1) منهما، وإن كان جاهلاً، فلا قصاص على واحدٍ منهما؛ لأنه لم يَظْهَرْ قصد الإهلاك من الثاني، والأولُ شريكه، ويجب بضَرْب الأول نصْفُ دية العمْدِ، وبِضَرْبِ الثاني نصْفُ دية شبْه العمد. وفرق بينه وبيْن ما إذا ضَرَب مريضاً سوطَيْن أو ثلاثةٍ، وهو جاهل بمرضه؛ حيث يُوجَبُ القصاصَ؛ بأنَّ هناك لم يَجِدْ من يُحَيَّل القتل عليه سوى الضارب، وليكن القول بتنصيف الديةِ في الصورتين جواباً على أن التوزيع على عَدَدِ الضارِبِينَ دون الضرَبَاتِ. وقوله في الكتاب: "ولو تمالأ جمْعٌ على واحدٍ وضَرَبَ كلُّ واحدٍ سوطاً، سَقَطَ القصاصُ" التمالُؤُ التعاون، وقد يُظَنَّ اختصاص "لفظ التعاون" بما إذا كان هناك تواطُؤٌ، فإن كان كذلك، كان التصويرُ فيما إذا تواطأ، وحينئذ، فلا يحسُن إيرادُ الوجوه الثلاثة فيه. وقوله: "وسقط القصاص" لا يخفى أن المراد أنه لم يَجِبْ؛ لأن ما هناك سقُوطٌ بعد ثبوتٍ، ويجوز أن يُعَلَم [الثاني] (¬2) من الوجوه الثلاثة بالواو، لقطع الإِمام بنفيه، وأن يُعْلَم قوله: "ووجب" في الوجهين الآخرين بالحاء؛ بناء على أصله في القتل بالمثَقَّل. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ جَرَحَهُ وَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَلَوْ جَرَحَهُ مَعَ ذَلِكَ سَبُعٌ فَعَلَيْهِ ثلُثُ الدِّيَةِ، وَقِيلَ: النِّصْفُ وَلاَ يُنْظَرُ إلى عَدَدِ الحَيَوَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لو جرحه إنسان ونهشَتْه حيَّة، ومات المجروح منهما، فالجارح شريكُ الحية، وقد سبَق حُكْم القصاص، وإذا آل الأمر إلى المَالِ، فعليه نصْف الديةَ، ولو جَرَحَه مع ذلك سبُعٌ، ففيه وجهان: أحدهما: أن عليه ثلُثَ الدية؛ لأنه شارك حيوانَيْنِ مختارَيْنِ؛ فأشبه ما إذا جَرَحَه ¬
فصل في تغيير الحال بين الجرح والموت
ثلاثةُ أشخاصٍ، وهذا أصحَّ عند صاحب "التهذيب"، وبترجيحه يُشْعِرُ إيرادُ الكتابِ. والثاني: أن عليه النصْفَ ويُجْعَل غير الآدمي جنساً واحداً، فيصير كما لو جَرَحَه رجُلٌ، وجرحه سَبْع جَرَّاحتين. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فصْلٌ فِي تَغْيِيرِ الحَالِ بَيْنَ الجُرْحِ وَالمَوْتِ وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: الحَالَةُ الأُولَى فِي طَرَيَانِ العِصْمَةِ فَلَوْ جَرَحَ مُرْتَدّاً أَوْ حَرْبِيّاً فأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ، وَالأَصَحُّ السُّقُوطُ، وَلَوْ جَرَحَ عَبْدَ نفْسِهِ وَأعْتَقَ ثُمَّ مَاتَ فَوَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ وَأوْلَى بِالوُجُوبِ، فَإن قُلْنَا: لاَ يَجِب فَلَوْ رَمَى اِلَى مُرْتَدٍّ أَوْ عَبْدٍ ثُمَّ طَرَأَتْ هَذِهِ الأَحْوَالُ فَفِي الوُجُوبِ وَجْهَانِ لِأنَّ العِصْمَةَ قَارَنَتْ أَوَّلَ الإِصَابَةِ وَإن لَمْ تُقَارِنِ الرَّمْيَ، فَإِنْ حَفَرَ بِئْراً فَتَرَدَّى فِيهِ مَنْ كَانَ مُرْتَدّاً عنْدَ الحَفْرِ وَجَبَ الضَّمَانُ، وَإِذَا أَوْجَبنَا فِي جُرْحِ الحَرْبيَّ إِذَا أَسْلَمَ قَبْلَ المَوْتِ فَهُوَ عَلَى العَاقِلَةِ لِأَنَّهُ خَطَأٌ بِالإِضَافَةِ إِلَى عِصْمَةِ الإِسْلاَمِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذا الفصْل معقود للكلام فيما إذا تَغَيَّر حالُ المجْرُوح من وقْت الجُرْح إلى المَوْت إمَّا بالعصْمة أو الإهْدَار، وإما في القَدْر المضْمُون به، واعلم أن المجْرُوح إمَّا أن يكون مُهْدَراً في حالة الجُرْح والموت أو مهدراً في حالة الجرح [و] أن يتخلل المهدر بينهما أو لا يتخلل وحينئذ فإما دون الموت. أو بالعكس أو معصوماً فيهما، وحينئذ، فإما أن تخْتَلف قدْر الضمان في الحالَتَيْن أو لا يختلف، فهذه أحوالٌ ستٌّ، والأُولَى والسادسةُ ظاهرتا الحُكْم، فطرحهما لوضوحهما، وبقيت الأربعةُ المذكورةُ في الكتاب. أما الحالة الأولى: ففيها صور: إحداها: إذا جَرَح مرتدّاً أو حربيّاً بقطع يد أو غيره، ثم أسلم، أو عُقِدت الذمَّة للحربيِّ، ثم مات من تلْك الجراحة، فلا قصاص؛ لأن قطع المرتدَّ غير مضمون بالقصاص، فسرايته لا تكون مضمونةٌ كقطع يد السارق، ولأن الجراحة إذا وقَعَتْ في حالةٍ لا توجبُ القصاص، لم يَجِبِ القصاص بما يحْدُث بعْدها أَلاَ تَرَى أنه لو جرح صبيٌّ إنساناً ثم بلغ الصبيُّ، ومات المجروحُ، لا يجب القصاص، ولأن الكفاءة تعتبر حالة الجراحة دون الموت؛ ولذلك نقول: لو قطع عبْدٌ يدَ عَبْدٍ، فأُعْتِقَ القاطعُ، ثم مات المقْطُوعْ فيقتل به اكتفاءً بالكفاءة عند الجراحة، وهل تجبُ الدية؟ فيه وجهان. أحدهما: لا؛ لأنه قطْع غير مضمون، فسرايته لا تكون مضمونةً كسراية القطْع قصاصاً أو بالسرقة، وكما لو جرح الصائل عليه، دفْعاً، ثم أعرض، فسَرَتِ الجراحة. والثاني: وينسب إلى أبي إسحاق، وحكاه القاضي ابن كج عن أبي محمَّد الفارسي: أنه تجب الدية اعتباراً بحالة استقرار الجناية، وربما وُجِّه في المرتد بأنَّه جُرْحٌ
ممنوع منه، فإن المرتد، وان كان تضرب رقبته فإنما يجوز ذلك للإمام لا للآحاد، وإذا كان ممنوعاً مته، جاز أن تكون سرايته مضمونةً، والأول هو الصحيح المنصوص، وهو الذي أورده كثيرٌ من الأصحاب، وحكى الإِمام القطْعَ به عن الشيخ أبي عليٍّ وغيره المراوزة، ولحكاية القطْع يجوز أن يعلم قوله في الكتاب: "وجهان" بالواو. ولو جرح حربىٌّ مسلماً ثم أسلم الجارحُ أو عُقِدَتْ له الذمَّةُ، ثم مات المجروحُ، فالجواب في "التهذيب" أنه لا شيْء على الجارح، ونقل بعْضهم أنه يلزمه الضمان؛ لأن المجنيَّ عليه مضمونٌ في (¬1) الحالتَيْنِ. الثاني: إذا جَرَح عبْدَ نَفْسِهِ ثم أعتقه فمَاتَ بالسراية، فظاهر المذْهَب، وهو الحكاية عن النص: أنه لا ضمان على السيِّد أيضاً، وعن نصِّه في "عيون المسائل" أن الجارية الحامِلَ بوَلَدٍ رقيقٍ من نكاح أو زنا إذا كانت مشتركةً بيْن اثنيين، فضَرَب أحدهما بطْنَها؛ ثم أعتق نصيبه، وسَرَى العِتْق، ثم أجهضت جنيناً مَيِّتاً، يجب للجنين غُرَّة كاملةٌ، وقياس النصِّ الأولِ، أن لا يجب إلا نصْفُ غُرَّة، وقياس النص الثاني وجُوبُ الضمان على السيد؛ اعتباراً بحالة الجراحة، وللشيخ أبي عليٍّ روايةُ طريقَيْن في النَّصَّيْنِ: أحدهما: إثبات قولَيْنِ بالنقل والتخريج، أحدهما: أنه لا تجب الدية، ولا يجب إلا نصْفُ الغُرَّة؛ اعتباراً بحالة الجراحَةِ. والثاني: تجب الدية وكمالُ الغُرَّة اعتباراً بحالة استقرار الجناية، والجراحةُ في نَفْسها محظورةٌ لورودها على معْصُومٍ بخلاَفِ جَرَاحَةِ الحَرْبيِّ والمرْتَد المُهْدَرَيْنِ. والثاني: تقرير النصين، وفرق بأن الجراحة صادفَتْ مملوكةً حقيقةً، ثم طرأ العتق، وفي الضرب إنَّما تتحقَّق إضافة الجناية الولَدَ عند الانفصال فجُعِلَتْ حالة الانفصال كحالة إصابة السَّهْم، وما قبلها كالرمْيِ على ما سنَذْكُر في صورة الرَّقْيِ والولد عند إلانفصال حُرٌّ، وإنما قال في الكتاب في هذه الصورة: "وأولى بالوجوب" لأنه، وان لم يجب عليه في عبْده قصاصٌ ولا ديةٌ، فهو معصومٌ مضمونٌ بالكفارة، بخلاف المرتد والحربي، وكذلك تَصرَّف القاطعون بنفي الوجوب في المرتدِّ والحربيِّ هذا التصرُّفَ المذكور هاهنا وأثبتوا الطرفين. الصورة الثالثة: إذا رمَى إلى حربيِّ أو مرتدٍّ، فأسلم، ثم أصابه، فلا قصَاصَ؛ لأَنه لم توجَدِ الكفاءة في أوَّل أجزاء الجناية، وأما الضمان، فإن قلْنا: يجب الضمان، إذا أسْلَمَ بَعْد الجَرْح، ثم مات، فهاهنا أولَى وإن قلنا: لا تجب هناك، فهاهنا ثلاثة أوجه: ¬
أصحهما: وهو المنصوص، أنه تجب؛ اعتباراً بحال الإصابة؛ لأنها حالة اتصال الجناية والرَّمْيِ كالمقدمة التي يتسبب بها إلى الجنايه. والثاني: وبه قال أبو حنيفة، لا تجب اعتباراً بحالة الرمْي، فإنه الداخِلُ تحت الاختيار. والثالث: عن رواية القفَّال: أنه يجب في المرتدِّ دون الحربيِّ، والفرْقُ أنه يجوز لكل أحد قتلُ الحربيِّ والرمْيُ إليه، وقتلُ المرتدِّ إلى الإِمام، فيفوَّض إليه حتى لو كان الرامِي إلى المرتدِّ هو الإِمام فعَنِ القاضي الحُسَيْن: أنه لا شيْء عليه، وهكذا أورده صاحب "التهذيب". (¬1) وقال الإِمام: المرتدُّ يُقْتَل بالسيف صبْراً، ولا يُرْشَقُ بالنشاب، فالرَّمْيُ إليه ضَرْبٌ من المُثْلة غَيْر سائغٍ، وقضية هذا الكلام أن لا نُفرِّق بيْن الإِمام وغيره ونسب أبو الفرج الزاز هذا الوجْه الثالث إلى ابن سُرَيْجٍ وفي "الشامل" نسبته إلى أبي جعفر التِّرْمِذِيِّ، والأشْهَرُ عن الترمذيِّ الوجهُ الثاني، وكذلك روي عن الداركيُّ عن أبي محمدٍ الفارسيِّ عنه، وقد يعبر عما ذكَرْنا من كيفية الخِلافِ؛ بأن يقال: الوجهان في صورة الرمْي مرتَّبان على الوجهَيْن فيما إذا جَرَحَ حَرْبِياً أو مرتدّاً، ثم أسلم، وهي أولَى بوجوب الضمان؛ لأن الجرح الذي هو سبب الهلاك وُجِدَ في حالة الإهْدَارِ، والرمْيُ إنما يتمُّ بالإصابة، وقد حصَلَتْ في حال العصمة، وقد تَرتَّب الوجهان في الرمْي إلى المرتدِّ على الوجهين في الرمْي إلى الحربيِّ ويقال: المرتد أَوْلَى بالوجوب، وقد يعكس، ويُجْعَل الحربيُّ أَوْلَى بعَدَمَ الوجوب، ويجري الوجهان فيما إذا رَمَى إلى قاتل أبيه، ثم عفا عنه قَبلِ الإصابة، وهو أولَى بوجوب الضمان من صورة المرتَدِّ؛ لأن إهدارَ المرتَدِّ أعظمُ من إهدار من عليه القصاص، وفيما إذا رَمَى إلى عبْدِ نَفْسِهِ، ثم أعتقه قبل الإصابة، وهذا أولَى الصور بوجوب الضمان؛ لأن العبد معصومٌ مضمونٌ بالكفارة. ولو حَفَر بئراً في محلِّ عدوانٍ، فتردَّى فيها مسْلِمٌ، كان مرتداً وقْت الحَفْر أو حُرٌّ كان رقيقاً يومئذٍ، وجبتِ الديةُ، بلا خلاف؛ لأن الحفْر ليس سبباً ظاهراً للإفضاء إلى الهلاك، ولا يتَّجه نحو شخص بعينه ولا يؤثر وقوعُهُ في حالة الإهْدَار، بخلاف الرمْيِ. قال في "التهذيب" ولو تغيَّر حال الرمْيِ بأن رمى حربيٌّ إلى مسْلِمٍ، ثم أسلَمَ قبل الإصابة، ففي وجوبِ الضمانِ (¬2) وجهان. ¬
الحالة الثانية أن يطرأ المهدر
وقوله في الكتاب: "فلو رمى إلى مرْتَدٍّ كان الأَوْلَى أن يقول: "إلى عَبْدِهِ" فإنه المقصود كما ذكر في صورة الجُرْح، "وَلَوْ جَرَحَ عَبْدَ نَفْسِهِ" فأما إذا جرح عبْد الغَيْر أو رمى إلَيْه ثم عَتَقَ، فليس ذلك من صُوَرِ هذه الحالة. وقوله: "ثم طرأَتْ هذه الأحوال ذكر لفظ "الأحوال" بالجمع، والمذكور من قبل ما إذا طرأ الإسْلام أو العِتْق لا غير، فلو قال: "ثم طرأ ما ذكرنا أو طرأت الحالتان" لكان أوضَحَ على أن الأمر فيه هَيِّنٌ. الرابعة: إذا قلْنا بوجوب الضمان فيما إذا جرح حربيّاً فأسْلَم، ثم مات، وفيما إذا جَرَحَ عبْدَ نفْسِهِ، ثم أعتقه، فمات، فالواجب ديةُ حُرٍّ مسلِمٍ، وكذلك في مثلهما من صورة الرمي ثم الذي رأَى الإمامُ القطْعَ به، وجرى عليه صاحب الكتاب: أن الديةَ فيما إذا طرأ الإسلاَم أو العِتْق بعْد الجرح تَكُون مخفَّفةٌ مضروبة على العَاقِلة، وتكون الجناية ملْحَقَةٌ فالخطأ المحْضِ منزلة منزلة ما إذا رَمَى إلى صَيْدٍ، فأصاب إنساناً، ويكون عروض عصمة الإِسلام، كاعتراض الآدمي في مورد السَّهْم إلى الصيْد، فأما إذا طرأ الإسْلام أو العِتْق بعْد الرمْيِ، ففي كيفية الدِّيَة الواجبة الخلافُ المذكورُ في "كتاب الديات" (¬1). قَالَ الْغَزَالِيُّ: الحَالَةُ الثَّانِيَةُ أنْ يَطْرَأَ المُهْدِرُ كَمَا لَوْ جَرَحَ مسْلِماً فَارْتَدَّ وَمَاتَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ أرْشُ الجِنَايَةِ لِأَنَّ السَّرَايَةَ مُهْدَرَةٌ، وَلوَليَّهِ المُسْلِمِ القِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ أوْلَى بِالتَّشَفِّي مِنَ الإِمَامِ، وَقِيلَ: الاِمَامُ أوْلَى بِهِ لِأَنَّ المُرْتَدَّ لاَ يُورَثُ، وَلَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَارْتَدَّ وَمَاتَ فَدِيَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا لوْ مَاتَ مُسْلِمَاً، وَقِيلَ: دِيَتَانِ لِأنَّا لَوْ أَدْرَجْنَا لَأَهْدَرْنَا، وَقِيلَ: لاَ شَيْءَ لِأَنَّ القَطْعَ صَارَ قَتْلاً وَصَارَ مُهْدِراً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا جرَح مسلماً، فارتد، ثم مات بالسراية أو ذميّاً، فنقض العَهْد، ثم مات، لم يجبْ قصاص النفْسِ ولا ديتها ولا الكفَّارة؛ لأنها تلفت وهي مُهْدَرةٌ، وأما ما يتعلَّق بالجراحة ففيه مسألتان: إحداهما: إذا كانَتِ الجراحةُ منْ جنْس ما يوجب القصاصَ كالمُوَضَّحة وقَطْع اليد، فالنصُّ في "المختَصَر" أنه يجب فيه القِصَاص، وعن نصه في "الأم" أنَّه لا يجبُ فمِنْهُم مَنْ نقله في عيْن هذه الصورة، ومنْهم مَنْ رَوَى أنَّ ذلك النصَّ فيما إذا قطع ذميٌّ يدَ مستأمَنٍ، ثم لحِقَ المستأمَنُ بدار الحربِ، ومات، قال: لا قصاص عليه في القطْع؛ ¬
وجعل الصورتَيْنِ على قولَيْن بالنقل والتخريج، ووجْه المنع كيفما فرض القولان؛ بأن الطَّرَفَ يَتْبَع النفس، إذا صارت الجناية قتْلاً، لماذا لم يجِبْ قصاصُ النفس، لا يجب قصاص الطَّرَف، وكذلك، لو قطع طَرَف إنسان، فمات منه، فعفا وليه عن قصاص النفس، لم يكن له أن يقتصَّ في الطرف، ويُحْكَى هذا عن اختيار ابن سُرَيْج. ووجه الوجوب، وهو الأصحُّ عند الجمهور: بأن القصاص في الطَّرَف ينفرد عن القصاص في النفْس ويستقر، فلا يتغير بما يَحْدُث بعْده؛ ألا تَرَى أنه لو قَطَع طرَفَه؛ وجاء آخَرُ، وَحَزَّ رقبته يجب على الأولِ قِصاصُ الطَّرَف، ولو جاء آخر، وقطع طرفاً آخر خطأ، ومات منْهما، يجب على الأول قصاصُ الطَّرَف، وإن لم يجبْ عليهما قصاص النَّفْس، وإذا قلْنا بالأصح، فلفظ "المختصر": أن لوليه المسْلِم أن يقتص، واعترض المزنيُّ بأن قريبه المسْلِمَ لا يأخُذُ ماله، وأن المرتدَّ لا يُورَثُ، فكيف يقتص عنه بل الوجْهُ أن يستوفيه الإِمام، واختلف الأصحاب في المُسْتَوْفِي، فقال قائلون: مستوفيه الإمامُ كما قاله المزنيُّ، وصوبوه في الحكم والتوجيه، وغلطوه في فهم كلام الشافعيِّ -رضي الله عنه- في الاعتراض، وقالوا: أراد الشَّافعيُّ -رضي الله عنه- بالوليِّ الإمامَ، وذَكَرَ عَلَى هذا أن القول بأن السلْطَانَ يستَوْفِيه مبنيٌّ على أصح القولَيْن في أنَّ مَنْ قُتِلَ ولا وارِثَ له يَستَوْفِي قِصَاصَهُ السلطانُ، كما مر في "اللقيط"؛ فإن المرتدَّ لا وارث له [يستوفي قصاصه السلطان] قال آخرون يستوفيه قريبُهُ الذي كان يرثه لولا الردَّة؛ لأن القصاص للتشفِّي ودرك الغَيْظ، وذلك يتعلَّق بالقريب دون الإِمام، وأجابوا عن فَصْل المالِ بأنه يجوز أن يَسْتَوْفِي القصاصَ غَيْرُ مَنْ يأخذ المال، إذا آل الأمر إلى المال، ألا تَرى أنه إذا قُتِل مديون يقتص وارثه وإذا عفا، أخَذَ الغرماءُ المالَ، وعن تأويل النَّص بأنه لو أرادَ الإِمام، لم يَحْتَجْ إلى لَفْظ المُعْلِم، ولم يَحْسُنَ موْقِعُه، وبأنه قال في "الأم": "يقتص منه أولياؤه" بلفظ الجمع والإمامُ واحدٌ، وربما حَكَى "ورثَتَهُ" صريحاً، وهذا أظهر في المذهب والآخذون به أكثر، لكن الإِمام اسْتَبْعَدَهُ مِنْ جهة المَعْنَى، ولم يتهيَّأْ له، ما انفصلوا به عن قَصْد المال، وادعى القاضِي ابن كج أنَّ الأكثرين عَلَى أنه يستوفيه الإِمام كما قال المُزَنِيُّ، وأبو سعيد الإصطخريُّ وحْده ذهب إلى أنه يستوفيه القَرِيبُ، ثم إذا قلْنا: يستوفيه القريبُ، فلو كان صغيراً أو مجنوناً، يُوقَفُ إلى أن يبْلُغَ أو يُفِيقَ فيستَوْفي. المسألة الثانية: لو كانت الجراحةُ من جنس ما يُوجِب المالَ دُون القصاص كالجائفة والهاشمة أو من جنس ما يُوجِبُ القِصاصَ، وقلْنا: لا يجب القصاصُ أو عفا عنْه، فهل يجِب لها المالُ؟ فيه وجهان، ويقال قولان: أحدهما: لا، وبه قال أبو الطيِّب بن سلمة؛ لأن الجراحة إذا سَرَتْ، صارَتْ
قتلاً، وصارت الأطراف تابعة للنفس، والنفس مهْدَرةٌ، فكذلك ما يتبَعُها. وأصحُّهما: نعم؛ لأنه وجب بالجناية أرْشٌ، والرِّدَّةُ تمنع وجوبَ شَيْءٍ بعدها، ولا يسقط ما وَجَب قبْلها، وهذا كما لو قَطَع طَرَف رَجُل، وقتل الرجل نَفْسَه، فإنه لا يَسْقُطُ ضمان الطرف، وإذا قلْنا بالأصح، ففيما يجب وجهان. أصحُّهما: ويحكى عن النصِّ: أنه يجب أقَلُّ الأمرين من الأرْشِ الذي تقتضيه الجراحة ودية النفس، فإن كان الأرش أقلَّ كالجائفة وقطع اليدِ الواحدةِ، لم يزد بالسراية في الردة، وإن كانت ديَةُ النفس أقلَّ، كما إذا قَطَع يَدَيْهِ ورجْلَيهِ، فارتدَّ، ومات، فلو ماتَ بالسِّراية مُسْلماً، لم يجب أكثر منها، فإذا مات مرتدّاً، فأَولَى أن لا يجب أكْثَرُ منْها. والثاني: وبه قال الإصطخريُّ: أن الواجب أرْشُ الجراحات بالغاً ما بلغ، فيجب فيما إذا قطع يدَيْه ورجلَيْه وديتان؛ لأن الأُرُوشَ إنَّما تنْدَرج في الدية، إذا وجَب ضمانُ النَّفْسِ بتلْك الجراحة، والنفسُ هاهنا تلفَتْ مهدَرَةً، فلو أدرجنا لأهْدَرْنا فجُعِلت الردة قاطعةً للإدراجِ، قائمةً مَقَام الاندمالِ، وعلى كل حال، فالواجبُ فَيْءٌ لا يأخذ القريب منه شيئاً. هذا، إذا طرأت الردةُ بَعْد الجَرْح، فلو طرأتْ بعْد الرمْي، وقبل الإصابة، لم يجبْ شَيْء؛ لأنَّه مرتدٌّ حين تأثَّر بالجناية وعند أبي حنيفة: يجب الضمان اعتباراً بحالة الرمْي، واحتج الأصحاب بأن اعتبار وقْتِ الإصابة أولَى؛ لأنها وقْت اتصال الجناية بالمجني عليه ولذا لو رمى صحيح، فَشَلَّتْ يَدُهُ قبل الإصابة، تجب قيمته حالَ الإصابة، وقد ذكَرْنا فيما إذا رمَى إلى مرتَدٍّ، فأسْلَم قبْل الإصابة وجْهاً: أنه يعتبر وقْتُ الرمْي، فيمكن أن يُقَدَّر مثله هاهنا، كما قال أبو حنيفة، ولم يذكروه. وقوله في الكتاب: "فليس علَيْهِ إلا أرْشُ الجناية؛ لأن السرايا مهْدَرَةٌ" الغَرَضُ مِنْ تمهيده أن السراية لا شَيْءَ فيها بحالٍ، ولو وجب فيها شيْءٌ، لكان الواجِب ما يختصُّ بالجراحة، ثم الكلامُ في واجبها قصاصًا وأرْشًا يفصل ويُمْكِنُ أن يُعْلَم قوله: "إلا أرش الجناية" بالواو؛ للوجه الذي ذكَرْنا؛ أنه لا يجب شيْء من المال أصلاً، وهذا الوجْه هو الذي تعرَّض له في الكتاب آخراً، لكنَّه من جهة النَّظْم مخصوصٌ بما إذا قَطَع يدَيْه ورجْلَيْه. وقوله: "ولوليه المُسْلِم القصاص" أي في الطَّرَف المقطوع، وأردْنا بالوليِّ المُسْلم القريبَ على ما هو الأظْهَر مَمَّا فُسَّرَ به لفْظ الشافعيِّ -رضي الله عنه- ويجوز أن تعْلَمَ هذه اللفظة بالواو؛ لأنَّا إذا قلْنا: لا قصاص، لا يكون للقَريب القصاصُ، ولا يكون الإِمام أوْلَى به، والوجهانِ في الكتاب مُفَرَّعان على وجُوبِ القِصاصِ. فَرْعٌ: قَطَعَ يَدَهُ ثم ارتدَّ المَقْطُوعُ، واندمَلَ الجُرْح، فله قصاص اليَدِ، فإنْ مات قبل أن يقتصَّ، واقتص وليه، ومَنْ الوليُّ؟ فيه الاختلافُ المذكورُ، فإن كانَتِ الجنايةُ ممَّا توجب المال، قال في "التهذيب" إن قلنا إن ملْكهُ باقٍ أخَذَه، وإن قلْنا: إنه زائلٌ،
الحالة الثالثة لو تخلل المهدر بين الجرح والموت
وقف، فإن عاد إلى الإِسلام أخَذَهُ، وإلا أخذه الإمَامُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الحَالَةُ الثَّالِثَة لَوْ تَخَلَّلَ المُهْدِرُ بَيْنَ الجُرْحِ وَالمَوْتِ كَمَا لَوِ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَفِي القِصَاصِ قَوْلاَنِ إِنْ قَرُبَ الزَّمَانُ لمُقَارَنَةَ الإهْدَارِ بَعْضَ أَجْزَاءِ السَّبَبِ، وَإنْ طَالَ الزَّمَانُ فَالصَّحِيحُ السُّقُوطُ كَمَا لَوْ جَرَحَهُ فِي حَالَةِ الرِّدَّةِ فَفِي حَالَةِ الإِسْلاَمِ إِذ الجِرَاحَةُ تَسْرِي فِي الرِّدَّةِ، وَإِذَا أَوْجَبْنَا القِصَاصَ وَجَبَ كَمَالُ الدِّيَةِ إِنْ كَانَ خَطَأَ، وَقِيلَ: ثُلُثُ الدِّيَةِ تَوْزِيعاً عَلَى الأَحْوَالِ الثَّلاَثِ، وَقِيلَ: نِصْفُ الدِّيَةِ تَوْزِيعاً عَلَى العِصْمَةِ وَالإِهْدَارِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لو تخلَّل المُهْدِر، إذا جرح مسلم مسلماً، فارتد المجْرُوح، ثم عاد إلى الإِسلام، ومات بالسراية، وجَبَتِ الكفَّارة، والنصُّ في "المختصر" و"الأم" أنه لا يجب القِصَاصُ، وفيما إذا جرح ذميٌّ ذميّاً أو مستأمَناً، فنقض المجروح العَهْدَ، والتحق بدار الحرب، ثم جدد العَهْد، ومات بالسراية عن رواية الصيدلانيِّ وغيره: أن النصَّ أنه يجب القصاص، وحكى القاضي ابن كج والامامُ فيهما طريقَيْن عن الأصحاب. أصحُّهما: أن في الصورتَيْن قولَيْن، وكذلك نقل الأكْثَرُون عن "الأمِّ" النصَّ على القولين في صورة نقْض العهد: أحدهما: يجب القصاص؛ لأنه مضمونٌ بالقصاص في حالَتَي الجرح والموْت، ولا نَظَر إلى ما يتخلَّلُها. والثاني: لا يجب؛ لأنه انتهَى إلَى حالةٍ لو ماتَ فيها، لم يجِبِ القِصاص، فصار ذلك شبْهةً دارئةً للقصاص. والطريق الثاني: تنزيل النصين على حالَيْن؛ حيث قال: "لا يجب القصاص" فذلك إذا طالت مدة الإهدار، بحيث يظهر أثر السراية، ويُجْعَل له وقْعٌ واعتبارٌ، وحيث قال: "يجب" فذاك إذا قصرت المدة بحيث لا تجعل للسراية فيها اعتبار، وَوَقْعٌ، وإذا قلْنا بطريقة القولَيْن، ففي موضعها طريقان: أحدهما: تخصيصهما ما إذا قصرت المدَّة، فإن طالَتْ، لم يجِب القصاصُ بلا خلاف؛ لأن القصاص يتعلق بالسراية والجناية معاً، أَلاَ ترى أنَّه لو جرح مُسْلماً، فارتد أو مرتدّاً فأسْلَم، لا يجب القصاصُ، وإذا حصَلَتِ السرايةُ المُؤثِّرة في زَمَان الإهْدَار، كان كما لو جرح جراحةً في الإِسلام، وأُخْرَى في الردَّة، وصورة القولَينْ في نقْض العهد عند هؤلاء ما إذا كان في جوار، دَارِ الحرْبِ فالتحق بها، وعاد، وجدَّد العهْد في زمانٍ خفيفٍ. والثاني: طرْد القولين في الحالتين، حكاه القاضي ابن كج عن ابن سُرَيْج وابن
سلمة وابن الوكيل، والأصَحُّ من الطريقتين عنْد المُعْظَم تخْصِيص القولَيْن، بما إذا قَصُرت المدَّةُ، والراجح من القولَيْنِ عند صاحب "المهذب" قول الوجوب، وعند الشيخ أبي حامِدٍ والإمام وغيرهما قول المنْعِ، هذا حكْم القصاص، وأما الدِّيَة ففيها قولانِ وثالث مخرج عن ابن سُرَيْج، وقد يعبر عنْها بالوجوه. أصحها عند أكثرهم: أنه يجب كمالُ الدية؛ لوقوع الجرح والمَوْت في حال العصْمة؛ ولأن في الدية يُنْظَر إِلى آخر الأمر. وأصحُّهما: عند صاحب "التهذيب"، وجوب النصف توزيعاً على العصمة والإهدار، ويجعل حالة العصمةِ حالةً واحدةً، كما لو جرح مسلماً فارتدَّ وجرح آخَرَ في الردة، ثم عاد إلى الإِسلام، ومات يَجِبُ على الأول نصْفُ الدية، وهذان القولان كقولين نُقِلا عن الإِمام (¬1) فيما إذا قَطَع مسْلِمٌ يدَ مسلم خطأً، وارتدَّ القاطع، ثم عاد إلى الإِسلام، ومات المقْطُوع بالسراية، أن العاقلة تَحْمِلُ كُلَّ الديةِ أو نصْفَها، والنِّصْفَ في مال القاطع. والثالث: منسوبٌ إلى ابن سُرَيْجٍ أنَّه يجب ثُلُثَا الديةِ توزيعاً على الأحوال الثلاثِ حالَتَي العصمة وحالة الإهدار، وعن القاضي الطبريّ قول محوَّج: أن الواجبَ أرْشُ الجراحة لا غير؛ لأن الردة تقطع تأثير السراية، فتقرر الأَرْش كالبرء. نعم، لو زاد الأرْش على قدْر الدية، لم يجب إلا قدْر الدية، وحاصله إيجابُ أقلِّ الأمرين منْهما، ثم الكلام في موضع هذا الخلاف من وجْهَيْن: أحدهما: قال أكْثَرُهم: موْضع الخلاف ما إذا طالَتْ مدة الإهْدار، أما إذا قَصُرَتْ، فلا خلاف في وجوب كمال دية، وحكى الإِمام طريقةً طاردةً للخلاف في الحالَتَيْن. والثاني: قال الإِمام [إن أوجبنا القِصَاصَ،] (¬2) فلو آل الأمرُ إلى المال، ففيه الوجوه، وهذا يُشْعِر بما إذا عفا عن القصاص، وقد يشير به إلى ما إذا كان الجُرْح خطَأً أيضاً، وكذا صوَّر صاحب الكتاب الخلافَ فيما إذا كان خطأً، تفريعاً على وجُوبِ القصاص، وفي "التهذيب" أنا إذا أوجبْنا القصاصَ، فعفا، وجب كمال الدية بلا خلاف، وإنما يجيءُ التفصيل والخلافُ في الدية إذا لم نُوجِب القصاص، وهذا أوجَهُ، ولْتَكُنْ كذلك صورة الخطأ، إذا قلْنا بوجوب القصاص في العَمْد، ولْيُعْلَم قوله في الكتاب: "ففي القصاص قولان" للطريقة المنزلة للنصين على الحالَتَيْن، فإنها لا تثبت الخلاف. وقوله: "لمقارئة الإهدار بعض أجزاء السبب" يعني أن سببَ الهلاكِ الجراحةُ ¬
الحالة الرابعة: طريان ما يغير مقدار الدية
والسراية شيئاً فشيئاً، فهذا قارن الإهدارُ بعْضَ أجزاء السَّبَب وأورث الشبهة، وليُحْمَلْ قوله: "فالصحيح السقوط" على الصحيح من الطريقَيْن على ما بيَّنّاه، ويقابله الطريق الطارد للقولَيْنِ في الحالَتَيْنِ. فَرْعٌ: لو رمى إلى مسْلِم، فارتدَّ، وعاد إلى الإِسلام، ثم أصابه السهْم، فالمشهور أنه لا قِصَاص، وإنما يجبُ القصاص إذا وُجِدَ الإِسلامُ في طرفَي الرمي والإصابة، وفي المُدَّة المتوسِّطة بينهما، قال الإِمام: ويجيْء فيه قولٌ آخر؛ لأمرين: أحدهما: أن الشيخ أبا عليٍّ حكى قولاً فيما إذا رمَى سهماً إلى صيْدٍ وارتدَّ، وعاد إلى الإِسلام، ثم أصاب السهْمُ إنساناً؛ بأن الدية تُضْرَب على عاقلة المسلمين، ويكتفي بإسلامه في الطرفَيْن، والحكْمُ يَتحمَّل العقْل والقصاصَ يجريان مَجْرًى واحداً؛ لأنَّه معدول عن القصاص، فيحتاط فيه كما في القصاص. والثاني: أنا ذكرناهما، إذا تخلَّل المُهْدِر بين الجُرْحَ والمَوْتَ قولاً إنه يجب القصاص مع أن الجراحة تؤثِّر وتُؤْلِم في حالة الإهدار، فصورة الرمْي أولَى بإثبات الخلاف. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الحالة الرابعة: طَرَيانُ مَا يُغَيِّرُ مقْدَارَ الدِّيَةِ كَمَا لوْ جَرَحَ ذِمِّياً فَأسْلَمَ أَوْ عَبْداً فَأُعْتِقَ ثُمَّ مَاتَ وَالنَّظَرُ فِي القَدْرِ إِلَى حَالَةِ (ح) المَوْتِ، وَلَوْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ قِيمَتُهُ مِائَتَانِ مِنَ الأِبلِ فَعَتَقَ فَمَاتَ فَعَلَيْهِ مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ وَيُصْرفُ إِلَى السَّيِّدِ كَيْلاَ تَضِيعَ الجِنَايَةُ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْ عَبْدٍ فَعَتَقَ فَمَاتَ فَالمَصْرُوفُ إلَى السَّيِّدِ فِي قَوْلٍ أَقَلُّ (ح) الأَمْرَيْنِ مِنْ كُلِّ الدَّيَةِ أَوْ كُلِّ القِيمَةِ، وَعِبَارَتهُ أَنَّ الوَاجِبَ أَقَلُّ الأمْرَيْنِ ممَّا لَزِمَهُ آخِراً بِالجِنَايَةَ عَلَى المِلْكِ أوَّلاً أَوْ مِثْلُ نِسْبَتِهِ مِنَ القِيمَةِ، وَفِي القَوْلِ الثَّاني يُصْرَفُ إِلَيْهِ أَقَلُّ (ح) الأَمْرَيْنِ مِنْ كُلِّ الدِّيَةِ أَوْ نِصْفُ القِيمَةِ، وَعِبَارَتُهُ أَنَّ المَصْرُوفَ إِلَيْهِ أَقَلُّ الأمْرَيْنِ مِمَّا لَزِمَهُ آخِراً بِالجِنَايَةِ عَلَى الملْكِ أَوَّلاً أَوْ مُجَرَّدُ أَرْشِ الجِنَايَة عَلَى المِلْكِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا طرأ ما يغير مقدار الدِّيَة، فالواجب القَدْر، الذي يقتضيه يَوْمَ المَوْت؛ لأَنَّ الضمانَ بَدَلُ التالف فيُنْظَر فيه إلَى حَال التَّلَف، وقَدْ يكونُ التغَيُّر من الأكثر إلَى الأقل، وقد يكْونُ بالعكْس، أما الأوَّل فكما لو جَنَى على نصرانيٍّ، فَتَمَجَّس، ثم مات، فإن قلْنا: يُقَرَّ النصرانيُّ إذا تمجَّس على التمجُّس، فعَلَى الجانِي ديةُ مجُوسِيٍّ؛ اعتباراً بالآخِرِ، فإن قلْنا: لا يُقَرُّ عليه، فهو كما لو ارْتدَّ المجْرُوحُ، ومات، فعلى أصحِّ الوجهين يجِبُ الأقل من أرْش الجناية على النصرانيِّ أو دية نفسه وعَلَى ما ذكره الإصطخريُّ: يجب الأرْش بالغاً ما بَلَغ، ولو جرحِ نصرانيٌّ نصرانيّاً، ونقض المجروح، العهْدَ، والْتَحَقَ بدارِ الحَرْب، ثم سبي واسْتُرِقَّ، ومات بالسراية، فلا قِصَاصَ في النَّفْس؛ لتَخلُّل حالة الإهْدَار؛ ولأن الحُرَّ لا يُقْتَل بالعَبْدِ، ويجب قصاص الطَّرَفِ، إنْ
كانَتِ الجراحةُ بقَطْعِ طَرَفٍ، وإنْ أراد المستحِقُّ المَالَ، ففيما يجب على الجاني قولان: أحدهما: أقلُّ الأمرين من أرْش جنايته حرّاً، وكمالُ قيمته عبداً؛ لأنه بالالتحاق بدار الحرب صار مهْدَرَاً، فأشْبَهَ ما إذا ارتدَّ المُسْلِم؛ وعلى هذا، فهو لورثته النصارى سواءٌ كانوا عنْدنا أو في دار الحَرْبِ، كذلك حكاه القاضيان ابن كج والرويانيُّ، وفيه قول آخِر: أنَّه يكون لبَيْتِ (¬1) المال. وأصحُّهما: على ما قال في "التهذيب": أن الواجب قيمته بالغةً ما بلَغَت؛ اعتباراً بالمال بعْد كونه مضموناً وقْت الجناية، فعَلَى هذا إن كانَتِ القيمةُ والأرْشُ سواءً أو كانتِ القيمةُ أقلَّ، فالواجب للوارث، وإن كانتِ القيمةُ أكبَرَ فقَدْر الأرشِ للوارثِ، والباقي للسيِّد، ولو أن الذي ملكه أعتقه وماتَ حرّاً، فقولان في أن الواجب أقلُّ الأمرين منَ الأرض ودية حرٍّ ذميٍّ أو دية حرٍّ ذمي، وعلى القولَيْن فَالوَاجِبُ لورثته، ولو أسلم، وعَتَقَ، ومات، ففي القصاص قولان، وفي المال الواجِب قولان، أهُوَ ديةُ حُرٍّ مُسْلِمٍ أو أقلُّ الأمرَيْنِ منَ الأرْشِ ودية حرٍّ مُسْلِمٍ، وعلى القولَيْن فهو لورثته المسلمين. وأما بالعكس ما إذا جَرَحَ ذميّاً فأسْلَمَ أو عبْداً لغيره فعَتَقَ، ثم مات، نُظِر؛ إن ماتَ بعْد الاندمال، وجَبَ أرْش الجناية، وبكون الواجبُ في العَبْد للسيد، فلو كان قَدْ قطع يديه، أو فقأ عينيه، وجب كمال قيمته، ولا فَرْق بين أن يكون العِتْق قبل الاندمال أو بعده؛ لأن الجراحَةَ إذا اندمَلَتِ، استقرَّت وخرَجَتْ عن أن تكون جنايةً عَلَى النفس، فيُنْظَر إلى حال الجناية على الطَّرَف، وكان مملوكاً حينئذ، فيجب أرشها للسيد، وهو كمال القيمة، وهذا بناءً على الصحيح، وهو أنَّ جراحةَ العبْدِ مقدَّرةٌ، وفي كتاب القاضي ابن كج حكايةُ وجهٍ فيما إذا كان الاندمال بَعْد العتق: أن الواجبَ فيه ديةُ حُرٍّ اعتباراً بحال الاستقرار، والمشهور الأوَّل، وإن مات بالسراية، لم يَجِبْ قصاص النفْس، إذا كان جَارح الذمِّيِّ مسلماً، وجارحُ العَبْد حُرّاً؛ لأنه لم يَقْصِد بالجناية من يكافئه، وبجب فيه دية حُرٍّ مسلمٍ؛ لأنه كان مضموناً في الابتداء، وهو في الانتهاء حُرٌّ مسلِمٌ فوجب ¬
بدله وعن أبي حنيفة أن العتْقَ يقطع السراية حتَّى لو قطع يدَ عَبْدٍ فعَتَق، ثم سرى القَطْع لم تجِبْ إلا ديةُ اليدِ، واحتج الأصحاب بأنها جنايةٌ مضمونةٌ فتكون سرايتها مضمونةً، كما إذا جَنَى على ذميٍّ فأسْلَم، ثم مات، ولا فَرْق بين أن تكون القيمة أقلَّ من الدية أو أكثرَ حتى لو فقأ عيْنَ عبد تساوي قيمتُه مائتَيْن من الإبل أو قَطَعَ يدَيْه، لم يجب إلا قدْر مائة، ثم إن كانت الديَةُ مثل القيمة، أو أقَلَّ فالكُلُّ للسيد؛ لأنه قد استحَقَّ هذَا القَدْرَ بالجناية الواقعةِ في مِلْكه، وإن كانَتْ أكثر فالزيادةُ على القيمة للورثة؛ لأنها وجَبَتْ بسبب الحرية، وذهب المزنيُّ إلى أنه إذا كانَتِ القيمةُ أكثَرَ وجبَتْ بكمالها، وصُرِفَتْ إلى السَّيِّد؛ قال الإِمام كأنه يقول: لا سبيل إلى صرْف دية الحُرِّ إلى السيِّد، ولا سبيل إلى حرمانه، فالوجه أن يقطع أثر الحرية، ويصرف إليه أرْشُ ما جَرَى في الرق، وهذا كالوجْه الذي ذكرَه الإصطخريُّ فيما إذا قَطَع يديْ مسلمٍ ورجلَيْه، فارتدَّ وماتَ بالسراية أنَّه تجب ديتان، ولا يُنْظَر إلى السراية بعد الردَّة، وعن الشيخ أبي محمَّد أنَّ مَنْ سلك مسْلَك الإصطخريِّ هنالك، لا يبعد أن يوافق المزنيَّ هاهنا، وإذا قطَع إحدَى يدَيْ عبْدٍ أو فقأ إحْدَى عينيه، فعَتَق، ومات بالسراية، وأوجبْنَا كمال الدية ففيما للسَّيِّد قولان: أحدهما: أنه يُصْرَف إلَيْه أقلُّ الأمرين مِنْ كل الدية، أو كلُّ القيمة؛ لأن السراية حصَلَتْ بجناية مضمونة للسيد، وقد اعتبرنا السراية حَيْث أوجَبْنا ديةَ النَّفْس، فلا بُدَّ من النظر إلَيْها في حقِّ السيد، فيقدَّر موته رقيقاً أو موته حرّاً، ويوجب للسيد أقلّ العِوَضَيْن، فإن كانتِ الديةُ أقلَّ، فليس على الجانِي غيرها، ومِنْ إعتاقِ السيِّد جاء النقصان؛ فإن كانت القيمة أقلَّ، فالزيادة وجبَتْ بسبب الحُرِّيَّة، فليس للسيِّد إلا قدْر القيمة الَّذي كانَ يأْخُذُه لو ماتَ رقيقاً. وأصحُّهما: أن المصروف إليه أقلُّ الأمرين من كل الدية، ونصْف القيمة، وهوٍ أرْشُ الطَّرَف المقطوع في ملْكه لو انْدَمَلَتِ الجراحةُ؛ لأن السرايةَ لَمْ تحصل في الرِّقِّ حتى تُعْتبر في حقِّ السيد، فإنْ كان كلُّ الدية أقلَّ، فلا واجب غيره، وإن كانَتْ نصْف القيمة أقلَّ، فهو أرش الجناية الواقعة في ملكه، وهذا القول الثاني هو المنصوصُ في المسألة، وعن صاحب التقريب، وأبي يعقوب الأبيوردي والقفَّال: أن الأول مخرَّج من صورة نوردها في الفصْل الثاني لهذا الفصل قد نص فيها على القولَيْن وفي تعليق بعْض المرورذيين نسبة القول الأول إلى القديم، والثاني: الأصحُّ إلى الجديد وعبروا عن القولَيْنِ بعبارتين تُخَرَّج عليهما الصورة المذكورةِ مِن بعْد، فقالوا: للسيد على القوْلِ الأول الأَقلُّ ممَّا يلزم الجانِي آخِراً بالجناية على المِلْك أولاً، ومن مثل نسبته من القيمة، وعلى الثاني الأصحُّ الأقلُّ مما يلزم الجانِيَ آخر بالجناية على الملْك أولاً، ومِنْ أرْش الجناية، لو وقعت، فلو قطَع أُصْبُع عَبْدٍ، فعتقه، ثم سرى فعلى الأوَّلِ: للسَّيِّد الأقلُّ من كمال الدية الذي يلزم آخراً، ومن كمال القيمة، وهو مثل نسبته من الدية، وعلى الأصحِّ
الأقلُّ مِنْ كمالِ الدية، وعشر القيمة وهو أرْش الجنَايَة. وقوله في الكتاب: "والنظر في القدْر (¬1) إلى حالة الموت" ليعلم بالحاء؛ لما ذكرنا أن عبْده لا ينظر إذا عَتَق إلى حالة الموت، وإنَّما الواجبُ أرْشُ الجناية. وقوله: "ولو فقأ عينيْ عبد قيمته مائتان من الإبل" هذا لفظ الشَّافعي -رضي الله عنه-، وتصويره ولا يخفى أن عين الإبل لا تقويم بها وإنما التقويم بالنقد، وإنما المراد أن قيمته قدر ما يساوي مائتين من الإبل، وكذا قوله: "فعليه مائةً من الإبل" أي قدْرُها، وأما أن المأخوذ منه عين الإبل أو تؤخذ الدراهم، فسيأتي، وليُعْلَمْ بالزاي؛ لما بينا. وقوله: "أقل الأمرين" في القولين يمكن أن يُعْلَمَا بالحاء؛ لأن عنْد أبي حنيفة المَصْروف إلى السَّيِّد أرْشُ الجناية في ملْكه لا الأقل من هذَيْن، ولا من هذين. وقوله: "من كل الدية أو كل القيمة" الأغلب في لسان أهل الفقه في مثل هذا الموضع كلمة " [أو] ولو قلْتَ: مِنْ كل الدية، وكل القيمة بالواو: صَحَّ وكان أوضح، وكذا الخلاف الحال في قوله: "أن نصف القيمة، وكذا قوله في العبارتين المترجمتين حيث قال أو "مثل نسبه من القيمة أو مجرَّد أرش الجناية". وقوله في العبارة الأولى "الواجب أقل الأمرين" أي للسيد، وهو مَعْنَى قوله في الأخرى "المصروف إلى السيد" فقد يُخْتَصَر، فيقال "المصروف إلى السيد في القول الأول الأقل من الواجب على الجاني، وما يناسبه من القيمة، وفي الثاني الأقلُّ من الواجب وأرش الجناية". قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْ عَبْدٍ فَعَتَقَ ثُمَّ جرَحَهُ وَجُلاَنِ آخَران فَعَلَى جَميعِهِمْ دِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَعَلَى الجَانِي فِي الرَّقِّ الثُّلُثُ، وَلِلْسَّيِّدِ فِي قَوْلٍ أَقَلُّ (ح) الأمْرَيْنِ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ أوْ مِثْلُ نِسْبَتِهِ مِنَ القِيمَةِ وَهُوَ ثُلُثُ القيمَةِ، وَفِي قَوْلٍ أَقَلُّ الأمْرَيْنِ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ أَوْ نِصْفُ القيِمَةِ وَهُوَ أَرْشُ جِنَايَةِ المِلْكِ، المَسْأَلَةُ بِحَالِهَا عَادَ وَهُوَ فِي العِتْقِ وَجَرَحَ جُرْحاً ثَانِياً فَالوَاجِبُ عَلَيْهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَلَكِنْ بجِرَاحَتَيْنِ حِصَّةُ جِنَايَةِ الرِّقِّ نِصْفُهُ وَهُوَ السُّدُسُ فَالمَصْرُوفُ إِلَى السَّيِّدِ الأَقَلُّ مِنْ سُدُسِ الدِّيَةِ أَوْ سُدُسُ القِيمَةِ عَلَى قَوْلٍ، وَعَلَى قَوْلٍ هُوَ الأَقَلُّ مِنْ سُدُسِ الدِّيَةِ أَوْ نصْفُ القِيمَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صورتان تُقدَّم علَيْهِما أنه لو قطع يد عبد، فحتق، [ثم] جاء ¬
آخر، وقطع يده الأخْرَى أو رجْلَه، فيُنْظَر؛ إن اندملتِ الجراحتانِ، فلا قصاص على الأول، إن كان حُرّاً، وعليه نصْفُ القيمة للسيِّد، وعلى الثانِي القصاصُ أو نصْفُ الديةِ للمقطُوع، وإن مات منهما، فلا قصاص على الأول، لا في النفس، ولا في الطَّرَف إذا كان حرّاً وأما الثاني، فللوارث أن يقتص في الطرف النفْسُ؛ لأن سقوطه عن الأوَّل كان لِمَعْنى يختصُّ به، وهو عَدَم الكفاءة. والثاني: كُفْءٌ هو أشبه شريك الأبِ، وفيه طريقان آخران: أحدهما: أنه على القولَيْن في شريك السَّبُع. والثاني: أنَّه لا قصاص عليه؛ لأنه مات مِنْ جُرْح صادَفَ رقاً وحرية، فأشْبَه ما إذا جرح مَنْ نصْفُه حرٌّ ونصْفُه رقيقٌ، ونسب القاضي ابن كج إلى أبي الطيِّب بن سَلمَةَ طريقة القولَيْن، والأكثرون نسَبُوا إليه الثاني، لماذا أوجبْنا القصاصَ، فلو عفا المستحقُّ، فعليه كمال الدية، وللسيِّد الأقلُّ من نِصْف الدية، ونصف القيمة على القولَيْن جميعًا؛ لأنه مات بجنايَتَيْن حصةُ كلِّ واحدةٍ مع سرايتها نصْفُ الدية، فيكون حقه فيما وجب عَلَى الأول، ولا حَقَّ له فيما يجب على الثانِي؛ لأن جنايته لم تكُنْ في ملكه، وإن اقتص الوارث مِنَ الثاني، بقي على الأول نصْفُ الدية، فإنْ كانَ قَدْرَ نصْفِ القيمةِ أو أقلَّ، أخَذَه السيد، وإن كان أكْثَر، فالزيادة للوارث، ولو قطع حُرٌّ يدَ عَبْدٍ، فعَتَقَ، ثم عاد، وقطع يده الأخْرَى، فمات منهما، فللوارث القصاص في الطرف الثاني دون الأول، ولا يجب عليه قصاص النفس؛ لأنه مات بجراحتين إحداهما موجِبَةٌ للقصاص، والأخرَى غير موجبة، وقد ذكرنا أنه لا قصاص في مثْل ذلك، وحكى القاضِي ابن كج وجهاً ضعيفاً: أنه يجب، إذا عفا المستحقُّ عن قصاص الطَّرَف، فعليهما الدية، وإن استوفاه، بقي على الجاني نصْفُ الدية، وحُكْمُ ما للسيد في الحالتين على ما ذكَرْنا فيما إذا كان القَاطِعُ غيره، ولو قطع أصبع عبْدٍ فعَتَق، ثم جاء آخر فقَطَع يده، ومات منهما، فعليهما الدية للسيد على أحد القولَيْن؛ الأقل من نصْفِ الدية، ونصْفِ القيمة، وعلى الأصحِّ الأقلُّ من نصْف الدية وعُشْر القيمة، فهذا ما نُقدِّمُه. أما صورتا الكتاب، فإحداهما. قَطَع إحدى يدَيْ عبْدٍ فعَتَقَ، ثم جرحه رجلانِ آخران بأن قطع أحدهما يده الأخرى، والآخر رجلَهُ، ومات منهما، فلا قصاص على الأوَّل لا في النفس ولا في الطَّرَف، إذا كان حرّاً، وعلى الآخرين القصاصُ في الطَّرَف، وكذلك في النفس، وفيه خلاف ابن سلمة. وأما الديةُ، فيجب موزَّعةً على الجُنَاة الثلاثة على كل واحدٍ ثلثها، ولا حقَّ للسيد فيما يجب على الآخرين، وإنما يتعلَّق حقُّه بما يجب على الجاني في الرِّقِّ، وفيما
يستحقه القولان، وهما منصوصٌ عليهما في هذه الصورة في "المختصر" فعلى القول الأول: للسيد أقلُّ الأمرين من ثُلُثِ الدية، وثُلُث القيمة، وهو مثل نسبته من القيمة، وعلى الثاني الأقلُّ من ثلث الدية، وأرْش الجناية في مِلْكِه وهو نصْف القيمة. والثانية: الصورةُ بحالها، وعاد الجانِي في الرِّقِّ، وجرح بعد العتق جراحةً أخرَى، ومات بسراية الكل، فالدية موزَّعة عليهم [أثْلاثاً لما مَرَّ أَنا ننْظُر إلى عدَدِ الجارِحِينَ دون الجِرَاحَاتِ، والثلث الواجبُ على الذي جَنَى في الرِّقِّ واجبٌ بجنايتين؛ إحداهما: في الرق، والأخرى: في العتق، فتقابل الجناية الواقعةَ في الرقِّ سُدُس الدية، فللسيِّد على القوْل الأول الأقلُّ من سدُس الدية الواجب بالجناية في ملْكه ومثْل نسبته مِنَ القيمة، وهو سدُسُها، وعلى الثاني: الأقل من سُدُس الدية ونصْفُ القيمة، وهو أرْشُ الجناية الواقعة في المِلْك، ولو قَطَع يد عبد فعَتَق، فجرحه آخر جراحةً، وعاد الأوَّل وجرَحَه جراحةً أخْرَى، فعليهما الديةُ بالسوية، والنصْف الواجبُ عَلَى الأول وجَبَ بجنايتي [الرق] (¬1) والحرية، فحصة الجناية الأولَى رُبْع الدية، فللسيد في القول الأوَّل الأقلُّ منْ ربع الدية، وربع القيمة وعلى الثاني: الأقل من رُبْع الدية [ونصف القيمة] (¬2) وبه أجاب ابن الحدَّاد في هذه الصورة، وذكر القاضي أبو الطيِّب: أنه الصحيح، ولو جنى اثنان على عبْدٍ، فعَتَق، ثم جَنَى عليه ثالثٌ، ومات بالسراية، فعليهم الدية أثلاثاً، وللسيِّد في القول الأول الأقلُّ من ثلُثَي الدية، وثُلُثَي القيمة، وفي الثاني: الأقلُّ من ثُلثَي الدية، وأرْشٍ جنايتي الرقِّ، ولو جنى ثلاثَةٌ في الرَّقَّ، وعتَقَ فجَنَى رابعٌ وماتَ منْهما، فعلَيْهم الدية أرباعاً وللسيِّد في القوْلِ الأوَّل الأقلُّ من ثلاثة أرباع الدية، وثلاثة أرباع القيمة، وفي الثَّانِي الأقلُّ مِنْ ثلاثةِ أرباع الدِّية، وأرْش الجنايات، ولو جَنَى اثنانِ في الرِّقِّ، وثلاثةٌ بعد ما عَتَقَ، فالديةُ عليهمَ أخماساً، وللسيِّد في القول الأول الأقل من خمسي الدية وخُمْسَي القيمة. وفي الثَّانِي: الأقلُّ من خُمْسَي الدية، وأرش جنايتي الرق، ولو أوضَحَ عبْداً، فعَتَق، ثم قَطَع قاطعٌ يده، ومات منهما، فعليهما الدية، وللسيد على الأول أقلُّ الأمرين من نصْف الدية، ونصف القيمة، وعلى الثاني: الأقلُّ من نصْفِ الدية، ونصف عشر القيمة، وهو أرش جناية الملْك، ولو أوضحَهُ فَعَتَق فجاء تسعة، فجرحوه، ومات من الجراحات كلِّها، فتوزَّع الدية عليهم أعشاراً، وللسيد على القوْل الأولِ: الأقلُّ من عشر الدية وعشر القيمة، وعلى الثاني، الأقلُّ من عشر الدية ونصْف عشر القيمة، وهو أرش المُوَضِّحَة، ولو جرحه الأول جرْحاً ثانياً مع التسعة، فالدِّية موزَّعةٌ عليهم كذلك، وللسيِّد الأقل من نصْف عُشر الدية، ونصف عشر القيمة على القولَيْن؛ لأنه لم يجب ¬
بالجناية واقفة وسارية إلا نصْف عشر الضَّمان، وهكذا يتفق القولاَنِ إذا اتفَقَ قدْر الضمان على التقديرَيْن كما إذا جنَى خمسةٌ في الرِّقِّ وأرش جناياتهم نصْف القيمة، وخمسة بعد العتْق، فللسيِّد على القولَيْن، الأقلُّ من نصْف الدية ونصْف القيمة. ولو جَنَى تسعة في الرقِّ وواحدٌ بعد العتق، ومات منهما، فللسيد على القوْل الأول: الأقلُّ من تسعة أعشار الدية، وتسعة أعشار القيمة، وعلى الثاني: الأقلُّ من تسعةِ أعشار الديةِ، وأرش الجنايات، وإنْ كان أرشُ الجناياتِ تسعة أعشار القيمة اتَّفَقَ القوْلاَن، ولو قطع يدَيْ عبْدٍ، فعَتَق، وجرَحَه رجلانِ آخرانِ، ومات مِنَ الجراحات، فعليه الدية أثلاثاً وللسيِّد على القول الأول الأقلُّ من ثلث الدية، وثلث القيمة، وعلى الثاني: الأقلُّ من ثلثِ الدية وكل القيمة، وهو أرش الجناية في المِلْك، ولو كان قد قطع يدَيْه ورجلَيْه، فكذلك الجواب في "التهذيب"، ووَجْهُه أن الأطراف إذا صارَتْ نفْساً، لا تُضْمَن بأكثر من القيمة ولك أن تقول: كما أن الأطْراف لا تُضْمَن بأكثر من القيمة إذا صارت نفساً، فاليد الواحدة لا تُضْمَن بنصف القيمة، إذا صارتْ نفساً فكما أن نصْفَ القيمة يجعل أرْش اليد الواحدة يجوز أن يُجْعَل أرش اليدَيْنِ والرجلَيْنِ قيمتَيْنِ أَخذاً بتقديم عَدَم السِّرَاية. ولو قطع حرٌّ يَدَ عبدٍ فعَتَقَ، فجاء آخر وحز رقبته، فقد أبطل الحَزَّ السراية، وعلى الأولِ نصْف القيمة للسيِّد، وعلى الثاني القصاصُ أو كمالُ الديةِ للوارث، ولو قطَع حرٌّ يَدَ عبْدٍ فعَتَق، فقطع آخر يده الأخرَى، ثم قُتل حزّاً فإما أن يقتله؛ ثالثٌ أو الأول أو الثاني، فإن قتله ثالثٌ، فقد بطَلت سراية القطعَيْن، وكأنَّهما اندملاَ، فعلى الأَوَّلِ نصْف القيمة للسيد، وعلى الثاني القصاص في الطرف أو نصْف الدية للوارث، وعلى الثالث القصاص في النفس أو كمال الدية، كان قتله الأوَّل، نُظِر؛ إن قتله بعد اندمال قطْعه، فعليه نصف القيمة للسيد، والقصاص في النَّفْس أو كمال الدية للوارث، وعلى الثاني: نصف الدية، وإن قتله قبل الاندمال، فعليه القصاص في النفْس، ثم إن قلْنا بظاهر المَذْهب، وهو أن بَدَلَ الطَّرَفِ يدْخُل في النفْس، فإن اقتص الوارثُ، سقَطَ حقُّ السيد، وان عفا، وجَبَ كمال الدية، وللسيِّد منْها أقلُّ الأمرين من نصْف الدية ونصف القيمة، على أحد القولَيْن، كما سبق، هذا هو الظَّاهر. وقال القاضي الطبَرِيُّ: عندي يَسْقُط حقُّ السيِّد، كان عما مستحِقُّ القصاص؛ لأنه إذا سَقَط حكْم الطَّرَف، وصار الحُكْم للنفْس، كان المأخوذ بَدَل النفس المفوتة بعد زوال مِلْك السيد، وعلى قول ابن سُرَيْج والإصطخريِّ: أن بَدَل الطَّرَف لا يدْخل في النفس، ويكون للسيد عليه نصف القيمة، وللوارث القصاصُ في النفْس أو كمالُ الدية، كما لو قُتل بعْد الاندمال، كان قتله الثاني، بَطَلت سرايةُ الأول، فعلَى الأول نصْف القيمة للسيد.
والثاني: قَطَع طَرَف حُرٍّ ثم قتَلَه، فإن قتله بعْد الاندمال، فللوارث أن يقتص منه في الطرف والنفس، وله نصْف الدية لليد، وكمالُ الدية للنفس، فإن شاء استوفَى القصاص فيهما وإن شاء أخذ بدلهما، وإن شاء استوفَى في أحدهما وبدل الثاني، وإنْ قتله قبل الاندمال، فللوارث القصاص في النفس، بقطع اليد، وله دية النفس فَقَطْ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: ثُمَّ حَقُّ السَّيِّدِ فِي الدَّرَاهِم، وَالوَاجِبُ عَلَى الجَانِي الإِبِلُ وَالخيَرَةُ إِلَى الجَانِي، فَإنْ سَلَّمَ الإِبِلَ فَهِيَ وَاجِبَةٌ، وَإنْ سَلَّمَ الدَّرَاهِمَ فَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ الامْتِنَاعُ لأنَّهُ حَقُّهُ، وَقِيلَ: الإِبِلُ هُوَ الوَاجِبُ لأَنَّهُ المُتَعَيِّنُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: عرَفْت أن الواجبَ فيما إذا جنَى على عبد فعَتَق، وسَرَت الجناية إلى نفسه، إنما هو الدية، والدية الإبِلُ، فقال الأصحاب: تُؤْخَذُ الإبل، وتصرف إلى السيد حِصَّته على التفصيل الذي سَبَق من الإبل، وليس للوارث أن يقول: أسْتَوْفِي الإبل، وأدفع إليه ما يستحِقُّه من الدراهم أو الدنانير، فإنه إنما يستحِقُّ القيمة بحقِّ المِلْكِ، والقيمة الدراهم أو الدنانير؛ لأن ما يستحقه يستحقه من عين الدية التي هي الواجبة في الواقعة، وليست هي مرهونةً بحقه بخلاف الدَّيْن مع التركة، حيث يتمكَّن الوارث من إمساك التركة؛ لأن صاحب الدَّيْن لا يستحِقٌّ عينها، وليس للسيد أن يكلِّف الجاني تسليم الدراهم، ولو أتى الجاني بالدراهم، ففي إجبار السيد على القَبُول وجهان، ذكرهما الإِمام: أحدهما: المَنْع؛ لأن الواجب المتعيِّن الإبل، فله أن يقول [له]: سلم حقِّي إلَيَّ. والثاني: يُجْبَر؛ لأن ما يجب له يَجِب بحَقِّ المِلْك، والواجب بحقِّ الملْك النقْدُ، فإذا أتى به، فقد أتَى بأصْل حقِّه وحاصلُ هَذا الوجّه تخيير الجاني بيْن تسليم الإبل وتسليم الدراهم، وهو أفقه وأغوص عنْد الإِمام، وإيراد الكتاب يُشْعِر بترجيحه أيضاً، ولو أَبرأ السيّد الجاني عمَّا يستحقه من الدية برئ، وليس للورثة المطالبة به. فرع: رمَى إلى ذميِّ، فأسلم أو عبْد، فعَتَق قَبْلَ الإصابة فيجب دية حرٍّ مسلمٍ، ولا قصاص إذا كان الرامي حرّاً مسلماً، وكذا لو رمى ذميٌّ إلى ذميٍّ أو عبدٌ إلى عبدٍ، ثم أسلَمَ الذميُّ أو عَتَقَ قبل الإصابة، لا يجب القصاص؛ لأنه لا كفاءة عند الإصابة. وقد يقال، على سبيل الترجمة عن مسائل الفصْل المذكور في تغير الحال بيْن الجرح والمَوْت وبين الرمي والاصابة: كلُّ جُرْحٍ ابتداؤه غيْرُ مضمون، لا ينقلب مضموناً بتغيُّر الحال في الانتهاء، وذلك كما إذا جرح مرتدّاً، فأسْلَم، وكلُّ جرح ابتداؤه مضمونٌ، وانتقل المجروحُ إلى حالة الإهْدار، لم يتعلَّق به إلا ضمان ذلك الجُرْحِ، وذلك كما إذا جرح مسلماً، فارتدَّ، وإن كان مضموناً في الحالتين، اعتبر في قَدْر
الضمان الانتهاءُ، وفي القصاص تعتبر الكفاءة في الطرفَيْن والواسطة، وكذلك إذا تبدَّل الحال بين الرمْي والإصابة، اعتبر في القصاص الكفاءة في الطرفَيْن والواسطة، وكذلك يعتبر الطرفان والواسطة في تحمُّل العَقْل، على ما سيأتي بيانه في بابه إن شاء الله تعالى. قَالَ الْغَزَالِيُّ: النَّوْعُ الثَّانِي: القِصَاصُ فِي الطَّرَفِ وَهُوَ فِي شَرْطِ القَطْع والقَاطِعِ وَالمَقْطُوعِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي شَرْطِ القَطْعِ وَالقَاتِلِ وَالمَقْتُولِ لاَ يُفَارِقُهُ (ح) فِي التَّفَاوُتِ فِي البَدَلِ، وَتُقْطَعُ (ح) يَدُ الرَّجُلِ بِالمَرْأَةِ وَالعَبْدِ بِالحُرِّ، وَلاَ تُقْطَعُ السَّلِيمَةُ بِالشَّلاَّءِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ نِصْفاً مِنْ صَاحِبِهَا، وَالأَيْدي تُقْطَعُ (ح) بِاليَدِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ الاِشْتِرَاكِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ القَطْعِ، وَإِنَّمَا تُفَارِقُ النَّفْسَ في أَمْرَيْنِ (أَحَدُهُمَا): أَنَّ الأَجْسَام لاَ تُضْمَنُ بِالسِّرَايَةِ نَصّاً بِخِلاَفِ الرُّوحِ، وَفِيهِ تَخْرِيجٌ أَنَّهُ كَالرَّوحِ. (الثَّانِي): أَنَّ الجِنَايَةَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ قَابِلَةً لِلضَّبْطِ حَتَّى يُسْتَوْفَى مِثْلُهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد تبيَّن في أوَّل الكتاب أن القوْل في القِصاص يتعلَّق بطرَفَيْن؛ الوجوب والاستيفاء، وأن القَوْل في الوجُوب في قِصَاص النفْس وقصاص الطَّرف، وقدْ حَصَل الفراغُ من النَّوْع الأوَّل، وأما النوعُ الثانِي، وهو قصاص الطَّرَف، فالوجوب فيه يتعلَّق أيضاً بثلاثة أركانٍ، كما في الأول، وهي القطعُ والقاطعُ والمقطُوعُ، وكما يعتبر في القتل أن يكون عمداً محضاً عدواناً، يعتبر في الطرف حتى لا يتعلَّق القصاص بالجراحات، وإبانةُ الأطراف، إذا وقَعَت خطأً أو على سبيل شِبْه العمْد، ومِنْ صور الخطأ أنْ يَقْصِد بالحَجَر جداراً، فيصيب رأْسَ إنسان، فيوضحه ومن صور شبْه العمد: أن يضرب رأْسَه بلطمة أو بحَجَر لايشج غالباً لغاية صِغَره، فيتورم الموضع ويتضح العَظْم، وقد يكون الضرب بالعَصَا الخفيفة، والحجر المحدَّد عمْداً في الشِّجَاج؛ لأنَّه يوضح غالباً، ويكون شبْه عَمْدٍ في النفس؛ لأنه لا يَقْتُل (¬1) غالباً ذكره صاحب "التهذيب" وغيره، ولو أوضحه بما يوضح غالباً، ولا يقتل غالباً، فمات من تلْك الموضحة، فعن الشيخ أبي حامد: أنه يجب القصاصُ في الموضِّحة، ولو مات منها، لم يجب القصاص، واستبعده ابن الصبَّاغ وغيره؛ لأنه إذا كانت هذه الآلة، توضح في الغالب كانت كالحديدة (¬2)، وفقأ العين بالأصبع عَمْدٌ؛ لأنها في العين تَعْمَلُ عَمَل السَّلاح. ¬
وُيعْتَبَر في القاطِع أن يكون مكلَّفاً ملتزماً للأحكام، وفي المقْطُوع أن يكون معصوماً، كما ذكرنا في النفْس، ومن لا يقتل به الشَّخْص، لا يَقْطع طرفه بطرقه، ومن يقتل به الشخْص يقطع طرفه بطرقه، ولا يُشتَرطُ في قصاص الطَّرَف التساوِي في البَدَل، كما لا يشترط في قصاص النفس حتَّى تُقْطَع يدُ العبد بالعَبْد، والرَّجُل بالمرأة، وبالعكْس ويدُ الذميِّ بالمسلم دون العكس، والعبد بالحرِّ دون العكس. وقال أبو حنيفة: إنما يجري قصاصُ الطَّرَف بين حُرَّيْن أو حُرَّتَيْنِ، ولا يَجْرِي بيْن العبْدِ والحُرِّ ولا بيْن العبْدَيْن، ولا بين الذكَر والأنثَى. لنا: أن من قُتل بغيره، وجب أن يقطع طرفه بطرقه عند السلامة، كالحرين، ولا يرد على اللَّفْظ ما إذا قطَع صاحبُ اليد السليمة يداً شلاَّء أو ناقصةً بأصبع، حيث لا تقطع به، وإن كان لو قتله يُقْتَل به، والمعْنَى فيه أنَّ قِصَاص النَّفْس لصيانة الروح، وقد استويا في الروح، والشَّلل والنقصان لا يخلاَّن فيها، وقصاص الطرف لصيانة الأطراف، وقد تفاوتا في الطرف، وفرق فارقون بأن اليَد الشَّلاَّء ميتة، والحيُّ لا يُؤْخَذ بالميت، كما لا يُقْتَل الحيُّ بحَزِّ رقبة الميت، وذُكِرَ على هذا وجهان في أن اليد الشلاء من المذَكَّاة، هل تُؤْكَل، وضعَّف القاضي أبو الطيب وجماعةٌ هذا الفرْق، ومنَعُوا كوْنَ اليد الشلاء ميتة، وقالوا لو كان كذلك، لَتَغَيَّرت، ولكانت نجسة. وكما يقتل الجماعة بالواحد، تقطع الأيدي باليد الواحدة، إذا اشتركوا في القطْع؛ بأن وضعوا السكِّين على اليد، وتحامَلُوا عليها دفعةً واحدةً حتى أبانوها، أو أبانوا بضربة واحدةٍ، اجتمعوا عليها، وبهذا قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا تُقْطَع الأطرافُ بطَرَف واحد. لنا: القياس على النفْس، ويخالف ما لو سرَق رجلانِ نصاباً واحداً، لا يجب القَطْع؛ لأن القطْع في السرقة حق الله تعالى، والحدود مجالُ المساهلات بخلاَف القصاصِ الذي هو حقُّ الآدميِّ ولذلك لو سرَقَ نصْفَ نصاب، ثم عاد، فكمل لا يُقْطَع، وهاهنا لو أبان اليد بدَفْعَتَيْن، يقطع. ولو تميَّز فعْل الشركاء؛ بأن كان يقطع هذا من جانب، وهذا من جانبٍ، حتى التقت الحديدتان، أو قطع أحدهما بعْض اليد، وجاء الآخر فقطع الباقي وأبان، فَلاَ
قصاص على واحِدٍ منهما، ويجب على كلِّ واحدٍ منْهما الحكومةُ على ما يليقُ بجنايته، وينبغي أن يبْلُغ مجموع الحكومتين ديةَ اليد، وعن صاحب "التقريب" حكايةُ قول إنه يقطع من كل واحد منهما بقَدْر ما قَطَعَ إن أمكن (¬1) ضبْطُه، وذكر الإِمام: أن هذا مأخوذٌ من اختلاف يأتي -إن شاء الله تعالى- في أن القصاص هل يجري في المتلاحمة، وجْه الشَّبَه أن الموضحة يَجْري القصاص فيها كالإبانة، وقطْع بعْضِ اليدِ بعْض الإبانة كما أن المتلاحمة بعْض الموضحة، فليكُنْ حُكْمُه حكْم المتلاحمة، ثم فرق بينهما بأنَّ جلْدة الرأْس وما عليه من اللَّحْم، لا اختلاف في أجزائها، وليس فيها أعصابٌ وعروقٌ، فهي جداولُ الدم والعروقُ الرقيقة لا اعتباريها، فيتأتى رعايةُ القصاص ومعظم اليد تشمل على أعصاب ملْتَفَّة وعروق ساكنة وضارية، ويختلف وضعها في الأيدي، فلا يتأتى رعاية التماثل ولو جرا طرفي الحديدة جر المنشاد، فهذا عدَّهُ أكثرُهم منْ صور تمييز الفعْلَيْن، ومَثَّل به القاضي ابن كج صورةَ الاشْتراك المُوجِب للقصاص، ومحلُّ الإشكال ما ذكَر الإِمام أن الإمْرَار هكذا يُصَوَّر على وجهين. أحدهما: أن يتعاونا في كل جَذْبَةٍ وإرْسَالَةٍ، فتكون من صور الاشتراك. والثاني: أن يجذب كل واحد إلى جهة نفْسِهِ، ويفتر عن الإرسال في جهة صاحبه، فيكون البعضُ مقطوعَ هذا، والبعضُ مقطوعَ ذاك، ويكون الجواب على ما قاله الأكثرون، ولا يكاد يجيء فيه ما حكاه صاحب "التقريب" لتعذُّر الضَّبْط. وقوله في الكتاب: "لا يفارقه في التفاوت في البدل" وقوله: "إذ يقطع" مُعْلَمان بالحاء؛ لما بيَّنَّا، وقوله: "ولا تُقْطَع السليمة بالشَّلاء" المقصد بذكر المسألة في هذا الموْضِعَ ما سيأتي، إن شاء الله تعالى، وإنما جَرَى ذكْره هنا؛ لأنها قد تَوَردُ على قوْلنا: إن مَنْ يقتل به الشَّخص يقطع طرفه على ما بين، وأراد بقوله: "لأنها ليست نصفاً من صاحبها" أنا وإن لم نراع التساوِيَ في البَدَل قدراً ولكن نراعي نسبة تساوي الطرفين إلى الجملَتَيْن، ويعتبر أن يكون طَرَفُ المقْطُوع نصْف جملته، إذا كان طَرَفُ القاطع نصْفَ ¬
جملته، واليد الشلاء ليست نصفاً من صاحبها بخلاف اليد السليمة، فلِذَلك لم نقطع السليمةَ بها. وقوله: "وإنما تفارق النفس في أمرين" لمّا تبين أن قصاص النفْس والطرَفِ لا يفترقان في اشتراط التَّسَاوِي في البَدَل، ولا في استيفاء العَدَد بالواحِد، أراد أن يبِّين ما يفترقان فيه، فذكر أنهما يفترقان في أمرَيْن. أحدهما: أن قصاص النفْس يجبُ بسراية الجراحات، وفي الأجسام خلافٌ، وهذا معادٌ على القُرْب، ونشرحُه هناك، ويجوز أن يُعْلَم قوله: "وفيه تخريج" بالواو؛ لما سيأتي وقوله: "كالروح" بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة: لا يجب القصاص بالسِّرَاية في الأجسام، كما هو النص. والثاني: أن الجنايَة على ما دُونَ النَّفْس ينبغي أن تكون قابيلة للضَّبْط؛ ليمكن استيفاء مثله بلا زيادة ولا نقصان، فإن الروح مستبقاة، فلا بُدَّ من الاحتياط، ولك أن تقول قصاص النفْس والطَّرَف لا يفترقان في اشتراط ضبْط الجناية، لكن الجناية على النفْس مضبوطةٌ في نفْسها، والجناية على الأعضاء والأطْراف قدْ ينضبط، وقد [لا تنضبط و] (¬1) ذَكَر في "التهذيب" بدل الأمر الثاني شيئاً آخر؛ وهو أن محل الجناية لا يُراعَى في النفْس حتى لو قطع طَرَفَ إنسان، فمات، كان للوليِّ أن يحز رقبته، وفي الطرف يراعَى المَحَلُّ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالجِنَايَاتُ ثلاَثٌ: جُرْحٌ وَإبَانَةُ طَرَفٍ وَإزَالَةُ مَنْفَعَةٍ أَمَّا الجُرْحُ فَفِي المُوضِّحَةِ الَّتي تُوَضِّحُ العَظْمَ مِنَ الرَّأْسِ أَوِ الجَبْهَةِ أَوِ الخَدِّ أَوْ قَصَبَةِ الأَنْفِ القِصَاصُ، وَلاَ قِصَاصَ فِيمَا بَعْدَهَا مِنَ الهَاشِمَةِ لِلعَظْمِ، أَوِ المُنَقِّلَةِ لَهُ، أَوِ الآمَّةِ البَالِغَةِ إِلَى أُمِّ الرَّأْسِ، أَوِ الدَّامِغَةِ الخَارِقَةِ لِخَرِيطَةِ الدِّمَاغِ، وَلاَ فِيمَا قَبْلَ المُوَضِّحَةِ مِنَ الحَارِصَةِ الَّتِي تَشُقُّ الجِلْدَ، أَوِ الدَّامِيَةِ الَّتِي تُسِيلُ الدَّمَ، وَأمَّا البَاضِعَةُ الَّتِي بِخَرْقٍ يَبْضَعُ اللَّحْمَ أَوِ المُتَلاَحِمَةُ الَّتِي تَغُوصُ فِي اللَّحْمِ عُرْضاً بَالِغاً فَقَوْلاَنِ لِأَنَّ الضَّبْطَ مُمْكِنٌ عَلَى عُسْرٍ وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةَ، فَإذَا قَطَعَ نِصْفَ لَحْمِهِ إِلَى العَظْمِ قَطَعْنَا نِصْفَ اللَّحْمِ إِلَى العَظْمِ، فَإِنْ شَقَّ مَارِنَهُ أَوْ أُذُنَهُ فَقُوْلاَنِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلَى بِالوُجُوبِ لِأَنَّ ضَبْطَهُ أَيْسَرُ، وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَ كُوعِهِ فَقوْلاَنِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلَى بِأنْ لاَ يَجِبَ لِأنًّ العُرُوقَ وَالأعْصَابَ مُخْتَلِفَةُ الوَضْعِ فِيهِ، وَأمَّا المُوَضِّحَةُ عَلَى الصَّدْرِ وَسَائِرِ البَدَنِ فَلاَ تَتَقَدَّرُ دِيَتُهَا وَلَكِنْ يَجْرِي القِصَاصُ فِيهَا عَلَى أَقْيَس الوَجْهَيْنِ لإمْكانِ الضَّبْطِ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: الجناياتُ فيما دون النفْسِ ثلاثةُ أنواعٍ، جَرْحٌ يَشُقُّ، وقَطعٌ يُبين وإزَالَةُ مَنْفَعَةٍ بِلاَ شَقٍّ ولا إبَانَةٍ. النوع الأوَّل: الجراحاتُ ويتعلَّق بها القصاص في الجمْلة قال الله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ثم هي تنْقَسِم إلى واقعَةٍ في الرأْس والوجه وإلى غيرها، والتي تقَعُ في الرَّأْس والوَجْه تسمى الشِّجَاج، والمشْهُور منْها عَشَرَة. أحدها: الحَارِصَة، فهي الَّتِي تشق الجلْدَ قليلاً نحْو الخَدْش، وتسمى الحَرْصَة أيضاً، يقال حَرَصَ القصَّاص الثوْبَ، إذا خدَشَه، وشَقَّه بالمُدُق وعن الأزهري: إذا قصره، ونحى عنه الدَرَنْ، كأنه قشره عنه، وقد يوجد في تفسير الحارصة أن لا يدمي المَوْضع، والثانية: الدامية، وهي التي تدمي موضِعَها مِنَ الشقِّ والخدْشِ، وذكر الإِمام وصاحب الكتاب في تفسيرها سَيلاَنَ الدَّمِ، وهو خلاف ما حُكِيَ عن لفْظِ الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- واشْتَهَرَ في اللغة، أما لفْظ الشافعيِّ -رضي الله عنه- فقد حكَى القاضي الرويانيُّ أنَّه قال: الدامية هي التي تدمى، ولا يقطر منْها شيْءٌ، وأما أهلْ اللغة، فقد ذكروا أن الدامية الَّتي يظهر دمها ولا يسيل، فإن سَالَ، فهي الدامعة بالعين المهملة من قولهم دمعت العين تدمع دمعاً. والثالثة: الباضِعَة، وهي التي تبضع اللحْمَ بعْدَ الجلْد، أي تَقْطَعه، يقال: بَضَعَ اللَّحْمَ وَبَضَعَه ومنه البضع والبضعة القِطْعَة. والرابعة: المُتَلاَحِمَة، وهي التي تغوص في اللحْم وتغور، ولا تبلغ الجلْدة بين اللحم والعظم، وقد تُسمَّى اللاَّحِمَة. الخامسة: السِّمْحَاقُ، وهي التي تبْلُغ تلك الجلْدةَ، ويقال لتلك الجلدة السِّمْحَاق، وكل جلدةٍ رقيقةِ فهِيَ سِمْحَاقٌ، وقد تسمَّى هذه الشَّجَّة ثم الملطي والملطاة واللاطئة. السادسة: المُوَضِّحَةُ، وهي التي تخرق السِّمْحَاق وتوضِّح العظْمَ وتُبْدِي وضحة، والوَضَح الضوء والبياض. السابعة: الهاشمةُ، وهي التي تهشم العظْم، أي تكسره، ويقال للنبات المتكسر: هَشِيم. الثامنة: المُنَقِّلَة، وهي التي تُنَقِّل العظْمَ مِنْ موضع إلى موضع، ويقال: هي التي تكَسِّرُ وتُنَقِّل، ويقال: هى التي تكسر العظم، حتى يَخْرج منها فراش العظم، والفراشة كل عظْمٍ رقيق وفراش الرأس عظامٌ رقاقٌ تَلي القحف. التاسعة: المأْمُومَةُ، وهي التي تبلغ أُمَّ الرأس، وهي خريطةُ الدماغ المحيطة به،
ويقال لها: الآمَّة أيضاً (¬1). العاشرة: الدَّامِغَة، وهي التي تخرق الخريطة، وتصل إلى الدِّمَاغ، وهي مذفَّفة، فهذه العشرة هي المشْهُورة. وفي الكتاب ذِكْرُ جميعها سوى السِّمْحَاق، وتترتَّب هي على الترتيب المذكور، وعن "الأُمِّ" تقديمُ المتلاحمة على البَاضِعَة، وتفسير كلِّ ولدٍ بما سبق في تفسير الآخر، والمعنى لا يختلف، ويذكر في الشِّجَاج الجالفة، وعن إبراهيم الحربيِّ: أنها الأَوْلَى من الشِّجَاج، والحارصة تَليها، والأكثرون عكَسُوا، وقالوا: إنها تلي الحارصة، وهي التي تقشر الجلْد مع اللحم من قولهم: "جلفه الدهر" أي أتى على ماله واستأصله، وعلى هذا، فلا تخرج هي عن الشِّجَاج المذكورة؛ لأنها إن قطعت قليلاً من اللحْم، كانَتْ باضعةً وإن غاصت، كانت متلاحمةً، وإن استوعَبَتْه قطْعاً، فهي السِّمْحاق، أو ما بعدها، ويُذْكَر فيه الشجاج المفرشة هي التي تصاع العظم، أي تشقه ولا تكسره، وقد يقال: المقرشة بالقاف، والقاشرة، وهي الحارصة بعَيْنها، والدامعة على ما قدَّمناه، ويجوز أن يُضَاف إلى العشر الجالفة وتجعل بين الحارصة والدَّامية؛ لأنها أخْفَى من الحارصة، ولكن لا تدْمَى الموضِعُ منها، والدامعةُ، وهي بين الدامية والباضعة، والمفرشة وهي بيْن الموضِّحة والهاشمة ولذلك فعل صاحِبُ "المجمل" في جزء صنفه في الشجاج، وجميع هذه الشِّجَاج تُفْرَضُ في الجبهة، كما تفرض في الرأس، وكذلك يُتصوَّر ما سوى المأمومة والدامعة في الخدِّ وقصبة الأنف، واللحْي، الأَسْفل، إذا عرفْتَ ذلك، فيجب القصاصُ منْها في الموضِّحة لتيسير ضبطها واستيفاء مثلها، ولا قصاصَ فيما بعد الموضِّحة: من الهاشمة والمنقلة والمأمومة؛ لأنه لا يُؤْمَنُ الزيادة والنُّقْصَان في طُول الجراحة وعَرْضِها، ولا يوثق باستيفاء المثل؛ ولذلك لا نُوجِب القصاصَ في كسْر العظامِ على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى- وأمَّا ما قبلها، فظاهِرُ لفْظِ "المختصر" وجوبُ القصاصِ في الباضِعة والمتلاحمة، والنَّصُّ في رواية الربيع وحَرْمَلة منْعُه، واختلف الأصحابُ فيهما على طريقين أقربهما إثبات قولَيْنِ في المسألة. وجه المنع: أنه لا يُمْكِن رعايةُ المماثلة، فإنَّا لو ذهبْنا نَقْطَع من الشاجِّ بقدر ما قطع من المشجوج لم تأَمَنْ أن نوضِّح من مقابلة المتلاحِمَة؛ لغلظ جلْد المَشْجُوج، وكثرة لحمه، ورقة جلد الشاجِّ وقلة لحمه، ولو راعَيْنا نسبة المقْطُوع إلى جملة سُمْك الجلد واللَّحْم حاولنا أن نعرف أنه النصْف أو الثلث، ولم نتمكِّن من معرفته، واللَّحْم باقٍ بعضه والعظم مستترٌ به. ¬
ووجه الوجوبِ: إمكان الوقوفِ على نسبه المقْطُوع إلى الجُمْلةِ، وصَوَّر الشَّيْخ أبو حامِدٍ ذلك فيما إذا كاَن عَلَى رأسِ كلِّ واحدٍ من الشاجِّ والمشجوج موضِّحَةٌ قريبةٌ من موضع الشجة، فيُنْظر في موضِّحة المشجوج ونقيس بها الشجة التي نريد القصاصَ فيها، أهِيَ نصفها أو ثلثها، فإذا عَرَفْنا ذلك نَظَرْنا في موضِّحَةِ الشاجِّ، واستوفَيْنا مثْل نصْفها أو ثلثها. قال الإِمام: ويمكِنْ ذلك إذا كانت الموضِّحتان طريَّتَيْنِ أما إذا عتقتا وأخذنا في الالتأم، لم يتأتَّ الضبط، ثم اختلف المثبتون للقولَيْن؛ فخصَّص أكثرهم قول الوجوب بالتصوير الذي صوَّره أبو حامد، ولم يذكروا فيما إذا لم يُمْكِن الضبط؛ أنه يقتص في القَدْر المستيقَنِ، كما قالوا: إنه يعتبر أَرْش ما دون الموضِّحة من الشجاج بالموضِّحة، ويُقدَّر بها إذا كانت هناك موضِّحة، وعند الشكِّ، يجب القدْر المستيقَنُ وذكر الإِمام في القصاص مثل ذلك، فقال: إذا لم يُمْكِن معرفة النسبة أجرَيْنا القصاصَ في القدْر المستيقَنِ، وكفَفْنا عن محلِّ الإشكال، وهذا ذَهَاب إلى تعميم القولَيْن، وقد حكاه أبو بكر الطوسيُّ عن بعض الأصحاب، ثم الأظْهَر من القولَيْن عند الأكثرين أنَّه لا قصاص، وعن اختيار القفَّال والشيخ أبي محمَّد وجوبُه عند الإمكان. والطريق الثاني: امتنع كثير من الأصحاب من إثبات القولَيْن ثم تحزَّبوا، فقطعَ قاطِعُونَ بأنَّه لا يجبُ القصاص ونَسَبُوا المزنيَّ إلى السَّهْو، وعن الماسرجسي أنه كان الشافعيَّ -رضي الله عنه- يُعَلِّق القول في المسألة، ويقول بوجوب القصاص، إن أمكن، ثم بأن له أنه لا إمكانَ، فقَطَع القول بالمنع، وفيما علِّق عن أبي بكر الطوسيِّ أن بعض الأصحاب ترك النصَّيْن على حالَتَي الإمكان وعدمه والخلافُ المذكورُ في الباضعة والمتلاحمة جَارٍ في السِّمْحَاق، وكذلك ذكره الإِمام والقاضي الرويانيُّ وغيرهما، ولِجَازِم أن يجزمَ بالوجُوب، إن كانَتِ الجلدة بين اللحم والعَظْم المسمَّاة بالسِّمْحَاق متميزةّ، يَقِفُ أهل الخبرة عليها، ويمكن إنهاء القطع إليها بلا مجاوزةٍ كما في الموضِّحة، وحكى الإِمام في الحَارِصَةِ القَطْع (¬1) بأنه لا قصاص؛ لأنه لا وقع لها، ولا يفُوتُ بها شيْء، وأن الشيخ أبا محمَّد تردَّد في الدامية، وأن مَيْل القفَّال إلى تنزيلها منزِلةَ الحارصة، وفي وجوب القصاص يُقْطَعُ بعض المارن والأذن من غير إبانة، اختلافُه قول رُتِّب على الخلاف في الباضعة والمتلاحمة، والظاهرُ الوجوبُ، لإحاطة الهواء بهما وإمكان الاطلاع عليهما من الجانبيْن، ويُقدَّر المقطوعُ بالجزئية كالثلُث والنصْف، ويستوفَى من الجاني مثلُه، ولا يُنْظر إلى مساحة المقطوع، وقد تختلِف الأذنان صغراً وكبراً، ولو قطع بعْضَ الكُوع أو مفْصَل الساق والقَدَم، ولم يبين، فقد حُكِيَ فيه قولان ¬
مرتَّبان، وهو أولَى بعدم وجوب القصاص، وهو الظاهر؛ لأنَّها مجمع العروق ؤالأعصاب وهي مختلفة الوضع، تسَفُّلاً وتصعُّداً، وقد يؤثر في أوضاعها العبالة والنحافة، فلا يوثق باستيفاء المِثْل بخلاف المارن والأذن، فإنَّهما من جنْسٍ واحدٍ. هذا حكم القصاص في الشِّجَاج. والقول فيما يجب فيها مِنْ أرْشٍ أو حكومةٍ سيأتي- إن شاء الله تعالى- فى "الديات"، وأما الجراحات على سائر البدن، فما لا قصاص فيه، إذا كان على الرأْس والوجْه، لا قصاصَ فيه إذا كان علَى غيرهما، وأما الموضِّحة التي فيها القصاص، إذا وقَع مثلُها في سائر البدن، كما إذا أوضحت الجراحةُ عظْمَ الصدر أو العنق أو الساعد أو الأصابع، ففي وجوب القصاص وجهان: أحدهما: لا يجب، كما لا يجب فيه أرْشٌ مقدَّر وهذا؛ لأن الخَطَر في الجراحة على الرأْس والوجْه أعظمُ والشِّيْن الحاصل بهما أقبح. وأصحُّهما: الوجوب لتيسر استيفاء المثل، وهذا ظاهر النصِّ، ولا يعتبر القصاص بالأَرْش؛ ألا ترى أن الإِصبع الزائدة تقتص بمثْلِها، وليس لها أرْشٌ مُقدَّرٌ، وكذلك الساعدُ بلا كفٍّ وعلى عكسه الجائفة لها أرش مقدَّر، ولا قصاص فيها، وإذا اختصرت، وأجيبت في الجراحات بما هُوَ الظَّاهر، قُلْت: يجب القصاصُ في الجراحة عَلَى أيِّ موْضِعٍ كانَتْ بشرط أن تنتهي إلى العَظْم ولا تكسره، وأما لفظ الكتاب، فقوله: "ففي الموضِّحة التي توضِّح العظْمَ إلى آخره ليس الغرض من قوله: "التي توضِّح العَظْمَ تقييد الموضحة أو وصفها وهي التي كذا وكذا وكذا، الحال فيما ذكر في الآمة" والدامعة وفي الحارصة والدَّامية. وقوله: "مِنَ الهاشِمة للعَظْم أو المنقِّلة أو الآمَّة" لو أدخل فيها "الواو" بدل "أو" لحصل الغَرَض. وقوله: "أو الدَّامغَةُ الخَارِقَةُ لِخَرِيطَةِ الدِّمَاغ" يعني لا قصاص في عينها، ويتعلَّق بها قصاص النفْس أو كمال الدية؛ لما ذكرنا أنها منفعة ويجوز أن يُعْلَم قوله: "أو الدامية" بالواو لما حكينا من تردُّد الشيخ أبي محمَّد. وقوله: "التي تسيل الدم" أيضاً لما مر أنَّهم شرَطُوا في الدامية أَلاَّ يسيلَ الدمُ، وقوله في الباضعة والمتلاحمة "فقولان"، يجوز أن يُعْلَم بالواو؛ للطريقة القاطعة بالمَنْع، والمنزلة للنص على الحَالَتَيْنِ. وقوله: "فإذَا قطَع نصْفَ لحمه إلى العَظْم، قطَعْنا نصف اللحم إلى العظم" يعني إذا كان [على رأس] (¬1) كل واحد من الشَّاجِّ والمشجوج موضِّحة يتيسَّر معْرفة النسبة ¬
بهما، إن خصَّصنا القولين بتلْك الصورة، وإن عمَّمنا هنا، وهو قضية لفْظ الكتاب، فيمكن أن يقال: يُرَاجَع أهل الخبرة، لِيَنْظُروا في المقْطُوع، والباقي ويَحْكُموا بأنه نصْف أو ثلث بالاجتهاد بعْد غمر رأس الشاج والمشجوج، ويحكمون عند القصاص أيضاً، ويُعْمَلُ بموجبِ اجتهادِهم، فإن شكُّوا في أن المقْطُوع نصْفٌ أو ثلثٌ أخذْنا باليقين، وهذا شيْء كان يعرض. في الخاطر مدَّةً ثم رأيته مسْطُوراً في "أمالي" الشيخ أبي الفرج الزاز. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَأَمَّا الأَطْرَافُ فَيَجِبُ القِصَاصُ فِي جَمِيعِ المَفَاصِلِّ إِلاَّ في أَصْلِ الْمَنْكِبِ وَالفَخِذِ إِذَا لَمْ يُمَكِنْ اِلاَّ بإجَافَةٍ، وَقِيلَ: إنَّهُ لاَ يَجِبُ لِأَنَّ أَصْلَ الإِجَافَةِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، وَفِي مَعْنَى المَفَاصِلِ أَبْعَاضُ المَارِنِ وَالأُذُنِ وَالأُنَثَيَيْنِ وَالذَّكَرِ والأَجْفَانِ وَالشَّفَتَيْنِ وَالشَّفْرَيْنِ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ التَّقْدِيرَ، وَلاَ قِصَاصَ فِي فَلْقَةِ مِنَ الفَخِذِ لِأَنَّ سُمْكَهُ لاَ يَنْضَبِط، وَالعَجْزُ بَيْنَ انْبِسَاطِ الفَخِذِ وَنُتُوءِ الذَّكَرِ فِيهِ تَرَدُّدٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وأما الأطْرَافُ فيجَب القصاصُ في الأطْراف على ما قَالَ الله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} [المائدة: 45] وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خبر الربيع بنتَ النَّضِر المذكورة في أوَّل الكتاب: "كِتَابُ اللهِ القَصَاصُ" والشرط أن يمكن رعاية المماثلة، ويُؤْمَن استيفاء الزيادة، وذلك بطريقين. أحدهما: أن يكون للعضْو مفصلٌ توضَع الحديدة علَيْه، ويُبَان والمفصل موْضِع اتصال عُضْو بعضو (¬1) على منْقَطع عظمين برباطَاتٍ واصلة، وقد يكون ذلك على سبيل المُجَاورة المحْضَة، وقد يكون مِعَ دَخُول عضْوٍ في عضوٍ كما في المَرْفِق والرُّكْبَة، فمن المفاصل الأنامل والكُوع والمِرْفَق ومَفْصل القَدَم والركبة، وإذا وقع القطْع على بعضها اقتصَّ من الجاني. قال الإِمام: وفي بعض التعاليق عن شيْخِي وجْهٌ بعيدٌ في المرفق والرُّكْبة، وكان سببه أنَّه لا يؤمن من الزيادة؛ لدُخول عَظْم في عَظْم، قال: وهذا أحسبه غلطاً من المُعلِّق، ومن المفاصل أصْل الفخذ والمَنْكِب، فإذا لم يجف الجاني، وأمكن القصاص من غَيْر إجافة اقتص، وإذا لم يمكن القصاص إلا بالإجافة، لم يقتص؛ لأن الجوائف لا تنضبط (¬2) ضيقاً وسعةً وتأثيراً ونكايةً؛ ولذلك لم يَجْرِ القصاصُ فيها هذا هو المشهور، ¬
ولم يُفرِّقوا فيما إذا لم يُمْكِنِ القصاصُ إلا بالإجافة، بين أن يكون الجاني قد أجاف أو لم يُجِفْ. وحكى الإمام وجْهاً أنه يجري القصاصُ إذا كان الجاني قد أجاف، وقال أهل البصر: يمكن أن يقطع العُضُو، ويجاف مثل تلْك الجائفة، ووجهه بأن الجائفة هاهنا تابعةٌ غير مقصودةٍ، وبأنه إذا كان المقْصُود إبانةَ اليد، لم يكن للحديدة عوَضٌ في الباطن، ولا يختلف التأثير والنكاية ونسب هذا الوجه إلى رواية الصيدلاني وغيره، والمشْهُور إلى الشيخ أبي محمَّد والتفصيل بين أن يمكن القصاص من غير إجافَةٍ، وبين أن لا يمكن بالإجافة منْهُم مَنْ أطلقه في القطع منْ أصْل المنكب أو الفخذ ومنهم من أطلق جَرَيَانَ القِصَاصِ، فيما إذا قطَعَ مِنْ أصْل الفخذ أو المنكب، وخصَّص التفصيل بما إذا قلع مع قطع اليد عَظْمَ المنكب الذي يقال لها "المشط" وهكذا فعل ابن الصَّبَّاغ. والثاني: أن يكون للعضْو حدٌّ مضبوطٌ ينقاد لآلة القطع والأبانة كالعين يَجِب في فَقْئها القصاص، ويجري القِصَاص في الأذن والجَفْن والمارن والشَّفَة واللسان والذَّكَر والأنثَيَيْنِ؛ لأن لها نهاياتٍ مضبوطةً، وإن لم يكنْ مفصلٌ منقطع عظم وفي اللسان وجه عن أبي إسحاق أنَّه لا قصاصَ، ونقل مثله عن أصحاب أبي حنيفة؛ لأنه لا يمكن استيفاؤه إلا بقَطْع غيره، وفي الشَّفَةِ وجه عن الشيخ أبي حَامِدٍ، وفي الشَّفْرَيْن والألْيَتَيْنِ وجْهَان من الخلاف المذكور في الشَّفَة واللسان، لكن الخلاف فيهما أشهر وأظهر، والعراقيون كالشيخ أبي حامد ومن تابعه جَزَموا بأنَّه لا قصاص في الشُّفْرَيْنِ، وعن المزنيِّ المَنْع في الأليتين وادعى الأمام اتفاق الأصحابِ عَلَيْه في الدِّيَات، لكن الظاهر فيهما جميعاً على ما ذكره صاحب "التهذيب" والأئمة وجوب القصاص، وحكَى ذلك عن نصِّه في "الأم" في الشفتين والشُّفْرَيْنِ وبه قال القفَّال، ولا يجب القِصَاص في إطار الشفة [وهو المحيط بها] لأنه لشى له حَدٌّ مقدَّرٌ (¬1) والكلام في قدْر الشفتَيْن والشَّفْرَيْن والأليتين سيأتي في الديات -إن شاء الله تعالى-. ولو قطع فلقةً من الأذن أو المارن أو الشفة واللسان أو الحَشَفة، [وأبانها] وجَبَ القصاص، ويكون الضبط بالجزئية، لا بالمساحة والمقدار، وعن أبي إسحاق المروزيِّ فيما حكاه صاحب "التهذيب" وغيره: أنه لا يجبُ؛ لأنه لا تؤْمَنُ الزيادة والنقصان، ولا يتحقَّق النسبة بخلاف ما إذا استوعَبَ العضْو وهذا قريب من الخلاف فيما إذا قَطَع بعْض الأذن أو المارن ولم يبنه ولو قطع فلقة من الفخذ، فالجواب في الكتاب: أنه لا يجب ¬
القصاصُ؛ لأن سُمْكَه لا ينضبط ويشبه أن يجْيءَ فيه الخلافُ المذكورُ في الباضعة والمتلاحمة، إذا أوجبْنا القصاصَ في إيضاح العَظْم على سائر البَدَن. وقوله في الكتاب: "إلا في أصْل المَنْكِب والفَخِذ؛ إذ لا يُمْكِنُ إلا بإجافة" كذلك هو في بعض النسخ، وفي بعْضها "إذ لم يمكن إلا بإجافة"، وهو أحسن وأوفق؛ لما قدَّمناه. وقوله: "وفي معنى المفاصل أبعاض المارن والأذن [إلى آخرها يجوز أن يكون معناه الأبعاض والأجزاء التي هي المَارِنُ والأُذُن، وكذا] (¬1) يجوز أن يُريدَ ما إذا قطع البعض من عُضْو من هذه الأعضاء وترتبط كل واحدة من الصورتين بالأخرى، فإنَّ ما يجري القصاصُ فيه من هذه الأعضاء يَجْرِي في بعْضه على الظاهر؛ لإمكان تقديره بالكُلِّ والمحمل الأول أوْلَى وألْيَق بسياق الكلام، والثاني أقْرَبُ إلَى لفظه في "الوسيط" فإنه قال على الأثر: ولا قصاص في فَلْقة من الفَخِذ، وإذا حمل على الثاني، فيجوز أن يُعْلَم قوله: "وفي معنى المفاصل أبعاض المارن والأذن" للخلاف المنقول المذْكُور عن أبي إسحاق، وإن حُمِلَ على الأوَّل فيُعْلَم "الشفتان والشُّفْرَان" لا غير. وقوله: "والعَجُزُ بين انبساط الفَخِذ ونُتُوِّ الذَّكَرِ" يعني أن العَجُز مِنْ حيث إنَّه منبسطٌ يشبه الفخِذَ، فلا يكون فيه قصاص، ومن حيث إنَّه ناتٍ بعض النتو يشبه الذَّكَر، فيجري فيه القصاص، فكان على وجهَيْن، وهذا حكاية الخلافِ الذي سَبَق في الألْيَة، ويُمْكن أن يريدَ ما إذا قَطَع فلقةٌ من العجز، وعلى التقديرين فتخصيصه بذِكْرِ الخلاف فيه كان سبَبُه ما قدَّمناه أن الخلاف في الألْيَة أظْهَرُ؛ ولذلك ذكر الإِمام الخلافَ في الألْيَة، ولم يَذْكُرْ في المارن وغيره. فَرْعٌ: إذا قطع يد إنسان أو عضوا آخر، وبقي المقطوع متعلقاً بجلدة، وجب القصاص أو كمال الدية؛ لأنه قد بَطَل العضْو وفائدته، وأمكَنَ استيفاءُ مثل الجناية مِنَ الجانِي، ولا يَجِيْءُ فيه الخلافُ الذي سبَقَ فيما إذا قَطَع بعْض الكوع دون بعض، ثم إذا قطَعْنا يد الجاني حتى انتهى القَطْع إلى تلْك الجلدة فقد حصل الاقتصاص ويُراجَعَ [الجاني] أهلُ الخبرة في تلْك الجلدة، ويفعل ما فيه النَّظَر له من القَطْع والتَّرْك. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلاَ قِصَاصَ فِي كَسْرِ العِظَامِ لَكِنْ يُقْطَعُ (ح) أَقْرَبُ المَفْصَلِ إِلَيْهِ مَعَ حُكُومَةِ البَقِيَّةِ، وَلَوْ أَوْضَحَ رَأْسَهُ مَعَ الهَشْمِ فَالقِصَاصُ (ح) في الْمُوَضِّحَةِ، وَالأَرْشُ فِي الهَشْمِ، وَلَوْ قَطَعَ مِنَ المِرْفَق لَمْ يَجُز لَهُ (و) القَطْعُ مِنَ الكُوعِ، وَلَوْ كَسرَ عَظْمَ العَضُدِ فَفِي القَطْعِ مِنَ الكُوعِ مَعَ تَرْكِ أَرْشِ السَّاعِدِ وَجْهَانِ، وَإذَا سَقَطَ أَرْشُ السَّاعِدِ فَفِي أَرْشِ ¬
بَقِيَّةِ العَضُدِ عِنْد عُدُولِهِ إلى الكُوعِ عُدْوَاناً وَجْهَانِ، وَلَوْ عَدَلَ إلى لَقْطِ الأَصَابعِ مَعَ القُدْرَةِ عَلَى الكُوعِ لَمْ يَجُزْ لِتَعَدُّدِ الجِرَاحَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا يجري القصاصُ في كسْر العظَام؛ لأنه لا وثُوقَ فيه باستيفاء (¬1) المِثْل، ولكن للمجنيِّ عليه أن يقطع أقرب مَفْصِل إلى مَوْضِع الكسْر، ويأخذ الحكومةَ للباقي، وله أن يعفو ويعْدِل إلى المال، وعند أبي حنيفة لا يُجْمَع بين القطع والمال، فيسقط القصاص ويجب المال. ولو أوضَحَ رأسَهُ مع الهشم، فله أن يقتص في الموضِّحة، ويأخذ للهَشْم ما بين أرْشِ الموضِّحة والهاشمة، وهو خَمْسٌ من الإبل ولو أَوْضَح ونقل فللمَجْنِيِّ عليه أن يقتصَّ في الموضِّحة، ويأخُذَ ما بين أرْش الموضِّحة والمُنَقِّلَة، وهو عَشْرٌ من الإبل، ولو أوضَحَ وأَمَّ، فله أن يُوضِّح، ويأخذَ ما بين أرشِ الموضِّحة والمأمومة، وهو ثمانية وعشرون [بعيراً] وثلُثٌ [بعير]، فإن في المأمون ثلُثَ الدية، وخلاف أبي حنيفة عائد في هذه الصور، ثم في الفصل صور: إحْدَاها: لو قطع يده من الكوع، فأراد المجنيُّ عليه أن يلقط أصابعه، لم يمكن؛ لأنَّه قَدَر على وضْع الحديدة على محَلِّ الجناية، ومهْما أمكَنَ رعايةُ المماثلة، لا يعدل عنها، فلو بادَرَ إليه، عزر ولا غُرْم عليه، [لأنه يستحق] (¬2) إتلاف الجملة، فلا يلزمه بإتلاف البَعْض غُرْمٌ، كما أن مستحِقَّ القصاص في النفس، لو قطعَ طرفاً من الجاني لا يلزمه غُرْمٌ، قال صاحبُ "التهذيب": وهل له أن يَعُودَ، ويقطع الكفَّ؟ فيه وجهان: أصحُّهما: نعم، كما أن مستحِقَّ النفس لو قطع يد الجانِي له أن يعُود ويحزَّ رقبته، ولو ترَكَ قطْع الكف، وطلَب حكومتها لم يجب؛ لأن حكومة الكفِّ تدخل في دية الأصَابع، وقد استوفى الأصابعَ المقابلةَ للدية، فأشبه ما إذا قطَع مستحقُّ القصاص في النفس يَدَي الجانِي له أن يعود فيحز رقبته، ولو عفا، وطلب الديةَ لا يُجَابُ؛ لأنه قد استوفى [ها] هنا ما يقابِلُ الدية، وهذه قواعدُ سَنتكلِّم فيها فيما بعد، ولو قطَع يده من المرفق، فأراد أن يَقْطَع من الكوع، ويأخذ أرْشَ الساعد، أَوْ لا يأخذ، لم يُمْكِنْ لمَا فيه من العدول عن محَلِّ الجناية، مع القدرة عليه، بل لو أراد أن يقْطَع منه أصبعاً واحدةً، وقنع بها قصاصاً ومالاً لا يُمَكنُ منه، وفي "أمالي" أبي الفرج الزاز: أن له أن ينزل من مَفْصِلٍ إلى مَفْصِلٍ دونه، فإنه كالمسامَحَة وترك بعض الحق، والظاهِرُ الأول، ¬
ولو خالَفَنَا، وقطَعَ من الكوع فيعزر، ولا غُرْم عليه؛ لما تَقدَّم، ولو أراد بعْد ذلك أن يقْطَع من المرفق، وقال: كنتُ أستحق ذلك، فمكِّنُوني منْه، قال الإِمام: لا نسعِفُه بذلك أصلاً، وجعله صاحب "التهذيب" على وجهَيْنِ، ولا بد من التسوبة بين الصورتَيْنِ، ولو طلب حكومَةِ الساعِدِ، فالذي نقله الإِمام عن الأصحاب: أنا لا نثبتها له ونقول: إنك بقطعك من الكُوع، تَرَكْتَ بعْض حقك، وقنعْتَ ببعضه، وكذلك نقل صاحب "التهذيب" ثم قال: وعندي له حكومةُ الساعِد؛ لأن الساعد تُفْرَدُ بالحكومة، بخلاف الكفِّ تدخل حكومتها في الأصابع. الثانية: لو كسر عظْم العضُدِ، وأبان اليد منه، فللمجنيِّ عليه أن يقطع من المِرْفَق، ويأخذ حكومةً لما بَقِيَ من العضُدِ، وإن عفا فَلَهُ الديةُ للكف وحكومةُ الساعد، وأخرى لما بقي من العضُدِ، ولو أراد أن يترك المرفق، ويقطع من الكوع، فهل يُمَكَّن؟ حَكَى الإِمام وصاحب "التهذيب" فيه وجهين: أحدهما: لا؛ لأنه أمكنه وضْعُ الحديدة على الموضع الذي هو أقرب إلى محلِّ الجناية، فلا ينزل عنه، كما لو أمْكَنَ وضْع الحديدة على محلِّ الجناية لا ينزل عنه. والثاني: يجوز؛ لأنه عاجزٌ عن القطْع في محلِّ الجناية، وهو بالعدول إلى الكوع تاركٌ بعْضَ حقِّه، فلا يمنع منه وفي "التهذيب" ترجيح هذا الوجه، وإيراد الرويانيِّ وغيره يُشْعر بترجيح (¬1) الأول، ولو أراد لفظ الأصابع، لم يمكن، وَوَجَّهَهُ بأن فيه تعديد الجراحة، وذلك عظيمُ الموقِعِ فإن اقتصر على أصبعٍ واحدةٍ، فالقياس أنه على الوَجهَيْنِ في قطع الكُوع، فإذا قلْنا: إنه ليس له أن يقْطَع من الكوع، فلو قطع، ثم أراد القطع من الِمرْفَق، لم يمكن، ولم يحئْ فيه الوجهان المذكوران فيما إذا كان الجانِي قد قَطَع من المِرْفَق، واستوفى المجنيُّ عليه من الكوع، وفرق بأن هناك أمكَنَهُ وضْع السِّكِّين على محَلِّ الجناية، وهاهنا لا يُمكن وجوزِّنا قطْع ما دونه للضرورة، فإذا قطَعْنا مرَّةً، لم نكرِّرْه، وليس له حكومةُ الساعد أيضاً؛ لأنه كان يمكنه استيفاؤه، وقد منَعْناه ممِّا فعَل فخالَفَنا، وإن جوَّزنا له القطْع من الكُوع، فقَطَع، هل له حكومة الساعِدِ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن القطْع من الكوع مع القدرة على القطْع من المرفق اكتفاءٌ به وإقامةٌ له مُقَامَ القطع من المرفق، وعن القفَّال: أنه استشهد لذلك بما إذا التمست الثيِّبُ الجديدةُ أن يقيم عندها سبْعاً، فأجابها، فإنَّه يقضي جميع السَّبْع للباقيات، ووَجْه الشبه أن البُعْد عن الحدِّ المستَحقِّ، وهو الثلاث أوجب بطلان الحق هناك، فكذلك هاهنا ¬
وأشْبَهَهُما أنَّ له حكومةَ الساعد؛ لأنه ترك حقَّه في الساعد بلا تَعدٍّ، فكان كما لو عَفَا عن القصاص يثبت له المطالبة بالمَالِ، ولأنَّ حكومة الساعِدِ لا تدخل في دية اليَدِ مع الكوع، فأوْلَى أن لا يدْخُل في قطْعِها من الكوع، وأما حكومة بقية العَضد، فقد ذكرها هاهنا، وفي "الوسيط" في سقوطها وجهَيْنِ، إذا قلْنا بسقوط حكومة الساعد، وقد يُستشهدُ للسُّقوط بمسألة القسم، فيقال: البعد عن القَدْر المستحَقِّ أسقط المستحَقِّ هناك، فكذلك هاهنا، ولم أجدْ لغيره حكايةَ الوجهَيْن في حكومة بقية العضُد، وإنما الذي يوجَدُ أنَّها تجبُ؛ لأن استيفاء تلْك البقية متعذَّر شرعاً، ولم يوجَد، فيها من المجنيِّ عليه تقصيرٌ وعدولٌ. الثالثة: لو قطع من نصْف الساعد، قطع من الكوع، وأخذت حكومة نصْف الساعد، ولو عفا، فلَهُ ديةُ الكف وحكومةٌ لنصف الساعد، ولو أراد أن يلقط أصابعه، قال الإِمام: لا يمكن؛ لِمَا سبق من تعدد الجراحة، ولو فعل، ثم أراد القطْع من الكوع، لم يمكن، قال في "التهذيب": وليس له حكومة الكَفِّ، وله حكومة نصْفِ الساعد، ويجيْءُ في حكومة نصف الساعد الخلافُ. ولو قطع يده من نصْف الكف، لم يقتص منه، وله التقاط الأصابع، وإن تعدَّدت الجراحة؛ لأنه لا سبيلَ إلى الإهْمال، وليس بعْد موضع الجراحةِ إلاَّ مفاصِلُ متعدِّدة، وهل يجبُ مع قطْعها حكومةُ نصفِ الكفِّ، أم تدْخُل الحكومة في قطْعها دخولها في استيفاء الدية؟ فيه وجهان يعودان من بَعْدُ، والأصحُّ: الوجوب؛ فليُعْلَمْ لما بيَّنا قوله في الكتاب: "ولكن يُقْطَعُ أَقرَبُ مَفْصِلٍ" بالحاء، وكذا قوله: "والقصاص في المُوضِّحَة". وقوله: "لم يجز له القطع من الكوع" بالواو، وقوله: " ففي القَطْع من الكُوع مَعَ ترْك أَرشِ السَّاعد وجهان" لا يخفى أن المراد مِنْ "أَرش الساعد" حكومتُها، وكذا قوله: "ففي أرش بقيَّة العضد" وظاهر اللفظ يقْتضي تقييدَ الوجْهَيْن بما إذا قطَع من الكوع تاركاً حكومة الساعد ولم يتعرَّض لذلك الإمامُ ولا غيره، ولكن أطلقوا الوجهَيْنِ، ثم فرَّعوا عليهما حكومة السَّاعد، كما ذكرنا، ويجُوز أن يقال: المراد نفي القطع من الكُوع، وإن ترك أرْش السَّاعد وجهان. وقوله: "وإذا سقط أرش الساعد" إلى آخره، فيه تقديم وتأخير المعنى، وإذا أسقط أرْش الساعد عنْد عدوله إلى الكُوع عدواناً، ففي أرش بقية العَضُد وجهان أي إذا لم نُجوِّز القطْع من الكوع فقَطَع، وسقَطَت حكومة الساعد، كما مرَّ، ففي حكومة الباقي من العَضَد وجهان، وفي اللفظ إشارةٌ إلى تخصيص الوجهَيْن بما إذا لم نُجَوَّز القطْعَ مِنَ الكُوعِ، ولفظ "الوسيط" يقتضي طردهما فيما إذا جوَّزنا القَطْع، وقلْنا بسقوط حكومة الساعِدِ على أحَدِ الوجهَيْن.
فَرْعٌ عن: "الأم": أنه لو شَقَّ كفَّه حتى انْتَهَى إلى المَفْصِل، ثم قطع من المَفْصِل أو لم يَقْطع اقتص منه، إن قال أهل الخبرة يُمْكِنُ أن يَفْعَلَ به مثْلَه. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَأمَّا المَعَانِي فَالسَّمْعُ وَالبَصَرُ يَجِبُ القِصَاصُ فِيهِمَا بالسِّرَايَةِ عِنْدَ إيضَاحِ الرَّأْسِ، وَلَوْ قَطَعَ بعْضَ الأَصَابعِ فَتَأَكَّلَ البَاقِي بِالسِّرَايَةِ لَمْ يَضْمَنِ الأَجْسَامَ بِالسِّرَايَةِ لِأَنَّهَا لاَ تقْصَدُ، هَذَا نَصُّهُ، وَقِيلَ في المَسْأَلَتَيْنِ قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ، وَفِي إِلْحَاقِ العقْلِ وَالبَطْشِ بِالبَصَر تَرَدُّدٌ لِبُعْدِهِمَا عَنِ التَّنَاوُلِ بِالسِّرَايَةِ، وَلَوْ قَطَعَ مُسْتَحقُّ اليَدِ بعْضَ الأَصَابعِ فَتأَكَّلَ البَاقِي فَفِي تَأْدِّي القِصَاصِ بِهِ قَوْلاَنِ، وَكَذَا الخِلاَفُ فِيمَا لَوْ قَتَلَ مَنْ عَلَيْهِ القِصَاصُ خَطَأٌ أوْ كَانَ المُسْتَحِقُّ مَجْنُونَاً، وَلَوْ أَوْضَحَ رَأْسَهُ فَتَمعَّطَ شَعْرُهُ فأَوْضَحْنَا رَأْسَهُ فَتَمعَّطَ شَعْرُهُ فِفِي وُقُوعِ الشَّعْرِ قِصَاصاً خِلاَفٌ وَأَوْلَى بِأنْ لاَ يَقَعَ لِأَنَّ نَفْسَ الشَّعْرِ لاَ قِصَاصَ فيه، وَوَجْهُ وُقُوعه أنَّهُ تَابعٌ لِلإِيضَاحِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: كما يضمن أجرام الأطْراف والأعضاء بالقصاص يضمن قيمة منافِعِها في الجملة، وكيف لا وهي المقصودةُ، وفيها الفائِدَةُ، وقد يكون الجُرْم المعطِّل كَلاًّ على صاحبه، ثم المعاني لا تباشر بالتفويت، وإنما تفوت تبعاً لِمَحَالِّهَا، وقد تَرِدُ الجناية على غير محلِّها، وتفوت هي بالسراية لارْتِبَاطِ بينهما، وبين مورد الجناية، ونَتَدرَّج بهذه المقدِّمة إلى الكلام في مسألتين. إحداهما: لو أوضَحَ رأسَه، فذهب ضوء عينَيْه فالنصُّ أنه يجب القصاص في الضَّوْء، كما يجب في الموضِّحة، ونَصَّ فيما إذا قطَع أصبعه، فسَرَى إلى الكفِّ إلى إلى أصبع أخرَى بتآكُلِ، أو بشلل؛ أنه لا يجب القصاص في محلِّ السراية، والفرق أن الأجسام تُنَالُ بالجناية، والجناية على غيرها لا تُعَدُّ قصداً إلى تفويتها وضوء البَصَر ونحوه من اللطائف لا يباشر بالجناية، فطريق تفويته بالجناية على محلِّه أو على ما يجاوره، ويتعلَّق به، ويضمن القصاص، كالنفْسِ، فهذه الطريقةُ هي ظاهِرُ المذهب، ووراءها طريقتان: إحداهما: عَن رِوَايَةِ الشيخ أبي عليٍّ وغيره: أن فيهما قولَيْن بالنَّقْل والتخريج. أحدهما: أنه لا قِصَاص فيهما بالسراية؛ لأنه لا يَقْصِد تفويت جسم بالجناية على غيره، ولا تفويت الضوء بالجناية على غير الحَدَقة، فإذا حصَل بفعْله، كان الشخص كالمُخْطِئ فيه. والثاني: يجب لتولُّد الفوات من جناية تعمُّدها، ولذلك لو تولَّد الزهوق من قطْع الأنملة، وجب القصاص، كان كان لا يَقْصِد به الزهوق غالباً؛ لأنه لا يُفْضِي إليه غالباً،
ويقال: إن المزنيَّ قال بطريقة القولَيْن، وأن اختياره القولُ الثاني. والثانية: حكَى أصحابُنا العراقيُّون عن أبي إسحاق تخريجَ قَوْلٍ من نصِّه على أن سراية الأجسام لا تُضْمَن بالقصاص في الضوء، والامتناع من التخريج في الأجسام من الضَّوْء، وإذا أوجبْنا القصاصَ في ضَوْء البصَرِ بالسراية، فالذي صحَّحه الإمامُ روايةً ونقلاً؛ أن السمع كالبصر (¬1)، وحكى فيما إذا بطَل بطْشُ عضو بالسراية تردُّداً عن الأصحاب، منْهم مَنْ ألحقه بلطيفتي السمْع والبصَرِ، وبه قال صاحب "التقريب" ومنْهم مَنْ رأَى البطْش عسر الإزالة كالأجسام، وإلَيه ميل الشيخ أَبي محمَّد، وفي العقل أيضاً؛ لبُعْده عن التناوُلِ بالسراية، وإن كان من اللَّطَائف. [قال:] ولا يَبْعُد أن يلحق الكلام بالبَصَر ورتبها فجعل البصر والسمع في درجةٍ، ويليهما الكلامُ، ويليه البطشُ، وتليه العقْل، وذكر صاحب "المهذب" في أنه لو جَنَى عَلَى رأسِه، فذهب عقْله، أو على أنْفِهِ، فذهب شمُّه أو على أُذُنِهِ، فذهب سمعه، لم يجب القصاص في العقْل والسمْع والشمِّ؛ لأن هذه المعاني في غير محَلِّ الجناية، فلا يمكن القصاص فيها، وهذا القَدْر من التوجيه يُشْكل بمسالة الضْوء على أن الأقْرَبَ في العقْل منع القصاص؛ لأنَّه لا يوثَقُ بالمعالجة بما يزيله، ويشبه أن يُرَجّح في البطش والشم الوجوب، وفي معناها الذَّوْق (¬2)؛ لأن لها محالَّ مضبوطةً وعنْد أهل الخِبْرة طرق في إبطالها، فإذا ذهب ضَوْءُ العَيْنِ بالموضَّحة، واقتصَصْنا في الموضحة، فلمَ يَذْهَب ضوء عين الجاني، أذهب بأخف ما يمكن من تقريب حديدة محمَّاةٍ من حدَقَتِهِ أو طرْح كافورٍ ونحْوه فيها، وإن ذهَب ضوْء الجاني، حصَل القصاص، وفيه شيءٌ سيأتي -إن شاء الله تعالى- في المسألة الثانية الآتي ذكرها، ولو هَشَم رأْسَهُ، فذهب ضوء عينه، عولج بما يُزِيل الضوْءَ، ولا يقابل الهشْم بالهشْم، كما تقدَّم، ولو لطمه، فذهب ضوء عيْنَيِه، واللطمةُ بحيث تذهب الضوء غالباً فالحكاية عن نصِّه في "الأم" أنه يُلْطَم مثل ¬
تلْك اللطمة، فإن ذهَب الضوء فعَلَى ما ذكرنا في الموضِّحة وإلا أزيل بالمعالجة وإن ابيضت الحَدَقَةُ، أو شخصت، فعل به ما يقضي إلَيْه إن أمكن، ونسب الشيخ أبو إسحاق الشيرازيُّ هذا المنقولَ عن النصِّ إلى بعْض الأصحاب، قال: ويَحْتَمِلُ عنْدِي أن لا يقتص باللطمة، كما لا يقتص بالهاشمة؛ لأنه لا قصاص في اللطمة، لو انفردت كالهاشمة، واحتج له بأثرٍ عن عليٍّ -كرم الله وجهه- أيضاً، وهذا حَسَنٌ وقد أقامه صاحب "التهذيب" وجهاً وحكم بأنه الأصحُّ. المسألة الثانية: إذا قلنا: لا يجبُ القصاص في الأجسام بالسراية، فلو قطع أصبعه، فسرى القطْع إلى الكف وسقطت، ولم تَجِبِ القصاص إلا في تلْك الأصبع، وعن أبي حنيفة أنه يسقط قصاصُ الأصبع بالسراية إلى الكف، واحتج الأصحاب بأنها جنايةٌ مضمونة بالقصاص [لو لم تَسِرْ، فلا يسقط القصاص] (¬1) فيها بالسراية، كما لو قطع حامل، فسرى إلى جَنِينها، فسقط ميِّتاً، وإذا اقتصّ في الأصبع، فسرى إلى الكف، فالنص أن السراية لا تقع قصاصاً، حتى يجب على المقتصِّ منه ديةُ باقي اليد، والنصُّ في "المختصر" فيما إذا أوضَحَه، فذهب ضوء عينه، وشَعْرُ رأسِهِ، فاقتص المجنيُّ عليه في الموضِّحة، فذهب ضوء الجاني، وشَعْرُ رأْسهِ أيضاً؛ أنه يكون مستوفياً حقَّه، ولو لم يذهبْ ضوء الجاني، وثبت شعره، فعليه ديةُ البَصَرِ، وحكومةُ الشَّعْر، وفي هذا النصِّ إيقاعُ الشعْر في مقابلة الشعْر، وهو من الأجسام فأشْعَر بأن السراية إلى الجِسْم تقع قصاصاً، واختلف الأصحاب على طريقَيْنِ، فمنهم من قال: هذان قولان في أن السراية إلى الكفِّ هل تقع قصاصاً؟ أحدهما: يقع لتشابه الفعلَيحٌّ، وتولُّد السرايتَيْن من الفعلَيْن، وهذا كما أن السراية إلى النَّفْس تقع قصاصاً بالسراية. والثاني: المنع؛ لأنا نفرِّع على أن السراية إلى الجِسْم لا تُضْمَن بالقصاص، وإذا لم يكن في السراية إلَيْه قصاصٌ، لم تكن سرايته قصاصاً بخلاف النفْس. ومنهم مَن قطَع بالقوْل الثاني، ثم هؤلاء القاطِعُون قالُوا في النصِّ الثاني: إن السرايةَ إلى الضَّوْء تقع قصاصاً بناءً على أن السرايَةَ إلَيْه توجِبُ القصاص على الظاهِر، كما سَبَقَ وحكَى القاضي ابن كج التصرُّف في النَّصَّين وإثْبَات قولَيْن في أنَّ السراية إلى الضوء هل يقع قصاصاً أيْضاً حتى يجبَ على الجاني في قوْلٍ ديةُ البصر، إن سَرَتِ الموضِّحة إلى بصَره. وأما الشَّعْر، فمنهم مَنْ قال: لم يتكلمِ الشافعيُّ -رضي الله عنه- فيه، وإنما هو ¬
من زيادة المزنيِّ ومنْهم مَنْ قال: المراد شَعْر موضِّح الموضِّحة، فإنه يتبع الموضِّحة، كالشعر على اليد والرجْل يتبعها قصاصاً ومالاً، وأماَ إذا تَمَعَّط الشعْر حول الموضِّحة، فتجب فيه الحكومة، كان تَمَعَّط من الجاني أيضاً، لا تقع السراية قصاصاً، وأما المثبتون للقولَيْن في سراية الكفِّ، فقد تحَّزبوا في الشعْر، منهمَ مَنْ قطع بأن السراية فيه لا تقع قصاصاً؛ لأنه لا قصاص في نفْس الشعْر، ففي السراية أولَى ومنهم من أجرى الخلافَ، وقال: تقع سرايته قِصاصاً على رأْي بتبعية الإيضاح الَّذي فيه القصاص، وعلى. هذا، فلا يُنْظَر إلى مقْدَار الحكومَتَيْن، بل يحصل القصاصُ مع تفاوتهما، كما يجري القِصَاصُ في الأطرافِ مع تفاوُتِ البدل، وسواء ثبت الخلاَفُ أم لم يَثْبُتْ، فالظاهر على ما ذكَره العراقيُّون وصاحب "التهذيب" والقاضي الرويانيُّ وغيرهم: أن السرايةَ لا تقَع قصاصاً لا في الكفِّ، ولا في الشَّعْر، ولو عفا المجنيُّ عليه عن قصاص الأصبع، فله أخْذ دية اليد، وإن اقتص، فلم يَسْرِ القطْع إلى غير تلْك الأصبع أو سَرَى، وقلْنا: إنه لا يقع قصاصاً؛ فله أربعةَ أخماسِ الدَّيَة للأصَابع الأربع الذاهبة بالسراية، ولا يجب لمنابتها من الكفِّ حكومةٌ، بل تدخل في ديتها، وفي دخول حكومة خُمْس الكف في قصاص الأصابع وجهان، يعود ذكرهما، وما يجب من الدية، يجب مغلَّظاً في مال الجاني؛ لأنَّه وجَب بجناية عمْد موجبةٍ للقَوَدِ وفي "العدَّة" ذكر وجْه أنَّه على العاقلة؛ لأنه لا يقصد تفويت الجسْم بالجناية عَلَى غيره كما ذكَرْنا من قَبْلُ، فهو كالخطأ، والمشهورُ الأولُ، وله المطالبة به عَقِيبَ قَطْع الأصبَعِ تفريعاً على الظاهر؛ لأنه كان سرَى القطْع إلى الكفِّ، لم يسقط باقي الدية، فلا معنى لانتظار السراية، وفي صورة الموضِّحة المذهِبَة للبَصَر، لو أوضَحَه، فلم يذهب ضوءه في الحَال، لا يطالب بالدية، بل ينتظر فلَعلَّه يَسرِي إلى البَصر، فَيَحْصُلُ الاقتصاصُ وكذا في النَّفْس، لو قطَع أصبعه، فسَرَى إلى نفْسه، فقطع الوليُّ أُصْبَعَ الجاني، ينتظر السراية، ولا يطالب بالدية في الحال. وقوله في الكتاب: "وأما المعاني فالسمع والبصر" إلى قوله: "هذا نصه" يُشْعِر سياقه بأن النصَّ في السمع والبصر وجوبُ القصاصِ بالسراية، وفي الأجسام المَنْعُ، وليس في السمْعِ نقْلٌ وحكاية نصٌّ، وإنما النصُّ في البصر على ما ذَكرْنا، والسمع مُلْحَقٌ به على ما فيه من الخلاف. وقوله: "ولو قطع مستحِقُّ اليد بعْض الأصابع" هذا اللفظ لا ينطبق على الصورة الَّتي ذكرناها، وحكَيْنا فيها اختلافَ الطُّرُق، وهي ما إذا قطع أصبعاً فتآكل، فاقتص المجنيُّ علَيْه من الأصبُعُ، فتآكل الباقي، فإنَّ اليد ليست مستحِقَّةُ الاستيفاء في هذه الصُّورة؛ إنما الأصْبُعُ هي المستحقة، والَّذي عليه ينطبق اللفْظ ما إذا استَحَقَّ القِصَاصَ في اليد بالقَطْع من الكوع، فقطع أصبعاً من أصابعه، فتآكل الباقي، ويشبه أن يكون القولان في هذه الصورة مبنيَّيْنِ عَلَى أنَّ السرايةَ هَل توجِبُ القصاص، ورجَّح الإِمام
الفصل الثاني في المماثلة
المصيرَ إلى وقُوعه قصاصاً؛ لأن السراية منسوبةٌ إلى فعْل الجارح، فكانت الجراحة كالسراية، وقَرُبَ من هذا الخِلاَفِ الخلافُ فيما لو قَتَلَ مستحِقٌّ القصاص الجانِيَ خطأً أو ضربه بسَوْطٍ خفيفِ، فمات؛ لأنه لم يقصد قَتْلَه، لكن الحقّ متعيِّن، وقد استوفاه؛ ولذلك لو وثب الصبيُّ أو المجنونُ على مَنْ قتل مورثه فقتله، هل يكون مستوفياً لحَقِّه؟ فيه وجهان. أَحَدُهُمَا: نعَمْ، كما لو كانَتْ له وديعة عنْد غيره، فأَتْلَفَها. وأَصحُّهما: على ما ذكر صاحب "التهذيب" وغيره: لا؛ لأنه ليْسَ من أهل استيفاء الحقُوق، ويخالف الوديعةَ، فإنَّها لو تلِفَتْ من غير فعْل أحدٍ يبرأ المودع، وها هنا لو مات الجانِي لا يبرأ، فعَلَى هذا ينتقل حقُّه إلى الدية، ووجبت الدِّيَةُ بقَتْل الجانِي، وتَكُون عليه أو على العاقلة، ينبني على الخلاف في أن عمْدَهما عمْدٌ وخطأٌ، ويجري الخلاف فيما إذا ثَبَتَ قصاصُ الطرَفِ لصبيٍّ أو مجنونٍ، فوثبت على القاطِع، فقَطَع طرفه، هل يكون مستوفياً لحقِّه؟ وموضع الخلاف ما إذا لم يوجَدْ منه تمكين، فأما إذا أخرج يدَهُ إلى الصبيِّ أو المجنونِ، حتى قطَعَه، لم يكن مستوفياً لحَقِّه بلا خلاف ويكون قطْعُه هدراً. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الفَصْلُ الثَّانِي في المُمَاثَلَةِ، وَالتَّفَاوُتُ فِي ثَلاثَةٍ التَّفَاوُتُ الأوَّلُ تَفَاوُتُ المَحَلِّ وَالقدْرِ فَلاَ تُقْطَعُ اليُمْنَى بِاليُسْرَى، وَلاَ السَّبَّابَةُ بِالوُسْطَى، وَلاَ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ بِأخْرَى عِنْدَ تَفَاوُتِ الْمَحَلِّ، وإنْ تَسَاوَتِ الزَّائِدَتَانِ فِي الحُكُومَةِ وَاخْتَلَفَتَا فِي الحَجْمِ فَفِيهِ وَجْهَانِ، إِذْ لَيْسَ لَهُمَا اسْمٌ أَصْلِيٌّ بِخِلافِ يَدِ الصَّغِيرِ مَعَ الكَبِيرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هجم هاهنا وفي "الوسيط" على ذكْر الفصْل الثاني من غَيْر أن يذكر فصلاً أولاً، وكأنه قصَدَ ترتيبَ مسائِل قصاصِ الطَّرَف بإيداعها في فصْلَيْن. أحدُهما: فيما يوجب القصاص من الجنايات عَلَى ما دون النَّفْس. والثاني: في المماثَلَةِ المعتَبَرة فيه، ثم غَفَلَ عن التنْصيص على الأَوَّل، وإن أتى بمقصُوده، والوجه أن يزاد قَبْل قوله: "والجنايات ثلاثة" وفيه فصلان: أحدهما: فيما يُوجِبُ قصاص الطَّرَف أو لا يزادُ هناك شيء ويُجْعَل مكان الفَصْل الثاني: "فصْل في المُمَاثَلَةِ" وقد يقال: قد عقد في فنِّ الاستيفاء مِنْ بعْدُ فصلاً في المماثلة، وهذا الفصْل مترجَمٌ بالمماثلة أيضاً، فهلا جمَعَ بين مسائل الفصْلَيْن، فاعْلَمْ أن غرَضَ الفصلَيْن مختلفٌ؛ فالغرض هناك بيانُ أن المماثلةَ في طرِيقِ الإزْهاق مرعيَّةٌ في الاستيفاء والغرَضُ هاهنا الكلامُ في المماثلة التي هي معتبرةٌ في وجُوب القصاصِ وهي في الطَّرَفِ بمثابة الكفاءة التي تُطلَق في قصاصِ النَّفْس، إذا تقرَّر ذلكَ، فالذي نُقدِّمه
على وضوحه أنَّه لا يُقَابَلَ طَرَفٌ بطَرَفٍ من غَيْر جنسه، كاليد والرِّجْل والعين والأنف، فإذا اتحد الجنْسُ، لم يؤَثِّر التفاوت في الصَّغَر والكبر والطول والقِصَر والقوَّة والضعف والضخامة والنَّحافة، كما لا تعتبر مماثلةُ النفسين في هذه (¬1) الأمور، والسبب فيه أن مماثلة النفُوس والأطْرَاف فيها وفي نحوها، يكاد تَتَّفِقُ، وفي اشتراطِها إبطالُ مقصودِ القِصاصِ، ولذلك تُقطَع يد الصانع بيد الأَخْرَق، كما يقتل العالِمَ بالجَاهِل، وإنما يُؤثِّر التفاوت في أمور. أحدها: تفاوتُ المَحلِّ والقدر. أما المحلُّ، فلا تقطع اليد اليُمْنَى باليُسْرَى، وبالعكس، وكذلك في الرِّجْل والعين والأذن، ولا يقطع الجفن الأعلَى بالأسْفَل، وبالعكس، وكذلك في الشَّفَة، وذلك لاختلافِ المنافع، واختلاف تأثير المحالِّ بالجراحات، وكذلك لا تُقطَع أصبعٌ بأصبعٍ، كالسبابة والوسْطَى، ولا أنملةُ أصبعٍ بأنملةٍ أخْرَى من تلك الأصبع ولا أصبع زائدةٌ بزائدة أخرى، إذا اختلف محلُّهما بأن كانت زائدةُ الجانِي أو المجنيِّ عليه في جانِب الخِنْصِرِ، وزائدةُ الآخر بجنب الإبهام، بل تؤْخَذ الحكومةُ، وأما القدْر فالتفاوت في الحَجْم صغراً وكبراً وطولاً وقصراً لا يُؤَثِّر في الأعضاء الأصليَّة وأما في الأعضاءِ الزائدةِ، كالأصبع والسِّنِّ الزائدتين، فقد أطلق مُطْلِقُون، منهم صاحب "التهذيب" فيه وجهَيْنِ. أحدهما: وبه قال صاحب "التقريب": أنه لا يؤثر أيضاً كما في الأصلية. والثاني: يؤثر؛ لأنه ليس لها اسمٌ مخصوصٌ حتى يُكْتَفَى بالاتفاق في الاسم، كما يكتفى في اليمين واليسار وفي السَّبَّابة والوسْطَى، فيُنْظَر إلى القَدْر، وتراعى الصورة، وهذا ما حكاه القاضي ابن كج عن أبي الطيِّب بن سلمة في السِّنِّ، ونسب الأوَّلَ إلى أبي إسحاق، وغيره ينسب إليه الثاني فإذا جعل التفاوت في الحَجْم مؤثراً فإن كانَتْ زائدةُ الجاني أكْبَرَ؛ لم يقتص منْه، وإن كانت زائدةُ المجنيِّ عليه أكبر اقتص، وأُخِذَتْ حكومةٌ تقدر النقصان، ومنْهم مَنْ خصَّص ذكْرَ الخلاف بالسِّنِّ وسكَتَ عنه في الأصبعِ، ثم الوجهان فيما رأى الإِمام مخصوصانِ بما إذا لم يؤثِّر تفاوتُ الحجْم في الحكومة، فإن أَثر، اختلفت نسبتُهما إلى الجُمْلة، وذلك ممَّا يمنع القِصَاص، ولذلك لم تُقْطَعِ الصحيحةُ بالشَّلاَّء؛ لأن الصحيحةَ نصْفُ الجملة، والشلاء ليستْ نصفاً على ما سبق، قال: والاختلاف في اللوْن وسائر الصفات، لا يُؤثِّر بعد التساوي في الحُكُومة، بخلاف التفاوُتِ في الحجْم، وتقطع الزائدةُ بالأصليَّةِ، إذا لم يختلِفِ المحلُّ ولا شيء له ¬
لنقصانِ الزائِدَةِ، كما إذا رَضِيَ بالشلاء عن الصحيحة. قوله في الكتاب: "وَإنْ تساوت الزائدتانِ في الحُكُومة واختلفتا في الحَجْم، ففيه وجهان إشارةٌ إلى ما ذكَرَه الإمامُ، والمعْنَى ولا أصبع زائدة بأخْرَى عند تفاوت المَحَلِّ أو تفاوت الحكومة وإن تساوَيَا فيهما جميعاً واختلفا في الحجْم، فوجهان، وحَيْثُ جرى الوجْهَان، فالأظهر أنَّه لا أثَرَ للتفاوت وفي الحجم؛ كذلك ذكره القاضي الرويانيُّ وصاحب "العدة" وغيرهما، ونقلوا عن النصِّ، أنه لو كانَتْ زائدةُ الجانِي أتَمَّ بأن كانَت لأصبعه الزائدةِ ثلاثُ مفاصِلَ، ولزائدة المجنيِّ عليه مَفْصِلٌ واحدةٌ أو مَفْصِلان، لا يُقْطَع بها؛ فإنَّ هذا التفاوتَ أعْظَمُ من تفاوُتِ المحلِّ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالتَّفَاوُتُ فِي المُوَضِّحَةِ يُؤَثِّرُ أَعْنِي فِي بَيْعَتِهَا لاَ فِي عِوَضِهَا، وَلَوْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَصْغَرَ اسْتَوْعَبْنَا رَأْسَهُ وَلَمْ يَكمَّلْ بِالقَفَا بَلْ ضَمَمْنَا إلَيْهِ الأَرْشَ، وَلَوْ كَانَتْ نَاصِيَةُ الجَانِي أَصْغَرَ وَقَدْ أَوْضَحَ نَاصِيَةَ غَيْرِهِ كَمَّلْنَا بِمَا حَوَالَيْهِ لِشُمُولِ اسْمِ المُوَضِّحَةِ، وَلَوْ زَادَ عَلَى ما اسْتَحَقَّهُ قِصَاصَاً فَعَلَيْهِ أَرْشٌ كَامِلٌ لِتِلْكَ الزِّيَادَةِ؛ لأنَّهُ فَارَقَ البَقِيَّةَ في الحُكْمِ فَأُفْرِدَ بِحُكْم، وَقِيلَ: عَلَيْهِ قِسْطُ لِأَنَّ الكُلَّ مُوَضِّحَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوِ اشْتَرَكُوا فِي إيْضَاحٍ احْتُمِلَ (و) أَنْ يُوَزَّعَ المِقْدَارُ عَلَيْهِمْ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يُوضَحَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِثْلُهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الكلام في قصاص الموضِّحة في المساحَة والمَحَلِّ؛ أما المساحة، فمرعيَّةٌ في قصاص الموضِّحة طولاً وعرَضاً، فلا تقابل ضيِّقةٌ بواسعةٍ، ولا يقنع بضيقة عن واسعة، وتذرع موضِّحة المشجوح بخشَبَةٍ أو خيطٍ، ويُحلَق ذلك الموضِعُ من رأس الشاجِّ، إن كان عليه شعْر، وخِيطَ عليه سوادٌ، أو حمرةٌ، ويضبط الشاج حتَّى لا يضطرب (¬1)، ويُوضَح بحديدة حادَّة كالمُوسَى، ولا يوضَحُ بالسيف، وإن كان قد أوضَحَ به؛ لأنه لا تُؤْمَنُ الزيادة، وكذلك لو أوْضَحَ بحَجَرٍ أو خشَب يوضحُ بالحديدة، ذكره القفَّال وغيره وتردَّد فيه القاضي (¬2) الرويانيُّ، ثم يفعل ما هو أسهل عليه من الشق دفْعةً ¬
واحدةً، والشق شيئاً فشَيْئاً، ويرفق في موْضِع العلامة، ولا عبرة بتفاوتِ الشاجِّ والمشجوج مِنء غلظ الجلد واللَّحْم؛ لأن اسم الموضِّحة يتعلَّق بإنهاء الجراحة إلى العَظْم والتساوي في قَدْر الغوص قليلاً مَا يتَّفِق، فينقطع النَّظَر عنْه، كما ينقطع النَّظَر عن الصِّغَر والكبر في الأطْراف، وعن أبي إسحاق أنَّه يعتبر التساوِي في العُمْق، ولا يغوص شعيرتين في مقابلة شعيرة، وهذا حمله الأئمة على السهْو منْه أو مِمَّنْ رواه عنه. وأما محلُّ الموضِّحة، فإن أوْضَحَ مِن إنسان جميع رأْسِه، ورأسُ الشاجِّ والمشجوج متساويانِ في المساحَةِ، أوْضَحَ جميعَ رأْسِه، فإن كان رأْسُ الشَّاجِّ أصْغَرَ، استوعبْنا رأْسَهُ إيضاحاً ولا نكتفي به، بخلاف اليد الصغيرة، فإنه يكتفى بها في مقابَلَة الكبيرة، وفرق بأن ما به التفاوُتَ بين اليدَيْن على تجرُّده ليْس بِيَدٍ، وما به التفاوت بين الموضِّحتين على تجرُّده موضِّحة، فلا يجعل تابعاً وأيضاً، فالمرعيُّ هناك اسم اليد، وهاهنا المعتبر المساحة؛ ألا ترى أن يد القاطع، لو كانت أكبر قُطِعت، ورأس الشاجِّ لو كان أكبَرَ، لا يستوعب وَلاَ ينزل الإتمام المساحة إلى الوجّه، ولا إلى القَفَا، فإنهما عضوان وراء الرأْس، فلا تقابل موضِّحة عضْوٍ بموضِّحة عضْوٍ، كما لا يقابل عضْوٌ بعضْوٍ، ولكن يُؤْخَذ قسْطُ ما بَقِيَ منَ الأرش، إذا وُزِّع على جميع الموضِّحة فلو كان المستوفَى في إيضاح جميع رأسِهِ قَدْر الثلثينُ، أُخِذَ ثلثُ الأرش، وشبه ذلك بما إذا قطع ناقصُ الأصابعِ يدًا كاملةَ الأصابع، فإنه تقطع يده الناقصةَ، وتؤخذ أرْشُ الأصبع الناقصة، وعند أبي حنيفة: لا يَأْخُذ شيئاً من الأرْش مع القصاص، ويتخيَّر في الابتداء بين أن يقنع بإيضَاحِ رأْسِه، وبين أن يَدَع القصاص، ويأخذ أرشَ الموضِّحة. وإن كان رأسُ الشاجِّ أكَبَر، لم يُوضَحْ جميع رأسه، بل يُقدَّر ما أوْضَح بالمساحة، والظاهر الذي أورده أكثرهم أن الاختيار في موْضِعِهِ إليه؛ لأن جميع رأسِه محَلُّ الجناية، ووراءه وجهان: أحدهما: أنه يبتدئُ من حيْث ابتدأ الجاني، وَيذْهَب في الصوب الذي ذَهَب إليه إلى أن يتم القدْر، ويقال: إن هذا اختيار القاضِي حُسَيْنَ -رحمه الله-. والثاني: أن الاختيار إلى المجنيِّ عليه، فإن كان في رأْس الشاجِّ موضِّحة، والباقي يُقدِّر ما نريد القصاص فيه تعيَّن وصار كأنه كلُّ الرأس، ولو أراد أن يستوفِي في بعْض حقِّه من مُقدِّم الرأس، والبعْضَ من مؤخره، فقد حكى صاحب "التهذيب" في تمكينه منه وجهَيْن: أحدهما: يُمَكَّن؛ لأن الموضعَيْن محلُّ الجناية مِنْ رأسه. وأظهرهما: المنع؛ لأنه مقابلةُ موضِّحتين بموضِّحة، ومَنِ استحق القصاصَ في موضحة وَتمكَّنَ من استيفائها، فأراد أن يستوفي البعْضَ ويأخُذَ للباقي قَسْطَه من الأرش، هل له ذلك؟ فيه وجهان في "النهاية":
أحدهما: نعم؛ لأن الذي أفرده بالقصاص قائلٌ للقصاص، فأشبه ما إذا قطَع أصبعَيْنِ، فإن للمجني عليه أن يَقْتصَّ في إحداهما، ويأخذ أرش الأخْرَى. وأصحُّهما: وهو الجواب في "التهذيب": المنع؛ لأنه متمكِّن من استيفاء الكلِّ، والبعض الذي يستوفيه يقابل الأرش التامَّ فليس له أن يأخذ شيئاً آخر، بخلاف ما لو أوضَحَ في موضعين له القِصَاص في أحدهما، وأخذ الأرش من الآخر؛ لأنهما جنايتان منفصلتانِ. ولو أن الجانِيَ لم يُوضِعْ جميع الرأس، ولكن أوضح طرفاً منْه، كالقَذَال والناصية، فيُوضَح في ذلك المَوْضِع، فإن أوضح ناصيةً فأوضحنا ناصية فلم يبلغ مساحة الموضِّحة التي جنى بها؛ لصغر ناصيته فيكمَّل من باقي الرأْس؛ لأن الرأس كلَّه عضْوٌ واحدٌ، فلا فرق بين مقدَّمة ومؤخَّرة، وعن صاحب "الإفصاح" واختاره القاضي الحُسَيْن: أنه لا يجوز مجاوزةُ ذلك الموضِع، كما لا يجوز النُّزول إلى الوجّه والقفا؛ لتكميل موضِّحة الرأس، والمشهور الأوَّل، وهو المحكيُّ عن نصه في "الأم" ولو أوضَحَ جبهته، وجَبْهَةُ الجانِي أضيقُ، فلا يرتقي إلى الرأْس، وليجيء في مجاوزة موضِعٍ من الوجْه إلى موضِعٍ يلاصقه الخلافُ. وإذا أوجبنا القصاصَ في الموضِّحة على سائر البَدَن فلو أوْضَح ساعِدَه، وساعدُ الجانِي أصغَرُ، لا يسع لموضحه الجناية، لم يجْرِ النزولُ إلى الكفِّ، ولا الصعود إلى العَضُد كما في الوجْه والرأس، ثم في الفصْل مسألتان: إحداهما: لو زاد المقتص على القدر المستحَقِّ، نُظِر؛ إن زاد باضطراب الجانِي، فلا غُرْم، وإن زاد عمْدًا اقتص منه في الزيادة، ولكن بعد إندمال الموضِّحة التي جَنَى علينا الجانِي بها، وإن آل الأمر إلى المال أو أخطأ باضطراب يَدِهِ، وجب الضمان وفي قَدْره وجهان: أحدهما: وينسب إلى القفَّال: أنه يوزَّع الأرشُ عليهما، فيجبُ قسْط الزيادة؛ لأن الجراحة والجارحَ متحدانِ، وهذا كما ذكَرْنا أنه يجب القسْط فيما إذا كان رأْسُ الشاجِّ أصغَرَ. وأصحُّهما: أنه يجب أرشُ كاملٌ؛ لأن حكْمَ الزيادة يخالفُ حكْم الأصل، فالأصل عمْدٌ مستحق والزيادةُ خطأ وغير مُسْتَحَقِّه وتغايَرَ الحكْم لتعدّد الجاني على ما سيأتي، ولو قال المقتص: أخطاتُ بالزيادة، وقال المقتص منه بل تعمَّدتَّ، فالمصدَّق المقتص بيمينه، ولو قال: تَوَلَّدَتِ الزيادةُ باضطرابه فأنكر، ففي المصدَّق منهما وجهان؛ لأن الأصل براءة الذَّمة، والأصل عدم الاضْطراب (¬1). ¬
الثانية: إذا اشترك جماعةٌ في موَضِّحَة؛ بأن تحاملوا على الآلة وأجْرَوْها معاً، ففيه احتمالان للإمام: أحدهما: أنه يوزَّع عليهم القصاص، ويُوضَحُ كلُّ منهم قدْرَ حصته؛ لأن الموضِّحة قابلةٌ للتجزئة، والقصاص جازٍ في أجزائها فصار كما لو أتلفوا مالاً، يوزَّع عليهم الغرم، وعلى هذا، فتعيين الموضح إلى اختيار المقتصِّ أو المقتص منه وجهان: والثاني: أنه يُوضَح من كل واحدٍ منهم مثْلُ تلْكَ الموضِّحة؛ لأنه لا جزء إلاَّ وكُلُّ واحدٍ منْهم جانٍ عليه، فأشبه ما إذا اشتركوا في قَطْع يدٍ، وهذا ما أجاب به صاحب (¬1) "التهذيب" ويجري الاحتمالان فيما إذا آل الأمرُ إلى المال؛ أنه يجبُ الأرْشُ مَوَزَّعاً عليهم أو يجِبُ على كلِّ واحدٍ منهم أرْش كاملٌ، قال الإِمام: والثاَني أقربُ، والأول هو المذكور في "التهذيب" وقوله في الكتاب: "لا في عِوَضِها" مُعْلَم بالواو وقوله "بل ضممنا إليه الأرش" بالحاء. وقوله: " كمَّلْنا بما حَوَالَيْه" بالواو، لما بيَّنا، وليس المراد من قوله: "ضممنا إليه الأرشَ" الكاملَ بل قسْطاً من الأرش على ما قدَّمنا، وقد يُفْهَم ظاهر اللفظ خلافُه. وقوله: "لشمول اسم الرأس" يعني أن اسم الرأْس يقع على الناصية وغيرها، فالكل عضوٌ واحدٌ، وفي بعض النسخ "لشمولِ اسْم الموضِّحةَ في الرأس" وقد يوجد في النسخ اسم الموضحة ولا وجه له. واعلم أن ما ذكرنا أنه يُخْلَقُ شعْر رأْس الشاجِّ، إذا أُريدَ الاقتصاصُ مفروضٌ فيما إذا كان على رأْس كلِّ واحدٍ منهما شَعَر، أمَّا إذا لم يَكُنْ على رأس الشاجِّ شَعْر فلا حلْقَ، وإن لم يكنْ على رأْسِ المشْجُوج شعْر، فلا يُمْكُنُ القصاص؛ لما فيه من إتْلاف الشعْر الذي لم يتلفه، وحكي ذلك عن نصه -رضي الله عنه- في "الأمِّ" ولا يؤثِّر التفاوُت في خِفَّة الشعْر وكثافته. وأنه إذا شكَّ في أنه هل أوضَح بالشَّجَّة أم لا، لم يقتصَّ بالشك، ويتفحص عن الحال بالمسمار حتى يعرف، فيَشْهَدَ به شاهدان أو يعترف به الجاني، فإنَّ حكم الإيضاح يتعلَّق بالإنهاء إلى العظْم حتى لو غرز إبرةً حتى انتهتْ إلى العَظْم، كان ما أتى به موضِّحةً، وإن كان لا يظهر العَظْمُ للنَّاظِرِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: التَّفَاوْتُ الثَّانِي فِي الصِّفَاتِ وَلاَ تُقْطَعُ اليَدُ الصَّحِيحَة بِالشَّلاَّءِ، وَتُقْطَعُ ¬
(و) الشَّلاَّءُ بِالصَّحِيحَةِ إنْ قَنِعَ بِهَا وَلاَ يُضَمُّ إِلَيْهَا أَرْشٌ، وَكَذَا ذَكَرُ الأَشَلِّ، وَشَلَلُ الذَّكَرِ أَلاَّ يَتَقَلَّصَ في بَرْدٍ وَلاَ يَسْتَرْسِلَ فِي حَرٍّ، وَيقْطَعُ ذَكَرُ (ح م) الصَّحِيحِ بِذَكَرِ العِنِّينِ وَالخَصِيِّ وَالصَّبِيِّ إذْ لاَ خَلَلَ فِي نَفْسِ الْعُضْوِ، كمَا تُقْطَعُ أُذُنُ السَّميعِ بِالأَصَمِّ، وَأَنْفُ السَّلِيمِ بِالأَخْشَم وَأَنْفُ الصَّحيحِ بِالمَجْذُومِ إِلاَّ إِذَا أَخَذَ الْجُذَامُ فِي الَّتَفَتُّتِ، وَحَدَقَةُ العَمْيَاءِ وَلِسَانُ الأَبْكَم كَالشَّلاَّءِ، وَتُقْطَعُ الأُذُنُ الصَّحِيحَةُ بِالمَثْقُوبَةِ مِنْ أُذُنِ النِّسَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ شَيْنٌ، وَلاَ تُستَوْفَى كَامِلَةٌ بِأُذُنِ مَجْذُومَةِ قُطِعَ بَعْضُهَا، وَلَوْ كَانَ أَظْفَارُ المَجْنيِّ مُتَقَرِّعَةَ أَوْ مُحْصَرَةً أَوْ مَقْلُوعَةً قُطِعَ بِهَا الصَّحِيحَة نَظَراً إِلَى كَمَالِ أَرْشِ الأُنْمَلَةِ مِنْ غَيْرِ ظُفُرٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا يَخْفَى أن مُطلَق تفاوُتِ الطَّرَفَيْنِ في الصفات لا يؤثِّر، بل تقطع اليد البيضاءُ بالسوداءِ أو السليمةُ بالبرصاءِ، ويد الصانع بيد الأخرق، وإن أطلق الترجمة إطلاقًا، فالمراد الصفات التي يؤثر التفاوت فيها أو يتخيَّل تأثيره، وفيه صور: إحداها: اليَدُ والرِّجْل الصحيحتان لا تُقْطَعان بالشلاوَيْنِ، وإن رضي به (¬1) الجاني، وإنما الواجبُ في الطَّرَفِ الأشلِّ الحكومةُ، وهذا كما أنَّه لا يقْتَلُ الحرُّبالعبد، والمسلمُ بالذمِّيِّ وإن رضيَ الحرُّ والمسلمُ، ولو خالف المجنيُّ عليه، وقطع اليد الصحيحة، لم يقعْ قصاصاً، بل عليه نصْفُ الدية، فلو سَرى، فعليه قصاص النفس، فإن قَطَع برضا الجانِي، فلا قصاص عنْد السراية؛ لأنه قطعٌ بالإذْن، ثم يُنْظر، إن كان الجاني قال: اقطع يَدِي، وأطْلَق، جعل المجنيُّ عليه مستوفيًا لحَقِّه ولم يلزمه شيءٌ وإن قال: اقطعها؛ عِوَضاً عن يدك أو قصاصاً، ففيه وجهان: أحدهما: إن على المجنيِّ عليه نصفُ الدية، وعلى الجانِي الحكومةُ؛ لأنَّه لم يبذل يده مجاناً، وهذا ما أجاب به في "التهذيب". والثاني: أنه لا شيْءَ على المجنيِّ علَيْه وكأن الجاني أدى الجيد عن الرديء، وأخذه المستحِقُّ، وقد يتوقف في كونه مستوفياً لِحَقِّهِ عند الإطلاق فلا يبعد تنزيل الإذن المطلق على الإذن عن جهة القصاص. وأما اليدُ الشلاَّء والرِّجلْ الشلاء، فهل يُقْطَعان بالصحيحتين، في شرح "المختصر" ¬
للجويني: نقلُ وجهٍ عن أبي إسحاق أن الشَّلاء لا تُقْطع بالصحيحة مطلقاً؛ لأن الشرْع لم يَرِدْ بالقصاص فيها، والمشْهُور أنه يراجع أهل البصر، فإن قالوا: إنَّها لو قُطِعت، لم ينسد فمُ العروق بالحَسْم، ولم يَنْقَطِع الدمُ، فلا يُقْطَع بها؛ لِمَا فيه من استيفاء النفْس بالطَّرَف، وللمجنىِّ عليه الديةُ وإن قالوا: ينقطع، فله قطْعها، ويقع قصاصاً، كقتل الذمىِّ بالمسلم، والعبْدِ بالحر، وليس له أن يَطْلُبَ بسبب الشَّلَل أرْشاً، وَوُجِّهَ ذلك بأن الصحيحة والشَّلَاء متساويتان في الحرمة، والاختلاف بينهما في الصفة والصفة المجرَّدة لا تقابل بالمال، ولذلك إذا قُتِل الذميُّ بالمسلمِ، والعبدُ بالحرِّ، لم يجب لفضيلة الإِسلام والحرية شيْءٌ، وشبه أيضاً بما إذا تعيب العبد في يد البائع، فإن للمشتري إما أن يردَّه ويستردَّ الثمن، أو يرضى به بجميع الثمن، وليس له أن يُمْسِكَ، ويستردَّ بعض الثمن. وهل تُقْطع الشلاءُ بالشَّلاء في "المهذب" وجّةٌ عن أبي إسحاق أنَّها لا تُقْطع بها لأن الشَّلَلَ علةٌ والعِلَل تختلِفُ مقاديرُها وتأثيرُها في البدن، فلا تتحقَّق المماثلة ويحكى مثْلُه عن أبي حنيفة، والمشْهور أنَّهما إن استويا في الشَّلَل، أو كان الشَّلَل في يدِ المقطوع أكثرَ، فتقطع بها، والشرط أن لا يخاف نزْفُ الدم، على ما ذكَرْنا وإنْ كان الشَّلل في يد المقطوع أكثرَ، فلا يُقْطَع بها، قال الإِمام: لأن تفاوتهما في الشلل يوجب التفاوُتَ في البدل، فلا تتحقق المقابلة، ويحكى مثله عن أبي حنيفة، والمشْهُور أنه إذا اختلفت نسبةُ الطرفَين إلى الجُمْلَتَيْنِ، لم يجب القصاص، وما المراد من الشلل في اليد والرجل؟ عن الشيخ أبي محمد: أن الشلَل زوالُ الحسِّ والحركةِ، ولذلك تُسمَّى اليدُ الشلاءُ ميِّتةً، وقال الإِمام: لا يُشْترط زوال الحسِّ بالكلية، وليست الشلاءُ ميتةً؛ ألا ترى أنَّها لا تنتن، وإنما الشلَلُ بطلانُ العمَلِ حتى تصير اليدُ بحيث لو أعمَلَها صاحبُها كان كإعمال ألةٌ من الآلات. ولا أثر للتفاوت في البطش بل تُقْطَع يد الأيْد بيد الشيخ الذي ضَعُفَ بطشُه، لكن لو كان النقصانُ بجناية؛ بأن ضرب إنسان على يده، فنقص بطشه، وألزمناه الحكومة، ثم قَطَع تلْكَ اليَدَ رَجُلٌ كاملُ البطش، فقد حكى الإِمام أنه لا يُقْطَع يده بها؛ وأنه لا تجب عليه ديةٌ كاملةٌ على الأصح، وهذا كما مرَّ أن من صار إلى حالة المحتضرين وحَزَّ حازٌّ رقبته، يلزمه القصاص، بخلاف ما لو انتهَى إلى تلْك الحالةِ بجنايةِ جان [فلا قصاص على حازه]. وتقطع يد السليمِ ورِجْلُه بيد الأعسم، ورِجْل الأعرج؛ لأنه لا خَلَل في اليد والرِّجل، والعسم تشنج في المرْفق، أو قِصَر في الساعد أو العَضُد، وقيس به العَرَجَ. ولا اعتبار باخضرار الأظفار، واسودادها، وزوال نضاَرَيها، فإن هذه الأحوال علَّةٌ ومرضٌ في الظفر، والطرف السليمُ يستوفى بالعليل، وأما التي لا أظفارَ لها، فالَّذي ذكره أصحابنا العراقيُّون وغيرهم: أنه لا تُقْطع بها السليمةُ الأظفار وأنَّها تُقْطَع بالسليمةِ،
وكذلك حكاه الإِمام عنهم منسوبًا إلى النص، وهو موافق للنصِّ الذي حكيناه فيما إذا اختص رأْس الشاج بالشعر على موضع الموضحة، لكن الشيخ أبي حامد وغيره: أنه يكمل فيها الدية، فقال الإِمام، على سبيل الاحتمال: القياس جريانُ القصاصِ، وإن عدمت الأظفار؛ لأنها زوائدُ ولو لم يَجُزْ القصاصُ، لَمَا تمتْ دية اليد، ولا الأصبع الساقطة الظُّفُر، وجرى صاحب الكتاب على ما أبْدَاه الإِمام احتمالاً وترك المنقول الظاهر، ووَفَّى صاحب "التهذيب" بقياس المنقول عن القصاص، فقال: ينقص عن الدية شيْءٌ وكما لا تُقْطَع اليد الصحيحة بالشلاء، لا تقْطَع بالتي فيها أصبع شلاء، ولا يجير الشَّلَلُ في أصبع بالصحة في أخرى، فلا يجري القصاص في الكُوع بين اليد التي مَسَبِّحَتُها شلاء، والتي وسطاها شلاء، فإن استويا في الشلل، فهما كالشلاوين. فرْعٌ: سليم اليد إذا قَطَعَ يداً شلاء، ثم شَلَّتْ يَدُهُ، ذكر الإِمام أن شيْخَه قال: خرَّج القفَّال قولَيْن في الاقتصاص منه، ثم رجَعَ، وقطع بالمنع وهو الذي رآه الإمامُ مَذْهَباً والجواب في "التهذيب": أنه يقتص منه، وكذا لو قطع يدا ناقصةٌ بأصبع، ثم سقَطَتْ تلك الأصبع من القاطع، بخلاف ما لو قَطَع ذميٌّ حرٌّ يدَ عَبْدٍ، ثم نقض العهد فسبى، واسترق، لا تقطع، ولو قتله، لا يقتل، وفرق بأن القصاصَ هناك امتنع لَعَدَمِ الكفاءة، والكفاءة تراعي حال الجناية؛ ألاَ تَرَى أنه لوْ قتل ذميٌّ ذميّاً أو عبدٌ عبداً، ثم أسلم القاتل، أو عتق، يقتص منه، والامتناع هاهنا لزيادةٍ محسوسةٍ في يد القاطع والاعتبار فيها بحالة الاستيفاء، فإذا زالَتْ، قطع ولذلك لو قَطَع الأشلُّ يدًا شلاَّء، ثم صحَّت يد القاطع، لا يقتص منه؛ لوجود الزيادة عند الاستيفاء، قال: وكذلك اليدُ بأظفارها لا تُقْطع بالتي لا أظفار لها، فلو سقَطَتْ الأظفار القاطع، قُطِعَتْ بها، واليد التي لا أظْفار لها تُقْطَع بمثلها، فلو نبتَتْ أظفارُ القاطِعِ لم تقطع لحدُوث الزيادة. الثانية: يجب في قطع الذَّكَر، وفي قطع الأنثيين أو في شَلِّهما القصاصُ، ولو دق خصيتيه، ففي "التهذيب" أنه يقتص بمثله، إن أمكن، وإلا وجَبَتِ الديةُ ويشبه أن يكون الرِّقُّ ككسر العظام، ولو قطع أو أشل إحْدَى الأنثيين (¬1)، وقال أهل البصر: يمكن القصاص من غير إتلاف الأخْرَى اقتص، وذكر القاضي الرويانيُّ: أن الماسرجسيَّ قال: إنه ممكن، وأنه وقع في عهْدِه لرجُلٍ من أهل فراوه وفي قطْع الذكر والأنثيين جميعاً القصاصُ سواء قطْع العضوَيْنِ معاً أو على الترتيب. وعند أبي حنيفة إِنْ قطعهما معاً أو الذَّكَرَ أولاً، ففيهما القصاص، وإن قطع ¬
الأنثيين أوَّلاً، فلا قصاص في الذَّكَر بناءً عَلَى أن عنْده لا تُقْطع ذكَرُ الفحْل بذَكَر الخصيِّ. والقول في قطْع ذكَرِ الصحيح بالأشلِّ وبالعكس، والأشل بالأشل على ما ذكَرْنا في اليدِ والرِّجل، وشلَلُ الذكَر بأن يكون منقبضاً لا ينبسط، أو منبسطاً لا ينقبضُ، هذه العبارة هي المتدَاوَلَة في أكثر، ويقالل: الذكَرُ الأشلُّ الذي لا يتقلَّص في البردْ، ولا يسترسلُ في الحَرِّ، وهما راجعانِ إلى المَعْنَى الأول، أي لا يتَأَثر بالبَرْد والحرِّ تقلُّصاً واسترسالاً، بل [يبقى] (¬1) على هيئة واحدةٍ ولا اعتبار بالانتشار وعدمه، ولا بالتفاوت [في] القوة والضعف، بل يقطع ذكَر الفحْل الشابِّ بذكر الخصيِّ والعِنِّين والشيخ؛ لأنه لا خلَل في نفْس العضْو، وتعذر الانتشار لضَعْف في القلْب أو الدِّمَاغ. وعند أبي حنيفة ومالك وأحمد: لا يُقْطَع ذكر الفحل بذَكَر الخصيِّ والعنين، ولا فرق بين الأقْلَفِ والمَخْتُون، والجلْدة الزائدةُ حقُّها أن تكون زائدة زائلَةً. الثالثة: تقطع أذن السميع بأذن الأصمِّ، وبالعكس؛ لأن السمع لا يحل حرم الأذن، وإنما هو سبيل السمع وآلته، وفي "جمع الجوامع" للرويانىِّ: أن مالكاً ذهب إلى أنه لا تقطع أذن السميع بأذن الأصم، وفي قطْع الأذنِ الصحيحةِ بالمستَحْشَفَة قولان: أحدهما: لا تقطع، كما لا تقطع اليدُ الصحيحةُ بالشلاء. والثاني: تُقْطَع، البقاء الجمال فيها وبقاء المنفعمة من جمع الصوت، وردِّ الهوامِّ، بخلاف إليه الشلاء (¬2)، قال في "العدة": وهذا أصحُّ، والقول في الاستحسان يعود في الديات، ولا فرق بين المثقوبة وغيرها، إذا كان الثُّقْب للزينة، ولم يورث شيئاً ونقصاناً، فإن أورث نقصاناً، فلتكن المنقولةُ كالمخرومة، فلا تُقْطع الصحيحةُ بالمخرومة، وهي التي قطع بعضها، ولكن يُقْطَع منها بقَدْر ما كان قد بَقِيَ من المخرومة وهذا إذا قلْنا: يجب القصاصُ في بعْضِ الأذنِ، على ما سبق، وإن شُقَّت مِنْ غَيْر أن يبان منها شيْءٌ، فقد نقل الإِمام عن العراقيِّين؛ أنه لا تُقْطَع الصحيحةُ بها أيضاً، لفوات الجمال فيها، ¬
قال: ولست أرى الأمْرَ كذلك؛ لبقاء الجرم بصفة (¬1) الصحة، وتقطع المخرومة بالصحيحة، ويؤخذ من الدِّية بقدر ما كان قد ذهب من المخرومة. الرابعة: تُقْطَع أنف الصحيح بانف الأخشم؛ لأن الشم ليس في جرم الأنْفِ وهل يقطع أنفُ السليم بأنف المجذوم قال في "التهذيب": إن كان في حال الاحمرار قُطِع به، وإن اسودَّ، فلا قصاص لأنه دخل في حد البلى وإنما الواجب فيه الحكومة، ولم يفرق وقالوا: عامة الأصحاب بين الاحمرار والاسوداد وقالوا: يجب القصاص مَا لَمْ يسقطْ منه شيْءٌ، ولا يجعل استحكام العلَّة واليأس من زوالها منزلةَ الشَّلَلِ في اليدِ؛ لأن منفعة اليدِ تبطل بالشَّلَل، وأصل الجمال والمنفعة في الأنف باقٍ ما بقيَ جرمه، أما إذا سقط منْه شيْءٌ، فلا يقطع به الصحيح، ولكن يقطع منه بقَدْر ما كان قد بَقِيَ من المجنيِّ عليه إن أمكن، وإن كان بأنف القاطِع نقصانٌ مثْل نقصان أنف المجذوم جَرَى القصاص. قال الإِمام: وظن بعض الأصحاب أن الشافعيَّ -رضي الله عنه- أسقَطَ القصاصَ فيه، إذا سقط منه شيءٌ بالجذام، وإن كان نقصان أنْفِ القاطعِ مثْلَ نقصانه وهو غلَطٌ. الخامسة: لا تؤخذ العيْنُ الصحيحةُ بالحدقة العمياء، والصورة القائمة من الحدقة كاليد الشلاء وتؤخذ القائمة بالصحيحة، إذا رضي المجنىٌّ عليه به، ويقطع جفْن البصير بجفن الأعمى؛ لتساوى العضْوَيْن في الجرم والصحة، وفقد البصر ليس في الجَفْن. السادسة: لسان الناطِقِ لا يُقْطَع بلسان الأخرس؛ لأن النطق في جرم اللسان، واللسان العاطلُ كاليد الشلاء، والحدقة القائمة كأذن الأصم، وأنف الأخشم، ويقطع لسان الأخرس بلسان الناطق، إذا رضي به المجنيُّ عليه ويقطع لسان المتكلِّم بلسان الرضيع، إن ظهر فيه أثر النُّطْق بالتحريك عند البكاء وغيره، وإلا لم يُقْطَع. وعند أبي حنيفة: أنه لا يُقْطَع به حالٍ، وإن بَلَغ، أو آن المتكلم ولم يتكلَّم، لم يقطع به لسان المتكلم، وقد وقع في ترتيب صور الكتاب بعض التقديم والتأخير للحاجَةِ، وليعلم قولُه: "وتُقطع الشَّلاءُ بالصحيحة" للوجه المُعْزَى إلى أبي إسْحَاق. وقوله: "ولا يضم إليها أرشٌ" مغنٍ عن قوله: "إن قنع بها"، والشرط أن لا يخاف نزْف الدم، كما بيَّنَّا، ولم يتعرض له. وقوله: "ويقطع ذكر الصحيح" مُعْلَم بالحاء والميم والألف. وقوله: "كما تقطع أذُنُ السميع" بالميم. وقوله: "إلا إذا أخذ الجذام في التَّفتُّت" أي فلا يقطع به الصحيح كلُّه، وإنما ¬
يقطع قِسْطُ الصحيح بما بقي من المجذوم عند الإمكان، وقوله: "وحدقة العمياء" الأقوم بهذه اللفظة "والحدقة العمياء" لا حدقة العمياء وكلٌّ يوجد في النسخ. وقوله: "كالشلاء" يعني اليد الشلاء. قوله: "من أُذُنِ النساء" لا اختصاص لمسألة الأُذُن المثقوبة بالنساء، لكنه فيهن أغلَبُ، فلذلك ذكر "أن النساء". وقوله: "إذا لم يكن شيْنٌ" أي لم يحْدُث به شين ولفظ "الوسيط" وإذا لم يُرِث الثُّقْب شيئاً، كأذن النساء. وقوله: "قُطِعَ بعضُها" كالتفسير للمجذومة. وقوله: "ولو كانت أظفار المجني عليه متَقَرَّعَة" قد تقرأ الزاي، يقال: تَقَزَّع القوم أي تفرَّقوا، وهي التي لم تبْقَ ملاستها واستواؤها، وصارت كالقِطَع المتفرِّقة، وقد تُقْرأ بالراء ويجعل "مُتَفَعِّلاً" من القَرْع، وهو الإصابة، كأنه أصَابها شيْءٌ بعْد شيءٍ في الأعمال الشاقَّة، حتى تقرَّعت وتفرجت، والجواب المذكور في المقلوعة خلافُ ظاهرِ المذْهَبِ، كما عرفْتَ، ويجوز أن يُعْلَم لفظ "الكمال" من قوله: "إلى كمال أرش الأنملة من غير ظفر" بالواو. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ قُطِعَ أُذُنُهُ ثُمَّ الْتَصَقَ فِي حَرَارَةِ الدَّمِ لَمْ يَسْقُطِ القِصَاصُ، وَوَجَبَ قَطْعُهُ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ نَجِسٌ، وَلاَ يُقْلَعُ سِنُّ البَالِغِ بِسِنِّ الصَّبِيَّ الَّذِي لَمْ يُثْغِرْ، وَكَذَا إِذَا فَسَدَ مَنْبِتُ الصَّبِيِّ لَكِنْ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ، لِأَنَّ سِنَّ الصَّبِيِّ فَضْلَةٌ فِي الأَصْلِ وَسِنُّ البَالِغِ أَصْلِيُّ، وَإنْ أَعَادَ سِنُّ البَالِغِ فَفِي سُقُوطِ القِصَاصِ قَوْلاَنِ، وَلَوْ عَادَتِ المُوَضِحَةُ مُلْتَئمَةً لَمْ يَسْقُطِ القَصَاصُ، وَلَوْ قَطَعَ فلْقَةً مِنْ طُولِ لِسَانِهِ فَعَادَ فَهُوَ مُتَردِّدٌ بَيْنَ المُوَضِّحَةِ وَالسِّنِّ، فَإن حَكَمْنَا بِسُقُوطِ القِصَاصِ وَكَانَ قَدِ استَوْفَاهُ لَزِمَهُ الدِّيَةُ، وَإنْ كَانَ العَائِدُ سِنَّ الجانِي فَهَلْ يَقْلَعُهُ عَلَى هَذَا القَوْلِ ثَانِياً وَثَالِثَاً إلى إفْسَادِ المَنْبَتِ فِيْهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مَسْألتان: احداهما: إذا قطع أذُن إنسانٍ، فألصقها المجنيُّ عليه في حرارة الدَّمِ، فالتصقت، لم يسقط القصاصُ، ولا الدية عن الجانِي؛ لأن الحُكْم يتعلَّق بالإبانة، وقد وجدتُّ ثَمَّ ذكْرَ الشافعيِّ -رضي الله عنه- والأصحاب: أنه لا بدَّ من قطع المُلْصَق؛ لتصح صلاته، وسببه نجاسة الأذن المبانة في نفسها، إَن قلْنا: إنَّ ما يبان من الآدميِّ نجسٌ، وان لم نقل به، فالسبَبُ أن الدمَ قد ظهر في محلِّ القطع، وثبت له حكْم النَّجاسة، فلا يزول بالاستبطان، ويجيء فيه ما مرَّ في "كتاب الصلاة" في وصْل العَظم النَّجِس بالعَظْم، والتفصيل بين أن ينبت اللحم على موضِعْ النجاسة أَوْ لا ينبت، وبين أن يخاف المُتْلف من القَطْع أو لا يخَاف، ولو قطَعها قاطعٌ، فلا قصاص عليه، إذا كانتْ مستحقة الإزالةِ، وان لم نوجب إزالتها لخوف التلف مثلاً، فسرى قطْع القاطع إلى النفْس، فقد حكى
الإِمام عن المحقِّقين أن علَيْه قِصاصَ النفْسِ، ولم يستبعد خلافه؛ لأن اختلاف العلماءِ في وجُوب القصاص يجوز أن يصير شبهة دارئة للقصاص، ثم هي، وان كانت مستحقَّة القطع، فليس للجاني أن يَقُول: أبينوا أذنه ثم أبينوا أُذُنِي، فإن مِنْ قِبَلِ الأمر بالمعروف، لا اختصاص له به، والنظر. في مثله إلى الأمام، ولو اقتص المجنيُّ عليه، فألصق الجاني أذُنَه، فالقصاص حاصلٌ بالأبانة، وقَطْع ما أُلْصِقَ بعد الإبانة، لا يختص به المجنيُّ عليه، ولو قطع بعْض إذنه، ولم يُبِنْ، ففي القصاص في ذلك القَدْر خلافٌ سبق، وذلك إذا بقي غيْر ملتصق، أما لو ألصقه المجنيُّ عليه، فالتصق، سقَطَ القصاصُ والديةُ عن الجاني، ورجع الأمر إلى الحكومة كالإفضاء، إذا اندمل، تسقُطُ الدية، ولذلك نقول: لو جاء آخر، وقَطَع الأذن بَعْد الالتصاق، يلزمه القصاصُ أو الديةُ الكاملةُ، هذا أصحُّ الوجهين والمحكيُّ عن النص. والثاني: عن صاحب "التقريب" أنه لا يسقط القصاص في القَدْر المقطوع، كما لا يَسْقُط قصاص الموضِّحة بالاندمال، ولو وان كان قد أوضَحَ آخَرُ، يلزمه القصاص، ولا يجب قَطْع الملصق قبل تمام الإبانة، هكذا أطلقوه، وهو ظاهِرٌ إن بنينا وجوبَ القطْع على نجاسة المبان بالإبانة، وغير ظاهر، إن بنيناه على ظهور المَوْضِع والدم النجس علَيْه ولو استأصل أذنه، وبقيت متعلِّقة بجلْدة، فلا خلاف في وجوب القَصاص؛ لإمكان رعاية المماثلة، وقد ذكْرنا نحواً مته، لكن لو ألصقَهَا المجنيُّ عليه، فالتصقت، لم يجب قطْعُها، وفي سقوط القصاص عن الجانِي هذا الخلاف، ولو أبان أذنه، فقطع المجنيُّ عليه بعْضَ أذنِه مقتصّاً، فألصقه الجاني، فللمجنيِّ عليه أن يعودَ، فيقْطع؛ لاستحقاقه الإبانَة. وربط السنِّ المقلوعة في مكانِها وثبوتها كإلصاقِ الأذُن المقطوعة والتصاقها. المسألة الثانية: في السنِّ القصاصُ، وإنما يجب عند القلْع، فأما إذا كسر سن غيره، فلا قصاص؛ بناءً على الأصْل الذي تقدَّم: أنه لا قصاصَ في كسْر العظام؛ لأنه لا يمكن حفْظ المماثلة فيه؛ ذكره صاحب "التهذيب" وغيره، وحكى القاضِي ابن كج عن نصه -رضي الله عنه- في "الأم": أنه إذا كَسَر بعض سنه، يراجع أهل الخبرة، فإن قالوا: يمكن استيفاء مثله بلا زيادة، ولا صدع في الباقي، اقتص منه، وهذا ما أورده الشيخ أبو إسحاق في "المهذب" (¬1) وقد يوجه ذلك بأن السِّنَّ عَظْم مشاهدٌ من أكثر ¬
الجوانب، ولأهل الصنعة آلات قطَّاعة يُعْتَمَدَ عليها في الضَّبْط، فلم تكن كسائر العظام، ولا تُؤْخَذ السنُّ الصحيحةُ بالمكسورةِ، وتُؤْخذ المكسورةُ بالصحيحة" مع قِسْط الذاهب من الأرْش، وتُؤْخَذ الزائدةُ بالزائدةِ بالشرط الذي سبَق، ولو قَلَع سنَّ رجُلٍ، وليس للجاني تلك السنُّ، فلا قصاص، وتُؤْخَذ الديةُ، فلو نبتت بعد ذلك، فلا قصاص أيضاً؛ لأنها لم تكنْ موجودةً يوم الجناية، ونظيرُهُ مَن أوضَحَ، واقتص، واندملت جراحته، ولم تنْدَمِلْ جراحَةُ الشاجِّ، وأوضح في ذلك الموضع ثانياً، ثم اندملت جراحةُ الشاجِّ، قال الرويانيُّ في "التجربة": والذي يجيْء على المذْهَب؛ أنَّه لا يقتض منه؛ لأن مَحَلَّ القصاصِ لم يكُنْ موجودًا يومئذ، ثم إذا قلع سن غيره، فذلك يفرض على وجوه: أحدها: إذا قلَع مثغورٌ سنَّ صبيٍّ، لم يثغر، فلا يوجد في الحال قصاصٌ ولا دية لأنها تنبت وتعود غالباً، فإن نبتتت، فلا قصاص ولا دية، ولكن عليه الحكومة إن نبتت سوداءَ أو معوجةَ أو خارجة عن سمت الأسنان، أو بقي شَيْنٌ آخَرُ بعد النبات، وإن نبتت أطولَ ممَّا كانَتْ أو نبَتَ مَعها ساغية (¬1)، فكذلك في أشبه الوجهَيْن، وإن نبتت أقصر ممَّا كانتْ، وجَب بِقَدْرِ النقصان من الأرْش، فإن جاء وقتُ نباتها بأن سقطت سائر الأسنان، وعادت، ولم تنبت المقلوعة، أُرِيَ لأهلْ البصير، فإن قالوا: يتوقع نباتها إلى وقت كذا، توقفنا تلْك المدة، فإن مضت، ولم تنبت، أو قالوا: قد فسد المنبت، ولا يتوقع النبات، فقد حكى صاحب الكتاب فيه قولَيْن. أحدهما: لا يجبُ القصاصُ؛ لأن سِنَّ الصبيِّ فضلةٌ في الأصل نازلةٌ منزلةَ الشعْر الذي ينبت مرَّة بعد أخرى، وسن البالغ أصلية. والثاني: يجب؛ لأنه قَلَع السِّنَّ الحاصلة في الحَالِ، وأفْسَد المنبت، فيقابل بمِثْلِه، وهذا الثاني هو الذي أوردَهُ الجُمْهور مقتصرين علَيْه، وليس لهم ذكْر القولَيْن، حتى لَمْ أره في كتاب الإِمام، إلا أنه يُعَدُّ ما نقل إطلاق الأصحاب من القول بوُجُوبِ القصاص. قال: وفي القلب منه شيْءٌ، لأن غير السِّنِّ من المثغور عُضْوُ قصاصٍ، ومن غير المثْغُور ليس عُضْوَ قَصاصٍ، فلا يتَّجه فيهما المقابَلَة، ثم إذا أوجبْنا القصاص، فالاستيفاء إنَّما يكون بعْد البلوغ، فإنْ ماتَ الصبيُّ قبل البلوغ، اقتص وارئه أو أخَذ الأرْشَ، وإنْ مات قبل حصول البأس وتبين الحال، فلا قصاص، وفي الأرْشِ وجهان، وهذه الصورة مذكورةٌ في الكتاب في "الديات". والثاني: إذا قلع مثْغُورٌ سنَّ مثغورٍ، فلا كلام في تعلُّق القصاص به، لَكِنْ لو نبتَت ¬
سنُّ المجنيِّ عليه، ففي سقُوطِ القصاص قولان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة وأحمد: أنه يسقط القصاص؛ لأن ما عاد قائم مُقَامَ الأوَّل، فكأنه لم يَفُتْ، فصار كما لو عَادَ سن غير المثغور. والثاني: لا يسقط، وهو اختيار المزني؛ لأنه لم تجر العادةُ بنبات سنٍّ من المثغور، وما اتفق نعمةً وهبةً جديدةً من الله تعالى، فلا يسقط به حقُّه على الجاني، وكلامُ الأئمَّةِ إلى ترْجيح هذَا القوْل أمْيَلُ، وقد صرَّح به صاحب "العُدَّة" وسواء قلْنا: يسقط أوْ لا يسْقُط فلا ينتظر العود بل للمجنىِّ عليه أن يَقْتصَّ أو يأخذ الدية في الحال؛ لأن انتظار ما هو في غاية الندرة مستبعدٌ، ومنهم مَنْ يقول: إن قلْنا بالسقوط، فيراجع أهْل الخبرة، [فإن] قالوا: قد تَعُود إلى مُدَّة كذا ينتظر تلْك المدة، ويكون الحُكْم كما ذكرنا في غير المثْغُور، ولو التأمت الموضِّحة، والتحمَتْ، لم يسقط القصاص ولا الدية؛ لأن العادة المستمرَّة فيها الالتحامُ والغذاء يستحيل لحماً، فلو جعلْنا الالتحام مغيراً لموجبها قَصاصاً ودية؛ لاخْتصَّتِ المؤاخذةُ بما إذا بقي العظْم بارزًا، وصارت مُعْظم المواضِحِ هَدَراً، وكذلك الحُكْم في الجائفة. وعن صاحب "التقريب" وجْه أنَّها إذا التحمتْ، زالَ حُكْمها، ورأى الإِمام تخصيصَ هذا الوجه على ضعْفه بما إذا نفذَتِ الحديدة في الجَوْف، وحصل الخَرْق من غَير زوالِ لَحْم من البدن دون ما إذا زال شيْءٌ، ونبت لحْمٌ جديدٌ، ورأى طَرْدَه في مثْلِها في الموضِّحةَ أيضاً، ولو قَطَع لسانَ إنسانٍ، فنبت، ففي سُقُوط القِصَاص طريقان. أحدهما: أنَّه على القولَيْن في عوْد السِّنِّ. وأصحُّهما: القطع بالمنع؛ لأن عوْده بعيدٌ بمرةِ، فإن اتفق، فهُو محضُ نعمةِ من الله جديدةٍ، وجنسُ السنِّ يعتاد فيه العَوْد، فلا يبعد أن يُلْحَقَ نوع منه بنوع. التفريع على القولَيْن في عود السن. إذا اقتصَّ المجنىُّ عليه أو أخذ الأرْشَ، ثم نبت سنَّه، فليس للجاني قلْعُها، وهل يُسترَدُّ الأرْشِ، إن أخذ المجنىُّ عليه الأرش؟ فيه وجهان أو قولان، إن أقمنا العائدَ مُقَامَ الأوَّل، فنعم، وإن جعلْناه هبةً محددةً فلا، وهذه الصورةُ مذكورةٌ في الكتاب في "الديات" كان كان المجنيُّ عليه قد اقتصّ، فهل يطالبه الجانِي بأرْش السنِّ يبنى على هذا الخلاف، وعن رواية صاحب "التقريب" عن أبي الطيِّب بن سلمة: أنه لا يُطالب في صورة الاقتصاص بشَيْء؛ لأن استرداد الأرْش المدْفُوع ممكنٌ بخلاف القصاص المستوفَى، وهو ضعيفٌ، ولو تعدَّى الجاني، فقَلع السنَّ العائدةَ، وقد اقتص منه، فإن أقمْنا العائدَ مُقامَ الأول، فعليه الأرْش بهذا القَلْع؛ لتعذُّر القصاص، وقد وَجَبَ له على
المجنيِّ عليه الأرْشُ بالعود، ففيه الكلام في التقاصِّ، وإن جعلناه هبةٌ مجددةً، فعليه الأرش للقلع في الثاني، وقد استوفى موجِب الأول بالقِصاص، وعلى هذا القَوْلِ؛ لو لم يقتصَّ منه أَوَّلاً أو أخذ الأرش، فللمجني عليه أن يقتص، للقلع الثاني، ولو لم يقتصَّ، ولا أخَذَ الأرش، فعليه قصاصٌ وأرش أو أرشان، وإذا اقتصصنا من الجانِي، فعاد سنُّه دون سنِّ المجنيِّ عليه، فإن أقمْنا العائدَ مُقام الأوَّل، فهل للمجنىِّ عليه القلْع ثانياً؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه قابل قلعاٌ بقلع، فلا تُثَنِّى عليه العقوبة، لكن له الأرش، لخُروجِ القلع الأول عن أن يقع قصاصاٌ، وكأنه تعدَّر القصاص بسبب من الأسباب. والثاني: نعم؛ لأن الجاني أَفْسَدَ منبته فيُكرِّر عليه القلْع إلى أن يفسد منبته، وإن جعلْناه هبة مجددة، فلا شيء للمجنيِّ عليه، وقد استوفَى حقه بما سبق، وهذا هو الأظهر، ولو اقتصَصْنا، وعاد سن الجانِي والمجني عليه معاً، فلا شيء لواحد منْهما على الآخر باتفاق القولَيْن، أما إذا أقمنا العائدَ مُقامَ الأول، فكأنه لا جناية ولا قصاص، وأما إذا جعلْناه هبةً مجددةً، فقد وفَّينا بموجب الجناية بالاقتصاص، ثم إنَّ اللهَ تعالى أنعم عليهم بنعمتَيْنِ جديدَتَيْن. قال الإِمام: ومَنْ بَدِيعِ التفريع إفضاء قولَيْن مختلفَيْنِ إلى مقْصُودٍ واحدٍ. والثالث: إذا قلَع غيرُ مثغور سنَّ مثغورٍ، ذكر القاضي ابن كج؛ أن المجني عليه يأخُذ الأرشَ، إن شاء، ويقتص [إن شاء، وليس له مع القصاص شيْءٌ آخر، كما في أخذ الشَّلاَّء بالصحيحة] (¬1) وهذا، إذا كان غير المثْغُور قدْ بَلَغ، هالا فلا قصاص وفي "أمالي" أبي الفرج: أنَّه يقال له: إن قلعْتَ سنَّه الآن، فالظاهر منها العَوْد، فاصْبِرْ إلى أن يصير مثغوراً، فإن استعجل، أجيب، وشرط عليه أنه لا حَقَّ له [عليه] فيما يعود. والرابع: إذا قلَع غيرُ مثغورٍ سنَّ من غيرِ مثغورٍ، فلا قصاص في الحال؛ لأن الغالب في السن المقلوعة النبات، فإن نَبَتَتْ، فلا قصاص ولا دَية، على ما ذكرنا في قلْع المثغور سنَّ غير المثغور، وإن لم تَنبت، وقد دخل وقته، فللمجنيِّ عليه أن يأخذ الأرْش، ويقتص، فإن اقتص، ولم يعُدْ من الجانِي، فذاك، وإن عادَتْ، فهل يقلع ثانياً؟ فيه وجهان: أظهرهما: على ما ذكر الإِمام: نعم. وقوله في الكتاب: "ولا يقلع سن البالغ بسن الصبي الذي لم يَثْغر" ولا يخفى أن ¬
المراد المَثْغُور وَغير المثغور، وأن التعرُّض للبالغِ والصبيِّ جَرَى على العادة الغالبة في الحالَتَيْنِ، ويقال: ثَغَرَ الصبيُّ إذا سقطت رواضعه فهو مثغور، فإذا نبتَتْ قيل بالتاء على الادغام بعْد قلب الثاء تاء "وأثغْر" إظهارًا للحرف الأصلي وقوله: "ولو قطع فلقة من طول لسانه". المسألة لا تختصُّ بالفلْقة بل الحُكْم في جميع اللسان كذلك، إلا أنَّ عوْدَ جميع اللسان أبعدُ عن التصوُّر، ففَرَضَ في الفلقة، واتَّبَعَ فيه الإِمام. وقوله: "وكان قد استوفاه، لزمه الدية" يجوز إعلامه بالواو. فرُوعٌ: وإن نبتت، قلتَ: أصل المستحبِّ في قصاص الجروح والأطراف التأخيرُ إلى الاندمال واستقرار الجناية، وظاهر المذْهَب أن المستحِقَّ، لو طلب القصاصَ في الحال، يجاب ولا يؤخر إلى الاندمال، والظاهر على ما ذكر صاحب "التَّهذيب" وغيره: أنه لو طالب بالمال، لا يجيبه ويُنْظَر إلى الاندمال، قال: والفرق أن القصاص في تلْك الجراحةِ، وفي ذلك الطَّرَف ثابت للمجنيِّ عليه، وإن سرَتِ الجراحةُ إلى النَّفْس أو شارَكَ غيره في الجُرْح، والمال لا يَتقدَّر، فقد تعود الديتَان فيما إذا قَطَع يديه ورجَلْيه إلى دِيَة واحدةٍ بالسراية، وقد يشاركه واحدٌ أو جمْعٌ، فيقل واجبه، وإذا لم يتيقن قدْر الواجب، لم يؤخذ، وفي كل واحدٍ من القصاص والمال خلافٌ، وفي كيفية الخلاف طرقٌ. أحدها: أن فيهما جميعاً قولَيْن بالنقل والتخريج، ونَصُّه في القصاص أنَّه يعجِّله وفي المال أن لا يُعجِّل. أحدهما: أن يُستوفَى ما يطلُبُه المجنيُّ عليه منهما؛ لوجود الجناية الموجِبَة. والثاني: المنْع إلى أن تستقر الجناية بالاندمال. والثاني: قَطَع بعضُهم في القَصاص بأنهُ يعجَّل قالُوا: والنص في المال أنه لا يُؤخَذُ قبل الاندمال، ونصَّ فيما إذا جنى السيد على مكاتَبه على أنه يعجِّل الأرش، ليصرفه إلى النُّجُوم، فحصل من النصيْنِ قولانِ في تعجيل المال. والثالثُ: قطَع آخرونَ بأنَّه يُعجِّل القصاص، ولا يعجل الماء إلا في مسألة المُكَاتَب، والفرْق أن المكاتَبَ يخاف سقُوط المالِ؛ بأن يموت رقيقاً أو يعْجز، والحرُّ لا يخاف سقوطه، وأيضاً فالكتابة موضوعةٌ على تعجيل العتق ما أمكن، وكذلك لو عجَّل المكاتَبُ النجْمَ قبل المحلِّ، يُجْبر السيد على القَبُول، وفي سائر الديون المؤجَّلة تفصيلٌ وخلافٌ، وإذا قلْنا: يعجل المال قَبْلَ الاندمال، ففي قَدْرِهِ وجهان: أحدهما: وبه قال أبو إسحاق لا يعجِّل إلا ديةَ نفْسٍ؛ لأن احتمالَ السرايةِ قريبٌ ليس بنادرٍ، فبتقدير السراية لا يَجِبُ إلا دية نفْس. والثاني: تجب أروش الجراحات ودياتُ الأطرافِ، كما كانت؛ لأن أسبابها
حاصلة ونقصانها بالسراية غير محقَّق، فإن اتفقتِ السرايةُ استردَدْنا الزيادةَ، وحكى الإِمام وجهَيْن عن الصائرين إلى التعجيل في "مسألة المكاتَبِ" في أنه هل يخص الحُكْم بما إذا كان المالُ المأخوذُ وافياً بالنجوم أو بما بَقِيَ منها أَو يعمَّم قال: ولو كانتِ الجراحةُ جراحةَ حكومةٍ، فلا بد من التوقُّف إلى تبيُّن العاقبة، وعن بعض الأصحاب فيما رواه الشيخ أبو محمَّد: أنه يُؤْخَذ أقلُّ ما يُفْرض حكومةً لتلْك الجراحة، وعند أبي حنيفة [ومالك وأحمد]: لا يستوفى قصاص الطرف قبل الاندمال، بناءً على أصْلِهِمْ؛ أنه إذا صارت الجنايةُ نفْساً، سقَطَ قصاصُ الطَّرَف. قَالَ الْغَزَالِيُّ: التَّفَاوُتُ الثَّالِثُ فِي العَدَدِ فَإنْ كَانَ يَدُ الجَانِي نَاقِصاً بِاُصْبُع قُطِعَتْ (ح) وطُولبَ بِالأرْشِ، وإنْ كانَ النَّاقِصُ يَدَ المَجِنيِّ عَلَيْهِ كَانَ (ح) لَهُ لَقْطُ الأَصَابعِ الأَرْبَعِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى يَدِ الجَانِي أُصْبُعَانِ شَلاَّوَانِ فَلَهُ لَقْطُ الأصَابِعِ الثَّلاَثِ وَلَهُ دِيَةُ الأُصْبَعَيْنِ، وَحُكومَةُ الكَفِّ تَنْدَرجُ تَحْتَ جَمِيعِ الأَصَابعِ قَوْلاً وَاحِداً، وَهَلْ يَنْدَرجُ تَحْتَ قِصَاصِ الأَصَابِعِ، وَهَلْ يَنْدَرجُ بَعْضُهُ تَحْتَ دِيَةِ بَعْضِ الأَصَابع فِيهِ وَجْهَانِ، وَالصَّحِيحُ (و) أَنَّهُ لاَ يَنْدَرجُ تَحْتَ حُكُومَةِ الأصْبُعِ الشَّلاَّءِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تفاوت العضوَيْن في العدَدِ قد يكون بالنقصانِ في طرَف الجانِي، وقد يكون بالنقصانِ في طرف المجنيِّ عليه، وفيهما صور: إحداها: لو كانَتْ يد الجانِي ناقصةً بأصبعٍ، وقد قطع يداً كاملةً، فالمجنيُّ عليه يأخذ ديةَ اليدان إن شاء، وإن شاء قطع يده الناقصةَ وأخذ الأرش للأصبع، ولو كانت ناقصة بأصبعين فله قطْع يده وأرْشُ أصبعين، وقال أبو حنيفة: لا أرش له مع قطْع اليد. لنا: أنَّ الجانِيَ قد قطع منه أصبعاً، لم يستوْفِ قِصاصَها، فيكون له أرشُها لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فِي كُلِّ أصْبُعٍ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ" (¬1) وَأَيْضاً، فإن تلْك الأصبع، لو كانت، لكان له استيفاؤُها، فهذا لم توجَدْ، استوفى بدَلَها، كما لو قطع أصبعين، وليست له إلا واحدةٌ [ويخالف] ما إذا كانتْ يد الجاني شلاء، وأراد المجنيُّ عليه قطْعَها، فإنه لا يأخذُ معها شيئاً؛ لأن النقصانَ هناك نقصانُ صفةٍ، وجرمُ الأصابع باقٍ، والنقصان هاهنا نقصانُ جزء، وحكْمُ النقصانين مختلفٌ؛ ألا ترى أنه لو أتلَفَ إنسانٌ عليه صاعَيْ حنطةٍ، ووجد للمتلف صاعاً، كان له أن يأخذُهُ، ويطلب بدل الباقي، ولو أتْلَفَ عليه جيداً، ووجد له رديئاً من جنْس المُتْلف، فأراد أن يأخذه ويطلب أرشاً، لم يكن له ذلك، وكذا لو قطَع ¬
أصبعَيْن من غيره، وله أصبع واحدة، فللمجنيِّ عليه أن يقتصَّ في الموجودة، ويطلب بدل المعدُومة، ولو قطع أصبعًا صحيحةً وتلْك الأصبع منه شلاء، فأراد المجنيِّ عليه قطع الشلاء وأخذ شيء للشل لم يمكن التائية لو كان النقصان في يد المجني عليه كما إذا قطع السليم يداً ناقصةً بأصبعٍ، فليس للمجني عليه قطعُ اليدِ الكاملةِ من الكُوع لما فيه من استيفاء الزيادة، لكنه يلقط الأصابع الأربع إن شاء، ويأخذ ديتها إن شاء، قال الإِمام أبو حنيفة: يأبى هذا النوْع من القصاص، ولا يجيز أن تلقى حديدة القصاص غير الموضع الذي لقيته حديدة الجاني، وقد تقدَّم مثله، فإن لقَطَ الأربع، فقد استبقى كفَّ الجاني مع استيفَائه كله فهل له حكومتها أما حكومة خمسها الذي تقابل منبت أصبعه الباقية، فيجب، وأما حكومة أربع أخماسِها، فوجهان. أحدهما: لا يجب، وتدخل تحت قصاص الأصابع، كما تدخل تحْت ديتها، فإنه أحد موجِبَي الجناية. وأصحُّهما: الوجوب، وبه قال أبو إسحاق، ووُجَّه بأن الحكومة من جنْس الدية، فلا يبعد دخولُها فيها، والقصاصُ ليس من جنْسِها، وبأن الدية بَدَل حكمي، فجاز أن يجعل بدلاً عن الكلِّ، والقصاصُ استيفاءُ المثل حسّاً، فلا يمكن أن يجعل الأصابع وحْدَها في مقابلة الأصابع ومنابتها، مع التفاوت المحسُوس بين الجملتَيْن، ويجري الوجهان فيما إذا كانَتْ على يد الجانِي أصبعٌ زائدةٌ، ويد المقطوع بصفة الاعتدال، فلقط الخمس؛ لتعذر القطْع من الكوع بسبب الزائدةِ هل تدخل حكومةُ الكفِّ تحْت قِصاص الخمس؟ وهذه الصورة هي التي ينطبق عليها قولُه في الكتاب: "لكن هل يندرج تحت قصاص الأصابع؟ فأما إذا لقط الأربع في الصُّورة التي قبل هذه، فليس البخاري قصاصَ الأصابعِ، بل قصاصُ بعضِها، ولو أخذ في تلْك الصُّورة دية الأربع، ولم يلقطها، دخَلَت حَكومةُ منابتها فيها، وعلى ظاهر المذهب، كما أن حكومة جميعَ الكفِّ تندرج تحت دية الأصابع، فإنَّ الواجبَ في لقط الأصابع خمْسُونَ من الإبل، وفي القَطْع من الكوع، ولا يجِبُ إلا ذلك، وإذا اندرجَتْ حكومة الكفِّ تحت ديات الأصابع، اندرج بعضها تحت البعض؛ لأن البعْضَ من البعْضِ كالكل من الكل، وحكى الإِمام وغيره وجْهاً أنه لا تندرج، وتختص قوة الاستتباع بالكلِّ وأما حكومة الخمسِ الباقي من الكفِّ، فيجب على الصحيح، وحكي وجهٌ أنَّ كل أصبع تستتبع الكفّ كما تستتبعها كل الأصابع، ورتَّب الإِمام الخلاف في أن دية بعض الأصابع، هل تستتبع قسطاً من حكومة الكفِّ على الخلاف في أن قصاص بعْضها] (¬1) هل يستتبع؟ إن قلْنا بالاستتباع في ¬
القصاص، ففي الدية أَوْلَى، وإلا ففي الدية وجهان، وإذا وفيت حقَّ التأمل فيما ذكَرْنا، ظهر لك أن الخِلاَفَ في أن القِصَاص في بعض الأصابع، هل يستتبع حكومة مثابتها من الكفِّ؟ يحصُلُ من وجهين: أحدُهما: أن القصاص هل يَسْتتبعُ الحكومة. والثاني: أن البعض هل يستتبع البعْض. ولو قطَع كفّاً لا أصابع علَيْها، فلا قصاص إلاَّ أن يكون كفُّ القاطع مثلَها، ولو قطَع صاحبُ هذه الكفِّ يدًا سليمةً، فله قطْع كفِّه ودية الأصابع، حكاه القاضي ابن كج عن النِّصِّ. الثالثة: إذَا كانَتْ في يدِ الجانِي أصبعانِ شلاَّوان، ويدُ المجنيِّ عليه سليمةٌ فإنْ شاءَ قَطَع يده، وعليه أن يقنع بها، فإنا ذكرنا فيما إذا عمَّ الشلل اليد، أنه إذا قطعَها، يَقْنَع بها، وإذا كان الشَّلَل في بعْضها، فالقناعة أوْلَي وإن شاء، لقط الثلاث السليمة، وأخذ ديةَ أصبعين، ويعود في استتباع القِصاص في الثَّلاَثَ حكومةُ منابتها، وفي استتباع حكومةِ ديةِ الأصبعين حكومة منبتهما الخلافانِ السابقانِ، ولو كانت في يدِ المجنيِّ عليه أصبعان شلاوَانِ، ويدُ الجاني سليمةٌ، لم يجز القصاص من الكوع، ولكن للمجني عليه أخذُ الثلاثِ السليمةِ، وحكومةُ الأصبعَيْنِ الشلاوَين، ويعود الخلاف في استتباع القصاص في الثلاثِ حكومةُ منابتها، وفي استتباعِ حكُومةِ الشلاوين حكومةُ منبتهما وجهان: أحدهما: وهو الذي أورده أصحابُنا العراقيون: أنها تستتبعها؛ لأن حكومتها هي المال الواجبُ فيها فأشبهتْ ديةَ الصحيحةِ. وأصحُّهما: عند صاحب الكتاب والإمام والحُسَيْن الفراء: المنع؛ لأن الحكومة ضعيفةٌ غيْرُ مقدَّرة، فلا يليق بها الاستتباع، بخلاف الدية، وفي لفْظ "المختصر" ما يوافِقُ هذا الوجْه ويؤيِّده، والوجهان يجِيئَان على قوْلنا: إنَّ ديةَ بعْضِ الأصابع تستتبع قسْطاً من حكومة الكفِّ. أما إذا قلْنا: إنَّ ديةَ بعْضِها لا تستتبع بعْض الحكومةِ، فحكومةُ بعضها أوْلَى. فرْعٌ: لو قطع كفَّاً ليست لها إلا أصبع واحدٌ خطأً، وجبت دية تلْك الأصبع، والظاهر أنه تدْخُل حكومة منبتها فيها، وأنه يجب حكومةُ باقِي الكفِّ، وعلى الوجه الذي قلْنا: إن كل أصبع يستتبع كلّ الكف؛ لا يجب شيْءٌ من الحكومة. آخَرُ في "التهذيب": أنه لو كانتْ أصابعُ إحْدَى يديه وكفها أقْصَرَ من الأخْرَى، فلا قصاص في القُصْرَى؛ لأنها ناقصة (¬1) وفيها ديةٌ ناقصةٌ بحكومةٍ. ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَإنْ كَانَ عَلَى يَدِ الجَانِي سِتُّ أَصَابِعَ مُتَسَاوِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا زَائِدٌ فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَلْقُطَ خَمْساً وَيُطَالِبَ بِسُدُسِ دِيَةِ اليَدِ وَيُحَطُّ شَيْئٌ بِالاجْتِهَادِ لِأَنَّ كُلَّ سُدُسٍ استَوْفَاهُ كَانَ في صُورَةِ خُمُسٍ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا زِيَادَةٌ بِالفِطْرَةِ الْتَبَسَ عَلَى أَهْلِ الصَّنْعَةِ فَلاَ قِصَاصَ خِيفَةً مِنْ أَخْذِ الزِّيَادَةِ بِالأَصْلِيَّةِ، فَإنْ بَادَرَ وَلَقَطَ خَمْسَاً فَهُوَ تَمَامُ حَقِّهِ وَلاَ أَرْشَ لَهُ بَعْدَهُ وَإِنِ احْتُمِلَ أَنْ تكُونَ الزَّائِدَةُ هِيَ المُسْتَوْفَاةَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد سبق أن الزائدَ مِن الأعضاء يُقْطِع بالزائد، إذا اتحدَ المحلُّ، وذكَرْنَا خلافاً في اشتراط التساوِي في الحَجْم، فلو فُرِضَ شخصانِ لكلِّ واحدٍ منهما أصبعٌ زائدةٌ، فقطع أحدهما زائدةَ الآخر، اقتص منه، إذا حصل شرطه، وكذا لو قطع أحدُهما يد الآخر، ولو قطع شخص معتدلٌ الخِلْقة يدًا عليها أصبعٌ زائدةٌ تُقْطَع يدُه بها، وتؤخذ الحكومةُ للزائِدَةِ، سواءٌ كانتْ معلومةً بعينها أو لم تكُنْ، وإن شاء المجنيُّ عليه، أخَذَ دية اليد وحكومة الأصبع الزائدة، ولو قطع صاحبُ الأصابعِ السِّتِّ يدَ معتدلِ الخلقة، لم تُقْطع يدُه من الكوع إلا أن تكون الأصبع الزائدة نابتة من الذراع، [فلا يمكن القطْع من الكوع]، وإذا تعذَّر القصاص من الكوع، فللمجنيِّ عليه لَقْطُ الخمس الأصليات، وتعود الوجهان في استتباع قصَاصِها حكومةَ الكَفِّ فإن كانتِ الزائدةُ بجنب أصلية؛ بحيث لو قُطِعت الأصليةُ، لسَقطتِ الزائدةُ، فلا تقطع، بل يقتصر على قطع الأربع، ويأخذ دية أصبع، ولو كانت نابتةً على أصبع، وأمكن قطْع بعضها من الأربع، فَعَل كما إذا كانت نابتةً على الأنملة الوسْطَى أصبعٌ، فيُقْطَع الأنملة العلْيا مع الأربع، ويؤخذ ثلُثَا دية أصبُع، هذا إذا كانتْ في الست الزائدة معلومةً بعينها، ووراءه صورتان، هما المذكورتان في الكتاب. إحداهما: لو كانت الست كلُّها أصليةً؛ بأن قسمت الطبيعة مادَّةَ الأصابع بتقدير العزيز الحكيم بستة أجزاء متساوية في القوَّة والعَمَل بَدَلاً عن القسمة إلى خمْسة أقسام، هذا لفْظ الإِمام، وكلمتا "الطبيعة والمادة" من اصطلاحات القوْم، وإن أسند إلى تقدير الحكيم الخبير، ومِن الأصحاب من عبر عن الغرض بأنَّ الله تعالَى نقص من جرم كلِّ أصبع من الخمس وقُوَّتها شيئاً، وخَلَق منها أصبعاً تساويها في الصورة والقُوَّة، وبالجملة، فإذَا قال أهل البصير: إنها جميعاً أصليةً، ليست فيها زائدةٌ، فللمجنيِّ عليه أن يلقط خمْساً منها على الولاء من أي جانِبٍ شاء هكذا أطلق، ولك أن تقول: إن لم تكنِ الستُّ المفروضةُ على تقطيع الخمس المعهودة وهيئاتها، فهذا قريبٌ، وإن كانتْ على تقطيعها، فمعْلُومٌ أن صورة الإبهام من الخمس تباين صورة سائرها، كان كانتِ الَّتي تشبه الإبهام على الطرَف، فينبغي أن يلقط الخمس من ذلك الجانب، وإن وقعَتْ ثانية، وكانت التي على الطَّرَف كالملحقة بها، فينبغي أن يلقط الخمْس من الجانِب الآخَرِ.
قال الإِمام: ويختلج في النفس أن يُقال: ليس له لقط الخمس؛ لوقوع الست على نَظْمٍ يخالف نظم الخمس المعتدلة، وغموض القطْع منها ثم حقُّه لا يتوفر بقطع الخمس منها؛ لأنها خمسة أسداسِ اليد، ويده مقطوعةٌ [بكمالها] (¬1)، فله مع ذلك سدُسُ الدية، لكن يُحطُّ من السدس شيْءٌ لأن الخمس الملقوطة، كان كانت خمسة أسداس، فهي في صورة الخمس المعتدلة، والأمرُ في قدْر المحطوط مفروضٌ إلى رأْي المجتهد ونَظَرِهِ، ولو بادر المجنيُّ عليه، وقَطَع الستَّ، قال صاحب "التهذيب": يعزر، ولا شيْء عليه، ولو قلت: يلزمه شيْء، لزيادة الصورة، لم يَبْعُدْ، وهو القدْر المحطوط من سُدُس الدية لواحدة مع قطْع الخمس، ولو قطع صاحبُ الأصابع الستِّ أصبعًا من معتدل، تقطع أصبعه، ويُؤْخَذ ما يفضل به خمس دية اليد على سُدُسِها، وهو بعيرٌ وثُلُثا بَعِيرٍ؛ لأن خمُسَها عشرة، وسدسها ثمانية وثلث، وقياس ما سبق أن يُقال: يحط من قَدْر التفاوتِ شيْء؛ لأن المستوفَى سُدُسٌ في صورة خُمْسٍ، ولو قطع معتدل اليد التي وصفنا أصابِعَها، قطعت يَدَه ويُؤْخَذ منه شيءٌ للزيادة المشاهدة، كذلك حكاه الإِمام وغيره ولو قطَع أصبعاً منْها، لم يقتص؛ لما فيه من استيفاء الخُمُس بالسُّدُس، ولكن يؤخذ منه سدُسُ ديةِ يَدٍ ولو قَطَع أصبعَيْن، قُطِعت منه أصبعٌ ويؤخَذ فضْل ثلث الدية على خمسها، وهي ستة أبعرة وثلثان، ولو قطع ثلاثًا منها قُطِعَتْ منه أصبعان، ويُؤْخَذ من دية اليَدِ فضْلُ النصْف على الخمسين، وهو خمسة أبعرة، ذكره الشيخ إبراهيم المروروذي وغيره، ولو بادر المجنيُّ عليه، وقطَع بأصبعه المقطوعةِ أصبعاً منها، قال الإِمام: هو عنْدَنَا كَمَنْ قطَع يدًا شلأً، فابتدر المجنيُّ عليه، وقطع بها الصحيحةَ. الثانية: إذا قال أهل البصر: نعْلَم أن واحدةً منها زائدةٌ، فإن القوَّة لم تقسم اليد إلى أجزاء متساوية، ولكن الزائدةَ ملتبسةٌ علينا، لم يكن للمجنيُ عليه قطْع الخمس؛ لأن الزائدةَ لا تُقْطع بالأصليَّة مع اختلاف المحلِّ، ولا يؤمن أن تكون الزائدةُ إحْدَى المستوفيات، ولو بادرَ، وقطَع خمساً، عُزِّر، ولا شيء عليه [لاحتمال أن] (¬2) المقطوعاتِ أصلياتٌ، ولا شيء له كان احتمل أن تكون الزائدةُ فيما استوفَى؛ لأنه تَعدَّى بما فعَل، والاحتمالان قائمان، فلا نَجْعَل له شيئاً كما لا نَجْعل عليه شيئاً، ولو بادر، وقَطَع الكلَّ، فعليه الحكومة للزائدة، كان قال أهل البصر: لا نَدْرِي أهي كلها أصلياتٌ، أم خَمْس منْها أصليةٌ، وواحدةٌ زائدةٌ، فلا قصاص أيضاً، ولو قطع جميعَها أو خمساً منه، يعزَّر، ولا شيء له، ولا عليه؛ لأنه إن قَطَع الجميع، فيحتمل أنها أصلياتٌ، وإن قطع خمساً منها، فيحتمل أن تكونَ الأصليات والباقيةُ الزائدةُ [وقوله في الكتاب: "فلا ¬
قصاص خيِفَةٌ من أخذ الزائدة بالأصلية] (¬1) أي مع اختلاف المحلِّ، فأما إذا لم يختلفِ المحلُّ، فلا يمتنع أخذ الزائدة بالأصلية، على ما مَرَّ، وذلك كما إذا كانَتْ له أربعُ أصابعَ أصليةِ وخامسةٌ زائدةٌ، فقطع يد من أصابعه أصلية، يجوز للمجنيِّ عليه أن يقْطع يده، ويرضى بالزيادة عن الأصليَّة. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَسَّمَتِ القُوَّةُ المُدَبِّرَةُ بِإِذْنِ اللهِ -تَعَالَى- أُصْبُعاً وَاحِدَةً بِأرْبعِ أَنَامِلَ مُتَسَاوِيَةٍ قَقَطَعَ صَاحِبُهَا أُنمُلَةً مِنْ مُعْتَدِلَةٍ قَطَعْنَا وَاحِدَةً وَطَالَبْنَاهُ بِمَا بَيْنَ الرُّبُعِ وَالثُّلُثِ، وَإنْ قَطَعَ ثِنْتَيْنِ قَطَعْنَا ثِنْتَيْنِ وَطَالَبْنَاهُ بِمَا بَيْنَ النِّصْفِ وَالثُّلُثَيْنِ، وَإِنْ قَطَعَ ثَلاثَةَ قَطَعْنَا ثَلاَثَةَ وَطَالَبْنَاة بِمَا بَيْنَ الكُلِّ وَثَلاَثةِ أَرْبَاعٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قوله: "ولو قسمت القوة المدبرة بإذن الله تعالى" عبارة اتبع فيها الإِمام حيْثُ قال في تصوير المسألة: "صادَفَتِ القُوَّةُ المُدَبِّرة بإذْن الله تعالى مزيدَ مَادَّةٍ، فزادت في الأصبع قِسْماً"، وهو كما حكيناه عنه في تصوير الأصابع الستِّ، والمقصود أنَّ كلَّ أصبعٍ سوى الإبهام منقسمةٌ فيما أجرى اللهُ تعالَى العادَةَ به ثلاثَ أقسام، وهي الأناملُ الثلاثُ، فلو انقسمتْ على خلاف العادَة أصبع بأربعِ أناملَ، فلها حالتان. إحداهما: وهي المذكورة في الكتاب أنْ تكون الأربعُ أصليةً عند أهل النظر، وقد يستدلُّ عليه بأن تكُون غيْر مُفْرطةِ الطُّول بل قريبة من الاعتدال، وتناسب سائر [الأصابع]، فإذا قطَع صاحبُها أنملةً من معتدلٍ، فيقطع منه أنملة، لكنَّ حقَّ المجنيِّ عليه لا تتأدِّى بها على التمام؛ لأن أنملته رُبُع الأصبعِ، وأنملةُ المجني عليه ثُلُثٌ، فيُطالَبُ بما بين الربع والثلثِ من دية أصبع، وهو خمسة أسداس بِغيرِ؛ لأن [ثلثا] دية الأصبع ثلاثةٌ وثلثٌ، وربُعُها اثنانِ ونصْف، ويقال: إن القفَّال حكى هذه الصورة عن نصِّ الشافعيِّ -رضي الله عنه- وإن قَطَع أنملتين، قطعنا منه أنملتين، وأنملتَاهُ نصْف أصبعه، وأنملتا المجنيِّ عليه ثلثا أصبعه، فيُطَالَب بما بين نصْف دية أصبع وثلثها، وهو بعير وثُلثَا بعيرِ، وإن قطع أصبع معتدل بتمامها، فهل يقطع أصبعه بها؟ نقل صاحب "التهذيب" فيه وجهين: أحدهما: نَعم، وهو الذي أورده القاضي الرويانيُّ، وصاحب الكتاب في "الوسيط" و [هو الذي] صحَّحه الأمام، لأنه لا تفاوُتَ في أصْلِ الخِلْقة، وإنما التفاوتُ في كيفية الانقسامِ وعدد الأقسام، ويدُلُّ على المقابلة بين الأصبَعيْنِ جَعْل كلِّ أنملةٍ منها مقابلةً بربع ما يقابل به أصبع المعتدل. ¬
وأصحُّهما: عند صاحب "التهذيب": المنع؛ للزيادة في عدد الأنامل، كما لا تقطع اليد التي [فيها] ستُّ أصابع بيد المعتدل؛ للزيادة في عدد الأصابع، وقد يُؤَيَّد ذلك بنصِّ تقدَّم في الأصبع الزائدة، أنه إذا كانت لها ثلاثةُ مفاصِلَ، لا تقطع بالتي لها مَفْصِلان، وعلى هذا يقطع منه ثلاث أنامل، هي ثلاثة أرباع حقِّه، ويطالب بالتفاوت بيْن جميع الدية، وثلاث أرْبَاعها، وهو بعيران ونصْفٌ، ولو بادر المجنيُّ عليه، وقطع أصبعه عُزِّر، ولا شيْء عليه. وقوله في الكتاب: "وإن قطع ثلاثاً قطعنا ثلاثةً" جواب على ما رجَّحه صاحب "التهذيب" لأن قطع الثلاث من المعتَدِل هو قطْع الأصبع كلّها، وليُعْلَم بالواو؛ للوجْه الآخر على أن الأشبه أنه لم يَقْصِد الجوابَ بما ذكَره؛ لأنه لم يذْكُره في "الوسيط" ولا اختاره الإِمام وإنَّما وقع عن غفلةً. ولو قطع معتدلٌ أنملةَ مَنْ له هذه الأصبع، لم تقطع أنملته، ولكن تُؤْخَذ منه رُبُع دية أصبع، ولو قطع أنملتين، فللمجنيِّ عليه أن يقطع منه أنملةً، ويأخذ ما بين ثلُث الدية ونصْفها، وهو بعيرٌ وثلثان، ولو قطَع ثلاثَ أناملَ، فله أن يقطع أنملتَيْن، ويأخذ ما بين الثلثين، وثلاثة أرباع، وهو خمسة أسداس بعير، ولم يذكروا هَاهُنَا أنه يُحَطُّ من المضموم إلى الأنملة المقطوعة شيْءٌ؛ لأنها ربع في صورة ثلث، كما [فعلوا] في مسألة الأصابع السِّتِّ، ولو قطع الأصبع بتمامه، قُطِعت أصبعه ولم يلزمه شيْء آخر، ذكره الإِمام والقاضي الرويانيُّ. والحالة الثانية: أن تكون الأنملةُ العلْيا زائدةً خارجة عن أصْلِ الخلقة فلو قطع صاحبها أصبُعَ معتدلٍ، لم تقطع أصبعه؛ لما فيها من الزيادة (¬1)، وأُخِذَت منه الدية ولو قَطَعَها معتدلٌ، قُطِعَتْ أصبعه، وأُخِذَت منه حكومة للزائدة، وتختَلِفُ الحكومة بأن تكُون الزائدةُ ساقطةَ العمل أو منقادَة له، ولو قطع المعتدلُ أنملة منْها، فلا قصاص؛ لأن الأصلية لا تُؤخَذ بالزائدة، وتجب الحكومة، ولو قطع منه أنملتين، قطعت منه أنملة، وأخذت الحكومة [للزائدة] (¬2)، ولو قطع ثلاثاً، قطعت منه أنملتان، وأخذ الحكومة. فرُوعٌ: إذا كان لأنملته طرفانِ؛ أحدهما أصليٌّ عاملٌ، والآخر زائدٌ غير عاملٍ، ففي الأصلي القصاصُ والأرشُ الكاملُ، وفي الزائِدِ الحكومةُ، ولو قطع صاحبُها أنملةً معتدلةً، قُطِع منه الطرف الأصليُّ، إن أمكن إفرادُه بالقَطْع، وإن كانا عاملَيْن مشتدين قال الإِمام: الأمر فيهما قريبَ من القول في الأصابع الستَّة الأصليات، كان قطع معتدلٌ أحد ¬
الطرفيْن، لم تُقْطع أنملتُه، وإن قطَعَهما جميعاً، قُطِعت أنملته، ولزمه لزيادةِ الخِلْقة شيْءٌ وإن قطع صاحبها أنملةً معتدلةً، لم يقطع طرفا أنملته، ويقطع أحدهما، ويتخير فيه المقتص، ويؤْخَذ منه نصف الأرش محطوطاً منه شيْء؛ لأن المقطوع نصْف في صورة الكُلِّ، وجميع هذا فيما إذا نبت طرفا تلْك الأنملةِ عَلَى رأس الأنملة الوُسْطَى، فلو لقى رأسها عَظْم، ثم انشعب الطرفان مِنْ ذلك العَظْم، فإن لبم يكنْ مفْصِل بين العظْم، وبينهما فليس ذلك موضع القصاص، وإن كان لكلِّ طرفٍ مِفْصل هناك، فالعَظْم الحائل بين الشعبتين، والأنملة الوسْطَى أنملة أخرَى، فهي أصبعٌ لها أربع أَنَامِل، والعليا منها ذاتُ طرفَيْن، هكذا رتَّب الإِمام الفَرْعَ، وهو أحسن ترتيب فيه، وأصلُ الفرْع منصوصٌ في "المختصر" وإذا كان على الساعِد كَفَّان، أو على الساق قَدَمانِ، فالحكَم كما في أنملتين على رأْس الأصبع، وسنعود إلى ذلك "في الديات" إن شاء الله تعالى. ولو [صادفنا] أصبعاً، ليست لها سوى أنملتان، وهي تناسب سائر الأصابع في الطول، فللإمام فيه احتمالان. أحدهما: أنها ليستْ أصبعاً تامَّةً، وإنما هي أنملتان؛ لأن طول الأنامل لا يقتضي مزيدًا؛ ألا ترَى أن ذات الأنامل لو طالَتْ أناملُها لو لم تزد لها حكومة بالطُّول، ولم يكن الطُولُ كأنملة زائدة. وأظهرهما: أنها أصبع تامَّةٌ، لكنها ذات قسمين، كما أنه إذا كانتْ فيها أربع أنامل كانت أصبعاً ذات أربعة أقسام، ولو فُرِضَت أصبعٌ لا مَفْصِل لها، قال الإِمام: الأظهر عندي نقصانُ شَيْء من الدية؛ لأن الانثناء، إذا زال بالكلية، سقَط مُعْظَم منافِع الأصبع، وقد ينجر هذا الكلام إلى أن يقتص أصبع السليم بها، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَطَعَ الأُنْمُلَةَ الوُسْطَى مِمَّنْ لاَ عُلْيَا لَهُ وَجَبَ القِصَاصُ وَتَعَذَّرَ الاسْتِيفَاءُ، فَإنْ سَقَطَتْ عُلْيَا الجَانِي بِآفَةٍ أَوْ جِنَايَة اسْتُوفِيَتِ الوُسْطَى، وَهَلْ يُطَالَبُ فِي الحَالِ بأَرْشٍ؟ يُبْنَى عَلَى أَنَّ المَجْنُونَ إِذَا ثَبَتَ لَهُ القِصَاصُ هَلْ يُطَالَبُ لَهُ بأَرْشٍ لِلْحَيْلُولَةِ، وَالنَّصُّ أَنَّهُ يُطَالَبُ، وَفِي الصَّبِيِّ لاَ يُطَالَبُ فَقِيلَ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا نَفْيًا وَاِثْبَاتًا تَخْرِيجًا، وَفِي طَلَبِ الأَرْش لِأَجْلِ الحَيْلُولَةِ بِعُذْرٍ الحَمْلِ خِلاَفٌ مُرَتَّبٌ؛ عَلَى الصَّبيِّ وَأَوْلَى بِأَنْ لاَ يُطَالَبَ لِأَنَّ أَمَدَ الحَمْلِ قَرِيبٌ فَتَوَقُّعُ سُقُوطِ العُلْيَا بِآفَةٍ كتَوَقُّعِ المَجْنُونِ الإِفَاقَةَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: رجلٌ سليمُ اليدِ، قطع الأنملة الوسطَى ممن هو فاقدُ الأنملة العليا، فلا سبيل إلى القِصاص مَعَ بقاء الأنملةِ العلْيَا، فإن سقطَتْ هي بآفة أو جنايةٍ، حصلت القُدرةُ على القصاص من الوسْطَى، فيقتص وفي "الشامل": أن أبا حنيفة قال: لا قصَاصَ في الوسطى إذا تعذَّر الاستيفاء في حال الجناية.
لنا: أن امتناع القصاص كان لاتصالِ محلِّ الجناية بغيره، فإذا زال الاتصالُ، استُوفِيَ القصاصُ، كالحامل إذا وضعتِ الحَمْلَ. فإن صبر المجنيُّ عليه إلى أن يمكن الاقتصاص أو عفا وطلب الأرش، فذاك وقد حُكِيَ عن نصِّ الشافعيِّ -رضي الله عنه- ما يناظرُه، قال: لو قطع كفًّا لا أصابع لها، وليَدِ القاطعِ أصابعُ، قلْنا للمجنيِّ عليه: لا يمكنُكَ القصاص في الكفِّ، لأجل الأصابع، فإن اخترت، فاعف، وإلا فاصبر، فلعل أصابع الجاني تذهب، فتأخذ كفه بكفك، ولو بادر المجنيُّ عليه، فقَطَع الوسطَى مع العليا، فقد تَعدَّى، وعليه أرش العليا، وإن أراد طلَبَ الأرْش في الحال للحيلولة، فهل له ذلك؟ فيه وجهان، وقد يُعبَّر عن الخلاف بأن أخْذ المال هل يكون عَفْواً عن القصاصِ، وقد يقال إذا أخذ المال، ثم سقطَتِ العليا، هل يردُّه وَيسْتوفِيَ القصاص؟ قال الإِمام: وكلُّ ذلك راجِعٌ إلى أن الحيلولةَ في القصاص، هل يثبت الرجوعَ إلى المال؟ وشبه الوجهين بالوجهين في أن من أتلف حنطة، وغُرِّم القيمة لإعواز المِثْل، ثم وجد المثْلَ، هل يرد القيمة، ويطالب بالمثل؟ ويالوجهين في أنَّ مَنْ أخذ أرش العَيْب القديم؛ امتنع الرد بالعَيْب الحادث، ثم زال العَيْبُ الحادثُ، هل له أن يرد المبيعَ والأرْشَ، ويستردَّ الثمَنَ؟ وبنى الإِمام وصاحب الكتاب الخلافَ في أنه هل يطالب بأرش الوسطَى في الحال، على أنه إذا ثبت القصاصُ لصبيٍّ أو مجنونٍ، هل لوليِّهما طَلَبُ المالِ في الحالِ؟ وإذا ثبت المّصاص على حاملٍ، هل تُطَالَبُ؛ في الحال بالمالِ؟ فعن نصِّ الشافعيِّ -رضي الله عنه- أنه لو قُتِلَ إنسانٌ، ووارثُهُ مجنونٌ، يجوز لوليه أخذُ الدية، وعن نصه -رضي الله عنه- فيما إذا ثبت القصاص لصبيٍّ: أن وليَّه لا يأخُذ المال، فجرى جَارُونَ على النَّصيْن، والفَرْق أن الجنون ليستْ له غايةٌ منتظرةٌ، فلو لم نُجَوِّز أخْذَ المال، ولا سبيل إلى استيفاء القصاص، كان ذلك قريبًا من التعطيل، والصبيُّ له غاية منتظرةٌ، وهو البلوغ، وعن بعْضِهم: التصرُّف فيهما، والتخريج من كل واحدٍ منهما في الآخَر، ولو ثبَتَ القِصاصُ على حاملٍ، فعن الصيدلانىِّ: أن في طلب المستحق الديَةَ في الحال مِثْلَ الخلافِ المذكورِ في أن وَليِّ الصبيِّ هل يَطْلُبُ؛ لأن لوضع العمل أمدًا يُنْتظَرُ، كما لزوال الصِبا. فإذا عُرِفَ ذلك، فزوال العلْيا في مسألة الأُنْملُةِ يشبه بمسألة الجنون؛ لأنه ليس له غاية منتظرةٌ كإفاقة المجنون، والظاهرُ عنْد الأئمة أنه ليس له أخْذُ المال، إذا لم يعْفُ وقالوا: إن أخْذه الديةَ عفْوٌ عن القصاص، والظاهر في المجنونِ أن لوليِّه أخْذَ المال، ولكن لا على الإطلاق، كان حكى الإِمام النصَّ في المجنون مطلقاً، وكذا ذكره القاضي الرويانيُّ عن رواية أبي إسحاق الخرَّاط، بل يشترط أن يكون فقيراً، فإن كان غنياً، فالظاهر أنه لا تُؤْخَذ، وفي الصبيِّ الفقيرِ الظاهرُ أنه لا يَأْخُذ، وقطعوا به فيما إذا كان غنيّاً، أو كان له قريبٌ يُنْفِق عليه، وقد سبق هذا كلُّه في اللقيط، إذا ثبت له القصاصُ
في الطَّرَف وفي الحامل أيضاً الظاهرُ أنها لا تُطالَبُ بالدية، ولو كانتِ العليا مستَحقَّةَ القَطْعِ بالقصاص فتوقع القصاص في الوسْطَى بين التوقع في صورة المجنون والتوقع في صورة الصبيِّ والحمْل؛ لأن استيفاء القصاصِ يُرْتَقَب ويُنْتظر بخلاف الإفاقة من المجنون، لكن ليس له أمدٌ معلومٌ بخلاف زوال الصبا ووضع الحَمْل، والذي رجَّحوه، وإن كانت العليا مستَحَقَّةً بالقصاص؛ أنه لا يطالبه بأرْشِ الوسطَى من غير عفْوٍ، ومن صور استحقاق العلْيا بالقصاص ما نَصَّ عليه في "المختصر" وهو أن تقطع الأنملةَ العلْيا منْ إنسانٍ، والوسْطَى من آخر، وهو فاقدٌ للعليا، فلصاحب العلْيا القصاص فيها أولاً، وإن كان قطعه لاحقاً، فإن جاء طالبا للقصاص، اقتص ويُمَكَّنُ مُستحِقُّ القصاصِ من الوسطى استيفائه، قال أبو بكر الطوسي: ولو اتفقا على وضْع الحديدة على مفْصِل الوسطَىئ، واستوفيا الأنملتَيْنِ بقطعةٍ واحدةٍ، جاز وقد هَوَّنَا الأمر علَيْه، وإن لم يطلب صاحب العلْيا القصاصَ، صبر صاحب الوسطَى، أو عفا كما ذكرناه. وقوله في الكتاب: "فإن سقطت علْيا الجانِي بآفة أو جناية استُوفِيَتِ الوسطَى" ليُرَقَّمْ بالحاء؛ لما سبق، وبالواو؛ ولأن الشيخ أبا محمَّد في آخرين حَكَوْا أن القفَّال تردَّد في استيفاء (¬1) الوسطَى، وأن أكثر ميْلِهِ إلى أنَّها لا تستوفى؛ لأن الجناية جرَتْ، والقصاص غير ممكنٍ حالة جريانها، وأنه لو كانتِ العليا مستحَقَّةً بالقصاصِ عند الجناية على الوسطَى، فليس ذلك موْضِعَ ذلك التردُّد، ولأن المستَحقَّة كالملقوطة. وقوله: "هل يُطَالَبَ له بأرش للحيلولة" أي هل يُطالَبُ الجانِي، وكذلك هو في بعض النسخ. وقوله: "لأن أمد الحمل قريب" هذا يختلف؛ فقد يكون الباقي من مدَّة الحمل أكْبَرَ مِنَ الباقِي من مدة الصبيِّ إلا أن يريد أن مدَّة الحَمْل أقصرُ من مدة الصِّبَا. فرْعٌ: قطع الأنملة العليا من أُصْبُع إنسان، والعليا والوسطى من تلْك الأصبع من آخر، نُظِرَ إن سبق قطع الأنملتين، فلِمَقطوع الأنملتين أن يقتصَّ، ويأخذ الآخرُ أرْشَ العليا، وإن سبق قطْعُ الأنملة، فلصاحبها أن يقتص، ثم الآخر يتخيَّر بين أن يقطع الوسطَى، ويأخذ دية العليا، وبين أن يعفو، ويأخذ دية الأنملتين ولو بادَرَ صاحبُ الأنملتين، فقطعهما، كان مستوفياً لحقِّه، ويأخُذ الآخر ديةَ العلْيا من الجانِي، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَرْعٌ: لَوْ قَدَّ مَلْفُوفًا فِي ثَوْبٍ بِنِصْفَيْنِ فَادَّعَى مَوْتَةُ فَالأَصْلُ عَدَمُ القِصَاصِ مِنْ جَانِبِهِ وَاسْتِمْرَارُ الحَيَاةِ مِنْ جَانِبِ المَلْفُوفِ فَيُخَرَّجُ التَّصْدِيقُ عَلَى تَقَابُلِ ¬
الأَصْلَيْنِ، وَلَوِ ادَّعَى نُقْصَانَ يَدِ المَجْنيِّ عَلَيْهِ بِأصْبُعٍ فَالقَوْلُ قَوْلُهُ فِي قَوْلٍ إذِ الأَصْلُ عَدَمُ القَصَاصِ، وَقَوْلُ المَجْنِيِّ فِي قَوْلٍ إذِ الأَصْلُ السَّلاَمَةُ، وَفِي الثَّالِثِ يُفَرَّقُ بَيْنَ العُضْوِ الظَّاهِرِ وَالبَاطِنِ فَيُصَدَّقُ المَجْنِيُّ فِي العُضْوِ البَاطِنِ لِعُسْرِ البَيِّنَةِ، وَالبَاطِنُ مَا يَجِبُ سَتْرُهُ شَرْعَاً عَلَى رَأْيِ، وَمُرُوءَةً عَلَى رَأْيٍ، وَفِي الرَّابعِ يُفْرَقُ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ نَفْيَ السَّلاَمَةِ أَصْلاً، أَوْ زَوَالَهَا طَارِئاً، وَلَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَمَاتَ فَقالَ وَلِيُّ الدَّمِ: مَاتَ بَعْدَ الاِنْدِمَالِ وَعَلَيْكَ دِيَتَانِ وَقَالَ الجَانِي: بَلْ قَبْلَ الانْدِمَالِ فَإنْ كَانَ الظَّاهِرُ يُصَدَّقُ أَحَدُهُمَا صُدِّقَ وَإِلاَّ فَهُوَ خَارجٌ (و) عَلَى تَقَابُلِ الأَصْلَيْنِ إذِ الأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْ جَانِبٍ وَعَدَمُ التَّدَاخُلِ مِنْ جَانِبٍ، وَلَوْ أَوْضَحَ رَأْسَهُ مُوْضِحَتَيْن فَقَالَ الجَانِي: رَفَعْتُ الحَاجِزَ قَبْلَ الانْدِمَالِ وَعَلَيَّ أَرْشٌ وَاحِدٌ وَقَالَ المَجْنِيُّ عَلَيْهِ: بَلْ بَعْدَهُ وَعَلَيْكَ ثَلاَثة أُرُوشٍ وَاقْتَضَى الحَالُ تَحْلِيفَ المَجْنِيِّ فَحَلَفَ ثَبَتَ الأَرْشَانِ، وَفِي الثَّالِثِ وَجْهَانِ، وَجْة قَوْلِنَا لاَ يَثْبُتُ أَنَّ اليَمِينَ إنَّمَا يَصْلُحُ لِنَفْيِ التَّدَاخُلِ لاَ لإِثْبَاتِ مَالٍ عَلَى غَيْرِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذه مسائلُ في الاختلافاتِ الواقعةِ، بيْن الجانِي والمجنيِّ عليه أو وليِّه منها لو قدَّ ملفوفاً في ثوْبٍ بنصفَيْن، وقال: إنه كان مَيَّتَاً، وادَّعَى الوليُّ أنه كان حيّاً، فمَنِ المصدق منهما باليمين؟ فيه قولان: أحدهما: أن المصدَّق الجانِي؛ لأن الأصل براءة ذمته عن القصاص. وأظهرهما: ويحكى عن رواية الربيع: أن المصدَّق [ولي] (¬1) المجنيِّ عليه؛ لأن الأصل استمرارُ الحياة، وأيضاً، فإنه كان مضموناً، والأصل استمرار تلك الحالة فأشبه إذا قَتَلَ مَنْ عُهِدَ مسلماً، وادعى رِدَّته، وعن بعض الأصحاب: أن يُفْرَق بين أن يكون ملفوفاً على صورة الكفن، وبين أن يكون ملفوفاً في ثياب الأحياء، قال الإِمام: وهذا لا أصل له، ويجري القولان فيما لو هَدَم عليه بيتاً، وادعى أنه كان ميتاً، وأنكر الولي. وسواء قلْنا: إن القول قولُ الجانِي أو الوليِّ، فلو أقام الوليُّ بيِّنة على حياته [عمل] بها، ويجُوز أن يُصدَّق الشخص تارةً بالبينة، وتارة باليمين، كالمودع في دعْوَى الردِّ، وللشهود أن يَشْهَدُوا عَلَى الحياة، إذا كان قد رأَوهُ يتلفف في الثوب، ويدخل ¬
البيت وإن لم يتيقنوا حياته حالة النقد والانهدام استصحاباً لما كان، ولكن لا يجوز أن يَقْتَصِروا على أنهم أَوْ يدخل البيت، ويتلفف في الثوب قاله صاحب "التهذيب" (¬1) وغيره. ولو قتل إنساناً، وادعى رقَّهُ، وأنه ليس عليه إلا القيمة، وقال قريبه: بل كان حرّاً فعن النص أن القول قول القريب، وأنه لو قَذَفَ امرأة، وادعى رقَّها، وأنكرتْ، فالقول قولُ القاذِفِ، وفيهما طريقان: أحدهما: تقرير النصَّيْن، وفرق بأنا إذا لم نوجِبِ الحدَّ، نوجب التعزير، والتعزير زاجر أيضاً، وأما في القتل فهذا لم نُوجبِ القصاصَ، لم نوجب ما يصلح زاجراً. وأظهرهما: أن فيهما قولَيْن: أحدهما: يُصدَّق الجاني؛ لأن الأصل عدمُ القصاص. والأظهر: تصديق القريبِ؛ لأن الغالب والظاهر الحرية ولذلك يُحْكَم بحرية اللَّقيطِ المجْهول الحال. ومنْها قطع طَرَفِ إنسانِ، واختلفا في سلامته، فادَّعَى الجاني نقصاناً، كالشلل في الذكَر واليد والرَّجْل أو نقصان الأصبع فيهما أو الخَرَس في اللسان أو العَمَى في الحدقة، وأنكر المجنيُّ عليه، فالقول قول المجنيِّ عليه، والتصويرُ فيما إذا اختلفا في أن الأنثيين كانتا مرضوضَتَيْنِ أم لا، ونصَّ في "الديات" وإذا اختلفا في سلامة الذَّكَر؛ أن القول قولُ الجانِي، وكذلك إذا اختلفا في شَلَل اليد، وللأصحاب طرق: أظهرها: ويُحْكَى عن أبي إسحاق وَأَبَوَيْ علي بن أبي هريرة والطبري، والقاضي أبي حامد وابن القَطَّان: أنه إن كان العضْو ظاهراً؛ كاليد والرِّجْل واللسان والعين، فالمصدق الجاني، إن أنكر أصل السلامة؛ لأن الأصل أنه لا قصاص؛ ولأنه لم يفوت ما يدعيه المجنيُّ عليه والمجنيُّ عليه متمكن من إقامة البينة على السلامة التي تدعيها؛ لظهور العضو، وإن اتفقا على أنه كان سليماً، وادعَى الجاني حدوثَ النقصانِ والشَّلَلِ، فقولان: أحدهما: أن الجواب كذلك لأن الأصل البراءة عن القصاص. وأظهرهما: أن المصدَّق المجنيُّ عليه؛ لأن الأصل استمرار السلامة التي كانت، وإن كان العضْو باطناً، كالذكر والأنثيين، فقولان، سواءٌ أنكر الجانِي أصْل السلامة أو سَلَّمه وادعى زوالها: أصحُّهما: تصديق المجنيِّ عليه؛ لأن الأعضاء الباطنة لا يُطَّلَع عليها، فيعسر إقامة البينة على سلاَمَتِها. ¬
والثاني: طرْدُ القولَيْن في الأعضاء الظاهرة والباطنة، ويُحْكَى هذا عن ابن الوكيل، وطَرَدَهما في إنكار أصل السلامة، وفي تسليمه ودعْوَى الزوال، ووَجْهُ تصديقِ المجنيِّ عليه مع إنكار الجانِي أصْلَ السلامة، بأن الغالب السلامة؛ ولذلك [أثبتنا] الرد بالعيب في البيع. والثالث: القطع في الأعضاء الظاهرة بتصديق الجاني، وفي الباطنة بتصديق المجنيِّ عليه، والفَرْقُ أن الظاهر يُطَّلَع عليه وتعرف سلامته، فيمكن إقامة البينة عليها، بخلاف الباطن؛ ولذلك قلْنا: إنه لو علَّق طلاق امرأته على الدُّخُول وسائر الأفعال الظاهرة وادعَتْ حصولها لا تصدق فيه، ولو علَّق على الحيض، فادعته صُدِّقَتْ. والرابع: عن أبي الطيب بن سلمة: أنه إن أنكر الجانِي أصلَ السلامة، فهو المصدَّق بلا خلاف، وإن سلَّم السلامة وادَّعَى حدوث النقصان، فالمصدَّق المجنيُّ عليه بلا خلاف، ويُخرَّج من الطرق عند الاختصَار أقوالٌ، كما في الكتاب جمعها صاحب "التهذيب". أحدُها: تصديقُ الجانِي على الإطلاق وبه قال أبو حنيفة. والثاني: تصديق المجنيِّ عليه على الإطلاق، وبه قال أحمد. والثالث: الفرْق بين العضو الباطِنِ والظاهر. والرابع: الفرْق بين أن يُنْكر السلامة أصلاً، وبيْن أن يعترف بها، ويدعي زوالها، فإن اقتصرت على الجوابِ الظاهِرِ، ولم تتعرض للخلافِ، قلْت: المصدَّق المجنيُّ عليه، إلا في العضْوِ الظاهر عند إنكار أصل السلامة. وليعرف بعد هذا أمور: أحدهما: ما المعْنِيُّ بالظاهر والباطن اللَّذَيْنِ أطلقناهما؟ قال الإِمام: تلقيت من كلام الأصحاب فيه وجهَيْن: أحدهما: أن الباطِنَ ما يجب ستْرُه عنِ الأعْيُن، وهو العورة والظاهر ما عدا ذلك، وأَلْيَقُهما وبفقه الفصْل: أن الباطن ما يُعْتاد ستْرهُ إقامةً للمروءة، والظاهر ما لا يُسْتَر غَالباً؛ وذلك لأن الفَرْقَ بيْن النوعيْن مبنيٌّ على عُسْر إقامة الشهادة وسهولتها، وما يستر غالباً لا يُطَّلَع على حاله، فيعسر إقامة الشهادة فيه، وعن بعض التعاليق أن الوجهَيْن متولدان من لفْظ الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- حيث قال فيما إذا اختلفا في سلامة الأنثيين: إن القول قول المجنيِّ عليه؛ لأن هذا مغيَّبٌ عن أنظار الناس، ولا يجوز كشْفُه لهم، فاعتبر بعضهم المعنَى الأول، وآخرون الثانِيَ. والثاني: إذا صدَّقنا الجانِيَ، فيحتاج المجنيُّ عليه إلى إقامة البينة على السلامة،
وكيف يقيمها؟ قال ابن الصبَّاغ وغيره: يُبنى ذلك على القولَيْن فيما إذا اعترفا بأصْل السلامة، وادعى الجاني زوالَهَا فإن صدَّقْنا الجَانِيَ، فيحتاج المجني عليه إلى أن يقيم البينة عَلَى السلامة عند الجناية، ويستغْنَى عن اليمين، فإن أقامها على أنَّه كان سليماً فتسمع أيضاً، ولكن يَحْلِف مع هذه البينة لجَوَازِ حدُوث الخَلَلِ والشَّلَل. والأصحُّ عند القاضي الرويانيِّ وغيره: أنَّه يكْفِي قولُ الشهود؛ إنه كان صحيحاً، ولا يشترط التعرض لوقْت الجناية، ويجوز الشهادةُ على سلامة العيْن، إذا رآه يتبع بصره الشيْء زماناً طويلاً ويتوقى المهالك، ولا يجوز بأن يراه وَيُتْبع بصَرَه الشيْءَ الزمانَ اليسير؛ لأن ذَلِكَ قد يوجَدُ من الأعْمَى، وكذلك تجوزُ الشهادةُ على سلامة اليد والذَّكَر برؤية الانقباضِ والانبساطِ. والثالث: في تعليقِ الشيخِ أبي حامِدٍ وغيره: أن القَوليْن فيما إذا ادَّعى الجانِي زوالَ السلامة التي كانت منصوصان في "الأم" وذهب جماعةٌ إلى أنهما مخرَّجان من القولَيْن في "مسألة الملفوف"، وأنهما متفقان على أصْل الحياة هناك، وعَكَس الإِمام القضيَّةَ؛ فجَعَل الخلافَ في "مسألة الملفوف" مبنيّاً على الخلاف في هذه الصورة. والرابع: إذا اختلفا في أصْل العضو، فعن بعضهم إطلاقُ الخلافِ في أن المصدَّق أيُّهما؟ واستدرك الإِمام وقال: مَنْ أنكَرَ أصل العضو أنكر الجناية، فيقطع بتصديقه وإنما موضع الخلاف ما إذا اتفقا على أصْل العضْو والجناية عليه، واختلفا في حال العضْو صحةً وشللاً وعمًى وإبصاراً، ومِنْ هذا القبيل ما إذا قَطَع الكف، واختلفا في نقصان أصبع، وليس منه ما إذا ادَّعَى المجنيُّ عليه أنهُ قطَعَ الذَّكَر والأنثييْن، وقال الجاني: لم أقطَعْ إلا أحدهما؛ لأن الأصبع جزءٌ من العضْو الذي وردَتِ الجناية عليه، وقطْع الكفِّ قَطْع الأصبع، بخلاف الذَّكَر والأنثيين. ومنها: لو قطَع يدَيْه ورجلَيْه، فمات، واختلف الجاني والوليُّ، فقال الجاني: مات بالسراية، فعلَّى دية، وقال الوليُّ: بل مات بعد الاندمال، فعليك ديتان فيُنْظَر؛ إن لم يمكنْ الاندمال في مثل تلْك المدة؛ لقصر الزمان؛ كيوم ويومين، فالقولُ قول الجانِي بلا يمين، وفي تعليق الشيخ أبي حامد: أنه يحْلِف؛ لجواز أن يكون الموت بسببٍ حادثٍ؛ كَلسْعِ حَيَّةٍ، وشُرْبِ سُمٍّ مذفَّفٍ، ولم يستحسن ما ذكره؛ لأن تنازعهما في الاندمال والسبب الآخر لم يَجْرِ له ذكْرٌ، حتى ينفي، وإنما يجري التحليف بحسب الدعْوَى والإنكار، وإن أمكن الاندمال في تلْك المدَّة، فقد فصل فيه تفصيلان: أحدهما: ذكر جماعة، منْهم ابن الصباغ والقاضي الرويانيُّ: أنه، إن مضتْ مدَّةٌ طويلةٌ لا يمكن أن تبقى الجراحةُ فيها غير مندملة، فالقول قول الوليِّ بلا يمين، وإن أمكن الاندمال وعدمه في تلْك المدة، فالقول قوله مع اليمين، ويشبه أن يقالَ: ليس
لمدَّة الاندمال ضبْطٌ، وقد تبقى الجراحةُ سنين كثيرة، والشخصُ ضمن بسَبَبِهَا إلى أن يَمُوت منْها، فينبغي إلاَّ يكُون التصديقُ عند إمكان الاندمال، إلا باليمين، وهكذا ذكره صاحب "التهذيب" وغيره. والثاني: قال الإِمام: إن أمكن الاندمالُ، لكنه كان بعيداً، وكان الظاهر خلافَه، فالقولُ قول الجانِي؛ بناءً على ظاهِرِ الحالِ، وادعَى وفَاقَ الأصحاب فيه، والذي يوجَدُ للأكثرين أن المصدَّق الوليُّ، وربَّما قطَعُوا به وعن أبي الطيِّب بن سلمة تخريجُ قولٍ من "مسألة الملفوف" أو من الصورة المذكورة مِنْ بَعْدُ: أنه يصدَّق الجانِي؛ لأن ما يقوله محتَمَلٌ، والأصل براءة الذمة، وعلى هذا ينطبقُ قوله في الكتاب، فهو خارج على تَقَابُل الأصلَيْن إلى آخره، ويجوز إعلامه بالواو؛ لقَطْع مَنْ قطع بتصديق الوليِّ. ولو اختلفا في مضيِّ زمان الاندمال، فالمصدَّق الجاني؛ لأن الأصْل أنه لم يمْض، ولو قال الجانِي ماتَ بالسراية، أو قتلتُه قبل الاندمال، وادعَى الوليُّ أنه مات بسببٍ آخَر؛ بأن قال: قتل نفسه أو قتله آخر أو شرب سُمّاً مُوحِياً، فوجهان: أحدهما: أن المصدَّق الجاني؛ لأن ما يقوله محتملٌ والأصل براءة الذمة، ويُحْكَى هذا عن أبي إسحاق. وأظهرهما: وبه قال أبو عليٍّ الطبريُّ، أنه يصدَّق الوليُّ؛ لأن الأصل بقاء الديتين الواجبتين بالجنايتين، والأصل عدَمُ السبب الآخر، ولو اقتصر الوليُّ على أنه ماتَ بسببٍ آخَر، ولم يعينه، فعن الصيدلانيِّ: أنه لا يلتفت إلى قوله إن قَصُر الزمان، ولم يمكن فيه الاندمال؛ لأن تَرْك التعين يُشْعِر بأنه لا سَبَبَ، وأن مراده دعوى الاندمال، وإن أمكن الاندمال، فإن صدَّقناه بيمينه، ولم نُحْوِجه إلى البينة قبل قوله، وحلَف على أنه ماتَ بسبَبٍ غير الجناية، وإن لم نُصدِّقْه وأحوجناه إلى البينة، فلا بد من التعيين؛ لتصوُّر إقامة البينة، قال الإِمام: ولاَ يَبْعُد التخريج على الوجهَيْن، وإن لم يُمْكن الاندمالُ، فلو اتفقا على أن الجانِيَ قتله، ولكن قال: قتلته قبل الاندمال، فعَلَيَّ ديةٌ وقال الوليُّ: بل بعده، فعليكَ ثلاثُ دياتٍ، والزمان يحتمل الاندمال، فيصدَّق الوليُّ في بقاء الديتين، والجاني في نفي الثالثة، ويجيء وجهٌ أنه يصدَّق الجاني على الإطلاق. ولو قطَع إحْدَى يديه ومات، فقال الجاني: مات بسبب آخَرِ مِنْ قَتْلِ أو شُرْبِ موح، وليس عليَّ إلا نصْفُ دية. وقال الوليُّ: مات بالسراية، وعليكَ ديةٌ تامةٌ، فوجهان قال في "التهذيب": أصحهما: أن القول قولُ الوليِّ؛ لأن الأصل أنَّه لم يوجَدْ سببٌ آخر. والثاني: يصدَّق الجاني؛ لأن الأصْل براءة ذمته، ولو قال الجانِي: مات بعْدَ
الاندمالِ، وليس عليَّ إلا نصفُ الدية، وقال الوليُّ: مات بالسراية، والزمان زمانٌ محتملٌ للاندمال، فالظاهر أن المصدَّق الجاني؛ لأن الأصْل براءة الذمَّةِ، ولم يَثْبت ما يوجب الديَة، بخلاف قطع اليدين والرجلين المُوجِب لديتين، وفيه وجه أنه يصدَّق الوليُّ؛ لأن الأصل بقاءُ الجناية وسرايتها، ولو اختلفا في مضيِّ زمان الإمكان، فالمصدَّق الوليُّ، إذِ الأصلُ أنه لم يمض، ولو قتله الجاني بعْد القطْع، وقال: قتلته قبل الاندمال، فعليَّ ديةٌ، وقال الولي: بل بعده، وعليك دية ونصْفٌ، فالمصدَّق الجاني. ولو جرحه بقَطْع يد أو غيره، فمات، فقال الجاني: جاء آخر، فحز رقبته، ليس عليَّ قصاص النفس، وقال الوليُّ: بل مات بسراية جراحتك، ففي المصدَّق منهما وجهان. أظهرهما: أن المصدَّق الوليُّ، وعن الداركيِّ: القطْعُ، وبه لو قال الجاني: مات بعد الاندمال، وقال الولي: بل بالسراية، قال الإِمام: إنْ طالتِ المدَّةُ، وكان الظاهرُ الاندمالَ، صدِّق الجاني بيمينه؛ لأن الأصل أنْ لا قصاصَ، ولم يظهر ما يوجِبه، وهو الجرح السارِي بخلاف ما إذا تنازَعَا بعْد قطع اليَدَيْن والرِّجلَيْن، فإنَّ موجب الديتين قد وجد هناك، وإن قَصُر الزمان وبعد احتمال الاندمال، فالمصدَّق الوليُّ، وعن القاضي أبي الطيِّب نقْل قولَيْن مطلقَيْن، مهما كانت [المدة] محتملة الاندمال، في قوْلٍ يُصدَّق الوليُّ لأن الأصل بقاء أثر الجناية وفي قول: الجاني؛ لأن الأصل براءة الذمة (¬1)، وإن لم تحتملِ المدةُ الاندمالَ، قال فيصدَّق الوليُّ بلا يمين، وإن لم تحتمل بقاء الجرح، فيُصدَّق الجاني بلا يمين، وحيث صدَّقنا من يدعي الاندمالَ، فلو أقام الآخَرُ بيِّنة على أن المجْروح لم يزل، ضمناً متألماً من الجراحة، حتى مات، قَوِيَ جانبُه ورجَعْنا إلى تصديقه كذلك حكاه الإِمام وغيره. ومنْها: أوْضَحَ رأْسَه موضحتين، ثم رفع الحاجز بينهما، واختلفا، فقال الجانِي: رفعتُه قبل الاندمال، فليس عليَّ إلا أرشٌ واحدٌ وقال المجنيُّ عليه: بل بعده، وعليك أرشُ ثلاثِ موضحاتٍ، قال الأئمة: إن قَصُر الزمان، صدِّق الجاني بيمينه، وإن طال، صدِّق المجنيُّ عليه بيمينه، كما سبق نظيره، وإذا حلَف المجنيُّ عليه، ثبت الأرشان، وهل يثبت الثالث؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه ثبت رفْع الحاجز باعترافه، وثَبَت الاندمال بيمين المجنيِّ عليه فقد حصَلَتْ مُوضِحَةٌ ثالثةٌ. ¬
الفن الثاني في حكم القصاص الواجب
وأصحُّهما: أنه (¬1) لا يَثْبُت، وتصدَّق فيه الجاني؛ لأنه يقول: رفَعت الحاجز، حتَّى لا يلْزَمُني أرشان، بل يعود الأوَّلان إلى واحِدٍ، فإن لم يُقْبَل قوله في الاتحاد، وجَب أن لا يُقْبل في الثالث الذي لم يَنْصُت موجِبهُ، ولو وجدْنا الحاجز بينهما مرتفعاً، وقال الجاني: رفعْتُه أنا أو ارتفع بالسراية، وقال المجنيُّ عليه: بل رفعه آخر أو رفعتُه أنا، فالظاهر تصديق المجنيِّ عليه؛ لأن المُوضِحَتَيْنِ توجبان أرشَيْنِ، والظاهر بثبوتِهِما واستمرارهما، ولو كان الموجود موضحة واحدةً، وقال الجاني: هكذا أوضحْتُ، وقال المجنيُّ عليه: أوضحْتُ موضحتين، وأنا رفعتُ الحاجز بينهما، فالقولُ قول الجاني؛ لأن الأصل براءة الذمة، ولم يوجد ما يقتضي وجوبَ (¬2) الزيادة. وقوله في الكتاب: "فيُخَرَّج التصديق على تَقَابُلِ الأصلَيْن" يعني "فيه قولان" ونحوه قوله: "فهو خارج على تقابل الأصلَيْن". وهذا تمام الكلام في الفنِّ الأوَّل. الفَنُّ الثَّانِي في حُكْمِ القِصَاصِ الوَاجِبِ وَفِيهِ بَابَانِ: البَابُ الأَوَّلُ فِي الاسْتِيفَاءِ وَفِيهِ ثَلاثَةُ فُصُولٍ: قَالَ الْغَزَالِيُّ: الفَصْلُ الأَوَّلُ فِيمَنْ لَهُ وِلاَيَةُ الاسْتِيفَاءِ فَإنْ كَانَ القَتِيلُ وَاحِداً فَهوَ لِكُلِّ الوَرَثَةِ عَلَى فرَائِضِ الله تَعَالَى فَإنْ كَانَ فِيهِمْ مَجْنُونٌ أَوْ صَغِيرٌ انْتُظِرَ (ح م) تَكْلِيفُهُ، وإنْ كَانَ فِيهِمْ غَائِبٌ انْتُظِرَ حُضُورُهُ، فَإنْ تَزَاحَمُوا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ فَلِغَيْرِهِ مَنْعُهُ مِنْ أَصْلِ الاسْتِيفَاءِ، وَيَدْخُلُ فِي القُرْعَةِ المَرْأَةُ وَالعَاجِزُ عَلَى أَحدِ الوَجْهَيْنِ لِيَسْتَنِيبَ إِنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: عرفت في أول الجِرَاحِ وقُوعَ الكلام في فَنَّيْنِ: أحدهما: في موجِبِ القِصَاصِ. والثَّانِي: في حُكْمِهِ بعْد الوجوب، وهو الذي نَخُوضُ فيه، وإذا وجب القصاصُ، فأما أن يُسْتَوْفَى أو يُترَك ويُعْفَى عنه، ففي [الطرفين] بابان: أما الأوَّل، ففيه ثلاثة فصول: أحدها: فيمن يَلِي الاستيفاء. والثاني: في كيفية الاستيفاء تعجيلاً وتأخيراً. والثالث: في طريق الاستيفاء، وحفظِ المماثلة فيه ما أمكن. أما الفصل الأول، فولاية الاستيفاء للمستحِقِّين، والقصاصُ يستحِقُّه جميع الورثة على فرائض الله تعالى، وحكى ابن الصبَّاغ وجهَيْن آخرَيْنِ للأصحاب: أحدهما: أنه للعصباتِ خاصَّةً؛ لأن القصاص [لرفع] العارِ، فيختص بهم كولاية النكاح. والثاني: أنَّه للوارثين بالنَّسَب دون الوارثين بالسَّبَب؛ لأن السبب ينقطع بالموت، والقصاص للتشفِّي فإذا انقطع السبَبُ، فلا حاجة إلى التشفِّي، والمذهبُ المشهورُ الأوَّل، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، ووُجِّه بأن القصاصَ أحدُ بدلي النفْس، فيستحقه جميعُ الورثة، كالدية، وُيروى؛ أن رجلاً قَتَل آخَرَ في عهْدِ عمرَ -رضي الله عنه- فطَالَب أولياؤه بالقَوَد، ثم قالت أخت القتيل، وكانت زوجة القاتِل: قد عَفَوْتُ عن حَقِّي فقال عمر -رضي الله عنه: عَتَقَ (¬1) الرجُلُ، والأشهر عن مالك أنَّ القصاصَ لا يثبُتُ إلا لِعَصَبات النَّسَب، وعنه رواية أخرى: أنَّه يثبتُ لرجال القرابة، حتى يستحقه الأخ للأمِّ أيضاً ورواية ثالثة: أنه يثبُتُ لرجَال القرابة، والأمُّ من جملة النساء، وإذا قُتِلَ من [ليس] له وارثٌ خاصٌّ، فهل للسلطانِ أن يقْتص من قاتله أو يتعيَّن أخْذُ الدية فيه قولان مذكوران في كتاب "اللقيط" وإن خلَّف بنتاً واحدةً أو جدةً أو أخاً لأم، فإن قلْنا: للسلطان استيفاءُ القصاص، إذا لم يكُنْ وارثٌ، استوفاه مع صاحب الفرض، وإلاَّ فالرجوع إلى الدية، ثم فيه صورتان: إحداهما: إذا كان بعْضُ الورثة غائباً أو كانَ فيهِمْ صبيٌّ أو مجنونٌ انتظر حضورُ الغائِب أو مراجَعَتُه، وبلوغُ الصبيِّ أو إفاقَةُ المجنون، ولم يَكُنْ للحَاضِرِينَ والبالِغِينَ العُقَلاء الانفرادُ بالاستيفاءِ خلافاً لأبي حنيفة ومالك في الصبيِّ والمجنونِ؛ حيث قالاَ: ¬
لا يُنْتظر بلوغُ هذا، وإفاقة ذلك. وعن أحمد روايتان، [لنا] أن للصبيِّ والمجنون حقّاً في القصاص؛ ألا ترى أنهما يستحقانه بتقدير الانفراد، وإذا ثَبَت لهما حقُّ القصاص وجب أن لا يفُوتَ عليهما بالاستيفاءِ، كما في حق الغائب، وهذا لأن القصاص للتشفِّي ودرك الثأر، فحقُّه التفويض إلى خيرة المستحق. وإذا انفرد صبيٌّ أو مجنونٌ باستحقاق القصاص، لم يستوفه الوليُّ، والقيِّم يستوي فيه قصاص النَّفْس والطَّرَف (¬1) وعند أبي حنيفة: للوليِّ استيفاء [القصاصين] وللوصي استيفاء قصاص الطَّرَف، وسلَّم أن القيَّم لا يستَوْفِي واحداً منهما، وقد سبق في: "باب الحجر" أن الوليَّ لا يستوفي قصاصَ الصبيِّ، ولا يعفُو عنه، ولكن لم يذكر مذهب أبي حنيفة هُنَاك ويجوز أن يُعْلَم قوله في الكتاب هناك: "ولا يستوفي قصاصه" بالحاء. وأما أن الوليَّ هل يأخذ المال، وهل للمستحِقِّ عند كمال الحالِ، أن يرد المال ويقتص، فقد ذكرناه في باب "الحجر"، وفي "باب اللقيط" ويحبس القاتِلُ إلى أن يبلغ الصبيُّ وبفيق المجنون، ولا يُخَلَّى بالكفيل، فقد يهرب، فيفوت الحق، وكذلك يُحْبَس إلى أن يَقْدُم الغائبُ ضبْطاً لحقِّ القتيل، كما لو وَجَد الحاكمُ مال ميِّت مغصوباً، والوارثُ غائبٌ، فإنه يأخذه حِفْظاً لحقِّ الميت، وذكر ابن الصباغ أنَّ في قصاصِ الطرَف لا يُحْبَسُ الجاني إلى قُدُوم الغائب؛ لأن الحاكم لا ولاية له على الغَائِب المكلف، كما لا يأخذ ماله المغصوب، وفي كلام الإِمام وغيره ما يُنَازع فيه، ويُشْعِر بأنه يأخذ مال الغائِب ويحفظه له، وأن الحاكِمَ يحبس الجانِيَ [في قصاص الطرف] أيضاً، وفي "أمالي" أبي الفرج السرخسي أنَّ الشيخ أبا عليٍّ قال: لا يُحْبس القاتل، بل يطلب منه كفيلاً؛ لأن الحَبْس ضمُّ عقوبة إلى القصاص المستَحقِّ عليه، وحمل الحبس في كلام الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- على التوقُّف والانتظار، والمشهورُ الأوَّلُ، قال الأصحاب: وإحياؤه محبوساً أهونُ عليه من استعجال القتل، ولا طريق إلى حفْظ الحقِّ سواه. الثانية: إذا كان القصاصُ لجماعة، وهم حضور كاملو الحال، فليس لهم أن يجتمعوا على مباشرة قتْله؛ لأن فيه تعذيباً وإهانةً، ولكن يتفقون على واحدٍ يستوفيه أو يوكلون أجنبياً، وإن تزاحموا ورام كلُّ واحد منهم أن يستوفي بنفسه، أقرع بينهم، فمَنْ خرجت القُرعةُ له، تولاه، ولكن بأن الباقين، فلو أخَّرُوا، لم يكن له أن يستوفِيَهُ، ويخالف ما إذا تزاحَمَ الأولياء على التزويج، فأقرع بينهم، لا يحتاج من خرَجَتْ له ¬
القرعة إلى إذْن الآخرين؛ لأن القصاص مبنيٌّ على [الإبراء] (¬1) والإسقاط ولبعضهم تأخيره كإسقاطه، والنكاحُ لا يجوز تأخيرُهُ حتى أنهم لو امتنعوا جميعاً من التزويج، وعَضَلُوا، يزوِّج القاضي، هذا هو الأظهر، ويُحْكَى عن القفَّال بناءً عليه: أنه لا يُقْرع بينهم في الابتداء، إلا بإذنهم، بخلاف القرعة في القسمة، والقُرْعة بين الأولياء. وروى الإِمام وغيره وجهاً: أنه لا حاجةَ بعد خروج القرعة إلى إذْنِ الباقين؛ لتظهر فائدة القرعة وإلاّ فاتفاقهم على واحِدٍ مغن عن القرعة، ولا شك في أنه لو منع أحدُهم من خرجَتْ له القرعة من الاستيفاء، لم يكن له الاستيفاء، وهل يدْخُل في القُرْعة مَن يعْجز عن الاستيفاء؛ كالشيوخ والصبيان والنسوة؟ فيه وجهان، وقال القاضي ابن كج وأبو الفرج الزاز: أيضاً قولان: أحدهما: نعم؛ لأنه صاحبُ حقٍّ، فإن خرجَتْ له القرعة استناب من يقدر عليه. والثاني: لا لأنه ليس أهلاً للاستيفاء والقرعة إنما تَجْرِي بين المستوين في الأهلية، والأرجحُ الأول عند صاحب "التهذيب". والثاني: عند القاضي ابن كج وأبي الفرج، والإمام وغيرهم وعن بعض الأصحاب: طريقةٌ قاطعةٌ به، وإذا قلْنا: لا يدخل العاجزُ في القُرْعة، فلو خرجَتْ لقادرٍ، فعجز، أُعِيدت القرعةُ بين الباقين، وإن قلْنا: يدخل، فلا يعاد ولكن يستنيب. وقوله في الكتاب: "فإن كان القتيل واحداً" بين به أن الذي نذكره الآن فيما إذا لم يَزْدَحِم على القاتل أولياء قتيلَيْنِ أو قَتْلَى، فأما إذا قتل اثنين فصاعداً وأرادَ وَليُّ كلِّ قتيل قتْلَه به، فسيأتي إن شاء الله تعالى مِنْ بَعْدُ. وقوله: "فهو لكل الورثة" معلم بالميم والواو. وقوله: "انتظر تكليفه" بالحاء والميم والألف. وقوله: "فإن تزاحموا أُقْرعَ بينهم" أي تزاحموا على الاستيفاء، والمقصود ما إذا استحَقُّوا القصاص في النفْس بضَرْب الرقبة، وأما في قصاص الطَّرَف، وقصاص النفْس المستحَقِّ بقَطْع الطَّرَف ونحوه، فسيأتي إن شاء الله تعالى. وقوله: "فلغيره منعه مِنْ أصْل الاستيفاء" أشار بهذه اللفْظة إلى أنَّه ليْسَ له أن يقول لا تستوفي ولكن نقول: لا تستوفِ، وأنا لا أستوفِي أيضاً. وقوله: "ويدخل في القرعة" إلى آخره [يصح] إعْلاَمُهُ بالواو؛ بطريقة مَنْ قال: "لا يدخل بلا خلاف". ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ بَادَرَ وَاحدٌ فَقَتَلَ فَفِي وُجُوبِ القِصَاصِ قَوْلاَنِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ العَفْوِ مِنَ البَعْضِ فَقَولاَنِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلَى بِالوُجُوبِ، وَوَجْهُ الإسْقَاطِ شُبْهَةُ خِلاَفِ عُلَمَاءِ المَدِينَةِ فِي إثْبَاتِ الاسْتِبْدَادِ لِكُلِّ وَاحِدٍ، فَإِنْ قُلنَا: لاَ قَصَاصَ فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَيُغَرَّمُ نَصِيبَ البَاقِينَ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ لأَنَّ لَهُ حَقّاً فِي المُسْتَوْفَى بِخِلاَفِ الأَجْنَيِيِّ إِذَا قَتَلَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذه المسألة توصف بالإشْكَال والاعتبَاضِ، حتى حكى عن الماسرجسي: أنه قال: سَمِعْت أبا بكر الصيرفيِّ يقول: كرَّرْتها علي نِفْسي ألْفَ مَرَّةٍ حتى تحقَّقتُها، وأول ما يذْكُره أنَّ مَنْ عليه القصاصُ، إذا قَتَله أجنبيٌّ عن القصاص، يلزمه القصاصُ، على ما سَبَقَ ويكون ذلك القصاصُ لورثته لا للَّذِين كانُوا يستحِقُّون القصاصَ عليه؛ لأن القصاصَ للتَّشفِّي ودرك الثأر، ووارثه هو الذي يَحْتَاج إليه. قال في "التهذيب": ولو عفا ورثته عن القِصَاص على الدِّيَة، فالدية للوارِثِ على الصحيح من المَذْهَب، وفيه وجّه أنها لِمَنْ له القصاصُ، كما إذا قُتِلَ العَبْدُ المَرهُون، تكون قيمته مرهونَةً. وأما المستحِقُّون للقصاص، فليس لبعضهم الانفرادُ بقَتْله، كما لا ينفرد باستيفاء تمام الدية، ولو بادَرَ أحدُ ابْنَيِ المقتولِ الحائِزِينَ، وقَتَل الجانيَ بغَيْر إذْن الآخر، فَيُنْظَر؛ أوقع ذلك قبل عَفو أخيه أو بعْده؟ الحالة الأولى: إذا قتله قبل العَفْو، ففي وجوب القصاص عليه قولان: أصحهما: وبه قال أبو حنيفة وأحمَدُ، واختاره المزنيُّ: أنه لا يجبُ؛ لأحد معنَيَيْنِ. أظهرهما: أنه صاحب حقٍّ في المستوفَى، وذلك شبهة دارئة للعقوبة؛ ولذلك لا يجب الحدُّ إذا وطئ الجارية المشتركة بيْنَه وبيْن غيره. وثانيهما: أنَّ مِنَ علماء المدينة مَنْ ذهَب إلى أنه يجُوز لكلِّ واحدٍ من الورثة الانفرادُ باستيفاء القصاص، حتى لو عفا بعْضُهم، كان لمن لم يَعْفُ أن يستوفيه، ويقال: إنه روايةٌ عن مالك، واختلافُ العلماء في إباحةِ الفِعْل شبهةٌ دارئةٌ للعقوبة، ولذلك لا نوجب الحدَّ بالوطء في الأنكحة المخْتَلَفِ فيها. والثاني: يجب القصاص؛ لأنه استوفَى أكثر من حقِّه، فيلزمه القصاص فيه، كما لو استحق الطرَفَ، فاستوفَى للنفس، وأيضاً، فإن القصاص لهما، فهذا قتله أحدُهما، فكأنه أتلف نصف النفْس متعديّاً، وأنه سبَبٌ يوجب القصاص بدَلِيل ما إذا قتل اثنان واحداً، والقولان فيما إذا كان القاتِلُ عالماً بتحريم القَتْل، فإن جهلَ، فلا قصاص، بلا خلاف، كذلك ذكر في "التهذيب". الحالة الثانية: إذا قتلَهُ بعْد عفْو الأخِ، فأما أن يكون عالماً بالعفْو أو لا يكون، إن
كان عالماً، فَيُنْظَر؛ إن لمْ يَحْكُمْ الحاكمُ بسقوط القصاصِ عن الجانِي، ترتب وجوب القصاص على ما إذا قتله قَبْل العَفْو، إن أوجبنا القصاص هناك، فهاهنا أوْلَى، وإن لم نوجِب، فوجهان، ويقال: قولان مبنيان على المعنَيَيْنِ المذكورَيْنِ هناك إنْ علَّلنا بأنه صاحب حقٍّ، فقد سقط الحق هاهنا بالعَفْو، وقتل من لا قصاص عليه [فيلزمه] القصاص، وهو الأصحُّ، وإن علَّلنا بشبهة اختلاف العلماء، فالاختلافُ قائمٌ هاهنا أيضاً، فلا يجب، وإن حكَم الحاكمُ بسقُوطِ القصاصِ عن الجانِي، فعلَيْه القصاصُ قولاً واحداً؛ لارتفاع الشبهة، وامتناع المخالِفِ من المخالفة بعْد حُكْم الحاكم، هكذا أطلقوه، وإن كان جاهلاً بالعَفْو، ترتب على ما إذا كان عالماً، فإن لم نوجب القصاص عند العلْم فعنْد الجهْل أوْلَى، وإن أوجبناه عند العلْم، فهاهنا وجهان أو قَولان بناءً على الخلاف فيما إذا قَتَلَ مَنْ عرفه مرتدّاً وظن أنه لم يُسْلِم، فبان خلافُه، وقد مَرَّ أن الأظْهَر الوجوبُ، ووجّهُ الشبه بين الصورتين أن المقْتُولَ معصومٌ والقاتل جاهلٌ بحاله، غير معذُور في الإقدام عليه، ولو قتله العافي أو عَفَوَا ثم قتَلَه أحدهما، وجب القصاص بلا خلاف. التفريعُ: إن أوجبنا القصاصَ على الابنِ القاتلِ، وجبت ديةُ الأب في تركة الجاني؛ لأنه إذا وجب القصاصُ، لم يقع قَتلُ الجانِي قصاصاً، كما لو قتله أجَنبيٌّ، وإذا فات القصاص، وجبَتِ الدية، فإن اقتص وارثُ الجانِي مِنَ الابن القاتِلِ، أخذ وارثُ المقتص، والابنُ الآخرُ الديةَ مِنْ تركة الجاني، وكانت بينهما نصفَيْنِ، وإن عفا مجَّاناً أو أطلَقَ العفْو، وقفنا: العفو المُطلَق لا يوجب الدية، أخذها الأخوان، وإن عفَا على الدية أو أطلَقَ، وجعلْنا العفْو المطلَقَ موجباً للدية، فللأخ الذي لم يَقْتُل نصف الدية في تركة الجاني، وللأخِ القاتِل النصْفُ وعليه ديةُ الجانِي بتمامها، ويقع الكلام في التقاصِّ، وقد يصير النصْف بالنصْفِ قصاصاً، ويأخُذ وارثُ الجانِي النصْفَ الأخير، وقد يختلف القدر بأن يكون المقْتُول أولاً رجُلاً والجانِي امرأةً أو مُسْلِماً، والجاني ذميّاً، فتَحْكُم في كل صورة بما يقتضيه الحَال، وإذا قلْنا بالأصحِّ، ولم نوجب القصاصَ على الابن القاتل، فلأخيه نصْفُ الدية؛ لفوات القصاص بغَيْر اختياره، وممن يأْخُذ أخُ القاتِل النصْفَ الذي وجب له؟ فيه قولان: أحدهما: من أخيه القاتِل؛ لأنه صاحبُ حقٍّ في القصاص، فإذا بادر إلى القتْل، فكأنه استوفَى حقَّ أخيه مع حقِّ نفسه، فصار كما إذا أوْدَعَ إنسانٌ وديعةً، ومات عن اثنيْن، فأخذها أحدهما، وأتلفها، يرجع الآخرُ بضمان نصيبه علَيْه، لا على المُودع. وأصحُّهما؛ وهو اختيار المزنيِّ: أنه يأخذ مِنْ تركة الجانِي؛ لأن القاتل فيما وراء حقِّه كالأجنبي، ولو قتله أجنبيٌّ، يأخذ الورثة الدية من تركة الجانِي، لا من الأجنبي، فكذلك هاهنا، ويخالف "مسألة الوديعة"؛ لأن الوديعة غير مضمونة على المُودع بحال
حتى لو تَلِفَتْ بآفة، فلا ضمان عليه، ولو أتلفَهَا أجنبيٌّ غرمها للمالك، ونفسُ الجاني مضمونةٌ، حتى لو مات أو قتله أجنبيٌّ، تؤخذ الدية مِنْ تركته، واحتج أبو نصر بن الصَّبَّاغ، لهذا القول؛ بأنه لو كان المقتول أولاً أقلَّ دية من الجانِي؛ بأن كل مسلماً، والجانِي ذميٌّ، فقتله أحدُ ابْنَي المسلم، فالواجب على الابن القاتِل نصْفُ ديةِ الذميِّ، وهو سدُسُ ديةِ المُسْلِم، والثابت لأخي القاتل نصْفُ دية المُسْلِم، فلو قلنا: إنه يأخُذُ حقَّه من أخيه القاتل، لم يمكن أن يأخذ هاهنا نصْفَ دية المُسْلِم، ولا يمكن أن يأخُذَ منْه ومِنْ ورثة الجَانِي؛ لأن أخاه هو الَّذي أتلف جميع حقِّه، وعَلَى هذا القَوْل، فلا رجُوع له على غيره، وعن ابن سُرَيْج فيما حكاه القاضي ابن كج سَماعاً عن أبي الحسين ابن القطَّان عنه قولٌ ثالثٌ مخرَّج: إن الذي لم يَقْتُلُ من الابنين يتخيَّر بَيْنَ أن يأخذ حقَّه من أخيه، وبين أن يأخُذَه من تركة الجاني، وينزلان منزلة الغاصِب والمُتْلِف مِنْ يد الغاصب، وإذا قلنا: إن حقَّ الذي لم يَقْتُل على أخيه، فلو أبرأ أخاه، برئ، ولو أبرأ وارثَ الجانِي، لم يصحَّ؛ لأنه لا حقَّ له عليه، ولو أبرأ وارثَ الجاني القاتل عن الدية، لم يسقط النصْف الذِي يَثْبُت عليه لأخيه، وأما النصْف الثابت للوارث، فيُبْنَى على أن التقاصَّ في الديتَيْن (¬1) هل يحْصُل بنفس الوجوب، إنْ قلْنا: نعم، فالعفو لغْوٌ، وكما وَجَبَا سَقَطَا، وإن قلْنا: لا يحصُل حتى يتراضيا، فيصح الإبراء، ويسقط ما ثبَتَ للوارِثِ على الابْنِ القاتل، ويبقى للابْنِ القاتِل النصْفُ في تَرِكَةَ الجانِي، فإنْ قلْنا: إنَّ حقَّ الذي لم يَقْتُل في تركة الجانِي لا على أخيه، وهو الأصحُّ، فلوارث الجانِي على الابْن القاتِلِ ديةٌ تامةٌ، وله في تركة الجانِي نصْف الدية، فيقع النصْف في التقاصِّ، ويأخذ وارثُ الجانِي منْه النصْفَ. وإبراءُ الذي لم يقتل أخاه لاغٍ؛ لأنَّه لا شيْء له عليه، ولو أبرأ وارثَ الجانِي، صَحَّ، ولو أسقط وارثُ الجاني الديةَ عن الابن القاتِلِ، فإن قلْنا: يقع التقاصُّ بنفس الوجوب، فقد سقط النصْفُ بالنصف، كما وَجَبَا، ويؤثِّر الإسقاط في النصْف الآخَرِ، فلا يبقى لأحدهما على الآخر شيْءٌ، وإن قلْنا: لا يقع التقاصُّ إلا بالتراضي، سقَط حقُّ الوارث بإسقاطه، وبقَي للابْنِ القاتِل نصْفُ الديةِ في تركة الجاني، وإذا كان الابن القاتلُ جاهلاً بالتحريم، وجبتِ الديةُ بقَتْله، ويكون في ماله لقَصْده القَتْل أو على عاقلته؛ لأنَّ الجهل بالحال كالخطأ؟ فيه قولان؛ فإن قلنا: في ماله، فالابن الذي لم يَقْتُل يأخذ نصْف الدية من أخيه أو من تركة الجاني فيه القولان وتفريعهما. وإن قلنا على العاقلة يأخذ الابنان الدية من تركة الجاني في الحال ووارث الجاني ¬
أخذ ديته من عاقلة الابْنِ القاتِل، كما تُؤْخَذ الدية من العواقل، هَذَا تفريع القولَيْن في الحالة الأولى، وهو أن يبادر أحد الابنين إلى قَتْل الجانِي قبل عفْو الآخر، فأما إذا قَتَلَه بعْد عَفْوِهِ، فإن أوجبْنا القصاصَ واقتص وارثُ الجانِي، فلورثة المقتص منه نصْف الدية في تركة الجانِي، والعافي لا شيْء له إن عفا مجاناً، وإن عفا على نصْف الدية، فيعود الخلافُ في أنه ممَّنْ يأخذه، وإن لم يقتص منه الوارِثُ، بل عفا، فيُنْظر في حال العفْوَين وما يَقْتَضِيَانِهِ من وُجُوب المال وَعَدَمِهِ، وإن لم نُوجب القصاص، فإن كان الآخر قد عفا عن الدية أو عفا مطلقاً، وقلْنا بوجوب الدية في العفْو المطلق، فللآخرين دية أبيهما وعلى الأخ القاتل دية الجاني، فيقع ماله، وما عليه في التقاص، والآخَرُ يأخذُ النصْف منْه أو من تركة الجانِي؟ فيه الخلاف، وإن عَفَا مجَّاناً أو أطْلَق، وقلْنا إنه لا يوجَب المَالُ، فلا شيء له، وللأخ القاتل نصْفُ دية أبيه من تركة الجانِي، وعليه تمامُ دية الجاني، على ما تبيَّن. واعلم أن ما ذكرنا في المسألة من صور الوقُوع في خلاف التقاصِّ كذلك أطلقه الأئمة، لكنه لا يصفُو عن التوقُّف والتردُّد من جهة أن مَوْضِع الخلاف في التقاصِّ ما إذا تساوَى الديتان. في الجنس والصفة، حتى لا يَجْرِيَ فيما إذا كان أحدُهُما حالاً، والآخر مؤجَّلاً أو كانا مختلفَيْنِ في قَدْر الأجل، وهاهنا أحد الديتين تثبت في ذمة الابن القاتل لوارث الجاني، والآخر يتعلَّق بتركة الجاني، ولا يثبت في ذمَّة الوارث، وهذا الاختلاف أشدُّ من الاختلاف في قدْر الأجَلِ (¬1). قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَأَمَّا إذا قَتَلَ وَاحِدٌ جَمَاعَةً قُتِلَ بِأوَّلهِمْ (ح م) وَلِلْبَاقِينَ الدِّيَاتُ، وَإِنْ قَتَلَهُم مَعَاً خُصِّصَ بِالقِصَاصِ مَنْ خَرَجَتِ القُرْعَةُ لَهُ، وَهَلْ يُكْتَفَى بِالعَبْدِ فِي مُقَابَلَةِ الجَمَاعَةِ فِيهِ خِلاَفٌ لأَنَّ حَقَّ الآخَرِينَ يَضِيعُ فِي التَّخْصِيصِ، فَإِنْ تَمَالأَ أَوْلِيَاءُ القَتْلَى وُزِّعَ عَلَيْهِم عَلَى الأَصَحِّ، وَرَجَعَ كُلَّ وَاحدٍ مِنْهُمْ حِصَّةٌ مِنَ الدِّيَةَ، وَقِيلَ: يَكْفِي عَنْ جَمِيعِهِمْ، وَقِيلَ: يُخَصَّصُ بِالقُرْعَةِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَجْنُونٌ أَوْ غَائِبٌ فَفِي تَسْلِيطِ الحَاضِرِ وَالعَاقِلِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ خِلاَفٌ، وَلَوْ اجْتَمَعَ مُسْتَحِقُّ النَّفْسِ وَالطَّرَفِ قُدِّمَ مُسْتَحِقُّ الطَّرَفِ، وَلَوِ اجْتَمَعَ مُستَحِقُّ اليَمِينِ وَمُسْتَحِقُّ أصْبُعٍ مِنَ اليَمِينِ أُقْرِعَ بَينَهُمَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الواحدُ، إذا قتل جماعةً، قُتِلَ بواحد، وللباقين الدياتُ، وكذلك لو ¬
قطَع الواحدُ أَطرَافَ جماعةٍ؛ لأنها جناياتٌ، ولو كانت خطأً، لم تتداخل، فعند التعمُّد أولَى وهذا القدْر من المسألة مذكورٌ في الصفات التي يُفْضُل بها القاتلُ القتيل، وحكَيْنا هناك خلافَ مَنْ خالف فيه، ولو رضَي الأولياءُ بأن يُقْتَل بهم جميعاً، وَيرْجِعُوا إلى ما يبْقى لكلِّ واحدٍ من الدية عند [فض] القصاص عليهم، قال الإِمام: لا يُجَابون إلَيْه، لا يختلف المذهب فيه، ثم يُنْظَر؛ إن قتلهم على الترتيب، فيُقْتَل بالأول، وللباقين الدياتُ، فإن عفا وليُّ الأول، قُتِلَ بالثَّاني، وهكذا يُرَاعى الترتيب، وإن لم يَعْفُ وليُّ الأول، ولا اقتص، فلا اعتراض عليه، وليس لوليِّ الثاني أن يَبْتَدِرَ إلى قتله، ولو فعل، عُزِّر، ولا غُرْم عليه، بل يقع قتله قصاصاً عن القصاص المستَحَقِّ له، وينتقل حقُّ الأول إلى الدية، وعنه رواية القاضي الحُسَيْن وجه ضعيفٌ: أنه يُغرَّم للأول ديةَ قتيله، ويأخذ من تركة الجانِي ديةَ قتيل نفسه، وإن كان وليُّ القتيل الأولِ غائباً أو صبيّاً أو مجنوناً، حُبِس القاتلُ إلى أن يَحْضُر وليُّ الأول، أو يكمل حاله، وفي "أبانة الفوراني" قولٌ عن رواية حرملة: أن للثاني أن يقتص، ويصير الحضورُ والكمال مرجِّحاً. وإن كان قد قتلهم معاً؛ بأن هدَمَ عليهم جداراً أو جرحهم وماتوا معاً، فيُقْرَع بينهم فمَنْ خرجَتْ له القرعة، قُتِل به، ولو خرجَتْ لواحد، فعفا وليُّه أعيدت القُرْعَة بين الباقين، وكذا لو عفا ثان، خرجت القرعةُ له، والمفْهوم من إطلاق أكثرهم؛ أن الإقراع واجبٌ، وعن رواية أبي الفيَّاض وغيره أنَّه مُستحَبٌّ وللإمامِ أن يقتله بمَنْ شاء منهم؛ لثبوت الاستحقاقِ للكلِّ على التساوِي؛ قال القاضي الرويانيُّ: وهو الأصحُّ، وعليه جرى القاضي ابن كج وغيره، وحكَوْا عن نص الشافعيِّ -رضي الله عنه- أنه قال: أحببت أن يقرْعَ بينهم، ولو رضُوا بتقديم واحدٍ بلا قرعة، جاز إِذِ الحَقُّ لا يَعْدُوهم، فإن بدَا لَهُم، رُدَّوا إلى القرعة، ذكره الإِمام، ولو كان وليُّ بعض القتلَى غائباً [أو صبيّاً أو مجنوناً]، فالقياس الظاهر الانتظارُ، إذا قلنا: لا بد من الإقراع، وفي "الوسيط" عن رواية حرملةَ: أن للحاضر والكامل أنْ يقتص ويكون الحضورُ أو الكمالُ مرجِّحاً للقرعة، فإن أشكل الحالُ، فلم نَدْرِ أَقَتَلَهُمْ دفعةً واحدةً أو عَلَى الترتيب، جُعِل كما لو قتلهم معاً، وأُقْرِع بينهم، فإن أقرّ بسَبْق قتلهم بعْضِهم، اقتص منه [وليه]؛ لأنه أقر على نفْسه بحَقٍّ له. قال أبو الفرجِ السرخسيُّ: ولوليِّ غيره تحليفُه، إن كذَّبه (¬1). ¬
وإذا وقع القتْل على الترتيب، وجاء وليُّ الثاني يطْلُب القصاص، ولم يجئْ وليُّ الأول، فعن نص الشافعيِّ -رضي الله عنه- أنه قال: أحْبَبْتُ أن يبْعَثَ الإمامُ إلى وليِّ الأول؛ ليعرف أهو طالِبٌ أم عافٍ، فإن لم يبعثْ، وقتله الثاني، كرهتُه، ولا شيْءَ عليه؛ لأن لكلِّهم عليه حقَّ القَوَد، ويشبه أن تكون الكراهةُ كراهةَ التحريمِ، وإلا فليس القتل بالأول، بمستَحقٍّ وَيدُلُّ عليه ما رُوِي عن "الأم" فقد أساء بدل لفظه في "الكراهة". ولو قتل جماعةٌ جماعةً، فالقاتلون كالشخْص الواحدِ، إن قتلوهم على الترتيب، قُتِلوا بالأول، وإن قَتَلوهم معاً، أُقرع بينهم، فمَنْ خرجَتِ القرعةُ له قُتِلُوا به، وللباقين الدياتُ في تركاتِ القاتلين، ثم الكلام في فروع. أحدها: العبْد إذا قتل جماعة أحراراً أو عبيداً، هل يُقْتَل بجميعهم؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن في تخصيصه يبعضهم تضييع حقِّ الآخرين، ولأن العبْدَ، لو قَتَل جماعةً خطأً، يتضارَبُون في رقبته، فكذلك في القصاص بخلاف الحرِّ، فإنَّ جناياته لا تتداخل، إذا كانت خطأً، فكلذلك في القصاص وهذا ما أورده القاضي ابن كج. وأصحُّهما: عند الإِمام والقاضي الرويانيِّ وغيرهما: أنه لا يُقْتَل بهم (¬1) جميعاً، ويكلون بمنزلة الحُرِّ المُعْسِر يُقْتَلُ بواحدٍ، وللباقين الدياتُ في ذمته تلقى الله تعالى بها، فعلى هذا لو قَتَلَهم على الترتيب، يُقْتَل بالأول، وإن قَتَلهم معاً، يقرع بينهم، ويُقْتل بمن خرجَتِ القرعة له، ولو عفا وليُّ القتيل الأول، أو وليُّ من خرجت القرعةُ له على مال، تعلَّق المال برقبته، وللثاني قَتْله، وإن بَطل حقُّ الأول؛ لأن تعلُّق المال لا يَمْنَع القصاص، كما لو جنَى العبدُ المرهونُ، فإن عفا الثاني أيضاً على المال، تعلَّق المالان بالرقبة، ولا يُنْظَر فيه إلى التقدُّم والتأخُّر كما لو أتْلَف مالاً على جماعة في أزمنة مختلفة، وإيرادُ صاحب "التهذيب" يُشْعِر بالقطْع بأنه لا يقتل بهم جميعاً، إذا قتل واحداً بَعْدَ واحد، وتخصيص الوجهين بما إذا قتَلَهم معاً. والثاني: إذا تَمَالَأَ عليه أولياءُ القتلَى، وقتلوه جميعاً، ففيه ثلاثة أوجه: أصحُّهما: أن القتْلَ يقَعُ عن جميعهم موزَّعاً عليهم، ويرجع كلُّ واحدٍ منهم إلى ما يقتضيه التوزيعُ من الدية، فإن كانوا ثلاثةً، فقد أخذ كلُّ واحدٍ ثُلُث حقِّه، ولو ثلثا الدية، ووجهُه أن القصاصَ ثابتٌ لكلِّ واحدٍ منهم، وأيهم انفرد به، كان مستوفياً حقَّه كما ذكرنا، فإذا اشتركوا، وقَع عنهم جميعاً. ¬
والثاني: أنه يُقْرع بينهم، ويجعل القتْل واقعاً عمَّن خرجتْ له القرعةُ، وللآخرين الديةُ. والثالث: حكاه الشيخ أبو محمَّد عن الحليميِّ: أنه يكتفي به عن جميعهم، ولا رجوع إلى الدية [ووُجِّه] بأنه لو قَتَل جماعةٌ واحداً متعدِّين، جعلْنا كلَّ واحد منهم كالمنفرِدِ بالقتل، فكما جعلْنا كلِّ واحدٍ كالمنفرد في الاعتداء، كذلك نجعله كالمنفرد في الاستيفاء. الثالث: إذا قَتَل رجلاً، وقطَع طَرَفَ آخَرَ، وحضَر المستحِقَّان، فيقطع طرفه أولاً ثم يقتلُ سواءٌ تقدَّم القتْل أو تأخر؛ لأن في القتل على إثْرِ القطع جمعاً بين الحقَّيْنِ، ولو قدَّمْنا قصاص النفْس عنْد تقدُّم القتل، لفَاتَ قصاص الطَّرَف، ولا معْنى لإسْقَاط قصاص مقصودٍ لمجرَّد تقديمٍ وتأخيرٍ، وعن مالك: أنه يكتفَى بالقتل عن القطْع، فإنه يُفَوِّت الطَّرَف ومنافعَهُ، أما تفوت النفْس. وإن قطَعَ يمين إنسان، ثم قطَع أصبعاً من يمين آخَرَ، وحضَر المستحِقَّان، فيقطع يمينه للأول، وللآخر ديةُ الأصبع، فإن عفا الأولُ، قُطِعت أصبعه للآخر، وإن قُطِع الأصبع أولاً، قُطِعت أصبعه للأول، والثاني يأخذ ديةَ اليَدِ إنْ شاء، وإن شاء، قَطَع ما بقيَ من يد الجاني، وأخذ دية الأصبع، وإنما يراعى التقديم والتأخير هاهنا، بخلاف القطْع مع القتل؛ لأن نقصان الطَّرَف لا يوجب نقصان النفس؛ ألا تَرَى أن بدَلَها لا يختلف، ونقصان الأصبع يوجب نقصان اليد؛ ولذلك يختلف البدَل، هذا ما ذكره الأئمة، والذي أطْلَقَه صاحبُ الكتاب في هذه الصورة: أنه يُقْرَع بينهما ولتحمل على ما إذا وقع القَطْعانِ معاً لا على الترتيب وحينئذٍ، فإن خرجَتِ القرعةُ لصاحب اليمين، فهو كما لو تقدَّم قطعُ اليمين، وإن خرجَتْ لصاحب الأصبع، فهو كما لو تقدَّم قطع الأصبع. وقوله في الكتاب: "قُتِلَ بأوَّلهم، وللباقين الديات" ليعلَم، بالحاء والميم والألف؛ لما مرَّ من مذاهبهم في نصِّ الموضِع المحالِ عليه، وبالواو؛ لوجهِ نسَبْنَاه إلى رواية الرويانيِّ؛ أنه يُقتَل بجميعهم، ولكَلِّ واحدٍ قسطٌ من الدية، وهذا الوجه قد نقله الفورانيُّ، وأيضاً، ففي البيان أن بعْضَ أصحابنا الخُراسانِيِّين، قال: يُكْتَفَى بقتل الواحد عن الجماعة، كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك، ويجوز إعادة العلاماتِ على قوله: "خُصِّصَ بالقصاصِ مَنْ خرجتِ القرعة له". وقوله: "وُزِّعَ عليهم على الأصحِّ" يعني من الأوجه. وقوله: "وقيل يَكْفِي عن جميعهم، وقِيلَ: يُخصَّص بالقرعة" هما الوجهان الآخران. وقوله: "فإن كان فيهم مجنونٌ" إلى آخره، ظاهرٌ في التصوير فيما إذا قتلهم معاً؛
فإنَّ القرعة حينئذ تُسْتعمل، ولكنه لا يختص به، بل يجرِي فيما إذا جرى القَتْل على الترتيب، وفيه صُوَرُ الفورانيِّ كما سبق. وقوله: "ولو اجتمع مستحِقُّ النَّفْس والطَّرَف" أي مستحقُّ القصاص في النفس والطرف ويجوز أن يُعْلَم قوله: "قُدِّمَ مُستحِقُّ الطَّرَفِ" بالميم؛ لِمَا ذكَرْنا من اكْتِفَائِهِ بالقتل. قَالَ الْغَزَالِيُّ: ثُمَّ لاَ يَنْبَغِي لِلمُسْتَحِقِّ أَنْ يَسْتَقِلَّ دُونَ الرَّفْعِ إِلَى السُّلْطَانِ، فَإِنْ فَعَلَ عُزِّرَ وَوَقَعَ المُوقِعُ، وَلِلسُّلْطَانِ أَنْ يُفوِّضَ إلَيْهِ القَتْلَ دُونَ الجَلْدِ في القَذْفِ فَإنَّهُ مُتَفَاوِتٌ وَيُتَّهَمُ فِيهِ، وَفِي القَطْعِ تَرَدُّدٌ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَدِّد الحَدِيدَةَ، وَمَهْمَا أُذِنَ لِلوَليِّ فِي ضَرْبِ الرَّقَبَةِ فَأصَابَ غَيْرَهُ عَمْداً عُزِّرَ وَلَمْ يُعْزَلْ، وَإِنْ أَخْطَأ أُمِرَ بِالاسْتِنَابَةِ لِعَجْزِهِ، وَلَوْ قَتَلَهُ بِسَيْفٍ مَسْمُومٍ يُفَتِّتُهُ قَبْلَ الدَّفْنِ لَمْ يُمَكَّنْ، وَإِنْ كَانَ يُفَتِّتُ بَعْدَ الدَّفْنِ فَوَجْهَانِ، وَأُجْرَةُ الجَلاَّدِ عَلَى المَقْطُوعِ، وَفِي الحَدِّ عَلَى بَيْتِ المَالِ نَصَّ عَلَيْهِ، وَقِبلَ قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ مَنْشَؤُهُمَا أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنِ العُهْدَةِ بِالتَّمْكِينِ أَوِ التَّمْيِيزِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ليْسَ لِمستحِقِّ القصاص استيفاؤُه دون إذْن الإِمام؛ لأنه يحتاج في إثْباتِ القصاص، واستيفائِهِ إلى النَّظَر والاجتهادِ؛ لاختلاف الناس في شرائط الوجُوب، وفي كيفية الاستيفاء، وأيضاً، فإن أمر الدمِ خطيرٌ، فلا وجه لتسليط الآحاد عليه، وأيضاً فإنه عقوبة تَتَعلَّق ببَدَنِ الآدميِّ، فلا بد من مراجعةِ الحاكِم، كحدِّ القذف، وعن أبي إسحاق ومنصورٍ التميميِّ: أن المستحِقَّ يستقل بالاستيفاء، كالأخذ بالشُّفعة وسائر الحقوق، وظاهرُ المذْهَب الأوَّلُ يستوي فيه قصاصُ النفْس والطَّرَف، وإذا استقل به عُزِّرَ، لكن لا غرم عليه، ويعتد به عن القصاص، ولو استقل المقذُوف باستيفاء صور الحدِّ، إما بإذن القادف أو دونه، ففي الاحتساب به وجهان (¬1)، يقاس في أحدهما على القصاص ويفرق في الآخر بأنه لا يتعلَّق بموضع معيَّن، ولا يَهْتَدِي إليه كلُّ أحد، وإذا لم يحتسب به ترك حتى يبرأ ثم يُحَدُّ، ولو مات منه، وجَبَ القصاصُ، إن جلَدَه دون إذنه، وإن كان بإذنه، فلا قصاص، وفي الدية خلافٌ، كما لو قتله بإذنه. فإذا طلب المستحِقُّ أن يستوفِيَ القصاصَ بنفسه، فإن لم يَرَه أهلاً له؛ كالشيخ والزمن والمرأة، لم يجب أنه يستنيب وإن رآه أهلاً له، فإن كان المطلوبُ قصاصَ النفْسِ، والطَّالبُ الوليُّ، فيفوضه إليه، بخلاف الجَلْد في القذْف، لا يُفَوَّض إلى المقذُوف؛ لأن تفويت النفْس مضبوطٌ والجَلْدَات تَخْتلفُ موْاقعُها، ويتفاوت تأثيرُها في ¬
النفْس، وقد يريد المقذوف في الإيلام للتشفِّي والانتقامِ، والتعزيرُ كحد القذف، وإن كان المطلوبُ قصاصَ الطَّرَف، والطالبُ المجنيُّ عليه، فوجهان: أحدهما: يفوضه إليه، كقصاص النفْس؛ لأن إبانة الطَّرَف مضبوطةٌ أيضاً. وأظهرهما: المنع؛ لأنه لا يُؤْمَن أن يردِّد الحديدة، ويزيد في الإيلام، فيَسْرِي. ويُستحب للإمام أن يُحْضِرَ عدلَيْن (¬1) متيقظيْنِ، ليشهدا، إن أنكر المقتص الاستيفاءَ، ولا يحتاج إلى القضاء بعلمه بتقدير أن يكون [الترافع] إليه، ويتفحَّص عن حال السيْف، ليكونَ الاقتصاصُ بالصارم لا بالكَالِّ المعذِّب، وقد رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذاً قَتَلْتُم فَأَحْسِنوا القتْلَةَ، وإذَا ذَبَحْتُمْ فَأحْسِنُوا الذبحة" (¬2) وإذا قتل الجانِي بسيفٍ كالٍّ، فيقتل بالكالِّ أو بالصارِمِ؟ فيه وجهان، أشبههما على ما ذكر القاضي الرويانيُّ وغيره: الأولُ (¬3)، ويُحْكَى الثاني عن "المنهاج" للشيخ أبي محمد، وإذا لم تجوز بالكل فإذا بأن بعْد الاستيفاء بأن السَّيْف كان كالاًّ، عُزِّر المستوفِي. ويُضبَط الجانِي في قصاص الطرف؛ لئلا يضطربَ، فيؤدِيَ إلى استيفاءِ زيادةٍ، ثم في يقية الفصل صور. إحداها: إذا أُذِنَ للوَلِيِّ في ضرب الرقبة، فأصاب غيرها، واعترف المُسْتَوْفِي بأنه تَعمَّد، عُزِّر، وكذا لو ادَّعى الخطَأ فيما لا يَقَع الخَطَأُ بمثله، كما إذا ضَرَب على رِجْله أو وسَطِه لظهور كذبه، ولكن لا يمنع من الاستيفاء، ولا يعزل لأنه أهْلٌ له، وإن تَعدَّى بما فَعَل وهذا كما أنه لو جرحه قبل الارتفاع إلى مجْلس الحُكْم، لا يُمْنَع من الاستيفاء، ومنهم مَنْ يحكي وجهاً أو قولاً آخر: أنه ينعزل، ويُؤْمَر بالإنابة؛ لأنه لا يُؤْمَن أن يتعدَّى ¬
ثانياً، ويريد تعذيبه، فلا يسلَّط عليه، ويُنْسَب هذا إلى أبي الحُسَيْن بن القطَّان، وإن ادَّعَى الخطأ فيما يُمْكِن أن يقرع في مثله الخَطَأ، كما لو ضَرَب على الكتف أو الرأْس ممَّا يلي الرقبة، فيحلف ولا يُعزَّر إذا حلف، لكن يعزل؛ لأن الحال يُشْعر بعجزه وخرقه، ويُرْوَى وجْهٌ أو قولٌ: أنه يُعذَّر بالخطأ، ولا يعزل، وذكر الإمامُ مستدرِكاً أن هذا الوجه ينبغي أن يكون مخصوصاً بما إذا لم يتكرَّر منه الخطأ، ولم يظْهر خرقه، وإنْ ظَهَرَ، فليمنع بلا خلاف، [ينبغي] أن يكون الوجه الأظهر، وهو أن يعزل مخصوصاً بمَنْ لم تُعْرَف مهارته في ضَرْب الرقاب، أمَّا الماهِرُ فيه، فينبغي أَلاَّ يعزل بخطأ اتَّفَقَ له، بلا خلاف. الثانية: أطلق مطْلِقون وجهَيْن في المنْع من استيفاء القصاص بالسيف المسموم، وقالوا، في وجه: لا يُمْنَع؛ لأنه ليس فيه زيادة عقوبة وتفويت. والأصحُّ أنه يُمْنَع؛ لأنه يُفْسِد البدن، وقد يفضي إلى التقطُّع وعسر الغسل والدفن، والوجهان عنْد الإِمام فيما إذا كان تأثيرُ السُّمِّ في التقطع والتفتت يتأخر عن الدَّفْن، فإن كان يُؤثِّر قبل الدَّفْن، فيمنع منه بلا خلاف لما فيه من هتْك الحرمة، وعلَى هذا جرى صاحب الكتاب، وحيث يمنع، فلو بان بعْد القتل أنَّ الآلة كانتْ مسمومةً، عُزِّر، وفي قصاص الطَّرَف؛ يمنع من المسموم لا محالة، فلو استوفاه بالمسموم، فمات المقتص منه، فلا قصاص؛ لأنه ماتَ مِنْ مستحِقٍّ وغير مستحِقٍّ، ويجب نصْف الدية، ويكون على المستوفِي أو عَلَى عاقلته فيه وجهان: أشبههما الأوَّل: وفي كتاب القاضي ابن كج ذكر وجْهٍ أنه يجب القصاص. قال: ولو كان السمُّ مُوحِياً (¬1) وجَب وجهاً واحداً. الثالثة: لينصب الإِمام من يقيم الحدَّ ويستوفي القصاص (¬2) بإذْن المستحقين ويرزقه من خمس خمس الفَيْء والغنيمة المُرْصَد للمصالح، فإن لم يكنْ عنْده مِنْ سهم المصالح شيءٌ أو احتاج إلَيْه لما هو أهم منه، فظاهر المَذْهب أن الأجْرَةَ في الاقتصاص على المقتصِّ منه؛ لأنه مؤنة حقٍّ، يلزمه توفيته فتلزمه تلْك المؤنة، كما تلزم أجرة الكيَّال على البائع، وأجرة وزان الثمن على المشتَرِي، وعن صاحب "التقريب" روايةُ وجهٍ أنها على المقتص، كما أن أجرة نقْلِ الطعام المشتَرَى على المشتَرِي المستَوْفِي، وبهذا قال أبو حنيفة، وروي عن مالك أيضاً، وذكَر أن مأخذ الخلافِ، وهو أن التسليمَ يَحْصُل بالإبانة وتميز العضو عن الجملة أو يكفي فيه التخلية وقرَّب صاحبُ التقريبِ ¬
الخلافَ في المسألة من الخلافِ في أن تسليم الثمار المبيعة على رُؤُوس الأشجار، هل تحصل بالتخلية، وفرق الإِمام بين البابَيْن فقال: اليد جُزْءٌ من الإنسان، والتسليمُ فيها لا يَحْصُل إلا بالفَصْل، وليست الثمار كذلك؛ ألا ترى أن الجانِيَ لو فاتَتْ يدُهُ بعْد التمكين يستقر عليه ضمانُ الجناية بلا خلاف، وإذا اجتاحت الثمار بعد التخلية، فمن ضمان من يكون فيه الخلافُ المشهورُ، والخلافُ الذي يشبهه هذا الخلافُ وجهان ذُكِرَا في أن مؤنة الجَذَّاذ على البائع أو المشتري تفريعاً على أن الجوائح من ضمان البائع، وأما أجرة الجَلاَّد في الحدود، والقاطع في السرقة، فيحصل من المنقول فيها وجهان أيضاً أرجحهما فيما يقتضيه إيرادُ الأكثرين تصريحاً وتعريضاً؛ أنها تَجِبُ على المجلُودِ والسارقِ المقطوعِ أيضاً؛ لأنها من تتمة الحدِّ الواجبِ عليه، وبهذا قال الماسرجسي. والثاني: أنها في بيت المال؛ لأن الحد ليس حقّاً يستقر في الذمَّة استقرار القصاص، وإنما الحدود سياساتٌ يقوم بها السائسُ؛ للمصلحة العامة، فعليه القيامُ بتوابعها ومؤناتها، ومنهم من خصَّص الإيجاب على بيْت المال، بما إذا لم يكُنْ للجاني مالٌ، وفي كلام الأئمة ما يُفْهِم وُيرْشِد إلى ترتيب الخلافِ في أجرة الجَلاَّد في الحدِّ على الخلاف في القصاص، فإن قلنا: يجب على بيت المال، فأجرة الجلادين في الحدِّ على بيت المال، بطريق الأَوْلَى، فإن قلنا: إنها على المقتص منْه، ففي الحدود تجب على المحدود أو في بيت المال؟ فيه وجهان، والفرْق أن المقتص منه مأمورٌ بالإقرار بالجناية؛ ليستوفى منه موجبها فمؤنة الإيفاء عليه، وفي الجرائم المُوجِبَة للحُدُود، هو مأمورٌ بالستر على نفسه، ونقل جماعة من الأئمة منهم المسعوديُّ والفورانيُّ تولُّدَ الخلاف في الصورتين من ذمَّتيْن نقلوهما عن الشافعيِّ -رضي الله عنه- قالوا: نصَّ في القصاص على أن الأجرةَ على المقْطُوع والمقتول، وفي الحدود على أن الأُجْرة على بيت المال، فقررهما مقرِّرون وتَصرَّف فيهما آخَرُون بالنقل والتخريج، وأثبتوا فيهما قولَيْن. أحدُهما: الوجوب على الجاني. والثاني: أنه تجب في القصاص على المستحِقِّ، وفي الحدُود في بيْت المال، وهذه الطريقةُ هي التي أوردَهَا صاحبُ الكتاب، وأجرةُ الجلاَّد في حدِّ القذف كأجرة الاقتصاص، وإذا قلْنا بالوجوب في بيت المال، والتصويرُ فيها إذا لم يكُنْ في بيت المال ما يُمْكِن صرفُه إليه، فيستقرض الإِمام على بيْت المال إلى أن يَجِدَ سَعَة. قال القاضي الرويانيُّ: أو يستأجر بأُجْرَة مؤجَّلَة أو يستسخِرَ مَنْ يقوم به على ما يَرَاه، والاستئجار قريبٌ، والتسخير بعيد، وبتقدير أن يَجُوز ذلك فيَجُوز أن يأخذ الأجرة ممَّن يراه من الأغنياء، ويستأجر بهالأولو قال الجاني: اقْتَصَّ من نفْسِي، ولا أُؤَدَّي الأجرةَ، فهَلْ يُمكن؟ فيه وجهان:
الفصل الثاني في أن القصاص على الفور
أحدهما: وبه قطع الداركيُّ (¬1): نعم؛ لحصول التفويت. وأظهرهما: المنع؛ لأن المقصود التشفِّي، وذلك لا يتم بفِعْلِ الجانِي، وأيضاً، فإنه إذا مستْه الحديدة فترت يداه، ولم يحصُل الزهوق، إلا بأن يعذب نفْسَه تعذيباً شديداً، وهو ممنوعٌ منه، وعلى هذا، فلو قتل نفْسَه أو قطَع طَرَفَاً بإذن المستحِقِّ، ففي الاعتداد به عن القصاصِ وجهان: أحدهما: لا يعتد به، كما لو جلَد نفْسَه في الزَنا بإذن الإِمام أو في القَذْف بإذْن المقذوف، فإنَّه لا يُسْقِطُ الحد عنه، وكما أنه لو قبض المبيع من نفْسِه بإذن المشتري، لا يُعْتَدُّ به. والثاني: يُعْتَدُّ لحصول الزُّهُوق، وإبانة العضو، ويخالف الجَلْد؛ فإنه قد لا يؤْلِم نفسه، ويُرى الإيلام فلا يتحقق حصول المطلوب، وفي البيع، المقصودُ إزالةُ يد البَائِع، ولم تزل قال في "التهذيب": ولو قطع السارق نفسه بإذن الإِمام، اعْتُدَّ به عن الحدِّ، وهل يمكنه إذا قال: أقْطَعُ بنفسي؟ فيه وجهان، يحْسُن ترتيبهما على الخلاف في أنَّه هل يُمَكَّن من الاقتصاص من نفسه، والتمكين هاهنا أوْلَى؛ لأن الغرض هاهنا التنكيل، ويَحْصُل ذلك بفعل السارق أو هو أشدُّ، وهناك الغَرَضُ التشفِّي على ما مَرَّ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الفَصْلُ الثَّانِي فِي أَنَّ القَصَاصَ عَلَى الفَوْرِ فلاَ يُؤَخَّرُ (ح) بِاللِّيَاذِ إلَى الحَرَم بَلْ يُقْتَلُ فِيهِ وَيُخْرَجُ عَنِ المَسْجِد الحَرَامِ فَيُقْتَلُ، وَقِيلَ يُقْتَلُ: فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ وَيُبْسَطُ الأَنْطَاعُ تَعْجِيلاً، وَلَوْ قَطَعَ طَرَفَهُ فَمَاتَ فَلِلْوَلِيِّ قَطْعُ طَرَفِهِ وَحَزُّ رَقَبَتِهِ عَقِيبَهُ إِنْ شَاءَ، وَلَهُ التَّأْخِيرُ، وَلاَ يُؤَخَّرُ قِصَاصُ الطَّرَفِ لِحَرٍّ مُفْرِطٍ وَلاَ لِمَرْضِ الجَانِي، وَلاَ يُمْنَعُ مِنَ المُوَالاةِ فِي قَطْعِ الأَطْرَافِ قِصَاصاً وَإنْ كَانَ قَدْ قُطِعَ أَطْرَافُهُ بِالجِنَايَةِ مُتَفَرِّقَاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لمستحِقِّ القِصَاصِ استيفاؤُه على الفَوْر، إذا أمكن؛ لأنَّ القصاص موجبُ الإتلاف، فيتعجَّل، كقيِّم المُتْلفات، ويتعلَّق بهذه القاعدة صورٌ. إحداها: مَنْ وجَب عليه القصاصُ، إذا التجأ إلى الحَرَم، جاز استيفاؤه منْه في الحَرَم، سواءٌ كان الواجبُ قصاصَ النفْس أو قصاص الطَّرَف، ومثله يُرْوَى عن مالك، وعند أبي حنيفة: لا يُستَوْفَى قصاص النفس في الحرم، إلا أن ينشئ القتل فيه، ولكن يضيق الأمْر عليه، فلا يكلَّم ولا يُطْعَم، ولا يُعامَل حتى يخرج، فيُقْتل وسَلَّم أنهُ يستَوْفَى قِصاصُ الطَّرَف في الحرم، سواءٌ أنشأ الجنايةَ فيه أو أنشأها خارجَ الحرم، والتجأ إلَيه، ¬
وعن أحمد: أنه لا يُسْتوفَى من الملتجئ قصاص النفس، ولا قصاصُ الطَّرَف، واحتجَّ الأصحاب على أبي حنيفة بالقياسِ على ما سلَّم، وأيضاً بأنه قَتْلٌ، ولو وقع في الحَرَم، لم يوجب ضماناً، فلا يمنع منه، كقتل الحية والعقْرب، ولو التجأ إلى المسْجد الحرام أو غيره منَ المساجد، فيُخْرَج مِنْه، ويُقْتَل؛ لأن هذا تأخيرٌ يسيرٌ، وفيه صيانة للمسجد، وفيه وجه أنَّه تُبْسطُ الأنطاع، ويُقْتَل في المسْجِد تعجيلاً لتوفية الحقِّ وإقامة الهيبة (¬1). الثانية: لو قطع طرفه، فمات بالسراية، فسيأتي أن القصاص يُستوفَى بمثله، فإذا قطع المجنيُّ عليه طرَفَه، فله أن يحز رقبته في الحَالِ، وله أن يُؤخِّر، فإن مات بالسراية، فذاك، وإن لم يمت، حَزَّ رقبته، وذلك؛ لأن المستحَقَّ إزهاق الرَّوح، فإن شاء، عَجَّل، وإن شاء، أَخَّرَ، ويجوز أن يُعْلَم بالحاء قوله: "فللولي قطع طَرَفه" لما سيأتي إن شاء الله تعالى. الثالثة: لا يُؤَخَّر قصاصُ الطرَف لشدَّة الحرِّ والبرْدِ، ولا يُعْذَر المرض، وإن كان مخطراً، وكذلك الجَلْدِ في القذْف، بخلاف قطع السرقة، والجَلْدِ في حدود الله تعالى؛ لأن حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة، وحقوقُ العبادِ على المضايقة، هكذا أورده صاحب الكتاب، وهو المذكور في "التهذيب" وغيره؛ وفي "جمع الجوامع" للرويانيِّ: أنه نصّ في "الأم" على أنه يُؤَخَّر قصاص الطرَف بهذه (¬2) الأسباب، ولو قطع من غيره أطرافاً، ووجب فيها القِصاصُ فللمجني عليه أن يقتص على التوالي، سواءٌ قطعها الجاني متفرِّقة أو متوالية؛ لأنها حقوق اجنمعت عليه، وفيه وجه أنه إذا قطَعَها متفرِّقة، يقتص منها كذلك لما في الموالاة من زيادة الخطر، ووجه أنه لا يوالي بينهما، وإن قطَعَها متواليةً، والظاهر الأوَّلُ؛ [لأنها حقوق واجبة في الحال.] قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلاَ يُؤَخَّرُ إلاَّ بِعُذْرِ الحَمْلِ عنْدَ ظُهُورِ مَخَايلِهِ، وَلاَ يَكْفِي مُجَرَّدُ دَعْوَاهَا عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ، ثُمَّ يُؤَخَّرُ إلَى الوَضْعِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ سِوَاهَا مُرْضِعَةً فَإلَى أَنْ يُوجَدَ، وَفِي الحَدِّ يُؤَخَّرُ بَعْدَ الفِطَامِ إلَى أَنْ يَكْفُلَهُ غَيْرُهَا، وَلاَ يُحْبَسُ فِي الحَدِّ، وَلاَ يُتْبَعُ الهَارِبُ، وَيُحْبَسُ فِي القِصَاصِ الحَامِلُ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: المرأة الحاملُ لا يقام عليها قصاصُ النفس، ولاَ قَصاص الطرَّفِ، ولا حَدُّ القذف ولا حدودُ الله تعالى قَبْل الوضْع؛ لما في إقامتها من هلاك الجنين أو الخَوْف عليْه، والجَنينُ بريْءٌ لا يُهْلَك بجريرة غيره، ولا فرْق بين أن يكون الولَدُ من حلاَلٍ أو حرامٍ، ولا بين أن يحدث بعد وجُوب العقوبة أو قَبلَه، حتى أن المرتدَّة إذا حبلتْ من الزنا، لا تقتل حتى تَضعَ، وإذا وضَعت، فلا تستوفي العقوبة أيضاً، حتى ترضع الولَد اللبأ؛ لأنَّ الولد لا يعيش إلا به، هكذا أطلَقَ المُعْظم حكماً، وتوجيهاً، والقاضي أبو الطيِّب منَع ما ذكروه، وقال: قد تموت المرأةُ في الطَّلْق ويعيش الولَدُ بلَبَن غيرها، ومال إلى أنَّها لا تُمْهَل لإرْضَاع اللِّبأ، وعلَّق الإِمام القول فيه، وقال: إن تُحقِّق أن الولَد لا يعيش دون اللبأ، فيُمْهَل إلى أن ترضعه، واعلم أن ما ذكره القاض من أن الوَلَد قد يعيش دونَه صحيحٌ معلومٌ بالمشاهدة، ولكن يشبه أن المُطْلِقِين أرادوا الغالبَ أو أنَّه لا يَقوَى ولا تشتد بنيته إلا به، على ما بيَّنَّاه في "النفقات"، وحينئذ، فلا يَبعُد أن يقال: مدة إرضاع اللِّبأ مدة يسيرة، فيحتمل تأخيرُ الاسيتفاء فيها؛ لنزول الخطَر عن المولود، يَكْمُل عيْشُه، ثم إذا أرضعته اللبأ، فإن لم يكُنْ هناك مَنْ تُرْضِع، ولا ما يعيش المولودُ به من لَبَنِ بهيمةٍ أو غيره، فعن ابن خيران: أنه يُسْتَوْفَى فيها القصاص، ولا يبالي بذلك، كما لو كان للقاتل عيالٌ يضيعون ظاهراً لو اقتص منْه، والصحيحُ المشهورُ: أنه لا بد من التأخير إلى أن توجد مرضعة، أو ما يعيش به أو ترضعه هي حوَليْن، وتفطمه؛ لأنه إذا وجَب تأخير العقوبة احتياطاً للحَمْل؛ فَلأنْ يجب، وقد تيقنا بالوضع وجودَه وحياته، كان أَوْلَى ولو بادر مستحِقُّ القصاص، والحالةُ هذه، فقتلها، فمات، ففي تعليق الشيخ أبي حامد: أنه قاتلُ عَمْدٍ يلزمه القَوَدُ إلحاقاً بما إذا حَبَس رجلاً في بيتٍ، ومنَعَه الطعام والشراب، وكذلك حكاه القاضي ابن كج عن النصِّ عن الماسرجسي، قال: سمعتُ ابن أبي هريرة، يقول: عليه دية الوَلَدِ، فقلت له: أليس لو غصب طعام رَجُل في البادية أو كُسْوته، فمات جوعاً أو بردًا، لا ضمان عليه، فما الفرق؟ فتوقَّف، فلما عَادَ إلى الدرْس، قال: لا ضمان فيهما جميعاً، وهذا مصيرٌ إلى نفي القصاصِ بطريق الأَوْلَى. فهذا إذا لم يكن هناك ما يعيش به المولود أصلاً، ووراءه حالتان: إحداهما: إذا أمكن تربيةُ المولود بمراضعَ يَتناوبْنَ عليه، أو بلبنِ شاةٍ ونحوه، ولم يوجد مرضعة راتبةٌ، فيُستحبُّ للوليِّ أن يَصْبِر لترضعه هي لِئلاَّ يَفسد خلقه ولا يسوء نشوءه بالألبان المختلفة ولبن البهيمة، ولو لم يصبر وطلب القصاص، أُجِيب، وفي المقدور عليه مما تَحْصُل به التربيةُ بلاغٌ. والثانية: إذا وجد مرضعةً راتبة، وطلب المستحِقُّ القصاص، استَوْفَى، وإذا كان
هناك مراضعُ، وامتنعْنَ، فيجبر الحاكمُ من يرى منْهن بالأجرة (¬1)، والجَلْد في القذف كالقصاص. وأما الرَّجْم وسائر حدود الله تعالى، فلا تُستَوْفَى وإن وْجِدت مرضعة، بل ترْضِعُه هي، وإذا انقضت مدة الإرضاع، فلا يُستوفَى أيضاً حتى يوجد للطِّفْل كافلٌ، رُوِيَ أن الغامدية أتتْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي، وَاللهِ، إني لَحُبْلَى، قال: اذْهَبِي، حَتَّى تَلِدِي، فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْ بالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ، فَقَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدّتُه قَالَ: اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ، فَلَمَّا فَطَمَتْهُ، أَتَتْهُ بالصَّبِيِّ، وَفِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقَالَت: قَدْ فَطَمْتُهُ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجْلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِرَجْمِهَا" (¬2) قال الإِمام: والفرق بين القصاص وبين الحدِّ ما تحقّق أن [حدود] الله تعالى تُبْنَى على المساهلة؛ ولذلك يُقْبَل الرجوع عن الإقرار فيها، وحقوقُ الآدميين تُبْنَى على التَّضْييقِ. وتُحْبَس الحاملُ في القصاص، إلى أن يُمْكِن الاستيفاء، على ما ذكرنا فيما إذا كان في المستحِقِّين صبيٌّ أو غائبٌ وفيما إذا كان عليها الرجْم أو غيره من حدود الله تعالى، الظاهر، وهو المذكور في الكتاب: أنها لا تُحْبَس؛ بدليلِ قصة الغامدية، وحكى الإِمام وجْهاً أنها تُحْبَس كما في القصاص، قال الإِمام: وإطلاق هذا بعيدٌ، والأقرب أن يُقيَّد فيقال: إن ثبت بالبيِّنة، فتحْبَس، أما إذا ثبت بالإقرار، فلا معْنَى للحَبْس، مع أنه يعرض للسقوط بالرجوع عن الإقرار، ومما يحقِّق الفَرْق بين الحدِّ والقصاص أن الهارِبَ في الحدِّ لا يُتْبَع على رأي، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في "الحدود" والهاربُ عن القصاص بخلافه. وجميعُ ما ذكَرْنا فيما إذا ظهرت مخايلُ العمل ودلالاته بالإقرار، أو بشهادة النسوة، ولو ادعَتِ المرأة أنها حامِلٌ، فهل يُمْتَنَع عنها بمجرَّد دعواها؟ فيه وجهان: قال الإصطخري: لا؛ لأن الأصل عدَمُ الحمل، فلا تترك إقامة [الحد] الواجب إلا بينة تقوم على ظهور مخايله، وقال الأكثرون، نعم؛ لأن للحمل أماراتٍ تظهرُ وأماراتٍ تخفى، وهي عوارض تجدها الحامل من نفْسها، وتختص بمعرفتها، وهذا النوع يتعذَّر إقامة البينة عليه، فينبغي أن يُقْبَل قولها، كالحيض، ولأن ما تدَّعيه محتملٌ احتمالاً لا بعد فيه، فلا وجه للهُجُوم على ما يُهْلِك الجنين، إن كانَتْ صادقة. والأوَّل أصحُّ عند صاحب الكتاب، ورجَّح المعظم (¬3) الثانِيَ، قال الإِمام: ولا ¬
أدري أن الدين اعتمدوا قولَهَا، يأمرون بالصبر إلى انقضاء مدَّة الحَمْل أو إلى ظهور المخايل، والأظهر الثاني، فإن التأخير أربعَ سنين غير ثبت بعيدٌ، وذكر في "الوسيط" أنَّ على الوجْه الأوَّلَ لا يمكن استيفاء القصاص من منكوحة يخالِطُها زوْجها، وهذا إن كان المراد ما إذا ادعت الحَمْلَ، فكذلك، وإن أراد أنه يمنع الاستيفاء لِمجرَّد المخالطة والوطء من غير دعواها الحَمْلَ، فهو ممنوعٌ؛ لأن الأصل عدم الحَمْل، وجاز أن يقال: إنما يُعْدَلُ عن الأصل بشهادة تستندُ إلى الأمارات الظاهرة، أو بقولها المستند إلى الأمارات الخفية. وقوله في الكتاب: "ولا يُتْبَعُ الهارِب" يجوز أن يُعْلَم بالواو؛ لما سيأتي إن شاء الله تعالى في "الحدود". قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ بَادَرَ الوَلِيُّ فَقَتَلَ الحَامِلَ فَغُرَّةُ الجَنِينِ عَلَى عَاقِلَتِهِ إِذْ لاَ يَتَيَقَّنُ حَيَاةُ الجَنِينِ فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ، وَلَو قَتَلَهَا بِتَسْلِيطِ الإمَامِ فَيُحَالُ بِالغُرَّةِ عَلَى الإِمَامِ فِي وَجْهٍ لِتَقْصِيرِهِ فِي التَّسْلِيطِ أَوْ تَرْكِ البَحْثِ، وَعَلَى الوَلِيِّ فِي وَجْهٍ لِمُبَاشَرَتِهِ، وَعَلَيْهِمَا بِالشَّرِكَةِ فِي وَجْهٍ، وَفِي وَجْهٍ رَابعٍ يُحَالُ عَلَى الإِمَامِ إنْ كَانَ عَالِماً، فَإِنْ كَانَ جَاهِلاً فَلاَ، أَمَّا الجَلاَّدُ فلاَ عُهْدَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ جَهْلِهِ بِحَالٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قُتِلَتِ الحاملُ على خلاف ما أمرْنا به، نُظر؛ إن بادر إليه الوليُّ مستقلاً، أَثِمَ، ووجبت غُرَّة الجنين، إن انفصل ميتاً، ويكون على العاقلة على ما هو شأن الغرة؛ لأن الجنين لا يُبَاشَر بالجناية، ولا تُتَيَقَّن حياته؛ فيكون إهلاكه خطأً أو شبه عمد، وإن انفصل متألماً، ومات، وجبت الدية، وإن مكَّنَه الإِمام وأذِنَ له في قتلها، فقتلها، فقد رتب الأصحاب (¬1) الكلام في ثلاثة فصول: أحدها: الإثْمُ، وهو تَبَعٌ للعلم، فإن علم الإِمام والوليُّ أنها حاملٌ، أثِمَا جميعاً، وإن علم أحدُهما دون الآخر، اختص الإثْمُ بمن عَلِمَ وإن جَهِلا، فلا إثْمَ. والثاني: الضمان؛ فإن لم ينفصل الجنينُ، فلا ضمان، وإن انفصل ميتاً، ففيه الغُرَّة والكفارة، وإن انفصل حيّاً متألماً، ومات كذلك، فعليه دية وكفارة؛ لأن الظاهر أن تألمه وموته من موتها، وإن انفصل سليماً، ثم مات، لم يجب فيه شيءٌ؛ لأنه لا يُعْلَم أنه مات بالجناية أم لا. والثالث: فيمن يَضْمَن، ولا يخلو إما أن يكون الإِمام والوليُّ عالمَيْنِ بالحال، أو جاهلَيْنِ أو كان الإِمام عالماً دون الوليِّ وبالعكس، وهي أربع أحوال: ¬
أحدها: إذا كانا عالمَيْن، فظاهر المذْهب، وهو المنصوص: أن الضمان يتعلَّق بالإمام؛ لأن الاجتهاد والنظر إليه والبحث والاحتياط عليه، وفعل الولي صادر عن رأيه واجتهاده، وهو كالآلة ووراءه وجهان: أحدهما: وهو اختيار المزنيُّ: أن الضمان على الوليِّ؛ لأنه المباشر، والمباشرةُ أقوَى وأولَى بإحالة الهلاك عليْها، وهذا أرجَحُ عند الإِمام وصاحب الكتاب. والثاني: وعن رواية أبي علي الطبريِّ وصاحب "التقريب": أن الضمان عليهما بالسوية؛ لأن الولي مباشرٌ، وأمر الإِمام كالمباشرة؛ فيشتركان في الضمان. والثانية: إذا كانا جاهلَيْنِ، ففيمن عليه الضمانُ الوجوة الثلاثةُ المذكورةُ في الحالة الأولَى وفي تعليق الشيخ أبي حامد القطْع بالأوَّل منها. والثالثة: إذا كان الإِمام عالماً والوليُّ جاهلاً، فإن أوجبْنا الضمان على الإِمام إذا كانا عالمين فهاهنا أولى وإن أوجبناه هناك على الوليِّ، فهاهنا وجهان يَقْرُبَان من الخلاف فيما إذا أضافَ الغاصبُ بالطعامِ المغصوبِ غيرَهُ، على مَنْ يستقر الضمان؟ والرابعة: إذا كان الوليُّ عالماً، والإمامُ جاهلاً، فالمشهور الصحيحُ أن الضمان على الوليِّ؛ لاجتماع العلْم وقوة المباشرة، وعن صاحب "التقريب" وجّه أنه على الإِمام لتقصيره في البحث، ويخرج مما سقْناه أربعة أوجهٍ، وجوب الضمان على الإِمام مطلقاً، ووجوبه على الوليِّ مطلقاً، والشركة مطلقاً، ووجوبه على الإِمام، إذا كان عالماً أو كانَا معاً جاهلَيْنِ، وعلى الوليِّ، إذا اختص الجَهْل، وهذه الوجوه الجارية هي التي ذكرها في الكتاب، إلا أن لفظ الرابع غير وافٍ بالمقصود والوافي ما ذكرناه. التفريعُ: حيث أوجبْنا الضمان على الوليِّ، فالغرة على عاقلته، والكفارةُ في ماله وحيثُ أوجبناه على الإِمام، فإن كان عالماً، ذكذلك وإن كان جاهلاً، فعلى القولَيْن في أن ما يَلْزم بخطأ الإِمام في الاجتهاد؛ يكون على عاقلته أم في بيت المال، وسيأتي ذكْرُهما: أظهرهما: وهو المنصوص هاهنا أنه على عاقلته، وعن أبي الطيِّب بن سلمة، وأبي علي الطبريِّ: القطع به، وإذا قلْنا: إن الغرة أو الدية تكون في بيت المال، ففي الكفَّارة وجهان (¬1) لقربهما من القربات وبُعْدِها عن التحمُّل، ولو باشر القَتْل نائب الإِمام أو جلادُه دون الوليِّ، فإن كان جاهلاً، فلا ضمان عليه بحال؛ لأنه سيف الإِمام، وليس عليه البحْث عما يأمره [الإِمام] به وإن كان عالماً ففيه خلاف مرتَّبٌ على الخلاف في الوليِّ، إذا كان عالماً وأذنَ له الامامُ، والجلاَّد أولَى بأن لا يَضْمَن؛ لأنه لا يستَوْفِي ¬
الفصل الثالث في كيفية المماثلة
لنفسه شيئاً، وإنما يمتثل مأموراً لمنصب الإِمام؛ ولذلك قيل إنه آلة سياسة الإِمام، وأنه لا كفارة عليه، إذا جرى على يده قَتْلٌ بغير حقٍّ، ونقل أبو الفرجِ السرخسيُّ وجهَيْن في أنه هل يعتبر علْمُ الوليِّ والإمامِ والمباشرِ الجلاَّدِ، وقال: أصحُّهما: أنه يعتبر حتى إذا كان عالماً، وهما عالمان يكون الضمان عليهما أثلاثاً، وهذا كلامُنا في ضمان الجَنين. وأما الأمُّ، فلا يجب ضمانُها؛ لأنها تَلِفَت في حدٍّ أو عقوبة، وجَبَتْ عليها. قال في "التهذيب": هذا إذا ماتَت من ألم الضَّرْب، فإن ماتَتْ من ألم الولادة تجب ديتُها، وإن ماتَتْ منهما يجب نصف ديتها، وكأن المراد ما إذا ضربها في الحدِّ فَأَفْضَى إلى الإجهاض والولادة، فماتَتْ من الألمَيْنِ أو من أحدهما. فَرْعٌ: إذا لم يعلم الإِمام بالحمْل، فأذن للوليِّ في القتل، ثم علم، فرجع عن الإذْن ولم يعلَمِ الوليُّ رجوعه، فقتل، فعَلَى مَنِ الضمان؟ يُبْقَى ذلك على ما إذا عفا الموكِّلُ عن القصاص، ولم يعلَمِ الوكيل، وسيأتي، ذَكَره القاضِي ابن كج. واعلم أنه ليْس المرادُ فيما أطلقْنا من العلْم بالحَمْل، وعدم العلم حقيقةَ العِلْم، وإنما المراد الظنُّ المؤكَّد؛ لظهور مخايله، وعبر عنه الإِمام بأن قال: إن كان عالماً بالحَمْل عِلْمَ مثله. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الفَصْلُ الثَّالِث فِي كيْفيَّةِ المُمَاَثَلَةِ وَهِيَ مَرْعيَّةٌ (ح) فَمَنْ قَتَلَ بِالقَطْع أَوْ بِالإحْرَاقِ أَوْ بِالْتَّغْرِيقِ أَوْ بِالتَّخْنِيقِ قُتِلَ بِمِثْلِهِ إلاَّ إِذَا قَتَلَ باللِّوَاطِ وَإيجَارِ الخَمْرِ فَيُقْتَلُ بِالسَّيْفِ مِنْ غَيْرِ إِيْجَارِ، وَقِيلَ: يُوجَرُ خَلاًّ وَيُدَسُّ خَشَبَةً، وَمَهْمَا عَدَلَ المُسْتَحِقُّ إِلَى السَّيْفِ مِنْ غَيْرِهِ مُكِّنَ لأَنَّهُ أَسْهَلُ، فَلَوْ جَوَّعَ الجَانِيَ أَوْ أَلْقَاهُ فِي النَّارِ بِمِثْلِ تِلْكَ المُدَّةِ أَوْ ضَرَبَهُ بالسِّيَاطِ مِثْلَ تِلْكِ الضَّربَاتِ فَلَم يَمُتْ فَيَزِيدُ فِي الضَّرْبِ وَالتَّجْوِيعِ أَمْ يَعْدِلُ إِلَى السَّيْفِ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلَو لَمْ يَمُتِ الجَانِي بِقَطْع مِثْلِ الأَطْرَافِ المَقْطُوعِ جِنَايَةً فَلاَ يُقْطَعُ طَرَفٌ آخَرُ، وَلَوْ لَمْ يَمُتْ بِمِثْلِ تِلْكَ الجَوَاِئفِ فَهَلْ يُوَالِى بِالجَوَاِئفِ فِيهِ تَرَدُّدٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المماثلة مَرْعِيَّةٌ فِي استيفاء القِصاصِ؛ قال الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ" (¬1) ويروى: "أن يَهُودِياً رَضَخَ رَأَسَ جَارِيةٍ بِالْحِجَارَةِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِرَضْخِ رَأْسِهِ بِالحِجَارَةِ" (¬2) فإذا قتل إنساناً قتْلاً موجباً إما ¬
بمحدَّد من سيف أو غيره، أو بمثقل أو خَنَقَه أو غَرَّقَه في ماء أو ألقاه في نَارٍ، أو جوَّعه حتى مات أو ألقاه من شاهق، فللولي أن يقتله بمثل ما قتل به، وبه قال مالك، وخالف أبو حنيفة فيه، وقال: يتعيَّن القتْل بالسيْف، واحتج الأصحابُ بما سبق، وأيضاً، فإن المقصود من القصاص أو مِنْ مقاصده التشفِّي، وإنما يكمل التشفِّي إذا قُتِلَ القاتِلُ بمثل ما قَتَل، ويُستثنى عن القاعدة ثلاثُ صوَرٍ: إحداها: إذا قَتَل بالسِّحْر، يقتصُّ منه بالسيف؛ لأن عمل السْحر مُحرَّمٌ على أن ذلك مما لا ينضبط، وتختلف تأثيراته. والثانية: إذا قَتَل باللِّواط، ففيه وجه أنه لا يجب القصاصُ؛ لأنه لا يقصد به الإهْلاَك، وإنما يبغي اللذة وقضاءَ الشَّهْوة فإذا أفضى إلى الهَلاَك، كان خطأً أو عمْدَ خطأٍ، والصحيح وجوبُه إذا كان يقتل غالباً بأن لاط بصغير وعلى هذا؛ ففي كيفية استيفاء القصاص وجهان: أحدهما: ويحكى عن أبي إسحاق والإصطخري: أنه تدس خشبة في دبره قريبة من آلته (¬1)، ويقتل بها تحقيقاً للمماثلة بقَدْر الإمكان. وأصحُّهما: أنه يقتل بالسَّيف؛ لأنه قَتَل بفعْلٍ محرَّم في نفْسه، فيقتل بالسيف، كما لو قتل بالسِّحْر، قال في "التتمة": وموضع الوجهَيْن ما إذا كان موْتُه متوقَّعاً من المقابلة بمثل ما فعله، أما إذا كان لم يُتوقَّع، وكان موت المجنيِّ عليه لطفولية ونحوها، فلا معنى للمقابلة. الثالثة: إذا أوجره خمراً، حتى مات، فقد حكى أبو الفرج السرخسي فيه وجهين: أنه لا يتعلَّق به القصاص؛ لأنه لا يقصد به الإهلاك، والصحيح خلافه، وفي كيفية استيفاء القصاص وجهان: أحدهما: أنَّه يوجَرُ مائعاً آخر من خَلٍّ أو ماء أو شيْء مُرٍّ، والأصح: أنه يُقْتل بالسيف، ولو سقاه البَوْل، حتى مات، فعن القاضي حسين وجهان في أنه يُسقَى مثله أو يكون كالخَمْر، وفرق بين البول والخمر بأن البول يُبَاح للضرورة بخلاف الخَمْر، ولو ¬
أوجره ماءً نجساً، قال صاحب "التهذيب": يُوجَر ماءً ظاهراً. وكما تراعى المماثلة في طريق القتل، تُرَاعَى في الكيفيات والمقادير، ففي التجويع؛ يُحْبَسُ مثل تلك المدَّة، ويُمْنَع الطعام والشراب، وفي الإلقاء في الماء والنار، يلقى في ماء ونار مثْلِهما، ويترك تلْك المدة، وتشد قوائمه عند الإلقاء في الماء، إن كان يُحْسِن السباحة، وفي التخنيق يُخْنَق بمثل ما خنق مثل تلْكَ المدَّة، وفي الإلقاء من الشاهق يُلْقَى من مثله، وتُراعَى صلابة الموضع أيضاً، وفي الضرب بالمثقل يراعَى الحجْم وعدد الضربات، وإذا تعذَّر الوقوفُ على قدْر الحجر أو قدْر النار أو عدَدِ الضربات، فعن القفَّال أنه يُقْتلُ بالسيْف، وذكر بعضُهم أنه يؤخذ باليقين (¬1). ومهما عدل المستحِقُّ من غير السيف إلى السيْف، مُكِّنَ منه؛ لأنه أوحَى وأسهلُ، قال في "التهذيب": وهو الأولَى وفي "النهاية": أنه لو قتل بالتخنيق، فأراد الوليُّ أن يقتلَه بالسيف، فقد قطع الشيخ أبو محمَّد بأن له ذلك [و] في الطُّرُق رمزاً إلى خلافه؛ لأن الخنق قد يُظنُّ أنه أقرب إلى إزالة الحسِّ المدْرِك للألَم، والضرْب بالسيْفِ يختلفُ باختلاف الضاربين، والمشهور الأولُ، وإذا جُوِّع الجاني مدَّةَ تجويعه، أو أُلْقِيَ في النارِ مثْلَ تلْك المدة التي ألْقَى فيها، فلم يمت، ففيه قولان: أحدهما: أنه يُزَاد في التجويع، ويدام في النار، حتى يموت؛ ليكون قتله بالطريق الذي قتل به، ولا يبالي بزيادة الإيلام والتعذيب، كما لو ضرَبَ رقبة إنسان بضربةٍ واحدةٍ، ولم تُحَزَّ رَقَبَتُهُ إلا بضربتين فصاعداً. والثاني: يعدل إلى السيف؛ لأنه فعل به مِثْل ما فَعَل، وبقي الإزهاقُ، فيحْصُل بأسهل الطُرقِ، ولا يزاد عليه [العذاب] (¬2)، هكذا أطلقَ مطلِقُون الخلافَ، وعلى ذلك جرى صاحب الكتاب، إلا أنه أبدل القولَيْن بالوجهَيْن، وقد فعله غيره أيضاً؛ لأنه قد قيل: إن قول العدول إلى السيف مخرَّجٌ على ما سيأتي، والأصحُّ عند صاحب "التهذيب" القولُ الأول، وفصَّل الإِمام وغيره فقالوا: إن كان القتلُ بالسيف أسْهَلَ مِنْ زيادة التجويع والإلقاء في النار، فيُقْتل بالسيف، فإن تراضَيَا على الإبقاء في النار، ففيه تردُّد عن الشيخ أبي محمد، والأظهر: أنه لا أثَرَ لتراضيهما، ولا يبقى فيها، وإن كان الإبقاءُ في النار أهْوَنَ فوجهان: أحدهما: يبقى فيها؛ لأنه أسهلُ، ولتتَّحدَ جهةُ العقوبة، فإن النفْس تستشعرُ مزيد العذَاب في الانتقال من جنْس إلى جنْس. ¬
والثاني: يعدل إلى السيف؛ لأنه أوحَى لما فيه من العمل بظاهر ما وَرَدَ أنَّه لا قوَد إلا بالسيف، وعن الشيخ أبي محمَّد مضايقة في تصوير القسْم الثاني، وهو أن يكون الإبقاء في النارِ ونحوه أهونَ من السيف، [وهذا] ذهاباً إلى أن القتْل بالسيْفِ أهْوَنَ بكلِّ حالٍ، وصوَّره الإِمام فيما إذا لم يتأت قتلُهُ بالسيف في النار، وكان يَعْظُم الشقاء في إخراجه منها، ويخرج من التفصيلِ والاطلاقِ المذكورَيْنِ ثلاثةُ أوجه: أحدها: أنه يزاد في ذلك الجنس. والثاني: يُعْدَلُ إلى السيف. والثالث: يراعَى الأهونُ منهما، وترجيعُ هذا الثالثِ قريبٌ، فلو قتله بالضرب بالسوْط والحَجَر، ففعل به مثله، فلم يمت، فهل هو على الخلاف المذكورِ في التجْويع، والإلقاء في النار؟ فيه طريقان: أظهرهما: نعم، ووجه الزيادة في الضرْب أنَّه ضَرَبَ إلى الموت، فيضرب إلى المَوْت. والثاني: القطع بالعدُول إلى السيف؛ لأن السيف أوحى وأسهل منه بكل حال، ولأن كلَّ ضربة منقطعةٌ عما قبلها، فصار كقطع طرَفٍ بعد طَرَفٍ، قال الإِمام: ولو قتل نحيفاً بضرباتٍ تَقتُل مثله غالباً، وتيقَّنَّا أو ظننا ظنّاً مؤكداً أن الجانيَ في جثته وقوته لا يَهْلِكُ بتلك الضربات، فالوجه القطع أنَّه لا يضرب تلْك الضرباتِ؛ لأنها لا تقتله، وإنما تراعَى المماثلة، إذا توقَّعنا حصولَ الاقتصاص بذلك الطريق ثم بدَا لَهُ بالآخر (¬1) احتمال آخر، هذا هو الكلام في استيفاء القصاص [في] المقتل الموحي. وأما غير الموحي من القَتْل؛ كالجروح وقطع الأطراف، إذا سرَتْ إلى النفْس، فله حالتان. إحداهما: أن تكون الجراحَةُ بحَيْث يقتص فيها، لو وقعت كالمُوضِحَة، وقطع اليد من الكوع، فللمجنيِّ عليه أن يحز رقبته، وأن يوضِحَه أو يَقْطَع يده، ثم إن شاء، حَزَّ رقبته في الحال، وليس للجاني أن يقول: أمْهِلُونِي مدةَ بقاء المجنيِّ عليه بعْد جنايتي؛ لثبوت حق القصاص ناجزاً، عن أبي الحسين بن القطَّان أن له أن يقولَ: افعلوا بي مثْلَ ما فعلْتُ؛ لأنه قد يَخْطُر لبعضهم العفْو في مدة التأخير، والمشهور الأول، وإن شاء، أمهله إلى السراية؛ على ما تقدَّم، وليس للجاني أن يقول أريحوني بالقتل أو العَفْو بل الخِيَرةُ إلى المستحِقِّ، وعند أبي حنيفة: يُقْتَصَرَ على حَزِّ الرقبة، ولا يقتص في الجراحة والعُضْو، وسلَّم أنه لو قطع الجاني يَدَه ثم حَزَّ رقبته، كان للوليِّ أن يقطع يده ¬
ثم يَحُزَّ رقبته، وإذا اقتص من مُوضِحَة الجناية أو من الطَّرَف المقطوع، لم يكن له أن يُوضِعَ موضعاً آخر، أو يقطع عضواً آخَر، بل ليس له إلا حَزُّ الرقبة؛ لأن الإيضاح في موضِعٍ آخرَ وقطع عضو آخَرَ عدولٌ إلى غير محلِّ الجناية، فليس له زيادةٌ في إيراد العقوبةِ على محلِّ الجناية بخلاف ما ذكرنا في التجويع والإبقاء في النار. والحالة الثانية: أن تكون الجراحةُ بحيث لا يقتص منها، لو وقفت كالجائفة وقطْع اليد من نصْف الساعد، فهل يجوز استيفاءُ القصاصِ بهَذَا الطريقِ أم يُعْدَل إلى السيف؟ فيه قولان: أحدهما: أنه يستوفَى بهذا الطريق تحقيقاً للمماثلة في طريق الإزهاق كَمَا في الحالة الأُولَى وما قبلها. والثاني: يُعْدَلُ إلى السيْف؛ لأن ما لا قصاصَ فيه لا ينضبط، ولا يوثق فيه بالمماثلة؛ ولذلك لم يَجُزِ القصاصُ فيه إذا وقفت، ومن قال بالأول، قال: يجوز أن لا يجب القصاص في الجناية لو وقفت، ويجري القصاص عند السراية؛ ألا ترى أنه لو ضربه بمثقل، فلم يمُتْ، لم يجب فيه القصاصُ، ولو مات منه وجب القصاص، وضُرِبَ بمثله، وأظهر القولَيْنِ عند صاحب "التهذيب": العدول إلى السيف، وعند الشيخ أبي حامد وغيره من العراقيين والرويانيِّ أيضاً: أنه يستوفَى بذلك الطريق، وإذا قلْنا به، فلو كان قد أجافه، فمات، وأُجِيفَ مثْل جائفته، فلم يمُتْ، فهل يُزَاد في الجوائف؟ فيه وجهان: أصحُّهما: لا، لاختلاف تأثير الجوائف باخْتلاف محالِّها، وهو كقَطْع الأطراف المختلفة. والثاني: نعم؛ ليكون إزهاق الروح قصاصاً بطريق إزهاقه، عدواناً، وفي "التهذيب": أن هذا مخرج من مسألة التجويع والإلقاء في النار ونحوهما، وأن العدول إلى السيف مخرج من هذه المسألة، وأن الصحيحَ الفرْقُ؛ لأن القتل هناك مُوحٍ، فالزيادة من الجنْس الذي بدئ به، لا تطول عليه العذاب والقتل والجراحات هاهنا ليست مُوحِيَة، وقد يخنقه، ولا يموت، ويدع الوليُّ قتلْه، فيكون قد عذبه بما لا قصاصَ فيه، وأنا إذا قلْنا: يستوفى القصاص بطريق الجائفة، فإن قال: أجيفه وأعفو عنه، إن لم يمت، لم يُمَكَّن منه، وإنما يُمَكَّن، إذا قال: أجيفه ثم أحز، وكذا لو قال: أرميه من الشاهق، ثم أعفو عنه؛ فإنه لو أجافه ثم عفا عنه، عُزِّر على ما فَعَل، ولم يُجْبَر على قتله، فإن مات، بأن بطلان العفْو، والقولانِ في أنه، هل يُستوفَى القصاص بالجائفة ونحوها؟ يجريان فيما إذا قطع يداً شلأَ فسرى، ويد القاطع صحيحةٌ أو ساعداً مِمَّن لا كفَّ له والقاطعُ سليمٌ، هل يستوفي القصاص بقطع اليد والساعد؟ واعلم أن المماثلة مرعيةٌ في قصاص الطرف كما هي مرعية في قصاص النفْس، ولكن إذا أمكن
رعايتُها، فلو أبان طرَفاً من أطرافه بمثقل أو أوضَحَ رأسه بحجر، لم يستوف القصاص إلا بالسيف، ولو أوضَحَ رأسه بالسيف، لم يوضح رأسه بالسيف، بل بِحديدةٍ خفيفة، وإن كان الطريقُ موثوقاً به مضبوطاً، قوبل بمثله، كَفَقْءِ العين بالأصبع. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ مِنَ الكُوع وَآخَرُ مِنَ المرْفَقِ فَمَاتَ فَهَلْ يقْتَلُ قَاطِعُ المِرْفَقِ بِقَطْعِ مِرْفَقِهِ فِيهِ وَجْهَانِ، وَوجْهُ المَنْعِ أنَّهُ قطَعَ سَاعِداً بِلاَ كَفٍّ فَلاَ يَقْطَعُ سَاعِدَاً مَعَ الكَفِّ، فإذَا مَاتَ الجَانِي بِسَرَايَةِ القَطْعِ أَوّلاً ثُمَّ مَاتَ المَجْنِىُّ عَلَيهِ فَفِي وُقُوعِهِ قِصَاصاً وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إحداهما: قطَع يَدَ إنسانٍ من الكُوع، فجاء آخرُ، وقطَع الساعِدَ من المِرْفَق قبل اندمال الأول، ومات المقطوع بالسراية، فقد مَرَّ أنه يجبُ عليهما القصاص، وأن أبا حنيفة ذهب إلى أن القصاص على الثاني دون الأوَّل، ثم طريق الاستيفاء من الأول أن تُقْطَع يدُهُ من الكوع، فإن لم يَمُتْ تُحَزُّ رقبته. وأما الثاني: فإن كان له ساعدٌ بلا كف، اقتص منه بقطع مرفقه، ثم يُقْتَل، وإن كانت يدُه سليمةً، فتقطع من المرفق، ثم يُقْتَل بالحزِّ أو يُقْتصر على الحز؟ فيه قولان، ويقال: وجهان: أحدهما: أنه يُقتصر على الحز، ولا يقطع مرفقه؛ لأنه لو قطَع من المِرْفَق، فقد يَعْفُو الوليُّ عن القتْل بعْد القطْع، فيكون قد استوفَى ساعداً من الكَفِّ بساعدٍ من غير الكَفِّ. وأظهرهما: على ما ذكَر الإمامُ، وهو المنصوصُ في "المختصر" أنه يقطع ثُمَّ يقتل؛ لترد الحديدة على موردها في الجناية، ولا عبرة بزيادة الكف الهالِكَة بهلاك النفْس والنفس مستحَقَّة وبنَى أصحابُنا العراقيُّون وغيرهم الخلافَ على الخلافِ في أنَّ مَنْ أجافَ غيره، ومات، فليقتص منه بالجائفة؛ من حيْثُ إنه لا تُقطَع اليد السليمة بساعدٍ لا كفَّ لها، كما لا يقتص من [الجائفة، ولو وقفت] (¬1) ولم يَرْتَضِ الإِمام هذا البناء؛ لأن سبب الخلاف في الجائفة؛ أنَّها لا تنضبط، ويختلف أثرها ونكايتها باختلاف غَوْصِ الحديدة وترديدها؛ ولذلك لا يَجْرِي فيها القصاصُ بحال، وأما قطْع المِرْفَق، فهو مضبوطٌ والمِرْفَقُ محلُّ القصاص في الجُمْلة، وعن القفَّال نحْو من هذا، وإذا أراد الوليُّ العفْوَ عن الأول بعْدما قطَع يده من الكُوع، قال الأصحاب: لا يجوز أن يعفو على المال؛ لأن الواجبَ عليه نصْفُ الدية، فإنه أحد شريكَيِ القتل، وقد استوفى ¬
النصف باليد التي قطعها، وإن أراد أن يعفُوَ عن الثاني على المال، فله نصف الدية إلا قَدْر أرْش الساعد؛ فإنه لم يُسْتَوْفَ إلا الساعد. الثانية: إذا اقتص من قاطع اليد، ثم مات المجنيُّ عليه بالسراية، فللوليِّ أن يحز رقبته، أنفه، أو قُتِلَ وله أن يعفو، ويأخذ نصف الدية، واليدُ المستوفاةُ مقابلةٌ بالنصف، وإن مات الجاني حتف أنفه أو قُتِل ظلماً، أو في قصاص آخر، وجب عليه أخْذُ نصْف الدية منْ تركته، ولو قطع يد إنسان فقطعت يداه قصاصاً، ثم مات المجنيُّ عليه بالسراية، فللوليِّ أن يحز رقبة الجانِي، ولو عفا، فلا دية له؛ لأنه قد استوفَى ما يقابل الدية، وهو اليدان، وهذه صورةٌ يجب فيها القصاصُ، ولا يجوز العفْو عن الدية، ولو اقتص منْ قاطِعٍ اليد، فمات بالسراية، فلا شيْء على المقتص، وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: تلزمه الدية. لنا: أن القطع قصاصاً، قطع بحق، فلا تكونُ سرايته مضمونةً كقطْع السرقة، وقد روي عن عمَر وعليٍّ -رضي الله عنهما- أنَّهما قَالاَ: من مَاتَ من حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ، فَلاَ دِيَةَ لَهُ فَإِنَّ الحق قَتْلُه (¬1) ولو ماتَا جميعاً بالسراية بعد الاقتصاص في اليد، نُظِر؛ إن مات المجنيُّ عليه أولاً أو ماتَا فالمشهور أنَّ اليَدَ باليدِ قصاصٌ، والسراية بالسراية قصاصٌ، ولا شيء على الجاني، وهذا نسبه القاضي ابن كج إلى ابن علي الطبريِّ وحكى عن عامَّة الأصحاب أو لوليِّ المجنيِّ عليه نصْفَ الدية في تركة الجانِي؛ لأن سراية الجاني مهدرةٌ، وسرايةَ المجنيِّ عليه مضمونةٌ، وإن مات الجاني أولاً، ففيه وجهان مشهوران: أحدهما: ويروى عن أبي إسحاق: أنه يحْصُل القصاص بما جرى؛ لأن الجاني مات من سراية بفعل المجنيِّ عليه، وحصَلَت المقابلة. والثاني: ويروى عن ابن خيران: المنعُ؛ لأن القصاص لا يسبق الجناية، وهذا ما رجَّحه أكثرهم، وادعى القاضي الرويانيُّ: أن الصحيح الأول، وإذا قلْنا: إنه لا يحْصُل القصاص، فلوليِّ المجنيِّ عليه نصْفُ الدية في تركة الجاني، ولو اتفق ذلك القصَاص في الموضِحَة، فتُؤْخَذَ من تركة الجاني تسعة أعشار الدية، ونصْف عُشْرها، وقد أخذ بقصاص الموضِحَة نصْف العُشْر. فروع: قَطَعَ يدَ إنسانٍ، فحز المقطوعُ يدَهُ رقبةِ الجانِي، فإن ماتَ المقطوعُ بالسراية، صار قصاصاً، وإن اندمل قتل قصاصاً، وفي تركة الجانِي نصفُ الدية؛ لقطعه ¬
اليد، ذكره في التهذيب. ولو قطع يدَ إنسانٍ، وَقَتَل آخَرَ، ثم مات المقطُوعُ بالسراية، فقد قتل شخصين وحكاية صاحب "الشامل" عن الأصحاب: أنه يُقْتَل بالمقتول دون المَقْطُوع؛ لأن قصاص النفْسِ للمقطوعِ وجب بالسراية، وهي متأخِّرة عن وجوبه للمقتول، لكن لوليِّ المقطوعِ أَن يقتص في الطَّرَف، فهذا قُتِلَ بالآخر، أخذ نصْف الدية من تركته، وتوقف فيما إنه يقتل بالمقتول دون المقطوع. ولو أنه بعْد ما قطع واحداً، وقتل آخر، قُطِعَت يده قصاصاً، ومات من القطْع، فلوليِّ المقتول الدية في تركته، وإن قَطَعَ قصاصاً، ثم قُتِلَ قصاصاً، ثم مات المقطُوعُ الأوَّل، فلوليِّه في مال الجانِي نِصْفُ الدية. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوِ اسْتَحَقَّ القِصَاصَ فِي اليَمِينِ وَأَخْرَجَ الجَانِيْ يَسَارَة فَقَطَعَهُ فَأمَّا القِصَاصُ فِي اليَسَارِ فَيَسْقُطُ (و) إِنْ قَصَدَ بِإخْرَاجِهِ الإبَاحَةَ لأَنَّهُ فِعْلٌ مَعَ القَصْدِ، وَلَوْ قَطَعَ يَدَ سَاكِتٍ فَهَلْ يَكُونُ سُكوتُهُ إِهْدَاراً؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَأَمَّا حَقُّ القَاطِعِ فِي اليَمِينِ لاَ يَسْقُطُ إلاَّ إِذَا قَالَ: قَصَدتُّ بِقَطْعِ اليَسَارِ أنْ آخُذَهُ عِوَضاً عَنِ اليَمِينِ فَفِي سُقوطِهِ وَجْهَانِ لأَنَّهُ بُنىَ عَلَى ظَنٍّ خَطَأٍ، فَإنْ أَسْقَطْنَا بَقِيَ لَهُ الدِّيَةُ، وَلَو قَالَ المُخْرِج: قَصَدتُّ بِإخْرَاج اليَسَارِ إِيقَاعَهُ عَنِ اليَمينِ فَقَالَ القَاطِعُ: ظَنَنْتُ بالإخراج إبَاحَةٌ فلاَ قِصَاصَ فِي اليَسَارِ لِتَأكُّدِ الظَّنِّ بِالإخْرَاجِ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ حَالَة لأَنَّ بَذْلَهُ عِوَضاً عَنِ اليَمِينِ تَسْلِيطٌ، وَأَمَّا حَقُّهُ عَنِ اليَمِينِ لاَ يَسْقُطُ إلا إِذَا قَالَ: أَخَذْتُهُ عِوَضاً عَنِ اليَمِينِ فَيَكُونُ تَطَابُقُ القَصْدَيْنِ مُعَاوَضَةٌ فَاسِدَةٌ، وَلَوْ قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّ المُخْرَجَ يَمِينٌ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: ظَنَنْتُهُ قَاِتِلَ أَبِي، وَلَوْ قَالَ: ظَنَنْتهُ يُجْزِئُ عَنِ اليَمِينِ فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ لاَ يَجِبُ القِصَاصُ لأنَّهُ انْضَمَّ إلَيْهِ قَرِينَةُ الإخْرَاجِ، وَإِنْ جَرَى ذَلِكَ في السَّرِقَةِ وفُرِضَ دَهْشَتُهُ أَوْ ظُنَّ وَقَعَ عَنْ جِهَةِ الحَدِّ لأَنَّ الحَدَّ مَبْنَاهُ عَلَى المُسَاهَلَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذه مسألةٌ كثيرةُ التشعُّب، وحقُّ مثلها التثبت وإحْضارُ الذِّهْن، فيقدم عليها أن اليمين لا تُقْطَع باليسار، والعكس على ما مَرَّ، وإذا وجب القصاصُ في اليمين واتَّفقا على قطْع اليسار بدلاً عن اليمين، لم يكن بدلاً، كما لو قَتَل في قصاص النفْس غيرَ القاتِل برضاه [لم يقع بدلاً] ولكنْ لا قصاصَ في اليسار؛ لشبهة البذْل من صاحبها ورضاه بقطْعها، وتجب ديتُها، ومَنْ عَلِم منْهما أن هذه المصالحةَ فاسدةٌ، لحقه الإثْم بحق اليسار، وهل يسقط قصاص اليمين بما جَرَى؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه، إنما رَضِيَ بإسقاط حقِّه في اليمين؛ لتَكُونَ اليسار بَدَلاً عنه، فإذا لم تكُنْ بدلاً، وجب أن يبقى حقُّه في اليمين، كما لو صالح على الإنكار، لم يَسْقُط حقُّه، حيث لم يثْبُت المعوض له.
والثاني: يسقط؛ لأن الرضا بأخْذِ اليسار عوضاً عن اليمين عفْوٌ عن اليمين، قال ابن الصبَّاغ: وهذا أصحُّ؛ لأن ما جعله عوضاً، وهو قطْع اليسار قدْ حَصَلَ، وإن لم يقع بدلاً حكماً، بخلاف عِوَض الصُّلْح، إذا عرَفْتَ ذلك، فلو أن مستحِقَّ القصاص في اليمين طالَبَ الجانِيَ بإخْراج اليمين، فأخرج الجاني يسارَهُ، فقطعها المستحِقُّ فللمخْرِجِ أحوالٌ: إحداها: أن يعْلَمَ أن اليسار لا تُجْزئ عن اليمين، وأنه يخرج اليسار، ويقصد بإخْراجها الإباحةَ للمقتص، فلا قصاص في اليسار ولا دية نص الشافعيُّ -رضي الله عنه- عليه، واتفق عليه الأصحابُ، وقالوا: إن صاحبها قد بَذَلَها مجاناً، وإن يتلفَّظْ بالأباحة، ووجَّهوه بطريقين: أحدهما: أنه وجد فعل الإخراج مقروناً بقصد الإباحة، وقد يقام الفعْلُ مقام النطْق؛ ألا ترى أن تقديم الطَّعَام إلى الضيف نازلٌ منزلةَ الإذْن لفظاً. والثاني: أن الفعْلَ بعد السؤال والطلب نازلٌ منزلة الإذن في المسؤول حتَّى لو قال: أخرج يدك أقطعْها أو مَلِّكني قطْعَها، فأخرج، كان ذلك إباحةً، ولو قال: ناولْني متاعَكَ، لألقيه في البَحْر، فناوله، كان كما لو نَطَق بالإذن فيه، حتى لا يجب عليه الضمان، إذا ألقاه في البَحْر، ولو قدَّم الطعامَ إلى مَنِ استدعاه، كان كما لو قال له: كُلْ، ولك أن تقول، على الأول: إنما يُقَام الفعْل مقامَ النطْق، إذا انضمت إليه قرينةٌ، كالعادة الغالبة في تقديم الطعام إلى الضيْف، وليس الإخراج، والحالةُ هذه، قرينة دالةٌ على قصْد الإباحة، وعلى الثاني: أن الفعْل بعد السؤال، إنما يكون كالإذْن في المسؤول، إذا لم يختلف المفعول والمسؤُول، كما في الأمثلة المذكورة، وهاهنا المسؤول إخراج اليمين، والموجود إخراجُ اليسارِ، قال الإِمام: وقد ذُكِرَ وجّه ضعيفٌ: أن الضّيفَانَ لا يستبيحون الطعام ما لم يتلفَّظ المقدَّم بالإباحة، ولا نأمن أن يَطْرُد صاحبُ ذلك الوجه مذْهَبَه هاهنا، ولم يعتقد طَرْد ذلك الوجّه هاهنا، بل قال: ينبغي أن يستدل بمواضع الوفاق على فَسَاد الوجُوه الضعيفة، ولا يُعْترضُ بالوجوه الضعيفة على مواضع الوفاق، لكن القاضي ابن كج ذَكَر أن أبا الحُسَيْن بن القطَّان حَكَى وجهاً: أنه يجب الضمان، إذا لم يأذن المُخْرِجُ في القطْع لفظاً، وحَمَل نصَّ الشافعيِّ -رضي الله عنه- على ما إذا أذن فيه صريحاً، والظاهرُ المشهورُ ما سبَقَ، ولا فرق بين أن يكونَ القَاطِع عالماً بأن ما يقطعه اليسار، وأن اليسار لا تجزئُ عن اليمين، وبين ألاَّ يكون عالماً بذلك، لكن إذا كان عالماً يُعَزَّرُ وعن أبي الطيب ابن سلمة: أنه يُحتمل أن يجب القصاصُ عند العلْم؛ لأنه قَطَع عضواً لا حَقَّ له فيه عن علْم بالحال، ومَن قصَد قطْع يَدِ الغير ظلماً، فلم يدفعْه المقصود، وسكت حتى قَطع فهل، يكون سكوته إهداراً؟ فيه وجهان: أصحُّهما: لا؛ لأنه لم يؤخَذ منه لفْظٌ ولا فعْلٌ، فصار كما إذا سكت عن إتْلاف مالِهِ.
والثاني: نعم؛ لأنه سكت في محلٍّ يحرُم فيه السكُوت، فدل على الرضا. والوجهان؛ على ما ذكر الإِمام، مفرَّعان على أنه لا يجوز الاستسلامُ ومأخوذَانِ من تردُّد الأصحاب في أن الزانية لم لا تستحق المَهْرَ، فَمِنْ قائل إنها لا تستحقُّ؛ لأن الوطء محرَّم، ومن معلِّل بأن التمكين رضاً في العُرْف؛ وعلى هذا، فالتمكينُ من القطْع إباحةٌ، ولو سرى قطْع اليسار إلى النفس، ففي وجوب الدية الخلافُ المذكور، فيما إذا قال: اقتلْنِي، فقَتَلَه، وبنى وجوب الكفَّارة المقْطُوع يساره على الخلاف في أن قاتِلَ النفْس، هل يلْزمُه الكفَّارة؟ هذَا هو الكلام في قطع اليسار في هذه الحالة، وأما قصاص اليمينِ، فإنه يبقى كما كَانَ. نعم، إذا سرى قطْع اليسار إلى النفس، فات محلُّ القصاص، فيعدل المستحِقُّ إلى الدية، ولو قال: قطعْتُ اليسار على ظَنِّ أنها تجزئُ عن اليمين، ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يسقط قصاصُ اليمين؛ لأنه لم يسقطْه ولا اعتاض عنه. وأظهرهما: وهو المذكور في "التهذيب" واختيار الشيخ أبي حامد والقاضِي الحُسَيْن، على ما حكى الإِمام: أنه يسقط؛ لأنه رَضِيَ بسقوطِه اكتفاءً باليسار، وإذا كنَّا نجعلُ الإخراجَ مع قصْد الإباحة كالتصريح بالإباحة، لم يبعد أن يُجْعل قطع اليسار على قَصْد الاكتفاء بها كالتصْريح بإسقاط القصاص في اليمين، وعلى هَذَا فيعْدِلُ مستحِقُّ اليمين إلى الدية، واليسار هدرٌ بالإباحة، ويجري الوجهان فيما إذا جاء الجانِي بالدية، وطَلَب من مستحِقِّ القصاص متضرعاً إليه أن يأخذها وينزل القصاص، فأخَذَها، هل يُجْعَل الأخذُ عفواً، ولو قال: علمت أن اليسار لا تجزئُ عن اليمين شرعاً، لكن جعلتها عوضاً عن اليمينِ من عندي، اطَّرَدَ الخلاف، وجعل الإِمام هذه الصورة أولَى بالسقوط؛ لأن ما صدَرَ منْه، والحالةُ هذه، يَظْهَر حمله على معاوضة فاسدةٍ، وهناك ظَنَّ حكمَها وهو مخطئ فيه، فإسقاط حقِّه بذلك الظنِّ كالمستبعد. وقوله في الكتاب: "فأما القصاص في اليسار فيسقط" يجوز أن يُعْلَم بالواو؛ للاحتمال الذي أبداه ابن سلمة. وقوله: "وأما حق القاطع في اليمين" يعني قاطع اليسار. وقوله: "قصدتُّ بقطع اليسار أن آخذه عوضاً عن اليمين يشمل الصورة المرتبة والمرتَّب عليها؛ لأن أخذه عوضاً عن اليمين يجوز أن يكُون لِظَنِّه جوازَ الإبْدَالِ شَرْعاً، ويجوز أن يكونَ لجعله اليسارَ عوضاً منْ عنده مع العِلْم بأنه لا يَجُوز. الحالة الثانية: إذا قال قصدتُّ بإخراج اليسار إيقاعَها عن اليمين، لظَنِّي أن اليسار
تقوم مقامَ اليمينِ، فنسْألُ المقتص، لِمَ قطَعَ اليسار، ويفرض جوابه من عدة وجوهٍ. أحدُها: أن يقول: ظننتُ أنه أباحَها بالإخراج، فلا قصاص علَيْه في اليسار؛ لأن ما يقوله محتملٌ، وفي إخراج اليسارِ، والمطلوبُ اليمينُ، ما يوهمه، هكذا يُحْكَى عن القفَّال وغيره، قال الإِمام: وفيه احتمالٌ؛ لأن اللائقَ بالحال الدهشةُ، أو جعْلُها بدلاً عن اليمين، أما الإباحة، فهي بعيدةٌ، والظنونُ البعيدةُ لا تَدْرَأُ القصاصَ، وتحقيقُ الإباحةِ مع اعتراف المُخْرِج بأنه [قصد بإخراجها الإباحة]، فيه تكلف، كما سبق، فكيف، والحالةُ هذِهِ، ويَحْسُنُ أن يقام ما ذكَره وجهاً، ويُعْلَم له قوله في الكتاب: "فلا قصاص في اليسار" وأما قصاص اليمين فإنه يبقى كما كان. والثاني: وهو غيرُ مذكورٍ في الكتاب: أن يقول: علمتُ أن المخرَجَ اليسارُ، وأنها لا تجزئ عن اليمينُ، ولا تُجْعَلُ بدَلاً عنْها، ففي وجوب القصاص وجهان، قال ابن الوكيل: يجب؛ لأنه قَطَع بلا استحقاق عن علْم بالحال، والأصحُّ: المنع؛ لتسليط المُخْرِجِ عليه؛ بجعله عوضاً وإخراجه على هذا القصْد، ولكن تجبُ الديةُ وعلى الوجهَيْن؛ يبقى قصاصُ اليمين، كذلك ذكره صاحب "التهذيب" وغيره. والثالث: أن يقول: قطعتُها عوضاً عن اليمين، وظننتُ أنها تجزئُ عنها، كما ظنَّ المخرِجُ، فقد ذكر الإِمام وصاحب الكتاب في "الوسيط": أنه لا قصاص في اليسار؛ لما سبق من شبهة تسليطِ المخرِج بقصد الإيقاع عن اليمين، وأن العراقيِّين حكَوْا عن ابن الوكيل: وجوبَ القصاصِ، وأن سقوط القصاص في اليَمينِ يُخَرَّج على الخلاف المذكور في الحالة الأُولَى والظاهرُ سقوطُه تنزيلاً للفعْل مع توافُقِ القصدَيْن على اعتياضٍ فاسدٍ، وكُتُبُ العراقيين ساكتةٌ عن رواية الوجُوب عن ابن الوكيل في هذه الصورة، إنما رووه، إذا قطَع، وقال: علمتُ أن اليسار لا تجزئُ عن اليمين، على ما قدَّمْنا، والذي أورده صاحب "التهذيب" وغيره في اليمين: سقوطُ [القصاص، وإذا سقط] (¬1) عن كل واحدٍ منهما، وجبَتِ الديةُ لكل واحدٍ منْهما على الآخر. والرابع: أن يقول: ظننتُ أن التي أخرجَها اليمينُ، فلا قصاصَ في اليسار؛ لما ذكرنا عن معنى التسليط، وقد نقل الإِمام عن العراقيِّين القَطْعَ به، وصوَّبهم فيه، وفي "التهذيب" وجه آخر: أنه يجبُ القصاص، كما لو قتل إنساناً، وقال: ظننته قاتِلَ أبي، فلم يكن، وإذا قلْنا: يجب، وهو الظاهر، ففي وجوب الدية وجهان: أحدهما: المنع؛ لأن المخرِجَ قصَّر حيْث لم يتثبت، وسلَّط على القطْع. ¬
وأصحُّهما: الوجوب؛ لأنه ما بذَلَها مجاناً وإنما قصد إيقاعها عوضاً، فهذا لم يقَعْ عوضاً، وجَب بدَلُها، كما لو باع سلعةً بيعاً فاسداً، وسلَّمها إلى المشترِي، وتَلِفَتْ أو دَفَع المُسلَّم إليه الشعيرَ بَدلاً عن الحنْطة، وتَلِف عنْد المُسلّم، يجب ضمان التالف، وأما قصاص اليمين، فإنه يبقى بحالِهِ ويجيْء فيه الخلافُ السابقُ. الحالة الثانية: إذا قال: دهشتُ، فأخرجتُ اليسار، وظَنِّي أني أُخرج اليمين، فيُسْأَل المقتص عن قصده في قطْع اليسار ونفرض جوابَه من وجوه: أحدها: أن يقول: ظننتُ أن المخرِجَ قصَد الأباحة، فقياسُ مثله في الحالة الثانية؛ أَلاَّ يجب القصاصُ في اليسار والذي قاله في "التهذيب": أنه يجب كمن قتل إنساناً، وقال: ظننتُ أنه أذِنَ لي في القتل، وهذا يوافق الاحتمالَ المذكور هناك، وهو المتَوجِّه في الموضعَيْن. وثانيها: أن يقول: علمتُ أن المُخرَجَ اليسارُ، وأن اليسار لا تجزئُ عن اليمين، فقد نقل العراقيون فيه الوجهين المذكورين في مثْله من الحالة الثانية، وَجْه ابن الوكيل، ووجه سائر الأصحاب، واقتصر الإمامُ وصاحب "التهذيب" وغيرهما على الحُكْم بوجوب القصاص، وسبب ترجيح الوجوبِ هاهنا؛ أنَّه لم يوجدُ من المُخْرِج بذلٌ وتسليطٌ. وثالثها: أن يقول: ظننتُ أن اليسار تجزئُ عن اليمين، قال الإِمام: الذي رأيتُه في الكتب: أنه لا يجبُ القصاصُ، وينهض ظنُّه عذراً ويحتمل أنه يجب، ولا يبالَى بهذا الحُسْبَان، كما إذا قتل مَنْ أمسك أباه، حتى قُتِل، وقال: ظننتُ أن القصاص يجبُ على المُمْسك، فإن الرأْي الظاهرَ أن القصاصَ لا يندفع بمثْل ذلك. ورابُعها: أن يقول: ظننتُ أن المُخْرَجَ يمينٌ، فلا قصاص في اليسار؛ لأن هذا الاشتباه قريبٌ وفيه الوجه المذكور في مثله من الحالة الثانية، وحكى الإمامُ هاهنا أنَّه على الخلافِ المذكورِ فيما إذا قتل إنساناً، وقال: ظننته قاتلَ أبِي، وفي جميع هذه الصُّوَر يبقى القصاصُ في اليمين، إلاَّ إذا قال: ظننت أن اليسار تجزئُ عن اليمين، فيه الخلاف السابق، والظاهرُ سقوطُه، وإذا سقَطَ القصاص من الطرفين فلكلِّ واحدٍ منهما الديةُ على الآخر، ولو قال القاطع: دُهِشْتُ، فلم أدر ما صنعْتُ، قال الإِمام: لا يُقْبَل منه وُيلْزَمه القصاصَ في اليسار؛ لأن الدهشة [السالبة] للاختيار لا تليق بحالة القاطِع، وفي كُتُب الأصحاب لا سيَمَا العراقيين: أن المُخرَج لو قال: لم أسمَعْ من المقتص: أَخْرِجْ يمينك، وإنما وقَع في مَسْمَعِي؛ أخْرِجْ يسارَك، فأخرجتها، فالحُكْم فيه كالحُكْمُ فيما لو قال: دُهِشْتُ، فأخرجت اليسار، وأنا أظن أني أُخْرِج اليمين، لكن قضية ما مرَّ أن الفعْل المطابِقَ للسؤال نازلٌ منزلةَ الإذن لفظاً أن نُلْحق ذلك بصورة الإباحة.
وقوله في الكتاب: "لتأكد الظن بالإخراج، وكذا في كل حالةٍ؛ لأن بذْلَه عوضاً عن اليمين تسليط" كذا في أكثر النسخ، وفي بعضها لِتَأَكُّدِ الظنِّ بالإخراج، ولأن بذله عوضاً" وطرح قوله: "وكذا في كل حال" فإن طرح، فذاك، وإن أثبت، فالأحوال التي يمكن تنزيل اللفظ عليها هي [الفصول التي فصَّلْناها و] (¬1) التأويلات التي فصَّلْناها من قوله: "تعمَّدت القطع مع العلْم بأنها يسارٌ وأنها لا تجزئُ عن اليمين" ومِنْ قوله: "قطعتها عوضاً عن اليمين". وقوله: "ظننت أن المُخْرَجَ اليمين" أعلمت الكلمة بالواو؛ لما ذكرنا من الخلاف في الفصل الثاني والرابع من الترتيب الذي ذكَرْناه، لكنه ذَكرَ على الأَثَر ما إذا قَالَ: "ظننتُ أن المُخْرَجَ يمينٌ، وما إذا قال: "ظننتُ أنها تُجْزِئ عن اليمين" فلا يبقى لقوله: "وكذا في كل حالٍ" كبيرُ فائدةٍ. وقوله: "ولو قال: ظننتُ أن المخرَجَ يمينٌ، فهو كما لو قال: ظننتُه قاتل أبِي" هذا صحيح في الحقيقة؛ لما ذكرنا في الصورة من الخلاف، لكنه لم يذكر في "الوسيط" الخلافَ في هذه الصورة في الحالة الثانية، وكذا الإِمام، وإنَّما ذكراه في الحالة الثالثة المغفلة في الكتاب، وهي أن يقول المُخْرِج: دُهِشْتُ، وهو في الغالب يَنْحُو نحْو الإِمام، ونحو ما ذكره في سائر كتبه، وإذا كثرت الشعب والأقسام، لم يُؤْمَن مِنْ أن يدخلُ حُكْمُ بعْضها في بعْضٍ، ثم يجوز أن يُعْلَم قوله: "وهو كما لو قال ظننته قاتِلَ أبي" بالواو؛ للقطع الذي حكاه الإِمام وصَّوبه، وكذلك قوله: "ففي هذه الصورة، لا يجب القصاصُ" ليعلم بالواو. وجميع ما ذكرناه في القصاص، فأما إذا وجب قطْع اليمينِ في السَّرقة، فقال الجلاَّد للسارِق: أَخْرِجْ يمينَكَ، فأخْرَجَ يساره، فقطَعها، فعن القفَّال وغيره حكايةُ قولٍ أن الحُكْم على ما ذَكَرْنا في القصاص، وهذا القولُ يُنْسَب إلى القديم، ويقال أيْضاً: إنه مُخرَّج. وظاهر المذهب أنه يُكْتَفَى للحدِّ بما جَرَى، ويسقط قطْع اليمين، والفَرْق أن المقصود من الحدِّ التنكيل وتنقيص الآلة الباطشة، وقد حصَل ذلك، والقصاصُ مبنيٌّ على المماثلة، وأيضاً، فالحدود مبنيةٌ على المساهمة، ولليسار مدْخلٌ في قطْع السرقة في الجملة، فجاز أن يكْتفَى بها، وحقوق الآدميين مبنيةٌ على المضايقة، فلا يقطَعُ اليسارُ باليمين بحالٍ، وأيضاً، فقطع القصاصِ أخصُّ بالطَّرَف من قطع السرقة؛ ألا ترى أن مَنْ قَطَع يمين غيره، ولا يمين له، لا تُقطَع يساره بحال، ولو سرق مَنْ لا يمينَ له، فقد تُقطَع يساره واستدركَ القاضي حُسَيْن؛ فحمل ما أطلَقَه الأصحابُ على الحالتَيْن ¬
الأخيرتين من الأحوال الثلاث، وقال في الحالة الأُولَى: وهي أن يُخْرِج يساره على قصْد الإباحة أو البدل، وجَب أن لا يسقط القطْع في اليمين، كما لو قطع السارقُ يسارَ نفْسِه أو قطَعَها غيره بعْد ما وجَب قطع اليمين بالسَّرقة. ثم في المسألة فروعٌ: أحدها: لو كان المقتصُّ منه مجنوناً، فهو كما لو أخرج اليسارَ مدهوشاً، ولا يتحقَّق منه البذلُ والتسليطُ ولو كان المقتص منه عاقلاً، والمستحِقُّ مجنوناً، فقطع يمين المقتص منه مكرهاً له فهل يكون مستوفياً لحقه؟ فيه خلاف قد تقدَّم، وإذا قلْنا: لا يصير مستوفياً، وهو الصحيح، فينقل حقه إلى الدية، ويجب للجانِي ديةُ يدِهِ، فإن جعلْنا عمْدَهُ عمداً، فالدية في ماله، والصورةُ من صُوَر التقاصِّ، وإن جعلْناه خطأً، فدية اليسار على عاقلته ولا (¬1) تقاصَّ، ولو قال لمن عليه القصاص: أَخْرِجْ يمينَكَ، فأخرَجَها، فقَطَعَها المجنونُ، قال الأئمة: لا يصح استيفاؤه، وينتقل حقُّه إلى الدية، ولا ضمان عليه؛ لأنه أتلفها ببذْلِهِ وتسليطِهِ، وإن أخرج يسارَهُ، فقَطَعها، فهي مهدرة، ويبقى القصاصُ في اليمين. الثاني: حيْثُ أوجبْنا دية اليسار فهي في مال القاطِع؛ لأنه قطَع متعمِّداً، وعن نصه في "الأم": أنها تجب على العاقلة. وحيث يبقى القصاصُ في اليمين فلا يُستوْفَى حتى يندمل قطْع اليسار؛ لما في توالي القطعَيْن من خَطَر الهلاك، نص عليه، ولو قطَع طرَفَيْ إنسانٍ معاً، فيقتص فيهما معاً، ولا يفرق، فعَنْ بعض الأصحاب فيما حكى الفورانيُّ وغيره: أنهما على القولَيْن بالنقل والتخريج، والصحيحُ الفرقُ؛ لأن الخطَرَ هاهُنَا لو والينا لا ينشأ من القَطْع المستَحقِّ، بل منه ومن غيره، فيُؤخَّر إلى أن يزول ما ينشأ من غير المستَحقِّ، ويخالف ما إذا قَطَعَ يمينَ واحدٍ ويسار آخر، حيث لا نُوالي بين القصاصين؛ لأنه يجتمع خطر [عليه، ولم يوجد منْه ذلك، وإذا قَطَعَهَما من واحِدٍ، فقد جَمَعَت جنايتُهُ خطَر القطْعَيْن] (¬2) على واحدٍ فيقابل بمثله، ويُخَرَّج من النقل والتخريج وجْهٌ أنه لا يُوالَى في قصاص الأطراف، وإن والى الجاني في قطْعها وقد ذكرناه من قبل. ¬
الباب الثاني العفو
الثالث: قال المُخْرِجُ: قصدت بالإخراج إيقاعَهَا عن جهة اليمين، وقال القاطع: أخرجْتَها على قصْد الإباحة، فالمصدَّق المخرجُ بيمينه؛ لأنه أعرف بقَصْده. فرْعٌ: نبت له قصاصٌ في أنملةٍ، فقَطَعَ من الجاني أنملتَيْن، سئل فإن اعترف بالتعمد، قُطِعَتْ منه الأنملة الثانية، وإن قال: أخطأتُ، وتوهَّمتُ أني أقْطعُ أنملةً واحدةً، صُدِّق بيمينه، ووجب أرْشُ الأنملةِ الزائدةِ، ويكون في ماله أو على العاقلة؟ فيه قولان أو وجهان، قال الروياني: والأصحُّ الأَوَّلُ: البَابُ الثَّانِي العَفْوُ قَالَ الْغَزَالِيُّ: والنَّظَرُ فِي طَرَفَيْن: الأَوَّلُ فِي حُكْم العَفْوِ وَهُوَ مَبنِيٌّ عَلَى أَنَّ مُوجِبَ العَمْدِ القَوَدُ المَحْضُ وَالدِّيَةُ خَلَفٌ عِنْدَ سُقُوطِهِ، أَوْ هُوَ القَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ أَحَدُهُمَا لاَ بِعَيْنِهِ، وَفِيهِ قَوْلاَنِ، فَإِنْ قُلْنَا: الوَاجِبُ أَحَدُهُمَا فَلَوْ عَفَا عَنْهُمَا صَحَّ، وَإِنْ عَفَا عَنِ الدِّيَةِ فَلَهُ القِصَاصُ، وَهَلْ لَهُ مَرْجِعُ إلى الدِّيَةِ فِيهِ ثَلاثةُ أَوْجُهٍ، وَجْهُ الرُّجُوعِ أنهُ يَبْعُدُ بَقَاءُ قِصَاصٍ مَحْضِ بِلاَ دِيَةِ يُرْغَبُ بِهَا في العَفْوِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّ تَأْثِيرَ العَفْوِ يُلْحِقُ تَفْرِيعَ هَذَا القَوْلَ بِالقَوْلِ الآخَرِ، فَإِنْ قُلْنَا: لاَ مَرْجِعَ إلى المَالِ فَفِي جَوَازِ التَّرَاضِي وَجْهَانِ، فَإِنْ جَرَى مَعَ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَوَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلَى بِالمَنْعِ وَهُو جَارٍ فِي كُلِّ قَصَاصِ يَثْبُتُ بِلاَ دِيَةٍ، وَلَوْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنْكَ نُزِّلَ عَلَى القِصَاصِ في وَجهٍ، وَرُجِعَ إلى نِيَّتِهِ في وَجْهٍ، وَلَو قَالَ: اختَرْتُ الدِّيَةَ يَسْقُطُ القِصَاصُ، وَلَو قَالَ: اخْتَرْتُ القَوَدَ لَمْ يَسْقُطِ الدِّيَةُ عَلَى الأَظْهَرِ لأنَّه تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصود الباب الكلامُ في العفْو، وهو مندوبٌ إليه وإذا عفا بعْض المستحِقِّين، سقط القصاص، وإن لم يَرْضَ الآخرون، واحتُجَّ بأنه رُوِيَ ذلك عن عُمَرَ وابنِ مسعُودٍ -رضي الله عنهما- ولا مخالِفَ لهما في الصحابة -رضي الله عنهم- فكان كالإجْمَاع، وبأن القصاصَ لا يَتَجَزَّأ فيُغلَّب جانبُ السقوط لحَقْن الدماغ، وكذلك نقول: لو عفا عن عُضْو من أعضاء الجانِي، سقَط القصاص كلُّه، كما أن تطليق بعْض المرأة تطليقُ كلِّها، وكذا لو أقَّتَ العفْو، تأبَّد (¬1)، ثم القولُ في العفْو، يقع في طرفين: ¬
أحدهما: في حكْم العَفْو وأثَرِه. والثاني: في ألفاظه وفي الصحيح منها والفاسد. أما الأول: فهو مبنيٌّ على أن موجِبَ العمْد في النفْس والطَّرَف ماذا؟ وفيه قولان: أحدهما: أن موجبه القَوَدُ المحْضُ، والديةُ خلَفٌ، يُعْدَل إليه عنْد (¬1) سقوطه؛ لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة- 178]، وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قَالَ: "العَمْدُ قَوَدٌ" (¬2) ولأنه بَدلُ متلَف، فيتعين جِنْسه كسائر المتلَفَات. والثاني: أن موجِبَه أحدُ الأمرين، إما القصاصُ أو الديةُ؛ لما رُوِيَ عن ابن سُرَيْج الكَعْبِيِّ -رضي الله عنه- "أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: ثُمَّ أَنْتُم يَا خُزَاعَةُ قَتَلْتُمْ هَذَا القَتِيلَ مِنْ هُذَيْل، وَأَنَّا وَاللهِ، عَاقِلُهُ، فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَهُ قَتِيلاً، فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ، إِنْ أَحبُّوا، قَتَلُوا، وَإِنْ أحَبُّوا أَخَذُوا العَقْلَ" وهذا القول أرجَحُ عند الشيخ أبي حامد، والأظهر عند القاضي أبي الطيِّب والرويانيِّ وصاحب "التهذيب" وغيرهم: الأوَّلُ، وعلى القولَيْن جميعاً؛ للوليِّ أن تعفو على الدية، ولا يحتاج إلى رضا الجاني؛ لحديث ابن سُرَيْج، ولو مات أو سَقَط الطَّرَف الذي استحَقَّ قِصاصَه، وجبتِ الديةُ، كما لو سقط القصاص بعفو بعْض الورثة وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: لا يُعْدَل إلى المال إلاَّ برضا الجاني، وإذا ماتَ الجانِي، سقطت الدية، وفي شرْح "مختصر الجُوَيْنيِّ" أن صاحب "الجامع" حكَى عن القديم قولاً مثله، وعن مالك روايتان؛ أشهرهما مساعدة أبي حنيفة والثانية: تخيير الوليِّ، قال الإِمام: إذا كنَّا نخير على القولين الوليَّ، ونرجع إلى الدية عند الموت، ففي العبارة المشهورة لترجمة القولين تكلُّفٌ، والصيغةُ التامة عَلَى الغرض، أن يقال: العَمْدُ ¬
يقتضي ثبوت المال لا محالة، ولكنه يَثْبُتُ معارضاً وموازناً للقصاص، أو يثبت تبعاً وبدلاً لا أصلاً ومعارضاً؟ فيه قولان: التفريع: إن قلْنا: الواجب أحدُهما لا بعينه، فلو عَفَا عن القصاص والدية جميعاً، فلا مطالبة بواحد منهما، ولو قال: عفوْتُ عمَّا وجبَ لِي عليْكَ بهذه الجناية أو عن حَقِّي الثابت عليك، وما أشبهه، فكذلك حكاه القاضي ابن كج عن نصِّه -رضي الله عنه- ولو قال: "عفَوْتُ على أن لا مَالَ لي"، فوجهان: أحدهما: أنه كما لو عفا عنْهما. والثاني: لا تسقط به المطالبة بالمَال؛ لأنه لم يُسْقِطْه، وإنما شرط انتفاءه، وإلى هذا مال الصيدلاني، ولو عفا عن القصاص، تعينت الديةُ، ولو عفا عن الدية، فله أن يقتص، فإن مات الجاني، فللمستحِقِّ الديةُ؛ لفوات القصاص بغير اختياره، ونقل القاضي ابن كج قولاً آخر أنَّه لا رجوعَ إلى المال بعْد إسقاطه، والظاهرُ الأولُ، وهل له أن يرجِعَ إلى الدية؛ بأن يَعْفُوَ عن القصاصِ على الدية؟ فيه ثلاثة أوجُهٍ؛ الَّذي رجِّح منْها، ونُسِبَ إلى النصِّ، وأورده صاحب "التهذيب": المنعُ، كما أنه إذا عفا عن القصاص، لا يرجع إليه؛ وعلى هذا، لو عفا مطلقاً، لم يجب شيْءٌ من المال. والثاني: أن لَهُ أن يَعْفُوَ عن القصاصِ على الدية؛ لأن في تمكين مستحِقِّ القصاص من الرجوع إلى الدية ما يدعوه إلى العفْو، ففيه رفْق للجاني والمجني عليه، وحاصل هذا الوجه أن العَفْو عن الدية لغْوٌ والوليُّ على خِيَرَتِهِ، كما كان. والثالث: واختاره الشيخ أبو محمَّد: أنه إذا عفَا عن الدية، كان الحكم على هذا القول كالحُكْم على القول الآخر، وهو أن الواجب القَوَد المحْضَ يجوز العفو عن الدية، وإذا عفا مطلقاً، فيجيء في وجوب الدية الخلافُ المذكورُ من بَعْدُ، فإن قلْنا: لا رجوع له إلى الدية استقلالاً، فلو رضيَ الجاني وتصالَحَا، على مال، إما مِنْ جنْس الدية أو من غيْر جنْسها بقدرها أو أَقَلَّ منها أو أكثر، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، كما لا تجوز المصالحةُ عن حدِّ القذف على مال. وأصحُّهما: الجواز؛ لأن الدمَ متقوَّم شرعاً، كالبُضْع بخلاف العِرض، ولو جرى الصُّلْح مع أجنبيٍّ، فقد رُتِّب الخلافُ فيه على الخلاف في الصُّلْح مع الجاني، وجعل الصُّلْح مع الجاني أولَى بالجواز؛ لحاجته إلى الفداءِ، ومع الترتيب، فالأقوى في الأجنبيِّ الجوازُ أيضاً؛ لأن اختلاع الأجنبي جائزٌ، وإذا جاز أنْ يبذل بدَل البُضْع، فلأَنْ يجوز أن يُبْدَل الدَّمُ مع أن الشرْعَ قد رغَّب في إسقاطه، كَانَ أَوْلَى، ولو عفا أو صالح عن القَوَد على مال قَبْل أن يعفو عن الدية، فإن كان المصالَحُ عليه منْ غير جنْس الدمِ،
جاز، سواءٌ كانتْ قيمته بقدر الدية أو أقلَّ من قدْر الدية أو أكثر، ذكره في "التهذيب" وإن كان من جنْسه، فسيأتِي، ويجري هذا الخلافُ فيما إذا ثبت القصاصُ بلا دية، وصورتُهُ ما إذا قطَع يدَيْ إنسانٍ، فسَرَى القطْع إلى نفْسه، فقُطِعَت يد الجاني قصاصاً أو قُطِعَت يده قصاصاً؛ ثم سرت الجناية إلى نفس المجنيِّ عليه، فإنه يجوز حَزُّ رقبته، ولا يجوز العفْو على الدية؛ لاستيفاء اليدين الموازيتين للدية، وقد قدَّمنا الصورة ولو قال: عفوتُ عنك، ولم يذكر القصاص، ولا الدية، ففيه وجهان عن صاحب "التقريب" وأَلْحَقَ به أبو الفرج السرخسيُّ ما إذا قال: عفوتُ عن أحَدِهما، ولم يعيِّن، أحدَ الوجهَيْن؛ أنه ينزل على القصاص، ويحكم بسقوطه؛ لأن العفو أليقُ به، وهو السابق إلى الفَهْم منه. وأظهرهما: وبه قطع الشيخ أبو عليٍّ: أنه يرجع إليه؛ لأن اللفظ يحتملهما جميعاً، فهذا بَيَّن ما نواه منهما رتب حكْمَه عليه، وعلى هذا، فلو قال: لم تَكُنْ نية حينئِذٍ، فوجهان: أحدهما: أنه ينزل على القصاص. وأقربُهما: أنه يقالَ له: اصرف الآن إلى ما شئْتَ منهما، ويخرج عند الاختصار ثلاثةُ أوجه: أحدها: الحمْل على القصاص. والثاني: اتِّباع نيته في الماضي أو الحال. والثالث: إنْ نوى الدية، حُملَ عليها، وإلا حُمِلَ على القصاص، ولو قال: اخترتُ الدية، سقَطَ القصاصُ، وثَبَتَ المال، وكان ذلك كقوله: عفوتُ عن القصاص، وهذا هو المشهور المذكور في الكتاب، وعن القفَّال في حكَى أبو الفرج السرخسيُّ في "أماليه": أن اختيِار أحدهما لا يُسْقِط حقَّه من الثاني، ويبقى خياره، كما كان، وشَبَّهه بما إذا أتلف كُرَّ حنطة جيِّدة على إنسان، ولم يوجد هناك إلا عشر حنطة رديئة، فإنه يتخيَّر المُتْلَفُ عليه بَيْن أن يأخذه، وبين أن يَعْدِل إلى القيمة، فلو قال: اخترتُ أحدهما، لم يَبطُل بذلك خيارُهُ، ولو قال: اخترتُ القصاص، فعن المنقول عن "القفال": لا يخفَى الحال، وعلى المشهور، هل له الرجوعُ إلى الدية؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه تركها باختياره، فأشْبَه ما إذا اختار الدِّية لا يرجع إلى القصاص، وهذا أصحُّ عند صاحبُ "التهذيب". والثاني: نعم؛ لأنه لا يرجع من الأغلظ الأعلَى إلى الأخفِّ، بخلاف العكس، وقد يقصد بقوله: "اخترتُ القصاص" تهديدَ الجانِي، وشُبِّه الخلافُ بالخلافِ فيما إذا نكل عن اليمين مع الشاهد، فعرضت اليمين على المُدَّعَى عليه، فنَكَلَ، هل تُردُّ اليمينُ
على المُدَّعِي، قال الإِمام: وينبغي أن يفرَّع ذلك على أن التصريحَ بإسقاط الدية، هل يمنع الرجوع إلى المال أو يقع لغواً؟ فإن جعلْناه لغواً، فلا معنى لقوله: "اخترت الدية" وإن اعتبرناها، فهل يفيد قوله: "اخترت القصاص" ما يفيده قوله: "فوت عن الدية"؟ فيه الخلاف. قوله في الكتاب: "تأثير العفو تعجيل القود المحض" لفْظ "التعجيل" محمولٌ على تعجيل تعيينه أو تعينه للاستيفاء، أو نحو ذلك، ولفظ "الوسيط" تأثيره في أن يجعل القَوَد المحْض واجباً، ولو قال: "تأثير العَفْو أن يحلق تفربع هذا القول" لحَصَل الغَرَضُ، وقد يوجب قريب منه في بعض النُّسَخ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَإِنْ قُلْنَا: الوَاجِبُ القَوَدُ المَحْضُ فَلَوْ عَفَا عَلَى مَالٍ ثَبَتَ المَالُ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الاِقْتِصَاصِ ثَبَتَ المَالُ، وَإِنْ عَفَا مُطلَقاً فَقَوْلاَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فَرَغْنا عن تفريعِ أحدِ القولَيْن، وهو أنَّ موجِبَ العمْد أحدُ الأمرين، أما إذا قلْنا: إن موجبه القصاصُ بعَيْنه، فلو عفا عنه على الدية، وجَبَتِ الدية، ولو عفا عنْه عَلَى مال آخر، فإن كان من جنس الدية، فسيأتي إن شاء الله تعالَى، وإن عفا أو صالَحَ على غَيْر جنْسها، وقبل الجاني، ثبت المال [وسقط] القَوَد، وإن لم يَقْبَل الجاني، لم يثبت المال، وفي سقوط القَوَدِ وجهان مذكورانِ في "التهذيب" وغيره: أحدهما: أنَّه يسقُطُ؛ لأنه رَضِيَ به، حيث أقدَم على الصُّلْح وطلب العوض. وأظهرهما: المنع؛ لأنه رضِيَ به على عوض، ولم يحْصُل العرض، وليس هذا كالصُّلح على الأعواض الفاسدة، فإنَّ الجانيَ هناك قد قبل، والتزم، فرجعْنا إلى بدْل الدم وإذا قلْنا بسقوط القَوَدِ، فهل تثبُت الدية، قال في "التهذيب": هو كما لو عفا مطلقاً، والخلافُ في أنَّه، هل يَسْقُط القصاصُ، إذا عفا على مالٍ، ولم يقبل الجاني، يجري مثله فيما إذا عفا عن الدية على القول الأوَّل، وبقي القصاص، فعفا عنْه على الدية، وقلْنا: لا يجوزُ ذلك، ففي وجهٍ: يسقط لرضاه بالسفوط، وفي وجهٍ: لا؛ لأنه أسقطه على بدل، ولم يسلم، وشبه الخلاف بالخلاف فيما إذا عفا عن الشُّفْعة على مال، هل تسقط الشفْعة، ولو عفا عن القَوَدِ على نصْف الدية، فعن القاضي الحُسَيْن: أنَّه قال: هذه مُعضِلَة أسْهَرَتِ الأَجِلَّةَ، وعن غيره أنَّه بمنزلة ما لو عفا عن القود وعن نصف الدية، فيسقط القَوَدُ ونصْف (¬1) ولو عفا عن القود مطلقاً، ولم يتعرض للدية ولا إثبات، فهل يجب بالعقو المطلَقِ الديةُ؟ فيه طريقان: أحدهما: أن فيه قولَيْن أو وجهَيْن: ¬
أحدهما: ويُحْكَى عن اختيار المزنيِّ: أنَّه يجب؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] أي اتباع للمال، وذلك يُشْعر بوجوب المال بالعفْو، ولأنه سقط القصاص بالعفو، فيُعْدَل إلى بدله، كما لو مات الجاني. وأصحُّهما: المنع؛ لأن القَتْل لم يوجب الدية على هَذَا القَوْل، والعفْو إسقاطُ ثابتٍ لا إسقاطُ ما لَيْسَ بثَابتٍ، والآيةُ محمولةٌ على ما إذا عفا على الدية، فإذا قلْنا: لا تثبت الديةُ بنفْس العفْو، فلو اختار الديةَ بعْد العفو، قال القاضي ابن كج: تَثْبُتُ الدية، ويكون اختيارها بعْد العفْو كالعفو علَيْها، وحُكِيَ عن النصِّ أن هذا الاختيار ينبغي أن يكون عقيب العفْو، عن بعض الأصحاب أنَّه يجوز فيه التراخِي، ولو عفا عن الدية، فهو لغْوٌ، وعلى قوْلنا: إن الواجب القَوَدُ المحْضُ، فله بعد ذلك العفْو عن القَوَدِ على الدية، ولو عفا مطلقاً، عاد الخلاف في وجوب الدية. وقوله في الكتاب: "فلو عفا على مال، ثبت المال" يمكن حمْلُه على الدية وغيرها، ولكن يُشْتَرَطَ في غيرها قَبُولُ الجانِي. وقَوْلُه: "ولو مات قبل الاقتصاص ثبت المال" محمولٌ على الدية. وقوله: "فقولان" مُعْلَمٌ بالواو؛ للطريقة القاطعة. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَإِنْ كَانَ مُفْلِساً فَلَهُ العَفْوُ عنِ القِصَاصِ، وَلَهُ العَفْو عَنِ الدِّيَةِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لأَنَّهُ دَفعٌ لِلوُجُوبِ لاَ إِسْقَاطٌ لِلوَاجِبِ، أَوْ سَبَبُ الوُجُوبِ عَفْوٌ مُطْلَقٌ وَلَمْ يَجْرِ، وَالمُبَذِّرَ كالبَالِغِ في اسْتِيفَاءِ القِصَاصِ وَعَفْوِهِ، وَفِي إِسْقَاطِهِ الدِّيَةَ مَعَ القِصَاصِ كَالصَّغِيرِ، وَقِيلَ: إنَّهُ كالمُفْلِسِ، وَلَوْ صَالَحَ عَلَى مِائَتَيْنِ مِنَ الإِبِلِ بَطَلَ عَلَى قَوْلِنَا: الوَاجِبُ أَحَدُهُمَا، وَعَلَى قَوْلِ الآخَرِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: إذا كان مستحِقُّ القصاص مَحْجوراً عليه، نُظِر؛ إن كان مسلوبَ العبارةِ؛ كالصبي والمجنون، فعَفْوهُ لغْوٌ، وإلا، فإن كان الحجْرُ عليه لحَقِّ غيره، كالمحجور عليه بالفَلَسِ، فله أن يقتص، ولو عفا عن القصاص، سقَطَ وأما الدية فإنْ قلْنا: موجب العمد أحدُ الأمرين، فليس له العَفْو عن المال، وإذا تعيَّن المال بالعَفْو عن القصاص صُرِفَ إلى غرمائه، ولا نكلِّفه تعجيل القِصَاص، أو العَفْو؛ يصرف المال إلَيْهِم، وإن قلْنا: موجب العمْد القَوَدُ، فإن عفا على المال، ثبَتَ المال، وإن عفا مطلقاً، فكذلك تثْبُتُ الدية، أن قُلْنَا بأن العفْو المطلَقَ يوجب الدية، وإن قلْنا: لا يوجبها، لم يثبت، وإن قال: عفوتُ على أن لا مال لي، فإن لم يوجب مطلق العفْو
المال، فالمقيد بالنفي أولَى، وإن قلْنا: مطلَقُهُ يوجب المال، فَفِي المقيَّد بالنفْي من المحجور وجهان: أحدهما: يجب؛ لأنه لو أطلَقَ العفْو، لوجب المال، فالنَّفْي كالإسقاط لِمَا لَه حُكْمُ الوجوب. وأصحُّهما: المنع؛ لأن العفْو مع نفي المال لا يقتضي مالاً، فلو كلَّفْنا المفْلِس أن يطلق ليثبت المال، كان ذلك تكليفاً بتكسب، وليس على المُفْلِس التكسُّب لمَا علَيْه من الديون، قال الإِمام: ويعبر عن الوجهَيْن بأنَّ العفْو مع نفْي المال إسقاطٌ للواجب أو منْعٌ ودفْعٌ للوجوب، وإلى هذا أشار في الكتاب بقوله: "أَوْ سَبَب الوجوبِ عفْوٌ مطلَقٌ، ولم يجر" أي سبب وجوب الدية العفْو المطلَقُ عن القصاص، ولم يوجَدْ، وإنما الموجود العفْو المقيَّد بالنفْي، وهو مبنيٌّ على أن الواجبَ القَوَدُ على ما بيَّنَّاه، واقتصر على ذكر وجهين مُخَرَّجان من التفْريع على أن الواجِب بالعَمْد ماذا؟ وعلَى أن العفْو المطلَقَ، هل يوجب الدية، وليس المرادُ من قوله: "وله العفْو عن الدية على أحد الوجهين" ما إذا خصص الدية بالعفْو بعد ثبوتها، فإن عفوه لا ينفذ حينئذ بلا خلاف، وإنما المراد ما إذا نفى المال مع العفْو عن القصاص، كما قال في المُبَذِّر وفي إسْقَاط الدية مع العَفْو عن القصاص، وعفو المريضِ مرَضَ الموْتِ، وعفوِ الورثةِ عن القصاص مع نَفْيِ المال، وفي التركة ديونٌ أو للقتيل وصايا -كعَفْو المُفْلِس، كذلك حكاه الرُّويانيُّ وغيره. وأما المحجورُ عليه لسفهه وهو المُبذِّر فيصحُّ منه إسقاطُ القصاص واستيفاؤه، وفيما يرجع إلى الدية حُكْمُه حُكْمُ المفلس على أحد الوجهين، وهذا الذي أجاب به أكثرهم. والثاني: أنه لا يصحُّ عفوه عن المال بحال؛ كالصبيِّ، ونظْم الكتاب يقتضي ترجيحه، ويُحْكَى عن القفَّال أنَّه قطَع به، وعُلِّل بأنَّا، وإن قلْنا: مطلَقُ العفْو لا يوجبُ المال، وإذا تصدى له مال، لم يجُز له ترْكُه، كما لو وُهِبَ له شيْءٌ أو وُصِّي له بشيْءٍ، فلم يقْبَلْ، فوليُّه يقبل عليه، بخلاف المفْلِس، لا يقبل الغرماء عليه ولا الحاكم، وحكى الإِمام أنَّه لوْ رَدَّ، لم يصح ردُّه، وأنَّ الوليَّ يقبل عليه، ويوقف فيه، وعفْوُ المكاتَب عن الدية تبرُّع لا ينفذ من غير إذن السيد، فإن أَذِنَ، فعلَى الخلاف في صحَّة تبرُّعاته بإذْن السيد. الثانية: لو جَرَى الصُّلْح عن القصاص عَلَى أكثر من الديةِ من جنْسها، كما لو صالَحَه على مِائَتَيْنِ من الإبِل، يُفَرَّع ذلك على أن الواجِب أخذُ الأمرين أو القَوَدُ بعينه، فإن قلْنا: الواجب أحد الأَمرين، لم يصحَّ الصلْحُ؛ لأنه زيادة على الواجِبِ نازلٌ منزلة الصلْح من ألف على ألفين، وإن قلْنا: الواجبُ القصاصُ، فوجهان: أحدهما: أن الجواب كذلك؛ لأن الدية هي التي تخلُفُ القصاصَ عنْد سقوطه، فلا يزاد عليها.
وأصحُّهما: الصحة وثبوتُ المصالِحَ عليه، فإنه مالٌ يتعلَّق باختيار المستحِقِّ والتزام الجاني، فلا معنى لتقديره، وصار كَبَدَلِ الخُلْع. فرْعٌ: إذا سقط القصاص بعفو بعْض المستحِقِّين، فللآخرين الديةُ بالحصة؛ لفوات القصاص بغير اختيارهم والعافي، إن عفا على حصَّته من الدية، تنْبُتُ، وإن نفى المال، لم تثبت، وإن أطلَقَ، فعلى الخلاف في أن الواجبَ بالعمْد ماذا؟ إن قلْنا: أحد الأمرين تثبت حصته، وإن قلنا: القَوَد بعينه، فعلى الخلاف في أن مُطْلَقَ العَفْو، هل يوجب الدية؟ فائدة: قد تكرّر في الباب الكلامُ فيما إذا عفا عن القصاص أو عفا عن الدية أو عفا عنْهما جميعاً مع التفريع على أن الواجِبَ أحدُهُما، وقد يقالُ: نحْنُ في هذا القول نصرِّحُ بأن الواجبَ أحدُهما، لا بعينه وحينئذ فالعفو عن القصاص بعينه أو عن الدية بعينها أو عنهما جميعاً عفو على غير الواجب فكيف نصور ذلك؟ وقد يجاب بأنا مع القول بأن الواجب أحدهما لا بعينه نقول بالعفو عن القصاص إسقاط المطالَبةِ به، وحينئذ ينتظم إسقاطَ المطالبةِ بأحدهما على التعيين، وبهما جميعاً. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الطَّرَف الثَّانِي فِي العَفْوِ الصَّحِيحُ وَالفَاسِدَ وَأَحْوَالُ العَفْوِ خَمْسَةٌ الأُولَى إِذَا أُذِنَ فِي القَطْعِ وَالقَتْلِ فَلاَ دِيَةَ، وَفِيهِ قَوْلٌ أنَّهُ يَجِبُ الدِّيَة إِذَا قُلْنَا: يَثْبُتُ الدِّيَةُ لِلوَارِثِ ابْتِدَاءً لاَ تَلَقِّيا، وَفِي سُقُوطِ الكَفَّارَةِ وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلَى بِاللُّزُومِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الرضا بالجناية وترك المؤاخذة بها قد يَتَقدَّم على الجناية، ويسمى إذْناً وإباحةً، وقد يتأخَّر عن أوَّلها أو نهايتها، ويسمى عفْواً وإسقاطاً وإبراءً وعده الإذْنَ من جملة أحوال العفْو، حيث قال: "وأحوال العفْو خَمْسةٌ" فيه توسُّع. وفقْه الفصْل أنَّه لو قال لغيره: اقطَعْ يدي، والقائل مالكٌ لأمره، فقَطَع المأذونُ يده، لم يجِبْ عليه قصاصٌ ولا دية؛ لأن الإذْن في الإتلاف من مستحق البدل يتضمَّن الإهدار، ألا ترى أنَّه لو أَذِنَ في إتلاف ماله، لم يجب الضمان بإتلافه، وإن لم يقِفِ القطْع بل سَرَى، أو قال: اقتلني، فقَتَله، ففي وجُوب الدية قولاَن بناءً على أن الدية تثبت للورثة ابتداءً أو تلقياً عن القتيل، وفي وجوب القصاص طريقان، وقد سبق ذكْر القولَيْن والطريقَيْن في "فصل الإكراه على القَتْل"، وقد ذَكَرَ في الكتاب الخلافَ في القصاص هناك، وفي الدِّيَة هاهنا، واعترض على قول التَّلَقِّي بأن الدية إذا ثبتت له، وهي عُرْضَة الانتقال إلى الورثة، وجب أَلاَّ ينفذ الأسقاط والإباحة، إلا في ثلثها، وأجيب بأنَّه لا يسقط ثانياً في الحال، وإنما يبيح ما يتضمَّن إتلافه مالاً، لولا الإباحة واعتُرِضَ على القول الآخَر؛ بأنها ثبت للورثة ابتداءً، لَمَا قد قُضِي منها ديونُ القتيل،
ولا نفذت وصاياه وأجيبَ بأن الورثَةَ ملَكُوا الدية من جهته وبدلاً عن نفْسِه، فقُدِّم حقُّه على حقُوقهم، ونظم الكتاب يقتضي ترجيح القولِ الذاهِب إلى نفْي الدية (¬1)، وتلقِّي الورثة من القتيل، وقد سبق أن صاحب "التهذيب" وغيره رجَّحوه، والقاضي الرويانيُّ رجَّح القول المقابلَ له وأشار ابن الصبَّاغ إلى القطْع بنفي الدية، فيمكن أن يُعْلَم لذلك قوله: "وفيه قول" بالواو، وإذا قلنا بوجوب الدية، [فتجب الكفَّارة لا محالة، وإن قلنا: لا تجب الدية،] (¬2) ففي الكفَّارة وجهان: وأصحُّهما: الوجوب؛ لأنها تجب بالجنايةِ عَلَى حقِّ الله تعالى، والإباحةُ لا تؤثِّر. والثاني: ويُحْكَى عن تخريج ابن سُرَيْج: أنَّه لا تجب، وحقُّ الله تعالى يتبَعُ في الوجوب والسقوط حقَّ الآدميِّ [فإذا] صار الشخْصُ مُهدَراً فلا كفارة بقَتْله. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةُ: العَفْوُ بَعْدَ القَطْعِ وَقَبْلَ السِّرَايَةِ صَحِيحٌ عَمَّا مَضَى، وَيَسْقُطُ القِصَاصُ عَنْ السِّرَايَةَ فِي المُسْتَقْبَل عَلَى الصَّحِيحِ لأَنَّهُ تَوَلَّدَ عَنْ مَعْفُوٍّ عَنْهُ، وَلاَ يَسْقُطُ الدِّيَةُ عَنِ السِّرَايَةِ لأنَّهُ تَوَلَّدَ عَنْ مَضمُونٍ وَلَمْ يَعْفُ عَنِ المُسْتَقْبَلِ، وَفِيهِ وَجهٌ أنَّهُ تَسْقُطُ كَالإذْنِ المُقَارِنِ، وَلَوْ قَالَ: عَفَوْتُ عَمَّا سَيَجِبُ فَهُوَ عَفْوٌ قَبْلَ الوُجُوبِ وَبَعْدَ سَبَبِهِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ، فَإِنْ سَرَى إِلَى النَّفْسِ فَعَفْوُهُ وَصِيَّةٌ لِلْقَاتِلِ فَلاَ يَصِحُّ إنْ لَمْ يُصَحِّحِ الوَصِيَّةَ لِلقَاتِلِ، فَإِنْ كَانَ الجَانِي عَبْداً صَحَّ العَفْوُ لأَنَّ فَائِدَتَهُ لِلسَّيِّدِ لاَ لِلقَاتِلِ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئاً صَحَّ لأَنَّهُ لِلعَاقِلَةِ، وإن كَانَتِ العَاقِلَةُ مُنْكَراً أَوْ مُخَالِفاً فِي الدِّينِ فَلاَ لأَنَّهُ عَفوٌ عَنِ القَاتِلِ، وَلَو عَفَا عَنِ الطَّرَفِ عَلَى مَالٍ ثُمَّ حَزَّ رَقَبَتَهُ لَمْ يَجِبِ القَصاصُ عَلَى أَضْعَفِ الوَجْهَيْنِ لأَنَّ الحَزَّ لَهُ حُكْمُ السِّرَايَةِ في اتِّحَادِ الدِّيَةِ وَلَوْ سَرَى القَطْعُ لَمَا وَجَبَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قطع عضواً من غيره كيد وأصبع، فعفا المجنيُّ عليه عن موجِب الجناية عليه قَوَداً أو أرْشاً، فللجناية أحوال. أحدها: أن تقف ولا يتعدَّى محلَّها، وتندمل، فلا قصاص ولا أرْشَ؛ لأن المستحِقَّ أسقطَ الحقَّ بعْد ثبوته؛ فيسقط، وبه قال أبو حنيفة. ¬
وقال المزنيُّ: تجب الدية؛ لأن استقرار الجناية باندمالها، فلا يعتبر العَفْو قبل الاستقرار، ولا فرق في هذه الحالة بيْن أن يقتصر على قوله عَفَوْت عن موجبها، وبين أن يزيد فيقول: "وعما يحْدُثُ منها"، فإنه لم يحدُث منها شيءٌ ولو قال: عفَوْتُ عن هذه الجناية، ولم يزد فعن نصه -رضي الله عنه- في "الأم": أنَّه عفو عن القَوَدِ، وعن الأصحاب: أنَّه مفرَّع على قولنا: إن موجِبَ العمْد القَوَدُ، أما إذا قلنا: إن وجبه أحَدُ الأمرين، ففي بقاء الدية احتمالانِ للقاضِي الرويانيِّ. الثانية: إذا سَرَى القطع إلى النْفس، فلا قصاص في النفْس، كما لا قصاص في الطَّرَف؛ لأن السراية تولَّدت عن معْفُوٍّ عنه، فصارت شبهةً دافعةً، وأيضاً، فقد عفا عن الطَّرف، فلا يمكن استيفاء النفس إلا باستيفاء الطَّرَف، وعن أبي الطيِّب بن سلمة: أنَّه يجب القصاص في النفس؛ لأن المعفُوَّ عنه قصاصُ الطَّرَف دون النفْس، وسقوط القصاص في الطَّرَف لا يوجب سقوطَهُ في النفس؛ ألا ترى أنَّه لو استوفَى قصاص الطَّرَف، ثم مات المجنيُّ عليه بالسراية، وجب قصاص النفْس، فليكنِ السقوطُ بالعفْو كالسقوط بالاستيفاء، ويُحْكَى هذا عن تخريج ابن سريج، وعلى هذا قال القاضي ابن كج: لو عفا عن القصاص، لم يكن له إلا نصْف الدية؛ لسقوطِ النصْف بالعفْو عن أرْش اليد، والصحيحُ الأوَّل، وأما المالُ؛ فأما أرْش اليد، فيُنْظَر؛ إن جرى لفْظ الوصية؛ بأن قال: أوصَيْتُ له بأرشِ هذه الجناية، فإذا ماتَ من الجناية، فقد صارت الوصيَّةُ وصيةً للقاتل، وقد سبَقَ الخلافُ فيها، فإنْ لم نصححها فعليه أرش العضْو المقطوع، وإن صحَّحناها، فإن خرج الأرْش من الثَّلُث، سقَطَ، وإلا، نفذَتِ الوصية في قدْر الثلث، وإنْ جرى لفْظُ العفْو أو الإبراء أو الإسقاطِ؛ بأن قال: عفَوْت عن أرْش هذه الجناية أو أبرأتُه أو أسْقَطتُه، فحُكمها حكْمُ الوصية أم لا؟ فيه طريقان: أحدهما: نعم؛ بدليل الاعتبار من الثلُث؛ فعلَى هذا يعود الخلافُ في الوصية للقاتل. وأصحُّهما: لا؛ لأنه إسقاط حقٍّ ناجز، والوصيةُ هي التي تتعلَّق بحال الموت؛ فعلَى هذا يسقُطُ، ولا يجيء فيه القولاَن، وأمَّا الزيادة على أرْش اليد إلى تمام الدية، فهي واجبة، إن اقتصر على العفْو عن موجب الدية، ولم يتعرَّض لِمَا يتولَّد منها، وإن تُعرَّض لِمَا يتولَّد منها أيضاً، نُظِر إن تعرَّض بلفْظ الوصية؛ بأن قال: أوصيتُ له بأرش هذه الجناية وضمان ما يَحْدُث منها أو يتولَّد أو يسري إليه، فيُبْنَى على أن الوصيَّةَ للقاتل هل تصحُّ، وَيجِيْءُ في جميع الدِّيَة ما ذكَرْنا في دية العضْو المَقْطُوع، وإنْ قال: عفوت عنه، أو أبرأته عن ضمان ما يحْدُث أو أسقطْتُه، ففي اعتبارها فيما يحْدُث قولان نقَلَهما ابن الصبَّاغ وغيره.
وأصحُّهما: أن هذه الألفاظ لاغيةٌ، ويلزمه ضمان ما يَحْدُث [فإن إسقاط الشيْء قبل ثبوته غيْرُ منتظم. والثاني: أنها تُعْتَبَر، ولا يلْزَم ضمانُ ما يَحْدُث؛] (¬1) لأن الجناية على الطَّرَف سببٌ لفوات النفْس، فإنَّ النفْس لا تباشر بالجناية، وهذا هو الخلاف الذي سَبَقَ في الإبراء عما لم يَجِبْ، وجرى سبب وجوبه، فإن قلْنا باعتبارها، سقَط الكلُّ وفي طريق حُكْمُ هذه الألفاظ حُكْمُ الوصية، يبنى على القولَيْن في الوصية للقاتل، قال الإِمام: وُيخرَّج مما ذكرنا في أرْش العضْو وضمانُ السراية إلى الروح تفريعاً على الأصلَيْن، وهو الاختلافُ في الوصية للقاتِل، والاختلافُ في الإبراء عمَّا لم يجبْ، وجرى سبب وجوبه ثلاثة أقوال، فإن لم نصحِّح الوصية للقاتل، فتجب الدية بكمالها، وإن صحَّحناها، وصحَّحنا الإبراء عما لم يجِبْ، سقطَتْ بكمالها، إذا وفَّي بها الثلث، وإن صحَّحناها، ولم نصحح الإبراء، سقط الأرش، ووجَب ضمان السراية، هذا إذا كان قدْر الأرش دونَ الدية فأما إذا قطَع يدَيْ إنسان، فعفا المقطُوع عن أرش الجناية، وما يحْدُث منها، فإن لم نصحِّح الوصية، وجبت الدية بكمالها، وإن صحَّحناها سقطَتْ بكمالها، إذا وفَّي بها الثلث، سواءٌ صحَّحنا الإبراء عما لم يجبْ أو لم نصحِّحه؛ لأن أرش اليدين ديةٌ كاملةٌ فلا يزيد بالسراية شيْءٌ. الثالثة: إذا سَرَى القطْع إلى عُضْوٍ آخر، كما إذا قطع الأصبع، فتآكل باقي اليَدِ، ثم اندمل، فالمنقول: أنَّه لا قصاص [بناءً على أنَّه لا قصاص] (¬2) في الأجسام بالسرَاية، وقد ذكَرْنا فيه تخريجاً، ويمكن أن يجيْء على ذلك التخريج الخلاف المذكورُ في قصاص النَّفْس في الحالة الثانية، وأما الدِّيةُ، فلا يخفَى سقوطُ دية العضْو المقطُوع بالعَفْو (¬3)، وفي ضمان السراية وَجهَان: أصحُّهما: أنَّه يجب؛ لأنه عفا عن موجِب الجناية الحاصلة في الحال، فيقتصر أثره عليه. والثاني: المنع؛ لأنه إذا سقَطَ الضمان بالعفو، صارت الجناية غَيْرَ مضمونة، وإذا لم تكن الجنايةُ مضمونةَ، فلا تكون سرايتها مضمونةً، كما إذا قال لغيره: اقطع يَدِي، فقَطَعها، وسرى القَطْع إلى عضْو آخر، وكما إذا قطَع يد مرتدٍّ، فأسلَمَ، ثم سرَى، هذا إذا اقتصر على العفْو عن موجب الجناية، فأما إذا قال: عفوتُ عن هذه الجناية، وما ¬
يحدُثُ منها، فسَرَى قطعُ الأصبع إلى الكفِّ، فإن لم نوجبْ ضمان السراية عند الاقتصار، فهاهنا أولَى، وإن أوجبناه، فيُخرَّج هاهنا على الإبراء عمَّا لم يجبْ، وجرى سبب وجوبه، ثم في الفصْل صُوَرٌ: إحداها: إذا جَنَى عبدٌ جنايةً توجب المال؛ إما لكونها خطأ أو لسبب آخرَ، وعفا المجنيُّ عليه عن أرْش الجناية، ثم مات بالسراية أو اندمل الجُرْح، ثم عفا في مرض الموت، فإما أن يطلق العفْو أو يضيفه إلى السيد أو العبْد، فإن أطلق العفْو؛ فصحته تَنْبَنِي على أن أرشَ جناية العبد يتعلَّق برقبته فحسب أم بها وبذمَّتِهِ، حتى يطالب بما فضل بعد العتق؟ وفيه قولان مذكوران في "الديات" فإن قلْنا: يتعلَّق بالرقبة فحسب، فيصحُّ العفو؛ لأنه تبرُّع على غير القاتل، وهو السيد، وإن قلْنا: يتعلق بالذمة أيضاً، ففائدة العفْو ترجع إلى العبد، فيبنى على الوصية للقاتل، إن صحَّحناها، صحَّ العفْو من الثلث، إلاَّ، لم يصحَّ، وحكَى الإِمام اختلافاً للأصحاب، إذا قلْنا: إنه يتعلَّق بالذمة في أن المجنيَّ عليه، هل يملك فك الرقبة عن التعلُّق ورد الحق إلى الذِّمة خاصَّةً كما يملك فكَّ المرهون. قال: وعلى الوجهَيْن يُبْقَى تعلُّق الأرض بالرقبة، إذا أبطلْنا العفو؛ لكون العبد قاتلاً، أما إذا قلْنا: لا يمكن قطعُهُ، فظاهر، وأما إذا قلنا: يمكن، فِلأَنَّ ذلك إذا جرَّد مستحِقُّ الأرض القصْدَ إلى قطْعه، وهاهنا لم يجرِّد القصد إليه، وإن أضاف العفْو إلى السيد، فقال: عفوت عنك، صحَّ إن قلنا: يتعلَّق الأرش برقبة العبد فحسب، وإن قلْنا: يتعلق بذمة العبد أيضاً، لم يصحَّ العفو؛ لأنه عفْو من غير مَنْ عليه الحقُّ، وإن أضافه إلى العبد، فإن قلنا: يتعلق بالرقبة دون ذمة العبْد، لم يصحَّ، وإن قلنا: يتعلَّق بالذمة، ففيه القولان في "الوصية للقاتل"، وإن كانت الجنايةُ موجبةً للقصاص، فالعفو عن العبد صحيحٌ، فإنه عليه بكل حال. الثانية: إذا جنى الحرُّ خطأً على إنسان فعَفَا المجنيُّ عليه، ثم سرت الجناية إلى النفْس، فقد خرجَتِ المسألةُ عن أصْل، سيأتي إن شاء الله تعالَى في أن الخاطئَ يلاقيه وجوب الدية، والعاقلةُ يتحملون عنه، أو الوجوبُ على العاقلة ابتداءً، فإن قال: عفوتُ عن العاقلة أو أسقطت الديةَ عنْهم، فهذا تبرُّع على غير [القاتل]، فينفذ، إذا وَفَّى الثلُث به ويبرؤون، سواءٌ قدروا متأصِّلين أو غير متأصلين وكذا لو قال: عفوتُ عن الدية، ولم يضف إلى الجاني ولا العاقلة، وإنْ قال للجاني: عفوتُ عنك، فإن قلنا: إنَّ الوجوب لا تلاقيه، فهو لغْوٌ، وإن قلنا: تلاقيه، وتتحمل العاقلة، فوجهان: أظهرهما: وهو المذكور في "التهذيب": أن الجواب كذلك؛ لأنه لا شيْء عليه عنْد العفْو، فإن الديةَ كما وجبَتْ عليه، انتقلَتْ عنه.
والثاني: أنَّه ينفذ بتقديره أصيلاً وتقدير العاقلة كفيلاً، ثم إذا برئ الأصيل، برئَ الكَفِيل، ومَنْ قال بالأول، قال: هذا الانتقال يُشْبِه الحوالة لا الضمان، هذا إذا ثبتت الجناية بالبينة أو باعتراف العَوَاقِلِ. فأما إذا اعترف الجانِي وأنكرت العوامل فالدية تجب على الجاني، ويكون العفو تبرُّعاً على القاتل، ففيه الخلاف في الوصية للقاتل، ولو عفا الوارثُ بعد مَوت المجنيِّ عليه عن العاقلة أو مطلقاً، صحَّ، ولو عفا عن الجاني، لم يصحَّ لأنه لا شيْء عليه، فإن ثبتت الدية بإقراره، صَحَّ. الثالثة: لو كان الجاني ذِمِّيّاً، وعاقلتُه مسلمونَ، أو من أهل الحَرْب، فتكون الدية في ماله، فإن عفا عنها، فهي وصيةٌ للقَاتِل، وفيه الخلاف. واعلم، أن الصور الثلاث أوردَهَا المزنيُّ، وحكَى فيها عن النصِّ ما استشهد به لاختياره القول الذاهِب إلى إبْطَال الوصية للقاتل، فقال قائلون من الأصحاب: أجابَ الشافعيُّ -رضي الله عنه- فيها على أحَد القولَيْن، وليس مِنْ شَرْط القولَيْن أن يُذْكَرَا في جميع المواضع. وقال القاضي الطبريُّ وغيره: الاقتصارُ في بعْض المسائل على أحد القولَيْن اختيارٌ منْه لذلك القَوْل، كما ذهب إليه المزنيُّ. الرابعة: إذا جنى جنايةً توجب القصاصَ، لو اندملت كقَطْع اليد والأصبع، فعفا المجنيُّ عليه على الدية، ثم سرَتْ إلى النفس، لم يجب قصاص النفس، وفيه الوجه المنسوب إلى أبي الطيِّب بن سلمة على ما مَرَّ ولو جنَى بما لا قصاص فيه كالجائفة، وكسر الذراع، فأخذ المجنيُّ عليه الأرْشَ، ثم سرت الجنايةُ إلى النفْس، فقد قال الإِمام: يحتمل أن يقَالَ: لا يجب القصاصُ؛ لأن الجائفةَ، وإن لم يكُنْ فيها قصاصٌ، فهي سبيلُ القصاص، وأخْذ بالعفو الأرض يُشْعِر فيما يوجب القصاص، والمنقول المشهور أنَّه يجبُ القصاصُ؛ لأنَّ الجناية لم تتولَّد عن معفوٍّ عنه، فإن عفا الوليُّ، أخذ الباقي من الديةَ، ولو كان المجنيُّ، قد قال -والصورةُ هذه-: عفَوْتُ عن القصاصِ، فهو لغْو؛ لأن هذه الجناية لا قصاصَ فيها، ولو عفا المجنيُّ عليه عن قطع اليد ونحوه؛ على الدية، ثم عاد الجاني، فحز رقبته (¬1)، نُظِر؛ إن حزَّ بعد الاندمال، فعليه القصاص ¬
في النَّفْس، ودية اليد، فإنْ عفا الوليُّ عن القصاص، أخذ دية النفس ودية اليد، وإنْ حزَّ قبل الأندمال، ففيه وجهان: أحدهما: أنَّه لا قصاص علَيْه؛ لأنه عفا عن بعْض النَّفْس، وإذا سقط القصَاص في البعْض، سقَط في الكلِّ، ولأن حَزَّ الرقبة بعْد قطْع اليد كسراية الجراحة؛ ألا ترى أن دية اليد تَدْخُل في النفْس على التقْديرين، ولو سَرَى القطع، لَمَا وجَب القصاص على الصَّحيح، فكذلك إذا حَزَّ، وعلَى هذا، فله الباقي من الدِّيَة. وأصحُّهما: أنَّه يجب القصاص؛ لأن الزهُوقَ حصَل بجناية مستحَقَّة، ولم يتولَّد عن الجنايةِ المعفُوِّ عنها؛ وعلَى هذا، فلو عفا عن القصاص، فوجهان: أصحهما: أنه يأخُذ الباقي من الديةِ، والأطرافُ تدخل في النفس في الدِّية، وإن لم تَدْخُل في القصاص. والثاني: وبه قال ابن سُرَيْج والاصطخري: أنَّه يأخُذ ديةً كاملةً، بنياه على أصلهما في أنَّ مَنْ قطَع يد رجُل، ثم عاد، وقتَله، وعفا، يلزمه دية النفْس ودية اليد، ولا تتداخل، ولو قطع يدَيْه ورجلَيْه، ثم عاد، فقتله، تلزمُه ديتان مع القصاص وقوله في الكتاب: "ويسقط القصاص عن السراية في المستقبل" حمل على السراية إلى النفس وقوله: "ولا تسقط الدية عن السراية" على ما إذا سَرَى إلى بعض الأعضاء، فاندمل. وقوله: "فإن سرى إلى النفس" عود إلى الصورة الأُولَى، وهي السراية إلى النفس. ذكر حكمهما قصاصاً، ثم عاد إلَيْها؛ ليذكر حُكْم الدية، فهذه التنزيلاَتُ توافِقُ كلامه في "الوسيط". وقوله: "ولو سرى القطْع، لَمَا وجب" توجيه أضْعف القولَيْن، والمعْنى أن الحزَّ كالسراية، ولو سرى القطْع، لم يجبِ القصاصُ، فكذلك لا يجبُ عنْد الحَزِّ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةُ: عَفْوُ الوَارِثِ صَحِيحٌ، وَإنِ اسْتَحَقَّ الطَّرَفَ وَالنَّفْسَ فَعَفْوُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا لاَ يُسْقِط الآخَرَ، وَلَوْ قَطَعَ طَرَفَهُ فَمَاتَ فَالولِيُّ يَسْتحِقُّ قَطْعَ طَرَفِهِ وَحَزَّ رَقَبَتِهِ، فَإِنْ عَفَا عَنِ الطَّرَفِ فَفِي سقُوطِ حَزِّ الرَّقبةِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: كانتِ الحالةُ الثانية في عفْو المجنيِّ عليه نفْسه قبلِ السراية، وهذه في عَفْو الوارث بعْد موت المجنيِّ عليه، واستقرار الجناية، ولا تخفى صحَّتُه، وإذا استحقَّ على الجاني قصاصَ النَّفْس وقصاص الطَّرَف، نُظِرَ؛ إن كان مستحِقُّ هنا غيْرَ مستحِقِّ ذاك، فلا شك في أنَّ عفو أحدهما لا يُسْقِط حقَّ الآخر، ومن صُوَرِهِ أن يَقْطَع عبْدٌ يدَ عبْدٍ، فيعتق المجنيُّ عليه، ثم يَسْرِي القطْع إلى نفْسه، فالقصاصُ في الطَّرَف للسَّيد، وفي النفس لورثته الأحْرار، وإن استحقَّهما واحدٌ، فلو عفا عن النفْس، وأراد
القصاصَ في الطَّرَف، فله ذلك؛ لأنهما حقَّان ثبتا له، فالعفْو عن أحدهما لا يُسْقِط الآخَر، كما لو كان الاسْتحقاقُ لشخصَيْن. وفي "الوسيط" حكايةُ وجه: أنَّه إذا عفا عن النفس، فقد التزم بقَاء الأطْراف، فيسقط فصاحبُ الطَّرَف، ولم ينقل الإمامُ في هذه الصورة خلافاً، وإنما حَكَى في عكسِه، وهو ما إذا عفا عنْ قصاص الطَّرَف وجهَيْن عن رواية صَاحِب "التقريب". أحدهما: وهو المذكور في الكتاب: أنَّه لا يَسْقُطَ فصاحب قصاص النفس؛ لِمَا مَرَّ. والثاني: يسقط؛ لأن العفْو عن الطرَف ضامنٌ لسلامته، وفي قصاص النفْس إتلافُ الطَّرَف. قال: ولم يُحْكِ صاحبُ "التقريب" خلافاً في أن العفْو عن قصاص النفْس يُسْقِط قصاص الطَّرَف، وإن كان القَطْع قد يَسْرِي، والله أعلمُ بسبب اضطراب روايتهما. ولو استحقَّ قصاص النَّفْس بقُطْع الطرَف؛ بأن كان الجانِي قد قطَع يد المجنيِّ عليه، ومات بالسراية، ثم عفا الوليُّ عن قصاص النفْس، فليس له قطْع الطَّرَف؛ لأن المستَحقَّ هو القتْلُ، والقطع طريقُه، وقد عفا عن المستَحقِّ، وإن عفا عن القَطْع، فهل له حَزُّ رقبته فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه استحقَّ القتل بالطريق السَّارِي، وقد تركه. وأقواهما: نعم؛ لأنه يتمكَّن من العدول إلى حَزِّ الرقبة على ما سَبَق، فلعلَّه قصد ذلك، وأيضاً، فله أن يقطع يدَه، ثم يحزَّ رقبته، ففي العفْو عن القطْع تسهيلُ الأمر عليه، وترك لإيلام القطع، ولو قَطَع يده ثم حزَّ رقبته قبل الاندمال، فعفو الوليِّ عن القطْع لا يُسْقِط حز الرقبة، وكذا عفْوُه عن قصاص النفس لا يسقط القَطْع؛ لأن الزهوق حصَلَ بجناية مستحَقَّة، وهما حقَّان مقصودانِ في نفسهما، ليس الأول طريقاً للثاني. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرَّابِعَةُ العَفْوُ بَعْدَ المُبَاشَرَةِ سَبَبُ الاسْتِيفَاءِ كَمَا إِذَا قَطَعَ يَدَ مَنْ عَلَيْهِ القِصَاصُ ثُمَّ عَفَا عَنِ النَّفْسِ فَإنِ انْدَمَلَ صَحَّ العَفْوُ وَلَمْ يُضْمَنِ الطَّرَفَ، وَإِنْ سَرَى بَانَ أَنَّ العَفْوَ بَاطِلٌ، وَكَذَا إِذَا عَفَا بَعْدَ الرَّمْي وَقَبْلَ الإِصَابَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قتل رجلاً بالقطع الساري، فقطعه الوليُّ، ثم عفا عن النفس مجاناً، فإن سَرَى القطع، بأن بطلان العفْو، وإن وَقف، صحَّ العفو، ولم يلزمه بقطع اليد [شيء] وكذلك، لو كان. قد قَتَله بغَيْر القطع، وقطع الوليُّ يده متحدياً، ثم عفا عنه، لا ضمان عليه. وقال أبو حنيفة: إذا عفا؛ فعَلَيْه دية اليد.
وقال أحمد: عليه ديتها، عفا أو لم يَعْفُ. وقال مالك: يلزمه القِصَاص في اليد. لنا: أنَّه قطَع يَدَ مَنْ يباح له دمه، فلا يلزمه القصاص، إلا الضمان كما لو قَطَع يد مرتدٍّ، والعفْو إنما يؤثِّر فيما بقي لا فيما اسْتُوفِيَ، ولو رمى الوليُّ إلى الجاني، ثم عفا عنه قبل الإصابة، ففي نفوذه وجهان نقَلها الإِمام: أحدهما: أنَّه لا ينفُذُ؛ لخروج الأمر عن اختياره. وأظهرهما: وهو المذكور في الكتاب: أنَّه كقطْع اليد، فإن لم يُصبْه السهْم، فالعفو صحيحٌ مقيَّد، وإن أصابه، وقتله، بأن أن العَفْو باطلٌ، وفي وجوب الدية على العافِي وجهان سبَقَ ذكرهما في فصْل تغيُّر الحال بين الجرْح والموت. والأصحُّ، عند صاحب التهذيب، ويُحْكَى عن القفَّال: أنَّه يلزمه الدية؛ لأنه محقُون الدم عند الإصابة، وليُعلَمْ؛ لما حكَيْنا قوله في الكتاب: "ولم [يُضمَن] (¬1) الطرف" بالحَاء والميم والألف. وقوله: "وكذلك إذا عفا بعد الرمْي وقبل الإصابة" بالواو. فَرْعٌ: إذا قطع ذميُّ يدَ مُسْلِم فاقتص منه أو يدَ ذميِّ، فاقتص منه، وأسلم، ثم ماتَ المجْرُوحُ بالسراية فللوليِّ القصاصُ في النفس، فإن عفا على المال، فوجهان: أحدهما: أن له نصْفَ الدية؛ لأن اليد نصْف الجملة، وقد استوفاها، فإذا استُوفيتْ يد الذميِّ بيد المسلم، لم يجب شيء آخر. وأظهرهما: أن له خمسة أسداس دية مسلم، ويَسْقُط سدسُها باليد التي استوفاها، لأنها نصف جملة الذميِّ التي هي ثُلُث جملة المُسْلم فيما يرجع إلى الدية، ولو قطَع الذميُّ يدَ المُسْلم، فاقتص منه، ومات المُسْلِم بالسراية، فعفا الوليُّ، فعلى الوجه الأوَّل لا شيْء له؛ لأنه استوفَى يدَ الجاني، واليدان مساويتان للنفس، وإذا قوبلت نفْس الذميِّ بيد المسلم، لم يجب شيء آخر، وعلى الأظهر: له ثلثا الدية؛ لأنه استوفَى ما يقابل ثُلثَ دية المسلم، ولو قطَعَت امرأةٌ يدَ رَجُل، فاقتص منْها، ثم مات الرجُل بالسراية، وعفا الوليُّ فعلَى الوجه الأول: له نصْف الدية؛ لأن يدها تُقَابل يَدَ الرجل عند الاقتصاص، وعلى الأظهر: له ثلاثة أرباع الدية؛ لأنه استوفى ما يقابل ربع دية الرَّجُل، ولو قطَعَتْ المرأة يد الرجُلِ، فاقتص معها، ثم مات المجنيُّ عليه بالسراية وعفا الوليُّ، فلا شيء له على الوجه الأول، ويجبُ نصْف الدية على الوجه الثاني، ولو قَطَع عبدٌ يدَ ¬
حرٍّ، فاقتص منه، ثم عَتَقَ العبْدُ، ومات المجنيُّ عليه بالسراية، ففي وجهِ يسقط نصْف الدية، وعلى السيد الأقلُّ من نصْف دية الحرِّ وكمال قيمة العبد؛ لأنه صار مختاراً للفِدَاء، وفي وجه يسقُطُ من دية الحرِّ بقدر نصْف قيمة العبْد، وعلى السيد الأقلُّ من باقي الدِّيَة، وكمال قيمة العبد. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الخَامِسَةُ: إذَا عَفَا المُوَكِّلُ فَحَزَّ الوَكِيلُ الرَّقَبَةَ غَافِلاً فَلاَ قِصَاصَ، وَفِي الدِّيَةِ وَالكَفَّارَةِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ تَجِبُ الكَفَّارَةُ فِي الثَّالِثِ دُونَ الدِّيَةِ، فَإنْ أَوْجَبْنَا فَعَلَى الوَكِيلِ أوْ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِيهِ قَوْلاَنِ، وَمَنِ الْتَزَمَهُ فَهَلْ يَرْجِعُ عَلَى العَافِي رُجُوعَ المَغْرُورِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَالظَّاهِرُ أَن لِلعَافِي الرُّجُوعَ إلَى دِيَةِ قَتِيْلِهِ، وَقِيلَ إِنْ أَهْدَرْنَا دَمَ المَعْفُوِّ عَنْهُ وَكَانَ العَفْوُ لَمْ يُفِدْ فَلاَ دِيَةَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: سَبَقَ في "كتاب الوكالة" أن [التوكيل] باستيفاء القصاص في حضْرة المُوَكِّل جائزٌ، وكذا في غيبته علَى الأصحِّ، وحدُّ القذفِ كالقصاص، وسواءٌ جوَّزنا التوكيلَ به أو لم نجوِّز، فإذا وكَّل، واستوفَى الوكيلُ، صار حقُّ الموكِّل مستوفًى، كما إذا وكَّل ببيع سلعةٍ توكيلاً فاسداً، فباع الوكيلُ، يصح البيع. إذا عُرِفَ ذلك، فلو وكَّل بالاستيفاء، وغاب أو تنحَّس الوكيلُ بالجاني، ليقتص منه، فعفا الموكِّل، نُظِر؛ إن لم يُدْر، كان العفْو قبل القتل أو بعْده، فلا شيء على الوكيل، وإن عفا بعْد ما قَتَل الوكيل، فهو لَغْو، وإن عفا، ثم قَتَل الوكيل، فإن كان عالَماً بالعَفْو، فعَلَيه القصاصُ، كما لو قتله غيره، وإن كان جاهلاً، فلا قصاص، وفرق بين ما إذا قَتَل من عهده مرتدّاً أو حربيّاً، فبان أنَّه قد أسْلَمَ حيث يجب القصاص على أحد القولَيْن؛ بأن القاتل هناك مقصِّر؛ لأن المرتدَّ لا يُخْلَى بقي على الردَّة، والحربيُّ لا يجترئ على دخول دار الإِسلام بلا أمان، فكان من حقه التثبت، والوكيل معذورٌ ها هنا بَانٍ على ما يجوز البناء علَيْه، وفي "السلسلة" للشيخ أبي محمَّد: أن في وجوب القصاصِ هاهنا قولاً مخرجاً من "مسألة المُرْتدِّ" والصحيح الأول، فإن ادَّعَى على الوكيل العلْم بالعفْو، وأنكر، صُدِّق بيمينه، فإن نكَل حلَف الوارثُ، واستحق القصاصَ، وأما الديةُ، ففي وجوبها قولان: أحدهما: لا يجب؛ لأنه عفا بعْد خروج الأمر من يده، فوقع لغواً؛ ولأن القتل يُبَاح له في الظاهر، فلا يَتَّجه التضمين به. وأصحُّهما: وهو اختيار المزنيِّ: أنها تجبُ؛ لأنه بأن أنَّه قتَلَه بغير حقٍّ؛ ولأنه لو علم العفْو، وقتله، وجَب عليه القصاصُ، فإذا جهله، تجب الدية، كما لو قتل مَنْ ظنَّه مرتدّاً، فبان رجوعُه إلى الإِسلام، واختلفوا في حال هذين القولين، فقال قائلُونَ: هما
مبنيَّان على أنَّ الوكيل، هل ينعزِلُ قبل بلوغ خبر العَزْل إليه، فإن قلْنا: لا ينعزل، فالوكيل هاهنا قتل بحق، فلا تجب ديةٌ، وإن قلنا: ينعزل، فقد قتل بغير حق، فتجب الدية، وهذا ما أورده ابن الصبَّاغ والصيدلانيُّ وغيرهما، وأنكر الشيخُ أبو محمَّد هذا البناء، وساعدَه الإِمام، وقال الوكيل: وإن قلْنا: [إنه] لا ينعزل قبل بلوغ الخبر إليه، فينعزل إذا تصرَّف الموكَّل بما يتضمن انعزاله، ألا تَرَى أنَّه إذا وكَّل إنساناً يبيع عبده، ثم أعتقه، ينفذ العتق، وينعزل الوكيل، ويكون بيعه بعد إعتاق الموكّل مردوداً لا محالة، وبناهما آخرون على الخلافِ فيما إذا قتَلَ في صفِّ المشركين من حسبه كافراً، فبان أنَّه كان مسلماً أسيراً، ووجه المشابهة أن الوكيل هاهنا قَتَل عَلَى ظن بقاء القصاصِ، وهو ظاهرُ الحالِ، كما أن القتل هناك مبنيٌّ على ظنٍّ ظاهرٍ، وهو كون الواقفِ في صفِّ الكفار كافراً، وعن الشيخ أبي محمَّد وغيره أن القولَيْنِ مَتأصِّلان غير مبنيين على شيْء، ولو عزَلَه، ولِم يعْلَم الوكيل بالعزل، وقَتَله، ففي الدية القولان أيضاً، وإذا قلْنا بوجوب الدية، فلا يخفى وجوب الكفَّارة، وإن لم نوجِبِ الدية، ففي الكفَّارة وجهان. أصحُّهما: على ما ذكر جماعة من المعتَبَرِين: الوجوب، وبه قال المزنيُّ، ويُنْسَب المنْعُ إلى ظاهر النصِّ، وهو مستمرٌّ على قولنا: إنه لا ينعزل قبل بلوغ الخبر، وإذا جمع بين الكفَّارة والدية، حصَلَتْ ثلاثة أوجهٍ أو أقوالٍ، كما ذكر في الكتاب. ثالثُها: وجوب الكفَّارة دون الدية. التفريعُ: إن أوجبنا الديةَ، فهي مغلَّظة؛ لأن القتل عمْدٌ أو شبْه عمْدٍ، وعن رواية أبي الحُسَيْن بن القطَّان قولٌ أنها تجب مخففةً، وعلى هذا، فهيَ على العاقلة، وعلى الصحيح؛ تكون على الوكيل أو على عاقلته؟ فيه وجهان: أحدُهما: وبه قال ابن أبي هريرةَ: أنها على العاقِلة؛ لأنه قتل جاهلاً بالحال، فكان كالمخطِئ. وأصحُّهما: وبه قال أبو إسحاق: أنها على الوكيل؛ لأنه متعمِّد وإنما سقَطَ القصاص للشُّبْهة، وحَكَى الإِمام وجهَيْن على قولنا: إنها على الجاني؛ أنَّها تكون حالَّة أو مؤجلةً (¬1)، ثم الدِّيَة الواجبةُ بقتل الوكيل، لورثة الجاني لا تعلُّق بها، للموكل بخلاف ما إذا ثبَتَ القصاص لا تبنين، وبادر أحدُهما، وقَتَله، يجبْ عليه نصف الدية للآخر في أحد القولَيْن، وفَرَق بينهما بأن القاتل هنَاك أتلَفَ حقَّ أخيه، فتعلَّق [الأخ] ببدله، والوكيلُ هاهنا قتَل بعْد سقوط حقِّ الموكِّل، ونقل القاضي ابن كج أن بعض الأصحاب جعَلَه على الخلاف في الابنين، وإذا غُرِّم الوكيلُ أو عاقلته الديةَ، فهل يرجع من غرم على العافِي؟ فيه طريقان: ¬
أحدهما: ويُحكَى عن ابن سُرَيْج: إن فيه قولين كما إذا قَدَّمَ الغاصبُ الطعامَ المغْصُوب إلى غيره، فأكَلَه في قرارِ الضَّمَان عليه قولان. والثاني: القطع بأن لا رجوع عليه (¬1) لأنَّه محسنٌ بالعفوْ غير ملبس بخلاف التصرُّف في الطعام المغْصُوب. والظاهرُ المنْع، وإن ثبت الخلافُ، وخصَّص بعضُهم الخلافَ في الرجوع بالدية، إذا غرَّمْناها للوكيل، وقَطَع فيما إذا غرَّمناها العاقلة؛ أنهم لا يرجِعُون بها، وإذا قلْنا بالرجوع بها، فهل لوليِّ الجاني أن يأخُذ الدية ابتداءً من العافِي؟ حكَى الشيخ أبو محمَّد [فيه] وجهين، [وفي الرجوع بالكفارة وجهان] (¬2) والأصح المنع، كما لا تُضْرب الكفَّارة على العاقلة، بخلاف الدية، وهل للموكِّل العافي دية قتيله، يُنْظر؛ إن عفا مجَّاناً أو عفا مطلقاً، وقلْنا: مُطْلَق العفْو لا يوجب الديةَ، فلا شيْء له، وإن عفا على المال أو مطْلقاً، وقلْنا: إنه يوجب الدية، فله الديةُ في تركة الجانِي مغلَّظة، إن أوجبنا بقتل الوكيل الديةَ، وإن لم نوجبْ، وأهْدَرْنا دَمَ الجانِي، فلا ديةَ للموكّل بخروج العفْو على هذا التقدير عن الإفادة، ووقوعه لغواً، هكذا رتَّب جماعة. وقال الإِمام: الوجه أن يُقَال: إنْ قلنا: يقع القتْل قصاصاً، ولا ينفذ العفْو من غير علْم الوكيل، فلا دية للموكّل، وإن نفذنا العفْو، ونزَّلنا ما وجد من الوكيل منزلةَ قتل الأسير في صفِّ الكفار، فله الدية، وكأن الجاني مات حتف أنفه، وفي سياق [الكتاب] (¬3) ما يشير إلى ما ذَكَره الإِمام، ونختمْ الكتابب فروع يتبع بعضُها بعضاً بلا ترتيب ولا تبويب. إذا جنَى عبد على حرٍّ جنايةً، تعلق الأرشُ برقبته، فاشترى المجنيُّ عليه العبْدَ من سيده بالأرش، فإن جهلاً أو أحدهما عدد الإبل الواجبة أرشاً أو أسنانها، لم يصحَّ الشراء، وإنَّ عَلِمَا العددَ والسنَّ، ولم يبق إلا الجهل بأوصافِها، ففي صحة الشراء الوجهان أو القوْلان في أنَّه هل يجوز أن يُصَالَحَ المجنيُّ عليه عنْ إبل الدية على مالٍ، وقد ذكَرْناهما في "كتاب الصُّلْح"، وإن كانت الجناية موجِبةَ للقصاص، فاشتراه بالأرش، فهو اختيار للمال وإسقاط للقصاص (¬4)، وإذا اطلع المجنيَّ عليه بعد الشراء، حيث صحَّحناه على عيْب بالعبْد، فله الرد، وقد يقال: إذا لم يكن للمجنيِّ عليه إلا ¬
الرقبةُ، فأيُّ فائدة في الردِّ؟ ويُجاب بأنه إذا ردَّ، فله مطالبة العبْد، إن عتق بما يفْضُل عن قيمته على قَوْل، وأيضاً، فحق الردِّ ولاية شرعية، لا يبنى على مثل هذه الأعراض (¬1)، ثم إذا ردَّ، يبقى الأرش متعلقاً بالرقبة، ولا يكون السيِّدُ مختاراً للفداء، فإنه يستَبْقِهِ لنفسه، وله الخيارُ بين أن يفيده وبين أن يسلمه للبيع، ولو اشتراه بمال غَيْر الأرش، صحَّ، ولم يسْقُط القصاص، ولو صالَحَ عن القَوَد على مالٍ، جاز، وإن كانتِ الديةُ مجهولةً، فإن تلف عين المال المُصَالَحِ عليه أو استحقَّت أو ردَّها بعَيْب، فلا رجوع إلى القصاص، ويرجع بقيمة العَيْن أو بضمان الجناية؟ فيه قولان؛ بناءً على أنَّ بَدَل الصُّلْح عن الدَّمِ مضمون ضمان العقد أو ضمان اليد، وقد ذكَرْنا ذلك في البَيْع، وإذا قلْنا: يرجع بضمان الجناية، فهو على السيد؛ لاختياره الفداء، ببذل المال، ويجبُ علَيْه أرْش الجناية بالغاً ما بلغ أو الأقل من قيمة العبْد، وأرش الجناية فيه قولان مذْكُوران في مَوْضِعِهما، ولو كانت الجنايةُ موجِبةً للمال الأقل وصالَح عن الإبل علَى مال، ففي صحته الخلافُ، فإن صححَّناه، فلو هلك المَصَالِحُ عليه، قبل القبض أو خرج مستحقّاً، أو ردّه بعيب، فالرجوع إلى الأَرْش، بلا خلاف؛ لأن الصُّلْح هاهنا عن المال، ويكون السيد مختاراً للفداء، ويلزمُهُ الأرْش أم الأقَلُّ؟ فيه القولان. ولو جَنَى حُرٌّ على حُرٍّ جنايةً تُوجِبَ القصاصَ، فصالحه المجنيُّ عليه على عيْن عبد أو ثوْب، جاز، وإن لم تكُنِ الديةُ معلومةً لهما، فإن تلِفَت العين قبْل القبض، أو ردَّها بعيب أو خرَجَت مستحقَّةً، فلا رجوع إلى القصاص، وبم يرجع؟ بقيمة العَيْن أو بأرش الجناية؟ يُبْنَى على أن بدل الصُّلْح عن الدم مضمونٌ ضمانَ العقْد أو ضمان اليد، وإن كانتِ الجناية موجبةً للدية، فصالح عنها على عَيْنٍ أو اشترَى بها عيناً إما من العاقلة في الخطأ أو من الجانِي في العَمْد، فيُنْظَر، أعلما عدَدَ الدية وأسنانها، أم لم يعلما، ويكون الحُكْم على ما بيَّنَّنا، وإذا صحَّ، فلو تَلِفَ المصالَحُ عليه، أو ردَّه بالعيب، فالرجوع إلى الأرش قولاً واحداً؛ لأنَّه يمكن الرجُوع إلى المُصَالح عنه، [لأنه مالٌ، وفي الصلْح عن القصاص لا يمكن الرجوع إلى المُصَالح عنه] (¬2) ولو جنَتِ امرأةٌ على إنسان، فتزوَّجها المجنيُّ عليه على القصاص الثابتِ عليها أو قتلت إنساناً فتزوَّجها وارثه على القصاص، جازَ، وسقط القصاص، وإن طلَّقها قبل الدخول، فيرجع بنصْف أرش الجناية أو بنصْف مهْر المثل؟ فيه قولان: أصحُّهما: على ما ذكَر صاحب "التهذيب": الأوَّل، وإن كانتِ الجنايةُ موجبةً للمال، فنَكَحَها على الأَرْش، صحَّ النكاح، وفي صحَّة الصَّدَاق ما سبقَ في جواز ¬
الاعتياض عن إبل الدية. [إذا أوجبت الجناية مالاً معلومَ القَدْر والوصف، كما إذا أتلف مالاً أو قتل عبداً أو وجبَت القيمة] فإذا زَجَرَتْ مُصَالَحَةُ المجنيِّ عليه على عيْنٍ، وهما يعلَمان الواجبَ، صحَّ الصلْح بلا خلاف، وإذا فرض تلَفٌ قبل القبض أو رَدَّت بالعيب، فالرجوع إلى الأرش بلا خلاف، وإن كان الجاني، والحالةُ هذه، عبداً فيكون السيد مختاراً للفداء، فإن صالح على رقبته، ثم وجد به عيْباً، فردَّه فلا يكون مختاراً بل الأرشُ في رقبته، كما كان، حتَّى لو مات سقَط حقُّ المجنيِّ عليه. إذا قطع يدَيْ إنسان ورجلَيْه، فمات، فقطَع الوليُّ يد الجاني، وعفا عن الباقي على الدية، لم يكن له الدية لأنه استوفَى ما يقابلها، ولو عفا على غَيْر جنْسها، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب، كما لا تجب الدية. والثاني: يجب، ويكون عِوَضاً عن القصاص الذي تركه، ولو قطع إحدَى يديه، وعفا عن الباقي على الدية، لم يكن له إلا نصْف الدية؛ لأنه استوفَى ما يقابِل نصْفَ الدية، وقدْ مرَّت هذه الصورة أو نحوها. نقل القاضي الرويانيُّ. عن والده: أنَّه قال: لو قتل مسلمٌ ذميّاً، فقتل وليُّ الذميِّ القاتلَ بغيْر حكْم الحاكم، فعليه القصاصُ بخلاف الوطء في النكاح لا يوجب الحدَّ؛ لأن القصاص لا يُستوفَى إلا بإذن الحَاكِم، وإن كان متفقاً على وجوبه، ومن يبيح الوطء في النكاح لا يعتبر فيه إذناً. وأنه لو أكره غيره على أن يَرْمِيَ إلى صيْدٍ، فرمى، [فأصاب] آدميّاً، وقتله فهما قاتلان خطأً، فعلى كلِّ واحد منْهما كفارةٌ، وعلى عاقلة كلِّ واحدٍ منهما نصفُ الدية، وهل على العاقلة المكْره الرجوعُ بما يغرّمون على المُكْره؟ يحتمل أن يقال: لا يرجِعُون، وإن كان متعديّاً، وهو الذي أوقَعَهم فيه، كما لا يرجِعُون على القاتل في شبه العمْد، قال: ويحتمل أن يقال: لا شيْء، على المكْره وعاقلته؛ لأن الذي فعله المُكْره غير ما حمله المكره عليه. قطع يدَيْ رجُلِ عمْداً، فمات منْهما، فقطع الوارثُ إحْدَى يدَي الجاني، فمات قبل أن يقْطع الأخرى، لم يكن للوليِّ أن يأخذ دية الأخرَى؛ لأن كلَّ واحدٍ من قطْع الجاني وقطع الوليِّ، قد صار قتْلاً، وإذا سَرَتِ [الجراحة] (¬1) إلى النفْس، سقط حُكْمُ الأطراف، وقد صارت النفْس مستوفاةً بالنفس [وقد قتله فصار كحز الرقبة]، ولو لم ¬
يمتِ المجنيُّ عليه، واندمل قطْع يده، فقطع المجنيُّ عليه إحدَى يدَي الجاني، فمات، فله أن يأْخُذ دية اليدِ الأخْرَى؛ لأنه استحقَّ قصاصها، وقد فات القصاصُ بما لا ضمان عليه فيه؛ فأشبه ما إذا سقَطَتْ بآفة. لو قَطَعَ إحْدَى يدي الجاني، وعفا عن الأخرى على ديتها، وقبضها، ثم انتقضتْ جراحة المجنيِّ عليه، ومات بها، فلا قصاص لورثته؛ لأنه مات من جراحتين؛ إحداهما معفوٌّ عنها، ولا شيء لهم من الدية؛ لأنه قد استوفَى نصف الدية، واليد المقابلة بالنصْف. عن ابن اللَّبَّان: رجل تحته امرأةٌ، ولهما ابنان، زيدٌ وَعَمْروٌ، قتل أحدُهما الأبَ والآخرُ الأمَّ، ولم يدر قاتل الأب أيهما، وقاتل الأم أيهما، فإن قُتِلَتِ الأم أولاً، فعلى تقدير أن يكون زيدٌ قاتلَها فللزوج رُبْع المال، وباقيها لعَمْروٍ، فإذا قتل عمروٌ الأب، ورثَ زيد جميعَ مالِ الأبِ، وورثَ ربْعَ القصاص، وربْعَ مال الأم اللَّذَيْنِ استحقَّهما الأب، فيسقط عنه القصاصُ، ويثبت له على عَمْرو قصاصُ الأبِ أو جميعُ ديته؟ وعلى تقدير أن يكون عمرو قاتلَ الأم ينعكس الأمرُ، ويسقط القصاص عن عمْرو، وله على زيْدٍ القصاصُ أو جميعُ الدية، فيُدْفَعُ إلى كلِّ واحد منهما ربع مال الأمِّ؛ لأنه يستحقُّه بيقينٍ، ويوقَفُ نصْف مالها حتى يُعْلَمَ قاتلُ الأبِ منْهما، فيُدْفَع إليه، ويوقف جميع مال [الأب] (¬1) حتى يُعْرَف قاتل الأمِّ، فيدفع إليه، ثم يكون لقاتل الأبِ على قاتل الأم [ثلاثةُ أرباعِ دية الأمِّ، ولقاتل الأمِّ على قاتِل الأَب] (¬2) القصاصُ على دَية الأب؟ فإن تقاصَّا، بَقِيَ لقاتلِ الأمِّ خمسةُ أثمان دية الأَبِ، وإن قُتِلَ الأبُ أولاً، فيُصْرَفَ إلى كلِّ واحدٍ منهما ثمَنُ مال الأبِ، ويوقَف الباقِي حتَّى يُعْلَم قاتل الأم منْهما، فيُدْفَع إليه، ويوقَفُ جميع مال الأمِّ، حتى يُعْرَف قاتل الأب، فيُدْفَع إليه، ولو قَتَلَ أحدُهما الأبَ، والآخر الأمَّ كما صوَّرنا، وللأبوين ابنٌ ثالثٌ، فيُصْرَف إلى كلِّ واحدٍ من القاتلَين نصفُ ثمن مالِ الأبِ، إلى الثالثِ نصْفُ ماله، ويوقَفُ ثلاثة أثمانه؛ ليظهر قاتل الأم، فيصْرَف إليه، [ويصرف إلى الثالث أيضاً نصْفُ مال الأمِّ، ويوقف نصْفُه؛ ليظهر قاتل الأب، فيُصْرَفُ إليه،] (¬3) وللثالث على قاتل الأب نصْف دية الأب، ويجوز أن يَدْفَع إليه ذلك من نصْف مالِ الأمِّ الموقوفِ له، وله علىَ قاتِلِ الأمِّ، إن عفا عن القصاص نصْفُ دية الأم، ويجوز أن يَدْفَع إليه ثلاثة أثمان مالِ الأب الموقُوف له، ووُجِّه بأن الحاكِمَ يَعْلَم ثبوت حقِّ الثالث على صاحب المالِ الموقوف، وإن لم يعرْفه بعينه، [فهو] كغائب وجَبَ عليه حقٌّ يباع ماله فيه. ¬
يجوز للمكره على إتلاف المال إتلافه وله ولصاحب المالِ دفْعُ المكرِهِ [بما أمكنهما، وليس لصاحِبِ المال دفْع المُكْره] (¬1) بل عليه أن يقي رُوحَهُ بمالِهِ، كما يناول المضْطَرُّ طعامه. عن فتاوى صاحب "التهذيب": أن الموكَّل باستيفاء القصاصِ إذا قال: قتلتُه بشهْوة نَفسِي لا عن جهة الموكِّل، يلزمه القصاص، وينتقل حقُّ الوارث إلى التركة. وأنه إذا قتل أحدَ عَبْدِي الرجل العَبْد الآخر، فللسيِّد أن يقتص، وأن يعْفُوَ، ولا يثبت له مالٌ على عبْده، فإن أعتقه، لم يسقُطِ القصاص، ولو عفا بعْد العتْق مطلقاً، لم يثبت المال؛ لأن القتل لم يثبته، ولا يخرج على أن العفْو المُطْلَق، هل يوجِبُ المال، وإن عفا بعْد العتق على المال ثبت المال، وأنه لو قطَع يدَيْ إنسانِ إحداهما عمْداً، والأخْرَى خطأً، فمات منهما، لا يجب القصاص في النفْس، ويجب نصْف [ديتها] في مال الجاني، ونصْفُها على العاقلة، فإن استوفَى الوليُّ قصاصَ اليد المقطوعة عمْداً، فمات الجاني منه، يكون مستوفياً لحقِّه، ولا يبقى له الدية على العاقلة، كما لو قَتَل مَنْ له عليه القصاصُ خطأً يكون مستوفياً لحقِّه وإنَّه إذا وجَب القصاصُ على مرتدٍّ، فقتله الوليُّ عن جهة الردةِ، نُظِر؛ إن كان وليُّ القصاص هو الإِمام، فله الدية في تركة المرتدِّ؛ لأن للإمام قتْلَهُ عن الجهتَيْن، وإن كان الوليُّ غير الإِمام، وقع قتله عن القصاص ولا دية له؛ لأن غير الإِمام لا يَمْلك قتله عن جهة الردَّة. [قال: وكذلك لو اشترى عبداً مرتدّاً، وقتله المشتري قبل القبض عن الردَّة، ينفسخ العقْد، إن كان المشتري الإمامَ، وإن كان المشترِي غيْرَه، صار قابضاً، كما لو قتله ظُلماً محضاً. وأنه لو ضرَبَ زوجتَهُ بالسَّوْط عشْرَ ضربات فصاعداً على التوالي، فماتت، نُظِر؛ إن قصد في الابتداء العدَدَ المُهْلِك، وجب القصاص، وإن قَصَد تأديبَها بسوطَيْن أو ثلاثة ثم بدا له فجاوز لم يجب لأنه اختلط العمد بشبه العمد فإن اقتصر على سوطين أو ثلاثة فماتْت لا يجب القصاص، ويكون شبه عمدٍ وأنه لو ضرب سنه فزلزلها ثم سقطت بعْد ذلك، يجب القصاص، وكذا لو ضرَب على يده، فاضطربت أو تورمتْ، ثم سقَطَت بعْد أيام، وأنَّه لو أشكلَت الحادثةُ على الحاكم، وكان متوقفاً فروى إنسانٌ خبراً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقتل الحاكم به رَجُلاً، ثم رَجَعَ الراوي، وقال كذَبْتُ وتعمَّدتُّ، ينبغي أن يجب القصاصُ كالشاهد إذا رجَع، والذي ذكره الإمامُ والقفَّال في الفتاوى: أنَّه لا يتعلَّق به القصاص بخِلاَف الشهادة والرجُوع عنهما، فإنها تتعلَّق بالواقعة، والخَبَرُ لا يتعلَّق بها ¬
خاصة وفي فتاوَى صاحب الكتاب: أنَّه لو اقتصد فمنَعَه رجل من أن يعصب العرق حتى مات، فعليه القصاصُ، وإن عصب، فجاء إنسان وحلَّه ومنَعَه من إعادة العصابة، فوجوب القصاص أظهر، وإذا قال المجْرُوحُ خطأً لجارحه: عَفوْتُ عنْك، هل يكون هذا العفْو عفواً عن العاقلة؟ قال الشيخ أبو محمَّد: فيه وجهان مبنيَّان على كيفية وجوبِ الدية، إن قلْنا تَجِبُ على العاقلة ابتداءً، فهو باطلٌ، وإن قلْنا: تجب على الجاني، والعاقلةُ يتحملون، فهو صحيحٌ وفي "التتمة": أنَّه لو قتله بالدُّخَان بأن حبَسَه في البيْت، وسدَّ الباب والكوات حتى اجتمع الدخانُ، وضاق به النَفسُ، وجب عليه القصاص، وأنَّه لو رَمَى إلى شخصَيْن أو جماعةٍ، وقصد إصابةَ واحدٍ منهم أي واحدٍ كان، [فاصاب] واحداً، ففي وجوب القصاص وجهان؛ لأنه لم يَقْصِد عينه وأن [حلمة] الرَّجُل تقطع بحلمة الرجُل، وكذا حلمة المَرْأة بحَلَمَةِ المرأة، والثدْيُ بالثدي، وفيما إذا لم يتدلَّ وجهٌ؛ لأنه لا يتميز عن لحْم الصدْر، وأن في قَطْع حلمة المرأة بحلمة الرجل وجهَيْن؛ بناءً على الخلاف في أن حلَمة الرجُل هل تكمل فيها الدية؟ وأن حَلَمَة الرجُل تُقْطَع بحلمة المرأةِ بلا خلاف، أما إذا كمَّلنا فيها الدية، فكسائر الأطراف، وأما إذا لم تَكْمُل، فلأن الناقصَ من الجنْس يُسْتوفَى بالكامل، كما تُسْتوفَى الشَّلاَّء بالصحيحة.
كتاب الديات
كِتَابُ الدِّيَاتِ (¬1) قال الغَزَالِيُّ: وَالنَّظَرُ في أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، الأَوَّلُ فِي الوَاجِبِ، وَفِيهِ بَابَانِ البَابُ الأَوَّلُ فِي النَّفْسِ وَدِيَةُ النَّفْسِ الكَامِلَةُ عِنْدَ الخَطأَ مَائَةٌ مِنَ الإبلِ مُخَمَّسَةَ، عِشْرُونَ بنْتَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ ابْنُ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، ثُمَ تَعْتَرِيهِ أَرْبَعُ مُغَلَّظَاتٍ، وَهِيَ الوُقوعُ فِي حَرَم مَكَّةَ أمَّا حَرَمُ المَدِينَةِ فَفِيهِ خِلاَفٌ، أَوِ الوُقوُعُ فِي الأَشْهُرِ الحُرُم وَهِيَ ذُو القَعْدَةِ وَذُو الحِجَّةِ وَالمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ، وَمُصَادَفَتُهُ ذَا رِحَم مُحْرمٍ، أَوْ كَوْنُهُ عَمْداً أَو شِبْهَ عَمْدٍ، وَلَوْ رَمَى مِنَ الحَرَمِ إِلَى الحِلِّ أَوْ مِنَ الحِلِّ إلى الحَرَمِ تُغَلَّظُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الدية بَدَلٌ نفس الحر أو أطرافه، والجمع: دِيَات، ويقال: وَدَيْتُ القَتِيلَ، أَدِيهِ دية [إذا أَدَّيْتَ] (¬2) ديته، فالدية اسْمٌ للمال، ومَصْدَرٌ. والإجماع منعقدٌ على تعلّق الدِّيَة بالقَتْلِ؛ قال الله تعالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً ¬
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]. وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّه كتب لعمرو [بن حزم] (¬1) كتاباً إلى أهل اليمن فيه ذكر الفَرَائض والدِّيَات (¬2)، والكتاب يشتمل على ذكْر دِيَةِ الشخْص المستقل (¬3)، ودية [الجنين] (¬4) ويحتاج في كلِّ واحدٍ من النوعَيْن إِلى معرفة الواجب، والمُوجب، والواجب عليه؛ إِلا أَن النَّظَر فيها لا يطول في النَّوْع الثَّاني، فجَعَلَ النوع الثاني بأطرافه قِسماً عديلاً للأطراف الثَّلاثة من النوع الأول، وجَعَل نَظْم الكتاب في أربعة أقسام: الأول: في الواجب، يَعْني من النوع الأوَّل، وفيه بابان: الباب الأول: في بَدَلِ النَّفْسِ، ويتعلَّقُ بقتل الحُرِّ المُسْلم (¬5) مائة من الإِبل، فعن أبِي بَكْرِ بن محمد بن عَمْرو بن حَزْمٍ عن أبيه عن جَدّه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كَتَبَ إلى أهلِ "اليمن" أَنَّ في النَّفْسِ المُؤْمِنَةِ مَائَةً مِنَ الإِبِلِ"، وهذه المائة تجب إِذا كان القتل خطأً مُخَمَسَّةً؛ عشْرُونَ منها بِنتُ مَخَاضٍ، وعشرون بنت لَبُون، وعشرونَ ابنُ لَبُونٍ، وعشرون حِقَّةٌ، وعشرون جَذَعة، وبه قال مالك، وأبدل (¬6) أبو حنيفة ابني اللَّبُون بابني المَخَاض، وبه قال أحمد. وعَنِ ابن المُنْذِرِ مثله، واحتج الأصحابُ بما روي عن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَضَى في دية الخَطَأ بمائَةٍ من الإبل، وفصَّلَهَا على ما ذكرنا، ويُرْوَى ذلك موقوفاً عن ابن مسعود، وعن سليمان بن يسار: أنهم كانُوا يَقُولُونَ: دِيَةٌ الخَطَأ مَائَةٌ مِنَ ¬
الإِبِلِ (¬1)، وفَصَّل ذلك، وقد يطرأ ما تُغَلَّظُ به المائة الواجبة، وهي أربعة أسباب: أحدها: أن يقع الْقَتْلُ في حرم "مكة"، فيتغلَّظ به الديةُ، وإن كان القتْلُ خطأً، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- كيفية التغليظ، ولا فَرْقَ بين أن يكون القاتلُ والمقتولُ معاً في الحَرَمِ، وبين أن يكون أحدُهما فيه، كما في جزاء الصَّيْدِ (¬2). وفي حرم "المدينة" وجهان: أظهرهما: أن وُقُوع القَتلِ فيه لا يقتضي التغليظ، وهما مبنيان على الخِلاَفِ في صَيْدها. ومنهم من لا يُطلِقُ الخِلاَفَ، وخَصَّص التردد بما إِذا قلنا: إن قاتلَ الصَّيْد فيها تُسْلَبُ ثيابه، وهل تتغلَّظ الدية بوقوع القَتْلِ في الإحرام فيه قولان: أحدهما، وبه قال أحمد: نعم؛ لأنه سَبَبٌ يجب به جزاء الصَّيْد، فيتغلَّظُ به كالحَرَم، وحُكِيَ هذا عن ابن القَاصِّ. وأصحُّهما: لا؛ لأن حرمة الإحْرام عارضةٌ غَيْرُ دائمةٍ، ولم يَرِدْ فيه من التغليظ ما وَرَدَ في القَتْل في الحَرَم، ورُوِيَ أنَّه -عليه السَّلاَمُ- قال: إِنَّ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- ثلاثة (¬3) رَجُلٌ قَتَلَ في الَحَرَمِ، وَرَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، وَرَجُلْ قَتَلَ بذحل الجَاهليَّة. ¬
والثاني: أن يقع في الأَشْهرِ الحُرُم، وهي ذُو القَعْدة، وذو الحجَّة، والمُحَرَّم، ورَجَب، ثلاثة سرداً وواحدٌ فرداً؛ وذلك لِعَظَم حُرْمتها؛ ولا يُلْحَقُ بها شَهْرُ رمَضَانَ. والثالث: أن يصادف القَتْل قريبًا مُحْرِماً، وهل تَتَغلَّظ الدية بالقَرَابَةِ دون المحرمِيَّة؟ فيه وجهان عن القَفَّال، واختاره الشَّيخ أبُو محَمَّدٍ، والقاضي الرُّويانيُّ: أنها تتغلَّظُ؛ لما فيه من قَطِيعَةِ الرحم، وتأكيد الحُرْمة. وقال الأكثرون: لا تتغلَّظ؛ لِمجرَّدِ القَرَابة، ويعتبر معها المحرمية، وقد رُوِيَ عن عُمَر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ما يدلُّ عليه، ويُشعِرُ به، ولا تُلْحَقُ حرمة الرَّضَاع، والمُصَاهرة بُحْرمَةِ النَّسَبِ في هذا الباب. وعند أبي حنيفة ومالك: هذه الأسباب الثلاثة لا تقتضي التَّغليظَ، ويميلُ الأصحاب للمذهب بالآثار عن عمر، وعثمان، وابن عباس -رَضِيَ الله عَنْهُم- وادَّعوا فيها الاشتهار، وحصول الاتفاق. والرابع: إذا كان القتل عمداً أوْ شبه عمد، تغلَّظَتِ الدية، ويُسَمَّى شبهُ العَمْدِ عمداً خَطَأً أيضاً، وقد رُوِيَ عن ابن عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أنَّ رسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَلاَ إِنَّ في قَتْلِ العَمْدِ الخَطَأ بِالسَّوْطِ، والعَصَا مَائَةً مِنَ الإِبِلِ مُغَلَّظَةً، مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً في بُطُونِهَا أَوْلاَدُهَا" (¬1). ويجوز أن يُعلَّم قوله في الكتاب: "أو شِبْه عَمْدٍ" بـ"الميم"؛ لأن المشهور عن مالك: أن القَتْل إما عمدٌ مَحْضٌ، أو خطأٌ مَحْضٌ، ونفي شبه العمد. وقوله: "وعِشْرُونَ ابن لَبُونٌ معلم بـ"الحاء" والألف والواو"، وقوله: "الوقوع في حرم مكة معلم بالحاء والميم". وقوله: "والوقوع في الأشهر الحرم". وقوله: "أو مُصَادفته ذا رحم محرم" بالواو وقد بَيَّنا وجوهها. قال الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَتَلَ مُسْلِماً فِي دَارِ الحَرْبِ عَلَى زِيِّ الكُفَّارِ وَلَم يَعْلَمْ إِسْلاَمَهُ فَيَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ عَلَى قَوْلٍ وَلَكِنْ دِيَةُ العَمْدِ أَوْ دِيَةُ شِبْهِ العَمْدِ أَوْ دِيَةُ الخَطأ المَحْضِ فِيهِ ثَلاثةُ أَوْجُهٍ، وَكَذَا إِذَا رَمَى إِلَى مُرْتَدٍّ فَأَسْلَمَ قَبْلَ الإصَابَةِ، وَيَجْرِي هَذَا الخِلاَفُ فِي كُلِّ قَتْلٍ عَمْدٍ مَحْضٍ صَدَرَ عَنْ ظَنٍّ فِي حَالِ القَتِيلِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: سيظهر في الفصل التالي (¬2) لهذا الفَصْل أن شبه العَمْد في التغليظ ¬
والتخفيف على مرتبة (¬1) متوسِّطة بين العَمْد والخطأ. وفي الفصل صورتان، [و] قد سبق أصلهما، والغَرَضُ الآن الكلام في أنَّ الدية إن وجبت فيهما (¬2)، فمن أي قبيل هي؟ إحداها: إذا قَتَل في دار الحرب مسلماً وجدُوه على زَيِّ الكُفَّار، وظنَّه كافراً، فقد سبق أن في وجوب الدِّيَةِ فيه قولين: أصحُّهما: المنع، وإذا قيل: بوجوبها، فمحصول المَنْقُول في كيفيتها ثلاثة أوجه: أحدها: أن الدية الواجبة دِيَةُ العَمْد؛ لأنه قتله متعمداً والثاني: دية شبه العَمْدِ؛ لأنه، وإن تعمد القَتْل، لم يقصد قتل المسلم، فأشبه ما إذا ضربه بما لا يَقْتُلُ غالباً. والثالث: دية الخَطَأ المَحْضِ؛ لأنه معذور في القَتْل، جاهلٌ بالحال. والثانية: إذا رمى إلى مرتد أو حربي، فأسلم، ثم أصابه السَّهم ومات، ففي وجوب الدية خلاف قَدَّمناه، والأصح وجوبها، وفي كيفيتها الوجوه الثلاثة، وهذه الصُّورة أولى بأن تلحق بالخطأ؛ لأنه لم يكن معصوماً عند الرمي، ويشبه أن يكون هو الأظهر لما ذكرنا أن الإِمام رأى القطع به فيما إذا جرح مرتداً أو حربياً فأسلم ثم مات، لكن في كتاب القاضي ابن كج أنَّه إذا أصاب سهمه من أسلم وكان مرتداً عند الرمي، لم يكن قصد إلى رميه تكون الدية في ماله لا على عاقلته؛ لأنهم يقولون: إنك لما أرسلت السَّهْم كان المرميُّ مُهْدراً، لا يلزمنا في قَتْلِهِ شيْء، ومن نُوجَب الدِّية في ماله، إذا لم يقْصِد الرمي إليه، فأولى أن نوجبها في ماله إذا قصد، ولو رمى إلى شخص (¬3) ظنه شَجَراً أو ظَبْية، وكان إنساناً، فالظاهر، وبه قطع الشيخ أبو محمد: أنَّه خطأ مَحْض، كما لو رمى إلى سعيد، فعرض في الطريق إنسان، أو مرق (¬4) منه فأصاب إنساناً، وقربه الإِمام من مسألة الرُّمْي إلى من ظنه كافراً في دار الحرب [فكان] (¬5) مسلماً، تنزيلاً لظنْ كونه شجراً منزلة ظن كَون الرجل حَرْبياً، ويوافق هذا لفظ الكتاب حيث قال: "ويجري هذا الخلاف في كل قَتلٍ عمد مَحْض صدر عن ظن في حال القَتْل". قال الغَزَالِيُّ: وَالدِّيَةُ يَتَغَلَّظُ فِي العَمْدِ مِن ثَلاثَةِ أَوْجُهِ: التَّخْصِيصُ بِالجَانِي وَالتَّعْجِيلُ والتَّثْلِيثُ، وَهُوَ أنْ يَكُونَ ثَلاثُونَ حِقَّةً وَثَلاثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً في بُطُونِهَا ¬
أَوْلادُها، وَفِي الخَطَأِ يَتَخَفَفَّ مِنْ ثَلاثَةِ أَوْجُهٍ إِذْ تَجِبُ عَلَى العَاقِلَةِ مُؤَجَّلةَ إِلَى ثَلاَثِ سِنِينَ مُخَمَّسَةٍ، وَفِي شِبْهِ العَمْدِ تَجِبُ علَى العَاقِلَةَ مُؤَجَّلَةً مُثَلَّثَةً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الدية في القَتْلِ العمد تتغلّظ من ثلاثة أوجه: أحدها: أنها تجب على الجاني، ولا تتحمَّلُها العاقلة. والثاني: أنها تجب حالة مُعَجَّلة، والوَجْهَان قياس إبدال المتلفات (¬1). والثالث: أنها تجب مثلّثة ثلاثون منها حِقّة، وثلاثون جَذَعَة، وأربعون خلفة، والخَلِفَةُ: الحامل (¬2)، ويسمى هذا الوجه الثالث تغليظاً بالسن. واحتج بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوجب في الخبر الذي مر (¬3) من الخلفات في شبه العمد، فإذا وجبت في شبه العَمْدِ تغليظاً، فلأن تجب في العمد كان أولى. وأيضاً ففي بعض الشروح أنَّه روي عن عبد الله بن عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ قَتَلَ مُتَعَمِّداً سُلِّمَ إِلَى أوْليَاءِ القَتِيلَ فَإنْ أحَبُّوا قَتَلُوا، وإنْ أَحَبُّوا أخَذُوا العَقْلَ، [وَالعَقْلُ]: ثلاثون حِقَّة وثلاثون جَذَعة وأربعون خَلِفَةِ فِي بُطُونِهَا أوْلاَدُهَا" (¬4). ولا فرق في ذلك بين أن يكون العَمْد موجباً للقصاص، فيعفى عنه، ويعدل إلى الدية، وبين ألاّ يكون موجباً للقصاص كقتل الوالد ولده، وفي الخطأ تتحقق الدية من ثلاثة أوجه: أحدها: أنها تكون عن العاقلة. والثاني: أنها تكون مؤجّلة في ثلاث سنين، وسيأتي الكلام فيها إن شاء الله -تعالى- في القِسْمِ الثالث من الكتاب. والثالث: أنها تجب مخمّسة على التفصيل الذي سبق، وفي شبه العمد بتخفيف من وجهين الوجوب على العاقلة، وكونها مؤجلة، ولكن تتغلّظ من حيث إِنها تجب ¬
مُثَلَّثة لما قدمنا من الخبر. هذا ظاهر المذهب. وحكى القاضي ابن كَجّ، وأبو الفرج السَّرَخسي وجهاً أن بدل شبه العَمْدِ لا تحمله العاقلة؛ لأنها دية مغلّظة بإِيجاب الخلفات، فأشبهت دية العَمْدِ المَحْض. وروى بعضهم هذا قولاً مخرجاً عن ابن القَاصّ، ووجه المذهب بما روي أن امْرَأَتَيْنِ (¬1) اقتتلتا، فضربت إحداهما الأُخرى بعَمُودٍ فُسْطَاط، فماتت، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِالدِّيَةِ على عَاقِلَتِها (¬2). وعند أبي حنيفة: أنها إِذا أوجبت الدية في العمد كقتل الوالد ولده تكون مؤجّلة على القَاتِلِ في ثلاث سنين. وعند مالك: الدِّية في العمد، وشبه العمد تجب أرباعاً بخمسة وعُشرون بنت مخاض، وخمسة وعشرون بنت لبون، وخمسة وعشرون حقّة، وخمسة وعشرون جذعة، ولا يجب الخلفات بحال. لنا: حديث العمد والخطأ على ما تقدم، وأيضاً فعن عُبَادة بن الصَّامت -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَلاَ إِنَّ فِي الدِّيَةِ العُظْمَى مَائَةً مِنَ الإبِلِ أَرْبَعُونَ خَلِفَةً في بُطُونِهَا أَوْلاَدُهَا". وعن أحمد رواية كقوله (¬3)، ورواية كقولنا. والقتل الخطأ في الحرم، وفي الأشْهر الحرم والمصادف للمحرمِ دِيَتُهُ كَدِيَةِ شبه العَمْدِ تكون على العَاقِلَةِ مؤجلة (¬4)، لكن مثلّثة، وإنما تجتمع التخفيفات (¬5) من الوجوه الثلاثة في الخطأ إذا وقع في غير (¬6) هذه الأحوال. واعلم أن الدية المخمّسة يرجع تفاوت أقسامها إلى السن إلا في بَنَات اللَّبُون فإن تفاوتها يرجع إلى الذكورة والأنوثة، والتخميس في هذه الدية حاصل بأقسام مُتَعَادلة، والتثليث في الدية المثلثة غير حاصل على التعديل. وأما النسبة المخفّفة فيها بالاعتبار بثلاثة أعشارها حِقَاق، وثلاثة أعشارها جِذَاع، وأربعة أعشارها خَلَفات، وهذا ظاهر عند التأمل، وقد قال الإِمام: ويراعي القسمة المذكورة في الدية المغلّظة والمخفّفة في دية المرأة [ودية الأطراف والجراحات فتجب في دية المرأة] (¬7) إذا كان القتل خطأ عشر بنات مخاض، وعشر بنات لبون، وهكذا إلى آخر الأقسام وإذا كان عمداً، أو شبه عمد وجبت خَمْسَةَ عَشَرَ حقةً، وخمسة عشر جَذَعَة، وعشرون خلفة، وكذا حكم دية اليد. ¬
وفي المُوَضّحة إذا كانت خطأ بنت مخاض، وبنت لبون، وابن لبون، وحقّة، وجذعة. وإذا كانت عمداً، أو شبه عَمْد حقّة ونصف، وجذعة ونصف، وخَلَفتان. وفي قطع الأُصبع إذا كان خطأ ابنتا مَخَاض، وابنتا لبون، وابنا لَبُون، وحِقّتان، وجذعتان. وإذا كان عمداً، أو شبه عَمْد ثلاث حِقَاق، وثلاث جِذَاع، وأربع خَلَفات، وعلى هذا القياس. بدل العبد (¬1) الدراهم والدنانير فلا مَدْخل فيها للتغليظ، كما في سائر الأموال. وليعلم لما بينا قوله في الكتاب في دية العَمْد والتعجيل بـ"الحاء" والتثليث بـ"الحاء" و"الميم" و"الألف". وقوله في شبه العمد "على العاقلة" بـ"الواو". وقوله: "لكن مثلثة" (¬2) بـ"الحاء" و"الميم" و"الألف". وقوله: "أربعون خلفة في بطونها أولادها" مجرى على مُوَافقة الخبر المشهور في الباب، واختلفوا في قوله: "في بطونها أولادها". فقيل: هو تأكيد مَحْض، وليست الخَلِفَة إلا التي في بطونها أولادها. وقيل: اسم الخَلِفَة يقع على الحامل، وعلى التي ولدت، وولدها يتبعها، وأراد تبيين أن الواجب (¬3) الحامل، ويجوز أن يقال: هو تفسير الخلفة. قال الغَزَالِيُّ: وَلاَ يُؤْخَذُ مَعِيبُ، وَالخِلْفَةُ تُعْرَفُ بِقَوْلِ أَهْلِ البَصِيرَةِ، فَإِنْ أَخْطَؤُوا اسْتَدْرَكُوا، وَأَمَّا الصِّنْفُ فَيُرَاعِي إِبِلُ البَلَدِ أَوْ أَقْرَبِ البُلْدَانِ إلَيهِ، فَإِنْ كَانَ إبْلُ مَنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ يُخَالِفُ إبِلَ أَهْلِ البَلَدِ فَفِي تَعْيِينِهَا وَجْهَانِ، فَإنْ قُلْنَا: يَتَعَيَّنُ فَإنْ كَانَتْ مَعِيبَةَ فَهِيَ كالمَعْدُومَةِ، وإنْ لَمْ يُوجَدْ في القُطْرِ رَجَعَ إِلَى قِيمَةِ الإِبِلِ، وَفِي القَدِيمُ يُرْجَعُ إِلَى أَلْفِ دِينَارٍ أَوْ أثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَإذَا تكرَّرَ أَسْبَابُ التَّغلِيظُ لَمْ يتَكَرَّرِ التَّغْلِيظُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسائل: إحداها: لا يؤخذ في الدية معيب، ولا مريض إِلاّ أن يرضى المستحقّ، ولا فرق بين أن يكون إبل من عليه معيبة أو مريضة، أو لا تكون كذلك، بخلاف الزَّكاة حيث يؤخذ من المِرَاض المريضة؛ لأن الزكاة تتعلّق بعين المال، والدية في الذِّمة، فيعتبر المؤدّي السلامة كالمسلم فيه، والرّقبة في الكَفَّارة، لكن الدية عِوَض، فيعتبر فيها السلامة عن العيوب التي تؤثر في المالية، ويثبت الرد في المبيع (¬4)، والمقصود في ¬
الكَفَّارة التخليص عن الرق ليستقل (¬1) المعتق، فيعتبر السلامة عن العيوب التي تؤثّر في العمل، والاستقلال. الثانية: في الغالب أن النَّاقة لا تحمل حتى يكون لها خمس سنين، وهي الثنية ولو حملت قبل ذلك، فهل تؤخذ، فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأن الأربعين أحد أقسام الدية، فيختص بالسِّنّ كالقسمين الآخرين، ولأن الحمل قبل (¬2) ذلك مما يندر، ولا يوثق (¬3) به. وأصحُّهما: القبول؛ لأنه ليس في الخبر إِلا اعتبار (¬4) الخلفة، وإذا جاء من عليه الدية بناقة ليسلمها، أو قال: هي خَلِفة، وأنكر المستحق، فيرجع فيه إلى عَدْلَين من أهل الخبرة، ويعمل بقولهما، وإذا أخذت بقول [أهل] (¬5) الخبرة، أو بتصديق الجاني، فماتت عند الولي، وتَنَازعا في العمل شق بطنها ليعرف (¬6) الحال، فإن تبين أنها لم تكن حاملاً غرمها الولي، وأخذ مكانها خَلِفة. وعن القاضي ابن كَجّ وجه آخر أنَّه يأخذ أرش النقصان، ويكتفي به. والظاهر: الأول كما لو خرج المسلم فيه على غير الصفة المشروطة، ولو صادفتا النَّاقة المأخوذة حائلاً، وقال الولي: لم يكن بها حمل، وقال المؤدي: أسقطت عندك (¬7)، فإن لم يحتمل الزمان الإسقاط ردّت وَطُولب بخلفة بَدَلها، وإن احتمل فينظر إن أخذ (¬8) بقول الجاني، ولم يراجع أهل الخبرة، فالقول قول الولي مع يمينه؛ لأنّ الأصل عدم الحمل، وإن أخذ بقول أهل الخِبْرَة بعد مراجعتهم ففيه وجهان: أحدهما: أن الجواب كذلك. وأصحُّهما: وبه قال الربيع أن القول قول المؤدّي لتأيد قوله بقول أهل الخبرة، واجتهادهم، فكأنهم (¬9) شهدوا، وحكمنا بشهادتهم. وعن أبي الحسين بن القَطَّان القَطْع بهذا الوَجْه الثاني. الثالثة: من لزمه الدِّيَة من الجاني والعاقلة فإما ألا يملك إبلاً أو يملك. الحالة الأولى: إذا لم يكن له إبل، فعليه تحصيل الواجب من غالب إبل البلدة، ¬
أو القبيلة إن كان من أهل البادية الدين ينتقلون بإبلهم ولا يقيمون في بَلْدة، ولا ناحية، ودفعه إلى المستحق، فإن تفرقت العاقلة في البُلْدَان، أو القبائل أخذت حصة (¬1) كل واحد منهم من غالب إِبِلِ بلدته، أو قبيلته. قال أبو الفرج الزاز: وهذا لا يتحقق تصويره في تفرق الآحاد، فإن الواجب على واحد منهم لا يبلغ ما يؤخذ به الإبل، وإنما يظهر التصوير إِذا كان بطنٌ (¬2) في بلدة أو قبيلة، وبطنٌ في أخرى وإن لم يكن في البلدة أو القبيلة إبل، أو كانت بعيدةً اعتبر إبل (¬3) أقرب البلاد، وعليه النقل إن قربت المسافة، وإن بعدت وعظمت المُؤْنة والمَشَقّة لم يلزم، وسقطت المُطَالبة بالإبل، وبم يضبط القرب والبعد؟ أشار بعضهم إلى رعاية مَسَافة القَصْر، فجعلها وما فوقها في حَدّ البعد. وقال الإِمام: لو زادت مؤنة إحضارها على قيمتها في موضع الغرّة لم يلزمه [تحصيلها] (¬4) وإلا لزمه. الحالة الثانية: إذا كانت له إبل ينظر إن كانت إبله من غالب البَلْدة أو القبيلة فذاك، وإن كانت من صنف آخر فوجهان: الذي أورده الأكثرون من العراقيين وغيرهم أن الدية تؤخذ من لغة الصنف الذي يملكه (¬5) مَهْرِيّة كانت أو أرْحبيّة عِرَاباً أوْ بَخَاتَى، ووجه ذلك في العَاقِلَةِ بأنهم [كانوا] يؤدّون ذلك على سبيل المُوَاسَاة، فيعطون ما عندهم كما في الزَّكَاة، وهذا ظاهر نصّه في "المختصر"، فإنه قال: ولا أكلف أحداً من العاقلة غير إبله. والثاني حكاه الإِمام عن محققي المَرَاوزة، ورجحه (¬6) أن الاعتبار بغالب إبل البلد (¬7)؛ لأن الدية عوضٌ متلف، واعتباره بملك المتلف بعيد، ومن قال أراد بقوله: "غير إبله إبل بلدته أو قبيلته" وقد يضاف ما يتعلّق بالبلد، أو القبيلة [إلى] (¬8) الواحد من أهلها، ولذلك قال عَقِيْبَ هذه اللِّفظة: وإن لم يكن ببلده إبل كُلِّف إبل أقرب البلدان إليه، ولو أراد بإبله ما يملكه لأشبه أن يقول: ولو لم يكن له، أو في ملكه إبل، ومهما تعين نوع، فلا عدول إلى ما دونه، أو فوقه إلاَّ بالتَّرَاضِي. ¬
وإذا كان الاعتبار بإبل الدية، أو القبيلة، فلو كانت إبل الموضع من نوعين أو أكثر ولا غالب فيها، فالخِيَرَةُ إلى المُعْطِي. كذلك حكاه الإِمام وإن اعتبرنا (¬1) إبل مَنْ عليه، فلو تنوّعت إبله فوجهان: أحدهما: يؤخذ من الأكثر، فإن استويا (¬2) أعطي ما شاء. والثاني: يؤخذ من كل (¬3) يقسطه إلا أن يتبرع فيعطي الكُلّ من الأشرف (¬4)، وإن أراد أن يعطي من شيء آخر سوى ما في بلدته أجبر (¬5) المستحقّ على القبول إذا كان من غالب إبل البلدة، أو القبيلة. قاله في "التهذيب"، والوجهان مَبْنِيَّان على القولين في الزَّكَاة، إذا تنوع النِّصَاب نوعين فصاعداً، وإذا كانت الإبل تُبَاع بأكثر من ثَمَنِ المِثْلِ لم يجب تحصيلها، وكانت كالمعدومة (¬6). الرَّابعة: إذا كانت الإبل موجودةً، وعدل من عليه ومستحقّها إلى القيمة أو غيرها بالتراضي جاز كما لو أتلف مثليّاً، وتراضياً على أَخْذِ القيمة مع وجود المثل (¬7)، وقال (¬8) صاحب البيان: هكذا أطلقوه، وليكن ذلك مبنياً على أنَّه يجوز الصُّلح عن إبل الدية، وإن أراد أحدهما العدول عن الإبل لم يُجْبَر الآخر عليه. وعن أبي حنيفة إذا عدل الجَانِي إلى الدراهم أو الدنانير المقدرة على ما سيأتي إن شاء الله -تعالى- وجب على المستحقّ القبول. والدية أحد ثلاثة أشياء: الإبل والدراهم والدنانير. وعن أبي الطَّيب بن سلمة وغيره أن على القول القديم، وهو الرجوع إلى المقدّر عند إعواز الإبل على ما سنذكر على الأثر إن شاء الله تعالى يتخير الجَانِي بين الثلاثة، كما قال أبو حنيفة. ¬
وفي "الشامل" حكاية مثله عن أحمد، وزاد فقال: الدية ستة أصول الإبل والدراهم والدَّنانير، وسيأتي إن شاء الله -تعالى- تقديرهما ومائتا بقرة ومائتا حلة وألفا شاة، والمراد من الحلّة غالب لباس العرب إزار ورداء (¬1)، وبه قال أبو يوسف ومحمد ويروى عن أحمد طَرْح الحلل، واحتجّ الأصحاب لتعيين الإبل بظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم-: "في النفس (¬2) مَائَةٌ مِنَ الإِبِلِ"، وقوله -عليه السلام- في قتيل السّوط والعصا: "مائَة مِن الإِبِلِ". أما إذا لم توجد الإبل في الموضع الذي يجب تحصيل الإبل منه، أو كانت توجد بأكثر من ثمن المِثْلِ، فالرجوع إلى ماذا؟ فيه قولان: القديم: وبه قال مالك أنا نرجع إلى بَدَلٍ مقدر، وهو ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم (¬3) لما روي عن مكحول وعطاء قالا: أدركنا النَّاس على أن دية الحرّ المسلم على عَهْدِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مائة من الإبِلِ، فقوّمها عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بألف دينار أو اثني عشر ألف درهم (¬4). وروي أنَّه -عليه السلام- قضى في الدِّيَةِ بألف مِثْقَالٍ، أو اثني عشر ألف درهم (¬5). وعند أبي حنيفة: الدَّراهم مقدّرة عشرة آلاف. وذكر القاضي ابن كَجّ أن أبا الحسن حكاه وَجْهاً لبعض الأصحاب، ويدل على ¬
التفريع
التقدير الأول ما روي عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رَجُلاً قتل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَجَعَلَ ديته اثني عشر ألف درهم. والجديد: أنّ الرجوع إلى قيمة الإبل بالغة ما بلغت لما روي عن عَمْرو بن شُعَيب عن أبيه عن جَدّه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يُقَوِّم الإبل على أهل القرى، فإذا غلت رَفَعَ في قيمتها، وإذا هانت نقص من قيمتها (¬1)، وهذا ما اختاره المُزَنِيّ، وادعى أن القديم مرجوع عنه. " التفريع" إن قلنا بالقديم، فالاعتبار بالدراهم والدنانير المضروبة (¬2) الخالصة دون التبر والمغشوش. وذكر الإِمام أن المعطِي يتخيّر بين الدراهم والدنانير، والذي أورده الجمهور أن على أهل الذَّهب الذهب، وعلى أهل الوَرِقِ الوَرِق، د إذا كان الواجب دية مغلّظة، بأن قتل في الحرم، أو قتل عمداً أو شبه عمد، فهل يزاد للتغليظ شيء؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأن التغليظ في الإبل إنما ورد بالسِّنّ والصفة، لا بزيادة العَدَدِ، وذلك لا يوجد في الدراهم والدنانير، وهذا أحدها احتجّ به على فَسَاد القول القديم. وقيل: المصير إليه يسقط أثر التغليظ. والثّاني: أنَّه يزاد ثلث المقدر تغليظاً، فيجب ستة عشر ألف درهم، أو ألف دينار، أو ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ديناراً وثلث دينار، وبه قال أحمد لما روي عن عمر -رَضيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه قضى فيمن قتل في الحرم، أو في الأشهر الحرم أو محرماً بدية وثلث (¬3). وعن عثمان (¬4) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه قضى في امرأة وطئت بالأقدام بـ"مكة" بدية ¬
وثلث، وهي ثمانية آلاف درهم، وعلى هذا فلو تعدد سبب التغليظ بأن قتل محرماً في الحرم فوجهان: أصحهما: أنَّه لا يزاد على الثلث شيء، ولا يتكرر التغليظ، كما لو قتل المحرم صيداً في الحرم لا يلزمه إلا جزاء واحد. والثاني: أنَّه يزاد لكل سبب ثلث الدية، فيجب في قَتْلِ المحرم في الحرم عشرون ألفاً، ويروى ذلك عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا (¬1) - وإن انضم إليه الوقوع في الأشهر الحرم، وجب أربعة وعشرون ألفاً، فإن كان القَتْل شبه عمد وجب ثمانية وعشرون ألفاً ويحكى هذا عن أحمد. وإن قلنا بالجديد، فتقوّم الإبل بغالب نَقْدِ البلد، ويراعى صِفَتُهَا في التغليظ، إن كانت مغلظة. قال الإِمام: فإن غلب النَّقْدَان في البلد تخير للجاني، وتقوّم الإبل التي لو كانت موجودة وجب تسليمها، وإنْ كانت له إبل معيبة وجبت قيمة الصِّحَاح من ذلك الصنف، وإن لم يكن هناك إبل، فيقوم من صنف أقرب البلاد إليهم. وحكى صاحب "التهذيب" وجهين في أنَّه يعتبر قيمة مواضع الموجود، أو قيمة بلدة الإعواز لو كانت الإبل موجودة فيها، والأشبه الثاني، ووقع في لفظ الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه يعتبر قيمة يوم الوُجُوب، والمراد على ما يفهمه كلام الأصحاب يوم وجوب التسليم ألا تراهم قالوا: إن الدية المؤجّلة على العَاقِلَةِ يقوم كلّ نجم منها عند محلّه. وقال القاضي الروياني: إن وجبت الدية، والإبل مفقودة فيعتبر قيمتها يوم الوجوب. أما إذا وجبت وهي موجودة، فلم يتمكن (¬2) من الأداء وحتى أعوزت يجب قيمته يوم الإِعْوَاز؛ لأن الحق يومئذ يحول إلى القيمة، وإن وجد بعض الإبل الواجبة أخذ الموجود، وقيمة الباقي. وقوله في الكفار: "فيراعي غالب إبل البلد، وأقرب البلدان إليه" لا يخفى أنَّه ليس على التَّخيير، بل المعنى إلى (¬3) أقرب البلدان إليه، إن لم يكن في البلد إبل، وفي السياق ما يبيّن أن المرعى الغالب إن لم يكن لمن عليه الدية إبل، وإن كانت وهي مُخَالفة للغالب، فهل يتعيّن؟ فيه وجهان وعلى الوجه الذي لا يتعين بتعين الغالب. ¬
فرع
وقوله: "وإن لم يوجد في القُطْر ... " إلى آخره فيه إشارة إلى أنَّه إذا وجدت الإبل، فلا معدل (¬1) عَنْهَا، وإنما الرجوع إلى غيرها عند ضرورة الإِعواز، وفي لفظ "القُطْر" إشارة إلى ضبط القُرْب والبُعْد بما ذكره الإِمام دون مسافة القصر. وقوله: "يرجع إلى قيمة الإبل" ليعلم بـ"الحاء" و"الميم"، فإنّ الرجوع عندهما إلى المقدر كما بَيَّناه. وقوله: "ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم" للتخيير على ما ذكره الإِمام، وللتنويع على ما ذكره الجمهور ولفظ "اثني عشر" معلم بـ"الحاء" و"الواو". وقوله: "لم يتكرر" بـ"الألف" و"الواو". " فَرْعٌ" قال الإِمام: لو قال المستحق عند إعواز الإبل: لا أطالب الآن بشيء، وأصبر إلى أن توجد، فالأظهر أن الأمر إليه؛ لأن الأصل هو الإبل، ويحتمل أن يقال لمن عليه الدية أن يكلفه قبض ما عليه [تبرأ ذمته] (¬2)، ولم يصر أحد من الأصحاب إلى أنَّه لو أخذ الدراهم، ثم وجدت الإبل تردُّ الدراهم، ويرجع إلى الإبل، بخلاف ما إذا غرم قيمة المثل (¬3) لإعواز (¬4) المِثْل، ثم وجد ففي الرجوع إلى المِثْل خلاف، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: وَأَمَّا المُنَقِّصَاتُ لِلدِّيَةِ عَمَّا ذَكرْنَاهُ فَأَرْبَعَةٌ، الأوَّلُ الأُنُوثَةُ فَإنَّهَا تُرَدُّ إلَى الشَّطْرِ، وَالاجْتِنَانُ فَإنَّهُ يُرَدُّ إلَى غُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، وَالرِّقُّ فإِنَّهُ يُرَدُّ إلَى القِيمَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى دِيَة الحَرِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لما مهد أصل الدية، وعقبه بما يعتبر بها من الأسباب المغلّظة التي تزيد صفة، أو قدراً أراد أن يبين ما يعتبر بها من الأسباب المنقصة التي تنقص صفة، أو قدراً، فهي وهي كما عدها أربعة: أحدها: الأنوثة فَدِيَةُ المرأة على النصف من دية الرجل، لما روي عن عمرو بن حَزْمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "دِيَة المَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ" (¬5). ¬
ويروى ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، والعَبَادِلَةِ: ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-. قال الأصحاب: قد اشتهر ذلك، ولم يُخَالفوا، فصار إجماعاً، ويجب في الخُنْثَى المُشْكل دِيَةَ المرأةِ؛ لأن الزيادة مشكوك فيها. ذكره صاحب "البيان" وغيره. وكما أن دية المرأة على النصف، فدية أطْرَافها وجِرَاحَاتها على النصف من دية أطراف الرجل وجِرَاحاته على الجديد، وبه قال أبو حنيفة اعتباراً بالأجزاء بالجملة. وفي القديم قول أن المرأة تُعَاقِلُ الرَّجل إلى ثلث الدية أي: تساويه في العقل (¬1)، فإذا زاد الواجب على الثّلث صارت على النصف لما روي أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "عَقْلُ المَرْأةُ كَعَقْلِ الرَّجُلِ إِلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ" (¬2). وعلى هذا فيجب في أُصْبع من أَصَابعها عشر من الإبل، وفي أُصْبُعَيْنِ عشرون من الإبل، وفي ثلاث ثلاثون، وفي أربع عشرون [على النصف] (¬3) مما يجب في الرجل؛ لأن الواجب في الأربع يزيد على الثلث، ويروى هذا عن مالك وأحمد، ويروى عنهما أنها تعاقله فيما دون الثُّلث، وفي الثلث فما فوقه تكون على النصف، وذكر أن القول القديم مرجوع عنه. ¬
وأن الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: قال كان مالك يذكر أنَّه السُّنة، وكنت أتابعه عليه، وفي نفسي شيء منه حَتَّى علمت أنَّه يريد سُنَّة أهل "المدينة"، فرجعت عنه. والثاني: الاختيار، فإنه يرد الواجب إلى الغرّة، والقول فيه مؤخر إلى القسم الرابع من الكتاب. الثالث: الرّق، فيجب في قَتْل العبد قيمته، سواء كان القتل عمداً أو خطأً، وسواء نقصت القيمةُ عن قدر الدية، أو زادت مسلوكاً به مَسْلك الأموال، ولذلك لو تَلِفَ في يد الغاصب ضمنه بتمام قيمته، وبهذا قال مالك وأحمد. وعند أبي حنيفة: لا يزاد الواجب على دِيَةِ الحُرّ، بل ينقص منه عشرة دراهم. وفي رواية ينقص في حقِّ الأَمَةِ خمسة. وأما أطراف العَبْدِ وَجِرَاحاته، فالذي يجب فيها مذكور في آخر القسم الأول من الكتاب، وقد يعترض في لفظ الكتاب من وجهين أحدهما (¬1) أنَّه الآن يتكلّم في مُنْقِصَات الدية، فكيف يليق به أن يقول: وإن زادت على دية الحر، فإن الرِّقَّ حينئذ يكون موجباً للزيادة دون النُّقْصَان. والثاني: أنَّه قال: يرد إلى قدر القيمة، والرد إلى الشيء في هذا المعرض يقتضي كون المردود إليه أنقص، فكيف ينتظم أن يقول معه: وإن زادت على دية الحر. والجواب على الأول أن قَدْر القيمة في الغالب دون قَدْر الدية، والرق يقتضي القيمة، فيكون منقصاً في الغالب، فلذلك عَدَّهُ من المنقصات، ويمكن أن يقال: القيمة ناقصة، وما يرد إليها فهو منقص، وإن زاد قدرها على قدر الدية لما فيه من العرض على المقومين والإلحاق بالبهائم، وسائر الأموال، ويخرج به الجواب عن الثاني. قال الغَزَالِيُّ: وَالْكُفْرُ فَإِنَّ دِيَةَ اليَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ثُلْثُ دِيَةِ المُسْلِمِ، وَدِيَةِ المَجُوسِيِّ ثَمَانْمَائَةُ دِرْهَمٍ، وَالْمَعَاهَدُ كَالذِّمِّيِّ، وَأَمَّا عَبَدَةُ الأَوْثَانِ وَالزَّنَادِقَةُ وَالمُرْتَدُّونَ فَلاَ عِصْمَةَ لَهُمْ، فَلَوْ دَخَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِأَمَانٍ كَفَفْنَا عَنْ قَتْلِهِ، فَإِنْ قُتِلَ وَجَبَ أَخَسُّ الدِّيَاتِ في الوَثَنيِّ، وَلَمْ يَجِبْ شَيءٌ في الْمُرْتَدِّ، وَفِي الزِّنْدِيقِ تَرَدُّدٌ، وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَبلُغهُمْ دَعْوَتُنَا فَقَدْ قِيلَ: يُقْتَلُ المُسْلِمِ وَبِقَتْلِهِ، وَقِيلَ: لاَ قِصَاصَ وَيجِبُ دِيَةُ المُسْلِمِ، وَقِيلَ: يَجِبُ دِيَةُ ذَلِكَ الدِّينِ، وَأَمَّا المُسْلِمُ فِي دَارِ الحَرْبِ إِذَا لَمْ يُهَاجِرْ فَهُوَ كَالمُسْلِمِ المُهَاجِرِ فِي العِصْمَةِ، وَالصَّابِئونَ مِنَ النَّصَارَى، وَالسَّامِرَةُ مِنَ اليَهُودِ، فَإِنْ كَانُوا مُعَطَّلَةَ في دِينِهِمْ فَلاَ دِيَةً لَهُم. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: الرابع: الكفر: وَالكُفَّارُ أَصْنَافٌ: أحدها: اليَهُودِي والنصراني، فديتهما ثُلُث دية المسلم، وهو من الإبل ثلاثة وثلاثون وثلث، وإن أثبتنا الإبل بدلاً مقدراً، فهو من الذَّهَب ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ديناراً وثلث دينار، ومن الوَرِقِ أربعة آلاف درهم. وقال أبو حنيفة: ديتهما مِثْلُ دية المسلم. وقال مالك: نصف دية المسلم. وقال أحمد: إن كان القَتلُ عمداً، فدية المسلم، وإن كان خطأ فنصف دية المسلم. واحتجّ الأصحاب بما روي عن عُبَادة بن الصَّامت -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "دِيَةُ اليَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةُ آلافِ دِرْهَمٍ" (¬1). وبأنهما (¬2) مكلفان لا سَهْمَ لهما من الغَنِيمَةِ، فلا تكمل ديتهما كالمرأة، والسَّامرة من اليهود، والصَّابِئُون من النصارى إن كانوا معطلة لدينهم (¬3) كفرة عندهم لم يجب بِقَتْلِهِمْ دية اليهودي والنصراني، بل يكون حكمهم حكم مَنْ لا كتاب له من الكُفَّارِ، وإن كانوا [لا يكفرونهم و] (¬4) لا يخرجونهم من جُمْلتهم، فهم كسائر فرقهم، وقد سبق في النِّكَاح أن بعضهم أطلق قولين في جواز مُنَاكحة السَّامرة والصَّابئين، وسيأتي مثله في جواز تقريرهم (¬5) بالجِزْيَةِ، ولا بد من مجيء هذه الطريقة هَاهُنَا. والثاني: المَجُوسِيّ، وديته ثلثا عشر دية المسلم، وإن شئت قلت: خمسها (¬6) وخمس ثلثه، وبهذا الاعتبار يقال: إن ديته خمس دية اليهودي، وذلك من الإبل ستة ¬
وثلثان، وإذا أثبتنا البدل، فهو من الذهب ستة وستون ديناراً [وثلثا دينار] (¬1)، ومن الوَرِقِ ثمانمائة درهم. وقال أبو حنيفة: ديته كدية المسلم. واحتج الأصحاب بأن ما ذكرناه قد روي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قالوا: ولا مخالفة لهم من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فصار ذلك إجماعاً، واستأنس الشَّارح لـ"مختصر الجويني" الاعتبار خمس دية اليهودي والنصراني بأن قال: لليهود والنصارى كتاب ودِيْن كان حقّاً بالإجماع (¬2) وتحلّ مناكحتهم، وذبائحهم، ويقرون بالجزية، وليس للمجوس من هذه الأمور الخمسة إلاَّ التقرير بالجزية، فكانت ديتهم خمس ديتهم، ولا يخفى أن الدية في الصنفين إنما تجب إذا كان القتيل (¬3) معصوماً إما بِعَقْدِ الذّمة، أو بعهد جرى معهم مؤقتاً، أو بأمان مثل أن دخل رسولاً، أو تاجراً (¬4)، ودية نسائهم على النصف من ديّة الرجال، وفي شرح "مختصر الجويني" وجه أن دية نساء المَجُوس كَدِيَةِ رجالهم؛ لأن ديتهم أقل الديات، والأقل يحطّ منه شيء، كما أن [أقل] (¬5) النفقات تستوي فيه الخَادِمة والمَخْدومة. وفي "أمالي أبي الفرج" ذكر هذا الوجه في المَجُوس، وسائر الكفار الذين يجب فيهم مِثْل دية المجوسي، وشبه أقل الدية بغُرَّةِ الجنين لا يختلف بالذكورة والأنوثة، والظاهر المشهور الأول، فتكون دية اليهودية والنصرانية بالدراهم [أربعة آلاف] درهم، ودية المجوسية أربعمائة درهم. وعلى هذا قياس الأطراف ففي أصبع اليهودي والنصراني أربعمائة درهم وفي موضحته مائتا درهم، وفي أصبع المجوسي ثمانون درهماً، وفي موضّحته أربعون، ويراعى في ديات هؤلاء التغليظ والتخفيف، وإذا قتل اليهودي عمداً أو شبه عمد وجبت عَشْر حِقَاق، وعشر جِذَاع، وثلاث عشر خَلِفَة وثلث، وإذا لم يوجد ما يقتضي التغليظ وجب من بِنْت المَخَاض ستة وثلثان، وكذلك من بَنَات اللَّبُون، وسائر الأخماس، وفي المجوسي عند التغليظ يجب حِقَّتان وجَذَعتان وخَلَفتان وثلثا خَلَفة، وعند التخفيف بنت مَخَاض وثلث، وبنت لبون وثلث، وكذلك من سائر الأخماس. الصنف الثالث: الكافر الذي ليس له كتاب، ولا شبهة كتاب كعَبَدَةِ الأوثان والشمس والقمر، والزَّنَادقة، وفي معناهم المرتدون، فهؤلاء لا يفرض لهم عَقْد ذمْة، ولكن لو فرض أمان بأن دخل بعضهم رسولاً كفينا وبذلك عن قتله، فلو قتله قاتل ¬
وجبت أخَسُّ الديات، وهي دية المَجُوسي والوثني، وعابد الشمس والقمر، ولا يجب في المرتد شيء، فإنه مقتول بكل حال، وليس من أهل الأمان. قال الإِمام: ولو تحزبت طائفة من المرتدين، ومست الحاجة إلى سماع رسالتهم، فإذا جاءنا رسول منهم فقيل: لا يتعرض له، لكن لو قتل لم يتعلق بقتله ضمان، وفي الزنديق للشيخ أبي محمَّد تردد أنه يلحق بالمرتد، أو الوثني. والأصح إلحاقه بالوثني؛ لأنه لم يسبق منه التزام الإِسلام، وكان إلحاقه بالمرتدين من جِهَةِ أنه يظهر الإِسلام، وإن كان يستسر بالكُفْر، فإظهاره لإسلام يجعل كإسلام المرتد من قبل، ومن لا عَهْدَ له ولا (¬1) ذمة ولا أمان من الكفار لا ضمان في قتله على أي دين كان المرتد (¬2) وجميع ما ذكرناه في الكَافِرِ الذي بلغته دعوتنا، وخبر نبينا -صلى الله عليه وسلم-. أما من لا يبلغه دعوتنا، فلا يجوز قتله قَبْل الإعلام، والدعاء إلى الإِسلام، ولو قتل، كان مضموناً خلافاً لأبي حنيفة، وبني الخلاف على أنه مَحْجُوج عليه بالعَقْدِ عنده، وعندنا من لا تثبت لم تبلغه الدعوة الحُجّة، ولا تتوجه المُؤَاخذَة، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وبم يضمن؟ أما الكفَّارة (¬3) فتجب بلا تفصيل، ثم له أحوال ثلاث: إحداها: إذا لم تبلغه دعوة نبي أصلاً، فعن القَفَّال أنه يجب القِصَاصُ بقتله، فإنه لم يوجد منه عناد وإنكار، وهو على الفِطْرَةِ الأصلية بأسرها لم يجب إلاَّ أرْشُ والظاهر أنه لا قصاص لعدم التكافؤ ونقل نصان في أنه تجب الدية الكاملة أخس الديات فأقامهما بعض الأصحاب قولين يوجه أحدهما بأنه معذور والآخر بأنه لا دين له وقطع آخرون بوجوب الأخس وحمل النص الآخر على الحالة الثانية. الثانية: إذا كان متمسك بدين لم يبدل ولم يبلغ ما يخالف ففيه الوجه الذاهب إلى وجوب القصاص وهو أقرب هاهنا لأن الدين الذي لم يُبَدَّلْ حقٌ وهو في التمسك به محسنٌ والحالة هذه، وإذا قلنا لا يجب القصاص وهو الظاهر ففي الدية الواجبة وجهان أحدهما: الدية الكاملة والثاني: دية أهل ذلك الدين فإن منصب ذلك الدين لا يقتضي الزيادة عليها. الثالثة: إذا كان متمسك بدين لحقه التبديل لكنه لم يبلغه ما يخالفه فلا يجب ¬
الباب الثاني فيما دون النفس
القصاص بقتله لتعلقه بالدين المغير وكذلك الدية الكاملة وفيما يجب ثلاثة أوجه أحدها دية أهل ذلك الدين والثاني أخس الديات والثالث ذكره الإِمام أنه لا يجب شيء لأنه ليس على دين حق ولا عهد له ولا ذمة وامتناعنا عن قتله كالامتناع عن قتل النساء والذراري والأشبه بالترجيح في الحالة الأولى والثالثة وجوب أخس الديات، وفي الثانية دية أهل ذلك الدين ومن أسلم في دار الحرب ولم يهاجر مع التمكن من المهاجرة أو دونه فقتله مسلم تعلق بقتله القصاص أو الدية، والعصمة بالإِسلام على ما قاله -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها" وعند أبي حنيفة لا يتعلق العصمة بالدار وقوله في الكتاب: ثلث دية المسلم مُعلم بالحاء والميم والألف وقوله ثمانمائة درهم بالحاء ويجوز أن يعلم بالواو لأن وجوب هذا المِقْدَار تتفرع على أن للإبل بدلاً مقدراً من التقدير، وقوله: "كالمسلم المهاجر في العصمة" معلم بـ"الحاء" وقوله: "فلا دية لهم" بـ"الواو". الْبَابُ الثَّانِي فِيمَا دُونَ النَّفْسِ قال الْغَزَالِيُّ: وَهَذِهِ الجِنَايَةُ إمَّا جُرْحٌ أَوْ إبَانَةٌ أَوْ إبْطَالُ مَنْفَعَةٍ (النَّوْعُ الأَوَّلَ الجُرْحُ) وَفِي جَمِيعِهِ الحُكُومَةُ إلاَّ فِي المُوْضِحَةِ فَفِيهَا خَمْسٌ مِنَ الإِبْلِ، فَإِنْ صَارَتْ هَاشِمَةً فَعَشْرٌ (م و)، وَإِنْ صَارَتْ مُنَقَّلَةً فَخَمْسَ عَشَرَ، وَإِنْ صَارَتْ مَأمُومَةً فَثُلُثُ الدِّيَةِ، وَكَذَا الثُّلُثُ في كُلِّ جَائِفَةٍ، وَالجَوْفُ مَا فِيهِ قُوَّةٌ مُحِيلَةٌ كَالبَطْنِ وَالدِّمَاغِ وَالمَثَانَةِ وَدَاخِلِ الشَّرْجِ، وَأَمَّا بَاطِنُ الإحلِيلِ وَالفَمِ وَدَاخِلُ الأجْفَانِ فَفِيهَا وَجْهَانِ، وَهَذِهِ المُقَدَّرَاتُ تَخْتَصُّ بِعَظْمِ الرَّأْسِ وَالوَجْهِ سِوَى الجَائِفَةِ فَإنَّهَا تَتَقَدَّرُ عَلَى سَائِرِ البَدَنِ، وَأَمَّا المُنَقِّلَةُ وَالهَاشِمَةُ في سَائِرِ الْبَدَنِ فَفِيهَا الحُكُومَةُ، وَنَعْنِي بِخَمْسٍ مِنَ الإِبِلِ فِي المُوضِحَةِ نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ فَيَجبُ بِمِثْلِ نِسْبَتِهِ فِي الذِّمِّي وَالمَرْأَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد بان في البَاب الأول قدر الدية الواجبة بقتل النفس وحقيقتها، والمقصود من هذا الباب بيان ما يجب من الدِّيَةِ فيما دون النّفس، والجناية على ما دون النفس كما سبق في باب الجراح ثلاثة أنواع: جرح، وإبانة طرف، وإزالة منفعة وإبطالها: النوع الأول: الجراحات وهي قسمان: الأول: غير الجَائِفة ولنتكلم في جراحات الرَّأس والوجه من هذا القسم، ثم في الجراحات الواقعة في سائر البدن، أما الواقعة في الرأس والوجه ففي الموضّحة خمس من الإبل لما روي عن عمرو بن حزم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في الكتاب
الذي كتبه إلى أهل اليمن:"وفي المُوَضّحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ" (¬1). وعن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثله (¬2)، ولا فرق بين أن تكون الموضّحة على الهَامَةِ، أو النَّاصِيَةِ، أو القذال (¬3) أو الخُشَّاء وهي العَظْمة الثي تنطبق عليها صَدَفة الأذن، أو منحدر (¬4) القَمَحُدوَّة إلى الرَّقبة. وذكر في العَظْمة الواصلة بين عَمُودِ الرقبة، وكرة الرأس وجه أنها ليست في محلّ الموضحة كالرقبة، ويشبه أن تكون هي المُنْحدر المذكور، أو تكون هي منه، والجبهة من الوجه والجبينان والخَدّ وقَصَبة الأنف واللّحْيَان كلها محلّ الإيضاح، ولا فرق في ذلك بين المقبل بين اللّحيين الذي تقع به المواجهة، وبين ما تحت المقبل وإن كان ما تحت خارجاً عن حَدّ المغسول (¬5) في الوضوء، وذلك لأن اسم الموضحة شامل لجميعها. وقال مالك: الموضحة على الأنف واللّحى الأسفل لا توجب إلا الحكومة لبعدها عن الدِّمَاغ، والذي ورد أن في الموضحة خمساً من الإبل في حقّ من تجب الدية الكاملة بقتله، وهو الحر المسلم الذكر، وهذا المبلغ نصف عشر ديته فتراعى هذه النسبة في حق غيره حتى يجب في موضحة اليهودي نصف عشر ديته، وهو بعير وثلثان، وفي موضحة المرأة نصف عشر ديتها، وهو بعيران ونصف، وفي موضّحة المجوسي ثلثا بعير، وقد ذكرنا تقدير إبدالها بالدراهم من قبل إن جعلنا للإبل بدلاً مقدراً، هذا الذي ذكرناه ظاهر المذهب المشهور في الموضّحة. وفي شرح "مختصر الجويني" أن الإصْطَخْرِي قال: يجب في موضحة الوجه كثر الأمرين من خمس من الإبل، وقدر الشِّين يعني الحُكُومة، وأن ابن القطان حَكَى مثله عن أبي محمَّد الفارسي، ولا تفريع في هذا. وإذا هشم العَظْم مع الإِيضاح وجب عشر من الإبل، وإن نفذ مع ذلك وجب خمسة عشر. وأما أرش المُنقّلة، فهو مروي في خبر عمرو بن حزم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- منصوص عليه. وأما وجوب العشر في الهَاشِمة، فقد حكى الإِمام عن الأصحاب خلافاً في مأخذه، وذكر أن بعضهم روى عن زيد بن ثابت -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوجب ¬
في الهَاشِمة عشرًا من الإبل (¬1)، وأن منهم من قال: لم يرد فيه خبر، وإنما قدر الواجب فيه بالاجتهاد، وذلك لأنها متوسّطة بين شجتين لكل واحد منهما أرْش مقدّر، فيكون لهما أرش مقدر كالمُنَقّلة، وهذا ما يوجد لعامة الأصحاب، ورواية عن زيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- موقوف عليه وقال مالك: يجب في الهَاشِمة أرش موضّحة، وحكومة. وفي أمالي أبي الفَرْج السَّرخسي نقل قول عن القديم كمذهب مالك، وإذا وصلت الجِرَاحَةُ إلى الخَرِيْطَةِ المُحيطة بالدِّمَاغ، وهي المأمومة، ففيها ثلث الدية، روي ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- برواية عمر (¬2) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفي كتاب عمرو بن حزم (¬3) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لأن المأمومة جراحة وصلت إلى الجَوْف، وفي الجَائِفَة ثلث الدية على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. وأما الدَّامِغَة الخَارِقة للخريطة (¬4)، ففيها طريقان ذكر الشيخ أبو حامد، ومن تابعه أن فيها ثلث الدية كالمأمومة، وأنه لا فرق بين أن تَخْرق الخريطة، أو لا تخرقها، وحكى ذلك عن نص الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فيما رواه القاضي الرُّوياني عن القاضي الطَّبري، وأشار إلى القطع به، وفي "المهذب" أن أقضى [القضاة] (¬5) الماوردي أوجب فيها مع ثلث الدية حكومة لخرق الخريطة. والطريقة الثانية: حكى الفوراني وجماعة أن في الدَّامِغَة تمام الدية؛ لأنها [تذففت] (¬6) وعلى هذا جرى الإِمام، وقال: ليست الدامغة من الجِرَاح، وإنما توحى وتذفف تَذْفِيف حز الذقنة، والأولون كأنهم يمنعون كونها مذففة، ولو هشم العَظْم ولم يوضح، فوجهان: أحدهما: وبه قال ابن أبي هريرة أن الواجب فيه الحكومة؛ لأنه كسر عَظْم بلا إيضاح، فأشبه كسر سائر العظام. وأصحهما: وبه قال أبو إسحاق، ويقال: إن القفال قطع به أنه يجب، فيه خمس من الإبل؛ لأنه لو أوضح، وهشم وجب عشر من الإبل (¬7)، ولو تجرّد الإيضاح لم ¬
يجب إلا خمس، فيكون الخمس في مقابلة الهَشْم، فيجب عند تجرُّد الهَشْم. وفي "منهاج الجويني" أن الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نصّ على الوجه الثاني، ولو نقل العَظْم من غير إيضاح، فالواجب الحكومة، أو عشر من الإبل، فيه مثل هذين الوجهين. وفي "الرَّقم" وغيره أن موضع الوجهين ما إذا لم يحوج الهَشْم إلى البَطّ والشَّقّ لإخراج العظم وتقويمه فإن أحوج إليه، فالذي أتى به هاشمة يجب فيه ما يجب في الهاشمة. وإذا أوضح واحد، وهشم آخر، ونَقّل ثالث، وأمّ رابع، فعلى الأول القصاص، أو خمس من الإبل، وعلى الثاني خمس [من الإبل]، وعلى الثالث خمس [من الإبل]، وعلى الرابع فَصْل أرش المأمومة وعلى أرش المُنَقّلة، وهي ثمانية عشر وثلث، بعير هذا هو الصحيح وفي كتاب القاضي ابن كَجّ وغيره وجه آخر أنهم يجعلون شركاء [في] (¬1) المأمومة، فيكون ثلث الدية (¬2) عليهم أرباعاً، ولو جاء خامس وخَرَق خَرِيطَة الدِّمَاغ، ففي "التهذيب" أن عليه دِيَةَ النفس كمن حَزَّ رقبة إنسان بعد ما قطعت أطرافه، وهذا على طريقة من قال: إن الدامغة مذففة، وأما ما قبل الموضّحة من الشّجَاج كالدَّامِيَة (¬3) والخَارِصة والبَاضِعَة والمتلاحمة فليس فيها أرش مقدر؛ لأن التقدير يعتمد التوقيف، ولم يرد فيه توقيف، وقد روي عن مكحول -رحمه الله- مرسلاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل في الموضّحة خمساً من الإبل (¬4)، ولم يوقف فيما دون ذلك شيئاً، ثم منهم من أطلق بأن الواجب فيها الحكومة. وقال الأكثرون (¬5): إن لم يمكن معرفة قدرها من الموضحة، فكلذلك، ولا تبلغ حكومتها أرش موضحة، وإن أمكن أن يعرف قدرها بأن كان على رأسه موضحة إذا قيس بها البَاضِعة أو المتلاحمة عرف أن المقطوع نصف، أو ثلث في عمق اللحم، فيجب قسطه من أرش الموضحة، كان شككنا في قدرها من الموضّحة أوجبنا التَّعيين. قال الأصحاب: وتعتبر مع ذلك الحكومة، ويجب أكثر الأمرين من الحُكُومة، وما ¬
يقتضيه التّقسيط؛ لأنه وجد بسبب كلّ واحد منهما فيعتبر الأكثر كما سَيَأتي في قَطْع بعض اللسان، وذهاب بعض الكلام. وعن الشيخ أبي محمد أن الخلاف في أن الواجب في المُتَلاَحِمَةِ الحكومة، أو يقدر أَرْشُهَا بالنسبة إلى العُمْق مبني على الخلاف الذي تقدّم في أنه هل يجب في المُتَلاَحمة القصاص؟ هذا الكلام في الجراحات على الوجه والرأس. وأما الجراحات على سائر البَدَنِ فليس في إيضاح عِظَامه، ولا هَشْمها ولا في النَّقْل أرش مقدر، ووجهوه أن الأخبار الواردة كالموضّحة والهَاشِمة والمُنَقّلة لا يتناولها من جِهَةِ اللَّفْظ لاختصاص هذه الأشياء بجراحات الرأس والوجه، كاختصاص اسم الشِّجَاج، وليست هي في معانيها (¬1)؛ لأن الخوف والخَطَر في جراحات الرأس والوجه أعظم والشَّيْن فيها أشدّ تاثيراً لوقوع النظر عليهما، وتعلّق الجَمَال بهما، وأيضاً فأرش نفس العضو لا ينبغي أن ينقص عن أرش الجناية على العضو، وليس في الأُنْمُلَة الواحدة إلا ثلاثة أبْعِرَة وثلث، فكيف نوجب في إيضاح عظمها خمساً من الإبل؟ القسم الثاني: من الجراحات الجَائِفة، ففيها ثلث الدية لما روي في كتاب عمرو بن حزم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: " أنَّ فِي الجَائِفَةِ ثُلَثَ الدِّيَةِ". وعن رواية عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مثله، والجائفة الجِرَاحة الوَاصِلَة إلى الجَوْف كالمأمومة الواصلة إلى أم الدِّمَاغ، وكذا الجراحة الواصلة إلى الجوف من البَطْن، أو الصدر، أو ثغرة النحر، أو الجنينِ، أو الخَاصِرة أو الورك أو من العجان إلى داخل الشرج والعجان هو ما بين الخصية والفَتْحة، وكذا الجراحة النَافِذَة إلى الحَلق من القَفَا أو الجانب المقبل (¬2) من الرَّقَبة، والنَّافذة إلى (¬3) المَثَانة (¬4) من العانة، وفي النّافذة إلى مَمَّر البَوْل من الذَّكَر وجهان: أحدهما: أنها جائفة لحصولها من الظَّاهر والباطن. وأظهرهما: المنع؛ لأنه لا يعدّ من الأجواف، وليس فيه قوة تحيل الغذاء والدواء، وإنما يقدر الأرش في الجِرَاحَةِ الوَاصلة إلى الجوف الذي فيه هذه القوة لزيادة الخَطَر فيها, ولو نفذت الجراحة إلى داخل الفَمِ بهشم الخَدّ أو اللّحى، أو بخرق الشَّفة، أو الشّدق، أو إلى داخل الأنف بهشم القّصَبة، أو بخرق المَارِن، فهل هي جائفة؟ فيه قولان، ويقال: وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنها جراحة وصلت إلى الباطن من الظَّاهر، فأشبهت الجراحة الواصلة إلى جوف الرأس والبطن. ¬
وأظهرهما: المنع؛ لأنهما ليسا من الأجواف الباطنة، ألا ترى أنه لا يحصل الفِطْر بما يصل إليهما , ولا يعظم فيهما الخَطَر، بخلاف ما يصل إلى جوف الرأس والبطن. ومنهم من خصصِ الخلاف بما إذا نفذت الجِرَاحة إلى الفم والأنف بِهَشْمِ العظم، وقطع فيما إذا نفذت بِخرْقِ الشَّفَةِ وَالمَارن أنها لا تكون جائفة، فإن جعلنا الجراحة النافذة إلى الفم والأنف جائفة، فكذلك وإلا ففي (¬1) صورة هشم (¬2) العظم يجب أرش هاشمة (¬3)، أو منقلة وزيادة حكومة للنفوذ إلى الفم والأنف، ولا تدخل حكومة الخرق في أرش الهاشمة أو المنَقِّلة؛ لأنها جناية أخرى، ويجري مثل الخلاف المذكور في الجِرَاحة الواصلة إلى الفم والأنف في الجراحة الخارقة للجفن إلى بيضة العين، ففي وجه هي جائفة. وفي وجه ليس فيها إلا الحكومة وهو الأظهر، ولو وضع السِّكِّين على الكَتِفِ وحَزَّه حتى بلغ البَطْن، أو على الفَخِذِ وَحَزّه (¬4) حتى بلغ البطن، وأجَاف فعليه مع أرش الجائفة حكومة بجراحة الكتف والفَخِذ فإنها في غير محل الجائفة، وبخلاف ما لو وضعه على صدره وحَزَّه حتى أجَاف في البطن، أو في ثغرة النحر حيث لا تجب الحكومة مع أرش الجائفة؛ لأن جميعه على الجائفة، ولو أجاف في جميعه لم يلزم إلاَّ أرش الجائفة، فلأن لا يلزم الجائفة في البعض كان أولى. ولا فرّق بين أن يجيف بحديدة، أو بخشبة محددة (¬5) الرأس (¬6) ولا [فرق] بين أن تكون الجائفة واسعةً أو ضيقة حتى لو غَرَزَ فيه إبْرَة، فوصلت إلى الجَوْف، فقد أجافه. وعن ابن القَطَّان أن من الأصحاب من قال: إنما يعطى له حكم الجائفة إذا قال أهل الخبرة: إنه يخاف منه الهلاك. وقوله في الكتاب: " ففيها خمس من الإبل" معلم بـ"الواو". وقوله: "في الهاشمة" معلم بالميم والواو. وقوله: "والجوف ما فيه قُوَّة مُحِيلةً ليس المقصود منه حَصْر الجوف، والجائفة فيما فيه قوة محيلة للخلاف المذكور على الأثر في باطن الإِحْلِيل، وباقي المَسَائل فإن من يقول: إن الجراحة الواصلة إليها جائفة لا يقول بالحصرَ، ولكن الغرض أن نبيّن أن الواصل إلى ما فيه تلك القوة جائفة بالاتِّفَاق، وفي الواصلة إلى سائر الأجواف خلاف. ¬
وقوله: "فأما المُنَقِّلة والهاشمة في سَائِرِ البَدَن، ففيها الحكومة" مستغنًى عنه؛ لأنه قد ذكر من قبل أن في الجُرُوحِ جميعها الحكومة إلا في الموضّحة والهاشمة والمُنَقّلة والمأمومة والجائفة، وبين أن التقدير فيما سوى الجَائِفَةِ تخصيص بالرأس والوجهه، والمقدّمتان معرفان أن الهاشمة والمنقلة في سائر البدن لا ينفذ الواجب فيها. وقوله: "ونعني بخمس من الإبل في الموضحة ... " إلى آخره المراد به: أن الخمس بعينها لا تجب أرشاً في كل موضِّحة، وإنما تجب في موضحة الرجل الكامل، وهو نصف عشر ديته، فتقاس به موضحة غيره كما بَيَّنَّا. قال الغَزَالِيُّ: وَمَهْمَا اتَّحَدَتِ المُوضِحَةُ فَأَرْشٌ وَاحِدٌ وَلَوِ اسْتَوْعَبَ الرَّأْسَ، وَتَعَدُّدُهَا إمَّا بِاخْتِلاَفِ الصُّورَةِ أو المَحَلِّ أو الحُكْمِ أَوِ الْفَاعِلِ (أَمَّا الصُّورَةُ) فَمُوَضِّحَتَانِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِيهِمَا أَرْشَانِ، فَإنْ رَفَعَ الجَانِي الحَاجِزَ تَدَاخَلَ الكُلُّ إِلَى وَاحِدٍ، وَإِنْ رَفَعَ غَيْرَهُ لَمْ يَتَدَاخَلْ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ بَيْنَ المُوَّضِّحَتَيْنِ حَاجِزٌ سِوَي الجِلْدِ أَوِ اللَّحْمِ اتَّحَدَ عَلَى وَجْهٍ، وَتَعَدَّدَ عَلَى وَجْهٍ، وَيَتَّحِدُ بِبَقَاءِ اللَّحْمِ دُونَ الجِلْدِ عَلَى وَجْهٍ (وَتَعَدُّدُ المَحَلِّ) بِأنْ يُخْرِجَ المُوَضِّحَةُ الوَاحِدَةِ مِنَ الرَّأْسِ إلَى الجَبهَةِ، وَفِي تَعَدُّدِ الأَرْشِ وَجْهَانِ (وَتَعَدُّدُ الفَاعِلِ) بِأَنْ يُوَسِّعَ إنْسَانٌ مُوَضِّحَةَ غَيْرِهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَرْشٌ, وإِنْ كَانَ هُوَ المُوَسِّعَ لمْ يَزدْ إِلَى الأَرْشِ (وَتَعَدُّدُ الحُكْمِ) بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُ المُوَضِّحَةَ عَمْداً وَبَعْضُهَا خَطَأً أَوْ بَعْضُهَا قصَاصاً وَبَعْضُهَا عُدْوَاناً، وَفِي نُزُولِهِ مَنْزِلَةَ تَعَدُّدِ الصُّورَةِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لاَ فَرْقَ بين أن تكون الموضّحة صغيرة أو كبيرة واسعةً، ولا يجب فيها إلا خمس من الإبل، ويتبع اسم المُوَضِّحة، ولا فرق بين البارزة والمَسْتُورة بالشَّعَرِ، ولا بين التي يتولد منها شَيْن قبيح، وبين التي لا يتولّد، وإذا تعددت الموضّحة تعدد الأرش، وتعددها يفرض بأسباب: أحدها: اختلاف الصورة بأن أوضح رأسه في موضعين، وبقي الجلد واللحم بينهما كما كانا فيجب أرْشَان، ولا فرق بين أن يرفع الحديدة عن موضحة ثم يضعها على موضع آخَر، فيوضحه، وبين أنْ يَجُرَّها على الرأس موضع الإيضاح إلى أن يتحامل عليها في موضع آخر، فيوضحه والجلد واللحم بينهما سليمان. وحكى الإِمام في الحالة الثانية وجهاً ضعيفاً أن الحاصل موضِّحة واحدة لاتحاد الفِعْلِ، وتواصل الحركات، ولو كثرت المَواضِح، تعدد الأرش بحسبها، فلا ضبط. وفيه وجه أنها إذا كثرت، وصارت بحيث لو أوجبنا لكل واحد خمساً من الإبل لزاد المبلغ على دية النفس، فلا نوجب أكثر من دية النفس، كما أنا على قول لا نوجب
[في] (¬1) قَلْع الأسنان كلها إلا دية النفس، والصحيح الأول، وقطع به القاضي ابن كَجٍّ، وفرق بين الموضِّحات، والأسنان بأن الأسنان معلومة مَضْبُوطة كالأصابع، فجاز ألا يزاد بَدَلها على دية النفس كالأصابع والموضحات ليست مضبوطة قدرًا ولا عدداً، فيجب (¬2) أرشها بحسب وجودها , ولو لم يَبْقَ الحاجز من موضعي الاِيضاح بكماله، ولكن بقي الجلد دون اللحم، أو بالعكس ففيه وجوه جمعها الإِمام وصاحب الكتاب. وأصحها: أن الحاصل موضّحة واحدة، وإنما يثبت التعدد إذا اتفقا جميعاً؛ لأنه إذا زال أحدهما، فقد أثبت الجناية على الموضع كله، وهي فيما بين موضعي الإيضاح متلاحمة، أو نحوها, ولو استوعب الإيضاح الموضع كله لما وجب إلا أرش واحد، فهاهنا أولى. والثاني: أن الحاصل موضِّحتان، ويكتفي بما بقي منهما حاجزاً اتباعاً لصورة الوضوح (¬3). والثالث: أن اللحم وحده يصلح حاجزاً دون الجَلْدِ، فإن بقي الجلد وحده (¬4) فهي موضحة واحدة كان بقي اللحم وحده، فهما موضحتان؛ لأن اللحم هو الساتر للعظم المنطبق عليه، فيكون الاعتبار به. والرابع: أن الجلد يصلح حاجزاً دون اللحم، فهذا بقي الجلد، فهما موضِّحتان؛ لأن الجلد هو الذي يظهر للناظرين، فهذا بقي على اتصاله لم يكن العظم واضحاً، ومنهم من قطع بأن اللحم وحده لا يصلح حاجزاً، ونفى الوجه الثالث. وإذا قلنا: لا يثبت التعدُّد إلا إذا بقيا جميعاً، فلو أوضح في موضعين. ثم أوغل الحديدة ونفذها من الموضّحة إلى الموضحة في الداخل، ثم سَلَّهَا، فهل يقال بأنهما اتَّحَدَا؟ حكى الإِمام فيه وجهين، ولو عاد الجاني [ورفع الحاجز] (¬5) بين الموضّحتين قبل الانْدِمَالِ عاد الأرْشَان إلى واحد، وكان كما لو أوضح في الابتداء موضِّحة واسعة. قال الإِمام: وهذا مستمرّ على النَّص في تداخل الدِّيَات إذا قطع يديه ورجليه، ثم حَزّ رقبته. وخرج ابْنُ سريج أنها لا تتداخل على ما سيأتي إن شاء الله -تعالى- فعلى قضية تخريجه يلزم هاهنا برفع الحاجز أرش ثالث، ونقل القاضي ابن كَجّ وجهاً أنه لا يجب عليه لدفع الحاجز شيء، لكن لا يسقط (¬6) به شيء من الأرش؛ لأن زيادة الجِنَاية تبعد ¬
أن تكون مسقطة لما وجب ظَاهر المذهب الأول، ولو تآكل (¬1) الحاجز بينهما كان كما لو رفعه الجَاني؛ لأن الحاصل بِسَرَايَةِ فعله منسوب إليه (¬2) كالحاصل بفعله، ولو رفع الجلد أو (¬3) اللحم أو تآكل أحدهما دون الآخر، ففيه الخلاف المذكور، ولو رفع الحاجز غير (¬4) الجاني، فعليه أرش موضحة، وعلى الأول أرشان، ولا يبنى فعل الثاني على فعل الأول، بخلاف ما إذا كان الجاني واحداً، ولو رفعه المجني عليه، ففعله هدر، ولا يسقط به شيء مما وجب على الجاني، ولو أوضح رأسه اثنان كلّ واحد منهما موضحة، فتآكل الحاجز بينهما عادتا إلى واحدة، وعلى كل واحد منهما نصف الأرش، ولو اشتركا في موضّحتين، ثم رفع أحدهما الحاجز بينهما، فعلى الذي رفع نصف أرش موضّحة، وعلى الآخر أرش موضحة؛ لأنهما عادتا إلى موضحة واحدة في حق رافع الحاجز، دون الآخر ذكره في "البيان" ولو شَجَّه شَجَّةً منها مُتَلاَحمة أو سِمْحَاق، ومنها موضحة، فالواجب فيهما أرْش موضِّحة وتدخل فيه حكومة المُتَلاَحمة والسِّمْحَاق؛ لأنها لو كانت موضحة بأسرها لم يجب إلا أرش موضّحة، فههنا أولى، وإذا اقتصّ فيها من الموضحة، فهل له أخذ الحكومة لما حولها من المُتَلاَحمة والسِّمْحَاق؟ قال صاحب "التهذيب" يحتمل أن يكون على وجهين كما لو قطع يده من نصف الكَفّ فاقتصّ المجني عليه من الأصابع، هل له حكومة نصف الكف؟ فيه وجهان: والسبب الثاني: اختلاف المحل، فلو نزل في الإيضاح من الرأس إلى الجبهة، إما لشمول [اسم] (¬5) الإيضاح، أو بأن أوضح شيئاً من الرأس، وشيئاً من الوجه وجرح (¬6) بينهما جراحة، دون الموضحة، ففيه وجهان: ¬
أحدهما: أن الحاصل موضحة واحدة، والواجب أرش واحد؛ لأن الجبهة (¬1) والرأس كليهما محلّ الإيضاح، فأشبه ما إذا أوضح رأسه في موضعين، وجرح ما بينهما. وأصحهما: أن الحاصل موضحتان؛ لأن الرأس والوجه عُضْوَان مختلفان، ولهذا قلنا: لو أوضح رأس غيره، ورأس الشَّاجّ أصغر من رأسه لا يجوز النزول في القصاص إلى الجَبْهَةِ، وذلك لاختلاف المحلين (¬2)، ولو شملت الموضّحة الجبهة، والوَجْنة. قال الإِمام: في الاتحاد تردد، والأظهر الاتحاد تنزيلاً لأجزاء الوجه منزلة أجزاء الرأس، وقد سبق في القِصَاصِ حكاية وجه أنه إذا كانت ناصية الجَانِي أصغر لا يعدل إلى غير الناصية، فقضية ذلك الوجه إذا وقعت المُوَضّحة على متصل الناصية وغيرها من أجزاء الرأس، ولو حَزّ السكين من موضحة الرأس إلى القَفَا وجرح (¬3) مع الإيضاح، أو دونه فعليه مع أرش الموضحة حكومة لجراحة القَفَا؛ لأن القفا ليس محلّ الموضحة، ولو حَزّ السكين من موضع الرأس إلى الجبهة، وجرحها جراحة متلاحمة. فإن قلنا: لو أوضح في الجبهة أيضاً كان الحاصل موضّحة واحدة دخلت حكلومة جراحة الجبهة في أرْش موضحة الرأس. وإن قلنا: الحاصل جراحة وجب حكومة جراحة الجَبْهة مع أرش الموضحة، كما ذكرنا في جراحة القَفَا. والثالث: تعدّد الفاعل، وذلك بأن أوضح رأس إنسان، فجاء آخر ووسَّع تلك الموضَّحة، وزاد في الإيضاح أو أوضح قطعة متّصلة بطرف موضحة الأول، فيجب على الثاني أرش كامل أيضاً، وإن كانت الموضحة واحدة في الصورة، وإن وسع الأول الموضّحة والصحيح وهو المذكور في الكتاب أنه لا يلزمه إلا أرش واحد، كما لو أوضح أولاً (¬4) كذلك. وفيه وجه آخر (¬5) أنه كما لو وسع غيره، وهذا الخلاف كالخلاف المذكور فيما إذا رفع الحاجز بين موضحتيه. والرابع: اختلاف الحكم بأن أوضح موضحة واحدة هو في بعضها مخطئ، وفي بعضها متعمد، أو أوضح موضحة هو في بعضها مقتص، وفي بعضها متعدٍ ففيه وجهان: أحدهما: أن الحاصل موضّحة واحدة لاتحاد الصورة، والجاني، والمحلّ. وأظهرهما: موضّحتان؛ لأن اختلاف البعضين في الحكم كاختلاف الجاني والمحلّ، أو أعظم منه. ¬
وإن قلنا بالأول وزّع الأرش على البعضين (¬1). وإن قلنا بالثاني، فيجب أرش كامل لما تعدّى به، والصورة الثانية وهي أن يكون تبعيضها قِصَاصاً، أو بعضها عُدْواناً مذكور في الكتاب في باب "الجراح" مرة. ولو أوضح موضحتين عمداً، أو رفع الحاجز بينهما خطأ، وقلنا: بالصحيح أنه لو رفع عمداً تداخل الأَرْشَان، ففيه وجهان لاختلاف الحكم، فإن جعلناه مؤثراً، فعليه أرش ثالث، وإلا لم يلزم إلا واحد (¬2). وقوله في الكتاب:"فأرش واحد وإن استوعب الرأس" قد حكينا تردداً في أن اختلاف أطراف الوجه، هل توجب تعدّد الموضحة الواقعة عليها؟ وبَيَّنا في أطراف الرأس وأجزائه ما يقتضي طرد هذا التردُّد فيها (¬3). وقضية ذلك أن يعلم قوله: "وإن استوعب الرأس" بـ"الواو". وقوله: "تداخل الكل إلى واحدة" معلم بـ"الواو"، ويجوز أن يعلم بهذا الوجه الثالث في مسألة الجلد واللحم (¬4) لما ذكرنا أن منهم من نَفَاه، وقوله: "لم يزد الأرش" كذلك. قال الْغَزَالِيُّ: وَأَمَّا المُتَلاَحِمَةُ فَوَاجِبُهَا حُكُومَةٌ، وَقِيلَ: يَتَقَدَّرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى المُوَضِّحَةِ، وَتَعَدُّدُ الجَائِفَةِ وَاتِّحَادُهَا بِارْتفَاعِ الحَاجِزِ كَتَعَدُّدِ المُوَضِّحَةِ، وَلَوْ ضَرَبَهُ بِمِشْقَصٍ فِي بَطْنِهِ فَجَائِفَتَانِ فيَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشَانِ، وَإِنْ نَفَذَ سَنَّانِ وَاحِدٌ مِنَ البَطْنِ إلَى الظَّهْرِ فَهُوَ أَيْضاً جَائِفَتَانِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْتِحَامُ المُوَضِّحَةِ وَالجَائِفَةِ لاَ يُوجِبُ سُقُوطَ الأَرْشِ بِخِلاَفِ عَوْدِ السِّنِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسائل: إحداها: ذكرنا في الفصل الأول من الباب أن المتلاحمة ليس لها أرش مقدر، وأن منهم من أطلق القول بأن فيها الحكومة. ومنهم من قال: ينسب إلى الموضحة إن أمكن معرفة النسبة، وفرض الإمكان فيها إذا كان على رأسه موضحة قريبة من المُتَلاَحمة، فيقاس بها المَقْطُوع من المتلاحمة، ¬
وقد ذكرنا في القِصَاص أن بعضهم اعتمد غمر الرأس والضبط بالنجمين، وإذا جاز اعتماد ذلك في القصاص فأولى أن يجوز في الدية. الثانية: يتعدد أرش الجَائِفَةِ بِتعدّدها، فلو أجاف جائفتين، ثم رفع الحاجز بينهما، أو تآكل ما بينهما، ورفعه غير الجاني، فعلى ما ذكرنا في المُوَضّحة، وتتعدد الجائفة بتعدد الصورة بأن يجرحه جِرَاحتين نَافذتين إلى الجَوْف، فإن بقي بينهما الجلدة الظاهرة، وانْخَرَقَ ما تَحْتَهَا أو بالعكس، فيشبه أن يكون الحكم كما ذكرنا في المُوَضِّحة، ويتعدد المحلّ بأن ينفذ جراحتين إلى جوفين، ويتعدد الفاعل بأن يوسع جائفة غيره، وفصله الأصحاب فقالوا: إن أدخل السِّكين في جائفة غيره، ولم يقطع شيئاً، فلا ضمان عليه ويعزر، وإن قطع شيئاً من الظاهر دون الباطن، أو بالعكس، فعليه حكومة، وإن قطع من جانب بعض الظَّاهر، ومن جانب بعض الباطن. قال في "التتمة": ينظر في ثَخَانَةِ الجلد واللَّحم، ويقسط أرش الجائفة على المَقْطُوع من الجانبين، وقد يقتضي التَّقسيط تمام الأرش بأن قطع نصف الظاهر من جانب، ونصف الباطن من جانب، ولو لم يقطع من أطراف الجائفة شيئاً، ولكن زاد في غورها (¬1)، أو كان قد ظهر عُضو باطن كالكَبدِ والطَّحال، فغرز السِّكين فيه، فعليه الحكومة، ولو عاد الجاني، ووسع الجَائفة، أَو زاد في غورها لم يزد الواجب، وكان كما لو أجاف ابتداء كذلك، ويمكن أن يعود فيه الوجه في تَوْسِعَةِ الموضّحة، ويجيء في اختلاف حكم الجَائِفَةِ، وانقسامها إلى عمد (¬2) وخطأ ما سبق في الموضحة، ولو ضربه بسنان أو مِشْقَصٍ له رأسان، فنفذ إلى جوفه (¬3) والحاجز بينهما سليم، فهما جائفتان كما لو نفذهما بآلتين وبضربتين ولو طعنه ونفذ السِّنَان من البَطْنِ حتى خرج من الظَّهْر، أو من أحد الجَنْبين إلى الآخر، ففيه وجهان ويقال: قولان: أصحهما: ويحكى عن مالك أن الحاصل جائفتان لما روي عن أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قضى فيه بثلثي الدية، ولم يُخَالَفْ، وأيضاً فإنه جرحه جراحتين نافذتين إلى الجوف. والثاني: أن الحاصل جائفة واحدة، ولأن الثانية نفذت (¬4) إلى الظاهر من الباطن، والجائفة: هي التي تنفذ إلى الجوف من الظَّاهر. وفي "الشامل" نسبة هذا إلى أبي حنيفة. وفي "التهذيب" وغيره أن مذهبه كالأول. ¬
وإذا قلنا بالوجه الثاني فقد قيل: لا يجب إلا أرش واحد، والأظهر وهو رواية ابن القَطَّان وغيره أنه يجب حكومة أيضاً للجراحة الحاصلة في الظهر. الثالثة: إذا أوضح رأسه فاندمل أطراف الجِرَاحَةِ وبقي شيء من العَظْم بارز لم يسقط شيء في الأرش، وإن التحم الموضع، ولم يبق شيء بارز من العَظْم، فكذلك على ظاهر المَذْهب. وفي "التتمة" أنه إن لم يبق شيء ولا أثر، فقد خرج وجه من مسألة عود السّن أنه يسقط الأرش. وإن بقي شَيْن بارز فيعود الواجب إلى الحكومة أخذاً من وجه مثله نذكره في الجَائِفَةِ، وفرق على المذهب بأن السّن لا يعود في العادة، والواجب فيه واجب للخلل (¬1) الحاصل بِفَقْدِ السن, وإذا عاد فلا (¬2) خَلَلٍ والموضحة تَنْدَمِلُ إذا لم يَسُرِ، فلو كان الواجب فيها يسقط بالاندمال لكانت الموضِّحة كسن الصبي الذي لم يثغر، ولما وجب فيها شيء في الحَالِ، ولما وجب علم أنه وجب في مقابلة الجزء (¬3) الذي ذهب، والآلام التي لحقت (¬4) المجني عليه، والمذهب في الجائفة أيضاً أنها إذا اندملت لم يسقط الأرش، ولا شيء فيه. وعن صاحب "الإفصاح" وجه أنه يعود الواجب إلى الحكومة تخريجاً عن نصّ الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فيما إذا أفضى امرأة فالتحم الموضع أن عليه الحكومة. وفي "التهذيب" أن بعضهم خرج على القولين في سقوط الأرش عنه عَوْد الشَّين. قال الإِمام: ولا يتصور عند (¬5) من قال بسقوط الأرش ثبوت أرش الجناية مستقراً (¬6) إلا أن يفرض إجَافة جانٍ (¬7) وحَزّ الرقبة من آخر، وإلا فالجائفة إذا لم تَسْرِ يكون انْدِمَالِهَا كالْتِحَامها، وفرق بين الجائفة والإفضاء بمثل ما سبق وهو أن الواجب هناك واجب لزوال الحاجز، فإذا التحم عرف أنه لم يزل وفي الجَائِفَةِ ما وجب، وإنما وجب لنفوذ الجراحة، فإذا التحمت الموضّحة، أو الجائفة فجاء جَانٍ إما الأول أو غيره وأوضح في ذلك الموضع أو أجاف، فعليه أرش آخر إن كان الالتحام قد تَمَّ، سواء نبت عليه الشّعر، أو لم ينبت، وسواء كان متغير اللّون مشيناً، أو لم يكن، وإن لم يتم الالْتِحَام، فعليه الحكلومة دون تَمَام الأرش، ولو نزع الخَيْط الذي خيطت الجَائِفة به قبل ¬
أن يلتحم، فعليه التعزير وأجرة مثل الخِيَاطة، أو ضمان الخيط إن تَلِف، ولا أرش ولا حكومة، وإن التحمت ظاهرًا وباطناً، فانفتحت فهي جَائِفة جديدة، وكذا لو انفتح جانب منها بعد تمام الْتِحَامِهِ، فإن التحم ظاهرها دون باطنها أو بالعكس، فعليه الحكومة دون الأرش التام، ولا يجب مع الأرش أو الحكومة أجرة الخَيَّاط، لكن يجب ضمان الخَيْط إن تلف. وقوله في الكتاب: وقيل إنه "يتقدر بالنسبة إلى الموضِّحة" صوَّر أكثرهم التقدير (¬1) فيما إذا كان بقربها موضّحة يقاس بها سُمْك المقطوع على مَا مَرّ، ويمكن حمل اللفظ على التقدير بالاجتهاد والتخمين، وإن لم يكن هناك مُوَضِّحة وقد بَيَّنَّا ذلك أيضاً. وقوله: "وتعدد الجائفة واتحادها ... " إلى آخره مقصوده: أن ننظر في سَبَبِ الارتفاع إن ارتفع بفعل الجَانِي اتحدت الجناية، وإن ارتفع بفعل غيره لم يتَحَّد. وقوله: "ولو ضربه بِمِشْقَص في بطنه" يعني: فأجافه في موضعين (¬2) والمِشْقَصُ ما طال من النِّصَال، وعرض وقد يتشعب شُعْبَتَيْنِ، وهو المقصود هاهنا. وقوله: "لا يوجب سقوط الأرش" معلم بـ"الواو" لما نقلنا وقد تخصص العلامة في النُّسخ بالجائفة؛ لأن صاحب الكتاب في "الوسيط" خصّص وجه السقوط بالجائفة، ولم يثبته في الموضحة. فروع وصور تتعلّق بما نحن فيه. غرز إبْرة في رأس إنسان حتى انتهت إلى العَظْم وسَلَّها، هل هي موضِّحة؟ خرجه الإِمام على وجهين (¬3). وقال: يرجع التردُّد إلى أن الاعتبار بما يشقّ إلى العظم، أو بما يسمى موضِّحة، والظاهر المشهور أنها موضحة، والموضحة التي حصل الهشم (¬4) في بعضها دون البعض ليس فيها إلا أرش هاشمة كما مر أن الشجة التي حصل الإيضاح (¬5) في بعضها دون بعض ليس فيها إلا أرش موضحة. أوضح وهشم في موضعين واتَّصل الهشم بينهما في الباطن فوجهان: أحدهما: أن الحاصل هَشْمه واحدة لاتصال الكسر، وان بقي اللحم والجلد حاجزاً بين الموضحتين. ¬
والثاني: أنهما هَاشِمتان، وهذا ما اقتصر على إيراده جماعة منهم صاحب "الشامل"، ووجّهوه بأن الهاشمة تتبع المُوَضّحة، وقد وجدت الموضِّحتان فيتعدد، الهشم بتعددهما. أوضح في مواضع متفرقة، وهشم في كلّ واحد منهما، فهي هَاشِمَتَانِ متعددة وحكى القاضي ابن كَجّ عن ابن القَطَّان وجهاً غير موجّه أنها تجعل موضحات وهاشمة واحدة. وفي "المهذب" أنه لو أدخل حديدة أو خشبة في دُبر إنسان، وخرق حاجزاً في الباطن (¬1) هل عليه أرش جائفة. فيه وجهان (¬2) بناء على الوجهين في أن خَرْقَ الحاجز بين الموضِّحتين في الباطن، هل يكون كَخَرْقِ الظاهر حتى لا يلزم إلا أرش موضّحة واحدة. شَجَّة متلاحمة وجاء آخر (¬3) وأوضح في ذلك الموضع بقطع ما بقي من اللحم، فعلى كل واحد منهما الحكومة، ولينظر فيه إلى ما مَرّ من تقدير السُّمك عند الإمكان. أجافه وتكأفى بعض الأعضاء الباطنة كالأمعاء، فعليه مع أرش الجَائِفة حُكُومَة. قال الْغَزَالِيُّ: فَإنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى الحُكُومَةِ قُلْنَا أَنْ يُقَدَّرَ المَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَبْداً فَيُقَالُ: قيمَتُهُ دُونَ الجِنَايَةِ عَشَرَةٌ وَمَعَ الجِنَايَةُ تِسْعَةٌ فَالتَّفَاوُتُ عَشْرٌ فَيَجِبُ مِثْلُ نِسْبَتِهِ مِنَ الدِّيَةِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَزِيدَ عَلَى مِقْدَارِ الطَّرَفِ المَجْرُوحِ فَلاَ يُزَادُ حُكُومَةُ جِرَاحَةِ الأُصْبُعِ عَلَى دِيَةِ الأَصْبُعِ وَلاَ حُكُومَة الكَفِّ وَالسَّاعِدِ وَعَظْمِ العَضُدِ عَلَى دِيَةِ الأصَابع الخَمْس، وَلاَ بَأْسِ بِزِيَادةِ حُكُومَةِ كَفٍّ عَلَى دِيَةِ أُصْبُعٍ وَاحِدٍ، وَاليَدُ الشَّلاَّءُ يُزَادُ حُكَومَتُهَا عَلَى أَصْبُعٍ، وَيُنْقَصُ عَن اليَد الصَّحيحَة. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تكلم هاهنا في الحكومات، تدرج إليه بسؤال افتتحه (¬4) وليس للقول في الحكومات كثير اختصاص بهذا الموضع وكأن تأخيره إلى آخر الباب أحسن ليتم الكلام في دِيَةِ ما دون النَّفْس التي عَقْد لها (¬5) الباب على الانتظام، وليتأخر ذكر الحكومة المتأخرة في الدِّيَةِ عن ذكر اليَدِ المتقدمة في الدِّيَةِ، والمقصود أن الحكومة جزء من الدية نسبته إليها نسبة ما تقتضيه (¬6) الجِنَاية مِن قيمة المجني عليه بتقدير (¬7) التقويم وذلك بأن ¬
يقوم المجني عليه بصفاته (¬1) التي هو عليها لو كان عبداً (¬2)، وينظر كم ينقص الجناية من قيمته فإن قوم بعشرة دون الجناية، وبتسعة بعد الجناية، والتفاوت عشر فيجب عِشْر (¬3) الدية ووجه ذلك بأن الجملة مضمونة باليد، فيضمن الأجزاء (¬4) بجزء الدية، فإذا قدر الشرع جزءاً من الدية اتبعناه، وإذا لم يقدر اجتهد في معرفته، ونظرنا في النقصان؛ لأن الأصل أنه يجب بالجناية قَدْر النقصان، ونقدر تقومية ليعرف قدر النقصان، ثم نعود إلى الدِّيَة لتكون الجملة مضمونة بها، وهذا كما أنا ننظر في نُقْصَان القيمة إذا أردنا أن نعرف (¬5) أرش العيب (¬6)، ثم نعود إلى الثمن؛ لأن المبيع مضمون بالثمن، ولوقوع الحَاجَةِ في معرفة الحكومة إلى تقدير الرِّق. قال الأئمة: العبد أصل الحر (¬7) في الجنايات التي لا يتقدر أرشها كما أن الحر (¬8) أصل العبد في الجنايات التي يتقدر أرشها حيث يجعل (¬9) جراح العبد من قيمته كِجِرَاحِ الحر من ديته، فليعرف هاهنا شيئان: أحدهما: في التوجيه المذكور ما يبين أن الدية التي توجب جزءها (¬10) هي دية النفس. وحكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وجهاً أن قدر النقصان يعتبر من دية (¬11) العضو الذي وردت الجناية عليه لا من دِيَةِ النفس حتى لو نقض عشر القيمة بالجناية على اليد، فالواجب عشر دية اليد، ولو نقص بالجناية على الرأس، فالواجب عشر دية الموضّحة، وعلى هذا القياس، ثم ضعفه بأنا إنما نقوّم النفس أولاً فوجب أن يعتبر النُّقْصَان من ديتها، وبأنا لو اعتبرنا دية العضو فقد يتباعد واجب (¬12) الجِنَايتين مع تقاربهما (¬13)، وذلك بأن ينقص بالسِّمْحَاق عشر القيمة، فإذا أوجبنا عشر أرش الموضّحة بَعُدَ واجب إحدى الشَّجَّتين عن الأخرى مع تقارب (¬14) الشَّجتين وذلك مما (¬15) لا يجوز. ¬
والثاني: قد تقدم أن (¬1) الأصل في الدية الإبل، وأطلقوا القول بوجوب جزء من (¬2) الدّية إذا عرفنا قدر نُقْصَان القيمة، فأفهم ذلك أن الحكومة الواجبة تكون من جنس الإبل، ورأيته مصرحاً به لبعضهم، ثم الجراحة إما أن ترد على عضو له أرش مقدر أو على ما ليس له أرش مقدر فإن وردت على ماله أرش مقدر نظر إن لم يبلغ الحُكُومة أرش ذلك العضو وجبت، وإن بلغت أرشه نقص الحاكم منه شيئاً بالاجتهاد، ولأن بعضه مضمون بالأرش لو فات، فلا يجوز أن تكون الجناية عليه مَضْمُونة بما يضمن به العُضْو نفسه (¬3) مع بقائه، فالجراحةُ على الأنملة العليا، وقلع الظفر، تنقص حكومتها عن أرْش الأنملة، قال أبو الفرج السرخسيُّ: والجراحةُ على الأنملة السفلَى لا تبلغ دية الأصبع، وعلى الوسطَى لا تبلُغُ ثلثَيْ (¬4) دية الأصبع، ويشبه أن يريد بالجراحة على السفلَى ما إذا عمَّت الأنامل، حتَّى انتهت إلى السفلى، وبالجراحةِ على الوسطَى التي انتهتْ من العليا إلى الوسطى، دون أن تكونَ مخصوصَةً بالأنملة الواحدةَ، ولفظ الإِمام أنَّ الجنايةَ على الأصبع، إذا أتتْ عَلَى طولها، فحكومتها لا تبلغ دية الأصبع، والجراحةُ على الرأس لا تبلغُ حكومتُهَا أرْشَ الموضِّحة، وعلى البطن أرش الجائفة، وحكومة الجراحة على الكفِّ (¬5) لا تبلغُ دية الأصابع الخمس، وكذا حكومة قَطْع الكفِّ التي لا أصبُعَ عليها، وكذا حكمُ القَدَمِ؛ فإنَّهما يتبعانِ الأصابعَ، وهلْ يجوز أن تبلغ حَكُومَةُ الكف ديَةُ أصبعٍ، واحدةٍ، فيه وجهان: أظهرهما، عند الإِمام: المَنْعُ. وأشبههما، وهو المذكور في الكتاب (¬6) نعم؛ لأن غناها ومنفعتها؛ دفعاً واحتواء (¬7) تزيد على منفعة الأصبع الواحدة، وهذا كما أن حكومَة اليَدِ الشلاَّء لا تبلغ دية اليد (¬8) الصحيحة، ويجوز أن تبلغ دية الأصبع الواحدة، وأن تزاد عليها. وإن كانت الجراحةُ عَلَى عضوٍ، ليس له أرش مقدَّر؛ كالظَّهْر، والكتف، والفخذ: ¬
يجوز أن تبلغ حكومتها ديةَ عُضْوِ مقدَّر؛ كاليد، والرِّجْل، وأن تزاد عليها، وإنما تنقص عن دية النفس، وَعَدَّ صاحبا "التهذيب"، و"التتمة" من هذا القبيل الساعِدَ والعَضُدَ؛ حتى يجوز أن تبلُغَ حكومةُ الجراحةِ عليها ديةَ الأصابع الخمس، وأن يزاد عليها وسوَّى بينهما في الكتاب، وبين الكفِّ، والأول أصحُّ؛ فإن الكف [هي التي] تتبع الأصابع دون الساعد، والعضد حتى لو قطع من الكوع، وجَبَ عليه ما يجب في لفظ الأصابع، ولو قطع من المرفق، أو من أصْلِ العضُدِ، وجبت مع الديةِ حكومةُ السَّاعد، أو العضد. وقوله في الكتاب في جواب السائل عن معنى الحكومة: "أنْ يقدَّر المجنىُّ عليه عبْداً ... " إلى آخره، لفظ يحتاجُ إلى التأويل إذ ليست الحكومةُ عبارة عن تقديره عبدًا (¬1)، وإنما هي جزء من الدية يعرف قدره بالتقدير المذكور. وقوله:"بشَرْط ألاَّ يَزِيدَ عَلَى مِقْدَارِ الطَّرَفِ المَجْرُوحِ"، أي: إذا كان الطَّرفَ المجروحُ له بدلٌ مقدَّر، ثم لفظ "عدم الزيادة" هاهنا، وفي قوله: "فَلاَ تُزَادُ حُكُومَة جِرَاحَةِ الأُصْبُعِ" غيرُ وافٍ بالغرض؛ إذ لا يكفي أَلاَّ يزاد، بل يجب أن ينقص؛ كما ينقص التعزير عن الحد، والرضخ عن سهم الغنيمة. قال الإِمام: ولا يجوز أن يقال: يكتفَى فِي الحطِّ بأقل القليل، فإن أمر الجناياتِ وأحكامِ الدماء لا يجري إلاَّ عَلَى محقَّقٍ، ولو قال قائل: نَضْبِطُ نِسْبَةٌ النّقْصَانِ الحَاصِل بالجنايةِ على العضْوِ، مع بقاء العضْو، ثم يقدر النقصان بفَوَات العضو، ويحط مثل (¬2) النسبة الواقِعَةِ بيْنَ النقصانَيْنِ، كان ذلك وجهاً (¬3) من الرأي جيداً. مثاله: القيمة مائة، والنقصانُ بسبب الجراحةِ على الأصبع عَشَرة، والنقصان لو فات الأصْبُع عشرُونَ، فيحط من عُشْر الدية نصفه، وليعلم بالواو لفظ "السَّاعِد وعَظْم العَضُد"؟ لما بيَّناه. قال الغَزَالِيُّ: وَهَذِهِ الحُكُومَة تُقَدَّرُ بَعْدَ انْدمَالِ الجُرْحِ، فَلَوْ لَمْ يَبْقَ شَيْنٌ وَنُقْصَانْ لَمْ يَجِبْ إلاَّ التَّعْزِيرُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَقِيلَ: تُقَدَّرُ الجِرَاحَةُ دَامِيَةً حَتَّى يَظْهَرَ تَفَاوتُهُ، وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعاً زَائِدَةً أَو سِنّاً شَاغِيَةً أو أَفْسَدَ المَنْبِتَ مِنْ لِحْيَةِ امْرَأَةٍ وَزَادَتِ القِيمَة فَالْقِيَاسُ التَّعْزِيزُ فَقَطْ، وَقِيلَ يُقَدَّرُ ذَلِكَ لِحْيَةً عَبْدٍ، وَيَظْهَرُ بِهِ تَفَاوُتٌ، وَلَوْ بَقِيَ حَوَالِي جُرْحٍ شَيْنٍ وَكَانَ أَرْشُ الجُرْحِ مُقَدَّراَ فَالشَّيْنُ تَابعٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّراَ فَفِي إِتْبَاعِهِ وَجْهَانِ يُضَاهِي التَّرَدُّدَ فِي أَنَّ الكَفَّ هَلْ يَنْدَرجُ تَحْتَ أُصْبُعِ الأَشَلِّ؛ لِأَنَّهُ إِدْرَاجُ حُكُومَةِ تَحْتَ حُكُومَةٍ: ¬
النَّوْعُ الثَّانِي القَطْعُ المُبِينُ لِلأَعْضَاءِ وَالمُقَدَّرُ مِنَ الأَعْضَاءِ سِتَّةَ عَشَرَ عُضْواً: الأَوَّلُ: الأُذُنَانِ وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِنَ كَانَ مِنَ الأَصَمِّ فَفِيهِ مَنْفَعَةُ جَمْع الصَّوْتِ وَمَنْعِ دَبِيبِ الهَوَامِّ، وَالدِّيَةُ فِي مُقَابَلَةِ أَيِّ المَنْفَعَتَيْنِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَقِيلَ: إنَّ الأذُنَ لَيْسَ فِيهِ أَصْلاً إلاَّ الحُكُومَةُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحدَاهُما: أنها تقوَّم، ويقدَّر الرق لمعرفة الحكومةِ، بعد اندمال الجراحة، ونقصان القيمة حينئذ قد يكونُ لضعفٍ ونقصانٍ في المنفعة، وقد يكون لنقصان الجمال؛ باعوجاج (¬1)، أو أثر قبيحٍ، أو شين من سواد أو غيره، ولو (¬2) اندملت الجراحةُ، ولم يبق نقصان في المنفعة، ولا في الجمال، ولم تتأثَّر به (¬3) القيمةُ، فوجهان: أحدهما، ويحكَى عن ابن سُرَيْج: أنه لا يجب عليه شيء سوى التعزير؛ كما لو لَطَمَهُ أو ضربه بمثقل، فزال الألم، ولم تنقص منفعة، ولا جَمَال. والثاني، وبه قال أبو إسحاق، وهو ظاهر النص، أنَّه لا بد من وجوب أرش؛ لأن جملة الآدميِّ مضمونة، فوجب أن تكون أجزاؤه مضمونةً؛ كسائر المضمونات، ولأنها (¬4) جنايةٌ على معصوم، فلا يعتبر لوجوب المال بها بقاءُ شَيْنٍ (¬5) وأثر، كالموضِّحة، والجراحات المقدَّرة، ولأن الجراحة عظيمة الموقع؛ فلا وجه فيها لإحباط (¬6) والإهْدَار، وعلى هذا فوجهان: أحدهما: أن الحاكم يقدِّر شيئاً باجتهاده. وأظهرهما: أنه ينظر إلَى ما قبل الاندمال من الحالات التي تؤثِّر في نقصان القيمة (¬7)، ويعتبر أقربها إلى الاندمال، وإن لم يظهر نقصانٌ إلا في حالة سيلان الدَّمِ ترقبنا، واعتبرنا القيمة، والجراحةَ داميةً، وحينئذٍ فالظاهرُ تأثيرُ القيمة لما فيها من الخَطَر، وخوف السراية، وبقاء الشين، فإن فرضت الجناية خفيفة، لا تؤثر في تلك الحالة أيضاً ففي (¬8) "الوسيط": أنا نلحقها باللطم والضرب؛ للضرر (¬9)، وفي "التتمة" أن الحاكم يوجِبُ شيئاً بالاجتهاد، والذي رجَّحه الأكثرون من الوجهين في أصْلِ المسألة؛ ¬
أنه لا بد من إيجاب شيء، ورجَّح الإِمام المنع، وقال: هو القياسُ على الحقِّ، واعترض على تفويض الأمر إلى اجْتهاد الحاكم؛ بأن الحاكم إن قيل: إنه يوجبُ ما شاء، فهو في غاية البُعْد، وإن كان يستند نظْره إلى رأي، فهو المبحوث (¬1) عنه، وعلى الثاني؛ بأنا إذا اعتبرنا (¬2) ما قبل الاندمال، كحالة (¬3) الجناية، فإما أن نقول ما قيمته لو كان عبداً، والآلام لا تزول، أو نقول: ما قيمته، والتقدير أن الآلام تزول، والأول ظُلْم، وإن قلْنا؛ بالثاني، فسيقول المقوِّمون: إذا كانتِ الآلامُ تزولُ، والشين لا، يبقى، فالقيمة بحالها، وإذا بطل الوجْهَانِ (¬4)؛ تعيَّن المصير إلى أنه لا يجبُ شيء، ولناصري الوجْهِ الآخر أن يقولوا: يسندُ الحاكم اجتهاده إلَى كيفية الجناية خفَّةً وفحشاً (¬5)، وإلى قُبْحها في المنظر سعةً أو غَوصاً، وإلى قدر الآلام المتولِّدة منها المختلفة بسُرْعة البرء وبُطَئِهِ، وأن يجيبوا عن الثاني، بأن هاهنا قسماً آخر، وهو أن يقول: ما قيمته وبه هذه الجناية التي لا ندْرِي، أيحصل الاندمالُ منها، وتزول آلامها أو يسري ولا ندري على التقدير الأول، أيبقى شين وأثرٌ أم لا؟ ولا شكَّ أن الجراحة الَّتي حالها ما ذكَرْنا توجبُ نقصانَ القيمة، وقدْ يعرض الإِمام في خلالِ الفَصْل لهذا الجواب إلاَّ أن نفسه لم تسكُنْ إليه، وتقارب المسألة، ما إذا قطع أصبعاً زائدة أو سنّاً شَاغِيَةً، أو أتلف لحيةَ امرأةٍ، وأفْسَد مَنْبِتَهَا, ولم تنقص القيمة بذلك، وربما زادت؛ لزوال الشين مثل أن يكون خلف السنن الشاغية سنٌّ أصليةٌ على استواء الأسنان، وكان سببُ الشين وجودَ تلك الشاغِيَةِ، فهلْ يجبُ شيء؟ فيه الخلاف المنسوبُ إلى ابن سُرَيْج، وأبي إِسحاق، وإذا قلنا؛ بالوجوب، وهو الأصحُّ، فعلَى وجهٍ يجتهدُ فيه الحاكم، وعلى الأظهر يعتبر في قطع الأصبع أقربُ أحوال النقصان من الاندمال على ما مرَّ، وفي السنن الشاغية التي وصفناها تقوَّم (¬6)، وله السنُّ الزائدة، ولا أصليَّة خلفها، ثم يقوَّم (¬7) مقطوع تلك الزائدة، ويظهر التفاوُتُ بذلك؛ لأن الزائدة تشدُّ الفُرْجَة، ويحصل بها ضرر جمال، وفي لحية المرأة يقدَّر كونها لحية عَبْدٍ كبير يتزيَّن باللحية، فيقال: لو كان للعبد الكبير مثل هذه اللحية، كم قيمته، وينظر كَمْ ينقصُ من القيمة، لو لم يبق له لحيةٌ في ذلك الوقت، فيعرفُ قدر النقصان ويؤخذ (¬8) بتلك النسبة من (¬9) ديَةِ المرأة. ¬
ولو قطع أنملة لها شعبتان؛ أصليةٌ وزائدةٌ، وقالوا: لا يمكن اعتبارُ الزائدةِ بشيء، فيقدِّر الحاكم لها (¬1) شيئاً بالاجتهاد، ولا يبلغ به أرش أصلية (¬2)، وكان يجوز أن يقوَّم، وله الزائدةُ بلا أصلية، ثم يقوم دونها؛ كما فعل في السنن الشاغية، أو يعتبر بأصلية؛ كما اعتبرت لحيةُ المرأة بلحية الرجُلِ، ولحيتها كالأعضاء الزائدة، ولحيته كالأعضاء الأصلية. ولو ضرب إنساناً بالسوط أو غيره، أو لطمه، ولم يظهر له أَثَرٌ، لم (¬3) يتعلَّق به ضمانٌ، فإن اسودَّ أو اخضرَّ، وبقي الأثر (¬4) بعد الاندمال، وجبت الحكومة، فإن زال الأثر بعد أخذ الحكومة، رُدَّت وضُبِطت هذه الصور؛ بأن قيل: إذا بقي أثر الجناية من ضعفٍ أو شينٍ، وجبت الحكومة، وإذا لم يبق أثر، فإن لم تكن الجناية جرحاً، بل ضرباً (¬5) ونحوه، لم يجب شيء، وإن كان جرحاً، فوجهان: فرع: لو كسر عظماً في غير الرأس والوجه، وعادَ بَعْد الجبر مستقيماً، فإن بقي فيه ضعفٌ وخللٌ؛ وهو الغالب، فيجب الحكومة، وإلا فعلى الوجهين، وإذا كان مع الضعْفِ اعوجاجٌ، كانت الحكومة أكثر، وليس الجاني أن يقول كسره ثانياً؛ لينجير مستقيماً، ولو فعل، لم تسقط الحكومة الأُولَى، ويجب للكسر الثاني حكومةٌ ثانية؛ لأنها جنايةٌ جديدةٌ. وقوله في الكتاب: (وقيل: تقدَّر (¬6) الجراحةُ داميةً؛ حتى يظهر تفاوت"، هذا هو الوجه الثاني من قوله على أحد الوجهين، والأمر فيه على التدريج كما بيَّنا، وإنما يترقَّى إلى حالة سيلان (¬7) الدم، إذا لم يظهر النقصان في (¬8) الأحوال التي هي (¬9) أقرب (¬10) إلى الاندمال. وقوله: "أو أفسد المنبِتَ من لحية امرأة"، إنما ذكر بهذه اللفظة؛ لأن إزالة الشعور بحلق ونحوه؛ من غير إفساد المَنْبِتِ، لا يجب به حكومة أصلاً؛ لأن الشعور تعودُ مرة بعد أخرَى، ولا تفوت. المسألة الثانية: إن كان للجراحة أرشٌ مقدَّر كالموضحة، فالشينُ حواليها يتبعها (¬11)، ولا يفرد بحكومة؛ لأنه لو استوعبَ بالإيضاح جميعَ موضعِ الشين، لم يكن ¬
فيه إلا أرش موضِّحة، وقد سبق هذا، أو نحو منه، وهذا إذا كان الشينُ في محلِّ الإِيضاح، فأما إذا أوضح رأسه، واتسع الشين؛ حتى انتهى إلى القفا، فقد حكى الإِمام فيه تردُّداً عن الأصحاب لتعدية محلِّ الإيضاح (¬1)، وهل المتلاحمةُ كالموضِّحة في استتباع الشين، إذا قدَّرنا أرشها بالنسبة إلى الموضحة، ففيه وجهان: أشبهُهُما: نعم، وإن لم يكن للجراحة أرشٌ مقدَّر، فقد مرَّ أن ما دون الموضِّحة من جراحات الرأس، إذا أمكن تقديرها (¬2) بموضحة على الرأس، يجب فيها أكثر الأمرين من قسْطِ أرش الموضِّحة، ومن الحكومة؛ على ما قاله الأكثرون، والجراحات على البدن، إن أمكن تقديرها بالجائفَةِ؛ بأن كان بقربها جائفةٌ، هل تقدَّر بها كالتقدير بالموضِّحة، أم الواجب فيها الحكومةُ لا غير؟ ذكر القاضي الرُّويانيُّ في "جمع الجوامع": أنه على وجهين، وفي إيراده ما يشعر بترجيح الأول، وإذا عرفتَ ذلك، فإن قدرت الجراحة بالنسبة إلى جراحةٍ مقدَّرةٍ الأرشِ، وأوجبنا ما يقتضيه (¬3) التقسيطُ لكونه أكثر من الحكومة، فالشين تابع (¬4) له؛ لا يفرد بحكومة؛ كالموضحة، وما يتقدَّر (¬5) أرشه من الجراحات، وإن كانت الحكومة أكثر، وأوجبناها، فقد وفينا حق الشين، وأوجبنا ما هو قضية. هذا ما يتلخَّص من كلام الأصحاب، وعلى ذلك يحمل قوله في المختصر: "ولو جَرَحَهُ فَشَانَ رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ شَيْئاً يَبْقَى، فإنْ كَانَ الشيْنُ أكْثَرَ مِنَ الجُرْحِ، أُخِذَ بِالشَّيْنِ، وإنْ كَانَ الجُرْحُ أَكْثَرَ مِنَ الشَّيْنِ أُخِذَ بالجُرْحِ، وَلَمْ يَزِدْ لِلْشَّيْنِ"، وقال الإِمام حاكياً عن النصِّ، ومعبراً عنه:"إذا اندملتِ الجراحةُ، فإن كان الجرحُ أكثرَ من الشيْن، فالواجب حكومةُ الجرحِ، وإن كان الشيْنُ أكثر، فالواجبُ حكومة الشيْنِ، ولم يطب (¬6) له الفرْقُ بين الشيْنِ والجرح أصلاً؛ من حيث إن الجراحاتِ إذا اندملت، وبقي لها أثر في محلِّها، فاسم الشين يقع عليه، وعلى محله؛ لأن الشين هو الأثر المنكر (¬7)؛ من تغيُّر لون وتحوَّلِ، واستحشافٍ، وتغيره يبقى ولحمه يزيد، ثم أشار إلى أن المقصود أنه ينظر إلى أثر محلِّ الجراحة، وإلى ما حواليه، فيحمل وجوب أكثرهما حكومةً، ويتبعها ¬
فرع
حكومة أقلُّهما حكومة، وحكى عن الأصحاب فيه وجهين: أحدُهُما: الأخذُ به، قال: وهو الذي ذكره الشيخان الصيدلانيُّ وأبو مُحَمَّد. وثانيهما: وجوب الحكومتين جميعاً، فإن كان ذلك متولِّداً من جناية، وحكاه عن اختيار القاضي واختاره، وقرَّب الخلاف من الخلاف في أن الأصبع الشَّلاَّء، إذا قطعت مع ما يقابلها من الكف، هل يندرج تحت حكومتها حكومةُ ذلك الجزء (¬1) من الكفِّ، فان موضع الجراحة بمثابة (¬2) الأصبع الشَّلاَّء، والشين المتصلُ به بمثابة جرم (¬3) الكف، فعلى رأي تتبع حكومة الكف وحكومة الأصبع؛ كما تتبع ديتها، وعلى رأي: يقال: الحكومة ضعيفةٌ لا تقوى على الاستتباع؛ بخلاف الدية، وذكره تفريعاً على أنه يجب أكثرُ الحكومتين ويتبعُها الأقلُّ (¬4) وجهَيْن فيما لو استويا: أحدهما: أنهما تجبان، إذ ليست إحداهما بالإتباع أولَي من الأخْرَى. وأظهرهما: أنه لا يجبُ الأخذ بهما. والأشبهُ نسبتها إلى الجراحة؛ فإنها الأصل، والشَّيْن حادث منها, ولا يخفى أن ما أورده صاحب الكتاب منتزعٌ (¬5) من طريقة الإِمام ومختصرٌ منه. " فَرْعٌ" لو أوضح جبينه، وأزال حاجبه، فعليه أغلظُ الأمرين من أرش الموضِّحة، وحكومة الشين، وإزالة الحاجب، قاله في التتمة (¬6). النوع الثاني في القطعِ المُبِينِ للأعضاء. فرغْنَا عن الكلام في "الجراحات". والنوع الثاني من الجنايات: إبانةُ الأطرافِ والأعضاءِ، فمنْهَا الأذنان، فظاهر المذْهَب، وبه قال أبو حنيفة وأحمدُ: أن في استئصالهما قطعاً أو قلعاً كمالَ الدِّية، وحُكِيَ قولٌ أو وجةٌ مخرَّج؛ أن فيهما الحكومة؛ لأن السمع لا يحلهما , وليس فيهما منفعة ظاهرة (¬7)، وإنما فيهما جمالٌ وزينة، فاشبهتا الشعور؛ قال الإِمام (¬8) والذي ¬
يقوي (¬1) هذا الوجهَ: أنه لم يُجْزِ (¬2) رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- للأذنين ذِكْراً في كتابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مع سائر الأعضاءِ الَّتي أوجبَ فيها الدِّيَةَ، وذلك يُشْعِر بإخراجها عن الأعضاء التي لها بدلٌ مقدَّر، ولكن الموجهين (¬3) لظاهر المذهب رَوَوْا (¬4) عن كتاب عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ في الأذنين (¬5) خمسِينَ من الإبل (¬6)، وعن عمر وعليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ أنَّهُمَا قالا: في الأذنين الدية (¬7). واحتجُّوا أيضاً؛ بأن الأذن جنس مثنَّى (¬8) من الأعضاء، مضمونٌ، فيضمن بكمال الدية؛ كاليدين، والعينين، وبأن فيهما مع الجمال منفعةً من وجهين: أحدهما: أنها تجمع الصوت وتؤديه إلى الصماخ ومحلِّ السماع. والثاني: أنها تمنع الماء والهوامَّ؛ فإنه يحيى بسبب معاطفها وتعاريجاتها بدبيب الهوامِّ، فيطردها. وإذا قلنا؛ بالظاهر، ففي إحدى الأذنَيْنِ نصْفُ الدية، وفي بعضها بقسط، وتقدَّر بالمساحة، ولا فرق (¬9) بين الأعلى والأسفل، كان اختلفا في الجمال والمنفعة؛ كما لا فَرْقَ بين الأسنان والأصابع، كان اختلفتْ في المنافعِ، ولا فرق في الديَةِ بين أذن السميع والأصمِّ؛ لاستوائهما في السلامة، وليس السمعُ في نفس الأذن، ولو ضرب (¬10) على أذنه، فاستحشفت، والاستحشافُ في الأذن كالشلل (¬11) في اليَدِ، يقال: استحشفَتِ الأذنُ، إذا يَبِسَتْ، وصارَت كَحَشَفِ التَّمْرِ، وفيما يجب علَى الجاني قولانِ منقولانِ عن "الأم": أصحهما، على ما ذكر في "التهذيب": أنه يجب كمالُ الدية، كما لو ضرب على يده، فشَلَّت. والثاني، ويحكَى عن أبي حنيفة: أنه لا يجب إلا الحكومة؛ لأن منفعتها لا تبطلُ بالاستحشاف؛ بخلاف شلل اليد؛ فإنه تُبطل منفعتها، وأشار في الكتاب إلى بناء الخلاف عَلَى أن الدية في الأذن تجبُ، لما فيها من جمع الصوت، أو لما فيها من مَنْع ¬
فرع
الهوامِّ، فإن اعتبرنا (¬1) الجمع، لم (¬2) تجبِ الديةُ؛ لبقائه بعد الاستحْشَاف، وإن اعتبرنا (¬3) المنْعَ وجب (¬4) لسقوط الحسن بالاستَحشاف، وبطلانِ الشعور بالدَّبيب. ولو قطع أذنين مستحشفتين، يبنى عَلَى هذا الخلاف، إن قلنا: هناك تجبُ الدية، فههنا تجب الحكومةُ؛ كما لو قطع يداً شلاء، وإن قلنا: تجب الحكومة، فالواجب ههنا الدية؛ لأن المنفعة المرعية (¬5) إنما بطَلَتْ (¬6) بالقطع. وعن الشيخ أبي حامدٍ: القطعُ بوجوب الحكومة؛ كما في العين القائمة، واليد الشَّلاَّء، وإذا أوجبنا بقطع الممستحشفتين الحكومةَ، فهل يشترط ألا تنقص هذه الحكومة مع الحكومة الواجبة بالجناية التي حَصَل بها الاستحشاف عن كمال الدية؟ حكى القاضي ابن كَجٍّ فيه وجهين. وقوله في الكتاب: "والمقدَّر من الأعضاء" يعني المقدر بذْلُهُ (¬7). ولفظ "الأُذُنْينِ" مُعْلَم بالواو، وكذلك قوله: "نصْف الدِّية"، وقوله: "لأن فيه منفعة جَمْعِ الصَّوْتِ" لا يختص بالأصمِّ، بل الغرض بيانِ منفعةِ العُضْو، والردّ على من لم يوجِبْ فيه إلا الحكومة. " فَرْعٌ" لو لم يقتصرْ على استئصال الشَّاخص، بل أوضح معه العظم، لم يجعل أرش الموضِّحة تبعاً لدية الأذن؛ لأنَّه لا يتبع مقدَّرٌ مقدَّراً (¬8). قال الْغَزَالِيُّ: الثَّانِي: العَيْنَانِ وَفِي إِحْدَاهُمَا إِذَا فُقِئَتِ النِّصْفُ، وَفِي عَيْنِ الأَعْوَرِ النِّصْفُ (م) وَفِي عَيْنَيِ الأَخْفَشِ كَمَالُ الدِّيَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يجبُ في فَقْء العينَيْنِ كمالُ الدية، وفي إحداهما نصفُها؛ لما روي عن (¬9) النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "في العينينِ الدِّيَةُ" (¬10)، وفي كتاب عَمْرو بن حَزْمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي كتبه رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فِي العَيْنِ خَمْسُونَ مِنَ الإبِلِ" (¬11)، وعينُ الأعورِ المبصرةُ كغيرها؛ لا يجب فيها إلا نصفُ الدية؛ كما أن يد الأقْطَع لا يجبُ فيها إلا نصْفُ الدية، وقال مالك وأحمد: في عين الأعور كمالُ الدية. ولو فقأ الأعورُ مثْلَ عينه المبصرة مِنْ إنسان، فله القصاص خلافاً لأحمد، فإن ¬
عفا المجنيُّ عليه عن القصاص، فله نصف الدية، وعن مالك أن له جميعَ الدية، وتكمل الدية (¬1) في عينَيِ الأحول والأعمش، قال في الصحاح (¬2): والعَمَشُ ضعْفُ الرؤيةِ، مع سَيْلاَنِ الدمع في أكثر الأوقات، ويقال: إنَّ خلل الأعمش في الأجْفَان، والأعشَى: هو الذي لا يبصر بالليل، ويبصر بالنهار، والأخفشُ والخَفَش: صغَرُ العَيْن، وضعفُ البَصَر خلقةً، ويقال: الأخفش الذي يُبْصِرُ بالليل، دون النهار، وهذا لأن المنفعة باقيةٌ في أعين هؤلاء، ومقادير المنفعة غير منظور إلَيْها؛ ألا ترى أنه لا ينظر إلى قوة البطش، والمَشْي وضعفهما، وإذا كان في العَيْنِ بياضٌ لا ينقص الضوء، لم يمنع القصاص، ولا كمال الدية، وكان كالثَّالِيلِ في اليد والرِّجْل، ولا فرق بين أن يكون على بياض الحَدَقة، أو سوادها، وكذا لو كان على النَّاظِر (¬3) إلا أنه رقيقٌ لا يمنع الإبصار، ولا ينقص الضوء، فإن كان ينقص الضوء نُظِرَ: إن أمكن ضبطُ النقصان بالاعتبار بالصحيحة التي لا بياض فيها سقط (¬4) من الدية قسْطُ ما انتقص وإن لم يمكنِ الضبطُ، فالواجب الحكومة (¬5)، وفرق بينه وبَيْن عين الأعمشِ؛ بأن البياض نقْصُ الضوء الذي كان في أصلِ الخِلْقَة، وعيْن الأعمش لم ينقص ضوءُها عما كان في الأصل. قال الغَزَالِيُّ: الثَّالِثُ: الأَجْفَانُ وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ رُبْعُ الدِّيَةِ (م) وَفِي بَعْضِ الوَاحِدِ ¬
يُقَدَّرُ نِسْبَتُهُ مِنَ الرُّبُع، وَلَيْسَ فِي إِفْسَادِ مَنَابِتِ الأهْدَابِ وَسَائِرِ الشُّعُورِ إِلاَّ الحُكُومَةُ خِلاَفاً لِأَبِي حَنِيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَفِي انْدِرَاجِ حُكُومَةِ الأهْدَابِ تَحْتَ دِيَةِ الأَجْفَانِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: في الأجفان كمالُ الدية؛ لأن فيها جمالاً ومنفعة، أم الجمالُ، فظاهر، وأما المنفعة؛ فلأنها تقي الحَدَقَة عن الحَرِّ والبَرْد، والقَذَى والآفات، وعن مالك: أن فيها الحكومةَ، وفي جَفْنَيْ إحدى العينَيْن نصْفُ الدية، وفي كلِّ واحدة منهما الربع؛ وذلك لأن كل متعدِّد من أعضاء البدن يجبُ في جنسه الدية، وتوزع الدية على عدد ذلك الجنس، ألا تَرَى أن الدية توزَّع على اليدين والرِّجْلين؛ حتى يجب في اليد الواحدة النصفُ، وعلى الأصابع العُشْرُ؛ حتى يجب في إحداها العشر؛ قال الإِمام: هذا مطَّرد إلا أن يقدِّر الشرع بدلَ الواحدِ من ذلك الجنس؛ كما فعل في السن , وفي بعض الجفْنِ الواحدِ قسطُه من الربع، وإنما يجب كمالُ الدية في الأجفان، إذا استُؤْصِلَتْ، وقد يقطع معظم الجفْن، فيتقلَّص الباقي، ويوهم الاستئصال فليحقق، ولا فرق بين الجَفْن الأعلَى والأسفل، وجفنُ الأعمَى كجفن البصير، وكذلك جفن الأعمش، والعَمَش بمنزلة المَرَض فيه، ولا ديةَ في جَفْن المستحشف، وإنما يجب فيه الحكومةُ، ولو ضرب على الجفن، فاستحشف، فعليه الدية، ولا يجيء فيه الخلافُ المذكورُ في استحشاف الأذن؛ لبقاء المنفعة هناك، مع الاستحشاف، وإذا قلع الأجفان مع العينين، وجب دية للأجفان (¬1)، وأخرى للعينين. الثانية: إزالة الأهداب وسائر الشعور؛ كشعر الرأس واللحية؛ بالحلق وغيره من غير إفساد المَنْبِتِ: لا يوجب إلا التعزير (¬2)، فإن أفسد منبتها، فعليه الحكومة؛ لأن الفائت (¬3) بتلفها الزينةُ والجمالُ، دون المقاصد الأصلية، وبهذا قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: تجب الدية بكمالها في أربعةِ من الشُّعُور، وهي: الأهداب، والحاجبانِ وشَعْرُ الرأْس واللِّحية، فإنْ لم يكُنْ على الأجفان أهدابٌ، فالواجب بقطعها الديةُ؛ عَلَى ما تبيَّن، وإن قطعت وعليها الأهْدَابُ فهلْ يجب مع الدية حكومةُ الأهداب في دية الأجفان؟ فيه وجهان: أحدُهما: أنه تجب الحكومة مع الدية؛ لأن فيها جمالاً وفائدةً زائدةً، وهي أنها ¬
يحتد بها النظر، وإذا أسبلت (¬1) دارت الغبار مع نفوذ البصر. وأظهرهما؛ على ما ذهب إليه القاضي الطَّبريُّ والشيخُ أبو محمَّد وغيرهما: أن حكومة الأهداب تدخلُ في دية الأجفان؛ كما تدخلُ حكومة الكفِّ في الأصابع، وكما أن الشَّعْر على الساعدِ والساقِ لا يفرد بالحكومة؛ واستشهد لهذا الوجْه أيضاً بأن الشَّعر عَلَى محلِّ الموضِّحة لا يُفْرَد بالحكومة، بل يدخل في أرْش، وهذا يشعر بالقَطْع به، وكذلك ذكره الإِمام وغيره، لكن في كتاب القاضي ابن كج حكايةُ وجهين في دُخُول حكومة الشعْر تحت أرش الموضِّحة، والظاهر الأول، وإن ثبت الخلافُ، وأجاب صاحب "التتمة" بما يوافق الوجه الآخر، فقال فيما إذا أوضح على الرأس أو الجبين (¬2)، وأزال الشعر، إنه يجب عليه أغلظ الأمرين من الأرش أو الحكومةِ؛ كما حكينا عنه فيما إذا أَوْضَحَ جبينه، وأزال الحاجب، ويمكن أن يعود الخلاف هناك أيضاً، وقوله في الكتاب: "خلافاً لأبي حَنِيْفَةَ" بخلاف رسْم الكتاب، ويجوز أن يعلم لفظ "الأجْفَان وربع الدية" بالميم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرَّابعُ: الأنْفُ وَفِي قَطْعِ جَمِيعِ مَا لاَنَ مِنَ المَارِنِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَفِي بَعْضِهِ البَعْضُ بِالنِّسْبَةِ، وَهُوَ مَعَ الحَاجِزِ بَيْنَ المَنْخَرَينِ ثَلاَثُ طَبَقَاتٍ، فَفِي كُلِّ طَبَقَةٍ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَقيلَ الحَاجِزُ فِيهِ حُكُومَةٌ، وَفِي ظَاهِرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ المَنْخِرَينِ نِصْفُ الدِّيَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يجب في قطع المارن، وهو ما لان من الأنف، وخلا من العظم -كمالُ دية النفس؛ لما رُوِيَ في كتاب عمرو بْنِ حَزْم الَّذي كتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَفِي الأَنْفِ إِذَا أَوْعَبَ جَذعاً- الدِّيَةُ" (¬3) أي: استوعب وحمل ذلك على المارن، دون جميع الأنف؛ لما رُوِيَ عن طَاوُسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قال: "عِنْدِي كتابُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وفيه: "وفي الأنْفِ، إذاً قُطِعَ مَارِنُهُ مَائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ" (¬4)، ويروى: "وفي الأنفِ، إذا استُؤْصِل المارن الديةُ الكاملةُ" (¬5) ولأن الأنف عضوٌ فيه جمال، وفيه منفعة جمع الروائح، ومنع الغبار، وسائر ما يؤدي الدماغَ عنه، وهو فرد في جنسه، فكمل فيه الديةُ؛ كاللسان والذكر، والمارنُ ثلاثُ طبقات؛ الطرفان، والوترة، الحاجزة بينهما، وكيف تتوزَّع عليها الدية؟ فيه وجهان: ¬
أحدهما؛ وبه قال أبو علي الطبريُّ: أنها تتوزَّع عليها جميعاً؛ لتعلق الجمال والمنفعة بها، فلو رفع الجاجز وحده، فعلَيْه ثلث الدية، ولو قطع إحدى الطرفَيْن، فكذلك، ولو قطعهما دون الحاجز أو أحدهما، مع الحاجز، فعليه ثلثا الدية، ولو قطع أحدهما، ونصف الحاجز، فعليه نصْفُ الدية. والثاني، ويحكَى عن ابن سُرَيْجٍ وأبي إِسحاق: أن الدية تتعلَّق بالطرفين، وليس في الحاجز إلا الحكومة؛ لأن الجمال وكمالَ المنفعةِ فيهما دُون الحاجز، وعلَى هذا ففي الحاجزِ وحده الحكومةُ، وفي قطع أحد الطرفين نصفُ الدية، وفي قطعهما دون الحاجز تمامُ الدية، وفي قطعِ أحدهما مع الحاجز أو بعض الحاجز نصفُ الدية وحكومة، وفي "التهذيب": أن هذا الوجه الثاني أصحُّ، ونقل أبو إسحاق الشِّيرازيُّ؛ أنه المنصوصُ، لكن إيراد الكتاب يقتضي ترجيحَ الأول، وإليه ذهب القاضيان الطبريُّ والرويانيُّ، وقد يؤيَّد بأنه إذا قطع جميع المارن لا يجبُ إلا ديةٌ واحدةٌ، ولو كانت (¬1) الديةُ في مقابلة الطرَفَيْن، وكان واجب الحاجز الحكومة، لأشبه ألا تدخل (¬2) حكومته في الدية، كما لو قطع مع المارن شيئاً بما يتصل بالشفة أو من الخدِّ، فإنه يجب لذلك حكومةٌ مع الدية، ويخرَّج مما ذكره الإمامُ نقلاً وتلخيصاً أنه لا يجب في أحد الطرفين النصْفُ، ولا الثلث، ولكن ينسب ما أُبِينَ إلى ما بقي، ويوزَّع الواجب عليهما، فيجب ما يقتضيه التقْسيط، وأقام هذا وجهاً آخر، لكنه لا يستغنى عن النظر في أن الدية يجبُ في مقابلة الطرفين، أو الطبقات الثلاث، ثم إنْ جعلنا الدية في مقابلة الطرفين، فلا يكاد يُفْرَضُ تفاوت بينهما, ولا يكون الواجب إلا النصف، وإن جعلنا في مقابلة الطبقات الثلاثِ، فيظهر تفاوت الطرفين على الوَتَرَة، ويكون الواجب فَوْقَ الثلاث، ودون النصْفَ، وأنف المجذوم إذا سَقَط بعضُه، وقطع الباقي، يجبُ فيه قسْط الباقي من الدية، وأنف الأخشم (¬3) كأنف السَّليم؛ فإن الشمَّ لا يحل الأنف، ولو ضرب على أنفه فاستحشف أو قطع أنفاً مستحشفاً، فعلى الخلاف المذكور في الأذن. وقوله في الكتاب: "وفي قطع جميع ما لان مِنَ المارِنِ كلُّ الدية"، في هذه اللفظة نظرٌ، فإن المارن هو الذي لاَنَ، ويجب بقطعه الدية؛ لأنه من المارن، فكان ينبغي أن يقول: وفي قَطْعِ جميعِ ما لاَنَ من الأنف، وهو المَارِنُ، وقد يتكلَّف، فيحمل "مِنْ" على بيان الجنس، ويقال: المعنَى في جميع ما لان مِنْ هذا الذي يُقَال له المارن. ¬
فرع
وقوله: "وفي بعْضه البغض بالنسبة"، يعني إذا قطع بعْض المارِنِ، اعتبر [الباقي] بالمساحة، وأخذ قسط المقطوع من الدية، ثم الاعتبار بالجملة التي يقابلُها الدية، وفيه الخلافُ الذي بيَّناه. " فَرْعٌ" لو شق مارنه، فذهب منه شيء، ولم يلتئم، فعليه من الدية قسطُ الذاهب، وإن لم يذهب منه شيء التام أو لم يلتئم، فعليه الحكومة، ولو انجبرت القصبةُ بعْد الكسر، فعليه الحكومةِ، فإن بقي معوجّاً، كانت الحكومة أكثر. قال الْغَزَالِيُّ: الخَامِسُ الشَّفَتَانِ وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ الدِّيَةِ (م)، وَحَدُّهُ فِي عُرْضِ الوَجْهِ اِلَى الشِّدْقَيْنِ، وَفِي طُولِهِ إِلَى مَحَلِّ الاَرْتِفَاقِ عَلَى وَجْهٍ، وَإلَى مَا يَسْتُرُ عَمُوُدَ الأَسْنَانَ عَلَى وَجْهٍ، وَإِلَى مَا يَنْتُو عِنْدَ الانْطِبَاقِ عَلَى وَجْهٍ وَهُوَ الأَقَلُّ، وَقِيلَ: إِذَا قَطَعَ مِنَ الأَعْلَى مَا لاَ يَنْطَبِقُ عَلَى الأَسْفَلِ، فَقَدِ اسْتَوفَى الْكُلَّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في قطع الشفتين، إذا استوعبَنا كمالَ الدية؛ لما رُوِيَ في كتاب عمرو بْن حزم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الَّذي تكرَّر ذكره، وفي الشفتين الدِّية، ولأن فيهما جمالاً ومنفعةً ظاهرةً لما يتعلَّق بهما من تمام الكلام، وإمساك الرِّيق والطعام، ولا فرق بين أن يكُونا غليظتَيْن أو رقيقتَيْنِ، كبيرتين أو صغيرتين، وفي إحداها نصفُ الدية، وتستوي في ذلك العليا والسفلى، وإن فرض تفاوتٌ في المنفعة، كما في اليدين والأصابع، وبه قال أبو حنيفة، وهو روايةٌ عن مالك، ويروَى عنه أن في العليا ثُلُثَ الدية، وفي السفلَى الثلثين؛ لأنها التي تمسك الريق والطعام، وتتحرَّك عند المضغ والكلام، وقد تعكس الرواية , ويقال: يجبُ في العليا الثلثان، وفي السفلَى الثلُثُ؛ لأن الجمال في العليا أكثر، وبجب بقطع بعض الشفة بعْضُ الدية على ما يقتضيه التقسيطُ، وحدُّ الشفة في عُرْض الوجه إلى الشِّدْقين، وقد يقال: حدُّ الشفَةِ في الطُّول فتحةُ الفم من الجانب إلى الجانب الآخر، وهذه العبارة معناها معنى الأوَّل، والمراد بالطول طُول الفم، وأما في عرض الفم (¬1) فقد جمع الإِمام في حدِّها أوجهاً: أحدها: أنه من المتجافي إلى محلِّ الارتتاق؛ لوقوع الاسم عَلَى جميع ذلك، وموضع الارتتاق من الأعلى يقرب من الوترة، ومن الجانب الأسفل يقع في محاذاة نهاية العَنْفَقَةِ. والثاني: أن الشفة من حرف الفم إلى المَوْضِع الذي يستر اللِّثة، وعُمُورَ الأسنان، ولا يكاد هذا القائل يُسَلِّم تناول الاسم ما وراء ذلك. ¬
فرع
والثالث، عن الشيخ أبي محمَّد: أنه القدر الذي ينتو عند إطباق الفم؛ كما أنه يراعى هذا القدر في الشُّفْرَيْن. والرابع: أن القدر الذي لو قطع لم تنطبق الشفة الأخرَى على الباقي هو كلُّ الشفة، حكاه الإِمام عن مرامز كلام الأئمة. والوجه الثالث: أقلُّ المقادير، والأول أكثرها، والثاني معتدلٌ متوسِّط، وروي ذلك عن نصه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في "الأم"، وهو الذي أورده أكثر المتكلِّمين في حد الشفة. وقوله في الكتاب: "وفي كل واحدةٍ نصْفُ الدية" معْلَم بالميم؛ لما روينا. وقوله: "إلى ما يستر عُمُورَ الأسْنَانِ"، وقد يقال بدله: "إلى ما يستر اللِّثة"، وقد يجمع بينهما، والعُمُورَ جمعُ: عَمْرِ، وهو: اللحم بين الأسنان، واللَّثَة: اللحمُ حوْلَ السِّنْخ، وهو وراء العُمُورَ، فيجوزَ أن يقدَّر فيه اختلاف، ويجوز أن يبني الأمرُ على التقريب (¬1)، وذكر اللثة يغني عن ذكر العُمُور، فإنها وراء العمور، ولا ينعكس، وذكر في "الوَسِيطِ" بعد حكاية هذه الوجوه أن تقدَّر كل الشفة بأن يقدر قوساً طرفاه عند الشِّدْقَيْن، ومُحَدَّبُه (¬2) عند إلارتتاق، أو ما دونه، على أحد الوجوه، فما يحويه مقعر هذا القوس، هو كلُّ الشفة، وفي "النهاية" نحْوٌ من هذا، لكن على الوجه الأول خاصَّة، ويشبه أن يقال: لا معنى لتقدير القوْسِ واعوجاج الخَطِّ، ولكن موضع الارتتاق بما يحاذي وتره الأنف من الأعلى، إلى موضع الارتتاق مما يحاذي الشِّدْقَ من الأسفل يقرب من المسامتة، فليعتبر خط مستقيم من (¬3) محاذاة الوَتَرَة إلى محاذاة الشِّدْق، وكذلك في الشفة السفلَى ويكون حدُّ الشفتين معاً شكْلَ مربَّع مستطيل أو غير مستطيل، ولا يبعد عن العُرْف، وإطلاق الاسم أخذ شيء من الشِّدْق في حد الشفة، لكن قال الإِمام: لم يَصِرْ إليه أحدٌ من الأصحاب. " فَرْعٌ" (¬4) لو ضرب على شفته، فأشلَّها، فصارت منقبضة لا تسترسل، أو مسترسلة لا تنقبض، فعليه الدية (¬5)، ولو قطع شفةً شلاء، فعليه الحكومة، ولو شق ¬
شفتيه (¬1)، ولم يبن (¬2) منها شيء ليم يلزمه إلا الحكومة (¬3)، ولو قطع شفة مشقوقةً، ففي "التهذيب" و"التتمة"؛ أن فيها ديةً ناقصةً بقدر حكومة الشق، ولو قطع بعض الشفة، وتقلَّص الباقي حتى بقي المقطوع كالذي قطع جميعها منه، ففيه وجهان: أحدهما: أن الدية تتوزَّع على ما قطع، وعلى ما بقي (¬4). والثاني: يجب كمالُ الدية؛ لأن منفعة الباقي قد بطَلَت بالجناية، فصار كما لو قَطَع بعض الأصابع، وأشل بعضها، وهل يتبع حكومة الشارب دية الشفة، نقل [القاضي] ابن كج فيه وجْهَيْن. قال الْغَزَالِيُّ: السَّادِسُ فِي لِسَانِ النَّاطِقِ كَمَالُ (ح) الدِّيَةِ، وَفِي الأخْرَسِ الحُكُومَةُ، وَفِي الصَّبِيِّ كَمَالُ الدِّيَةِ إلاَّ إِذَا قُطِعَ عَقِيبَ الوِلاَدَةِ وَلَمْ يُظْهَرْ أَثَرُ القُدْرَةِ بِالتَّحْرِيكِ وَالبُكَاءِ فَإنَّ السَّلاَمَةَ لَمْ تَسْتَيْقَنْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في اللسان كمالُ دية النَّفْسِ؛ لما روي عن كتاب عَمْرِو بنِ حَزْم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "وفي اللِّسَانِ الدية"، وأيضاً: ففيه جمالٌ ومنافعُ ظاهرة، كمنفعة النطق التي تتميز بها الإنسان عن البهيمة، وكمنفعة الذوق، وكالإعانة على المضغ بردِّ اللقمة إلى الأضراس، وقد روي أن رسول الله به. سُئِلَ عَنِ الْجَمَالِ، فَقَالَ: "هُوَ في اللِّسَانِ" (¬5)، ولسان الألْكَنِ، والمُبَرْسَم الذي ثقلَ كلامه كغيره، وكذلك لسانُ الأَرَثِّ والألْثَغِ، ويجعل ما فيه من الضعْفِ كَضعف البطش في اليد، قال القاضي الرُّويانيُّ: ويحتمل أن يقال خلافه، وفي لسان الأخرَسِ حكومةٌ، كما في اليد الشلاَّء، سواءٌ كان ¬
الخرس أصليّاً أو خَرِسَ بمرضٍ، وعن أبي الطيِّب بن سلَمَة؛ أنه يمكن تخريج قول؛ أنَّ الواجب فيه الديةُ، والمذهب الأوَّل؛ وذلك إذا لم يذهب الذوْقُ بقَطْع لسان الأخرس، أو كان قد بَطَل ذوقه من قبل، فأما إذا قطع لسانه، فذهب ذوقه، وجبت الدية؛ لذهاب الذوق، ولو تعذر النطقُ، لا لخللٍ في اللسان، ولكنه ولد أصمَّ، فلم يحسن الكلام؛ لأنه لم يسمع شيئاً، فالواجبُ فيه الديةُ أو الحكومةُ، فيه وجهان يجيء ذكرهما (¬1)، وإذا قطع لسان الطفل، نُظِرَ إن نطق بـ"بابا" و"دَادَا" ونحوهما، أو كان يحركه عند البكاء، والضَّحِك، والامتصاص تحريكاً صحيحاً، وجبت الدية؛ لظهور آثار الكلام فيه، وعن أبي حنيفة؛ خلافه، كان لم يوجد نطقٌ وتحريكٌ في أن بلغ وقت النطق والتحريك، فالواجب فيه الحكومة؛ لإشعار الحال بالعجز، كان لم يبلغ بأن قطع لسانه عَقِيب الولادة، فالذي أورده في الكتاب أنه لا يجب الدية؛ لأن سلامته غير مستقيمة، والأصْلُ براءة الذمَّة عن الدية، وحكى الإمام قطْعَ الأصحاب به، ووقفة لشيخه أبي محمَّد فيه، والذي يوجد في كتب عامة الأصحاب وجوب الدية؛ أخذاً بظاهر السلامة، كما تجب الديةُ في يده ورجله، كان لم يكن بَطَش في الحال، وهذا ما حكاه القاضي ابن كَجٍّ عن أبي إسحاق، وذكر أن أبا الحسين نقل في المسألة قولين، وليعلَم لما ذكرنا قوله: "إلاَّ إذا قُطِعَ عَقِيبَ الولادةِ، ولم يظهر أثرُ القُدْرة"، وقوله: "وفي الأخْرَسِ حكومةٌ" يجوز أن يُعْلَم بالألف؛ لأن عنده في لسان الأخرسِ ثلثَ الدية في أظهر الروايتين. ولو قطع بعض لسان الصبيِّ، واقتضى الحال إيجابَ الحكومة، فأخذناها، ثم إنَّه نطق ببعض الحروف، وعرفنا سلامة لسانه بلغنا بالحكومة القَدْر الذي يقتضيه القطْعُ من الدية، ولو كان للسانه طرفانِ، نُظِرَ: إن استويا في الخلقة، فهو لسان مشقوق، فيجب بقطعهما الدية، وبقطع أحدهما قسْطُه من الدية، وإن كان أحدهما تامَّ الخلقة أصليّاً، والآخر ناقصَ الخلقة زائداً، ففي قطعهما ديةٌ وحكومة، وفي الأصلي الدية، وفي الزائدِ الحكومةُ، ولا يبلغ بحكومته ديةُ قدره من اللسان من ثلث وربع وغيرهما، وفي قطع اللهاة الحكومة. قال الغَزَالِيُّ: السَّابعُ: الأسْنَانُ وَفِي كُلِّ سِنٍّ تَامَّة أَصْلِيَّةِ مَثْغُورَةِ غَيْرِ مُتَقَلْقِلَةِ بِالهَرَمِ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ مِنْ غَيْرِ تَفَاضُلِ، وَفِي الشَّاغيَةِ حُكُومَةٌ، وَفِي سِنٍّ مِنَ الذَّهَبِ تَشَبَّثَ بِهَا ¬
اللَّحْمُ وَاسْتَعَدَّتْ لِلمَضْغِ حُكُومَةٌ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ، وَفِي قَطْعِ نِصْفِ السِّنِّ نِصْفُ الأَرْشِ، وَفِي إِدْخَالِ السِّنْخِ فِي حِسَابِ السِّنَّةِ وَجْهَانِ، وَبَقِيَّةُ الذَّكَرِ مِنَ الحَشَفَةِ، وَحَلَمَةُ الثَّدْيَيْنِ مِنَ الجُمْلَةِ، وَقَصَبَةُ الأَنْفِ مِنَ المَارِنِ كَالسِّنِّ مِنَ السِّنْخِ فِي أَنَّ حُكُومَتَهَا هَلْ تَنْدَرجُ عِنْدَ الاسْتِئْصَالِ؟ وَفِيهِ وَجْهٌ أنَّهُ يَجِبُ بِجَمِيعِهَا حُكُومَةٌ إِذَا اسْتُؤْصِلَتْ مَعَ دِيَةٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يجب في كلِّ سنٍّ من الذَّكَر الحُرِّ المسْلِمِ خمْسٌ من الإبل، لما روي في كتاب عَمْرو بن حَزْم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الذي كتبه رسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإبِلِ" (¬1)، وعن عبد الله بن عَمْرو بن العاص -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ أن النبىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "فِي كُلِّ سِنِّ خَمْسٌ مِنَ الإبِلِ" (¬2)، ولا فرق في وجوب الدية بين أن يكونَ تفويتُ السن بالقلع، أو القطع، أو الكسر، ولو قلع سنه، فبقيت متعلِّقة بعروق، ثم عادت إلى ما كانت، ذكر الرويانيُّ في "جمع الجوامع"؛ أنه لا دية؛ لأن الدية إنما تجبُ بالإبانة، ولم توجد، وعليه حكومة الجناية، وتستوي الأسنان في الدية، وإن اختلفتْ منافعها؛ لما روي عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: "جَعَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَصَابعَ اليَدِ وَالرِّجْلِ سَوَاءً" (¬3)، وقال: الأسنانُ سواءٌ، الثَّنِيَّةُ والضِّرْس سواءٌ، وهذه [وهذه] (¬4) سواء، واختصاص بعضها بزيادةِ طولٍ لا يوجب الاختصاص بمزيد بدلٍ؛ كما في الأصابع، وضبط صاحب الكتاب القيودَ التي تعتبر في السنِّ لتكميل الدية؛ فقال: "في كلِّ سِنٍّ تَامَّةٍ أَصْلِيَّةٍ ... " إلى آخره، وهي أربعة: الأول: أن تكون أصليةً؛ ففي السن الشاغية الحكومة دونَ الدية (¬5)، ولو سقطَتْ سنَّة، فاتخذ سنّاً من ذهب، أو حديد، أو عظم ظاهِرٍ، لم يلزم بقلعها الديةُ، وأما الحكومة، فإن قلعت قبل الالتحام، لم يلزم أيضاً، ولكن يعزر القالع، وإن قلعت بعد تشبُّث اللحم بها، واستعدادها للمضغ والقطع، فقولان: ¬
أحدهما: أنه يجب الحكومةُ؛ لما فيها من المنفعة والجمال. وأظهرهما: المنع؛ لأنها مُلْحَقَة، وليست جزءاً من الشخْص، قال الإِمام: ولا يتصوَّر أن يلتحم على اللحم ذهبٌ، والله أعلم. القيد الثاني: أن تكون تامَّة، وتكمل الدية بكسر ما ظهر من السنِّ, وإن بقي السِّنْخ (¬1) بحاله؛ لأن السنَّ اسم للظاهر، والمستتر باللحم يسمى سِنْخاً، ولأن الجمال والمنفعة من العضِّ، والقطع (¬2)، والمضغ، وجمع الريق، كلُّ ذلك يتعلَّق بالظاهر، ومنفعة المستتر حملُ الظاهر وحفظُه، وهو مع الظاهر كالكَفِّ مع الأصابع، ولو قلع السنن من (¬3) السِّنْخ لم يجبْ زيادة على أرش السنِّ, بل تدخل حكومة السنخ في دية السن؛ كما تدخلُ حكومة الكفِّ في دية الأصابع، هذا ما أطلقه الجمهورُ، وحكى الإِمام في ذلك طرقاً: إِحْدَاها: أن فيه وجهين: أظهرهما: ما أجاب به الجمهور، واحتجَّ له بأن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "في كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ في مِنَ الإبِلِ"، والأولَى حمل كلامه على ما يجري مثله في العُرْف، وقلع السن من الأصْل هو الذي يتَّفق، فأما قطع الظاهر، فلا يتفق إلا باعتمادٍ وتكلف. والثاني: أنه يجب حكومة للسنخ، مع أرش السنِّ؛ لزيادة الجناية بقلع السِّنْخ. والثانية: القطْعُ بالوجْه الأَوَّل. والثالثة: القطع بالثاني؛ تعليلاً بأن السِّنْخَ باطنٌ؛ فيفرد بالحكومةِ (¬4). ولو كسر الظاهر واحد، وجاء آخر، وقلع السِّنْخ، فعليه الحكلومة، وعلى الأول الدية؛ بلا خلاف، ولو عاد الأول، وقلعه بَعْد الاندمال، فعليه الحكومة مع الدية، وإن قلعه قبل الاندمال، فوجهان عن القاضي الحُسَيْن، والذي يوافق إطلاق أكثرهم؛ أن الجواب كذلك. والثاني: أن حكومة السِّنْخ تندرجُ تحت دية السنِّ؛ كما لو قلعهما معاً، ويجوز أن يفرق بين قلع الأوَّل وغيره، كما في رفع الحاجز بين الموضحتين، وطرد مثل هذا في قطع الكف بَعْد قطع الأصابع؛ إما من قاطع الأصابع أو غيره، ولو قطع بعض الظاهر، ¬
وأبْقَى (¬1) بعضه فعليه قسط ما قطع من الأرش، وكيف يقسَّط، أينسب المقطوع إلى الظاهر وحده (¬2)؛ حتى يكون نصفاً مَثَلاً، أو اللِّثة مع السنخ؛ حتى يكون ربعاً؟ الوجه أن يقال: إن أوجبنا في قلع الظاهرِ مع السِّنْخ أرشاً وحكومة، فالتوزيع على الظاهر وحده، وإن أدرجنا الحكومةَ تحت الأرش، فوجهان حكاهما المتولِّي، والإمامُ، وصاحبُ الكتاب: أصحُّهما؛ وهو جواب المُعَظَم: أن التوزيع على الظاهر وحده؛ لأنا نوجب فيه تمام الأرش، وإذا وجب جميع الأرش في جميعه، وَجَبَ بعضه في بعضه، وهذا كما أن دية اليد، إذا وجبت بقطع الأصابع، وَجب في بعضها قسطه، ولا ينظر إلى الكف، وأيضاً: فالسنخ مستتر، وغوصه مختلفٌ يتعذَّر الوقوف عليه، والنسبة إليه. والثاني: أن التوزيع على الظاهر، والسِّنْخ جميعاً؛ لأن السِّنْخ مع الظاهر كالشيء الملتحم؛ بخلاف الأصابع مع الكف، فإنها منفصلةٌ عنها، مربوطةٌ بها بالأعصاب والرِّباطات، ومن ذهب إلى هذا الوجْهِ، قال: قضيَّته ألا يجب تمام الأرش عنْد قطْعَ جميع الظاهر، لكن إذا قطع الجميع، لم يبق للسِّنْخ منفعةٌ بها مُبَالاةٌ، فإن منفعته المقصودة حمل الظاهر، وحفظه؛ فلذلك أتممنا الأرْشَ فيه، وإذا بقي من الظاهر بعضه، ففي السِّنخ منفعة حمله، فوزعنا الأرش عَلَى ما ذهب، وعلى جميع ما بقي منتفعاً به، وفي معنى ما نَحْنُ فيه صُوَرٌ: منها: أن الدية تكمل في قطع الحَشَفة، ولو استؤْصلَ الذكَرُ، فيفرد بقية الذكر بحكومةٍ، أو تندرج حكومتها تحْتَ دية الحشفة؟ حكى الإِمام فيه طريقين: أحدهما: أن فيه وجهين. والثاني: القطع بالاندراج. ومنْها: حَلَمَةُ الثدْيِ فيها كمالُ الدية، ولو استؤصل الثدْيُ، ففيه الطريقان، والأصحُّ فيهما الاندراج. ومنها: في المارِنُ كمالُ الديةِ؛ على ما سبق، ولو قطعه مع القَصَبة، فهل يجب حكومة القصبة، أو لا يجب إلا الديةُ؟ ذكر الإِمام أن فيه وجهين، وأن المذهب الظاهرُ فيهما الاندراج (¬3)، وههنا كلام، وهو أنا قدَّمنا أن قصبة الأنف محلُّ الموضحة في ¬
فروع
الوجه، وكذا محلُّ الهاشمة والمنقلة، وذكرنا وجهين في أن الجراحة الواصلَةَ إلَى داخل الأنف، هل تكون جائفة، وإذا كان كذلك، فقطع قصبة الأنف وإبانتُها أعظَمُ من المُنَقَّلة، فيجب أن يجب فيه مع أرش المارنِ أرشُ المنَقِّلة، وهكذا حكى القاضي ابن كَجٍّ الجواب فيه عن نصِّه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في "الأم"، ولم أجد تغيره تعرُّضاً لذلك، وإذا قلنا؛ بالاندراج في هذه الصورة، فلو قطع بعض الحَشَفة، أو الحَلَمة، أو المارن، فالمقطوعُ يُنْسَب إلى الحَشَفة، أو جميع الذكر وإلى الحَلَمة، أو جميع الثَّدْي؟ وإلى المارن أو إلى المارن مع القَصَبة؟ فيه الوجهان المذكوران في قَطْع بعض الظاهر من السنِّ، والأصحُّ التوزيع على الحَشَفة، والحَلَمة، والمارن، وحدُّها كما ذكرنا في السنِّ والسِّنْخ، وإذا اختلف الجانِي في القدْر المكسُور من الظاهر، والمجنىُّ عليه، فالمصدَّق الجاني؛ لأن الأصل براءة ذمته. " فُرُوعٌ" لو كسر واحد بعض ما ظهر، ثم جاء آخر، وكسر الباقي من الظاهر، فعلى كلِّ واحد قسطُ ما كسره من الأرش، ولو قطع الثاني الباقِيَ مع السِّنْخ، فعن نصِّه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في "الأم" أن عليه قسْطَ الباقي من الأرش، وحكومة للسنخ، وللأصحاب فيه طريقان: أحدهما: أن فيه وجهين: أحدهما: الأخذُ بظاهر هذا النصِّ، وإيجاب حكومة للسنخ؛ لأنَّ الباقي بعض السنخ، وإنما يجعل السنخ تابعاً لجميع السن. والثاني: أنه كما يتبع الجميع يتبع البعض؛ لأنَّه لا فائدة للسنخ إلا حملُ ما عليه مِنْ كلِّ السن أو بعضها. وأظهرهما؛ وبه قال الشيخ أبوحامد، وعليه جرى ابن الصَّبَّاغ، وصاحب "التهذيب" وغيرهما: أنه ينظر في جناية الأول؛ فإن كسر بعض السن في العرض، وبقي الأسفل بحاله، فليس على الثاني حكومةٌ للسنخ، بل يدخلُ في أرش الباقي من السن, كما لو قطعت أنامل رجُلٍ، ثم جاء آخرُ، وقطع يده من الكوع، لا يلزمه حكومة الكف، بل تدخلُ في دية ما بقي من الأنامل، وإن كسر بعضها في الطول، فحكومة للسنخ بقَدْر ما يجب الباقي من السنِّ تدخل في أرشه، وما لا شيء فوقه من السنخ
تجبُ حكومته؛ كما ذكرنا، فيما إذا قطع كَفّاً عليها بعض الأصابع دون بعض، ولو ظهر بعض السنخ؛ كخلل أصاب اللثة، لم يلحق ذلك بالظاهر، بل كمال الدية فيما كان ظاهرًا في الأصل. ولو تناثر بعضُ السنِّ أو تآكل، ففي قلعها قسطُ ما بقي من الدية، فإن اختلفا في قَدْر المتناثر أو المتآكل، فالقولُ قولُ المجنيِّ عليه مع يمينه. ولو كانت أسنانُهُ من الأعلَى طويلةً ومن الأسفلِ قصيرةً, أوبالعكس، لم يؤثر ذلك، ووجب لكل واحدةٍ كمالُ الأرش، والغالب أن الثنايا من الأسنان تكونُ أطول من الرَّبَاعِيَاتِ بقليل، فإن كانت ثنايا إنسان مثل الرباعيات، أو أقصر منها، ففيما يجب فيها اختلافٌ للأصحاب: حكى الإِمام عن الأكثرين؛ أنه لا يجب فيها تمام الأرش، ولكن ينقص منه بحسب نقصانها، وهذا ما أورده الرُّويانيُّ، قال: ويخالف هذا ما إذا كانت أسنانُ الصف الواحد بأسرها قصيرةً، فإن الغالب أنَّ مثل ذلك لمعنًى في الخلقة، وتفاوت الأسنان في الصف الواحد يُشْعِر بأنه قد أصاب المنبِتَ خللٌ، وأن النقصان [كان] لذلك، وقال قائلون: يكمل فيها الأرش؛ لوقوع الاسم عليها، ودخولها تحْتَ قوله -صلى الله عليه وسلم- (¬1): "فِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنَ الإْبِلِ" وهو ما أورده في "التهذيب"، وسَوَّى بين [أن تكون الرَّبَاعِيَاتُ أطْولَ من الثنايا، وَبيْن أن تكون الثنايا أطْوَلَ، إذا تفاحش] (¬2) التفاوت بينهما. ولو كانت إحدى السنين من الأعلَى أو الأسفل أقصرَ من أختها، فقلعت القصيرة ينقص من ديتها بقدر نقصانها؛ لأن العادةَ الغالبة أنهما لا يختلفان، وإذا اختلفا، كانت القصيرة ناقصة، فإن انتهى صغَرُ السن إلى أن بطَلَت منفعته، ولم تصلُحْ للمضغ، ففي قلعها الحكومةُ دون الدية، كاليد الشَّلاَّء. وقوله في الكتاب: "كالسنِّ من السِّنْخ في أن حكومَتَها تندرجُ عند الاستئصال" وحقُّ النظْم أن يقال: كالسِّنْخِ من السنِّ. وقوله: "وفيه وجه أنَّه يجبُ لجميعها حكومةٌ، إذا استؤصِلَتْ مع دية"، في اللفظ تقديمٌ وتأخير، والمعنى: يجب لجميعها، إذا استؤصلَتْ حكومةٌ، مع دية أو حكومةٌ مع ديةٌ (¬3)، إذا استؤصلَتْ. قال الْغَزَالِيُّ: وَسِنُّ الصَّبِيَّ فَضْلَةٌ كَشَعْرِهِ فَلَيْسَ فِيهِ أَرْشٌ وَلا قِصَاصٌ إِلاَّ إِذَا بانَ ¬
بالآخِرَةِ فَسادُ المَنْبِتِ، فَإذَا ماتَ قَبْلَ التَّبَيُّنِ فَفِي الأَرْشِ وَجْهَانِ لِتَقابُلِ الأَصْلَيْنِ، والمَثْغُورُ إِذَا عَادَ نَادِراً فَفِي اسْتِرْدَادِ الأَرْشِ قَوْلاَنِ، والمُوَضِّحَةُ إِذا الْتَحَمَتْ بِلَحْمٍ جَدِيدٍ لاَ يُسْتَرَدُّ أَرْشُها لأَنَّهُ جَدِيدٌ، والبَطْشُ والبَصَرُ إذَا عَادَ يُسْتَرِدَّ لإنَّهُ الأَوَّلُ، وَقَدْ عَادَ، والسِّنُّ دَائِرٌ بَيْنَهُمَا. قَالَ الرَّافِعيُّ: القيد الثالث: أن تكونَ مثغورةً، فلو قلع سن صبيٍّ، لم يثغر، فقد سبق في "كتاب الجراح" أنه لا يستوفى (¬1) في الحال قصاصٌ ولا ديةٌ؛ لأن الغالب أنها تعود، فهي كالشَّعْرَ يُحْلَق، ولكن ينتظر عودُها، فإن عادت، فلا قصاص ولا دية، وتجب الحكومة، إن بقي شَيْن، وإلا فعلى ما ذكرنا في الحكومات؛ أنه لا يجب شيء، أو يعتبر حال الجناية، وقيام الألم، وإن لم تعد، وفسد المنبت، استوفى القصاص أو الدية (¬2)، فإن مات الصبي قبل أن يتقين (¬3) الحال، ففي وجوب الأرش وجهان، وقيل قولان (¬4): أحدهما: يجب؛ لأن الجناية قد تحقَّقت، والأصل عدم العَوْد (¬5). والثاني: المنع؛ لأن الأصل براءة الذمة، والظاهر أنه لو عاش لعادَتْ، وهذا أقوى (¬6)؛ على ما قالَهُ القاضي ابن كَجٍّ وغيره؛ وعلى هذا فتجب الحكومة، قال في "التتمة": وذلك على طريقة من يعتبر حالة الجناية، وتواصل الألم. ولو قلع قالع سنَّ الصغير وجاء آخر وجنَى على منبته جنايةً أبطلت النبات، قال الإِمام: لا وجه لإيجاب الأرش على الثاني ولا عليهما؛ أما الأوَّل، فيجوز أن يقال بوجوبه عليه، ويجوز أن يقتصر على الحكومة، ولو سقطَتْ سنه بنفسها، ثم جنى جانٍ، وأفسد المنبت، فيجوز أن يقال بوجوب الأرش على الثاني؛ لأنه أفسد المنبت، ولم يسبق جناية يُحالُ الفساد عليها. ولو قلع سنّ مثغور، فأخذ منه الأرش، فعادت السنُّ على ندرة عودها، فهل يسترد الأرش؟ فيه قولان؛ بناء على أن ما يعود يقام مقام الأول، ويجعل كأنه لا فوات، ¬
أو يجعل العائدُ نعمةٌ جديدةٌ خوَّلها الله تعالى بلا توقُّع وانتظار، وقد ذكرنا في "الجراح" قولين، والحالة هذه، في سقوط القصَاص؛ بناءً على المعنيين، والظاهر أنه لا يسقط، وأن الأرش لا يسترد، والموضِّحة إذا التحمت والتأمتْ بعد ما أخذ أرشها, لم يستردَّ؛ كما ذكرنا أنه لا يؤثر في سقوط القصاص، وحكَيْنا عن صاحب "التقريب" وجهًا في الجائفة؛ أنها إذا التحمت، زالَ حكمها، وأن الإِمام رأى طرده في الموضحة، ورأى تخصيصه بما إذا كان الحاصلُ مجرَّد خرق والتئام (¬1) من غير أن يزول لحْمٌ، ويحدث بدله. ولو جنَى على إنسان جناية أذهبتْ بطش يده في الحال، وأخذت الدية؛ لظنِّ الزوال، وحصول الشللِ، ثم قويتَ اليدُ، وصارت تبطش، أو جثَى على عينه، فصار لا يبصر، وأخذت الدية لظنِّ زوال البصر، ثم إنه أبصر (¬2)، فالدية مستردة (¬3)؛ لان الشَّلَل والعَمَى المحقَّقَيْن لا يزولان، وقد تبيَّن لنا بما جرى أنه لا زوال، وأن ذلك الظنَّ كان خطأً، وكذا القول في السمع وسائر المعاني (¬4). وقوله في الكتاب: "فلَيْسَ فيه أرشٌ ولا قصاصٌ إلاَّ إذا بانَ فَسادُ المَنْبتِ" يعني: إذا مضت المدة التي يتوقَّع فيها العَوْد، فلم يعد يحكم بوجوب الأرش أو القصاص، وهذا هو الظاهر، ولكن ذكر صاحب الكتاب في القصاص قولين، وإن (¬5) بان فساد المنبت، فيجوز أن يعلم لذلك الاستثناء هاهنا بالواو، وقوله: "والموضِّحة إذَا التحمَتْ بلحمٍ جديدٍ لا يستردُّ أرشُها؛ لأنه جديد" ذكر اللحم الجديد في التصوير، ثم التعليل بأنه جديدٌ لا يحسن موقعه، ولو قال: إذا التحمَتْ، لا يستردُّ أرشُها؛ لأنَّه جديدٌ، لكان أحسن، والمعنَى الذي التحَمَ، حدث من الغد إلاَّ أنه الأول بخلاف البطْش والبَصَر. وقوله: "والسنُّ دائرٌ بينهما" أعادَ ذكْر السنِّ بعد ذكر القولين وفي عَوْدها؛ إشارة إلى أن السنَّ تلحق في أحد القولَيْن بالموضِّحة، إذا التحمت، وفي الثاني بالبَطْش، إذا عاد. واعلم أن الوجْه المنْقُول في التحامِ الجائفَةِ المجرى في الموضِّحة، إن اختصت بما إذا كان الحاصلُ مجرَّد الخرق والالتَئام، وكما ذكره الإِمام، فلا يجوز أن يعلم له قوله: "لا يستردُّ أرشُها"؛ لأنه صوَّر فيما إذا كان الالتحام بلحم جديدٍ؛ لكن، يجوز أن يُعْلَمَ له قوله في الجراح: "وَلَوْ عادَتِ الموضِّحةُ ملتئمةً، لم يسقط القصَاصُ". ¬
فرع
" فَرْعٌ" لو قلع سنّ صغير، فطلع بعضها، وماتَ الصغيرُ قبل أن يتمَّ نباتها، فعليه من الدية قسْطٌ ما لم ينبت، إن قلنا بوجوب الدية فيما إذا مات قبل النبات، والحكومةُ إن قلنا لا تجب هناك الديةُ، حُكِيَ هذا التصويرُ والتفريعُ عن نصِّ الشافعيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- (¬1)؛ وذلك يقوي رواية من روى الخلافَ في المسألة قولين، وقد حكاهما القاضي ابن كَجٍّ عن "الأم"، ولو قلعها قبل تمام الطلوع آخَر، فعن نصه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه ينتظر بها، إن لم تنبت، فعليه الديَةُ، وإن نبتت، لزمته حكومةٌ أكثر من حكومة القَلْعِ في المرة الأولَى. قال الغَزالِيُّ: وَسِنُّ الشَّيْخِ الهَرِمِ إِذا تَقَلْقَلَتْ فَفِيهَا الأَرْشُ إِذَا كَانَ الظَّاهِرُ ثَباتَها، وَإنْ كَانَ الظَّاهِرُ سُقُوطَها فَقَوْلاَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القيدُ الرابعُ: كونها ثابتةً غير متقلقلة، فإن كانت متحرِّكة، نظر: إن كانت الحركةُ يسيرةً؛ لا تنقص المنافع، لم يؤثر تحريكها في القصاص، ولا في الأرش، وإن كان بها اضطرابٌ شديدٌ, وتحرُّك قويٌّ بسبب مرض أو هَرَمٍ، فينظر؛ إن بطَلَت منفعتها، ففي قلعها الحكومةُ دون الأرشِ، وإن انتقصتْ منافعها، فقد أطلق مطلقون قولَيْن في وجوب الأرش، وقال الإِمام: إن كان الظاهرُ الغالبُ على الظن نباتَها، وجب الأرش بلا خلاف، وكان نقصانُها كالأمراض الحاصِلَة في الأعضاء، وإن كان الغالِبُ على الظنِّ سقوطَها، فهذا موضع القولَيْن: أحدهما: أن الواجب الحكومةُ دون الأرش، لِنُقْصَانِ المنفعة؛ كما في اليد الشَّلاَّء. وأصحُّهما: وجوبُ الأرش؛ لتعلُّق الجمال، وأصل المنفعة بها في المَضْغ، وحفْظِ الطعام، وردِّ الريق، ولا أثر لضعفها؛ كضعف البطش والمشْيِ، ولو ضرب سن إنسان، فتزلزلت وتحرَّكت، نُظِرَ؛ إن سقطت بعد ذلك، وجب الأرش، وإن عادتِ كما كانت، فمنهم من يقول: تجب الحكومةُ، ومنهم من يقولُ: لا يجبُ شيء، ويشبه أن يكون هذا الخلافُ هو الخلافَ المذكورَ فيما إذا اندملَتِ الجراحةُ، ولا نقص ولا شَيْن، وإن بقيت كذلك ناقصةَ المنفعةِ، فالواجب عليه الأرش أو الحكومةُ؟ فيه القولان السابقان، فإن قلعها آخر، فعليه الأرْشُ، أن أوجبنا على الأولِ الحكومةَ، والحكومةُ إن ¬
أوجبنا على الأولِ الأرشَ، ثم عن الشيخ أبي حامد؛ أنا إذا أوجبنا الحكومةَ هاهنا، فتكون الحكومة أقلَّ من الحكومة في السنن المتحرِّكة بالهَرَم، أو المرض؛ لأن النقصان الحاصل ههنا قد غرمه الجاني الأول؛ بخلاف نقصان المرض والهَرَم، وفي "التتمة"؛ أنه ليس على الجاني الثاني إلا الحكومةُ؛ بخلاف ما إذا كان الاضطرابُ لمرض وكِبَر، والاختلال الحاصلُ بالجناية يخالف الاختلالَ الحاصلَ من غير جناية؛ بدليل أنه لو قتل مريضًا انتهى إلى آخِرِ رمقٍ، يلزمه القصاص، ولو انتهى إلَى تلك الحالة بجناية جانٍ، لا يجب القصاص على الثاني، وإذا جنَى على سنٍّ، فاضطربتْ، وانتقصت منفعتها، وقلنا: إنَّ الواجبَ عليه الحكومة، فعاد وقلعها قبل أن يضمن الحكومة، فعليه الأرش بكماله، ولو قلع سنّاً سوداء كاملةَ المنفعة، نُظِرَ؛ إن كانت سوداءَ قبل أن يثغر، وبعده، فعليه كمالُ الأرش، وإنْ كانَتْ في الأصل بيضاءَ، فلما ثغر، نبتت سوداءَ أو نبتتْ [بيضاء]، [ثم اسوَدَّتْ]، فعن نص الشافعيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه يراجع أهل الخبرة، فإنْ قالوا: إن ذلك لا يكونُ إلا لعلَّةٍ حادثةٍ، ففي قلعها الحكومةُ، وإن قالوا: لم يحدثْ ذلك لعلَّة، أو قالوا: مثل هذا قد يكون لمرضِ وعلَّةٍ، وقد يكون لغير ذلك، وجب كمال الأرش، والردُّ إلى الحكومة للمرض، مع كمال المنفعة خلافُ القياس، وإن ضرب على سِنَّة، فاسودَّتْ، فالواجب فيه الأرشُ أو الحكومةُ؛ نقل المزنيُّ اختلافَ نصٍّ فيه، وذكر الأصحاب طريقين: أحدهما؛ وبه قال المزنىُّ، وابن سلمة، وابن الوكيل: أن فيه قولين: أحدهما: يجبُ الأرش؛ لأنه أذهبَ روُحَ العضو وطراوته، فصار كما إذا أشلَّ (¬1) اليد، ويحكَى هذا عن أبي حنيفة، ومالك. وثانيهما: تجب الحكومة؛ لأن الفائت الجمالُ دون المنفعة، فأشبه ما إذا جنَى على يده، فاسوَدَّتْ. وأصحُّهما، وبه قال أبو إسحاق، وابن أبي هريرة، وعامَّة الأصحاب: تنزيلُ النصَّيْن على حالين، إن فاتت المنفعةُ مع الاسوداد، وجب تمام الأرش، وإلا فالواجبُ الحكومة، ولو اخضرت السنُّ بجناية (¬2)، أو اصفرَّتْ، وجبت الحكومة (¬3)، وحكومةُ الاخضرار أقلُّ، وحكومةُ الاصفرار أقلُّ. واعلم أن قوله في أول الضبط: "غير متقلقلة ¬
بالهَرَم" إشارةٌ إلى هذا القيد الرابع، لكن الحكم لا يختص بالهرم، بل التقلقل بالمرض في معناه، ولو لم يتعرَّض للهرم، أو قال بالهَرَم ونحوه، لكان أحسن. قال الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَلَعَ جَمِيعَ الأسْنَانِ فَكَانَتِ اثْنَيْنِ وَثَلاَثينَ لَمْ يَجِبْ إلاّ مائةٌ مِنَ الإِبِلِ فِي قَوْلٍ كَيْلا يَزِيدَ عَلَى الدِّيَةِ، وَفِي قَوْلٍ مائَةٌ وَسِتُّونَ لِكُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ، فَإِنْ قُلْنا بِالمائَةِ فَذَلِكَ عِنْدَ اتِّحَادِ الجانِي وَالْجِنَايَةِ، فَلَوِ اقْتَلَعَهَا مُتَفَرِّقاً مَعَ تَخَلُّلِ الانْدِمَالِ فَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنَ الإِبِلِ، وَإِنْ كانَ عَلَى التَّعَاقُبِ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ، والجِنايَةَ المُتَّحِدَةُ أَنْ يَسْقُطَ الكُلُّ بِضَرْبةٍ واحِدَةٍ. قَالَ الرَّافِعيُّ: الأَسْنَانُ في غالب الفطْرَة اثنتانِ وثَلاثُون، أربعٌ منها ثنايا، وهي الواقعةُ في مُقَدَّم الفم اثنتان من الأعلَى، واثنتانِ من الأسْفَل، ويليها أربعٌ من الأعلَى، والأسفل يقال لها الرَّبَاعِيَات، ثم أربعٌ ضواحِكُ، وأربعة أنياب، وأربعة نواجز، واثنا عشرة أَضْرَاسٌ، ويقال: لها الطَّوَاحِن، وفي قلع الواحدةِ منها خَمْسٌ من الإِبل؛ على ما سبق، ولو قلع عددًا، وجب ما يقتضيه الحساب ما لم يجاوز عشرين، فإن جاوز عشرين، فقولان: أحدهما: لا يجب عليه إلا مائةٌ من الإبل؛ لأن الأسنان [من] جنسٍ متعدِّد من الأجزاء والأطراف؛ فلا يضمن بأكثر من دية النفس؛ كالأصابع وسائر الأعضاء. وأصحُّهما: أنه يجب لكل واحدة خِمسٌ من الإبل؛ حتى إذا كانت اثنتين وثلاثين، فيجب مائة وستُّون من الإبل؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "فِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنَ الإبِلِ"، وعن أبي حفْصِ بنِ الوكيلِ، وغيره القطْعُ بالقول الثاني، فيجوز أن يُعْلَم لذلك قوله في الكتاب: "لم يجِبْ إلا مائةٌ من الإبل" في قولٍ بالواو، وهذا الخلافُ فيما إذا اتحد الجاني والجنايةُ، فأما إذا تعدَّد الجانِي؛ كما إذا قلع واحدٌ عشرين سنّاً، وقلع آخر ما بَقِيَ، فعلَى كلِّ واحدٍ أرْشُ ما قلعه. وِلو اتحد الجاني، وتعدَّدت الجناية، نُظِرَ؛ إن تخلَّل الاندمال بأن قلع سنّاً، وتركه حتى بَرَأت اللِّثة، وزال الألم، ثم قلع سنّاً أخرى، وهكذا إلى استيعابِ الأسنان، فعليه أرشٌ كاملٌ لكل سنٍّ، وإن لم يتخلَّل الاندمال، ففيه طريقان: أحدهما: القطع بوجوب أرشٍ لكلِّ سنٍّ؛ لتعدد الأفعال. وأظهرهما: أنه على قولَيْن؛ لأن الجنايتين قبل الاندمال بمثابة الجناية الواحدَةِ، وصورةُ الجناية الواحدة أن يسقطها جميعًا بضربة واحدة أو يسقيه دواءً يسقطها، وقوله في الكتاب: "ولو قلع جميع الأسْنانِ، وكانت اثنتَيْنِ وثلاثين" فيه إشارةٌ إلى أنها قد تزيدُ عَلَى هذا العدد، وقد تنقص، وإذا زادَتْ، ففي كتاب القاضي ابن كَجٍّ ما يخرَّج منه وجْهَان:
أحدهما: أنه يجب لكلِّ سنٍّ مما زاد أرشٌ أيضًا لظاهر الخبر. والثاني، عن رواية أبي الحُسَيْن: أن الواجب لما زاد الحكومةُ؛ لأن الغالب في الأسْنَان هذا العددُ، فالزائد عليه كالأصبع الزائدة. قال الغَزاليُّ: الثَّامِنُ اللَّحْيَانِ وَفِيهِما كَمَالُ الدِّيَةِ، وَإِنْ كانَ عَلَيْهِما الأَسْنَانُ لَمْ يَنْدَرجْ دِيَةُ الأَسْنَانِ عَلَى الأَظْهَرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في اللَّحْيَيْنِ الديةُ؛ لما فيها من كمال المنفعة والجَمَال، وفي أحدهما، إن ثبت الآخر، ونصف الدية، واللَّحْيَان هما العَظْمان اللَّذان عليهما تنبت الأسنان السفْلَى، وملتقاهما الذَّقَن، وقال أبو سعد المتولِّي: وفي إيجاب الدية في اللَّحْيَين إشكالٌ؛ لأنه لم يردْ فيه خبر، والقياسُ لا يقتضيه بل اللَّحْيُ من العظام الداخلةِ، فيشبه التَّرْقُوَةَ والضِّلَعَ، وأيضًا: فإنه لا دية في السَّاعد، والعَضُد، والسَّاق، والفَخِذ، وهي أيضًا عظامٌ فيها جمال ومنفعة، ثم إن لم يكن على اللَّحْيَيْن أسنانٌ، فذاك، وهو كَلَحْيتَي الطفلِ قبل نبات الأسنان، ولُحْييَ الشيخ بَعْد تناثرها، ولَحْيَيَ من سقطت أسنانُه باقةٍ أوَ جنايةٍ, وإن كانت (¬1) عليها أسنان (¬2)، فوجهان: أحدهما: أنه لا يجب إلا ديةُ اللَّحْيين، ويدخل فيها أروشُ الأسنانِ إتباعاً للأقل الأكثرَ؛ كما تدخل حكومةُ الكَفِّ في دية الأصابع. وأصحُّهما: أنه يجب دية اللَّحْيين، وأروش الأسنان عليه، والمَبْلَغ إذا كانت الأسنان ستَّ عَشْرة على الغالب -مائةٌ وثمانون من الإبل؛ وذلك لأنَّ كلَّ واحد من العضوين مستقلٌّ برأسه، ولكل واحد منهما بدلٌ مقدَّر، فلا يدخل أحدهما في الآخر؛ بخلاف اليد وجميع الأصابع، وأما الأسنان العلْيا، فمنبِتُها عظم الرأس، فلو قلع منها شيئًا من العظم، فعليه الحكومةُ مع الأَرْش. قال الغَزالِيُّ: التَّاسِعُ: اليَدَانِ وَفِيهِمَا مَعَ الكَفِّ كَمالُ الدِّيَةِ وَتَكْمِلُ الدِّيَةُ بِلَقْطِ الأَصَابعِ فَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ، وَلَوْ قَطَعَ مَعَ السَّاعِدِ أَوِ المِرْفَقِ أَوِ العَضُدِ فَيَجِبُ حُكُومَةِ السَّاعِدِ والعَضُدِ وَلا يَنْدَرجُ بِخِلاَفِ الكَفِّ، وَفِي كُلِّ أُنمُلةٍ ثُلُثُ الْعُشَرِ إِلاَّ فِي الإِبْهامِ فَهِيِ. أنْمُلَتانِ وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الأَرْشِ، فَإِنْ كانَ عَلَى العَظْم كَفَّانِ باطِشَانِ فَفِي الزَّائِدَةِ حُكُومَةٌ، فَإنْ كانَتْ إِحْداهُمَا مُنْحَرِفَةً عَنِ السَّاعِدِ أَوْ ناقِصَةً بِأصْبُع أَو ضَعِيفَةَ البَطْشِ فَهِيَ الزَّائدَةُ، فَإنْ كانَتْ المُنْحَرِفَةُ أَقْوَى بَطْشاً فَهِيَ الأَصْلِيَّةُ والَّتِي عَلَيْهَا أُصْبُعٌ زائِدَةٌ تُجْعَلُ ¬
زائِدَةً في أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، فَإنْ تَسَاوَيا فَفِي كِلْتَيْهِما دِيَةٌ وَحُكُومَةٌ، وَلا قِصَاصَ في إحْداهُما، وَفِيها نِصْفُ دِيَةِ اليَدِ وَزِيَادَةُ حُكُومَةٍ لأَنَّهُ نِصْفٌ فِي صُورَةِ الكُلِّ، وَلَوْ قُطِعَتِ اليَدُ الباطِشةُ فاَشْتَدَّتِ اليَدُ الأخْرَى بِالقَطْعِ وَبَطَشَتْ فَفِي اسْتِرْدادِ الأَرْشِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يجب بقطع اليدين الديةُ بالإجماع، وعن معاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "وَفِي اليَدَيْنِ الدَّيَةُ، وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إِحْدَاهُما نِصْفُها" (¬1)؛ روي في كتاب عِمْرِو بن حَزْمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "في اليَدَيْنِ مائَةٌ مِنَ الإِبِلِ، وَفِي اليَدِ خَمْسُونَ" (¬2) وتكمل الدية بِلَقْطِ الأصابع؛ لما روي: "فِي كُلِّ أُصْبُع مِنْ أَصَابعِ اليَدِ وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ"، ولو قطع من الكوع، فالواجبُ هو الواجبُ فَي لَقْطِ الأصابعِ، وحكومةُ الكف تدخلُ في ديتها، ولا يزاد بسبب الكف شيء (¬3) ولو قطع (¬4) بعض الساعد، أو المرفَقِ، أو المنكب، وجب حكومتها مع الديةِ، بخلاف الكَفِّ؛ لأنَّ الكف مع الأصابع كالعضو الواحد؛ ألا تَرَى أن أصل الكف يأخذ في الانشعاب والانقسام الظاهر في الأصابع، وبهما جميعًا يتمُّ البطش، وعليهما يقع اسم اليدِ والساعدِ والعضدِ، وخلقتهما (¬5) تخالفُ خلقةَ الكفِّ والأصابع، هذا هو المذهبُ، وعن أبي عُبَيْدِ بن حربويه، أن نهاية اليد التي يجبُ فيها الديةُ، الإبطُ والمَنْكِب، ويجب فيما دون ذلك قسْطُه من الدية؛ واحتجَّ الأصحاب لوقوع اسم اليدِ على الأصابع والكفِّ؛ بقوله تعالَى في حد السرقة: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فقطع رسول الله -صلى الله عليه وسلمِ- السارق من الكوع (¬6)، ويجوز أن يُعْلَم للوجه المذكور من لفظ الكتاب قوله: "وَتَكْمُلُ الدِّيَةُ بِلَقْطِ ¬
الأصابع". وقوله: "فَيَجِبُ حكومةُ الساعِدِ والعَضُدِ"، "وأَرْش كُلِّ أصبع" وحْدَها عَشْرٌ من الإِبل يستوي في ذلك جميعُ الأصابع، روي في كتاب عَمْرو بن حَزْمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "وَفِي كُلِّ أصْبُعٍ مِمَّا هُنالِكَ عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ"، وفي كل أنملة ثلثُ أرش الأصبع؛ لأن كل أصبع ثلاثُ أناملَ، إلا الإبهام، فهي أنملتان، ففي كلِّ واحدة نصف الأرش، وعن أبي حنيفة ومالك؛ أن في كل واحدة ثلثَ الأرش، وهي ثلاثُ أنامل أيضًا، إلا أن إحداهما غائصةٌ، ولو انقسم أصبع بأربع أنامل متساوية، ففي كل واحدة ربع الأرش. والذي ذكرناه من اندراج حكومةِ الكَفِّ، موضعُهُ ما إذا قطع مِنَ الكُوع وأبَانَ الأصابعَ والكَفَّ بجناية واحدة (¬1)، فأما إذا قطع واحدٌ الأصابعَ، وآخرُ الكفَّ أو وقطع الأصابعَ، ثم قطع الكف بَعْد الاندمال، أو قبله، فعلَى ما ذكرنا في فصل الأسنان. وقوله في الكتاب: "وَفِي كُلِّ أنملةٍ ثُلُثُ العَشْرِ" الأحسنُ أن يقرأ ثلث العَشْرِ بفتح العين؛ لأنه تقدم قوله: "عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ"، ويمكن أن تضم العينُ، ويراد عُشْر الدية. إذا كان على مِعْصَم إنسانٍ كَفَّان مع الأصابع، أو على العَضُد ذراعانِ وكفان، أو على المنكب عضُدَانِ وذراعانِ وكفان مع الأصابع، نُظِرَ؛ إن لم يبطشْ بواحدة منهما، فليس فيهما قصاصٌ ولا ديةٌ، وإنما الواجبُ فيهَما الحكومةُ؛ كاليدِ الشَّلاَّء, وإن كان فيهما بطْشٌ، فإن كانت إحداهما أَصْلية، والأُخْرَى زائدة، ففي الأصلية القصاصُ أو الديةُ، وفي الزائدة الحكومةُ، وطريقُ تمييز الزائدة عن الأصلية بأن (¬2) ينظر، إن اختصَّت إحداهما بالبَطْش أو بقوَّة البطش، فهي الأصلية، ولا فرق بين أن تكُونَ الباطشة، أو التي هي أقوَى بطشا على استواء الذراع أو منحرفةً عنه؛ لأن اليد خلقتْ للبطش، وهي أقوى دليلٍ على كونها أصليةٌ، وإن استويا في أصل البطش، وكيفيَّته، فإن كانت إحداهما مستويةً، والأخرى منحرفةً فالمستويةُ الأصليَّة، وإن كانت إحداهما كاملةُ الأصابع، والأخرَى زائدة، ففيه وجْهَان عن القاضي الحُسَيْن؛ أنَّ المعتدلة هي الأصليَّة؛ لأن الزيادة على الكمال نقصانٌ، وقال الأكثرون: لا يؤثَّر ذلك في التمييز (¬3)، فإن اليد ¬
الأصليَّة كثيرًا ما تشتملُ على الأصبع الزائدة، والزيادة على القوة أدلُّ منها على الضعْفِ، ولو كانت إحداهما ناقصةٌ بأصبع، لكنها مستوية، والأخرى كاملةُ الأصابعِ، لكنها منحرفة، فأيتهما الأصليَّة، فيه احتمالٌ عند الإِمام، وإن لم تتميَّز (¬1) الزائدةُ عن الأصلية بوجْهٍ من الوجوه، فهما كَيَدٍ واحدةٍ؛ حتى يجب في قطعهما القصاص أو كمال الدية، ويجب مع القصاص أو الديةِ حكومةٌ لزيادة الصورة، وعن المزنيِّ؛ أنه لا قصاص بقطعهما؛ لنقصانهما وتشوُّه خلقهما، ولو قطعت إحداهما، لم يجب القصاصُ، ويجب فيها نصفُ دِيَةِ يد وزيادةُ حكومة؛ لأنها نصف في صورة الكلِّ، قال في "الوسيط": هذا ما قيل، وجعلُها نصفاً مع احتمال كونها زائدةً مشكلٌ، وهذا يشير إلى أن يقال إحداهما أصلية، والأخرَى زائدة، ويؤخذ في الأحكام باليقين، وفي كتاب القاضي ابن كج عن أبي الحُسَيْن روايةُ وجه؛ أنه لا يجب الحكومةُ مع نصف الدية، فيجوز أن يُعْلَمَ لذلك قولُه في الكتاب "وَزِيادَةُ حُكُومةٍ" بالواو، والظاهر الأول، وإذا قيل به، فلو قطع أصبع منها، ففيه نصفُ ديةِ أصبع وزيادةُ حكومة، ولو قطعتْ أنملة، فنصفُ ديةِ أنملةٍ، وزيادةُ حكومةٍ، ولو عاد الجانِي بَعْد قطع إحدى اليَدَيْن، وأخذ الأرش، والحكومة منه، وأراد المجنيُّ عليه القصاصَ، ورد ما أخذه إلى قَدْر الحكومة، هل له ذلك؟ فيه وجهان منقولاَنِ في "النهاية": أحدهما: لا؛ لأن القصاص يتعلق بقطعِ اليدين جميعًا، وقد سبق منه أخذ الأرش عن إحداهما، وأخذُ الأرش يتضَّمن إسقاط القصاص, ولا عود إلى القصاص بعد إسقاطه. والثاني: نعم؛ لأن القصاصَ لم يكن ممكناً حينئذ، وإنما أخذ الأرش؛ لتعذُّر استيفاء القصاص، لا لإسقاطه (¬2)، فإذا قطع الثانية، حصل الإمكان، ولو قطع صاحب اليدين الباطشتَيْن يدَ معتدلٍ، لم تقطع يده للزيادة، وللمجنيِّ عليه أن يقطع إحداهما، ويأخذ نصف دية اليد ناقصاً بشيء، وإن بادر وقطَعَهُمَا، عُزِّر، وأخذت منه الحكومة للزيادة، وإن كانت إحدَى يدَي القاطع زائدةٌ، وأمكن إفراد الأصلية بالقَطْع، قطعت، ولم يلزمه شيء آخر، وإنْ عرَف أن إحداهما زائدة، ولم يعرف عَيْنُها (¬3)، لم تقطع واحدةٌ منهما كذلك، حكاه القاضي الرُّويانيُّ، ولو كانت إحدَى يدَي الشخْصِ باطشة دون الأخرى، فقطعت الباطشةُ، واستوفينا ديتها، فصارت الأخرَىَ باطشةً أو كانتْ ¬
ناقصةَ البطش، فقوي بطشها؛ فقد تبيَّن أن الباقية هي الأصليةُ، حتى لو قطَعَها قاطعٌ، يلزمه القصاص، أو كمال الدية، وهل يستردُّ من المجنىُّ عليه الأرشَ، فيرد إلى مقدار الحكومة؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، وإلا فقد قدرنا الأولَى أصليةً، والثانية أصلية، ولا تجتمع أصليتَان على مِعْصَمٍ واحد. وأظهرهما: أنه لا يتبع ما مضَى، وهذه نعمةٌ من الله تعالَى، وقرب بعضهم الخلافَ من الخلاف في عَوْد السنِّ، وفرق بينهما فَارِقُون، وقالوا: السنُّ تعودُ في محلِّ الجناية، والبطش ههنا حصل في غير محلِّ الجناية، ولو كانت اليدان باطشتَيْنِ على السواء، فقطعت إحداهما، وغرمنا القاطع نصفَ ديةِ اليدِ، وزيادةَ حكومةٍ، فإن زادتْ قوة الأولَى, واشتد بطشها، فهل يستردُّ من أرش الأولَى ما يرده إلى قدر الحكومة؟ فيه مثل هذا الخلافِ، وإن ضعُفَت الثانية، لما قطعت الأولَى، وبطَلَ بطْشُها، عرفنا أن الأصلية هي المقطوعَة، فعَلَى قاطعها القصاصُ أو كمالُ الدية؟ قال القاضي ابن كَجٍّ: ويحتمل أن يقال: لا يجبُ القصاص؛ لأن الضعْفَ الذي حدَثَ يحتملُ أن يكون لسراية ألَمٍ أو علةٍ حادثةٍ، لا لكونها زائدة. قال الْغَزَالِيُّ: العَاشِرُ التَرْقُوَةُ والضِّلَعُ فَفِي كَسْرِ كُلِّ ضِلَعٍ جَمَلٌ تَقْلِيدًا لَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَحُكُومَةٌ عَلَى قَوْلٍ آخَرِ قِيَاساً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا تكمل الديةَ في كَسْر الضِّلْع والتَّرْقُوَةُ، إذْ لم يردْ فيهما توقيفٌ, ولا هما في معنَى ما وردَ التوقيفُ فيه، بل هما شبيهانِ بسائر العظام الباطنةِ؛ كعظم الساق والفَخِذ، والترقوة: العظْمُ المتَّصلُ بين المنكب وثُغْرة النَّحْر، ولكلِّ واحدٍ ترقوتان، وما الذي يجبُ في كسرهما؛ عن نصِّ الشافعيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في "اختلاف الحديث" وغيره؛ أن فيه جَمَلاً وفي "الأم" وغيره؛ أن فيه حكومةً، وفيهما طريقانِ للأصحابِ: أحدهما، وبه قال المُزَنِيُّ، وصاحبُ "الإِفصاح":أنَّ فيه قولَيْن: القديم، وبه قال أحمد: أنه يجب فيهما (¬1) جَمَلٌ؛ لما روِيَ عن عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ (¬2). ¬
والجديدُ: أن واجبه الحكومةُ؛ كما في سائر العظام، فإن انجبر ولا شين، ولا اعوجاج، فقد مَرَّ حكمه. والثاني، وبه قال أكثرهم: القَطْع بأنَّ الواجب فيه الحكومة، وحملوا ما رُوِيَ عن قضاء عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى أن الحكومة في الواقعة كانَتْ قدر جَمَلٍ. ويجوز أن يعلم لفظ "الجَمَل" في الكتاب بالحاء والميم، ولفظ "الحُكُومة" بالألف، وقد يوهِمُ نظم الكتاب ترجيحَ قول الجمل، والظاهر عند عامة الأصحاب القَوْل الآخر. قال الغَزالِيُّ: الحادِي عَشَرَ الحَلَمَتانِ مِنَ المَرْأَةِ فِيهِمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَفِي حَلَمَتَي الرَّجُلِ قَوْلاَنِ إِذْ لاَ مَنْفَعَةٌ لَهُمَا. قَالَ الرافِعِيُّ: في حلمتَي المرأة تمامُ ديتها؛ لما فيهما من الجَمَالِ، ومَنْفَعَة الإِرضاع، وفي إحْداهُما نصْفُها، والحَلَمة هي رأْس الثدْي الذي يلتقمُهُ المرتَضِعُ، ويقال: المجتمعُ ناتئاً على رأس الثدْي، وهذه العبارةُ أحسنُ؛ لتناولها حَلَمَةَ الرجل، قال الإِمام: ولونُ الحَلَمة في الغالب يخالِفُ لون الثدْي، وحوالَيْها دائرةٌ على لوْنها، وهي من الثَّدْيِ، لا من الحلمة، ولو قطع الثَّدْي (¬1) مع الحلمة، لم يجب إلا الدية، ويدخلُ فيها حكَومةُ الثدْي، وفيه وجهٌ قدَّمناه، وعن الماسرجسيِّ نقله قولاً (¬2)، ولو قطع مع الثدْي جلدةَ الصدر، وجبت حكومة الجِلْدة، مع الدية، بلا خلاف، وإن وصلت الجراحةُ إلى الباطن، وجب مع دية الثدْيِ أرشُ الجائفة، وفي حلمتَي الرَّجُلِ طريقان: أظهرهما: أن فيهما قولَيْنِ: أحدهما: أنه يجبُ الدية؛ كما في المرأة؛ إلحاقاً باليد والرِّجْل، وغيرهما. وأصحُّهما: أنه لا يجب إلا الحكُومة؛ لأنه ليس في حَلَمة الرَّجُل منفعةٌ مقصودةٌ وإنما فيها جمالٌ مجرَّد، ويقال: هذا منصوصٌ، والأول مخرَّج. والثاني: القطْعُ بالقول الثاني. ولو قَطَع مع حلمة (¬3) الرَّجُل الثَّنْدُوَةَ، ففي "التهذيب"؛ أنا إنْ أوجبنا الديَةَ في حَلَمَتِهِ (¬4)، دخلَتْ فيها حكومةُ الثندوة، وإلا وجبتْ حكومتهما معًا، وقال الإِمام: تحْتَ ¬
فرعان
حلمة الرجل، إن لم يكُنْ هَزِيلاً، لحمةٌ تسمَّى الثَّنْدُوَة، وليست هي من الحَلَمَةِ بمنزلة ثَدْيِ المرأة من حلمتها، فإنهما من المرأة كالعضوِ الواحدِ، وليست تلك اللحمةُ مع الحَلمة كذلك، فتفرد الثندوة بالحكومةِ؛ بلا خلاف، وفي "جمع الجوامع" للرُّويانيِّ نحوٌ من هذا الكلام، يقال ذكره الصيدلانيُّ من عنده، وهو صحيح، إن شاء الله تعالَى. " فَرْعَان" أحدهما: تقطع حلمةُ المرأة بحلمة المرأة، وفي "التتمة" وجه؛ أنه إن لم يتدلَّ الثديُ، لا يجب القصاص؛ لاتصالها بلحم الصدر، وتعذُّر التمييز، والمشهورُ الأول، قال في "التهذيب": ولا يجري القِصاص في الثدْي؛ لأنه لا يمكن رعايةُ المماثلة فيه، وللمجنيِّ عليها أن تقْطَع الحلمة، وتأخذ حكومة الثدْي، ولك أن تمنع القولَ بأنه لا يمكنُ رعايةُ المماثلة فيه، وتقول: الثدْيُ هذا الشاخصُ، وهو أقرب إلى الضبْطِ من الشفتَيْن والألْيَتَيْنِ ونحوهما: وتقطع حلمة الرجل بحلمة الرجل إن أوجبنا فيهما الدية أو الحكومة، وتقطع حلَمَة المرأةِ بحلَمَة الرجُلِ، وبالعكس إن أوجبنا في حلمة الرجلِ الديةَ، وإن أوجبنا فيها الحكومةَ لم تقطع حَلَمة المرأة بحَلَمة الرجُلِ، وإن رضيتْ؛ كما لا تقطع الصحيحة بالشَّلاَّء وتقطع حلَمَةُ الرجل بحلمةِ المرأة، إن رضيتْ؛ كما تقطع الشَّلاَّء بالصحيحة, إذا قنع المستحِقُّ بها. الثاني: سبق في الطهارات ذكر وجهَيْن في أنه هَلْ يستدلُّ بنهود الثدْي، وتدليه (¬1) على أنوثة الخنثَى: أحدهما، ويحكَى عن أبي علي الطَّبَرِيَّ: نعم، وبه قال الأكثرون: لا، فإن قطعهما قاطع، قال في "البيان": إن قلنا بقول أبي عَلِيٍّ، فعليه ديةُ امرأة، وإن قلنا بقول الأكثرين، فإن قلنا: يجب في ثَدْي الرجلِ الديةُ، فتجب ديةُ امرأة؛ أخذًا باليقين، وإن قلنا: تجب الحكومةُ، فالواجب عليه الحكومةُ. فرع ثالث: لو ضرب ثدْي المرأة، فشَلَّت، فعليه الدية، ولو كان ناهداً، فاسترسل ثديها ,لم يجب إلا الحكومة؛ لأن الفائت مجرَّد الجمال، ولو استرسل بالضَّرْب ثدْيُ الخنثى، ولم يجعل نهود (¬2) الثدي أمارة الأنوثة، ففي "البيان" أن القاضي أبا الفتوح قَالَ: لا تجبُ الحكومة؛ لجواز أن يكون رجلاً، فلا يلحقه نقص بالاسترسال، ولا يفوتُ جمال؛ فإن بان امرأةً، وجبت الحكومة. ¬
وقوله في الكتاب: "كمال الدية" يعني ديةَ المرأةِ، فليعلم لفظ القولَيْن بالواو؛ لطريقة القطعَ [والله أعلم]. قال الْغَزَالِيُّ: الثَّانِيَ عَشَرَ الذَّكَرُ والأُنْثُيَانَ وَفِيهِمَا دِيَتانِ، وَفِي ذَكَرِ الخَصِيِّ والْعِينّينِ دِيَةٌ، وَفِي ذَكَرِ الأشَلِّ حُكُومَةٌ، وَتَكْمَلُ بِقَطْعِ الحَشَفَةِ وَلا يَزِيدُ بِالاسْتِئْصالِ، وَفِيهِ وَجْةٌ آخَرُ أنَّهُ يَزِيدُ حُكُومَةً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الذكَرِ كمالُ الدية، وكذلك في الأُنْثَيَيْنِ؛ لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ في كتاب عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفِي الأنْثَيَيْنِ الدِّيَةُ"، ويروى "وفي البَيْضَتَيْنِ"، وفي إحدى الأُنْثَيَيْنِ نصفُ الديةُ يستوي اليمنى (¬1) واليسرى، ولا فرق بين ذكَر الصغيرِ والكبيرِ، والشيخ والشابِّ، والعِنِّينِ والخَصِيِّ، وغيرهم، وعن أبي حنيفةَ؛ أن ذكر الخصيِّ لا يجب فيه إلا الحكومةُ، وبنى على ذلك؛ أنه لو قطع قاطع أنثَيَيْهِ، ثم ذكَرَهُ، فعليه ديةٌ وحكومةٌ؛ لأنه حين قطعِ الذَّكَرِ خُصِيَ، وإن قطعهما معًا أو قطع الذكر قبل الانثيَيْنِ، فعليه ديتان، وروى القاضي الرويانيُّ مثله عن مالك؛ واحتجَّ الأصحاب بإطلاق الخبر، وبأن ذكَر الخَصِيِّ سليم، وهو قادرٌ على الإِيلاج، وإنما الفائتُ الإِيلاد، وبأنهما عضوانِ يضْمَن كل واحد منهما بالدية، ففوات أحدهما لا يوجبُ نقصان بَدَلِ الآخرِ؛ كالشفتَيْنِ واللِّسان، وفي الذكر الأشلِّ حكومةٌ؛ كما في اليد الشَّلاَّء ولو ضرب ذَكَرَهُ حتى شلَّ، فعليه الدية، ولو خرج عن أن يمكنه الجماعُ به من غير شَلَلٍ، وتعذَّر انقباضٌ وانبساطٌ، ففي "الشامل"، و"التهذيب" وغيرهما؛ أن عليه الحكومة؛ لأن العضْوَ ومنفعته باقيان، والخلل في غيرهما، وعلى هذا، فلو قطعه قاطعٌ بعد ذلك، فعليه القصاص، أو كمالُ الدية، والمسألةُ غير صافيةٍ عن الإشكال، وربما نَعُود إليها، وتكمل الديةُ بقَطْع الحَشَفة؛ لأن معظم منافع الذَّكَر، وهو لذَّةَ المباشرة، يتعلَّق بها، وأحكام الوطء تدور عليها، فهي كالأصابع مع الكفِّ، وفي قطع بعض الحَشَفَةِ قسْطُهُ من الدية، فالتقسيط يكون على الحشفة خاصَّة، أو على جملة الذكَرِ؟ فيه خلاف، وقد تقدم، وذكر في "التتمة"؛ أن هذا إذا لم يختلَّ مجرى البَوْل؛ بأن قطع بعض الذكر طولاً، أما إذا اختلَّ، فعليه أكثر الأمرين من قسْطه من الدية، وحكومة فساد المجرَى، وأنه لو قطع جزءًا من الذكَرِ مما تحْت الحَشَفة، فإن انتهتِ الجراحة إلى مجرى البَوْل، فقد مرَّ الخلاف في أنَّها هل تكون جائفةٌ، وإن لم تنته، فإن قلنا في قطع بعض الحشفة؛ إنَّ التقسيط على الحشَفة وحْدَها، فعليه الحكومةُ ههنا، وإن قلنا: التقسيطُ على جميع الذَّكَر، فعليه قِسْطُ المقطوع من الدية، وأنه إذا لم يَبِنْ شيئًا من ¬
الذكَرِ، ولكن شقَّه طولاً، زالت منفعُتهُ بذلك، وجبتِ الدية، كما في الشَّلَل، ويجب في بقية الذَّكَر وحْدها الحكومةُ، وفي استئصالِ الكلِّ الديةُ، وتدخلُ حكومةُ البقيَّة في دية الحَشَفة، وفيه وجه أنه يجب دية وحكومة، والمسألة مكرَّرة مذكورةٌ مرَّة في فصل الأسنان. قال الغَزالِيُّ: الثَّالِثَ عَشَرَ: الألْيَتَانِ وَفِي قَطْعِ ما أَشْرَفِ مِنْهُمَا عَلَى البَدَنِ كَمَالُ الدِّيَةِ وَإِنْ لَمْ يُقْرعَ العَظْمُ. قَالَ الرافِعِيُّ: في الألْيَتَيْنِ الديةُ؛ لما فيهما من الجمال، والمنفعة الظَّاهرة في القُعُود والركوب وغيرهما، وفي إحداهما نصفُها، والأليَةُ هي القَدْر الناتئ المُشْرِف على استواء الظهر والفخذ، فيجب بقطعه الديةُ، ولا يشترط قرع العظم وإيصال الحديدة إليه، ولو قطع بعض إحداهما، وجب قسْط المقطوع، إن عرف قدره، وأمكن الضبط، وإلاَّ فالواجب الحكومة، ولا فرق في ذلك بين الرجُل والمرأة، ولانظر إلى اختلافِ القَدْر الناتئ، واختلاف الناس فيه كاختلافهم في سائر الأعضاء. ولو قطع ألْيَتَهُ، فنبتت والتحم الموْضِع، قال في "التهذيب": لا تسقط الدية على ظاهر المذهب، كالموضِّحة، إذا التحمت. قال الغَزالِيُّ: الرَّابعَ عَشَرَ: الشُّفْرَانِ وَفِيمَا أَشْرَفَ مِنْهُمَا عَلَى المَنْفَذِ دِيَةُ الَمَرْأَةِ وَهُوَ القَدْرُ النَّاتِئُ عِنْدَ الانْطِبَاقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في شُفْرَي المرأةِ الديةُ؛ لأن فيهما جمالاً ومنفعةً؛ فإن بهما يقع الالتذاذُ بالجِمَاع، وفي إحداهَما نصفُ الدية، ويستوي في ذلك السمينة والهزيلةُ، والبكر والثيبُ، والرتقاء والقَرْناء، فإن النقصان والخَلَل في حقِّهما في داخل الفَرْج، لا في الشُّفْرَين، وكذلك لا فرق بين المختونة وغيرها، فإن الختانَ لا يَرِدُ على الشُّفْرين، والشُّفران: هما اللحمان المشرفانِ على المنفذ، ويقال: هما اللحمانِ المحيطانِ بالفَرْجِ إحاطةَ الشفتين بالفَم، وعبَّر الشافعيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن الشُّفْرِين بِالأَسْكَتَيْنِ، قال أبو النصر بْن الصَّبَّاغ وَغيره: أهلُ اللغة يقولون الإسْكَتَانِ حاشيتا الفرج، والشُّفْرانِ (¬1) هما الطرفانِ المشرفان، ويقال: الشُّفْران هما القدر الناتئ عند الانطباق من اللحمين المحيطَيْن بالفَرْج، والعبارات كلُّها ترجع إلى شيء واحد، ولا خلاف في الحقيقة، قال الإِمام: ولو ظن ظانٌّ أنَّ قطع الشُّفْرين هو الذي يزيلُ انطباق أحدهما على الآخر، فهذا لا يتأتى تصويره (¬2) إلاَّ مع قطع لحمٍ كثيرٍ في الباطن، ولا ريب أن العلماء لم يريدُوا ¬
بالشُّفْرين ذلك، ولو جنَى على شُفْرَيْها، فَشَلَّتَا؛ فعليه كمالُ الدية، ولو قطع مع الشُّفْرَيْنِ الرَّكَبَ، وهو عانَةُ المرأة، فعليه حكومةٌ مع الدِّية، وكذا لو قطع شيئًا مِنْ عانة الرجل مع الذَّكَر، ولو قطع شُفْرَي [المرأة] (¬1) البكرِ، وأزال بالجنايةِ جلدةَ البكارة، فعليه مع دية الشُّفْرين أرْشُ البَكارة، ولو قُطِعَ شُفْرَا المرأة، ثم جرح جارحٌ موضَعُهما بقَطْع لحم وغيره، لم يلزمه إلا الحكومة. قال الغَزالِيُّ: الخَامِسَ عَشَرَ: الرَّجُلاَنِ وَهُمَا كاليَدَيْنِ، وَرِجْلُ الأَعْرَجِ كَرِجْلِ الصَّحيحِ، وَرِجْلُ مَنِ امْتَنَعَ مَشْيُهُ بِكَسْرِ الفِقَارِ كالصَّحِيحِ عَلَى الأظْهَرِ، وَفِي التِقَاطِ أَصَابعِ الرِّجْلَيْن كَمالَ الدِّيَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الرِّجْلَيْنِ الديةُ، وفي إحداهما نصفُها؛ لما سبق من الخبر، ومنفعتهما ظاهرةٌ، ورِجل الأعرج كرِجْل الصحيح، كما أن يد الأعْسَرِ (¬2) كيد الصحيحِ؛ وذلك لأنه لا خلل في العضو، وقد بيَّنَّا ذلك في الجراح، وفي الرِّجْل التي تعطَّل مشيها بكسر الفَقَارِ وجهان: أحدهما: أن الواجبَ فيها الحكومةُ؛ كما في اليد الشَّلاَّء؛ لأن تعطُّل المنفعة كزوالها في تعذُّر الانتفاع. وأظهرهما: وجوبُ الدية؛ لأن الرِّجْل صحيحةٌ، لا آفةَ بها، وخلَلُ غيرها لا يوجِبُ نقصان بدلها، وتكمل دية الرجلَيْن بالتقاط أصابعهما، والقَدَمُ كالكَفِّ، والساقُ كالساعدِ، والفَخِدُ كالعضدِ، وأناملُ أصابع الرجلِ كأناملِ أصابع اليدِ، وقدمانِ على ساقٍ وساقان على ركبة؛ كَكَفَّيْنِ على معْصَم، وساعدَيْن على عَضَّد، وقد بينا الحكْمَ في جميع هذه الصُّور، وكذلك يقاس بما تقدَّم حكم الرِّجْل الشلاء، وحصول الشلل بالجناية عليها، قال الإِمام: وبين أصابع اليدين وأصابع الرِّجْلين تفاوتٌ عظيم (¬3)، ومنفعةُ الرِّجل العظمى وهي (¬4) المشي تبقى ما بقي القدمان، وإنما تفوتُ بفوات الأصابعِ سرعةُ المشْي، وإن مَنِعَ (¬5) ذلك من الاحتباء والقَبْض والبسط وتعاطي الأعمال، والآلات المتعلِّقة بأصابع اليدين، لكن حَسَم الشرْعُ النظَر إلى أقدار المنافع، وأجرى أجْنَاس الأعضاء مُجْرَى واحدًا في تكميل دياتها. قال الغَزالِيُّ: السَّادِسَ عَشَرَ: الجِلْدُ وَفِي سَلْخِ جَمِيعِهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: الجلْدُ كالجنس الواحدِ من الأعضاء؛ من حيث إنه معدٌّ لغرض واحدٍ، فيجب في سَلْخه الدية، قال الأئمة -رحمهم الله-: وسَلْخُ جميعِهِ قاتلٌ، لكن (¬1) قد يفرض حياةٌ مستقرةٌ بعده، فيظهر إيجاب الدية فيه، لو حَزَّ غيرُهُ رقبته (¬2)، وحكى الإِمام عن الشيخ أبي عليٍّ؛ أنه لو قطعت يداه (¬3) بعد سَلْخ الجلْد، توزَّع مساحةُ الجلد على جميع البدن، فما يخص اليدين يحطُّ من دية اليدين، ويجبُ الباقي، وعلَى هذا القياسِ، لو قطع يد إنسان، ثم جاء آخر، وسلخ جلده، فيجب عَلَى من سلخ دية الجلد محطوطًا عنْها قسْطُ اليدين من الجلد، والله أعلم. قال الغَزالِيُّ: النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنَ الجِنَايَاتِ مَا يُفَوِّتُ المَنَافِعَ وَهِيَ عَشَرَةٌ: الأُوْلَى العَقْلُ فَإِذَا أَزَالَهُ بِالضَّرْبِ فَدِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَلَوْ زَالَ بِقَطْعِ يَدَيْهِ فَالنَّصُّ أنَّهُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ لأنَّ العَقْلَ لَيْسَ لَهُ مَحَلٌّ مَخْصُوصٌ فَيَنْدَرجُ تَحْتَ كُلِّ عُضْوٍ تَكْمُلُ فِيهِ الدِّيَةَ، فَلَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيهِ فَزَالَ عَقْلُهُ فَدِيَتانِ، وَقِيلَ: لاَ يَنْدَرجُ العَقْلُ لأنَّهُ لَيْسَ فِي اليَدِ وَهُوَ القِيَاسُ، وَإِذَا شَكَكْنا في زَوالِ العَقْلِ راقَبْنَاهُ فِي الخَلَوَاتِ ثُمَّ لَمْ نُحَلِّفْهُ لأنَّهُ يَتَجَانَنُ فِي الجَوَابِ. قَالَ الرافِعيُّ: هذا النوع الثالث في الجنايات المفوِّتة للمنافع: فمنها: العَقْلُ، ويجب بإزالته الديةُ، روي في كتاب عَمْرو بْنِ حَزْمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "وَفِي العَقْلِ الدِّيَةُ" (¬4) ويذكر أنه مذهب عُمَر وزيد بْن ثابِتٍ -رَضِي اللهُ عَنْهُمَا- ولم يخالَفا فيه، وأيضًا: فالعقل أشرفُ المعانِي، وبه يتميز الإنسانُ عن البهيمة، ولا ينتفع بشيء انتفاعَهُ بالعقل، ولا يجب فيه القصاص؛ لعدم الإمكان، ولو انتقص عقله، ولم تستقم أحواله، نُظِرَ، إن أمكن الضبطُ، وجب قسط الزائل، والضبط قد يتأتى بالزمان بأن كان يُجَنُّ يومًا، ويفيق يوماً، فيجب نصف الدية، أو يومًا ويومين، فيجب الثلث، وقد يحصُلُ بغير الزمان، وذلك بأن يقابل صواب قوله، ومنظوم فعله بالخَطأ المصروح منهما، وتعرفُ النسبة بَيْنَهما، فيجب قسْطُ الزائل، وإن لم يمكنِ الضبطُ بأن كان يفزع أحيانًا مما لا يفزع منه، أو يستوحش إذا خَلاَ، فيجب فيه حكومةٌ يقدِّرها الحاكم باجتهاده، وذكر صاحب "التتمة" أن الديةَ إنَّما تجب عند تحقُّق الزوالِ بأن قَالَ ¬
أهْلُ الخبْرة: إن العارض الذي حَدَث لا يزول، أما إذا توقَّعوا الزوال، [أو قال أهل الخبرةِ: إنَّ العارِضِ الذي حَدَثَ يزُولُ، فيتوقَّف] (¬1) في الدية، فإن مات قبل الاستقامة، ففي الدية وجهان؛ كما إذا قلع سنَّ مثغور، فمات قبل أن تعود (¬2). ثم في الفصل مسألتان: إحداهما: يُنْظَر في الجناية الَّتي ذهب بها العَقْل، إن لم يكن لها أرش، كما لو ضرب رأسه، أو لطمه، فزال عقله، فعليه ديةُ العَقْل، وإن كان لها أرشٌ؛ إما مقدَّر كالموضِّحة، وقطْعِ اليدِ، والرِّجل، وإما غير مقدَّر؛ كالجراحات الموجبة للحكومات، ففيه قولان: القديم (¬3)، وبه قال أبو حنيفة: أنه يدخلُ الأقل في الأكثر، فإن كانت ديةُ العقلِ أكثر؛ كما لو أوضح رأسه، فزال عقله، دخَلَ فيها أرشُ الموضِّحة، وإن كان أرشُ الجنايةِ أكثرَ؛ كما إذا قطع يديه مع بعض الذراعِ، أو يدَيْه ورجلَيْه، فزال عقله -يدخل فيه ديةُ العَقل؛ ووجّه بأن العقل يشبه الرُّوحَ؛ من حيث إنَّ زواله يشبهُ زوال الروح في زوال التكليفِ، ويشبه فواتَ منفعة البَصَر؛ من حيثُ إنه يبقى الجمالُ في صورة الأعضاء مع زواله؛ كما يبقى الجمال (¬4) في الحَدَقة بَعْد [زوال الضوء، فلشبهة بالرُّوح يدخل أرْش الجناية في دِيَتِهِ، إذا كان الأرش أقلَّ، ولشَبَهِهِ بالضوء] (¬5) لا يجمع بين بَدَله وبَيْن أرش الجناية على الجرم، كما لا يجمع بين دية الضوء وأرش العَيْن القائمة، وإن كان تفويتُ العين القائمة لا (¬6) يوجبُ حكومةَ، بل يدخل الأقل في الأكثَرِ، والجديدُ الأصحُّ، وبه قال مالك وأحمد: أنه لا يدخلُ واحدٌ منهما في الآخر، بل يجب أرش الجناية ودية العقل جميعًا؛ لأنها جنايةٌ، أبطلت منفعةً غير حالَّة في محل الجناية؛ فصار كما لو أوضَحَه، فذهب سمعه أو بصره، لا يدخل أرش الموضِّحة في دية السمع والبصر، ولا بالعكس، فعلى هذا لو قطع يدَيْه ورجلَيْه، فزال عقله، وجبت ثلاثُ ديات، وعلى الأول لا يلزم إلا ديتان، هذا هو المشهُور من كيفية الخلافِ في المسألة، ووراءه شيئان: أحدهما: في المهذَّب وغيره؛ أنه إن كان أرشُ الجناية مثلَ الدية، أو أكثرَ، ¬
وجبت ديةُ العقلِ معه، ولا تداخل قولاً واحدًا، وإنما الخلافُ فيما إذا كان أرشُها دون الدية، هل تدخل الديةُ في العقل. والثَّاني: نقل الإِمام عن القاضي الحُسَيْن؛ أن أرش الجناية، إن لم يكن مقدَّراً، لم يدخل في دية العقل قولاً واحدًا، وإنما الخلافُ في الجناية التي لها أرشٌ مقدَّر، وأما ما أورده في الكتاب، فالسابِقُ إلى الفَهْم منه وضْع الخلافِ في أنَّ دية العَقْل، هل تنْدَرج تحْت أرش الجناَيةِ؛ ووجّه الاندراج بأن العَقْل لا يختصُّ بعضو معيَّن يحلّ فيه؛ حتى يجتنب موقعه فأيُّ عضو مضمون بالدية، أفضى قطعه إلى زواله، جعل كأن العقل كان حالاً فيه حلولَ الضوء في الحَدَقة، لكن هذا يخالفُ ما حكينا عن الكيفية المشهُورة، ويخالف أيضًا ما ذكره الإمامُ فيما لو قطع يَدَيْ رجل، وزال عقله، وقلنا: يجبُ ديةٌ واحدةٌ، فإن لفظ الشافعيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يشيرُ إلَى أن الدية الواجبةَ ديةُ العقلِ، وديةُ اليدِ تندرج تحتها، ويخالف أيضًا قضية تشبيه العَقْل بالروحِ، فإن دية الروح لا تندرجُ تحت أروش الأطراف، وإنما تندرج الأروش (¬1) تحْتَها، ثم سياقُ الكتاب يُشْعِرُ بأن النصَّ الاندراجُ، وأن مقابلة وجْةٌ واحتمالٌ، وبأن الظاهر الأول، وإن كان القياسُ الثَّاني، لكن الخلاف في المسألة مشهورٌ بالقولَيْن، والظاهر الثاني عند الجمهور. الثانية: لو أنكر الجانِي زَوالَ العقل، ونسبه إلى التجانُنِ، راقبناه في الخَلَوات، وأوقات الغَفَلات، فإن لم تنتظم أفعاله وأقواله، أوجبنا الدية، ولا نحلِّفه؛ لأنه يتجانن في الجواب، ويعدل إلى كلام آخَرَ؛ ولأن تحليفه يثبتُ جنونه، والمجنون لا يَحْلِف، وإن وجدناها منظومةً، فالقول قول الجاني مع يمينه، وإنَّما حلف؛ لجواز أنها صدَرَت منه اتفاقا أو جرياً على ما اعتاده (¬2). قال الغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةُ: السَّمْع وَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ وَفِي إِحْدَاهُما نِصْفُ الدِّيَةِ، وَقِيلَ: حُكُومَةٌ لأنَّ مَحَلَّ السَّمْعِ وَاحِدٌ، وَلَوْ قِيلَ: السَّمْعُ بَاقٍ وَقَدْ وَقَعَ فِي الطَّرِيقِ ارْتِتَاق فَتَعَطُّلُ المَنْفَعَةِ كَزَوالِهَا عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَيَجْرِي فِيما إِذَا ذَهَبَ سَمْعُ الصَّبِيِّ فَتَعَطَّلَ نُطْقُهُ أَوْ ضُرِبَ صُلْبِ إِنْسَانٍ فَتَعَطَّلَ رِجْلُهُ فَفِي تَعَدُّدِ الدِّيَةِ خِلافٌ، وَإِذَا شَكَّ فِي السَّمْعِ جُرِّبَ ¬
بِصَوْتٍ مُنْكَرٍ بغْتَةً، وَإِنْ نَقَصَ السَّمْعُ جرِّبَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ سِنَّهِ بِقُرْبِ المَسافَةِ وَبُعْدِها، فَإنْ كذَّبَهُ الجَانِي حُلِّفَ المَجْنيُّ عَلَيْهِ. قَالَ الرافِعِيُّ: في إبطالَ السمع كمالُ الدية؛ لما رُوِيَ عن مَعاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم-قَالَ: "وَفِي السَّمْعِ الدِّيَةُ" (¬1) ولو أبطل السمْعَ من إحدى الأذنين، ففي وجهٍ عن الشيخ أبي محمَّد؛ أنه يعتبر ما نقص من السمع، ويجب قسْطُه من الدية، وقد يقال: يَجِبُ فيه الحكومة؛ وذلك لأن السمع واحدٌ، وإنما التعدّد في المنفذ، بخلاف ضوء البَصَر، فإن تلك اللطيفةَ متعدِّدة، ومحلُّها الحَدَقة، والمشهور أنه يجب نصْفُ الدية، لا لتعدد السمع، ولكن (¬2) ضبط النقصان بالمنفذ أولَى وأقرب من ضبطه بغَيْره، ولو قطع الأذن، وبَطَل السمع، وجبت ديتانِ؛ لأن السَّمْعَ ليس في الأذُن. ولو جنَى عليه، فكان لا يسمعُ في الحال، لكن قال أهل البصر: إنَّه يتوقَّع عوده، نُظِرَ؛ إن قدَّروا مدة، انتظرنا تلك المدة، فإن لم يعد، أخذت الدية، واستثنى الإمامُ ما إذا قدَّروا مدة يغلبُ على الظن انقراضُ العمر، قبل انقضائها، وقال: الوجهُ أن تُؤْخَذَ الدية، ولا ينتظرَ هذه المدة كما لو لم يقدِّروا، وإن لم يقدَّروا مدة، فتؤخذ الدية في الحال؛ لأن الانتظار والتأخيرَ لا إلى غَاية؛ كالتفويت، فإن عاد (¬3)، ردَّت الدية، إذا بان أنه لم يزل، وإن قال أهل البصر: لطيفةُ السمع باقيةٌ في مقرِّها، ولكن ارتتق داخل الأُذُنِ بالجنايةِ, وامتنع نفوذ الصوت، ولم يتوقَّعوا زوالَ الارتتَاقِ، فهلْ يكون تعطُّل المنفعة كزوالها؛ حتَّى تجب الديةُ بكمالها؟ ذَكَرُوا فيه وجْهَيْن، وألحقوهما بالوجْهَيْن فيما إذا أذهب سمع الصبيِّ، وتعطَّل لذلك نطقه، فإنَّ الطفل يتدرَّج إلى النُّطْق تَلَقِّياً مما يسمعُ، فهل يجب لتعطيل النطْقِ ديةٌ مضمومةٌ إلى دية السمع؟ فيه وجهان، ومال الإِمام -رحمه الله- في مسألة الارتتاق إلى وجوب الدية، وقال: بقاءُ السمعِ وسلامتُه ليْسَ موثوقاً به، والأظهر، وهو الجواب في "التتمة" وجوبُ الحكومة؛ فإنَّ التعطيل لا ينزَّل منزلة الزوال. وأما قوله في الكتاب: "أو كسر صلب إِنْسان، فتعطَّل رجله، ففي تعدَّد الدية خلافٌ"، فهذا يُشْعِر بأن كسر الصُّلْب يوجبُ الدية بنفسه، وأنه إذا تعطَّلت الرِّجْل، كان تعطيلها كتعطيل (¬4) النطْقِ؛ حتى تجب دية أخرى على رأْي، وفي كلام الإمامِ أيضًا ما يقتضي تعلّق الديةِ بمجرَّد كَسْر الصُّلْب، لكن الظاهر خلافه على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى. ¬
ثم الكلام في صورتين: إحداهما: لو أنكر الجانِي زوالَ السمعِ، امتحن المجنيُّ عليه؛ بأن يصاح به في نومه وغفلته صياحَ مُنكِر، وبأن يتأمَّل حاله عند صَوْت الرعْدِ الشديدِ، فإن ظهر منه انزعاجٌ واضطرابٌ، ظهر (¬1) كذبه، ومع ذلك يحلف الجانِي؛ لاحتمال أن الانزعاج بسبب آخرَ اتِّفاقيَّ (¬2)، وإن لم يظهر عليه أثر، بأن صدقه، ومع ذلك يحلفُ لاحتمال أنه يتجلَّد ويتكلَّف، وإن ادَّعى بطلان السمع من إحدى الأذنَيْن، وأنكر الجاني حُشِيَتِ السليمةُ، وامتحن في الأخرَى على ما ذكرنا. الثانية: إذا انتقص سمعه من الأذنَيْن، فإن عرف قدْر ما نقص؛ بأن عرف أنه كان من أَيِّ موضع يسمع، وهو الآن يسمع ممَّا دون تلك المسافة، فيضبط ما انتقص، وُيؤْخذ قسْطُه من الدية، وإن لم يعرف، ولكن ساءَ سَمْعُه، وثقل أذنه، فالذي أورده أكثرهم، وعليه جرى صاحب "التَّهْذيب" وغيره: أنه لا سبيل إلى تقديره، ويجب حكومة يقدِّرها الحاكم باحتهاده، وذكر الإمَامُ وغيره أنه تقدَّر بالاعتبار بسمع رجل سليبم السمعِ في مثل سنِّه وصحَّته؛ بأن يجلس بجنب المجني عليه ويُؤْمَرُ من يرفعُ الصوت ويناديهما من مسافة بعيده لا يسمع فيها (¬3) واحد منهما، ثم يقرب المنادي شيئًا فشيئاً إلى أن يقول السليمُ: سَمِعْتُ، فَيعْلَم على الموضع، ثم يديم المنادِي ذلك الحدَّ من رفع الصوت، ويقرب إلى أن يقول المجنيُّ عليه سمعت، فيضبط ما بينهما من التفاوت، وإنِ انتقص السمع من إحدى الأذنين، فيقدر النقصانُ بأن تصمَّم (¬4) العليلة، ويضبط منتهى سماعِ الصحيحةِ، ثم تصمّم الصحيحة، ويضبط منتهى (¬5) سماع العليلة، ويضبط ما بينهما من التفاوُت، ويؤخذ قِسْطُه من الدية، ويمكن أن يكون الفرقُ بين انتقاصِ السمعِ من إحدى الأذنَيْن؛ حيث اتفقوا على الاعتبار بالأخرى، ولم يعدلوا إلى الحكومة وبين أن يكُونَ الانتقاصُ في الأذنين جميعًا، حيث اختلفوا في أنَّ الواجب الحكومة، أو يعتبر المجنيُّ عليه بغيرة، والأشخاص يتفاوتون في السمْع حدَّةً وكَلاَلاً؛ بحسب الأمزجة، فاستعبد اعتبار شخصٍ بشخصٍ، ولم يستبعد اعتبار أذُنِ شخصٍ بأذنه الأخرَى، وإن كذبه الجاني فيما يدعيه؛ مِنِ انتقاص السمع، فالجواب في "التهذيب" وغيره؛ أن القول قولُ المجنيِّ عليه مع يمينه، سواءٌ ادعى الانتقاصَ في الأذنين، أو ¬
إحداهما؛ لأنه لا يعرف إلا من جهته، وهذا قوله في الكتاب في آخر الفصل: "فَإِنْ كذَّبه الجانِي حَلَفَ المجنيُّ عليه"، قال في "الوسيط": فلو قال الجاني: "حَلِّفُونِي" فإن الأصل بقاءُ السمع، قُلْنا: لو فتح هذا البابُ، لم يعجز من يستخير (¬1) الجنايةَ عن الحَلِف، وجريان الَجناية سببٌ مظهر لجانب المجنيِّ عليه، فتصديقه أَوْلَى. وقوله: "في إحداهما نصْفُ الدية" قضيةُ هذا اللفظ تعدُّد السمع، والسمع واحد؛ عَلَى ما مرَّ، وإنما التعدد في طريقه، والمرادُ بطلان السمع من إحْدَى الأذنَيْنِ. وقوله: "وإذا شك في السمع" أي ادعى المجنيُّ عليه ذهابَ السمع ونازعه الجاني، وشككنا في أن الصادق أيهما، فيمتحن بالطريق المذكور؛ لتظهر الأمارة الدالَّة على صدق الصادق منهما، وكذب الكاذب. وقوله: وإنْ نقص السَّمْعُ، جرب" كلمة "جُرِّب" ههنا غير واقعة موقعها؛ بخلاف ما في الصورة السابقة؛ فإن المقصود ههنا تقديرُ بدَلِ ما نقص بالنسبة المذكورة لا الامتحان. قال الغَزَالِيُّ: الثَّالِثَةُ: البَصَرُ وَفِي إبْطَالِهَا مَعَ بَقاءِ الحَدَقَةِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَيسْتَوِي فِيه الأَعْمَشُ والأَخْفَشُ، وَمَنْ فِي حَدَقَتِهِ بِياضٌ لا يَمْنَع أصْلَ البَصَرِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَفِي إِحْدَاهُمَا النِّصْفُ، وَيُمْتَحَنُ بِتَقْرِيبِ حَدِيدَةٍ مِنْ حَدَقَتِهِ مُغَافَصَةً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في ضوء العينين (¬2) تمامُ الديةِ؛ روي عن مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-؛ أنَّه قَالَ: "في البَصَرِ الدِّيَةُ" (¬3) ولأن إتلافَ المنْفَعَة المقْصُودةِ (¬4) من العُضْوِ تقتضي وجوبَ الدية؛ كإبطالِ منفعةِ البَطْش من اليد، وفي إذهاب ضوء إحداهما نصفُ الدية، ولا فرق بين ضَعِيفِ البصرِ، بالعَمَشِ وغيره، ولا بَيْن الأَحْوَل والأَخْفش وغيرهما، ولو فقأ عينيه، لم تجبْ إلا ديةٌ كاملةٌ، كما لو قطع يديه؛ بخلاف ما لو قطع أذنَيْه، وبطل سمعه؛ لما مر أنه ليس السمْعُ في الأذنين، ولو قال عدلان: إنَّ البصر، وإن اختلَّ، يعود إلى ما كان فيفرَّق بين أن يقدروا مدةً أو لا يقدِّروا، ويكون الحكم على ما مرَّ في الأذنين، ولو مات المجني عليه قبل مُضِيِّ تلك المدَّة، فلا قصاص للشبهة (¬5)، وفي الدية طريقان. ¬
أحدهما: أنها على الوجهين فيما إذا قَلَع سنَّ غيرِ مثغور، ومات قبل أوانِ البيان. وأصحهما: القطْعُ بوجوبها؛ لأن الظاهر في السنِّ العَوْدُ، ولو عاش (¬1) لاستمرار العادة، وههنا بخلافه، ولو قال الجاني: ماتَ بعد عَوْد السنِّ أو البصرِ، وقال الوارثُ: بل قبله، فالمصدَّق الوارث؛ لأنَّ الأصل عدم العود. وإذا ادعى المجنيُّ عليه زوالَ البصر، وأنكر الجاني، فالذي أورده جماعةً من الأئمة، وهو المنقول عن "الأم" أنه يراجع أهل الخبرة، فإنهم إذا وقفوا الشخْص في مقابلة عين الشمس، ونظروا في عينيه، عرفوا (¬2) أن الضوء ذاهبٌ أم (¬3) قائمٌ بخلافِ ما في السمع لا يراجعون فيه؛ لأنه لا طريق لهم إلى معرفته، وقال آخرون، وعليه جرى صاحب الكتاب: إنَّه يمتحن بتقريب حَيَّة، أوْ عقرب منه، أو حديدة من حدقته مغافصة، فإن انزعج واضطرب، فالقول قول الجاني مع يمينه؛ وإلا، فالقول قوله مع يمينه، ويمكن أن يقدَّر في هذا اختلافٌ قولٍ أو وجهٍ، ورد في "التتمة" الأمر إلَى خيرة الحاكم إنْ أراد أن يراجعهم، فعل، وإن أراد أن يمتحنه، فَعَل، وإذا رجع أهْلُ الخبرة، فشَهِدوا بذَهَاب البصر، فلا حاجة إلَى التحليف، ويؤخذ الدية بخلاف الامتحان، فإنه لا بد من التحليف بَعْده، ولا يقبل في ذَهاب البَصَر، إنْ كانتِ الجنايةُ عمْداً إلاَّ شهادة رجلَيْن، وإن كان خطأً، قبلت شهادة رجُلٍ وامرأتينِ، وإن ادعى ذهاب البصر من إحدى العينَيْن، فيراجع أهل الخبرة، أو يمتحَنُ، كما ذكرنا في العينين. وإن انتقص (¬4) ضوءُ العينين، ولم يَزُلْ، فإن عرف مقداره؛ بأنْ كان يرى الشخص من مسافة مضبوطةٍ، فصار لا يراه إلا مِنْ بعضها، فيجب من الديةِ قِسْطُ الذاهب، وإن لم يعرف، فعلى الطريقين المذكورين في السَّمْع، فمنهم من اعتبره بمثله في السنِّ والصحَّة، وقال الأكثرون: يجب حكومة يقدِّرها الحاكمُ، ولا يعتبر بغيره؛ لاختلاف الناس في الإِدراك (¬5)، ويروى عن الماسرجسيِّ أنه قال: رأيتُ صيَّاداً [كان] يرى الصَيْد ¬
على فرسَخَيْن، وإن انتقص من إِحدى العينين، فتعُصَّب العليلة، وتُطلق الصحيحةُ، ويوقف شخص في موضِعٍ يراه ويؤْمر بأن يتباعَدَ عَنْه إلى أن يقول لا أراه، فيُعْلَم [على] المسافة، ثم يُعَصَّب الصحيحةُ، وتُطلقَ العليلة، ويؤمر الشخص بأن يقترب راجعاً إلى أن يراه، فيضبط ما بين المسافَتَيْن، ويجب قسطه من الدية، وهذا الضبط مبنيٌّ على نهاية إبصاره في الصحيحة والعليلة، وهو متهم في الصحيحة بالزيادة، وفي العليلة بالنقصان؛ فلا يؤمن أنْ يكذب متدرجاً به إلى زيادة الواجب، فيمتحن في قوله:"أبصر (¬1) بالصحيحة" بأن تغيَّر ثياب الشخص الذي يبعدُ منه (¬2)، ويقرب، ويسأل عنها، فينظر أيصيب أم لا؟ وفي قوله: "لا أبصرُ بالعليلة" قال بعضُهم: يحلف على أنَّه لا يبصر فوق تلك الغاية، وقال أكثرهم: يمتحن بانْ يضبط تلك الغاية، ويؤمر الشخص بأن ينتقل إلى سائر الجهَاتِ، والمجنيّ عليه بأن يدور، فإن توافَقَتِ الغاية من الجهات، فقد بأن صدْقُه، وإلا بانَ كذبه؛ لأن اختلافَ الجهاتِ لا يؤثِّر فيه، ويجري مثْلُ هذا الامتحان في نقصانِ السمْعِ من إحدى الأذُنين، فيمتحنُ في قوله: "أَسْمَعُ بالصحيحة"؛ بأن يغيِّر المنادي نداءه وكلامه، وينظر؛ هل يقف عليه المجنيُّ عليه، وفي قوله:" لا أَسْمَعُ بالعليلة" بأن ينتقل المنادي إلى سائر الجهات، وإذا انضبط (¬3) تفاوتُ مسافتَي الإبصار، فالواجب القِسْطُ، فإن أبصر بالصحيحة من مائتَيْ ذراعٍ، وبالعليلة من مائةِ ذراعٍ، فموجبه التنصيف (¬4)، ولكن لو قال أهلُ البصر: إن المائة الثانيةَ تحتاجُ إلَى مثلى ما يحتاج إليه المائة الأولى؛ لقرب الأولَى وبُعْد الثانية، فيجب ثلثا ديةِ العليلة؛ قال الشافعيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وما أرى أنَّ ذلك يضبط. وقوله في الكتاب: "البَصَر يستوي (¬5) فيه من الأعمش والأخفش ... " إلى آخره، هذا ساكت (¬6) من جهةِ اللفظِ عن بيان وجوب الديةِ في بَصَر السليم، وكان الأحسن أن يقول: "البصر، وفيه كمالُ الديةِ، وإنْ كانَ من الأعمشِ والأخفشِ ... " إلى آخره؛ ليتناول اللفظُ السليمَ وغيره، وهو الذي قصده، فيعتبر، وقد ذكرنا في النوع الثاني معنى الأعمش والأخفش، وسألت بعضَهم، ففسَّر الأخفش بالذي يبصر بالليل دون النهار، والقول بكمال الدية إلى إبْطَال بصره يقتضي وجوب كمالِهَا في بَصَر الأعشَى أيضًا، وهو الذي يبصر بالنَّهار دون الليل، لكن في "التهذيب": أنه لو جنى عليه، فصار أعشى، فعليه نصفُ الدية وأنَّه لو عَشِيَتْ بالجناية إحدى عينيه، فعليه ربع الدية، وقضيةُ إيجابِ النصفِ، إذا جعله بالجناية أعشَى -إِيجابُ النصف، إِذا جنى على الأعشَى، فأَذْهَبَ ¬
فرع
بَصَره؛ وكذلك الأخْفش. وقوله: "ومَنْ في حدَقَتِهِ بياضٌ لا يَمْنَعُ أَصْلَ البَصَرِ" ظاهره وجوبُ الدية، ما دام يبصر شيئًا، وإن ضعف بصره، ونقص ضوْءه، لكن ذكرنا في فَقْء العين التي فيها بياضٌ؛ أنه إن لم ينقص الضوء، يجب فيه الدية، وإن نقص، فلا تكمل الدية، فليكن في إذهاب ضوء العين، وفيها بيضٌ، مثلُ هذا التفصيل. " فَرْعٌ" لو شَخَصَتْ عينه بالجناية أو صار أعمش أو أحول، فالواجب على الجانِي الحكومةُ. آخرُ: إذا أذهب ضوء عينه، وجاء آخر، وقلع الحَدَقة، ثم قال الأول: قُلِعَت بعد عود الضوء وقال الثاني: بل قبله، فالقول قول الثاني (¬1) ولو صَدَّق المجنيُّ علَيْه الأوَّلَ، ترتَّب في ذمَّة الأوَّل عن الدية، ولا يُقْبَل قوله على الثاني، بل يحلف، وعليه الحكومة. قال الغَزَالِيُّ: الرَّابِعَةُ: الشَّمُّ وَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ وَيُمْتَحَنُ بالرَّوائِحَ الكَرِيهَةِ الحَادَّةِ، وَعنْدَ النُّقْصَانِ يُحَلَّفُ لِعُسْرِ الامْتِحَانِ، وَقِيلَ فِي الشَّمِّ حُكُومَةٌ لأنَّهُ ضَعِيفُ النَّفْعِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في إزالة الشمِّ بالجناية على الرأس وغيره وجهان، عن رواية صاحبُ "التقريب"، وقولان فيما رواه منصور التَّمِيمِيُّ: أحدهما: أنَّ الواجبَ فيه الحكومةُ، دون الدية؛ لأن الشمَّ ضعيفُ النفعِ؛ فإن منفعته إدراك الروائح، والأنتان أكثر من الطيبات، فيكون التأذِّي أكْثَرَ من التلذُّذ. وأصحُّهما: وجوب الدية؛ لما روي في كتاب عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "وَفِي الشَّمِّ الدِّيَةُ" ولأنَّ الشم حاسَّة من الحواسِّ التي هي طلائعُ البدنِ فأشبهَتْ سائرها، ولو أذهب الشمّ من أحد المَنْخِرَيْنِ، فعليه نصف الدية، ويشبه أنْ يجيء فيه الوجه المذكُور في إِبطال السمع من إِحدى الأذنين. ولو ارتتق المنفذُ، فلم يدرك الروائح، وقال أهل البَصَر: القوة باقيةٌ؛ فليكن كما مر في السمع ولو قَطَع أنفه، فأذْهَب شمَّه، وجبَتْ ديتانِ؛ كما في السَّمع؛ لأنَّ الشمَّ لا يحلُّ الأنف، وإذا أنكر الجاني زوالَ الشمِّ، امتحن المجنيُّ عليه بتقريب مالَهُ رائحةٌ حادَّةٌ منْه طيبةٌ وخبيثةٌ، فإن هَشَّ للطيب، وتعَبَّس للنتن، صُدِّق الجاني بيمينه، وإن لم يظهر عليه أثر، صُدِّق المجني عليه بيمينه (¬2)، وان انتقص الشمّ، نُظِرَ؛ إن عُلِمَ قدْرُ الذاهب، ¬
وجب قسطه من الدية وروي أن (¬1) الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: "وَلا أَحْسِبُهُ يُعْلَمُ"، وإن لم يُعْلم، فيجب حكومة يقدِّرها الحاكم بالاجتهاد، ولم يذكُروا ههنا الامتحانَ بمن هو في مثل شمِّه، ولا بُعْدَ في طرده ههنا، فإن انتقص الشم من أحد المَنْخِرَيْنِ، فيمكن أن يعتبر بالجانب الآخر، ولم يذكروه ولعلهم (¬2) اكتفَوْا بالمذكور في السمع والبصر، وإذا ادعى النقصان، وأنكر الجاني، فيحلَّف المجني عليه، إذ لا يعرف ذلك إلا من جهته، وشبه ذلك بما إذا ادعَتِ المرأة انقضاءَ الأقراء، وقالت: حِضْتُ، وقد عُلَّق الطلاقُ بحيضها، قَالَ الإِمام: وينبغي أنْ يعيِّن المجنيُّ عليه قَدْرًا يطالب به وإلاَّ فهو كمن يَدَّعِي شيئًا مجهولاً، وسبيله في نفْسه (¬3) أن يأخذ الأقل المستيقَنَ، ولو عاد الشمُّ بعد ما ظُنَّ زواله، وأخذت الدية، وجب ردُّها، ولو وضع المجنيُّ عليه يده على أنفه عنْد رائحة منْكَرة، فقال الجاني: فعلت ذلك لعود شَمِّك، وأنكر المجنيُّ عليه، فهو المصدَّق باليمين؛ لأنه قد يقع ذلك اتِّفاقًا، ولرعاف وامتِخاطٍ، وعند تفكُّر ونحوه. قال الغَزَالِيُّ: الخَامِسَةُ: النُّطْقُ وَفِي إِبْطَالِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ وَإِنْ بَقِيَ فِي اللِّسانِ فَائِدَةُ الذَّوْقِ والحُرُوفِ الشَّفَوِيَّةِ والحَلْقيَّةِ، وَفِي بَعْضِ الكَلاَمِ بَعْضُ الدِّيَةِ، وَيُوَزَّع عَلَى ثَمَانِيَةِ وَعِشْرِينَ حَرْفاً، وَتَدْخُلُ الشَّفَوِيَّةَ والحَلْقِيَّةُ فِي التَّوْزِيعِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا جنى على لسانه، فأبطل كلامه، فعليه كمالُ الدية؛ لما روي عن زيد بْنِ أَسْلَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه قال: "مَضَتِ السُّنَّةِ بإيجَابِ الدِّيَةِ" (¬4) ولأن اللسان عضْوٌ مضمونٌ بالدية، فتضمن منفعته العظمى بها؛ كاليد والرِّجْل، وإنما تؤخذ الدية، إذا حكم أهل البَصَر بأنَّ نطقه لا يعود، فإن أخذت، فعادَ، استردَّت، وإذا ادعى زوال النطْقِ، وأنكر الجاني، ففي "التتمة" أنَّه يفزَّع في أوقات الخَلْوة، وينظر هَلْ يبدر منه ما يُعْرَفُ به كذبه، فإن لم يظهر شيءٌ، حلف كما يحلف الأخرس، وأخذت الدية، ولو بطل بالجناية بعض الحروف، وزّعت (¬5) الدية عليها، فإن الكلام يتركَّب منها، ولا فرق بين ما يخف على اللسان منها، وما يَثْقُل، قال في "التهذيب": والحروف مختلفةٌ في اللغات، وكلُّ من تكلم (¬6) بلغة، فالنظر عند التوزيعِ إلى حروف تلك اللغة (¬7)، وذكر ¬
القاضي ابن كُجٍّ مثله، وحكى (¬1) عن رواية أبي الحُسَيْن بنِ القطَّان وجهين فيمن يتكلَّم بلغتين، وبَطَل بالجناية حُروفٌ من هذه، وأخرى من هذه، أنَّ الدية توزَّع على حروف أكثرهما حروفاً أو على أقلهما. ثم في الحروف الموزَّع عليها وجْهانِ (¬2)، قال أكثرهم، وهو ظاهر النَّصَّ: إن التوزيع يكونُ على جميعها، وهي (¬3) ثمانيةٌ وعشرون في اللغة العربيَّة، فإن ذهب نصفها، وجب نصف الدية، وإن ذهب واحدٌ منها، وجب جزءٌ من ثمانية وعشْرين جزءًا من الدية، وعلى هذا القياسُ؛ وذلك لأنَّ الكلام يتركَّب من جميعها، وقال الإصطخريُّ: لا يدخل في التوزيع الحروفُ (¬4) الشفويةُ، وهي الباء والميم والفاء والواو، ولا الحلقيةُ، وهي الهاء والعين والغين والحاء والخاء والهمزة، وإنما التوزيعُ على الحروف الخارجَة من اللسان، وهي ما عداها، وحكى أبو الفَرَج السرخسيُّ هذا المذْهَبَ. عن مالِكِ، وقد توجَّه ذلك؛ بأن منفعة اللسان هي النطْقُ بها، فيكون التوزيعُ عليها، وتكمل الديةُ فيها، ومن نصر الظاهر، قال: الحروفُ، وإن كانت مختلفةَ المخارج، إلا أنَّ الاعتمادَ في جميعِها على اللِّسَان، وبه يستقيمُ النطْقُ ويكمل، هذا إذا ذهب بعضُ الحروف، وله فيما بقي كلامٌ مفهومٌ. أما إذا ذهب بعضُ الحروفِ، ولم يكن لَهُ فيما بَقِيَ كلامٌ مفهومٌ، ففي "التهذيب" أنه يجبُ كمالُ الديةُ؛ لأن منفعةَ الكلام [قد] فاتَتْ، ويحكَى هذا عن أبي إِسحاق، وعن القَفَّال، وفيما رواه الرويانيُّ أنَّه المذهب، ومنهم من قال: لا يلزمه إلاَّ قسْطُ الحروف الفائتة؛ لأنه لم يفت ما سواها من الحروف، وإنما تعطَّلت منافعُها، فصار كما إذا كَسَر صلبه، فتعطَّل مشيه، والرِّجل سليمةٌ؛ فإنه لا يلزمه بتعطيل المشْي ديةٌ أخرى، وفي "التتمة" أن هذا هو المشهورُ في المذهب، والمنصوص في "الأم"، ويمكن أن يكون السببُ فيما ذكره أنَّ الأئمَّة نقلوا في طرقهم عن "الأم"؛ أنه لو ذهب حرفٌ، وتعطَّل عليه بسببه الكلمةُ المشتملةُ عَلَى ذلك الحرف؛ كما إِذا ذهب حرفُ الميمِ، فلم يمكنه أن يأتي باسْمِ محمَّد، لم يلزمه إلا قسْطُ الحرف الفائت من الدية، ويجوز أنْ يقالَ: صورةُ النصِّ ما إذا لم يمكنه أنْ يأتي بالكلمة التي فيها الحرْفُ الذَّاهب، ولكن بقي له كلامٌ مفهومٌ، والذي صحَّحه القفَّال، صورتُهُ ما إذا لم يبْقَ له كلامٌ مفهومٌ، [والله أعلم]. ¬
وذكر المتولِّي تفريعاً على الخلافِ في أنَّ الحروف الشفويَّة، هل تدخلُ في التوزيع؛ أنَّه لو ضرب شفَتَيْهِ، فأذهب الحروفَ الشفويةَ، أو رقبته، فأذهب الحروفَ الحلقية، فإن وزَّعنا على جميع الحروف، وجب قسْطُ الذاهب، وعلى ما ذكره الاصطخريُّ لا يجب إلاَّ الحكومة، وفي كتاب القاضي ابْنِ كَجٍّ، أنه لو قطع شفتيه، فأذهب الباء والميم، فعن أبي سعيد الإصطخريِّ؛ أنه يجب مع دية الشفتينِ أرشُ الحرفين، وأن ابنَ الوكيلِ، سُئِلَ عنه، فقال: لا يجبُ إلاَّ الديةُ؛ كما أنه لو قطع لسانه، وذهب كلامه، لا يجب إلاَّ الدية. ولو جنَى على لسانِهِ، فصار يبدلُ حرفاً بحرف، وجب قسط الحرف الذي أبطله، ولا يصير الآخر بدلاً، فإنه أيضًا أحد الحروف المقصودة، ولو ثقل لسانه بالجناية، أو حدثت في كلامه عَجَلة أو تمتمة أوْ فأفأة، وجبت الحكومةُ دون الديةِ؛ لبقاء المنفعة، وكذا لو كان ألثغَ، وزادت لثغتُهُ. وقوله في الكتاب: "وإن بقي في اللِّسان فائدةُ الذوقِ والحروفِ الشفويةِ والحلقيةِ" فيه تصريحٌ بأن الذوْقَ في اللسان، وهو المشهور، وفي "التتمة" أنَّ الذوقَ في طَرَف الحَلْق، ثم وجوبُ الدية بإبطال النطْقِ، وإن بقي الذوق لا شبهة فيه، فأما وجوبها بكمالها، وإن بقيت الحروفُ الشفويةُ والحلقيةُ، فقد ذكره ههنا، وفي "الوسيط"، وعلَّل هناك بأنَّ الذي بَطَل جزءٌ مقصودٌ برأسه، وهذا لم أجدْ له تعرُّضاً لسائر الأصحاب، وهو مناقض لما ذكره مِنْ بعد، وهو أنه يجبُ في بعض الكلام بعضُ الدية، ويوزَّع على جميع الحروفِ من الشفويَّة وغيرها، وإنما يستمرُّ ذلك على طريقة الإصطخريِّ على ما تبِّين. وقوله: "وتدخُلُ الشفويةُ والحلقيةُ في التَّوْزيع" مُعْلَم بالواو، ويجوز إعلامه بالميم؛ لما سبق. قال الغَزَالِيُّ: وَلوْ كانَ لا يُحْسِنُ بَعْضَ الحُرُوفِ فَهَلْ يَنْقُصُ الدِّيَةِ أَوْ هُوَ كَضَعْفِ القُوَي فِيهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ كَانَ بِجَنَايةِ فَوجْهَانِ مُرَتَّبانِ وَأَوْلَى بِالتَّنْقِيصِ، وَضَعْفُ سائِرِ المَنَافِعِ الَّتى لا تَتَقَدَّرُ مِثْلُ الحُرُوفِ، وَإِنْ كَانَ بِآفِةٍ لَمْ تنقُصْ، وَإِنْ كَانَ بِجِنايَةٍ فَوَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا لم يُحْسِنِ الرجلُ بعض الحروف؛ كالأرثِّ والألْثَغ الذي لا يتكلَّم إلاَّ بعشرين حرفاً مثلاً، هَل يجبُ في إبطال كلامه كلُّ (¬1) الدية؟ فيه وجهان (¬2): أصحُّهما: نعم، وهذا ما أورده صاحبُ "التهذيب"، ووجهه أنَّ هذا الشخْصَ ناطقٌ، وله كلام مفهومٌ إلاَّ أنَّ في منطقه ضعفاً، وضعف منفعة العضو لا يقدح في ¬
كمال (¬1) الديةِ، كضعف البطْش، والبَصَر، وسائر القُوَى، وعلى هذا، فلو أبطل بعضَ حروفه، فالتوزيع على ما يحسنه، لا عَلَى جميع الحروف. والثاني: أنه لا يجبُ إلاَّ قسطُها من جميع الحروف؛ لأنَّ النطق مقدَّر بالحروف بخلاف البطش، وما لا يقدَّر بمثل ذلك، وعلى هذا، فالتوزيعُ عَلَى جميع الحروف، لا على ما يحسنها خاصَّة، وهذا ما أورده صاحب "التتمة"، وإذا قلنا بهذا الوجه الثاني، فلو كان الشخْصُ ممَّن يَقْدِرَ على التعبير عن جميع مقاصِدِهِ، لفطنته واستمداده من اللُّغة وتهدِّيه إلى مناظِمِ الكلامِ، فهل تكملُ الدية؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا؛ لأن اقتداره للحَذَق ومعرفة اللغةِ، لا لمعنى في الكلام، هذا إذا كان ما به مِنَ النقصانِ خلقيّاً أوحادثاً بآفة سماوية، فأما إذا حدث بجناية جانٍ، ففيه خلافٌ مرتَّب، والظاهر أنه لا تكمل (¬2) الديةُ، كيلا تتضاعف الغرامةُ في القَدْر الذي أبطله الجانِي الأوَّل، وهذا ما أورده الإِمام، وتكلَّم ههنا في نقصان سائر المنافع وفي نقصان الأجْرَامِ أيضًا، أما سائرُ المنافعِ (¬3)، التي لا تتقدَّر تقدَّر النطق بالحروف؛ كالبطش والبَصَر، فإن كان النقصانُ فيها بآفةٍ، فلا اعتبار به، ويجب عَلَى من أبطلها الديةُ الكاملةُ، وكذلك مَنْ قَطَع العضْوَ الذي هو محلُّ تلك المنفعة؛ وذلك لأنه لا ينضبطُ لضعفها وقوَّتها، ويختلفان بالأعراض والأمراض، وتَتَبُّعُ مقاديرها يَعْسُر أو يتعذَّر، وإن كان النقصان بجنايةٍ، فإنَّ فيه احتمالاتٍ متلقاةٌ من كلام المشايخِ، ولا بأس، لو نقلنا وجوهًا (¬4): أحدُها: أنَّ الجوابَ كذلك، والثَّاني، وهو الذي رجَّح أنَّه لا تكملُ الدية، بل يحط (¬5) قدْرُ الحكومة الَّتي غرمها الأول عن مبطلِ المنفعةِ، وقاطع العضو جميعًا تحرُّزاً عن تضْعِيفِ الغرامةِ. وثالُثها: أنه لا يحطُّ عن قاطع الجرم، ويحطُّ عن مبطلِ المنفعة الناقصة؛ لتناسب جنايته مع جناية الأول، وأما الأجرامُ، فإما أنْ يكون لِما نَقَص أرشٌ مقدَّرٍ أو لا يكون، إنْ كان له أرشٌ مقدَّر، فالواجب على الثاني الديةُ مخطُوطاً عنها أرشُ ما نقص، سواءٌ حصل النقصان بآفة أو جنايةٍ (¬6)؛ حتى لو سقطتْ أنملةٌ من أنامله بآفة، ثم قطع اليد ¬
قاطعٌ يحطُّ عن دية اليدِ أرش الأصبع أو الأنملة، ولو جرح رأسه متلاحمةً، وجاء آخر، وجعَلَها موضِّحة، فعلى مَنْ أَوْضَح أرْشٌ موضِّحةٍ محْطُوطاً عنه واجبُ المتلاحمةِ، سواءٌ قدَّرنا واجبها، أو أوجبنا الحكومةَ، ولو التأمتِ المتلاحمةُ، واكتسى موضعها بالجِلْد، لكن بقي غائراً، وجاء آخر، وأوْضَح فيه، فالصحيحُ أنَّ حكم ذلك الجُرْح قد سقط، وعلى من أوضح أرشٌ كاملٌ، وإن لم يكن لما نقص أرشٌ مقدَّر؛ كفلقة ينفصلُ من لحمة الأنملة، فإن لم يؤثِّر في المنفعة، لم تنتقص به الديَة، وإن قدر وجوب حكومة فيه للشَّيْن، ولا فرق بيْنَ أن يحصل ذلك بآفةٍ أو جنايةٍ وإن أثَّر في المنفعة، فكذلك لا تنتقصُ به الديةُ، إن حصل بآفةٍ، وإنْ حَصَل بجناية، قال الإِمام: يجوز أن يجعلَ كالنقصان بآفةٍ، ويجوز أن يحط (¬1) عن الثاني مقدارُ الحكومة الواجبةِ على الأولِ، وهو الأقرب. قال الغَزَالِيُّ: وَلوْ قَطَعَ بَعْضَ لِسَانِهِ فأَبْطَلَ بَعْضَ كَلاَمِهِ وَتَساوَت نِسْبَةُ الجُرْمِ والحُرُوفِ فَذَاكَ، وَإِنْ تَفَاوَتا أَخَذْنَا بأكْثَرِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَلوْ قَطَعَ رُبُعَ اللِّسَانِ فَزالَ نِصْفُ الكَلاَمِ فَنِصْفُ الدِّيَةِ، وَلوْ قَطَعَ نِصْفَ اللِّسَانِ فَزالَ رُبُعُ الكَلاَمِ فَنِصْفُ الدِّيَةِ، وَلَوِ اسْتأصَلَ البَاقِي وَقَدْ بَقِيَ ثَلاَثَةُ أَرْباَعِ الكَلاَمِ أَوْ ثَلاَثةُ أَرْبَاعِ اللِّسَانِ فَيَجِبُ ثَلاَثَةُ أَرْباعِ الدِّيَةِ أخْذاً بالأَكْثَرِ، وَقِيلَ: النَّظَرُ إِلَى الْجُرْمِ فِي حَقِّ البَاقِي وَلَكِنْ لَوْ بَقِيَ ثَلاَثَةُ أَرْبَاعِ اللِّسَانِ وَفِيهِ نِصْفُ الكَلاَمِ فَنِصْفُ الدِّيَةِ وَحُكُومَةٌ وَكأَنَّ رُبُعَ اللِّسَانِ أَشَلُّ. قَالَ الرافِعِيُّ: نزَّل العلماء النطْقَ في اللسان منزلةَ البَطْش في اليدِ، والمشْي في الرِّجْل، وقالُوا: إذا استأصل لسان إنسانٍ قَطْعًا، وأبطل كلامه، لم يلزمه إلاَّ ديةٌ واحدةٌ، ولو قطع عَذَبة اللسانِ، وبطل الكلامُ، فكذلك الحكمُ، وهو كما لو قطع أصبعاً، من اليد، فشّلَّت اليد، وقد يشكل ما ذكروه، بأنَّا نرى المقْطُوع اللسان يتكلَّم، ويأتي بالحروف كلِّها مفهومةً أو معظمها، وذلك يشعر بأنَّ النطق في اللسان، ليس كالبطش في اليد، ثم قالوا: إذا قطع بعض اللسان، وذهب يعض الكلام، فينظر؛ إن تساوت نسبة جرم اللسان والكلام؛ كما إذا قطع نصْفَ لسانه؛ فذهب نصف كلامه، فالواجب نصْفُ الدية، وإن تفاوتت (¬2) النسبةُ، كما إذا قطع رُبُعَ لسانه، فزالَ نصف كلامِهِ، أو نصف لسانه، فزال ربع كلامه، فعليه نصْفُ الدية، واختلفوا في تعليلِهِ، فقال أكثر الأصْحَاب: اللسانُ مضمونٌ بالدية، وإبطالُ منفعته أيضًا مضمونٌ بها، فيعتبَرُ الأغلظُ من موجبيها (¬3)، ويجب الأكثر، وهذا كما أنه (¬4) إذا بَطَل البطْش بقَطْع بعض الأصابع، يجب الدية، ولو ¬
فروع
قطع الخنصر والبنصر، مثلاً، يلزمه خُمْساً الديةِ، وإن كان الفائتُ من المنفعة دون الخُمْسَيْنِ، وقال أبو إسحاق: الاعتبارُ بالجرم لأنه الأصل الَّذي ينال بالجنايةِ، فيجب في قطع نصفِ اللسانِ، وذهابِ ربعِ الكلام نصفُ الدية، اعتباراً بالجُرْم، وإذا قطع ربعه، وزال نصْف الكلام، فعليه أيضاً نصْف الدية (¬1)، فإنَّما يجب النصف لأنَّه قطع ربعاً صحيحاً، وأشَلَّ ربعاً آخر، وتظهر فائدة الاختلاف في صورتين: إحداهما: إذا قطع نصْفَ لسانِهِ، وذهب ربع الكلام، ثم جاء آخر، واستأصل الباقي، فعلى ما قاله الأكثرون: يجبُ عليه ثلاثةُ أرباع الدية لأنه أبطل ثلاثة أرباع الكلامِ، وعلى ما قاله أبو إسحاق: نصف الدية كما على الأول اعتباراً بالجرم. والثانية: لو قطع ربع لسانه، فذهب نصف الكلام، ثم جاء آخر، واستأصَلَ الباقِيَ، فعلَى عبارة الأكثرين؛ عليه ثلاثة أرباع الديةِ؛ لأنه قطع ثلاثةَ أرباع اللسانِ، وفيها نصف (¬2) الكلام، وعلَى ما ذكره أبو إسحاق، عليه نصفُ ديةِ وحكومةٌ؛ لأنه قطع نصفاٌ صحيحًا، وربعاً أشَلَّ. ولو أذْهَبَ نصفَ الكلام بجنايةٍ على اللسان من غير قطْعٍ، ثم جاء آخر، وقطعه، فعلَى طريقةِ الأكثرينَ؛ عليه ديةٌ كاملةٌ؛ لقطعه جميع اللسان، مع بقاء المنفعة فيه، وعلى ما ذكره أبو إسْحَاق؛ يلزمه نصْفُ ديةٍ وحكومةٌ؛ لأن الجرم لذهاب نصف الكلامِ، نصفُةُ صحيحٌ، ونصفه أشَلُّ، فيجب للنصفِ الصحيحِ نصفُ الدية، وللأَشَلِّ الحكومة. وقوله في الكتاب: "وإنْ تَفَاوَتَا أَخَذْنَا بِأَكْثَرِ الشَّهادَتَيْن"، أراد به ما ذكر في "الوسيط"؛ أنَّ نقصانَ كلِّ واحد من الجرم، والحروف مبينٌ مقدار الزائل من القوَّة النطقية الَّتي لا يتقدَّر تحقيقًا، وشاهد عليه؛ فتأخذ بأكثر الشهادتين، وقوله: "وقيل: النظَرُ إلَى الجُرْم في حقِّ الثَّاني"، المرادُ منه الوجهُ المنسوبُ إلَى أبي إسحاق، وإنما قال: "في حَقِّ الَثَّاني" (¬3)؛ لأن الخلافَ يظهرُ في حقِّه، لا في حق القاطع الأول، وإلاَّ فالنظر إلى الجرم لا يختصُّ بالثاني على ما تبين. " فُرُوعٌ" رجلانِ قطع من أحدهما نصفُ لسانه، فذهب ربع كلامه، ومن الآخر نصْفُ لسانه، وذهب نصف كلامه، فقطع الأوَّل النصف الباقي من لسانِ الثانِي، لم يقتص منْه، وإن أجرينا القصاصَ في بعض اللسان؛ لنقصان المجنيَّ عليه. ¬
قطع نصف لسانه، وذهب نصف الكلامِ، فاقتص من القاطع، ولم يذهب منه إلاَّ ربع الكلام، يأخذ المجنيُّ عليه ربع الدية؛ ليتم حقُّه، وإن ذهب من المقتصِّ منه ثلاثةُ أرباع الكلامِ، فلا شيء على المجنيِّ عليه؛ لأن سراية القَوَدِ مُهْدَرة. عود الكلامِ بعد ما ظُنَّ زواله، وأخذت الديةُ كعَودِ السمْع (¬1) والبَصَر. من لا يتكلَّم بحرفِ من الحروف، إذا ضرب لسانه، فانطلق ذلكَ الحرفُ، وفات حرفٌ آخر، وجب قسطُ الحرفِ الفائتِ من الديةِ، ولم ينجبر الفائتُ بما انْطلق، وذلك مثل أنْ كان لا ينطقُ (¬2) لسانه بالتاء، وكان ينطقُ بالسينِ، فانطلق لسانه بعد الجناية بالتاءِ، وذهب مُكْنَة النطق بالسين، قال الإمامُ: والتوزيعُ يقع على الحروف، وفيها التاء (¬3) المستفادةُ، أم على الحروف التي كانتْ في اللسان قبل الجناية، هذا موضع النظر. ولك أن تقولَ: ليبن هذا عَلَى أنَّ مَنْ يحسن بعض الحروفِ، وله كلامٌ مفهومٌ، إذا أبطل بالجناية بَعْضَ ما يحسنه يكونُ التوزيع عَلَى ما يحسنه، أو على جميع الحروفِ، فإن قلنا بالأول، فالتاء المستفادةُ لا تدخلُ في التوزيع، وإن قلنا بالثاني، فهما داخلان جميعًا فيه. ومن في كلامه عجلة واضطرابٌ (¬4) إذا ضرب ضاربٌ لسانه، فانطلق واستقامَ لسانُه، لم يلزم الضاربَ شيءٌ؛ لأنه لم ينتقص (¬5) جرم ولا منفعة. قطع فلقة من لسانه، ولم يبطل به شيءٌ من الكلامِ، قال الإِمام: من (¬6) راعى الكلامَ، لم يوجبْ على القاطع إلاَّ الحكومةَ، ومن راعى الجرم، أوجب قسْطاً بالنسبة إلى اللسان، لكن في هذا إيجاب المقدَّر من غير تفويتِ الكلامِ، ولو صحَّ ذلك، لزم إيجاب الدية الكاملةِ في لسانِ الأخْرَس، وبوجوب الحكومة، أجاب في "الوسيط" قال الغَزَالِيُّ: السَّادِسَةُ: الصَّوْتُ وَفِي إبْطَالِهِ كُلُّ الدِّيَةِ فَإِنْ بَطَلَ مَعَهُ حَرَكَهةُ اللِّسَانِ فَدِيَتَانِ، وَقِيلَ: دِيَةٌ واحِدَةٌ لأنَّ الصَّوْتَ يُقْصَدُ لِلنُّطْقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لو جَنَى عَلَى إنسان، فأبطل صوته، واللسانُ على اعتداله، ويمكنه ¬
من التقطيع والترديدِ، فعليه لإبطال الصوت الديةُ؛ لأنَّه من المنافع المقصودةِ في غرض الإعلام والزجْرِ، وغيرهما، وإنْ أبطل مع ذلك حركَةَ اللسانِ؛ حتى عجز عن الترديد والتقطيع، فوجهان: أرجحهما، على ما يقتضيه نَظْم الكتاب: أنَّه يلزمه ديتانِ (¬1)؛ لأنهما منفعتانِ مختلفتانِ، وفي كل واحدةٍ منهما إذا أفردتْ بالتفويت كمالُ الديةِ، فإذا فوتتا، وجب ديتان. والثاني: لا يلزم إلاَّ ديةٌ واحدةٌ؛ لأن المقصودَ الكلامُ، لكنه يفوَّت بطريقين: انقطاع الصوت، وعجز اللسان عن الحركة، وقد يجتمع الطريقانِ، وقد يوجَدُ أحدهما خاصَّة، وإذا قلنا: يجب ديتان، وكانت (¬2) حركة اللسانِ باقيةً، فقد تعطَّل النطق بسَبَب فواتِ الصوْتِ، فيجيء الخلافُ المذكورُ في أن تعطُّل المنفعةِ، هل هو كزوالها، فإن جعلناه كزوالها، وجبت ديتانِ أيضًا، وإلا لم يلزم إلا ديةٌ (¬3)، ومثل هذا الخلافِ الخلافُ في أنَّ من أزال سمع الصبي قبل أنْ يبلغ مظِنَّة النطق، وتعطَّل لذلك نطقه لم (¬4) يلزمه لذلك (¬5) ديةٌ أو ديتان؟ وهو مبنيٌّ على الخلافِ الذي مَرَّ في أنَّه، هلْ يجب عَلَى قاطع لسانِهِ الديةُ أم لا؟ إنْ قلنا: يجبُ، فليس على مزيلِ السمعِ إلاَّ ديةٌ واحدةٌ، وإنْ قلْنا: لا يجبُ، فعليه ديتان، وكذلكَ في كاسِرِ الفَقارِ، مع قاطع الرِّجْلِ المعطَّلة بكَسْر الفَقارِ، [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: السَّابِعَةُ: الذَّوْقُ: وَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَيُجَرَّبُ بِالأَشْيَاءِ المُرَّةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في إبطالِ الذوقِ الديةُ؛ كما في إبطال السمْعِ والبصرِ وسائِرِ الحواسِّ، وقد يفرض ذلك بالجنايةِ على اللِّسان، وعلى الرقبة وغيرهما، واختلف كلام الأئمة؛ أن إيجاب الدية في الذوقِ منصوصٌ عليه للشافعيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أوْ مقيسٌ بما نصَّ عليه. والمُدْرَك بالذوْقِ خمسةُ أشياءَ: الحلاوةُ، والحموضةُ، والمرارةُ، والملوحةُ، والعُذُوبة. ¬
والديةُ تتوزَّع عليها (¬1)، فإن أبطل إِدراكَ واحدٍ منْها، فعليه خُمْسُ الدية. ولو انتقص الإحساسَ، فَلَمْ يدركِ الطعومَ على كمالِها، فالواجبُ الحكومة، ولو اختلفا في ذهاب الذوقِ، جرب بالأشياء المرَّة المقزَّة (¬2)، أو الحامضة الحادَّة، فإن ظهر منه تعبُّس وكراهةٌ, صدقنا الجاني بيمينه، وإلا فنصدقه باليمين، قال في "التتمة": ولو ضربه ضربةً، أزال بها نطْقَه وذوْقَه، فعَلَيْه ديتَانِ؛ لأنهما منفعتان مقصودتان، فلا تتبع إحداهُما الأخرى؛ لأن محلهما مختلفٌ, فالنطق في اللسان، والذوقُ في طرف الحَلْقِ، والذي ذكر في "التهذيب": أنه لو قطَع لسانَهُ، وذهب ذوقه، فعليه ديتان، والمرادُ منْه هذه الصورة، [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: الثَّامِنَةُ: المَضْغُ فَإذَا صَلُبَ مَغْرَسُ لَحْيَيه فَعَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَلَوْ جَنَى عَلَى سِنِّهِ فَتَعَذَّرَ المَضْغُ فَكَمَالُ الأَرْشِ، فَإنِ اسْوَدَّ وَأَمْكَنَ المَضْغُ فَحُكُومَةٌ لإِزَالَةِ الجِمَالِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في إبطال المضغ الديةُ، وقد يحتجُّ له بأنَّ المنفعة العظْمَى للأسنان المَضْغ، والأسنان مضمونةٌ بالديةِ، فكذلك منافعُها، كالبَصَر مع العين، والبَطْش مع اليد، وذكر في الكتاب لتفويتِ المَضْغ طريقين: أحدهما: أن تصلب مغرس اللَّحْيَيْن؛ حتى تمتنع حركتهما مجيئًا وذهاباً. والثاني: أن يجني على الأسنان، فيصيبها خَدَرٌ، وتبطل صلاحيتهما للمضْغ (¬3)، وحكم بوجوب الديةِ بالطريقين، والوجوب بالجناية على السَّنِّ شائعٌ في كلام الأصحابِ، وبتصليب مغرس اللَّحْيَينِ، ذكره الفُوَرَانِيُّ، وعلى ذلك جرى الإِمام وصاحبَ الكتاب وغيرهما -رحمهم الله- وأعلم أنَّ تعذُّر المضغِ بالخَلَل الَّذي يصيب الأسنان؛ كتعذُّر البطْشِ لشَلَلِ اليدِ، والتعذُّر لتصليب المغرسِ شبه بتعذر المشي بكَسْر (¬4) الصلب، ويشبه أن يجيء في تكميلِ الديةِ في السِّنِّ المعطَّلة بتصليب المغرسِ الخلافُ المذكورُ في تكميل الديةِ في الرِّجْل المعطَّلة بكسر الصَّلْبِ، ولو جنى على أسنانِهِ، فاسودَّتْ، ولم تبطل منفعةُ المضغ، فلا يجب إلا الحكومة، وقد مرَّ ذلك، ويجوز أن يُعْلَم؛ لما مر قوله في الكتاب: "فحَكُومة" بالحاء والميم، [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: التَّاسِعَةُ قُوَّةُ الإِمْنَاءِ والإِحْبَالِ فِيهَا كَمَالُ الدِّيَةِ، وَفِي قُوَّةِ الإِرْضَاعِ ¬
حُكُومَةٌ لأنَّهَا عَارِضَةٌ، وَإِبْطَالُ الالْتِذَاذِ بِالجِمَاعِ أَوْ بِالطَّعَامِ إِنْ أَمْكَنَ فِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَكَذَا لَوِ ارْتَتَقَ مَنْفَذُ الطَّعَامِ بِجِنَايَةٍ عَلَى عُنُقِهِ وَبَقِيَ مَعَهُ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَحَزّ غَيْرِهِ رَقَبَتَهُ فَكَمَالُ الدِّيَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا جنى عَلَى إنسان، فكَسِرَ صُلْبَهُ، وأبطل قوَّة إمنائِهِ، وجب عليه الديةُ؛ لأن الماء مقصودٌ للنَّسْل، ولو قطع أنثييه، فذهب ماؤُه، لزمه دية الأُنْثَيَيْنِ، وديةٌ لذهاب الماء، وكذا لو أبطلِ مِنَ المرأة فوقَ الإحْبَالِ، وجب عليه ديتُها، ولو جنى على ثَدْيها، فانقطع لبنُها، فعليه الحكومةُ، فإن انتقص، أخذت حكومة ما يليق به، وإن لم يكن لها لبنٌ عنْد الجنايةِ، ثم ولدت، ولم يدرَّ لها لبنٌ، وامتنع لذلك الإِرضاع، وجبت الحكومة، إذا قال أهل البَصَر: إن الانقطاع بسببِ الجنايةِ، أو جوَّزوا أن يكون بسببها، وفُرِّق بين إبطال الإرضاع وإبطالِ الامناءِ؛ حيث أوجب الدية؛ بأن استعدادَ الطبيعةِ للمَنِيِّ صفةٌ لازمةٌ للفُحُولِ، والإرضاع شيء يطرأ ويزول، هذا هو المشهور، وعن الإِمام احتمالُ أنه يجبُ الدية بإبطال منفعةِ الإرضاع، ولو جنى على صُلْبه، فذهب جِماعُهُ، لزمه الدية؛ لأن المجامعة من أصول المَنَافع، وورد الأثر فيه عن أبي بَكْرٍ وعمر وعليٍّ (¬1) -رَضِيَ اللهُ عَنهُمْ أجمعين (¬2) -. ولو ادعَى المجنُّى عليه ذَهَابَهُ، وأنكر الجاني، صُدَّق المجنيُّ عليه بيمينه؛ لأنه لا يُعْرَفُ إلاَّ منه، كما إذا قالت المرأة: حِضْتُ، إلا أن يقول أهلُ البَصَر: إنه لا يمكن أن يذْهَب الجماعُ من هذه الجناية. واعلَمْ أنهم صوَّروا صورة ذهابِ الجماعِ بهذه فيما إذا لم ينقطع ماؤه، وبقى ذكره (¬3) سليماً، وذكروا أنه لو كسر صُلْبه، وأشلَّ ذكره، فعليه ديةُ الذَّكَر، وحكومةٌ لكسر الصلب، وإن كان الذكرُ سليماً، كان الشخص قادراً على الجماع حسّاً؛ فأشعر ذلك بأنهم أرادوا بذهاب الجماعِ بطلانَ الالتذاذِ به والرغبةِ فيه، وكذلك صوَّر الإِمام وصاحبُ الكتاب في إبطال شَهْوة الجماعِ على أنَّ الإِمام استبعد ذهابَ الشَّهْوة مع بقاء المنَّي، ثم قال: "إنْ أمكنَ ذلكَ، فيجب أن يُقَالَ: إذا ذهب بالجنايةِ شَهْوته للطَّعام، تجب الدية بطريق الأَوْلَى، إنْ صح تصورُّه (¬4) وأُدْرِكَ تأثير الجناية فيه. ولو جنَى على عنقه، فلم يمكنه ابتلاعُ الطعام إلاَّ بمشقَّة لالتواء العُنُق، أو غيره، فعليه الحكومة، ولو لم ينفذ الطعامُ والشرابُ أصلاً، لارتتاق المنفذ، فلا يعيش المجنيُّ عليه، والحالة هذه، ولم تزد طائفةٌ من النَّقَلَةَ على أنه ساغ الطعامَ والشرابَ، فذاك، ¬
وعليه حكومةٌ، وإنْ مات فعلَيْهِ الديةُ، ونقل الإمامُ وتابعه صاحبُ الكتابِ؛ أن نفْسَ الجناية المفضيَةِ إلى الارتتاق توجب الديةَ، حتى لو حزَّ غيرُه رقبتَهُ، وفيه حياةٌ مستقرةٌ، تجب الدية على الأول، ولو مات بامتناع نفوذِ الطعامِ والشراب، قال الإِمام: إن قلْنا: إنَّ من قطع يدَيْ إنسان أو رجلَيْه، ثم حَزَّ رقبته، لا يجب عليه إلا ديةٌ واحدةٌ، فكذلك ههنا، وإن قلنا هناك: يجب ديتانِ، ولا تداخل، فيجوز أن يقال ههنا: الموتُ بسبب الجوعِ والعطشِ، كسرايةِ الجراحاتِ؛ حتى لا يجبَ إلا ديةٌ واحدةٌ، ويجوز ألا يعدَّ من قبيل السرايات، بل يجعل كالحزَّ، فيجب بإبطال هذه المنفعة أو كسر الرقبة دية، وبإزهاق الرُّوح أخرَى (¬1)، [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: وَفِي الإِفْضَاءِ كَمَالُ الدِّيَةِ عَلَى الزَّوْجِ والزَّانِي جَمِيعاً وَهُوَ أَنْ يتَّحِدَ مَسْلَكُ الجِمَاعِ وَالغَائِطِ، وَلا يَنْدَرجُ تَحْتَهُ المُهُرُ، وَلا يَنْدَرجُ أَرْشُ البَكَارَةِ تَحْتَ المَهْرِ، وَلَوْ أَزالَ الزَّوْجُ بَكارَةَ زَوْجَتِهِ بِأُصْبُعِ فَفِي أَرْشِ البَكَارَةَ خِلاَفٌ, وَمَهْمَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ لاَ تَحْتَمِلُ الوَطْءَ إلاَّ بِالإِفْضَاءِ فالْوَطْءُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ، فَإنْ كَانَ سَبَبُهُ ضِيقَ المَنْفَذِ فَهُوَ كَالرَّتْقِ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرَ الآلَةِ فَهُوَ كالْجَبِّ فِي إِثْبَاتِ الخِيارِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه ثلاث مسائل: احداها: نصَّ الشافعيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى أن في إفضاء المرأة ديتَهَا، وذلك لما فيه من فواتِ منْفعةِ الاستمتاعِ أو اختلالِه: وقد رُوِيَ عن زيدِ بنِ ثابتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ في الأفضاءِ الديةَ. واختلفوا في حقيقته، فقال قائلونَ: الإفضاء أن يرفع الحاجزُ بين مدخل الذَّكَر، وهو في أسفلِ الفرج، ومنه يخرُجُ الولد، وبين مخْرَج البول، وهو ثقبةٌ في أعلاه، وقال آخرون: هو رفع الحاجزِ بين مَسْلَك الجماعِ ومخْرَج (¬2) الدبر. واحتجَّ للأول؛ بأنهم صوَّروا الإفضاءِ بالوطء، ومدخلُ الذكرِ ومخرجُ البولِ متقاربانِ، فقد يفضي الوطء إلى رفع الحاجِز بينهما، والقبل والدبرُ متباعدان، وبينهما حاجزٌ قويٌّ من الأعضاء (¬3) الغليظة فلا يكاد يزولُ بالوطء، وبأنهم تكلَّموا في استمساك البَوْل واسترساله، إذا حصل الإفضاء عَلَى ما سيأتي، إن شاء الله تعالَى، وذلك يشعرُ بانخراق ثقبة البولِ، إذا وجد الإفضاء، وبهذا قال الشيخ أبو حامد، وتابعوه، وهو الذي رجَّحه صاحبُ "التهذيب" وغيره. ¬
وللوجه الثاني؛ بأن الدية لا تجبُ إلاَّ بتفويت المنفعة، وذلك برفعِ الحاجِزِ بين السبيلَيْن، فأما رفع الحاجزِ بين ثُقْبة البول ومدخلِ الذَّكَر، فإنه لا يفوِّت المنفعة، وإنما يَنْقُصُهَا، ويحكَى هذا الثاني عن ابْن أبي هريرة، والقاضي أبي الطيِّب، والشيخ أبي محمَّد، والشريف ناصر، وهو الذي أورده الرويانيُّ في "الحِلْيَة". وصاحب "التهذيب" في الكتاب (¬1). قال الشيخُ المتولِّي: والصحيحُ أن كلَّ واحد منهما إفضاءٌ موجبٌ؛ للدية؛ لأن الاستمتاعَ يختلُّ بكلِّ واحدٍ منهما؛ ولأن كل واحد منهما يفوِّت إمساك الخارج من أحد (¬2) السبيلين وعلى هذا، فلو أزال الحاجزَيْن، فعلَيْه ديتان، والديةُ الواجبةُ بالإفضاء تختلفُ غلظًا وخفة باختلاف حالِ الإفْضاء، فقد يكون عمدًا محضًا؛ بأن تكون المرأة ضعيفة (¬3) أو نحيفةً، والغالبُ إفضاء وطْئها إلى الإفضاء، وقد يكون عمدًا خطأ؛ بألاَّ يتضمن وطؤُهَا الإفضاءَ غالبًا وقد (¬4) يكونُ خطأً محضًا؛ بأن يجد امرأة على فراشه، فيظنها امرأته التي عَهِدَها، فيطأها فيفضيها، وهذا إذا حصل الإفضاء بالوطء، ولا فرق في الدية بينه وبين أن يحصُلَ بأصبع أو خشبة، أو شيء محدَّد، وإذا أفضاها، وكان يسترسلُ بَوْلُها، ولا يستمسكُ، فعليه مع الديةِ حكومةٌ للشَّيْن الحاصلِ باسترسال البولِ، وفيه وجه أنه لا يجب إلاَّ الدية لأن زوال الحاجزِ يتضمَّن الاسترسال غالبًا، فلا يفرد بحكومة، ولا فرق في وجوب الديةِ في الإفضاء الحاصلِ بالوطء بين أن يوجد من الزوجِ أو الواطئِ بالشبهةِ أو الزاني، ويستقرُّ المهر على الزوج بالوطء المتضمِّن للإفضاء، ويجب به مهرُ المثلِ على الواطئ بالشبهة، وكذلك على الزانِي، إن كانت مكرهةً، وعليه الحدُّ، وقال أبو حنيفةَ: لا يجبُ على الزوج ضمانُ الإفضاء، ويجب على الواطئ بالشبهةِ المهْرُ، وثلثُ الدية، إنْ كان البولُ مستمسكًا، وإن كان مسترسلًا، وجبت الديةُ دون المهر، قال: ولا مهر على الزانِي المكْرَهِ؛ بناءً عَلَى أن الحدَّ والمهر لا يجتمعانِ، وتجب الدية إنْ كان البول لا يستمسكُ، وإن كان يستمسكُ، فعليه ثلثُ الدية، وإن كانتْ مطاوعةً؛ قال: لا يجبُ على الزانِي ضمانُ الإفضاء لتولُّده من الوطء المأذون فيه، ووافق أحمدُ أبا حنيفة في جميع ذلك، واحتجَّ الأصحابُ بأن المهر وديةَ الإفضاءِ بَدَلاً منفعتين مختلفتَيْن، فلا يدخل أحدُهُما في الآخر، وقالوا: إنَّها وإن طاوعَتْ، فإنما رضيت بالوطء، لا بالإفضاء، وقوله في الكتاب: "على الزوج" معْلَم بالحاء والألف؛ لما تبيَّن، ويجوز أن يُعْلَم لفظ "الزَّانِي" بالعلامتين أيضًا؛ لأنهما لا يوجبانِ الضمانَ عليه، إن كانت المرأة مطاوعةً، وأيضًا فلو كانت مكرهةً، والبول ¬
مستمسكٌ، فإنهما لا يوجبانِ عليه كمالَ الدية، وإنَّما يوجبان الثلث. وقوله: "وهو أن يتحد مسلَكُ الجماعِ والغائطِ" معلَمٌ بالواو. وقوله: "ولا يندرجُ تحته المهر"، أي تحت كمال الدية. المسألة الثانية: أن إزالة بكارةِ المرأةِ توجَدُ تارةً ممَّن لا يستحقُّ الافتضاض (¬1)، وأخرى من يستحقُّه، وهو الزوج. القسم الأول: إذا كان مزيلُ البكارةِ ممن لا يستحقُّ الافتضاضَ، فينظرُ؛ إنْ أزالها بغير آلة الجماع: كالأصبع والخشبة، فعليه أرشُ البكارة، والمرادُ منه الحكومةُ المأخوذةُ من تقدير الرقِّ على ما بيَّنا في فصل الحكومات، وذكر في "التهذيب" وجهين في أن جنس الواجبِ يكون من الإبل، أو من نقد البَلَد، والأصحُّ الأول؛ عَلَى ما هو قاعدةُ الجناية على الأحْرار، ولو أزالت بكْرٌ بكارة أخْرَى، اقتص منها، وإن أزالها بآلة الجماعِ، فإن طاوعته المرأة، فلا أرش؛ كما لا مهر، وإن كانت مكرهةً، أو هناك شبهة نكاحٍ فاسدٍ أو غيره، فوجهان: أظهرهما، وهو الذي أورده في الكتاب، وينسب إلى النصِّ: أنه يجب مهر مثلها ثيِّبًا، وأرش البكارة (¬2)، ولا يندرج أرشُ البكارة في المَهْر؛ لأن المهْر يجب للاستمتاعِ، واستيفاء منفعة البَضْع، والأرش يجب لإزالة تلك الجلدة، والجهتان (¬3) مختلفتان، فيفرد موجبُ كلِّ واحدة عن موجب الأخرى. والثاني: يجبُ مهر مثلها بكرًا؛ لأن القصد من هذا الفعْلِ الاستمتاع، وإزالة تلك الجلدة يحصل في ضمْن الاستمتاع، وإذا أوجبنا مهْر مثلها بكرًا، فقد وفَّينا حقَّ البكارة؛ لأن مهر مثل المرأة بكرًا يزيد عَلَى مهر مثلها ثيِّبًا، وإذا قلنا يفرد بالأرش، فيعود الوجهان في أن جنسه الإبل أو النقد؟ القسم الثاني: إذا كان المزيلُ مستحقَّ الافتضاضِ (¬4)، وهو الزوج، فإن أزالها بآلةِ الجماعِ، فقد استوفَى حقه، وإن أزالها بغيرها، فوجهان: أصحهما: لا شيءَ عليه؛ لأن المستوفَى حقُّه، وإن أخطأ في طريق الاستيفاءِ. ¬
فرع
والثاني: أنه يلزمه الأرشُ؛ لعدوله عن الطريقِ المستحَقِّ له. ومن افتضَّ، وألزمناه أرشَ البكارة، فلو أفضى المرأة مع الافتضاض، ففي دخول أرش البكارةِ في دية الإفضاء (¬1) وجْهان: أحدهما: لا يدخل، كما لا يدخلُ المهر في الدية. وأصحهما: الدخولُ (¬2)؛ لأن الدية والأرشَ يجبانِ للإتلافِ، فيدخل أقلهما في أكثرهما، والمهر (¬3) إنما يجبُ بسبب الاستمتاعِ، فلا يدخل في بدل الإِتلافِ، كما لو تحامل على الموطوءة، حتى كسر رجلها لا يدخلَ المَهْر في دية الرِّجْل. الثالثة: إذا كانت الزوجةُ لا تحتملُ الوطء، إلا بالإفضاء، لم يجز للزوج وطؤُها، ولم يكن عليها (¬4) [التمكين، ثم الذي أورده صاحبُ الكتاب هاهنا، وفي "الوسيط" أنه إن كان سببه ضيقَ المنفذ؛ بحيث يخالف العادة، فللزوج خيارُ الفسخ، كالرَّتْق، وإن كان سببه كبر الآلةَ؛ بحيث يخالف العادة، فلها الخيار؛ كما في الجَبِّ، والمشهور من كلام الأصحاب، وقد تقدَّم ذكره في "كتاب الصداق"؛ أنه فسْخَ بمثل ذلك، بخلاف الرتْقِ والجَبِّ؛ فإنهما يمنعان الوطء على الإطلاق، والضيق والكبر لا يمنعانه على الإطلاق، وليسا من جملة العيوب ويشبه، أن يفصَّل، فيقال: إن كانت المرأة نحيفةً، لو وطئها الزوج، لأفضاها لكنها تحتمل وطء نحيفٍ مثلها، فلا فسخ، وإن كان ضِيقَ المَنفَذِ، بحيث يفضي وطؤها من أي شخص فرض إلى الإفضاء، فهذا كالرَّتْق، وينزل ما قاله الأصحاب على الحالة الأولَى، وما في الكتاب على الثانية، والله أعلم. " فَرْعٌ" إذا التأم الجُرْح بعد الإفضاء، سقطَتِ الديةُ، وعليه حكومةٌ، إن بقي أثر، كما لو عاد ضوء البصر بعد ما ظُنَّ زواله، وعن رواية الماسرجسيِّ وغيره وجه أنَّها تسقُطُ، كما إذا التحمت الجائفة. آخر: لو أفضى الخنثَى المُشْكِل، ففي "البيان"؛ أنَّا إن قلنا: إن الإفضاء رفَعَ الحاجز بين منفذ البول ومدخل الذكَر، لم تجبِ الديةُ؛ لأنه لا يعلمُ، هل هو فرج ¬
أصليٌّ أم لا، وإن قلنا: إنه رفع الحاجز بين القُبُل والدبر، ففيه اختلافٌ، ولو أزيلت البكارةُ من فرج المشكِلِ، فيجب حكومة الجِراحةِ، من حيث هو جراحة، ولا تعتبر البكارةُ؛ لأنه لا يتحقَّق كونه فَرْجاً. قال الغَزَالِيُّ: العَاشِرَةُ فِي مَنْفَعَةِ المَشْيِ والبَطْشِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَلَوْ ضَرَبَ صُلْبَهُ فَبَطَلَ مَشْيُهُ وَجَبَ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَفِي تَكْمِيلِ الدِّيَةِ فِي الرِّجْلِ المُعَطَّلَةِ بِخَلَلٍ فِي غَيْرِ الرِّجْلِ خِلافٌ سَبَقَ، وَلَوْ ضَرَبَ صُلْبَهُ فَبَطَلَ مَشْيُهُ وَمِنَيُّهُ فَفِي الانْدِراجِ خِلاَفٌ إِذِ الصُّلبُ كَأَنَّهُ مَحَلٌّ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في البطْشِ الديةُ بكمالها، وكذلك في المشْي؛ لأنهما من المنافع الخطيرة، فإذا ضَرُبَ يديه، فشَلَّتا، فعليه الديةُ، وإذا ضرب على أصْبع، فشَلَّت، فعليه ديةُ الأصبعِ، ولو كسر صلبه، ففات مشيه، والرِّجْل سليمة، وجبت الديةُ، ويحتجُّ له بما رويَ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في كتاب عَمْرو بن حَزْمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "وفي الصُّلْبِ الدِّيَةُ" ولا تؤخذُ الديةُ؛ حتى تندمل، فإن انجبر، وعاد مشيه، كما كان، فلا دية، وعليه الحكومة، إن بقي له أثرٌ، وكذا لو انتقصَ مشيه، بأن كان يحتاجُ إلَى عصًا، أو يمشي مُحْدَوْدِبًا (¬1)، ولو كسر صُلْبُه، وشَلَّت رِجْله، قال في "التتمة": يلزمه الدية؛ لفوات منفعة المشي، وحكومةٌ؛ لكسرِ الظهر، ويخالف ما إذا كانت الرجلُ سليمةً؛ حيث لا يجبُ مع الدية حكومةٌ؛ لأن المشيَ منفعةٌ في الرجل، وإذا شَلَّت الرجل، ففواتها لشلَلِ الرجلِ، فأفرد كسر الصلب بالحكومة، وإذا كانت سليمةً، ففوات المشي لخللِ الصُّلب، ولا يفرد بحكومة، ويوافق هذا ما ذكره ابن الصَّبَّاغ؛ (¬2) أنه لو كسر صلبه، فشَلَّ ذكره، يجبُ حكومة للكَسْر، وديةٌ لشللِ الذكر، وفي هذا تصريحٌ بأن مجرَّد الكسر لا يوجب الديةَ، وإنما يجب الدية، إذا فات به المشْيُ، أو الماءُ، أو الجماعُ على ما سبقَ، وإذا ادَّعَى المجني عليه ذَهَابَ المشي، وكذبه الجاني، امتحن؛ بأن يقصد بالسيف في غفلة منه، فإن تحرَّك، ومشى، ظهر كذبه، وإلا حَلَف وأخذ الدية، ولو ذهب بكسر الصُّلْب مشيه ومَنِيُّهُ (¬3)، أو مشيه وجِمَاعُه، ففيه وجهان: ¬
أصحهما: أنه يلزمه ديتَانِ؛ لأن كلَّ واحدٍ منهما مضمونٌ بالدية عند الانفراد، فكذلك عند الاجتماع. والثاني: لا يجبُ إلا ديةٌ واحدةٌ؛ لأن الصُّلْب محلُّ المني، ومنه يبتدئ المنيُّ، واتحاد المحل يقتضي اتحادَ الدية، ومن قال بالأول، قال: المشيُ في الرِّجْل لا في الصُّلْب، ومنع كون الماء مستقرًا في الصُّلْب، وقال: ليس له محلٌّ مخصوصٌ، إذا أخذ منها البَدَن، وإنما يتولَّد من الأغذية الصحيحة، إذا أخذ منها البدن. وقوله في الكتاب: "في منفعةِ البطشِ والمَشْيِ كمالُ الدية" أي: في كلِّ واحد منهما. وقوله: "وفي تكميلِ الديةِ في الرِّجْل المعطَّلة بخَلَلٍ في غير الرَّجْل خِلافٌ سبق"، وقد بيَّناه من قبلُ، ولا حاجة إلَى إعادته في هذا الموضع. قال الغَزَالِيُّ: هَذَا حُكْمُ الأَطْرَافِ فَيُتَصَوَّرُ أَنْ يَجِبَ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ قَرِيبٍ مِنْ عِشْرِينَ دِيَةٌ جَمْعًا، فَلَوْ مَاتَ بِالسِّرَايَةِ تَدَاخَلَ، فَلَوْ حَزَّ الجَاني رَقَبَتَهُ تَدَاخَلَ أَيْضًا، وَعَلَى القَوْلِ المُخَرَّجِ لاَ يَتَداخَلُ، وَلَوْ كانَ القَطْعُ خَطَأً والحَزُّ عَمْدًا أَوْ بِالعَكْسِ فَفِي التَّدَاخُلِ قَوْلاَنِ لِأَنَّ تَغَايُر الحُكْمِ يُضَاهِي تَغَايُر الجَانِي، وَعَلَى التَّدَاخُلِ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ خَطَأً وَقَتَلَ عَمْدًا فالواجِبُ دِيَةٌ نِصْفُهَا مُغَلَّظَةٌ عَلَى الجَانِي وَنصْفُهَا مُخَفَّفَةٌ عَلَى العَاقِلَةِ، وَقِيلَ: يَجِبُ الكُلُّ مُغَلَّظَةٌ إِذِ الحَزُّ أَبْطَلَ مَا سَبَقَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لمَّا فرغ من الكلام فيما يقابَلُ بالدية فيما دُونَ النفْسِ من الأجْرَام واللطائف، بَيَّنَ أنه يجوز أن يجتمعَ على الشخص الواحد كثيرٌ من أسباب الدية؛ بأن بيان منه أجرامٌ، وتزال منافعُ، ولا تسري إلى النفس، بل تندملُ، ثم بين الحكم، إذا سَرَتْ إلى النفس، أو قتله الجاني قبل الاندمال، أما الدياتُ المجتمعةُ، فقد ذكر أنه يتصوَّر في شخص واحد قريبٌ من عشرين ديةً جميعًا، وإذا تأمَّلت ما سبق، وجدْتَها أكثرَ من ذلك، وهي هذه الأذنانِ، أو إبطالُ حسِّهما، وَالعينان، أو البَصَر، والأجفان، والمَارِن، والشَّفَتَان، واللِّسان، أو النّطْق، والأَسْنَان، واللَّحْيَان، واليدان، والرجلان (¬1)، والذَّكَر، أوالأُنْثَيَيان، والحَلَمَتان، والشُّفْران، والألْيَان، والعَقْل، والسَّمْع، والشَّمّ، والصَّوْت، والذَّوْق، والمَضْغ، والإمناء، والإحْبَال، وإبطالُ لذَّة الطَّعام، أو لذَّةِ الجمَاعِ، والإفضاءُ في المرأة، والبَطْش، والمَشْيُ، وقد يضافُ إليها موجباتُ الحكوماتِ، والمواضحِ، وسائرِ الشَّجَّات، والجوائفِ، ويجتمع مالٌ كثيرٌ لا ينحصِرُ. ¬
وأما إذا سَرَت الجراحاتُ، وقَطْع الأطراف، ومات فيها، فقد صارَتْ نَفْسًا، فالواجبُ ديةُ النَّفْس، ويسقطُ بدلُ الأطراف، ولو عاد، فحزَّ رقبته، أو قدَّه نصفَيْن، نُظِر؛ إن كان ذلك بعد الاندمالِ، فله ديةُ الأطراف، وديةُ النفسِ؛ لاستقرارِ دياتِ الأطرافِ بالاندمال، وإنْ كانَ قبل الاندمال، فقدولان: [أحدهما، وهو] (¬1) ظاهرُ المذهبِ، وهو المنسوبُ إلى النصِّ: أنه لا يجبُ إلاَّ دية النفس؛ لأنها وجبتْ قبل استقرار بدلِ الأطرافِ، فيدخل فيها بدلُ الأطراف، كما لو سَرَتْ، وأيضًا فإن السراية، إذا لم تنقطعْ بالاندمال، كانت الجناياتُ كلُّها قتلًا واحدًا. والثاني، خرجه ابنُ سُرَيْج، وبه قال الإِصطخريُّ، واختاره الإِمام: أنه يجب دياتُ الأَطرافِ مع دية النَّفْس، ولا تداخل؛ كما لو حَزَّ بعْد الاندمالِ، وكما لو كان الجالي (¬2) غيره، وهذا إذا اتفقتِ الجنايةُ على الأطراف، والجناية على النفْسِ في العمدية، أو الخَطَئِيَّةِ (¬3). أما إذا كانت إحداهما عمْدًا، والأخرى خَطَأً، وقلنا؛ بالتداخل عند اتفاقِ الصفَةِ، فوجهان، ويقال: قولان: أحدهما: أن الحكْمَ كما لو كانا عمدَيْن، أو خطأَيْنِ. وأشبههما: المنع؛ لأن التداخل يليقُ بحالة الاتفاقِ دون الاختلافِ، ولأن المستحقَّ عليه يختلفُ عند اختلاف الصفةِ، فلو قطع يد رجلٍ خطأً، ثم حز رقبته قبل الاندمال عمدًا، فللولي قتله قصاصًا، وليس له قطع يده، فإن قتله قصاصًا، فإن قلنا: بالتداخُلِ، وجعلْنا الحكم للنفْسِ، فلا شيء له من الدية، وإنْ قلنا، بعدمِ التداخلِ، فيأخذ نصف الدية من العاقلة لليد، وإن عفا عن القصاص، فإن قلنا بالتداخل، فوجهان: أحدهما: أنه يجبُ ديةٌ نصفُها مخَفَّفةٌ على العاقلة، وصفُها مغلَّظة على الجانى، ويراعى الصفتان، وينسبُ هذا إلى النصِّ. وأظهرهما، وهو الذي أورده في "التهذيب": أنه يجب دية مغلَّظة على الجاني؛ لأنا إذا قلنا بالتداخل، فمعناه إسقاطُ بدل الطرف، والاقتصارُ على بدل النفس لصيرورةِ الجنايةِ نفسًا، ولو لم يسبق قطعُ اليد، لكان يلزمه دية مغلَّظة، فكذلك هاهنا، وإن قلنا لا تداخل، فيجب نصف دية مخفَّفة على العاقلة لليد، وديةٌ مغلَّظة عليه للنفس. وإن قطع يديه عمدًا، ثم حز رقبته قبل الاندمال خطأً، فللوليِّ قطع يده، وإذا (¬4) ¬
قطعها، فإن قلنا بالتداخل، فله نصفُ الدية المخفَّفة؛ لأنه أخذ بالقطع نصف بدلِ النفْسِ، وإن قلنا: لا تداخل، فيأخذ كمال الدية المخفَّفة، وإنْ عفا عن قطع اليدِ، وإن قلنا بالتداخلِ، فعلى الوجهين على المنسوب إلى النصِّ؛ يجب نصف دية مخفَّفة، ونصف دية مغلَّظة لليد، وعلى الآخر ديةٌ مخفَّفة للنفْسِ، قال الإِمام: ولو قطع يديه، أو يديه ورجلَيْه، أو أصبعًا من أصابعه عمْدًا، ثم قبل الاندمال حزَّ رقبته خطأً أو بالعَكْس، وقلنا: يراعى صفة الجنايَتَيْن على القول بالتداخل فينَصَّف تغليظًا وتخفيفًا، ولا ينظر إلَى أقدار أُرُوش الأطرافِ؛ لتوزَّع الدية عليها تغليظًا وتخفيفًا؛ لأن الحكم بالتداخل مبنيُّ على أن الحزَّ بعد قطع الأطراف كسراية تلْك الأطراف؛ فكان الحَزُّ مع الجنايات السابقة، كجراحاتٍ مؤثرة في الزهُوق، انقَسَمَت عمدًا وخطأ، فحينئذٍ فتُنَصَّفُ الديةُ تغليظًا وتخفيفًا، ولا نَظَر إلى أقدار الأُرُوش، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: وَجَرَاحُ العَبْدِ مِنْ قِيمَتِهِ كَجَرَاحِ الحُرِّ مِنْ دِيَتِهِ عَلَى النَّصِّ، وَفِيهِ قَولٌ مُخَرَّجٌ أَنَّ الواجِبَ بِقَدْرِ النُّقْصَانِ، فَلَوْ قَطَعَ ذَكَرَ العَبْدِ وَجَبَ كَمالُ قِيمَتِهِ عَلَى النَّصِّ، وَعَلَى التَّخْرِيجِ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ إِذَا لَمْ يَنْقِصَ القِيمَةُ كَالبَهِيمَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصود الفصل الكلامُ في الجناية على الرقيق، وقد مرَّ أن الواجب بقتل الرقيقِ قيمتُهُ بالغةً ما بلغَتْ يستوي في ذلك القِنُّ، والمدَبَّر، والمكاتَبُ، وأمُّ الولد، وأما الجناية عليه فيما دون النفْسِ، فينظر؛ إن كانت الجنايةُ مما توجِبُ مقدارًا في الحُرِّ؛ كالشَّجَّات، وقطع الأطراف، ففيه قولان: أصحهما: أن الواجبَ فيها جزءٌ من القيمة، نسبته إليها نسبةُ الواجب في الحُرِّ إلى الدية؛ لما رُويَ عن عمر وعليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-؛ أنَّ جراحَ العبدِ من ثَمَنِهِ كجراحِ الحُرِّ من ديته (¬1)، والمرادُ من الثمن القيمةُ، وعن سعيد بْنِ المُسَيَّب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ أن جراحَ العبدِ من قيمته، كجراح الحرِّ من ديته، ولأن العبد شخصٌ مضمونٌ بالقصاصِ، فيتقدَّر بدل أطرافه؛ كالحرِّ، وبهذا قال أبو حنيفةَ في رواية، ويروى عنه أن ما فيه منفعةٌ مقصودةٌ (¬2) يضمَّن بالمقدَّر من قيمته، وما ليْسَ فيه منفعة ¬
مقصودةٌ (¬1)؛ كالأذنَيْن، والحاجبَيْن، واللِّحْية، ففيه من العبد ما نقَصَ من قيمته، وهذا على أصْله في تقدير بعْض الشعورُ من الحرِّ. والثاني، ويحكَى عن المُزَنِيِّ، وابْنِ سُرَيْجٍ: أن الواجب قدْرُ ما نقص من القيمة؛ لأنه مملوك؛ كالبهيمة، وقال مالك: الواجبُ قدرُ النقصان إلاَّ في الموضِّحة، والمنقِّلة، والمأمُومَة، والجائفة، ففيها المقدَّر، ومن الأصحاب من قطع بالقول الأول (¬2)؛ ولم يثبت الثاني، والمشهور إثباتُهُما، ثم منهم من يقول: الأوَّلُ هو المنصوصُ، والثاني خرَّجه ابنُ سُرَيْج من أحد القولَيْن في أن بدَلَ العبد يتحملَّه (¬3) العاقلة، فإنه ألحقه بالبهيمة عَلَى هذا القول، وقال قائلون: الأول الجديد، والثاني القديم، وهما جميعًا منصوصان. لوان كانت الجنايةُ لا توجِبُ؛ مقدارًا في حق الحر، فالواجبُ فيها في العبد ما ينقصُ من القيمة بلا خلاف. إذا تقرَّر ذلك، فعلى الأصحِّ في إحدى يدَي العبد نصْفُ قيمَتِهِ، وفي يدَيْه قيمته (¬4)، وفي الأصبعِ الواحدةِ عُشْرُها وفي الأنمُلَةِ الواحدَةِ ثلُثُ عُشْرِها، وفي الموضِّحة نصفُ عُشْرِها، وعلى هذا القياس. ولو قطع قاطعٌ ذكَرَهُ، وأنثييه، فعليه قيمتان؛ كما يجب فيها من الحرِّ ديتان، وعلى القول الآخر، الواجبُ فيهما جميعًا قدْرُ النقصان، وإذا لم تنقصِ القيمةُ بقَطْع الذَّكَر والأُنْثَيَيْن، أو زادت، فوجهان: أظهرهما، وبه قال أبو حنيفة، وهو المذكور في الكتاب: أنه لا يجبُ شيء. والثاني: تجبُ حكومةٌ يقدِّرها الحاكم بالاجتهاد، أو يعتبر بما قبل الاندمال، وجعل هذا الخلاف كالخلافِ فيما إذا اندملَتِ الجراحة، ولم يبق شَيْن، ولا أثر (¬5)، ومنهم من قطع بالوجه الأول، وإذا قطع يد عبد، قيمته ألفٌ، فعادت قيمته إلى مائتَيْن، فعلى الأصحِّ لا يجب إلا خمسُمائةٍ، وعلى الآخر ثَمَانمائة، ولو عادت إلى (¬6) ثمانمائة، ¬
القسم الثاني من الكتاب في الموجب
فعلى الأصحِّ يجب خَمْسُمَائَة، وعلى الآخر لا يجب إلا مائتان. ولو جنَى على العبد اثنانِ؛ بأن قطع أحدهما إحدَى يديه، والآخر اليدَ الأخْرَى، نُظِرَ، إن وقعت الجنايتان معًا، فعليهما قيمته، وإن تعاقبتا، وكانت القيمةُ عند القطع الثاني ناقصةً؛ بسبب القطع الأول، فإن مات منهما، ففي الواجب عليهما اختلافُ أوجه مذكورة في كتاب الصيد والذبائح، وإن وقف القطعان، نُظِرَ؛ إن وقع القطع الثاني بعد اندمال الأول، فعلَى كلِّ واحد منهما نُصفُ (¬1) قيمته قبل جنايته، فإن كانت (¬2) قيمته ألفًا، فعادت بالقطع الأول إلى ثمانمائة، وبالثاني إلى ستمائة، فعلى الأول خمسمائة، وعلى الثاني أربعمائة، وإن قطع (¬3) الثاني قبل اندمال الأول، فقد نقل صاحب "التهذيب" وغيره؛ أن على الثاني نصْفَ ما أوجبنا على الأول، وهو مائتان وخمْسُون؛ لأن الجناية الأولَى ما استقرت بعدُ حتى يضبط النقصان، وقد أوجبنا فيها نصْفَ القيمة، فكأنه انتقص نصْف القيمة، والحكم فيما إذا قطعَ الواحِدُ يديَ العبدِ، ولم يَسْرِ، كالحكم (¬4) فيما لو قطع اثنان، وهذا كلُّه على القول الأصحِّ، وعلى القول الآخر يجبُ على كل قاطعٍ ما ينقص بجنايته، وإذا قطعت أطرافُ العبد، ثم حَزَّ حازٌّ رقبته، فالواجب عليه قيمة العَبد، فقيد الأطراف ويفارق الحرَّ حيث لا يؤثر فقْدَانُ الأطراف في بدله، لأن الرجوعَ في بدل العبد إلى الأسواقٍ، وقولِ المقوِّمين، وبدل الحرِّ مقدَّر بالشرع لا يختلف، وفقد بعض أطراف العبد يؤثِّر في بدل سائرِ أطرافِهِ، لتأثيره في نقصان بدل النفْس، والحرُّ بخلافه. وقوله في الكتاب: "كجراحِ الحُرِّ من ديته" معْلَم بالميم. وقوله: "الواجبُ بِقَدْرِ النقصان" بالحاء. وقوله: "وفيه قولٌ مخرَّج" بالواو. وكذا قوله: "لم يجبْ شيء"، ويجوز أن يُعْلَم الحكمُ في القولَيْن جميعًا بالألف، لأن عن أحمد روايتين كالقولين، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: القِسْمُ الثَّانِي مِنَ الكِتَابِ في المُوجِبِ، والنَّظَرُ فِي أَرْبَعَةَ أَطْرافٍ، الطَّرَفُ الأَوَّلُ: السَّبَبُ وَهُوَ كُلُّ ما يَحْصُلُ الهَلاكُ عِنْدَهُ بِعِلَّةِ سَوَاهُ وَلَكِنْ لَوْلاهُ لَمَا أَثَّرَتِ العِلَّةُ كالحَفْرِ مَعَ التَّرْدِيَةِ، فأَمَّا مَا يَحْصُلُ الهَلاَكُ لَوْلاَهُ كَمَا لَوْ مَاتَ عِنْدَ صَعْقَةٍ خَفِيفَة فَهَذَا لا يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ، وَلَوْ صاحَ عَلَى صغيرٍ فَارْتَعَدَ وَسَقَطَ مِنْ سَطْحٍ ضَمِنَ، وَفِي ¬
القِصَاصِ قَوْلاَنِ، وَلَوْ كانَ بالِغًا فَثَلاَثةُ أَوْجُهٍ يُفَرَّقُ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ أَنْ يُغَافِصَهُ مِنْ وَرائِهِ أَوْ مِنْ وَجْهِهِ، وَلَوْ صَاحَ عَلَى صَبِيٍّ عَلَى الأَرْضِ فَمَاتَ أَوْ عَلَى بَالِغٍ فَزَالَ عَقْلُهُ فَوَجْهَانِ، وَلَوْ خَوَّفَ حَامِلًا فأَجْهَضَتْ جَنِينًا وَجَبَتِ الغُرَّةِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ، وَالضَّابِطُ أَنَّ مَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ سَبَبًا وَلَكِنِ احْتَمَلَ حُصُولُ الهَلاَكِ بِغَيْرِهِ فَهُوَ كَشِبْهِ العَمْدِ إِذا قَصَدَ، وَما يُشَكُّ فِي كَوْنهِ سَبَبًا احْتَمَلَ أَنْ يُقَالَ: الأَصْلُ بَراءَةُ الذِّمَّةِ أَوِ الأَصْلُ الحِوالَةُ عَلَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ،: غرض القسم بيانُ أن الواجب في إهلاكِ النفسِ وما دون النفس، كما يجب بمباشرةِ الإهْلاَك يجبُ بالتسبُّب إليه، وقد مرَّ أن مراتب الشيء؛ الَّذي له أثَرٌ في الهلاك ثلاثٌ، وهي: العلَّة، والسبَب، والشرط، وذكرنا في الغضْب وغيره؛ أن صاحب الكتاب لم يجر في الحَفْر على طريقة واحدةٍ، بل سمَّاه تارةً سببًا، وأخرى شرطًا، والتقسيم الذي ينطبقُ عليه المسائلُ هاهنا أن يقالَ: ما يحصل الهلاكُ عنده أو عَقِيبه؛ إما أن يكونَ هو المؤثِّر في الهلاك، أو لا يكون، إنْ كان، فهو علَّة الهلاك، ويتعلَّق به الديةُ لا محالة، وإن لم يكن، هو المؤثر، فإما أن يتوقَّف تأثير المؤثِّر في الهلاك عليه أو لا يتوقَّف، إن توقَّف؛ كالحفْر مع التردِّي، فيتعلق به الدية أيضًا على ما سيأتي، إن شاء الله تعالَى، وإن لم يتوقَّف، لم يتعلَّق به الدية، والموت عنده اتفاقيٌّ، ثم في الفصل صورٌ: إحداها: لو صَفَعَهُ صَفْعةً خفيفة، فمات، فلا ضمان؛ للعلمْ بأنه لا أثر لَهَا في الهلاك، وبأنه وافق قَدَرًا، كما لو كلَّمه أو صافَحَه، فمات، وفي بعض النسخ "صعقة" وهو صحيحٌ أيضًا. الثانيةُ: إذا صاح على صبيٍّ غير مميِّز على طرف سطْحِ أو بئر، أو نَهْر، فارتعد، وسقط منه، ومات، وجب ضمانه؛ لأنَّ الصبيَّ الضعيفَ كثيرًا ما يتأثر، ويضْطرب بالصيحة الشديدة، وهلْ عليه القصاصُ؟ فيه وجهان، ويقال قولان: أصحُّهما: المنعُ، ومن يوجبه كأنه يدعي أن التأثُّر بها غالبٌ، ورتَّب الخلاف على الخلافِ فيما إذا حفر بئرًا في الدِّهليز، ودعا غيره عليه، وجعلت هذه الصور أولَى بوجوب القصاص (¬1)؛ لأن تأثير الصيحة في الارتعادِ والاضطراب أشدُّ من تأثير الدعوة في التخطِّي والتردِّي، ولو كان الصبيُّ على وجه الأرض، وماَت من الصيحة، ففيه وجهان، حكى الإِمام عن بعْضِهم؛ أنه أجراه مجرى الارتعادِ، والسقُوطِ من حَرْف الجدار، والأظهرُ خلافه؛ لأن الموتَ على استواء الأرض بمجرَّد الصيحة في غاية البعد، وتأثيرها في الارتعادِ والسقوطِ قريبٌ، ولو صاحَ على بالغٍ على طرف سطحٍ ¬
ونحوه، فسقط، ومات، فلا قصاص، وفي الضمان أوجه: أحدها: أن الحكْمَ كما في الصِّغَر. وأصحُّها: المنع؛ لأن الغالب من حال البالغ العاقلِ التماسُكُ وعدمُ التَّأَثُّر (¬1) بالصياحِ، والسقوطُ والموتُ يحملان (¬2) على موافقة القَدَر. وثالثُها: عن ابن أبي هُرَيْرة؛ أنه إن غافصه من ورائه، وجب الضمان؛ لأنه يتأثر به لغفلَتِه، وإن صاح به مِنْ وجهه، فلا، ولو صاح على الصَّغير، فزال عقله، وجب الضمان، وإن كان بالغًا، فعلى الوجوهِ الثلاثة، والمجنونُ والمعتوهُ والذي يعتريه الوساوسُ والنَّائم، والمرأة الضعيفة، كالصبيِّ الذي لا يميز (¬3)، والمراهقُ المتيقِّظُ كالبالغ، وشهْرُ السلاحِ والتهديدُ الشديدُ كالصياح، ولو صاح على صيدٍ، فاضطرب به الصبيُّ على طرف السطح، وسقط، وجب الضمان أيضًا، لكن الدية، والحالة هذه، تكونُ مخفَّفة على العاقلة، وفيما إذا قصد الصبيَّ نفسه تكون مغلَّظة على العاقلة، وقياس من يقول بوجوبِ القصاصِ؛ أن تجب مغلَّظة على الجاني، وعن صاحب "التلخيص" أن الصائح على الصيد، إن كان محرمًا أو في الحرم تعلَّق بصيحته الضمانُ لتعديه، وإلا فلا ضمان، وقد ذكر عَلَى قياسه؛ أنه لو صاح بصبيٍّ في ملكه، لم يجب الضمان تشبيهًا بما لو حفر بئرًا في ملكه، فتردَّى فيها غيره، والظاهر أنه لا فرق كما لو رمَى من ملكه إلى إنسان، فأهْلَكَهُ. الثالثة: إذا بعث الإمامُ إلى امرأة ذكرت عنده بسوء، وأمر بإحضارها، فأجهضَتْ جنينَها فَزَعًا، وجب ضمان الجنين؛ خلافًا لأبي حنيفة. لنا: ما رُوِيَ أن عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أرسل إلى امرأةٍ، ذُكِرَت عنده، فأجهضَتْ ما في بطْنِها، فقال عمر للصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- ما تَرَوْنَ، فقال عبْدُ الرحمنِ بْنُ عوفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "إنَّما أَنْتَ مُؤَدِّبٌ لا شَيْءَ عَلَيْكَ، فَقالَ لِعَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: مَاذَا تَقولُ"، فقالَ: إنْ لَمْ يجتهدْ، فَقَدْ غَشَّكَ، وإنِ اجْتَهَدَ، فَقَدْ أَخْطَأَ، أرَى عليْكَ الدِّيَةَ، فقال عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أقسمْتُ عليْكَ لتفرقَنَّها في قومِك (¬4). قيل: أراد به قومَهُ، لكن ¬
أضافهم (¬1) إلى عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إكرامًا وإظهارًا للاتحاد. ولو أتاها رجلٌ، وأمرها على لسانِ الإِمام بأنْ تحضُرَ، فأجهضت جنينها، وجب الضمان على عاقلة الرجل، ولو هدَّد غير الإمام حاملاً، وأجهضت فَزَعًا، فليكنِ الحكمُ كما في الإِمام، وهذا كما أن إكراه غير الإِمام كإكراهه. ولو ماتت الحاملُ المبعوثُ إليها، أو بعث الإِمام إلى رجل ذُكِرَ بسوء (¬2)، وهدده، فمات، فلا ضمان لأن هذا السببُ لا يُفْضِي إلى الموت بخلافِ الإجهاض، هذا هو المشهورُ، وفي "النهاية"؛ أنه يجب الضمان وأن ذلك من الأسباب المؤدية إلى الهلاك، [والله أعلم]. ولو فزَّع إنسانًا، فأحدث في ثوبه، فلا ضمان (¬3)؛ لأنه لم ينتقص (¬4) جمالٌ، ولا منفعةٌ، وليُعْلَم من لفظ الكتاب قوله: "وَجَبَتِ الغُرَّة" بالحاء؛ لما ذكرنا. وكذا قوله: "من سَطْحٍ، ضمن"؛ لأن الحكاية عن أبي حنيفة؛ أنه لا ضمان فيما إذا مات بالصياح. وقوله: "والضابط ... " إلى آخره، قصد به ضبط (¬5) مواضع الوفاق والخلاف في الصُّورة المذكورةِ وغيرها، والمقصودُ أنه إن كان السبب مما يفضي إلى الهلاك غالبًا، فهو موجب للقصاص، وإن كان قد يفضي إليه، والغالب خلافه، لكن غلب على ¬
الظن؛ أن الهلاكَ الحاصلَ في الواقعة، حصل به، فهو شبه عمد، إذا كان بقصد الشخص، وهو كالصياحِ بالصغيرِ، وتهديدِ الحامل، وإن كان يتردد في حصول الهلاك به في الواقعة، مع كونه محتملاً، ففيه وجهانِ، منهم مَنْ ينفي الضمان فيه، ويتمسَّك بأن الأصل براءة الذمة، ومنهم من يوجِبُ الضمان، ويقول: هذا محتملٌ وغيره غير معلومِ الوجودِ، ولا بد من سبب، فيحال على هذا المحتمل. وقوله: "ما يظهر كونه سببًا" أي: يظن أن الهلاك حصل به. وقوله: "وما يشكّ في كونه سببًا"، أي: يتردَّد في أن الهلاك في الواقعة، هل حَصَل به. وقوله: "على السبب الظاهرِ" ليس المرادُ الذي ظهر؛ أنه سبب الهلاك في الواقعة؛ فإن ذلك يناقض التَردد فيه، وإنما المراد السببُ المعلومُ وجودُه، هذا ما يدلُّ عليه لفظه هاهنا، وفي "الوسيط" هذا تمامُ الكلامِ في الطَّرَف الأول. واعلم أنه رتَّب القول في القسم الثاني عَلَى أربعة أطراف: أحدها: في السبب وتمييزه عما ليس بسببٍ، وقد يتخيل أنه سبب، وقد فرَغْنا منه. والثاني: فيما إذا اجتمع العلَّة والذي نسميه سببًا أو شرطًا، ثم يناط الضمان. والثالث: فيما إذا اجتمع سبَبَانِ، وأحدُهُما راجحٌ، يحَالُ الضمان عليه. والرابع: فيما إذا اجتمعا معًا، وهما متقاربان (¬1) فيحكم بالشركة، [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: الطَّرَفُ الثَّانِي فِي اجْتِمَاعِ العِلَّةِ والشَّرْطِ فَإنْ كَانَ العِلَّةُ عُدْواناً كالتَّرْدِيَةِ والحَفْرِ سَقَطَ أَثَرُ الحَفْرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كالتَّرَدِّي مَعَ الحَفْرِ نُظِرَ إِلَى الحَفْرِ فَإِنْ كَانَ عُدْوانًا ضَمِنَ وإلاَّ فَلاَ، وَلَوْ وَضَعَ صَبِيًّا فِي مَسْبَعَةٍ فافْتَرَسهُ سَبُعٌ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ، وَلَوْ اتَّبَعَ إِنْسانًا بِسَيفِهِ فَوَلَّى هَارِبًا وَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي نَارٍ أَوْ مَاء أَوْ بِئْرٍ أَو افْتَرَسَهُ سَبعٌ فِي مَسْبَعٍ أَوِ انْخَسَفَ بِهِ سَقْفٌ أَلْقَى نَفْسَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ قَاتِلُ نَفْسِهِ إِلاَّ إذَا كَانَتِ البِئْرُ مُغَطَّاة فالضَّمانُ عَلَى المُتَّبعِ، وَلَوْ سَلْمَ صَبِيًّا إلى سَبَّاحِ فَغَرِقَ بِتَقْصِيرِهِ ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ بالِغًا لَمْ يَضْمَنْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: حفْرُ البئرِ الذي هو شرْطٌ أو سببٌ، مع التردِّي الذي هو علَّة الهلاك، إذا اجتمعا، نُظِر؛ إن كانت العلَّة عدوانًا؛ بأن حفر بئرًا، فَرَدِيَ فيها غيره ¬
إنسانًا، فالقصاص والضمان يتعلَّقان بالتردية، ولا اعتبار للحفر معها؛ كما ذكرنا في الإمساك مع القتل، وإن لم تكن العلة عدوانًا؛ بأن كان يتخطَّى شخص (¬1) الموضع جاهلًا، فتردَّى فيها وهَلَك، فإن كان الحفر عدوانًا، تعلَّق الضمان به، لتولُّد الهلاك منه، وتقصيره به، وإلاَّ فلا ضمان فيه. ثم في الفصل صُوَرٌ: إحداها: إذا وضع صبيًّا في مسبعة، فافترسه السَّبُع، نُظِر؛ إن كان يَقْدِرُ على الحركة والانتقال عن موضع الهلاك، فلم يفعل، فلا ضمان على الواضع، كما لو فتح عرقه، ولم يعصب حتى مات، وأيضًا؛ فإن الموجود تضييعٌ، وليس بإهلاك، والحرّ لا يدخلُ تحت اليد حتَّى يضمن اليد، فانتفت أسبابُ الضمان، وإن كان لا يَقْدِر على الانتقال، ففي الضمان وجْهان، حكاهما الإِمام: أصحهما، عند صاحب الكتاب، وبه قال أبو حَنيفَة: أنه يجبُ الضمانُ؛ لأن ذلك يعد إهلاكًا في العرف، ولا يبعدُ أن يقال: إنه أشدُّ وأبلغُ تأثيًرا من حفر البئر. والثاني، وبه أجاب أكثرهم: أنه لا يجبُ؛ لأن الوضعَ ليس بإهلاك، ولم يوجدْ منه ما يلجئ السبع إليه، بل الغالب أن السبع يفر من إنسانٍ على ما تقرَّر في القصاص، وقد ذكر صاحب الكتاب الخلافَ في المسألة مرَّةً في باب الغصْب، وهي مكررة (¬2) هاهنا، وفي التقييد بالصبيِّ هاهنا وفي الغصب ما يَفْهِم أنه لو كان الموضوعُ بالعالم يجب الضمانُ لا محالة، والخلافُ مخصوصٌ بالصبيِّ، وذكرنا في القصاص نحوًا من هذا، ويشبه أن يقال: الحكم منوطٌ بالقوة والضعفِ، لا بالكبر والصِّغَر. الثانية: إذا اتبع إنسانًا بسيفه، فولَّى المطلوب هاربًا، وألقَى نفسه في نارٍ، أو ماء، أو من شاهقِ جبلٍ عالٍ، أو في بئر، فهلك، فلا ضمانَ؛ لأنَّه باشر إهْلاَك نفسه [قَصْداً]، والمباشرة تتقدَّم على السبب، فصار كما لو حفر بئرًا، فجاء آخر ورَدِيَ نفسه فيها، ولأنه أوقع نفسه فيما كان يحاذرُه من المتَّبع، فأشبه ما إذا (¬3) أكره إنسانًا على أن يقتل نفسه، فقتل نفسه لا يجب الضمانُ على المُكْرِهِ، ولو لم يشعرْ بالمهلك، ووقع من غير قصده في النار، أو الماء، أو من السطح؛ بأن كان أعمى، أو في ظلمة الليل (¬4)، أو في موضع مظلهم، أو في بئر مغطَّاة، فيجب على المتَّبع الضمانُ؛ لأنه لم يقصد إهلاكَ نفسه، وقد ألجأه المتَّبع إلى الهرب المفضِي إلى المعنى المهلك، وقد ذكرنا أنه لو حفر بئْر عُدْوانٍ، فتردَّى فيها إنسان، يتعلَّق الضمان بالحفر، ومعلوم أن هذا الإلجاء أقوَى وأشدُّ تأثيرًا من الحفر المجرَّد، وأبدى الإِمام احتمالاً في وجوب الضمان، وإن ¬
كانت (¬1) البئرُ مكشوفةً، إذا كان المطلوبُ لا يتفرَّغ إلى تأمل التخطِّي، ويجعل الحالة التي أرهقته ممهِّدة لعُذْره؛ ويؤيده أنا (¬2) نعلِّق الضمان بالحَفْر، ولا فَرْق بين أن يكون التردِّي فيها بالليل أو بالنهار (¬3)، ولا بين أن يكون متحفظًا أَوْ لا يكون فهاهنا أولى. ولو استقبله سَبُعٌ في طريقه، فافترسه، أو لصٌّ فقتله، فلا ضمان على المتبع، بصيرًا كان المطلوب أو أعمَى؛ لأنه لم يوجَدْ من المتَّبع فعلٌ مهلِكٌ، ومباشرة السبع التي عرضت كعروض القتل على إمْساك الممسِكِ، نعم، لو ألجأه، إليه في مضيقٍ، وجب الضمان [على المتَّبع] (¬4)، ولو انخسفَ به سقْفٌ في هربه، ففي وجوب الضمانِ على المتَّبع وجهانِ، حكاهما الشيخ أبو إسحاق في "المهذَّب": أحدهما: المنع؛ لأن المعنَى المُهْلِك لم يشعرْ به الطالِبُ، ولا المطلوب؛ فأشبه ما إذا عرض سبعٌ، فافترسه، وهذا ما أجاب به صاحب "التهذيب"، والقاضي الرُّويانيُّ. والثاني: يجب؛ لأنَّه حَمَلَهُ على الهرب، وألجأه إليه، وأنه أفضى إلى المعنى المُهْلِك من غير شعور المطلوب منه، فأشبه ما إذا وقع في بئر مغطَّاة، وهذا ما أورده العراقيُّون وحكَوْه، عن نصِّه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في "الأم"، ورجَّحه المتولِّي، وإليه مال الإِمام، وما ذكرناه من سقوط الضمان على المتَّبع، إذا ألقى المطلوب نفسه في ماءٍ، أو نار، أو من سطحٍ قصْدًا أَرَدْنَا به العاقل البالغ، فأما إذا كان المطلوبُ صبيًّا أو مجنونًا، فينبني على أن عمْدَهما عمْدٌ أو خطأٌ، إن قلنا: عمدٌ، لم يضمن المتبع، وإلاَّ ضمن؛ كما لو تردَّى متردِّي في البئر جاهلاً. وقوله في الكتاب: "إذا افترسه سَبُعٌ في مَسْبَع" في بعض النسخ في "مُتَّسَعٍ"، وقد يشير ذلك إلى أنه لو كان ملجئًا (¬5) إليه في مضيقٍ، لم يسقط الضمان عن المتَّبع. وقوله في الكتاب (¬6): "أو أنخسَفَ بهِ سَقْفٌ، ألقى نفسه عليه" هذا اللفظُ يشْعِر بالتصوير فيما إذا ألْقَى نفسه عليه من عُلْوٍ، فانخسف لثقله، وإذا كان كذلك، كان الحكم كما لو ألقَى نفسه من ماءٍ أو بئرٍ، وإن كان سببُ الانخسافِ، ضعْفَه، ولم يشعر به المطلوبُ، ففيه الوجهان المذكورانِ من قبل. وقوله: "إلاَّ إذَا كنت البئرُ مغطَّاة" قد عرفتَ أن الاستثناءَ لا ينْحَصِر في هذه الصورة، بل يستثنى الأعمى، ومن يُلْقِي نفسه في البئر (¬7) في ظُلْمة الليل أيضًا، والضبط ألا يشعر بأنه يأتي المُهلِك. ¬
الثالثة: لو سلَّم صبيًّا إلى سباحٍ؛ ليعلِّمه السباحة، فغَرِق، وجبتْ ديته؛ لأنه لا يغرق إلا بإهمال السباح، وقلَّة تحفظه، وتكون الديةُ الواجبةُ ديةَ شبهِ العَمْد، كما لو ضرب المُعَلِّم الصبيَّ للتأديب، فهلك، وفي "التتمة" وجه؛ أنه لا يجب الضمانُ، كما لو نقله إلى مَسْبَعَة، وبل أَوْلَى؛ لأن الخطر هناك أكثر، ولأن ذلك تضييعٌ، وهذا قد تدعو الحاجة إليه، وأبدى الإمامُ هذا الوجْه احتمالاً، وقال: الحرُّ لا يدخل تحت اليد، ولم يوجد من السَّبَّاح فعْلٌ، إذا خاض الصبي في الماء بنفسه نعم، لو ألقَاه السَّبَّاح في الماء؛ ليعلِّمه، فقد يجعل الإلْقاء موجبًا للضَّمان على تفصيل مذكور في باب القِصَاصِ، ويجري الخلافُ فيما إِذا كان الوليُّ يعلَمه السِّبَاحة بنَفْسِه، فغرق ولو أدخله الماءَ ليَعْبُر به، فالحكمُ كما لو خَتَنَه، أو قطع يده من أَكِلَةٍ، فمات منه، قاله في "التتمة". وتبيَّن من التصوير الذي ذكَرْنا؛ أن قوله في الكتاب: "فغَرِقَ بتَقْصيرْ" ليس للتقييدِ، بل من أوجب الضمان قال: إذا غَرِق، وقد حصَلَ في الماء للسباحةِ، فقد قصر السباح، ولذلك غرق، وكان المعنى؛ فغرق ضمن (¬1) بتقْصيره، فأما إذا سلَّم البالغُ نفْسَه، ليعلِّمه، ففي "الوسيط" أنه إن خاض معه؛ اعتمادًا على يده، فأهمله، فيحتمل أن يجب الضمانُ، والمنقولُ عن العراقيين، والمذكورُ في "التهذيب"؛ أنه لا ضمان؛ لأنه مستقلٌّ، وعليه أن يحتاطَ لنفسه، ولا يغترّ بقول السَّبَّاح. قال الغَزَالِيُّ: وَحَفْرُ البِئْر لاَ يَكُون عُدْواناً فِي مِلْكِهِ وَفِي المَواتِ إلاَّ إِذَا حَفَرَ بِئْرًا في دِهْلِيزِ نَفْسِهِ وَدَعا إِلَيْهِ غَيْرَهُ فَفِي الضَّمَانِ قَوْلاَنِ لِتَعارُضِ المُبَاشَرَةِ والغُرُورِ، أمَّا فِي الشَّارعِ بِحَيْثُ يَضُرُّ بِالْمُجْتَازِينَ فَعُدْوَانٌ، وإِنْ كَانَ لِمَصْلَحَةِ الطَّرِيقِ وَبإذْنِ الوَالِي فَلا ضَمَانَ، وَإِنِ اسْتَقَلَّ فَهُوَ جائِزٌ وَلَكِنْ بِشَرْطِ سَلامَةِ العَاقِبَةِ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ، وَإِنْ حَفَرَ لِغَرَضِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَضُرُّ بِالنَّاسِ فَهُوَ جَائِزٌ بِشَرْطِ سَلامَةِ العَاقِبَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: والحفْرُ يُفْرَضُ في مواضِعَ: أحدها: إذا حفر في مِلْك نفسه، فلا عدوانَ؛ حتى لو دخل فيه [داخلٌ] بإذْنه، وتردَّى فيه، لم يجبْ ضمانه، إِذا عرَّفه المالك أنَّ هناك بئرًا، أو كانتْ مكشوفةً، والداخلُ يتمكَّن من التحرُّز، فأما إذا لم يعرِّفه، والداخلُ أعمَى، أو الموضعُ مظْلِم، ففي "التتمة" أنه كما لو دعاه غَيْره إلى طعامٍ مسمومٍ، فأكله (¬2)، ولو حفر بئرًا في دهليز ¬
دارِهِ، ودعا إليها غيره، فتردَّى فيها، ففي الضمان قولان؛ لأنه غرر، ولكن المدعو غير ملجأ، فهو المباشر لإهلاك نفسه باختياره، وهذه الصورةُ مذْكُورة مرة في أول الجراح، لكنه لم يذكر الخلافَ هناك، واقتصر على إيجاب الضمان، وهو الأشبه على ما تقرَّر هناك، ومنهم من يرتِّب، ويقول: إن كان الطريق واسعًا، وعن البئرِ (¬1) معدلٌ، فقولان، وإن كان ضيِّقًا، فقولان مرتَّبان، وأولَى بالوجوب، وعلَى هذا قياسٌ تقديمِ الطعامِ المسمومِ، وأطعمةٍ فيها طعامٌ مسمومٌ. والثاني: إذا حفر في مَواتٍ، إما للتملُّك أو للارتفاقِ بالاستقَاء منه (¬2)، فلا ضمان أيضًا؛ لأنه جائزٌ؛ كالحفر في المِلْك، وعلَى هذا يحملُ قوله -صلى الله عليه وسلم-: "البِئْرُ جُبَارٌ" (¬3). والثالث: إذا حفر في مِلْك غيره، نُظِر؛ إن حفر بإذْن المالكِ، فهو كما لو حَفَر في ملك نفسه، وإن حفر بغير إذن المالك يتعلَّق به الضمان؛ لكونه عدوانًا (¬4)، وذلك إذا علم أن هناك بئرًا، ولم يمكنه التحرُّزَ، وتكون الديةُ على العاقلة، ولو هلكت بها دابَّة أو مالٌ آخر، وجب الضمان في ماله، وهلْ يجعل رضي المالك باستبقاء البئْر بعد الحفر، كرضاه عند الحفر؟ فيه وجهان مذْكُوران في الغَصْب: الأظهر: نَعَم، ولو كان الحافر عبدًا، فالضمانُ يتعلَّق برقبته، فلو أعتقه السيِّد، فضمانُ من يتردَّى في البئر بعد الاعتاق يتعلَّق بالعتق، وعند أبي حنيفةَ؛ أنه يتعلَّق بالمعتق، ولو حفر في ملْكٍ مشْتَرَكٍ بينه وبين غيره بغير إذْنِ الشَّريكِ، تعلَّق الضمان به أيضًا؛ لأنه لا يجوز الحفر في الملك المشْتَرَك، وعند أبي حنيفة؛ أنه إن كانَتِ الشَّرِكة مع واحدٍ تعلَّق به نصف الضمان، وإن كان مع اثنين، تعلَّق به ثلث الضمان لتعدِّيه في حق اثنين، وإذا حفر في ملْك الغير متعديًا، ودخل داخلٌ ملكه بغير إذنه، فتردَّى فيها، فيتعلَّق الضمان بالحافر (¬5)؛ للتعدِّي به، أَوْ لا [يلحقُ؛ لتعدِّي] (¬6) المتردِّي بالدخول؟ حكى صاحب "التتمة" فيه وجهين (¬7)، وحكى في "البيان"؛ أن المالك لو قال: حَفَرَ بإذْنِي، لم يصدَّقْ؛ خلافًا لأبي حنيفة. والرابعُ: إذا حفر في شارع، فينظر؛ إن كان ضيقًا يتضرَّر الناس بالبئر، وجب ضمان ما هلَك بها، سواء أذن الإمامُ أو لم يأْذَن، وليس للإمام أنْ يأذن فيما يضر، وإن كان لا يتضرَّر بها الناسُ لسَعَةِ الشارعِ، أو انعطافِ موضعِ البئر، فيُنْظر، إن كان الحفْر ¬
للمصْلَحَة العامَّة؛ كالحفر للاستقاء (¬1)، والحفر لماء المَطَر، فإن أذن فيه الوالي، فلا ضمان، وإن استقل به، فمنهم من قال: فيه قولانِ: الجديدُ: أنه لا ضمان، وأشار في القديم إلَى وجوبه، وقال آخرون. وجهان: أصحهما: أنه لا ضمان؛ لما فيه من المصْلَحة العامَّة، وقد يعْسُر مراجعةُ الإِمام في مثْلِهِ. والثاني: يجبُ، والجواز مشروطٌ بسلامة العاقبة؛ بخلاف ما إذا أذن الإِمام فيه؛ فإنه النائب عن عامَّة المسلمين، والناظرُ لهم وإن حفر لغرضِ نَفْسه، فقد ذكر جماعةٌ منهم صاحب "التهذيب"؛ أنه يجب الضمان (¬2)، أذن الإِمام فيه أم لم يأذن لأنه وإن كان جائزًا، فهو مشروطٌ بسلامة العاقبة؛ لأنه لا يختصُّ الآحادُ بشيء من طريق المسلمين، وعلى هذا جرى الإِمام وصاحبُ الكتاب، والذي أورده أصحابنا العراقيُّون، وتابعهم القاضي الرويانيُّ، وصاحب "التتمة"؛ أنه إن حفر بإذنِ الإِمامِ، لم يلزم الضمان، وجوَّزوا أن يخصِّص الإِمام قطعةً من الشارع ببعض الناس، والترتيبُ عند هؤلاء أن الحفر في الشارع، إذا لم يكن مضرًّا، فإن كان بإذن الإِمام، فلا ضمان بسببه، سواءٌ حفر لنفسه، أو لمصلحةٍ عامَّة، وإن كان بغَيْر إذْنه، فإن حفر لنفسه وجب الضمان، وإن حفر لمصلحة عامَّة، ففيه الوجهان، أو القولانِ، والخلاف راجع إلى ما تقدَّم في إحياء الموات؛ أن إقطاع الإمامِ، هل له مدْخَلٌ في الشوارع، وبَيَّنا أن الأكثرين قالوا: نعم، وجوَّزوا للمُقْطَع أن يبنى فيه، ويتملَّكه، والحفر في المسجد كالحَفْر في الشارع، ولو بني مسجدًا في شارع لا يتضرَّر به المارَّة، فيجوز (¬3) ثم لم تعثَّر به إنسانٌ أو بهيمةٌ، أو سقَط جداره على إنسان، أو مَالَ، فأهلكه، فلا ضمان، إن كان البناءُ بإذن الإِمام، وإن كان بغير إِذنه، ففيه الخلاف. ولو بني سقفًا في مسجدٍ، أو نصب عمودًا، أو طيَّن جدارًا، أو علق قنديلًا، فسقط على إنسان، أو مال، فأهلكه، أو فرش حصيرًا، أو حشيشًا، فتزلق به إنْسَانٌ، أو قذفت عينه بشَوْكة، أذهب ضوء البصر، فكذلك ينظر أجرى ذلك بإذن الإِمَامِ، أو من يتولى أمر المسجد، أو بدون الإذن، فيكون الحكم على ما بَيَّنا، وعن أبي حنيفة؛ أنه إن صدر ذلك من غير إِذْنِ أهلِ المحلَّة، وجب الضمان، قال في "التهذيب": وهو قول ¬
أبي إسْحَاق (¬1) وليعلم قوله في الكتاب: "بشَرْط سلاَمة العاقبة"؛ لما بيَّنا من الخلاف فيه. قال الغَزَالِيُّ: وَكَذَا إِشْرَاعُ الأَجْنِحَةِ جائِزٌ بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ بِخَلاَفِ مَا لَوْ حَفَرَ فِي مِلْكهِ فَسَقَطَ جِدَارُ دَارِهِ فَلا ضَمَانِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حَرَجًا عَلَى المُلَّاكِ إِلاَّ أَنْ يُقَصِّرَ بِمُخَالَفَةِ العَادَةِ فِي سَعَةِ البِئْرِ فَيَضْمَنُ، وَلَوْ أَوْقَدَ نَارًا عَلَى السَّطْحِ فِي يَوْمِ رِيحٍ عَاصِفٍ ضَمِنَ عَهْدَةَ الشَّرارِ، وَلَوْ عَصَفَة الرِّيحُ بَغْتَةَ فَلاَ، وَلَوْ سَقَطَ مِيزَابُهُ عَلَى رَأسِ إِنْسَانٍ فَإن كانَ السَّاقِطُ القَدْرَ البَارِزَ ضِمَنَ (و) كَالجَنَاحِ، وإنْ سَقَطَ الكُلُّ لَمْ يَضْمَنْ عَلَى وَجْهٍ لِأَنَّهُ مِنْ حَاجَةِ المُلْكِ بِخَلاَفِ الجَنَاحِ، وَضَمِنَ النِّصْفَ بِإزَاءِ البَارِزِ عَلَى وَجْهٍ، وَضَمِنَ ما يَقْتَضِيهِ وَزْنُ البَارِزِ عَلَى وَجْهٍ إِذَا قِيسَ بِوَزْنِ الدَّاخِلِ، وَإِذَا مَالَ الجِدَارُ إِلَى الشَّارعِ بِأَنْ بَنَاهُ مَائِلًا فَهوَ كَالقَابُولِ، وَإِنْ مَالَ فِي الدَّوَام فَلَمْ يَتَدارَكُ مَعَ الإِمْكَانِ فَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ، وَأَمَّا قِمَامَاتُ البُيُوتِ وَقُشُورُ البَطِيخِ إِذَا تَعَثَّرَ بِهَا إِنْسانٌ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى المُلْقي وَجْهَانِ كَمَا فِي الْمِيزَابِ لِأَنَّ طَرْحَ الْقِمَاماتِ لِمَرَافِقِ الأمْلاَكِ، وَرَشَّ المَاءِ إِذا لَمْ يَكُنْ لِمَصْلَحَةٍ عَامَةٍ فَهُوَ سَبَبُ ضَمَانٍ فِي حَقِّ مَنْ تَزَلَّقَ وَلَمْ يَرَ مَوْضِعَ الرَّشِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسائل تتعلَّق بالتصرُّف بالشوارع وتصرّف الإنسان في ملك نفسه، وبيان أحكامها وآثارها، والقولُ في التصرُّف في الشارع منه ما مَرَّ في الصُّلْح، وفي باب (¬2) إحياء الموات، ومنه ما جَرَت العادةُ بذكره هاهنا: المسألة الأُولَى: لا يجوز اشراع الأجنحةِ التي تضرُّ بالمارَّة إلى الشارع، ولو فعل، منع، وما يتولَّد منه من هلاك، فهو مضمون، وإن كان الجناحُ عاليًا غير مضرٍّ، فلا منع من إشراعه، وكذا بناءُ السَّابَاطِ العالي، لكن لو تولَّد منه هلاكُ إنسان، فهو مضمونٌ بالدية على العاقلة، وإن هَلَكَ به مالٌ، وجب الضمان في ماله، ووجَّهوا ذلك بأنَّ الارتفاق بالشارع إنما يجوز بشرط سلامة العاقبة، ولم يفرقوا هاهنا بين أن يأذن الإِمام، أو لا يأذن؛ كما فعلوا فيما إذا حفر البئر؛ لغرضِ نفسه، واتفقوا على وجوب الضمان، إن لم يأْذَنِ الإِمام، واختلفوا فيه إذا أَذِنَ، فيجوز أن يكونَ الحكْمُ في إشراع ¬
الجناح كذلك، ويجوزُ أن يقال: يجب الضمانُ هاهنا على الإِطلاق، ويفرَّق بأن الحاجة إلى الجناح أغلبُ وأكثرُ، والحفْر في الطريق مما تقلُّ الحاجة إليه، وإذا أكثر الجَنَاح، أكثر تولُّد الهلاك منه، فلا يحتمل إِهداره، ولو أشرع جناحًا إلى سكَّة منْسدَّة بغير إذن أهلها، ضمن ما يتولَّد منه، وبإذن أهلها لا يقتضي الضمان؛ كالحفر في دار الغير بإذنه. الثانية: يتصرَّف كلُّ واحد في ملكه بالمعروف، ولا ضمانَ فيما يتولَّد منه؛ بخلافِ إشراع الجناحِ؛ حيث كان ما (¬1) يتولَّد منه مضمونًا؛ لأن إشراع الجناح (¬2) لا ضرورة إليه، ولا يَرْغبُ فيه كلُّ أحد، والتصرف في نفس الملك، لو قُيِّد بشرط السلامةِ، لأورث حرجًا عظيمًا، ولا يجرُّ ذلك إلى إبطال فائدةِ المِلْكِ، فلم يقيِّده به، ولكن بشرْطِ جريانه على الاعتيادِ، والتحرُّز عما يعد إسرافًا وإهلاكًا، فلو وضع حجرًا في ملكه، أو نصب شبكة، أو سِكِّينًا، وتعثَّر به إِنسان، فهلَكَ، أو وقف (¬3) على طرف سطْحه، فوقع على إِنْسَان، أو مال أو وضع عليه جرَّة ماء، فألقتها الريحُ أو ابتلَّ موضعها، فسقطتْ، فلا ضمان (¬4)، وكذا لو أوقف دابَّة في ملكه، فرمحتْ إنسانًا، أو بالت (¬5) وأفسدتْ بالرَّشَاش ثوبًا أو غيره خارجَ الملكِ، أو كان يكسر الحطَب في ملكه، فأصاب شيء منْه عيْنَ إنسانٍ، فأبطل ضوءَها، وكذا لو حفر بئرًا في ملكه، فتندَّى جدارُ الجارِ وانْهَدَمَ، أو غار ماءُ بئره، أو حفر بالوعةً، فتغيَّر ماءُ بئرِ الجار -لا شيء عليه (¬6)؛ لأن المُلَّاك لا يستغنون عن مثل ذلك، نَعَمْ، لو قصَّر، فخالف العادةَ في سعة البئر، ضَمِن، فإنه إهلاك، وليكنْ كذلك إذا قرب الحفر من الجدار عَلَى خلاف العَادَةِ، ويمنع من طرح السِّرْقِينِ في أصْلِ الحائِطِ، ولو أوقد نارًا في مِلْكه، أو على سَطْحه، فطار الشَّرَر إلى ملْك الغير، فلا ضمان إلا أن يخالِفَ العادَةَ في قدْر النارِ الموقَدَة، أو يوقد في يوم ريحٍ عاصفةٍ، فيكون ذلك كطَرْح النَّار في دار الغير، فإن عصفت [الريحُ] بغتةً، بعْد ما أوقد، فهو معذُورٌ، ولو سقَى أرضه، فخرج الماءُ من جُحْر فأرةٍ، أو شق إلى أرض غيره، وأفسد زرعه، فلا ضمان إلاَّ أن يجاوز العادَةَ (¬7) في قَدْر الماء، أو كان ¬
عالمًا بالجُحْر أو الشَّقِّ ولم يحتطْ، وإذا حفر البئْرَ في أرض خوَّارة، ولم يَطْوِها، ومثلها ينْهَار إذا لم يُطْوَ، كان مقصِّرًا، كما ذكرنا في سَعَة البئر، ولا بدَّ من هذا الاحتياطِ؛ حيث جوَّزنا حفْرَ البئر في الشارع. وقوله في الكتاب: "في يومِ ريحٍ" يجوزُ أن يقرأ على إضافة اليَوْم إلى الريح، ويجوز أن يقرأ "في يَوْمِ ريحٍ"، ويجعل الريح نعتًا لليوم. الثالثة: يجوز إخراج الميازِيب إلى الشوارع؛ لما فيه من الحاجة الظَّاهرة، ويروَى أن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَرَّ تحْتَ مِيزَابِ العبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المطَّلِبِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَطَرَتْ عَلَيْهِ قَطَرَاتٌ، فأَمَرِ بِقَلْعِهِ، فَخَرَجَ العَبَّاسُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقالَ: أتَقْلَعُ مِيزَابًا نَصَبَهُ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بيَدِهِ؟ فَقالَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: واللهِ، لا يَنْصِبُهُ إِلاَّ مَنْ يَرْقَى عَلَى ظَهْرِي، وَانْحَنَى للْعَبَّاسِ، حَتَّى رَقِيَ عَلَيْهِ، فَأَعَادَهُ إِلَى مَوْضِعِهِ (¬1). وليكن الميزابُ عاليًا كالجَنَاحِ، فإذا سقط منه شيءٌ، فهلك به إنسان، أو مَالَ، ففي وجوب الضمانِ قولانِ: القديمُ، وبه قال مالكٌ: أنه لا ضمان؛ لأنه من ضرورة البناء، فأشبه ما لو تولَّد الهلاك من بنائه، بخلاف الجناح. والجديدُ: أنه يجب، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه ارتفاقٌ بالشارع، فيكون جوازه بشَرْط السلامة؛ كما في إشراع الجناح؛ وكما إذا طرح ترابًا في الطريق ليطيِّن به سطحه، فزلق به إنسانٌ وهلك، يلزمه الضمان، ودعوى الضرورة ممنوعةٌ؛ فإنه يمكنه أن يتخذ لماء السطح بئرًا في داره أو يحدِّر الماء في أخدودٍ في الجدار من غير إخراج شَيْءٍ، وعلى هذا؛ فلو كان الميزابُ خارجًا كلُّه بأن سُمِّر على خشبة من السقف، فانقطع، وجب جميعُ الضمان (¬2) وإن كان بعضُه في الجدارِ وبعْضُه (¬3) خارجًا منه (¬4)، فإن انكسر وسقط الخارج أو بعضه، وحصل الهلاك به، فكذلك، وإن انقلع من أصْلِه، ¬
فرع
لم يجب إلا بعض الضمان؛ لأن التلَف حصَلَ من مباحٍ مطْلَقٍ، ومباحٍ بشرطِ سلامةِ العاقبة، وفي القَدْر الواجب قوْلاَن، أو وجهان: أشهرهما: أنَّ الواجب نصْفُه توزيعًا على النوعَيْن. والثاني: أنه يوزَّع عَلَى ما في الداخل والخارج، فيجب قسْطُ الخارج، ثم الذي ذكره صاحب الكتاب، وجماعةٌ؛ أن التوزيع يكون باعتبار الوزْنِ، وفي "التتمة" وغيرها أن التوزيع يكون باعتبار مساحةِ الداخِل والخارج، ويمتحن فيقال: رجلٌ قتل إنسانًا بخشبة يجبُ بقتله بعضُ ديته، ولو قتله ببعضِها يجب تمامُ ديته، ولا فَرْق بين أن يصيبه الطرفُ الداخل أو الخارج؛ لأنَّ الهلاك يحصُلُ بثقل الجميع، وعن أبي حنيفة أنه إن أصابه، الخارُج، وجب جميع الضمان، وإن أصابه الداخلُ، لم يجب شيء، والحكم في كيفية التضمينِ، إذا حصل الهلاكُ بالجناح المشرع، إمَّا بالخارج منه أو بالخارج والداخل معًا، على ما ذكرنا في المِيزَابِ؛ بلا فرق وقد يختصر الخلافُ في الميزاب، فيقال: في ضمانِ ما يهلك به ثلاثةُ أقوالٍ، أو أوجه: أحدها: لا ضمان. والثاني: يجبُ نصفه. والثالث: يوزَّع على الداخل والخارج، وهكذا أورد صاحبُ الكتابِ، إلا أنه خصَّص الوجوه بما إذا سقط الداخلُ والخارج جميعًا، وأشعر سياقه بالقطع بالوجوب، إذا سقط الخارج البارِزُ وحده، كما في الجناح، والذي يوجَدُ لعامَّة الأصحاب طَرْدُ الخلاف في الحالَيْن، وهو الذي يستَنِدُ على التوجيه، ويجوزُ أنْ يعلم لما بيَّنا قوله: "ضمن كالجَنَاح" بالواو. " فَرْعٌ" في "التهذيب": أنه لو رَشَّ الماء من الميزاب على ثَوْبِ إنسان، ضمنه، يعني: ما ينقص منه. الرابعة: الجدارُ الملاصقُ للشارع، إن بناه صاحبه مستويًا، فسقط من غير ميل، ولا استهدامٍ، وتولَّد منه هلاكٌ، فلا ضمان؛ لأنه تصرَّف في ملكه، ولم يوجَدْ منه تقصيرٌ، ولو بناه مائلًا (¬1) إلى ملكه، أو مَالَ إليه بعْد البناء، وسقط، فلا ضمان أيضًا؛ لأن له أنْ يبني في ملكه كَيْفَ يشاء، وإن بناه مائلاً إلى الشارع، وجب ضمان ما يتولَّد من سقوطه؛ كالسَّابَاط والجَنَاح، وهو المرادُ من لَفْظ "القابول" الذي ذكره في الكتاب، ¬
وإن بناه مستويًا، ثم مال إلى الشارع، وسقط، فإن لم يتمكَّن من الهدم والإصلاحِ، فلا ضمانَ، وإن تمكن فلم يفعلْ، فوجهان: أظهرهما، عند الشيخ أبي حامد، وصاحب "التهذيب" وأكثرهم: أن الجواب كذلك، وبه قال المزنيُّ والإصطخريُّ؛ لأنه بني في ملكه، والمَيْلُ لم يحصُلْ بفعله، فأشبه ما إذا سَقَط بلا مَيْل. والثاني، وبه قال أبو إسحاق، وابن أبي هريرة، ورجَّحه القاضي الرُّويَانيُّ: أنه يضمن؛ لتقصيره بِتَرْكِ النقْضِ (¬1) والإصلاح، ويحكَى هذا عن أصحاب مالك، ويجري الوجهانِ فيما لو سَقَط إلى الطريقِ، فلم يرفعه، حتى تعثَّر به إنسان أو هَلَك مال، ولا فَرْق بين أن ينازعه الوليُّ أو غيره، ويطالب بالنقْض، وبين ألا يُوجَدَ ذلك، وقال أبو حنيفةَ: إن نُوزعَ وأُشْهِدَ عليه، فلم يَنْقُضْ ضمن، وإنْ لم يُشْهَدْ عليه، لم يضمن، وإذا وجب الضمانُ في البناء المائل إلى الشارع ابتداءً أو دوامًا، فلو مال بعضه دون بعض، نُظِرَ، أحَصَلَ التلف برأسه المائل، أو بما بَقِيَ على الاستواء، أو بالكلِّ، ويكون الحكمُ على ما ذكرنا في الميزاب، والجناح (¬2) وإذا باع ناصبُ الميزاب أو بانِي الجدارِ المائِل الدارَ (¬3)، لم يبرأ من الضمان؛ حتى إذا سقط على إنسان، فهلكَ -يكون الضمان على عاقلة البائعِ؛ قاله في "التهذيب" (¬4). ولو أراد الجار أن يبني جدارَهُ الخالصَ، أو المشتركَ مائلًا إلى مِلْكِ الجار، فله المنع منه، وإن مال، فله المطالبة بالنقْض، كما أنه إذا انتشرت أغصانُ شجرته إلى هواءِ مِلْكِ الغير -فَلَهُ أن يطالب بإزالَتِها، ولو تولَّد منه هلاكٌ، فالضمان على ما ذكرنا فيما إذا مالَ إلى الشَّارع (¬5) وعن أبي حنيفةَ؛ أنه إن نازعه الجارُ، وأشهد، تعلَّق به الضمان، وإلاَّ فلا. ولو استهدم الجدارُ، ولم يَمِلْ فعن الإصطخريِّ؛ أنه قال في "أدب القضاء": لا يطالَبُ بنقضه؛ لأنه لم يجاوزْ ملكه، وفي "التتمة" وجه آخر؛ أن للجار وللمارَّة في الشارع المطالبةَ به؛ لما يُخَاف منه من الضرر؛ كما أنه لا يفعل في ملكه ما يتضرَّر به الجارُ على ما مرَّ، وهذا ما أورده ابن الصبَّاغ احتمالاً، فعلى الأول لا ضمانَ فيما يتولَّد ¬
منه، وعلى الثاني، وهو كما لو مال، فلم ينقضه. الخامسة: قِمَامَاتُ البيتِ وقُشُور البِطِّيخ، والرُّمَّان والباقِلاَّء، إذا طرحها في مِلْكه، أو في مَوَات، فَزَلِقَ بها إنسانٌ، وهلكَ، أو تلف بها مالٌ -لم يجب الضمان، وإن طرحها في الطريق، وأفضى إلى التلف، فقد حكى الإِمام وصاحب الكتاب والمتولِّي -رحمهم الله- فيه وجهين: أحدهما: لا يجب الضمان؛ لأنه لا يعدُّ مقصِّرًا بذلك، وقد جرتِ العادةُ على مرَّ الأعصار به من غير إنكار. وأصحُّهما، وهو الذي أورده أكثرُهُمْ: أنه يجب الضمان، ووجوبُ الضمانِ لا ينحصُر في التقصير (¬1) والتعدِّي، بل الارتفاق بالطريقِ مشروطٌ بسلامة العاقبة، كما قدَّمناه، وربَّما وجه بأن طرح القمامات إلى الشارعِ معدُودٌ من مرافق الأملاك، وفي المنع منه مشقَّة؛ فأشبه نصب الميزاب. وذكر وجه ثالث؛ أنه يفترق بين أن يلقيها عَلَى متن الطريق، فيتعلَّق به الضمان، وبين أن يلقي في طرف ومنعطَفٍ لا ينتهي إليه المارَّة غالبًا، قال الإِمام: والوجه عندنا القطْعُ بوجوب الضمان، إذا ألقاها على متْنِ الطريق، وتخصيصُ الخلافِ بالإلقاءِ على الطرف. ولك أن تقولَ: قد يوجد بين العماراتِ مواضعُ معدَّة لإلقاء القمامات فيها، تسمَّى تلك المواضعُ السُّبَاطاتِ والمَزَابِلَ، وتعدُّ من المرافق المشتركةِ بين سُكَّان البقعة، فيشبه أن يقطع بنفي الضمان، إذا كان الإلقاءُ فيها، فإنه استيفاءُ (¬2) منفعةٍ مستحَقَّة، وتخصيص الخلافِ بالإلقاءِ في غيرها، وإذا أوجبنا الضمان، فذلك إذا كان المتعثِّر بها جاهلاً، أما إذا مشَى عليها قصدًا، فلا ضمان؛ كما لو نزل البئرَ، فسقط، ولو رش الماء في الطريق، فزَلَقَ به إنسان أو بهيمةٌ، نُظِر؛ إن كان الرشُّ لمصلحة عامَّة؛ كدفع الغبار عن المارَّة، فليكن كحفر البئر للمصلَحَة العامَّة، وإن كان لمصلحةِ نفسِهِ، وجب الضمان، ويمكن أن يجيء فيه الوجهُ الآخَرُ المذكورُ في طرح القشُورِ، ولو جاوز القدْرَ المعتادَ في الرشِّ، ففي "التتمة" القطعُ بوجوب الضمان (¬3)، وهو كما ذكرنا فيما إذا بَلَّ الطِّينَ في الطريق. ¬
فرعان
ولو بنَى على باب داره دَكَّةً، فتَلِفَ بها إنسانٌ أو دابَّةٌ، وجب الضمان (¬1)، وكذا الطَّوَّاف، إذا وضع متاعَهُ في الطريق، فحصل به تَلَفٌ، بخلاف ما لو وضع على طرف حانوته. ولو بالَتْ دابته، أو راثَتْ، فَزَلِقَ به رِجلُ إنسانٍ، أو دابَّة، أو تطاير شيْءٌ منه إلى طعام إنسان، فنجَّسه، نُظِر؛ إن كانت في ملْكه، فلا ضمان، وإن كانَتْ في الطريق، فالحُكْم على ما سيأتي، إن شاء الله تعالَى، في آخر كتاب موجِبَاتِ الضمان، ولو ربَطَها في الطريق، فقد ذَكَره هناك، ولو مشَى قصدًا على موضع الرشِّ أو البَوْل، لم يجب الضمان. " فَرْعَانِ" الأول: أسندَ خشبةً إلَى جدارٍ، فسقط الجدارُ عَلَى شيء، فأتلفه؛ إن كان الجدارُ لغير المُسْنِدِ، ولم يأذنِ المالكُ، فعليه ضمان الجدار، وما يسقط عليه الجدارُ، ولا فرق بين أن يسقطَ الجدارُ عَقِيب الإسناد، أو يتأخَّر عنه؛ بخلاف ما لو فتح قَفَصًا عن طائر، وطار؛ حيث يفرَّق بين أن يطير في الحال، أو بعد مدَّة؛ لأنَّ الطائر مختارٌ، والجماد لا اختيار له، وإن كان الجدارُ للمُسْنِدِ أو لغيره وقد أذِنَ فيه، لم يجبْ ضمانُ الجدارِ، ففي ضمان ما يسقُطُ عليه وجْهَانِ عن صاحب "التَّلْخيص"، وبه قال أبو زَيْدٍ: إنه إن سقط في الحال، وجب الضمان؛ كما لو أسقط جداره على مالِ الغَيْر، وإن سقط بعد زمان، لم يجبْ كما لو حفر بئرًا في ملكه، لا يضمن ما يسقُطُ فيها، وعن القَفَّال؛ أنه لا يضمن في الحالتَيْنِ؛ كما أنَّ في حفر البئر إذا كان في ملكه، لا يجب ضمانُ ما يسقُطُ، فيها سواءٌ كان عَقِيبَ الحفْرِ أو بعد مُدَّة، فإن قلْنا: يضمن، إذا سقط في الحال، فلو لم يسقط، لكن مَالَ في الحال إلَى الشَّارع، ثم سقط بعد مدة، يجب الضمانُ، كما لو بني الجدارَ مائلاً؛ لأنه مَالَ بفعله؛ بخلاف ما لو مال في الدوامِ بنفسه. الثاني: إذا نَخَس دابَّةً، أو ضربها مغَافَصَةٌ، فقفزت، ورمت راكبَها، فمات، أو أتلفتْ مالًا -وجب الضمان، قال في "التهذيب": فان كان النخْسُ بإذن المالك، ¬
فالضمان (¬1) عليه، ولو غلبته دابَّته، فاستقبلها إنسانٌ، وردها، فأتلفت في انصرافها، فالضمانُ على الرادِّ، ولو كان رجلٌ يحمل رجلاً، فجاء آخر وقرص الحامل، أو ضربه، فتحرَّك، فسقط المحمولُ من ظهره، قال في "التتمة": هو كما لو أكره الحامل (¬2) على إلقاء المحمول عن ظَهْره [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي تَرْجِيحِ سَبَبٍ عَلَى سَبَبٍ وَمَهْمَا اجْتَمَعَ سَبَبانِ مُخْتَلِفانِ قُدِّمَ الأَوَّلُ، وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا وَنَصَبَ آخَرُ حَجَرًا فَتَعَثَّرَ بِالحَجَرِ وَوَقَعَ فِي البِئْرِ فَالضَّمَانُ عَلَى وَاضِعِ الحَجَرِ، وَكَذَا لَوْ سَقَطَ الحَجَرُ بِسَبَبِ السَّيْلِ عَلَى طَرَفِ البِئْرِ سَقَطَ الضَّمَانُ عَنِ الحَافِرِ، وَلَوْ سَقَطَ فِي بِئْرِ عَلَى سِكِّينٍ مَنْصُوبٍ فالضَّمَانُ عَلَى الحَافِرِ لاَ عَلَى ناصِبِ السِّكِّين، وَلَوْ حَفَرَ بِئْر قَرِيبُ العُمْقِ فَعَمَّقَها غَيْرُهُ فَالضَّمَانُ عَلَى الأَوَّلِ فِي وَجْهٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُما يَشْتَرِكانِ لِتَناسُبِ الْجِنايَتَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا اجتمع سَبَبَا هَلاَكٍ، يقدَّم الأول منهما؛ لأنه المُهْلِك؛ إما بنفسه، أو بواسطة الثاني، فيشبه التردَيَة مع الحفر، فلو حَفَر بئرًا في محلِّ عدوان أو نصبِ سكِّينًا، ووضع آخر حجرًا، فتعثَّر بالحجر، ثم وقع في البئر، أو على السِّكِّين، فمات، فالضمان يتعلَّق بواضع الحَجَر، وفي "البيان"؛ أنَّ أبا الفيَّاض البَصْرِيَّ قال: يتعلَّق الضمانُ بناصب السِّكِّين، إذا كان قاطعًا موحيًا، فإنه أقوى، والمشهورُ الأول؛ لأن التعثُّر بالحجر هو الذي ألجأه إلى الوقوع في البئر أو على السكين، فكأنه أخذه (¬3) فردَّاه في البئْر، أو ألقاه على السِّكِّين، وهذا كما أنه لو كان في يدهِ سكِّينٌ، فألقى عليه رجلٌ إنسانًا، يجب الضمان والقصاصُ على المَلْقِي، ولو أهوى إليه مَنْ في يده السِّكِّينُ، ووجْهُه نحوه، لما ألقاه الملْقِي، كان القصاصُ على صاحبِ السِّكِّين، هذا إذا كانا متعدِّيَيْن، ولو حفر بئرًا، أو نصب سكيناً في ملكه، ووضع متعدِّيه حجرًا، فتعثر بالحَجَر، ووقع في البئر، أو على السِّكِّين، فكذلك يكون الضمان عَلَى واضع الحَجَر، ولو وضع حَجَرًا في مِلْكه، وحَفَر متعدٍّ هناك بِئْرًا، أو نصب سِكِّينًا، فتعثَّر بالحجر، أو وقع في البِئرِ، أو على السِّكِّينِ فالمنقول أنه يجب الضمانُ على الحافر، وناصب السِّكِّين، فإنه المتعدِّي، وإنما يجعل الضمان على واضع الحَجَر، إذا كان متعدِّيًا، وينبغي أن يقال: لا يجب الضمانُ على الحافرِ، وناصبِ السِّكِّين؛ كما يذكر في مسألة السبيل على الأثر، ويدلُّ عليه أن أبا سَعْدٍ المتولِّيَ قَالَ في "التَّتِمَّة": لو حفر بئرًا في ¬
ملكه، وجاء آخر، فنصب فيها حديدةً، فوقع إنسانٌ في البئر، وجرحته الحديدةُ، فمات، فلا ضمانَ عَلَى واحدٍ منهما؛ أما الحافرُ، فظاهر، وأما الآخَرُ؛ فِلأَنَّ الوقوع في البئر هو الذي أفضَى إلى الوقوع على الحديدة، فكان حافر البئْر كالمباشر، والآخرُ كالمتسبِّب. ولو حفر بئرًا في محلِّ عدوانٍ، وسقط الحجر على طرف البئرِ بمجيء السيل به، أو وضعه هناك حربيٌّ، أو سبع، فتعثَّر بالحجر، ووقع في البئر، أو على السِّكِّين، فلا ضمان على أحدٍ، كما لو ألقاه السبع، أو الحربي في البئْرِ، وفي "التتمة" وجه آخر؛ أنه يجب الضمان على عاقلة الحافر؛ لأنه لا وجه للإِهدار، والحافرُ هو المتعدِّي. ولو حفر بئر عدوانٍ، ونصب آخر في أسْفَلِها سِكِّينًا، فالضمان على عاقلة الحافِرِ، دون ناصب السِّكِّين؛ لأن الحفر هو الذي ألجأه إلى الوقوع على السِّكِّين، هذا هو المشهُور، ويحكَى عن أبي حنيفة، وفي "البيان" وجه أن الضمانَ على ناصب السكينِ؛ لأن التلف حصلَ بوقوعه على السِّكِّين قبل الانصدام بقَعْر البئر، ولو حفر بئرًا قريبةً العمقِ، فعمقها غيره، فضمانُ من تردَّى فيها عَلَى مَنْ يَكونُ؟ فيه وجهان: أحدهما: يختص بالأول لما مرَّ. وأظهرهما: أنه يتعلَّق بهما جميعًا؛ لتناسب الجنايتين وتأثره بالانصدام، فعليهما جميعًا، فصار كما لو تعاونا على الحَفْر، وعلى هذا، ففي كيفية شركتهما في الضمان وجهان، حكاهما الشيخ أبو عَلِيٍّ: أحدهما: التنصيف؛ كما لو مات بجراحاتٍ صدَرَتْ من شخصين. والثاني: يوزَّع على القَدْرِ الذي حفره كلُّ واحدٍ منهما، حتَّى لو حفر أحدهما عشرين ذراعًا، والآخر ثلاثين ذراعًا، يكون الضمانُ بينهما أخماسًا. ولو حَفَر بئرًا متعديًا، ثم طَمَّها، وجاء آخر، وأخرج ما طُمَّت به، وتردَّى فيها إنسانٌ، فالضمان يتعلَّق (¬1) بالأول؛ لأنه المبتدئُ بالتعدي، أو بالثاني؛ لانقطاع أثر الحفر الأولِ بالطَّمِّ؟ فيه وجهان، نقلهما في "البيان" (¬2). ولو وضع رجلٌ حجرًا في الطريق، وآخران حجرًا بجنبه، وتعثَّر بهما إنسانٌ، ¬
ومات- فالوجه الأظهرُ: أن الضمان يتعلَّق بهم أثلاثًا، وإن تفاوت فِعْلُهُمْ؛ كما لو مات بجراحةِ ثلاثةٍ، واختلفت الجراحاتُ، وفي "التهذيب" وجه؛ أنه يتعلَّق نصف الضمان بالمنْفَرِد، ونصفه بالآخرين. قال الغَزَالِيُّ: وَلَوْ تَعَثَّرَ بِحَجَرٍ فِي الطَّرِيقِ فَالضَّمَانُ عَلَى وَاضِعِهِ، وَلَوْ تَعَثَّرَ بِقَاعِدٍ فَالضَّمَانُ عَلَى الْقَاعِدِ، وَلَوْ تَعَثَّرَ بِواقِفٍ فَالمَاشِي مُهْدَرٌ وَضَمَانُ الوَاقِفِ عَلَى المَاشِي لِأَنَّ الوُقُوفَ مِنْ مَرَافِقِ المَشْيِ دُونَ القُعُودِ، وَقِيلَ في المَسْأَلَتَيْنِ قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صورتان: إحداهما: وضْعُ الحَجَرِ كحَفْر البئرِ؛ يتعلَّق الضمان به، إذا تعثَّر به من لم يره؛ عَلَى ما مَرَّ، ولو وضع حَجَرًا في الطريق، فتعثَّر به إنسانٌ ودحْرَجة، ثم تعثَّر به آخر وهلك، فضمان الثانِي يتعلَّق بالمُدَحْرِجِ؛ لأن الحجر في ذلك الموضع، إنما حَصَل بفعله. الثانية: من قعد في موضع، أو نام، أو وقَفَ، فتعثَّر به ماشٍ، وماتا، أو أحدُهُما، نُظِرَ؛ إن كان ذلك في مِلْكه، ودخله الماشي من غير إذْنٍ، فهو مُهْدَر؛ لأنه قتل نفْسَه، وعلى عاقلته ديةُ القاعدِ، أو الواقفُ، وكذا الحكم لو قَعَدَ أو وَقَفَ في مَوَاتٍ، أو طريقٍ واسع لا يتضرَّر به المارَّة، ولا فرق بين أن يكون القاعدُ أو الواقفُ بصيرًا أو أعمَى، كما لو قصد قتل من يمكنه الاحتراز (¬1) منْهُ، فلم يحترز حتَّى قتله، وإن قعد أو وقَفَ في طريقٍ ضيِّقٍ يتضرَّر به المارَّة، واتفق ما صوَّرناه، فالأصحاب فريقانِ، قال أكثرهم، وتابَعَهُم صاحبُ الكتاب: النَّصُّ فيما إذا تعثر الماشي بالقاعدِ أو النائم؛ أن دَمَ القاعدِ والنائم مُهْدَر، وعلى عاقلتهما ديةُ الماشي، والنصُّ فيما إذا كان التعثّر بالواقف، وماتا؛ أنه يُهْدَر دمُ الماشِي (¬2)، ويجبُ دية الواقِفِ على عاقلته، وفيهما طريقان: أحدهما: التصرُّف في النصَّيْن، وجعل الصورتين عَلَى قولَيْن بالنقل والتخريج: أحدهما: أنه يُهْدَرُ دم الواقفِ، والقاعدِ، والنَّائم، ويجب ديةُ الماشِي على عاقلة هَؤُلاء؛ لأن الطريق للطروق، وهم بالوقوفِ والقعودِ والنَّوْم مقصِّرون، فينزل فعْلُهم منزلةَ وضْع الحَجَر في مثل هذا الطَّريق. ¬
والثاني: يُهْدَر ديةُ الماشِي، ويجب على عاقلته ديةُ الواقِفِ أو القاعدِ أو النائمِ؛ لأن القتل حصل بحرَكَتِهِ، والمَشْيُ ارتفاقٌ بالطريق، فيباحُ بشرط السَّلامة، فصار كما إذا تردَّد الأعمَى في الطريق بلا قائد، فأتلف، فلَزِمَهُ الضمان. والثاني: تقريرُ النصَّيْن، والفرق أن الماشي قد يحتاجُ إلى الوُقُوف؛ لانتظار رفيقٍ أو كلالٍ أو سماع كلامٍ، أو إِسماعِهِ، فالوقوف من مرافِقِ الطريقِ؛ كالمشْي، لكن الهلاكَ حصَلَ بحركة الماشِي، فيختص بالضمان، والقعودُ والنومُ ليْسَا من مرافق الطريقِ، فمن قَعَد أو نامَ، فقد تعدَّى، وعرض نفْسَه للهلاك، وهذا ما اختاره القاضي الحُسَيْن، وفي "التهذيب" أنه الأصحُّ، وقال أصحابنا العراقيُّون: يجبُ على عاقلة كلِّ واحدٍ من الماشِي والواقِفِ ديةُ الآخر، أما الماشي، فلأنَّه قتل الواقف، وأما الواقف، فلأنه تسبَّب إلَى قتل الماشي بالوقوف في الطريق، وينسب هذا إلَى نصِّه في القديم، ونقلوا وجْهًا آخر؛ أنه لا ضمانَ عَلَى عاقلة الواقفِ؛ لأنه لا حركَةَ منه، والقعودُ عَلَى هذه الطريقة كالوُقُوف، ويخرجُ من الطريقَيْن في الواقِفِ والماشِي ثلاثةُ أوجُه، أو أقوالٍ: أحدُها: وجوبُ دية كلِّ واحدٍ منهما عَلَى عاقلة الآخر. والثاني: وجوبُ ديةِ الواقِف عَلَى عاقلة الماشِي، دون العكس. والثالث: وجوبُ ديةِ الماشِي عَلَى عاقلة الواقِفِ، دون العكس، والأقربُ الثَّاني، وبه أجاب صاحب "التتمة" ورجَّحه أبو الحَسَنِ العَبَّادِيُّ، ويليه الأول، وهذا كلُّه فيما إذا لم يوجَدْ من الواقف فعلٌ، فإن وجد كما إذا انحرف إلى الماشي، لما قَرُب منه وأصابه في انحرافه، وماتا، فهما كماشِيَيْنِ اصْطَدَما، وسنذكر حُكْمَه، ولو انحرف عنْه، فأصابه في انحرافه، أو انحرف إليه، وأصابه بعد تمامِ الانحرافِ، فالحكْمُ كما لو كان واقفًا لا يتحرَّك. ولو جلس في مسْجدٍ، فتعثَّر به إنسانٌ وماتا، فعلى عاقلة الماشي ديةُ الواقفِ، ولا ضمان للماشي؛ كما لو جلس في ملكه، فتعثَّر به ماش، ولو (¬1) نام في المسجد معتكفًا، فكذلك، ولو جلس لأَمْرٍ يُنَزَّهُ عنه المسجدُ، أو نام غيْرَ معتكِفٍ، فهو كما لو نام في الطريق، ذكره في "التهذيب" (¬2)، وعن أبي حنيفة وأصحابه، أنَّ الجالس يضمن ديةَ الماشِي، إذا جلس لغير الصَّلاة، ولا يخفى أن ما أطلقه صاحبُ الكتاب في هذا الفَصْل، والذي قبله من أنَّ الضمان على الحافر، وعلى واضع الحجر، وعلى القاعد، ¬
أراد به تعلُّقَ الضمان بهم بوجوبه عَلَى عواقلهم، لا وجوبَ الضمانِ عليهم في أنْفُسِهِمْ، وقد وقَع في لَفْظ الشافعيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في مسألةِ وضْع الحَجَر، وإذا قلنا: إن العاقلةَ يتحملَّون الدية فالوجوب يلاقي الجاني أخذًا بظاهر اللفظ، [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: وَلَوْ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ فَسَقَطَ عَلَيْهِ آخَرُ فَضَمَانُهُما عَلَى عَاقِلَةِ الحَافِرِ، وَهَلْ لِوَرَثَةِ الأَوَّلِ مُطَالَبَةُ عَاقِلَةِ الثَّانِي بِنِصْفِ الدِّيَةِ حَتَّى يَرْجِعُوا بِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الحَافِرِ؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ، مَنْشُؤُهُ أَنَّ المُكْرَهُ هَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِ عُهْدَةٌ؟، وَلَوْ تَزَلَّقَ عَلَى طَرَفِ البِئْرِ فَتَعَلَّقَ بِآخَرَ وَجَذَبَهُ وَتَعَلَّقَ الآخَرُ بِثَالِثِ وَجَذَبَهُ وَوَقَعَ بَعْضُهُم عَلَى البَعْضِ فالأَوَّلُ مَاتَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَسْبَابٍ بِصَدْمَة البِئْرِ وَثَقِلَ الثَّانِي والثَّالِثِ وَهُوَ مُتَسَبَّبٌ إَلَى وَاحِدٍ فَيُهْدَرُ ثُلُثُ دِيتِهِ وَثلُثُهُ عَلَى الحَافِرِ وَثُلُثُهُ عَلَى الثَّانِي فَإِنَّهُ جَذَبَ الثَّالِثِ وَأَمَّا الثَّانِي هَلَكَ بِسَبَبَيْنِ وَهُوَ مُتَسَبِّبٌ إِلَى أَحَدِهِمَا فَيُهْدَرُ نِصْفُهُ وَنِصْفُ دِيتِهِ عَلَى الأَوَّلِ لِأَنَّهُ جَذَبَهُ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَكُلُّ دِيتِهِ عَلَى الثَّانِي. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا وقع في البئرِ واحدٌ [خَلْفَ واحدٍ]، وهلكوا أو بعضُهم، فإما أن يكون وقوع الثاني بجَذْبِ الأول، أو من غير جذبه: الحالة الأولَى: إذا وقع الثاني من غير أن يجذبه الأوَّل، فإن مات الأول، فالثاني ضامنٌ؛ لأنه أتلفه بثَقلِهِ ووقوعِهِ عليه، فكان كما لو رماه بحَجَر، فقتله، وما الذي يلزمه ينظر؛ إن تعمد إلقاء نفسه عليه، ومثله يَقْتُلُ مثْلَهُ غالبًا؛ لضخامته، وعُمْق البئر، وضيقها فعليه القصَاص، وإن تعمَّده، لكنه لا يقتل بمثله غالبًا، فهو شبه عمد، وإن لم يتعمَّد وتردَّى في البئر بغير اختياره، أو لم يعلم وقوع الأول في البئر، فهو خطأ محضٌ، ثم الذي أطلقه المطْلِقُون، إذا آل الأمر إلى المال؛ أنه تجبُ الدية بتمامها، وقد يحتجُّ له بما روي أن بصيرًا كان يقُودُ أعمَى، فوقع البصيرُ في بئْرٍ، ووقع الأعمَى فوقه، فقتله، فقَضَى عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِعَقْلِ البَصِيرِ على الأَعْمَى، فذكر أنَّ الأَعْمَى كان ينشد في المَوْسِمِ: [الرجز]: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، رَأَيْتُ مُنْكَرًا!! هَلْ يَعْقِلُ الأَعْمَى الصَّحِيحَ المُبْصِرا؟ خَرَّا مَعًا كِلاَهُما تَكَسَّرا واستدركَ مستدركونَ؛ فقالوا: كما أن وقوعَ الغيرِ على الإنسان مُهْلِكٌ، فوقوعه في البئر وتأثُّره بما يصادِمُه (¬1) مهلِكٌ أيضًا، فالأول ماتَ بوقوع الثاني عليه، وبوقوعه في البئر، فعلى الثاني نصفُ الدية، ويكون النصْفُ على الحافر، إن كان الحفر (¬2) عدوانًا، ¬
وإلا فهو مُهْدَرٌ، وهذا أصحُّ عند صاحب "التتمة" وغيره، نَعَمْ، لو نزل الأولُ في البئْر، ولم ينصدم (¬1)، ثم وقع عليه الثاني، تعلَّق بوقوعه كلُّ الدية، وإن ماتَ الثاني، فإن تعمَّد إلقاءَ النَّفْس فيها، أو لم يكنِ الحَفْر عدوانًا، فهو هَدَر، وإلا تعلَّق الضمان بالحافر، وإنْ ماتا معًا، فالحكم في حقِّ كل واحد منهما (¬2) على ما بيَّنَّا، وإن تردَّى في البئر ثلاثةٌ، واحدٌ بعد واحدٍ، فمن قال في الصورة السابقة: إن ديةَ الأول على عاقلة الثاني، قال هاهنا دية الأولِ علَى عاقلة الثاني، والثالثُ؛ لأنه مات بوقوعهما عليه، ويحكَى هذا عن الشيخ أبي حامد، ومَنْ قال هناك: ليس على الثانِي إلاَّ النصْفُ، قال هاهنا: ليس على الثاني والثالث إلاَّ ثلثا الضمانِ، والثلُثُ الباقي (¬3) على الحافر إن كان متعديًا، وإلا فهو هَدَر، وينْسَبُ هذا إلى القاضي أبي الطَّيِّب (¬4)، واختاره ابن الصبَّاغ وقوله في الكتاب: "ولو تردَّى في بئْر، وسقَطَ عليه آخر، فضمانُهُما على عاقلة الحَافِر"، يعني: إذا ماتا، وكان الحفّر عدوانًا، فيثبت لورثة كلِّ واحد منهما مطالبةُ عاقلةِ الحافِرِ بالدية. وقوله: "وهَلْ لورثة الأوَّل ... " إلى آخره، أراد به أن الثاني، وإن أهلك (¬5) الأول بوقوعه عليه، فإنه غير مختارٍ فيه، بل ألجأه الحفْرُ إليه، فهو كالمكْرَهِ على الإِتلاف، وليس للإتْلاَف (¬6) في صورة الترَدِّي موجبٌ سوى المال، فكان كالمكْرَهِ على إتلاف المال، وقد سبق ذكْرُ وجهين في أن المكْرَهَ على إِتلاف المال، هل يُطَالَب بالضمان، وأن القرار على المِكْرَه، وإن طولِبَ به المُكْره، وإذا كان كذلك، استقرَّ ضمان الثاني على عاقلة الحافر؛ لأنه كالمكْرَه، وفي مطالبة عاقلة الثانِي به الخلافُ في مطالبة المُكْرَه، والظاهر المطالبةُ. ¬
وقوله: "فضمانُهُما على عاقِلَةِ الحافِرِ"، يجوز أن يُعْلَم بالواو؛ لأن الحافر، وإن قدر أنه كالمَكْرَهِ، فقد قدَّمنا وجهًا؛ أن ضمان المال علَى المُكْرِهِ، دون المكْرَه. وكذا قوله: "حتَّى يرجِعُوا به عَلَى عاقلة الحافر" لوجهٍ آخر، أنَّ الضمان يتقرَّر عليهما بالسوية، فلا يرجع المكره، إذا غرم النصف. وقوله: "بنصْفِ الدية" يوافقُ قَوْلَ من قال: إن الضَّمَان الذي يتعلَّق بالثاني نصْفُ الدية لا جميعها، [والله أعلم]. الحالة الثانية: أنْ يقَعَ الثاني في البئْر بجذب الأول، فإذا تَزَلَّق على طرف البئر، فجذب غيره، ووقع في البئر، ووقع المَجْذُوب فوقه، فماتا، فالثاني هلك بجَذْب الأول، فكأنه أخذه، وألقاه في البئْر إلاَّ أنه قَصَد الاستمساكَ والتحرُّز عن الوقوع، فكان مخطئًا؛ ووجب ضمان الثاني على عاقلته، وأما الأول، فإن كان الحفْرُ عدوانًا، ففيه وجهان: أحدهما، ويحكَى عن الخُضَرِّي: أنه مُهْدَر لا يتعلَّق شيءٌ من ضمانه بحافر البئر؛ لأن الحفر سبَبٌ، والذي وجد منه، وهو جذب الثاني مباشرة، فصار كَمَا إذا حفر بئرًا عدوانًا، وطرح آخر فيها نفْسَه لا يجب على الحافر شيْءٌ من ضمانه. والثاني: أنَّه يجبُ نصف ديته على عاقلة الحَافر، ويُهْدَر النصْفُ؛ لأنه مات بسببين؛ صدمةِ البئرِ، وثِقَلِ الثاني، والثَّاني: فعلُه، فيهدَرُ النصفُ، ويجب النصف، وهذا أصحُّ على ما ذكره الشيخ أبو علي وغيره، وأجاب الشيخ عن الأول؛ بأن ابتداءَ السقوط والتردِّي لم يكن بفعْلِهِ واختياره، والجَذْب وجد بعْدَ ذلك، كأنه زَلِقَتْ رجْلُه، أو انهار طَرَفٌ من أطراف البئر، فتعلَّق بغيره مستمسكًا، فانقلع الغَيْرُ معه، ويخالف ما إذا طرح نفسه في البئر قصْدًا؛ فإنه أحدث سبب الهلاك باختياره، وإن لم يكن الحفر عدوانًا، فالأول مُهْدَر بلا خلاف، وليحمل على هذه الحالةِ إطلاقُ من أطلق القولَ بإهدار الأول، وقد أطلقه كثيرون (¬1)، ولو كان التصويرُ كما ذكرنا، وجذب الثاني ثالثًا، وماتوا جميعًا، فأما الأول، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يُهْدَر نصْفُ ديته لجذْبه الثاني، وبجبُ نصفها على عاقلة الثَّاني؛ لجذْبه الثالث، فإنه مات بثقلهما، وهذا ما أورده جماعةٌ، منهم صاحبُ "التهذيب" والقاضي الرويانيُّ، وهو مبنى على أن الحفْر لا أثر له مع الجَذْب. ¬
وأَظْهَرُهُما، وهو المذكور في الكتاب: أنه مات بثلاثةِ أسبابٍ، صدمةِ البئر، وثِقَلِ الثاني والثَّالث، فيهدر لما حَصَل بفعله، وهو ثقلُ الثاني -ثلُثُ الدَية، وينظَرُ بعد ذلك؛ إن كان الحفر عدوانًا، فيجب ثلث الدية (¬1) على عاقلة الحافر، وثلثُهَا على عاقلة الثاني؛ لجذبه الثالث، وإن لم يكن الحفْرُ عدوانًا، فيهدر ثلث آخر، ويجب الثلث على عاقلة الثاني، وذكر ابن الحَدَّاد؛ أنه مات بالوقوعِ في البئرِ، وبَجذبْه الثاني، فيهدَرُ نصْف ديته، ونصْفُها على عاقلة الحافر، وأعْرَضَ عن النظر إلى تأثره بثقل الثالث، وهو غيْرُ مرضيٍّ عند الأصحاب. وأما الثاني: فإنه ماتَ بجَذْب الأول وإلقائه إياه في البئْر، وبثقل الثالث، وثقلُ الثالثِ حَصَل بفعله، فيُهْدَرُ نِصْفُ ديته، ويجب نصفها على الأول، ولا أثر للحَفْر في حقِّه؛ إذ جذب وألقى فيها. وأما الثَّالث: فإنه لم يوجَدْ منه ما يؤثِّر في هلاكه، فيجب تمام ديته، وعلى مَنْ تجب؟ فيه وجهان: أصحهما: أنه على الثاني؛ لأنه الذي جَذَبَهُ، وأوْقَعَه في البئر. والثَّاني: على الأوَّل والثاني جميعًا؛ لأنه لما جذب الثاني الثالثَ، والأوَّلُ الثانِيَ، صار الثالث مجذوبًا بالقوتَيْن جميعًا. ويجوزُ أن يُعْلَم؛ [لما ذكرنا] (¬2)، قولُه في الكتاب في حقِّ الأول: "فَيُهْدَرُ ثُلُثُ دِيَتهِ" بالواو. وكذا قوله في آخر الفصْل "على الثاني"؛ إشارةً إلى الوجه الذاهب إلَى أن ديةَ الثالثِ على الأول، والثاني مَعَهُ، لا على الثاني وحْده. [ولو كانَتِ] (¬3) الصورةُ بحالها وجذبَ الثَّالِثُ رابعًا، وماتوا جميعًا، ففي الثلاثة الأولينَ وجوه: أصحها: أن الأول مات بأربعة أسبابٍ؛ صدمةِ البئرِ، وثقلِ الثلاثةِ؛ فيهدَرُ ربع ديته؛ لجذبه. الثاني، ويجبُ الربعُ على عاقلة الحافِرِ، إن كان الحفْرُ عدوانًا، ويهدر أيضًا إن لم يكن عدوانًا، ويجب الربع على عاقلة الثاني؛ لجذبه الثالثَ، والربُعُ (¬4) على عاقلة الثالث؛ لجذبه الرابع، وأمَّا الثاني، فلا أثر للحَفْر في حقه، وقد مات بجَذْب الأوَّل ¬
إياه، وبثقل الثالث والرابع، فيُهْدَر ثلث ديته، ويجب ثلثها على الأوَّل، والثُّلُث على الثالث، وأما الثالثُ، فقد مات بجَذْب الثاني إياه، وبثقل الرابع، فيُهْدَر نصْفُ ديته، ويجب نصْفُها عَلَى عاقلة الثاني. والوجه الثاني: أنه لا يجبُ للأول شَيْء؛ لأنه باشر قَتْل نفسه بجذب الثاني، وما تولد من جذبه، ودية الثاني بُهْدَرُ نصْفُها بجَذْبه الثالثَ، ويجبُ نصْفُها على عاقلة الأول؛ لجذبه إياه، وديةُ الثالثِ يُهْدَرُ نصفها لجذْبه الرابعَ، ويجبُ نصفُها على عاقلة الثاني؛ لجذبه إيَّاه، وقضيةُ هذا الوجْه: ألا يجبَ للأولِ في صورة الثلاثةِ شَيْءٌ؛ أيضًا، وإن لم يذكُرُوهُ هناك. والثالث: أنه يجعلُ دية الأول أثلاثًا، فيهدَرُ ثلثها، ويجبُ الثلث على عاقلة الثاني، والثلُثُ على عاقلة الثالث؛ لأنه هَلَك بفعلِ نفسه وفعْلِ الثانِي والثالِث؛ لأن أفعالهم مباشرةٌ، فَيُقَدَّم على الحَفْر الذي هو السبب، وكذلك، تجعلُ دية الثاني أثلاثًا، فيهدر ثلثها؛ لجذبه الثالث، ويجب الثلث على عاقلة الأول؛ لجذبه إياه (¬1)، والثلثُ على عاقلة الثالث، [وأما الثالثُ، فَيُهْدَرُ أيضًا] ثلثها؛ لجذبه الرابعَ، وكذلك تجعلُ ديةُ الثالثِ أثلاثًا، فيهدر ثلثُها؛ لجَذْبه الرابعَ، ويجب ثلثها على عاقلة الأول، وثلثُها على عاقلةِ الثاني؛ لأن الأوَّل جَذَب الثانيَ، والثانِيَ جذَبَ الثالثَ؛ فكأنهما شاركاه في إهْلاَك نفسه. والرابع، حكاه أبو سَعْدٍ المتولِّي، أن للأول رُبُعَ الديةِ، إن كان الحفر عدوانًا، وللثانِي الثلثُ، وللثالثِ النصفُ، وللرابع كمالُ الدية؛ لما رُوِيَ أنَّ ناسًا باليمن حَفَرُوا زُبْيَةً للأسد، فوقع الأسد فيها، فازدحم الناسُ عليها، فتردَّى فيها واحدٌ، فتعلَّق بواحدٍ، فجذبه، وجذب الثاني ثالثًا، والثالثُ رابعًا، فرفع ذلك إلى عَلِيٍّ (كرم الله وجهه)، فقال: للأوَّلِ رُبُعُ الديةِ، وللثانِي الثلثُ، وللثالثِ النصْفُ، وللرابعِ الجميعُ، فرفع ذلك إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فأمْضَى قَضَاءَهُ، والمعنى فيه؛ بأن الأوَّل ماتَ بالوقوع في البِئْر، ووقوع الثلاثة فوْقَهُ، ووقوعهم نتيجة فعله، ولم يتعلَّق به ضمان، وموت الثانِي بجَذْب الأول، ووقوع الاثنين فوقه، ووقوعهما من نتيجة فعْله، فوجب ثلث الدية، وموت الثالث مِنْ جذب الثاني، ووقوع الرابع فوقه، وذلك من فعله؛ فوجب النصفُ، والناصرُونَ للأصحِّ في المسألة لم يثبتوا قصَّةَ عليٍّ (كرَّم الله وَجْهَه)، وربما تكلَّفوا تأويلها، واتفاق الوجوه تجبُ دية الرابع بكمالها، لكنها على من تجبُ؟ فيه وجهان: أصحهما: على الثالث. ¬
والثاني: على الجميع. وقد مرَّ نظيرُهُما، وجميعُ ما ذكرنا فيما إذا وقع الثلاثةُ أو الأربعةُ بعْضُهم فوق بعض. أما إذا كانتِ البئرُ واسعةً، وجذب بعضهم بعضًا، لكن وقع كلُّ واحد منهم في ناحية من البئر، فديةُ كلِّ مجذوبٍ على عاقلة جاذِبِه، وديةُ الأولِ عَلَى عاقلة الحافِرِ، إن كان متعديًا، ومن على عاقلة ديةُ بعضهم أو بعضُها في هذه الصورة، وجبت في ماله الكَفَّارة، ويقع النظر في أنَّها هل تتجزأ، ومَنْ أَهْدِرَ دمُه، أو شيْءٌ منه لفعْلِهِ، ففي وجوب الكفَّارة عليه الخلافُ في أن قاتِل النفْسِ، هل يلزمه الكفَّارة؟ قال الغَزَالِيُّ: الطَّرَفُ الرَّابِعُ فِيما يُوجِبُ الشَّرِكَةَ كَمَا إِذَا اصْطَدَمَ حُرَّانِ وَمَاتَا فَكُلُّ وَاحِدٍ شَرِيكٌ فِي قَتْلِ نَفْسِهِ وَقَتْلِ صَاحِبِهِ فَفِي تَرِكَةِ كُلِّ وَاحِدِ كَفَّارَتانِ وَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ دِيَةِ صَاحِبِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَا مُتَعَمَدِّيْنِ فَهِيَ فِي تَرِكَتِهِمَا، فَإنْ كَانَا راكِبَيْنِ زَادَ فِي تُرْكَةِ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ قِيمَةِ دَابَّةِ صَاحِبِهِ، فَإنْ غَلَبَهُمَا الدَّابَّتَانِ أُهْدِرَ الهَلاَكُ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ إِحَالَةً عَلَى الدَّوَابِّ، وَفِي الثَّاني يُحَالُ عَلَى رُكُوبِهِمَا، فَإِنْ كَانَا صَبِيَّيْنِ أَرْكَبَهُمَا أَجْنَبِيٌّ مُتَعَدِّيًا فَحَوالَةُ الكُلِّ عَلَى الأَجْنَبِيِّ، وَإِنْ أَرْكَبَهُمَا الوَلِيُّ فَلا حَوَالَةَ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ كَرُكُوبِ الصَّبِيَّيْنِ بِنَفْسِهِمَا، وَإِنْ أَرْكَبَ الوَلِيُّ لِأَجْلِ زِينَةٍ لاَ حَاجَةٍ فَفِي تَقْيِيدِهِ بِشَرْطِ سَلامَةِ العَاقِبَةِ فِي حَقِّ الوَلِيِّ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيّ: غرضُ الطرفِ الكلامُ في الاصطدامِ وما يناسبه، وفيه مسائل: الأولى: إذا اصطدم ماشيانِ، فوقَعَا، وماتا، فكلُّ واحدٍ منهما ماتَ بفعْله وفعْل صاحبه، فهو شريكٌ في القتلين، فيكونِ فعْلُه هدرًا في حقِّ نفسه، ومضمونًا في حقِّ صاحبه؛ كما لو جرح نفسه، وجَرَحَه غيرُهُ، ومات من الجراحَتَيْنِ، يسقطُ نصف الدية، ويجبُ على ذلك الغَيْر نصفها، وإذا تحقَّق ذلك، فعَلَى كلِّ واحد منهما كفَّارةٌ لقتلِ الآخر، إن قلنا: إن الكفارةَ لا تتجزأ، ونِصْف كَفَّارَةٍ، إن قلنا: إنَّها تتجزأ، ثم إن لم نوجب الكفَّارة على قاتل النفس، لم يلزم واحدٌ منهما بشركتة في قتل نفسه كفارةٌ، وإن أوجبنا، فيعود الخلافُ في التجزؤ، والصحيحُ: أن الكفَّارة لا تتجزأ، وأنَّ قاتل النفس يلزمه الكفَّارة على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى، والمسألتان في باب الكفَّارة. وقوله هاهنا: "ففي تركةِ كلِّ واحدٍ كفَّارَتان"؛ اقتصارًا على الصحيحِ في المسألتَيْن، ويجوز أن يُعْلَم بالواو. وأمَّا الديةُ، فيجب نصف ديةِ كلِّ واحد منهما، ويسقط نصفُ الديةِ بفعْله؛ لِمَا ذكَرْنا، وبه قال مالك، وقال أبو حنيفةَ، وأحمدُ: يجبُ لكل واحد منهما كمالُ ديته.
ثم إنْ لم يقصد الاصطدامُ بأن اتفق ذلك في ظلمة، أو كانا أعْمَيَيْن، أو مدَّبَّرَيْن، فاصطدما من خلفٍ، أو كان كل واحد منهما غافلًا عن الآخر، فهو خطأٌ محضٌ، فيجب على عاقلة كلِّ واحد منهما نصفُ دية الآخر مخفَّفة، وإن تعمَّد الاصطدام، فوجهان: الذي نصره الأكثرونَ ونقل عن نَصِّه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في "الأم": أن القتلَ الحاصلَ شبْهُ عمد؛ لأن الغالب أنَّ الاصطدامَ لا يفضي إلى المَوْت، فلا يتحقَّق فيه العمدُ المحضُ؛ ولذلك لا يتعلَّق به القصاصُ، إذا مات أحدهما دون الآخر، وعلى هذا فيجبُ على عاقلة كلِّ واحد منهما نصفُ دية الآخر مغلَّظة، وعن أبي إسحاق؛ أن الحاصل عمْدٌ محضٌ، ويجب في تركة كلِّ واحد منهما نصْفُ دية الآخر، وهذا ما أورده صاحبُ الكتاب، والإمامُ، وجعل وجوب القصاص على الخلاف في شريكِ النَّفْس، وقال: إذا اصطدما مقبلَيْنِ، وقَصَدا الصدْمة، فالذي صدر عن كلِّ واحد منهما عَمْدٌ مَحْضٌ، وإذا كانا مقبلَيْنِ، واتفق الاصطدام، لا عن قصد، فهذا يلتحق بشبه العمد، وهذا غَيْرُ واضح. وليعْلَمْ؛ لما ذكرنا، قولُه في الكتاب: "فهو في تَرِكَتِهِمَا" بالواو، ولو تعمَّد أحدهما الصدمةَ دون الآخر، فلكلِّ واحدٍ منهما حُكْمه. وقوله في أوَّل الطرف: "كما إذا اصْطَدَمَ حُرَّان" أشار به إلَى أنه لو كان المصطَدِمان عبْدَيْن، كان الحكْمُ بخلاَف ما ذكرنا، وسيأتي من بعد. الثانية: إذا كان المصطدمانِ راكبَيْن، فحكم الدية والكفَّارة ما بيَّنَّاه، ولو تلفت الدابتان، ففي تركة كلِّ واحد منهما نصْفُ قيمة دابة الآخر؛ لاشْتراكِهما في إتلاف الدابَّتَيْنِ، وعن أبي حنيفة، [أنه يجب] عَلَى كلِّ واحد منهما تمامُ قيمة دابَّة الآخر، ولا مجالَ في القيمة لتحمُّل العاقلة، وقد تقعُ في التقَاصِّ، ولا تقع الديةَ في التقاصِّ؛ لأنها تجبُ على العاقلَةِ، ويستحقُّها الورثة، ولو غَلَبَت الدابتان، وجرى الاصطدام، والراكبانِ مغلوبانِ، ففيه طريقانِ، نقلهما صاحبُ "التهذيب" وغيره: أحدهما: أن هلاكهما وهلاك الدابَّتَيْنِ، والحالَةُ هذه، مُهْدَرَان؛ لأنه لا صنع ولا اختيار للراكبين فيما جَرَى، فصار كالهلاك بالآفة السماوية. والثاني: أن الحُكْم كما لو لم يكُونا مغلوبَيْن؛ لأن الركوبَ كان بالاختيار، والركوبُ لا يتقاعَدُ في التَّسَبُّب عن حَفْر البئر، ولذلك كان الراكبُ في عُهْدة ما تتلفه الدابَّة، وهذا أظهرُ، إن أثبتنا الخلافَ. والثاني: القطْعُ بأن المغْلُوب كغَيْره بخلافِ السفينَتَيْن؛ لأن السفينة تجْرِي بالرِّيح،
فرع
وليستِ الريحُ تحت ضَبطِه، والدابَّةُ زمامُها وعنانُها بيده، فإذا غلبته، دلَّ ذلك على سوء فروسيته وتقصيره، ويجْري الوجهانِ فيما إذا غَلَبَتِ الدابَّةُ راكبَها، أو سائِقَها، وأتلفتْ مالًا، هل يسقط الضمانُ عنه؟ ويجوز أن يُعْلَم لذلك قولُهُ في الكتاب: "على أَحَدِ القوليْنِ" بالواو، ولا فرق في اصطدام الراكبَيْن بين أن يتَّفِقَ جنْسُ المركوبَيْن، أو يختلفَ الجنْس والقُوَّة؛ بأن يكون أحدهما راكبًا بعيرًا، أو فرسًا، والآخر راكبًا بغلًا أو حمارًا، ولا في الراجلَيْنِ بَيْن أن يتَّفِق سيرهما قوَّةً وضعفًا، أو يختلفَ، بأنْ كان أحدهما يعْدُو، والآخر يمْشِي، ولا بَيْن أن يكونَا مقبلَيْن أو مدبرَيْن؛ كما إذا جرت (¬1) الدابَّتان، فاصطدما من خَلْف، أو أحدُهما مقبلًا، والآخر مدبِرًا؛ لأنَّ الاصطدام والحركة المؤثِّرة إذا وجدتْ منهما جميعًا، اكتفى به، ولم ينظر إلى مقادير المؤثِّر، وتفاوت التأثيرِ كالجراحَةِ الواحدة والجراحات، نَعَمْ، قال الإمامُ: لو كانتْ إحدى الدابَّتين ضعيفةً؛ بحيث يقطع بأنّه لا أثر لحركتها، مع قوة الدابَّة الأخرى، فلا يناط بحركتها حُكْم؛ كغرز الإبْرة في جلْد العَقِب مع الجراحات العظيمة (¬2)، ولا فَرْق بين أن يقع المُصْطَدِمان مُنكَبَّيْنِ أَو مُسْتَلْقِيَيْنِ، أو أحدهما منكبًّا، والآخر مستلقيًا، وقال أبو حنيفةَ: إنما يجبُ الضمان، إذا وقعا مُسْتَلْقِيَيْنِ، فأما إذا وقعا منكبَّيْنِ، فهما مُهْدَران؛ لأن الانكباب إنما يحصل بفعل المنكَبِّ، لا بفعل الآخر، وإذا وَقَع أحدهما منكبًّا، والآخر مستلقيًا، فالمنكب هَدَر، وضمان المستلقي على عاقلة المُنْكَبِّ، وعن المُزَنِيِّ؛ أنه ساعده في "المنثور" فيما إذا وقع أحدهما منكبًّا، والآخر مستلقيًا، وعن صاحب "التلخيص" مثله؛ تخريجًا، ويقال: إنه وافق أبا حنيفةَ في المنكبَّيْنِ أيضًا، وإنَّ الأصحاب مَنْ تابعه عَلَى تخريجه، وعامتهم قالوا: الانكبابُ أثرُ الصَّدْمة، والصدمة بينهما، فأشبه الاستلقاء، ولو اصطدم ماشٍ وراكبٌ لطول الماشِي (¬3)، وهَلَكا، فالحكم عَلَى ما بيَّنَّا. " فَرْعٌ" تجاذب اثنانِ حَبْلًا، فانقطع وسقَطَا، وماتا، فيُهْدَر من دية كلِّ واحد منْهما النصفُ، ويجب النصفُ على عاقلة الآخر؛ لأنَّ كل واحدٍ منهما هَلَك بفعْلِ نفسه وفعْلِ الآخر، ولا فرق بين أن يقعا منكبَّيْن أو مستلْقِيَيْنِ، أو أحدهما هكذا، والآخر هكذا، ¬
فرع
وقال أبو حنيفةَ: إنْ وقعا منكبَّيْن، فعلى عاقلة كلِّ واحد تمامُ دية الآخر، وإنْ وقعا مستلْقِيَيْنِ، فهما مُهْدَران؛ لأن انكباب كلِّ واحد منهما هاهنا يكون بفعل الآخر، والاستلقاء يكون بفعْله، لا بفعل الآخر عَلَى نقيض ما سبق في الاصْطِدام، ولو وَقَع أحدهما مستلقيًا، والآخر منكبًا. قَدَمُ المستلقي هَدَر، وعلَى عاقلته جميعُ دية المنْكَبِّ، وقياسُ ما حكينا عن المُزَنِيِّ وصاحب "التلخيص" موافقته، وذكر صاحب "التهذيب" فيما إذا انكب أحدهما، واستلقَى الآخر؛ أنه يجب على عاقلة المستلقي نصْفُ دية المنكبِّ مغلَّظة، ويجبُ على عاقلة المنْكَبِّ نصفُ ديةِ المستلْقِي مخفَّفة، وهذا إنْ صحَّ (¬1)، اقتضى أن يقال في صورة الاصطدام، إذا انكب أحدهما، واستلقى الآخر، يجب على عاقلة المستلقِي نصْفُ دية المنكبِّ مخفَّفة، وعلى عاقلة المنكبِّ نصفُ دية المستلقي مغلَّظة، ثم الفرع مصوَّر فيما إذا كان المتجاذبان مالكَيْن للحَبْل أو غاصِبَيْنِ، فأما إذا كان أحدهما مالكًا، والآخر ظالِمًا (¬2)، فَدَمُ الظالمِ مُهْدَرٌ، وعلى عاقلته نصفُ دية الآخر، ولو أرخَى أحد المتجاذبَيْن، فسقط الآخر، ومات، فنصف ديته على عاقلة المُرْخِي، ونصفُها هدر؛ لأنَّ سقوطه إنما يكون بالإرخاء بقوَّة جَرِّهِ، ولولا جرُّه، لما سقط بالإرخاء، ولو قَطَع الحبلَ الذي يتجاذبانه قاطعٌ، فسقطا، وماتا فديتهما جميعًا على عاقلة القَاطِع. " فَرْعٌ" ما ذكرنا أنه يُهْدَر نصفُ قيمة الدابَّة، ويجب النصف الآخر؛ فيما إذا كانت الدابَّة ملكًا للراكب، فأما إذا كانتْ مستعارةً أو مستأجرةً، فلا يُهْدَرُ منْها شيْءٌ؛ لأن العاريّةَ مضمونةٌ، وكذا المستأجِرُ إذا أتلف المستأجَرَ. الثالثَةُ: بيَّنَّا حكم اصطدام البالغَيْن العاقلَيْن في حالتَي المشْي والركوب، فأما إذا اصطَدَمَ صبيان أو مجنونانِ، نُظِرَ؛ إن كانا ماشيَيْن، أو راكَبَيْن، وَقد ركبا بأنفسهما، فالحكْمُ كذلك، إلا أنا إذا أوجبْنَا الديةَ، هناك مغلَّظَة، فيبنى هاهنا على أن الصبيَّ، هل له عَمْدٌ، إن قلنا: نعم، فكذلك، وإلا، فتجبُ، مخففة وإن أركبهما مَنْ لا ولايةٌ له عليهما، فلا يُهْدَرُ شيْء من ديتهما، ولا قيمةَ للدابَّتَيْن، ولا شيءَ على الصبِيَّيْن، ولا على عاقلتهما، ولكنْ إن كان المركبُ واحدًا، فعليه قيمة الدابتين، وعلى عاقلته ديةُ الصبيين، وإن أركَبَ هذا واحدًا، وهذا آخَرَ، فعلى كلِّ واحد منهما نصفْ قيمة كلِّ ¬
واحد من الدابَّتَيْن؛ لأن الذي أركبه متعدياً أتْلَفَ النصفَيْن، فضمنه، وكذلك يَضْمَن ما أتلفت الدابَّة بيدها أو رِجْلها، وعلى عاقلة كلِّ واحد منهما نصفُ دية الصبيِّ الذي أركبه، ودية الصبيِّ الآخر لجنايته عَلَى نفسه، وجنايته على الآخر، هذا هو المشهُور، ووراءَه كلامان: أحدهما، قال الشيخُ أبو حامدٍ: كان أبو القاسم الدَّارِكِيُّ، وأبو الحَسَنِ بْنُ المَرْزُبَانِ يقُولان: يجبُ عَلَى عاقلةِ كلِّ واحدٍ من المُرْكَبَيْنِ ديةُ مَنْ أركبه، قال: وهذا لَيْسَ بشَيْء، والصوابُ الأولُ؛ لأن المُرْكِب المتعدِّي يضمن الصبيَّ الذي أركبه، وجنايته على غيره حتَّى لو وقع الصبيُّ، ومات، يلزمه الضمان، ولو جنَى على غيره، يضْمَن ذلك الغير، ولا يضمن جناية الغَيْر على الصبيِّ الذي أركبه، فلا يصحُّ القول بأنه يضمن من أركبه؛ لأن نصفه فَاتَ بجناية الغير، والذي أطلقه مِنْ أنَّه لو وقع الصبيُّ الذي أركبه، ومات، يضمنه -فيه تفصيلٌ في "التتمة"، فإنَّه قال: إن كان مثله لا يستمسكُ على الدابَّة، ولم يسنده، وجب الضمان، وإن كان يستمسك، فإن كان ينقله من موضع إلَى موضع، فلا ضمان؛ أركبه الوليُّ أو غيره؛ لأنه لا يخاف منه الهلاك غالباً، وإن أركبه لتعلم الفروسية، فهو كما لو تلف في يد السَّبَّاح، وفي كلِّ واحدٍ من الإطلاق والتفصيلِ توقُّف. الثاني: قال في "الوسيط": لو أركب الصبيَّ متعدٍّ، وتعمَّد الصبيُّ، فيحتمل أن يحالَ الهلاكُ على الصبيِّ، إذا جعلْنا له عمداً؛ لأن المباشرة أولَى من التسبُّبَ، لكن لَمَّا لم تكن مباشرتُه عدواناً؛ كصباه، أمكن أن يجعل كالتردِّي مع الحفر، والاحتمالُ حسنٌ، والحكم إنْ قيل به كالحكْمِ فيما لو ركبا بأنفسهما، والاعتذارُ عنه متكلَّف، ثم حقُّه أن يقال بمثله في الحَفْر، حتى لو ألقى الصبيُّ نفسه في البئر عمداً يكون الضمان على عاقلة الحافر، والله أعلم. فهذا إذا أركبهما مَنْ لا ولاية له، وإن أركبهما وليَّاهما لمصلحتهما، ففي الضمان وجهان: أصحهما: المنعُ؛ كما لو ركبا بأنفسهما؛ إذ لا تقصير. والثاني، ويحكَى عن القَفَّال: أنه يجب الضمان؛ لأن في الإركاب خطراً ظاهراً، فلا يرخَّص فيه إلا بشَرْط الضمان، إن لم تسلم العاقبة، هكذا أطلق حكاية الوجهين جماعةٌ، منهم صاحب "التهذيب"، وإبراهيم المروزيُّ، وخصص الإمامُ وصاحبُ الكتاب الوجهَيْن بما إذا كان الإركابُ لزينة، أو لحاجة غير مهمة، فأما إذا مسَّت حاجة (¬1) أرهقت إلى إركابه للنَّقْل من مكان إلى مكان، فلا خلافَ في أنَّه لا يتعلَّق [به] ¬
الضمانُ، ثم الوجهان في الزينة، ونحوها، على ما ذكر الإمامُ -مخصوصانِ بما إذا ظهر ظَنّ السلامة، فأما إذا أركب الوليُّ (¬1) الطفلَ دابَّةً شرسةً جموحةً، فلا شكَّ في أنَّه يتعرَّض لخطَرِ الضمان. وقوله في الكتاب: "وإن أركب الوليّ؛ لأجل زينةٍ لا لحاجةٍ" فيه ما تبيَّن أن قوله أولاً: "وإن أركبه الوليُّ فلا حوالة عليه"، أراد به ما إذا أركبه لحاجةٍ، وإن أطلق الكلام إطلاقاً. قال الغَزَالِيُّ: فَإنْ تَصَادَمَ حَامِلَتَانِ فَفِي تَرِكَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ أَرْبَعِ كَفَّارَاتٍ؛ لأَنَّهُ أَهْلَكَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ وَالكَفَّارَةُ لاَ تَتَجَزَّأ، وَقَاتِلُ نَفْسِهِ يَلْزَمُهُ الكَفَّارَةَ عَلَى الأَصَحِّ فِي المَسْألَتَيْنِ، وَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ غُرَّةٌ نِصْفُهَا لِهَذَا الجَنِينِ وَنِصْفُهَا لآخَرِ، وَحُكْمُ الدِّيَةِ مَا سَبَقَ، فَإِنْ كَانَا عَبْدَيْنِ فَهُمَا مُهْدَرَانِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدَهُمَا عَبْداً فَنِصْفُ قِيمَةِ العَبْدِ فِي تَرِكَةِ الحُرِّ وَنِصْفُ دِيَةِ الحُرِّ تَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ القِيمَةِ فَإِنَّهَا بَدَلُ الرَّقَبَةِ، فَإِنْ كَانَتَا مُسْتَوْلِدَتَيْنِ وَتَسَاوَتِ القِيمَتَانِ تَقَاصَّتَا، وإنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا تُسَاوِي مَائَتَيْنِ وَالأخْرَى مَائَةً فَضَلَ لِصَاحِبِ النَّفِيسِ خَمْسُونَ بَعْدَ التَّقَاصِّ، وَإِنْ كَانَتَا حَامِلَتَيْنِ وَقِيمَةِ كُلِّ غُرَّةٍ أَربَعِينَ فَصَاحِبُ النَّفِيسَةِ يَسْتَحِقُّ مَائَةَ وَعِشْرِينَ مِنْ جُمْلَةِ مَائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَلَكِنْ قِيمَةُ الخَسِيسَةِ مَائَةٌ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى سَيِّدِ المُسْتَولِدَةِ إِلاَّ أَقَلُّ الأَمْرَيْنِ فَعَلَيْهِ مَائَةٌ لَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَبْعِينَ مِنْ جُمْلَةِ مَائَةٍ وَأَرْبَعِينَ فَيَفْضُلُ عَلَيهِ ثَلاثُونَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: اصطدامُ المرأتينِ كاصطدامِ الرَّجُلَيْنِ، ولو اصطدمَتْ حاملان، فماتتا، وألقيتا الجِنينَيْنِ، فيجبُ في تركة كلِّ واحدة أربعُ كفَّاراتٍ؛ كفَّارة لنَفْسِها، وكفَّارة لجنينها، وثالثةٌ لصاحبتها، ورابعةٌ لجنينها؛ لأنَّهما اشتركا في إهْلاكِ أربعةِ أشخاصٍ، هذا إذا أوجبنا الكفَّارة على قاتل النفسِ، وقلْنا: الكفَّارة لا تتجزأ وإن لم نوجب الكفَّارة على قاتلِ النفسِ، عادت إلى ثلاثٍ، وإن قلنا: بالتجزئة، عادَتْ إلى ثلاثةَ أنصافٍ (¬2)، ويجب على عاقلةِ كلّ واحدة نصْف غرة لجنينها (¬3)، ونصف غرة لجنين للأخْرَى؛ لأنَّ المرأة، إذا جَنَتْ على نفسها، فألْقَتْ جنينها، وجبت الغُرَّة على ¬
عاقلتها، كما لو جَنَتْ على حامل أخرَى، فلا يهدر من الغُرَّة شيء، وأما الدية، فتجب نصفها، ويهدر نصفها على ما مَرَّ. الخامسة: إذا اصطدم عَبْدَانِ، فمات أحدهما، وجب نصف قيمته متعلقاً برقبة الحيِّ، وإن ماتا، فهما مهدران؛ لأن ضمان جناية العبد تتعلَّقَ برقبته، فإذا فاتت الرقبة، فَاتَ محلُّ التعلُّق، ولا فرق بين أن تختلف القيمتانِ، أو تتَّفقا، وإن اصطدم حُرٌّ وعبْدٌ، ومات العبد، فنصفُه هَدَر، ويجبُ نصف قيمته، ويكون على الحر أو على عاقلته، فيه الخلافُ في أنَّ قيمة العَبْد، هَل تتحمَّلها العاقلة، وإن مات الحرُّ، وجب نصف ديته متعلقاً برقبة العبد، وإن ماتا معاً، فإن قلنا: قيمة العبد لا تتحمَّلها العاقلةُ، وجب نصف قيمة العبد في تركة الحُرِّ، ويتعلَّق به نصف دية الحُرِّ، فإنه كان يتعلَّق برقبة العبد، فإذا فاتت، تعلَّق ببدلها كَمَا أن العبد الجانِيَ الذي تعلَّق الأرش برقبته إذا قيل: ينتقلُ التعلُّق إلى قيمته، ثم إن تساويا، قال الأئمة: يتقاصَّان، وليحملْ ذلك عَلَى أنَّه يقع في صورة التقاصِّ، ثم إنما يكون ذلك إذا اتَّحَدَ الجنسُ، بأنْ أعوزت الإبل، ورجع الواجب إلى نقد البلد، وإلا فالدية الإبلُ، وقيمةُ العبدِ نقْدُ البلد، وإذا اختلف الجنْسُ، لم تكن الصورة صورةَ التقاصِّ، وإن كان نصف القيمة أكثرَ، فللسيد أخذُ الزيادةِ من تركة الحُرِّ، وإن كان نصفُ الديةِ أكثرَ، فالزيادة مهدرةٌ؛ لأنه لا محلَّ تتعلَّق به، وإن قلْنا: إن قيمة العبد، تتحمَّلها العاقلةُ، فنصف قيمة العبد على عاقلة الحُرِّ، ويتعلَّق به نصفُ دية الحر، كما ذكرنا، فيأخذ السيد من العاقلَةِ نصفَ القيمةِ، ويدفع نصف الدية إلى الورثة، إما من عين المأخوذِ، أو غيره، ولا تقاصَّ (¬1) ههنا؛ لأنَّ المستحَقَّ عليه غير المستحِقِّ إلاَّ أن يكون الورثةُ هم العاقلةَ، قال الإِمام: والوجه أن يثبت لورثة الحرِّ مطالبةُ العاقلة بنصْف القيمة، وإن كان المِلْك فيه للسيد، ليتوثَّقوا به، وكذلك إذا تعلَّق الأرش برقبة عبْدٍ، فجاء أجنبيٌّ، وقتل العبد يثبت للمجنيِّ عليه مطالبة قاتِلِ الجاني بالقيمة، ويثبت للمرتَهن مطالبةُ قاتلِ العبدِ المرهُونِ بالقيمة، ليتوثَّق به، وليكنْ هذا مبنيّاً على أنَّه، هل للمرتهن أن يخاصم الجانيَ، وفيه خلافٌ ذكرناه في الرهْنِ، وقلنا: إن الأصحَّ أنَّه لا يخاصم، وبتقدير أن يخاصم، ويأخذ؛ فأما أن يصير المأخوذُ ملكًا للراهن، أو لا يصير ملكًا له؛ فإن لم يَصِرْ ملكًا له، فكيف يتوثَّق بما ليس ملكًا للراهن، ولا أَذِنَ في التوثق المالك، وإن صار ملْكاً له، ففيه جَعْل المرتهن نائباً عنه نيابةً قهريةً، وهو بعيد. السادسةُ: إذا اصطدمَتْ مستولَدَتَانِ لشخصَيْن (¬2)، وماتتا، فنصف قيمةِ كلِّ واحدة منهما هَدَرٌ لشركتها الأخرى في قَتْل نفسها، ويجب نصفُ قيمتها على سَيِّد الأخرَى؛ ¬
لأن ضمان جناية المستولَدَة تكون عَلَى سيدها على ما سيأتي، إن شاء الله تعالَى، وتبين هناك أنَّ الذي يضْمَنه على الصحيح أقَلُّ الأمرين مِنْ أرشِ الجنايةِ، أو قيمة المستولَدَة، فعلَى كل واحدٍ أقلُّ الأمرين من قيمة مستوْلَدَتِهِ، ونصف قيمة مستولَدَة الآخر، فإن استوَى ما يستحقُّ كلُّ واحد منْهما، وعليه فهو من صُوَرِ التقاصِّ، ففيه أقوال التقاصِّ، وإلا رجع مستحِقُّ الزيادة على الآخر بالزيادة. مثالُه: إحداهما تساوي مائتَيْنِ، والأخرَى مائةً، فصاحب النفيسةِ يستحقُّ مائةً، وصاحب الخسيسةِ يستحقُّ خمسين، فتذهب خمسونَ بخَمْسين، يفْضُل لصاحب النفيسة خمْسُونَ، ولو كانتا حاملتين، وماتتا، وأجهضتا الجنينيْن، فحكم القيمة ما ذَكَرْنا، وأما ضمان الجنينَيْن، ففي "التتمة": أنهما إن كانتا حاملَيْن برقيقين فعلَى سيِّد كلِّ واحدة، مع نصف قيمة الأخرى نصْفُ عشر قيمتها أيضاً، وذلك في مقابلة نصف الجَنِينَ؛ فإنَّ الجنين الرقيقَ يضْمَن بعُشْر قيمة الأُمِّ، وإن كانتا حاملَيْن بولدَيْن حُرَّيْن، فعلَى كلِّ واحد من السيِّدين مع نصف قيمة الأخرى غُرَّةٌ، نصْفُها لجنين مستولَدَته، ونصفُها لجنين الأخْرَى؛ لإهلاكهما الجنينَيْن؛ كما ذكرنا في الحرتين، وإن كانتا حاملتين بولدَيْن حُرَّيْن من السيدَيْن، وهو المرادُ مما أطلقه صاحبُ الكتاب، بل الجمهور، فنصفُ كلِّ جنين هدَرٌ؛ لأن المستولَدَة إذا جَنَتْ على نفسها، وألقت الجنين، فهو هَدَر عَلَى كلِّ واحد من السيدَيْن نصْفُ غُرَّة جنين الأخرى، وتصير الصُّورة من صور التقاصِّ، وإذا فضل لأحدهما شيْءٌ، أخذ تلك الزيادة. المثال فيهما: قيمتُها مائتانِ، ومائةٌ؛ كما مَرَّ، وقيمة الغُرَّة أربعون، فصاحب النفيسة يستحقُّ مائة وعشرين، لكن قيمة الخسيسة مائةٌ، والصحيح أنَّ سيِّد المستولَدَة، لا يضْمَن إلاَّ أقَلَّ الأَمْرَيْن؛ على ما أشرنا إليه، فإذن ليس لَهُ إلاَّ مائةٌ، وصاحب الخسيسة يستحِقُّ عليه سبعين، نِصفُ مائةٍ وأربعين، فسبعون من المائة تصير قصاصاً بالسبعين، يبقَى على صاحب الخسيسةِ ثلاثُونَ، يأخذها صاحب النفيسة منْه، هذا إذا لم يكنْ لواحدٍ من الجنينَيْن وَارثٌ سوى أبيه، وقد يفرض للجنين مع الأب وارثٌ آخر، وهو الجَدَّة أُمُّ الأُمِّ لا غير، فإذا كان لكلِّ واحد من الجنينَيْن جَدَّة، فلكل واحدٍ منهما سُدُسُ الغُرَّة، نصفه على سيد بنتها، ونصفه على سيِّد الأخرى؛ وذلك لأن المستولَدَة إذا جَنَتْ على نفسها، ولَها أمٌّ حرةٌ، يغَرَّم السيدُ لها سُدُس الغُرَّة؛ كما يغرَّم جناية المستولدة على الأجانب، ثم الباقي الذي يستحقُّه كلُّ سيِّد على الآخَر يقع فيه التقاصُّ، فإنْ كان لأحدِ الجنينَيْن جَدَّة دون الآخر، فعلَى كلِّ واحد من السيدَيْن نصفُ سدسِ الغُرَّة لها ثم سيد التي ليس لجنينها جَدَّة يستحقُّ نصف الغرة على الآخر، والآخر يستحقُّ عليه نصْفَ الغُرَّة، إلا نصف سدسها، فيقع الربع والسدس في التقاصِّ، ويأخذ سيد من ليس لجنينها جَدَّة نصْفَ سُدُس الغُرَّة من الآخر.
وإن كانت إحدى المستولَدَتَيْن حاملاً دون الأخرى، فألْقَتْ جنينها، فنصف الغُرَّة على سيد الحامل، فإن كانت له جَدَّة، فلها من ذلك النصفِ نصْفُ سُدُس الغُرَّة، والباقي لسيد الحامل، وعليه للجَدَّة نصفُ سدس أيضاً؛ ليكمل لها سدس الغُرَّة، [والله أعلم] (¬1). وقوله في الكتاب: "ففي تركة كلِّ واحدةٍ أربع كفارات" يجوز أن يُعْلَم بالواو؛ لما بيَّنَّا من الخلافِ، ويجوز ألا يُعْلَم، ويكتفي بأنَّ وجوب الأربعِ بُنِيَ على أن الكفَّارة لا تتجزأ، وأن قاتل النفْسِ تلزمه كفَّارة، وقد تعرَّض لما فيه من الخلاف، فأشْعَر ذلك بالخلاف في وجوب الأرْبَع، وأغْنَى عن الإِعلام، وليرد قوله: "على الأَصَحِّ" إلى المسألتَيْن؛ قاتل النفس، وتجزؤ الكَفَّارة. وقوله: "وعلى عاقلةِ كلِّ واحد غُرَّةٌ، نصْفُها لهذا الجنين، ونصفُها للآخر" الغُرَّة على ما سنبيِّن عبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، وقد توهِمُ اللفظةُ المذْكُورة وجوبَ رقيقٍ نصفُه لهذا، ونصفُه لذاك، ولا معنى لوجوب نصفَيْ رقيقٍ واحدٍ، بل له أن يسلم نصْفَ رقيقٍ عن أحدِهما، ونصف رقيقٍ عن الآخر، فكان الأولى أنْ يقول: نصْفُ غُرَّة لهذا، ونصفُ غُرَّة لهذا. وقوله: "في تركة الحُرِّ" مُعْلَم بالواو؛ للخلاف الذي ذكرناه في أنَّ قيمة العَبْد، هل تضرب على العاقلة. وكذا قوله: "تقاصَّا"؛ للخلاف المشهور في التقاصِّ. وقوله: "ولا يجب عَلَى سَيِّد المستولَدَة إلاَّ أقلُّ الأَمْرَيْنَ"؛ لخلافٍ قد أشرنا إلَيْه، وسيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالَى. وقوله: "ولكنَّه يستحقُّ سبعين"، يعني: صاحبَ الخسيسة، والمعنَى أن السِبْعِينَ تصير قصاصاً بالسبعين، فيفْضُل لصاحب النفيسة ثَلاثُون، وهذا ما أطلقه عامَّة النَّقَلَة تفريعاً على قول التقاصِّ، واستدرك أبو سعْد المتولِّي، فقال: حصولُ التقاصِّ في الغُرَّة يبنى على أنَّه، هل يجوزُ الاعتياضُ عنها، والحكم في الاعتياضِ عنها كالحُكْم في الاعتياضِ عن إبلِ الدِّية، فإن جوَّزناه حصَل التقاصُّ، وإلاَّ فما لا يجوز أن يجعلَ عوضاً بالتراضِي، لا يصيرُ عوضاً بالشرع، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: وَإِنِ اصْطَدَمَتْ سَفِينَتَانِ فَالمَلاَّحُ كَالرَّاكِبِ وَالسَّفِينَة كَالدَّابَّةِ، وَغَلَبَةُ الرِّيَاحِ كَغَلَبَةِ الدَّابَّةِ، وَلَوْ كَانَ فِي كُلِّ سَفِينَة عَشَرَة أنْفُسٍ وَأَمْوَالٌ فَهُمَا شَرِيكَانِ فِي قَتْلِ العِشْرِينَ وَإتْلاَفِ الأَمْوَالِ، وَإذَا قَالَ المَلاَّحُ: كَانَ ذَلِكَ بِالرِّيحِ صُدِّقَ مَعَ يَمِينِهِ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: السابعةُ من مسائل الاصْطِدَامِ؛ إذا اصطدَمَتْ سفينتان، وغرقتا بما فيهما، فأما أنْ يحصُلَ الاصطدامُ بفعلهما، أو لا يحصل (¬1) بفعلهما، فهما قسمان. القسم الأول: أن يحصلَ الاصطدامُ بفعلهما، فيُنْظَر؛ إنْ كانت السفينتانِ، وما فيهما مِلْك المَلاَّحَيْنِ المجريَيْنِ لهما، فنصفُ قيمة كلِّ سفينة وما فيها مُهْدَرٌ، ونصفُ قيمتها وقيمةِ ما فيها على صاحب السفينة الأُخْرَى؛ لأنهما أتلفاهما، وما فيهما بالشركة، فإنْ هلك الملاَّحَانِ أيضاً، فهما كالفارسَيْنِ يموتان بالاصطدام (¬2)، وإنْ كانت السفينتانِ لهما، وحملا الأموال والأنفس؛ إمَّا تبرعاً، أو بأجرةٍ، فينظر؛ إن تعمدا الاصطدامَ بما يعدُّه أهل الخبرة مُفْضِياً إلى الهلاك، تعلَّق بفعلهما القصاصُ؛ حتَّى إذا كان في كلِّ سفينة عَشَرَةُ رجالٍ يُقْرَعُ بينهم لموتهم معاً، فمن خرجت له القُرْعةُ قُتِلَ به المَّلاحَانِ، وفي مالِ كلِّ واحد منهما نصفُ ديات الباقِينَ، فيكون على كلِّ واحد تسْعُ دياتٍ، ونصْفٌ، وعلى كل واحد منهما كفاراتٌ بعدد من في السفينَتَيْن مِن الأحرار والعَبِيد، وعلَى كلِّ واحد منهما نصفُ قيمة ما في السفينَتَيْن من الأموال لا يهدر منْها شيء، ونصفُ قيمة السفينة الأخرَى، ويهدَرُ نصفها؛ كما تقدَّم، ويجري التقاص في القدْرِ الذي يشتركان فيه، وإن تعمَّدا الاصطدام، فكان ما تعمدانه مما لا يُفْضِي إلى الهلاكِ غالباً، وقد يفضي إليه، فهذا شبْه عمدٍ، والحكُمْ كما بيَّنا إلاَّ أنَّه لا يتعلَّق به القصاصُ، وتكون الديةُ على العاقلةِ مغلَّظة. وإن لم يتعمَّدا الاصطدام، ولكن ظنَّا أنهما يجريان علَى الرِّيح، فَأَخْطَأَ، أوْ لَمْ يعلَمْ واحدٌ منهما أن سفينته بقرب سفينة أخرى، فتكون الدية على العاقلة مخفَّفة. وإن كانت السفينتانِ لغير الملاَّحَيْنِ، وكانا أجِيرَيْن للمالكَيْنِ، أو أمينَيْن، لم يسقط شيء من ضمان السفينتَيْن، بل علَى كل واحد منهما نصفُ قيمة كلِّ سفينة، وكلُّ واحدٍ من المالكَيْنِ بالخيارِ بَيْن أن يأخذ جميعَ قيمة سفينته من أمينه، ثم هو يرجعُ بنصفها على أمين الآخر، وبين أن يأخذ نصْفَها منه، والنصف من أمين الآخر، ولو كان المُجْرِيَانِ عبدَيْن، فالضمانُ الواجبُ يتعلَّق برقبتهما. والقسم الثاني: أن يحصل الاصطدامُ لا بفعلهما؛ فإنْ وجد منهما تقصيرٌ؛ بأن توانيا في الضبط، ولم يعْدِلا بهما عن صَوْب الاصطدام، مع إمكانه، أو سَيَّرا في ريح شديدة لا تَسِيرُ في مثلها السفن، أو لم يكملا عدَّتَهما من الرجال والآلات، وجب ¬
الضمان على ما ذكَرْنَا، وإن لم يوجد منهما تقصيرٌ، وحصل الاصطدام بغلبة الرياحِ، وهَيَجان الأمواج، فهل يجب الضمانُ؟ فيه قولان: أحدهما: نعم، كالفارسَيْنِ، إذا غلبت دابَّتُهما. وأصحُّهما: لا؛ لأنهما مغلوبانِ، لا اختيارَ لهما، فأشبه ما إذا حصل الهلاكُ بصاعقةٍ من السماء، وليستْ غلبةُ الرياح كغلبةِ الدابَّة، فإن ضبط الدابة باللِّجام ممكنٌ، والبحر المغتلم لا طاقة به، وفي محلِّ القولَيْن طريقانِ، خصَّصهما مخصِّصون بما إذا لم يوجد من المجرِيَيْنِ فعلٌ أصلاً؛ بأن كانت السفينةُ مربوطةً على الشَّطِّ أو مرسَاةً في موضع، وَهاجت ريحٌ، وسيَّرتهما، فأما إذا سيَّراهما، ثم غلبَتِ الريحُ، وعجزا، وجَب الضمانُ؛ لأن ابتداء السير كان بفعلهما واختيارهما، وطردهما أبو إسحاق والإِصطخريُّ وآخرون في الحالتين، وهو الأظهر. التفريع: إن قلنا: يجبُ الضمان، فهو كما لو فرَّطا، ولكن لم يقصدا الاصطدام، وإن قلنا بالأصحِّ، فلا يجبْ ضمانُ الأحرار، ولا ضمانُ الودائعِ والأماناتِ فيهما، وكذا لا يجبُ ضمانُ الأموالِ المحْمُولة بالأجرة، إن كان مالكُها معَهَا، وكذا لو كان عبدُ المالِكِ معَها يحْفَظُها، وإن استقلَ المجرِيَانِ باليد، فعلى الخلافِ في أنَّ يد الأجير المشتَرَكِ، هلْ هي يدُ ضمان، وإن كان فيهما عبيدٌ، فإن كانوا أعواناً أو حفَّاظاً للمالِ، لم يجبْ ضمانهم، وإلاَّ فهم كسائر الأموالِ، وعلى هذا القوْلِ، لو اختلف صاحبُ المالِ والملاَّحان؛ فقال صاحبُ المال: كان الاصطدامُ بفعلِكُمَا، وقالا: بل بغَلَبة الرِّيَاح، فالقول قولُهما، مع يمينهما؛ لأنَّ الأصل براءةُ ذمَّتهما، ومهما كان أحدُ الملاَّحَيْن عامداً دون الآخر، أو مفرِّطاً دون الآخر، خصَّ كلَّ واحد منهما بالحُكْم الذي يقتضيه حالُهُ عَلَى ما تبيَّن، ولو صدَمَتِ السفينةُ المربوطةُ على الشطِّ سفينةً، فكسرتها، فالضمانُ على مجرى السفينةِ الصَّادمة [والله أعلم]. وقوله في الكتاب: "فالمَلاَّح كالرَّاكب ... " إلى آخره (¬1)، ينطبقُ عَلَى ما إذا كانت السفينتانِ وما فيهما للملاَّحَيْن، ويجوز أن يُعْلَم قوله: "وغلبة الرياحِ كغَلَبة الدَّابَّة" بالواو؛ لأنَّ في غلبة الرياح قولَيْن منصوصَيْن، وفي غلبة الدابَّة طريقان: أحدهما: أنها على قولَيْن أيضاً. والثاني: القطْعُ بوجوب الضمان، وعلَى هذا فلا يكونُ غلبة الرياح كغلبة الدابة. وقوله: "ولو كان في كلِّ سفينةٍ أنفُسٍ ... " إلى آخره، المرادُ ما إذا حملا في ¬
فرع
سفينتهما الأنْفُسَ والأموالَ، وهما، والحالةُ هذه، شريكانِ إذا حَصَل الاصطدامُ بفعلهما، وهذا هو الذي قصده، وإن أطلق اللفظ، فإن حصل بغلبة الريحِ، ففيه الخلاف. " فَرْعٌ" إذا خرق سفينةً، فغرق ما فيها من نفسٍ ومالٍ، وجب ضمانه، ثم إن تعمَّد الخرق بما يفضي إلى الهلاك غالباً؛ كالخرق الواسع الذي لا مَدْفَع له، تعلَّق به القصاصُ والدِّيَة المغلَّظة في ماله، وإن تعمَّده بما لا يحصل به الهلاك غالباً، فهو شبه عَمْدٍ، وكذا لو قصد إصلاح السفينة، فنفذت الآلة في موضِع الإِصْلاح، وحصل الغَرَق، وإنْ أصابت الآلةُ غيرَ موضع الإِصلاح، أو سقط من يده حجر أو غيره، وانتقبت السفينة، فهو خطأ محض. " فَرْعٌ" لو كانتِ السفينةُ مثْقَلَةً بتسعةٍ أعدال، فجاء آخر، ووضع فيها عِدْلاً آخر متعدِياً، فَغَرِقَتْ، فهل يَضْمَنُ الأعدالَ التسعة؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن الهلاك ترتَّب على فعله. والثاني: لا يَضْمَن كلَّ الضمان؛ لأنَّ الغَرَقَ حصَلَ بثقَلِ الجميع، لا بما فعله. والوجهانِ على ما حَكَى الإِمامُ وغيره مبنيَّان عَلَى ما إذا رمى إِلى صيد، فأبطل بعض امتناعه ولم يزمنه، ثم رمى إليه آخر، فأزمنه، ولولا رمي الأول، لما كان الثاني مزمناً، فلمن الصيد؟ فيه وجهان: أحدهما: أنَّه للثاني؛ لحصول الزمانة عَقِيبَ فعله، فعلى هذا يجبُ على واضعِ العدل كل الضمان. والثاني: أنَّه لهما؛ لأنَّ الزمانة حصَلَتْ بفعلهما معاً، قال الإِمام: وهذا هو الأقيس، والأصَحُّ، وعلى هذا فلا يجبُ كلُّ الضمان عليه، وكمْ يجب؟ فيه وجهان (¬1): أحدهما: نصْفُ الضمان. والثاني: يوزَّع الضمانُ عَلَى جميع الأعدال، ويجب حصَّة ما وضعه عليه، وهذا كالخلافِ فيما إذا زاد الجِلاَّدِ على الحد المشروع، وهلك المحدودُ، ولذلك نظائر متقدِّمة ومتأخِّرة. ¬
قال الغَزَالِيُّ: وَإِنْ أَشْرَفَتْ سَفِينَةٌ عَلَى الغَرَقِ فَقَالَ الخَائِفُ عَلَى نَفسِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ: أَلْقِ مَتَاعَكَ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ لَزِمَهُ لِحَاجَةِ الفِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ مَلْقِيُّ المَتَاعِ أَيْضاً مُحْتَاجاً لَزِمَهُ أَيْضَاً، وَقِيلَ: يَسْقُطُ بِقَدْرِ حِصَّةِ المَالِكِ، وَلَوْ كَانُوا عَشَرَةٌ سَقَطَ العُشرُ، وَلَوْ كَانَ المُحْتاجُ هُوَ المَالِكَ فَقَطْ فَأَلْقَى بِضَمَانِ غَيْرِهِ لَمْ يحِلَّ لَهُ الأَخْذُ، وَلَوْ قَالَ المُلْتَمِسُ: أَلْقِ وَرُكْبَانُ السَّفِينَةِ ضَامِنُون ثُمَّ قَالَ: أَرَدَتُّ التَّوْزِيعَ يُصَدَّقُ مَعَ يَمِينهِ وَلَزِمَهُ حِصَّتُهُ، والرَّاكِبُونَ إنْ رَضُوا بِهِ لَزِمَهُمْ وإلاَّ فَلاَ. قال الرَّافِعِيُّ: صُوَرَ الفصل تورَدُ في هذا الموضِعِ؛ لتعلُّقها بحال السفينة التي جَرَى الكلامُ في اصْطدامِها، وإلاَّ فلا اختصاص لها بالباب. والمقصودُ أنَّ السفينة، إذَا أشرفَتْ على الغرقِ، فيجوز إلقاءُ بعْض أمتعتها في البَحْر، وقد يجب؛ رجاءَ نجاةِ الراكبينَ، إذا خَفَّتْ (¬1)، ويجب إلقاء مَا لاَ رُوحَ فيه؛ لتخليص (¬2) ذي الروح، ولا يجوز إلقاء الدوابِّ، إذا أمكن دفع الغَرَق بغَيْر الحيوانِ، وإذا مسَّت الحاجة إلى إلقاء الدوابِّ، ألقيتْ؛ لإبقاء الآدميين، والعَبيدُ كالأحرار، وإذا قصر من لزمه الإلقاءُ، فلم يُلْقِ حتَّى غرقَتِ السفينةُ، فعليه الإثم، ولا ضَمَان؛ كما لو لم يُطْعِمْ صاحبُ الطعايم المضْطَرَّ؛ [حتى هلك]، يعصي، ولا يجوز إلقاءُ المالِ في البَحْر من غير خوف؛ لأنه إضاعة للمال. إذا تقرَّر ذلك، فلو ألقى متاعَ نفسِهِ، أو متاع غيره، بإذنه؛ رجاءَ السلامة، فلا ضمان على أحد. ولو أَلقى متاعَ غيره بغَيْر إذنه، وجب الضمانُ؛ لأنه أتلف مال غيره بغَيْر إذْنه من ¬
غير أن يلجئه إلَى الإتلاف، فصار كما إذا أكل المضطرُّ طعامَ الغير، وليس كما إذا صَالَتْ عليه (¬1) بهيمة، فأتلَفَها؛ دفْعاً، وعن مالك: لا ضمان على المُلْقِي، وذكر الإِمام اعتراضاً فيما [إذا] (¬2) خَلَصَ عن الغرق بإلقاء متاعِ نَفْسه، فقال: سيأتي ذكْرُ وجهين في أن صاحب الطعامِ، إذا أطْعَمَ المضطرَّ قهراً، هل يرجعُ عليه بقيمة الطعامِ، فهلاَّ كان الحكم فيما إذا ألقى متاعه كذلك، وأجاب عنه بأنَّ مُلْقِي المة ع، إن كان شمله الخَوْفُ؛ بأن كان من ركَّاب السفينة المُشْرِفة على الغَرَق، فهو سَاعٍ في تَخْليص نفسه، مُؤَدٍّ واجباً عليه، فيبعد أن يرجعَ على غيره بخلافِ صاحب الطَّعاَم مع المضطرِّ، وإن كان على الشَّطِّ، أو في زوْرَقٍ، ولا خَوْفَ عليه، فالفرق أن المُطْعِم مخلِّصٌ لا محالة، دافع للتَّلَفِ الذي يفضي إلَيْه الجوع، ومُلْقِي المتاع غَيْر دافِعِ لِخَطَر الغَرْق، لا محالة. وعن "المنهاج" للجوينيِّ إجراءُ الوجهين فيما إذا ألقى المتاعَ، ولا خوف عليه، ولو قال لغيره: "ألْقِ متاعَكَ في البَحْر، وعَلَيَّ ضمانُه، أو عَلَيَّ أنِّي ضامنٌ، أو عَلَيَّ أنِّي أضمَنُ قيمتَهُ"، فعلى الملتمِسِ (¬3) الضمانُ، وفي شرح "مختصر الجوينيِّ" عن بعض الأصحاب؛ أنَّه لا يلزمه شيءٌ؛ لأنه ضمان ما لَمْ يجب، وهذا يشتهر (¬4) بأبِي ثَوْر، لكن الشارحَ لم يروْهُ، فإنه قال: وقال أبو ثوْرٍ وبعضُ أصحابنا: لا يضمَنُ، ووجه ظاهرِ المذهب أنَّه التماسُ إتلافِ بِعِوَضٍ له فيه غرضٌ صحيحٌ؛ فصار كما لو قال: أعتِقْ عَبْدَكَ عَلَى كذا، فأعتق، قال الأصحاب: وليس هذا عَلَى حقيقة الضمانِ، وإن سُمِّيَ به لكنه بَذْلُ مالٍ للتخليصِ عن الهلاك، فهو كما لو قَال: أَطْلِقْ هذا الأسيرَ، ولك عَلَيَّ كذا، فأطلقه، يجبُ الضمان، وبنى القاضِي الحُسَيْن عليه؛ أنَّه لو قال لمن له القصاصُ: اعْفُ، ولك كذا، أو قال لغيره: أَطْعِمْ هذا الجائِعَ، ولك عَلَيَّ كذا، فأجاب؛ يستحقُّ ما سمي، ولو اقتصر عَلَى قوله: أَلْقِهِ في البَحْر، ولم يَقُلْ: وعَلَيَّ ضمانه، فمنهم مَنْ جعل ¬
وجوبَ الضَّمان على الخلافِ؛ فيما إذا قال: إدِّ دَيْنِي، فأدَّاه، هَلْ يرجعُ عليه، وقطع الأكثرونَ بالمَنْع، وفرَّقوا بينه وبيْن أداء الدَّيْن؛ بأن أداء الدين (¬1) منفعةٌ لا محالة، وإلقاء المتاع قد يُفْضِي إلى النجاة، وقد لا يفضي إلَيْها، قال في "التهذيب": وتعتبر قيمة المُلْقَى بما قبل هَيَجَانِ الأمواج؛ فإنه لا قيمة للمال في تلْكَ الحالة، ولا يجعلُ قيمة المال في البَحْر، وهُوَ على خَطَر الهلاك كقيمته في البَرِّ، ثم الضمانُ إنما يجبُ على الملْتَمِس بشرطَيْن: أحدهما: أن يكون الالتماسُ عند خوفِ الغَرَق، فأما في غير حالِ الخَوْف، فلا يقتضي الالتماسُ الضمانَ، سواءٌ قال: عَلَيَّ أنِّي ضامنٌ، أو لم يقُلْ؛ كما لو قال: أهْدِمْ دارَكَ، ففَعَل. والثاني: ألاَّ يختصَّ فائدة الإِلقاء بصاحب المتاع (¬2). واعلم أنَّ فائدة التلخيص بإلقاء المتاع تفرض على وجوه: أحدها: أنَّ تختصَّ بصاحب المتاع، فإذا كان في السفينة المشْرِفة (¬3) راكبٌ ومتاعُهُ، فقال له غيره مِنَ الشَّطِّ، أوْ من زَوْرَقٍ بقُرْبها: "ألْقِ مَتَاعَكَ في البَحْرِ، وعلَيَّ ضمانُهُ" فألقَى، لم يجب الضمانُ، ولم يحلَّ له الأخذ؛ لأنه فعْل ما هو واجبٌ عليه؛ لغرض نفسه، فلا يستحقُّ به عوضاً؛ كما لو قال للمضطَرِّ: "كُلْ طعامَكَ، وأنا ضامِنٌ" فأكل، فلا يرجع على الملتَمِسِ بشَيْء. والثاني: أن يختصَّ بالملتمِسِ بأن أشرفَتْ سفينةٌ على الغَرَق، وفيها متاعٌ لغيره، وهو خارجٌ منْها، فقال له: أَلْقِ متاعَكَ في البَحْر، وعَلَيَّ ضمانُهُ، فيجب الضمانُ، إذا ألقَى عَلَى ما ذكَرْنا، ولا فرق بيْنَ أن تحصلَ السلامة أوْ لاَ تحصُلَ؛ حتى إذا هلك الملتمسُ، يكُونُ الضمان في تركته. والثالث: أن تختص بغيرهما؛ بأن كان الملتمِسُ، وصاحبُ المتاعِ خارجَيْن من السفينة، وفيهما جماعةٌ مشرفون علَى الغَرَق، فيجب الضمانُ على الملتمس أيضاً؛ لأن تخليصَ من فيها غرضٌ صحيحٌ، وإذا جاز بَذْلُ المالِ في خلع الأجنبيِّ لدفع سلطنة الزوْجِ، فَلأَنْ يجوزَ التخليصُ من الهلاك، كَانَ أوْلَى. والرابع: إذا رجعتْ فائدةُ التخليصِ إلَى مُلْقِي المتاعِ وغيره، والملتمسُ خارجٌ من السفينة، ففيما يجب الضمَانُ وجهان: ¬
أصحُّهما: أنَّه يجبُ جميع الضمانِ؛ لأن فيه تخليصَ غَيْرِ مالكِ المتاع، وهو يلقي بقَصْد الالتزام. والثاني، وبه قال القاضي الحُسَيْن: أنَّه يقسِّط المال المُلْقَى على مالكه، وعلى سائرِ من فيها، فيسقط قسْطُ المالك، ويجب الباقي، فلو كان معه واحدٌ، وجب نصف الضمان، ولو كان معَهُ اثنانِ، يجب ثلثاه، ولو كانوا عشرَةً، وجب تسعة أعشارِهِ، وسقط العُشْر، وعلى هذا. والخامس: إذا كان في الإلقاءِ تخليصُ الملتمِس وغيره بأن التمس بَعَضُ (¬1) الركْبَانِ من بعض، فيجب الضمانُ على الملتمس؛ لأَن له غرضاً (¬2) في تخليصه، وتخليص غيره؛ قال الإِمام: ويجيءُ الوجهانِ في أنَّه، هل تسقط حصَّة المالك، ويجيئان أيضاً فيما إذا كان الملتمس خارجَ السفينةِ؛ ومُلْقِي المتاعِ من الركبان. ومن مسائل الفَصْلِ، لو قال: "أَلْقِ مَتَاعَكَ في البَحْر، وأَنَا ورُكبَانُ السَّفِينَةِ ضَامِنُونَ، كلُّ واحدٍ منا على الكَمَال"، أو قال: "عَلَيَّ أنِّي ضامنٌ" فكلُّ واحد منهم ضامنٌ، فعليه ضمَانُ الجميع، ولو قال: "أنا وَهُمْ ضامنُونَ؛ كلُّ واحدٍ منا ما يخُصُّهُ"، لزمه بالحصَّة، وبمثله أجيبَ فيما إذا قال: "أنا وهُمْ ضامنُونَ"، واقتصر عليه، ولو قال: "أنا ضامِنٌ ورُكْبَانُ السَّفينة، أوْ "عَلَيَّ أنْ أضْمَنَهُ وركْبَانُ السَّفينةِ"، أو قال: "وأنا ضامِنٌ، وهم ضامِنُونَ" ففيه وجْهَان: أظهرهما: أنَّه يلزمه جميعُ الضمانِ؛ لأنه قال أولاً: "أنَا ضامنٌ"؛ ولهذا لو اقتصر عليه، لزمه (¬3) الجميع. والثاني، وينسب إلى اختيار المزنيِّ: أنَّه لا يلزمه إلاَّ ما يخصُّه؛ لاحتمال اللفظ، ثم قوله: "وهم ضامِنُون" إمَّا للجميع أو للحصَّة، إن قَصَدَ به الإخبار عن ضمانٍ سَبَقَ منهم، واعترفوا به، توجَّهت المطالبة (¬4) عليهم، وإن أنْكَروا، فهم المصدَّقون، وإن قال: أردْتُ إنشاءَ الضَّمان عَنْهُمْ، فعَنْ بعض الأصحاب؛ أنهم إنْ رَضُوا به، ثبت المالُ عليهم أيضاً، والظاهرُ خلافُهُ؛ لأنَّ العُقُودَ لا تُوَقَّفُ عَلَى أصْل الشافعيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وهذا ما ارتضاه القاضي الحُسَيْن، والإِمام، وقرب في "الوسيط" الأول، وقال: يلزمهم المالُ، وإن كنَّا لا نقولُ بوَقْفِ العقودِ؛ فإنَّ هذا مبنيٌّ على المسامَحَة للحاجَة، ولو قال: أَنَا وهُمْ ضُمَنَاء، وضَمِنْتُ عنْهم؛ بإذنهم، فيطالَبُ هو بالجميعِ؛ بقوله، وإذا أنْكَرُوا الإذْنِ، فهم المصدَّقون؛ حتى لا يرجع علَيْهم، ولو قال: أنَا وهُمْ ضمناً، وأصحِّحه مِنْ مالهم، فقد ¬
قال الأئمة، سِيَمَا العراقيُّون: إنَّه يطالب بالجميع أيضاً، وكذا لو قال: وأنا أخلصه من مالهم؛ كما لو قال: أخلعها على ألْفِ، أصَحِّحها لك مِنْ مالها، أو أضمنها مِنْ مالها، تلزمه الألْفُ. ولو قال ألْقِ متاعاً في البَحْر علَى أنِّي وهُمْ ضمناء، وأذن نيه، فألقاه، فالواجبُ بالحصَّة أو بالجميع؛ لأنه باشر الإِتلافَ؟ فيه وجهان، ويحكي الثَّاني عن القاضي أبي حامد. ولو قال: ألق متاعَكَ، وعلي نصْفِ الضمانٍ، وعلى فلانٍ الثلثُ، وعلى فلانٍ السدُسُ، لزمه النصف. ونختم هذه الصورة بكلامَيْن: أحدهما: قال في "المختصر": فإن قال أحدُهُمْ لصاحِبهِ: ألْق متاعَكَ في البَحْر، وعلَيَّ أن أَضْمَنَ لك رُكْبَانُ السفينة، ضمنه دونَهُمْ، إلاَّ أن يَتَطَوَّعوا، واعترض المزنيُّ علَيْه، وقال: ينبغي أنْ يضمن حصَّته، وتكلَّموا في أنَّه أراد ضمَانَ الجَمِيع؛ كما توهَّمه المُزَنِيُّ، أو ضمان الحِصَّة، وأنه إن أراد ضَمَانَ الجميع، فما الصُّورة (¬1) التي أرادها، والفِقْهُ ما بيَّنَّاه. وَالثَّانِي: أن كان المالُ في الصور المفروضة لغير الملتمس، فالحكمُ ما ذَكَرْناه، وإن كان لبعضهم (¬2)، والتمس منْه القاؤه عاد النَّظَر في أنَّ مُلْقِي المتاعِ، إذا كان محتاجاً إلى الإِلقاء، هل يسقط قسْطُه من الضمان؟ وقوله في الكتاب: "ولو قال الملتمِسُ: أَلْق، وَأَنَا ورُكْبَانُ السَّفينةِ ضامنون، ثم قال: أردْتُ التوزيعَ، صُدِّق مع يمينه، ولزمته حصَّته" قد يشعَر (¬3) بالحَمْل على انفراد كلِّ واحد بالضَّمَان، والصَّرْف عنه بقوله: "أردْتُ التوزيعَ"، ولفظ النهايةِ في هذه الصورةُ؛ أنَّ هذا لا يحمل علَى انفرادٍ هذا الشَّخْص بالضَّمانِ إلا أن يقولَ: أردْتُ ذلك، فيؤاخذ بموجِبِ إرادته، وهذا يقتضي الحَمْل على التوزيع، وإن لم يقل: أرَدْتُهُ، فإن فرض نزاعٌ، فحينئذ يحلف. وقوله: "والرُّكْبَان إنْ رَضُوا بهِ، لزمهم، وإلاَّ فلا"، إن كان المرادُ أنهم صدَّقُوه في إِخباره عن ضمانٍ سَبَقَ منْهم، فهو ظاهرٌ، ويشبه أنْ يكون المرادُ ما حكَيْناه عن "الوسيط" وحينئذ، فليعلم قوله: "لَزِمَهُمْ" بالواو. ¬
فروع
" فُرُوعٌ" لو قال لصاحب المتاع: "أَلْقِ مَتَاعَكَ، وعلَيَّ ضمانُهُ" فقال: نعم، فله أن يُلْقِيَ، وعليه الضمان، إذا ألَقَى. ولو قال الآخَر: "أَلْقِ مَتَاعَ فُلاَنٍ، وعلَيَّ ضمانُهُ، إن طالَبَكَ"، فألقاه، فالضَّمَانُ علَى المُلْقِي دون الآمِرِ، وحكى الإمامُ أنَّ المتاع المُلْقَى لا يخرج عن ملك مالِكِهِ؛ حتى لو لفظه البحْرُ على الساحل، وانفق الظَّفَر به، فهو لمالكله، ويسترِدُّ الضامنُ المبذول، وهل للمالكِ أنْ يمسكَ ما أخذ ويرُدَّ بدله نيه خلافٌ؛ كالخلاف في أن العَيْن المستقرضة، إذا كانَتْ باقيةً عند المقرض، هل له إمساكه، وغرامُه مثله (¬1) أو قيمته. قال الغَزَالِيُّ: وَلَوْ رَجَعَ حَجَرُ المَنْجَنيقِ عَلَى الرُّمَاةِ وَكَانُوا عَشْرَةٌ فَيُهْدَرُ مِنْ دَمِ كُلِّ وَاحِدٍ عُشْرُهُ، فَإنْ أَصَابَ غَيْرَهُمْ فالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ إلاَّ إذا قَصَدُوا شَخْصاً وَقَدَرُوا عَلَى إصَابَتهِ فَهُوَ عَمْدٌ، وَإنْ قَدَرُوا عَلَى إِصَابَة وَاحِدٍ مِنَ الجَمْعِ لاَ يعَيْنهِ فَهُوَ خَطَأٌ فِي حَقِّ ذَلِكَ الوَاحِدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا عاد حَجَرٌ المَنْجَنِيقِ على الرامين، فقتل واحداً منْهم، فقد مات ذلك الواحدُ بفعله وفعْلِ شركائه؛ كما في صور الاصطدام، [فإن كانوا عَشَرَةً] (¬2) فيهدر عُشْر ديته، [وعلى عاقلة كلِّ واحدٍ من الباقين عُشْرُ ديتهِ] (¬3)، ولو قتل اثنين فصاعداً، ¬
فكذلك، ولو قتل العشرةَ، حين عاد، أهدر العشر مِنْ دم كلِّ واحدٍ، ووجب على عاقلةِ كلِّ واحد من الباقِينَ عُشْر الدية، ولو أصاب الحَجَرُ غيرهم، نُظِرَ؛ إن لم يقصدوا واحداً، أو أصاب غَيْرَ مَنْ قصدوا، كما إذا عاد الحَجَرُ وقتل بعض النَّظارة، فهذا خطأٌ يوجب الديةَ المخفَّفة على العاقل، وإن قصدوا شخصاً أو جماعةً بأعيانهم، فالذي أورده العراقيُّون؛ أنَّه شبه عمدٍ، إذا أصاب الحَجَر من قصدوه؛ لأنه لا يمكنُ أنْ يُقْصَدَ بالمَنْجَنِيقِ شَخْصٌ معيَّن، أو جماعةٌ معينُونَ، فتجب الدية على عواقِلِهِمْ مغلَّظة، وقال (¬1) آخرون: إِنْ كان الغالبُ أنَّه يصيبُ مَنْ قصد، فهو عمْد يتعلَّق به القصَاصُ أو الدية المغلَّظة في أموالهم، وهذا ما أورده الصيدلانيُّ، والإمام، والمتولِّي، وصاحبُ الكتاب، ورجَّحه صاحبُ "التَّهْذيب"، والقاضي الرُّويانيُّ، وأقاما الكَلاَمَيْن وجْهَيْن، ويشبه أن يقال: الخلافُ راجعٌ إلَى أنَّه، هل يتصوَّر تحقيقُ هذا القصْد في المنجنيق، فإن تصور، فما ينبغي أن يفرَّق بينه وبين سائر الآلات المهْلِكة. وقوله في الكتاب: "وقدَرُوا عَلَى إِصابته" فيه إشارة إلى أنَّ تحقيق القَصْد في هذه الآلة؛ كالمستبعد، لكن لو تأتَّى لهم ذلك؛ لحَذَقِهِمْ، كانوا متعمِّدين، ويجوز أنْ يعْلَم قوله: "فهو عَمْد" بالواو؛ لما ذكرنا، وإن قصدوا واحداً أو جماعةً، والغالب أنَّه لا يصيبُ من قَصَدوه، فهو شبه عَمْد، والعلْمُ بأنه يصيبُ واحداً منهم، لا بعينه أو جماعة من القوم لا بأعيانهم لا يتحقَّق العمد به، ولا يوجب القصاص؛ لأن العمد يعتمدُ قصد عين الشخْصِ، ولهذا لو قال: اقْتُلْ أَحَدَ هؤلاءِ، وإلاَّ قتلتك، فقتل أحدَهُمْ لا يجبُ القصاصُ على المُكْرهِ؛ لأنَّه لم يقصد عيْنَ أحدهم، ثم الذي أورده صاحبُ الكتاب؛ أنَّه يكون ما جرى خطَأً في حقِّ ذلك الواحِد؛ لذلك ذكره ههنا، وفي "الوسيط"، وعدَّه صاحبُ "التهذيب" شبه عَمْدٍ يجب به الديةُ المغلَّظة على العاقلة، وهذا هو الوجْهُ إذا قصدوا واحداً أو جماعةً لا بأعيانهم، وكذا لو رمى سهماً (¬2) إلَى جماعة، ولم يعيِّن واحداً (¬3) منهم، ثم استدرك الإِمام، فقال: الذي ذكرنا أنَّه لا يجبُ القصاص مفروضٌ فيما إذا قصد الرامي إصابة واحدٍ لا بعينه أو جماعة مخصوصِينَ، فأصاب الحَجَرُ واحداً أو جماعةً لا غير، فأما إذا كان القومُ محصورِينَ في موضع، وكان الحَاذق عَلَى علْمٍ بأنه إذا سدَّد الحَجَر عليهم أتَى على جميعهم، وحقَّق قصْدَه، وأتَى عليهم، فالذي أراه ¬
وجوبُ القِصَاصِ، وهو كما لو قال المُكْرِهُ: "اقْتُلْ هؤلاَءِ" فقتلَهُمْ، يجبُ القصاص علَى المُكْرِهِ، ولا أثر لاختيار المُكْرَهِ في التقديم والتأخير، [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: وَلَوْ جَرَحَ مُرْتَدَاً فَأَسْلَمَ ثُمَّ عَادَ الجَارحُ مَعَ ثَلاَثةٍ فَجَرَحُوهُ فَالجُنَاةُ أَرْبَعَةٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ رُبُعُ الدِّيَةِ وَالجَانِي فِي الحَالَتَيْنِ لَزِمَهُ الرُّبعُ بِجِرَاحَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مُهْدَرَةٌ فَيَعُودُ حِصَّتُهُ إِلَى الثَّمَن، وَقِيلَ: يُوَزَّعُ عَلَى الجِرَاحَاتِ وَيُقَالُ: الجِرَاحَاتُ خَمْسٌ فَيَسْقُطُ الخُمُسُ وَيَبْقَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الأَرْبَعَةِ خُمُسُ الدِّيَةِ، وَلَوْ قَطَعَ يَدَ العَبْدِ الجَانِي فَجَنَى بَعْدَهُ ثُمَّ مَاتَ فَأرْشُ اليَدِ يَخْتَصُّ بِهِ المَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوَّلاً وَالبَاقِي يُشَارِكُهُ فِيهِ المَجْنِيُّ عَلَيْهِ ثَانِياً لِأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ الجِنَايَتَيْنِ وَقَطَعَ بَعْدَ إِحْدَى الجِنَايَتَيْنِ وَإنْ فَضَلَ مِنْ أَرْشِ الأُوْلَى فَالفَاضِلُ مِنْ أَرْشِ الطَّرَفِ للسَّيِّدِ وَقِيمَةُ النَّفْسِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ثَانِياً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصْلِ مسألتان مِنْ مولَّدات ابْنِ الحدَّاد: إحداهما: لو جرح مرتدّاً بقَطْع يده أو بجراحةٍ أخرَى، فأسلم المرتدُّ، ثم عاد الجانِي، وجرحَه جراحةً أخرَى، وجرحه ثلاثة آخرون، فمات نُظِرَ؛ إن وقعت الجراحاتُ الأربعُ بعد إندمالِ الأولَى، فعليهم الديةُ أرباعاً، وإن وقعتْ قبل اندمالِها، ومات من الجراحاتِ الخُمْس، ففيما يجب عليهم وجْهان: أظهرهما: وبه قال ابن الحَدَّاد: أنَّه ينظر إلى عدد الجارِحينَ، وهم أربعة، فيخص (¬1) كلّ واحد منهم رُبُع الدية ولكن يعودُ ما على الجارحِ في الحالتَيْن إلَى الثُّمُن؛ لأن الجراحة في حالة الردَّة مُهْدَرَة. والثاني: أنَّه ينظر في الجراحاتِ، وهي خمسٌ، فيسقط خمس الدِّية؛ لوقوع إحداهما (¬2) في حال الإِهدار، ويجب عَلَى كلِّ واحدٍ منهم الخمُسُ؛ لأن الجراحتَيْن من الواحد في حالتَيِ العصْمةِ والإِهدار؛ كالجراحتين من شخصَيْنِ (¬3). ولو جرحه خمسةٌ، أحدهم في الردَّة، والباقون بَعْد الإِسلام، سقط خُمُسُ الدية، وكان عَلَى كلِّ واحد من الأربعة الخُمُس، فكذلك ههنا؛ ويدل عليه أنَّه إذا حصل الموتُ بالجراحة في الردَّة، والجراحة في الإِسلام، نقصت جراحةُ الردَّة حصَّة جراحة الإِسلام، سواءٌ صدرت الجراحتانِ منْ واحد، أو مِنِ اثنَيْن؛ ألا تَرَى أنَّه لو جرح الشخْصُ في ردَّته، ثم جرح بعد الإِسلام، ومات من الجراحتَيْن، يكون حصَّة جراحة الإِسلام نصْف الدية، سواءٌ كان الجرْحُ الثاني صادراً من الجارح الأول أو من غيره، فإذا ¬
كان كذلك، لم يجزْ أن تؤثر جراحةُ الردَّة في حقِّ الجارح في الحالتين دون غيره، ومن قال بالأوَّل قال: الجُرْحَان، إذا صَدَرا من واحدٍ، وله شريكٌ آخرُ، كانا في حِقِّهِ، كالجرح الواحدِ؛ حتى لو جرح اثنانِ، أحدُهما جراحتَيْن، والآخر جراحةً واحدةً، تكون الديةُ بينهما نصفَيْن، كما لو جرح كلُّ واحد منهما جراحةً واحدةً، وإذا كان كذلك، جاز أن يضم جرحه في الردَّة [مضموناً] (¬1) إلى جرحه في الإِسلام، ولا يُضَمُّ إلى جرح غيره. ولو جنَى عليه ثلاثةٌ في الردَّة، وعادوا وجَرَحُوهُ مع رابع بَعْدَ الإِسلامِ، ومات من الجراحاتِ، فعلَى ما ذكره ابن الحدَّاد توزَّع الديةُ على الجارحِينَ الأربعة، وقد جَرَح ثلاثةٌ منهم جراحتَيْن؛ إحداهما (¬2): في الردَّة، فيعود ما عَلَى كلِّ واحد منهم إلى الثمن، ويبقى على الرَّابع الرُّبُع، وعلى الوجه الآخرِ الجراحاتُ سبعٌ؛ ثلاثٌ منها في حال الإهدار، فيسقط ثلاثةُ أسباعِ الدية، ويجب عَلَى كلِّ واحدٍ سبعها. ولو جرحه في الردة أربعةٌ، وعاد أحدُهُمْ، وجرحه مع ثلاثةٍ بعد الإِسلام، فعلى ما ذكره ابنُ الحَدَّاد؛ الجارِحُون سبْعَةٌ حصَّةُ كل واحد منهم السُّبُع؛ فعلَى كلِّ واحدٍ من الَّذين لم يَجْرَحُوا إلاَّ في الإِسلام السُّبُع، ولا شيء على الذين لم يجْرَحُوا إلاَّ في الرِّدَّة، وعلى الجارحِ في الحالتَيْن نصفُ السُّبُع، وعلى الوجه الثاني؛ ماتَ من ثمانِ جراحاتٍ؛ أربعٌ منها وقعَتْ في حال الأِهدار، وأربعٌ في حال الضمانِ؛ فعلى كلِّ واحدٍ من الأربعة الجارِحِينَ في الإِسلام ثُمُنُ الدية، ولو جرحَهُ في الردَّة أربعةٌ، ثم عاد أحدُهُمْ، وجرَحَهُ بعد الإِسلام منفرداً، ومات منها؛ فعلى الأوَّل الجارحُون أربعةٌ، ثلاثةٌ منهم لم يَجْرَحُوا إلاَّ في الردَّة، فلا شيء عليهم، وواحدٌ جرح في الحالتَيْن، وحصَّته رُبُعُ الدية، فيوزَّع على جراحته، ويجب نصفه، وهو الثُّمُن، وعلى الوجْهِ الآخِر علَيْه خُمُس الدية، ويسقُطُ أربعة أخماسِهَا توزيعاً على الجراحات. ولو جرَحَه ثلاثةٌ في الردَّة، وجرحه بعد الإسْلام أحدهم؛ فعلى الأول حصة الجارح في الحالتين ثُلُثُ الدية؛ يتوزَّع على جراحته، فيلزمه سُدُسُ الدية، ولا شيء على الآخرين، وعلى الوجه الآخر؛ عليه [ربع] (¬3) الديةِ توزيعاً على الجراحات الأرْبَع، وهذه الصورُ قد أورَدَها ابنُ الحَدَّاد بأسْرها، وعلى قياسِها، قال الشيخ أبو عليٍّ: لو جرحه اثنانِ في الردَّة، وعاد بعد الإِسلام أحدُهُما، وجرحه مع ثالثٍ، فعلى ما قال ابنُ الحَدَّاد: الجارحونَ ثلاثةٌ، وحصَّة كلِّ واحد منهم ثُلُثُ الديةِ، لكنَّ أحدهم لم يجْرَحْ إلاَّ في الردَّة، فلا يلزمه شيْء، والثَّاني جرح في الحالتين، فيلزمه حصَّة جراحة الإسْلاَم، ¬
وهي السُّدُس، والثَّالث لم يجْرَحُ إلاَّ في الإِسلام؛ فيلزمه الثلث، وعلى الوجْهِ الآخر يجبُ على كلِّ واحدٍ من الجارحين في الحالتَيْن والجارحِ في الاسلامِ رُبُع الدية، ويُهْدَر نصفها. ولو عادَ الجارحَانِ في الردَّة، وجَرَحَاه بَعْد الإسلام، فعلى كلِّ واحد منهما رُبُع الدية؛ باتفاق الوجهين، وعلَى قياسها، لو جرح واحدٌ في الردَّة، وعاد مع اثنين، فجرحوه بعد الإسلام، فعلى ما قال ابنُ الحدَّاد على الجارحِ في الحالتَيْنِ السُّدُسُ، وعلى كلِّ واحدٍ من الآخرين الثلُثُ، وعلى الوجه الآخر؛ الجراحاتُ أربعٌ، فيسقط ربع الدية، وعلى كلِّ واحدٍ منهم الربع. ولو جرحه ثلاثةٌ في الردَّة، وعادوا، فجرحُوه بعد الإسْلاَم، فعلَى كلِّ واحد منهم سدسُ الديةِ؛ باتفاق الوجهَيْن، وهكذا يلتقَّي الوجهان، إذا لم يختلف عدد الجراحاتِ في الإِسْلام والردَّة، ولا عدد الجارحين. المسألة الثانية: إذا جنَى العَبد على حُرٍّ بإيضاح، أو قطع يدٍ، أو أصبع، أو غيرهما، ثم جاء حُرٌّ، وقطع يد العبد، ثم جنى العبد عَلَى حُرٍّ آخر، وماتَ العَبْد من القطع، ومات الحُرَّان من الجنايتين، أو لم يموتا، فالواجب على الَّذي جنَى على العبد كمالُ قيمته، وحصَّة اليد منها يختص بها المجنيُّ عليه الأول، ويتضاربان في الباقي؛ هما أو ورثتهما، هذا بما بَقِيَ من حقَّه بعد أخْذِ حصَّة اليد، وهذا بجميع حقِّه، وإنما كان كذلك؛ لأنه جنَى على الأول بتمام بَدَنه، وجنى على الثاني، ولا يَدَ له، فلا حَقَّ له في بَدَلها، وما حصَّة اليد؟ الصحيحُ: أن حصَّتها، ينقص من القيمة بقَطْع اليد، وقد حكى الشيخُ أبو عليٍّ؛ أنَّ من الأصحاب من يَغْلَطُ؛ فيعتبر أرشها، وهو نصف القيمة، قال: وهو فاسد من وجهين: أحدهما: لو قطع الجانِي يدَيْه، يلزم أن يستبد المجنيُّ عليه الأول وورثته بجميع القيمة، ولا يجوز أن يجني العبْد على اثنين، ثم يكون جميع قيمته لأَحَدهما. والثاني: أن الجراحة، إذا صارت نَفْساً، سقط اعتبار بدَلِ الطَّرف، فمن قطع يد عَبْد، ومات العَبْد منه، لا يمكن أن يقال: نصْف القيمة وجب في مقابلة اليد، والباقي في مقابلَةِ جميع البدن، نَعَمْ، لو اندملَ القطْع، عاد الجاني، فقتله، فحينئذٍ يجب عليه نصفُ القيمةِ لليد (¬1)، ويستبد به المجنيُّ عليه الأول أو ورثته، وعليه للنفْسِ قيمته مقْطُوع اليد، ويشتركان فيها، ويقاسُ بما ذكرنا ما إذا تكرَّرت جنايةُ العبد، والجنايةُ عليه وبَيَّنه الشَّيخ أبو عليٍّ بالمثال؛ فقال: جنَى عبدٌ قيمتُهُ عشرَةُ آلافِ درهمٍ عَلَى حُرٍّ، ثم جنَى عليه حُرٌّ فنقص (¬2) من قيمته ألفان، ثم جنى العبدُ على حُرٍّ آخرَ، وجنى عليه ¬
فرع
الجانِي الأول، فنقص من قيمته ألفانِ [أيضاً] (¬1)، ثم جنى العبدُ على حرٍّ ثالث، ومات العبدُ، والأحرارُ من الجناياتِ، فيؤخذُ من الجاني عَشَرَةُ آلافٍ، يستبد ورثة المجنيِّ عليه الأول منها بألفين، ثم يقسم ألفانِ، وهما حصة النقصان الثاني، بين ورثةِ المجنيِّ عليه الأول، وورثة المجنيِّ عليه الثاني، يتضاربون فيه، فيضربُ ورثة الأول بما بقي لهم من الدية، وهو عشرةُ آلافِ درهم أخْذاً بأن الدية اثنا عشر ألْفَ درهمٍ، ويضرب ورثة الثانِي بتمامِ الدِّية، فيقسم الألفان بينهم عَلَى أحد عشر سَهْماً، ثم يقسم باقي القيمة، وهو ستة آلاف درْهَمٍ بين ورثة القَتْلَى الثلاثة يُضْرب ورثةُ الأَوَّلينَ (¬2) بما بقي لهم من الدية، وورثة الثالث بجميع الدية. " فَرْعٌ" إذا اختلفتِ الجراحاتُ الصَّادرة من الشَّخْص الواحد، وكان بعضُها عمْداً، وبعضها خطأً، وشاركه غيره؛ كما إذا جرح خطأً، ثم عاد مع آخر وجرح عمداً، فالتوزيع لمعرفة ما يؤخذ منه، وما يضرب على عاقلته، كما ذكرنا في المسألة الأُولَى، إذا وقع بعضُها في حالِ الإِهدار، وبعضها في العِصْمة (¬3). قال الغَزَالِيُّ: وَالقَاتِلُ بِالسِّحْرِ إِذَا أَقَرَّ بِالتْعَمُّدِ يَلْزَمُهُ القِصَاصُ، وَإِنْ أَقَرَّ بِالخَطَأِ أَوْ شِبْهِ العَمْدِ فَالدِّيَةُ عَلَى العَاقِلَةِ لَوْ أَقَرُّوا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القولُ في القتلِ بالسِّحْر مُبَدَّدْ في الكتاب، فمنه ما قدَّمه في أول الجِرَاح، ومنه ما أخَّره إلى كتاب دعوى الدَّمِ، ومنه ما أورده ههنا، ولو كان مجموعاً في موضع واحدٍ، لكان أقرب إلى الضَّبْط، وقد بيَّنَّا من قبل؛ أنَّه إذا أقر بأنه ماتَ من سِحْره ¬
القسم الثالث من الكتاب فيمن عليه الدية
الَّذي تعمَّد به، وأن سِحْره يَقْتُل غالباً يلزمه القصاص، ولو قال: قد يقتل، وقد لا يقتل، كان إقراراً بشبه العمْدِ، وإن قال: أخطأْتُ، إنما قَصَدْتُ غيره، فهو إقرارٌ بالخطأ. ويجوز أنْ يُعْلَمَ قوله: "يَلْزَمُهُ القصاصُ" بالواو؛ لوجهٍ أجملنا ذكره هناك، وبالحاءِ؛ لما بيَّنا أن عند أبي حنيفة؛ لا يلزمه القصاصُ ولكن لو تكرَّر ذلك منه [قال]: يقتل حدّاً؛ لأنه من الساعِينَ في الأرض بالفَسَاد، ثم الذي نقله الأئمةُ؛ أن دية شِبْه العَمْد المغلَّظة، ودية الخطأ المخفَّفة، تجب في ماله، ولا تُطَالَبُ العاقِلَةُ بشيء؛ لأن إِقراره لا يلزمهم، نَعَم، لو صدَّقوه، وأخذنا بإقرارهم. وقوله في الكتاب: "فالديةُ على العَاقِلة" يخالِفُ نقلَهُمْ المشهورَ؛ فيشبه أن يكون ذلك مِنْ سَبْق القلم، ولم يذكر في "الوسيط" الضَّرْبَ على العاقلة، لكن قال: "لو قَالَ: قَصَدْتُ غيره، فأصبْتُ اسْمَهُ، فهو خطَأٌ مَحْضٌ، وفي سائر جهاتِ القتلِ، إذا أقر الإِنسانُ بالقتل خطأً، ولا بينة، لا تطالَبُ العاقلةُ بشَيء، إن شاء الله تعالَى، فلا يمكنُ أنْ يكونَ الحُكْمُ في السِّحْرِ بخلاف ذاك، والله أعلم. القِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الكِتَاب فِيمَنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ قال الغَزَالِيُّ: وَهُوَ الجَانِي إِنْ كَانَ عَمْداً وَالعَاقِلَةُ إِنْ لَمْ يَكنْ عَمْداً، وَالنَّظَرُ في أَرْكَانٍ الرُّكنُ الأَوَّلُ فِي جِهَةِ العَقْلِ وَصِفَةِ العَاقِلَةِ أَمَّا الجِهَةُ فَثَلاَثةْ العُصُوبَةُ وَالْوَلاَءُ وَبَيْتُ المَالِ، أَمَّا المُخَالَفَةُ وَالمُوَالاةُ فَلاَ تُوجَبُ العَقْلَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: عرفت أن القسم الثالث من كتاب الدِّيَاتِ فيمن تَجِبُ عليه الدِّيَةُ، وقد مَرَّ في بيان جهات التَّغْلِيظِ والتخفيف أن الدِّيَةَ في العَمْدِ على الجَانِي، وهو قِيَاسُ غَرَامَةِ المتلفات، وفي شبه العَمْدِ والخَطَأ على العَاقِلَةِ، ولا فَرْقَ في العَمْدِ بين أن يكون مُوجِباً للدِّيَةِ ابْتِدَاءً كقتل الأَب الابْنَ، أو يكون مُوجباً لِلْقَصَاصِ، فيعفى على الدية، وكما لا تَحْمِلُ العَاقِلَةُ دِيَةَ النَّفْسِ لا تحمل أيضاً دِيَةُ الأطرَافِ والجِرَاحَاتِ إذا وَقَعَتْ عَمداً. وعن مَالكٍ: أن ما لا يُوجِبُ القِصَاصَ كَالهَاشِمَةِ والمُنَقِّلَةِ، فَأرْشُهُ على العاقلة، وبَدَلُ العَمْدِ يجب حَالاً على قياسِ إبْدَالِ الغَرَامَاتِ. وعن أبي حنيفة أنَّه يجب مُؤَجَّلاً في ثلاث سِنِينَ. والأصل في وجوب دِيَةِ شِبْهِ العَمْدِ والخَطَأ على العاقلة -ما رُوِيَ أن امْرَأَتَيْنِ مِن "هُذَيْلِ" اقتتلتا، فَرَمَتْ إحَداهما الأُخْرَى بحَجَرٍ، ويروى: "بعمود فسْطَاطٍ" فقتلتها، فَأسْقَطَتْ جَنِيناً، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالدِّيَةِ على عَاقِلَةِ القاتلة، وفي الجنين بِغُرَّةِ عَبْدٍ أو أَمَةٍ. وهذه صورة شِبْهِ العَمْدِ، وإذا جرى التَّحَمُّلُ في بَدَلِ شِبْهِ العمد. ففي بدل الخَطَأ
أولى، قال العلماء (¬1): وتَغْرِيمُ غير الجَانِي خارج عن الأَقْيسَةِ الظاهرة، إلا أن القَبَائِلَ في الجَاهليَّة كانوا يَقُومُون بنُصْرَةِ من جَنَى منهم، ويمنعون أَوْلِيَاءَ القتيل من أن يُدْرِكُوا بثَأْرِهِمْ، ويأخذوا من الجَاني حَقَّهُمْ، فجعل الشرِع بَدَل تلك النُّصْرَة بَذْلَ المال، وربما شَبَّهَ إعَانَةَ الأَقَارَب بتحمل الدِّيَة عنهم، بإعانة الأجَانِبِ الذين غرموا لإصْلاَح ذَاتِ البَيْنِ بصرف سَهْمٍ من الزَّكَاةِ إليهم، وخصص الضَّرْب على العَاقِلَة بالخطَإِ، وشِبْهِ العَمْدِ، لأن ذلك مما يكثر سيما في حَقِّ الذين يَتَعَاطَوْنَ الأَسْلِحَةَ، ولا يتأتى الاحْتِرَازُ عنه، فحسن (¬2) إعَانَةُ القاتل؛ لئلا يَفْتَقِرَ بالسبب الذي هو معذور فيه، وإنما أُجِّلَتِ الدِّيَةُ على العاقلة نظَراً لهم؛ ليتحملوا ما تَحَمَّلُوا في مُدَّة الأَجَلِ، ولا يشق عليهم أدَاؤُهُ (¬3). ويحتاج في الضَّرْبِ على العاقلة إلى مَعْرِفَةِ المَضْرُوبِ عليهم، وإلى مَعْرِفَةِ كيفية الضَّرْبِ، فَلاَ بُدَّ من النَّظَرِ من هذين الرُّكْنَينِ، ولفظ الكتاب في النسخ [القديمة] (¬4): "والنظر في أَرْكَان"، وكذلك هو في "الوسيط"، وليس فيهما إلا بِنَاءُ الكلام على الرُّكْنَيْنِ المذكورين، فليتبدَّلْ (¬5) لفظ "الأركان" بـ"الركنين". أما الركن الأَوَّلُ: ففيه فَصْلاَنِ: فصل في جهات التَّحَمُّلِ. وفصل في صفات المتَحَمَّلِينَ. أما الجهات فهي ثلاث القَرَابَةُ، والوَلاَءُ، وبَيْتُ المال، على ما نفصلها، وليست المُخَالَفَةُ والمُوَالاَةُ من جهة التَّحَمُّلِ، فلا يتحمل الحَلِيفُ الدِّيَةِ، ولا العديد (¬6) الذي لا عَشِيرَةَ له، فيدخل نَفْسَهُ في القبيلة ليُعَدَّ منهم؛ لأن الأَصْلَ عَدْمُ التحمل، فَيُقْتَصَرُ على ما وَرَدَ فيه النَّصُّ. وعند أبي حنيفة يَتَحَمَّلُ الحَلِيفُ، وساعدنا في العديد (¬7). ولا يتحمل أهْلُ الديوان بَعْضُهُمْ من بعض، والمُرَادُ الذين رَبَّتْهُمُ الإِمام لِلْجِهَادِ، وأَدَرَّ لهم أَرْزَاقاً وجعلهم تحت رَايَةِ أمير يَصْدِرُونَ عن رَأْيِهِ. وعند أبي حنيفة: يَتَحَمَّلُ بعضهم عن بعض، وإن لم يكن بينهم قَرَابَةٌ، ويتقدمون على الأقَارِبِ اتِّبَاعاً لما وَرَدَ من قَضَاءِ عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-. واحتج الأَصْحَابُ بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى بالدِّيَةِ على العَاقِلَةِ (¬8)، ولم يكن في عهدهِ ¬
دِيوَانٌ، ولا في عَهْدِ أي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وإنما وَضَعَهُ عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حين كثر النَّاسُ، واحتاج إلى ضَبْطِ الأَسْمَاءِ والأرزاق، فلا يترك ما اسْتَقَرَّ في عَهْدِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما حَدَثَ بعده. وقَضَاءُ عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان في الأَقَارَب من أهل الدِّيوَانِ. وقوله في الكتاب: "والعَاقِلَةُ إن لم يكن عمداً" يجوز أن يُعْلَمَ بالواو؛ لِوَجْهِ قَدَّمْنَاهُ أن دِيَةَ شِبْهِ العَمْدِ لا تضرب على العاقلة. وقوله: "في جهة العَقْلِ" يعني: جهة تَحَمُّل الدية. والعَقْل: مصدر عَقَلَ يَعْقِلُ، يقال: عَقَلْتُ فلاناً إذا أَدَّيْتُ دِيتَهُ، وعَقَلْتُ عن فُلاَنٍ إذا لزمته دِيَةٌ، فَأدَّيْتُهَا، والعَقْلُ أيضاً: الدِّيَةُ نفسها، سميت بذلك؛ لأن إِبلَ الدِّيَةِ تعقل بفَنَاءِ القتيل، أي: تُوضَعُ عليها عِقَالُهَا، وسميت العَاقِلَةُ عَاقِلَةً؛ لأنهم يَعْقِلُونَ الإبَل يفنَائِهِ، ويقال: بل لأنهم يمنعون عن القَاتلِ، والعَقْلُ: المَنْعُ، وبه سمي العَقْلُ؛ لأنه يمنع من الفواحِشِ والمنكرات. وقوله: "العُصُوبة" محمول على عُصُوبَة القَرَابَةِ، وإلا فهي تشمل الوَلاَءَ وبيت المال، ولو أطلق لفظ القَرَابَةِ كان أَحْسَنَ، كما قال: الجهة الأولى القَرَابَةُ. وقوله: "فلا يوجب العَقْل" مُعْلَمٌ بالحاء. قال الغَزَالِيُّ: (ح) الجِهَةُ الأوْلَى القَرَابَةُ وَهُوَ كُلُّ عَصَبَةٍ سِوَى أَبْعَاضِ الجانِي مِنْ آبَائِهِ وَبَنِيهِ فَإنْ كَانَ ابْنُهَا ابْنَ ابْنَ عَمِّهَا ففي الضَّرْبِ وَجْهَانِ، وفِي تقدَّمِ الأخِ لِلْأَبِ وَالأُمِّ عَلَى الأخِ لِلأبِ قَوْلاَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إحدى جهات التَّحَمُّل القَرَابَةُ، فإنها أقْوَى جهات العُصُوبَةِ، وإنما يَتَحَمَّلُ الذين هم على حَاشيَةِ النَّسَبِ، وهم الإِخْوَةُ وبنوهم، والأَعْمَامُ وبنوهم. فأما أب الجاني وأَجْدَادُهُ وبنوه، وبنو بَنِيهِ، فإنهم لا يَتَحَمَّلُونَ؛ لأنهم أَبْعَاضُهُ، فكما لا يتحمل الجَاني، لا يتحمل أَبْعَاضه.
وقد روي عن أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ الله عَنْه- امْرَأَتَيْنِ من "هُذَيْلِ" اقْتَتَلَتَا، فقتلت إحداهما الأُخْرَى، ولكل واحدة منهما زَوْجٌ وَوَلَدٌ، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِدِيَةِ المَقْتُولِ على عاقلة القاتلة، وبَرَّأَ الزوج والولد، ثم ماتت القَاتِلَةُ، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مِيرَاثَهَا لبنيها، والعَقْلَ على العَصَبَةِ (¬1). وقال أبو حَنِيْفَةَ ومالك: يَتَحَمَّلُ الآباء والبنون كَسَائِرِ العَصَبَاتِ. ثم في الفصل صورتان: إحداهما: إذا قَتَلَت امْرَأَةٌ، لها ابْنٌ هو ابن عمها، هل يَتَحَمَّلُ العَقْلَ؟ فيه وجهان: أحدهما -ويحكى عن الشيخ أبي عَلِيٍّ-: نعم، ولا تجعل البُنُوَّةَ مَانِعَةً، كما لا تجعلُ مُوجِبَةً لِلتَّحَمّلِ، وهذا كما أنَّه يلي أَمْرَ نكاحها. وأظهرهما: لا، والبَعْضِيَّةُ مَانِعَةٌ من التحمل؛ لأن مَالَ أَبْعَاضِهِ كَمَالِهِ، ألا ترى أن نَفَقَتَهُ تَجِبُ في مَالِ أَبْعَاضِهِ، كما تجب في مَالِهِ، وكما لا يُؤْخَذُ من ماله لا يُؤْخَذُ من أموالهم. وأيضاً فقد روي أن رَجُلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه ابنه، فقال: "مَنْ هَذَا"؟ قال: ابني، قال: "أَمَا إِنَّهُ لا يَجْنِي عَلَيْكَ، وَلاَ تَجْنِي عَلَيْهِ" (¬2). وليس المراد نَفْيَ الجِنَايَةَ، وإنما المعنى أنَّه لا يَلْزَمُكَ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ، ولا يلزمه مُوجِبُ جِنَايَتِكَ، فَدَلَّ أن البُنُوَّةَ مَانِعَةٌ. الثانية: يراعى الترتيب في العَصَبَاتِ، فيقدم الأَقْرَبُ فالأَقْرَبُ، خلافاً لأبي حَنِيْفَةَ، حيث قال يفض الواجب على القريب والبعيد بالسَّوِيَّةِ. لنا أن تَحَمُّلَ العَقْل حكم من أحكام العُصُوبَةِ، فَتُقَدَّمُ دِيَةُ الأقرب على الأبْعَدِ، كما في الميراث وولاية (¬3) التَّزْوِيجِ. ¬
فرع
ومعنى التقديم أن يَنْظُرَ في الواجب لِرَأْس الحَوْلِ، وفي الأقربين، فإن كان فيهم وَفَاءٌ إذا وَزْعَ الواجب عليهم إما لِقِلَّةِ الواجب، أو لكثرتهم، فَيُوَزَّعُ عليهم، ولا يُعْدَلُ إلى من بعدهم، وإلا شاركهم في التَّحَمّل من بعدهم، ثم الذين يَلُونَهُمْ. ويفارق الميراث؛ حيث لا يُشَارِكُ الأَبْعَدُ الأقْرَبَ، لأَن ما يجب على كل واحد من العَاقِلَةِ مُقَدَّرٌ بمقداره مَضبُوطٍ على ما سيأتي إن شاء الله تعالى لا يُزَادُ عليه. وما يرثه كُلُّ واحد من العَصَبَةِ غير مُقَدَّرٍ، فيجوز الأقرب الكل. والمُقَدَّمُ من الذين يَتَحَمَّلُونَ العَقْلَ الإِخْوَةُ ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الأعمام، ثم بنوهم، ثم أَعْمَامُ الأب، ثم بنوهم، ثم أعمام الجَدِّ على ما سَبَقَ في الميراث. وهل يَتَقَدَّمُ المُدْلِي بالأبوين من هؤلاء على المُدْلِي بالأب كالأخَ من الأبوين مع الأخ من الأب أم يَسْتَوِيَانِ؟ فيه قولان: القديم: أنهما يَسْتَوِيَانِ؛ لأن النساء لا يتحملن العَقْلَ بحال، فلا تؤثر قَرَابَتُهُنَّ فيه. والجديد: أنَّه يَتَقَدَّمُ المُدْلِي بالأبَوَيْنِ؛ لأنهما يَتَحَمَّلاَنِ من العَصَبَةِ (¬1)، فيتقدم من يتقدم في المِيرَاثِ، كالأخِ مع ابن الأخ، والقولان كالقولين في وِلاَيَةِ النكاح. " فَرْعٌ" ذَوُو الأَرْحَامِ لا يتحملون العَقْلَ. قال في "التتمة": إلا على طريقة من يَرَى تَوْرِيثَهُمْ، فيتحملون عند عَدَمِ العَصَبَاتِ، كما يرثون عند عَدَمِهِمْ، ولا تحمل بالزَّوْجِيَّةِ بِحَالٍ. وقوله في الكتاب: "وهو كل عَصَبَةٍ" لا تَعُودُ إلى القَرَابَةِ، فإنها جهة التَّحَمُّلِ، والمقصود ههنا بَيَانُ المحْتمل، فالمعنى: والمتحمل بهذه الجِهَةِ كل عَصَبَةٍ إلى آخره، فهو من قبيل الكِنَانَةِ عن غير المَذْكُورِ. وقوله: "فإن كان ابْنُهَا ابْنَ ابْنِ عَمِّهَا"، قد يوجد في بعض النُّسَخِ: "فإن كان ابْنُهَا ابْنَ عَمِّهَا" بحذف أحد لفظي "الابن"، والمقصود الأول، وإن حذف، فلا يُتَصَوَّرُ أن يكون ابنها ابن عمها لحَّاً، وقد يسمى ابْنُ الابْنِ ابْناً. قال الغَزَالِيُّ: الجِهَةُ الثَّانِيَةُ: الوَلاَءُ فَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ عَصَبَتَهُ فَعَلَى مُعْتِقَ الجَانِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَصَبَاتُ المُعْتِقِ، ثُمَّ مُعْتِقُ المُعْتِقَ، ثُمَّ عَصَبَاتُهُ، ثُمَّ مُعْتِقُ أَبِ المُعْتَقِ، ثُمَّ عَصَبَاتُهُ هَكَذَا عَلَى التَّرْتِيبِ كَالمِيرَاثِ، وَفِي دُخُولِ ابْنِ المُعْتِقَ وَأَبِيهِ وَجْهَانِ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: الجهة الثانية الوَلاَءُ، وهي متأخرة عن عُصُوبَة النَّسَبِ، كما في الميراث، فإذا لم يكن للجاني عَصَبَةٌ من النسب أو كانوا، ولم يَفِ التَّوْزيعُ عليهم بالواجب، فيتحمل مُعْتقُهُ إن كان الجاني عَتِيقاً، فإن لم يكن، أو فَضَلَ عنه شيء تَحَمَّلَ عَصَبَاتُهُ من النَّسَبِ، فإن لم يكونوا، أو فَضَل تحمل مُعْتقُ المُعْتَقِ، ثم عَصَبَاتُهُ. وهل يدخل في عَصَبَاتِ المُعْتِقِ ابْنُهُ وأبوه؟ فيه وجهان عن رواية القَفَّالِ وغيره: أحدهما: نعم؛ لأنهما من العَصَبَةِ، وإنما لم يدْخُل ابن الجَانِي وأبوه للْبَعْضيَّةِ، ولا بَعْضِيَّةَ بين الجاني وبين ابن المُعْتِقِ وأبيه. وأظهرهما: المنع، واعتمدوا فيه ما روي أن عمر- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قضى على عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بأن يعْقلَ عن موالي صَفِيَّةَ بنت عبد المُطَّلِب، وقضى بالميراث لابنها الزُّبَير بن العَوَّام -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولم يضرب الدِّيَةَ على الزبير -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وضَرَبَهَا على عَلِيٍّ -كَرَّمَ الله وَجْهَهُ-؛ لأنه كان ابْنَ أخيها (¬1)، واشتهر ذلك فيما بينهم. ومنعها (¬2) الإِمام، وصاحب الكتاب في "الوسيط"، فجَعَلاَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ابن عَمِّهَا، ويجري الوجهان في ابن مُعْتقِ المُعْتَقِ وأبيه، إذا لم يُوجَدْ من له نِعْمَةُ الوَلاَءِ على الجاني، ولا أحد من عصباته، فيتحمل معتق الأب، ثم عصباته، ثم مُعْتقُ معتقِ الأب، ثم عَصَبَاتُهُ، كما ذكرنا في الجَانِي. فإن لم يوجد من له نِعْمَةُ الوَلاَءِ على الأب، فيتحمل مُعْتقُ الجَدِّ، ثم عَصَبَانُهُ كذلك إلى حيث ينتهي. وقوله في الكتاب: "فإن لم يُصَادِفْ عصبته" أي.: من النَّسَبِ. يقال: صَادَفَ الشَّيْءَ، أي: وَجَدَهُ، ويمكن أن يُشَارَ بهذه اللفظةَ إلى شيء، وهو أن النَّاسَ كلهم أوْلاَدٌ لآدم -عليه السلام- ولكل واحد منهم عَصَبَاتٌ من بني الأعمام أقْرَبُ من غيرهم لا مَحَالَةَ، إلا أنهم لا يعرفون إذا لم يُضْبَطِ النَّسَبُ، فلم يقل: فإذا لم يكن له عَصَبَةٌ، ولكن قال: فإذا لم يوجدوا؛ لِيُبَيِّنَ أن الرجل إذا لم يُعْرَفْ نَسَبُهُ وَقبيلَتُهُ يعرض عن عَصَبَاتِهِ من جهة النسب، وينظر هل عليه وَلاءٌ أم لا؟ واللَّقيطُ الذي لا يُعْرَفُ نَسَبُهُ لو ادَّعَاهُ رجل، أو انْتَسَبَ إلى مَيِّتٍ، واعترف به ¬
وَرَثتُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ، وأخذت (¬1) الدية إذا جنى خَطَأً على عصباته، فإن قامت البَيِّنَةُ على أنَّه من قبيلة أخرى، فالحكم لِلْبَيِّنَةِ. وقوله: "ثم مُعْتِق أَبِ المعتق" ليس على معنى أن الذي يلِي مُعْتِق المعتق وعَصَبَاته هو مُعْتقُ أب المُعْتَقِ، بلَ يتَقَدَّمُ معتق معتق المعتق على مُعْتقِ أَبِ المعتق، على ما هو مُبَيَّنٌ في بَابِ الوَلاَءِ. قال الغَزَالِيُّ: وإذَا أُعْتِقَت المَرْأةُ لَمْ يُضْرَبْ عَلَيْهَا بَلْ عَلَى عَصَبَاتِهَا كَمَا يُزَوَّجُونَ عَتِيقَتَها، وَالشُّرَكَاءُ فِي عَتْقِ عَبْدٍ وَاحِدٍ كَشَخْصِ وَاحِدٍ لاَ يَلْزَمَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ دِينَارٍ، فَإنْ مَاتَ وَاحِدٌ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عَصَبَاِتِهِ لاَ يَحْمِلُ أَكْثَرَ مِنْ حِصَّةِ المُعْتِقِ لَوْ كَانَ حَيّاً، وَمَا دَامَ المُعْتِقُ حَيّاً فَلاَ يَرْقَى إلَى عَصَبَاتِهِ وَإِنْ فَضُلَ عَنْهُ شَيْءٌ إِذْ لاَ وَلاَءَ لَهُمْ، فَإِنْ مَاتَ فَعَصَبَاتُهُ كَعَصَبَاتِ الجَانِي. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه ثَلاَثُ صُوَرٍ: إحداها: سنذكر أن شَرْطَ تَحَمُّلِ العَقْل الذُّكُورَةُ، وأن المَرْأَةَ لا تتحمل الدية بِحَالٍ. فإذا أَعْتَقت المَرْأَةُ مَمْلُوكاً لم تتحمل دِيَةَ جِنَايَتِهِ، وإنما يتحملها من يَتَحَمَّلُ الدِّيةَ إذا جنت المُعْتِقَةُ، كما أنها لما لم تكن أهْلاً للتزويج يزوج عتيقها من يزوجها. الثانية: إذا أعتق الشُّرَكَاءُ عَبْداً، فجنى خَطَأً تَحَمَّلُوا عنه تَحَمُّلَ الشخص الواحد؛ لأن الوَلاَءَ يثبت لجميعهم لا لِكُلِّ واحد فهم. فإن كانوا أَغْنِيَاءَ، فالمَضْرُوبُ على جميعهم نِصْفُ دينَارٍ، وإن كانوا متوسطين، فَرُبُعُ دِينَارٍ، وإن كان بعضهم أَغْنِيَاءَ، وبعضهم مُتَوَسِّطِينَ، فعلى الغني حِصَّتُهُ في النصف لو كان الكل أَغْنِيَاءَ، وعلى المتوسط حِصَّتُهُ من الرُّبُع لو كان الكل متوسطين. وإذا كان المُعْتقُ وَاحِداً، وقد مات، وله عَصَبَاتٌ كالإِخْوَةِ مثلاً، فيضرب على كل واحد منهم حِصّته تامة على ما تَقْتَضِيه حَالُهُ من الغِنَى والتَّوَسُّطِ، ولا يقال: يوزع عليهم ما كان يتَحَمَّلهُ المعتق في حَيَاتِهِ، كتوزيعنا القدر (¬2) المتحمل فيما لو أعتق الشُّرَكَاءُ عَبْداً؛ لأن الوَلاَءَ لا يَتَوَزَّعُ عليهم تَوَزُّعَهُ على الشركاء، ولا يرثون الوَلاَءَ في المعتق، إنما يَرِثُون بالوَلاَءِ، والسبب المحدث لهم انْتِسَابُهُم إلى من له الوَلاَءُ، فالوَلاَءُ في حقهم مُشَابِهٌ للنَّسَب، ومن يتحمل بالنسب نِصْفَ دِينارٍ، يَتَحَمَّلُ كُلُّ واحد من المنتسبين إليه مِثْلَ ذلك كالأخ مع بنيه، وإذا مات وَاحِدٌ من الشركاء المعتقين أو جميعهم تحَمُّلَ كُلُّ ¬
واحد من عَصَبَاتِهِ مِثْلَ ما كان يتحمله هو في حَيَاتِهِ، وهو حِصَّتُهُ من النصف والربع على ما يقتضيه حَالُ المحتمل من الغِنَى التَّوَسُّطِ؛ لأن غايته نُزُولُهُ مَنزِلَةَ ذلك الشريك المعتق. الثالثة: ذكر في الكتاب أن المعتق ما دام حَيّاً لا يرقى إلى عَصَبَاتِهِ، ولا يضرب الباقي من الوَاجِب عليهم، وهذا ما رواه الإِمام ورآه، ووجهه بأن العَصَبَاتِ لا حَقَّ لهم في الوَلاَءِ ما دام المُعْتِقُ حَيّاً، فإذا مات وَرِثُوا، وانتشر الحَقُّ إليهم، وصار الوَلاَءُ لُحْمَةً كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، وأبدى تَرَدُّداً فيما إذا لم يَبْقَ المعتق، وضربنا على عَصَبَاتِهِ، هل يُخَصَّصُ بالأقربين؛ لأنهم المخصوصون بالوَلاَءِ والإرث به، أو يَتَعَدَّى إلى الأَبَاعِدِ صنيعنا من عَصَبَاتِ الجاني؟ وجعل الاحتمال الثَّاني أظهر، وهو الذي جَرَى عليه صَاحِبُ الكتاب حيث قال: فإن مات، فَعَصَبَاتهُ كعَصَبَاتِ الجاني، ويجوز أن يُعْلَمَ بالواو، للاحتمال الآخر، هذا ما ذكراه، وفي كَلاَمِ غيرهما ما يفهم جَوَازَ الارْتقَاءِ من المُعْتِقِ، وهو حَيٌّ إلى عَصَبَاتِهِ (¬1)، وصرح به صاحب "الشامل" و"التتمة" وغيرهما، فقالوا: إن فضلت من المتناسبين فَضْلَةٌ قُسِّمَتْ على الموالي المعتقين، فإن بقي شيء قُسِّمَ على عَصَبَةِ المولى، فيجوز أن يُعْلَمَ لذلك قوله: "فلا يَرْقَى إلى عَصَبَاتِهِ" بالواو. قال الغَزَالِيُّ: وَفِي تَحَمُّلِ العَتِيقِ عَنِ المُعْتِقَ قَوْلاَنِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَتَحَمَّلُ فَاجْتَمَعَ المَوْلَى الأَعْلَى وَالأسْفَل فَالأَعْلَى أَوْلَى، وَالمُتَوَلِّدُ بَيْنَ العَتِيقِ وَالعَتِيقَةِ يَجِبُ عَقْلُهُ عَلَى مَوَالِي الأَبِ تَرْجِيحاً لِجِهَةِ الأبُوَّةِ، فَإنْ تَوَلَّدَ مِنْ عَتِيقَةٍ وَرَقِيقِ فَالوَلاَءُ لمَوَالِي الأُمِّ إِذْ لا وَلاَءَ عَلَى الأَبِ بَعْدُ، وَإِنْ أُعْتِقَ الأبُ أَنْجَرَّ الوَلاَءُ إلَى مَوَالِي الأَبِ، فَإِنْ جَنَى الوَلَدُ قَبْلَ جَرِّ الوَلاَءِ فأَرْشُ الجِنَايَةُ عَلَى مَوَالِي الأُمِّ، وَمَا زَادَ بِسِرَايَةِ بَعْدَ الجَرِّ عَلَى الجَانِي؛ لِأَنَّهُ نَتِيجَةُ جِنَايَتِهِ قَبْلَ الجَرِّ فَلاَ يَحْمِلُهُ مَوَالِي الأَبِ وَلِأَنَّهُ حَصَلَ بَعْدَ الجَرِّ فَلاَ يَحْمِلُهُ مُوَالِي الأُمِّ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ عَنِ المَوَالِي فَلاَ يَحْمِلُهُ بَيْتَ المَالِ، وَلَو قَطَعَ يَدَيْنِ قَبْلَ الجَرِّ فَسَرَى بَعْدَهُ فَعَلَى مَوَالى الأُمِّ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَكَذَا إذَا قَطَعَ اليَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: ¬
إحداهما: في تَحَمّلِ العَتِيقِ عن المعتق إذا جَنَى خَطَأً قولان: أصحهما، وبه قال أبو حَنِيْفَةَ، ويُحْكَى عن أصحاب مَالِكٍ أنَّه لا يتحمل (¬1) عنه؛ لأنه ليس بمناسب [له] (¬2)، ولا له عليه وَلاَءٌ، فأشبه الأَجَانِبَ؛ ولأنه حُكْمٌ من أحكام الوَلاَءِ، فَيَخْتَصُّ بالمعتق كالميراث. والثاني: يحتمل؛ لأن التحمل للنُّصْرَةِ (¬3)، والعتيق أَوْلَى بنُصْرَةِ المعتق؛ لإنْعَامِهِ عليه، ويخالف الميراث؛ لأن ذلك في مُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ التي لِلْمُعْتِقِ بسبب الإِعْتَاقِ، ولا نِعْمَةَ لِلْعَتِيقِ على المُعْتِقِ. فإن قلنا بالقول الثاني، فهذه جِهَةُ أخرى من جِهَاتِ التَّحَمُّلِ، وراء الثلاث، وَيتَأَخَّرُ العَتِيقُ في التحمل عن المُعْتِقِ، ولم يُوجَدْ شيء من عَصَبَاتِهِ بِحَالٍ؛ لأنه لا يَتَحَمَّلُ الجاني عنهم، فكذلك لا يَتَحَمَّلُونَ عنه. قال في "البَيَانِ": والذي يقتضيه المَذْهَبُ أن يكون في عَتِيقِ العَتِيقِ القولان؛ لأن الجَانِي يَتَحَمَّلُ عنه. الثانية: سيأتي في باب العِتقِ في فَصْلِ الوَلاَءِ أن من لم يَمَسُّهُ الرِّقُّ أَصْلاً، لكنه مَسَّ أباه، أو جَدَّهُ، أو أمَّهُ، فقد يثبت الوَلاَءُ عليه لمعتقهم، وأنه إذا كانت الأُمُّ عَتِيقَةَ، والأب رَقِيقٌ يثبت الوَلاَءُ على الولد المُعْتِقِ الأُمِّ، فإن أعتق الأبَ الحُرّ، ولاء الولد إلى مُعْتِقِ الأَب، ويحمل العقل إذا جَنَى يتفرع على ثبوت الوَلاَءِ، فمن له الوَلاَءُ، فهو الذي يتحمله فلَو جنى المتولِّدُ من عتيقةٍ وعتيق، فالوَلاَءُ لمولى الأب، وهم الذين يتحملون عنه ترجيحاً لجهة الإُبُوَّةِ، والمتولد من عَتِيقَةٍ ورَقِيقٍ إن قتل إِنْسَاناً، فالدِّيَةُ على موالي الأُمِّ، ولو جرح إنْسَاناً، فأعتق أَبُوهُ، ثم مات المجني عليه، فقدر أرْش الجراحة على مَوَالِي الأم، والبَاقِي يَجِبُ على الجَانِي؛ لأنه لا يمكن إيجابه على مُعْتِقِ الأُمِّ؛ لأنه خرج بِإِعْتَاقِ الأب عن اسْتِحْقَاقِ الوَلاَءِ، فلا يلزمه ما يَجِبُ بعد ذلك، ولا يمكن إيجَابُهُ على معتق الأب؛ لأنه وجب بِسَرَّيَةِ جِنَايَةٍ وُجِدَتْ قبل انجرار الوَلاَءِ إليه، فلا يلزمه ¬
تحمله، ولا يمكن إيجابه من بيت المال؛ لأنه لم يَخْلُ عن المعتق، ووجد في الحالتين من هو أَوْلَى من بيت المال. وأيضاً فالضَّرْبُ على العَاقِلَةِ على خلاف القياس، فسقط بالشُّبْهَةِ كالقِصَاصِ. هذا ما أجاب به ابْنُ الحَدَّادِ، وساعده الأَصْحَابُ والإمام، ولصاحب (¬1) الكتاب احْتِمَالٌ في الضَّرْبِ على بَيْتِ المال؛ لأنه إذا تَعَذَّرَ الضرب على المعتق كان كمن لا مُعْتِقَ له، إذا عرف ذَلك، فلو أوضح خَطَأً، ثم أعتق أبوه، ثم سَرَتِ المُوضِحَةُ إلى نفس المَجْنِي عليه، فَأَرْشُ المُوضِحَةِ، وهو نصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ على مُعْتِقِ الأم، وباقي الدِّيَةِ على معتق الأب. ولو كانت الجِرَاحَةُ قَطعُ أُصْبُعٍ، والتصوير كما ذكرنا، فالوَاجِبُ على معتق الأم عُشْرُ الدِّيَةِ، ولو تأملت الجِرَاحَةُ فسقط الكَفُّ، ثم أعتق الأَب، ثم مات المَجْنِي عليه، فَنِصْفُ الدِّيَةِ على مُعْتِقِ الأُمِّ؛ لأن السِّرَايَةَ إلى اليَدِ حَصَلَتْ حين (¬2) كان الوَلاَءُ له، فكانت كأصل الجِرَاحَةِ، والباقي على مُعْتِقِ الأب. ولو قَطَعَ يَدَيْهِ، أو يديه ورِجْلَيهِ، ثم أَعْتَقَ الأب، ثم مات المَجنِي عليه، فَعَلَى معتق الأُمِّ دِيَةٌ كَامِلَةٌ؛ لأن الجرَاحَةَ حين كان الوَلاَءُ يُوجِبُ هذا القدر، والمعتبر ألا يزيد قَدْرُ الوَاجِبِ على مُعْتِقِ الأم بَالسِّرَايَةِ الحاصلة بعد الانْجِرَارِ. وقوله في الكتاب: "وما زاد بسِرَايَةِ القَطْعِ بعد الجر على الجاني" [فيه بَيَانُ] (¬3) أن السَّرَايَةَ قبل الجر على موالي الأُمِّ. وقوله: "لأنه نتيجة جِنَايَةٍ قبل الجَرِّ ... " إلى آخره تَوْجيهٌ للوجوب على الجَانِي، والمعنى: أن الدِّيةَ لو لم تكن عليه، فإما أن تكون على موَالِي الأُمِّ، أو موالي الأب، أو في بيت المال، والأَقْسَامُ بَاطِلَةٌ، وقد مَرَّ ما تَوَجَّهَ به بُطْلاَنُ كل قسم عند (¬4) ذِكْرِ ذلك القِسْمِ، ويمكن أن يُعْلَمَ قوله: "وما زاد بِسِرَايةٍ بعد الجَرِّ على الجاني" بالواو، لما سَنُبَيِّنُهُ، ثم للمسألة نَظَائِرُ منها: المُتَوَلِّدُ بين عتيق ورقيق إذا حَفَرَ بِئْراً في محل عُدْوان، أو أشْرَعَ جَنَاحاً أو مِيزَاباً، ومات إنسان بهذه الأسْبَابِ تكون الدِّيَةُ على مَوَالِي الأُمِّ، وإن أعتق أَبُوهُ، ثم حصل الهَلاَكُ ببعض (¬5) الأسْبَابِ تكَون الدِّيَةُ في ماله، ولو حفر العبد ثم عتق (¬6)، ثم تَرَدَّى فيها إنسان أو رمى إلى صيد، فعتق، ثم أَصَابَ السَّهْمُ إنساناً تجب الدِّيةُ في مَالِهِ، ولو قطع يَدَ إنسان خطَأً، فأعتقه سَيِّدُهُ، ثم سَرَى إلى النفس، فالسيد بإعْتَاقِهِ يصير مُختَاراً للفداء، ¬
فعليه الأَقَلُّ من نِصْفِ الدِّيَةِ، وكمال قيمة العَبْدِ، ويجب في مَالِ الجَانِي نِصْفُ الدية، وذلك لأن السِّرَايَةَ حصلت بعد العِتْقِ بِجِنَايَةٍ كانت في الرق. قال صاحب "التهذيب": ويجيء وَجْهٌ آخر أن السَّيِّدَ يَفْدِي بالأَقَلِّ من كَمَالِ الدية، وكمال القيمة؛ لأن الجِنَايَةَ وُجِدَتْ في الرِّقِّ. ومنها: لو رمى ذمِّيٌّ إلى صَيدٍ، فأسلم، ثم أصاب إنْسَاناً، فالدِّيَةُ في ماله لا تُضْرَبُ على عَاقِلَتِهِ الذميين، ولا على عَاقِلَتِهِ المسلمين. أما الذِّمِّيُّونَ؛ فلأنهم لم يكونوا عَاقِلَتَهُ عند الإصابة، وأما المسلمون فلأنهم لم يكونوا عاقلَتَهُ عند الرَّمْيِ، وإنما يَتَحَمَّلُ من يكون عاقِلَتَهُ في الحالين. ولو رمى يَهُودِيٌّ إلى صَيْدٍ، ثم تَنَصَّرَ أو تَمَجَّسَ، ثم أصاب السَّهْمُ إنساناً، قال الأئمة: إن قلنا: لا يقر عليه، فهو مُرْتَدٌّ لا عَاقِلَةَ له، فتكون الدِّيَةُ في ماله. وإن قلنا: يقر تكون الدِّيَةُ على عاقلتَهُ على أي دِينٍ كانوا؛ لأن الكُفْرَ كله مِلَّةٌ واحدة، ولكن يَحْمِلُ بَعْضُهُمْ عن بعض على خِلاَفٍ سنذكره. ولو جرح ذِمِّيٌّ إنساناً خَطَأً، وأسلم الجَارحُ، ثم مات المَجْرُوحُ، فَأَرْشُ الجِرَاحَةِ على عاقلته الذِّمِّيِّينَ، والباقي في مَالِهِ، فإن زَادَ أرْشُ الجِرَاحَةِ على دية النَّفْسِ بأن قطع يَدَيْه ورجليه، فالواجب هو دِيَةُ النفس على عَاقلَتِهِ الذميين، هكذا ذكره ابن الحَدَّادِ، وساعده أكثرهم. وفيه وجه آخر أن ما زادَ بالسِّرَايَة وأرْشِ الجراحة كله على عاقلته الذميين (¬1)؛ اعْتِباراً بحالة الجناية وهذا ما أوْرَدَهُ صاحب "المهذب"، وربما بني الخلاف على الخِلاَفِ فيما إذا جرح ذِمِّيٌّ ذِمِّياً، ثم أسلم الجَارحُ، ومات المَجْرُوحُ، هل بقتصُّ (¬2) منه؟ إن قلنا: نعم؛ اعتباراً بحالة الجَرْحِ، فجميع الدِّيَة عليهم. وإن قلنا: لا نقتصُّ (¬3) لم يلزمهم كَمَالُ الدية، والوَجْهُ مَجِيءُ الوجه المذكور ههنا في مسألة الكتاب. ولو عاد بعد الإسْلاَم، وجنى على المَجْنِي عليه جِنَايَةً أخرى خَطَأً، ومات منهما، فَنِصْفُ الدِّيَةِ على عَاقِلَتهِ المسلمين، وأما عاقلته الذِّمِّيُّون فإن كان أَرْشُ الجراحة نِصْفَ الدِّيَة أو أكثر، فعليهم النِّصْفُ أيضاً، وإن كان أقل بأن كان قد أَوْضَحَ رَأْسَهُ، أو قطع أُصْبُعاً من أَصَابِعِهِ، فَأرْشُ الجِرَاحَةِ على عاقلته الذميين، وما زاد إلى تمام النِّصْفِ على ¬
الجاني، فيجب في قَطْعِ الأُصْبُعِ عُشْرُ الدِّيَةِ على عاقلته الذميين، وأَرْبَعَةُ أَعْشَارِهَا، وهي تمام النصف في مال الجَانِي. وإن كانت الجِرَاحَةُ بعد الإسْلاَمِ مُذَفَّفَة، فقد ذكر الشيخ أبو علي وغيره أن أَرْشَ الجراحة الوَاقِعَةِ في الكُفْرِ يكونَ على عَاقِلَتِهِ الذميين، والباقي إلى تمام الدِّيَةِ على عاقلته المسلمين. وفي "النهاية" و"البيان" أن هذا جواب على قول ابن سُرَيْجٍ والإِصْطَخْرِيِّ فيما إذا جَرَحَ، ثم قَتَلَ أنَّه لا يدخل أَرْشُ الجِرَاحَةِ في الدِّيَةِ (¬1). أما إذا قلنا: يدخل، وهو الظَّاهِرُ، فجميع الدِّيَةِ على عَاقِلَتِهِ المسلمين، ولو أنَّه عاد بعد الإسْلاَمِ وجرحه مع آخر خطأ، فيبنى على الخِلاَفِ الذي سَبَقَ في أن الدية توَزَّعُ على الجارحين، أو على الجِرَاحَاتِ. فإن قلنا: على الجَارِحِينَ، وهو الأظْهَرُ، فعليه نِصْفُ الدِّيَةِ، والنصف يلزمه (¬2) بالجرَاحَتَيْنِ، مَحِصَّةُ جِرَاحَةِ الإِسلام، وهي الرُّبُعُ على عَاقِلَتِهِ المسلمين، وينظر في جِرَاحَةِ الكُفْرِ، فإن كان أَرْشُهَا مِثْلَ ربع الدِّيَةِ أو أَكْثَرَ، فعلى عاقلته الذِّمِّيِّينَ الرُّبُعُ أيضاً، وإن كان دون الرُّبُعِ، فعليهم قَدْرُ الأَرْشِ، وهو الزِّيَادَةُ إلى تمام الرُّبُعِ في مال الجاني. وإن وَزَّعْنَا على الجِرَاحَاتِ، فَثُلُثُ الدِّيَةِ، وهو حِصَّة جِرَاحَةِ الإِسلام على عاقلته المسلمين، فينظر في جِرَاحَةِ الكُفْرِ، فإن كان أَرْشهَا مِثْلَ ثلث الدية أو أكثر، فعلى عَاقِلَتِهِ الذميين الثُّلُثُ أيضاً، وإن كان أَقَلَّ فعليهم الأرْشُ، والباقي إلى تَمَامِ الثلث في مَالِ الجاني. ومنها: لو جَرَحَ إِنْسَاناً خَطَأٌ، ثم ارْتَدَّ، ثم مات المجروح بالسِّرَايَةِ، فأرش الجِرَاحَةِ على عَاقِلَتِهِ المسلمين، والباقي إلى تَمَام الدِّيَةِ في مال الجَانِي، فإن كان أَرْشُ الجِرَاحَةِ مِثْلَ الدِّيَةِ أو أكثر، كما إذا كان قد قَطَعَ يَدَيْهِ ورجليه، فَقَدْرُ الدِّيَةِ، وهو الواجب يَلْزَمُ العَاقِلَةَ، ولو جرح وهو مُرْتَدُّ، فَأسْلَمَ، ثم مات المَجْرُوحُ، فالدِّيةُ في مَالِهِ؛ إذ لا عاقلة للْمُرْتَدِّ، ولو جرحه وهو مُسْلِمٌ، فَارْتَدَّ الجَارحُ، ثم عاد اِلى الإِسْلاَمِ، ثم مات المَجْرُوحُ. قال الشيخ أبو علي: في المسألة (¬3) قولان: ¬
أحدهما: أن جَمِيعَ الدِّيَةِ على عَاقِلَتِهِ؛ اعتباراً بالطَّرَفَيْنِ؛ ولا ينظر إلى الحالة المتخللة. والثاني: أن على عاقلته (¬1) أَرْشَ الجِرَاحَةِ، وما زاد على الأَرْشِ إلى تمام الدِّيَةِ في مالِ الجاني؛ لأنه حَصَلَ بعض السِّرَايَةِ في حالة الرِّدَّةِ، فيصير شُبْهَةً دَارِئَةً لِلتَّحَمُّلِ، وجَزَمَ جَازِمُون بوجوب الجميع على العاقلة، إذا قصر زمان الرِّدَّةِ المُتَخَلِّلَةِ، وخصصوا القولين إذا طَالَ زمانها. قال في "التهذيب": ويجيء وَجْهٌ آخر أن على العَاقِلَةِ ثُلُثُيِ الدية لوجود الإِسْلاَمِ في الأول والآخر. ولو رَمَى سَهْماً إلى صَيْدٍ وارْتَدَّ، فأصاب السَّهْمُ إنْساناً، أو رمى المُرْتَدُّ إلى صَيْدِ، فَأَسْلَمَ، فَأَصَابَ السهم، فالدِّيَةُ في ماله؛ لأنه تَبَدَّلَ حَالُهُ رَمْياً وإصَابَةً، وإنما يَتَحَمَّلُ عنه إذا كان بِصِفَةٍ يتحمل عنه في الحالتين، ولو تَخَلَّلَتِ الرِّدَّةُ بين الرَّمْي والإِصَابَةِ، فكذلك الجواب في "التهذيب" وفي شرح الشيخ أبي عَلِيٍّ أنهم خَرَّجُوا المسأَلة على قولين: أحدهما: أنَّه تجب الدِّيَةُ على عَاقِلَتِهِ المسلمين، اعتباراً بِحَالَتَيِ الرَّمْيِ والإصابة. والثاني: أنها تَجِبُ في ماله لا يتحملون منها شَيْئاً؛ لأنها حدثت حالة خرجوا منها عن أن يكونوا من أَهْلِ التَّحَمُّلِ، فصار شُبْهَةً دَارِئَةً، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ: بَيْتُ المَالِ فَإذَا لَمْ نَجِدِ العُصُوبَةَ وَالوَلاَءَ أَخَذْنَا من بَيْتِ المَالِ إنْ كَانَ الجَانِي مُسْلِماً، فَإنْ كَانَ ذِمِّيّاً رَجَعْنَا إلَى الجَانِي. قَالَ الرَّافِعِيُّ: كما أن بَيتَ المال [مَصَبٌّ] (¬2) للتركة إذا لم يكن للميت عَصَبَةٌ بالنسب، ولا بالوَلاَءِ، فكذلك يحتمل بَيْتُ المال جِنَايَةَ من ليس له عَصَبَةٌ بالنسب ولا بالوَلاَء، وكذلك لو كانت العَصَبَةُ معسرين، أو كان لا يفي التَّوْزِيعُ عليهم بالواجب، فيكون الباقي على بيت المال، وهذا كُلُّهُ فيما إذا كان الجَانِي مُسْلِماً، أما إذا كان ذِمِّيّاً، فلا يتحمل عنه بَيْتُ المال، بل تكون الدِّيَةُ على الجاني؛ لأنه إذا مات، وَلاَ وَارِثَ له لا يُوضَعُ مَالُهُ في بيت المال إِرْثاً، وإنما هو فَيْءٌ كالجِزْيَةِ، وسائر أنواع الفَيْءِ لا توضَعْ هي في بيت المال، ألا ترى أنَّه لا يُعْتَبَرُ فيه مَوْتُ من كان مَالِكاً لها، والمستأمن في ذلك كالذِّمِّيِّ، وإذا أوجبنا الدِّيَةَ على الذمي لِعَدَمِ العَاقِلَةِ، فهل يتحمل أبوه وابنه؟ فيه وجهان كالوَجْهَيْنِ فيما إذا لم يكن للجاني المسلم عَاقِلَةٌ، ولا في بَيْتِ المال مَالٌ، وقلنا بوجوب الدِّيَةِ على الجاني، فهل يوجبُ على أبيه وابنه أيضاً، وسنذكرهما، والمُرْتَدُّ لا ¬
عَاقِلَةَ له؛ لأنه لا يورث منه، فإذا قتل إنْسَاناً خَطَأً، تجب الدِّيَةُ في ماله مُؤَجَّلَةً، فإن مات سَقَطَ الأَجَلُ، [والله أعلم]. ويجوز أن يُعْلَمَ. قوله في الكتاب: "وإن كان ذِمِّيّاً رجعنا إلى الجَاني" بالواو؛ لأنه ذكر في "البيان" أنَّه إذا لم يكن له عَاقِلَةٌ، أو بقي شيء بعد التَّوْزِيعِ عليهم، ففي الوجوب في مَالِهِ الخِلاَفُ الذي سيأتي إن شاء الله -تَعَالَى- في المسلم إذا لم يكن له عَاقِلَةٌ خَاصَّةٌ، ولا في بيت المال مَالٌ. قال الغَزَالِيُّ: أَمَّا الصِّفَاتُ، فَلا يُضْرَبُ عَلَى مَجْنُونٍ وَصَبِيٍّ وَامْرَأَةٍ وإنْ كَانَتْ مُعْتقَةً، وَلاَ عَلَى مُخَالِفٍ فِي الدِّينِ فَلاَ يَحْمِلُ مُسْلِمٌ مِنَ الذِّمِّيِّ وَلاَ الذِّمِّيِّ مِنَ المُسْلِمِ، وَفِي تَحَمُّلِ اليَهُودِيِّ مِنَ النَّصْرَانِيِّ قَوْلاَنِ، وَالحَرْبِيُّ لاَ يَتَحَمَّلُ، وَالمُعَاهَدُ كَالذِّمِّيِّ إِذَا لَمْ يَنْصَرِمْ عَهْدُهُ قَبْلَ مُضِيِّ أجَلِ الضَّرْبِ، وَلاَ يُضْرَبُ عَلَى فَقِير وَإِنْ كَانَ مُعْتمِلاً، وَيُضْرَبُ علَى الغَنِيِّ نِصْفُ (ح م) دِينَار وَهُوَ الَّذي مَلَكَ عِشْرِينَ دِينَاراً بَعْدَ المَسْكَنِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَعَلَى المُتَوَسِّطِ الرُّبُعُ وَهُوَ الَّذِي يَمْلكُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ مَلَكَ مَا فَضُلَ عَنْ حَاجَتِهِ، وَيُنْظَرُ إِلَى اليَسَارِ فِي آخِرِ السَّنَةِ فلَوْ طَرَأَ اليَسَارُ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدِهَا فَلَا التِفَاتَ إِلَيْهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فرغنا من أحد الفصلين، وهو الكلام في جِهَاتِ التَّحَمُّلِ، والفصل الآخر من صفات المُتَحَمِّلِينَ، وهي خمس: إحداها: التكليف، فلا تُضْرَبُ الدِّيَةُ على صَبِيٍّ، ولا مجنون، ولا مَعْتُوهٍ، وإن كانوا مُوسِرِينَ. والثانية: الذُّكُورَةُ، فلا تُضرَبُ على امْرَأَةٍ؛ لأنه ليست (¬1) لها أهْلِيَّةُ النُّصْرَةِ والمُعَاوَنَةِ، ولا تضرب على خُنْثَى؛ لاحتمال الأُنُوثَةِ، فَإِنْ بَانَ ذَكَراً، فهل يُغَرَّمُ حِصَّتَهُ التي أَدَّاهَا غيره؟ فيه وجهان مَرْوِيَّانِ في "التهذيب" (¬2). والثالثة: المُوَافَقَةُ في الدِّينِ، فلا يَتَحَمَّلُ المسلم عن قريبه الذمي (¬3)، ولا بالعَكْسِ لانقطاع المُوَالاَة والمُنَاصَرَةِ بينهما، ولذلك لم يَتَوَارَثَا. وهل يتحمل اليَهُودِيُّ عن قَريبِهِ النصراني أَوِ بالعكس؟ ذُكِرَ فيه قولان: أحدهما: نعم، كلما أنَّه يَرِثُ بعضهم من بعض، وهذا لأن الكُفْرَ كله مِلَّةٌ واحدة. والثاني: لا لانقطاع المُوَالاَةِ بينهما، ويُحْكَى (¬4) هذا عن أبي حَنِيفَةَ، هذا من ¬
الذميين، ولو كان للذمي أَقَارِبُ في دَار الحرب، فلا يَتَأَتَّى الضَّرْبُ عليهم، وهم كالمَعْدُومِينَ. قال في "التتمة": فإن قَدَرَ الإِمَامُ على الضَّرْبِ عليهم، فَيَنْبَنِي (¬1) على أن اخْتِلاَفَ الدَّارِ، هل يمنع التَّوَارُثَ؟ إن قلنا: نعم، فَيَمْتَنِعُ الضرب أيضاً. وإن قلنا: لا، ففيه وجهان، لانْقِطَاع المُنَاصَرَةِ باختلاف الدَّارِ، والمُعَاهَدُ كالذِّمِّيِّ، فيتحمل عنه الذِّمِّيُّ، ويحتمل هو عن الذِّمِّيِّ إذا زادت مُدَّةُ العَهْدِ على أَجَلِ الدِّيَةِ، ولم يَنْصَرِمْ قبل مُضِيِّ الأجَلِ. والرابعة: الحُرِّيَّة، فلا تُضْرَبُ الدِّيَةُ على الرَّقِيقِ، أما غير المُكَاتَبِ فلأَنه لا مَالَ له، وأما المُكَاتَبُ، فلأنه ليس من أَهْلِ المُوَاسَاةِ، ومطلق المَرَضِ والكِبَرُ لا يَمْنَعَانِ ضَرْبَ الدِّيَةِ، لكن من الضَّرْبِ على الزَّمِنِ والهَرِمِ وَجْهَانِ: أحدهما: المَنْعُ؛ لضَعْفِ حالهما وَعَجْزِهِمَا عن النُّصْرَةِ (¬2). وأظهرهما: الضَّرْبُ لِعُصُوبَتِهِمَا وَأَهْلِيَّةِ نُصْرَتِهِمَا بالرأي والمال، ويحكي الأول عن ابن أبي هُرَيْرَة، والقَطْعُ بالثاني عن الشيخ أبي حَامِدٍ، وربما بُنِيَ الخِلاَفُ على الخِلاَفِ في أن الزَّمِنَ والشيخ من الكُفَّارِ إذا أسِرَا هل يُقْتَلاَنِ؟ ويجري الخلاف في الأَعْمَى. وقوله في الكتاب: "وإن كانت مُعْتقةً" مُكَرَّرٌ، فقد مَرَّ أن المَرْأَةَ، إذا أعتقت لا (¬3) يضرب عليها. وقوله: "والحَرْبِيُّ لا يَتَحَمَّلُ" يجوز أن يُعْلَمَ (¬4) بالوَاوِ، لما ذَكرْنَا. الخامسة: أَلاَّ يَكُونَ فَقِيراً، بل مُتَوَسِّطاً أو مُوسِراً؛ لأن تَحَمُّلَ العَقْلِ مُوَاسَاةُ، والفقير ليس أَهْلاً لِلْمُوَاسَاةِ، وكذلك لم يُكَلَّفْ بالزكاة، وتُخَالِفُ الجزْيَةُ؛ لأنها كالأُجْرَةِ لِسُكنَى الدار؛ ولأنها لِحَقْنِ الدَّمِ. وعن أبي حنيفة: أن الدِّيةَ تُضْرَبُ على الفقير أيضاً، ويروى عنه أنها تُضْرَبُ عليه بِشَرْطِ أن يكون مُعْتَمِلاً قادراً على الكَسْبِ، وهذا ما قصد الإشَارَةَ إليه بقوله في الكتاب: "إن كان مُعْتَمِلاً". ثم في الفصل مسألتان: إحداهما: فيما يُضْرَبُ على كُلِّ واحد من (¬5) العَاقِلَةِ، قال الأئمة: لا يُجْحَفُ بهم، ولا يُشَقُّ عليهم، بل يُحَمَّلُونَ ما يَسْهُلُ عليهم، فَيُضْرَبُ على الغَنِيِّ نِصْفُ دينار، وعلى المُتَوَسِّطِ رُبُعُ دِينَارٍ، ووجه التقدير بالنصف بأنه أول دَرَجَةِ المُوَاسَاةِ [في الزكاة، والتقدير بالربع أن المواساة] (¬6) لا تحصل بما دُونَهُ؛ لأنه تَافِهٌ؛ بدليل أنَّه لا يُقْطَعُ فيه السَّارِقُ، ويروى عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "ما كانَتِ اليَدُ تُقْطَعُ على عَهْدِ ¬
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الشيء التَّافِهِ" (¬1). وعند أبي حنيفة يُؤْخَذُ من كل وَاحِدٍ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ إلى أربعة، ويسوى (¬2) بين المُوسِرِ وغيره، واحتج الأَصْحَابُ بأنه حَقٌّ وَجَبَ على سبيل المُوَاسَاةِ، فيختلف (¬3) باليَسَارِ، والتَّوسُّطِ كالزكاة. ويجوز أن يُعْلَمَ في الكتاب لفظ "النصف والربع" بالحاء لما حَكَيْنَاهُ، وبالميم؛ لأن عند مَالِكِ لا يَتَقَدَّرُ الوَاجِبُ، بل هو إلى اجْتِهَادِ الحاكمِ يحمل كل واحد ما يرى أنَّه يَتَحَمَّلُهُ، وبم يَضْبَطُ اليَسَارُ والتَّوَسُّطُ؟ ذكر في "التهذيب" أن الاعْتِبَارَ بالعَادَةِ، وأن ذلك يَخْتَلِفُ بالبُلْدَانِ والأزمان ورأَى الإِمام [أن] (¬4) الأَقْرَبَ اعْتِبَارُ ذلك بالزكاة، كما اعْتُبِرَ قدْرُ الوَاجِبِ بالزكاة، فقال: إذا كان يَمْلِكُ عشرين ديناراً في آخر الحَوْلِ، فهو غني، لكن يفارق مَا نحن فيه الزَّكَاة من وَجْهَيْنِ: أحدهما: أنَّه لا يشترط أن يَمْلِكُ النَّقْدَ، أو شيئاً من الأَمْوَالِ الزَّكَاتِيَّةِ، بل إذا ملك ما يساوي هذا القَدْرَ من سَائِرِ الأَمْوَالِ، كان كما لو ملك هذه الأَمْوَالَ؛ لأن الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، فينظر فيها إلى جِنْسِ المَالِ، وتَحَمُّلُ العَقلِ مَحْضُ مُوَاسَاةٍ. والثاني (¬5): يشترط أن يكون ما يَمْلِكُهُ فَاضِلاً عن مَسْكَنِهِ وثيابه، وسائر ما لا يُكَلَّفُ في الكَفَّارَةِ بَيْعُهُ وصَرْفُهُ إلى ثَمَنِ الرَّقَبَةِ، وهذا لا يشترط في الزَّكَاةِ والمتوسط هو الذي يَمْلِكُ أَقَلَّ من ذلك، لكنه يَفْضُلُ عن حَاجَاتِهِ، ويشترط أن يكون فَوْقَ القَدْرِ المَأْخُوذِ، وهو رُبُعُ دِينَارٍ؛ لئلا يُؤْدِّهِ أخذه منه إلى حَدِّ الفَقْرِ، وهذا ما نَحَا صَاحِبُ الكتاب نَحْوَهُ. الثانية: الاعتبار فيما يُؤخَذُ كُل حَولٍ بآخر ذلك الحَوْلِ في أمور: أحدهما: إذا ثَمَّ الحَوْلُ، وهناك إِبْلُ جمعت العاقلة ما عليهم من نِصْفٍ أو ربع، واشتروا به الإبِلَ، وإن لم تُوجَدِ الإبِلُ، فعلى القولين في أن الواجب القِيمَةُ أو بَدْلٌ مُقَدَّرٌ. وإذا تأخرت التَّوْفِيَةُ (¬6) بعد الَحَوْلِ، ثم وُجِدَتْ لزمهم الإِبِلُ، وإن وجد بعد أخذ البَدَلِ لم يؤثر. الثاني: إذا لم يَفِ التَّوْزِيعُ على العَاقِلَةِ بواجب الحَوْلِ أُخِذَ الباقي من بيت المال، ولم يُنْتَظَرْ مُضِيّ الأحوال الثلاثة. ¬
فرع
الثالث: يعتبر اليَسَارُ والتَّوَسُّطُ في آخر الحَوْلِ، فلو كان مُعْسِراً (¬1) في آخر الحَوْلِ لم يلزمه (¬2) شَيْءٌ من واجب ذلك الحَوْلِ، وإن كان مُوسِراً من قَبْلُ أو أَيْسَرَ من بَعْدُ، وإن كان مُوسِراً حينئذ لَزِمَة النِّصْفُ، فإن أُعْسِرَ بعد ذلك، فهو دَيْنٌ عليه. ولو كان بعضهم من أَوَّلِ الحَوْلِ كَافِراً أو رَقِيقاً أو صَبِيّاً أو مَجْنُوناً، وصار في آخِرِهِ نصفة الكَمَالِ، فهل يُؤْخَذُ منه حِصَّتهُ من واجب تلك السَّنَةِ؟ حكى صاحب "التهذيب" فيه وجهين: أحدهما: نعم، كما لو كان مُعْسِراً في أول الحَوْلِ، مُوسِراً في آخره. وأصحُّهما: لا؛ لأن هؤلاء لَيْسُوا أَهْلاَ لِلنُّصْرَةِ بالبَدَنِ في الابتداء، فلا يُكَلَّفُونَ النُّصْرَةِ بالمال في الانْتِهَاءِ، والمعسر كان من (¬3) أهْلِ النُّصْرَةِ، وإنما يعتبر المَالُ ليتمكن (¬4) من الأَدَاء، فيعتبر وَقْتُ الأداء. وقطع صاحب "التتمة" بأنه لا يلزمه من واجب ذلك الحَوْلِ شَيْءٌ (¬5)، ورد الخلاف في أنَّه هل يُطَالبُ، والحالة هذه بواجب الحَوْلِ الثاني والثالث؟ ووَجَّهَ المُطَالَبَةَ بأن وظيفة كل حَوْلٍ مستقلة بنفسها، ولذلك لو كان عَاقِلاً في الحَوْلِ الأول، ثم جُنَّ في الثاني يُؤْخَذُ منه وَاجِبُ الأَوَّلِ، ووجه المنع، وعَدَّةُ الأَصَحَّ بأن الواجب في الأَحْوَالِ وَاحِدٌ؛ لأن سَبَبَهُ وَاحِدٌ إلا أنَّه مُنَجَّمٌ. فإذا لم يكن الشَّخْصُ بصفة الكَمَالِ في الابْتِدَاءِ لم يدخل في التَّوْزِيعِ. " فَرْعٌ" يشبه أن يكون المَرْعِيُّ في إِيجَاب الرُّبُع والنصف مِقْدَارَهُمَا، لا أنَّه يجب على العَاقِلَةِ بَدَلُ الدنانير بأَعْيَانِهَا؛ لأن الإِبِلَ هَي التيَ تجب في الدِّيَةِ، وما يُؤْخَذُ يصرف إلى الإِبِلِ، وللمستحق ألا يقبل غيرها، ويُوَضِّحُهُ أن أبا سعد المُتَوَلِّي قال على الغَنِيِّ نِصْفُ دينار أو ستة دَرَاهِمَ؛ لأن الدنانير (¬6) في الدِّيَةِ عندنا تقابل (¬7) باثني عشر دِرْهَماً، [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الثَّانِي فِي كَيفِيَّةِ التَّوْزِيع وَالبِدَايَةُ بِأَقْرَبِ (ح) العَصَبَاتِ، وَلاَ ¬
يُضْرَبُ عَلَى وَاحِدٍ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفٍ أَوْ رُبْعٍ، وَهُوَ حِصَّةُ كُلِّ سَنَةٍ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَقِيلَ: إنَّهُ حِصَّةُ جَمِيعِ السِّنِينَ، ثُمَّ إن فَضُلَ مِنَ الأَقْرَبِينَ شَيْءٌ تَرَقَّيْنَا إِلَى مَنْ بَعْدَهُم ثُمَّ إِلَى المُعْتِقِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبةً أَخَذْنَا بَقِيَّةَ الوَاجِبِ آخِرَ السَّنَةِ مِنْ بَيْتِ المَالِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ المَالِ أَخَذْتَا مِنَ الجَانِي عَلَى أَقْيَسِ الوَجْهَيْنِ حذَاراً منَ التَّعْطيلِ، وَقِيلَ: يُنْتظرُ يَسَارُ بَيْتِ المَالِ، وَأَمَّا الذِّمِّيُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاِقلَةَ فَيُطالِبُ بَعْدَ مُضِيِّ الأَجَل إِذْ لاَ يُنْتظَرُ لَهُ بَيْتَ المَالِ، وَكَذَا إِذَا اعْتَرَفَ بالخَطَأِ وَأنْكَرَ العَاقِلَةُ وَلاَ بَيِّنَةَ إذْ لاَ يُنْتظَرُ إقْرَارُ العَاقِلَةِ، فَإنْ أقَرُّوا علَى قُدُورِ وَقَعِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِمْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قوله: "والبِدَايَةُ بأقرب العَصَباتِ"، وقوله بعد ذلك: "فإن فَضَلَ من الأَقْرَبِينَ شيء ... " إلى آخره؛ المَقْصُودُ منه (¬1) بَيَانُ تَرْتِيب العَصَبَات، وقد ذكرنا من قبل عند قوله: "وفي تَقْدِيم الأَخ للأب والأم على الأخ للأب قولان"، وإنما ذكرنا هناك؛ لأن تلك المَسألَةَ تَتَعَلَّقُ بالتَّرْتِيب، وكان الأَوْلَى أن يَجْمَعَ بينهما، وبين سَائِر مسائل التَّرْتِيب. ولْيُعْلَمْ قوله: "والبدايةَ بأقْرَبِ العَصَبَاتِ" بالحاء؛ لما تَقَدَّمَ أن عنده (¬2) يسوى بين القريب والبَعِيدِ. وقوله: "ولا يضربُ على وَاحِدٍ أكثر من نِصْفٍ أو ربع قد صار مَفْهُوماً من قوله في الفَصْلِ السابق: "ويضربُ على الغَنيِّ نِصْف دينار ... " إلى آخره ثم النصف أو الربع حِصَّةُ كُلِّ سَنَةٍ أو الواجب في السِّنِينَ الثلاث النصف أو الربع؟ فيه وجهان: أصحهما: الأول، فيكون جُمْلَةُ الواجب على الواحد [من] العَاقلَةِ دِينَاراً ونِصْفاً إذا كان غَنِيّاً، ونصفه إذا كان مُتَوَسِّطاً، وَوُجِّهَ ذلك بأنه حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بالحَوْلِ، ويجب على سبيل المُوَاسَاةِ، فَيَتَكَّرَرُ بِتَكرُّرِ الحَوْلِ كالزكاة. والثاني: ويحكى عن ابن سُرَيجٍ وابن القَاصِّ أن النصف أو الربع وَاجبُ السنين؛ لأن الأَصْلَ عَدَمُ الضرب، فلا يُخَالِفُ إلا في هذا القَدْر، ولو ذكر هذه المَسْأَلَةَ مع بَيَانِ القَدْرِ في الفصل السَّابقِ لكان أَحْسَنَ، ثم في الفصل مَسْأَلَتَانِ: إحداهما: إذا انتهى التحمل (¬3) إلى بَيْتِ المَالِ، فلم يُوجَدْ فيه مَالٌ، هل يُؤْخَذُ الواجب من الجاني؟ فيه وجهان بَنَوْهُمَا على أن الديَةَ تجب على العَاقِلَةِ ابْتِدَاءً، أو تجب على الجاني، ¬
ويتحمل عنه العَاقِلَةُ، [و] فيه وجهان، ويقال: قولان: أحدهما: أنها تجب على العَاقِلَةِ ابْتِدَاءً؛ لأن المُطَالَبَةَ عليهم دون الجَانِي، وقد يُوَجَّهُ بظاهر الأَخْبَارِ، مثل ما رُوِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم-: "قَضَى على العَاقِلَةِ" (¬1). والثاني: تجب على الجَانِي، والعَاقِلَة يَتَحَمَّلُونَ (¬2)؛ لأن القِيَاسَ وُجُوبُ الضَّمَانِ على المُتْلِفِ، فيجري على القِيَاسِ، ونجعلهم مُتَحَمِّلِينَ كما يُؤَدَّى الدَّيْنُ عمن تَحَمَّلَ لإصْلاَحِ ذَاتِ البَيْنِ. وَيدُلُّ عليه أنَّه لو لم يكن الجَانِي ممن يَتَحَمَّلُ عنه بأن كان مُرْتَدّاً أو ذِمِّيّاً، وعاقلته حَرْبِيُّونَ تُؤْخَذُ الدِّيَة من مَالِهِ. قال الإِمام: وليس تَرَدُّدُ القَوْلِ مَأخُوذاً من نَصِّ صاحب المَذْهَبِ، ولكنه مُتَلَقّى من تَصَارِيفِ كَلاَمِهِ في التفريعات. فإن قلنا: تجب على العَاقِلَةِ ابتِدَاءً، لم يُؤْخَذُ من الجاني. وإن قلنا: بالتَّحَمُّلِ، فهذا تَعَذَّرَ التحمل أخذ الواجب من (¬3) الأَصلِ. وعن القاضي الحسين: القَطْعُ بأنه لا يَجِبُ على العاقلة شَيْءٌ، والظَّاهِرُ إِثْبَاتُ الخِلاَفِ، وأخذ الواجب من القَاتِلِ. وإذا قلنا: لا يُؤخَذُ منه، ففي شَرْح "مختصر الجويني" وَجْهٌ أنَّه تجب الدِّيَةُ على جماعة المسلمين كنَفَقَةِ الفُقَرَاءِ، وهذا لمَ يذكره الأَكْثَرُونَ، لكن لو حدث في بيت المال مَالٌ، هل يُؤَدّى الواجب منه؟ فيه وجهان عن رواية القاضي الحسين وغيره: أحدهما: لا، كما أن الفَقِيرَ من العَاقِلَةِ عند تمام الحَوْلِ لا يطالب بالغِنَى الحَادِثِ بعده. والثاني: نعم، وليس سَبِيلُ بَيْتِ المَالِ سَبِيلَ العاقلة الخَاصَّةِ؛ لأن مَالَ المَصَالِحِ لا يَخْتَصُّ بمَصْلَحَةٍ، فلا يختص الأَدَاءُ منه بِوَقْتٍ، وهذا [معنى] (¬4) قوله في الكتاب: "وقيل: يُنْتَظَرُ يَسَارُ بَيْتِ المَالِ" وربما بني على هذا الخِلاَفِ في أنَّه هل يُؤخَذُ الوَاجِبُ من الجاني، إذا لم يكن في بَيْتِ المال مَالٌ؟ إن قلنا: يؤدى من المال الحَارِثِ، فينتظر، ولا يُطَالَبُ الجاني. وإن قلنا: لا، فَيُطَالَبُ الجَانِي تَحَرُّزًا عن الإهْدَارِ. وإن قلنا: إذا لم يكن في بَيْتِ المال مَالٌ، يُعَزَّمُ القاتل، فالدِّيَةُ تَتَأجَّلُ عليه تَأجُّلُهَا على ¬
العاقلة الخَاصَّةِ، وعلى بيت المَالِ. وهل يجب على أَبِيهِ وابنه كما تَجِبُ عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال أبو علي الطَّبَريُّ: نعم، وُيبْدَأُ بهما قبل القَاتِلِ؛ لأنا إنما لا نُحَمِّلُ الأب والابن؛ لأنهما بعضه، فإذا تَحَمَّلَ تَحَمُّلاً. وأقواهما: عند صاحبي "المهذب" و"التهذيب" المَنْعُ؛ لأن الإيجَابَ على القاتل من جِهَةِ أنه الأصْلُ وغيره يتحمل (¬1) عنه، فهذا تَعَذَّرَ التحمل طُولِبَ بِحُكْمِ الأَصْلِ، وهذا المعنى لا يَتَحَقَّقُ في الأب والابن. المسألة الثانية: إذا اعْتَرَفَ بالخَطَأِ، أو شِبْهِ العَمْدِ وصَدَّقْتُه العاقلةُ، فعليهم الدِّيَة، وإن كَذَّبَتة لم يقبل إقْرَازرُهُ عليهم، ولا على بَيْتِ المال ولكن يَحْلِفُونَ على نَفْي العلم، فإذا حَلَفُوا كانت الدِّيَةُ على المُقِرِّ؛ لأنه لا سَبِيلَ إلى التَّعْطِيلِ، وقد تَعَذَّرَ التحمل، ويروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تحمل العاقلة عَمْداً، ولا اعْتِرَافاً" (¬2). قال الإِمام: ولم يُخَرِّجِ الأَصْحَابُ [الوجوب] (¬3) على (¬4) المقر [على] الخِلاَفِ في أن الجَانِيَ يُلَاقِيَهُ الوجوب، ويتحمل العَاقِلَةُ، أو تجب الدِّيَةُ على العاقلة ابْتِدَاءً. ولا يبعد عن القياس أن يُقَالَ: إذا لم يُلَاقِ الوجوب الجاني لا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لأنه إنما أَقَرَّ عليهم لا عَلَى نَفْسِهِ؛ لأن الخَطَأَ يلزم الدِّيةَ عليهم، فإذا لم يقبل عليهم وَجَبَ ألا يقبل عليه، ويحكى (¬5) هذا عن المُزَنِيَّ، والمَذْهَبُ المنقول الأوَّلُ (¬6). ¬
وَتَتَأجَّلُ الدية عليه تأَجُّلَهَا على العاقلة، إلا أنه يُؤْخَذُ منه ثُلُثُ الدِّيَةِ عند انْقِرَاضِ السَّنَةِ الأولى، وكل واحد من العَاقِلَةِ لا يطالب إلا بنصف أو ربع، وهل يَحِلُّ الأَجَلُ عليه إذا مات؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن الأَجَلَ يُلَازِمُ دِيَةَ الخَطَأِ شَرْعاً. وأظهرهما: نعم، كسائر الدُّيُونِ المُؤَجَّلَةِ، وليس كما لو مات وَاحِدٌ من العَاقِلَةِ من خلال الحَوْلِ لا يؤخذ من تَرِكَتِهِ شَيْءٌ؛ لأن الوُجُوبَ على العَاقِلَةِ سَبِيلُهُ سَبِيلُ المُوَاسَاةِ، والوجوب على الجَانِي هاهنا لِصِيَانَةِ الحَقِّ عن التعطيل، فلا يمكن المَصِيرُ إلى السُّقُوطِ. وإذا مات مُعْسِراً قال صاحب "التهذيب": يحتمل أن تُؤْخَذَ الدِّيَةُ من بيت المَالِ، كمن لا عَاقِلَةَ له، ويحتمل ألاَّ تُؤْخَذُ كما لو كان مُعْسِراً، وهو حَيٌّ. ولو غُرَّمَ الجاني، ثم اعترفت العَاقِلَةُ، فإن قلنا: الوُجُوبُ يُلَاقِي الجَانِي، والعَاقِلَةُ محتملة، فلا يَرُدُّ الوَليُّ ما أخَذَ، ويرجع الجاني على العاقلة. وإن قلنا: هي على العَاقِلَةِ ابتداء، يَرُدُّ الوَلِيُّ ما أَخَذَ، وَيبْتَدِئُ بِمُطَالَبَةِ العاقلة (¬1). وفي "التهذيب" أنه إذا ادُّعِيَ على رجل قَتْلُ خَطَأٍ أو شِبْهِ عَمْدٍ، ولا بَيَّنَةَ، ونَكَلَ المُدَّعَى عَلَيْهِ عن اليمين، فحلف المُدَّعي فإن جعلنا اليَمِينَ المَرْدُودَةَ كإقرار المُدَّعَى عَلَيْهِ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ على المدعى عليه، إن كذبت العَاقِلَةُ المُدَّعي. وإن قلنا: إنه كالبَيِّنَةِ، فالدِّيَةُ على العَاقِلَةِ، أو على المُدَّعَى عَلَيْهِ؛ ذَهَاباً إلى أنها وإن جُعِلَتْ كالبَيِّنَةِ، فإنما تجعل كالبَيِّنَةِ في حَقِّ المُتَدَاعِيَيْنِ دون غيرهما فيه وجهان (¬2). وقوله في الكتاب: "فإن لم يكن عَصَبَةٌ أخذنا بَقِيَّةَ الوَاجِبِ" أي: لم يكن عَصَبَةٌ سوى المَذْكُورِين، وإن قدر أن المُرَادَ ما إذا لم يكن للجاني عَصَبَةٌ أصلاً، لم يكن للفظ البَقِيَّةِ مَعْنى، فَإِنَّا حينئذ نَأْخُذُ جَمِيعَ الوَاجِبِ من بيت المَالِ. ¬
وقوله: "وأما الذِّمِّيُّ إذا لم يكن له عَاقِلَةٌ ... " إلى آخره، كالمُكَرَّرِ؛ لأنه قال في الجِهَةِ الثَّانِيَةِ: وإن كان ذِمِّيّاً رَجَعْنَا إلى الجَانِي، وكأنه أعَادَهُ لِيُبيِّنَ أن ما قيل في حَقِّ المسلم أنه يُنْتَظَرُ يَسَارُ بَيْتِ المال، لا مَجَالَ له في حَقِّ الذِّمِّيِّ؛ لأن بيت المَالِ لا تحمل عنه. ويجوز أن يُعْلَمَ قوله: "فيطالب" بالواو؛ لما قَدَّمْنَاهُ عن "البَيَان". وقوله: "بعد مُضِيَّ الأَجَلِ" لا ضَرُورَةَ إلى ذِكْرهِ في هذا المَوْضِعِ، لِلْعِلْم بأن الدِّيَةَ المُتَحَمَّلَةَ مؤجَّلَةٌ، والمُطَالَبَة تكون بعد مُضِيِّ الأَجَلِ أَبَداً. وقوله: "وكذا إذا اعترف [الجاني] (¬1) بالخَطَأِ"، ليُعْلَم بالزاي. وقوله: "إذ لا ينتظر إِقْرَار العَاقِلَةِ" أراد به أن الوَجْهَ المذكور في أنه يُنْتَظَرُ يَسَارُ بَيْتِ المال لا يَجِيءُ في انتظار [إقرار] (¬2) العاقلة؛ لأن تَوَقُّعَ اليَسَارِ قَرِيبٌ، وتوقع إقرارهم بعد الإِنكار بَعِيدٌ. وقوله: "وَقَعَ الرُّجُوعُ عليهم" يعني رُجُوعَ الجاني على ما هو مُبيَّنٌ في "الوسيط"، وذلك إذا قلنا: إن الوُجُوبَ يُلاَقِيهِ، وليعلم بالواو للوجه الآخر، [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: وَمَا دُونَ أَرْشِ المُوَضِّحَةِ مَضْرُوبٌ (ح م و) عَلَى العَاقِلَةِ بَلْ لَوْ كَانَ الأَرْشُ نِصْفَ دِينَارٍ وَزَعْنَاهُ عَلَى العَاقِلَةِ، وَإِنْ كَانُوا مَائَةً طُولِبَ جَمِيعُهُمْ بِنِصْفِ دِينَارٍ مُشْتَرِكٍ عَلَى وَجْهٍ، وَعَلَى وَجْهٍ يُعَيِّنُ القَاضِي وَاحِداً كَيْ لاَ يَعْسُرَ الطَّلَبُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صورتان: إحداهما: كما أن دِيَةَ النَّفْسِ تُضْرَبُ على العَاقِلَةِ، فكذلك بَدَلُ الأَطْرَافِ، وأُرُوشُ الجِرَاحَاتِ والحُكُومَاتِ، قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، تُضْرَبُ عليهم. هذا هو المذهب الجَدِيدُ. ويحكى عن القديم قولان آخران: أحدهما: أنها لا تُضْرَبُ عليهم؛ لأن تَحَمُّلَ العَاقِلَةِ خِلاَفُ القياس، لكن الشرع وَرَدَ به في دِيَةِ النَّفْسِ، فَيُقْتَصَرُ عليه. وأيضاً فإن ما دُونَ النَّفْسِ سَبيلُهُ سَبيلُ ضَمَانِ الأموال، ألا ترى أنه لا يَتَعلَّقُ به الكَفَّارَةُ، ولا تدخله القَسَامَةُ؟! والثاني: أن ما دون ثُلُثِ الدِّيَةِ لا يُضْرَبُ على العَاقِلَةِ، بل يكون في مَالِ الجاني؛ لأنه لا يعظم إِجْحَافه به، فلا يحتاج فيه إلى التحمل والمُوَاسَاةِ، وبهذا قال مَالِكٌ وأَحْمَدُ. ¬
وعند أبي حَنِيْفَةَ: ما دون أَرْشِ المُوضِحَةِ، وهو يصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ لا يُضْرَبُ عليهم، واحْتَجَّ لِظَاهِرِ المذهب بأن النبي -صلى الله عليه وسلم-:"قضى بالغُرَّةِ على العَاقِلَةِ، وهي دون الثُّلُثِ" (¬1)، فإن الغُرَّةَ تقَابَل بخمس من الإِبِلِ. وأيضاً، فإن العَاقِلَةَ إنما تَحَمَّلَتْ دِيَةَ النَّفْسِ كي لا يَجْحِفَ ذلك بِمَالِهِ، وهذا المعنى مَوْجُودٌ في الأَطْرَافِ والجِرَاحَاتِ. قال الإِمام: وما عندي أن من لا يَضْرِبُ أُرُوشَ الأَطْرَافِ على العَاقِلَةِ [ينبغي أن يُثْبَتَهَا] (¬2) معجَلة كَقِيَمِ المُتْلَفَاتِ. ولا يبعد عن قياس. الثاني من قَوْلَي القديم: إذا زَادَ الوَاجِبُ على ما دُونَ الثلث أن لا يحمل الكُلّ على العاقلة، بل يُقَالُ: ما دون الثُّلُثِ على الجاني أَبَداً، والزائد عليه مَحْمُولٌ. والثانية: وهي مُفَرَّعَةٌ على الأولى: إذا كان الأَرْشُ نِصْفَ دِينَارٍ مَثَلاً، والعَاقِلَةُ جَمَاعَةٌ فيهم (¬3) كَثْرَةٌ، ففي كيفية تَحْصِيلِهِ وجهان: أظهرهما: أنهم يُطَالبُونَ بنصف دينار مُشْترك؛ لِشُمُولِ جِهَةِ التَّحَمُّلِ لهم. والثاني: أن القاضي يُعَيِّنُ (¬4)، واحداً أو جَمَاعَةً باجْتِهَادِهِ لكيلا (¬5) يَعْسَرَ الطَّلَبُ والتَّوْزِيعُ، وقد ينتهي الأمْرُ إلى أن يُخَصَّص كُلُّ واحد منهم مالاً يتموَّلُ، وهذا كالخلاف فيما إذا كَثُرَتِ العَاقِلَةُ في دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، بحيث لو وُزَّعَ الوَاجِبُ عليهم لَأَصَابَ كُلَّ غَنِيٍّ دون النصف، وكُلَّ مُتَوَسَّطِ دون الربع (¬6)، وفيه قولان: أحدهما: أن للإمام أن يُخَصِّصَ جَمَاعَةً يَضْرِبُ على أغنيائهم النِّصْفَ، وعلى المتوسطين الربع كيلا يَعْسَرَ التَّوْزِيعِ، ولا يكثر التَّعَبُ والمُؤْنَة. وأصحهما: المنع؛ لأن الحَقَّ وَجَبَ على جَمِيعِهِمْ، فلا يُخَصَّصُ بَعْضُهُمْ بالمُطَالَبَةِ وإذا قلنا بالأول، فَبِأَيِّ طريق نُخَصَّصُهُمْ؟ حكى أبو الفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ فيه وجهين، الذي أَوْرَدَهُ عَامَةُ الناقلين أن الإِمام يُخَصِّصُ من يراه باجْتِهَادِهِ. والثاني: أنه يجعلهم فِرْقَتَيْنِ (¬7)، أو ثلاثاً، كما يقتضيه الحَالُ، ويُقْرعُ بينهم (¬8) [والله أعلم]. ¬
قال الغَزَالِيُّ: وَأَمَّا الأَجَلُ فَهُوَ فِي دِيَةٍ كَامِلَةٍ ثَلاَثُ سنِينَ وَهِيَ مَائَةٌ مِنَ الإبِلِ يُؤْخَذُ ثُلُثُهَا فِي آخِرِ كُلِّ سَنَةٍ، فَلَوْ وَجَبَ مَائِتَانِ مِنَ الإِبِلِ فِي عَبْدٍ وَقُلْنَا: يَحْمِلُ فَهُوَ مَضْرُوبٌ فِي ثَلاَثِ سِنِينَ نَظَراً إلَى أنَّهُ بَدَلُ نَفْسٍ، وَقِيلَ: إنَّهُ فِي سِتِّ سِنِينَ نَظَراً إلَى القَدْرِ، وَعَلَى هَذَا يُضْرَبُ دِيَة اليَهُوديِّ وَالنَّصْرَانِيِّ فِي سَنَةِ، وَدِيَةُ المَجُوسيِّ فِي سَنَةٍ، وَغُرَّةُ الجَنِينِ أَيْضاً فِي سَنَةٍ؛ لِأنَّ السَّنَةُ لاَ تَتَجَزَّأُ، وَدِيَةَ المَرْأَةِ في سَنَتَيْنِ، وَلَوْ قَتَلَ وَاحِدٌ ثِلَاَثةً فَيُضْرَبُ ثَلاَثُمَائَةٍ مِنَ الإِبِلِ فِي تِسْعِ سِنِينَ عَلَى وَجْهِ نَظَراً إلَى القَتْلِ أَوْ إلَى أَنَّ الثَّلَالَةَ الأَنْفُسِ لاَ يَكُونُونَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَيُضْرَبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عَلَى الأَصَحِّ لِأَنَّ الآجَالِ لِلدُّيُونِ المُتَفَرِّقَةِ تَتَسَاوَقُ وَلاَ تَتَعَاقَبُ، وَإِنْ قَتَلَ ثَلَاثَةٌ وَاحِداً فَالدِّيَةِ الوَاحِدَةُ مَضْرُوبَةٌ عَلَى العَوَاقِلِ فِي ثَلاَثِ سنِينَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ ثلُثٌ نَظَراً إِلَى اتِّحَادِ المُسْتَحِقِّ، وَقِيلَ: فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَدِيَةُ يَدَي الشَّخْصِ كَنَفْسِهِ، ودِيَةُ إِحْدَى اليَدَيْنِ مِنَ الرَّجُلِ يُضْرِبُ فِي سَنَتَيْنِ لِعَدَمِ النَّفْسِ وَنُقْصَانِ القَدْرِ، وَلَوْ قَطَعَ يَدَيْ إِنْسَانٍ وَرِجْلَيهِ فَهُوَ كَقَتْلِ نَفْسَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لما تَكَلَّمَ في ترتيب العَاقِلَةِ، وفي القَدْرِ المَضرُوبِ على كُلِّ واحد منهم اشْتَغَلَ بِبَيَانِ الأَجَلِ المضروب فيه، فقال: أما الأَجَلُ، فهو في دِيَة كَامِلةٍ ثلاث سنين، وقد رُوِيَ ذلك عن عُمَرَ وعلي، وابْنِ عُمَرَ، وابن عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وقال الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في "المختصر": ولم أَعْلَمْ مُخَالِفاً أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى بالدِّيَةِ على العَاقِلَةِ في ثلاث سنين (¬1)، وتكلموا في وُرُودِ الخَبَرِ به، فمنهم من قال ¬
وَرَدَ، ونَسَبَهُ إلى رِوَايَةِ علي -كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ-، ومنهم من قال: أراد به أنه -صلى الله عليه وسلم- قَضَى بالدِّيَةِ على العَاقِلَةِ (¬1). وأما التَّنْجِيمُ فلم يَردْ وُرُودَ الخبر به، وأخذ ذلك من إِجْمَاعِ الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أو غيره. إذا عرف ذلك، فلا خِلاَفَ عن عَامَّةِ العلماء -أن ما يُضْرَبُ على العَاقِلَةِ يُضْرَبُ مُؤَجَّلاً، وأن الأَجَلَ لا يَنْقُص عن سَنَةٍ، وأن دِيَةَ النَّفْسِ الكاملة تُؤجَّلُ إلى ثلاث سنين، يُؤْخَذُ في كُلِّ سَنَةٍ ثلثها، واختلف الأصحاب في أن المَرْعِيَّ ماذا؟ وأن الحكم بم يُنَاطُ؟ فراعى طَائِفَةٌ كونها [بدل] (¬2) نفس محرمة (¬3)، وأداروا الحُكْمَ عليها. ونظر آخرون إلى قَدْرِ الواجب، واعتبروا التَّأْجِيلَ به، وهذا أَشْبَهُ بالترجيح على ما سَنُبَيِّنُ، وتظهر فائدة الخلاف في صُوَرٍ: منها: بَدَلُ العَبْدِ، وأطرافه إذا قتل، أو قطع (¬4) خطأ أو شبه عَمْدٍ، هل تَتحَملُهَا العَاقِلَةُ؟ فيه قولان: أحدهما: وبه قال مالك، وأحمد-: لا، بل هو على الجَانِي حَالاً؛ لأنه مَضْمُونٌ بالقِيمَةِ، فكان بَدَلُهُ كَبَدَلِ البَهِيمَةِ. وأيضاً، فقد روِيَ في الخَبَرِ لا تحمل العاقلة عَمْداً، ولا عبداً، ولا اعترافاً (¬5). وأظهرهما -وهو الجديد-: نعم؛ لأنه بَدَلُ آدَمِيِّ، فَأَشْبَهَ بَدَلَ الحُرِّ، ويوضحه أن ¬
العَبْدَ كالحُرِّ في تَعَلُّقِ القِصَاصِ والكَفَّارَةِ بِقَتْلِهِ، فكذلك في تَحَمّلِ العاقلة بَدَلَ نفسه دون أَطْرَافِهِ. وإذا قلنا: إن العَاقِلَةَ تَحْمِلُهُ، فلو اختلف السَّيِّدُ والعَاقِلَةُ فِي قِيمَتِهِ، فهم المُصَدَّقُونَ بِأَيْمَانِهِمْ، ولو صدقه الجاني لم يقبل إِقْرَارُهُ عليهم، بل الزِّيَادَةُ على ما يُعْتَرِف به العَاقِلَةُ في مَالِهِ، وعلى هذا القول إن كانت قِيمَةُ العَبْدِ قَدْرَ دِيَةِ الحُرِّ، فَتُضْرَبُ (¬1) في ثلاث سنين باتِّفَاقِ من رَاعَى بَدَلَ النفس، ومن نَظَرَ إلى القَدْرِ. وإن (¬2) كانت أكثر من قَدْرِ الدِّيَةِ؛ كما إذا كانت قَدْرَ دِيَتَيْنِ، فوجهان: أحدهما: الضَّرْبُ في ثلاث سنين؛ نَظَراً إلى أنها بَدَلُ نَفْسٍ. وأشبههما: بالرُّجْحَانِ: الضَّرْبُ في ست سنين، يُؤْخَذُ في كل سنة قَدْرُ ثلث الدية؛ نَظَراً إلى القَدْرِ. ومنها في دِيَةِ النَّفْسِ الناقصة كَدِيَةِ المَرْأَةِ، والذمي، وغُرَّةِ الجَنينِ، وجهان: أحدهما: أنها تُضرَبُ في ثَلاَثِ سنين؛ لأنها بَدَلُ النَّفْسِ، ويقال: إنه اختيار المَاسَرْجسيَّ. وأشبههما: أنه يُنْظَر إلى القَدْرِ، فتضرب دِيَةُ اليَهُوديِّ والنصراني في سَنةٍ؛ فإنها قدْرُ الثلث، وَدِيَة المَجُوسِيِّ، وغُرَّة الجنين كذلك، وإن كَانَتَا دون الثُّلُثِ؛ لأن السَّنَةَ لا تَتَبَعَّضُ، وكان المَعْنَى فيه أن الزُّرُوعَ والثمار وسائر الفَوَائِدِ تتَكَرَّرُ كُلَّ سَنَةٍ، فاعتبر مُضِيُّهَا ليجتمع عندهم ما يَنْتَظِرُونَهُ، ويُوَاسُون عن بَسْطٍ وتمكُّنٍ. ودية المرأة تُضْرَبُ في سنتين، يُؤْخَذُ من آخر السَّنَةِ الأولى ثلث دِيَةِ الرَّجُلِ، والباقي في آخر السَّنَةِ الثانية. ورُوِيَ ذلك عن عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-. وعن أبي حنيفة فيما روى القاضي الروياني أن غُرَّةَ الجَنِينِ تُضْرَبُ في سَنَةٍ، ودية المَرْأَةِ في ثلاث سنين. وعن أَحْمَدَ: أن دِيَةَ الذِّمِّيِّ تُضْرَبُ في ثلاث سنين، وكذا دِيَةُ المَرْأَةِ. ومنها: لو قَتَلَ اثنين أو ثلاثة خَطَأً، فيلزم عَاقِلَتَهُ دِيَاتُهُمْ، وكيف تُضْرَبُ عليهم؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه إذا قَتَلَ ثَلَاثَةً، ونَظَرْنَا إلى القَدْر ضَرَبْنَاهَا في تِسْعِ سنين، وإن نظرنا إلى بَدَلِ النَّفْسِ، فوجهان: أحدهما: تُضْرَبُ في ثلاث سنين والباقي في تسع؛ لأن بَدَلَ النفس الواحدة ¬
تُضرِبُ في ثلاث سنين فيزاد (¬1) كُلَّ نَفْسٍ ثلاث سنين. وأظهرهما: أنا إن نَظَرْنَا إلى بَدَلِ النَّفْسِ ضَرَبْنَاهَا في ثلاث سنين، وإن نَظَرْنَا إلى القَدْرِ فوجهان: أحدهما: في تسع. وأصحهما: في ثلاث؛ لأن الوَاجِبَ دِيَاتٌ مختلفة، ومستحقوها مُخْتَلِفُونَ، فلا يُؤَخَّرُ حَقِّ بعضهم باستحقاق غيره. وهذا كما أن الدُّيُونَ المختلفة إذا اتَّفَقَ انْقِضَاءُ آجَالِهَا يتساوون (¬2)، [ولا] (¬3) يلزم تَعَاقُبُهَا لاجتماعها، وحَاصِلُ الطريقين عند الاخْتِصَارِ وَجْهَانِ، كما ذكر في الكتاب. فإن ضَرَبْنَاهَا عليهم في ثَلاَثِ سنين، فعليهم لِوَلِيِّ كل قَتِيلٍ في آخر السنة ثُلُثُ دِيتَهِ، فيجتمع (¬4) عليهم دِيَةٌ كَامِلَةٌ. وإن ضَربْنَاهَا في تسع [سنين] (¬5)، فعليهم في آخر كل سَنَةٍ ثلث دية يُوزَّعُ على الأولياء، فيكون الحَاصِلُ لِوليِّ كل قَتِيلٍ في آخر كُلِّ سَنَةٍ تُسْعَ دِيَته. هذا إذا قتلهم مَعاً، فإن قتل الثَّلاَثَةَ في ثَلاَثَةِ أيام، وقلنا: بِضَرْب الدِّيَاتِ في ثلاث سنين، فَتُؤجَّلُ دِيَةُ كل واحد إلى ثلاث سنين، من يَوْم قتله، وإن قلنا بالضرب في تسع، فَدِيَةٌ كل واحد تكون مُنَجَّمَةً في تسع سنين من يوم قَتْلِهِ يأخذ الوَلِيُّ فِي آخِرِ كُلِّ سنة تُسْعَهَا. ومنها: لو قَتَلَ ثَلاَثَةٌ وَاحِداً خَطَأً، فالدِّيَةُ مُوَزَّعَة عليهم، وحِصَّةُ كل واحد، وهي ثُلُثُ الدِّيَةِ تُضْربُ على عَاقِلَتِهِ في ثلاث سنين، كجميع الدِّيَةِ عند الانْفِرَادِ، وذلك لأن الدِّيَةَ وَاحِدَةٌ، ومستحقها وَاحِدٌ. وفيه وجه أن الثُّلُثَ الذي يَخُصُّ كُلَّ واحد منهم يُضْرَبُ في سَنَةٍ؛ لأنهم أَشْخَاصٌ متعددون، وقدر الثلث يُؤْخَذُ من العاقلة في السَّنَةِ. ومنها: دِيَةُ الأَطرَافِ، وأُرُوشُ الجِرَاح، فيها وجه أنها تُضرَبُ في سَنَةٍ واحدة، قلَّت أو كَثُرَتْ؛ تَفْرِيعًا على أن المَرْعِيَّ في التأجيل ثَلَاثَ سنين كَوْنُ الوَاجِبِ بَدَلَ نَفْسٍ، وهذا ما حكاه الإِمَامُ عن رواية شيخه أبي مُحَمَّدٍ، قال: ولست أَعْتَدُّ به، وإن تكرر سَمَاعي [له] (¬6) منه، والصحيح: أنه يُنْظَرُ إن كان الوَاجِبُ قَدْرَ ثلث الدية، أو أقل، ¬
فتضرب في سنة، سواء فيه الحُكُومَاتُ والمُقدَّرَاتُ. وإن كان الوَاجِبُ أَكْثَرَ من الثلث، ولم يزد على الثلثين، كَقَطْعِ إحدى اليدين، فَتُضْرَبُ في سنتين، يُؤْخَذُ في آخر السنة الأُولَى ثُلُثُ الدية، وفي آخر السَّنَةِ الثانية الباقي. وإن كان أَكْبَرَ من الثلثين، ولم يزد على دِيَةِ النفس كما في قَطْعِ اليَدَيْنِ، فَيُضْرَبُ الوَاجِبُ في ثلاث سنين. أما إذا اعْتَبَرْنَا المِقْدَارَ، فلأن الواجب في قَطْعِ اليدين قَدْرُ الوَاجِب في النفس، أما إذا اعْتَبَرْنَا كَوْنَ الواجب بَدَلَ النَّفْسِ، فلأن الوَاجِبَ في اليَدَيْن، وإن لم يكن بَدَلَ النفس، لكنه كَبَدَلِ النَّفْسِ في القَدْرِ والجِنْسِ، فكذلك في المُدَّةِ. وإن زاد على دِيَةِ النَّفْسِ، كما إذا قطع يَدَيهِ ورِجْلَيهِ، فإن اعْتَبَزنَا المِقْدَارَ، ضَربْنَا الوَاجِبَ في ست سنين. وإن اعتبرنا حُرْمَةَ النَّفْسِ فوجهان: أظهرهما: أن الواجب كذلك؛ لأنه بَلَغَ الوَاجِبُ دِيَتَيْنِ، فإذا ضَرَبْنَا مِقْدَارَ دية (¬1) في ثلاث سنين، وجب أن تَضعُفَ المُدَّةُ في مقدارِ دِيَتَيْنِ. والثاني: لا تزاد المُدَّةُ على الثَّلاَثِ؛ لأن الأَطْرَافَ تَابِعَةٌ للنَّفْسِ، فلا تزاد مُدَّةُ بَدَلِهَا، وَبَدَلُ يَدَي المرأة كَبَدَلِ نَفْسِهَا، وبدل إحدى يديها يضرب في سنة واحدة بلا خلاف. وقوله في الكتاب: "وهي مَائَةٌ من الإِبِلِ" مسْتَغْنى عنه في هذا المَوْضِعِ؛ لوضوحه، وتَبَيُّنِهِ (¬2) بما مَرَّ. وقوله: "فلو وجب مَائتَانِ من الإِبِلِ" أي: قَدْرُ مائتين بالقيمة. وقوله: "وقلنا يحمل" إشَارَةٌ إلى الخِلاَفِ في أن بَدَلَ العَبْدِ، هل تحمله العَاقِلَةُ؟ وليعلم قوله: "تحمل" بالميم والألف لما بَيَّنَّاهُ. ونَظْمُ الكتاب يَقتَضِي تَرْجِيحَ الضَّرْبِ في ثلاث سنين، ويُحْكَى اختياره عن القاضي أبي حَامِدٍ. والأَشْبَهُ بما قتل في سائر اَلصور تَرْجِيحُ الوَجْهِ الآخر. وقوله: "وتضرب دِيَةُ اليَهُودِيِّ في سَنَةٍ" مُعْلَمٌ بالألف، ويجوز أن يُعْلَمَ بالحاء؛ بناء على أن عنده ديته كدية المسلم. وقوله: "وَدِيَةُ المرأة في سَنَتَيْنِ" بالحاء والألف. وقوله: "نظراً إلى القتل أو إلى أن الثلاثة الأنْفُسِ"؛ أشَارَ به إلى ما ذَكَرْنَا أنها مَضْرُوبَةٌ في تسع سنين، إن اعتبرنا القدر، وكذا إن لم نَعْتَبِرْهُ على وجه؛ لأن النُّفُوسَ لا ¬
تكون كَنَفْسٍ واحدة في المُدَّةِ، كما أنها ليست كَنَفْسٍ واحدة في البَدَلِ. وقوله: "كَنَفْسِهِ" مُعْلَمٌ بالواو، وكذا قوله: "في سَنَتَيْنِ". وقوله: "لعدم النَّفْسِ ونُقْصَانِ القَدْرِ" معناه ما مَرَّ أن التَّأْجِيلَ في ثلاث سنين يراعى (¬1) فيه العَدَدُ، أو كَوْنُ الواجب بَدَلَ النفس، ويستمر على المعْنَيَيْنِ بألاَّ يُؤَجَّلَ بَدَلُ اليد الواحدة ثلاث سنين. وقوله: "فهو كَقَتْلِ نَفْس" أي: في مَجِيءِ الوجهين في أنه يضرب في ثلاث سنين، أو في سِتٍّ. قال الإِمام: وهذه الصُّورَةُ تُشْبَهُ من وَجْهٍ قَتْلَ نَفْسَيْنِ لوجوب دِيَتَيْنِ، ومن وجه تُفَارقُهُ؛ لأن كل نفس مُمَيَّزةٌ عن غيرها، وبَدَلُ اليَدَيْنِ والرجلين، وإن بلغ قَدْرَ ديتين، فهو مُتَعَلَّقٌ بشخص واحد. قال الغَزَالِيُّ: وَمَنْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالنَّظَرُ إِلَى آخِرِ السَّنَةِ، وَالغَائِبُ هَلْ يَلْتَحِقُ بِالْمَعْدُومِ فِيهِ قَوْلاَنِ وَنعْنِي بِهِ غَيْبَةَ تَمْنَعُ التَّحْصِيلَ في سَنَةٍ، وَأَوَّلُ الحَوْلِ يُحْسَبُ مِنْ وَقْتِ الرَّفْعِ إلَى القَاضِي سَوَاءَ شَعَرَ بِهِ العَاقِلَةُ أَوْ لَمْ تَشْعُرْ، لاَ مِنْ وَقْتِ الجِنَايَةِ، وَلَوْ سَرَتْ الجِنَايَةُ بَعْدَ الدَّفْعِ فَحَوْلَ أَرِشْ السِّرَايَةَ مِنْ وَقْتِ السِّرَايَةَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه ثَلَاثُ مسائل: إحداها: إذا مات في أَثْنَاءِ السَّنَةِ بَعْضُ العَاقِلَةِ، لم يؤخذ من تَرِكَتِهِ شيء؛ اعتباراً بآخِرِ الحَوْلِ كالزَّكَاةِ، بخلف ما إذا مات الذِّمِّيُّ في خلال الحَوْلِ، هل يجب قِسْطُ ما مَضَى من الجِزْيَةِ؟ فيه خلاف. والفرق أن الجِزيَةَ كالأُجْرَةِ بدار الإِسْلاَمِ على ما سَنُبَيِّن في مَوْضِعِهِ إن شاء الله تعالى. وههنا مُبَاحَثَةٌ للإمام قال: لا يمكن أن يقال: حِصَّةُ الحَوْلِ من الدِّيَةِ لا تجب إلا من آخر الحَوْلِ؛ لأن مُوجِبَ الدِّيَةِ القَتْلُ، وأنه مُتَقَدِّمٌ، ولو كانت وَاجِبَةً على العاقلة، وكان ضَرْبُ الأَجَل للتخفيف، وجب ألا يسقط بالموت، وأن يَحِلَّ الأَجَلُ، كما في سائر الدُّيُونِ، فيشبه أن يقال: الدِّيَةُ وَاجِبَةٌ في الحال، ولكن لا يُضَافُ وُجُوبُهَا إلى العَاقِلَةِ على التَّعْيِينِ، بل ينظر [إلى] آخر الحَوْلِ، فإن كانوا بِصِفَةِ التَّحَمُّلِ تَبَّينَ أن الوجوب عليهم، وإلا تَبَيَّنَ تَعَلُّقُ الوجوب بِبَيْتِ المال، أو الجاني، إذا لم يكن في بيت المال قال، ولو مات بعض العَاقِلَةِ بعد تَمَامِ الحَوْلِ، مع كونه بصفة التَّحَمُّلِ لم يسقط ما وَجَبَ عليه، واستوفى من تَرِكَتِهِ، كما في سائر الدُّيُونِ. ¬
وقال أبو حَنِيْفَةَ: يسقط. المسألة الثانية: إن كانت العَاقِلَةُ حَاضِرِينَ في بَلَدِ الجِنَايَةِ، ضربت الدِّيَةُ عليهم على تَرْتِيبِهِمُ الذي سَبَقَ، وإن كانوا غَائِبِينَ لم يستحضروا، ولا انتظر حضورهم. لكن إن كان لهم هناك مَالٌ أُخِذَ منه، وإلا فالقَاضِي يَحْكُمُ عليهم بالدِّيَةِ على تَرْتِيبِهِمْ، ويكتب بذلك إلى قاضي بَلَدِهِمْ؛ لِيَأْخُذَهَا لأن شاء حَكَمَ بالقَتْلِ، وكتب إلى قاضي بَلَدِهِمْ ليحكم عليهم بالدِّيَةِ، ويأخذها منهم. وإن كان بعضهم حَاضِراً، وبعضهم غَائِباً، نُظِر إن كانوا مُسْتويين في الدَّرَجَةِ؛ فَهَلْ يُقَدَّمُ من حَضَر؟ فيه قولان: أحدهما -وبه قال مالك-: نعم؛ لاخْتِصَاصِهِمْ بقرب الدَّارِ، كما يقدم المُخْتَصُّونَ بقرب القَرَابَةِ. وأيضاً فالنُّصْرَةُ إنما تَتَأتَّى للحاضرين، والتحمل نوع نُصْرَةِ؛ وأيضاً ففي الضَّرْبِ على الغائبين مَشَقَّةٌ، وقد يَنْقَطِعُ الطريق، فَيَتأَخَّرُ التَّحْصِيلُ أو يَتَعَذَّرُ. وأصحهما، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد: لا، بل تُضْرَبُ على الكل لاسْتِوَائِهِمْ في العُصُوبَةِ والميراث، وعلى هذا فالحكم كما لو كانوا جَمِيعاً حاضرين أو غَائِبِينَ. وإذا قلنا بِتَقْدِيمِ الحاضرين، فإذا لم يكن منهم وَفَاءٌ:، فَلاَ بُدَّ من ضَرْبِ الباقي على الغائبين، والطريق كتاب القاضي كما سَبَقَ. وإذا اختلف بِلاَدُهُم قُدَّمَ الأَقْرَبُ داراَ فالأَقْرَبُ، هكذا أَوْرَدَ القولين أكثرهم. وفي "التتمة" نَصْبُ الخِلاَفِ في أنه هل يَجُوزُ تَخْصِيصُ الحاضرين؟ قال: والخلاف يَتَفَرَّعُ على أنه لو كَانَتِ العَاقِلَةُ كلهم حاضرين لا يَجْوزُ تَخصِيصُ بعضهم بالضَّرْبِ عليه، فإن جَوَّزْنَا، فيجوز تَخْصِيصُ الحَاضِرِينَ بلا خِلاَفٍ. وإن كانوا مختلفين في الدَّرَجَةِ، فإن كان الحاضرون الأَقْرَبِينَ وزّعَ عليهم، فإن لم يَفِ بالواجب كتب الباقي، وإن كان الحاضرون الأَقْرَبِينَ وزع عليهم، فإن لم يَفِ بالوَاجِبِ، كتب القاضي لما بقي، وإن كان الحاضرون الأَبْعَدِينَ، وفي تَخْصِيصِ الحَاضِرِينَ طريقان: أشبههما: طَرْدُ الخلاف؛ لأن الضَّرْبَ عليهم أَيْسَرُ، ووصول المستحق إلى حَقِّهِ أقْرَبُ، ويروى هذا عن أبي علي الطَّبَرِيَّ والصَّيْدَلاَنِيِّ، وهو الذي أوْرَدَهُ صاحب "المهذب".
والثاني -وبه قال الشيخ أبو حَامِدٍ والعراقيون-: القَطْعُ بالضَّرْب على الأقربين، وإن بعدت دَارُهُم؛ لأنهم أَقْوَى عُصُوبَةً، وَأَوْلَى بِالتَّحَمُّلِ والنُّصْرَةِ. وقوله في الكتاب: "والغائب هل يَلتَحِقُ بِالمعْدُومِ؟ فيه قولان": يقتضي طَرْدَ الخلاف فيما إذا اسْتَوَى الحَاضِرْونَ والغائبون في الدَّرَجَةِ، وفيما إذا كان الغائبون الأَقْرَبِينَ، وهو أَحَدُ الطريقين عند اختلاف الدَّرَجَةِ على ما حَكَيْنَاهُ، ثم ليس الخِلافُ في الالْتِحَاقِ بالعَدَمِ على الإِطْلاَقِ، بل في أن الحاضر (¬1) هل يَتَعيَّنُ الضَّرْبُ عليه أو لا؟ كما لو كان الغائب مَعدُوماً؛ لأنا وإن قَدَّمْنَا الحاضر، فإذا بَقِيَ شَيْءٌ من الواجب، نَأْخُذُهُ من الغائب، فلا يكون كالمَعْدُومِ من كُلِّ وَجْهٍ. وقوله: "ونعني به غيبة تمنع التَّحْصِيلَ في سَنَةٍ"، يعني بالمُكَاتَبَةِ إلى القاضي والنظم. هاهنا، وفي "الوسيط" يُشْعِرُ بتخصيص الخلاف بما إذا كانت المَسَافَةُ بحيث لا يمكن التَّحْصِيلُ منها في سَنَةٍ، حتى إذا كانت دون ذلك لا يقدم الحاضر بلا خلاف. وكَلاَمُ الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- والأصْحَاب لا يُسَاعد عليه؛ فإنهم فرضوا (¬2) فيما إذا كان القَاتِلُ بـ"مكة"، والعاقلة بـ"الشام"، وحكوا فيه الخلاف. الثالثة: ابتداء المُدَّةِ في دِيَةِ النفس من وقت الزُّهُوقِ، سواء قتل بِجَرَاحَةٍ مُذَفّفَةٍ، أو بِسَرَايَةٍ من قَطْعِ عُضْوٍ، أو جِرَاحَةٍ أخرى. وقال أبو حَنِيْفَةَ: يعتبر ابتِدَاءُ المُدَّةِ من وقت حُكْم الحاكم بالدية على العَاقِلَةِ، حتى لو مَضَتْ ثلاث سنين، ثم تَرَافَعُوا [يَفْتَتِحُ] (¬3) الحَاكِمُ ضَرْبَ المدة. واحتج الأَصْحَابُ بأن الدِّيَةَ مَالٌ يَحِلُّ بانقضاء الأَجَلِ، فيكون ابتداء الأَجَلِ وَقْتَ وجوبه كَسَائِرِ الديون المُؤَجَّلَةِ. هذا ما يُوجَدُ لأئمة الأصحاب على اختلاف طَبَقَاتِهمْ. وفي الكتاب أن ابْتِدَاءَ الحَوْلِ من وقت الرَّفْع إلى القاضي، وكذا ذكر في "الوسيط"، وعلّلَ بأن هذه مُدَّةٌ تُنَاط بالاجتهاد، وصاحب الكتَاب كالمُنْفَرِدِ بِنَقْلِ ما ذكره عن المذهب، حتى إن الإِمام سَاعَدَ الجُمْهُورَ على رِوَايَاتِهِمْ، أن المدة تُحْسَبُ من وقت المَوْتِ. نعم قال في "البيان" بعد ما حَكَى المَذْهَبَ الظَّاهِرَ، ونسبه للعراقيين (¬4)، وقال أصحابنا الخُرَاسَانيُّونَ: الابتداء من حين الرَّفْع إلى القاضي، ويمكن أن يعني به صاحب الكتاب (¬5). ¬
وقوله: "شعر به العَاقِلَةُ أو لم يشعر" قد يفهم أن المُرَادَ من الرفع مُجَرَّدُ انتهاء الحَالِ إلى القاضي، كما يفعله طَالِبُ الشُّفْعَةِ، والرَّادُ بالعَيْبِ. فأما الحكم عليهم بالدِّيَةِ، فلا يكون دون إحْضَارِهِمْ، وشعورهم، إلا أن يَفْرِضَ غَيْبَتَهُمْ. فأما الواجب في الجِنَايَةِ على ما دون النَّفْسِ، فإن لم تَسْرِ من عُضْوٍ إلى عُضْوٍ، وانْدَمَلَتْ، فابتداء المُدَّةِ من وقت الجِنَايَةِ؛ لأن الوُجُوبَ يَتَعلَّقُ بها، وبالانْدِمَالِ يَتَبيَّنُ اسْتِقْرَارُهَا. قال الإمامُ: ولا يعتبر انْدِمَالُ الجِرَاحَةِ، وإن كُنَّا قد نقول: لا مُطَالَبَةَ (¬1) بالدِّيَةِ قبل الانْدِمَالِ؛ لأن التَّوَقُّفَ في المُطَالَبَةِ؛ ليتبين مُنْتَهَى الجِرَاحَةِ (¬2)، وابْتِدَاءُ المدة ليس وَقْتَ طَلَبٍ، فلا (¬3) يقاس صَرْفُ المدة بالمُطَالَبَةِ، فإن انقضت سَنَةٌ، والجِرَاحَةُ لم تَنْدَمِلْ بَعْدُ، ففي مُطَالَبَةِ العَاقِلَةِ الخِلاَفُ في مُطَالَبَةِ الجاني، إذا كان عَامِداً. وفي "جَمْعِ الجوامع" للروياني أن أبا الفيَّاضِ ذَهَبَ إلى احْتِسَاب المدة من وَقْتِ الانْدِمَالِ. وإن سَرَتْ من عُضْوٍ إلى عُضْوٍ، كما إذا قَطَعَ أُصْبُعَهُ، فَسَرَتْ (¬4) إلى الكَفِّ، ففيه أوجه: أحدها: أن ابْتِدَاءَ المُدَّةِ من وقت سُقُوطِ الكفِّ، فإنه نِهَايَةُ الجِنَايَةِ، وقطع الأصبع مع السِّرَايَةِ كقَطْعِ الكفِّ. والثاني: أن الابتداء من وَقْتِ الانْدِمَالِ لا من وَقْتِ قَطْع الأصبع، ولا من وقت سُقُوطِ الكَفِّ؛ لأن الجِرَاحَةَ لم تَقِفْ على مَحَلِّهَا، بل سَرتْ، فتعتبرَ المدَّةُ من نِهَايَةِ أَثَرِهَا. والثالث: أن مُدَّةَ أُرْشِ الأصبع من يوم القَطْعِ، كما لو لم يَسْرِ، ومدة أَرْش الكفِّ من يوم سُقُوطِ الكَفِّ. والمذكور في "التهذيب" الأول، وفي تَعْلِيق الشيخ أبي حَامِدٍ، وكُتُب أصحابه الثاني، ويحكي الثَّالِثُ عن اختيار القَفَّالِ. ¬
وحُجَّة الإِمام والقاضي الرُّوَيانِيَّ (¬1)، وهو ما أَوْرَدَهُ في الكتاب بعد ما جَرَى على تَفَرُّدِهِ، فقال: "فلو سَرَتِ الجِرَاحَةُ بعد الرَّفْعِ تحول أَرْشُ السراية من وقت السِّرَايَةِ" والله أعلم. وفي الدِّيَاتِ وراء ما ذكرناه صُوَرٌ ومَسَائِلُ هذا مَوْضِعُ ذكرها: القَاتِلُ خَطَأً لا يحمل من الدِّيَةِ (¬2) شيئاً. وقال أبو حَنِيفَةَ: يكون كأحد العَاقِلَةِ. لنا: ما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قضى بالدِّيَةِ على عَاقِلَةِ الجَانِي، وذلك يقتضي كَونَ الجميع عليهم. من قتل نفْسَهُ عَمْداً أو خَطَأً، فهو مُهْدرٌ، وكذا لو قَطَعَ طَرَفَ نَفْسِهِ، وقال أحمد: تجب الدِّيَةُ في الخَطأِ على عَاقِلَتِهِ في النَّفْسِ لِورَثَتِهِ، وفي الطَّرَفِ له. لنا: أن الدِّيَةَ تجب لِلْمَقْتُولِ أو المقْطُوعِ، بدليل قَضَاءِ دُيُونِهِ، وتنفيذ وَصَايَاهُ منها. فلا تجب للإنسان بِجِنَايَتِهِ في حَقِّ نفسه شَيْءٌ، كما لو أَتْلَفَ مَالَهُ جناية الصَّبِيَّ والمَجْنُونِ محْمُولَة إذا كانت (¬3) خَطَأَ أو شِبْهَ عَمْدٍ، وكذا إذا كانت عَمْداً، إذا قلنا: إن عَمْدَهُمَا خَطَأٌ. وبه قال أبو حَنِيْفَةَ، والأَصَحُّ أنه عَمْدٌ. إذا حَلَّ نَجْمٌ من الدِّيَةِ، ولا إِبِلَ في البَلَدِ، قُوِّمَتْ يومئذ، وأُخِذَتْ قِيمَتُهَا، ولا يُعْتَبَرُ بَعْضُ النجوم ببعض. في فَتَاوَى صاحب "التهذيب" أنه لو حَفَرَ بِئْراً في مَحَلِّ عدوان، ثم أحكم رَأْسَهَا، ثم جاء آخر، وفَتَحَهُ، فوقع فيها إِنْسَانٌ وتَلفَ، فالضَّمَانُ على فاتح الرَّأْسِ. ولو أحكم رَأْسَهُ مُحْتَسِبٌ، ثم جاء ثالث، وفَتَحَهُ، فالضَّمَانُ يَتَعَلَّقُ بالثالث كما لو طَمَّهُ (¬4)، فجاء آخر وحَفَرَهَا ثَانِياً. وأنه لو تَرَدَّتْ بَهِيمَة في بِئْر عدوان، ولم تَتأَثَّرْ بالصَّدْمَةِ، وبقيت فيها أيَّاماً، فماتت جُوعاً وعَطَشاً، فلا ضَمَانَ على الحَافِرِ لحدوث سَبَبٍ آخر، كما لو جاء سَبُعٌ، فَافْتَرَسَهَا في البِئْرِ. ¬
وأنه إذا كان يَتَقَاتَلُ رجلان، فرمى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فسقط بِصَوْلَتِهِ، وهَلَكَ لم يَجِب له ضَمَانٌ. وإن سقط بِصَوْلَتِهِ وضَرَبَهُ صَاحِبُهُ، وَجَبَ نِصْفُ الضمان. وأنه لو شَدَّ عُنُقَ أحد بَعِيرَيْهِ بالآخر، وتَرَكَهُمَا في المَسْرَح، فدخل بَعِيرٌ لآخر بينهما، فَهَلَكَ من جَذْبَةِ الحَبْلِ أَحَدُ البعيرين، فلا ضَمَانَ، إلا أن يكون ذلك البَعِيرُ معروفاً بالعَضِّ والإِفْسَادِ. وإن من نصفه حُرٌّ، ونصفه رَقِيقٌ إذا قَتَلَ خَطأً يجب نِصْفُ الدية على عَاقِلَتِهِ. قال الغَزَالِيُّ: وَلَوْ جَنَى العَبْدُ فَأَرْشُهُ يَتَعَلَّقُ بِرقْبَتِهِ، وَهَلْ يتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ حَتَّى يُطَالَبَ بِهِ بَعْدَ العِتْقِ فِيهِ قَوْلاَنِ، فَإنْ تَعلَّقَ فَهَلْ يَصِحُّ ضَمَانُهُ فِيهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ اخْتَارَ السَّيِّدُ الفِدَاءَ فَلَهُ ذَلِكَ وَلاَ يَلْزَمُهُ إلاَّ أَقَلُّ الأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ العَبْدِ أَوْ أَرْشُ الجِنَايَةِ في أَصَحِّ القَوْلَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: اختَرْتُ الفِدَاءَ لَمْ يَلزَمْهُ مَا لَمْ يُسْلِمْ في أَقْيَسِ الوَجْهَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لما كان هذا القسم مَسُوقاً لِبَيَانِ من عَلَيهِ الدِّيَةُ، وقد بَانَ فيه أن المَالَ الوَاجِبَ بِجِنَايَةِ الحُرِّ يجب عليه إن كانت الجِنَايَةُ عَمْداً، وعلى عاقلته إن كانت خَطَأً أو شِبْهَ عَمْدٍ حَسُنَ تعْقِيبُهُ بِبَيَانِ أن المَالَ الواجب بِجِنَايَةِ الرقيق بمن يَتَعلَّقُ فَنَخْتِمُ القِسْمَ بفصلين: أحدهما: في جِنَايَةِ القِنِّ. والثاني: في جناية المُسْتوْلَدَةِ. أما الفصل الأول، فهذا جَنَى العَبْدُ جِنَايَةً تُوجِبُ المَالَ، أو توجب القِصَاصَ، ورجع الأمر بالعِتْقِ إلى المال تَعلَّقَ المَالُ الواجب بِرَقَبَتِهِ، حتى تؤدي منها (¬1)؛ وذلك لأنه لا يُمْكِنُ إِلْزَامُ جِنَايَتِهِ السَّيِّدِ؛ لأنه إِضْرَارٌ به، والجاني العَبْدُ لا السَّيِّدُ، ولا يمكن أن يقال: إنه يكون في ذِمَّتِهِ إلى أن يعتق ويُوسِرَ؛ فإنه تَفْوِيتٌ للضمان، أو تَأْخِيرٌ لا إلى غَايَةٍ مَعْلُومَةِ، وفيه ضَرَرٌ ظاهر، ويخالف ما إذا عَامَلَهُ إنسان بِإِقْرَاضٍ وغيره، فإنه رِضَى يكون الحَقَّ في ذِمَّتِهِ، فجعل التَّعَلُّق بالرَّقَبَةِ طَرِيقاً وَسَطاً في رعاية (¬2) الجانبين ويروى عن ابن عَبَّاس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أنه قال: "إن العَبْدَ لا يغرم سيده فوق نَفْسِهِ شيئاً" (¬3). ¬
وهل يَتَعلَّقُ مع ذلك بِذمَّتِهِ؟ فيه قولان: أحدهما: نعم، كالمال الوَاجِبِ في جِنَايَةِ الحر، وللعبد ذِمَّةٌ، بدليل أنه لو اسْتَقْرَضَ مَالاً، وأَتْلَفَهُ يثبت البَدَلُ في ذِمَّتِهِ. وعلى هذا فالرَّقَبَةُ مَرْهُونَةٌ بالحَقِّ الثابت في الذِّمَّةِ. وأصحهما: ويُنْسَبُ إلى الجديد المَنْعُ؛ لأنه لو تَعَلَّقَ بالذِّمَّةِ كما تَعَلَّقَ بالرقبة كديون المُعَامَلاَتِ التي تَثْبُتُ في ذِمَّتِهِ. وقد يقال في المسألة وجهان بَدَلاً عن القولين. وسَبَبُ التَّرَدُّدِ على ما أَشَارَ إليه الإمَامُ أنهما ليسا مَنْصُوصَيْنِ، لكنهما مُسْتَنْبَطَانِ من أصول وقَوَاعِدَ للشافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فعبر مُعبِّرُونَ عنهما بقولين، وآخرون بوجهين. وإذا حكمنا بالتَّعَلُّق بالذِّمَّةِ، فهذا بقي شَيْءٌ بعد صَرْفِ ثَمَنِهِ إلى الأَرْشِ اتبع به بعد العِتْقِ، وكذا لو ضاع (¬1) الثَّمَنُ قبل أن يصرف إلى المجني عليه يطالب بالكُلِّ، وهل يَجُوزُ أن يَضْمَنَهُ أَجْنَبِيٌّ؟ قال الإِمام: فيه تَرَدُّدٌ عندي، مَأْخُوذٌ من كلام الأئمة. أحد الوجهين (¬2) أنه لا يَصِحُّ ضَمَانُهُ؛ لأنا وإن أَطلَقْنَا ثُبُوتَهُ، فهو على تقدير التَّوَقُّعِ، ولا اسْتِقْرَارَ له في الحال. وأظهرهما: الصِّحَّةُ، كما يصح الضَّمَانُ عن الميت المُعْسِرِ وبل أولى (¬3)؛ لأن للعبد رَجَاءَ العِتْقِ واليَسَارِ، وآمَالُ الميت مُنْقَطِعَةٌ، فضمان ما يلزم ذِمَّتَهُ من ديون المُعَامَلاَتِ أَوْلَى بالصِّحَّةِ، ولا خِلاَفَ في أنه يَصِحُّ ضمان ما يتعلَّق بِكَسْبِهِ كالمَهْرِ في النِّكَاحِ الصحيح. ولو قال السيد: ضَمنْتُهُ، فقد رَتبهُ الإِمام على الخِلاَفِ فيما إذا ضَمِنَ الأَجْنَبِيُّ، وجعله أَوْلَى بالصحة؛ لتعلقه بِملْكِهِ. إذا تَقَرَّرَ ذلك، فالعَبْدُ الذي تَعَلَّقَ المال بِرَقَبَتِهِ لا يَصِيرُ مِلْكاً للمجني عليه، ولكن السَّيِّدَ بالخِيَارِ بين أن يَبِيعَهُ بنفسه، أو يسلمه للبيع، وبين أن يَسْتَبْقِيَهُ، ويَفْدِيَهُ، ويكون المَالُ المَنْدُولُ منه فِدَاءً، كالثمن الذي يَبذُلُهُ غيره. وإذا سَلَّمَهُ للبيع، فإن كان الأَرْشُ يَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ بِيعَ جَمِيعُهُ، وإلا فَيُبَاعُ بِقَدْرِ الحاجة إلا أن يَأْذَن السيد في بَيْعِ الجميع، فيؤدي الأَرْشَ، ويكون الباقي له، وكذا ¬
يكون الحُكْمُ لو لم يوجد من يَرْغَبُ في شراء (¬1) البَعْضِ، وأراد السيد أن يَفْدِيَهُ بأقل الأَمْرَيْنِ من قيمته، وأَرْشِ الجِنَايَةِ؛ لأنه إن كانت قِيمَتُهُ أَقَلَّ، فليس على السَّيِّدِ إلا تسليم رَقَبَتِهِ، فإذا لم يسلم لم تَتَوجَّهِ المُطَالَبَةُ إلا بالقِيمَةِ، وإن كان الأرْشُ أَقَلَّ، فليس للمجني عليه إلا ذلك. والقديم ويُرْوَى عن أبي حَنِيْفَةَ أنه يَفْدِيهِ بالأرْشِ بَالغاً ما بَلَغَ؛ لأنه لو سلم العَبْد، وعرض على البيع ربما اشترى بأكثر من قيمته، وربما بُنِيَ القَوْلاَنِ على الخِلاَفِ في أن الأَرْش هل يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ. إن قلنا: لا، فالتعلق مُنْحَصِرٌ في الرَّقَبَةِ، فلا يلزم بمنعها إلا بَدَلَهَا. وإن قلنا: نَعَم، فجميع الأَرْشِ وَاجِبٌ، والرقبة مَرْهُونَةْ به، وإنما يَنْفَكُّ الرَّهْنُ إذا قضى جميع الدين. ولم يَرْتَضِ الإِمَامُ هذا البِنَاءَ؛ لأنه رَأَى الأَظْهَرَ تَعَلُّقَهُ بالذِّمَّةِ. والأَصَحُّ باتفاق الأصْحَابِ أنه إنما يلْزَمُ الفِدَاءُ بالأقل، فلا ينتظم البِنَاءُ. لكن الأصح عند أكثرهم أنه لا يَتَعَلَّقُ بالذِّمَّةِ، وينتظم البِنَاءُ، ثم في "التهذيب" أن النص أنه تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يوم الجِنَايَةِ، وأن القَفَّالَ قال: وجب أن يعتبر قيمته يوم الفِدَاءِ (¬2)؛ لأن ما نَقَصَ قبل ذلك لا يُؤْخَذُ به السَّيِّدُ، ألا تَرَى أنه لو مات قبل احْتِمَالِ الفِدَاءِ لم يَلْزَم السَّيِّدَ شَيْءٌ، وحمل النَّصّ على ما إذا سَبَقَ من السيد المَنْعُ من بيعه (¬3) حَالَةَ الجِنَايَةِ، ثم انتقصت القيمة. ولو جنى العَبْدُ، فَفَدَاهُ السيد، ثم جَنَى مَرَّةً أخرى، فأما أن يسلمه ليباع أو يَفْدِيَهُ مَرَّةً أخرى، وإن كانت الجِنَايَةُ الثانية قبل الفِدَاءِ، فإن سَلَّمَهُ للبيع بيعَ، وَوُزَّع الثَّمَنُ على أرْشِ الجِنَايَتَيْنِ (¬4)، وإن اختار الفِدَاءَ فداه على الجديد (¬5) بالَأقَلِّ من القيمة ومن الأَرْشَيْنِ، وفي القديم (¬6) با لأرْشَيْنِ. ¬
وكذلك الحكم لو كان قد سَلَّمَهُ لِلْبَيْع، فجنى جِنَايَةً أخرى قبل أن يُبَاعَ، ولو قَتَلَ العَبْدَ الجَانِي أو أَعْتَقَهُ أو باعه، وقلنا بِنُفُوذِهِمَا، أو اسْتَوْلَدَ الجَارِيَةَ الجَانِيَةَ، فعليه الفِدَاءُ، وما الذي يلزمه؟ فيه (¬1) طريقان: أحدهما: طرد القولين. وأصحهما: أنه لا يَلْزَمُهُ إلا الأَقَلُّ؛ لِتَعَذُّرِ البَيْعِ وبُطْلاَنِ تَوَقُّعِ الزِّيَادَةِ. ولو مات العَبْدُ الجَانِي، أو هَرَبَ قبل من يطالب السيد بتسليمه، فلا شَيْءَ على السَّيِّدِ، وكذا لو طُولِبَ، ولم يمنعه وإن طُولِبَ فَمَنَعَهُ، صار مُخْتَاراً لِلْفِدَاءِ. قال في "التهذيب": ولو قتل العَبْد، فللسيد أن يَقْتَصَّ، وعليه الفِدَاءُ للمجني عليه، ويجوز أن ينظر في وُجُوب الفِدَاءِ عليه إلى أن مُوجِبَ العَمْدِ القِصَاصُ، وأَحَدُ الأَمْرَيْنِ، وإن كان القَتْلُ موجباً للمال تَعَلَّقَ حَقُّ المجني عليه بِقِيمَتِهِ، وإذا أخذت تَخَيَّرَ السَّيِّدُ في تَسْلِيمِ فيها، وتسليم بَدَلِهَا من سائر أمواله تَخَيُّرَهُ في رَقَبَةِ العَبْدِ، وإذا لزم الفِدَاءُ بعد موت العبد أو قبله، ففيما يَفْدِيهِ؟ الطريقان المذكوران فيما إذا قتل العبد، أو أعتقه لحصول اليَأْسِ عن بيعه بما يزيد (¬2) على قِيمَتِهِ. ولو قال السَّيَّدُ: اخترت الفِدَاءَ، فهل يَلْزَمُهُ الفِدَاءُ، أم يجوز له الرُّجُوعُ، ويسلم العبد، لِيُبَاعَ؟ فيه وجهان: ظاهر المذهب، وهو المذكور في "التهذيب" أنه لا يلزمه الفِدَاءُ (¬3)، ويبقى الخِيَارُ، وأَجْرَى الإمَامُ الخِلاَفَ (¬4) فيما إذا قال: أنا أَفْدِيهِ، وهو أَبْعَدُ لاحتماله الوَعْدَ، ومَوْضِعَ الخلاف ماَ إذا كان العَبْدُ بَاقِياً، أما إذا مات فلا رُجُوعَ له بِحَالٍ. قال الغَزَالِيُّ: وإنْ جَنَتِ المُسْتَوْلَدَةُ فَعَلَىَ السَّيِّدِ أَقَلُّ الأمْرَيْنِ لِأَنَّهُ مَانِعُ بِالاسْتِيلاَدِ، فَلَوْ جَنَتْ مِرَاراً وَلَمْ يَتَخَلَّلْ فِدَاءٌ فَهِيَ كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ فَتُجْمَعُ وَيَلْزَمُهُ أَقَلُّ الأَمْرَيْنِ، وَلَوْ تَخَلَّلَ فِدَاءٌ لَزِمَهُ فِدَاءٌ جَدِيدٌ فِي أَحَدِ القَوْلَيْنِ، وَفِي القَوْلِ الثَّانِي يُسْتَردُّ الأَوَّلُ وَيُوزَّعُ عَلَيْهِمَا، وَوَطْءُ الجَارِيةِ الجَانِيَةِ لَيْسَ اخْتِيَاراً لِلْفِدَاءِ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفصل الثاني: إذا جَنَتِ المُسْتَوْلَدَة على نَفْس، أو مال، وَجَبَ على السيد فِدَاؤُهَا؛ لأنه بالاسْتِيلاَدِ مَانِعٌ من بَيْعِهَا مع بَقَاءِ الرِّقِّ فيها، فأَشْبَهَ ما إذا جَنَى القِنُّ، فلم يسلمه لِلْبَيْعِ. وقال الإِمام: السَّيِّدُ بالاستيلاد مُسْتَمْتعٌ بحَقِّهِ مُتَصَرِّفٌ في مِلْكِهِ، فجعله ملتزماً لِلْفِدَاءِ بِجِنَايَةٍ تحدث من بعد فيه غُمُوضٌ، ولكنهَ مُتَّفقٌ عليه من الأَصْحَابِ، وبم يَفْدِيهَا؟ فيه طريقان: أحدهما: طَرْدُ القولين المذكورين في القِنِّ. وأصحهما: القَطْعُ بأنه يَفْدِيهَا بالأقل من قِيمَتِهَا، وأَرْشِ (¬1) الجِنَايَةِ، والفَرْقُ أن القِنَّ قَابِلٌ للبيع، وقد يُوجَدُ رَاغِبٌ بالزِّيَادَةِ، والمُسْتَوْلَدَةُ غير قَابِلَةٍ للبيع. وفي القيمة المُعْتَبرةِ وَجْهَانِ عن الشيخ أبي عَلِيٍّ أن الاعْتِبَارَ بقيمة يَوْمِ الاسْتِيلاَدِ؛ لأن السيد بالاسْتِيلاَدِ صار مَانِعاً، وأظهرهما، وهو الذي أورده (¬2) الشيخ أبو مُحَمَّدٍ: أن الاعْتِبَارَ بقيمة يوم الإِتْلَافِ، ولا نَظَرَ إلى ما قَبْلَهُ، ولا نقول: إنه مَانِعٌ يوم الاسْتِيلاَدِ، ولكنه بالاستيلاد يصير مَانِعاً من البَيْعِ وقت الحَاجَةِ إليه، وهو يوم الإِتْلاَفِ. وإذا جنت (¬3) المُسْتَوْلَدَة جِنَايَتَيْنِ فَصَاعداً، فإن أَثْبَتْنَا القَوْلَ القديم، وقلنا: إن المُسْتَوْلَدَةَ تُفْدَى بأرْشِ الجِنَايَةِ، فعلى السيد أن يَفْدِيَهَا بأُرُوشِ الجِنَايَاتِ بَالِغَةً ما بَلَغَتْ. وإن فرَّعْنَا على الصحيح، وقلنا: إن الوَاجِبَ أَقَلُّ الأَمْرَيْنِ، فإن كان أَرْشُ الجناية ¬
الأولى دون القيمة، وفَدَاهَا به، وكان الباقي من القيمة يَفِي بأرْشِ الجِنَايَةِ. الثانية، فَيَفْدِيَها للجناية الثانية بِأرْشِهَا أيضاً، وإن كان أَرْشُ الجِنَايَةِ الأُولَى مِثْل القيمة، أو أكثرَ منها، أو دونها، إلا أن البَاقِي من القِيمَةِ لا يَفِي بأَرْشِ الجِنَايَةِ الثانية، فينظر أَوَقَعَتِ الجناية الثَّانِيَةُ قبل أن يَفْدِيَهَا السيد عن الأولى (¬1) أو بَعْدَ أن يَفْدِيَهَا، فهما حالتان: إحداهما: إذا وقعت قبل الفِدَاءِ، ففيما يَلْزَمُ السَّيد؟ قولان: أحدهما: أن عليه أن يَفْدِيَهَا لكل جِنَايَةٍ بالأَقَلِّ من قيمتها، وأَرْشِ تلك الجِنَايَةِ؛ لأن الاسْتِيلَادَ السابق كالمَنْعِ من البَيْعِ بعد الجِنَايَةِ، فإذا وجد الاسْتِيلَادُ، وحَصَلَتِ الجِنَايَاتُ كان الاستِيلاَدُ كَمَنْعٍ مُجَدّدٍ عَقِيبَ كُلِّ جناية. ولو جَنَى القِنُّ، فصنع السيد من بَيْعِهِ، واختار الفِدَاءَ، ثم جَنَى، ففعل السيد مثل ذلك، يَلْزَمُهُ لكل جِنَايَةٍ الأقَلُّ من أَرْشِهَا، ومن قيمته، فكذلك هاهنا. وأصحهما -وهو المذكور في الكتاب-: أن جميعها كَجِنَايةٍ وَاحِدَةٍ، وليس عليه إلا أَقَلُّ الأَمْرَيْنِ من أرشها، ومن قيمة المُسْتَوْلَدَةِ، والأقل القيمة في التصوير الذي نحن فيه، وذلك لأن الاسْتِيلاَدَ فعل واحد، فيجعل (¬2) مَنْعاً واحداً، إلاَّ أن الاسْتِيلاَدَ وإن تَقَدَّمَ على الجِنَايَةِ كالمنع، والتفويت المتأخرين عن الجِنَايَةِ، فليكن بِمَثَابَةِ ما لو جَنَى القِنُّ جِنَايَاتٍ، ثم قتله السيد، أو أعتقه لا يلزمه إلا فِدَاءٌ واحدٌ. والحالة الثانية: [إذا وقعت الجناية الثانية] (¬3) بعد ما فَدَاهَا السيد عن الجنَايَةِ الأولى، فهذه الحالة تَتَرَتَّبُ على الأولى، إن قلنا: يَجِبُ هناك لكل جِنَايَةِ الأَقَلُّ من ارْشِهَا، ومن قيمة المُسْتَوْلَدَةِ، فهاهنا أَوْلَى؛ لأن المَجْنِي عليه الأول قد قبض، ومَلَكَ المَقْبُوضَ، ونَقْضُ مِلْكِهِ بجناية تَصْدُرُ من ممْلُوك غيره بَعِيدٌ، وبتقدير (¬4) إلاَّ يوجب لكل جِنَايَةٍ فِدَاءٌ يحتاج إلى النَّقْضِ، والاسترداد على ما سَنُبَيِّنُهُ، وإن جعلنا الجِنَايَاتِ كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ هناك، ولم نوجب الفِدَاءَ إلا مَرَّةً واحدة، فهاهنا قولان: أحدهما -وهو اختيار المُزَنِيِّ والربيع-: أن كُلَّ جِنَايَةٍ تفرد بِفَدَاءٍ، وعليه أن يَفْدِيَ للجناية الثانية بالأَقَلِّ من أرشها، ومن قيمة المُسْتَوْلَدَةِ على نحو فِدَائِهِ للأولى، كما لو جنى (¬5) القِنُّ، وفَدَاهُ، ثم جنى ثانياً يَفْدِيهِ بِفِدَاءٍ ثَانٍ إذا لم يسلمه لِلْبَيْعِ (¬6)، وفي "أمالي" ¬
أبي الفرج السَّرَخْسِيِّ أن هذا مَذْهَبُ مالك (¬1). والقول الثاني: أنه لا يَجِبُ هاهنا أيضاً إلا الأقل من القيمة، وموجب الجنايتين ولا يَتَكَرَّرُ الفِدَاءُ؛ لأنه إنما أَوْجَبنَا الفِدَاءَ؛ تَنْزِيلاً للاسْتِيلاَدِ مَنزِلَةَ الإِتلاَفِ، والمنع من البيع وإتلاف الشيء لا يُوجِبُ إلا قِيمَةً وَاحِدَةً. وبهذا قال أبو حَنيفَةَ، ورجح صاحب "التهذيب" القول الأَوَّلَ، وهو وجوب الفِدَاءِ للجناية الثانية، لكنَّ مَيْلَ الأكثرين إلى تَرْجِيحِ الثاني، وقد أَفْصَحَ به الشيخ أبو إِسْحَاقَ الشيرازي والقاضي الروياني وغيرهم. وإذا قلنا به، فَيُشَارِكُ المجْنِي عليه ثَانياً المَجْنِي عليه الأَوَّل فيما أَخَذَهُ، ويقسم حمله الوَاجِبِ بينهما (¬2) على ما يَقْتَضِيهِ الحَالُ. مثاله: قيمة المُسْتَوْلَدَةِ أَلْفٌ، وأَرْشُ كل جِنَايَةٍ أَلْفٌ، وأخذ المجني عليه الأول القِيمَةَ، يرجع الثاني عليه بخمسمائة، ولو كانت القيمة كذلك، وأَرْشُ الجناية الأُولى أَلْفٌ، وأرْشُ الثانية خمسمائة، فيرجع المَجْنِي عليه ثانياً على الأولى بِثُلُثِ الألف، ولو كانت القيمة كذلك، وأَرْش الثانية أَلْفٌ، وأرش الأولى خمسمائة، وهو الذي أخَذَهُ الأول، فَيَأْخُذُ الثاني من السَّيَّدِ بَقِيَّةَ القيمة خمسمائة، ويرجع على الأول بثلث ما أخذ؛ لتصير القِيمَةُ بينهما أَثْلاَثاً، وقد يعكس تَرْتِيب الحالتين، فيقال: إن تَخَلَّلَ الفِدَاءُ، فهل يَتَجَدَّدُ؟ فيه قولان، وإن لم يَتَخَلَّلْ، فقولان مُرَتَّبَانِ، وأوْلَى بألاَّ يَتَعَدَّدَ، والمقصود لا يَخْتَلِفُ. ويجوز ألا نفصل ونطلق في المسألة ثَلاَثَةَ أقوال: ثالثها: يفرق بين أن يَتَخَلَّلَ الفِدَاءُ، فيلزمه فِدَاءٌ آخر، أو لا يَتَخَلَّلُ، فيكفي فِدَاءٌ وَاحِدٌ. وفي شرح الجُوَيْنِيَّ للموفق بن طَاهِرِ حِكَايَةُ طريقين في موضع الخلاف عند تَخَلُّلِ الفِدَاءِ. فعن بعضهم أن الخِلاَفَ فيما إذا دفع الفداء بنفسه إلى المجني عليه الأول. أما إذا دفع بِقَضَاءِ القاضي، فيقطع بأنه لا يَلزَمُهُ شَيْءٌ آخر. وعن ابن أبي هُرَيْرَةَ أنه لا فَرْقَ، ويجري الخِلاَفُ المذكور في الجِنَايَةِ الثالثة والرابعة، لا إلى نهاية. ومهما زَادَتِ الجِنَايَةُ زاد الاستِرْدَادُ، وشُبِّهَ ذلك بما إذا قُسَّمَتْ تَرِكَةُ إنسان على غُرَمَائِهِ وَوَرَثَتِهِ، وكان قد حَفَرَ بئر عدوان، فهلك بَهِيمَةٌ أو إِنْسَانٌ بها، يزاحم المَجْنِي عليه الغُرَمَاءَ والوَرَثَةَ، ويستردُّ منهم حِصَّتَهُ، فلو هلك آخر زاد الاسْتِرْدَادُ. ¬
فروع
" فرُوع" أحدها: قد ذكر في الكتاب وَطْءَ الجارية الجانية، هل هو اخْتِيَارٌ للفداء؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما أن وَطْءَ البائع في زَمَانِ الخِيَارِ (¬1) فَسُخٌ للبيع، ووطء المشتري إجازه. وأصحهما: المَنعُ؛ لأن الوَطْءَ لا دِلاَلَةَ له على الاخْتِيَارِ بخلاف اللَّفْظِ، وبتقدير (¬2) أن يَدُلُّ عليه، فقد ذَكَرْنَا أن الاخْتِيَارَ لا يَلْزَمُ، ويخالف الوَطْءُ في زَمَانِ الخِيَارِ؛ لأن الخيار في البَيْع إنما يَثْبُتُ بالشرط، أو بالعَقْدِ المتعلق بالاختيار، فإذا ثَبَتَ بفعله، جاز أن يسقط بفعلَه، [والخيار للسيد يَثْبتُ ابتداءً من جِهَةِ الشرع لا بفعله، فلا يَسْقُطُ بفعله] (¬3). والثاني: قال في "التهذيب": إذا جَنَتْ جَارِيةُ لها وَلَدٌ، لم يتعلق الأرْشُ برَقَبَةِ الوَلَدِ، وإن وَلَدَتْ بعد الجناية، فكذلك سواء كان الحَمْلُ حَاصِلاً يوم الجِنَايَةِ، أَو لم يكن، ثم إذا لم نُجَوِّزِ التفريق فَيُبَاعُ الوَلَدُ معها، ويصرف ما يُقَابلُ الأُمَّ إلى أَرْشِ الجناية، وما يُقَابِلُ الوَلَدَ للسيد. وإن جَنَت وهي حَامِلٌ، أو حبلت بعد الجِنَايَةِ، هل تُبَاعُ حاملاً؟ إن قلنا: إن الحَمْلَ لا يعرف، فَتُباَعُ، كما لو زادت زِيَادَةً مُتَّصِلَةً. وإن قلنا: يعرف، فلا تُبَاعُ حتى تَضَعَ؛ لأنه لا يمكن إِجْبَارُ السيد على بَيْعِهَا مع العمل، ولا يجوز (¬4) اسْنِثْنَاءُ (¬5) الحمْلِ، فإذا وضعت ببيعها. الثالث: إذا لم يَفِدْ السَّيِّدُ الجَانِيَ، ولا سَلَّمَهُ للبيع، باعه الحَاكِمُ، وصرف الثَّمَنَ إلى المجني عليه، وإن أَرَادَ بَيْعَهُ منه، جاز إن كان الأرْشُ نَقْداً، وإن كان الوَاجِبُ الإِبِلِ، قال في "التتمة": ينبني (¬6) على أن الصُّلْحَ عن إبل الدية هل يجوز؟ القِسْمُ الرَّابعُ مِنَ الكِتَابِ فِي غُرَّةِ الجَنِينِ قال الغَزَالِيُّ: وَالنَّظَرُ فِي أَطْرَافٍ الطَّرَفُ الأَوَّلُ فِي المُوجِبِ وَهِيَ جِنَايَةُ تُوجِبُ انْفِصَالَ الجَنِينِ مَيِّتاً، فَإِنْ لَمْ يَنْفَصِل وَمَاتَتِ الأمُّ فَلاَ شَيْءٍ، وَإِنْ انْفَصَلَ بَعْدَ مَوْتِ الأُمِّ ¬
وَجَبَ (ح م)، وَإِنْ انْفَصَلَ حَيّاً وَلَوْ عَلَى حَرَكَةِ المَذْبُوحِينَ ثُمَّ مَاتَ فَدِيَةٌ كَامِلَة وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِمَا دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَتِلْكَ الحَيَاةُ لاَ تَدُومُ، بَلْ لَوْ لَمْ تَكُنْ جِنَايَةٌ فَقُتِلَ مِثْلُ هَذَا الجَنِينَ وَجَبَ القِصَاصُ كَقَتْلِ مَرِيضٍ مُشْرِفٍ عَلَى المَوْتِ، وَلَوْ خَرَجَ رَأْسُ الجَنِينِ وَمَاتَتِ الأُمُّ وَجَبَتِ الغُرَّةُ لِتَيَقُّنِ الجَنِينَ، وَقِيلَ: لاَ يَجِبُ لِعَدَمِ الانْفِصَالِ، وَكَذَا الوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ قُدَّتْ بِنِصْفَينَ فَانْكَشَفَ الجَنِينُ فِي بَطْنِهَا، وَكَذَا الوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ خَرَجَ رَأسُ الجَنِينِ فَصَاحَ فحُرَّتْ رَقَبَتُهُ، فَمَنْ لاَ لاَ يَعْتَدُّ بِهَذَا الانْفِصَالِ لاَ يُوجِبُ القِصَاصَ وَلاَ كَمَالَ الدِّيَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصود (¬1) القسم الكَلاَمُ في دِيَةِ الجَنِينَ، والأصل فيها مَا رُوِيَ عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن امْرَأَتَيْنِ مِنْ "هُذَيْلٍ" رَمَتْ إحداهما الأخرى، فَطَرَحَتْ جنينها، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِغُرَّةِ عَبْدٍ أو وَلِيدَةٍ، ويروى: "فَضَرَبَتْ إحداهما الأخرى بِحَجَرٍ فقتلتها وما في جوفها، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجنين بِغُرَّةِ عَبْدٍ أو أَمَةٍ، ويروى: "فقضى بِدِيَةِ جَنِينِهَا غُرَّةَ عَبْدٍ أو أَمَةٍ" (¬2)، فقال بعضهم: كيف يَدِي من لا شرب ولا أكل ولا صاح، ولا استهل، ومثل ذلك يُطَلُّ -ويروى: بَطُلَ بدل يُطَلّ-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ"، ويروى: "أَسَجْعَاً كَسَجْعِ الْجَاهِلِيَّةِ؟ " يقال: غُرَّةُ عَبْدٍ أو أَمَةٍ على الإِضَافَةِ، ويروى: (¬3) "غرةٌ عَبْدٌ أو أَمةٌ" على البَدَلِ، والغرَّةُ: الخيار. ويقال: طُلَّ دمه أي: أهدر (¬4). ورتب مسائل القِسْمَ على أَطرَافِ: المُوجِب، وما تَجِبُ فيه، والوَاجِب بصفاته، وأما من يَجِبُ عليه، فلم يُفْرِدْهُ بِتَرْجَمَةٍ، وذكره في آخر القِسْمِ. أما الأول، فقد قال: المُوجِبُ، وهو جِنَايَةٌ توجب انْفِصَالَ الجَنِينِ ميَّتاً، وقد تَعَرَّضَ في الضابط لقيود: أحدها: الجِنَايَةُ، والمقصود ما يُؤَثَّرُ في الجنين من ضَرْبٍ، وإيجَارِ دَوَاءٍ (¬5) ونحوهما، ولا أَثَر لِلطَّمَّةِ الخَفِيفَةِ، وما في معناها كما لا يُؤَثِّرُ في الدِّيَةِ. ¬
والثاني: الانْفِصَالُ، فلو ماتت الأُمُّ، فلم ينفصل جَنِينٌ، لم يجب على الضَّارِب شيء؛ لأنا لا نَتَيقَّنُ وُجُوبَ الجَنِينِ، فلا نُوجِبُ شيئاً بالشَّكِّ. وكذا لو كانت المرأة مُنْتَفِخَةَ البَطْنِ، فضربها ضَارِبٌ، فزال الانْتِفَاخ أو كانت تَجدُ حَرَكَةً في بَطْنِهَا، فانقطعت الحَرَكَةُ؛ لجواز أنه كان رِيحاً، فانْفَشَّتْ (¬1)، ثم المعتبر (¬2) انْكِشَافُ الجنين أو الانْفِصَالُ التَّامِّ ذكروا فيه وجهين: أصحهما: أن المُعْتَبَرَ (¬3) الانْكِشَافُ وظُهُورُ شَيْءٍ منه؛ لأن المَقْصُودَ أن يتحقق وجوده. والثاني -وبه قالي مَالِكٌ، ويحكى عن القَفَّالِ-: أن المُعْتَبَرَ الانْفِصَالُ التام؛ ليستقل، وما لم يَنْفَصِل كان كالعُضُوِ من الأُمِّ، ويستشهد له بأن انْقِضَاءَ العِدَّةِ، ووقوع الطَّلاَقِ بالوِلاَدَةِ وسائر الأحكام لا يتَعَلَّقُ بخروج بعض الوَلَدِ، بل بالانْفِصَالِ التام، فكذلك هاهنا. وَيتَفَرَّعُ على الوجهين ما إذا ضَرَبَ بَطْنَهَا، فخرج رَأْسُ الجنين مَثَلاً، وماتت الأُمُّ كذلك، ولم ينفصل أو خَرَج رَأْسُهُ، ثم جَنَى عليها، فماتت، فعلى الأَصَحِّ تجب الغُرَّةُ لِتَيَقُّنِ وُجُودِهِ، وعلى الثاني لا تجب لِعَدَمِ الانْفِصَالِ. ولو قُدَّتْ نِصْفَيْنِ (¬4)، وشوهد الجَنِينُ في بَطْنِهَا، ولم ينفصل، ففيه هذا الخلاف. ولو خرج رَأْسُ الجنين، وصاح فَخَرَّ حَازُّ رَقَبَتَهُ، فإن اعتبرنا العِلْمَ بحصول الجَنِينِ، وجب القِصَاصُ، أو كَمَالُ الدية؛ لأنا تَيَقَّنَّا بخروج الرأس وُجُودَهُ، وبالصياح حَيَاتَهُ. وإن اعتبرنا الانْفِصَالَ، لم نوجب القِصَاصَ ولا الدِّيَةَ. ولو صَاحَ ومات، فَوُجُوبُ الدِّيَةِ على الخلاف (¬5). والثالث: كون المُنْفَصِلِ مَيِّتاً، فلو انْفَصَلَ حَيّاً، نُظِرَ إن بقي زَمَاناً سَالِماً غير مُتَأَلِّمٍ، ثم مات، فلا ضَمَانَ على الضَّارِبِ؛ لأن الظَّاهِرَ أنه مَاتَ بسبب آخر. وإن مات كما خَرَجَ، أو كان مُتَألِّماً إلى أن مات، وَجَبَ فيه الدِّيَةُ الكاملة؛ لأنا تَيَقَّنَّا حَيَاتَهُ، وقد هَلَكَ بالجناية، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الأحْيَاءِ، ولا فرْقَ بين أن يستهلَّ أو لا يستهلَّ، ولكن وجده ما يَدُلُّ على حياته كالتَّنَفسِ وامْتِصَاصِ اللَّبَنِ، والحَرَكَةِ القوية ¬
كَقَبْضِ اليد وبَسْطِهَا، ولا عِبْرَةَ بمجرد الاختلاج فقد يكون ذلك انْتِشَاراً بسبب الخُرُوجِ من المَضِيقِ. وعن "المنهاج" للجويني حِكَايَةُ قَوْلٍ أنه يكتفي بالاخْتِلاَجِ، والمشهور الأول. وعن مَالِكٍ أن الاعْتِبَارَ بالاستهلال لا غَيْرَ، وإذا علمت الحياة فلا فَرْقَ بين أن يكون قد انْتَهَى إلى حَرَكَةِ المَذْبُوحِينَ، أو لم يَنْتَهِ إليها، بل بَقِيَ يوماً ويومين، ثم مَاتَ؛ لأنا تَيَقَّنَّا الحَيَاةَ في الحالتين (¬1) وقد وردن الجِنَايَةُ عليه، والظاهر أنه هَلَكَ بالجِنَايَةِ، [وكذا] (¬2) ولا فَرْقَ بين أن يَنْفَصِلَ لوقت يتوقّع أن يعيش، أو لوفقت لا يتوقَّعُ أن يعيش، بأن انْفَصَلَ لدون سِتَّةِ أشهر (¬3). وقال المزني: إن لم يتوقَّعْ أن يعيش أو كان انتهى إلى حركة المذبوح، ففيه الغُرَّةُ دون الدِّيَةِ، ولم تكمل فيه الدية؛ لأن الجِنَايَةَ -والصورة هذه- منع من الحياة لا قَطْعَ لها. وفي "التتمة" حكايته وَجْهٍ مثله عنه فيما إذا كان قد انْتَهَى إلى حَرَكَةِ المَذْبُوحِينَ، ولو قتل قَاتِلٌ مثل هذا الجَنِينِ بعد ما انْفَصَلَ، فإن انْفَصَلَ لا بجناية جَانٍ، فعلى القاتل القِصَاصُ، كما لو قتل مَرِيضاً مُشْرِفاً على الوَفَاةِ. وإن انْفَصَلَ بجناية جَانٍ، فإن كانت فيه حَيَاةٌ مسْتَقِرَّةٌ، فكذلك، وإلا فلا شَيْءَ على الثاني، والقَاتِلُ الأول، وقد قَدَّمْنَا الفَرْقُ بين أن ينتهي إلى حَرَكَةِ المذبوحين (¬4) بِجِنَايَةٍ، وبين أن ينتهي لا بِجِنَايَةٍ. ولو انفصل منها بعد ما مَاتَتِ الأُمُّ من الضرب وَجَبَتِ الغُرَّةُ، كما لو انْفَصَلَ في حياتها؛ لأنه شَخْصٌ مستقل، فلا يدخل ضَمَانُهُ في ضمانها. وعن أبي حَنِيْفَةَ ومالك: أنه لا تجب الغُرَّةُ إذا انفصل بعد مَوْتِ الأُمِّ. ولا فَرْقَ في وجوب الغُرَّةِ بين أن يكون الجَنِينُ ذَكَراً أو أُنْثَى، أو لا يعرف حاله؛ لأن الأَخْبَارَ الوَارِدَةَ في الغُرَّةِ مُطْلَقَةَ، وأيضاً فإنا لا نَعْتَبِرُ الحياة في وجوب الغُرَّةِ، وإذا لم نعتبر الحَيَاةَ، فَأَوْلَى ألا نعتبر الذُّكُورَةَ والأنوثة؛ لأن الذي يختلف بالحَيَاةِ والموت أَصْلُ الوُجُوبِ، والذي يختلف بالذُّكُورَةِ والأُنُوثَةِ مِقْدَارُ الوَاجِبِ، وكذا لا فَرْقَ بين ثابت النَّسَبِ وغيره، وبين تَامِّ الأَعْضَاءِ ونَاقِصِهَا. ولو اشْتَرَكَ اثنان في الضَّرْبِ، فالغُرَّةُ بينهما. ¬
ولو أَجْهَضَتْ جَنِينَيْنِ وَجَبَتْ غُرَّتَانِ، ولو أجهضتْ حَيّاً وَمَيّتاً، ومات الحَيُّ، وجبت دِيَةٌ كَامِلَةٌ وغُرَّةٌ. ولو ضرب بَطْنَ امرأة مَيِّتَةٍ، فانفصل منها جَنِينٌ ميت لم تَجِبِ الغُرَّةُ؛ لأن الظَّاهِرَ أن هَلَاكَهُ بِهِلاَكِ الأم. كذا قاله في "التهذيب". وفي "جمع الجوامع" للروياني أن القاضي الطَّبَريُّ قال: يجب ضَمَانُ الجَنِينِ؛ لأن الجَنِينَ قد يبقى في جَوْفِ الأُمِّ حَيّاً، فالأَصْل بقاء (¬1) حَيَاتِهِ، ولا بَأسَ بما يَتَّفِق أَحْيَاناً من تَغْيِيِر تَرْتِيب المسائل لِحَاجَةِ الشرح، وسينتهي النَّاظِرُ إلى مقدم بتأخر، ويَظْفَرُ بمقصوده منه إذا لم يقَعْ إِهمَالٌ. وقوله: "بَعْدَ مَوْتِ الأُمِّ وَجَبَ" مُعْلَمٌ بالحاء والميم. وقوله: "ولو على حَرَكَةِ المذبوحين" يجوز أن يُعْلَمَ بالزاي مع قوله: "وإن كان ذلك لما دُونَ ستة أَشْهُرٍ". وكذا قوله: "وَجَبَ القِصَاصُ"؛ لأن الحكاية عنه أنه لا يَجِبُ القِصَاصُ أَيْضاً، وليعلم قوله: "وجبت الغُرَّةُ لِتَيَقُّنِ الجنين" بالميم؛ لما مَرَّ. واعلم أن الضَّبْطَ الذي ذَكَرَهُ صاحب الكتاب لِلْمُوجِب يَشْتَمِل على لَفْظِ "الجنين"، فلو أَدْرَجَ فيه مَسَائِلَ الطرف الثاني، ولم يُفْردْهَا بترجمة لكان قَوِيماً. قال الغَزَالِيُّ: وَلَوْ أَجْهَضَتْ يَداً وَمَاتَتْ وَجَبَتْ غُرَّةٌ إِذَا تَيَقَّنَا وُجُودَ جَنِينِهَا، وَلَوْ أَلْقَتْ أَرْبَعَةَ أَيْدٍ وَرَأْسَيْنِ لَمْ يَزِدْ عَلَى غُرَّةٍ فَرُبَّ شَخْصٍ لَهُ رَأْسَانِ، وَلَوْ أَلْقَتْ بَدَنَيْنِ فَدِيَتَانِ إِذْ لاَ يُمْكِنُ البَدَنَانِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ ألْقَتْ يَدَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ جَنِينٌ حَيٌّ بِلاَ يَدَيْنِ فَدِيَةُ كامِلَةٌ لِلْيَدَيْنِ، وَإنْ كَانَ سَلِيمَ اليَدَيْنِ فَحُكُومَةٌ لَهُمَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذَا أَلْقَتِ المَرْأةُ بالجِنَايَةِ عليها يَدَاً أو رِجْلاً، ومَاتَتْ، ولم يَنْفَصِلِ الجَنِينُ بِتِمَامِهِ، فقد نَصَّ في "المختصر" على وُجُوبِ الغُرَّةِ؛ لأن العِلْمَ قد حَصَلَ بوجود الجَنِينِ، والغالب على الظَّنِّ أن يَدَهُ بَانَتْ بالجِنَايَةِ. قال في "التتمة": وعلى الوجه الذي مَرَّ أنه يعتبر الانْفِصَالُ التَّامُّ لا تجب الغُرَّةُ، ولكن يجب نِصْفُهَا؛ لأن ضَمَانَ الجناية على (¬2) الجملة. وفي إِيرَادِ غيره ما يُشْعِرُ بأن الخِلاَفَ لا يَجِيءُ في هذه الصُّورَةِ، وإنما الخِلاَفُ ¬
فيما (¬1) إذا ظَهَرَ شَيْءٌ من الجَنِينِ من غير أن يُفَارِقَ الأُمَّ، وههنا وإن لم يَنْفَصِلِ الجَنِينُ بِتَمَامِهِ، ولكن وجد الانْفِصَالُ التَّامُّ في ذلك العُضْوِ، ولو أَلْقَتْ يَدَيْنِ أو رِجْلَيْنِ، أو رِجْلاً وَيَداً، فلا خِلاَفَ في وجوب تَمَامِ الغُرَّةِ، ولو أَلْقَتْ من الأيدي والأرجل ثَلاَثاً أو أرْبَعاً لم يجب إلا غُرَّةٌ وَاحِدَةٌ؛ لأنه لا يتيقّن (¬2) وجود جنينين (¬3)، ويُتَصَوَّرُ كَوْنُهَا لجنين وَاحِدٍ بعضها أصلية (¬4)، وبعضها زَائِدَةٌ ولو أَلْقَتْ رَأْسَيْنِ فكذلك. ويروى أن الشَّافِعِيَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أخبر بامرأة وَلَدَتْ وَلَدًا له رَأْسَانِ، وكان إذا بَكَى بَكَى بهما، وإذا سَكَنَ سَكَنَ بهما. وفي [شرح] (¬5) مختصر الجويني وجه عن صاحب "التقريب" أنه يَجِبُ في إِلْقَاءِ الرَّأْسَيْنِ والأيدي غُرَّتَانِ اعْتِبَاراً بالظَّاهِرِ، وإن أَلْقَتْ بَدَنَيْنِ وجبت غُرَّتَانِ؛ لأن الشَّخْصَ الواحد لا يكون له بَدَنَانِ بِحَالٍ. هكذا أَوْرَدَ صاحب الكتاب وشَيْخُهُ، وصاحب "التهذيب" وغيرهم. وحكى الروياني عن نَصِّ الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- خِلاَفَهُ، وجوز أن يكون لرأس بَدَنَانِ، كما جوز أن يكون لِبَدَنٍ رَأْسَانِ. ولو ألقت بالجناية عُضْواً من يَدٍ أو رِجْلٍ، ثم أَلْقَتْ جَنِيناً، فله حَالَتَانِ: إحداهما: أن يكون الجَنِينُ فقد (¬6) ذلك العضو، فينظر إن أَلْقَتْهُ قبل الانْدِمَالِ وزوال أَلَمِ الضرب، فإن كان مَيِّتاً لم يَجِبْ إِلاَّ غُرَّةٌ وَاحِدَةٌ، ويقدر العُضْوُ مُبَاناً منه بِالجِنَايَةِ. وإن انْفَصَلَ حَيّاً، ثم مات من الجِنَايَةِ؛ وَجَبَتْ دِيَةٌ كاملة، ويدخل فيها أَرْشُ اليَدِ، وإن عاش فقد أطلق في "التهذيب" أنه يَجِبُ نِصْفُ الدية على عَاقِلَةِ الضَّارِبِ. ونقل ابن الصَّبَّاغِ وغيره أنه يراجع القَوابل، فإن قلن: إنها يدٌ من لم تخلق فيه الحَيَاةُ، فالوَاجِبُ نِصْفُ الغُرَّةِ. وإن قلن: إنها يَدُمْنَ خُلِقَتْ فيه الحَيَاةُ، فيجب نِصْفُ الدِّيَةِ. وكذا إن عرفنا انْفِصَالَ اليَدِ منه بعد خَلْقِ الحَيَاةِ فيه بأن أَلْقَتِ اليَدَ، ثم انْفَصَلَ الجنين عَقِيبَ الضَّرْبِ، وإن شككنا في الحال اقْتَصَرْنَا على نصف الغُرَّةِ أَخْذاً باليقين، وليكن المُطْلَقُ مَحْمُولاً على هذا المفصل (¬7). وفرق بين هذه الصُّورَةِ، وبين ما إذا انْفَصَل الجَنِينُ مَيَّتاً، لا يراجع القَوَابل، هل كان حَيّاً؛ لأن هناك لم تثبت له الحَيَاةُ، بعد الانْفِصَالِ، فلم يعتبر ما كان في البَطْنِ، ¬
وههنا انْفَصَلَ حَيّاً، فينظر (¬1) في أن اليَدَ انْفَصَلَتْ وهو حَيٌّ أم لا، وإن أَلْقَتْهُ بعد الانْدِمَالِ لم يضمن الجَنِينَ حَيّاً كان أو مَيِّتاً؛ لِزَوَالِ الألَمِ الحاصل بفعله. وأما اليَدُ، فإن خرج مَيِّتاً، فعليه نِصْفُ الغُرَّةِ لليد، وإن خَرَجَ حَيّاً، ومات أو عاش، فمنهم من يُطْلِقُ القَوْلَ بِوُجُوبِ نِصْفِ الدية، كما لو قطع يد إنسان، فَانْدَمَلَ، ثم مات. ومنهم من قال: يراجع القَوَابل [على ما سبق] (¬2) (¬3)، ولو ضرب بَطْنَهَا، فألقت يَدَاً، ثم ضَرَبَهَا آخر، فالقت جَنِيناً لا يَدَ له، فإن ضرب الثاني قبل الانْدِمَالِ، وانفصل الجَنِينُ مَيِّتاً، فالغُرَّةُ عليهما معاً، وإن انْفَصَلَ حياً، فإن عاش، فعلى الأول نِصفُ الدِّيَةِ، وليس على الثاني إلا التعزير. وإن مات، فعليهما الدِّيَةُ، وإن ضرب الثَّاني بعد الانْدِمَالِ، وإن (¬4) انفصل ميتاً، فعلى الأول نصف الغُرَّةِ، وعلى الثاني غرة (¬5) كاملة، كما لو قَطَعَ يد إنسان فاندمل، ثم قَتَلَهُ آخر يجب على الأول نِصْف الدِّيَةِ، وعلى الثاني دِيَةٌ كَامِلَةٌ. وإن خرج حَيّاً، فعلى الأول نِصْفُ الدية، ثم إن عاش، فليس على الثاني إلا التَّعْزِيرُ، وإن مات، فعليه دِيَةٌ كاملة. الحالة الثانية: إذا انْفَصَلَ الجنين كَامِلَ الأَطْرَافِ، نُظِرَ إن انفصل قبل الانْدِمَالِ، فقضية ما ذكر فيما إذا أَلْقَتْ من الأيدي ثَلاَثاً، أو أربعاً بأن يقال: إن انْفَصَلَ مَيِّتاً لم يَجِبْ إلا غُرَّةٌ واحدة؛ لاحتمال أن التي أَلْقَتْهُ كانت يَداً زَائِدَةً لهذا الجنين، وانْمَحَقَ أَثَرُهَا، وإن انْفَصَلَ حَيّاً ومات، فالواجب دية، وإن عاش لم يَجِبْ إلا حُكُومَةٌ، وعلى هذه القضية جَرَى صاحب الكتاب هاهنا، وفي "الوسيط" والمذكور في "التهذيب" و"التتمة" أنه إذا انفصل مَيِّتاً وَجَبَتْ غُرَّتَانِ: إحداهما: لليد، والأُخْرَى للجنين. وإن خرج حياً، ومات، وَجَبَتْ دية وغرة. ولو ألْقَتْ أولاً جَنِيناً كاملاً ثم يَداً، فالحُكْمُ كذلك، وإن انْفَصَلَ الجنين بعد الانْدِمَالِ، لم يلزم بسبب الجَنِينِ شَيْءٌ. ولو ضربها ضَارِبٌ، فالقت اليَدَ، ثم ضربها آخر، فَألْقَتْ الجَنِينَ، ففي "التهذيب" أن ضَمَانَ الجَنِينِ على الثاني، سَوَاء كان ضرب الثاني بعد انْدِمَالِ الأول، أو قبله، فإن خرج مَيِّتاً وَجَبَتْ غُرَّةٌ، وإن خرج حَيّاً، فمات، فدية. ¬
وقياس ما مَرَّ أن يقال: إن ضرب الثاني قبل الانْدِمَالِ، وانفصل مَيّتاً، وجبت الغُرَّةُ عليهما، وإن انْفَصَلَ حياً، وعاش، فعلى الأول حُكُومَةٌ، وليس على الثاني إلا التَّعْزِيرُ، وإن مات، فعليهما الدِّيَةُ. وقوله في الكتاب:، "ولو ألقت يَدَيْنِ، ثم خرج جَنِينٌ حَيٌّ بلا يَدَيْنِ، فدية كاملة لليدين" يعني إذا عَاشَ، فأما إذا خرج حَيًّا، ومات من الجِنَايَةِ، فالواجب دِيَةُ النفس، ويدخل فيها أَرْشُ اليَدَيْن، ثم القَوْلُ بوجوب الدِّيَةِ إذا عاش يُوَافِقُ ما أَطْلَقَهُ في "التهذيب" فيما إذا ألقت يَدَاً وَاحِدَةً. وقياس ما ذَكَرَ ابْنُ الصَّبَّاغ وغيره أن يُرَاجَعَ القَوَابِلُ، فإن قُلْنَ: إنهما يَدَا مَنْ لم تُخْلَقْ فيه الحَيَاةُ، فالواجب الغُرَّةُ دون الدِّيَةِ. وقوله: "وإن كان سَلِيمَ اليَدَيْنِ فحُكُومَةٌ لهما" جَوَابٌ على الأَخْذِ بكون اليدين السَّاقِطَتَيْنِ يَديْنِ زَائِدَتَيْنِ لهذا الجَنِيْنِ. وعلى قياس ما حَكَيْنَا في "التهذيب" و"التتمة" ينبغي أن تجب غُرَّةُ اليَدَيْنِ. قال الغَزَالِيُّ: الطَّرَفُ الثَّانِي في المُوجِبِ فِيهِ وَهُوَ الجَنِينُ الَّذِي بَدَا فِيهِ التَّخْطِيطُ ولَوْ فِي طَرَفٍ من أَطْرَافِهِ وَإذَا أَدْرَكَتِ القَوَابِلُ كَفَى ذَلِكَ، لاَ شَيْءَ فِي إجْهَاضِ المُضْغَةِ وَالعَلَقَةِ قَبلَ التَّخْطِيطِ عَلَى الأَصَحِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مَقْصُودُ الفَصْلِ الكَلاَمُ في الجنين الذي تجب فيه الغُرَّةُ، وقد مَرَّ في باب العدَّةِ أن الغُرَّةَ تجب إذا أسْقَطَتْ بالجِنَايَةِ ما ظَهَرَ فيه صُورَةُ الآدَمِيِّ من عين، أو يَدٍ، أو أصبعَ أو غيرهما، ويكفي الظُّهُورُ في طَرَفٍ من الأطراف، ولا يشترط أن يَظْهَرَ جميعِ الأَعْضَاءِ، ولو لم يظهر شَيْءٌ من ذلك، ولكن شهدت القَوَابِلُ بأن الصُّورَةَ فيه خَفيَّةٌ [يَخْتَصُّ أهل الخبرة بمعرفتها، فكذلك في الغُرَّةِ. وإن قلنا: ليس فيه صُورَةٌ خَفيَّةٌ] (¬1) ولكنه أَصْلُ الآدَمِيَّ، ولو بقي لتصور، ففيه طُرُقٌ: أظهرها: أنه لا يجب فيه الغُرَّةُ، وإن شَكَكْنَ في أنه أَصْلُ الآدَمِيِّ أم لا، لم تجب بلا خِلاَفٍ. هذه أَحْكَامُ الأَحْوَالِ، والشَّرْحُ قد تَقَدَّمَ. وقوله: "الذي بَدَأَ فيه التَّخْطِيطُ"، قد يُفَسَّرُ (¬2) التَّخْطِيطُ بصورة الأَعْضَاءِ من اليد والأصبع وغيرهما. وقد يُفَسَّرُ بالشكل والتَّقْطِيع الكُلِّيِّ قبل أن تُمَيَّزَ آحَادُ الأَعْضَاءِ وهَيْئَاتُهَا، وهو الأكثر. ¬
وأراد بقوله: "بَدَأَ فيه التَّخْطِيطُ" ما إذا ظَهَرَ ذلك لِكُلِّ أَحَدٍ، وبقوله: "وإذا أَدْرَكَتِ القَوَابِلُ" ما إذا ظَهَرَ لأهل الخِبْرَةِ دون جَمِيعِ الناظرين وقوله: "ولا شَيْءَ في إجْهَاضِ المُضْغَةِ والعَلَقَةِ قبل التَّخْطِيطِ على الأَصَحِّ" أي: قبل ظهور الصُّورَةِ لِأَهْلِ الخِبْرَةِ وغيرهم، ولفظ الكتاب يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الخِلاَفِ في العَلَقَةِ، والجمهور سَكَتُوا عنه، وقالوا: لا يجب في إِلْقَاءِ المُضْغَةِ الغُرَّةُ، ولا تَنْقَضِي به العِدَّةُ، وإنما اختلاف الطرق (¬1) في اللَّحْمِ، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: ثُمَّ فِي الجَنِينِ الحُرِّ المُسْلِمِ غُرَّةٌ، وَفِي الجَنِينِ الكَافِرِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا): غُرَّةٌ وَلاَ يُبَالِي بِالتَّسْوِيَةِ (وَالثَّانِي): ثُلُثُ الغُرَّةِ (وَالثَّالِثُ): لاَ يَجِبُ شَيْءٌ، فَإِنْ قُلْنَا بِالثُّلُثِ فَالمُتَولِّدُ مِنْ نَصْرَانِيِّ وَمَجُوسِيِّ قِيلَ: إنَّهُ يُؤْخَذُ بِالأخَفِّ، وَقِيلَ بِالأَغْلَظَ، وَقِيلَ: العِبْرَةُ بِجَانِبِ الأَبِ، وَلَوْ جَنَى عَلَى ذِمَّتِّةٍ فَأسْلَمَتْ ثُمَّ أَجْهَضَتْ فَغُرَّةٌ كَامِلَةً نَظَراً إلَى حَالِ الانْفِصَالِ، وَلَوْ جَنَى عَلَى حَرْبِيَّةٍ فَأَسْلَمَتْ ثُمَّ أَجْهَضَتْ فَفِي ضَمَانِ الجَنِينِ وَجْهَانِ كَمَا لَوْ رَمَى إلَى حَرْبِيِّ فَأَسْلَمَ قَبلَ الإِصَابَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الغُرَّةُ الكَامِلَةُ إنما تَجِبُ في الجنين المَحْكُوم له بالإِسلام، إِمَّا تَبَعاً لأَبوَيْهِ أو لأحدهما، وبالحُرَّيَّةِ إذا كانت الأم حُرَّةً، وقد يكون الولَد حُرّاً مع رِقِّ الأُمِّ في نِكَاح الغُرورِ وغيره، أما الجَنِينُ المَحْكُومُ له باليهودية أو النَّصْرَانِيَّةِ تبعاً لأبويه (¬2)، فقد أطلق فيه ثلاثة أَوْجُهٍ: أحدها: أنه تجب غُرَّةٌ، ولا نُبَالِي بالتَّسْوِيَةِ بينه وبين الجَنِينِ المسلم؛ لأنه لا سَبِيلَ إلى الإِهْدَارِ، ولا إلى تَجْزِئَةِ الغُرَّةِ، وقد يحتج له بِظَاهِرِ ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قضى في الجَنِينِ بالغُرَّةِ (¬3). وثانيها: أنه لا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لأنه لا يمكن التَّسْوِيَةُ بينه وبين الجَنِينِ المسلم، كما لا يُسَوَّى بين المُسْلِمِ والكَافِرِ في الدِّيَةِ، والتَّجْزِئَةُ مُمْتَنِعَةٌ، وامتناع التَّجْزِئَةِ في الوجهين مَبْنِيٌّ على أن الغُرَّةَ غير مُقدَّرَةٍ بالقيمة. وأصحها: وهو مَبْنِيٌّ على أن الغُرَّةَ مُقدَّرَةٌ أنه يَجِبُ في الجَنِينِ اليَهُودِيِّ والنصراني ثُلُثُ ما يجب فيِ الجنين المُسْلِمِ، كما أن دِيَةَ اليَهُودِيِّ والنِّصْرَانِيِّ ثُلُثُ دية المُسْلِم، وهذا هو الذي أَوْرَدَهُ المُعْظَمُ، وسنذكر أنَّ الغُرَّةَ الواجبة في الجَنِينِ المُسْلِم مُقَدَّرَةٌ بنصف عُشْرِ دِيَةِ الأَبِ، أو عشر دية الأم، وهو خَمْسٌ من الإِبِلِ أو خمسون دَينَاراً أو ¬
ستمائة دِرْهَمٍ، فيكون في جَنِين اليَهُوديِّ والنَّصْرَانِيِّ بَعِيرٌ وثلثا بعير، أو ستة عشر دِيناراً وثلثان، أو مائتا درهم. وعلى هذا ففي الجنين المَجُوسِيِّ ثُلُثُ عشر الواجب في الجنين المُسْلِمِ، وهو ثلث بَعِيرٍ أو ثلاثة دَنَانِيرَ وثلث، أو أَربَعونَ دِرْهَماً، ثم عن بعضهم أنه يؤخذ هذا القَدُرُ من الدِّيَةِ، ويدفع إلى المُسْتحقِّ من غير أن يصرف إلى الغُرَّةِ، وحَكَاهُ في "البيان" عن المَسْعُودِيِّ. وإيراد آخرين يُشْعِرُ بأنه يدْفَعُ إليه هذا القَدْرُ، أو غُرَّة بقيمة هذا القَدْرِ. والأصح: أنه يشتري به الغُرَّة، وتُدْفَعُ إليه إلاَّ ألاَّ توجد غُزَّةٌ بهذه القيمة، فَيُعْدَلُ حينئذ إلى الإِبِلِ، أو الدراهم، وهذا ما يُحْكَى عن النص، ولو كان أَحَدُ أبَوَيِ الجَنِينِ يَهُودِيّاً أو نَصْرَانِياً، والآَخَرُ مَجُوسِيّاً، فالظاهر المَنْسُوبُ إلى النَّصِّ أنه يَجِبُ فيه ما يَجِبُ في الِجَنِين اليَهُودِيِّ والنصراني؛ لأنَّ الضَّمَانَ يغلب فيه طَرَفُ التَّغْلِيظِ، ألاَ تَرَى أنه إذا كان أْحَدُ أَبوي الجنين (¬1) مُسْلِماً تَجِبُ فيه ما يَجِبُ إذا كان الأَبوَانِ مُسْلِمَينِ، والمُتَوَلِّدُ الصَّيْدِ وغير الصيد يَضْمَنُهُ المُحْرِمُ بالجَزَاءِ. وفيه قول مُخَرَّجْ أن الاعْتِبَارَ بالأب. ووجه عن أبي الطَّيِّب بن سلمة أن الاعتبار بِشَرِّ (¬2) الأبوين؛ لأن الأَصْلَ بَرَاءَة الذِّمَّةِ عن الزِّيَادَةِ. والقول والوجه مَأْخُوذَانِ من الخِلاَفِ في أن المسلم هل يَنْكِحُ المُتَوَلِّدَةَ من أبوين كِتَابِيٌّ ومَجُوسِيٍّ؟ ولو كان أَحَدُ الأبوين ذِمِّيّاً، والآخر وَثَنِيّاً لا أَمَانَ له، فعلى الأَظْهَرِ يجب ما يَجِبُ في الذي أَبَوَاهُ ذِمِّيَّانِ، وعلى الثاني ينظر إلى جانب الأَبِ، وعلى الثالث لا يَجِبُ شَيْءٌ، والجنين المُتَوَلِّدُ من مستأمنين كجنين الذميين. ولو اشترك مسلم وذمي في وَطْءِ ذِمِّيَّةٍ بشبهة، فأُحْبِلَتْ وأَجْهَضَتِ الجَنِينَ بجِنَايَةِ جَانٍ، يُرَى الجَنِينُ القَائِفَ، فإن أَلْحَقَهُ بالذمي، وَجَبَ ما يجب في جنين الذِّمِّيِّ، وإن أَلْحَقَهُ بالمسلم، وجبت الغُرَّةُ الكاملة، وإن أشكل الأمْرُ أخذ الأَقَلْ، ووقف إلى أن يَنْكَشِفَ الأَمْرُ أو يَصْطَلِحُوا. قال في "البيان": ولا يجوز أن يَصْطَلِحَ الذِّمِّيُّ والذمية في قَدْرِ الثلث منه؛ لجواز أن يكون الجميع للمسلم لا حَقَّ لهما فيه، ولا يخرج اسْتِحْقَاقه من بينهما (¬3). والمسألة مُفَرَّعَةٌ على أن المَوْلُودَ يُعْرَضُ بعد الموت على القَائِفِ، وهو الصحيح، ولو جَنَى على مُرْتدَّةٍ حُبْلَى، فَأجْهَضَتْ، نظر إن ارْتَدَّتْ بعد الحَبَلِ، وجبت الغُرَّةُ الكاملة؛ لأن الجنين مَحْكُومٌ له بالإِسلام، لا يتبعها في الرِّدَّةِ. ¬
وإن حَبِلَتْ بعد الارْتدَادِ مُرْتَدٍّ، فيبنى على أن المُتَوَلِّدَ من المرتدين (¬1) مسلم أو كافر؟ إن قلنا: مُسْلِمٌ، وَجَبَتْ فيه الغُرَّةُ. وإن قلنا: كافر، فهو كجنين الحَرْبِيِّينَ، لا يجب فيه شيء على الجَانِي. هكذا ذكره الشَّيْخُ أبو عَلِيٍّ وغيره. وفي "التهذيب" أن من لم يجعل المَوْلُودَ بين المرتدين مسلماً أوجب (¬2) فيه ما يَجِبُ في جنين المَجُوسِيَّةِ كان من يذهب إليه يثبت له حرمة؛ لبقاء عُلْقَةِ الإِسْلاَمِ، فيوجب فيه أَخَسَّ (¬3) ما يجب في الأَجِنَّةِ. ثم في الفصل صورتان: إحداهما: جَنَى على ذمية حُبْلَى تحت ذِمِّيِّ، فأسلمت، أو أَسْلَمَ الذمي، ثم أجْهَضَتْ وجبت غُرَّةٌ كاملة؛ لأن الاعْتِبَارَ في قَدْرِ الضَّمَانِ بالمال، ولذلك قلنا بوجوب الدِّيَةِ الكاملة إذا جَرَحَ ذمياً، فَأسْلَمَ ثم مات، وكذا الحُكْمُ إذا جَنَى على أَمَةٍ حُبْلَى، فَعُتِقَتْ، ثم ماتت. وما الذي يَسْتَحِقَّهُ من ذلك؟ فيه وجهان أو قولان: المشهور منهما: أن المستحق له الأَقَلُّ من عُشْرِ قيمة الأمَةِ، ومن الغُرَّةِ؛ لأنه إن كانت الغرة أقَلَّ، فلا وَاجِبَ غيرها، وإن كان العشر أقل (¬4)، فهو المستحق للسيد، وما زاد زاد بالحُرِّيَّةِ. والثاني -وبه قال أبو الطيب (¬5)، ويُحْكَى عن القَفَّالِ أيضاً- أنه لا يستحق السيد بحكم المِلْكِ شيئاً؛ لأن الإجْهَاضَ حَصَلَ في حال الحرية، وما يجب إنما يجب بالإجْهَاضِ فَأَشْبَهَ ما إذا حَضَرَ بِئْراً فَتَرَدَّى فيها حُرٌّ كان رقيقاً عند الحَفْرِ، لا يستحق السَيد من الضمان شيئاً. الثانية (¬6): إذا جَنَى على حَرْبِيَّةٍ، فأسلمت ثم أَجْهَضَتْ، هل يجب الضَّمَانُ فيه وجهان: أحدهما -وبه قال ابن الحَدَّادِ-: لا يجب شيء؛ لأنه لم يكن مَعْصُوماً في الابتداء. والثاني: يجب غُرَّةٌ كاملة؛ اعْتِبَاراً بحالة الإِجْهَاضِ، فإن الجِنَايَةَ حينئذ تَتَحَقَّقُ (¬7). ¬
وشَبَّهَ في الكتاب الوَجْهَيْنِ بالوجهين فيما إذا رَمَى إلى حَرْبِيِّ، فَأَسْلَمَ قبل الإِصَابَةِ، لكن الأَصَحَّ هناك وُجُوبُ الضَّمَانِ، ويشبه أن يكون الوَجْهَانِ هاهنا كالوجهين فيما لو جَرَحَ حَرْبِيّاً، فَأَسْلَمَ قبل الإِصَابَةِ حتى يكون الأظْهَرُ نَفْىَ الضَّمَانِ؛ لأن الجِنَايَةَ قد تَحَقَّقَتْ هاهنا، وأَثَّرَتْ فيها، وفي الجنين، كما أن الجِرَاحَةَ أَثَّرَتْ هناك، والرَّمْيُ لا يؤثر في البَدَنِ، حتى يصيب السهم، فالتشبيه (¬1) بصورة الجراحة أَفْصَحُ وأَوْلَى من التشبيه بصورة الرَّمْيِ. وقوله في الكتاب-: "ثم في الجنين الحُرِّ المسلم غرة". لو قال: "ثم الغرة في الجنين الحر المسلم" كان أَلْيَقَ بمقصود الفَصْلِ؛ لأنه قد سبق ذِكْرُ الغُرَّةِ، وما يوجبها. والغَرَضُ الآن بَيَانُ أنها تجب في الحُرِّ المسلم، والتَّدرُّجُ منه إلى بيان ما يجب في الكافر والرَّقِيقِ. وقوله: "والثاني: ثُلُثُ الغرة". الذي يَتَبَادَرُ إلى الفِهْمِ منه وجوب جُزْءٍ من الغُرَّةِ، وهذا لم يذكره أَحَدٌ، وإنما هو مَحْمُولٌ على إِيجَابِ غُرَّةٍ، قيمتها ثُلُثُ الغُرَّةِ الكاملة على ما بَيَّنَّاهُ. وقوله: "ففي ضَمَانِ الجنين وجهان" يعني: أَصْلَ الضمان. قال الغَزَالِيُّ: أَمَّا الْجَنِينُ الرَّقِيقُ فَفِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ الأُمِّ، وَيعْتَبَرَ القِيمَةُ عَلَى الصَّحِيحِ يَوْمَ الجِنَايَةِ، لاَ يَوْمَ الإِجْهَاضِ أَخْذاً بِالأَغْلَظِ، فَلَوْ كَانَ الجَنِينُ سَلِيماً، وَالأمُّ مَقْطُوعَةَ الأَطْرَافِ قُدِّرَتْ سَلِيمَةَ الأَطْرَافِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، كَمَا يُقَدَّرُ إِسْلاَمُهَا وَحُرِّيَّتُهَا إِذَا كَانَ الجَنِينُ كَذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الجَنِينُ مَقْطُوعِ الأَطْرَافِ، فلاَ تُقَدَّرُ الأُمُّ مَقْطُوعَةً عَلَى الصَّحِيحِ، إِذْ ذَاكَ في الجَنِينِ مِنْ أَثَرِ الجِنَايَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يجب في الجَنِينِ الرَّقِيقِ عُشْرُ قيمة الأُمِّ، ذَكَراً كان، أو أُنْثَى، أو أَشْكَلَ (¬2) حَالُهُ في الذكورة والأُنوثَةِ، يستوي في ذلك ما إذا كانت [الأم] (¬3) قِنَّةً، أَو مُدَبَّرَةً، أو مُكَاتَبَةً، أو مُسْتَوْلَدَةً. وعند أبي حَنِيْفَةَ: يعتبر ضَمَانُ الجَنِينِ بنفسه، فإن كان ذَكَراً، ففيه نصف عشر قيمته لو كان حَيّاً، وإن كان أُنْثَى، فعشر قِيمَتِهَا لو كانت حَيَّةً. ¬
ومَأْخَذُ الخِلاَفِ الخِلاَفُ في أن الغُرَّةَ الواجبة في الجنين الحُرِّ؛ ثم تعتبر؟ وهي مُقَدَّرَةٌ بخمس من الإِبل عنده؟ وعلى الأصح من أصلنا على ما سيأتي، فعندنا هي مُعْتَبَرَةٌ بِبَدَلِ الأبوين، وهي نِصْفُ عشر دية الأب، وعِشْر دية الأم، فيجب في الرَّقِيقِ عُشْرُ قيمة الأُمِّ. وعنده هي معتبرة بِبَدَلِ الجنين في نَفْسِهِ بعد انْفِصَالِهِ، وهي نِصْفُ عشر ديته، إن كان ذَكَراً، وعشرها إن كان أُنْثَى، فيجب في الرقيق نِصْفُ العشر، أو العشر من القيمة. قال الأصحاب -رحمهم الله-: والاعْتِبَارُ بالأبوَيْنِ أَوْلَى الوجهين: أحدهما: أن الجنين قد يَخْرُجُ مُتَقَطِّعاً، ولا يُعرَفُ حاله في الذكورة والأنوثة، وأيضاً فالتَّقْوِيمُ مَبْنِيٌّ على الهَيْئَاتِ، والصفات الحاصلة في الحَيَاةِ، والكلام في الجنين الذي انْفَصَلَ مَيَّتاً، فكيف يُقَوَّمُ والأم (¬1) ينظر؟ والثاني: أن ما يعتبر ضَمَانُهُ بنفسه، يعتبر كُلُّهُ لا بَعْضُهُ. واحتَجُّوا أيضاً بأن الجنين الحُرِّ يَسْتَوِي في ضمانه الذَّكَرُ والأنثى، فكذلك الرقيق. واعْتَذَرُوا عما يقال: إن ما ذَكَرْتُمُوهُ قد يُؤَدِّي إلى تَفْضِيلِ المَيِّتِ على الحَيِّ، فإنه لو انفصل حَيّاً، وماتت، تجب قِيمَتُهُ في نفسه، بلا خلاف، وقيمته حينئذ قد لا يَزِيدُ على دِينَار، وعشر قيمة الأُمِّ يبلغ مائة، فكيف نوجب ديناراً، لو انفصل حَيّاً ومات، ومائة [دينار] (¬2) لو انْفَصَلَ ميتًا؟ فإنه إذا انفَصَلَ حياً ثَبَتَ اسْتِقْلاَلُهُ، فَيُعْتَبَرُ بنفسه، وإذا انْفَصَلَ ميتاً، لم يثبت له اسْتِقْلاَلٌ، فيسلك (¬3) به مَسلَكَ الأعْضَاءِ. ولو أَلْقَتْ جنيناً ميتاً، فَعُتِقَتْ، ثم ألقت آخر [حَيّاً]، فالوَاجِبُ في الأول عشر قيمة الأم، وفي الثاني الغُرَّةُ، والاعْتِبَارُ بقيمة يوم الجِنَايَةِ، أو الإجهاض؟ فيه وجهان: أصحهما -وهو المنصوص (¬4) - أنه يعتبر قيمته يوم الجِنَايَةِ، وبه قال ابْنُ سُرَيْجٍ، وأبُو إِسْحَاقَ؛ لأنه وَقْتُ الوجوب، ولأنه الأَغْلَظُ، فأشبه ما إذا قَطَع يَدَ عَبْدٍ، وتوالت (¬5) الآلاَمُ إلى أن سَرَى القَطْعُ إلى النَّفْسِ، تعتبر قيمته (¬6) يوم القَطْع، وإنما يُعْتَبَرُ يوم الجناية؛ لأن القيمة يَوْمَئذٍ أَكْمَلُ غالباً، فإن فرضت زيادة القيمةَ مع تَوَاصُلِ الآلاَمِ، ¬
فروع
اعتبرنا تلك الزيادة. وحَقِيقَةُ هذا الوَجهِ النَّظَرُ إلى أَقْصَى القِيَمِ. والثاني -وبه قال المُزَنِيُّ والإصْطَخْرِيُّ-: أنه تُعْتَبَرُ قِيمَةُ يوم الإجْهَاض؛ لأنه وقت اسْتِقرَارِ الجِنَايَةِ، وكذلك نقول: لو جَنَى على أمة فأعتقت (¬1) ثم أجْهَضَتْ تجب الغُرَّةُ، وتصرف إلى الوَرَثَةِ. وإذا كان الجنين سَلِيماً، والأُمُّ مَقْطُوعَةُ الأطْرَافِ، ففيه وجهان: أصحهما: أنه يُقَدَّرُ فيها السَّلاَمَةُ، وتُقَوَّمُ كَامِلَةَ الأَطْرَافِ، كما أنه إذا كانت الأم كَافِرَةً، والجنين مُسْلِماً يُقَدَّرُ فيها الإِسْلاَمُ، وتقوم مُسْلِمَةُ، وإذا كان الجَنِينُ رَقِيقاً، وهي حُرَّةٌ مثل إن كانت الأُمُّ لواحد، والَجنين لآخر، فَأَعْتَقَ صَاحِبُ الأم الأُمِّ، وبَقِيَ الجَنِينُ رَقِيقاً لصاحبه تُقَدَّرُ الأم رقيقة، ويجب في الجنين عُشْرُ قيمتها. والثاني: أنه لا يقدر فيها السَّلاَمَةُ؛ لأن نُقْصَانَ الأَعْضَاءِ أَمْرٌ خِلْقِيٌ، وفي تقدير خِلاَفِهِ بعد، بخلاف صِفَةِ الإِسْلاَمِ وغيره. ولو كان الجَنِينُ مَقْطُوعَ الأَطْرَافِ، والأم سَلِيمَةٌ، فهل تُقَدَّرُ هي مَقْطُوعَةَ أيضاً؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كالتقدير في سَائِرِ المسائل المذكورة. وأصَحُّهُمَا: المَنْعُ؛ لأن نُقْصَانَ الجنين قد يكون من أَثَرِ الجِنَايَةِ، واللائق الاحْتِيَاطُ، والتَّغْلِيظُ على الجاني دون التخفيف. وقوله في الكتاب: "كما يقدر إِسْلاَمُهَا وحريتها، إذا كان الجنين كذلك تقدير الإِسْلاَمِ إذا كان الجنين مُسْلِماً، وهي كافرة (¬2) قد ذكرناه فأما إذا كان الجَنِينُ حُرّاً، وهي رَقِيقَةٌ، كما إذا وَطِئَ أَمَةَ الغير بالشُّبْهَةِ، فَأوْلَدَهَا، فالواجب الغُرَّةُ، والغُرَّةُ مُسْتَغْنِيَةْ عن تقدير الحرية فيها، وكان المقصود أن الغُرَّة التي تَجِبُ تَتَقَدَّرُ بخمس من الإبِلِ التي هي عُشْرِ ديتها، لو كانت حُرَّةً، [والله أعلم]. " فُرُوع" من مولدات ابن الحَدَّادِ وغيرها. منها: الجارِيةُ المشتركة بين اثنين بالسَّوِيَّةِ، إذا حَبلَتْ من زَوْج، أو زِناً، وجَنَى عليها جَانٍ، فالقت الجَنِينَ مَيّتاً، فعليه عُشْرُ قيمة الأُمِّ للسيدين لأن الولد مشترك بينهما كالأم. ¬
ولو جَنَى عليها أَحَدُ الشريكين، فألْقَتْ جَنِيناً مَيتاً، فعليه نِصْفُ عشر قيمة الأم للآخر، ويُهْدَرُ نَصِيبُهُ، ولو أنه أَعْتَقَهَا بعد ما جَنَى، ثم ألقت جنيناً، نظر: إن كان مُعْسِراً، ووقف العتق على نصيبه من الأُمِّ والجنين، فعليه نِصْفُ عُشْرِ قيمة الأم لشريكه، وهل يَلْزَمُهُ نِصْفُ الغُرَّةِ للنصف الحر؟ فيه وجهان: قال ابْنُ الحدَّادِ: لا؛ لأن وَقْتَ الجِنَايَةِ كان مِلْكاً له، وجِنَايَةُ الإنسان على مِلْكِهِ لا تُوجب ضَمَاناً. وقال آخرون: نعم، وحكوه عن نَصِّهِ في "الأم"؛ لأن الجِنَايَةَ على الجنين إنما تَتَحَقَّقُ عند الإِلْقَاءِ، وهو حُرٌّ حينئذ. والخِلاَفُ مَبْنِيٌّ على طريقين ذِكْراً في أن المُوجِبَ لِلضَّمَانِ هو الضرب، أو الإِجْهَاضُ: أحدهما: أن المُوجِبَ الضَّرْبُ؛ لأنه يُؤَثِّرُ في الجَنِينِ، أَلاَ تَرَى أنه يُرَى أَثَرُهُ عليه عند الإِجْهَاضِ، والانْفِصَالُ هو نهاية الجِنَايَةِ؟ فكان الضَّرْبُ كَقَطْعِ اليَدِ نحوه، والإِجْهَاضُ كالسِّرَايَةِ. والثاني: أن المُوجِبَ الإجْهَاضُ؛ لأن الرَّحَمِ مَحِلُّ نَشْئِ الطِّفْلِ وتَرْبيته، وسبب الهَلاَكِ مُفَارَقَتُهُ دون الضَّرْب، لكن الضرب لما فيه من الإيلاَمِ يفضي إلى المُفَارَقَةِ، فيكون الاعْتِبَارُ بوقت المُفَاَرَقَةِ، وهذا كَحَفْرِ البئر في الطريق مَع التَّرَدِّي، فإن الحَفْرَ سَبَبُ مُفَارَقَةِ موضع السَّلَامَةِ، والتَّرَدِّي هو المُوجِبُ لِلهِلاَكِ، فكان الاعْتِبَارُ بوقت التَّرَدِّي. فإن قلنا: الموجب الضَّرْبُ، فهو مَمْلِوكٌ له حينئذ. وإن قلنا: المُوجِبُ الإجْهَاضُ، فيجب. واعلم أن كَلَامُ أكثر الناقلين للمسألة يَمِيلُ إلى وجوب نِصفِ الغُرَّةِ، كَما حكى عن النص، وهو النص الذي نَقَلْنَاهُ عن "عُيُونِ المسائل" في فصل تَغَيُّرِ الحال بين الجُرْحِ والمَوْتِ. والأوْلَى بالترجِيح ما رَجَّحَهُ الشيخ أبو عَلِيٍّ وجماعة (¬1)، وهو أنه لا يَجِبُ نِصْفُ الغُرَّةِ، وأن المُوجِبَ الضَّرْبُ، لِتَاْثِيرِهِ في الجَنِينِ، كتأثير القَطْعِ في البَدَنِ، بخلاف الحَفْرِ الذي لا يُؤَثِّرُ في البَدَنِ. وإذا قيل بِوُجُوبِ نِصفِ الغُرَّةِ، فلمن يكون ذلك؟ يبني على الخِلاَفِ في أن من بعضه حُرٌّ، وبعضه رَقِيقٌ، هل يورث؟ (¬2) إن قلنا: نعم، فهو لِوَرَثَتِهِ، ولا تَرِث الأمُّ منه شيئاً؛ لأن بَعْضَهَا رَقِيقٌ، ولا السيد؛ لأنه قَاتِلٌ. ¬
وإن قلنا: لا، فهو لمالك النِّصْفِ، أو لبيت المَالِ؟ فيه خلاف. وإلى الثاني ذهب الإِصْطَخْرِيُّ. هذا إذا كان المُعْتِقُ مُعْسِراً، فإن كان مُوسِراً، فإن قلنا: السِّرَايَةُ (¬1) تَحْصُلُ بنفس الإِعْتِاقِ، أو قلنا: تَحْصُلُ بأداء القيمة، وأداؤها (¬2) قبل الإِجْهَاضِ، فعلى الجاني الغُرَّةُ، وتصرف إلى وَرَثَتِهِ. وإن قلنا: تَحْصُلُ بأداء القِيمَةِ، ولم يُؤَدِّهَا حتى أَجْهَضَتْ، فالحكم كما ذَكَرْنَا فيما إذا كان مُعْسِراً. فإن قلنا: إن العِتْقَ موْقُوفٌ، فإن أَدَّى القِيمَةَ تبين حُصُولُ العتق من وقت اللفظ، فيكون الحُكْمُ على ما إذا فَرَّعْنَا على أن السِّرَايَةَ تحصل بنفس اللَّفْظِ، وإن لم يُؤَدِّ، فكما ذَكَرْنَا فيما إذا كان المُعْتِقُ مُعْسِراً ولو كانت الصُّورَةُ بحالها لكن أعتق أحدهما نَصِيبَهُ، ثم جَنَى عليها، فألقت جَنِيناً ميتاً. فأما إن جَنَى عليها المُعْتِقُ، أو الشَّريكُ الآخَرُ، أو غيرهما، وإن جَنَى عليها المُعْتِقُ، نظر إن كان مُعْسِراً بَقِيَ نَصِيبُ الشَّرِيكِ مِلْكاً له، فعليه للشَّرِيكِ نِصْفُ عشر قيمة الأُمِّ، وعليه النصف الذي عتق نِصْفُ الغُرَّةِ بلا خلاف، ولمن يكون ذلك؟ ينبني على الخِلاَفِ في أن من بَعْضُهُ حُرٌّ، وبعضه رقيق، هل يورث كما مَرَّ؟ وإن كان مُوسِراً، فإن قلنا: إن السِّرَايَةَ تَحْصُلُ بأدَاءِ القِيمَةِ أو قلنا بالتوقف وأَدَّى القيمة، فَيُغَرَّمُ المُعْتِقُ لشريكه نِصْفَ قيمة الأَمَةِ حَامِلاً، ولا يفرد الجنين بالقيمة، بل يَتبَعُ الأُمَّ في التَّقْوِيم، كما يَتْبَعُهَا في البَيْعِ، ويلزمه بالجناية الغُرَّةُ؛ لأن الجَنِينَ حُرٌّ، وتورَّث الأمُّ منها؛ لَأنها حُرَّةٌ، والباقي بعد نصيبها لِلْعَصَبَةِ، ولا شَيْءَ للمعتق؛ لأنه قَاتِلٌ. وإن جَنَى الشَّرِيكُ الآخَرُ، فإن كان المُعْتِقُ مُعْسِراً، فَنِصْفُ الجنين مَمْلُوكٌ للجاني، ونصْفُهُ حُرٌّ، وإتْلاَفُهُ مِلْكَهُ مُهْدَرٌ، ويجب نِصْفُ غُرَّةٍ للنصف الحر. ويعود الخِلاَفُ في أنه لمن يَكُونُ؟ فإن قلنا: مِنْ بَعْضُهُ رَقِيقٌ يُورَثُ، فالغُرَّةُ لِعَصَبَتِهِ، ولا شَيْءَ للأم؛ لأن بعضها رَقِيقٌ، فإن لم يكن له عَصَبَةٌ من الأَقَارَبِ، فهي لِلْمُعْتِقِ. وإذا قلنا: لا يُورَثُ، فيكون لمالك البَعْضِ الآخَرِ، فلا يَجِبُ هاهنا شَيْءٌ؛ لأنه لو ثَبَتَ لثَبَتَ له، فإنه إنما يَأْخُذُ بحق المِلْكِ بالميراث، فلا يصير القَتْلُ مَانِعاً. وإن كان المُعْتِقُ مُوسِراً، فإن قلنا: لا تَحْصُلُ السِّرَايَةُ إلا بأَدَاءِ القيمة، أو قلنا: بالتَّوَقَّفِ، ولم تزد القِيمَةُ، فالحكم كما إذا كان مُعْسِراً وإن قلنا: يُعْتَقُ باللفظ، أو قلنا: ¬
بالتَّوَقُّفُ وأداء (¬1) القيمة، فللجاني على المُعْتِقِ نِصْف قيمتها حَامِلاً، وعلى الجِاني الغُرَّةُ، وتَرِثُهَا الأم والعَصَبَةُ. وإن كان الجاني أَجْنَبِيّاً، فإن كان المُعْتِقُ مُعْسِراً، فقد أَتْلَفَ الأَجْنَبِيُّ جَنِيناً نِصْفُهُ حُرٌّ، ونصفه رقيق، فعليه نِصْفُ غرة، ونصف عشر قيمة الأم. وإن كان المعتق مُوسِراً، وعتقَ كُلّه، فقد أَتْلَفَ الأجنبي جنيناً حُرّاً، وحُكْمُهُ بَيِّنٌ. ولو كانت الجَارِيةُ كما وَصَفْنَا، وجَنَى عليها الشَّرِيكَانِ معاً، فأجْهَضَتْ، فعلى كل وَاحدٍ منهما للآخر رُبُعُ عُشْرِ قيمة الأم. لأن كل واحد منهما جَنَى على مِلْكِهِ ومِلْكِ صَاحِبهِ، ونَصِيبُ كُلِّ واحد منهما تَلِفَ بفعليهما جميعاً، فَتُهْدَرُ جِنَايَتُهُ على مِلْكِهِ. والحقَّانِ من جِنْسٍ وَاحِدٍ، فيكون على خِلَافِ التَّقَاصِّ. وإن أَعْتَقَاهَا معاً بعد مَا جَنَيَا، أو وَكَّلاَ وَكِيلاً، فَأعْتَقَهَا بكلمة واحدة، ثم أَجْهَضَتْ، فقد عتق الجَنِينَ مع الأم قبل الإجْهَاضِ، فيضمن بالغرة، ولا تعتبر قِيمَةُ الأُمِّ، وفيما يجب على كُلِّ واحد منهما؟ وَجْهَانِ: قال ابْنُ الحَدَّادِ: يجب على كُلِّ وَاحِدٍ منهما ربع الغُرَّةِ، اعْتِبَاراً بحال الجِنَايَةِ، فكل واحد منهما مَالِكٌ للنصف حينئذ. وقال غيره: يجب على كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُهَا؛ اعْتِبَاراً بحال الإِجْهَاضِ، وهو حُرٌّ حينئذ، وللأم ثُلُثُ الوَاجبِ، والباقي لِلْعَصَبَهَ، ولا يَرِثُ السَّيِّدَانِ منها شيئاً؛ لأنهما قَاتِلاَن. ولو جَنَى عليهاَ أحدهما، ثم أَعْتَقَاهَا، ثم أَجْهَضَتْ، فعلى قول ابن الحَدَّادِ، على الجاني نِصْفُ الغُرَّةِ؛ لأنه جَنَى، ونصفه له، وللشريك الأَقَلُّ من نِصْفِ الغُرَّةِ، ونصف عشر قيمة الأُمِّ. وعلى قول غيره: عليه غُرَّةٌ كاملة؛ اعْتِبَاراً بيوم الإجْهَاضِ. ومنها: إذا وَطِئَ الشريكان الجَارِيَةَ المشتركة، فَحَبِلَتْ، ثم جَنَى عليها جَانٍ، فَألْقَتِ الجَنِينَ مَيِّتاً، فإن كانا مُوسِرَيْنِ، فالجنين حُرٌّ، وعلى الجاني الغُرَّةُ، وهي لمن يُلْحِقُ القَائِفُ الجَنِينَ به. فإن كانا مُعْسِرَيْنِ، فكل الولد حُرٌّ أو نِصْفُهُ؟ فيه قولان: أصحهما: الثاني. وإذا قيل به، فعلى الجَانِي نِصْفُ الغُرَّةِ، ونِصْفُ عُشْرِ قيمة الأُمِّ، ونِصْفُ الغُرَّةِ لمن يُلْحِقُهُ القَائِفُ به، ونِصْفُ عُشْرِ القيمة للآخر. ¬
ومنها: قال ابْنُ الحَدَّادِ: المُسْتَوْلَدَةُ الحَامِلُ من السَّيِّدِ، إذا جَنَتْ على نفسها، فأَلْقَتِ الجَنِينَ ميتًا، فلا ضَمَانَ، إن لم يكن لِلْجَنِيْنِ وارِثٌ سوى السيد؛ لأن جِنايَةَ المستولدة على سَيِّدِها، كَما سَبَقَ، وبدل الجنين [له] (¬1)، فلو وَجَبَ الضَّمَانُ لوجب عليه لنفسه، فصار كما لو جَنَتْ (¬2) على مال السَّيِّدِ. وإن كان له وارِثٌ آخر بأن كان لِلْمُسْتَوْلَدَةِ أم حُرَّةٌ، فعلى السيد أن يُغَرَّمَ لها الأَقَلَّ من قيمة المُسْتَوْلَدَةِ، أو سُدُسَ الغُرَّةِ. قال الشيخ أبو عَلِيٍّ: ويحكي قول أنَّ عليه سُدُسَ الغُرَّةِ، إن زاد على قيمتها؛ بناء على أن أَرْشَ جِنايَةِ المُسْتَوْلَدَةِ على السيد بَالِغًا ما بَلَغَ. ومنها: مات رَجُلٌ عن زَوْجَةٍ حَامِلٍ، وأخ من الأبوين، أو من الأب، وفي التركة عَبْدٌ، فَجَنَى العَبْدُ على الزَّوْجَةِ، فألقت الجَنِينَ مَيّتًا، ففيه الغُرَّةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَةِ العَبْدِ، ويكون للأم ثُلُثُهَا، وللعم ثُلُثَاهَا، لكن العَبْدَ مَلَكَهُمَا بالأرباع، والجَنِينُ بانْفِصَالِهِ مَيِّتًا خَرَجَ عن أن يكون له إِرْثٌ، والمالك لا (¬3) يَسْتَحِقُّ على مِلْكِهِ شَيْئًا، فيقابل ما يتعلّق بِمِلْكِ كل وَاحدٍ منهما بما يَسْتَحِقُّهُ بالإِرْثِ، والأخ يَمْلِكُ ثَلاَثَةَ أَرْباَعِ العَبْدِ، فيتعلق به ثلاثة أرباع الغُرَّةِ، وَيستَحِقُّ ثلثي الغُرَّةِ، فيذهب الثُّلُثَانِ بالثلثين، فيبقى نِصْفُ سُدُسِ الغرة متعلِّقًا بما يَمْلِكُهُ من العَبْدِ، والزوجة تَمْتَلِكُ رُبُعَ العبد، وَيتَعَلَّقُ به رُبُعُ الغُرَّةِ، وَيَسْتَحِقُّ ثلث الغُرَّة، فيذهب الرُّبُعُ بالربع، يبقى لها نِصْفُ سُدُسٍ مما يَتعلَّقُ بنصيب الأخ، فيفدي الأخُ ثَلاَثَةَ أَرْبَاعٍ العَبْدِ بنصف سُدُسِ الغُرَّةِ، ويصرف ذلك إلى الزوجة والفرع لابن الحَدَّادِ (¬4) أيضًا قد يُورَدُ جَوابُهُ بغير هذا الإِيرَادِ، ولا يَكادُ يختلف المقصود. ¬
وقال الشيخ أبو علي -رحمه الله-: وعلى قِيَاسِهِ لو كانت المَسْأَلَةُ بالأثْلاَثِ أيضًا، والعبد بينهما بالأثْمَانِ، فيملك الابن سَبْعَةَ أَثْمَانِ العَبْدِ، وَيتَعَلَّقُ به سبعة أثمان الغُرَّةِ، فيذهب الثُّلُثَانِ بالثلثين، ويبقى ما بين ثُلُثَيِ الغُرَّةِ، وسبعة أثمانها، والتَّفَاوُتُ بخمسة أَسْهُم من أربعة وعشرين سهمًا، وذلك بأن يُضْرَبَ مَخْرَجُ الثلثين في مَخْرَج الثُّمُنِ، فيحصل أربعة وعشرة وثلثا أربعة وعشرين ستة عشر وسبعة أثمانه أحد وعشرون، فالتَّفَاوُتُ بينهما بخمسة. والزَّوْجَةُ تَمْلِكُ (¬1) ثَمَنَ العَبْدِ، وَيتَعَلَّقُ به ثَمَنُ الغُرَّةِ، وهو ثلاثة أَسْهُمٍ، ويستحقُّ ثلثها، وهو ثَمَانِيَةُ أسهم، فيذهب ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ بثلاثة أسهم، يبقى خمسة أسهم، فَيَفْدِي الابن سَبْعَةَ أَثْمَانِ العَبْدِ بخمسة أسهم من أربعة وعشرين سَهْماً من الغُرَّةِ، ويُصْرَفُ ذلك إلى الزوجة. ومنها: قال ابن الصباغِ: إذا جَنَى حُرٌّ أُمُّهُ عَتِيقَةٌ، وأَبُوهُ رقيق على امْرَأَةٍ حامل، ثم أُعْتِقَ أبوه، فانْجَرَّ وَلاَؤُهُ من مُعْتِقِ الأُمِّ إلى مُعْتِقِ الأب، ثم أَجْهَضَتِ الحَامِلُ، فعلى قياس قول ابن الصَّبَّاغ (¬2) يتحمل بَدَلَ الجنين مَوْلَى الأم؛ اعتبارًا بحال الجِنَايَةِ، وعلى قياس قَوْلِ غَيْرِهِ: يَتَحَمَّلُ مَوْلَى الأب؛ اعتبارًا بحالة الإجهاض. ومنها: إذا أَحْبَلَ المُكَاتَبُ أَمَتَهُ، فَجَنَى عليها، فأَجْهَضَتْ، وجب في الجنين عُشْرُ قيمة الأُمِّ؛ لأنها مَمْلُوكَةٌ بَعْدُ. قال الغَزَالِيُّ: الطَّرَفُ الثَّالِثُ في صِفَةِ الغُرَّةِ وَهُوَ رَقِيقٌ سَلِيمٌ مِنْ عَيْبٍ يَثْبُتُ الرَّدُّ فِي البَيْعِ سِنُّهُ فَوْقَ سَبْعٍ وَدُونَ خَمْسَ عَشْرَةَ إنْ كَانَ غُلامًا، وَدُونَ العِشْرِينَ إِنْ كانَتْ أُنْثَى، وَقِيلَ: تُؤْخَذُ الكَبِيرَةَ مَا لَمْ تَضْعُفْ بِالهَرَمِ، وَفِي نِفَاسَةِ قِيمَتِهَا وَجْهَانِ: (أحَدُهُمَا): أنَّهُ لاَ تَقْدِيرَ فِيهِ بَعْدَ وُجُودِ السِّنِّ والسَّلاَمَةِ (والثَّانِي): أنَّهُ لا يَنْبَغِي أَنْ يُنْقَصَ عَنْ قِيمَةِ خَمْسٍ مِنَ الإِبِلِ لِأَنَّا عِنْدَ العَقْدِ نَرْجِعُ إلَى خَمْسٍ مِنَ الإِبِلِ فِي القَوْلِ الجَدِيدِ، وَفِي القَدِيمِ نَرْجِعُ إلَى قِيمَةِ الغُرَّةِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا يَتَعَيَّنُ لِلْغُرَّةِ نَوْعٌ من الرقيق، بل يُجْبَرُ المُسْتَحِقُّ على قَبُولِهِ من أَيِّ ¬
نَوْعٍ كان، ويُجْبَرُ على قُبُولِ الذَّكَرِ والأُنْثَى؛ لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم-: "قَضَى في الجَنِينِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ" (¬1). والنظر في ثلاث صِفَاتٍ: إحداها: تُعْتَبَرُ السَّلاَمَةُ عن العُيُوب التي تُثْبِتُ الرَّدَّ في البَيْع، بخلاف الإعْتَاقِ (¬2) في الكَفَّارَةِ، حيث يُجْزِئُ إِعْتَاقُ المعيب (¬3) بِعَيْبٍ لا يَضُرُّ بالعمل؛ لأن الكَفَّارَةَ حَقُّ الله تعالى، والغُرَّةُ حَقُّ الآدَمِيِّ، وحقوق الله تعالى [مبيِنَّةٌ] (¬4) على المُسَاهَلَةِ: وأيضًا، فإنه وَرَدَ لفظ "الغرة"، والغُرَّةُ الخِيارُ، والمَعِيبُ ليس من الخِيَارِ. ولا يُجبَرُ المُسْتَحِقُّ على قَبُولِ الخَصِيِّ والخُنْثَى والكَافِرِ. ولو أوصى (¬5) بِقَبُولِ المَعِيبِ، وسامح، جَازَ. ويجوز أن يُعْلَمَ لفظ "السَّلِيم" فيِ الكتاب بالحَاءِ؛ لأن عند أبي حَنِيْفَةَ يُجْبَرُ على قُبُولِ المَعِيبِ، إذا لم تَنْقُصْ قِيمَتُهُ عن خَمْسٍ من الإِبِلِ، أو خمسين دينارًا. الثانية: لا يُجْبَرُ على قَبُولِ من لم تَبلُغ سِنُّهُ سَبْعًا؛ لأن الغُرَّةَ الخِيَارُ، وأنه ليس من الخِيارِ لِحاجَتِهِ إلى من يَتَعَهَّدُهُ، وعدم استقلاله. ويخالف الكَفَّارة، حيث يُجْزِئُ فيها إِعْتِاقُ الصَّغِيرِ؛ لأن الوارد هناك لفظ "الرقبة"، والرَّقَبَةُ تشمل الصَّغِيرَ والكَبِيرَ. واعلم أن لفظ الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في "المختصر" ولمن وَجَبَتْ له الغُرَّةُ ألا يَقْبَلَها دون سَبْعِ سنين أو ثمان، فمن الأصحاب من يُتابِعُهُ في اللفظ، ومنهم من اقْتَصَرَ على أنه لا يُجْبَرُ على قَبُول من سَنُّهُ دون سبع سنين، ولا يتعرض للثمان؛ لأن من هو دون سبع، فهو دون ثَمَانٍ وليست كلمة أو للترديد (¬6) في أن الذي لا يقبل من نقص عن سبع، أو ثمان بالاتِّفَاق ويمكن أن يُقَالَ: المَقْصُودُ أنه لا يقبل من هو دون سن التَّمْيِيزِ، وسن التمييز سبع أو ثمان، ويختلف باخْتِلاَفِ حَالِ الصِّبْيَانِ، ولا يُجْبَرُ على قبول من بَلَغَ سِنَّ التمييز، ولا تَمْيِيزَ له؛ لأنه مَعِيبٌ، وأَمَّا في طَرَفِ الكِبَرِ، ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يُؤْخَذُ الغُلاَمُ بعد خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً؛ لأنه لا يدخل على النِّسَاءِ بعد ذلك، ولا الجَارِيَةُ بعد عشرين سَنَةً؛ لأنها تَتَغَيَّرُ (¬7) وتنقصُ قيمتها بذلك. ¬
ويروى هذا عن ابن أبي هُرَيْرَةَ. وفي "البيان": أن بعض الأَصْحَابِ جعل الحَدَّ، العِشْرِينَ في الغُلاَمِ، والجَارَيَةِ جميعًا. والثاني: أنهما يُؤْخَذَانِ، وأن جاوز السِّتِّينَ ما لم يَضْعُفَا، ولم يَخْرُجَا عن الاستقلال بالهَرَمِ؛ لأن كَمالَ المَنْفَعَةِ والقوة إنما يكون بعد الستين. ونَظْمُ الكتاب يُشْعِرُ بترجيح (¬1) الأَوَّلِ من الوجهين. وإليه ذهب أبو الفرج الزَّاز، والقاضي الروياني، وجَمَاعَةٌ، والأصح عند صاحب "التهذيب" الثاني، وبه قال الشيخ أبو حَامِدٍ، والقاضي أبو الطيب وغيرهم، وحَكَوْا ذلك عن النَّصِّ. الثالثة (¬2): هل يَتَقَدَّرُ لِلْغُرَّةِ قِيمَةٌ؟ فيه وجهان أَوْرَدَهُمَا في الكتاب: أحدهما: لا، بل إذا وجدت السَّلاَمَةُ والسن، وَجَبَ القَبُولُ، قَلَّتْ قيمتها أو كَثُرَتْ؛ لإطلاق من لفظ العَبْدِ والأمَةِ في الخَبَرِ. وأصحهما: الذي أَورَدَهُ المُعْظَمُ أنه ينبغي أن تَبْلُغَ قيمتها نِصْفَ عُشْرِ الدية، وهي خَمْسٌ من الإبِلِ. روي ذلك عن عُمَرَ، وزَيْدِ بن ثابتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وذكروا أنه لا مُخَالِفَ لهما. ووَجَّهَ أيضًا بأنه لا سَبِيلَ إلى تكميل الدِّيَةِ؛ لأنه لم تَكّمُلْ له الحَيَاةُ، ولا وَجْهَ للإهدار، فَقُدِّرَ واجِبُهُ بِأَقَلِّ ما ورد الشَّرْعُ بإيجابه في الديات والأروش، وهو خمس من الإبل، أوجبها الشرع في المُوضِحَةِ، وفي السن، واعتذروا عن الأنملة حيث يجب فيها ثَلاَثَةُ وثلث بأن الشرع لم يَرِدْ بذلك في الأَنْمَلَةِ برأسها، ولكن بين ما يجب في الأصبع، فوزع الواجب على أجزائها. ومهما وجدت الغُرَّةُ بالصفات المعتبرة لم يُجْبِرَ المُستَحِقُّ على قَبُولِ غيرها، كما إذا وجدت الإبِلُ في الدية [الاعْتِياضُ عنها بالتَّرَاضِي كالاعتياض عن إبل الدِّيَةِ] (¬3)، وإذا لم توجد الغرة (¬4)، فطريقان: أظهرهما: أن فيه قولين: أصحهما: أنه يجب خَمْسٌ من الإِبِلِ؛ لأنها مُقَدَّرَةٌ بخمس من الإِبِلِ، فإذا فقدت أَخَذَتْ ما هي مُقَدَّرَةٌ به. ويُروَى ذلك عن زَيْدِ بن ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (¬5) -. ¬
ولَأَنَّا لو أَوْجَبْنَا قِيمَةَ الغُرَّةِ، لم نَأْمَنْ أَنْ تَبْلُغَ دية كاملة، وتزيد عليها. والثاني: أن المَعْدُولَ إليه عند الفَقْدِ القِيمَةُ، كما لو غَصَبَ عَبْدًا، فأَبقَ أو تَلِفَ، ويقال: إن هذا مُخَرَّجٌ من تَقْوِيمِ الإِبِلِ في الدية إذا فقدت، وكذلك حُكِيَ عن الشيخ أبي حَامِدٍ وغيره أنه القول الجَدِيدُ، وأن مُقَابِلَهُ، وهو التقدير بخمس من الإِبِلِ القَدِيمُ، وعن الفَوْرَانِيِّ عَكْسُهُ. والطريق الثاني: القَطْعُ بوجوب خَمْسٍ من الإِبِلِ، وإذا قلنا به، وفقدت الإبل، فكان (¬1) كما لو فُقِدَتِ الإبِلُ في الدية، فعلى الجَدِيدِ يجب قِيمَتُها، وعلى القديم يجب خَمْسُونَ دينارًا، أو ستمائة درهم (¬2). وقوله في الكتاب: "ودون خمس عشرة" يجوز أن يُعلَمَ لفظ "خمس عشرة" بالواو لِلْوَجْهِ الذي ذكرناه (¬3) في التَّحْدِيدِ بالعِشْرِينَ في حَقِّ الغُلاَمِ أيضًا. وقوله: "لأنا عند الفَقْدِ نرجع إلى خمس من الإبِلِ في القول الجديد" يشير إلى بِنَاءِ الوَجْهَيْنِ في أنه هل تُعْتَبَرُ نَفاسَتُهُ بالقيمة؟ على القولين في أنه هل يُرْجَعُ عند العَقْدِ (¬4) إلى بَدَلٍ (¬5) مُقَدَّرٍ، وهو متوجّه، وجعل الرجوع إلى خَمْسٍ من الإِبِلِ القول الجديد يوافق ما ذكرناه (¬6) عن الفَوْرَانِيِّ. [وذكرنا] (¬7) أن منهم من يَقُولُ: إنه القول القَدِيمُ، كما أن الرُّجُوع إلى المقدر عند فِقْدانِ الإبِلِ هو القول القديم، وفي الجديد يرجع إلى القِيمَةِ من غير تَقْدِيرٍ، وعلى هذا، فالمسألة مما يرجح فيه القديم؛ لأنهم جعلوا الأظْهَرَ الرُّجُوعَ إلى خمس من الإِبِلِ [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: ثُمَّ تُصْرَفُ الغُرَّةُ اِلَى الجَنِينِ وَهُوَ الأُمُّ والعَصَبَةُ، وَتَلْزَمُ عاقِلَةُ الجَانِي إِذْ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ قَتْلُ الجَنِينِ عَمْدًا إِذْ لا تُتَيَقَّنُ حَيَاتُهُ بِحَالٍ، وَأَرْشُ أَلَمِ الأُمِّ يَنْدَرجُ تَحْتَ الغُرَّةِ إِنْ لَمْ يَبْقَ شَيْنٌ، فَإنْ بَقِيَ وَجَبَ حُكُومَةُ الشَّينِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في هذه البقية مسألتان: ¬
إحداهما: فيمن يصرف إليه الغُرَّة، وفيمن تُؤْخَذُ منه. أما من تُصْرَفُ إليه فَوَرَثَةُ الجَنِينِ، فتأخذ الأُمُّ نَصِيبَها إن كانت حَيَّةً عند انْفِصَالِ الجَنِينِ وحرة، والباقي للأب، فإن لم يكن، فلسائر العَصَباتِ. ولو كان قد مات مورثٌ للجنين، وَوَقَفْنَا له شَيْئًا، فلا يجعل المَالُ المَوْقُوفُ لِوَرَثَةِ الجنين، بل يكون لِوَرَثَةِ ذلك المُوَرّثِ بخلاف الغُرَّةِ، تقدر فيها حياته تَغْلِيظًا على الجاني. ولو جَنَتِ الحَامِلُ على نفسها بشُرْبِ دَواءٍ وغيره، فلا شَيْءَ لها من الغُرَّةِ المَأْخُوذَةِ من عاقلتها؛ لأنها قَاتِلَةٌ، وإنما هي لسائر وَرَثَةِ الجنين. وأما من تُؤْخَذُ منه، فالجِنايَةُ على الجنين قد تكون خَطَأً مَحْضًا بأن يقصد غير الحامل فيصيبها، وقد يكون عَمْدَ خَطَأٍ، بأن يَقْصِدُ ضَرْبَها، ويضربها بما لا يُؤَدِّي إلى الإِجْهَاضِ غالبًا، فأَدَّى إليه، ولا يكون عَمْدًا مَحْضًا؛ لأنه لا يُتَيَقَّنُ وُجُودُهُ وحَيَاتُهُ، حتى يقصد، هذا هو الظَّاهِرُ المَشْهُورُ. وفي "المهذب" أنه قد يكون عَمْدًا مَحْضًا إذا قصد الإِجْهَاضَ، ونحا (¬1) صاحب "التهذيب" نحوه. وذكر ابن الصَّبَّاغِ أن أبا إِسْحَاقَ قال: إنه وإن قَصَدَهَا بالضَّرْبِ يكون خَطَأً في حَقِّ الجنين؛ لأنه لا يباشر بالجناية. وإذا قلنا بالظاهر، فسواء كانت الجِنايَةُ خَطَأً أو عَمْدَ خَطَأٍ، فالغرة على العاقلة، كما وَرَدَ في الخَبَرِ. قال في "الشامل": والغرة بَدَلُ نَفْسٍ، فلا يَجِيءُ فيها القَوْلُ القديم فيما دون النفس، لكن في "جمع الجَوَامِعِ" للقاضي الروياني أن بَعْضَهُمْ أَثْبَتَ فيها القَوْلَ (¬2) القديم في أن ما دُونَ ثلث الدِّيَةِ لا يُضْرَبُ على العَاقِلَةِ. والمذهب الأول. وإذا فُقِدَتْ الغُرَّةُ، وقلنا بالانْتِقَالِ إلى خَمْسٍ من الإبِلِ، فيغلظ إذا كانتِ الجِنايَةُ عَمْدَ خَطَأً بأن تُؤْخَذُ حِقَّةٌ ونصف وجَذَعَةٌ ونصف، وخَلَفَتَانِ، حُكِيَ ذلك عن الأُسْتَاذِ أبي طَاهِرٍ الرّيَادِيِّ، وتابعه الأَئِمَةُ، ولم يَتَكَلَّمُوا في التَّغْلِيظِ عند وجود الغُرَّةِ، إلا أن الرُّويانِيَّ قال: ينبغي أن يُقَالَ: تجب غُرَّةٌ قيمتها نِصْفُ عُشْر الدِّيَةِ المُغَلَّظَةِ، وهذا حَسَنٌ. ¬
ويجوز أن يُعْلَمَ؛ لما بينا قوله في الكتاب: "ويلزم عاقِلَة الجَاني" بالواو. وكذا قوله "إذ لا يُمْكِنُ أن يكون قَتْلُ الجنين عَمْدًا". وذكر صاحب الكتاب في "الوسيط" أنه لو كان عدد العاقلة لا يَفِي إلا بالنِّصْفِ، فعليهم نِصْفُ قِيمَةِ الغُرَّةِ، لا قيمة نصف الغرة، وبينهما فَرْقٌ، إذ الغُزَّةُ ربما تُسَاوِي أَلْفاً، والنصف يُوجَدُ بأربعمائة، فالوَاجِبُ عليهم نِصْفُ قيمة الكل، وهو خمسمائة. ولك أَن تقول: نعم بينهما فَرْقٌ، لكن هذا كلام قَلِيلُ النَّوْلِ (¬1)؛ لأن الذي يحمله كُلُّ واحد منهم مَعْلُومٌ مَضْبُوطٌ، وجملة ما يحملونه تَخْتَلِفُ باختلاف عَدَدِهِمْ، فإن لم يَفِ عَدَدُهُمْ إلا بقيمة النِّصْفِ، لم يحملوا أكْثَرَ من قيمة النِّصْفِ، وإن وَفَّى بنصف القيمة أو أكثر، حملوا ذلك. هذا كُلُّه في الغُرَّةِ. أَما بَدَلُ الجنين الرَّقِيقِ، فَيُصْرَفُ إلى السَّيِّدِ، وهل يتَحملهُ العَاقِلَةُ؟ فيه القولان المذكوران في بَدَلِ العَبْدِ. المسألة الثانية: إذا جَنَى على الحامل بقطع طَرَفٍ أو جِرَاحَةٍ أخرى، فأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، يجب مع ضَمانِ الجنين ضَمانُ الجِنايَةِ حُكُومَةً كان أَو أَرْشًا مقدرًا، ويكون ضَمانُ الجِنايَةِ لها. ولو تأَلَّمَتْ [بالضرب] (¬2) وألقت الجَنينَ، فإن لم يَبْقَ شَيْنٌ لم يجب لِلألَمِ شَيْءٌ، وإن [بقي] (¬3) شَيْنٌ، فوجهان: أحدهما: أنه لا يَجِبُ مع الغُرَّةِ شَيْءٌ، كما لا يجب لِلألَمِ. وأصحهما -وهو المذكور في الكتاب-: أنه يجب حُكُومَةُ الشَّيْنِ مع الغرة، كما يجب ضَمَانُ الجِرَاحَةِ. وقوله: "وأَرْشُ أَلَم الأم يَنْدَرجُ تحت الغُرَّةِ"، وهذه اللفظة إنما تَنْطَبِقُ على قولنا بوجوب الحكومة في الجِرَاحَةِ التي تعقب شَيْنًا، أو نُقْصَانًا. والمَقْصُودُ أنه لا يَجِبُ مع الغُرَّةِ شَيْءٌ على ما بَيَّنَّا. "خاتِمَةٌ": إذا سقط "الجَنِينُ مَيّتًا" وادْعَى وَارِثُهُ على إِنْسَانٍ أنه سَقَطَ بِجِنايَتهِ، فأنكر أَهْلَ الجناية، فهو المُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، وعلى المُدَّعِي البَيَّنَةُ، ولا تُقْبَلُ فيه إلا شَهَادَةُ الرِّجَالِ. ¬
وإن أَقَرَّ بِالجَنَايَةِ، وأنكر إِسْقَاطَهَا الجَنِينِ وَحَمْلَها، وقال: إِنَّ السَّقْطَ مُلْتَقَطٌ، فكذلك وهو المُصَدَّقُ، وعلى المدعي البَيِّنَةُ، وتقبل فيه شَهادَةُ النساء، فإن الإسْقَاطَ كالوِلاَدَةِ لا يَطَّلِعُ عليه غالبًا إلا النِّسَاءُ. وإن أَقَرَّ بِالجِنَايَةِ والإسقاط، وأنكر كَوْنَ السُّقُوطِ بسبب الجناية، فينظر: إن أسقطت عَقِيبَ الجِنَايَةِ، فهي المُصَدَّقَةُ باليمين، سواء قال: إنها شَرِبَتْ دَوَاءً، أو ضرب بَطْنَها إِنْسَانٌ آخر، أو قال: حَانَ وَقْتُ وِلاَدَتِهَا، ولذلك انْفَصَلَ الوَلَدُ؛ لأن الجِنايَةَ سبب ظَاهِرٌ في الإسْقَاطِ، والأصل أنه لم يوجد سَبَبٌ آخر، والوِلاَدَةُ قد تَتَقَدَّمُ، وقد تَتأَخَّرُ، فلا يصرف السُّقُوط عن الجِنايَةِ الظاهرة بِأَمْرٍ محتمل. وإن أَسْقَطَتْ بعد مُضِيِّ مدة في وَقْتِ الجِنَايَةِ، فهو المُصَدَّقُ باليمين؛ لأن الظاهر معه، إلا أن تُقِيمَ بَيِّنَةً على أنها لم تَزَلْ ضَمِنَةً مُتَأَلِّمَةٌ حتى أَسْقَطَتْ. ولا تُقْبَلُ هذه الشَّهَادَةُ إلا من رَجُلَيْنِ. وضبط صاحب "التتمة" المدة المُتَخَلِّلَة بما يَزُولُ فيه ألَمُ الجِنَايَةِ. وأَثَرُها غالبًا. وإن اتَّفَقَا على أن الجَنِينَ سَقَطَ بجنايته، وقال الجاني: إنه سَقَطَ مَيِّتًا، وقال الوارِثُ: بل حَيًّا، ثم مات، فالواجِب الدِّيَةُ، فعلى الوارِثِ البَيِّنَةُ على ما يَدَّعِيهِ من الحَيَاةِ والاسْتِهْلاَلِ وغيره، ويقبل فيه شَهَادَةُ النساء؛ لأن الاسْتِهْلاَلَ حينئذ لا يَطَّلِعُ عليه إلا النِّسَاءُ غالبًا كالوِلاَدَةِ. وعن حكايته الرّبيع أنه لا يُقْبَلُ إلا من رَجُلَيْنِ، وإن أقام كُلُّ واحد منهما بَيِّنَةً على ما يقوله، فَبَيِّنَةُ الوارِثِ أوْلَى؛ لأنها تَخْتَصُ بزيادة عِلْمٍ، وهي الحياة. ولو اتَّفَقا على أنه انْفَصَلَ حيًا بِجنايَتِهِ، وقال الوارِثُ: مات بالجناية، وقال الجاني: بل بِسَبَبٍ آخر، فإن لم يَمْتَدَّ الزَّمَانُ، فالمُصَدَّقُ الوارث بيمينه؛ لأن الجِنايَةَ سَبَبٌ صَالِحٌ، ولم يظهر سَبَبٌ آخر، فكان المَوْتُ مُحَالًا عليه. وإن امْتَدَّ الزَّمَانُ، فالمُصَدَّقُ الجاني بيمينه، إلا أن يقيم الوارِثُ بَيِّنَةً على أنه لم يَزَلْ مُتأَلِّماً إلى أَن مات. ولو أَلْقَتْ جَنِينَيْن، وادَّعَى الوَارِثُ حَيَاتَهُمَا، وأنكر الجاني حَياتَهُمَا فأقام (¬1) الوارث بَيِّنَةً (¬2) على اسْتِهْلالِ أحدهما. قال في "التتمة": الشهادة مَسْمُوعَةٌ، ثم إن كانا ذَكَرَيْنِ، فتجب ديَةُ رَجُلٍ وغُرَّةٌ، وإن كانا أنثيين فَدِيَةُ امْرَأَةٍ؛ وغرة، وإن كان أحدهما ذَكَرًا والآخر أُنْثَى، فيوجب ¬
باب كفارة القتل
المتيقن (¬1)، وهو دِيَةُ امرأة وغُرَّةٌ. ولو سلم الوارث اسْتِهْلاَلَ أَحدهما، وكان أَحدهما ذَكَرًا، والآخر أُنْثَى، فقال الوارث: إنما اسْتَهَلَّ الذَّكَرُ، وقال الجاني: بل الأُنْثَى، فالمُصَدَّقُ بيمينه الجانِي (¬2)، وَيحْلِفُ على نَفْي العلم باسْتِهْلاَلِ الذَّكَرِ، ويحكم بِدِيَةِ امرأة وغرة فإن صدق الجَانِي الوارِثَ على اسْتِهْلاَلِ الذَّكَرِ، وكذبت العَاقِلَة، فعلى العَاقِلَةِ دِيَةُ أُنثى، وحكومة (¬3)، والباقي في مَالِ الجَانِي. ولو أَلْقَتْ جنينين حَيَّيْنِ وَمَاتَا، وماتت الأُمُّ بينهما، ورثت الأمُّ من الأول، ووَرِثَ الثاني من الأُمِّ، فقال وارث الجنينين، ماتت الأُمُّ أوَّلاً، فَوَرِثَها الجَنِينُ، ثم مات الجَنِينُ فورثته، وقال وَارِثُ الأُمِّ: مات الجَنِينُ أوّلاً، وورثت الأُمُّ الوَاجِبَ بالجناية، ثم ماتت، فَوَرِثَتْ مِنها، فإن كان لأحدهما بَيِّنَةٌ حُكِمَ بها، وإلا فإن حلف (¬4) أحدهما ونَكَلَ الآخر حُكِمَ بيمين الحالِفِ، وإن حَلَفَ أو نَكَلاَ لم نورث أَحَدَهُمَا من الآخر؛ لأنه عَمِيَ مَوْتُهُمَا، وما تَرَكَهُ كُلُّ واحدٍ منهما لِوَرَثَتِهِ الأَحْيَاء، والله أعلم. بَابُ كَفَّارَةِ القَتْلِ قال الغَزَالِيُّ: كُلُّ حَيٍّ مُلْتَزَمٌ إِذَا قَتَلَ قَتْلاً غَيْرَ مُبَاحٍ آدَمِيًّا مَعْصُومًا فَعَلَيْهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فَإنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلا إِطْعَامَ عَلَى المَذْهَب، نَعَمْ لَوْ مَاتَ فَفِي كُلِّ يَوْمٍ مُدُّ كَما فِي رَمَضَانَ، فَيَجِبُ الكَفَّارَةُ بِالخَطَأِ وَحَفْرِ البِئْرِ، وَعَلَى الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ، وَلا يَجِبُ فِي قَتْلِ الصَّائِلِ وَمَنْ عَلَيْهِ القِصَاصُ والرَّجْمُ وَلاَ عَلَى حَرْبِيٍّ، وَفِي وُجُوبِهِ عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ أَوْ حَفَر بئْرًا فَتَرَّدَّى فِيهِ غَيْرُهُ بَعْد مَوْتهِ وَجْهَانِ، إِذْ يَبْعُدُ إِنْشَاءُ عِبَادَةٍ عَلَى مَيِّتٍ بَعْدَ المَوْتِ، وَلا كَفَّارَةَ فِي قَتْلِ نِسَاءِ أَهْلِ الحَرْبِ وَذَرَارِيهِمْ، وَيجِبُ فِي المُعَاهَدِ والمَمْلُوكِ إِذَا قَتلَهُ السَّيِّدُ لِوُجُودِ العِصْمَةِ، وَكَذَا فِي المُسْلِم وإِنْ كانَ فِي دَارِ الحَرْبِ، فَإِذَا رَمَى إِلَى صَفِّ الكُفَّارَ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ فِيهِم مُسْلِمًا فأَصَابَ فَعَلَيْهِ الكَفَّارَةُ وَلا دِيَةَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ فِيهِمْ مُسْلِمًا وَلَمْ يَقْصِدْهُ لَزِمَهُ الدِّيَةُ، وَقِيلَ قَوْلاَنِ كَمَا لَوْ قَصَدَ شَخْصًا بِعَيْنِهِ وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ الرَّمْيِ فَفِي دِيَتِهِ قَوْلاَنِ إِذَا كَانَ فِي صَفِّ الكُفَّارِ، وَالشَّرِيكُ فِي القَتْلِ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ كَامِلَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ إِذِ العِبَادَةُ لا تَتَجَزَأُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: سبق في أوَّلِ الجِرَاحِ أن كَبيرَةَ القَتْلِ يَتَعَلَّقُ بها مع القِصَاصِ، أو الدية الكَفَّارَةُ، وقد يَسَّرَ الله -تَعالى- الفَرَاغَ من الكلام في القِصَاصِ والدِّيَةِ. ¬
وأما الكَفَّارَةُ (¬1) فالأَصْلُ فيها قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وعن واثِلَةَ بن الأَسْقَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: أتينا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- في صَاحِبٍ لنا قد اسْتَوْجَبَ النَّارَ بالقَتْلِ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أعْتِقُوا رَقَبَةً يَعْتِقِ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ" (¬2). واعلم أن مَسَائِلَ الباب في الكتاب يَرْتَبِطُ بعضها ببعض ارْتباطًا شَدِيدًا، لا يَحْسُنُ حَلُّ رَوابِطِها إلا بعد الوُقُوفِ على فِقْهِهَا. والباب خَفِيفُ المُؤْنَةِ في نفسه، فَرَأَيْتُ أن آتى بمسائله جَمَّةً (¬3) في فصل، وأَعُود إلى ما يَتَعَلَّقِ بِنَظْمِ الكتاب، وحلّه في فصل آخر. أما الفصل الأول، فالكَلاَمُ على ما رتَّبَ في "الوسيط" في الواجب والمُوجِبِ. أما الواجب فَكَفَّارَةُ القَتْل مرتبة، فعليه إِعْتاقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فإن لم يجد فصيام شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ بالنص، فإن (¬4) لم يَسْتطِعْ، فهل عليه إِطْعَامُ ستين مسكينًا؟ فيه قولان: وقال القَفَّالُ في "شرح التلخيص": وجهان، وأنكر على صاحب "التلخيص" رِوايَةَ القولين: أحدهما: أنه يَجِبُ؛ لأنها كَفَّارَةٌ تَشْتَمِلُ على الإعْتاقِ، وعلى صيام شهرين مُتَتابِعَيْنِ، فأشبهت كَفَّارَةَ الظِّهَارِ والوِقاعِ في [نهار] (¬5) رمضان. ¬
وأيضًا فإن الإطْعَامَ مَذْكُورٌ في آية الظِّهَارِ، فتحمل كَفَّارَةُ القَتْلِ عليها، كما أن الرَّقبةَ في آية القَتْلِ لما كانت مُقَيَّدَةً بالإيمان حَمَلْنا الرَّقَبَةَ المطلقة في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عليها. وأصحهما: المَنْعُ؛ لأن الآية لم تَتَعَرَّضْ إلا للإعتاق والصِّيَام، فلا يُلْحَقُ بهما خَصْلَةٌ ثالِثَةٌ، كما أن آيَةَ الظِّهَارِ لما كان فيها ذِكْرُ الخِصَالِ الثلاث لمَ تَرِدْ عليها خَصْلَةُ رابِعَةٌ. وإنما اعتبرنا الاِيمانَ في كَفَّارَةِ الظِّهَارِ؛ لأن الرَّقَبَةَ المذكورة في الآيَتَيْنِ مُطْلِقَةٌ في إحداهما، ومُقَيَّدَةٌ في الأخرى، فحملنا الإِطْلاَقَ على التَّقْيِيدِ، والإطعام مَسْكُونٌ (¬1) عن أَصْلِهِ في إحداهما، والمسكوت (¬2) لا يحمل على المذْكُورِ، كما أن الله -تعالى- نَصَّ في آية التيمُّم على عُضْوَيْنِ، وسكت عن عُضْوَيْنِ، ونصَّ في آية الوُضُوءِ على أربعة أَعْضَاء، فلم تُحْمَلْ آية التيمم على آية الوُضُوءِ وعلى هذا فقد ذكرها هنا، وفي "الوسيط" أنه لو مات قبل أن يَصُومَ يخرج من تَرِكَتِهِ لكل يَوْمٍ مُدلا بطريق البَدَلِيَّةِ، بل كما تخرج الفِدْيَةُ إذا فات صَوْمُ رمضان. والقول في صِفَةِ الرَّقَبةِ، والصيام، وكيفية الإِطْعَامِ إن أَوْجَبْنَاهُ (¬3)، وما يجوز ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
النُّزُولُ به من (¬1) دَرَجَةٍ إلى دَرَجَةٍ على ما مَرَّ في الكتاب. وأما المُوجِبُ فَيَتَعَلَّقُ النَّظَرُ فيه بثلاثة أمور: أحدها: القَتْلُ، وفيه مسائل: إحداها: القَتْلُ العَمْدُ، وشِبْهُ العَمْدِ يُوجِبَانِ الكَفَّارَةَ كَالخَطَأِ. وقال أبو حَنِيْفَةَ ومالك: لا كَفَّارَةَ في العَمْدِ، واختاره ابن المُنْذِرِ. وعن أحمد روايتان كالمَذْهَبَيْنِ (¬2). ¬
واحْتَجَّ الأَصْحَابُ بخبر وَاثِلَةَ، فإن اسْتِيجَابَ النَّارَ إنما يكون عند التَّعَمُّدِ، وبأنه قَتْلُ آدَمِيٍّ يوجب الضَّمَانَ، فيوجب الكَفَّارَةَ كالخَطَأِ، وبأن الكَفَّارَةَ لِلْجَبْرِ وإصْلاَحِ الحال، والعامد أَحْوَجُ إليه، وصار كما في جَزاءِ الصَّيْدِ، يستوي فيه العَامِدُ والمُخْطِئُ. وخِلاَفُ أبي حنيفة في العَمْدِ الذي يوجب القِصَاصَ، واختلف أصحابه فيما لا يُوجِبُ كَقَتْلِ الوَالِدِ وَلَدَهُ، والسيد عَبْدَهُ، وحَكَى القاضي الروياني فيما إذا اقتصَّ من المُتَعَمَّدِ، هل تَجِبُ الكَفَّارَةُ في مَالِهِ؟ وَجْهَيْنِ عن رِوايَةِ أبي عَلِيٍّ بن أبي هُرَيْرَةَ، والطَّبَرِيِّ. أصحهما: الوجوب؛ لأن حُقُوقَ الله -تعالى- الواجِبَةَ في المال لا تَسْقُطُ بالموت.
والثاني: تَسْقُطُ؛ لأنه سلم نَفْسَهُ قِصاصًا مما اسْتَوْفَاهُ، فيكتفي (¬1) بها، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "القَتْلُ كَفَّارَةٌ" (¬2). فعلى هذا إنما يَجِبُ إِخْراجُ الكَفَّارَةِ إذا لم يُقْتَصَّ منه، بأن مات، أو عُفِيَ عنه. الثانية (¬3): القَتْلُ بالمُباشَرَةِ، كالقَتْلِ بالتَّسَبُّب يستويان في تَعلِيقِ الكَفَّارَةِ بهما، كما يستويان في وُجُوب الضَّمَانِ، حتى تجب الكَفَّارَةُ على حَافِرِ البِئْرِ في مكان التَّعَدِّي وعلى من نَصَبَ شَبَكَةً، فَهَلَكَ بها إِنْسَانٌ، وعلى المُكْره وشَاهِدِ الزُّورِ. وقال أبو حَنيفَةَ: لا تجب الكَفَّارَةُ بالقتل بالتَّسَبُّبِ. وقَرُبَ من هذا الخِلاَفِ الخِلاَفُ فيما إذا ضرب بطن (¬4) حَامِلٍ، فأَلْقَتْ جنينًا مَيّتًا، هل تلزمه الكَفَّارَةُ؟ فعنده لا تَلْزَمُ. واحتج الأصحاب عليه بما رُوِيَ أن عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- صَاحَ بامْرَأَةٍ، فأَسْقَطَتِ الجَنِينِ، فأعْتَقَ عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- غُرَّةً، وبأنه شخص يضمن بالجنايَةِ للآدمي، فيضمن بالكَفَّارَةِ كالمَوْلُودِ. الثالثة: القَتْلُ المُبَاحُ لا يوجب الكَفَّارَةَ، وذلك كَقَتْلِ مُسْتَحِقِّ القِصَاصِ الجَانِيَ، وكقتل الصَّائِلِ والبَاغِي. ويعني بالمُبَاح ما رُخِّصَ فيه، ومُكِّنَ منه. والخَطَأُ لا يُوصَفُ بكونه مُبَاحًا، كما لا يُوصَفُ بكونه حَرَامًا، بل المُخْطِئُ غير مُكَلَّفٍ فيما هو مخطئ فيه. والثاني: القَاتِلُ، وفيه مسائل: إحداها: تجب الكَفَّارَةُ على الذِّمِّيِّ والعَبْدِ، كما يَتَعَلَّقُ بقتلهما القِصَاصُ والضَّمانُ، وفي مال الصبي والمَجْنُونِ إذا قَتَلاَ (¬5) أيضًا ولا تجب عليهما الكَفَّارَةُ بالوِقاَعِ ¬
في نَهارِ رَمَضانَ؛ لأنه لا تَعَدَّي منهما، والتَّعَدِّي شَرْطٌ في وجوب تلك الكَفَّارَةِ. وإذا وجبت الكَفَّارَة على الصبي والمَجْنُونِ، أَعْتَقَ الوَلِيُّ من مالهما، كما يُخْرِجُ الزَّكَاةَ والفِطْرَةَ، ولا يصوم منهما بِحَالٍ. ولو صام الصَّبَيُّ في صِغَرِهِ فهل يُعْتَدُّ به؟ فيه وجهان؛ بناء على ما لو قَضَى في الصِّغَرِ حَجَّتَةهُ التي أفسدها (¬1)، هل يُعتَدُّ به؟ فيه وجهان، أو قولان. وإذا جعلنا الإِطْعَامَ في هذه الكَفَّارَةِ مَدْخَلًا، فيطعم الوَلِيُّ إن كانا من أهْلِ الإطْعَامِ، وينبغي أن يقال: إذا اعْتَدَدْنَا بِصَوْمِ الصبي في الصِّغَرِ، فلا يجوز العُدُولُ إلى الإِطْعَامِ، وإلا فيجوز كما في المَجْنُونِ. ولو أَعْتَقَ الوَلِيُّ من مال نَفْسِهِ عنهما، أو أطعم، قال في، "التهذيب": يجوز ذلك إن كان الوَلِيُّ أَبًا أو جَدًّا فكأنه (¬2) ملكهما، ثم نَابَ عنهما في الإِعْتاقِ والإطعام. وإن كان وَصِيًّا أو قَيِّمًا لم يَجُزْ حتى يَقْبَلَ القاضي التَّمْلِيكَ، ثم يعتق عنهما القَيِّمُ أو يُطْعِمُ. وعند أبي حَنِيْفَةَ: لا تجب الكَفَّارَةُ على الصَّبِيِّ والمجنون، ولا على الذِّمِّيِّ، ولا [على] (¬3) العَبْدِ، ولا تجب الكَفَّارَةُ على الحَرْبِيِّ؛ لأنه غير مُلْتَزِمٍ. الثانية: هل تجب الكَفَّارَةُ على من قَتَلَ نَفْسَهُ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا [تجب] (¬4)، كما لا يجب الضَّمَانُ. وأصحهما: أنها تَجِبُ، وتخرج من تَرِكَتِهِ؛ لأنه مَعْصُومٌ كغيره، ويحرم عليه قَتْلُ نفسه، كما يَحْرُمُ على (¬5) غيره قَتْلُهُ. وقَرُبَ من هذا الخِلاَفِ الخِلاَفُ فيما إذا حَفَرَ بِئْرًا في مَحَلِّ عدوان، فَتَرَدَّى فيها بعد مَوْتِهِ إنْسَانٌ، هلِ تجب الكَفَّارَةُ؟ ووجه المنع في الصورتين بأن في الكَفَّارَةِ معنى العِبَادَةِ، ويبعد أن يَنْشَأَ إِيجَابُ العِبَادَةِ على المَيِّتِ. الثالثة: في الشُّرَكاءِ في القَتْلِ وجهان: أحدهما: أنه يجب على جميعهم كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، كما أن الشُّرَكَاءَ في قَتْلِ الصيد يَلْزَمُهُمْ جَزَاءٌ واحِدٌ، وقد يُعَدُّ هذا قَوْلاً، ويُنسَبُ إلى رواية أبي عَلِيٍّ الطبري. والأصح: أنه يجب على كُلِّ واحد كَفَّارَةٌ واحِدَةٌ، ووُجِّهَ بأن الكَفَّارَةَ لا تَتَبَعَّضُ، ¬
ألا ترى أنها لا تَنْقَسِمُ على الأَطْرَافِ، وما لا يَتَبَعَّضُ إذا اشترك الجَماعَةُ في سببه، وَجَبَ على كُلِّ واحد بكَمَالِهِ كالقِصَاصِ، وبأن فيها معنى العِبادَةِ، والعِبادَةُ الواحِدَةُ لا تَتَوَزَّعُ على الجَماعَةِ. وأما المَقْتُولُ، فالشرط فيه أن يكون آدَمِيًّا مَعْصُومًا بأَمَانٍ، أو إِيمَانٍ، وفيه مسألتان: إحداهما: تجب الكَفَّارَةُ بِقَتلِ العاقل، والمجنون، والصَّبِيِّ، والبالغ، والمسلم، والذِّمِّيِّ، والحُرِّ، والعَبْدِ، حتى يجب على السَّيِّدِ في قَتلِ عَبْدِهِ لِحَقِّ الله -تعالى- بخلاف القِصَاصِ (¬1)، فإنه إذا وَجَبَ وَجَبَ للسَّيِّدِ. وعن مالك أنها لا تجب بقتل الذمي، ولا بقتل العَبْدِ، ويُرْوَى عنه أنها لا تجب على السيد في قَتْلِ عَبْدِهِ خاصَّةً. قال الرُّويانِيُّ: ولا يَصِحُّ ذلك عنه، واحْتَجَّ الأَصْحَابُ بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] وَبِإطْلاَقِ قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً ...} [النساء: 92] الآية. فإنه يشمل الحِرَّ والعَبْدَ، ولا تجب الكَفَّارَةُ بِقَتْلِ الحَرْبيِّ، فإنا مَأْمُورُونَ بِقَتْلِهِ، ولا يقتل المُرْتَدِّ، فإنه مُهدَرٌ مُرَاقُ الدَّمِ، إلا أنه فُوِّضَ قَتْلُهُ إلى رَأيٍ مُعَيَّنٍ لِمَصْلَحَةٍ اقْتَضَتْهُ. وبمثله أَجَابُوا في قَاطِع الطريق. والزاني (¬2) المُحْصَنُ، ولم يُورِدُوا فيه خِلاَفًا، لكن قد سَبَقَ ذِكْرُ خلاف في القِصَاصِ، ولا يَبْعُدُ مَجِيئُهُ في الكَفَّارَةِ، ولا تجب بِقَتْلِ نساء أهل الحَرْب (¬3) وذَرارِيهِمْ. إن كان قَتْلُهُم مُحَرَّمًا؛ لأن المَنْعَ من قتلهم ليس لحُرْمَتِهِم ورِعايَةِ مَصْلَحَتَهِمْ، ولذلك لا يَتَعَلَّقُ به ضَمَانٌ، وإنما هو لِمَصْلَحَةِ المسلمين حتى لا يَفُوتَهُمُ الارْتِفَاقُ بهم. والثانية: إذا قتل مُسْلِمًا في دار الحرْبِ، وجبت الكَفَّارَةُ بكل حَالٍ، قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] المعنى على ما نَقَلَ الشَّافِعِيُّ -رَضِيَّ اللهُ عَنْهُ- وغيره: وإن كان في قَوْم عَدُوٍّ لكم، فأما القصاص والدية، فإن ظَنُّهُ القَاتِلُ كافرًا؛ لكونه على زِيِّ أهل الشِّرْكِ، فلا قِصَاصَ، وفي الدِّيَةِ قولان، قد سبق ذلك في الجِرَاحِ وإلا فأحسن ترتيب فيه ما أَورَدَهُ في "التهذيب"، وهو أنه إن عَرَفَ مَكانَهُ، فهو كما لو قَتَلَهُ في دارِ الإِسلام، حتى إذا قَصَدَ قَتْلَهَ يجب القِصَاصُ أو الدية المُغَلَّظَةُ في مَالِهِ مع الكفَّارة. ¬
وإذا قَصَدَ غَيْرَهُ فأَصَابَة، يجب الدِّيَةُ المُخَفَّفَةُ (¬1) على العَاقِلَةِ مع الكَفَّارَةِ، وإن لم يَعْرِفْ مكانه، ورَمَى سَهْمًا إلى صَفِّ الكُفَّارِ في دَارِ الحَرْبِ، سواء عرف أن في الدَّارِ مسلمًا، أو لم يعرف، فَيُنْظَرُ إن رَمَى ولم يُعَيِّنْ شخصًا، أو عَيَّنَ كافرًا فَأَخْطأَ، وأصاب المُسْلِمَ، فلا قِصاصَ ولا دِيَةَ. وكذا لو قَتَلَهُ في بَيانٍ أو غارَةٍ، ولم يعرف وإن عَيَّنَ شخصًا، فأَصَابَهُ، فإذا هو مسلم فلا قِصَاصَ، وفي الدِّيَةِ قولان: أحدهما: تجب؛ لأنه قَصَدَ قَتْلَهُ. والثاني: المَنعُ؛ لأنه جاهِلٌ بحاله (¬2)، فأَشْبَهَ ما لو لم يُعَيِّنْ شخصًا، ويشبه أن يكون هَذَانِ القولانِ هما القَوْلاَنِ المذكوران فيما إذا قَتَلَ مَن ظَنَّهُ كَافِرًا؛ لكونه على زِيِّ أَهْلِ الشرك؛ لأن كونه مع الكُفَّارِ في صَفِّ القتال يُغَلِّبُ على الظن كَونُهُ كَافِرًا. وقد سَبَقَ أن الأَظْهَرَ منهما أنه لا تَجِبُ الدِّيَةُ، قال: ولو دَخَلَ الكُفَّارُ دار الإِسلام، فَرَمَى إلى صَفَّهِمْ، فأَصَابَ مسلمًا، فهو كما لو رَمَى إلى صَفِّهِمْ في دار الحَرْبِ، فهذا ما سَاقَهُ. وأما صاحب الكتاب، فإنه نَقَل الحُكْمَ في الدِّيَةِ على وَجْهٍ آخر، فقال: إن لم يعلم أن فيهم مسلمًا لم تَجِبِ الدِّيَةُ قَطْعًا. وإن عَلِمَ أن فيهم مسلمًا ولم يَقْصِدْهُ، ولكن قصد كَافِرًا، فَأَصَابَهُ، ففيه طريقان: أحدهما: القَطْعُ بوجوب الدِّيَةِ، ونَظْمُ الكتاب يَقْتَضِي تَرْجِيحَهُ. والثاني: عن الشيخ أبي مُحَمَّدٍ أنه على قولين، كما إذا قَصَدَ شَخْصًا بِعَيْنِهِ، ظَنَّهُ كافرًا؛ لكونه على زِيِّ الكُفَّارِ، وكان قد أَسْلَمَ من قَبْلُ، وبقي على زِيِّهِمْ. والطريقة الأُولَى أَقْرَبُ. وقد يقال: القَطْعُ بوجوب الدِّيَةِ فيما إذا قَصَدَ الشَّخْصَ بِعَيْنِهِ، فَبَانَ مُسْلِمًا، أَوْلَى من القَطْعِ فيما إذا قَصَدَ غيره، فأَصَابَهُ [والله أعلم]. الفصل الثاني: فيما يَتَعَلَّقُ بِنَظمٍ الكتاب وحَلِّهِ. قوله: "كل حَيّ" قصد به الاحْتِرازِ عما إذا قَتَلَ نَفْسَهُ، وعما (¬3) إذا حَفَرَ بِئْرًا، فَتَرَدَّى فيها غَيْرُهُ بعد موته [إنسان] (¬4)، وقد ذكرنا الخِلاَفَ فيهما. ¬
واخْتِيارُ الإِمامِ أنه لا تجب الكَفَّارَةُ. وقوله: "ملتزم" احْتَرَزَ به عن الحَرْبِيِّ. وقوله: "غير مُبَاح"، يخرج عنه قَتْلُ الصَّائِلِ والبَاغِي، وقَتْلُ مُسْتَحِقِّ القِصاص الجانِيَ. وقوله: "آدَمِيًّا" يخرج عنه البَهَائِمُ، ويدخل فيه الجَنِينُ. وقوله: "مَعْصُومًا" يعني بالأَمَانِ، أو الإيمان على ما تبَيَّنَ. وقوله: "حفر البِئْر" مُعْلَمٌ بالحاء. وكذا قوله: "على الصَّبِيِّ والمجنون". وقوله: "ومن عليه القِصَاصُ"، يعني إذا قتله المستحق [فأما إذا قتله غَيره] (¬1)، فتجب الكَفَّارَةُ عليه، ومن عليه الرَّجْمُ، وهو الزَّانِي المُحْصَنُ لا كَفَّارَةَ على من قَتَلَهُ من الناس على ما سَبَقَ، فكان الأَوْلَى أن يُؤَخِّرَ الكَلاَمَ في قَتْلِ الصائل، ومن عليه القِصَاصُ والرَّجْمُ عن قَتْلِ الحربي وقَتْلِ النَّفْسِ. ومسألة (¬2) التَّرَدِّي بعد مَوْتِ الحَافِرِ؛ لتكون المسائل المتعلقة بطرف القاتل مَجْمُوعَةً، والمُتَعَلِّقَةُ بطرف المَقْتُولِ مَجْمُوعة. وقوله: "ويجب في المُعَاهَدِ والمَمْلُوكِ"، يجوز أن يُعْلَمَ بالميم. وقوله: "إذا قَتَلَهُ السَّيد"، كأنه يقول: وإن قَتَلَهُ السَّيد. وإذا تَبَيَّنَ وُجُوبُ الكَفَّارَةِ على السيد بِقَتْلِ عَبْدِهِ، فغير السيد أَوْلَى بالوجوب. وقوله: "وكذا في المُسْلِمِ، وإن كان في دَارِ الحَرْبِ"، يشير به إلى [أن] كونه في دَارِ الحرب، وتركه الهِجْرَةَ لا يمنع وُجُوبَ الكَفَّارَةِ، وإنَ كان مُقَصِّرًا به، ولا فَرْقَ عندنا بين من خَرَجَ من دارِ الإِسلام إلى دَارِ الحرب، وبين من أَسْلَمَ ولم يَخْرُجْ إلى دار الإِسلام. وعند أبي حَنِيْفَةَ: إن أَسْلَمَ ولم يخرج إِلَيْنَا، فلا دِيَةَ، وتجب الكَفَّارَةُ، وإن خَرَجَ مُسْلِمٌ إليهم، فإن كان في صَفِّ المشركين، فَقُتِلَ، فلا دِيَةَ ولا كَفَّارَةَ، وإِلاَّ فيجبان. وإن قُتِلَ أَسِيرٌ، فلا دِيَةَ، وتجب الكَفَّارَةُ. وعند مالك: تجب الدية والكَفَّارَةُ بكل حَالٍ، ويجوز أن يُعْلَمَ لما ذكرنا. قوله: "وإن كان في دَارِ الحَرْب" بالحاء؛ لأنه قد لا يوجب [الكفَّارة] (¬3) إذا كان في دَارِ الحرب. وقوله: "ولا دِيَة" بالميم. ¬
وقوله: "إذا كان في صَفِّ الكُفَّارِ" صُورَةُ القولين، ما إذا ظَنَّ كَوْنَهُ كَافِرًا على ما مَرَّ، وكَوْنُهُ في صَفِّ الكفار طَرِيقٌ في إِثَارَةِ الظَّنِّ بكونه كَافِرًا، فكأنه (¬1) وضع ذلك مَوْضِعَ قوله: "إذا ظنَّ كونه كَافِرًا". ومسألة الشَّرِيكِ في القَتْلِ لو ذكرها مع الصُّورَةِ المتعلقة بطرف (¬2) القاتل كان أَحْسَنَ [وَأَوْلَى]، والله أعلم [بالصواب] (¬3). تم الجزء العاشر، ويليه الجزء الحادي عشر وأوله: "كتاب دعوى الدم" ¬
كتاب دعوى الدم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ دَعْوَى الدَّمِ قال الغَزَالِيُّ: والنَّظَرُ فِي ثَلاثَةِ أُمْورٍ: الأَوَّلُ: الدَّعْوَى وَلَهَا خَمْسَةُ شُرُوطٍ: الأَوَّلُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِشَخْصٍ مُعَيَّنِ أَوْ بأَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ، فَلَوْ قَالَ: قَتَلَ أَبِي وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلاَءِ العَشَرَةِ، وَلا أَعْرِفُ عَيْنَهُ، وَأُرِيدُ يَمِينَ كُلِّ وَاحِدٍ، فالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُجَابُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِالمَنْعِ، وَهَؤلاَءِ لا يَتَضَرَّرُونَ بِاليَمِينَ، وَكَذَا فِي دَعْوَى الغَصْبِ والسَّرِقَةِ، بِخِلاَفِ القَبْضِ والبَيْعِ في المُعَامِلاَتِ، فَإنَّهُ بِالنِّسْيَانِ مُقَصِّرٌ، وَقِيلَ: يُسْمَعُ فِي المُعَامَلاَتِ، وَقِيلَ: لاَ يُسْمَعْ إلاَّ فِي الدَّمِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لما تكلَّم الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- والأصْحَابُ في القِصَاصِ والدِّيَةِ والكَفَّارَةِ التي هي من مُوجِباتِ القَتْلِ، تكلموا فيما يُرْجَعُ إليه عند التَّنَازعُ بأَن يَدَّعِيَ الوَلِيُّ القَتْلَ على إِنْسَانٍ، فَيُنْكِرُ. والذي يُعْتَمَدُ عليه عند الإِنْكَارِ قَوْلُ الشهود أو اليَمِينُ، إما من جهة المُدَّعِي، أو من جِهَةِ المُدَّعَى عليه، وذلك يُحْوِجُ إلى النظر في الدَّعْوَى واليَمِينِ والشهادة، فلذلك قال: "والنَّظَرُ في ثلاثة أُمُورٍ". ثم اليمين تَنْقَسِمُ إلى: يمين القَسَامَةِ وغيرها. ومعظم الغَرَضِ في الباب القَوْلُ في يمين القَسَامَةِ، فإنها [التي] (¬1) تَخْتَصُّ بالدم، فأما القول في الدَّعْوَى، والبَيِّنَةِ، وسائر الأَيْمَانِ، فلا اختصاص لهما بما إذا كان المُدَّعَي دَماً، ولهما أبواب مُفْرَدَةٌ في مواضعهما، ولهذا المعنى تَرْجَمَ الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وأَكْثَرُ الأَصحاب البابَ بـ"كتاب القَسَامَةِ"، لا بـ"دَعْوَى الدَّمِ"، وترجم في "الوسيط" الكِتَابَ بـ"كتاب دَعْوى الدم والقَسَامَةِ والشهادة"؛ لاشْتِمالِهِ على الأمور الثلاثة، واقْتَصَرَها هنا على ذِكْرِ الدعوى؛ لأنها الأَمْرُ الأول، وعليه يَتَرَتَّبُ الأمران الآخران. ¬
ومن الأصحاب من يُؤَخّرُ البَابَ إلى كتاب الدَّعَاوَى (¬1)، وعليه جَرَى الشيخ أبو إِسْحَاقَ الشيرازي -رحمه الله- فاعتبر فيه. إذا عرف ذلك، فالأَمْرُ الأول: الدَّعوَى، والمعتبر (¬2) في الدعوى خمسة شروط: أحدها: تَعْيِينِ المُدَّعَى عليه بأن ادُّعِىَ القَتْلُ على وَاحِدٍ، أو على جماعة مُعَيَّنينَ، فهي مَسمُوعَةُ، وإذا طلبهم للقاضي، وطلب إحضارهم أَجابَهُ، إلا إذا ذَكَرَ جَماعَةً لا يُتصَوَّرُ اجْتِمْاعُهُم على القَتْلِ، فلا يحضرون، ولا يُبَالَي بقوله: فإنه دَعْوَى مُحَالٍ. وإن قال: قَتَلَ أبِي أَحَدُ هَذَيْنِ أو وَاحِدٌ من هؤلاء العشرة وطلب من القاضي أن يسألهم، ويُحَلِّفَ كُلّ واحد منهم فهل يُجِيبُهُ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لما في هذه الدَّعْوَى من الإِبْهَامِ، وصار كما لو ادَّعى دَيْنًا على أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ. والثاني: نعم؛ لأنه طَرِيقٌ يُتَوَصَّلُ به إلى مَعْرِفَةِ القاتِلِ واسْتِيفَاءِ الحَقِّ منه. ولأن القَاتِلَ يسعى في إِخْفَاءِ القَتْلِ كي لا يقصد، ولا يطالب، وتَعْسَرُ مَعْرِفَتُهُ على الوَلِيِّ لذلك. فلو لم تُسْمَعْ دَعْوَاهُ هكذا لَتَضَرَّرَ، وهم لا يَتَضَرَّرُونَ باليمين الصَّادِقَةِ، والأَصَحُّ من الوجهين على ما ذكر صاحب "التهذيب" الأول، ولم يورِدُ جماعة من الأصحاب غَيْرَهُ. وذكر في الكتاب أن الصَّحِيحَ أنه يُجَابُ إليه، ولم يذكر ذلك في "الوسيط"، بل سَكَتَ عن الترجيح. ويجري الخِلاَفُ في دعوى الغَصْبِ، والإتْلاَفِ، والسَّرِقَةِ، وأخذ الضَّالَّةِ على أحد الرجلين أو الثلاثة، ولا يَجْرِي في دعوى القَرْضِ، والبيع، وسائر المعاملات؛ لأنها تَنْشَأُ باختيار المُتَعَاقِدَيْنِ، وحَقُّها أن يضبط كل واحد من المُتَعاقِدَيْنِ صاحبه، هذا هو الأَظْهَرُ، وفيه طريقان آخران: أحدهما: إجراء الخِلاَفِ في المُعامَلاَتِ أيضًا؛ [لأن] الإنسان عُرْضَةُ النِّسْيَانِ، وهم لا يَتَضَرَّرُونَ باليمين. والثاني: قَصْرُهُ على دَعْوَى الدَّمِ لِعِظَمِ خَطَرِهِ. وقوله: "قتل أَبِي أَحَدُ هؤلاء العشرة"، تَصْوِيرٌ فيما إذا كان القوم حاضِرِينَ، فإن لم يكونوا حاضرين، والتمس إحضارهم فهل يجاب؟ فيه الوجهان، ولو ذكر أنه قتله أحدهم، ولم يطلب إحضار جميعهم؛ ليسألوا، ويُعْرَض عليهم اليَمِينُ، فلا يحضرهم القاضي، ولا يُبَالِي بكلامه؛ لأن القاضي يعمل بِحَسَبِ طَلَبِ المُسْتَحِقِّ، ذكره في "التتمة"، وذكر أن الوَجْهَيْنِ فيما إذا تَعَلَّقَتِ الدَّعوَى بِوَاحِدٍ من جماعة مَحْصُورِينَ. ¬
وأما إذا قال: قَتَلَهُ واحِدٌ من أهل القَرْيَةِ أو المَحِلَّةِ، وهم لا يَنْحَصِرُونَ، وطَلَبَ إِحْضَارَهُمْ فلا يُجَابُ؛ لأنه يَطُولُ فيه العَنَاءُ على القاضي، وَيتَعَطَّلُ زَمَانُهُ في خُصُومَةٍ واحدة، وتَتَأَخَّرُ حُقُوقُ سائر الناس، ولأن في إحضار الجَمْع الكَبِيرِ إِضْرارًا بهم لِقَطْعِ مَعايِشِهِمْ، وتَعْطِيلِ زمانهم، وقد يفهم هذا من التصوير في العشرة. قال الغَزَالِيُّ: الثَّانِي أنْ تَكُونَ مُفَصَّلَةً فِي كَوْنِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ مُشْتَرِكَةً، فَإنْ أَجْمَلَ اسْتَفْصَلَ القّاضِي، وَقِيلَ: يُعْرَضُ عَنْهُ لِأَنَّ الاسْتِفْصَالَ تَلْقِينٌ، وَلَوْ قَالَ: قُتِلَ أَبِي خَطَأً مَعَ جَمَاعَةٍ وَلَمْ يَحْصُرُهُم لَمْ يُسْمَعْ إِذْ حِصَّتُهُ مِنَ الدِّيَةِ لا تَتَبَيَّنُ، وَلَوِ ادَّعَى العَمْدَ وَقُلْنَا: مُوجِبُهُ القَوْدُ المَحْضُ سُمِعَ، وَإِنْ قُلْنَا: أَحَدٌ لا بِعَيْنِهِ فَوَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لتكن الدَّعْوَى مُفَصَّلَةً (¬1)، أَقَتَلَ عَمْدًا، أو خَطَأً، أو عَمْدَ خَطأٍ، مُنْفَرِدًا أو بِشَرِكَةِ غيره، فإن الأحكام تَخْتَلِفُ باختلاف هذه الأَحْوَالِ، والواجب تَارَةً يَتَوَجَّه على القاتل، وأُخْرَى على عَاقِلَتِهِ، فلا يمكن فَضْلُ الأمْرِ ما لم يُعْلَمْ مَنْ يُطَالَبُ؟ وبم يُطَالَبُ؟ وفيه وجه سنذكر مَأْخَذَهُ: أنه يجوز أن تكون الدَّعْوَى مَجْهُولَةً. وإذا منعنا -وهو المذهب المشهور- فلو أجمل الوَلِيُّ دَعْوَى القَتْلِ، ففيه وجهان: أحدهما: أن القاضي يُعْرِضُ عنه، ولا يَسْتَفْصِلُ؛ لأن الاسْتِفْصَالَ ضَرْبٌ من التَّلْقِينِ. وأصحهما: أنه يَسْتَفْصِلُ، والقول بأن الاسْتِفْصَالَ تَلْقِينٌ ممنوع، بل التلقين أن يقول له: قُلْ: قَتَلَهُ عَمْدًا أو خَطَأً، والاسْتِفْصَالُ أن يقول: كيف قُتِلَ؟ وهذا الوجه الثاني هو الذي أَوْرَدَهُ الجمهور، ونَصَّ عليه الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في "المختصر"، حيث قال: ينبغي لِلْحَاكِمِ أن يقول له: من قَتَلَ صاحِبَكَ؟، فإن قال: فُلاَنٌ، قال: وَحْدَهُ؟، فإن قال: نعم، قال: عَمْدًا أو خطأ؟، فإن قال: عَمْدًا، يسأله (¬2): ما العَمْدُ؟. وربما يُوجَدُ في إِيرَادِ الأئمة ما يُشْعِرُ بوجوب الاسْتِفْصَالِ هكذا قال القاضي الروياني بعد ما نَقَلَ نَصَّ الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه يَسْتَفْصِلُ في الأشياء الأربعة. وقال الماسَرْجَسِيُّ: لا يجب على الحَاكِمِ أن يُصَحِّحَ دَعْوَاهُ، ولا يلزمه أن يسمع ¬
إلا في دعوى محَرَّرَةٍ، وإنما ذَكَرَ الشَّافعي -رَضِىَ اللهُ عَنْهُ- هذا إذا أَرادَ أن يَسْتَثْبِتَهُ احْتِيَاطًا، فأشعر هذا السِّيَاقُ بأن غيره يقول بوجوب الاسْتِفْصالِ المُصَحِّحِ للدعوى. والأوجه ما نَسَبَهُ إلى المَاسَرْجِسِيُّ ثم إذا قال: إنه قتله مُنْفَرِدًا عَمْدًا، ووصف العَمْدِيَّةَ، أو خَطَأً طالب المُدَّعَى عليه بالجواب. فإن قال: قتله بِشَرِكَةٍ، سئل عمن شَارَكَهُ، فإن ذَكَرَ جَمَاعَةً لا يُتَصَوَّرُ اجتماعهم على القتل، لُغِيَ قوله ودَعْوَاهُ. وإن ذكر جَمَاعَةً يُتَصَوَّرُ اجتماعهم، ولم يحضرهم، أو قال: لا أعرف عَدَدَهُمْ، فإن ادَّعَى قَتْلًا يوجب الدِّيَةَ لم تُسْمَعْ دعواه؛ لأن حِصَّة المُدَّعَى عليه من الدِّيَةِ لا تَتَبَيَّنُ إلا بِحَصْرِ الشركاء، وذلك مثل أن يَدَّعِيَ الخَطَأَ أو شِبْهَ العَمْدِ، أو يقول: إنه تَعَمَّدَ، وفي شركائه مُخْطِئٌ. نعم، لو قال: لا أعْرِفُ عَدَدَهُمْ على التحقيق، ولكن أعلم أنهم لا يزيدون على عشرة، فَتُسْمَعُ الدَّعْوَى، وَيتَرَتَّبُ على تحقيقها المُطَالَبَةُ بعُشْرِ الدية، فإن ادعى ما يوجب القَوَدَ بأن قال: قَتَلَ عَمْدًا مع شركاء مُتَعَمِّدِينَ، ففيه وجهان: أصحهما: أنه يسمع دَعْوَاهُ؛ لأنه إذا حَقَّقَهَا، تمكَّنَ من مُطالَبَتِهِ بالقِصَاصِ، ولا يختلف ذلك بِعَدَدِ الشركاء. والثاني: المنع، ويحكى عن أبي إِسْحَاقَ؛ لأنه قد يختار الدِّيَةَ، فلا يدري حَقَّهُ منها، ومنهم من قال: إن قلنا: إن مُوجِبَ العَمْدِ القَوَدُ، فالمصير إلى سَمَاعِ الدعوى أَظْهَرُ، وربما أُشِيرَ إلى القَطْعِ [به] (¬1). وإن قلنا: مُوجِبُ العَمْدِ أَحَدُهُما اتَّجَهَ الوجهان؛ لأن أَحَدَ الموجبين غير معلومَ، وهذا ما أَوْرَدَهُ في الكتاب. قال الغَزَالِيُّ: الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ المُدَّعِي مُكَلَّفًا مُلْتَزِمًا، وَلا يَضُرُّهُ كَوْنُهُ جَنِينًا حالَةَ القَتْلِ إِذْ يُعرَفُ ذَلِكَ بِالتَّسَامُعِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إنما تُسْمَعُ الدَّعْوَى من المُكَلَّفِ دون الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ، ومن المُلْتَزِمِ، وهو المسلم، والذِّمِّيُّ (¬2). فأما الحَرْبِيُّ فلا يستحق قِصَاصًا، ولا دِيَةً، فليس له دَعْوَى الدَّمِ، ولا يَقْدَحُ كَوْنُ ¬
المُدَّعِي صَبِيًّا، أو مَجْنُونًا، أو جَنينًا حالَةَ القَتْلِ إذا كان بصفة الكَمَالِ عند الدَّعْوَى، فإنه قد يعرف الحال بالتَّسَامُعِ، ويمكنه أن يحلف في مَظَنَّةِ الحَلِفِ إذا عرف ما يحلف عليه بإقْرَارِ الجاني، أو بالسماع ممن يَثِقُ به، ولذلك نقول: من مَلَكَ عَبْدًا هو أكبر سِنًّا منه، ثم باعه فجاء (¬1) المشتري يَرُدُّهُ بِعَيْبِ الإِبَاقِ، له أن يَحْلِفَ بالله تعالى: ما هو آبِقٌ، وإنما يعرف ذلك بِسَماعِ حاله (¬2) من غيره. وكذلك لو اشترى عَيْنًا وقَبَضَهَا، فجاء من يَدَّعَي أنها مِلْكُهُ، ويطالب بالتَّسْلِيمِ، له أن يحلف أنه لا يَلْزَمُهُ التسليم؛ اعْتِمادًا على قول البائع. والمَحْجُورُ عليه بالسَّفَهِ، تُسْمَعُ منه دَعْوَى الدَّمِ، وله أن يَحْلِفَ ويحلّف، وأن يستوفي القِصَاص. وإذا آلَ الأَمْرُ إلى المَالِ، فيأخذه الوَلِيُّ، كما في دَعْوَى المال، يدعي السَّفِيهُ، وَيحْلِفُ ويحلَّف، والوَليُّ يأخذ المَالَ. قال الغَزَالِيُّ: الرَّابعُ أنْ يَكُونَ المُدَّعَى عَلَيْهِ مُكَلَّفًا، فَإنْ كَانَ سَفِيهًا صَحَّ فِيما يُقْبَلُ إِقْرَارُ السَّفِيهِ فِيهِ، وإن لَمْ يُقْبَلْ إِقْرارُهُ صَحَّ لِأَجْلِ إِنْكَارِهِ حَتَّى يُسْمِعَ البَيِّنَةَ وَيُعْرَضَ اليَمِينُ عَلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ إِذْ يَنْقَطِعُ الخُصُومَةُ بِحَلِفِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من شَرْطِ صِحَّةِ الدعوى أن يكون المُدَّعَى عَلَيْهِ مُكَلَّفًا، فلا يُدَّعَى على صَبِيٍّ ولا مجنون، ثم هاهنا مَسْأَلَتَانِ: إحداهما: إذا ادَّعى القَتْلَ على المَحْجُورِ عليه بالسَّفَهِ، نظر إن كان هناك لَوْثٌ على ما ستعرفه، فَتُسْمَعُ الدَّعْوَى، سواء ادَّعَى قَتْلًا عَمْدًا أو خَطَأً، أو شِبْهَ عَمْدٍ، ويقسم المدعي، ويكون الحكم كما في غير السَّفِيهِ، وإذا كان اللَّوْثُ قول شَاهِدٍ واحِدٍ، فيحلف المُدَّعِي معه، ويثبت المَالُ بالشاهد واليمين، وإن لم يكن لَوْثٌ. فإن ادعى قَتْلًا يوجب القِصَاصَ تُسْمَعُ دَعْواهُ؛ لأن إِقْرارَهُ بما يوجب القِصَاصَ مَقْبولٌ، فإن أَقَرَّ أُمْضِيَ حكمه [عليه] (¬3)، وإن [أنكر] (¬4) حلف، فإن نَكَلَ حَلَفَ المُدَّعِي، وكان له أن يقتصَّ. وإن ادَّعى خَطأً أو شِبْهَ عَمْدٍ، فهذا ينظر [فيه] (¬5) إلى أن إِقْرَارَ المَحْجُورِ بالإتلاف هل يقبل ويُؤاخَذُ [بها]؟ وفيه وجهان مذكوران في كتاب الحَجْرِ. وسواء قلنا: يُقْبَلُ أو لا يُقْبَلُ، فَيُسْمَعُ أَصْلُ الدعوى. ¬
أما إذا قبلنا إِقْرارَهُ، فليمض عليه الحُكْمُ وإن أَقَرَّ، ولتقام عليه البينة إن أنكر. وأما إذا لم نَقْبَلهُ، وهو الصحيح، فلتُقَام عليه البَيِّنَةُ إن أنكر، ثم إذا أنكر، فهل تُعْرَضُ اليمين عليه؟ يبني ذلك على أن يكون المُدَّعَى عليه، ويمين المدعي كَبَيِّنَةٍ يقيمها المُدَّعِي، أو كإقرار المُدَّعى عليه، إن قلنا كالبَيِّنَةِ، فتعرض، فإنه قد ينكل، فيحلف المدعي، ويكون كما لو أقام البَيِّنَةَ. ويحكى هذا عن أبي مَنْصُورِ بن مَهْرَانَ. وإن قلنا: كالإِقْرَارِ، ففيه وجهان: أَوْفَقُهُما لكلام أكثرهم: أنها لا تعرض؛ لأن العَرْضَ للحمل على الصِّدْقِ بالإقرار، والإقرار غير مَقْبُولٍ على الصحيح. وأصحهما عند صاحب الكتاب: العَرْضُ؛ لأنه قد يَحْلِفُ، فتنقطع الخُصُومَةُ في الحَالِ، هكذا، أَوْرَدَهُ الشيخ أبو حَامِدٍ وغيره، وعليه يَنْطَبِقُ إيراد صاحب الكتاب هاهنا، وفي "الوسيط"، إلا أنهم لم يذكروا أوْجُهَ عَرْضِ اليمين؛ تَفْرِيعًا على أن اليمين المَرْدُودَةُ كالإقرار. ومنهم من يُطْلِقُ الخِلاَفَ في سَمَاعِ الدعوى بالخَطَأِ، وشِبْهِ العَمْدِ من أصلها، ويَبْنِيهِ على الخلاف في أن إقراره بالإتْلاَفِ، هل يقبل؟ إن قلنا: نعم سمعت، وإلا فينبني على أن اليمين المردودة كالبينة أو كالإقرار، فليحمل هذا علي ما ذكره الأولون، فإنهم جميعًا مُتَّفِقُونَ على أنه لو أقام البَيِّنَةَ تسمع، وسَماعُ البينة مَسْبُوقٌ بِسَماَعِ الدعوى. المسألة الثانية: تُسْمَعُ دَعْوَى القَتْلِ على المَحْجُورِ عليه بالفَلَسِ، ثم إن قامت بَيِّنَةٌ أو كان هناك لَوْثٌ، وأقسم المدعي، فهو كغيره، ويُزاحِمُ المُسْتَحِقُّ بالمال الغُرَمَاءَ، وَإِنِ لم تكن بَيِّنَةٌ، ولا لَوْثٌ، فيحلف المُفْلِسُ، فإن نَكَلَ حلف المدعي، واسْتَحَقَّ القِصَاصَ إن كان المُدَّعَى قَتْلًا يوجب القِصَاصَ. قال القاضي الروياني: فإن عَفَا عن القِصَاصِ على مَالٍ، ثَبَتَ [المَالُ]، وهل يشارك به الغُرَمَاء؟ يُبْنَى على أن اليمين المَرْدُودَةَ بعد النُّكُولِ كالبينة فنعم، وإن قلْنا كالإقْرَار، فقَوْلان، كما لو أقرَّ المُفْلِس بعَيْن (¬1) في يَدِه أو بدَيْنٍ نسبه إلى ما قبل الحَجْر، وإن كان المدَّعَى قتل خطَأً أو شبْهَ عمْد، ثبت باليمين المردودة الدية، وتكون على العاقلة، إنْ جعلْناها كالبينة، وإن جعلْناها كالإقرار، فتكون على الجاني، وهل يزاحِمُ المدَّعِي بها الغرماء؟ فيه القولان، ومنْهم مِنْ يُطْلِق وجهَيْن من غير بناء على الأصْل المذكور وُيوجه الوجوب [على العاقلة بأنَّها تثبت بيمين المدَّعِي، فأشبه مَا لَوْ ثبت بالقَسَامة والوجوب في مالِهِ] (¬2)؛ بأنَّ اليمينَ بالمردودةِ نُقِلَتْ إلى المدَّعَى، بنكول المفْلِسْ فأشبه مَا لَوْ أَقَرَّ. ¬
ومسألة ثالثة: وهي دعْوى القَتْل على العبْد، قال في "التهذيب": إن كان هناك لوْثٌ، فتُسْمع، ويقسم المُدَّعي، ويقتص إن ادَّعى قتل عمد، وأوجبنا القِصَاصَ بالقسامة، وإلاَّ، إذا كان يَدَّعِي قتل خطأ، فتتعلَّق الدية برقية العبد، وإن لم يكن لوْثٌ، فدعوى القتل الموجِب للقِصاص تكونُ على العبد، ودعْوى القتْل الموجب للمَال تكون على السيد، وتمام المسألة يأتي في "باب الدعاوَى والبَيِّنَات". وقوله في الكتاب "صح" أي صحت الدعوى عليه. وقوله: "على الصحيح" يمكن ردُّه من جهة اللفْظ إلى قوله "صح" لأجل إنكاره؛ ويوافق ذلك قول "مَنْ أطلَقَ الخِلافَ في سماع الدعْوَى"، ويلزم منه [بيانُ] (¬1) إجراءِ الخلافِ في سماع البيِّنة، والذي يوافِقُ نظم "الوسيط" وما حكَيْناه عن الأصحاب أن يعلَّق قوله "على الصحيح" بقوله "وتُعْرَض اليمين عليه"، لا بما قبله [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: الخَامِسُ ألاَّ تَتَنَاقَضُ دَعْوَاهُ فَإنْ ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالقَتْلِ ثُمَّ ادَّعَى عَلَى غَيْرِهِ الشَّرِكَةَ لَمْ تُسْمَعُ الدَّعْوَى الثَّانِيَةُ لِأَنَّ الأُولَى تكَذِّبُهُ، فَلَوْ صَدَّقَهُ المُدَّعَى عَلَيْهِ ثانِيًا كَانَ لَهُ المُؤَاخَدَةُ عَلَى الصَّحِيحِ لِأَنَّ الحَقَّ لا يَعْدُوهُما، وَلَوِ اسْتَفْصَلَ في العَمْدِ فَفَصَلَهُ بِمَا لَيْسَ بِعَمْدٍ لَمْ تُبطِلْ دَعْوَاهُ أَصْلَ القَتْلِ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: ظَلَمْتُهُ بِأَخْذِ المَالِ وَفسِّرَ بِأنَّهُ كَذَبَ فِي الدَّعْوَى اسْتُرِدَّ، وَلَوْ فُسِّرَ بأَنَّهُ حَنَفِيُّ لا يَرَى القَسَامَةَ وَقَدْ أَخَذَ بِهَا لَمْ يُسْتَرِدُّ لِأَنَّ النَّظَرَ إِلَى رَأْيِ الحَاكِمِ لاَ إِلَى الخِصْمَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ومن شروط الدعوى سلامتها عما يناقضها وُيكَذِّبها، فلو ادَّعَى على شخْص أنه منفردٌ بالقتل، ثم ادعَى على آخر أنَّه شريك في القَتْل، أو منفردٌ به، لم تُسْمع دعواه (¬2) الثانية؛ لأن الأُوْلَى تكذِّبها، وتناقضُها، ولو لم يقسم على الأُولَى، ولم يمض حكْمٌ، فلا يُمكَّن من العَوْد إليها أيضًا؛ لأن الثانية تكذبها، ولو أن الثانيَ صدَّقه في دعواه الثانيةَ، فوجهان: أحدهما: أنه ليس له أن يؤاخِذَه بموجب تصديقه لأن في الدعْوى الأُولَى اعترافًا ببراءة غير المدَّعَى عليه. وأصحَّهما: أن له المؤاخذة؛ لأن الحقَّ لا يعدوهما، ويحتمل أن يكون كاذبًا في الدعوى الأُولَى قصْدًا أو غَلَظًا، صادقًا في الثانية. ثم في الفصْل صورتان: إحداهما: لو ادعَى قتلاً عمدًا، فاستُفْصِلَ، ففصَّله، ووصَف ما ليس بعمد، نقل ¬
المزنيُّ، أنه لا يقسم، ونقل الربيع أنه يقسم، وذكر الأصحاب طريقَيْن: أشهرهما: أن في بطلان أصْل الدعوَى قولَيْن: أحدهما: أنه يبطل، فلا يقسم، ولا يلتفت إلى قوله؛ لأن في دعْوى العمد به اعترافًا ببراءة العاقلة، فلا يتمكَّن من مطالبتهم آخرًا، ولأنَّ في دعوى العمْد به اعترافًا بأنّه ليس بمخطئ، فلا يمكنه الرجوع عنه وأصحُّهما: المنع؛ لأنه قد يَظُنُّ ما ليس بعمْد عمْدًا، فيتبيَّن بتفسيره أنه مخطئ في اعتقاده وأيضًا، فقد يكْذِب في الوصف، وَيصْدُق في الأصل، وعلى هذا، فيُعْتمد على تفسيره، ويمضي حكمه. والثاني: القطْع بالقول الثاني، وتأويل ما نقله المزنيُّ على أنه لا يقسم على ما ذكره أولاً، ويجري الطريقان فيما لو ادَّعَى الخطأ، وفسَّره بما هو عمْد، ولو ادعَى شبْه عمد، ثم فسَّره بما هو خطأ محْضٌ، وقلْنا: هناك بطريقة القولَيْن، فمنهم مَنْ أجراهما هاهنا، ومنْهم من قَطَع بأنه لا يُبْطِل الدعْوى؛ لأن قوله الأول يَقْتَضي زيادةً على العاقلة، ومن ادعَى زيادة، ثم رجع إلى قدْر الحقِّ لا تبطل دعواه فيه. ويجوز أن يُعْلم؛ للطريقة القاطعة قوله في الكتاب: "عَلَى أصحِّ الوجْهَيْن" بالواو، والتعبيرُ عن الخلاف بالوجهَيْن خلافُ المشهورِ. الثانية: لو ادَّعى القتلَ، وأخذ المال، ثم قال: ظلمتُه بأخذ هذا المال أو أخذتُه باطلاً، أو ما أخذتُهُ حرامٌ لي، سُئِلَ عنه، فإن قال: كذَبْتُ في الدعْوَى وما هو بقاتل، اسْتُرِدَّ منه ما أخَذَ، وإن قال: أردتُّ أني حنفيٌّ، لا أرى أخْذ المال بيمين المدَّعي عَلَى ما سنَحْكِي مذهب أبي حنيفة لم يُسْتَرَدَّ؛ لأن النظرَ إلى رأي الحاكم واجتهادِهِ لا إلى مذْهب الخصمَيْن واعتقادهما وذكروا للصورة نظائرَ: منها: ما إذا ماتَ إنسان، فقال ابنه: لسْتُ أرثه؛ لأنه كان كافرًا، فاستُفْصِل عن كُفْره، فقال: كان معتزليًا أو رافضيًا، فيقال له: لك ميراثه وأنْتَ مخطئٌ في ظنِّك، والاعتزالُ والرفض ليس بكفْرِ، هكذا حكى القفَّال، وعليه جَرَى القاضي الرويانيُّ وصاحب "التهذيب" وغيرهما، قال الفورانيُّ: مِنْ مشايخنا مَنْ يقول بتكفير أهْل الأهواء، فعلى قوْل مَنْ قال به؛ يَحْرُمُ الميراث (¬1). ومنها: إذا قضى الحنفيُّ للشافعيِّ بشفعة الجار، فأخذ الشِّقْصَ، ثم قال: أخذتُه ¬
فرع
باطلاً؛ لأني [لا] (¬1) أرى الشُّفْعة بالجوار؛ لا يُسْتَرَدَّ منه. ومنها: إذا مات عن جارية استولَدَها بالنكاح، فقال وارثه: لا أتملَّكها، فإنها صارتْ أمَّ وَلَدٍ له، وعَتَقَت بالموت، فيقال: هي مملوكتك، فلا تصير أمَّ ولد باستيلادها بالنكاح. واعلَمْ أن جميع ما ذَكَرْنا فيما يتعلَّق بالحُكْم الظاهر، فأما الحل (¬2) الباطن، إذا حكم الحاكم في مواضع الخلافِ لشَخْصٍ على خلاف ما يعتقدُه، كحكم الحنفيِّ للشافعيِّ بشفعة الجوار، ففي ثبوته خلافٌ وكلام (¬3) الأئمة هاهنا يميل إلى ثبوته، وأجاب صاحبُ الكتاب في "أدب القاضي" بالمَنْع وسنذكره إن شاء الله تعالى. ولو قال: أردتُّ بقولي: حرام؛ أنه مغصوب، فإنْ عيَّن المغصوب منه، وجب عليه تسليمُه إليه، ولا رجوعَ له على المأخوذ منه؛ لأن قوله لا يقبل عليه، وإن لم يعين أحدًا، فهو مالٌ ضائعٌ؛ وفي مثله خلافٌ مشهورٌ، والجوابُ في "الشامل": أنه لا يلزمه رفع اليد عنه؛ ولو قال بعْد ما أَقْسَمَ نَدِمْتُ على الأيمان، لم يلزمه بهذا شيْءٌ. " فَرْعٌ" ادَّعَى القتل عَلَى رجُل، وأقسم، وأخَذَ المال، ثم جاء آخر، وقال: إنَّ المحلوف عليه لم يَقْتُل مُوَرِّثك، وإنما أنا قتلتُه، فإن لم يصدِّقه الوارث، لم يؤثِّر إقراره فيما (¬4) جرى، وإن صدَّقه، فعليه ردُّ ما أخذ، وهل له الدعْوَى على الثاني ومطالبته؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأن الدعوَى على الأول اعترافٌ ببراءة غيره. والثاني: نعم؛ لأنه ربما بَنَى الدعوى الأولَى على ظنٍّ حَصَل له، وإقرارُ الثاني يفيدُ اليقين أو ظنًا أقْوَى من الظنِّ الأول، فجاز أن يَعْدِل إليه من الأول، وهذا كالخلاف المذكور فيما إذا ادعى الانفرادَ عَلَى واحد ثم الشركةَ عَلَى آخَرَ، وصدَّقه الثاني، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: النَّظَرُ الثَّانِي فِي القَسَامَةِ وَفيهَا أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ الرُّكْنُ الأَوَّلُ فِي مَظَنَّتِها وَهِيَ قَتْلُ الحُرِّ فِي مَحَلِّ اللَّوْثِ فَلاَ قَسَامَةَ فِي المَالِ والأَطْرَافِ، وَفِي العَبْدِ قَوْلاَنِ، واللَّوْثُ قَرِينَةُ حَالٍ تُغَلَّبُ الظَّنِّ كَقَتِيلٍ فِي مَحَلَّةٍ بَيْنَهُم عَدَاوَةٌ أَو قَتِيلِ دَخَلَ صَفًّا وتَفَرَّقَ عَنْهُ جَمَاعَةً مَحْصُورُونَ، أَو قَتِيلٍ فِي صَفِّ الخَصْمِ المُقَابِلِ، أَوْ قَتِيلٍ في الصَّحْرَاءِ وَعَلَى ¬
رَأْسِهِ رَجُلٌ مَعَهُ سِكِّينٌ، وَقَوْلُ المَجْرُوحِ: قَتَلَني فُلانٌ لَيْسَ بِلَوْثٍ، وَقَوْلُ وَاحِدٍ مِمَّن تُقبَلُ شَهَادَتُهُ لَوْثٌ، وَقَوْلُ جَمْعٍ مِمَّن تُقبَلُ رِوَايَتُهُم لَوْثٌ، والقِيَاسُ أَنَّ قَوْلَ وَاحِدٍ لَوْثٌ، وَأَمَّا عَدَدٌ مِنَ الصِّبْيَةِ والفَسَقَةِ فِيهِمُ خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيّ: قال الأئمة: القَسَامَةُ في اللُّغة: اسمٌ للأولياء الَّذين يَحْلِفُون على دعوى الدم، وفي لسان الفقهاء هي اسم للأَيْمَان. وقال صاحب الصِّحَاح: القَسَامَةُ هي الأَيْمَانُ تُقَسَّم على الأولياء في الدَّم، وعلى التقديرَيْنِ، فهي (¬1) اسم أُقِيمَ (¬2) مُقَام المصْدَر، يقال: أَقْسَمَ إقْسَامًا وقَسَامَةً، كما يقال: أكْرَمَ إِكْرَامًا وكَرَامَةً. قال الإِمام: ولا اختصاص لها بأيمان الدِّماء، إلا أن الفقهاء استعملُوها فيها، وأصحابُنا استعملُوها في (¬3) الأيمان الَّتي تقع البدايةُ فيها بالمُدَّعِي. وصورتُها: أن يوجد قتيلٌ في موضعٍ لا يُعْرَف مَنْ قَتَلَه، ولا يقُوم عليْه بيِّنةٌ، ويدَّعِي الوليُّ قتْلَه على واحدٍ أو جماعة، ويقترن بالواقعةِ ما يُشْعر بصدْق الوليِّ في دعواه، ويقال له اللَّوْث، فيحلف على ما يَدَّعيه، ويُحْكَمُ بما سنذكره، وساعدنا على ذلك مالك وأحمد. وعنْد أبي حنيفة: لا اعتبار باللَّوْث، ولا يبدأ بيمين المُدَّعِي، وإذا وجد قتيلٌ في محِلَّة أو قرية، وادَّعَى وليه قتْلَه على رَجُلٍ أو جماعةٍ بأعيانهم، فيختار الإِمام، ويقال ويختار الوليُّ خمسين رجلاً من صلحاءِ تلْك البقعة، فيَحْلِفون خمسين يمينًا أنَّهم ما قتَلُوه، ولا عَرَفُوا قاتِلَه، فإن نقَصُوا عن الخمسين، كرر الأيمان حتى يتم خمسين، وإذا حَلَفُوا وجَبَتِ الديةُ عَلَى عاقلة مِنْ بَنِي تلْك الخُطَّة، فإن لم يعرف الثاني، أو لم توجَدْ عاقلته، أخذتِ الدية من سكان ذلك المَوْضِع، وفيهم الحالِفُون في ثلاثِ سِنِينَ، وإن لم يحْلِفوا، حُبِسُوا حتَّى يحلفوا أو يُقِرُّوا. قال: وإن وجد القتيلُ في مسْجِدٍ أو شارعِ سُوقٍ، فتؤخَذُ الديةُ من بيت المال. وإن وُجِدَ في دارٍ، أخذتِ الديةُ من عاقلة رَبِّ الدار، وربما قالوا: من عاقلة مَنْ في الدار. وإن وُجِدَ في دارِ نفْسِهِ، فالديةُ على عاقلته، وإن وجد بين (¬4) قريتَيْنِ، فالقسامةُ على أقربهما منْه. وإن وُجِدَ في مفازة بعيدةٍ عن العمران، فهو هدَرٌ، هذا هو معْنَى القسامةِ عنْده، وفيه إثباتُ الدعوَى من غير تعيينْ المدَّعَى عليهم، والحبس لليمين والتَّغْريم مع أنه لم ¬
تتوجَّه عليهم حجَّة، ومع أنهم حلَفُوا على أنه لا شيْء عليهم، والدليلُ على أنه يبدأ بيمين المُدَّعِي ما رُوِيَ عن سهْل بن أبي خثمة أن عبد الله بن سهْلٍ ومحيصة بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- خرجَا إلى خيبر فتفرَّقا لحاجتهما، فقُتِلَ عبْدُ الله، فقال محيصةُ لليهود: أنتم قتلتموه، فقالوا: ما قتَلْنَاه، فانطلَقَ هو وأخُوه حويصة وعبد الرحمن بن سهل أخُو المَقْتُول -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- إلى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فذكَرُوا لهُ قتْل عَبْدِ الله بْنِ سَهْل، فقال: تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا، وتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ نَشْهَدْ، وَلَمْ نَحْضُر، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فَيَحْلِفُ (¬1) لَكُمُ اليَهُودُ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَقْبلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ؟ فذكر أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَدَاهُ مِن عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِمائَةِ ناقَةٍ، قَالَ سَهْلٌ: لَقَد رَكَضَنِي مِنها ناقَةٌ حَمْرَاءٌ (¬2) ويروى [فَيُقْسِمُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُنْفَعُ ألِيكم بِرمَّته ويروى] (¬3) أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي، والْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إلاَّ في القَسَامَةَ" (¬4) هذا هو القول الجُمَليُّ في القسامة، وإذا طلبتَ التفْصيل احتجْتَ إلى معرفة محَلِّ القسامة، ومظَنَّتها، ثم إلى معرفة كيفيتها، ثم إلى معرفة حُكْمها وفائدتها، ثم معرفة مَنْ يُقْسِم، فهذه أركان النَّظَر في الباب، فلذلك قال في الكتاب: "وفيها أربعة أركان، الركن الأول مظنتها" وفيه ثلاثة قيود: ¬
أحدها: القتل؛ فلا قسامة في إتْلاف الأمْوال، ولا فيما دُون النَّفْس من الجراحاتِ والأطرافِ بل القول فيها قولُ المُدَّعَى عليه مع يمينه، سواء كان هناك لَوْثٌ أو لم يكُنْ، لأن البداية بيمين المُدَّعِي خلافَ القياس والنصِّ، وإنما وَرَدَ في النفْس، وحرمةُ النفس أعظمُ من حرمة الأطرافِ، ولذلك افترقا في وجوب الكفَّارة، فلا تلحق غير النفْس بالنفْس، وفي "جمع الجوامع" للقاضي الروياني أن بعض أصحابنا ذَكَر في الخلافيَّات وجهًا آخر في الأطْرَاف، وغلَّط قائله، وبنى على المذْهَب أنه لو جرح مُسْلِمٌ فارْتدَّ، ثم مات بالسراية، لم تجز القَسَامةُ؛ لأن الواجب ضمان الجراحة، والنفسُ صارتْ مهدرةً ولو عاد إلى الإسْلام، ثم مات جرتِ القَسَامةُ، سواءٌ أوجبنا كمال الدية أو لم نوجبْها؛ لأن الواجِبَ بدَلُ النفْس، وكذا الحكْم فيما لو جرح ذميٌّ فنقض العهد ثم مات أو جدَّد العهْد، ثم مات. الثاني: مصادفة القَتْل الحُرَّ، فلو قتل العبْدُ، وهناك لوْثٌ، فادعى السيِّد على حرٍّ أو عبْدٍ أنه قتله، فهل يُقْسِم؟ فيه طريقان: أشهَرُهما: أنه على القولَيْن في أن بدل العبد هل تحمله العاقلة، إن قلْنا: لا، فقَد ألحقناه بالبهائم وسائر الأموال، فلا (¬1) يجري في قتله القسامة، وإنْ قلنا: نعم، وهو الأصح، فيُقْسِم السيِّد، وهو المنصوص، وبه قال أبو حنيفة. والثاني: القَطْع بأنه يُقْسِم، ولا يُخَرَّج على الخلاف في التحمُّل، وبه قال القاضي أبو حامد؛ وذلك لأنَّ القسامةَ لحفْظ الدماء وصيانتها، وهذه الحاجةُ تشمَلُ العبيد والأحرار، فأشبهتِ القسامةُ القصاصَ ووجوب الكفَّارة، وتَحمُّل العقْلِ لقطْع الفتنة، فإنَّ أولياء القتيل يَقْصِدُون الجاني وقومه، إذا لم تصلْ حقوقُهم إليهم، وقد لا تستقلُّ العاقِلَة بإيصال حقوقهم، فأمروا بالتحمُّل حسمًا لمادة الفتنة، [ولا يخاف من السيِّد الفتنة]؛ فإنَّ مقصود الساداتِ من العبيدِ المالية وإذا قلنا بالأصحِّ، فحُكم المدبَّرة والمستولَدَة حُكْم القِنِّ، وكذا المكاتَب؛ لأنَّ الكتابةَ تنفسخ بالمَوْت، وإذا أقسم السيِّد، فإن كانت الدعوَى على حُرٍّ، أخذت الدية من ماله في الحال، إن ادَّعَى العمْد المحْض، وإن ادَّعَى الخطأَ أو شبْه العَمْد، أخذها من عاقلة في ثلاث سنين، وإن كانتِ الدعوَى على عبْدٍ، فإن ادَّعَى العمْد المحض، ففي القصاصِ الخلافُ في ثبوت القصاص بالقَسَامة، وإذا قلْنا بالمنع، وهو الصحيح، أو كان قد ادَّعَى الخطأ أو شبه العمد، تعلَّقت القيمة برقبته. وذكر الرويانيُّ أنَّ المُحامليَّ حكَى في "المقنع" قولاً أنّ العاقلةَ تتحمَّل من العمْد جنايته الخطأ، وحمله على خطأ (¬2) الكاتب. ¬
الثالثةُ: كونُهُ في محلِّ اللَّوْث؛ فإن لم يكن لَوْث، لم تبدأ بيمين المُدَّعي، واللوثْ قرينة حال تبين الظن، وتوقع في القلب صدْق المُدَّعِي، وله طرق: منْها: أن يوجد قتيل في قبيلة أو حصْنٍ أو قريةٍ صغيرةٍ أو محلَّةٍ منفصلةٍ عن البلد الكبير، وبيْن القتيل وبيْن أهلها عداوةٌ ظاهرةٌ، فهو لوثٌ في حقِّهم، حتى إذا ادَّعَى الوليُّ القتل عليهم أو على بعْضِهم كان له أن يُقْسِم وكذا (¬1) كان الحال في قصَّة عبد الله ابن سهْل -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فإنَّ أهل خيبر كانُوا أعداءً للأنْصار -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- ويشترط ألاَّ يساكِنَهُمْ غيرهم؛ ليكون لَوْثًا في حقِّهم، وإلا، فربما قتلَهُ غيرهم، وإن كان القتيلُ عدوًّا لهم، ومنهم مَنْ يقول: الشرط أن لا يخالطهم غيرهم، حتى لو كانَتِ القريةُ على قارعة الطريق، وكان يطرُقُها غيرهم، فلا لَوْث، وعلى الأول، لا بأس بمخالطة المجتازِينَ للحاجَاتِ؛ كالتجارة وغيرها، وهو الأوجه (¬2) فإن خيبر، كانَتْ يطْرُقُها الأنصار. ومنْها: تفرُّق جماعةٍ عن قتيل في دَارٍ كان قد دخَل عليهم حنيفًا أو دخَلَها معهم في حاجة أو في مسْجِدٍ أو [في] (¬3) بستان أو طريقٍ أو في (¬4) الصحراء، فهو لَوْث، وكذا لو ازدحم قوْمٌ على رَأْس بئر للاستقاء أو على باب الكَعْبة أو في الطواف أو في مَضِيق، ثم تفرَّقوا عن قتيل؛ لأنَّه يغلب على الظن أنَّهم قتلوه أو بعْضُهم قتَلَه قصْدًا أو دوسًا بالأقدام؛ ولا يُشْتَرِط في هذا الطريق أن يكون بيْنَه وبيْنَهم عداوة. ومنْها: إذا تقابل صفان يتقاتلان، وانكشفوا عن قتيل مِنْ أحد الصفَّيْن، فإن التحموا، واختلطَ بعْضُهم ببعض أو كان يَصِلُ سلاح أحد الصَّنْفَيْن إلى الآخَر، إما رمِّيًّا أو طعْنًا أو ضرْبًا، فهو لوْثٌ في حق أهل الصفِّ الآخر؛ لأن الظاهر أن أهل صفِّه لا يقتلونه، وإن لم يلتَحِموا، ولا كان يَصِلُ السلاح، فاللوث في حق [أهل] (¬5) صفه. ومنها: إذا وجد قتيلٌ في الصحراء، وعنده رجُلٌ معه سلاحٌ متلطِّخ بالدم أو على ثَوْبِه أثر الدم، فهو لوث، وإن كان بقربه سبُعٌ أو رجُلٌ آخر مُولٍ ظَهْرَه أو وُجِد أثر قدَمٍ أو ترشيش دم في غير الجهة التي فيها صاحبُ السلاح، لم يوجِبْ ذلك اللَّوْثَ في حقِّه، ولو رأينا [شيئًا] من بعيد (¬6) رجلاً يُحرِّك يده، كما يفعل مَنْ يضرب بالسيف أو السِّكِّين، ثم وجدْنا في الموضع قتيلاً، فهو لوث في حقِّ ذلك الرجل. ¬
ومنها: إذا شهد عدْلٌ بأن فلانًا قتل فلانًا، فهذا لوْثٌ، ولو شهد جماعةٌ ممن تُقبَلُ روايتهم؛ كالعبيد والنسوة، فإن جاؤوا متفرقين، فكذلك؛ لأن الغالِبَ أن اتفاق أقوالهم لا يصدُر إلا عن حقيقة، وإن جاؤوا دفعةً واحدةً، فوجهان (¬1): أشهرهما: المنع؛ لاحتمال أنهم تواطؤوا أو لقنوا، وأقواهما أنه لوْث؛ لأنه يثير نوْعَ الظنِّ، واحتمال التواطؤِ كاحتمال الكذِبِ في شهادة العدْل الواحِدِ، وهذا ما يوافقه إطلاقُ صاحب الكتاب، وكذلك أطلق الشيخُ أبو حامد، وفي "التهذيب" أن شهادة اثنَيْنِ من العبيد والنسوةِ كشهادة الجَمْع. وقال في الكتاب: "والقياس أن قوْلَ واحدٍ منهم لوْثٌ أيضًا"، ويشبه أن يُرتَّب هذا على الوجهين فيما إذا جاء جَمْعٌ منهم، وشهِدُوا مجتمعِينَ، فإن لم نجعلْه لوثًا، لم نجعل قول الواحد منهم لوْثًا، وأما الَّذين لا تُقْبَل روايتُهم؛ كالصِّبْية والفَسَقة وأهل الذمة، فهل يكون قولُهم لوثًا؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو المذكور في "التهذيب": المنع؛ لأنه لا اعتبار بقَوْلِهِم في الشَّرْع. وأرجحهما على ما قاله ابن الصبَّاغ وغيره: نعم؛ لأن الغالب أن اتفاق الجماعة الكبيرة على الإخبار عن الشيء كيف كان لا يكون إلا عن حقيقة، واختلفتِ الروايةُ عن أبي إسحاق، فمنهم مَنْ روَى عنه الوجْه الأوَّل، ومنهم مَنْ روَى عنه الثَّانِيَ وعنْ "المنهاج" للشيخ أبي محمَّد؛ أنه يحصُل اللوْث بقَوْل الصِّبيان والفسقة دون الكفار وليس من موجبات اللوث قولُ المجروح: جرَحَنِي أو قتَلَنِي فلانٌ أو دَمِّي عند فلان؛ لأنه منعٌ، فلا يعتمد قوله، وقد يكون بينه وبين غيره عداوةٌ فيقصدُ إهلاكه. وقال مالك: هو لَوْث. ولْيعلَمْ قوله في الكتاب: "والأطراف" بالواو [للوجه المذكور] (¬2). وقوله "قولان" في مسألة العبد، بالواو؛ للطريقة القاطعة بجريان القَسَامة في "شرح مختصر الجوينيِّ" أن ابن سريج وأبا إسحاق يَذْهَبَان إليها. ¬
وقوله "يغلب على الظن" أي صدق المُدَّعِي. وقوله "كقتيل في محِلَّةِ بينهم عداوة" يجوز أن يُعْلَم بالميم. كذا جميع طرق اللوث المذكورة في الكتاب، سوى شهادةِ العَدْل الواحد؛ لأن صاحب "البيان" نقل عن مالك أن شيئًا منْها ليْس بلَوْثٍ سوى شهادة العَدْل الواحد [وقولها "تَفَرَّقَ] عنْه جماعةٌ محصُورون" كان الإشارة بلفظ "المحْصُورين" إلى أن الجماعة لو كانوا بحَيْث لا يُتصوَّر اجتماعُهم على القتل، فلا تسمع الدعوَى عليهم، ولا يُمَكَّن من القسامة عليهم على ما مَرَّ، ولو ازدحَمَ الجمْعُ الذين لا يُتصوَّر اجتماعُهم على القَتْل في مضيق وتَفرَّقوا عن قتيل، فادعى الوليُّ القتْلَ على عددٍ منهم يُتصوَّر اجتماعهم على القتْل، فينبغي أن يُقْبَل (¬1) ويُمَكَّن في القسامة، كما لو ثبت اللَّوْث في حقّ جماعة محصورين، وادَّعى الوليُّ القتل على بعضهم. وقوله: "أو قتيلٍ في صفِّ الخَصْم المقابل" قد يفهم منه أنه وجد في صف الخصم المقابلين لصفة، لكنه ليس بشَرْطٍ، بل لا فرق بين أن يوجد في صَفِّ نفسه أو صفِّ الخَصْم أو بين الصفين فالمعنى: وقتل كان في صفِّ الخصم المقابل. وقوله: "وعلى رأسه رجلٌ معه سِكِّينٌ" لم يتعرَّض لتضمخه بالدم، وعرض له في "الوسيط" ولذلك ذكر أكثرهم تَلَطُّخ السكِّين أو يلطُّخ الثوب، ولا يَبْعُدُ أن لا يشترط ذلك. وقوله "ليس بلوث" [مُعْلَم] (¬2) بالميم. وقوله "وَقَوْلُ واحد ممن تُقْبَلُ شهادَتُه لَوْثٌ" يمكن أن يُعْلَم بالواو؛ لأن صاحب "التتمة" قال: إذا شهدتما بما يدعيه عدْلٌ واحدٌ، فيُبْنَى على اختلاف الأصحاب في الشاهد واليَمِينِ؛ في أنَّ الحُكْم يقع بالشهادةِ واليمينُ مرجِّحَة، أو يقع باليمين أو بهما، إن قلنا: الحكْم يقع باليمين، والشهادةُ مرجِّحة، كان ذلك لوثًا، وإن قلْنا: الحكم بالشهادة أو بهما، لم يكن لَوْثًا، ولكن يحلف المدَّعِي مع شاهده، إلا أنه لا يثبت القصاص، ثم إن شَهِد العدْل الواحدُ بعْد دعوى المدَّعِي، فاللوث حاصل، وإن تقدم قول العدل على الدعْوَى، فينبغي أن يُكْتَفَى به؛ لحُصُول اللوث، ولا يُجْعَل السبيلُ فيه سبيلَ الشهادات المخصوصة بمَجْلِس الحُكْم المسبوقة بالدعْوَى، وفي لفظ الكتاب إشْعَارٌ به؛ حيث قال: "وقول واحدٍ ممَّنْ تُقْبل شهادتُه لوْثٌ"، وكذا الحال في قول العبيد والصبية؛ فلا ينبغي أن يفرق بين أن يتقدَّم على الدعْوَى أو يتأخَّر. وقوله "وقول جَمْعٍ ممن يُقْبَل روايتهم لوْثٌ" يجوز إعلامه بالواو؛ للوجه الفارق [والله أعلم]. ¬
فروع
" فُرُوعٌ" ذكر في "التهذيب": أنه لو وقَع في ألسن الخاصِّ والعامِّ أنَّ فلاناً قَتَلَ فلاناً، فهو لوث عليه، ولا فرْق في القَسامة بيْن أن يَدَّعِيَ المُسْلِم على المُسْلِم، أو يكون أحدُهما كافرًا، وعن مالك: أنه لا يُقْسِم الكافرُ على المُسْلِم، قال الإِمام: وإذا عايَنَ القاضِي ما هو لَوْث، فله الاعتماد عليه، ولا يخرج على الخلاف في قضائه بعلْمه؛ لأنه يقضي بالأَيْمَان، وفي "التتمة": أن القتيل إذا وُجدَ قريبًا من قرية، وليس هناك عمارة أخرَى، ولا من يقيم في الصحراء، ثَبَت اللوث في حقِّهم، يعني إذا وجدت العداوةُ [وكنا] نحكم باللوث [إذا] وجد القتيل فيها، فكذلك إذا وجد قريبًا منها، قال: ولو وجد قتيلٌ بين قريتَيْنِ أو قبيلتين، ولم يُعْرَف بينه وبين واحدةٍ منها عداوةٌ؛ فلا يجْعَل قُرْبه من إحداهما لوثاً؛ لأن العادة قد جَرَتْ بأن يُبْعِدَ القاتلُ القتيلَ عن فنائه؛ ويثقله إلى بقْعة أخْرَى دفْعاً للتهمةِ عن نفْسِه، وما رُوِيَ في الخبر والأثَر على خلاف ما ذكَرْنا، فإن الشافعيَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لم يثبت إسناده. قال الغَزَالِيُّ: وَأَمَّا مُسْقِطَاتُ اللَّوْثِ فَخَمْسَةٌ: الأَوَّلُ: أَنْ يَتَعَذَّرَ إِظْهَارُهُ عِنْدَ القَاضِي فَلَوْ ظَهَرَ عِنْدَ القَاضِي عَلَى جَمْعٍ فَلِلْمُدَّعِي أَنْ يُعَيِّنْ، فَلَوْ قَالَ: القَاتِلُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَحَلَفُوا إلاَّ الواحِدَ فَلَهُ القَسَامَةُ عَلَى ذَلِكَ الوَاحِدِ لأَنَّ نُكُولَهُ لَوْثٌ، فَلَوْ نَكَلُوا جَمِيعاً فَقَالَ ظَهَرَ لِي الآنَ لَوْثٌ مُعَيَّنٌ وَقَدْ سَبَقَ مِنْهُ دَعْوَى الجَهْلِ فَفِي تَمْكِينِهِ مِنَ القَسَامَةِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد توجدُ الأمارةُ المشْعِرةُ بصدْق المُدَّعِي، لكنْ يعارضُها ما يُسْقِط أثرها، ويُبْطِل الظنَّ الحاصل بها عنْد تجريد النَّظَر [إليها]، فتكلم بعْدَ الكلامِ في الأماراتِ في الأمور التي يُسْقِطها، وعدَّها خمسة: أوَّلُها: أن يتعذر إثباته عند القاضي، ولا يَخْفَى أن تسمية تَعَذُّر الإثباتِ مُسْقِطاً توسُّعٌ وتساهُلٌ، وأنه إذا لم يثبُتِ اللوْث، لم يُمَكَّن المُدَّعِي من القَسَامة، وإذا ظهر اللَّوْث في حقِّ جماعة، فللوليِّ أن يعين بعضَهم منْ واحدٍ أو أكثر، ويدَّعِي عليه؛ لأن اللَّوْث كذلك يظهر؛ وقليلاً ما يتفق اختصاصُه بالشَّخْص الواحد، لكن لو قال الوليُّ: القاتل أحدهم ولست أعرفه، لم يتمكن من القسامة، وله أن يُحَلِّفهم، فإن حلَفوا، إلا واحدًا منْهم، فنكلوه يُشْعِرَ بأنه القاتل، ويكون لَوْثاً في حقِّه، فإذا طلب المدِّعِي أن يُقْسِم عليه، مُكِّن منه، ولو نكل الجميعُ ثم عيَّن المُدَّعِي أحدَهم وقال: قد بَانَ لي أنه القاتِل، وطلب أن يُقْسِم عليه؟ فوجهان: أحدهما: أنه لا يُمكَّن منه؛ لأنه قد اعترف بالجَهْل أولاً. وأشبههما: التمكينُ؛ لأن اللوث حاصلٌ في حقِّهم جميعًا، وقد يَظْهَر له بعْد
الاشتباه أنَّ القاتل هو الذي عينه، ويقْرب هذا الخلافُ من الخلاف فيما إذا قال المُدِّعِي: لابينة لي، ثم جاء ببينة. قال الغَزَالِيُّ: الثَّانِي: إِذَا ظَهَرَ اللَّوْثُ فِي أَصْلِ القَتْلِ دُونَ كَوْنهِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا يُمْنَعُ مِنَ القَسَامَةِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ إِذْ لَيْسَ بتَعَيَّنُ للْخِطَابِ العَاقِلَةُ وَلا الجَانِي. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا ظهر اللوْث في أصل القتل دون كونه خطأً أو عمْداً، فهل يتمكَّن الوليُّ من القسامة على أصل القتل؟ ذكروا فيه وجهَيْن: أحدهما: نعم؛ لأنه إذا ظَهَر القاتلُ، خرج الدم عن كونه باطلاً مُهْدَراً. وأظهرهما: المنع؛ لأن مطْلَق القتْل لا يفيد مطالبةَ القاتل، بل لا بُدَّ من ثبوت العمْدية، ولا مطالبة العاقلة، بل لا بد وأن يثبت كونُه خطا أو شبْهَ عَمْدٍ، وههنا كلماتٌ. إحداهما: إنْ مكَّنَّاه من القسامة على أصْل القتْل، فعدمُ ظهور اللوث في صفة القتْل، ليس مانعاً منْ أصْل القَسَامة، ولا مُسْقِطاً أثر اللَّوْث، وإن لم يمكنْه، فاللوث المعتبَرُ لمْ يحْصُل، ففي تسميته مُسقِطاً تساهُلٌ وتوسُّع. والثانية: قدَّمْنَا أن الدعوَى لا بد، وأن تكون مفصَّلةً، وأشرْنا إلى خلاف فيه، فإن ادَّعَى الوليُّ وفصَّل، وظهرتِ الأمارةُ المُشْعِرة بما يدعيه، فذاك، وإن فصَّل، وظهَرَتْ أمارة أصل القتل دُون الصفة، ففي القسامة على ما ظَهَرت أمارتُه، هذا الخلاف، وإن احتملْنا كونَ الدعوَى مجهولةً, فإذا أطلق الدعوَى، وظهر اللوث في مطْلَقِ القتْل، فيجيء هذا الخلاف، وعلَى هذا التصوير ينطبق ما ذكره صاحب "التهذيب": أنه لو ادعَى على رجُلٍ أنه قتل أباه، ولم يقل (¬1): عمدًا ولا خطأ، وشهِدَ له شاهدٌ، لم يكن ذلك لوْثاً؛ لأنه لا يمكنه أن يحْلِف مع شاهده، ولو حَلَف لا يُمْكِن الحكم به؛ لأنه لا يَعْلَم صفة القتل، حتى يستوفي موجِبَه، هذا لفظه. والثالثة: ما ذَكَرْناه في الفصْل يَدُلُّ على أن القسامة على القَتْل الموصوفِ تستدعي ظهورَ اللوث في القتل الموصوف، فقد يُفْهَم ما أطلقه الأصحابُ أن اللوْث في أصْل القتل، إذا ظهر، كَفَى؛ لتمكُّن الوليِّ من القسامة على القتل الموصوف، وما هو ببعيد؛ ألا ترى أنا ذَكَرْنا أنه لو ثبَتَ اللوْثُ في حقِّ جماعة وادَّعى الوليُّ على بعضهم، جاز ويُمَكّن من القسامة، فكما لا يعتبر ظهُور اللوث فيما يَرْجِع إلى الانفراد والاشتراك، جاز ألا يُعْتبر ظُهُور (¬2) اللوث فيما يرجع إلى صفتَيِ العمْدِ والخطأ. ¬
قال الغَزَالِيُّ: الثَّالِثُ أَنْ يَدَّعِيَ الجَانِي كَوْنَهُ غَائِبًا فَإذَا حَلَفَ سَقَطَ بِيَمِينِهِ أَثْرَ اللَّوْثِ، فَإنْ أَقَامَ عَلَى الغَيْبَةِ بِيِّنَةً بَعْدَ الحُكْمِ بِالقَسَامَةِ نُقِضَ الحُكْمُ، وَلَوْ كَانَ وَقْتَ القَتْلِ مَحْبُوساً أوْ مَرِيضاً وَلَمْ يُمْكِنْ كَوْنُهُ قَاتِلاً إِلاَّ عَلَى بُعْدٍ فَفِي سُقُوطِ اللَّوْثِ بِهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا أنكر المُدَّعى عليه اللَّوْث في حقِّه بأن قال: لم أكنْ مع القوم الَّذين تفرَّقوا عن هذا القتيل، أو لسْتُ الرجُلَ الذي وُجِد على رأْسه، وفي يده السكِّينَ المتضمخ بالدم أو لَسْت الذي رُئي من بعيد يضربه فعلى المدَّعِي البينةُ على قيام الأمارة التي يدَّعيها، فإن لم تكن بيِّنةٌ، حلف المدَّعَى عليه على نفْيها، وسقَط اللَّوْث، ويبقَى مجرَّد الدعْوَى. ولو قال: كنت غائباً يوم القتل أو ادَّعَى على جمع، فقال أحدهم: كنتُ غائباً، فيصدَّق بيمينه؛ لأن الأصل براءةُ ذمته، وعلى المدَّعِي البينةُ على حضوره يومئذ، أو على إقراره بالحضور، فإن أقام المدَّعِي بينةً على حضوره، والمدَّعَى عليه بينةً على الغَيْبَة، ففي "الوسيط" أنهما يتساقَطَانِ، وقال في "التهذيب": بينة الغيبة مقدَّمة؛ لأنَّ معها زيادةُ عِلْمٍ، وهذا عند الاتفاق على أنه كان حاضراً منْ قَبْل، ويُعْتبر في بينة الغيبة أن يقولوا: إنه كان غائباً إلى مَوْضع كذا، أما لو اقتصروا على أنه لم يَكُنْ ههنا، فهذا نفْىٌ محضٌ لا تسمع الشهادة به (¬1). ولو أقسم المدَّعِي، وحكم الحاكم بموجِب القسامة، ثم أقام المدَّعَى عليه البينةَ على غيبته يوم القتل، أو أَقَرَّ المُدَّعِي نقض الحُكْم، واسترد المال، وكذا لو قامتِ البينةُ على أن القاتلَ غيْرُهُ، ولو قال الشهود: لم يقتلْه هذا، واقتصروا عليه، لم تُقْبَل شهادتُهم، ولو كان محبوساً (¬2) أو مريضًا يوم القتل، فهل هما كالغيبة، حتى يَسْقُط اللوْث، إذا ثبت الحالُ بالبينة أو بإقرارِ المدَّعي؟ فيه وجهان، وموضع الوجهين ما إذا أمكَنَ أن يكونَ قاتلاً، لكن بضرب حيلة وتصوير بعيد، وبالمعنيَيْنِ يوجَّه الوجهان، والأشبه إلحاقُهما بالغيبة لانخرام الظن بالقتل. وقوله "أن يدعي الجاني" يعني المدَّعَى عليه سمَّاه جانياً؛ لأنه تُدَّعَى عليه الجناية، ويجعل (¬3) في محل الجَانِينَ (¬4). قال الغَزَالِيُّ: الرَّابعُ: لَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ بِأَنَّ فُلاناً قَتَلَ أَحَدَ هَذَيْنِ القَتِيلَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَوْثاً، وَلَوْ قَالَ: قَتَلَ هَذَا القَتِيلَ أَحَدُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَهُوَ لَوْثٌ لأَنَّ تَعْيِينُ القَاتِلِ يَعْسُرُ، وَقِيلَ: لا لَوْثَ فِي المَوْضِعَيْنِ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا شهِدَ شاهدٌ أو شاهدان؛ بأنَّ فلاناً قتَلَ أحدَ هذَيْنِ القتيلين، لم يكن لوثاً؛ لأن ذلك لا يوقع في القَلْب صدْق وليِّ أحدهما، إذا ادَّعَى القتل عليه، ولو شهِدَ أو شهدا في القتيل الواحد؛ بأنه قتله أحدُ هذَيْنِ الرجلَيْنِ، ثبَتَ اللوْث في حقِّهما، حتى إذا عيَّن الوليُّ أحدهما، وادَّعَى عليه، كان له أن يُقْسِم كما لو تفرَّق اثنان أو جماعةٌ عن قتيل على التصويرات التي سبقت، وفيه وجْه أنه لا لوْثَ في الصورة الثانية أيضًا، للإبهام (¬1) كما في الأولَى، والظاهر الفرْق، ويُحْكَى ذلك عن القاضي الحُسَيْن. وقوله "لأن تعيين القاِتل يعسر" (¬2) معناه أن القاتِلَ يُخْفِي القتْل ما أمكنه دفْعاً للمحْذُور عن نفْسه فيعسر تعيينه، وإن ظن القتل بأحد الشخصين أو الجماعةِ، والقَتيلُ بخلافه، وعَدُّ المسألةِ من المسقطاتِ ليس بواضح أيضًا؛ فإنَّ الكلام في أنه هل هُوَ لوث أم لا؟ قال الغَزَالِيُّ: الخَامِسُ تَكْذِيبُ أَحَدِ الوَرَثَةِ هَلْ يُعَارِضُ اللَّوْثَ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ، فَإِنْ قُلْنَا: يُبْطِلُ فَلَوْ قَالَ أحَدُهُمَا: قتَلَ أبَانَا زَيْدٌ وَرَجُلٌ آخَرُ لاَ أَعْرِفُهُ وَقَالَ الآخَرُ: قَتَلَهُ عَمْروٌ وَرَجُلٌ آخَرُ لاَ أَعْرِفُهُ فَلاَ يَتَكَاذَبُ فَلَعَلَّ مَا جَهَلَهُ هَذَا عَلِمَهُ ذَاكَ، ثُمَّ مُعَيَّنُ زَيدٍ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ الدِّيَةِ وَحِصَّتُهُ مِنْهَا الرُّبُعُ فَلا يُطَالَبُ إلاَّ بِالرُّبُعِ، وَكَذَا مُدَّعِي عَمْرو. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا كان للَّذي هلَك وارثان كابنَيْنِ أو أخَوَيْن، فقال أحدُهما: قتل مورِّثَنا فلانٌ، وقد ظهر عليه اللَّوْث، وقال الآخر: إنه لم يقتلْه بل كان غائباً يوم القتل، وإنما قتلَه فلانٌ أو اقتَصَرَ على نفْي القتل عنه، أو قال: إنه [برأ] من الجراحة، ومات حتف أنْفِه، فهل يُبْطِل تكذيبُه اللوْثَ، ويُمْنَع الأوَّلُ من القسامة؟ فيه قولان منصُوصان في "المختصر". أحدهما، وهو اختيار المزنيِّ: لا، كما أن في سائر الدعاوَى لا يسقط تكذيب أحدِ الوارثين حقَّ الثاني، وأيضًا، فإن اللوْث دلالةٌ بنقل اليمين إلى جنبة المدعي، فتكذيب أحد الوارثين لا يمنع الآخر من اليمين، كما لو ادعَى أحد الوارثين دَيْناً للمورِّث، وأقام عليه شاهداً واحدًا، وكذَّبه الثاني لا يمنعه التكذيبُ من أن يحْلِف مع شاهده، وأيضًا، فلو كان أحد الوارثين صغِيراً أو غائباً، كان للبالغ الحاضرِ أن يُقْسِم مع احتمال التكذيبِ من الثاني، إذا بلغَ أو قَدِم. والثاني: أنه يُبْطِل اللوْثَ؛ لأن إنكار الثاني يَدُلُّ على أنه ليس بقاتِلٍ، فإن النفوس مجبولةٌ على الانتقام من قاتل المورِّث، وإذا انخرم ظنُّ القتل، بَطَلت القسامة، والأصح ¬
من القولين عند صاحب "التهذيب": الأول، وكلام العراقيين وغيرِهِمْ يميل إلى ترجح (¬1) الثاني، وَفرَّقوا بين الشاهد واليمين، وبين ما نحْنُ فيه؛ بأن شهادة الشاهدِ محقَّقة، وإن كذب الآخر، وهي حجَّة في نفسها، واللوث ليس بحجَّة، وإنما هو ظنٌّ مرجِّح، وتكذيبه يُبْطِل ذلك الظنَّ، وفيما إذا كان أحدُهما صغيراً أو غائباً، لم يوجد التكذيبُ الجازم للظنِّ، كما إذا ادعَى أحدهما، ولم يساعد الآخرُ، ولم يكذِّب، كان للمدعي أن يُقْسِم، وفي موضع القولَيْن طريقان: أحدهما: أن القولَيْن فيما إذا كان المكذِّب عدْلاً، أما إذا كان فاسقًا، فقوله غير معتبر في الشرع، فلا تتعطل (¬2) به القسامة. وأصحُّهما: أنه لا فرق، فإن قول الفاسق فيما يُسْقِط حقَّه مقبولٌ؛ لانتفاء التهمة، ويُحْكَى هذا عن نصه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في "الأم" فإن قلْنا: لا يبطل اللوث، فللمدعِي أن يُقْسِم ويأخذ حقَّه من الدية، وهو النصف، ولا بد، وأن يحلف خمْسِين يمينًا، فإن أيمان القسامة ما لم تَتِمَّ لا يؤخذ بها شيء، ولا يخرج على الخلاف فيما إذا اتفق الورثة على الدعوَى أن الأيْمان توزَّع أو يحْلِف كلُّ واحد منهم خمسين، وإذا قال أحد الابنين: قتَلَ أبانا زيْدٌ، وقال الآخر: بل عمْرو، وقلنا: لا يبطل اللوثُ بالتكاذب، فيُقْسِم كلُّ واحد منهما على مَنْ عيَّنه، ويأخذ نصْف الدية، وإن قلَّنا: يُبْطِل، فلا قسامة، وكلُّ واحد منهما، يُحلِّف منْ عيَّنه، ولو قال أحد الابنين: قتل أبانا زيْدٌ ورجلٌ آخرُ لا أعرفه، وقال الآخر: قتله عمرو ورجل آخر لا أعرفه، فلا تكاذُبَ منهما؛ لاحتمال أن الذي أبهَمَ هذا، ذكره هو، الذي عيَّنَه الآخر، وكذلكَ بالعَكْس، فلكَلَّ واحدٍ أن يقسم على مَنْ عيَّنه، ويأخذ منْه ربْعَ الديةِ؛ لاعترافه بأن الواجبَ على مَنْ عيَّنه نِصْفُ الدية، وحصَّته منه نصْفُه، ثم إن عاد أو قال كلُّ واحد منهما: قد تبين لي أن الذي أَبهَمتُ ذكْرَه هو الذي عيَّنه الآخر (¬3)، فلكلِّ واحدٍ منهما أن يُقْسِم على الآخر، ويأخذ منْه ربُعَ الدية، ويَحْلِفَ خمسين يميناً أو خمْسًا وعشرين؟ فيه خلافٌ يأتي [في] (¬4) نظائره، وإن قال كل واحد منهما: الذي أتهمتُ ذكْرَه ليس الذي عيَّنه أخِي، حصَل التكاذُبُ، فإن قلَّنا: تبطل القسامة، ردَّ كلُّ واحد ما أخَذَ بها، وإلاَّ، أقسم كلُّ واحدٍ منهما على مَنْ عيَّنه ثانيًا، وأخَذَ منْه رُبُعَ الدية، ولو قال الذي عَيَّن زيدًا تبين إلى أن الذي أبهمت ذكْره عمرو الذي عيَّنه أخي، وقال الذي عين عمْراً تبين لي أن الذي أبهمتُ ذكْره رجُلٌ آخر لا زيد فالذي عيَّن عمرًا لم يكذبه أخوه، فله أن يُقْسِم على ¬
عمرو، ويأخذ منه ربُعَ الدية، والذي عيَّن زيداً، كذَّبه أخوه، فإن قلْنا: تبطل القسامة بالتكذيب، رَدُّ ما أُخذ، وحلَف المدعَى عليه، وإلا، أقْسَمَ علَى منْ عينه وأخذ منه ربُع الدية، والذي عيَّن زيداً كذَّبه أخوه، فإن قلْنا: تبطل القسامة بالتكذيب، رَدَّ ما أخذ، وحلفَ المدعَى عليه، وإلاَّ، أقسم على مَن عيَّنه، وأخَذ منْه ربع الدية ولو قال أحد الابنين: قَتَل أبانا زيْدٌ وحده، وقال الآخر: قتله زيدٌ وعمرو بالشَّرِكة، فإن قلنا: إن التكاذب لا يُبْطِل القسامة، فيُقْسم الأولُ على زيْد، ويأخذ منه نصف الدية، ويُقْسم الثاني عليهما، ويأخذ منْ كل واحدٍ ربعَ الدية، وإن قلنا: إنه يبطلها، فالتكاذب ههنا في النصف، قال أبو سعيد المتولِّي: وهل يؤثر في بطلان اللوْث والقسامة في الكلّ ينبني على ما إذا شهِدَ لشخصَيْن، وردَّت شهادته لأحدهما، هل تَبْطُل في حق الآخر؟ إن قلنا: نعم، فكذلك القسامة، وإن بعَّضْنا الشهادة، فكذلك نبعض القسامة، وهذا ما أورده غيره، وقالوا: يقسم الأول على زَيْد، ويأخذ منه ربع الدية؛ لأن ما بقي فيه اللوث من حصة النصف. والثاني: يُقْسم عليه ويأخذ ربع الدية (¬1)، ولا يقسم على عمرو؛ لأن أخاه كذَّبه في الشركة، والأوَّل يُحلِّف زيدًا، لَمَّا بطلت فيه القسامة، والثاني يُحَلِّف عمراً، ولو قال أحدهما: قتل أبانا زيدٌ وعمرو، وقال الآخر: لا بل قتله بكرٌ وخالد، فإنْ أبطلنا القسامة بالتكذيب، لم يُقْسِم واحد منهما، ويُحلِّف كلُّ واحد منهما اللَّذين عيَّنَهما، وإن لم نبطلْها، أقسم كلَّ واحد منهما على اللَّذَيْنِ عيَّنهما، وأخذ من كل واحدٍ ربُعَ الدية، [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: وَلَيْسَ مِنْ مُبْطِلاَتِ اللَّوْثِ أَلاَّ يَكُونَ عَلَى القَتِيلِ أَثَرُ جُرْحٍ وَتَخْنِيقٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا يُشترط في القسامة ظهور الجراحة والدَّم، ولا يَبْطُل اللَّوْث بالخلُوِّ (¬2) عنهما؛ لأن [القتل] (¬3) قد يحصل بالخنْق وعَصْر الخِصْية والقَبْض على مَجْرَى النفس، فإذا ظهر أثر الخَنْق أو الضرب (¬4) أو العصر الشديد؛ قام ذلك مقام الجراحة والدم. وقال أبو حنيفة: إن لم تكن جراحةٌ ولا دم، فلا قَسامة، وإن وجدت الجراحةُ ثبتت القسامة، وإن وُجِدَ الدمُ دون الجراحة، فإنْ خرج مِنْ أنفه، فلا قسامة، وإن خرج من العَيْن أو الأذن، ثبتتِ القسامة. وأُعْلِم؛ لمذهبه قولُه في الكتاب: "وليس من مبطلات اللوث ألا يكونَ على ¬
القتيل أثرُ جُرْح أو تخنيق" ولك (¬1) أن تمحو هذه العلامة؛ [لأنه] (¬2)، وإن شرط ذلك في القسامة، فلا نجعله مبْطِلاً لِلَّوْث، بل لا اعتبار باللوث عنده، والقسامة عنده على خلاف ما هي عنْدنا، كما مَرَّ، ولو لم يوجَدْ أثرٌ أصلاً، قال الصيدلانيُّ وصاحبُ التتمة: فلا قسامة، لاحتمال أنه مات فجأةً, والأصل أن غيره لم يتعرَّض له، وقال الإِمام: إذا صودِفَ ميِّتٌ لا أثر [عليه] أصلاً، وقد قيلَ: الأخذ على الأنف إلى انخناق النفَسُ يُسوِّد وجه الميت، ويثور الدم صَعَداً، فإذا لم يظهر أثرٌ، فالحمل على الموت الوفاقي ممكنٌ، فهذا فيه بعْضُ النظر، وإذا فاضتِ النفْس، فقد ينعكس الدم إلى مقرِّه، والأمرُ محتملٌ، والعلْم عند الله، وهذا السياق يُشْعر بأن الظاهر أنه لا يعتبر ظهور الأثر أصلاً، وكذلك ذكر القاضي الرويانيُّ, والمتوجَّه ما مرَّ. ولا بد أن يُعْلَم أنه قتيلٌ، ثم يبحث عن القاتل، وإذا وُجدَ بعض الشخْص في المحِلَّة، وتُحقَّق موته، ثبتت القسامة، سواءٌ وجد منه الرأس أو البدَن، وسواءٌ وجدَ الأقل [من البدن] (¬3) أو أكثر، فإذا وجِد بعضُه في محِلَّة، والبعض في أخْرَى، فللوليِّ أن يعيِّن، ويقسم. وعند أبي حنيفة: إن وُجِدَ الرأس أو معْظَم البدن، ثبتت القسامةُ، وإلا، فلا قسامة. قال الغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الثَّانِي: كَيْفِيَّةُ القَسَامَةِ وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ المُدَّعِي خَمْسِينَ يَمِيناً مُتَوالِيَةً فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بَعْدَ التَّحْذِيرِ والتَّغْلِيظِ فَلَوْ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ فَوَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: تَجِبُ المُوَالاةُ فَإِنْ جُنَّ ثُمَّ أَفَاقَ يُبْنَى لِلْعُذْرِ، وَلَوْ عُزِلَ القَاضِي اسْتَأْنَفَ، وَلَوْ مَاتَ فِي أَثْنَائِهِ اسْتَأْنَفَ الوَارِثُ، وَلاَ قَسَامَةَ فِي غَيْبَةِ المُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ؛ لأَنَّهَا ضَعِيفَةٌ بِخِلافِ البَيِّنَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أيمانُ القسامةِ خمسونَ على ما روَيْناه في الخَبَر، وكيفية اليمين كما في سائر الدَّعاوَى، ويَذْكُر المدعي في اليمين؛ لقد قَتَل هَذَا، ويشير إليه أو يقول: لقد قتل فلان بنُ فُلان، ويرفع [في] نسبه أو يُعَرِّفه بما يمتاز به من قبيلةٍ أو صناعة أو لَقَبٍ، ويعرِّفه كذلك منفردًا بقتله، وإن ادعَى على اثنَيْنِ، فإن قتلاه منفردَيْن بقتله نصَّ الشافعيُّ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- على ذكر الانْفراد، واختلفَ الأصحابْ فيه، فمنْ قائل إنه تأكيد وإلا فقضية قوْلنا قَتَل فلانُ فلاناً انفرادُه به، ومِنْ قائل؛ إنه شرْطُ، لجواز الانفراد بالقتل في الصورة مع الاشتراك في حكم القتل، كالمكره مع المكره، ويتعرض لكونه عمدًا أو خَطَأً، وذكر الشافعيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه لو ادَّعى الجاني أنه برئ من الجراح، زاد ¬
في اليمين وما برئ (¬1) من جراحةِ فلانٍ، حتى مات منها، واعترض عليه بوجهين: أحدهما: أنه إذا ادعَى البُرْء (¬2) من الجراحة، فقد اعترف بها، فكَيْف يحْلِف المدَّعِي. والثاني: [أنه] (¬3) قد سبق أن الجانِيَ والوليَّ إذا اختلفا في الاندمال، وقد مضَى زمانٌ يُمْكن فيه الاندمال، فالقولُ قول الجاني على الظاهر، فلم يُجْعَل ههنا القوْل قولَ المجنيِّ عليه، ويحلف عليه. وأجيب (¬4) عن الأوَّل: بأن دعوى البرء من الجراحة تقتضي الاعترافَ بالجراحة في نفسها, لا الاعتراف بجراحة نَفْسه، ويجوز أن يريد أن الجراحةَ التي ينسبها إليَّ كان قد برئ منها، ثم مات، ويكون غرضُه من ذلك إبطالِ اللَّوْث. وعن الثاني بوجوه، فعن أبي إسحاق أن المسألة مفروضةٌ فيما إذا كان للمدَّعي بينة على أنه لم يزل ضمناً متألماً، حتى مات أو اعترف المدَّعَى عليه بذلك لكنه ادعَى أنه مات بسبب حدثٍ، فيحلف المدعي، ويُصدَّق؛ لأن الظاهر معه، وقيل: إنها مفروضةٌ فيما إذا اختلفا في أنه هل مضَتْ مدة يُمْكِن فيها الاندمال، فالقولُ قول الوليِّ؛ لأن الأصل أنها لم تمض، وقيل: إن صورة تصْديق الجاني ما إذا لم يكُنْ هناك لَوْث، فأما إذا وُجِدَ اللوث، فيصدق الوليُّ كما يجعل اليمين في جانبه احتياطًا للدم. وفي الفصْل مسائلُ: إحداها: يُستحَبُّ للقاضي أن يحذِّر المدعِيَ، إذا أراد أن يحْلِف، ويعظَهُ، ويقول: اتَّق الله تعالى، ولا تحْلِف إلاَّ عن تحقُّق، ويقرأ عليه: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ} [آل عمران: 77] الآية. والقول في التغليظ في اليمين بالزَّمان والمكان واللَّفظ منه ما مرَّ في اللعان، ومنه ما هو مؤخرٌ إلى الدعاوَى والبينات. الثانية: هل يُشْترط أن تكون متواليةً؟ (¬5) فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن للموالاة وقعاً في النفُوس وأثرًا في الزجْر والردْع. وأظهرهما، وهو الذي أورده أكثرهم: أنها لا تُشْترط؛ لأن الأيمان من جنْس ¬
الحُجَجِ، والتفريقُ مع الحجج لا يَقْدَح كما إذا شهد الشهودُ متفرِّقين، وعلى هذا فلو حلَّفه القاضي الخمسينَ في خمْسين يوْماً، جاز. وعن نصِّه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في "الأم" (¬1) أنه لو حلَفَ بعْضَ الأيمان، ثم استنظر القاضي، أنْظَرَه، وإذا عَادَ اعْتَدَّ له بما مضى، والوجهان قريبان من الوجهَيْنِ في اشتراط الموالاة في كلِمَات اللعان، لكن ذكرنا هناك أن الأشبه الاشتراطُ، ويُمْكن أن يفرق بأن اللعان أولَى بالاحتياط؛ من حيث إنَّه يتعلَّق به العقوبة البدنية، ومن حيث إنه يختلُّ به النسب وتشيع الفاحشة. الثالثة: إذا جُنَّ المدعي في خلال الأيْمان أو أُغْمِيَ عليه، ثم أفّاق، فيُبْنَى، ولا يجب الاستئناف، أما إذا لم نَشْترط الموالاةَ، فظاهر، وأما إذا شرطْناها، فلقيام العذْر، ولو عُزِلَ القاضي، أو ماتَ في أثنائها، وولَّى غيره، فالذي أورده في الكتاب، وهو الجواب في "التهذيب" وغيرهما: أن القاضي الثاني يستأنف: الأيمان، كما لو عُزِل القاضي أو ماتَ بعْد سماع البيَّنة، وقبل الحُكْم، وكما إذا أقام شاهِداً واحدًا، وأراد أن يحْلف معه، فعُزِل القاضي، وولي غيره (¬2)، لا بُدَّ من استئناف الدعْوَى والشهادة، وحُكِيَ قول عن نصه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في "الأم": أن القاضي الثاني يَعْتَدُّ بما سبق من الأيمان، وذكر الرويانيُّ: أنه الصحيح، لكن "صاحب التتمة" حمل النص على ما إذا حلَفَ المدَّعَى عليه بعْض الأيمان تفريعاً على التعدُّد ثم مات القاضي أو عُزِلَ، وولِّي غيره، فإنه يَعْتدُّ بالأيمان السابقة، وفَرَق بأن يمين المدعَى عليه على النفي، فتقع نافذةً بنفسها، ويمين المدَّعِي للإثبات فيتوقَّف على الحكم، والقاضي الثاني لا يَحْكُم بحجة أقيمتْ عند الأول كما في الشهادة، وذكر أن عَزْل القاضي وموْتَه بعد تمام الأيمان كالعَزْل في أثنائها في الطَّرَفَيْن، وأنه لو عزل القاضي في أثناء الأيمان من جانب المدَّعِي أو المدعَى عليه، ثم وُلِّيَ ثانيًا فيبني على أن الحاكم هلْ يحكم بعلم نفسه؟ إنْ قلنا: لا، فيستأنف، وإن قلنا: نعم، فيبنى، ولو أن الولي المُقْسِم ومات في أثناء الأيمان، فقد نص في "المختصر": أن وارثه يستأنف، ولا يبنى؛ لأن الأيمان كالحُجَّة الواحدة، ولا يجوز أن يستحق أحد شيئًا بيمين غيره، [ليس كما إذا جُنَّ ثم أفاق؛ فإنَّ الحالف واحدٌ قال الرويانيُّ] (¬3) وليس كما إذا أقام شطْر البينة ثم ماتَ حيْث يضُمُّ وارثه إليه الشطْر الثاني، ولا يستأنف؛ لأن شهادة كلِّ شاهد بها مستقلةٌ منفردةٌ عن شهادة الآخر، ألا ترى أنه إذا انضمت اليمين إليها قد يحكم بها، وأيمان القسامة لا استقلال لبعضها، ألا ترى أنه لو انضم إليه شهادة شاهدٍ, لا يحكم بهما، وعن الخضريِّ: أن الوارث يبني على ¬
أيمان الموروث (¬1)، وبنى الشيخ المتولِّي ذلك على أن أيمان القسامة توزَّع على أولياء الدم أو يَحْلف كل واحد منهم خمسين يميناً؟ فإن قلنا: يحلف كلُّ واحدٍ خمسين يمينًا استأنف الوارث؛ لأن مَنْ يقسم لا ينقص على هذا القول عن خمسين، وإن قلنا بالتوزيع، فيبني الوارث؛ لأنا نقول: الحقُّ على هذا القولِ يَثْبُت للمقتول، والورثةُ يحلفون بحكُمْ الخلافة عنه وإذا ضممنا يمينَ بعْض الورثة إلى بعْضِ لإثبات الحق للموروث (¬2) فأولى أن يكمل يمين المورث في إثبات حقِّه بيمين الوارث، قال: ولو ماتَ بعْد تمام الأيمان، حُكِم لورثته، كما لو أقام البيِّنة على الدعْوَى، ثم مات، ولو ماتَ المدَّعَى عليه في أثناء الأيمان، إذا كنا نحلِّفه في غير صورة اللَّوْث، أو لنُكُول المدَّعِي في صورة اللوث، فيبني وارثه على أيمانه. الرابعة: هل تجوز القَسَامة في غيبة المدَّعَى عليه؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم، كما يجوز إقامةُ البيِّنة. والثاني: لا؛ لأن اللوث ضعيفٌ لا يعوَّل عليه، إلا إذا سلم عن قدح الخصْم، ولا يمنع من القسامة كوْنُ المدَّعِي غائباً عنْ موضع القتْل، كما لا يمنع كونُه صبياً أو مجنوناً (¬3) وذلك لأنَّه قد يَعْرف الحالَ مِنْ بعْدُ بإقرار المدعَى عليه أو بالسماع ممَّن يثق به، ويدل عليه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عرَضَ في قِصَّة عبْد الله بن سهْلِ -رَضِي اللهُ عنْهُ- اليمينَ على الأنصار مع أن القَتْل كان بخيبر وهم كانوا بالمدينة (¬4). وقوله في الكتاب: "وهو أن يَحْلَف المدعِي خمْسين يميناً"، ليعلَمْ بالحاء، لما ذكرنا أن عنده لا يَحْلِف المدَّعي. وقوله: "متوالية في مجلسٍ واحدٍ" الخلاف في الموالاة قد عَرَفَتْهُ، ولا يُشْتَرط مع الموالاة كونُها في مَجْلِسٍ واحدٍ، وذكر المجْلِس والمجلسَيْن يكنى (¬5) به عن الموالاة وعَدَمِها، وهذا (¬6) الذي عناه بقَوْلِهِ: "فلو كان في مجلسين فوجهان على ما هو مبين في "الوسيط" ولم يجمع هناك بين ذكر الموالاة وإيجاد المجلس. وقوله "استأنف في مسألة عزل القاضي" مُعْلَم بالواوَ، وكذا (¬7) في التي بعْدها، والله أعلم. ¬
قال الغَزَالِيُّ: فَإنْ كَانَ الوَارِثُ جَمَاعَةً فَفِي تَوْزِيع الخَمْسِينَ عَلَيْهِمْ وَجْهَانِ، فَإنْ قُلْنَا: يُوَزَّعُ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ سَهْمِهِ مِنَ المِيرَاثِ، فَالثُّمُنْ والسُّدُسُ يَنْكَسِرُ فَيُتَمِّمُ اليَمِينَ المُنْكَسِرَةَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ما يُسْتَحِقُّ بالقسامة (¬1) يُسْتَحِقُّ بخمسين يمينًا؛ على ماقال -صلى الله عليه وسلم- "تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِيناً، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صاحِبِكُمْ أَوْ قاتِلِكُمْ"، فإن كان الوارث واحدًا، وهو جائز [التصرف] (¬2) حلف خمسين [يمينًا] (¬3) وأخذ الدية، وإن لم يكنْ جائزاً، فكذلك يحلف خمسين؛ لأنه لا يمكنه أخْذُ شيْء من الدية، إلا بعد تمام الحُجَّة، فإذا حلفْ أخَذَ قدْر حقِّه، [والباقي لا يثبت بيمينه بل يكون الحُكْم فيه حكم من مات، ولا وارث له، وسيأتي إن شاء الله تعالى] وإن كان للقتيل وارثان فصَاعِدًا فقولان: أحدهما: أنَّ كل واحد منهم يَحْلِف خمْسين يميناً؛ لأن اليمينَ إذا توجَّهت على جماعة لَزِمَ كل واحدٍ منهم ما كان يلْزم الواحِدَ، لو انفرد باليمين الواحدة في سائر الدعاوى ولأن الاستحقاق معلَّق بالخمسين، وكلّ واحد يأخُذُ ما يأخذ بيمين نفسه، فعليه إتمام الخمسين، وكذلك، لو نَكَل [كل] (¬4) واحدٍ كانَ على الآخر أن يحْلِف تمام الخمسين، حتى يأخذ شيئًا. وأصحُّهما، وبه أجاب ابنِ الحدَّاد: أن الأيمان توزَّع عليهم على قدْر مواريثهم، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِيناً لم يوجِبْ على الجماعة إلا خَمْسيِن، والقوْلان فيما ذكَر أبو سعْد المتولِّي مبنيان على أنه تجبْ الدية للوارثِ ابتداءً، أو تجب للقتيل ثم يتَلقَّاها الوارث منهُ إن قلنا بالأول، حَلَف كلُّ واحد خمسين، ولم يستحق بعضُهم شيئًا بيمين بعض، وإن قلْنا بالثاني، فيوزَّع عليهم؛ لأن المستحِقَّ واحدٌ، وهم خلفاءه، فيَحْلِف كل واحدٍ منهم بقَدْر خلافته. وعن الماسرجسي أن النصَّ في المدعين أنهم يَحْلِفون على قدْر مواريثهم، وفيما ¬
إذا ادَّعى على جماعة، نصَّ على قولَيْن، فمنهم مَنْ قال: فيهما قولان على سبيل النَّقْل، وبه قال القاضي أبو حامد، ومنْهم مَنْ خصَّص القولين بجانب المدعَى عليهم، لما سيأتي من الفرق، وقطَع في المدعين بالتوزيع، فحَصَلت طريقةٌ قاطعة بالتوزيع. ويجوزُ أن يُعْلَم؛ لها قولُه في الكتاب: "قولان" بالواو. التفريعُ: إن قلْنا: يحلف كلُّ واحد منهم خمسين، فذاك، ولا إشْكَال، وإن قلْنا بالتوزيع فتوزَّع الأيمان عليهم على قدْر أنصبائهم، سواةٌ كانوا أصحاب فروض أو عصَباتٍ أو اجتمع (¬1) الصنفان (¬2)، وإذا وقع كَسْرٌ تمْمنا المنكسر، فإذا كان له ابنان، حَلَف كل واحد خمسًا وعشرين، وإن كانوا ثلاثةً، حلف كل واحد سبْع عَشْرةَ، وإن كانوا أربعةً، حلَفَ كلُّ واحدٍ ثلاثَ عشْرَةَ، وحصَّةُ كلِّ واحد عنْد التوزيع اثنتا عشْرةَ ونصْفٌ. وإذا خلف زوجة وابناً، فحصَّة الزوجة من الخمسين ستَّةٌ وربْعٌ، وحصة الابن ثلاثةٌ وأربعونَ، وثلاثة أرباع، فتَحْلِف هي سبعاً، والابنُ أرْبعاً وأربعين. وإن خَلَّف أُمَّاً وابناً، فحصَّتها ثمانيةٌ وثلْثٌ فتحلف تسعاً, والابنُ اثنين وأربعين أيضًا. وإن خلف زوجة وبنتاً، جُعِلت الأيمان بينهما على خمسةٍ، فتحلف الزوجة عشرًا، والبنت أربعين؛ لأن نصيب البنْت كنصيب الزوجة أربعَ مرَّات. وفي زوجِ وبنْتٍ، تجعل الأيمانْ بينهما أثلاثاً؛ لأنَّ نصيبهما ضعْفُ نصيب الزوج. وإذا خَلَّفَ أكثر من خمسين ابناً أو أخًا، حَلَف كلُّ واحد يمينًا واحدة، وإن كانوا تسعةً وأربعينَ، حلَف كلُّ واحد منهم يمينَيْنِ؛ لأن الواحدة التي تبقى تُقَسَّم بينهم، ويتمَّم. وفي صورة الجَدِّ والإخوة تقسَّم الأيمان كما يُقَسَّم المال، وفي المعادة لا يحلف ولدُ الأب، إن لم يأخذ شيئًا، وإن كان يأخذ شيئًا حَلَف بقَدْر حقّه، ففي جدٍّ وأخ من الأبوَيْن أو من الأبِ، تُجْعل الأيمان بينهما نصفَيْن. وفي جَدٍّ وأخٍ من الأبوين وآخر من الأب يحْلِف الجدُّ ثلثَ الأيمان، وهو مع جبر المنكسر سبعةَ عَشَرَ، ويأخذ ثلُثَ الدية، ويحْلِف الأخُ أربعةَ أتْسَاعِ الأيمان، وهو مع جبر المنكسر ثلاثةٌ وعشرون يميناً ويحلف الأخ من الأبوَيْن أربعةً وثلاثين، ولا يَحْلِف الأخُ من الأبِ؛ لأنه لا يأخذ شيْئًا فلا يَحْلِف لغيره. وفي جَدٍّ وأخٍ من الأبوَيْنِ وأخْتٍ من الأبِ يحْلِف الجدّ خُمْسَي الأيمان، ويأخُذْ خمْس الدية، وَيحْلِف الأخُ ثلاثةَ أخماس الأيْمَان، ويأخُذْ ثلاثةَ أحْماس الدِّيَةَ. ¬
وفي جَدٍّ وأخٍ وأخت من الأبوَيْنِ وأخْتٍ من الأبِ، يَحْلِف الجدُّ ثلُث الأيمان، وهو معَ جَبْر المنْكَسِر سبْعة عشرَ، ويأخُذُ ثلُثَ الدية، ويحْلِف الأخُ أربعةَ أتْسَاع الأيمانِ، وهي معَ جَبْر المنْكَسِر ثلاثةٌ وعشْرون، وبلا جَبْر اثنان وعشرون وتُسْعان، وتحلف الأخت للأبوين تُسْعَا الأيمان، وهي اثنتا عشْرة يمينًا وتُسْعا الخمسين أحدَ عَشَرَ وتُسْعٌ، ولا تحْلِف الأختُ للأب. وفي جدٍّ وأختٍ من الأبوين، وأخ من الأب يَحْلِف الجدُّ خُمْسَي الأيمان، ويأخذ خُمْسَي المال، وتحْلف الأخت نصف الأيمان، وتأخُذُ نصْف المال، ويحْلِف الأخ عُشْر الأيمان، وهو خَمْس، ويأخذ عُشْر المال، وعلى هذا القياس، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: فَإِنْ نَكَلَ بَعْضُهُمْ أَوْ كَانُوا غِيَابًا فَلا يَأْخُذُ الحَاضِر حِصَّتَهُ مَا لَمْ يُتِمَّ خَمْسِينَ يَمِيناً، فَإِنْ كَانُوا ثَلاثَةً حَلَفَ الأَوَّلُ خَمْسينَ يَمِيناً وَأَخَذَ الثُّلُثَ، وَإِذَا قُدِّمَ الثَّانِي حَلَفَ ثُلُثَ الأَيْمَانِ وَأَخَذَ الثُّلُثَ، وَإِذَا قُدِّمَ الثَّالِثُ حَلَفَ نِصْفَ الأَيْمَانِ، وَلَوْ خَلَّفَ وَلَداً خُنْثَى وَأَخاً لأَبٍ حَلَفَ الخُنْثىَ خَمْسِينَ لاحْتِمَالِ أنَّهُ مُسْتَغْرِقٌ وَأَخَذَ نِصْفَ الدِّيَةِ لاِحْتِمَالِ أنَّهُ أُنْثَى، فَإنْ أَرَادَ الأَخُ أَنْ يَحْلِفَ حَلَفَ خَمْساً وَعِشْرِينَ يَمِيناً، وفَائِدَتُهُ أَنْ يَنْتَزِعَ النِّصْفَ مِنْ يَدِ الجَاني وَيُوقِفَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الخُنْثَى فَإِذَا ظَهَرَ الحَالُ سُلِّمَ بِحُكْمِ اليَمِينِ السَّابِقَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصْل قاعدتانِ تتفرَّعان على أصحِّ القولَيْن، وهو التوزيعُ. إحداهما: إذا نَكَلَ أحدُ الوارثين، ولا فَرْقَ في نكول النَّاكِل بيْن أن يَنْكُل عن جميع حصَّته من الأيمان أو عن بعْضِها، ولو كانَ بعْضُهم غائباً، فالحَاضِر يتخيَّر بين أن يصبر إلى أن يحْضُر الغائبُ، فيَحْلِف كلُّ واحدٍ بقَدْر حصَّته، وبين أن يحْلِف في الحال خمْسين يميناً، ويأخُذ قدْر حَقِّه، فلو كان الورثة ثلاثة بنِينَ؛ أحدُهم حاضرٌ، وأراد أن يحلِف حلف خمسين يميناً، ويأخُذ ثلث الدية، فإذا قَدِم ثانٍ، حلَفَ نصف الأيمان خمسًا وعشرين، كما لو كانا حاضرَيْنِ في الابتداء، ويأخذ ثلُث الدية، فإذا قدم الثالثُ، حلَف ثلث الأيمان، وهو مع جبْر ما انكسر سبعَ عشرةَ، ويأخذ الباقِيَ من الدية. ولو كانوا أربعة؛ أحدهم حاضرٌ، [فيحلف] (¬1) خمسين، ويأخذ ربع الدية، وإذا قدِمَ آخَرُ، حلَف خمسًا وعشْرين، وإذا قَدِمَ ثالثٌ، حلف سبعَ عشرةَ، فإذا قدِمَ الرابع، حلف ثلاثَ عشْرَةَ، وإن فُرِضَ خامس، فإذا قدِمَ، حلَف عشْرًا، ولو كان اثنان من الأربعة حاضرَيْنِ، واثنان غائبَيْنِ، حلَف كلُّ واحد من الحاضرَيْنِ خمسًا وعشرين، وإذا قدِمَ الثالث والرابع فالحُكْم على ما ذكَرْنا، وإن قدم الغائبان معًا، حلَف كلُّ واحد منهما ¬
ثَلاثَ عشرةَ، ونظير (¬1) المسألة ما إذا حَضَر أحدُ الشركاء يأْخُذ جميع المَبيع بالشُّفْعة، فإذا قَدِم آخر شاركه، وجُعِلَ بيْنَهما نصفَيْنِ، وإذا حضر ثالث شاركهما وجُعِلَت (¬2) بينهم أثلاثاً، ولو قال الحاضر: لا أحلِفُ إلا بقَدْر حصَّتِي، لا يبطل حقُّه من القسامة، حتى إذا قَدِم الغائب، بحلف معه، بخلاف ما إذا قال الشفيع الحاضر، لا آخذ إلا قَدْر حصتي حيْث يَبْطل حقه من الشُّفْعَةِ، والفَرْق أن الشُّفْعة إذا تعرَّضت للأخذ، فالتأخير تقصير مفوِّت، واليمين في القسامة لا تَبْطُل بالتأخير، ولو كان في الورثة صغيرٌ أو مجنون، فالبالغُ العاقل كالحاضر، والصبيُّ والمجنونُ كالغائب في جميع ما ذَكَرْنَا، ولو حَلَف الحاضر أو البالغُ خمسين، ثم مات الغائب أو الصبيُّ فورثه الحالفُ، لم يأخُذْ نصيبه إلا بَعْد أن يَحْلِف [بقَدْر] (¬3) حصته، ولا يُحْتَسَبُ ما مضَى؛ لأنه لم يكن مستحِقاً له حينئذ. الثانية: إذا كان في الورثة خنْثَى مشكِلٌ، أُخِذَ بالاحتياط والبناء على اليقِين في الأيمان وفي الميراث جميعًا، فلو خلَّفَ القتيلُ ولداً خُنْثَى، حلف خمسين يمينًا؛ لاحتمال أنه ذَكَرٌ، ولأنه لا يؤْخَذ بل تمام الأيمان شيْء، ولا يأخُذ إلا النصْف لاحتمال أنه أنثَى، ثم إن لم يكن معه عصبةٌ، لم يأْخُذِ القاضي الباقيَ من المدعَى عليه، بل يوقَفُ الأمر إلى أن يتبين حال الخنثَى، فإن بَانَ ذَكراً، أخذه، وإن بان أنثَى، حلف القاضي المدعَى عليه للباقي، وإن كان معه عصبة؛ كالأخ والعم، فيتخيَّر بين أن يَصبِرَ إلى أن يبين حال الخنثَى، وبين أن يَحْلِف، فإن صبر، توقَّفنا، وإن أراد أن يحْلِف حلف خمسًا وعشرين، وأخذ القاضي النصْفَ الآخر، ووقَفَه بين الأخ والخنثَى، فإذا تبين المستحِقُّ منهما، دفَعه إليه باليمين السالفة (¬4)، ولو خلَّف ولد ابْنِ خنثيَيْنِ، حلفَ كلُّ واحد منهما ثلُثَي الأيمان أربعًا وثلاثين، مع الجَبْر؛ لاحتمال أنه ذكر، وأن الآخر أنثَى، ولا يأخذانِ إلاَّ الثلثَيْنِ؛ لاحتمال أنهما أنثيان، ولو خلَّف ابْنًا وولَداً خنْثَى فيحلف الابْنُ ثلُثَي الأيمان؛ لاحتمال أن الخنثَى أنْثَى، ولا يأخُذْ إلا النصْف من الدِّية؛ لاحتمال أنه ذكَرٌ. ويحْلِف الخُنْثَى نصف الأيمان، لاحتمال أنه ذكَرٌ، ولا يأخذ إلا ثُلُثَ الدية، لاحتمال أنه أنثَى، ويوقف السدس بينهما. ولو خلَّف بنتا وولداً خنثَى؛ حلَفت البنْت نصف الأيمان والخنثَى ثلثيها، ويأخُذان ثلُثَيِ الدية، ولا يؤْخَذ الباقي من المدعَى عليه إلى أن يتبين حال الخنثَى. ولابن الحدَّاد صورٌ من هذه القاعدة: منها: جدٌّ وولدُ أبٍ مشْكِلٌ، فالحكم فيها كالحكم فيما إذا خَلَّف ابناً وولداً ¬
خنثَى، والطريق فيهما أن يقال: إن كان المشكِلُ ذكرًا، فالمسألة من اثنين، وإن كان أنثَى، فمن ثلاثة؛ يُضْرَب أحدهما في الآخر [يحْصُل] سنةٌ، منها تصح المسألة، فيجعل المشكِلُ أنثَى في تحليف الجدِّ حتَّى يحْلِف ثلثَي الأيمان، وذكراً في ميراثه، حتى لا يأخُذَ إلاَّ نصْفَ الدية، ويُجْعَل ذكرًا في تحْليف نفسه، حتى يحْلِف نصْفَ الأيمان، وأنثَى في الميراث حتَّى لا يأخذ إلاَّ الثُّلُث. ومنها: بنْتٌ وجَدٌّ وولدُ أبٍ مشكِلٌ، فإن كان المشكِلُ ذكرًا، فالمسألة من أربعةٍ، سهمان للبنْتِ، وسهمانِ للجَدِّ والأخ، وإن كان أنثَى، فهي من ستة؛ ثلاثةٌ للبنْتِ، والباقي بين الجد والأخت بالأَثْلاَث، والمسألتان متوافقتان بالنِّصْف، فيضْرِب أحد العددين في نصف الآخر، يحْصُل اثنا عشر، فتحلِف البنْتُ نصف الأيمان بكلِّ حالٍ؛ لأن نصيبها لا يختلفُ بذكورة المشكِل وأنوثته، وتأخذ نصْف الدية، ويحْلِف الجدُّ ثلث الأيمان؛ لاحتمال أنوثة المشكِل، ولا يأخُذُ إلاَّ ربع الدية؛ لاحتمال ذكورته، ويحْلِف المشكِلُ ربع الأيمان؛ لاحتمال الذكورة، ولا يأخذ إلاَّ سُدُسَ الدية؛ لاحتمال الأنوثة. ومنها: جدٌّ وأختٌ من الأبويْنِ ومُشْكِلٌ من الأب إما أخ أو أخت، إن كان المشكِلُ ذكرًا، فالمسألة من خمسة، وتصحُّ من عَشرة؛ لأن الأخ من الأَب يَرُدُّ على الأخت من الأبوين ما يَتِمُّ لها به النصْفُ، وهو سهْمٌ ونصفِ، فتضرب الخمسة في مخرج النصف، تصير عشرة، وإن كان أنثى، فالمسألة من أربعة، وتصح من اثنين؛ لأن الأختَ من الأب تَردُّ ما معها إلى الأخْت من الأبوين، فيصير المالُ بينهما وبين الجَدِّ نصفين، فيحلف الجدُّ نصف الأيمان؛ لاحتمال أنوثة المشكل، ولا يأخذ إلاَّ خُمْسَي الدية؛ لاحتمال ذكورته، وتَحْلِف الأخت من الأبوَيْنِ نصْفَ الأيمان، وتأخُذ نصْفَ الدية؛ لأن نصيبها لا يتغيَّر بذكورة المشكل وأنوثته، ويحْلِف المشكِلُ عُشْرَ الأيمان، ويوقَفُ عشْر الدية بينه وبيْن الجدُّ، إن بَانَ ذكرًا، دُفع إليه، وإن بَانَ أنثَى، دُفِع إلى الجَدِّ. وعن بعْض الأصحاب؛ أنه لا يحْلِفُ المشكِل، لجواز أن يتبين [أنه] (¬1) أنثَى، فلا يكون له شيْء من الميراث، ولكن يوقَفُ فإن بَانَ أنثَى، فقد حلفَ الجدُّ والأخت المستحِقَّان تمام الأيمان، وإن بَانَ ذكرًا، حلف عُشْر الأيمان، ودُفعَ العُشْر إليه قال الشيخ أبو عليٍّ: والصحيح عند الجمهور ما قال ابن الحدَّاد؛ لأنا وإن حَلَّفنا الجدَّ والأخت تمام الأيمان، فلا يتيقن أنهما مستحِقَّان لجميع الدية، فكيف نأخذ من الجاني الديةَ بتمامها، ولم يوجَدْ تمام الأيمان ممَّنُ يتيقَّن أنه مستحقٌّ تمام الدية، بل يَحْلِف المشكِلُ عُشْر الأيمان، وحينئذ، فقد تمَّتِ الأيمان ممَّنُ يُتيقَّن له الاستحقاق. ¬
واعلم أن صاحبَ ذلك الوجْه، إنْ كان يقول: لا يجُوز أن يحلِف المشكِل، لاحتمال أنه لا يَرِث شيئًا فحقه أن يقول فيما إذا خلَّف ولدًا خنثَى وأخاً: لا يحلف الأخُ، لِمِثْل هذا الاحتمال، وإن كان يقول: لا يكلَّف أن يحْلِف، ويؤخذ تسعة أعشار الدية، ويُوقَفُ العشر باقيًا على مَنْ عليه الدية، فهذا قويم، وهو قياسُ ما تقدَّم هناك، ولو كان بَدَلَ الأخت مِن الأبوين أخٌ من الأبوين، فيحلِفُ الجدُّ خُمْسَي الأيمان؛ لاحتمال أنوثة المشْكِلِ، ويأخُذ ثلُثَ الدية، لاحتمال ذكورته، ويحلِفُ الأخ ثلثَيِ الأيمان، ويأخُذُ ثلاثة أخْماس الدية وبالعكس وتصح من خمسة عشر. ومنها: جدٌّ وأختٌ من الأبوين ومشْكِل من الأبوين أيضًا، فالمسألة على تقدير الذُّكورة من خمسة، وعلى تقدير الأنوثة من أربعةٍ، فبضَرْب أحد العَدَدَيْن في الآخر، يَبْلُغ عشرين، منْها تصحُّ فيحلف الجدُّ نصف الأيمان؛ لاحتمال أنوثة الخنثَى، ولا يأخُذْ إلاَّ خُمْسَي الدية؛ لاحتمال ذكورته، وتحلِف الأختُ ربعَ الأيمان، ولا تأخُذ إلاَّ خمسي الدية، ويحلِف الخنثَى [المشكِلُ] (¬1) خُمْسَي الأيمان؛ لاحتمال الذكورة، ولا يأخُذُ إلاَّ ربُعَ الديةِ؛ لاحتمال الأنوثة، فمبلغ الأيمان ثمانيةٌ وخمسون، وما أخَذُوه سبعةَ عشَر منْ عشرين من الدية، ويُوقَف ثلاثة أسهم، فإن بَانَ الخنثَى ذكرًا، فهي له، ليتم له الخمسان، وإن بَانَ أنثى، فسهمان من الثلاثة للجدِّ؛ ليتم له النصْف، وسهْمٌ للأخت؛ ليتم لها الربع. قال القاضي أبو الطيِّب لو أراد الجدُّ والخنثَى أن يصْطَلِحا في السهمَيْن من الثلاثة الموقُوفَيْن سهمًا قبل أن يتبين حال الخنثَى، جاز أو يصطلحا على التساوي أو التفاضُل، ولكن بشَرْط أن يُجْعَل السهْم الثالثُ للأخت، ولا يوقَفُ؛ لأن الوقْف إنما يكون لحَقِّ الجميع، فلا يجُوز أن يُمَكَّنَا من التصرُّف في السهمين، ويبقى الثالث على الوقْف، وتوقَّف ابن الصباغ فيما ذَكره، وقال: السهمان اللَّذان اصطَلَحا عليهما لا حقَّ للأخت فيهما، فلا يلزم إسقاطُ حقِّ الخنثَى من السهْم الذي يحتملُ أن يكونَ له، ويُحْتَمل أن يكون للأخْتِ. صورةٌ أخرَى للشيخ أبي عليِّ: جدٌّ ومشكِلانِ من الأبوَيْنِ، إن كانا ذكرَيْنِ، فالمسألة من ثلاثة، وإن كانا أنثَيَيْنِ فمن أربعةٍ، وإن كان أحدُهما ذكَراً، والآخَرُ أنثى، فمن خمسة، فَبِضَرْبِ ثلاثة في أربعة تَبْلُغ اثنَي عشر ثم نضربها في خمسة تَبْلُغ ستين، منْها تصحُّ فيحلِف الجدُّ نصفَ الأيمان؛ لاحتمال أنوثتهما، ولا يأخُذ إلاَّ ثلُثَ الدية؛ لاحتمال ذكورتهما، وكلُّ واحد من المشكِلَيْن يحلِفَ خمسي الأيمان؛ لاحتمال ذكورته ¬
فرع
وأنوثة الآخر، ولا يأخذ إلاَّ خمس الدية لاحتمال العكس، فمجموع الأيمان خمسة وستُّونَ، ومجموع ما يأخذونه أربعةٌ وأربعونَ من ستِّين من الدية، ويوقَفُ ستة عشر، فإن بانا ذكَرَيْن، قُسِّم الموقوف بينهما بالسوية، ليتم لِكُلِّ واحد منهما الثلُث، كما أخذه الجدُّ، وإن بَانَا أُنْثَيَيْنَ، دفع من الموقوف عَشَرَةٌ إلى الجد؛ ليتم له النصف، وإلى كلِّ واحدة منهما ثلاثةُ أرباع؛ ليتم لها الربع، وإن بَانَ أحدهما ذكرًا، والآخرَ أنثَى، دُفِعَ من الموقوف أربعةٌ إلى الجَدِّ، واثنا عشر إلى الذي بَانَ ذكرًا؛ ليتم لكل واحدٍ منهما الخمسان، وعند الأنثى الخُمُسُ الكامل. صورة أخرى: أوردَها يحيى اليمنيُّ في "البيان": جدٌّ ومشكلان، أحدهما من الأبوين، والآخر من الأب، إن كَانا ذَكَرَيْن، فالمسألة من ثلاثة؛ سَهْمٌ للجدِّ، وسهمان للذي هو من الأبوين، وإن كَانَا أنْثَيَيْنِ، فَمِنْ أربعةٍ سهمان للجَدِّ، وسهمان للَّتي هي مِنَ الأبوَيْن، وإن كان أحدُهما ذكرًا والآخَر أنْثَى، فمِنْ خمسةٍ سَهمان للجدِّ، ثم إن كان الذي هو من الأبوين ذكرًا، فالسِّهام الثلاثة له، وعلى التقديراتِ الثلاثةِ، فلا شيء للَّذي هو من الأب، وإن كان الذكر الذي هو من الأب، فللذي هو من الأبوَيْنِ سهْمان ونصْفٌ، والذي هو من الأب سهْم ونصف من عشرة، فبضرب المخارج بعْضها في بعض تَبْلُغ ستين، فيحلف الجدُّ نصْفَ الأيمان، ويأخُذُ ثُلُثَ الدية، وهو عشْرُون من سِتِّين منها، ويحْلِف المُشْكِل من الأَبَوَيْنِ ثلُثَي الأيمان، ويدفع إلَيْه نصْف الدية، وهو ثلاثُون من ستِّينَ، ويحلف الآخَرُ الذي عساه يستَحِقُّ عُشْرَ الدية، ولا يُصرف إليه شيْء، والأنصباء متوافقةٌ بالنصْف، فتردُّها، والستين إلى الأنصافِ، ويدفع إلى الجدِّ عشرة من ثلاثين من الدية، وإلى المشكِلِ من الأبوين خمسةَ عشرَ، ويوقف خمسة، فإن بَانَا ذكَرَيْنِ، دُفِعَتْ إلى الذي هو مِنَ الأبوين، وإنْ بَانَا أنثيَيْنِ، دُفِعَتْ إلى الجَدِّ، وإن بَانَ الذي هو من الأبوَيْنِ ذكرًا والآخرُ أنثَى، دُفِعَ سهمانِ من الخمسة إلى الجدِّ، ليتم له الخمسان، وثلاثة أسهم إلى الذي هو من الأبوين؛ ليتم له ثلاثة أخماس، وإن بَانَ الَّذي هو من الأب (¬1) ذكرًا، دُفِع إلى الجَدِّ سهمان، وإليه ثلاثة أسهم. " فرْعٌ" إذا مات أحدُ الورثة المدَّعِين للدَّم، قام وارثه مقامه في الأيمان، فإن تعدَّدوا عاد القولان، فإن قلْنا: يحلف كلُّ واحد من الورثة خمْسين يميناً، فكذلك ورثة الورثة، وإن قلنا بالتوزيع، وُزعت حصَّة ذلك الوارث على ورثته، فلو كان للقتيل ابنانِ، ومات ¬
فرع
أحدهما قبل أن يَحْلِف عنِ ابنين، حلف كلُّ واحد منهما ثلاثة عشرة يميناً توزيعاً لحصَّته عليهما، وجَبْراً لِما انْكَسَرَ، فلو حَلَف أحدهما ثلاثةَ عَشَر يميناً، وماتَ أخوه قَبْل أن يحْلِف، ولم يُحلِّف إلاَّ هذا الحالِفَ، حَلَف ثلاث عشرة يميناً، ولا يقال: يُكَمل خمساً وعشرين، ولا يزيد، بل يَحْلِف بقَدْر ما كان يحْلِف مورِّثه، ولو كان للقتيل ثلاثةُ بنين، فحصَّة كل واحد منهم مع جبر ما انكسر سبْعَ عشرة يمينًا، فلو مات أحدهم عن ابنَيْنِ، وُزِّعت حصته عليهما، وكُمِّل المنْكَسِر، فيحْلِف كل واحد منهما تسْعَ أيمان، فلو حلف أحدهما، ومات الآخر قبل أن يحْلِف ووارثه الحالف [تسعاً] ولا يقال: يكمل سبع عشرة يميناً، ولا يزيد، ولو مات وارثُ القتيل بعْدَ ما أقسم، أخَذَ وارثه ماكان له مِنَ الدية، وإن مات بعْد ما نَكَلَ، لم يكن لوارثه أن يحْلِف؛ لأنه بطَل حق القسامة بالنُّكُولِ، ولكن وارثه تحليف المدَّعَى عليه. " فَرْعٌ" إذا كان للقتيل ابنانِ، فحلَف أحدهما، وماتَ الآخر، قبل أن يحْلِف عن ابْنَيْنِ. فحلف أحدهما حصَّته، وهي ثلاث عشرة يمينًا، ونَكَلَ الآخر، فيوزَّع الربع الذي نَكَلَ عنه على أخيه وعمه على حساب ما يأخذان من الدِّية، فيخص الأخَ أربعةٌ وسدُسٌ يُضَمُّ ذلك إلى حصَّته في الأصْل، وهي اثنتا عشْرة ونصْفْ، تبلغ سِتَّ عشرة وثلثَيْن، فتُكَمَّل، وقد حلَف ثلاثَ عشْرةَ يميناً، فيحلِف الآن أربعًا أخرَى، ويخص العمَّ ثمانيةٌ وثلثٌ، فيحلف تسعًا، ويُكمَّل له أربع وثلاثون. قال الغَزَالِيُّ: هَذَا كُلُّهُ فِي يَمِينِ المُدَّعِي، أَمَّا سائِرَ الأَيمانِ فِي الدَّمِ كَيَمِينِ المُدَّعَى عَلَيْهِ واليَمِينِ مَعَ الشَّاهِد فَفِي تَعَدُّدِهِ خَمْسِينَ قَوْلاَنِ، وَيَجْرَيَانِ فِي الأَطْرَافِ مَعَ أَنَّ القَسَامَةَ لا تَجْرِي فِيهَا، فَإنْ قُلْنَا: يتَعَدَّدُ فِي الطَّرَفِ فَلَوْ نَقَصَ فَفِي التَّوزِيعَ قَوْلاَنِ، وَلَوْ ادَّعَى عَلَى اثْنَيْنِ أَنَّهُمَا قَتَلا فَفِي التَّوْزِيعَ عَلَيْهُما قَوْلاَنِ كَمَا فِي الوَارِثِينَ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ وَقُلْنَا يَتَّحِدُ اليَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ فَإنْ شَهِدَ عَلَى اللَّوْثِ حَلَفَ مَعَهُ خَمْسِينَ يَمِيناً، وَإِنْ شَهِدَ عَلَى القَتْلِ حَلَفَ مَعَهُ وَاحِدَةٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: جميعُ ما ذكرناه في أيمان القسامة من جنبة المدَّعِي، أما إذا ادَّعَى القتل في غيْرِ محلِّ اللوْث، وتوجَّهَتِ اليمين على المدَّعَى عليه، فهل تُغلَّظ عليه بالعَدد؟ فيه قولان: أحدُهما، وبه قال أبو حنيفة: لا, لأنها يمينٌ في جنبة المدعَى عليه، فلا تغليظ بالعَدَد، كاليمين في سائر الدعاوَى.
وأصحُّهما: نعم؛ لأنها يمين في دعوى الدَّمِ، فأشبهت يمين المدَّعَي، وقد بني الخلاف على أن التعدُّد في يمين المدعي سببه ماذا؟ قيل سببه أن تصديق المدَّعِي خلافَ القياس الظاهر، فأكد (¬1) بالعدَد في اليمين. وقيل: سببه حرمة الدمِ وتفخيم شأنه، فعلى الأول: لا تعدد في يمين المدعَى عليه، وعلى الثاني: يتعدد، وإذا نَكَل المدعَى عليه، فيرد على المدعَي ما توجه على المدعَى عليه، على اختلاف القولَيْن. ويجري الخلافُ في يمين المدعي مع الشاهد الواحِدِ، وإذا كانت الدعوَى في محلِّ اللوث، ونَكَل المدعِي عن أيمان القَسامة، فهلْ تُغلَّظ اليمينُ على المدَّعَى عليه بالعَدَد؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه على القولَيْن المذكورَيْن فيما إذا لم يكن هناك لَوْث؛ لأن نكوله يُبْطِل اللوث، فكأنه لا لَوْث. وأصحُّهما: القَطْع بالتغليظ؛ لمَا رُوِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال في قصَّة قتيل خَيْبَر"فَتُبْرِئَكُمُ اليَهُودُ بخمسين يميناً" جعل أيمان المدعَى عليهم بعَدَد أيمان المدَّعِين، وإذا قلنا بالتعدُّد، فلو كانت الدعْوَى على جماعة، إما في محلِّ اللوث أو من غير لوث فتُقَسَّط اليمين عليهم أو يَحْلِف كلُّ واحد منهم خمسين يميناً؟ فيه قولان: أحدهما: [أنها] تُقسَّط؛ لأن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يجْعل على اليهود إلاَّ خَمْسين يميناً؛ وعلى هذا، فالتوزيع على عدد رؤوسهم؛ لأن الشركاء في القتل لا يتفاوتون في الدية، بخلاف ما في طَرَف المدَّعِين، حيث قلْنا: بالتوزيع على مقادير الإرث؛ لأنهم يثبتون الحق للقتيل نيابةٌ عنه، فيُنْظر إلى قدْر النيابة. والثاني: أن كلَّ واحدٍ منهم يحْلِف خمسين يميناً، كما كان يحلِفُ الواحدُ خمسين؛ اعتباراً باليمين الواحدة، والقوْلان كالقولَيْن، فيما إذا تعدَّد ورثة القتيل تُوزَّع عليهم أيمانُ القسامة أم يَحْلِف كلُّ واحد منهم خمْسين، لكن أصحُّ القولَيْن ههنا على ما ذَكَره الأكثرون، منهم الشيخُ أبو حامد وأصحابُه "وصاحب المهذب" والقاضي الرويانيُّ: أنه يحلِف كل واحد منْهم خمسين يميناً. والأصحُّ، فيما إذا تعدَّد المُدَّعون: التوزيع عليهم، وفَرَقوا بأنَّ كل واحدٍ من المدعَى عليهم يبقى عن نفسه القتْل، كما ينفيه الواحدُ، لو انفرد، وإذا تعدَّد المدعون، ¬
لا يثبت كلُّ واحد لنفسه ما يثبته الواحد لو انفرد؛ لأنَّ الواحد يُثْبت كل الدية وكلُّ واحد عند الاجتماع يُثْبِت بعضَها، فيحلِف بحَسَب ما يثبته، وسَوَّى في "التهذيب" بين الطَرَفَيْنِ، وجعَل الأصحَّ ههنا التوزيعَ أيضاً، وإذا قلنا بالتوزيع، فلو كانت الدعوَى على اثنين؛ أحدُهما حاضرٌ، والآخرُ غائبٌ، حلف الحاضرُ خمسين يمينًا، فإذا حضَر الغائبُ، وأنكر، حلَفَه خمسًا وعشرين، وإن كانا حاضرَيْن، فنكل أحدُهما، حلَف الآخر خمسين؛ لأن البراءة عن الدم لا تحصل بما دونها على قوْلِ التعدُّد، ويحْلِف المُدَّعي على الناكل خمسين، وإذا نَكَل المدَّعَى عليه عن اليمين، والمدَّعون جماعةٌ، وقلْنا بالتعدد، فتوزع الأيمان عليهم على قَدْر مواريثهم أو يَحْلِف كلُّ واحد خمسين؟ فيه القولان السابقان. هذا حُكْم الأيمان في دعْوَى النفس، فأما إذا كانتِ الدعوَى في الأطراف والجراحات؛ فقد مرَّ أنه لا يجْرِي فيها القَسامةُ، وأنه لا اعتبار فيها باللَّوْث، ولكن يحلف المدَّعَى عليه، وهل يتعدَّد اليمين؟ ينبني (¬1) ذلك على أن يمين المدَّعَى عليه في دعْوى النفْس هل تتعدَّد؟ إن قلنا: لا فههنا أولَى، وإن قلْنا: نعم، فقولان، ويُقَال وجهان: أحدهما: لا تتعدد أيضًا، كما في سائر الدعاوَى والتغليظ (¬2) هناك من خاصيَّة النفْسِ؛ لِعِظَم خطَرِها. والثاني: يستويان في هذا التغْليظ كما يستويان في القصاص، وفي تغليظ الدية، وهَذَا أشبهُ بأن يُرجَّح. وذكر ابن الصبَّاغ: أن هذا الخلاف فيما إذا كانتِ الدعوَى في العمد المحض، أما إذا كانَتْ في الخطأ وشبْه العمْد، فتتحد اليمين بلا خِلاَف؛ لأن الواجبَ المَالُ غيْرِ، والأكثرون لم يَفْرِقوا بين العمْد وغيره، كما في النفْس، وإذا قلْنا: بالتعدد فذلك فيما إذا كان الواجبْ فيما يدعيه مثلَ به بدل النفس، فأما إذا كان الواجبُ دون بدَلِ النفس مقدَّراً كما كان (¬3) في اليد الواحدة، أو حكومة؟ فقولان: أصحُّهما: على ما ذكر المتولِّي وغيره: أنه يُحَلَّفُ المدَّعَى عليه خمسين يمينًا أيضًا، كما أن في سائر الدعاوَى لا يختلف الحالُ بكثرة المدَّعي وقلته. والثاني: أنه يحْلِف بالقسْط، وتوزَّع الأيمانُ على الأبدال، ففي اليد الواحدةِ ¬
يَحْلِف خمساً وعشرين، وفي الموضحة ثلاثة أيمان، توزع الأيمان على عدَد الإبل، ويجبر ما انكسر منْها، ولو زاد الواجبُ على بدل النفس فهل يزادُ في مقدار الدية بزيادة مقدار الأروش، وطردَ الإمامُ الخلافَ فيه، وقربه من الخلاف في أن مدة الضرْب على العاقلة، هل تزاد على ثلاثِ سنين، إذا زادَتِ الأروش؟ قال: ولا يبعُد إجراء الخلافِ المذكُور في أن دِيَة النفُوس الناقصةِ تُضْرب في ثلاث سنين أو تنقص المدة، بحَسَب نقصان الدية، وفي أن يمين المدعَى عليه، هل يَنْقُص عن خمسين في النفوس الناقصة، والأشبه تعظيمُ النُّفُوس فيما يتعلَّق بالأيمان، والتسوية بين الكاملة منها والناقصة، وإذا كانت الدعوى في الطَّرَف على جماعة، فَيَحْلِف كلُّ واحد منْهم بقَدْر ما يحْلِف الواحدُ لو انفرد، أو توزع عليهم على عدد رؤوسهم؟ فيه قولان، كما قدَّمنا، ويتولَّد من الخلاف في الأصُول المذْكورة فيما إذا ادَّعَى على رجُلٍ أنه قَطَع إحدَى يدَيْه أو إحدَى يدَىْ أبيه ثلاثة أقوال: أحدُها: أن المدَّعَى عليه يَحْلِف يمينًا واحدةً وهذا هو القول الذاهبِ إلى أنه لا تعدُّد في يمين الطَّرَّف. والثاني: يحْلِف خمسين يمينًا، وهو القولُ الذاهب إلى التعدُّد، والقول بأن الأيمان لا تتوزَّع على الأبدال. والثالث: يحْلِف خمسًا وعشرين وهو مبنيٌّ على التعدُّد [والتوزيع] (¬1)، وفيما إذا ادَّعَى على رجلَيْن قطْعَ يده أربعةُ أقوالٍ: يحلف كلُّ واحد يمينًا واحدةً، بناءً على أن يمين الطرف لا تتعدَّد، [ويحلف كلُّ واحد خمسين، بناءً على التعدُّد] (¬2) وعلى التوزيع على الأشخاص دون الأبدال، يَحْلِف كلُّ واحد خمسًا وعشرين، وعلى التوزيع عَلَى الأشخاص والأبدال، يَحْلِف كل واحدٍ ثلاث عشرة يمينًا؛ بناء على التعدُّد والتوزع على الأشخاص والأبدال جميعًا، وفيما إذا ادعَى على ثلاثةٍ قطْعَ يديه خمسةُ أقوالٍ؛ يحلف كل واحد [منهم] (¬3) يميناً واحدةً، يحلف كل واحد خمسين، يحلِفُ كلُّ واحد خمساً وعشرين؛ بناءً على التوزيع على الأبدال دون الأشخاص، يَحْلِفُ كلُّ واحد سبع وعشرة؛ بناءً على التوزيع على الأشخاص دون الأبدال، يحلِفُ كل واحد تسعًا توزيعاً عليهما جميعاً، ومهما نكَلَ المدَّعَى عليه عن اليمين المفروضَةِ عليْه، ردَّت على المدَّعي، ويحْلِف بقَدْر ما كان يحلِفُ المدعَى عليه، وإن تعدَّد المدَّعون، فيوزَّع أو يحْلِف كلُّ واحدٍ منهم مثل ما ¬
يَحْلِف المنْفَرِد؟ فيه القولان السابقان، والتوزيع عليْهِم يكونُ بقدْر المواريث كما مرَّ. بقيتْ مسألة في الفصْل، وهي ما إذا كان مع المدَّعي شاهدٌ واحدٌ، وأراد أن يتحد يحْلِف معه، فإن قلْنا: اليمين مع الشاهدَيْن في دعْوَى الدم، قال في الكتاب: "فإن شهدَ على اللَّوْث، حلَف معه خمسين يميناً، وإن شهد على القَتْل، حلَف معه [يميناً] (¬1) واحدة"، ولك أن تقُولَ: قد يُشْعر الطرف الأول بالاكتفاء في اللَّوْث بشَاهِدٍ واحدٍ، وما ينْبَغي أن يَكْتَفِي به القاضِي، فإنَّ قوْل الواحدِ لا يصلُح مثبتاً, وما لم يثبت اللَّوْث عنْد القاضي، لا يُمْكنه البدايةُ بتحْليف المدَّعِي، فكان المعنى إتيانَ الشاهِدِ بما يفيد اللوْث بأنْ أخبر عن القتل، ولم يأتِ بصيغة الشهادة، ولم يحافِظْ على شروطها، ولم يأتِ بما هو سبيلُ الشهادة، ولكنْ لفْظُه في "الوسيط" تعبيراً عن هذا الطَّرَف، وإن جاء بصيغة الإخْبار أو شهِد على اللَّوْث، فيحلف معه خمسين يميناً، وهذا يَصُدُّ عن التأويل المذْكُور. وأما الطَّرَف الثاني، فإذا حافَظَ الشاهدُ على شروط (¬2) الشهادة، وأتى بصيغتها، فيحْلِف المدَّعِي معه يميناً واحدةً. قال الإِمام: ويثبت المال، إن كان القتْل خطأً, وإنْ كان المدَّعِي قتلاً عمداً، فلا يثبت القصاص، وإن قلْنا: يتعلق القصاص بأيمان القسامة، وفي ثبوت المالِ خلافٌ، سيأتي إن شاء الله تعالى نظيرُه، وأما إذا قلْنا في دعوى الدم: تتعدَّد اليمين مع الشاهد فلا بد من خمسين يميناً بكل حال، وقوله [في الكتاب] (¬3) "ففي تعدَّده خمسين قولان" يجوز أن يُعْلَم لفْظ "القولين" بالواو؛ لأن في "جمع الجوامع" للقاضي الرويانيِّ حكايةُ طريقةٍ قاطعةٍ؛ بأن يمين المدعَى عليه، إذا لم يكن لَوْث يتعدَّد، وكذا قوله "ويجريان في الأطراف"؛ لأنه يخرج مما ذكرنا في ترتيب الطَّرَف على النفْس طريقةٌ قاطعة بأن أيمان الأطْراف لا تتعدَّد، وكذا قوله "مع أن القَسَامة لا تَجْرِي فيها" لوجه ذَكَرْناه من قبل. وقوله "فلو نقص، ففي التوزيع قولان" أي نقَص أرْش الطَّرَف عن قدْر الدية [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ القَسَامَةِ وَلا يُنَاطُ بِهَا القِصَاصُ عَلَى الجَدِيد، بَل الدِّيَةُ مِنَ الجَانِي إنْ حَلَفَ عَلَى العَمْدِ، وَمِنَ العَاقِلَةِ إنْ حَلَفَ عَلَى الخَطَأِ، وَإِنْ نَكَلَ عَنِ القَسَامَةِ وَنَكَلَ المُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ اليَمِينِ فَفِي تَمْكِينِهِ مِنَ اليَمِينِ المَرْدُودَةِ قَوْلاَنِ، وَكَذَا إِذَا نَكَلَ عَنِ اليَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ وَعَادَ إِلَى اليَمِينِ المَرْدُودَةِ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصْلِ مسألتان: إحْدَاها: إذا أقْسَمَ المُدَّعِي في مَحَلِّ اللوْثِ نُظِرَ؛ إن ادَّعَى قتْل خطأ أو شبه عمْدِ، وجبَتِ الديةُ على عاقلةِ المُقْسَم عليه مخففَّةً في الخَطأ ومغلَّظة في شِبْه (¬1) العمد، ولو كان [المدَّعِي] (¬2) قَتْلاً عمدًا والمدَّعَى عليه ممن يَقْتُل بذلك القَتِيلِ، فهل يُنَاطُ بالقسامة القصاصُ؟ فيه قولان: رواية أبي ثوْرٍ عن القديم، [نعم] (¬3) وبه قال مالك وأحمد، لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ قَاتِلِكُمْ" ويُرْوَى: "يُحْلِف خَمُسونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَيُدْفَعُ إِلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ". وأيضًا، فإنها يمين مشروعةٌ في جنبة المدَّعي، فيتعلق بها القصاصُ كاليمين المردُودة. وأيضًا، فإنها تثبت العمد المحْض، فثبّت القصاصَ كالبينة. وأيضًا، فإنا نرجم المرأة بلِعانِ الزَّوْج، فلا يبعد أن نقتصَّ بقسامة المدَّعي. والجديد الصحيح (¬4): المنع؛ لما رَوِي أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِمَّا أنْ تَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ [مِنَ اللهِ وَرَسُولِه] " (¬5) ولم يتعرَّض للقصاص. وأيضًا، فإن القَسَامة حجَّةٌ ضعيفةٌ، لا يثبت بها النكاحُ، فلا يثبت القصاص، كالشاهد واليمين، وليستِ القسامةُ كاليمين المردودَةِ، ولا كلعانِ الزَّوْج. أما اليمينُ المردُودةُ، فَلأَنَّ نكولَ المدعَى عليه يقوِّي شأنها، ولهذا جُعِلَتْ كالبينة أو كالإقرار وأما اللعان، فلأَنَّ المرأة متمكنة من الدَّفْع بلعانها، ولو أَنَطْنَا القِصاصَ بالقَسامة، لم يتمكَّن المدعَى عليه من الدفع بيمينه، فإن قلْنا بالجديد، فيجب بها الدية حالَّةً في مال القاتل، وإن ادَّعَى قتلاً خطأً أو شبْهَ عَمْدٍ، وأقْسَمَ، وجبت الدية مخفَّفة في الخطأ، ومغلَّظة في شبْه العَمْد. وإن قلْنا بالقديم، فلا فرق بين أن تكون الدعوَى على واحدٍ أو على جماعة، كالبينة. وعن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن الوليَّ يختار واحدًا منْهم فيقتله قصاصاً, ولا يُقْتَل الجميع. وفي "الشامل": أن ابن سُرَيْج خرَّج على القديم قولاً مثله. وزاد "صاحب البيان" في حكاية هذا التخْريج أنه يأخُذ من الباقين حصَّتهم من الدية. ¬
وفي "المهذب" نسبةُ هذا القول إلى أبي إسحاق من غَيْر زيادةِ أخذْ الحصَّة، وكيْف ما قُدِّر، فهو ضعيفٌ، وإذا ادَّعَى القتْل على ثلاثة في محلِّ اللوث، والحاضرُ منهم واحد، فإن قال: تعمَّدوا جميعًا، أقْسَمَ على الحاضر خمسين يميناً، ويأخُذ ثلْث الدية من ماله على الجديد، وعلى القديم؛ له القصاص منه، ثم إذا قَدِم أحد الغائبين فإن أقَرَّ اقتص منه، لان أنكر أقسم عليه المُدَّعي، وكم يَحْلِف؟ فيه وجهان: ويُقال قولان: أحدُهما: خمْساً وعشرين يميناً؛ لأنهما لو كانا حاضرَيْن، لأقسم. الثاني: خمسين عليهما جميعًا، فحصَّة الواحدِ من الخمسين النصْف. وأصحُّهما: أنه يحْلِف خمسين أيضًا؛ لأن الأيمان السابقة لم تتناولِ الثانيَ، هكذا أطلقُوه، وينبغي أن يكون هذا على الخلافِ السابقِ في جواز القَسَامة في غيبة المدَّعِي، فإن جوَّزناها، وذكَره في الأيمان السابقة فينبغي أن يُكْتَفَى (¬1) بها، ثم إذا حَلَف عليه، عادَ القولان الجديدُ والقديمُ [ثم] (¬2) إذا قَدِم الثالثُ، فأنكر فكم يحْلِف عليه؟ فيه الخلافِ، وإنْ قال: تعمَّد هذا الحاضرُ، وكان الغائبان مُخْطِئَيْن، فيُقْسِم على الحاضرِ، ولا يقتص منه قولاً واحدًا، وإذا حَضَر الآخران وأنْكَرَا، فكم يحْلِف عليهما، ففيه الخلافُ، وإن أقرا وصدقتهما العاقلةُ، فالدية على العاقلة، وإن كذَّبتهما، ففي مالهما مخففة وإن قال: تعمَّد الحاضر، ولا أدْري أتعمَّد الغائبان أم أخطأ أقْسَم على الحاضرِ خمْسين، وأخَذ منه ثلثَ الدية على الجديد، وعلى القديم يوقَفُ الأمْر إلى أن يحضرا الغائبان، [فإن] حضَرا، واعْتَرَفا بالتعمُّد، اقتُصَّ منهما، ويقتص من الأول أيضًا على القديم، وإن قالاَ قتلْناه خطأً، وجَبَتِ الدية المخففة علَيْهما، إن كذَّبْتهما العاقلة، وعلى العاقلة، إن صدَّقَتْهما، وإن أنكرا أصْلَ القتل، فهل يُقْسِم المدَّعي؟ فيه الوجهان المذكوران فيما إذا ادَّعَى القتل وظهر اللوث فيه، ولم يذْكر أنه عمْدًا وخطأ. والأظهر: أنه لا يُقْسِم وينسب الثاني إلَى أبي إسحاق، قال: وإذا أقسم عليهما؛ فَيُحْبَسان حتى يصفا القَتْلَ وكم يَقْسِم عليهما فيه الخلاف. ولو ادَّعَى القتْلَ على رجلَيْنِ، وعلى أحدهما لوْث دون الآخر، يقسم المدَّعي على الذي عليه اللوث خمسين، وفي الاقتصاص منه القولان، ويَحْلِف الذي لا لوث عليه. المسألة الثانية: إذا أنكل المُدَّعي عن القسامة في محلِّ اللَّوْث يَحْلِف المُدَّعَى عليه، كما مَرَّ؛ فإن نَكَلَ، فهل تُرَدُّ اليمين على المدعي؟ نقل الأئمة، منهم صاحب "التهذيب" و"التتمة": أنه إذا ادعَى قتلاً يوجب القصاص، وقلنا: إن القسامة لا يناط بها القصاص، فتُرَدُّ اليمينُ على المدَّعي بلا خلاف؛ لأنه يستفيد بها ما لا يستفيد بأيْمان ¬
فرع
القسامة، وهو الاقتصاص، وإن كان المُدَّعي قَتْلاً لا يوجب القصاص، أو قتلا بوجبه، وقلنا: [لا] يناط القصاص بالقسامة، فقولان: أطلقهما الأكثرون: أحدهما: أن اليمين لا ترد على المُدَّعي؛ لأنه قد نكل عن اليمين في هذه الخصومة مرةً. وأصحهما: الردُّ؛ لأنه، إنما نَكَل عن يمين القسامة، وهذه يمين أُخْرَى، والسبب الممكن من تلك الأَيْمان اللَّوْث، ومن يمين الرد نكولُ المدَّعَى عليه، فالنكولُ عن شَيْءٍ في مقامٍ لا يبطل حقًّا في مقام آخر، وعن الشيخِ أبي محمَّد: بناءُ القولَيْن على أن اليمين المردودة في الدم، هل تتعدَّد؟ إن قلنا: لا، فتُرَدُّ عليه؛ لأنه قد يرضى بيمينٍ واحدة، ولا يرغب في الأيمان المتعدِّدة، وإن قلنا بالتعدُّد، فلا تُرَدُّ، لاستوائهما في العدد والكيفية والفائدة، وحكى الامام عن بعضهم؛ أنا إن قلنا بتعدُّد اليمين المردودة، فلا ترد اليمينُ عليه قولاً واحدًا، وإن قلْنا بالاتحاد، فقولان، وقد يوجَّه الردُّ بأن نكول المدَّعَى عليه علامةٌ مشعرةٌ بصدور القتل منه، فتنضم إلى اللوْث، ويتأكَّد الظن الذي يستند إليه اليمين، ولو كانت الدعوى في غير صورة اللوْث، ونكل المدعَى عليه عن اليمين، والمُدَّعي عن اليمين المردودة، ثم ظهر لَوْثٌ، وأراد المدعي أن يُقْسم، فقد أجْرُوا القولَيْن في تمكينه منه، وقضية البناء المنقول عن الشيخ أبي محمَّد: القَطْعُ بعدم التمكين، أما إذا عَدَدْنا اليمين المردودة، فلتساوي اليمينَيْن، وأما إذا لم نَعْدُدْ، فلأنه إذا رغب عن اليمين الواحدة، فهو عن الخمسين أرغب. ولو أقام المُدَّعي شاهداً واحدًا في دَعْوَى مالٍ، ونَكَلَ عن الحلف معه، ونكَلَ المدَّعَى عليه عن اليمين المَعْروضة علَيْه، فأراد المدَّعِي أن يحلف اليمين المردودة، عاد القولان المذكوران؛ لنكوله عن اليمين مرَّة، هكذا أطلقوه، وقضيَّة ما حكينا في أول المسألةِ أن يقال: لو جرى ذلك في دعْوَى القتل المُوجِب للقصاص، يمكَّن من اليمين المردودة، فلا خلاف؛ لأنه لا يستفيد باليَمِينِ مع الشاهد التَّمَكُّن من القصاص، ويستفيده باليمين المردُودَة. " فَرْعٌ" إذا حلف المدَّعَى عليه، تخلَّص عن المطالبة، كما في سائر الدعاوَى. وقال أبو حنيفة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: إن وُجِدَ القتيلُ في قرية أو محِلَّة، يطالَبُ باني الخُطَّة, إن ظهرَ كونُ القتل عمداً؛ بأن حُزَّت الرقبة، وعاقلة الباني إن كان يُتوهَّم كونُه خطأً، بأن كان الموْتُ برمية، وإن وُجِدَ في مسْجد، طُولِبَ باني المسْجد أو عاقلته، فإن لم يُوجَد الباني أو لم يُعْرف، طولب بالدية جميعُ أهْل المحِلَّة الحالفُ وغيره.
آخَرُ: [إذا حلَف المدَّعي عند نكول المدَّعَى عليه]، فإن كان المدعي قتلاً عمداً, ثَبَت القصاص؛ لأن اليمين المردودةَ كالبينة أو الإقرار، والقصاصُ يثبت بكلِّ واحدٍ منهما، وإن كان المدَّعي خطأ أو شبْهَ عَمْدٍ، ثبتت الدية، [ويكون] في مال المدعَى عليه أو على عاقلته قيل: إن جعلْنا اليمين المردودة كالبينة، فهي على العاقلة، وأن جعلْناها كالإقرار، ففي ماله. وقيل: هي في ماله بكل حالٍ؛ لأنها إنما تكونُ كالبينة في حقِّ المتداعِيَيْن، لا على الإطْلاق. قال الغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الرَّابعُ فِيمَنْ يَحْلِفُ وَهُوَ كُلُّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الدِّيَةَ فَالْمُكَاتَبُ يُقْسِمُ عَلَى عَبْدِهِ، فَإنْ عَجَزَ قَبْلَ الحَلِفِ والنُّكُولِ حَلَفَ السَّيِّدُ، فَإنْ كَانَ بَعْدَ النُّكُولِ لَمْ يَحْلِفْ كَمَا لا يَحْلِفُ الوَارِث بَعْدَ نُكُولِ المُوَرِّثِ، فَلَوْ قَتَلَ عَبْدَهُ فأَوْصَى بِقِيمَتِهِ لِمُسْتَوْلَدَتِهِ وَمَاتَ فَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يُقْسِمُوا، وَإِنْ كَانَتِ القِيمَةُ لِلْمُسْتَوْلَدَةِ لأَنَّ لَهُمْ حَظَاً فِي تَنْفِيذِ الوَصِيَّةِ، فَإِنْ نَكَلُوا فَلِلْمُسْتَوْلَدَةِ القَسَامَة عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ، وَكَذَا القَوْلاَنِ فِي قَسَامَةِ الغُرَمَاءِ إِذَا نَكَلَ الوَارِثُ، فَإنْ لَمْ يُقْسِمُوا فَلَهُمْ يَمِينُ المُدَّعَى عَلَيْهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الركن مسبوق القول فيمن يَحْلِف أيمان القَسَامة، قال في الكتاب: "وهو كلُّ مَنْ يستحِقُّ الدية"، والأوْلَى عبارة "الوسيط"، وهو "كُلُّ من يستحق بدل الدم"؛ ليشمل ما إذا كان القتيل عبْداً، فإنَّ الأصحَّ أن السيِّد يُقْسِم على ما قدَّمنا، وفي الفصْل مسألتان مفرَّعتان على جَرَيَانِ القَسَامَةِ في العبْد: إحداهما: يُقْسِم المكاتَبُ، إذا قتل عبده، ويستعينُ بالقيمة على أداء النجوم، ولا يقسم السيد، بخلاف ما إذا قتل عبد المأذون، فإنَّ السيدَ يُقْسِم دون المأذون؛ لأنه لا حَقَّ له فيه، والمكاتَبُ صاحب حقٍّ في عبده، فإن عجَز قبل أن يُقْسِم، ويعرض عليه اليمين؛ فيقسم السيد، وإن عجز بعد ما عُرِضَتْ عليه اليمين، ونكَلَ، فلا يقسم السيد؛ لبطلان الحقِّ بنكوله، كما لا يقسم الوارث إذا نَكَل المورِّث، ولكن يَحْلِفْ المدعَى عليه، وإن عَجَز المكاتَبُ بعْد ما أقسم، أخذ السيدُ القيمةَ، كما لو مات، وكما (¬1) إذا الوليُّ بعد ما أقسم وقوله: "فالمكاتَبُ يُقْسِم" يجوز أن يعلَم بالواو؛ لأنه مفرَّع على الأصح، وهو جريان القسامة في العبد. الثانية: إذا ملَك عبْدُه عبدًا، فقتل، وهناك لَوْثٌ، فإن قلْنا: العبد لا يملك بتمليك السيد، فالسيد هو الذي يُقْسِم، فإن المقتول عبد من عبيده، وإن قُلْنا: إنه يملك ¬
بالتمليك، فقد قال الإِمام: يُبْنَى ذلك على أنَّ مَنْ ملك عبده عبدًا أو عَرَضًا من العُرُوض، فأتلف، فينقطع حق العبد، وتكون القيمةُ للسيِّدِ أو ينتقل حَقُّ العبد إلى القيمة؟ وفيه وجهان: أفقهما: الانقطاع، فإن ملك العبد عرضة للاسترداد والانقطاع بالتغيرات؛ ألا ترى أنه لو عتق العبد أو انتقل من ملك السيد إلى ملْك غيره ينقلب ما مَلَكه إلى مِلْك السيد، فكذلك تغير العين بالتَّلَف وتبدل الحقِّ بالقيمة يوجب انقطاع مِلْك العبد. والثاني: أن حقَّ العبد ينتقل إلى القيمة كما في حقِّ غيره، فإن قلْنا بانقطاع حقه عن القيمة، فالسيد هو الذي يُقْسِم؛ وإلاَّ، فوجهان: أحدهما: أن للعبد أن يُقْسِم كما يُقْسِم المكاتَب في قتل عبده. والثاني: المنع؛ لضعف مِلْكه، والقَسَامة تستدعي استقلالاً وملكاً مؤقتاً، فإنْ قلنا: لا يقسم العبْدُ، فكذلك السيد؛ لأنَّه لا مِلْك له، وإن استرجع السيِّدُ، وأعاد القيمة إلى مِلْكِه، فكذلك لا يقسم السيِّد لأنَّ ما لم يثْبُتْ للعبْدِ، كيف يخْلُفه السيد فيه؟ وإنْ قلنا: يُقْسِم العبد، فقد قيل: لا يُقْسِم السيِّدُ؛ أيضًا؛ لأن العبد لم يكُنْ له قتْلٌ، ولا صارت القيمة له حينئذٍ، وإنما يثبت المِلْك له بالاسترجاع؛ قال الإِمام: ويجوز أن يُجعَل السيد خلَفاً عن العبد، كالوارث مع المورِّث (¬1)، وإذا قلْنا بالصحيح، وهو أنه لا يَمْلِك العبْد، فيقسم السيد، والقيمةُ له، ولو مات بعْد ما أقْسَم فهِيَ لورثته، وإذا مَلَّك مستولدته عبدًا، كان كما لو مَلَّك عبْدَه القِنَّ في جميعَ ما ذكرنا، وإن عتقَتْ بموت السيد، ولو أوصَى لمستولدته بعَبْدٍ فقتل؛ وهناك لوْث، فأقسم السيدُ، فيأخذ القيمة، وتبطل الوصية، ذكره في "التهذيب". ولو أوصى لها بقيمة عبده فلان، لو قتل، صحَّتِ الوصية؛ لأن القيمة له، فله أن يوصِيَ بها، ولا يقدح ما فيها من الخطَر منْ حيث إنَّ القتلْ قدْ لا يثبُتُ، ولا تحْصُل القيمة، فإنَّ الوصية يحتملُ الأخطار وليست الوصية للمستولدةِ كالوصية للعبْد القِنِّ؛ فإنها تعتق عنْد الموت، وهو وقْت استحقاق الوصية، والعبْد ينتقل إلى الوارثِ، فلا يمكن تصحيحُ الوصية له، ولا للوارث. قال القاضي الرويانيُّ: وعلى هذا لو أوصى لعبْد نفْسه، ثم أعتقه قبل أن يموت، تصحُّ الوصية وعن القاضي أبي الطيِّب: أنه لو باعه بعد الوصية، تصح الوصية، ويثبت الاستحقاق للمشتري، وإذا صحَّت الوصية، فإن أقسم السيد، ثم مات، فالقيمة لها وإن ¬
لم يُقْسِم حتى مات، ولم يؤخذ منْه نكولٌ، فيقسم الورثة، وتكون القيمة لها بالوصية، وإنما يُقْسِم الورثة، وإنْ كانتِ القيمةُ للمستولدة؛ لأن العبد يوم القتل كان للسيد، والقسامة من الحقوق المتعلقة بالقتل، فيرثونها كما يرثون سائر الحقوق وتثبت القيمة له، ثم يصرفونها إلى المستولدة بموجب وصيته، ولهم غرضٌ ظاهرٌ في تنفيذ وصيته، وتحقيق مُرَاده، وهذا كما أنهم يقضُون ديونَهُ، وليس سبيلهم فيه سبيلَ سائر الورثة، حتى لو مات مَنْ عليه دينٌ ولا تركةٌ له، فقضاه الورثةِ منْ عندهم، كان على المستحِقِّ أن يقبَلَها بخلاف ما لَو تبرَّع به أجنبيٌّ. قال الإِمام: وغالبُ ظنِّي أني رأيتُ فيه خلافًا لبعض (¬1) الأصحاب، قال ومثله (¬2) لو أوصَى إنسانٌ بمال، ومات، فجاء مَنْ يدعي استحقاقه، هل يحْلِف الوارث لتنفيذ الوصية؛ فيه احتمالان (¬3) يجوز أن يقال: نَعَم، كما في مسألة المستولدة، ويجوز أن يُفْرَق بأن القَسامةَ على خلاف القياس أثبتت احتياطًا وحَقْنًا للدماء، فيتعلق بحالة القتل، وصاحِبُ الحق عند القتل السيدُ، فإذا مات، قام وارثه مقامه، وأما دعوَى الاستحقاق، فإنها تتعلَّق بمَنْ له المِلْك ظاهرًا في الحال، وهو الموصَى له، ولا حاجة فيه إلى الإسناد والنَّظَرِ إلى ما تقدَّم، فإن نكَل الورثةُ عن القَسَامة، فهل للمستولَدَة أن تَقْسِم وتأخُذ القيمة؟ فيه قولان: أحدُهما: نعم؛ لأن القيمة لها، فلا يفوت عليها بنُكُول الورثة. وأصحُّهما: المنع؛ لأن القسامة لإثبات القيمة، والقيمةُ تثبت للسيد، ثم تنتقل منْه بالوصية إلى المستولَدَة، وإذا مات السيد، لم يُقْم مقامه في الإثبات إلاَّ ورثته، وليستِ المستولدة منْهم، والقولان كالقولَيْن فيما إذا أقام شاهداً بدَيْن لأبيه المديون، ولم يحْلِف مع الشاهد، هل يحلف غرماء الأب؟ ويجريان في المديون، إذا لم يُقْسِم ورثته، هل للغرماء أن يقسموا؟ ولا خلاف أن للورثة الدعوَى وطلب اليمين من المدعَى عليه، إذا ¬
لم يُقْسِموا، وأما المستولَدة، فهل لها الدعوى وطلب اليمين؟ فعن القاضي أبي الطيِّب، وغيره: بناءً ذلك على أنها هل تُقْسِم؟ إن قلنا نعم، فنعم، وإن قلنا: لا، فليس لها طلب اليمين؛ لأن اليمين إنما يطلبها من تُرَدُّ عليه، لو نكل المدعَى عليه ولا يمكن الردُّ عليها إذا قلْنا: إنها لا تُقْسِم، والظاهر المنصوصُ أن لها دَعْوَى القيمة وطلب اليمين، وإن قلنا: إنها لا تُقْسِم؛ لأن القسامة لإثباتِ القَتْل، فتختصُّ بمن يحلف القتيل، وأما القيمةُ، فهي صاحبة المِلْك الناجز فيها ظاهرًا، ولا تحتاجُ في طلَبِها إلى بيان جهة الاستحقاق، فلها أن تدَّعيها، وتحلف، وإذا نكَل الخَصْم، فترد اليمين عليها. قال الإِمام: وعلى هذا، فلا يتوقف طلبها [ودعواها] على إعراض الورثة عن الطلب، ومَنْ يبني حقَّ طلبها على أنها، هل تُقْسِم، يلزمه أن يقول: إنما يدَّعَي هي إذا أعرضوا عن الدعوى والطلب، كما أنها تُقْسِم، إذا نكل الورثة. وقوله في الكتاب: "فللورثة أن يُقْسِمُوا" يجوز أن يقال: أشار بقوله "فللورثة" ولم يقل "فعليهم أن يقسموا" إلى ما ذكره الإِمام أن الورثة، وإن كان لهم القسامةُ، فإنها لا تختم عليهم، وإن كانوا على عِلْم وبصيرة، فالأيمان لا تجب، قطُّ. وقوله "فإن لم يُقْسِمُوا، فلهم يمين المدَّعَى عليه" أي إن لم يقسم الورثة، فللغرماء التحليف، ويجوزُ أن يحمل قوله: "فلهم على الغرماء والورثة والمستولدة جميعاً" [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: فَإِذَا قُطِعَ يَدُ العَبْدِ وَعَتَقَ وَمَاتَ وَكَانَتِ الدِّيَة مِثْلَ أَرْشِ اليَدِ وَقُلْنَا لاَ قَسَامَةَ فِي العَبْدِ فَيُقْسِم هَهُنَا عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ؛ لأَنَّ الوْاجِبَ دِيَةُ حُرٍّ بِالنَّظَرِ إلَى الآخَرِ، وَلَوْ ارْتَدَّ الوَلِيُّ ثُمَّ أَقْسَمَ صَحَّ إِلاَّ إِذَا قُلْنَا لاَ مِلْكَ لَهُ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَوْقُوفٌ فَقُتِلَ صُرِفَتِ الدِّيَةُ إِلَى الفَىْءِ بِيَمِينِهِ، فَإنْ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقّاً؛ لأَنَّهُ مِنَ الاسْتِحْقَاقِ تَسَّبب، وَقَسَامَةُ أَهْلِ الفَيْءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ هَذَا النَّصُّ، وَقِيلَ بِخِلاَفِهِ، وَمَهْمَا قُتِلَ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ فَلا قَسَامَة إِذْ تَحْلِيف بَيْتِ المَالِ غَيْرُ مُمْكِنٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه ثلاث مسائل: إحداهما: إذا قُطِعَت يد العبد، فعَتَق، ثم مات بالسراية، فقد سبق أن الواجب فيه الديةُ، وذكَرْنا قولين في أن المستَحِقَّ للسيد أقلُّ الأمرين من نصف قيمة العبد وكمال الدية، أو أقلُّ الأمرين منْ كمال القيمة وكمال الدية؟ فإذا وقعتِ الجناية، والصورةُ هذه، في محل اللوث، وكان الواجبُ قدْرَ ما يأخذه السيِّد ولا يفضل شيْء للورثة، فهل يقسم؟ ترتَّب ذلك على أن السيِّد، هلْ يقسم، لو مات العبد رقيقاً؟ إن قلنا: نعم، فههنا أولَى، وإن قلنا: لا، يقسم هناك، فههنا وجهان:
أظهرهما: أنه يقسم أيضًا؛ لأن القتيل حرٌّ، والواجب فيه دية. والثاني: لا يقسم؛ لأن السيد (¬1) إنما يستحق بجهة الرِّقِّ، ونحن نفرِّع على أن بدل الرقيق لا قسامة فيه، وقد ينسب هذا الوجْه إلى أبي إسحاق، ويعلّل بأن السيد، لو أقسم، لكانَ قَدْ أقسم على أرش الطَّرْف [وهذا مشكل، فإنه يقتضي إلاَّ يقسم، وإن قلنا: القَسَامةُ لها مدخل في العبْد، ولم ينقل]، وان كان يفضل عن الواجب شيءٌ للورثة، فالورثة يُقْسِمون لا محالة، وفي قسامة السيد الخلافُ، إن قلْنا: لا يقسم، فالورثة يقسمون خمسين يميناً، وإن قلْنا: يقسم، فالسيد مع الوارث كالوارثَيْنِ، فيعود القولان في أن كلَّ واحد منهما يحلف خمسين، أو توزَّع الأيمان عليهما بحَسَب ما يأخذان. وقوله في الكتاب: "وكانت الديةُ مثلَ أرْشِ اليد" هذا القيد لا حاجة [إليه] (¬2) في أن السيِّد، هل يقسم على ما تبيَّن، ولكنه أراد التصوير في صورة انفرادِ السيِّد بالقسامة، والتنبيه على أن الواجبَ في هذا القتيلِ الدية، وعلى أظهر القولَيْن، وهو [أن] (¬3) المستحَقَّ للسيد الأقلُّ من نصف القيمة وتمام الدية، وإذا كانتِ الديةُ مثلَ أرش اليد أو أقلَّ، انفرد السيد بالاستحقاق. والثانية: إذا ارتدَّ وليُّ القتيل بعْد ما أقسم، فالدية ثابتة، وسبيلُها سبيلُ سائر أمواله التي ارتد عليها، وان ارتدَّ قبل أن يقْسِم، [قال] الأئمة: الأولَى ألاّ يَعْرِضَ الحاكمُ عليه القسامة؛ لأنه لا يتورَّع عن الأيمان الفاجرة، فإذا عاد إلى الإسلام أقْسَم، وإن أقسم في مَحَالِّ الردة، فعن المزنيِّ: أنه لا تصح قسامته، ولا يثبتُ بها شيْء. وفي "جمع الجوامع" للقاضي الرويانيِّ: أن القاضي أبا حامد روَى قولاً مخرجاً؛ أنه لا يُستَحَقُّ بالقسامة في الردة شيءٌ، ونقله ناقلون منصوصاً منسوبًا إلى رواية الربيع، وهذا راجع أيضًا إلى أنه لا تصح القسامة في الردة، والظاهر المشهور أن لها صحة واعتباراً، أو وجِّه بأن يمين الكافر صحيحة، والقسامةُ التي يَسْتَحِقُّ بها المالَ نوعُ اكتساب، فلا تبطلُ بالردَّة كالاختطاب وسائر الاكتسابات، وهل هي صحيحةٌ على الإطلاق أو القولُ بصحتها مخصوصٌ ببعض الأقوال في ملْك المرتد؟ فيه طريقان: أحدهما: أن ذلك مبنيٌّ على الأقوال في ملْك المرتد، إن قلنا: يبقى ملكه، وإنما يزول إذا مات أو قتل مرتداً، فتصح قسامته، وتثبت الدية، وإذا [مات] (¬4) فهي كسائر أمواله، وإن قلْنا: يزول ملْك المرتدِّ بالردة، وإذا أسلم [حصل] (¬5) ملْك مجدد، فلا ¬
يقسم في الردة؛ لأنه لا استحقاق له، وإن قلْنا بالتوقف، ففي صحَّة القسمة وجهان، ومنْهم مَنْ يقول؛ يقسم، ثم إذا ماتَ أو قُتِلَ على الردة، ففي ثبوت الدية وجهان، والأول أحسن موقعاً: أحدهما: أنه لا يُقْسِم؛ لأنه تبيَّن على هذا القول زوالُ ملكه بالردة، وخروجه عن الاستحقاق. وأظهرهما: وهو ظاهر النص: أنه يقْسِم وتثبت الدية، ويكون لأهْل الفيءِ؛ لأنه وإن ارتد، فهو الذي وَرِث أولاً، والقسامةُ تستند إلى حالة القتل، ولأنه يحتمل أن تكون الدية له بأن يعود إلى الإسلام، والقسامةُ، كما تجري عند تيقُّن الاستحقاق، تجري عند الاحتمال، كما ذكرنا فيما إذا كان في الورثة خنثَى أو غائب وأيضًا، فالاستحقاقُ، إما أن يكون له أَوْ لأهل الفيء وقسامة أهل الفيءِ لا تمكن والتعطيلُ بعيد، وهذه الطريقة هي التي أوردها في الكتاب، ويُرْوَى نحو منها عن أَبَوَي عليٍّ بن خيران، وابن أبي هريرة، وابن الوكيل. وأظهرهما عند الأكثرين إطلاق القول بالصحَّة، وتنزيل الدية منزلةَ ما يكتسبه بعد الردَّة باحتطابٍ أو اصطيادٍ وغيرهما. ولو ارتدَّ الوليُّ قبل موت المجْرُوح ومات، وهو مرتدٌّ، فلا يقسم؛ لأنه ليس بوارث، بخلاف ما إذا قُتِلَ العبد، وارتد السيد، لا يُفْرَق بين أن يرتدَّ قبل موت العبد أو بعْده، بل يُقْسِم، إذا أجرينا القسامة على بدل العبد؛ لأن الاستحقاق السيد بالمِلْك لا بالإرث. وقوله في الكتاب: "ولو ارتد الوليُّ ثم أقسم، صحَّ" يجوز أن يعلَم قوله "صح" بالزاء والواو. وقوله "إلاَّ إذا قلنا [إنه] (¬1) لا ملك له" بالواو، ولما ذكرنا من الطريقة المطْلِقَة للصحَّة، وإن قلنا: يزول ملكه، وهي التي رجَّحوها. وقوله "صرفت الدية إلى الفيْء بيمينه ... " إلى آخره هو الوجْه الذاهب إلى أنَّه يُقْسِم ويثْبُت بيمينه الديةُ تفريعاً على قوْل الوقْف. وقوله "لأنه من الاستحقاق تَسَبَّبَ" أي هو على الجملة بصفة قد يَثْبت له الاستحقاق، فلا ينزل منزلةَ الأجنبيِّ. وقوله "وقيل بخلافه" يعني به الوجه الآخر، وهو أنه لا يقسم أو لا يثبت بقسامته دية، وهو لا، قالوا: نصُّ الشَّافعيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- محمولٌ على قول بقاء المِلْك، وحمَلوا لفْظ الوقْف في كلامه على حجْر السلطان على المرتدِّ في أمواله. ¬
المسألة الثالثة: إذا قتل مَنْ لا وارث له بالجهات الخاصَّة فلا قَسَامة، وإن كان هناك لوْثٌ؛ لأنه ليس للدية مستحِقٌّ متعيَّن، وإنما هي لعامة المسلمين، تحلفُهم غيْرٌ ممكن، ولكن ينصب القاضي مَنْ يدَّعي عليه ويُحَلِّفه، فإن نكَل، فهل يقضي عليه بالنُّكول؟ فيه خلاف مذكور في موضِعِه. ونختم القول في القسامة بمسائل بقيت من الباب. لا ينبغي أن يُحَلِّف الحاكمُ السكرانَ مدعياً كان أو مدعى عليه، حتى يَعْلَم ما يقول، وما يقال له، وينزجر عن اليمين الفاجرة، فإن حلفه في السكْر، فعلى الخلاف في أن السكْران كالصاحِي أو كالمجنون. والأظهر الأولُ، وعن القاضي أبي حامِدٍ والماسرجسي [أن يقسم] ترجيح الثاني. إذا قُتِلَ رجلٌ، وكان اللوث على عبده، فأراد الوارث أن يقسِم عليه، فله ذلك، إن أثبتنا القصاص بالقسامة، لنقتص منه، وإلاَّ، فلا يثبت له في رقبة عبده مالٌ فلا يقسم، إلاَّ أن يكون مرهوناً، فيستفيد بالقسامة فكَّ الرَّهْن وبيعه، وقسمه ثمنه على الغرماء. ادعَى على رجل، أنه قَتَل أباه عمداً، فقال المدعَى عليه: قتلْتُه، ولكنْ خطأً أو شبه عمْدٍ ففي "التهذيب": أن القَوْل في نفْي العمديَّة قولُ المدعَى عليه مع يمينه، سواءٌ كان هناك لوْث أو لم يَكُن. والأقْوَى ما ذكرَه الإمامُ وصاحب "التتمة"، وهو أنه إن كان هناك لوْثٌ؛ كما إذا شهد عبيدٌ أو نسوةٌ على إقرار المدعَى عليه بالعمد، فيقسم المدعِي، ودعْوَى المدعَى عليه كونَ القتْلِ خطأً لا تمنع المدعي في القسامة، ولا تُبْطِل اللوْث، إنْ لم يؤكِّدْه، وإن لم يكُنْ لوْثٌ، فحينئذ يُصدَّق المدعَى عليه، ثم إذا حلف المدعَى عليه، فلم يحلف، رتّب ذلك على أنه لو أنكر أصْل القتل، لم يحلف، إن قلْنا: يحلف يميناً واحدة، فكذلك ههنا أو هو أولَى، وإن قلْنا: يحلف خمسين، فوجهان؛ لأن إنكار الصفةِ أخفُّ من إنكار الأصْل، والظاهر أنه لا فَرْق، وإذا حلف المدعَى عليه، فهل للمدعي طلَبُ الدية؟ قال المتولِّي: فيه قولان بناءً على أن الدية في الخَطأ تجب على العاقلة ابتداءً أو تجب على الجانِي، وهم يتحمَّلُون؟ إن قلْنا بالأول، فليس له طلب الدية؛ لأنه ادَّعَى حقّاً علَى المدعَى عليه، وهو اعترف بوجوبه على غيْره، وإن قلْنا بالثاني، فيُبْنَى على أن الحَلِف في الصفة، هل هو كالحلف في الموصوف، وفيه قولان مذكورانِ في "مسائل النكاح" إن قلْنا: نعم، فكأنه ادعَى مالاً واعترف بمال آخر لا يدعيه، وإن قلْنا: لا، طالَبَ بالدية، وهو الأظهر، واقتصر على الجواب علَيْه أكثرُ مَنْ أورد المسألة، وتكون الدية في مال المدعَى عليه مخفَّفة صفةً وتأجيلاً إلاَّ أن تصدِّقه العاقلة، فيكون عليهم،
وإن ادعَى عليه أنه قتل أباه خطأً، فقال: بل قتلته عمداً، فلا قصاص، وهل له أن يطالبه بدية مخفَّفة. قال المتولِّي: فيه الوجهان، وإذا نكل المدعَى عليه في الصورة الأولَى، حلف المدعي على أنه كان متعمدًا، ويكون عدد يمينه، بعَدَد أيمان المدعَى عليه، ويثبت له بيمينه القصاصُ أو الديةُ المغلَّظة في ماله؟ قال في "المختصر" في "صفة يمين المدعَى عليه": إذا نكل المدعي عن القسامة أو لم يكن هناك لوْثٌ يحلف بالله؛ إنه ما قتله، وما أعلن على قتْله وما ناله من فِعْله، ولا بسبب فعْله شيْءٌ جَرَحَه، ولا وصل إلى شيْء مِنْ بدنه، ولا أحدث شيئًا، مات منه فلان، وشرَحَه الأصحاب، فقالوا: قوله "ما قتله" لنفْيِ انفراده بالقَتْل. وقوله "وما أعان على قتْله" لنفي الاشتراك. وقوله "ولا ناله من فعله" أي لم يصبه سهمه وحَجَره الذي رماه. وقوله "ولا بسبب فَعَله" لأنه قد يرمى بسبب أو حَجَر، فيصيب حجرًا فيطير المُصَاب إلى الشخْص، فيقتله، وقوله "ولا وصل إلى شيْء من بدْنه" أي ما سقاه سُمّاً يهلك به. وقوله "ولا أحدث شيئًا مات منه" أي ما حَفَر بئراً، ولا نصب سِكِّينًا وحَجَراً هَلَك به، ولا حاجة إلى ذكْر صفة القتل، فإنه ينفي أصْلَه، واحتجَّ أبو إسحاق جماعةٌ بهذا النصِّ على أنه يجُوز أن تكون دَعْوَى الدم مطلقَةً، فإنه إذا عيَّن جهة يكفي نفْي الجهة المدَّعاة، وَمَنْ منع مِنه، قال: المسألة مصوَّرة فيما إذا أدَّى اجتهاد القاضي إلى سماع الدعوى المطْلقة وادَّعَى الوليُّ حصول الهلاك عَلَى يده، ولم يردَّ، فيقضي القاضي في اليمين بنفي الجهات [أو هي] مصورة فيما إذا كان الوارثُ صبيّاً أو مجنوناً، فينصب القاضي مَن يَدَّعي ويحتاطُ في التحليف. إذا ادَّعَى جراحةً لا توجب القصاص؛ كالجائفة، وأقام على دعْواه شاهداً واحدًا، وحلَف مع شاهده يميناً واحدةً ينبغي المال، ثم ما المجْروح بالسراية. قال ابن الحدَّاد: لا يعطي الورثةُ شيئًا إلاَّ بخمسين يميناً؛ لأنها صارت نفْساً. قال القاضي أبو الطيب: تصوير ابن الحدَّاد أولاً مبنيٌّ على أن دعْوى الجراحة والبينة عليها تُسْمَعَان قبل اندمالها وانتهائها بنهايته، وفيه خلاف، ثم جوابه مفرَّع على أن الأيْمان لا تتعدَّد [إلاَّ] في الأطرف والجراحات. وإن قلنا: تتعدد وتُكَمَّل الأيمانُ فيها، فيحلف مع شاهده خمسين يمينًا. وإن قلنا بالتوزيع على قدْر الدية، فتحلف للجائفة مع الشاهد ثلُثَ الخمسين، ثم إذا مات المجروح، وصارت الجراحةُ نفْساً، فيقسم الورثة، واللَّوْث حاصلٌ بشهادة
النظر الثالث في إثبات الدم
الشاهد الذي أقامه مورثهم، ولا تُحْسَب يمينه لهم؛ لأنه لا يأخذ أحدٌ بيمين غيره. وعن الخضَريِّ: أنها تحسب، حتى لو حلف خمسين على قوْلنا بالتكميل، فلا يمين على الورثة؛ لأنه قد حَلَف للجائفة يكْفِي لجميع النفْس، والظاهرُ الأوَّل، [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: النَّظَرُ الثَّالِثُ فِي إِثْبَاتِ الدَّمِ بِالشَّهَادَةِ وَلاَ يَثْبُتُ القَتْلُ المُوجِبُ لِلْقَصَاصِ بِرَجُلٍ وامْرَأتَيْنِ، وَيَثْبُتُ مُوجِبُ الدِّيَةِ، وَلَوْ رَجَعَ بالعَفْوِ إِلَى المَالِ نَفِي ثُبُوتِهِ بَعْدَ العَفْوِ وَجْهَانِ، وَلَوْ شَهِدَتْ عَلَى هَاشِمَةٍ مَسْبُوقَةٍ بإِيضَاحِ لَمْ يَثْبُتِ الهَشْمُ فِي حَقِّ الأَرْشِ كَمَا لا يَثْبُتُ الإِيْضَاحُ، وَلوْ شَهِدَتْ عَلَى أنَّهُ رَمَى إِلَى زَيْدٍ فَمَرَقَ فَأَصَابَ غَيْرَهُ خَطَأً ثَبَتَ الخَطَأَ فَقِيلَ قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ والتَّخْرِيجِ، وَقِيلَ: الاِيضَاحُ سَبَبُ الهَشْمِ وَهُمَا كَشَيْءٍ وَاحِدٍ بِخِلاَفِ قَتْلِ الشَّخْصَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الكلام في صفات الشُّهُود ونصيب الشهادات وشروطِها يُسْتَوْفَى في "كتاب الشهادات"، لكنَّ الشافعيَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ذكر ههنا مسائلَ تتعلَّق بالشهادات على الجناية، وأودَعَها بابًا ترجمه بـ"الشهادة على الجناية" فراعَى معْظمُ الأصحَابِ ترتيبه، وأورد تلك المسائل ههنا ومقْصُود الفصل أنَّ كلَّ قتْلٍ أو جَرحٍ يوجبْ القصاصَ، فإنه لا يثبت برَجُل وامرأتين، ولا بشاهد ويمين، بل لا بد فيه من رجلَيْن يشهدان على نفْس القتل أو الجَرْح أو [على] (¬1) إقرار الجانِي بهما، وما يوجِبُ إلاَّ الديةَ؛ كالخطأ وشبه العمد وجناية الصبيِّ والمجنونِ وجناية المُسْلِم على الذمِّي والحرِّ على العبدِ والأب على الابن: تثبت (¬2) بشهادة رجل وامرأتينِ، وبشاهد ويمين؛ لأن المقصود منه المال، وسيعود هذا في "كتاب الشهادات". ولو كانت الجنايةُ المدَّعاة بحَيْثُ توجب القصاص، وقال المدعِي: عَفَوْتُ عن القصاص، فاقبلوا منِّي رجلاً وامرأتين أو شاهدًا ويميناً لأخْذَ المال، فهل يقتل ويثبت المال؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه لا قصاص؛ والمقْصِد المال. وأصحُّهما: ويُحْكَى عن نصّه في "الأم": المنع؛ لأنها في نفْسها موجبةٌ للقصاص، لو ثبتت (¬3) ولأنه ينبغي أن يثبت القصاصُ حتى يكون للعفوْ اعتبارٌ، ومن القِسْم الأول المُوَضِحَة، إذا وقعت على وجْه يوجب القصاص، ومِنَ القسْم الثاني ¬
الهاشمةُ والمأمومةُ والجائفةُ، إذا تجرَّدتْ عن الإيضاح، أما إذا وُجِدَت هاشمةٌ مسبوقةٌ بالإيضاح، فهل يثبت أرْش الهاشمة برَجُلٍ وامرأتين؟ النصُّ أنه لا يثبت بلْ لا بدَّ من شهادة رجلَيْن، ونص فيما إذا رمَى إلى زيد، فمرق السهْمُ منه، وأصاب غيره خطأً؛ أنه يثبت الخطأ الوارد على الثاني برجُلٍ وامرأتين وبشاهد ويمين، وفيهما طريقان: أحدهما: أن فيهما قولَيْن: أحدهما: ثبوت الهشْم والجناية على الثاني برجُلٍ وامرأتينِ؛ وإن لم يثبتِ القطع [لأنه لا قصاص فيهما] (¬1). والثاني: المنع؛ لاشتمال الجناية على ما يوجِبُ القصاص، وهو المُوضِّحة في الصورة الأولَى، قتل الأوَّل في الثانية، والقصاص لا يثبت برجُلٍ وامرأتين. وأصحُّهما: تقرير النصين، والفرق أن الهشْم المشتمل على الإيضاح جنايةً واحدةٌ، وإذا اشتملت الجناية على ما يوجب القصاص احتيطَ لها، ولم تثبت إلاَّ بحُجَّة كاملةٍ، وفي صورة مروق السهم حصَلت جنايتان لا تتعلّق إحداهما بالأخْرَى، وذكر الأمام أن المُدَّعِي لو قال: أصاب سهمه الرجلَ الذي قصده، ونفد منه إلى أبي، فقتله، ولم تكن الجنايةُ الأولَى متعلَّق حقٌ المدعِي، فيجب القطْع بثبوت الخطَأ بالبينة الناقصة؛ ومحل التردُّد ما إذا كانت الجناية الأولَى متعلّق حق المدعِي، قال: وفيه احتمال؛ لأن الجناية في الجملة عمْدٌ مفضِ إلى خطأ، وذكر أنه لو ادعَى أنه أوضحَ رأْسَه، ثم عاد وهَشَم، ينبغي أن يثبت موجِبَ الهاشمة برجل وامرأتين؛ لأنها لم تتصَّل بالموضِّحة، ولم تتحد الجناية، وأنه لو ادَّعَى مع القصاص مالاً من جهة لا تتعلَّق بالقصاص، وأقام على الدعوَتَيْن رجلاً وامرأتين، فالمذهب المشهور أن المال يثبت، وإن لم يثبت القصاص، وإذا اشتملت الشهادة على أمرَيْن مختلفَيْن، لم يقض الرد في أحدهما الردَّ في الآخر، وأبعد بعضُهم، فخالف فيه، وفي "الوسيط" أنه لا خلاف أنه لو ادَّعَى قتْل عَمْرو خطأَ، فشهدوا، وذكروا مروقَ السهْم إليه مِنْ زيد، لم يقدح في الشهادة؛ لأن زيدًا ليس مقصوداً بها، وهذا قريبٌ من الصورة التي نقلناها عن الإِمام أولاً مع اختلاف التصويرُ فيهما فإذا قلْنا بثبوت الهاشمة المسبوقة بالأيضاح، وأوجبنا أرشها، فعن صاحب "التقريب": أن في ثبوت القصاص في الموضِّحة وجهين: وجْه الثبوت؛ التبعية كما أن الولادة على الفراش إذا ثبتت بشهادة النسوة يثبت النسب تبعًا، وإن لم يثبت النسبُ بشهادتين ابتداءً، واستضعف الشيخُ أبو عليٍّ والأئمة ذلك، واستبْعَدُوا اتباع الموضِّحة الهاشمة، وقالوا: الأقرب أن يُقَال: لا يجب قصاص ¬
الموضِّحة وفي أرْشها وجهان وجه الوجُوب أنَّا وجدْنا متعلقاً لثبوت المال، فلا يبعد أن يستتبع مالٌ مالاً. وقوله في الكتاب " [فقيل] قولان بالنقل والتخريج" فقضية إثبات قولَيْن في الصورتين وتولدهما من تصرُّف الأصحاب وكذلك ذكره جماعة من الأئمة، وفيه شيئان: أحدهما: حَكَى بعضهم القولَيْن في "مسألة الهشم" منصوصين لا حاصلَيْن بالنقل والتخريج، فيمكن أن يُعْلم لذلك قوله "بالنقل والتخريج" بالواو. والثاني: أن عن الأصحاب مَنْ أثبت الخلافَ في الهشْم، وقَطَع بثبوت الخطأ في صورة [المروق] وقله قبل ذلك "ففي ثبوته بعد العفْو وجهان" يجوز أن يُعْلَم لفظ "الوجهين" بالواو؛ لأن فيما عُلِّق عن أبي بكر الطوسيِّ حكايةٌ طريقةٍ أخرَى قاطعة بأنه لا يثبت. قال الغَزَالِيُّ: وَلَوْ شَهِدُوا أنَّهُ مَا جَرَحَ وَأَنْهَرَ الدَّمَ لَمْ يَكْفِ مَا لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى القَتْلِ، وَلو قَالَ: أَوْضَحَ رَأْسَهُ لَمْ يَكْفِهِ مَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْجِراحَةِ وَوُضُوحِ العَظْمِ، فَإنْ عَجَزُوا عَنْ تَعْييِنِ مَحَلِّ المُوضِحَةِ سَقَطَ القِصَاصُ وَثَبَتَ الأَرْشُ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الشهادة على الجناية مفسرة مصرِّحةٌ بالغرض، وفيه صورتان: إحداهما: الشاهدُ على القتل، لا بدَّ، وأن يضيف الهلاك إلى فعْل المشهود عليه، فلوقال: ضربه بالسيف، لم يكْفِ، ولم يثبت به شيء؛ لأن السيف قد يصيب المضروبَ عرضاً، وقد ينبو ولا يؤثِّر، ولو قال: ضربه، وأنهر الدَّمَ، أو قال: جرحه، لم يثبت القتل؛ فإنه ليس في الشهادة تعرُّض له، ولو قال: ضربه بالسيف وأنهر الدَّمَ، ومات أو فمات، لم يثبت القتل أيضًا؛ لاحتمال أنه مات بسبب آخر، لا [بجراحته] (¬1) وإنهاره. قال الإِمام: وفي طريقة (¬2) العراقيين ما يدل على أن القتل يثبُت بهذه الشهادة، وعده غلطاً، إن لم يكن في النسخة اختلالٌ، ويدل على الاختلال أنك لا تَجِدُ في طرق العراقيين ذكْرَ هذا الوجْه. ولو قال: جَرَحه، فقتله أو فمات مِنْ جراحته أو أنْهَر دمه، فمات بسبب ذلك، يثبت القتل، وفي معناه ما إذا قال: جَرَحه أو ضرَبَه بالسَّيْف، فأنهر دمَهُ، ومات مكانه، نصَّ عليه في "المختصر" وأقام قولَه "ومات مكانه" مقام قوله، "ومات من جراحته أو بسبب جراحته" وفي لفْظ الأمام، ما يُشْعِر بالنزاع فيه، فإنه قال "ولو قال: ضربه بالسيف [وأنهر] (¬3) دمه، ومات مكانه بتلْك الجراحة، يثبت بالقتل" فاعتبر أن يقول بتلك ¬
الجراحة، والشاهد يعْرِف حصول القتل بقرائن يشاهدها، وإن لم يَرَ إلاَّ الجراحة، وانْهَارَ الدَّم، وحصولَ الموت، فللإمام تردُّد في أنه هل يجوز تحمل الشهادة به؟ قال: والوجه المنع. الثانية: إذا قال الشاهدُ: ضرب رأسه، فأدماه، أو أسال دمه، تثبت الدامية، ولو قال: فسال دمه، لم تثبت؛ لاحتمال أن السيلان حصَلَ بسبب آخر، ولو قال: ضربه بالسيف، فأوضح رأسه أو اتَّضَحَ مِنْ ضربه أو بجراحته، تثبت الموضِّحة، ولو قال: ضربه، فوجَدْنا رأسه مُوضحاً أو فأتَّضَحَ، لم يثبت وحكى الإِمام وصاحبُ الكتاب؛ أنه يشترط التعرّض لوضوح العظْم، وإلاَّ، فلفظ الامام المُوَضِّحة من الإيضاح، وليست مخصوصةً بإيضاح العظم، وتنزيل لفظ الشاهد على الألقاب التي اصْطَلَح عليها الفقهاءُ لا وجْهَ له. نعم، لو كان الشاهد فقيهاً، وعلم القاضي أنه لا يُطْلِق لفظ "المُوضِحة" إلاَّ على ما يوضِحُ العَظْمَ؛ قال الإِمام: هذا موضع التردُّد يجوز أن يكتفي به لفَهْم المقصود، ويجوز أن يعتبر الكشْف لفظًا، فإن للشرع تعبداً في ألفاظ الشهاداتِ، وإن أفهم غيرها المقصود، ولا بد من تعيين محل الموضِحَة، وبيان مساحتها؛ ليجب القصاص، فلو كان على رأسه موضِحُ، وعجزوا عن تعيين موضِحَة المشهود عليه، فلا قصاص، ولم يكن على رأْسه إلا موضِحَةٌ واحدةٌ:، وشهد الشهود بأنه أوضَحَ رأْسَه، فلا قِصَاصَ أيضًا، لجواز أنه كانَتْ عليه موضِحَةٌ صغيرةٌ، فوسَّعَهَا، وإنما يجب القصاص إذا قالوا: إنه أوضَحَ هذه المُوضِحَةَ، وهل يجب الأَرْشُ إذا أطلقوا أنه أوضَحَ موضِحَةً، وعَجَزُوا عن تعيينها؟ فيه وجهان: أحدُهما: ويحكى عن اختيار القاضي الحسين: أنه لا يجب؛ لأن هذه الجراحة، لو ثبتت على صفتها لوجب القصاصُ، وقد تعذَّر إثبات القصاص، فلا تثبتُ الجنايةُ أصلاً، كما لو شهِدَ رجُلٌ وامرأتان على موضِحَةٍ عمدًا لا يثبت الأَرْشُ كما لا يثبت القِصَاص. وأصحُّهما: [الوجوب] (¬1) وبه قال الشيخ أبو محمَّد يجب؛ لأن الأرش لا يختلف باختلاف محل الموضحة ومساحتها، وتعذُّرُ القصاص إنما كان لتعذّر رعاية المماثلة لا لنقصان في البيِّنَةِ، بخلاف صورة الاستشهاد، ويدل عليه نصُّه في "الأُم"؛ أنه لو شهد الشاهدان على أن فلاناً قطَع قيد فلان، ولم يُعيِّنا، والمشهودُ له مَقْطُوعُ اليدَيْن، لا يجب القصاص وتجب الدية، ولو كان مقطُوعَ يد واحدة، والصورةُ هذه، فهل تنزل شهادتُهم ¬
على ما نشاهدُها مقطوعةٌ أو يشترط تنصيصهم؟ يجوز أن يقدَّر فيه خلاف، ولو شهد الشهود بمُوضِحَةٍ شهادةً صريحةً، وعَايَنَّا رأس المَشْجُوج سليماً لا أَثَر عليه، والعهْدُ قريب، فالشهادة مردودةٌ. وقوله في الكتاب: ["لم يكن] (¬1) ما لم يَشْهَدُوا على القتل" أعلم بالواو، ولما نقله الإمام عن طريق العراقيين، وأقامه وجهًا في "الوسيط". وقوله "ولو قال: أوضَحَ رأْسَهُ، لم يكفه ما لم يتعرَّض للجراحة": وَجْهُ التعرُّض للجراحةِ هو وجْهُ التعرّض لوضوح العظْم، فإنَّ الأيضاح من حيث اللفْظُ يحْصُل برفع العمامة عن الرأْس، وقضيَّتُه أن يقال: لا يكْفِي أيضاً. وقوله "ضرب رأسه بالسيف" فأوضَحَه؛ لأنه قد يضربه فَيُلْقِي عمامته بلا جرح، ويكون الحاصل ايضاحاً. وقوله "فإن عجزوا" يعني الشهود. وقوله "سقط القصاص" أي لم يَثْبُت، [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: وَلَوْ شَهِدَ عَلَى أنَّهُ قُتِلَ بِالسِّحْرِ لَمْ يُقْبَلْ لأَنَّ ذَلِكَ لاَ يُشَاهَدُ، وَلَوْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ أَمْرَضَهُ بِالسِّحْرِ وَلَكِنْ مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ فَهَذَا لَوْثٌ نَصَّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لاَ لَوْثَ فَإِنَّ اللَّوْثَ فِي تَعْيِينِ القَاتِلِ لاَ فِي نَفْسِ القَتْلِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ؛ السَّحْر له حقيقة، وقد يأتي الساحِرْ بفعْلٍ أو قولٍ يتغير به حالُ المسحُور، فيمرض، ويموت منه، وقد يكون ذلك بوصول شيْء إلى بدَنه من دخان وغيره، وقد يكون دونَهُ. وعن أبي جَعْفَر الأستراباذيِّ من أصحابنا: أن السحر لا حقيقة له إنَّما هو تخيُّلٌ. وحكى "صاحب الشامل" عن أصحاب أبي حنيفة: أنه إن وصل بفعْلِ الساحر شيْءٌ إلى بدَنِ المسحور، جازَ أن يحْصُلَ منه أثر، وإلاَّ، فلا يجوز، والمشهور الأول، وعليه عامة العلماء؛ يدل عليه قوله تعالى {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] وفي القصة المشهورة أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سُحِرَ حَتَّى يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ، وَلَمْ يَفْعَلْهُ" (¬2)، وفيه نزلت المعوِّذَتان. ويحْرُم فعل السحر بالإجماع، ومَنِ اعتقد إباحته، فهو كافر ويُرْوَى أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ سَحَرَ أَو سُحِرَ لَهُ، أوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ" (¬3). ¬
وإذا قال الرجل: تعلمتُ السحر أو أَحْسِنُ السِّحْر، استُوصِفَ، فإن وصَفَه بما هو كُفْرٌ، فهو كافر، ومثَّله ابن الصباغ بأن يعتقد التقرُّب إلى الكواكب السبعة، وأنها تجيب إلى ما يقترح منها. وعن القفَّال: أنه لو قال: أفْعَلُ بالسحْر بقُدْرتي دون قدرة الله تعالى، فهو كافر، وإن وصفه بما ليس بكُفْر، لم يكن كافراً. وقال مالك: السِّحْر زندقة حتى أن الرجُل، إذا قال: أنا أحسن السحر، ولا أعيل به، يُقْتَل، ولا تُقْبَل توبته، كما لا تُقْبَل توبة الزنديق، ويروَى عن أبي حنيفة مثله. وقال أحمد: يقتل الساحِرُ، ولمْ يُؤْثَر عنه في كفْره شيْءٌ. واحتج الأصحاب بِأَنَّ مَنْ قال: أحسن الكفر أو الزنا، لا يُجْعَل كافراً وزانياً، ويُرْوَى أن مدبِّرةً لعائشةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- سَحَرَتْها استعجالاً للعتْق، فباعتها عائشةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- ممَّن يسيءْ مِلْكَها من الأعراب، وكان ذلك بِمَحْضَر من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- ولم يقْتُلُوها. وأما تَعَلُّم السحْر وتعليمه، فالذي ذكره الأكثرون منْهم أصحابُنا العراقيون "وصاحب التهذيب": أنهما حرامان، لخوف الافتتان والإضرار بالناس، وفي "تعليق أبي بكر الطوسيِّ حكاية وجهين فيه. أحدهما: هذا. والثاني: لا يحْرُم، كما لا يحرم تعلُّم مقالات الكفرة، وقد يبغي من يتعلَّم السحْر دفْعَ ضرَرِهِ عن نفْسه، وأيضاً، فإنَّ تعرُّف حقائق الأشياء لا يَحْرُم، وهذا ما أورده في "الوسيط"، ورد الإِمام الوجهَيْن إلى أنه هل يُكْره تعلمُّه وفيه إشعار بأنه لا يحرم، وكلام القاضي الرويانيِّ قريبٌ منه، ولا يخفَى أن موضع الخلاف في التحريم؛ ما إذا لم يحتَجْ في تعلمه إلى تقديم اعتقادٍ هو كفرٌ والله أعلم. إذا عُرِفَ ذلك، ففي الفصل مسألتان: إحداهما: القتل بالسحْر لا يَثْبُت بالبيِّنة؛ لأن الشاهد لا يعْلَم قصْد الساحر، ولا يشاهِد تأثير السحْر، وإنما يثْبُت ذلك بإقرار الساحِر، وقد قدَّمنا أنه إذا قال: قتلتُه
فرع
بسحْرِي، وسحْرِي يقتلُ غالباً، فقد أَقَرَّ بالقتل العمْد، وإن قال: نادراً، فهو إقرار بشبه العمد، وإن قال: أخطاتُ مِن اسم غيره إلى اسْمه، فهو إقرار بالخطأ. وعن نَصِّه في "الأم": أنه لو قال: أمْرِضُ بسحْرِي، ولا أقتل، وقد سَحَرْتُ فلاناً، فأمرضته، عُزِّر وأنه لو قال: أُسْحِرُ ولا أُمْرِض، ولكن أُوذِي، ينهي (¬1) عنه، فإن عاد، يعزَّر؛ لأن السحْرَ كلَّه حرام. الثانية: إذا قال: أمرضتُه بسحْري، لكنه لم يمُتْ به، وإنما مات بسبب آخر، فقد نص -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في "المختصر" أنه لوْثٌ يُقْسِم به للوليِّ، ويأخذ الدية. قال الإِمام: وفيه قول مخرَّج أنه ليس بِلَوْثٍ ولا قسامة فيه؛ لأنا ذَكَرْنا فيما إذا جرح رجلاً، ومات المجروح، واختلف الجارحُ ووليُّ المجروح، فقال الجارح: مات بسبب آخر، وقال الوليُّ: بل بالسراية تفصيلاً وخلافاً في أن المصدَّق منهما مَنْ هو؟ ولم يجْرِ ذكرُ القسامة، وقد وجد في الصورتين الاعتراف بسبب القتل مع ادعاء وقوع المَوْت بسبب آخر، ووجهُ القولِ المخرَّج أن القسامة لتعيين [القاتل] (¬2) بعد الاتفاق على القتل، وههنا الاختلافُ في نفْس القتل، وأشار إلى أنَّا إذا جعلْنا اعتراف الساحر بأنه أمرض لوثاً، وجب أن يكون اعترافُ الجارح بالجَرْح لوثاً، وحاصل هذا الباب إثبات قولين أو وجهَيْن في الصورتين بالنَّقْل والتخريج، والظاهر الذي عليه أكثرهم أنه إنْ بقيَ ضمناً متألماً إلى أن مات، فيحلف الوليُّ، ويأخذ الدية، وذلك قد يثبت [بالبينة، وقد يثبت] (¬3) باعتراف الساحر، وإن ادَّعَى الساحرُ البُرْءَ من ذلك المَرَضِ، وقد مضَتْ مدة تحْتمل البرْءُ فالقول قولُه مع يمينه، ويُحْكَى (¬4) هذا عن نصه في "الأم" وقد سبق مثله في اختلاف الجارح والوليِّ وعليه يُحْمل نص "المختصر". " فَرْعٌ" [لو] (¬5) قال: قتلتُ بسحْري جماعَةً، ولم يعيِّن (¬6) أحداً، فلا قصاص؛ لأن المستحِقَّ غير متعيِّن، وعند أبي حنيفة يُقْتَل حدّاً، لسعْيه في الأرض بالفساد، وبمثله يقول إذا أقر بقتل اثنين فصاعداً على التعيين، وإن كان لا يوجب القصاصَ بالقَتْل بالسحْر على ما حكينا مِنْ قبلُ. آخَر: إذا أصاب غيْرَه بالعَيْن، واعترف بأنه قتله بالعَيْن، لم يجب القصاص، وإن ¬
كان العيْن حقّاً، ويقال: إن في الناس مَنْ يقصده، وقليلاً ما يخطئُ لأنه لا يقضي إلى القَتْل اختيارًا، ولا يُعَدُّ ذلكَ مِنْ أسباب الهلاك. قال الغَزَالِيُّ: وَمِنَ الشُّرُوطِ أَلاَّ تَتَضَّمَنَ الشَّهَادَةُ نَفْعاً وَلاَ دَفْعَاً، فَلَوْ شَهِدَ عَلَى جَرْحِ المُوَرِّثِ لَمْ يُقْبَلُ، وَلَوْ شَهِدَ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ لِمُوَرِّثِهِ المَرِيضِ فَوَجْهَانِ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَى جَرْحٍ وَهُمَا مَحْجُوبَانِ ثُمَّ مَاتَ الحَاجِبُ أَوْ بِالْعَكْسِ فَالنَّظَرُ إِلَى حَالَةِ الشَّهَادَةِ لِلتُّهْمَةِ، وَقِيلَ قَوْلاَنِ كَمَا في الإِقْرَارِ لِلوَارِثِ، وَلَوْ شَهِدَتْ العَاقِلَةُ عَلَى فِسْقِ بَيِّنَةِ الخَطَأ لَمْ يُقْبَل لِأَنَّهَا دَافِعَةٌ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مِنْ فُقَرَاءِ العَاقِلَةِ، وَإِنْ كَانُوا مِنَ الأَبْاعِدِ قُبِلَ لِأَنَّ تَوَقُّعَ مَوْتِ القَرِيبِ بَعِيدٌ بِخِلَافِ تَوَقُّعِ الغَنِىِّ، وَقِيلَ فِي البَعِيدِ وَالقَرِيبِ قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: سيأتي في "كتاب الشهادات" بتيسير الله -تعالى- أنَّ مِنْ شروطِ الشهودِ الانفكاكَ عن التهمة، وأن مِنْ أسباب التُّهمة أن يَجُرَّ بالشهادة نفْعاً إلى نفْسه أو يدْفع ضرراً، وأنَّ مِنْ صوَر الْجَرِّ أنْ يشهدَ على جَرْح مُوَرِّثه، وفيه مسائل: إحداها: إذا ادعَى على إنسان أنه جرَحَه، وشهد للمدَّعِي وارثه، نُظِر؛ إن كان من الأصول أو الفروع، لم تقبل شهادته للبعضية، وإن كان من غيرهم، فإن شهِدَ بعْد الاندمال، قُبِلت شهادته، وإن شهد قبْله، لم تُقْبَلْ؛ لأنه لو مات كان الأرْشُ له، فكأنه شهد لنفسه، وإن شهد بمال آخر لمورثه المريض مرَضَ الموتِ، فوجهان: أحدهما، ويُحْكَى عن أبي إسحاق: أنها لا تقبل أيضاً، ورجَّحَهُ صاحب "الإفصاح" وابن الصَّبَّاغ توجيهاً بأن المرِيضَ محجور [عليه] (¬1) المرض؛ لِحَقِّ الوَرَثَةِ؛ ولذلك لو وهب غير ذلَك المال، يعتبر من الثلث، وذلك يوجب التُّهْمَةَ في شَهَادَةِ الوارث. وأظهرهما؛ عند أكثرهم، وبه قال أبو الطَّيِّب بن سلمة: أنها تُقْبَلُ، وبه أجاب صاحب الكتاب في "باب الشهادات"، ولم يذكر الَخلاف الذي ذكَره هاهنا، والمسألةُ معادةٌ هناك، وربَّما زدْنا في شرْحِها. الثانية: لو شهد اثنان على الجَرْح، وهما محجوبان، ثم صارَا وارثَيْنِ، كأخوين يشْهَدان، وللمجْروح ابنٌ، ثم يموت الابن، فالشهادةُ في الأصل مقبولةٌ، ثم إن صارا وارَثَيْن قبل أن يقضي القاضي بشهادتهما، فلا يَقْضِي، وإن كان بعْدَ قضائه، لم ينقض القضاء، كما لو شهد الشاهد ثم فَسَقَ، وحكى الفورانيُّ طريقةً أخرَى، وهي أن في المسألة قولَيْن: ¬
أحدهما: هذا. والثاني: أن الاعتبار بحالة الشهادة، ولا أثر لما طرأ، وشبَّهه بالخلاف في "مسألة الإقرار للوارث" في أن الاعتبار بحالة الإقرار أعم بحالة الموت. ومثاله: أن يقر لأخيه، وله ابنٌ، فيموت أولاً ابن له، فيولد، ولو شَهِدَ، وَهُمَا وارثان في ظاهر الحال، ثم وُلِدَ له ابنٌ، فالشهادة مردودةٌ للتُّهْمَةِ عند آدائها، وطردت الطريقة الأخرَى حتى إذا اعتبرْنا بالمال، فإذا خرَجَ عن كَوْنه وارثاً، تبيَّن كون الشهادة مقبولةً، وكأنَّا نتوقَّف في الشهادة إلى أن يتبين آخر الأمر، ولو شهد وارثان على جَرْحِ الموروث (¬1)، فَبَرِئَ المجروح، فظاهر المذْهَب أنه لا يثبت الجرح؛ لقيام التهمة حال أداء الشهادة. وعن صاحب "الإفصاح" وغيره حكايةُ وجْهٍ أنه يثبت بناءً على أن الشهادة موقوفةٌ، كما أن عَطَايَاهُ في المرض موقوفةٌ، ومما عُدَّ من صُوَر دفْعِ الضرر؛ أن تقوم البينةُ على القَتْل الخطأ، فشهد اثنان من العاقلة الَّذين يتحمَّلون الدية عَلى فِسْق بينة القتل، فلا تقبل شهادتهما (¬2)؛ لأنهما متهمان برفْع التحمُّل عن نفسهما، وهذا أيضاً معادٌ في "الشهادات". ولو كان الشاهدان من فقراء العاقلة الذين لا يتحمَّلون، فالنصُّ أن شهادتهما لا تُقْبل أيضاً، وإن كانا من الأباعد، وفي عدد الأقربين وفاءٌ بالواجب، فالنصُّ قَبُولُ شهادتهما، وفي الصورتَيْن طريقان: أحدهما: أن فيهما قولَيْن نقلاً (¬3) وتخريجاً. وجْه القَبُول: أنهما لا يتحمَّلان في الصورتين شيئاً [فليس] وليس الموضِعُ موضِعَ التهمة. ووجه المنْع: أن الفقير يتحمَّل لو أيسر والبعيد يتحمل، لو مات القريب، فهما مُتَّهَمَان بدفْع ضرَرٍ متوقَّع. والثاني: تقرير النصين، والفرْق أن المال غادٍ ورائح، والغنيُّ غير مستبعد، بل كلُّ يحدِّث نفسه به، ويتمنى الأماني، وموتُ القريب الذي يُخْرِج الأبعد إلى التحمُّل كالمستبد في الاعتقادات، والتهمةُ لا تتحقَّق بمثله، وقد سبق ما يَقْرُب من هذا المعْنَى في "الإيلاء"، ورجَّح الإِمام طريقةَ القولَيْن معترضاً على الثانية بأن البَعِيدَ كما يلزمه التحمُّل بموت الأقربين، يلزمه (¬4) التحمُّل بافتقارهم وحاجتهم، ولَئِنِ استبعد الموت، ¬
فاحتمال الفقر والحاجةِ غيْرُ مستبعد، كما أن احتمال الغني [غير] (¬1) مستبعد، والأظهر عند الأكثرين طريقةُ التقرير، وبها: قال أبو إسحاق، ولهم أن يجيبوا عما ذَكَرَه بأن الإنسان يطلب غنى نفسه وتدبير أسبابه، ويتحيل مساعدة القَدَر والظَّفَر بالمقصود، ولا يطلب فقْرَ (¬2) غيره، ولا يسعى فيه، فتكون التهمةُ المَبْنِيَّةُ على تقدير غِنَاهُ أظْهَرَ من التهمة المَبْنِيَّة على فَقْرِ الغَيْر، وتُقْبَل شهادة العاقلة على فِسْق بينة القتل، وبينة الإقرار بالقَتْل الخطأ؛ لأن الدية لا تلزمهم، وإن حكمنا بالبينتين، فلم يكونا دَافِعَتَيْنِ. وقوله في الكتاب: "وقيل في القريب والبعيد [قولان"] (¬3) يعني في القريب الفقير، وفي البعيد، والأحسن أن يقال: "وقيل في الفقير والبعيد" [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلَيْنِ بِالقَتْلِ فَشَهِدَ المَشْهُودُ عَلَيْهِمَا بِأَنَّهُمَا قَتَلاَ هَذَا القَتِيلَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمَا لِأَنَّهُمَا دَافِعَانِ وَمُبَادِرَانِ قَبْلَ الاسْتِشْهَادِ، وَشَهَادَةُ الحِسْبَةِ لاَ تُقْبَلُ فِي حَقِّ الآدَمِيِّينَ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ، فَإِنْ صَدَّقَهُمَا المُدَّعِي بَطَلَ حَقَّهُ لِتَنَاقُضِ دَعْوَاهُ، وَلَوْ شَهِدَا عَلَى أَجْنَبِيٍّ بِالقَتْل فَهْمَا دَافِعَانِ وَمُبَادِرَانِ، وَلَوْ شَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِالقَتْلِ فَهُمَا مُبَادِرَانِ وَلَيْسَا دَافِعَيْنِ فَيُخَرَّجُ عَلَى شَهَادَةِ الحِسْبَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا شهد اثنان على رجلَيْن؛ أنهما قتلا فلاناً، فشهد المشهود عليهما أن الأوَّلَيْنِ قتلاه، قال الشافعيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- والأصحابُ: يُسْأل الوليُّ، فإن صَدَّق الأوَّلَيْنِ دون الآخَرَيْن، ثبت القتل على الآخَرَيْن بشهادة الأوَّلَيْن، ولا تُقْبَل الشهادة (¬4) على الأولين؛ لأن الوليُّ يكذِّبهما، ولأنهما يدفعان بشهادتهما ضَرَرَ مُوجِبِ القتل الذي شهد به الأولان، والدافع مُتَّهَمٌ في شهادته، ولأنهما [صَارَا] (¬5) عدوَيْنِ للأولَيْن بشهادتهما عليهما، وشهادة العدُوِّ على العدوِّ لا تقبل، وإن صدَّق الآخرَيْنِ دون الأولَيْن، بَطَلَت الشهادتان، أما شهادة الأولَيْن، فإنَّ تصديق الآخرَيْن يتضمن تكذيبهما، وأما شهادة الآخرين، فللمعنيَيْنِ الدفْعِ والعداوةِ، وإن صدَّق الفريقَيْن جميعاً، فكذلك تَبْطُل الشهادتان؛ لأن في تصديق كل فريق تكذيباً للآخر، وإن كذبهما جميعاً، فهو اظهر، واعترض على تصوير المسألة أن الشهادةَ على القَتْل لا تُسْمَعُ إلا بعد تقديم الدعوَى ولا بد في الدعوَى من تعيين القاتل، فكيف يُسْأَلُ المدعِي بعد شهادة الفريقين، وأُجِيبَ عنه بوجوه: أحدها، عن أبي إسحاق: أن تقديم الدعوى على الشهادة إنما يُشْتَرط إذا كان ¬
المُدَّعِي ممن يعبِّر عن نفسه، فأما مَنْ لا يعبر؛ كالصبيِّ والمجنون، فتجوز الشهادة لهم قبل الدعوَى والشهادة هاهنا لمن لا يعبر عن نفسه، وهو القتيل؛ ألا ترى أنه إذا ثبتت الديةُ، قضَى منها ديونَهُ، ونفذت وصاياه، وهذا ذهاب إلى أن شهادة الحِسْبَةِ تُقْبَلُ في الدماء، وهو وَجْه سيأتي -إن شاء الله تعالى ذكْرُه- في "الشهادات" لا مع وجْه آخر، وهو قَبُولُها في "الأموال" أيضاً، وظاهر المذْهب أنَّها لا تقبل في حقوق الآدميين المحْضَة أصلاً. والثاني: قال قائلون: المسألة مصوَّرةٌ فيما إذا لم يعْلَم الوليُّ القاتلَ (¬1)، والشهادةُ قبل الدعوى مسموعةٌ، والحالةُ هذه، ويُحكَى هذا عن الماسرجسي والأستاذ أبي طاهر، وهو وجه يذكر في "الشهادات" أن شهادة الحسبة لا تقبل، إن علم المستحقُّ بالحق؛ وإن لم يَعْلَم، فتُقْبَل. والأصحُّ: المنع، ويخبر الشاهدُ المستحِقَّ حتى تُقدِّم الدعْوَى، ثم يشهد الشاهد. والثالث: قال الأصحاب تفريعاً على أن الشهادة لا تقبل إلاَّ بعد تقديم الدعوى، وهو الصحيح: صورة المسألة أن يدَّعِي القتْل على اثنين، ويشهد بذلك شاهدانِ، فيبادر المشهودُ عليهما، ويشهدا على الشاهدَيْن بأنهما القاتلان، وذلك يورِثُ رِيبَةً وشُبْهَةً للحاكم، فيراجع الوليَّ، ويسأله احتياطاً، وحينئذ، إن استمر عَلَى تصديق الأولَيْن، ثبت القتل على الآخرَيْن، وان صدَّق الآخرَيْن أو صدقَهُم جميعاً، بطَلَ الدعوتان لتناقضهما، وبطلت الشهادات، ولو كان المدعي وكيل للوليِّ، نُظِرَ؛ إن كان قد عيَّن الآخَرَيْن، وأمره بالدعوَى عليهما، ففعل، وأقام عليه شاهدَيْن، فشهد المشهودُ عليهما على الشاهدَيْن، فإن استمر الوكيلُ على تصديق الأوَّلَيْنِ، ثبت القتل على الآخرَيْن، وان صدَّقَهم جميعاً أو صدَّق الآخَرَين، انعزل عن الوِكَالَةِ، ولا تبطل دعْوَى الموكّل على الآخرين، وان لم يعيِّنْ للوكيل أحداً، ولكن قال: ثأري عند اثنين من هؤلاء الجماعة، فادَّع عليهما، واطْلُبْ ثَأْرِي منهما، ففي صحَّة التوكيل هكذا وجهان مذكوران في "التهذيب". قال: وعلى تصحيحه يعْمَلُ الحُكَّامُ، والخلاف نازع إلى الخلاف المذكور فيما إذا قال: وَكَّلْتُك لمخاصمة خَصْمي أو هو هو، وعلى تصحيحه ينطبق ما حُكِيَ عن صاحب "التقريب" وأبي يعقوب الأبيوردي؛ أن المسألة في أصلها مصوَّرة فيما إذا كان قد وكَّل وكيلَيْن بطلب الدم، فادَّعَى أحدهما على اثنين والآخر على آخرَيْن، وشهد كلُّ اثنين على آخريْن، وإذا عيَّن الوكيلُ شخصَيْن، والتوكيلُ منهم كما صوَّرتا، وأقام عليهما شاهدَيْن، وشهد المشهودُ عليهما على الشاهدَيْن، والوكيل على تصديق الأوَلَيْن، يثبت ¬
القتل على المشهود عليهما، وإن صدَّق الآخرَيْن أو صدَّقهِم جميعاً، انعزل عن الوَكَالَة، [ثم] (¬1) إن صدَّق الموكلُ الأولَيْن، ثبت القتل على الآخرَيْن، وإن صدَّق الآخرين، جاز، وله الدعوى على الأولَيْن إذا لم يتقدَّم ما يناقض ذلك، لكن لا تُقْبَلُ شهادة الآخرين للتهمة بسبب الدفعِ والعداوة، والمبادرةِ قبل الدعوى والاستشهاد. ثم هاهنا فائدتان: إحداهما: عن صاحب "التقريب" تفريعاً على قبول الشهادة قبل تقديم الدعوَى: ذكر وجهين فيما إذا ابتدر أربعةٌ إلى مجْلس القاضي، وشَهِدَ اثْنان منْهم على الآخَرَيْن؛ أنهما قتَلا فلاناً، وشهد الآخران على الأولَيْن أنهما القاتلان. أحدهما: بُطلانَ الشهادتين لتضادَّهما وتصادُمِهِما. والثاني: أنا نُرَاجع الوليَّ، فإن لم يصدِّقْهم بَطَلت (¬2) الشهادات، وإن صدَّق اثنين، تأيَّدت، شهادتهما بالتصديق، فتبطل شهادةُ الآخَرَيْن، وبه تصح شهادة المصدَّقَيْن، فيقضي بها. وفيه وجه آخر أنه يعمل بشهادة الأولَيْن، وتردُّ شهادة الآخَرَيْن؛ لأنهما دافعان وعدوَّان، وإذا فرَّعنا على أنه لا تُقْبَل الشهادة قبل [تقديم] الدعوَى، فلو ادعَى المدعي، وأعاد المبادر الشهادة هل تقبل شهادته فيه خلاف يُذْكر في "الشهادات". الثانية: ردُّ الشهادة في المسألة لا لتهمة دفع الضرر ظاهرٌ، وقد نصَّ الشافعيَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- على التعليل بها، وأما الردُّ للعداوة، فقد قال الإمامُ: العداوة التي تُردُّ بها الشهادةُ لا تثبت بهذا [القدر] (¬3)، وموضِع ضَبْط العداوة التي توجِبُ ردُّ الشهادة بابها. وفي الفصْل بعد هذا صورتان: إحْداهما: إذا شهدَ رجلان على رجلَيْن بالقتل، فشهد المشهودُ عليهما على أجنبيِّ بذلك القتل، أو على أجنبيين (¬4) فصاعداً، فالنظر في كون الشهادة واقعةً بعد [تقديم] الدعوَى أو قبله، وفي تصديق الوليِّ الصنفين أو أحدهما على ما مرَّ، ولو كان المدعي وكيلَ الوليِّ، ولم يكن الوليُّ قد عين أحداً، ثم إنَّه صدَّق الآخرَيْن، كان له أن يدعِيَ على الأولَيْن؛ لأنه لم يسبِقْ منه ما يناقضه، ولا تُقْبل شهادة الآخريْن، لأنهما مُتَّهَمان بالدَّفْعِ عن أنفسهما. وعن أبي بكر الصيدلانيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أنه يُحْتمل ألاَّ يكونا (¬5) متهمين؛ ¬
لأنهما ربَّما صَدَقا؛ فلا ينبغي أن ترد قولُهما بمبادرة غيرهما بالشهادة عليهما. الثالثة: شهِدَ رجلان على رجلَيْن على التصوير الذي تقدَّم، فشهد أجنبيان على الشاهدَيْن؛ بأنهما القاتلان، فيَعُود فيه التفصيل، إن كان الوليُّ ادعَى بنفسه، وكذَّب الأَجْنَبِيَيْنِ بطلت شهادتهما، وإن صدَّقهما أو صدَّق الكلَّ، بطَلت الشهادات؛ لتناقض الدعوَتَيْن، وإن كان المدعي الوكيلَ، ولم يعيِّن الموكِّل أحداً، فللموكّل الدعْوَى على الأولَيْن، والأجْنبيان ليْسا دافعَيْن، ولكنهما مبادران إلى الشهادة قبل الاستشهاد، فلو ادعَى عليهما، وجاء بالأجْنبِيَّيْن شاهدين، فعلى الخلاف في قبول الشهادة المُعَادَةِ من المبادرةِ. والذي أورده في ""التهذيب": القبول، إن ادعَى وأعاد الشهادة في مجْلس آخر، وإن ادَّعَى [فشهدا] في ذلك المجلس، قال: فيه وجهان. ولو ادعَى على اثنين ألفاً، وشهد له بذلك شاهدان، ثم شهد المشهود عليهما أو أجنبيان بان للمدعي على الشاهدَيْن ألفاً وصدَّق المدعي الآخَرَيْن أيضاً، لم تبْطُل دعواه الأُولَى، ولا شهادة الأَولَيْن على الآخرين، وله أن يَدَّعِي على الآخرَيْن أيضاً، لجواز اجتماع الألْفَيْنِ، وشهادة الآخرين على الأولَيْن شهادةٌ قبل الدعوَى والاستشهاد، قال في "التهذيب": فلو ادعَى وشهدا في مجْلسِ آخر، قُبِلَتْ شهادتهما، ولو جَرَى في ذلك المجْلِسِ، ففيه وجهان. قال الْغَزَالِيُّ: وَإِذَا شَهِدَ أَحَدُ الوَرَثَةِ بِعَفْوِ بَعْضِهِمْ سَقَطَ القِصَاصُ بِإِقْرَارِهِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ بِشَهَادَتِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا أقر أحدُ الوَرَثَةِ بعَفْو بعضهم عن القصاص، وعيَّنه أو لم يعيِّنه، سقط القصاص؛ لأنه اعترف بسقُوطِ حَقِّهِ عن القِصَاص؛ إذ القصاصُ لا يتبعَّض، وإذا وُجِدَ منه ما يُسْقِط حقه من القصاص، سقط حقُّ الآخرين، كما لو قال: أسْقَطْتُ حقِّي عن القصاص، وقرب ذلك بما إذا أقر أحدُ مالكي العبْد بأن شريكه أعتقه، وهو موسِرٌ، يُحْكَم بنقود العتق، إذا جَعَلْنا السراية قضية لإقراره، وأما الدية، فإن لم يعيِّن المقر العافِيَ، فللورثة جميعاً الديةُ، وإن عيَّنه، وأنكرُ فكذلك، والقولُ في أنه لم يعْفُ عن الدية قولُه مع يمينه، وإن أقر بالعَفْو عن القصاص، فلغير العافي حِصَّتهم من الدية، والعافي إنْ عما على الدية، فكذلك، وإن أطْلَق العفْوَ، فعلى القَوْلين في وجوب الدية في العَفْو المُطْلَق، ولو شهد أحَدُ الورثة بِعِفُوِ بعْضِهم، نُظِرَ، إن كان فاسقاً، ولم يعَيِّن العافي، فحكم الشهادة حُكْم الإقرار، وإن كان عَدْلًا، وعيَّن العافي وشهد بأنه عفا عن القصاص والدية جميعاً، فللجاني أن يَحْلِفَ معه، ويسقط القصاص والدية. أما القصاص فإنَّه يسقط بالإقرار الذي تتضمَّنه الشهادة، وأما الدية، فلأن العَفْو
عن المال يثبت بشاهد ويمين، وكذلك الحُكْم، لو شهد رجل وامرأتان من الوَرَثَةِ؛ لأن العفو عن المال يثبُت برجُل وامرأتين، وكيف يحْلِف الجاني مع شهادة الوارِثَ؟ قال في "المختصر": حلف القاتل مع شهادته، لَقَد عفا عن القصاص والمال، وتَعَجَّبَ من ظاهره جمهورُ الأصحاب، وقالوا: القصاصُ يسقُطُ بشهادة الوارث، فيكفي أن يذكر في يمينه، أنه عفا عن الدية، ولا حاجة إلى التعرُّض للقصاص، وتكلَّموا فيه من وجوه. أحدها: أن قوله "لقد [عفا] (¬1) عن القصاص والمال" متعلِّق بشهادة الوارث لا بيمين الجاني، والمعنى بِحلف القاتل أنه عفا عن الدية مع شهادة الوراث على أنه عفا عنهما جميعاً. [والثاني: حمله حاملون عَلَى ما إذا ادعَى المدعي العَفْو عنهما جميعاً] (¬2)، وأجاب المدعَى عليه بأنه ما عفا عن القصاص، ولا عن الدية، فيحْلِف بِحَسَب الجواب، ولو اقتصر عَلَى أنه ما عفا عن الدية، كفَاهُ ذلك. والثالث: أنه ذكر ذلك احتياطاً؛ لتكون عبارته في اليمين مطابقةً لعبارة الشاهد في الشهادة. وعن بعْضِهم: أنه أخذ بظاهر النصِّ، وقال: إذا قلْنا: إن موجب العمْد القَوَدْ المَحْضُ، فإنما تثبت الديةُ بالعَفْوِ عن القَوَد، ولا يصحُّ العفْو عن الدية حتى يَعْفُوَ عن القصاص والدية جميعاً، فإذا حلَف على العفْو عن الدية من غير ذكْر العفْو عن القصاص، لم يكن حالفاً على عفْوٍ صحيحٍ، وإذا ادعَى الجانِي العفْوَ عن القصاص على الورثةِ، مِنْ غير ذِكْرِ العَفْوِ حلف، وثبت العفْو بيمين الرد. وإن اْقام بينة على العفْو، لم تُقْبل إلاَّ شهادة رجلَيْن؛ لأن القصاص ليس بمال وما لا يثبت برجُل وامرأتين، لا يُحْكم بسقوطِه برجُلٍ وامرأتين. وإن ادعَى على بعْضِهم العَفْوَ عن حِصَّتِهِ من الدية، فقد آلَ النِّزَاعُ إلى المال، فله إثباته بشاهد ويمينٍ، وبرجل وامرأتين؛ لأن المال يثبت بهما فكذلك إسقاطه. وقوله في الكتاب: "سقط القصاص بإقراره، وإن كان فاسقاً، لا بشهادته" يعني: أن القصاص يَسْقُطُ بالإقرار الذي هو في ضِمْن الشهادة، لا بالشَّهَادة حتى يَسْقُطَ، إنْ كان فاسقاً لا شهادَة له. قال الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّاهِدَيْنِ فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ أَوْ آلَةٍ فَهُمَا مُتَكَاذِبَانِ، ¬
فرع
ثُمَّ لاَ يَثْبُتُ بِهِ لَوْثٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الإِقْرَارِ بِالقَتْلِ المُطْلَقِ وَالآخَرُ عَلَى الإِقْرَارِ بِالقَتْلِ العَمْدِ ثَبَتَ أَصْلُ القَتْلِ، وَالقَوْلُ قَوُلُ المُدَّعَى عَلَيْهِ فِي نَفْيِ العَمْدِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنُ لَوْثٌ، وَإِنْ قَالَ: أَحَدُهُمَا قَتَلُهُ عَمْداً وَقَالَ الآخَرُ خَطَأً فَفِي ثُبُوتِ أَصْلِ القَتْلِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسائل: الأولى: إذا اختلف شاهدا القَتْلِ في زمانٍ؛ بأن قال أحدهما: قتله يوم السبت أو غدوته، وقال الآخر: يوم الأحد أو عشيَّتَه، أو في مكان؛ بأن قال أحدهما: قتله في البيت، فقال الآخر: في السوق وفي الآلة؛ بأن قال أحدهما: قتله بالسيف، وقال آخر: بالرُّمْح أو بالعصا، أو في هيئةٍ؛ بأن قال أحدهما: قتله بالحَزِّ، وقال الآخَرُ: بالقَدِّ، لم يَثْبُتِ القَتْلُ، بقولهما، وكذا الحال فيما يشهدان به، ويَخْتَلِفَانِ فيه من الأفعال والألفاظ المنشأة. وهل يكون ذلك لوثاً حتى يُقْسم [فيه] المدعي؟ قال في "المختصر": إنه يكون لوثاً، وذكر أن في بعض نُسَخَ في "المختصر" أنه لا يكون لَوْثاً، وكذلك حكَى عن رواية الربيع، وفيهما طرق ثلاثةٌ، فعن أبي علي بن أبي هريرة وغيره: أن في المسألة قولَيْن: أحدهما: أنه لا يكون لَوْثاً؛ لأن كل واحد من القولَيْن مُنَاقِضٌ للآخر، فكل واحد من القائلَيْن يكذِّب للآخر، فيندفعان، ولا يتحرَّك به ظنٌّ. والثاني: أنه يكون لَوْثاً؛ لأنهما متفقان على أصْل القتل، وإن اختلفا في صِفَاتِهِ، وربَّمَا غَلِطَ أحدهما أو نَسِيَ، فقد لا يَشُكُّ في أصل الوَاقِعَةِ، وَيشُكُّ في وقتها وكيفيتها. وعن أبي إسحاق: القطْعُ بأنه لَوْث، وبَانَ إثبات كلمة "لا" حيث أثبت غلطٌ، وعن أبي سلمة: وابن الوكيل القطْعُ بأنه ليس بلوث، والمصيرُ إلى أن إسقاط كلمة "لا" حيث أسقطت غلَطٌ. وقال القاضي أبو حامدٍ: إنما أثبت الشافعيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- اللَّوْث فيما إذا شهد أحدهما بالقَتْلِ، والآخرُ على الإقرار بالقتل، فنقل المزنيُّ جوابه إلى هذه المسألة غَلَطاً، واختار الإِمام طريقة القولَيْن، وهي الأعدل. والأظهر من القولَيْن على ما بيَّنهُ في الكتاب، وذكَره صاحب "التهذيب" أنه ليس بلَوْث. وقوله: "على الصحيح" يجوز أن يريد من القَوْلَيْنِ، ويجوز أن يريد من الطرق. " فَرْعٌ" لو شهد أحد الشاهدَيْن "على أنه أقرَّ يوم" السبت بالقتل عمداً أو خطأ، والآخَرُ على أنه أقر يوْمَ الأحد بذلك، ثبت القَتْلُ؛ لأنه لا اخْتِلاَفَ في القَتْلِ، وصفته، وإنما
الاختلاف في الإقرار، ولو قال أحدهما: أقر بأنه قَتَلَهُ بـ"مكة" له يوم كذا وقال الآخَرُ: أقر بأنه قتله بـ"مصر" في ذلك الْيَوْمِ، سَقَطَ قولاهما. الثانية: إذا ادعَى القَتْلَ، وأقام شاهدَيْن، شهد أحدهما بأنه قَتَلَه، والآخرُ بأنه أَقَرَّ بقتله، لا يَثْبُت القتل؛ لأنهما لم يتَّفِقَا على شيء واحد، ولكنه لَوْثٌ يثبت به القَسَامَةَ؛ ولا يجيء فيه الخلاف المذكور في الصورة السابقة؛ لأن الشهادتَيْنِ هناك مُتَكَاذِبَتَان، وههنا لا تكاذُب ولا تَنَافي، ولأن واحد منهما، لو انفرد بالشهادة التي شَهِدَ بها، حَصَلَ اللَّوْثُ، فإذا اجتمعا، كان أَوْلَي، ثم إن كان المدَّعِي قَتْلَ عَمْدٍ، وأقسم الوليُّ ترتَّب على القَسَامَةِ حكمها، وإن كان المدعي قتْلَ خطأ، حلفَ مع أي الشاهدَيْن شاء، والكلامُ في أن اليمين تتعدَّد أو تَتْحِدُّ على ما سَبَق، فإن حلَف مع شاهد القَتْل، وجبت الدِّيَة على العاقلة، وإن حَلَف مع شاهد الإقرار، وجَبَتْ في مال الجانِيَ، فإن ادَّعَى القتل العَمْدَ، وشهد أحدُ الشاهدَيْن على إقراره بالقتل العَمْدِ، والآخر على إقراره بالقَتْل المطْلَق، أو شهدَا على نَفْسِ القَتْل أو شهد أحدهما بأنه قتل عمداً؛ والآخر بالقتل [المطلق] ثبت أصل القتل؛ لاتفاقهما عليه، حتى لا يقبل من المدعَى [عليه] (¬1) إنكارُه، ويُسْأل عن صِفَةِ القتل، فإن أصَرَّ على إنكار الأصْل، قال الحاكم: إن لم تبيِّن صفة القتل، جعَلْتُك ناكلاً، وردَدتُّ اليمين على المدعِي، أنك قتلت عمداً، وحكمتُ عليك بالقصاص. وإن بيَّن صفة القتل؛ بأن قال: قتلتُه، عمْداً أجرَى عليه حكْمَه، وإن قال قتلتُهُ خطأ، وكذَّبه [الوليُّ]، فقد أطلق مُطْلِقُون أن القول قولُه في نفْي العمْدية، فيحلف، وتكون ديةُ الخطأ في ماله؛ لأنها ثبتت بإقراره، وإن نكَل، حلَفَ المدعِي، واستحق القصاص. واستدرك الإمامُ وصاحب الكتاب، فقالا: القولُ قولُه في نفْي العمدية، إن لم يكن هناكَ لَوْثٌ، وإن كان، فيقسم المدعي، ويشبه أن يكون المراد اللوْثَ في العمدية (¬2)، وإلاَّ فاللوث في أصل القتل حاصلٌ لاتفاق الشاهدَيْن عليه، وقد سبق ذِكْرَ خلاف في أنه لو ظَهَرَ اللَّوْثُ في أصل القتل دون كونه خطأً أو عمداً، هل يثبت القسامة؟ وهذا نازع إليه. الثالثة: لو شهد أحد الشاهدَيْن بأنه قتله عمداً، والآخر بأنه قتله خطأً، والدعْوَى بالقتل العمْد، فهل يَثْبُتُ أصل القتل؟ قال الإِمام: اخْتَلَفَ فيه جَوَابُ القَفَّالِ، فقال في أحد الجوابَيْن: لا يثبت؛ لاختلاف الشهادتَيْنِ على التَّنَافِي، وإذا تكاذَبتِ الشهادتان، سَقَطتا، كما لو اختلفا في الزمان أو المكان أو الآلة، وهذا ما صحَّحه الإمَامُ. ¬
فرع
والثاني: يثبت؛ لاتفاقهما على أصْلِ القتل، والاختلاف في العمديَّة والخطأ به ليس كالاختلاف في الصورة السابقة، لأن التكاذُب هناك في أمرِ محسُوسٍ والعمدية والخَطَيئَّةُ في محلِّ الاشتباه، فالفعْلُ الواحدُ قد يعتقدُه أحدُهما عمداً، والآخر خطأً، وهذا ما أورده ابن الصبَّاغ وجماعةٌ. فإن قلْنا بالأول، فالحكم على ما ذَكَرْنا في "صورة التكاذُب"، وإن قلنا بالثاني، فقد ذكر في "الشامل": أنه يُسْأَلُ الجاني، فإن أقر بالعُمْدِ، ثبت، وإن أقر بالخطأ وصدَّقه الوليُّ [فذلك] وإن كذَّبه، فللوليِّ أن يُقْسِم؛ لأن له بما ادعاه شاهداً واحداً، وذلك لوْثٌ. قال: ويخالف هذا ما إذا شهِدَ أحدهما على إقْراره بالقَتْل العمد، والآخر على إقراره بمطلق القتل؛ لأن الشهادة هناك عَلَى الإقْرار، واللوْثُ إنما يتحقَّق في الفعْل لا في الإقْرار، وهذا العُذْر لا يجيْء فيما إذا شَهِد أحدهما على القتْل العَمْد نفسه، والآخر على مطْلَق القتل، فلْيحكُم بحصول اللوْث فيه. ثم ذكر أنه إن أقسم الوليُّ، ترتب حكم القسامة عليها، وإلا فيحلف الجاني، فإن حَلَف، فالدية المخفَّفة في ماله وإن نكَل، فهل تُردُّ اليمينُ على المدَّعِي لنكوله؟ فيه قولان قد سبق ذكرهما، فإن رُدَّت، وحلف، ثبت موجب العَمْدِ، وإن لم ترد أو قلنا بالرد، وامتنع من الحَلِفِ، ثبتت دية الخطأ في ماله. أمَّا أَنَّه يثبتُ ديةُ الخَطَأ دون العَمْدِ، فلأنها أخفُّ، وقد ثبت أصل القتل. وأما أنها في ماله، فلأن العاقلة لا يُضْرَبُ عليهم شيْءٌ ما لم يثبت الخطأ. والذي أورده صاحب "التهذيب" في المسألة أنه إنْ كان المدَّعِي القَتْلَ خطأً، فشهادة شاهد العمْد لَغْوٌ، ويحلف المدَّعِي مع شاهد الخطأ، وتجب الدية على العاقلة، وإن كان المُدَّعي القتلَ عَمْداً، فشهادة شاهد الخطأِ لغو، (ويحلف) المدعي خمسين يميناً، ويثبت موجب القسامة. قال: ولو شهد أحدُهما على أنَّه أقر بقتله عَمْداً، والآخر على أنه أقر بقتله خَطَأً، فالجواب كذلك إلا أنَّه إذا حلَف على الخَطَأ، فتكون الدية في مال المدَّعَى عليه، إلا أن يصدِّقه العاقلة. " فَرْعٌ" شهد اثنان على أنَّه ضرب مَلْفُوفاً "في ثوْبٍ" فقدَّه بنصفين، ولم يتعرَّضا لحياته وقْت الضرب، لم يثبتِ القتْل بشهادتهما، فلو اختلف الجاني والوليُّ في حياته حينئذ،
ففي المصدَّق منهما قولان، قد سبق ذكرهما في أواخر الفن الأول من القصاص: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة: أن المصدَّق الجاني، وهو نصُّه في هذا الكتاب (¬1) ورجَّحه الشيخُ أبو حامد والقاضي الرويانيُّ وجماعة. وأظهرهما؛ على ما ذكرنا هناك أن المصدَّق الوليُّ، واختلفوا في موضع القولَيْن على ثلاثة طُرُق: أظهرهما: إطلاقهما. والثاني: عن أبي إسحاق أنه يُنْظَر إلى الدَّم السائل فإن قال أهل البصر: إنَّه دمُ حيٍّ، فالمصدَّق الوليُّ، وإن قالوا: إنه دم ميِّتٍ، فالمصدَّق الجاني، وإن اشتبه، ففيه القولان. والثالث؛ عن أبي الحُسَيْن الطِّيبيِّ: أنه إن كان ملفوفاً في ثياب الأحياء، فالمصدَّق الوليُّ، وإن كان في الكفَن، فالمصدَّق الجاني (¬2)، وإن كان مشتبهاً، ففيه القولان، فإن صدَّقنا الجاني، فحلف، برأ، وإن صدَّقنا الوليَّ، فحلف، فله الدية. قال الشيخ أبو حامد: ولا يستحقُّ القصاص للشبهة، وعن الماسرجسي وغيره: أنه يتعلَّق به القصاص، كما تتعلق به الدية؛ لأنَّ الخلاف في العمْد الموجِبِ للقِصَاصِ، فإذا صدَّقناه فيه، رتَّبنا عليه موجِبَه، وبهذا قال القاضي أبو الطيِّب، وبالغ (¬3) فيه [حين] (¬4) سأله أبو بكر الدقَّاق وراجَعَه فيه. آخر: شهد شاهدٌ على رجُلٍ أنه قَتَل زيداً، وآخر أنه قَتَلَ عَمْراً، حصَل اللوْث في حَقّهما جميعاً حتى يُقْسِم الوليانِ، نصَّ عليه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في "الأم" والله أعلم بالصواب. ¬
كتاب الجنايات الموجبة للعقوبات
كِتَابُ الجِنَايَاتِ المُوجِبَةِ للْعقُوبَاتِ قال الغَزَالِيُّ: وَهِيَ سَبْعٌ: البَغْيُ وَالرِّدَّةُ وَالزِّنَا وَالقَذْفُ وَالشُّرْبُ وَالسَّرِقَةُ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ. الجِنَايَةُ الأَوْلَى: البَغْيُ وَالنَّظَرُ فِي صِفَاتِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أراد بالعقوبات الحُدُودَ، وما يَقْرُب منها، وإلا، فالقصاص عقوبةٌ أيضاً، وأدرج في الكتاب الكلام في سبع [من] الجنايات وأحكامها، وهي البغْيُ، والردة والزنا، والقذف [وشرب الخمر] والسرقة، وقطع الطريق، وعقوبات هذه الجنايات قد يُسَمَّى حدوداً، وقَدْ يَخُصَّ باسم الحدِّ ما سوى عقوبةٌ البغْي، والردَّة. الجناية الأولَى: البَغْيُ، ونُقدِّم مقدِّمَتَيْنِ: أحدهما: الباغي في اصْطِلاَح الفقهاء؛ المخالِفُ للإمام العادل (¬1)، الخارجُ عن طاعته بالامتناع عن أداء (¬2) ما وجَب عليه أو غَيْره بالشرائِط التي تذكرها، ولِمَ سُمِّيَ باغياً؛ قيل: لأنه ظالم بذلك، والبغْيُ: الظُّلْم؛ قال تعالى: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} [الحج: 60] أي ظُلِمَ، وقيل: لمجاوزته (¬3) الحدَّ المرسوم له، والبغْيُ مجاوزةُ الحدِّ، وقيل: لطلبه الاستعلاء على الإِمام، مِنْ قولهم: بَغَى الشَّيْءَ أي: طلبه، وافتتح الشافعيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الباب بقوله -تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} [الحجرات: 9] {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} (¬4) الآية، ويقال: إنَّها وردَتْ في طائفتَيْنِ من الأنصار وقعَ بينهما قتالٌ، فلما نزلت، قرأها عليهم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فأقْلَعُوا، وليْس فيها تعرُّض للخروج، والبغْي على الإِمام، ولكن إذا أمرْنا بقتال طائفة بغَتْ على طائفة أخرى حتى تَفِيءْ إلى أمر الله، فلَأَنْ نقاتلَ الَّذين بغَوْا على الإِمام ¬
إلَى أن يفيئوا إلى أمر الله تعالى أَوْلَي، ثم استفاد الأئمةُ بعْد وجوب قتال أهْل البغْيِ، أنه لا يكْفُر (¬1) الباغي بالبَغْي، وأنه إذا رجَع إلى الطاعة، تُقْبَل توبته، ويُتْرَك قتاله (¬2)، قالوا: وفي الأمر بالإصْلاح أولاً وآخراً إشعارٌ بأنه لا يغرَّمُ، ولا ضَمَانَ فيما يتلقون على ما سيأتِي، وأجمعتِ الصحابةُ -رَضِيَ الله عَنْهُمْ- على قتال البُغَاة، فقاتل أبو بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أولاً مانِعِي الزكاة، وقاتل عليّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- آخراً أصحابَ الجَمَلِ، وأهْلَ الشامِ وأهْلَ النَّهْرَوَان، ثم أطلق الأصحابُ القول: بأن البغْيَ ليس باسْمِ ذمٍّ، وبأن الباغين ليْسوا بفَسَقَةٍ، كما أنهم ليسوا بكَفَرة، ولكنهم مخطِئُون فيما يفْعَلُون ويَذْهَبُون إليه من التأويل، ومنهم من يسميهم عصاةٌ، ولا يسميهم فسقةً، ويقول: ما كلُّ معصية توجِب الفسْقِ، وعلى هذا، فالتشديدات الواردةُ في الخروج عن طاعة الإِمام ومخالفته، كما رُوِيَ (¬3) عن عبادة بن الصاحِب -رَضِىَ اللهُ عَنْهُ- قال: بَايَعْنَا رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَى السَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ، في المَنْشَطِ، وَالْمَكْرَهِ وَأَلَّا نُنَازعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ" وما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ قِيدَ شبرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ" (¬4) وأنه قال: "مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ، فَلَيْسَ منَّا" (¬5) وأنه قال: "مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الجَمَاعَةَ، فَمَيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ" (¬6) محمولةٌ على مَنْ يخْرُج عن الطاعة، ويخالِفُ الإمام بلا عُذر ولا تأويل، وعلى هذا فتسمية البغْيِ جناية، حيث قال في الكتاب "الجنايةُ الأولَى: البغْيُ" كتسمية القتل الخطَأِ جنايةً. المقدِّمة الثانيةُ: لمَّا كانَ البغْيُ عبارةً عن الخروج على الإِمام بشُرُوط مخصوصةٍ، فيحتاج في معرفة الباغي إلى معْرفة الإِمام، فاستحسن جماعةٌ من الأصحاب أن يتكلَّموا في الإمامة ههنا، ورأَيْنَا أن نتأَسَّى (¬7) بهم، ونورد المقْصُود على الاختصار في فُصْول: ¬
فصل: في شروط الإمام
فَصْلٌ: في شروط الإِمام: وهي: أن يكون (¬1) مكلَّفاً، فالمُوَلَّى عليْه في خاصته كيف يلي أمر الأمة؟ وأن يكون (¬2) مسْلماً؛ ليُراعي مصلحة الإِسلام والمسلمين، وعدْلاً؛ ليوثَقَ به وحراً، وذكرا (¬3)؛ ليكمل ويهاب، ويتفرَّغ ويتمكَّن من مخالَطَة الرِّجَال، وعالماً (¬4) مجْتهداً؛ ليعرف الأحكام، ويُعَلّم الناس؛ ولا يفوت الأمر عليه بامشكثار المراجعة، وشُجَاعاً (¬5) ليغْزُو بنَفْسِه، ويعالج الجُيُوش، ويقْوَى على فتح البلاد، ويحمي البيضة، وذا رَأْيٍ وكفايةٍ، فالرأْيُ قَبْلَ شَجَاعَةِ الشُّجْعَانِ، وسميعاً وبصيراً، وناطقاً؛ ليتأتى له فصل الأمور، قال في "التتمة" ولا يُشْتَرَط سلامة سائر الأعضاء؛ كاليد والرِّجْل والأُذُن، وفي "الأحكام السلطانية" لأَقْضَى القضاةِ الماوَرْدِيِّ: اشترط سلامة الأعضاءِ مِنْ نَقْصٍ يَمْنع من استيفاء الحركة وسرْعَةَ النهوض، وهذا أَوْلَي، وأن يكون من قُرَيْشٍ (¬6)، وللإمام احتمالٌ فيه، وربَّما نُسِب إليه مَنْعُ اشتراطه، والمذهب الأوَّل؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الأَئِمَّةُ من قُرَيْشٍ" (¬7) وقد احتج به أبو بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-[علَى الأَنْصَارِ] (¬8) يوم ¬
فصل
السَّقيفةِ، فَتَرَكُوا ما همُّوا به، وبذلك أخذَتِ الصحابة -رَضِيَ الله عَنْهُمْ- فمَنْ بعْدَهم، فإنْ لم يوجَدْ في قريش مَنْ يستجمع الصفاتِ المعتبرةَ، وُلِّي كِفَانِيٌّ؛ فإن لم يوجَدْ، فرجل من وَلَدِ إسماعيل -عليه السلام- ولك أن تقول: قريشٌ مِنْ وَلَدِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بن خُزَيْمَةَ بْنُ مُدْرِكَةَ، فكما قالوا: إذا لم يوجَدْ قرشيٌّ، يولى كنانيٌّ، فهلَّا قالوا: إذا لم يوجد كنانيٌّ، يولَّى خُزَيْمِيٌّ, وهكذا يَرْتَقِي إلى أبٍ بعدْ أبٍ، حتى ينتهي إلى إسماعيل -عليه السلام-، فإن لم يوجَدْ مِنْ ولد إسماعيل مَنْ يصلح لذلك، ففي "التهذيب" أنه يولَّى رجلٌ من العَجَم، وفي "التتمة": إنه يولَّى جُرْهُمِىٌّ، وجُرْهُمٌ أصل العَرَب، ومنهم تزوَّج إسماعيلُ -عليه السلام- حين أنزله أبوه أرْضَ مكة، فإن لم يوجَدْ جرهميٌّ، فرجل من [نسل] (¬1) إسحاق -عليه السلام-، ولا يشترط أن يكون هَاشِمِيّاً (¬2) ولا أن يكون معصوماً، وفي جواز تولية (¬3) المفضولِ خلافٌ مذكورٌ في "أدب القضاء"، فإن لم تتَّفِق الكلمة، إلا عليه، فلا خلاف في الجواز (¬4)، لينحسم (¬5) باب (¬6) الفتنة، ولو (¬7) نشأ مَنْ هو أفضل من الإِمام المنصُوب، لم يُعْدَل، عن المنصوب إليه. فصْلٌ: لا بد للأُمَّة من إمام يُحْيِي الدينَ، ويقيم السنة وينصف المظلومين [من الظالمين] (¬8)، ويستوفي الحقوقَ، ويَضَعها مواضعها، [فلا] يصلح الناس فوْضَى، وتنعقد الإمامة بطُرُقٍ: أحدها: البَيْعَة، كما بايع الصحابةُ (¬9) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - أبا بكرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وذُكِرَ في عَدَد الَّذين تَنْعَقِدُ الإمامة بِبَيْعَتِهم وجوهٌ: أحدها: أنه لا بد من أَرْبَعِينَ؛ لأن عقد الإمامة أعظم خَطَراً من عقْد الجُمُعَة، وهذا العدَدُ معتبرٌ في الجمعة، ففي البيعة أَوْلَي. والثاني: [أنه] يَكْفِي أربعةٌ، وهو أكمل نصاب (¬10) الشهادات. والثالث: ثلاثةٌ؛ لأن الثلاثة مطْلَقُ الجمع، فإذا أنفقوا لم يَجْزْ مخالفة الجماعة. والرابع: اثنان؛ لأن أقل الجَمْع اثنانِ. والخامس: واحدٌ؛ لأن عُمَر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بايع أبا بكرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- ¬
أوَّلاً ثم وافقه الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أجمعين، فعلى هذا يُشْتَرط أن يكون ذلك الواحدُ مُجْتَهِداً، وأن يكون في العَدَد المعتَبَر على الوجوه السابقة مجتهدٌ؛ لينظر في الشروط المعتبرة، هل هي حاصلةٌ فيمن يولُّونه؟ ولا يُشْترط أن يكون الكُلُّ مجتهدِينَ. والوجه السادس، وهو الأصحُّ: أن المعتبر بيعةُ أهْل الحلِّ والعقْد من العلماء والرؤساء، ووجوهِ النَّاس الذين يتيسَّر (¬1) حضورهم؛ لأنه ينتظم الأمر (¬2) برأيهم واتفاقهم، ويتبعهم سائر الناس، ولا يُشْترط اتفاقُ أهل الحلِّ والعقْد في سائر البلاد والأصقاع، بل إذا وصل الخَبَر إلى أهل البلاد البعيدة، فعليهم الموافقة والمتابعة (¬3)؛ وعلى هذا، فلا يتعيِّن للاعتبار عددٌ بل لا يُشْترط العدَدُ، فلو تعلَّق الحلُّ والعقْد بواحدٍ مطاعٍ، كفَتْ بيعته لانعقاد الإمامة، ولا بد أن يكون الَّذين يبايِعُون بصفاتِ الشهودِ، وفي "البيان" ذَكَر وجهين "في أنه هل يُشْتَرط أن تكون البيعةُ بحضور (¬4) شاهِدَيْن ويُشْتَرط في انعقاد الإمامة أن يجيب (¬5) الذين يبايعونه، فإن امتنع، لم تَنْعَقِد إمامته، ولم يُجْبَرْ عليها (¬6). والثاني: استخلافُ الإِمام مِنْ قَبْلُ، وعَهْدُه إليه، كما عهد أبو بكر إلى عُمَر -رَضِيَ الله عَنْهُمَا (¬7) - وانقعد الإجماعُ على جوازه، قال صاحب "التهذيب": والاستخلاف أن يَجْعَلَه (¬8) خليفةً في حياته، ثم يخلفه بعد موته، ولو أوصَى له بالإمامة مِنْ بعد موته (¬9)، ففيه وجهان؛ لأنه بالموت يخْرُج عن الولاية، فلا يصحُّ منه توليه الغير، ولك أن تقول، أولاً: هذا التوجيهُ يُشْكِل بكل وصايةٍ، ثم ما ذكره مَنْ جعله خليفة في حياته، إما أن يريد به استنابته، فلا يكون هذا عهداً (¬10) إليه بالإمامة، أو يريدَ ¬
به جعْلَه إماماً. في الحال، فهذا إما خلْعُ النَّفْس أو فيه اجتماعُ إمامَيْن في وقْت واحدٍ أو يريدَ [به] (¬1) أن يقول: جعلْتُه خليفة أو إمامًا بعْد موتي، فهذا هو معنى لفْظ الوصية، ولا فرق بينهما، وإذا جُعِلَ الإمامْ الأمرَ شورَى بين اثنين فصاعداً بعْده، كان كالاستخلاف إلا أن المستخْلَفَ غير متعيِّن فيتشاورون، ويتَّفِقُون على أحد وكما جعل عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الأمر شورَى في ستة، فاتفقوا على عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وذكر أقضى القضاة الماوَرْدِيِّ: أنه تعتبر شروط الإمامة في المُوَلَّى مِنْ وقت العهْد إليه، حتى لو كان صغيراً أو فاسقاً، عند العهد، بالغاً عدلاً عند موت المُوَلِّي، لم ينتصب إماماً إلا أن يبايعه أهلْ الحلِّ والعقد، وقد يتوقف في هذا، وأنه إذا عهد إلى غائبٍ مجهولِ الحياة، لم يصحَّ، وإن كان معلومَ الحَياة، صحَّ، فإن ماتَ المستخْلَفُ وهوَ غائب بعدُ استقدمه أهلُ الاختيار، فإن بُعدتْ غَيْبَتُهُ واستفسر المسلمون بتأخير (¬2) النَّظَر في أمورهم، اختار أهل الحل والعقد نائباً له يبايعونه بالنيابة دون الخلافة، فإذا قَدِمَ، انعزلَ النائبُ، وأنه إذا خلع الخليفة نفْسَه، كان كما لو مات، فينتقل الخلافة إلى ولىِّ العَهْد، ويجوز أن يُفْرَق بين أن يقول: الخلافة بعد موتي لفلان أو بعْد خلافَتِي، وأنه يجوز العهد إلى الوالد والولد، كما يجوز إلى غيرهما، وفيه مذهبان آخران. أحدهما: المنع، كالتزكية والحُكْم لهما. والثاني: الفرق بين الوالد والولد (¬3)؛ لأن المَيْل إلى الولَدِ أشدُّ [فيجوز للوالد دون الولد]، وأنَّ وليَّ العهد لو أراد أن ينقل ما إليه مِنْ ولاية العهد إلى غيره، لم يَجُزْ؛ لأنه، إنما يجوز له النَّظَر، وتثبت الولاية بعد موت المُوَلَّى. وأنه إذا عهد إلى اثنين أو أكثر على الترتيب، فقال الخليفة: بعدي فلان، وبعد موته فلانٌ جاز، وانتقلت الخلافة إلَيْهم على ما رتَّب كلما رتَّب رسُول الله -صلى الله عليه وسلم- أمراء جيش: "موْتَةً"، وأنه لو مات الأوَّل في حياة الخليفة، فالخلافةُ بعده للثاني، ولو مات الأول والثاني في حياته، فهي للثالث، وقد يتوقَّف في هذا، ويقال: المفهوم من اللفظ جعْلُ الثاني خليفةً بعدْ خلافة الأوَّل، وأنه لو مات الخليفةُ، والثلاثةُ أحياءٌ، وأَفْضَتِ (¬4) الخلافة إلى الأول، فأراد أن يعْهَد بها إلى غَيْر الآخرين، [فالظاهر] (¬5) من مذهب الشَافعىِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جوازُهُ؛ لأنه إذا انتهت الخلافة إليه صار أملك بها وبتفويضها إلى مَنْ يشاء، بخلافِ ما إذا مات، ولم يعهد بها إلى أحَدٍ ليس لأهل البيعة أن يبايِعُوا ¬
فصل
غير الثاني، ويُقدَّم عهد الأول على اختيارِهِمْ، وأنه ليس لأهل الشورَى أن يعينوا واحداً منهم في حياة الخليفة، إلا أن يأْذَن لهم في ذلك، فإن خافوا انتشار الأمر بعْده استأذنوه، فإنْ أذِنَ، فعلوه، وأنه يجوز للخليفة أن ينُصَّ على من يختار خليفة بعْده، كما يجوز له أن يعْهَد إلى غيره، حتى لا يصحَّ إلا اختيار مَنْ نص عليه، كما لا يصح إلا تقليد مَنْ عهد إليه؛ لأنهما مِنْ حقوق خلافته، وأنه إذا عهد بالخلافة إلى غيره، فالعَهْد موقوف على قبول المُوَلَّى، واختلف في وقْت قبوله، فقيل: بعد موت المُولِّي؛ لأنه وقت نظره وقيامه بالأمور، والأصحُّ أن وقته ما بين عهْد المولِّي وموته؛ لتصير الإمامة مستقرة بالقبول، وفي "التتمة": أنه إذا امتنع المُوَلَّى من القبول، فيبايع غيره، وكأنه لا تولية، وهذا إذا جعلَ الأمر شورَى، فترك القوم الاختيارَ، لا يُجْبَرون عليه، وكأنه ما جُعِلَ الأمرُ إليهم. والثالث: القهر والاستيلاء؛ فماذا مات الإمامُ فتصدَّى للإمامة مَنْ يستجمع شراثطها من غير استخلاف وبَيْعَة، وقَهَر الناس بشَوْكته وجُنوده، انعقدت الخلافة لانقياد الناس وانتظام الشَّمْل بما فَعَل، ولو لم يكن مستجمعاً للشرائط، بل كان فاسقاً أو (¬1) جاهلًا، فوجهان: أظهرهما: أن الحكْم كذلك، وإن كان عاصياً بما فعل. ولا يصير الشخْص إماماً بمجرد تفرُّده بشروط الإمامة في وقته [بل لا بد من أحد الطرق]. فصْلٌ: يجب طاعة الإِمام في أوامره ونواهيه؛ ما لم يخالِفْ حكْمَ الشرْع، رُوِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإنْ أُمّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعُ الأَطْرَافِ" (¬2) وأنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ نَزَعَ يَدَهُ مِنْ طَاعَةِ إِمَامِهِ، فَإنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ حُجَّةُ لَهُ" (¬3) ولا فرق بين أن يكون عادلاً أو جائراً، روي [أن النبي]-صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ وُلِّيَ عَلَيْهِ وَالِ فَرآه يَأْتِي شَيئاً من مَعْصِيَةِ اللهِ، فَلْيَكْرَهُ مَا [يأتي] (¬4) مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلاَ يَنْزِعَنَّ يَدَهُ مِنْ طَاعَتِهِ" (¬5) ولأن المقصود مِنْ نصب الإِمام أن تتحد الكلمة، وتندفع الفِتَن، ولو لم توجِب الطاعة، والتأبِّي غالب على الطباع، استبدَّ كُلٌّ برأيه وثارت الفتنُ، ولا يجوز نصب إمامَيْنِ في ¬
وقْتٍ واحدٍ؛ لما فيه من اختلاف الرأْيِ وتفرُّق الشمْل، وحكَى أبو القاسم (¬1) الأنصاري في "الغُنْيَة" (¬2) عن الأستاذ أبي إسحاق: أنه يجوز نصب إمامين في إقلَيميْن؛ لأنه قد يَحْدُث في أحد الإقليمين ما يحتاج إلى نَظَرِ الإمامِ، ويفوت (¬3) المقصود بسبب البُعْد، ويُنْسَب هذا إلى اختيار الإِمام، والمشهورُ الأوَّلُ، فإنْ عُقِدَت البيعةُ لرجلين معاً، فالبيعتان باطلتان، وإن ترتَّبنا، فالثانية باطلةٌ، ويُنْظَر؛ إن جَهِلَ الثانِي ومَنْ بايَعَهُ تقدُّم بَيعَةٍ، لم يُعزَّروا، وإلا فيعزَّرون، وما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذَا بُويعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا" (¬4) فعن الخطابيِّ: أن المعنى لا تُطِيعوه، ولا تَقْبَلُوا له قولاً، فيكون كمن مات أو قُتِلَ، وقيل: المعنى أنه، إنْ أصر ولم يُبَايع الأول، فهو باغ، يُقَاتَلُ، ولو عُرِفَ سبقُ أحدهما، ولم يتعيَّن أو لم يُعْلَم أَوْقَعَتَا معاً أم على التعاقُب، فليكن كما ذكَرْنا في الجُمُعَتَيْن والنِّكَاحَيْن، ولو سَبَقَتْ إحداهما على التعْيِين، وأشبهتِ السابقةُ، وقف الأمر إلى أن ينكشفَ الحال، فإن طالَتِ المدَّة، ولم يُمْكنْ الانتظارُ، فقد ذكر القاضي الماوَرْدِيُّ أنه تبطل البيعتان، وتستأنف بيعة لأحدهما؛ وفي جواز العُدُول إلى غيرهما خلافٌ، وذكر أنه لو ادَّعَى كلُّ واحد منهما أنه الأسبق، لم تسمع الدعوَى، ولم يحلف الآخر (¬5)؛ لأن الحقَّ يتعلَّق بجميع المسلمين، وأنه لو قطعا التنازع، وسلَّم أحدهما الأمْرَ للآخر، لم تستقر الإمامة له، بل لا بُدَّ من بينة يشهد [بتقدم] (¬6) بيعته، وأنه لو أقر أحدهما للآخر بتَقدُّم بيعته، خرج منها المقِرُّ، ولا بد من البينة؛ ليستقر الأمر للآخر، فإن شَهِدَ له المقِرُّ مع آخَرَ، قُبِلَتْ شهادته، إن كان يدَّعي اشتباه الأمر قبْل الإقرار، وإن كان يدَّعِي التَّقدُّم، لم يُسْمع؛ لما في القولَيْن من التكاذب. وإذا ثبتت الإمامةُ بالقَهْر والغَلَبة، ثم جاء آخر فَقَهره، انعزل، وصار القاهرُ إماماً. ولا يجوز خلع [الإِمام] (¬7) بلا سبب، ولو خلعوه، لم يَنْفُذْ؛ لأن الآراء تتغيَّر، ولو نفَّذناه، لم نأمَنْ تكرُّر التولية والعزل، وفي ذلك سقوط الدفع (¬8) والهيبة، ولو عزل الإمامُ نفْسَه، نُظِرَ؛ إن عزل [نفسه] (¬9) لعَجْزه عن القيام بأمور المسلمين مِنْ هَرَم أو ¬
مَرَضٍ، انعزل ثم إن وَلَّى غيره قَبْل أن يَعْزِل نفسه، انعقدت الإمامة لِمَنْ ولاه، وإلا، بايع الناسُ غيره، وإن عزل نفْسَه من غير عُذْر، فقد أطْلَق في "التتمة" وجهَيْن: في انعزاله: أحدهما: ينعزل، ولا يُكَلَّف أن يترك مصلحة نفسه محافظةً على مصلحة غيره، فقد يبغي قلَّةُ الشغل في الدُّنْيَا والحسابَ في الآخرة، وصار كما لو لم يُجِبْ إلى المبايعة ابتداءً. والثاني: المنْعُ؛ لما رُوِيَ أن أبا بكْر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: "أَقِيلُونِي"، ولو تمَكَّن مِنْ عزل نفسه، لمَا طَلَب منهم (¬1) الإقَالة، وهذا الوجه الثاني هو الذي أورده صاحب "البيان" وغيره وفصْلُ في "التهذيب": فقال: إن لم يظهر عذْرٌ، فعزل (¬2) نفسه، ولم يُوَلِّ غيره، لم يَنْعَزِل، وكذا، لو وَلَّى مَنْ هو دونه، وإنْ ولَّى مَنْ هو مثله أو أفضلُ، ففي الانعزال الوجهان، وفي "التتمة" أن للإمام وأن يَعْزِل وليَّ العَهْد؛ لأن الخلافة لم تنتقل إلَيْه، فلا يخشى من تبديله الفسادَ والفتنةَ، والذي ذكره الماوَرْدِيُّ: أنه ليس له عزْلُه ما لم يتغيَّر حالُه، وإن جاز له عزل مِنَ استنابه في أشغاله في الحال؛ لأنه يستنيبهم لنفْسه، واستخلافُ وليِّ العهد يتعلَّق بالمسلمين عامَّةً، فصار كأهل البيعة يبايِعُون ولا يَعْزِلُون مَنْ بايعوه. وأما الانعزالُ، فقَدْ سبق في "باب الوصاية": أن الإِمام لا ينعزل بالفِسْق على الأظْهَر، ولا ينعزل بالإغماء؛ لأنه متوقَّع الزوال، وينعزل بالمَرَض الذي يُنْسيه العُلُومِ، وبالجنون (¬3)، لكن قال القاضي الماوَرْديُّ: لو كان الجنونُ منقطعاً، وكان زمان الإفاقة أكثرَ، ويمكن فيه من القيام بالأمور فلا ينعزل، وينعزل بالعَمَى والصَّمَم والخَرَس، ولا ينعزل بِثِقَلِ السمْع، وتمتمة اللِّسان، وذكر خلافٌ في أنهما هل يمنعان ابتداءَ التولية، وفي أنْ قطع إحدى اليدين أو الرِّجلَيْن، هل يؤثر في الدوام، والأشبه المنع، والله أعلم. وإذا (¬4) تقررَّت المقدمتان، ففي الباب نَظَران: نظر في صفات أهْلِ البَغْي، ونَظَرٌ في أحكامهم فلنخض (¬5) فيهما. قال الْغَزَالِيُّ: أَمَّا الصِّفَةُ فَكُلُّ فِرْقَةٍ خَالَفَتِ الإِمَامِ بِتَأْوِيلِ وَلَهَا شَوْكَةٌ يُمْكِنْهَا مُقَاوَمَةُ ¬
الإِمَامِ فَهِيَ بَاغِيَةٌ، وَأَمَّا المُرْتَدْ وَمَانِعُو الزَّكَاةِ وَسَائِر حُقُوقِ الشَّرْعِ فَلاَ تَأْوِيلُ لَهْمْ، وَكُلُّ تَأْوِيلٍ يُعْلَمُ بُطْلاَنُهُ بِالظَّنِّ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ، وَإِنْ كَانَ بُطْلاَنُهُ قَطْعِيّاً وَلَكِنَّهْمْ غَلِطُوا فِيهِ وَجْهَانِ، وَهَذَا تَرَدُّدٌ فِي أَنَّ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ مُبْطِلاً ظَنّاً أَوْ قَطْعاً، وَأَمَّا الخَوَارجُ إِنْ لَمْ نُكَفِّرْفهْم لَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى تَأْوِيلِهِمْ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لِظُهْورِ فَسَادِهِ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ وَاحِدٌ مُطَاعٌ إذْ بِهِ الشَّوْكَةُ، وَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَكونَ بِصِفَاته الأَئِمَّةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الذين يخالفون الإمامَ بالخُروج عليه وترك الانقياد والامتناع مِنْ توفية ما يتوجَّه (¬1) عليهم من الحقُوقِ، ينقسمون إلى أهل البَغْي وغَيْرِهِمْ، ولكِلِّ واحد من الفريقين أحكام خاصَّة، فَنَصِفُ أهل البغيِ بما يتميَّزون (¬2) به عن سائر المخالفين وإذَا خَضْنَا في أحكام البغاة ذكرنا مع أحكامهم غيرهم من المخالِفِينَ ... أما أهل البغي فيعتبر فيهم صفتان: إحداهما: أن يكون لهم تأويلٌ يعتقدون بسببه جوازَ الخُرُوج على الإِمام أو منْع الحق المتوَجَّه عليهم، قال المتولِّي: وإنما (¬3) اعتُبِرت هذه الصفة؛ لأن مَنْ خالف من غَيْر تأويل، كان معانداً، ومَنْ تمسك (¬4) بالتأويل؛ يَطْلُب الحق على اعتقاده، فلا يكون معانداً، فيثبت له نوع حرمةٍ بسُقُوط الضمان وغيره، ومَثَّلَ التأويلَ الحامل على مخالفة الإِمام والخُرُوج عليه بما وقع للذين خَرَجوا عَلَى عليّ -رَضِيَ الله عَنْهُ- وكرم الله وجهه حيث اعتقدوا أَنَّه يَعْرِف قتلَةَ عثْمَان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ويقدر عليْهِم، ولا يقتصُّ منهم لرضاه بقتله، ومواطأته إياهم، ومثل غيره التأويل الحامل على منع الحق بما وقع لبعض مانِعِي الزَّكَاة من أبي بكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حيث قالوا: أمرنا بدَفْع الزكاة إلى مَنْ صلاَتُهُ سَكَنٌ لنا، وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ما قال تعالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (¬5) [التوبة: 103] الآية. وصلاةُ غيره ليست (¬6) سَكَناً لنا، فلو خرَجَ قوْمٌ عن طاعة الإِمام، ومنَعُوا (¬7) حقاً توجَّه بلا تأويل، سواءٌ كان حدّاً أو قصاصاً أو حقّاً ماليّاً لله تعالى أو للآدمَيِّين عناداً أو مكابَرةً، ولم يتعلَّقوا بتأويل، فليْسَ لهم أحكامُ البغاةِ، وكذلك (¬8) المرتدون الخارجون عن الدين، ¬
والتأويلُ المشروطِ في أهل البغْيِ إذا كان بطلانُه مظنوناً (¬1)، [فهو] (¬2) معتبرٌ، وإن كان [بطلانُه] مقطوعاً به، ففيه وجهان: أوفقهما، لما أطلقه الأكثرون: أنه لا يعتبر كتأويل أهل الرِّدَّة وشبهتهم. والثاني: يُعْتَبَر ويكْفِي تغليطهم فيه، وقد يَغْلَطُ في القطعيات غالِطُون، وبني على الوجهين أن العلماء أطلقوا القَوْلَ بأن معاوية، ومن تابعه كانُوا باغِين، [ويدل عليه] الخبر المشْهُور أن عَمَّاراً -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- تَقتُلُهُ الفِئَةُ الباغِيَةُ" فإن شرطنا في البغي أن يكون بطلان التأويل مظنوناً، فنقول إن معاوية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كان مبطلًا فيما ذهب إليه ظنَّاً، وإن لم نشترطْه وأثبتنا اسم البغي وحكمه مع القَطْع ببطلان التأويل، فقد نقول: إن معاوية كان مبطلًا قطعاً، قال الإِمام وهذا مخاضٌ لا نخوض ولسنا للتشاغل به. ثم تكلم صاحب الكتاب في الخوارج وأنْ تأويلَهم، هلْ يُعْتبر، واعلم أن الخوارج صنْفٌ مشهور من المبتدعة يعتقِدُون أنَّ من أتى بكبيرة، فقد كفرَ واسْتَحَقَّ الخلود في النار، ويطعنون؛ لذلك في الأئمة، ولا يجتمعون معهم في الجمعات والجماعات، والذي أورده الإِمام وصاحب الكتاب فيهم يخالف طريقةَ الجُمْهور، ولا بد من ذكر الطريقتين، أما هما فقد قالا في تكفيرهم الخلافَ المشْهورَ في تكفير أهْل البِدَع والأهواء، وسيأتي قدْر الحاجة منْه في "كتاب الشهادات" إن شاء الله تعالى -فإنْ لم نكفرْهم، ففيهم وجهان: أحدهما: أن شبهتهم كتاويل البغاة، وحكْمَهم حكْمُهم. وأصحُّهما: أنهم كأهل الردة؛ فلا نبالي بما يتمسكون به؛ لظهور فساده، وعلى هذا، فلا تنفذ أحكامهم بخلاف أحكام البُغَاة، ويمكن أن يردَّ هذا الخلافُ إلى الخلافِ في أنه، هل يثبت حكْم البغْي مع القطْع ببطلان التأويل، وأما غيرهما، فقد ذكر الشافعيُّ وعامة الأصحاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أنه، إن أظهر قوم رأي الخوارج وتجنَّبوا الجماعات، وكَفَّروا الإِمام ومن معه (¬3)، فإن لم يقاتِلُوا، وكانوا في قبضة الإِمام، فلا يُقْتَلُون، ولا يقاتَلُون، روي أن عليّاً -كرم الله وجهه- سمع رجلاً من الخوارج يقول لاَ حُكْمَ إلاَّ لِلَّهِ وَلرَسُولِهِ، وتعرَّض بتخطئته في التحكيم؛ فغال علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "كَلِمَةُ حَقِّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، لَكُمْ عَلَيْهَا ثَلَاثٌ؛ لاَ نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللهِ وَأَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللهِ، وَلاَ نَمْنَعُكُمْ الفَيْءَ مَا دَامَت أَيْدِيِكُمْ مَعَنَا وَلاَ نَبْدَأُ بِقِتَالِكُمْ" (¬4) ثم إن صرَّحوا ¬
بسب الإِمام أو غيره من أهل العدْل يُعزَّرون، وإن عرَّضوا، فوجهان؛ في وجه يعزَّرون؛ كي لا يرتقوا إلى التصْريح، وفي وجْهٍ، لا؛ لما روي عن عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولو بَعَث الإِمام إليهم والياً، فقتلوه، فعلَيْهم القصاصُ، وهل يتحتم قتل قاتله كقاطع الطَّريق؛ لأنه شهر السلاح أوْلًا؛ لأنه لم يقْصِد إخافة الطُّرُق، وأخذ الأموال؟ فيه وجهان، وأطلق صاحب التهذيب أنهم، إنْ قاتَلُوا، فهم فسقة، وأصحابُ بهتْ، فحكْمُهم (¬1) حكم قطَّاع الطريق، وهذا كلُّه جواب على أنهم لا يُكَفَّرون، والنَّظَر في الطريقة الأولَى، إذا لم يجعلوا كأهل البغي إلى ضَعْف تأويلهم. وفي الثانية، إلى أنهم في قبضة الإِمام، لم يوجد منْهم خروجٌ ومخالفةٌ [والله أعلم]. [والصفة] (¬2) الثانية: أن يكون لهم شوكةٌ وعددٌ؛ بحيث يحتاج الإِمام في ردِّهم إلى الطاعة إلى كلفة ببَذْل مالٍ وإعدادِ رجالٍ ونصب قتال، فإنْ كانوا أفراداً يسهل ضبطهم وتسخيرهم (¬3)، فلَيْسُوا بأهل بغْيٍ، واحتج له بأن ابن مُلْجَمٍ قتل علياً -رَضِيَ الله عَنْهُ- متأولاً، فأقِيدَ به على ما سيأتي، ولم يُعْطَ حكم البغاة في سقُوط القصاص. وشرطُ جماعة من الأصحاب في الشَّوْكة أن ينفرِدُوا ببلدة أو قرية أو موْضِعٍ من السِّحْراء، وربما قالوا: ينبغي أن يكونوا بحيث لا يُحِيطُ بهم أجناد الإِمام، بل يكونوا في طَرَفٍ من أطراف ولايته، والمحقِّقون قالوا: لا تعتبر هذه الصفة، وإنما المعتبر استعْصَاؤهم وخروجهم عن قبضة الإِمام، حتى لو تمكَّنوا من المقاومة مع كَوْنِهم محفُوفِين بجند الإِمام، فيجب الحَكْم بحصول الشوكة، ويرجع التفاوُتُ إلى أن عدَدَ المحفُوفِين ينبغي أن يكون أكثر من عدَدِ الواقعين في الطَّرَف. ويتعلَّق بالشوكة صور أوردَها (¬4) الإِمام: احداها: حكَى في قوم قليلي العدَدِ تقوَّوْا بحصن منيع وجْهين، ورأَى أَن الأَوْلَى ¬
أن يُفَصَّل، فيقال: إن كان الحصنُ على فوهة الطريق، وكانوا [يستولون] (¬1) بسببه (¬2) على ناحية وراء الحصْنِ، فالشوكة حاصلةٌ، وحكم أهل البغْي ثابت لئلا يتضرَّر أهل الناحية بتعطيل (¬3) الأقضية والأحكام، وإلا فليسوا بأهل البغْي، ولا نبالي بما يقع من التعطُّل في العدد القليل. الثانية: قال الإخلاف أنه لو تَحزَّب من رجال القتال المنعوتين [بالشجاعة] عدَدٌ يسير، وكانوا بفضل القوة ويَقْوَون على مصادمة المجموع الكثيرة (¬4) فهم على عدة تامة، ويحتمل أن ينازع فيه منازعٌ؛ لقلة عددهم، وتجعل قواهم كالمَكَانِ الحَصِين. الثالثة: قال: يجب القطْع بأن الشوكة لا تحْصُل إذا لم يكُنْ لهم متبوع مطاع؛ فإن رجال النجدة، وإن كثروا، فلا قوة لهم ولا شوكة، إذا لم يصْدُروا، ولم يجتمعوا على رأْي [قطاع متبوع] (¬5)، وهل يشترط أن يكون فيما بينهم إمامٌ منصوبٌ أو منتصب؟ فيه وجهان معْرُوفان، ويقال قولان: للجديد الاشتراط: أحدهما: وإليه ميل صاحبَيْ "التهذيب" و"التتمة"، وإلا، فلا يكون فيما بينهم قاض ووال، فإن الرعايا لا يتمكنون من [بيعتهم]، فيتعطل الأحكام. وأظهرهما، عند أكثرهم، وهم أصحابنا العراقيون والإمام: لأنه ثبت لأهْلِ الجمل، وأهل النهروان حكْمُ البغاة، ولم يكن فيما بينهم إمامٌ، وعن "المنهاج" للشيخ أبي محمَّد: أنه يعتبر في أهل البغْيِ وراء ما سبق ذكره شيئان آخران: أن يمتنعوا مِنْ حُكْم الإِمام، وأن يظهروا لأنْفُسهم حكماً، وقد جرى ذكرهما في وصف الشافعيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أهل البغْي ويشبه أن يقال: إنَّ هذا طريقُ مخالفةِ الإِمام، ولا بد في القوم من المخالفة؛ ليكونوَا باغين، ثم يعتبر فيهم [الصفتان] المذكورتان فليس ذلك مخالفاً لما سقناه [والله أعلم]. وقوله في الكتاب: "يمكنها مقاومة الإِمام" قصد ضبط الشوكة، [وأشار] إلى أنه لا يعتبر أن يساوي عدَدَهُم عَدَدَ أجناد الإِمام، بل يكفي أن يجسروا على المقابلة والمقاومة، ويتوقَّعوا الظَّفر، وقد تغلب الفئة القليلة الكثيرة. وقوله "ومانعوا الزكاة وسائرِ حقوقِ [الشرع] " يدخل فيه التبعات والغرامات، والحدود، والمقصودُ ما إذا منعوها بلا شبهة ولا تأويل؛ لأن الذين منعوا بتأويل وشبهة باغون على ما قدَّمنا. ¬
وقوله "فهو معتبر" (¬1) أي في ثبوت أحكام الباغين. وقوله "ولا بد، وأن يكون فيهم (¬2) واحدٌ مطاعٌ" [هو] الذي حكيناه عن الإِمام [قوله] وقوله "وهل يجب أن يكونَ بصفات الأئمة"؟ ليُحْمَل على المسألة المشهورة بالخلاف. قال الغَزَالِيُّ: أَمَّا أَحْكَامُ البُغَاةِ فَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولةٌ لِجَهْلِهِمْ بِسَبَب التَّأْوِيل، وَقَضَاؤُهُمْ نَافِذٌ وَيجِبُ عَلَى قَاضِينَا إِمْضَاؤُهُ، وَمَا أَخَذُوهُ مِنَ الحُقُوقِ يَقَعُ مَوْقِعَهُ، فَإنْ صَرَفُوا سَهْمَ المُرْتَزِقَةِ إِلَى جُنْدِهِمْ فَفِي وُقُوعِهِ المَوْقِعِ وَجْهَانِ، وَإِنْ سَمِعَ قَاضِيهِمُ البَيِّنَةَ وَالْتَمَسَ مِنَّا الحُكْمَ حَكَمْنَا عَلَى أَصَحِّ القَوْلَيْنِ نَظَراً لِلْرَّعَايَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفصل [يشتمل] (¬3) على حكْمَيْن من أحكام أهل البغْيِ. أحدهما: شهادةُ أهل البغي مقبولةٌ؛ بناءً على أنهم ليسوا بفسقة على ما مَرَّ، ولفظ الشافعيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "ولو شَهِدَ منْهُمْ عدْلٌ، قُبِلَتْ شهادَتُهُ، ما لم يكن يرى أَنْ يَشْهدَ لِمُوَافَقَةٍ؛ بتصديقه"، فأثبت العدالة مع البغي. وقوله: "ما لم يكن يَرَى أن يشهد لموافقة" أراد الخَطَّابية الذين يشهدون لمن يوافقهم في العقيدة تصديقاً لقولهم واعتماداً على أنهم لا يكْذِبون؛ لأن الكذب كفْرٌ عندهم، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في "كتاب الشهادات" وإن كان لهم قاضٍ في بلد، قال المعتبرون من الأصحاب: يُنْظر؛ إن كان يستحلُّ دماء أهل العَدْل، لم ينفذ حكمه؛ لأنه ليس بعدل ومن شرْط القضاءِ العدالةُ، وبمثله يجيب هؤلاء فيما إذا كان الشاهدُ ممَّن يستحل ذلك، ومنهم مَنْ يطلق نفوذَ قضاء أهْل البغْي رعايةً لمصلحة الرعايا، وصرَّح مصرِّحون بأن من ولاه صاحبُ الشوكة، نفذ قضاؤه، وإن كان جاهلًا أو فاسقاً، لقضاء أهل البغي، وسيأتي ذكره في "أدب القضاء" إن شاء الله تعالى، وإن لم يكن قاضيهم مِمَّنْ يستحل دماء أهل العَدْل وأموالهم، فينفذ حكمه بما ينفذ به حكْمُ قاضي أهل العدْل، فلو حكم يما يخالف النَّصَّ أو الإجماع أو القياس الجليَّ، فهو مردود حتى لو وقع واحدٌ من أهل العدل في أسرهم (¬4)، فقضى عليه قاضيهم بضمان ما أتلف في الحَرْب، لم ينفذ قضاؤه، وكذا لو حكم بسقوط ضمان ما أتلفوه في غير القِتَال، وإن حكَمَ بسقُوط ضمان ما أتلفوه في حال القتال، نَفَذ حكمه، ولا تجوز مطالبتهم بعد ذلك؛ لأنه في محل الاجتهاد. ¬
فرع
وعن أبي حنيفة؛ أنه إن كان قاضيهم على اعتقاد أهل العدْل، نَفَذَ قضاؤه، وإن كان على اعتقادهم، لم ينْفذ، وبنَى ذلك على أن البغْيَ هل هو فسق؟ فعنده هو فسْقٌ، وعندنا ليس بفسْقِ على ما قدَّمنا، ومن الأصحاب مَنْ قسم البغْي إلى: ما هو فسْقٌ، وإلى ما ليس بفسْق، وَيرُدُّ قضاءَ الباغِي الذي بغْيُه فسقٌ، وسنذكر ذلك في "أدب القضاء"، وكما لا تُقْبَل شهادة الباغي، إذا كان من الخطّابية، لا ينفذ قضاء قاضيهم الذي يقضي لموافقيه (¬1) بتصديقهم، وإذا كتب قاضيهم (¬2) وحيث ينفذ قضاؤه بما قضَى به إلى قاضي أهل العدْل، جاز قبوله (¬3) وتنفيذه. قال الأئمة: ويُسْتَحَبُّ إلاَّ يقبل استخفافاً بهم واستهانة. وعن أبي حنيفة: أنه لا يجوز قبول كتابه، قال في "التتمة": وإنما يتحقَّق الخلاف، إذا كان قاضيهم من أهل العدْل، وإن كتب قاضيهم بسماع البينة دون الحُكْم المُبْرَم، فهل يحكم قاضينا به؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لما فيه من معاونة أهل البغْي وإقامة مناصبهم. وأصحُّهما: نعم؛ لأن الكتاب الذي يَرِدُ له تعلُّق برعايانا، وإذا نفذ ما حكم قاضيهم لمصلحةُ رعاياهم؛ فلأن تُرَاعَى مصلحةُ رعايانا، كان أولَى، وحكى الإِمام عن رواية صاحب "التقريب"، والشيخ أبي محمَّد طرد القولين فيما أبرموه، واستعانوا فيه بالاستيفاء، وقال: كنت أود لو فَصَل فاصِلون (¬4) بيْن الأحكام التي تتعلَّق بأصحاب النجدة والامتناع، وبين ما يتعلَّق بالرعايا. " فَرْعٌ" حكى القاضي ابن كج قولَيْن، فيما إذا ورد على قاضي أهل العدْل كتابٌ من قاضي أهل البغْي، وهو لا يدري أنه ممَّن يستحلُّ دماء أهل العدْل وأموالهم، أو ممَّن لا يستحل، وقال: اختيار الشافعيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- منهما أنه لا يَقْبَلُه، ولا يَعْمَل به. [الحكم] (¬5) الثاني: إذا أقام أهلُ البغْي الحدودَ على جناة البلَدِ الذي استولَوْا عليه، وأخذوا الزكاة من أهله أو خَرَاجَ أرضِهِ (¬6) أو الجزيةَ من أهل الذمة فيه، اعتدَّ بما ¬
فعلوه، وإذا عاد البلد إلى أهل العدْل، لم يطالِبُوا أهلَهُ بشَيْء من ذلك، وفي الجزية وجه رواه الفورانيُّ وغيره: أنه لا يُعْتد بأخذها لهم؛ لأنها عوض السكْنَى والأعواض (¬1) بعيدةٌ عن المسامحة، والظاهر الأول؛ واحتُجَّ له بأن عليّاً -كرم الله وجهه- قاتَلَ أهْل البصرة، ولم يتتبع (¬2) بعد الاستيلاء ما أخذوه من الحقوق، وبأنهم فعلوا ذلك بناءً على تأويل محتمل؛ فأشبه ما إذا قضى القاضي بالاجتهاد، لا ينقضه قاضٍ، آخر، وبأن في إعادة المطالبة إضراراً بأهل البلدة، وحَكَى الإِمام وجهَيْن في أنهم، إذا فرَّقوا سهْم المرتزقة من الفيْء على جنودهم، هل يقع موقعه؟ أحدهما: لا يقع؛ لأنا لو حكمنا بوقوعه الموقع لهم (¬3) يصير (¬4) ذلك إعانَةَ على البغْي وتمهيداً لأسباب الخروج على الإِمام. وأظهرهما: الوقوع؛ لأنهم من جنود الإسْلام، والرعبُ قائمٌ عنهم في نفوس الكفَّار، وقرُبَ هذا الخلافُ من الخلافِ في أنهم هل يَضْمَنُون ما يتلفون على الإِمام وجُنْدَهُ في القتال؛ لأن في إسقاط الغُرْم تخفيفاً عليهم ورعايةً لهم. وإذا عاد البلد إلى قبضة الإِمام، فادعى مَنْ كان عليه حقٌّ أن أهل البغْي استوفَوْه، ولا علم للإمام بذلك، ولا قامت عليه بينة فهل يصدق بيمينه؟ أما في الزكاة فنعم؛ لأن المُسْلم أمينٌ في أمور الدين؛ ولأن الزكاة مالُ مواساة، واللائق به التساهُل، وفي كون اليمين مستحبةً أو مستحقةً خلافٌ سبق نظيره [في الزكاة]، وأما الجزية، ففي كتاب القاضي ابن كج [وجه] (¬5) أن الذميَّ [يصدق] في دفْعها إليهم كالزكاة، والظاهر أنه لا يُقْبَل [قوله] (¬6) إلا ببينةٍ، لأن الذميَّ غير مؤتمن فيما يدَّعيه على [المسلمين] (¬7) للعَدَاوة الظاهرة، ولأن الجزية أجرة دار الإسْلام، والمستأْجِرُ، إذا ادَّعَى تسليم الأجْرَة احتاج إلى البينة. وأما الخراج، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يصدَّق المسلم فيه، ويجْعَلُ أميناً كالزكاة. وأصحُّهما: أنه يطالب بالبينة؛ لأن الخراج أجرة أَوْ ثمن، وإن ادَّعى مَنْ كان عليه حدٌّ أنه أقيم عليه، ففي "التتمة" أنه يصدَّق، إن كان أثره باقياً على بدَنه، وإلا، فإن ثبت بالإقرار، فكذلك؛ لأن المُقِرَّ بالحدِّ، إذا رجع، يقبل رجوعه، وقد أنكر بما يدعيه بقاء الحدِّ عليه، فيُجْعل كالرجوع، وإن ثبت بالبينة لم يُصدَّق، فيما يدعيه. وأعْلم قوله في الكتاب: "وقضاؤهم نافذ" بالحاء لما قدمناه. ¬
وقوله " [و] (¬1) يجب على قاضينا إمضاؤه" إن كان المراد منه إنَّ قاضينا لا ينقضه، وإذا استقام الأمر يمضيه، ولا نحكم بخلافه، فهذا لا خلاف فيه، وإن كان المراد أنَّه إذا كتب قاضيهم بما قضى به إلينا، ننفذه ونعمل بكتابه، وهو قضية إيراد "الوسيط"، فيجوز أن يُعْلَم بالحاء؛ لما روينا من مذهب أبي حنيفة، وبالواو؛ لما مر أن المستحَبَّ أن لا يُقْبل كتابهم، وأيضاً، فللطريقة الطاردة للخلافِ ويجوز أن يُعْلَم قوله "يقع موقعه" بالواو للوجه المحكيِّ في الجزية وقوله "حكمنا" بالحاء، وكان الأحسن في الترتيب أن يقدم قوله "وإن سمع قاضيهم البينة" على الكلام في أخذ الحقوق. قال الغَزَالِيُّ: هَذَا إِنْ كَانَ لَهُمْ شَوْكَةٌ وَتَأْوِيلٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَوْكَةٌ فَلاَ يَنْفُذُ حُكْمُهُمْ، وَإِنْ وُجِدَتِ الشَّوْكَةُ دُونَ التَّأْوِيلِ لَمْ يَنْفُذْ قَضَاؤُهُمْ عَلَى الظَّاهِرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لمَّا تكلَّم في الحكمين في حقِّ أهل البغْي المستجمعين لصفتَي الشوكة والتأويلِ، أراد أن يبيِّن ما يتعلَّق بهما في المخالفين الفاقدين لإحدى الصفتين، [فالذين] (¬2) لهم تأويلٌ بلا شوكةٍ سمة الطاعة مستمرَّةٌ عليهم، وليس لهم تصدٍّ للقضاء، وما يبدونه إذا خَلَوْا بأنفسهم كمحاورةٍ ومشاورةٍ تجري بينهم والتحكيم بينهم على الخلاف المَعْروف في غيرهم، وليس لهم قوة أخْذِ الحقوق وإقامةِ الحدود، والذين لهم شوكةٌ بلا تأويل، الظاهرُ المعروفُ عند الأصحاب أنه لا ينْفُذ حكمهم؛ [ولا يعتد باستيفائهم الحقوق والحدود]، لأن عماد البغْي التأويلُ، وكأنهم إلى أن ينْكَشِف لهم الحقُّ معذورون بما يتمسكون به (¬3) وأبْدَى الإِمام احتمالاً في نفوذه؛ كيلا يتفاقم الضرر في الناحية التي استولَوْا عليها؛ والحال في تلْك الناحية كالحال فيما إذا خلا العصْر عمن يصْلُح للإمامة، وأحال بِسْطه على كتابة المعْروف "بالفيائي". قال الْغَزَالِيُّ: أَمَّا غُرْمُ المَالِ فَمَا أتْلِفَ فِي غَيْرِ القِتَالِ مَضْمُونٌ عَلَى الفَرِيقَيْنِ، وَمَا أُتْلِفَ فِي القِتَالِ غَيْرُ مَضْمُونِ عَلَى العَادِلِ، وَفِي البَاغِي قَوْلاَنِ، فَإِنْ قُلْنَا: لاَ يَجِبُ فَفِي الكَفَّارَة وَجْهَانِ، فَإنْ قُلْنَا: يَجِبُ فَفِي القِصَاصِ وَجْهَانِ، هَذَا عِنْدَ وُجُودِ الشَّوْكَةِ، فَإِنْ كَانَ تَأْوِيلٌ بِلَا شَوْكَةِ وَجَبَ الضَّمَانُ، قَتَلَ ابْنُ مُلْجَمِ عَلِيّاً رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ مُتَأَوِّلًا فَأُقِيدَ بِهِ، وَإِنْ وُجِدَتِ الشَّوْكَةُ دُونَ التَّأْوِيلِ فَطَرِيقَانِ، قِيلَ: يَجِبُ الضَّمَانُ، وَقِيلَ بِطَرْدِ القَوْلَينِ لِأَنَّ إِسْقَاطَ الضَّمَانِ لِلتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ كَأَهْلِ الحَرْب، وَالقَوْلاَنِ جَارِيَانِ فِي المُرْتَدِّينَ إِذَا أَتْلَفُوا فِي القِتَالِ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصودُ الفصْلِ الكلامُ في ضمان النفْس والمالِ، إذا أتلف العادلُ على الباغي وبالعكْس، ثم في الضمان إذا وجد الإتلافُ من الَّذينَ لم يستجْمعوا صفة الباغين. أما الأول: فما يتلفه العادلُ على الباغي، وبالعكس في غَيْر القتال مضمونٌ جرياً على الأصْل الممهَّد في قصاص النفوس وغرامات الأموال. وأما في القتال، فما يتلفه العادلُ على الباغي غيرُ مضمون عليه؛ لأنه مأمور بالقِتَال، فلا يَضْمَن ما يتولَّد منه، وما يُتْلِفه الباغي على العادل من مال ونفس هل يضمنه بالغرامة والدية؟ فيه قولان: أحدهما، ويحكى عن مالك: نعم؛ لأن أبا بكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال لِلَّذين قاتَلَهم بعْد ما تَابُوا: "وَتَدُونَ قَتْلاَنَا، وَلاَ نَدِي قَتْلاَكُمْ"، وأيضاً، فهما فرقتان من المسلمين محقَّة ومبْطِلة، فلا يستويان في سقوط الغُرْم، كقطَّاع الطريق والرفقة. وأصحُّهما، وبه قال أبو حنيفة: لا؛ لأن في الوقائع التي جرَتْ في عصر الصحابة والتابعين -رَضِيَ الله عَنْهُمْ- كحروب الجَمَل وصِفَّين، لم يطالب بعضُهم بعضاً بضمان نفس ولا مال، وأيضاً؛ فلأنه لو وجبت الغرامةُ لم يؤْمَن أن ينفرهم ذلك عن العَوْد إلى الطاعة، ويحملهم على التمادي (¬1) فيما هم فيه، ولمثل ذلك أسقط الشرْعُ التبعات عن أهل الحرب، إذا أسلموا، والقولان كما يُحْكَى منصوصان في البويطيِّ، ويذكر أن وجوب الضمان قولُه القديم، وأن مقابله الجديدُ، ولم يصحِّحه الرويانيُّ. وإذا كان القتل عمداً، ففي وجوب القصاص طريقان: أظهرهما: طرد القولَيْنِ المذكورَيْن في وجوب المال. والثاني: القطع بالمنع؛ لأن القصاص يسقط بالشبهة، وتأويلهم يوجب الشبهة، فإن حكَمْنا بوجوب القصاص، فلو آل الأمر إلى المال، فهو في مال الباغي، وإن لم نحْكُم به؛ لشبهة التأويل، فسبيل الديةِ ديةُ العَمْد، حتى تجب في مال القاتل، ولا تتأجَّل أو دية شبه العمد حتى تكون على العاقلة وتتأجَّل، حكى الإِمام فيه خلافاً؛ كما ذكَرْنا فيما إذا قتل مسلماً على زيِّ أهل الشرك، وتجب الكفَّارة على الباغي، متى حكَمْنا بوجوب القصاص أو الدية، وإلا، فوجهان: أشبههما: المنع؛ طرداً لإهدار وقطع التبعات، وأيضاً، فإن الكفَّارة حق الله تعالى، وهو أولَى بالتساهل. ¬
فرع
والثاني: يجب؛ لأنه قتل معصوماً بغير حَقِّ، والكفارة أسرع ثبوتاً من القصاص و [من] (¬1) الدية بدليل ما إذا قَتَل مسلماً في صفِّ الكفار. والأموالُ المأخوذةُ في القتال تُردُّ بعد انقضاء الحرب إلى أربابها يستوي فيه الفريقان، روي أن عليَّاً (¬2) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نادَى: "مَنْ وَجَدَ مَالَهُ فَلْيَأْخُذْهُ"، قال الرإوي: مرَّ بنا رجلٌ فعرف قدْراً يطبخ فيها، فسألناه أن يصبر حتى نَطْبخ، فلم يفعل، فإنْ أتلفت بعد انقضاء الحَرْب، وجب الضمان. وقوله في الكتاب: "فما أتلف في غير القتال" و"ما أتلف في القتال" هذه اللفظة هي المشهورة في الاستعمال، وبيَّن الإِمام معناها، فقال المراد ما يتلف بسبب القتال ويتولَّد منه هلاكُه، حتى لو فُرِضَ إتلافٌ في القتال ليس من ضرورة القتال، فهو ملْحَق بما يجري إتلافه قبل القتال. وقوله: "فإن قلْنا: لا يجب، ففي الكفَّارة وجهان" يعني: إن قلنا: لا يجب الضمان في النفس والمال، ففى الكفَّارة عند القتل وجهان، وفي الترتيب المذكور ما يَخْرُج منه طريقان، طريقةٌ قاطعةٌ بوجوب الكفَّارة، وطريقةٌ طاردة للخلافِ، وكذا حال قولِه: "فإن قلنا: يجب، ففي القصاص وجهان"، ويجوز أن يُعْلَم قوله "لا يجب" بالميم، وقوله "يجب" بالحاء إشارةً إلى مذهبهما. وعن أحْمَد روايتان في الضمان. أظهرهما: السقوط، كما مرَّ وهو الأظهر عندنا. " فَرْعٌ" لو استولى باغ على أَمَةٍ أو مُسْتَوْلَدَةٍ لأهل العدْلِ، فغشيهما، فعليه الحدُّ، وإن أولَدَها، فالولد رقيقٌ غير نسيب، وهل يجب المهْر، إذا كانت مكرهة؟ منْهم مَنْ جعله على الخلاف في ضمان المالِ، وقال صاحب "التهذيب": ينبغي أن يُقْطَع بوجوبه، كما لو أتلف المال المأخوذَ بعد الانهزام (¬3)، ولو استولى الحربيُّ على أمة مسلمةٍ فأولدها (¬4)، فالولد رقيقٌ غير نسيب، ولا حدَّ ولا مهر؛ لأنه لم يلْتَزِم الأحكام. وأما المقْصِد الثاني، فالذين يخالفون الإمامَ بتأويلٍ يعتقدونه، وليس لهم شوكة ¬
وامتناع؛ لقلة عددَهِم، فلزمهم ضمان ما أتْلَفوا منْ نفْس، ومال، وإن كان على صورة القتال. أما إذا لم يكن في قتال، فكما ذكَرْنا في الباغين. وأما إذا أتْلَفُوا في قتال، فحكمهم حكْم قُطَّاع الطريق، ولو أسقطْنا الضمان، لم تعجز كل شِرْذِمَة تريد إتْلاف نفْسِ أو مالٍ أن تُبْدِيَ تأويلاً، وتَفْعَل من الفساد ما تشاء، وفي ذلك إبطال (¬1) السياسات، وهذا ظاهرٌ، سِيَمَا إذا لم يكن قتالٌ، لكن احتج الشافعيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- له بأن قال: قتل ابْنُ مُلْجَم عليّاً -كرم الله وجهه ورضي الله عنه- متأولاً، فأمر بحبْسه، وقال: "إنْ قتلتم، فَلَا تُمَثِّلُوا بهِ" ورأى عليه القتل، وقتله الحسنُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفي الناس بقية من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فما أنكر قتلَه، ولا عاتبه (¬2) أحد، وأراد بقوله "قتله متأولاً أنه قتله زاعماً أن له شبهة وتأويلاً، وحكي أن تأويله أن امرأة من الخوارج تسمَّى قَطَامٍ، خطبها ابن مُلْجَمٍ، وكان علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قتل أباهَا في جُمْلة الخوارج، فوكلته بالقصاص، وهمَا يزعمان أن عليْه قصاصاً، وأن الواحد في الورثة ينْفَرِد بالاقتصاص وشرطتْ علَيْه مع ذلك ثلاثة آلاف درهم وعبداً وقينة لتحببن في ذلك. وفي ذلك قيل: فَلْم أَرَ مَهراً سَاقَهُ ذُو سَماحةٍ ... كمهر قَطَام من فصيح وأعجم ثلاثةُ آلافٍ وعبدٌ وقينةٌ ... وقتل علي بالحسام المصمصم وأما الذين لهم كثرة وشوكة ولا تأويلَ لهم، ففي ضمان ما أتلفوا في القتال طريقان: أحدهما: القطْع بوجوبه؛ لأنهم ليْسوا بأهل البغْيِ، كالذين لهم التأويل دُونَ الشوْكة. وأظهرهما: طرْد القولَيْن المذكورَيْن في الباغين؛ لأن المعْنَى المعتمد هناك ترغيبُهُم في الطاعة ليجتمع الشمل وتندفع الفتَن وهذا المعنَى موجودٌ في أصحاب الشوكة، وإن لم يكن لهم تأويلٌ، والقولان المذكوران في أنَّ أهل البغْي، هل يضمنون جاريانِ في المرتدين، إذا كانت لهم شوكةٌ، وأتلفوا في القتال مالاً أو نفساً، ثم تابوا، وأسلموا؟ والظاهر نفْيُ الضمان عند بعضهم، وفي "التهذيب" أن الأصحَّ الوجوب، وهو اختيار المزنيِّ؛ لأن المرتدين جنوا على الإسلام بتأويل غير معتَبَرٍ (¬3)، ولذلك لا ينفذ قضاء قاضيهم، وقد يُرَتَّب الخلاف في المرتدين على الخلاف في الباغين، وفي كيفية التَّرْتيب افتراق رأْي؛ فقائِلٌ يقولُ: إن أوجبنا الضمانَ على الباغي، فالمرتد أولَى ¬
بالوجوب (¬1)، وإلا، ففي المرتدِّ قولان، والفرْقُ أنه أولَى بالتغليظ، ويحْكَى هذا عن اختيار القفَّال، وآخر يقول: إن لم نوجبِ الضمانَ على الباغي، فالمرتد أولَى، وإن أوجبنا على الباغي، ففيه قولان، والفرق أن المرتدين منخلعون عن الإِسلام وأحكامه (¬2)؛ فهم بأهل الحرب أشبه، ويجوز أن يُعْلَم قوله في الكتاب "والقولان جاريان" بالواو؛ لطريقة القطْع التي تخرج من الترتيب. قال الْغَزَالِيُّ: فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ قِتَالِهِمْ فَلَا نُقَاتِلُهُمْ بَلْ نُقَدِّمُ النَّذِيرَ أَوَّلاً، وَلاَ نَتَّبعُ المُدْبِرَ آخِراً، فَلَوْ بَطُلَتْ شَوْكتُهُمْ فِي الحَالِ وَلَكِنْ لَمْ نُؤْمَنْ غَائِلَةُ اجْتِمَاعِهِمْ فِي المَآلِ فَفِي جَوَازِ اتِّبَاعِهِمْ بِالقَتْلِ وَجْهَانِ، وَأَمَّا أَسِيرُهُمْ فَلا يُطْلَقُ إِلاَّ بَعْدَ الأَمْنِ مِنْهُمْ، وَإِنْ أُمِنَ فِي الحَالِ وَتُوقِّعَ فِي ثَانِي الحَالِ فَفِي الإِطْلَاقِ وَجْهَانِ، وَفِي أَسْرِ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ لِكَسْرِ قُلُوبِهِمْ تَرَدُّدٌ، فأَمَّا أَسْلِحَتُهُمْ وَخُيُولُهُمْ فَلاَ يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهَا فِي القِتَالِ وَتُرَدُّ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الأَمْنِ مِنْهُمْ وَلاَ تُرَدُّ قَبْلَهُ، وَالصَّبِيُّ المُرَاهِقُ وَالعَبْدُ كَالخَيْلِ، وَالصَّغِيرُ كَالمَرْأَةِ، وَلاَ نُقَاتِلُهُمْ بِالمَجَانِيقِ وَالنِّيرَانِ إِلاَّ إِذَا خِفْنَا أَنْ نُصْطَلِمِ، وَإِنْ تَحَصَّنُوا بِقَلْعَةٍ وَكَانَ فِيهِمْ رَعَايَا لَمْ نُقَاتِلْهُمْ بِالنَّارِ وَالْمَنْجَنِيقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ المُقَاتَلَةُ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصل صورٌ، يتعلَّق بكيفية القتال، والأصلُ فيها أن سبيل مقاتلة الباغين سبيلُ دفْع الصائل، والمقصودُ ردُّهم إلى الطاعة ودفْعُ شرِّهم لا النفي والقتل، فهذا أمكن الأسرُ لا يُعْدَل إلى القتل، وإذا أمكن الإتخان، لا يعدل إلى التذفيف، فإن التحم القتال، واشتد الحرب، خرج الأمر عن الضبط، قال الإِمام: وقد تتخيَّل من هذا أنا لا نسير إليهم، ولا نفاتحهم بالقتال، وأنهم إذا ساروا إلَيْنا، فلا نبدأ بقتالهم، بل نصطَفُّ في مقابلتهم، فإذا قَصَدُونا، فحينئذ ندفعهم، قال: وقد رأينا هذا، الطائفة من المعتبرين، وهو ذلك بل إذا آذَنَهُمُ الإِمام بالحَرْب، ولم يرجعوا إلى الطاعة، فيسير إليهم، ويمنعهم عن القُطْر الذي استولَوْا عليه، فإن انكشفوا وكَلِمَتَهُم واحدةٌ، اتبعناهم إلى أن يتوبوا عن العصيان، وَيسْتَسْلِموا، وقد يفضي الاصطفافُ والصبرُ إلى أن يَبْدَءُوْنَا بقتال إلى الاستئصال، [فليس] قتال الفريقَيْن كصيال الرجُل الواحدِ ودفْعه، وربما كان تاركُ البداية معرِّضاً نفْسه للهلاك. إذا عرف ذلك فمِنْ صور الفصْل: أنهم لا يغتالون ولا يَبْدءُونَ بالقتال، حتى يُنْذَروا، وليبعث (¬3) الإِمام إليهم أميناً فطناً ناصحاً، فإذا جاءهم، سألهم ما ينقمون، فإن ¬
أظهروا مظلمةً، وعلَّلوا امتناعهم بها، أزالها، وإن ذكروا شبهةً كشَفَها لهم، وإن لم يذكروا شيئاً، أو أصروا بعد إزالة (¬1) العلَّة، نصحهم، ووعظهم، وأمرهم بالعَوْد إلى الطاعة، لتكون كلمة أهل الدين واحدةً فإن أصروا، دعاهم إلى المناظرة، فإن لم يجيبوا إليها أو أجابوا، فغُلبوا، وأصروا مكابِرِينَ، آذَنَهُمْ بالقتال. بَعَث عليٌّ -كرَّمَ الله وجهه- ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا (¬2) - إلى أهُل النَّهْرَوان للمحاجَّة والنصيحة، ورجعَ بعضهم إلى الطاعة بذلك، وإذا آذَنَهم بالقتال، فاستنظروا، بَحَثَ الإمامُ عن حالهم، واجتهد، فإن كان الظاهرُ عنْده أنَّهم عازمون على الطاعة، وأنهم يستنظرون (¬3) لكشف (¬4) الشبهة أو يتأمَّلوا ويتشاوَرُوا، أنْظَرَهم، وإن كان الظاهرُ عنْده أنهم يقصدون الاجتماع، أو يستلحقون (¬5) مَدَداً، لم يُنْظِرْهم، وإن سألوا ترْكَ القتال أبداً، لم يجبْهم، وحيث لا يجوز الإنظار، فلو بذلوا مالاً أوْ رهنوا الأولادَ أو النساء، لم يقبله؛ لأنهم قد يَقْوَوْن في المدة، فيغلبون على أهل العدْل، ويستردُّون ما بذلوا، وأيضاً، فلو قاتلوا، لم يجُزْ قتل الأولاد والنساء، وإذا كان بأهْل العدْل ضَعْفٌ، فيؤخِّر الإِمام القتال، ولا يخاطر (¬6) بالناس، وعن نصه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في "الأم": أنه لو كان عندهم أسارَى من أهل العدل، فسألوا، والحرب قائمة، أن يُمْسِك ليُطْلِقوهم، وأعطوا بذلك رهائن، تقبل الرهائن استيثاقاً واستنقاذاً للأسارَى، وإن أطلقوهم، أطلقْنا الرهائن، وإن قتَلُوهم، لم يجُزْ قتل الرهائن بهم، ولا بدَّ من الإطلاق بعد انقضاء الحَرْب. من صور الفَصْل: مَنْ أدبر منْهم وانهزم، لم يُتْبع، وكذا مَنْ ألقى السلاح، وترك القتال لم يقاتل؛ روي أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال لابن مسعُودِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "يَا بْنَ أمِّ عَبْدٍ، مَا حُكْمُ مَنْ بَغَى مِنْ أمَّتِي"؟ فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمْ، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يُتْبَعُ مُدْبِرُهُمْ، وَلاَ يَجْهِزَ عَلَى جَريحِهِمْ، وَلاَ يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ" وروي أنه نادَى منادي عليٍّ -كرم الله وجهه- يوم الجَمَل: "أَلاَ لاَ يُتْبَعُ مُدْبِرٌ، وَلاَ يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ" وانهزامُ الجنْد بأن يتبددوا وتبْطُل شوكتهم واتفاقهم، فلو ولَّوْا ظهورهم، وهم مجتمعُون تحْت راية زعيمهم، فلا ينكف الإِمام عنْهم، بل يطلبهم إلى أن يرجعوا إلى الطاعة، والواحدُ إذا بَطَلت قوته واعتضاده بالجَمْع؛ لتخلُّفه عنهم مختاراً أو غيْرَ مختار، ولا يُتْبَع، ولا يقاتل مَنْ ولَّى متحرفاً لقتال، ليس بمنهزم بل يُتْبَع، ويُقَاتَل، وإن ولَّى متحيزاً إلى فئة، قال الإِمام: إن كانت قريبةً، فهو كالمداوم على القتال؛ وإن كانت بعيدةً، فوجهان: أحدهما: لا تُتْبَعُ؛ لظاهر الخبر، وهذا أظهر عند أصحابنا العراقيين، وصاحب ¬
"التتمة" والرويانيِّ وغيرهم، وقالوا: الاعتبار بما يُتوقَّع، ويُخَاف، كما إذا خيف اجتماعهم وخروجهم ولم يفْعَلوا بعْدُ، لا يجوز التعرُّض لهم. والثاني: يتبع؛ ليندفع الشرُّ، وبهذا قال أبو حنيفة، واختاره أبو إسحاق، وإيرادُ صاحب "التهذيب" يُشْعِر بترجيحه، وربما أُطْلِقَ الوجهان مِنْ غير فصل بين أن تكون الفئة قريبةً أو بعيدةً، وأجْرِيَ الوجهان فيما إذا بطَلتِ شوكةُ الجنْدِ في الحال، ولم يُؤْمَنْ مِنْ غائلة (¬1) اجتماعهم [في المآل، وموضع وفاقِ الأَصْحاب مَا إذا لم يُتوقَّع اجتماعهم] (¬2). ومنْها: لا يُقْتل المثخن منْهم، ولا أسيرهم، وعن أبي حنيفة: أنه يجوز قتْلهما صبراً، ثم مِنهم مَنْ يطْلِق الرواية، ومنْهم مَنْ يقيده بحالةِ قيامِ الحَرْب. لنا: ما سبق من الخبر. وإذا قتل رجُلٌ مِنْ أهل العدل أسيرهم عمداً، ففي وجوب القصاص وجهان مذكوران في "البيان": في وجْهٍ نعم؛ لأنه صار بالأَمْر محقُونِ الدم، كما لو رجع إلى الطاعة، وفي وجْه: لا، ويصير خلاف أبي حنيفة شبهةً، ولا يطْلَقَ الأسير قبل انقضاء الحرْب، إلا أن يبايع الإِمام، ويرجع إلى الطاعة باختياره، فيُخلَّى (¬3) وإذا انقضت الحرب وجموعُهم باقيةٌ، فكذلك الحكم لا يُطلقَ، إلا أن يبايع، وإن بَذَلوا الطاعة أو تفرَّقت جموعهم، وأُمِنَ عودهم، أُطْلِقَ، وإن تُوُقَّع عودُهم، ففي الإطلاق الوجهان السابقان، وينبغي أن يُعْرَض على أسراهم بيعةُ الإِمام، هذا حكْم الأسرى الذين هم من أهل القتال، وأما (¬4) النساء والذَّراري [والولدانُ] (¬5)، إذا وقعوا في الأسر والضبْطِ، فيحبَسُون إلى انقضاء القتال، ثم يخلَّى سبيلهم؛ لأنه لا يؤخَذُ عليهم الطاعة والبيعة على الجِهَاد، هذا هو الظاهر ووراءه وجهان: أحدهما؛ عن أبي إسحاق: أن الإِمام إذا رأَى في إطلاقهم قوة أهْلِ البغْيِ، أو أن حبسهم يردُّهم إلى الطاعة ويدعوهم إلى الرجوع إلى الحقِّ، فله أن يحبسهمَ إلى أن يَرجِعُوا إلى الطاعة. والثاني؛ عن بعْض الأصحاب: أن له حبْسَهم مطلقاً، كسراً لقلوب أهل البغْي، وعلى هذا، فوَقْتُ تخليتهم وقْتُ تخلية الرجال، نقل الوجهَيْن هكذا الرويانيُّ في "جمع الجوامع" وأما العبدُ والمراهِقُون، فقد أطْلَق مطلِقون أن العبد والصبيان كالنساء، وذكر الإِمام والمتولِّي أنه إن كان يجيءْ منهم القتالُ، فهم كالرجال الأقوياء في الحَبْس والإطلاق، وهذا حسن، وكان يمكن [حمل] (¬6) إطلاق مَنْ أطلق على ما ذكراه، إلا أنَّ ¬
منهم مَنْ صرَّح بأن المراهقين والعبيد، وإن كانوا يقاتلون كالنساء والأطفال، ولا شك أنهم، إذا قاتلوا، وكذا النسوان، فإن سبيلهم سبيلُ الرجال في أنَّهم يُقْتَلون مقبلين، ويُتْركون مُدْبِرِين. وإذا ظفرنا بخيولهم وأسلحتهم، لم نردَّها حتى ينقضي القتالُ، ويحصل الأمن مِنْ غائلتهم بعَوْدهم إلى الطاعة، أو تَفَرُّقِ شمْلِهم، وهو وقتُ إطلاق الأسرى، ولا يجوز استعمالها في القتال، كما لا يجوز الانحكاع بسائر أموالهم. نعَمْ؛ لو وقعت ضرورةٌ بأن لم يجد أحدُنا ما يدْفَع به عن نفسه سوَى سلاحهم أو ما يركبه، وقد وقعت الهزيمة إلا خيولهم، فيجوز الاستعمال والركُوب، كما يجوز أكل مال الغير للضرورة. وعند أبي حنيفة: أنه يجوز استعمالُها ما دامتِ الحرْب قائمةً. وما ليس من آلات الحرب مِنْ أموالهم، فيرد عليهم، كما انقضتِ الحرْب، وهي التي أردناها مما أطْلَقْنا مِنْ قبل. ومنْها: لا يقاتلهم بما يَعْمُّ، ويعظم أثر كالرمْي بالمنجنيق (¬1) والنيران، وإرسال السيول الجارفة، بخلاف ما في قتال الكفار، لكن لو قَاتَلُونا بهذه الوجوه، واحتجْنا إلى المقابلة بمثْلها دفعاً أو أحاطوا بنا، واضطررنا إلى الرمْيِ بالنار ونحوها، فعَلْنا، للضرورة، وعلى ذلك حمل مَنْ أَبْدَى الجَدَّ في قتال الباغين مِنْ عليِّ -كرم الله وجهه- حتى إنه قتل بنَفْسه ليلة الهرير ألفاً وخمسمائة، وإن تحصَّنوا بقلعة أو بلدةٍ ولم يتأتَّ الاستيلاء عليها إلا بهذه الأسباب العظيمة الأثر، فإن كان فيها (¬2) رعايا لا يكفي منْهم، لم يجُزْ توجيهُ هذه الأسباب عليها محافظةً عليهم، وإن لم يكن فيها إلا الباغون المقاتِلُون، فقد حكَى في الكتاب تردُّد وجه فيه، وقال الإِمام: الذي أراه المنْعُ؛ لأن الإِمام ينظر للمسلمين، وترك بلدة في أيدي طائفة من المسلمين، وربما قدر على احتيال في المحاصرة، والتضييق أقربُ إلى الصلاح مِنْ اصطلام (¬3) أمم. وأما لفظ الكتاب فقوله "فلا نقاتلهم" يجوز أن يعلم بالحاء؛ لأن في "البيان" وغيره أن عند أبي حنيفة يجُوز ابتداؤُهم بالقتال، ولا حاجة إلى تقديم النذير، وقوله "ولا يتبع المدبر آخراً" كذلك؛ لأن عند أبي حنيفة يجوز قتْل المنهزم في حال قيام الحرب. وقوله "وفي سائر نسائهم وذراريهم؛ لكسر قلوبهم تردُّدٌ" إن حُمِلَ على حبْس الواقعين في الأسر بعد انقضاء الحرْب، فهو الخلاف الذي قدَّمناه، والظاهر أنهم لا يُحْبَسُون بعد انقضاء الحرب، والسابق إلى الفهْم منه التصويرُ وإثبات الخلافِ في أنه، ¬
هل يجوز أسْرُهم ابتداءً؟ ولا يبعد أن يؤْخَذ ذلك مِنْ الخلاف المذْكُور في جواز الحبس بعْد انقضاء الحَرْب، والذي يُشْعِر به إطلاقُ الأئمة تجويز الأسر ابتداءً، ويجوز أن يُعْلَم قوله "كالخيل" بالواو؛ لِمَا ذكرنا أن منهم مَنْ ألحق المراهقين والعبيد بالنساء على الإطْلاق [والله أعلم]. قال الْغَزَالِيُّ: وَلاَ نَسْتَعِينُ عَلَيْهُمْ بِأَهْلِ الكُفْرِ وَلاَ بِمَنْ يَرَى قَتْلَ مُدْبِرِهِمْ، وَإِنْ اسْتَعَانُوا عَلَيْنَا بِأَهْلِ الحَرْبِ لَمْ يُنْفَذْ أَمَانُهُمْ عَلَيْنَا بَلْ نَقْتُلُ مُدْبِرَ أَهْلِ الحَرْب، وَفِي نُفُوذِ الأَمَانِ عَلَيْهِمْ وَجْهَانِ لاِبْتِنَائِهِ عَلَى الفَسَادِ، وَلَوْ قَالَ أَهْلُ الحَرْبِ: ظَنَّنَا أنَّهُمْ مُحِقُّونَ فَلْيُلْحَقْ مُدْبِرُهُمْ بِالْمَأْمَنِ لِأَجْلِ ظَنِّهِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَلَوِ اسْتَعَانُوا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ بَطَلَ عَهْدُهُمْ وَكَانُوا كَأَهْلِ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانُوا مُكْرَهِينَ كَانُوا كَأَهْلِ البَغْي، وَإِنْ كَانُوا جَاهِلِينَ بِالْحَقِّ فَفِي انْتِقَاضِ عَهْدِهِمْ قَوْلاَنِ، فَإنْ قُلْنَا: لاَ يُنْتَقَضُ وَجَبَ ضَمَانُ مَا أَتلَفُوا عَلَيْهِمْ عَلَى الظَّاهِرِ إِذْ سُقُوطُهُ عَنِ البَاغِي لِتَرْغِيبِهِ فِي الطَّاعَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه ثلاث مسائل: إحداها: لا يجوز للإمام أن يستعينَ على قتال أهل البغْيِ بأهل الحرب؛ لأنه لا يجوز تسْلِيط الكافِرِ على المسْلِم، ولذلك نقول: لا يجوز لمستَحِقِّ القصاص أن يوكل كافراً بالاستيفاء، ولا للإمام أن يتخذ جلاَّداً كافراً لإقامة الحدود على المسلمين، ولا يجوز أيضاً أن يستعين على أهُل البغْيِ بمن يرى قبْلَهم مدْبرين، إما لعداوة تحملُهم عليه، وإما لاعتقادهم جوازه؛ إبقاءً عليهم، إلا أن يكون للإمام حاجة إلى الاستعانة بهم لجرأتهم وحسن إقْدَامهم، وكان متمكناً من منعهم، لو اتبعوا أهُل البغْي بعد الانهزام، ولا بد من اجتماع الشرطَيْن؛ لتجويز (¬1) الاستعانة؛ هكذا حكاه ابن الصبَّاغَ والرويانيُّ، وغيرهما عن وفَاق الأصحاب، ولفظ "التهذيب" يقتضي جواز الاستعانة إذا وُجِدَ أحدُ المعنيَيْن. الثانية: إذا استعان البغاة علَيْنا بأهل الحرب، وعقَدوا لهم ذمةً وأماناً، ليقاتلونا (¬2) معهم، لم تنعقد أمانهم علينا؛ لأن الأمان لتَرْكِ قتال المسلمين، فلا ينقعد على شرط القتال؛ فيجوز لنا أن نغنم (¬3) أموالهم، وأن نسترقَّهم، أو نقتلهم إذا وَقَعُوا في الأسر، وأن نقتلَهُم مُقْبِلين ومدبرين ونذفف على جريحهم، وحكى الإِمام عن القاضي الحُسَيْن: أنا لا نتبع مُدْبِرَهم، ولا نذفف على جريحهم، والمشهورُ الأولُ، وهل ينقعد الأمان في حقِّ أهل البغْي؟ فيه وجهان: ¬
أصحُّهما: نعم؛ لأنهم أَمِنُوهم وأَمِنُوا منهم. والثاني: المنْع، كما في حق أهل العدْل؛ لأنه أمان على قتال المسلمين، وعلى هذا ففي "التهذيب": أنه يجوز لأهل البغْي أن يكروا (¬1) عليهم بالقتل والاسترقاق، والذي ذكره الإِمام: أنه أمان فاسدٌ وليس لأهل البغْي اغتيالهم، بل يبلِّغونهم المأمن، وإن قالُوا: ظننا أنه يجُوز لنا أن نعِينَ (¬2) بعْض المسلمين على بعْض أو قالُوا: ظننا أنهم المحقُّون، وأن لنا معاونتهم، أو ظننا أنهم استعانُوا بنا في قتال الكفَّار، فوجهان: أحدهما: أنه لا اعتبار بظنهم الفاسد، ولنا قتْلُهم واسترقاقهم. وأظهرهما: أنا نبلِّغهم المأمن، ونقاتلهم مقاتلة أهُل البغْي، فلا نتعرَّض لهم، إذا أدبروا وما يتلفه أهل الحرب على أهْل العدْل غيرُ مضمونٍ عليهم، وما يتلفون على أهل البغْي يضمنونه، إن نفَّذْنا الأمان عليهم، وإلا فلا. الثالثة: إذا استعان أهل البغْي بأهل الذمة فاعانوهم في قتالِنا، نظر؛ إن علموا أنه لا يجوز لهم قتالُنا، ولم يُكْرَهُوا، انتقض عهدهم، كما لو انْفَرَدوا بالقتال، وحكْمُهم حكم أهل الحرب، فيُقْتلون مقبلين ومدبرين، ولو أتلفوا بعد القتال شيئاً، لم يضمنوه، وفي كتاب القاضي ابن كج وغيره طريقةٌ عن رواية القاضي أبي حامد وأبي الحُسَيْن بن القطَّان: أن في انتقاض عهدهم الخلافَ المذكورَ من بعْدُ، وإن قالُوا: كنا مكرَهِين، لم يُنْتقض عهدُهم، وقوتلوا مقاتلة أهل البغْي، وعن أبي الطيِّب بن سلمة أنه على الخلاف المذكُور مِنْ بعْدُ، وإن قالوا: ظنَنَّا أنه يجَوز لنا إعانةُ بعْض المسلمين على بعْض [أو] أنهم يستَعِينون بناءً على الكفَّار أو أنهم المُحِقُّون وأن لهم إعانةَ المحقِّ، فمنهم مَنْ قال: في انتقاض العهْد قولان، وكذا أورده صاحب "التهذيب"، ومنهم مَنْ جزم بالمنع؛ إلحاقاً لهذه الأعذار بالإكراه، وجعل موضع القولَيْن ما إذا لم يذكروا عذْراً، وكذا أورد صاحب "المهذب" والرويانيُّ أحد القولَيْن؛ أنه ينتقض العهد، كما لو انفردوا بالقتال. والثاني: المنع؛ لأنهم ما استقلُّوا بذلك، بل وافقوا طائفةً مِنْ المسلمين، فلا ترتفع عنهم (¬3) العصمة، ثم منهم مَنْ أطلَق القولَيْن، ومنهم مَنْ قال: إنْ شرَطَ عليهم الإمامُ الكَفَّ عن القتال عند عقد الذمة، انتقض عهدهم بلا خلاف، وموضعُ القولَيْن ما إذا لم يصرِّح بهذا الشرط، والظاهر مِنْ هذه الاختلافات انتقاضُ العهد، إذا لم يُبْدُوا عذراً، والمنع إذا (¬4) أبدَوْا، فإن قلْنا: ينتقض (¬5) عهدهم، فيبلغون المأمن أو يجوز قتلهم ¬
فرع
واسترقاقهم؟ فيه خلاف مذكور في موضعه، فإن قلنا: يُبلَّغُونَ المأمنَ، فقد حَكَى الإِمام وجهَيْن؛ في أنا هل نقتلهم مُنْهَزِمين؟ فمن قال: نعم، جعل ذلك من بقيَّة العقوبة على القتال، وقال الإِمام: ينبغي أن يُقْطَع بأنهم يَضْمَنُون ما أتلفوا؛ لأنا إذا قلْنَا: إنهم يُبلَّغون المأمن، جعلناهم في بقية من الأمان، فكيف يجوز أن تُغرِّمهم، والذي ذكره صاحب "التهذيب" وغيره: أنه كما ينتقض (¬1) في حقِّ أهل العدل، يتبعض في حقِّ أهل البغْي، وفي "البيان" أنه ينبغي أنْ يكونَ في انتقاضه في حقِّ أهل البغْي الخلافُ الذي مرَّ في المسألة الأولَى، وإن قلْنا: لا ينتقض عهْدُهم، فهم كأهل البغْي، في أنه لا يُتْبَعُ مُدْبِرهُم، ولا يُذفَّف على جريحهم، [ولو] (¬2) أتلفوا مالاً على أهْل العدْل، لزمهم الضمان بخلاف أهل البغْي؛ فإنهم لا يَضْمَنون على قول؛ لأنا إنما أسقَطْنا الضمان عنهم استمالة لقلوبهم، وردَّاً لهم إلى الطاعة؛ كيلا يتنفَّروا بسبب التَّبعاتِ، ويستمروا على الخُروج عن قَبْضة الإِمام، [وبأهل الذمة في قبضته] (¬3) وأمانُهُمْ باقٍ لأن الله -تعالى- أمر بالإصلاحِ بيْن المؤمنين في "آية [البغي] " (¬4) ولم يذكر مؤاخذةً بدَمٍ، ولا مالٍ، فأَشْعَر ذلك بالتخَفيف في حقِّهم؛ هذا في ضمانِ المال، ولو أتلفوا نفساً قال الإِمام: إن قلنا: يجب القصاص على أهل البغْي، [فأولَى أن يجب على أهْلِ الذمة، وإن قلنا: لا قصاص عَلَى أهْل البغي] (¬5)، فوجهان: أحدهما: يجب على أهل الذمة، كما يُقْطَع لإيجاب ضمان المال. والثاني: لا يجبُ؛ للشبهة المقترنة بأحوالهم. " فَرْعٌ" إذا قاتل أهلُ الذمة أهلَ البَغْي، قال القاضي ابن كج: المذْهَب: أنه لا ينتقض عهدهم؛ لأنهم حارَبُوا مَنْ يجب على الإِمام محاربته، وعن رواية أبي الحُسَيْن وجْه أنه ينتقض؛ لأنهم حارَبُوا المُسْلِمين، وهذا أوفقُ لمَا تقدَّم؛ أنه [ليس] للإمام أن يستعين بالكفَّار على قتال أهل البَغْيِ [والله أعلم]. وقوله في الكتاب: "بل نَقتُلُ مُدْبِرَ أَهْلِ الحرب" ليعلَمْ بالواو؛ لمَا حكيناه عن القاضي، وكذا قوله "بطَلَ عَهْدُهم"؛ لأن المقصود مِنْ هذه الصورة؛ ما إذا كانوا عالمين بأنَّه لا يجوزُ لهم القتال، ولم يكن إكراهٌ، وقد ذكرنا أنَّ من الأصحاب مَنْ ذكر الخلافَ في بطْلان العهْد، وكذا قوله "كانوا كأهل البغي" للرواية عن أبي سلمة. ¬
وقوله "إن كانوا جاهلين بالحق" أي قالوا: ظنَنَّا أنهم الفئة المحِقَّة، كما ذكرنا في حقِّ أهل الحرب، وليكُنِ التصويرُ فيما إذا ذَكروا مع ذلك أنهم ظَنّوا جوازَ القتال [مع] المحقِّين، وإلا، فلَيْس لهم قتالُ المحقَّة ولا المخطئة. وليعلَمْ قوله "قولان" بالواو؛ لأن من الأصحاب مَنْ نَفَى الخلافَ، وقال: حيث قال: "ينتقض" أراد حالة العِلْم، وحيث قال "لا ينتقض" أراد ما إذا أظهروا عذْراً. وقوله "على الظاهر" يُشْعِر بإثبات خلاف في ضمان ما أتلفوا، وسكَتَ عنه في "الوسيط"، وكذلك لم يتعرَّض له أكثرهم، لكنه صحيح من وجهين: أحدهما: أن قوله "وجب ضمان ما أتلفوا عليهم" يشمل إتلاف النفْس، والمال، وضمانُ النفْسِ القصاصُ، وقد ذكرنا عن الإِمام روايةَ وجهين في القصاص. والثاني: أن القاضي ابن كج قال: إذا قلْنا: لا ينتقض الأمان، فجاءنا ذِمِّيٌّ تائباً، ففى ضمان ما أتلفوا طريقان: أحدهما: أنه على القولَيْن في أن أهُل البغْيِ هل يضمنون؟. والثاني: القطْع بأنهم يَضْمَنُون. وهذه مسائل أُخَرُ تدْخُل في الباب. إذا استعان أهل البغْي بمَنْ لهم أمانٌ إلى مدة انتقض أمانُهم، فإن قالوا: كنا مكرَهِين، وأقاموا بيِّنةً على الإكراه، فهم على العهد، وإلا، أنتقض أيضاً؛ لأن أمانَهُم ينتقض بخَوْفِ الخيانة، فبحقيقة القتال أولَى بخلاف أهل الذمة. وإذا اقتتلتْ فئتان باغيتان، فإن قدَر الإمامُ على قهرهما وهزمهما، لم يُعِنْ إحداهما على الأخرى، إلا إذا رجعت إحداهما إلى الطاعة، فيُعِينُها على الأخرى، وإن لم يَقْدرِ على قهرهما (¬1) جميعاً، ضم أقربهما إلى الحقِّ إلى نفسه، واستعان بها على الأخرَى، وإن استويا، اجتهد فيهما، ولا يَقْصِد بضَمِّ التي يضمها إلى نفْسه معاونَتَها، بل يقصْد دفْع الأخرَى، فإذا اندفع شر الأخرَى، لم يقاتل التي ضمَّها إلى نفسه إلا بعد أن يدعوها إلى الطاعة ويُنذرها؛ لأنها بالاستعانة بها صارت في أمانه، ولو أمن واحدٌ مِنْ أهل العدل (¬2) واحداً مِنْ أهل البغْي نفذ أمانهُ، سواء كان حرّاً أو عبْداً [رجلاً] أو امرأة. وحكمُ دار البغْيِ حكمُ دار الإِسلام، ولو جرَى فيها ما يوجب الحدَّ، أقامَ الإمامُ الحدَّ، إذا استولَى عليها، وقال أبو حنيفة: حكْمُها حكمُ دارِ الحَرْبِ، فلا يقيم الإمامُ الحدَّ، إذا استولَى عليها. ¬
الجناية الثانية: الردة
ويتحرزَّ العادلُ عن قتال قريبه مِنْ الباغين ما أمكنه، قال في "التتمة"، ويجب على الواحدِ من أهْلِ العدْل مصابرةُ اثنَيْنِ من أهل البغْي، كما في قتال الكلفار، فلا يولِّي عنهما إلا مُتَحرفاً لقتال أو متحيِّزاً إلى فئة. وعن نصِّه في "المبسوط" أنه إذا غزا أهل العدْلِ وأهلُ البغْيِ المشركين، فاجتمعوا في بلاد الشرْك، فهم في الغنيمة (1) سواءٌ والقاتل منْهم يستحق السَّلب، وأما الخُمْسُ، فيتولى تفرقته الإمامُ، وأنه لو وادَعَ أهلُ الحرب قوماً مِنْ المشركين، لم يقصدهم (¬2) أحد من المسلمين، ولو غزا أهلُ البغْي قوماً مِنْ المشركين، وقد وادَعهم الإمامُ، فسَبَوْا منهم، فإذا ظهر (¬3) الإمامُ عليهم، رَدَّ السبْيَ على المشركين، وأنه لو أمن أهلُ العدل رجلاً مِنْ أهل البغْيِ، فقتله رجلٌ جاهلاً بأمانه، وقال: عرفته بالبغْي وقَدَّرْتُ أنه جاء لينال مِنَّا غِرةً حُلِّف، وأُلْزِم الديةَ، وإن قتلَه عامداً، أُقيدَ به، وأنه لو قَتل رجُلٌ من أهل العدل آخر منهم في القتال، وقال: ظننته مِنْ الباغين، حُلِّف، وضمن الدية، وأنه لو سبى المشركُون من أهْلِ البغْي، وقَدَر أهل العدْلِ على استنفاذهم، وجب الاستنفاذ (¬4)، والله أعلم. قال الْغَزَالِيُّ: الجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ: الرِّدَّةُ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قَطْعِ الإِسْلاَمِ مِنْ مُكَلَّفٍ إِمَّا بِفِعْل كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ وَعِبَادَةِ الشَّمْسِ وَإِلْقَاءِ المُصْحَفِ فِي القَاذُورَاتِ وَكُلِّ فِعْل صَرِيحِ فِي الاسْتِهْزَاءِ، وَإِمَّا بِقَوْلٍ عِنَاداً أَوِ اسْتِهْزَاءً أَوِ اعْتِقَاداً فَكُلُّ ذَلِكَ رِدَّةٌ مِنَ المُكَلَّفِ دُونَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَالسَّكرَانُ كَالصَّاحِي فِي قَوْلٍ، وَكَالْمَجْنْونِ فِي قَوْلٍ، فَإِنْ صُحِّحَتْ رِدَّتُهُ فَإِسْلاَمُهُ فِي السُّكْرِ يَرْفَعُهُ إِلاَّ إِذَا فَرَّقْنَا بَيْنَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ فِي طَرِيقٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الرِّدَّةُ أفحش أنواع الكفْر، وأغلَظَها حكماً، قال الله -تعالى-: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217] وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] وعن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ" (¬5) الحديثُ، وعن ابن عباسِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" (¬6) والكلام في الردة في طرفَيْنِ: ¬
أحدهما: في أن الردَّة ممن وبم تحْصُل. والثانى: في حكْمِه إذا حصلَتْ، أما الأول، ففيه فصلان: أحدهما: في حقيقة الردَّة، وهي قطْع الإسلام، ويحصل ذلك بالقَوْل الذي هو كُفْرٌ تارةً، وبالفعْل أخرَى، والأفعالُ التي توجب الكفْرَ هي التي تَصْدُر عن تعمُّد (¬1) واستهزاءٍ بالدين صريحٍ؛ كالسجود للصنم والشمس وإلقاءِ المصْحَف في القاذورات، والسِّحْرِ الذي فيه عبَادةً الشمس، ونحْوها، قال الإِمام: وفي بعض التعاليق عن شيْخي أن الفعْل بمجرَّده لا يكون كُفْراً، وهذا زلَلٌ (¬2) من المعلِّق أوْرَدتُّهُ للتنبيه على الغَلَط فيه، وتحْصُل الردة بالقَوْل الذي هو كفْرٌ، سواءٌ صَدَر عن اعتقادٍ أو عنادٍ أو استهزاءٍ، هذا من القول الجُمَلِىِّ. وأما التفصيل ففي "التتمة": أن مَنِ اعتقد قِدَم العالَمِ، أو حدوث (¬3) الصانع، أو نَفْيَ ما هو ثابت للقديم بالإجْماع؛ لكونه عالماً أو قادراً أو أثْبَتَ ما هو منفيٌّ عنه بالإجماع، كالألوان، أو أثبت له [الاتصال والانفصال] (¬4)، كان كافراً، وكذا من جحَد جوازَ بعثة الرسُل، أو أنكر نبوة نبىٍّ من الأنبياء -عليهم السلام- أو كذبَهُ أو جحَد آيةً من القرآن مُجْمَعاً عليْها، أو زاد في القرآن كلمةً، واعتقد أنها منْه أو سَبَّ نبيّاً من الأنبياء -عليهم السلام- أو استخَف به أو استحلَّ محَرَّماً بالإجماع؛ كالخمر والزنا واللواط أو حرَّم حلالاً بالإجماع، أو نفَى وجوبَ مُجْمَعٍ على وجوبه؛ كالصلوات الخمس أو ركعةٍ منْها أو اعتقدَ وجُوبَ ما ليس بواجِبٍ بالإجماع؛ كصلاةٍ سادسةٍ، وصوم شوال، أو نسب عائشةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- إلى الفاحشة، أو ادَّعَى النبوة في زماننا أو صدَّق مدعياً للنبوة، أو عظَّم الصنم بالسُّجُود له أو التقرُّب إليه؛ بالذَّبح باسمه، وأنه إذا قال لمسلم: يا كافر بلا تأويل، كَفَر؛ لأنه سمَّى الإسلام كُفْراً وقد رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ، يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا" (¬5) والذي رماه به مُسْلِم، فيكون هو كافراً، وأَن العَزْم على الكُفْر في المستقبل كُفْرٌ في الحال، وكذا التردُّد في أنه يَكْفُر أو لا يَكْفُر، والتعْلِيق بأمر في المستقبل، كما إذا قال: إنْ هلَك مالِي أو مَاتَ ولَدِي، تَهوَّدتُّ أو تَنَصَّرْتُ وأنَّ الرضا بالكفْر كُفْرٌ، حتى لو سأله كافرٌ يريد الإسلامَ أن يلقنه الكلمةَ، فلم يفعل أو أشار عليه بأن لا يسلم أو على مُسْلِم بأن يَرْتَّد، فهو كافر بخلاف ما إذا قال للكافر: لا رزقه الله الإيمانَ أو المُسْلِم سلبه ¬
الله الإيمان، [لأنه] (¬1) ليس رضا بالكفر، لكنه دعا عليه بتشديد الأمر والعقوبة علَيْه، ولو أكره مسلماً على الكُفْر، كفَرَ المُكْرِهُ، والإكراه على الإسلام والرضا به والعزم عليه في المستقبل لَيْس بإسلام، ومَنْ دخَل دار الحرب، فشَرِبَ معهم الخَمْر، وأكل، لحم الخَنْزير، لم يُحْكَمْ بكفره، وارتكاب المحرَّمات ليس بكُفْر، ولا يستلب به اسم الإيمان، والفاسقُ، إذا مات، ولم يتب، لا (¬2) يستحق الخلُودَ في النار، وفي كُتُب أصحاب أبي حنيفة اعتناء تامٌّ بتفصيل [الأفعال والأقوال] التي تقتضي الكُفْر، وأكثرها ما يقتضي إطْلاقُ الأصْحاب المساعدةَ علَيْه، ولنورِدْ ما يحْضُرنا ممَّا في كتبهم منها: إذا سَخِرَ باسم من أسماء الله تعالى أو بأمره أو بوعده أو وعيده، كَفَر، وكذا لو قال: لو أمرني اللهُ بكذا، لم أفعلْ، أو لو صارتِ القِبْلَةُ في هذه الجهة، ما صلَّيْتُ إليها أو لَوْ أعطاني الجنَّةَ، لم أدخلْها، [أو] (¬3) قال: (خذا در حق من همه كرده است بدي ازمن استت) (¬4) وليكن في هذا تفصيلٌ، والله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ، فَمِنْ نَفْسِكَ} قالوا: ولو قال: (من خد اثم) (¬5) على وَجْه المُزَاحِ، يعني (خدايم) (¬6)، فقد كفر، ولو قال لزوجته: (تراحق همسايه نمى بايد) (¬7)، فقالت: لا، فقال: (تراحق شوى نمى بايد) (¬8) فقالت: لا، فقال: (تراحق خداي نمى بايد) (¬9) فقالت: لا، كفَرَتْ، وكذا لو قال لغيره: لا تتركِ الصلاة، فإن الله يؤاخذُكَ فقال: لو آخَذَنِي اللهُ بها معَ ما بي من المَرَض والشدة، فقد ظَلَمني، أو قال لغيره: (خداي باز بان تو بر نيامد بانيا يد) (¬10) أو قال الآخر إنَّ الله يعذِّبك بمساوئك، فقال: (خداي راتو نشانده أي ناهمه اَن كندكله توكوبي) (¬11) أو قال المظلوم، هذا بتقدير الله، فقال الظالم: أنا أفعل بغَيْر تقدير الله، وكذا لو قال لامرأته: (مراسيم نسيت) (¬12) فقالت: ¬
امرأته: إنك تكْذِب، فقال الرجل: لو شَهِدَ [الأنبياء والملائكةُ] عنْدك: (كه مرسمى اسيم نيست) (¬1) لا تُصَدِّقيهمْ، فقالت: نعم، لا أصدِّقهم، كَفَرَتْ أو قال لغيره: إنَّ آدم نسج، فقال ذلك الغير: (بس ما همه جولاه بحكان باشيم) (¬2) كَفَر، ولو قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أكَلَ لحس أصابعه الثلاثِ، فقال السامع: (اين بي أدبى أمست) (¬3)، فهو كُفْرٌ، وكذا لو قال لغيره: [قلم أظفارك واحلق شعرك] (¬4)، فهو سنَّةُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: لا أفعل، وإن كانَ سنَّةً، واختلفوا فيما إذا قال: فلان في عيني، كاليهودي والنصراني في عين الله تعالى، أو قال: (دست خداي درازاست) (¬5) أو قال: بَيْن يدَيِ الله تعالَى منْهم، مَنْ قال: هو كفر، ومنْهم من قال: إن عَنَى به الجارحة، فهو كفر، وإلا، فلا [وكذا إذا] (¬6) اختلفوا فيما إذا قال: إن الله تعالى في السَّماء، أو قال: (خداي تعالى فرومى نكرد ازآ سمان أو ازعرش) (¬7) أو قال: (خذا برتوستم كناد جنانكر توبر من كردى) (¬8) أو قال: إن الله تعالى جلَسَ للإنصاف أو قام للإنْصَاف، أو قال بالفارسية: (خدا دادرا تشيسته است يا استاده است) (¬9) قالوا: هو كُفْر، وكذا لو قال لغيره: إن شاء الله: (كه فلان كاربكني) (¬10) فقال: (بي إن شاء الله تعالى نكم) (¬11)، وليجيْء فيه الخلافُ السابق وليكُنِ الأظهرُ أنه لا يَكْفُر، ولو قال: (من باتو بحكم خدا كار ميكتم) (¬12)، فقال خصمه: (من حكم ندائم أو اينجاحكم نرود أو خداي حاكمي رانشايد أو انينجاد توسته حكم جه كنده) (¬13) فهو كفر، ولو قال: (ابنجاحكم نيست) (¬14) قيل: هو كُفْر، وقيل: إن أراد الحكاية عن فَسَاد الزمان، لم ¬
يكفر، وليجيْء مثل هذا في قوله: (ابنجاحكم نرود) (¬1) (وابتجاد نوسته) (¬2) واختلفوا فيما إذا قال: (من برسم كار كنم نه بحكم) (¬3) وفيما إذا قالت لابنها: لماذا أو لِمَ فَعَلْتَ كذا؟ فقال الابن: والله، ما فعلْتُ، فقالت: غضباً: تونه، والله، وفيما إذا قال لغيره: أحسن كما أحسن الله إليك، فقال: (روبا خداي جنكر كن) (¬4)، لماذا أعطيتَ فُلاناً كذا، وفيما إذا قال لغريمه: (اكر خداي جهان كردى مميم خويش أز توبستانم) (¬5) والأظهر أنه يَكْفر (¬6)، وفيما إذا قال الطالب ليمين خَصْمه، وقد أراد الخصم أن يَحْلِف [بالله] (¬7)، لا أريد الحلِفَ بالله، إنما أريد الحَلِفَ بالطَّلاق والعِتَاق، والأظهر أنه لا يكفر، وفيما إذا قال لغيره: (خدا من داندكه ترا بيوسته بدعا يائمى دارم) (¬8)، أو قال: (نعم، وشادى توهمجنا ثم بغم وشادى خويش) (¬9)، وفيما إذا قال: (أي شكيلخداي) (¬10)، واللائق بأصولنا في هذه الصورة أنَّه لا يَكْفُر، واختلفوا فيما إذا نادَى رجلاً اسمُهُ عبْدُ الله، وأدخل في آخره حَرْفَ الكاف الذي يدخل للتصغير (¬11) بالعجمية، فقيل يكْفر، وقيل إن تعمَّد التصغير، يكفر، وقيل وإن كان جاهلًا لا يدري ما يقول، أو لم يكن له قصْدٌ، لا يكفر، وفيما إذا روى لغَيْره أن رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال "بَيْنَ قَبْرِي ومنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ" فقال ذلك الغَيْرُ: (من منبر وحظيرة في بيثم وجيزى ديكَرنمى بثم) (¬12)، وفيما إذا قال: رؤيتي إياك كرؤية ملَكِ المَوْت، وأكثرهم على أنه لا يَكْفُر، وفيما إذا قال: (فلان، زاد شمن في دارم جون ملك المَوْت، را) (¬13) أكثرهم على أنه يكفر. ومنها: وإذا قيل له: لِمَ لا تقرأ القرآن، فقال: (سبرشدم از قرآن) (¬14) قالوا: ¬
يكفر، وكذا لو قيل له: لِمَ لا تصلِّي؟ فقال: (سير شدم آزنمار كردن) (¬1)، أو قال: (تاكي كنم ابن بيكارزا) (¬2) أو قال للزكاة: (تاكى دهم اين تا) (¬3) أو قرأ القرآن على ضَرْب الدِّفْ أو القَضِيب، أو قال لغيره: ({قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} رابوست بردى) (¬4) أو: ({أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} اكَريبان كَرفته أي) (¬5) أو قال لمن يقرأُ عنْد المرض، (يس: دردهان مرده منه) (¬6) أو قال لغيره: (أي كوتاه تزاز {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} (¬7) واختلفوا فيما إذا قال: (خانه باك كرده أي جون، {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}) (¬8) وفيمن زَعَم أن المعوِّذَتَيْن ليْستا من القرآن، قيل: يكفر، وقيل: لا، وقيل: إن كان عالماً، لم يكْفُر، وإن كان عامِّيّاً كفر. ومنها: قالتْ لزوجها: (توسرخداي هي داني) (¬9) فقال: نعم، أو قالت: تَعْلَمُ الغَيْب، قال: نعم، فهو كُفْر، ولو قال: (من بوذه دنا بوذه بدانم) (¬10) كفر، واختلفوا فيما إذا خَرَج إلى السفْر، فصاح، العقعق، فرجع، هل يكفر. ومنها: لو قال لو كان فلانٌ نبياً، لم أومِنْ به، كفر، وكذا لو قال: إنْ كان ما قَالَه الأنبياء صدْقاً، نَجَوْنا، أو قال: لا أدْري أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان إنسياً أو جنياً أو [قال] أنه جنى، أو قال: محمد: (دروى شك بود) (¬11) أو صغر عضواً من أعضائه على طريق الإهانة واختلفوا فيما لو قال: [كان] (¬12) طويل الظُّفُر، وفيما إذا شتَم رجلاً اسْمه محمَّدٌ، وكنيته القاسم، فقال: يا بن الزانية، (وهركه خداي ارا يابن نام يايا اين كنيت، بنده است) (¬13) فقيل: يكفر إذا كان ذاكراً للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم-. ومنها: إذا قيل له: صلِّ، فقال: (ديرست كه بيكار نكرده أم) (¬14)، أو قال: ¬
(خردمند دركارى ينايركه بسرنتوا نديردن) (¬1)، أو قال: (مردمان ازبهر ما هي كنئد) (¬2)، أو قال: إنماز كرده وناكرده بكيست) (¬3) أو قال: (جندان نماز كردم كه فلم بكَرفت) (¬4)، أو قال: (خوش كارشمت بي نمازى) (¬5) فهذا كله كفْرٌ، وكذا لو قيل له: (نمازكن تاحلاوت نماز كردن يابى) (¬6)، فقال: (تومكن تاحلاوت بي نمازى يابى) (¬7) أوْ قيلَ لعبْدٍ: صَلِّ، فقال: لا أصلِّي، فإن التَّوَّابَ يكُون للمَوْلَى واختلفوا فيما إذا صلَّى بغَيْر وضوء متعمِّداً، أو مع ثوبٍ نَجسٍ أو إلَى غير قِبْلَةٍ. ومنها: إذا تشاجَرَ رجُلان، فقال أحدهما: لا حول ولا قوة إلا باللَّهِ، فقال الآخر: (لا حول مجاز نيست) (¬8) أو قال: (لا حول راجه كنم) (¬9) إذ بقي، أو قال: لا حول، لا تغني من جوع أو قال: (لا حول بجانه درنتوانى شكست) (¬10) فهو كُفْرٌ، وكذا لو قال أحدهما: سبحان الله، فقال الآخر: (سبحان الله، رابوست بازدكردى) (¬11) أو سمَعَ أذانَ المؤذِّن، فقال: إنه يكذب، أو قال: (اين بانك باسبانان است) (¬12) أو قال وهو يتعاطَى قدَحَ الخَمْر، أو يُقْدِم على الزنا: بسم الله، استخفافاً باسم الله. ومنها: إذا قال لظالم: (يا دشمن تامحشر) (¬13)، فقال الظالم: (من المحشرجة كار) (¬14) فهو كفر، وكذا لو قال لا أخافُ القيامةَ، واختلفوا فيما إذا قال لخَصْمه: آخُذُ منكَ حقِّي في المحشر، فقال: (مرادرآن انبوهى كجاه يأبى) (¬15) وفيما إذا وضعَ متاعَه في موْضِع، وقال: سلمته إلى الله تعالى، فقال له آخر: سلمته (¬16) إلى مَنْ لا يَتْبَعُ ¬
السارِقَ إذا سَرَقَ. ومنها: إذا قال لآخر: (بفلان كسى روى ويروى أمر معروف كن) (¬1)، فقال: (مرا زوجه آزار ايست) (¬2)، أو قال: (من عافيت كَزيدم) (¬3)، أو قال: (مرا با اين فصول جه كار) (¬4) فهو كفرٌ، وكذا لو قيل لرجل: (حلال خور) (¬5)، فقال: الحرام أحبُّ إليَّ أو قال: (درجهان بك حلال جوار بياد أو راسجده كنم) (¬6)، أو قال: (مراحرام شايد) (¬7) وكذا لو رجع رجُلٌ من مجْلِس العلْم؛ فقالت له امرأته: (آز كنشت آمدى) (¬8) أو قالت امرأة: (لعنت برشوى دانشمند باد) (¬9)، تكفر، وكذا لو أمر غيره بحُضُور مجْلس العلْم: (مرا با مجلس علم جه كار) (¬10) أو قال: (علم دركاسه ثريد نتوان كردن) (¬11) أو قال: (درم بايد علم بجه كارآيد) (¬12) أو قال لعالم: (شو علم رابكاسه شكن) (¬13) أو قال لفقيه يذكر [شيئاً من] (¬14) علْم الشرْع أو يروي حديثاً صحيحاً: (اين هيج نيست) (¬15) أو قال: (اين سخن جه بكارآيد) (¬16)، فهو كفر، وكذا لو قال: (فساد كردن به ازدا نشمندى كردن) (¬17) أو كان الواحدُ من القوم يَجْلس على مكانِ رفيع تشبهاً بالمذكرين (¬18)، فيسألون منه المسائل ويضْحَكون، ثم يضربونه بالمِخْرَاق، وكذا لو تشبَّه بالمعلِّمين، فأخذ خشبةً، وجلس القوم حوْله كالصبيان، وضَحِكوا واسْتَهْزَؤوا، أو قال: قصعةُ ثريد خَيْرٌ من العلْم أو عَرَضَ خصمُهُ عليه فتْوَى الأئمة، فألقاه على الأرض، وقال: (أين جه شرع است) (¬19)، وذكروا أيضاً أن المريض ¬
إذا دام مرضه، واشتد، فقال: إن شِئْتَ توفَّني مسلماً، وإن شئْتَ توفَّني كافراً، وكذا لو ابتلي (¬1) بمصائب، فقال: أخذتَ مالي، وأخذت ولَدِي، وكذا وكذا وماذا تفْعَل أيضاً أو ماذا بَقِيَ لم تفعلْه، وأنه إذا غَضِبَ على ولده أو عبْده، وكان يضربه ضرباً شديداً، فقال له قائل: لستَ بمُسْلِمٍ، فقال: لا متعمِّداً، كفر، وأنه لو قال لزوجته: يا كافرة، أو يا يهوديةُ، فقالت: (همجنينم) (¬2) أو قالت: (أكَر همجنين نمى باتونيا شمى أو باتو صحبت ندارمى) (¬3) تكفر، وكذا لو خاطبت الزوْجَ أو خاطَبَ أجنبيٌّ أجنبيّاً بذلك، فأجاب بما ذكرنا، وأنه لو قال: يا يهوديُّ أو يا مجوسيُّ، فقال: لبيك يكفر، وكذا لو قال: [آري همجنين] (¬4) كفر، وأنه لو تكلم بكلمة زعم قوم أنها كفر. وليست كذلك، فقيل له: كفرنْ كفر وبانتَ امرأتك، فقال: (كافرٌ سنده كَيروزن بطلاق كَير) (¬5) يكفر، وبِيْنَ امرأته، وأنَّه لو وعظ فاسقاً، نَاداه إلى التوبة، فقال: (بس ازمن كلاه مغان يرنهم) (¬6) يكفر، وأنه لو قالت المرأة لزوجها: (كافر يودن بهترازيا توبودن) (¬7) تكفر، وأنه إذا أسلم كافرٌ، وأعطاه الناسُ مالاً، فقال مسلم: ليته كان كافراً حتى يُسْلِم، فيعطَى ففي بعض المشايخ أنه يَكْفُر، وأنه لو تمنَّى رجُلٌ أن لا يحَرِّم الله تعالى الخمر، لا يكفر، وكذا لو تمنَّى أن لا يحرم المناكَحَة بين الأخِ والأختِ، ولو تمنَّى أن لا يحرِّم الله الظلْمَ والزِّنا وقَتل النفس بغَيْر حَقّ، يكفر، والضابطُ أنَّ ما كان حلالاً في زمانٍ، فتمنَّى حلَّه، لا يكفر. ومنها: إذا شد الزُّنَّارَ على وسطه، كَفَر، واختلفوا فيما إذا وضَعَ قَلَنْسُوةَ المجُوس على رأْسه، والصحيح أنه يكفر، وإذا شدَّ على وسطه حبْلاً، فسئل عنه، فقال: هذا زُنَّار، فالأكثرون على أنه يَكْفُر، وإذا شَدَّ على وسَطِه الزُّنَّارَ، ودخل دار الحرب للتجارة، يَكْفر، وإن دخل لتخليص الأسارَى، لا يكفر، وذكروا أنه لو قال معلم (¬8) الصبيان: اليهود خير من المسلمين بكثير؛ لأنهم يَقْضُون حقوق معلِّمي صبيانهم، يَكْفر، وأنه لو قال: النصرانيةُ خير من المجوسية، يكفر، وأنه لو قال: المجوسيَّةَ شَرٌّ من النصرانية، لا يبكفر، وأنه إذا عطس السلطانُ، فقال رجل: يرحمكَ الله، فقال آخر لهذا القائل: لا تَقُلْ للسلطان هذا، يكفر الآخر، وأنه إذا سقى الفاسقُ ولدَه، فجاء ¬
أقرباؤه، ونثروا الدراهم، [والسكر] (¬1) كَفَرُوا وأنه إذا شرع في الفساد، وقال: (شاد مباد آنكس كه شادى ما شاد نيست) (¬2) يكفر، وكذا لو اشتغل بالشرب، وقال: (مسلمانى اينجارا مى كنم) (¬3) أو قال لجماعة من الصلحاء: (بيا يبداى كافران با مسلمانى بيينيذ) (¬4) وأنه إذا قيل لمن يرتكب الصغائر تُبْ إلى الله تعالى، فقال: (من جه كردم تانويه كنم) (¬5) أو قال: (من جه كرده أم كى توبه هي بايدكردن) (¬6) يكفر وكذا لو قال لغيره: (مرا بحق بارى بده) (¬7) فقال: (بحق هركسى بارى وهو من بناحق بارى دهم) (¬8) وأنه لو ضرب رجلاً، فقال المضروب: (مرامزن آخر مسلمانم) (¬9) فقال: (لعنت برتوباد وبرمسلمانى تو) (¬10) يكفُرْ، وأنه لو قال: (فلان كافر: تراست از من) (¬11) كان ذلك إقراراً بكفره، وأنه لو قال: (من از مسلمانى بيزارم) (¬12)، فقد قيل: هو كفر، وأنه لو قال كافر لمسلم: اعْرِضْ عَلَيَّ الإسْلاَم، فقال: حتى أرى، أو قال: اصْبِرْ إلى الغَدِ أو طَلَب عرْضَ الإسلام [من مذكر]، فقال: اجلس إلى آخر المجْلس، يكفر، وقد حكَيْنا نظيره عن "التتمة" [وأنه لو قال لآخر: (خداى عز وجل مسلمانى أز توبستا ناد) (¬13) يكفُر، ولو قال غيره أمين يكفر المؤمن أيضاً، فقد حكينا عن "التتمة" خلافَه] وأنه لو قال لعدوه: لو كان هو نبيّاً، لم أُؤمِنْ به، أو قال: لم يكن أبو بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من الصحابة، كَفَرَ، ولو قال ذلك لغير أبي بَكْرٍ، لا يكفر، وأنه لو قيل لرجل: ما الإيمان؟ فقال: لا أدري، كان كافراً، وكذا لو قال لزوجته: أنتِ أحبُّ إلى من الله تعالى، وهذه صوَرٌ تَتَبْعوا فيها الألفاظ الواقِعَة في كلام الناس، وأجابوا فيها على اتفاق أو اختلاف، والمذْهَب يقتضي مساعدتهم في بعْضِها، وفي بعضها يُشْتَرط وقوع اللفْظ في مَعْرِض الاستهزاء، [والله أعلم]. ¬
والفصل الثاني: فيمن تصح منه الردَّة، ويشترط في صحة الردَّة: التكليف، فلا تصحٌّ ردة الصبيِّ والمجنون؛ لأنه لا تكليف عليهما، ولا اعتداد بقولهما، وعَقْدِهما، وعن أبي حنيفة: أنه تصحُّ ردَّةُ الصبيِّ المميز، ولكن لا يُقْتَلُ حتى يبلغ، ومن ارتد، ثم جُنَّ، لم يُقْتَل في جنونه؛ لأنه ربَّما عاد إلى الإسلام، لو عَقَل، وكذا لو أَقرَّ على نفسه بالزنا، ثم جُنَّ، لا يقام عليه الحد؛ لأنه قد يَرْجع [عن] الإقرار، بخلاف ما لو أقرَّ عَلَى نفسه بِقِصاص أو حدٍّ قذْف، ثم جنَّ، يستوفى منه في جنونه؛ لأنه لا يسْقُط بالرجوع، وبخلاف ما لو قامتْ عليه بينة بالزنا ثم جُنَّ؛ لأنه لا يسْقُط الحدُّ بعد ثبوته بالبينة إلا على قولِ مَنْ يقول: إنه يسقط بالتوبة، قال صاحب "التهذيب": وهذا كله على سبيل الاحتياطِ، فلو قَتَلَ في حال الجنون، أو أقيم عليه الحدُّ، فمات، لم يجب شيء، وهل تصحُّ ردة السكران؟ فيه طريقان؛ سبق نظيرهما في سائر تصرفاته. أظهرهما: أن فيه قولَيْن. أصحهما: نعم. والثاني: المنْعُ، وبه قال أبو حنيفة. والثاني: القطع بالصحة، فإن قلنا: تصح ردته، وجب عليه القتْل، إذا ارتد في سُكْره، أو أقر بالردة، ولكن لا يُقْتَل حتى يفيق، فيُعْرَض عليه الإسلام، وفي صحة استتابته في السّكْر وجهان مقُولان في "التهذيب". أحدهما: أنها تصحُّ، كما تصح ردته، لكن المستحَبَّ أن تؤَخَّر إلى الإفاقة. والثاني، وهو المذكور في "الشامل": المنع؛ لأن الشبهة لا تَزُول في تلْك الحالة، ولو عاد إلى الإسلام في السُّكُر، صحَّ إسلامه، وارتفع حكم الردة. نعَم، ذكرنا طريقاً في تصرُّفات السكران، أنَّه ينفذ ما عليه بلا خلاف، والقولان فيما له، فعلى هذا يجيْء قول إنه لا يصحُّ إسلامه، وإن صحَّت ردته، وحكى ابن كج طريقةً قاطعة بأنه لا يصحُّ عودُه إلى الإسْلام، والظاهر الأول؛ وقد نقل عن نص الشافعيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قال: إن رجَعَ إلى الإسلام، لم أخْلِ سبيله، حتى يفيق، فإن وصف الإسلام كانَ مسلماً من حين وصَفَ الإسلام، وإنْ وصَفَ الكفْر، كان كافراً من الآن؛ لأن إسلامه صحَّ، وإنما أحبه استظهاراً، وإذا قلْنا يصحُّ عَوْده إلى الإسلام، فقتله قاتلٌ تعلقٌ بقتله القصاص والضمان، ونقل الإِمام أن بعْض الأصحاب ذكَر قولاً في إهْداره أخْذاً من الخلاف، فيما إذا أسلم أحد أبوي الطِّفلْ بعْد علوقه على الكفْر، ثم بلغ، وقُتِلَ قبل أن يُعْرِب عن نفسه الإسلام، هل يجب الضمان على قاتله؟ والتقريب أن الإسلام الصادر من السكران حُكْمِيٌّ؛ إذ ليس له عقْدٌ صحيح، كما أن الإسلام الحاصلَ
فرع
بتبعيَّة أحد الوالدَيْن حكْميٌّ، والظاهرُ الأول، وإن قلْنا: لا تصح ردة السكران، فلو قُتِل، تعلَّق بقتله القصاصُ والضمانُ، وفي وجْه: لا يجب القصاص للشبهة، وتجب الدية، ويحكَى هذا عن أبي الحُسَيْن بن القَطَّان، ويجوز أن يُعْلَم؛ لما بيَّنَّا قولُه في الكتاب: "إما بفِعْلِ" لما نقله الإِمام عن شَيْخه بالواو، ولفظ "الصبي" في قوله "دون الصبي" بالحاء، [وكذلك] قوله "كالصاحي" وقوله "في قول" بالواو للطريقة القاطعة. " فَرْعٌ" لو ارتد صاحياً، ثم سَكَر، فأسْلَم، حكى القاضي ابن كج: القَطْع [بأنَّه] (¬1) لا يكون ذلك إسلاماً، والقياسُ جعْلُه على الخلافِ السَّابِق. قال الغَزَالِيُّ: وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رِدَّتِهِ فَقَالَ: كَذَبا لَمْ يُسْمَعْ، وَلَوْ قَالَ: كُنْتُ مُكْرِهاً فَإِنْ ظَهَرَ مَخَايِلُ الإِكْرَاهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ كَالأَسِيرِ، وَإِلاَّ فَلاَ يُقْبَلُ، وَلَوْ نَقَلَ الشَّاهِدُ لَفْظُهُ فَقَالَ: صَدَقَ لَكِنِّيَ كُنْتُ مُكْرِهاً قُبِلَ إِذْ لَيْسَ فِيهِ تَكْذِيبُ الصَّادِقِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا شَهِدَ بِالرِّدَّةِ فَإِنَّ الإِكْرَاهَ يَنْفِي الرِّدَّةِ دُونَ اللَّفْظِ، وَلاَ يَنْبَغِي أن تُقْبَلَ الشَّهَادَةُ عَلَى الرِّدَّةِ مُطْلِقاُ دُونَ التَّفْصِيلِ لاِخْتِلاَفِ المَذَاهِبِ فِي التَّكْفِيرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفصْل مفرَّع على أن المؤْمِن إذا أُكْرِه عَلَى أن يتكلَّم بكلمة الكُفْر، فتكلَّم بها، لا يُحْكَم بردته، حتى لا تبين زوجَتُه ويرثه ورثته إذا مات؛ قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] وقد ذكرنا في أول الجنايات أنَّه يباح له التلفُّظ بكلمة الكفْر بسبب الإكراه، وأن الأصحَّ أنه لا يجبُ، وأن الأفضل أن يثبت، ولا يتكلَّم بها. إذا عُرِفَ ذلك، فهل تقبل الشهادة على الردَّة مطلقاً، أمْ لا بُدَّ من التفصيل ذكر (¬2) الإِمام تخريجَه، على الخلاف في أن الشهادةَ على البَيْع وسائرِ العقُود، هل تُسْمَع مطلقةً، أم يجبُ التفصيل والتعرُّض للشرائط؟ فعَلَى قوْلٍ: لا بد من التفصيل؛ لأن مذاهب العلمَاء فيما يوجِبُ التكفير مختلفةٌ، والحُكْمْ بالردة عظيمُ الوَقْع فيُحْتَاطُ له، والظاهرُ قبول الشهادة المطْلقة والقَضَاءُ بها، وعلى هذا، فلو شهد شاهدان على ردَّته، فقال: كَذَبَا، أو ما ارْتَدَدتُّ، قُبِلَتْ شهادتهما، ولم يُغْنِه التكذيبُ، بل عليه أن يأتي بما يَصِير به الكافرُ مسلماً، ولا ينفعه ذلك في بينونة زوْجته، وكذا الحُكْم، لو اشترطنا التفصيل، ففَصَّلا، وكذَّبهما المشهودُ عليه، وليس ذلك كما لو شَهِدَ شهودٌ على إقراره ¬
بالزنا، وأنكر، لا يُحَدُّ؛ لأن الإقرار بالزنا يقْبلُ الرجوع، فيُجْعل إنكاره رجوعاً، ولا يَسْقُط القتل عن المرتد، بقوله رجعت ولا يقبل الإنكارُ والتَّكْذيب، ولو قال: كنْتُ مُكْرَهاً فيما أتيتُ به، نُظِر؛ إن كانت قرائنُ الأحوال تَشْهد [وله] (¬1) بأن كان في أسْر الكفار، أو كان محفوفاً بجماعة منْهم، وهو مستَشْعِرٌ (¬2)، صُدِّقَ بيمينه، وإنما حَلَف؛ لاحتمال كونه مختاراً، قال صاحب "البيان" وغيره: وكذا الحكْم، لو قامت بينة على إقْراره بالبيع وغيره، وكان مقيّداً أو محبوساً، فقال: كنت مكرهاً، وإن لم تشْهَد القرائن بصدقه؛ بأن كان في دار الإسلام، لم يُقْبل قولُه، وأُجْرِيَ عليه أحكام المرتدِّين، وكذا لو كان في دار الحرْب، وهو مخلّى آمن، ولو لم يقل الشاهدان: إنه ارتدَّ، ولكن شَهِدَا أنه تلفَّظ بكلمة الرِّدَّةِ، فقال: صدَقَا، ولكني كنت مكرهاً، فالذي حُكِيَ عن الشيخ أبي محمَّد، وتوبع عليه: أنه يُقْبَل قوله؛ لأنه ليس فيه تكذيبُ الشاهِدِ بخلاف ما إذا شَهِد بالردَّة، فإن الإكراه ينافي الردَّة، ولا ينافي التلفُّظ بكلمة الرِّدَّةِ، ثم قال الشيخ: الحزم أن يُجدِّد كلمة الإسلام، ولو قُتِل قَبْلَ التجْديد، فهل يكون قتْلهُ مضْموناً لأن الردة لم تثبت والأصل استمرار حُكْم الإسلام أو لا يكون مضموناً؛ لأن لفظ الردَّة [قد] (¬3) ثبت، والأصلُ في الناس الاختيارُ؟ فيه قولان، وموضع القولَيْنِ على ما ذكر الإِمام؛ ما إذا لم يَدَّعِ الإكراه، أو لم يَحْلِف عليه، أما إذا ادعاه، وحلَف عليه، فقد ثبت الإكراه بالحجة، فيقطع بأنه مضْمون، واعلم أن فيما سقناه دلالةً [بينة] على أنَّه إذا شهد الشهودُ بالردة على الأسير، ولم يدَّع أنه كان مكرهاً، يُحْكَم بردته، ويؤيده ما حُكِي عن القفَّال: أنه لو ارتد الأسير في أيدي (¬4) الكفار، ثم حلَّ بهم خيلُ المسلمين، فاطَّلع عليهم من الحصْن، وقال: أنا مسلمٌ، وإنما تشبهْتُ بهم فَرَقاً منْهم يُقْبَل قولُه، ويُحْكم بإسلامه، وان لم يدع ذلك، حتى مات، فالظاهر أنه ارتدَّ طائعاً؛ وإن مات أسيراً، وعن نصه: أنه لو شهد الشهودُ على أنه تلفَّظ بالكفر، وهو محبوسٌ أو مقيَّدٌ، لم يُحْكم بكفره، وإن لم يتعرَّض الشهود للإكراه، وفي "التهذيب": أن من دخل دار الحَرْب، وكان يسْجُد للصنم، ويتكلَّم بكلمة الكفْر، ثم قال: كنْتُ مكرهاً، فإن فعله في مكانٍ خالٍ، لم يُقْبل قوله، كما لو فعله في دار الإسلام، وإن فعَلَه بين أيديهم، فإن كان أسيراً قُبِلَ قوله، وإن دخَل ¬
تاجراً لم يُقْبَل. وقوله في الكتاب: فقال: "كَذَبا، لَمْ يُسْمَعْ" أي لم يسمعْ تكذيبه، وحُكِمَ بموجب الشهادة. وقوله "كالأسير" ليس مقيساً عليه، بل هو مثال ظهور مخايل الإكراه، والمعنى؛ فإن ظهرت مخايل الإكراه، كما في الأسير، فالقول قوله. وقوله "ولو نقل الشاهدُ لفظه" إلى آخره هو الكلام المنسوبُ إلى الشيخ أبي محمَّد، وقد قَال: إن شرطَّنا التفصيلَ والتعرُّض للشرائط، فمِنَ الشرائط كونُه مختاراً، وإذا تعرَّض الشاهدُ له، فقوله "كنت مكرهاً" تكذيبٌ للشاهد، وإن لم يشترطِ التفصيل، فإنما لا يشترط إذا قال الشاهد: إنه ارتد، فيكتفي به لِتَضَمُّنِهِ حصولَ الشرائط، فأما إذا قال: إنه تكلَّم (¬1) بكذا،، ولم يتعرَّض إلى الاختيار (¬2) وسائر الشرائط، فيبعد أن يُحْكَم بردته، ونَقْنَع بأن الأصل الاختيار. وقوله "ولا ينبغي، أن تُقْبَل الشهادةُ على الردَّة مطلقاً" مَيْلٌ إلى اشتراط التفصيل، والظاهرُ خلافُهُ. قال الغَزَالِيُّ: وَلَوْ خَلَّفَ رَجُلٌ ابْنَيْنِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَاتَ أَبِي كَافِراً صُرِفَ نَصِيبُهُ إِلَى الْفَيْءِ عَلَى قَوْلٍ، وَعَلَى قَوْلٍ يُصْرفُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَصِّلْ كَيْفِيَّة الكُفْرِ وَالمَذَاهِبُ تَخْتَلِفُ فِيهِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُسْتَفْسَرُ وَيُحْكَمُ بِمُوجِبِ تَفْسِيرِهِ، وَإِنْ لَمْ يُفْسِّرْ يُوقَفْ، وَالأَسِير إِذَا ارْتَدَّ مُكْرَهاً فَأَفْلَتَ وَلَمْ يُجَدِّدَ الإِسْلاَمَ حَيْثُ عُرِضَ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُخْتَاراً، فَإِنِ ارْتَدَّ مُخْتَاراً فَصَلَّى صَلاَة المُسْلِمينَ قِيلَ: يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِهِ بِخِلاَفَ الكَافِرِ الأَصْلِيِّ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لِغُمُوضِ الفَرْقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصْل مسألتان: إحداهما: ماتَ رَجُلٌ معروفُ الإسلام عن ابنَيْن مسلمَيْن، فقال أحدهما: مات مسلماً، وقال الآخر: إنَّه كَفَر بَعْد إسلامه، ومات كافراً، فإن بيَّن سببه، فقال: إنه سجَد للصنم، أو تكلَّم بما يوجب الكُفْر، فلا إرْثَ له، ونصيبه ينْصَرِف إلى بيت (¬3) المال، وإن أطلَق، ولم يفصِّل، فقولان: أحدهما؛ عن رواية الشيخ أبي محمَّد؛ أن نصيبه يُصرف إليه، ولا يعتبر الإقرار المُطْلَق؛ لأن المذاهب في التَّكْفِير مختلفةٌ، وقد يكفر أهل البدَعِ، ويعتقد ما ليس بالكُفْرِ كفراً. ¬
وأظهرهما: المنع؛ لأنه أقر بِكُفْره، فلا يُورَّثُ منه، وعلى هذا، فقولان: أحدهما: أنه فَيْءٌ يُجعل في بيتِ المال بموجب إقراره. وأظهرهما: أنَّه يوقَفُ ويُسْتَفْصَل، فإنْ فصَّل وذَكَرَ ما هو كُفْرٌ صُرِف إلى الفيْء، وإنْ ذكر في التفْسير ما لَيْس بِكُفْر صُرِفَ إليه، هكذا نقل (¬1) صاحب الكتاب، ولو قال أحدُهما: مات كافراً؛ لأنَّه كان يشرب الخمر، ويأكل لحم الخنْزير، فقد حكي في التهذيب، فيه قَوْليْن: أحدهما: أنه لا يُوَرَّثُ [منه] لإقراره بكفره. والثاني: يُوَرَّثُ؛ لأنه [فسَّره] (¬2) بما يبين خطأ اعتقاده، وهذا أظهر. الثانية: إذا تلفَّظ الأسير بكلمة الكفْر مكرهاً، لم يُحْكم بكفره؛ على ما مرَّ، فإن مات هناك، ماتَ مسلماً، وورثه ورثته المسلمون، وإن رجع إلى دار الإسلام، بإفلات وغيره، عرض عليه الدينُ وكلمة الإسلام؛ لاحتمال أنه كان مختاراً فيما أتى به، وإن جرتْ صورةُ الإكراه. ثم (¬3) فيه كلماتٌ: إحداها (¬4): أطلَقَ كثرهم العرْضَ، وشرطَ له القاضي ابن كج [أنه (¬5) لا يَؤُمُّ] الجماعاتِ، ولا يُقْبِل على الطاعات بَعْد العَوْد إلَيْنا، فإن فعل ذلك، استغنينا عن العَرْض. الثانية: هذا العرْض واجبٌ أو مستَحَبٌّ؟ سَكَتَ عنه المعظَم، وذهب ابن كج إلى أنه مستحَبٌّ، واحتج له بأنه لو أُكْرِه على الكُفْر في دار الإسلام، لا يُعْرَض عليه الكلمة بعْد زوال الإكراه؛ باتفاق الأصحاب. الثالثة: إذا امتنع بعْد العرض، فالمنقول أنه يُحْكم بكُفْره ويستدل بامتناعه على أنه كان مختاراً يوم التلفُّظ وقضيةُ هذا أن يحكم بكُفْره من يومئذ، قال الإِمام: وفي الحكْم بكفره احتمالٌ ظاهرٌ؛ لأنا إذا حَمَلْنا الأمر في الابتداء على ظاهر الإكراه، وأدَمْنا الإسلام، فامتناعه عن تجديد الكلمة لا يَنْبغي أن يغيِّر حكم الإسلام، وإذا مات قبْل العَرْض والتلفظ بكلمة الإسلام، فهو كما لو مات قبل أن يعُودَ إلينا، وعن رواية أبي الحُسَيْن بن القطَّان وجْهٌ أنه يموت كافراً، وكان مِنْ حقِّه إذا جاء [أن] يتكلَّم بكلمة الإسلام. ¬
ولو ارتدَّ الأسير مختاراً ثم رأيناه يصلِّي صلاة المسلمين في دار الحَرْب، فالمشهور [المنسوب] (¬1) إلى النَّص أنه يُحْكم بإسلامه بخلاف ما إذا صلَّى في دار الإسلام، لا يُحْكَم بإسلامه، وفرق بينهما بأنَّ الصلاةَ في دارِ الإسلام تحتمل (¬2) التقيَّة، والإرادة [والصلاة] (¬3) في دار الحَرْب لا تكون إلا عن اعتقاد صحيح، ونسب الإِمام جعْلَ الصلاةِ إسلاماً إلى العراقيِّين، واستبْعَدَه، وقال: الوجْه، في قياس المراوزةِ القَطْع بأنه لا يُحْكم بإسلامه كما لو رأينا الكافر الأصليَّ يصلِّي في دار الحرب، قال: ولو حكم [حاكم] (¬4) بإسلامه، كان صائراً إلى مذْهب أبي حنيفة، ورأيتُ صاحب "البيان" سوى بين الكافر الأصلي والمرتد، [فقال] إذا صلَّى الكافرُ الأصليُّ في دار الحرْب، حكِم بإسلامه، ولو صلَّى في دار الإسلام، لا يُحْكَم، فدفع الإلزام، ويمكن أن نُفَرِّق بينهما بأن المرتدَّ كان مسلماً، وعلقة الإسلام باقيةٌ فيه، وهو محمول على العَوْد إليه، والعودُ إلى ما كان أهونُ من افتتاحِ أمرٍ لم يكنْ، فجاز أن يُجْعَل الشيْء عَوْداً إلى الإسلام، ولا يجعل افتتاحاً. وقوله في الكتاب "وفيه احتمال؛ لغموض الفَرْق" يعني بين المرتدِّ وبين الكافر [الأصلي]، ويجوز أن يُعْلَم قوله "بخلاف الكافر الأصلىِّ" بالواو؛ لِمَا حَكَيْنا عن البيان، [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: (فَأَمَّا حُكْمُ الرِّدَّة) في نَفْس المُرْتَدِّ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ (فَأَمَّا نَفْسُهُ) فَتُهْدَرُ إنْ لَمْ يَتُب، فَإِنْ تَابَ لَمْ يُقْتَل إِلاَّ إذَا كَانَ زنْدِيقاً فَفِي قَبُول تَوْبتِهِ خِلاَفٌ، وَالظَّاهِرُ القَبُولُ، ثُمَّ في إِمْهَالِ المُرْتَدِّ ثَلَاَثةَ أَيَّامٍ قَوْلاَنِ، فَإِنْ قُلْنَا: لاَ يَجِبُ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ أَوْ مَمْنُوعٌ وَجْهَانِ، فَإنْ قُلْنا: يُمْنَعُ فَقَالَ حُلُّوا شُبْهَتِي لَمْ نُنَاظِرْهُ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُسْلِمَ أَوَّلاً ثُمَّ يَسْتَكْشِفَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الطرفُ الثاني في حُكْم الردَّة، وللردة أحكامٌ كثيرةٌ مذكورةٌ في مواضِعَ متفرِّقة، والمقصودُ هاهنا الكلامُ في نفْسِهِ وولَدِهِ ومالِه، أما نفْسُه، فهي (¬5) مهْدَرةٌ فيجب قتلُه، إن (¬6) لم يَتُبْ سواءٌ انتقل إلى دِينِ أهلْ الكتابِ أو غَيْره، وسواءٌ كان حُرّاً أو عَبْداً رَجُلاً أو امرأةٌ. ¬
وعند أبي (¬1) حنيفة: لا تقتل المرأةُ بالردَّة، ولكن تحْبَسُ، وتُضْرَب إلى أن تَمُوت، أو تُسلم وقدْ يُسْتَثْنى على مذْهبه الملكة والساحرة، والتي كَفَرتْ بسبِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ¬
لنا ما روي [عن] ابن عبَّاس -رَضِيَ اللهُ [عَنْهُمَا] (¬1) - أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ بدَّلَ دينَهُ فَاقْتُلُوهُ" (¬2) وعن جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن امرأةً يقال لها أمُّ رُومَانَ ارتدَّتْ فَأَمَرَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- "بأن يَعْرِضَ عَلَيْها الإِسْلاَمَ، فَإِنْ تَابَتْ وَإِلاَّ قُتِلَتْ" (¬3)، وأيضاً فإن المرأة تُقْتَل بالزنا بعْد الإحصان، فكذلك في الكُفْرَ بعْد الإيمان، كالرجل [وأيضاً] (¬4) فنقيس على ما سلَّمه، فإن تاب المرتدُّ، وعاد إلى الإسلام، قُبلت توبته وإسلامه، سواءٌ كان مسلماً أصليّاً فارتدَّ، أو كافراً فأسلم ثم ارتد؛ لقوله تعالىَ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا قَالُوهَا، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ" (¬5) ونحوهما من العموماتِ، وهل يُفْرَق بين أن يكون كفْره الذي ارتَدَّ إليه كفراً ظاهراً أو غيره، ككفر الباطنية، فيه وجوه، وكذا الكافر الأصليُّ إذا أسلم [وتاب] (¬6) [ثم مات]، هل يَفْتَرِقُ الحال بيْن أن يكون ظاهرَ الكفْر وبين أن يكون زنديقاً؛ يظهر الإسلام ويُبْطِن الكفر، وذلك بأن تقوم البينةُ على كفْره باطلاع الشهود على كلمة الكُفْر [منه] في خَلْوة. أظهرُ الوجوه: أنه لا فَرْق، وتقبل توبة الزنديق وإسْلامُه، وهذا هو المنصوص في "المختصر" ولم يورد العراقيُّون غيره، واحتَّج له بإطلاق الآية والخبر، وبما رُوِيَ (¬7) أنه اشتدَّ نكير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أُسامة (¬8) حِينَ قَتَلَ من تكلَّم بكلمة الإسلام، وقال: إنَّما قَالَهَا فَرَقاً مِنِّي، فَقَالَ [عَلَيْهِ السَّلاَمُ] (¬9) "هَلاَّ شَقَقْتَ عَن قَلْبه"؟ وبأنه يمتنع (¬10) أن يظهر الحقُّ لزنديق كما لا يمتنع (¬11) أن يتزنْدق مُسْلِم، فكيف لا يُمَكَّنُ من الرجوع إلى الحقِّ؟ والثاني: وبه قال مالك وأحمد: أنه لا تقبل توبتُه ورجوعُه إلى الإسلام؛ لأن ¬
[التَّقِيَّةَ (¬1) عند الخوف عيْنُ الزندقة، فلا اعتماد على ما يظهره قال القاضي الرويانيُّ في "الحلية" والعَمَلُ على هذا، وعن أبي حنيفةَ روايتان كالوجهين. والثالث: عن القفَّال الشاشيِّ، أن المُتَنَاهينَ في الخبث (¬2) كدعاة الباطنية، لا تُقْبل توبتهم ورجوعُهم إلى الإسلام، ويُقْبَل من عوامِّهم. والرابع: عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني: [أنه،] (¬3) إنْ أُخِذَ ليقتل فتاب، لم تقبل توبته، وإن جاء تائباً ابتداءً، وظهرت مخايلُ الصدْق، قُبِلَتْ، وقد ينسب إلى الأستاذ الوجْه الثاني، ولاَ فَرْق بين من تكرَّرت منه الردَّة، ومن لم يتكرَّر [منه الردة] ومتى أسلَم يُقْبَل إسلامه، وعن أبي إسحاق المروروذي أنه لا يُقْبَل إسلام من تكرَّرت [الرِّدَّةِ (¬4) منه]؛ لبطلان الثقة به، والظاهرُ الأولُ، قال الأصحاب: ولا يبْعد أن يخطئ الإنسانُ مرَّتين، ويصيب مراراً. نعم، إذا تكرَّرت منه الردَّة، ثم عاد إلى الإسلام، يُعزَّر لتهاونه بالدين. ويقتل المرتد، [بضرب الرقبة دون التحريق بالنار وغيره] (¬5) ويتولاه الإِمام أو من ولاَّه (¬6) الإِمام، فمَنْ فوَّت عليهم، عُزِّر، ويستتاب المرتدُّ قبل القَتْل؛ لما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "اسْتَتَابَ رَجُلاً ارْتَدَّ أَرْبَعَ مَرَّات" (¬7) وأنَّ أبا بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- استتابَ امرأةً من بني فزارة (¬8) ارتدَّتْ، وأنَّ عُمَرَ -رَضِيَ الله عَنْهُ- أشارَ على أبي مُوسَى الأشعريِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بالاستتابة في قصَّة، سنذكرها إن شاء الله تعالى، وهل الاستتابة واجبةٌ أو مستحبةٌ؟ فيه قولان، ويُقال: وجهان: أحدهما: أنها مستحبَّة، وبه قال أبو حنيفة، واحتج له بما رُوِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فاقْتُلُوهُ" (¬9) أمر بالقتل، ولم يتعرَّض للاستتابة، وبأن الكافر الأصليَّ الذي ظهر عناده لا يجب استتابته فكذلك المرتدُّ، وهذا ما اختاره ابن أبي هريرة. ¬
وأصحُّهما؛ على ما ذكر القاضيان الطبريُّ والرويانيُّ وغيرهما، أنها واجبةٌ؛ لأنه كان محترماً بالإسلام، [وربما] (¬1) عرضت له شبهةٌ، فيسعى في إزالتها، وردَّه إلى ما كان، وسواءٌ قلْنا: الاستتابة واجبة أو مستحبةٌ، ففي مدتها قولان: أحدهما: أنه يستتاب ثلاثاً لما رُوِيَ أن رجلاً وفد على عُمَر -رَضِيَ الله عَنْهُ- من قِبَل أبي موسى الأشعريِّ، فقال له عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هل من [مغربة] [خبر] فأخبره أن رجلاً كفَرَ بعْد إسلامه؛ فقال: ما فعلْتم به؟ قال: قربناه، فضربْنا عنقه، فقال: هلا حبستموه ثلاثاً، وأطعمتموه كلَّ يوم رغيفاً، وأسقيتموه، لعله يتوب، اللهم [إنِّي] (¬2) لم أحْضُر، ولم آمرْ، ولم أرْضَ إذْ بلغني. وأصحهما: وهو اختيار المزنيِّ أنه يُسْتتاب في الحال، فإن تاب، وإلا قُتل، ولم يمهلْ؛ لمَا سَبَقَ من حديث أم رومان. ومذْهب مالك وأحمد كالقول الأول وعن أبي حنيفة مثله، ويُرْوَى أنه يُستتاب ثلاثَ مراتٍ في كل جمعةٍ مَرَّة، ولا خلاف (¬3) في أنه لا [يُخلَّى] (¬4) في مدة الإمهال بل يُحْبَس. وفي أنه لو قتل قبل الاستتابة أو قَبْل مضي المدة (¬5) للمهلة، لم يَجِبْ بقتله شيْء، وإن كان القاتل مُسِيئاً بما فعل. وقوله في الكتاب "والظاهر القبول" لِيُعْلَمْ لفظ "القبول" بالحاء والميم والألف؛ لما حكينا. وقوله "ثم في إمهال المرتد ثلاثةَ أيام قولان" يعني في وجوبه؛ ألا تراه قال: "فإن قلنا: لا يجب" ويجوز أن يُعْلَم لفظ "القولين" بالواو؛ لأنه من الأصحاب من قال: لا خِلاف في أنه لا يجبُ الإمهال ثلاثاً، إنما الخلاف في الاستحباب، وهذا ما اختاره الشيخ أبو محمَّد في "المنهاج". وقوله "فإنْ قلْنا: لا يجب، فهو مستحبٌّ أو ممنوعٌ، وجهان" هكذا رتب الإِمام فيما ذَكَر أنه جمَعَه من طُرق الأصحاب، والمفهوم من كلام الأئمة ترجيحُ المنعِ من الأمهال وتشدِيدُ الأمر عليه. وقوله "فإن قلنا: يمنع، فقال: حُلُّوا شبهتي". هذه المسألة لا تختص بالمنع من الإمهال، بل مهما (¬6) حقَّ قتله، إما عقيب الاستتابة، وإما بمضي مدة المهلة، فقال: [قد] (¬7) عرضَتْ لي شبهة، ولذلك تكلَّمت بكلمة الكفْر، فأزيلوا شبهتي، لأعود إلى ما ¬
كنت عليه، فهل نُناظِره لإزالة الشبهة وإيضاح الحق؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن الحُجَّةَ مقدَّمةٌ على السيف. والثاني: لا؛ لأن، الشبهة لا تنحصر، وقد يوردُ بعضها إثر بعْض، فتطول المدة، فحقُّه أن يسلم، ثم يُسْتَكْشف ويبحث بمراجعة العلماء، وهذا أصحُّ عند صاحب الكتاب، وحكى القاضي الرويانيُّ الأول عن النصِّ، واستبعد الخلاف فيه، وعن أبي إسحاق؛ أنه لو قال: أنا جائع فأطعموني، ثم ناظروني، وكان الإِمام مشغولاً بما هو أهمّ منه تَأَتَّيْنَا به، والله أعلم. ونختم الفصْل بخاتمة فيما يَحْصُل به توبةُ المرتدِّ لاشتماله على ذكْر توبته، وفي معناها إسلام الكافر الأصليِّ، وقد وصف الشافعيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- توبته، فقال: أن يشْهَد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله، ويبرأ من كل دين [خالف] الإسلام، وذكر في موضع آخر؛ أنه إذا أتى بالشهادتين [حُكِمَ] (¬1) بإسلامه، وليس ذلك باختلاف قول عند جمهور الأصحاب، كما [بينا (¬2) في] كتاب "الكفارات"، ولكن يختلف الحال باختلاف أحوال الكفار وعقائدهم، قال في "التهذيب" إن كان الكافرُ وثنيّاً لا يُقِرُّ بالوحدانية، فهذا قال: لا إله إلا الله، حكم بإسلامه ثم يجبر على قَبُول سائر الأحكام، وإن كان مُقِراً بالوحدانية غيْر أنه ينكر رسالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا يُحْكَم بإسلامه بمجرَّد كلمة التوحيد، حتى يقول: محمَّد رسول الله، فإن كان من الذين يقُولون: إن محمداً مبعوث إلى العرب خاصَّة، أو يقول: إن النبي محمداً يبعث من بعْد، لم يحكم بإسلامه، حتى يقول: محمد رسول الله إلى كافة الخلْق، أو يبرأ من كل دين خالَفَ الإسلام، وإن كان كُفْره بجحود فرض، أو استباحة محرَّم، لم يصح إسلامه، حتى يأتي بالشهادتَيْن ويرجع عمَّا اعتقده، ويُسْتحب أن يمتحن كلُّ كافر أسْلَمَ بالإيمان وبالبعث، ولو قال الكافر: أنا وليُّ محمدٍ أو أحب محمداً لمْ يصحُّ إسلامه؛ لأنه قد يحبُّه؛ لخصاله الحميدة، وكذا لو قال: أنا مثلكم أو مؤْمن أو مُسْلِم أو آمنت أو أسلمت؛ لأنه قد يريد به في البشريَّة، ومؤمن بموسى، ومنقاد لكم، ولو قال: أنا من أمة محمَّد أو دينُكُم حقٌّ، حكم بإسلامه، ولو أقر بركن من أركان الإسلام على خلاف عقيدته، كفرضية [الصلوات] الخمْس أو إحداها أو أقر بتحريم الخمر والخنزير، حُكِم بإسلامه وما يصير به المسلمُ كافراً إذا جَحَدَ، يصير به الكافرُ مسلماً، إذا أقر به، ويُجْبر على قَبُول سائر الأحكام، فإن امتنع، قتل كالمرتد، وإذا أقر اليهوديُّ برسالة عيسى -عليه السلام- ففي قولٍ: يُجْبر على الإسلام؛ لأن المسلم، لو جَحَد نبوته لكفر، نقل هذا ¬
كله صاحب التهذيب، [وهو] طريقة ذكرنا في الكتاب (¬1) أن الإِمام نسَبَها إلى المحقّقين، والمشهور غيرها. وفي "المنهاج" للإمام الحليمي أنه لا خلاف أن الإيمان ينعقد بغَيْر القول المعْرُوف، وهو كلمة "لا إله إلا الله" حتى لو قال: إلا إله سِوَى الله، أو غيْر الله أو ما عدا الله، فهو كقوله "لا إله إلا الله" [كذا] (¬2) ولو قال "ما من إله إلا الله، أو لا إله إلا الرحمن أو لا رحمانَ إلاَّ الله، أو لا إله إلا الباري، أو لا بارئَ إلا الله" وإن قول القائل أحمد أو أبو القاسم (¬3) رسولُ الله، كقوله محمَّد رسول الله، وأنه لو قال الكافرُ: آمنت بالله، يُنْظر؛ إن لم يكُنْ على دينٍ من قبْلُ، صار مؤمناً بالله، وإن كان يشركُ بالله غيره، لم يكن مؤمناً حتى يقول: آمنت باللهِ وحْده وكفرت بما كنت أشركُ به، وأن قوله "أسلمت لله (¬4)، أو أسلمت وجهي لله كقوله "آمنت بالله" وأنه لو قيل للكافر: أسْلمْ لله أو آمِنْ بالله، فقال أسلمت أو آمَنْتُ، فيحتمل أن يُجْعَل مؤمناً، وأنه لو قال: أُؤمِنُ بالله أو أُسْلِم لله، فهو إيمانٌ كما أن قول القائل "أقسم بالله" يمينٌ، ولا يحمل على الوعد، إلا أن يريده، وأنه لو قال: "الله ربي، أو الله خالقي"، فإن لم يكن له دِينٌ من قبْلُ، فهو إيمانٌ، وإن كان من الذين يقولون بقدم أشياء مع (¬5) الله تعالى، لم يكن مؤمناً حتى يقر بأنه لا قديم إلا الله، وكذا الحُكْم، لو قال: "لا خالق إلا الله"؛ لأن القائلين به يقولون: الله تعالى خلَق ما خلَق، لكن من أصل قدِيم، وأنه لو قال اليهوديُّ المشبِّهُ: لا إله إلا الله، لم يكن هذا إيماناً منه حتى يتبرأ من التشبيه، ويُقرَّ بأنه ليْس كمثله شيْء، وإن قال مع ذلك: محمَّد رسول الله، فإن كان يعلم أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- جاء بإبطال التشبيه، كان مؤمناً، وإلا فلا بد وأن يتبرأ من التشبيه، وطرد هذا التفصيل، فيما إذا قال الذي يذهب إلى قِدَم أشياء مع الله تعالى: لا إله إلا الله، محمَّد رسول الله، حتى إذا كانَ يَعْلَم أن محمداً جاء بإبطال ذلك، كان مؤمناً، وأن الثنويَّ، إذا قال: لا إله إلا الله، فإن كان يزعم أن الوثَنَ شريكُ لله تعالى، صار مؤمناً، وإن كان يرى أن الله هو الخالقُ، ويعظم الوَثَن؛ لزعمه أنه يُقَرِّ به إلى الله تعالى، لم يكن مؤمناً، حتى يتبرأ من عبادة الوثن، وأنه لو قال البرهميُّ، وهو يوحِّد الله تعالى، وإنما يكفر بجحد الرسُل: محمَّدٌ رسولُ اللهِ، صار مؤمناً، وإن أقر برسالة نبيٍّ قبله؛ كإبراهيم -عليه السلام- لم يكن مؤمناً [لأن ¬
الإقرار] (¬1) بنبوة محمَّد -صلى الله عليه وسلم- إقرارٌ بنبوة مَنْ قبله؛ لأنه شَهِدَ لهم وصدَّقهم، ويجيء على القْولِ الذي حكاه صاحب "التهذيب" فيما إذا أقر اليهوديُّ بنبوة عيسى -عليه السلام- أنه يُجْبر على الإقرار بنبوة سائر الأنبياء -عليهم السلام- ويتوجَّه أن يقال كما أن محمّداً -صلى الله عليه وسلم- شَهِدَ للأنبياء قبله وصدَّقهم، فإنهم شهدوا له، وبشروا به؛ وأن المعطِّل، إذا قال: محمَّد رسول الله، فقد قيل: يكون مؤمناً؛ لأنه أثبت الرسُولَ والمُرْسِل معاً، وأنه إذا قال الكافر: لا إله إلا [الله] الذي آمن (¬2) به المسلمون، كان مؤمناً، ولو قال: آمنتُ بالذي لا إله غيره [أو بمَنْ لا إله غيره] لم يكن مؤمناً؛ لأنه قد يريد الوَثَن وأنَّه، لو قال: آمنت بالله وبمحمد، كان مؤمناً بالله؛ لإثباته الإله، ولم يكن مؤمناً بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- حتَّى يقول: بمحمد النبي أو بمحمد رسول الله [-صلى الله عليه وسلم-]، وأن قوله: "آمنتُ بمحمَّد النبيِّ" إيمانٌ برسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقوله: "آمَنت بمحمدٍ الرسولِ" ليس كذلك؛ لأن النبيّ لا يكون إلا لله، والرسول قد يكون لغيره وأن الفلسفيَّ إذا قال: أشهد أن الباريَ تعالَى علَّةُ الموجودات، مبدؤها أو سبَبُها، لم يكن ذلك إيماناً، حتى يقر بأنه مخْتَرعٌ ما سواه ومُحْدِثه بعْد أن لم يكن، وأن الكافر إذا قال: لا إله إلا [الله] المُحْيي المميت، فإن لم يكن من الطبائعيين كان مؤمناً، وإن كان منْهم، فلا؛ لأنهم ينسبون الحياة والموت إلى الطبيعة، فينبغي أن يقول: لا إله إلا الله، أو إلا الباري أو يَذْكُر اسماً آخر لا تبقى معه الشبهةِ، وأنه لو قال: لا إله إلا الله المالك أو إلا [الرازق]، لم يكن مؤمناً؛ لأنه قد يريد به المَلِك الذي يقيم عطايا الجُنْد، ويرتب أرزاقهم كما كان يَذْكر قومُ فرعونَ له، وكانَ مَلِكهُم، ولو قال: لا مالك إلا الله أو لا رازقُ إلا الله، كان مؤمناً وبمثله أجابَ، فيما إذا قال: لا إله إلا الله العزيز [أو] العظيم أو الحكيم أو الكريم، وبالعكوس، وأنه لو قال: لا إله إلا الله المَلِكُ الذي في السماء، أو إلا مَلِك السماء، كان مؤمناً، قال الله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] وأراد نفسه تعالى وتقدَّس، ولو قال: لا إله إلا ساكنُ السماء، لم يكن مؤمناً، وكذا لو قال: إلا الله ساكن السماء؛ لأن السكون غيرُ جائز على الله سبحانه وتعالى، وأنه لو قال: آمنت باللهِ، إن شاء، أو إن كانَ شاء بنا، لم يكن مؤمناً، وأنه لو قال اليهوديُّ: أنا بريْء من اليهودية، أو النصرانيُّ أنا بريء من النصرانية، لم يكن مؤمناً؛ لأنه ليس ضدَّ الإسلام ما تبَّرأ منه، فحسب، حتى يَدْخل بالتبرؤ منه في الإسلام، وكذا لو قال: مِنْ كل ملة تخالف الإسلام؛ لأنه لا ينفي التعطيلَ الذي يخالِفُ الإسلام، وليس بملَّةٍ، فإن قال: كُلِّ ما يخالف الإسلام من دِينٍ ورأْي وهوىً، كان مسلماً، وأنه، إذا قال: الإسلامُ حقٌّ، لم يكن مسلماً، لأنه، قد يقر بالحقِّ ولا ينقاد ¬
له، وهذا يخالف ما حَكَيْنا عن "التهذيب" فيما إذا قال: دينكم حقٌّ، وأنه إذا قال لمليٍّ: أَسْلِم، فقال: أسلمتُ، أو أنا مسلمٌ، لم يكن مقرّاً بالإسلام؛ لأنه قد سَمَّى دينَه الذي هو عليه إسلاماً، ولو قال في الجواب: أنا مسلمٌ مثلكم، كان مقرّاً بالإسلام، ولو قيل لمعطِّل: أسْلِم، فقال: أنا مسلِمٌ أو من المسلمين، كان مقرّاً بالإسلام؛ لأنه لا دِينَ له حتى يسميه إسلاماً، وقد يتوقف في هذا. قال الغَزَالِيُّ: (فأَمَّا وَلَدُ المُرْتدِّ) فَإِنْ عَلَّقَ قَبْلَ الرِّدَّةِ فَمُسْلِمٌ، وَبَعْدَ الرِّدَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: (أحَدُهَا) أنَّهُ مُسْلِمٌ لِبَقَاءِ عُلْقَةِ الإِسْلاَمِ (وَالثَّانِي) أنَّهُ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ (وَالثَّالِثُ): أَنَّهُ مُرْتَدٌّ، وَأَمَّا وَلَدُ المُعاهَدَ إِذَا تَرَكَهُ عِنْدَنَا فَنُقِرُّهُ بِجِزْيَةٍ، أَوْ يُلْحَقُ بِالمَأْمَنِ مَهْمَا بَلَغَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: ولد المرتدِّ المنفصل أو المنعَقِد قبل الردَّة محكومٌ له بالإسلام، حتى لو ارتدَّت المرأة الحامل، لم يُحْكَم بردة الولَد؛ لأنه قد حكلم بإسلامه تبعاً، والإِسلامُ يعلو، فلا يحكم بكفره تبعاً، فإذا بلغ، وأعْرَب بالكفْر، كان مرتدّاً بنفسه، وإن حدَث الولدُ بعد الردة، فإن كان أحد الأبوَيْن مسلماً، والآخرُ مُرتدّاً، فالولدُ مسلمٌ بلا خلاف، وإن كانا مرتدَّيْن، ففيه قولان، وفيما فيه القولان طريقان: أحدهما: أن أحد القولَيْن، أنه يُحْكم له بالإسلام أيضاً؛ لبقاء عُلْقة الإسلام في الأبوَيْنِ؛ لأن المرتدَّ يجبر على الإسلام، ولا تُؤْخَذ منه الجزْية، ولا تعْقَد معه الهدنة، ويُؤْمَر بقضاء الصلوات التي مَرَّ عليه أوقاتها في الكُفْر، ويُغرَّم ما يتلفه، وكل ذلك من علائق الإسلام، وإذا بقيتْ فيهما علقة الإسلام، غَلَب في الولد حكمه. والثاني: أنه كافر أصليٌّ، أما كونُهُ كافراً، فلتولده من كافرَين، وأما كونه أصليّاً؛ فلأنه يباشر الردة، حتى يُجْعَل مرتداً، ويغلَّظ عليه، وقطَع أصحابُ هذا الطريق بأنه ليس بمرتدٍّ. والثاني: أن أحد القولين أنه كافرٌ أصليٌّ؛ لما ذكرنا. والثاني: أنه مرتدٌّ تبعاً للأبوين، كما أن [ولد] (¬1) المسلمَيْن مسلمٌ، وولد الكافرَين الأصليَّيْن كافرٌ، أصليٌّ، وقطع أصحاب هذا الطريق بأنَّه لا يحكم [له] بالإِسلام، ويخرج من الطريقين ثلاثةُ أقوالٍ على ما ذكرها صاحبُ الكتاب. ¬
والأصحُّ على ما أورد في "التهذيب": أنه محكوم له (¬1) بالإِسلام، وبه قال صاحب "التلخيص" وإذا قلْنا به، فلا يُسترقُّ بحال، ولو مات في الصِّغَر، جرى التوارث بينَه وبين أقاربه المسلمين، ويجوز إعتاقه عن الكفَّارة، إن كان رقيقاً، وإذا بلغ وأعرب بالكفر كان مرتدّاً، وإن قلنا: إنه كافر أصليٌّ فيجوز استرقاقُه، قال الإِمام: ويجوز عقد الجزية معه، إذا بلغ، وهو كالكفار الأصليّين في كل معنى، والذي أورده صاحب "التهذيب" وغيره، وحكاه القاضي الرويانيُّ عن "المجموع" أنه لا يجوز عقد الجزية معه؛ لأنه ليس له حرمةُ الكتاب، وإن قلنا: إنه مرتدٌ، فلا يسترق بحالِ، ولا يُقْتل حتى يبلغ، فيستتاب، فإن أصرَّ، فحيئذ يقتل، وعن أبي حنيفة: أنه إنْ لحق بدار الحرب، جاز أن يسترق، وإلا، فلا، وروى صاحب "الشامل" عنه: أنه إن وُلِدَ في دار الحرب، جاز استرقاقه، وإلا، لم يجز، وأولاد أولادِ المرتدين (¬2) حكمُهم حكمُ أولاد المرتدين، وعن أبي حنيفة، أن البطْن الأول مرتدُّون، والباقون كفار أصليُّون. والمرتد نفسه لا يُسترقُّ بحال يستوي فيه الرجلُ والمرأة. وعند أبي حنيفة، المرتدة إذا لَحِقَت بدار الحرب، جاز استرقاقها واحتج بان [أم] (¬3) محمد ابن الحنفية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كانت مرتدة، فاسترقها علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- واستولَدَهَا، وقاس الأصحابُ المرأةَ علَى الرجل، وَرَوَوْا أن الحنفية كانت أمَةً لبعضهم، فلما قُتِلَ على الرَّدة، كانت من الفيْء. ¬
والثانبة: الذميُّ أو المستأمَنُ، إذا نقض العَهْدَ، ولحق (¬1) بدار الحرب، وترك ولده عندنا، فلا يجوز استرقاقه: لأن الآباء إذا عاهدوا، ثبَت العهْد في حق الأولاد، ثم لا ينتقض عهدهم بعد الآبَاء، فهذا بلغ الولَدُ، فإن قبل الجزية، فذاك، وإلا، لم يُجْبر عليه ويلحق بالمأمن، هذا ظاهر المذْهب، وحكَى القاضي ابن كج وجهاً: أنه يُسترق ولدُه بلُحُوقه بدار الحرب، ووجهاً آخر، أنه إذا هلك هناك أو استرق، يُسْترق ولده. وعند أبي حنيفة: يُجْبَر على قبول الجْزية، إذا بلغ. وقوله في الكتاب "ثلاثة أقوال" يجوز أن يُعْلَم بالواو؛ لأن منهم مَنْ نفى القول الأول، ومنْهم من نفى الثالث، والفريقان متَّفقان على أنَّه ليس في المسألة الأقوال الثلاثة، ويجوز أن يُعْلَم القول الأول والثاني بالحاء؛ لما حكينا عن أبي حنيفة في البطْن الأول. قال الغَزَالِيُّ: (وَأَمَّا مِلْكُ المُرْتَدّ) فَيَزُولُ عَلَى قَوْلٍ، وَيَبْقَى عَلَى قَوْلٍ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى قَوْلٍ، فَإِنْ قُلْنَا: يَزُولُ فَيُقْضى دُيُونُهُ وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الرِّدَّة، وَمَا يَلْزَمُهُ بِالإِتْلاَفِ فِي حَالِ الرِّدَّةِ هَلْ يُقْضَى مِنْهُ؟ فيه وَجْهَانِ، وَكَذَا نَفَقَةُ القَريبِ فِي دَوَامِ الرِّدَّةِ وَمَا يَكْتَسِبُهُ فِي حَالِ الرِّدَّة بِالاحْتِطَابِ أَوْ الشِّراءِ أَوْ الاتِّهَابِ فَجِهَةُ الْفَيْءِ فِي حَقِّهِ كَالسَّيِّدِ فِي حَقِّ العَبْدِ فِي وُقوعِ المُلْكِ لَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: لاَ يَزُولُ مِلْكُهُ فَلاَ بُدَّ مِنَ الحَجْرِ، وَهَلْ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ، أَوْ بِضَرْبِ القَاضِي؟ وَجْهَانِ، ثُمَّ حُكْمُة حُكْمُ الفَلَس أَو التَّبْذيرِ وَجْهَانِ، وَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى الوَقْفِ فَكُلُّ تَصَرُّف لاَ يَقْبَلُ الوَقْفَ فَهُوَ بَاطِلٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هل يزول مِلْك المُرْتَدِّ عن أمواله بالردَّة؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: نَعَمْ؛ لأن عصْمة الدمِ والمالِ بالإسلام، وإذا ارتدَّ، زالَتْ عصمة الدم، فكذلك عصمة المَالِ، وأيضاً [فإنه] أحد الملْكَيْن، فتؤثِّر الردة في قطعه كالنكاح. والثاني، وهو اختيار المزنِّي: أنه لا يزول؛ لأن الردَّة سبب يبيح الدمَ، فلا يزول (¬2) المِلْك كزنا المُحْصَن. وأصحُّها، على ما ذكر صاحب التهذيب: أنا نتوقَّف، فإن هلك على الردة، بأن زوالُ ملكه بالرَّدة، وإن عاد إلى الإسلام، بان أنه لم يَزَلْ، ووُجِّه بأن بطلان أعماله، يَتَوقفُ على هلاكه على الرَّدة، فكذلك زوال مِلْكه، وبأنه نوع ملْكٍ، فيصير موقوفاً بالردة، كالنكاح بعد الدخول، ومدة العمْر هاهنا كمدة العِدَّة في النكاح بعْد الدخول، هذا هو الطريق المشهور، ووراءَه طريقان: ¬
أحدهما: اقتصر طائفة من الأصحاب على القولَيْن الآخَرَيْن، ولم يثبتوا قوْلَ زوال المِلْك. والثاني: حكى الرويانيُّ؛ أن منهم مَنْ قطع باستمرار المِلْك، ورد الخلاف إلى أنه هل يصير بالردة محجُوراً عن التصرُّف، على ما سيأتي، والخلافُ في بقاء المِلْك وزواله يَجْري في ابتداء المِلْك، فهذا اصطاد، أو احتطب، فإنْ قلْنا: يزول (¬1) المِلْك، فقد قال الإِمام: ظاهر القياس أنه يثبت الملْكُ لأهل الفيْء فيما احتطب واصطاد، كما يَحْصُل المِلْك للسيد فيما يَحْتطب العبْدُ، ويصطاد، قال: وليكن شراؤه واتِّهابُه كشراء العبد واتهابه بغَيْر إذن السيد، حتى يجيْء فيه الخلافُ، وعلى هذا جَرَى صاحب الكتاب، والذي أورده أبو سعْد المتولِّي، أنه يبقى على الإباحة، كما إذا اصطاد المُحْرِم، لا يمكله ويبقى الصيد على الإباحة، وإن قلْنا: إن أملْك المرتد يَبْقَى، فيما احتطب أو اصْطاد مِلْكُه كالحربىِّ، وإن قلْنا: إنه موقوفٌ، فإن عاد إلى الإسلامِ، بان أنه ملْكُه من يوم الأخذ، وإن هلك على الردَّة، قال المتولِّي: نحكم بان المأخوذَ باقٍ على الإباحة، وعلى قياسِ ما ذَكَره الإمامُ، يبين أنه لأهل الفيْء، وعلى الأقوال كلِّها تقضى من ماله ديونَه التي لَزمت قبل الردَّة؛ لأنا، وإن حكمنا بزوال المِلْك، فإنه يَعْرِض أن يعود، وغايةُ ما في الباب تنزيلُ الردَّةُ منزلةَ المَوْت، والديونُ اللازمة في الحياة تُقْضَى من تركة الميت، فكذلك هاهنا، وقد تكون نفقة الزوجة من الدُّيون اللازمة قَبْل الردَّة، ولا تكون نفقة القريب منها (¬2)، لسقوطها بمضيِّ الزمان، وعن الاصطخريِّ، عن حكاية صاحب "التقريب" وجه، أنه ديونه لا تقضَى على قول زوال المِلْك، ويُجْعَل كأن أمواله تَلِفَت، والمذْهَبُ الأول، وأمَّا في مدَّة الرِّدَّةِ، فينفبن عليه من ماله، ويُجعل حاجته إلى النفقة كحاجة الميت إلى التجهيز بعْد زوال الملك بالموت، وأغرب القاضي ابن كج؛ فحَكَى عن أبي حفْص بن الوَكيل: أنه لا ينفق عليْه على قولِ زوال الملك، ولكن يُنْفق عليه في مدة الاستتابة من بيت المال، وهلْ يلزمه غرامةُ ما يُتْلِفه في الرِّدَّةِ، ونفقة زوجاته الموقُوفِ نكاحُهن، ونفقة أقاربه؟ فيهِ وجهان؛ على قول زوال الملك: أحدهما: لا؛ لأنه لا مالَ له، ويُرْوَى هذا عن أبي الطيِّب بن سلمة، والاصطخرِّي، واختاره صاحب "التتمة". وأظهرهما؛ عند الأكثرين: نعم، كما أن من حفر بئر عدوان، ومات، وحصَلَ بسببها تَلَفٌ، يُؤْخذ الضمان من تركته، وإن زال ملْكه بالمَوْت. وتمام التفْريع على الأقوال: أنا إذا قلْنا بزوال المِلْك، فإذا عاد إلى الإسلام، يعود ¬
المِلْك كالعصير يزول الملْك عنه بانقلابه خمْراً، ويعود [بعودِه] خلّاً، قال في "التتمة" وليس كالنكاح المُنْقَطِع بالردَّة، لا يعود بالعود إلى الإسلام؛ لأن الحكم بزوال المِلْك سبيلُه سبيل العقوباتِ، والعقوبةُ تسقطُ بالعود إلى الإسلام، وانقطاع النكاحِ ليس سبيلُه سبيلَ العقوبات؛ ألا ترى أن انقطاعه بردَّة المرأة كانقطاعه بردة الرجل، والنكاحُ حقُّ الزوج، فلا يجوز أن تجعل جنايتها سبباً لعقوبته، وإنما انقطاعه بالردة؛ لفوات الحل بما عرض، لا إلى غايةٍ تُنْتَظَر؛ وعلى هذا القولِ، لا يصحُّ تصرُّفه بالبيع والشرك والإعتاق والوصية وغيرها؛ لأنه لا مال له، وفي الشراء ما قدَّمناه عن الإِمام، وإن قلْنا: يبقى مِلْك المرتد، فيمنع من التصرُّف؛ نظراً لأهل الفيْء، وهل يصير بنفْس الردَّة محجوراً عليه، أم لا بُدَّ من ضرْب القاضي؟ فيه وجهان، ويقال قولان، وهما مشبهان بالخلاف في أنَّه، إذا طرأ السفه بَعد الرُّشْد، يصير [الشخص] (¬1) محجوراً عليه بنَفْس [السفه] (¬2) أم لا بُدَّ من ضرب القاضي، وإنما يجيْء إذا فُرِّع على قول الوقْف. ثم حَجْر المرتدِّ سواء حصل بنفس الرِّدَّةِ أو بضرب القاضي كحجر السفيه أو كحَجْر المُفْلِس؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه كحَجْر السفيه؛ لأَن تضييع الدين أشدُّ سفهاً من تضييع المال. وأصحُّهما: أنه كحَجْر المُفْلِس؛ لأنه لصيانة حقِّ المسلمين الذي يتعلَّق بماله، كما أن حجْر المفْلِس لصيانة حق الغرماء في مالِه، فإن قلْنا: لا بدَّ من ضرب القاضي، ولم يضربه، فتصرُّفاته نافذةٌ، وإن قلْنا: يحصل الحجْر بنفسْ الردَّة أو ضَرَبَهُ القاضي، فإنْ جَعلْناه كحَجْر السفه، لم تنفُذْ تصرفاته في المال، وإذا أقرَّ بدين، لم يقبل إقرارُه، وإن جعلْناه كالمُفْلِس، فتصرفاته تُوْقَف أو تَبْطُل؟ فيه قولان، كما ذكرنا في المُفْلِس، وإقراره بالدَّيْن أو العَيْن، كإقرار المفْلِس، وقد مَرَّ، وإن قلْنا بالوقف، فكل تصرُّف يَحْتمل الوقْف، كالعتق والتدبير والوصية، فهو موقوف إنْ أسْلَم نفذ، وإن هلك على الردَّة، فهو باطل، وخلْعه موقوف أيضاً على ما تقدَّم في الخَلْع، وأما [البيع والهبة والكتابة] ونحْوُها، فهي (¬3) على قولَيْ وقف العقود، فَعَلَى الجديد، هي باطلةٌ وعلى القديم تُوقف، إن أسلم، حُكِم بصحتها، وإلا فلا، ولا يصحُّ نكاح المرتد، وكذا إنكاحُه؛ لسُقُوط ولايته، قال في "التهذيب": وفي تزْوِيج أمته وجْهٌ غير قويٍّ: أنه يجوز، إذا قلْنا: إن ملكه لا يزولُ، ولم يحجر عليه الحاكم، كسائر تصرفاته المالية، وهذا ما أورده صاحب "التتمة" وغيره، وقالوا: إنه كسائر التصرُّفات التي لا تَقْبل الوقْف. ¬
وعند أبي حنيفة تصرُّف المرتدِّ موقوفٌ، إن أسلم، نَفَذَ، وإن التحق بدار الحرب أو قتل، فباطل. وعلى الأقوال كلها، لا يُعْتَق بالردَّة مُدَبَّر المرتد، ولا أُمُّ ولده (¬1)؛ لأن المدَبَّر [معلَّق] (¬2) عتقه بالمَوْت لفظاً، ولم يوجَدْ، وعتق المستولَدَة يتعلَّق باليأس عن الاستفراش، ولم يَحْصُل، فإنْ هَلَكَ على الردَّة، قال في "التتمة": تعتق المستولُدَة علَى الأقوال كلِّها؛ لأنها لا تَقْبَل التصرُّف ونَقْلَ المِلْك، وأما المُدبَّرِ فسيأتي [ذكره] (¬3) في "باب التدبير" (¬4) فإن قلْنا، يزول ملكه بالردَّة أو قلنا إنه موقوفٌ، فلا يعتق ويَسْقط التدبير (¬5)، وإن قلْنا: لا يزول ملكه إلى الموت، فيعتق المدَّبر، ويكون كما [لو] (¬6) دبَّر ذَميٌّ عبداً ومات. ولا فرق في جميع ما ذَكَرْنا بين أن يلتحق المرتدُّ بدار الحرب، وبين أن يكون في قبضة الإِمام. وعند أبي حنيفة: التحاقه بدار الحَرْب كموته، حتى يُورَثَ مالَهُ على أصْله، وفي توريث المرتدِّ حتى يُعْتَق مدَبَّره وأمُّ ولده، قال: فإن عاد، رُدَّ ماله إليه، ولا يُرْفَع العتق. وعلى الأقوال يُوقَف مالُ المرتدِّ بأن يوضَعْ عنْد عدْل، وتجعل أمته عند امرأة ثقة؛ لأنا وإن قلنا ببقاء ملكه فقد تعلَّق به حقُّ المسلمين، فيحتاط ويؤَجَّر عقاره ورقيقه، ومدَبّره [ومستولدته] ومكاتبه يؤَدِّي النجوم إلى الحاكم، وإذا التحق بدار الحرب، ورأَى الحاكمُ الحظَّ في بيع الحيوان، فَعَل، وإذا ارتدَّ، وعليه ديْنٌ مؤجلٌ، فإن قلْنا: يزول ملْكه، فيحل الأجل كما لو ماتَ، وإن قلنا: لا يزول، لم يحل، وإن قلنا بالوقف، فإن عاد إلى الإسلام، بان أنه لم يحلَّ، وإن (¬7) استولد [جاريته]، نفذ الاستيلاد، إن أبقينا ملكه، وإن أزلْناه، لم ينْفُذ، فإن أسلم، فقولان، كما لو استولد المشتري الجاريةَ المشتراةَ في [زمان] (¬8) الخيار، وقلْنا: الملْك للبائع، فتم البيع، وليعلَمْ من لفظ الكتاب قولُه "على قول" أولاً وثالثاً بالواو؛ لما ذكرنا أن بعْضَهم نفَى القول الأول، وأن بعضهم قَطَع بالقول الثاني. وقوله "فيُقْضى ديونُه وينفق عليه في مُدَّة الردَّة" يجوز إعلامهما بالواو أيْضاً، وقضاء الديون القديمة والإنفاق عليه لا يختصان بقول زوالِ المِلْك، وإن ذكرهما في ¬
(الجناية الثالثة: الزنا)
التفْريع عليه، والمقصود أنَّا، وإن قلْنا بزوال مِلْكه، فتقضى الديون مِنْ ماله، وينفق عليه. وقوله "فكلُّ تصرُّف لا يَقْبَلُ الوقْفَ، فهو باطل" إنما تستمرُّ هذه العبارة على القَوْل الجديد، وهو أنَّ العقودَ لا تُوقَفُ. وهذه صور آخر (¬1) تتعلَّق بالباب: إذا ارتدَّ جماعةٌ، وامتنعوا بحصنٍ وغيْره، وجب قتالهم، ويُقدَّم قتالهم على قَتِالِ غيرهم؛ لأَن كفْرهم أغلظُ، ولأنهم أهدَى إلى عورات المسلمين، ويتبع في القتال مُدْبِرُهم، ويذفَّف على جريحهم، ومن ظَفِرْنا به استتبناه، وهل عليهم ضمانُ ما أتْلَفُوه في القتال من نفْسٍ ومالٍ؟ فيه خلاف، قد سبق، ورُوِيَ أن أبا بكْر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال لقَوْم من أهل الردَّة، جاءُوهُ تائبين "تدُونَ قَتْلاَنا، وَلاَ نَدِي قَتْلاَكُمْ" فقال -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "لا نأْخُذُ لِقَتْلاَنا دِيَةً" قال الأئمة: قول عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يجوز أن يكون ذهاباً إلى أنهم لا يَضْمَنُون، ويجوز أن يكون الغَرَضُ استمالَتَهم، أي لا نأخذ شيئاً، وإن وجَبْ. وإذا أتلف المرتدُّ في غير القتال، فعليه الضمانُ والقِصَاصُ، ويقدَّم القصاص على القتْل بالردَّة، فإن بادر الإمامُ بقتله عن الردة، أو عفَا المستحَقِّ أو مات المرتدُّ، أُخِذَتِ الدية من ماله، وإذا قتل خطأً، ومات أو قُتِل على الردة، أخذت الدية من ماله عاجلاً؛ لأن الأجَلَ يَسْقُط بالموت. وفي "التتمة" أنه لو وطئت مرتدَّةٌ بشبهة أو مكرهةً، فإن قلنا: الرِّدَّةِ لا تزيل المِلْك، فلها مهْر المثل، كما لو وطئت زانيةٌ أو محصنة بشبهة، ويخالف ما لو وطئت حربيَّة بشبهة (¬2) فلا مهر؛ لأن مالها غير مضمون بالإتلاف، فكذلك منفعةُ بُضْعِها، ومالُ المرتدة مضمونٌ، وإن قلنا: إنها تزيلُ المِلْك، لم يجب، كما لو وطئ ميتة على ظنِّ أنها حيَّة بشبهة، وإن قلْنا: إن المِلْك موقوفٌ، فالحُكْم في المَهْر موقوفٌ، ولو أكره مرتدَّاً على عَمَلِ، فالقول في أجرة المثْل كما ذكَرْنا في المَهْر، ولو استأجره وسمى أجرة، فيُبْنى على صحة عقوده، وحكم المسمى، إن صحَّحنا الإجارة أو أجرة المِثْل، وإن لم نصحِّحها حكم مهْر المثل، وإذا زَنَى في ردته وشرب الخمر، فيكتفي بقَتْله أو يُقَام عليه الحدُّ، ثم يقتل؟ حكى القاضي ابن كج فيه وجهين: أصحُّهما: الثاني. قال الغَزَالِيُّ: (الجِنَايَةُ الثَّالِثَةُ: الزِّنَا) وَهُوَ جَرِيمَةٌ مُوجِبَةٌ لِلعُقُوبَةِ، وَالنَّظَرُ فِي طَرَفَيْن ¬
(الأَوَّلُ في المُوجِبِ وَالمُوجَبِ) وَالضَّابِطُ أَنَّ إيلاَجَ الفَرْج فِي الفَرْجِ المُحَرَّمِ قَطْعاً المُشْتَهَى طَبْعاً إِذَا انْتَفَتْ عَنْهُ الشُّبهَةُ سَبَبٌ لِوْجُوب الرَّجْمِ عَلَى المُحْصَنِ وَلِوُجُوبِ الجَلْدِ والتَّغْرِيبِ عَلَى غَيْرِ المُحْصَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الزنا (¬1) من المحرَّمَات الكبائر؛ قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] وعن عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ الله، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ الله؟ قَالَ: "أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدّاً، وَهُوَ خَلَقَكَ قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أنْ يَأْكُلَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَزْنِيَ بحَلِيلَةِ جَارَكَ" (¬2)، فأنزل الله تعالى تصدِيقَها: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] وأجمع أهل المِلَلِ على تحرْيم الزنا، ويتعلَّق به الحد، وكان الواجب فيه في صدْر الإسلام الحَبْسَ والإيذاء على ما قال تعالى {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} إلى قولِه {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 15 - 16] ذهب عامة الأصحاب إلى أن الحَبْسَ كان في حق الثيِّب، والإيذاء كان في حقِّ البكر، وحملُوا الإيذاء على السبِّ والتعزير بالكلام. وعن أبي الطيِّب بن سلمة: أن المراد من الآيتين الأبكارُ، وأن الحبْس كان في حق النساء، والإيذاء بالكَلاَمِ في حقِّ الرجال، ثم استقر الأمر على أن البكْر يجلد ويغرب، والثيب يُرْجم، وهل نُسِخَ ما كان؟ قيل: لا، بل بان بما استقر علَيْه الأمر آخراً السَّبُّ والإيذاء المطْلَقَان في الآيتين على ما رُوِيَ عن عبادة بن الصامت -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "خذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً، البِكْرُ بِالْبِكرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، والثَّيِّبُ بالثَّيِّبُ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ" (¬3) وترك الجَلْد في حق الثيب لما سيأتي، وقيل: نسخ ما كان ثُمَّ على قول ابن سلمة: الحَبْس والإيذاء منسوخان بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وأما على قول الجمهور، فمن جوَّز نسخ الكتاب بالسُّنَّة، قال: نسخت عقوبة البكْر بآية الجلْد، وعقوبةُ الثيب ¬
بالأخبار الواردة في الرَّجْم، ومَنْ منَع ذلك، قال: عقوبة الشيب نُسِخت بالقرآن أيضاً، إلا أنه لم يبق متلُوّاً، رُوِيَ عن عُمَرَ (¬1) -رَضِيَ الله عَنْهُ- أنه قال في خُطْبته: إن الله تعالى بعث محمداً -صلى الله عليه وسلم- نبياً، وأنزل علَيْه كتاباً، وكان فيما أنزل اللهُ فيه آيَةَ الرَّجْمِ فتلَوْنَاها ووعَيْنَاها: "الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَاَرْجُمُوهُمَا [ألْبَتَّةَ] (¬2) نَكَالاً مِنَ اللهِ [و] اللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، وقد رجَم رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلم- ورَجَمْنَا بعْده، وإني أخشى بالناس أن يطول (¬3) زمان، فيقول: لا رَجْم في كتاب الله، الرجْم حقٌّ على كل مَنْ زَنَى من رَجُلٍ وامرأةً، إذا أُحْصِنَا، ولولا أنِّي أخشَى أن يقول الناسُ زاد عمرُ في كتاب الله تعالى، لأبيته على حاشية المصْحَف، وكان ذلك بمَشْهَد من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فلم يُنْكِر عليه أحد، وقد حَكَى القاضي ابن كج، عن بعض الأصحاب وجهاً: أنه لو قرأ قارئ آيةَ الرجْم في صلاته لم تَفْسُدْ صلاته، ومْنهم مَنْ قال: إنا لا ننسخ الكتاب بالسنة، إذا لم تتواتَرْ، والرجْمُ مما اشتهر عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- في قصَّة ماعز، والغامدية واليهوديَيْن، وعلى ذلك جرى الخلفاء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- بعْده وبلغ حدّ التواتر، وعن أبي هريرة [وزيد بن خالد الجهنيِّ] (¬4) -رضي الله عنهما- أن رجلَيْن اختصما إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال أحدُهما: يا رسول الله، اقْضِ بَيْنَنَا بكتاب الله، وقال الآخر، وكان أفقههما: أجْل، يا رسول الله، اقضِ بيْنَنا بكتاب الله، وأْذَنْ لي في أن أتكلَّم، فقال: تكلَّم، فقال: إنَّ ابْني كَانَ عَسِيفاً لِهَذَا -أي أَجيراً- فَزَنَى بِامْرأته، فأُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافتَدَيْتُ مِنْهُ بمائَةِ شَاةٍ وَجَارِيَة ثُمَّ سألتُ أهْلَ العِلْم، فأخبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلد مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عام، وإنَّمَا الرَّجْمُ على [امْرأته] فقال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَأَقْضِين بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ -تَعَالَى- أَمَّا غَنَمُكَ وجَارَيتُكَ، فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وغَرَّبَهُ عَامًا، وأَمَرَ أُنَيْساً الأَسْلَمِيَّ -رَضِيَ الله عَنْهُ- أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الآخَرِ، فَإِنْ اعَتْرَفَتْ رَجَمَهَا [فَأَتَاهَا] (¬5)، فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا" وَرُوِيَ أَنَّ ماعز بن مالك ¬
الأسْلَمِيَّ -رَضِيَ الله عَنْهُ- اعْتَرَفَ بِالزِّنَا عنْدَ رَسُولِ اللهِ -صلَّى الله عليه وسلم- فَرَجَمَهُ، وَعَنْ بريدة أَنَّ امرأةً مِنْ غامِدٍ اعْتَرَفَتْ بهِ فأمَرَ النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلم- بِرَجْمِهَا، وعن عمران بن الحُصَيْن -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مثلُ ذلك في امرأَةٍ مِنْ جُهَيْنَةَ. إذَا عرفتَ أصولَ البابِ، فلا بد فيه من معرفة ما يوجِبُ الحدَّ ومعرفة الحد الواجب، وأنه كيف يستوفَى بَعْد ما وجب، فجَعَلَ صاحبُ الكتاب كلام الباب في طرَفَيْنَ. أحدهما: في الوجوب. والثاني: في الاستيفاء، وبيَّن في الأول الموجِبَ والواجِبَ مرتبطاً (¬1) أحدهما بالآخر، فقال: "والضابط أن إيلاج الفرج في الفرْج المحرَّم قطعاً المشتهَى طبعًا، إذا انتفت عنه الشبهة سببٌ (¬2) لوجوب الرجْم على المحصَن، ولوجوب الجلْد والتغريب عَلَى غير المحْصَن" قوله: "وفي الرابطة قيود" أراد بالرابطة ما سمَّاه ضابطاً أولاً، وإذا شرَحْنا القيود المذْكورة تَبيَّن لك أن قولَه "المحرَّم قطعاً" وقوله "إذا انتفتْ عنه الشبهة" أحدهما مغنٍ عن الآخرِ، وأنه يجوز أن يُعْلَم قوله "إيلاج الفرج في الفرج" وقوله "المحرم قطعاً" وقوله "المُشتهَى طبعاً" وقوله "إذا انتفت عنه الشبهة" كلها بالواو، ولفْظ التغْريب بالحاء والميم، ولا يخفى أن الحُكْم منوطٌ بإيلاج قدْر الحَشفة لا بجميع الفَرْج، واعلم أن لفْظ البكْر والثيب في الحديث الذي سبق بمَعْزِل عن بقاء العذرة وزوالها اللَّذَيْن باعتبارهما يُطْلَق اللفظان في غير هذا الباب، وإنما المراد من الشيب المحْصَن، ومن البكْر غيره، فحدُّ المحْصَن الرجْمُ رجلاً كان أو امرأةً، ولا يجلد مع الرجْم، وقال أحمد: يجلد أولاً ثم يُرْجَم، وفي "الشامل" وغيره: أنه اختيار ابن المنْذِر منْ أصحابنا؛ لِما سبق من حديث عُبَادة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ويُرْوَى أن عليّاً -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جلد شراحة الهمدانية، ثم رجَمَها، وقال: جَلَدتُّهَا بكِتَابِ اللهِ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- (¬3) وَوَجْه ظاهر المذْهب [ما] ¬
رُوِيَ عن جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ ماعِزاً، وَلَمْ يَجْلِدْهُ، وَرَجَم الغَامِدِيَّة، وَلَمْ يرد أَنَّه جَلَدَها (¬1). قال الأصحاب: وحديثُ عبادة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في الجِلْد منسوخٌ بفعْل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما نقل عن عليٍّ، فعنْ عمر -رَضِيَ اللهُ [عَنْهُمَا]- خلافه، وأما غير المحْصَن، فالصبيُّ والمجنونُ لا حدَّ عليهما، ويؤْدان بما يزجُرُهما، وإن كان عاقلاً بالغاً، نُظِر؛ إن كان عبداً، فسيأتي إن شاء الله تعالى، وإن كان حرّاً، فحده جلد مائة وتغريبُ عام؛ لما مر من الأحاديث، [و] يستوِّي في ذلك الرجُل والمرأة، وعند أبي حنيفة: ليس التغريب من الحدِّ، وإنما هو تعزيرٌ يتعلَّق برأْي الإِمام واجتهادِهِ، وعند مالك: يُغَرَّب الرجلُ دون المرأة. قال الغَزَالِيُّ: وَفِي الرَّابِطَةِ قُيُودٌ، الأَوَّلُ الإِحْصَان وَهُوَ التَّكْلِيفُ وَالحُرِيَّةُ وَالإِصَابَةُ في نِكَاح صَحِيحٍ أَمَّا بالشُّبْهَةِ وَفِي النِّكَاحِ الفَاسِدِ لاَ يُحْصَنُ عَلَى أَصَحِّ القَوْلَيْنِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ وُقُوعُ الإِصَابَةِ بَعْدَ الحُرِيَّةُ وَالتَّكْلِيفُ عَلَى الأَظْهَرِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الإِحْصَانُ في الوَاطِئَيْنِ بَلْ إِنْ كَانَ المُحْصَنُ أَحَدَهُمَا رُجِمَ وَجُلِدَ الآخَرُ، وَإِنْ كَانَ أحَدُهُمَا صَغِيراً رُجِمَ البَالِغُ عَلَى الأَظْهَرِ إذَا كَانَ الصَّغِيرُ فِي مَحَلِّ الشَّهْوَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ، وَالثَّيِّبُ إِذَا زَنَى بِبكْرٍ رُجِمَ وَجُلِدَتْ، وَانْتِفَاءُ الإِحْصَانُ يُسْقِطُ الرَّجْمَ، وَانْتِفَاءُ الحُرِيَّةِ يُسْقِطُ شَطْرَ الجَلْدِ وَشَطْرَ مُدَّةِ التَّغْرِيبِ عَلَى قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ يُغَرَّبُ العَبْدُ سَنَةً، وَفِي قَوْلِ لاَ يُغَرَّبُ أَصْلاً نَظَراً لِلسَّيِّد. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: الإحصان والتحصينُ في اللغة: المنع، قال الله تعالى: {لِتُحْصِنَكُمْ من بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80] وقال عَزَّ وَجَلَّ: {فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} [الحشر: 14]. ورد في الشَّرْع بمعنى الإسْلام، وبمعنى العقْل والبلُوغ، وكلٌّ منهما قد قيل في تصير قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} [النساء: 25]، وبمعنى الحرية، ومنْه قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] يعني الحرائر، وبمعنى التزوُّج، ومنه قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] يعني المنكوحات"، وبمعنى العِفَّة عن الزِّنا، ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] وبمعنى الإصابة في النِّكاح. ومنه قوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] قيل مصيبين بالنِّكاح، ويقال: أَحْصَنَتِ المرأةُ أي عفَّت وأحْصَنَها زوْجها، فَهِيَ محصنة، وأحْصَنَ الرجلُ تَزوَّج، ويعتبر في الإحصان المعتبر لوجوب الرجْم بالزنا ثلاثُ صفاتٍ: إحداها: التكليفُ، فالصبيُّ والمجنون ليسا بمحصَنَيْنِ، ولا حدَّ عليهما؛ لأن فعلهما ليْس بجناية، حتى يناط به عقوبة. والثانيةِ: الحرِّيَّةُ، فالرقيقُ ليس بمُحْصَنٍ، فلا يرجم بالزنا أصاب في نكاح صحيحٍ أو لم يُصِبُ، ويساوي في ذلك القِنُّ والمُدَبَّر والمُكَاتَب وأمُّ الولد، ومَنْ بعضُه رقيق، قال في "التتمة": والمعنى في اعتبار الحرية أن العقوبة تتغلَّظ بتغلظ الجناية، والحريةُ تغلِّظ الجناية من وجهَيْن: أحدهما: أنها تمنع من الفواحش؛ لأنَّها صفة كمال وشرَف، والشريفُ يصون نفسه عما يدنِّس عرْضه، والرقيق مبْتَذَلٌ مهانٌ لا يتحاشَى، عما يَتحاشى منه الحُرّ، ولذلك قالت هنْد عند البيعة: أو تَزْنِي الحُرَّةُ؟. والثاني: أنها توسِّع طريق الحلال؛ ألا ترى أن الرقيقَ يَحْتاج في النكاح إلى إذْن السيِّد، ولا ينكح إلا امرأتَيْن بخلاف الحرِّ، ومن ارتكب الحرام مع اتساع طريقِ الحَلال، كانت جنايتُهُ أغْلَظَ. والثالثة: الإصابة في نكَاحٍ صحيحٍ، قال في "التتمة" والمعنى في اعتبارها أن الشهْوة مركَّبة في النُفوس، فهذا أصاب في النكاح، فقد نال اللذَّة، وقضى الشهوة فحقه أن يمتنع عن الحرام، وأيضاً، فإن الإصابة تكمل طريق الحلال؛ من حيث إن النكاح قبل الدخول يزُولُ (¬1) بالطَّلْقَة الواحدة، وبمجرَّد اختلاف الدِّين وبعد الدخول بخلافِه ¬
وأيضاً، فإنه إذا أصاب امرأته، فقَد أكد استفراشها، وحينئذ، فلو لطَّخ غيرُه فراشَهُ، عَظُمَتْ وحْشته وأذيته، فحقُّه أن يمتنع عن تلطيخ فراش الغَيْر، فإذا لم يمتنع، غُلِّظت الجناية، ويكفي في الإصابة تغيبُ الحَشَفَة، ولا يُشْتَرط أن يكون الشخْص ممن يُنْزِل، ولا يقدح وقوعها في حال الحيض والإحرام وعدة الوطء بالشبهة على ما ذكرنا في التحليل، ولا يَحْصُل الاحصان بالإصابة بِملك اليمين، كما لا يحصل التحليل، وأيضاً، فملكُ اليمين لا يُقْصَد به اكتسابُ الحلِّ، ولذلك يصحُّ شراء مَنْ لا تحل له، فلا تكون الإصابة [فيه كالإصابة] (¬1) في النكاح، وفي الإصابة بالشُّبْهة وفي النكاح الفاسِدِ قولان: أحدهما، ونسبه بعضُهم إلى القديم: أنها تُفِيد الإحصان؛ لأن الفاسد كالصحيح في العِدَّة والنسب، فكذلك في الإِحصان. وأصحُّهما، وهو الذي أورده المعْظَم: المنع؛ لأنه لا أثر لهذه الإصابة في إكْمال طريق الحلال، والخلافُ كالخلافِ في أنَّه هل يحْصُل التحليلُ بالوطء في النكاح الفاسد. ثم في الفصْل صور: احداها: هل يُشْترط أن تكون الإصابة بالنكاحِ بعْد التكليف والحريِّة؟ فيه وجهان: أظهرهما؛ عند الإِمام وصاحب الكتاب: لا حتى لو أصاب عبْدٌ في نكاحٍ صحيحٍ أو مجنونٌ أو صغيرٌ ثُمَّ كَمُلَ حالُه، فزنى، يلزمه الرجْم؛ لأنه وطء يحْصُل به التحليل، فكذلك الإحصان، وأيضاً، فإن النكاح لا يُشْترط وقوعه في حالة الكمال، فكذلك الإصابة فيه. والثاني، وهو ظاهر النص والراجحُ عنْد معْظَم الأصحاب، ويُحْكَى عن أبي حنيفة، ومالك: أنه يُشْترط، حَتَّى لا يجب الرجْم على مَنْ أصاب في حال النقصان، ثم زنى بعْد كمال الحال، واحتج له بأنا شرطْنا الإصابة بأكْمَل الجهات، وهو النكاح الصحيحُ، فيشترط حصولها من شخْصٍ كامل، وعن حكاية الشيْخ أبي حامدٍ وجهٌ ثالثٌ، وهو أنه لو أصاب، وهو رقيقٌ، لم يحصُل الاحصان، ولو أصاب، وهو صغيرٌ، حصل، والفَرْق أن الرقَّ يوجب نقصان النكاح بخلاف الصغير؛ ألا ترى أن الرقيق لا يَنْكَح أكثر من اثنتين، وللوليِّ أن يزوِّج من الصغير أربعاً، ووجه رابع، وهو أنه لو أصاب، وهو رقيق، يحصل الإحصان، ولو أصاب، وهو صغيرٌ، لا يحصل، والفرق ¬
أن الصغر يمنع كمال اللذة، والرقٌ لا يمنع، وادعى كثير من الأئمة أنا إذا شرطْنا وقوع الإصابة بعْد الحرية والتكليف، كان الوصفان شرطَيْن في الإحصان نفْسه، وإن لم نشْرط، فهما شرطان لوجوب الرجم، والاحصانُ حاصلٌ دونهما، وهذا ليس بلازم، لجواز أن يكون الإحصانُ عبارةٌ عن الأوصاف الثلاثة من غَيْر أن يعتبر فيها ترتيب، كما أنه لا يعتبر الترتيب بيْن وصْفَي الحريةِ والتكليفِ، وإذا قلْنا: يشترط وقوع الإصابة في حال الكَمَال، فهل يشترط أن يكون الثاني من الواطِئَيْن في حال الكمال؟ حينئذ أيضاً أطْلَقَ مطلقُون، منْهم القاضي أبو الطيب فيه قولَيْنِ: أحدهما، وينسب إلى "الإِمْلاء" وبه قال أبو حنيفة: أنه يُشْترط، حتى لو كان أحدهما كاملاً دون الآخر، لم يَصِر الكاملُ محصَناً أيضاً؛ لأنه وطءٌ لا يصير أحد الواطئَيْنِ محصَناٌ به، فكذلك الآخر كالوطء بالشُّبْهة. وأصحُّهما، ويُرْوَى عن الأم: أنه يصير الكامل محصَناً؛ لأنه حر مكلَّف أصاب بنكاح صحيح، فأشبه ما إذا كانا كاملَيْن، وعن الشيخ أبي حامد وغيره: أنه، إن كان نقصانُ الناقص منْهما بالرقِّ، فيصير الكاملُ محصناً بلا خلاف، وإن كان نقصانُه بالصِّغر أو الجنون، ففيه القولان، والفرْقُ أن تأثير الرِّقِّ في الحدِّ دون تأثير الصِّغَر والجنون، فإنهما يُسْقِطان أصل الحدِّ بخلاف الرق، ورُوِيَ أنه سئل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن الأمة، هل تُحْصِنُ الحر، قال: نعم، قيل: عمن تَرْوِي؟ قال: أدركْنا أصحابَ رسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- (¬1) يقُولُونَ ذلك، ويَقْربُ من هذا ما أورده الإِمام، فإنه قال: الرقُّ في أحدهما لا يَمْنَع حصولَ الإحْصَان في الآخر، وحكى في الصغَر وجهَيْن عن صاحب "التقريب" ثم رأى تخصيص الخلاف بما إذا كانت الصغيرةُ بحيث لا يشتهَى مثْلُها، والصغير بحَيْث لا يشتهيه النساءُ، والقطْع بأنه لا أثر للصغر في حقِّ المراهق، والمراهقة، ويَخْرُج من هذا طريقة في الصغر مفصَّلة. الصورة الثانية: إذا زنا الثيب ببكر رُجِم، وجُلِدَّت، وغُرِّبت، ولو زنا البكْرُ بامرأةٍ ثيب جُلِد وغُرِّب (¬2) ورُجِمَتْ وبدل عليه حديث العَسيف. ¬
الثالثة: الرقيقُ يُجْلد خمسين، على ما قال تعالى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] والقِنُّ وغيره سواءٌ، وفيمن نصْفُه حرٌّ، ونصفه رقيقٌ، وجهان على خلاف ظاهر المذْهَب. أحدهما: أنه إذا زنا، حُدَّ ثلاثة أرباع حدِّ الأحرار؛ لأنه يحتمل التقْسيط، وألزم على هذا أن ينكح ثلاثاً. والثاني: أنه يُفْرَق بين أن لا يكون بينه وبين السيد مهايأة، فيُحَدَّ حَدَّ الأرقاء، أو يكون، فإن زنا في نوبة السيد، فكذلك، وإن زنا في نوبة نفْسِه، فعليه حدُّ [الأحرار] (¬1) أورد الوجهين صاحب "التتمة". وهل يُغَرَّب العبد؟ فيه قولان: أصحهما، وهو القديم وأحد قولي الجديد: أنه يُغرَّبِ؛ لظاهر قوله تعالى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} وروي أن أَمَةَ لاِبْنِ عمرَ رَضِيَ الله عنهما زَنَتْ، فَجَلَدَهَا، وغَرَّبَهَا إلَى فَدَكَ (¬2). والثاني، وبه قال مالك وأحمد: لا يُغرَّب، واختاره القاضي أبو حامد؛ لأنَّ التغريب للتشديد والإيحاش، والعبْدُ جليبٌ، اعتاد الانتقال من يد إلى يد، ومن بلد إلى بلد؛ ولأن فيه إضرارًا بالسيد وتفويتاً لمنفعته عَلَيْه، ومَنْ قال بالأصح؛ قال: العبد أيضاً إذا أَلِفَ الموضعَ شق عليه الانتقال، وضرر السيد لا يبالَى به في عقوبات الجرائم؛ ألا ترى أنه يُقْتَل (¬3) إذا ارتدَّ، ويُحدُّ إذا قَذَفَ، وإن تضرَّر السيد، ثم يمكنه إجارته واستعماله هناك، وإذا قلْنا بالأصح، ففي مدة تغريبه قولان: أحدهما: سَنَةٌ؛ لأن ما يتعلَّق بالمدة والطَّبْع يستوي فيه الحرُّ والعبدُ، كمدة العُنَّة والإيلاء، ويُروَى هذا وجهاً مخرَّجاً عن أبي هريرة. وأصحُّهما: نصف سنة؛ لظاهر الآية، وعن أبي إسحاق القطْعُ بالنصْف، وعند الاختصار يُخرَّج ثلاثة أقوال كما في الكتاب. وقوله في الكتاب "ولا يشترط وقوع الإصابة بعد الحرية والتكليف على الأظهر". بيَّنَّا أن الظاهر عند المعْظَم خلافُ ما رجَّحه. وقوله: "ولا يشترط الإحصان في الواطئَيْن ... " إلى آخره أراد به ما إذا كان ¬
أحدهما بصفات الكمال عند الوطء، وهي الحرية، والعقل، والبلوغ، دون الآخر، لكن اللفظ بعيدٌ عن إفهام الغَرَض، والوجْهُ القريب في تنزيله أن يحمل الإحْصَان على الحُرِّية، كما في قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}. وقد بَيَّنا أن الحريَّة أحد معاني الإحصان (¬1)، فيصير كأنه قال، ولا يُشْترط الحرية في الواطئَيْن، بل إن كان حرّاً عند الوطء. أحدهما: رُجِم، إذا زنا وجلد الآخر، إنْ زنا. وقوله "وإن كان أحدهما صغيرًا" أي عند الوطء رجم البالغ، إذا زنا، وقوله "على الأظهر" أي من الطريقَيْن، وهو الذي رأى الإِمام القطع به، إذا كان الصغيرُ في محلِّ الشهوة، فإن لم يكن، فينقدح الخلافُ، وجميع ذلك على التنزيلِ الذي بيَّنَّاه يوافق ما ذكره الإِمام، وإن حمل قوله "ولا يشترط الإحصان في الواطِئَيْنِ" على الواطئَيْنِ في زناً حتى كون المعنى أنه لو زَنَى، ويُقدِّر أن المقصود أنه لو كان أحدُ الزانِيَيْن محصناً دون الآخر، رُجِم المحصَنُ، وجُلِدَ الآخر، فهذا عين قوله من بعْدُ "والثيب إذا زَنَى ببكْرٍ رُجِمَ وجُلِدَتْ" بل أعم منه، فيغني عنه، وقوله "وانتفاء الإحْصَانِ يُسْقِط الرجْم" لا حاجة بعد ما قدَّم ذكره في الضابط [إليه]، وقوله " [وشطر] (¬2) مدة التغريب" يجوز أن يعلم بالميم والألف؛ لأن عندهما تَسْقُط كلُّها، وكذا قوله "وفي قَوْلٍ يُغَرَّبُ العَبْدُ سنةً" يجوز أن يعلم لفْظ "القول" فيه بالواو: لقطع أبي إسحاق. قال الغَزَالِيُّ: ثُمَّ في أَصْلِ التَّغْرِيب مَسَائِلُ: (إحْدَاهَا) أَنَّهَا تُغَرَّبُ مَعَ مَحْرَمٍ وَلَهُ الأُجْرَةُ عَلَيْهَا عَلَى وَجْهٍ، وَعَلَى وَجْهٍ عَلَى بَيْتِ المَالِ، فَإنْ امْتَنَعَ فَهَلْ يجْبرُهُ السُّلْطَانُ عَلَى الخُرُوجِ مَعَهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ آمِناً فَهَلْ يَجُوزُ تَغْرِيبُها بِغَيْرِ مَحْرَمٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إنما قال في أصل التغريب؛ لأنه وصل الكلام بتغريب العبْد، فأشار إلى أن المسائل في مُطْلَق التغريب، لا في تغريب العبْد خاصَّة. المسألة الأولى: هل تغرَّب المرأة وحْدها؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه سفَرٌ واجب فأشبه الهجْرة، فإنها، إذا كانت تخاف الفتنة [في] دينها، كان عليها أن تسافِرَ وَحْدها. وأصحُّهما: لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم-، قال: "لاَ تُسَافِرُ المَرْأَةُ إلاَّ وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ محرم ¬
لها" (¬1) ولأن الزانية إذا غرِّبت وحْدها، لم يُؤْمَن عليها من التهتك، هكذا أطلق مُطلِقون الوجهَيْن، وخصَّصهما الإِمام، وصاحب الكتاب بما إذا كان الطريقِ آمناً، وأشار إلى القطْع بالمنْع، إذا لم يكن الطريق آمناً، وفيه قول بشرعية التغريب منْ غير أمْن الطريقِ، وفي "البيان" وغيره ما يُشْعِر بخلافه، ويقوم مقام المَحْرَم الزوْجُ وفي النِّسْوة الثقات عند أمن الطريقِ وجهان: أظهرهما: قيامُهن مقام المَحْرَم، وربما اكْتُفِيَ بالواحدة، إذا كانت ثقة وشَرَط شارِطُون أن يكون معها مَحْرَم أو زَوْجٌ، وإذا قلْنا بالأصح، فلو تطوَّع الزوْج أو المَحْرَم بالخروج، أو وجدنا نسوة ثقاتٍ يُسَافِرْنَ، فذاك، وإن لم يخرج المَحْرَم أو الزوْجُ، إلا بأجرة أعْطِيَ الأجرة، وتكون في بيت المال أو في مالِها؟ فيه وجهان مشبهان بالخلاف في أجرة الجَلاَّد، ورجَّح القاضي ابن كج، وصاحب "التهذيب" كونَها في بيت المال، وقياس ما سَبَق في أجرة الجَلاَّد أن يرجَّح كونها في مال الزانية، وإليه ذهب ابن الصبَّاغ والرويانيُّ، كان لم يرغب المَحْرَم في الخُرُوج بالأجرة أيضاً، فهل يجبره السلطان على الخروج؟ فيه وجهان: أحدهما، ويُحْكَى عن ابن سُرَيْج: نعم، للحاجة إليه في إقامة الواجب، وعلى هذا، فلو اجتمع (¬2) محرمان أو محرم وزوْجٌ، فمن، يقدَّم منهما، لم يتعرَّضوا له. وأظهرهما: أنه لا يجبر كما في الحج؛ ولأنه تعذيب مَنْ لم يذنب، وعلَى هذا، فقياس مما ذكرنا أنَّها لا تُغرَّب إلا مع محرم أن يؤَخَّر [التغريب] (¬3) إلى أن يتيسر، وكما ذكر الرويانيُّ أنها تغرَّب، ويَحْتَاط الإِمام في ذلك، وقوله في الكتاب "إنها تُغرَّب" يعني المرأة وأعلم بالميم؛ لما سبق أن عنده لا تغرَّب المرأة، ويجوز أن يُعْلَم قوله "مع محرم" بالواو؛ لاطلاق مَن أطلق وجهين في أنها هل [تغرب] (¬4) وحدها؟ قال الغَزَالِيُّ: (الثَّانِيَةُ) لاَ ينْقُصُ فِي مَسَافَةِ الغُرْبَةِ عَنْ مَرْحَلَتَيْن، وَإِلَيْهِ الخِيَرَةُ في جِهَاتِ السَّفَرِ، وَالغَرِيبُ يَخْرُجُ إِلَى غَيْرِ بَلَدِهِ، فَإنْ رَجع إِلَى البَلَدِ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ (الثَّالِثَةُ): لَوْ عَادَ المُغَرَّبُ أَخْرَجْنَاهُ ثَانِياً وَلَمْ تُحْسَبْ المُدَّةُ المَاضِيَةُ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: الزاني يُغرَّب إلى مسافة القصْر: لأن المقصود إيحاشه بالبعد عن الأهل والوطن، وفيما دون مسافة القصْر تتواصل الأخبار ولا تتمُّ الوحشة، وعن ابن أبي هريرة وجْه أنَّه يجوز التغْريب إلى ما دون مسافة القصْر؛ لمُطْلَق قوله -صلى الله عليه وسلم- "وتَغْريبُ عام"، وفي "التتمة" وجه: أنه يكفي (¬1) التغريب إلى موضع لو خرج المبكر إليه لم يرجع من يومه، والظاهرُ الأوَّل، وإنْ رَأَى الإمامُ تغريبَهُ إلى ما فوق مسافة القصْر، فعل؛ غَرَّبَ عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إلى الشام، وعثمانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إلى مصرَ، هذا هو المشهور والذي أورده المتولِّي؛ أنه إذا وجد على مسافة القصْر موضعٌ صالحٌ، لم يجز التغريب إلى البلد البعيد، والبدويُّ يُغرَّب عن حِلته وقومه، ولا يُمكَّن من الإقامة فيما بينهم، وحكى إمام الحرمَيْن وجهَيْن في أنه لو عيَّن الإِمام جهة للتغريب، فطلب الزاني أن يُغرَّب إلى جهة أخرى، هل يجاب أو لا [يعدل] عن تعيين الإِمام؟ ورأي الأظهر، إجابته، وقال: المقصود إيحاشه بالإبعاد عن الموضع بقدر مرحلَتَيْن، فإذا حصل هذا الغرَضُ، فليأخذ في أي صوْب شاء، وهذا ما أورده في الكتاب والمذكور في غيره أنه لا عُدول عما عينه الإِمام، وهذا هو اللائق بالزجْر والتعْنيف، ويوافقه ما ذكر صاحب "التهذيب" أن الإِمام لا يرسله إرسالاً، بل يُغرِّبه إلى بلَد معيَّن، وإنما غرَّب إلى موضع معين، فهل يمنع من الانتقال إلى [بلد] (¬2) آخر؟ الذي أورده المتولِّي، واختاره الإِمام: أنه لا يُمْنَع، ومنهم من قال: يمنع. وفي "التهذيب": أنه لا يُمكَّن المغرَّب من أن يحمل معه أهلَهُ وعشيرته؛ لأنه لا يستوحش حينئذ، وله أن يحمل جاريةً يتسرى بها، وما يحتاج إليه للنفقة، وقال وفي "التتمة": لو خرج عشيرتُه معه، لم يُمْنَعوا، والغريب إذا زنا يُغْرَّب من بلد الزنا تنكيلاً وتبعيداً عن الموْضع الذي ارتكب فيه الفاحشة، فربما أَلِفَه، ولا يُغرَّب إلى بلده، ولا إلى موضع بينه وبين بلده، أقلُّ من مسافة القصْر، وإذا غُرِّب إلى غير بلده، فرجع إلى بلده، ففي الكتاب: أنه لا يُتعرَّض له، وحكَى غيره أنه يمنع منه، وهو الأشبه، ثم هذا في [الغريب] (¬3) الذي له وَطَنٌ، فإن لم يكن كما إذا هاجر الحربيُّ إلى دار الإِسلام، ولم يتوطَّن بعد بلدة، قال في "التتمة": يتوقف الإِمام إلى أن يتوطَّن في بلده، ثم يُغرِّبه، والمسافر إذا زنا في الطريق يُغَرَّب إلى غير مقصده، وإذا رجع المغرَّب إلى البلد الذي غُرِّب منه، رُدَّ إلى الموْضِع الذي غُرِّبَ إليه، وهل يُحْسَب ما مضى، أم تستأنف المدة الأشبه، وهو المذكور في الكتاب: أنها تستأنف ليتوالَى الإيحاش، وفي "التتمة": أنه يحسب ما مَضَى، والخلاف راجعٌ إلى أنه هل يجوز تفريقُ سنة التغْريب، وخرَّج ¬
بعضهم هذا الخلافَ من الخلافِ في أنه، هل يَجُوز في "اللُّقَطَةِ" تفريق سنة التعريف؟ قال القاضي ابن كج: ولا يعتقل في الموْضِع الذي غُرِّب إليه؛ لئلا يرجع، بل يحفظ بالمراقبة والتوكيل به (¬1)، [فإن] احتج إلى الاعتقال، اعْتُقِل، [ولو زنى] ثانياً في البلد الذي غُرِّب إليه، غُرِّب إلى موضع آخر، قال ابن كج: وتدخل بقبة مدة الأوَّل في الثاني؛ لأن الحدَّيْن من جنس واحد يتداخلان، وفي كتابه: أنه لو أراد الحاكم تغريبه فخَرَجَ بنفسه، وغاب سنة، ثم عاد، فعن بعض الأصحاب: أنه يكتفي بذلك، والصحيحُ خلافه، لأن المقصود التنكيلُ، وإنما يحْصُل ذلك بنفي السلطان. وأن نفقة المغرَّب ومؤنته في ماله يُقَدَّر ما يَشْتَرِك فيه السَّفَر والحضر، وما زاد بسبب السفَر، فهو في بيت المال، وهذا غريب (¬2). ويجوز تقديم التغْريب على الجَلْد، وفي "الحلية" للقاضي الرويانيِّ: أنه يلزم المُغَرَّب أن يقيم في الغُرْبَة، حتى يكون كالحبس له في أصح الوجهَيْنِ، ولا يُمكَّن من السير والضَّرْب في الأرض، فيكون كالنزهة، ومما ينالسِبُ عقوبة التغْريب النفْيُ في قطْع الطريق، وسيأتي، وورد الخبرُ بنفي المخنثَّين، وهو تعزير (¬3). قال الغَزَالِيُّ: أَمَّا الإِسْلاَمُ فَلَيْسَ مِنْ شَرَاِئطِ الإحْصَان بَلِ الذِّمِّي يُرْجَمُ إِذَا رَضِيَ بِحُكْمِنَا، وَلاَ يُجْلَدُ عَلَى الشُّرْبِ وَإِنْ كَانَ الحَنَفِيُّ يُجْلَدُ عَلَى النَّبِيذِ عَلَى الأَظْهَرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الإِسلام ليس [في] شرائط الإحصان، بل إذا زنى الذميُّ، وهو مكلَّف حرٌّ، أَصاب في نكاح صحيح، فيرجم؛ خلافاً لأبي حنيفة ومالك. لنا: ما روي [أن] رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬4) رَجَمَ يهوديين زَنَيَا، وَكَانَا قَدْ أُحْصِنَا، وإذا ارتدَّ ¬
المُحْصَنُ، لم يبطُلْ إحصانه، حتى لو زنى في الردَّة بعْد ما رَجَعَ إلى الإِسلام، فعليه الرجْمُ، وقال أبو حنيفةَ، يبْطُل الإحصان بالردَّة، ولا، يعود إلا بإصابة جديدة بَعْد الإِسلام. وقوله في الكتاب "إذا رضي بحكمنا" يجوز أن يعلم بالواو؛ لما ذكرنا في "كتاب النكاح" أنا إذا قلْنا "يجب الحُكْم بين الذميين، إذا ترافَعُوا إلينا، فإذا أقر الذميُّ بالزنا، يُقَام عليه الحدُّ جبراً، وإنما يعتبر الرضَا، إذا قلْنا: لا يجب الحكْم بينهم وبيَّنَّا أن الأكثرين رجَّحوا قول الوجوب. وقوله " [ولا يُجْلَدْ] على الشُّرْب" أي وإن رَضِيَ بحكْمنا؛ لأنه لا يعتقد تحريمه. وقوله "على الأظهر" ليعتقد رده إلى الصورتين، وهما مكررتان من بعد مشروحتان إن شاء الله تعالى. قال الغَزَالِيُّ: أَمَّا قَوْلُنَا: إيلاَجُ فَرْجٍ في فَرْجٍ فَيَتَنَاوَلُ اللِّوَاطَ وَهُوَ يوجُبُ قَتْلَ الفَاعِلِ وَالمَفْعُولِ عَلَى قَوْلٍ (ح)، وَالرَّجْمَ بِكُلِّ حَالٍ عَلَى قَوْلٍ، وَالتَّعْزِيرَ عَلَى قَوْلٍ، وَهُوَ كَالزِّنَا عَلَى قَوْلٍ، وَإتْيَانُ الأَجْنَبِيَّةِ فِي دُبُرِهَا لِوَطٌ، وَالغُلاَمُ المَمْلُوكُ كَغَيْرِ المَمْلُوكِ عَلَى الأَصَحِّ، وَالمِلْكُ فِي الجَارِيَةِ وَالزَّوْجَةِ شُبْهَةٌ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الاسْتِمْتَاعِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القيد الثاني: إيلاج الفَرْج في الفَرْج، فيدخل فيه اللواطُ، وهو من الفواحش؛ وقال الله تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 28] وقال عَزَّ منْ قائل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33]. ثم إن لاَطَ بذكر، ففي عقوبة الفاعل أقوالٌ: أحدها: أن عقوبته القتْلُ محصَناً كان أو لم يكن؛ لما روي عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ وَجَدَتُّمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَاَلْمَفْعُولَ بِهِ" (¬1) وعلى هذا، ففي قتله وجوهٌ: ¬
أحدها: أنه يُقْتل بالسيف كالمرتدِّ؛ لأنه السابق إلى الفَهْمِ مِنْ لفظ القتل، ويُحكَى هذا عن أبي الحُسَيْن بن القطَّان. والثاني، وبه قال مالك وأحمد: أنه يُرْجَم تغليظاً؛ لما رُوِيَ عن علي -[كرم الله وجهه] رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قال: يُرْجَمُ اللوطيُّ. والثالث: يهدم عليه جدار، أو يرمى من شاهق حتى يموتَ أخذاً من عذاب قوم لُوطٍ، قال الله تَعَالَى: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا (¬1) سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ [سِجِّيلٍ] (¬2)} [هود: 82]. وأصحُّهما: أن حده حدُّ الزنا، فَيُرْجَم، إن كان محصناً، ويُجْلد ويُغرَّب، إن لم (¬3) يكن مُحْصَناً؛ لأنه حد يجب بالوطء، فيختلف بالبكر والثيب، كالإتيان في القُبُل، وقد يُحْتج له بظاهر ما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- (¬4) قال: "إِذَا أَتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا زَانِيَانِ". والثالث: أن الواجب فيه التعزير، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه فرْجٌ لا يجب المَهْر بالإيلاج فيه، فلا يجب الحدُّ كإتيان البهيمة، وهذا القول مخرَّج منه، ومنهم مَنْ لا يثبت هذا القَوْلَ، وأما المفعول، فإن كان صغيراً أو مجنوناً أو مكرهاً، فلا حد عليه، ولا ¬
مهْر؛ لأن منفعة بُضْعِ الرَّجُل لا تتقوَّم، وإن كان مكلَّفا طائعاً، فإن قلْنا: إن الفاعل يُقْتل، فَيُقْتل المفعول بما يُقْتَل به الفاعل، وإن قلنا: إن حدَّه حد الزنا، فيُجْلَد المفعول ويغرَّب محصناً كان أو لم يكن. وإن أتى امرأةً في دبرها، ففيه طريقان: أظهرهما: أنه لواطٌ؛ لأنه إتيانٌ في غير المأتى، فيجيء في الفاعل الأقوالُ، وتكون عقوبة المرأةِ الجَلْدَ والتغريبَ على قوْلنا: إن حدَّه حد الزنا، وهذا ما أورده في الكتاب، ورجحه في "التهذيب" وبه قال الشيخ أبو حامد. والثاني: أنه زناً؛ لأنه وطء صادف أنثى، فأشبه وطئها في القُبُل؛ فعلى هذا [حَدُّه] حَدُّ الزنا، بلا خلاف، وتُرْجَم المرأةُ، إن كانت محصنةً، وهذا ما اختاره القاضي ابن كج وأورده صاحب "المهذب" هذا كلُّه [فيما] إذا لم يكن [هناك] مِلْكُ يمين ولا نكاحٌ. وأما إذا لاطَ بعبده، ففيه طريقان: أحدهما: أن في وجوب الحَدِّ قولَيْن؛ لقيام المِلْك كما لو وطئ أخته المملوكة. وأصحُّهما: أنه كالأجنبيِّ، ويخالف وطء الأخت المملوكة، فإن المِلْك يبيح الإتيان في القُبُل في الجملة، فهذا لم يبح، انتهض شبهة، ولا يبيح هذا النوعُ بحال، ولو أتى امرأته أو جاريتَهُ في دبرها، فطريقان: أحدهما: أنه على الخلاف في وطء الأخت المملوكة. وأصحهما: القطْع بالمنع؛ لأنها مملوكة ومحلُّ استمتاعه [والله أعلم]. وأما لفظ الكتاب فقوله "وهو يوجب قتل الفاعل والمفعول" أراد به القتل بالسيف، ويجوز أن يُعْلَم ما سوى قول التعزير بالحاء؛ وما سوى قول الرجْم بالميم والألف، وأن يعلم قوله "على قول" من قوله "والتعزير على قول" لما ذكرنا أن بعضهم نفاه، ويخرَّج بالقيْدِ المذكور المفاخَذَة، ومقدِّمات الوطء، فلا يجب الحدُّ بشيء من ذلك، وإذا وجدْنا بالمرأة الخليَّةِ حبلاً، وأنكرت الزنا، لم تُحدَّ خلافاً لمالك، وإذا وجْدنا امرأة ورجلاً أجنبيين تحتْ لحاف، ولم يعرف غير ذلك، لم نَحُدَّهما، وكذلك إذا أتت المرأة المرأةَ؛ لأنه لا إيلاج، والواجبُ في هذه الصورة التعزير. قال الغَزَالِيُّ: وَقَوْلُنَا: تُشْتَهَى طَبْعاً يُبَيِّنُ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ بالإيلاَج في المَيْتَةِ، وَفِي البَهِيمَةِ قَوْلاَنِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّ فِيهِ التَّعْزِير، وَفِي قَوْلٍ نُقْتَلُ البَهِيمَةُ أَيْضاً، ثُمَّ فِي وُجُوبِ قِيمَتهَا إنْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَة وَفِي حِلِّهَا إنْ كَانَتْ مَأْكُولَة خِلاَفٌ، وَإِنْ أَوْجَبْنَا الحَدَّ فَلاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِأرْبَعَةِ عُدُولٍ، وَإِنْ أَوْجَبْنَا التَّعْزِيرَ فَيَكْفِي عَدْلاَنِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القيد الثالث: أن يكون الإيلاجُ يشتهى طبعاً، وقصد به التحرُّز عن صورتين:
إحداهما: إذا أولج في فَرْجِ ميتة، ففيه وجهان منقولان في "التهذيب" وغيره: أحدهما: أنه يجب الحدُّ؛ لأنه حصل إيلاجُ فَرْجٍ في فرج [محرم] (¬1)، لا شبهة فيه. وأصحهما، وهو المذكور في الكتاب: أنه لا يجب؛ لأنه ممَّا ينفر الطبْعُ عنه، وما ينفر الطبع عنه لا يُحْتَاجُ إلى الزجْر عنه [بالحد]، كشرب الخمر والبَوْل. الثانية: إتيان البهيمة حرامٌ، وفي عقوبته قولان: أصحهما: التعزير؛ لأن الطباع السليمة تأباه، ولا يوجَدُ ذلك إلا نادراً من الأراذل، ومثل ذلك لا يزجر عنه بالحدِّ. والثاني: أنه يجب فيه الحدُّ؛ لأنه إيلاج فرْج في فرجٍ حرامٍ، وعلى هذا فقولان: أحدهما: أنه يقتل محصناً كان أو لم يكن، لما رُوِيَ عن ابن عبَّاس -رَضِيَ اللهُ [عَنْهُمَا]- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَة" (¬2) قيل لابن عباس -رَضِيَ اللهُ [عَنْهُمَا]- فَمَا شَأْنُ البَهِيمَةِ؟ قال: ما أراه قال ذلك إلا أنه كره أن يُؤْكَلَ لحْمُها، وقد عمل بها ذلك العمَلَ، ويُروَى أنه قال في الجواب: إنها تُرَى، فيقال: هذه التي فُعِلَ بها ما فُعِلَ، وعن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا البَهِيمَةَ" (¬3). والثاني: أن حده حد الزنا، فيُفْرَق بين المحْصَن وغيره؛ لأنه حدٌّ يجب بالإيلاج، فأشبه الزنا، وفيه طريقان آخران: ¬
أحدهما: القطع بأنه كاللواط؛ فعلى هذا ينجذب قول التعزْير على رأْي. والثاني: القطع بأن الواجب فيه التعزيرُ، حكاه صاحب "البيان" وغيره، وبه قال مالك وأبو حنيفة. فيجوز أن يُعْلَمْ لهما قوله في الكتاب "وفي البهيمة قولان" بالواو. التفريع: إن أوجبنا القَتْل، ففى كيفيته الخلاف المذكور في اللواط، وهل تقتل البهيمة؟ ذكر الشيخ أبو حامد وجماعةٌ أنها إن كانَتْ مأكولةٌ، تقتل، وإلا فوجهان: أحدهما: أن الجواب كذلك؛ لظاهر الخبَرَيْن. والثاني: المنعُ؛ لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عن ذبْحِ الحيوان، إلا لمَأْكَلَة (¬1)، وفي إسناد الخبَر كلامٌ، ومنهم مَنْ أطلق الوجهين في المأكول وغيره، ويخرَّج من الطريقين ثلاثةُ أوجه؛ ثالثها الفرْقُ بين المأكول وغيره. التفريع: إن قلْنا: [إنها] تقتل، فقد ذكروا فيه معاني: أحدُها: كراهية أكلها، لو أُمْسِكَت. والثاني: أنه لِئَلاَّ يَذْكُر الفاحشة بها. والثالث: [خوف أن] يأتي بخَلْقِ مشوَّه يشبه بعْضُه الآدميَّ، وبعضه البهيمةَ، المَعْنَى الأول يختص بالمأكول، والثاني والثالث يشملان المأكول وغيره، فمن قال: يُقْتَل المأكول دون غيره، يجوز أن يَذْهَب إلى المَعْنَى الأول، ولو أتى البهيمة في دُبُرها، فيقتل على المعنى الأول والثاني، ولا يُقْتَل على المعنى الثالث، وهل يَحلُّ أكلُها، إذا كانت مأكولةً، وذبحت؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنها مُذكَّاةٌ كغيرها؛ وهذا ما رجَّحه الإِمام وصاحب "التهذيب". والثاني: لا: لما سبق في الرواية عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ [عَنْهُمَا]-، وأيضاً، فإنه، إذا وجب قتلها، التحقت بالمؤذيات، وهذا أصحُّ عند الشيخ أبي حامد، فإن قلْنا: لا يحل أكلها، أو كانت غير مأكولة، فهل يجب ضمانُها، إذا كانت لغير الفاعل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنها صارت مستحِّقة القتل شرعاً، كالعبد يُقتل حدّاً. وأظهرهما: نعم؛ لأنه حيوانٌ أتلف، بلا جنايةٌ، وعلى هذا، فعلى من يجب الضمان؟ فيه وجهان عن أبي علي الطبريِّ وغيره. ¬
أحدهما: على بيت المال؛ لأنها قُتِلَت للمصلحة. وأصحُّهما: على الفاعل؛ لأن التلف جاء بسبب فعله، وشبه هذا الخلاف في أجْرَة الجَلاَّد، وإذا قلْنا: يحل الأكل فيما إذا كانت البهيمةُ مأكولةً، ففي قدر التفاوت بين قيمتها حيِّةً مذبوحةً ما ذكرنا من الخلاف، ولو مَكَّنَتِ امرأةٌ من نفسها قِرْداً، كان الحكْمُ، كما لو أتى بهيمةً، حكاه صاحب "التهذيب" وغيره، ومما يتفرَّع على الخلاف المذكور في اللِّواط وإتيان البهيمة، أنَّا إذا أوْجَبْنَا الحدَّ [فيهما]، فلا تثبتان إلا بأربعةِ شهودٍ كالزنا، وإن قلْنا بوجوب التعزير، فيكفي عدلان أو لا بد من أربعة؟ فيه وجهان: أحدهما، وبه قال أبو حنيفة والمزنيُّ وابن خيران: [أنَّه] (¬1) يكفي عدلان، كما في سائر الجنايات وعقوبتها. وأظهرهما، وينسب إلى النص: أنه لا بُدَّ من أربعة؛ [لأنها] (¬2) شهادة على إيلاج فرْجٍ في فرج، فأشبهت الشهادةَ على الزِّنَا، ويجوز أن تختلفَ عقوبة الإيلاج، ولا يختلف عدد الشهود؛ كالجَلْد والرجْم في الزنا، وليكُنْ قوله في الكتاب "وإن أوجبنا الحدَّ" مردود إلى إتيان البهيمة واللواط معاً، فالحكم فيهما واحدٌ. والمسألة في اللواط أعادها صاحب الكتاب في "الشهادات" وحَكَى الخلافَ في اعتبار العَدَد على القول بوجوب التعزير قولَيْن، والمشهورُ وجهان، كما ذكرنا هنا، وكذا قوله قبل ذَلِك، وفي قول، "تقتل البهيمة" المشهور فيه الوجه. وقوله "بينهما" فيه "خلاف" يجوز إعلامه بالواو؛ لأن القاضي ابن كَج حكَى القَطْع بحلِّ الأكل. قال الغَزَالِيُّ: وَقَوْلُنَا مُحَرِّمٌ قَطْعًا احْتَرَزْنَا بِهِ عَنِ الوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ وَفِي النِّكَاحِ الفَاسِدِ وَفِي المُتْعَةِ فَإنَّ الصَّحِيحَ أَنْ لاَ حَدَّ فِيهِ، وَأَمَّا وَطْءُ الحَاِئضِ وَالمُحْرِمَةِ وَالصَّاِئمَةِ فَلاَ حَدَّ فِيهِ قَطْعاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القيد الرابع كونُ الإيلاج مُحْرَّمًا قطعاً، فلا حد في الوطء بالشبهة؛ لأنه لا يُوصَفُ بالحرمة، والكلام فيه مبسوطٌ من بعد، [وأردنا] (¬3) بالإيلاج المحرَّم ما يُحَرَّم بعينه دون ما يحرِّم؛ لأمر من خارج، وإن لم يتلفَّظ به، فيَخْرُج وطء الحائض والصائمة والمُحْرِمِة؛ لأن التحريم ليس لعين الوطء، وإنما يحرم وطء الحائض؛ للأذى ومخامرة تلْك النجاسة، ووطء الصائمة والمُحْرِمة لحرمة العبادة، فلا يتعلَّق به الحد، ¬
وكذلك وطء الجارية قبل الاستبراء، وكون التحريم مقطوعاً به يَخْرُج عنه الوطء في الأنكحة المختلف في صحتها، ولا يجب الحد بالوطء في النكاح بلا وليٍّ على الأصح، وقد حكينا وجهاً عن الصيرفيِّ في "باب النكاح": أنه يجب الحدُّ على مَنْ يعتقد تحريمه. ويُحْكَى عنه، وعن غيره الوجُوب على مَنْ يعتقد إباحته أيضاً، كما يوجب الحدُّ على الحنفيِّ بشرب النَّبيذ، وكذلك لا يجب الحدُّ بالوطء في نكاح المتعة، وفيه خلاف مذكور في النكاح، وقوله في الكتاب "وفي النكاح الفاسد وفي المتعة" نكاح المتعة أحد الأنكحة الفاسدة، فالنَّظْم كقوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]. وقوله: "فإن الصحيح" يرجع إلى النكاح الفاسد دون الوطء بالشبهة، فلا خلاف في أنه لا يجب الحد به. واعلم أن هذا القيد يُسْتَغْنَى عنه بالذي بعْده، وصُوَرُهُ داخلةٌ في الذي بعْده، وقد كَرَّر أكثرها فيه. قال الغَزَالِيُّ: وَقَوْلُنَا: لاَ شُبْهَةَ فِيهِ احْتَرَزْنَا بِهِ عَنْ شُبهَةٍ فِي المَحَلِّ وَالفَاعِلِ وَالطَّرِيقِ، أَمَّا شُبْهَةُ المَحَلِّ فَأَنْ يَكُونَ مَمْلُوكاً وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً بِسَبَبِ رَضَاعٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ شَرِكَةٍ أَوْ تَزْوِيجٍ أَوْ عِدَّةٍ فَلاَ حَدَّ عَلَى الجَدِيدِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَأَمَّا فِي الفَاعِلِ فَأنْ يَظُنَّ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ أَوْ زَوْجَتُهُ، فَأمَّا فِي الطَّرِيقِ فَأَنْ يَخْتَلِفَ الْعُلَمَاءُ فِي إبَاحَتِهِ كَالنِّكَاحِ بِلاَ وَليٍّ وَبِلاَ شُهُودٍ وَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ فَالصَّحِيحُ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يَدْرَأُ الحَدَّ. قَالَ الرِّافعِىُّ: القيد الخامس: أن يكون خالياً عن الشبهة، رُوِيَ عَنْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ادْرَءُوا الحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ" (¬1) وأتبع صاحب الكتاب في ضبط ¬
"الشُّبُهَاتِ" (¬1) تقسيماً ذكر أن الشيخ أَبَا محمَّدٍ كان يردّهُ في كلامه، وهو أن الشبهة ثلاثة أقسام، شبهةٌ في المَحْلِّ، وأُخْرَى في الفاعل، وأخْرَى في الجهة والطريق. القسم الأول: الشبهة في المَحلِّ؛ بأن يكون مملوكاً له، كما لو وطئ جاريتَه المحرّمة عليه؛ بمحرمية رضاع أو نسبٍ؛ بأن كانت أختَهُ من الرضاع أو النسب، أو كانت بنته أو أُمَّةُ من الرضاع، ففي وجوب الحد قولان: أصحُّهما، وبه قال أبو حنيفة: لا يجب؛ لشبهة المِلْك المبيح (¬2). والثاني: يجب؛ لأنه وطءٌ لا يستباح بحال؛ فأشبه اللواط، ويجري الخلاف فيما إذا كانت موطوءَة أبيه أو ابْنِه، ولو وطئ جاريةً مشتركةً بينه وبين غيره، أو جاريتَهُ المزوَّجة أو المعتدَّة عن زوجها، ففيه طريقان: أحدهما: طرد القولين، وهذا ما ذكره في الكتاب. وأقواهما: القطع بالمنع؛ لأن تحريمهن لا يتأبد، فأشبه وطء الحائض والمُحْرِمة، وفي معنى هؤلاء الجاريةُ المجوسيةُ والوثَنِيَّة، وما إذا أسلَمَتْ جارية ذميٍّ، فوطئها قبل أن تباع عليه، وإذا قلْنا: لا يجب الحد يثبت النسب وحرمة المصاهرة، وإذا قلْنا: يجب، فلا يثبتان، وقيل: يثبت النصب، وتصير الجاريةُ مستَولدَةً بلا خلاف، فيدخل في هذا القسْم وطء الأب جاريةَ الابْنِ لشبهة حقِّه في مال الابن، ويجوز أن يُعدَّ منه وطء الحائض والمُحْرِمة و [مَنْ] في معناهما. والقسم الثاني: الشبهة في الفاعِل؛ وذلك بأن يجدَ امرأةً على فراشه فيطأَهَا على ظنِّ أنها زوجتُه أو أمتُهُ، فلا حدَّ عليه، وإذا ادعَى أنه ظنَّ ذلك، فعن النص أنه يَحْلِف ويُدْرِأ عنه الحدُّ، وقال أبو حنيفة: يجب الحدُّ، ولا أثر لهذا الظن، إلا إذا زُفَّت إليه امرأةٌ، وقيل [له:] (¬3) إنها التي نكَحْتَها، وكانت غير [التي نكحها] (¬4) لنا: القِياسُ على ليلةِ الزِّفافِ، وعلى ما إذا ضرب شراباً على ظن أنه ليس بخمرٍ، [فإذا هو خمر] (¬5)، ولو ظن الموطوءة الجاريةَ المشتركةَ بيْنه وبين غيره، فكانَتْ غيرها، وفرَّعنا على أنه لا يجبُ ¬
الحدُّ بوطء الجارية المشتركة، قال الإِمام: فيه تردد، ويظهر أن يقال: لا حد؛ لأنه ظن ما لو تحقَّقه لانْدَفَعَ الحدُّ، ويجوز أن يقال: يجب؛ لأنه علم [التحريم] وظن أنه اقترن به ما يدفع الحدَّ، فلم يكن [فكان] من حقَّه، إذا علم التحريم، أن يمتنع. القسم الثالث: الشبهة في الطريق والجهة، قال الأئمة: كلُّ جهة صحَّحها بعضُ العلماء، وحكم بحل الوطء بها، فالظاهر أنه لا حدَّ على الواطئ بتلك الجهة، وإن كان لا يعتقد الحلَّ، وذلك كالوطء في النكاح بلا وليِّ؛ كمذهب أبي حنيفة، وبلا شهود؛ كمذهب مالك، وفي نكاح المتعة، وقد سبق الكلام في هذه الصور. واعلم أنَّا ذكَرْنا في "كتاب الرَّهْن" أن (¬1) ظاهر المَذْهَب وجوبُ الحدِّ على المرتهن إذا وطئ الجارية المرهونةَ بإذْنِ الرَّاهِن، وهو يعتقد التحريم، وقد حُكِيَ عن عطاء بن أبي رباح، أنه يباح وطء الجارية بإذْن مالِكِها، وقياس ما نذكره الآن أن يكون الظاهِرُ في تلك الصورة ألاّ يجب الحدُّ أيضاً؛ وأن يجعل مذهب شبهة دارئة، وكأنهم لم يصحِّحوا النقل عنه، ولم يتحقَّق عندهم أنه مذْهَبه، وإن قيل إن [ذلك مذهبه لكن] (¬2) الإجماع انعقد [بعده] (¬3) على التحريم، والإجماعُ اللاحقُ يرفع أثر الخلافِ السابقِ، فهذا قد يُذْكر مثلُه في نكاح المتعة، فيلزم أن يرجَّح فيه وجوبُ الحدِّ أيضاً [والله أعلم]. وقوله في الكتاب "فلا حد على الجديد في جميع ذلك" وصف الخلاف بالجديد والقديم تعرَّض له الإِمام وتابعه صاحب الكتاب، وسكت أكثرهم عنه، وأرسلُوا ذكر القولَيْن، بل في "الشامل" أن قول وجوب الحدِّ منصوصٌ عليه في "الإملاء" ونسبهما معاً ناسِبُون إلى "الإملاء" [والإملاء] (¬4) محسوبٌ من الكتب الجديدة، ثم يجوز أن يُعْلَم قولُه "على الجديد" بالواو؛ لما حكينا من القطع بالمَنْع في بعْض الصُّورَ المذكورة. قال الغَزَالِيُّ: وَلَوْ نَكَحَ أُمَّهُ وَوَطِئَهَا حُدَّ كَمَا لَو اسْتَأْجَرَ للزِّنَا أَوْ إِبَاحَةِ الوَطْءِ، وَلَوْ زَنَتْ خَرْسَاءُ بِنَاطِقٍ أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ مَكَنَّتِ العَاقِلَةُ مَجْنُوناً أَوْ أَنكَرَ أحَدُ الوَاطِئَيْنِ أَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ يَسْتَحِقْ عَلَيْهَا القِصَاصَ أَوْ فِي دَارِ الحَرْبِ وَجَبَ الحَدُّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لَمَّا فَرَغَ من الكلام في الشُّبهة الدارئة، ذَكَرَ الصورَ التي عَدَّها بعضُهم من الشبه المؤَثِّرة، وليست كذلك، فمنها: لو نَكَحَ أُمَّهُ أو مَحْرَماً غيرها؛ [إمَّا] (¬5) بنسب أو رضاع أو مصاهرة، ووطئِهَا، يجب عليه الحدُّ، وعند أبي حنيفة، لا يجب، وتفسير صورة العقْد شبهةً. ¬
لنا: أنه وطءٌ صادف محلاً، ليس له فيه ملك ولا شُبْهَة مِلْك، وهو مقْطوع بتحريمه، فيتعلَّق به الحدُّ، وهكذا لو نكح المطَّلقة ثلاثاً أو الملاعَنَة أو نَكَحَ مَنْ تحته أربعٌ خامسةً، أو نكح أختاً على أخْتٍ، ووطئ عالماً بالحال، يجب عليه الحدُّ، وحكَى القاضي ابن كج فيما إذا نكح أختَهُ من الرضاع ووطئها، وادَّعَى الجَهْل بالتحريم قَوْلَيْن في أنه، هل تُقْبل دعواه، ولا خلاف في أنه لا يُقْبَل في الأخت من النَّسَبِ، ولو نكح [معتدة أو مرتدة]، أو ذات زوْجٍ أو نكح الكافِرُ مسلمةً، ووطئ، وجب الحدُّ، كما ذكرنا في نكاح المحارم، وبمثلة أجاب في "التهذيب" إذا نكح وثنيّةً أو مجوسيّةً، وقال الرويانيُّ في "جمع الجوامع": في المجوسية لا يجب الحد؛ [لأن] في نكاحها خلافاً، وهذا هو القياس إذا تحقَّق الخلاف، ولو ادعى الجَهْل يكون المرأة معتدةً، أو ذاتَ زوجٍ، حلف، إن كان ما يدَّعيه ممكناً، ودُرئ عنه الحدُّ، نص عليه، وعن القاضي أبي حامد: أنه قد نَقَل أن اليمين استظهارٌ (¬1)، ولو قالتِ المرأةُ: علمت أني معتدةٌ أو ذاتُ زوْجٍ، حدت، وإن لم يُحدَّ الرجل. ومنها: إذا استأجر امرأةً للزنا وزنا بها، لزمه الحدُّ خلافاً لأبي حنيفة. لنا: أنه عقدٌ باطلٌ، فلا يُورثُ شبهةً، كما لو اشترى حرَّة، فوطئها أو خمراً [فشربها] وأيضاً، فلو كان شبهةً لثبت به النسب، ولا يثبت بالاتفاق. ومنها: لو أباحت الوطء لرجل، فوطئها، [فعليهما] (¬2) الحدُّ، ولو أباح جاريتَهُ لغيره، فعلى ما ذكَرْنَا في ["كتاب] (¬3) الرَّهْن"، ويشبه أن لا يجيْء مذْهب عطاء في إباحة المرأة بُضْعَها؛ لأن السيد يبيح ما أبيح له، والمرأة بخلافه، وذكر صاحب الكتاب في "الوسيط": أن أبا حنيفة خالَفَ في صورة الإباحة، والمتبادر إلى الفَهْم من ذلك: أنه يسقط الحدُّ بالإباحة، والذي يوجَدُ في كتب الأئمة، أن أبا حنيفة قال: إذا أباحتِ المرأةُ جاريتَها لزوجها، فوطئها، [سقط] (¬4) الحدُّ، وسكتوا عن إباحة الرجُل جاريتَهُ، وعن إباحة المرأة بُضْعها وجاريتَها لغير الزوج. ومنها: إذا زنتْ خرساءُ بناطقٍ أو بالعَكْس، وجب الحدُّ، وعن أبي حنيفة: أنه إذا أقر أنه زنا بخرساءَ، لا يُحَدُّ؛ لأن إقرار الأخرس بالزِّنا لا يصح؛ فيصير كما لو كانت، ناطقةً، فكذبته لا يحدُّ، ونحن لا نوافقه على هذا الأصل، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وَيُقْبَل إقرار الأخرس بالزنا. ومنها: إذا زنى العاقلُ البالغُ بمجنونةٍ أو مراهقةٍ أو نائمةٍ، لزمه الحد، وإن لم يلزمها، ولو مكنت [البالغة العاقلة] مجنوناً أو مراهقاً أو نائماً، فعليها الحدُّ خلافاً لأبي ¬
حنيفة؛ حيث قال: لا يجب؛ لأن فعْل الرجُل، والحالةُ هذه، ليس بزنا. لنا: القِياسُ على الطَّرَف الآخر، ولا نسلم أنَّه ليس بزناً، ولكن لا يجبُ به الحدُّ. ومنها: لو قال: زنيتُ بهذه المرأةِ، فجَحدتْ، فعليه الحدُّ؛ لأنه أقر بما يوجِبُه، وقال أبو حنيفة: لا يجب الحد. ومنها: لو زنا بأمرأةٍ، له عليها قصاص، يلزمه الحدُّ، وقال أبو حنيفة: إذا زنا بأمةٍ، له عليها قصاص، لم يجب الحدُّ. ومنها: إذا زنا في دار الحرب، وجب عليه الحدُّ خلافاً لأبي حنيفة، ثم الأصحُّ أن للإمام أن يقيم الحدَّ هناك، إذا لم يخف فتنة، وفيه قول: أنه لا يقيمه، لما فيه من انكسار قلوب [المسلمين] (¬1). قال الغَزَالِيُّ: وَفِي المُكْرَهِ عَلَى الزِّنَا قَوْلاَنِ، وَالمُكْرِهَةُ عَلَى التَّمْكِينِ لاَ حَدَّ عَلَيْهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الضبط الذي سبق لبيان الفعل الموجب للحدِّ، ويُشْترط في الفاعل أن يكون مختاراً، فلو أُكْرِه [على الزنا] (¬2) ففي وجوب الحدِّ وجهان، وقال في الكتاب: قولان: أصحهما: أنه لا يجبُ؛ لشبهة الإكراه، وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" (¬3). والثاني: يجبُ؛ لأن انتشار الآلة لا يكون إلا عن شَهْوة واختيار. وعند أبي حنيفة: إن أكرهه السلطانُ، لم يجب الحدُّ، وإن أكرهه بعضُ الرعية، وجب، ولا يخفى أنه يشترط لوجوب الحدِّ التكليفُ حتى لا يجب على الصبيِّ والمجنونِ، ويجوز أن يقال: إن وطئها، يخرج عن الضابط المذكور بقيد التحْريم، فإنَّ فعْلَهُما لا يوصَفُ بالتحريم، ومَن لا يعلَمُ تحريم الزنا؛ لقرب عهده بالإسلام، أو لأنه نَشأ في بادية بعيدة من المسلمين، لا حدَّ عليه. رُوِيَ أن رجلاً قال: زنيتُ البارحة، فسئل، فقال: ما علمتُ أن الله حرَّمهِ، فكتب بذلك إلى عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فكتب عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "إنْ كَانَ عَلِمَ أَنَّ الله حَرَّمَهُ فَحُدُّوهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَأَعْلِمُوهُ، فَإِنْ عَادَ، فَارْجُمُوهُ" (¬4). ¬
وإن كان قد نشأ بين المسلمين، وقال: لم أعلم التحريم، لم يُقْبَل قوله، [فإنه] خلافُ الظاهرِ، ولو علم التحريم، ولم يعلم تعلُّق الحد به، فقد جَعَلَه الإِمام على التردُّد الذي ذكره فيما إذا وطئ امرأةً على ظَنِّ أنها [الجارية] المشتركة بينه وبين غيرِهِ، فكانت غَيْرَهَا [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: هَذَا هُوَ مُوجِبُ الحَدِّ وَلْيَظْهَرْ لِلْقَاضِي بِجَمِيعِ قُيُودِهِ إمَّا بالإِقْرَارِ (ح) أَو الشَّهَادَةِ، وَيَكْفِي الإِقْرَارُ (ح) مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنْ رَجَعَ سَقَط الحَدَّ، وَهَلْ يَنْزِلُ التِمَاسُهُ تَرْكَ الحَدِّ أَوْ هَرَبُهُ أَوْ امْتِنَاعُهُ مِنَ التَّمْكِينِ مَنْزِلَةَ الرُّجُوعُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، فَإنْ ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ لَمْ يَسْقُطْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَفِى سُقُوطِهِ بالتَّوْبَه قَوْلاَنِ يَجْرِيَانِ فِي كُلِّ حَدٍّ للهِ تَعَالَى. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد بان موجب الحد ومن يجب عليه، ولا بد من ثبوته عند القاضي؛ إما بالبينة أو بالإقرار [ليتمكن من إقامة الحد؛ أما البينة] (¬1)؛ فقد قال تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وأما الإقرار، فعن أبي هريرة (¬2) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: جاء مَاعزُ بن مالكٍ إلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ جَاءَ مِنْ شِقِّه الأَيْمَنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ، فَأعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَ مِنْ شِقِّهِ الأَيْسَرَ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدْ زَنَيتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: إِني قَدْ زَنَيْتُ، قَالَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرِّاتٍ، فَقَال أَبِكَ جُنُونٌ؟! قَالَ: لاَ، يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ: أُحْصِنْتَ، فَقَال: نَعَمْ، قَالَ: انْطَلِقُوا به، فَارْجُمُوهُ، فَانْطَلَقُوا بِهِ، فَلَمَّا مَسَّتْهُ الْحِجَارَةُ أَدْبَرَ يَشْتَدُّ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فِي يَدِهِ لَحْيُ حَمَلٍ، فَضَرَبَهُ، فَصَرَعَهُ، فَذَكَرُوا لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- هَرَبَهُ حِينَ مَسَّتْهُ الحِجَارَةُ، فَقَالَ: هَلاَّ تَرَكْتُمُوهُ قَالَ الأصحاب: لم يكن ترديدُ النبىِّ -صلى الله عليه وسلم- ماعزًا لِيُقِرَّ أربَعَ مرات، ولكنه ارتابَ في أمرِهِ، فاستثبته؛ ليعرف أبه جُنونٌ أو شَرِبَ خَمْرًا أم لا؟ وإلا، فيكْفِي الإقرار ¬
مرةً واحِدَةً، وبهذا قال مالك، ويدل عليه ما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِأُنَيْسٍ: "اغْدُ إلى امْرَأَةِ هَذَا، فَإن اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا" علق الرجْم بمُطْلَق الاعتراف، وقال أبو حنيفة: لا يحدُّ، ما لم يُقِرَّ أربع مَراتٍ في أربع مجالس، واعتبر أحمد المراتِ الأربع، ولم يشترطْ أن يكونَ في مجَالِسَ متفرِّقة. ويُستحبُّ لمن ارتكَبَ كبيرةً توجِبُ حدَّ الله تعالَى أن يستر على نَفْسِه، رُوِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- (¬1) قال: "مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ القَاذُوراتِ شَيْئًا، فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ، فَإنَّ مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ، أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدِّ" قال في "التهذيب": ويخالف ما إذا قَتَل أو قَذَفَ، يُسْتَحَبُّ له الإقرارُ؛ ليستوفَى منه القصاص أو حدُّ القذف؛ لما في حقوق الآدميين من التشديد، ويشبه أن يقال: يجب عليه أن يعترفَ، ولا يقتصر على الاستحباب، وقد مَرَّ نحوه في أول اللِّعان، وهل يُسْتحبُّ للشهود [كتمان] (¬2) الشهادة في حُدُود الله تعالى؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لئلا تتعطَّل (¬3)، وإذا ثبت الحدُّ، لم يجز العفو عنه، ولا الشفاعة، ¬
ولو أقر على نفسه بالزنَا، ثم رجع عنه، سقط الحدُّ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد؛ لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في قصَّة مَاعز: "لَعَلِّكَ قَبَّلْتَ، لَعَلِّكَ لَمَسْتَ" (¬1) وهذا كالتعرّض بالرجوع، وعن مالك روايتان في قبول الرجُوع، وهل يُستحبُّ له الرجوع؟ فيه وجهان يُقَاسُ أحدهما باستحباب السِّتْر في الابتداء، ويُفْرَق في الثاني بأن الهَتْك قد حَصَل هاهنا، فلا يقنع تكذيبه نفْسَهُ، ولو كان قد قال: زنيت بفلانة، فهو مقرُّ بالزنا، قاذفٌ لها، فإن أنكرتْ أو قالَتْ: كان قَد تزوَّجَني، فعليه حدُّ الزنا، وحدُّ القذف، فإن رَجَعَ، لم يسقُطْ حد القذف، ولو قال: زنيتُ بها [مُكْرَهَةً] لم يجب حدُّ القذف، ويجب مع حدِّ الزنا المَهْرُ، ولا يسقط المَهْر بالرجوع، ولو رجع عن الإقرار بعْد ما أقيم [عليه] (¬2) بعضُ الحد ترك الباقي، ولو قتله قاتلٌ بعْد الرجوع، ففي وجوب القصاص وجهان، رواهما القاضي ابن كج، ورأى الأصحَّ أنه لا يجبُ، ونسبه إلى أبي إسحاق، لاختلاف العلماء في أنَّه هل يَسْقُط الحدُّ بالرجوع؟ ولو رجعَ بَعْد ما جُلِد بعْض الجلد، فأتَمَّ الإِمام الجلدَ، ومات منه، والإمام مِمَّن يرى سقوط الحدّ بالرجوع، فعن أبي الحُسَيْن روايةُ قَوْلَيْن في وجوب القصاص، فإن قلنا: لا يجب، فيجب نصف الدية، أو توزَّع على السياط؟ فيه قولان، قال القاضي ابن كج: وعنْدي لا قصاص قولاً واحداً؛ لأن الزهوق حصل مِنْ مباحٍ ومحظور. والرجوع عن الإقرار؛ بأن يقول: كذبت أو رجعتُ عمَّا أقررتُ به أو ما زنَيْتُ أو كنْتُ فاخَذْتُ أو لَمسْتُ، فاعتقدته زناً؛ ولو شهد الشهود على إقراره بالزنا، فقال: ما أقررتُ أو قال، بَعْد ما حكَم الحاكمُ بإقراره، ما أقررتُ، فهذا تكذيبٌ للشهودِ وللقاضي، فلا يُلْتَفَت إليه، وعن أبي إسحاق، والقاضي أبي الطيب: أنه كما لو قال: رجعتُ أو ما زنَيْتُ؛ لأنه غير معترفٌ في الحال بوجوب الحدِّ عليه، ولو قال: لا تقيموا الحدِّ عليَّ أو هرب، أو (¬3) امتنع من الاستسلام، فهَلْ يُقام ذلك مقام الرجوع؟ فيه وجهان عن صاحب "التقريب". أحدهما: نعم؛ لاشعاره بالرجوع. وأصحُّهما: لا؛ لأنه قد صرَّح بالإقرار، ولم يصرِّح بالرجوع، ولكن يُخلَّى في الحال، ولا يُتْبَع لقوله -صلى الله عليه وسلم- (¬4) في خبر مَاعز: "فَهَلاَّ تَرَكْتُمُوهُ" والمعنى فيه أنه ربما قصد ¬
فرع
الرجوع، فيعرض عنه احتياطاً، فإن رجع، فذاك، وإلا، أقيم عليه الحدُّ، ولو اتُّبعَ الهارِبُ، فرُجِمَ، فلا ضمان؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُوجِبْ عليهم في قصَّة ماعز شيئاً، والرجوعُ عن الإقرار بِشُرْبِ الخمر كالرجوع عن الإقرار بالزنا، وفي الرجوع عن الإقرار بالسرقة وقَطْع الطريقِ خلافٌ سيأتي في "السَّرِقة" إن شاء الله تعالى: ولو تاب مَنْ ثبت زناه، فهل يَسْقط الحدُّ عنه بالتوبة؟ فيه قولان: أحدهما: نعم؛ لأنه رُوِيَ في بعض الروايات أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لماعِز: "ارْجِعْ، فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ". وَرُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "هلاَّ رَدَدتُّمُوهُ إِلَيَّ لَعَلِّهُ يَتُوبُ". وأصحُّهما، وهو الجديد، وبه قال أبو حنيفة: أنه لا يَسْقط؛ كيلا يتخذ، ذلك ذريعةً إلى إسقاط الحدود وإبطال الزواجر، ويدل عليه قولُه -صلى الله عليه وسلم- (¬1): "مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ، أَقَمْنَا عَلَيْهِ حَدِّ اللهِ تَعَالَى، ولفظ "التوبة" في قصة ماعزٍ محمولةٌ على الرجوع عن الإقْرَار، وفي موْضِع القولَيْنِ طريقان: أحدهما: أنهما جاريان فيما إذا تاب قَبْل الرفع إلى القاضي وبَعْدَه. والثاني: أن القَوْلَيْنِ مَخْصُوْصانِ بما إذا تاب قبل الرفْع، أما بعْده، فيقطع بأنه، لا يَسْقِطُ الحد، وتمام الكلام في مسألة التوبة يأتي في "قطْع الطريق" إن شاء الله تعالى. وقوله في الكتاب "ويكفي الإقرار مرةً واحدةً" معلم بالحاء والألف. وقوله "سقط الحد" بالميم، ويُرْوَى عن مالك أنَّه قال: إن ذكر [لإقراره] تأويلاً، بأن قال: حسبت المفاخَذَةَ زناً، يُقْبَل، ولا يُقْبَل الرجوعُ المُطْلَق. وقوله "فإن ثبت بالشهادة، لم يُسقِطْ بشَيْء منْ ذلك" أي بالتماس تركْ الحدِّ والهَرَب وغيرهما، وفي "النهاية" حكاية خلافٍ فيه، وكان المقصود منه أنَّا إذا فرَّعْنا على أنه يَسْقُط الحدُّ بالتوبة، فينزل ذلك منزلة التوبة على رأْي، كما ينزل منزلة الرجُوع عن الإقرار عَلَى رأْي، وهذا يجوِّز إعلام قوله "لم يسقُطْ بشَيْءٍ من ذلك" بالواو، [والله أعلم]. " فَرْعٌ": إذا أقر بالزنا، ثم شهد عليه بالزنا أربعةٌ، ثم رجعَ عن الإقرار، هل يُحَدُّ؟ حَكَى القاضي ابن كَج فيه وجهَيْن عن أبي الحُسَيْن بن القطَّان؛ نعيم؛ لأنه [بقيت] (¬2) حجة البيِّنة، وإن بَطلَتْ حجْةُ الإقرار، وشبِّهَه بما إذا شَهِدَ عليه ثمانيةٌ، ثم رجع أربعةٌ، وثبت أربعةٌ، وعن أبي إسحاق لا؛ لأنَّه لا مَعْنَى للبينة مع الإقرار، ¬
وكنا (¬1) نحدُّه بالإقرار، [وقد] بطل بالرجوع. قال الغَزَالِيُّ: وَلوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى زِنَاهَا فَشَهِدَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ عَلَى أنَّهَا عَذْرَاءُ سَقَطَ الحَدُّ (م)، وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى أَنَّهُ زَنَى وَعَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ زَاوِيَةً مِنَ البَيْتِ فَلاَ حَدَّ إذْ لَمْ يَتَّفِقوا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى أَنَّهُ زَنَى بِهَا مُكْرَهَةً وَاثْنَانِ عَلَى أنَّهُ زَنَى بِهَا مُطَاوعَةً لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الحَدُّ، وَفِي وُجُوِبهِ عَلَى الرَّجُلِ خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الكلامُ في عدد شُهُود الزِّنَا وفي رجوع بعضهم أو كلِّهم عن الشهادة مُؤَخَّرٌ إلى "كتاب الشهادات"، وهناك يذكر كيفية الشهادةِ، أنه لا بُدَّ من تفسير الزنا بخلاف ما لو قَذَفَ إنَسَاناً، فقال: زنيتُ، يجب الحدُّ، كان لم يُفَصِّل للحوق العار، وهل يُشْترط في الإقرار بالزنا التفسير كما في الشهادة، أو لا يُشْترط كما في القذْف؟ فيه وجهان. ولا فَرْق بين أن يشْهَد شهودُ الزنا في مجْلِسٍ واحِدٍ، أو في مجالس متفرِّقة، وقال أبو حنيفة: إن شهدوا في مجَالِسَ متفرِّقةٍ، لم تُقْبل، وعليهم حدُّ القذف، والاعتبار بمجْلس القاضي، طال أم قصر. لنا: أن شهادتهم مقبولةٌ عند إلاجتماع، فكذا عند التفرُّق، كما في سائر الوقَائع؛ على أنهم إذا جَاءُوا متفرقين، كانوا أبعد عن التهمة، فتكون شهادتهم أولَى بالقبول، ولو شهد الشهود، ثم غابوا، أو ماتُوا، فللحاكم أن يحكم بشهادتهم، ويقيم الحدَّ خلافاً لأبي حنيفة، وتُقْبل الشهادةُ على الزنا بعْد تطاول الزمن خلافاً لأبي حنيفةَ، ويُرْوَى عنه ¬
تحديد التطَاوُل بسنة. إذا عُرِفَ ذلك ففي الفصْل صُوَرٌ: إحداها: إذا شهد أربعةٌ على امرأة بالزنا، وشهد أربع نسوة على أنها عذراء، لا يجب عليها حدُّ الزنا، لشبهة بقاء العذرة خلافاً لمالك، ولو قذفها قاذفٌ، لم يلزمه الحد؛ لقيام الشهادة على الزنا، واحتمال أنه زالَتِ العذرة، ثم عادتْ لترك المبالغة في الافتضاض، وكذلك لا يجب حد القذف على الشُّهود، ولو أقامت هي أربعةٌ على أنه أكرهها (¬1) على الزنا، وطلبَتِ المهرَ، وشهد أربعُ نسوة عَلَى أنها عذراء، فلا حد عليه للشبهة، وعليه المهْرُ؛ لأنه يثبت مع الشبهة، ولا يجب عليها حدُّ القذْف بشهادة الشُّهود، ولو شهد اثنان على أنَّه وطئها بشبهة، [وشهد] أربع نسوة على أنَّها عذراءُ، فكذلك يجب المهر [ولا حد عليه للشبهة] قال القاضي ابن كج: ولو شهد على امرأة أربعةٌ بالزنا، وشهد أربع نسوة على أنها رَتْقَاء، فليس عليها حدُّ الزنا، ولا عليهم حدُّ القذف؛ لأنهم رَموْا بالزنا مَنْ لا يتأتى منه الزنا. الثانية: لو شهد أربعةٌ بالزنا، وعيّن كلُّ واحدٍ منْهم زاويةً منْ زوايا البيت، لم يجب الحدُّ على المشهود عليه؛ لأنهم لم يتَّفقوا على زَنْيةٍ واحدة، فأشبه ما إذا قال بعضُهم: زَنَى بالغداة، وبعضُهم: زَنَى بالعشيِّ، وقال أبو حنيفة "يجب الحدُّ عليه"، وسلم أنه لو شهد اثنان على أنَّه زنَى بها بالبصرة، واثنان على أنه زنا بها بالكوفة، أو اثنان على أنه زَنَى بها في هذا البيت، واثنان على أنه زَنَى بها في بيتٍ آخر، لا يجب الحد، وهل يجب حدُّ القذف على الشهود؟ فيه خلاف سيأْتي؛ لأنه لم يتم عدد الشهود على زنيَّة واحدة، وعند أبي حنيفة: لا يُحدُّ الشهودُ هاهنا مع مصيره إلى أن الشهود، إن نقص عددهم، يُحَدُّون. الثالثة: إذا شهد اثنان على أن فلاناً أَكْرَهَ فلانةً على الزنا، لم يثبت الزنا، وهل يثبت المهر؟ يُبْنَى على أنه، إذا شهد على الزنا أقلُّ من أربعة، هل عليهم حد القذف؟ وفيه خلاف سيأتي، فإن قلنا: لا يجب، يثبت المهر وإلا فلا، ولو شهد أربعةٌ على رجُلٍ أنه زَنَى بفلانة، وذكر اثنان منهم أنها كانَتْ مكرهة واثنان أنها كانتْ مطاوِعةً، فلا حدَّ على المرأة؛ لأنه لم يتمَّ شهودُ زناها، وهل يجب على الرجُلِ؟ يُبْنَى على أن شاهدي الطواعية، هل عليهما حد القذْف للمرأة؟ وفيه قولان؛ لنقصان العَدَد، فإن قلْنا: يجب [الحد] عليهما، وهو الأظهر، لم يجب حد الزنا على الرجُل، لخروج قولهما عن أن يكون شهادةً، وإن قلْنا: لا يجب عليهما حدُّ القذف، ففي وجوب حد الزنا على الرجل وجهان، حكاهما الإِمام: ¬
أحدهما: المنع لاختلاف الشهادة في صفة الفعْل. وأظهرهما: الوجوب، لاتفاقهم على زناه مكرهةً كانت أو مطاوعةً؛ ولذلك يجب عليه المهْر، ولا خلاف أنه لا يجبُ حدُّ القذف على شاهِدِي الإكراه، ولا يجب حدُّ القذف للرجُل، أما إذا حدَدْناه، فظاهر، وأما إذا لم نَحُدِّه؛ فَلأنَّ عددَ الشهود على زناه قَدْ تَمَّ، وإنما ردَدْنا الشهادة؛ لأمرٍ مجتَهَدٍ، [والله أعلم]. هذا تمام الكلام في طرف الوُجُوب. قال الغَزَالِيُّ: (الطَّرَّفُ الثَّانِى في كَيْفِيَّةِ الاسْتِيفَاءِ وَمُتَعاطِيهِ) أَمَّا الكَيْفِيَّةُ فَيُسْتَحَبُّ حُضُورُ الوَالِي، وَإِنْ ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ فَحُضُورُ الشُّهُود وَبِدَايَتُهُم بِالرَّمْيِ وَلاَ يَجِبُ (ح) ذَلِكَ، وَلاَ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ بَل يُنَكَّلُ بِالرَّجْمِ لاَ بصَخْرَةٍ تذفف وَلاَ بِحَصَيَاتٍ تُعَذِّبُ بَلْ بِحِجَارَةٍ مُعْتَدِلَةٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الكلام في الاستيفاء في فصْلَيْن. أحدهما: في كيفيته. والثاني: في مباشرته. أما الأول: ففيه صور: منها: إقامة الحدِّ على الأحرار إلى الإِمام أو مَنْ فَوَّضَ إليه الإمامُ، وإذا أمر باستيفائه، جاز للمفوَّض إليه استيفاؤُه، ولا يجِبُ حضورُ الإِمام في الرجْم، سواءٌ ثبت الزنا بالبينة أو بالإقرار، ولا حضُورُ الشهود، إذا ثبت بالبينة، ولكن يستحبُّ حضورهم وبدايتهم بالرمْي. وعند أبي حنيفة: يجب حضورُ الإمام، وَيبْدَأُ هو بالرمي إليه، ويجب حضورُ الشهودِ، إن ثبت بالبينة، ويبدءون بالرجم، ثم الإمامُ ثم الناس. لنا: أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أمر برَجْم ماعز والغامدية، ولم يحضُر، وأيضاً، فإنه لا يُشْترط حضورُهم في إقامة الحدِّ وقطع السرقة، فكذلك في الرجْم. ومنها: يستحب أن يُستوفَى الحدُّ بمحضر جماعة، قال الله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] وأقلهم أربعةٌ، وهم عدد شهود الزِّنا. وعن أحمد: أنه يكفي حضور اثنين. ومنها: لا يقتل المحصَنُ بالسيف، بل المقصود أن يمثَّل به ويُنَكَّل بالرجم، وليس لما يُرْمَى إليه تقديرٌ لا جنْساً، ولا عدداً وقد تصيب الأحجارُ مَقَاتِلَهُ، فيموت سريعاً، وقد يتباطأ موته، ولا يرمى بصخرة تذَفِّف، ولا يطول [تعذيبه]، بالحصيات
الخفيفة، بل يحيط الناس به، فيرمونه من الجوانب بحجارةٍ معتدلةٍ ومَدَرٍ ونحوها إلى أن يموت، رُوِيَ عن أبي سعيد الخدريِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في قصة ماعز قال: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِرَجْمِهِ، فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى بَقِيعِ الغَرْقَدِ، فَمَا أَوْثَقْنَاهُ، وَلاَ حَفَرْنَا لَهُ، وَرَمَيْنَاهُ بالْعِظَامِ، وَالمَدَر، والخَزَف ثُمِّ اشْتَدَّ وَاشْتَدَدْنَا حَتَّى أَتَى الحَرَّةَ، فَانْتَصَبَ لَنَا فَرَمَيْنَاهُ بِجَلاَمِيد الحَرة حَتَّى سكن (¬1). ومِنْهَا: لا يحفر للرجُل عند الرجْم، سواء ثبت زناه بالبينة أو بالإقرار، وأما المرأة، ففيها وجوه: أحدها: أنه يستحبُّ أن يحْفرَ لها إلى صَدْرها ليكونَ أسْتَرَ لها، وهذا ما أطلقه الشيخ أبو إسحاق الشيرازيُّ، والحسين الفراء. والثاني: أن الأمر فيه إلى خَيْرةُ الإِمام، إن شاء، حفر، وإلا، لم يَحْفِرْ، ولا استحباب فيه؛ لما روي أنه حفر للغامدية، ولم يَحْفر للجُهَنِيَّة، وحُكِيَ هذا عن القاضي أبي الطيب. وأشبهها، وهو المنسوب إلى الشيخ أبي حامد، والذي أورده الرويانيُّ في "جمع الجوامع" الفرق بين أن يثبت زناها بالبينة، فيستحبُّ أن يُحْفَر لها، لئلا تنْكَشف، وبيْن أن يثبت بالإقرار، فلا يُستحبُّ ليمكنها من الهَرَب، إن رجعتْ، وفي إقامة الجَلْد صورٌ أخرى يؤخرها إلى جناية "شرب الخمر"؛ لأن صاحب الكتاب ذَكَر بَعْضَها هناك. قال الغَزَالِيُّ: وَإِنْ كَانَ مَرِيضاً رُجِمَ، وَإِنْ كَانَ الوَاجِبُ الجَلْدَ أُخِّر إلَى البُرْءِ، وَإِنْ كَانَ مُجْدَجاً لاَ يَحْتَمِلُ السِّيَاطَ فَيُضْرَبُ بُعُثْكَالٍ عَلَيْهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ، فَإنْ كَانَ خَمْسُونَ ضُرِبَ مَرَّتَيْنِ ضَرْباً مُؤْلِماً بحَيْثُ يَتَثَاقَلُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الشَّمَارِيخِ، وَلاَ نُفَرقُ السِّياطُ عَلَى الأيَّامِ، وَإِنْ احْتَمَلَ سِيَاطاً خِفَافاً فَالقِيَاسُ أنَّهُ أَوْلَى مِنَ الشَّمَارِيخِ، فَإِنْ ضُرِبَ الشَّمَارِيخِ فَزَالَ مَرَضُهُ عَلَى النُّدُورِ فَلاَ يُعَادُ الحَدُّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الظاهر المشهورُ أن الرجْم لا يؤخَّر للمَرض؛ لأن نفْسه مستوفاةٌ، فلا فرق بين المريض والصحيح، وفيه وجه مذكورٌ في كتاب القاضي ابن كج "والتَهْذيب" وغيرهما: أنه إن ثبت بالإقرار فيِؤخَّر إلى أن يبرأ؛ لأنه بسبيل من الرجُوع، وربَّما يَرْجع بعْد ما رمى إلَيْه، فيُعَيَّن ما وُجِدَ من الرمي على قَتْله، وهذا الخلاف يعُود مثلُه في أَنَّه هل يُرْجَمُ في شدَّة الحر والبرد، وإن كان الواجب [الجلد] (¬2)، فإن كان المرضُ مما يُرجَى زواله، فيؤخَّر إلى أن يبرأ؛ كيلا يَهْلِكَ بتعاون الجَلْد والمرض، ¬
وكذلك المحدود والمقْطُوع في حدِّ وغيرِه، لا يقام عليه حدٌّ آخر حتى يبرأ. وعن رواية أبي الحُسَيْن بْن القَطاَّن وجه: أنه لا يؤخَّر، ويُضْرَب في المرض بحَسَب ما يحتمله من الضَّرْب بالعُثْكَالِ وغيره؛ على ما سنبين، كما أن الصَّلاة إذا وجبتْ، يؤديها المريض قاعداً، فلا ينتظر التمكُّن من القيام، ولو ضُرِبَ كما يحتمله ثم برأ، فهل يُقَام عليه حدُّ الأصحاء؟ حكى القاضي ابن كج فيه وجهَيْن، وليكونا مبنيين على أنه يُؤخَّر إقامة الجلد أو يستوفَى بحسب الإمكان؟ إن قلنا بالأول، فالذي جرى، ليس بحدٍّ؛ فلا يسقط، كما لو جُلدِ الزانِي المحْصَنُ، لا يسْقُطُ عنه الرجْم، وإنْ قلنا بالثاني، فلا يُعاد الحدُّ، وإن كان المرضُ مما لا يرجَى زواله؛ كالسُّلِّ، والزَّمَانَة أو كان مُخْدَجاً ضعيفَ الخلقة (¬1)، لا يَحْتَمِل السياطَ، فلا يؤخَّر الحدُّ؛ إذْ لا غاية تُنْتَظر، ولا يُضْرب بالسياط؛ لئلا يَهْلِك، ولكن يُضْرب بعُثْكالِ عليه مائةُ شمراخٍ، وهو الغصن ذو الفُرُوع الخفيفة. وعند أبي حنيفة ومالك [أنَّه] (¬2) يضرب بالسياط، ثم [عن] أبي حنيفة: أنه يجمع مائةُ سوط، ويضرب بها دفعةً واحدةً، وعن مالك: أنه يُضْرب بالسياط [مفرَّقَة] على الأيَّام. لنا ما رُوِيَ (¬3) عن أبي أمامة بن سهل بن حُنَيْف: "أن رجلاً مُقْعدًا زَنَى بامرأةٍ، فأمر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُجْلَدَ بإثكالِ النَّخْلِ" والإثكالُ والعُثْكَال واحد ويُرْوَى (¬4) أنه أمر أن يأخُذوا مائةَ شمراخٍ، فيضربوه بها ضربةً واحدةً. ولا يتعيَّن الضرب بعُثْكال النخْل، بل يقوم [مقامه] الضَّرْب بالنعال (¬5) أطراف ¬
فروع
الثياب، كذلك حكاه ابن الصبَّاغ والرويانيُّ وغيرهما، ثم فيه فروع: الأول: إن كان على الغصْن مائةُ فرْعٍ، ضرب به دفعةً واحدةً، وإن كان عليه خمسونَ، ضُرِب به مرتين، وعلى هذا القياس. والثاني: لا يكفي الوضع عليه، بل؛ لا بُدِّ مما يسمى ضرباً، وينبغي أن تَمَسَّه الشماريخ، أو [ينكبس] بعْضُها على بعْض [ليثقل الغصن] ويناله الألم، فإن لم يَمَسَّهُ، ولا انْكَبسَ (¬1) بعضُها على بعض، أوشَكَّ فيه، لم يَسْقط الحدُّ، وفي "النهاية" ذكْر وجْه ضعيف: أنه لا يُشْتَرط الإيلام. والثالث: لا تُفَرَّقُ السياطُ على الأيام، وإن احتمل التفريق، بل يقام عليه الحدُّ الممكِنُ، ويُخَلَّى سبيله. والرابع: سيأتي في "حد الشرب" الكلام في صفة السوْط الذي يُجْلَد به، فإن كان لا يحتمل الضرْبَ بها، وأمكن ضربه بقضبان وسياط خفيفة، فقد تردَّد فيه الإِمام، وقال: ظاهر كلام الأصحاب: أنه يُضْرب بالشماريخ، والذي أراه أنه يُضْرَب بالأسواط الخفيفة؛ لأنه أقرب إلى صورة الحدِّ. والخامس: لو بَرأَ قبل أن يُضْرب بالشماريخ، أقيم عليه حد الأصحاء، وإن بَرَأ بعده، لا يعاد عليه الحدُّ بخلاف المعضوب، إذا حُجَّ عنه، ثم اتَّفق برؤه؛ لأن الحدود مبنية على الدرء، وفي إقامة الضرب بالشماريخ مُقَامَ الضرباتِ والجَلْدِ بالسياط مزيدُ كلام يُذْكر في "الأيمان"، ويجوز أن يُعْلَم قوله في الكتاب "رجم" بالواو، وكذا قوله "أُخِّر إلى البُرْء" وقوله "فَيُضْرَبُ بعُثْكَال" بالحاء والميم، وقوله "ضرباً مؤلماً" يتعلق بقوله "فيُضْرَبُ بعثكال" لا بقوله "ضُربَ مرتين" خاصة، ويجوز أن يُعْلَم قوله "مؤلماً" بالواو، وقوله "ولا تُفَرَّق" بالميم؛ لما قدَّمنا. وقوله "فالقياس أنه أولَى من الشماريخ" أراد به الرأْيَ الذي [رآه] (¬2) الإِمام، وليس المعنى أنَّه يجوز الضربُ بها والضرَّبُ بالشماريخ [والضرب بها] أولَى، ولكن المعنى أنه أقرَبُ إلى صورة الحدِّ؛ فيتعيَّن. فُرُوعٌ: يؤخَّر القطْع بالسرقة إلى البرء أيضاً، ومَنْ لا يرجى زوال مرضه، إذا سَرَق، هل يُقْطَع؟ حكَى صاحب "البيان" فيه وجهين: المذْهَبُ منهما، وهو المذكور في "التهذيب"، أنه يُقْطَع، وإلا، ففيه إهمال ¬
الحدِّ، وإذا وجب حَدُّ القذف على مريض، قال القاضي ابن كج: يقال للمستحِّق: إما أنْ تَصْبر إلى البرء أو "يَقْتَصِر على الضَّرْب بالعُثْكال"، وفي "التهذيب": أنه يجلد بالسياط سواءٌ كان المرضُ مما يرجَى زواله أو مما لا يرجَى؛ لأن حقوق العباد مبنية علَى التضييق (¬1)، وجلْدُ الشُّرْب كَجلْدِ الزنا. قال الغَزَالِيُّ: وَلاَ يُقَامُ الجَلْدُ فِي فَرْطِ الحَرِّ وَالبَرْدِ، وَكَذَا الرَّجْمُ (و) وإنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ سُقُوطُهُ برُجُوعِهِ أَوْ تَوْبَتِه بَلْ يُؤَخَّرُ إلَى اعْتِدَالِ الهَوَاءِ، وَهَذَا التأْخِيرُ مُسْتَحَبٌّ وَلَكِنْ إنْ تَرَكَهُ فَهَلَكَ فَالنَّصُّ أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ، وَنَصَّ أَنَّهُ لَوْ خَتَنَ المُمْتَنِعَ عَنِ الخِتَانِ فِي الحَرِّ فَسَرَى ضَمِنَ، وَقِيلَ قَوْلانِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ، وَقِيلَ: إِنَّ الخِتَان فِي الأَصْلِ لَيْسَ إلَى الإِمَامِ فَلِذَلِكَ ضَمِنَ، فَإنْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ احْتُمِلَ أَنْ يُقَالَ التَّأْخِيرُ وَاجِبٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وكما لا يقَام الجلْدُ في المرض خشيةَ الهلاك بِتَعَاوُنِ الجَلْدِ والمرض، لا يقام في الحَرِّ والبَرْدِ المُفْرِطَيْنِ خشيةَ الهلاك بتعاون الجَلْد والهواء، ولكن يؤخَّر إلى اعتدال الهواءِ، وكذلك القَطْع في السرقة بخلاف القصاص وَحَدِّ القَذف. وأما الرجْم، فإن ثبت بالبينة، لم يؤخَّر؛ لأنه مقتولٌ، وإن كان الزمان معتدلاً، وإن ثبت بالإقرار، فوجهان: أحدهما: أن الحكْمَ كذلك؛ لثبوت ما يوجب الهلاك. والثاني: يؤخَّر؛ لأن الرجوع عن الإقرار مقْبولٌ، وقد يَرْجِع بعد تأثير الرميْ فيه، فيُعينُ الهواء على إهلاكه، وفَرقَ صاحب "التهذيب" بينه وبين ما إذا ثبت الرجْم على امرأة بلعان الزوْج، حيث لا يؤخَّر، وإن كان قد يَسْقط بلعانها؛ لأن الرجوع عن الإقْرار مستحبُّ، وإن كان صادقاً في الإقرار ولعان المرأة، بعْد امتناعها عنْه، وهي محقة في الامتناع، غير مستحبٍّ بل غير جائز، فصار كما لو ثبتَ بالبينة، لا يؤخَّر، وإن كان يُتوهَّم سقوطه برجوع الشهود؛ لأنهم إذا كانوا صادِقِينَ، لا يجوز لهم الرجوع، والذي يميل إلَيْه كلامُ أكثرهم أنَّه لا يؤخَّر، وقد صرَّح به مُصرِّحون، والذي أورده صاحب الكتاب: أنه يؤخَّر، وفي المريض قال: يُرْجَم في الحال من غير فَرْق بين أن يثبت بالإقرار أو بالبينة، والخلافُ في الصورتين واحدٌ فَلْيَكُنِ الجوابُ فيهما واحداً. وقوله "إن كان يُتوهَّم سقوطه برجوعه" يَعْني عن الإقرار، إذا ثبت بالإقرار، وأما قوله "أو بثوبته" فالمقصود منه أنَّا إذا قلْنا: إن الحد يسقط بالتوبة، فقياس التأخير لتوقُّع ¬
الرجوع أن يُؤخَّر لتوقُّع التوبة، وهذا ينساق إلى التأخير أبداً، وهو بعيدٌ، ولم يتعرَّض لذلك في "الوسيط"، ويجوز أن يُعْلَم قوله "أو بثوبته" [بالواو؛] (¬1) للخلاف في أنه هل يَسْقُط بالتوبة؟ وقوله "بل يؤخَّر إلى اعتدال الهواء" أي كلّ واحد من الجَلْدِ والرَّجِمْ؛ حيث يُتوهَّم سقوطه؟ وإذا جَلَدا الإمامُ في المَرَض أو في شدَّة الحرِّ أو البَرْدِ، ولم يؤخِّر، فهلك المجلُودُ بالسراية، فالنص أنه لا يَضْمَنُ، وعن نصه في موضعٍ آخرَ أنه لو [خَتَنَ] (¬2) الأَقْلَفَ (¬3)، في شدةِ الحَرِّ أو البَرْدِ، فَسَرَى إلى نفْس، أنه يَضْمَنُ، وفيها طريقان: أحدهما: [أن] (¬4) في المسألَتَيْنِ قولَيْن بالنقل والتخريج. أحدُهما، أنه لا ضمان فيهما، لأن التلَفَ حَصل مِنْ واجبٍ أقيم عليه. والثاني: يجب، لتقصيره بترك التأخير. والثاني: تقرير النصَّيْن، وفُرِقَ بأن الحدَّ ثبت نصّاً، والختانُ ثبَتَ بالاجتهاد، وبأن استيفاء الحدود إلى الإِمام، فلا يؤاخَذُ بما يتولَّد منها، ويقضي إليه عاقبتها، والختانُ لا يتولاَّه الامامُ في الأصْل، بل يتولاَّه الإنسان مِنْ نَفْسِه، أو يقوم به وليُّه في صِغَره، فإذا تولاَّه الإمامُ بالنيابة، شَرَط عليه سلامة العاقبة، والظاهر في إقامة الجَلْد: أنه لا يَضمْن، وإن أثبتثا الخلافَ، ثم إذا قلنا: [بوجوب] (¬5) الضمان، فيجب جميعه أو نصْفه، وكأن الهلاك حَصَل مِنْ مباح ومحظور؟ فيه (¬6) وجهان، وهل الضمان على عاقلة الإِمام، أو في بيت المال؟ فيه خلاف قد سَبَقَ في نظائره، وسيأتي أيضاً، وللإمام مباحثةٌ هاهنا، وهي (¬7) أَنَّا، إن لم نوجب الضمان، فالتأخيرُ مستحبٌّ لا محالة، وإلا، لوجب الضمان بالتعدِّي، وإن أوجبنا الضمانَ، فوجهان: أحدهما: أن التأخير واجبٌ، وإنما ضَمَّناه لِتَعَدِّيهِ بترك الواجب. والثاني: أنه يجوز التعْجيل، ولكن بِشَرْط سلامة العاقبة، كما في التعزيرات، وقد يُفْرَق بأن التعزيرَ غير مقدَّر، فيمكِنُ أن يقال: التعزير المأمور [به] هو الذي لا يُهْلِك، فإذا هَلَك، تبيَّن أنه لم يقتصر على المأمور به، والحدُّ مأمور به مع كونه مهلِكاً، فإنه لو والَى متعدٍّ بضرب مائة سَوْط، لوجب عليه القصاص، وقوله في الكتاب "فإن أوجبنا ¬
الضمان، احْتُمِلَ أن يقال: التأخير واجبٌ بَعْد ما ذكر أوَّلاً أنه مستحبٌّ إشارةً إلى هذه المباحثة،. والنظْم يُشْعِر بأن الظاهر الاستحبابُ، وفي "المهذَّب" وغيره إطلاقُ القولِ بأنه لا يجوزُ التعجيلُ في شدة الحَرِّ والبردِ، ويجوز أن يقال بوجوب التأخير مع الاختلاف في وجُوب الضمانِ، لو لم يؤَخَّر، كما نقول: يوجب الآحاد تفويضَ إهلاك [الزاني] (¬1) المحْصَن إلى الإِمام مع الخلاف في وجوب الضمان، لو قتله قاتلٌ، ولم يفوِّض إلى الإِمام، وقوله "ولكن إن تَرَكه" أي ترك الإمامُ التأخير. والخلافُ في وجوب الضمان، إذا لم يؤخِّر إلى اعتدال الهواء يَجْرِي فيما إذا لم يؤَخِّر جلْدَ المريض إلى أن يَبْرَأَ، فهلَك منه بلا فَرْق. قال الغَزَالِيُّ: وَأَمَّا مُسْتَوفِي الحَدِّ فَهُوَ الإِمَام في حَقِّ الأَحْرَارِ وَالسَّيِّدُ فِي حَقِّ الرَّقِيقِ الْقِنِّ دُونَ المُكَاتَبِ (و) وَمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ (و)، وَالمُدَبَّرُ وَأُمُّ الوَلَدِ قِنٌّ، ثُمَّ لِلإِمَامِ الاسْتِيفَاءُ أَيْضاً، فَإنِ اجْتَمَعَ السَّيِّدُ وَالسُّلْطَانُ فَأَيُّهُمَا أَوْلَى فِيهِ احْتِمَالٌ، وَللسَّيِّد أَيْضاً التَّعْزِيرُ، وَهَلْ لِلْمَرْأَةِ وَالفَاسِقِ وَالمُكَاتَبِ اسْتِيفَاءُ الحَدِّ مِنْ عَبِيدِهِمْ فِيهِ خِلاَفٌ مَبنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ بِطَرِيقِ الوِلاَيَةِ وَاسْتِصْلاحَ المِلْكِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ اسْتِصْلاَحاً لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ القَتْلُ فِي الحَدِّ، وَفِي القَطْعِ خِلاَفٌ، ثُمَّ ذَلِكَ كُلُّهُ إِذَا شَاهَدَ السَّيِّدُ زِنَاهُ أَوْ أَقَرَّ، فَإنْ قَامَتْ عِنْدَهُ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ فَفِي سَمَاعِ البَيِّنَةِ وَجْهَانِ، فَإنْ قُلْنَا: يَسْتَقِلُّ بِالحُكْمِ فَلاَ أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَالِماً بأحْكَامٍ الحُدُودِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فَرَعْنَا مِن أحدِ الفصْلَيْن؛ وهو القول في كيفية الاستيفاء، والفصل الثاني: في المستوفِي والمحدودِ، إمَّا حُرٌّ أو غيره. أما الحُرُّ، فقد قدَّمنا أن استيفاء حدِّه إلى الإِمام أو مَنْ فوض إليه الإِمام؛ وذلك، لأنه لم يُستوْفَ حدٌّ في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلاَّ بإذنه، وفي عهد الخلفاء الراشدين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أجمعين إلاَّ بإذْنهم، وفي "تتمة التتمة" أن الشيخ أبا سعد المتولِّي حَكَى عن رواية القفَّال قولاً: إنه يجوز استيفاؤه [للآحاد] على سبيل الحسبة؛ كالأمر بالمعروف، وأيضاً فقد قال تعالى: {فَاَجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وهذا الخطاب عامٌّ، ويجوز أن يُعْلَم؛ لهذا قوله في الكتاب " [فهو] الإِمام في حقِّ الأحرار" [بالواو] (¬2) وأما غيره، فللسيد أن يقيم الحدَّ على مملوكه، وأن يفوِّضه [إلى غيره]، ولا يحتاجُ فيه إلى مراجعة الإمَام، ولا فَرْقَ في ذلك بين العبد والأمة، وقال ابن القاضي في "المفتاح": في العبد قولان قلته تخريجاً، وكأنه ألحق ذلك بالإجْبار على النِّكَاح، ولم ¬
يساعدْه الأصحاب على ذلك، وقطَعُوا بأنَّ له إقامة الحدِّ عليهما، وبه قال مالك وأحمد، إلا أن مالكاً شَرَطَ في الأَمةَ ألاَّ تكونَ مزوَّجة، وقال أبو حنيفة: ليس للسيد ذلك بَلْ هو إلى الإِمام، كما في الأحرار. لنا: ما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَقِيمُوا الحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ" (¬1). وعن أبي هريرةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا، وَلاَ يُثرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ، فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلاَ يُثْرِبْ، ثُمَّ إنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا، وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ" (¬2). قوله: "ولاَ يُثَرِّبْ عَلَيْهَا" قيل: لا يوبِّخْها، ولا يُعَيِّرْهَا، وقيل: لا يبالغْ في جَلْدِها، بحيث يدْمِيهَا، وكما يجوز للسيد إقامةُ الحدود على مملوكه، يجوز للإمام إقامته أيضاً، ومن ابتدر إليه منها، وقع الموقع، ونقل الشيخ أبو خَلَفٍ الطبريُّ وجهين، في أن الأولَى للسيد أن يقيم الحدَّ بنفسه، ليكون أستر، ولئلا ينقص قيمة العبْد بظهور زنَاهُ أو الأَوْلَى أن يفوضه إلى الإِمام ليخرج من الخلاف. وإذا تنازع في إقامته الإمامُ والسيِّدُ، فمن الأَوْلَى منهما؟ فيه احتمالان للإمام: أحدهما: أن السيد أولَى؛ لغرض استصْلاَح المِلْك. وأظهرهما: أن الإِمام أولَى، لولايته العامة، وإقامةُ الحدودِ من آثار الولاية، وهذا كما أنه أولى بالإمامة في الصلواتٍ، وذكر احتمالاً ثالثاً، وهو، أن يُفْرِقَ بين الجَلْد، فيُجْعَلَ السيِّدُ أَوْلَى به، وبيْن القطْع والقتْل؛ فيُجْعَل الإمامُ أولَى بهما؛ لأن إعمال السلاح لصاحب الأمر أليقُ، والعبد المشترَكُ، يقيم الحدَّ عليه مُلاَّكُه، وتُوزَّع السياط على أقْدار المِلْك، فإنْ وقَع كسْرٌ، فوَّضوا المنْكَسِر إلى أحَدِهم، وهل يُغَرِّب السيدُ، كما يجلد تفريعاً على أن العبْدَ يغرَّب؟ فيه وجهان: أحدهما: ويحكَى عن ابن سريج: لا؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ" ولم يتعرض للتغريب. وأصحُّهما: نعم؛ لأنه بعض الحدِّ، وقد ورد "أقيمُوا الحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ". [والمدَبَّر وأم الولد]، والمعلَّق عتقه بصفة، كالقِنِّ لبقاء الرقٌ وقيام ولاية السيد ¬
عليهم، والمكاتَبُ كالحرِّ، لخروجه عن قبضة السيد، وعن ابن القطَّان تخريج وجه: أنه كالقِنِّ؛ لأن المكاتب عبْد ما بقي عليه درهمٌ، ومَنْ بعضُه حرٌّ، لا يقيم [الحد عليه] إلا الإمامُ؛ لأنه لا ولاية للسيد على [الجزء] (¬1) منُه، والحدُّ متعلِّق بجملته، قال في "النهاية": ورأيت في النسخة عن الصيدلانيِّ إلحاقَهُ بالمدَبَّر، وأم الولد، وهو خطأ صريحٌ وأحْسَبُه من خلل النسخة، ثم ما سبيل إقامة السيدِ الحَدَّ على مملوكه؟ فيه وجهان للأصحاب، فيُخرَّج عليهما أكثرُ صُوَرِ الفَصْل: أحدهما: أنهُ يُقيمُه بالولاية على المِلْك، كما يلي أمر تزويج المملوك. والثاني: يُقيمُه تأديباً واستصلاحاً للمِلْك، كما يعالج بالقصد والحِجَامة، وفي الفصْل بعد هذا مسائل: إحداها، فيما يقيمه السيد على المَمْلُوك من العقوبات؛ أما التعزير، فله ذلك في حقوق الله تعالى، كما يؤدِّب المملوك، لَحَقِّ نفسه، وفيه وجهٌ؛ لأن التعزير غير مضبوط، فيفتقر إلى نَظَرٍ واجتهادٍ، وأما الحدود، فله الجلْدُ في الزنا، وألحق به الجلْد في الشرب، وفي حدِّ القذْف، ورَوَى أبو خَلَف الطبريُّ عن رواية القفَّال وجهاً، أنه لا يقيم الجلْدَ في الشرب، وفَرَّقَ بينه وبين الزنا؛ بأن للسيد في بُضعِ الأمة حقاً، وكذلك في بُضْع العَبْدِ؛ ألا ترى أنه لا ينكح إلا بإذْن السيدِ، فيمكن من جَلْد المملوك؛ لجنايته على محلِّ حقه، والشربُ بخلافه، وقياس هذا الفرْقِ مجيْءُ الوجهِ المذكور في جلْد القذف. وفي قطْع السرقة والمحاربة وجهان: أحدهما، ويُحكَى عن ابن سريج: أنه لا يتمكَّن منه؛ لأن ما يقطع به السارق مختلفٌ فيه، فيحتاج إلى نَظَر واجتهادٍ، وفَرَق بينه وبيْن الجلْد بأنَّه يملك جنس الجَلْد في التعزير بخلاف القطْع، وبأن له في إقامة الحد غَرَضاً، وهو أن يَخْفَى الحال، فلا ينتقص قيمته، والقطْعُ يظهر لا محالة. وأصحُّهما، وهو ينسب إلى نصِّه في البويطي، يتمكن لإطلاق الخبر، ورُوِيَ أن ابن عُمَر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَطَع عبْداً لَهُ سَرَقَ، وأنَّ عائشةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَطَعَتْ أمَةً لَهَا سَرَقَتْ، والوجهانِ جاريانِ في القَتْل بالرِّدَّةِ واستدلَّ لجوازه، بأن حفصة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- قتَلَت أمَةً لها سَحَرَتْهَا، وإنما يقتل الساحر [بكفْره]، وبنى بعضهم الخلافَ على أن إقامة الحدِّ بالولاية على الملْك أو بطريق الاستصلاح، وقال: إن قلنا: إنه يقيم الحدَّ استصلاحاً، لم يكن له القطْع بالقتْل؛ لأن فيهما استهلاكَ المَحَلِّ دون الاستصلاح، وفَرَقَ بعضُهم بين القطْع؛ لأنه قد ينتفع بالأقطْع ويرى القطْع استصلاحاً، ¬
وبين القتْل؛ فإنه استهلاك محضٌ وهذا يشير إلى طريقةٌ قاطعةٌ بأنه [يَتمكَّن] (¬1) من القطْع، وقد صرَّح بنقلها القاضي الرويانيُّ وأجرى جماعةٌ منهم ابن الصباغ الخلاف المذكور في [القطْع والقتْل] هاهنا في القتْل والقطْع قصاصاً، وفي "التهذيب" أن الصحيح أن القطْع والقتْل إلى الإِمام، وقَدْ يخرج من هذا خلاف في حَدِّ القَذْف. المسألة الثانية، في أحوال السيد، فإن كان مستجمعاً لصفات الولاية، أقام الحدَّ، وفي المرأة وجهان: أصحهما: لها إقامة الحدِّ؛ بناءً على أن سبيلها سبيلُ الاستصلاح، ويدل عليه إطلاقُ الخَبَر، وأيضاً ما روينا عن عائشة وحفصة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- ورَوي عَنْ فَاطمةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-[أنَّها] (¬2) جَلَدَتْ أمةً لَهَا زَنَتْ. والثاني: المنع، وبه قال ابن أبي هريرة؛ لأن إقامة الحد، ولايةٌ على الغَيْر فلا يثبت للمرأة: كولاية التزويج، وعلى هذا فوجهان: احدهما: يقيمه وليُّها، كما يزوِّج معتقها. وأظهرهما: أنه يقيمه الإِمام؛ لأنه الأصل في إقامة الحدِّ، فإذا لم يكن المالكُ أهلاً، عاد الأمر إليه، والوجهان في المرأة يجريان في الفاسِقِ والكافِر والمكاتب في وجْه، لا يقيمون الحدَّ نظراً إلى معنى الولاية، ويُحْكَى ذلك عن أبي إسحاق، والأظهر: أنهم [يقيمون الحد] (¬3)، ويقال: إنه منصوص عليه في القديم في حق الفاسق، ورجَّح صاحب "التهذيب" في المكاتَبِ المنْع، وفي كتاب القاضي ابن كج: أن السيد لا يقيم الحد على عبيد مُكاتَبِهِ على المذهب، وإن قلنا: إنه يقيم الحد عليهم؛ لأنه لا يَملِكُ إعتاقهم، والتَّصرف فيهم، وفيه أنه ليس للكافر إقامة الحدِّ على عبده المُسْلِم بحال، ورقيق المجنون والصبي ذُكر فيه طريقان: أحدهما: أن أباه وجَدَّه يقيمان الحدَّ عليه، وفي الوصيِّ والقيِّم وجهان. والثاني: [أن] في الكلِّ وجهين، وربما يبنى (¬4) على الخلاف في أن وليَّ الطفْل، هل يزوِّج رقيقه؟ ويشبه أن يقال: إن جعلْنا الحد استصلاحاً، فلهم إقامته، وإن قلْنا: يقام بطريق الولاية، ففيه الخلاف، وفي "البيان" وغيره ذكر وجهين في أنَّه هل يجوز أن يكون السيد جاهلاً، بناءً على أنه استصلاحٌ أو ولايةٌ؟ وخرج على معنى الولاية أن الجَهْل يَمْنَع منها كولاية الحاكم، ولا بدَّ وأن يكون عالماً بمقدار الحد وكيفيته. ¬
المسألة الثالثة: العقوبة التي يقيمها السيِّد على عبْده يقيمُها إذا أقرَّ عبده بموجبها، ولو شاهَدَه السَّيِّدُ منه، فهل يقيم الحدَّ عليه؟ فيه وجهان بناء على القاضي هلْ يَقْضِي بعلمه في الحدود؟ والأظهر، نعم، وهو الذي ذكَره في الكتاب، وإن كانتْ عليه بينة، فهل يسْمَعُها السيد؟ فيه وجهان. أصحُّهما: نعم؛ لأنه يمْلِكُ إقامةَ الحدِّ، فيملِك سماع البينة كالإمام، وعلى هذا، فيُنْظر في تزكية الشهود، أيضاً، ولا بد وأن يكون عالماً بصفات الشهود وأحكام الحدود. والثاني: لا تُسْمع البينة، فإنه من مناصب القضاة، فلا يزاحمهم فيه بخلاف الضرب في الحدِّ، فهو تأديبٌ، فعلى هذا إذا سمع الحاكمُ البينة، وأثبت الحدَّ، كان للسّيِّد إقامته، وبنى بعضُهم الخلافَ في سماع البيِّنة على أن الحدَّ استصلاحٌ أو ولايةٌ؟ إنْ قلنا: استصلاح، لم يكن له سماعها، وإن قلنا: ولاية، فوجهان، ويجوز أن يُعْلَم لما بيَّنَّا قوله في الكتاب "والسيد في حق الرقيق" مع الحاء بالواو، ولا يبعد أن يضاف إليهما بالميم، وقوله "دون المكاتَبِ" بالواو، وكذا قوله "وللسيد أيضاً التعزير". وقوله "إذا شاهد السيِّد زناه" وقوله "وفي القطع خلاف" يجوز إعلامه بالواو أيضاً؛ للطريقة القاطعة التي تقدَّمت. فروع عن "التهذيب": لو قذف المملوكُ زوجَتَه المملوكة، هل يُلاَعِنُ السيد بينهما، كما يقيم الحد؟ فيه وجهان، ولو قذَف العبْد سيِّده، فله إقامة الحدِّ عليه، ولو قذف السيد عبده فَلَه رفْع الأمر إلى القاضي؛ ليعزِّره، وإذا زنَى ذميٌّ، ثم نقض العهْد، فاسترقَّ، لم يسقط عنه الحدُّ، ويقيمه الإِمام لا السيد؛ لأنَّه لم يكن مملوكاً يومئذ، ولو زَنَى عبْدٌ فباعه سيده، فإقامة الحدِّ إلى المشتري اعتباراً بحال الاسْتيفاءِ. قال الغَزَالِيُّ: وَكُلُّ مَنْ قُتِلَ حَدّاً أَوْ لِتَرْكِ صَلاِةٍ غُسِّلَ وكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ المُسْلَمِينَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من قُتِل حدّاً بالرجم وغيره غُسِّل، [وكُفِّن] (¬1) وَصُلِّيَ عليه، ودُفِنَ في مقابر المسلمين، وكذلك تارِكُ الصلاة، إذا قُتِل على ما بين في موضِعه، وفي "البيان" أن مالكاً قال لا يُصلَّى على المرجوم. لنا: أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر بالغامِديَّة، فَرُجِمَتْ وَصَلَّى عَلَيْهَا، وَدُفِنَتْ، وَأَمَرَهُمْ أن يُصَلُّوا عَلَى الجُهَنِيَّة، وَيَجُوز أن يُعْلَم قوله في الكتاب "أو لترك صلاة" بالألف، وقوله "غُسِّل، وكُفِّن وصُلِّيَ عليه" بالواو. وقوله "وصُلِّي عليه" بالحاء أيضاً؛ لما ذكرنا في قاطع الطريق في الجنائز، وفي ¬
(الجناية الرابعة: القذف)
حقِّ تارك الصلاة في "الجنائز" في "باب تارك الصلاة" وصورة تارك الصلاة مكرَّرةٌ. قال الغَزَالِيُّ: (الْجِنَايَةُ الرَّابعَةُ: القَذْفُ) وَهُوَ مُوجِبٌ؛ ثَمَانِينَ جَلْدَةً عَلَى الحُرِّ وَأَرْبَعَينَ عَلَى الرَّقِيقِ، فَإِنْ قَذَفَهُ مَرَتَّيْنِ وَقَدْ تَخَلَّلَ الحَدُّ تَعَدَّدَ، وَإِنْ لَمْ يَتَخَلَّلْ فَفِي التَّدَاخُلِ قَوْلاَنِ، وَقَد ذَكَرْنَا ذَلِكَ مَعَ صُوَرِ القَذْفِ فِي اللِّعَانِ. فَالَ الرَّافِعِيُّ: القذْفُ (¬1) من الكبائر، يُرْوَى أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قِيلَ: وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، والتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ" (¬2) [و] (¬3) روي أنه -صلى الله عليه وسلم- (¬4) قال: "مَنْ أَقَامَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ وَاجْتَنَبَ السَّبْعَ الكَبَائِرَ نُودِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِيَدْخُلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الجَنَّةِ شَاءَ" وذَكَرَ منْها قذْفَ المُحْصَنَاتِ ويتعلَّق بالقذف الحدُّ بالإجماع، قال [الله] (¬5) تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية ويُشترط ¬
لوجوب الحدِّ على القاذف أن يكون: مُكلَّفاً، فلا حد على [صبيٍّ]، ولا مجنونٍ، ولكن يعزَّر الصبيُّ، وكذا المجنونُ، إن كان له نوْعُ تَمْييزٍ كذلك حكاه صاحب "التهذيب" وأن يكون مختاراً، فلا حدَّ على (¬1) المكْره على القذْف، ولا فرْق بيْن المُسْلِم والذمِّيِّ والمعاهَدِ، ثم إن كان القاذف حرّاً فحدُّه ثمانون جلدةً بالأمة، وإن كان رقيقاً فأربعون، رُويَ عن عبد الله بن عامر بْن ربيعة، قال: "أَدْرَكْتُ أَبا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-: وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الخُلَفَاءِ فلم أَرَهُمْ يَضْرِبُونَ المَمْلُوكَ إِذَا قَذَفَ إلاَّ أَرْبَعِينَ سَوْطاً" (¬2) وأشار بذلك إلى أنه مُجْمَعٌ عليه، والمكاتَبُ والمدبَّر والمستولَدَةُ، وَمَنْ بعضُه رقيقٌ كالرقيق في الحدِّ، ويُشْترط لوجوب الحدِّ أن يكون المقذوفُ محصَناً، والكلامُ فيما يحْصُل به إحصانُ المقذوف، قد بيَّنَاه في "اللعان" ولا يجبُ على الأب والجدِّ الحدُّ بقذف الولدِ ووَلدِ الوَلَدِ، وعن ابن المنذر أنَّه يجبُ وهو مذهب مالكٍ، قال [لكن] يكره له إقامته. لنا: أنه عقوبةٌ لآدميٍّ، فلا يقيمه الولدُ على الوالِدِ، كالقصاص، وعلى هذا فلو ورث حدَّ القذف على أبيه من أمه، سَقَطَ، ولو قَذَفَ إنساناً بزنية واحدة، أو بزنيتَيْن، فقد سبقَ الحكم في "اللعان"، والظاهر أنَّه لا يجِبُ إلاَّ حدٌّ واحدٌ، وقوله في الكتاب "فإن قذفه مرتين وقد تخلل الحدُّ تعدَّد، وإن لم يتخلَّل ففي التداخُلِ قولان" وقد ذكرنا ذلك [مع صور القذف] (¬3) في اللعان، وليس في الكتاب ذكْرُ ذلك مفصلاً هكذا، إلا أنَّه أشار إليه بقوله (¬4) "وإن قلْنا بالتداخل" لأن قول الاتحادَ إنَّما يجري عند الاستيفاء، ولو قال لرجل: يا زاني أو لامرأته: يا زانية، فقد مر في اللعان أنه قَذْفٌ وكذا الحكْمُ، لو خاطب الخنثَى المُشْكِل بأحد اللَّفْظينِ، ولو قال له: زَنَى ذَكَرُك أو فرْجُك، قال في "البيان": الذي يقتضيه المذْهَب أن فيه وجهَيْن. أحدهما: أنه قذفٌ صريحٌ. والثاني: أنه [يكون] كناية كما لو أضاف الزنا إلى اليَد أو الرِّجْل من المرأة أو الرَّجُل؛ لأن كل واحد منهما يَحْتَمل أن يكون عضواً زائداً، فيصير كسائر أعضاء البدن ولو قال: زَنَى فَرْجُك وَذَكَرُك، فهو قذْفٌ صريح؛ لأن أحدهما أصليٌّ، والكلام في صرائح القذْف وكناياته مذكور في "اللِّعان". ¬
قال الغَزَالِيُّ: وَفِيهِ مُشَابَهَةُ حُقُوقِ اللهِ تَعَالى إذْ لا يَسْقُطُ بإبَاحَةِ القَذْفِ وَلاَ يَقَعُ مَوْقِعَهُ إِذَا اسْتَوْفَاهُ المَقْذُوفُ، وَيتَشَطَّرُ بالرِّقِّ، وَلَكِنَّ الغَالِبَ حَقُّ الآدَمِيِّ إِذْ يَسْقُطُ (ح) بِعَفْوهِ وَيُورَثُ (ح) عَنْهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قال الأصحاب: حدُّ القذْف فيه مشابهة حقوق (¬1) الله تعالَى لمسائل: إحداها: إذا قال لغَيْرِه: اقْذِفْنِي، فقَذَفَه، ففي وجوب الحدِّ وجهان، ذكرناهما في اللِّعان، وبيَّنَّا أن أكثرهم، قالوا: لا يجبُ، وهذا ما نقله الإِمام عن "المنهاج" للقاضي أبي الطيِّب، وقال: إنَّه رواه عن شيْخِه أبي حامد ووجْهُ الوجوب هو الذي أورده في الكتاب، وأشار الإِمام إلى ترْجِيحِه، وقد يُوجَّه بأن العار يَلْحَق العشيرة، فالإذْنُ لا يؤثِّر في حقهم (¬2). والثانية: إذا استوفَى المقذوفُ حدَّ القذف، لم يقع الموقع كحد الزنا، إذا أقامه واحدٌ من الرعايا؛ وهَذَا لأن مواقع الجَلدات والإيلام بها تختلف، ولا يُؤْمن التخفيف فيها، بخلاف ما لو قَتَل الزاني، المحْصَنَ واحدٌ من الرعايا يقع قتله حدّاً، وفي حدِّ القذف وجْه أنَّه يقع الموقَع، كما لو استقل مَنْ له القصاصُ بالاقتصاص. والثالثة: أنه يَنْشَطِر بالرِّقِّ، كما سبق، وما يجب حقّاً الآدميِّ لا يختلف بين أن يجبَ على الحُرِّ أو العبْد. لكن المغلَّب فيه حقُّ الآدميِّ لمسائل منها: أنه لا يُسْتَوْفَى إلا بمطالبته بالاتفاق. ومنها: أنه يورَثُ، وخالف أبو حنيفة في المسألَتَيْن، وقد ذكرناهما في "اللعان"، ولم يَرْتَضِ الإمامُ القولَ بأن الغالِب في حدِّ القذف حقُّ الآدميِّ، وقال: إذا قلْنا: إنه يستوفى بطلب المقذُوف، ويسقط بعفوه، [فلم] يغادر من تمحيض حقِّ الآدميِّ شيئاً. نعم، يجوز أن يقال: إنه مشابه حدودَ الله تعالى [في] بعض الوجوه، والقصاص [أيضاً] كذلك، فإن الغرض الأظْهَرَ منْه الزجْرُ، لكنه يجعل حقاً محْضاً لآدمي، وقد ¬
يقال: هذا مضايقة في العبارة والمعْنَى واحد. (¬1) فرع: لو عَفَا عن الحدِّ على مالٍ؛ فأحد الوجهين: أنه تُفْدَى المرأة بالمال في الخُلْع. والثاني: المنع، ونظيره العفْو عن الشُّفْعة على مال. فرع: من التعريض بالقَذْف أن يقول: ما أنا بِابْنِ إسْكَافٍ، ولا خبَّازٍ، ولو قال: يا قوَّادُ، فليس ذلك صريحاً في قَذْف زوجته، وإنما هو كناية، وكذا لو قال: يا مؤاجر، ليس بصريح في القذف؛ بأنه يؤتَى، هذا هو المشهور، عن الشيخ إبراهيم المروروذي: أنه حَكَى عن أستاذه التيميِّ (¬2) أنه قال: هو صريح؛ لاعتياد الناس بالقَذْف به، ومنْهم من يجعله صريحاً في العامي خاصَّة. فرْعٌ: رماه رام بحجرٍ، فقال: مَنْ رماني فأمُّهُ زانيةٌ، إن كان يَعْرِف الذي رماه، فهو قاذف، وإلاَّ، لم يكن قاذفاً؛ لعدم [التعيين] (¬3). قال الغَزَالِيُّ: وَإِنَّمَا يَجِبُ الحَدُّ بِقَذْفٍ لَيْسَ عَلَى صُورَةِ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ شَهِدَ بِالزِّنَا أَرْبَعَةٌ فَلاَ حَدَّ، وَإِنْ شَهِدَ ثَلاَثةٌ فَقَوْلاَنِ، وَلَوْ شَهِدَ عَبْدٌ أَوْ ذمِّيٌّ وَجَبَ حَدُّ القَذْف وَإِن شَهِدَ فَاسِقٌ مُعْلِنٌ فَقَوْلاَنِ، وَإِنْ كَانَ مُكَاتَباً فَقَوْلاَنِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلَى بِأَنْ لاَ يَجِبَ، وَإِنْ رَدَّ القَاضِي شَهَادَتهُمْ لِأَدَاءِ اجْتِهَادِهِ إِلَى فِسْقِهِمْ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ ثُمَّ رَجَعَ وَاحِدٌ حُدَّ الرَّاجِعُ (و) دُونَ المُصِرِّ، وَقِيلَ فِي المُصِرِّ قَوْلاَنِ، وَالشِّهَادَةُ هِيَ الَّتِي تُؤَدَّى في مَجْلِسِ القَضَاءِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَمَا عَدَاهُ قَذْفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الرمي بالزنا لا في مَعْرِض الشهادة يوجِبُ حدَّ القذف، فأما في معرض الشهادة فَيُنْظَرُ إن تَمَّ العدد وثبتوا، أقيم حد الزنا على المرميِّ، ولا شيْء عَلَيْهِمْ، وإن لم يتم العدد كما إذا شهد اثنان أو ثلاثةٌ، فهل يجب الحدُّ على مَنْ رماه بالزنا؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأنهم جاءوا شاهدين؛ ليقام عليه حدُّ الله تعالى، لا هاتكين، ¬
[فإن] (¬1) أوجبنا الحدَّ لم يَأمَنْ كُلُّ واحدٍ أن لا يساعده الآخرون، فيمتنع الشهودُ من الشهادة، وتتعطَّل الحدود، ويقال: إنه أومأ إلى هذا في الجَديد (¬2). وأظهرهما: وهو الذي نصَّ عليه قديماً وجديداً، وبه قال أبو حنيفة ومالك: أنهم يُحَدُّون؛ لما رُوِيَ أنه شَهِدَ عنْد عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- على المُغِيرة بن شعبة بالزنا أبو بكرة ونافعٌ ونُفَيْعٌ، ولم يصرِّح به زيادٌ، وكان رابعهم، فَجَلَدَ عُمَرَ الثلاثةَ، وكان ذلك بمَحْضَرٍ من الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولَمْ يُنْكِر عليه أحدٌ، ولأنا إذ لم نَحِد الشهودَ، إذا لم نكمل العدد، لم نأمن أن يتخذ صورة الشهادةَ ذريعةً إلى الوقيعة في أعراض الناس، ولو شهد على زنا المرأة زوْجُها مع ثلاثة فالزَّوْج قاذف؛ لأن شهادته عَلَيْها غير مقبولة، وفي الثلاثة القولان، ولو شهد أربع نسوة أو أربعة مِنْ أهل الذمة أو العَبِيد أو أربعة فيهم (¬3) امرأةٌ أو ذميٌّ أو عبْدٌ، فطريقان: أحدهما: أن في وجوب حد القذف عليهم قولَيْن أيضاً، وينزل نقصان الصفة منزلة نُقْصَان العَدد، وهذا ما أورده ابن الصبَّاغ. وأصحُّهما: أنهم قَذَفَةٌ يُحَدُّون بلا خلاف؛ لأنهم ليْسُوا من أهل الشهادة في الزِّنا، فلم يقْصِدوا [إلاَّ] (¬4) إلحاق العار به، وصوَّر الإِمام المسألةَ فيما إذا كانوا في ظاهر الحَال بصفة الشُّهود، ثم بانوا عبيداً أو كفَّاراً، والمَعْنَى فيه أنه إذا عَرَف القاضي حالَهم، لا يُصْغِي إليهم، ولا يَلْتَفِت إلى كلامهم، ويَخْرُج رميُهم عن أن يكون في معْرِض الشهادة، ولو شهد أربعَةٌ من الفَسَقَة أو أربعةٌ فيهم فاسقٌ نُظِر إن كان سبب فِسْقهم مقطوعاً به؛ كالزنا وشرْبِ الخمْر، فقد أطلق مُطْلِقون فيه طريقين: أحدهما: أن في وجوب الحدِّ عليهم قولَيْن، كما ذكرنا في نقصان العَدَد، وقد يُبْنَى الخلاف على أن القَاضي، إذا قضَى بشهادة شاهدَيْن، ثم تبين له فسْقُهما، هل ينقض الحكم؟ وفيه قولان، إن قلْنا: نعم، فالفسقة كالعبيد، وإلا، فلا. ¬
والطريق الثاني: القَطْع بأنهم لا يُحَدُّون، وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح عند القاضي أبي حامد؛ لأن نقصان العَدَد مستيقَنٌ، وكونُهم فسقَةً إنَّما يُعْرَف بالظن والاجتهاد، والحُدُودُ تُدْرأ بالشُّبهات، وزاد آخرون، ومنهم الإِمام وصاحب الكتاب ترتيباً فقالوا: إن كانوا مُعْلِنِين بالفِسْقِ، فقولان لابن سُرَيْج: أحدهما: أنهم قَذَفَةٌ، كالعبيد. والثاني: المَنْع؛ لأن من العلماء مَنْ يجعل الفاسق أهلاً للشهادة. وإن كانوا يكتمون الفِسْق، ويستَخْفُون به من الناس، فالخلاف مرتَّب؛ لأنهم معذورون في الكتمان، قال الإِمام: وظاهر المذهب امتناعُ الحدِّ. وإن كان سبب الفسْق مجتَهداً فيه، كشرب النبيذ، لم يلزمهم الحدُّ، وإن لم يثبت الزنا بشهادتهم؛ لأنه لا سبيل إلى إقامة الحدِّ لمظنُون مجتهد فيه، مع أنهم جاءوا مجيْء الشهود (¬1)، وفي معنى الفسْق المجتَهَدِ فيه ما إذا بأن أن في الشهود مَنْ يعادي المشهودَ عليه؛ لأن ردَّ الشهادة بالعداوة مجتَهَدٌ فيه. ولو حدَدْنَا العبيدَ الذين شهدوا، فعتقُوا وأعادوا الشهادة، قُبِلَتْ شهادتهُم، ولو لم يتم العدَدُ، فحَدَدْنَا مَنْ شهد، ثم عاد مَعَ مَن يتم به العددُ، فشهدوا، لم تُقْبَل شهادتهُم؛ كالفاسق تُردُّ شهادته، فيتوب، ويعيدها، [هكذا] (¬2) ذكره صاحب "التهذيب" وغيره. ولو شهد أربعةٌ بالصفات المعتبرة، ثم رجعوا، فعليهم حدُّ القذف؛ لأنهم ألحقوا العَار به، سواءٌ كانوا معتمِّدين أو مخطئين؛ لأنهم مفرطون في ترك التثبُّت، وفي "البيان": أن من الأصحاب مَنْ جعل الحَدَّ على القولين؛ لأنهم رمَوْهُ شاهدين، ولو رجَع بعضُهم دون بعْض، فعلى الراجع الحدُّ، وعن القاضي أبي (¬3) الطيِّب: أن فيه القولين، وأما مَنْ أصرَّ على الشهادة، فلا حد عليه لأنه لا تَقْصير منه بخلاف ما إذا شَهِدَ بعضهم، ولم يتمَّ العدد، فإنه أمكن، أن يقال: كان ينبغي ألاّ يبادر حتى يعْلَم موافقة الآخرين، وعن الشيخ أبي حامد أن منْهم مَنْ أثبت في المصر القولَيْن، ونسبه القاضي ابن كج إلى الأنماطيِّ، والظاهر الأول، ولا فَرْق بينَ مَنْ رجع بعْد قضاء القاضي بالشهادة أو قَبْلَه، وعند أبي حنيفة: إن رجَع بعضهم بعْد قضاء القاضي، فالحدُّ على الراجع دون المصرِّ، وإن رجع قبله، وجب الحد على الكل، وإن شهد أكثرُ من أربعة، ثم رجعَ بعْضُهم، فإن بقي أربعة، فلا حدَّ على الراجعين، وإلا، [فعلى الراجعين الحد] كما إذا شهد ثمانية، ورجع خمسةٌ، فعلى الراجعين الحَدُّ. ¬
فرع
وقوله في الكتاب "ولو شهد عبْدٌ أو ذميٌّ" أي كان في الشهود عبد أو ذميٌّ، ويُقَاس به ما إذاكان الكُلُّ ذميين أو عبيداً، ولْيُعْلَم قوله "وجب حد القذف" بالواو لطريقة القولَيْن، ويجوز أن يُعْلَم قوله "حُدَّ الرَّاجِعُ" بالواو أيضاً، وقوله "والشهادة هي التي تؤدَّى في مجْلِس القضاء" إلى آخره مقصوده بيان موضِع الخلاف ما إذا لم يتمَّ العددُ، وكان الرميُ على هذه الصورة، وأما الرمي في غَيْر مجلس القاضي أولا بلفظ الشهادة، فهو قذْف بلا خِلاف. فرْعٌ: شهد واحدٌ على إقراره بالزِّنا، ولم يتم العدد، حكى القاضي ابن كج فيه طريقَيْن: أحدهما: أن في وجوب الحدِّ عليه الخلافَ المذكورَ، فيما إذا لم يتم الشهود على نفْس الزنا. وأظهرهما: الجزم بالمَنْع؛ لأنَّه لا حدَّ على مَنْ قال لغيره: أقررتُ بأنَّك زنيت، وإن [ذكره] في معرض القذْف والتعيير. فرْعٌ: لو تقاذَف شخْصان لم يتقاصَّا؛ لأن التقاصَّ إنما يكون عند اتفاق الجنْس والصفة، والحدان لا يتفقان في الصِّفَة، إذ لا يُعْلَم التساوي؛ لاختلاف القاذف والمقْذُوف في الخلْقَة و [في] القوة والضعْف غالباً هكذا ذكره إبراهيم المروروزي. ومسائل الباب وفروعه قدْ سبَق معظمها في "كتاب اللعان"، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: (الجِنَايَةُ الخَامِسَةُ: السَّرِقَةُ) وَالنَّظَرُ فِي ثَلاَثةِ أَطْرَافٍ: (الأَوَّلُ) في المُوجِبِ وَهُوَ السَّرِقَةُ، وَلَهَا ثَلاَثةُ أَرْكَانٍ: (الأَوَّلُ: المَسْرُوقُ) وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ نِصَاباً مَمْلُوكاً لِغَيْرِ السَّارِقِ مِلْكاً مُحْتَرَماً تَامّاً مُحَرَّزاً لاَ شُبْهَةَ فِيهِ فَهَذِهِ سِتَّةُ (الشَّرْطُ الأَوَّلُ: النَّصَابُ) وَهُوَ رُبْعُ دِينَارٍ (ح م) مَسْكُوكٍ وَبِهِ يُقَوَّمُ السِّلَعُ، وَالرُّبْعْ مِنَ الذَّهَبِ الإبْرِيزِ، وَإِذَا لَمْ يُسَاوِ رُبْعاً مَضْرُوباً فَلاَ حَدَّ فِيهِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَينِ، وَيُقْطَعُ فِي خَاتَم وَزْنُهُ سُدُسٌ وَقيمَتُهُ رُبْعٌ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَلَوْ سَرَقَ دَنَانِيرَ ظَنَّهَا فُلُوساً لاَ تَبْلُغُ نِصَاباً قُطِعَ، وَلَوْ سَرَقَ جُبَّةَ قيمَتُهَا دُونَ النِّصَابِ لَكِنْ في جَيْبِهَا دِينَارٌ وَهُوَ لا يَعْلَمُ قُطِعَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ أَخْرَج نِصَاباً في دَفَعَاتٍ فَلاَ قَطْعَ وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَخَلَّلَ اطِّلاَعَ المَالِكِ وَإعَادَةَ الحِرْزِ، فَإنْ لَمْ يَتَخَلَّلْ فَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ يُفَرقُ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ طُولِ الزَّمَانِ المُتَخَلِّلِ وَقِصَرِهِ، وَخُرُوجُ البُرِّ مِنْ أَسْفَلِ الكَنْدُوجِ شَيْئاً فَشَيْئاً عَلَى التَّوَاصُلِ أَوْلَى بِأَنْ يُجْعَلَ فِي حُكْمِ دَفْعَةٍ مِنَ المُفَرَّقِ بَلْ هُوَ كَمَا لَوْ جَرَّ المِنْدِيلَ شَيْئاً فَشَيْئاً فَإِنَّهُ يُقْطَعُ، فَلَوْ أَخْرَجَ نِصْفَ المِنْدِيلِ وَتَرَكَ النِّصْفَ الآخَرَ فِي الحِرْزِ فَلاَ قَطْعَ وَإِنْ كَانَ المُخْرَج أَكْثَرَ مِنْ نِصَاب، وَلَوَ جَمَعَ مِنَ البَذْرِ المَبْثُوثِ فِي الأَرْضِ المُحَرَّزَةِ مَا بَلَغَ نِصَاباً قُطِعَ عَلَى الصَّحيحِ لِأنَّ الكُلَّ كَحِرْزٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَكُنْ
كَمَا لَوْ أَخرَجَ نِصَاباً من حِرْزَيْنِ، وَلَو اشْتَرَكَ رَجُلاَنِ فِي حَمْلِ مَا دُونَ النِّصَابِ لَمْ يُقْطَعَا، وَلَوْ بَلَغَ نِصْفَ دِينَارٍ قُطِعَا، وَينْبَغِي أَنْ تَكُونَ القِيمَةُ بَالِغَةً نِصَاباً قَطْعاً لاَ بِاجْتِهَادِ المُقَوِّمِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: السرقةُ: أخذُ المالِ على وجْه الخُفْية، ويتعلَّق بها القطْع في الجملة بالإجماع والكِتَاب؛ قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] والكلام فيما يوجِبُ القطْع، وفيما يثبت الموجِبُ به، وفي القطْعِ نَفْسِهِ، فهذه ثلاثة أطرافٍ لا بُدَّ من النظر فيها. أما الموجِبُ، فهو السرقة، ولا شك أن السرقةَ فعْل متعد يتعلَّق بمسروق، ويصدر من سارق، فهذه ثلاثة أركان، ولا بد من معرفة ما يعتبر في المْسرُوق، وفي نفس فعْل السرقة، وفي السارق؛ ليتم الموجِبُ. أما الركن الأول: وهو المسرُوق، فقد ضبط شروطَهُ في ستة. أحدُها: أن يكون نصاباً، وهو رُبُعُ دينارٍ من الذهب الخالِص، فلا قطْع فيما دون ذلك؛ لما رُوِيَ عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "يُقْطَعُ اليَدُ في رُبُع دِينَارٍ فَصَاعِدًا" وَيُرْوَى "لاَ قَطْعَ إلاَّ فِي رُبُع دِينَارٍ" (¬1) ولو سرق ديناراً مغشوشاً، نُظِر؛ هل يبلغ خالصه ربعاً أم لا؟ ولو كان المسرَوق ما سوى (¬2) الذهَب، قُوِّم بالذهب، حتى لو سَرَقَ دراهمَ، قُوِّمت بالذهب أيضاً. ¬
وعند أبي حنيفة: النصابُ عشرةُ دراهمَ، ويقوَّم الذهب وغيره بالدراهِم. وعند مالك رُبُع دينارٍ أو ثلاثة دراهم، فهما أصلان، وما سواهما يُقوَّم بالدراهم، وفي تعليق الشيخ أبي حامد: أن مذْهَب أحمد كمذْهَبنا، وجعل أبو نصْرِ بْنُ الصبَّاغ [أن] (¬1) مذهبه كمذهب مالِكٍ، وحَكَى أن ابن بنت الشافعيِّ -رَضِيَ اللهُ [عنهُمَا]- اختار مذْهَب داوُدَ، وهو أنه لا يعتبر النصاب، ويجب القَطْع بسرقة القليل والكثير، فيمكن أن يُعْلَم؛ لهذا قوله في الكتاب "أن يكون نصاباً" بالواو، وهذا قوله "الشرط الأول النصاب" إذا عرف ذلك، ففي الفصْل مسائلُ: إحداها: إنْ كان المسروقُ ربعاً من الذهب المَضْرُوب، فذاك، ولا فرق بين الصحيح والقراضة [منه (¬2)،] وبالمضروب يقَع التقْويم، إذا كان المسروقُ غيره، حتى لا يوجب القطْع، إن كان المسروقُ يبلغُ ربعاً من الذهب غير مضروب، ولا يبلغ ربعاً مضروباً، ولو سرق ربعاً من الذهب الخالِصِ، كالسبيكة والحُلِيِّ، وهو لا يبلغ ربعاً مضروباً بالقيمة، ففي وجوب القطع وجهان: أحدهما: يجب؛ لبلوغ العيْن قَدْرَ النصاب، كما في نصاب الزكاة، وإلى ترجيحه ¬
ميل كلام جماعة منْهم صاحب "التهذيب" وذكر في "البيان" أنه المذهب. والثاني: المَنع، ويُحكَى ذلك عن الإصطخري وأبوَيْ علي بْن أبي هريرة، والطبريِّ، ووُجِّه بأن المذكور في الخَبَر لفْظُ الدينار، وهذا الاسم يقع على المضْرُوب، وهذا أظهر عند الأمام وغيره، وهو الذي أورده أبو الحَسَن العبَّادِيُّ، ويؤيده أنَّا نقوِّم بالمضروب دون غير المضْرُوب، واْن غير المضروب مقوَّم؛ كالسِّلَع، ولو سرق خاتماً وزنُه دون الربع، وقيمتُه تبْلُغ بالصنعة ربُعاً، ففي القطع وجهان، إن اعتبرنا القيمة، وجب القطع، وإن اعتبرنا العين، فلا، وأراد بلَفْظ "الإبريز" في الكتاب الخالِصَ دون الثبر الَّذي إذا خلُص، نَقَص، فلا قطْع في سرقة الربْع منه بلا خلاف. الثانية: لو سرق فُلوساً ظنَّها دنانير، قُطِع، إن بلغت قيمة الفلوس نِصاباً، وإلا، لم يُقْطَع، ولو سرق دنانير ظَنَّها فلوساً، لا تبلغ قيمتها نصاباً، قُطِعَ وفي "جمع الجوامع" [للقاضي الروياني] (¬1) أن أبا حنيفة يوافِقُ فيه، ومنْهم مَنْ يُشْعِر نقلُه بأنه يخالِف فيه، ولو سرق ثوباً خسيساً؛ كجبة رثَّة، وكان في جيبها دينارٌ أو ما يَبْلُغ به قيمتها نصاباً، ولم يَشْعُر بالحال، فوجهان: أحدهما، وبه قال أبو حنيفة: لا يجب [القطع] (¬2) لأنه لم يَقْصِد سرقة نصاب، ويخالف ما إذا سرق دنانير ظنَّها فلوساً، فإنه قصد سرقة عينْها. وأظهرهما: الوجوب؛ لأنه أخرج نصاباً مِن حِرْزِهِ عَلَى قصد السرقة، والجهل بجنس المسروق وقَدْرِهِ لا يؤثِّر، كالجهل بصفته. الثالثة: إذا أخرج النصَابَ من الحِرْز بدفعتين، فصاعداً نُظِر؛ إن تخلَّل اطِّلاع المالك وإعادة الحِرْز بإصلاح النَّقْب أو إغلاق الباب، فالإخراج الثاني سرقة أخرَى، فإذا كان المُخْرِج في كلِّ دفعة دون النصاب، لم يجب القطْع، وإن لم يتخلَّل الإطلاع والإعادة، فقد أطلق العراقيون وتابعهم صاحب"التهذيب" والرويانيُّ وغيرهما [وفيه] (¬3) ثلاثة أوجهٍ: أظهرهما، وبه قال ابن سُرَيْج والقاضي أبو حامد: أنه يجب القطع؛ لأنه أخرج نصاباً كاملاً من حرز هَتَكَه، فأشبه ما إذا أخرج دفعةً واحدةً، وما إذا طَرَّ جَيْبَ إنسان، وأخذ منه درهماً فدرهماً. والثاني: لا يجب، وهو قول أبي إسحاق؛ لأنه أخذ [بقية] (¬4) النصاب من حرز ¬
مهتوك، ولأنه أخرج النصابَ بفعلَيْن، فأشبه ما إذا أخرج بَعْضَه واحدٌ وبعضه آخر. والثالث: وهو قول ابن خيران، إن عاد، وسرق الباقي بعْدما اشتهر هَتْكُ الحِرْز، وعلم الناس أو المالكُ، لم يُقْطَع، وإن عاد قبل الاشتهار، قُطِع، قال صاحب "التهذيب": ولا فرق بين أن يعود لأخْذ الباقي في تلْك الليلة أو في ليلة أخرَى، وفيه وجه أنه إن عاد في ليلة أخرى، لم يجب القطع قولاً واحداً، ورأى الإمامُ وصاحب الكتاب القَطْعَ بعدَم وجوب القطع، إذا اطَّلَع المالك على انهتاك الحِرْز وأهمله؛ لأنه مضيِّع، وحَكَيَا وجْه التفصيل على نَسَقٍ آخرَ، وهو أنه إن طال الفْصل بين الإخراجَيْن، فهما سرقتان، ولا قطْع في واحدة منْهما، وإن لم يَطُل، وجب، وعن الشيخ أبي محمَّد: أنه لو ذهب بالمسروق إلى بيته، وأسرع الكَرَّة (¬1)، فهو كطُول الفصْل، وإن قَرُب الزمان، ولو كان يُخْرِج النصاب شيئاً فشيئاً، ويضعه خارج البيت أو خارج البَابِ، حتى تَمَّ النصابُ، ولم يفارِقِ الحرْزَ، قُطِع. ويتعلَّق بالإخراج بدفعتين فصاعداً. فرعان: أحدهما: انثيال البُرِّ، وسائر الحبوب عنْد نَقْب الكَنْدُوجِ أو فَتْح بابٍ مِنْ أَسْفَلِهِ، هل هو كإخراجه باليد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، ويُنْسب إلى رواية أبي إسحاق؛ لأنه خرج بتسبُّب لا بمباشرة الإخراج، والتسبب ضعيفٌ لا ينبغي أن يتعلَّق به القطْع. وأصحُّهما: أنه كالإخراج باليد لأنَّه بما فَعَل هتك الحِرْز وفَوَّت المال، وعلى هذا فلو أخرج بِيَدِهِ أو انثال دفعةً واحدةً، ما يساوي النصاب، وجب القطع، وإن أخرجه شيئاً فشيئاً على التواصل أو انثال كذلك، بَنَى الحكم على ما لَوْ أخرج النصاب في دفعتين (¬2) فصاعداً، هل يجب القطع؟ إن أوجبنا القطع، فهاهنا أولَى، وإلا، فهاهنا وجهان: أحدهما: أن الجواب كذلك؛ لأنه ما أخرَج النصاب بإخراجةٍ واحدةٍ. وأصحُّهما: الوجوب، لأنه يُعدُّ فعلاً واحداً بخلاف الإخراجَيْن المنفصلين، وقد لا يتأتَّى إخراجه إلاَّ كذلك، ولو أخذ طرف المنديل، وأخرجه من الحِرْز جَرّاً أو طرف الجذع، وأخرجه كذلك، وجب القطع؛ فإنه شيءٌ واحدٌ، ولو أخرج نصفه وتَرَك النْصف الآخر في الحِرْز؛ لخوف وغيره، لم يجب القطع، وإن كان المُخْرَج قَدْر نصاب وأكثر؛ لأنه مالٌ واحدٌ، ولم يتمَّ إخراجه، وكذلك نقول: لو كان طرف عمامة المُصلِّي ¬
على نجاسة، لم تصحَّ صلاته، وسقوط الدراهم شيئاً فشيئاً، إذا طُرَّ الجيْبُ أو الكُمُّ كانثيال الحبوب. الثاني: لو جمع من البذر المبْثُوث في الأرْض ما يبلغ نصاباً، نُظِر؛ إن لم تكُنِ الأرض محرَّزَةً، لم يجب القطْع، وإن كانت محرَّزةٌ على ما سيأتي القَوْل فيه، ففي وجوب القطع وجهان: أحدهما: لا يجب لأن موضع كل حبة حرزٌ خاصٌّ لها، فأشبه ما إذا أخرج النصابَ من حرزَيْن. وأصحهما: الوجوب؛ لأن الأرض تُعدُّ بقعةً واحدةً، والبذورُ المتفرَّقة فيها كالأمتعة في زوايا البيْت، وينبغي أن يقال، في وجوب القطع، وإن جعلْنا الأرض حرْزاً واحداً، الخلافَ الذي سبَق في إخراج النصاب شيئاً فشيئاً. الرابعة: إذا أخرج اثنان من الحِرْز نصاباً واحداً أو أكثر، لكنه لم يبلُغْ نصابين، فلا قَطْع عليهما، وإن اشتركا في الإخْراج ولم يتميَّز فعْلُ أحدهما عن الآخر بخلاف ما لو اشترك اثنانِ في القطْع أو القَتْل، يجب القصاص عليهما، وفرق بين البابين بأن الشارع لم يوجِبِ القطع فيما دون النصاب؛ لأن الشيْء التافه قليلاً ما يحتمل [العاقل] الأخطارَ لأخذه؛ فلا يحتاج إلى الزجْر عنه بالقطع، فإذا اشترك اثنان في أخذ نصاب، كان حصة كل واحد منهما دون النصاب، فلا يشتركان في السرقة [لتحصيله]، وفي القطْع والقتْل، لو لم يوجَبِ القصاص عنْد الشركة، لجعلت الشركةُ ذريعةً إلى الإفساد والإهلاك. وعن مالك وأحمد: أنه يجب القطْع عليهما، إذا كان ما سرقاه نصاباً، كذلك نقله ابن الصباغ وغيره، ومنْهم مَنْ فصَّل الحكاية عن مالك؛ فقال: إن حَمَلا شيئاً ثقيلاً لا يَحْمِله إلا اثنان، وجب الْقَطْع عليهما، وإن كان خفيفاً، ففيه روايتان. وإن أخرجا ما يَبْلُغ نصابين قُطعا، وإن انفرد كلُّ واحدٍ منهما بإخراج مال، وجب القطْع على مَنْ بلغ ما أخرجه نصاباً، ولم يجبْ على مَنْ لم يبلغ ما أخرجه نصاباً. وقال أبو حنيفة: يُجْمَع ما أخذَه الجماعةُ، فإن بلغت حصَّةُ كلِّ واحد منهم نصاباً، وجب القطع عليهم جميعاً، ومنهم مَنْ قيِّد الرواية بما إذا اشتركوا في النقْب ثم أخرجوا. الخامسة: قال الإِمام: إذا كان المسروقُ عَرَضاً تبلغ قيمته بالاجتهاد رُبُع دينار، فقد يوجد للأصحاب أنه يجب الحدُّ، والذي أرى القطْعَ به؛ أنه لا يجب ما لم يقطع المقوِّمون بأنها تبْلُغ نصاباً، وللمقوِّمين قطْعٌ واجتهادٌ، فلا يكفي الاجتهاد والقطْع من
فرع
جماعة لا يزلون معتبر لا محالة، ومِنْ جماعة لا يبعُد الزلَل عليهم؟ فيه احتمالان: أحدهما: أنه يكتفي به، كما تُقْبل الشهادة مع أن احتمال الغَلَط قائمٌ. والثاني: المنْع بخلاف الشهادة؛ فإنها [تستند] إلى المعاينة، ويجوز أن يُعْلَم قوله في الكتاب "لم يُقْطَعَا" بالميم والألف؛ لما بَيَّنَّا. وفي كلام الإِمام ما يُجَوِّز إعلام قوله "لا باجتهاد المقوِّم" بالواو، ويَشْهد له أن القاضي الرويانيَّ ذكَر في "جمع الجوامع" أنه لو شَهِدَ شاهدان بالسرقة، فَقَوَّم أحدهما المسروقَ نصاباً، والآخر أقلَّ منه، لا يلزم القطْع، وفي المال [إن] رضي [المالك] بأقل القيمتين، فذاك، وله أن يَحْلِف مع الذي شَهِد بالأكثر، ويأخذه، ولو شَهد شاهدان؛ بأنه نصاب، وقَوَّمه آخران بما دون النصَاب، لم يجب القطع، ويؤخذ في الغرم بالأقل، وعن أبي حنيفة أنَّه يؤخَذُ بالأكثر. واعلم أن المسألة الثالثة من مسائل الفَصْل لا تتعلَّق بشرط النصاب، فإن النَّظَر فيها إلى كيفية الإخْراج، وإيرادها في غير هذا المْوضِع كان أولَى به من جهة الترتيب. فَرْعٌ: القيمة تختلف بالبِلاد والأزمان، فتتغير في كلِّ مكانٍ وزمان قيمةُ ذلك المكانِ والزمان، ويَبْعُد أن يقال: يعتبر قيمة الحجاز أو قيمةُ عَهْدِ النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال الغَزَالِيُّ: (الشَّرْطُ الثَّاني) أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكاً لِغَيْرِ السَّارِقِ، وَلَوْ سَرَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ مِنَ المُرْتَهِنِ أَوْ المُسْتَأْجِرِ فَلاَ قَطْعَ، وَلَوْ طَرَأَ المِلْكُ بِإرْثِ قَبْلَ الخُرُوجِ مِنَ الحِرْزِ فَلاَ قَطْعَ، وَبَعْدَهُ لاَ يُؤَثرُ، وَكَذَلِكَ نُقْصَانُ القِيمَةِ بِالأَكْلِ، وَالإتْلاَف قَبْلَ الإِخْرَاجِ يُؤَثِّرُ وَبَعْدَهُ لاَ، وَلَوْ قَالَ السَّارِقُ: سَرَقْت مِلْكِي سَقَطَ القَطعُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ عَلَى النَّصِّ لأنَّهُ صَارَ خَصْماً فِي المَالِ فَكَيْفَ يُقْطَعُ بِحَلِف غَيْرِهِ، وَلَوْ قَالَ المَسْرُوقُ مِنْهُ: هُوَ لَكَ فَأَنْكَرَ شَرِيكُهُ فَلاَ قَطْعَ، وَلَوْ قَالَ السَّارِقُ: هُوَ مِلْكُ شَرِيكِي في السَّرِقَةِ فَلاَ قَطْعَ، وَلَوْ أَنْكَرَ شَرِيكُهُ لَمْ يُقْطَعِ المُدَّعِي، وَفِي المُنْكِرِ وَجْهَانِ، وَلَوْ قَالَ العَبْدُ السَّارِقُ: هُوَ مِلْكُ سَيِّدِي فَلاَ قَطْعَ وَإِنْ كَذَّبَهُ السَّيِّدُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صُوَرٌ: إحداها: لا قطْع على مَنْ سرق ماله في يَدِ غيره؛ كيد المرتَهن والمُودَعِ والمستأجِر والمستعير وعامل القراضِ والشَّريكِ والوكيلِ، ولو أخذ مع ماله نصاباً آخَرَ، لزمه القطع؛ لأنه لا شبهة في النصاب الآخر. وقال أبو حنيفة: لا يجب القطْع.
ولو سرق ما اشتراه من يد البائع؛ إما في زمان الخيار أو بعد انقطاع الخيار، لم يُقْطَع، ولو سرق معه مالاً آخر، فإن كان قبل توفير الثمن، وجب القطع، وإن كان بعد توفيره فوجهان: أصحهما: المنع، كما سيذكر فيما إذا سَرَقَ من الدار المشتراة. ولو وهب منْه شيء، فرقه بعد القَبُول وقبل القبض، والأصحُّ: أنه لا يُقْطَع بخلاف ما إذا أوصَى له بشَيْء، فسرقه قبل موت الموصي؛ لأن القبول لم يقترن بالوصية، وإن سرقه بعْد موت الموصي، وقبل القَبُول، فيَنبنِي (¬1) على أن المِلْك في الوصية بم يحْصُل، إنْ قُلْنا: يملكُ الوصيةَ بالمَوْت لم يُقْطع، وإلا، قطع، ولو أوصى بمالٍ للفقراء، فسرقه فقيرٌ بعْد موته، لم يُقْطع؛ كسرقة المال المشترك، وإن سرقه غنيٌّ قطع. الثانية: إذا طرأ المُلْك في المسروق قَبْل إخراجه من الحِرْز؛ بأن ورثه السارق أو اشتراه أو انتهبه، وهو فيه، سقط القطع، وإن طرأ الملْك بعْد إخراجه من الحرز، لم يسقط القطْع؛ لكنه لو اتَّفَقَ ذلك قَبْل رفْع الأمر إلى الحاكم، لم يمكن استيفاء القطْع بناءً على أن استيفاء القطْع يتوقَّف على دعوَى المسْرُوق منْه ومطالبته بالمال على ما سيأتي، وبهذا قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: يسقط القَطْع. واحتج الأصحاب بما رُويَ أن صفوانَ بْن أمية نَامَ في المَسْجِدِ فَتَوَسَّدَ ردَاءَهُ، فَجَاءَ سَارِقٌ، فَأَخَذَهُ مِنْ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَأَخَذَ صَفْوَانُ السَّارِقَ، وَجَاءَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَ بِقَطْع يَدِهِ، فَقَالَ صَفْوَانُ: إِنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا، وَهُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، فَقَالَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- "هَلاَّ كان قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ"، ولو كانت الهبة بعد السرقة تدفع القطْع، لَأَمَرَه بإتمامها، ودفع القطع، [وأيضاً، فالاعتبار] في العقوبات [بحالة] الجناية؛ ألا ترى أنه لو زَنَى بجارية، ثم ملكها، لم يَسْقُط الحدُّ. الثالثة: لو انتقصت قيمةُ المسروق في الحِرْز؛ بأن أكل بعْضَه أو خَرَقه، وكان المُخْرجَ دون النصاب، لم يجب القطع، وإن كان النقصانُ بعْد الإخراج من الحِرْز لم يؤثِّر، واستوفى القطْع؛ خلافاً لأبي حنيفة فيما إذا كان النقصانُ بآفة سماوية. ولو شق الثوب في الحِرْز أو ذبح الشاة فيه، ثم أخرج، فعليه ضمان النقصان، ثم إن كان المُخْرَج نصاباً، فعليه القْطع، وإلا فلا، وعند أبي حنيفة: لا قطع في الشاة إذا ذبحها ثم أخرجه بناءً على أنه لا قَطْع في اللحم والأشياء الرطبة؛ على ما سنذكره، وإن ¬
شَوَاهَا في الحِرْز، فقد مَلَكَها عنْده، وقال في الثوب المشقوق: إذا كان يبلغ نصاباً يَتخيَّر المالك بين أن يأخُذَه، ولا يطالب بالأرش، وبين أن يتركه على السارق، ويطالبه بكمال قيمته، فإن أخذه، ولم يطالب بالأرش، قُطِعَ، وإلا لم يقطع؛ بناءً على أن القَطْع والغُرْمِ لا يجتمعان، وقد يُفْرّق بين الشق طُولاً [وبين] (¬1) الشَّقِّ عَرضاً، ويُجعل الشقّ طولاً مهلكاً. الرابعة: إذا ادَّعَى السارق المِلْكَ فيما أخذه على صورة السرقة، فقال: كان المأخوذ منْه، غَصَبَة مني أو مِنْ أَبِي، أو كان وَدِيعَةً عنْده أو عارية، أو كُنْتُ اشترَيْتُه مِنْه، أو وَهَبَه منِّي أو أَذِنَ لي في أخذه، فلا يُقْبَل قولُه في المال، بل يصدَّق المأخوذ منه بيمينه في نفْي الغصْب والبيْع والهبة، وبلا يمين في قوله "أَذِنَ لِي في أَخْذِ مالِه" فإنهما متفقان على أن المال لَهُ، فيرد عليه، وهل يَسْقط القطْع بدَعْوَى المْلك؟ المنصوص وبه قال أكثر الأصحاب: نعم؛ لأن ما يدَّعيه محتملٌ، والقطْع يَسْقُط بالشبهة، ولأنه صار خصماً في المال؛ ألا ترى أنه لو نَكَل المأخوذ منه وحَلَف السارق، استحق المال، ولا قطْع، فكيف يُقْطَع في مال هو خصمٌ فيه؛ ويُروَى عن الشافعيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه سمَّى هذا المدَّعِي السارقَ الظَّرِيفَ، وفيه وجْه أو قولٌ مخرَّج عن رواية أبي إسحاق المَرْوَذِيِّ أو تصرُّفه: أنه لا يَسْقُط القطْع بمجرَّد الدعوى، كيلا يتخذ ذلك [حيلة و] (¬2) ذريعةً إلى دفْع الحدِّ، قال الرويانيُّ في "الحلية": ولهذا وجه في زمان الفساد، [والله أعلم]. وفي موضع الخلاف في دعوى السارق المِلْك كَلامٌ يذكره في آخر النَّظَر الثاني من "كتاب السرقة"؛ لأن صاحب الكتاب أعاد المسألة هناك، وتكلَّم في موضع الخلاف فيها، ويجري الخلاف فيما إذا ادَّعَى السارقَ أن المسروقَ منْه عبده، وهو مجهول النَّسَب أو أن الحِرْز ملْكُه غَصَبَه [منه] المسروق منْه، وفيما إذا شهد عليه شهودٌ [بالزنا]، فادَّعَى أن المرأة زوجتَه أو كانَتْ أمةً، فقال: باعها مالِكُها مِنِّي، ورأى الإِمام الظاهرَ في حدِّ الزنا: أنه لا يَسْقُط بهذه الدعوَى، بخلاف القطْع بناءً على أن الظاهر فيما إذا قامَتْ بينة على أن فلاناً زَنَى بجارية فلانٍ الغائبِ، ولا ينتظر حضُور الغائِب، بخلاف مثله في السرقة؛ على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى، ولا يجري الخلاف فيما إذا قطع يد إنسان وادَّعَى أنه أَذِنَ لي في قطْعها بَلْ يقتص منه بلا خلاف؛ لأن القطع حقُّ الآدميِّ، وهو بمثابة المالِ، هاهنا، ولو أقر المسرُوقُ منْه بأن المال كان ملكاً للسارق، فلا قطْع بلا خلاف؛ لأن السارق إنما يُقْطَع عند الخصومة، وقد سقَطَتَ المخاصمة، وإذا فرَّعنا على ¬
النصَّ، فلو سرق اثنان وادعَيَا أن المسروق ملْكُهما، لم يُقْطَعا، وإن ادعاه أحدُهما لنفسه أو لَهُمَا، وأنكره الآخر، واعترف بالسرقة، فلا قطْع على المدَّعِي، وفي المنكر وجهان: أحدهما: وبه قال ابن القاصِّ: أن عليه القطْع؛ لأنه مقرٌّ بأنه سرق نصاباً بلا شبهة، وهذا أظهر عند الإِمام، وصاحب الكتاب، وبه أجاب صاحب "الشامل". والثاني: ويُنْسَب إلى القفَّال: أنه لا يجب؛ لأنه قد ادَّعَى ما لَو صَدَق فيه، لسَقَطَ القطْع [فصار] كما لو قال المسروقُ منه: إنه (¬1) [ملكه،] يَسْقُط القطْع، وإن كان مقرّاً بأنه سرَق، بلا شبهة، ولو قال أحدهما: هذا ملْك شريكي، وأخذتُ معه بإذنه، وأنكر الشريك، فالذي نَقلُوه أنه كالصورة [المتقدمة] لا قَطْعَ عَلَى من يدعي ملك الشريك، وفي المِنْكرِ وجهان، وقَرُب الوجهان من الوجهينِ فيما إذا شَهِدَ اثنان بالقِصاص على إنْسانٍ، فاقتص منه ثم رَجَعَا، [فقال] أحدهما: أخطأْنا، وقال الثاني: تعمَّدنا، لا قصاص على الأول، وفي الثاني وجهان، قال في "التهذيب" والأولَى أن يقال: يجب القطْع على المنْكِر؛ لأنه يدعي شبهةً وفي المدَّعِي وجهان: أحدهما: لا قطْع عليهِ؛ لأن ما يدعيه لو ثَبَت، لم يجب القطْع. والثاني: يجبُ؛ لأنه لا يدعي لنفْسه ملكًا إنما يدعيه للشريك، وهو منْكِرٌ، ونظيره من شهود القصاص أن يقول: أحدهما: تعمدنا جميعاً، ويقول الثاني: تعمَّدتُ أنا، وأخطأَ صاحِبي، يجب القصاص علَى من يقول: تعمَّدنا جميعاً، وفي الآخر وجهان، ويجوز أن يُعْلَم؛ لهذا قوله في الكتاب "لم يُقْطَع المُدَّعِي" بالواو. وقوله "ولو أنكر شريكه" فيه ما تبيَّن، أما قوله "ولو قال: السارق هُوَ ملْكُ شَرِيكِي في السَّرِقَةِ، فلا قَطْعَ" المقصود منه ما إذا صدقه الشريكُ، ويجوز أن يُعْلم قوله "فلا قطع" بالواو؛ لأن المذكور جوابٌ على النصِّ، ويجيء فيه الوجه أو القْولُ المخرَّج. ولو سرق عْبدٌ وادَّعَى أن المسروق ملْكُ سيده، فإن صدَّقه السيِّد، سقط القطْع تفريعاً على النص، وإنْ كذَّبه فوجهان: أحدهما: لا يسقط؛ لأنه يدَّعي الملك لسَّيده، وهو منْكِرٌ، كما ذكرنا في الشريك. والثاني: يَسْقِط كالحرِّ يدعي المِلْك لنفسه، وهذا ما أورده في الكتاب مع حكاية ¬
الوجهَيْن فيما إذا ادَّعَى الملْك للشريك، وأنكر الشريكُ، وإليه ذهب صاحب "التلخيص" وقد يُفْرَق بينهما بأنَّ تعلَّق السيد بالعبد فوْق تعلُّق الشريكِ بالشريك؛ ألا ترى أن يد العبد يدُ السيد، وتمليك العبد تمليكُ السيد، فجعلت دعْوَى ملْك السيد كدَعْوَى الحرِّ ملْك نفسه. ولو ادِّعَى السارق نقصانَ قيمة المسروقِ عن النصاب، لم يُقْطَع، فإن قامتِ البينةُ على أن قيمته تبلغُ تمام النصاب، قُطِع؛ بخلاف ما لو ادَّعَى أنه ملْكه، لا يُقْطَع، قاله في "التهذيب"، واعلم أن ترجمة هذا الشرْط كوْنُ المسروق ملكاً لغير السارق، والصورةُ الأولَى، والثانيةُ، والرابعة متعلِّقة بهذه الترجمة، وأما الثالثة، وهي انتقاصُ قيمة المسروق في الحرز، فهي أجنبية عنْها، [وهي] بترجمة الشرط الأول، [وهو] أن يكون المخرَجُ نصاباً أليق. قال الغَزَالِيُّ: (الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُحْتَرِماً) فَلاَ قَطْعَ عَلَى سَارِقِ الخَمْرِ وَالخَنْزِيرِ وَلاَ عَلَى سَارِقِ الطُّنْبُورِ وَالمَلاَهِي وَالأَوَانِي الذَّهَبِيَّةِ الَّتِي يَجُوزُ كَسْرُهَا إِنْ قَصَدَ السَّارِقُ بِإخْرَاجِهَا الكَسْرُ، وَإِنَ قَصَدَ السَّرِقَةَ وَرُضَاضُهَا نِصَابٌ، فَوَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لمتأمَّلٍ أن يقول: إذا شَرَطْنا أن يبلغ المسروقُ نصاباً بالقيمة، فقد شرَطْنَا أن يكون مالاً محترماً؛ لأن ما لا قيمة له لا يكونُ نصَاباً، فَإِذَنْ هذا داخل في الشرط الأول، ثم في الفقْه مسألتان: إحداهما: من سرق خمراً أو خنزيراً أو كلباً (¬1) أو جِلْد ميتة غيْرَ مدبوغ، فلا قطْع (¬2) عليه، سواء سَرَقَهُ من مسلمٍ أو ذميٍّ؛ لأنه لم يَسْرِق مالاً، فلو كان الإناءُ الذي فيه الخمْرُ يَبْلُغ [نِصاباً]، فوجهان: أحدهما: لا يجب القطْع أيضاً؛ لأن ما فيه مستحَقُّ الإراقة، فيصير شبهةً في دفْعِه، وبهذا يقول أبو حنيفة؛ لأن عنده إذا سَرَقَ ما يُقْطَع [فيه]، وما لا يُقْطَع لا [يقطع] (¬3). وأصحُّهما، ويحكى عن نصه: أنه يجب؛ لأنه سرق نصاباً من حِرْزه. ¬
وإن كان فيه بولٌ، فقد طرد في "البيان" فيه الوجهين، وقياس ما في "المهذب" و"التهذيب" القطع بالوجوب؛ لأنهما قاساه وجْهَ الوجُوب عليه، وحكَى صاحب "البيان" وجهين في وجوب القطع بسرقة ما يستهان به كقُشُور الرمان، وهو بَعِيدٌ [والصواب القطع بالوجوب]. الثانية: إذا سرق شيئاً من آلات الملاهي؛ كالطنبور والمِزْمار، وفي معناهما الأصنامُ، فينظْر؛ إن كان لا يبلغ بعْد الكسر والتغيير نصاباً فلا قطْع (¬1)، ولا عبرة بما يبذله الراغب فيه؛ للتأليف المحرَّم، وإن كان يبْلُغ بعد الكسر والتغيير نصاباً، فوجهان: أحدهما: أنه لا قطع أيضاً؛ لأنه من آلات المعْصِية، فأشبه الخمر، وأيضاً، فإنه غير محرَّز؛ لأن كل [أحد] مأمورٌ بإفساد آلات الملاهي، ويجوز الهجومُ على الدُّور لكَسْرها وإبطالها، وأيضاً، فإنه لا يجوز إمْساكها، فهي كالمغصوب، يُسْرَق من حرز الغاصب. والثاني: يجب القطْع؛ لأنه سَرَقَ ما يبلغ نصاباً من الحرْز، ويجري الخلافُ فيما إذا كان علَيْه من الذَّهَب أو الفضَّة ما يبلُغ نصاباً، والأظهر عند أبي الفرج الزاز، والإمام الوجْه الأول، وعند الأكثرين منْهم العراقيُّون، والقاضي الرويانيُّ الثاني، [و] (¬2) قال الإِمام: ويتجه أن يقال: يختلِفُ الحكم باختلاف القصْد فإن قصد السَّرِقَةَ، ففيه الوجهان، وإن قَصَد بإخراجها أن يُشْهِر تغْييرَهَا وإفسادها، فمنقطع بأنه لا يُقْطَع، وهذا هو قضية كلامِ الأصحاب، فليجعل بياناً لما أرسلوه لا احتمالاً خارجاً عن المنقول، ولَو كَسَر ما أخذه في الحرز، ثم أخرجه، وهو يبلغ نصاباً، فقد قَطَع قاطعون بوجوب القَطْع، وفي "المهذَّب" ما يقتضي إثبات الخلاف؛ لأنه حكى ثلاثة أوجُهِ، ثالثُها، وبه قال ابن أبي هريرة: أنه، إن أخرجه بعد الفصل والتغيير، قُطِعَ، وإن أخرجه قبله، لم يُقْطَع. وأما الأواني الذهبيَّةُ - والفضيَّةُ (¬3)، ففي "المهذب" و"التهذيب": أنه يجب بسرقتها القَطْع؛ لأنها تُتَّخذ للزينة لا للمعْصية، والوجْهُ وهو المذكور في "البيان" [أنه] يبني ذلك على أنه، هل يَجُوز اتِّخَاذُها؟ إن قلنا: يجوز، فيجب بسرقتها القطْع، وإن قلنا: لا يجوز، فهي كآلات (¬4) الملاهي، وهذا ما أورده الإِمام، لكنه رأَى نفْي القطْع بعيداً، ويُمْكِن أن يُعلَم قوله في الكتاب "ولا على سارق الطنبور" بالحاء (¬5)، لأن في "جَمع ¬
الجوامع" للقاضي الرويانىِّ: أن القفِّال رَوَى عن أبي حنيفة أنه يُقْطَع في الطنبور، وإن لم يبْلُغ قيمته نصاباً إلا بالصنعة (¬1) المحرمة، لكن الأثْبَتُ عنه أنَّه لا قطْع فيها، وإن بلغت بعد التغيير نصاباً. وقوله "التي يَجُوزُ كَسْرُها" يعني إذا قلْنا: بجواز كسرها، وقد تُقْرأ "للتي يُجَوَّز كسرها" وقوله: "إن قصد السارق بإخراجها الكَسْر، وإن قصد السرقة" هو ما حَكَيْنا عن الإِمام أن الحُكْم يختلفُ بالقَصْد، وقد يعترض على اللفظ؛ فيقال: إذا قصد بإخراجها الكسْر، لم يصحَّ تسميته سارقاً، وقد سمَّاه سارقاً مرتَيْن، حيث قال: "ولا على سارق الطنبور" وقال: "إن قصد السارقُ" وكان الأحسن أن يقول: "إن قصَد المُخْرِج بإخراجها الكَسْر، وإن قصد السَّرِقَة" وإذْ ذكر السارِق، فهو محمولٌ على نحو منه. قال الغَزَالِيُّ: (الشَّرْط الرَّابعُ) أَنْ يَكُونَ المِلْكُ تَامّاً قَوِيّاً وَلَوْ كَانَ للسَّارِقِ فِيهِ شَرِكَةٌ وَلَوْ بِجُزْءٍ يَسِيرِ فَلاَ يُقْطَعُ كَمَا لَوْ سَرَقَ أَلْفَ دِينَارٍ وَلَهُ مِنْهُ وَزْنُ دِينَارٍ شَائِعٍ، وَقِيلَ: يَجِبُ مَهْمَا أَخَذَ مِنْ مَالِ الشَّرِيكِ قَدْرَ نِصَابٍ فَيَجَبُ عَلَى مَنْ سَرَقَ نِصْفَ دِينَارٍ مُشْتَرَكٍ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الشَّىْءُ قَابِلاً لِلْقِسْمَةِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ حُمِلَ قِسْمَةً فَاسِدَةً وَلَمْ يُقْطَعْ وَإِلاَّ قُطِعَ، أَمَّا مَا لِلسَّارِقِ فِيهِ حَقٌّ كَمَا لِبَيْتِ المَالِ فَفِيهِ وَجْهَان: أَحَدُهُمَا: لاَ يُقْطَعُ بِحَالٍ وَالثَّانِي لاَ يُقْطَعُ إِنْ كانَ مُتَّصِفاً بِصِفَةِ الاسْتِحْقَاقِ، وَأَمَّا الابْنُ فَلاَ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ أبِيهِ وَكُلِّ مَنْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ وَإِنْ كَانَ غَنِيّاً، وَيُقْطَعُ بِسَرِقَةِ بَابِ المَسْجِدِ وَأَجْذَاعِهِ، وَفِي فُرُشِهِ وَجْهَانِ، وَفِي قَنْدِيلِهِ وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلَى بِأَنْ يُقْطَعَ، وَفِي سَرِقَةِ المَوْقُوفِ وَالمُسْتَوْلَدَةِ وَجْهَانِ لِضَعْفِ المِلْكِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فقه الفصْل مسائل: إحداها: إذا سرق أحدُ الشريكَيْن منْ حِرْز الآخر مالاً يشتركان فيه، فَهَلْ يتعلَّق القطْع بهذه السرقة؟ فيه قولان: أحدهما: نعم؛ لأنه لا حَقَّ له في نصيب الشريك. وأصحُّهما: المنع؛ لأنه ما مِنْ قَدْرٍ يأخذه إلاَّ وله فيه جزْءٌ، وإن قل، فينتهض شبهةَ دافعةً للقطْع، وهذا كما أن وطئ الجاريةِ المشتركة، لا يوجبُ الحدُّ، فعَلَى هذا، لو سرق ألف دينار، [وله] منه قدرُ دينارٍ على الشُّيوع، لم يجب القطع، وعلى الأول؛ إذا سرق من نصيب الشريك نصاباً، يجب القطع، وكيف تحصُل سرقة نصابٍ من ¬
نصيب الشريك؟ الحكايةُ عن أكثرهم: أنه إن كان المالُ بينهما بالسوية، فإذا سرق نصف دينارٍ فصاعداً، فقد سرق من الشريك نصاباً، هان كان ثلثاه للسارق، فإذا سرق ثلاثةَ أرباع دينارٍ فصاعداً، فقد سرق منه نصاباً [وقيل]: إنما يجعل سارق النصاب من الشريك، إذا زاد المأخُوذُ على قَدْر حقه [بنصاب]، فلو كان بينهما على المناصَفَة، فسَرَق نصْفَ المال وزيادةَ رُبْعِ دينار، أو كان ثلثاه للسارقِ، فسرق [ثُلُثَيْه] وزيادةَ ربْعٍ، فقد سرق [منه] نصَاباً، وإن اقتصر على أخْذ حصته، فلا قطْع؛ لإمكان أن يقع جميع المأخوذ في نصيبه عنْد القسمة، هكذا أطلق صاحب "التهذيب" نقله عن القفَّال، ومنْهم مَنْ فصَّل، وقال: إن كان المال المشتَرَكُ مما يَجْرِي فيه الإجبار على القسمة؛ كالحبوب في سائر الأموال المثلية، فإنما يجب القطع، إذا زاد المأخوذُ على قدْر حصَّته بنِصَابٍ، فإن لم يزدْ، فلا قطْع، وحُمِلَ أخذه على أنه استقل بالقسْمة، وهذه القسمة، وإن كانت فاسدةٌ، فإنها تصير شبهة دارئةً، وإن كان ممَّا لا يجْري فيه الإجبارُ؛ كالثياب، فإذا سرق نصْفَ دينار ممَّا يشتركان فيه على السوية أو ثلاثة أرباع مما ثلثاه للسارقِ، وجَب القطع؛ لأنه لا يجري فيه الإجْبار، والأخذ بغير إذن الشريك، وهذا ما أورده في الكتاب. الثانية: هل يُقْطَع من سرق [من] مال بَيْت المال، يُنْظر، إن سرق مما أُفْرِزَ لطائفة مخصوصين، ولم يكن السارق منْهم، فَنَعَمْ، وذلك كالمُفْرَز لذوي القربَى واليتامَى، قال الإِمام: وكذا الفَيْء المعدُّ للمرتزقة، تفريعاً على أنه ملكهم، هان سرق، من غيره فقد ذُكِر فيه وجوه: أحدها: أنه لا يجب القطْع بحال، سواءٌ سرق من مال الصدقات أو من مال المصالح؛ لأنه مُعَدٌّ مُرْصَدٌ لحاجات الناس، ولا فرق بين أن يكون السارقُ غنيّاً في الحال أو فقيراً، فإن الغني قد يفتقر، فأشْبَه ما إذا سرق الأبُ الموسر من مال الابْنِ، لا يُقْطَع، وإطلاق العراقيين يوافِقُ هذا الوجه، واحتج له بما رُوِيَ أن رجلاً سرق منْ بيْتِ المالِ، فكتب بعْضُ عمَّالِ عُمَر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إلَيْهِ بِذَلِكَ، فقال: "لاَ قَطْعَ عَلَيْهِ، مَا مِنْ أَحَدٍ إلاَّ ولَهُ فِيهِ حَقٌّ". وثانيها، نقله القاضي الرويانيُّ عن رواية القَّفال، أنه يجب، كما في سائر الأموال. وأصحُّها: أنه يُفَصَّل؛ إن كان السارقُ صاحبَ حق في المسروق منه، فلا قطْع، [كما] إذا سرق الفقير من مال الصدقات أو من مال المصالِح، وإن لم يكن صاحبَ حقٍّ كالغنيِّ، فإن سرق من مال الصدقات، قُطِع بخلاف الأب، إذا سرقَ من مال الابْن، وهو موسرٌ، وَفُرِقَ بينهما بأن سقوط القطْع هناك، إنما كان للبعضية والإيجاد، وإن سرق من مال المصالح، فوجهان:
أحدهما: أنه يقطع أيضاً، كَمَالِ الصدقة. وأصحُّهما: المنع؛ لأنه قد يُصْرَف ذلك المال إلى عمارة المساجدِ، والرباطات والقناطر، فينتفع بها الغنىُّ والفقيرُ، هذا إذا كان السارق مسلماً، أما إذا سرق ذميٌّ من مال المصالح، فالمشهور، وبه قال صاحب "التقريب": أنه يُقْطع؛ لأنه مخصوصٌ بالمسلمين، ولا نَظَر إلى إنفاق الإِمام عليهم عند حاجتهم؛ لأنه إنما ينفق للضرورة، وبشرط الضمان، وذلك لا يُسْقِط القطع، كما أنه ينفق على المضطر من بيت المال [بشرط الضمان،] (¬1) ولو سَرَق في غير حالة الاضطرار، وجب القطع، ولا نَظَر إلى انتفاعه بالقناطر والرباطات؛ لأنه ينتفع بها تبعاً من حيث إنه قاطِنٌ في دار الإِسلام، وفيه وجه: أنه لا قطْع عليه، كما لا قَطْع على الغني المُسْلِم، فإنه قد يُسْلم، وهذا ما ارتضاه صاحب "التهذيب" وقال: ينبغي ألا يكون إنفاق الإِمام عليه بشرط الضمان، قال: وهذا في مال المصالح، أما لو سرق مِنْ مال مَنْ لم يخلف وارثاً من المسلمين، فعليه القطْع؛ لأنه إرْثٌ للمسلمين خاصَّة، ولو كفِّن ميت من مال بيت المال، فَسَرَقَ ذلك الكفن نبَّاشٌ، تعلَّق به القطْع؛ لأنه انقطعَتِ الشركة عنْه لما صُرِف إلى تلْك الجهة، كما لو صرف إلى حَيٍّ. الثالثة؛ عن نصِّه في القديم، ورواية الحارث بن سُرَيْج [النقال]: أنه يجب القطْع بسرقة ستْر الكعبة، إذا كان محرَّزاً بالخياطة عليه. وفي كتاب القاضي ابن كج، مَعَ ذلك أن قوله الجديد والأصحّ: أنه لا قطْع بسرقته؛ لأن ليس له مالِكٌ مُعيَّن، فأشبه مال بيت المال، والذي أورده المُعْظَم الأول، وأخذُوا به، ولم يذكروا فيه خلافاً، وقالوا: إنه مال محرَّز، فأشبه سائر الأموال، وَرَوْوا أن عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- سُرِقَ في عَهْده ثَوْبٌ من منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَقَطَعَ السَّارِقَ، ولم يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ (¬2) ثُمَّ أَلْحَقُوا بِسِتْرِ الكَعْبَةِ باب المسجد وجذْعَه وتأزيره وسواريه، وأوجبوا القطْع بسرقتها ونفوه فيما يُفْرَش في المسجد من حصير وغيره، وفي القناديل المُسْرَجة، وفَرَقُوا بأن الفُرُش أُعِدَّت لينتفع بها الناسُ، والقناديل ليستضيئوا بها، والأبواب والسقوف لتحْصين المسجد وعمارته، لا للانتفاع، والقناديلُ التي لا تُسْرَج ولا يقْصَد منها إلا الزينة، كالأبواب [والسقوف، و] (¬3) هذا ما أجاب به أكثرهم، ورأى الإِمام -رحمه الله- تخريجَ وجْهٍ في الأبواب والسقُوف؛ لأنها أجزاء المسْجِد، والمساجد يَشْتَرِك فيها المسلمون، ويتعلَّق بها حقوقُهم، فهي كمال بيت المال، وذكر في الحُصُر والقناديل ونحوها ثلاثة أوجُه: ¬
المنْعَ المطَلَق، وهو قضية ما أورده [القاضي] (¬1) ابن كج، والوجوبَ المُطْلَقَ؛ كالأبواب، والفَرْقُ بين ما يقصد به الاستضاءة أو يُقْصَد للزينة، وكل هذا في المُسْلِم أما الذمِّيُّ، لو سرق الباب أو الحُصُر أو غيرهما، فيُقْطَع بلا خلاف، وذكر الفورانيُّ في سرقة بكرة البئر المسبلة: أنه يَجب القطْع، وكذلك حكاه صاحب "التهذيب" وقال: الوجه عندي أن تكون كحُصُر المسجد؛ لأنها لمنفعة الناس، وعند أبي حنيفة: لا قطع في شيء من ذلك. الرابعة: في سرقة المال الموقوفِ وجهان: أحدهما: لا قطْعِ، أما إذا قلْنا: إن الملْك فيه لله تعالى وحْده، فلأنه منفكٌّ عن ملك الآدميين، كالمباحات، وأما على غير هذا القول؛ فلأن المِلْك فيه ضعيفٌ. وأصحُّهما: أنه يجب، كما في أستار الكعبة؛ لأنه مال محرَّزٌ، والوجهان جاريان فيما إذا سَرَقَ مستولدةً، وهي نائمةٌ أو مجنونةٌ، والأصحُّ وجوب القطْع؛ لأنها مملوكة مضمونةٌ بالقيمة كالعَبْد القِنِّ، ويخالف المكاتَب؛ لأنه في يد نَفْسه، وكذا مَنْ بَعْضُه حرٌّ وبَعْضُه رقيقٌ، ولو سرق من غلة الدار الموقوفة أو ثمرة الشجرة الموقوفةِ، وجب القطع بلا خلاف، [فإذا] كان للسارقِ استحقاقٌ فيما سَرق، كما لو وقَف على جماعة، فسرق [بعْضهم أو] (¬2) أحَدَهم، أو شبهة استحقاق، كما لو سرق أبو بعض الموقوف عليهم أو ابنه أو وَقَف على الفُقَراء، فسرق فقير، فلا قَطْع بلا خلاف. وأما لفظ الكتاب فقوله: "أن يكون [المِلْك] (¬3) تامّاً" قصد [بقيد] (¬4) "التمام" على ما بيَّنه في "الوسيط" الاحتراز عَن شيئين: أحدهما: أن يكون للسارق فيه شركة، ذلك أن تقول: في الشرط الثاني، وهو أن يكون المال مملوكاً لغير السارق، غنيةٌ بن هذا التقييد؛ لخروج المشترك عنه؛ فإنه لا يُصدَّق أن يقال في المشترك: إنه مملوكٌ لغَيْر السارق، فلو ذكر مسألة المالِ المشتركِ هناك كان أحسن. والثاني: أن يكون للسارق فيه حقٌّ، كَمَالِ بيت المال، وما في معناه من الصور، ولك أن تقولي: في الشرط الخامس، وهو كون المال خارجاً عن شبهة استحقاق السارقِ، غنيةٌ عن هذا التحرُّز، وكان الأحسنُ أن تُؤَخَّر هذه الصورةُ إلَيْه. وأما قيد "القوة" فإنه احترز به عن الموقوف والمستولَدَة، وقد عرفْت أن الظاهر ¬
وجُوب القطْع [بسرقتهما] (¬1)، وأن تلك (¬2) القوة غير معتبرة. وقوله: "وقيل: يجب، مهما أخذ من مال الشريك قدْر نصاب" معناه ظاهر، والمقصود ما إذا كانت الشركةُ على المناصفة، وقد يوجَدُ في النسخ "مِنْ مال الشركة" ويحتاج إلى تأويل، وتقييد [المعنى] (¬3) "مهما أخذه من مال الشركة قدْر نصاب يَخُصُّ الشريك من المأخوذ". وقوله "وأما الابن، فلا يُقْطَع بسرقة مال أبيه وكُلِّ مَن يستحِقُّ عليه النفقة، وإن كان غنيّاً" ليس الغرضُ منه الكلامَ في المسألة بعْد ذكرها في الشرط الخامس، حيث قال: "ولا يُقْطَعُ (¬4) مَنْ يَسْتحِقُّ النفقة على المسروق منه بالبعضية" وإنما الغرض هاهنا الإشارة إلى الفرْق بين الابن (¬5)، حيث لا يُقْطَع، وإن لم يكن بصفة الاستحقاق؛ بأن كان غنيّاً وبيْن مال بيْت المال؛ حيث قال في الوجه الثاني: إنه، إنما [لا] (¬6) يقْطَع سارقُه بشرط أن يكون متصفاً بصفة الاستحقاق، ولكن يكفي في مثل هذا إشارةٌ خفيفةٌ (¬7)، ولا حاجة بعد ذكر الابْن إلى أن يقول: وكلِّ مَنْ يستحِقُّ عليه النفقة، وكذلك فعل في "الوسيط" وقوله "ويقطع بسرقة باب المسجد وأجذاعه" مُعلَمٌ بالحاء والواو، وقوله "وفي فرشه وجهان" يعني الحُصُر والبوارِيَ وغيرهما، ويجوز إعلام لفظ "الوجهين" بالواو؛ لأن القاضي الرويانيَّ قال في "جمع الجوامع": لا خلاف بين الأصحاب في أنه لا قَطْع في سرقتها. وقوله "وفي قنديله وجهان مرتَّبان" لِيُحْمَلْ على قنْديل الزينة، ليترتب الخلاف فيه على الخلاف في الفُرُش، وينزل منزلة الأبواب والجُذُوع التي يَضْعُف فيها الخلاف، فأما القنديل الذي يُسْرَج فيه، فقد سَوَّوْا بينه وبين الحُصُر، ويمكن أن يُحْمَل على القنديل الَّذي يُسْرَج فيه، ويُجْعَل جهة الترتيب أن منفعته الاستضاءة، وهي أضعف من منفعة الجُلُوس على الحُصُر. فرع: يجب الحدُّ على من زَنَى بجارية بيت المال، وإن قلْنا: لا يجب القطْع بسرقة ماله، وفيه وجهٌ ضعيفٌ. قال الغَزَالِيُّ: (الشَّرْطُ الخَامِسُ) كَوْنُ المَالِ خَارِجاً عَنْ شُبْهَةِ اسْتِحْقَاقِ السَّارِقِ فَلاَ قَطْعَ عَلَى مُسْتَحِقِّ الدَّيْنِ إِذَا سَرَقَ مِنْ غَرِيمِهِ المُمَاطِلِ جِنْسَ حَقِّهِ، وَإِنْ سَرَقَ عَيْنَ جِنْسِ ¬
حَقِّهِ فَفِيهِ خِلاَفٌ، وَإِنْ لَمْ يَكنْ مُمَاطِلاً قُطِعَ، وَلاَ يُقْطَعُ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ عَلَى المَسْرُوقِ مِنْهُ بِالبَعْضِيَّةِ، وَفِي الزَّوْجَةِ خِلاَفٌ، فَإنْ قُلْنَا: تُقْطَعُ الزَّوْجَةُ فَيُقْطَعُ الزَّوْجُ، وَإِنْ قُلْنَا: لاَ فَفِي الزَّوْجِ خِلاَفٌ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الاتِّحَادِ العُرْفِيِّ، وَإِنْ قُلْنَا: لاَ يُقْطَعُ فَفِي عَبْدِ الزَّوْجِ وَجْهَانِ، وَلاَ شَكَّ في أَنَّ وَلَدَ الزَّوْجِ يُقْطَعُ إِذْ يُقْطَعُ وَلَدُ الأَبِ وَهُوَ الأَخُ، وَمِن الشُّبْهَةِ المُؤَثِّرَةِ ظَنُّ السَّارِقِ مِلْكَ المَسْرُوقِ أَوْ مِلْكَ الحِرْزِ أَوْ كوْنَ المَسْرُوقِ مِلْكَ أَبِيهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصْل مسائل: إحداها: إذا سرق مستحِقٌّ الدَّيْن من مال المدْيُون، فعن نصَّ الشافعيَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-[أَنَّه] (¬1) لا يُقْطَعُ، وبإطلاقه أخذ بعْضُهم فيما حكاه القاضي ابن كج؛ لأن له شبهةً فيه. والأظهر: أن يفَصَّل؛ إن أخْذه لا على قَصْد استيفاءِ الحقِّ، فيقْطَع، وكذا لو قصد استيفاءه، والمديون غير جاحدٍ، ولا مماطلٍ، وإن كان جاحداً أو مماطلاً، فلا يُقْطَع؛ لأنه ممكن (¬2) من أخذه، وهل يُفْرَق بين أن يأخُذ من جنْس حقه أو من غير جنْسه؟ حكَى الإِمام فيه طريقَيْن: أظهرهما: أنه لا فَرْق. والثاني: تخريجُه (¬3) على الخلاف في أنَّه، هلْ يحلُّ له أن يأخُذ غير الجنْس، إذا ظَفِر به، ولو أخذ زيادة على قَدْر حَقِّه، لم يجب القطع أيضاً على الصحيح؛ لأنه إذا تمكَّن من الدخول والأخْذِ، لم يكن المال محرَّزاً منه، وفيه وجهٌ أنه إذا بلغتِ الزيادة نصاباً؛ وكانت مستقلةً، وجب القطْع، ويجوز أن يُعلَم لفظ "الخلاف" من قوله "ففيه خلاف" بالواو لأحد الطريقين، وقوله، في غير المماطل "قُطع" بالواو للوجه المطلق. [المسألة] (¬4) الثانية: من يستحِقُّ النفقة بالبعْضية على المسرُوق منه، لا يُقْطَع بسرقة ماله، وذلك كالابن يَسْرق مال أحد الأبوين أو الأجْداد والجدَّات، وبالعكس، لمَا بين الأصُول والفُرُوع من الاتحاد، وأنَّ مالَ كلِّ واحد من النوعين مرصدٌ لحاجة الآخر، ومن حاجته أن لا يُقْطَع يده بسرقة ذلك المال، وليس القطْع كحدِّ الزنا، حيث افترق الحالُ بين أن يَزْنِي الابن بجارية الأب، وبين أن يزني الأب بجارية الابن، لما مر في النكاح، وفي "شرح المستعمل" لأبي محمَّد الإصطخريِّ من أصحابنا: أن عند مالك: يقطع الولدُ بسرقة مال الأبوين، بخلاف العكس، فيمكن أن يُعلَم لذلك قوله "ولا يُقْطَع ¬
من يستحقُّ النفقة" بالميم، ويجب القطع، بسرقة مال الأخ والعمِّ وسائر المحارم خلافاً لأبي حنيفة، وهو قياس مذهبه في النفقة، وإذا سرَق أحدُ الزوجينِ [من] مال الآخرِ، فإن كان في مسكَنِها [و] (¬1) لم يكن محرَّزاً عن الآخر، فلا قَطْع، وإن كان محرَّزاً عنه، فالذي نقل المزنيُّ: أنه لا قَطْع أيضاً، وعن نصِّه في اختلاف أبي حنيفة والأوزاعيِّ، وقد يقال له سير الأوزاعي أنه يجب (¬2) القطع، وعن رواية الحارث (¬3) بن سُرَيْج: أنه يُقْطَع الزوج بسرقة مال الزَوجة، ولا تُقْطَع هي بسرقة ماله، وفي هذه النصوص طرُقٌ. أحدها: أن في المسألة قَولَيْن. أحدهُما: لا يجب القطْع على واحدٍ منهما بسرقة مال الآخر، وبه قال أبو حنيفة: لأنهما يتحدان عرفاً، وينبسط كلُّ واحد منهما في مال الآخر، فأشبها الوالد والولد، وأيضاً فإن لكل واحد منهما شبهةً في مال الآخر، أما الزوجة، فإنها تستحق النفقة، وأما الزوج، فإنه يَمْلِك الحجر على الزَّوْجة ومنْعَها من التصرُّف في مالها على قول بعْض الفُقهاء. وأصحُّهما: أنه يجب، وبه قال مالك وأحمد، واختاره المزنيُّ، لعموم آية السرقة، وأخبارها، وأيضاً فالزوجية عقْدُ تَمْلِك به المنفعة [فلا] يؤثِّر في إسقاط الحد، كالإجارة، ولا يسقط بها الحدُّ عن الأجير، إذا سَرَق من المستأجر، وكذا بالعكس. والثاني: أن فيها ثلاثة أقْوال: هذان، والثالث: الفرْق، فلا تقطع الزوجة بسرقة مال الزوج، ويقطَعُ الزوْج بسرقة مالها، وذلك لافتراقهما في استحقاق النَّفَقَة. والثالث: القطْع بوجوب القْطع، وحمل نص المنْع على ما إذا لم يكُنْ، المال محرَّزاً عن السارق، حكى الطريقة الأولَى والثالثة الشيخ أبو حامد وجماعة، والثانية ذكَرها القاضيان أبو حامد والطبريُّ أبو الطيِّب، وهي التي أوردها الإِمام وصاحبُ "التهذيب" وصاحب الكتاب في "الوسيط" ويقرُب منها الذي ذكره هاهنا من الترتيب، فحَكَى أولاً الخلافَ في أن الزوجة، هل تُقْطع إن قلْنا: إنها تُقَطع، فالزوج أولَى، وإن قلْنا: لا تُقْطَع هي، ففي الزوج خلاف، ويجوز أن يُعْلَم لفظ "الخلاف" بالواو؛ لقطع ¬
من قطع بالمَنْع، وقوله "فيقطع الزوج" بالحاء ثم أطلق الأصحابُ أنَّ من لا يُقْطع بالسرقة من مال إنسان، لا يُقْطع عبده بالسرقة من ماله أيضاً، فكما لا يقطع الأبُ بسرقة مال الابن [وبالعكس]، لا يُقطَع عبدُ أحدِهِما، إذا سرق [من] مال الآخرِ، وإذا سرق عبْدُ أحَدِ الزوجَيْن من مال الآخرِ، فهو على الخلاف في سرقة أحدِهما من مال الآخر، وعن الصيدلانيِّ وجهٌ: أنه يُقطع العبد، وإن لم يُقطَع السيد؛ لأن للسيد [شبهة استحقاق] النفقة بخلاف العبد، وأيضاً؛ فلو لم يُقطَع عَبْدُ الوالدِ بسرقة مال الولد؛ لأن مال الولد كَمَالِ الوالد؛ لَما قُطِعَ ابن الولد، وهو الأخ بسرقة مالِ الوَلدِ؛ لأنه ماله كمالِ الوالدِ، وهذا ما رجَّحَّه الإِمام، والمشهورُ المنصوصُ: أنه لا يُقْطَع (¬1)؛ لأن يد العبد كيد السيد، فكأن السيد هو الذي أخذه، ويدل عليه ما رُوِيَ أن عمرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- أُتِيَ بعَبدٍ لِرَجُلٍ سَرَقَ مرْآةً لِزَوْجَةِ الرَّجُل قِيمَتُهَا سِتُّونَ دِرْهَماً، فَلَمْ يَقطَعْهُ، وَقَالَ: "خَادَمُكُمْ أَخَذَ مَتَاعَكُمْ"، وذكروا فيما إذا سرق مكاتَبُ أحدِ الزوجيْنِ من مال الآخر وجهَيْنِ، إذا قلْنا: لا يجب القطع على العبد، كما لو سرق المكاتَبُ؛ مال سيده، ففيه خلاف سيأتي. وعن القاضي الحُسَيْن: أنا إذا لم نَقْطَع عَبْد أحدِ الزوجين بسرقة مال الآخر [وجب أَلاَّ نقطع ولد أحدهما بسرقة مال الآخر،] (¬2) كان كان السارق ربيباً له، وغَلِط في ذلك؛ لأنَّا لو قلنا به لوجب ألا نقطع الأخ بسرقة مال الأخ، فإن ابن الأب أقربُ من ابن الزوْج أو الزوجة، وعن أبي الحُسَيْن بْن القطَّان فيما حكاه القاضي ابن كج: أنه، لو كان للرجُل امرأتانِ، فسَرَقت إحداهما من مال الأخرَى، فوجوب القطْع على الخلاف فيما إذا سَرَقَ أحد الزوجَيْن من مال [الآخر] (¬3) وكذا إذا سرق الأبُ من مال زوجة الابْن أو الابنُ من مالِ زوجةِ الأبِ، قال: ويُحتمل أن يُقطَع بوجوب القطْع على [إحدى] (¬4) المرأتين بسرقة مال الأخرَى؛ لأنه ليس بينهما اتحادٌ واختلاط، ولا لها في مالها شبهةٌ، وليس يد المرأة كيد الزوْجِ، بخلاف عبد الزوج أو الزوجةِ؛ فإن يده كَيَدِهما، وقوله "ولا شك [في] أن ولد الزوج" يعني أنه لا خلاف فيه، ولم يُعتدَّ بما حكاه الإِمام عن القاضي، كما فعله الإِمام، وما يناسب مسائلَ الفَصْل: أن العبد لا يُقْطَع بسرقة مال سيَّده؛ لشبهة استحقاق النفقة، بخلاف ما لو زَنَى بجاريتهِ والمستولدة والمدبَّرة، ومَنْ بعْضُه رقيقٌ في ذلك كالقِّن، وفي المكاتَبِ وجهان: أحدهما: يُقطَع، لاستقلاله ملكًا وتصرفاً ويَداً. ¬
والثاني: المَنْع؛ لأنه قد يَعْجَز، فيصير كما كان؛ ولأنه عبْدٌ ما بَقيَ علَيْه درْهمٌ، وبهذا قال صاحب "التلخيص" (¬1) وهو الذي أورده القاضي الرويانيُّ، ولا خلاف أن السيِّد لا يُقْطع بسرقة ما في يد الملوك، وإن قدَّرنا له ملكًا، ولو سرق مِن الذي بعْضُه مملوكٌ له، ما ملَكَه بنِصْفه الحرِّ، فعن القفَّال: أنه لا يُقطَع؛ لأن المال في الحقيقة لجميع بَدنِه، وهو يملك بعْضَه، فيصير شبهةً، وعن الشيخ أبي عليٍّ، أنه يجب؛ لأنه مَلَكَهُ بِنصْفه الحرّ ملكًا تاماً، فهو كما لو قاسَم شريكاً له، ثم سرق مما صار للشريك. [الثالثة:] (¬2) إذا أخذ المالَ على صورة السرقةِ عَلَى ظنِّ أن المأخوذ ملْكُه أو ملْكُ أبيهِ أو ابنهِ أو أنَّ الحرزَ ملْكُه حكى صاحب الكتاب وغيره؛ أنَّه لا قطْع عليه؛ للشبهة، وهو قياس ما إذا وطئ امرأةً على ظنِّ أنها زوجته أو أمَتُهُ، وفي "التهذيب" أنه لو سرق نصاباً من دار، وهو يَظُنُّ أن الدار دارُه، والمالَ ماله، يُقْطَع وألحقه بما إذا سرق دنانيرَ ظنَّها فلوساً لا تبلغ نصاباً، والأقرب الأول. قال الغَزَالِيُّ: وَلَيْسَ مِنَ الشُّبْهَةِ كَوْنُ الشَّيْءِ مُبَاحَ الأَصْلِ كَاَلحَطَبِ وَلاَ كوْنُهُ رَطْباً كَالفَوَاكهِ وَلاَ كَوْنُهُ مُتَعرِّضاً لِلفَسَادِ كَالمَرَقَةِ وَالجَمْدِ وَالشَّمْعِ المُشْتَعِل، وَمَنْ قُطِعَ فِي عَيْنِ مَرَّةً فَسَرَقَ مَرَّةً أُخْرَى قُطِعَ ثَانِياً، وَيُقْطَعُ بِسَرِقَةِ المَالِ مِنْ يَدِ المُودَعِ وَالوَكِيلِ وَالمُرْتَهِنِ، وَيُقْطَع بِسَرِقَةِ المَاءِ إِذَا قُلْنَا: إنَّهُ مَمْلُوكٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لما تكلَّم في الشبهة المؤَثِّرة في دفْع القَطْع أردَفَهَا بما لا يؤَثِّر، وقد يظن تأثيرُه، وفيه صور: منْها: لا أثر لكَوْن الشَّيْء مباحَ الأصْل؛ كالحطب والحشيش والصُّيود، وما يؤْخَذ من المعادِنِ، وقال أبو حنيفة: لا قَطْع فيما كان مباحاً في الأصل، إلا في خشَب الساج، وألْحَقَ [به ملحِقُون] الأبنوسَ والصَّنْدَلَ والعْودَ، واستثنَى على مذْهبه الخشَب المعمُولَ كالسُّرُرِ والأبواب، ومِن الصيود الدجج، ولم يُسْتَثْنَ الطين والزجاج المعمولَيْنِ، واستَثنَى من المأخوذِ من المعْدِن الجواهِر. لنا: القياسُ على ما سلَّمه، وأيضاً، فإنه مالٌ محرَّزٌ فيتعلق القطْع بسرقته، وإن كان أصله على الإباحة؛ كالدراهم والدنانير. ومنها: لا أثر لكَوْن المسروق رَطْباً أو متعرِّضاً للفساد؛ كالرُّطَب والتِّين والتُفَّاح والبُقُول والرياحين والشواء والهريسة والفَالُوذَج، وكالجَمْد والشَّمْع المُشْتَعِل، وبه قال مالك وأحمد. ¬
وعند أبي حنيفة: لا قطْع في سرقتها، وربَّما يُرْوَى مثْلُه عن مالك. لنا: إطلاق آية السرقة، وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عن التَّمْر المُعَلَّق، فَقَالَ: مَنْ سَرَقَ منْهُ شَيْئًا بَعْدَ أنْ يَأْوَيهُ (¬1) الجَرينُ، فَبَلَغَ ثمنَ المِجَنِّ، فَعَلَيْهِ القَطْع (¬2) وكان ثمن المجَنِّ عندهم رُبعَ دينار وثلاثة دراهمَ، وإنما اعتبر إيواء الجَرِين، ليصير محرَّزاً، فإن بساتينهم، لم تكنْ محُوطَةً محرَّزة، وعلى ذلك، حُمِل قوله -صلى الله عليه وسلم- (¬3) "لاَ قَطْعَ في تَمْرٍ، وَلاَ كَثر" [والكثر] (¬4) جُمَّار (¬5) النخْل، وهو شحمُه، وعن عثمان -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- أنه قطعَ سارقاً في أتْرُجَّةٍ قِوِّمَتْ بثلاثة دراهم. ومنها: إذا سرق عيناً، فقُطِعت يدُه، فسرقها مرةً أخرى من المالك الأول أو من غَيْره، قُطِع ثانياً، وقال أبو حنيفة: لا يُقطَع إلا أن يَتبدَّل المالك أو يتغير (¬6) العيْن بصنعةٍ فيها كالغَزْل، يُنْسَج، والرُّطَب يُثْمِر. لنا: أن القطْع عقوبةٌ يتعلَّق بفعل في عين، فيتكَّرر بتكرُّر ذلك الفعل، كما لو زَنَى بامرأة وحُدَّ ثم زَنَى بها ثانياً. ومنها: لا يُشْترط أن يكون المسروقُ في يد المالك، بل السرقةُ من يد المُودَع والمرتَهِن والوَكِيل وعامِلِ القراض والمستعير (¬7) والمستأجر يوجِبُ القطْع؛ لأن أيديهم ثابتةٌ على المال بحَقِّ، كيد المالك، وهذا لا خلافَ فيه، ثُمَّ الخَصْم فيها المالكُ، وعند أبي حنيفة: لمَنْ في يده أن يُخَاصِم. ومنها: إن قلْنا: لا يُمْلَك المَاء، فلا قطْع بِسرقته، وإن قلْنا: إنه يُمْلَك، ففيه وجهان: ¬
أحدهما: أن الجواب كذلك؛ لأنه لا يُقْصَد سرقته، فهو كالشيء التافه الذي لا يُقْصَد بالسرقة، وبهذا يقول أبو حنيفة. وأصحُّهما: أنه يُقْطَع؛ لأنه مال يباع ويبتاع، ويجري الوجهان في سرقة التُّرَاب؛ لأنه لا يُقْصَد سرقته؛ لكثرة وجوده. ومنْها: يجب القطْع بسرقة المُصْحَف، وكتب التفسير، والحديث، والفقه، وكذا كتب الأشْعار التي يحلُّ الانتفاع بها، وما لا يحلُّ الانتفاع به لا قَطْع في سرقته، إلا أن يبلغ الجلْدُ والقرطاسُ نصاباً، وعند أبي حنيفة: لا قَطْع بسرقة المُصْحَف وسائر الكُتُب، [إن] كان عليها حليةٌ تبلغ نصاباً، فكذلك؛ لأن عنده إذا سَرَقَ ما يُقْطَع فيه، وما لا يُقْطع [فيه] (¬1) دفعةً واحدةً، لم يُقْطَع. ومنْها: يجب القطْع بسرقة قُرُون الحَيَوان، وقال أبو حنيفة: لا يجبُ معمولةً كانتْ أو لم تَكُنْ. قال الغَزَالِيُّ: (الشَّرْطُ السَّادِسُ) كَوْنُه مُحَرَّزاً وَهُوَ مَا عَلَى سَارِقِهِ خَطَرٌ لِكَوْنِهِ مَلْحُوظاً غَيْر مُضَيَّع إمَّا بِلِحَاظٍ دَائِمٍ إنْ لَمْ يَكُنِ المَوْضِعُ حَصِيناً كَالمَتَاعِ الموْضُوع في صَحْرَاءَ أَوْ بِلِحَاظٍ مُعْتادٍ إنْ كَانَ فِي الموْضِعِ حَصَانَةٌ كَالحَوَانِيتِ وَالدُّورِ، والمُحَكَّمُ فِيهِ العُرْفُ، وَفيهِ مَسَائِلٌ: (الأُولَى) الإِصْطَبلُ حِرْزٌ لِلدَّوَابِّ لاَ لِلثِّيابِ، وَعَرَصَةُ الدَّارِ حِرْزٌ لِلأَوَانِيَ وَثيَابِ البَذْلَةِ لاَ لِلنُّقُودِ وَالحُلِيِّ، وَالمُحَرَّزُ مَا لاَ يُعَدُّ صَاحِبُهُ مُضَيِّعاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يشترط لوجُوب القطْع أن تكون السرقةُ مِن الحِرْز، فلا قطْع في سرقة ما لَيْس بمحرَّز، واحتُجَّ له بما رُوِيَ عن عبد اللهِ بن عمرو بن العاص -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ قَطْعَ فِي تَمْرٍ مُعَلَّقِ، وَلاَ فِي حريسة جَبَلٍ، فَإِذَا أَوَاهُ المِرَاحُ أَو الجَرِينُ، فَالْقَطْعُ فِيمَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ" (¬2) وحريسة الجبل ما سُرِقَ من الجبل من المواشي، ويقال: إن سارقها يُسمَّى حارساً، اشترط للقَطْع إيَواء المراح والجرين، فدل على أنه لا قطْع فيما لم يحرَّز، ويختلف الحِرْز باختلاف الأحوال والأموال؛ لأن الشرع اعتبر الحِرْز، ولم يبيِّن له حدّاً، [فيرجع] (¬3) فيه إلى العرْف؛ كالقبض والتفرُّق عن مكان البيع وإحياءِ المَوَات. وقوله "وهو ما على سارقه خَطَرٌ" إلى آخره أَشَارَ بِهِ إلى فقْه ذكَره الإمامُ؛ تلخيصُه أن السارق يأخُذ المال في خُفْيَة باختزالٍ واحتيالٍ، لا اعتماداً على الشَّوْكة والقوَّة، ¬
فحكم بالقطْع زجراً؛ لئلا يضيع المال على المالك، وذلك إذا احتاط المالِكُ بصيانة المَال، فإن السارق حينئذ يكُون على خَطَر، من أن يَطَّلع عليه وتَعْظُم جنايته، إذا اختزل منتهزاً للفُرْصة، أما إذا ضيَّع المالك فقد جَرَّأ السارق، ومكَّنه من أخذ المال بلا خطَر، فلا تعْظُم جنايتُه، والتعويلُ في صيانة المال وإحرازِهِ على شيئَيْن: أحدهما: الملاحظة [والمراقبة] (¬1). الثاني: حصانة الموْضِع ووثاقته، فإن لم يكْن للموضِعِ حصانةٌ، كالمال المُوضَعِ في الصحراء أو المَسْجد أو الشارعِ اعتبر مدوامة اللّحاظ، وإن كان له حصانةٌ، انضم إليها اللّحاظُ المعتادَ، كفَى ولم يعتبر مداومته، ويُحَكَّم في ذلك العرْفُ، ثم فَصَّل الغرضَ بالكلام في مسائل: إحداها: الإصطَبْل حرْزٌ للدوابِّ على نفاستها وكثرة قيمتها، وليس حِرْزاً للثياب (¬2) والنقود؛ لأن إخراج الدوابِّ مما يظهر ويبعد الاجتراء عَلَيْه، بخلاف ما يخفُّ ويسْهُل حَمْلُه وإخراجُه، والصِّفة في الدار وعَرصَتِها [حرزان] للأواني وثياب البذلَة دون الحَلْي والنقود، فإن العادَةَ فيها الإحرازُ في المخازِنِ، وكذا الثياب النفيسة تُحَرَّز في الدُّور، وفي بيوت الخانات والأسواق المنيعة، والمتين والمتبن حرز للتبن دون الأواني والفُرُش، وقوله في الكتاب لا "للثياب". وقوله "لا للنقود" ليعلما بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة ما كان حرزاً لمالٍ، كان حرزاً لكلِّ مالٍ، وقوله "والمحرَّزُ ما لا يُعدُّ صاحِبُهُ مضيِّعاً" عبارة مختصرةٌ ضابطةٌ لكنها من قبيل تعريف الشيْء بِضِدَّهِ. فرْع: الموْضِع الذي هو حِرْز لنَوْع من المال يكونُ حرْزاً لما دونه، وإن لم يكن حرزاً لما فوقه [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: (الثَّانِيَةُ) المَوْضُوعُ فِي الشَّارع وَالمَسْجدِ مُحَرَّزٌ بِلِحَاظِ صَاحِبِهِ بِشَرْطِ ألاَّ يَنَامَ وَلاَ يُولِّيهُ ظَهْرَة، وَهَلْ يُشْتَرطُ ألاَّ يَكُونَ زِحَامٌ يَشْغَلُ الحِسَّ عَنْ حِفْظِ المَتَاعِ؟ فِيهِ ¬
وَجْهَانِ، والمَلْحُوظُ بِعَيْنِ الضَّعِيفِ فِي الصَّحْرَاءِ لَيْسَ مُحَرَّزاً إِذَا كَانَ لاَ يُبَالِي بِهِ، وَالمَحْفُوظُ فِي قَلْعَةٍ مُحْكمَةٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَلْحُوظاً لَيْسَ بِمُحرَّزٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا نام في الصَّحْراء أو المسْجِد أو الشارعِ عَلَى ثوبه أو توسَّد عيبته أو متاعه أو اتَّكأ عليه، فجاء سارقٌ، وأخذَ الثوب من تحته أو العيبة التي توسَّدها، وجَب القطع؛ لأنه محرَّز به، ويدِلُّ عليهِ حديثُ صفوان، وسَرِقَة ردائه (¬1)، وكذا لو أخذ المِنْدِيل من رأسه أو المَدَاسَ من رِجْله أو الخَاتَمَ من أُصْبَعِهِ، ولو زال رأْسه عما توسَّده أو انقلب في النَّوْم عن الثوب، وخلاَّه، فلا قَطْعَ (¬2) بسرقته؛ لأنه ما بقي محرَّزاً، وكذا لو رفع السارقُ النائمَ عن الثَّوْب أولاً، ثم أخذ (¬3) الثوب، ولو وضع متاعه أو ثوْبه بقربه في الصحراء أو المسْجِد، فإن نام أو ولاَّه ظهْرَه، أو ذَهَل عنْه بشاغل، لم يكن محرَّزاً، وإن كان مستيقظاً يلاحظه، فتغفله السارقُ، وأخذ المال، قُطِع، وفي كتاب القاضي ابن كج وجْهٌ آخر أنه لا يُقْطَع؛ لأنه لا بد، وأن تَعْرِض له فتراتٌ، وليس هناك من يلاحظه غيره، والظاهر الأولُ، وهل يُشْترط ألاَّ يكونَ في الموْضِع ازدحام الطارقين؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، ويكفي الملاحظة، ولكن لا بد بسبب الزحمة [من مزيد مراقبةٍ وتحفُّظٍ. وأصحُّهُما: نعم ويخرج المال بسبب الزحمة] (¬4) عن أن يكون محرَّزاً؛ لأن الملاحظة لا تبقى على التثبُّت في أشخاص كثيرين، وأُجْرِيَ الوجهان في الخبَّاز والبَزَّاز وغيرهما، إذا كثر ازدحام النَّاسِ على باب حانُوتهم. قال الإِمام: ولو فُرِضَ وضع المتاع في شارع، وكان ملحوظاً بملاحظةِ جَمْعٍ، فيصير عدد اللاَّحِظينَ في معارضة عَدَد الطَّارِقِين، [كلاحظ] (¬5) في الصحراء في معارضة طارِق، ويُشْترط أن يكون الملاحظُ بحَيْث يقْدِر على المنْع، لو اطَّلع على أخْذ السارق، ¬
إما بنفسه أو [بالاستغاثة] (¬1) والاستنجاد، وأما إذا كان ضعيفاً لا يبالي به السارقُ، وكان الموضع بعيداً عن الغَوْث، [فليس بحرز] فالشخص ضائع (¬2) مع ماله وينبغي ألاَّ يفرق فيما ذكرنا في الصحراء بين أن تكون مواتاً أو ملكاً، وأما قوله "المحفوظ في قلعة محكمة، إذا لم يكن محلوظاً، ليس بمحرَّز" [فالمقصود] منه أن الركْن الأعظم في كوْن المال محرَّزاً الملاحظةُ، [فلا] يُغْنَي حصانةُ الموضع عن أصل الملاحظة حتى إن الدار [المنفردة] (¬3) في طرف البلد أو في البَريَّة لا تكون حرزاً، وإن تناهت في الحصانة، وكذا القْلعة المحْكَمة [لأنه] (¬4) إذا لم يكن الموضع مرقوباً، [سهل] (¬5) الوصول إلى ما فيه بالنَّقْب [والتسلُّق] (¬6) من غير خَطَر. نعم، لا يحتاج عند حصانة الموضع إلى دوام الملاحظة بخلاف ما ذَكْرنا في الصحراء، وتمامُ الكلام فيما يُعْتَبَر في الدار وسائر الأبنية ليَحْصُل بها الإحْراز يأتي في الفصْل بَعْد هذا. وَمَنْ أدخل يده في حبيب إنسانٍ أَو في كُمِّه [وأخذ] المال أو طَرَّ جيبه أو كُمَّه، وأخذ المال، قُطِع؛ لأنه محرَّز به، ولا فَرْق بين أن يربطه في الكُمِّ أو لا يربطه، ولا إذا رَبَط، بين أن يكون الرباط داخلاً أو خارجاً. وعن أبي حنيفة: أنه لا قطْع على من طَرَّ الجيْبَ، وأخرج المال. وإن أخذ من [رأس] منديل إنسان، وهو على رأسه قال في "التهذيب" إن كان قد شدَّه عليه قُطِعَ، وإلا فلا. قال الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثَةُ): الدَّارُ باللَّيْل مُحَرَّزٌ وَلَوْ نَامَ فِيهَا صَاحِبُها إنْ كَانَ البَابُ مُغْلَقاً، وَإِنْ كَانَ مَفْتُوحاً فَضَائِعٌ، وَبِالنَّهَارِ قَدْ يُعْتَمَدُ بِلِحَاظِ الجيرَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَمَّا أَطْرَافَ الحَوَانِيتِ مُحرَزَةٌ بِأعْيُنِ الجِيرَانِ وَالمَارَّة وإِنْ غَابَ عَنْهَا صَاحِبُها أَوْ نَامَ، وَلَوْ تَغَفَّلَ السَّارِقُ صَاحِبَ الدَّارِ وَهُوَ مُتَيَقِّظٌ وَالبَابُ مَفْتُوحٌ وَهُوَ يَتَرَدَّدُ فِي الدَّارِ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَلَوِ ادَّعَى السَّارِقُ أنَّهُ نَامَ وَضَيَّعَ سَقَطَ القَطْعُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ كَمَا فِي دَعْوَى المِلْكِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الدار، إن كانت منفصلةٌ عن العمارات؛ بأن كانت في باديةٍ أو في [الطَّرَف] الخَرَاب من البلد أو في بُستان، فليْست [هي] بحرز لما فيها، إن لم يكْن فيها أحدٌ سواء كان البابُ مفتوحاً أو مغلقاً، فإن كان فيها صاحبُها أو حافظٌ آخرُ، نُظِر، إن ¬
كان نائماً، والباب مفتوح فليستْ هي بحرز لما فيها، وإن كان مغلقاً، فقد حكى صاحب "البيان" فيه وجهين عن رواية المَسْعُودِّي الذي أجاب به الشيْخ أبو حامد وَمَنْ تابعه أنها تكون حرزاً، والموافِقُ لما أطلقه الإمامُ وصاحبُ "التهذيب" خلافُه (¬1). وإن كان مَنْ فيها متيقظاً، فالأمتعة فيها محرَّزةٌ سواء كان الباب مفتوحاً أو مغلَقاً نعم، لو كان ممَّن لا يبالي به وهو بعيدٌ عن الغَوْث، فالحُكْم على ما ذَكَرْنا في المْلحوظ بعَيْن الضعيف في الصحراء، وكذا لو كان النائمُ ضعيفاً على ما أجاب به الشَّيْخ أبو حامدٍ، وإن كانت الدار متَّصِلة بالدُّور الآهلة، فينظر إن كان الباب مغلقاً، وفيها صاحبها أو حافظٌ آخَرُ، فهي حرزٌ لما فيها ليلاً ونهاراً متيقظاً كان الحافظُ أو نائماً؛ لأن السارق على خَطَرٍ من اطَّلاَعه وتنَبُّهه بحركاته واستغاثته بالجيران، وإن كان الباب مفتوحاً، فإن كان مَنْ فيها نائماً، لم تكن هي حرزاً بالليل، وأما بالنهار، ففيه وجهان: أحدهما: أنها تكون حرزاً؛ لأنه قد يعتاد ذلك اعتماداً على نَظَر الجيران ومراقبتهم، وذلك إذا كانوا يطرقون هناك، فصار كالأمتعة على أطراف الحوانيت، فإنها تكون مُحرَّزة بنَظَر المارَّة والجيران. وأصحُّهما: لا، كما لو لم يكُن فيها أحدٌ، والباب مفتوحٌ، ويخالف الأمتعة على أطراف الحوانيت، فإنَّ الأعين تقع عليها، ولا تقع عَلَى ما في داخل الدار، وأيضاً، فالجيران يتساهَلُون إذا علموا بأنَّ صاحب الدار فيها. والوجهان في أيام الأَمْن، فأما في زمان الخوْف والنهب، فالأيام كالليالي، هذا قضية ما في "التهذيب" وغيره، [وإن] كان مَنْ فيها متيقظاً، لكنه لم يتم الملاحظة؛ بأن كان يتردَّد في الدار، فَتغفَّله السارق وسرَق، فعن حكاية الشيخ أبي عليٍّ فيه وجهان، ويقال إن القَّفال جعلَهما جوابَيْن في درسَيْن. أشبههما، ويُحْكَى عن النص: أنه لا يجب القطْع، ولا يُجْعل ما في الدار، والحالة هذه، محرزاً للتقصير بإهمال المراقبة مع فتح الباب. ولو كان يبالغ في الملاحظة؛ بحيث يحصُل الإحراز بمثله في الصحراء، وانتهز السارقُ الفرصَة، فلا خلاف في وجوب القطْع، ولو فتح صاحبُ الدار بابَهُ، وأَذِنَ للناسِ في الدُّخول عليه، لشراء متاعهم، كما يفْعَلُه الذي يَخبز في داره، فوجهان؛ لأن الزحْمةُ تشغل الحسَّ على ما سبق، وأما إذا لم يكُنْ فيها أحدٌ، فالظاهر، وهو الجواب في "التهذيب" أنه إن كان الباب مغلقاً فهو حرز بالنهار في وقت الأمن، وليست حرزاً ¬
في وقت الخوف، ولا بالليالي، فإن كان مفتوحاً، لم يكن حرزاً أصلاً (¬1)، ومَنْ جعل الدارَ المنفصلةَ عن العمارات حرزاً عند إغلاق الباب فأولَى أن يجعل المتَّصِلَة بها عند الإغلاق حرزاً، وإذا ادعى السارقُ أن صاحب الدارِ نامَ أو ضَيَّع ما فيها أو أعرض عن اللَّحاظ، فالمذكور في الكتاب: أنه يَسْقُط القطْع بمجرَّد دعواه كما في دعْوَى المِلْك، ولا شك في أنه يجيء فيه الوجْه المذكور هناك. واعلم أن الأمر في جميع ذلك مبنيٌّ على العارة الغالِبَة في الإحراز، وعلى هذا الأصل قال الأصحاب: النَّقْدان والجواهرُ والثيابُ لا يكون محرزة إلا بإغلاق الباب عليها، وأمتعةُ العطَّارين والبقَّالين والصَّيَادِلة، إذا تَرَكَهَا صاحبُ الحانوت عَلَى باب الحانوت، ونام [فيه] أو غاب عنه، فإن ضمَّ بَعْضَها إلى بعْض وربَطَهَا بحبل أو عَلَّق عليها شبكة، أو وضع لوْحَيْن على وجْه الحانوت مخالَفَيْن، كفى ذلك إحرازاً بالنهار، لأن الجيران والمارَّة، ينظرون، وفيما فعل ما ينبِّههم، لو قصد السارق، وإن تركها متفرَّقة، ولم يقيَّد بشيء ممَّا ذكرنا، لم تكن محرزة. وأما بالليل، فلا تكون محرزة إلا بحارس، قال الروياني: والبَقْل والفِجْل، قد يُضم بعضُه إلى بعضٍ، ويُطْرح عليه حصيرٌ ويُتْرك على باب الحانوت، وفي السوق، وهناك حارسٌ ينام ساعة ويدور ساعةً، فيكون محرزاً، وقد يزين العامي حانوته أيام العيد بالأمتعة النفيسة، ويَشُقُّ عليه [حملها] (¬2) رفْعها بالليل، فيَدَعها [ويلقى] عليها قطعاً، وينصب حارساً، فيكفي ذلك إحرازاً بخلاف ما في سائر الأيام؛ لأن أهل السوق يعْتَادون ذلك فيتقوى بعْضُهم ببعض، والثياب على باب حانوت القَصَّار والصَّبَّاغ كأمتعةِ البقَّالين والعطَّارين، هذا فيما ينقل في العادة إلى داخل بناء، ويغلَقُ عليه بابٌ، فأما الأمتعة الثقيلة التي يَشقُّ نقفها كالحَطَب، فهي محرَّزة بأن يُشدَّ بعضَها إلى بعْضٍ، وكذلك الخُزَف والقُدُور تُحرَّز بالشرائح التي تنصب على وجه الحانُوت، [وإن] تركت متفرَّقة، لم تكن محرَّزة، وفي وجْه: لا يكفي الشَّدُّ بل لا بد أن يكون عليها بابٌ مغلَق أو يكون على سطْح محوطٍ، والظاهر الأول، حيث جرت العادة به، وكذا الطعامُ في الغرائر في مواضع البيع محرَّزاً إذا شدَّ بعضَها إلى بعْض، بحيث لا يمكن أخذ شيء منْه إلا بحَلِّ الرِّباط أو فتق بعْض الغراثر، نصَّ عليه الشَّافعيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقد جرت العادة به بمِصْر، قال القاضي الرويانيُّ: ورأيت في بلدنا صبر الأرز (¬3) يترك في موضع البيع، وتغطَّى بالأكسية والمُسُوح، فهي محرَّزة، والحَطَب ¬
والقصيل على السطح المحوط (¬1) محرزان، والأجْذاع الثِّقال على أبواب المَسَاكِن محرَّزة، وفي "التهذيب" أن متاع البقَّال في الحانوت بالليل محرَّز في وقت الأمن، إذا كان الباب مغلقاً، وفي غير وقت الأمن، لا بد منْ حارسٍ، ومتاعُ البيَّاع والبزَّاز لا يكون محرَّزاً إلا بالحارس وأن الكدس في الصحراء والزَّرْع والقطن قصيلاً كانا أو اشتدا لحر، وخرج الجَوْز والبَذْر المستتر بالتراب، ليست محرزة إلا بحارس وفي جمع الجوامع للرويانيِّ: أن الزرع في المزارع محرز، وإن لم يكن حارسٌ، وفي تعليقة الشيخ إبراهيم المروروذي: أن الزرْع إذا كان قصيلاً، لا يحتاج إلى الحارس؛ لأنه لا يُحْفظ مثله في العادة، وهذا يجري في البذْر المستَتِر، ولو كانت هذه الأشياءِ في مَحُوطٍ، فهي كالثمار في البساتين، والثمار على الأشجار، إن كانت في البرية، لا تكون محرزةً إلا بالحارس، وفي الكَرْم والبساتين المحوطَةِ كذلك، إن كانت بعيدةً عن الطريق والمساكن، [وإن] كانت متصلة بها، والجيران يراقبُون في العادة، فيه محرزة، وإلا، احتيج إلى الحارس والأشجار في أفنية الدُّور محرزةً وفي البريَّة يحتاج إلى الحارِسِ، والحنطة في مطامير المفازة، والتبن في المتبن، والثلج في المثلجة، والجَمْد في المَجْمَدة في الصحراء غير محرزة إلا بحارس، وبابُ الدار والحانوت والمغلاق والحلقة على الباب محرزة بالتركيب والتسمير، وكذا [الآجر] إذا سرق من صحْن الدار، أو استخرجه من الجدار داخلاً [أو] خارجاً ليلاً أو نهاراً، وجب القطْعَ، والشرط في كونها محرزةً أن تكون الدارُ بحيث تحرز ما فيها، ولو كان باب الدار مفتوحاً، فدخل داخلٌ [وقلع] باب بيت [وأخرجه]، فعن أبي إسحاق: أنه لا قطْع، كما لو أخذ متاعاً آخر منْها، وعن الأكثرين: أنه يجب القطْع، والبابُ محرزٌ بالتركيب والنَّصْب كباب الدارِ، والقُفْل على الباب محرز كالباب والحلقة، وعن أبي الطيب بن سلمة فيما رَوَى القاضي ابن كج أنَّه ليس بمحرز؛ لأن الأقفال للإحراز به لا لإحْرازِهِ. قال الغَزَالِيُّ: (الرَّابِعَةُ) الخِيَامُ لَيْسَتْ كَالدُّورِ فِي الحَصَانَةِ فَيُفْتَقَرُ إِلَى زِيادَةِ لِحَاظٍ، وَلَكِنْ لإِحْكَامِ الرُّبُط وَتَنْضِيض الأَمْتِعَةِ تَأثِيرٌ فِي الاسْتِغْنَاءِ عَنْ دوَام اللِّحَاظِ، وَالدَّوَابُّ مُحَرَّزَةٌ بِنَظَرِ الرَّاعِي فِي الصَّحْرَاءِ إِذَا كَانَ عَلَى نَشْزٍ، وَالقِطَارُ مُحَرَّزٌ بِالقَائِدِ فِي صَحْرَاءَ خَالٍ أَوْ سِكَّةٍ مُسْتَوَيةٍ وَهُوَ تِسْعَةٌ مِنَ الإبِلِ فَإِنْ كَانَ لاَ يُلاَحِظُ مَا وَرَاءَهُ فَالمُحَرَّزُ بِالقَائِدِ الأَوَّلِ وَبِالرَّاكِبِ مَرْكوبُهُ وَمَا أَمَامَهُ وَوَاحدٌ مِنْ خَلْفِهِ وَبِالسَّائِقِ جَمِيعُ مَا أَمَامَهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفصل يشتمل على مسألتين: ¬
إحداهما: الخيامُ يَرْبُطها وتنضيد الأمتعة فيها يفيد نَوْعاً الإحراز، وتُغْني عن دوام اللحاظ المعتبر في الأَمتعة الموْضُوعة في الصحراء، لكنَّها ليست كالدُّور في الحصانة، فإنها في نفْسِها قابلة للسرقة، فإذا ضرب في الصحراء خيمةً، وآوى إليها ومتاعاً، فسرق منها سارقٌ، أو سَرَقَها، نُظِر؛ إن لم يَشُدَّ أطنابَها، ولم يرسل أذيالَهَا، فهي وما فيها كالمتاع الموضوعِ في الصحراء، وإنْ شدَّها بالأوتادِ وأرْسَلَ أذْيالها، فإن لم يكن صاحبُها فيها، فلا قَطْع؛ لأنها لا تُعدُّ محرَّزة، إذا لم يكن فيها أحدٌ، وفيه وجه: أن الخيمة في نفسها تكون مُحرَّزة، ولا يكون ما فيها محرَّزاً، وإن كان صاحبُها فيها [مستيقظاً] أو نائماً أو تَامَ بقرْبها، وجب القطْع بسرقتها أو سرقة ما فيها؛ لحصول الإحراز في العادة، وقال أبو حنيفة: يجب القطع على مَنْ سرق منْها، ولا يجب على مَنْ سَرَقَها وحْدها أو مع المتاع. قال الأئمة: والشرط هناك أن يكونَ هناك [من] يتقوى به، فأما إذا كان في مفازة بعيدة عن الغوْث، وهو مِمَّن لا يبالَى به، فلا إحراز، وكذا لو ضرب الخيمة بين العمارات، يكون الحُكْم كما في المتاع الموضوع بين يَدْيهِ في السوق، وهل يُشْترط إسبال باب الخيمةِ، إذا كان من فيها نائماً؟ حكى القاضي ابن كج فيه وجهين، ورأى الأظهر أنه لا يُشْترط، ولو شَدَّها بالأوتاد، ولم يرسل أذيالها، وكان يمكن الدخولُ فيها منْ كل وجه، فهي محرَّزة، وما فيها ليس بمحرَّزٍ، هكذا ذكروا، وقد يُفْهَم منه أن الأمتعة والأحمالَ، إذا شُدَّ بعضُها ببَعْضٍ، يكون محرَّزة بعْض الإحراز، وإن لم يَكنْ هناك خيمةٌ. ولو أن السارق نحَّى النائِمَ في الخيمة أولاً عنْها، ثم سَرَق، فلا قطْع؛ لأنها لم تكن حِرْزاً حين سَرَقَ. وقوله في الكتاب "لكنْ لإحكام الرُّبُطِ وتنضيد الأمتعة" إلى آخره، يمكن أن يُجْعل معناه أن إحكام رُبُط الأمتعة وتنضيد الأمتعة فيها له تأثيرٌ في الاستغناء عن دوام اللِّحَاظ، ويمكن أن يقال: المعنَى أن الأحكام والتنضيد يؤثرانِ في الجُمْلة، فكذلك حال الخيمة المشدُودة، والأمتعة المنضدة فيها [والله أعلم]. المسألة الثانية: المواشي والأبنية المغلَقَة الأبواب محرَّزة، إذا كانت متصلةً بالعمارات، سواءٌ كان صاحبها فيها أو لم يكنْ، وسواء كان مستيقظاً أو نائماً؛ للعادةِ، وان كانت في البرية، [فلا] تكون محرَّزةً إلا إذا كان صاحبُها فيها، إمَّا مستيقظاً أو نائماً، فان كان البابُ مفتوحاً، فيُشْترط أن يكون مستيقظاً، ويكفي أن يكون المراحُ من حطَبٍ أو حشيشٍ، وأما في غير الأبنية، فلها أحوال: إحداها: إذا كانت الإبلُ ترعى في الصحْرَاء، فهي محرَّزةٌ، إن كان معها حافظ
يراها جميعاً، ويبلغها صوته، إذا زجَرَها، وإن لم يرَ بَعْضَها؛ لكونه في وهْدةٍ أو خلْفَ جَبَلٍ أو حائطٍ، فذلك البعضُ ليس بمحرَّز، ولو نام عنها أو تشاغَل، لم تكن محرَّزةً، وإن لم يبلُغ صوتُه بعْضَها، فكذلك؛ على ما أورده صاحب "المهذب" وغيره، وسكت ساكتُون عن اعتبار بلوغ الصوْت، وكأنهم اكتَفُواْ بالنَّظَر؛ اعتماداً على أنه، إذا قصد ما يراه أمْكَنَهُ أن يعدو إليه فيدفع، والحُكْم في الخيل والبِغال والحمير، وهي ترعى على ما ذكرنا في الإبل، وكذا الغنم إذا كان الراعي على نَشْزٍ من الأرض يراها جميعاً، فهي محرَّزةٌ، وإن كانت متفرقة إذا بَلَغها صوتُه. الثانية: أن تكون سائرةً، أما الإبلُ، فإن كانت مُقَطَّرة، وكان يسوقها سائقٌ، فهي محفوظة به، إن كان ينتهي النظَرُ إليها، وإن كان يقودُها قائد، يُشْترط أن يلتفت إليها كلَّ ساعة، وإلا، فهو مضيِّع، ويشترط أن ينتهي نظَرهُ إلَيْها، إذا التفت، فإن كان لا يرى البعْضَ لحائل جبل أو بناءٍ، إذا كانت تسير في العمران، [فذلك] البعْضُ ليس بمحرَّز، وفي كتاب القاضي ابن كج وجْه آخر: أنه لا يُعْتبر انتهاء النظَر إلى آخرها، ويَكْفِي النَّظَرُ إحرازاً، وليجيءْ هذا في سوقها أيْضاً، وعند أبي حنيفة: المحرَّز بالقائد البعير الذي يقودُه لا غَيْر. و [كذا] لو رَكِب الحافظُ الأول منْها، فالحكم كما لو كان يقودُها، ولو ركب غيرُ الأول، فهو لما بين يَدَيْه، كالسائق، ولمَا خلفه كالقائد، وعن أبي حنيفة أن المحرَّز بالراكب ما رَكِبَه، وما أمامه وواحدٌ مما خلْفه. وحيث يُعتبر انتهاء نَظَره إليها، ففي اعتبار بلوغ الصوْت ما من، وقد يستغني بنظر المارَّة عن نَظَره، إذا كان يُسيِّرها في سوقٍ مثلاً، وإن لم تكنْ مقطَّرة، بل كانت، [تساق أو تقاد،] فمنهم من أطلَقَ القول بأنَّها غير محرَّزة؛ لأن الإبل لا تَسِير هكذا في الغالب، وعلى هذا جرى صاحب "التهذيب" وعن "الإفصاح": أنه لا فرْق بين أن تكون مقطَّرة أو لاَ تَكُونَ، وبهذا أخذ القاضي الرويانيُّ، وقال: المعتَبَرُ أن يَقْرُب منه، ويقع نظره عليها، ولا تعتبر صورة التقطير، وإذا اعتبرنا التَّقْطير، فينبغي ألاَّ تريد القطَارُ الواحدُ على تسْعةٍ؛ للعادة الغالبة، فإن زادتْ، فهي كغير المقطَّرة، ومنهم مَن أطْلَق ذكْر التقطير، ولم يعتدَّ بعدد، والأحسن توسُّطٌ أورده أبو الفرج السرخسيُّ في "الأمالي" فقال: في الصحراء لا يتقيَّد القطار بعدد، وفي العُمْران، يعتبر ما جَرَت العادة بأن يَجْعَلها قطاراً واحداً، وهو ما بين سبْعَةٍ إلى عَشَرةٍ، فإن زاد، لم تكُن الزيادة محرَّزَةً، والخيل والبغال والحمير والغنم السائرة كالإبل السائرة، إذا لم تكْن مقطرة، ولم يعتبروا التقطير فيها، لكنه معتاد في البغال، وعدد الغنم المحرَّزة بالواحدِ يختلفُ بالبلد والصحراء.
فروع
وقوله في الكتاب "والدواب محرَّزة بِنَظَر الرَّاعِي في الصحراء" يعني إذا كانت ترعى، وقوله "والقطار محرَّزٌ بالقائِد" يعني إذا كانت الإبل تسير، وكان القائد يلاحِظُ ما وراءه، يُبَيِّنُه قولُه من بعْد "فإن كان لا يُلاَحِظُ ما وراءه" وقوله أو"سكة مستوية، وذلك ليقع بصره على الكل إذا لاحَظ، واعتبر كون الصحراء خاليةً إشارةً إلى أنه لو كان في المارَّة كثرةٌ، حصل الإحراز بنَظرهم. وقوله "وهو تسعة من الإبل" في بعض النسخ "سبْعةٌ"، والأول [هو] (¬1) الموافِقُ لما حكيناه عن السرخسيِّ وغيره، وعلى التقديرين، فيجُوز إعلامه بالواو، لما قدَّمناه. وقوله "وبالراكب مركوبهُ وما أمامه" وقوله "وبالسائق جميع ما أمامه" فيشترط في "ما أمامها" أن ينتهي البَصَر إلَيْه؛ على ما سبق. والثالثة: إذا كانت الإبلُ مناخةً، فإذا لم يكن معَها أحدٌ، فليست بمحرَّزة، وإن كان معها صاحبُها، فإن كانت معقولةُ لم يضرَّ نوْمُه ولا اشتغاله عنْها؛ لأن في حلِّ المقولة ما يوقِظُ النائمَ، وينبه المشتغلَ، كان لم تكنْ معقولةً، فيُشْترط أن ينظر إليها ويُلاَحظها. فُروعٌ: المتاعُ على الدابَّة المحرَّزة محرَّزٌ يجب على سارقه القَطْع، سواءٌ سرق المتاع من الوعاء أو معَه أو مع الدابَّة. وعن أبي حنيفة: أنَّه لا يجب القطع، إلا إذا سرق من الوعاء، وإذا كان يَسُوق بقرةً، والعجْلُ يتبعها خلفه، فإن العجْل إنما يكون محرَّزاً، إذا كان قريباً منه، بحيث يراه إذا التَفَتَ، وإذا كان يلتفتُ كلَّ ساعة، كما ذكرنا في "قائد القطار"، وعن المسعوديِّ: أن الغنم المرسَلَة في سكة تَشْرَع إليها أبوابُ الدور، لا تكون محرَّزة حتى تأوي إلى موْضِع، وليكن هذا فيما إذا كثُرَتْ وتعذَّرت الملاحظةُ، ومن دخل المراحَ، وحلَبَ من ألبان الغنَمِ، أو جَزَّ من أصوافها ما يبلني نصاباً وأخرَجَهُ، قُطِع، وعند أبي حنيفة: لا قطْع في اللبن؛ بناءً على ما نقلناه [عنه] (¬2) في الأشياء الرَّطْبَة، [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: (الخَامِسَةُ) لاَ قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ فِي نُرْبَةٍ ضَائِعَةٍ، وَيُقْطَعُ إِذَا سَرَقَ الكَفَنَ مِنْ قَبْرٍ فِي بَيْتٍ مُحَرَّزِ مَحْرُوس، وَمِنْ مَقَابِرِ البِلاَدِ وَجْهَانِ، وَحَيْثُ يَجِبُ فَفِي الثَّوْبِ الموْضُوعِ مَعَ الكَفَنِ وَالمَلْفُوفِ زِيَادةً عَلَى العَدَدِ الشَّرْعيَّ وَجْهَانِ، ثُمَّ الكَفَنُ لِلوَارِثِ فَهُوَ الخَصْمُ فِي السَّرِقَةِ، فَإنْ كَفَّنَهُ أجْنبيٌّ فَالطَّلَبُ لِلأَجْنَبِيِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ظاهر المذْهَب، وجوبُ القطْع على النبَّاش بسرقة الكَفَن في ¬
الجملة، وعن ابن خيران: أن فيه قولاً آخر: أنَّه لا يجبُ بحال؛ لأن الكفَنَ موضُوعٌ للبِلَى غير محرَّز، ويذكر أن أبا حفْص بْنَ الوكيل، نَسَب ذلك إلى القول القديم، وبه قال أبو حنيفة، ووجه الأول، وقطع أكَثر الأصحاب به [بما] روي عن البراء بن عازب أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ نَبَّشَ، قَطَعْنَاهُ" (¬1). وعن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أنَّهَا قَالَتْ: "سَارِقُ موْتَانَا كَسَارِقِ أحيائنا" ويتفرَّع على المذهب المشهورِ صوَرٌ. إحداها: إن كان القبرُ في بيت محرَّزٍ، وجب القطْع بسرقة الكَفَن منه، قال الإمام: ولو كانت المقبرةُ محفوفةً بالعمارات ينذُرُ تخلف الطارقينِ عنْها في زمن يتأتى فيه النبْش، أو كان عليها حرَّاسٌ مرتَّبُون [فهي] (¬2) بمثابة [البيت المحرَّزِ]،، وإن كان القبرُ في مفازةٍ وبقعةٍ ضائعةٍ، فوجهان: أحدهما: أن الكَفَنَ، والحالةُ هذه، ليس بمحرَّز، وسرقته كسرقة المتاع من الدار البعيدَةِ عن العمران؛ وهذا؛ لأن السارق يأخُذ من غير خَطر، ولا يحتاج إلى انتهاز فرْصة، وبهذا الوجْه، أجاب الشيخ أبو إسحاق الشيرازيُّ، وصاحب الكتاب، وعزاه الإِمام إلى جماهير الأصحاب. والثاني، وَيُحْكَى عن اختيار القفَّال، والقاضي الحُسَيْن، ورجَّحه أبو الحسن العبَّادي: أن القبر حِرْزٌ للكفن، حيث كان؛ لأن النفوس تهاب الموتى، ولذلك لا يعدُّ الدافن في مثل ذلك الموضع مضيَّعاً، وفرَّع صاحب "التهذيب" على الوجهين، فيما إذا كان القبر في بيت محرَّزٌ فسرق الكَفَن منه حافظُ البيت، فعلى الوجهِ الأولِ؛ لا يجب القطْع، وعلى الثاني؛ يجب، وإن كان القبر في مقابر البلاد الواقعةِ عَلَى طرف العمارات، فإن كان لها حارسٌ، وجب القطْعُ، وإلا، فوجهان: أصحهما؛ على ما [ذكره] القاضي الرويانيُّ، وغيره: أن الجواب كذلك؛ لأن القبر في المقابر حرزٌ في العادة، كما أن البيْتَ المغلَقَ في العمران حرْزٌ، وان لم يكن فيه أحدٌ. والثاني: المنْع؛ لأنه ليس دونه بابٌ مغلَقٌ، ولا عليه حارسٌ، فصار كالمتاع الموضوع هناك. ¬
الثانية: إن وضع [في القبر شيء] سوَى الكَفَن، هل يتعلَّق القطْع بسرقته؟ قال الإِمام: إن كان القبر في بيت فَبَلِيَ، وإن كان في المقابر فوجهان: أحدهما: نعم، ويكون محرَّزاً بما يكون الكفَنُ محرَّزاً به. وأصحهما، وهو الذي أورده أكثرهم: المنع؛ للعادة، ويخالف الكفن؛ فإنَّ الشرع قطَع فيه النباشَ، وجَعَلَه محرَّزاً لضرورة الحاجة إلى التكفين والدفْن، ليبقى مصوناً، وخصَّص الإِمام الوجْه الأوَّل بما إذا كان من جنْس الكفن؛ كثَوْب وُضِعَ فيه، وكما إذا كفن الميت في أكثر من خمسة أثوابٍ، ففي الزيادة على الخمسة التي تَلِي الميتَ الخلافُ، لكن ذلك الوجْه لا يختص بهبة التكفين ولا بجنس الثياب، فإنَّ القاضي الرويانيِّ حكَى في "جمع الجوامع" إجراء الخلاف فيما لو وَضَعَ في القبر مضربةً أو وسادةً للمَيِّت، وعن بعْضهم: أنه أجراه فيما لو دَفَن معه دراهمَ أو دنانيرَ، بل في "الرْقم" للعباديِّ: أن القاضي الحُسَيْن حَكَى عن القفَّال وجوبَ القطْع فيما إذا دفَن [معه] مالاً في بَرِّيَّة تبْعُد الهم والأوهام عن الدفْن فيه، والتابوت الذي يُدْفَن فيه الميت كالأكفان الزائدة، والزيادةُ في الطِّيب على ما يُستحبُّ تطبيب الميت به كسائر الأموال، وعن الماسرجسي: تعلقُّ القطْعِ بالقَدْر المستحَبِّ منه، كالكفن، قال ابن الصبَّاغ: إلا أنه لا يكادُ يجتمع منه ما يبلغ نصاباً. الثالثة: إذا كفن الميت من تركته، فَلِمَنِ الكفن؟ فيه ثلاثة أوجه: أصحها: أنه للورثة، كسائر مخلَّفاته، لكن يُقدَّم حق الميت فيه كما يُقدَّم قضاء ديونه، كان كان المِلْك للورثة، وعلى هذا، فلو سرقه أحد الورثة أو ابنُه، فلا قطْع عليه. والثاني، عن أبَوَيْ عليِّ بن أبي هريرة والطبريِّ: أنه يبقى على ملْك الميِّت؛ لحاجته إليه وانصرافه إلى مصلحته، وإن كان لا يثبُتُ له المِلْك ابتداءً، وهذا كما أنه يبقى الدَّيْن في ذمته، وإن لم يَثْبُتْ عليه ابتداء. والثالث: أن الملْكَ فيه لله تعالى؛ لأن الوارِث لا يتمكَّن من التصرُّف فيه، والميِّت لا يملك شيئاً، [فإن] قلْنا: إن الملْك فيه للوارِث، فالخَصْمُ في السرقة الوارثُ؛ على ما سيأتي؛ أن السارق يُقْطَع بمطالبة المسروق منه، ومخاصَمَتِهِ، فإن قلنا: إن الملْكَ فيه للميِّت، فعن ابن أبي هريرة: أن الخَصْم فيه الوارثُ أيضاً؛ لأنه القائم مقامه في حقوقه، وقال غيره: الخصْمُ فيه الحاكم والوارثُ لا ينوب عنه فيما لا يملكه، وإلى هذا يرجع ما حُكِيَ عن صاحب "الإفصاح" أن الإِمام يقْطَع ولا حاجة إلى خَصْمٍ، وإنما اعتبر خصومة الحَيِّ؛ لأنه ربما ملَّكه أو أباحَ له أخْذَه، فإذا اعترف به، سَقَطَ الحد، ومثل هذا لا مجالَ له في الكفَن، وإذا قلْنا: إنه لا مالك له، فالأمر فيه إلى
فروع
الحاكِمِ، هذا ما ذكره الأصحاب، وزاده الإِمام، فقال: إن كان مَنْ يذهَبُ إلى أن المِلْك في الكفن للميت أو لله تعالَى، يقول: يتعيَّن ردُّه بعد ما أخَذَه النباش إلى المَيِّتِ، ولا يجوز للوارث إبدالُهُ بغيره [فالتفريع] والخلافُ في أن الخصْم مَنْ هو صحيحٌ، لكن هذا قول عَريٌّ عن التحصيل، والوجْه عنْدي أن للوارثِ إبدالَهُ بعْد ما انفصل عن الميِّت، وحينئذ، فيجِب القطْع بأنه الخصْم لا غير، وإذا أكل الميتَ سَبُعٌ أو ذَهَبَ به السيل وبقي الكفَنُ، فإن قلْنا: إنه ملْكٌ للورثة، اقتسموه، وإن قلنا: إنه ملك للميِّت، فوجهان: أحدهما: أنه يُصرَف إلى الورثة أيضاً؛ لأن ما كان للميِّت ينتقل إلى الورثة، [وإنما] قُدِّم الكفن لِحَاجَتِهِ إليه، وقد بَطَلت الحاجة. والثاني: يُجْعَل في بيت المال؛ لأنه لم ينتقل بالمَوْت إلى الوارث، فلا يختص به بعْد ذلك، وهذا ما أورده ابن الصبَّاغ وغيره، وإن قلْنا: لا يملكه أحدٌ، فيُجْعل في بيت المالِ بلا خلاف، هذا كلُّه فيما إذا كُفِّن من تركته، فإن كَفَّنه أجنبي، أو [كُفِّن] من بيت المال، فلمن هو؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه على الخلاف المذكُور فيما إذا كُفِّنَ من تركتِه. والثاني: القطْع بأنه يبقى على ملْك الأجنبيِّ أو حُكْم بيت المال؛ لأن نقْل المِلْك إلى غير مالِكٍ لا يمكِنُ، والميت لاَ يَمْلِك ابتداءً، وغيرُ الميت لم يَمْلِكُ، فكان الأجنبيَّ معير للكَفنِ إعارةً لا رجوع فيها كالإعارة للدَّفْن. والقولُ في أن الخَصْم في السرقة مَنْ هُوَ، وفي أنه، لو أكله سبُعٌ إلى مَنْ يُردُّ الكفن، مبنيٌّ على الخلاف في المِلْك. " فروع": أحدُها: إذا كَفَّن السيدُ عبْدَه، فالملْك في الكفن للسيد أو لا يَمْلكه أحدٌ؟ فيه وجهان، وذكر أنه لا يجيْء فيه أن يملكه العبْدُ؛ لأن العبد لا يمْلِك إلا بتمليك السيد على القول القديم، والسيدُ لم يَمْلكه، ولمنازع أن ينازع فيه ويَجْعل التكفينَ تمليكاً، كما جُعِل تكفينُ الأجنبيِّ تمليكاً على رأْي، وحُكم بأن الكَفَن ملْك للميت. والثاني: إذا سُرِقَ الكَفَنُ، وضاع، كُفِّنَ ثانياً من التركة، فإن لم يوجَدْ، فهو كمن مات، ولا كفَنَ له. والثالث: إنما يُقْطَع النباش، إذا أخرج الكفَنَ منْ جميع القبر، أما إذا أخرج من اللَّحْد إلى فضاء القبْر وترَكَه هناك؛ لخوف أو غيره، لم يُقْطع، هذا هو المنصوص والمشهور، ويجوز أن يُخَرَّج ذلك على الإخْراج من البَيْت إلى صَحْن الدار.
وقوله في الكتاب "لا قَطْع على النبَّاش" ليعلم بالواو، وقوله "في تربةٍ [ضائعةٍ] " (¬1) هذه الصورة تحتمل "التربة" وتحتمل "البَرِّيَّة" بالباء والراء (¬2)، وتشديد الراء والياء. وقوله "وُيقْطَع، إذا سَرَق" معلَمٌ بالحاء والواو، وقوله "في بيْت محرَّز محروسٍ" الجمع بين اللفظين لا ضرورةَ إليه، وإنما هو تأكيدٌ، وقوله "ثم الكفن للوارث" وقوله " [فالطلب] للأجنبي" مُعْلَمَان بالواو. قال الغَزَالِيُّ: (السَّادِسَةُ) إِذَا كَانَ الحِرْزُ مِلْكاً لِلسَّارِقِ وَلَكنَّهُ فِي يَدَ المَسْرُوقِ مِنْهُ بِإجَارَةٍ قُطِعَ، وَإِنْ كَانَ بِغَصْبٍ لَمْ يقْطَعْ لِأَنَّهُ لَيْسَ حِرْزاً فِي حَقِّهِ، وَهَلْ تَكُونُ الدَّارُ المَغْصُوبَةُ حِرْزاً عَنْ غَيْرِ المَالِكِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ كَانَ عَارِيَّةً فَثَلاثَةُ أَوْجُهٍ يُفْرَقُ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ الرُّجُوعَ بِالدُّخُولِ أَوْ لاَ يَقْصِدَ كَمَا يُفْرَقُ فِيمَنْ وَطِئَ حَرْبيَّةً بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ الاسْتِيلاَءَ أَوْ لاَ يَقْصِدَ فِي نَسَبِ وَلَدِهِ، وَلَوْ كَانَ فِي الحِرْزِ مَالٌ مَغْصُوب لِلسَّارِقِ فَأَخَذَ غَيْرَ المَغْصوبِ فَفِي القَطْعِ وَجْهَانِ لِشُبْهَةِ جَوَازِ الدُّخُولِ، وَإِنْ جَوَّزْنَا لِلأَجْنَبِيِّ انْتِزَاعِ المَغْصُوبِ لِلْحِسْبَةِ جَرَى فِيهَا الوَجْهَانِ أَيْضاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في المسألة جملتان: إحداهما: إذا كان الحرْزُ ملكًا للسارق، نُظِر؛ إن كان في يدِ المسروقِ منْه بإجارةٍ فسرق منْه المؤَجِّر، فعليهِ القطْع؛ لأن المنافِعَ بعَقْد الإجارة مستحَقَّةٌ للمستأجِرِ، والإحْراز من المنافع، وفي هذا التوجيه ما يبين أن التصْوير فيما إذا استحَقَّ المستأجِرُ إيواء المَتَاع إليه بالإجارة، وإحرازه به دون مَنْ يستأجِرُ محوطاً للزراعة، فآوى إلَيْه ماشية مثَلاً. وقال أبو حنيفة: لا يجِب القطْع على المؤجِّر، وسلَّم أنه لو أجَّر عبْده لحفْظِ متاعٍ، ثم سَرَقَ المؤجِّر من المتاع الذي كان يحْفَظُه العبْدُ، أنه يجب القطْع. وإن كان الحرْز في يده بإعارة، وسرق المُعِيرُ منه مال المستعير (¬3)، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يجب القطْع؛ لأن الإعارةَ لا تلزم، وله الرجوعُ، متَى شاء، فلا يحْصُل الإحراز عنه. وأصحُّها، وهو المنصوص (¬4): أنه يجب؛ لأنه سرقَ النصاب من الحِرْزِ، وإنما يجوز له الدخُول، إذا رجع، وعليه أن يمهل المعير بقَدْر ما ينقل فيه الأمتعة. ¬
والثالث: الفرْق بين أن يدْخُل الحرْز على قصْد الرجُوع عن العاريَّة، فلا يُقْطَع، وبين أن يدْخُل على قصد السرقة، ويأخذ المال، فيُقْطَع، كما [أنه] إذا وطئ حربيةً يُفْرَق بين أن يَقْصِد القهْر والاستيلاء، فيملكها، ولا حدَّ عليه، ويثبت النسب، لو أولَدَها، ويين أن لا يقصد ذلك، فعليه الحدُّ، ولا يثبت النسب، [ولو] أعار عبداً لحفْظِ مالٍ أو رَعْي غنم ثم سرَق ممَّا كان يحْفَظُه عبده حكَى الإِمام فيه طريقين: أحدهما: أن في القطع الخلافَ المذكورَ فيما إذا كان الحِرْزُ مستعاراً. والثاني: القطْع بالوجوب؛ لأن الإحراز هاهنا بملاحظةِ العبْد، لا بنَفْس العبْد المملوك، ولو أعار قميصاً، فلبسه المستعيرُ، وَطَرَّ المعير جيبه، وأخذ دراهم، وجب عليه القطْع، ولا يكاد يجيء الخلاف فيه، ولو كان الحرْز في يده بغصب، فسَرق مالكُ الحرْزِ منه متاعه، فلا قطْع؛ لأن له الدخول والهجوم عَلَيْه، فلا يكون محرَّزاً عنه، كان سرق منه أجنبيٌّ فوجهان: أحدهما، ونسبه بعْضُهم إلى النصِّ: أنه يلزمه القطْع؛ لأنه لا حقَّ له فيه، وليس له الدخول. وأصحُّهما: المنعُ، ولا تكونُ الدارُ المغصوبةُ حرزاً للغاصب؛ لأن [الإحْرَاز] من المنافع، والغاصبُ لا يستحقها، قال الإِمام: ويمكن أن يقْرُب هذا من التردُّد في أن الواحدَ من المسلمين، إذا رأَى عَيْناً مغصوبةً في يدِ غاصبٍ، هل له إزالة يده عنها حسبةً؟ ولو اشترى الحرْزَ، وسرقَ منه قبل القبض مالَ البائعِ، فإن لم يوفِّر الثمَن بعْدُ، وجب القطع؛ لأن له حقَّ الحبس، فأشبه المستأجِرَ، وإن كان قد وفَّر الثمن، فوجهان: أصحهما: أنه لا يجب، ذكره صاحب "التهذيب" وغيره. الثانية: إذا غصب مالاً أو سرقة وأحْرَزه في حِرْزِه، فجاء [مالك (¬1) الحال]، وسرق من ذلك الحِرْز مالاً للسارق أو [الغاصب] (¬2)، هل عليه القطْع؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا؛ لأن له أن يَدْخُل الحرْزَ ويَهْتِكَه لأخذ ماله، فالذي يأخذه من الغاصب يأخذه، وهو غَيْر محرَّز عنه. والثاني: يجب؛ لأنه إذا أخذ مالَ الغاصِب، [غير] عرَفْنَا أنَّه هتك الحرْزَ للسرقة، لا؛ لأخذ مالِه، وخصَّص المخصِّصون للوجهين بما إذا كان مالُ الغاصب متميزاً عن ماله، [فأخذه] وحْده أو مع مال نفسه، فأما إذا كان مخلوطاً به؛ بحيث لا يتميز أحدُهما عن الآخر، فلا قطْع بحال، وهذا تخريج على قوْلنا: إن المال المشتركَ لا يُقْطَع واحدٌ ¬
من الشريكَيْن بسرقته؛ وذلك لأن الاختلاط المانعَ من التميز موجبٌ للشركة والشُّيوع، ولو دخل، وأخذ مال نفسه، فلا قطْع بحال، وإن سرق أجنبيٌّ المال المغصوبَ أو المسروقَ، فهل عليه القطْع؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، وإلى ترجيحه مال صاحب "الشامل"؛ لأنه سرق نصاباً من حرْز مثله بلا شبهة. والثاني: لا؛ لأنَّ المالك لم يرْضَ بإحرازه فيه، فكأنه غير محرَّز، قال في "البيان": وهذا هو الصحيح؛ ويؤيِّده ما أشار إليه الإِمام وصاحب الكتاب في "الوسيط" وهو بناء الوجهَيْن على الخلاف في أنَّه، هل يجوز للأجنبيِّ أخذُ المغصوب؛ حسبةً؛ ليردَّه إلى مالكه؟ إن قلْنا: نعم، فلا قطْع عليه، كما لا قطْع على المالك، وإن قلْنا: لا، فيقطع، والذي أورده صاحب "التهذيب" أنه يُقْطع [إذا] أخذَ على قصْد السرقة، وقال: لا فرْق بين أن يكون عالماً بأنه مغصوب أو لاَ يَكُون، وإذا حَكْمنا بوجوب القَطْع بسرقة المغصوب والمسروق، فالخَصْم فيهما المالكُ، وعن أبي حنيفة: أن الخُصْمَ في السرقة المالكُ، وفي الغَصْب الغاصبُ. وقوله في الكتاب "وإن جوَّزنا للأجنبيِّ انتزاعَ المغْصُوبِ للحسبة، جرى فيها الوجهان أيضاً" يقتضي تخصيصَ الوجهين بما إذا جوَّزنا له الانتزاع، والجَزْم [بالمَنْع] (¬1) إذا لم نجوِّزه، وذلك لا ينْطبق على ما حَكْيناه عن الإِمام، وعن "الوسيط" والوجْه بناءُ الخلافِ على الخلاف فيما لا يُشْعِر به لفظ الكتاب. فرع: إذا سرق الطعامَ في عام القْحط والمَجَاعة، نُظِر؛ إن كان يوجد، لكنَّه عزيزٌ (¬2)، والثمن غال، وجب القطْع، وإن كان لا يوجَدُ، ولا يَقْدِر عليه، فلا قطع؛ لأنه كالمضْطَرِّ؛ وعلى هذه الحالة، يُحْمَل ما يُرْوَى عن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنّه لا قَطْعَ فِي عَام المَجَاعَةِ (¬3). قال الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الثَّانِي: نَفْسُ السَّرِقَةِ وَهِيَ الإِخْرَاجُ) وَالنَّظَرُ فِي ثَلاَثةِ أَطْرَافٍ: (الأَوَّلُ) فِي إِبْطَالِ الحِرْزِ وَهُوَ بِالنَّقْبِ وَفَتْحِ البَابِ، وَإِنْ نَقَبَ وَعَادَ لِلإخْرَاجِ لَيْلَة أُخْرَى ¬
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لا يُقْطَعُ إلاَّ إِذَا اطَلَّعَ المَالِكُ وَأَهْمَلَ، وَلَوْ أَخْرَجَ غَيْرَهُ فَلاَ قَطْعَ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ تَعَاوَنَا حَتَّى يَشْتَرِكَا فِي النَّقْبِ وَالإِخْرَاجِ قُطِعَا، وَإِن أشْتَرَكَا فِي النَّقْبِ وَانْفَرَدَ وَاحِدٌ بِالإِخْرَاجِ فَالقَطْعُ عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَلَوْ أَخَذَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي النَّقْبِ سُدُساً وَالآخَرُ ثُلُثاً فَلاَ قَطْع إِلاَّ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي الاشْتِرَاكِ فِي النَّقْبِ التَّحامُلُ عَلَى آلة وَاحِدَةٍ بَل التَّعَاقُبُ فِي الضَّرْب شَرِكَةٌ بِخِلاَفِ قَطْعِ اليَدِ فِي القِصَاصِ، وَلَوْ دَخَلَ أحَدُهُمَا وَأَخْرَجَ المَالَ إِلَى بَابِ الحِرْزِ فَأدْخَلَ الآخَرُ يَدُهُ وَأَخَذَهُ فَعَلَيْهِ القَطْعُ لاَ عَلَى الأَوَّلِ، وَإِنْ وَضَعَ الأَوَّل خَارجَ الحِرْزِ فَعَلَيْهِ لاَ عَلَى الآخِذِ، وَإِنْ وَضَعَ عَلَى وَسَطِ النَّقْبِ وَأَخَذَ الآخَرُ فَقَوْلانِ: (أَحَدُهُمَا): أنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا (وَالثَّانِي) أَنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِمَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: حصَل الفراغُ من الرُّكْنِ الأَوَّل، وهو المسروق وتبيَّنَ ما يُعتَبَرَ فيه؛ لوجوب القطع، وهذا الركْن الثاني كلامٌ في نفس السرقة، وقد مرَّ في صدْر الباب؛ أن السرقةَ أخذُ المالِ على وجْه الخُفية، فمن أخذ عياناً، كالمختَلِس والمنتهب، لم يلزمه القطْع، والمخْتَلِسُ الذي يعتمدُ الهَرَب، والمنتهب الذي يعتمد القوَّة والغلَبة، وكذلك لا قطْع على المودَعِ إذا جَحَد، وعن أحمد: أن عليهم القطْع. لنا: ما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال (¬1): "لَيْسَ عَلَى المُخْتَلِسِ وَالمُنتَهِبِ وَلاَ عَلَى الخَائِنِ قَطْعٌ، وفُرِقَ بينهم وبيْن السارق من جهة المَعْنَى بأن السارق يأخُذُ المالَ في خُفْية، فلا يتأتَّى منْعه، فُشرع القطْع زجراً، وهؤلاء يقْصِدون المال عياناً، فيمكن دفْعُهم بالسلطان ¬
وغيره، وقوله "وهي الإخراج" لا يمكن [حمله] على الإخراج من البيت أو الدارِ؛ لما ذكرنا أنه، لو كان في مسْجِدٍ أو شارع (¬1)، وعنده متاعٌ يلاحظُه، فتغفَّله إنسانٌ، وأخذ متاعه، يكون سارقاً، ويلزمه القطْع، وإن لم يُخرج من بيت ودار، ولكن أراد إخراجه عن أن يكون محرَّزاً بنقله عن موْضِع إحرازه، ولفظه في "الوسيط": وهي عبارةُ عن إبطال الحِرْز، ونقْل المال، يعني أن الأخذ في السرقة هكذا يكون، ثم إنه أودَعَ الغرَضَ في ثلاثة أطْرافٍ؛ إبطال الحرز، وكيفيَّة النقْل، والمحلّ المنقول إلَيْه. أما الأوَّلُ؛ فإبطال الحرْزِ؛ وقد يكون بالنَّقْب وفتح الباب، وقد يكون بتغييبه عن نَظَر الملاحِظ، وفيه صورٌ: إحداها: إذا نقب، ثم عاد، وأخرج النصاب في ليلة أخرَى، حكى القاضي ابن كج عن النَّصِّ؛ أنه، إن علم صاحبُ الحرْز بالنَّقْب، أو كان ظاهراً يراه الطارقون، وبقي كذلك، فلا قَطْع؛ لانهتاك الحرز، وإلا، فعن ابن سُرَيْج وغيره: أنه يُقْطَع، كما لو نقَب في أوَّل الليل، وأخْرَج المال من آخر، وعن غَيْره، أنه يُحْتمل أَلَّا يُقْطَع، لأَنَّه عاد بعْد انتهاك الحِرْز؛ فصار كما لو جاء غيره، وأخذ المال، فحَصَل وجهان، ولْيُصْرَف إليهما قولُه في الكتاب، و [في] "الوسيط": فالظاهر أنه يُقْطَع والخلافُ شبيه بالخلافِ فيما إذا أخرج [نصاباً] (¬2) على دفعات. ولو نقب واحدٌ ودخل [آخر] (¬3) الحرْزَ، وأخرج المال، إما على الاتصال أو بعْده، فلا قَطْع على واحدٍ منهما؛ أما الأول؛ فلأنه لم يأخذ شيئاً. وأما الثاني؛ فلأنه أخَذَ من حْرزٍ مهتوكٍ، ويجب على الأول ضمانُ الجدار (¬4)، وعلى الثاني ضمانُ ما أخذ، ومِنَ الأصحاب مَنْ قال في وجوب القَطْع على الثاني الخلافُ الذي سَنْذكر فيما إذا نَقَب اثنان، وأخَذَ أحدهما المسروقَ، ووضعه على النقْب [فأخذه] الآخر، ووجْهُ الوجوب أَلاَّ يتخذ ذلك ذريعةً إلى إسقاط الحدِّ، والظاهر الأوَّل، وهو المذكور في الكتاب. نعَمْ، لو كان في الدارِ حافظٌ قريبٌ من النقب، وهو يلاحِظُ المتاع، فالمال محرَّز به، فيجب الضمان على الآخر، وإن كان نائماً، فلا يكون المال محفوظاً به في أصحِّ الوجهين، كما ذكرنا فيمن نام في الدار، وبابُهُ مفتوحٌ، وليعلَمْ قوله "فلا قطْع عليهما" مع الواو بالحاء؛ لأن في النهاية أن أبا حنيفة يوجِبُ القطْع على الناقِبِ بعلة أنَّه رِدْءٌ وعون للسارق. ¬
الثانية: إن تعاون شريكانِ علَى النقاب، وأخرَجا [نصابَيْن] (¬1)، إما بأن أخرج كلُّ واحدٍ نصاباً، أو حملا متاعاً يساوي نصابَيْن، [فعليهما] (¬2) القطْع، وإن تعاونا على النقب، وانفرد أحدُهما بالإخراج، فالقطع على المُخْرج خاصَّةً، والآخر ليس بسارقٍ، قال الإِمام: ورأيْتُ في بعض التعاليق حكايةَ وجهَيْن في وجوب القطْع على المُخْرِج، وهو ضعيفٌ، وفي "جمع الجوامع" للقاضي الرويانيِّ: أنه، لو نقَب واحدٌ، ودخل مع آخر، وأخرجا المال معاً، فالقَطْع على من جمع بين النقْب والإخراج دون الآخر، وأن عند أبي حنيفة: إذا اشترك جماعةٌ في النقْب، وحمل أحدهم المالَ، فإن خَرَجُوا قبله أو بعده، ولم يصحبوه، لم يُقْطَعوا، وإن صحِبُوه، قُطِعوا؛ بناءً على أن رِدْءَ قاطعِ الطريق كالقاطِعِ. ولو اشتركا في النقْب، ولم يُخرجا إلا نصاباً واحداً، فقد مرَّ أنه لا قطع على واحدٍ منهما، وإن أخرج أحدهما بعْد الاشتراك في النقْب ثلثاً وآخر سدساً، فالقطع على صاحب الثلثِ خاصَّة، وقد مر هذا من قبل وبيَّنَّا أن عن أبي حنيفة ما يقْتَضِي إعلامَ قوله "فلا قطع إلا عَلَى صاحب الثلث" بالحاء، وفيم يحْصُل به الاشتراك في النقب؟ فيه وجهان: أحَدُهما: أنه لا يحْصُل حتى يأخذَا آلَةً واحدَةً، ويستعملاها معاً، كما لا [تَحْصُل الشركةُ] في قطع اليد إلا بأن يأخذَا حديدةً، ويتفقا على إمرارها. وأظهرهما، وهو المذكور في الكتاب: أنه لا يُشْترط ذلك، بل تثبت الشركة، وإن أخذ هذا لَبنَاتٍ، وهذا لَبنَاتٍ؛ لأنه قد حصل التعاونُ على النقْب، والنقبُ ذريعة إلى المقصود؛ وليس هو سرقةٌ في نفْسه، فلا يُتَأَنَّق في تصويرها كما يُتَأَنَّق في تصويرِ القطع. الثالثة: الشريكان في النقْب، إذا دخل أحدُهما، ووضَع المتاعَ قريباً من النقْب أو دَخَلَ أحدُ السارقَيْنِ، ووضعه قريباً من باب الحِرْز وأدخل الآخر يده، وأخذه فالقَطْع على الثاني الذي أخرجه من الحرْز، لا على الأوَّل، وكذا لو وقَفَ أحدُهما على طَرَف السطْح، ونزل الآخر، وجمع الثيابَ وربَطَهَا بحبْل، فرَفَعَها الواقفُ، فالقَطْع عليه، لا على الأول، وعليهما الضمان، ولو وضع الداخلُ المتاعَ خارجَ الحرْز أو الباب، وأخذه الآخَرُ، فالقطع على الذي أخرج دون الآخرِ، أو فأخذه المناقب فلا قطع على واحد منهما، ويجوز أن يُعْلَم لفظ "القَوْلَيْن" في الكتاب بالواو؛ لما ذكر الإِمام أن الصيدلانيِّ قطَع بنفيْ القطْع عنهما، والمشهورُ إثباتُ القولَيْن، وعن القاضي أبي حامِد: أنهما منصوصانِ في القديم، وذكر القاضي الرويانيُّ: أنه لو ناول الداخلُ الخارجَ في فمِ النقْب، لم يُقْطَع ¬
واحدٌ منهما؛ لأن الداخلَ لم يُخْرِج من تمام الحرْز، والخارجُ لم يتناولْه من الداخل، ذكر ذلك بعْد حكاية القولَيْن في التصوير السَّابِق، ويُشْبِه أن يكونَ هَذَا جواباً على الأصَحِّ، وإلاَّ، فلا يتضحُ فرْقٌ بين أن يضَعَه فيأخُذَه الخارج، وبيْن أن يناوِلَه من يده. ولو نَقَبَ اثنانِ ودَخَلاَ وأخَذَ أحدُهما المالَ وشدَّه على وسط الآخر فخَرَجَ به الآخَرُ فالقَطْع عليه، ولا قَطْع على الأوَّل، ولو أن الآخَر حَمل آخِذَ المال، فأخْرَجَه، والمتاعُ في يده، وجب القطْع على المَحْمُول، وفي الحامل وجهان: أحدهما: يجب؛ لأن حمْل مَنْ حَمَّل المال حَمْلٌ للمال. والثاني: لاَ، وهو الذي أورده الرويانيُّ؛ لأنه لم يحمِلْه بنَفْسِه، ومن حَلَف ألاَّ يحمل طبقاً فحمل رجلاً حاملاً طبقاً لا يحنَثُ في يمينه؛ وَعَلَى هَذَا لو نَقَبَ زَمِنٌ وأعْمَى، وأدْخلَ الأعْمَى الزَّمِنَ، فأخذ الزمِنُ المتاعَ، وخَرَج به للأعْمَى، [وحمله الأعمى وأخرجه] يجب القطْع على الزَّمِن، وفي الأعْمَى الوجهان. وفي "البيان" أن الأعْمَى، إذا حمل الزَمِنَ، وأدخله الحرْزَ، فدلَّ الزمِنُ الأعمَى على المال، وأخذه، وخَرَج به، فيجب القطْع عليهما أو لا يجبُ إلا علَى الأعْمَى؟ وفيه وجهان: أصحُّهما الثاني. وقوله في الكتاب "فعَلَيْه لا عَلَى الآخِذِ" يجوز أن يُعْلَم بالحاء؛ لأن الحكاية عن أبي حنيفة: أنه لا قطْع على واحد منهما؛ لأنَّه خرج، ولا شيْء معه. فرْعٌ: لا فرق في هتْك الحِرْز بين النَّقْب، وكسْرِ البَابِ، وقلْعِه، وفتح المغْلاَق والقُفْلِ، وتسوُّرِ الحائطِ، بل يجب القطْع بأخْذِ المال في جميع هذه الأحْوَال. قال الْغَزَالِيُّ: (اَلطَّرَفُ الثَّاني في وُجُوهِ النَّقْلِ) فَلَوْ رَمَى المَالَ إِلَى خَارجِ الحِرْزِ قُطِعَ أَخَذَهُ أَوْ تَرَكهُ، وَلَوْ اسْتَخرَجَ مِنَ الحِرْزِ بِمِحْجَنِ قُطِعَ، وَلَوْ أَكَلَ فِي الحِرْزِ لَمْ يُقْطَعْ، وَلَوِ ابْتَلَعَ دُرَّةً فِي الحِرْزِ فَثَلاثَةُ أَوْجُهِ يُفْرَقُ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهَا بَعْدَ الانْفِصَالِ عَنْهُ وَبَيْنَ أَلاَّ يُقْصِدَ ذَلِكَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فِيهِ صورتَانِ: إحداهما: إذَا رَمَى المَالَ إلى خارج الحْرز من النقْب أو الباب أو مِنْ فوق الجدارِ، لزمه القطْع، ولا فرْق على ظاهر المَذْهَب بيْن أن يأخُذْه بَعْدما رماه، وبين أن يتركه حتَّى يضيع أو يأْخذه غير، وفيه وجْهٌ أنَّه، إذا لَمْ يأْخُذْه، فلا قطْع عليه؛ لأن الموجود حينئذٍ إتلافٌ لا سرقةٌ؛ وعلى هذا، فلو أخذه مُعينُه، فهل يكفي ذلك؛ لوجُوب القطْع عليه؟ أبدى الإِمام تردُّداً فيه، وحكَى عن أبي حنيفة: أنه لا يجبُ القطْع
على الرامِي إذا لم يأخُذ ما رماه، ولا مُعِينُه، فيجوز أن يعلم لذلك قوله: "أو تركه" بالحاء مع الواو. ولو أدخل يده في النَّقْب أو أدخل فيه محْجناً، وأخرج المتاع، قُطِع، وعند أبي حنيفة: لا يجب القطْع، إلا أن يكون ضيِّقاً لا يمكن الدُّخُول فيه، وسلَّم أنه لو أدخل اليدَ في الجوالِقِ فَسَرَقَ منه، يُقْطَع، ولو أرسل محْجَناً أو حَبْلاً في رأْسه كلاَّبٌ من السَّطْح، وأخرج به ثوباً أو آنيةً، قُطِع، وقد لا ينارعُ أبو حنيفة فيه، والمِحْجَن السَّوط المعقف الرأْس ونحوه. الثانية: لو أتلف المالَ في الحِرْزِ بأكْلٍ أو إحراقٍ، لم يلزمْه القطْع، وقد سبق لهذا ذكْرٌ، ولو ابتلع في الحِرْز جوهرةً أو دينَاراً، فعن الشيخ أبي حامدٍ وابن الصَّبَّاغ وغيرهما: أنه إن لَمْ يَخْرُج منه، فلا قطْع؛ لأنه استهلكها في الحرْز، فأشبه ما إذا أكَل الطَّعَام، وإن خرجَتْ منه، فوجهانِ: أحدهما: يجب القطع؛ لأنَّها باقيةٌ بحالها غيْر فاسدةٍ، فأشبه ما إذا أخرجها في فيه، أو في وعاءٍ. والثاني: لا يجب؛ لأنه بالابتلاع صار في حُكْم المستهلك؛ ألا ترى أن للمالك أن يُطَالِب بالقيمة في الحال؟ وأيضاً، فإنه كالمُكْرَهِ في إخراجه؛ لأنه يلزمه الخروج، ولا يمكنه إخراجُه من جَوْفه، وهذا أصحُّ فيما ذكر المحامليُّ، ولو وضع المتاع على وسط النقْب، [فأخذه] الآخر، وأخرجه، وهو يساوي نصابَيْن، ففيه قولان: أحدهما، ويُنْسب إلى رواية الحارث (¬1) بن سُرَيْج البقال: أنه يجب القطْع عليهما؛ لأنهما اشتركا في النقب، وتعاونا على الإخراج؛ فأشبه ما إذا أخرجا معاً، وأيضاً، فلئلا (¬2) يُجْعَل ذلك ذريعةً إلى إسقاط القطع. وأصحُّهما، وهو رواية الربيع والمزنيِّ: أنه لا قطْع على واحدٍ منهما؛ لأنهما تفرَّقا في الإخراج، ولم يوجَدْ في واحدٍ منهما الإخراجُ من تمام الحرْز، فصار كما لو نقب أحدُهما، ودخَل، ووضعَ المتاع على وَسْط النقب، [فأخذه] الآخر، أو دَخَلَ غير المناقب، ووضَعَه عليه، قال الماوردي: وذكر أبو العَيَّاض وجْهاً: أنَّها إن خرَجَتْ بدواءٍ وعلاجٍ، لم يُقْطع، وإن خرجَتْ عفواً بغَيْر دواءٍ وعلاجٍ، قطِع، فيصير وجْهاً رابعاً، وطائفةً والأول أصحُّ عند الإِمام والرويانيِّ. وأطلق مطلقون الوجهَيْن، ولم يقيدوا بما إذا خرجَتْ فنَزَّل بعضهم المطلَقَ على ¬
المقيَّد، ورأى الإِمام إثباتَ وجْه فارق بيْن أن تَخْرُج منه بعْد خروجه من الحرْز، فيُجْعل سارقاً، وبين أَلاَّ يَخْرُج، فبيّن أنها فسدت، وانمحقت، فلا يجعل سارقاً، وأورد صاحب الكتاب الوجه الفارِقَ على منوال آخر ههنا، وفي "الوسيط" فقال: إن أخَذَها بعْد الانفصال عنه، كان سارقاً، وإلا، فلا، ولم أره لغيره، ولو أخذ الطيِّب، فتطيَّب به في الحِرْز، ثم خرج، فإن لم يمكن أن يجمع منه ما يبلغ نصاباً، فلا قطْع، وإن أمكن فوجهان؛ عن رواية الماسرجسي؛ أشبههما أن الجواب كذلك؛ لأن استعماله يُعدُّ استهلاكاً له؛ كأكْل الطعام. والثاني: يجب القطع؛ لبقاء عينه، وإمكان الانتفاع. قال الغَزَالِيُّ: وَلَوْ وَضَعَ المَتَاعَ عَلَى المَاءِ حَتَّى جَرَى بِهِ إِلَى خَارجِ الحِرْزِ قُطِعَ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَتَحَ أَسْفَلَ الكَنْدُوجِ حَتَّى انْصَبَّ، وَلَوْ وَضَعَ عَلَى ظَهْرِ دَابَّةٍ فَخَرَجَتْ قيل: لاَ يُقْطَعُ لاِخْتِيَارِ الدَّابَّةِ، وَقِيل: إنْ سَارَتْ عَلَى الفَوْرِ قُطِعَ وَإلاَّ فَوَجْهَانِ، وَقِيلَ بِالعَكْسِ وَهُوَ تَرَدُّدٌ فِي أَنَّ التَسَبُّبَ هَلْ يَكْفِي لِلْقَطْعِ؟ وَلَوْ أَخْرَجَ شَاةٌ فَتَبِعَتْها سَخْلَتُهَا أَوْ غَيْرُهَا خُرِّجَ عَلَى الخِلاَفِ لاِخْتِيَارِ الدَّابَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صُورٌ: إحداها: لو كان في الحرْز ماءٌ جارٍ، فوَضَعَ المتاع عليه، حتى خرَجَ، وجَب القطع؛ فإنه المُخرج، كما لو جَذَبه بمِحْجَن، وفي "البيان" أن الشيخ أبا حامد حَكَى وجهاً ضعيفاً، أنه لا يجب، ولايْتُه في [تعليقة] إبراهيم المروروزي أيضاً، وقال الإِمام: تخريجه من الوجْه الذي سنذكر، إن شاء الله تعالى، في صورة الكندوج: وإن كان الماء راكداً، فحركه حتى خرج به، فهو كالجاري، وإن حَرَّكَهُ غيره، حتى خرَجَ، فالقطْع عليه، وإن زاد الماء بانفجار أو مجيءْ سيل، فخرجَ به، فوجهان: أظهرهما: أنه لا يجبُ القطْع، وإذا كان في البستان أُتْرُجٌّ، والماء يدخُل من أحد طرفيْه، ويخْرُج من الآخر فجمع النارَ والوقودَ في طَرَفٍ ووضعه على الماء، حتى دخَل، وعلا الدُّخَان، فأسقط الأتْرُجَّ في الماء، وخرج من الطَّرَف الآخر، فأخذه، أو رَمَى بالأحجار [من خارج البستان] إلى الأشجار، حتى تناثرت الثِّمار في الماء، وخرَجَت من الجانب الآخر، ذكر إبراهيم المروروزي أنَّ القاضي الحُسَيْن قال في كَرَّة: لا يجب القطْع، وهو المذْهب، وقال في كَرَّة: يجب، كما لو أخذ الثوْب منْ خارج الحِرْز بمحجن، ولو كانت الريحُ تهبُّ، فعرض المتاع لها، حتى خرجت به أو وَضَعَه على طَرَف النقْب، [فطارت] به الريحُ، وجب القطع، ولا أثر لمعاونة الريح، كما أنها لا تمنع وجوبَ القصاص وحلَّ الصيد، والحالة هذه، ولو كانت الريحُ راكدةً، فوضعه
على طَرَف النقْب، فهبت، وأخرجته فوجهان، كما في صورة زيادة الماء، [والظاهر] أنه لا يجب. الثانية: ذكرنا فيما سبَق في انثيال الحنْطة عنْد فتح أسْفل الكندوج وجهاً: أنه يتعلَّق به القطْع، ولا يُنَزَّل منزلة الإخْراج باليَدِ، وقد يُسلِّم من قال به وجوبَ القَطْع فيما إذا وَضَع المتاع على الماء، [فخرج] به، ويُفرِّق بأنَّ هناك وجد منه فعْلٌ في المال، وهو الوضْع على الماء، وههنا، لم يوجَدْ منه إلا النقْب، وبيَّنا هناك أن الصحيح نزولُه منزلةَ الإخْراج باليد، وعلى هذا، فهل يُشْترط أن يخرج قدْر النصاب دفعةً واحدةً أو يجب القطْع؟ وإن خرج بالتدريج؟ فيه وجهان قد سبَقَا. الثالثة: إذا وضع المتاع في الحِرْز على ظَهْر دابَّة، وسيَّرها بسوق أو قَوَدٍ، حتى خَرَجَتْ أو عقَدَ اللؤلؤةَ على جناح طائر، وطيَّره، فقد أخرح المال عن الحرز بما فَعَل، فعليه القَطْع، وفي "البيان" عن رواية الشيخ أبي حامِدٍ حكايةُ وجه ضعيف. ولو كانت الدابَّة في السير، فوضع المتاعَ عليها فخرجَتْ به، فهو كما لو سيرها، ولو لم تكنْ سائرة ولا سيرها، بل كانت واقفة، فوضع عليها المتاع، فسارت [به]، وخرجت به ففيه طرق: أظهرهما: أن في وجوب القطْع (¬1) وجهين: أحدهما: أنه يجب؛ لأن الخروج حَصَل بفعْله، فإن الدابة، إذا أثقلت بالحَمْل سارت. [و] (¬2) أصحهما: المنع؛ لأن للدابَّة اختيارًا في الذهاب والوقوفِ، وقد لا تسير بعْد التحريك، فيصير اختيارُها شبهةً دارئَة للقطْع. والثاني، ويحكى عن القاضي أبي الطَّيِّب: القطع بالوجه الثاني. والثالث: أنها، إن سارت على الفَوْر قُطِع؛ لإشعار الحال بأنها سارَتْ بفعله، وإن وقفت زَماناً، ثم سارت، ففيه وجهان. والرابع، وهو اختيار الشيخ أبي علي وغيره: أنها، إن وقفت، ثم سارَتْ فلا قطْع، وإن سارت في الحال، فوجهان؛ لشبهة اختيار الحيوان، ولو أخرج شاةً، فتبعتها أخرَى أو سَخْلَتُها، ولم تكن الأولَى وحْدها نصاباً، ففيه هذا الخلاف، وعن الشيخ أبي علي: القطْع بالوجوب ههنا؛ لأن [طبعها] (¬3) الاتباعُ، والظاهر الأول، وبالمنع [أجاب] (¬4) في "التهذيب" وفي دخول السخْلَة في ضمانه وجهان، وأشار الإِمام إلى ¬
ترتيب ما نَحْن فيه على الخلافِ المذكورِ في وجوب الضمان، إذا فتح القفص عن طائر، والقطْعُ أوْلَى بالمنع، قال: ولو فَصَلَ فاصلٌ بين الحيوان المطمئن في الناس وبيْن الذي يَغْلب عليه النِّفَار (¬1)، لكان وجهاً، وقوله في الكتاب "وهو تردُّد في أن التَّسَبُّبَ، هَلْ يكفي للقَطْع؟ أراد به أن الخلاف في الصُّوَر المذكورة قد يستند إلى مباشرةِ الإخراجِ، ولم يوجَدْ في هذه الصور، لكنه تسبَّب إلى الخروج بواسطة الغَيْر؛ فعلى رأْي يُكْتَفَى به كما يُكْتَفَى به لوجوب الغرم؛ وعلى رأْي، يحتاط للقطْع، فلا يناط إلا بالمباشرة، ولو نقب الحرز، ثم أمر صبيّاً لا يميز بإخراج المال، فأخرجه، فعن بعْضهم: أنه، كما لو وضع المتاع على البهيمة، فخرجت به منْ غير تسير، وعن أكثرهم: أنه يجبُ عليه القطْع، وأَمْرُه كتسيير البهيمة، وإن كان مميِّزاً، [وله] اختيار صحيحٌ ورؤية؛ فلا يجعل آلةً للآمر، [فلا قطع] والعبْدُ الأعجميُّ كالصبيِّ الذي لا يميِّز. قال الغَزَالِيُّ: وَلَوْ حَمَلَ عَبْداً صَغِيراً مِنْ حَرِيمِ دَارِ سَيِّدِهِ قُطِعَ لِأَنَّهُ حَرَّزَهُ إِلاَّ أَنْ يَبْعُدَ عَنْهُ فَلَوْ دَعَاهُ وخَدَعَهُ فَهُوَ مُمَيِّزٌ فَلاَ قَطْعَ، وَإِلاَّ فَهُوَ كَالبَهِيمَةِ، وَلَوْ أُكُرِهَ المُمَيِّزُ بِالسَّيْفِ عَلَى الخُرُوجِ فَوَجْهَانِ، وَلَوْ حَمَلَ عَبْداً قَوِيّاً فَلَمْ يَمْتَنِعْ فَلاَ قَطْعَ إِذْ حَرَّزَهُ قُوَّتُهُ وَهُوَ مَعَهُ، وَكَذَا إِنْ كَانَ نَائِماً، وَلَوْ حَمَلَ حُرّاً وَمَعَهُ ثِيَابُهُ فَفِي دُخُولِ الثِّيَابِ تَحْتَ يَدِهِ نَظَرٌ، فَإِنْ كَانَ قَوِياً لَمْ تَدْخُلْ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفاً تَدْخُلُ وَهَلْ يَكُونُ سَارِقاً؟ وَجْهَانِ، وَلَوْ نَامَ عَلَى البَعِيرِ وَعَلَيْهِ أَمْتِعَةٌ وَأَخَذَ السَّارِقُ زِمَامَهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنَ القَافِلَةِ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ يُفَرَقُ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ القَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَفِي الرَّابعِ بَيْنَ الحُرِّ وَالعَبْدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وفيه مسألتان: أحدهما: العبْد الصغيرُ الذي لا يميِّز، يجب القطْع بسرقته، إذا كان محرَّزاً، وإنما يكون محرَّزاً، إذا كان في دارِ السيدِ أو بفناءِ داره، وسواءٌ كان وحْده أو كان يلْعَب مع الصبيان؛ لأنه لا يُعدُّ مضيِّعاً، إذا كان عَلَى باب الدار، [فإن] بَعُد عنه، ودخل سكة أخرَى، فهو مضيِّع، ولا فرق بين أن يحمله نائماً أو مستيقظاً مربوطاً، وبين أن يدْعُوهَ فيتبعه؛ لأنه لا تمييز (¬2) له، فهو كالبهيمة تساقُ أو تقاد، ويجيء فيه الخلافُ الذي ذَكْرناه في تسيير (¬3) البهيمة والمجنونُ والأعْجمي الذي لا تمييزَ لَهُ، كالصَّغير الذي لا يميز [له]، وإن كان الصغيرُ مميِّزاً، فسرقه نائماً أو سكران أو مربوطاً فعلى ما ذكرنا في غَيْرِ المميِّز، ولو دَعَاه وخَدَعَه، فتبعه باختياره، فَلَيْس ذلك بسرقة، وإنَّما هو خيانةٌ، ولو ¬
أكرهه بالسيف حتى خرج من الحِرْز، فقد حكَى الإمامُ وصاحبُ الكتاب فيه وجهَيْن: أحدهما: لا يجب القطْع؛ لأنَّه فارق الحِرْزِ بِفِعْله. والثاني: يجب (¬1) كما لو ساق البهيمة بالضرب والتعنيف، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب" ولو حمل عبداً قويّاً قادراً على الامتناع، فلم يمتنع، فلا قطْع؛ لأن حرْزته قوته، وهي معه، [ولو] حمله، وهو نائمٌ أو سكرانُ، قال الإِمام: الوجه عنْدنا القطْع بثبوت يده عليه، وإن كانت عرضة للزوالِ، حتى إذا فرض تلفَ قبل التيَقُّظ يلْزَمه الضمانُ؛ لأن المنقول لا يتوقَّف ثبوت اليد عليه على الاستيلاء والتمكن من المقاومة عنْد طَلب الاسترداد، قال: وفي تحقيق السرقة نَظَرٌ؛ لأن مثل هذا العبد محرَّز بيده وقوته، واحتمال الضعْف إياه لا ينهيه من صون إلى ضياع، هكذا ذكَره على الترديد، وتابعه صاحب الكتاب في "الوسيط" وههنا أطلق القولَ بنفي (¬2) القطْع، ثم أنشأ (¬3) الإِمام من هذا المنتهَى شيئاً آخر، فقال: من جلس (¬4) وحده، حيث لا مستغاث (¬5) يجار إليه، وهو يلاحظ متاعه، فتغفّله ضعيفٌ، [وأخذ] (¬6) المال، ولو شعر به صاحبُ [المال] (¬7)، لطَرَده، فهل نقول: لا قَطْع عليه، كما لو أخذه قويٌّ لا يبالي بصاحب المال، أو نقول: يختلف (¬8) الحكم بحَسَب اختلاف الآخِذِينَ؟ الرأي الظاهر عندنا الاختلافُ، ولا يبعد اختلاف الحُكْم باختلاف حالِ الآخذين، كما يختلف أصلُ الإحراز (¬9) باختلاف أصناف الأموال؛ وعلى هذا، فقوله في الكتاب فيما سبق والملحوظ يُعيِّين الضعيف في الصحراء ليس [بمحرّز]، إذا كان لا يبالَى به محمولٌ على ما إذا كان الآخِذُ قَوِيّاً. المسألة الثانية: الحرُّ لا يضمن باليد، فلا قطْع بسرقته، وإن كان صغيراً؛ لأنه ليس بمال، وعن مالك: أنه يجب القطْع بسرقته، وإن كان في عنقه قلادة أو معه مالٌ يبلغ نصاباً من ثيابه أو غيرها؟ فوجهان: ¬
أحدهما: أنه يجبُ القطْع، وبه قال ابن أبي هريرة؛ لأنه سرق نصاباً. وأظهرهما: المنع؛ لأنه في يدٍ الصبيِّ ومحرَّز به (¬1)، فلم يُخْرِجْه من حرزه، وهذا يوافق مذْهَب أبي حنيفة، هكذا أطلق الوجهين أكثرُهُم، وصوَّر الإِمام فيما إذا كان الصبيُّ نائماً أو مربوطاً عنْد الحمْل، وقال: يجري الوجهان في أن مَنْ حَملَه على غير صورة السرقة، هل تدْخل الثياب التي عليه في ضمانه، ولو حمل حرّاً مستقلاً، [وأخرجه] من الحِرْز، وعليه ثيابُه أو معه مالٌ آخر، قال الإِمام: تُقدَّم عليه مسأَلة، وهي أنه لو نام إنسانٌ على البعير، وعليه أمتعة، فجاء سارقٌ، وأخذ بزمامه وأخْرَجَه عن القافلة، وجعله في مضْيَعَة، ومجموع ما [ذُكِرَ] (¬2) فيه أربعة أوجَه: أحدها: أنه يجب عليه القطْع؛ لأنه أخرج نصاباً من الحِرْز والمأمَن (¬3) إلى المضيعة. والثاني: لا يجبُ؛ لأن البعير وما عليه محرَّز بالراكب، ولم يُخْرِجْه من يد الراكب. والثالث: يُفْرَق بين أن يكون الراكبُ قويّاً لا يقاومه السارقُ، ولو انتبه، فلا يجب القطْع وبين أن يكون ضعيفاً لا يبالي به السارق، فعليه القطْع، ولا اعتبار بيد الضعيف. والرابع، وهو الصحيح، ولم يورد كثيرون سواه: أنه يُفْرَق بين أن يكون الراكبُ حرّاً؛ فلا يجب القطْع؛ لأن المتاع والبعير في يده، وبين أن يكون عبداً، فيجب؛ لأن العبد في نفسه مسْروقٌ يتعلَّق به القطْع، ثم بني الإمامُ على الخلاف في المسألة خلافاً حكاه في أن المستقلَّ، إذا حمله حاملٌ هل يَدْخُل ما عليه من الثياب تحْت يد الحامل؟ قال: والقول بدخولها تحْت يده بَعِيْد، وهو في الحر القوي أبْعَدُ منه في الحرِّ الضعيف، ثم رتَّب فقال: حيث لا تثبت يد الحاملِ على الثياب، فلا سرقة [و] (¬4) إن أثبتنا اليد، والمحمولُ ضعيفٌ، فقد تثبت السرقة، وإن أثبتناها، والمحمولُ قويٌّ، ففي السرقة ¬
وجهان، وإلَى بعض هذه الجُمَل يشير قولُه في الكتاب "ففي دخولِ الثيابِ تحْت يده نَظَرٌ (¬1) " إلى آخره، ويجوز أن يُعلَم قوله "لم يدخل" وقوله "تدخل" كلاهما بالواو؛ لما حكيناه عن كلام الإِمام، والظاهر أنَّه لا تثبت السرقةُ وأن ما مع الحُرِّ لا يدخل في يد الحامل؛ لأن يد المحمول ثابتةٌ على ما معه، ولذلك نقولٌ: ما يُوجَدُ مع اللقيط يُحْكم بكونه في يده. ولو سرق حَلْياً من عُنُقِ صَبيٍّ أو سرق ثيابه، وجب القَطْع، وإنما يكون ما معه محرَّزاً، إذا كان العبد الصغيرُ في نفْسه محرَّزاً، وقد بيَّنَّاه، ولو سرق قلادةً من عنق كَلْبٍ أو سرَقَها مع الكلب، وجب القطْع، وحِرْزُ الكلب لِحرْز [الدوابِّ] (¬2). قال الغَزَالِيُّ: (الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي مَحَلِّ المَنْقُولِ إِلَيْهِ) وَلاَ يُقْطَعٌ بِالنَّقْلِ مِنْ زَاوِيَةِ الحِرْزِ إلَى زَاوِيَةٍ أُخْرَى، وَلَوْ نَقَلَ مِنَ البَيْتِ إلَى صَحْنِ الدَّارِ وَهُوَ أَيْضاً مُحَرَّزٌ فَثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ يُفْرَقُ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ العَرَصَةُ حِرْزاً لَهُ وَمَا لَيْسَ حِرْزاً لَهُ، وَلَوْ أَخْرَجَ مِنْ حُجْرَةِ الخَانِ إِلَى العَرَصَةِ فَهُوَ كَعَرَصَةِ الدَّارِ إِذَا كَانَ مُحَرَّزاً وَإِلاَّ فَكَالشَّارعِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّزاً، وَالسِّكَةُ المُنْسَدَّةُ الأَسْفَلِ كَالشَّارعِ لاَ كَعَرَصَةِ الخَانِ، وَعَرَصَةُ الخَانِ أَيْضاً حِرْزٌ لِبَعْضِ الأَمْتِعَةِ أَيْضاً لَكِنْ فِي حَقِّ السُكَّانِ لَيْسَ بِحِرْزٍ، وَلاَ قَطْعَ عَلَى الضَّيْفِ إِذَا سَرَقَ إِذْ لَيْسَ مُحَرَّزاً عَنْهُ، وَكَذَا الجَارُ إِذَا سَرَقَ مِنْ طَرَفِ حَانُوتِ الجَارِ حَيْثُ يُحَرَّزُ بِلِحَاظِ الْجِيرَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: نقْلُ المتاع من بعْضِ زوايا الحِرْز إلى بَعْضِ لا يوجب القَطْع، ولو نقل من البيتِ إلى صحْنِ الدار، ولم يَخْرُج من الدار، فيُنْظَر؛ إن كان باب البيت مغلَقاً، وبابُ الدار مفتوحاً، وجب القطْع؛ لأنه أخرجه من حِرْزِه، وجعَلَه في محلِّ الضياع، وإن كان باب البيت مفتوحاً وباب الدار مغلقاً، فلا قطْع، ووجِّه بأن إحراز المتاع، والصورةُ هذهِ، بباب الدار، وهو مغلَقٌ كما كان، فالنقل من البيت إلى العرصة، كهو من زاوية إلى زاوية، [وهذا] التوجيه على ما هو قضيةُ كلام الإِمام، إنما يستمر في المتاع الذي تَكُون عرصةُ الدار حرزاً له، فإن كان مما لا يُحرَّز بالعرصة، فإنما لا يجب القَطْع؛ لأنه ليس محرَّزاً في نفْسه، فإنَّ البيت المفتوح بابه كالعرصة، وإن كان البابان مغلَقَيْن معاً، ففي وجوب القطع وجهان: أحدهما: يجب؛ لأنه أخرجه من حِرْزه. وأظهرهما، ويروى عن نصه في رواية الربيع: المَنْع؛ لأنه لم يَخْرُج من تمام ¬
الحِرْز؛ فأشبه ما إذا أخرج من الصندوق في البيت، ولم يخرج من البيت، قال الإِمام: والوجهان فيما إذا كان المتاعُ محرَّزاً بالعرصة، فإن لم يكُنْ كذلك، ففي القطع وجهان مرتبان على الوجهين في الحالة الأُولَى، والفرق أن الدار مَضْيَعَة بالإضافة إلى هذا المَتَاع، وإنما جرى الخلاف؛ لأن العرصَة، وإن لم تُحرِّز ذلك المتاع، فإغلاق الباب عليها مزيدُ استيثاق للمحرَّز الذي هو حِرْزٌ له، وبُخَرَّجُ من هذا الترتيب ثلاثةُ أوجهٍ عند الاختصار، كما ذكره في الكتاب. ثالثُها: الفرْق بين ما إذا كان المتاع محرَّزاً بالعرصة، وبين ما إذا لم يكُنْ، ويُنْسَب هذا إلى ابن القطَّان، وإن كان باب البيت والدار معاً مفتوحَيْن، [فالمال] ضَائِعٌ، إذا لم يكن محرَّزاً باللِّحاظ، فلا يجب القطع بما جرى، وهذه الأحوال الأربعُ وهو أن يكون باب البيت مغلقاً دون باب الدار، وبالعكس، [وأن يكونا مغلقين] (¬1) وأن يكونا مفتوحَيْن، ظاهره التصويرُ، إذا لم يوجَدْ من السارق تصرُّف في باب الدار؛ بأن تسلَّق الجدار وتدلَّى في الدارِ، وأخرج المتاع من البَيْت إلى العرصة، أما إذا فتح بابَ الدارِ المغلَق، ثم أخرج المتاعَ من البيت إلى العرصة، فالحِرْز الذي يهتكه السارقُ في حكْم الحِرْز الدائم، ولذلك يجب القطْع على مَنْ نقَب، ثم دَخَل، وأخرج المال، ولا يُقال: إنه بالنقب خرج عن كَوْنه محرَّزاً، وإذا كان كذلك، فيكون الحُكْم، كما لو نقل إلى العرصة، وبابُ الدارِ مغلقٌ، وهذا ما رآه الإِمام أظْهَر، فإن أغلق البابَ بعْد ما فتحه، فهو أظهر، وجميعُ ما ذكرناه فيما إذا كانت الدارُ وما فيها من البيوتِ لواحد، فأما الدارُ الَّتي يَسْكُنها جماعةٌ، وينفرد كلُّ واحد منهم بحُجْرة أو بيتٍ فيها اكتراه (¬2) مثلاً، وفي معْناها الخانات والمدارِسُ والرباطات، فهي في حق مَنْ لا يَسْكن الخان، كالدار المختصة بالشخص الواحد، حتى إذا سَرَقَ من حُجَرِها أو مِن صَحْنِها وما يحرِّزه الصحْنُ، وأخْرَجَ من الخان (¬3)، وَجَب القطع، وإن أخْرَج من البيوت، والحجر إلى صَحْن الخان، ففيه وجهان: أحدهما: يجب القطْع بكلِّ حال؛ لأن صحْن الخان ليس حرزاً لصاحب البيت، بل هو مشترك بين السُّكَّان، فهو كالسِّكَّة المشتركة بين أهْلِها، وهذا ما أورده صاحب "المُهذَّب" وجماعة. والثاني، وهو المذكورُ في الكتاب "والتهذيب" وغيرهما: أنه كالإخراج من بيوت الدَّار إلى صحْنِها، [فيفرق] الحالُ بين أن يكون بابُ الخان مفتوحاً أو مغلَقاً، وَيَقْرُب ¬
من هذا ما حكى عن "المنْهاج" للشيخ أبي محمَّد: أنه إن كان بالليل، لم يُقْطَع؛ لأن الباب يكون مغلَقاً بالليل، وإن كان بالنهار، فيُقْطَع. وأما إذا سرق واحدٌ من السُّكَّان، فإن سرق من العرصة، فلا قَطْع؛ لأنها مشتركةً بينهم، وما فيها غير محرَّز عنْهم، قال الإِمام: وهذا، إذا كان فتح الباب هيِّناً على من يَخْرُج منها، [بأن] كان موثَقاً بالسَّلاسل ونحوْها، فأما إذا كان موثقاً بالمغاليق، وله مفتاح بيَدِ حارس، وكان يحتاج مُخْرِج المتاعِ إلى معاناة ما يحتاج إليه من يحاول الدخول من خارج، فهذا فيه تردُّد، وإن أخْرَجَه من بعْض البيوت إلى الصَّحْن، وكان باب البيت مغلقاً، فعليه القطْع والصحْن في حقِّ السكَّان كالسكَّة المنْسدة بالإضافة إلى الدُّور، ولا فَرْق بين أن يكون الباب [مفتوحاً أو مغلقاً]، [كما إذا كان على السِّكَّة بابٌ لا فَرْق بين أن يكون مفتوحاً أو مغلقاً]، وذكر الإِمام احتمالاً أنه لا يجب القطْع بالإخْراج إلى السكَّة؛ لأنها مملوكة لأصحاب الدُّور، وهي مِنْ مرافقهم، فتشبه عَرَصَة الدار، وقد يُفْرَق على الظاهر؛ بأن الأمتعة قد تُوضَع في العرصة اعتماداً على ملاحظة سكَّان الحُجُر والبيوت بخلاف السِّكَّة، وقوله في الكتاب "ولو أخرج من حُجْرة الخان إلى العَرَصَة" فيه كلمات: إحداها: أن المقصود ما إذا كان المُخْرِج من غير السكان، فإن كان منْهُم، فقد أطلقوا وجوب القَطْع بلا تفصيل ولا نَقْل خلاف. والثانية: قوله "فهو كَعَرَصَة الدار" قد عرفَت الخلافَ فيه، وأن هذا جوابٌ على أحد الوجهين، [ثم] قد عرفْتَ من قبل أن عرصةَ الدارِ قد تكون حِرْزاً بأن كان الباب مغلَقاً، وقد لا تكون، فلو اقتصر على قوله "كالعرصة" ولم يذكر ما بعده، حَصَل غرض التفصيل، وإذا ذَكَر، فالمعنى كعرصة الدار التي هي حِرْز، إن كانت عرصة الخان حرْزاً. والثالثة: قوله "إن لم يكن مُحَرَّزاً" إما أن يكون تقييداً للشارع أو يكون رَاجِعاً إلى صَحْن الخان، والأول غير متوجِّه؛ فإن الشارع ليس بحرْز أصلاً، وإن فرضت ملاحظة، فالإحراز بها، لا بالشارع، وإن قُدِّر رجوعه إلى صَحْن الخان، ففي قوله "وإلا فكالشارع" [غنية عنه]؛ لأن معناه، وإن لم يكن محرْزاً، وقوله "والعرصة أيضاً حِرْزٌ لبعض الأمتعة" يعني كما أن الحجرة (¬1)، يجب القطْع على مَنْ سرق منها، [فأخرج] إلى العرْصة وإلى خارج الخان، فكذلك ما تحرِّزه العرصة، يجب القطْع بإخراجه، منْها، إذا كان السارقُ من غير سكَّان الخان، فإن كان منهم، فلا قَطْع لأن المال غير محرَّز عنه، ويناسِبُ هذه الصورةَ صُوَرٌ: ¬
إحداها: إذا سرق الضيْفُ من مال المُضِيفِ، نُظِر؛ إن سَرقَ من موضع هُوَ غير محرَّز عنه، لم يُقْطَعْ؛ لما روي عن جابر أنه رَجلاً أنزل ضيفاً في مشربة له فوجد متاعاً له قد أخفاه (¬1)، فأتى به أبا بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقال: [خل] (¬2) عنه فَلَيْسَ بِسَارِقٍ، إنما هي أمانةٌ، قد أخفاَها؛ وأيضَاً، فإنه غير محرَّز عنه، فأشبه الخيانة في الوديعة، وإن سَرَقَ مِنْ بيْت محرَّز عنه، قُطِع، وعن أبي حنيفة: أنه لا يُقْطَع. لنا أنه سرق نصاباً من الحِرْز فأشبه غير الضيف، وعلى هذه الحالة حُمِل ما رُويَ أن رجلاً مقْطُوع اليد والرِّجْل قَدِمَ المدينة، ونزل بأبي بكر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَكَان يُكْثِر الصلاةَ في المَسْجِد، فقال أبو بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ما ليلك بِلَيْلِ سارقٍ، فلبثوا ما شاء الله، ففقدوا حُلِيّاً لهم، فجعل ذلك الرجُلُ يَدعو على مَنْ سَرق مِنْ أهل هذا البيت الصالح، فمر (¬3) رجُلٌ بصائغ في المدينة، فرأى عنده حُلِيّاً، فقال: ما أشبه هذا بحلي آل أبي بَكر، فقال للصائغ ممن اشتريته، فقال: من ضيف أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فأخذ ذلك الرجُل، فأقر فبكى (¬4) أبو بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقال أبْكي لعزته باللهِ، ثم أمر فقطعت يده. الثانية: الجَار، إذا سَرَق مِنْ طَرَف حانوتِ الجارِ، [حيث يُحرَّز] (¬5) بلحاظ الجيران، لم يلزمْه القطْع؛ لأنه محرَّز به لا عنه. الثالثة: مَنْ دَخَلَ الحمَّام مستحماً، فسرق، لم يُقْطَع، وإن دخل سارقاً، وهناك حافظٌ [من الحمامي] أو غيره، قُطِع، وإن كان نائماً أو مُعْرِضاً، أو لم يكن هناك أحدٌ، فلا قَطْع، قال في "التهذيب" وغيره: إنما يجب القطْعُ بسرقة ثَوْبٍ منْ داخل الحمام، إذا استحفظ الحمامي [بحفظه]، فإن لم يستحفظه، فلا ضمان على الحمَّامي بترك الحفْظ، ولا قَطْع على مَنْ سرقه، كان استحفظْ، فتَرَكَ الحفْظ، فعليه الضمانُ، ولا قَطْع على السارق. وإذا أذن صاحبُ الدكَّان في دخول الناس للشِّراء (¬6)، من دخل مشترياً، وسرق، لم يُقْطع، ومن دخَل سارقاً، قُطِع، وإن لم يأذَنْ في الدخول، قُطِع مَنْ سَرَقَ منْه بكل حال. قال الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الثَّالِثُ: السَّارِقُ) وَشَرْطُهُ التَّكْلِيفُ والالْتِزَامُ فَلاَ قَطْعَ عَلَى الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ، وَيَجِبُ عَلَى الذِّمِّي ثُمَّ يُسْتَوفَى قَهْراً لَوْ سَرَقَ مَالَ مُسْلِمٍ، وَإِنْ سَرَقَ مَالَ ذِمِّيٍّ فَإذَا تَرَافَعُوا، وَإِذَا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ رُجِمَ قَهْراً وَإِنْ كَانَ الحَدُّ للهِ تَعَالَى، أَمَّا المُعَاهَدُ ¬
فَثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: (أَحَدُهَا): أنَّه كَالذِّمِّيِّ (وَالثَّانِي): لاَ يُقْطَعُ أَصْلاً (وَالثَّالِثُ): أَنَّهُ يُقْطَعُ إِنْ شُرِطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي العَهْدِ، وَلَوْ زَنَى بِمُسْلمَةٍ فَفِي الحَدِّ طَرِيقانِ قِيلَ كَالسَّرِقَةِ، وَقِيلَ: لاَ يُقَامُ قَطْعاً لِأَنَّهُ لاَ خُصُومَةَ لِلآدَمِيِّ فِيهِ، وَيَسْتَوِي فِي القَطْعِ المَرْأَةُ وَالرَّجُلُ وَالعَبْدُ وَالحُرُّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وفيه مسألتان: إحداهما: يُشْترط لوجوب القطْع: أن يكون السارقُ مكلَّفًا؛ فلا قطْع على الصبيِّ والمجنون، وقد رُوِيَ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بجَارِيَةٍ سَرَقَتْ، فَوَجَدَهَا لَمْ تَحِضْ، فَلَمْ يَقْطَعْهَا" (¬1) ويجيء في السكران الخلافُ المذَكورُ في غير موضع. وأن يكون ملتزماً للأحكام؛ فيجب على المُسْلِم القطْعُ بسرقة مال المُسْلِمِ والذميِّ، وكذلك على الذميِّ لالتزامه الأحكام، وكذلك يُحدُّ الذميُّ، إذا زَنَى ثم في "التهذيب" وغيره: أنا، إذا قلْنا: يجب على حاكمنا أن يَحْكُم بيْنَهُم، أقام عليه الحدَّ والقَطْعَ، وإن لم يرض، وإنْ قلنا: لا يجب، فلا يُحدُّ ولا يُقْطَع، إلا برضاه سواءٌ كان المسروقُ منْه مسلماً أو ذميّاً، وإن كان يجبُ الحكْم بين المسلم والذميِّ بلا خلاف؛ لأن القطع حقُّ الله تعالى لا حق المسروق منه، وأشار الإِمام إلى القطْع فيما إذا سَرَقَ مال مسلم؛ بأنه يُقْطَعَ ولا يتوقَّف الأمرُ على رضَاه، وذكر أنه إذا سَرَقَ مال ذميٍّ، فإنما يُقْطَع، إذا ترافَعُوا إلَيْنَا، ويجيْء القولان في إجبار الممتنع، إذا جاءنا الخَصْم (¬2)، وأنه إذا زَنَى بذمية فَعَلَى القولَيْن في أنَّا نحكم بينهم قَهْراً أو اختيارًا، وإذا زَنَى بمسلمة، ففي كلام الأصحاب أن الحدَّ على القَوْلين أيضاً، قال: وهذا غلَطٌ، والوجه القطْع بإقامة الحدِّ قهراً، وإن كان ذلك لله تعالى؛ لأنا لو فَوَّضْنَا الأَمْرَ إلى رضاه لَجَرَّ ذلك فَضِيحَةً عَظِيمَةً، وَغَايَتُنا أن نَحْكُمَ بِنَقْضِ العَهْدِ. وإذا طَلَبَ تَجدِيداً، فلا بد من التَّجْدِيدِ، وكيف ما قدر، فالظَّاهِرُ أنه لا يعتبر الرِّضَا على الإِطْلاَقِ على ما تَبيَّنَ في "باب الزِّنَا"، وفي "كتاب النكاح". وأما المُعَاهَدُ، ومن دَخَلَ بأَمَانٍ، فهل يُقْطَعُ إذا سَرَقَ؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها -ويحكى عن سِيَر الأَوْزَاعِيِّ- نعم، كما يُقَامُ عليه القِصَاصُ وحَدُّ القَذْفِ، ولأنه في عَهْدِ، فأشبه الذِّمِّيَّ. ¬
والثاني: لا، وهو المَنْصُوصُ في أكْثَرِ كُتُبِهِ؛ لأنه لم يَلْتَزِمِ الأَحْكَام، فَأشْبَهَ الحَرْبِيَّ. والثالث: إن شُرِطَ عَليه في العَهْدِ القَطْعُ لو سَرَقَ قُطِعَ، وإلا لم يُقْطَع؛ لأنه إذا عَهِدَ على هذا الشَّرْطِ، فقد الْتَزَمَهُ. ومنهم من اكْتَفَى في التَّفْصِيل بأن يشترط عليه ألا يَسْرِقَ، ولم يذكر كثير من الأَصْحَاب إلا القولين [الأولين] (¬1)، ورَجَّحُوا الثاني، والتفصيل حَسَنٌ. هذا هو المَشْهُورُ، ووَرَاءَهُ طَرِيقَانِ: أحدهما: في كِتَاب القَاضِي ابنِ كَجِّ: أن أَبَا إِسْحَاقَ، وأبا علي الطَّبَرِيَّ قَطَعَا بِنَفْيِ القَطْعِ. والثاني في "البيان": أن منهم من قَطَعَ بِقَوْلِ التفصيل، ولا خلاف في اسْتِرْدَادِ المَسْرُوقِ إن كان بَاقِياً، وفي التَّغْرِيمِ إن كان تَالِفاً. ولو سَرَقَ مُسْلِمٌ مَالَ المُعَاهَدِ، قال الإِمام: التفصيل فيه [لهو في المُعَاهَدِ، إذا سرق مَالَ المُسْلِم، إذ يبعد أن يُقْطَعَ المُسْلِمُ بمال المُعَاهَدِ، ولا يقطع المُعَاهَدُ بمال المسلم] (¬2). ولوَ زَنَا مَعَاهَدٌ بمُسْلِمَةٍ فطريقان: أحدهما: أن في حَدِّ الزِّنَا الخِلاَفَ المَذْكُورَ في القَطْعِ. والثاني: القَطْعُ بالمَنْعِ؛ لأنه مَحْضُ حَقِّ الله -تعالى- لا يَتَعَلَّقُ بخُصُومَةِ الآدَمِيِّ وطَلَبِهِ. وهذا ما يُوافِقُ إِيرَادَ العِرَاقِيِّينَ وصَاحِبَ (¬3) "التهذيب"، وَيجُوُز أن يُعْلَمَ لما أَوْرَدْنَاهُ قوله في الكتاب: "ثم يستوفى قَهْراً" (¬4) بالواو. وكذا قوله: "رجم قَهْراً". "فرع": هل يَنْتَقِضُ "عَهْدُ المُعَاهَدِ" بالسَّرِقَةِ؟ حكى القاضي ابن كَجٍّ عن أبي الحُسَيْن أن فيه وجهين، وعن أبي إسْحَاقَ وغيره أنه إن شرط عليه ألا يَسْرِقَ انْتَقَضَ عَهْدُهُ إذا سَرَقَ وإلا لم يَنْتَقِضْ. المسألة الثانية: إذَا حَصَلَ في السَّارِقِ الشَّرْطَانِ: التكليف والالْتِزَامُ، وَجَبَ القَطْعُ من غير فَرْقٍ بين الرَّجُلِ والمرأة، والحُرِّ والعَبْدِ، ولاَ فَرْقَ بين أن يكون العَبْدُ آبِقاً أو غَيْرَ آبِقٍ. ¬
وعن أبي حَنِيْفَةَ أنه لا يُقْطَعَ الآبِقُ؛ بِنَاءً على أن القَضَاءَ على الغَائِبِ لا يجوز وفي القَطْعِ قَضَاةٌ على السَّيِّدِ الغائب. وقوله في الكتاب: "وشرطه التَّكْلِيف والالْتِزَام"، يُشْعِرُ بِحَصْرِ [الشرط] (¬1) فيهما، لكن يشترط لِوُجُوب القَطْع في السارق شَرْطٌ ثالث، وهو أن يكون مُخْتاراً، فالمكْرَهُ على السَّرِقَةِ لا قَطْعَ عليه. وقوله: "رجم قَهْراً"، ليعلم بالواو. وكذا قوله: "ثلاثة أَقْوال" لِطَرِيقَتَي القَطْعِ والقَاطِع بالتفصيل، قد ينزل النصين (¬2) على الحالتين. قال الغَزَالِيُّ: (النَّظَرُ الثَّانِي مِنَ الكِتَابِ فِي إثْبَاتِ السَّرِقَةِ وَحُجَّتُها) وَتَثْبُتُ بِاليَمِينِ المَرْدُودَةِ، وَيَبْعُدُ إيجَابُ الرَّجْمِ بِاليَمِينِ المَرْدُودَةِ فِي الزِّنَا بِالجَارِيَةِ المَمْلُوكَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد مَرَّ في أَول السَّرِقَةِ [أن] (¬3) مَقْصُودَ هذا الطَّرَفِ [بَيَانُ] (¬4) ما تَثْبُتُ به السَّرِقَةُ وحكم في الكتاب بأنها تَثْبُتُ بثلاث حُجَجٍ: إحداها: اليمين المَرْدُودَةُ، فإذا ادَّعَى على إنسان سَرِقَةَ نِصَابٍ يوجب القَطْعَ، وأَنْكَرَ، فإن حَلَفَ فلا غُرْمَ، ولا قَطْعَ. وإن نَكَلَ تُرَدُّ اليَمِينُ على المُدَّعِي، فإذا حَلَفَ ثَبَتَ المَالُ، ووجب القَطْعُ أيضاً، كذلك أَوْرَدَهُ صاحب الكتاب، وحَكَاهُ الإِمام عن الأَصْحَاب وكذا أورده إبراهيم المَرْوَزِيُّ في تعليقه، وَوُجِّهَ بأن اليَمِينَ المَرْدُودَةَ كالبَيِّنَةِ أو كإقرارَ المُدَّعَى عَلَيْهِ، والقطع يثبت بالأَمْرَيْنِ، فَأشْبَهَ القِصَاصَ يثبت باليمين المَرْدُودَةِ. والذي أورده [ابن] (¬5) الصَّبَّاغ، وصاحب "البيان"، وغيرهما أنه لا يَثْبُتُ به القَطْعُ؛ لأن القَطْعَ في السَّرِقَةِ حَقٌّ لله تعالَى، فلا يثبت بيمين المُدَّعِي، كما إذا قال: اسْتَكْرَهَ فلان جَارَيتِي على الزِّنَا، فأنكر المُدَّعَى عَلَيْهِ، ونَكَلَ عن اليَمِينِ، فَحَلَفَ المُدَّعِي اليمين المَرْدُودَةَ، يثبت المَهْرُ، ولا يَثْبُتُ حَدُّ الزنا (¬6). ¬
وهذا [أَنْدَاه] الإِمام على سبيل الاحْتِمَالِ، وقد يؤيد ذلك بِظَاهِرِ لفظه في "المختصر"، حيث قال: "لا يُقَامُ على سَارِقٍ حَدٌّ إلا بأن يَثْبُتَ على إِقْرَارِهِ حتى يُقَامَ عليه الحَدُّ، أو بِعَدْلَيْنِ يقولان: [إن] هذا بِعَيْنِهِ سَرَقَ مَتَاعاً لهذا"؛ فإنه حَصَرَ الإثبات في الإقرار والبَيِّنَةِ. وليعلم لما بَيَّنَا قوله في الكتاب: "ويثبت [الغُرْمُ] باليمين المردودة" [بالواو] (¬1). قال الغَزَالِيُّ: وَتَثْبُتُ أَيْضاً بِالإِقْرَارِ مَعَ الإِصْرَارِ، فَإنْ رَجَعَ لَمْ يَسْقُطِ الغُرْمُ، وَفِي سُقُوطِ القَطْعِ قَوْلاَن، وَقِيلَ: يَسْقُطُ القَطْعُ، وَفِي سُقُوطِ الغُرْمِ بِالتِّبَعِيَّةِ قَوْلاَنِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَوْ أَقَرَّ بِاسْتِكْرَاهِ جَارِيةٍ عَلَى الزِّنَا ثُمَّ رَجَعَ سَقَط الحَدُّ، وَلاَ يَسْقُطُ المَهْرُ، ولَوْ أَقَرَّ السَّارِقَ قَبْلَ الدَّعْوَى فَهَلْ يُقْطَعُ فِي الحَالِ أَوْ ينْتَظَرُ طَلَبُ المَالِكِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلاَ يُنْتَظَرُ سَيِّدُ الجَارِيَةِ إِذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا بِهَا مَعَ الإكْرَاهِ لِأَنَّ مَالِكَ الجَارَيةِ لَوْ قَالَ: كُنْتُ مَلَكْتُكِ قَبْلَ هَذَا فَكذَبَ لَمْ يَسْقُط الحَدُّ، وَبِمِثْلِهِ يَسْقُطُ الحَدُّ فِي السَّرِقَةِ إِذْ يُقْطَعُ بِطَلَبِ المَالِكِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الحُجَّةُ الثانية (¬2): الإِقْرَارُ، فإذا أقر بِسَرِقَةٍ توجب القَطْعَ أجرى عليه حكمها، ولا يشترط تَكْرِيرُ الإِقْرَارِ، كما في سائر الحقوق. وبه قال أبو حَنِيْفَةَ وَمَالِكٌ. وقد يحتج له بما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ أَقَمْنَا عَلَيْهِ حَدَّ اللهِ تَعَالى" (¬3)، ولم يفرق بين أن يُكَرِّرَ أو لا يُكَرِّر. ¬
وعن أَحْمَدَ: أنه لا يُقْطَعُ حتى يُقِرَّ مرتين. ثم في الفصل مسألتان: إحداهما: لا يُقْطَعُ بالإقْرَارِ إلا إذا أَصَرَّ عليه، فإن رَجَعَ، ففيه طريقان: أظهرهما: أنه لا يقبل رُجُوعُهُ عن الإِقْرَارِ [في حق] (¬1) المال، وفي القَطْعِ وجهان، ويقال: قولان: أحدهما: أنه لا يقبل أَيضاً؛ لأن قَطْعَ السَّرِقَةِ مُرْتَبِطٌ بِحَقِّ الآدَميِّ؛ لأنه أثبت عِصْمَةً لماله، والرجوع عن الإِقْرَارِ في حَقِّ الآدَمِيِّ لا يُقْبَلُ. وأصحهما: أنه يقبل، ويسقط القَطْعُ إذا رجع كما يَسْقُطُ حَدُّ الزنا بالرجوع. ويروى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أُتي بسَارِقٍ، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَاْ إِخَالُكَ سَرَقْتَ"، فَقَالَ: بَلَى سَرَقْتُ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ" (¬2). ولولا أن الرُّجُوعَ مَقْبُول لما كان لِلْحَثِّ عليه مَعْنى وفَائِدَةً. والطريق الثاني: أنه يُقْبَلُ رُجُوعُهُ في القَطْعِ، وفي الغُرْمِ قولان، أو وجهان: أظهرهما: المَنْعُ، كما لو رجع عن الإِقْرَارِ بالغَصْبِ. والثاني: يقبل؛ لأنه إِقْرارٌ وَاحِدٌ، فإذا قبلنا الرُّجُوعَ في بَعْضِ أحكامه، فكذلك في الباقي. فإذا قلنا (¬3) [بِسُقُوط] القَطْعِ بالرجوع، وهوِ الأصَحُّ [فلو] (¬4) رجع بعدما قُطِعَ [بعض اليد] (¬5) تُرِكَ الباقي، فإن كان يُرْجَى أن يَبْرَأ، فذاك، وإلا فللمقطوع أن يَقْطَعَ الباقي لئلا يَتَأَذَّى به، ولا يلزم السُّلْطَان ذلك، فإنه [تَدَاوٍ] (¬6). ولو أَقَرَّ اثنان بِسَرِقَةِ نِصَابَيْنِ، ثم رجع أحدهما [سقط] القَطْعُ عن الرَّاجِعِ دون الآخر. ¬
والرجوع عن الإِقْرَارِ بِقَطْعِ الطريق كالرجوع عن الإِقرار بالسَّرِقَةِ. ولو أَقَرَّ باسْتِكْرَاهِ جَارِيَةٍ على الزِّنَا، ولزمه المَهْرُ والحَدُّ جميعاً، ثم رَجَعَ، فقد قال الإِمام: قد يطرد صاحب الطريقة الثانية في الرُّجُوعِ عن الإقرأر بالسَّرِقَةِ طريقته، ويقول: [يسقط] الحَدُّ، وفي المَهْرِ خِلافٌ. وأما على الطريقةِ الأولى، فيسقط الحَدُّ، وفي المَهْرِ احتمالان عن القاضي الحُسَيْن، أنه على الخلاف في القَطْعِ. والثاني: القَطْعُ بالسقوط. والفَرْقُ أن ارْتبَاطَ القطع بالمَالِ أَشَدُّ من ارتباط الحد بالمَهْرِ؛ لأن القَطْعَ لا يَنْفَكُّ عن المُطَالَبَةِ بِرَدِّ المَسْرُوقِ أو عن غَرَامَتِهِ، والحد يَنْفَكُّ عن المَهْرِ في الأكثر. ويجوز أن يُعْلَمَ [في] الكتاب قوله: "قولان" في الطريقتين بالواو؛ لأن في "النهاية" عن الصَّيْدَلاَنِيِّ وَطَوَائِفَ من المُحَقِّقِينَ طريقة ثالثة، وهي القَطْعُ بسقوط القَطْعِ، وبقاء الغُرْمِ. وقوله في الإقرار [بالاسْتِكْرَاه] (¬1) على الزنا: "يسقط الحَدُّ"، مُعْلَمٌ بالواو، وكذلك قوله: "ولا يسقط المَهْر"؛ لما بَيَّنَّاهُ. المسألة الثانية: إذَا أَقَرَّ ابْتِدَاءً من غير تَقَدُّم دَعْوَى؛ بأنه سَرَقَ من فلان سَرِقَةً تُوجِبُ القَطْعَ، وفلان غَائِبٌ، فهل يُقْطَعُ في الحال، أو ينتظر حُضُور الغائب ومُطَالبته؟ فيه وجهان: أحدهما -وبه قال أبو إِسْحَاقَ-: يُقْطَعُ لِظُهُورِ المُوجِبِ بإقراره. وأصحهما: المَنْعُ؛ لأنه ربما أَباحَ له أَخْذَ المَالِ، وإِذَا حَضَرَ أَقَرَّ به، [فيسقط] الحَدُّ، وإن كَذَّبَهُ السَّارِقُ، والحَدُّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، فَأوْلَى أن [يُؤَخَّرَ بها] (¬2). ولو أَقَرَّ باسْتِكْرَاهِ جَارِيةِ غَائِبٍ على الزنا، فالأشهر والمذكور في الكتاب أنه يُقَامُ عليه حَدُّ الزنا، ولا يُنْتَظَرُ حُضُورُ المالك؛ لأن حَدَّ الزنا لا يتوقَّفُ على [طلبه]. ولو حضر وقال: كنت أَبَحْتُهَا له لم يَسْقُطْ حَدُّ الزِّنَا بذلك، وقال ابن سُرَيْجٍ: يُنْتَظَرُ حُضُورُ المالك؛ لجواز أن يقر بأنه كان قد وَقَفَ عليه تلك الجَارِيةَ، فيصير شُبْهَةً في سقوط الحَدِّ. قال الإِمام: وعلى الأَوَّلِ، لو قال مالك الجَارِيَةِ: كنت بِعْتُهَا منه أو وَهَبْتُهَا، وأنكر المُقِرُّ، يجب أن يقال: لا يَسْقُطُ الحَدُّ. ¬
وعلى هذا يَنْطَبِقُ لفظ الكتاب، حيث قال: "لأن مَالِكَ الجَارِيةِ لو قال: [كنت] (¬1) مَلَّكْتُكَ قبل هذا فَكَذَبَ لم يسقط الحَدُّ". وعلى قياسه ينبغي ألا يَسْقُطَ الحَدُّ إِذَا أَقَرَّ بِوَقْفِ الجارية، وكذب المقر (¬2). وإذا قلنا: لا يقطع حتى يَحْضُرَ الغائب، [فهل] يُحْبَسُ؟ فيه وجوه: أحدهما: نعم، كما لو أَقَرَّ الغائب أو صَبِيٍّ بالقِصَاصِ يُحْبَسُ. والثاني: إن قَصُرَتِ المَسَافَةُ، وَتُوُقِّعَ قُدُومُهُ عن [قريب] حُبِسَ، وإلا لم يُحْبَسْ؛ لأن الحَدّ مَبْنِيٌّ على المُسَاهَلَةِ، فلا يُطَالُ له الحَبْسُ. والثالث: إن كانت العَيْنُ تَالِفَةَ يُحْبَسُ؛ لما عليه من الغُرْمِ، وإن كانت بَاقِيَةً، فَيُؤْخَذُ منه، ثم يُفَرّقُ بين طول المسافة وقصرها ومنهم من أَطْلَقَ في حكاية هذا الوَجْهِ أنه لا يُحْبَسُ إذا أخذت العَيْنُ منه. ولو أَقَرَّ بِغَصْبِ مَالٍ من غَائِبٍ لا يحبسه الحَاكِمُ، وفرق بينهما بأن الحاكم لا مُطَالَبَةَ (¬3) له بمَالِ الغَائِب، وليس موجب الغَصْب إِلا ذلك، والسَّرِقَةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا القَطْعُ الذي يملك الحَاكِمُ المُطَالَبَةَ به، حتى لو ماتَ المقرّ له بالغَصْبِ، والوَرَثَةُ أَطْفَالٌ، فللحاكم المُطَالَبَةُ والحَبْسُ. قال الغَزَالِيُّ: هَذَا فِي الحُرِّ، أَمَّا العَبْدُ إِذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ تُوجِبُ القَطْعَ قُطِعَ، وَهَلْ يُقْبَلُ فِي المَالِ؟ فِي أَرْبَعَة أَقْوَالٍ: (أَحَدُهَا): أنَّهُ يُقْبَلُ لاِنْتِفَاءِ التُّهْمَةِ (وَالثَّانِي): لاَ (وَالثَّالِثُ): أنَّهُ يُقْبَلُ إِنْ كَانَ المَسْرُوقُ فِي يَدِهِ فَإِنْ تَلِفَ فَلاَ (وَالرَّابعُ): أنَّهُ يُقْبَلُ عَلَى المُتْلِفِ إِذْ لاَ يَتَعَلَّقُ بِرَقْبَتِهِ إِلاَّ قَدْرُ قِيمَةِ العَبْدِ، وَأَمَّا الأعْيَانُ فَقَبُولُ قَوْلِهِ فِيهِ إضْرَارٌ بِالسَّيِّدِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَا دُونَ النِّصَابِ لَمْ يُقْبَل في المَالِ عَلَى السَّيِّدِ قَطْعَاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إقْرَارُ الحر حُجَّةٌ تَثْبُتُ بها السَّرِقَةُ، وَيتَعَلَّقُ بِها القَطْعُ، وَغَرَامَةُ المال. وأما العَبْدُ، فإن أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ توجب القَطْعَ، فيقبل إِقْرَارُهُ في القَطْعِ، خِلافاً لأحمد والمُزَنيِّ على ما ذكرنا في كتاب الإِقْرَارِ. وفي قَبُولِهِ في المال أَقْوَالٌ: ¬
أحدها: يقبل لانتفاء التُّهْمَةِ، حيث أَقَرَّ على نَفْسِهِ بما يُوجِبُ القَطْعَ. وأصحها: المَنْعُ؛ لأنه إِقْرَارٌ على السَّيِّدِ من حيث إِنه يَتَعَلَّق الغُرْمُ بِرَقبَتِهِ إِن كَان المَالُ المُقَرُّ بسرقته تَالِفاً، ويُنْتَزَعُ منه إن كان بَاقِياً. والثالث: أنه إن كان المَالُ بَاقِياً في يد العَبْدِ قُبِلَ إِقْرَارُهُ؛ لأن ظاهر اليَدِ له، وإن كان تَالِفاً لم يُقْبَل؛ لأنه يَتَعَلَّقُ الغُرْمُ حينئذ بالرَّقَبَةِ، وهي في يَدِ السَّيِّدِ. والرابع: أنه إن كان تَالِفاً يقبل إِقْرَارُهُ؛ لأن غَايَتَهُ فَوَاتُ رَقَبَتِهِ في الضمان، والأَعْيَانُ التي تُفَوَّتُ لو قبلنا الإقْرَارَ بسرقتها لا تَنْحَصِرُ. ولو أقر بسَرِقَةِ ما دون النِّصَابِ لم يُقْبَلْ في المال، بلا خِلاَفٍ إلا أن يصدقه السيد. واعلم أَن الأَقْوَالَ المذكورة مُخْتَصَرَةٌ من تَفْصِيل وطرق للأصحاب في أمثلة ذَكَرْنَاهَا بتوجيهها في باب الإِقْرَارِ. وليعلم قوله: "قطع" بالألف والزاي؛ لما بَيَّنَّا هناك. وقوله: "يقبل إن كان المَسْرُوقُ في يَدِهِ" أي: في يَدِ العَبْدِ، فأما إذا كان في يَدِ السَّيِّدِ، أو في يد أَجْنَبِيِّ، فلم يذكروا خِلاَفاً في أنه لا يُقْبَلُ، وقد ذكرناه في الإِقْرَارِ. قال الغَزَالِيُّ: وَللْقَاضِي أَنْ يُشِيرَ عَلَى السَّارِقِ تَعْرِيفاً بِإنْكَارِ السَّرِقَةِ، فَيَقُولُ: مَا إِخَالُكَ سرَقْتَ، وَلَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاة وَالسَّلاَمُ: أَسَرَقْتَ قُل: لاَ، وَبَعْدَ الإقْرَارِ لاَ يَحُثُّهُ عَلَى الرُّجُوعِ، وَإنَّما السَّتْرُ قَبْلَ الظُّهُورِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من رُفِعَ إلى مَجْلِسِ القاضي، واتُّهِمَ بما يُوجِبُ عُقُوبَةً لله تعالى، فللقاضي أن يُعْرِّضَ له بالإِنْكَار، ويحمله عليه سَتْراً لِلْقَبِيحِ، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ الله في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ" (¬1). ¬
ومن أَقرَّ عنده بما يُوجِبُ العُقُوبَةَ إما ابْتِدَاءً، أو بعد تَقَدُّم دَعْوَى، فَهَلْ يُعَرِّضُ له القاضي بالرجوع؟ نقل الإِمام فيه أَوْجُهاً: أحدها: أنه لا يَفْعَلُ ذلك، واحتجَّ له بما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنِ ارْتَكَبَ شَيْئاً مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ، فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللهِ -تَعَالَى- فَإِنَّ مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ أَقَمْنَا عَلَيْهِ حَدَّ اللهِ تَعَالَى" (¬1). أَشْعَرَ ذلك بالفَرْقِ بين ما قبل الظُّهُوَرِ، وما بعده. والثاني: أنه له ذلك سَتْراً، كما وأن له أن يُعَرِّضَ بألاَّ يُقِرَّ. والثالث: الفَرْقُ بين أن يكون عَالِماً بجواز الرُّجُوع عن الإقرار بموجب الحَدِّ، فلا يُعَرِّضُ له، وبين أن يكون جَاهِلاً بالحال، فَيُعَرِّضُ له، ثَم نَسَبَ الإِمام الوَجْهَ الأول إلى الجُمْهُورِ، وبه أجاب صَاحِبُ الكتاب هاهنا، وفي "الوسيط". والذي يُوجَدُ لِعَامَّةِ الأصحاب في كتبهم القَدِيمَةِ والجديدة أن للقاضي أن يُشِيرَ عليه بالرُّجُوع تَعْرِيضاً، فيقول في الإقرار بالزِّنَا: لَعَلَّكَ فَاخَذْتَ، أَو قَبَّلْتَ، أَو لَمَسْتَ، وفي شُرْبِ الَخَمْرِ: لَعَلَّكَ لم تَعْلَمْ أن ما شَربْتَ مُسْكِراً، وفي السرقة: لعَلَّكَ غَصَبْتَ، أو أُخَذْتَ بإذن المَالِكِ، أو من غير الحِرْزِ؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لِمَاعِزٍ بعدما أَقَرَّ بالزنا (¬2): "لَعلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أوْ نَظَرْتَ، وأنه قال لمن أَقَرَّ عنده بالسرقة: لاَ إخَالُكَ سَرَقْتَ" (¬3). قالوا: وهذا إذا كان المقر جَاهِلاً بالحَدِّ، إما لِقُرْب عَهْدٍ بالإِسلام أو لأنه نَشَأَ فِي بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عن أَهْلِ العِلْمِ، وحكوا بعد الحُكْمِ بالجَواز وجهين في أنه هل يُسْتَحَبُّ للقاضي ذلك؟ أحد الوجهين: أنه يُسْتَحَبُّ لما ذكرنا. وأظهرهما: المَنْعُ؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-عَرَّضَ وأشار إلى الرُّجُوعِ في بعض الأَحْوَالِ، وتَرَكَهُ في أكثرها، ولو كان مُسْتَحَبّاً لما تَرَكَهُ. ولا يحمل القاضي على الرُّجُوع والجحود صَرِيحاً بأن يقول: ارْجِعْ عن الإقرار أو اجْحَدْ، ولم يصححوا ما روي أنه [-صلى الله عليه وسلم-] قال: "أَسَرَقْتَ؟ قُلْ: لاَ" (¬4). ¬
ورأيت في تَعْلِيقِ الشيخ أبي حَامِدٍ وغيره أن أَبا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قاله لِسَارِقٍ أَقَرَّ عنده، وإذا ثَبَتَ الحد بالبَيِّنَةِ، فلا يحمله على الإنْكَارِ. وأما في حُقُوقِ العِبَادِ فلا يعرض الرجوع عن الإقرار، حتى لا يعرض في السرقة بما يسقط الغرم، إنما [يسعى] (¬1) في رفع القطع، وهذا [كما أن] (¬2) في حدود الله تعالى يستحب الستر، وفي حقوق العباد يجب الإظهار، [وهل] (¬3) للحاكم أن يعرض الشهود بالتوقف في حدود الله تعالى، ففيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن فيه قدحاً في الشهود. والثاني: نعم؛ لأن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عرض لزياد بالتوقف في الشهادة على المغيرة بن شعبة، فقال: أرى وجه رجل وسيم، لا يفضح رجلاً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬4). وتكلموا في أنه كيف جاز لعمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ذلك التعريض لدفع الحد عن المغيرة؟ وفيه إثبات الحد على الثلاثةِ الذين شهدوا صريحاً على المغيرة. وأجابوا عنه بوجوه: منها -الحد الذي تعرض له المغيرة الرجم، وحدهم حد القذف، وأنه أهون من الرجم. ومنها -أنهم كانوا مندوبين إلى الستر ألا ترى أن ماعزاً لما ذكر لهزال أنه زنا، وقال له: بادر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن ينزل الله فيك قرآناً، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-. فقال (¬5): ¬
"هَلاَّ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هُزَّاْلُ". فلما تركوا المندوب، استحقوا التغليظ. وقوله في الكتاب "وللقاضي أن يستر على السارق" وقد [يقرأ] "أن يشير" وله وجه. وقوله "بإنكار السرقة" ليُحمَل على السرقة الموجبة للقطع، ولا [يحثه] على إنكار ما يوجب المال على ما [تبين] (¬1). وقوله " [يحثه] (¬2) على" الرجوع ليُعلَم بالواو. فرع: قال الإِمام في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللهِ" دليل على أنه لا يجب على من قارف موجب حد، أن يظهره للإمام. وكان يقطع به شيخي وفيه احتمال إذا قلنا: إن الحد لا يسقط بالتوبة. قال الْغَزَالِيُّ: وَالحُجَّةُ الثَّالِثَةُ لِلسَّرِقَةِ الشَّهَادَةُ وَتَثْبُتُ بِرَجُلَيْنِ، وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأتانِ ثَبَتَ الغُرْمُ دُونَ القَطْعِ، وَلاَ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى السَّرِقَةِ مُطلَقاً بَلْ لاَ بُدَّ مِنَ التَّفْصِيلِ، وَكَذَا شَهَادَةُ الزِّنَا أمَّا القَذْفُ المُطْلَقُ فَمُوجِبٌ للْحَدِّ، وَالإِقْرَارُ بِالزِّنَا المُطْلَقِ فِيهِ خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: يثبت القطع بشهادة رجلين ثبوت سائر العقوبات وشهادة الزنا هي التي خصت بمزيد العدد، ولا يثبت برجل وامرأتين كسائر العقوبات، وإذا شهد بالسرقة رجل وامرأتان، أو شاهد واحد، وحلف المدعي معه يثبت المال، وإن لم يثبت القطع. كما لو علق الطلاق أو العتق على الغصب، و [على] (¬3) السرقة، وشهد رجل وامرأتان على الغصب، أو السرقة ثبت المال. ولا يُحْكَم بوقوع الطلاق، ووقوع العتق. هذا هو الظاهر. ومنهم من قال: في ثبوت المال في السرقة قولان وجه المنع أنه لم يثبت أحد موجبي السرقة، فكذا الثاني. وربما ألحق بما إذا شهد على القتل العمد رجل وامرأتان، فإنه لا يثبت القصاص، ولا الدية. وفرق بينهما على المذهب بأن القتل لا يوجب القصاص والدية جميعاً. وإنما [يوجب أحدهما] (¬4) فلا يتعين بالشهادة واحد منهما. والسرقة توجب القطع والغرم جميعاً، فما قامت حجته [بعينهما] (¬5) ثبت. المسألة الثانية: لا تُقبَل الشهادة على السرقة مطلقاً؛ لاختلاف المذاهب فيها. وفي شروط تعلق القطع بها. فلا بد وأن يبين السارق بالإشارة إلى عينه إن كان حاضر، أو يذكر اسمه ونسبه بحيث يحصل [التمييز] إن كان غائباً (¬6). ويكفي عند ¬
[حضوره] (¬1) أن يقول: سرق هذا وفي كتاب القاضي ابن كج وجه ضعيف، أنه يُشتَرط أن يقول: هذا بعينه. ويجب أن [يبين] قدر المسروق [والمسروق] (¬2) منه. وكون السرقة من الحرز بتعيين الحرز، أو صفته. وعن القاضي أبي الطيب وغيره أن الشاهد يقول أيضاً: ولا أعلم له فيه شبهة. قال صاحب الشامل: [وليكن] هذا تأكيداً؛ لأن الأصل عدم الشبهة. ويُشتَرط أن تتفق شهادة الشاهدين، فلو شهد أحدهما أنه [سرق] منه بكرة، والآخر أنه سرق عشية. أو شهد أحدهما بسرقة كبش أبيض، والآخر بسرقة كبش أسود، فيهما شهادتان على سرقتين مختلفتين، فلا قطع إذ لم تتم حجة أحدهما. وللمشهود [له] (¬3) أن يحلف مع أحدهما فيغرمه، والكبش مثال جرى به لفظ (¬4) الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وصحفه بعضهم فقرأه الكيس، والحكم لا يختلف. لكن حُكِي عن الإِمام أنه قال: كبشاً أقرن. وعند أبي جنيفة -رحمه الله- أنه إذا شهد أحد الشاهدين أنه سرق ثوباً أبيض، والآخر أنه سرق ثوباً أسود، يُقطَع. لاحتمال أنه كان فيه بياض وسواد، فرأى أحدهما السواد. والآخر البياض. وسلم أنه لو قال: أحدهما: ثور، والآخر بقرة، لا يُقْطَع. ويُقال: يُحتَمل أن المسروق كان خنثى، فرأى أحدهما ما للثور، [ورأى الآخر (¬5)] ما للبقرة. ولو شهد اثنان أنه سرق كذا غدوة، وشهد آخران أنه سرق. [كذا] [عشية] (¬6) فالبينتان متعارضتان، فلا يُحْكَم بواحدة منهما. وفي الصورة السابقة تمت الحجة، حتى يقال تعارضا، فلو لم تتوارد الشهادتان على معين، ولكن قال بعض الشهود: سرق ثوباً، أو كبشاً غدوة. وقال بعضهم: سرق ثوباً، أو كبشاً عشية ففي الواحد [والواحد] (¬7) لا قطع. وللمشهود له أن يحلف مع أحدهما، ويأخذ الغرم، أو معها أو يأخذ غرم ما شهد به جميعاً. وفي الاثنين يجب القطع، وغرمهما جميعاً؛ لكمال الحجتين. ولو شهد واحد بسرقة كبش أبيض والآخر بسرقة كبشين، ثبت الواحد، وتعلق به القطع، إذا بلغ نصاباً. ولو شهد واحد بسرقة ثوب قيمته ربع دينار، وشهد آخر بسرقة ¬
ذلك الثوب وقومه بثمن دينار، لم يجب القطع. وثبت غرم الثمن، وللمشهود له أن يحلف مع شاهد الربع، ويغرم. ولو شهد اثنان بسرقته، وقالا: قيمته ربع دينار [وآخران بسرقته] (¬1)، وقالا قيمته ثمن دينار، لم يجب القطع. وللمشهود له الثمن. وعن أبي حنيفة أنه يثبت الربع. ولو شهد واحدٌ بسرقة ثوب أبيض قيمته ربع، والآخر بسرقة ثوب أسود قيمته ثمن، فلا قطع. ولا يثبت بها شيء؛ لأنهما شهادتان مختلفتان وله أن يحلف مع أحدهما، وإن شهد اثنان واثنان فقد تمت [الشهادتان] (¬2)، فيجب القطع، وغرم الثمن والربع معاً. وكما لا بد في الشهادة على السرقة من التفصيل، لا بد في الإقرار بها من التفصيل؛ فلا يقطع من أقر بالسرقة مطلقاً؛ لأنه قد يظن ما ليس بسرقة سرقة. وأيضاً فاسم السرقة يقع على ما يوجب القطع، وعلى ما لا يوجبه فيحتاط [للحد] (¬3) وفي الشهادة على الزنا، لا بد من التفصيل أيضاً على ما نبين إن شاء الله تعالى في كتاب الشهادات. وفي الإقرار به هل يُشتَرط التفصيل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، بل يُؤَاخَذ بظاهر الإقرار، بخلاف الشهادة؛ لأن الشاهد قد يشاهد ويعتمد المخايل والإقرار، لا يصدر إلا عن تحقيق، ويخالف الإقرار السرقة، فإن السرقة تشمل ما يوجب القطع، وما لا يوجبه شمولاً ظاهراً. واسم الزنا لا يكاد يقع إلا [على] ما يتعلق به الحد، وأولاهما أنه يجب التفصيل احتياطاً للحد، وسعياً في ستر الفاحشة ما أمكن. قال الْغَزَالِيُّ: وَإِذَا قَامَتْ شَهَادَةٌ حِسِّيَّةْ عَلَى السَّرِقَةِ في غَيْبَةِ المَالِكِ سُمِعَتْ عَلَى الأَصَحِّ كَمَا فِي حُدُودِ اللهِ تَعَالَى وَلَكِنَّ النَّصَّ أنَّهُ لاَ يُقْطَعُ حتَّى يَحْضُرَ، وَلَوْ قَامَتْ في الزِّنَا بِجَارِيةٍ حُدَّ دُونَ حُضُورِ المَالِكِ، وَقِيلَ قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ والتَّخْرِيجِ، وَإِذَا حَضَرَ المَسْرُوقُ مِنْهُ بعْدَ شَهَادَةِ الحِسْبَةِ وَطَلَبَ قُطِعَ، وَلاَ تُسْتَأْنفُ الشَّهَادَةُ لِأَجْلِ الغُرْمِ بَلْ يَثْبُتُ تَابِعاً، وَإِنْ قُلْنَا: لاَ يُسْمَعُ فِي السَّرِقَةِ شَهَادَةُ الحِسْبَةِ فَيُعَادُ لِأَجْلِ المَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ يُعَادُ لِأجْلِ ¬
القَطْعِ إِذَا سَمِعَ مَرَّةً، وَدَعْوَى السَّارِقِ الْمِلْكَ بَعْدَ البَيِّنَةِ يَدْفَعُ القَطْعَ إنْ لَمْ يُكَذِّبِ الشَّاهِدَ بِأَنْ قَالَ: كَانَ قَدْ وْهِبَ مِنِّي قَبْلَ السَّرَقَةِ وَالشَّاهدُ اعْتَمَدَ الظَّاهِرَ، وَلَوْ نَفَى أَصْلَ مِلْكِ المَسْرُوقِ مِنْهُ وَقُلْنَا لَيْسَ لَهُ تَحْلِيفُ المُدَّعِي بَعْدَ البَيِّنَةِ لَمْ يَنْدَفعْ، فَإنْ قُلْنَا: لَهُ تَحْلِيفُهُ احْتَمَلَ دَفْعَ القَطْعِ (النَّظَرُ الثَّالِثُ فِي الوَاجِبِ) وَهُوَ القَطْعُ وَرَدُّ المَالِ أَو الغُرْم إنْ كَانَ تَالِفاً، ثمَّ يُقْطَعُ اليُمْنَى مِنَ الكُوعِ، فَإنْ عَادَ قُطِعَ رِجْلُهُ اليُسْرَى، فَإِنْ عَادَ فَيَدُهُ اليُسْرَى، فَإنْ عَادَ فَرِجْلُهُ اليُمْنَى، فَإِنْ عَادَ عُزِّرَ وَلَمْ يُقْتَلْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: الشهادة على السرقة إن ترتبت على دعوى المسروق منه، أو وكيله فذاك (¬1). وإن شهد الشهود على سبيل الحسبة، ففي سماع شهادتهم اختلاف، حكاه الإِمام مأخوذ من أصل معروف في الشهادات، وهو أن ما يتمحض حقاً لله تعالى: كحد الزنا، يُقبَل فيه شهادة الحسبة، وما يتمحض [فيه] حقاً للآدمي، فالظاهر أن شهادة الحسبة مردودة فيه، والسرقة يتعلق بها القطع، الذي يعصم حق الآدمي، مع كونه حداً لله تعالى. والغرم الذي يتمحض حقاً للآدمي ففي قبول شهادة الحسبة. فيها خلاف، والأصح القول لما سنذكر أن [ما] (¬2) فيه حق مؤكد لله تعالى، تُقْبَل شهادة الحسبة فيه، وإن لم يتمحض حقاً له. وعلى هذا فإذا كان المسروق منه غائباً (¬3)، فالنص أنه لا يقطع حتى يحضر الغائب، والنص فيما إذا شهد أربعة على الزنا بجارية غائب، أنه يُقَام الحد على المشهود عليه، ولا ينتظر حضور الغائب. وفيهما ثلاثة طرق للأصحاب: أحدها: وبه قال ابن سريج: أنه يُنتَظَر حضور المالك في الصورتين؛ لأن الملك ربما انتقل إلى المشهود عليه، أو وقفها المالك عليه. والشهود استصحبوا ما عرفوا، واعتمدوا ظاهر الحال. وإذا حضر المالك اعترف بالانتقال. والحدود يُحتَاطُ لها، ويُسعَى في دفعها [ومن] (¬4) ذهب إلى هذه الطريقة، غلط من نقل نص الزنا، وربما أوله على أنه لا حاجة إلى حضوره وقت إقامة الحد. والثاني: أن الصورتين على قولين بالنقل (¬5) والتخريج. ¬
أحدهما: لا يُقطَعْ، ولا يُقَامُ حد الزنا حتى يحضر المالك لما تبين. والثاني: يُقْطَعْ، ويُقَام لظهور موجب العقوبة [بالبينة] (¬1). وأصحهما وبه قال ابن سلمة، وابن الوكيل والقاضي (أبو حامد) تقرير (¬2) النصين. وذكر في الفرق وجوه منها، أن حد الزنا لا يسقط بإباحة الوطء، والقطع يسقط بإباحة الأخذ. وربما أباح الغائب الأخذ. وإذا حضر اعترف وعُرف الحال. ومنها -أن السقوط إلى القطع أسرع منه إلى حد الزنا. ألا ترى أنه إن سرق مال أبيه لا يُقْطَع، ولو زنا بجاريته يُحَد؟ ومنها- أن [القطع] (¬3) متعلق حق الآدمي، من حيث إنه [يثبت] (¬4) لِعِصْمَةِ ماله، فاشترط لذلك طلبه وحضوره والخلاف، قريب من الخلاف الذي سبق فيما إذا أقر بسرقة مال الغائب، أو أقر بالزنا بجارية الغائب، هل يُقْطَع ويُحَد في الحال، أو ينتظر المالك؟ وقد يرتب الخلاف على الخلاف، ويجعل صورة الإقرار أولى بعدم الانتظار، لبعد الأقرار عن التهمة. وإذا قلنا: لا يُقْطَع، ولا يُحَد، [في الحال] (¬5) فهل يحبس؟ فيه الخلاف المتقدم فيما إذا أقر بسرقة مال الغائب، أو بالزنا بجاريته. وأشار الإِمام إلى أن الظاهر عند الأصحاب أنه يُحبَس؛ لما يتعلق بالسرقة من حق الله تعالى. ومهما (¬6) لم يُقْطَع بعد شهادة الشهود، إلى أن يَحْضُر المالك؟ فإذا حضر المالك فإن لم يطلب المال أو اعترف بما يسقط القطع، فلا قطع. وإن طلب، ولم تظهر شهبة، [فالمفهوم] (¬7) مما ساقه صاحب الكتاب هاهنا. وفي الوسيط: أنا إن قلنا: إن شهادة الحسبة في السرقة مسموعة، فيُقْطَع. وهل يجب إعادة الشهادة لثبوت المال؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن شهادة الحسبة لا تُقْبَل في الأموال. والثاني: لا، ويثبت الغرم تبعاً للقطع، وهذا ما أورده صاحب الكتاب، والأول أصح عند صاحب التهذيب، وغيره وإن قلنا: إنها غير مسموعة، فلا بد من إعادة البينة للمال. والظاهر أنها لا تُعاد للقطع، ورتب الإِمام ترتيباً آخر فذكر وجهين في أنه، هل تُعَاد البينة للمال؟ ثم قال: إن قلنا: إنها لا تُعاد، فيُقْطَع. كان قلنا: تُعَاد. فالظاهر عند الأصحاب أنه يُقْطَع أيضاً. ولا حاجة إلى إعادة البينة، وفيه احتمال ولك أن تقول: ¬
العبارة المنطبقة على اختيار الأئمة أصلاً وفرعاً في المسألة أن يقال (¬1) شهادة الحسبة مقبولة، فيما [يرجع] (¬2) إلى القطع الذي هو حق الله تعالى. فيُقْطَع من غير إعادة البينة؛ لأنَّا قد سمعناها أولاً. وإنما انتظرنا لتوقع (¬3) ظهور ما يسقط، فلم يظهر شيء. وفي قبولها فيما يتعلق بالمال الخلاف، في أن شهادة الحسبة؛ هل تُسْمَع في حقوق الآدميين؟ إن قلنا: نعم، فلا حاجة إلى إعادة البينة، كان قلنا: لا، فيحتاج إلى الإعادة. وليُعْلَم قوله في الكتاب: "ولا تستأنف الشهادة لأجل (¬4) الغرم" بالواو، وقوله:."إذا سمع مرة"، هذه اللفظة لا ذكر لها في الوسيط وهي مستكرهة؛ لأن التفريع على أن شهادة الحسبة لا تسمع، فكيف يقول مع ذلك: إنها سُمِعت مرة. ويمكن أن يُقَال: إنا أصغينا إليها، وسمعناها حقيقة، وكنا نتوقف في إمضاء حكمها، توقعاً لمسقط يظهر، فهذا لم يظهر، جرى عليها حكمها. المسألة الثانية: قد سبق حكاية خلاف في أن السارق إذا ادعى [أن] (¬5) المسروق ملكه، هل يسقط القطع بدعواه؟ وتبين أن الأظهر أنه يسقط، ثم إنه كرر المسألة هاهنا؛ ليبين موضع الخلاف. قال الإِمام: ويجري الخلاف فيما إذا ظهرت صورة السرقة؛ بأن سرق من حرز هو بما فيه في يد إنسان، ولم تقم بينة مفصله، فقال السارق هو ملكي، فعلى قولنا: نسقط القطع يبقى النزاع بينهما في المال، والمصدق فيه المأخوذ منه مع يمينه. كان قلنا: لا يسقط القطع بالدعوى، فإن حلف المسروق منه ثبت القطع مع المال. ويرجع الخلاف في أنه هل يثبت القطع باليمين المردودة، ويجري أيضاً فيما لو قامت بينة مفصلة يثبت بمثلها السرقة؟ وقال السارق: كان قد أباح لي (¬6) أخذه، أو باعه، أو وهبه مني، والشهود اعتمدوا ظاهر الحال، أما إذا قال: إنه لم يزل ملكي، وكان قد غصبنيه، أو قال: ما سرقت أصلاً، فهذا يناقض قول الشهود، ويكذبهم. فهل يسقط به الحد، تفريعاً على أن الدعوى التي لا تكذبهم مسقطة؟ قال الإِمام فيه تردد مفهوم من كلام الأصحاب، وهذا التردد الذي ذكره، قد حكاه [القاضي] (¬7) ابن كج [كذلك] (¬8). وقال المذهب أنه: لا يسقط [القطع وعندي أنه يسقط] (¬9)، وإطلاق عامة الناقلين يوافق [ما] عنده. وقد بني التردد على أن المدعى عليه بعد قيام البينة عليه لو ¬
قال: اعتمد الشهود ظاهر اليد، والمدعي يعلم أنه ملكي، فحلفوه على نفيه. هل يُجَاب إليه وفيه خلاف فإن قلنا: ليس له تحليفه لم يندفع القطع، وإن قلنا: له تحليفه فيبعد أن يقطع بيمين المدعي، ويتوجه دفعه. قال (¬1) القاضي ابن كج موضع الخلاف في أن القطع هل يسقط بدعوى السارق الملك ما إذا حلف المسروق له على نفي الملك الذي يدعيه؟ أما إذا نكل وحلف السارق فيستحق المال، ويسقط القطع بلا خلاف، ولو نكل السارق أيضاً، فيشبه أن يجيء الخلاف. فرع: إذا سرق مال صبي، أو مجنون، قال القاضي ابن كج: إن انتظرنا حضور الغائب، واعتبرنا طلبه، فينتظر بلوغ الصبي، وإفاقة المجنون. وإلا قطعناه في الحال. آخر إذا قلنا: يسقط القطع بدعوى الملك. فهل يستفصله القاضي سعياً في سقوط الحد؟ فيه تردد (¬2) للإمام. النظر الثالث في الواجب. يتعلق بالسرقة حكمان: أحدهما: الغرم فعلى السارق رد المال إن كان باقياً، والضمان إن تلف، يستوي في ذلك الغني والفقير: وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: الغرم، والقطع لا يجتمعان. فإن قطِع، سقط عنه الضمان. وإن غرم، سقط عنه القطع. وقال مالك: إن كان غنياً لزمه الضمان، وإلا، فلا. لنا أن القطع يجب حقاً لله تعالى، والضمان يجب لحق الآدمي، فلا يمنع أحدهما الآخر. وصار كرد العين (¬3) مع القطع، يجمع بينهما بالاتفاق. الثاني: القَطْعُ: فتقطع يمين السارق والسارقة؛ قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وقرأ [ابن مسعود] (¬4) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أيمانهما والقراءة الشاذة تنزل منزلة أخبار الآحاد. ورُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- "أَتَى بسارق فقطع يمينه" (¬5). فإن سرق ثانياً، قُطِعَت رجله اليسرى، فإن سرق ثالثاً قُطِعَت يده اليسرى، وإن ¬
سرق رابعاً قُطِعَت رجله اليمنى. وبهذا قال مالك لما روي عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في السَّارِق "إنْ سَرَقَ، فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوَا رِجْلَهُ، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوَاْ يَدَهُ، ثُمَّ إنْ سَرَقَ فَاقْطَعُواْ رجْلَهُ" (¬1) وعند أبي حنيفة، لا تُقْطَع في المرة الثالثة؛ وما بعدها. وفي تعليقة الشيخ [أبي علي]، وغيره عن أحمد مثله. فإن سرق بعد استيفاء أطرافه الأربعة، ففي النهاية أنه قد نقل عن القديم قولي: أنه يُقْتَل لما رُوِيَ عن جابر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أُتِيَ بِسَارقٍ فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ ثَانِياً فَقَطَعَ رِجْلَهُ، ثُمَّ ثَالِثاً فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ رَابِعاً فَقَطَعَ رِجْلَهُ، ثُمَّ أَتِيَ بهِ خَامِساً فَقَتَلَهُ" (¬2) والصحيح المشهور، أَنه يُعزَّر، ولا يقتل. والحديث منسوخ، أو محمول على أنه قتله [بزنا] (¬3) أو استحلال وتقطع اليد من الكوع، والرجل من المفصل، بين الساق والقدم. يُرْوَى عن أبي بكر وعمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أنهما قالا: [إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يده من الكوع] (¬4) ويُمِدُّ العضو مداً عنيفاً حتى ينخلع (¬5)، ثم يقطع بحديدة ماضية، وليكن السارق جالساً، ويضبط حتى لا يتحرك. وليعلم لما ذكرنا قوله في الكتاب، "أو الغرم إن كان تالفاً" بالحاء، وقوله: ["فيده اليسرى ورجله اليمنى" بالحاء والألف، وقوله: "ولم يقتل" بالواو [والميم] (¬6). ¬
قال الْغَزَالِيُّ: وَيُغْمَسُ مَحَلُّ القَطْعِ فِي الزَّيْتِ المَغْلَّي لِتُحْسَمَ السِّرَايَةُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الحَدِّ بَل نَظَراً لِلمَقْطُوعِ وَعَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ، وإنْ رَأَى الإمَامُ عَلَّقَ يَدَهُ فِي رَقبَتِهِ ثَلاَثاً لِلتَّنْكِيلِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى يَدِهِ أصْبُعٌ زَائِدَةٌ قَطَعْنَاهَا، وَإِنْ كَانَت نَاقِصَةً أوْ شَلاَّءَ اكْتَفَينَا بِهَا مَا بَقِيَ أصْبُعٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكنْ إِلاَّ الكَفُّ فَهَلْ يُقْنَعُ بِهِ أَمْ يُعْدَلُ إِلَى الرِّجْلِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَمَنْ لاَ يَمِينَ لَهُ إِذَا سَرَقَ قُطِعَ رِجْلُهُ اليُسْرَى، وَإِنْ سَرَقَ فَسَقَطَ يُمْنَاهُ بِآفَةٍ سَقَطَ الحَدُّ، فَلَوْ بَادَرَ الجَلاَّدُ فَقَطَعَ اليَدَ اليُسْرَى عَمْداً فَعَلَيْهِ القِصَاصُ وَالحَدُّ بَاقٍ، وَإِنْ غَلِطَ سَقَطَ بِهِ الحَدُّ عَلَى قَوْلٍ، وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ وَبَقِيَ الحَدُّ عَلَى قَوْلٍ، وَلَوْ كَانَ عَلَى المِعْصَمِ كَفَّانِ قَطَعْنَا الأصْلِيَّةَ إِنْ أَمْكَنَ وَإلاَّ قَطَعْنَاهُمَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في هذه البقية مسائل: أحدها: يُحْسَم موضع القطع من اليد، والرجل، بأن يُغْمس في الزيت، أو الدهن المغلي؛ ليسد أفواه العروق، وينقطع الدم. وهل هو من حق الله تعالى [وتتمة] (¬1) الحد، أو هو حق المقطوع. ونظر له حكى الإِمام فيه اختلافاً عن الأصحاب. [أحد الوجهين]: أنه من [تتمة] (¬2) حق الله تعالى؛ لأن فيه مزيد (¬3) إيلام، وما زال الولاة يفعلون ذلك على كراهة من المقطوعين، ولم يراعوا ذلك في قطع الأطراف قصاصاً. وأصحهما: أنه حق المقطوع؛ لأن الغرض المعالجة، ودفع الهلاك عنه، ينزف [الدم] (¬4). فإن قلنا بالأول، لم يتركه الإِمام. وثمن الدهن، ومؤنات الحسم، كمؤنة [الجلاد] (¬5)، وقد سبق الخلاف فيها. وإن قلنا بالأصح، فالمؤنة على المقطوع. ولو تركه (¬6) السلطان فلا شيء عليه، وحينئذ [فيستحب] للسارق أن يَحْسَم، ولا يجب؛ لأن في الحسم ألماً شديداً. وقد يهلك الضعيف، والمداواة بمثل ذلك لا تجب بحال، وفيه وجه أن الإِمام يجبره عليه، ويُسْتَحَب أن يأمر السلطان بالحسم عقيب القطع؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في سارق سرق: "اذْهَبواً بِهِ، فَاقْطَعُوا، ثُمَّ احْسِمُوه" (¬7). وإنما يفعله بإذن السارق، ويجيء على الوجه الذي قيل: إنه [يجبره السلطان] (¬8) عليه إذا تركه أن لا يحتاج إلى إذنه. ¬
والسنة أن يعلق اليد المقطوعة ني رقبته، لما رُوي عن فضالة بن عبيد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-[أُتِيَ بِسَارِقٍ فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ عُلِّقَتْ فِيْ رقْبَتِه] (¬1) وفيه تنكيل، وزجر له، ولغيره. ثم الذي يؤخذ في كثر الكتب، إنما يُعلق [في] يده ساعة، وأطلقوا القول باستحبابه، ولم يجعلوه مُفَوَضاً إلى رأي الإِمام، واجتهاده. ونقل الإِمام فيه ثلاثة أمور مستغربة: أحدها: أن من الأصحاب من لم ير التعليق، ولم يصح الخبر (¬2) فيه. والثاني: أنها تُعَلَّق في رقبته ثلاثاً. والثالث: أن الأمر فيه إلى رأي الإِمام. ويجوز أن يُعَلَّم لذلك قوله في الكتاب: "علق اليد" بالواو؛ وكذا قوله: "ثلاثاً". المسألة الثانية: إذا كانت على يمينه إصبع (¬3) زائدة، ففي قطعها عن السرقة وجهان: أحدهما: المنع كما لا يُقْطَع في القصاص ست أصابع بخمس، فعلى هذا هو كمن لا يمين له، فيُقطع رجله اليسرى. وأصحهما وهو المذكور في الكتاب، أنه تقطع بيمينه، ولا يبالي بالأصبع الزائدة لقوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ولا يشبه القصاص؛ لأنه مبني على المساواة. والمقصود هاهنا الزجر، والتنكيل. ولو كانت اليمين شلاء، فيراجع أهل الخبرة. فإن قالوا: لو قُطِعَتْ لم يرقأ الدم، لم تُقْطَع، وتكون كمن لا يمين له، وإن قالوا: يرقأ الدم، قُطِعَتْ. واكتفى بها قال الإِمام. وفيه احتمال لأنه [قدرة فيها]؛ فأشبهت الكف الباقية بلا إصبع. كما سنذكر إن شاء الله تعالى، [وحده]، ولو كانت ناقصة بإصبع، أو أصابع، اكتفينا بها؛ لحصول [الإيلام]، والتنكيل. وإن لم يبق إلا الكف، فوجهان: أحدهما: أن الجواب كذلك لحصول الإيلام. والثاني: المنع؛ لأن اليد عبارة عما يبطش، ولم يبق من آلة البطش شيء. ¬
ويجري الوجهان فيما إذا سقط بعض الكف أيضاً، وبقي محل القطع. وحكى القاضي أبو حامد الوجه الثاني عن الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، واختياره عن ابن سريج ونسبة الوجه الأولى إلى النص (¬1)، وهو الأظهر عند الشيخ أبي حامد صاحب الكتاب، وجماعة. وعن القاضي أبي حامد: إثبات الوجهين جميعاً، فيما إذا كانت يمناه مقطوعة الإبهام، فيجوز أن يُعَلَّم لذلك قوله في الكتاب: "اكتفينا بها [ما بقي] (¬2) إصبع واحدة". المسألة الثالثة: من لا يمين له إذا سرق، تقطع رجله اليسرى. كما ذكرنا فيما إذا سرق فَقُطِعَتْ يمينه، ثم سرق مرة أخرى، ولو كانت يمينه سليمة، وسقطت قبل أن يقطع بآفة، أو بجناية، سقط عنه الحد. ولم يعدل إلى الرجل؛ لأن القطع تعلق بعينها، وقد زالت. وفيه وجه أنه يُعدَل إلى الرجل. كما لو فات محل القصاص، فيُعْدَل إلى بدله، وهو الدية. ولو سرق مراراً، ولم يقطع اكتفى بقطع يمينه عنهما كمن زنى مراراً أو شرب مراراً، لا يقام الحد إلا مرة واحدة. المسألة الرابعة: إذا ابتدر مبتدر، فقطع يمين السارق من غير إذن الإِمام، لا يلزمه القصاص؛ لأنها مستحقة القطع. وإن سرى إلى النفس، فلا ضمان؛ لتولد السراية عن مستحق. ولكن يعزر المبتدر، [لافتئاته] (¬3) على الإِمام. هكذا أُطلِق. ويشبه أن يُجْعَل وجوب القصاص على الخلاف في قتل الزاني المحصن، ولو قطع يساره [جانٍ] (¬4) أو قطعها الجلاد عمداً، وجب القصاص على القاطع، ولا يسقط عنه قطع اليمين؛ خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: يسقط كيلا يُفَوَّتُ عليه جنس منفعة البطش. ولذلك قال: لو سرق [ولا يسار له] (¬5) أو يساره ناقصة بإصبع، لا يُقْطَع يمينه ولو قال القاطع: لم أعلم أنها يساره، حلف، ولزمته الدية. ولو قال الجلاد (¬6) للسارق: أخرج يمينك، فأخرج يساره، فقطعها، ففيه طريقان: أحدهما: قال القاضي أبو الطيب وآخرون، إن (¬7) قال المخرج: ظننت المخرج يميناً، أو أن اليسار تجزئ عن اليمين، ففي سقوط القطع عن اليمين، وقيام اليسار مقامها قولان: أحدهما: المنع، كما لو استحق القصاص في اليمين، فأخرج اليسار، فقطعت. ¬
لا يُسقِط القصاص [في اليمين] (¬1). وُيرْوَى هذا عن رواية الحارث (¬2) بن سريج القفال. وأصحهما السقوط. والحدود لا يُشدد [فيها ما] (¬3) يشدد به القصاص، على ما مرت المسألة في الجراح، فإن قلنا بالأول، فقال القاطع: عرفت أن المخرج اليسار وأنها لا تجزئ عن اليمين، فعليه القصاص. وإن قال: ظننت أنه اليمين، وأن اليسار تجزئ عن اليمين، فعليه الدية. والثاني: قال الشيخ أبو حامد: يُراجَع القاطع أو لا، [إن] (¬4) قال: علمت أن المخرج اليسار، وأنها لا تجزئ عن اليمين، فعليه القصاص، وبقي القطع في اليمين. وإن قال: ظننت [أن] المخرج يمينًا أو أن اليسار تجزئ عن اليمين فعليه الدية، وفي سقوط القطع في اليمين القولان. وإيراد الإِمام يوافق هذه الطريقة، إلا إن القصاص على القاطع. وإن كان عالمًا بالحال إنما يجب إذا لم يوجد من المخرج قصد بذل وإباحة. فأما إذا أخرج على قصد البذل والإباحة، فلا يجب القصاص على القاطع؛ [كما تقرر] (¬5) في الجنايات. ولو سقطت يسار السارق بآفة بعد وجوب القطع في اليمين، فعن أبي إسحاق: أنه يسقط القطع في اليمين على أحد القولين. كما في مسألة الجلاد (¬6)، وضعفه كل من نقله، وقالوا: في صورة الغلط يساره مقطوعة بعلة السرقة. فلو أبقينا القطع في اليمين، لذهبت يداه. بعلة (¬7) السرقة الواحدة، وهذا المعنى لم يُوجَد فيما، إذا سقطت اليسار بآفة. المسألة الخامسة: إذا كان على معصم السارق كفان، فقد نقل الإِمام عن الأصحاب أنهما يُقْطَعَان، ولا يُبَالي باستيفاء الزائدة [كالإصبع الزائدة] (¬8). واختار أن يفصل، فيُقَال: إن تميزت الأصلية، وأمكن الاقتصار على قطعها، لم تُقْطَع الزائدة. وإن لم يمكن الاقتصار، فلا يُبَالي بقطعها. وهذا ما أورده في الكتاب. وإن أُشْكِل [الحال] (¬9) فلم [تعلم] (¬10) الزائدة عن الأصلية، قال الإِمام: الذي رأيته للأصحاب: أنهما يُقْطَعَان؛ ليصير المستحق قطعه مستوفى، ويوافقه ما في فتاوى القفال: أن الكفين الباطشتين يُقْطَعَان جميعًا؛ لأنهما معًا في حكم يد واحدة. ألا ترى ¬
فروع
أنه لا تفرد كل واحدة بدية؟ لكن في التهذيب: أنه تُقْطَعُ أحدهما. فإن سرق ثانيًا، تُقْطَع الأخرى، ولا يُقْطَعَان بسرقة واحدة، بخلاف الإِصبع الزائدة: لأنه يقع (¬1) عليها اسم اليد، وهذا أحسن. قال: وإن كان يبطش بأحدهما، قُطِعَتْ الباطشة دون الأخرى. فإن سرق ثانيًا، قُطِعَت رجله، وإن صارت الثانية باطشة بقطع الأولى، فإذا سرق ثانيًا، قُطِعَت هي؛ لا الرجل. فإن سرق ثالثًا، تُقْطَع الرجل. فروع: في فتاوى القفال؛ إذا كان ثوب الرجل موضوعًا بين يديه في المسجد، فقال للآخر: احفظ ثوبي. فقال: نعم، أحفظه، فرقد صاحب الثوب، وقام الآخر، وترك الثوب [فَسُرِق]، فعليه الضمان؛ لأنه ضيعه بالقيام. فهو كما لو ترك باب الدار مفتوحًا، وقال لغيره: احفظ الدار، فضيعها، يلزمه الضمان. ولو سرقه المُسْتَحْفَظُ، فلا قطع عليه، ولو أغلق باب داره، أو حانوته، وقال للحارس: انظر إليه، أو احفظه، فأهمله الحارس، فَسُرِقَ منه، فلا ضمان عليه؛ لأنه [محرز] (¬2) في نفسه، ولم يدخل تحت يده. ولو سرقه الحارس، قُطِعَ. وفي فتاوى صاحب الكتاب أن السارق إذا تغفل الحمّاميّ (¬3)، وأخذ الثياب يُعتبر في وجوب القطع، أن يخرجه من الحمام. وأن الموضوع (¬4) في الصحراء (¬5) لا يكفي لوجوب (¬6) القطع أخذه. ولا النقل (¬7) بخطوة، و [لا] نحوها. والضبط [في] (¬8) مثل ذلك أن يُقال: الإحراز في مثله بالمعاينة، فإذا [غيبه (¬9) عن] عينه بحيث لو تنبه لما رآه بأن دفنه في تراب، أو واراه تحت ثوبه، أو حال بينهما جدار، فقد أخرجه من الحرز. وأنه لو علم قردًا له النزول إلى الدار، وإخراج المتاع، فنقب، وأرسل [القرد] (¬10) فأخرج المتاع، فينبغي أن لا يجب الحد عليه، ولا يُجْعل [ذلك] (¬11) كالأخذ بالمحجن؛ لأن للحيوان اختيارًا والحد يسقط بالشبهة. وفي فتاوى الحسين الفراء: أنه لو وُضِعَ الميت على وجه الأرض، ونُضّدت الحجارة عليه، كان ذلك كالدفن، حتى يجب القطع بسرقة الكفن. خصوصًا إذا كان ¬
(الجناية السادسة: قطع الطريق)
ذلك حيث لا يمكن الحفر، وأنهم لو كانوا في البحر، فَطَرحَ الميت في الماء، فأخذ [آخذ] (¬1) كفنه، فلا قطع عليه؛ لأنه ظاهر، فهو كما لو وُضِع الميت على شفير القبر، فأخذ سارق كفنه. ولو غيبه الماء، فغاص سارق، وأخذ الكفن، لم يُقْطَع أيضًا؛ لأن طرحه في الماء لا يعد إحرازًا. وهو كما لو وضعه على الأرض، فغيبته الريح بالتراب. وقد يتوقف في هذا والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: (الجِنَايَةُ السَّادِسَةُ: قَطْعُ الطَّرِيقِ) وَالنَّظَرُ فِي ثَلاَثَةِ أَطْرَافٍ: (الأَوَّلُ: صِفَتُهُمْ) وَهِيَ الشَّوْكَةُ وَالْبُعْدُ مِنَ الغَوْثِ، وَمَنْ لاَ شَوْكَةَ لَهُ فَهُوَ مُخْتَلِسٌ فَيُعَزَّرُ، وَمِنَ الشَّوْكَةِ أَنْ يَعْتَمِدَ القُوَّةَ فِي مُغَالَبَةِ المُسَافِرِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الذُّكُورَةُ (ح) وَلاَ شَهْرُ السِّلاَح (ح) وَلاَ العَدَدُ، بَلِ المَرْأَةُ الواحِدَةُ لَوْ غَالَبَتْ بِفَضْلِ قُوَّةٍ فَهِيَ قَاطِعَةُ طَرِيقٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَوْكَةٌ وَلَكِنِ اسْتَسْلَمَ الرِّفَاقُ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ تَقَاوَم الفَرِيقَانِ وَتَقَاَتَلُوا فَأَخَذُوا المَالَ فَهُمْ قُطَّاعٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَخْذِ المَالِ بَعْدَ المُقَاطَعَةِ فَهُمْ قُطَّاعٌ عَلَى الأَصَحِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 33] الآية. وعند أكثر العلماء، ومنهم حبرَ القرآن (¬2) ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الآية واردة في حق قُطَّاع الطريق (¬3) مِن المسلمين دون أهل الكفر والمرتدين. واحتجوا لذلك بقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] الآية. وتوبة الكافر في أيهما تسقط العقوبة عنه؛ لا يختلف بين أن يُوجَد قبل القدرة عليه، أو بعدها. ولم يقيموا وزنًا لقول من قال: إن المؤمن [من] لا يُحارِب الله ورسوله، وقالوا: لفظ المحاربة ينتظم عند الجرأة بالمخالفة، والعصيان. ألا ترى أن الله تعالى يقول [للمرابين] (¬4): {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279]. ولا بد في الباب من معرفة قُطَّاعِ الطريق، وعقوبتهم وحكم تلك العقوبة، استيفاءً، وسقوطًا. ¬
فرتب صاحب الكتاب مسائله في ثلاثة أطراف هذه ترجمتها وكذلك فعل الإِمام. الطرف الأول في صفة قُطَّاع الطريق. واعتبر فيهم صفتين؛ الشوكة، والبعد عن الغوث. ولا بد مع ذلك من الإِسلام. فالكفار ليس لهم حكم القطاع. وإن أخافوا السبيل، وتعرضوا للأنفس، [والأموال] (¬1). ومن التكليف، فالمراهقون لا عقوبة عليهم، ويضمنون الأموال، والأنفس، كما يضمنون إذا أتلفوا في غير هذا المعرض. أحد الصفتين الشوكة؛ فقُطَّاع الطريق طائفة يترصدون في المكامن للرفاق، فإذا وافوهم، برزوا قاصدين الأموال، غير مبالين للأنفس معتمدين في ذلك على [قوة وقدرة] يتغلبون بها. وفيهم شُرِعَت العقوبات الغليظة التي سنفصلها إن شاء الله تعالى. وأما الذين لا يعتمدون قوة، ولكن ينتهبون، ويختلسون، ويولون، معتمدين على [ركض] (¬2) الخيل، أو العَدْو على الأقدام؛ كما يتعرض الواحد، والاثنان، [والنفر] اليسير [لأخذ] (¬3) القافلة؛ فيسلبون شيئًا، فليسوا هم بقطاع، وحكمهم في القصاص والضمان حكم غيرهم. ولو خرج واحد، أو شرذمة يسيرة، فقصدهم (¬4) جماعة ويغلبونهم بقوتهم، فهم قُطَّاعٌ. وإن لم يكثر عددهم؛ لاعتمادهم على الشوكة والنجدة، بالإضافة إلى الواحد والشرذمة. كذلك رواه الإِمام عن القاضي حسين. وعن طرق (¬5) الأصحاب ويقرب منه ما ذكر القاضي ابن كج أنه إذا قام خمسة، أو عشرة في كهف، أو شاهق جبل، فإن مر بهم قوم لهم شوكة [وعدة لم] (¬6) يتعرضوا لهم، وإن مر [بهم] (¬7) قوم قليلو العدد، قصدوهم بالقتل، وأخذ المال، فحكمهم حكم قطاع الطريق، في حق الطائفة اليسيرة. وإن تعرضوا [للأقوياء] (¬8) وسلبوا شيئًا، فهم مُخْتَلِسون. ورأى الإِمام أن [يفصل] القول في الرفقة اليسيرة، وفي الواحد، والاثنين. فقال: إن كان خروجهم في مثل ذلك الطريق يُعد تضييعًا وتغريرًا بالنفس، والمال، فالمتعرضون لهم لا يجعلون قطاعًا. وينزل خروجهم، والحالة هذه، كترك (¬9) المال في موضع [لا] (¬10) يُعَد حرزًا، في باب ¬
السرقة. وأقام ما [رآه] وجهًا. فيجوز أن يُعلم لذلك قوله في الكتاب: "ومن الشوكة أن يعتمد القوة في مطالبة المسافر" بالواو، ولو كانت الرفقة عددًا يتأتى منهم دفع القاصدين، ومقاومتهم، واستسلموا حتى قتلوا، وأخذت أموالهم، فالقاصدون ليسوا بقطاع؛ لأن ما فعلوه لم يصدر عن شوكتهم وقوتهم، بل الرفقة ضيعوا (¬1). هكذا، أطلقوه. ويجوز أن يُقَال: ليست الشوكة مجرد العدد، والعدة؟ بل يُحتَاج مع ذلك إلى اتفاق كلمة، وواحد مطاع، وعزيمة على القتال، واستعمال السلاح. والقاصدون للرفقة هكذا يكونون في الغالب. والرفقة لا يجتمع لهم كلمة واحدة، ولا [يضبطهم] (¬2) مطاع، ولا لهم عزم على قتال، وخلوهم عن هذه الأمور يجرهم إلى التخاذل؛ لا عن قصد منهم [فلا] ينبغي أن يُجْعَلُوا مضيعين ولا أن يخرج القاصدون لهم عن كونهم قُطَّاعًا. ولو أن الرفقة قاتلوهم، وثالث كل طائفة من الأخرى. فهل هم قطاع؟ فيه احتمالان؛ ذكرهما الإمَامُ: أحدهما: لا؛ لأنه لم يَظْهَرْ منهم غَلَبَةٌ واسْتِيلاَءٌ. وأظهرهما: نعم، لأنهم (¬3) في دَرَجَةِ المُقَاوِمِينَ المُقَاتِلِينَ، والحرب سِجَالٌ (¬4) ولو أصابوا رُفْقَةً دون هَؤُلاَءِ في العُدَّةِ لَغَلَبُوهُمْ، [فالرأي] (¬5) أن يُجْعَلُوا قَاطِعِينَ، وهذا ما أَجَابَ به في الكتاب، ولا يُشْتَرَطُ فِي قَاطِعِ الطريق الذُّكُورَةُ، بل لو اجتمع نِسْوَةٌ لهن قُوَّةٌ وَشَوْكَةٌ، كُنَّ قَاطِعَاتِ طَرِيقٍ. وخالف أبو حَنِيْفَةَ فيه، حتى قال: لو كان [في] جَمَاعَةِ القُطَّاعِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ سقط الحَدُّ عن جميعهم. كذا القِيَاسُ على سائر الجَرَائِمِ، ولا يشترط أيضًا شَهْرُ السَّلاَحِ، بل الخارجون بالعِصِيِّ (¬6) أو الحِجَارَةِ قُطَّاعٌ، لأنهما آلَاتٌ تَأْتِي عَلى النَفْسِ كالمُحَدّدِ. وعن أبي حَنِيْفَةَ: أنه لا تكفي العَصَا والحِجَارَةُ، ويشترط شَهْرُ السلاح، وذكر الإِمام أنه يَكْفِي القَهْرُ، وأَخْذُ المال باللَّكزِ والضَّرْبِ (¬7) بجميع الكَفِّ وفي "التهذيب" نحو منه، وإيراد جَمَاعَةٍ يُشْعِرُ بأنه لاَ بُدَّ من آلَةٍ، ولا يشترط العَدَدُ أيضًا، بل الوَاحِدُ إذا كَان له فَضْلُ قُوَّةٍ يَغْلِبُ بها الوَاحِدَ والاثنين والثلاثة، وتَعَرَّضَ للنفوس والأموال مُجَاهِرًا (¬8) فهو قاطع. وليعلم لفظ "الذُّكُورَة" و"شَهْر السَّلاَح" في الكتاب بالحاء؛ لما ذكرنا، ويجوز ¬
إعَادَةُ العَلاَمَةِ على قوله: "فهي قَاطِعَةُ طَرِيقٍ". واعْلَمْ أن هذه الصِّفَاتِ الثلاثة التي لا تُعْتَبَر في قاطع الطَّرِيقِ لَو تَكَلَّمَ فيها قبل الصِّفَتَيْن المُعْتَبَرَتَيْنِ، أو بعد الفَرَاغِ منهما كان أَحْسَنَ فِي التَّرْتِيبِ مِنْ إِدْخَالِهَا بينهما. قال الغَزَالِيُّ: أَمَّا البُعْدُ عَنِ الغَوْثِ فَيُعْتَبَرُ لِأَنَّهُ عَلَى قُرْبِ العُمْرَانِ يُعْتَمَدَ عَلَى الهَرَبِ دُونَ الشَّوْكَةِ إِلاَّ أَنْ تَضْعُفَ قُوَّةُ السُّلْطَانِ، فَمَنْ أَخَذَ فِي البَلَدِ مَالاً بِالمُغَالَبَةِ فَهُوَ قَاطِعُ طَرِيقٍ، وَلَوْ دَخَلَ دَارًا بِاللَّيْلِ وَأَخَذَ المَالَ بِالمُكَابَرَةِ وَمَنَعَ مِنَ الاسْتِغَاثَةِ فِي وَقْتِ قُوَّةِ السُّلْطَانِ فَهُوَ سَارِقٌ أَوْ قَاطِعُ طَرِيقٍ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الصفة الثانية: البُعْدُ عن الغَوْثِ، وإنما اعتُبِرَتْ ليحصل (¬1) التَّمَكُّنُ من الاسْتِيلاَءِ والقَهْرِ مُجَاهَرَةً، وذلك في الأَغْلَبِ إنما يَتَحَقَّقُ في البَوَادِي، والمواضع البَعِيدَةِ عَن العُمْرانِ. فلو خرج جماعة في المِصْرِ [فحاربوا،] (¬2) أو أَغَارَ عَسْكَرُ عَلى بلدة، أو قَرْيَةٍ، أو خرج أَحَدُ طرفي البلد على أَهْلِ الطَّرَفِ الآخر، وكان لا يَلْحَقُ بالمقصودين غَوْثٌ لو اسْتَغَاثُوا، فهم قُطَّاعُ الطريق، وإن كان يلحقهم الغَوْثُ لو اسْتَغَاثُوا، فالخارجون عليهم مُنتَهِبُونَ، وليسوا بِقُطَّاعٍ، وامتناع لحوق (¬3) الغَوْثِ تَارَةً، ويكون لِضَعْفِ السُّلْطَانِ، [وَتَارَةً] (¬4) لِبُعْدِهِ وَبُعْدِ أَعْوَانِهِ، وقد يغلب الدَّعَّارُونَ في مِثْلِ هذِهِ الحالة في البَلَدِ، فلا يقاومهم أَهْلُ السَّتْرِ والعِفَّةِ، وَيتَعَذَّرُ عليهم الاسْتِغَاثَةُ. وعند أبي حنيفة [أن] المُحَارَبَةَ إنما تتحقق في البَوَادِي، والمواضع البعيدة عن العُمْرَانِ، ولا يتحقق في مِصْرٍ، ولا قَرْيَةٍ، ولا بين قريتين (¬5) قريبتين. وعن مَالِكِ: أنه لا تَثْبُتُ المُحَارَبَةُ حتى يكونوا على ثَلاثَةِ أَمْيَالٍ مِن العُمْرَانِ. وعن أحمد: تَوَقُّفٌ فيه. واحْتَجَّ الأصحاب بعُمُومِ الآية. قال الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "إن تعرضهم في البَلَدِ أَعْظَم جُرْأَة، وأكثر فَسَادًا، فكانوا بالعُقُوبَةِ أَوْلَى". ولو دخل جماعة دَارًا بالليل، [وتكاثروا] (¬6) وكَابَرُوا (¬7)، ومنعوا أصحاب الدار من الاسْتِغَاثَةِ مَع قوة السُّلْطَانِ وحضوره، فوجهان: ¬
أظهرهما: أنهم قُطَّاعٌ -وبه قَالَ القَفَّالُ- وهو المذكور في "التهذيب"؛ لأن المَنْعَ من الاسْتِغَاثَةِ كَالبُعْدِ عن محلِّ الغَوْثِ في التَّغَلُّبِ، واعتماد القوة. والثاني: المنع؛ لأنهم يَتَبَادَرُونَ خَوْفًا من الشعور بهم، ثم يعتمدون [البَرَارِي] (¬1)؛ لأن الطَّلَبَ يلحقهم. وعلى هذا فَحِكَايَةُ الإِمام عن بعض الأَصْحَابِ أنهم سُرَّاقٌ، وهذا ما أَوْرَدَهُ صاحب الكتاب مع الوَجْهِ الذي [قدمنا (¬2)]، قال: "ولا يبعد أن يُجْعَلُوا مُخْتَلِسِينَ لمجاهرتهم بفعلهم" [و] هذا ما يشعر به كلام الرُّوَيانِيِّ وغيره إذا لم نجعلهم قُطّاعًا. هذا هو الفِقْهُ في الصفتين، وقد يقال: يمكن إدراج (¬3) الصفة الثانية في الأُولى، فإن الخروج والتَّعَرُّضَ إن كان في العُمْرَانِ، والغَوْثُ مُتَوَّقَعٌ (¬4) فلا شَوْكَةَ، ولذلك قال في الكتاب: "لأنه على قرب العُمْرانِ يعتمد [على] الهَرَبِ دون الشَّوْكَةِ. وإن لم يكن الغَوْثُ مُتَوَّقعًا، والشوكة حَاصِلَةٌ، فهم قَاطِعُو طريقٍ. قال الغَزَالِيُّ: (الطَّرَفُ الثَّانِي فِي العُقُوَبَةِ) فَإِنْ اَقْتَصَرَ القَاطِعُ عَلَى أَخْذِ نِصَابٍ فَيُقْطَعُ يَدُهُ اليُمْنَى وَرِجْلُهُ اليُسْرَى، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتِ اليَدُ اليُسْرَى وَالرِّجْلُ اليُمْنَى، وَلاَ يُقْطَعُ فِيمَا دُونَ النِّصابِ، وَسَوَاءٌ كَانَ النِّصَابُ لِواحِدٍ أَوْ لِجَمَاعَةِ الرُّفْقَةِ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى القَتْلِ المُجَرَّدِ فَيَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ، وَلَو اقْتَصَرَ عَلَى الإِرْعَاب وَكَانَ رِدَاءً فَلاَ يَجِبُ (ح) إِلاَّ التَّعْزِيرُ، وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ الأَخْذِ وَالقَتْلِ لَمْ يُقْطَعْ لَكِنْ يُقْتَلْ وَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى (ح وم) عَلَيْهِ ثُمَّ يُصْلَبُ وُيُتْرَكُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ عَلَى قَوْلٍ، وَعَلَى قَوْلٍ حَتَّى يَتَهَرَّى، وَفِيهِ وَجْهٌ أنَّهُ يُصْلَبُ ثُمَّ يُقْتَل بِتَرْكِهِ جَائِعًا عَلَى وَجْهٍ، وَبِجِرَاحَةٍ مُذَفَّفَةٍ عَلَى وَجْهٍ ثُمَّ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيهِ بَعْدَ اسْتِنْزَالِهِ، وَأَمَّا النَّفْيُ فَغَيْرُ مَقصُودٍ، وَلَكِنْ إِنْ هَرَبُوا شَرَّدْنَاهُمْ في البِلاَدِ بِالاتِّبَاعِ، وَقِيلَ: هِيَ عُقوبَةٌ مَقْصُودَةٌ فِيمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الإِرْعَابِ فَيُنْفَى إِلَى بَلَدٍ ثُمَّ يُقَرَّرُ بِهَا أَو يُحْبَسُ، وَقِيلَ: يُقْتَصَرُ عَلَى النَّفْيِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا عَلِمَ الإمَامُ من رَجُلٍ، أو من جماعة أنهم يَرْتَصِدُونَ (¬5) الرُّفْقَةَ، ويُخِيفُونَ السَّبِيلَ، ولم يأخذوا بَعْدُ مَالًا، ولا قَتَلُوا نَفْسًا، فينبغي للإمام أن يَطْلُبَهُمْ، وُيعَذِّرَهُمْ بالحَبْسِ وغيره، وهذا كما أنه يُعَزِّرُ على مُقَدِّمَاتِ [الزِّنَا والشرب] (¬6). ¬
قال ابن سُرَيْجٍ: والحَبْسُ -والحالة هذه- في غير مَوْضِعِهِمْ أَوْلَى؛ لأنه أَحْوَطُ، وأبلغ في الزَّجْرِ [والإِيحَاشِ] (¬1). وإن أخذ قَاطِعُ الطريق من المال قَدْرَ نِصَابِ السَّرقَةِ، قُطِعَتْ يدُه اليُمْنَى، ورِجْلُهُ اليُسْرَى، فإن عاد مَرَّةً أخرى، قُطِعَتْ يَدُهُ اليُسْرَى ورِجْلُهُ اليمنى، وإنما يُقْطَعُ مِن خِلاَفٍ لئلَّا يفوت جنس المَنْفَعَةِ. ولا فَرْقَ بين أن يكون النِّصَابُ لواحد، أو لجماعة الرُّفْقَةِ، وكذلك لا يختلف الحُكْمُ في السَّرِقَةِ بين أن يكون المسروق لواحد، أو لجماعة مهما اتَّحَدَ الحِرْزُ (¬2)، وإن كان المأخوذ دون النِّصاب، فلا قَطْعَ، كما في سرقة ما دون النصاب. وقال ابن خَيْرَان (¬3): فيه قَوْلاَنِ كالقولين فيما [إذا] (¬4) قتل قاطع الطريق هل يُعْتَبَرُ في قَتْلِهِ الكَفَاءَةُ؟ على ما سيأتي إن شاء اللهُ تعالى. ولأنه فَارَقَ السَّرِقَةَ في اعتبار الحِرْزِ (¬5)، فَجَازَ أن يُفَارِقَهَا في اعتبار النِّصَابِ. والمذهب المشهور الأول، واحْتُجَّ له بإطلاق قوله -صلى الله عليه وسلم-: " [القطع] في رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا" (¬6). وأما القولان في الكَفَاءَةِ، فقد فُرِّقَ بينهما بأن القَطْعَ المُسْتَحِقَّ في السرقة والمُحَارَبَةِ جَميعًا لله -تَعَالَى- فلا يَخْتَلِفُ المُسْتَحِقُّ به، وفي القَتْلِ المُسْتَحق في غير المُحَارَبَةِ الوَلِيُّ، وفي المُحَارَبَةِ المُسْتَحَق لله تَعَالَى، فجاز أن يختلف [الحكم] (¬7) كما اختلف المُسْتَحِقُّ، وما ادَّعَاهُ من أَنَّ الحِرْزَ لا يُعْتَبَرُ في قَطْعِ الطريق فممنوع. بل الذي قاله الأَصْحَابُ أنه لو كان المَالُ ضائعًا (¬8) تسير به (¬9) الدَّوَابُّ بلا حَافِظٍ، فلا يَجِبُ به القَطْعُ، ولو كانت الجِمَالُ مقطورة، ولم تَتَعَهَّدْ، كما شرطنا فيها، لم يجب القَطْعُ. وإن قتل قَاطِعُ الطريق قُتِلَ، وهو قَتْلٌ مُختمٌ، ليس سَبِيلُهُ سَبِيلَ القصاص، وإن جَمَعَ بين القَتْلِ، وأَخْذِ المال، فيجمع عليه بين القَتْلِ والصَّلْبِ. هكذا فَسَّرَ ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فيما رَوَاهُ الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وغيره ونَزَّلَ العُقُوبَاتِ المذكورة في الآية على هذه المَرَاتِبِ، والمعنى "أن يُقْتَلُوا" إن قَتَلُوا أو ¬
يُصَلَّبُوا [ويقتلوا] إن أَخَذُوا المَالَ وقَتَلُوا، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خِلاَفٍ إن اقْتَصَرُوا عَلَى أَخْذِ المال. وكلمة "أو" للتنويع، لا للتَّخْيِيرِ، كما يقال: الزَّانِي يُجْلَدُ أو يُرْجَمُ. ويعتبر في المال المَأْخُوذِ أن يكون نِصَابًا، ويكون فيه ما ذُكِرَ من الخلاف. هذا ظاهر المذهب فيمن جمع بين القَتْلِ، وأَخْذِ المَالِ، ووراءه شيئان: أحدهما: عن أبي الطَّيْبِ سلمة تَخرِيجُ قَوْلٍ أنه تُقْطَعُ يَدُهُ ورِجْلُهُ، ويُقْتَلُ ويُصْلَبُ، الصَّلْبُ لِجَمْعِهِ بين أَخْذِ المال والقَتْلِ، والقَتْلُ للقتل، وقطع العُضْوَيْنِ لأخذ المال. والثاني: عن صاحب "التقريب" حِكَايَةُ قَوْلٍ: أنه إن قَتَلَ، وأخذ نِصَابًا قُطِعَ وَقُتِلَ ولَم يُصْلَبْ، وإن قَتلَ وَأَخَذَ ما دون النِّصَابِ لم يُقْطَعْ، ولكن يُقْتَلُ للقتل، ويُصْلَبُ تَنْكِيلاً لِأَخْذِ المال الذي لا يوجب القَطْعَ. وعند أبي حنيفة: يَتَخَيَّرُ الإمامُ فيمن أَخَذَ المَالَ، وقتل بين أن يَجْمَعَ عليه القَطْعَ وَالْقَتْلَ، أو يَجْمَعَ بين القَتْلِ والصَّلْبِ. ويُرْوَى أن تقتصر على القتل. وعن مالك: أن الإِمام يَنْظُرُ في الذين شَهَرُوا السلَاحَ، وأخافوا السَّبِيلَ، ويجتهد فيهم فمن رآه ذا رَأْي قَتَلَهُ، ومن رآه قَوِيًّا لا رَأْيَ له قطعه، [ومن رَأَى] (¬1) أنه لا رَأْيَ له ولا قُوَّةَ، حَبَسَهُ. وفي كيفية القتل والصَّلْبِ إذا اجتمعا قولان: أصحهما: أنه يقتل ثم يُصْلَبُ، ولا يُقَدَّمُ الصَّلْبُ على القتل؛ لأن (¬2) فيه تَعْذِيبًا وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن تَعْذِيبِ الحَيَوانِ، والمقصود من صَلْبِهِ بعد القَتْلِ التَّنْكِيلُ وَزَجْرُ الغَيْرِ، وعلى هذا فكم يُتْرَكُ (¬3) مَصْلُوبًا؟ فيه وجهان: أظهرهما -ويُنْسَبُ إلى النَّصِّ: أنه يترك ثَلاَثًا لِيَشْتَهِرَ الحَالُ، ويتم النِّكَالُ، وعلى هذا فإذا مضى الثَّلاَثُ نُظِرَ إن [سَالَ صَلِيبُهُ] (¬4) وهو الوَدَكُ أُنْزِلَ، وإِلاَّ فوجهان، ويقال: قَوْلان: أحدهما: لا يُنْزَل؛ لأن الصَّلْبَ سُمِّيَ صَلْبًا؛ لِسَيَلاَنِ صَلْبِ المَصْلُوبِ، فيترك إلى أن يَحْصُلَ السَّيَلاَنُ. ¬
وأظهرهما: نعم، ويكتفي بما حصل من النَّكَالِ. وإن خِيفَ [التَّغَيُّرُ] (¬1) قبل الثلاث، فهل يُنْزَلُ؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم، وبه قال المَاسَرْجِسِيُّ وغيره -وحَمَلُوا قول الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه يُصْلَبُ ثلاثًا، على ما إذا كان الهَوَاءُ باردًا، أو مُعْتَدِلًا. وقالوا: إذا خِيْفَ التَّغَيُّرُ عند شِدَّةِ الحَرِّ يُنْزَلُ قبل تَمَامِ الثلاث. والوجه الثاني لمن الأصل -وبه قال ابن أَبِي هُرَيْرَةَ: أنه يُتْرَكُ حتى يَتَهَرَّأَ وَيسِيلَ (¬2) صَدِيدُهُ، ولا يُنْزَلُ بحال، والوجهان مُتَّفِقَانِ على أنه يُصْلَبُ على خَشَبَةٍ أو نحوها. وفي "جمع الجوامع" للرُّوَيانِيّ عن المَاسَرْجِسِيِّ: أنه المذهب، وأن القاضي ابن أبي هُرَيْرَةَ قال: يُطرَحُ على الأَرْضِ حتى يَسِيلَ صَدِيْدُهُ. قال الإِمام: وذكر الصَّيْدَلَانِيُّ أنه يُتْرَكُ حتى يَتَسَاقَطَ. وفي القَلْبِ منه شيء فإني لم أَرَهُ لغيره، والتَّسَاقُطُ يقع بعد سَيَلاَنِ الصَّدِيدِ مُدَّةً طويلة. وإذا قلنا: ينتظر سَيَلاَنُ (¬3) الصليب فلا نُبَالِي بِإنْتَانِهِ، إذ لا بد منه ولفظ صاحب "التهذيب" في حكاية وَجْهِ ابن أبي هريرة: أنه يُتْرَكُ حتى يسيل صَدِيدُهُ، إِلاَّ أن يتأذى (¬4) به الأحيَاءُ، ومما ذكره الإِمَامُ أَقْرَبُ إلى سِيَاقِ ذلك الوجه. فهذا أَصَحُّ القولين، والطُّرُقُ من تفريعه. والثاني: أنه يُصْلَبُ أوّلاً حَيًّا، ثم يُقْتَلُ -وبه قال أبو حَنِيْفَةَ؛ لأن الصَّلْبَ شُرعَ (¬5) عُقُوبَةً له، فَيُقَامُ عليه وهو حَيٌّ، ويُنْسَبُ هذا القَوْلُ إلى رواية صاحب "التلخيص" وغيره. وفي "النهاية": أن الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حَكَى هذا المَذْهَبَ عن بعض السلف حكايةً أَشْعَرَتْ بِارْتِضَاءٍ، فصار صائرون من الأصحاب إلى أنه قَوْلٌ للشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- والصحيح أنه حِكَايَةُ مذهب الغير، فيخرج مما (¬6) ذُكِرَ طريقة قاطعة بالقَوْلِ الأول. وكيف يُقْتَلُ؟ إذا فرع على القول الثاني [مصيرًا] (¬7) إلى إِثْبَاتِ القولين فيه وجوه: ¬
أحدها: أنه يُتْرَكُ بلا طَعَامٍ، ولا شَرَابٍ إلى أن يَمُوتَ. والثاني: ويُرْوَى عن أبي حَنِيَفَةَ: أنه يُطْعَنُ، وَيُجْرَحُ حتى يَمُوتَ. والثالث: أنه يُتْرَكُ مَصْلُوبًا ثَلاَثًا، ثم يُنْزَلُ [ويقتل (¬1)] وتبين في هذا السياق أن الصَّلْبَ في القول الثاني، يُرَادُ به الصَّلْبُ الذي لا يَمُوتُ منه الشخص (¬2)، والخلاف المذكور في أنه يُنْزَلُ عن الخَشَبَةِ بعد ثلاث، أو يترك حتى يَتَهَرَّى؛ تفريعًا على القول الأَوَّلَ جَارٍ مع تفريعنا على أنه يُصْلَبُ، ثم يُقْتَلُ، وقد ذكرنا ذلك في الجَنَائِزِ. ومن فروع القولين وقد سَبَقَ في الجَنَائِزِ أَنَّا إذا قلنا: إنه يُقْتَل أَوَّلًا، ثم يصلب، وهو الصحيح، فَيُغَسَّلُ بعد القَتْلِ، ويُكَفَّنُ، ويُصَلَّى عليه ثم يصلب مُكَفَّنًا. وإن قلنا: إنه يُصْلَبُ ثم يقتل، فإن قلنا: إنه ينزل فَيُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ، ويُصَلَّى عليه [ويدفن]، وإن قلنا: إنه يترك حتى يتهرأ فلا غُسْلَ ولا صلاة، ونقلنا هناك وَجهًا مُطْلقًا أنه لا يُصَلَّى على قاطع الطريق استِهَانَةً به، ولا يبعد أن يجري هذا الوَجْه فيما إذا اقْتَصَرَ المُحَارِبُ على القتل. أما من لم يأخذ مَالاً، ولا قتل نفسًا (¬3)، ولكنه كَثَّرَ جَمْعَ (¬4) القاطعين وكان رِدْءًا لهم، وأرعب الرُّفْقَةَ فلا حَدَّ عليهم، كما لا حَدَّ في مُقَدِّمَاتِ الزِّنَا والشُّرْبِ. ولو أخذ [بعضهم] (¬5) أقلَّ من نِصَابٍ، فكذلك الحُكْمُ إذا شرطنا النِّصَابَ، ولا يكمل نِصَابُهُ بما أخذ غيره. وبم يُعَاقَبُ الرِّدْءُ؟ فيه وجهان: أصحهما: أن الإِمَامَ يُعَزِّرُهُ باجتهاده بالحَبْسِ أو التَّغْرِيبِ (¬6) أو سائر وُجُوهِ التَّأْدِيبِ، كما في سائر الجَرَائِمِ. والثاني: أنه يُغَرِّبُهُ ويَنْفِيهِ إلى حيث يَرَاهُ، وليختر جهة يحتف (¬7) بها أهل النَّجْدَةِ والبَأْسِ من أصحابه، لِيَأْمَنَ منه، وإذا عين (¬8) صَوْبًا منعه من أن يَعْدِلَ عنه ويسير حَيْثُ شاء، وعلى هذا فهل يعزر في البَلْدَةِ المَنْفِيِّ إليها بِضَرْبٍ أو حَبْسٍ أو غيرهما، أو يُكْتَفَى بالنَّفْي؟ فيه وجهان واحتج من ذهب إلى أن الرِّدْءَ يُنْفَى بقوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]. ¬
فرع
وقال: جعل النَّفْيَ عُقُوبَةً مَقْصُودَةً مع سائر العقوبات المذكورة. وأصحاب الوجه الأَصَحِّ قالوا: معنى نَفْيِهِمْ من الأرض أنهم إذا هَرَبُوا من حَبْسِ الإمامَ فَيُتْبَعوا ليُسْتَرَدُّوا ويُفَرَّقَ جمعهم (¬1) وتَبْطُلَ شَوْكَتُهُمْ، ومن ظَفَرْنَا بِهِ نُقِيمُ عليه ما [تؤديه] (¬2) جِنَايَتُهُ من الحدِّ أو التعزير، ويُرْوَى هذا التنزيلُ عن ابن عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-. وهذا ما أشار إليه بقوله في الكتاب: "وأما النَّفْيُ فغير مقصودٍ ... " إلى آخره، ثم ذكر الوَجْهَ الآخر، وهو أن النَّفْيَ عُقُوبَةٌ مقصودةٌ "فيمن اقتصر على الإِرْعَابِ"، والمذهب الظاهر، هو أنه لا يَلْزَمُهُ إلا التعزير، وقد قَدَّمَهُ من قَبْلُ، ولو ضَمَّ أَحَدَهُمَا إلى الآخر لكان أَحْسَنَ وأَوْلَى. وليعلم قوله "ولا يُقْطَعُ فيما دون النِّصابِ" بـ"الواو". وقوله: "فلا يجب إلاَّ التَّعزِيرُ" بـ"الحاء". وقوله: "وإن جمع بين الأَخْذِ والقَتْلِ لم يُقْطَعْ" بالواو؛ لما نُقِلَ عن أبي الطَّيِّبِ بن سلمة. وقوله: "يُصَلَّى عليه" في الموضعين بالحاء؛ لأن عنده لا يُصَلَّى على قَاطِعِ الطريق وبالواو (¬3) أيضًا لوجه مثله في الجَنَائِزِ. وقوله: "ثم يُصْلَبُ" بالحاء؛ لأن عنده يُصْلَبُ ثمَّ يُقْتَلُ، وكلمة "يُصْلَبُ" بالواو؛ لما حكاه صاحب "التقريب" أنه إذا قَتَلَ، وأخذ نِصَابًا يُقْطَعُ ويُقْتَلُ، ولا يُصْلَبُ. وقوله: "وفيه وجه أنه يُصْلَبُ ثم يُقْتَلُ" المشهور منه القول لا الوَجْهُ، ويجوز أن يعلم بالواو؛ لما نقله الإِمام من القطع (¬4) بتقديم القَتْلِ على الصَّلْبِ. وأن يعلم قوله: "بتركه جَائِعًا" بالواو؛ لما مَرَّ وما ذكره في خلال (¬5) الفصل من غُسْلِ قاطع الطريق والصَّلاَةِ عليه مُكَرَّرٌ قد سَبَقَ ذِكْرُهُ في الجنائز، مع زِيَادَاتٍ، ولو اكْتَفَى بما قَدَّمَهُ لكان جَائِزًا. " فرع" إذا اجتمع عليه القَتْلُ والصَّلْبُ لو مات قبل أن يُقْتَلَ، هل يجب صلبه؟ فيه وجهان: ¬
أحدهما -وبه قال القاضي أبو الطَّيبِ-: نعم؛ لأن القَتْلَ والصَّلْبَ مَشْرُوعَانِ حَدًّا، وقد فات أحدهما، فيُسْتَوْفَى الآخر. والثاني -وبه قال الشيخ أبو حامد: لا؛ لأن الصَّلْبَ صِفَةٌ تابعةٌ للقتل، وقد سَقَطَ المَتْبُوعُ، فيسقط التَّابِعُ، وهذا ما يُنْسَبُ إلى رِوَايَةِ الحارث بن سُرَيْجٍ القفال (¬1) عن النَّصِّ. والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: (الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ هَذِهِ العُقُوبَةِ) وَلَهَا حُكْمَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الظَّفرِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَفِيهِ قَوْلاَنِ يَجْرِيَانِ فِي جَمِيعِ الْحُدُودِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَنْ ظَهَرَ تَقْوَاهُ فَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ الْمَاضِيَةُ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ عِنْدَ التَّعْرِيضِ لإِقَامَةِ الْحَدِّ تُبْتُ لاَ يُوثَقُ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ مَعَهُ الاسْتِبْرَاءُ وَصَلاَحُ الْحَالِ بِالْعَمَلِ، وَالإِسْقَاطُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: تُبْتُ بَعِيدٌ، ثُمَّ إِنَّمَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ الْحَدُّ دُونَ الْقِصَاصِ وَالْغُرْمِ، وَيَسْقُطُ قَطْعُ الْيَدِ (ح) وَالرِّجْلِ جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذَ نِصَابًا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصود الطرف (¬2) مُدْرَجٌ في حُكمَيْنِ: أحدهما: قد ذكرنا أن قَاطِعَ الطريق إِذَا هَرَبَ يُتَّبَعُ، وُيقَامُ عليه ما يَسْتَوْجِبُهُ من حَدٍّ (¬3) أَو تَعْزِيرٍ، فإن مات قبل القُدْرَةِ عليه، سَقَطَ عنه ما يَخْتَصُّ بِقَطْعِ الطريق من العقوباتِ؛ لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34]. وفي كتاب القاضي ابن كَجٍّ: أن أبا الحَسَنِ حَكَى عن القديم قَوْلًا أنه لا يَسْقُطُ، بِنَاءً على الخِلاَفِ في سقوط سائر الحُدُودِ بالتوبة، والمذهب المشهور الأول. وإن تاب بعد القُدْرَةِ عليه، ففي سقوط ما يَختَصُّ بقطع الطريق بالتَّوْبَةِ طريقان: أحدهما: القَطْعُ بأنه لا يسقط، وهو الذي أَوْرَدَهُ أصحابنا العراقيون وغيرهم. والثاني: أن فيه قولين كالقَوْلَيْنِ في سقوط حَدِّ الزَّانِي، والسارق، وشارب الخمر بالتوبة، وهذا ما حكاه القَاضِي الرُّويَانيُّ عن الصَّيْدَلاَنِيِّ وعليه جَرَى الإِمَامُ، وصاحب الكتاب، وسواء ثَبَتَ الخِلاَفُ، أو لم يَثْبُتْ فالظَّاهِرُ أنه لا يسقط [وبه يشعر (¬4)] التقييد (¬5) في قوله تَعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]. وَفُرِّقَ بين الحَالَتَيْنِ من ¬
جهة المعنى بأنه [بعد] (¬1) القدرة عليه [متعرض] (¬2) لِلحَدِّ [مُتَّهَمٌ] بِقَصدِ الدفع في [نفسه] (¬3) بالتَّوْبَةِ، وأما قَبْلَ القُدْرَةِ عليه فهو ممتنع (¬4) عن طَاعَةِ الإِمام، وتوبته (¬5) بَعِيدَةٌ عن التُّهْمَةِ، قَرِيبةٌ من الحقيقة. وهل تُؤَثِّرُ التَّوْبَةُ في إسقاط حَدِّ الزِّنَا، والسرقة، وشرب الخمر في حَقِّ غير قَاطِعِ الطريق، وفي حَقِّ قاطع الطريق قبل القُدْرَةِ عليه، وبعدها؟ فيه قولان، سبق ذكرهما مَرَّةً في جِنَايَةِ الزِّنَا، والأصح على ما ذكره الإِمام، وصاحب "التهذيب" وغيرهما، ويُنْسَبُ إلى الجديد، وبه قال أبو حنيفة: أنها لا تُؤَثِّرُ، واحتج له بأن قوله -تعالى- في آية الزِّنَا: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] مطلق وكذا قوله -عزَّ وجَلَّ- في السرقة: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. ولم يفرق بين ما قبل التَّوْبَةِ وبين ما بعدها، [و] (¬6) أيضًا فإن الكَفَّارَةَ لا تسقط بالتوبة، فكذلك الحُدُودُ التي هي كَفَّارَاتٌ. والثاني -ورَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ من العراقيين أنها تُؤَثِّرُ في إِسْقَاطِهَا؛ لأنها حدود خَالِصَةٌ لله تعالى، فَأشْبَهَتْ حدَّ قَاطِعِ الطَّرِيق، وَيتَفَرَّعُ على ما ذكرناه فرعان: أحدهما: ما يسقط بالتَّوْبَةِ في حَقِّ قَاطِعِ الطريق قبل القُدْرَةِ عليه يسقط بنفس التَّوْبَةِ، وأما بعد القُدْرَةِ عليه وفي حق الزَّانِي، والسارق، وشارب الخمر، فقد حكى الإِمَامُ وجهين: أحدهما: أن الجَوَابَ كذلك، وإِظْهَارُ التوبة كَافٍ (¬7) كإظهار الإِسلام تحت ظِلاَلِ السُّيُوفِ. والثاني: أنه لا بد مَعَ التَّوْبَةِ من إِصْلاَحِ العَمَلِ ليظهر الصِّدْقُ فيها، وتحصل الثقة (¬8)، ونَسَبَ الإِمَامُ هذا الوَجْهَ إلى القاضي الحُسَيْنِ، والأَوَّلَ إلى سائر الأصحاب، والذي أَوْرَدَهُ جَمَاعَةٌ من العراقيين، وتابعهم صاحب "التهذيب" والقاضي الرُّوَيانِيُّ ما نسبه إلى القاضي الحسين، وتَمَسَّكُوا له بظاهر القرآن، فإن الله -تعالى- قال في قُطَّاعِ الطريق: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] لم يَتَعَرَّضْ إلا للتَّوْبَةِ، وقال في الزِّنَا: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16] وفي السرقة: ¬
{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39] فاعتبر الأَصْحَابُ مع التوبة [الإِصْلاَحَ،] (¬1) ومن جهة المَعْنَى بما سَبَقَ أن توبته قبل القُدْرَةِ لا يَظْهَرُ فيها احْتِمَالُ الخَوْفِ والتَّقِيَّةِ، وفي هذا المُنْتَهَى (¬2) كلامان: أحدهما: ذكر الإِمَامُ تَفْرِيعًا على اعتبار إِصْلاحَ العَمَلِ [أن يُمْتَحَنَ] (¬3) سِرًّا وَعَلَنًا، فإن بَدَا الصَّلاَحُ، أسقطنا الحَدَّ عنه، وإِلَّا حَكَمْنَا [بأنه لم يسقط] ورأى هذا مشكلًا؛ لأنه لا سَبِيلَ إلى حقيقته، وإن خلى فكيف يتبع، وكيف يُعْرَفُ صلاحه؟! وحُمِلَ ذِكْرُ الصَّلاحَ في الآية على اعتباره في العَفْوِ والمغفرة، ويشبه أن يقال: في التفريع عليه: إذا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ امْتَنَعْنَا من إقامة الحَدِّ عليه، فإن ظَهَرَ الصَّلاَحُ من بَعْدُ، أو لم يَظهَرْ ما يخالف التَّوْبَةَ فذاك، وإن ظهر ما يخالفها أقمنا الحَدَّ عليه. والثاني: حْكَيْنَا في باب الزِّنَا طريقين في مَوضِعِ القولين، في سُقُوطِ الحَدِّ بالتوبة: أحدهما: تخصيص القَوْلَينِ بما إذا تَابَ قبل الرَّفْعِ إلى القاضي، فإن تاب بعد الرَّفْعِ لم يَسْقُطْ بلا خلافٍ. والثاني: طَرْدُ القولين في الحَالَتَيْنِ، وقد يرجع هذا الخِلاَفُ إلى الخِلاَفِ في أن التوبة بمجردها تُسْقِطُ الحد، أو يعتبر صَلاَحُ العَمَلِ؟ إن اعتبرنا الصَّلاَحَ، فلا بد من مُضِيِّ زَمَانٍ يظهر به الصِّدْقُ والصلاح، ولا تكفي التَّوْبَةُ بعد الرَّفْعِ. الفرع الثاني: إذا تاب قَاطِعُ الطريق قبل القُدْرَةِ عليه، فإن كان قد قتل سقط عنه انْحِتَامُ القَتْلِ، وللولي أن يَقْتَصَّ، وله أن يَعْفُوَ، هذا هو الظاهر، وفيه كلامان: أحدهما: أنه مبنيٌّ على أن عُقُوبَةَ قاطع الطريق لا تَتَمَحَّضُ حَدًّا، بل يَتَعَلَّقُ بها القِصَاصُ، وهو الأَظْهَرُ على ما سَيَأْتِي إن شاء الله تعالى. أما إذا مَحَّضْنَاهَا حَدًّا فلا يَبْقَ عليه شيء. والثاني: أنه حَكَى تَخْرِيجَ وَجْهٍ في القِصَاصِ، وفي حَدِّ القذف أنهما يسقطان بالتوبة؛ لأنهما يَسْقُطَانِ بالشُّبْهَةِ كحدود الله تعالى. وفي كتاب القاضي ابن كَجٍّ أن أبا الحسين نَقَلَهُ قولًا عن القديم في حَقِّ القَذْفِ، وإن كان قد قَتَلَ، وَأَخَذَ المَالَ، سقط الصَّلْبُ، وانْحِتَامُ القَتْلِ، وبقي القِصَاصُ، وضمان ¬
المال، وفي القصاص ما ذكرناه. وإن كان قد أَخَذَ المَالَ سَقَطَ عنه قَطْعُ الرِّجْلِ، وأما قَطْعُ اليد فقد ذُكِرَ وجهان في أنه هَلْ يُعَدُّ من خَوَاصِّ قطع الطريق؟ عن أبي إِسْحَاقَ أنه ليس من خَوَاصِّهِ؛ لتعلُّقِهِ بأخذ نِصَابٍ في السرقة. وعن أَبَوَيْ علي بن أبي هريرة والطبري -رحمهما الله- أنه من خَواصِّهِ؛ لأن قطع اليَد في المُحَارَبَةِ جُزْءٌ من الحَدِّ الوَاجِبِ، والمُوجِبُ له أَخْذُ المال مُجَاهَرَةً، وقطع اليد في السَّرِقَةِ حَدٌّ برأسه، والمُوجِبُ له أَخَذُ المال خُفْيَةً، فقد اخْتَلَفَ المُوجِبُ وَالوَاجِبُ، فإن جَعَلْنَاهُ من خَوَاصِّ قَطْعِ الطريق، سَقَطَ، كقطع الرجل، وهو الأظهر، والجَوَابُ في "التهذيب" وفي الكتاب. وإن لم نجعله من خَوَاصِّهِ، ففيه الخلافُ المذكورُ في سائر الحدود. وقوله في الكتاب "يَسْقُطُ بالتَّوْبَةِ قبل الظَّفرِ" يريد به ما يَخْتَصُّ من العقوبة بِقَطْعِ الطريق، ويجوز إعْلاَمُهُ بالواو لما قَدَّمْنَا، وكذا إِعْلاَمُ قوله: "ففيه قولان" لما ذكرنا أنَ بَعْضَهُمْ قَطَعَ بأنه لا تسقط عُقُوبَةُ قاطع الطريق بعد الظَّفَرِ وقوله: "والصحيح أن من ظَهَرَ تَقْوَاهُ ... " إلى آخره ترجيح للقول بالسُّقُوطِ بالتوبة على ما قاله جَمَاعَةٌ من الأصحاب مع اعتبار صَلاَحِ الحَالِ. وأوضحه بأن قوله: "تُبْتُ" عند التَّعَرُّضِ لإقامة الحدّ لا يُوثَقُ به، فيعتبر الاستبراء ليعلم صِدْقُهُ، وصَلاَح سَرِيرَتِهِ، ويمكن إعْلاَمُ قوله: "فينبغي أن يُعْتَبَرَ معه الاسْتِبْرَاءُ بالواو"، إِشَارَة إلى الوجه المكتفي بِإِظْهَارِ التوبة. وليعلم قوله: "دون القِصَاصِ بالواو". وكذا لَفْظُ: "قطع اليَد". وقوله "وإن أَخَذَ نِصَابًا" لفظ النِّصَابِ غير مُحْتَاجٍ إليه في هذا المَقَامِ، فقد عرفنا من قبل أن القَطْعَ إنما يُنَاطُ بالنِّصَابِ، وَلو قال: إذا أخذ المَالَ بدلًا عن قوله: "وإن أَخَذَ نِصَابًا" كان أَحْسَنَ [الْتِئَامًا] (¬1). قال الغَزَالِيُّ: (الْحُكْمُ الثَّانِي) أَنَّ القَتْلَ حَقُّ اللهِ تَعَالَى حَتَّى لَوْ عَفَا وَلِيُّ الدَّمِ قُتِلَ حَدًّا، وَهَلْ يَثْبُتُ حَقُّ الْقِصَاصِ مَعَهُ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَثْبُتُ لَمْ يُقْتَلْ بِمَنْ لَيْسَ بِكُفْءٍ، وَإِنْ مَاتَ بَقِيَتِ الدِّيَةُ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ قَتَل جَمَاعَةً قُتِلَ بِوَاحِدٍ وَلِلْآخَرِينَ الدِّيةُ، وَإِنْ عُفِيَ عَلَى مَالٍ قُتِلَ حَدًّا وَلَهُ الدِّيَةُ، فَلَوْ تَابَ قَبلَ الظَّفَرِ لَمْ يَسْقُط الْقِصَاصُ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ حَدٌّ مَحْضٌ فَلاَ مَدْخَلَ لِلدِّيَةِ فِيهِ وَلاَ لِلْكَفَارَةِ، وَلاَ يَبْقَى قِصَاصٌ بَعْدَ التَّوْبَةِ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: قَاطِعُ الطريق إذا قَتَلَ في قَطْعِ الطريق خَطَأً، بأن رَمَى إلى شَخْصٍ، فأصاب غَيْرَهُ، أو قَتَلَ شِبْهَ عَمْدٍ، لم يلزمه القَتْلُ، وتكون الدِّيَةُ على عَاقِلَتِهِ، وإن قَتَلَ عَمْدًا، فقد سَبَقَ أنه يَنْحَتِمُ قَتْلُهُ. وما حَالُ هذا القَتْلِ؟ فيه قولان اخْتَلَفُوا في التعبير (¬1) [عنهما] (¬2) [فقالت] (¬3) طَائِفَةٌ: وهو الأَصَحُّ، هذا القَتْلُ فيه معنى [القِصَاصُ؛] (¬4) [لأنه] (¬5) قَتْلٌ في مُقَابَلَةِ قَتْل، وفيه معنى الحُدُودِ؛ [لأنه لا] (¬6) يَصِحُّ العفو عنه، ويَتَعَلَّقُ اسْتِيفَاؤُهُ بالسلطان، لا بالوَلِيِّ، وما [المُغَلَّبُ من] (¬7) [المعنيين؟] (¬8) فيه قولان. وقال آخرون: هل يَتَمَحَّضُ [هذا] (¬9) القتل حَقًّا لله -تعالى- أو فيه حَقُّ الآدمي أيضاً؟ فيه قولان، وهذا هو إيراد الكتاب، وهو تَغْلِيبُ حَقِّ الله تعالى، أو تَمْحِيضُهُ حَقًّا لله -تعالى- لأنه لا يَصِحُّ العَفْوُ عنه، وَيتَعَلَّقُ اسْتِيفَاؤُهُ بالإمام، ووجه رِعَايَةِ حَقِّ الآدمي، وهو الأَصَحُّ -أنه لو قَتَلَ في غير المُحَارَبَةِ لثبت القِصَاصُ للآدمي، فيبعد أن [يَبْطُلَ] (¬10) حَقُّهُ بوقوع القَتْلِ في المُحَارَبَةِ. ولنا اختلاف قول في أنه إذا اجتمع حَقُّ الله -تعالى- وَحَقُّ الآدمي تغلَّبَ حَقُّ [الآدمي أم] (¬11) لا؟ فكيف يَنْتَظِمُ هنا إِبْطَالُهُ بالكُلِيِّة. ويقال [بناء على] (¬12) هذا القَوْل: إن أَصْلَ القَتْلِ في مُقَابَلَةِ القتل [والتحتم] (¬13) حَقُّ الله تعالى، وَيتَفَرَّعُ على الخلاف المذكور [صُوَرٌ:] (¬14) منها إذا قَتَلَ قَاطِعُ الطريق من لا يُكَافِئُهُ، كالأَبِ يَقْتُلُ الابْنَ، والمسلم يَقْتُلُ الذِّمي، والحُرُّ العَبْدَ، فإن لم يُرَاع معنى (¬15) القِصَاصِ وحَق الآدمي قتلناه حَدًّا، ولم نُبَالِ بعدم الكَفَاءَةِ، وإن رَاعَيْنَاهُ لم نقتله به، وأوجبنا الدِّيَةَ، أو القيمة. ولو قتل قَاطِعُ الطريق عبد نفسه فعن ابن أبي هريرة والقَاضِي حسين تَخْرِيجُهُ على الخلاف. وعن أبي إسحاق القَطْعُ بأنه لا يقتل، كما أنه لا يُقْطَعُ إذا أَخَذَ مَالَ نفسه (¬16)، وهذا ما اختاره الصَّيْدَلاَنِيُّ. ¬
ومنها: لو مات قَاطِعُ الطريق، فإن رَاعَيْنَا معنى القِصَاصِ أخذنا الدِّيَةَ من التَّرِكَةِ، وإلا لم نُوجِبْ في التَّرِكَةِ شَيْئًا. ومنها: إذا قَتَلَ الوَاحِدُ في قَطْع الطريق جَمَاعَةً، فإن رَاعَيْنَا معنى [القِصَاصِ] (¬1) قُتِلَ بواحد، وللباقين الدِّيَةُ، وإن قَتَلَهُمْ على [الترتيب قُتلَ] (¬2) بالأول، ولو عفا وَلِيُّ الأَوَّلِ لم يَسْقُطْ قاله في "التهذيب"، وإن لم نُراعِ معنى القِصَاصِ قُتِلَ بهم، ولم تَجِبِ الدِّيَةُ. [ومنها: لو عفا] (¬3) الولي على مالٍ، فإن رَاعَيْنَا معنى القِصَاصِ، سَقَطَ القِصَاصُ، وَوَجَبَ المَالُ، وقُتِلَ حَدًّا كمرتد، استوجب القِصَاصُ [وعُفِيَ عنه] (¬4)، وإن لم نُرَاعِهِ، فالعَفْوُ لَغْوٌ. ومنها: لو تاب (¬5) قبل [الظَّفَرِ به لم] (¬6) يَسْقُطِ القِصَاصُ إن رَاعَيْنَا (¬7) معنى القِصَاصِ، ويسقط الحَدُّ، وإلا فلا شيء عليه وهذا قد مَرَّ. ومنها: لو قتل القاتل [-يعني: قاطع الطريق-] (¬8) بمُثَقَّلٍ أو قطع عُضْوٍ، فإن رَاعَيْنَا معنى القِصَاصِ [قتلناه] (¬9) بمثل ما قَتَلَ، وإلا فَيُقْتَلُ بالسَّيْفِ كالمُرْتَدِّ. ومنها: لو قتله قَاتِلٌ بغَيْرِ إذْنِ الإِمام، فإن رَاعَيْنَا معنى القِصَاصِ فعليه الدِّيَةُ لورثته، [ولا] (¬10) قِصَاصَ؛ لأن قتله متحتم (¬11)، وَيجِيءُ فيه وجه آخر، وإن لم نراعه (¬12) فليس عليه إلا التَّعْزِيرُ لافْتِئَاتِهِ (¬13) على الإِمام. قال الغَزَالِيُّ: (فُرُوْعٌ، الأَوَّلُ) الْجُرْحُ السَّارِي يُوْجِبُ قَتْلًا مُتَحَتَّمًا، وَلَوْ قَطَعَ عُضْوًا فَهَلْ يَتَحَتَّمُ قَطْعُهُ؟ فِيْهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ يُفَرَّقُ فِي الثَّالِثِ بَينَ مَا عُهِدَ حَدًّا كالقَطْعِ وَبَيْنَ مَا لَمْ يُعْهَدْ كَالْجِذْعِ وَفَقْءِ الْعَيْنِ، (الثَّانِي): أَنَّهُ يُوَالِي بَيْنَ قَطْعِ اليَدِ والرِّجْلِ، وَمَنِ اسْتُحِقَّ يَسَارُهُ بِالْقِصَاصِ وَيَمِينُهُ بالسَّرقَةِ قُدِّمَ الْقِصَاصُ وَيُمْهَلُ حَتَّى يَنْدَمِلَ ثُمَّ يُقْطَعُ الْيُسْرَى (¬14) لِلسَّرِقَةِ، وَلَوِ اسْتُحِقَّ يَمِينُهُ بِالْقِصَاصِ ثُمَّ قَطَعَ الطَّرِيقَ قُطِعَ يَمِينُهُ لِلقِصَاصِ تَقْدِيمًا لِحَقِّ الآدَمِيِّ وَقُطِعَ رِجْلُهُ مِنْ غَيْرِ إِمْهَالٍ، لِأَنَّ المُوَالاَةُ مُسْتَحَقَّةٌ لَوْ قَدَرْنَا عَلَى قَطْعِ يَمِينِهِ حَدًّا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قاطع الطريق إذا جَرَحَ جُرْحًا سَارِيًا فقد قَتَلَ، وقد بَانَ حُكْمُهُ، وإن ¬
جَرَحَ جُرْحًا واقفًا [، نظر إن] (¬1) كان فيما لا قِصَاصَ فيه كالجَائِفَةِ، فلا يقابل (¬2) بمثله كما في حَقِّ غير قَاطِعِ الطَّرِيقِ، والواجب فيه المَالُ، فلا يدخل التحتم فيه كَبَذْلِ النفس (¬3) الواجب بالقَتْلِ الخَطَأِ، وإن كان يَجِبُ فيه القِصَاصُ كَقَطْعِ اليد أو الرِّجْلِ، فيقابل بمثله. وعند أبي حَنِيْفَةَ: لا يقتص منه، ويُسْلَكُ بالطَّرَف (¬4) مَسْلَكَ المَالِ، وعنه: لا يضمن قَاطِعُ الطريق إذا أَتْلَفَ المَالَ، ويكتفي بِحَدِّهِ، كما لا يجتمع القَطْعُ والغُرْمُ على السَّارِقِ واحْتَجَّ الأَصْحَابُ بأن قَاطِعَ الطريق متعدّ لا شُبْهَةَ (¬5) له في طرف الرُّفْقَةِ ولا في مالهم، فَلَزِمَهُ ضَمَانُها، وهل يَتَحَتَّمُ القِصَاصُ في الجِرَاحَةِ (¬6)؟ فيه قولان: أحدهما: نعم -كما يَتَحَتَّمُ القَتْلُ [عند القَتْلِ] (¬7). وأصحهما: المَنْعُ؛ لأن التَّحَتُّم تَغْلِيظٌ لحق الله -تعالى- فَيَخْتَصُّ بالنَّفْسِ كالكَفَّارَةِ. وعن أبي منصور [بن مَهْرَانَ] (¬8) أن الفَرْقَ بين النَّفْسِ والطَّرَفِ -أن الغالب أن قَاطِعَ الطريق يَقْصِدُ المَالَ أو النَّفْسَ لِعَدَاوَةٍ اشتدت بين قوم وقوم فَشُرِعَتْ (¬9) في كل واحد منهما عُقُوبَةٌ مُتَحَتِّمَةٌ، وأما الجِرَاحَاتُ، فإنها لا تُقْصَدُ بِقَطْعِ الطريق في الغالب؛ فلم يُشْرَعْ فيها، التَّحَتُّمُ، وبقي الوَاجِبُ فيها على أصل التخيير، وهذان القولان أَطْلَقَهُمَا مُطْلِقُونَ في كل عُضْوٍ، يجري فيه القِصَاصُ. ومنهم من قَطَعَ بالتحتم في القَطْع الذي يُشْرَعُ حُدًّا، وهو قَطْعُ اليَدَيْنِ والرجلين، وَخَصُّوا (¬10) القولين بما لا يُشْرَعُ حدًا كَجَدْعِ الأَنْفِ والأُذُنِ، وَفَقْءِ العَيْنِ، ويخرج من الطريق عند الاختصار ثَلاَثَةَ أقوال أو أوجه، كما في الكتاب. ويجوز أن يُعْلَمَ قوله في الكتاب "ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ" بالواو لِقَطْعِ مَنْ قَطَعَ في اليدين والرجلين بالتحتم [وأيضًا] (¬11) في "جمع الجوامع" للقاضي الرُّوَيَانِيِّ أن القاضي الطَّبَرِيَّ قال: لا يُعْرَفُ للشَّافِعيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إلا أنه لا يتحتَّم، وهذا كالقَطْعِ بِنَفْسِ التَّحَتُّمِ. وذكر ابن الصَّبَّاغ تَفْرِيعًا على الخِلاَفِ في أَن الجِرَاحَاتِ هل تَتَحَتَّمُ أنه لو قطع يَدَهُ، ثم قَتَلَهُ في المُحَاَرَبَةِ، فإن قلنا: الجِرَاحَةُ لا تَتَحَتَّمُ، فالحُكْمُ كما لو قَطَعَ في غير ¬
الْمُحَارَبَةِ، ثم قتله في المُحَارَبَةِ، وسيأتي ذلك في الفَرْعِ الذي يَلِي هذا الفَرْعِ. وإن قلنا: يَتَحَتَّمُ، فيقطع ثم يقتل، ولو قَطَعَ يَدَ إنسان في المُحَارَبَةِ، وأَخَذَ المَالَ، نظر إن قطع يَمِينَهُ فإن قلنا: [لا] (¬1) يَتَحتم، وعَفَا أَخَذَ دِيَة اليَدِ، وقطعنا يَمِينَ المُحَارِبِ وَرِجْلَهُ اليسرى حَدًّا، وإن لم يَعْفُ أو قلنا بالتحتم قُطِعَتْ يمينه بالقِصَاصِ، وتقطع رِجْلُهُ حَدًّا، كما لو قطع الطريق ولا يَمِين له. وإن قطع يساره فإن قلنا: لا يتحتم، وعَفَا، أخذ الدِّية، وقطعت يده اليمنى، ورِجْلُهُ اليُسْرَى، وإن لم يَعْفُ أو قلنا بالتحتم قُطِعَتْ يساره، ويؤخر قَطْعُ اليمين والرجل اليُسْرَى إلى انْدِمَالِ اليَسَارِ ولا نوالي بين عُقُوبَتَيْنِ. وقوله: "والثاني أنه يوالي" في الفَرْعِ الثاني إلى آخر الفَرْعِ، يوالي على قاطع الطريق بين قَطْعِ اليد والرجل، فإن قَطْعَهُمَا جميعًا عُقَوبَةٌ واحدة كالجلدات (¬2) في الحَدِّ الواحد، وإن كان مَقْطُوعَ اليمين، قُطِعَتْ رِجْلُهُ اليسرى، ولا تجعل اليَدُ اليُسْرَى بَدَلًا عن اليمنى كالسَّارِقِ [فإن] كانت يَدُهُ نَاقِصَةَ بإصبع (¬3) تُقْطَعُ يَدُهُ النَّاقِصَةُ، ولا تُقْطَعُ رجله، ويكتفي بما بقي من مَحَلِّ الحَدِّ، وإن كان مَفقُودَ اليَدِ اليمنى، والرِّجْلِ اليسرى، فحينئذ تُقْطَعُ يده اليسرى، ورِجْلُهُ اليمنى. ولو قطع يَسَارَ إنسان واستحقت يَسَارُهُ قِصَاصًا، وسرق تُقْطَعُ يَسَارُهُ قصاصًا، ويُمْهَلُ إلى الاندمال، ثم تُقْطَعُ يمينه عن السَّرِقَةِ، ولا يوالي بينهما، فإنهما عُقُوبَتَانِ مختلفتان، وُيقَدَّمُ القِصَاصُ؛ لأنه حَقُّ آدَمِيِّ، والعقوبة التي هي حَقُّ الآدمي آكد من العُقُوبَةِ التي هي حَقُّ الله -تعالى- لأنها تسقط بما لا تَسْقُطُ به عقوبة الآدميين، فقدم الآكد وكذلك فَارَقَتِ العُقُوبَاتُ الحُقُوقَ المالية، حيث تَرَدَّدَتِ الأَقْوَالُ في أنه يُقَدَّمُ حق الله -تعالى- أو حَقّ الآدمي، أو يستويان؛ لأنهما اسْتَوَيَا في التَّأَكُّدِ، وَعَدَمِ السقوط بالشبهات (¬4) وتعارض فيهما حاجة الآدمي، والتَّأَكُّد بالإضافة إلى الله -تعالى- ومصرفه الآدَمِيّ أيضًا، فَتَرَدَّدَ القَوْلُ فيها. هكذا ذكر الفرق الإمَامُ وغيره. ولو وجب قَطْعُ اليد اليمنى، والرجل اليُسْرَى بقطع الطَّرِيقِ، وقطع اليد اليسرى بالقِصَاصِ، فكذلك يُقَدَّمُ قَطْعُ اليسرى قِصَاصًا، ثم تُمْهَلُ إلى الاندمال، ثم يقطع العضوان (¬5) لِقَطْعِ الطريق. ولو قَطَعَ يَمِينَ إنْسَانٍ، واستحقَّتْ يَمِينُهُ قِصَاصًا، وقطع الطريق فإن عَفَا مُسْتَحِقُّ ¬
القِصَاصِ، قُطِعَتْ يَمِينُهُ، ورجله اليسرى حَدًّا، وإلا فَيُقَدَّمُ القِصَاصُ، وتقطع الرِّجْلُ اليسرى عن الحَدِّ، وتقطع بعد القِصَاصِ عن اليمين في الحال، أو تُمْهَلُ إلى الاندمال (¬1)؟ فيه وجهان: أصحهما -وهو المَذْكُورُ في الكتاب: أنها تُقْطَعُ بلا إمْهَالٍ؛ لأن المُوَالاَةَ بين العُضْوَيْنِ مستحقة لولا القِصَاصُ، وما يخاف من المُوَالاَةِ لا يختلف بين أن يكون قَطْعُ اليمين عن الحد أيضًا، أو عن القِصَاصِ. والثاني: يُمْهَلُ إلى الانتقال؛ لأن اليَمِينَ إذا لم تُقْطَعْ حَدًّا، فالمستحق عن جِهَةِ الحَدِّ، قطع الرجل لا غير، فَأَشْبَهَ ما إذا اسْتَحَقَّ طرفان (¬2) عن جهتين. وإن اسْتَحَقَّتْ يَدُهُ اليمنى، والرجل اليسرى بالقِصَاصِ، وقطع الطريق، نظر إن عفا المُسْتَحِقُّ عن القصاص، قُطِعَ العُضْوَانِ عن الحد، وإن اقتصَّ (¬3) فيهما سَقَطَ الحد لِفَوَاتِ مَحِلِّهِ الذي تَعَلَّقَ به، ولو قطع العضوين في قَطْعِ الطريق، وأَخْذِ المال أيضًا، فإن قلنا: الجِرَاحَةُ في قطع الطريق لا تَحتمُ، فالحُكْمُ كما لو قطع العضوين، لا في قَطْعِ الطريق، وقطع الطريق أيضًا. وإن قلنا بالتَّحَتُّم قطعناهما قِصَاصًا، وسقط الحَدُّ. كذلك ذكر الشيخ أبو حَامِدٍ، وابن الصَّبَّاغِ وغيرهما، وسووا بين أن يقطع العضوان (¬4) قبل أَخْذِ المَالِ أو بعده. وقال الشيخ أبو [إسْحَاقَ] (¬5) الشيرازي: إن قلنا بالتَّحَتُّمِ، فإن تَقَدَّمَ أَخْذُ المال، واقتصَّ في العُضْوَيْنِ، سَقَطَ الحَدُّ. وإن تقدم قَطْعُ العُضْوَيْنِ، ثم أخذ المال، فلا يسقط بالقِصَاصِ حَدُّ قَطْعِ الطريق، بل تُقْطَعُ يَدُهُ اليسرى، ورِجْلُهُ اليمنى؛ لأن اليَدَ اليُمْنَى والرجل اليسرى مُسْتَحِقَّانِ بَالقِصَاصِ، وكأنه قطع الطريق، وليس له يَمِينٌ ولا رجل يُسْرَى. ولو قَطَعَ الرِّجْلَ اليسرى، واليَدَ اليمنى من إِنْسَانٍ، ولزمه القِصَاصُ فيهما، وقطع الطريق بما يوجب قَطْعَ اليَدِ اليمين، والرِّجْلِ اليسرى، فإنْ عَفَا مُسْتَحِقُّ القِصَاصِ، قطعت يَدُهُ اليمنى، ورِجْلُهُ اليسرى حَدًّا، وإلا اقتصَّ منه، ثم أمهِلَ [إلى] (¬6) الانْدِمَالِ، ثم يقام عليه الحَدُّ، وإن قَطَعَ اليَدَ اليمنى، والرجل اليسرى في قَطْعِ الطريق أيضًا، فإن قلنا بأن الجِرَاحَاتِ لا تحتمُ، وَعَفَا مُسْتَحِقُّ القصاص، أُقِيمَ عليَه الحَدُّ، وإن طلب القِصَاصَ وقلنا بالتَّحَتُّمِ، فيكون الحكم، كما لو قَطَعَ اليَدَ اليسرى، والرجل اليمنى لا في قَطْعِ الطريق. وقد بَانَ. ¬
قال الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثُ): إِذَا اجْتَمَعَتْ عُقُوبَاتٌ لِلآدَمِيِّينَ كَحَدِّ القَذْفِ والقَطْعِ والقَتْلِ وَطَلَبُوا جَمِيعًا جُلِدَ ثُمَّ قُطِعَ ثُمَّ قُتِلَ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقُّ القَتْلِ غَائِبًا لَمْ يُبَادَرْ إِلَى القَطْعِ بَعْدَ الجَلْدِ خَوْفاً مِنَ الْهَلاَكِ بِالْمُوَالاَةِ، وإنْ أَخَّرَ مُسْتَحِقُّ الطَّرَفِ حَقَّهُ اسْتَوْفَى الجَلْد وَتَعَذَّرَ القَتْلُ إِذْ فِيهِ تَفْوِيتُ القَطْعِ فَعَلَى مُسْتَحِقِّ القَتْلِ الصَّبْرُ أَبَدًا إِلَى أَنْ يَقْطَعَ مُسْتَحِقُّ الطَّرَفِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا اجْتَمَعَتْ على شَخْصٍ عُقُوبَاتُ الآدميين؛ كَحَدِّ القذف، والقطع قِصَاصًا [والقتل قصاصًا] (¬1) نظر [إن حَضَرَ] (¬2) المستحقُّون، وطَلَبُوا تَوْفِيَةَ حقوقهم جميعًا، جُلِدَ ثم قطع، ثم قتل، ويُبَادَرُ إلى القَتْلِ بعد القَطْعِ، ولا يُبَادَرُ إلى القطع بعد الجَلْدِ إن كان مُسْتَحِقُّ القَتْلِ غائبًا؛ لأنه قد يهلك بالمُوَالاَةِ، فيفوت قِصَاصُ النَّفْسِ، وتذهب النَّفْسُ هَدرًا، وإن كان حاضرًا وقال: لا تُؤَخِّرُوا القَطْعَ لي فإني أُبَادِرُ إلى القَتْلِ بعد القطع، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يُبَادر إليه؛ لأن التَّأْخِيرَ كان لحقه (¬3)، وقد رَضِيَ بالتقديم. وأظهرهما: المنع؛ خَوْفًا من أن تَهْلِكَ النفس بالمُوَالاَةِ. ورأى الإِمام تَخْصِيصَ الوجهين بما إذا خِيفَ مَوْتُهُ بالمُوَالاَةِ بحيث يَتَعَذَّرُ قِصَاصُ النفس لانْتِهَائِهِ إلى حَرَكَةِ المَذْبُوحِ، ورأى أن يقطع بالمُبَادَرَةِ إذا أمكن اسْتِيفَاءُ القِصَاص بعد القطع وإن لم يَجْتَمِعُوا على الطَّلَبِ، فإن أَخَّرَ مستحق النفس حَقَّهُ، جلد فإذا بَرِئَ قطع، وإن أَخَّرَ مُسْتَحِقُّ الطَّرَفِ حَقَّهُ، جُلِدَ، وَيَتَعَذَّرُ القَتْلُ بحق مُسْتَحِقِّ الطرف، فعلى مستحق النَّفْسِ الصَّبْرُ إلى أن يَسْتَوْفِي مُسْتَحِقُّ الطرف حَقَّهُ. قال في "الوسيط": ولو مُكِّنَ مُسْتَحِقُّ النَّفْسِ من القَتْلِ، وقيل لمستحق الطرف: بَادِرْ، وإلا ضَاعَ حَقُّكَ لفوات مَحِلِّهِ، لم يكن بعيدًا، ولو بَادَرَ مستحق النفس، وقَتَلَهُ كان مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ، ويرجع مُسْتَحِقُّ الطرف إلى الدية. واعلم أن تَقْدِيمَ القَطْعِ على القَتْلِ إذا حضر المُسْتَحِقَّانِ قد سبق ذِكْرُهُ في الكتاب في الطَّرَفِ الثاني في حُكْمِ القِصَاصِ الواجب، ورَوَيْنَا هناك عن مَالِكٍ أنه يكتفي بالقتل عن القَطْعِ. ويجوز أن يُعْلَمَ لذلك قَوْلُهُ هاهنا: "ثم قطع" بالميم. ولو أخر مُسْتَحِقُّ الجَلْدِ حَقَّهُ، فقياس ما سَبَقَ أن يَصْبِرَ الآخَرَانِ، وإذا اجتمع على وَاحِدٍ حُدُودُ قَذْفٍ لجماعة، فَيُحَدُّ لكِل واحد منهم حَدًّا، ولا يوالي بينها، بل إذا حُدَّ ¬
لِوَاحِدٍ أُمْهِلَ حتى يَبْرَأَ (¬1) جِلْدُهُ، ثم يُحَدُّ للآخر. هكذا أَوْرَدَهُ صاحب "التهذيب" وغيره، لكن قد مَرَّ في القِصَاصِ أنه يوالي في قَطْعِ الطرف قِصَاصًا، وقياسه أن يُوَالي بين الْحُدُودِ، وذكروا تَفْريعًا على الأَوَّلِ وَجْهَيْنِ في أنه لو وَجَبَ على العَبْدِ حَدّانِ [لقذف] (¬2) شخصين، هل يوالي بينهما؟ أصحهما: عند صاحب "التهذيب" المَنْعُ؛ لأنهما حَدّانِ. والثاني: يوالي؛ لأنهما جميعًا كَحَدٍّ يُقَامُ على الحُرِّ وقال الرُّوَيانِيُّ: هذا أَقْرَبُ إلى المَذْهَبِ، وأما ترتيب حُدُودِ القَذْفِ، فينبغي أن يُقَال: إن قذفهم على الترتيب حُدَّ الأول فالأول، وإن قَذَفَهُمْ بكلمة واحدة وقلنا بِتَعَدُّدِ الحد، وهو الأَصَحُّ فَيُقْرَعُ بينهم. قال الغَزَالِيُّ: (الرَّابِعُ): إِذَا اجْتَمَعَ حُدُود للهِ تَعَالَى كَحَدِّ الشُّرْبِ وَالقَذْفِ وَالزِّنَا وَقَطْعِ السَّرِقَةِ وَالقَتْلِ فَالْبِدَايَةُ بِالأَخَفِّ ثُمَّ يُمْهَلُ إِلَى الانْدِمَالِ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ القَتْلُ فَلاَ إِمْهَالَ، وَلَوِ اجْتَمَعَ حَدُّ القَذْفِ وَحَدُّ الشُّرْبِ قُدِّمَ حَدُّ القَذْفِ لِأَنَّه حَقُّ الآدَمِيِّ، وَعَلَى وَجْهٍ يُقَدَّمُ حَدُّ الشُّرْبِ لِأَنَّه أَخَفُّ، وَمَنْ زَنَى وَهُوَ بِكْرٌ ثُمَّ زَنَى وَهُوَ ثَيِّبٌ انْدَرَجَ جَلْدُهُ عَلَى الأَصَحِّ تَحْتَ الرَّجْمِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: إذا اجتمع على وَاحِدٍ حُدُودٌ لله -تعالى- بأن شَرِبَ (¬3) وَزَنَا، وهو بِكْرٌ وسرق، ولزمه القَتْلُ بالرِّدَّةِ، فيقدم الأَخَفُّ فالأَخَفُّ، ويجب رِعَايَةُ هذا الترتيب، والإِمْهَال؛ سَعْيًا في إقامة الجَمِيعِ، وَأَخَفُّهَا حَدُّ الشرب، فيقام [به] ثم يُمْهَلُ حتى يبرأ (¬4)، ثم يُجْلَدُ للزنا، ويُمْهَلُ، ثم يُقْطَعُ، فإذا لم يَبْقَ إلا القَتْلُ قُتِلَ، ولم يؤخّر. وفيما علق عن أبي بكر الطُّوسِيِّ وجه أنه إذا كان في العُقُوبَاتِ [قتل] (¬5) يوالي بينها، بلا إِمْهَالٍ، والمذهب المشهور الأَوَّلُ. وإن اجتمع معها أَخْذُ المَالِ في المُحَارَبَةِ، قطعت يَدُهُ ورجله بعد جَلْدِ (¬6) الزنا، وهل يوالي بين قَطْعِ اليدِ والرِّجْلِ، أو يؤخّر قطع الرجل إلى أن يَنْدَمِلَ قطع اليد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأن اليَدَ مَقْطُوعَةٌ عن السَّرِقَةِ، والرجل عن المُحَارَبَةِ، ولا مُوَالاَةَ بين الحَدَّيْنِ. ¬
وأصحهما -وهو المنصوص: نعم، كما لو لم يُوجَدْ إلا المُحَارَبَةُ، والقَطْعَانِ قد جعلا عن المُحَارَبَةِ إِدْرَاجًا لِقَطْعِ السرقة في قطع المُحَارَبَةِ، وقد نقول هذا عن السَّرِقَةِ، وهذا عن المُحَارَبَةِ، لكن العُضوَينِ مَقْطُوعَانِ، لو لم يوجد إلا المُحَارَبَةُ، فزيادة الجِنَايَةِ لا تمنع من المُوَالاَةِ. وإن اجتمعت عقوبات لله -تعالى- وللآدَمِيِّينَ، كما إِذَا انْضَمَّ حد القَذْفِ إلى هذه العقوبات، فَحَدُّ القذف يُقَدَّمُ على حَدِّ الزنا. نصَّ عليه، واختلفوا في أنه لِمَ يُقَدَّمُ؟ فعن أبي إِسْحَاقَ في جماعة أنه إنما يُقَدَّمُ؛ لأنه حَقُّ الآدمي، وحقوق الآدميين مَبْنِيَّةٌ على المُضَايَقَةِ، وهذا أَصَحُّ عند الأَئِمَةِ. وقال ابن أبي هريرة: إنما يُقَدَّمُ؛ لأنه أَخَفُّ، وفيما يقدم في حَدِّ القذف [والشرب] (¬1) وجهان بِنَاءً على المعنيينن إن قلنا [إن التقديم] (¬2) هناك؛ لأنه حَقُّ الآدمي، فيقدم حَدُّ القَذْفِ، وإن قلنا: لأنه أَخَفَّ، فيقدم حَدُّ الشرب، ويجريان في حَدِّ (¬3) الزنا، وقطع الطِّرَفِ قِصَاصًا، والإِمْهَالُ بعد كل عُقُوبَةٍ إلى الانْدِمَالِ على ما ذكرنا ولو كان القَتْلُ الوَاجِبُ بَدَلَ قتل الردة القَتْلُ قصاصًا، فالقول في الترتيب، والإِمْهَالِ، كذلك، وإذا اجتمع الرَّجْمُ للزنا، والقَتْلُ قِصَاصًا، ففي كتاب القاضي ابن كَجٍّ حِكَايَةُ وجهين. أحدهما: أنه يُقْتَلُ رَجْمًا بإذن الوَلِيِّ لَيَتَأَدَّى الحَقَّانِ. وأصحهما: أنه يسلم إلى الوَلِيِّ ليقتله قِصَاصًا. ولو كان القَتْلُ الواجب في المُحَارَبَةِ؛ فهل يجب التَّفْرِيقُ بين الحُدُودِ المُقَامَةِ قبل القَتْلِ؟ فيه وجهان: أحدهما -ويُنْسَبُ إلى أبي إِسْحَاقَ-: أنه لا يجب؛ لأنه مُتَحَتِّمُ القتل والإهلاك، فلا معنى للإمهال (¬4)، بخلاف قتل الرِّدَّةِ، فإنه يُتَوَقَّعُ عَوْدُهُ إلى الإِسلام، ويخالف القتل قِصَاصًا، فإنه يُتَوَقَّعُ العَفْوُ. وأصحهما: أنه يجب؛ لأنه قد يَمُوتُ بالمُوَالاَةِ، فتفوت سَائِرُ الحُدُودِ، فإذا اجتمع قَتْلُ المُحَارَبَةِ مع (¬5) قَتْلِ قِصَاصٍ لا في المُحَارَبَةِ، نظر في الأَسْبَقِ فإن كان القَتْلُ في المُحَارَبَةِ أَسْبَقَ، قتل حَدًّا، ويعدل للقتل الآخر إلى الدِّيَّةِ، وإن كان القَتْلُ الآخر سَبَقَ تخير الوَلِيُّ فيه، فإن عَفَا عنه، قُتِلَ وصُلِبَ لِلْمُحَارَبَةِ وإن اسْتَوَفَى القصاص فَيُعْدَلُ لِقَتْلِ المُحَارَبَةِ إلى الدِّيَةِ. وهل يصلب؟. ¬
فيه الخلاف المذكور فيما إذا مَاتَ المُحَارِبُ قبل أن يُقْتَلَ، ولو سَرَقَ، ثم قتل في المُحَارَبَةِ، فيقطع للسَّرِقَةِ، ويقتل لِلمُحَارَبَةِ، أو يقتصر على القتل والصَّلْبِ، ويدرج حَدِّ السرقة في حَدِّ المُحَارَبَةِ؟ حكى صاحب "الشَّامل" فيه وجهين. وعند أبي حَنِيْفَةَ: إن لم يكن في العُقُوبَاتِ قَتْلٌ، [فيبدأ] (¬1) بِحَدِّ القذف، ثم يَتَخَيَّرُ في الابتداء بِحَدِّ الزنا، والابتداء بالقَطْعِ، ثُمَّ يُحَدُّ للشرب، وإن كان معها قتل، قنع به، وسقطت سَائِرُ الحُدُودِ إلا حَدَّ القذف، فَيُحَدُّ للقذف، ثم يُقْتَلُ. ويجوز أن يُعْلَمَ لمذهبه قوله في الكتاب (¬2): "بالأخف" بالحاء. المسألة الثانية: من زَنَا وهو بِكْر مِرَارًا، حُدَّ لها حَدًّا وَاحِدًا، وكذا لو سَرَقَ [أو شرب] مِرَارًا، وكيف يُقَدَّرُ أتجب حُدُودٌ، ثم تسقط، وتَعُودُ إلى وَاحِدٍ، ولا يجب إلا وَاحِدٌ وتجعل (¬3) الزنيات كالحركات في الزَّنْيَةِ (¬4) الواحدة؟ ذكروا فيه احتمالين (¬5)، وأَيَّدُوا الثاني بأن مَهْرَ المِثْلِ في مُقَابَلَةِ جميع الوَطْئَاتِ المبنيات (¬6) على شُبْهَةٍ وَاحِدَةٍ، فالحد أَوْلَى بذلك. ¬
ولو زَنَا أَو شَرِبَ، فأقيم عليه الحَدُّ ثم زنا أو شرب [ثانيًا] (¬1) أقيم عليه [حدٌ آخر] (¬2)؛ فإن لم يبرأ (¬3) بَعْدُ من الأَوَّلِ أُمْهِلَ حتى يَبْرَأَ (¬4)، ولو أقيم عليه بَعْضُ الحَدِّ، ثم ارتكب [الجَرِيمَةَ] (¬5) ثانيًا، دخل الباقي في الحَدِّ الثاني، وإذا زَنَا فَجُلِدَ، ثم زنا قبل التَّغْرِيبِ، جُلِدَ ثانيًا، وكَفَاهُ تَغْرِيبُ وَاحِدٍ، ولو جلد خمسين، فزَنَا ثانيًا جُلِدَ مائة، وَغُرِّبَ، ودخل في المائة الخَمْسُونَ الباقية. ولو زنا وهو بِكْرٌ، ثم زَنَا قبل إِقَامَتِهِ الحَدَّ عليه، وقد أحصن (¬6)، فهل يكتفي بالرَّجْمِ ويدخل الجَلْدُ فيه، أو يجمع (¬7) بينهما؟ فيه وجهان: وجه الأَوَّل: أنها عُقُوبَةُ جَرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، فأشبه ما إذا كان بِكرًا عند الزَّنْيَتَيْنِ، وهذا أَصَحُّ عند الإِمام، وصاحب الكتاب. ووجه الثاني: أنهما عُقُوبَتَانِ مختلفتان، فلا تَدْخُلُ إحداهما في الأُخْرَى؛ كَحَدِّ الشُّرْبِ، وقَطْعِ السَّرِقَةِ، وهذا أَصَحُّ عند صاحب "التهذيب" وغيره، وعلى هذا فَيُجْلَدُ مائَةً، ويُغَرَّبُ عامًا، ثم يُرْجَمُ، أو يجلد [ويرجم] (¬8) ويكتفي بالرَّجْمِ عن التغريب؟ فيه وجهان: أظهرهما: الثاني. ولو زَنَا العَبْدُ، وعُتِقَ قبل إِقَامَةِ الحَدِّ عليه، فَزَنَا ثانيًا، فإن كان بِكْرًا، فيجلد مائة، ويُغَرَّبُ عامًا، ويدخل في حَدِّ الرِّقِّ (¬9)، فإن كان مُحْصَنًا، فيجلد خمسين، ثم يرجم. هكذا أطلق في "التهذيب"، ويشبه أن يكون على الخِلاَفِ المذكور فيما إذَا زَنَا، وهو بِكْرٌ، ثم زَنَا وهو ثَيِّبٌ. ولو زنا الذِّمِّيُّ المُحْصَنُ، ثم نقض العَهْدَ، واسترقّ، [فزنا ثانيًا] (¬10) ففي دُخُولِ الجَلْدِ في الرجم الوجهان المذكوران، فيما إذا زنا [وهو بكر ثم زنا] (¬11) وهو ثَيِّبٌ. قال في ""التهذيب": الأَصَّحُّ المَنْعُ، فيجلد أَوَّلًا خمسين لِزِنَاهُ بعد الاسْتِرْقَاقِ، ثم يرجم. وإن قلنا: إن العَبْدَ يُغَرَّبُ، فيكتفي بالرَّجْمِ عن التغريب، أو يغرب، ثم يُرْجَمُ فيه الخِلاَفُ الذي سَبَقَ [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: (الخَامِسُ) أَنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَلَوْ مِنَ الرُّفْقَةِ إِذَا لَمْ يُضِيفُوا فِي الشَّهَادَة الجِنَايَةَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنْ يَقُولُوا: أُخِذَ مَالُ رُفَقَائِنَا وَمَالِنَا. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: قَطْعُ الطريق يَثْبُتُ بشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، ولا يثبت بشهادة رَجُلٍ وامرأتين، ولا بد في الشَّهَادَةِ من التفصيل وتعيين (¬1) قَاطِعِ الطريق، ومن قتله أو أَخَذَ مَالَهُ، وتقاس صُوَرُهُ بما مَرَّ (¬2) في الشهادة على السَّرقة، ولو شهد اثْنَانِ من الرُّفْقَةِ، نظر إن لم يَتَعَرَّضَا [لِقَصْدِ] (¬3) المشهور عليه نفسًا ومالاً قبلت شَهَادَتُهُمَا، وليس على القاضي أن يَبْحَثَ عن حَالهما أَهُمَا من الرُّفْقَةِ أم لا؟ فإن بحث (¬4) فلهما ألاّ يجيبا (¬5)، وأن يقيما على الشَّهَادَةِ، وإن قالا: قطع هذا، أو هؤلاء علينا الطَّريق فأخذوا مَالَنَا، وَمَالَ رُفَقَائِنَا لم تقبل شهادتهما [في حق أنفسهما ولا في حق غيرهما] وهذا هو المشهور المذكور في الكتاب. وفي شرح القاضي ابن كَجٍّ أن أبا الحُسَيْنِ حَكَى عن بَعْضِ الأَصْحَابِ أن في قَبُولها في حَقِّ غيرهما قولين كالقَوْلَيْنِ فيمن شَهِدَ لنفسه وشَرِيكِهِ ترد شهادته لنفسه، وفي الشريك قولان، وكذا لو قَالَ الشَّاهدان [: إن] (¬6) فلانًا قَذَفَ أُمَّنَا فُلاَنَة، لا تقبل شَهَادَتُهُمَا في حَقِّ الأُمِّ، وفي الأجنبية قولان، وفَرَّقُوا على ظاهر المَذْهَبِ بأنهما بالشَّهَادَةِ على قَطْعِ الطريق أثبتا (¬7) أن العَدَاوَةَ بينهما وبين من شَهِدَ عليه بِشَهْرِ السِّلاَحِ عليهما، وقَصْدِهِ نَفْسَهُمَا وَمَالَهُمَا، وشهادة العَدُوِّ علي العَدُوِّ مَرْدُودَةٌ على الإطلاَقِ. وفي صُوَرَتَي القولين شهادته في حَقِّ نفسه، وفي حَقِّ الأُمِّ مَرْدُودَةٌ لِلتُّهْمَةِ، ولم تُوجَدِ التُّهْمَةُ بالإضافة إلى الأجنبي، فَبَعَّضْنَا الشَّهَادَةَ وقبلناها في حَقِّ الأجنبي على قول ونظير ما نحن فيه من القَذْفِ أن يقولا: قذفنا وفلانة لا تقبل شهادتهما أَصْلًا. وعن المَاسَرْجِسِيِّ وغيره أنه لو شَهِدَ اثْنَانِ بِوَصِيَّةٍ لهما فيها نصيب أو إِشْرَافٌ لم تقبل شَهَادَتُهُمَا بجميعها، وإن قالا: نشهد بها سوى ما يَتَعَلَّقُ بنا من المَالِ والإشراف قبلت شهادتهما. فرع: يحسمُ موضع القَطْعِ من يد قَاطِع الطريق ورجله، كما مَرَّ في السارق، ويجوز أن تُحْسَمَ اليَدُ، ثم تقطع الرَّجْلُ، وأنَّ يقطعا جميعًا ثم [يحسما] (¬8) آخر: في "الرقم" لِلعَبَّادِيِّ بِنَاء وُجُوبِ الكَفَّارَةِ عَلى قاطع الطريق، على أن قتله حَدٌّ مَحْضٌ (¬9)، أو يراعى فيه معنى القِصَاص، إن قلنا بالثاني، فعليه الكَفَّارَةُ (¬10). والله أعلم. [وهذا تَمَامُ الكلام في قَطْعِ الطريق] (¬11). ¬
(الجناية السابعة: الشرب)
قال الغَزَالِيُّ: (الجِنَايَةُ السَّابِعَةُ: الشُّرْبُ) وَالنَّظَرُ فِي المُوجِبِ وَالوَاجِبِ (أَمَّا المُوجِبُ) فَكُلُّ مُلْتَزِمٍ شَرِبَ ما أَسْكَرَ جِنْسُهُ مُخْتَارًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَعُذْرٍ لَزِمَهُ الحَدُّ، فَلاَ حَدَّ عَلَى الحَرْبِيِّ وَالمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ أَيْضًا لِأَنَّهُ لاَ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ، وَيَجِبُ عَلَى الحَنَفِيِّ إِذَا شَرِبَ النَّبِيذَ، وَقِيلَ: لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا، وَيَجِبُ لِشُرْبِ النَّبِيذِ المُسْكِرِ جِنْسُهُ وَإِنْ قَلَّ (ح)، وَلاَ يَجِبُ عَلَى المُكْرَهِ وَلاَ عَلَى مَنِ اضْطَرَّهُ العَطَشُ أَوْ إِسَاغَةُ لُقْمَةٍ إلَى شُرْبِ خَمْرٍ إِذْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، وَلاَ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِالخَمْرِ وَلَكِنْ يَسْقُطُ الحَدُّ بِهِ، ويَجُوزُ التَّدَاوِي بِالأَعْيَانِ النَّجسَةِ وَالمَعْجُونِ الَّذِي فِيهِ خَمْرٌ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى حَدِيثِ العَهْدِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ التَّحْرِيمَ، فَإِنْ عَلِمَ وَلَمْ يَعْلَمْ وُجُوبَ الحَدِّ حُدَّ، وَمَنْ شَرِبَهُ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ شَرَابٌ آخَرُ فَلاَ حَدَّ، وَلَو سَكِرَ فَهُوَ كَالمُغْمَى عَلَيْهِ، فَلاَ يَلْزمُهُ قَضَاءُ الصَّلاَة. قَالَ الرَّافِعِيُّ: شرب الخَمْرِ من كَبَائِرِ المُحَرَّمَاتِ. قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ ...} إلى آخر الآية [المائدة: 90]. واحتج له أيضًا بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ} [الأعراف: 33]. وقيل الإثْمُ: الخمر، واستشهد له بقول الشاعر: [الوافر] شَرِبْتُ الإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بِالعُقُولِ وهذا الاحتجاج مَذكُورٌ في تَعْلِيقِ الشيخ أبي حَامدٍ وغيره. وعن ابن عُمَر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ" (¬1) وعنه -أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَعَنَ اللهُ الخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا، [وَبَائِعَهَا] وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا وَالمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ" (¬2). وعن جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، [فَالفَرَقُ] مِنْهُ ¬
حَرَامٌ" (¬1) والفَرَقُ بفتح الراء مِكْيَالٌ يَسَعُ ستة عشر رَطْلاً. وعن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قال [في خُطبَتِهِ] (¬2): نَزَلَ (¬3) تَحْرِيمُ الخَمْرِ وهي من خمسة أشياء: العِنَبِ والتَّمْرِ والحِنْطَةِ والشَّعِيرِ والعَسَلِ (¬4). ثم قال الأصحاب: عَصِيرُ العِنَبِ الذي إذا اشْتَدَّ، وَقَذَفَ بالزَّبَدِ، فهو حَرَامٌ بالإجماع، وما يروى عن قُدَامَةَ بن مَظْعُوَنٍ، وعمرو بن مَعْدِ يَكرِبَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- في تحليله، فقد ثَبَتَ رجوعهما عنه، ولا فَرْقَ بين قَلِيلِهِ وكثيرِهِ [المُسْكِرِ،] (¬5) ويفسق شاربه، ويجب (¬6) عليه الحَدُّ، وإن اسْتَحَلَّهُ كَفَر، ولم يستحسن الإمَامُ إِطْلاَقَ القَوْلِ بتكفير المستحلّ، وقال: كيف يكفر من خَالَفَ الإجماع، ونحن لا نُكَفِّرُ من رَدَّ أصل الإِجْمَاعِ، وإنما نبدعه (¬7) ونُضَلِّلُهُ (¬8)، وأوَّل ما ذَكَرَهُ الأصحاب على ما إذا صدق المجتمعينَ على [أن] (¬9) التحريم ثابت (¬10) في الشَّرْع، ثم حلله، فإنه يكون رَادًا للشرع (¬11)، وهذا إن صَحَّ، فليجر مِثْلُهُ في سائر ما حَصَلَ الإِجْمَاعُ على افْتِرَاضِهِ، أو تحريمه فَنَفَاهُ. وعَصِيرُ الرُّطَبِ النَّيء كعصير (¬12) العِنَبِ النَّي كذلك ذَكَرَهُ صاحب "التهذيب" وطائفة. وحكى الرُّوَيانِيُّ ذلك عن بعضهم، واسْتَغْرَبَهُ، (¬13) ورأى كَوْنَهُ بِمَثَابَةِ سائر الأَشْرِبَةِ، وأما سائر الأَشْرِبَةِ فهي في التحريم، و [في] وجوب الحَدِّ عندنا كَعَصِيرِ العِنَبِ، لكن لا يكفر مُسْتَحِلُّهَا لمكان الخلاف (¬14) وساعدنا مَالِكٌ وأحمد على مذهبنا، ¬
وَذَكَرَ الأَصْحَابُ خِلاَفًا في أن اسْمَ الخَمْرِ هل يَتَنَاوَلُهَا، والأكثرون على المَنْعِ (¬1). وقال أبو حنيفة: الأَشْرِبَةُ أربعة أَضْرُبٍ: أحدها: النوع المُجْمَعُ على تَحْرِيمِهِ، وقد بَانَ حُكْمُهُ. والثَّاني: المَطْبُوخُ من عَصِيرِ العِنَبِ، فإن ذهب أَقَلُّ من ثلثيه (¬2)، فهو حَرَامٌ، لكن لا حَدَّ على شَارِبِهِ، إلا إذا سَكِرَ وإن ذهب ثُلُثَاهُ، فهو حَلاَلٌ إلا القَدْرَ المُسْكِرَ، فيحرم وَيتَعَلَّقُ به الحَدُّ. وإن طُبِخَ وهو عِنَبٌ، فالمشهور أنه حَلاَلٌ، وفي رواية: هو كطبيخ (¬3) عَصِيرِهِ. والثالث: نَقِيعُ التَّمْرِ والزَّبِيبِ إذا اشْتَدَّ، فهو حَرَامٌ، لكن لا حَدَّ فيه ما لم يُسْكِرْ، فإن طُبِخَ فهو حَلاَلٌ إلا القَدْرَ المسكر فيحرم، وَيتَعَلَّقُ به الحَدُّ، ولا يُعْتَبَرُ في هذا النوع ذَهَابُ الثلثين. والرابع: نَبِيذُ الحِنْطَةِ والشَّعِيرِ والعَسَلِ وغيرهما، فهو حَلاَلٌ نَقِيعًا كان، أو مَطْبُوخًا، ولا تَحْرِيمَ إلا في القَدْرِ المُسْكِرِ [منه] (¬4) ومن أصحابنا من يَرْوِي عن مذهبهم أنه لا حَدَّ فيه بِحَالٍ. لنا: ما سَبَقَ من الأخبار (¬5)، وأيضًا فإنها أَشْرِبَةٌ توقع العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ بين النَّاسِ، وتصدُّ عن ذِكْرِ الله -تعالى- وعن الصلاة، فيكون حُكْمُهَا حُكْم الخَمْرِ، وَيتَفَرَّعُ على التحريم النَّجاسَةُ، وامتناع البَيْعِ، وكل شراب حَكَمْنَا بتحريمه، نَجَّسْنَاهُ ومنعنا بَيْعَهُ. وعن أبي حَنِيْفَةَ: يجوز بَيْعُ مَا سِوَى الخَمْرِ، وإن حُكِمَ بالتحريم في بعض ذلك. وما لا يُسْكِرُ من الأَنْبِذَةِ لا يحرم، لكن يُكْرَهُ شُرْبُ المُنَصَّفِ، والخَليطَيْنِ لِوُرُودِ النَّهْيِ عنهما في الحديث. والمُنَصَّفُ ما عمل من تَمْرٍ ورُطَبٍ، وشَرَابُ الخليطين [ما عُمِلَ] من بُسْرٍ ورُطَبٍ وقيل (¬6): ما عُمِلَ من التَّمْرِ والزَّبيبِ، وسبب النهي أن الشدة (¬7) والإِسْكَارَ تَتَسَارَعُ إليه بِسَبَبِ الخَلْطِ (¬8) قبل أن يَتَغَيَّرَ الطَّعْمُ، فيظن (¬9) الشَّارِبُ أنه ليس ¬
بِمُسكِرٍ، وهو مُسْكِرٌ، وهذا كالنهي عن الظُّرُوفِ التي كانوا يَنْتَبِذُونَ (¬1) فيها كالدُّبَّاءِ (¬2)، وهو القَرْعُ، والحَنَاتِم وهي الجِرَارُ الخضرُ (¬3)، والنَّقِيرُ وهو أصل الجِذْعِ يُنقَرُ ويُتَخَّذُ منه الإِنَّاءُ، والمُزَفَّت، وهو المَطْلِيُّ بالزّفْتِ وهو القَارُّ، ويقال له: المُقَيَّرُ أيضًا، فإن هذه الظُّرُوفَ لا تَعَلُّقَ، ولا يضربها الهَوَاءُ، فقد [يَشْتَدُّ] (¬4) ما فيها ولا يطلع عليه؛ بخِلاَفِ الأَسْقِيَةِ (¬5) التي يضربها الهَوَاءُ [، وتُعَلَّقُ] (¬6). إذا عرفت ذلك، فَنَظَرُ الباب في طرفين: أحدهما: في الشُّرْبِ الموجب لِلْحَدِّ (¬7). والثاني: [في] (¬8) نفس الحَدِّ الواجب [أما] (¬9) النَّظَرُ الأول، فقد قال في الكتاب: "كل مُلْتَزِمٍ شَرِبَ ما أَسْكَرَ جِنْسُهُ، مختارًا من غير ضَرُورَةٍ وعُذْرٍ لزمه الحَدُّ" وفي هذا الضَّبْطِ قُيُودٌ: أحدها: كونه مُلْتَزِمًا، وأراد به الْتِزَامَ تَحْرِيم المشروب، واعْتِقَادَهُ، فلا حَدَّ على الحَرْبِيِّ، ولا على الصَّبِيِّ والمجنون، والظاهر أنَّه الذِّمِّيِّ لا يُحَدُّ لِشُرْبِ الخَمْرِ، وأن الحَنَفِيَّ يحدُّ بشرب النَّبِيذِ، وإن كان لا يعتقد تَحْرِيمَهُ، والقول في أَنَّ الذِّمِّيِّ لا يُحَدُّ للشرب، والحنفي يحدُّ قد سَبَقَ مَرَّةً في باب حَدِّ الزِّنَا، وهو مُكَرَّرٌ هاهنا، وأعاد وجوب (¬10) الحَدِّ على الحَنَفِيِّ مَرَّةً أخرى في "كتاب الشَّهَادَات" مع الكلام في أنه هل يَفْسُقُ بذلك، وتُرَدُّ شَهَادَتُهُ أم لا؟ ويجيء إيضاح شرح الفَصْلَينِ إقامة الحدود ورد الشهادة في "كتاب الشهادات" والله المُيَسِّرُ. والثاني: أن يشرب ما يُسْكِرُ جِنْسُهُ، فيخرج بلفظ الشُّرْبِ ما لو احْتَقَنَ (¬11) بالخمر، فلا يجب الحَدُّ، لأن الحَدَّ لِلزَّجْرِ، ولا حَاجَةَ إلى الزَّجْرِ فيه، وفي الاسْتِعَاطِ (¬12) وجهان: أشبههما -وهو المذكور في "الشامل"-: أنه الجَوَابَ كذلك. ¬
والثاني: يجب الحَدُّ، كما يحصل [بالإِقْطَارِ،] (¬1) ويقال: إنه يطرب كالشُّرْبِ. وفي كتاب القاضي ابْنِ كَجٍّ وغيره طَرْدُ الوجهين (¬2) في [الإِحْقَانِ،] (¬3) وَيتَعَلَّقُ بكون المَشْرُوبِ مُسْكِرًا في جِنْسِهِ صور: فمنها: أنه يدخل فيه النَّبِيذُ فيجبُ الحَدُّ بِشْرْبِ قليله وكَثِيرِهِ، وقد ذَكَرْنَاهُ مع خِلاَفِ أبي حنيفة -رحمه الله- وَيتَعَلَّقُ [الحَدُّ] (¬4) بدُرْديِّ الخمر، والثَّمِين منها إذا أَكَلَهُ (¬5) بخبز (¬6) وكذا لو ثَرَدَ فيها، وأكل الثَّرِيدَ (¬7)، وكذا لو طَبَخَ اللَّحْمِ بها، وأَكَلَ المَرَقَةَ، وإن أَكَلَ اللَّحْم، فلا حَدَّ؛ لأن عين الخمر (¬8) لم تَبْقَ فيه، وكذا لوَ عَجَنَ فيه الدَّقِيقَ، وخبز وأَكَلَ الخُبْزَ. وروى ابن كَجٍّ فيه وَجْهًا آخَرَ، وفي معنى هَذِهِ الصُّوَرِ المَعْجُونُ الذي فيه خَمْرٌ، والظاهر أنه لا حَدَّ فيها لاسْتِهْلاَكِهَا، وعلى هذا قال الإِمَامُ: من شَرِبَ كُوزَ (¬9) ماء وقعت فيه قَطَرَاتٌ من الخَمْرِ [، والمَاءُ غالب لِصِفَاتِهِ لم يحدَّ لاِسْتِهْلاَكِ الخَمْرِ فيه]. والثالث: كون الشَّارِبِ مُخْتَارًا، فلو أَوْجَرَ الخَمْرَ قَهْرًا، فلا حَدَّ عليه، وإن أُكْرِهَ حتى شرب، فكذلك الجَوَابُ على المشهور. وفي كتاب ابن كجّ حِكَايَةُ وجهين فيه. الرابع: ألاَّ يكون في الشرب ضَرُورَةٌ وقصد به التَّعَرض لمسألتين: إحداهما: هل يَجُوزُ شُرْبُ الخَمر لِدَفْعِ العَطَشِ إذا لم يَجِدْ غيرها؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كما يجوز شُرْبُ البَوْلِ والدَّمِ كذلك، ويروى هذا عن أبي حنيفة وهو المَذْكُورُ في الكتاب. والثاني: ويُنْسَبُ إلى مَالِكٍ وأحمد-: لا يجوز [لعموم النهي و] لأن بعضها يَدْعُو إلى بعض، ولأن الخَمْرَ لا تدفع العَطَشَ، بل تُثِيرُ عَطَشًا عَظِيمًا، وإن فُرِضَ تَسْكِينٌ في الحال. وهذا هو المَنْصُوصُ، وبه قال ابن أبي هُرَيْرَةَ، ورَجَّحَهُ أَكثَرُهُمْ، ولم يُورِدْ صاحب "التهذيب" وجَمَاعَةٌ سواه، والشرب لِدَفْعِ الجُوع، ولِدَفْعِ العَطَشِ. وعن بعض الأصحاب أنه لا يجوز لِدَفْعِ الجُوعِ، وإن جاز لدفع العَطَشِ؛ لأنها تحرق كَبِدَ الجَائِعِ، ¬
ومن جَوَزَ الشُّرْبَ لِدَفْعِ العَطَشِ، قال بوجوبه كَتَنَاوُلِ المَيتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، ونفي الحَدَّ. وإذا لم نُجَوِّزْهُ، فليكن الحَدُّ على ما سنذكر فيما إذا شَرِبَهُ لِلتَّدَاوِي، ولم نجوزه. الثانية: إذا غصَّ بِلُقْمَةٍ، ولم يجد ما يسيغُها سوى الخَمْرِ، فله بَلْ عليه الإِسَاغَةُ بها، ولا حَدَّ (¬1). وفيما علق عن الشيخ إبراهيم المَرْوَذِيِّ حكاية وجهين فيه، وقد يُوَجَّهُ المَنْعُ بِمُطلَقِ قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ". وفي التداوي بالخَمْرِ وجهان: أحدهما -وبه قال أبو حَنِيْفَةَ-: يجوز؛ لأنَّ المقصود رَفْعُ المَحْظُورِ، فأشبه ما إذا أُكْرِهَ على الشُّرْبِ، وما إذا شَرِبَ لإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ، ولأنه يجوز التَّدَاوِي بالأعيان النَّجِسَةِ كلحم الحَيَّةِ والسَّرَطَانِ والمَعْجُونِ الذي فيه خمر، وفكذلك التداوي بالخَمْرِ. والثاني -وبه قال مَالِكٌ، وابن أبي هُرَيْرَةَ-: لا يجوز؛ لأن النَّبِيَّ -عليه السلام- سُئِلَ عن التَّدَاوِي بالخَمْرِ، فقال: "إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيكُمْ" (¬2) ويروى أنه قال: "ذَلِكَ دَاءٌ وَلَيْسَ بِشِفَاءٍ" (¬3). وأيضًا فالخمر أُمُّ الخَبَائِثِ، وقليلُها يَدْعُو إلى كثيرها، ولا يؤمن أن يَتَوَلَّدَ منها ما هو شَرٌّ من العِلَّةِ. واختلفوا في حال الوَجْهَيْنِ في الشُّرْبِ للتَّدَاوِي، مع الوجهين في الشرب للعطش، فجعل بعضهم التَّدَاوِيَ أَوْلَى بالجِوَازِ، وقال: النفع منه مُتَوَقَّعٌ، وأما العَطَشُ، فإنه لا يدفعه، بل يزيده، ولهذا أجاب في "التهذيب" في الشُّرْبِ للعطش بالمنع وأورد في التَّدَاوِي وجهين، وذكر الرُّوَيانِيُّ أن الأظهر في العَطَشِ المَنْعُ، وفي التداوي الجَوَازُ، ¬
وعكس بعضهم، فجعل التَّدَاوِي أَوْلَى بالمنع، وادعى أن تَأْثِيرَهُ في إزالة العَطَشِ مَوْثُوقٌ به [في الحال]، وفي رفع العِلَّةِ غَيْرَ مَوْثُوقٍ به، فإن الطَّبِيبَ وإن تَبَحَّرَ لا يجزم بقضاء على مَرِيضٍ حتى قال بقراط: التجربة خَطَرٌ، والقضاء عَسِيرٌ، ولذلك قال الإِمام: يجوز الشُّرْبُ لدفع العَطَشِ في قول الأصحاب أجمعين. وقال في التَّدَاوي: قال الأَصْحَابُ: لا يجوز، وبَلَغَنَا عن آحَادٍ من المتأخرين تَشْبِيبٌ بجوازه من غير تَدْوِينٍ في تَصْنِيفٍ، وإنما تَرَامَزُوا به تَرَامُزَ الكَاتِمِينَ، ويوافق صَنِيعُ صاحب الكتاب هذه الطريقة، فإنه أجاب بِجَوَازِ الشُّرْبِ لِدَفْعِ العَطَشِ، ويمنعه للتداوي. ومن الأصحاب من لم يَتَعَرَّضْ للتَّرْتِيبِ، ورأى الأظهر فيها المنع، وعلى ذلك جَرَى الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ والمحاملي وابن كَجٍّ وغيرهم، ثم الخِلاَفُ في التَّدَاوِي مَخْصُوصٌ بالقَلِيلِ الذي لا يُسْكِرُ، كذلك ذَكَرَهُ صاحب "التهذيب" والرُّوَيَانِيُّ، ولاَ بُدَّ من خبر طَبِيبِ مُسْلِمٍ، ومن خِبْرَتُهُ في نفسه [أو معرفة المتداوي إن عرف] ويشترط ألا يجد ما يقوم مقامها، ويعتبر هَذَانِ الشَّرْطَانِ في تَنَاوُلِ سائر الأَعْيَانِ النَّجِسَةِ. ولو قال الطبيب: يَتَعَجَّلُ بِأَكْلِهَا الشِّفَاءَ، فوجهان: أولاهما: الجواز. ثم ذكر في الكِتَابِ أنه لا حَدَّ على المُتَدَاوِي، وإن حكمنا بأنه لا يَجْوزُ الشُّرْبُ للتَّدَاوِي، ويجعل قصد التداوي شُبْهَةً دارئة للحَدِّ للخلاف في حَلِّ (¬1) الشرب. ويُحْكَى هذا عن القَاضِي حسين وفي "النهاية" أن الأَئِمَّةَ المُعْتَبَرِينَ أَطْلَقُوا أَقوَالَهُمْ في الطرف أن التداوي بالخمر حَرَامٌ، وأن المتداوي بها محدود (¬2). والخامس: ألا يكون له في الشُّرْبِ عُذْرٌ، وفيه صورتان: إحداهما: حديث العَهْدِ بالإِسلام إذا ادّعى أنه لم يَعْلَمْ تَحْرِيمَ الخمر لم يُحَدَّ، وإن قال: علمت التحريم، ولم أعلم أن فيه حَدًا أُقِيمَ عليه الحَدُّ، لأنه إذا علم التَّحْرِيمَ، فَحَقُّهُ أن يمنع. والثانيةَ: إذا شَرِبَ الخَمْرُ، وهو يَظُنُّ أنه شَرِبَ ما ليس بِمُسكِرٍ في جِنْسِهِ، فلا حَدَّ عليه، وإن سَكِرَ وفَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ، لم يلزمه قَضَاؤُهَا، كالمغمى عليه، وإن عَلِمَ أنه من ¬
جِنْسِ ما يُسْكِرُ، ولكن ظَنَّ أن ذلك القَدْرَ لا يُسْكِرُ، فهذا ليس بعُذْرٍ، ويلزمه قَضَاءُ الصلوات الفائتة في السُّكْرِ. وأما لفظ الكتاب، فيجوز أن يُعْلَمَ قوله: "مُختَارًا" بالواو وقوله: "ولا يجب على الذِّمِّيِّ" كذلك؛ لأن في وُجُوبِ الحَدِّ على الذمي وَجْهًا للأصحاب على ما هو مُبَيَّنٌ في المَوْضِعِ المُحَالِ عليه، ولا حَاجَةَ إلى إعلام قوله: "ويجب على الحَنَفِيِّ" لأن الخِلاَفَ فيه قد ذكر [حيث] (¬1) قال: "وقيل: لا يجب عليهما". وقوله: "وإن قل" ليعلم بالحاء. وقوله: "ولا [يجب] على المُكْرِه" بالواو، وكذا قوله: "ولا على من اضْطَرَّهُ العَطَشُ". وقوله: "إذ يَجُوزُ" بالميم والألف والواو. وقوله: "ولا يجوز التَّدَاوي" بالحاء والواو. وقوله: "يسقط به الحد" بالواو، وكل ذلك لما سَبَقَ وجهه [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: وَلاَ يُحَدُّ مَا لَمْ يَظْهر المُوجِبُ لِلْقَاضِي بِشُرُوطِهِ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ إِقْرَارٍ، وَلاَ يُعَوَّلُ عَلَى النَّكْهَةِ وَالرَّائِحَةِ، وَيَكْفِي أَنْ يَقُولَ الشَّاهِدُ: شَرِبَ مُسْكِرًا أَوْ شَرِبَ مَا شَرِبَ غَيْرُهُ فَسَكِرَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إنما يُقَامُ حَدُّ الشرب إِذَا ظَهَرَ الشُّرْبُ بِأَحَدِ طرفين إما [إقرار الشارب] (¬2)، أو شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ فَصَاعِدًا، وفي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أبي حَامِدٍ إِلْحَاقُ طريق ثَالِثَةٍ بهما، وهو أن يعلم أنه شَرِبَ المُسْكِرَ بأن رأيناه شَرِبَ من شَرَابٍ في إِنَاءٍ شرب منه غَيْرُهُ فَسَكِرَ، وليكن هذا مَبْنِيًّا على أن القَاضِي هل يَقْضِي بِعِلْمِهِ، ولا يعوّلُ على [النَّكْهَةِ] (¬3)، وَوِجْدان [الرَّائِحة منها] (¬4)، ولا على مُشَاهَدَةِ سُكْرِهِ، ولا على تَقَيُّؤِ الخَمْرِ؛ لاحتمال كَوْنِهِ غَالِطًا، أو مُكْرَهًا ثم صِيغَةُ (¬5) المقرِّ في الإِقْرَارِ والشاهدين في الشَّهَادَةِ إن كانت مُفَصَّلَةً بأن قال: شَرِبْتُ الخَمْرَ، أو [شربت ما] (¬6) شرب منه غَيْرِي، فَسَكِرَ [منه] وأَنا عالم به مُخْتار، أو فَصَّل (¬7) الشَّاهِدُ كذلك لم يَخْفَ الحُكْمُ. وإن قال: شَرِبْتُ الخَمْرَ، أو ما شربه غَيْرِي، فَسَكِرَ منه، واقْتَصَرَ عليه، أو شهد [اثنان على] (¬8) أنه شَرِبَ الخَمْرَ من غير تَعَرُّضٍ لِلْعِلْمِ والاختيار، فعن رِوَايَةِ أبي الحُسَيْنِ ابن القَطَّانِ أن فيه وَجْهَيْنِ: ¬
أحدهما: أنه لا يكفي (¬1) لإِقَامَةِ الحَدِّ لاحتمال أنه جَهِلَ كَوْنَهُ مُسْكِرًا، أو أنه كان مُكْرَهًا عليه، وهذا كما أنه لاَ بُدَّ من التَّفْصِيلِ في شَهَادَةِ الزِّنَا، وبهذا قال القاضي أبو حَامِدٍ، واختاره إِمَامُ الحَرَمَيْنِ من غير أن ينقله عن الأَصْحَابِ. وأشهرهما -وهو ظَاهِرُ النَّصِّ-: أنه يكتفي به، ولا حَاجَةَ إلى التُّعَرُّضِ للعلم والاختيار، ووجه بأن إضافة الشُّرْبِ إليه قد حَصَلَتْ، والأصل عَدَمُ الإِكْرَاهِ، والغَالِبُ من حال الآكِلِ والشَّارِبِ العِلْمُ [بما] (¬2) يأكل، ويشرب، وصار كما في الإِقْرارِ بِالبَيْعِ والطَّلاَقِ والشهادة عليهما لا يُشْتَرَطُ فيهما التَّعَرُّضُ للاختيار والعلم، وفَرَّقُوا بَيْنُهُ وبين شَهَادَةِ الزنا؛ بأن الزِّنَا يعبر به (¬3) عن مُقَدِّمَاتِهِ، كما ورد في الخبر: "العَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَاليَدَانِ تَزْنيَانِ" (¬4) فاحْتِيج فيهما إلى الاحْتِيَاطِ. ومنهم من لم يُثْبِتِ الوَجْهَ الأَوَّلَ، وقطع بالثاني ولْيُعْلَمْ لما حَكَيْنَا قوله في الكتاب: "ويكفي أن يَقُولَ الشَّاهِدُ" بالواو. وعن أبي حَنِيْفَةَ: أنه لا بد وأن يُوجَدَ مع الإقرار أو البَيِّنَةِ رَائِحَةُ الخَمْرِ منه. وفي "أمالي" أبى الفرج (¬5) السَّرَخْسِيِّ أن عنده يُقَامُ عليه الحَدُّ إذا وُجدَتْ منه الرَّائِحَةُ، وإن لم تَقُمْ بَيِّنَةٌ، ولا إقرار، فإن صَحَّ ذلك أعلم قوله: "ولا يعوّل" (¬6) بالحاء. "فروع": ما يُزِيلُ العَقْل من غير الأَشْرِبَةِ كالبَنْجِ [حرام لكن] لا حَدَّ (¬7) في تَنَاوُلهِ؛ لأنه لا يَلذُّ ولا يَطْرَبُ، ولا يدعو قَلِيلَهُ إلى كَثِيرِهِ. ولو احْتِيجَ في قَطْعِ اليد المُتَآكِلَةِ -نَعُوذُ بالله منه- إلى أن يُزَالَ عَقْلُهُ، هل يجوز ذلك؟ خُرِّجَ على الخِلاَفِ في التَّدَاوِي بالخمر والنَّدُّ المَعْجُونُ بالخمرِ نَجِسٌ. قال في "الشامل": ولا يجوز بَيْعُهُ، وكان ينبغي أن يجعل كالثَّوْبِ النَّجِسِ لإمكان تَطْهِيرِهِ بالنَّقْعِ بالماء، ومن تبخر به هل ينجس؟ ذكر فيه وجهين؛ بِنَاءً على الخلاف في دُخَانِ النَّجَاسَاتِ. قال الغَزَالِيُّ: (النَّظَرُ الثَّاني في الوَاجِبِ) وَهُوَ أَرْبَعُونَ جَلْدَةً، وَلَوْ ضُرِبَ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ بالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ كفيَ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ، وَلَوْ رَأَى الإِمَامُ أن يُجْلَدَ ثَمَانِينَ جَازَ عَلَى الأَظْهَرِ، وَلاَ يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّمَانِينِ أَصْلاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: رَوَى الشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بإسناده [عن عبد الرحمن بن ¬
أَزْهَرَ] (¬1) [أنه] قال: أُتِيَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بشاربٍ، فقال (¬2): "اضْرِبُوهُ" فضربوه بالأَيْدِي والنِّعَالِ، وأطراف الثِّيَاب؛ وَحَثَوْا عليه التُّرَابَ حتى قال: "ارفعوا (¬3) " فرفعوا (¬4) ثم أرسله، فلما كان أبُو بَكَرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- سأل: من حضر ذلك الضَّرْبَ؟ فقومه أربعين ويروى: "فَقَدَّرُوه". فضرب أبو بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَرْبَعِينَ في الخمر [حَيَاتَهُ] (¬5) ثم عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ثم تَتَابَعَ النَّاسُ في الخَمْرِ، فاستشار (¬6)، فضربه ثمانين (¬7). وروي (¬8) أن عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- اسْتَشَارَ، فقال عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-[وَأَرْضَاهُ] (¬9): أرى أن يُجْلَدَ ثمانين؛ لأنه إذا شَرِبَ سَكِرَ، وإذا سَكِرَ هَذِيَ، وإذا هَذِيَ (¬10) افْتَرَى (¬11) [فَأَرَى عليه حَدَّ المُفْتَرِينَ] فَجَلَدَ عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ثَمَانِينَ إذا ¬
عرف ذلك، فَحَدُّ الشرب أَرْبَعُونَ على الحُرِّ، وعشرون على الرَّقيق. وعند أبي حَنِيْفَةَ ومالك: حَدُّ الشُّرْبِ ثَمَانُونَ، واخْتَارَهُ ابْنُ المُنْذِرِ. لنا: ما سبق، وأيضًا فقد رُوِيَ أنه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أمر حتى جُلِدَ الشَّارِبُ أربعين. وهل يجوز أن يُضْرَبَ بالأيدي، والنِّعَالِ، وأطراف الثِّيَابِ أم (¬1) يتعين الجَلْدُ بالسَّوْطِ؟ حَكَى الإِمَامُ وغيره فيه وجهين: أحدهما: أنه يَتَعَيَّنُ الجَلْدُ بالسِّيَاطِ؛ لأنه روي عن عُمَرَ وَعَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- الجَلْدُ بالسَّوْطِ، واسْتَقَرَّ الأَمْرُ عليه، فلا مَعْدَلَ عنه. وأصحهما: أنه يجوز؛ لأنه المَنْقُولُ عن عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ولم يَثْبُت فيه نَسْخٌ، والذين عَدَلُوا إلى السِّيَاطِ أَخَذُوا بالتَّعْدِيلِ والتقويم. ويروى عن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِشَارِبٍ فأمر عشرين رَجُلاً، فَضَرَبَهُ كُلُّ وَاحِدٍ منهم مَرَّتَيْنِ بالجَرِيدِ والنِّعَالِ (¬2). ومنهم من رَأَى الضَّرْبَ بالأَيْدِي والنِّعَالِ جائزًا لاَ مَحَالَةَ، وذكروا وجهين في أنه هل يَتَعَيَّنُ، أم يجوز العُدُولُ إلى السِّياطِ؟ هكذا حكاه صاحب "البَيَان" وظاهر المَذْهَبِ أن كُلاًّ منهما جَائِز؛ أما الأول، فلأنه الأَصْلُ، وبه وَرَدَتِ الأَخْبَارُ. وأما الثاني، فلفعل الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- واسْتِمْرَارِهِمْ عليه. ولو رأى الإِمَامُ أنه يزيد فيبلغ بها ثَمَانِينَ، ففيه وجهان: أصحهما: الجَوَازُ؛ لما رَوَيْنَا في القِصَّةِ، وعلى هذا فلو ضَرَبَهُ بين الأربعين والثمانين، فيجوز. والثاني: المَنْعُ؛ لما روي أن عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَجَعَ عن ذلك، وكان يَجْلِدُ في خِلاَفَتِهِ أربعين، وإذا جَوَّزْنَا للإمام أن يبلغ الضَّرَبَات ثَمَانِينَ، فالزيادة على الأربعين حَدٌّ أو تعزير؟ في "تعليق" إبراهيم المَرْوَذِيِّ حكايته وجهين [فيه] (¬3) عن أبي إِسْحَاقَ المَرْوَذِيّ: ¬
أحدهما: أنه حَدٌّ، لكن أَضْعَفُ من الأربعين الأُولَى، فهي ثابتة (¬1) بالسُّنَّةِ، وهذه باجتهاد الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-[ورأيهم] (¬2). وأظهرهما: عند أكثرهم أن الزِّيَادَةَ تَعْزِيزٌ؛ لأنها لو كانت حَدّاً، لما جاز (¬3) تَرْكُهَا، ويجوز أن يَتْرُكَهَا، ويقتصر على الأربعين. رُوِيَ عن عَليٍّ -رَضِيَ الله عَنْهُ- أنه قال: ضَرَبَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالنِّعَالِ، وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ، وضرب أبو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أربعين سَوْطاً. و [عن] عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ثَمَانِينَ، وَكُلُّ (¬4) سُنَّةٌ، واعترض على هذا الوَجْهِ بأن التَّعْزِيرَ لا يبلغ الحَدّ، فكيف يبلغ تَعْزِيرُ الشُّرْبِ مع حَدِّهِ أربعين. وأُجِيبَ عنه بأن الوَاجبَ للشرب هو الجَلْدُ، والتعزير للجنايات المُتَوَلِّدَةِ منه من الهَذَيَانِ والافْتِرَاءِ، ويجوز أَن يبلغ تَعْزِيرُ الجنايات المتعددة الحَدِّ، وهذا ليس بشَافٍ، فإن الجِنَايَةَ التي يعزر عليها لاَ بُدَّ من تَحَقُقِهَا، ولا معنى لِلتَّعْزِير بالجناية المُتَوَقَّعَةِ، ثم تلك الجنايات والخَبَائِثُ التي (¬5) تَتَوَلَّدُ من الخمر لا تَنْحَصِرُ، فلتجر الزيادة على الثمانين، وقد منعوا منه، وصَرَّحَ به صاحب الكِتَابِ. وفي قصة مراجعة الصحابة -رَضِيَ الله عَنهُم- وتبليغهم الضَّرَبَاتِ ثمانين أَلْفَاظٌ مُشْعِرَةٌ بأن الكُلَّ حَدٌّ، وعلى هذا فَحَدُّ الشُّرْب مَخْصُوصٌ من بين سَائِرِ الحدود، بأن يَتحَتم بعضه، [ويتعلّق بعضه] (¬6) باجتهاد الإِمام، [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: وَكَيْفِيةُ الجَلْدِ أَنْ يُضرَبَ بِسَوْطٍ مُعْتَدِلٍ أَوْ خَشَبَةٍ بَيْنَ القَضِيبِ وَالعَصَا بَيْنَ الرُّطوَيةِ وَاليُبُوسَةِ، وَلاَ يَرْفَعُ يَدَهُ فَوْقَ الرَّأْسِ حَتَّى لاَ يَشْتَدَّ الأَلَمُ، وَيُفَرِّقُهُ عَلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ إِلاَّ عَلَى الوَجْهِ، وَلاَ يَبْقى الرَّأْسُ (ح)، وَلاَ يَشُدُّ يَدَ المَجْلُودِ لِيَتَّقِيَ بِيَدِهِ، وَلاَ يَتلُ لِوَجْهِهِ، وَلاَ يُكَبُّ بَلْ يُجْلَدُ الرَّجُلْ قَائِماً وَالمَرْأَةُ جَالِسَةً وَثِيَابُهَا مَلْفُوفَة عَلَيْهَا، وَيُوَالِيَ بَيْنَ الضَّرْبِ، وَلاَ يُفَرَّقُ عَلَى الأَيَّامِ تَفْرِيقاً يَقَعُ اللَّاحِقُ بَعْدَ زَوَالِ أَلَمِ السَّابِقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مَقصُودُ الفصل الكَلامُ في كَيْفيَّةِ الجَلْدِ، ولا يَخْتَصُّ ذلك بِحَدِّ الشُّرْبِ، بل الحكمُ في جَلْدِ (¬7) الزنا والقَذْفِ [والشرب] وَاحِدٌ، وفيه صور: ¬
إحداها: [ليسكن] (¬1) الجَلْدُ بالسَّوْطِ، والسوطُ المعتاد مُعْتَدِلٌ في الحَجْمِ، وَاقِعٌ بين القَضِيبِ والعَصَا، وبه تُعْتَبَرُ سائر الخَشَبَاتِ، وما يعتبر من التوسط في الحجم، يعتبر في الصفات، فلا يَنْبَغِي أن يكون [رَطْباً] (¬2) طَرِيّاً؛ لأنه يثقله (¬3) بشق (¬4) الجِلْدِ، ويغوص في البَدَنِ (¬5)، ولا أن يكون في غايَةِ اليُبُوسَةِ (¬6)، فإنه لا يُؤْلمُ [لِخِفَّتِهِ،] (¬7) وأيضاً فيتشظّى. وقد رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يَجْلِدَ رجلاً، فأتي بسَوْطٍ خَلَقٍ، فقال: "فَوْقَ هَذَا" فأتي بسوط جَدِيدٍ. فقال: "بَيْنَ هَذَيْنِ" (¬8) وروي مِثْلُ ذلكَ عن عُمَر وَعَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُما-. وكذلك ينبغي أن يَضْرِبَ ضَرْباً بين ضربين، فلا يرفع الضَّارِبُ يَدَهُ فوق الرأس؛ بحيث تَبْدُو عَفْرَاءَ الإِبطِ، فإنه يَشْتَدُّ أَلَمُهُ، ولا يضع السَّوْطَ عليه وَضْعاً، فإنه لا يُؤْلِمُ، ولكن يرفع ذِرَاعَهُ ليَسْتَلِبَ السَّوْطُ ثِقَلاً. روي عن عَلِيٍّ -كَرمَ الله وَجْهَهُ- أنه قال: سَوْطٌ بين سَوْطَيْنِ، وضرب بين ضَرْبَيْنِ. وعن عمر وعلي وابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم-[أنهم] (¬9) قالوا لِلْجَلاَّدِ: لا ترفع يَدَكَ حتى يُدْمَى بَيَاضُ إِبِطِكَ. فإن كان المجلود رَقِيقَ الجِلْدِ يَرْمِى بالضَّرْبِ الخَفِيفِ، فلا يُبَالَى به. الثانية: يُفَرِّقُ السِّيَاطَ على الأَعْضَاءِ، ولا يجمع في مَوْضِع واحد، وَيَتَّقِي الوَجْهَ والمقَاتِلَ (¬10) كثُغْرَة النَّحْرِ والفَرْجِ، ونحوهما. روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال (¬11): "إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الوَجْهَ " وأيضاً فالوَجْهُ مَجْمَعُ المَحَاسِنِ، وَأَثَرُ الشَّيْنِ (¬12) فيه يَعْظُمُ. ¬
ويروى أن عَلِيّاً -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال للجلاَّدِ: "أَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّه، واتَّقِ الوَجْهَ والمَذَاكِيرَ". وفي الرَّأْسِ وجهان: أحدهما: أنه يتقي (¬1) أيضاً، وبه قال أبو حَنِيْفَةَ، واختاره المَاسَرْجِسِيُّ، وابن الصَّبَّاغِ، والروياني؛ لأنه [مَقْتَلٌ، و] (¬2) يخاف منه العَمَى. وأظهرهما: عند أكثرهم -وهو المذكور في الكتاب: المَنْعُ، لما رُوِيَ عن أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قال للجلاَّدِ: "اضْرِبِ الرَّأْسِ، فإن الشَّيْطَانَ فيه. ويخالف الوَجْهَ فإنه مَسْتُورٌ بالشَّعَرِ، وغيره غالباً، فلا يُخَافُ من ضربه ما يُخَافُ من ضرب الوَجْهِ. الثالثة: لا تُشَدُّ يَدُ المجلود (¬3)، بل تُتْرَكُ يَدَاهُ مُطْلَقَتَيْن حتى يَتَّقِيَ بهما ولا يُثَلُّ الوَجْهَيْنِ، ولا يُمَدُّ، ولا يُجَرَّدُ عن الثياب، بل يُتْرَك عليه قَمِيصٌ أو قَمِيصَانِ، ولا يترك عليه ما يمنع الأَلَمَ من جُبَّةٍ مَحْشُوَّةٍ، أو فَرْوَةٍ. ويجلد الرَّجُلُ قَائِماً، والمرأة جَالِسَةً، فإنه أَسْتَرُ لها، وتُلَفُّ، أو تُرْبَطُ عليها ثيابها لئلا تَنْكَشِفَ عند الضَّرْب، وَيلِي كَفَّ الثوب عليها امْرَأَةٌ، وأما الجَلْدُ فليس من شَأْنِ النساء [فَيَتَولاَّهُ رَجُلٌ]. الرابعة: يُوَالِي بين الضَّرَبَاتِ، ولا يجوز أن يُفَرِّقَ على الأيَّامِ، فَيضْرِبُ كل يوم سَوْطاً، أو سَوْطَيْنِ؛ لأنه لا يَحْصُلُ به تَنْكِيلٌ، ولا إِيلاَمٌ، ويخالف ما لو حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ فلاناً كذا كذا سَوْطاً، فَفَرَّقَهُ على الأيام، حيث يَبرُّ في يمينه؛ لأن المتبع (¬4) هناك مُوجِبُ اللفظ، وفي الحدود والتَّكَالِيفِ يُرَاعَى المَقَاصِد، ولا شك أن (¬5) المقصود من الحَدَّ الزَّجْرُ والتَّنْكِيلُ. ولو جُلِدَ في حَدِّ الزنا في يوم خَمْسِينَ وَلاَءَ، وفي يوم [بعده] (¬6) خمسين كذلك، أَجْزَأَ عن الحَدِّ، وبم يضبط ما يجوز من (¬7) التَّفْرِيقِ، وما لا يجوز. قال الإِمَامُ: إن كان التَّفْرِيقُ بحيث لا يَحْصُل من كل دفعة أَلَمٌ له وقع كَسَوْطٍ، وسَوْطَيْنِ في كل يوم، فهذا ليس بحَدٍّ، وإن كان يُؤْلِمُ ويُؤَثَّرُ بما له وَقْعٌ، فإن لَم يَتَخَلَّلْ من الزَّمَانِ ما يزول به الألم (¬8) [الأول] (¬9) اعتدَّ به، وإن تَخَلَّلَ، ففيه تَرَدُّدٌ؛ ظَاهِرُ كَلاَمِ القاضي الاعْتِدَادُ به والأوجه [والأظهر] المَنْعُ؛ لأن المُوَالاَةَ لو عدلت بالأَسْوَاطِ لَبَلَغَ أَثَرُهَا عَدَداً منها صَالِحاً، ففي تَرْكِ المُوَالاَةِ إِسْقَاطُ جُزْءٍ من الحَدِّ، وهذا ما أراد بقوله في الكتاب: "تَفْرِيقاً يقع اللاَّحِقُ بعد زوال ألم السابق". ¬
فرع
" فرع" لا يقام حَدُّ الشرب فى السكر، بل يُؤَخَّرُ إلى أن يُفِيقَ (¬1). "آخر" قال: لا تقام الحُدُودُ في المَسَاجِدِ، وتروى هذه اللفظة عن رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- في رواية ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- ولأنه يحتمل (¬2) أن يَتَلَوَّثَ المسجد من جِرَاحَةٍ تَحْدُثُ (¬3)، ويسقط الفَرْضُ لو أُقِيمَتْ، كما لو صلى في مكان مَغْصُوبٍ (¬4)، وكما لا يُجْلَدُ حَدّاً في المسجد، لا يجلد تَعْزِيرًا (¬5). قال الغَزَالِيُّ: هَذِهِ هِيَ الجِنَايَات المُوجِبَةُ لِلحَدِّ، وَمَا عَدَاهَا وَمُقَدِّمَاتُهَا فَيُوجِبُ التَّعْزِيرَ (والنَّظَرُ فِي التَّعْزِيرِ) فِي قَدْرِهِ وَمُوجِبِهِ وَمُسْتَوْفِيهِ (أَمَّا مُوجِبُهُ) فَهُوَ كُلُّ مَا يَعْصِي بِهِ العَبْدُ رَبَّهُ مِنْ جِنَايَةٍ عَلَى حَقِّ اللهِ تَعَالَى أَوْ حَقِّ الآدَمِيِّ (أَمَّا قَدْرُهُ) فَلاَ يَتَقَدَّرُ أَقَلُّهُ وَأكْثَرُهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُحَطُّ عَنْ عِشْرِينَ جَلْدَةَ وَهُوَ أَقَلُّ مَا يَجِبُ فِي الحُدُودِ وَهُوَ حَدُّ شُرْبِ العَبْدِ، وَقِيلَ: بَل تَعْزِيرُ الحُرِّ إِنَّمَا يُحَطُّ عَنْ حَدِّهِ وَهُوَ الأرْبَعُونَ، وَقِيلَ: تَعْزِيرُ مُقَدِّمَاتِ الزِّنَا إِنَّمَا يُحَطُّ عَنْ حَدِّ الزِّنَا لاَ عَنْ حَدِّ الشُّرْبِ وَالقَذْفِ، وَقِيلَ: لاَ يُزَادُ عَلَى عَشْرَةٍ لِوُرُودِ خَبَرٍ فِيهِ صَحَّحَهُ بَعْضُ الأَئِمَّةِ، وَلاَ يَجُوزُ أن يُقْتَلُ في التَّعْزِيرِ وَالاسْتِصْلاَح. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فَرَغنَا بتَيْسِيرِ الله وعَوْنِهِ من الكَلاَم في الحُدُودِ، والغَرَضُ الآن القول في التَّعْزِيرِ (¬6)، وَهو مَشْرُوعٌ في كُلِّ معصية ليس فيهَا حَدٌّ، وَلاَ كَفَّارةٌ، سواء كانت من ¬
مُقَدمَاتِ ما فيه [حد] (¬1) كَمُبَاشَرَةِ الأجنبيّة فيما دون (¬2) الفَرْجِ، وسَرِقَةِ ما دون النِّصَابِ، ¬
والسرقة من غير [الحِرْزِ، والسَّبِّ،] (¬1) والإِيذَاءِ بما ليس بِقَذْفٍ، أو لم يكن من مُقَدِّمَاتِهِ كَشَهَادَةِ الزُّورِ، والضَّرْبِ غير حَقِّ، والتَّزْوِيرِ، وسائر المعاصي. روي التَّعْزِيرُ عَن فِعْلِ النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي خبر سَرِقَةِ التمر فإذا آوَاهُ "الجَرِين" (¬2) وبلغت قِيمَتُهُ ثَمَنَ المِحْجَنِ، ففيه القَطْعُ، وإن كان دون ذلك، ففيه غُرْمُ مِثْلِهِ، وجلدات نَكَالاً. وَعَّزَر (¬3) عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَن زَوَّرَ كِتَاباً. وعن علي -كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ- أنه سُئِلَ عن قول الرجل [لرجل] (¬4) يا [فاسق] (¬5) يا خبيث؟ فقال: هي فَوَاحِشُ فيهن تَعْزِيرٌ، وليس فيهن حَدٌّ. وشرعية التعزير (¬6) تَشْمَلُ المَعْصِيَةَ التي تَتَعَلَّقُ بحَقِّ الآدَمِيِّ، والتي تَتَمَحَّضُ حقاً الله -تعالى- والنظر بعد هذا في ثَلاَثَةِ فصول: أحدها: في نفسَ التَّعْزِيرِ، أما جِنْسُهُ من (¬7) الحبس أو الضرب جَلْداً أو صَفْعاً، فهو إلى رَأْي الإِمام، فيجتهَد، ويعمل ما يَرَاهُ من الجَمْع بينهما والاقتصار على أَحَدِهِمَا، وله أن (¬8) يَقْنَعَ بالتَبكيتِ (¬9) وَالتَّوْبِيخِ باللسان على تَفْصِيلَ يأتي من بَعْدُ إن شاء الله تعالى. وفي "النهاية" أَنَّ الأصحاب قالوا: عليه أن يُرَاعِي التَّرْتِيبَ والتدريج كما يُرَاعِيهِ والدَّافع للصائل فلا يَتَرَقِّى إلى مَرْتَبَةٍ (¬10)، وهو يَرَى ما دونها كَافِياً مُؤَثِّراً. وأما قَدْرُهُ، فيتعلقِ باجتهاده أيضاً إن خالف جِنْسُهُ (¬11) جِنْسَ الحَدِّ، كالحبس، وإن ¬
رأى الجَلْدَ فلا بد وأن يَنْقُصَ عن الحَدِّ، كما تَنْقُصُ الحُكُومَةُ عن الدِّيَّةِ، والرَّضْخُ عن السَّهْمِ. ثم هل يُفَرَّقُ بين مَعْصِيَةٍ ومعصية؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، وتُقَاسُ كُلُّ معصية بما يُنَاسِبُهَا في الجِنَايَةِ الموجبة للحدود، فَتَعْزِيرُ مُقَدِّمَاتِ الزِّنَا والوَطْءِ الحَرَامِ الذي لا يُوجِبُ الحَدَّ يَنْقُصُ عن حَدِّ الزنا، لاَ عَنْ حَدِّ القَذْفِ والشرب، وتعزير الإيذاء (¬1) والسَّبِّ بما ليس بِقَذْفٍ يَنْقُصُ عن حَدِّ القَذْفِ، لا عن حد الشرب، وتعزير إِدَارَةِ كَأْسِ المَاءِ على الشُّرْب، تَشْبِيهاً بشاربي الخَمْرِ يَنْقُصُ عن حد الشرب، اعتباراً لكل [نوع بغاية الزَّاجِرِ] (¬2) المشَروع في جِنْسِهِ، وقرب هذا من قولنا: إن حُكُومَةَ الجِنَايَةِ الواردة على عُضْوٍ تُعْتَبَرُ بِأَرْشِ ذلك العضو، وبهذا الوجه قال القَفَّالُ، واختاره القاضي الرُّوَيانِيُّ في "الحلية". وذكر الإِمام تفريعاً عليه أن تَعْزِيرَ مقدمات السَّرِقَةِ يعتبر بأغلظ حُدُودِ الجَلْدِ، وهو (¬3) حد الزنا؛ لأن القَطْعَ أَبْلَغُ من مائة جَلْدَةٍ، وأن تعزير الحُرِّ يعتبر بِحَدِّهِ، وتعزير العبد يُعْتَبَرُ بِحَدِّهِ؛ لأن اعتبار حال المُعَزَّرين أَوْلَى من اعتبار تَنَاسُبِ الجِنَايَتَيْنِ. هذا أَحَدُ الوجهين وتفريعه. والثاني: وهو الأظهر عند أكثرهم -أنه لا فَرْقَ بين مَعْصِيَةٍ ومعصية، [ويلحقُ] (¬4) ما هو من مُقَدِّمَاتِ مُوجِبَاتِ الحد، وربما ليس من مُقَدِّمَاتَها. وعلى هذا وجهان: أحدهما -وبه قال أبو عَلِيٍّ بْنُ أبي هُرَيْرَةَ والطبري: أنه (¬5) لا يُزَادُ التَّعزيرُ على عَشْرِ جَلَدَاتٍ لما رُوِيَ عن أبي بُرْدَةَ بن نِيَارٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (¬6): "لاَ يُجْلَدُ فَوْقَ العَشْرِ إِلاَّ في حَدٍّ" وبهذا قال صاحب "التقريب". وقال: الحديث صَحِيحٌ. وقد اشتهر عن الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قال: مَذْهَبِي ما صَحَّ به الحديثُ. وأظهرهما: أنه تجوز الزِّيَادَةُ على العَشْرِ، وإنما المَرعِيُّ النُّقْصَانُ عن الحَدِّ، والخبر على ما ذكر بَعْضُهُمْ أنه مَنْسُوخٌ، واحتجَّ بِعَمَلِ الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- بخلافه من غير إنْكَارٍ. ¬
وعن عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه كتب إلى أبي (¬1) مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ألا يَبْلُغَ بِنَكَالٍ [أكْثَرَ] (¬2) من عشرين سَوْطاً -ويروى ثَلاَثِينَ إلى الأربعين وعلى هذا فالمُعْتَبَرُ أولى الحُدُودِ في حَدِّ المُعَزَّرِ، أو في الحدود على الإطلاق؟ فيه وجهان: ظاهر النَّصِّ- وهو الذي رَجَّحَهُ عَامَّةُ الأصحاب: أنه يعتبر الأدنى في حق المُعَزَّرِ، فلا يُزَادُ تَعْزِيزُ الحر على تِسْع وثلاثين جَلْدَةً ليكون دون حَدِّ الشُّرْبِ، وهو أربعون، ولا [يزيد] تَعْزِير العبد على تسع عشرة وَيتَفَاوَتَانِ في غاية التَّعْزِيرِ، كما تَفَاوَتَا في غاية الحَدِّ. والثاني: أنه يعتبر أَدْنَى الحُدُودِ على الإطلاق، حتى لا يُزَادَ تَعْزِيرُ الحر على تسع عشرة أيضاً. وفي التهذيب وجه ثالث: وهو أن الاعتبار بحد الأَحْرَارِ، فلا يَبْلُغ حَدُّ الحر، ولا العَبْدِ أربعين، ويَجُوزُ ما دُون ذلك وعند مَالِكٍ: لا حَدَّ للتعزير، بل للإمام أن يَضْرِبَ كما شَاءَ وإن جاوز الحَدَّ، بل جَوَّزَ القَتْلَ لِلتَّعْزِيرِ والاسْتِصْلاحِ، ووجه المذهب ظاهر، وليكن التَّعْزِيرُ بِسَوْطٍ بين سَوْطَيْنِ، وضرب بين ضربين، كما في الحَدِّ. وعن أبي حَنِيْفَةَ: أنه يَجْعَلُ ضَرْبَ التعزير أَشَدَّ، وفي الحُدُودِ ضرب الزنا أَشَدَّ، ثم حد الشرب، ثم حَدّ القَذْفِ. وقوله في الكتاب: "فيوجب التَّعْزِير" أي: يَقْتَضِيهِ، ويثبته، ولا ينبغي أن يُحْمَلَ على الوجوب بمعنى اللُّزُومِ، ففي تَرْكِ أصل التَّعْزِيرِ كَلاَمٌ سيأتي إن شاء الله تعالى. وعلى هذا يُحْمَلُ قوله: "أما موجبه" بعد قوله: "والنظر في مُوجِبهِ وقَدْرِهِ ومُسْتَوْفيه" وقوله بعد ذلك: "وأما أصل الوجوب" يُشِيرُ إلى ما ذكر في "الوسيط"، وهو أن النَّظَرَ في المُوجِبِ، والمُسْتَوْفي، والقَدْرِ، وأَصْلِ الوجوب، فحذف بعض التَّرْجَمَةِ. واعلم أن في قوله: "وما عداها ومقدماتها، فيوجب التَّعْزِيرَ" فيه غُنْيَةٌ عن قوله: "وأما مُوجِبه ... " إلى آخره؛ لأن المقصود ما عَدَا الجِنَايَاتِ الموجبة للحد، وهي التي أَرَادَهَا بقوله: "فهو كُلُّ ما يعصي به العَبْدُ رَبَّهُ ... " إلى آخره ويجوز أن يُعْلَمَ قوله: "يحطُّ عن عشرين جَلْدَةً" بالميم، وكذلك الحُكْمُ في سائر الوجوه؛ لما ذكرنا أن عند مَالِكٍ -رحمه الله- لا حَدَّ لأكثره، وكذلك قوله: "ولا يَجُوزُ أن يقتل ... ". قال الغَزَالِيُّ: (وَأَمَّا المُسْتَوْفِي) فَهُوَ الإِمَامُ والأَبُ وَالسَّيِّدُ وَالزَّوْجُ لَكِنَّ الأَبَ يُؤَدِّبُ الصَّغِيرَ دُونَ الكبِيرِ، وَمُعَلِّمُهُ أَيْضاً يُؤَدِّب بِإِذْنِهِ، والزَّوْجُ يُعَزِّرُ عَلَى النُّشُوزِ، وَالسَّيِّدُ يُعَزِّرُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى وَالزَّوْجُ لاَ يُعَزَّرُ إلاَّ في النُّشُوزِ، وَالتَّعْزِيرُ جَائِزٌ بِشَرْطِ سَلاَمَة العَاقِبَةِ، فَإنْ سَرَى ضَمِنَ عَاقِلَةُ المُعَزِّر بخِلاَفِ الحَدِّ، فَلَوْ كَانَتِ المَرْأَة لاَ تَتْرُكُ النُّشُوزَ إِلاَّ بِضَرْبٍ مَخُوفٍ لَمْ نَجزُ تَعْزِيرُهَا أَصْلاً. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: من الأَصْحَابِ من يُخَصِّصُ لفظ التَّعْزِيرِ [بضرب] (¬1) الإِمام، أو نَائِبِهِ لِلتَّأْدِيبِ في غير الحُدُودِ، ويُسَمِّي ضَرْبَ الزوج زَوْجَتَهُ، والمُعَلِّمُ الصَّبِّيَّ تَأْدِيباً لا تعزيراً. ومنهم من يُطلِقُ اسْمَ التَّعْزِيرِ على ضَرْبِهِمْ جميعاً، وهو أشهر الاصْطِلاَحَيْنِ، والفصل يشتمل على مسألتين: إحداهما: مُسْتَوْفِي التعزير على الاصطلاح. وهو الإِمام والأب والسَّيِّدُ والزَّوْجُ. أما الإِمام فله بالوِلاَيَةِ العامة إِقَامَةُ العقوبات حَدّاً وَتَعْزيراً، والأب يُؤَدِّبُ الصغير تَعْلِيماً وزَجْراً عن سَيئِ الأَخْلاَقِ، وكذلك يؤدّب المَعْتُوهُ (¬2) بما يَضْبِطُهُ، ويُشْبِهُ أن تكون الأم ومَنِ الصَّبِي في كَفَالَتِهِ، كذلك، كما ذكرنا في تَعْلِيمِ أحكام الطهارة والصلاة، والأمر بها، والضَّرْب عليها أن الأمَّهَاتِ كالآبَاءِ. والمُعَلِّمُ يؤدب الصَّبِيَّ بإذن الوَلِيِّ، ونِيَابَته، والزَّوْجُ يُعزِّرُ زَوْجَتَهُ في النُّشُوزِ، وما يتعلَّق بحقه قال [الله] تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] ولا يُعَزِّرُهَا فيما يَتَعَلَّقُ بحق الله -تعالى-. والسيد يُعَزِّرُ في حَقِّ نَفْسِهِ مَمْلُوكَهُ، فإن مِلْكَهُ وسَلْطَنَتَهُ فوق سَلْطَنَةِ الزَّوْجِ على زَوْجِتِهِ، وهل يُعَزِّرُ في حق الله تعالى؟ فيه وجهان، سَبَقَ ذِكْرُهُمَا في باب الزنا، والأظهر أنه يُعَزِّرُ، وبه أجاب في الكتاب هاهنا، وفي ذلك الباب. الثانية: إذا أَفْضَى التَّعْزيرُ إلى الهَلاَكِ، وجب الضَّمَان على عَاقِلَةِ المعَزِّرِ؛ لأن المُعَزِّرَ مَأْمُورٌ أن يُؤَدِّبَ على شرط السَّلاَمَةِ، فإن المقصود التَّأْدِيبُ، دون الهلاك، فإذا ضرب وعنده أنه مُقْتَصِدٌ فحصل الهَلاَكُ بَانَ أنه جاوز الحَدَّ المَشْرُوعَ، وكان قَتْلُهُ شَبْه عَمْدٍ، فيجب الضَّمَانُ على عَاقِلَتِهِ، وإن كان الإسْرَافُ ظاهراً، وضربه بما يُقْصَدُ به القَتْلُ غالباً، فالذي أتى به عَمْدٌ مَحْضٌ -هكذا وَجَّهَ الإمَامُ. وحكى [عن] (¬3) المحققين بنَاءً على هذه القاعدة أن المُعَزِّرَ إذا عَلِمَ أن التَّأْدِيبَ لا يَحْصُلُ إلا بالضَّرْب المُبَرِّحِ، لم يكن له الضرب [لا المُبَرِّحُ] (¬4) ولا غَيْرُهُ، أما المُبَرِّحُ، فلأنه مُهْلِكٌ، وليس له الإهْلاَكُ. وأما غيره، فلأنه غير مُفِيدٍ، وإلى هذا يَرْجِعُ قوله في الكتاب: "فلو كانت المَرْأَةُ لا تترك النُّشُوز ... " إلى آخره. والذي أَطْلَقَهُ الإِمام يَقْتِضِي أن يكون ذِكْرُ الزوج جَارِياً على سبيل المِثَالِ، وسائر المُعَزِّرين في معناه، ويشبه أن يُبْنَى الأَمْرُ في حَقِّ الإِمام على أن أَصْلَ التعزير هل هو واجب عليه؟ ¬
وسيأتي إن شاء الله -تعالى- إن أَوْجَبْنَاهُ الْتَحَقَ بالحَدِّ، وحينئذ فَيُشبِهُ أن يقال: يَضْرِبُهُ ضَرْباً [غير] (¬1) مُبَرِّحِ إِقَامَةً لصورة الوَاجِبِ، وإن لم يفد التَّأْدِيب. ويجوز أن يُعْلَمَ قوله في الكتاب: فإن سَرَى ضَمِنَ عَاقِلَةُ المُعَزَّر بالحاء والميم والواو؛ لما سنذكر في أول كتاب مُوجِبَاتِ الضَّمَانِ، فإن المسألة مُعَادَةٌ هناك. قال الغَزَالِيُّ: وَأَمَّا أَصْلُ الوُجُوبِ فَهُوَ إِلَى رَأْيِ الإِمَامِ وَقَدْ يَرَى الصَّوَابَ في العَفْوِ وَالاقْتِصَارِ عَلَى التَّوْبِيخِ بِالكلام فَلَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا فِي حَقِّ الآدَمِيِّ فَلَيْسَ لَه الإِهْمَال مَعَ الطَّلَبِ وَلَكِنْ هَلْ يَجُوزُ لَهُ الاقْتِصَارُ عَلَى التَّوْبِيخِ بِاللِّسَانِ دُونَ الضَّرْبِ؟ فيه وَجْهَانِ، وَلَوْ عَفَا المُسْتَحِقُّ لِلعُقُوبَةِ فَهَلْ للإمَامِ التَّعْزِيرُ لِحَقِّ اللهِ تَعَالَى؟ فِيهِ ثَلاَثةُ أَوْجُهٍ يُفَرَّق فِي الثَّالِثِ بَيْنَ العَفْوِ عَنِ الحَدِّ والتَّعْزِيرِ، لِأَنَّ أَصْلَ التَّعْزِيرِ مَنُوطٌ بِرَأْيِ الإِمَامِ فَيَجُوزُ أَنْ لاَ يَسْقُطَ بِعَفْوِ غَيْرِهِ بِخِلاَفِ الحَدِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الجِنَايَةُ المُتَعَلِّقَةُ بحق الله -تعالى- خَاصَّة، يجتهد الإمَامُ في تَعْزِيرِهَا بما يَرَاهُ من الضَّرْب، والحبس، والاقتصار على التَّوْبِيخِ بالكلام، فإن رَأى الصَّلاَحَ في العَفْوِ المُطْلَقِ، فلهَ ذلك. وعن أبي حَنِيْفَةَ: أن التَّعْزِيرَ وَاجِبٌ كالحد. ومنهم من يُفَضِّلُ فيقول: إن غلب على ظَنِّ الإِمام أنه لا يُصْلِحُهُ إلا التَّعْزِيرُ، وجب التَّعْزِيرُ. واحتج الأصحاب بما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَقِيلُوا ذَوِي الهَيْئَاتِ عَثَراتِهِمْ إِلاَّ في الحُدُودِ" (¬2)، وبأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أَعْرَضَ عن جماعة اسْتَحَقُّوا ¬
التعزير، كالذي [غَلَّ] (¬1) (¬2) في الغَنِيمَةِ، والذي لَوَى شِدْقَهُ بيده حين حَكَمَ النبي -صلى الله عليه وسلم- للزبير في شِرَاجِ الحَرَّةِ وأَسَاءَ الأَدَبَ. وإن تَعَلَّقَتِ الجِنَايَة بِحَقِّ الآدَمِيِّ، فهل يجب التَّعْزِيرُ إذا طلب؟ فيه وجهان: أحدهما -وهو قَضِيَّةُ إِيرَادِ صَاحِبِ "المهذب" أنه يجب كالقِصَاصِ (¬3). والثاني: لا يجب كما [لا] يجب التَّعْزِيرُ في حَقِّ الله -تعالى- وهذا ما أَطْلَقَهُ الشيخ أبو حَامِدٍ وغيره، وقَضِيَّةُ ما في "التهذيب" تَرْجِيحُهُ. قال الإِمام: قَدْرُ التَّعْزِيرِ، وما به التعزير -يَتَعَلَّق بِرَأْي الإِمام، ولا يكاد يظهر منه جنَايَةٌ عند الإِمام إلاَّ وهو يُوَبّخُهُ ويلومه (¬4) عليه، ويُغْلِظُ عليه القَوْلَ فيؤول الخِلاَفُ إلى أنَّه هل يجوز الاقْتِصَارُ على المَلاَمِ والتوبيخ بالكلام، وهذا قوله في الكتاب "ولكن هل يَجُوز له الاقْتِصَارُ على التوبيخ باللِّسَان ... " إلى آخره. وقوله: "دون الضَّرْب" تأكيدٌ وإيضاحٌ، وفيما سواه ما يُغْني عنه. ولو عَفَا مُسْتَحِقُّ العُقُوبَةِ عن القِصَاصِ، أو الَحد، أو التعزير فهل للإمام التَّعْزِيرُ؟ فيه وجوه: أحدها: لا؛ لأن المُسْتَحِق قد أَسْقَطَهَا. والثاني: نعم؛ لأنه لا يَخْلُو عن حَقِّ الله -تعالى- ولانه قد يَحْتَاجُ إلى زَجْرِ غَيْرِهِ، وإلى زَجْرِهِ عن مِثْلِ تلك الجناية. وأشبههما: الفَرْقُ بين أن يكون العَفْوُ عن الحَدِّ، فلا يعزر، وبين أن يكون عن التعزير، فيعزر؛ لأن الحَدَّ لاَزِمٌ مُقَدَّرٌ، ولا يَتَعَلَّقُ بِنَظَرِ الإِمَام، فلا سَبِيل إلى العُدُولِ إلى غيره بغير سُقُوطِهِ، والتعزير يَتعَلَّق أصله بِنَظَرِ الإِمام، فَجاز ألا يُؤَثِّرَ فيه إِسْقَاطُ غَيْرِهِ. [والله -عَزَّ وَجَلَّ- أعلم]. ¬
(كتاب موجبات الضمان)
(كِتَابُ مُوجِبَاتِ الضَّمَانِ) قال الغَزَالِيُّ: وَالنَّظَرُ فِي ضَمَانِ الوُلاَةِ وَالصَّائِلِ وإتْلاَفِ البَهَائِمِ (النَّظَرُ الأَوَّلُ في الُوَلاَةِ) وَإِلى الأِمَامِ تَعْزِيرٌ وَحَدٌّ وَاسْتِصْلاَحٌ (أَمَّا التَّعْزِيرُ) إِذَا سَرَى فَيَجِبُ ضَمَانُهُ عَلَى كُلِّ مُعَزِّرٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ترجمة الكتاب وإن كانت مُطْلَقَةً، فليس المُرَادُ جَمِيعَ الأسباب، بل من مُوجِبَاتِ الضَّمَانِ ما يذكر في غير هذا المَوْضِع، كالغَصْب والإتْلاَفِ، ولكن الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ذَكَرَ في هذا الموضع أَشْيَاءً تَتَعَلَّقُ بهذا الضَّمَانِ، فجمعها المُصَنِّفُ -رحمه الله-[في كتاب] (¬1) ترجَمَه بِمُوجِبَاتِ الضَّمَانِ، وهي ثلاثة: أحدها: ضَمَانٌ يلزم الوُلاَة (¬2) بتَصَرُّفَاتِهِم المختصة بهم. والثاني: ضَمَانُ الصائل. والثالث: ضَمَانُ ما تُتْلِفُهُ البَهَائِمُ. أما الأول ففيه نظران: أحدهما: في موجب الضَّمَانِ. والثاني: في مَحَلِّهِ. أما الأول فما يُفْضِي إلى الهَلاَكِ من التَّصَرُّفَاتِ المتعلقة بالوُلاَةِ (¬3) أنواع منها: التعزير؛ فإن مات منه المُعَزَّرُ (¬4)، وجب ضَمَانُهُ؛ لأنه تَبَيَّنَ بالهَلاَكِ أنه جاوز الحَدَّ (¬5) ¬
المشروع [كما سبق] (¬1) واحتجَّ له بأنهم حكموا في التي بَعَثَ إليها عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لِرَيبَةٍ (¬2)؛ فأَجْهَضَتْ ذَا بَطْنِهَا [بوجوب] (¬3) دية الجَنِينِ. وعن عَلِيٍّ -كَرَّمَ الله وَجْهَهُ- أنه قال (¬4): ليس أَحَدٌ أُقِيمُ عليه حَدّاً، فيموت، فأجد في نفسي منه شَيْئاً أن الحَقَّ قتله إلا حَدَّ الخمر، فإنه [شيء] (¬5) رأيناه بعد رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فمن مات منه فَدَيْتُهُ إما قال: في بيت المالِ، وإما قال: على عَاقِلَةِ الإِمام -شَكْ فيه الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَدَلَّ على أن ما أُقِيمَ بالرَّأْيِ والاجتهاد إذا أَفْضَى إلى تَلَفٍ، تَعَلَّقَ به الضَّمَان. وَذُكِرَ وَجْهٌ: أنه لا ضَمَانَ إذا عُزِّرَ لِحَقِّ الآدمي بِنَاءً على أنه وَاجِبٌ إذا طلب المُسْتَحِقُّ، فصار كالحَدِّ. وعند أبي حَنِيْفَةَ: لاَ ضَمَانَ في التعزير، وربما بنى ذلك على أنه يَجِبُ التَّعْزِيرُ عنده. وعن مَالِكٍ: أنه إذا عَزَّرَهُ تَعْزِيرَ مِثْلِهِ، لم يجب الضَّمَانُ. وكما يجب الضمان فيما إذا أَفْضَى تَعْزِيرُ الإِمام إلى الهَلاَكِ، يجب في تعزير الزوج والمُعَلمِ، ولا فرق بين أن يَضْرِبَ المعلمُ الصَّبِيَّ بإذن أبيه أو دون إِذْنِهِ. نعم لو كان مَمْلُوكاً، فضربه بإذن سَيِّدِهِ، قال في "التهذيب": لا ضَمَانَ؛ لأنه لو أمر بِقَتْلِهِ فقتله، لم يجب الضَّمَانُ. وقوله في الكتاب: "على كل [مُعَزِّر] " (¬6) المراد: تَعَلّق الضَّمَان به، لا أنه يجب على المُعَزِّرِ نَفْسِهِ، وإنما تجب الدِّيَةُ على عَاقِلَةِ الزوج، والمُعَلِّمِ، وفي حق الإِمام يَجِبُ على العَاقِلَةِ، أو بَيْتِ المال، كما سيأتي إن شاء اللهُ تعالى. نعم مَن أَسْرَف وظهر منه قَصْدُ القَتْلِ تَعَلَّقَ به القِصَاصُ، والدِّيَةُ [المُغَلَّظَةُ في ماله]. قال الغَزَالِيُّ: (وَأَمَّا الحُدُودُ المُقَدَّرَةُ) فَمَنْ مَاتَ بِهَا فَالحَقُّ قَبْلَهُ فَلاَ ضَمَانَ، وَمَنْ مَاتَ بِثَمَانِينَ جَلْدَةً فِي حَقِّ الشُّرْبِ فَمَضْمُونٌ نِصْفُهُ، وَإِنْ مَاتَ بِأَحَدٍ وَأَرْبَعِينَ فَعَلَى قَوْل ¬
يُضْمَنُ نِصْفُهُ، وَعَلَى قَوْلٍ جُزْءٌ مِنْ وَاحِدٍ وَأَرْبعِينَ، وَلَوْ مَاتَ مِنْ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً فَلاَ ضَمَانَ عَلَى أَظْهَرِ القَوْلَيْنِ لِتَقْدِيرِ الصَّحَابَةِ بِهِ، وَلَوْ مَاتَ مِنَ الضَّرْبِ بِالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ قَرِيباً من أَرْبَعِينَ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ أَمَرَ الجَلاَّدَ فِي الشُّرْبِ بِثَمَانِينَ فَضَرَبَ أَحَداً وَثَمَانِينَ فَفِي قَوْلٍ يَجِبُ شَطْرُ الدِّيَةِ عَلَى الإِمَامِ وَالجَلاَّدِ بِالسَّوَاءِ، وَفِي قَوْلٍ: يَجِبُ الثُّلُثَانِ عَلَيْهِمَا بِالسَّوَاءِ، وَفِي قَوْلٍ: يَجِبُ عَلَى الجَلاَّدِ جُزْءٌ مِنْ وَاحِدٍ وَثَمَانِينَ، وَعَلَى الإِمَامِ أَرْبَعُونَ مِنْ وَاحِدٍ وَثَمَانِينَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الحدود في غير الشُّرْبِ مُقَدَّرَةْ مَنْصُوصٌ عليها، فمن مات منها فالحَقُّ قتله فلا ضَمَانَ، نعم إن أُقِيمَ الحَدُّ في حَرٍّ مُفْرِطٍ، أو برد مُفْرِطٍ، ففيه خلاف تَقَدَّمَ، والظاهر أنه لا ضَمَانَ [أيضاً] (¬1) وأما حَدُّ الشرب، فإن ضُرِبَ بالنِّعَالِ، وأطراف الثِّيَاب، فمات منها، ففي وُجُوبِ الضَّمَانِ وجهان، بناءً على أنه هل يَجُوزُ أن يحّدها كذا؟ من قلنا: يجوز -وهو الأصح- فلا ضَمَانَ كما في سائر الحُدُودِ. وإن قلنا: لا يجوز، وَجَبَ الضَّمَانُ؛ لأنه عَدَلَ عَن الجِنْسِ الواجب في الحد إلى غيره. ولو ضرب أربعين جَلْدَةً فمات، ففي وجوب الضَّمَانِ قولان، ويقال: وجهان: أحدهما: يجب؛ لأن التَّقْويمَ بأربعين جَلْدَةً كان بالاجتهاد، وَيدُلُّ عليه حديث عَلِيٍّ -كَرَّمَ الله وَجْهَهُ- أنه شيء أَحْدَثْنَاهُ بعد رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-. وأصحهما: أنه لا يَجبُ، كما في سَائِرِ الحُدُودِ، وذلك لأن الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أَجْمَعَتْ على أن الشَّارِبَ مَضْرُوبٌ أربعين جَلْدَةً، وَعَدَّلَتْ ما كان بهذا القَدْرِ. وروي أيضاً أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- (¬2) جَلَدَ الشَّارِبَ أربعين، فإن قلنا بالأول، فالأظهر على ما ذَكَرَهُ الإمامُ وغيره: أنه يَجِبُ كل الضمان، وفيه وَجْهَانِ آخران: أحدهما: أنه يُوَزَّعُ على التفاوت بين أَلَمِ السِّيَاطِ، والضرب بالنِّعَالِ، وأطراف الثياب، وهذا شيء لا يَتَأتَّى ضَبْطُهُ. والثاني: عن حكايته [ابن] (¬3) المَرْزبَانِ وغيره وجه: أنه يجب نِصْفُهُ؛ لأن الهَلاَكَ حَصَلَ من إِيلاَمٍ مُسْتَحَقٍّ، وإِيلاَمٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ. فإن ضرب أكثر من أربعين، كإحدى وأربعين، فمات، بُنِيَ ذلك على أنه هل يجب الضَّمَان لو مات من أربعين؟ ¬
إن قلنا: نعم، فكذلك هاهنا، وفي كتاب القاضي ابن كَجٍّ أن أبا حَفْصِ بن الوَكِيلِ، وعبد الله بن محمد القزويني [أَثْبَتَا] (¬1) للشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قولين في وجوب جميع الضَّمَانِ في هذه الصورة. فإن قلنا: يجب ضَمَانُ ما زاد على أربعين؛ لأنه مَبْنِيٌّ على الرأي والاجتهاد، كالتعزير ففي قَدْرِهِ قولان: أحدهما: النصف؛ لأنه تَلِفَ من مَضمُونٍ، وغير مضمون، فصار كما إذا جَرَحَ نفسه جِرَاحَةً، وَجَرَحَهُ غَيْرُهُ جِرَاحَاتٍ فمات منهما يجب نِصْفُ الدِّيَةِ. والثاني: أن الضمان [يُقَسَّطُ] (¬2) على عَدَدِ السِّيَاطِ، وكلام الأئمة إلى تَرْجِيحِ هذا القول أَمْيَلُ، وفرقوا بين السِّيَاطِ والجِرَاحَاتِ؛ بأن السِّيَاطَ تقع على ظاهر البَدَنِ، فتكون متقاربة، والجِرَاحَاتُ تُؤَثِّرُ في الباطن، وَمَكَانَتُهَا مختلفة لا تكاد تُضْبَطُ، وعلى هذا، فَتُوَزَّعُ الدِّيَةُ على أحد وأربعين جُزْءاً، فيسقط منها أربعون، ويجب جُزْءٌ واحد، وإن ضرب اثنين وأربعين، فمات، فيوزع على اثنين وأربعين، وعلى هذا القِيَاسُ، حتى إذا ضُرِبَ ثمانين، ومات منها التقى القولان، وكان الوَاجِبُ نِصْفَ الدية. ومن جُلِدَ في القَذْفِ إحدى وثمانين جَلْدَةً، فمات منها، فالضَّمَانُ الواجب نِصْفُ الدية، أو جزء من إحدى وثمانين جزء منها؛ توزيعاً على السِّيَاطِ؟ فيه القولان: ثم إن كانت الزيادة من الجَلاَّدِ، ولم يَأْمُر الإِمام بذلك، فالضَّمَانُ على اختلاف القَوْلينِ على الجَلاَّدِ. وإن أَمَرَ الإِمام بذلك، فالضَّمَانُ يتعلق بالإمام وكذا لو قال الإِمام: اضْرِبْ وأنا أَعُدُّ فَغَلِطَ في العَدَدِ حتى زاد على الثمانين، ولو أن الإمَامَ أمر بثمانين في الشُّرْب، فزاد الجَلاَّدُ جَلْدَةً واحدة، ومات المَحْدُودُ، فيبنى على أنَ الضَّمَانَ يُوَزَّعُ على نَوْعَيِ الجَلْدِ المضمون وغير المضمون، أو على عَدَدِ السياط؟ فإن قلنا بالأول فوجهان: أحدهما: أنه يسقط شَطْرُ الدِّيَةِ، ويجب الشَّطْرُ على الجَلاَّدِ والإمام بالسَّوِيَّةِ؛ لأنه مات من مَضْمُونِ وغير مضمون، فَسَقَطَ حِصَّةُ غير المضمون، والمضمون وُجِدَ من شخصين، فَتُوَزَّعُ حِصَّتُهُ عليهما. والثاني: أنه يسقط ثُلُثُ الدِّيَةِ، ويجب ثُلُثَاهَا عليهما بالسَّوِيَّةِ؛ لأنه مات من ثلاثة أنواع: من ضرب وَاجِبٍ، وجائز، ومحرم (¬3)، فتسقطُ حِصَّةُ الواجب، وتجب حِصَّةُ الآخرين (¬4). ¬
وإن قلنا: تُوَزَّعُ الدِّيَةُ على عَدَدِ السِّيَاطِ، فيسقط أربعون جزءاً من إحدى وثمانين جُزْءاً من الدية، ويجب جزء منها على الجلاد، وأربعون على الإِمام. فهذه ثلاثة أوجه. وفي "النهاية" حِكَايَةُ وجه رَابعٍ، وهو أنه يَسْقُطُ نِصفُ الدية، ويُوَّزعُ نِصْفُهَا على أحد وأربعين جُزْءاً؛ منها واحد على الجلاد، وأربعون على الإِمام. قال الإِمام: وهذا جَمْعٌ بين التَّنْصِيفِ، واعتبار عَدَدِ الجَلَدَاتِ، وفيه اختلاط. وأما لفظ الكتاب فقد قَدَّمْنَا بعض صُوَرِهِ، وأَخَّرْنَا بَعْضاً؛ لحاجة الشرح إليه. ويجوز أن يُعْلَمَ قوله: "فَمَضْمُون نصفه" بالواو؛ لما علمت أن القول بِوُجُوبِ النصف مَبْنِيٌّ على أنه لو اقْتَصَرَ على أربعين جَلْدَةً فمات، لم يضمن. أما إذا قلنا: إنه يضمن، وقلنا: الواجب كُلُّ الضَّمَانِ، ففي [الثمانين] (¬1) أَوْلَى أن يَكون كذلك. ويجوز أن يُعْلَمَ بالحاء والميم؛ لما سَبَقَ أن الحَدَّ عندهما ثَمَانُونَ، وحينئذ فالهَلاَكُ المُتَوَلِّدُ منه لا يكون مَضْمُوناً أَصْلاً. وقوله: "فمَضْمُونٌ نصْفُهُ" معناه: أنه مضمون بِنِصْفِ الضمان؛ لأنه نصفه مضمون، ونصفه مُهْدَرٌ. ويجوز أن يُعَادَ إعلامه بالحاء والميم على قوله: "يضمن نِصْفه" وقوله: "جزء من واحِدٍ وأربعين جُزْءاً" فيما إذا مات بإحدى وأربعين جَلْدَةً؛ لَما بَيَّنَّا. وأن يعلم قوله: "على أظهر القولين" بالواو، ولأن القاضي ابن كَجٍّ حكى طريقةً قاطعةً؛ بأنه لا ضَمَانَ في الموت من الأربعين. قال الغَزَالِيُّ: (وَأَمَّا اَلاسْتِصْلاحُ) فَهُوَ بِقَطْعِ سِلْعَةٍ أَوْ خِتَانٍ، وَيَجُوزُ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ نَفْسِهِ سِلْعَةً إِنْ لَمْ يَكُن فِيها خَطَرٌ لإِزَالَةِ شَيْنٍ، وإنْ كَانَ خَطَرٌ لَمْ يَجُزْ لِلشَّيْنِ، وَيَجُوزُ لِخَوْفِ الهَلاَكِ إِنْ كَانَ القَطْعُ أَرْجَى لِلسَّلاَمَةِ بِالظَّنِّ الغَالِبِ، فَإِنْ تَسَاوَى خَطَرُ التَّرْكِ وَالقَطْعِ فَوَجْهَانِ، وَمَنْ به أَلَم لاَ يُطِيقُهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُهْلِكَ نَفْسَه إِلاَّ أَنْ يَقَعَ فِي نَارٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يَنْجُو مِنْهُ إِلاَّ بِإغْرَاقِ نَفْسِهِ وَالغَرَقُ مُهْلِكٌ، فَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الأَصَحِّ، وَللْأَبِ أَنْ يَقْطَعَ مِنَ الصَّغِيرِ مَا لِلعَاقِلِ أَنْ يَفْعَلَ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ ذَلِكَ، كمَا لَيْسَ لَهُ الإِجْبَارُ فِي النِّكَاحِ، نَعَمْ لِلسُّلْطَانِ فَصْدُ الصَّغِيرِ وَحِجَامَتُهُ وَمَا لاَ خَطَرَ فِيهِ، فَاِنْ سَرَى مَا لَمْ يَجْزُ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ في خَاصِّ مَالِهِ لاَ عَلَى العَاقِلَةِ، وَفِي القَوَدِ قَوْلاَن، وَحَيْثُ يَجُوزُ القَطْعُ فَلاَ ¬
يَضْمَنُ الوَلِيُّ بِسَرايَتِهِ كَالفَصْدِ وَالحِجَامَة والخِتَانِ وَقَطْعِ السِّلعَةِ بِخِلاَفِ التَّعْزِيرِ، وَالخِتَانُ وَاجِبٌ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَهُوَ قَطْعُ القُلْفَةِ مِنَ الرَّجُلِ وَمِنَ المَرْأَةِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الاسْمُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ البُلُوغِ، وَالأوْلَى تَقْدِيمُهُ لِلسُّهُولَةِ، وَالبَالِغُ إِذَا امْتَنَعَ فَلِلْسُّلطَانِ قَهْرُهُ بِالخِتَانِ هَذَا كُلُّهُ فِي المُوجِبِ (أَمَّا مَحَلُّ) الضَّمَانِ فَالإِمَامُ فِيهِ كَالأَجَانِبِ فِيمَا يَتَعَدَّى بِهِ، أَمَّا مَا يَخْطِئُ بِهِ في الحُكْم فَيَجِبُ عَلى عَاقِلَتِهِ عَلَى قَوْلٍ، وَعَلَى بَيْتِ مَالِهِ عَلَى قَوْلٍ، وَفِي الكَفَّارَةِ قَوْلانِ مُرَتَّبَانِ، وَأَوْلَى بِأَنْ لاَ يَجِبَ عَلَى بَيْتِ المَالِ، وَيَجْرِي القَوْلاَنِ فِيمَا لَوْ ضَرَبَ ثَمَانِينَ في الشُّرْبِ بِالاجْتِهَادِ، وَلاَ يَجْرِي إِذَا أَقَامَ الحَدَّ عَلَى حَامِلٍ فَأُجْهِضَتْ، بَلِ الغُرَّةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِأَنَّهُ عُدْوَانٌ، وَلَوْ أَخْطَأَ بِالقَضَاءِ بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ أَوْ فَاسِقَيْنِ مُقَصِّراً في البَحْثِ فَالضَّمَان لاَ يَكُونُ في بَيْتِ المَالِ، وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ جَرَى القَوْلاَنِ، وَيُجْعَلُ الشَّاهِدُ كَالغَارِّ عَلَى وَجْهٍ حَتَّى يُخَرَّجَ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ عَلَى قَوْلَي الغُرُورِ، ثُمَّ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ العَبْدَيْنِ أَوْ بِذِمَّتِهِمَا فِيهِ وَجْهَانِ، وَفِي الرُّجُوعِ عَلَى المُرَاهِقَيْنِ وَجْهَانِ، وَفِي الرُّجُوعِ عَلَى الفَاسِقِينَ إنْ رَأَيْنَا نَقْضَ الحُكْمِ بِظُهُورِ الفِسْقِ بَعْدَ القَضَاءِ ثَلاَثةُ أَوْجُهٍ يُرْجَعُ فِي الثَّالِثِ عَلَى المُجَاهِرِ دُونَ المُكَاتِمِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ومما يدخل في تصرف الولاة والأئمة الاسْتِصْلاَحُ بِقَطْعِ سِلْعَةٍ تظهر، وبِالخِتَانِ، وفيه مسألتان: إحداها: في حكم قطع السِّلْعَةِ من العَاقِلِ المستقل بأمر نَفْسِهِ. فالسِلْعَةُ غُدَّةٌ تخرج بين اللَّحْم والجِلْدِ تكون بِقَدْرِ الحِمِّصَةِ إلى الجَوْزَةِ فما فوقها، وقد يخاف منها وقد لا يخاف، لكنَها تَشِينُ، واللفظ بكسر الشين، كذلك ذَكَرَهُ صاحب "الصِّحَاح" وغيره من أهل اللُّغَةِ، وعليه جرى المتثبتون من الفقهاء وكذلك المتاع سلعة. وأما السَّلْعَةُ بالفتح فهي الشَّجَّةُ. فإن لم يكن في قطعها خَطَرٌ، وأراد العَاقِلُ المستقل (¬1) قَطْعَهَا لإزَالَةِ الشَّيْنِ، فلا حَرَجَ عليه وله أن يَقْطَعَهَا بنفسه، ولغيره قَطْعُها بإذنه، وإن كان في قطعها خَطَرٌ [نظر إن لم يكن في إبقائها خَطَرٌ] لم يَجُزْ له القَطْعُ [لإزالة الشَّيْنِ،] (¬2) وإن كان في إِبْقَائِهَا خَوْفٌ أيضاً فإن كان الخَطَرُ في القَطْعِ أَكْثَرَ لم يكن له القَطْعُ، وإن كان الخَطَرُ في الإِبْقَاءِ أَكْثَر، ¬
فله القَطْعُ؛ لزيادة رَجَاءِ السَّلاَمَةِ فيِه. وفيه وجه لأنه استفتاح [أمر] (¬1) خطر؛ بخلاف التَّرْكِ والإبقاء، وإن تَعَادَلَ الاحتمالان، وتساوى خَطَرُ القَطْعِ والتَّرْكِ، فوجهان. أحدهما -وبه قال الشيخ أبو مُحَمَّدٍ: أنه لا يجوز القَطْع؛ إذ لا فَائِدَةَ فيه، والاحتمالان مُتَسَاوِيَان. وأشبههما: الجَوَازُ -لأنه لَيْسَ فيه مَزِيدُ خَوْفٍ وَخَطَرٍ، ولا معنى للمنع مما لا خَطَرَ فيه، ومن عَظُمَتْ عليه الآلاَمُ، ولم يُطِقْهَا، وأراد أن يُرِيحَ (¬2) نَفْسَهُ بِمُهْلِكٍ مُذَفَّفٍ، لم يَجُزْ له ذلك، لكن لو وقع في نَارٍ، وعلم أنه لا يَنْجُو منها، وأَمْكَنَهُ أن يُلْقِيَ نَفْسَهُ في بَحْرٍ، ورأى ذلك أَهْوَنَ من الصَّبْرِ على لَفَحَاتِ النار، فهل له ذلك؟ حُكِيَ فيه اخْتِلاَفُ رَأْيٍ لأبي يوسف ومحمد، ثم وجهان لأصحابنا: أحدهما: أنه لا يجوز؛ لأنه افْتِتَاحُ سَبَبٍ مُهْلِكٍ. وأصحهما على ما ذكر صاحب الكتاب، ويُنْسَبُ إلى الشيخ أبي مُحَمَّدٍ: الجواز؛ لأنه أَهْوَنُ، وتَآكُلُ بعض الأعضاء كالسِّلْعَةِ التي يُخَافُ منها. ولو قطع السِّلْعَةَ أو اليَدَ المُتَآكَلَةِ من العَاقِلِ المستقل قَاطِعٌ بغير إذنه، فمات فعليه القِصَاصُ، يستوي فيه الإِمَامُ وغيره؛ لأنه مُتَعَدٍّ، والناس في هذه المَصَالِحِ [موكّلون] (¬3) إلى آرائهم. الثانية: المولى عليه لِصِغَرٍ، أو جُنُونٍ، يجوز لِوَلِيِّهِ الخَاصِّ، وهو الأب و (¬4) الجد أن يَقْطَعَ منه السِّلْعَةَ أو اليَدَ المُتَآكِلَةَ، وإن كان فيه خَوْفٌ وَخَطَرٌ، إذا كان الخوف في الترك أَكْثَرَ، وليس للسُّلْطَانِ ذلك؛ لأن القَطْعَ المخطر يحتاج إلى نَظَرٍ دَقِيقٍ، وفَرَاغ تام، وشَفَقَةٍ كَامِلَةٍ، وهذا كما أن الأب والجد لهما اسْتِصْلاَحُ [البِكْرِ الصَّغِيرَةِ] (¬5) بالتزويج، وليس للسلطان أن يُزَوِّجَهَا. قال الإِمام: وقد ذكرنا عند اسْتِوَاءِ الطرفين [في الخوف] (¬6) خِلاَفاً في أن العَاقِلَ هل له أن يَقْطَعَ من نَفْسِهِ، والأظهر -والحالة هذه- أنه لا يقطع من طفله والعلم عند الله. وعلى هذا فقوله: "وللأب أن يَقْطَعَ من الصغير ما للعاقل أن يفعل بنفسه" غير مُجْرَى على إِطْلاَقِهِ. وما لا خَطَرَ فيه، ولا خَوْفَ غالباً كالفَصْدِ والحِجَامَةِ، وقَطْعِ السِّلْعَةِ، إذا لم يكن فيه خَطَرٌ، فيجوز الإِتْيَانُ به للولي الخاص والسلطان جميعاً؛ لأنهما ¬
يَلِيَانِ مَالَهُ، ويَصُونَانِهِ عن أن يضيع، فصيانة بَدَنِهِ (¬1) وأَبْدَانِ الحَيَوَانِ (¬2) في مَعْرِضِ العِلَلِ والتَّغَايرِ بالمُعَالَجَةِ أَوْلَى. قال الإِمام: ومن أَطْلَقَ من الأصحاب أن السُّلْطَانَ لا يَقْطَعُ سِلْعَةَ الصَّبِيِّ والمجنون، أراد القَطْعَ الذي فيه خَطَرٌ. هذا ما سَاقَةُ الإمامُ وصاحب الكتاب، وهو الأَقْرَبُ والأَحْسَنُ. "وفي التهذيب" وجه: أن القَطْعَ المخطر لا يجوز لِلْوَليِّ الخامس أيضاً. وفي "جمع الجوامع" لِلرُّوَيانِيِّ -رحمه الله- أنه لا يَجُوزُ للسلطان الفَصْدُ والحِجَامَةُ، وَيخْتَصُّ نَظَرُهُ وَتَصَرُّفُهُ بالمال، فيجوز أن يُعْلَمَ لذلك قوله: "وللأب أن يقطع ... " بالواو، وكذا قوله: "نعم لِلسُّلْطَانِ". وليس للأجنبي المُعَالَجَة، ولا القَطْعُ المخطر بحال، ولو فعل، فَسَرَى [ومات به] تعلَّق بفعله القِصَاصُ والضَّمَانُ. وأما السُّلْطَانُ إذا فعل بالصَّبِيِّ ما منعناه [منه،] (¬3) وسَرَى إلى نفسه، فعليه الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً في مالهِ لِتَعَدِّيهِ. وفي طريق يخرج على الخلاف الذي سَيَأْتِي في أن ضَمَانَ ما يخطئ به من أحكامه، وتصرفاته يكون على العَاقِلَةِ، أو في بَيْتِ المَالِ؛ لأنه قصد الإِصْلاَحَ، وهل يجب عليه القِصَاصُ؟ فيه قولان: أحدهما: نعم؛ لأنه جرح مُتَعَدِّياً جِرَاحَةً مُهْلِكَةً. والثاني: لا، ووجه بأنه قصد الإصلاح لا الإهلاك، وبأن قطع السلعة مما تقتضيه ولاية الأبوة وإن لم تقتضيه هذه الولاية فتنتهض شبهة، هذا ما يحكى عن اختيار أبي إسحاق وجماعة من الأئمة واستبعدوا وجوب القصاص عليه، وعن صاحب الإفصاح أن القولين فيما إذا كان للمقطوع أب أو جد فإن لم يكونا فلا قود بلا خلاف؛ لأنه لا يجد من يقوم بشأنه فلا بد أن يراعيه السلطان وهذا راجع إلى أن للسلطان قطع السلعة والله أعلم. ولو قطع الأب أو الجد السلعة حيث لا يجوز قطعها فلا قصاص عليه للبعضية وتجب الدية في ماله، وفي التهذيب وجه أنه لا ضمان على الأب أصلاً لأن ولايته أتم فإنه يعالج الصبي بالفصد والحجامة وإنما قطع السلعة لشفقته عليه. وقوله في الكتاب: "فإن سرى ما لم يجز فعله فعليه الدية في خاص ماله" مطلق يشمل قطع السلطان وقطع الأب والجد ولو أُخذ بإطلاقه لجاز إعلامه بالواو لهذا الوجه المذكور في التهذيب لكنه أراد السلطان خاصة على ما دل عليه نظم لفظ الوسيط ولا ¬
يه، نعم، يجوز أن يعلم قوله "في خاص ماله" بالواو للطريق الآخر أنها في بيت المال على قول، وما يجوز فعله للأب والجد والسلطان من فصد الصبي وحجامته ومن قطع السلعة للأب إذا أفضى إلى تلف هل يجب فيه الضمان فيه وجهان: أحدهما: نعم كالتعزير إذا أفضى إلى التلف. وأظهرهما وهو المذكور في الكتاب: أنه لا يجب؛ لأن التعرض للضمان يمنعه من المعالجة بالفصد والحجامة فيتضرر الصبي، وليس ما نحن فيه كالتعزير؛ فإن التعزير المشروع هو التأديب الذي لا يهلك فإذا أفضى إلى الهلاك علم أنه عدل عن المُجوَّز وههنا جوزنا الجرح مع كونه مخطراً في نفسه فيمتنع تعلق الضمان به، ونسب الإِمام الوجه الأول إلى القاضي الحسين والثاني إلى عامة الأصحاب، ويجري هذا الخلاف في الختان إذا أفضى إلى التلف وسنعيده على الأثر إن شاء الله تعالى. المسألة الثالثة: ظاهر المذهب أن الختان واجب في حق الرجال والنساء، وبه قال أحمد، واحتج له بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- "أمر رجلاً أسلم بالاختتان" (¬1) وبأنه قطع عضو يخلف فلا يكون إلا واجباً كقطع اليد والرجل، وأيضاً فإنه جرح يخاف منه فلو لم يجب لم يجز وفيه وجهان آخران: أحدهما وبه قال أبو حنيفة ومالك أنه سنة مؤكدة لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال "الختان سنة في الرجال مكرمة في النساء" (¬2). والثاني: أنه واجب في [حق] الرجال دون النساء، وحكى القاضي ابن كج في المسألة قولين ولم يذكر التفصيل. وصفة ختان الرجل أن يقطع الجلدة التي تواري الحشفة ويقال لها: القلفة، حتى يكشف جميع الحشفة، قال الإِمام: ولو بقي مقدار لا ينبسط على وجه الحشفة وجب قطعه حتى لا يبقى جلد متجاف هذا هو المشهور، وقال القاضي ابن كج: عندي يكفي قطع شيء من القلفة وإن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها. وأما من المرأة فيقع القطع على لحمة في أعلى الفرج فوق ثقبة البول، وتشبه تلك اللحمة عرف الديك فإذا قطعت بقي أصلها كالنواة، ويكفي أن يقطع ما يقع عليه الاسم. روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لأم طيبة وكانت تخفض "أشمي ولا تنهكي" (¬3) أي اتركي الموضع أشم وهو المرتفع ولا تبالغي في القطع. ¬
إذا عرفت ذلك ففيه مسألتان: إحداهما: قال الأصحاب الختان إنما يجب بعد البلوغ لأن الصبي ليس أهلاً لوجوب العبادات المتعلقة بالأبدان فالجراحة المؤلمة أولى ويخالف العدة فإنها تتعلق بمجرد مضي الزمان. ويستحب أن يُعَجَّلَ فَيُخْتَنُ الطفل في اليوم السَّابع من وِلاَدَتِهِ، إن لم يكن ضَعِيفاً لا يحتمله. رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- "خَتَنَ الحَسَنَ والحُسَيْن -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- في اليوم السَّابعِ" (¬1) فإن كان ضَعِيفاً أُخِّرَ إلى أن يحتمله، [حتى] (¬2) قال الإِمام: لو كان الرَّجُلُ على خِلْقَةٍ من الضَّعْفِ، بحيث لو خُتِنَ، خِيفَ عليه لا يجوز أن يختن، بل ينتظر التمكُّن بأن يَصِيرَ، بحيث يغلب على الظَّنَّ سَلاَمَتُهُ لو ختن. وعن "تعليقة" القاضي حُسَيْنِ، وهو قَضِيَّةُ ما في "التهذيب": أنه لا يجوز أن يُخْتَنَ الصَّبِيُّ حتى يصير ابْنَ (¬3) عَشْرٍ؛ لأنه حينئذ أُمِرَ بالضرب على ترك الصَّلاةِ، وأَلَمُ الخِتَانِ فوق أَلَمِ الضَّرْبِ. وقد ذكرنا ذلك في كتاب الصَّلاَةِ. وإذا بلغ الصَّبِيُّ غير مَخْتُونٍ، أمره الإمَامُ بالخِتَانِ، فإن امتنع (¬4) أَجْبَرَهُ عليه. ¬
فرع
الثانية: إذا ختن (¬1) الإِمام المُمْتَنِعَ فمات، فلا ضَمَانَ؛ لأنه مات من وَاجِبٍ، نعم لو أَوْقَعَ خِتَانَهُ في حَرٍّ شَدِيدٍ، أو في بَرْدٍ شديد، ففي الضَّمَانِ خِلاَفٌ قد تَقَدَّمَ في باب الزنا، والظاهر وُجُوبُهُ. وأجرى الإِمام هذا الخِلاَفَ فيما إذا وقع خِتَانُ الأب في الحَرِّ الشديد والبرد الشديد، وجعل الأب أَوْلَى بنفي الضَّمَانِ؛ لأن الأب هو الذي يَتَوَلَّى الخِتَانَ (¬2) في الغالب، فهوَ في حَقِّهِ كالحد في حَقِّ الإِمام. ومن خَتَنَ صَبِيّاً في سِن لا يَحْتَمِلُهُ، فمات، فعليه القِصَاصُ، سواء فيه الوَليُّ وغيره. نعم لا قِصَاصَ على الأب والجد للْبَعْضِيَّةِ (¬3)، ويجب عليهما الدِّيَة، وإن كان في سِنٍّ يحتمله، نظر إن خَتَنَهُ [أبوه] (¬4) أو جَدُّهُ فمات، ففي [وجوب] (¬5) الضمان وجهان: أحدهما: يجب؛ لأن الخِتَانَ غير وَاجِبِ في الحال، فَأَشْبَهَ قَطْعَ السِّلْعَةِ. وأظهرهما: المنع؛ لأنه لاَ بُدَّ منه، وفي التقديم نظر وفَائِدَةٌ للصبي؛ لأن القَطْعَ والبَدَنُ [غَضٌّ رخص] (¬6) والمقطوع قَدْرٌ [يَسِيرٌ سَهل] (¬7) أسهل عليه، وأجرى [الإِمام الوجهين] فيما إذا ختن الإمَامُ الصَّبِيَّ الذي لا وَلِيَّ له، وجعل الظاهر نَفْي الضَّمَانِ إِلْحَاقاً للختان والحالة هذه بالمُعَاَلَجَاتِ. وإن خَتَنَة أَجْنَبِيٌّ. قال في "التهذيب": يحتمل أن يُبْنَى ذلك على أن الإِمَامَ إذا خَتَنَ في الحر والبرد، فمات المَخْتُونُ -هل يَضْمَنُ؟ إن قلنا: نعم، فكذلك هاهنا، وإلا فلا ضَمَانَ. وفي "أمالي" أبي الفرج السَّرَخْسِيِّ: أنه يُبْنَى ذلك على أن الجُرْحَ اليَسِيرَ هَل يَتَعَلَّقُ به القِصَاصُ؟ وفيه وجهان: إن قلنا: نعم، فهو عَمْدٌ، إلاَّ شبه عَمْدٍ. والله أعلم بالصواب. فرع إذا أوجبنا الضَّمَانَ بالخِتَانِ في الحَرِّ المُفْرِطِ، أو البَرْدِ المُفْرِطِ، فالواجب جَمِيعُ الضَّمَانِ للتَّعَدِّي أو نصفه؛ لأن أَصْلَ الخِتَانِ واجبٌ، والهَلاَكُ حصل من مُسْتحقٍّ، وغير مستحقٍّ فيه وجهان: ¬
أظهرهما (¬1): الثاني، وقد سبق مِثْلُهُمَا في إقامة الجلْدِ في الحر، أو البرد المُفْرِطَيْنِ. "آخر" مُؤْنَةُ الخِتَانِ في مال المَخْتُونِ، وفيه وجه: أنه الوَالِدَ إذا خَتَنَ وَلَدَهُ في الصِّغَرِ كانت المُؤْنَةُ عليه. هذا تَمَامُ الكلام فيما يوجب الضَّمَانَ من تَصَرُّفَاتِ الإِمام. قال: هذا كُلُّهُ في الموجب أما ما يتعدَّى الإِمَامُ به من التَّصَرُّفَاتِ، ويقصر فيه، وما يخطئ فيه خطأ لا يَتَعَلَّقُ بالحُكْمِ بأن يَرْمِيَ إلى صيد (¬2)، فَيُصِيبُ [إِنْسَاناً] (¬3)، فَسَبِيلُ ضَمَانِهِ فيه سَبِيلُ سَائِرِ الناس، حتى يجب في مَالِهِ، أو يكون على عَاقِلَتِهِ. وأما الضَّمَانُ الواجب بِخَطَئِهِ في الأحكام، وإِقَامَةِ الحدود، فهو في بَيْتِ المَالِ، أو على عَاقِلَتِهِ؟ فيه قولان: أصحهما على ما ذَكَرَ الشيخ أبو حَامِدٍ، والقاضي الروياني [وغيرهما: أنه] (¬4): على عَاقِلَتِهِ أيضاً لِقِصَّةِ المَرْأَةِ التي بَعَثَ إليها عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَأَجْهَضَتْ ما في بَطْنِهَا (¬5) وقد ذكرناها في الدِّيَاتِ. ولأنه ضَمَانٌ لما وجب (¬6) بالخطأ، فيكون على العَاقِلَةِ كَخَطَأِ غيره، وكخطئه في غير الأحكام (¬7). والثاني: أنه في بَيْتِ المال؛ لأنه نَاظِرٌ للمسلمين، ويتصرّف لهم، فيكون خطؤه في مَالِهِمْ، وأيضاً فإن الوَقَائِعَ والخَطَأَ فيها مما يكثر، وفي إِيجَابِ ضَمَانِهَا على العَاقِلَةِ إِجْحَافٌ بهم. فإن قلنا: إن الضَّمَانَ يكون على عَاقِلَتِهِ، فالكَفَّارَةُ تكون في مَالِهِ، كما في خَطَأِ سائر الناس. وإن قلنا: إن الضَّمَانَ في بيت المَالِ، ففي الكَفَّارَةِ وجهان: أحدهما: أن الحُكْمَ كذلك لِشُمُولِ الاسْمِ. والثاني: المنع؛ لأن الكَفَّارَة عِبَادَةٌ يبعد فيها التحَمُّلُ (¬8)، وإلى هذا يرجع قوله في الكتاب "وفي الكَفَّارَةِ قولان مُرَتَّبَانِ، وأَوْلَى بألاَّ يجب على بَيْتِ المال" إذا عرفت ذلك، ففيه صور: إحداها: إذا ضَرَبَ الإمَامُ ثمانين في حَدِّ الشُّرْبِ بالاجتهاد، ومات المَجْلُودُ منه، ففي مَحلِّ ما يجب من الضَّمَانِ القولان. ¬
الثانية: لو جَلَدَ الحَامِلَ حَدّاً، فَأَجْهَضَتْ جَنِيناً مَيِّتاً، لزمت الغُرَّةُ (¬1) وفي مَحَلِّهَا القولان، إن لم يعلم أنها حَامِلٌ، وإن علم، فطريقان: أحدهما: أنه على القَوْلَيْنِ أيضاً؛ لأن (¬2) إِتْلاَفَ الجنين [لا] (¬3) يكون عَمْداً مَحْضاً، فيجري مجْرَى غيره من وُجُوهِ الخَطَأِ. وهذا ما رَجَّحَهُ ابن الصَّبَّاغِ. وأظهرهما -وهو المذكور في الكتاب: أنه على عَاقِلَتِهِ، ولا يجيء فيه القولان؛ لأن ذلك الخِلاَفَ فيما يخطئ به الإمَامُ في الحكم، وهو هاهنا عَادِلٌ عن الصَّوَاب عَمْداً، ولو انْفَصَل حَيّاً (¬4)، ومات وَجَبَتِ الدِّيَةُ بِتَمَامِهَا، ومحلُّها على ما ذكرنا. وإن ماتت الحَامِلُ، فقد أطلق في "المختصر" أنه لا يَضْمَنُهَا، وعلل بأنها هَلَكَتْ من حق أقيم عليها. وفَصَّلَ الشيخ أبو حَامدٍ وغيره، فقال: إن ماتت من الجَلْدِ وَحْدَهُ بأن ماتت قبل الإِجْهَاضِ، فلا ضَمَانَ، وهذا موضع النَّصِّ. وفي "الشامل" أنه فيه -والحَالَةُ هذه- الخِلاَفَ المَذْكُورَ فيما إذا أقام الحد في حَرٍّ مُفْرِطٍ، أو برد مفرط، فمات المَحْدُودُ، وإن ماتت من الإِجْهَاضِ وحده (¬5) بأن أَجْهَضَتْ، ثم ماتت، وأُحِيلَ المَوْتُ على الإجْهَاضِ، وجب تَمَامُ دِيَتِهَا، كما وجب ضَمَانُ الجنين. وإن قيل: ماتت بالحَدِّ والإجْهَاضِ جميعاً، وجب نِصفُ الدية؛ لأنها ماتت (¬6) من مَضْمُونٍ وغير مضمون، وهذا ماَ حكاه في "التهذيب" في فصل القصاص من الحامل. الثالثة: سيأتي في "كتاب الشَّهَادَاتِ" أن القاضي إذا حَكَمَ بقول اثنين، ثم بَانَ له أنهما ذِمِّيَّانِ أو عَبْدَانِ، ينقض الحُكْمُ، وأنهما لو بَانَا فَاسِقَيْنِ، فكذلك الحكم في أَصَحِّ الوجهين، فلو أنه أقام الحَدَّ بشهادة شَاهِدَيْنِ، ثم بَانَا ذِمِّيَّيْنِ، أو عبدين، أو امرأتين، أو مُرَاهِقَيْنِ، أو فاسقين، ومات المحدود، فقد بَانَ بُطْلاَنُ الحكم، فينظر إن قصر في البَحْثِ عن حالهما، فالضَّمَانُ عليه لا تَعَلُّقَ له بِبَيْتِ المال، ولا يَتَعَلَّقُ بالعاقلة أيضاً إن تَعَمَّدَ. قال الإمَامُ: وإنما يَتَرَدَّدُ نَظَرُ الفقيه في وجوب القِصَاصِ (¬7)، والأظهر الوجوب، فإن الهُجُومَ (¬8) على القتل (¬9) مَمْنُوعٌ منه بالإجماع، ويحتمل أن يقال: لا يجب ¬
التفريع
[الإسْنَادِ] (¬1) القتل (¬2) إلى صورة قِيَامِ البَيِّنَةِ، وقرب الصورة مما إذا قتل مُسْلِماً في دار الإِسْلاَمِ على زِيِّ المشركين، هل يجب عليه القِصَاصُ؟ وإن لم يقصر وبَذَلَ المَجهُودَ في البحث، جَرَى القولان في أن الضَّمَانَ على عَاقِلَتِهِ، أو في بَيْتِ المال، ثم إذا ضَمِنَتِ العَاقِلَةُ، أو ضمن بَيْتُ المال فهل يثبت الرُّجُوعُ على الذميين أو العبدين؟ فيه وجهان. وفي "أمالي" أبي الفَرَج تَخْصِيصُ الوجهين بما إذا غَرَّمْنَا العَاقِلَةَ، والقَطْعُ بمنع الرجوع إذا غَرَّمْنَا بيت المَال، أحد الوجِهين ثُبُوتُ الرجوع؛ لأن تَعَرُّضَهُمْ لِأَدَاءِ الشهادة، وقَصْدَهُمْ لهذا المَنْصِبِ وليسوا أهْلاً له هو الذي جَرَّ التَّلَفَ، فجعل ما صدر منهم تَغريراً للقاضي. قال الإِمام: وأشبه أصل بما نحن فيه أن المَغْرورَ يغرم (¬3) قيمة الوَلَدِ، ويرجع بها على [الغَارِّ، وبل] (¬4) أقوى؛ لأن الشَّهَادَةَ تلجئ القاضي إلى الحُكْمِ، والمغرور متمكّن من أَلاَّ يجيب. والثَّاني: المَنْعُ؛ لِزَعْم الشهود أنهم صَادقُونَ فيما شَهِدُوا، ولم يوجد منهم فيما أَتَوْا به تعد، وليس هو كالتَّغرِيرِ، فإن المغرور لا يلزمه الشَّرْعُ [بَحْثاً] (¬5) فقد يَتَبَادَرُ إلى التَّصْدِيقِ [تَحْسِيناً للظَّنِّ بمن] (¬6) أخبره، والقاضي مَأْمُورٌ بِالإِمْعَانِ في البحث، فإذا تبين الخَلَلُ في حال الشُّهُودِ تَبَيَّنَ أنه أهْمَلَ بعض البَحْثِ الذي كان مَأْمُوراً به، وجعل الإمَامُ الوجه الأول أظهر (¬7). وقال الرُّوَيانِيُّ وغيره: الأَصَحُّ الثاني، ورُبَّمَا لم يُورِدْ أصحَابنا العراقيون غيره. " التفريع" إذا أَثْبَتْنَا الرُّجُوعَ طُولِبَ الذِّمِّيَّانِ في الحَالِ. وفي العَبْدَيْنِ [التَّعَلُّقُ برقبتهما، أو بذمتهما؟] (¬8) فيه وجهان: أحدهما: بالرَّقَبَةِ إِلْحَاقاً لِلتَّغْرِيرِ. وأصحهما: بالذمة؛ لأنه لم يَتَمَحَّضْ لهما جناية (¬9) وتفويت وفي الرجوع على ¬
المُرَاهِقينَ وجهان مَبْنِيَّانِ على الخِلاَفِ في أن التَّعْلِيقَ في العبدين بالرَّقَبَةِ أو بالذمة؟ إن قلنا بالرقبة نزلنا ما وجد منهما مَنْزِلَةَ إِتْلاَف وجناية [جنسه،] (¬1) وكذلك في المُرَاهِقِينَ، إلا فقول الصَّبِىِّ لا يَصْلُحُ للالتزام [فلا رجوع] وإذا بَانَا فَاسِقَيْنِ، فإن قلنا: لا يُنْقَضُ الحُكْمُ، فلا أَثَرَ له. وإن قلنا: يُنْقَضُ، وهو الأَصَحُّ ففي الرجوع عليهما وُجُوهٌ: أحدها: يثبت كالرُّجُوعِ على العَبْدَيْنِ والكافرين. والثاني: المنع؛ لأن الكافر والعَبْدَ مَأْمُورَانِ بِإِظْهَارِ حالهما، والفاسق غير مَأْمُورٍ بإظهار الفِسْقِ. والثالث وهو الأَظْهَرُ: الفرق بين أن يكون مُجَاهِراً بالفِسْقِ، فيقع الرجوع عليه؛ لأنه كان من حَقِّهِ أن يمتنع عن الشَّهَادَةِ، ولأن قَبُولَ شهادته، وهو ظاهر الفِسْقِ يشعر (¬2) بِتَلْبِيسٍ من جهته، وبين أن يكون مُكَاتماً، فلا رجوع عليه. وقوله في الكتاب: "ويجعل الشاهد كالغَازِّ على وجه" أَشَارَ به إلى ما ذكره الإِمَامُ من تشبيه الشهادة بالتَّغْرِيرِ، لكنه قال: ["حتى] (¬3) يخرج الرُّجُوعُ عليه بالضمان على قول الغُرور" كأنه يعني به القولين في الرُّجُوع على الغَارِّ بالمَهْرِ، وقضيته إثبات طريقين في المَسْأَلَةِ: أحدهما: التخريج (¬4) على القولين. والثاني: القَطْعُ بالمَنْعِ، والذي أَجْرَاهُ الإمَامُ [و] ذكر قيمة الولد، وقد ذَكَرَ صاحب الكتاب في مَوْضِعِهِ أنه يرجع بها قَوْلاً واحداً. قال الغَزَالِيُّ: وَلاَ ضَمَانَ عَلَى الجَلاَّدِ لِأَنَّهُ مَأْذُونُ الإِمَامِ، وَلاَ عَلَى الحَجَّامِ إِذَا قَطَعَ سِلْعَةً بالإِذْنِ أَوْ فَصَدَ، وَلَو قَطَعَ بِالإِذْنِ يَداً صَحِيحَةً فَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ، وَلَوْ قَتَلَ الجَلاَّدُ الشَّفْعَوِيُّ حُرّاً بِعَبْدٍ بِإذْنِ الإمَامِ الحَنَفِيِّ، فَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: الجلاَّد وضربه بأَمْرِ الإِمام كَمُبَاشَرَةِ الإِمام إذا لم يعلم ظلمه وخطأه، ولأن الجَلاَّدَ سَيْفُ الإِمام، وسَوْطُهُ، ولا بد منه في الإِنَالَةِ والسِّيَاسَةِ. ولو تَعَلَّقَ بفعله ضَمَانٌ لم يرغب فيه أَحَدٌ، وإن علم أن الإِمَامَ ظَالِمٌ، أو مخطئ، ¬
ولم يكرهه الإِمَامُ عليه، فالقصاص والضمان على الجَلاَّدِ دون الإِمَام؛ لأنه إذا علم الحال، وجب أن يَمْتَنِعُ، ويجيء على قولنا: إن أَمْرَ الإِمام إِكْرَاهٌ أن يكوَن هذا، كما لو أَكْرَهَهُ، فإن أَكْرَهَهُ، فالضَّمَانُ عليهما، وإن اقتضى الحَالُ اقْتِصَاصاً، وجب القِصَاصُ على الإِمام. وفي الجَلاَّدِ قولان، ولو أَمَرَة بضربه، وقال: أنا ظالم [في ضربه،] (¬1) فضربه الجلاد ومات. قال في "التهذيب": إن قلنا: أَمْرُ السلطان ليس بإكراه، فالضَّمَانُ على الجَلاَّدِ. وإن قلنا: إِكْرَاهٌ، فإن قلنا: لا ضَمَانَ على المُكْرِهِ، فالضَّمَانُ على الإِمَامِ، وإن قال: افعل إن شئت لم يكن إِكْرَاهاً لاَ مَحَالَةَ. وإن قال: [اضرب] (¬2) ما شِئْتَ، أو ما أَحْبَبْتَ، لم يكن له الزِّيَادَةُ على الحَدِّ، فإن زَادَ ضَمِنَ. ولو أمره بقتل في مَحلِّ الاجتهاد كَقَتْلِ المسلم بالذِّمِّيِّ، والحر بالعبد، والإمام والجلاد يَعْتَقِدَانِ أنه غير جَائِزٍ، فقتله. قال في "التهذيب": عليهما القَوَدُ إن جعلنا أَمْرَ السلطان إِكْرَاهاً، وأوجبنا القَوَدَ على المُكْرِهِ، والمُكْرَهِ جميعاً. ولو كان الجَلاَّدُ يعتقد [مَنْعَهُ]، (¬3)، والإمام يُجَوِّزُهُ؛ كالجَلاَّدِ الشَّافعي يقتل الحر بالعَبْدِ بإذْنِ الإِمام الحَنَفِيِّ، أَو ظَنَّ أن الإِمَامَ اخْتَارَ ذلك المَذْهَبَ، ورجع إليه، فَفِي وجوب القِصَاصِ، والضَّمَانِ على الجلاد وجهان: أحدهما: المنع؛ اعْتِبَاراً باعتقاد الإِمَامِ. وأَرْجَحُهُمَا عند الإِمام، ولم يُورِد ابْنُ الصَّبَّاغِ، وصاحب "التهذيب" غيره الوُجُوب؛ لأنه إذا لم يعتقد جَوَازَهُ، فحقه الامْتِنَاعُ، وإن فرض إِكْرَاهٌ لم يَخْفَ الحُكْمُ وذكر الإِمام أنه إن كان لا يبعد أن يُدْرَأَ (¬4) القِصَاصُ؛ لاعتقاد الإِمام وَيثْبُت المَالُ والكَفَّارَةُ، فإن الذي ذكروه ينتج كَلاَماً في أن الجَلاَّدَ هل له أن يُخَالِفَ اعْتِقَادَ نَفْسِهِ، ويتبع اعتقاد الإِمام؟ وإن هذا الخِلاَفَ يُنَاظِرُ الخِلاَفَ في أن القَاضِيَ الحَنَفِيَّ إذا قَضى للشافعي (¬5) بِشُفْعَةِ الجَارِّ، وبالتوريث بالرحِمِ، والرَّدِّ، هل يحل للمقضى له؟ قال: والوَجْهُ عندنا القَطْعُ بأنه لا يَحِلُّ أن يأخذ ما يُخَالِفُ مُعْتَقَدَهُ، ورد الخلاف إلى أنه هل يمنعُ من ذلك ظاهراً؟ ¬
النظر الثاني في دفع الصائل
ولو كان الإمَامُ لا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ القِصَاص على الحُرِّ بقتل العبد، وأمر به تارِكاً للتَّفَحُّصِ، وكانَ الجَلاَّدُ يعتقد أن الحُرَّ مَقْتُولَّ بالعبد، فإذا قتله على موجب اعتقاد نَفْسِهِ، فقد بني ذلك على الخِلاَفِ في المسألة السابقة، إن اعتبرنا رَأْيَ الإِمام [وجب القصاص] (¬1) وإن اعتبرنا رأي الجَلاَّدِ، لم يَجِبْ. قال الإِمام: وهذا عندي ضعيف في هذه الصورة، فإن الجَلاَّدَ مُخْتَارٌ عالم بالحال، والإمام لم يُفَوِّضْ إليه النَّظَرَ والاجتهاد، وإنما استعمله للعمل فحسب، والإمام لو تَثَبَّتَ وعرف الحَالَ، لما أَمَر، ولا يبقى لأمره -والحالة هذه- أَثَرٌ الاستتباع، وبصير الجَلاَّدُ مُستَقِلاً بما فعل. المسألة الثالثة: لا ضَمَانَ على الحَجَّام إذا حَجَمَ، أو فَصَدَ بِإِذْنِ من يعتبر إذنه، وأَفْضَى فِعْلُهُ إلى تَلَفٍ، وَكذا إذا قطع سِلْعَةً بالإذن للمعنى الذي ذَكَرْنَا في الجَلاَّدِ، ويخالف ما لو قَطَعَ يَداً صَحِيحَةً بِإذْنِ صاحبها، فَأَفْضَى إلى تَلَفِ النَّفْسِ، حيث يحكم بوجوب الدِّيَةِ على قول؛ لأن الإذْنَ هناك لا يُبيحُ القطع وإذا كان القَطْعُ حَرَاماً عليه، جاز أن يجب القِصَاصُ في سِرَايَتِهِ، وهاهنا أتى بفعل جَائِزٍ لغرض صَحِيحٍ، فيستحيل أن يَتَعَلَّقَ به ضَمَانٌ على أن الأظهر هناك أنه لا يجب الضَّمَانُ. واعلم أن [تأثير] (¬2) الإِذْنِ في إسقاط القصاص (¬3) مذكور في الكتاب في فَصْلِ الإِكْرَاهِ من أول الجِنَايَاتِ، [وتأثيره] (¬4) في إسقاط الدِّيَةِ على الخلاف فيه مذكور في باب العَفْوِ من آخرها، ومقصود الإعادة هاهنا الإشَارَةُ إلى الفرق المذكور. وقوله: " [ولو قطَع] (¬5) بالإذن يداً صحيحة ففي الضَّمَانِ وَجْهَان" قد يفهم منه ضمان اليَدِ المَقْطُوعَةِ، ووضع الخلاف فيه، لكن المَنْقُول [فيه] أنه لا يَجِبُ ضمان اليد المَقْطُوعَة إذا وقف القَطْعُ، ولم يذكروا خِلاَفاً فيه، وإنما الخلاف في ضمان النفس (¬6) إذا سَرَى القَطْعُ إليها، فإذن المعنى: قطع يداً صحيحة (¬7) فَسَرَى إلى النفس، ففي ضَمَانِ النَّفْسِ وجهان. ثم الخلاف قولان، وكذلك أَوْرَدَ في باب العفو [لا] (¬8) وجهان، ويجوز أن يُعْلَمَ لفظ الخِلاَف بالواو؛ لما قَدَّمْنَا أن بعضهم قَطَعَ بالنفي. قال الغَزَالِيُّ: (النَّظَرُ الثَّانِي فِي دَفْعِ الصَّائِلِ) في المَدْفُوعِ وَالمَدْفُوعِ عَنْهُ وَالدَّفْعُ (أَمَّا ¬
المَدْفُوعُ) فَكُلُّ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ الهَلاَكُ فَدُفِعَ فَهُوَ هَدرٌ حَتى الصَّبِيُّ وَالمَجْنُونُ إِذَا صالاَ، وَكَذَا البَهِيمَةُ، وَفِي ضَمَانِ الجَرَّةِ المُطِلَّةِ عَلَى الرَّأْسِ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ إِذَا كُسِرَتْ بِالدَّفْعِ وَجْهَانِ، وَكَذَا في دَفْعِ بَهِيمَةِ حَالَ بَيْنَ الرَّجُلِ الجَائِعِ وَبيْنَ طَعَامِهِ في بَيْتٍ، وَالجَائِعُ المُضْطَرُّ إِلَى طَعَامِ الغَيْرِ يأْكُلُ وَيَضْمَنُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: اسْتُؤْنِسَ في الباب بقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. وبأن الصَّائِلَ ظالم، والظَّالِمُ يُمْنَعُ من الظلم؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "انْصُر أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً" (¬1). وعن سعيد بن زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ" (¬2) وروي (¬3) أن جَارَيةَ كانت تَحْتَطِبُ فَرَاوَدَهَا رَجُلٌ عن نفسها، فرمته [بفِهْرٍ] (¬4) فقتلته، فرفع ذلك إلى عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقال: "قتيل الله والله لا يودي أَبَداً" ونحتاج في الباب إلى مَعْرِفَةِ المدفوع، وهو الصَّائِلُ، والمدفوع عنه، وهو الذي يقصد الصَّائِل، وكيفية الدفع. فهذه ثلاثة فصول: أما الأول: فلا فَرْقَ بين أن يكون الصَّائِلُ مسلماً، أو ذِمِّياً، حراً أو عبداً، فيجوز (¬5) للمَصُولِ عليه دَفْعُهُ، وإن أتى الدَّفْعُ على نفسه، فلا ضَمَانَ، ولا دِيَّةَ، ولا كَفَّارَةَ، وإن صَالَ عليه صَبِيٌّ أو مجنون، أو بهيمة، فكذلك يجوز الدَّفْعُ، ولا ضَمَانَ عن التَّلَفِ، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حَنِيْفَةَ: يجب الضَّمَانُ في البهيمة، وكذا في الصَّبِيِّ والمجنون، على أظهر الروايتين. لنا: أنه هَلاَكٌ حَصَلَ في دَفْعِ جائز، فلا يَتَعَلَّق به ضمان، كما في سائر الصور، وأيضاً فَالبَهِيمَةُ إذا صَالَتْ صَارَتْ بِمَثَابَةِ الكَلْبِ العَقُورِ والسَّبُعِ الضَّارِي. ¬
ألا ترى أنه لو قتل المُحْرِمُ صيداً، صَالَ عَليه، دَفْعاً، لم يَلْزَمْهُ الجَزَاءُ، ولو سقطت جَرَّةٌ (¬1) أو نحوها من عُلْوِ طرف سَطْحٍ، فاستوت على رأس إنسان، وكان يخاف عليه منها، ولم يُمْكِنْ دَفْعُها إلا بالكَسْرِ والإِتْلاَفِ، فهل عليه الضمَّانُ إذا كسرها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ تنزيلاً لها مَنْزِلَةَ البهيمة الصَّائِلَةِ. وأظهرهما: نعم؛ لأنه لا قَصْدَ ولا اختيار منها؛ بخلاف البهيمة وللمجنون اخْتِيَارٌ، وللأفعال إليه نِسْبَةٌ، ولو حَالَتْ بهيمةٌ بين الجائع، وبين طعامه في البيت، ولم يَصِلْ إليه إلا بِإتْلاَفِهَا، فهل يلزمه الضَّمَان بإتلافها؟ فيه هذان الوجهان: في وجه: لا يجب؛ لأن وُقُوفَهَا وحَيْلُولَتَهَا (¬2) كالصِّيَالِ منها. وفي الثاني: يجب؛ لأنها لا تَقْصِدُهُ، وإتْلاَفُهُ إياها لِدَفْعِ الهَلاَكِ عن نَفْسِهِ، كأكل المُضْطَرِّ طَعَامَ الغير، فإنه مُوجِبٌ للضمان، ويمكن أن يُجْعَلَ الأَظْهَرُ هاهنا نَفْيَ الضمان، كما ذكرنا فيما إذا عم الجَرَادُ المَسَالِكَ فتخطاها (¬3) المُحْرِمُ (¬4) وقتل بَعْضَها. وقوله في الكتاب: "فكل من يُخَافُ منه الهَلاَكَ فدفع فهو هَدرٌ" لا شَكَّ أن من يخاف منه الهَلاَك كذلك، لكنه لا يَصْلُحُ ضَابِطاً للمدفوع، ولا يعتبر خَوْفُ الهَلاَكِ فيه، بل من [قصد] (¬5) التَّعَرُّضَ لنفس شَخْصٍ مَعْصُومٍ، أو لِعُضْوٍ من أعضائه، أو لمال، أو لبُضْعٍ، فيدفع ويُهْدَرُ إذا أتى الهَلاَكُ عليه. وقوله: "وفي ضمان الجَرَّةِ المُطِلَّةِ" أي: المُشْرِفة، يقال: أَطَلَّ على الشيء، أي: أَشْرَفَ. وقوله: "والجائعُ المُضْطَرُّ إلى طَعَامِ الغَيْرِ يأكل ويضمن" إنما ذكره في هذا المَوْضِعِ لُمُشَاكَلَتِهِ [المسألة والتوجيه أحد الوجهين بها كما تَقَدَّمَ] (¬6). قال الغَزَالِيُّ: وَدَفْعُ الصَّائِلِ الكَافِرِ أَوِ البَهِيمَةِ وَاجِبٌ، فَإِنْ كَانَ مُسْلِماً فَفِي جَوَازِ ¬
الاسْتِسْلامِ قَوْلاَن، وَفِي دَفْعِ المَجْنُونِ قَوْلاَنِ مُرَتَّبَانِ وأَوْلَى بِوُجُوبِ الدَّفْعِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد بَانَ في خلال الكَلاَمِ أن دَفْعَ الصَّائِلِ جَائِزٌ، والغَرَضُ الآن القَوْلُ في أنه هل يَجِبُ، أو يجوز الاسْتِسْلاَمُ وترك الدفع؟ واعلم أن هذا المَقْصُودَ لا اخْتِصَاصَ له بطرف المَدْفُوع، بل نِسْبَتُهُ إليه نِسْبَةٌ إلى المدفوع عنه، أو كيفية الدفع. والأَحْسَنُ من جهة الترتيب تَقْدَيمُهُ على جميع الأَطْرَافِ، أو تأخيره عن جميعها. والفِقْهُ أن الصَّائِلَ إن قصد أَخْذَ المَالِ، أو إِتْلاَفَهُ، ولم يكن ذَا رُوحٍ (¬1) لا يَجِبُ الدفع؛ لأن إِبَاحَةَ المال للغير جَائِزَةٌ، وإن قصد أَهْلَهُ وجب عليه الدَّفْعُ بما أمكنه؛ لأنه لا مَجَالَ للإبَاحَةِ فيه. وشرط في "التهذيب" للوجوب ألاَّ يخاف على نفسه، وإن قصد الصَّائِلُ نَفْسَهُ نظر إن كان كَافِراً، وجب عليه القِتَالُ والدفع بما أَمْكَنَهُ، أما الحربي والمرتد فلا حُرْمَةَ لهما، وأما الذمي فَبِالصِّيَالِ تبطل حُرْمَتُهُ والاستسلام للكافر ذلٌّ في الدِّينِ. وقال الروياني في "جمع الجوامع": إذا كان الصَّائل كافراً، فالأولى له أن يقاتل، ويُكْرَه له ترك القتال، والدفع عند الإِمْكَانِ، وهذا يشعر بالتجويز (¬2)، والمشهور الأول (¬3)، وإن كان الصِّيَال من بهيمة، فكذلك يجب الدفع؛ لأنها مَذْبُوحَةٌ لاستيفاء المُهْجَةِ، فكيف يؤثرها، ويستسلم لها، وإن كان الصَّائِلُ مسلماً، فقولان، ويقال: وجهان: أحدهما: أنه يجب الدَّفْعُ لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]. ولأن الصَّائِلَ ظالم ساقط الحُرْمَةِ، ومهجة المَصُولِ عليه محترمة، فلا تبذل لمن سقطت حرمته. وأظهرهما: أنه لا يجب (¬4)، ويجوز الاستسلام؛ لما روي عن حذيفة -رَضِيَ اللهُ ¬
عَنْهُ- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في وَصْفِ الفِتَنِ: "كُنْ عَبْدَ اللهِ المَقْتُولَ وَلاَ تَكُن عَبْدَ اللهِ القَاتِلَ" (¬1). وفي بعض الأخبار "كُنْ خَيْرَ ابْنَيْ آدَمَ" (¬2) يعني قابيل وهابيل. ومنع عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عُبَيْدَةَ من الدَّفْعِ يوم الدَّارِ، وقال: من ألقى سِلاَحَهُ فهو حُرٌّ (¬3)، واشتهر ذلك في الصحابة -رَضِيَ الله عَنْهُم- ولم ينكر عليه أحد. وعن القاضي الحسين: الفرق بين أن يمكنه دفعه من غير أن يقتله، فيجب ولا يجوز الاسْتِسْلاَمُ للقتل، وبين ألا يمكنه دَفْعُهُ إلا بالقتل، فيجوز الاسْتِسْلاَمُ. والقائلون بجواز الاستسلام منهم من يَزيدُ عليه، ويصفه بالاسْتِحْبَابِ أيضاً، وهو ظاهر الأَخْبَارِ، وإن كان الصِّيَالُ من مَجْنُونٍ، أَو مراهق فطريقان: أحدهما: القطع بأنه لا يجوز الاسْتِسْلاَمُ؛ لأنهما لو قتلا لم يَبُوءَا بالإثم، فأشبها البَهِيمَةَ. وأشبههما: طَرْدُ القولين؛ إِبْقَاءً للآدمي المحترم، ورضا بالشهادة، وإلى الطريقين يرجع قوله في الكتاب: ¬
وفي "دفع المجنون قولان مُرَتَّبَان، وأولى بوجوب الدفع" وقد تعكس القضية، ويجعل المجنون أَوْلَى [بجواز] (¬1) الاستسلام؛ لأن فعله لا يوصف بالتعدي، وهو أَوْلَى بالمُزَاحَمَةِ. قال الغَزَالِيُّ: (أَمَّا المَدْفُوعُ عَنْهُ) فَكُلُّ مَعْصُومٍ مِنْ نَفْسٍ وَبُضْعٍ وَمَالٍ وَإِنْ قَلَّ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الدَّفْعِ عَنْ غَيْرِهِ قيلَ في الوُجُوبِ قَوْلان، وَقِيلَ: يَجِبُ إذْ لاَ مَعْنَى لِلْإِيثَارِ هَهُنَا كَمَا في نَفْسِهِ، وَقِيلَ: يَحْرُمُ لِأَنَّ شَهْرَ السِّلاحَ فِي الحِسْبَةِ إلَى السُّلْطَانِ، وَكَذَا الدَّفْعُ بِالسِّلاَحِ عَنْ شُرْبِ الخَمْرِ وَالمَعَاصِي قيلَ: يَجِبُ، وَقِيلَ: يَحْرُمُ لِغَيْر السُّلْطَان خَوْفاً مِنَ الفِتْنَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أما المدفوع عنه، فهو كل مَعْصُوم، فيجوز الدفع عن النفس، وعن الأَطْرَافِ، والبُضْعِ، والمال إذا كانت مَعْصُومَةً، ويجوز لغير المَصُولِ عليه الدفع لحقنه، كما يجوز له الدفع لحقن نفسه، ويجوز الدَّفْعُ عن الذمي يَصُولُ عليه المسلم، وعن الابن الذي (¬2) صَالَ عليه أبوه، والعَبْدِ الذي صَالَ عليه سَيِّده، فإنهم مَعْصُومُونَ مَظْلُومون. وفي "النهاية" حكاية قول عن القَدِيمِ: أنه لا يجوز الدَّفْعُ عن المَالِ إذا كان لا يتأتى الدَّفْعُ إلا بالقتل، أو قطع بعض الأعضاء، والظاهر الأول، وحُرْمَةُ مال المسلم في ذلك كَحُرْمَةِ دمه وهل يجب الدفع عن الغَيْرِ؟ فيه ثلاثة طرق (¬3): أظهرهما: أن حُكْمَ الدفع عن الغير حُكْمُ الدفع عن النفس، يجب حيث يجب هناك، ولا يجب حيث لا يَجِبُ. والثاني: القطع بالوُجُوب؛ لأن الإيثَارَ إنما يليق بِخَطِّ النفس، وأما سائر الناس، فلا يُؤَثِّرُ بعضهم على بعض. والثالث: وينسبه الإمَامُ إلى معظم الأصوليين: القَطْعُ بالمنع؛ لأن شَهْرَ السِّلاحَ يُحَرِّكُ الفِتَنَ، وليس ذلك من شأن آحَادِ الناس، وإنما هو من وَظِيفَةِ السلطان، وعلىَ هذا فهل يحرم، أو يجوز من غير وجوب؟ حكي عنهم فيه اختلاف. والتحريم هو الذي أَوْرَدَهُ صاحب الكتاب. وإذا قلنا بوجوب الدفع (¬4) عن الغير، فذلك إذا لم يَخَفْ على نفسه. ¬
كذلك قَيَّدَ الشيخ إبراهيم المَرُّوروذِيُّ وغيره، ثم قال الإِمام: الخِلاَفُ في أن الآحَادَ هل لهم شَهْرُ السلاح حِسْبَةً لا يختصُّ بالصِّيَال، بل من أقدم على مُحَرَّمٍ من شرب خمر أو غيره، فهل لآحَادِ الناس مَنْعُهُ بما يجرح، ويأتي على النفس؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ نَهْياً عن المنكر، ومَنْعاً عن المعصية. والثاني: لا؛ خوفاً من الفِتَنِ، التي تَتَوَلَّدُ منه، ويُنْسَبُ هذا الثاني إلى الأصوليين، والأول للفقهاء، وهو الذي يوجد للأصحاب في كتب المذهب (¬1)، حتى قال الفَوْرَانِيُّ، وصاحب "التهذيب" والروياني وغيرهم: من علم بِخَمْرٍ في بيت رجل، أو طُنْبُورٍ، وعلم بشربه، أو ضربه، فله أن يهجم على صاحب (¬2) البيت، ويُرِيقَ الخمر، ويفصل الطّنبور، ويمنع أَهْلَ الدَّارِ من الشرب والضرب، وإن لم ينتهوا، فله أن يقاتلهم، فإن أَتَى القِتَال عليهم، فهو مُثَابٌ على ذلك وفي "تعليقة" إبراهيم المروروذي أن من رآه مُكِبّاً على معصية من زِناً أو شُرْب خمر، أو رآه يَشْدَخُ شاة أو عبداً، فله دفعه فلو أتى (¬3) الدفع على نفسه، فلا ضَمَانَ. واعلم أن القول في وُجُوب الدفع عن الغير، لا اخْتِصَاصَ له بهذا الموضع، كما أنه لا اخْتِصَاصَ للقول في وجوبَ الدَّفْعِ عن النفس، ولو أنه ضم أحدهما إلى الآخر، وذكرهما في موضع واحد لكان أَحْسَنَ. وقوله: "وأما المدفوع عنه، فكل مَعْصُوم من نفس وبضع ومال" لفظ "المال" يجوز إعلامه بالواو، وليس ما ذكره جَامِعاً ضَابِطاً، فإنه لو قصد عُضْواً، أو مَنْفَعَةَ عضو، ولم يقصد النفس، يُدْفَعُ أيضاً، ولو لم يقصد البضع، وقصد أن ينال مما دونه دفع أيضاً وإن أتى الدفع عليه كان مُهْدَراً. صَرَّح به القاضي الروياني وغيره، وقال: لو وجده يَنَالُ من جَارِيَتِهِ ما دون الفَرْجِ، فله دفعه، وإن أتى على نَفْسِهِ. قال: ويجوز للأجانب أن يدفعوه كذلك حِسْبَةً، ويجوز أن يكون المدفوع عنه ملك المقاصد، فمن رأى إنساناً يُتْلِفُ مال نفسه [مثل أن يحرق كدسه ويغرق متاعه جاز له دفعه] (¬4) فإن كان حيواناً بأن رآه يَشْدَخُ رأس حِمَارِهِ، ففي وجوب الدفع لحرمة الحيوان وَجْهَان. المذكور منهما في "التهذيب" أنه يجب وقوله: "وقيل: يحرم" لا يمكن حَمْلُهُ على مُطْلَقِ الدفع، وإنما المراد الدفع قَتْلاً وجُرْحاً. ¬
وقوله: "لأن شَهْرَ السلاح في الحِسْبَةِ إلى السلطان" -أي ينبغي أن يكون هكذا لأنه خطر محرك للفتن. وقوله: "قيل: يجب" كذلك ذكر هاهنا، وفي "الوسيط"، وصاحب "النهاية" لم يتعرض للوجوب، وإنما حَكَى اختلاف الأصوليين والفقهاء في الجواز وعَدَمِهِ. [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: (أَمَّا كَيْفِيَّةُ الدَّفْع) فَأَنْ يَبْدَأَ بالكَلاَم ثُمَّ بِالضَّرْبِ ثُمَّ بِالجُرْحِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَيَدْفَعُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَأَى مَنْ يُزنِي بِزَوْجَتِهِ دَفَعَهُ، فَإِنْ هَرَبَ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ القِصَاصُ إنْ لَمْ يَكُنِ الزَّانِي مُحْصَناً، وَلَوْ قَدَرَ المَصُولُ عَلَيْهِ عَلَى الهَرَبِ لَمْ يَجُزْ لَه الدَّفْعُ بِالجِرَاحِ عَلَى الأَظْهَرِ، وَلَوْ عَضَّ يَدَهُ فَسَلَّ اليَدَ حَتَّى نَدَرَتْ أَسْنَانُهُ فَلاَ ضَمَانَ، فَإنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلَهُ أن يَدْفَعَهُ بِمَا يَقْدِرُ وَلاَ يَتَعَيَّن قَصْدُ العُضْو الجَانِي. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يجب على المَصُولِ عليه رِعايَةُ التدريج، والدفع بالأَهْوَنِ (¬1) فالأهون، فإن أمكنه الدَّفْعُ بالكلام، أو الصِّيَاحِ، أو الاستغاثة بالناس لم يكن له الضَّرْب، وكذا لو اندفع شَرُّهُ بأن وقع في مَاءٍ أو نار، أو من شاهق فانكسرت رجله، لم يضربه، وكذا لو كان بينهما حَائِلٌ من جدار، أو خَنْدَق، أو نهر عظيم، ولو كان النهر صَغِيراً، وغلب على ظنه أنه إن عَبَرَ إليه غَلَبَهُ، ففي "الشامل" أن له رَمْيُهُ، ومنعه من العبور. وإذا لم يندفع إلا بالضرب فله الضرب، وراعى فيه الترتيب أَيْضاً فإن أَمْكَنَ [باليد، لم يضربه بسوط، وإن أمكن] بالسَّوْطِ لم يجز العُدُولُ إلى العَصَا، وعلى هذا فلو أَمْكَنَ دفعه بِقَطْعِ عضو، لم يكن له إِهْلاَكُهُ، ولو اندفع بِدَرَجَةٍ نازلة، فدفعه بما فوقها، ضمن، وكذا لو هَرَبَ فاتبعه وضربه، فمات، ولو ضربه ضربة، فَوَلَّى هارباً أو سقط، وبطل صِيَالُهُ، فضربه أخرى، فالثانية مَضْمُونَةٌ بالقصاص وغيره، فإن مات منهما لم يجب قِصَاصُ النفس، ووجب نِصْفُ الدية؛ لأن الهلاك حَصَلَ من مضمون وغير مضمون، ولو عاد بعد الجِرَاحَتَيْن إلى الصِّيَال فضربه، ضربة ثالثة، فمات منها، فَعَلَيْهِ ثُلُثَا الدِّيَةِ، ومهما غَلَبَ على ظَنِّهِ أن الذي أقبل عليه بالسَّيْف يقصده، فله دَفْعُهُ بما يمكنه، وإن لم يضربه المقبل إذا تَقَرَّرَ ذلك، ففي الفَصْلِ ثلاث صور: إحداها: إذا وجد رجلاً يزني بامْرَأَتِهِ، أَو غَيْرها، فعليه دفعه، ومنعه، فإن هَلَكَ في الدفع، فلا شَيْءَ عليه، وإن اندفع بضرب وغيره، ثم قتله فعليه القِصَاصُ إن لم يكن الزَّانِي مُحْصَناً. وإن كان محصناً فلا قِصَاصَ عليه. ¬
وفيه قول آخر مذكور في الجنايات وإذا قال: قتلته لذلك، وأنكر وليُّه، فعلى القاتل البَيَّنَةُ وينظر إن ادَّعى أنه قَصَدَ امْرَأَتَهُ، فدفعه، فأتى الدفع على نفسه، ثَبَتَ ذلك بقول شاهدين، وإن ادَّعى أنه زَنَا بها، وهو مُحْصَنٌ لم يثبت الزنا إلا بأربعة شهداء. روي أن سعد بن عُبَاَدَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: يا رسول الله أرأيت إن وَجَدْتُ رَجُلاً مع امرأتي أُمْهِلُهُ حتى آتى بأربعة شهداء! فقال -صلى الله عليه وسلم-: "كَفَى بالسَّيْفِ شَا" أراد أن يقول: "شاهداً" فقطع الكلمة ثم قال: "نَعَمْ حَتَّى تَأْتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءِ" (¬1). وعن أبي حنيفة -رحمه الله-[أنه يلزمه الضمان، و] إن ثبت الزنا والإحصان، بناء على أن الزَّاني المُحْصَنَ إذا قتله واحد من عرض الناس قبل أن يَقْضِيَ القاضي عليه بالرَّجْم يلزمه القصَاصُ، وإنما يصير مُهْدَراً، إذا قضى القاضي عليه بالرَّجْمِ فيقع قتله حداً. وإن لم يكن للقاتل بَيِّنَةٌ، حلف وَلِيُّ القتيل على نفي العلم بما يقوله، ومكّن من القصاص، ولو كان للقتيل وارثان، فحلف أحدهما على نَفْي العلم، وَنَكَلَ الآخر، حلف القاتل [للآخر]، وعليه نصف الدية للحالف، وإن كانَ أحدهما بَالِغاً، والآخر صَغِيراً، وحلف البالغ على [نفس] العلم [لم] يستوفي القِصَاص حتى يَبْلُغَ الصغير، فيحلف، أو يموت، فيحلف وَارِثُهُ. وإن أخذ البالغ نِصْفَ الدية، حكى القاضي الروياني أنه يُؤْخَذُ للصغير أَيْضاً، فإذا بلغ حلف، فإن نكل، وحلف القَاتِلُ ردّ عليه ما أَخَذَا، ولو أقر الوَرَثَةُ بأن مورثهم كان مَعَهَا تحت ثَوْبٍ يتحرك تَحَرُّكَ المجامع، وأنزل، ولم يقروا بما يُوجِبُ الحَدَّ لم يسقط القِصَاصُ، وإن أقروا بما يوجبه، وقالوا: كان بِكْراً، فالقول قولهم، وعلى القاتل البَيِّنَةُ على الإحصان. ¬
والسَّارِقُ إذا أخرج مَتَاعَهُ من الحِرْزِ، وألقاه وهرب، لم يكن له أن يتبعه، فيضر به، فإن تبعه، وقطع يَدَهُ التي يوجب قَطْعهَا بالسرقة، فلا قِصَاصَ؛ لأنها مستحقة الإِزَالَةِ، وكذا في قطع الطريق، إذا قطع قَاطِعٌ ما وجب قطعه منه لا قصاص عليه لكن يعزر بالافتئات على الإمَامِ، ويجيء في وجوب القِصَاصِ الخلاف الذي سبق في قَتْلِ الزاني المُحْصَنِ، ولو وجب الجَلْدُ على زان، فجلده وَاحِدٌ من عرض الناس لم يقع حداً، ولزمه الضمان لأن الجلد يختلف وَقْعاً ومَحلّاً، فلا يقع حَدّاً إلا بإذْنِ الإِمام وَنَظرِهِ، بخلاف القطع. وفي "تعليقه" إبراهيم المروروذي ذِكْرُ وجهين، فيما إذا جَلَدَ رَجُلاً ثمانين، ثم قال: إنه كان قَذَفَنِي، وأقام عليه بَيِّنَةً، هل يحسب ذلك عن الحَدِّ، ويبنى على الوجهين [في] أنه إذا عَاشَ هل يُعَادُ الحد [و] (¬1) إذا مات هل يَجِبُ على الضارب القِصَاصُ. ويمكن أن يعلم قوله في الكتاب: "إن لم يكن الزَّانِي مُحْصناً" بالواو: لأنه مذكور قيداً لوجوب بالقِصَاص، وعلى القول الذي يوجب القصاص بقتل الزاني المُحْصَنِ لا يحتاج إلى هذا القَيْدِ. الصورة الثانية: لو قدر المَصُولُ (¬2) عليه على الهَرْبِ هل يَلْزَمُهُ ذلك أم له أن يثبت ويقاتل؟ حكى فيه اختلاف نَصٍّ. وعن الأصحاب طريقان: أظهرهما: أن في المسألة قولين: أحدهما: أنه لا [يجب] (¬3) الهَرَبُ؛ لأَن إِقَامَتُهُ في ذلك المَوْضِعِ جَائِزَةٌ، فلا يُكَلَّفُ الانصراف. والثاني: يجب؛ لأنه مَأْمُورٌ بأن يخلص نَفْسَهُ بالأهون فالأهون، والهرب أَهْوَنُ، وبنى بعض من أَثْبَتَ الخِلاَفَ على أنه هل يَجِبُ عليه الدَّفْعُ عن نفسه؟ إن قلنا: نعم؛ لَزِمَة الهَرَبُ، وإلا فلا، لكن قد مَرّ أن الأظهر أنه لا يجب الدفع، ويجوز الاستسلام، وهاهنا رَجَّحُوا وجوب الهَرَبِ؛ مُحَافَظَةً على التدريج في الدفع. والطريق الثاني: نَفْيُ الخلاف، وحمل نص الهرب على ما إذا تيقن النجاة بالهَربِ. والنص الآخر على ما إذا لم يتيقن، ولو قدر [على] (¬4) التحصين بموضع حَصِينٍ، أو على الالْتِجَاءِ إلى فِئَةٍ، فهو كما لو قدر على الهَرَبِ. الثالثة: إذا عَضّ إنسان يَدَهُ، أو عضواً آخر، [خَلَّصَ] (¬5) عضوه بأيسر (¬6) ما يقدر ¬
فرع
عليه، فإن أمكنه فك لَحْيَيْهِ (¬1)، وتخليص ما عضه فعل؛ وإن لم يمكنه ضَرَبَ في شِدْقِهِ ليدعه، فإن لم يمكنه وسل يده فَبَدَرَتْ أسنانه، أو بعضها فلا ضَمَانَ عليه. وفي "الشامل" أنه [يحكى] (¬2) عن مالك أنه يجب الضَّمَانُ. لنا ما رُوِيَ عن يَعْلَى بن أمية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جيش العسرة (¬3) وكان لي أجير، فقاتل إنساناً، فَعَضَّ أحدهما يَدَ الآخر، فانتزع (¬4) المَعْضُوضُ يده من فم العَاضِّ، فذهب إحدى ثنيتيه، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فَأَهْدَرَ ثنيته وقال له: "أَيدَعُ يَدَهُ في فِيكَ تَقْضِمُهَا كَأَنَّهَا في فَحْلٍ" ولأن النفس لا تضمن في الدفع، فكذا الأطراف. ولا فَرْقَ بين أن يكون العَاضُّ ظالماً، أو مظلوماً، فإن العض لا يجوز بحال. وما دام يمكنه تخليص نفسه بضرب فيه لا يَعْدِلُ إلى عضو آخر؛ لأنه أقرب إلى المقصود، فإن لم يجد مُخَلِّصاً إلا بقصد عضو آخر بأن يَبْعَجَ بَطْنَهُ، أو يفقأ (¬5) عينه أو يعصر خصيته فله ذلك وفيه وجه أنه لا يقصد عضواً آخر، ولا يضع السلاح فيه، كما لم يقصده العَاضُّ بالسلاح والظاهر الأول. " فرع" لو كان الصَّائل يَنْدَفِعُ بالصوت والعصا، ولكن المصول عليه لم يجد إلا السَّيْفَ أو السِّكينَ، فهل له الضرب به؟ فيه وجهان: أحدهما: لا لإمكان الدَّفْعِ من غير جرح وقتل. وأظهرهما: نعم؛ لأنه لا يَتَأَتَّى له الدَّفْعُ إلا بذلك، ولا يمكن نِسْبَتُهُ إلى التقصير [بتَرْكِ] (¬6) استصحاب السَّوْطِ، والمعتبر في حتى كل أحد حَاجَتُهُ، ولذلك نقول: الحَاذِقُ الذي يحسن الدفع بأطراف السَّيْفِ من غير جرح يضمن، والذي لا يحسن ذلك لا يضمن لو جرح. قال الغَزَالِيُّ: وَإِذَا نَظَرَ إِلَى حَرَمٍ إِنْسَانٍ في كُوَّةٍ أَوْ صَائِرِ بَابٍ جَازَ أنْ يَقْصِدَ عَيْنَهُ بِمدْرَاةٍ أَوْ بَنْدَقَةٍ مِنْ غَيْرِ إِنذارٍ، فإِنْ عَمِيَ فَلا ضَمَانَ، وَيجِبُ تَقْدِيمُ الإِنْذَارِ فِي كُلِّ دَفْعٍ ¬
إِلاَّ هَهُنَا لِلْخَبَرِ، وَلاَ يُلْحَقُ قَصْدُ الأُذُنِ عِنْدَ التَّسَمُّعِ بِهِ، وَلاَ يُرشَقُ النَّاظِرُ بالنُّشَابُ، وَلاَ يَجُوزُ قَصْدُ عَيْنِهِ إِنْ كَانَ لِلنَّاظِرِ حَرَمٌ فِي الدَّارِ وَلاَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ امْرَأَةُ أَصْلاً، فَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةٌ مُسْتَتِرَةٌ فَوَجْهَانِ، وَلوْ كَانَ البَابُ مَفْتُوحاً لَمْ يَجُزْ قَصْدُ عَيْنِهِ إِلاَّ بِالإنْذَارِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا نظر إلى حرم (¬1) إنسان في داره من كُوَّةٍ أو ثُقْبِ، أو صِيرَ بَابٍ، فنهاه صَاحِبُ الدار، فلم يَنْتَهِ، فرماه بحَصَاةِ ونحوها، فأصابت عينيه، فَأعْمَاهُ، أو أصاب قريباً من عينه، فجرحه، فلا ضَمَانَ، وإن سَرَى إلى النفس، خِلاَفاً لأبي حنيفة حيث قال: لا يجوز ذلك ويجب الضمان. وفي كتاب القاضي ابن كَجٍّ عن مالك مثله. لنا ما روي عن سَهْلِ بن سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رجلاً اطلع من جحر في حُجْرَةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومع النبي -صلى الله عليه وسلم- مِدْرَى يَحكُّ به رَأْسَهُ، فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ إنَّما جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ من أَجْلِ البَصَرِ" (¬2). وعن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَوِ اطَّلَعَ أَحَد فِي بَيْتِكَ وَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جنَاحٍ" (¬3). وعن نصِّ الشَّافعي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "أنه لو ثبت المطلع، ولم يمتنع بعد رَمْيهِ بالشيء الخفيف، استغاث عليه صاحب الدَّارِ، فإن لم يكن في مَوْضِعِ غَوْثٍ أحببت أَن ينشده باللهِ تعالى، فإن لم يمتنع فله أن يَضْرِبَهُ بالسلاح، وَيَنَالَه بما يردعه، فإن أتى على نفسه، فلا عَقْلَ، ولا قَوَدَ، وإن لم يَنَل منه صَاحِبَ الدار عاقبه السلطان". ولا فَرْقَ بين أن يكون وُقُوفُ الناظر في الشارع أو في سِكَّةِ منسدة الأسفل، أو في خالص ملْكِهِ إذ ليس للواقف في ملْكِهِ مدُّ البصر إلى حَرَمِ النَّاسِ. وعن القاضي الحسين وجه ضعيف: أنه لا يقصد عينه إذا وَقَفَ في الشارع، أو في مِلْكِ نفسه، وإنما يقصد إذا وَقَفَ في مِلْكِ المنظور إليه، ويتعلق بالفصل (¬4) صُوَرٌ مذكورة في الكتاب، وغير مذكورة: إحداها: إنما يرمي عَيْنَهُ إذا قصد النَّظَرَ والتطلُّع، أما إذا كان مُخْطئاً، أو وقع بصره عليه اتِّفَاقاً، وعلم صَاحِبُ الدار الحال، فلا يرميه، فإن رَمَاهُ، وقال الناظر: لم ¬
أَكُنُ قاصداً، أو لم أَطَّلِعْ على شيء، لم يلزم الرَّامِيَ شَيْءٌ؛ لأن الاطلاع حاصل وقصده أمر بَاطِنٌ لا يطلع عليه، وهذا ذَهَابٌ إلى تجويز الرمي وإن لم يتحقق قصده، وفي كلام الإِمام ما يَدُلُّ على أنه لا يرمي حتى يتبين (¬1) الحال، وهو حَسَنٌ. الثانية: هل يجوز رَمْيُهُ قبل أن يُنْذِرَهُ؟ فيه وجهان: أحدهما -ويحكى عن الشيخ أبي حَامِدٍ، والقاضي الحسين: لا بل ينذره أولاً، ويزجره عن التطلُّع، ويأمره بالانْصِرافِ، فإن أصر، فحينئذ يرميه؛ جَرْيًا على قياس الدفع في البِدايَة بالأهون [فالأهون] (¬2) وأيضًا فقد يعتقد لنفسه عُذْراً، فيعرف بالنهي، فإن أصَرَّ نِيلَ منه. وأظهرهما -وهو المذكور في الكتاب وبه قال القاضي أبو الطيب والماسَرْجِسِيُّ: أنه يجوز الرَّمْيُ قبل الإنذار؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يُخَاتل النَّاظر لرمي عينه بالمِدْرى (¬3). وروي أنه قال: "مَنِ اطَّلَعَ عَلَى قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَفَقَؤوا عَيْنَهُ فَلا قَوَدَ وَلا دِيَةَ" (¬4). وعن صاحب "التقريب" أنه استدلّ لجواز الرَّمْيِ قبل الإنذار هاهنا، على أنه لا يَجِبُ تقدم الكلام في كل دَفْع، وإنما يجوز للمصول عَليه الابتداء بالفعل، وربما يروى عنه تَخْرِيجُهُ على الخلاف في أنه هل يجوز اسْتِتابَةُ المرتد؟ وذكر الإِمام أن مَجَالَ التردد في الكلام الذي هو مَوْعِظَةٌ، وتخجيل قد تفيد، وقد لا تفيد، فأما ما يوثق بكونه دَافِعاً من تَخْوِيفٍ وَزَعْقَةٍ [مزعجة،] (¬5) فلا يجوز أن يكون في وجوب البداية خلاف، وهذا أحسن وينبغي أن يقال: ما لا يوثق (¬6) بكونه دَافِعاً، ويخاف من البداية مُبَادَرَةِ الصائل، وخروج الأمْرِ مِن اليد لا يجب البِدَايَةُ بلا خلاف. الثالثة: لو وضع الأذن على [صِير] (¬7) الباب، أو وقوف على الباب يَتَسَمَّعُ لم يجز رمي أذنه، وليس السَّمْعُ كالبَصَرِ في الاطِّلاَعِ على العوْراتِ. قال الإِمام: وفي بعض التعاليق عن شيخي تَنْزِيلُ الأذُنِ بمنزلة العَيْنِ، ولا أثق بالمعلق [ولم أورده للاعتداد] به، لكن المُصَنِّفَ اعْتَدَّ به، فجعله وجهًا في "الوسيط". ¬
الرابعة: ليكن الرمي بشيء خَفِيفٍ تقصد العين بمثله كبُنْدَقَةٍ ومِدْرَى وحَصَاةٍ خفيفة، أما إذا رماه (¬1) بالنّشابِ، أو رَماهُ بِحَجَرٍ يقتل، فهذا يتعلَّق به القِصَاصُ أو الدية. نعم لو لم يَتَأَتَّ قصد عينه، أو لم [يَنْزَجِرْ،] (¬2) فيستغيث عليه ويدفعه بما أَمْكَنَهُ كما تقدم، ولا يقصد رمي غير العين، إذا أمكنه إصابة عينه، وإن لم يمكنه، فَرَمَى إلى مَوْضِعٍ آخر ففي "التهذيب" حكاية وجهين فيه، ونقل أنه لو أصاب مَوْضِعًا بعيدًا من عَيْنِهِ، بلا قصد هل يضمن؟ فيه وجهان: الأصح: أنه لا يضمن. والأشبه: ما ذكره القاضي الروياني في "جمع الجوامع"، وهو أنه إن رَماهُ، فأصاب غير العَيْنِ، فإن كان بَعِيداً لا يخطأ من العَيْنُ إليه ضمن، وإن كان قريبًا يخطأ إليه لم يَضْمَنْ. الخامسة: إن كان للناظر محرم في الدَّارِ، أو زوجة أو مَتاعٌ، لم يجز قصد عينه؛ لأن له في النظر شُبْهَةً. وفي "أمالي" أبي الفرج السَّرَخْسِيِّ وَجْهٌ: أنه لا [يكفي] أن يكون له في الدَّارِ محرم، وإنما يمتنع قَصْدُ عَيْنِهِ، إذا لم يكن في الدار إلا مَحَارِمُه، والمشهور الأول. ولو كان الناظر مَحْرَمًا لحرم صاحب الدار، فلا قَصْدَ، إلا أن تكون متجردة، إذ ليس لِلْمَحْرِمِ النظر إلى ما بين السُّرَّةِ والرُّكْبَةِ، ولو لم يكن في الدار حَرَمٌ بأن كان فيها المَالِكُ وحده، فإن كان مكشوف العَوْرَةِ، فله الرَّمْيُ ولا ضمان. وإلا فوجهان: أظهرهما -وهو المذكور في "الشامل": أنه لا يجوز رَمْيُ الناظر. ووجه الثاني: أن من الأحوال ما هو كالعَوْرَةِ لا يجوز الاطِّلاعُ عليه، ولو كانت الحَرَمُ في الدار مُسْتَتِراتٌ بالثياب، أو كن في بيت، أو منعطف لا يمتد النَّظَرُ إليهن، فهل يجوز قَصْدُ عينه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه لا يطلع على شيء. وأظهرهما: الجَوَازُ؛ لأن الأخبار مُطلَقَةٌ، وأيضًا فقد يريد ستر حَرَمِهِ عن نَظَرِ الناس، وإن كن مُسْتَتِراتٍ، وأيضًا الحرم في الدار لا يدري متى يستترن وَيَنْكَشِفْنَ، فالاحتياط حسم باب النظر. السادسة: لو كان باب الدار مَفْتُوحاً، فنظر منه أو نظر من كُوَّةٍ واسِعَةٍ أو من ¬
ثُلْمَةٍ، حصلت في الجِدَارِ، فإن كان مجتازاً لم يجز قَصْدُ عينه، وإن وقف ونظر متعمداً، فوجهان: أحدهما: يجوز قصده لتعديه بالنظر، كما لو نظر من جُحْرٍ. وأصحهما: عند صاحب "التهذيب" وبه أجاب الإِمام -المَنَع، ولو رماه ضمن؛ لأن صاحب الدار مُفْرِطٌ بفتح الباب وتوسيع الكُوَّةِ، وأشار بعضهم إلى الفَرْقِ بين الباب المَفْتُوحِ، والكوة الواسعة، وقال: الباب يفتح ويرد ويغلق بحَسَبِ الحاجة، والكُوَّةُ لا يكرر فتحها وسَدُّهَا. وأجرى صاحب "التهذيب" الوجهين فيما لو نظر من سَطْحِ نفسه وفي نظر المُؤَذِّنِ من المِئْذَنَةِ، ولكن الأظهر هاهنا جَوازُ قَصْدِ عينه؛ لأنه لا تَفْرِيطَ من صاحب الدَّارِ، ولو وضع الأَعْمَى عَيْنَهُ، على صِيرِ الباب، فرماه، ضمن سواء علم أنه أعمى، أو لم يعلم. وإن نظرت المرْأَةُ فوجهان: أظهرهما: جَوَازَ رمْيِها، وكذا لو نظر المُرَاهِقُ، ولو انصرف الناظر قبل الرمي إليه، لم يجز أن يتبعه ويرميه، كالصَّائِلِ إذا أَدْبَرَ، ولو قعد في الطريق مَكْشُوفَ العَوْرةِ، فنظر إليه ناظر، لم يكن له قصده؛ لأنه الهَاتِكُ لحرمته. وعن ابن المَرْزبَانِ أنه لو دخل المسجد، وكشف عَوْرَتَهُ، وغلق الباب، أو لم يغلقه، فنظر إليه ناظر لم يكن له رمْيُهُ؛ لأن الموضع لا يختصُّ به، ولو كانت الدار مِلْكًا [للنَّاظِر] (¬1) قال أبو الفرج السَّرَخْسِيُّ: إن كان من فيها غَاصِباً لم يستحقَّ الرمي، وإن كان مستأجراً، فله الرَّمْيُ، وإن كان مستعيراً فوجهان. وإن، دخل [رجل] (¬2) دَارَ إِنْسَانٍ بغير إذنه، فله أن يأمره بالخروج، ويدفعه كما يدفعه عن سَائِرِ أمواله، وهل يدفعه قبل الكلام والإنذار؟ ذكر صاحب "التهذيب" فيه وجهين، كما في رَمْي الناظر قبل النَّهْيِ والأنذار، ويشبه أن يكون الأَظْهَرُ اشْتِرَاطَ التقديم، كما في سائر أَنْوَاعِ الدفع، وبه قال المَاسَرْجِسِيُّ، ثم ذكر خِلاَفًا في أنه هل يَتَعَيَّنُ قصد الرجل؟ ففي وجه يتعين؛ لأن الدخول بها، كما يتعين قَصْدُ العين في النظر. والأظهر: أنه لا يتعين؛ لأنه داخِلٌ بجميع البَدَنِ، وذكر خلافًا في أنه هل يجوز قَصْدُ العَيْن؟ ¬
فروع تتعلق بالصيال
فعن أبي إسْحاقَ، وأبي علي بن أبي هريرة والطَّبَرِيِّ أنه يجوز؛ لأنه بأول الهجوم مُتَطَلِّعٌ كالناظر، ومنهم من منعه. والأظهر: أن له دفعه بما تَيَسَّرَ، ولا يَتَعيَّنُ للقصد عضو، ولا يمتنع قصد عضو. ودخول الفُسْطَاطِ في الصحراء كدخول الدار في البُنْيانِ. ولو أخذ المتاع وخرج، فله أن يتبعه، ويقاتله إلى أن يطرح مَتَاعَهُ. وإذا قتله وقال: قتلته؛ لأنه كابر، ولم يخرج، وأنكر الولي، فهو المصدق، وعلى القاتل البَيِّنَةُ، وان قال: قَتَلْتُهُ؛ لأنه قصدني، فكذلك. وقد ذكرنا أنه يحتاج إلى البَيِّنَةِ على أنه دخل داره [مقبلاً شاهراً سَيْفَهُ، ولا يكفي البَيِّنَةُ على أنه دخل داره] (¬1) بسلاح من غير شَهْرٍ. ومواضع العلامات بين ألفاظ الكتاب ظَاهِرَةٌ. وقوله: "ولو كان البَابُ مفتوحاً لم يجز قَصْدُ عينه ... " جواب على أنه لا يجوز الرَّمْيُ إذا ترك الباب مَفْتُوحاً. وقوله: "بالإنذار" كأنه جعل على هذا الوَجْهِ وُقُوفَهُ على الباب بِمَثابَةِ دخول الدار، والداخل لا يدفع إلا بإنذار على الوجه الأَشْبَهِ. " فُرُوعٌ تتَعَلَّقُ بالصِّيَال" قال القاضي ابن كَجٍّ: إذا صالَ عليه الفَحْلُ، وقدر على الهَرَب، فلم يهرب، وقتله دَفْعاً هل يلزمه (¬2) الضَّمَانُ؟ يبني على أنه هل يجب الهرب (¬3) إذا صَالَ عليه إنسان؟ إن قلنا: نعم وَجَبَ الضمان، وإلا فلا، وأبْدَى تَردُّداً في أنه هل يَحِلُّ له أَكْلُ البهيمة التي أتى الدَّفع عليها. قال الشيخ إبراهيم المَرُّوروذِيّ: إن لم يصب المذبح [لم تحل، وإن أصاب المَذْبَحَ] (¬4) فوجهان؛ لأنه لم يقصد الذبح والأكل (¬5). وذكر أن العَبْدَ المبيع لو صالَ على البائع، أو على أجنبي قبل القبض، فقتله في الدفع، ينفسخ العَقْدُ. ¬
النظر الثالث فيما تتلفه البهائم
و [أنه] (¬1) لو صَالَ على المشتري، فقتله في الدَّفْعِ، هل يصير قابِضاً؟ فيه وجهان. وأن العبد المَغْصُوبَ أو المستعار، لو صَالَ على مالكه، فقتله دفعاً، فهل يَبْرَأُ الغاصب، والمستعير من الضَّمَانِ؟ فيه وجهان: قال: والأصح أنهما لا يَبرَءانِ. وفي "البيان": أنه لو قطع يَدَ الصائل في الدفع، فلما وَلّى تبعه، فقتله، وجب عليه القِصَاصُ عن النفس. وحكي عن بعض الأصحاب أن لِوَرَثَةِ المَصُولِ عليه أن يرجعوا في تَرِكَةِ الصائل بنصف الدية. قال والذي يقتضيه المَذْهَبُ أنهم لا يرجعون بشيء؛ لأن النفس لا نقص بِنُقْصَانِ اليَدِ. [والله أعلم]. قال الغَزَالِيُّ: (الطَرَفُ الثَّالِثُ فِيمَا تُتْلِفُهُ البَهَائِمُ) وَمَا أكَلَتْهُ البَهَائِمُ مِنَ المَزَارعِ بِالنَّهَارِ فَلا ضَمَانَ، وَبِاللَّيْلِ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى رَبِّ البَهِيمَةِ إِلاَّ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ البُسْتَانِ وَبَابُهُ مَفْتُوحٌ بِاللَّيْلِ فَإنَّ التَّقْصِيرَ مِنْ رَبِّ البُسْتَانِ، وَلَوْ سَرَّحَ فِي جوَارِ المزَارعِ مَعَ اتِّسَاعِ المَرَاعِي ضَمِنَ لِأَنَّهُ مفَرِّطٌ، وَحِفْظُ المَزَارعِ بِالنَّهَارِ عَلَى مَالِكِهَا، وَحِفْظُ البَهِيمَةِ بِاللَّيْلِ عَلَى مَالِكِهَا، وَمَنْ أَخْرَجَ البَهِيمَةَ مِنْ مِلْكِ نَفْسِهِ إلى مِلْكِ جَارِهِ ضَمِنَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الإِخْراجُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَعَلَيْهِ الصَّبْرُ وَطَلَبُ الضَّمَانِ مِنْ رَبِّ البَهِيمَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: كان الأَحسَن أن يستمر على لَفْظَةٍ واحدة، فيقول: النظر الثالث كما قال: النظر الأول في الولاة [والنظر الثاني في رفع الصائل، أو يقول: الطرف الأول] (¬2). والثاني، كما قال: "الطرف الثالث". وقد سبق لصاحب الكتاب إِبْدالُ إحداهما بالأخرى في مواضع. والأمر فيه هَيِّنٌ، والمقصود الكلام [ضمان ما] (¬3) تتلفه البَهَائِمُ، ولا يخلو الحال إما [ألا يكون] (¬4) معها صاحبها من مالك وغيره، أو يكون. الحالة الأولى: إذا لم يكن معها أَحَدٌ، وأتلفت مَالاً من زَرْعٍ وغيره، فينظر إن أتلفه بالنهار، فلا ضَمَانَ على صاحب الدَّابَّةِ، وإن أتلفته بالليل، لَزِمَهُ الضمان. وعند أبي حَنِيْفَةَ: لا ضَمان في الحالتين. لنا: ما روي عن حرام بن سعد بن محيصة أن ناقَةً للبراء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- دخلت ¬
حَائِطَ قَوْمٍ، فأفسدت فيه، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أن على أهل الأموال حِفْظَهَا بالنهار، وما أفسدته المَوَاشِي بالليل فهو ضَامِنٌ على أَهْلِها" (¬1) أراد بالأمْوالِ الزُّرُوعَ والبساتين. وقوله: "فهو ضامن على أهلها" أي: مضمون، كقولهم: سر كَاتِماً، أي: مكتوم، والمعنى في الفَرْقِ أن العادة الغالبة أن أَرْبابَ الزروع والبساتين يَحْفَظُونَها بالنَّواظِرِ والحفظة المرتبين لها نَهَاراً، والمواشي لا بد من إِرْسَالِهَا لِلرَّعْي، ثم العادة أنها لا تُتْرَكُ منتشرة بالليل، بل تُرَدُّ إلى أماكنها، فمن أرسلها ليلاً، أو تركها منتشرة بالليل، فقد قَصَّرَ، ولزمه الضَّمَانُ. قال الإِمام: ولم يَتَعلق الضَّمَانُ برقبة البهيمة، كما يَتَعَلَّق برقبة العبد؛ لأن الضمان فيما تُتْلِفهُ البهيمة مُحَالٌ على تقصير صَاحِبهَا، وهي كالآلة له، والعبد ملتزم دُونَهُ، وأقرب ما يؤدى منه ما يلزمه رَقَبَتَهُ، فتعلق بها، وإن كان أعْجَمِيّاً، ففي تعلقه برقبته خلاف قد سبق، والفرق في الخَبَرِ على ما ذكرنا مَبنِي على ما كانوا يَعْتَادُونَهُ غالبًا في حفظ الزرع والمواشي، ووراءه أحوال لا بد من معرفتها: إحداها: لو جَرَتِ العادَة في بعض النواحي على العَكْسِ، وكانوا يرسلون المواشي لَيْلاً لترعى، وَيرْبطونها نَهَاراً، وكانوا يحفظون الزرع ليلاً، ففيه وجهان: أظهرهما: أن الحكم يَنْعَكِسُ، فيجب على صَاحِبِ البهيمة ضَمانُ ما أَتْلَفَهُ بالنهار دون اللَّيْلِ اتباعا لما فَهِمْنَاهُ من الخَبَرِ، وهو ربط الضمان بالتقصير. والثاني -ويحكى عن رِوايَةِ الشيخ أبي علي: أنه لا يتبع العادات، ولا يعدل عن الحُكْمِ المبين في الخَبَرِ. والثانية: المزارع في الصَّحْرَاءِ والبساتين التي لا جِدَارَ لها حكمها ما ذكرنا أما إذا كان الزَّرْعُ في محوط، وكان للبساتين باب يغلق، فتركه مَفْتُوحاً، ففيه وجهان: ¬
أحدهما: أن الحكم على ما ذكرنا لإطلاق الخبر، ولأن العَادَةَ حفظ البَهَائِمِ، وربطها في أماكنها بالليل، فإرسالها تقصير. وأصحهما: وبه قال صاحب "التلخيص": أنه لا ضَمَانَ على صاحب البهيمة، وإن أفسدت بالليل؛ لأن التَّقْصِيرَ هاهنا من رَبِّ البستان و [صاحب] الزَّرْع حيث ترك الباب مَفْتُوحاً. والثالثة: إنما يعتاد إِرْسَال المَوَاشي إذا كان هُنَاكَ مَزَارعُ بعيدة من المَزَارع، وحينئذ إن فرض انْتِشَارُها إلى أطراف المزارع لم يعد تقصيراً، فأما إذا كانت المَراعِي مُتَوَسِّطَةً للمزارع، أو كانت البهائم ترعى في حَرِيمِ السَّوَاقِي بين الأقرحة المَزْرُوعَةِ، فلا يعتاد إرسالها، بلا رَقِيب، فإذا أرسلها فهو مُقَصِّرٌ ضامن لما أفسدته وإن كان بالنَّهَارِ هذا هو الظاهر، وبه قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ والأئمة ومنهم من جَرَى على الخلاف للخبر، ولم يفرق. والرابعة: صاحب الدَّابَّةِ لو ربطها لَيْلاً، وأغلق البَابَ، واحْتَاطَ على العادة، ففتح الباب لصّ، أو انْهَدَمَ جدار، فخرجت فلا ضَمَانَ عليه؛ لأنه لا تقصير منه. وإن كان صَاحِبُ الدابة مقصراً، ولكن صاحب الزَّرْعِ حاضر، فإن قدر على تَهْيِيجِهَا وتنفيرها، فليفعل، وإن قدر، فَتَهاوَنَ فهو المقصر المضيع لِزَرْعِهِ، فيسقط الضَّمَانُ عن صاحب الدَّابَةِ. هكذا ذكر الإِمام، وصاحب الكتاب. ويجيء فيه وجه آخر، كما ذكرنا فيما إذا لم يغلق بَابَ البُسْتَانِ، وأيضًا فإنه لو أَتْلَفَ غيره ماله، وهو ساكت لا يسقط الضَّمَانُ، ولا ينبغي أن يبالغ في التنفير (¬1)، والإبْعَادِ، بل يقتصر على قدر الحَاجَةِ، فإن زاد فَضَاعَتْ. قال إبراهيم المروروذي: يلزمه ضَمَانُهَا، وتصير دَاخِلَةً في ضمانه بالتنفير، فوق قدر الحاجة. ولو أَخْرَجَهَا من زَرْعِهِ، وأدخلها في زَرْع غيره، فأَفْسَدَتْهُ، فعليه الضَّمَانُ، وإن كانت مَحْفُوفَةً بمزارع الناس، ولم يمكن إخراجها إلا بِإِدْخَالِهَا مزرعة الغير، فلا يقي مَالَ نفسه بمال غيره، ولكن يصبر، ثم يغرم صاحب الدابة. والخامسة: إذا أرسل الدَّابَّة في البلد، فأتلفت شَيْئاً -حكى القاضي ابن كج عن أبي الطيب بن سلمة أنه يَضْمَنُ؛ لأن الدَّابة في البلد تراقب، ولا تُرْسَلُ وحدها. وعن غيره أن الإِرْسالَ في البلد، كالإِرْسَالِ في الصحراء، [والوجه الأول] (¬2). وجميع ما ذكرنا فيما إذا تَعَلَّقَ إرسال الدابة، وضبطها باختياره فأما إذا انْفَلَتَتْ، لم يضمن ما تُتْلِفُهُ بحال. ¬
فرع
وإذا ربط دَابَّة في المَوَاتِ، أو في مِلْكِ نفسه، وغاب عنها لم يضمن ما تُتْلِفُهُ، وإن ربطها في الطريق على باب دَارِهِ، أو في موضع آخر، فعليه الضَّمَانُ، سواء كان الطريق ضَيِّقاً، أو واسعاً؛ لأن الارتفاق في الطريق، وان كان جَائِزاً مَشْرُوطٌ بِسَلاَمَةِ العاقبة، كإشراع الجَنَاحِ إليه وفيه وجه: أنه إن كان وَاسِعاً فلا ضَمَانَ عليه، والأول المنصوص ولم يَتَعَرَّضُوا للفرق بين أن يربط بِإِذْنِ الإِمام، أو دون إذنه كما فعلوا في حَفْرِ البِئْرِ في الطريق إذا حفر لِمَصْلَحَةِ نفسه. وقوله في الكتاب: "وبالليل يَجِبُ" مُعْلَمٌ بالحاء. وقوله: "إلا أن يأكل من البستان" بالواو. وكذا قوله: "مع اتساع المراعي ضمن" لما بَيَّنَّا. وقوله: "وحفظ المَزَارع بالنهار على مالكها، وحفظ البَهِيمَةِ بالليل على مالِكِها" توجيهٌ لما سَبَقَ من الفَرْقِ بين الليل والنهار، وتتمةٌ له. " فَرْعٌ" إذا أرسل الحَمامَ أو غيرها من الطُّيُورِ، فكسرت شَيْئاً، أو التقطت حَبّاً، فلا ضَمَانَ؛ لأن العادَةَ جَرَتْ بإرسالها. ذكره ابن الصباغ. قال الغَزَالِيُّ: أَمَّا مَا تُتْلِفُهُ البَهِيمَة فِي الطَّرِيقِ وَمَعَهَا مَالِكُهَا بِخَبْطِهَا أَوْ رُمْحِهَا أَوْ عَضِّهَا فَالضَّمَانُ عَلَى صَاحِبِهَا، دُونَ مَا يَفِرُّ بِرَشَاشِ الوَحَلِ وانْتِشَارِ الغُبَارِ إِلاَّ مَا يَخْرُجُ عَنِ العَادَةِ مِنْ رَكْضٍ مُفْرِط فِي الوَحْلِ وَالأَسْوَاقِ، أَوْ تَرْكِ الإِبِلِ غَيْر مُقَطَّرَةِ، وَمَا يَتَخَرَّقُ مِنَ الثَّوْبِ بِالحَطَبِ مِنْ خَلْفٍ ضَمِنَهُ صَاحِبُ الدَّابَّةِ إِلاَّ أَنْ يُقَدِّمَ الإِعْلاَمَ والبَيِّنَةَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الحالة الثانية: إذا كان صاحب البَهِيمَةِ معها، فعليه ضَمَانُ ما تتلفه من مال، ونَفْسٍ، سواء أتلفته ليلاً أو نهارًا وسواء كان الذي معها سَائِقهَا أو رَاكبها، أو قَائِدُهَا، وسواء أتلفت بخَيْطِهَا، وهو الضرب باليد، أو بِرُمْحِهَا، وهو الضَّرْبُ بالرجل، أو بِعَضِّها، أو ذَنبها (¬1) لأنها تحت يده، وتحت تَصَرُّفِهِ، وعليه القيام بِتَعَهُّدِهَا وحفظها. وقال أبو حنيفة: الراكب والقائد يَضْمَنانِ ما تُتْلِفُهُ بيدها وفمها، دون ما تتلفه برجلها وذَنَبِها، والسائق يضمن الكل. واحتج الأصحاب بأنها تحت يده على الأحوال كلها، وكما لا يرى القائد ما تفعل برجلها [وذنبها] (¬2) لا يرى السائق ما تَفْعَلُ بيدها وفَمِهَا. ¬
ولا فرق بين أن يكون معها المالك، أَو أَجِيرُهُ [أو مستأجر الدَّابَّةِ (¬1)،] أو المستعير، أو الغاصب لشمول اليَدِ، ولا فرق بين البَهِيمَةِ الواحدة، وبين عَدَدٍ منها كالإِبِلِ المُقَطَّرَةِ، ولو كان معها قائد وسَائِقٌ، فالضمان عليهما بالسَّوِيَّةِ، لأنها تحت يدهما، وفي الراكب مع السائق أو القائد وَجْهَان: أحدهما: أن الجواب كذلك. والثاني: تخصيص الرَّاكِبِ بالضمان لقوة يَدِهِ، وتصرفه، وبنى ذلك على الخِلاَفِ فيما إذا تَنازَعَ الراكب والسائق في الدَّابة تجعل في يَدِهِما، أو تختصُّ بالراكب، وإن اجتمع الرَّاكبُ والسائق والقائد، ففي وجه يختصُّ الراكب بالضَّمَانِ. وفي وجه نجعله بينهم أثْلاَثاً. ولو كان يسير دابة فَنَخَسَها إنسان، فَرَمَحَتْ، وأتلفت شيئًا، فالضمان على الناخس وفي كتاب ابن كج وَجْهٌ آخر أنه عليهما، وإن انفلتت (¬2) الدابة من يد صاحبها، وأتلفت شيئًا، فلا ضَمَان عليه بخروجها من يده، ولو كان راكبها فعَصَتْ على اللِّجَامِ، وركبت رأسها، فهل يضمن ما تتلفه؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لخروج الأمر مِنْ يده وعن اختياره. والثاني: نعم -لأن من حَقِّهِ أن يضبط مَرْكُوبَهُ، أو لا يركب ما لا يضبطه وعن صاحب "التلخيص" طَرْدُ الخلاف وإن لم يكن [الذي] (¬3) معها [راكباً] (¬4) كما إذا غلبت السَّفِينَتَانِ الملاَّحين. قال الإِمَامُ: والدابة النَّزِقَةُ التي لا تنضبط بالكَبْح والترديد في مَعَاطِفِ اللِّجَامِ، لا تركب في الأسْوَاقِ، ومن ركبها فهو مُقَصِّرٌ ضامن لما تُتْلِفه، وإذا راثَتِ الدابة أو بَالَتْ في سَيْرِها في الطريق، فزلق به إنسان، وتَلِفَ نفس أو مالٌ، أو فَسَدَ شيء من رَشَاشِ الوَحْلِ بممشاها وقت الوَحْلِ والأنْدَاءِ، أو بما يَثُورُ من الغُبَارِ، وقد يضر ذلك بثياب البَزَّازِينَ، وبالفواكه، فلا ضَمَانَ؛ لأن الطريق لا تَخْلُو عن ذلك والمَنْعُ من الطُّرُوقُ مما لا سبيل (¬5) إليه. ¬
نعم ينبغي أن يحترز مما لا يعتاد كالرّكْضِ المُفْرِطِ في الوَحْلِ، والإجراء على مجتمع الوُحُولِ، فإن خالف، ضمن ما يحدث منه، وكذا لو ساق الإِبِلَ في الأسواق غير مُقَطَّرَةٍ، فإنه لا يمكن ضبطها حينئذ، وإذا بالت الدَّابة، أو راثَتْ، وقد وقفها في الطريق، فأفضى المرور في موضع البَوْلِ والروث إلى تَلَفٍ، فعلى الخلاف المذكور فيما إذا أَتْلَفَتِ الدابة الموقوفة هناك شيئاً. والأَظْهَرُ: أنه لا يَجِبُ الضَّمَانُ، ومنهم من فَرَّقَ بين أن يكون الطريق ضَيِّقاً، أو وَاسِعاً. و [قد] (¬1) روى القاضي ابن كَجٍّ عن ابن الوَكِيلِ وَجْهاً مطلقًا: أنه يجوز أن تَقِفَ الدَّابَّةُ في الطريق، كما يجوز أن يُجْرِيَها، فإذا بَالَتْ، أو رَاثَتْ في وقوفها، وتَلِفَ به إنسان، لم يضمن ولو (¬2) كان يركض دابته فأصاب شيء من موضع السَّنَابِكِ عَيْنَ إِنْسَانٍ، وأبطل ضَوْءَهَا، فإن كان المَوْضِعُ مَوْضِعَ الرَّكْضِ، فلا شيء عليه، وإن لم يكن وجب الضَّمَانُ، وإذا كان يسوق دَابَّةً عليها حَطَبٌ، أو حمله على ظهره، أو على عجلة فاحْتَّك ببناء، وأسقطه، وَجَبَ عليه (¬3) ضَمَانُهُ، وإن دخل السوق به وتَلِفَ منه مال، أَوْ نَفْسٌ، ففي "التهذيب" وغيره أنه إن كان [ذلك] (¬4) وقت الزِّحَامِ، فعليه الضَّمَانُ، وإن لم يكن في وقت الزِّحَامِ، وتمزق ثوب بخشبة تَعلَّقَتْ به مثلاً، فَإن كان صاحب الثوب مُسْتقبلاً للدابة، فلا ضمان؛ لأن التقصير منه إلا أن يكون أَعْمَى، فعلى صاحب الدَّابَةِ إِعلامه [وتنبيهه] (¬5) وإن كان يَمْشِي بين يَدَي الدَّابة، فعلى صاحبها الضمان إذا لم يعلمه؛ لأنه مقصر في العادة، وإن كان من صَاحِب الثوب جَذْبَةٌ أيضًا، بأن تَعَلَّقَتِ الخَشَبَةُ بثوبه، فجذبه وَجَذَبَتْهُ البهيمة، فعلى صاحبها نِصُفُ الضمان. وفي تعليقة [إبراهيم المروروذي] أنه لو كان يَمْشِي، فوقع مقدم مَدَاسِهِ على مُؤَخِّرِ مداس آخر، وَتَمَزَّقَ، يجب نِصْفُ الضمان، ويهدر النصف، لأنه تَمَزَّقَ بفعله، وفعل الآخر، ولك أن تقول: هذا الجَوَابُ إنما يظهر حيث يكون لكل واحد منهما قوة واعتماد على الآخر، كما في تَصَادُمِ الشخصين والسفينتين، فأما إذا كانا جَمِيعاً يَقْصِدَانِ ¬
جِهِةً واحِدَةً فليس للسابق قوة (¬1)، واعتماد على اللاحق (¬2)، فينبغي أن يقال: إن تَمَزَّقَ مَدَاسُ السابق، فالضمان على اللاحق، وإن تمزق مقدم مداس اللاَّحق، فلا ضَمَانَ على السابق. وقوله في الكتاب: "فالضمان على صَاحِبهَا" يجوز إعْلاَمُهُ بالواو؛ لأن في كتاب القاضي ابن كَجٍّ وجهًا مُفَصّلاً عن بعضهم بين الحَيَوانِ والحيوان وبين السَّوْقِ والقَوَدِ [قال]: إن كانت الماشية مما تُسَاقُ كالغنم، فَسَاقَهَا لم يلزمه شيء، وعلى صاحب المَتَاعِ حِفْظُ متاعه، كما ذكرنا أن على صَاحِبِ الزَّرْع حِفْظَ الزرع في الصحراء، وإن كانت مما تُقَادُ، ويؤخذ بمخطمها وساقها، فعليه الضَّمَانُ؛ لأنه مُقَصِّرٌ في حفظها، والمشهور الإطلاق كما تقدم. واعلم أن جَمِيعَ ما ذكرنا في وُجُوبِ الضمان على صَاحِبِ الدَّابَةِ هو فيما إذا لم يُوجَدْ من صاحب المال تَقْصِيرٌ، فإن وجد بأن عَرَضَهُ للدابة، أو وَضَعَهُ في الطريق، فلا ضَمَانَ على صاحب الدابة. قال الغَزَالِيُّ: (فَرْعٌ) أَمَّا ما تُتْلِفُهُ الهِرَّةُ المَلُوكَةُ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى صَاحِبَها عَلَى وَجْهٍ إِذْ لا يُعْتَادُ ربْطُهَا، وَيَجِبُ عَلَى وَجْهٍ وَهِيَ كَالبَهِيمَةِ لاَ يُضْمَنُ إِلاَّ مَا أتلَفَتْهُ بِاللَّيْلِ عَلَى وَجْهٍ، وَقِيلَ لا يُضْمَنُ إلاَّ مَا أَتلَفَتْ بِالنَّهَارِ إذِ التَّقْصِيرُ بِاللَّيْلِ مِمَّنْ لا يُغَطِّي الطَّعَام، وَلَوْ صَارَتْ هِرَّةً ضَارِيَةً بِالإِفْسادِ فَفِي جَوَازِ قَتْلِهَا إلْحَاقاً لَهَا بِالفَوَاسِقِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا كَانت له هِرَّةٌ تأخذ الطُّيُورَ، وتقلب القُدُورَ، فأتلفت شيئًا، فهل على صاحبها الضَّمَانُ؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم، سواء أتْلَفَتْهُ ليلاً أو نهارًا لأن مثل هذه الهِرَّةِ ينبغي أن تربط ويكف شرّهَا، وكذا الحال في كل حَيَوانٍ مُولَعٍ بالتَّعَدِّي. والثاني: لا، سَوَاء أتْلَفَتْ ليلاً، أو نهاراً لأن العادة لم تَجْرِ بِربْطِ السَّنَانِيرِ، وتقييدها، وإن لم يعهد منها ذلك فوجهان: أشبههما: أنه لا ضَمَانَ،؛ لأن العادة حِفْظُ الطعام عنها لا ربطها. والثاني: أنه يفرق بين الليل والنهار، كما سَبَقَ في البَهَائِم، وترك الإِمام، وصاحب الكتاب [هذا] (¬3) التفصيل والتقسيم، وأَطْلَقَا في ضَمَانِ ما تتلفه الهِرَّةُ أربعة أوجه: النَّفي والإيجَاب المطلقان. ¬
والثالث: يضمن ما أَتْلَفَتْهُ بالليل، دون النَّهَارِ، كما ذكرناه في البَهَائِم؛ لأن أكثر انْتِشَارهَا بالليل لِنَوْمِ الحَفَظَةِ، وغَفْلَتَهِمْ، فينبغي أن يحتاط صاحبها بِرَبْطِهاَ، أو إِغْلاقِ الباب (¬1) عليها، أو سَدِّ المَنَافِذِ. والرابع: يضمن ما أَتْلَفَتْهُ بالنهار دون الليل؛ لأن الأشياء تُحْفَظُ عنها ليلاً، فترد الطيور إلى أمَاكِنها المُهَيَّأَةِ لها، وتغطي الأطعمة، فيحال التَّلَفُ على تقصير صاحب المَالِ. وإذا أخذت الهِرَّةُ الحَمَامَةَ، وهي حية جازَ فَتْلُ أذنها والضرب في فيها لِتُرْسِلَها، وإذا قصدت الحَمَامَ، فأهلكت في الدفع، فلا ضَمَانَ، والتي صَارَتْ ضَارِيَةً مفسدة، هل يجوز قَتْلُهَا في حال سكونها؟ فيه وجهان عن القفال: أحدهما: أنه لا يجوز لأن ضَرَاوَتَهَا عارضة، والتحرز عن شَرِّهَا سَهْلٌ. وعن القاضي الحُسَيْنِ: أنها تُلْحَقُ بالفَوَاسِقِ الخمسة، فيجوز قتلها ولا يختصّ بحال ظهور الشر، والأول أقْرَبُ. قال الإِمام: وقد انْتَظَمَ لي من كلام الأصحاب أن الفَوَاسِقَ مَقْتُولات لا يَعْصِمُها الاقْتِنَاءُ، ولا يجري المِلْكُ عليها، ولا أَثَرَ لليد والاختصاص فيها، ولو كان في داره كَلْبٌ عَقُورٌ، أو دابة رَمُوحٌ، فدخلها إنسان، فرمحته، أو عَضَّهُ الكلب، فلا ضمان إن دخل من غَيْرِ إِذْنِ صاحب الدار، وكذا إن دخل بِإِذْنِهِ، وأعلمه حال الكَلْبِ والدابة، وإن لم يعلمه، فقولان كما لو وَضَعَ الطَّعَامَ المَسْمُومَ بين يدي إنسان، فأكله. ومنهم من خَصَّصَ الخِلاَفَ بما إذًا كان أعْمَى، أو كان في ظُلْمَةٍ، وقطع بنفي الضمان إذا كان بصيرًا يَرَى. ولو ابْتَلَعَتْ بهيمة في مُرُورِهَا جَوْهَرَةً، ضَمِنَهَا صاحبها إن كان مَعَها، أو وُجِدَ منه تَقْصِيرٌ بأن طرح لؤلؤ غيره بين يدي دَجاجَةٍ، وإلا فوجهان (¬2): أحدهما -وبه قال ابن أبي هُرَيْرَةَ: أنه يفرق بين اللَّيْلِ والنهار، كما في إتلاف الزرع. والثاني: يضمن ليلاً كان أو نهارًا؛ لأن تَعَرُّضَ الأَنْعَامِ للزرع مألوف، فعلى صاحب الزَّرْعِ أن يَحْتَاطَ له، والتعرض للجوهرة غير مَأْلُوفٍ، وإذا أوجبنا الضَّمَانَ، ¬
فطلب صاحب الجوْهَرَةِ ذبحها، وَرَدَّ الجوهرة، فقد سبق ذكره في الغَصْبِ. وفي فتاوى صاحب التهذيب رحمه الله فروع تَتَعَلَّقُ بهذه الأبواب وفيها ما سَبَقَ نَظِيرُهُ أو عينه، وقد أَعَدْنَاهُ لزيادة ذكرها. [قال]: الراعي كالمالك يَضْمَنُ ما أتلفته الدابة في يده، ولو أُودِعَ دابة من إنسان، فأرسلها فأتْلَفَتْ شيئًا، فعلى المُودَعِ الضَّمَانُ ليلاً كان أو نهاراً؛ لأن عليه حِفْظَهَا بالليل والنهار، وفي هذا توقف ويشبه أن يقال: عليه الحِفْظُ بِحَسَبِ ما يحفظ المُلاَّكُ. [قال]: ولو اسْتَأْجَرَ رَجُلاً لحفظ دَوَابِّهِ، فأتلفت زَرْعًا ليلاً أو نهاراً، فعلى الأجير الضَّمَانُ؛ لأن عليه حِفْظَهَا في الوقتين، وذكر أنه رأى المسألة كذلك في طريقة "العِراقِ" (¬1) في "كتاب الغَصْبِ" وذكر أنه لو دخلت دَابَّةُ إِنْسَانٍ مِلْكَ آخر، فأخرجها، ضمن كما لو هَبَّتِ الرِّيحُ بِثَوْبٍ في حجرة. وألقاه، يَضْمَنُ، بل عليه رَدُّهَا إلى المال، فإن لم يجده دَفَعَهَا إلى الحاكم، إلا أن تكون مُسَيِّبَةً من جهة المالك؛ كالإِبِلِ والبَقَرِ، وعلى هذا فالذي قَدَّمْنَا أنه يخرجها من زَرْعِهِ، إلا إذا كان زرعه مَحْفُوفاً بزرع الغَيرِ، فيحمل على ما إذا كانت مُسيَّبَةً من جهة المالك. وأنه إذا دَخَلَتْ بهيمة أرضه، فأتلفت زَرْعَهُ، دفعها كما يدفعها لو صَالَتْ عليه فإن نَحَّاهَا عن الزرع، واندفع ضَرَرُهَا، لم يجز إِخْرَاجُهَا عن الملك وشغلها المَكَان، وإن كان فيه ضَرَرٌ لا يبيح إِضَاعَةَ مال الغير، ولو أن مالكها أَدْخَلَهَا في ملكه، بغير إذنه، فأخرجها مالك الأرْضِ بعد ما غاب مالكها أو لو وضع إنسان مَتَاعَهُ في المَفَازَةِ على دابة الغَيْرِ بِغير إذنه وغاب، فأَلْقَاهَا صاحب الدابة (¬2) فيحتمل وجهين: أحدهما: لا يضمن؛ لِتَعَدِّي المالك. والثاني: يضمن؛ لأنه مُتَعَدٍّ بالتَّضْييع. وأنه لو كان يَقْطَعُ شجرة في ملكه، فسقطت على رِجْلِ وَاحِدٍ من النَّظَارَةِ فَانْكَسَرَتْ، نظر إن كان ذلك الرجل يعرف أن الشَّجَرَة إذا سَقَطَتْ تصيبه، فلا ضَمَانَ على قاطعها، وإن كان لا يَعْرِفُ، والقاطع يعرف، ولم يخبره، ضَمِنَ، سواء دخل مِلْكَهُ بإذنه، أو بغير إذْنِهِ. وإن كانا جاهلين بأنها تصيبه، فلا ضَمَانَ؛ لأنه مُتَصَرِّفٌ في ملكه، وإن كانا ¬
عالمين فكذلك؛ لأن التعدي والتقصير منه حيث لا يحترز. وأنه لو دخلت بقرة [في ملكه] (¬1) فأخرجها من ثُلْمَةٍ، فهلكت، ضَمِنَ إن لم تكن الثُّلْمَةُ بحيث تخرج البقرة منها بسهولة، وأن دابة الغَيْرِ إذا دخلت مِلْكَهُ، فرمحت صاحب المِلْك، فمات، فحكم الضمان كما إذا أَتْلَفَتْ زَرْعَهُ، يفرق بين الليل والنهار. وإذا أوجبنا الضَّمَانَ تكون الدِّيَةُ على العاقلة، كما في حفر البِئْرِ. وأنه لو ركب صبيٌّ، أو بالغ دَابَّة إنسان بغير إذنه، فغلبته الدَّابة، فأتلفت شيئًا، وجب على الرَّاكِب الضمان، بخلاف ما إذا رَكِبَ المَالِكُ فَغَلَبَتْهُ، حيث لا يضمن على قول؛ لأنه غير مُتَعَدٍّ، وأنه إذا هَاجَتِ الرِّيَاحُ، وأظلم النهار فتفرقت غَنَمُ الراعي، ووقعت في زَرْعٍ فَأفْسَدَتْهُ، فالراعي مَغْلُوب، وفي وجوب الضَّمَانِ عليه قولان: أظهرهما: المنع، وكذا الحكم لو نَدَّ بعيرٌ من صَاحبِهِ، فأتلف شيئًا ولو نام، فتفرقت الأَغْنَامُ، وأتلفت ضَمِنَ؛ لأن النوم تقصير من جِهَتِهِ، وأن الرجل لو كان على دَابَّةٍ فسقطت ميتة، وأهلكت مالاً، أو مات الرَّاكب، وسقط على شَيْءٍ لم يضمن، وكذا لو انْتَفَخَ ميت، وَتَكَسَّرتْ من انْتِفَاخِهِ قارُورَةٌ، بخِلاف الطفل يسقط على قَارُورَةٍ يضمن، لأن للصبي فِعْلاً، والميت لا فعْلَ له، وأنه لو استقْبَلَ دَابَّةً يردها، فانصرفت، وأَتْلَفَتْ في الانصراف شيئًا، وجب الضَّمَانُ على الراد. ولو نَخَسَها، فأسقطت الراكب أو رَمَحَتْ منه إنْسَاناً، فأهلكته، فعلى النَّاخِسِ الضَّمَانُ، وإن نخس بإذن صَاحِب الدابة، فالضَّمَانُ يَتَعَلَّقُ بصاحب الدابة ولو حَلَّ قيداً عن دابة، فخرجت وأهلكت شيئاً، لا يضمن الحال، كما لو أبطل الحرْزَ فأخذ المَالَ، وأنه لو سقطت دابة في وَهْدَةٍ، فَنَفَرَ من وَهْدَتِهَا بعير آخر، وهَلَكَ، لا يجب ضمانه على صَاحِبِ الدابة. وأنه إذا ابتاع بَهِيمَةً بثمن في ذمته، فأتلفت على المشتري مالاً، فعلى البائع ضَمَانه؛ لأنها في يده، وإن كانت مِلْكاً للمشتري كما إذا أَتْلَفَتِ البهيمة المُسْتَعَارَةُ شيئًا على المُعِير [يضمنه المُسْتَعِيرُ] [وأنه لو ألقى نُخَامَتهُ في الحمام فزلقتِ رِجْلُ حُرٍّ أو عَبْدٍ فتكسَّرَتْ، فعليه الضَّمَانُ إن ألْقَاهَا على المَمَرِّ] (¬2). والله أعلم. ¬
كتاب السير
كِتَابُ السِّيَرِ* وَفِيهِ ثَلاثَةُ أبْوَابٍ البَابُ الأَوَّلُ فِي وُجُوبِ الجِهادِ وَالنَّظَرُ فِي طَرَفَيْن: (الأَوَّلُ: وُجُوبُهُ) وَهُوَ واجِبٌ عَلَى الكِفَايَة فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً واحِدَةً فِي أَهَمِّ الجِهَاتِ* وَالإِمَامُ يَرْعَى النَّصَفَةَ فِي المُنَاوَبَةِ بَيْنَ النَّاسِ. قال الرَّافِعِيُّ: السِّيَرُ: جمعُ سِيرَة، وهي الطريقةُ، يُقال: إنها مِنْ سار يَسِير، والفِعْلة للهيْئَةِ، كالقِعْدة والركبة، وترجم الكتابَ بـ"السِّيَر"، لأنَّ الأحكام المُودعة فيه متلقاةٌ من سِيَر رسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- في غَزَواته. والمقصودُ: الكلامُ في الجهادُ (¬1) وأحكامِه، وبكتاب الجهاد ترجمه "صاحبُ التلْخِيص" وغيرُه. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والأَصْلُ في الكتاب الإجماعُ، وما لا يعد من الآيات والأَخْبارِ؛ كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]، وقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191] وقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] وقال -صلى الله عليه وسلم- "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَه إِلاَّ اللهُ" (¬1) وسُئِل رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الأعمال أفضلُ؟ فقال: "الصلاةُ لوقتها، فقِيل: ثم أَيّ؟ قال: بِرُّ الوالِدَيْن، قِيل: ثم أَيّ؟ قال: الجهادُ في سَبِيلِ اللهِ" (¬2). وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه لَغَدْوَةٌ في سَبِيل الله أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيها" (¬3) ولا بُدَّ من معرفة قضية هذه الترغِيبات والأَوَامر، وحال الجهاد، أَهُوَ واجِبٌ على الكفايَةِ، أو على الأعْيان؟ وكيف ما كان؟ فالجهادُ قد يُؤْتى به فيحتاج إلى الوقوف على كيفيته، وأحكامه وقد يقتضي الحالُ تركَه بأمان يعقد؛ فرتب المصنِّفُ -رحمه الله- الكتاب على ثلاثةِ أبوابٍ. أَحدُها: في وُجُوبِه. والثانِى: في كَيْفِيَّتِه. والثالِثُ: فِي تَرْكِهِ بالأَمان. أمَّا الأول: فقد ذكر الشافِعِيُّ -رضي الله عنه- والأصحابُ في صدره، أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لمَّا بُعِث أُمِر بالتبليغ والإِنْذَارِ بلا قتالٍ، واتَّبعه قومٌ بعد قوم، وفرضَتِ الصلاةُ بـ"مكة"، ولما هاجر فُرِضَ الصومُ بعد سنتين من الهجرة، واختلفوا في أنَّ الزكاة فرِضَتْ قبل الصيام أو بعده، وفُرِض الحجُّ سنة سِتٍّ، وقِيل: سنة خَمْس. ¬
وكان القتالُ مَمْنُوعًا عنه في ابتداء الإِسلام، بل أُمِرُوا بالصبر على أذى الكفار، والاحْتِمال منهم؛ على ما قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} إلى قوله: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186] ولمّا هاجر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة -وجبتِ الهجرةُ إليَها على مَنْ قَدَرَ؛ قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى قوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] ثم قال تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء: 98] فلمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ ارتفعت فرضيةُ الهجرة فيها إلى المدينة. وعلى ذلك يُحْمَلُ قولُه -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ (¬1) وَنيَّةٌ"، وبَقِيَ وجُوب الهجرة من دار الكُفْر في الجملة على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى- من بعد، ثم إِن الله تعالى أَذِنَ في القِتالِ مع مَنْ قَاتَل فقال عزَّ من قائل: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] ثم أباح ابتداءَ القتالِ، ولكن في غير الأَشْهُرِ الحُرُمِ على ما قال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] ثم أَمَرَ به من غير تَقييدٍ بشرط أو زمان، فقال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191] وقد ذكروا في خِلاَل هذه المقدمة أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يَعْبُدْ صَنَمًا قطٌّ، ورَووْا عنه أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا كَفَرَ باللهِ نَبِيٌّ قَطٌّ" وفي "البَيَانِ" أنه كان قبل أَنْ يُبْعَثَ كان مُتَمْسِّكاً بدين إبْرَاهِيم -عليه السلام- (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إذا عرفْتَ ذلك، فالجهادُ قد يكون فَرْضَ كفايةٍ، وقد يَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ (¬1) فالكلام في القِسْم الأول في طرفَيْن: ¬
أحدُهما: في وجُوبِهِ. والثَّانِي: في الأَعْذَارِ المسقِطَةِ له، وهما جميعًا محفوظان بالكلام في غير الجهادِ من فُرُوضِ الكفايات، أمَّا الوجُوبُ: فاختلَفُوا في أنَّ الجهادَ في عَهْدِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- كان فَرْضَ عَيْنٍ، أَوْ فَرْضَ كِفَايَةٍ، على وجهين: أحدُهما: أنه كان فَرْضَ عَيْنٍ؛ لقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] وقوله تعالى: {إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39]. ومَنْ قال به، قال: مَنْ لَمْ يَخْرُجْ كان يحرس المدينة وكانت ثَغْرَ الإِسلام، وحِرَاسَتُها نوع من الجهاد، وأظهرُهما أنها كانت فَرْضاً على الكِفَايَةِ، واحتجَّ له بقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} إلى قوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ
الْحُسْنَى} [النساء: 95] ذَكَرَ فَضْلَ المُجَاهِدِينَ، وَوَعَدَ الْقَاعِدِينَ بالحُسْنَى -أيضًا، ولو كان القَاعِدُونَ تَارِكِينَ للفرض لَمَا كان يعدهم بالجميل، وذكروا لوعيد مَنْ لم ينفر محملين. أَحَدُهما: أن ذلك كان في حالِ قِلَّة المسلمين، وكَثْرَةِ المشركين، فأمرُوا بالجهاد لئلا يُظْلَمُوا. والثاني: أَنَّ الوَعِيدَ لِمَنْ عَيَّنَهُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فإنه يَتَعَيَّنُ عليه الإجابةُ، وعلى المحملين فقد يثبت التعيينُ في غير ذلك الزَّمَانِ، امَّا لمعْنَى القِلَّةِ، والكثرة فظاهر. وأَمَّا الثَّانِي فلأَنَّ الإِمامَ إذا عَيَّن جَماعَةً فلا بُدَّ لهم من الطاعة والإذعان، وأمَّا بَعْدَ النبي -صلى الله عليه وسلم- فللكفار حَالَتَانِ: إحدَاهُمَا: إذا كانوا مستقرين في بلادهم لم يَقْصدوا المسلمين، ولا شَيْئًا من أموالهم، فالجهادُ معهم فرْضٌ على الكفايةَ، ولو فُرِضَ على الأَعْيَانِ، لتعطلت المعائِشُ والمكاسِبُ، ويدل عليه ما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من جَهَّزَ غَازِياً فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خلَف غَازِياً فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَقَدْ غَزَا" (¬1) وإن امتنع الكُلُّ عنه لحق الحرج، أو يعمهم أو يختص الذين ندبوا إليه؟ (¬2). حكى القاضي ابن كَجٍّ فيه وجهين، وإن قام به مَنْ فيه الكفاية، سقط عن الباقين، وذكر الأَصْحَابُ: أن الكفايةَ تحصُل بشَيئيْن: أحدُهما: أن يشحن الإِمام الثغور بجماعة من بإزائهم مِنَ العدُوِّ، ويكافِئُونهم، وَينْبَغي أن يَحْتَاط بإحكام الحصون وحفر الخنادِقِ ونَحْوِهما ويرتب في كل ناحية أميراً كافياً يقلِّده الجِهَادَ، وأمُورَ المسلمين. والثاني: أن يدخل [الإِمام] (¬3) دار الكُفْرِ غازياً بنفسه، أو يبعث جَيْشاً يؤمر عليهم مَنْ يَصْلُحَ لذلك، وأقله مرة واحدة في كُلِّ سَنَةٍ، وما زاد كان أفضل، والأَوْلَى أن يبدأ بقتال مَنْ يَلِي دارَ الإِسلامِ؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] وإن كان الخوفُ من الأَبْعد أكثَرَ بدأ بهم، ولا يجوزُ إِخْلاَءُ السنة عن مرَّةٍ واحدَةٍ إلاَّ لضرورةٍ بأَنْ يكُون في المسلمين ضَعْفٌ، وفي الأَعْدَاءِ كثرةٌ، ويُخَافُ ¬
من ابتدائِهم بالقتال الاسْتِئْصَالُ، أو لعذرٍ بأن يعز الزَّاد وعلف الدوابِّ في الطريق، فيؤخر إلى إدراك الغلاَّتِ، أو ينتظر لحوقُ مَدَدٍ، أو يتوقَّعُ إسلامُ قومٍ فيستحيلهم بترك القِتَالِ، ووجَّه الأصحابُ القول بأنه لا تخلو السنةُ عن الجهاد مرّةً واحدة؛ لفعْلِ رسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فإنَّهُ رُوِيَ أَنَّ غَزْوَةَ (¬1) بَدْرٍ كانت في السنة الثانِيَةِ من الهجرة، وكانت ¬
غزوةُ أُحُد (¬1) في الثالثَةِ، .................................... ¬
وغزوةُ ذاتِ الرقاعِ (¬1) في الرابِعَة، وغزوةُ الخَندَقِ (¬2) في الخامسة، وغزوةُ بَنِي النَّضِير (¬3) ¬
والمُرَيْسِيعِ (¬1) في السادسةِ، وفتحُ خَيْبَر (¬2) في السابعة، وفتحُ مكةَ (¬3) في الثامنة، وغزوةُ ¬
تَبُوكٍ (¬1) في التاسعة (¬2)، وأيضًا فإن الجزْيَةَ تُؤْخَذُ للكفِّ عن القتال، وإنما تُؤْخَذُ الجزيةُ ¬
في السنة مرة واحدة، وأيضًا فإنَّ سَهْمَ الغزاة يُؤْخذ في كل سنة مرة، ولا بد من غَزْوةٍ واحدة، هذا ما نصَّ عليه الشَّافعيُّ -رضي الله عنه- وجرى عليه الأصحابُ. وقال الإمامُ: المختارُ عندي في هذا مسالِكُ الأُصُولِيِّين، فإنهم قالوا: الجهادُ دعوةٌ قَهْرية، فيجب إقامته على حسب الإِمْكَان، حتى لا يَبْقَى إلا مُسْلمٌ أو مسالم، ولا يختص بالمرة الواحدة في السنة، وإذا أمكَنت الزيادةُ لا يعطَّلُ القرض، وما ذكره الفقهاءُ حملوه على العادَةِ الغالبة، وهي أنَّ الأموالَ والعُدَدَ لا توافي لتجهيز الجنود في السنة أكثر من مرَّة واحدة، وإذا اصْطَلَى الرجالُ بنار القتال، ونالوا من العدُوِّ ونيل منهم، لم يَعُودوا إلى الاسْتِعْدادِ التام ولا دوابهم إلا في مدة السنة، ثم إن تمكّن الإمامُ منْ بثِّ الأجناد للجهاد في جميع أَطْراف الكفار -فعلَهُ، وإلاَّ يَبْدَأ بالأَهَمِّ فالأهم، وينبغي للإمام أنْ يُرَاعي النَّصَفَةَ بالمُنَاوبة، فلا يتحامَلُ على طائفةٍ [بتكرير] (¬1) الأغزاء مع ترْوِيح الآخرين، وتركهِم في الدَّعَةِ. ¬
وقوله في الكتاب: "عَلَى الْكِفَايَةِ"، يجوزُ أن يعلم بالواو إشارة إلى قول مَنْ قال: إِنَّه في عَصْرِ النبي -صلى الله عليه وسلم- فرضَ عين وكذا قولُه: مرَّةً واحدة بالواو؛ لما ذكره الإِمام -رحمه الله- وقوله: "فِي أَهَمِّ الْجِهَاتِ"، يَعْني إذا لم يمكن بعثُ الأَجْنادِ في جميع الجهات. قال الغَزَالِيُّ: وَفُرُوضُ الكِفَايَاتِ كْثِيرَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي مَواضِعِهَا* وَهُوَ كُلُّ مُهِمٍّ دِينِيٍّ يُرِيدُ الشَّرْعُ حُصُولَهُ وَلاَ يَقْصِدُ بِهِ عَيْنَ مَنْ يَتَوَلاَّهُ* وَمِنْ جُمْلَتِهِ إِقَامَةُ الحُجَّةِ الْعِلمِيَّةِ* والأَمْرُ بِالمَعْروفِ* وَالصِّنَاعاتُ المُهمَّةُ* وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ المُسْلِمينَ* وَالقَضَاءُ* وَتَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ* وَتَجْهِيزُ المَوْتَى* وَإحْيَاءُ الكَعْبَةِ كُلَّ سَنَةٍ بِالحَجِّ فَإنْ تَرَكَ ذَلِكَ حُرِّجَ بِهِ كُلُّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيعْلَمُهُ أَوْ لاَ يعْلَمُ وَلَكِنْ قَصَّرَ فِي البَحْثِ عَنْهُ. قال الرَّافِعِيُّ: اطردت عادةُ الأصْحَابِ بذكر جمل من فُرُوضِ الكفايات في هذا الكتاب، وعلى ذلك جرى المُصَنِّفَ إلاَّ أنه فرق ما يتعلَّقُ بها، فمنه ما أورده في هذا الموضع [ومنه ما أورده في آخر هذا الباب الأول،] (¬1) ومنه ما ذكره في خلال مَسَائِل بَينَهما، ولو جمع بينهما في موضع واحدٍ، ولم يُبَدِّدْها -كان أَحْسَنَ. وقوله: "فُرُوضُ الكِفَايَاتِ كثيرةٌ مَذْكُورةٌ في مَوَاضِعَ" أراد به أنها مُتَيَسِّرةٌ تورد في أبوابِهَا، كتجهيز الموْتَى بالغَسْل والتَّكْفِين والدَّفْنِ، وكالأذَان، وصلاةِ الجماعة، وصَلاَةِ العِيدَيْنِ، على رَأْيٍ في افْتِراضهما. وقولُه: "وهُوَ كُلُّ مُهِمٍّ دِينِيٍّ يُرِيدُ الشَّرْعُ حُصُولَهُ، ولا يقصد به عَيْنَ من يتولاَّهُ"؛ إشارةٌ إلى حَقِيقَةِ فَرْضِ الكِفَايَةِ، ومعناه: أنَّ فُرُوضَ الكفاياتِ أمورٌ كُلِّيةٌ تتعلَّق بها مَصَالِحُ دِينيَّةٍ ودُنْيوية، لا ينتظم الأمْرُ إلاَّ بحُصُولها، فقصد الشارع تحصيلها، ولا يقصد تكْلِيفَ الوَاحِد فالواحد وامتحانه بها، بخلاف فُرُوض الأعْيان فإنَّ الكُلُّ مكلَّفُون بتحصيلها. وفروضُ الكفاياتِ أقسامٌ: منها ما يتعلق [بأصْلِ الدِّينِ، وهو إقامة الْحُجَّةِ العِلْمِيَّةِ، ومعناه أنه كما لا بد من إقامة الحُجة القَهرْية بالسَّيْف، لا بُدَّ في خُطَّةِ الإِسلام ممن يُقِيمُ البراهِينَ والحجج، ويدفع الشُّبْهاتِ، ويحل المُشْكِلات، ومنها ما يتعلق] (¬2) بفُروعِ الدِّين، ومنه إشاعةُ الأَمْرِ بالمعروفِ، والنَّهْي عن المنكر، والمرادُ مِنْهُ الأمرُ بِوَاجِبَاتِ الشرع، والنَّهْيُ من مُحَرَّمَاتِهِ، وهو من فُرُوضِ الكفاياتِ، فإن نُصِّبَ لذلك رجلٌ تَعيَّنَ عليه بحكم الوِلاَيَةِ، وهو المحتسب، وأَحْسَنَ أَقْضَى القُضَاةِ المَاوَردِيّ ترْتِيبَ الأمر بالمعرُوفِ -وتَقْسِيمَهُ، فجعله على ثلاثة أَضْربٍ: أحدُها: [ما يتعلق بحقوق الله تعالى، وهو ضربان: ¬
أحدهما] (¬1) ما يُؤْمَرْ به الجميعُ دون الأفراد، كإقامَةِ الجمعة، حَيْثُ تجتمع شَرائِطُها، فإن كانُوا عددًا يرون انعِقَادَ الجمعة بهم، والمحتسب لا يراه، فَلا يَأْمُرُهمْ بما لا يجوزه، ولا يَنْهاهُمْ عما يرونه فَرْضًا عليهم، ويأمرُهم بصلاةِ الْعِيدِ، وهو لازِمٌ، أو جائِزٌ فيه وجهان. والثاني: ما يُؤْمَرُ به الآحادِ، كما إذا أخّرَ بعضُ الناسِ الصلاة عن الوقت، فإن قال نسيتُها حثه على المراقبة، ولا يَعْتَرِضُ على من أخرها، والوقْتُ باقٍ؛ لاِخْتِلاَفِ العُلَماء في فَضْلِ التأخير. والضَّرْبُ الثَّانِي: ما يتعلَّقُ بحقُوقِ الآدَمِيَّينَ، وينقسم إلى عامٍ كالبلد إذا تعطل شربه أو انهدم سوره، أو طرقه أبناء السبيل المحتاجُونَ، وتركوا مَعُونتهم، فإن كان في بيت المال مالٌ لم يؤمر الناس بذلك، وإن لم يكن أمر ذَوِي المُكْنة برعايتها وإلى خَاصٍّ، كمطْلِ المدِينِ المُوسِر بالدَّين، والمحتسب يأمره بالخروج عنه إذا استعداهُ رَبُّ الدين، وليس له الضَّرْبُ والحَبْسُ. الثالث: الحقوقُ المُشْتَركَةُ كأمر الأَوْلِياء بإِنْكاح الأَكَفَاءِ، وإلزام النساءِ أحْكام العدد، وأَخْدِ السادَةِ بحقوق الأَرِقَّاء، وأرباب البهائم بتعهدها، وألاَّ يَسْتَعْمِلُوها فيما لا تَطِيقُ، وذكر في طرف المنكرات أَنَّ من يغير هَيْئَاتِ العبادات كالجهْرِ في الصلاة السَّرِّيةِ، وبالعكس أَوْ يزِيدُ في الأَذَانِ نمنعُه، ونُنْكِرُ عليه، وَمَنْ تَصَدَّى للتدريس والوعْظِ، وليس هو مِنْ أَهْلِه، ولم يُؤْمَنْ من [اغترار] (¬2) الناس به في تَأْوِيلٍ أو تَحْرِيف، فينكر المحتسب عليه، ويُظهر أمره لئلا يُغتَرَّ بِهِ. وإذا رأى رَجُلاً واقفاً مَعَ امرأَةِ في شارع يطرقه الناس لم يُنْكِرْ عليه، وإن كان في طريقٍ خالٍ، وهو موضع ريبة، فينكر عليه ويقول: إنْ كانَتْ ذَاتَ مَحْرَم -فَصُنْها عن مواقِفِ الرِّيَبِ، وإن كانت أَجْنَبِيَّةً فَخَفِ اللهَ تعالى من الخَلْوَةِ معها، ولا ينكر في حقوق الآدَمِيِّين كتعدي الجار في جِدَارِ الجار إلاَّ باستِعْداء صاحب الحق. وينكر على مَنْ يُطِيل الصلاةَ من أئمة المساجِدِ المطروقة، كما أنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- على مُعاذ -رضي الله عنه (¬3) - وعلى القضاة إذا حَجَبُوا الخُصُومَ وقصروا في النَّظَرِ في الخصومَاتِ والسوقي المختص بمعاملة النساء تختبر أمانَتُه، فإن ظهرت منه خيانة مُنِع من مُعَامَلتهن، وهذا بَابٌ لا تتناهى صوره. ومن هذا القبيلِ إحياءُ الكعبةِ بالحجِّ في كُلِّ سنةٍ هكذا أطلقوه، ويَنْبَغِي أن تكون العُمْرَةُ كالحج بل الاعْتِكافِ، والصَّلاَةِ في المسجد الحرامِ، فإن التَّعْظِيمَ وإحياء البُقْعَةِ ¬
يحصل بجميع (¬1) ذلك. ومنه ردُّ السلامِ، على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى- ومنه الأذان وإقامةُ الجماعة في الصلوات ونحوهما من الشعائر وهي [من] فروض الكِفاياتِ على قَوْلِ بَعْضِ الأصحاب، وقد سبق ذكره في موضعه. ومنها ما يتعلَّقُ بمصالح المعَاشِ وانتظام أمور الناس كدفع الضرر عن المسلمين، وإِزالَةِ فاقتهم كستر العارين واطْعَامِ الجائعين (¬2) وإِعَانَةِ المستَغِيثِين في النائبات، وكل ذلك فرضُ كفاية في حق أَصْحَاب الثروة والقُدرة إذا لم تف الصدقات الواجبة بِسَدِّ الحاجات ولم يكن في بيتِ المالَ مِنْ سَهْم المصالح ما يصرف إليها، فإذا انسدت الضرورةُ، فيكفي ذلك أم تَجِبُ الزيادَةُ إلى تمام الكفاية التي يقوم بها مَنْ تلزمه النفقَةِ؟ حَكَى الإمامُ فِيه وَجْهين لِأَصْحابِ الأصول (¬3). والحِرَفُ، والصناعاتُ، وما به قِوَامُ المعَاشِ، كالبيع، والشراء، والحراثة، وما لا بُدَّ مِنه حتى الحِجَامَةُ والكَنْسُ، جُبلَت النفوسُ على القيام بها، حتى لا يُحْتاجَ إلى حثٍّ عليها، وتَرْغِيبٍ فيها، لكن لو فُرِضَ امتناعُ الخلق منها لأثموا، وكانوا سَاعِين في إِهْلاك أنفسهم، فهي إذن من فُرُوضِ الكفايات. ومِنْهَا ما يتعلَّقُ بأمر الدِّين، وصَلاحَ المعِيشة لتحمُّل الشهادة وأَدَائِها، وإِعانةِ القُضَاةِ على استِيفاء الحقُوقِ، ونحو ذلك وكتَجْهِيز الموْتَى: غُسْلاً، وتَكْفِيناً، وصلاة، ودفناً. وهذه أمورٌ تتعلَّقُ بشعائِرِ الدين، ويَسْتَدعِيها حُسْنُ المعاشرة، وبها تَنْتَظِم أمورُ المعاش، ثُمَّ نختم الفَصْل بصورتين: إِحْدَاهما: إذا تعطَّلَ فرضُ كِفَايةٍ حرج به مَنْ علم، وقدر على القيام به، ومَنْ لم يعلم به، وكان قَرِيبًا مِنَ الموْضِع يليق به البحثُ والمراقبة، فانه يَأثُم من جهة ترك البَحْثِ أيضًا. قال الإمامُ: ويختلف هذا بكِبَرِ البلاد، وصِغَرِها، وقد يبلغ التعطِيلُ مَبْلغًا ينتهي ¬
خبره إلى سائِرِ البلاد، فيجب عليهم السّعْي في التدارك، وفي الصورةِ دَليِلٌ على أنه لا يجُوز الإعراضُ [والإهمال] ويجب البحْثُ والمراقَبةُ على ما يليق بالحال. الثانية: إذا قام بالفْرضِ جَمْعٌ لو قام به بعضُهم يسقط الحَرَجُ عن الباقِينَ، كانوا كلهم مُؤَدِّين للفرض لتساويهم في صلاحية القيام به وشُمُول الحرج للكل لو تعطل ولا مَزِيَّةَ للبعض على البعض. قال الإمامُ: لماذا صلَّى على الميت جمعٌ، ثُمَّ صلى آخرون، فالوجهُ أن يجعَلُهم بمثابة المقاربين الأولين في الصلاة، فإنَّ التنفلَ بصلاة الجنازَةِ، لا نَرَى له أَصلاً في الشَّرْعِ. قال الغَزَالِيُّ: وَيَسْقُطُ الجِهَادُ بِالعَجْزِ الحِسِّيِّ كَالصِّبَا والجُنُونِ والأنُوثَةِ والمَرَضِ والعَرَجِ وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى القِتَالِ فَارِساً* وَبِالعَمَى* وَبِالفَقْرِ أَعْنِي العَجْزَ عَنِ السِّلاَحَ والرُّكُوبِ وَنَفَقَةِ الذَّهَاب وَالإِيَابِ كَمَا فِي الحَجِّ* وَلاَ يَسْقُطُ بِالخَوْفِ فِي الطَّرِيقِ مِنَ المُتَلَصِّصِينَ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ أهَمُّ. قال الرَّافِعِيّ: قد ذَكَرنا أَنَّ كلامَ القسم في طَرَفَيْن: أحدُهما: في وُجُوبِ الجهاد. والثاني: فيما يُسْقِطه ويمنعُ وجوبه، وهذا أول الشروع في الطرف الثاني [وقد يُوجَدُ في بعض النسخ الطرف الثاني] (¬1) وفي المسقط. ويسقطُ الجهادُ بالعَجْزِ الحِسِّي، وما يمنع الوجُوبَ ينقسم إلى: مَا يُورِثُ العجز الحسِّي، وإلى ما لا يُورِثُه، ولكن يدفع الوجوب مع القدرة عليه. فمن القِسْمِ الأول: الصِّغَرُ، فلا يجب الجهادُ على الصبي والمجنون لما روي عن عَلِيٍّ -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: .. "رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يفيقَ، وعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتيْقِظَ" (¬2). وعن ابن الزُّبَيْرِ -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَدَّ يَوْمَ بَدْرٍ نَفَراً من أصحابه اسْتَصْغَرَهُمْ (¬3). ¬
ومنه: الأُنُوثَة، فالنِّسَاء يضعفْنَ ويعجَزْنَ عنْ القتال غالبًا، وقد رُوِيَ عن عائشةَ -رضي الله عنها- أنها سألت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- هل على النساء جِهادٌ؟ قال: "نَعَمْ، جِهَادٌ لا قِتَالَ فِيه، الحَجُّ والعُمْرَةُ" (¬1) وفيه إشعارٌ بأنّه ليس عليهن ما فيه شَوْكٌ وهو السلاَحُ، ويجوزُ للإمام أنْ يأْذَن للنساء، والمراهقين في الخروج، وأن يَسْتَصْحبهم لسقْي الماء، ومُدَاوَاةِ الجرحَى، ولمعالجة الجرحى، ولا يأْذَنُ للمَجانِين بحالٍ، ولا يجبُ الجِهَادُ على الخُنْثَى المشْكِلِ، لاحتمال أُنُوثَتِه. ومنه: المَرضُ، فلا جهادَ على المرِيض الذي يمنعُه مرضُه من القتال، والركُوبِ على الدابة، وكذا لو لم يمكنه القتالُ إلا بمشقة شديدة ولا اعتبار بالصُّدَاعِ، والحُمَّى الخفِيفَةِ، ووجع الضِّرْسِ، ونحوها ومنه: العَرَجُ، فلا جهادَ على المقْعَدِ العَاجِزِ عن المشْي والركوب وإن قَدَرَ على الركوب، وبه عَرَجٌ بَيِّنٌ، فكذلك لا يجب عليه الجهادُ، وإن كان يقدِرُ على الركوب وعنده دوابٌّ؛ لأن الدَّابَة قد تهلَكُ أو تنقطع ولا يمكنه الفِرَارُ منه. وفيه وجهٌ: أن عليه الجهاد رَاكباً؛ لأن العَرَجَ لا يؤثر في حَقٍّ الرَّاكبِ، والظاهِرُ الأول، ولا فَرْق بين أن يكون العرجُ في رجْلٍ واحدة أو في الرجْلَيْن معًا. وعن أَبِي حَنِيْفَةَ، أنه لا أَثر للعَرَج في رِجْلٍ واحدةٍ، ولا أثر للعرج اليَسِيرِ الذي لا يمنع من المَشْي ومكافحة العدو ولا جهاد على الأقطع والأشل [لأنه لا يَتمكَّنُ من الضَّرْبِ؛ ولا من الاتِّقَاءِ] (¬2) وفاقد مُعْظَم الأصابع كَالأَقْطَعِ، ومَفْقُود ما دون المِعْصم كالسليم. ومنه: العَمَى، فلا جِهاد على الأَعْمى؛ لعجزه، ويجب على الأعْور، والأَعْشى، والضَّعِيف البصر، إذا كان يُدْرك الشخْصَ، ويمكنه أن يتَّقي السلاح، وفي بَابِ الجهادِ ورَدَ قولُه تعالى في سورة الفتح: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} الآية [النور: 61]. ومنه: الفَقْر فالذي يَعْجزُ عن السَّلاح، وأسباب القتال، لا يُكلَّفُ القتالَ، ويشترط أن يجد ما يُنْفق من طريقه ذَهَاباً وإِيَاباً، وَلا يُقَالُ: إنَّ سفرَ الغزوِ، وسفرُ الموتِ فلا يشترطُ نفقة الإياب؛ لأنَّ الإيسارَ يجد ثقة نفسه بالبقاء غالبًا ولو لم يكن معه أُهْبةُ الرجوع -انكسر نشاطه، وبطل أمره. ¬
نَعَم مَنْ لا أهْل له ولا عَشِيرة، ففي اشتِرَاطِ نفقة الإياب في حقِّه خلاف [قد] سبق في الحجِّ، فإن كان القِتَالُ على باب البَلَدِ أوْ حَوالَيْهِ سقط اعتبار نفقة الطريق، قاله في المهذّب. ويشترطُ وجدان الرَّاحِلَة، إِنْ كان على مسافة القَصْر؛ قال الله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] الآية وإِنْ كان ما دُونَ مسافَةِ القَصْر -لم تُعْتَبرِ القدرةُ على الراحلة، كما سبق في الحج. ويجبُ أن يكونَ جميعُ ذلك فاضِلاً عن نفقة مَنْ تلزمُه نفقته، وسائِرُ ما ذكرْنَا في سفر الحج، وكل عُذْرٍ يمنعُ وجوبَ الحج يمنع وُجُوبَ الجهاد، إلاَّ أن هُنَاكَ يُشْترط أَمْنُ الطريق، وهاهنا لا يُشْتَرطُ؛ لأَنَّ الغزْوَ مبني على مُصَادفة المخاوف هذا إذا كان الخوفُ من طلائع الكُفَّارِ، وإن كان مِنْ مُتَلصّصِي المسلمين ففيه وجهان مَذْكُوران في "النهاية". أَحدُهما: أنه يمتنع الوجوبُ كما في الحج، واصَحُّهما -وهو المذكور في الكِتَاب، أنه لا يمنعُ؛ لأن الخَوْفَ محتمل في هذا السفر، وقِتَالُ المُتَلصِّص أَهَمُّ وأَوْلَى، وإذا بذل للفاقد ما يَحْتَاجُ إليه، لم يلزمه قبولُه إِلاَّ أن يبذل الإمامُ، فعلَيْه أنَ يقبَل ويُجَاهِدَ؛ لأن ما يأخذه من الإِمام حَقُّه. قال الإِمامُ: والذي لا يُخَاطَبُ بمجاهدةِ الكفار فإنه بذل الجِزْيَة ليذب عنه، لا ليذب عَنَّا، إنما يكون الشَّخْصُ من أَهْل الكفاية في الجهاد، إذا كان: بَالِغاً، عاقلاً حرًّا، مسْلماً، ذَكَراً. قال الغَزَالِيُّ: (وَأَمَّا مَوَانِعُ السَّيْر عَنْهُ) فَكَالرِّقِّ وَمَنْعِ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَمَنْعِ الوَالِدَيْنِ* أَمَّا الرَّقِيقُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الجِهَادُ وَإِنْ أَمَرَهُ سَيِّدُهُ إِذْ لاَ حَقَّ لَهُ فِي زَوْجَةٍ* وَلَيْسَ عَلَيْهِ الذَّبُّ عَنْ سَيِّدِهِ عِنْدَ الخَوْفِ عَلَى رُوحِهِ* وَلَيْسَ لِمْسُتَحِقِّ الدَّيْنِ المَنْعُ بِالدَّيْنِ المُؤَجَّلِ عَنْ سَائِرِ الأَسْفَارِ* وَفِي الجِهَادِ ثَلاَثةُ أَوْجُهٍ لِأَنَّ مَصِيرَهُ إِلَى المَوْتِ* فَفِي وجْهٍ يُمْنَعُ أَبَدًا* وَفِي وَجْهٍ لا يُمْنَعُ إِنْ خَلَّفَ وَفَاءً* وَفِي وَجْهٍ يُمْنَعُ غَيْرُ المُرْتَزَقَةِ الَّذِينَ مَعِيشَتُهُمْ مِنَ الجِهَادِ* وَلِلوَالِدَيْنِ المَنْعُ* وَالجَدُّ والجَدَّةُ لا يَبْعُدُ أَنْ يَلْحَقَا بِهِمَا* وَلَيْسَ لَهُمَا المَنْعُ مِنْ حَجَّةِ الإِسْلاَمِ بَعْدَ الاسْتِطَاعَةِ لِأَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ* وَلاَ مِنْ سَفَرِ العِلْمِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ* وإِنْ كَانَ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَوَجْهَانِ* وَلَهُمَا المنْعُ مِنْ ركُوبِ البَحْرِ والنَّوَادِرِ المُخَطَّرَةِ لِلتِّجَارَةِ* وَحَيْثُ لاَ خَطَرَ لَمْ يَجُزْ لَهُمَا المَنْعُ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ* والأَبُ الكَافِرُ كَالمُسْلِمِ إلاَّ فِي المَنْعِ مِنَ الجِهَادِ. قال الرَّافِعِيُّ: القسم الثاني: ما يمنع الوجوب مع القدرة، له ثلاثة أنواع: أحدها: الرق، فلا يجب الجهاد على الرقيق، كما لا يجب عليه الحج، لأنه لا
يتفرغ لهما، ولا يجد ما ينفقه فيهما، وقد روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يبايع الأحرار على الإِسلام والجهاد، والعبيد على الإِسلام دون الجهاد (¬1). فإنْ أمره سَيِّدُه بذلك، قال الإمامُ: والوجهُ أنه لا يلزمُه طاعتُه؛ لأنه لَيْس مِنْ أَهْل هذا الشأن، والملْكُ لا يقتضي التعرُّضَ للهلاكِ، وليس القتالُ من الاسْتِخْدَامِ المستحق للسيد على العبد، ولا يجوز أن يكون في هذا خِلاَفٌ، ولا يلزمُه الذَّبُّ عن سَيِّده عند الخوف على رُوحِه. إِذْ لم نُوجِب الدَّفْعَ عَنِ الغير، بَلِ السَّيدُ في ذلك كالأجانِب، وللسيِّد اسْتِصْحَابُه فِي سَفَرِ الجهادِ، وَغَيْره؛ ليخدمه، وَيسُوسُ دوابَّه، كما في الحَضَرِ. وقولُه في الكتاب: "وَلَيْسَ عَلَيْه الذَّبُّ عَنْ سَيِّدِه"، ينبغي أن يُعْلم بالواو فإنه جوابٌ على أن الذبُّ (¬2) عن الغير لا يجب، والمُكَاتِبُ والمدبِّرُ، ومَنْ بعضه رقيق كالقِنّ. الثاني: الدَّين، ومَنْ عليه دَيْنُ مالٍ لمسلم أو ذِمّي، ليس له أن يخرج في سَفَرِ الجهاد أو غيره، إلاَّ أن يَأْذَن رَبُّ الدَّين، وله أن يمنعَهُ منه لتوجه المُطَالبةِ عليه، والحبْس، وكيف يجوزُ أن يترك الفَرْضَ المتعين عليه، ويشْتغِلَ بفرض الكفاية؟ وإن كان معسراً، فقد ذكر القاضِي ابن كَجٍّ: أَنَّ المذهَبَ أنه ليس له مَنْعُه؛ لأنه لا مُطَالبةَ عليه في الحال (¬3)، وأَنَّ أبَا إسْحاقٍ قال: له المنعُ؛ لأنه يرجو أن يُوسِرَ فيؤدي وفي الجهاد خطر ¬
الهَلاَكِ، وإذا استناب المدين مَنْ يَقْضِي الدينَ مِنْ مالٍ حاضر فله الخروجُ؛ لأن رَبَّ الدَّيْنِ يصل إلى حقه في الحال، وإِنْ أمره بالقضاءِ مِنْ مالٍ غائب، لم يجز الخروجُ؛ لأنه قد لا يَصِلُ، هكذا فصَّلَ صاحبُ التَّهْذِيبِ. ويجوزُ أَنْ يخرجَ مما سنذكرُ في المؤجَّل إذا خلَّف وفاءً أنه لا يجوزُ الخروج بغير إِذْنه بحالٍ، ومَهْما أذِنَ ربُّ الدين فله الخروجُ، وهل يلتحق بأصحاب فروض الكفَايَاتِ؟ قال الإمامُ: فيه احتمالٌ، والظاهرُ الالتحاقُ، وإن كان الدين مُؤَجلاً -فله الخروجُ إلى الأَسْفَارِ التي لا يغلب الخطرُ فيها على ما سبق في "التَّفْلِيسِ" وأما في سَفَرِ الجهاد فالترتيبُ المحمود عن الإِمام وأَبِي الفَرَجِ السَّرْخَسِيِّ أنه إنْ خلف وفاءً فله الخروجُ، وليس لِرَبِّ الدَّيْنِ منعه، وإلاَّ فوجهان: أَحدُهما: أن له المنعَ؛ لأن هذا السفَرَ مخاطر فيبني على مصادفة الموت وفيه ضياعُ حَقِّ المُستحق. والثاني: أنه لا مَنْعَ له، كما في سَائِرِ الأَسْفار؛ لأنه لا مُطَالبَة في الحال وفي "التَّهْذِيب" طريقة أُخْرَى، وهي أنه إنْ لم يخلف وفاءً فليس له الخروجُ إلاَّ بإذْنِ رَبِّ الدين وِإنْ خلَّف -فوجهانِ؛ لأنه قد يتلف ولا يصل إِلَى رَبِّ الدَّين. ومنهم مَنْ طرد الوجهْينِ في الحالَتَيْنِ، ومنهم من خَصَّصَ الخلاف بغير المرْتَزَقَةِ، وجوَّزَ لمن هو مِنَ المرتزقة الخُروجَ، لأن اسمه مكتوبٌ في الدِّيوانِ، ولا بُدَّ له من الخروج إذا استُنْفِر، وقد يكون وجهُ مَعِيشته، وقَضاءِ دينه من الرزْقِ الذي يأخذه، أو من الغنائم المغنُومةِ من الجهاد، ويخرج مِنْ هذه الطرق عند الاختصار أربعة أوجه ذكرنَاهَا في "التَّفْلِيس". أَظْهرها: عند الإِمام في جَمَاعةٍ أنه لا منع لرَبِّ الدين بحالٍ، وهذا يُوافِقُ ما أطلقه صاحِبُ الكتاب حيثُ قال: "وَلَيْسَ لِمَنْ لَهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ مَنْعُهُ"، وقد أُغْفِل هذا الوجه هاهنا. والثاني: له المنعُ مُطْلقاً، إلا أن يُؤَدِّي الدين، وأقيم مقام الأداء ما إذا أقام كَفِيلاً على ما ذكرناه في "التفليس". وادَّعَى الرّويَانِي أن هذا أَصَحُّ. والثَّالِثُ: الفرقُ بين أَنْ يخلِّفَ وفاءً أَوْ لا يخلِّف، والواقِعُ الفرق بين المرتزقَةِ وغيرهم، وفي كتاب القَاضِي ابن كج: أَنَّه إن كان الأخذ يَدُوم إلى أن يَرْجِع فلا مَنْعَ، وإن كان يحل قبل أنْ يَرْجِع، ففيه الخلافُ فيخرج من هذا وَجْهٌ خَامِسٌ، وقد مر في "التفليس" أن ركوب البَحْرِ كسفر الجِهَادِ؛ لخطرِهِ، وكذلك أَوْرَدَ القاضي ابن كج لخطره، وفي "تَتِمَّةِ التَّتِمَّةِ": أنه لا يُلْحَقُ بسفر الجهاد؛ لأن راكِبَ البحر يسعى في السَّلاَمَةِ، والغِازِي قد يُعَرِّضُ نفسَهُ للشهادة.
الثالثُ: مَنْ أَبَواهُ أَو أَحَدُهما في الحياةِ لا يجوزُ له الجهادُ إلاَّ بإذْنهما، أَوْ بإِذْنه؛ لما روي عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أنه قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَأْذَنه في الجهاد، فقال -عليه [الصلاة] والسلام- "أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قال: نَعَمْ، قال: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ" (¬1). ويروى أن رَجُلاً جاء فقال: إني أُرِيد أَنْ أُجَاهِدَ مَعَكَ، فقال -صلى الله عليه وسلم- "أَلَكَ أَبَوَانِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ: فقال: كَيْفَ تَرَكْتَهُمَا؟ فَقَالَ: تَرَكْتهُمَا وهما يَبْكِيانِ. فَقَالَ: ارْجِعْ إلَيْهِمَا وَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا" (¬2) وأيضاً، فالجهادُ فَرْضٌ على الكفايَةِ، وغيرُه يقوم مَقَامَهُ فيه، وبِرُّ الوالِدَيْن مُتَعيّنٌ عليه، هذا بشرطِ الإسْلاَم، وأما إذا كان الأَبَوانِ أَو الحيُّ منهما مُشْرِكاً -فلا يَحْتَاجُ في الخروج إلى إِذْنِه للتهمة الظَاهرة بالمَيْلِ إلى أَهْلِ الدين. وكان عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلَولٍ يغزُو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعلومٌ أَنَّ أباه كان يَكْرَهُ ذلك، وأنه كان يُخَذُلُ الأجانِبَ، ويمنَعُهم من الجهاد (¬3). وأَمَّا الأَجْدادُ والجدَّاتُ، فقد قال الإمامُ: لا يتعدَّى عندي إلحاقُهم بالوالِدَيْن في اشتراطِ الرِّضَا، وعلى هذه اللفظة جرى صَاحِبُ الكتابِ، والمفهُومُ مما أورده غيرهما إلْحَاقُهم بهما بلا تَمْيِيز، وحكى في التَّهْذِيبِ وَجْهِيْنِ، في أنه: هَلْ يحتاجُ إلى اسْتِئْذان الجد مع الأب والجدَ مَعَ الأُمِّ؟ أحدُهما: المنعُ؛ لأن البَعِيدَ محجُوبٌ بالقرِيبِ. وأَصَحُّهما: نَعَمْ؛ لأن البِرَّ إلى البعِيد، وشفقته لا يختصان بحالة فقدان القريب ولما ذكر أَنَّ للأَبوَيْنِ المنعُ من سفر الجهاد، وذكر حُكْم سائِرِ الأَسْفار. فمنها حَجَّةُ الإِسْلاَم إذا وجبت على الابْنِ؛ لاجتماع شَرَائِطِ الاستطاعة فليس لَهُمَا المنعُ منها؛ لأنها فرضُ عَيْنٍ، وفي التأخير خطر الفوات وليس الخوفُ فيه كالخوفِ في سَفَرِ الجهاد. وحكى صاحبُ الكتاب في "كِتَاب الحج" وجْهاً: أَنَّ لهما المنعَ مِنَ الخروجِ لها، وذكرنا هناك أنه غرِيبٌ، وقد يُوَجَّهُ بأن الحج على التَّرَاخِي، وبِرَّ الوالدين لاَزِمٌ في الحال. ¬
وأَمَّا حَجُّ التَّطَوُّعِ، فقد مَرَّ هناك أن لهما المنعَ منه. ومِنْها: السَّفَرُ لطلب العِلْمِ، فإنْ كان يَطْلُب ما هو مُتَعَيَّنٌ عليه، فليس لهما المنعُ، ولا يجبُ عليه الاستِئذانُ لسفر الحج وبل أولى؛ لأن الحجَّ على التَّرَاخِي، وإن كان فَرْضُ كفايةٍ، بأن كان خَرَجَ طالِباً لدرجة الفَتْوَى، وفي الناحية مَنْ يستقِلَّ بالفتوى فوجهان: أَحدُهما: أَنَّ لهما المنع؛ كما في سفر الغَزْوِ. وأصحهما: أنه لاَ مَنْعَ لهما (¬1)؛ لأن الحجر على المُكَلَّفِ وحَبْسه بعيد، والسَّبَبُ في الغَزْوِ أَنَّ مَصِيره مَصْرعُ الموْتِ، وإن لم يكن هناك مَنْ يَسْتَقِلَّ بالفتْوَى، لكن خرج عند خُرُوجِه جماعةٌ، ففي الحاجة إِلى الإِذْن وَجْهان مُرَتَّبان. وَأَوْلَى بأَنْ لاَ يحتاجُ إِلَى الإذْنِ؛ لأنه لم يُوجَدْ في الحالِ مَنْ يقومُ بالمقصودِ، والخارِجُونَ معه قد لا يَظْفَرُونَ بالمقصُودِ. وإِنْ لم يخرجْ معه أحدٌ، فالرشيد المبادرُ إلى الخُروج لا يحتاج إِلى الإذْن؛ لأنه بالخُروجِ يدفع الحرج عن نَفْسِه فيمكَّن منه، كما إذا خَرَجَ للفَرض المُتعيَّنِ عليه. وقَيَّدَ بعضُهم هذه الصورةَ بما إذا لم يمكنه التعليم في بَلَدِه، ويجوزُ ألاَّ يعتبر ذلك، ويكتفي بأَنْ يتوقَّعَ في السفر زيادةَ فَراغٍ أو إِرْشاد أُسْتاذ أَوْ غيرهما كما لم يقيد الحُكْم في سَفَر التجارة بأن لا يتمكَّنَ من التجارة في البَلَدِ، واكتفى بأن يتوقَّعَ زيادَةَ رَبْحٍ، أو رَوَاجٍ (¬2). وأَمَّا سَفَرُ التجارةِ وغَيْرِها، فإنّ كان قَصِيراً -فلا مَنْعَ بحالٍ، وإِنْ كان طَويلاً نُظِرَ، إِنْ كان فيه خَوْفٌ ظاهِرٌ، كركوب البَحْرِ والبوادِي المخطرة، فلا بُدَّ فيه مِنْ الاِسْتِئْذانِ (¬3)، كما في سَفَرِ الجِهَادِ، ويجيء فيه ما حكينا عن "تَتِمَّةِ التَّتِمَّةِ"، وإنْ كان الأَمْر غالباً فوجهان: في وجه، لهما المنعُ، وعليه الاستِئْذَانُ تحرزاً عما يُؤْذِيهما، وقد يُؤَيَّدُ ذلك بأنهما يمنعانِ مِنْ حج التَّطَوَّع، وإذا كان لهما أن يَمْنَعا [هُ] من العِبادَةِ، فأَوْلَى أن يكون لهما المنعُ من المُبَاحِ. ¬
والأَظْهَرُ أنه لا مَنْعَ لهما؛ لأنه بِالامْتِناع عن ذلك قد يَنْقَطِعُ عن مَعَاشِه، ويضطرِبُ عليه أَمْرُه، والأَبُ الكافِرُ كالمسلم في هذه الأَسْفَارِ، بخلاف ما سبق في سَفَرِ الجهادِ، ولا فَرْقَ بين الحُرِّ والرَّقِيقِ في أَصَحِّ الوجهَيْن؛ لشمولِ مَعْنى البِرِّ والشفقة (¬1). قال الغَزَالِيُّ: وَلَوْ بَلَغَ كِتَابُ الوالِدَيْنِ أَوْ مُسْتَحِقُّ الدَّيْنِ بِالرُّجُوعِ عَنِ الإِذْنِ وَهُوَ فِي الطَّرِيقِ فَلْيَنْصَرِفْ إِنْ قَدَرَ وإِلاَّ فَلْيَقُمْ فِي قَرْيَةٍ* وَإِنْ كَانَ فِي القِتَالِ وَجَبَ الانْصِرَافُ عَلَى وَجْهٍ إِنْ لَمْ يَخَفْ وَهَن المُسْلمِينَ* وَلاَ يَجِبُ فِي وَجْهٍ* وَيُتَخَيَّرُ فِي وَجْهٍ* وَالصَّحِيحُ أَنَّ العِلْمَ وَفُرُوضَ الكِفَايَةِ لا تَتَعَيَّنُ بِالشُّرُوعِ وَإِنْ أَنِسَ المُتَعَلِّمُ الرُّشْدَ مِنْ نَفْسِهِ* وَفِي صَلاَةِ الجَنَازَةِ خِلاَفٌ* وَالجِهَادُ إِنَّمَا يَحْرُمُ فِيهِ النُّزُوعُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّخْذِيلِ* هَذَا كُلُّهُ فِي قِتالِ نَفَرٍ فَرْضُ كِفَايَةٍ* فَإِنْ وَطِئَ الكُفَّارُ دَارَ المُسْلِمِينَ تَعَيَّنَ عَلَى مَنْ لَهُ مُنَّةُ قِتَالِهِمْ حَتَّى العَبْدِ وَالمَرْأَةِ* وَانْحَلَّ الحَجْرُ عَنِ العَبْدِ إِنْ لَمْ يُسْتَغْنَ عَنْهُ* وَإِنِ اسْتُغْنِيَ وَلَكِنْ فِيهِمْ زِيَادَةُ قُوَّةٍ فَفِي الوُجُوبِ وَجْهَانِ* وَلَوْ خَرَجَ قَوْمٌ فِيهِمْ كِفَايَةٌ فَفِي وُجُوبِ المُسَاعَدَةِ عَلَى الآخَرِينَ وَجْهَانِ* وَإِنْ كَانُوا فَوْقَ مَسَافَةِ القَصْرِ فَوَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ* وَلاَ يُشْتَرَطُ المَرْكُوبُ فِيمَنْ دُونَ مَسَافَةِ القَصْرِ* وَفِيمَنْ وَراءَهُ وَجْهانِ* وَهَلْ يَنْزِلُ نُزُولَهُمْ فِي مَوَاتِ دارِ الإِسْلاَمِ وَأَسْرِهِمْ مُسْلِماً أَوْ مُسْلِمِينَ فِي تَعْيِينِ الوُجُوبِ مَنْزِلَةَ دُخُولِهِمْ البلاَدَ؟ فِيهِ وَجُهَانِ. قال الرَّافِعِيُّ: مقصودُ الفَصْلِ الكلامُ فيما إِذا خرج مُجَاهِداً ثم عرض مَانِعٌ، وضم إليه ما يناسِبُه، وفيه مَسْأَلَتان: إِحْدَاهُمَا: مَنْ خرج للجهاد بإِذْن رَبِّ الدَّين، أو الوالدين، ثم رجعوا عَنِ الإذْنِ، أو كان الأَبَوانِ كافِرَيْن، فخرج ثُمَّ أَسْلَمَا ولم يَأْذَنَا، وعلم المجاهِدُ بالحال، فإنْ لم يشرع في القِتَالِ، ولم يحْضَرِ الوقْعَة بَعْدُ -فعليهِ الانْصِرافُ إلاَّ إِذَا كان يخاف على نفسِهِ أو مَالِه، وألحق به ما إذا كان يخافُ من انصرافه انكساراً على المسلمين، فيعذر في المضي، وإِنْ لم يمكنه الانصرافُ للخوف، ولكن أَمْكَن أن يُقِيم في قرية في الطَّرِيق إلى أَنْ يَرْجِعَ جنودُ المسلِمينَ، لزمه أَنْ يُقيم؛ لأن غَرَضَ الرَّاجِعِين عن الإذْنِ ألاَّ يقاتل، فأوهم في "الوَسِيطِ" خلافاً في وُجُوبِ الإقامة هناك، وقد يوجَّهُ بما يناله مِنْ وحشة مفارقة، وِإبْطَالِ أُهْبة الجهاد عليه. ¬
وفي كتاب "القاضي ابن كَجٍّ" حكايةُ قولٍ: أنه لا يلزمُه الانصرافُ ويتخير، كما لا يجب الانصرافُ على المرأَةِ إذا أذِن لها في السفر، وطلَّقَها بعد مُفَارقَةِ البلد، والمشهورُ الأوَّلُ. وإِنْ كان الرجوعُ بعد الشروع في القِتَالِ، ففي جَوَازِ الانْصِرافِ قَوْلاَنِ، أَوْ وجهان: أَحدُهما: يجبُ؛ لأنَّ حقَّ الراجعِين عَنِ الإِذْن أَوْلَى بالرعاية؛ لأنه فرضُ عَيْنٍ، والجهادُ فرضٌ على الكِفَايةِ؛ لأن حَقَّهم أسبقُ؛ ولأن حُقُوقَ الأدمِيِّينَ مبنيةٌ على المضايقة، وهو أَوْلَى بالمحافَظَةِ. والثاني: لا يجبُ؛ لأن مَنْ حضر الوقْعَةَ يلزمه الثَّبَاتُ، قال الله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] وَلِأَنَّ الانصراف يُشَوِّشُ أَمْرَ القتال، ويكْسِرُ القلُوبَ، ومنهم من يرتب على هذا الخِلاَفِ في أنه هل يجوزُ الانْصِرافُ. قال الإمامُ: ويخرج مِنِ اخْتِلافِ العبادَتَيْنِ ثلاثةُ أوجهٍ: أحَدُها: يجبُ الانصرافُ؛ لارتفاع الإِذْن. والثاني: لا يجوزُ، بل تجب المصابرةُ. والثالثُ: يتخيَّرُ بين الانصرافِ والمُصَابَرَةِ؛ لتعارض المعْنَيَينِ، ويُنْسب هذا إلى اخْتِيارِ القَاضِي الحُسين، ومال أَكْثرُهم إلى تَوْضِيح الثاني، وهو الجوابُ في "التهْذيبِ"، وهذه الوجُوهُ هي التي أَوْرَدها في الكتاب لكن لفظُ الوجْهِ الثاني، وهو أَنَّه لا يجبُ الانْصِرافُ غير وافٍ بتمام المقصُودِ؛ لأن مَقْصُودَ هذا الوجه أَنَّه تجب المُصَابرة، ولا يجوزُ الانصرافُ، ولا يلزم مِنْ أَلاَّ يجبَ ألاَّ يجوزَ، نَعَمْ في لفْظِ التَّخْيِير المذكُورِ في الوجه الثالِثِ، ما يفهم الغرض، فَإِنَّ المعْنَى التخييرُ بين الانصرَافِ والثُّبوتِ، وفي ذلك إشعارٌ بأنَّ الواجِبَ في وجه هذا وفي وجه هذا. وحُكِيَ وجهٌ رابعٌ: أنه يجبُ الانصرافُ إنْ رجع رَبُّ الدَّيْن، ولا يرجع ولا يجب إِذَا رجع الوالد، والفرقُ عِظَمُ شَأْنِ الدَّيْنِ، والاحتياطُ للمظالم، ومن شرط عليه الاستئذان إذا خرج بغيرِ إذْنٍ لزمه الانصرافُ، ما لم يَشْرعْ في القِتَالِ؛ لأَنَّ سفره سفَرُ مَعْصِية إلاَّ أَنْ يَخَافَ على نفسه أَوْ مَالِه، كما سبق، وإِنْ شرع في القِتَالِ -فَوَجْهان بالترتيب. وهذه الصورةُ أَوْلَى بوجوب الانْصِراف؛ لأنَّ ابتداءَ الخُروجِ كان مَعْصِيةً، والعبدُ إذا خرج بغير إِذْنِ سَيِّده- لزمه الانصرافُ، ما لم يحضر الوقْعَة فإِنْ حضر فلا، قَالَهُ في التهذيب. وقال القَاضِي الرُّويَانِي: يُسْتَحَبُّ له أَنْ يَرْجِع. ولو مَرِضَ بعد ما خرج أو عرج أو فني زادُه، أو هلكت دابَّتُه، فهو بالخِيَارِ بين أن ينصرِفَ، أو يمضي ما لم يحضر الوقْعَة.
وكذا الحكْمُ لو كان العذرُ حاصِلاً وقْتَ الخروج، فإن حضر الوقعةَ فعن رواية القاضي أَبِي الطَّيَّبِ، وصَاحِبِ التَّقْرِيب، أنه يلزمه الثباتُ، وعَنْ غيرِهما يجوز الرجوعُ؛ لأنه لا يمكِنُه القتالُ، وهذا أَظْهرُ، وخصَّ الإمامُ الخِلاَفَ بما إذا كان [لا] يُورِثُ انصرافُه انفلالاً وانْحِلالاً في الجُنْدِ، فإن أَوْرَثَهُ لم يجز الرجوعُ. وفي "التَّهْذِيبِ" في صورة هلاك الدَّابَّةِ أنه يلزمه القِتالُ راجلاً إن أَمْكَنهُ ذلك، وإِلاَّ فله الانصرافُ. وعن بَعْضِهم فيما إِذَا انْقَطَعَ عنه سِلاَحه، أو انْكَسَرَ أنه إِنْ أمكنه القتالُ بالحجارة لزمه ذلك. وحيثُ جوزنا الانصرافَ لرجوع رَبِّ الدَّيْنِ، أو الأَبَوَيْنِ عن الإِذْنِ، أو لحدُوثِ المرض ونحوه فليس للسلطان حَبْسُه. قال الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- إِلاَّ أَنْ يتفق ذلك لجماعَةٍ، وكان يَخْشَى من انصرافِهِم الخَلَلَ في المسلمِينَ، ولو انصرف لذَهَاب نفقةٍ، أو هَلاَكِ دَابّةٍ، ثم قَدَرَ على النفقة، والدَّابَّةِ في بِلاَدِ الكُفْر -فعليه أن يرجِع إلى المجاهِدِين، وإن كان قَدْ فارقَ بِلاَدَ الكُفْر- لم يلزمه الرجوعُ إليهم. وعن نصه: أَنَّ مَنْ خرج للجهادِ وَبِه عُذْرٌ مِنْ مرض وغيره، ثم زال عُذْرُه، وصار مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الجهاد -لمِ يكن له الرجوعُ عن الغَزْوِ دُون رُجُوع مَنْ غزا معهم، وكذا لَوْ حدثَ العُذْرُ وزال قبل أَنْ ينصرِفَ، والله أَعلم. المسألة الثانيةُ: مَنْ شرع في القتالِ، ولا عُذْرَ له -يلزمُه المصابرةُ؛ ولا يجوزُ له الانصرافُ؛ لما يخاف منه من التخذِيلِ، وكَسْرِ قلوب الجند، وعبر الأصحابُ على هذا بأنَّ الجهادَ يَصِيرُ مُتَعيّناً على من هو مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الكفاية بالشروع. وطالبُ العِلْم إذا اشتغل بالتعلم (¬1) وآنَسَ الرُّشْدَ مِنْ نَفْسه، هل يحرمُ عليه الانكِفافُ. فيه وجهان: أَحدُهما: نَعَم، ويلزمه الإتمامُ بالشُروعِ، ويُحْكَى هذا عن القاضي الحُسين. وأَصَحُّهما: المنعُ؛ لأنَّ الشرُوعَ لا ينبغي أَنْ يُغَيِّر حكمَ المشروع فيه، وفي الجهادِ إنَّما حرم الرجوعُ لخوْفِ التخذِيل، والانْكِفَافُ عن التعلُّمِ ليس في معناهُ، وأيضاً كُلُّ مَسْأَلةٍ مَطْلُوبة برأْسِها، مُنْقَطعة عن غَيْرها، وليست العلومُ كاَلجملةِ الواحِدَة بخلاف الجِهادِ. وهل يجبُ إِتْمَامُ صلاةِ الجَنَازَة إِذا شرع فيها؟ حَكَى الإمامُ فيه وَجْهين عن القفال. أَحدُهما: أنه لا يجبُ، كما لا يلزمُ التطوُّعُ بالشروع، وعن أكثر الأئمة أنه يجبُ كالجهاد؛ لأن الصَّلاَةَ في حُكْم الخَصْلَةِ الواحدة، وقد تعلق الفرض بعين المصلي إذا ¬
ابتدأَ فِيه، وربما توجه بأنَّ الإعراضَ هتك لحرمة الميت. وقَوْلِه في الكتاب: "وَلَوْ بَلَغَ كِتَابُ الْوَالِدَيْنِ أَوْ مُسْتَحِقُّ الدَّيْنِ"، يشعر ظاهِرُه بالاعتمادِ على الكتاب، ويجوزُ أن يقال إنه اكتفى بالقَرَائِنِ، ويجوزُ أَنْ يُنَازعَ فيه، ويؤوّل اللفظ. وقولُه: "إِنْ لَم يخف وهن على المسْلِمِينَ" تبين أَنَّ الخلافَ في وجوب الانْصِرافِ أَوْ جوازِ موضعه ما إِذَا لم يكن في الانْصِرَافِ خوفٌ، وإن كان لم يجز الانصرافُ. وقولُه: "والصَّحِيحُ أَنَّ العِلْمَ وفُرُوضَ الكِفَايَاتِ لاَ يَتَعَيَّنُ بالشروع" قضيته اطرادُ الخلاف المذكور في التعليم، وسَائِر فُرُوضِ الكفايات، وحينئذٍ فيدخل فيها صلاةُ الجنازَةِ، ويغني ذلك عن قوله: "وَفِي صَلاَةِ الجَنَازَةِ خِلاَفٌ"، وكأنه أَشَارَ بهذه اللَّفْظَةِ بعد ما تبين أَنَّ الصحِيحَ في التعلم وغيره أنه لا يتعيَّنُ بالشرُوع. إلاَّ أنَّ الخلافَ في صَلاةِ الجنازَةِ ليس كالخلاف في التعلُّم، بل الأرجَحُ في صَلاَةِ الجنازةِ وُجُوبِ الإتمام. قال: هذا كُلُّه في قتالٍ هُوَ فَرْضُ كفاية. فرغنا عن الكلام في أَحَدِ قِسْمَي الجهادِ، وهو فَرْضُ الكِفَايَةِ. والقِسْمِ الثَّانِي: الذي هو فَرْضُ عَيْنٍ، وذلك إِذَا وَطِئَ الكُفَّارُ بَلْدَةَ من بِلادِ المسلمين، وأطَلُّوا عليها، فنزلوا بها قَاصِدِين، ولم يدخلوها بعد، فيصير الجهادُ فرضَ عَينٍ، على التفصِيل الذي نبيِّنُه على المشهور. وعن ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وغَيْرِه، فيما روى القاضي الرُّويَانِي، أنه فَرْضُ كفايةٍ أيضاً، والمذهبُ الأَوَّلُ؛ لأنَّ دُخُلَوهم دارَ الإسلامِ خَطرٌ عَظِيمٌ، لا سبِيلَ إلى إهْمالِه، ولا بُدَّ من الجِدِّ في دَفْعِه بما أمكن ثم أجمع ترتيب في ذلك نَقْلاً وتصرفاً ما أفادَهُ الإمامُ، وتَلْخِيصُه: أَنَّ أَهْلَ تلك البلدةِ يتعيَّنُ عليهم الدفْعُ بما أمكنهم، وللدفْعِ مرتبتانِ: إحْدَاهُمَا: أن يحتمل الحال اجتماعُهم وتأهُّبهم، واستعدادُهم للموت، فعلى كُلِّ واحدٍ من الأَغْنِياءِ والفُقَراءِ التأهبُ بما يقدِرُ عليه، وإذا لم يمكنْهُم المقاومَةُ إلا بموافقة العَبِيد وجب على العَبِيدِ الموافَقَةُ، فينحل الحجر عنهم حتى لا [يراجعوا] (¬1) إلى مُرَاجَعةِ السادات، وإِنْ أمكَنَهُمَ المقاومة من غير موافقة العبيد فوجهان: أَحدُهما: أن الحُكْمَ كذلك لتقوى القُلُوبُ، وتعظم الشَّوْكَةُ، وتشتد النِّكايةُ في الكفار؛ انتقاماً من هُجُومِهم. ¬
والثاني: أنه لا ينحل الحجر عنهم؛ لأن في الأَحْرَارِ غنيةٌ عنهم، والأول أَلْيَقُ بِفِقه الباب، وأشبه، والنَّسْوةُ لم يكن فِيهنَّ قوة دفاعٍ لا يحضرن، فإنَّ حُضُورَهُنَّ قد يَجُرُّ شرًّا وُيورِثُ وهناً، وإِنْ كان فِيهنَّ قوةٌ، فعلى ما ذكرنا في العَبِيد، ولا يجبُ في هذا القِسْم استئذانُ الوالِدَيْن، ولا استئذانُ رَبِّ الدَّيْنِ. والمرتبةُ الثانِيَةِ: أَنْ يتغَشَاهم الكُفَّار، ولا يتمكَّنُوا من التأهُّبِ والتجمُّعِ فمن وقف عليه كَافِرٌ، أو كُفَّارٌ -وهو يعلمُ أَنَّهُ يُقْتَلُ إِنْ أُخِدَ- فعليه أَنْ يتحرَّك، ويدْفَعَ عن نفسه بما يمكنه؛ يستوي فيه: الحُرُّ، والعَبْدُ، والرجلُ، والمرأةُ، والسَّلِيمُ، والأَعْمَى، والأَعْرَجُ، ولا تكلِيفَ على الصِّبْيانِ والمجَانِين، فإن كان يجوزُ أَنْ يُقْتَلَ، وأن يُؤْسَر، ولو امتنع لَقُتِلَ، فيجوزُ أَنْ يَسْتَسْلِم، فَإِنَّ المقاومة والحالةُ هذه، استعجالُ القَتْلِ، ويجوزُ أَنْ يُؤْسَر، والأَسْرُ يحتمل الخلاصُ. ولو علمت المرأةُ أنَّها لو استَسْلمتْ لامتدَّتِ الأَيْدِي إِلَيْها -فعليها الدَّفْعُ، وإِنْ كانت تقتل؟ لأَنَّ مَنْ أُكْرِه على الزِّنَا لا يحلُّ له المطاوعة لدفع القتل، وإِنْ كانت لا تقصدُ بالفاحشة في الحال، وإِنَّمَا يُظَنُّ ذلك بَعْد السَّبْيِ، فيحتمل أَنْ يجوزَ لها الاستسلامُ في الحالِ، ثُمَّ تدفع حينئذٍ، ولو كان في أَهْلِ البُقْعَةِ كثرة فخرج بعضُهم وفيهم كفاية، فهل يَتَحَتَّمُ على الآخرِينَ المساعدة؟ فيه وجهان: أَحدُهما: لا, لأنَّ المقصودَ دفعُ الكفارِ وإخراجُهم. وأصَحُّهما: نَعَمْ؛ لأنَّ الواقِعَةَ عظيمةٌ، ولو لم يخرج إِلاَّ من يَكْفِيهم ويُكَافِؤهم -لاستَجْرؤوا على دُخُول دَارِ الإسلام. وأَمَّا أهلُ تلك البَلْدَةِ، فمَنْ كان منهم على دُونِ مَسَافة القَصْرِ، فهو كبعْضِهم، حَتَّى إذا لم يكُنْ من أَهْلِ البلدة كفايةٌ -وجب على هَؤُلاءِ أن يطيروا إِلَيْهم، وإنْ كان منهم كفايةٌ، ففي وُجُوبِ المساعدة عليهم الوجْهَانِ. وِالذين هم على مسافة القَصْر إِنْ لم يكن في أَهْل البَلْدةِ، والذين يَلُونهم كفايةٌ يجب عليهم أَنْ يَطِيرُوا إليهم فإن طار إليهم مَنْ تحصل به الكِفايةُ -سقط الحرَجُ عن الباقين. وهذا معنى قَوْلِ صاحِب "التَّهْذِيب": إنَّ الجِهَادَ إذا دَخَلَ الكُفَّارُ دَارَ الإسلامِ -فرْضُ عَيْنٍ في حَقٌ من قَرُبَ، وفرْضٌ على الكِفَاية في حَقّ مَنْ بَعُدَ، وعلى هذا الحكم أصحابُ الأَعْذار على ما ذكرناه في القِسْم الأوَّلِ. وفيه وَجْهٌ: أَنَّهُ يجب على جميعِهم المساعدةُ والمسارَعَةُ، وليكن هذا في الأَقْرَبِين ممن هم على مَسافة القَصْرِ، وإِنْ كان من في أَهْل البلدة، والذين يلونهم -كفايةٌ، فأظهر الوجْهَيْنِ هو الذي أَوْرَده صَاحِبُ "التهذيب" أَنَّهُ لا يجِبُ على الذين هُمْ على مَسَافَةِ
القَصْرِ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَيْهم ويساعدوهم. ولو أَوْجَبْناه لَأوْجَبْنا -أيضاً- على الذين يَلُونهم إِذا انتهى الخبرُ إِلَيْهم، وهكذا إلى أن يَسْتَوْعِبَ المسلِمينَ كُلَّهم وهو بَعِيدٌ. والثَّانِي: يجبُ على الأَقْرَبِين، فالأَقْربين بلا ضَبْطٍ حتَّى يصلَ الخبرُ بأنهم قد كُفُّوا وأُخْرِجُوا، وليس لأهل البلْدَةِ، ثُمَّ الأَقْربين فالأَقْربين إِذَا قَدَرُوا على القِتَال أن يلبثوا إلى لحوق الآخَرِين. ولا يُشْترطُ وِجْدَانُ المرْكُوب فيمن هو دُونَ مَسَافةِ القَصْر، وفيمن هو على مسافة القَصْر، وفوْقَها وجهان: في وِجْهٍ لا يشترطُ لشِدَّةِ الخَطْبِ. والأَظْهرُ الاشتراطُ كما في الحج. وحكى الإمامُ تَفْرِيعاً على الأوَّل وَجْهين في أَنَّه يُشْترطُ وِجْدان الزَّادِ، ويجري ذلك فِيمَنْ هو دُون مسافَةِ القَصْر، والأصح الاشْتِراطُ، إِذْ لا اسْتِقْلاَل بدون الزَّادِ، ولا معنى لإلزامهم الخروج مع العِلْم بِأَنَّهم يهلكون، ثُمَّ في الفصل صورتان. إِحْدَاهُما: إذا نزلُوا في خَرَابٍ أو على جبل في دَارِ الإسلام بَعيدٍ عن البُلْدانِ والأوْطَانِ، ففي نزوله منزلة دُخُول البلاد وَجْهانِ أطلقهما في الكتاب، والذي رواه الإِمَامُ عن الأَصْحاب أَنَّهُ ينزل منزلته؛ لأَنَّهُ مِنْ دار الإسلام، والذي زاد المنع؛ لأنَّ الدِّيارَ تشرقُ بسكُونِ المسلمِينَ، وإذا لم يكن مَسْكناً لِأَحدٍ، فتكْلِيفُ المسلمين التهاوي صونها عن المَتَالِفِ بَعِيدٌ (¬1). والثانية: لو أَسَرُوا مُسْلماً، أو جماعةً مِنَ المسلمين، فهل كدخُولِ دار الإسلام؟ فيه وجهان: أَحدُهما: لا, لأنَّ تَحْرِيك الجُنودِ لواحدٍ يقع في الأَسْرِ بعيدٌ ومخالفٌ لما نُقِل في السَّيَّرِ، وأظهرهُما عند الإمامِ نعم؛ لأَنَّ حُرْمَةَ دارِ الإسلام كحرمَةِ المسلمين، والاستِيلاءُ على المسلمين أَعْظَمُ مِنْ الاسْتِيلاء على دَارِ الإسلام، وعلى هذا فلا بُدَّ من رعاية النَّطَرِ، فإِنْ كانوا على القُرْب مِنْ ديارِ الإِسْلاَم، وتوقعْنَا استخلاصَ مَنْ أَسَرْوه، لو طِرْنَا إليهم -فعلنا، وإن توغَّلُوا فيَ بلاد الكُفْرِ، ولا يمكن التسارعُ إِلَيْهم، وقد لا يتأتى خرقُها بجنود الإِسْلاَم، فيضْطَرَّ إلى الانْتظار، وهذا كما أَنَّهُ إذا دخل ملكٌ عظيمٌ منهم طرفاً مِنْ أَطْراف بلاد الإسلام لا يتسارع إلى دَفْعِه الآحادُ والطوائِفُ، ويجوزُ أَنْ يُعْلَمَ قوْلُه في الكِتَابِ: "تَعَيَّنَ عَلَى كُلِّ مَنْ لَهُ مُنَّةٌ" بالواو وقولُه: "انحَلَّ الحَجْرُ عَنِ الْعَبْدِ ... " إلى ¬
آخره تفصيلٌ لما أجمله بقوله: "حتَّى العبْد" وإذا كان في المرأَةِ مُنَّةٌ، فقد سبق أَنَّ الحُكْمُ فِيها كما في العبْدِ في حَالَتِي الاسْتِغْناءِ عنها، وعَدَمِ الاستغناء، ويجوزُ ألاَّ يحوجَ الزوجة إِلاَّ بإِذْن الزَّوْجِ، كما لا يحوج العبد إلى إذْن السَّيِّد. وقوله: "وَلوْ خَرَجَ قَوْمٌ فِيهمْ كِفَايَةٌ، فَفِي وُجُوب المُسَاعَدَةِ عَلَى الآخَرِينَ" -يَعْنِي الذين هم مِنْ أَهْل تلك البلدة ومَنْ منها على مسافة القَصْرِ. وقولُه: "وَإِنْ كَانُوا فَوْقَ مَسَافَةِ القَصْرِ -فَوَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ"، أراد به ما ذكره الإمامُ: أَنَّ الوجْهَيْنِ في البُعَدَاءِ الذين هم على مَسَافَةِ القَصْرِ يترتَّبانِ على الوجْهَيْنِ في أهل تلك النَّاحِية إِنِ اكْتَفَينَا هناك بِمَنْ فِيه كِفَايةٌ، ففي البُعْدِ أوْلَى، وإِلاَّ ففيهم وَجْهان. قال الغَزَالِيُّ: وَمِنْ فُرُوضِ الكِفَايَاتِ القِيَامُ بعُلُومِ الشَّرْعِ* فَأَمَّا مُهِمَّاتُ الصَّلاَةِ وَالوُضُوءِ فَفرْضُ عَيْنٍ* وَكَذَا عِلْمُ التَّجَارَةِ فَرْضٌ عَلَى التَّاجِرِ* وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ صَنْعَةٍ وَهُوَ القَدْرُ الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي كِتَابِ آدَابِ الكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ دُونَ الفُرُوعِ النَّادِرَة* وَلاَ يَتَعَيَّنُ مِنَ الأَصُولِ إِلاَّ اعْتِقَادٌ صَحِيحٌ فِي التَّوْحِيدِ فِي صِفَاتِ اللهِ كَمَا وَرَدَ فِي القُرْآنِ* وَالقِيَامُ بِدَفْعِ شُبْهَةِ المُبْتَدعَةِ فَرْض كِفَايَةٍ* وَكَذَا القِيَامُ بالفَتْوَى. قال الرَّافِعِيُّ: ومِنْ فُرُوضِ الكِفَايَاتِ العلومُ، منها ما يتعيّن طلبُه وتعلُّمُه، ومنها ما هو مِنْ فرُوضِ الكفايات. فمما يتعيَّنُ تعلّمُه وطلبُه: ما يُحْتاجُ إِلَيْه لإقامَةِ مفْرُوضات الدِّين: كالوُضُوءِ، والصَّلاةِ، والصِّيام، وغيرَها، فإنَّ من لا يفرّق بين أَرْكانِ الصلاةِ، وشَرَائِطِها, لا يمكنه إِقَامَتُها، وَإِنَّما يتعيّنُ تعلمُ الأَحْكام الظاهرة دُونَ الدقائق، والمسائِل التي لا تعم بها البَلْوَى، وإِنْ كان له مالٌ ذَكَوِيٌّ، فلاَ بُدَّ مِنْ تعلّم ظواهر أحْكَامِ الزكاة. قال القَاضِي الرُّويَانِيّ: هذا إِذَا لم يكن له سَاعٍ يَكْفِيه الأَمْرَ (¬1). ومَنْ يَبِيعُ، وَيشْتَرِي، ويتَّجِرُ يتعيّن عليه معرفةُ أحْكام التِّجَاراتِ، وكذا ما يحتاجُ إِلَيْه صاحبُ كلِّ حِرْفةٍ يتعيَّنُ عليه تعلُّمهُ، وأَمَّا فروضُ الكِفَايَاتِ فقولُه: "القِيَامُ بعُلُومِ الشَّرْعِ" يدخل فيه التَّفْسِيرُ، والحديثُ على ما تبين في الوصيَّةِ. ومنها أَنْ ينْتَهِي في مَعْرِفة الأَحْكام إلى أَنْ يصلح للفَتْوى والقضاء على ما يتبيّن -إنْ شاء اللهُ تعالى- في "أَدَبِ الْقَضَاءِ"، وهناك يتبيَّنُ أَنَّ المُجْتهِدَ في الشَّرْعِ مُطْلَقاً يُفتي وأَنَّ مَنْ يتبحر في مَذْهب بعَض الأَئِمَّةِ المجتهدين، يُفْتِي أَيْضاً على الأَصَحّ، ولا يكفي ¬
أن يكون في الإِقْلِيم مُفْتٍ واحِدٌ؛ لعُسْرِ مراجعته على النَّاسِ. واعتبر الأصحابُ فيه مسافةَ القَصْرِ، وكأَنَّ المُرَادَ أَلاَّ يزيدَ ما بين كل مُفْتِيَيْنِ على مَسافَةِ القَصْر، لئلا يحتاج مَنْ يراجع إلى قَطْعِ مسافة القصْرِ. وفي العُلُومِ العقلِيّة ما هو فَرْضٌ على الكِفَايَةِ: كالطّبِّ المحتاج إِلَيْه في مُعَالجة الأَبْدَانِ، والحِسَابِ المحتاج إليه في المُعَاملاتِ، وقِسْمة الوَصَايَا والموَارِيث. قال المصنِّفُ -رحمه الله- في "الإِحْيَاءِ": ولا يُسْتَبْعَدُ عَدُّ الطِّبِّ والحسَابِ من فُرُوضِ الكفايات، فَإِنَّ الحِرَفَ والصناَعات التي لا بُدَّ للناس منها في مَعَايِشِهمْ كالفِلاَحَةِ، والزِّرَاعَةِ مِنْ فرْوضِ الكِفَايَاتِ، والطبُّ والحسابُ أَوْلَى. وأَمَّا أُصولُ الاعْتِقادَاتِ. فالاعتقادُ المستقِيمُ مع التصميم على ما ورد به القرآنُ والسنَّةُ فَرْضُ عينٍ، والعِلْمُ المُتَرْجَمُ بـ"عِلْمِ الكَلاَمِ" ليس بفرْضِ عَيْنٍ، وما كان الصحابةُ -رضي الله عنهم- يَشْتَغِلُون به. قال الإمامُ: ولو بَقِيَ الناسُ على ما كانوا عليه في صَفْوةِ الإسلام -لما أوْجَبْنَا التشاغل به، ورُبَّمَا نَهَيْنَا عنه، فَأَمَّا الآن وقد ثارت البِدَعُ، فلا سَبِيلَ إلى تركها تَلْتَطِمُ، ولا بُدَّ مِنْ إِعْداد ما يُدْعَى به إلى المسْلَكِ الحقِّ وتُحَلُّ به الشُّبَهُ، فصار الاشتغالُ بأَدِلَّةِ العُقُولِ، وحلّ الشبه مِنْ فُرُوض الكِفَايَاتِ، ومَنِ اسْترابَ في أصْلٍ مِنْ أُصُول الاعتقاد، فعليه السَّعْيُ في إِزَاحته إلى أَنْ تَسْتَقِيم عَقِيدَتُه (¬1). ¬
الفصل الأول في السلام
وقولُه في الكتاب: "وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَاب آدَابِ الكَسْبِ والتِّجَارَةِ" يَعْنِي من كُتب الإِحْيَاءِ مِنْ رُبْعِ العِبَادَاتِ، والمقصودُ الأحكامُ الظاهِرَةُ للمعامَلاتِ الغالِبَةِ من البيع، والسَّلَم، والإِجَارةِ، وغيرها، ويشتمل على تلك الأَحْكَامِ مختصرات المذْهَبِ، دُون الفُرُوَع النادرة، والمسائِلِ الدَّقِيقة. قال الغَزَالِيُّ: وَأمَّا السَّلاَمُ فَابْتِدَاؤُهُ سُنَّةٌ والجَوَابُ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الوَاحِدِ وَفرْضُ كِفَايَةِ عَلَى الجَمَاعَةِ* وَلاَ يُسَنُّ السَّلاَمُ عَلَى المُصَلي وَمَنْ يَقْضِي حاجَتَهُ وَفِي الحَمَّامِ* وَتَشْمِيتُ العاطِسِ وَجَوَابُهُ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. قال الرَّافِعِيُّ: في هذه البقيَّة فَصْلاَنِ: " الفَصْلُ الأوَّلُ في السَّلاَمِ" ابتداءُ السَّلاَمِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ قال اللهُ تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] أَيْ: يُسَلِّمُ بعْضُكم على بَعْضٍ، وقال اللهُ تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} [النساء: 86] الآيةَ، وفي الأَخْبَارِ الوارِدَةِ في السلامِ، وإِفْشَائِه كثرةٌ وشُهْرة، وللأمر بالإِفْشَاءِ نقولُ: لو سَلَّمَ على واحدٍ تعيّن عليه الجوابُ (¬1)، وإِنْ سَلَّمَ على جَماعَةٍ، فالجوابُ فَرْضٌ على الكِفَايةِ، فإذا أجَابَ واحدٌ منْهُمْ سقط الفَرْضُ عن الباقِينَ وإِنْ أجاب الجمعُ -كانوا مُؤَدِّين للفرْضِ سواءٌ أَجابُوا معاً أو على التعاقُبِ، وإِنِ امْتنع الكُلُّ حَرِجُوا جميعاً، ¬
وَلَو رَدَّ عليه غيرُ مَنْ سَلَّمَ عليه يَكْفِ، ولم يُسْقِطْ نيةَ الحَرَجِ عَمَّن سَلَّمَ عليه. وابتداءُ السلامِ سنَّةٌ الكِفَاية أَيْضاً، حتَّى إذا لَقِيَ جَماعةٌ جماعةً فَسَلَّمَ أَحَدُ هؤلاءِ على أَحَد هَؤُلاَء كفى ذلك لإقامة السُّنَّةِ. ومن سَلَّمَ في بَعْضِ الأَحْوَالِ التي لا يُسْتَحَبُّ فيها السلامُ -لم يستحقَّ الجوابَ، فمنها أطلق صاحب الكتاب هاهنا. وفي "الْوَسِيطِ": أَنَّهُ لا يُسَنُّ السلامْ على المُصَلِّي، ولم يمنع منه المُتَوَلِّي في "التَّتِمَّةِ"، ولَكِنْ قال: إذا سَلَّمَ على المصلِّي فلا يُجِيبُ حتَّى يفرغ من الصَّلاةِ، ويجوزُ أَنْ يُجِيبَ في الصلاة بالإِشَارَةِ. وإِنْ قال في الصلاةَ: عَلَيْكُمْ السلامُ -بطلتْ صلاتُه، وإِنْ قال عَلَيْهِمْ السلامُ لم تَبْطُلْ، وقد سبق هذا في "الصَّلاَةِ". ومنها لا يُسْتَحَبُّ السلامُ على مَنْ يَقْضِي حاجَتَهُ، بل كان القربُ مِنْه، ومُكَالمتُه بَعِيدٌ عن الأدب، والمُرُوءَةِ، ويروى النَّهْيُ عنه في الخبر (¬1). ومنها لا يُسْتحب لمن دخل الحمَّامَ أَنْ يُسَلِّمَ على مَنْ فيه؛ لأَنَّهُ بيت الشيطان، وليس مَوْضِعَ التحيَّة؛ ولأنهم في الدَّلْكِ، والتَّنْطِيف؛ ولا تليقُ التحيةُ بحالهم. ومِنْها لا يُسَلِّمُ على المشْغُولِ بالأَكْلِ، وكذلك ذكره الشيخ أَبُو مُحَمَّدٍ، وأطلقه صاحبُ "التَّتِمَّةِ"، ورأى الإمامُ حَمْلَ ذلك على ما إِذَا كانتِ اللقْمةُ في فِيهِ، وكان يمضي زمانٌ في المضْغِ والابْتِلاَعِ، ويعسرُ عليه الجوابُ في الحالِ. أَمَّا إذا وقع السَّلامُ بَعْدَ الابتلاعَ، وقَبْل وضْعِ لقمة أخرى في الفَمِ -فلا يتوجه ¬
المنعُ، ولا مَنْعَ من السلام على مَنْ هو في مُسَاوَمةٍ أو مُعَامَلةٍ، وإِلاَّ فلا يحصل إِفْشاءُ السلامِ، والنَّاسُ في أَغْلبِ الأَحْوالِ في أَشْغَالهم. هذا ما تعرَّضَ له في الكِتَاب ونتبعه بمسائِلَ أَوْرَدَ أَكْثرها صَاحِبُ "التتمة" في "كتاب الجمعة". ولا بُدَّ في السَّلاَمِ والجَواب بقدْرِ ما يحصل به الإسْمَاعُ. وصِيغَتُه "السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ"، ويَقُومُ مقامَهُ "سَلامٌ عليكُمْ". وقال الإمامُ: وكذا "عَلَيْكُمُ السَّلاَمُ". وفي التتمَّةِ: أَنَّهُ لو قال: "عَلَيْكُمُ السَّلامُ"، لم يكن مُسَلِّماً (¬1) إِنَّما هو صِيغَةُ جوابٍ، ويُرَاعِي صِيغَةَ الجمْعِ وَإِنْ كان السلامُ على وَاحِدٍ خِطَاباً له ولملائِكَتِه، ولو لم يأْتِ بِصِيغَةِ الجمْعِ حصل أصلُ السُّنَّةِ، وصيغةُ الجَوَابِ "وَعَلَيْكُمُ السَّلاَمُ" أو "وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ" للواحِدِ، ولو ترك حَرْفَ العطْفِ وقال: عَلَيْكُمْ السَّلاَمُ، ففي "النِّهَايَة" أنه يَكْفِي ذلك، ويكونُ جَواباً، والأحْسَنُ أن يُدْخِلَ حَرْفَ العَطْفِ. وفي "التتمَّةِ" أَنَّهُ ليسَ بِجَوابٍ (¬2)، وأَنَّهُ لو تَلاَقَى اثْنَانِ، فَسَلَّمَ كُلُّ واحدٍ منهما على الآخرِ -وجب على كُلِّ وَاحِدٍ منهما جَوَابُ الآخر، ولا يَحْصُلُ الجوابُ بالسَّلاَمِ، وإِن ترتب السَّلاَمَانِ (¬3). ولو قال المُجِيبُ: وَعَلَيْكُمْ، قال الإِمَامُ: الرأيُ عِنْدَنا أَلاَّ نَكْتَفِي بهذا فَإِنَّهُ ليس فيه تَعَرْض للسَّلامِ. ومنهم مَنْ قال: إِنَّهُ يكونُ جَواباً لِلْعَطْفِ، ورجوعُه إلى قوله: السلام. ¬
ولو قال: عَلَيْكُمْ -لم يكن جَوَاباً بلا خِلاَفٍ، وكمالُ السلام أَنْ يَقُولَ: السَّلاَمْ عَلَيْكُمْ ورحمةُ الله، وكما أَنَّ الجوابَ أَنْ تَقُولَ: وَعَلَيْكُمْ السلامُ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه (¬1). وينبغي أَنْ يكونَ الجَوابُ متَّصِلاً بالسلامِ أيضاً ليرعى مثله بين الإِيجَابِ والقبول في العُقُود. وفي "التتمة": أَنَّهُ لو نَادَاهُ مِنْ ورَاءِ سترٍ أَوْ حائطٍ وقال: السلامُ عليك يا فُلانُ، أو كتب كتاباً وسَلَّمَ فيه عليه، أَوْ أَرْسَلَ رَسُولاً فقال: سَلَّمْ على فُلاَنٍ فبلغَهُ الكتابُ والرسالةُ -وجبَ عليه الجوابُ؛ لأنَّ تحيَّة الغائِبِ إِنَّمَا تكون بالمُنَادَاةِ أو الكتابِ أو الرِّسَالةِ؛ وقد قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} الآية [النساء: 86]، وأَنَّ ما يعتادُه بعضُ النَّاسِ مِنَ السَّلامِ عند القِيَامِ، ومُفَارقَةِ القوم- دُعَاءٌ لا تحِيَّة، فيستحب الجوابُ عنه ولا يجِبُ. وأَنَّهُ يكره أن يخصَّصَ طائفةً من الجمع بالسلام. وأَنَّهُ لو سَلَّم عليه جماعةٌ، فقال: وعليكم السَّلاَمُ، وقصد الرَّدَّ عليهم جَمِيعاً -جاز، وسَقَطَ الفَرْضُ في حَقِّ الكُلِّ كما لو صَلَّى على جَنَائِزَ صلاةً واحدةً. وأنَّ المُسْتحبَّ أن يُسَلِّمَ الراكبُ على الماشِي، والمَاشِي على الجالِسِ، والطَّائِفَةُ القَلِيلَةُ على الكَثِيرة (¬2)، ولا يُكْره أَنْ يَبْتدِأ الماشي، والجالس (¬3). وأَنَّ في السَلامِ على الأَصَمِّ يأتي باللَّفْظِ لقُدْرَتِه عليه، وُيشِيرُ باليد لَيحْصُلَ الإفهامُ، ولو لم يَضُمَّ الإشارةَ إلى اللَّفْظِ لم يستحق الجواب، وكذا في جَوابِ الأَصَمِّ ¬
ينبغي أَنْ يجمع بين اللفظِ والإِشَارة. وأَنَّ سَلامَ الأَخْرَسِ بالإشارَةِ مُعْتَدٌّ به، وكذا ردّه السلامَ. وأَنَّ الصَّبِيَّ لا يلزمُه جوابُ السلامِ؛ لأنَّهُ ليس من أَهْلِ الفرض، ولو سَلَّمَ على جَمَاعةٍ فِيهم صَبِيٌّ -لم يسقُطِ الفَرْضُ عنهم بجوابه (¬1). ولو سَلَّمَ الصبيُّ- ففي وجُوبِ جَوَابِه وجهان بناءً على الخلاف في صِحَّةِ إسلامه (¬2). وأَنَّ سلامَ النساءِ على النِّساءِ كَسَلاَم الرجال على الرِّجالِ، ولو سَلَّمَ رَجُلٌ على امُرَأةٍ أوْ بالعَكْسِ، فإِنْ كان بينهما زوْجِيَّةٌ أو مَحْرَمِيَّةٌ -جاز، وثبت استحقاقُ الجوابِ، وِإلاَّ لَمْ يَثْبُتْ إِلاَّ إِذَا كانت عَجُوزاً خارِجةً عن مَظَنَّةِ الفتنة (¬3). وأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ مَنْ دخل دَارَ نفْسِه أن يُسَلِّمَ على أهْلِه، وأَنَّ مَنْ دخل مَسْجداً أو بيتاً، وليس فيه أحدٌ، يستحب أن يقول: السَّلامُ عَلَيْنَا وعلى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ (¬4). وأَنَّهُ لا يجوزُ السلامُ على أَهْلِ الذَّمَّةِ ابتداءً، ولو سَلَّمَ على مَنْ لم يَعْرِفْه، فَبَانَ ذِمِّيًّا -فَيُسْتَحَبّ أَنْ يسترد سَلامَهُ بأَنْ يَقُولَ: رُدَّ عليَّ سَلاَمِي؛ تَحْقِيراً له، ويُحَيَّى الذِّمي بغير السَّلاَم بأن يُقالَ: هَدَاكَ اللهُ، وأَنْعَمَ اللهُ صَبَاحَكَ، أَوْ أَطَالَ اللهُ بَقَاءَكَ، وإذا سَلَّمَ عليه ذِمِّيٌّ لَم يزِدْ في الجوابِ على قوله: وَعَلَيْكَ (¬5). ¬
وأنَّ التحيَّةَ بالطَّلْيَقَةِ [وهي أَطَالَ اللهُ بقَاكَ] وَانْحِنَاءَ الظَّهْرِ، وتَقْبِيلَ اليَدِ لا أَصْلَ له في الشَّرْع، لكن لا يُمْنع الذي مِنْ تَعْظِيم المسلم بها (¬1)، ولا يُكْرَهُ التعظِيمُ بالتقبيل لِزُهْدٍ، أو علمٍ، أو كِبَرِ سنٍ. روي أَنَّ أَعْرَابِيَّا قعد عند رسول اللهُ -صلى الله عليه وسلم- فاسْتَحْسَن كلامَهُ, فاسْتَأْذَن في أَنْ يُقَبِّلَ وَجْهَهُ فأذِنَ له, ثم اسْتَأْذَنَ أن يُقَبِّلَ يدَهُ فَأَذِن له, ثُمَّ استأذن أَنْ يَسْجُدَ له, فلَمْ يّأْذَنْ له (¬2). وأَنَّهُ تُسَنُّ المصافَحَةُ، وأَنَّهُ يُكْره للداخلِ أَنْ يَطْمعَ في قِيَامِ القَوْمِ، ويُسْتَحبُّ لهم أن يُكْرِمُوه، واللهُ أعلمُ. وهذه زياداتٌ أُخَر في السلام علّقها بعضُهم في السلام بالفارِسِيَّةِ ثلاثةُ أَوْجُهٍ. ثالثها: الفرق إِنْ كان قَادِراً على العربِيَّةِ. لم يجز (¬3). ومن لا يَسْتَقِيمُ نُطْقُه بالسلام فَسَلَّمَ كيف أَمْكَنه -كان مُسلِّماً. ¬
الفصل الثاني في تشميت العاطس
وفي استحبابِ السلامِ على الفاسق [المجاهر بنفسه] ووجوب الرَّدِّ على المجْنُونِ والسَّكْران إِذَا سلَّمَا وجهان. ومَنْ سلَّمَ على مَنْ يَقْضِي حاجته -هل يستحقُّ الجواب بعد الفراغ؟ فيه وجهان. وذكر في "القَدِيم" أَنَّ المصلِّي إذا سُلِّمَ عليه يَرُدُّ بالإشارَةِ، وفي لُزُومِه وَجْهٌ، وفي لُزُومِ الرَّدِّ بعد الفراغِ مِنَ الصَّلاةِ وَجْهَانِ (¬1)، وهل يُسَنُّ سلامُ النِّساءِ على النّساءِ، فيه [احتمالاتٌ]. الْفَصْلُ الثَّانِي في تَشْمِيتِ الْعاطِسِ رُوِيَ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قال: "حَقُّ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ سِتٌّ، أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ، وَأَنْ يُجيْبَهُ إِذَا دَعَاهُ، وَأَنْ يُشَمَّتَهُ إِذَا عَطِسَ، وَأَنْ يَعُودَهُ إِذَا مَرِضَ، وَأَنْ يُشَيِّعَ جِنَازَتَهُ إِذَا مَاتَ، ألاَّ نَظُنّ فِيهِ إِلاَّ خَيْراً" (¬2) واستحبابُه على الكِفَايةِ كما ذكرنا في ابتداءِ السَّلامِ، وإنَّما يسْتَحَبُّ التشمِيتُ إذا قال العاطِسُ: الحمدُ لله، وَينْبغِي أَنْ يُخَاطِبَ المُشَمت فيقول: يَرْحَمُكَ اللهُ، أو يَرْحَمُكَ رَبُّكَ. ويُكَرِّرُ التَّشْمِيتَ إذا تكرر العُطَاسُ، إِلاَّ أَنْ يعلَمَ أَنَّهُ مَزْكُومٌ فيدْعُو له بالشِّفَاءِ. ويستحب للعاطِسِ أن يُجِيبَه فيقول: يَهْدِيكَ اللهُ، أو يَغْفِرُ اللهُ لك، ولا يَجِبُ ذلك، بخلافِ جَوابِ السَّلامِ. قال الإِمامُ: لَعَلَّ السَّبَبَ فيه أَنَّ التشْمِيتَ للعُطَاسِ، ولا عُطَاسَ بالمشمِّتِ، ¬
والتحيةُ تشملُ الطرفَيْن، ويُسْتحبُّ عيادةُ المريضِ، وزيارةُ القادِمِ، ومُعَانَقَتُه (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الباب الثاني في كيفية الجهاد
يُرْوَى أَنَّ جَعْفَراً -رضي الله عنه- لَمّا قَدِمَ مِنَ الحَبَشَةِ عانَقَهُ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، (¬1) وقد قدّمْنَا في المُعَانَقَةِ كَلاَماً في أَوَّلِ النِّكَاحِ، والله أعلم. الْبَابُ الثَّانِي فِي كَيْفِيَّةِ الجِهَادِ قال الغَزَالِيُّ: وَالنَّظَرُ فِي تَصَرُّفِ الإِمَامِ فِيهِمْ بِالقِتَالِ وَالاسْتِرْقَاقِ وَالاِغْتِنَامِ (النَّظَرُ الأَوَّلُ فِي القِتَالِ) وَفِيهِ مَسَائِلُ: (الْأُولَى) أَنَّهُ يَجُوزُ الاسْتِعَانَة بِأَهْلِ الذِّمَّةِ وَبِالمُشْرِكِ الَّذِي تُؤْمَنُ غَائِلَتُهُ وَبِالعَبِيدِ إِذَا أَذِنَ السَّادَةُ وَبِالمُرَاهِقِينَ* وَالذِّمَّيُّ إنْ حَضَرَ منْ غَيْرِ إِذْنٍ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ الرَّضْخَ خِلاَفٌ* وإِنْ نُهِيَ فَحَضَرَ لَمْ يَسْتَحَقُّ* وَالمُخَذِّلُ يَخْرُجُ مِنَ الجُنْدِ وَلاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئاً وَإِنْ حَضَرَ. ¬
قال الرَّافِعِيُّ: الجهادُ يتضمنُ قصدَ نُفُوس الكُفَّارِ وأَمْوالهم، وتَصرُّفُ الإمامِ في نِفِوسِهم: قد يكونُ بالقَتْلِ والقِتَال، وقد يكونُ بالاسْتِرْقَاقِ، وقَدْ يَكونَ بالمنِّ أو الفِدَاءِ، وتصرُّفه في أَمْوالهم: قد يكون بالإِتْلاَفِ، وقد يكُونُ بالاغتِنَامِ، فأَهْملَ صاحبُ الكتاب حُكْمَ المنِّ والفِدَاء؛ لأنَّ خَطْبَهما هَيِّنٌ. وقال: "والنَّظَرُ فِي تَصَرُّفِ الإِمَامِ فِيهِمْ بالْقَتْلِ وَالاِسْتِرْقَاقِ وَالاِغْتِنَامِ، ولم يَذكرْ في الترجمةِ إتلافَ أموالِهم، لكنَّهُ يَبيِّنه عند التفصِيل بين الاسْتِرْقاق والاغْتِنام على ما سيأتي. واعلمْ أَنَّهُ يكرهُ الغزْوُ بغَيْرِ إذْن الإِمَام، أو الأَمِير المنصُوب مِنْ جهته ولا يحرُم (¬1)، وأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إذا بَعث الإمامُ سَرِيَّةً أَن يُؤَمِّرَ عليهم أَمِيراً، وَيأْمُرَهم بطاعتِه، ويوصيه بهم، وأَنْ يأخُذَ البيعَةَ على الجُنْدِ حتَّى لا يَفرُّوا، وأن يَبْعَثَ الطَّلائِعَ ويتجسس أَخْبارَ الكفار (¬2)، ويُسْتحبُّ الخروجَ يومَ الخمِيس (¬3) في أوَّل النَّهَارِ، وأن يَعْقِدَ الراياتِ، ويجعل كُلَّ أمير تحت رايةٍ، ويجعل لِكُلِّ طائِفَةٍ شعاراً؛ حتَّى لا يَقْتُلَ بعضُهم بعضاً بياتاً، ويُسْتَحبُّ أَنْ يدخل دارَ الحرْبِ بتعبئة الحرب؛ لأنَّهُ أحوطُ وأَهْيَبُ، وأن يستنصِرَ بالضعفَاءِ، وأَنْ يَدْعُوَ عند التِقَاءِ الصَّفّيْنِ، وأن يُكَبِّر مِنْ غَيْرِ إسرافٍ في رفْعِ الصوت، وأن يُحَرّضَ الناسَ على القتالِ، وعلى الصَّبْرِ والثَّباتِ، وكُلُّ ذلك مَشْهُورٌ في سِيَرِ النبي -صلى الله عليه وسلم- ومَغَازِيه. ولا يُقاتِلُ مَنْ لم تبلغه الدعوة حتى يدعوه إلى الإسلام، والذين بلغتْهُم الدعوةُ يُسْتحب أن يعرض عليهم الإسلامَ، ويَدْعُوهم إليه أَيْضاً، ويجوزُ أَنْ يبتهم [بغير دعاء] ثُمَّ الذين لا يقرون بالجزيةِ يُقَاتلُون وتُسْبَى نِسَاؤُهم، وتُغنم أموالُهم إلى أن يُسْلِمُوا، والذين تُقْبَلُ منهم الجزيةُ يُقَاتلون إلى أن يُسْلِمُوا أو يبذلوا الجِزُيَة، إذا عرفْتَ ذلك، فَإِنَّ صاحِبَ الكتابِ رتَّبَ التصرُّفَ الأول وهو القتالُ، والقتلُ -على مَسَائِلَ: إِحْدَاهَا: فِيمَنْ يُسْتَعَانُ به وفيه صُوَرٌ: إِحْدَاهَا: يجوزُ الاستعانةُ بأَهْلِ الذِّمةِ والمشْرِكين في الغَزْوِ؛ لما رُوِيَ أَنَّ النبيَّ - ¬
صلى الله عليه وسلم- استعانَ بيهودِ بَنِي قَيْنقَاع في بعض الغَزَواتِ، ورضخ لهم (¬1)، وشهد صَفْوَانُ معه حربَ حُنَيْنٍ وِهو مُشْرِكٌ (¬2)، وإِنَّمَا تجوز الاستعانةُ بهم إذا عرف الإِمَامُ حُسْنَ رَأْيِهم في المسْلِمينَ، وأَمِنَ من خِيَانَتِهم، واعتبر الإمامُ، وصاحبُ "التَّهْذِيبِ" وآخرون شرطاً آخرَ، وهو أَنْ يُكَثِّرَ المسلِمينَ بحيثُ لو خان المستعانُ بهم، وانضمُّوا إلى الذين يَغْزُونهم -لتمكَّنَ المسلِمُونَ مِن مُقَاوَمتهم جميعاً، وفي كتُبِ العِرَاقِيِّينَ وجماعةٍ أَنَّ شَرْطَ جوازِ الاستعانة أن يكون في المسلمِينَ قِلّة، وتمسّ الحاجةُ إلى الاستعانَةِ، ويكاد هذان الشرْطَانِ يتنافَيَانِ؛ لأنهم إذا قَلُّوا حتَّى احتاجُوا في مُقاوَمةِ إِحْدَى الفئتَيْنِ إلى الاستعانة بالأخرى فكيف يَقْدِرُون على مُقَاومتهما معاً (¬3)؛ لو التأمتا وتمالأتا؟ وتكلَّمُوا فيما رُوِيَ عن عائِشَةَ -رضي الله عنها- أَن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى بَدْرٍ، فتبعَهُ رجلٌ من المشُرِكين فقال: "تُؤْمِنُ باللهِ ورسُولِه قال: لاَ، قال: فَارْجِعْ؛ فإنَّا لا نَسْتَعِينُ بمُشْركٍ، ثُمَّ أَتَاهُ بعد ذلك، ووصف الإسلامَ، فقبله وَاسْتَصْحَبَهُ" (¬4) من وجوه: ¬
قِيلَ: كانت الاستعانةُ ممْنُوعةً، ثم رَخّص فيها (¬1). ¬
وقِيلَ: إنما لم يستعِنْ حينئذٍ لفوات بعْضِ الشرُوطِ المعتبرة. وقِيل: إِنَّ الأمْرَ فيه إلى رأْي الإمامِ، فرأى أَنْ يستعين في بعض الغَزَواتِ، ولم يره في بَعْض. قِيل: تفرَّسَ فيه الرغبةَ في الإسلامِ؛ فردَّهُ رجاءَ أن يسْلِمَ، فصدق ظَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم-.
ثُمَّ إذا حضر الذِّمِّيُّ القتالَ بإِذْن الإمامِ، فله الرضخ كما تبيّن في "قِسْم الغَنَائِم"، إلاَّ إذا كان قد اسْتَأْجره، فلا يستحقُّ إِلاَّ الأَجْرة، وإِنْ حضر بعد ما نهاه، فلا شَيْءَ له؛ لأنَّهُ مُتَّهَمٌ بموَالاة أَهْلِ دِينه، وللإمام أَنْ يُعَزّره إذا رآه، وإنْ لم يكن نهيٌ ولا إِذْنٌ، فهل يَسْتَحِقُّ الرضخ؟ فيه وجهانِ: أَصَحُّهما: المنعُ؛ لأَنَّهُ ليس مِنْ أَهْل الذَّبِّ عن الدين، بل هو مُتَّهَمٌ بالخيَانةِ، والميْلِ إلى أَهْل دينه. والثَّانِي: أَنَّهُ يستحقُّ؛ لأنَّهُ بالعَهْدِ المُؤَبَّدِ صار من أَهْلِ الدار، ومِنْ أهل نصرتها. [و] الثَّانِيَةُ: يجوزُ أَنْ يَسْتعين الإمامُ بالعبِيد إِذَا أَذِن السادَةُ (¬1)، وأَنْ يسْتصْحِبَ المراهِقِين، إذا كان فيهم جلادةٌ وغناءٌ في القتال، وكذا لمصلحةُ سَقْيِ الماء، ومُدَاوَاةِ الجرْحَى، وكذلك يَسْتَصْحِبُ النساءَ لمثل ذلك على ما مرَّ. وفي "جَمْعِ الْجَوَامِعِ" للرُّوَيَانِي: أَنَّ القَفَّالَ ذكر: أَنَّ الشَّافعي -رضي الله عنه- أطلقَ قولَيْن في جواز إِحْضار نساءِ أَهْل الذِّمةِ وذَرَارِيهم، فأَحَدُ القوليْن: أَنَّهُ يجوزُ كما يجوز إِحْضارُ نساءِ المسلمين، وذَرَارِيهم. والثَّانيِ: لا يجوزُ؛ لأنَّهُ لا قِتَالَ فِيهم، ولا رأْيَ ولا نتبركُ بدعائهم (¬2)، وهَاهُنَا كلمتانِ: إِحْدَاهُمَا: ظاهِرُ ما ذكره لَفْظاً وتوجيهاً -جوازُ إحضارِ الذُّريَّةِ مُطْلقاً، إِلاَّ أَنَّ مَنْ لا يميِّزُ وَجَبَ أَلاَّ يجوزَ إحضارُه، كما نَصُّوا في المجنون أَنَّهُ لا يُحْضَرُ؛ لأنَّهُ يُعَرَّضُ للهلاك بلا مَنْفعةٍ. والثَّانِيَةُ: ذكرنا في "قسْم الفَيْءِ والغَنَائِمِ" أَنَّ نِسَاءَ أَهْلِ الذِّمةِ إذا خَرَجنَ بإذْنِ الإِمام، لهن الرضخُ على أصحِّ الوجْهَيْن، فيجوزُ أَنْ يُبنَى الوجهان على القولَيْن المنقُولَيْن هاهنا، ويجوز أن يقدر خلافٌ في استحقاقهن الرضخ، مع تجْوِيز الإذْنِ لَهُنَّ، ويوجه المنعُ بِأَنَّهُنَّ يتبعْن الرجال في الجزيَةِ المبذُولَةِ، فكذلك يتبعن في الرضخِ المأخُوذِ. الثَّالِثَةُ: المخذَّل للجيش يُمْنعُ من الخُرُوج مع الناس، فإنْ خَرجَ أُخْرِجَ من الجنْدِ، ولا يَسْتحقُّ شَيئاً وإن حضر القِتالَ، فإنْ قتل كافراً لا يستحق سلبَه. والمخذِّلُ: هو الذي ¬
يخوِّفُ النَّاسَ، بأَنْ يقولَ: عددكم قَلِيلٌ، وخُيُولكُم ضَعِيفةٌ، ولا طاقَةَ لكم بالعدوّ، وما أشبه ذلك، وفي معنى المخذِّلِ: المرجفُ والخَائِنُ، والمرجفُ: هو الذي يُكْثر الأَراجِيفَ بأن يقول: قُتِلَتْ سريَّةُ كذا، أو لحقهم مددٌ مِنْ جِهَةِ كذا، أو لهم كَمِينٌ في مَوْضِع كذا. والخَائِنُ والخِيانَةُ: أَنْ يتجسَّسَ لهم، ويُطْلِعَهم على العَوْراتِ بالمكاتبة والمُراسَلَةِ، وتكلموا في أنَّهُ لَمَّا كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَغْزُو ومعه عبدُ الله بنُ أَبيّ مع ظُهُورِ التخْذِيل منه؟ فقِيلَ: كانت الصحابةُ -رضي الله عنهم- أَقْوِياءَ في الدِّين، لا يُبَالُون بتخذِيله، وقِيلَ: كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يطّلِعُ بالوحْي على أَفْعاله، فلا يستضر بكَيْده، وصورة المخذِّل مكررةٌ، قد ذكرها مَرَّة في "قِسْمِ الغَنَائِم". ويجوزُ أن يعلم قوله هاهنا: "وَلاَ يَسْتَحِقّ شيئًا وإن حضر" وقولُه هنا: "فَلا يُعْطَى شيئاً أصْلاً" بالحاء لأنَّ القاضي ابنَ كَجّ رَوَى عن أَبِي حَنِيْفَةَ أَنَّه يُسْهِمُ له مِنْ الغنيمة إذا حضر، وبالوَاوِ؛ لأنَّ القاضِيَ الروياني روى وراء المشهور وَجْهين: أَحَدُهما: أَنَّهُ إِنَّمَا يحرمُ إذا نهاه الإِمام فلم ينْتَهِ. أَمَّا إذا لم يَنْهَهُ -فيسهم له كغيره. والثاني: أَنَّهُ يرضخُ له، ثُمَّ لفظُ الكتاب هاهنا أَنَّهُ يخرجُ من الجند، وهناك أَنَّهُ يخرجُ مِنَ الصَّف، فالإخراجُ من الجُنْدِ قبل التقاءِ الصَّفَّيْنِ ظاهِرٌ، وأَمَّا عند الالتِقَاءِ، فَإِنَّما يخرج إذا لم يخف منه وهن. قال الغَزَالِيُّ: (الثَّانِيَةُ) لاَ يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ المُسْلِم عَلَى الجِهَادِ إِذْ يَقَعُ عَنهُ لَكِنْ لِلإِمَامِ أَنْ يُرغُبَهُمْ بِبَذْلِ الأهْبَةِ وَالسَّلاَحِ* وَلَوْ أَخْرَجَهُمْ قَهْراً لَمْ يَسْتَحِقُّوا الأُجْرَة* وَلَوْ عَيَّنَ الإِمَامُ شَخْصاً لِدَفْنِ مَيِّتٍ وغَسْلِهِ فَلاَ أُجْرَةَ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَرِكَةٌ أَوْ فِي بَيْتِ المَالِ مُتَّسَعٌ* وَيَجُوزُ اسْتِئْجارُ العَبِيدِ إِنْ قِلْنَا: لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ القِتَالُ بِحَالٍ* وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الذِّمِّيِّ* وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ جَعَالَةٌ لِلجِهَادِ* وَفِي اسْتِقْلاَلِ الآحَادِ بِاسْتِئْجَارِ الذِّمِّيِّ وَجْهَانِ كَمَا فِي الأَذَانِ* وَلَوْ أُخْرِجَ أَهْلُ الذِّمَّةِ قَهْراً اسْتَحَقُّوا أُجْرَةَ المِثْلِ مِنَ الغَنِيمَةِ عَلَى رَأْيٍ* وَمِنْ بَيْتِ المَالِ عَلَى رَأْيٍ* وَلوْ خُلَّيَ سَبِيلُهُمْ قَبْلَ الوُقُوفِ لَمْ يسْتَحِقُّوا إِلاَّ أُجْرَةَ الذَّهَابِ* وَلَوْ وَقَفُوا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِمُ الأُجْرَةَ الكَامِلَةَ خِلافٌ. قال الرَّافِعِيُّ: أمَّا المسلمُ فلا يجوزُ أَن يُسْتَأجر؛ لأنَّه إن كان مُتَعيناً عليه -فهو بالخرُوجِ يُؤَدِّي فَرْضاً عليه مُتعيناً، وإنْ لم يكُنْ متعيِّناً عليه، فإذا حضر الوقعَةَ تَعيَّنَ عليه، ولا يجوز أخذ الأجرة عن الفرضِ المتعيّن عليه، الواقِعِ عنه، كما لا يَأْخُذُ الصّيرورة الأُجْرة على الحج؛ لأنَّ الحجَّ يقع عَنْه، فلا فرقَ في ذلك بين الإِمَامِ والآحادِ.
وعن الصَّيْدَلاَنِيِّ: أَنَّهُ يجوزُ للإمامِ أَنْ يَسْتأْجِرَ المسلِمَ للجهادِ، ويُعْطِيَه الأُجْرة من سَهْم المصالح، والظاهِرُ الأوّلُ، والإمامُ يرغّبُ في الجهادِ ببذل الأُهْبة والسِّلاحِ مِنْ بيْتِ الماَل، أو مِنْ خاصِّ ماله، فينال ثوابَ الإعَانَةِ، ويقع الجهادُ عن المباشر، وكذلك إذا بذل أهبته الواحد من عرض الناس مِنْ ماله. رُوِيَ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ جَهَّزَ غَازِياً فِي سَبِيلِ اللهِ فَقدْ غَزَا" (¬1) ورُوِي "مَنْ جَهَّزَ غَازِياً أَوْ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِراً فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ" (¬2). قال الأَصْحابُ: وما يُدْفَعُ إلى المُرْتَزَقَةِ من الفَيءِ وإلى المطوّعة من الصَّدَقَاتِ -حقوقُهم المرتبة لهم وليس أجرةً وجهادُهم واقِعٌ عنهم. ولو قَهَرَ الإمامُ جماعةً من المسلمِينَ، وأَكْرَههُم على الخروج والجهاد -لم يَسْتَحِقُّوا الأُجْرةَ؛ لما ذكرنا من وُقوعِ الجهاد عنهم، وامتناع استئجارِهم له، هكذا أطْلقُوه، وفصَّلَ في "التَّهْذِيبِ" فقال: إِنْ تَعَيَّنَ الجهادُ عليهم، فالحكْمُ كذلك، وإِلاَّ فلهم الأُجْرةُ مِنْ حِين أخْرجهَم إلى أَنْ يحضروا الوقْعَةَ، وأطلق مُطْلقون القولَ بأنَّهُ إذا عَيَّنَ الإمامُ رَجُلاً، وأَلْزمه غَسْلَ الميِّتُ ودَفْنه -لم يكنُ لذلك المقهور أجرةً، واسْتَدْرَكَ الإمامُ فقال: هذا إذا لم يكُنْ للميت تَرِكَةٌ، ولا في بيت المال مُتَّسَعٌ، فإن كان له تَرِكَة، فَمُؤْنَةُ تَجْهِيزه في تركَتِه، وإِلاَّ وفي بيتِ المال متسع فمؤنُته في بيت المالِ، فيستحق المقهورُ الأُجْرةَ، والتفصِيلان حَسَنَانِ، ولنحمل عليهما الإِطْلاَق. وهل يجوزُ للإمامِ استئجارُ عَبِيد المسلمين؟ قال الإمامُ: الترتِيبُ فيه: أَنَّا إن جَوَّزْنَا له استئجارَ الأَحْرَارِ، فيجوزُ استئجارَ العبِيد أيضاً، وإلاَّ فَفِي اسْتئجار العَبِيد وَجْهان مُخَرَّجَانِ على أنه إذا وَطِئَ الكفارُ طرفاً مِنْ بلادِ المسلمين، هل يتعيَّن الجهادُ على العبيد؟ إِنْ قُلْنا: نَعَم، فهم مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الجهادِ، فإذا وقفوا في الصفِّ -وقع عنهم، فيكون استئجارُهُم كاستئجار الأحْرارِ، وإِلاَّ فيجوزُ استئجارُهُم، وهو الذي أراد بقوله في الكتاب "إنْ قُلْنَا: لا يجبُ عليهم القتالُ بحِالٍ" وإن أَخْرج عَبِيداً قَهْراً- لزمت أجرتُهم من يَوْمِ الإخراج إلى أَنْ يَعُودَ كُلُّ واحدٍ إلى يَدِ سَيَّده، هكذا أطلق صَاحِبُ "التَّهْذِيبِ" وغيرُه، ويشبه أن يبنى ذلك على الوجْهَيْن السابِقَيْنِ: إنْ جعلناهم من أَهْلِ فرض ¬
الجهاد، فَلْيَكُونُوا كالأَحْرَارِ، وهذا في استئجار المسلم. وأَمَّا الذِّمِّيُّ فللإمام أَنْ يستعمِلَه للجهاد بمالٍ يبذله، وطريقه الجُعَالة أو الإِجَارَة فيه وجهان: أَحَدُهُمَا: الجُعَالَةُ؛ لأنَّ أعْمال القتال مجهولة لاَ تَنْضَبطُ، وأصَحُّهما: الإِجَارةُ، ولا يَضُرُّ كَوْنُ الأَعْمال مَجْهُولةً، فَإِنَّ المقصُودَ القتالُ على ما يتفق والمقاصِدُ هي المرعيّةُ على أنَّ مُعَاقَدَاتِ الكُفَّار يُحْتَملُ فيها ما لا يُحْتَملُ في مُعَاقَداتِ المسلمين، على ما سيأتي -إِنْ شاء اللهُ تعالى- في مَسْأَلَةِ العِلْجِ، ولو كان جُعَالَة لكان للذِّميّ الاِنْصِرَافُ، مَتَى شَاءَ، وهو بَعِيدٌ، وعلى هذا فَفِيمَا يستأجره به وَجْهَانِ مَنْقُولاَنِ في "المهذب": أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لا يجوزُ أن تبلغ الأُجْرةُ سَهْمَ رَاجِلٍ؛ لأنَّهُ ليس مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الجهادِ، فلا يُعْطَى سَهْمَ راجلٍ كالصبي والمرْأَةِ، وكأنَّ حاصِلَ هذا الوجْهِ الحكم بِالاِنْفِسَاخ، والردِّ إلى أُجْرة المِثْلِ، إذا بَانَ بالأجرة ازديادُ الأُجْرَةِ على سَهْمٍ من الغَنِيمة، وإِلاَّ ففيَ الابْتِدَاءِ لا ندْرِي قَدْرَ الغنِيمة، وسَهْم الراجِل منها، وأَصَحُّهما: أَنَّهُ لاَ حَجْرَ في قدر الأجرة كما في سائر الإجَارَاتِ، وهل لأحادِ المسْلِمِينَ استئجارُ الذمي للجهاد؟ فيه وَجْهانِ كما في اسْتِئْجَارِ الآحادِ للآذانِ: أصَحُّهمَا: المنعُ؛ لأنَّ الآحادَ لا يَتَولّون المصَالِحَ العامَّةَ، وذكرنا في "الأَذَانِ" أَنَّ الأصحَّ تجويزُ الاستئجارِ، ويمكن أَنْ نفرّق بِأَنَّ الجهادَ أعظمُ وَقْعاً، ويتعلَّقُ بإقامَتِه وتأْخِيره مَصَالِحُ يحتاج فيها إلى نَظَرٍ كَامِلٍ، وأَيْضاً فالذِّمي مخالِفٌ في الدِّين، وقد يَخُون في الجيْشِ إذا حَضَرَ، فلْيفوَّضْ أمرُه إلى رأْيِ الإِمام، ثُمَّ في الفَصْلِ صُورَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: إذا أخرج الإمامُ أهلَ الذِّمةِ، فالأحبُّ أن يُسَمَّيَ لهم أجرة [فإن ذكر شَيْئاً مَجْهُولاً بأن قال: نُرْضِيكم أو نُعْطِيكم ما تَسْتَغْنون به وجب أجرة] (¬1) المِثْل فإن أَخْرجَهم وحَمَلَهُم على الجهاد قَهْراً، فكذلك تجب أجرةُ المِثْلِ كالاستئجار في سائر الأَعْمالِ، فإِنْ خرجوا آمِنينَ، ولم يُسَمَّ لهم شيئاً فهذا مَوْضِعُ وُجُوب الرضْخِ، وفِي محلِّه أقوالٌ مذكورة في كتاب "قِسْم الفَيْءِ والغَنِيمة"، والأُجْرة الواجبة مُسَمّاة كانت أَوْ أُجْرةَ مثلٍ مِنْ أَيْن تُؤَدَّى؟ ذكروا فِيه وَجْهَيْن: أَحَدُهما: مِنْ خُمُسِ الخمْسِ مِنْ سَهْم المصالح؛ لأنهم يحضرون للمصلحة، لا أَنَّهم من أهل الجِهَادِ. والثَّانيِ: مِنْ رَأْسِ مَالِ الغَنِيمة، فجعل المدفوعَ إليهم كسائر المُؤَنِ. ¬
وحَكَى القاضي ابنُ كَج وَجْهاً ثالثاً، وهو أَنَّهَا تؤدي مِنْ أرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الغَنِيمة؛ لأنَّها مُؤَداة بالقتالِ كسِهَامِ الغَانِمِينَ، هذه هي الأَقْوَالُ المذكورَةُ في الرَّضْخِ. وقد يُقالَ: ما معنى قَوْلِنَا: تُؤَدَّى من خُمْسِ مال الخمسِ؟ نعني به خُمْسَ خُمُسِ الغَنِيمة التي تحصلُ في هذا القتال، أو خُمْس خُمس الفَيْءِ والغَنِيمة الحاضر المُعَدِّ عند الإِمام؟ والجوابُ: أَنَّ التأَمُّلَ فيما ساقه الأَئِمّةُ يُفْهمُ تارةً هذا، وتارةً هذا، وحُكْمها واحدٌ، والظاهِرُ أَنَّ كُلاًّ مِنْهما جائزٌ، فإنْ لم يوجد أَحَدُهما -يتعيّنُ الثاني الأداء، وقد يُقالُ: ذكرتُم في الرضخ أَنَّ الأصَحَّ أنَّهُ يُعْطَى من أَرْبَعَةِ أَخْماسِ الغنيمة، وهاهنا رَجَّحُوا الأداءَ من خُمْسِ الخُمْسَ، ورُبَّمَا لم يذكروا غَيْرَهُ، وهو الذي نَصَّ عليه في "المخْتَصَرِ" هاهنا، فما الفرق؟ والجوابُ: يمكِنُ أن يُقال: إذا حضر طائِعاً ولم يُذْكَرْ له مالٌ -فقد شبّه نَفْسَهُ بالمجاهِدِينَ، فيجعل في القِسْمة معهم، وأمَّا الأُجْرة فهي عِوَضٌ محضٌ، ونظره مقصور عليها، فيُجْعل فيما يختص ببدء الإِمَامِ، وتصرُّفِه ولا يُزَاحِمُه فيه الغانِمُون. الثانية: لو خَلَّى سَبِيلَهُم، وقد أخرجهم قَهْراً قبل أن يَقفوا في الصَّفِّ، أَوْ أفلتوهم ولم يقفوا -لا تلزمْ إِلاَّ أجرةُ الذهابِ، وإن تعطّلت منافِعُهم في الرجُوعِ؛ لأنَّهم يتردَّدُون حيئنذٍ كيف شاؤوا ولا حبس ولا استئجارَ، وإن وقف المقْهُورُونَ ولم يُقَاتِلُوا، فهل لهم الأُجْرةُ لمدَّةِ الوقُوفِ؟ فِيه وجهان: أَحَدُهما: نَعَمْ, لأنَّ الوقُوفَ والحضُورَ كالقتالِ في استحقاق سَهْمِ الغَنِيمة، وكذلك في اسْتِحْقَاقِ أُجْرة الجهاد. وأَظْهرهُما: المنعُ؛ لأنَّ الأُجْرة في مُقَابلة العَمَل، والفائدة المبتغاةُ لم تحصلْ، فعلى هذا إذا لم يكن عليهم حَبسٌ وَقَهْرٌ فلا شَيْءَ لهم، وإِلاَّ فعلى الخِلاَفِ في أَنَّ منفعة الحُرِّ -هل تضمن الحبس والتعطِيل دون الاستيفاء؟ وأشار في "الوَسِيطِ" إلى أَنَّ بين أُجْرة مثل القتال وأجرة الحضور والاحتباسِ هناك- فَرْقاً وتفاوتاً ظَاهِراً. فإنْ جعلنا الحضُورَ كالقتال -وجبَ أجرة مثل القتال، وإِلاَّ فالواجِبُ أُجْرةَ مثل الوقُوفِ، والاحْتِباسِ إن قُلْنَا: إِنَّ منفعةَ الحُرِّ تضمن بالحبس. وقولُه في الكتاب: "فَفِي اسْتِحْقَاقِهِمُ الأُجْرَة الكَامِلَة خلافٌ" مُنَزَّلٌ على هذا، ويمكنُ أن تُحْمَل الأُجْرة الكاملة على أُجْرة مِثْلِ الذهابِ والوقُوفِ، فَإِنَّا إذا لم نوجب للوقوف شَيْئاً -يكونُ الواجِبُ أجرة مثل الذهاب وحدها وهي ناقِصَةٌ بالإضافة إلى أُجْرتهما. وحكى في "البَيانِ" فيما إذا اسْتَأْجر الإمامُ الذِّمِّيَّ فلم يقاتِلْ وَجْهين: في أنَّهُ هَلْ
يستحِق شَيْئاً وهو مثلُ ما ذكرنا في صورةِ القهرِ وقوله قبل ذلك: "ومن بيت المال على رَأْيٍ" يعني مالَ المصالحِ. قال الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثَةُ فِيمَنْ يَمْتَنِعُ قَتْلُهُ) وَهُوَ الرَّحِمُ كَالأَبِ وَالأُمِّ وَالصَّبِيِّ وَالمَرْأَةِ وَإِنْ شُكَّ فِي بُلُوغِ الصَّبِيِّ كُشِفَ عَنْ مُؤْتَزَرِهِ وَاعْتُمِدَ نَبَاتُ شَعْرِ العَانَةِ فَإِنْ قَالَ: اسْتَعْمَلْتُهُ بِالدَّوَاءِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ إِلاَّ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ عَيْنُ البُلُوغِ لاَ عَلاَمَتُهُ* وَلاَ يُعَوَّلُ عَلَى اخْضِرَارِ الشَّارِبِ* وَيُعَوَّلُ عَلَى مَا خَشُنَ مَنْ شَعْرِ الإِبِطِ وَالوَجْهِ* وَفِي جَوَازِ قَتْلِ الرَّاهِبِ وَالعَسِيفِ وَالحَارِس وَالشَّيْخِ قَوْلاَنِ* وَفِي السُّوقَةِ طَرِيقَانِ مِنْهُمْ مِنْ قطَعَ بقتْلِهِمْ* فَإنْ لَمْ يُقْتَلُوا أرْفِقُوا لِمُجَرَّدِ الأَسْرِ عَلَى وَجْهٍ* وَلَمْ يُرْفَقْ إِلاَّ بإِرْقَاقٍ عَلَى وَجْهٍ* وَيَمْتَنِعُ اسْتِرْقَاقُهُمْ أَصْلاً عَلَى وَجْهٍ بَعِيدٍ* وَهُوَ جَارٍ فِي المَنْعِ مِنْ سَبْيِ ذَرَارِيهمْ وَنِسَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالشَّيْخُ ذُو الرَّأي يُقْتَلُ. قال الرَّافِعِيُّ: والكلامُ في صُورٍ: إحداها: يَنْبغي أَنْ يَتَوقَّى الغازِي قَتْلَ قَرِيبه وهو مكروه، وإن انْضمَّتْ إلى القَرَابةِ المحْرمِيّة ازدادت الكراهيةُ قال الله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]. رُويَ أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- مَنَعَ أَبَا بكرٍ -رضي الله عنه- يَوْمَ أُحُدٍ عن قتل ابنه عبْدِ الرحْمَنِ (¬1)، وأَبَا حُذَيفَةَ بن عُتْبة -رضي الله عنه- عن قتل أبيه يَوْمَ بدْرٍ (¬2)، فإنْ سَمِعِ أباه أو قَريبه يذكر الله -عز وجل- أو رسوله -صلى الله عليه وسلم- بِسُوءٍ لم يكْرَهْ له قَتْلُه؛ لما روي أنَّ أَبَا ¬
عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ -رضي الله عنه- قتل أَبَاهُ حِينَ سَمِعَه يَسُبُّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فلم يُنْكِر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- صَنِيعَهُ (¬1). وقولُه في الكتاب: "وَهُوَ الرَّحِمُ" أَيْ: ذَوُ الرَّحِمِ. الثانية: لا يجوزُ قتلُ صِبْيان الكُفَّار، ونِسَائِهم إذا لم يُقَاتِلُوا؛ لما رُوِيَ عن عَبْدِ الله ابن عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: نَهَى عن قَتْلِ النِّسَاءِ (¬2) والصبيان، وروى أَنَّه -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ في بعض غَزَوَاتِه؛ فقال: مَا بَالُ هَذِه تُقْتَلُ وَهِيَ لاَ تُقَاتِلُ" (¬3)؟ والمجنُونُ كالصَّبي، والخُنْثَى المُشْكِلُ كالمرأة. فإن قاتلوا جاز قَتْلُهم؛ لما روي أنَّه -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بامرأةٍ مَقْتُولةٍ يَوْمَ خَيْبَرٍ، فقال: مَنْ قَتَلَ هَذِهِ؟ فقال رجلٌ: أنا يا رسولَ اللهِ، غنِمْتُها؛ فأَرْدَفْتُها خَلْفِي، فَلَمَّا رأتِ الهزيمةَ فِينَا أَهْوَتْ إليَّ قَائِمَ سَيْفِي لتقتلني؛ فَقَتَلْتُها، فلم يُنْكِرْ عليه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم (¬4) -، وإذا أُسِرَ مِنْهم مُرَاهِقٌ، ولم يُدْرَ أَهُوَ بالغ أمْ صَبِيٌّ؟ كُشِفَ عن مُؤْتَزرِهِ، فإن لم يَنْبُتْ فحكمُه حُكْمُ الصبيان، وإِنْ أَثْبَتَ حُكِمَ بِبُلُوغه خِلاَفاً لأَبِي حَنِيْفَةَ وقد ذكرناه، ومعتمدُ المذْهَبِ في "كتاب الحَجْرِ"، وحكينا قولَيْن من أَنَّهُ بلوغ حَقِيقةٌ أو هو دَلِيلُ البلوغ، فإِنْ قال المأْسُورُ: استعجلْتُ الشعرَ بالدَّواءِ بُنِيَ على هذين القوْلَيْن. فإن قُلْنا: إِنَّهُ عَيْنُ البلوغ، فلا عِبْرَة بما يقولُه، فهو بالغٌ. وإنْ قُلْنا: إِنَّهُ دَلِيلُ ¬
البلوغِ، وهو الأَظْهرُ فيصدق بيمينه ويحكمُ بالصغرِ، هكذا حكى عن النَّصِّ، وبه أَخَذَ الأصحابُ، لكن رَأَوْهُ مُشْكِلاً من وجهين: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الأَيْمانَ تُسْتعملُ في النَّفْيِ، وهذه اليمين لإثباتِ الاسْتِعْجالِ. وأُجِيبَ: بِأَنَّا صِرْنَا إليه لحقْنِ الدَّمِ، وقد يخالف القياس، وكذلك نقبلُ الجزية من المجُوسِ، وإن لم نناكحهم ولم نستحلّ ذَبِيحَتَهُم. والثاني: أنه يَدَّعِي الصِّبَا، وتحليفُ مَنْ يدّعي الصبا بعيدٌ ولهذا الإشكالِ ذهب بعضُ الأَصْحاب إلى أَنَّ هذه اليمينَ احتياطٌ، واستظهارٌ، وليست بواجبة. وقال أَكْثَرُهُم: لا بُدَّ منها؛ لأَنَّ الدلِيلَ الظاهِرَ قائِمٌ فلا ينزل بمجرَّدِ قَوْل المأْسُورِ، ونزيدُ هذه الصورة شَرْطاً في "كتاب الدَّعَاوى" بتيسِير اللهِ تعالى، وقد أعاد هناك صُورةَ دَعْوَى الاستنبات بالعلاج، ليتبيّن الحكم لو ادَّعَاهُ، ونَكَلَ عن اليمين، ثُمَّ الاعتمادُ في شَعَرِ العَانَةِ على الخَشِنِ دُونَ الضَّعِيفِ الذي لا يُحْوِجُ إلى الحلْقِ، وذكرنا في "الحَجْر" وَجْهَيْنِ في أَنَّ شَعَر الإِبِطِ والوَجْه يُشْترط الخُشُونةُ هل يُلْحقَانِ بشعر العَانَة؟ وبالإلْحَاقِ أجابَ صاحبُ الكتابِ -هاهنا- وهو قَرِيبٌ، وللأئمة اختلافٌ في أَنَّ الراجِحَ من الوجْهَيْنِ ماذا وقد بيناه في ذلك البَابِ، ونباتُ الشَّارِبِ كنباتِ اللِّحْيَةِ، ولا أَثَر لاخضرَارِ الشارِبِ، ويجوزُ أَنْ يُعْلَمَ، لما بَيّنَّا قَوله في الكتابِ: "وَاعْتُمِدَ نَبَاتُ شَعَرِ الْعَانَةِ بالحَاءِ" وقولُهَ: "ويُعَوَّلُ عَلَى ما خَشُنَ" بالواو. الثالثة: في جواز قَتْلِ الرَّاهِبِ شَاباً كان أو شيخاً، قولانِ، وكذا في العُسَفَاءِ: وهم الأُجَراءُ، والحارفِينَ المشغُولِين بحرَفِهم، وفي الشيوخ الضُّعَفَاءِ، وفي معناهم العُمْيَانِ والزُّمْنَى ومَقْطُوعِي الأَيْدِي والأَرْجُلِ -أحد القولين، أَنَّهُ يجوز قَتْلُهم وبه قال أَحْمَدُ، وهو اختيارُ المُزَنِيُّ وأَبِي إسْحَاقَ؛ لعُموم قولِه تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] وروي أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قال: "اقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ" (¬1) (¬2) وفَسَّرَ "الشَّرْخَ " بالمُرَاهِقِينَ، وأيضاً فهم كفارٌ ذُكُورٌ أَحْرَارٌ مُكلَّفُون -فجاز قَتْلُهم كغيرهم. والثاني: وبه قال أَبُو حَنِيْفَةَ ومَالِكٌ: أَنَّه لا يجوزُ؛ لما روي أَنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تَقْتُلُوا النِّسَاءَ وَلاَ أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ" (¬3). ¬
ورُوِيَ أَنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال لخالدٍ -رضي الله عنه-: "لاَ تَقْتُلْ عَسِيْفاً وَلاَ امْرَأَةً" (¬1) وأيضاً فَإِنَّهم لا يُقَاتِلُون، فأشبهوا النساءَ والصِّبْيَانَ. ورُوِيَ أَنَّ أبا بكر -رضي الله عنه- بعث جَيْشاً إلى الشامِ فنهاهم عن قَتْلِ الشُّيوخِ، وأَصْحَاب الصَّوامِعِ (¬2)، وأَصَحُّ القولَيْن على ما ذكره الشيَخُ أَبُو حَامِدٍ وأَصْحابه، والرُّويَانِي الأول، وفي سِيَاقِ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّ -رضي الله عنه- في "المخْتَصَر" ما يَدُلُّ عليه، فإنَّهُ لمَّا أحتج للقول الثاني بقصَّةِ أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنه- قال مُجِيباً عن الاحتجاج: يُشْبِهُ أَنْ يكونَ المقصودُ من النهي أَمْرهُم بالجد في قِتَالِ المقاتِلة لئَلاَّ يشتغِلُوا عن الحرْبِ بالمَقام على الصوامعِ وشبهه، بما رُوِيَ عنه -رضي الله عنه- أَنَّهُ نهاهم عن قَطْعِ الأَشْجَارِ المثْمِرَةِ مع أَنَّهُ حضر رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وأمر بقطْعِ نَخِيل بَنِي النَّضِيرِ (¬3)، لأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان وَعَدَهُمْ فَتْحَ الشامِ، فأراد أَنْ تَبْقَى منفعتها للمسلمين. والقَوْلاَنِ فيما إذا لم يكن لهؤلاءِ المذكُورَيْنِ رأي، كما لم يكن منهم قتالٌ، فأَمَّا الشيخُ وغيرُه إذا كان لهم رأْيٌ يَسْتَعِينُ الكفار به في القتال، وكان يُدَبّر لهم أَمْرَ الحرْبِ - فيجوزُ قتلُه، لأَنَّ دُرَيْدَ بْنَ الصمَّةِ قُتِلَ يوم حُنَيْنٍ وقد نَيَّفَ على المِائةِ، وكانوا قد استحضروه لِيُدَبِّرَ لهم، فلم يُنْكِرُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم (¬4) -، والذي يَقْتَضِيه ويفهمه كلامُ الأَصْحاب: أَنَّهُ لا فَرْقَ أَنْ يحضر ذُو الرأْيِ في صَفٌ القِتَالِ، أو لا يحضر في أَنَّهُ يجوز قتلُه، ولا بين أَنْ يقدر على الأَخْرق منهم في صَفِّ القتال، أَوْ يدخُل بعض بلادِهم وهم غَازُون، فنجده هناك في أَنَّ جَوازَ قتْلِه على القَوْلَيْنِ. وهذا قَرِيبٌ في الشيُوخِ والعُمْيَانِ والزِّمْنَى الذين لا يَتَأَتَّى منهم القتالُ: وفي الرُّهْبَانِ المعرِضِينَ عن التعرُّضِ للناس. لكن يبعد في الأُجراءِ والمشغولين بالحرف إلاَّ نتعرّضَ لهم إِذَا دخلْنَا بلادَهم! كيف وأكثرُ النَّاسِ أَصْحَابُ حِرَفٍ وصناعات؟ وإذا جاز التعرض لهم، إذا دخلْنَا بلادهم ¬
التفريع
فكذلك إذا وجدْنَاهم في الصَّفِّ، ولا يَمْنَعُ من التعرُّضِ قولُ القائِلِ: إِنَّهم لا يقاتِلُون، أو إنَّهم لم يخرجُوا على قَصْدِ القتال، فإنَّ هذا المعنى مُتَحققٌ في حَقِّهم، وهم في بلادِهم قَارُّونَ وغارون، وهذا يجرُّ إلى طريقَةٍ قَوِيَّةٍ حَكَاهَا القاضِيَانِ: ابنُ كَجٍّ وأَبُو الطَّيِّبِ -قاطِعَةً بأن الأُجَرَاءَ يجوز قَتْلُهم، ورُبَّمَا نُسِبَ إِلى ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، والخَارِقُونَ في مَعْنَاهُمْ لا مَحَالَةَ، ويُؤَيِّدُهَا ما سنذكُرُ إنْ شاء اللهُ تعالى في "السُّوقَةِ" وفي "الوَسِيطِ" موضع القولين في الشيخ الأَخْرقِ ما إذا لم يحضر القِتَالَ، فإن حضر. فالظاهِرُ أَنَّهُ يُقْتَلُ، ويحتمل أَنْ يَطَّرِدَ القولان، وأَنَّ ذَا الرأْي يُقْتَلُ إذا حَضَرَ، وإِنْ لم يحضرُ فَفِيه تردُّدٌ، والظاهِرُ أَنَّهُ يُقْتلُ، وفي السُّوقَةِ طريقان عن الشيخ أَبِي مُحَمَّدٍ: أَحَدُهمَا: أَنَّ فيهم القولَيْن؛ لأنَّهم لا يمارسُون القتَالَ، ولا يتعاطَوْنَ الأسْلحة. قال الإمامُ: وهذا لم يتعرَّضْ له الأئمةُ، وإن كان متوجهاً. والثَّانِي: القطعُ بأنهم يُقْتَلُونَ؛ لِقُدْرَتِهم على القتالِ واستقلالهم. التفريع: إِنْ قُلْنَا: يجوز قَتْلُهم، فيجوزُ اسْتِرْقَاقُهم، وسَبْيُ نِسَائِهم، وذَرَارِيهم، واغْتِنَامِ أَمْوَالهم. وَإِنْ قُلْنا: لا يجوزُ ففي اسْتِرْقَاقِهم طُرُقٌ. أَظْهُرها: أنهم يرقُّونَ بنفس الأَمْرِ كالنساء والصبيان. والثاني: أنَّ فيهم قَوْلَينِ كالأَسِير إذا أسلم قبل الاسْتِرْقاق، ففي قولٍ: يتعيّن رِقُّهُ، وفي قولٍ للإمام: أن يَرِقَّهُ أو أن يَمُنَّ عليه أو يُفَادِيَهُ. والثَّالِثُ: عن رِوَايةِ صَاحِبِ "التَّقْريبِ" وَأَبِي يَعْقُوبَ الأبْيُوردِي عن النصِّ أنه لا يجوزُ استرقاقُهم، بل يُتْركُونَ، ولا يتعرض لهم، وهذا ما أورده في "التَّهْذِيبِ" ويخرج مِنْهَا عند الاِخْتِصَارِ ثلاثةُ أَوْجُهٍ كما ذكره في الكتاب، وفي جواب سَبْيِ نسائِهِم وذَرَارِيهم وجوهٌ أيضاً. ففي وجه: يجوزُ كإِرْقَاقِهم. وفي وَجْهٍ: لا يتعرّض لهم. وفي الثالث: يجوزُ سَبْيُ نسائِهم ولا يجوزُ سَبْيُ ذَرَارِيهم؛ لأنَّهم أَبْعَاضُهم، وأجرى الخلاف في اغتنامِ الأَمُوالِ، وقال الإمامُ: مَنْ قال: لا تغنم أموال السوقة فقد قرب من خرق الإجماع. وقولُه في الكتابِ: "والعَسِيفُ" يجوزُ إعلامُه بالواو لما ذكرناه مِنَ الطريقَةِ القاطِعَةِ، وكذا قولُه: "والحَارِفُ"، وأراد بالحارِفِ المشغُولَ بالحِرْفَةِ، وقد جمع في "الوسِيطِ" بين اللَّفظَيْنِ، وفي بَعْضِ النسخ بدله الحَارِث: يعني المشغُول بالحِراثة. وقولُه: "فَإِنْ لَمْ يَقْتُلْهُمْ" يَعْنِي المذكُورِينَ جَمِيعاً.
فرع
وقولُه: "هو جار" يجوزُ أَنْ يُصْرَفَ إلى وَجْهِ امتناعِ استرقَاقِهم، أَيْ: كما يمتنع استرقاقُهم يَمْتَنِعُ سَبْيُ ذَرَارِيهم ونِسائِهم، ويجوزُ أَنْ يُصْرَفَ إلى الخلافِ. فرعٌ: إذا تَرَهَّبَتْ المرأةُ ففي جَوَازِ سَبْيِها وجهانِ، بناءً على القَوْلَيْنِ في جَوازِ قتل الرَّاهِبِ: ولا يُقْتَلُ رسولُهم؛ لما روي عن ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلَيْن أَتَيَا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَسُولَيْنِ لمسَيْلِمَة فقال لهم: أَتَشْهَدَانِ أَنَّي رَسُولُ الله، فقالا: نَشْهَدُ أنَّ مُسَيْلمةَ رسولُ الله، فقال عليه السلامُ: "لَوْ كُنْتُ قَاتِلاً رَسُولاً لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا". فجرت السنَّةُ أَلاَّ يُقْتَل الرسلُ (¬1): قال الغَزَالِيُّ: (الرَّابِعَةُ): يَجُوزُ نصْبُ المِنجَنِيقِ عَلَى قِلاَعِهِمْ* وَإِنْ كَانُوا فِيهِمْ نِسْوَةٌ وَصِبْيَانٌ* وَكَذَا إِضْرَامُ النَّارِ وَإِرْسَالُ المَاءِ* وَلَوْ تَتَرَّسُوا بِالنِّسَاءِ ضَرَبْنَا التُّرْسَ إِلاَّ إِذَا كَانُوا دَافِعِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ غَيْرَ مُقَاتِلِينَ لَنَا فَفِي جَوَازِ قَتْلِ النِّسَاءِ قَوْلاَنِ* وَإِنْ كَانُوا فِي القَلْعَةِ فَأَوْلَى بِالجَوَازِ كَيْلا يَنْجد ذَلِكَ حِيلَةً* وَإِنْ كَانَ فِي القَلْعَةِ أَسِيرٌ عَلِمْنَا أَنَّهُ تُصِيبِهِ النَّارُ وَالمَنجَنِيقُ احْتَرَزْنَا* وَإِنْ تَوَهَّمْنَا إِصَابَتَهُ فَقَوْلاَنِ* وَلَوْ تَتَرَّسَ كَافِرٌ بِمُسْلِمٍ لَمْ يُقْصَدِ المُسْلِمُ وَإِنْ خِفْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا فَإِنَّ ذَمَ المُسْلِمِ لاَ يُبَاحُ بِالخِوْفِ* وَإِنْ تَتَرَّسُوا فِي الصَّفِّ وَلَوْ تَرَكْنَاهُمْ لانْهَزَمَ المُسْلِمُونَ وَعَظُمَ الشَّرُّ فِفَيهِ وَجُهَانِ. قال الرَّافِعِيُّ: المسألةُ الرابِعَةُ في مُحَاصَرَةِ الكفارِ (¬2)، ومُقَاتلتهم بما يُعُمّهم بالهلاكِ ويجوز للإمامِ مُحَاصرتُهم في البلاد والحُصونِ والقِلاَعِ، وتشديد الأَمْرِ عليهم بالمنع من ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الدخُولِ والخروج؛ لقوله تعالى: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة: 5]. وعَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ حاصر أَهْلَ الطائِفِ شهْراً (¬1)، وإن كان فِيهِمُ النساءُ والصِّبْيَانُ، واحتمل أَنْ يُصِيبَهم، ويجوزُ له التحريقُ بإضْرَام النار، ورَمْي النَّفْطِ إليهم، والتفريقُ بإرسالِ المَاءِ، وتَبْيِيتهم وهم غارون (¬2)؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- شَنَّ اَلغَارَةَ على بَنِي ¬
المُصْطَلَقِ (¬1)، وأمر بالبَيَاتِ، ونَصبَ المنْجَنِيق على أَهْلِ الطائف. وروي أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عن المشْرِكِين يَبِيتُون فيُصابُ مِنْ نِسَائهم وذَرَارِيهم، فقال: "هُمْ مِنْهُمْ" (¬2) إذا عُرِفَ ذلك ففي الفَصْلِ صُوَرٌ: إِحْدَاهَا: لو تَتَرَّسُوا بالنساءِ والصبيان، نُظِرَ إِنْ دَعتِ الضرورةُ إلى الرَّمْي والضرْبِ بأن كان ذلك في حال التحامِ القِتَال، ولو تُرِكُوا لغلبوا المسلِمينَ، فيجوز الرمْيُ والضرْبُ، لَئِلاَّ يتخِذُوا ذلك ذَرِيعَةً إلى تعطيل الجهادِ، ولدفع ضَرَرِهم بالمسلمين ونَكَايتِهم فيهم، وإنْ لم تكن ضرورة بأن كانوا يَدْفَعُون عن أنْفُسهم، واحتملَ الحالُ تركَهُم فطريقان: أَظْهُرهُمَا: أَنَّ فيه قولَيْن: ¬
أَحَدُهمَا: أَنَّهُ يجوزُ قَصْدُهم كما يجوز نصبُ المِنْجَنِيقِ على القلْعَةِ وإنْ كان يُصِيبُهم، وأيضاً فلو امتنعنا بما صنعوا -لاتخذوا ذلك ذَرِيعَةً إلى تعطيل الجهاد. والثَّانِي: المنعُ؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن قَتْلِ النساءِ والصِّبْيانِ (¬1)، ونحن في غِنْيةٍ عنه، والحالُ هذه، وهذا أصحُّ عند القَفَّالِ، وكذلك حكاه الرُّوَيانِيُّ -رحمه الله- ويميلُ إلى ترجيح الأوّل مَائِلُون. والطَّرِيقُ الثَّانيِ: القطعُ بالجَوازِ، وردّ المنع إلى الكَرَاهَةِ ويُحْكَى هذا عن أَبِي إِسْحَاقَ، وقد تورَّع في حكاية الكراهَةِ عنه، وذكر أن عنده يُسْتحب التوقّي عنه لاَ غَيْرَ، ومِنْ أصحاب هذه الطريقة مَنْ قال في الكراهة قَوْلاَن، ولو تَتَرَّسُوا بِهِمْ وهم في القَلْعَةِ، فمنهم مَنْ قاَل: يَرْمِيهِمْ، والصورةُ هذهِ أُوْلَى بالجواز؛ لِئَلاَّ يتخذ ذلك حِيلَةً وذرِيعة إلى استبقاء القِلاعَ على كثرة غَائِلَتها، وهذا ما أورده في الكتاب، ومنهم مَنْ قال في جواز الرمْيِ إليهم قَوْلاَنِ، وإن عجزنا عن القلعة إِلاَّ به؛ لأنا في غيبة مِنْ أهل القلعة (¬2). الثَّانِيَةُ: إذا كان في البَلْدَةِ أَوِ القَلْعَةِ مُسْلِمٌ: من أَسِيرٍ، أو تاجِرٍ، أو مُسْتأمن، أو طائفة مِنْ هؤلاءِ، فهل يجوزُ قصد أهلها بالنَّارِ والمِنْجَنِيقِ وما في معناهما؟ قال قائِلُون: إنْ لم تدعُ إليه ضرورةٌ، فهو مكْرُوهٌ تحرزًا من إهلاكِ المسلم وفي تحريمه قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ؛ لأَنَّهُ قد يُصِيبُ المسلِمَ؛ وزوالُ الدنيا أَهْونُ عند الله مِنْ قَتْلِ مُسْلِمٍ، كما ورد في الخبرِ (¬3). وأَظْهرهُمَا: وهو المنصوصُ في "المختَصَرِ" المنعُ؛ لوجهين: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قد لا يُصِيبُ المسلِمَ؛ وإذا حَرَّمناه أمسك المشركُونَ في كُلِّ قلعةٍ وبلْدَةٍ مُسْلمًا فيتعطل أمرُ الجهاد. والثَّانِي: وقد نَصَّ الشافِعِيُّ -رضي الله عنه- أن الدارَ دارُ إباحةٍ، فلا يحرمُ القتالُ بكوْنِ المسلم فيها، كما أَنَّ دارَنا لا تحلُّ بكوْنِ المشرِكِ فيها، وإنْ دَعَتْ إليه الضرورةُ بأن كان يُخَافُ ظفرهم على المسلمِينَ لو لم يدفعهُم بذلك الطريقِ، فيجوزُ دَفْعاً عن المسلمين، ونكايةً في المشركين، وحفظُ مَنْ مَعَنَا أوْلَى مِنْ حِفْظِ مَنْ معهم، وأُلْحِقَ بالضرورة ما إذا لم يحصل فتحُ القلعَةِ إِلاَّ بذلك، هذه طريقة. ومِنْهُمْ مَنْ لم ينظر إلى الضرورة وعَدَمِها. وقال: إنْ علم أَنَّ ما يَرْمِي به من النَّارِ أو المِنْجَنِيق يَهْلِكُ المسلِمَ لم يجُزْ، وإِنْ ¬
التفريع
كان ذلك مَوْهُومًا ففيه القولان، وهذا ما أوردَهُ في الكتاب، ويتولَّدُ مِنَ الطرِيقَيْن اختلافٌ في أنَّهُ: هل يجوزُ الرَّمْيُ عند الضرورة، والعِلْم بأنَّهُ يُصيبُ المسلمَ، كما سيأتي مِثْلُه فيما إذا تَتَرَّسَ الكافِرُ بالمسلمِ؟ والظاهِرُ المنصوصُ عليه في "المخْتَصَرِ" أَنهُ يجوزُ؛ لأنَّ حُرْمَةَ مَنْ يخاف عليهم أَعْظمُ حرمةً مِمَّنْ في أَيْدِي الكُفَّارِ، فَإِنَّهُ إن هلك منهم هالِكٌ، فقد رُزِقَ الشهادة، قاله أبُو إِسْحَاقَ. ومنهم مَنْ لم يُطْلقِ القولَيْن عند عدم الضرورة، لكن قال: إن قَلَّ عَدَد المسلمِينَ في الكُفّارِ جاز رَمْيهُم؛ لأنَّ الغالِبَ أَنَّه لا يصيب المسلِمينَ، وإنْ كان عددُهم مِثْلَ عَدَدِ المشركين أو أكثر -لم يَجُزْ رَمْيهُم بها، وهذه طريقةٌ ثَالِثةٌ، وبها أجاب في، "الشَّامِلِ" وإذا رَمَى بِشَيْءٍ منها إلى القلْعةِ أو البلْدةِ وقتل مُسْلمًا، فإن لم يعلمْ أنَّ في أَهْلِها مُسْلمًا -لم تجب إِلاَّ الكفارةُ، وإن عَلِمَ وجبتِ الدِّيَةُ والكفَّارةُ، حكاه الرُّوَيانِي. الثَّالِثَةُ: إذا تَتَرَّسَ الكُفَّارُ بالمسلمِينَ مِنَ الأسارى أو غيرهم، نُظِرَ إِنْ لم تدعُ ضرورةٌ إلى رَمْيهم، واحتملَ الحال الإعراضَ عنهم لم يجزْ رميُهم، وإن رَمَى رامٍ وقتل مسْلمًا قال في "التهذيب": هو كما لو قتلَ رَجُلًا في دَارِ الحربِ، فإن عَلِمَه مُسلمًا -فعليه القَوَدُ، وإن ظَنهُ كَافِرًا- فلا قَوَدَ، وتجبُ الكفّارةُ. وفي الدِّيَةِ قولان. وِإنْ دعتِ الضرورةُ إليه بأن تترَّسُوا بهم في حَالِ التِحَامِ القِتَالِ، وكانوا يظفَرُون بالمسلمِينَ، ويكثرون النكاية فيهم لو كففنا -فوجهان: أَظْهَرهُمَا: وهو المنصوصُ وهو الذي أَوْرَدَهُ أصحابُنَا العراقِيُّون أَنهُ عُذْرٌ في جَوَازِ الرَّمْي، فيرمى على قَصْدِ قتالِ المشُرِكينَ، ويتوقى المسلمين بحسب الإمْكَانِ؛ لأنَّ محذُوَرَ الإِعْراضِ أكبرُ من مَحْذُورِ الإِقْدَامِ. والثَّانِي: أنَّهُ لا يجوزُ الرميُ إذا لم يتأت ضربُ الكفار إِلاَّ بضرْبِ المسلم؛ لأنَّ غايةَ ما فيه أنَّا نخافُ على أَنْفُسِنا، ودمُ المسلمِ لا يُباحُ بالخوفِ بدليلَ صُورةِ الإِكْراهِ، وهذا ما أورده صَاحِبُ "التَّهْذِيب" وبه أجابَ في الكِتَاب فيما إذا تَتَرَّسَ كافِرٌ بمسْلِم، وأشعر إيرادُه بتخْصِيصِ الوجْهَيْنِ بما إذا تَتَرَّسَ الكُفَّارُ بَطائِفَةٍ من المسلِمينَ في صَفِّ القِتَالِ. وأشارَ الإمامُ إلى تَوْجِيهِ الفَرْق بين الحالتَيْنِ فقال: إذا تترَّسُوا عند التفافِ الزَّحْفَيْنِ، وكان الانكفاف مِنَ الأَسْرَى يُفْضِيِ إلى أن يصطلمِ جُنْدُ الإِسلام ويختل بانْفلالِهم ركنٌ عظيمٌ، فهذا أمرٌ كُلِّي فلا يَبْعُدَ أنْ يتساهلَ في أشْخاصٍ من الأسَارَى؛ حَفْظًا على الكُلِّيَّاتِ. التَّفْرِيعُ: إِنْ جوَّزنا الرمْيَ، فرمى رامٍ إليهم، وقتل مُسْلمًا، فلا قِصَاصَ؛ لأنَّ القِصَاصَ مع
تَجْوِيز الرمْيِ مما لا يجتمعَانِ، وتجبُ الكفارةُ؛ لأنَّهُ قتل مَعْصُومًا. وأَمَّا الدِّيَةُ: فعن الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قال في مَوْضِعٍ: تجبُ الدِّيَةُ والكفارةُ، وفي موضِعٍ اقتصر على ذِكْر الدِّيَةِ وفي النصَّيْنِ طريقان: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذلك ليس باختلافِ قَوْلٍ، لكنهما مَحْمُولاَنِ على حَالَيْنِ، وعَلامَ يحملان؟ عَنِ المُزَنيُّ وأَبِي الطيِّب بن سَلَمةَ وهو ظاهِرُ النَّصِّ أَنَّهُ إِنْ علم أَنَّ المرمي إليه مسلمٌ -وجبتِ الدِّيَةُ، وإن لم يعلم إسلامَه- لم تلزم. والفرْقُ أنه إذا علم إسلامَه أَمْكَنَهُ التوقِّيَ عنه والرمي إلى غَيْرِه فغلظ عليه. وقال أَبُو إِسْحَاقَ: إنْ قَصَدَهْ بعيْنِه -لزمه الدِّيَةُ: علمه مُسْلمًا أو لم يعلم، وإنْ لم يقصِدْه بعينِه، بل رمى إلى الصَّفِّ- لم يلزم. والفَرْقُ أنَّه يتيسَّرُ التحرُّزُ عن قصدٍ مُعَيَّنٍ، والامتناعُ عن الرَّمْيِ والقِتَالِ مُطْلَقاً، والحالةُ هذه لا يُمْكنُ. والطريقُ الثَّاني: أَنَّ فيه قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تجبُ الدِّيَةُ؛ لأنَّهُ قَتَلَ مُسْلِمًا مَعْصُومًا مَعْذُورًا في الحضور هناك. والثاني: لا تجبُ؛ لأنهُ مأذون في الرمي، وعن أَبِي حَفْصٍ بْنِ الوَكِيلِ أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ أَنَّ هناك مُسْلِمًا وجبت الدِّيَةَ سواءً قصده بعينه أوْ لم يقصِدْه، وإن لم يعلم فعلى قَوْلَيْن. وعَنْ أَبِي حَنِيْفَةَ أَنَّهُ لا دِيةَ ولا كفّارة. وإنْ قُلْنا: لا يجوزُ الرميُ، فَرَمَى، قِيلَ: ففي وجُوبِ القِصَاصِ طَرِيقَانِ: أحدُهمَا: أَنَّهُ على قَوليْن كالمكره إذا قتل. والثَّانِي: القَطْعُ بالوُجوبِ كالمضطر إذا قتل إِنْسانًا وأكَلَهُ، ويفارق المكرهُ، فَإِنَّهُ مُلْجَأٌ إلى القَتْل، وهاهنا بخلافِه، وأَيْضًا فإنَّ هناك مَنْ يُحال عليه وهو المكرهُ، وليس هاهنا غيرهُ. وإن تَتَرَّسَ الكُفَّارُ بذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَأمَنٍ أو عَبْدٍ، فالحكمُ في جَوَازِ الرمْي، والدِّيةُ، والكفّارةُ على ما ذكرنا، لكَنَّ الواجِبَ في العَبْدِ القِيمةُ لا الدِّية. وفي "التَّهْذِيبِ" أَنَّهُ لو تَتَرَّسَ كافِرٌ بتُرْسِ مسلمٌ أو ركب فرسَهُ، فرمى إليه مُسْلمٌ فأتْلفهُ، فإن كان في غيرِ الْتِحامِ القِتَالِ -فعليه الضَّمَانُ، وإنْ كان في حالِ الالتحامِ، فإنْ أمكنه أَلاَّ يُصِيبَ الترسَ والفرسَ فأصابه- ضَمِنَ، وإنْ لم يمكِنه الدفع إلاَّ بِإصَابَتِه، فإنْ جعلْناهُ كالمكْرَهِ لم يَضْمَنْ؛ لأنَّ المُكْرَه في المالِ يكونُ طَرِيقًا في الضَّمَانِ، وهاهنا لا ضَمانَ على الحربي، حتَّى يجعلَ المسلم طَرِيقًا، وإنْ جعلناه مُخْتارًا لزمه الضمان.
قال الغَزَالِيُّ: (الخَامِسَةُ): لاَ يَجُوزُ الانْصِرَافُ مِنْ صَفِّ القِتَالِ إِنْ كَانَ فِيهِ انْكِسَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ* وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَيَجُوزُ إِنْ قَصَدَ التَّحَيُّزَ إِلَى فِئَةٍ قَرِيبَة يَسْتَنْجِدُ بِهَا فِي هَذَا القِتَالِ* وَهَلْ يَجُوزُ إِذَا قَصَدَ التَّحَيُّزَ إِلَى فِئَةٍ بَعِيدَةٍ؟ فِيهِ وَجُهَانِ* فَإِنْ جَوَّزْنَا فَبَدَا لَهُ أَنْ لاَ يُقَاتِلَ مَعَ الفِئَةِ البَعِيدَةِ أَيْضًا جَازَ* وَلاَ يَشْتَرِكُ فِي هَذَا المَغْنَمِ إِنْ فَارَقَ قَبْلَ الاغْتِنَامِ* وَهَلْ يَشْتَرِكُ المُتَحَيِّزُ إِلَى فِئَةٍ قَرِيبَةٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ* وَيَجُوزُ الانْهِزَامُ بِكُلِّ حَالٍ إِذَا زَادَ عَدَدُ الكُفَّارِ عَلَى الضِّعْفِ لَكِنْ فِي انْهِزَامِ مِائَةِ بَطَلٍ مِنْ مِائَتَيْ ضَعِيفٍ وَوَاحدٍ خِلاَفٌ* مَأْخَذُهُ أَنَّ النَّظَرَ إِلَى صُورَةِ العَدَدِ أَوْ إِلَى المَعْنَى. قال الرَّافِعِيُّ: الخَامِسَةُ: في حُكْمِ الهزِيمَةِ إذا التقى الصَّفَّانِ في القتال (¬1)، فقد ¬
أَطْلَقَ في الكتاب أَنَّهُ إِنْ كان في انهزامِه انكِسَارُ المسلِمينَ -لم يَجُزْ الاِنْهزامُ بحالٍ، وإنْ لم يمكِنْ ففيه التفصيلُ الذي نذكرْ إِن شاء الله تعالى. والجمهورُ لم يتعرّضُوا لذلك، وقالوا إذا الْتَقَى الصفانِ، فَإِمَّا أَلاَّ يزيدَ عددُ الكُفَّارِ على ضِعْف عددِ المسلمين أو يزيد. الحَالَةُ الْأُولَى: إِنْ لم يَزِدْ عَدَدُ الكُفَّارِ على الضِّعْفِ، بَلْ كَانُوا مثليهم أو أَقَل -لم يَجُزْ الانْصِرافُ والهزيمةُ، وقد عَدَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الفِرَارَ من الزحف مِنَ الكبائِرِ (¬1)، ¬
ويُسْتَثْنَى ما إذا انصرف وَوَلَّى مُتَحرِّفاً للقتالِ أو مُتَحيِّزًا إلى فِئَةٍ على ما قال [اللهُ] تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ...} الآية. والمتحرّفُ للقِتَالِ: هو الذي يَنْصَرِفُ ليكمن في موضعٍ، ويهجم، أو يكون في مَضِيقٍ فيتحرّفَ ليتبعه العدُوُّ إلى مَوْضِعٍ واسِعٍ فيسهل القتالُ فيه، أو يرى الصوابَ في التحوُّلِ من الموُضِع الواسِع إلى المضِيق؟ أو يكون في مُقَابلة الشَّمْسِ أو الرِّيح، فيتحول إلى جهة أُخْرى ليسهُلَ عليه القتالُ. والمتحيِّزُ إلى فِئَةٍ: هو الذي يَنْصَرِفُ على قَصْد أَنْ يذهب إلى طائِفَةٍ يَسْتَنْجِدُ بها في القتال، ولا فَرْقَ بين أَنْ تكون تلك الطائفةُ قَلِيلةً أو كثيرةً، وهل يشترطُ أَنْ تكون قَرِيبةً؟ فيه وجهان: أَحَدُهما: نَعَمْ، ليتصوّر الاستنجادُ بها في هذا القتال وإتمامه. وأَصَحُّهما: لا، بل يجوزُ الانصرافُ على قَصْدِ التحيُّزُ إلى الفِئَةِ البَعِيدَةِ -أيضاً- لمطْلَقِ قَوْلِه تعالى: {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ}. ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ -رضي الله عنه- قال: "أَنَا فِئَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ" وكان بالمدينَةِ، وجنودُه بالشَّامِ والعِرَاقِ (¬1)، وعلى هذا فهل يجبُ عليه تحقِيقُ ما عزم بالقِتَالِ مع الفئة التي تحيَّز إليها؟ فيه وجهان: أَصَحُّهُمَا: وهو المذكورُ في الكتاب -لاَ؛ لأنَّ العزمَ عليه رَخَّصَ له في الانْصِرَافِ، فلا حجرَ عليه بعد ذلك، والجهادُ لا يجبُ قضاؤُه، ولا يلزَمُ بالنذر أيضاً على اختلافٍ سيأتي إِنْ شاء اللهُ تعالى في مَوْضِعه، وفي كلام الإمامِ، أن التحيُّزَ إلى فِئَةٍ أُخْرَى إِنَّمَا يجوزُ إذا اسْتَشْعَرَ الموْلَى عَجْزًا مُحْوِجًا إلى الاسْتِنْجادِ بضعف جند الإِسلام [فإِنْ لم يكن كذلك -فلا حاجةَ إِلَى التحيُّزِ، فإِنَّ تَحَيُّزَهُ قد يقل جُنْدَ الإِسلامِ] (¬2). وقول صاحِب الكتاب في المسْأَلةِ "لا يجوز الانصرافُ من صفِّ القتالِ إِنْ كان فيه انْكِسَارُ المسلمين" يحتمل أَنَّهُ أخذه مما ذكره الإمامُ، ولم يشترطْ غيرهما ذلك، وكأنَّهم رَأَوْا تركَ القِتَالِ، والانهزامَ في الحال؛ مَجْبُورًا بعزمه إلى الاتصالِ بفئةٍ أُخْرى، وكُلُّ واحدٍ مِنَ الأَمْرين: التحرُّف للقتال، والتحيُّز إلى فئةٍ أُخْرَى يتضمنُ العزْمَ على العَوْد إلى القتال؛ والرخصةُ منوطةٌ بعزْم الشَّخْصِ، ولا يمكنُ مُخَادعَةُ الله تعالى في العَزْمِ، ثُمَّ ظاهِرُ الآيةِ يقتضي انحصارَ الاستثناء في حَالَتَيِ التحرُّفِ والتَّحَيُّزِ، والمرادُ حالةُ القدرة ¬
والتمكن من القتالِ، وحينئذٍ يَنْحَصِرُ الاستثناءُ فيهما. فأمَّا مَنْ عجز لمرضٍ، أَوْ لم يَبْقَ معه سِلاحٌ -فَلَهُ أن ينصرفَ بِكُلِّ حال، ويستحب أن يولي مُتَحرِّفًا أو مُتَحَيِّزًا، وإِنْ أَمْكنه الرميُ بالحجارة، فهل يقومُ (¬1) مقامَ السلاح؟ ذكر فيه وجهان: ولو مات فرسُه وهو لا يَقْدِرُ على القِتال رَاجِلاً -فله الانصرافُ أيضاً، وإنْ غلب على ظَنِّهِ أَنَّهُ إن ثبت قُتِلَ هل له الانصرافُ؟ فيه وجهان: أَحَدُهما: نَعَنم، لظاهر قولِه تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 95]. وأَصَحُّهُمَا: لاَ؛ لقولِه تَعَالَى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] والغزاةُ يَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، وقد فُسِّرت التهلكةُ بالفِرَارِ من الزِّحْفِ، والمتحيِّز إلى الفِئَةِ البعيدةِ لا يُشَارِكُ الغَانِمِينَ في الغَنِيمَةِ، إن فارق قبل الاغتنام وإنْ غنِمَ شيءٌ دون شيء -لم يبطل حَقُّه مما غَنِمَ قبل مُفَارقَتِه، ولا شيْءَ فِيما غنم بَعْدَها، هكذا نُقِلَ عن نَصِّ الشافعِيُّ -رضي الله عنه -، وبمثله أجاب في المتحرّفِ للقتالِ، ومنهم مَنْ أطلق القولَ بأنَّ المتحرِّفَ يُشَارِكُ في الغَنِيمة، ولَعَلَّ هذا فِيمَا إذا لم يبعد ولم يَغِبْ، والنَّصُّ فيما إذا تَحَرَّفَ للقتالِ، ثُمَّ انقَطَع عن القَوْمِ قبل أَن يَغْنَمُوا أَنَّهُ لا يُشَارِكُهم، وهل يُشارِكُ المتحيِّز إلى الفِئَةِ القريبةِ الغانِمينَ في المغنُومِ بعد ما وَلَّى؟ ذكر صاحبُ الكتاب فيه وَجْهَيْنِ: أَشْبَههُمَا: الاستحقاقُ؛ لأنَّهُ لا يفوّت نصرته، والاستنجادُ به، فهو كالسريَّةِ يشاركُ جُنْدَ الإمامِ فيما يغنمون إذا كانت بالقُرْب مِنْهم. وإذا عَرَفْتَ ذلك، ونظرت في قول صاحب الكتاب في "قَسْم الفَيْءِ والغنائِم فمَنْ غَابَ فِي آخِرِ الْقِتَالِ: إنْ كَانَ بِانْهِزَامٍ، سَقَطَ حَقُّهُ، إِلاَّ إذا قَصَدَ التَّحَيُّزَ إِلَى فِئَةٍ أُخْرَى" -عرفْتَ أنَّ هذه اللقطةَ إِنَّما تجري على ظاهِرِهَا إذا جعلنا التَّحَيُّزَ إِلَى الفِئَةِ القريبة كالتَّحَيُّزِ إلى الفئَةِ البعِيدَةِ، فإنْ فَرَّقنَا بينهما حملنا اللفظَ على الفِئَةِ البَعِيدَةِ، وأَنَّ حقَّ المتحيِّزِ إِنَّمَا لا يسقط عن المغنومِ قبل مُفَارقته، أمَّا المغنومُ بعده فلا حَقَّ فيه، وإِنَّمَا يُسْقِطُ الانهزامُ الحقَّ إذا اتفق قبل القِسْمة، أمَّا إذا غنموا شَيْئاً واقتسمُوه ثُمَّ انهزم بعضُهم لم يُسْتَردّ منه ما أخذ. الحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إذا زاد عددُ الكُفَّارِ على الضِّعْفِ جاز الانهزامُ، وكان يجبُ في ابتداءِ الإسْلامِ أن يثبت الواحِد في مُقَابلة العشْرَةِ، ثُمَّ خَفَّفَ اللهُ تعالى ذلك فأَوْجب على ¬
فرع
المسلِمينَ مُصَابرةَ ضِعْفَهم من الكُفَّارِ دُونَ ما زاد، فقال عَزَّ وجلَّ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66]. قال ابنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- "مَنْ فَرَّ مِنْ ثَلاثةٍ لَمْ يَفِرّ، وَمَنْ فَرَّ مِنِ اثْنَيْنِ فَرَّ" (¬1) يعني الفِرَارَ المحرمَ، وهل يجوزُ أن يَفِرَّ مائةٌ من الأبْطَالِ من مِائَتَيْنِ وواحدٍ من ضُعَفَاءِ الكُفَّارِ؟ فيه وجهان: أَصَحُّهمَا: على ما ذكر صاحبُ الكتاب: المنعُ؛ لأنَّهم يُقَاوِمُونَهم لو ثَبَتُوا، وإنَّمَا يُرَاعَى العددُ عند تَقَارُبِ الأَوْصَافِ. والثَّانِي: أَن اتباعَ الأَوْصَافِ يعسر، فيُدَارُ الحكمُ على العددِ، ويجري هذا الخلافُ في عَكْسِه، وهو فِرارُ مِائَةٍ منْ ضُعَفاءِ المُسْلِمينَ مِنْ مِائَةٍ وتِسْعَةٍ وتِسْعِينَ مِنْ أَبْطال الكُفَّار، فإن رَاعَيْنا صورةَ العدَدِ لم يَجُزْ، وإنْ راعينا المعنى -فيجوزُ، وإذا جاز الفِرارُ نظِرَ. إنْ غلب على ظَنَّهم أَنَّهم لو ثبتوا ظَفِرُوا، فالمستحبُّ لهم الثباتُ، وإنْ غَلَبَ على ظنهم الهلاكُ لو ثبتوا فهل يلزمهم الفَرارُ، فيه وجهان: أَحَدُهما: نَعَمْ: لقولِه تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]. والثَّانِي: لاَ؛ لما رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً. قال: يا رسولَ الله أرأَيْتَ لو انْغَمَسْتُ في المشْرِكينَ فقاتلتُهم حتى قْتِلتُ ألِي الجنة؟ قال: نَعَمْ، فانغمسَ الرَّجُلُ في صَف المشركِينَ، فقاتل حتى قُتِلَ (¬2). وذكر الامامُ أَنَّهُ إن كان في الثبات الهلاكُ المحْضُ من غير نِكَايَةٍ في الكُفَّارِ لَزِمَ الفِرَارُ، وإن كان في الثباتِ نِكايةٌ فِيهم، فَفِي جَوَازِ المُصَابرةِ الوجهان (¬3). فرعٌ: لَقِيَ مُسْلِمٌ مُشْرِكَيْنِ، فإنْ طلباه، فله أَنْ يُوَلِّي عنهما؛ لأنَّهُ غيرُ متأهِّبٍ للقتالِ، وإِنْ طلبهما ولم يطلباه، فوجهان: ¬
أَحَدُهما: أنَّهُ لا يُوَلِّي عَنْهُما؛ لأنَّ طَلَبَهُمَا والحملُ عليهما شُرُوعٌ في الجهاد، فلا يجوزُ الإعْراضُ عنه. وأظْهَرُهُمَا على ما ذكر في "البحرِ" أَنَّهُ يَجُوزُ ذلك، وفَرْضُ الجهادِ والثبات عليه في الجماعَةِ دُونَ الأفْرَادِ ولو وَلَّى النِّساءُ لم يَأثَمْنَ، فلسْنَ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الجهادِ نَص عليه. ولا إِثْمَ على الصَّبِيِّ ولاَ عَلَى المغْلُوب على عَقْلِهِ إِذَا وَلَّيَا، فَإِنَّهُمَا ليسا بمكَلَّفَيْنِ، نعمْ، يأثَمُ السَّكْرَانُ. ولو قصد الكُفَّارُ بَلَدًا فتحصّنَ أهلُه إلى أن يجدوا قُوةً، ومددًا لم يأْثَمُوا، إِنَّمَا الإِثْمُ على مَنْ وَلَّى بعد الالتقاء (¬1). قولَه في الكتاب: "فبدَا لَهُ ألاَّ يُقَاتِل" أي: عَرَضَ وَظَهَرَ، وقد يوجد في بعض النُّسَخِ: "فَبَدَا له أن يُقَاتِلَ" وَهُوَ صحيح أيضاً، يقال: بَدَا لِفُلاَنٍ في كذا أي: نَدِمَ وأَعْرَضَ عَمَّا عَزَمَ عليه. قال الغَزَالِيُّ: وَيَجُوزُ الاسْتِبْدَادُ بالمُبَارَزَةِ دُونَ إِذْنِ الإِمَامِ عَلَى أظْهَرِ الوَجهَيْنِ، حَتَّى يَنْفُذَ أَمَانُهُ لِقرْيَةٍ رُؤُوس* وَفِي نَقْلِ الكُفَّارِ إِلَى بِلاَدِ الإِسْلاَمِ كرَاهَةٌ عَلَى وَجْهٍ، إلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِكَايَةٌ فِي الكُفَّارِ. قال الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: المُبَارَزَةُ جَائِزَةٌ؛ لما روي أَنَّ عَلِيًّا -رضي الله عنه- بَارَزَ يوم "الخَنْدَقِ" عَمْرَو بن عبد (¬2)، وقد بَارَزَ عُبَيْدَةُ بْنُ الحَارِثِ وحَمْزَةُ بْنُ عبد المطلب وعَلِيُّ -رضي الله عنهم- يوم "بدرٍ" عُتْبَةَ وشَيْبَةَ ابْنَيْ ربيعة، والوَلِيدَ بن عتبة (¬3)، وبَارَزَ محمَّد بن مَسْلَمَةَ -رضي الله عنه- يوم "خيبر" مرْحَبًا (¬4)، ويروى أَنَّهُ بَارَزَهُ عَلِيٌّ -رضي الله ¬
عنه (¬1) - وبارز الزُّبَيرُ -رضي الله عنه- يَاسِرًا (¬2)، وإذا خرج مُشْرِكْ ودعا إلى المُبَارَزَةِ، فَيُسْتَحَبُّ الخُرُوجُ إليه؛ لما روي أَنَّ الثَّلاثةَ المذكورين طَلَبُوا المُبَارَزة، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه -رضي الله عنهم- بالخُرُوجِ إليهم (¬3)، ولأَنَّهُ إذا لم يَبْرُزْ أَحَدٌ إليهم، ضَعُفَتْ قُلُوبُ المسلمين، واجْتَرَأ المشركون، والخُرُوجُ وابتِدَاءُ المُبَارَزَةِ ليس بِمُسْتَحَبٍّ ولا مَكْرُوهٍ. أمَّا أَنَّهُ ليس بمُسْتَحَبٍّ، فلأنه قد يُقْتَلُ فتَنْكسِرُ قُلُوبُ المسلمين. وأَمَّا أنَّهُ ليس بِمَكْرُوهٍ، فلما فيه من إِظْهَارِ القُوَّةِ، وعن ابن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُكْرَهُ وأَطْلَقَ ابْنُ كَجٍّ اسْتِحْبَابَ المُبَارَزَةِ، ولم يُفَرِّقْ بين الابْتِدَاءِ والإِجَابَةِ وإِنَّمَا تَحْسُنُ المُبَارَزَةُ ممن جَرَّبَ نَفْسَهُ وعَرَفَ قُوَّتَهُ وجَرَاءَتَهُ. وأَمَّا الضعيف الذي لا يَثِقُ بِنَفْسِهِ، فَتُكْرَهُ له المُبَارَزَةُ ابْتِدَاء وإِجَابَةً. نَصَّ عليه، وحكى في "البَيَان" وَجْهًا أَنَّهُ لا يَجُوزُ، والمشهور الأَوَّلُ (¬4)، والمُسْتَحَبُّ ألا يَخْرُجَ للمبارزة إِلاَّ بِإِذْنِ الإِمام، وهل يَجُوزُ من غير إذْنِهِ؟ فيه وجهان: أصحهما: وهو الذي اوْرَدَهُ أكثرهم -أَنَّهُ يجوز؛ لأنَّ عَبْدَ الله بن رَوَاحَةَ، وعَوْفًا ومُعَوِّذًا ابني عَفْرَاءَ -رضي الله عنهم- خرجوا يوم "بدرٍ" مُبَارِزِينَ، فلم يُنْكِرْ عليهم رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم (¬5) -. ¬
والثاني؛ وبه قال أبو حَنِيْفَةَ -لا يجوز؛ لأنَّ لِلْإمَام نَظَراً في تَعْيينِ الأَبْطَالِ والأَقْرَانِ، فلا يُفَوتُ عليه، وبنى على الخلاف أَنَّه لو أَمَّنَ المُسْتَبِدُّ بالمُبَارَزَةِ قِرْنَهُ هل يصح أمانه؟ والكَلاَمُ فِي أَمَانِ المبَارِزِ أَخَرَّهُ إلى "باب الأمان". الثانية: في نَقْلِ رُؤُوسِ الكُفَّارِ إلى بِلاَدِ المسلمين، وجهان: أحدهما: لا يُكْرَهُ؛ لأَنَّ أبا جَهْلِ لمَّا قُتِلَ، حُمِلَ رَأْسُهُ (¬1). ¬
القول في سبي الكفار واسترقاقهم
وأصحهما: وهو الذي أَوْرَدَهُ أَصْحَابُنَا العِرَاقِيُّونَ، والقاضي الروياني أَنَّهُ يُكْرَهُ، وقالوا: ما حُمِلَ إلى رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- رَأْسُ كَافِرٍ قَطُّ، وحُمِلَ إلى أبي بَكْرٍ -رضي الله عنه- رؤوس جَمَاعَةٍ من المشركين، فأنكروا، وقالوا: ما فُعِلَ هذا في عَهْدِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما روي من حَمْلِ رَأْسِ أبي جَهْلٍ فقد تَكَلَّمُوا في ثُبُوتِهِ، وبتقدير الثُّبُوتِ، فإنَّهُ حُمِلَ في الوَقْعَةِ من مَوْضِع إلى موضع، ولم يُنْقَلْ من بَلَدٍ إلى بَلَدٍ، وكأنَّهُمْ أرادوا أَن يَنْظُرَ الناسُ إليه، فَيَتَحَقَّقُوا موْتَهُ. وقوله في الكتاب: "إِلاَّ أن يَكُونَ له نِكَايَةٌ في الكُفَّارِ" يقتضي الجَزْمَ بِنَفْي الكَرَاهَةِ، ولم يَتَعَرَّضْ له أَكْثَرُهُمْ، نعم ذكر صاحِبُ "الحَاوِي" أَنَّهُ لا يُكْرَهُ النَّقْلُ، والحَالةُ هذه، بل تُسْتَحَبُّ، وقد يقال: إِنَّهُ لا يخلو عن النِّكَايَةِ، فإن ارْتَفَعَتِ الكَرَاهَةُ بذلك، فَيُطْلَقُ القَوْلُ بأنه لا كَرَاهَةَ فيه. قال الغَزَالِيُّ: (التَّصَرُّفُ الثَّانِي بالاِسْتِرقَاقِ) وَلاَ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ كُلِّ كَافِرٍ أَسْلَمَ قَبْلَ الظَّفَرِ بِهِ* وَيَجوز اسْتِرْقَاقُ كُلِّ كَافِرٍ أَسْلَمَ بَعْدَ الظّفَرِ بِهِ* وَلاَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ المَرْأَةِ حَامِلاً بِوَلَدٍ مُسْلِمٍ، لَكِنْ لاَ يُرَقُّ الوَلَدُ* وَمَنْكُوحَةُ الذِّمِّيِّ تُسْبَى وَيَنْقَطِعُ نِكَاحُهُ* وَفِي مُعْتَقَتِهِ وَجْهَانِ* وَمُعْتَقُ المُسْلِمِ لاَ يُسْبَى* وَفِي مَنْكُوحَتِهِ وَجهَانِ* فَإِنْ قُلْنَا: يُسْبَى انْقَطَعَ نِكَاحُهُ عَنِ الأَمَةِ الكِتَابِيَّةِ* وَلاَ تَنْقَطِعُ إِجَارَتُهُ عَنِ الدَّارِ المَسْبِيَّةِ وَالعَبْدِ المَسْبِيِّ* وَالزَّوْجَانِ إِذَا سُبِيَا أَوْ أَحَدُهُمَا انْقَطَعَ النِّكَاحُ بَينَهُمَا* وَفِي انْقِطَاعِ نِكَاحِ الرَّقِيقَيْنِ المَسْبيَّيْنِ مَعًا وَجْهَانِ. " القَوْلُ في سَبْيِ الكفار واسترقاقهم" قال الرَّافِعِيُّ: نساءُ الكُفَّارِ وصبيانهم إذا وقعوا في الأسْرِ رُقُّوا (¬1)، وكان حُكْمُهُمْ حُكْمَ سَائِرِ أموال الغَنِيمَةِ من أَنَّ الخُمُسَ لأهل الخُمُسِ، والباقي لِلْغَانِمِينَ، وقد ذكر أَنَّ ¬
النَّهْيَ عن قَتْلِ هؤلاء، إِنَّمَا كان لِيَنْتَفِعَ بهم المُسْلِمُونَ، ويكونوا خَوَلاً لهم. والعَبيدُ إذا وَقَعُوا في الأَسْرِ، كانوا كَسَائِرِ الأموال المَغْنُومَةِ لا يَتَخَيَّرُ الإمَامُ فيهم؛ لأَنَّ عَبْدَ الَحَرْبِيِّ مَالٌ له، واحْتَجَّ له الشَّيْخُ أبو عَلِيٍّ، بأَنَّ عَبْدَ الحَرْبِيِّ لو أَسْلَمَ في دَارِ الحَرْبِ ولم يخرج، ولا قهر سيده، لا يَزُولُ مِلْكُ الحَرْبِيِّ عنه، وإذا سَبَاهُ المُسْلِمُ كان عَبْدًا مُسْلِمًا، ولا يَجُوزُ المَنُّ عليه، ويجوز اسْتِرْقَاقُهُ، ولولا أَنَّهُ مَالٌ لجاز تَحْلِيَةُ سَبِيلِهِ كالحُرِّ، ولما جاز اسْتِرقَاقُهُ؛ لأنَّهُ مُسْلِمٌ، هذا ما ذكره ابْنُ الحَدَّاد، وصَرَّح بأَنَّهُ ليس لِلْإِمَامِ قَتْلِ العَبِيدِ ولا المَنُّ عليهم، وعلى ذلك جَرَى الأئِمَّةُ. وفي "الْمُهَذَّب" أَنَّهُ لو رأى الإِمام قَتْلَهُ لِشَرِّهِ وَقُوَّتِهِ، ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْغَانِمينَ. وأمَّا الرجالُ الأَحْرَارُ الكَاَمِلُونَ إذا أُسِرُوا، فالإِمَامُ يَتَخَيَّرُ فيهم بين أَرْبَعَةِ أمورٍ. أن يقتلهم صَبْرًا بِضَرْبِ الرَّقَبَةِ، لا بالتَّحْرِيقِ، ولا بالتَّغْرِيقِ، ولا يُمَثِّل بهم، وأن يَمُنَّ عليهم بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ، وَأن يُفَادِيَهُمْ بالرِّجَالِ أو بالمَالِ، وأن يَسْتَرِقَّهُمْ، ويكون مَالُ الفِدَاءِ ورِقَابُهُمْ إذا استرقُّوا كَسَائِرِ أَمْوَالِ الغنيمة، وبهذا قال أحمد. وقال أَبُو حَنِيْفَةَ: يَتَخَيَّرُ الإِمَامُ بين القَتْلِ والاسْتِرْقَاقِ لا غير. وقال مَالِكٌ: يَتَخَيَّرُ بين القَتْلِ، والاسْتِرْقَاقِ، والفِداء، وِإنَّمَا يَجُوزُ الفِدَاءُ بالرِّجالِ دون المال. لنا قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] وكُلُّ واحدٍ من الأمور الأربعة قد نُقِلَ عن فِعْلِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَقَتَلَ يوم "بَدْرٍ" عقبة بن أبي مُعَيْط والنَّضرَ بْن الحَارِثِ، ومَنَّ على أبي عَزَّةَ الجُمَحيِّ على أَلاَّ يقاتله، فلم يَفِ فَقَاتَلَهُ يوم "أحدٍ" فأُسِرَ وقُتِلَ يومئذٍ. وعن عِمْرَانَ بْنِ الحُصَيْنِ -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَادَى رَجُلاً أَسره أصحابه برجلين أسرهما ثقيف من أَصْحَابِهِ (¬1)، وأَخْذُ المَالِ في فِدَاءِ أَسْرَى "بدر" مَشْهُورٌ، ومَنَّ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على أبي العَاصِ بن الربيع، وعلى ثُمَامَةَ بْنِ أثَالِ الحنفي، وليس هذا الخيار على التَّشَهِّي، لكنَّ الإمَامَ يَجْتَهِدُ ويَأْتِي بما فيه الحَظُّ لِلْمُسْلِمِينَ، فإن لم يَظْهَرْ لِه وَجْهُ الصواب في الحالِ وَتَرَدَّد حَبَسَهُمْ، إلى أَنْ يَظْهَرَ له الصَّوَابُ، ولا فَرْقَ في الاسْتِرْقَاقِ بين أن يكون الكافر المأْسُورُ كِتَابِيًّا أو وَثَنِيًّا، وعن الإِصْطَخْرِيِّ، ورواية ابْنِ أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ الوَثَنِيِّ، كما لا يجوز تَقْرِيرُهُ بالجِزْيَةِ، والظَّاهِرُ الأَوَّلُ، واحتجَّ له بما رُوِيَ عن ابن عَبَّاسٍ -رضى الله عنه- أنَّهُ قال في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: ¬
67] أن ذلك كان يوم "بدر"، وفي المسلمين قِلِّةٌ، فَلَمَّا كثروا واشْتَدَّ سُلْطَانُهُمْ أنزل اللهُ تعالى في الأَسْرَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين بالخِيَارِ فيهم، إن شَاؤوا قَتَلُوهُمْ، وان شاؤوا اسْتَعْبَدُوهُمْ، وإن شاؤوا أَفَادُوهُمْ؛ أطلق ولم يُفَرِّقْ بين كَافِرٍ وكافر، وبأنَّ من جَازَ أن يَمُنَّ يَمُنُّ عليه ويُفَادِي، جاز أن يسترق كالعَانِي، ولا فَرْقَ أَيضاً بين أن يكون الكَافِرُ من العَرَب أو غيرهم على الجديد الصحيح، ووجه بما رَوَيْنَاه عن ابن عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- وبَأنَّ مَنْ جَازَ المَنُّ عليه، ومُفَادَاتُهُ، يجوز اسْتِرقَاقُهُ لغير العرب. وعن "القديم": أنَّهُ لا يجوز اسْتِرقَاقُ العَرَب؛ لما روي عن مُعَاذٍ -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال يوم حُنَيْنٍ: "لَوْ كَانَ الاسْتِرْقاق ثَابِتًا عَلَى الْعَرَبِ لَكَانَ الْيَوْمَ؛ إِنَّمَا هُوَ إِسَارٌ وفِدَاءٌ" (¬1)، فعلى هذا يكون الخِيَارُ من ثلاثة أمور: الْقَتْلُ والْمَنُّ والفِدَاءُ، وكذلك على وجه الإصْطَخْرِي في الوَثَنِيِّ، وهل يجوز أن يَسْترِقَّ بَعْضَ الشخص؟ فيه وجهان، بِنَاءً على القَولين، في أنَّ أَحَدَ الشريكين إذا أَوْلَدَ الجَارِيَةَ المشتركة وهو مُعْسِرٌ، يكون الوَلَدُ كُلُّهُ حُرًّا، أَو يكون بِقَدْرِ نَصِيبِ الشريك رَقِيقًا، والأَقْيَسُ على ما ذكره الإِمَامُ وغيره جَوَازُ إِرقَاقِ بَعْضِ الشخصَ قال في "التهذيب": وإن لم نُجَوِّزْ، فإذا ضُرِبَ الرِقُّ على بعضه رُقَّ الكُلُّ، وكان يَجُوزُ أن يُقَالَ: لا يُرَقُّ شَيْءٌ. وإن اخْتَارَ الفِدَاءَ يجوز بالمَالِ، سِلاَحًا كان أو غيره، ويجوز أن يفدى بأسَارَى المُسْلِمِينَ، فيردّ مشركاً بمسلم، أو مسلمين أو مشركين بمسلم، ويَجُوزُ أَنْ نَفْدِيَهُمْ بِأسْلِحَتِنَا في أيديهم، ولا يَجُوزُ أن ترد أسلحتهم في أيدينا. بمال يَبْذُلُونَهُ، كما لا يَجُوزُ بَيْعُ السِّلاحَ منهم، وفي جَوَازِ رَدِّهَا بِأُسَارَى المسلمين وَجُهَان: ولو قتل مُسْلِمٌ أِو ذِمِّيٌّ الأسِيرَ قبل أن يَرَى الإِمَامُ رَأْيَهُ فيه، عُزِّرَ، ولكن لا قِصَاصَ ولا دِيَةَ؛ لأنَّهُ لا أَمَانَ له، وهو حُرٌّ إلى أن يُسْتَرَقَّ، ولذلك يَجُوزُ أن يُخَلَّى سبيله، والأَمْوَالُ لا تُرَدُّ إليهم بَعْدَ الاغْتِنَام، ولو وقع في الأسْرِ امْرَأَةٌ أو صَبِيٌّ، فقتل وَجَبَتِ القِيمَةُ، لأَنَّهُ صار مَالاً بِنَفْسِ الأَسْرِ، ثُمَّ إن سُبِيَ الصَّبيُّ مُنْفَرِدًا، فهو محكوم بِإِسْلاَمِهِ تبعاً للسَّابي، ففيه قِيمَةُ عبد مُسْلِمٍ، وإن كان قَاتِلُهُ عَبْدًا، فعليه القصَاصُ، وعلى ¬
هذا لو أُسِرَ البَالِغُ وله زَوْجَةٌ، يَنْفَسِخُ نِكَاحُهُ بالأَسْرِ، وينظر إن فَادَاهُ الإِمَامُ، أو مَنَّ عليه استمرت الزَّوْجِيةُ، فإن أَرَقَّهُ ارتفع النِّكَاحُ حينئذٍ. وإن أُسِرَ صَبِيٌّ، وله زَوجَةْ ارتفع النِّكَاحُ كما أسر. وإن أُسِرَ كافِرٌ ومعه زوجته وذُرِّيَّتُهُ، فالإِمَامُ بالخِيَارِ في حَقِّهِ، ولا خِيَارَ في حَقِّهِمْ. وإذا أَسْلَمَ الأَسيرُ بَعْدَ الظَّفَرِ به، فقد عَصَمَ دَمَهُ، ويَتَخَيَّرُ الإِمَامُ في باقي الخِصَالِ، أو يَتَعَيَّنُ فيه الرِّقُّ؟ فيه خلافٌ نَشْرَحُهُ إن شاء الله تعالى في آخر كتاب السِّيَرِ؛ لأنَّهُ تَعَرَّضَ للصورة هناك. وإن أَسْلَمَ قبل الظَّفَرِ به وَوُقُوعِهِ في الأَسْرِ، فقد حَقَنَ مَالَهُ ودَمَهُ، على ما قال صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: "فَإذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ" ولا فَرْقَ بين أَنْ يُسْلِمَ هو مَحْصُورٌ وقد قَرُبَ الفَتْحُ، وبين أن يُسْلِمَ في حَالِ أَمْنِهِ. وعن أبي حنيفة: أن إسلاَمَهُ بعد المُحَاصَرَةِ ودُنُوِّ الفَتْحِ لا يَعْصِمُ نَفْسَهُ عن الاسْتِرْقَاقِ، ولا مَالَهُ عن الاغْتِنَامِ، ولا فرق بين مَالٍ ومَالٍ. وعند أبي حنيفة: إسلامه يُحْرِزُ ما في يَدِهِ الحِسِّيَّةِ من الأَمْوَالِ دون العَقَارَاتِ، ولا فَرْقَ بين أن يَكُونَ في دار الإِسْلاَمِ، أو في دَارِ الحرب. وقال مالك: إذا أَسْلَمَ في دَارِ الإِسْلاَمِ عَصَمَ مَالَهُ الذي معه في دَارِ الإِسْلاَمِ، دون ما معه في دَارِ الحَرْبِ. لنا: إِطْلاَق الخَبَر السَّابِقِ، وأيضاً روي أنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قال: إِنَّ القوم إذا أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ (¬1)، ويُحْرِزُ أَيْضًا بإسلامه أَوْلاَدَهُ الصغار عن السَّبْي، ويُحْكَمُ بإسْلاَمِهِم تبَعاً له؛ لما روي أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- حَاصَرَ بني قُرَيْظَةَ، فَأسْلَمَ ثعلبةُ وأُسَيْدُ ابنا سُعْيَةَ (¬2)، فَأحْرَزَ لهما إِسْلاَمُهُمَا أَموَالَهُمَا وأولادهما الصِّغَارَ (¬3). ¬
وعن أبي حنيفة أَنَّ الحَرْبِي إذا دخل دَارَ الإِسْلاَمِ، وله أولادٌ صِغَارٌ في دَارِ الحَرْبِ يجوز سَبْيُهُمْ، والحَمْلُ كالمنفصل. وجَوَّزَ أبو حنيفةَ اسْتِرقَاقَ الحَمْلِ تَبَعاً للأُمِّ. لنا: أَنَّهُ مسلمٌ بإسلام أبيه، فأشبه المُنْفَصِلَ، وهل يُحْرِزُ وَلَدَ ابنه الصغير؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم كالأَبِ. والثاني: يُفَارِقُ الأب فيه، كما يُفَارِقُهُ في المِيرَاثِ، ثم عن القَفَّالِ أَنَّهُ قال مَرَّةً: الوجهان فيما إِذا كان الأَبُ مَيِّتًا، وإن كان حَيًّا لم يُحْرزْ الجَدّ وَجْهًا وَاحِداً. وقال أخرى: الوجهان في الصَّغِيرِ الذي أبوه حَيٌّ، فإن كان ميتاً أحرز الجدُّ وَجهًا واحداً. قال الروياني في "البَحْرِ": هذا هو الصَّحِيحُ عند أصحابنا، والمجانين من الأولاد كالصِّغَارِ، ولو كان قد بَلَغَ عَاقِلاً ثم جُنَّ فهل يُحْرِزُهُ؟ فيه وجهان: أصحهما: نعم، وهما كوجهين ذَكَرْنَاهُمَا في "باب اللَّقِيط" في أَنَّهُ هل يُحْكَمْ بِإِسْلاَمِهِ، والحالة هذه تَبَعًا، أَو هما هما. وإذا أَسْلَمَتِ المَرْأَةُ قبل الظَّفَرِ، فَتُحْرِزُ أيضاً نَفْسَها ومَالَهَا وَأوْلاَدَهَا الصغار. وعن مَالِكٍ: أَنَّها لا تُحْرِزُ الأَوْلاَدَ. وعن الفُورَانِيِّ: أن للشافعي -رضي الله عنه- قَوْلاً مثله والمَشْهُورُ الأَوَّلُ، وبتقدير أن يثبت قول، فيشبه أن يقال لهما: لا تَسْتَتْبِعُهُمْ في الإِسْلاَمِ على ذلك القَوْلِ ولم يَجْرِ في اللَّقِيطِ حِكَايَةُ خِلاَفٍ فيه. وأمَّا الأَوْلاَدُ البَالِغُونَ العَاقِلُونَ فلا يُحْرِزُهُمْ إِسْلاَمُ الأب لاسْتِقْلاَلِهِمْ بالإِسْلاَمِ. إذا تَقَرَّرَتْ هذه الجُمُلُ عُدْنَا إلى صُوَرِ الفَصْل في الكتاب: إحداها: هل يَعْصِمُ إِسْلاَمُ الكافر قبل الأَسْرِ زَوْجَتَهُ عن الاسْتِرْقَاقِ؟ فيه وجهان، ويقال: قولان: مَنْصُوصٌ، ومُخَرَّجٌ، وذكر الشيخ أبو عَلِيٍّ وآخرون في كيفية خُرُوجِهَا أَنَّهُ نَصَّ على أنه يجوز اسْتِرْقَاقُهَا، ونَصَّ على أنَّ المُسْلِمَ إذا أَعْتَقَ
التفريع
عَبْدًا كافرًا، والْتَحَقَ بدار الحَرْبِ لا يجوز اسْتِرقَاقُهُ، وللأصحابِ فيهما طريقان. أشهرهما: أَنَّ فيهما قَوْلَيْنِ، النَّقْل والتخريج. أحدهما: أَنَّهُ لا تُسْتَرَقُّ زَوْجَتُهُ ولا عَتِيقُهُ، لئلا يَبْطُلَ حَقُّهُ من النكاح والوَلاَءِ، كما لا يُغْنَمْ مَالُهُ. وأيضاً فَعَقْدُ الأَمَانِ يُحْرِزُ الزَّوجَةَ، فالإِسلامُ أَوْلَى. والثاني: يَسْتَوِيَانِ؛ لأنهما مَالِكَانِ لأنفسهما، وحَقُّهُمَا في أنفسهما آكَدُ من حَقِّ الزَّوْجِ والسَّيِّدِ، ولا عِصْمَةَ لهما، فلا يَجُوزُ المَنْعُ من اسْتِرْقَاقِهِمَا. والثاني: تَقْرِيرُ النَّصَّينِ، والفَرْقُ أَنَّ الوَلاَءَ بعدما ثَبَتَ لا يمكن رَفْعُهُ وإِبْطَالُهُ، وإن تَرَاضَيَا به، والنِّكَاحُ يِنْفَسِخُ، ويرتفع بأسْبَابٍ، وحُدُوثُ الرِّقِّ من تلك الأسْبَابِ على ما سنذكر. والظَّاهِرُ ما نَصَّ عليه في الصَّورَتَيْنِ، وإن قُدِّرَ الخِلافُ، هكذا قاله الجمهور. واختار القاضي ابْنُ كَجٍّ في الزَّوْجَةِ امْتِنَاعَ الاسْتِرْقَاقِ أيضاً، ويجري الخِلاَفُ فيما إذا نَكَحَ المُسْلِمُ حَرْبِيّةً في دَارِ الحَرْبِ، هل يجوز اسْتِرْقَاقُهَا؟ " التفريع": إن قلنا: إنَّ إسلاَمَ الزوج لا يُحْرِزُ زَوْجَتَهُ الحَرْبِيَّةَ، فلو كانت حَامِلاً عند إِسْلاَمِهِ، ففى جواز اسْتِرْقَاقِهَا وجهان: أحدهما: المَنْعُ؛ لأن الحَمْلَ مَحْكُومٌ له بِالإِسْلاَمِ، كما قَدَّمْنَا فلا يجوز تَمَلُّكُ الحَامِلِ دونه، كما لا يجوز تَمَلُّكُهَا بالشِّرَاءِ، دون الحمل. وأصحهما: وهو المَذْكُورُ في الكتاب جَوَازُ استرقاقها؛ لأنَّها كَافِرَة حَرْبِيَّةٌ، فَأشْبَهَتْ غيرها وبهذا قال أبو حَنِيْفَةَ، وأَرَقَّ الحَمْلَ أيضاً؛ لما ذكرنا أَنَّهُ لا يجعله تَبَعاً لأبيه في الإِسْلاَم، وحُكِيَ في "الوسيط" أنَّ الحَمْلَ عند أبي حَنِيْفَةَ يمنع الاسْتِرْقَاقَ، والثابت الأَوَّلُ. وإذا اسْتُرِقَّتِ الزَّوْجَةُ، نُظِرَ إن كان قبل الدُّخْولِ انْقَطَعَ النِّكَاحُ في الحَالِ؛ لأنَّهُ زال مِلْكَهَا عن نَفْسِهَا، فَيَزُولُ مِلكُ الزَّوْجِ عنها, ولأنها صَارَتْ أَمَةً كِتَابِيَّة، فلا يجوز إِمْسَاكُ الأَمَةِ الكِتَابِيَّةِ للنكاحِ. وعن رواية صاحب "التَّهْذِيب" وَجْهٌ أَنَّهَا وإن استرقت يَسْتَمِرُّ النِّكَاحُ، والمَشْهُورُ الأوَّلُ، وإن كان بَعْدَ الدُّخُولِ، فوجَهان: أحدهما: أَنَّ الجَوَابَ كذلك؛ لأَنَّ حُدُوثَ الرِّقِّ يقطع النِّكَاحَ، فأشبه الرِّضَاعَ، وهذا أَوْلى لإِطْلاَقِ الأصحاب. والثاني: أَنَّا نتَوَقَّفُ رَجَاءَ زَوَالِ الرِّقِّ، والكفر في مُدَّةِ العِدَّةِ، كما لو ارْتَدَّتْ بعد الدُّخُولِ، بخلاف الرضاع؛ لأنَّا لا نَتَوَقَّعُ زَوَالَ الحُرِّيَّةِ الحَاصِلَةِ به، فعلى هذا إن أعتقت
وأسلمت قبل انْقِضَاءِ العِدَّةِ اسْتَمَرَّ النِّكَاحُ، وكذا لو أُعْتِقَتْ ولم تُسْلِمْ؛ لأنَّ إِمْسَاكَ الحُرَّةِ الكتابية للنكاحِ جَائِزٌ، ولو أسلمت ولم تُعْتَقْ، فإن كان الزوج ممن يجوز له نِكَاحُ الإِمَاءِ، فله إِمْسَاكُهَا، وَإِلاَّ فوجهان (¬1): أحدهما: أَنَّهُ ليس له إِمْساكُهَا؛ لأَنَّ من ليس له ابْتِدَاءُ النِّكَاح، ليس له الإمْسَاكُ بِعَقْدٍ مُتَقَدِّمٍ، كما لو أَسْلَمَ الكَافِرُ مع أَمَةٍ تَحْتَهُ، وهو مُوسِرٌ، ليس له إِمْسَاكُهَا. والثاني: يجوز، ويُسَامَحُ في الاسْتِدَامَةِ، كما لو نكح فَاقِدُ الطَّوْلِ أَمَةً، ثُمَّ أَيْسَرَ، ويُخَالِفُ ما إذا أَسْلَمَ الكَافِرُ، لأنَّهُ لم يكن وقت العَقْدِ مُلْتَزِمًا بِحُكْم الإِسْلاَمِ، فاعتبر حَالُ اجتماعهما, ولو أَسْلَمَ الكَافِرُ بعدما استرقت زوجته الحَامِلُ، حُكَمَ بإسلام الحَمْلِ، ولم يَبْطل رِقُّهُ، كما في المُنْفَصِلِ. ولو أسلمت حَامِلٌ تحت حرْبِيٍّ، لم تسترق ولا وَلَدُهَا؛ لأن الحَمْلَ يَتْبَعُهَا في الإِسْلاَمِ. ولو استأجر مُسْلِمٌ دَارًا من حَرْبِيٍّ في دار الحرب، ثُمَّ غَنِمَ المسلمون الدَّارَ، أو اسْتأْجَرَ حربيًّا [رقيقًا أو حرًا] فاسترق لم تَنْقَطِعِ الإِجَارةُ، بل يبقى للمستأجر اسْتحْقَاقُ المَنْفَعَةِ. ولأن مَنَافِعَ الأَمْوَالِ مَمْلُوكَةٌ مِلْكًا تَامًّا، مَضْمُونَةٌ باليد، كأعيان الأموال، وكما لا تُغْنَمُ العَيْنُ المَمْلُوكَةُ لِلْمُسْلِمِ لا تُغْنَمُ المَنَافِعُ المَمْلُوكَةُ له، بخلاف مَنْفَعَةِ البُضْعِ، فَإِنَّهَا تُسْتَبَاحُ، ولا تُمْلَكْ مِلْكًا تاماً, ولذلك لا تضمن باليدِ، ومن الأصحاب من جعل انْقِطَاعَ الإِجَارَة على الخلاف في انْقِطَاعِ النِّكَاحِ. الثانية: يجوز سَبْيُ مَنكُوحَةِ الذِّمِّيِّ، إذا كانت حَرْبِيَّةً، وَينْقَطِعُ به نِكَاحُهُ، وهل يجوز سَبْيُ معتقه وإِرْقَاقُهُ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز اسْتِرْقَاقُهُ، كاسْتِرْقَاقِ مُعْتقِ المسلم، وهذا كما أَنَّ مَالَ الذِّمِّيِّ مَصُونٌ عن الاغْتِنَامِ، كَمَالِ المسلم. والثاني: يجوز؛ لأَنَّ الذِّمِّيِّ لو نَقَضَ العَهْدَ، والْتَحَقَ بدار الحرب، جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ، فمعتقه أَوْلَى أَنْ يكون كذلك. قال القاضي الرُّويَانِيُّ: وهذا ظَاهِرُ المَذْهَب، والوَجْهُ أن يرتب، فيقال: إِنْ جَوَّزْنَا أن يسترق عَتِيقُ المُسْلِمِ، فعتيق الذِّمِّيِّ أَوْلَى، وَإِلاَّ ففي عَتِيقِ الذِّمِّيِّ وَجْهَان. قال في "التهذيب": ولو أَعْتَقَ الذِّمِّيُّ عَبْدًا، ثُمَّ نَقَضَ السَّيِّدُ العَهْدَ، والْتَحَقَ بِدَارِ الحَرْب، فاسترق، فالمذهب أن وَلاَءَهُ على عَتِيقِهِ لا يبطل حقّه، حتَّى لو عُتِقَ كان وَلاَؤُهُ عليه بَاقِيًا، ولمعُتِقِهِ أَيضًا الوَلاَءُ على عَتِيقِهِ، ولو مَلَكَهُ عَتِيقُهُ فَاعْتَقَهُ، كان لِكُلِّ واحدٍ منهما الوَلاَءُ على الآخرَ. ¬
وفيه وَجْهٌ: أنَّهُ إذا استرقَّ بَطَلَ وَلاَؤُهُ على عَتِيقِهِ، كما يَبْطُلُ مِلْكُهُ على عَبْدِهِ. الثالثة: إذا سُبِيَ الزَّوْجَانِ معاً، أو سُبِيَ أحدهما يَنْفَسخُ النِّكَاحُ، صَغِيرَيْنِ كانا، أو كبيرين ورقّا سواء كان قبل الدُّخُولِ أو بعده. قاله مالك. وقال أبو حنيفة: إن سُبيَا مَعًا يَدُومُ النِّكَاحُ بينهما، وإن سُبِيَ أَحَدُهُمَا دون الآخر، يقع النِّكَاحُ لاِخْتِلاَفِ الدَّار، لا لحدوث الرِّقِّ، واحْتَجَّ للمذهب بما رُوِي أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- قال يومُ أَوْطَاس: "أَلاَ لاَ تُوطَأ حَامْلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ حَائِلٌ حَتَّى تَحِيْضَ" (¬1) ولم يفصل بين ذات الزَّوْجِ وغيرها, ولا بين أن يكون مَعَهَا زَوْجُهَا، أو لا يكون. وعن أبي سعيد الخُدَرِيِّ -رضي الله عنه- قال: أَصَبْنَا نِسَاءً يَومَ أَوْطَاسٍ، فكرهوا أنْ يَقَعُوا عَلَيْهِنَّ من أَجْل أَزْوَاجِهنَّ من المشركين، فأنزل الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] فاسْتَحْلَلْنَاهُنَّ (¬2). وأيضاً فَإِنْ الرِّقَّ إذا حَدَثَ زَالَ مِلْكُهَا عن نَفْسِهَا, ولأن تَزُولَ العِصْمَةُ بينها وبين الزَّوْجِ كان أَوْلَىَ، وهذا المعنى هو ما أَرَادَ الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- في "المختصر" بقوله: "وليس قَطْعُ العِصْمَةِ بينهن وبين أزْوَاجِهِنَّ بأكثر من اسْتِئْمَانِهِنَّ. وإن كان الزَّوْجَانِ رَقِيقَيْنِ فَغُنِمَا، أو أحدهما، ففي انْقِطَاعِ النِكاح وجهان، سواء كانا مُسْلِمَينِ، أو كافرين: أصحهما: المَنْعُ؛ لأنَّهُ لم يَحْدُثِ الرِّقُ، وإنما انتقل المِلْكُ من شَخْصٍ إلى شخْصٍ، وذلك لا يُؤَثِّرُ في النِّكَاحِ كالبَيْعِ وغيره. والثاني: ينقطع، لأنَّهُ حَدَثَ شَيْءٌ يُوجِبُ الاسْتِرْقَاقَ، فكان لحدوث الرِّقِّ، ولهذا لو سُبيَتْ المُسْتَوْلَدَةُ تَصِيرُ قِنَّةً. ومنهم من قَطَعَ بالوَجهِ الأَوَّلِ، ويجوز أن يُعَلمَ لذلك لفظ الوَجْهَيْنِ في قوله في الكتاب وفي انْقِطَاع نِكَاح الرَّقِيقيْنِ المَسْبِيَّيْنِ وَجْهَان بالواو، وأَرَادَ اللَّذَيْنِ كانا رَقِيقَيْنِ قبل السَّبْي. وفي قوله: "ولا تَنْقَطِعُ إجَارَتُهُ عن الدَّارِ المغنمة، والعَبْدِ المسبي"، لا يلزم لِلْحَمْلِ على من كان عَبْدًا قَبْلَ السَّبْي، بل حُكْمُ الإجارة فيه وفي الحُرِّ الذي اسْتُرِقَّ بَعْدَ السَّبْيِ واحِدٌ، لا فَرْقَ بينهما. وقوله: "انقطع نِكَاحُهُ عن الأَمَةِ الكِتَابِيَّةِ"، يعني أنَّ هذه المسبية تَصِيرُ أَمَةً كِتَابيَّةً، ولا يجوز إِمْسَاكُ الأمَةِ الكتابية لِلنَّكَاحِ على مَا بَيَّنَّا. ¬
وقوله: "وفي مَنْكُوحَتِهِ وَجْهَانِ"، يعني مَنْكُوحَةَ المُسْلِمِ الحربية إذا نكحها في دَارِ الحربِ، والوجهان في اسْتِرقَاقِهَا، واسْتِرْقَاقِ زَوْجَةِ الكافر، إذا أسلم قبل أن يظفر يَجْرِيَانِ على نَسَقٍ وَاحِدٍ، لكنَّ صاحب الكتاب ذَكَرَ الوَجْهَيْنِ في منكوحة المُسْلِمِ، ولم يَنُصَّ عليها في الصورة، واقتصر على الأظهر، فقال: "يجوز اسْتِرْقَاقُ امْرَأَةِ كُلِّ كَافِرٍ أسلم قبل الظَّفَرِ به"، والمواضع المُحْتَاجَةُ إلى العلامات في الفصلِ غير خَافِيَةٍ. قال الغَزَالِيُّ: والمَسْبِيُّ إِذَا كَانَ علَيهِ دَيْنٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَيَقْضِي مِنْ مَالِهِ الَّذِي لَمْ يَغْنَمْ قَبْلَ اسْتِرْقَاقِهِ فَإنَّ حَقَّ الدَّيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الغَنِيمَةِ إلاَّ إِذَا سَبَقَ الاغْتِنَامُ رِقَّهُ* وَلَوْ وَقَعَا مَعًا فَالظَّاهِرُ تَقْدِيمُ الغَنِيمَةِ* فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالٌ فَهُوَ في ذِمَّتِهِ إِلَى أنْ يُعْتَقَ* وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الدَّيْنُ لِحَرْبيِّ ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ قَبِلاَ الأَمَانَ وَالدَّيْنُ قَائِمٌ* وَكَذَا لَوْ سَبَقَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ إِلَى الإِسْلاَمِ إلاَّ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ خَمْرًا* وَهَذَا فِي دَيْن لَزِمَ بِالقَرْضِ وَالمُعَامَلَةِ* فَإنْ كَانَ أَتْلَفَ مَالَ حَرْبِيِّ أَوْ غَصَبَهُ فَلاَ تَبِعَةَ لَهُ بَعْدَ الإسْلاَمِ وَالأَمَانِ عَلَى الصَّحِيح. قال الرَّافِعِيُّ: إذا كان لِمُسْلِم على حَرْبِيٍّ دَيْنٌ، فاسترقُّ الحَرْبِيُّ لم يَسْقُطِ الدَّيْنُ عنه. وعند أبي حَنِيْفَةَ -رحمه الله-: يسقطُ. قال الإِمَامُ: وتَشَبَّثَ الخِلاَفِيُّونَ بِمُوَافَقَتِهِ من حَيْثُ إن المُسْتَرَق انْقَلَبَ عما كان عَلَيْهِ، وكأنَّهُ عُدِمَ، ثُمَّ وُجِدَ. قال: ولا يَلْحَقُ هذا بالمذهب، والمَقْطُوعُ به أَنَّهُ لا يسقط، نعم لو كان الدَّيْنُ للسَّابي، فَسُقُوطُهُ على الوجهين فيما إذا كان له دَيْن على عَبْدِ غيره فَمَلَكَه، وإذا لم يَسْقُطْ، فيقضي من المال المَغْنُومِ بَعْدَ اسْتِرْقَاقِهِ، ويُقَدَّمُ الدَّيْنُ على الغَنِيمَةِ، كما يُقَدَّمُ على الوَصِيَّةِ، وإن زَالَ مِلْكُهُ بالرِّقِّ، كما أَنَّ دَيْنَ المُرْتَدِّ يقضى من ماله. وإن حَكَمْنَا بزوال مِلْكِهِ، وأيضاً فَالرِّقَّ بمَثَابَةِ المَوْتِ والحَجْرِ، فيوجب تَعَلُّقَ الدُّيُونِ بالمال، وإن غنم المال قبل اسْتِرْقَاقِهِ ملكه الغَانِمُونَ، ولم ينعكس الدَّيْنُ عليه، كما لو انتقل مِلْكُهُ بوجه آخر، وإن غنم مع اسْتِرْقَاقِهِ، ففيه وجهان: أحدهما: وبه أجاب في "التهذيب": -أَنَّهُ يقضي منه الدَّيْنَ، ويُقَدَّمُ الدَّيْنُ على حَقِّ الغانمين، كما يقَدَّمُ في التَّركَةِ على حُقُوقِ الوَرَثَةِ. وأظهرهما (¬1): على ما ذكره صَاحِبُ الكتاب، وأَوْرَدَهُ الإِمام مع شَهَادَتِهِ لِلْوَجْهِ الأَوَّلِ بالاتِّجَاهِ، أنَّ الغَنِيمةَ تَتَقَدَّمُ، ووجه بأن تَمَلُّكَ الغَانِمِينَ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ المَالِ، وحَقُّ ¬
صاحب الدَّيْنِ كان في الذِّمَّةِ، وما يَتَعَلَّقُ بالعَيْنِ يَتَقَدَّمُ على المتعلّق بالذمَّةِ. ولك أن تقول: إذا جَنَى العَبْدُ المَرْهُونُ، يَتَقَدَّمُ حَقُّ المَجني عليه على حَقِّ المُرْتَهِنِ، وليس من صورة المَعِيَّةِ أنْ يكون الاغْتِنَامُ مع الأسْرِ، فَإِنَّ المالَ يملك بنفس الأَخْذِ والرِّقِّ، لاَ يَحْصُلُ بنَفْسِ الأَسْرِ في الرجال الكاملين، ولكن يَظْهَرُ ذلك في حَقِّ النِّسْوَةِ، وفيما إذا فرض الاغْتِنَام مع إرْقَاقِ الإمَامِ بعْدَ الأسْرِ وإذا لم يوجد مَالٌ يُقْضَى منه، فهو في ذمَّتِهِ إلى أَنْ يُعْتِقِ، وهل يَحِلُّ المُؤَجَّلُ بالرِّقِّ؟ فيه وجهان مُرَتَّبَانِ على الوجهين في الحُلُولِ بالفَلَسِ، والرِّقُّ أَوْلى بالحلول؛ لأَنَّهُ أَشْبَهُ بالموت من حديث إنه يُزِيلُ المِلْكَ، ويقطع النِّكَاحَ، وهذا إذا كان الدَّيْنُ لِمُسْلِمٍ، فَإِنْ كان لِذِمِّيٍّ، فبمثله أَجَابَ الإِمَامُ، وقال: دَيْنُ الذِّمِّيِّ مُحْتَرَم كأعيان أَمْوَالِهِ. وحكى صاحبُ "التهذيب" فيه وَجْهَيْنِ، وإن كان لِحَرْبِيِّ، واسترق المديون، فالمَحْكِيُّ عن القاضي الحسين، وهو الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَسْقُطُ الدَّيْنُ، ووجه بأن ملتزم الدَّيْنِ انْتَقَلَ من كونه حَرْبيًّا لا يجري عليه حُكم إلَى كونه رَقِيقًا ليس له على نَفْسِهِ حُكْمٌ، وأَبْدَى الإِمَامُ احْتِمَالاً أَنَّهُ لا يسقط، كما سَنَذْكُرُ فيما إذا أَسْلَمَ من عليه الدَّيْنُ، أو قبل الأَمَان. ويُجْعَلُ الرِّقُّ كَأَمَانٍ يَحْدُثُ، هذا إذا استرق مَنْ عليه الدَّيْنُ، فلا تبْرَأ ذمةُ من عليه الدَّيْنُ، بل هو كَوَدَائِع الحَرْبِيِّ المَسْبِيِّ، هذا لفظه في "الوسيط" ولم ينص والحَالَةُ هذه على حَالِ مَنْ عليه الدَّيْنُ، والإمامُ ذكر هذا الجَوَابَ فيما إذا اسْتَقْرَضَ مُسْلِمٌ من حَرْبِيٍّ، أو اشترى منه شيئاً، والتزم الثَّمَن، ثُمَّ استرق مستحقّ الدَّيْنِ. قال: لا يسقط الدَّيْنُ عن ذِمَّةِ المُسْلِمِ. وفي "التهذيب" لو كان لحربي على حَربْيٍّ دَيْنٌ فاسترق. أحدهما: يسقط لِزَوَالِ مِلْكِهِ، قال ولو قَهَرَ المَدْيُونُ رَبَّ الدَّيْنِ يسقط؛ لَأَنَّ الدَّارَ دَارُ حَرْبٍ، حتى إذا قَهَرَ العَبْدُ سَيِّدَهُ يَصِيرُ حُرَّاً، ويصير السَّيِّدُ عَبْدًا. ولو قَهَرَتِ الزَّوْجَة زَوْجَهَا يَنْفَسِخُ النكاحُ، وقد يفهم من هذه الجُمْلَةِ إن كان دَيْنُ المسترقّ على مسلم يطالب به كما يطالب بِوَدَائِعِهِ؛ لأنَّه مُلْتَزمٌ، وإن كان على حَرْبِيٍّ يسقط؛ لأنَّ المستحق قد زال مِلْكُهُ، والحربي غير مُلْتَزمٍ حتى يطالب. ولو استقرض حَرْبِيٌّ من حَرْبِيٍّ، أو التزم بالشراء ثَمَنًا، ثُمَّ أَسْلَمَا، أَو قَبِلاَ الجِزْيَةَ، أو الأَمَانَ معاً، أو على الترتيب، اسْتَمَرَّ الاستحاقاقُ، كما إذا أسلم الزَّوْجَانِ، ولم يقبض المهر المُسَمَّى، يبقى استحقاقه، ولو أَسْلَمَ المستحق عليه، أو قَبِلَ الجِزْيَةَ، دون المستحق، فالنَّصُّ أَنَّ الجَوَابَ كذلك، ويستمر الاسْتِحْقَاقُ، كما إذا أسلم الزوجان. وعن نَصِّهِ -أَنَّهُ إذا ماتت زَوْجَةُ الحَرْبِيِّ، فجاءنا مُسْلِمًا، أو مُسْتَأْمنًا، فجاء وَرَثَتُهَا يَطْلبُونَ مَهْرَهَا، لم يكن لهم شيء. وللأصحاب فيه طريقان:
أحدهما: أَنَّ فيهما قَوْلَيْنِ نَقْلاً وتَخْرِيجًا. أصحهما: أَنَّهُ يبقى الاسْتِحْقَاقُ، ويُسْتَدَامُ حُكْمُ العَقْدِ بَعْدَ الإِسلام، وعلى هذا تُبْنَى قَوَاعِدُ في نِكَاحِ المشركات. والثاني: المَنْع؛ لأنَّهُ يَبْعُدُ أن يُمَكِّنَ الحَرْبِيُّ من مُطَالَبَةِ المسلم، أو الذِّمِّيِّ في دارنا. والثاني: القَطْعُ بالقول الأَوَّلِ، وبه قال ابْنُ سُرَيْجِ، وحمل النَّصَّ الثاني على ما إذا سمى لها خَمْرًا أو خِنْزِيرًا وقبضته في الكُفْرِ، ولا يَخْفَى أَنَّ ما ذَكَرْنَا فيما إذا كان الفرض أو الثَّمَنُ مَالاً، بخلاف ما إذا كان خَمْرًا أو خِنْزيرًا. ولو أَتْلَفَ حَرْبِيٌّ مَالاً على حَرْبِيٍّ، أو غَصَبَهُ، ثم أَسْلَمَا، أو أسلم المُتْلفُ، فوجهان: أصحهما: أَنَّهُ لا يُطَالَبُ بالضَّمَانِ؛ لأَنَّهُ لم يَلْتَزِمْ شيئاً، والإسلامُ يَجُبْ ما قَبْلَهُ، والإِتْلاَفُ ليس عَقْداً يُسْتَدَامُ بخلاف الملزم بها. وأيضاً فَالحَرْبِيُّ إذا قَهَرَ حَرْبِيًّا على مَالِهِ ملكه، والإِتْلاَفُ نَوْعٌ من القَهْرِ. وأيضاً فَإِتْلاَفُ مَالِ الحَرْبِيِّ لا يزيد على إِتْلاَفِ مَالِ المُسْلِمِ، وأَنَّهُ لا يُوجِبُ الضَّمَانَ على الحَرْبيِّ. والثاني: يطالبُ؛ لأَنَّهُ لاَزِمٌ في شَرْعِهِمْ، فكأنهم تَرَاضَوْا عليه. ويَزِيدُ على هذا ما حكى عن تَعْلِيقِ القاضي حسين: أَنَّ الحَرْبِيَّ إذا جَنَى على مُسْلِمٍ، فاسترق، فَأرْشُ الجِنَايَةِ في ذِمَّتِهِ، لا يَتَحَوَّلُ إلى رَقَبَتِهِ، بخلاف المُكَاتَب، إذا جَنَى أن يكون الأرْشُ في ذِمَّتِهِ يُؤَدِّيهِ من الكَسْبِ، فإن عَجَزَ وعاد قِنًّا تَحَوَّلَ الأَرْشَ إلى رَقَبَتِهِ. والفرقُ أَنَّ الرِّقَّ الذي هو مَحَلُّ تَعَلُّقِ الأَرْضِ كان مَوْجُودًا في حَالِ الكِتَابَةِ، إِلاَّ أَنَّ الكِتَابَةَ المَانِعَةَ من البيع منعت في التَّعَلُّقِ، فإذا عَجَزَ ارْتَفَعَ المَانِعُ، وثبت التَّعَلُّقُ، وفي الحربي لم يكن عند الإِتْلاَفِ رِقٌّ وإنما حَدَثَ بَعْدَهُ وهذا قَوْلٌ يُوجِب الضَّمَانَ على الحَرْبيِّ إذا جَنَى على مسلمٍ، أو مَالٍ. قال الإِمامُ: وهو إِخْلاَلٌ من نَاقِلٍ، أو هَفْوَةٌ من القاضي وَلْنَعُدْ إلى ما يَتَعَلَّقُ بَلفظ الكتاب. قوله: "أو ذمي" يجوز أن يُعَلَّمَ بالواو. وقوله: "فيقضي" بالحاء لما ذكرنا. وقوله: "الذي لم يغنم قبل اسْتِرْقَاقِهِ" يَدْخُلُ فيه ما اغْتَنَمَ بَعْدَ أسترقاقه، وما اغْتَنَمَ مع اسْتِرْقَاقِهِ، وقد ذكر من بعد أَنَّ الاغْتِنَامَ والاسْتِرْقَاقَ لو وَقَعَا معًا، فالظَّاهِرُ تَقْدِيمُ الغَنِيمَةِ، وكان من حَقِّهِ أن يقول: من المال الذي اغتَنَمَ بَعْدَ استرقاقه. وقوله: "إِلاَّ إذا سَبَقَ الاغْتِنَامُ رِقَّهُ" الاستثناء يرجعُ إلى قوله: "فَإنَّ حَقَّ الدَّيْنِ مُقَدَّمٌ
على حَقِّ الغَنِيمَةِ" لا إلى الحُكْمِ المذكور قبله، وهو قوله "فيقضي من مَالِهِ الذي لم يَغْتَنِمْ قبل اسْتِرْقَاقِهِ". قوله: "وكذلك لو سَبَقَ من عليه الدَّيْنُ إلى الإِسلام" مفهومه الظَّاهِرُ ما إذا أَسْلَمَ المستحقُّ عليه، ثُمَّ أَسْلَمَ المستحقّ، فإن أراد هذا المَفْهُوَمَ فَلْيُحْمَلْ. قوله قبل ذلك: "ثم أَسْلَمَا" على ما إذا أَسْلَمَا مَعا، وإلاَّ فهذا دَاخِلٌ فيه، وإن قُدِّرَ أَن الْمُرَادَ ما إذا سَبَقَ للمستحق عليه إلى الإِسلام، وتَخَلَّفَ الآخَرُ فلم يُسْلِمْ وتَرَكَ قوله: "ثُمَّ أَسْلَمَا" على إِطْلاَقِهِ، فهذا مَوْضِعُ الخِلاَفِ، ويجوز أن يُعَلَّمَ بالواو للوجه الآخر. قال الغَزَالِيُّ: (فَرْعٌ) إِذَا سُبِيَتِ امْرَأَةٌ وَوَلَدُهَا الصَّغِيرُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا فِي البَيْعِ وَالقِسْمَةِ* وَلَوْ تُبِعَتْ مَعَ الجَدَّةِ وَقُطِعَتْ عَنِ الأمِّ، فَفِي الجَوَازِ قَوْلاَنِ* وَالجَدَّةُ فِي مَعْنَى الأُمِّ عِنْدَ عَدَمِهَا* وَالأَبُ هَلْ هُوَ فِي مَعْنَاهَا؟ قَوْلاَنِ* وَهَلْ يَتَعَدَّى التَّحْرِيمُ إِلَى سَائِرِ المَحَارِمِ؟ قَوْلاَنِ. قال الرَّافِعِيُّ: إذا سبيت امْرَأَةٌ وَوَلَدُهَا الصَّغِيرُ، لم يُفَرِّقِ الإِمَامُ بينهما في القِسْمَةِ، بل يُقَوِّمُهُمَا، فإن وَافَقَتْ قِيمَتُهُمَا نَصِيبَ وَاحِدٍ من الغَانِمِينَ جعلهَما لواحدٍ، وإلاَّ اشتركَ اثنان فيهما أو باعهما، وجعل ثمنهما في المَغْنَمِ، وقد ذكرنا في "البيع" بعض الأَحَادِيثِ الوَارِدَةِ في تحريم التَّفْرِيقِ، فإن فَرَّقَ بينهما في القِسْمَةِ، ففي صِحَّتِهَا قَوْلاَنِ، كما قَدَّمْنَا في "البيع"، وإذا قلنا: لا يَبْطُلُ، ففي "الحاوي" أَنَّ المُتَبَايِعَينِ لا يقرَّانِ على التفريق، ولكن يُقَالُ لهما: إِنْ تَرَاضَيْتُمَا بِبَيْعِ الآخر ليجتمعا في المِلْكِ فذاك، وِإلاَّ فَسَخْنَا البَيْعَ. وفي كتاب القاضي ابْنِ كجٍّ أنْ يُقَالَ للبائع: إمَّا أَن تَتَطَوَّعَ بتسليم الأَجْرِ، أو يُفْسَخَ المَبِيعُ، فإن تَطَوَّعَ بالتسليم، فامتنع المشتري من القَبُولِ، فُسِخَ البيعُ. فإن رَضِيَتِ الأمُّ بالتفريق، فعن رِوَايَةِ ابْنِ القَطَّانِ، والقاضي الطَّبَرِي وجه: أَنَّهُ يَرْتَفِعُ التَّحْرِيمُ، والأَصَحُّ خلافه رِعَايَةً لِحِقِّ الوَلَدِ، والجدَّةُ أم الأُمِّ عند عَدَم الأُمِّ كالأمِّ، فلو كان له أُمٌّ وَجَدَّةٌ، فبِيعَ مع الأُمِّ، انْدَفَعَ المَحْذُورُ، ولو بِيعَ مع الجَدَّةِ، وقُطِعَ عن الأُمِّ، فهل يَرْتَفِعُ التحريمُ؟. نقل الإِمَامُ فيه قَوْلَيْنِ، والأَشْبَهُ منهما المَنْعُ، وهل الأب كالأم في تَحْرِيمِ التَّفْرِيقِ؟ فيه قولان، ويقال: وجهان، أظهرهما: نعم؛ لأنَّهُ أَحَدُ الأَبَوَيْنِ، وقد روي عن عُثْمَانَ -رضي الله عنه- أَنَّهُ لا يُفَرَّقُ بين الوَالِدِ وَوَلَدِهِ (¬1). ¬
والثاني: لا، لاخْتِصَاصِ الأُمِّ بنهاية الشَّفَقَةِ والتَّحَنن، وعَجْزِهَا عن الصَّبْرِ، ولهذا قدمت في الحَضَانَةِ على الأب، وهل يَتَعَدَّى التَّحْرِيمُ إلى سائر المَحَارِمِ، كالأخ والعَمِّ وغيرهما، فيه طريقان: قال أكثرهم: لا، لأَنَّ سائر القَرَابَاتِ لا يَتَعَلَّقُ بها رَدُّ الشَّهَادَةِ والعِتْقُ بالمِلْكِ، فكذلك في تَحْرِيمِ التَّفْرِيقِ. نعم يُسْتَحَبْ التَّحَرُّزُ عنه. والثاني: طَرْدُ الخِلاَفِ المذكور في الأبِ، وروى صاحب "الحاوي" في الأَجْدَاد والجَدَّاتِ من قبل الأب ثلاثة أوجه: أحدها: يجوز التَّفْرِيقُ بين الوَلَدِ وجميعهم؛ بِنَاءً على جَوَازِ التَّفْرِيقِ بينه وبين الأَبِ. والثاني: لا يَجُوزُ؛ بِنَاءً على أَنَّ التَّفْرِيقَ لا يَجُوزُ بينهما. والثالث: يجوز التَّفْريقُ بينه وبين الذَّكَرِ منهم، كَأبِ الأب، ولا يَجُوزُ بينه وبين الأُنْثَى منهم، كأم الأب، لأَنَّ الإناث أَصْلَحُ للتَّرْبيَةِ، وهذه الوُجُوهُ على طَرِيقَةِ من لا يُعَدِّي التَّحْرِيمَ إلى المَحَارِمِ قَطْعاً، وإذا كان للولدَ أَبَوَانِ، فيحذر من التَّفْريِقِ بينه وبين الأُمِّ، ويحتمل التَّفْرِيقُ بينه وبين الأب، ولا بَأْسَ بالتفريق إذا أَلْجَأتِ الضَّرْورَةُ إليه، كما إذا كانت الأُمُّ حُرَّةً، يجوزُ بَيْعُ الوَلَدِ، ولو كانت الأُمُّ لِوَاحِدٍ، والولد لآخر، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ منهما أن يَنْفَرِدَ ببيع ما يملكه، وقد سَبَقَ ذلك في "البيع"، وحَكَيْنَا هناك قَوْلَيْنِ في أَنَّ التَّحْرِيم يَنْتَهِي بسِنِّ التمييز، أو يَمْتَدُّ إلى البُلُوغ؟ والأَصَحُّ الأَوَّلْ، فإنه لا يحرم بعد البُلُوغِ. وعن أحمد خِلاَفُهُ، ويجوز أن يُعَلَّمَ لذلك لفظ "الصَّغِير" من قوله في الكتاب: "وولدها الصَّغِير" بالألف إِشَارَةً إلى أَنَّ عنده لا يعتبر الصِّغَرُ، واللَّفْظُ يُوَافِقُ القَوْلَ الذَّاهِبَ إلى امْتِدَادِ التَّحْرِيم إلى البُلُوغ، فيمكن أَن يُعَلَّمَ بالوَاوِ لِلْقَوْلِ الآخر، وأن يُعَلَّمَ لَفْظُ القولين في سَائِرِ المَحَارِمِ بالوَاوِ لِلطَرِيقَةِ القاطعة. قال الغَزَالِيُّ: (التَّصَرُّفُ الثَّالِثُ) إهْلاَكُ أَمْوَالِهِمْ غَيْظاً لَهُمْ جَائِزٌ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَمَلُّكُهُ إِلاَّ الحَيَوَانَاتِ* وَأَمَّا الأَشْجَارُ فَيَجُوزُ قَطْعُهَا* وَيجِبُ إِهْلاَكُ كُتُبِهِم الَّتِي لاَ يَحِلُّ الاِنْتُفَاعُ بِهَا* وَفِي جَوَازِ اسْتِصْحَابِهَا لِفَائِدَةِ تَعَرُّفِ مَذَاهِبِهِمْ تَرَدُّدٌ* وَكَلْبُ الغَنِيمَةِ يَخُصُّ بِهِ الإِمَامُ مَنْ شَاءَ إِذْ لاَ مِلْكَ فِيهِ. قال الرَّافِعِيُّ: كما أنَّ نُفُوسَ الكْفَّارِ تَهْلِكُ تَارَةً بالقَتْلِ، وتُمْسَكُ أخرى بالاسْتِرْقَاقِ، فكذلك أَمْوَالُهُمْ تَهْلِكُ تَارَةً وتُغَنَمُ أُخْرَى، وهذا التَّصَرُّفُ الثَّالِثُ هو إِهْلاَكُ أَمْوَالِهِمْ،
والمقصود بَيَانُ موضع جَوَازِهِ، وإن احتاج المسلمون إلى إِهْلاَكِ مَالٍ لهم، كَتَخْرِيبِ بِنَاءٍ، وقَطْعِ شَجَرٍ لِيَتَمَكَّنُوا من القِتَالِ، أو لِيَظْفَرُوا بهم، فلهم إِهْلاَكُهُ؛ لما روي عن ابنَ عُمَرَ -رضي الله عنه- أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قَطَعَ نَخْلَ بني النَّضِيرِ وحَرَّقَ عليهم (¬1)، وفي ذلك نَزَلَ قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} [الحشر: 5] الآية وأَنَّهُ قطع على أَهْلِ "الطَّائف" كَرْمَهُمْ (¬2)، وذُكِرَ أَنَّهُ كان آخر غَزَوَاتِهِ، وإن لم يَحْتَاجُوا إليه، نظِرَ إن لم يَغْلِبْ على الظَّنِّ حُصُولُ ذلك المَالِ لِلْمُسْلِمِينَ، جاز إهلاكه مُغَايَظَةً لهم، وتَشْدِيدًا عليهم، وإن غَلَبَ على الظَّنِّ حُصُولُهُ لهم، ففيه وَجْهَانِ، حكاهما في "المُهَذَّبِ": وجه المنع ما روي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ -رضي الله عنه- نَهَى عنه (¬3). وعن الشَّيْخِ أبي حَامِدٍ إِطْلاَقُ القَوْلِ بالجَوَازِ، والأولى تَرْكُهُ بلا خِلاَفٍ، وهذا إذا دَخَلَ الإمَامُ بلاَدَهُمْ مُغيرًا، ولم يمكنه الاسْتِقْرَارُ فيها, فَأمَّا إذا فَتَحَهَا، وَقَهَرَ أَهْلَهَا، فلا يجوز القَطْعُ والتخريبُ [لأنه صارت غَنِيمَةٌ للمسلمين، وكذا لا يَجُوزُ القَطْعُ والتَّخْرِيب] (¬4) إذا فتحها صُلْحًا على أن يكون لهم أَوْ لَنَا. ولو غَنِمْنَا أَمْوَالَهُم وانصرفنا وَخِفْنَا الاسْتِرْدَادَ، جاز إهْلاَكُهَا لئلا يَغْلِبُوا عليها وَيَتَقَوَّوْا بها، هذا حُكْمُ غير الحَيَوَانِ. وأمَّا الحَيَوَانُ، فإذا كانوا يُقَاتِلُوننا على الخُيُولِ، واحتجنا إلى عَقْرِهَا لِدَفْعِهِمْ والظَّفَرِ بهم، جَازَ ذلك، فَإِنَّهَا كَأدَاةِ الِقتَالِ. ويُرْوَى أَن حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِب -رضي الله عنه- عَقَرَ بأبي سفيان فَرَسَهُ يوم "أُحُدٍ" فَسَقَطَ، فجلس حَنْظَلَةُ على صَدْرِهِ لِيَذْبَحَهُ، فجاء ابن شعوب فقتل حَنْظَلَةَ -رضي الله عنه- واسْتَنْقَذَ أبا سفيان، ولم يُنْكِرْ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فِعْلَ حَنْظَلَةَ (¬5) -رضي الله عنه- ¬
وإن غَنِمْنَا خُيُولَهُمْ ومَوَاشيهُمْ ولحقونا، وَخِفْنَا الاسْتِرْدَادَ أو ضعف بعضها، وتَعَذَّرَ سَوْقُهَا، لم يجز عَقْرُهَا، وإتْلاَفهَا. وبه قال أحمد. نعم تُذْبَحُ لِلأَكْلِ، وإذا خِفْنَا أَنَّهُمْ يأخذون الخُيُولَ ويُقَاتِلُونَ عليها، ويشتدُّ الأَمْرُ، يجوزُ إِتْلاَفُهَا. وعند أبي حَنيفَةَ ومَالِكٍ: يجوز إِتْلاَفهَا بِكُلِّ حَالٍ مُغَايظَةَ لِلْكُفَّارِ. لنا ما روي أنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عن تَعْذِيبِ الحَيَوَانِ إِلاَّ لِمَأْكَلَةٍ (¬1). وأيضاً نَهَى عن قَتْل الحَيَوَانِ صَبْرًا (¬2)، ولا خِلاَفَ في أَنَّهُمْ لو لحقونا ومعنا نِسَاؤُهُمْ وصِبْيَانُهُمْ لم يَجُزْ قَتْلُهُمْ، وإن خَشِينَا اسْتِرْدَادَهُمْ، ثُمَّ في الفَصْلِ مسألتان: إحداهما: إذا ظَفَرْنَا بِكُتُبٍ لهم مما يَحِلُّ الانْتِفَاعُ به؛ كالطِّبِّ والشِّعرِ واللُّغَةِ والحِسَاب والتَّوَارِيخ، فسبيله سَبِيلُ سائر الأموال، فَيُبَاعُ أو يُقَسَّمُ، وما يحرم الانْتِفَاعُ به كَكُتُبِ الشِّرْكِ والهَجْوِ والفُحْشِ المَحْضِ، فلا يُتْركُ بِحَالِهِ، ولكن إن كان على رَقِّ، أو كَاغدٍ ثَخِينٍ؛ وأمكن غَسْلُهُ غُسِلَ، ثُمَّ هو كَسَائِرِ أموال الغَنِيمَةِ، وإن لم يكن أُبْطِلَتْ مَنْفَعَتُهُ بالتَّمْزِيقِ، ثُمَّ الممزَّقُ كَسَائِرِ الأَمْوَالِ، ولِلْمَزْقِ قِيمَةٌ وَإِنْ قَلَّتْ. وعن القاضي الطَّبَرِيِّ: أنَّهَا تُمَزَّقُ أَوْ تُحَرَّقُ، ولم يُصَحِّحُوا الإِحْرَاقَ؛ لما فيه من التَّضْيِيعِ، وكتبِ التَّوْرَاةِ والإِنْجِيلِ مما لا يَحِلُّ الانْتِفَاع به؛ لأَنَّهُم بَدَّلُوا وَغيَّرُوا. قال في "البحر": وإنما تُقَرُّ في أَيْدِي أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لاعْتِقَادِهِمْ كما يُقَرُّونَ على الخَمْرِ. قال: والصَّحِيحُ أَنَّهَا لا تُحَرَّقُ؛ لما فيها من أَسْمَاءِ اللهِ تعالى. قال الإمامُ: وقد يَخْطُر لِلْفَطِنِ أنَّ كتب الشِّرْكِ يُنْتَفَعُ بها، على معنى أَنَّ الحَاجَةَ تمسُّ إلى الاطِّلاعَ على مَذَاهِب المُبْطِلِينَ ليوَجَّه الرَّدّ عليها، فإن كانت تلك المَقَالاَتِ مَشْهُورَةً، فالرَّأْيُ إِبْطَالُهَا، وإن كان ما فيها مما لم يَتَقَدَّمِ الاطَّلاعُ عليه، ففي جَوَازِ اسْتِصْحَابِهِ تَرَدُّدٌ واحْتِمَالٌ بَيِّنٌ. الثانية: إذا دَخَلْنَا دِيَارَهُمْ غَازِينَ قَتَلْنَا الخَنَازِيرَ، وأَرَقْنَا الخُمُورَ، وتُحْمَلُ ظُرُوفُهَا إِلاَّ أن تَزِيدَ مُؤْنَةُ الحَمْلِ على قِيمَتِهَا، أو تُسَاوِيهَا، فيتلفها عليهم، والكَلْبُ المُنْتَفَعُ بِهِ للاصْطِيَادِ، وللمواشي. أطلق صَاحِبُ الكتاب أنَّ الإِمَامَ يَخُصُّ به من يَشَاءُ، وهكذا حَكَاهُ الإِمَامُ عن العِرَاقِيِّينَ، وقال: قالوا: للإمام أن يُسَلِّمَهَا إلى وَاحِدٍ من المسلمين لِعِلْمِهِ باحْتِيَاجِهِ إليه، ولا يكون مَحْسُوبًا عليه، واعترض عليه بأن الكَلْبَ مُنْتَفِعٌ به، ¬
فليكن حَقُّ الَيدِ فيه لجميعهم، كما أَنَّ من مَاتَ وله كَلْبٌ لا يستبدُّ به بعض الوَرَثَةِ، والذي نَجِدُهُ في كتب العِرَاقِيِّينَ: أَنَّهُ إن أَرَادَهُ بعض الغَانِمِينَ، أو بعض أهل الخُمُسِ، ولبم ينازع فيه يُسَلَّمُ إليه، وإن تَنَازَعُوا، فإن وَجَدْنَا كِلاَباً، وأمكنت القِسْمَةُ عَدَداً قُسِّمَت، وإلاَّ أُقْرِعَ بينهم، فإذن الظَّاهِرُ خِلاَفُ ما في الكَتَاب، وقد مَرَّ في "الوَصِيَّةِ" أَنَّهُ قد يعتبر قِيمَتُها عند مَنْ يرى لها قِيمَةٌ، وينظر إلى مَنَافِعِهَا، فيمكن أن يُقَالَ بِمِثْلِهِ هاهنا. وقوله في الكتاب: "إِهْلاَكُ أَمْوَالِهِمْ غَيْظاً لهم جَائِزٌ، إذا لم يمكن تَمَلُّكُهَا"، ظَاهِرُ السِّيَاقِ يُوَافِقُ ما ذكرنا أَنَّ أَحَدَ الوجهين: أَنَّهُ لا يجوز إِهْلاَكُهَا إذا غَلَبَ على الظَّنِّ حُصُولُهَا لِلْمُسْلِمينَ، والعِبَارَاتُ التي تطلق في هذا المَقَامِ من غَلَبَةِ الظَّنِّ بالحُصُولِ، ورجاء الحصول، وإمكان التَّمَلّكِ والحصول مُتَقَارِبَةٌ. والأَشْبَهُ والحالةُ هذه -التجوِيزُ والاقْتِصَارُ على الكَرَاهَةِ، وكذلك ذَكَرَهُ الإِمَامُ، فيجوز أن يرقم قوله: "إذا لم يمكن تملكها" بالواو؛ وإشَارَةً إلى أن هذا القَيْدَ غير مُعْتَبَرٍ في الجَوَازِ، ويجوز أن يُحْمَلَ لَفْظُ الجَوَازِ على الإِطْلاَقِ العَارِي عن الكَرَاهِيَة, كما يُقَالُ: وجب جَوَازُ الصَّلاةِ، ووقت الكراهة فَيُجْعَلاَنِ مُتَقَابِلَيْنِ، وحينئذٍ فلا حَاجَةَ إلى الإِعْلاَمِ. وقوله: "الحَيَوَانَات" ليعلَّم بالحاء والميم، ولاَ بُدَّ من اسْتِثْنَاءِ ما يقاتلون عليه على ما يُتَبَيَّنُ، وإن أطلق الكلام إِطْلاَقًا. وقوله: "وأَمَّا الأَشْجَارُ فيجوز قَطْعُهَا" لا ضَرُورَة إليه لِدُخُولِهَا في الأَمْوَالِ المَذْكُورَةِ أَولاً. وفي "التصريح" تَنْبِيهٌ على أَنَّهَا وإن كانت نَامِيَة فليس لها حُرْمَةُ الحَيَوَانَاتِ. وقوله: "ويجب إِهْلاَكُ كُتُبِهِمْ"، وفي بعض النسخ "ويجوز" وبكُلِّ وَجْه. وقوله: "وفي جَوَازِ اسْتِصْحَابِهَا ... " إلى آخره، أراد به ما حَكَيْنَاهُ عن الإِمَامِ، والتَّردُّدُ مَخْصُوصٌ بالكُتُبِ المشتملة عى مَقَالَتِهِمْ دون كتب الهَجْوِ والفُحْشِ، ثَمَّ إن اسْتَصْحَبْنَا تلك الكُتُبَ حتى عَرَفْنَا المَقَالاَتِ؟ فالقِيَاسُ أن نبطلها كما ذكر الإِمَامُ، أَنَّهُ لو كانت المَقَالاَتُ مَشْهُورَةٌ، فنبطلها في الحال. قال الغَزَالِيُّ: (التَّصَرُّفُ الرَّابعُ: الاغْتِنَامُ) وَالغَنِيمَةُ كُلُّ مَا أَخَذَتْهُ الفِئَةُ المُجَاهِدَةُ عَلَى سَبيلِ الغَلَبَةِ دُونَ مَا يُخْتَلَسُ، وَيُسْرَقُ، فَإنَّهُ خَاصٌ ملْكِ المُخْتَلِسِ* وَدُونَ مَا يَنْجَلِي عَنْهُ الكُفَّارُ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَإنَّهُ فَيْء* وَدُونَ اللُّقَطَةِ، فَإنَّهَا لِآخِذِهَا. قال الرَّافِعِيُّ: قد سبق في "كتاب قَسْم الفَيْءِ والغَنَائِم" أن الغَنِيمَةَ المَالُ الذي يُؤْخَذُ من الكُفَّارِ بالقَهْرِ، وإيجَافِ الخَيْلِ والرِّكَاب، وَأَنَّ الفَيْءَ ما يُحَصَّلُ من الكُفَّارِ من غير قِتَالٍ، فنتكلم الآن في مَسَائِلَ:
إحداها: إذا دخل وَاحِدٌ أو شِرْذِمَةٌ دَارَ الحَرْب مُسْتَخْفِينَ، وأخذوا مَالاً على صُورَةِ السَّرِقَةِ فالذي أَوْرَدَهُ في الكتابِ أَنَّهُ مِلْكُ من أَخَذَهُ خَاصَّةً وذكر الإِمَامُ أَنَّهُ المَذْهَبُ المَشْهُورُ، ورُبَّمَا أَبْدَى القَطْعَ به، وَوَجههُ بأنَّ السَّارِقَ يقصد تَمَلُّكَ المَاَلِ، وإثْبَات اليد عليه، ومَالُ الحَرْبَيِّ غير مَعْصُومٍ، وكأنَّهُ غير مَمْلُوكٍ، وصار سبيله سَبِيلَ الاسْتِيلاَءِ على المُبَاحَاتِ، بخلاف مال الغَنِيمَة، فَإنَّهُ وإن حصل في يد الغَانِمينَ، فليس مقصودهم التملُّك، إذ لا يَجُوزُ التَّغْرِيرُ بالمُهَج لاكْتِسَاب الأَمْوَالِ، والغَرَضُ الأَعْظَمُ إِعْلاَءُ كلمة اللهِ -تعالى- وقَمْعُ أَعْدَاءِ الدِّينِ، ولِلْقَصْدِ أَثَرٌ ظَاهِرٌ فيما يملكُ بالاستيلاء، وحَكَى وَجْهاً آخر أَنَّهُ غَنِيمَةٌ مُخَمَّسَةٌ وَضَعَّفَهُ، وهذا الذي ضَعَّفَهُ هو المُوَافِقُ لما أَوْرَدَهُ أكثرهم، وكأنهمِ جعلوا دُخُولَ دَار الحَرْبِ، وتَغْرِيرَهُ بنفسه قَائِماً مَقَامَ القِتَالِ، ويُوَضِّحُهُ أَنَّهُم ذَكَرُوا أنَّهُ لو غَزَتْ طَائِفَةٌ بغير إِذْنِ الإِمَامِ مُتَلَصِّصِينَ، وأخذت مَالاً فهو غَنِيمَةٌ مخمسة. وَرَوَوْا عن أبي حَنِيْفَةَ أَنَّهُ لا يُخَمَّسُ، بل يَنْفَرِدُونَ له إذا لم يكن لهم قُوَّةٌ وامْتِنَاعٌ، وفي رِوَايَةٍ أخرى يُؤْخَذُ الجَمِيعُ منهم، ويجعل في بَيْتِ المَالِ. وفي "التهذيب": أَنَّ الرَّجُلَ الوَاحِدَ إذا دَخَلَ دَارَ الحَرْبِ وأخذ من حَرْبِيٍّ مَالاً بالقِتَالِ أُخِدَ منه الخُمُسُ، والبَاقِي له، وإن أَخَذَهُ على جِهَةِ السَّوْمِ، ثُمَّ جَحَدَهُ أو هرب، فهو له خَاصَّة، ولا يُخَمَّسُ، وهذه الصُّورَة قَرِبيَةٌ من السَّرِقَةِ، والمأخوذ على صورة الاخْتِلاَسِ كالمَأْخُوذِ على صُورَةِ السَّرِقَةِ. وقد حُكِيَ في "البحر" عن صَاحِبِ "الحاوي": أَنَّهُ يكون غَنِيمَةً يملك المُخْتَلِسُونَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لأنهم ما وَصَلُوا إليه عنوةً حَتَّى غَرَّرُوا بأنفسهم كما لو قاتلوا. وعن أبي إِسْحَاقَ: أَنَّ المختلس يكون فَيْئًا؛ لأَنَّه حَصَلَ بغير إِيجَافِ خَيْلٍ وَرِكَابٍ. ثم الوَجْهُ الذاهب إلى اخْتِصَاصِ المختلس والسَّارِقِ بما يَأْخُذُهُ، ليكن مَوْضِعُهُ ما إذا دخل الوَاحِدُ أو النَّفَرُ اليَسِيرُ دَارَ الحَرْب وأخذوا، فَأمَّا إذا أخذ بَعْضُ الجند الداخلين بِسَرِقَةٍ أو اخْتِلاَسِ، فيشبه أَنْ يكون غُلُوَلاً يُبَيِّنَهُ أَنَّ القاضي الرُّوَيانِيَّ نقل أنَّ ما يَهْدِيهِ الكَافِرُ إلى الإِمام، أو إلى واحدٍ من المسلمين، والحَرْبُ قَائِمٌ لا يَنْفَرِدُ به المَهْدِيُّ إليه بِكُلِّ حالٍ، بخلاف ما إذا أهدى من دار الحَرْبِ إلى دار الإِسلام. وعن أبي حنيفة: أَنَّهُ يَنْفَرِدُ بما يَهْدِيهِ المهدي إليه بِكُلِّ حَالٍ، وإذا لم تَخْتَصَّ الهَدِيَّةُ بالمَهْدِيِّ إِلَيْهِ، فأولى أَلاَّ يَخْتَصَّ السَّارِقُ بالمَسْرُوقِ. الثانيةُ: المَالُ الضَّائِعُ الذي يُؤْخَذُ على هَيْئَةِ اللُّقَطَةِ إن كان مما يُعْلَمُ أَنَّهُ للكُفَّارِ، فَجَوَابُ الإِمَام، وصاحب الكتاب أَنَّهُ لمن وَجَدَهُ؛ بناء على أنَّ الْمُخْتَلَسَ والمَسْرُوقَ لمن أَخَذَهُ، وهذا لأنَّهُ ليس مَأْخُوذًا بِقُوَّةٍ الجُنْدِ، أو قُوَّةِ الإِسْلاَمِ، حتى يكون فَيْئًا، ولا بقتالٍ حتى يكون غَنيمَةً.
وجواب عَامَّةِ الأَصْحَاب أَنَّهُ يكون غَنِيمَةً لا يَخْتَصُّ به الآخِذُ، وعلى هذا يَنْطَبِقُ نَصُّهُ في "المختصر" على ما سنَحْكِيهِ في المسألة الثالثة، وإن أمكن أن يكون لِلْمُسْلِمِينَ، بأن كان هناك مسلمون، أو أَمْكَنَ أن تكون هُنَاكَ ضالة بعض الجند، فَلاَ بُدَّ من التَّعْرِيفِ، ثُمَّ بعد التَّعْرِيفِ يعود الطَّرِيقَانِ في أَنَّهُ يكون لِلآخِذِ، أو يكون غَنِيمَةً، وكيف يعرفُ؟ عن الشيخ أبي حَامِدٍ أَنَّهُ يُعَرَّفُ يَوْمًا أو يومين؛ ويقرب منه ما ذكره الإِمَامُ أَنَّهُ يكفي بُلُوغُ التَّعْريِفِ إلى الأَجْنَادِ إذا لم يكن هناك مُسْلمٌ سواهم، ولا ينظرُ إلى احْتِمَالِ طُرُوقِ التُّجَّارِ. وفي "المهذَّب" و"التهذيب" أنَّهُ يُعَرَّفُ سَنَةً على ما هو قَاعِدَةُ التَّعْرِيفِ، ولفظُ "التَّهْذيب" أَنَّهُ لو وَجَدَ ضَالَّةً في دَارِ الحَرْبِ لِحربي فهو غَنيمَةٌ، فالخُمُسُ لأهله، والبَاقِي له ولمن مَعَهُ، ولو وَجَدْنَا ضَالَّةَ لحربي في دَارٍ الإِسلام لا يَخْتَصُّ هو به، بل يكون فَيْئًا، وكذلك لو دَخَلَ صَبِيٌّ أو امْرَأَةٌ بلاَدَنَا، فَأخَذَهُ رَجُلٌ يكون فَيْئًا، وإن دَخَلَ منهم رَجُلٌ فَأخَذَه مسلمٌ يكون غَنِيمَةً؛ لأنَّ لآخِذِهِ مُؤْنَة، وللإمام أن يَرَى فيه رَأْيَهُ، فإن رأى أن يَسْتَرِقَّهُ يكون الخُمُسُ لأهله، والباقي لمن أَخَذَهُ بِخِلاَفِ الضَّالَّةِ؛ لأَنَّهَا مَالٌ للْكُفَّارِ حَصَلَ في أيدينا من غير قِتَالٍ. الثالثة: المُبَاحَات التي لم يملكها أَحَدٌ من الحَطَب والحَشِيشِ والحَجَرِ والصَّيْدِ البَحْرِيِّ والبَرِيِّ لآخذها، كما أَنَّها في دَارِ الإسْلاَمِ لآخذها, ولم يَجْرِ عليها مِلْكُ كَافرٍ، حتى يجعل غَنِيمَةً أَوْ فَيْئًا. قال الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- في "المختصر": إِلاَّ أن يكون مَصْنُوعًا أو صَيداً مُقَرّطاً أو مَوْسُومًا، فلا يكون لمن أَخَذَهُ، يعني إِلاَّ أن يكون حَجَرًا مَصْنُوعًا بِنَقْرٍ أو نَقشٍ، أو حَجَرًا مَنْحُوتًا. والصيد المُقَرَّطُ: الذي يُجْعَلُ القُرْطُ في أُذُنِهِ، ويروى مقرطقًا، وهو الَّذِي جُزَّ صُوفُهُ، وجُعِلَ على هَيْئَةِ القَرْطَقِ. وقيل: هو الذي يُجْعَلُ له القَرْطَق كَالبَازِيِّ يُحَاطُ له. فهذه الأحوال أَمَارَاتُ اليَدِ والمِلْكِ والدَّارِ للكافرين، والظاهِرُ أنَّها كانت لهم فَتَكُونُ غَنِيمَةً، وإن أمكن كَوْنُهَا للمسلمين، فهي كَسَائِرِ الأموال الضَّوَالِّ، ولاَ بُدَّ من التَّعْرِيفِ كما سَبَقَ. وعن أبي حَنِيْفَةَ وأَحْمَدَ -رحمهما الله- أَنَّ المُبَاحَاتِ التي تُوجَدُ في دَارِ الحَرْب تُخَمَّسُ أَيْضاً إذا كان لآخذيها قُوَّةٌ وامْتِنَاعٌ. قال الغَزَالِيُّ: وَلِلْغَنِيمَةِ أَحْكَامٌ: (الأَوَّلُ) أنَّهُ يَجُوزُ التَّبَسُّطُ فِي أَطْعِمَتِهَا قَبْلَ القِسْمَةِ مَا دَامُوا فِي دَارِ الحَرْبِ لِأَجْلِ الحَاجَةِ* وَيَجْرِي ذَلِكَ فِي القُوتِ وَاللَّحْمِ وَالتّبْنِ وَالشَّعِيرِ* وَلاَ يَجْرِي فِي الفَانِيذِ وَالسُّكَّرِ وَأَمْثَالِهِ* وَفِي الفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ وَجْهَانِ* وَيَجْوزُ فِي الشَّحْمِ الأكْلُ* وَلتَوْقِيحِ الدَّوَابِّ وَجْهَانِ* وَلاَ يَجُوزُ فِي الحَيَوَانَاتِ إلاَّ الغَنَمَ فَإِنَّهُ طَعَامٌ
فَيُذْبَحُ وَيُؤْكَلُ وَيُرَدُّ جِلْدُهُ إِلَى المَغْنَمِ* وَلاَ يَجِبُ قِيمَةُ اللَّحْمِ وَإِنْ أَمْكَنَ سَوْقُ الغَنَمِ عَلَى أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ* وَيُبَاحُ الأخْذُ لِمَنْ مَعَهُ طَعَامٌ وَمَنْ لَيْسَ مَعَهُ وَلَكِنْ قَدْرَ الحَاجَةِ* فلوْ أَضَافَ بِهِ مَنْ لَيْسَ مِنَ الغَانِمِينَ فَهُوَ كَتَقْدِيم المَغْصُوبِ إِلَى الضَّيْفِ* وَلَوْ فَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ الدُّخُولِ إِلَى دَارِ الإِسْلاَمِ فَمَا لَهُ قِيمَةٌ رُدَّ عَلَى المَغْنَمِ* وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً فَوَجْهَانِ* وَلَوْ لَحِقَ مَدَدٌ بَعْدَ الاِغْتِنَامِ فَفِي جَوَازِ التَّبَسُّطِ لَهُمْ وَجْهَانِ* وَلَوْ لَمْ يَجِدُوا سُوقًا فِي أَطْرَافِ بِلاَدِ الاغْتِنَامِ أَوْ وَجَدُوهُ فِي دَارِ الحَرْبِ فَفِي جَوَازِ الأَخْذِ وَجْهَانِ* وَاِذْا أَخَذَ ثُمَّ أَقْرَضَ غانِمًا آخَرَ فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمثْلِهِ مِنَ المَغْنَم مَا دَامُوا فِي الحَرْبِ وَلاَ يُطَالِبُهُ مِنْ خَاصِّ مِلْكِهِ* وَقِيلَ: إنَّهُ لاَ يُطَالِبُهُ وَكَأَنَّ المُسْتَقْرِضَ أخَذَهُ. قال الرَّافِعِيُّ: من أحكام الغَنِيمَةِ أَنَّهُ يجوز التَّبَسُّطُ بِتَنَاولِ أَطْعِمَتِهَا قبل القِسْمَةِ، وتُعْلَفُ الدَّوَابُّ من غير عِوَضٍ؛ لما روي عن ابن عُمَرَ -رضي الله عنه- أنّ جَيْشًا غنموا طَعَامًا وعَسَلاً على عَهْدِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يؤخذ منهم الخُمُسُ، يعني مما تَنَاوَلوه (¬1). وعن ابن عُمَرَ -رضي الله عنه- قال: "كُنَّا نُصِيبُ في مَغَازِيِنَا العَسَلَ والعِنَبَ فنأكله" ولا ندفعه (¬2). وعن عَبْدِ الله بن أَبي أوْفَى -رضي الله عنه- أنَّهُ قال: أَصَبْنَا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بـ"خيبر": طَعَامًا، وكان كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَأْخُذُ منه قَدْرَ كِفَايَتِهِ (¬3). والمعنى فيه الحَاجَةُ الدَّاعِيَةُ إليه، فَإِنَّ الطَّعَامَ يَعِزُّ في دَارِ الحَرْبِ، فإِنَّهم لا يبيعون منهم ويخبئون ويُحْرِزُونَ أَطْعِمَتَهُمْ، فجعلها الشَّارعُ على الإِبَاحَةِ. وأيضاً: فقد يفسر إلى أن ينقل، وقد يَتَعَذَّرُ نَقْلُهَا، أو تَزْدَادُ مُؤْنَةُ نقلها عليها، وَيتَعَلَّقُ بهذه القَاعِدَةِ فُصُولٌ. إحداها في جنس المَأْخُوذِ والمنفعة المُجَوِّزَة للأخذ والجنس وهو القُوتُ وما يصلح له القُوتُ واللَّحْمُ والشَّحْمُ، وكُلُّ طعامٍ يُعْتَادُ أكْلُهُ على العُمُوم، ولعَلَفِ الدواب التِّبْنُ والشَّعِيرُ وما في مَعْنَاهُمَا. وحكى الإِمام وَجْهَيْن فيما يُؤْكَلُ غالباً، لكنَّه ليس من الأَقْوَاتِ كالفَوَاكِهِ، وَجْهُ المَنْعِ أَنَّهُ لا يَتَعَلَّقُ بها حَاجَةٌ حَاثَّةٌ، ووجه الجَوَازِ ما رَوَيْنَا من العِنَبِ والعَسَلِ (¬4). ¬
وعن ابن أَبِي أَوْفَى -رضي الله عنه- قال: كُنَّا نَأْخُذُ من طَعَامِ المَغْنَمِ ما نَشَاءُ (¬1) .. أطلق الكَلاَمَ إِطْلاَقًا، وقد يحتاج إلى إِقَامَةِ غير القُوتِ مَقَامَهُ عند شِدَّةِ الحَاجَةِ. قال الإِمَامُ: ويمكن أن تَفْصِلَ بين ما يَتَسَارَعُ إليه الفَسَادُ، ويَشُقُّ نَقْلُهُ، وبين غيره، وكان صَاحِب الكِتَاب أَشَارَ بقوله: "وفي الفواكه الرَّطْبَةِ" إلى هذا المعنى، وتَخْصِيصُ الخِلاَفِ بالرَّطْبَةِ مَيْلٌ إلى الجَزْم بالمَنْعِ في غيرها، والجمهور جَوَّزُوا التبسُّط في الكُلِّ، ولم يذكروا خِلاَفًا. والفَانِيذُ والسُّكَّرُ والأدْوَيةُ التي تَنْدُرُ الحَاجَةُ إليها لا تُلْحَقُ بالأَطْعِمَةِ المُعْتَادَةِ لِنُدُورِ الحَاجَةِ إليها، فإن احْتَاجَ إليها مَرِيضٌ منهم أخذ ما يحتاج إليه بالقِيمَةِ، وينبغي أن يُقَالَ: يراجع أَمِيرُ الجُيُوشِ فيه. هذا هو المَشْهُورُ. وعن "الحاوي" وَجْهَانِ آخران: أحدهما: الإبَاحَةُ؛ لأَنَّ تَنَاوُلَهَا عند الحَاجَةِ أَهَمُّ وأَوْلَى بالتَّرْخِيصِ. والثاني: أَنَّ ما لا يُؤْكَلُ إلاَّ تَدَاوِياً يُحْسَبُ عليه، وما يُؤْكَلُ لِلتَّدَاوِي وغيره لاَ يُحْسَبُ، والمَنْفَعَةُ المُعْتَبَرَةُ في البَاب هي مَنْفَعَةُ الأَكْلِ والشُّرْبِ وَالعَلَفِ. وفي جواز أَخْذِ الشُّحُوم والأَدْهَانِ لتوقيح الدَّواب، وهو مَسْحُهَا بالمذاب وهوَ المغلي منها, ولجربها وجهان نقلهما الإمَامُ وَصَاحِبُ الكتاب. أحدهما: الجَوَازُ كَعَلَفِهَا. وأصحهما: وهو في سِيَرِ الوَاقِدِيِّ المَنْعُ كما في التَّدَاوِي بالأَدْوِيَة، وعلى الوجه الأول ينبغي أن يَجُوزَ الادِّهَانُ بها, ولا يجوز إِطْعَامُ البُزَاةِ والصُّقُورِ من الغَنِيمَةِ، بخلاف الدَّوَابِّ المُحْتَاجِ إليها للرُّكُوب والحمل، ولا يجوز أَخْذُ سائر الأَمْوَالِ، ولا الانتفاع بها كَلبْسِ الثياب، ورُكُوبِ الدَّوَابِّ، فلو خالف لَزِمَتْهُ الأُجْرَةُ، كما يُلْزَمُ الضَّمَانَ إذا أتْلَفَ بَعْضَ الأعيان ويروى عن رُوَيْفِع بْنِ ثابِتٍ الأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّ النَبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ. حَتَّى إِذَا أَعجفها رَدَّهَا إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ، فَلاَ يَلْبَس ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ" (¬2). ¬
الفصل الثاني في الأخذ، وقدر المأخوذ.
وإن وَقَعَتْ حَاجَةٌ لِبَردٍ وغيره. قال القاضي الرُّويَانِيُّ: يستأذن الإِمام ويحسب عليه، ويجوز أن يَأْذَنَ في لُبْسِهِ بالأُجْرَةِ مُدَّةَ الحَاجَةِ، ثُمَّ يَرُدُّهُ إلى المَغْنَم [ولا يجوز اسْتِعْمَالُ أَسْلِحَتِهِمْ أَيضاً، إلا أن يُضْطَرَّ إليها في القِتَالِ، فإذا انْقَضَى الحَرْبُ رَدَّهُ إلى المَغْنَمِ] (¬1). وعند أبي حَنِيْفَةَ: يجوز اسْتِعْمَالُ أَسْلِحَتِهِمْ، ويجوز ذَبْحُ الحَيَوَانَاتِ المَأْكُولَةِ لُحُومُهَا، كما يجوز تَنَاوُلُ الأَطْعِمَةِ. وفي "البيان" حِكَايَةُ وَجْهٍ آخر؛ لأنَّ الحَاجَةَ إليه تَنْدُرُ والاعْتِمَادُ على الأوَّلِ ثُمَّ الذي يُوجَدُ لمعظم الأَصْحَابِ صَرِيحًا ودِلالَةً، التَّسْوِيَةُ بين الغَنَمِ وسائر الحَيَوَانَاتِ المأكولة، وهو الوجه. وقال الإمَامُ: ما يُمْكِنُ أنْ يُسَاقَ يُسَاقُ، والغَنَمُ تُذْبَحُ؛ لأَنَّ الأَغْنَامَ كالأَطْعِمَةِ، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم- حين سُئِلَ عن ضَالَّتِهَا: "هِيَ لَكَ، أَوْ لَأَخِيْكَ أَوْ لِلْذِّئْبِ" (¬2) وَأَشَار إلى أَنَّ جَوَازَ الذَّبْح يَخْتَصُّ بالغَنَم، وهذا قَضِيَّةُ قوله في الكتاب: "ولا يجوز في الحَيَوَانَاتِ إِلاَّ في الغَنَم، فَإِنَّهُ طَعَامٌ" ثُمَّ ما يُذْبَحُ منها يجب رَدُّ جِلدِهِ إلى المَغْنَمِ، إِلاَّ ما يُؤْكَلُ منها مع اللَّحْمِ، ولا يجوز لِلذَّابح أَن يَتَّخِذَ من الجِلْدِ سِقَاءً، أو حِذَاءً أو شِرَاكاً، ويستعمله، ولو فعل رَدَّ المَصْنُوع كذلك ولا شَيْءَ له، وإن زَادَتْ قِيمَتُهُ بالصّنعَةِ، وإن نقص فعليه الأَرْشُ، وإن استعمله مُدَّةً، فعليه الأجْرَةُ. وفي وجوب قِيمَةِ اللَّحْمِ إذا ذُبحَ الحَيَوَانُ المُجَوَّزُ ذَبْحُهُ وجهان: في وجه: يجب لِنُدُورِ الحَاجَةِ إلى الذَّبْحِ، والأَصَحُّ المَنْع كما في الأَطْعِمَةِ، ودعوى النُّذُورِ مَمْنُوعَةٌ. وقوله في الكتاب: "ولا يجب قِيمَةُ اللَّحْمِ، وإن أمكن سَوْقُ الغَنَم على أظهر الوجهين" أراد به هَذَيْنِ الوجهين، لكنَّهُ لَمَّا خَصَّصَ جَوَازَ الذَّبْحِ بالغَنَمِ أعادَ هاهنا ذِكْرَ الغَنَم، وقد يشير قوله: "وإن أمكن سَوقُ الغنم" إلى تَخْصِيصِ الوَجْهَيْنِ بما إذا أمكن السَّوْقُ، وإلى القَطْعِ بَأنَّهُ لا تجب القِيمَةُ إذا لم يمكن السَّوْقُ، ولا يبعد عن قول من يَمْنَعُ من ذِبْحِ ما سوى الغَنَمِ أن يمنع من ذَبْحِ الغَنَمِ التي يمكن سَوْقُهَا. الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الأَخْذِ، وَقَدْرِ المَأْخُوذِ. ويجوز أَخْذُ العَلَفِ والطَّعَامِ لمن يَحْتَاجُ إليه، وإن كان معه ما يُغْنِيهِ عنها، فوجهان. ¬
عن ابن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لا يَجُوز لاسْتِغْنَائِهِ عن أخذ حَقِّ الغَيْرِ. والأَصحُّ: وهو المذكور في الكتابِ -أَنَّهُ يَجُوزُ لإطْلاَقِ الأَخْبَارِ والآثَارِ الوَارِدَةِ في الباب، وكل من أخذ يَأْخُذُ بقدر كفَايَتِهِ، ويحتمل تَفَاوُتُ الرَّغْبَة والزهادة، كما يحتمل تَفَاوُتُ المشاهدين في السَّفَرِ لِلْحَاجَةِ. قال في "التَّهْذِيبِ": ولهم التَّزَوُّدُ بِقَطْع المَسَافَةِ بين أيديهم، ولو أَكَلَ واحِدٌ فوق الحَاجَةِ، فقد حكى القَاضي الرُّوَيانِيُّ عن النصِّ أَنَّهُ يُؤَدّي ثمنه إلى المَغْنَمِ، وإذا كانت معه دَابَّتانِ فَصَاعداً، فله أن يَأْخُذَ العَلَفَ لهما. وفيه وجه: أَنَّهُ لا يَأْخُذُ إِلاَّ لواحدةٍ كما لا يهم إِلاَّ لِفَرَسٍ واحد، ولو أخذ بَعْضُ الغَانِمِينَ فَوْقَ الحاجةِ، وأضاف به غَانِمًا آخر، أو غانمين، فلا بَأْسَ به، وليس فيه إِلاَّ أَنَّهُ تَوَلَّى الطَّبْخَ والإِصْلاَحَ للطعام الذي يحتاج إليهما وتحمّل التعب، وليس له أن يُضِيفَ به غير الغَانِمِينَ، فإن فعل فعلى الآكل الضَّمَانُ، والمُضِيفُ كَمَنْ يُقَدِّمُ الطَّعَامَ المَغْصُوبَ إلى الضَّيْفِ فيأكله، فينظرُ أهو عَالِمٌ بالحَالِ أَوْ جَاهِلٌ. والحُكْمُ على ما ذكرنا في "الغَصْبِ". ولو أَتْلَفَ بَعْضُ الغانمين من طَعَامِ الغَنِيمَةِ شَيْئًا كان كما لو أَتْلَفَ مَالاً آخر فَيُرَدُّ الضَّمَانُ إلى المَغْنَمِ؛ لأَنَّهُ لم يستعمله في الوجه المسوغ شَرْعًا، وما يأخذه لا يملكه بالأَخْذِ، ولكن أُبِيحَ له الأَكْلُ والأَخْذُ كالضَّيْفِ، ذكره الإِمَامُ وغيره. ولو لَحِقَ الجُنْد مُدَدٌ بعد انْقِضَاءِ القِتَالِ وحِيَازَةِ الغَنِيمَةِ هل لهم التَّبَسُّطُ في أَطْعِمَتِهَا، أطلق الإِمَامُ، وصاحِبُ الكتاب فيه وجهين: وَجْهُ الجواز: الحاجةُ لِحُضُورِهِ في دار الحرب التي هي مَظَنَّةُ عزةِ الطَّعَامِ. وأصحهما: المنع؛ لأنَّهُ معهم كَغَيْرِ الضيف مع الضيف. ولم يُورِدْ "صاحِبُ التهذيب" سوى وجه المنع، وهو مُوَافقٌ لما ذكرنا في "قِسْمَةِ الغَنَائِم" أَنَّ مَنْ لَحِقَ الجُنْدَ في دَارِ الحَرْب بعد حِيَازَةِ الغَنِيمَةِ لا يشاركهم في الغَنِيمَةِ، وإن لَحِقَ قَبلَ الحِيَازَةِ، فَأصَحُّ الوجهين أَنَّ الجَوَابَ كذلك. ومن دَخَلَ من الغانمين دَارَ الإسْلاَمِ وقد فضل مما أَخَذَهُ شيء، ففي وُجُوبِ رَدِّ الفَاضِلِ إلى المَغْنَمِ طريقان: أحدهما: أَنَّ فيه قولين: أصحهما: وهو الذي نَقَلَهُ المُزَنِيُّ أنَّهُ يَجِبُ لِزَوَالِ الحَاجَةِ وكون المَأْخُوذ مُتَعَلَّقَ حَقِّ الجميع.
الفصل الثالث
والثاني: لا يجب؛ لأنَّهُ أَخَذَهُ وهو مُحْتَاجٌ إليه، فَأشْبَهَ الصَّيْدَ والحَطَبَ. والثاني: وبه قال الشيخ أبو مُحَمَّدٍ: أَنَّ الكَبِيرَ الذي له قِيمَةٌ مَرْدُودٌ لا مَحَالَة، والخِلاَف في القليلِ الذي لا يُبَالَى به كَكِسَرِ الخُبْزِ، وبَقِيَّةِ التِّبْن في المَخَالِي، وَرَجَّحَ مُعْظَمُ الأَصْحَاب الطَّرِيقَ الأَوَّلَ، والذي أَوْرَدَهُ في الكتاب الثاني، وجعل الخِلاَفَ وجهين. والمشهور القولان، ويْحْصُلُ من الطَّرِيقَيْنِ عند الاخْتِصَارِ ثلاثة أقوالٍ. ثالثها: الفَرْقُ، ويُحْكَى الفَرْقُ عن مَالِكٍ، وأحمد، وعن أبي حنيفة أنَّهُ إن كان ذلك قبل القِسْمَةِ رَدَّهُ إلى المَغْنَمِ، وإن كان بعدما بَاعَهُ، وتَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ، وإذا أَوْجَبْنَا رَدَّ الفَاضِلِ، فإن لم تُقَسَّمِ الغنيمة بعد رده إلى المغنم، وإن قُسِّمَت رَدَّهُ إلى الإِمام، ثُمَّ إن أمكن تَفْرِيقُهُ كما فُرّقَتِ الغَنِيمَةُ، فذاك وإلاَّ ليعرف الغانمين نزَارَةَ ذلك المِقْدَارِ. وعن الصيدلاني: أَنَّهُ يُجْعَلُ في سَهْمِ المَصَالِحِ. الفَصْلُ الثَّالِثُ في مكان التبسُّطِ وهو دَارُ الحَرْب التي يَعِزُّ فيها الأَطْعِمَةُ على المُسْلِمِينَ، فإذا انتَهَوْا إلى عُمْرَانِ دَارِ الإِسْلاَمِ، وتَمَكَّنُوا من الشِّرَاءِ أَمْسَكُوا, ولو خرجوا عن دَارِ الحَرْبِ، ولم ينتهوا إلى عُمْرَانِ دَارِ الإسْلاَمِ، فوجهان: أشبههما -وبه أجاب الرّوَيانِيُّ: جواز التَّبَسُّطِ؛ لبقاء الحاجة الدَّاعِيَةِ إليه، فإنهم لا يَجِدُونَ من يَشْتَرُونَ منه ولا يُصَادِفُونَ (¬1) سُوقًا. والثاني: المَنْعُ؛ لأن مَظِنَّةَ الحَاجَةِ دَارُ الحرب، فَيُنَاطُ الحُكمُ به، وعلى العَكْسِ لو وَجَدُوا سُوقًا في دَارِ الحَرْبِ، وتَمَكَّنُوا من الشِّرَاء فقد ذكر صَاحِبُ الكتاب في جَوَازِ التَّبَسُّطِ وَجْهَيْنِ لانْعِكَاسِ التوجيهين. ورأى الإمَامُ القَطْعَ بالجَوَازِ والحالة هذه، وقال: لم أَرَ أحداً يمنع التَّبَسُّطَ بهذا السَّبَبِ، ونَزَّلُوَا دَارَ الحرب في أَمْرِ الطعام منزلة السَّفَرِ في الرُّخَصِ، فإن الرُّخَصَ وإن أثبتت كمشاق السفر، فالمترفَّه الذي لا كُلْفَةَ عليه يُشَارِكُ فيها المشقوق عيله، وذكر أنه لو كان لِجَمَاعَةٍ من الكُفَّارِ معنا مُهَادَنَةٌ، وكانوا لا يَمْتَنِعُونَ مِنَ المُبَايَعَةِ وَالمُشَارَاةِ مع الذين يَطْوُقُونَهُمْ من المسلمين، فالأظهر وُجُوبُ الكَفِّ عن أَطْعِمَةِ المَغْنَم، وإن لم تكن دِيَارُ المُهَادِنِينَ معزية (¬2) إلى دَارِ الإسْلاَمِ والبلاد التي يَقْطُنُهَا أهل الذِّمَّةِ أو العَهْدِ، وهي في قَبْضَةِ المسلمين بِمَثَابَةِ دَارِ الإِسْلاَمِ فيما نحن فيه للمتمكِّنِ من الشراء منهم. ¬
ونَخْتِمُ هذه الفُصُولَ بفروع: منها: وهو المذكور في الكتاب: ليس للغانم أن يُقْرِضَ ما أَخَذَهُ من الطَّعَامِ أو العَلَفِ من غير الغَانِمِينَ، أو يَبِيعَهُ، وإن فعل، فعلى مَنْ أَخَذَهُ رَدُّهُ إلى المَغْنَمِ، وإن أَقْرَضَهُ غَانِمًا آخر، ففيه وجهان: أحدهما: أن للمقرض مُطَالَبَةَ المُسْتَقْرِضِ بِعَيْنِهِ، أو بِمِثْلِهِ ما داما في دَارِ الحَرْبِ؛ لأنه إذا أَخَذَ صار أَحَقّ به، ولم تَزُلْ يَدُهُ عنه إلا بِبَدَلٍ. والثاني: وهو الذي ذكره الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ: أنه لا مُطَالَبَة، ولا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ؛ لأن المُسْتَقْرِضَ من أهل الاسْتِحْقَاقِ. وأيضاً فإذا حَصَلَ في يَدِهِ، فكأنه أَخَذَهُ بنفسه. والوجه الثاني أَصَحُّ عند الإِمام، ونَظْمُ الكتاب يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الأول، وبه قال أكثرهم، وحَكَوهُ عن نَصِّهِ في سِيَرِ الوَاقِدِيِّ. والوجهان مُتَّفِقَانِ على أنه لَيْسَ ذلك قَرْضًا مُحَقّقاً؛ لأن الآخِذَ لا يَمْلِكُ ما يَأْخُذُهُ حتى [يملكه] (¬1) لغيره، ولذلك قال صَاحِبُ الوَجْهِ الأول: إِنه يُطَالِبُهُ بِرَدِّ مثله من المَغْنَمِ لا من خَاصِّ مِلْكِهِ. ولو رَدَّ عليه مَنْ خَالِصِ مِلْكِهِ لم يَأْخُذْهُ المقرض؛ لأن غَيْرَ المَمْلُوكِ لا يقابل المَمْلُوكَ، حتى لو لم يكن في المَغْنَمِ طَعَامٌ آخر تَسْقُطُ المطَالَبَةُ، وإذا ردّ من المَغْنَمِ صار الأَوَّلُ أَحَقَّ به؛ لحصوله في يَدِهِ. وعلى الوجه الأَوَّلِ إذا دَخَلُوا دَارَ الإسْلاَم انْقَطَعَتْ حُقُوقُ الغانمين عن أطْعِمَةِ المَغْنَمِ، فيرد المُسْتَقْرِض على الإِمام. وإذا دخلوَا دَارَ الإسْلاَمِ، وقد بقي عين المُسْتَقْرَضِ في يد المُسْتَقْرِضِ، بُنِيَ ذلك على أن البَاقِي من طَعَامِ المَغْنَمِ هل يجب رَدُّهُ إلى المَغنَمِ؟ إن قلنا: نعم. رَدهُ إلى المَغنَمِ. وإن قلنا: لا. فإن جَعَلنَا لِلْقَرْضِ اعْتِبارًا، فيرده إلى المُقْرِضِ. وإن قلنا: لا اعتبار له، فلا يَلْزَمُهُ شيء. هذا ما يُوَافِقُ اخْتِيَارَ الشيخ أبي حَامِدٍ، لكن المَحْكِيَّ عنه هاهنا أنه يَرُدُّهُ إلى المُقْرِضِ. ومنها: أنه لو بَاعَ الغَانِمُ ما أَخَذَهُ من غَانِمٍ آخر، فهذا إِبْدَالُ مُبَاحٍ بِمُبَاحٍ، وهو كإبدال الضَّيفَانِ لُقْمَةً بلُقْمَةٍ، وكل واحد منهما أَوْلى بما تَنَاوَلَه من يَدِ الآخر، ولو تَبَايَعَا صَاعًا بِصَاعَيْنِ لم يكنَ ذلك رِبًا؛ لأنه ليس بِمُعَاوَضَةٍ محققة (¬2)، بل هو كما لو كان في ¬
يد عَبْدِهِ طَعَامٌ فَتَبَايَعَا صَاعًا بِصَاعَيْنِ. قال الإِمام: ومن جَعَلَ لِلْقَرْضِ اعْتِبَارًا يَلْزَمُهُ أن يجعل للبيع اعْتِبَارًا حتى يجب على الآخِذِ تَسْلِيمُ صَاعٍ إلى بَائِعِهِ. وإن تَبَايَعَا صَاعًا بِصَاعَيْنِ، فإن سلم بَائِعُ الصَّاعِ الصَّاعَ لم يملك إلاَّ طَلَبَ صَاعٍ بسببها بالقَرْضِ، وإن سلم للآخر الصَّاعَيْنِ لم يطلب إلا صَاعًا، ويحمل الزَّائِدُ على البَذلِ والإيثار. ومنها قَضِيَّةُ ما يكون المَأْخُوذُ مُبَاحاً للغانم غَيْرَ مملوك أنه لا يجوز له ألا يَأْكلَ طَعَامَهُ، ويصرف المَأْخُوذَ إلى حَاجَةٍ أخرى بَدَلاً من طَعَامِهِ، بخلاف مثله في الزكاة، كما لا يتصرف [الضيف] فيما قدم إليه بالأَكْلِ. ومنها: قال الإمَامُ: إذا قَلَّ الطَّعَام واسْتَشْعَرَ قَائد الجُنْدِ الازْدِحَامَ والتَّنَازُعَ عليه، جعله تحت يده وَقَسَّمَهُ على المُحْتَاجِينَ على مِقْدَارِ الحَاجَاتِ، وله أن يمنع من مُزَاحَمَةِ أصحاب الحَاجَاتِ من معه ما يكفيه. قال الغَزَالِيُّ: (وَالحُكْمُ الثَّانِي لِلغِنِيمَةِ) أنَّهُ يَسْقُطُ بِالإِعْرَاضِ قَبْلَ القِسْمَةِ وَلاَ يَسْقُطُ بَعْدَهَا* وَهَلْ يَسْقُطُ بَعْدَ إِقْرَار الخُمُسِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ* وَالظَّاهِرُ أنَّهُ يَسْقُطُ* وَقَوْلُهُ: اخْتَرْتُ الغَنِيمَةَ هَلْ يَمْنَعهُ عَنِ الإعْرَاضِ بَعدَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ* وَلَوْ أَعْرَضَ جَمْعُ الغَانِمِينَ لَمْ يَصِحَّ عَلَى وَجْهٍ* وَيَنْصَرِفُ إِلَى مَصْرَفِ الخُمُسِ عَلَى وَجْهٍ* وَإعْرَاضُ ذَوِي القُرْبَى بِأجْمَعِهِمْ عَنْ سَهْمِهِمْ لاَ يَصِحُّ علَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ* وَيَصِحُّ إِعْرَاضُ المُفْلِسِ وَإنْ أَحَاطَتْ بِهِ الدُّيُون* وَلاَ يَصِحُّ إِعْرَاضُ السَّفِيهِ* وَلاَ يَصِحُّ إِعْرَاضُ الصَّبِيِّ إلاَّ إِذَا بَلَغَ قَبْلَ القِسْمَةِ* وَلاَ يَصِحُّ إِعْرَاض العَبْدِ عَنِ الرَّضْخِ* وَيصِحُّ إِعْرَاضُ سَيِّدِهِ* وَفِي صِحَّةِ الإعْرَاضِ عَنِ السَّلَبِ وَالسَّالِبُ مُتَعَيَّنٌ وَجْهَانِ. قال الرَّافِعِيُّ: ومن أَحْكَام الغَنِيمَةِ أنه يَسْقُطُ حَقُّ الغَانِم بالإعْرَاض عن الغَنِيمَةِ، وتركها قبل القِسْمَةِ، ووجه بأنَ المَقْصُودَ الأَعْظَمَ في الجِهَادِ إعْلاَءُ الدِّينِ والذَّبِّ عن المِلّةِ، والغَنَائِمُ تابعة فمن أَعْرَضَ عنها فَقَدْ أَخْلَصَ بَعْضَ الإِخْلاَصِ وجرد قَصْدَهُ لِلْمَقْصَدِ الأَعْظَمِ، وأن الغنيمة لا يملكها الغانم قبل القِسْمَةِ، وإنما يملك أن يَتَمَلَّكَ، فَالحَقُّ فيه كَحق الشُّفْعَةِ، وفي هذا خِلاَفٌ سَيَأْتِي إن شاء الله تعالى على الأَثَرِ، وقد تركت التوْجِيهَ فيهما فيقال: إن لم يملك، فهو كَحَقِّ الشفْعَةِ، وإن ملك فما يَنْبَغِي أن يكون مُسْتَقِرًا، ليتمكن من تمحيض الجِهَادِ لِغَرَضِهِ الأعظم. ولو قال أحدهم: وَهَبْتُ نَصِيبي من الغانمين، ففيه وجهان عن أبي إِسْحَاقَ: أنه يَصِحُّ، ويكون إِسْقَاطُهُ لِحَقِّهِ الثَّابِتِ له. عن ابن أبي هُرَيْرَةَ أنه إن أراد الإسْقَاطَ فذاك، وإن أراد التَّمْلِيكَ لم يصح؛ لأنه مَجْهُولٌ، وهذا قوي. وفي "الشَّامل": أن الأَصَحَّ الأَوَّلُ، وأما بعد القِسْمَةِ فَيَسْتقِرُّ المِلْكُ ويسقط
بالاعْرَاضِ؛ كسائر الأَمْلاَك، ولو أفرز الخمس، ولم يقسم الأخماس الأربعة بَعْدُ، ففي صِحَّةِ الإِعْرَاضِ وَجْهَانِ -ويقال: قولان: الثاني فيهما مُخَرَّجٌ. أصحهما: أنه يصح؛ لأن [إِفْرَازَ] (¬1) الخُمُسِ لا يعين حقّ الوَاحِدِ بالواحد من الغانمين [حقه منهم] فيلزمهم في حُقُوقِهِم على ما كانوا من قبله. والثاني: ويُنْسَبُ إلى ابن سُرَيْج: أنه لا يَصِحُّ؛ لأن بِإفْرَازِ الخُمُسِ تَتَمَيَّزُ حُقُوقُهُمْ عن الجِهَاتِ المانعة (¬2)، ويَصِيرُ الثاني لهم كَسَائِرِ الأموال المشتركة. قال الإمَامُ: والذي أراه في تَنْزِيل القَوْلِ المُخَرَّج تَخْصِيصهُ بما إذا اسْتَقْسَمَ الغَانِمُونَ الإمَامَ، فإنه يُشْعِرُ باختيار التمَلُّكِ، وتَأْكِيدِ الحَقّ، دون ما اسْتَبَدَّ الإِمام بإفراز الخمس، فَإنهم لم يحدثوا ما يُشْعِرُ بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ، ومن قال: اخترت الغَنِيمَةَ، هل يمنعه ذلك من الإِعْرَاضِ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ فقد يتغير الرَّأيُ في الشَّيْءِ المَعْزُوم عليه، والاستقرار لا يحصل قبل القسمة. والثاني: نعم -كما أن مَنْ له الخِيَارُ في العُقُودِ إذا اخْتَارَ أحد الطرفين لا يعدل إلى الآخر، ولَعَلَّ هذا أشْبَهُ، ولو أعرض الغَانِمُونَ بأجمعهم، ففي صِحَّةِ إِعْرَاضِهِمْ وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنا لو صَحَّحْنَا لَصَرَفْنَا حُقُوقَهُمْ إلى مَصَارِفِ الخُمُسِ، وليس لتلك المَصَارِفِ إلا الخُمُسُ على ما قال الله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ...} [الأنفال: 41] الآية. وأَصَحُّهُمَا: وبه أجاب في "التهذيب" أنه يَصِحُّ ويصرف الأخماس الأربعة إلى مَصَارِفِ الخُمُسِ؛ لأن المَعْنَى المُصَحِّح لِلإعْرَاضِ يشمل الوَاحِدَ والجمع، وأما الخُمُسُ لما سوى ذَوِي القُرْبَى من مَصَارِفِهِ جهات عامة لا يفرض فيه إعْرَاضٌ، وفي صِحَّةِ إِعْرَاضِ ذَوِي القربى عن سَهْمِهِمْ وجهان: أحدهما: يَصِحَّ كما يَصِحُّ إِعْرَاضُ الغَانِمِينَ. وأظهرهما: على ما ذكره الإِمَامُ: المَنعُ، ووجه بأن سَهْمَهُمْ مِنْحَةٌ أثبتها الله -تعالى- لهم من [غير] (¬3) مُعَانَاةٍ وشهود وَقْعَةٍ، فليسوا كالغانمين الذين يحمل شهودهم ¬
على إعْلاَءِ كلمة الله -تعالى- والمُفْلِسُ الذي حَجَرَ عليه القَاضِي لإحَاطَةِ الدُّيْونِ به، يصح إِعْرَاضُهُ؛ لأن اخْتِيَارَ التَّمَلُّكِ بِمَثَابَةِ ابْتِدَاءِ الاكْتِسَابِ؛ وليس على المُفْلِسِ الاكْتِسَابُ. وأيضاً فالإعْرَاضٌ بِمحْضِ الجِهَادِ لِلدَّارِ الآخرة، والمُفْلِسْ فيه كغيره. قال الإِمام: ولو كان الغَانِمُ سفِيهاً مَحْجُورًا عليه، ففي صِحَّةِ إِعْرَاضِهِ تَرَدُّدٌ، ولَعَلَّ الظَّاهِرَ أن حَقَّهُ يلزم وليس له إِسْقَاطُ المِلْكِ، أو إِسْقَاطُ حَقِّ المِلْكِ، فلو صار رَشِيدًا قبل القِسْمَةِ، وانْفَكَّ الحَجْرُ عنه، صَحَّ إعْرَاضُهُ، ولا يَصِحُّ إِعْرَاضُ الصَّبِيِّ عن الرَّضْخ، ولا إعراض الولي عنه، فإن بَلَغَ قبل القَسْمَةِ، صَحَّ إِعْرَاضهُ، ولا يَصِحُّ إعراض العبد (¬1) عن الرضخ، ويصح إعراض سيده فإنه حقه وهل يَصِحُّ إِعْرَاضُ السَّالِبِ عن السَّلَبِ؟. فيه وجهان عن رِوَايَةِ الشَّيْخِ أبي محمد: أحدهما: نعم كَإِعرَاضِ سائر الغَانِمِينَ عن الغَنِيمَةِ. والثاني: لا؛ لأنه متعين عليه لتَعين الحِصَصِ بالقِسْمَةِ. وأيضاً فإنه لما كان مُتَعَينًا كان شَبِيهًا بالوَارِثِ، وإلى هذا التَّوْجِيهِ أشار بقوله في الكتاب "والسالب متعين" وشَبَّهَ الإِمام هذا الخِلاَفَ بالخلاف في إِعْرَاضِ جميع الغانمين عن الغنيمة فإن جُمْلَةَ المَغْنُومِ مُتَعَيِّنَةَ لهم، وقد يرجّح الثاني، وُيؤَيِّدهُ ظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَتَلَ قَتيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ" (¬2). قال الغَزَالِيُّ: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنِ الغَنِيمَةِ قُدِّرَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَقُسِّمَ عَلَى البَاقِينَ. قال الرَّافِعِيُّ: فيه ثَلاثُ مسائل: إحداها: الصحيح أن من أعرض عن الغنيمة يقدر، كأنه لم يحضر مع القَوْمِ، ويُقَسَّمُ المَالُ خُمُسًا وأَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ، وفيه وجه: أن نَصِيبَ المُعْرِض يضم إلى الخُمُسِ؛ لأن المَغَانِمَ في الأَصْلِ لله -تعالى- على ما قال تعالى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ} [الأنفال: 1] فمن أعرض رجعت حِصَّتُهُ إلى أصلها، فيجوز أن يُعَلَّمَ لهذا قوله: "على الباقين" بالواو، والمراد بالبَاقِي بَاقِي المُسْتحقّ، لا باقي الغانمين. قال الغَزَالِيُّ: وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الإعْرَاضِ قَامَ الوَارِث مَقَامَهُ* وَمِنْ هَذَا نَشَأ خِلاَفٌ فِي المُلْكِ فَفِي قَوْلٍ لاَ تُمْلَكُ الغَنِيمَةُ إلاَّ بِالْقِسْمَةِ* وَفِي قَوْلٍ: تُمْلَكُ بِالاسْتِيلاَءِ مِلْكًا ضَعِيفًا ¬
ويَسْقُطُ بِالإعْرَاضِ* وَفِي قَوْلٍ هُوَ مَوْقُوفٌ إِلَى القِسْمَةِ وَالإعْرَاضِ. قال الرافِعي: إذا مَاتَ وَاحِدٌ من الغانمين، ولم يعرض، انْتَقَلَ حَقُّهُ إلى الوَرَثَةِ؛ لأنه ثَبَثَ له مِلْكٌ، أو حَقُّ ملك، وَكُل موروث إن شَاءُوا أَعْرَضُوا، وإن شَاءُوا طلبوا. الثالثة: هل يملك الغَانِمُونَ الغَنِيمَةَ قبل القِسْمَةِ؟ فيه ثلاثة أوجه جمعها صاحب "التقريب": أظهرها: وبه قال ابْنُ سُرَيْجٍ: أنه لا مِلْكَ لهم قبل القِسْمَةِ، وإنما يملكون أن يملكوا بدليل صِحَّةِ الإِعْرَاض، كما شاءوا, ولو مَلَكُوا بالاسْتِيلاَءِ لما سَقَطَ مِلْكُهُمْ بالإِعْرَاضِ، كملك من احْتَشَّ أو احْتَطَبَ. وأيضاً فالإمام أن يَخُصُّ كُلَّ طَائِفةٍ بِنَوْعٍ من المال، ولو مَلَكُوا لم يَجُزْ إبْطَال حَقِّهِمْ عن بعض الأنْوَاعِ بغير اختيارهم. والثاني: يملكون [بالحِيَازَةِ] (¬1) والاسْتِيلاَءِ التَّامِّ؛ لأن الاسْتِيلاَءَ على ما ليس بِمَعْصُومٍ بين الأموال سَبَبٌ لِلْملْكِ، وأيضاً فإن مِلْكَ الكافر يَزُولُ بالاسْتِيلاَءِ، ولو لم يملكها المُسْلِمُونَ لكان ذلك مِلْكاً لا مَالِكَ له. نعم هو مِلْكٌ ضَعِيفٌ يَسْقُطُ بالإعراض، ولذلك نقول: لا تَجِبُ الزَّكَاةُ فيه مِثْلَ اخْتيَارِ التَّمَلُّكِ على الأظهر. والثالث: أن مِلْكَهُم مَوْقُوفٌ إن سلمت الغنيمة إلى أن اقتسموا بَانَ أنهم مَلَكُوهَا بِالاسْتيَلاء, إلا فإن تَلِفَتْ أو أعرضوا تَبَيَّنَّا عَدَمَ المِلْكِ، ووجه بأن قَصْدَ الاسْتِيلاَءَ على المال لا يَتَحَقَّقُ إلا بالقِسْمَةِ؛ لما سَبَقَ أن المَالَ تَابِعٌ في الجهاد، والغَرَضُ الأَصْلِيُّ إِعْلاءُ كلمة الله -تعالى- فإذا اقْتَسَمُوا تبينا قَصْدَ التملك بالاسْتيلاَءِ، فَتَبَيَّنَ حصولُ المِلْكِ. قال الإِمام -رحمه الله-: وإذا قُلْنَا بالوَقْفِ فلا نقول: تبين بالقِسْمَةِ أن حِصَّة كل واحد من الغَانِمِينَ على التعيين صارت مِلْكاً بالاستيلاء، ولكن نقول: إذا اقْتَسَمُوا تبينَّا أنهم مَلَكُوا الغَنَائِمَ أَوَّلاً مِلْكاً مَشَاعًا، ثم بالقِسْمَةِ تَتَمَيَّزُ الحِصَصُ وعن رواية صاحب "التقريب" وَجْهٌ بَعِيدٌ أنه يتبين بالقِسْمَةِ أن كُلَّ وَاحِدٍ منهم مَلَكَ حِصَّتَهُ على التعيين. وقوله في الكتاب: "ومن هذا نَشَأَ الخِلاَفُ في المِلْكِ" يعني في الصُّورَتَيْنِ المذكورتين من قبل، وهو أنه يَجُوزُ الإعْرَاضُ، وأنه إذا مات قام وَارِثُ الغَانِم مَقَامَهُ وأن جَوَازَ الإِعْرَاضِ قبل القِسْمَةِ يَدُلُّ على عَدَم المِلْكِ حينئذ، واحتج بقيام الوَارِثِ مَقَامَهُ على ثُبُوتِ المِلْكِ، إلاَّ أن هذا الاحْتِجَاجَ لا يَتَّضِح؛ لأن حَقَّ المِلْك مَوْرُوثٌ لحقيقة ¬
المِلْك، وتَسَاهَلَ صَاحِب الكتاب في التعيين عن الخِلاَفِ بالأَقْوَالِ، والمشهور الوجوه. ونختم الفَصْلَ بفائدتين: إحداهما: في كلام الأَصْحَاب تصريح بأن الغَانِمِينَ، وإن لم يملكوا الغَنَائِمَ، فمن قال منهم: اخترت مِلْكَ نصيبي منَ الغنيمة ملكه، وقد بَيَّنَّا ذلك في "كتاب الزكاة" عند ذكر الزَّكَاةِ في الغنيمة، وإذا كان كذلك، فالاعْتِبَارُ باخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ لا بالقسمة، إنما يعتبر لتضمنها اختيار التملك، وَيتَأيَّدُ هذا الوَجْهُ الذي فسر أنه إذا اختارا الغَنِيمَةَ لا يَصِحُّ الأعراض بعده. والثانية: ذكر هاهنا، وفي "الزكاة" أن للإمام أن يُقَسِّمَ [الغَنِيمَةَ] (¬1) قسمة تحكم، فيخصّ بعضهم ببعض الأَنْوَاعِ، وببعض الأَعْيَانِ، وحينئذ فإذا قلنا: إن المِلْكَ يَسْتَقِرُّ بالقِسْمَةِ، فيريد به غَالِبَ الأمْرِ، وهو ما إذا رَضِيَ الغَانِمُ بالقِسْمَةِ وقبل ما عَيَّنَه الإِمام. فأما إذا أعرض ورد، فينبغي أن يَجُوزَ له ذلك. وذكر صاحب "التهذيب" خِلاَفًا في هذه الصورة، فقال: إذا أَفْرَزَ الإِمام الخُمُسَ وأفرز نَصِيبَ كُلِّ واحد منهم أو أفرز لكل طَائِفَةٍ شَيْئًا مَعْلُومًا، فهل يَمْلِكُونَ قبل اختيار التَّمَلُّكِ؟. فيه وجهان: الأصح أنهم لا يَمْلِكُونَ حتى لو تَرَكَ بعضَهم حَقَّهُ، ينزل إلى الباقين. قال الغَزَالِيُّ: وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الأَقْوَالِ مَسَائِلُ: (الأُولَى) أنَّهُ لَوْ وَقَعَ في المَغْنَم بَعْضُ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى الغَانِمِينَ لَمْ يُعْتَقْ حِصَّتُهُ مَا لَمْ يَقَعْ فِي حِصَّتِهِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ عَنِ الإعْرَاضِ* وَلَو اسْتَوْلَدَ جَارِيةً وَقُلْنَا: لاَ يَمْلِكُ فَلاَ حَدَّ وَلاَ يَنْفُذُ الاِسْتِيلادُ فِي نَصِيبِهِ* فَإنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ فَفِي نُفُوذِهِ فِي حِصَّتِهِ وَجْهَانِ* وَقِيلَ: إنْ قُلْنَا يَمْلِكُ لِضَعْفِ المِلْكِ نَفَذَ* وَإنْ قُلْنَا: لاَ يَمْلِكُ فَقَوْلاَنِ كَاسْتِيلاَدِ الأَبِ جَاريةَ الابْنِ* وَمِنْ هَذَا خُرِّجَ قَوْلٌ فِي أَنَّ نَصِيبَهُ مِنَ القَرِيب يُعْتَقُ عَلَيْهِ* وَإِنْ نَفَذَ فِي نَصِيبِهِ وَهُوَ مُوسِرٌ بِمَا يَخُصُّهُ مِنَ الغَنِيمَةِ أَوْ لِغَيْرِهِ سَرَى وَالوَلَدُ حُرٌّ (ح) جَمِيعُهُ* وَفِي وُجُوب حِصَّةِ غَيْرِهِ مِنْ قِيمَةِ الوَلَدِ قَوْلاَنِ بَنَاءً عَلَى أنَّهُ يَنْتَقِلُ المِلْكُ إِلَيْهِ قُبَيْلَ العُلُوقِ أو بَعْدَهُ كَمَا فِي الجَارَيةِ المُشْتَرَكَةِ* وَوَلَدُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ حُرٌّ وَنَسِيبٌ (ح) وَلَكِنْ لَوْ كَانَ مُعْسِرًا وَوَقَفَ الاسْتِيْلاَدُ عَلَى بَعْضِهِ فَيُعْتَقُ جَمِيعُ الوَلَدِ أَوْ بَعْضُهُ فيهِ خِلاَفٌ* وَيَجْرِي فِي وَلَدِ الجَارِيَةِ المُشْتَرَكةِ لَكِنَّ الأَظْهَرَ أَنَّ الشَّركَةَ شُبْهَةٌ تَوجِبُ حُرِّيَّةَ الوَلَدِ* نَعَمْ مَنْ نِصْفُهَا حُرٌّ وَنصْفُهَا رَقِيقٌ فَوَلَدُهَا يَتَبَعَّضُ فِي الرِّقِّ إِذْ لاَ شُبْهَةَ* وَأَمَّا الحَدُّ فَلاَ يَجِبُ* وَالمَهْرُ يَجِبُ جَمِيعهُ إِنْ قُلْنَا: إنَّهُ لاَ مِلْكُ لَهُ وَيُوضَعُ ¬
في المَغْنَمِ* وَإِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُ حُطَّ عَنْهُ قَدْر حِصَّتِهِ. قال الرَّافِعِيُّ: ذكر في "الوسيط" مفرّعًا على الخِلاَفِ المذكور في مِلْكِ القِسْمَةِ ثلاث مسائل: إحداها: فيما إذا سَرَقَ بَعْضُ الغانمين من الغنيمة. والثانية: فيما إذا وَقَعَ في المَغْنَمِ بَعْضُ من يعتق على بعضهم. والثالثة: فيما إذا وَطِئَ بَعْضُهُم جَارِيَةٌ من المَغْنَم واسْتَوْلَدَهَا وهاهنا ذكر أنه يَتَفَرَّعُ على الأقوال مَسَائِل الأولى كذا لكنه لم يعقب الأولى بثانية وثالثة بل أهمل الأُولَى، وأَخْلَطَ الكلام في عِتْقِ القريب بالاسْتِيلاَدِ، ويمكن تَنْزِيلُ المَسَائِلِ على غير ما رتب في "الوسيط" وحملها على صوَرِ الكتاب، وإن لم يَتَلَفَّظْ بالثانية والثالثة، ونحن نُورِدُ فِقْهَ المَسَائِلِ الثلاث مُتَوَجِّهِينَ للاخْتِصَارِ: أما الأولى: فإذا سَرَقَ أحَدُ الغانمين من مَالِ الغَنِيمَةِ قبل إفْرَازِ القِسْمَةِ، لم يقطع حُرًّا كان أو عَبْدًا؛ لأن له في خُمُسِ الخُمُسِ حَقًّا, ولأن له في الأَخْمَاسِ الأَرْبَعَةِ حَقًّا، وإن أَفْرَزَ الخمس، فإن سرق منه لم يُقْطَعْ أيضاً للمعنى الأَوَّلِ، وإن سَرَقَ من الأَخْمَاسِ الأربعة، فإن سَرَقَ قَدْرَ نَصِيبِهِ أو أَقَلَّ أو أكثر لكنه لم تبلغ الزِّيَادَةُ نِصَاباً لم يُقْطَعْ، وإن بَلَغَتْ فوجهان: أحدهما: أنه يُقْطَعُ، وهذا الوجه ذَكَرْنَاهُ في أن أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذا سَرَقَ من المَالِ المشترك ما يَزِيدُ على نَصِيبِهِ بِنِصَابٍ يُقْطَعُ. وأظهرهما: أنه لا يُقْطَع، وإن حكمنا هناك بالقَطْع؛ لأن حَقَّ كل واحد من الغانمين [متَعَلِّقٌ بجميع المَغْنَمِ؛ لأنه يجوز أن يعرض الباقون] (¬1) فيكون الكُلُّ له، وعلى كُلِّ حال فيسترد المسروق إن كان بَاقِيًا، وبَدَلَهُ إن كان تَالِفًا، ويجعل في الغَنِيمَةِ، ومن غَلَّ في الغنيمة من الغانمين عُزِّرَ، والذي رَوَى أن رَجُلاً غَلَّ في الغَنِيمَةِ فَأحْرَق النبي -صلى الله عليه وسلم- رِجْلَهُ. قال الشَّافعي -رضي الله عنه-: لو صَحَّ لَقُلْتُ (¬2) به، ويريد أنه لم تظهر صِحَّتُهُ، وبتقدير الصِّحَّةِ فقد حمل على أنه كان ذلك في مَبْدَأ الأمر، ثم نُسِخَ، وإن سرق غير الغانمين، نُظِرَ إن كان له في الغَانِمِينَ وَلَدٌ أو والد أو عبد، فهو كسرقة الغَانِم، وإلا فإن سَرَقَ قبل إِفْرَازِ الخُمُسِ، فهو كما لو سَرَقَ مَالَ بَيْتِ المال؛ لأن فيه مالاً لبيت المال ¬
وإن سرق بعد إفْرَازِ الخُمُسِ، فإن سرق من الأَخْمَاسِ الأربعة قُطِعَ، وإن سرق من الخمس قَبْلَ أن يخرج خُمُسُهُ، أو سرق من خُمُسِ المصالح بعد إِفْرَازِهِ، فهو كَسَرِقَةِ مَالِ بَيْتِ المال، وإن سَرَقَ من أربعة أخماسه، لم يُقْطَعْ، إن كان من أَهْلِ اسْتِحْقَاقِهَا، وإلا فوجهان: أظهرهما: القَطْعُ. ووجه الآخر: أَنه يَجُوزُ أن يَصِيرَ من أَهْلِ اسْتِحْقَاقِهَا. وأما المَسْأَلَتَانِ الأخريان [فالرَّأْي] (¬1) أن نذكر مَسْأَلَةَ الوَطْءِ والاستيلاد، ثم مسألة عِتْقِ القريب، وكذلك وَقَعَتَا في كلام الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه- فإذا وَطِئَ أَحَدُ الغانمين جَارِيةً من الغنيمة قبل القسْمَةِ، فلا حَدَّ عليه خِلاَفًا لمالك، ويُوَافِقُهُ قَوْلٌ قديم مَذْكُورٌ في وَطْءِ أَحَدِ الشريكين الجَارِيَةَ المشتركة. ووجه المذهب أن له فيها مِلْكًا أو شُبْهَةَ مِلْكٍ، فيدفع الحد، كما في وَطْءِ الأَبِ جَارَيةَ الابْنِ، وُيعَزَّرُ إن كان عَالِماً بالتحريم، وإن كان جاهلاً لِقُرْبِ عَهْدِهِ بالإسْلاَمِ، فينهى عنه ويُعَرَّفُ الحُكْمُ، وإذا لم يتعلق به الحَدُّ، فيتعلق به المَهْرُ، وينظر إن كان الغَانِمُونَ مَحْصُورِينَ يَتَيَسَّرُ ضَبْطُهُمْ، فقد ذكر القاضي ابْنُ كَجٍّ والإمام أن حُكْمَ المَهْرِ يُبْنَى على الخِلاَفِ في أن الغَنِيمَةَ هل تُمْلَكُ قبل القِسْمَةِ؟. إن قلنا: لا، فعليه تَمَامُ مَهْرِ المِثْلِ، يؤخذ ويجعل من المَغْنَمِ، ويقسم كما تُقَسَّمُ الغنيمة. وإن قلنا: إن كُلَّ واحد يَمْلِكُ بقدر حِصَّتِهِ غُرِّمَ من المَهْرِ حِصَّةَ الخُمُسِ، وحِصَّةَ غيره من الغَانِمِينَ، ويَسْقُطُ منه حِصَّتُهُ. وهذا هو المَنْصُوصُ، وظاهر المَذْهَب، لا من جهة الأَصْلِ المذكور، فقد ذكرنا أن الظَّاهِرَ أن الغَنِيمَةَ لا تملك قبل القِسْمَةِ، ولكنه يوجه بأنه وَطِئَ في غير مِلْكٍ سقط فيه الحَدُّ، ويجب المَهْرُ كَوَطْءِ الأب جَارَيةَ الابن، وإنما يَسْقُطُ قِسْطُهُ؛ لأن المَهْرَ مَقْسُومٌ كالغَنِيمَةِ، فلا معنى لأخذ قِسْطِهِ، وردّه عليه. قال الإِمام: وقَضِيَّةُ الوَجْهِ الذي نقله صاحب "التقريب" أن مَنْ وَقَعَ في حِصَّتِهِ شَيْءٌ من المَغْنَم تَبَيَّنَ كَوْنُهُ مَالِكًا ذلك الشيء أن يقال: إن وقعت الجَارَيةُ في حِصَّةِ غير الوَاطِئِ، فعليه تَمَامُ المَهْرِ، وإن وقعت في حِصَّةِ الوَاطِئ [فلا شيء عليه] وقد حكاه القاضي ابْنُ كَجٍّ قولاً عن رِوَايَةِ أبي الحُسَيْنِ، والظاهر ما سَبَقَ، وجعلوا صَيْرُورَتَهَا له بِمَثَابَةِ ما إذا وَطِئَ جَارَيةَ غَيْرِهِ، ثم ملكها بشراء أو غيره، فإن كان الغانمون غَيْرَ مَحْصُورينَ، فالمراد أن يعسر ضَبْطُهُمْ لكثرتهم، نظر إن أَفْرَزَ الإِمَامُ الخُمُسَ، وعَيَّنَ لكل طَائِفَةٍ شَيْئاً، وكانت الجَارِيةُ مُعَيَّنةَ لجماعة مَحْصُورِينَ، فإن وَطِئَ بعدما اخْتَارُوا ¬
تَمَلُّكَهَا، فإذا وَطْءُ الجارية المشتركة، فَيُغَرَّمُ من المَهْرِ قِسْطَ شركائه، وإن وَطِئَ قبل اخْتِيَارِهِمْ التَّمَلُّكَ فقد قيل: إنه كما بعد اختياره، والظَّاهِرُ أن الحكم كما ذكرنا فيما إذا كانوا مَحْصُورينَ في الأَصْلِ، إلا أنه لا يُخَمَّسُ المَهْرُ هاهنا, ولكن يُوَزَّع عليهم، فيسقط قِسطُ الوَاطِئِ، وبجب قِسْطُ البَاقِينَ، وإن لم يُفْرُزِ الإِمَامُ، ولا عَيَّنَ شيئاً، فَيُؤْخَذُ من الوَاطِئِ جَمِيعُ المَهْرِ، ويضم إلى المَغْنَمِ، ويقسم بين الكل، فَتَعُودُ إلى الوَاطِئِ حَصَّتُهُ، ولا يُكَلَّفُ الإِمَامُ أَن يَضْبِطَهُمْ، ويعرف حصّته؛ لما فيه من المَشَقَّةِ، بخلاف ما إذا كانوا مَحْصُورِينَ وسهل الضبط، فلا نقول: يُؤْخَذُ أَو يُرَدُّ. قال الإِمام: وليكن هذا الذي ذكره الأَصْحَابُ مَخْصُوصًا لما إذا طَابَتْ نَفْسُ الوَاطِئِ بأن يُغَرَّمَ جَمِيعَ المَهْرِ، فإن قال: أسقطوا قدر حِصَّتِي، فلا بد أن يجاب (¬1) [فإن تَيَسَّرَ الضَّبْطُ فذاك، وإلا فَيُؤْخَذُ المتيقن، ويُتوَقَّفُ في المشكوك فيه؛ هذا كله فيما إذا خَلاَ الوَطْءُ عن الإِحْبَالِ] (¬2) أما إذا أَحْبَلَهَا فَحُكْمُ المَهْرِ والحَدِّ كما بَيَّنَّا، وَيزْدَادُ النَّظَرُ في أمور: منها: الاسْتِيلاَدُ، ولنتكلم في المُوسِرِ، ثم في المُعْسِرِ. أما المُوسِرُ ففي الاسْتيلاَدِ في نَصِيبِهِ طريقان: أحدهما: عن صاحب "التقريب". أما إذا قلنا: إن الغَانِمِينَ لا يَمْلِكُونَ قبل القِسْمَةِ، فلا يَنْفُذُ؛ لأن وَطْئَهُ أيضًا لم يُصَادِفِ المِلْكَ. وإن قلنا: يَمْلِكُونَ -ففي نُفُوذِ الاسْتِيلاَدِ وَجْهَان؛ لأنه مِلْكٌ ضَعِيفٌ، وقرب الوجهان لِضَعْفِ المِلْكِ من الوجهين في نُفُوذِ اسْتِيلاَدِ المشتري، في زَمَانِ الخيار، إذا حَكَمْنَا بِثُبُوتِ المِلْكِ. والطريق الثاني: أنا إذا قُلْنا يَتَرَتَّبُ المِلْكُ قَطَعْنَا بنفوذ الاسْتِيلاَدِ، وإلاَّ فقولان كالقَوْلَيْنِ في استيلاد الأَب جَارِيةَ الابن، وقد ترَتَّبَ، فجعل هذه الصُّورَةَ أَوْلَى بنفوذ (¬3) الاسْتِيلاَدِ؛ لأن حَقَّ الأُمِّ أَقْوَى من حَقِّ سَائِرِ الغَانِمِينَ، وحَقُّ الأب أَضْعَفُ من حَقِّ الغانم الوَاطِئِ. ويخرج من الطريقين إذا اخْتصرت قَوْلاَنِ، أو وجهان في نفوذ الاسْتِيلاَدِ في نَصِيبِهِ. ويحكى المَنْعُ عن ابن أبي هُرَيْرَةَ، وهو الذي يُوجَدُ في كُتُبِ العراقيين وكثير من الأَصْحَابِ. ¬
وإذا قيل به فلو مَلَكَ الجَارِيةَ بالوُقُوع في سَهمِهِ، أو مَلَكَهَا بِسَبَبٍ آخر يوماً، ففي نُفُوذِ الاسْتيلاَدِ حينئذ قولان يَطَّرِدَانِ في نَظَاَئِرِهِ، والظاهر المَنْصُوصُ أنهَ يَنْفُذُ، وهو الذي رَجَّحَهُ الإِمَامُ، ولم يُورِدْ في "التهذيب" غيره. وعن "الحاوي": أنهم إن كَانُوا مَحْصُورِينَ، ولم يَغْنَموا غير تلك الجَارِيةِ، فَيُقْطَعُ بنفوذ الاسْتِيلاَدِ فِي حِصَّتِهِ منها، بخلاف ما إذا كان في الغَنِيمَةِ غيرها، فإنه يحتمل أن يَجْعَلَ الإمَامُ الجَارَيةَ لغيره، وإذا نَفَذَ الاسْتِيلاَدُ في نَصِيبِهِ سَرَى لِيَسَارِهِ إلى البَاقِي، وتحصل السِّرَايَةِ بِنَفْسِ العُلُوقِ، أم بأداء قيمة نَصِيب الشريك؟ فيه قولان وموضع شرحها "كتاب العِتْقِ". ورأى الإِمام التفريع هاهنا على حُصُولِ السِّرَايَةِ في الحال، وذكر الإِمَامُ، وَصَاحِبُ الكتاب أن يَسَارَ الوَاطِئِ كما يَحْصُلُ بِيَسَارِ الأموال، يَحْصُلُ بِحِصَّتِهِ من المَغْنَم، إذا كانوا قد غَنِمُوا غير تلك الجَارِيَةِ، فان لم تَفِ حصَتَه من غير تلك الجَارِيَةِ بقيمة الجارية حَصَلَتِ السِّرَايَةُ بمقدار حِصَّتِهِ، وكان يجوز أن يخرج ذلك على أن المِلْكَ في الغَنِيمَةِ هل يَحْصُلُ قبل القِسْمَةِ؟. إن قلنا: لا مِلْكَ، فينبغي ألاَّ يجعل مُوسِرًا بحصته، ويؤيده أن الإِمام ذكر أن الحُكْمَ بغِنَاهُ مَوْقُوفٌ على ألاَّ يعرض وَيَسْتَقِرّ مِلْكُهُ، فإن أعرض تبينا أنه لم يَكُنْ غَنِيًا، ولا نقول: إن حَقَّ الرَّايَةِ يَلْزَمُهُ اختيار المِلْكِ، فإن الاخْتِيَارَ بِمَثَابَةِ ابتداء الأكْسَاب (¬1)، ومهما حَكَمْنَا بِثبُوتِ الاسْتِيلاَد، إما في الحال، أو بعد وقوعه في حِصَّتِهِ، فعليه القَيمَةُ. ثم هو في سُقُوطِ حِصَّتِهِ، وأَخْذِ الجميع بِحَسَبِ انحصار القوم، وعدم انحصارهم على ما ذكرنا في المَهْرِ، وإن لم يُحْكَمْ بالاسْتيلادِ، فَإِنْ تأخرت القِسْمَةِ حتى وَضَعَتْ. قال ابْنُ سُرَيْجٍ -رحمه الله-: نجعل الجَارِيةَ في المَغْنَمِ، وتدخل في القِسْمَةِ، فإن دخلها نَقْصٌ بالوِلاَدَة، فعليه الأَرْشُ، وقبل الوضع الجارية [حامل بحر] (¬2) لما سنذكر أن الوَلَدَ حُرٌّ. وبيع مثل هذه الجَارَيةِ لاَ يَصِحُّ على المَذْهَب كَمَا مَرَّ في "البيع" وإذا جعلنا القِسمَةَ بَيْعاً لم يَكُنْ إدخالها في القِسْمَةِ. فعن صاحب "التقريب": أنه يحتمل أن تسلم الجَارِيَةُ إليه بحصته إذا كانت حِصَّتُهُ فوق قيمتها [أو أكثر، وقيل: تؤخذ قيمتها وتلقى] (¬3) في المغنم؛ لأنه بالإِحْبَالِ حَالَ بينها وبين الغَانِمِينَ بَيْعًا وقِسْمَةً. ¬
وأَبْدَى الإِمام احتمالين آخرين: أحدهما: أن تُوَقَفَ الجَارِيةُ إلى أن تَلِدَ، ثم تُلْقَى في الغنيمة. والثاني: أن تُلْقَى في المَغْنَم، ويجوز القِسْمَةُ، وإن كانت حَامِلاً وهو الأَظْهَرُ، إذا جعلنا القِسْمَةَ إِفْرازًا وعَبَّرَ [معبرون] (¬1) عما ذكرنا من الخِلاَفِ في القِسْمَةِ بأن قالوا: هل تُقَوَّمُ هذه الجَارَيةُ عليه، أو تُتْرَكُ في المَغْنَمِ، وتُقَسَّمُ بين الغانمين؟ فيه طريقان قال أكثرهم: يُبْنَى على ثُبُوتِ الاسْتيلاَدِ [وعدمه] (¬2)، فإن أَثْبَتْنَا الاستيلاَدَ أَوْجَبْنَا القِيمَةَ، وإلا فلا. وعن أبي إِسْحَاقَ: أنها تُقَوَّمُ عليه، سواء أَثْبَتْنَاهُ أو لم نثبته؛ لأنه بالإِحْبَالِ منع من البيع والقِسْمَةِ. هذا حكم المُوسِرِ. وأما المُعْسِرُ فينظر إن كان الجُنْدُ مَحْصُورِينَ، أو غَيْرَ محصورين وأفرد الإِمَامُ الجَارِيَةَ لِطَائِفَةٍ منهم، ففي ثُبُوتِ الاستيلاد في حِصَّتِهِ الخِلاَف المذكور في ثُبُوتِهِ في حِصَّةِ المُوسِرِ، فإن (¬3) أثبتناه فلا سِرَايَةَ هاهنا، وإن كان غَيْرَ مَحْصُورِينَ، ولم تفرز الجارية، فلا يُحْكَمْ بالاسْتِيلاَدِ في الحال، فإن وقعت بالآخرة في حِصَّةِ الوَاطِئِ ثبت الاسْتِيلاَدُ حينئذ، وان صار بعضها له ثَبَتَ في ذلك البَعْضُ -ذكره صاحب "التهذيب" وغيره. ومنها الوَلَدُ حُرٌّ ونَسِيبٌ وبه قال أحمد، خِلاَفًا لأبي حَنيِفَةَ، حيث قال: بقي النَّسَب وَالحُرَّيَّة. لنا؛ إنه مالك بحِصَّتِهِ فيها في الحال، فَأشْبَهَ أَحَدَ الشريكين يَطَأُ الجَارِيةَ المشتركة، أو غير مالك، ولكنَ له شُبْهَةُ المِلْكِ، وحق التملك فليكن وَطؤهُ كَوَطْءِ الأب جَارِيَةَ الابْنِ، وهل يَجِبُ عليه قِيمَةُ الوَلَدِ؟ فيه خِلاَفٌ مَبنِيٌّ عندنا على أن الجَارِيةَ هل تُقَوَّمُ عليه؟. إن قلنا: نعم -لم يَلْزَمهُ قِيمَةُ الوَلَدِ؛ لأنها في مِلْكِهِ، حين وضعت الولد. وإن قلنا: لا -لَزِمْتُهُ؛ لأنه منع من رقّه بِوَطْئِهِ، وشبهه مُشَبِّهُونَ بالخلاف في وُجُوب قِيمَةِ الولد إذا وَطِئَ أَحَدُ الشريكين الجَارَيةِ المشتركة، وهو مُوسِرٌ، ثم منهم من بَنَى الَخِلاَفَ فيها على أن المِلْكَ يَحْصُلُ لِلْمُسْتَوْلِدِ قبل (¬4) العَلُوق، أو يَنْتَقِلُ إليه مع العلوق أو بعده، وهذا أَصْلٌ سَبَقَ، وقد ذكر مثله في اسْتِيلاَدِ الأَب جَارِيَةَ الابْنِ، ثم حُكْمُ قِيمَةِ الوَلَدِ حُكْمُ المَهْرِ، وقيمة الجارية وقد بَيَّنَّاه، هذا إذا كانَ الوَاطِئُ مُوسِرًا. وثبت الاسْتِيلاَدُ في جَمِيعِ الجَارَيةِ. ¬
أما إذا كان مُعْسِرًا وثبت الاسْتِيلاَدُ في حِصَّتِهِ، ولم يسر فيخلق الولد حُرًّا كُلُّهُ، أو الحر منه قدر حِصَّتِهِ، والباقي رَقِيقٌ فيه؟ وجهان أو قولان: أحدهما: أن كُلَّهُ حُرٌّ؛ لأن الشُّبْهَةَ تَعُمُّ الجَارِيةَ، وحرية الولد تَثْبُتُ بالشُّبْهَةِ، وإن لم يثبت الاستيلاد، ولهذ لو وَطِئَ جَارِيَةَ الغَيْر على ظَنِّ أنها جَارِيتُهُ، أو زوجته يَنْعَقِدُ الوَلَدُ حُرًّا، وإن لم يثبت إلاستيلاد .. والثاني: أن الحُرَّ منه قَدْر حِصَّتِهِ، وليس كالوَطْءِ بالشبهة فإن الشُّبْهَةَ [نَاشِئَةٌ] (¬1) من الظَّنِّ غير مُتَبَغضٍ، والشُّبْهَةُ هاهنا من جِهَةِ اسْتِحْقَاقِ المُسْتَوْلَدَةِ مِلْكًا أو وِلاَيَةَ مِلْكٍ، وهو مُتَبَعِّضٌ. وعَبَّرَ بَعْضُهُم عن هذا الخِلاَفِ بأن قال: البَاقِي من الولد هل يُقَوَّمُ عليه مع إِعْسَارِه؟ فيه وجهان: وإذا قلنا: لا يُعْتَقُ من الوَلَدِ إِلاَّ قَدْرُ حِصَّتِهِ من الأُمِّ، فلو ملك باقي الجَارِيَةِ من بعد بقي الرِّقُّ فيه؛ لأنها عَلَقَتْ بِرَقِيقٍ في غير الملك. وإن قلنا: إن جميعه حُرٌّ، ففي ثُبُوتِ الاسْتِيلاَدِ في باقيها إذا مَلَكَهُ قَوْلاَن؛ لأنه أَوْلَدَهَا حُرًّا في غَيْرِ المِلْكِ، والخِلاَفُ في أنه هل تَتَبَعَّضُ حُرِّيَّةُ الوَلَدِ جار فيما إذا أَوْلَدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الجَارِيةَ المُشْتَرِكَةَ، وهو مُوسِرٌ. فإن قلنا: إن جميعه حُرٌّ فعلى المُسْتَوْلِدِ قِيمَةُ (¬2) حِصَّةِ الشُّرَكَاءِ من الولد، وهذا أَظْهَرُ الوَجْهَيْنِ على ما ذكره القاضي الرُّوَيانِيُّ، ورواه عن القاضي الطَّبَرِيِّ وغيره. وقوله في الكتاب: "لكن الأَظْهَرَ أن الشَّرِكَةَ شُبْهَةٌ تُوجِبُ حُرِّيَّةَ الولد" يشعر بِتَخْصِيصِ التَّرْجِيحِ بصورة الشَّرِكَةِ، وبأن الأَظْهَرَ في استيلاد أحد الغانمين التَّبْعِيضُ. والأشبه أنه لاَ فَرْقَ بين الصُّورَتَيْنِ، وفي كلام الإمَامِ ما يَدُلُّ على تَرْجِيح حُرِّيَّتِهِ فيهما. ورجّح في "التهذيب" التَّبْعِيض فيما يُقَارِبُ هذه الصورة، وقرب الخلاف في الصورتين من الخِلاَفِ في أن الإِمام، هل يجوز أن يَرُقَّ من الأَسِيرِ بعضه؟ وقد مَرَّ، وسُئِلَ القاضي حسين عمن أَوْلَدَ نِصْفُهَا حُرٌّ، ونصْفُهَا رقيق، بنكاح أو زنا، كيف حَالُ الوَلَدِ؟ فقال: يمكن أن يُخَرَّجَ على ذلك الوجهان في وَلَدِ الجارية المشتركة بين الشريك المُعْسِرِ، ثم اسْتَقَرَّ جوابه على أنه كالأم حُرِّيَّةً وَرِقّاً، وهذا هو الوَجْهُ؛ لأنه لا سَبَبَ لِحُرِّيَّتهِ، إلاَّ حرية الأم، فَتَتَقَدَّرُ بتقدر حُرِّيَّتِهَا, وليس كالجَارِيَةِ المشتركة، فإن الشَّرِكَةَ قد تظن شبهة عامة في الجَارَيةِ، وكذا شُبْهَةُ الاستِحْقَاقِ. واعلم أن ما ذَكَرْنَا من ثُبُوتِ ¬
الاسْتِيلاَدِ في حِصَّةِ المُعْسِرِ، والخلاف في حال الوَلَدِ مَوْضِعُهُ ما إذا انحصر المُسْتَحِقُّونَ، فإن كانوا غير مُنْحصِرِينَ، ففي "التهذيب" أنا إذا قلنا عند الانْحِصَارِ: كُلُّ الولد حُرٌّ فيؤخذ منه قيمته، وتوضع في المَغْنَمِ، ويقسم (¬1) على الكل. وإن قلنا: إن هناك الحُرّ قَدْر حِصَّتِهِ في الأُمِّ، فهاهنا يكون الكُلُّ رَقِيقًا، ثم الإِمَامُ عند القِسْمَةِ يَجْتَهِدُ حتى تَقَعَ الأُمُّ، والولد في حِصَّةِ الوَاطِئ، فإن وَقَعَا في حِصَّتِهِ كانت الجَارِيَةُ أُمَّ ولد له، والولد حر، وإن وَقَعَ البَعْضُ في مِلْكِهِ صار بقدره أُمَّ وَلَدٍ، وعتق من الولد بقدر ما مَلَكَ هذه أَلْفَاظُهُ. ولك أن تقول: قد سَبَقَ أن للإمام أن يُقَسِّمَ الغَنِيمَةَ قِسْمَةَ تَحَكُّم، ولا يحتاج إلى مُرَاضَاة الغانمين، وإلى الإقْرَاعِ، وحينئذ فلا حاجة (¬2) إلى سَعْي وَاجْتِهَادِ، بل ينبغي أن يقول: يوقعها في حِصَّتِهِ، أو يوقع بعضها. ثم قوله: "وعتق من الولد بِقَدْرِ ما مَلَكَ" الخلاف في أن الوَلَدَ يُعْتَقُ كله أو بالحِصَّةِ، ينبغي أن يَجِيءَ هاهنا فكان ما ذكره جَوَاباً على وجه التَّبْعِيضِ، أو أراد أن قَدْرَ الحِصَّةِ يعتق لا مَحَالَةَ وفي الباقي خِلاَفٌ، وجميع ما ذكرنا فيما إذا كان الاسْتِيلاَدُ قبل القِسْمَةِ، واخْتِيَارِ التَّمْلِيكِ، ولاَ فَرْقَ بين أن يَكُونَ قَبْلَ إِفْرَازِ الخُمُسِ أو بعده، وقبل القِسْمَةِ بين الغَانِمِينَ إذا كنت الجَارِيَةُ بين الأَخْمَاسِ الأَرْبَعَةِ، وإذا كان بعد القِسْمَةِ، وبعد اختيار التَّمْلِيكِ، فهو إما وَطِئَ جَارَيةَ نَفْسِهِ، أو جَارِيةَ غَيْرِهِ، أو هو كَوَطْءِ أَحَدِ الشريكين الجَارِيَةَ المشتركة، ولا يَخْفَى، ولو كان بعد القِسْمَةِ. وقبل اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ، فهو كما قبل القِسْمَةِ. وفيه وجه: أنهم إذا كانوا مَحْصُورِينَ، أو أفرزت الجارية لِطَائِفَةٍ مَحْصُورِينَ، فهو كما بعد (¬3) القِسْمَةِ، واختيار التَّمْلِيكِ، وهو ظاهر ما أَطْلَقَهُ القاضي ابْنُ كَجٍّ وقد مَرَّ نَظِيرُهُ. ولو وَطِئَ أحدهم (¬4) بعد إِفْرَازِ الخُمُسِ جَارَيةً من الخُمُسِ، فهو كَوَطْءِ الأجنبي، وإذا وَطِئَ جَارِيةً من الخُمُسِ، وقبلِ إِفْرَازِ الخُمُسِ، ففي وُجُوبِ الحَدِّ عليه وجهان: أظهرهما: وبه أجاب صاحب "التهذيب" والروياني: أنه يَجِبُ، كما لو وَطِئَ جَارِيةً من بيت المال [بخلاف ما لو سرق مال بيت المال] (¬5) لأنه يستحق النَّفَقَةَ دون الإِعفاف. والثاني: المَنْعُ؛ لأنه لمصالح المُسْلِمِينَ، والواطئ من المسلمين وهذا أَقْوَى عند القاضي ابْنِ كَجٍّ. ¬
وإذا كانت الجَارِيةُ مِن الأَخْمَاسِ الأربعة، فعليه الحَدُّ، إلاَّ أن يكون له في الغَانِمِينَ وَلَدٌ، هذا تَمَامُ الكَلاَمِ في الوَطْءِ والاسْتِيلاَدِ. وأمّا مَسْأَلَةُ عِتْقِ القَرِيبِ: فإذا وَقَعَ في الأَسْرِ من يعتق على بَعْضِ الغَانِمِينَ، ورُقَّ، إما بِنَفْسِ الأسْرِ، أو بإرْقَاقِ الإِمام، فالنَّصُّ أنه لا يُعْتَقُ قبل القِسْمَةِ، واختيار التمليك والنَّصّ فيما إذا اسْتَوْلَد بَعْضُ الغانمين جَارِيةً من المَغْنَمِ، أنه يثبت الاستيلاد على ما مَرَّ وفيهما طريقان للأصحاب: أحدهما: أن في الصورتين قَوْلَيْنِ: نَقْلاً وتخريجًا، بِناءً على أن الغَنِيمَةَ تملك بالاستيلاد أم لا؟ إن قلنا: نعم نفذ، وتُؤْخَذُ منه القِيمَة، ويجعل في المَغْنَمِ. وإن قلنا: لا لم يَنْفُذْ وَاحِدٌ منهما. والثاني: تَقْرِيرُ النَّصَّيْنِ، والفَرْقُ أن الاسْتِيلاَدَ أَقْوَى، ولذلك يَنْفُذُ استيلاد الأَبِ جَارَيةَ الابْنِ، ولا يَنْفُذُ منه إِعْتَاقُهَا، وينفذ اسْتِيلاَدُ المَجْنُونِ دون إِعْتَاقِهِ. وعن "المنهاج" للشيخ أبي مُحَمَّدٍ الفَرْقُ بين الصُّورَتَيْن بأن الوَطْءَ اختيار التَّمَلُّكِ، ولذلك جعَلَ وَطْءَ البائع في زَمَانِ الخِيَارِ فَسْخًا وليس فيَ مسألة عِتْقِ القريب ما يَدُلُّ على الاخْتِيَارِ، حتى لو قال مشيرًا إلى قَرِيبهِ قبل القِسْمَةِ: قد أَعْتَقْتُ هذا، يُحْكَمُ بثبوت العتق، والظاهر أنه لا يَثْبُتُ العِتْقُ في الحال، وإن قدرنا الخِلاَفَ فإذا اسْتَقَرَّ (¬1) مِلْكُهُ فيه بأن وَقَعَ في نَصِيبِهِ، واختار تملكه، أو وَقَعَ بَعْضُهُ في نصيبه، واختاره عتق عليه، وينظر لتَقْوِيمِ البَاقِي عليه إلى يَسَارِهِ وإِعْسَارِهِ. وعن "الحاوي": أنهم إذا كَانُوا مَحْصُورِينَ، ولم يكن في الغَنِيمَةِ إلاَّ قريبه، فيملك حِصَّتَهُ، وإن لم يَجُزِ التَّمَلُّكُ، وعلى هذا فلا يُقَوِّمُ (¬2) عليه الباقي؛ لأنه دَخَلَ في مِلْكِهِ بغير اخْتيَارِهِ. ولو أعتق واحد من الغَانِمِينَ عَبْدًا من الغَنِيمَةِ ففي ثُبُوتِ العِتْقِ في الحال ما ذَكَرْنَاهُ في عِتْقِ القَرِيبِ. هكذا نقل صاحب "التهذيب" وغيره. وعن "الحاوي": أنه لا يعتق بحال، بخلاف عِتْقِ القَرِيب، فإنه يثبت بلا اختيار، وهو (¬3) أقوى مما يثبت بالاختيار، ولذلك لا يُعْتَقُ على المَحْجُورِ عليه قريبه إذا مَلَكَة، ولو أعتق لا ينفذ. ¬
وأما ما يَتَعَلَّقُ بلفظ الكتاب، فقوله: "لو وقع من المَغْنَمِ بَعْضُ من يُعْتَقُ على الغانمين" -في اللفظ نَوْعُ التِبَاس، والمقصود من يعتق على بَعْضِ الغَانِمِينَ، فيقدر (¬1) لفظ البَعْضِ. ولو كان الغانمون طَائِفَةً يَسِيرَةً، ووقع في المَغْنَمِ من يُعْتَقُ عليهم جميعاً، فلا يتوقف [العتق] (¬2) إلا على اخْتِيَارِهِمُ التَّمَلُّكَ. ويجيء وَجْهٌ أنه [لا] (¬3) حَاجَةَ إلى الاختيار، وإذا اخْتَارُوا جَمِيعا فلا يفرض فيه تقويم البَعْضِ على البَعْضِ. وقوله: "لم يعتق حِصّته" لا حَاجَةَ إلى إِعْلاَمِهِ بالواو، فإنه ذكر الخلاف فيه من بعد حَيْثُ قال: "ومن هذا خُرِّجَ قَوْل ... " إلى آخره. قوله: "ولم يمنعه ذلك عن الإعْرَاضِ" معناه أَنَّ الإِعْرَاضَ عن الغَنِيمَةِ لا يمنع وُقُوعَ القَرِيب في المَغْنَمِ إذا لم يحكم بالعِتْقِ في الحال. وقوله: "ولو اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً؛ وقلنا: لا يملَك فلا حد" ليعلم قوله: "لا حَد" بالميم والواو؛ لما بَيَّنَّاهُ، ولا حَاجَةَ إلى ذِكْرِ الحَدِّ في هذا الموضع فقد أعاده من بعد، وبَيَّنَ أنه لا حَدَّ على كل قول، جَوَابًا على الصحيح. وقوله: "فالولد حُرٌّ جميعه" مُعَلَّمٌ بالحاء، والغَرَضُ أنه إذا ثَبَتَ الاسْتِيلاَدُ في جميع الجَارِيَةِ كان الولد حُرًّا لا مَحَالَةَ، وفي وجوب قيمة حِصَّةِ غيره من الوَلَدِ خِلاَفٌ، فجرى ذكر حُرِّيَّةِ الوَلَدِ للحاجة إليه في بَيَانِ صُورَةِ الخِلاَفِ، ثم اتخد حكم الولد مَقْصَدًا، فقال: وولده على كل حال حر نَسيبٌ، وكان بِسَبِيلٍ من الاسْتغْنَاءِ بالثَّاني عن الأول، وإيراد الغرض بِدَليلِ طَرِيقٍ آخر. وقوله: "فولدها يَتبَعَّضُ" مُعَلَّمٌ بالواو. "فرع لابن الحَدَّادِ -رحمه الله-": إذا دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الحَرْبِ مُنْفَرِدًا وأَسَرَ أَبَاهُ وَابْنَهُ البَالِغَ، لم يُعْتَقْ منه شَيْءٌ في الحال؛ لأنه لا يَصِيرُ رَقِيقًا بنفسَ الأَسْرِ، وإن اخْتَارَ الإِمَام قَتْلهُ أو المنَّ عليه أو الفِدَاءَ فذاك. وإن اختار تملكه [نُظِرَ إن لم يختر التَّمَلُّكَ بِالأَسْرِ، فلا يُعْتَقُ أيضاً في ظَاهِرِ المَذْهَبِ، وإن اختار تَمَلُّكَهُ] (¬4) صار له أربعة أخماسه فيعتق عليه، ويُقَوَّمُ عليه الباقي إن كان مُوَسِرًا، وهو الخمس المستحق لأهله. ولو أَسَرَ أُمَّهُ أو ابْنَتَهُ البَالِغَةَ، رُقَّتْ بِنَفْسِ الأَسْرِ، ولا حَاجَةَ إلى اختيار الإمَامِ، ¬
وإذا اختار التَّمَلُّكَ كان الحُكْم على ما بَيَّنَّا. وألحق ابْنُ الحَدَّادِ الابْن الصَّغِيرَ بأسْرِ الأُمِّ والبنت [البالغة] (¬1) وهذه هَفْوَةٌ عند الأصحاب؛ لأن الأَبَ المُسْلِمَ يَتبَعُهُ وَلَدُهُ الصغير في الإِسلام، ولا يُتَصَوَّرُ منه سَبْيُ ولده. وإن أَسَرَ أَبَاه في القِتَالِ، زاد النظر في أن الأسير إذا رُقَّ هل يعد من السَّلَبِ؟ وفيه خلاف مذكور في "قسمة الغَنَائِمِ". قال الغَزَالِيُّ: (الحُكْمُ الثَّالِثُ) أَنَّ أَرَاضِيَ الكُفَّارِ تُمْلَكُ بِالاِسْتِيَلاءِ وَقَدْ مَلَكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَاضِيَ العِرَاقِ وَقَسَّمَهَا ثُمَّ اسْتَطَابَ عَنْهَا قُلُوبَ المُلاَّكِ وَوَقفَهَا وَآجَرَهَا مِنْ سُكَّانِهَا إجَارَةً مُؤَبَّدَةً لِأَجْلِ المَصْلَحَةِ وَضَرَبَ الأَجْرَةَ خَرَاجًا عَلَيْهِمْ* فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ أَرَاضِي العِرَاقِ* وَيَصِحُّ إِجَارَتُهَا مِنْ أَرْبَابِهَا إِجَارَةً مُؤَقَّتَةَ لاَ مؤَبَّدَةً* وَلاَ يُزْعَجُ عَنْهَا سُكَّانُهَا إِذَا وَرِثُوهَا مِنْ آبَائِهِمُ الَّذِينَ اسْتَأْجَرُوهَا مِنْ عُمَرَ* وَلاَ تنفَسِخُ الإجَارَةُ بِالمَوْتِ* وَأَمَّا مَكَّةُ فَيَصِحُّ بَيْعُ دُورِهَا لِأَنَّهَا مِلْكٌ وَقَدْ فُتِحَتْ عَنْوَةً. قال الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: الأَرَاضِي والعَقَارَاتِ تُمْلَكُ بالاسْتِيلاَءِ (¬2)، كما تُمْلَكُ المَنْقُولاَتُ. وعن أبي حَنِيْفَةَ: أنه يَتَخَيَّرُ الإمَامُ في العَقَارِ المَغنوم بين أن يقسمها على الغَانِمِينَ كالمَنْقُولِ، وبين أن يَتْرُكَهَا في أيديَ الكُفَّارِ، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- بَعَقَار "مكة"، وبين أن يَقِفَهَا على المسلمين، كما فعل عمر -رضي الله عنه (¬3) - بِسَوَادِ (¬4) "العراق". هكذا حكاه ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
صاحب "التهذيب" ويذكر عنه أنه إذا أَقَرَّهَا على مِلْكِ أَرْبَابِهَا ضرب عليهم جِزْيَتَيْنِ: إحداهما: على رُؤوسِهِمْ. والأخرى: على الأَرَاضِي. فإذا أَسْلَمُوا سَقَطَتْ جِزْيَة الرؤوس دُونَ الأخرى. ويروى عن أبي حَنِيْفَةَ في سَوَادِ "العراق" ما يُخَالِفُ التخيير بين الخِصَالِ الثلاث وسيجيء من بَعْدُ، والقول في عَقَارِ "مكة" يأتي في المسألة الثانية. وأما سَوَادُ "العراق" ففيه فُصُولٌ: أحدها: في كيفية فَتْحِهِ، وما فعل به عُمَرُ -رضي الله عنه- فعن أبي إِسْحَاقَ نَقْلُ وَجْهٍ نَقَلَهُ القاضي ابْنُ كجٍّ -أنه فتح صُلْحًا. وعن الماسَرْجِسِيَّ أن أبَا إِسْحَاقَ كان يَنْصُرُهُ في الدَّرْسِ، وهذا ما حكي عن أبي حَنِيْفَةَ عن رِوَايَةِ القَفَّالِ وغيره، وأنه قال: إن عُمَرَ -رضي الله عنه- رَدَّهَا عليهم بِخَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ كل سَنَةٍ. وعن أبي الطَّيِّبِ بن سَلَمَةَ أنه قال: أشْتَبَهَ الأَمْرُ عَلَيَّ، فلا أدري أَفتِحَ عَنوَةً أو صُلْحًا؟! والصحيح المَشْهُورُ أنه فُتِحَ عَنْوَةً وأن عُمَرَ -رضي الله عنه- قَسَّمَ أَرَاضِيَ السَّوَادِ (¬1) في جملة الغَنَائِمِ، وكيف قَسَّمَ؟ عن أبي إِسْحَاقَ تَفْرِيعًا على أنه فُتِحَ عَنْوَةً إن كان في الغَنِيمَةِ غير الأراضي من المَوَاشِي، وصُنُوفِ الأَمْتِعَةِ، فرأى عمر -رضي الله عنه- أنه إن صَرَفَ خُمُسَهَا إلى أَهْلِ الخُمُسِ أَنْفَقُوهُ، وأراد أن يجعل لهم عدة باقية يَسْتَظْهِرُون بها فَعَوَّضَهُمْ عن خُمُسِهَا الأخماس الأربعة من الأراضي فحصلت (¬2) الأراضي لِأَهْلِ الخُمُسِ، والمَنْقُولاَتُ لِلْغَانِمِينَ. والصحيح المشهور أنه قَسَّمَهَا بين الغَانِمِينَ، ولم يُخَصِّصْهَا بأهل الخُمُسِ، ثم اسْتَطَابَ قُلُوبَهُمْ عنها واسْتَرَدَّها. قال جَرِيرُ بن عَبْدِ الله البَجَلِيُّ -رضي الله عنه-: كانت بَجِيلَةُ رُبُعَ النَّاسِ يوم ¬
"القَادِسِيَّةِ" فَقَسَّمَ عمر -رضي الله عنه- رُبُعَ السَّوَادِ، فاشتغلوا ثَلاَثَ سِنِينَ، وأربعًا، ثم قَدِمْتُ على عمر -رضي الله عنه- فقال: "لولا أني قَاسِمٌ مَسْؤُولٌ لتركتكم على ما قسم لكم ولكني أرى أن تَرُدُّوا على الناس". [فَغَاصَبَنِي من حَقِّي نَيِّفاً وثمانين] (¬1) دِينَارًا، وكان معي امْرَأَةٌ يقال لها: أُمُّ كُرْزٍ، فقالت: إن أبي شَهِدَ "القادسية" وثبت سَهْمُهُ، ولا أسلمه حتى يَمْلأَ كَفِّي دَنَانِيرَ وفمي لآلِئَ، ويُرْكِبَنِي نَاقَةً ذَلُولاً عليها قَطِيفَةً حَمْرَاءُ، ففعل عمر -رضي الله عنه- فتركت حقها، ثم اخْتَلَفَ الأصحاب فيما فعله بالأراضي المُستَرَدَّةِ على وجهين: أظهرهما: وبه قال الأكثرون منهم الإصْطِخْرِيُّ [وفقهاؤنا البصريون أنه] (¬2) وَقَفَهَا على المسلمين، وأَجَّرَهَا من أهلها، والخَرَاجُ المضروب عليها أُجْرَةٌ مُنَجَّمَة تُؤَدَّى كُلَّ سَنَةٍ، وعلى هذا نَصَّ الشَّافعي -رضي الله عنه- في "كتاب الرُّهون"، وفي سِيَرِ الوَاقِدِيّ، وَيدُلُّ عليه ما روي أن عتبة بن فَرْقَدٍ اشترى أَرْضاً من أرض السَّوَادِ، فأتى عمر -رضي الله عنه- فَأخْبَرَهُ فقال: ممن اشْتَرَيْتَهَا؟ فقال؛ من أهلها؟ فقال: فهؤلاء المسلمون أبعتموه شيئاً؟ قالوا: لا. قال: فَاذْهَبْ فاطلب مَالَكَ. وعن سفيان الثَّوْرِيُّ أنه قال: جَعَل عمر -رضي الله عنه- السَّوَادَ وَقْفًا على المسلمين ما تَنَاسَلُوا. والثاني: وبه قال ابْنُ سُرَيْجٍ، ويُحْكَى عن اختيار أبي إِسْحَاقَ أنه باعها من أهْلِهَا، والخَرَاجُ [ثَمَن مُنَجَّمٌ] (¬3)؛ لأنه لم يَزَلِ الناس يَبِيعُونَ أَهْلَ السَّوَادِ وَيشْتَرُونَ من غَيْرِ إِنْكَارٍ، ومن قال بالوجه الأول لا يسلم عدم الإنْكَارِ، وقد رَوَيْنَا عن عمر -رضي الله عنه- في شراءِ ابن فَرْقَدٍ. وعن ابن شُبْرُمَةَ أنه قال: لا أجيز بَيْعَ أَرْضَ السَّوَادِ، ولا هِبَتَهَا, ولا وَقْفَهَا، وقد أَوْرَدَ الوجهين معاً صَاحِبُ الكتاب في "الرَّهْن" واقْتَصَرَ هاهنا على إِيرَادِ الأَظْهَرِ منهما، وفيما فعل عُمَرُ -رضي الله عنه- على اخْتِلاَفِ الوَجْهَيْنِ عدول عن الأصل المُمَهّدِ، وأنه شَرْطٌ في الإجارة أن تكون المُدَّةُ مَعْلُومَةً، وفي البيع أن يكون جملة الثمن معلومةً، لكن قال العلماء: إنها بالاسْتِرْدَادِ رجعت إلى حُكْم الكُفَّارِ، وللإمام أن يفعل المَصْلَحَةَ الكلية في أموال الكفار ما لا يجوز مثله في أَمْوَالِ المُسْلِمِينَ، كما سيأتي إن شاء الله -تعالى- في مسألة العِلْجِ وكما نقل في البَدأَةِ والرَّجْعَةِ. ورأى عمر -رضي الله عنه-[المصلحة] (¬4) فيما فعل من وجهين: ¬
أحدهما: أنه خشي أن يَشْتَغِلُوا بالعِمَارَةَ والزِّرَاعَةِ، لو تركها في أيديهم وَيتَقَاعَدُوا عن الجِهَادِ. والثاني: أنه لم يَسْتَحْسِنْ أن يَنْفَرِدوا بها وذُرِّيَّتُهُمْ، وينقطع عن سَائِرِ النَّاسِ الذين يَأْتُونَ من بعدهم [رفقها ومَنْفَعَتهَا] (¬1). ويروى أنه قال: لولا أن أَخْشَى أن يَبْقَى آخر الناس بياتًا لا شيء لهم لَتَرَكْتُهُمْ، وما قسم لكم، ولكني أحِبُّ أن يلحق آخِرُ الناس أَوَّلَهُم -وتلا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ...} الآية. قوله: "بَيَاتًا" قيل: أي: شيئاً وَاحِدًا وقيل: متَسَاوِيْنَ في الفَقْرِ. وعن القاضي أبي حَامِدٍ أن لابن سُرَيْجٍ عِبَارَة أخرى تخرح الخلاف عن أن يكون ثمناً مع تجويز البَيْع، فقال؛ إن عُمَرَ -رضي الله عنه- وَقَفَهَا وَقْفًا لا محرماً مؤبّدًا، ولكن جَعَلَهَا مَوْقُوفَةً علَى مَصَالِح المسلمين ليؤدي مُلاكها على تَدَاوُلِ الأيدي ويَبْذُلُهَا بالبيع والشراء خَرَاجاً يَنْتَفِعُ به المسَلمون، فعلى الوجه الثاني يجوز رَهْنُهَا، وبَيْعُهَا، وهِبَتُهَا. وعلى الأول لا يَجُوزُ بيع شيء من ذلك، ويَجُوزُ على الوجهين لأَرْبَابَهَا إِجَارَتُهَا مُدَّةً معلومة، وهل لهم الإجارة المؤبدة بمال يتراضيان عليه؟. حكى الإِمَامُ فيه تَردُّدًا للأصحاب ومنهم من جَوَّزَهُ تَبَعًا لفعل عُمَرَ -رضي الله عنه-. وقال: من استحق مَنفَعَةً على جِهَةٍ لم يبعد أن يملك إخراج نفسه من البيت وِإحْلاَل غيره مَحلَّهُ. والأصح: وهو المَذْكُور في الكتاب: المَنْعُ، كما في سَائِرِ الإجَارَاتِ والتأبيد في إِجَارَةِ عمر -رضي الله عنه- احتمل لِمَصْلَحَةِ كلية، والجزئيات ليسَت كَالكُلِّيَّاتِ -فلا يجوز لغير سُكَّانِهَا أن يزعج واحداً من السُّكَّانِ، ويقول: أنا أَسْتَغِلُّهَا، وأُعْطِي الخَرَاجَ؛ لأنه مالك لرقبتها إِرْثًا على أحد الوَجْهَيْنِ، ومَالِكٌ مَنْفَعَتَهَا على الوجه الأظهر بعقد إنَابَةٍ مع عُمَرَ -رضي الله عنه- والإجَارَة لاَزِمَةٌ لا تَنْفَسِخُ بِالمَوْتِ، وهذا كُلُّهُ في الأرَاضِي المُغِلَّةِ، وهي التي تُزْرَعُ وتُغْرَسُ. فأما في حَدِّ السَّوَادِ من المَسَاكِنِ والدُّورِ، فإن قلنا: إن تلك الأراضي مَبِيعَةٌ من أَرْبَابِهَا فكذلك المساكن. وإن قلنا: إنها مَوْقُوفَةٌ فوجهان: أحدهما: أنها كالمَزَارعِ. ¬
وأظهرهما: وهو الذي أَوْرَدَهُ الرُّوَيانِيُّ في "جمع الجوامع": المنع لأنه لم يكره أحد شِرَاءها وسُكْنَاهَا ولأن وَقْفَهَا يُفْضِي إلى خَرَابِهَا، وهل يجوز لمن في يَدِهِ الأرض تَنَاوُلُ ثِمَارِ أشجارها؟ إن قلنا: إن الأراضي مَبِيعَةٌ منهم، فما فيها من الأشْجَارِ كذلك والثمار مَمْلُوكَةٌ لهم. وإن قلنا: إنها مستأجرة، فوجهان: أحدهما: يجوز له تَنَاوُلُهَا لِلْحَاجَةِ، ويحتمل ذلك وإن كانت الثِّمَارُ لا تستحقّ في سائر الإجَارَاتِ كما يحتمل التَّأْبِيد. وأصحهما: وأرجحهما على ما ذكره الرُّوَيانِيُّ وغيره المَنْعُ بل الإِمام يَصْرِفُهَا وأثمانها إلى مَصَالِحِ المُسْلِمِينَ؛ لما روي عن أبي الوَلِيدِ الطَّيَالِيسِيِّ أنه قال: "أدركت النَّاسَ بـ"البصرة" وإنه لَيُجَاءُ بالتمر الفرات فما يَشْتَريهِ إلا أَعْرَابِيٌّ أو من يَتَّخِذُهُ لِلنَّبِيذِ" يريد به أنهم كَانُوا يَتَحَرَّزُونَ منه وإن ذلك كان مَشْهُورًا فيما بينهم. وإذا تَأمَّلْتَ هذا الشَّرْحَ، ذلك أن تُعَلِّمَ قوله في الكتاب؛ "وقد مَلَكَ عُمَرُ -رضي الله عنه- أَرَاضِيَ العِرَاقِ" بالحاء والواو. ولأن من يقول: إنها فُتِحَتْ صُلْحًا لا يقول: إنها مُلِكَتْ، ثم إِضَافَةُ المِلْكِ إليه على سَبِيلِ أنه المُتَسَبِّبُ إلى تحصيله، لا على معنى أنه ملكها خَاصَّةً. ويجوز أن يُعَلَّمَ قوله: "وقسمها" وقوله بعد ذلك: "ووقفها" كلاهما بالميم؛ لأن عند مَالِكٍ أنها صارت مِلْكًا بنفس الاغْتِنَامِ، والاسْتِيلاَءِ. ولْيُعَلَّمْ بهذا قوله في الكتاب: "ولا يملك بالاسْتِيلاَءِ" بالميم أيضاً، ويجوز إِعْلاَمُ قوله: "ووقفها وأجرها" بالواو؛ لقول من قال: إنَّهُ بَاعَهَا. وكذا قوله: "وضرب الأُجْرَة خَرَاجًا"؛ لأن ذلك القَائِلَ المَضْرُوب ثمن لا أُجْرَةٌ. وقوله: "فلا يَصِحُّ بَيْعُ أراضي العِرَاقِ" بالحاء والواو، ولك أن ترجع من هذا المُنْتَهَى إلى لَفْظِ الكتاب في الرَّهْنِ، فتعلم قوله: "وأنه وقف" بالحاء. وقوله: "وَقَفَهَا عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-" بالميم. وقوله: "يملكها غيره" بالحاء والواو. ونختم هذا الفَصْلَ الأَوَّلَ بفائدتين: إحداهما: قال الشَّافعَيُّ -رضي الله عنه- في "المختصر": ولا أعرف ما أقول في السَّوَادِ إلا بظن مَقْرُونٍ إلى عِلْمٍ، واختلف في تفسيره: فعن ابن سُرَيْجٍ أن المعنى كِدْتُّ أقول: إلا أنه اقْتَرَنَ به العِلْمُ، فزال الظَّنُّ وقلت: بعلم.
الفصل الثاني: في حد السواد
وعن أبي حَفْصِ بن الوَكِيلِ: أنه أراد بالظَّنِّ أن الأَخْبَارَ الواردة في الباب طَرِيقُهَا الظَّنُّ الغَالِبُ، وأراد بالعِلْمِ العِلْم بِوُرُودِهَا. وعن أبي إِسْحَاقَ أنه أراد بقوله: "بِظَنِّ مَقْرونٍ بدليل"، كأنه عَبَّرَ عن العِلْمِ بالدليل؛ لأنه يثمر العلم. وقيل: أراد أن فَتْحَهَا عَنْوَةً مَعْلُومٌ لِكَثْرَةِ الناقلين، والذي فعل عمر -رضي الله عنه- بِهَا مَظْنُونٌ، ويمكن أن يُقَالَ: أَشَارَ بالكلمة إلى كثرة اخْتِلاَفِ الرِّوَايَاتِ فيه، فيكاد يرتقي الظَّنُّ إلى حَدِّ العلم، ويراجع العلم إلى حَدِّ الظَّنِّ أخرى. الثانية: إذا أراد الإِمَامُ اليوم أن يُوقِفَ أَرْضَ الغَنِيمَةِ كما فعل عمر -رضي الله عنه- جاز إذا اسْتَطَابَ قُلُوبَ الغانمين في النزول عنها بِعِوَضٍ، أو بغير عِوَضٍ، وإن أَبَى بَعْضُهُمْ فهو أَحَقُّ بماله، وكذلك المَنْقُولاَتُ والصِّبْيَانُ والنِّسْوَان لا يجوز لِلإمَامِ رَدُّ شيء منها إلى الكُفَّارِ إلا بِطِيبَةِ أَنْفُسِ الغانمين؛ لأنهم ملكوها بالاغْتِنَامِ. قال الإِمام: وليس لِلإمَامِ أن يَأْخُذَ الأَرَاضِيَ قَهْرًا، وإن كان يعلم أنهم [يَتَوَانَوْنَ بسببها] (¬1) في الجِهَادِ، ولكنَ يَقْهَرُهُمْ على الخروج إلى الجِهَادِ بحسب الحَاجَةِ. وجَوَّزَ أبو حنيفة رَدَّ الأراضي المَغْنُومَةِ إلى الكُفَّارِ، وِإن أبَى الغَانِمُونَ. [قال الغَزَالِيُّ: الفَصْلُ الثَّانِي: فِي حَدِّ السَّوَادِ]. قال الرَّافِعِيُّ: وقد أطلق مُطْلِقونَ أن سَوَادَ "العِرَاقِ" من "عَبَادَانَ" إلى حديقة "المَوْصِلِ" طُولاً، ومن [عذيب] "القادسية" إلى حلوان عَرْضًا، وعلى هذا جَرَى صَاحِبُ الكتاب في "باب الرَّهْنِ" وهو بالفَرَاسِخِ على ما ذكر المَاوَرْدِيُّ وغيره في الطُّولِ مائة وستون، وفي العَرْضِ ثمانون، وذكر في مَسَاحَتِهِ قولان: أحدهما: أنها اثْنَانِ وثلاثون ألف جريب، ويُنْسَب؛ هذا إلى ابن المُنْذِرِ. والثاني: ستة وثلاثون أَلْفَ ألف، ويمكن أن يرجع التَّفَاوُتُ إلى ما يَقَعُ في الحد المذكور من السِّبَاخِ والتُّلُولِ والطُّرُق ومجاري الأنْهَارِ، ونحوها مما لا يزرع، وكان بعضهم أَخْرَجَهَا عن الحساب، لكن في إِطْلاَقِ الحَدِّ المذكور [تَسَاهُلٌ] (¬2) لما اشتهر من أَرْضِ "البصرة" أنها كانت [سَبْخَة] (¬3) أحْيَاهَا عثمان بن أبي العَاصِي، وَعُتْبَة بن غَزْوَانَ -رضي الله عنهما- بعد الفتح، وهي دَاخِلَةٌ في هذا الحَدِّ، ولا بد من استثنائها. ¬
الفصل الثالث في الخراج الذي ضرب على أرض السواد
وقد أطلق صاحب "التهذيب" أن "البصرة" لا تَدْخُلُ في حكم السَّوَادِ، وإن كانت دَاخِلَةً في حَدِّهِ. وفي "البحر" أن القاضي المَاوَرْدِيّ قال: حضرت الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ، وهو يدرس تحديد السَّوَادِ في "كتاب الرَّهْنِ"، وأدخل فيه "البصرة" ثم أقْبَلَ عَلَيَّ، وقال: هكذا تَقُولُ. فقلت: لا إنها كانت مَوَاتاً أَحْيَاهَا المُسْلِمُونَ، فأقبل على أصحابه وقال: عَلِّقُوا ما يَقُولُ، فإن أهل "البصرة" أعرف بـ"البصرة"، ولكن في اسْتِثْنَاءِ "البصرة" على الإِطْلاَقِ تَسَاهُلٌ أيضاً. والثالث: وهو الذي أَوْرَدَه صاحب "التهذيب" وغيره أن "البصرة" ليس لها حُكْمُ السَّوَادِ، إلا في موضع من شرقي دِجْلَتِهَا يسمى "الفُرَات"، وموضع من غربي يسمى نهر "الصراة" وإنما سموها أَرْضَ السَّوَاد؛ لأنهم خَرَجُوا من البَادِيَةِ، فرأوا خضرة [الزرع والأشجار الملتفة، والخضرة] (¬1) ترى من البعد سَوَادًا، فقالوا: ما هذا السَّوَادُ؟. وأيضاً فبين اللَّوْنَيْنِ تَفَاوُتٌ، وقد أطلق اسم أحدهما على الآخر. [الفصل الثالث في الخَرَاجِ الَّذِي ضُرِبَ على أرض السَّوَادِ] ما يُؤْخَذُ من خَرَاجِ هذه الأَرَاضِي يَصْرِفُهُ الإمَامُ إلى مَصَالِحِ المسلمين والأهم منها فالأهم، ويجوز صَرْفُهُ إلى الفُقَرَاءِ والأَغْنِيَاءِ من أَهل الفَيْءِ وغيرهم، وقدر الخَرَاج في كل سَنَةٍ مَا رَوَاهُ الشَّعْبِيُّ أن عمر -رضي الله عنه- بعث عُثْمَانَ بن [حنيف] (¬2) مَاسِحَاً فَفَرَضَ على كل جَرِيبِ شَعِيرٍ دِرْهَمَيْنِ، وعلى كل جَرِيبِ حِنْطَة أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وعلى جَرِيبِ الشَّجَرِ وَقَصَبِ السُّكَّرِ ستة دَرَاهِمَ، وعلى جَرِيبَ النَّخْلِ عشرة دراهم، وعلى جَرِيبِ الزَّيْتُونِ اثني عشر درهماً. وعن رواية أبي مجلز أن ابن حنيف فَرَضَ على جَرِيب الكَرْم عشرة دراهم، وعلى جَرِيب النخل ثَمَانِيَةَ دَرَاهِم، وليس فيها ذِكْرُ الزيتون والبَاقي لما سبق وأقام مُقِيمُونَ الرِّوَايَتَيْنِ وجهين لِلأصْحَابِ، والمشهور الثاني على ما ادّعى صاحب "البيان". وعن أبي حَنِيْفَةَ أنه سَاعَدَنَا في جميع ذلك، إلاَّ في الشَّعِيرِ والحِنْطَةِ، فإنه قال: يُؤْخَذُ من جَرِيبِ الشعير قَفِيزٌ ودرهم ومن جَرِيبِ الحِنْطَةِ قَفِيزٌ ودرهمان. ¬
وعن أحمد: يُؤْخَذُ من كل واحد منهما قَفِيزٌ ودرهم، ويذكر أن الحَاصِلَ من أرض "العراق" في عَهْدِ عمر -رضي الله عنه- كان مائة ألف ألف وسبعة وثلاثين ألف ألف درهم. وقيل: مائة ألف ألف وستين ألف ألف، ثم كان يَتَنَاقَصُ حَتَّى عاد في زَمَانِ الحَجَّاجِ إلى ثمانية عشر ألف ألف دِرهَمٍ، فلما وَليَ عُمَرُ بْنُ عبد العزيز -رضي الله عنه- ارْتَفَعَ في السَّنَةِ الأولى إلى ثلاثين ألف ألف دِرهَمٍ، وفي الثانية إلى ستين أَلْفَ ألف. وقيل: فوق ذلك فقال: إن عِشْتُ [لَأَبْلُغَنَّ] (¬1) إلى ما كان في عَهْدِ عُمَرَ بن الخَطَّابِ -رضي الله عنه- فمات في تلك السَّنَةِ -رضي الله عنه-. المسألة الثانية مَكَّة شَرَّفَهَا الله -تعالى- فتحت صُلْحًا. وقال أبو حَنيفَةَ ومالك: فتحت عَنْوَةً. واحتج الأصحاب بقوله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} إلى قوله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} [الفتح: 21]. قيل: التي عَجَّلَ لهم غَنَائِمُ "خيبر" والتي لم يقْدِرُوا عليها غَنَائِمُ "مكة"، والمعنى لم تَقْدِرُوا عليها بالقَهْرِ، وفي قِصَّةِ فتح "مكة" بأن أبا سفيان طلب الأَمَانَ لأهل "مكة" فَعَقَدَ الأَمَانَ لهم رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وهم بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فقال: "مَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ [ومن ألقى سلاحه فهو آمن] (¬2) وَمَنْ أَغلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ" (¬3) واستثنى رِجَالًا مَخْصُوصِينَ أمر بقتلهم، وأيضاً فإنه لم يقتل، ولم يسب، ولا قَسَّمَ عَقَارًا، ولا منقولاً، ولو فتحت عَنْوَةً لكان الأَمْرُ بخلافه. وقال صاحب "الحاوي": عندي أن أَسْفَلَ "مَكَّةَ" دخلها خالد بن الوَلِيدِ عَنْوَةً، وأَعْلاَهَا دخل الزبير بن العَوَّامِ -رضي الله عنه- صلحًا ودخل النبي -صلى الله عليه وسلم- من جهة الزبير، فصار حُكْمُ جهته الأَغْلَبَ، ولم يغلب أسفل "مكة"؛ لأن القِتَالَ كان على جِبَالِهَا ولم يكن فيها. وقد يعلل أبو حنيفة امْتِنَاعَ النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قِسْمَةِ العَقَارَاتِ بأنها خلقت حرة ويقول: لا يجوز [بيع] (¬4) دور "مكة". وعندنا: دُورُهَا وعِرَاصُهَا المحياة مَمْلُوكَةٌ، كما ¬
الباب الثالث في ترك القتل والقتال بالأمان
في سائر البلاد ويصح بيعها ولم يَزَلِ النَّاسُ يَتَبَايَعُوْنَهَا. وقد رُوِيَ أن عُمَرَ -رضي الله عنه- اشترى حُجَرَةَ سَوْدَةَ بـ"مكة" حَرَسَها الله -تعالى- وأن حكيم بن حِزَامِ باع دَارَ النَّدْوَةِ من مُعَاوَيةَ. قوله في الكتاب: "وقد فتحت عَنْوَةً" ظَاهِرُهُ يُخَالِفُ المَذْهَبَ فإن الفتح عَنْوةً قَوْلُ أبي حنيفة ومالك على ما بَيَّنَّاهُ، وإذا آخره فهول مَحْمُولٌ على ما قال الإِمام: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل "مكة" مُسْتَعِدّاً لقتال لو قُوتِلَ، إلا أنه لم يُقَاتَلْ واستؤمن وأما الفتح عَنْوَةً [فعلى معنى] (¬1) أنه منع فقاتل، فهذا لم يَتَحَقَّقْ، وقد فسر العَنْوَةَ في "الوسيط" بذلك، وكان في غُنْيَةٍ من استعمال "عَنْوَةِ" وتفسيره والله أعلم. " البَابُ الثَّالِثُ فِي تَرْكِ القَتْلِ وَالقِتَالِ بِالأَمَانِ" قال الغَزَالِيُّ: وَالأَمَانُ مَصْلَحَةٌ فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ* وَمَكِيدَةٌ مِنْ مَكَائِدِ القِتَالِ في المُبَارَزَةِ* وَلا يَصِحُّ مِنْ آحَادِ المُسْلِمِينَ إلاَّ فِي آحَادِ الكُفَّارِ أَوْ عَدَدٍ مَحْصُورِينَ* وَيَصِحُّ مِنْ كُلِّ مُؤْمِنٍ مُكَلَّفٍ حَتَّى العَبْدِ (ح) وَالمَرْأَةِ وَالشَّيْخِ الهَرِمِ وَالسَّفِيه* وَلاَ يَصِحُّ مِنْ مَجْنِونٍ (و) وَصَبيٍّ. قال الرَّافِعِيُّ: الأَمَانُ وإن تَضَمَّنَ تَرْكَ القتل والقِتَالِ، لكنَّ المَصْلَحَة قد تَقْتَضِيهِ، إما في استمالة الكافر لِيَرْغَبَ في الإِسْلاَم، علَى ما قَالَ تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ ...} [التوبة: 6] الآية أَو لِتَرْفِيهِ الجُنْدِ، أو لترتيب أمُورِهِمْ، أو لِلْحَاجَةِ إلى دخولِ الكُفَّارِ، وقَدْ يصيرُ مَكِيدةً من مَكَائِدِ القِتَالِ فِي المُبَادَرَةِ لاستنزال الأَبْطَالِ والأَقْرَانِ، وينقسمُ إلى عَامٍّ، وَهُوَ الذي يَتَعَلَّقُ بِأهْلِ إقليم، وناحيةٍ، وبَلدَةٍ وهذا يَخْتَصُّ بالإمام وَوُلاَتِهِ، وهو عَقْدُ المُهَادَنَةِ، وسيأتي من بعد إن شَاءَ اللهُ تعالى. وإلى خَاصٍّ وَهُوَ الذي يَتَعَلَّقُ بالآحَادِ وهذا يَصِحُّ من الوُلاَةِ ومن الآحَاد، والباب مَعْقُودٌ لِهَذَا القِسْمِ الخاص. والأَصْلُ فيه مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً أَجَارَ رَجُلاً من المُشْرِكِينَ، فقالَ عَمْرُو بنُ العَاصِ، وخِالِدُ بنُ الوَلِيدِ: لا يُجِيرُ ذلكَ، فقَالَ أبو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاح -رضي الله عنه- ليس لكما ذلكَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يجير علَى المُسْلِمَينَ بعضهم" فأجَارُوهُ (¬2). ¬
وعنْ عَلِيٍّ -كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ- أنه قال: ما عِنْدِي إلا كِتَابُ اللهِ، وهذهِ الصَّحِيفَة عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ ذِمَّةَ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، فمن حقَرَ مسلماً، فعليه لَعْنَةُ الله والملائكةِ، والناسِ أجمعين" (¬1). والفصل يشتمل على مَسْألَتَيْنِ: إحداهما؛ إنَّمَا يَجُوزُ لآحَادِ المسلمين (¬2) أَمَانُ وَاحدٍ من الكُفَّار، أو جَمَاعَةٍ مَحْصُورِينَ؛ كعشرةِ ومائة، ولا يَجُوزُ لهم أَمَانُ إِقْلِيم، وَنَاحِيَةٍ، وبلدةٍ، بل النَّظَرُ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بصَاحِبِ الأمر وفي "البيانِ": أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يُؤَمِّنَ وَاحِدٌ أَهْلَ قَلْعَةٍ, ولا شك أن القَرْيَةَ الصَّغِيرَةَ في معناها، وعن المَاسَرْجِسِيِّ: أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُؤَمِّنَ الوَاحِدُ لأهل قرية، وإنْ قَلَّ عَدَدُ من فيها، والأشبه الأول. والضَّبْطُ في الباب إلاَّ يَنْسَدَّ بسببه بَابُ الجِهَادِ في تلك الجِهَةِ، والناحية، فإذا تأتى الجِهَادُ من غير التَّعَرُّض لِمَنْ آمن، نَفَذَ الأَمَانُ. قال الإِمام: والسِّرُّ فيه أَنَّ الجِهَادَ شِعَارُ الدِّينِ والدَّعْوَةِ القهرية، وَهُوَ وَجْهٌ من أعظم المَكَاسِبِ للمسلمينَ، فَيَنْبَغِي ألا يظهر بأَمَانِ الآحَادِ [انحسام] (¬3) ولا نقصان يحس. قال: ولو أَمَّنَ مِائَةُ ألْفٍ من المسلمين مِائَة أَلْفٍ من الكفار، فكل واحدٍ لم يُؤَمِّنْ إلا وَاحِداً، لكن إذا ظَهَرَ انحسام أو نُقْصَانْ، فأمان الكُلِّ مَرْدُودٌ، ولك أنْ تَقُولَ: إن أمَّنُوهُمْ معاً، فالكل متوجّهٌ وإن أمَّنُوهُمْ على التَّعَاقُب، فينبغي أن يَجُوزَ أَمَانُ الأَوَّلِ، فالأول إلى ظهورِ الخَلَلِ، على أنَّ القَاضِي الروياني أَوْرَدَ أَنَّهُ إذا أمَّنَ واحداً جاز، وإن كَثُرُوا حتى زَادُوا على عَدَدِ أَهْلِ البَلْدَةِ الواحدةِ والقريَةِ الواحدةِ لم يَجُزْ. ولا فَرْقَ بين أنْ يَكُونَ الكَافِرُ المؤمن في دَارِ الحرب، وبين أن يُؤمن في حَالِ القِتَالِ، أو في الهَزِيمَةِ أو عند الوُقُوعِ في مضيق، بلْ يَجُوز الأَمَانُ مَا دَامَ ممتنعًا. فأمَّا بعد الأَسْرِ، فلا يَجُوزُ للأَحَادِ أَمَانُهُ، ولا المَنُّ عليه؛ لأنَّ بالأَسْرِ، ثبت ¬
للمسلمين فيه حَقٌّ، ويخبر الإِمام، فلا يَجُوزُ إبْطَالُهُ والتَّفْوِيتُ عليه. ولو قَالَ واحد من المسلمين: كُنْتُ أمَّنْتُهُ قَبْلَ هذا، لم يُقْبَلْ؛ لأنَّهُ لا يَمْلِكُ أَمَانَهُ في الحَال [بخلاف ما إذا أَقَرَّ بِأمَانِ مَنْ يَجُوزُ أَمَانُهُ في الحال] (¬1). ولو قال جَمَاعَةٌ: كُنَّا أَمَّنَّاهُ، فكذلك لا يُقْبَلُ؛ لأنَّهم يَشْهَدُونَ على فِعْلِ أَنْفُسِهِمْ، ولو قَالَ وَاحِدٌ: كُنْتُ أَمَّنْتُهُ، وشَهِدَ بِهِ اثنان، قبلت شَهَادَتُهمَا. المسألة الثَّانِيَة. يَصِحُّ الأَمَانُ (¬2) مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفِ، فيدخل فيه العبد وقال أبو حُنيفةَ: لا يَصِحُّ أَمَانُهُ، إلاَ أَنْ يَكُونَ مأذونًا لَهُ في القِتَالِ. لنا: إِطْلاَقُ النُّصُوصِ، وأيضاً فقد قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤهُمْ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ" (¬3)، ولاَ فَرْقَ بين أن يَكُونَ سَيِّدُهُ مُسْلماً أو كَافِراً، ويدخل فيه المَرْأَةُ والخُنْثَى. ¬
ويُرْوَى عن أم هَانِيءٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهما- قالت: أَجَرْتُ رَجْلَيْنِ من أحْمَايَ، فقَالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَمَّنَّا مَنْ أَمَّنْتِ" (¬1). ويَدْخُلُ فيهِ أَيْضًا الفَقِيرُ والمَحْجُورُ عليه [بالسَّفَهِ، والفلس] (¬2) والمَرِيضُ، والشيخُ الهَرِمُ، والفَاسِقُ، فيجوز أَمَانُهُمْ، وعن ابن أبي هُرَيْرَةَ: وَجْهٌ في الفَاسِقِ. لكنَّهُ نوعٌ ولايَةٍ، ويخرجُ عن الضبط الكَافِرُ، فلا (¬3) يصحُّ أمَانُهُ؛ لأنَّه مُتَّهَمٌ، ولَيْسَ من أهل النظر للمُسْلِمِينَ، ويخرجُ الصَّبِيُّ، والمَجْنُونُ، فلا (¬4) اعتبارَ بعبارتِهما، وفِي الصَّبيِّ المُمَيِّزِ وَجْهٌ؛ لأنَّهُ عَقْدٌ لا ضِرَارَ فيهِ، ولا تَبِعَةَ، وهو كالتدبير [والوصية، وهذا الوجه حِكَايَةُ القاضي ابن كَجٍّ عن أبي الحُسَيْنِ، عن أبي بكر به. الخَفَّافِ، من أصحابنا مَبْنِيّاً على صِحَّةِ إِسْلاَمِهِ] (¬5) ويُعْتَبَرُ مع الإسْلاَم والتكليفِ الاخْتِيَارُ، فالمكره على عَقْدِ الأَمَانِ لا يَصِحُّ أَمَانُهُ والأَسِيرُ قَرِيبٌ من المُكْرَهِ، وسيأتي حُكْمُ أَمَانِهِ من بَعْدُ، إنْ شَاءَ اللهُ تعالى. قال الغَزَالِيُّ: وَيَنْعَقِدُ باللَّفْظِ وَالكِتَابَةِ وَالإِشَارَةِ المُفْهِمَةِ* فَإِنْ رَدَّ الكَافِرُ ارْتَدَّ* وَإِنْ قَبِلَ صَحَّ* وَلاَ يَكْفِي سُكُوتُهُ بَلْ لاَ بُدَّ مِنْ قَبُولٍ وَلَوْ بِالفِعْلِ* فَلَوْ أَشَارَ عَلَيْهِمْ مُسْلِمٌ فِي صَفِّ الكُفَّارِ فَانْحَازَ إِلَى صَفِّ المُسْلِمِينَ وَتَفَاهَمَا الأَمَانَ فَهوَ أَمَانٌ* وَإِنْ ظَنَّ الكَافِرُ أنَّهُ أَرَادَ الأَمَانَ وَالمُسْلِمُ لَمْ يُرِدْهُ فَلاَ يُغْتَالُ بَلْ يُلْحَقُ بِمَأْمَنِهِ* وَلَوْ قَالَ: مَا فَهِمْتُ الأَمَانَ ¬
يُغْتَالُ* وَمَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ لِسِفَارَةٍ أَوْ لِسَمَاعِ كَلاَمِ اللهِ تَعَالَى لَمْ يُفْتَفَرْ إِلَى عَقْدِ أَمَانٍ بَلْ ذَلِكَ القَصْدُ يُؤَمِّنُهُ* وَقَصْدُ التِّجَارَةِ لاَ يُؤَمِّنُهُ وَإنْ ظَنَّهُ أَمَاناً* وَلَوْ قَالَ الوَالي: أَمِنْتُ مِنْ قَصْد التِّجَارَة صَحَّ* وَلاَ يَصِحُّ مِنَ الآحَادِ* فَإِنْ ظَنَّ الكَافِرُ صِحَّتَهُ فَلاَ يُغْتَالُ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ. قال الرَّافِعِيُّ: ينعقدُ الأَمَانُ بِكُلِّ لَفْظٍ مُقَيّدِ للغرض صَرِيحًا كان، أو كِنَايَةً فالصَّرِيحُ كَقَوْلِهِ: "أَجَرْتُكَ، أو أنت مُجَارٌ، أو أَمَّنْتُكَ، أو أنت آمِنٌ، أو في أَمَانِي". قَالَ في "البحر": وكذَا لو قَال: "لاَ بأْسَ عَلَيْكَ" وَيدُلُّ عليه ما رُوِيَ أنَّ الهرمزَانَ لمَّا حَمَلَهُ أبو موسى الأشْعَرِيُّ إلى عُمَرَ -رضي الله عنه- فقَالَ لَهُ عُمَرُ: تكلمْ لا بَأْسَ عَلَيْكَ، ثم أراد قَتْلَهُ. فقَالَ له أَنَسُ بن مَالِكٍ -رضي الله عنه-: ليس لك إلى قَتْلِهِ سَبِيلٌ قُلْتَ له: تَكَلَّمْ لا بَأْسَ عليك فتركه (¬1). وفي إيراد بعضهم ما يَقْتَضِي كَوْنَهُ كِفَايَةً، واعترض عليه في قِصَّةِ الهرمُزَان بأنه كان أَسِيرًا، وقد قُلْتُمْ بأن الأَسِيرَ لا يَجُوزُ أَمَانُهُ، وأُجِيبَ عنه بأنَ الآحَادَ هُمُ الَّذِينَ لا يُؤَمِّنُونَ الأَسِيرَ، أما الإمَامُ فله الأَمَانُ، كَمَا له المَنُّ ويَنْعَقِدُ الأَمَانُ بأنْ يقول: لا خَوْف عَلَيْكَ، ولاَ تَخَفْ وَلا تَفْزَعْ، أو يقول بالعجمية ميدس مترس (¬2). رُوِي عن ابن مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَعْلَمُ كُلَّ لِسَانٍ، فمن أَتَى مِنْكُم أَعْجَمِيّاً، فَقَالَ: مترس فقد أَمَّنَهُ (¬3). وعند الرُّويَانِيِّ أنَّ هذه الألْفَاظَ أَيضاً صَرِيحَةٌ، وحَكَى صَاحِبُ "الحاوي": أَنَّ قَوْلَهُ: لا خَوْفَ عليك -صَريحٌ دُونَ قوله: لاَ تَخَفْ، ولا تفزع؛ لأنَّ ذَلِكَ نَفي للخوف وهذَا نَفْيٌ. [والكناية كقوله] (¬4): أَنْتَ عَلَى ما تُحِبُّ، أو كُنْ كَيْفَ شِئْتَ. وينْعَقِدُ الأَمَانُ بالكِنَايَةِ والرِّسَالَةِ أيضاً، سواءٌ أكان الرَّسُولُ مُسْلِمًا أو كَافِرًا. ¬
رُوِي عن فَضْيلٍ الرّقاشي أنَّهُ قَالَ: جَهَّزَ عُمَرُ -رضي الله عنه- جَيْشًا وكُنْتُ فِيهمْ [فحصرنا قرية رامهرمز] (¬1) وكتب عَبْدٌ أمَانًا في صَحِيفَةٍ شَدَّهَا مع سَهْمٍ رَمَى بهِ إلى اليَهُودِ، فخرجُوا بأمَانِهِ، فكَتَبَ إلى عُمَر -رضي الله عنه-. فقَالَ العَبْدُ المسلمُ: رَجُلٌ من المُسْلمينَ ذِمَّتُهُ ذِمَّتُهُمْ، ويَنْعَقِدُ أيضاً بالإشَارَةِ المُفْهِمَةِ. رُوِيَ عَن عُمَرَ -رضي الله عنه- أنَّه قَالَ: والَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لو أَنَّ أَحَدَكُمْ أَشَارَ بِإِصْبَعِهِ إلى مُشْرِكٍ، فنزل على ذلك، فقتله لَقَتلْتُهُ (¬2). قَالَ الإِمَامُ: ولاَ فَرْقَ أنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى العِبَارَةِ، أو لاَ يَكُونَ. ومبنى البابِ على الاتساعِ، هذا هو جَانِبُ المسلِم المُؤَمنِ. فأمَا الكَافِرُ المؤمنُ، فلاَ بُدَّ من عِلْمِهِ وبُلُوغِ خبر الأَمَانِ إليه، فإنْ لم يَبْلُغْهُ، فلا أمَانَ، حتَّى لو ابتدر المسلم، فقَتَلَهُ جَازَ، واذَا خَاطَبَهُ بالأَمَانِ، وبَلَغَهُ الخَبَرُ فَرَدَّهُ ارتد؛ لأنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيسِ بنِ شَمَّاس أمَّن الزبير بن باطا يَوْمَ قُرَيْظَةَ فَقَتَلَهُ (¬3)؛ لأَنَّهُ إِيجَابُ حَقِّ لغيرهِ، وإذا رَدَّهُ ارْتَدَّ كالإيجَابِ في الَبيْع والهِبَةِ، وإنْ قبلَ أو كانَ قَدِ اسْتَجَارَ من قبل تَمَّ الأَمَانُ، وَلاَ يُشْتَرطُ قَبُولُهُ لفظًا، بل تكفي الإشَارَةُ والَأَمَارةُ المُشْعِرَة بالقَبُولِ. فإنْ كَانَ في القِتَالِ، فينبغي أنْ يَتْرُكَ القِتَالَ، فلو سَكَتَ، فلم يَقْبَلْ ولم يَرد، قَالَ الإِمَامُ. فيه تَرَدُّدٌ، والظَّاهِرُ أنَّه لاَ بُدَّ من القَبُولِ، وهذا (¬4) هو [المذكور] (¬5) في الكتاب. واكْتَفَى في "التهذيبِ" بالسُّكُوتِ، ولو قَالَ الكَافِرُ: قَبِلْتُ أَمَانَكَ، وَلَسْتُ أُؤَمِّنُكَ فَخُذْ حذرك مني [ففي "النهاية" أن هذا رَدٌّ لِلأَمَانِ؛ لأَن الأَمَانَ لا يَثْبُتُ في أحد الطرفين دون الثَّانِي] (¬6): ويصح تعليق الأمان بالأَعذارِ فلو أَشَار مُسْلِمٌ إلى كافر في القِتَالِ، وانحاز إلى صَفِّ المُسْلِمِينَ وتَفَاهَمَا الأَمَانَ، فَهُوَ أَمَانٌ، فإنْ قَالَ الكافرُ: ظَنَنْتُ أَنَّه يُؤَمِّنُنِي، وقالَ المُسْلِمُ: لم أُرِدْهُ، فالقولُ قَوْلُهُ، ولا أَمَانَ، ولكنْ لا يُغْتَالُ الكافر، ويُلْحَقُ بمَأْمَنِهِ، وكذَا لو دَخَلَ بِأمَانِ صَبِيٍّ، أو مَجْنُون أو مُكْرَهٍ وقَالَ: ظننت صِحَّتَهُ أو ظننته بَالَغاً، أو عَاقِلاً، أو مختارًا، فإنْ قَال: عَرَفْتُ أنهُ لم يُرِدِ الأَمَانَ، فقَدْ دخلَ بلا أَمَانٍ، ولو قال: ¬
عَرَفْتُ أنَّهُ كَانَ صَبِيًّا، وأَنَّهُ لا أَمَانَ لِلصَّبِيِّ فكذلك. ولو مَاتَ المُسْلِمُ المشير قبل البَيَانِ، فلاَ أَمَانَ، ولا اغْتِيَالَ. وما ذكرنا من اعْتِبَارِ صيغة الأَمَانِ، موضعه ما إذا كَانَ الكَافِرُ يدخل بِلاَدَنَا بلا سَبَبٍ، أما إذا دخَلَ لِسِفَارَةٍ (¬1)، فقد مَرَّ أن الرَّسُولَ لا يُتَعَرَّضُ له، فإن دَخَلَ لِيَسْمَعَ الذِّكْرَ ويَنْقَادَ إلى الحَقِّ إذَا لاَحَ له ذلك، فكذلِكَ. وَحَكَى الإمَامُ في قولهِ تعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} [التوبة: 6] أنه لَيْسَ المُرَادُ أنْ يعقد له أَمَاناً [لكن غَرَضَ الآية إعْلاَمُنَا أنه آمِنٌ، وقَصْدُ التِّجَارَةِ لا يفيد الأمان] (¬2)، لكن لو رَأَى الإمَامُ مَصْلَحَةً في دُخُولِ التجار فَقَالَ: من دخلَ تَاجِرًا، فَهُوَ آمِنٌ جاز واتبع، ومثل هَذَا الأَمَانِ لا يَصِحُّ من الآحَادِ. ولو قَال الكَافِرُ ظَنَنْتُ أن قَصْدَ التِّجَارَةِ يُؤَمّن فَيُغْتَالُ، ولا عِبْرَةَ بظن لا مُسْتَنَدَ لَهُ، ولو سَمِعَ واحِدًا من المسلمين يقول: من دَخَلَ تَاجِراً فَهُوَ آمِنٌ، فدخَلَ، وقال: ظَنَنْتُ صِحَّتَهُ، فأظْهَرُ الوجهين (¬3) أنَّه لا يُغْتَالَ. قال الغَزَالِيُّ: وَشَرْطُ الأَمَانِ أَلاَّ يَزِيدَ عَلَى سَنَةٍ* وَيَصِحُّ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ* وَفَوْقَ ذَلِكَ إِلَى السَّنَةِ فِيهِ قَوْلاَنِ* وَلَوْ أَمَّن جَاسُوساً أَوْ مَنْ فِيهِ مَضَرَّةٌ لَمْ يَنْعَقِدْ* وَلاَ تُشْتَرَطُ المَصْلَحَةُ بَلْ يَكْفِي عَدَمُ المَضَرَّةِ لِلصِّحَّةِ. قال الرَّافِعِيُّ: إِنَّمَا قال: "وشرط الأَمَان"؛ لأن المُؤَمِّنَ والمُؤَمَّنَ والصِّيغَةَ التي تَكَلَّمْنَا فيها عدها في "الوَسِيط" أَرْكَاناَ على عَادَتِهِ، فلما فَرَغَ منها عَقبَهَا بما هو شَرْطُ الأَمَانِ أمران: أحدهما: ألاَّ يزيد على سَنَةٍ، وَيجُوزُ إلى أَرْبَعَةِ أَشْهُر وفيما بينهما قَوْلاَن: أصَحُّهُمَا: المَنْعُ وحكمه حكم المُهَادَنَةِ حَيْثُ لا ضعف، والنَّظَرُ في القُوَّةِ والضعفِ يُنَاطُ برأي الإِمام، وكُلُّ واحد لا يُعْرَفُ أسبابها، وحال الأجناد. وذكر في "البحر" أنَّهُ: لو زَادَ على سَنَةٍ، بَطَلَ في الزِّيَادَةِ على المَشْرُوعِ دُونَ البَاقِي. وفي وَجْهِ يبطل في الكلِ تخريجاً من تفريقِ الصفقة وأنه لو أطلق حمل على أربعةِ أشهرٍ ويبلغُ بعدَها المأمن. والثاني: أَلاَّ يتضرر به المسلمُون حتى لو أَمَّنَ جَاسُوسًا، أو طَلِيعَةً، لم يَنْعَقِدْ الأَمَانُ قال الإِمام -رحمه الله-: وينبغي ألاَّ يستحقَّ التَّبْلِيغَ إلى المَأْمَنِ أيضاً؛ لأَنَّ دُخُولَ مِثْلِهِ خِيَانَةٌ فَحَقُّهُ أن يُغْتَالَ، ولو أَمَّنَ من أحاط على مَدَارجِ الغُزَاةِ، وعسر بسببه مَسِيرُ ¬
العسكر، واحْتاجُوا إلى نَقْلِ الزَّادِ والعَلَفِ فهو مَرْدُودٌ لِلّضَّرَرِ، ولا يُشْتَرَطُ لانْعِقَادِ الأَمَان ظُهُور المَصْلَحَةِ، بل يَكْفِي عَدَمُ المَضَرَّةِ، والله أعلمُ. قال الغَزَالِيُّ: وَحُكْمُهُ إِذَا انْعَقَدَ كَفَفْنَا عَنْهُ وَعَمَّا مَعَهُ مِنْ أهْلِ وَمَالٍ إِنْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الأَمَانِ* وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: أَمَّنْتُكَ فَفِي سِرَايَتِهِ إِلَى الأَهْلِ وَالمَالِ الَّذِي مَعَهُ وَجْهَانِ* وَفي عَقْدِ الأَمَانِ لِلْمَرْأَةِ مَقْصُودًا لِلْعِصْمَةِ عَنِ الاسْتِرْقَاقِ وَجْهَانِ لأنَّهُ تَابعٌ. قال الرَّافِعِيُّ: إذَا انْعَقَدَ الأَمَانُ، صارَ المُؤَمَّنُ مَعْصُوماً عن القَتْلِ والسَّبْيِ، ولو قَتَلَهُ قَاتِلٌ. قال الإِمَامُ: الوَجْهُ عنْدَنَا القَطْعُ بأنَّهُ يضمن بما يضمن به الذِّمِّيُّ، ومن حكمه اللُّزُومُ من جهة المُسْلِمِينَ، فلا يَجُوزُ للإمام نَبْذُهُ؟ نَعَمْ، إنْ استشعر منه خِيَانَة نَبَذَ أَمَانَهُ؛ لأنَّ المُهَادَنَةَ تُنْبَذْ بذلك، فأمان الآحَادِ أَوْلَى وهو جائز من جهة الكُفَّارِ ينبذونُه متى شَاؤوا ولا يتعدّى الأَمَان إلى ما خَلَّفَهُ في دَارِ الحَرْبِ من الأهلِ والمالِ، فَأَمَّا ما معه منهما فَإِنْ وَقَعَ التَّعَرُّض له اتبع الشرط، وإلاَّ فَوَجْهَانِ، أطلَقهما في "النهاية" وَرجَّحَ المَنْعَ؛ لقُصُورِ اللفظ، وفي هذا مزيد نُورِدُهُ في خاتمة الكِتَابِ، وفي جَوَازِ عَقْدِ الأَمَانِ لِلْمَرْأةِ اسْتِقْلاَلاً وجهان: وجه المنع: أن تَحْصِينَهَا بالأَمَانِ يتبع أَمَانَ الرجالِ، فلا تنفرد بالعَقْدِ، فهذا (¬1) ما أراد بِقَوْلِهِ في الكتاب: "لأنَّهُ تابع" وعن القاضي الحُسَيْنِ بناؤهما على القولين، فيما إذا انْتَهَى الإِمَامُ إلى حِصْنٍ لَيْسَ فيه إلا النِّسَاءُ، وطَلَبْنَ الصُّلْحَ على مَالٍ، أو بَذَلْنَ الجِزْيَةَ لئلا يُسْتَرْقَقْن، فإنْ قبل يَسْقُطُ اسْتِرْقَاقهُنَّ ببَذْلِ المَالِ، فَكَذَلِكَ الأَمان، وكانَ ذِكْرُ هذه في أَوَّل البابِ عند ذِكْرِ من يُؤَمّنُ أَوْلَى. قال الغَزَالِيُّ: وَالأَسِيرُ إِذَا أُمِّنَ مِنْ أَسْرِهِ فَهُوَ فاسِدٌ لِأَنَّهُ كَالمُكْرَهِ* وَلَوْ أُمِّنَ غَيْرُهُ فَوَجْهَانِ* وَيَلْزَمُهُ حُكْمُهُ وَإِنْ لَمْ يَلْزَم غَيْرَهُ* فَلَوْ أَمَّنَهُمْ وَأَمَّنُوهُ بِشَرْطِ أَلاَّ يَخْرُجَ مِنْ دَارِهِمْ لَزِمَهُ الخُرُوجُ مَهْمَا قَدَرَ وَإِنْ حَلَفَ بِالطَّلاَقِ وَالعتَاقِ وَالأَيْمَانِ المُغَلَّظَةِ، لَكِنْ يُكَفِّرُ، وَدَعْهُ يَقَعُ طَلاَقُهُ وَعِتَاقهُ، فَلاَ رُخْصَةَ فِي المُقَامِ حَيْثُ يبْذلُ المُسْلِمُ وَلَكِنْ عِنْدَ الخُرُوجِ لاَ يَغْتَالُهم إِنْ أَمَّنَهُمْ* وَلَوِ اتَّبَعَهُ قَوْمٌ فَلَهُ دَفْعُهُمْ وَقَتْلهُمْ دُوْنَ غَيْرِهِمْ* وَلَوْ شَرَطُوا عَلَيْهِ الرُّجُوعَ لَمْ يَلْزَمْهُ (و) * وَلَوْ شَرَطَ إِنْفَاذُ مَالٍ لَمْ يَلزَمْهُ* وَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَرَى مِنْهُمْ شَيْئًا وَلَزَمَهُ الثَّمَنُ لَزِمَهُ إِنْفَاذُهُ* وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الشِّرَاءِ فعَلَيْهِ رَدُّ العَيْنِ* وَعَلَى القَدِيم يَتَخَيَّرُ بَيْنَ رَدِّ العَيْنِ أَوِ الثَّمَنِ إِذْ يَقِفُ العَقْدُ* وَالكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ وَقَدْ لَزِمَتهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوْ ظِهَارِ لَمْ تَسْقُطْ بِإسْلاَمِهِ* وَفيهِ وَجْهٌ. ¬
قال الرَّافِعِيُّ: فيه مَسَائِلُ: إحداها: الأسِيرُ في يد الكُفَّارِ إن أَمَّنَ بَعْضُهُم مُكْرَهاَ لمْ يَصِحَّ الأَمَانُ، وإنْ كان غير مُكْرَه، فوجهان: أحدهما: يصحُّ؛ لأنَّهُ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ مختارٌ أَمَّنَ أمانًا ليس فيهِ إِضْرَارٌ. وأصحُهما: المَنْعُ، وبه قال أبو حُنَيفَة؛ لأنَّه مَقْهُورٌ في أيديهم، لا يَعْرِفُ وَجْهَ النَّظَرِ في المَصْلَحَةِ، ولأن الأمان يقتضي أنْ يَكُونَ المؤَمَّنُ آمِناً، والأَسِيرُ في أيديهم ليس بِآمِن. ورأى الإمَام تَخْصِيصَ الوَجْهَيْنِ، بما إذا أمن غير من أَسَرَهُ والقَطْعُ بِالمَنْعِ إذا أمَّنَ من أَسَرَهُ؛ لأنَّهُ كالمُكْرَهِ من جِهَتِهِ، وعلى هذا جَرَى صَاحِبُ الكِتَابِ. فإنْ قُلْنَا: لا يَصِحُّ أَمَانُهُ، فهل يَصِحُّ، وَيلْزَم حُكْمُهُ في حَقِّهِ؟ فيه وَجْهان: أَحَدُهُمَا: نَعم، كَمَا لو دَخَلَ دَارَهُمْ تَاجِرًا أو مُسْتَأْمَناً، لا يجوز له اغْتِيَالُهُمْ. الثاني: لا؛ لأنهم لم يُؤَمِّنُوهُ بالتَّخْلِيَةِ، والتاجرُ والمستأمنُ كِلاَهُمَا آمِنٌ منهم فعليه أن يؤَمِّنَهُمْ من جهته، وبالأوَّلِ أَجَابَ (¬1) في الكِتَابِ وكلام [أكثرهم] (¬2) منهم القَفَّالُ إلى الثاني أَمْيَلُ. وكان إِيرَادُ هذه المَسْأَلَةِ في جملةِ مَنْ يَعْقِدُ الأَمَانَ أَحْسَنَ، وكذلكَ فعل في "الوَسِيطِ". الثانية: إنْ كانَ المُسْلِمُ ضَعِيفاً في دَارِ الكُفْر، لا يَقْدِرُ على إِظْهَارِ الدين، فيحرمُ عليه الإِقَامَةُ هناك، ويَجِبُ عليه الهِجْرَةُ، لما رُوِي أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ أنا بريء مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ (¬3) وإنْ لمْ يَقْدِرْ عَلَى الهِجْرَةِ، فهُوَ مَعْذُورٌ إلى أنْ يَقْدِرَ، فإنْ فتح البلد قبل أن يهاجر سَقَطَتِ الهِجْرَة عنه، وإنْ كَانَ يَقْدِرُ على إِظْهَارِ الدين لكونهِ مُطَاعًا في قَوْمِهِ؛ ولأنَّ له هناك عَشِيرَةٌ يَحْمُونَهُ، ولم يَخَفِ الفِتْنَةَ في دِينِهِ، لمْ تَجِبْ عليه الهِجْرَةُ، لكنَّها تُسْتَحَبُّ، لئلاَ يَكْثُرَ سَوَادهم، ولأنَّهُ لا يؤمن أن يميل قَلْبُهُ إليهمْ، أو يَكِيدُوا له كيدًا، وفي "النهاية" ذِكْرُ وَجْهٍ أنه يَحْرُمُ عليه الإقَامَةُ عندهم [لإطلاق الخَبَر؛ ولأن المُسْلمَ بين أَظْهُرِ الكُفَّارِ مَقْهُورٌ مُهَانٌ، وإن كَفُّوا لِعَارِضٍ، لم يُؤْمَنْ عَوْدُهُمْ] (¬4) إليه، والمشهورُ الأول. إذا تَقَرَّرَ ذلك، فالأَسِيرُ المَقْهُورُ متى قَدَرَ على الهَرَبِ يَلْزَمُهُ الهَرَبُ، ولو أطلقوا ¬
أَسِيرًا بلا شَرْطٍ، فلهُ أن يغتالَهم قَتْلاً وسَبْياً، وإنْ أَطْلَقُوهُ على أنَّهُ في أَمَانٍ منهم، وأنهم في أَمَانٍ منهُ حُرِّمَ عليه اغْتِيَالُهُمْ، وإن أطلقُوه على أَنَّهُ في أَمَانٍ منهم، ولم [يستأمنوه] (¬1) فالمذهبُ أنَّ الجَوَابَ كذلك؛ لأنَّهُمْ إذا أَمَّنُوهُ، وَجَبَ أن يَكُونُوا في أَمَانٍ منهُ، ويُحْكَى هذا نصه في "أَمَالِي" حَرْمَلَةَ. وعن ابنِ أبي هُرَيْرَةَ: أَنَّ له أن يَغْتَالَهُمْ؛ لأنهمُ لم يَسْتَأْمِنُوه، وإذا اتبعه قَوْمٌ بعد مَا خَرَجَ، فَلَهُ قَصْدُهُمْ، وقَتْلَهُمْ في الدَّفْع بكلِّ حَالٍ، ولو أَطْلَقُوهُ، وشَرَطُوا عليه ألاَّ يخرج من دَارِهِمْ، لم يَجُزِ الوَفَاءُ بالشَّرْطِ، وعليه الخُرُوجُ، كَمَا ذَكَرَنَا، وإن حَلَّفُوهُ على إلاَّ يَخْرُجَ، فإن كان مُكْرَهًا لم يَنْعَقِدْ يَمِينُهُ، ولا كَفَّارَةَ عليه إذا خرج، ولا يَقَعُ طَلاَقُهُ، إذا حَلَّفُوهُ بالطَّلاَقِ وإنْ حَلَفَ ابْتِدَاءً من غير أن يُحَلِّفُوهُ ليثقوا به ولا يَتَّهِمُوهُ بالخروج، نُظِرَ إن حَلَفَ بعد ما أَطْلَقُوهُ، فعليه الكَفَّارَة إذَا خَرَجَ، وإنْ كَانَ مَحْبُوسًا، بعد فحلَف أَلاَّ يَخْرُجَ إذا أطلق، ففيه وَجْهان: أحدهما: أنه يَمِينُ إِكْرَاهٍ؛ لأنَّهُ لا يمكنه الخُرُوجُ، إلاَّ به، وَهُوَ المُكْرَه، وأظهرهما وأَشْهَرْهُمَا: المنعُ؛ لأنَّهُ ابْتَدَأَ بِالحَلِفِ اخْتِيَارًا، فَلَزِمَهُ حُكْمُهُ. قَالَ في "التهذيب": ولو قالوا: لا نُطْلِقُكَ حتى تَحْلِفَ أَلاَّ تَخْرُجَ، فحلف ألا يَخْرجَ، فَأَطْلَقُوهُ لم تلزمه الكَفَّارَة بالخُرُوج، ولو حَلَّفُوهُ بالطَّلاَقِ لم يَقَعْ، كما لو أَخَذَ اللُّصُوصُ رَجُلاً وقالوا: لا نتْركك حتى تَحْلِفَ ألاَّ تُخْبِرَ بمكاننا أَحَدًا فَحَلَفَ، ثم أَخْبَرَ بمكانهم لا يَلْزَمُهُ الكَفَّارَةُ؛ لأنَّ اليَمِينَ يَمِينُ إِكْرَاهٍ، وليكن هذا بِنَاءً على [أَنَّ] التَّخْوِيفَ بِالحَبْس يَحْصُلُ به الإِكْرَاه، وعلى الأحْوَالِ لا يَغْتَالُهُمْ؛ لأَنَّهُمْ أَمَّنُوهُ، ولو كان عندهم عَيْنُ مَالٍ لِمُسْلِمٍ، فَأَخَذَهَا عِنْدَ الخُرُوج ليردها على مَالِكِهَا، جازَ، وإنْ شَرَطُوا الأمانَ في ذلك المال، فهل يَصيرُ مَضْمُونًا عليه؟ فيه طريقان: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى القولين فيما إذَا أَخَذَ المَغْصُوبَ من يد الغَاصِب لِيرُدَّهُ على مَالِكِهِ. وعن القَفَّالِ: القَطْعُ بالمَنْعِ؛ لأَنَّهُ لم يكنْ مَضْمُونًا على الحَرْبِيِّ الذي كَانَ في يَدِهِ، والمأخوذ من يَدِ الغَاصِبِ كان مَضْمُونًا عليه فأديم حكمه. ولو شَرَطُوا عليه أن يَعُودَ إليهم بعد الخُرُوجِ إلى دَارِ الإِسْلاَمِ لم يَجُزْ له العَوْدُ، ولو شرَطُوا أن يعود ويبعث لهم مَالاً فِدَاءٌ، فالعود ممتنع، وأما بَعْثُ المَالِ فإن قبل الشَّرْط مُكْرَهًا فهو لَغْوٌ، وإنْ صَالَحَهُمْ عليه مُخْتَاراً فلا يَجبُ بعثه، لكن يستحبُّ [أما أنه لا يَجِبُ، فلأنه الْتِزَاِمٌ بغير حَقِّ، وأما أنه يُسْتَحَبُّ] (¬2) فليعتمدُوا الشَّرْطَ، ويُطْلِقُوا الأُسَارَى، وفي سِيَرِ الوَاقِدِيِّ حِكَايَةُ قَوْلٍ أنَّه يَلْزَمُهُ بَعْثُهُ، وإلا لَمْ يثقوا يقول الأسَارَى. ¬
وعن أَبِي إسْحَاقَ فيما رَوَاهُ القاضي ابن كَجٍّ: القَطْعُ بهِ وَحَكَى الإِمام بَدَلَ هذا قَوْلاً عن القديم أَنَّهُ يَجِبُ العَوْدُ إليهم، أو بَذْلُ المال. قال صَاحِبُ "البَيَانِ": والذي يقتضي المَذْهَبُ أَنَّ المَالَ المَبْعُوثَ إليهم اسْتِحْبَابًا، أو وُجُوباً لا يَمْلِكُونهُ؛ لأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِغَيْرِ حَقٍ، فهو كالمَأْخُوذِ قَهْرًا، وإنْ اشترى منهم [شيئاً] (¬1) لينفذ الثَّمن إليهم، أو استقرض، فإنْ كان طَائِعًا، فعليه الوَفَاءُ، وإِنْ كان مُكْرَهاً، ففيه ثَلاثةُ طُرُقٍ: أظهرها: ويحكى عن النَّصِّ أن العَقْدَ بَاطِلٌ ويَلْزَمُهُ رَدَّ العين، كما لو أَكْرَهَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا على الشِّرَاء, وذلك لأَنَّهُ أخذَ منهم بِعَقْدٍ، وعَقْدُ المسلمين مع الكُفَّار كَعَقْدِ المُسْلِم مع المُسْلِمِ. والثاني: أَنَّ فيه قَوْلَيْنِ: الجديد: البُطْلاَنُ. والقديم: أنه بالخِيَارِ بين أنْ يَرُدَّ العَيْنَ، وبين أن يَبْعَثَ إليهم [بالثمن] (¬2) ويجيز العقد، وهذا لأنا إذا جَوَّزْنَا وَقْفَ العُقُودِ بملك المُكْرَهِ على البيع إجازته. والثالث: القَطْعُ بِصِحَّةِ العَقْدِ، ولزوم الثَّمَنِ؛ لأنَّ المُعَامَلاَتِ الجَارِيَةَ مع المُشْرِكِينَ يتَسَاهَلُ فِيهَا. قَالَ الرُّوَيانِيُّ: ولو لم يَجْرِ لَفظٌ من أَلْفَاظِ البَيْعِ، بل قَالُوا: خُذْهَا وابْعَثْ إلينا كذا من المَالِ، فَقَالَ: نعم، فهو كما لو اشْتَرَى مُكْرَهًا. ولو دَفَعُوا إليه شَيْئًا، ليبيعه لَهُمْ في دَارِ الإِسْلاَمِ، ويبعث بِثَمَنِهِ، فهو وَكِيلٌ لهم، يَعْمَلُ بما يَعمل الوَكِيلُ. وقَوْلُهُ في الكتاب: "ولو أَمَّنَهُمْ وَأمَّنُوهُ بشرط ألاَّ يخرج من دارهم لزمه الخُرُوجُ مَهْما قدر" المَقْصُودُ منهَ المَوْضِعُ الذي يَجِبُ الهجرة، وتحرم الإِقَامَةُ. وقوله: "يكفر وقوعه ..... " إلى آخره معناه: أن الحَلِفَ لا يُرَخّصُ في الإقَامَةِ، وإنْ كَانَ الخُرُوجُ يَلْزَمُه الكَفَّارَةُ، ويوقع الطَّلاَقَ والعِتَاقَ، حيث يحكم بانْعِقَادِ اليَمِينِ، وقد فَصَّلْنَاهُ. وقولُهُ: "حيث بذل المسلم" في بعض النُّسُخِ: "حيث يبتذل" وهما صَحِيحانِ. وقوله: "عند الخروِج لا يَغْتَالُهُمْ إن أَمَّنَهُمْ" قوله: "إن أمنهم" غيرُ محتاج إِليه على المَذْهَبِ الظَّاهرِ، بل إذا أمَّنُوهُ، فعليه أن يؤَمِّنَهُمْ. وعن الشيخ أَبي حَامِدٍ وغيرِه: أن تحليفهمِ على ألاَّ يَخْرُجَ، وإنْ كانَ مُكْرَهًا [أَمَانٌ منهم إياه] (¬3) وقولُهُ: "فله قَتْلُهُمْ ودَفْعُهُمْ دون غَيْرِهِم" أي: قتلهم دَفْعًا، ولا [يتعرض ¬
لمن لا] (¬1) يِقْصِدُهُ لِلأَمَانِ، والمذكورُ في مسألةِ الشِّرَاءِ مُكْرَهًا هو الطَّرِيقُ الثاني. المسألةُ الثانيةُ: عن الشيخ أَبِي عَلِيٍّ حكايته وجهين، فيما إذا أَسْلَمَ الكَافِرُ وقد لَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أو ظِهَارٍ، هل يسقطُ عنه؟ أَصَحَهُّمَا: المَنْعُ كالدُّيُونِ اللاَّزِمَةِ في الشِّرْكِ. والثاني: يَسْقُطُ؛ لأنَّ الإِسْلاَمَ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ. قال الإِمام: وهذا ضَعِيفٌ هَادِمٌ لِلْقَوَاعِدِ، فإن الكَفَّارَةَ لاَ مُطَالَبَةَ بِها، وإذَا لم يطالب بها في الكُفْرِ، وكانت تسقطُ بالإسْلاَم، فلا مَعْنَى لِلُزُومِهَا، وفي الظاهر يَتَعَذَّرُ ارْتِفَاعُ التَّحْرِيم من غَيْرِ أن يكفر، ويلزمُ عليه أن يُقَالَ: إذا آلَى الكَافِرُ، ثُمَّ أَسْلَمَ انْقَطَعَ الإِيلاَءُ؛ لأنَّهُ صَارَ إلى حَالَةٍ لا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بالوَطْءِ وكُلُّ ذلكَ بَعِيدٌ. والله أعلمُ به سبحانه. قال الغَزَالِيُّ: وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى المُبَارِزِ مَعَ قُوَّتِهِ الوَفَاءُ بشَرْطِهِ* وَإنْ شَرَطَ القَوْمُ الكَفَّ عَنْهُ إِلَى أَنْ يَتِمَّ القِتالُ جَازَ أَنْ يُقْتَلَ الكَافِرُ إِذَا وَلَّى مُدْبِرًا إِذْ تَمَّ القِتَالُ بِالهَزِيمَةِ* وإنْ أَثْخَنَ المُسْلِمَ وَقصدَ تَذْفِيفَهُ مَنَعْنَاهُ* وَإِنْ شَرَطَ لَهُ التَّمْكِينَ مِنْهُ فَهَذَا الشَّرْط بَاطِلٌ* وَلَوْ خَرَجَ جَمَاعَةٌ لإِعَانَةِ كَافِرٍ باسْتِئْجَارِهِ قَتَلْنَاهُ مَعَهُمْ* وَإنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ نَتَعَرَّضْ لَهُ. قال الرَّافِعِيُّ: إِذَا بَارَزَ مُسْلِمٌ كَافِرًا بإِذْنِ الإِمَام، أو استئذنه، وقُلْنا: يَجُوزُ الاستئذان، وَهُوَ الأَصَحُّ، فشرطُ المُبَارِزِ ألاَّ يعين المسلمون المسلم، ولا الكَافِرونَ الكَافِرَ إلى انْقِضَاءِ القِتَالِ عَنْهُمَا، وَجَبَ الوَفَاءُ بِالشَّرْطِ، ولم يَجُزْ لمن في الصَّفِّ الإِعَانَةُ؛ لأنَّ المُبَارَزَةَ عَظِيمَةُ النَّفْعِ في الجِهَادِ، فلا يَتِمُّ الأَمَانُ إلا بأن يَأْمَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا من غير قِرْنِهِ، ثم إن هَرَبَ أحْدُهُما، أو قتل الكافر المسلم، جاز لِلْمُسْلِمِينَ قَصْدُ الكَافِر؛ لأَنَّ الأَمَانَ كان إِلى انْقِضَاءِ القِتَالِ، وقد انْقَضَى، فإن شرطَ الأمان إلى العود إلى الصَّفِّ وفّى به، وإن وَلَّى المسلمُ عنه فتبعه لِيَقْتُلَهُ، أو تَرَكَ قِتَالَ المُسْلِم، وقَصَدَ الصف فله قَتْلُهُ لنقضه الأَمَانَ، ولو أَثْخَنَ المسلم، جَاز قَتْلُهُ أيضاً لانْقِطَاعِ القِتَالِ، وإذَا قصد قَتْلَ المُثْخنِ مُنِعَ وقتل، فإن شرط له التَّمْكِين منهُ، فَهَذَا شَرْطٌ فاسدٌ؛ لما فيه من الضَّرَرِ، [وهل يفسد به] (¬2) أَصْلُ الأَمَانِ؟ حكى القاضي ابْنُ كَجٍّ فِيهِ وجهين: ولو خَرَجَ المُشْرِكُون لإعَانَةِ المُشْرِكِ، خرجَ المُسْلِمُونَ لإعَانَةِ المُسْلِمِ، ثُمَّ إِن كان الكَافِرُ اسْتَنْجَدَهُمْ، جاز قَتْلُهُ مَعَهُمْ وبمثله أُجِيبَ فيما إذا خَرَجُوا من غير اسْتِنْجَادٍ، لكنَّهُ ¬
لم يمنعهم، وإنْ خرجوا بغير (¬1) إذْنِهِ، ومنعهم فلم يَمْتَنِعُوا. جَازَ قَتْلُهُمْ، ولم يجز التَّعَرُّضُ له، هذا إذا شَرَطْنَا (¬2) في المُبَارَزَةِ الأَمَان. أَمَّا إذَا لم يُشْتَرَطْ، ولكن اطردت عَادَةُ المُبَارَزَةِ بالأَمَانِ، فهل هو كالمَشْرُوطِ؟ فيه وَجْهَانِ: الذي أوْرَدَهُ الرُّوَيانِيُّ: "في جَمْعِ الجَوَامِعِ" أنه كالمَشْرُوط، ولو لم يَجْرِ شَرْطٌ، ولمْ يَطَّرِدْ عَادَةً، جاز للمسلمين قَتْلُ الكَافِرِ. "فرع": إِذا أثخن المُسْلِمُ الكَافِرَ، فهل يَجُوزُ قَتْلُهُ أم (¬3) يترك؟ نقل ابْنُ كَجٍّ فيه وَجْهَيْنِ، وينبغي أن يُقَالَ: إن شَرَطَ الأَمَانَ إلى انْقِضَاءِ القِتَالِ، فيجوزُ قتله، ولو شرط ألاَّ يتَعَرَّضَ للمثخن فيجبُ الوَفَاءُ بالشَّرْطِ. قال الغَزَالِيُّ: وَيتِمُّ النَّظَرُ فِي مُشَارَطَاتِ الكُفَّارِ بِثَلاَثِ مَسَائِلَ: (الأُولَى) إِذَا دَلَّ عِلْجٌ عَلَى قَلْعَةٍ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ جَارِيَةً فِيهَا صَحَّتِ المُشَارَطَة لِلحَاجَةِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ جَعَالَةٌ مَجْهُولَة الجعل بَلِ الجُعْلُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ وَلاَ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ* وَلاَ يَصِحُّ هَذَا مَعَ المُسْلِمِ (و) وَإنْ أتَمَّ الدَّلالَةُ* ثُمَّ الجَارِيَةُ تُسَلَّمُ إِلَى العَلْجِ إِنْ ظَفِرْنَا بِهَا* فَإِنْ لَمْ نَفْتَحِ القَلْعَة لِعَجْزٍ أَوْ تَجَاوَزْنَاهَا مَعَ القُدْرَةِ فَلاَ شَيْءَ لَهُ عَلَيْنَا وَإِنْ أَتَمَّ الدَّلالَةَ إِلاَّ إِذَا رَجَعْنَا إِلَى الفَتْحِ بِعَلاَمَتِهِ* وَلَوْ فَتَحَهَا طَائِفَةٌ أُخْرَى إِذْ سَمِعُوا العَلاَمَةَ فَلاَ شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِمْ إِذْ لَمْ يَجْرِ الشَّرْطُ مَعَهُمْ* وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جَارِيةٌ فَلاَ شَيْءَ لَهُ* وَكَذلِكَ إِنْ كَانَتْ قَدْ مَاتَتْ قَبْلَ المُعَاقَدَةِ* وَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَ الظَّفَرِ وَقَبْلَ التَّسْلِيمِ فَعَلَيْنَا البَدَل إِمَّا أُجْرَةُ المِثْلِ أَوْ قِيمَةُ الجَارِيَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الجُعْلَ المُعَيَّنَ يُضْمَنُ ضَمَانَ العَقْدِ أَوْ ضَمَانَ اليَدِ كَالصَّدَاقِ* وَإنْ مَاتَتْ قَبْلَ الظَّفَرِ وَبَعْدَ العَقْدِ فَفِي وُجُوبِ البَدَلِ قَوْلاَنِ* وَإِنْ أَسْلَمَتْ وَجَبَ البَدَلُ وَلاَ سَبِيلَ إِلَى تَسْلِيمِهَا إِلَى كَافِرٍ وَإِنْ شَرَطْنَا لِزَعِيمِ القَلْعَةِ أَمَانَ أهْلِهِ وَكَانَتْ مِنْ أَهْلِهِ لَمْ نُسَلِّمْهَا إِلَى العِلْجِ بِبَدَلٍ يَبْذُلُهُ فَصُلْحُنَا مَعَ الزَّعِيمِ بَاطِلٌ لَكِنْ نَرُدُّهُ إِلَى المَأْمَنِ حَتَّى نَسْتَأْنِفَ القِتَالَ لأنَّهُ صُلْحٌ مَنَعَ الوَفَاءَ بِمَا وَجَبَ بِشَرْطٍ قَبْلَهُ* وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَنَا شَيْءٌ مِنَ القَلْعَةِ إِلاَّ تِلْكَ الجَارِيَة فَفِي وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَجْهَانِ: قال الرَّافِعِيُّ: لِما تكلَم في شرط الأَمان لِلكُفَّارِ في المُبَارَزَةِ وغيرها عقبه بمسائل تتعلق بهذا المعنى أيضاً فهي ثلاث: إحداهما: مَسْأَلَةُ العِلْجِ، والعِلْجُ الكافر الغَلِيظُ الشَّدِيدُ، سُمِّيَ به؛ لأنَّه يَدْفَعُ بِقُوَّتِهِ ¬
عن نَفْسِهِ، ومنه سمي العِلاَجُ عِلاَجًا لدفعه الدَّاءَ، والمُعَالَجَةُ: المُجَالَدَةُ. ويُرْوَى في الحديث "أن الدُّعَاءَ والبَلاَءَ يَعْتَلِجَانِ" أي: يَتَدَافَعَانِ (¬1). ويُقَالَ: اسْتَعْلَجَ حَلْقُهُ، أي: اسْتَغْلَظَ (¬2). وصورتها: أن عِلْجًا قال للإمام: أدلُّكَ على قَلْعَةِ كَذَا، على أن تُسَلِّمَ إِلي منها جَارِيةَ كذا، فَعَاقَدَهُ الإمَامُ عليه، حازت هذه المُعَاقَدَةُ، وإن كانت هذه (¬3) جَعَالَةَ جُعْلُهَا غير مَعْلُومٍ ولا مملوك ولا يَقْدِرُ على تَسْلِيمِهِ، [متجوز هذه المعاقدة] (¬4) واحتج للجواز بما رُوِيَ عن عَدِيِّ بن حَاتِم -رضي الله عنه- أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "كَأَنِّي بالحِيرَةِ قَدْ فُتِحَتْ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ هَبْ لِي مِنْهَا جَارِيةً، فقَالَ: قَدْ فَعَلتُ، فلما فُتِحَتْ الحِيرَةُ بعد زَمَانِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أُعْطِيَ الرَّجُلُ الجَارِيَةَ، فَاشْتَرَاهَا منه بَعْضُ أَقَارِبِها بألف دِرْهِمٍ (¬5) ". والمعنى فيه الحَاجَةُ الدَّاعِيَةُ إلى مِثْلِ هذه المُعَامَلَةِ، فَإِنَّ الفَتْحَ قد لا يَحْصُلُ إِلاَّ بِدِلاَلَتِهِ، ولا يقوم بالدِّلاَلةِ إلا بالتَّطْمِيعِ فِيهَا, ولو ابْتَدَأَ الإِمَامُ، فقال: إِنْ دَلَلْتَنِي على هذه القَلْعَةِ، فلك جَارِية كذا منها، وكذا الحُكْمُ، ولا فَرْقَ بين أن تَكُونَ المُعَيَّنَةُ حُرَّةً أو أَمَةً، فإن الحُرَّةَ تُرَقُّ بالسَّبْيِ والاستيلاء. ولو أبهم العِلْجُ، وقال: أن تُعْطِيَنِي منها جَارِيةً، أو الإِمام، فقال: ولك منها جَارِيةً جاز أيضاً، وحكى القاضي ابْنُ كَجٍّ وَجْهاً آخر: أنَّه لا يَجُوزُ، ويشترط أن يَكُونَ الجُعْلُ المشروطُ مما يَدُلُّ العِلْجُ عليه، حتى لو قَالَ: أعطيك جَارِية مما عِنْدِي، أو من ثلث مَالِي، لم يَصِحَّ مع الجَهْلِ على قِيَاسِ الجَعَالاَتِ. ولو قَالَ مُسْلِمٌ: أَدُلُّكَ على أن تُعْطِيَني منها جَارِيَة كذا أو جارية أو ثلثَ ما فِيها، ففيه وَجْهَان. ¬
أحدهما: ويُحْكَى عن ابن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لا يجوزُ؛ لأنَّهُ عَقْدٌ يشتمل على أنْوَاع مِن الغَرَرِ، فلا يَجُوز مِثْلُهُ مع المسلم المُلْتَزِمِ للأحكام، وإنَّما جازَ مع الكَافِرِ لِلْحَاجَةِ، فإنَّهُ أَعْرَفُ بِطرُقِ قلاعهم. وأيضاً فالمُسْلِم يَتَعَيَّنُ عليه فَرْضُ الجِهَادِ، والدلالةُ نَوْعُ جِهَادٍ مِنه، فلا يجوزُ له أَخْذُ العِوَضِ عليه. والثاني: وبه قال أبو إِسْحَاقَ أنه يَجُوزُ؛ لأنَّه جَعَالَةٌ يجوز عَقْدُهَا مع الكَافِرِ، فكذلك مع المُسْلِم كَسَائِرِ الجَعَالاَتِ، وأيضاً فالحَاجَةُ تدعو إليه لاخْتِصَاصِهِ بمعرفة حَالِ القَلْعَةِ، وأيضاً فللعقد تَعَلُّقٌ بالكُفَّارِ، فيحتمل فيه الجَهَالَةُ، وإنْ جَرَى مع مسلم كشرط النَّفْلِ في البدأة والرجعة، وبهذا الوَجْهِ أَجَابَ أَصْحَابُنَا العِرَاقِيُّونَ، والأول هو المَذْكُورُ في الكِتَاب، والأَصَحُّ عند الإِمام، ورأى تَخْصِيصَ الوَجْهَيْنِ بما إذا جَوَّزْنَا استئجار المسلم عَلَى الجِهَادِ، فإن لم نجوزه لم تَصحَّ هذه المُعَامَلَةُ مع المُسْلِمِ، ولا يستحق أُجْرَةَ المِثْلِ، كما لا يستحق الجَارِيَةَ المُسَمَّاةَ، ثم في المسألة صُوَرٌ. إحداها: إذا فتحنا القَلْعَةَ بدلالتهِ، وظَفَرْنَا بالجَارِيةِ، فَنُسَلِّمهَا إليه، ولا حَقَّ فيها للغانمين، ولا لِأهْلِ الخُمُسِ؛ لأَنَّهُ اسْتَحَقَّهَا بِالشَّرْطِ قبل الظَّفرِ، وإن دَلَّنَا على القَلْعَةِ، ولكنا فَتَحْنَاهَا بطريق آخر بغير دِلالَتِهِ، ففي اسْتِحْقَاقِهِ الجَارِيةَ وَجْهَان، نَقَلَهُمَا القاضي ابْنُ كَجٍّ ورجحَ منهما المَنْعَ، وبناهما على أن الاسْتِحْقَاقَ ثبت بنفس الدِّلالةِ ولا يستحق إلا إذا حَصَلَ الفَتْحُ بدلالتِهِ، وإنْ لم نَفْتَحِ القَلْعَةَ، نُظِرَ إن كان الشَّرْطُ مُعَلَّقًا بالفَتْحِ، فلا شَيْءَ له، وإلاَّ فقد أطْلَقَ مُطْلِقُونَ وجهين: أحَدُهُمَا أنه يستحقُّ أجرة المِثْلِ لوجود الدلالةِ، ومنهم من لا يَتَعَرَّضُ لِأُجْرَةِ المِثْلِ، ويقول: يرضخ له. وأَصَحُّهمَا: أَنهُ لاَ يَستحقُّ شَيْئاً؛ لأنَّ بتسليمها لا يمكن إلا بالشرط، والشرط مُقَيَّدٌ بِالفَتْح في الحَقِيقَةِ، وإن لم يَجْرِ التقييد لفظًا فَفَصَّلَ الإِمام، فَقَالَ: إن كان القِتَالُ مُمْكِنًا [والفتح متوقّعاً تَوَقُّعًا قريبًا] (¬1) استحق وإن لم يُتَوَقَّعِ الفَتْحُ إلا باحتمال نَادِرٍ، فالوَجْهُ القَطْعُ، بأنَّهُ لا يستحقُّ شيئاً؛ لأنَّ دِلالَتَهُ لم تقع. وإنْ قَاتَلْنَا فلم يَحْصُلِ الظَّفَرُ، فإن قلنا: لا شيء له إذا لم نقاتل، فهاهُنَا أَوْلَى، وإن قُلْنَا: يستحقُّ هناك، فإن حَصَلَ اليَأْسُ بعد القِتَالِ، فهو كما إذا ظَهَرَ اليَأْسُ كما حصرنا القلعة لكن تَبَرَّمْنَا (¬2) بالجِهَادِ، أو أزعجنا مزعج، ففيه الوَجْهَانِ. وإذا تركناها، ¬
ثم عُدْنَا إليها فَفَتَحْنَاهَا بِدلالَتِهِ، فَلَهُ الجَارِيةُ، وإن فَتَحْنَاهَا بطريقٍ آخر، فلا شَيءَ له، وفي كلِ واحدٍ من الطَّرَفَينِ وجهٌ ضعيفٌ. ولو فَتَحَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ بالطريق التي دَلَّنَا عليه، فلا شَيْءَ له عليهم؛ لأنَّه لم يَجْرِ له معهم شَرْطٌ. الثانية: إذا لمْ يكن في تلك القَلْعَةِ جَارَيةٌ، أو تلك الجَارِيَةُ، فلا شَيْءَ له، وقد أَخْطَأَ ظَنُّهُ، وكذا لو كانت قد مَاتَتَ قبل المُعَاقَدَةِ، وإن ماتت بعد الظَّفَرِ، وقبل التَّسْليم إليه وَجَبَ بَدَلُهَا، لأنَّهَا حَصَلَتْ في يد الإِمام وقَبْضَتِهِ، وكانَ التَّلَفُ من ضَمَانِهِ، ومنهم من جَعَلَ في وُجُوبِ البَدَلِ قَوْلَيْنِ: وجه المنع بأن الجَارِيَةَ ليست على حَقَائِقَ الأَعْوَاضِ، وإنَّمَا وعدنا بها عِدَة نَفِي بها عند الإمْكَانِ. وقَالَ الإِمَامُ: ينبغي أنْ يُخَصَّصَ التَّرَدُّدَ بما إذَا مَاتَتْ في يد الإِمَامِ قبل التمكُّنِ من التسليم، أمَّا إذا امتنعنا من التَّسْلِيمِ مع الإِمْكَانِ؛ ليظهر وُجُوبُ البَدَلِ، فإن مَاتَتْ قبل الظَّفَرِ، فقولان: أحدهما: أَنَّهُ يَجِبُ البَدَلُ؛ لأنَّ العَقْدَ معلَّقٌ بِها، وهي حَاصِلَةٌ، ثم تعذَّر التسليمُ، فصار كما إذا قَالَ: من رَدَّ عَبْدِي، فلهُ هذه الجَارِيَةُ، فَرَدَّهُ وقد مَاتَتِ الجَارَيةُ، يلزمه بَدَلُهَا، وسيأتي إن شَاءَ اللهُ تعالى ما يُنَازعُ في هذا الأَصْلِ أيضاً. والثاني: أنه يَجِبُ؛ لأنه لم يحصل القُدْرَةَ عليها، فأشبه ما إذا لم يَكُنْ، وهذا أَظْهَرُ. وعند أبي إِسْحَاقَ طريقٌ قَاطِعَةٌ به حكاهَا القاضي ابنُ كَجٍّ، عن أبي علي الطَّبَرِيِّ، وأبي الحُسَيْنِ أيضاً، وإذا جمعت بين ما قبل الظَّفَرِ وما بعده، وضربت الطُّرُقَ بعضها ببعضٍ، خَرَجَ منها ثَلاَثةُ أَقْوَالٍ: ثالثها: وهو الَّذِي رَجَّحَ الفَرْقَ بين أنْ تَمُوتَ قبل الظَّفَرِ أو بَعْدَهُ، وما الذي يجب بَدَلاً عن الجَارِيَةِ؟ بناه الإِمام على مُقَدَّمَةٍ ذَكَرَهَا في الجَعَالاَتِ، فقال: إذَا جُعِل الجُعْلُ عَيْنًا من عَبْدٍ أو ثوبٍ أو غيرهما، وتمَّم العَامِلُ العَمَلَ، والعين تَالِفَةٌ، فإما أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ قبل إِنْشَاءِ العَمَلِ، أو بَعْدَهُ. إن تلف قبله، نُظِرَ إنْ كَانَ عَالِماً بالتَّلَفِ فلا شَيءَ له؛ لأنَّ المُعَامَلَةَ كانت مقصورة على مِلْكِ العَيْن، فإذا أَنْشَأَ العَمَلَ عالماً بِتَلَفِهَا، كان كالمتبرِّع، وإن كان جَاهِلاً، فله أُجْرَةُ المِثْلِ، لأنَّه ليس بمتبرّع، وإنْ تلفت بعد العمل، نُظِرَ إن لم يُطَالِبهُ العَامِلُ بالتَّسْلِيمِ، فالعامل يرجع بِقِيمَةِ تلك العَيْنِ، أو بِأُجْرَةِ المِثْلِ؟ فيه قولان، بناء على أن الجُعْلَ المُعَيَّنَ مَضْمُونٌ ضَمَانَ العَقْدِ، أو ضمان اليد، وفيه قولاَن، كما في الصَّدَاقِ. وَوَجْهُ المُشَابَهَةِ أنَّ المَنْفَعَةَ في الجَعَالَةِ فَائتَةٌ يُتَعَذَّرُ تَدَارُكُهَا، كما أن البُضْعَ بعدَ
العَقْدِ في حُكْم الفَائِتِ. قال الإِمام: ولا يبعد عندي القَطْعُ بأَنَّ الجُعْلَ يُضْمَنُ ضَمَانَ العَقْدِ؛ لأنَّهُ رُكْنٌ في الجَعَالَةِ، وليس الصَّدَاقُ رُكْنًا في النِّكَاح، وقد سَبَقَ نَظِيرُ هذا الكَلاَمِ في "الجَعَالَةِ". وإن كان التَّلَفُ بعد المُطَالَبَةِ بالتسليم، وامْتِنَاعِ الجَاعِلِ مِن الرَّدِّ. فإن قُلْنَا: إِنَّهُ مَضْمُونٌ ضَمَانَ اليدِ، فالحكمُ مَا مَرَّ. وإنْ قُلْنَا: مَضْمُونْ ضَمَانَ العَقْدِ، فقد قال القاضي الحُسَيْنُ: التَّلَفُ بعد الامْتِنَاع بِمَثَابَةِ إِتْلاَفِ الجَاعِل الجُعْلَ بنفسه، حتى يَكُونَ على قَوْلٍ كالتَّلَفِ بآفة سَمَاوِيَّةٍ، فَيَنْفَسِخ العَقْدُ، وَيرْجِعُ العاملُ إلى أُجْرَةِ المِثْلِ ويكون في قول كما لو أَتْلَفَهُ أَجنَبِيٌّ، حتى يَكُونَ العَامِلُ بالخِيَارَيْنِ: الفسخ والإجازةِ. قَالَ: وَقَضِيّةُ كَلاَمِ القاضي أن يقولَ: إذا طَالَبَ المشتري البَائِعَ بِتَسْلِيمِ المَبِيعِ، بعد تَوَفِّي الثَّمَنِ، فامْتَنَعَ وتَلِفَ المَبِيعُ، يكون الحكم كما لو أبْلَغَهُ بنفسِهِ. وفيه احتمالٌ؛ لأن الإِتْلاَفَ لم يوجد حَقِيقَةً، واليَدُ القائمةُ يَدُ عَقْدٍ، ولذلك لا يتصرَّف المشتري [في المبيع] (¬1) ما دام في يَدِ البَائِع، وإن وفّي الثمن، واستحقّ الانتزاع، وإذا كان كذلك، فَيَنْبَغِي أن يغلب ضمانَ العقد، حتى يُقَالَ: إن التَّلَفَ يُوجِبُ الانْفِسَاخَ، ولا يخرج على القولين في إِتْلاَفِ البائع المبيع. إذَا تَقَرَّرَتْ هذه المقدمةُ، فَبَدَلُ الجَارِيَةِ، حيث حكمنا بوجوبه أُجْرَةُ المِثْلِ، إنْ جعلنا الجُعْلَ مَضْمُونًا ضَمَانَ العقد، وقيمتها إن جَعَلْنَاهُ مَضْمُونًا ضَمَانَ اليَدِ، فإن كَانَ التَّلَفُ بعد المُطَالَبَةِ والتمكُّن من التسليم، ففيه كَلامُ القاضي والإمام، ويَذْكُرُ بعد هذا شيئين: أَحَدُهُمَا: مَحَلُّ القولين، ما إِذَا كانت الجَارِيةُ مُعَيَّنَةً، أما إذا جرى ذِكْرُ جاريةٍ مِن القَلْعَةِ على الإِبْهَامِ، وفُرِضَ مَوْتُ من وجد فيِها من الجواري، وأوجبنا البَدَلَ، فيجوزُ أنْ يُقَالَ: الرجوع إلى أُجْرَة المِثْلِ لا مَحَالةَ؛ لِتَعَذُّرِ تَقْوِيم المَجْهُولِ، ويجوزُ أن يبنى ذلك على حَالَةِ عَدَمِ المَوْتِ، ويسلّم إليه قِيمَةُ من تسلم إليه عند الموتِ، ويشبه أنْ يُقَالَ عند عَدَمِ الموت: لم يُوجد فيها إلاَّ جَارِيَةٌ واحدة، فَتُسَلَّمُ إليه، وإنْ وُجِدَ عَدَدٌ من الجَوَارِي، وفُرِض نِزَاعٌ، فللإمام التَّعْيينُ، ويُجْبَرُ العِلْجُ على القَبُولِ؛ لأن المشروطَ جَارِيةٌ من القَلْعَةِ، وقد وجدت هذه الصِّفَةُ فِيهِنَّ جَمِيعًا، وهذا كما أن المسلَّم إليه يُعَيِّنُ ما شَاءَ من الأَعْيَانِ المَوْصُوفَةِ بأوصافِ السَّلَمِ، ويجبر المسلم على القَبُولِ. والثاني: الأصح من القولين في الصَّدَاقِ على ما يتبيَّن في موضعِهِ، أنَّه مَضْمُونٌ ¬
ضَمَانَ العَقْدِ، وقضية تخريجهما في الجُعْلِ أن يَكُونَ الأَصَحُّ وُجُوبَ أُجْرَةِ المِثْلِ هاهنا، إنْ كَانَ حَالُ القولين هاهنا كَحَالِ القَوْلَيْنِ هناك، والذي يُوجَد لعامَّةِ الأَصْحَاب في المسألة إِيجَابُ قيمة الجَارِيةِ، ولا يتعذَّر الفَرْقُ على من يُحَاوِلُهُ، ثم مَحلُّ البَدَلِ الواجب مَالُ المَصَالِحِ، أو أصل الغَنِيمَةِ؟ فيه الخِلاَف المذكور في الرَّضْخِ. وَيَجُوزُ أن يُعَلَّمَ لما عرفت من الخِلاَفِ قَوْلُهُ في الكتاب: "تَغْلِيبًا للبدل" بالواو، وكذا لفظ "القولين" من قولِهِ: "ففي وجوبِ البَدَلِ قَوْلاَن". الثالثة: إِذَا وجدنا الجَارِيَةَ مُسْلِمَةً، نُظِرَ إن أَسْلَمَت قبل الظَّفَرِ، وكانت حُرَّةَ لم يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهَا، وتَسْلِيمُهَا إلى الدليل؛ لأنَّ إِسْلاَمَها قَبْلَ الظَّفَرِ يمنع من الاستِرقَاق (¬1). وعن ابن سُرَيْجٍ: أن فيه قَوْلاً آخر: أنَّها تُسَلَّم إليه؛ لأنَّهُ اسْتَحَقَّهَا قبل أن أَسْلَمَتْ، والمذهبُ الأَولُ. وإن أسلمت بعد الظَّفَرِ، فإن كانَ الدَّلِيلُ مُسْلمًا وجَوَّزْنا هذه المُعَاقَدَةَ معه، أو كافرًا وأسلم سُلِّمَتْ إليه، وإلا فَيُبْنى على القَوْلَيْنِ في شراء الكَافِرِ العَبْدَ المسلم، إن جَوَّزْنَاهُ فَتُسَلَّمُ إليه، ثم يؤْمَرُ بإزالة المِلْكِ عنها وإن لم نُجَوِّزْهُ لم تُسَلَّمْ إليه، وإذا لم تُسَلَّمْ إليه بعد الإِسْلاَمِ، فهل يجب بَدَلُهَا؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه على الخِلاَفِ في الموتِ لِتَعَذُّرُ التَّسْلِيم بِالإسْلاَم كَتَعَذُّرِهِ بالمَوْتِ، وَبِهَذَا قال أَبُو الطَّيِّبِ بن سَلَمَةَ. والثاني: القَطْعُ بالوجوبِ، وبه قَالَ ابْنُ الوَكيلِ. والفرق: أَنَّهَا إذَا ماتت تعذَّرَ التَّسْلِيمُ حِسّاً، وإذا أسلمت فالتسليمُ ممكن حِسّاً، وهو مُطَالبٌ، ولكن الإِسْلاَم حَالَ بَيْنَهُ وبَيْنَهَا، فَوَجَبَ البَدَلُ لِلْحَيْلُولَةِ، وهذا الفَرْق يَقْتَضِي أن يَكُونَ الوَاجِبُ هَاهُنَا القِيمَة لا مَحَالَة لا أُجْرَةَ المِثْلِ، والظاهرُ في صُورَةِ الإسْلاَمِ وُجُوبُ البدل، وإن ثبت الخِلاَف، وهو فيما إذا أَسْلَمَتْ بَعْدَ الظَّفَرِ [أَظْهَرُ منه فيما إذا أسْلَمَتْ قبله؛ لأنها إذا أَسْلَمَتْ بعد الظَّفَرِ] (¬2) تكون مَمْلُوكَةً، والمنعُ له رعاية حُكْمِ الشَّرْع، وإذَا أَسْلمت قبله لم يَمْلِكْهَا, ولم يَقْدِرْ على التَّسْلِيمِ، كما في صُورَةِ الموتِ ولْيُعَلَّمْ لما ذكرنَا قوله في الكِتاب: "وَجَبَ البَدَلُ"، وقولُهُ: "ولا [سبيل] (¬3) إلى تسليمها لِكَافِرٍ" كِلاَهُمَا بالواو. والله أعلم. ¬
الرابعة: إذا فَتَحْنَا القَلْعَةَ، فلم نجد فيها إِلاَّ تلك الجَارِيةَ، فهل تُسَلَّمُ إليه؟ ففيه وَجْهَان: أَصَحُّهُمَا: نعم، وَفَاءً بالشرطِ. والثاني: لا؛ لأنَّ عَمَلَنَا، وسعينا حينئذٍ يَكُونُ لِلْعِلْج خَاصَّةً والخِلاَفُ فيما إذا لم نملك القلْعَة، وإدامة اليد عليها لكونها مَحْفُوفَةٌ ببلاد الكُفْرِ، فإن أمكن، فلا خِلاَفَ في وجوب الوَفَاءِ، وقد يُفْهَمُ هذا التقييد من قَوْلِهِ في الكتاب: "وإن لم يَحْصُلْ لنا من القَلْعَةِ إلاَّ تلكَ الجاريةُ". الخامسة: جميع ما ذكرنَا فيما إذَا فُتِحَتْ عَنْوَةً، أَمَّا إذا فُتِحَتِ القَلْعَةُ صُلحاً، فَيُنْظَرُ إنْ كَانَتِ الجَارِيَةُ المَشْرُوطَةُ خَارِجَةً عن الأَمَانِ، كما إذا كَانَ الصُّلْحُ على أَمَانِ صَاحِبِ القَلْعَةِ وأَهْلِهِ، فكانت (¬1) الجاريةُ من غير أهْلِهِ فَتُسَلَّمُ إليه، وإن كَانَتِ الجَارِيَةُ من الذين أَمَّنَاهم [بأن كانت من أهلِهِ] (¬2) فيخير صَاحِبُ القَلْعَة بشرطنا مع العِلْجِ، ونقول: إنْ رضيت بتسليمها إليه غَرِمْنَا لك قِيمَتَهَا، وأمضينا الصُّلْحَ، والقِيمَةُ المدفوعة إليه تكون من بيتِ المالِ، كذا ذكر في "التهذيب". وفي "الشامِل" أنها جَارَيةٌ مجرى الرَّضْخ، وفيه خلافٌ، فإن لم يَرْضَ رَاجَعْنَا العِلْج، فإنْ رَضِيَ بقيمتها، أو بِجَارِيَةٍ أخرى، فذاكَ، وإلاَّ فنقول لِصَاحِب القَلْعَة: إذا لَم تسلمها فنفسخ الصُّلْحَ وننبذ عَهْدَكَ، ونرده إلى القَلْعَة، ونستأنف معه القِتَالَ، وهذا لأنه صُلْحٌ مَنَعَ الوَفَاءَ بما شَرَطْنَاهُ، وكل صلح هذا حَالُهُ، فللإمام رَدُّهُ ونَبْذُهُ، وهو ظَاهِرُ المَذْهَبِ. وعن أبي إِسْحَاقَ: أنَّ الصُّلْحَ في الجَارِيَةِ المشروطة لِلْعِلْج فَاسِدٌ؛ لأنَّهَا مستحقّةٌ له. وقوله في الكتاب: "فصلحنا مع الزّعِيمِ بَاطِلٌ" [بمعنى أن نبطَله ونَفْسَخهُ] (¬3) ولم يُرِدِ الوَجْهَ المَنْسُوبَ إلى أبي إِسْحَاقَ، فإن الفسَاد على ذلك الوجه لا يُشْتَرَط فيه امْتِنَاعُ زَعِيم القَلْعَة عَنْ بَدَلِهَا [بِبَدَلٍ، ثم الفَسْخُ والإِبْطَالُ لا يكفي فيه امْتِنَاعُ الزَّعِيمِ عن بدلها، بل] (¬4) يراجع العلج أيضاً، وينظر هل يَرْضَى بالقِيمَةِ، أو بجَارَيةٍ أخرى، كما ذَكَرْنَا فإن أَبَيَا جميعاً، فحينئذ نُبطِلُهُ. [فرع] قال القاضي ابْنُ كَجٍّ: لو كَانَ الإِمَامُ نَازِلاً بجنب قَلْعَةٍ، وهو لا يعرفها فقال: من دَلَّنِي على قَلْعَةِ كذا، فله منها جَارِيةْ، فقال عِلْجٌ: هي هذه التي أَنْتَ عندها، فالمذهب أنه يَسْتَحِقُّ تلك الجَارَيةَ إذا فُتِحَتْ، كما لو قَالَ: من جاء بِعَبْدِي الآبِقِ، فله كذا، فوجده إنسان من البلدة. قال الغَزَالِيُّ: (الثَّانِيَةُ) المُسْتَأْمَنُ إِذَا نَقَضَ العَهْدَ فَرَجَعَ إِلَى دَارِهِ فَمَا خَلَّفَهُ عِنْدَنَا مِنْ ¬
وَدِيعَةٍ أَوْ دَيْنٍ فيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّهُ فَيْءٌ (وَالثَّانِي) أَنَّهُ فِي أَمَانِهِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ فَإنْ مَاتَ فَهُوَ فَيْءٌ (وَالثَّالِثُ) أَنَّهُ فِي أَمَانِهِ وَإنْ مَاتَ فَهُوَ لِوَارِثهِ (الرَّابعُ) أنَّهُ فِي أَمَانِهِ إنْ عَقَدَ الأَمَانَ لِلمَالِ مَقْصُوداً وَإلاَّ فَينْتقِضُ أَيْضاً تَابِعاً لِنَفْسِهِ* وَالرِّقُّ كَالمَوْتِ* وَإنْ قُلْنَا: يَبُقَى أَمَانُهُ بَعْدَ الرِّقِّ فَلَوْ عُتِقَ رُدَّ عَلَيْهِ* وَلَوْ مَاتَ رَقِيقاً فَهُوَ فَيْءٌ إِذْ لاَ إِرْثَ مِنَ الرَّقِيقِ* وَفِيهِ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ أنَّهُ لِوَرَثَتِهِ* وَمَهْمَا جَعَلْنَاهُ لِلوَارِثِ فَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ بِلاَدَنَا لِطَلَبِهِ مَنْ غَيْرِ عَقْدِ أَمَانٍ وَهَذَا العُذْرُ يُؤَمِّنُهُ كقَصْدِ السِّفَارَةِ. قال الرَّافِعِيُّ: إذا دَخَلَ الكَافِرُ دَارَ الإسْلاَم بِعَقْدِ أمَانٍ أو ذِمَّةٍ، كان ما معه من المَالِ والأَوْلاَدِ في أَمَانٍ، فإن شَرَطَ الأَمَانَ في المال والولد، فهو زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ، ولا أَمَانَ لما خَلَّفَهُ في دَارِ الحَرْبِ، بل يَجُوزُ اغْتِنَامُ أمْوَالِهِ هناك وسَبْيُ أَوْلاَدِهِ المخلفين. وعن صاحِب "الحاوي": أنَّه إن قال: لك الأَمَانُ، ثبت الأَمَانُ في ذُرِّيَّتِهِ ومَالِهِ، وإن قال: لك الأَمَانُ في نَفْسِكَ، لم يَثْبُتْ في الذُّرِّيَّةِ والمالِ، وَالأَكْثَرُونَ أَطْلَقُوا الكَلاَمَ إِطْلاَقاً، وقالُوا: قد يفترق المالك والمملوكُ في حُكْم الأَمَانِ، وكذلك يقول: لو دخلَ مُسْلِمٌ دَارَ الحَرْبِ بأمانٍ فبعث على يده حَرْبيٌّ مَالاً لِشِرَاءِ مَتَاعٍ، أو لتجارة، يكون ذلك المال في أَمَانٍ، حتى يجب رَدُّهُ إليه، وإن لم يكن المَالِكُ في أمَانٍ، فكذلك لو بعثه على يد ذِمّيِّ دخل دَارَ الحَرْب بأمَانٍ وعن حكاية الربيع قول: إنَّهُ لا يكون في أمَانٍ؛ لأن أَمَانَ الذِّمِّيّ لا يصلح، والظَّاهِرُ الأول، ووجه بأن الحربي اعْتَقَدَ صِحَّةَ الأمان لماله، فَوَجَبَ ردهُ إليه، ولو دخلَ حربي دَارَنَا بأمَانٍ أو عَقْدٍ ذِمَّةٍ، أو لرسالةِ، ثم نَقَضَ العَهْدَ، والتحق بدَارِ الحَرْبِ. ومن أَسْبَابِ النَّقْضِ أن يعود إليها لِلتَّوَطُّنِ والإقَامَةِ، فلا يسبى أولادُهُ المَتروكون عندنا، وإنْ مات الأب، فإذا بَلَغُوا وقَبلُوا الجزيةَ تُرِكُوا، وإلاَّ بَلَغُوا المَأْمَنَ، وما خَلَّفه عندنا من وَدِيعَةٍ ودَيْنٍ من جهة قَرْضٍ أَو غيره، فكلُّ ذلكَ في أَمَانٍ، ولا يجوزُ التَّعَرُّضُ له ما دام حَيّاً، ووجه ذلك بأن نفسه وأَمْوَالَهُ وَأَوْلاَدَهُ جميعاً كانت في أَمَانٍ، وإنما ارْتَفَعَ الأَمَانُ عن نَفْسِهِ لِنَقْضهِ العَهْدَ والتحاقِه بِدَارِ الحَرْبِ، فيبقى في الوَلَدِ والمالِ، هذا ظَاهِرُ المذهبِ وقطع به بَعْضُهُمْ، [ووراءه وجهان:] (¬1) أحدهما: أَنَّهُ يَنْتَقِضُ الأَمَانُ في ماله كما انْتَقَضَ في نفسه؛ لأنَّ المَالَ كان تَبَعاً، فإذَا انْتَقَضَ الأَمَانُ في المالك تَعَذَّرَ بَقَاؤهُ في المِلْكِ. والثاني: أنَّهُ إن لم يَتَعَرَّضْ لِلأَمَانِ في ماله يَحْصُلُ الأَمَانُ فيه تَابِعاً للنفس، [فيتبعه في الارتفاع] (¬2) أيضاً، وإن ذَكَرَهُ في الأَمَانِ لم يرتفع عنه بارتفاعه عن النفس، وذَكَرَ ¬
الإمَامُ تفريعاً على الظَّاهِرِ، وهو بَقَاءُ الأَمَانِ في أحوالهِ المُخَلَّفَةِ أن للكافر أن يدخل دَارَ الإِسْلاَم [من غير] (¬1) تَجْدِيدِ أمان لتحصيل تلك الأَمْوَالِ، والدخول له يُؤَمِّنُهُ كالدخول لِلسِّفَارَةِ، وسماع كَلاَمِ الله -تعالى- ولكن ينبغي أن يعجل في تحصيل غَرَضِهِ، ولا يُعَرِّجَ على أَمْرٍ آخر، وكذا لا ينبغي أن يكرر العود، ويستصحب في كل مَرَّةٍ بَعْضَ المَالِ، إذَا لم يتمكَّن من الاسْتِصْحَابِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فإن خَالَفَ تَعَرَّضَ للقتل والأَسْرِ. وهذا الذي ذُكِرَ مَحْكِيٌّ عن ابن الحَدَّادِ. وقال غيرهُ من الأصحابِ: ليس له الدُّخُولُ، وثبوتُ الأَمَانِ في المَالِ لا يُوجِبُ ثُبُوتَ الأَمَانِ في النفس. وإنْ قُلْنَا: لا ينبغي الأَمَانُ فيما خلف، فيكون [فَيْئاً؛ لأنه] (¬2) مَالُ كَافِرٍ مظفور به، من غير إِيجَافِ خَيْلِ، ولاَ رِكَابٍ. قَالَ الإمَامُ: وإنَّما يحصل الخِلاَفُ في الأموالِ المخلفةِ، بعد الْتِحَاقِهِ بدار الحرب، فأما إذ فَارَقَ الأَمْوَالَ، ولم يَلْتَحِقْ بها بعد، فالوجه بَقَاءُ الأَمَانِ في الأموالِ، ويحتمل أن يُطْرَدَ الخِلاَفُ، فإذا نَبَذَ المُسْتَأَمَنُ إلينا العَهْدَ، فلا بد من تَبْلِيغِهِ المَأْمَنَ، ولا يتعرَّض لما يَسْتَصْحِبُهُ من الأموالِ، بلا خلاف، هذا حكم ما خَلَّفَ من الأمول في حَيَاتِهِ، فإذا ماتَ هناك أو قُتِلَ، وفَرَّعْنَا على ظاهر المذهَبِ، وهو بَقَاءُ الأَمَانِ فيه في حَيَاتِهِ، فقولان: أحدهما: وقد نَصَّ عليه في "المُخْتَصَرِ" وفي "سير الوَاقِدِيِّ" واخْتَارَهُ أبو إِسْحَاقَ أَنَّهُ يَكونُ فَيْئاً؛ لأنَّه انْتَقَلَ إلى الوَارِثِ، ولا أَمَانَ له، وأَطْلَقَ المزنيُّ لفظ الغَنِيمَةِ عليه تَوَسُّعاً. وأَصَحُّهُمَا: عَلَى ما ذكر في "التهذيب" وقد نَصَّ عليه في كتابِ "المُكَاتِب"، وبه قال أَحْمَدُ، واخْتَارَهُ المزني، أنَّهُ لا يَكُونُ فَيْئاً يصرف إلى وَارِثهِ، لأنَّهُ كان في أمَانٍ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، والأَمَانُ حَقٌّ لاَزِمٌ يتعلق بالمَالِ، فينتقل إلى الوَارِثِ بحقوقِه. وعن ابن خَيْرَانَ حمل النصين على حَالَيْنِ؛ حيث قال: "يَصِيرُ فَيْئاً" أراد إذا ما عَقَدَ الأَمَانَ لنفسه، ولم يتعرض لوارثه، [وحيث قال: "يصرف إلى الوَارِث " أراد ما إذا عَقَدَ الأَمَانَ لنفسه، وبعده لوارثه] (¬3) فإن (¬4) لمْ يكُنْ لَهُ وَارِثٌ، فهو فَيْءٌ لاَ مَحَالَةَ بلا خِلاَفٍ. وعن أبي حنيفةَ: إذا مات هناك، أو قتله حَرْبِيٌّ، يُرَدُّ المَالُ إلى ورثته وإن قَتَلَهُ مسلمٍ، فَمَا كانَ دَيْناً على الناسِ يَسْقُطُ عنهم، وما كانَ عَيْناً يَصِيرُ فَيْئاً. ولو ماتَ المُسْتَأْمَنُ عندنا، ففي ماله طَرِيقَانِ: ¬
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ على القولين المَذْكُورَيْنِ، فيما إذا مات في دَارِ الحَرْبِ. وَأَصَحُّهُمَا: القَطْعُ بأنَّهُ يُرَدُّ إلى وارثه؛ لأنه مات والأمان بَاقٍ في نَفْسِهِ، فكذلك في مَالِهِ، وهناك انتقض الأَمَانُ في نَفْسِهِ، فجعل المال تابعاً على قول، فإن كَانَ وَرَثَتُهُ حربيين، فَهُوَ على الخِلاَفِ؛ في أن الذِّمِّيَّ والحَرْبِيَّ هل يَتَوَارَثَان؟ ولو خرج المستأمنُ مِن المستأمن إلى دَارِ الحَرْب غَيْرَ نَاقِضٍ لِلْعَهْدِ، بل لرسالة، أو تجارة، وماتَ هناك، فهو كمَا لو مَاتَ في دَارِ الإِسْلاَمِ، ولو التحقَ بدار الحَرْبِ نَاقِضاً لِلْعَهْدِ فسبي واسترقّ، بُني الحُكْمُ عَلَى ما إذا مَاتَ. إن قُلْنَا: إِنَّهُ إذا مَات لا يَكُونُ فَيْئاً، بل يكون للوارث وهاهنا يُوقَفُ، إن عُتِقَ فَهُوَ لَهُ، وإن مات رَقِيقاً، فعلى (¬1) قولين: أحدهما: أنه يُصْرَفُ إلى الوَارِثِ أيضاً، كما لو ماتَ حُرّاً. وأَصَحُّهُمَا: أن يكون فَيْئاً؛ لأن الرَّقِيقَ لا يورث عنه، فإن قُلْنَا: إذَا مات يكون فَيْئاً، فهاهنا قَوْلاَنِ: أحدهما: أَنَّ الجَوَابَ كذلك؛ لأن زَوَالَ المِلْكِ بالرِّقِّ، كَزَوَالِهِ بالموت. والثاني: وهو المَذْكُورُ في "الشَّامِلِ" أنه يوقف؛ لاحتمال أن يُعْتَقَ، وَيعُودَ، بخلافِ المَوْتِ، فإن عُتِقَ سُلِّمَ إليه، وإنْ ماتَ فوجهان، نقلهما القاضي ابْنُ كَجِّ. أَحَدُهُمَا: أنَّهُ يكون لِلسَّيِّدِ. وأقربهما: أنه فَيْءٌ. وذَكَرَ الإِمام أن للخلاف في المسألة تَعَلُّقاً بالخلافِ في مسألةِ قَدَّمْنَاهَا في الجِرَاحِ في فصل تَغَيُّرِ الحَالِ بين الجُرْحِ والموت، وهو ما إذا جَرَحَ مُسْلِمٌ أو ذِمَّيٌّ ذِمِّيّاً بقطع يَدِهِ مثلاً، فالتحق الذِّمِّيُّ بدارِ الحرَب نَاقِضاً لِلعَهْدِ، ثم سُبِيَ واسْتُرقَّ، وسَرَتِ الجِرَاحَةُ إلى النَّفْسِ، وذَكَرْنَا هُنَاكَ قَوْلَيْنِ فيها. أحدهما (¬2): أَنَّ الوَاجِبَ أَقَلُّ الأمْرَيْنِ من أَرْشِ الجِرَاحَةِ حرّاً، أو كَمَالُ قِيمَتِهِ عَبْداً. والثاني: أنَّ الوَاجِبَ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ. وعن حكاية الشيخ أبي محمَّد، والقاضي الحُسَيْنِ قَوْلٌ ثالث: وهو أنَّ الواجب الأرْشُ بَالِغاً ما بلغ، ولا نَظَرَ إلى القِيمَةِ، وقد تَوَجَّهُ ذلكَ بأن صَيرُورَتَهُ مُهْدَراً بعد الجِرَاحَةِ، مع اعْتِبَارِ المالِ يوجب تجريد النَّظَرِ إلى حال الجِرَاحَةِ، ولذلك قيل على رأي ¬
إذا قطع يدي إنسان ورِجْلَيْهِ، فارْتَدَّ المَجْرُوحُ، ومات، يجب أَرْشُ الجِرَاحَاتِ قال إمام الحَرَمَيْنِ: وقد ذَكَرْنَا فيما إذاً جَرَحَ مسلماً، فَارْتَدَّ، وعادَ إلى الإِسلام، ثم مَاتَ أن المَنْصُوصَ وُجُوبُ تَمَامِ الدِّيَةِ، وأنه خرج قول أنه يجب ثُلُثَا الدِّيَةِ، ويُهْدَرُ ثُلُثُهَا؛ تَوْزِيعاً على الأحوال. وآخر أنه يجبُ نِصْفهَا تَوزِيعاً على العِصْمَةِ والإِهْدَارِ، فيجيء على التَّخْرِيجِ أن يُقَالَ هاهنا على القول الأولِ: الأقَلُّ من أَرْشِ الجراحةِ، ومن ثُلُثَي القِيمَةِ، أو نصفها، وأن يُقَال على الثاني: الوَاجِبُ ثُلُثَا القيمة، أو نِصْفُهَا، ثم قال: إن قُلْنَا: إن الوَاجِبَ أقلُّ الأَمْرَيْنِ. فالنَّصُّ أنَّهُ مَصْرُوفٌ إلى وَرَثَتِهِ المستحق، وإن قُلْنَا: إِنَّ الوَاجِبَ القيمةُ، فَقَدْرُ الأَرْشِ مَصْرُوفٌ إليهم، فإن زادَ شَيْءٌ، فالزِّيَادَةُ للسيدِ والنَّصُّ في أموالِ من نَقَضَ العَهْدَ، واسترقّ، وماتَ رَقِيقاً أن تلك الأَمْوَالَ فَيْءٌ. وقال الأصحابُ: في [المَسْأَلَتَيْنِ] (¬1) قَولاَن؛ بالنقل والتخريج: أحدهما: أن الأَرْشَ في مسألة الجِرَاحَةِ والأموالِ المُودَعَةِ هاهنا فَيْءٌ؛ لأنَّها أَمْوَالٌ مُتَلَقَّاةٌ من كافرٍ بلا قِتَالٍ، ولا يمكنُ تَقْدِيرُ [الميراث] (¬2)؛ لأنَّ الرَّقِيقَ لا يُورث، والتَّوْرِيثُ في حال الحَيَاةِ لا سَبِيلَ إليه. والثاني: أنَّها تُصْرَفُ إلى الوَرَثَةِ؛ لأنَّ الأَمَانَ بَاقٍ فيها، وإذا لم ينحل الأَمَانُ لم يُمْكِنْ صَرْفُ المال إلى جِهَةِ الفَيْءِ، وأخص الناس به وَرَثَتُهُ، وإِذَا قيل به، فكيفَ سَبِيلهُ؟ فيه تَرَدُّدٌ للإمام، ويجوزُ أن يُقَالَ: يصرف إليهم إِرْثاً، وامْتِنَاعُ التوريثِ في الرقيق حكم شرعاً، والكُفَّارُ لا يَتَعَبَّدُونَ بِتَفَاصِيلِ الشَّرْعِ. ويجوزُ أنْ يُقَالَ: لا يُصْرَفُ إليهم إِرْثاً، ولكنَّهم أخصّ به، كما تَقُولُ فيمن بعضُه حرٌّ، وبعضه رَقِيقٌ، يصرف ما اكتسبَهُ ببعضِ الحُرِّ إلى مالك الرَّقِيقِ في بعضهِ؛ لأنَّهُ أَخَصُّ به. وإذَا قيل بالتوريثِ، فيورثون إذا مات، أو يستند اسْتِحْقَاق الوَرَثَةِ إلى ما قبل جَرَيَانِ الرق؟ ذكَر فيه احتمالَيْنِ، وإذا قُلْنَا بالصَّرْفِ إلى الوَرَثَةِ، فلهم دُخُولُ دَارِ الإِسلام لِطَلَب ذلك المَالِ، وإنْ لمْ يعقد له أَمَانٌ، ويجيء فيه الوَجْهُ الذي ذَكَرْنَاهُ في صاحبِ المَالِ. وأما لَفْظُ الكتاب؛ فقوله: "فيما خَلَّفه عندنا من وَدِيعَة ودَيْنٍ، فيهِ أربعةُ أوجه" جمع فيها بين الخِلاَفِ المذكور في حالة حَيَاتِهِ، والخِلاَف بعد مَوْتِهِ. وقَوْلُهُ: "أحدهما: أنَّهُ فَيْءٌ" وهو الوجهُ الذَّاهِبُ إلى بُطْلاَنِ أَمَانِ المالِ [في ¬
الحال] (¬1) كبُطْلاَنِهِ في [النفس] (¬2). وقولُهُ: "والثاني: أنَّهُ في أَمَانِهِ إلى أن يَمُوتَ، فإن ماتَ فَهُوَ فَيْءٌ" هو القول. بِبَقَاءِ الأَمَانِ في الحالِ، وصَيْرُورَتِهِ فيئاً، إذَا مَاتَ. وقوله الثالث: "أنَّه في أَمَانِهِ، فإن مَاتَ فَهُوَ لِلْوَرَثَةِ" فَهُوَ الَّذِي ذكرنا أنَّهُ الأَظْهَرُ، ويجوز أن يُعَلَّمَ ما سواه بالألف، وأن يُعَلَّمَ قولُة: "أربعة أوجه" بالواو لنفي بَعْضِهِمُ الخلاف على ما بَيَّنَّا. وقولُهُ: "والرق كالموت" ليعلّم بالواو: ولما ذكرنَا من الخِلاَف في كيفية بِنَاءِ الرِّقِّ على المَوْتِ. وقوله: "وفيهِ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ" أَشَارَ به إلى التَّخْرِيج في مَسْأَلَةِ الجِرَاحَةِ على ما حكينا (¬3) عن الإِمَامِ. وقوله: "يؤمنه" يجوز أنْ يعلّم بالواو. "فرع" دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الحَرْب بأمَانٍ، فاسْتَقرَضَ منهم شَيْئًا، أو سَرَقَ، وَعَادَ إلى دَارِ الإسْلاَم [ثم دخل صاحب المال دار الإِسلام] (¬4) بأمَانٍ، فعلى المسلِم رَدُّ مَا اسْتَقْرَضَ، أو سَرَقَ؛ لأنَّهُ لَيْسَ له التَّعَرُّضُ لِمَالِهِمْ، إذَا دَخَلَ بِأمَانٍ. قال الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثَةُ): إِذَا حَاصَرْنَا أَهْلَ قَلْعَةٍ فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ صَحَّ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ عَاقِلاً عَدْلاً بَصِيراً بِمَصَالِحِ القِتَالِ ثُمَّ يُنفَّذُ حُكْمُهُ عَلَى الإِمَامِ* وَلَيْسَ لِلإِمَامِ أَنْ يَقْضِيَ بِمَا فَوْقَهُ* وَلَهُ أنْ يَقْضِيَ بمَا دُونَهُ* فَإنْ قَضَى بِغَيْرِ القِتَالِ فَلَيْسَ لِلإِمَامِ القَتْلُ* وِإِنْ قَضَى بِالقَتْلِ فَهَلْ لَهُ الاَسْتِرْقَاقُ وَفِيهِ ذُلٌّ مُؤَبَّدٌ؟ فيهِ وَجْهَانِ* وَلَوْ حَكَمَ بِقَبُولِ الجِزْيَةِ فهَلْ يُجْبَرُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ عَقْدُ مُرَاضَاةٍ؟ فيهِ وَجْهَانِ* فَإنْ قُلْنَا: يَلْزَمُهُمْ فَمَنْعُهُمْ كَمَنْعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الجِزْيَةَ. قال الرَّافِعِيُّ: إذا حَاصَرْنَا قَلْعَةً، أو بَلْدَةً، فنزلُوا على حُكْمْ الإمَام، جازَ، وكذَا لو نَزَلُوا على حُكْمِ غَيْرِهِ؛ لأنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ نَزَلُوا على حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -رضي الله عنه- وشرطه أنْ يَكُونَ ذلك العَبْدُ مُسْلِماً ذَكَراً حُرّاً مُكَلَّفاً عَدْلاً؛ لأنَّهُ ولايةٌ وحُكْمٌ كالقَضَاءِ. نعم يجوزُ أنْ يَكُونَ أَعْمَى، لأَنَّ المَقْصُودَ هاهنا الرَّأْيُ، ويمكنه أن يبحث، ويعرف ما فيه الصَّلاَحُ للمسلمين، فجعلَ ذلك كالشَّهَادِةِ فيما لا يَفْتَقِرُ إلى الرؤية، [وأطلقوا] (¬5) القول بأنَّهُ يُشْتَرَطُ أيضاً أن يَكُونَ عَالِماً، وربما قالوا: فَقِيهاً، وربما قالوا: مُجْتَهِداً. ¬
قال الإِمام: ولا أظنهم شَرَطُوا أوْصَافَ الاجْتِهَادِ المعتبرة في المُفْتي، ولعلهم عَنَوْا التهدِّي إلى طَلَب الصَّلاحَ، وما فيه النظر للمسلمين وهو قَوْلهُ في الكتاب: "بصيراً بِمَصَالحِ القِتَالِ"، ويكره أن يكون الحكم حسنَ الرأي في الكُفَّارِ. ويجوز أن ينزلوا إلى حُكم اثْنَيْنِ، أو على حكم من يَخْتَارُهُ الإِمام، أو من يَتَّفِقُونَ عليه مع الإِمام؛ لأنَّ الإِمام لا يَرْضَى إلاَّ من يصلح للحُكمِ، ولا يجوزُ أن يَنْزِلُوا على حُكْمِ من يَخْتَارُونَهُ، إلاَّ إذا وَقَعَ التَّعرضُ لِلصِّفَاتِ المشروطة، ولو اسْتَنْزَلَهُمْ على أن يحكم فيهم بكتاب الله -تعالى- كُرهَ ذلك؛ لأنَّ هذَا الحُكْمَ ليس مَنْصُوصاً عليه في كتاب الله- تعَالَى- فيحصل منه (¬1) اخْتِلاَفٌ واضطرابٌ، هكذا ذَكَرَهُ الرُّوَيانِيُّ في "البحَر"، وذكر صاحبُ "التهذيب": أنَّه لو اسْتَنْزَلَهُمْ على أن ما يقضي الله تعالى فيهم يُنَفِّذُهُ لم يجز؛ لأنَّهُمْ لا يعرفُون حُكْمَ اللهِ تَعَالى. ورُوِي عن بُرَيْدَةَ -رضي الله عنه- أنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَإِنْ حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ، فأرادوك أن تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْم اللهِ -تَعَالَى- فَلاَ تُنْزلْهُمْ عَلَى حُكْم اللهِ -تَعَالَى- ولكن أَنْزِلهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فِيهِمْ أَم لاَ (¬2)؟ ". وإذا نَزَلُوا على حكم اثنين، فينبغي أن يَتَّفِقَا في الحُكْم، فإنْ اخْتَلَفَا لم ينفذ، إلا أن تَتَّفِقَ الطَّائِفَتَانِ على حُكْم واحدٍ، وإن مات أحدهُما، أو نزلوا على حكم [واحد، فمات قبل أن يحكم، أو نَزَلُوا على حُكْمَ] (¬3) من لا يجوز حكمه ردوا إلى القلعة إلى أن يرضوا بحكم حَاكِمٍ في الحال. ولا يَجُوزُ للحاكمِ أن يَحْكُمَ إلا بما فيه الحظّ للمسلمين من القَتْلِ والاسْتِرْقَاقِ والسَّبْي والمنّ والفداء. وحكَى الروياني وَجْهاً: أنَّهُ لا يَجُوز أن يحكم بالمَنِّ على جَمِيعِهِمْ، واستغربه. ولو حَكَمَ بما يُخَالِفُ الشَّرْعَ كقتل النِّسَاءِ والذَّرَارِي لم ينفذ، ولو حَكَمَ بقتل المُقَاتلة، وسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ، وأَخْذِ الأموالِ جاز، وكذلك فَعَلَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ -رضي الله عنه-. وتكونُ أموالُهُم غَنيمَةٌ؛ لأنَّهَا مَأْخُوذَةٌ بالقَهْرِ. وإن حَكَمَ باسترقاقِ من أَسْلَمَ منهم، وقتل من أَقَامَ منهم على الكُفْرِ، أو باسترقاقِ من أَسْلَمَ، ومن أقام على الكفر جاز، ويُنَفَّذُ حُكْم الحَاكِمِ على الإمَام، حتى لا يجوز أن يزيد على حُكْمِهِ في التشديد، ويَجُوزُ أن ينقص ويسامح، وإذاَ حَكَمَ بغير القَتْلِ لم ¬
يَجُز له القَتْلُ، وإن حكم بالقَتْلِ، فله أن يَمُنَّ عليهم؛ لأن سعداً حَكَم بقَتْل الرجال، فاسْتَوْهَبَ ثابتُ بن قيس الزُّبَيْرَ بن باطا من رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فوهبه منه (¬1)، وله الاسْتِرْقَاقُ إن شاءَ في أَحَدِ الوَجْهَيْنِ؛ لأنَّهُ دون القَتْل أيضاً. ولا يجوزُ في الثاني؛ لأنَّه [يَتَضَمَّنُ ذُلاًّ مُؤَبَّداً] (¬2)، وقد يختار الإنسان القَتْلَ عليه، وهذا ما اخْتَارَهُ الصَّيْدَلاَنِيُّ، وبه أجاب صاحبُ "التهذيب" وغيرُهُ تَعْليلاً بأنَّه لم ينزل على هَذَا الشرطِ. وإن حُكِمَ بالاسترقاقِ لمْ يَجُزِ المَنُّ إلاَّ برضا الغانمين؛ لأنَّهُ صَارَ مَالاً لهم، وإن حُكِمَ بِقَبُولِ الجِزْيَةِ، فهل يجبرون عليه؟ فيه وَجْهَان. أحدهما: لا؛ لأنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فيعتبر فيه التَّرَاضِي، وهذا كما أنَ الأسِيرَ لا يجبر على قَبُولِ الجِزْيَةِ. والثاني: نَعَم، والمَيْلُ إليه أكْثَرُ؛ لأنَّهُمْ رَضُواِ بحكمه أولاً بخلاف الأسير؛ لأنَّهُ لم يَرْضَ بحكم الإِمام. فإن قُلنا: لا يجبرون عليه، بَلَغُوا المَأْمَنَ، ولم يتعرض لهم، وإن قلنا: يجبرون، وامتنعوا فَهُمْ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ، إذَا امتنعُوا من بَذْلِ الجِزْيَة، قبل (¬3) قبولها، وقد يقال إنهم يغتالونُ على ما سيأتي. إن شاء الله تعالى، وأُجُرِيَ الوجهان في ما إذا حكم بالمُفَاداة أيضاً. قال الغَزَالِيُّ: وَلَوْ حَكمَ بالإِرْقَاقِ فَأَسْلَمَ وَاحِدٌ قَبْلَ الإِرْقَاقِ فَفِي جَوَازِ إرْقَاقِهِ وَجْهَانِ* وَكذَا الخِلاَفُ فِي كُلِّ كَافِرٍ لاَ يُرَقُّ بِنَفْسِ الأَسْرِ إذَا أسْلَمَ قَبْلَ الإِرْقَاقِ* وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يُسَلَّمَ إلَيْهِ مِائَةُ نَفَرْ فَعَدَّ مِائَةً قَتَلْنَاهُ لأنَّهُ وَرَاءَ المِائَةِ. قال الرَّافِعِيُّ: هذه البقية تشتمل على ثَلاثِ صور: إحداها: من أَسْلَمَ منهم قَبْلَ الحُكْم عليه، حُقِنَ دَمُهُ وَمَالُهُ، ولم يجز إسترقاقُهُ، بخلاف الأَسِير يسلم؛ لأنَّهُ صار في قَبْضَةِ الإمام، وثبت بالسَّبْي حَقُّ الاسترقاق فيه، ومن أسلَمَ بَعْدَ الحُكُمِ بالقَتْلِ، امتنع قَتْلُهُ، فإن كَان قد حُكِمَ بقتل الرِّجَالِ، وسَبْي النِّسَاء والذرية، لم يندفع بإسلامِ الرجالِ إلا قَتْلهُمْ. وهل يجوزُ اسْتِرقَاق المَحْكُوم بقتله إذا أسْلَمَ. نقل الروياني وغَيْرُهُ أنَّهُ لا يَجُوزُ؛ لأنهُم ما نزلوا على هذا الشَّرْطِ، فيطلقهم، ولا يُفَادِيهِمْ بِالمَالِ، ويجيء على تجويز اسْتِرقَاقِه لو لم يسلم؛ أن يجوز استرقاقه بعد ¬
الإسلام أيضاً وإذا حكم بالإرقاق فأسلم المَحْكُومُ عليه قبل الإِرْقَاقِ، ففي "الوَسِيطِ " بناؤه على أنَّ الرِّقَّ هو فوق القتل؟ إن قُلنَا: لا، جَاز إِرْقَاقُهُ، كما قبل الإِسلام. وإن قلنا: نعم، لم يجز والأشبه الجَوَازُ؛ لأنَّهم نَزَلُوا على حكمِهِ، وقد حُكِمَ بالإرقاق والإسلام لا يمنع الإرقاق الذي كان جائزاً (¬1)، كما سيأتي إن شاءَ اللهُ تعالى. ¬
الثانية: إذا أَسْلَمَ واحدٌ من رجالِ الكُفارِ الأحرار المكلفين، بعدما وقع في الأَسْرِ وقبل أن يَرَى الإِمَامُ فيه رَأْيَهُ حُرِّمَ قَتْلُهُ. فأما الاستِرْقَاقُ، فقد قال في "المختصر" وفي "السير": فإن أَسْلَمُوا بَعْدَ الأَسْرِ رُقُّوا.
(كتاب الصيد والذبائح)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ) قال الغَزَالِيُّ: وَالنَّظَرُ فِي طَرَفَيْنِ: (الأَوَّلُ) في سَبَبِ حَلِّ الذَّبِيحَةِ* وَلِلذَّبْحِ أَرْبَعَةُ أَرْكَان (الأَوَّلُ): الذَّابِحُ وَهُوَ كُلُّ مُسْلِمٍ أَوْ كِتَابِيٍّ عَاقِلٍ* وَلاَ تَحِلُّ ذَبِيحَةُ المَجُوسِيِّ وَالوَثَنِيِّ* أَمَّا المُتَوَلِّدُ بَيْنَ الكِتَابِيِّ وَالمَجُوسِيِّ فَقَولاَنِ:* أَحَدُهُمَا التَّحْرِيمُ* وَالآخَرُ النَّظَرُ إِلَى الأَبِ* وَتَحِلُّ ذَبِيحَةُ الأَمَةِ الكتَابِيَّةِ* وَلَوِ اشْتَرَكَ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ فِي الذَّبْحِ حُرِّمَ* وَكذَا لَوْ أَرْسَلاَ سَهْمَينِ أَو كَلْبَيْنِ إِلَى الصَّيْدِ* وَلَوْ سَبَقَ أحَدُهُمَا وَصَيَّرَهُ إِلَى حَرَكَةِ المَذْبُوحِ فَالحُكْمُ لَهُ* وَلَوْ رَدَّ كَلْبُ المَجُوسِيِّ الصَّيْدَ عَلَى كَلْبِ المُسْلِمِ فَافْتَرَسَه حَلَّ* وَلَوْ أَثْخَنَهُ كَلْبُ المُسْلِمِ فَأَدْرَكَهُ كَلْبُ المَجُوسِيِّ وَقَتَلَهُ فَهُوَ مَيتَةٌ* وَيَضْمَنُه المَجُوسِيُّ لِلْمُسْلِمِ. قال الرَّافِعِيُّ: الكتابُ والسُّنَّةُ نَاطِقَانِ بِمَقْصُودِ الكتاب. قال اللهُ تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وقال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ} [المائدة: 4] وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لِعَدِيِّ بن حَاتِمٍ: "إِذَا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ، وذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ، فَكُلْ" (¬1). ولها نَظَائِرُ في خلال المَسَائِلِ، وهي مُتَأيِّدةَ بالإِجْمَاعِ، والكتاب مترجم بـ"الصيد والذبائح" (¬2)؛ لأنَّ الحَيَوَانَ المَأْكُولَ يصيرُ مِلْكاً بطريَقين: ¬
أحدهما: الذَّبْحُ في الحَلْقِ واللِّبَّةِ (¬1)، وذلك في الحيوان المَقْدُورِ عليه. والثاني: العَقْرُ المُزْهِقُ في أي موضع كَانَ، وذلك في غير المَقْدُورِ عليه (¬2)، والأَغْلَبُ في هذا القِسْمِ عَقْرُ الحيوان الوَحْشِيِّ بآلةِ الاصْطِيادِ، ويلحق به الحَيَوَانُ المُتَرَدِّي في البِئْرِ ونحوه. وفي الكتاب بَيَانُ الطريقين، ثم العَقْرُ المُزْهِقُ في الوَحْشِيِّ يَقَعُ عليها اسْمُ الاصْطِيَادِ، ولكنه لا يَخْتَصُّ به، بل يقع على ما هو أَهَمُّ منه، وهو إِثْبَاتُ اليَدِ عليه، وإبْطَالُ امتناعه، وكل واحد من الذَّبْح ومطلق العَقْرِ يفيد الحِلَّ بشرائط، [والاصطياد بالمعنى العام يفيد المِلْكَ بشرائطه،] (¬3) ومضمون الفصل: بَيَانُ ما يعتبر في الحُكْمَيْنِ، فرتبه صَاحِبُ الكتابِ على طرفين: أحدهما: فيما يفيد الحِلَّ. والثاني: فيما يفيد المِلْكَ. أمَّا الأول: فقد قال: وللذَّبْحِ أربعة أَرْكَانٍ، وعَقْرُ الصَّيْدِ كالذَّبْحِ في تَعَلُّقِهِ بهذه الأركان، ولذلك أَدْرَجَ مسائله فيها، وجَعَلَ في "الوسيط " الذَّبْحَ شَامِلاً للنوعين، فقال: كُلُّ مسلم، أو كتابي عَاقِلٌ بالغ، يصير أَهْلاً للذبح بيده، وبجوارح الصَّيْدِ، وهذا كما أن الشَّافِعِيَّ -رضي الله عنه- جعل الذَّكَاةَ شَامِلَةٌ لِلنَّوْعَيْنِ، فقال: وللذَّكَاةِ وجهان، وذكر الطريقين في المَقْدُورِ عليه، والممتنع. الركن الأول: الذَّابحُ، واعتبر فيه وَصْفَيْنِ. أحدهما: أن يكون مُسْلِماً، أو كتابياً ولا يَحِلُّ ذَبِيحَةُ المَجُوسِيِّ والوَثَنِيِّ ¬
والمُرْتَدِّ (¬1)، وغَيْرِ أَهْلِ الكتاب من الكُفَّارِ، وَيحِلُّ ذَبِيحَةُ الكتابي على ما قَالَ تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5] ولا فَرْقَ بين ما يَسْتَحِلُّونَهُ وبين غيرِهِ. وعن مالك: أنه لا يَحلُّ من ذَبَائِحهم ما لا يَستَحِلُّونَهُ كالإِبِلِ، والقَوْلُ فيما يُعْتبر في الكتابي لتحل ذَبِيحَتُهُ على ما مَرَّ في جَوَازِ المُنَاكَحَةِ، وفي التقرير بالجِزْيَةِ، وفي المُتَوَلِّدِ بين الكافر والمَجُوسِيِّ قولان، كالقولين في جَوَازِ مُنَاكَحَتِهِ، وقد ذكرنَا حال القولين في "كتاب النِّكَاح"، وفي جواز المُنَاكَحَةِ، وحِلِّ الذبيحة يجريان مَجْرَى وَاحِدٍ لا يفترقان، [إلا أن الأمة الكتابية تحلُّ ذبيحتها، ولا تحل مُنَاكَحَتُهَا، والفرق أن لكل] (¬2) وَاحدٍ من الرِّقِّ والكُفْر أثرًا في المَنْعِ من النكاحِ، فإذا انْضَمَّ أَحَدُهما إلى الآخر، جاز أنْ يَتَقَوَّى المانع ويزداد الامْتِنَاعُ، ولاَ أَثَر للرِّقِّ في الذَّبِيحَةِ، وحَكَى الإِمَامُ تَفْرِيعاً على إلحاق هذا المُتَوَلِّدِ بالَوَثَنِيِّ وجهين فيما إذا بَلَغَ وَدَانَ بدِينِ أَهْلِ الكتاب، هل يُحكَمُ له يُحْكَمُ أَهْلِ الكتابِ؟ والأصحُ؛ المَنْعُ، ويجوزُ أن يُعَلَّمَ من لفظ الكتاب. قولُهُ: "التحريم"، وقوْلُهُ: "النظر إلى الأب" كلاهما بالحَاءِ عند أبي حنيفة، يحلُّ ذَبِيحَةُ المُتَوَلِّدِ، سواء كانَ أبوه كتَابيّاً، أو أَمَّهُ كَتَابِيَّةً. ولو اصْطَادَ مَجُوسِيٌّ سَمَكَةً، فهي حلالٌ؛ لأنَّهُ لا اعْتِبَار بِفِعْلِهِ، ومَيْتَةُ هذا الحَيَوَانِ حَلاَلٌ. وكما تحرم ذَبِيحَةُ المَجُوسِيِّ، ومن في معناه يُحَرَّمُ ما قَتَلَهُ من الصُّيُودِ بالرَّمْيِ، وإرْسَالِ الكَلْبِ، وكما يُحَرَّمُ ما انْفَرَدَ المَجُوسِيُّ بذَبْحِهِ واصْطِيَادِهِ، يُحَرَّمُ ما اشترك فيه المُسْلِمُ والمَجُوسِيُّ تَغْلِيباً للحريم، فلو أمَرَّ السَّكينَ على حَلْقِ الشَّاةِ، أو قطع هذا بعض الحُلْقُومِ، وهذا بَعْضُهُ فهو حَرَامٌ. وكذا لو رَمَيَا سَهْماً إلى الصَّيْدِ، أو أرْسَلاَ كَلْباً، فقَتَلَهُ. ولو رَمَيَا سَهمَينِ، أو أَرْسَلاَ كَلْبَيْنِ، نُظِرَ إن سَبَقَ سَهْمُ المسلمِ، أو كَلْبُهُ، فَقَتَلَ الصَّيْدَ أو أَنْهَاهُ إلى حَرَكَةِ المَذْبُوحِ، فهو حَلاَلٌ، ولا يَقْدَحُ فيها ما وُجِدَ من المَجُوسِيِّ، كما لو ذَبَحَ مُسْلِمُ شَاةً، ثم قَدَّهَا المَجُوسِيُّ بنصفين، ولو كَانَ الأَمر بالعكس، فهو حَرَامٌ وكذا لو جَرَحَاهُ معاً أو على ترتيب، ولم يُذفِّفْ واحدٌ منهما، وهَلَكَ بهما. وفي "البحر" أَنَّهُمَا مهما اشْتَرَكَا في إِمْسَاكِهِ وعَقْرِهِ، أو في أحد الأمرين، وانفرد الآخرُ بالثاني، أو انفرد أَحَدُهُمَا بأحدهما، والآخرُ بالآخرِ، فالحكم التَّحْرِيمُ. ¬
وأما إذا أَمْسَكَهُ كَلْبُ المُسْلِمِ وعَقَرَهُ كَلْبُ المَجُوسِيِّ، فظاهر، وأمَّا العكس فأنَّهُ إذا أَمْسَكَه كَلْبُ المَجُوسِيِّ، صار مقدوراً على ذَكَاتِهِ، فلا يحلُّ بأنْ يَقْتُلَهُ كَلْبُ المسلم (¬1). ولو لم يُعْلَمْ أَقَتَلَهُ كَلْبُ المسلمِ، أو كلب المجوسي فهو حَرَامٌ. ولو كَانَ للمسلم كَلْبَانِ؛ مُعَلَّمٌ وغيرُ مُعَلَّم، فقتلا صَيْداً، فهو [كم لو اشترك كلب] (¬2) المسلمِ والمَجُوسِيِّ، وكذا لو كانا مُعَلِّمَيْنِ، وأُرْسِلَ أحَدُهُمَا بلا إِرْسَالٍ. ولو هَرَب الصَّيْدُ من كلب المسلم، فَعَارَضَهُ كَلْبُ المَجُوسِيِّ، ورَدَّ عليه، فَقَتَلَهُ كَلْبُ المسلِم، حَلَّ، كَمَا لو ذَبَحَ مُسْلِمٌ شَاةً، أَمْسَكَهَا مَجُوسِيٌّ. وعن أبي حَنِيْفَةَ: أنَّهُ يُحَرَّمُ، كما لو أَمْسَكَهُ. وإذا جرح المسلمُ أَوَّلاً ثم قتله المَجُوسِيُّ، أو جرحه جُرْحاً، غَيرَ مُذَفَّفٍ، وماتَ بالجُرْحَيْنِ، حَرُمَ الصيد على ما بَيَّنَّا. فلو كانَ المُسْلِمُ قد أَثْخَنَهُ بِجِرَاحَةٍ، فقد صار مَالِكاً لَهُ على ما سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللهُ تعالى. ويجبُ على المَجُوسِيِّ الضَّمَانُ؛ لأنَّهُ أَفْسَدَ مِلْكَهُ عليه؛ إذ جعله مَيْتَةً، وكل ما اصْطَادَهُ المسلمُ بكلبِ المجوسي كما لو ذُبحَ بِسِكِّينِهِ (¬3). قال الغَزَالِيُّ: وَلاَ تَحِلُّ ذَبِيحَةُ المَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يُمَيِّزُ عَلَى أَظْهَرِ القَوْلَيْنِ* وَتَحِلُّ ذَبِيحَةُ الصَّبِيِّ المُمَيَّزِ وَالأَعْمَى* وَفِي اصْطِيَادِهِ بِالرَّمْيِ وَالكَلْبِ وَجْهَانِ، إِذْ لاَ يُمْكِنُهُ قَصْدُ عَيْنِ الصَّيْدِ. قال الرَّافِعِيُّ: الوصف الثاني: أنْ يَكُونَ عَاقِلاً، ففي ذَبِيحَةِ المَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لا يُمَيِّزُ والسَّكْرَانِ قولاَن. أَحَدُهُمَا: يَحِلُّ (¬4)، كما لو قطع حُلْقُومَ شَاةٍ، وهو يَحْسَبُهُ شَيْئاً آخر لَيِّناً، ولأنَّ لهم قَصْداً وَإِرادةً في الجملة. والثاني: المَنْعُ، وبه قَالَ أَبُو حنِيفَةَ؛ لِأَنَّ قُصُودَهُمْ فَاسِدَةٌ، فأشبه ما إذا كانت في يَدِ النائم سِكينٌ، فانْفَلَتَتْ (¬5)، وقَطَعَتْ حُلْقُومَ شاةٍ، وهذا أَظْهَرُ عند الإِمَامِ، وصاحب ¬
الكِتابِ، وجماعةٍ، وبالأول أجابَ الشَّيْخُ أبُو حَامِدٍ في خِلاَلِ الاحْتِجَاجِ في مَسْأَلَةٍ أخرى، وكذلك فعل صاحبُ "المُهَذّبِ" (¬1). وقال في "التهذيب" بعد حِكَايَةِ القَوْلَيْنِ: فإن كانَ لِلْمَجْنُونِ أَدْنَى تَمْيِيزٍ وَللسَّكْرَانِ قَصْدٌ، حَلَّتِ الذَّبيحَةُ وينبغي أنْ يُرَتَّبَ السَّكْرَانُ على المَجْنُونِ، ويبنى أَمْرُهُ على الخلاف المشهور؛ في أَنَّ السَّكْرَانَ كالصَّاحِي، أو كالمَجْنُونِ، وأَما الصَّبِيُّ الممييز فتحلُّ ذَبيحَتُهُ لِصِحَّةِ قَصْدِهِ. وفيه وَجْهٌ آخَرُ، وربما شبه الخِلاَفُ بالخلافِ؛ في أنَّ الصَّبِيَّ هل لهَ عَمَلٌ؟ والظَّاهِرُ في حقه الحِلُّ بالاتفاق. وتَحِلُّ ذَبِيحَةُ الأَعْمَى، وتكرهُ ذَكَاتُهُ؛ لأَنَّهُ قد يُخْطِئُ المَذْبَحُ، وفي اصْطِيَادِهِ بالرَّمْيِ والكلبِ وَجْهَان: أحدهُمَا: أنَّهُ يعتبر ويَحلُّ الصيد -كما يعتبر ذَبْحُهُ، ويُحْكَى عن أبي إِسْحَاقَ المَنْعُ؛ لأنَّهُ ليس له قَصْدٌ صَحِيحٌ، فصار كما لو اسْتَرْسَلَ الكَلْبَ بنفسِهِ. هكذا أطلق الوَجْهَيْنِ مُطْلِقُونَ، والأشبه أنَّ الخِلاَفَ مَخْصُوصٌ بما إذا دَلَّهُ بَصِيرٌ على أن بِحِذَائِهِ صَيْداً، فرمى، أو أَرْسَلَ الكَلْبَ إليه بدلالتهِ، وفيه صور صاحبُ "التهذيبِ"، ووجه الحل: أَنَّهُ فَعَلَ ما فعل بدلالةِ بَصِيرٍ، فَأشْبَهَ ما لو دَلَّهُ على القِبْلَةِ. قال: وَالمَذْهَبُ: المَنْعُ، بخلافِ القِبْلَةِ؛ لأنَّ التَّوَجُّهِ يسقط بالأَعْذَارِ، ويجوز بِنَاءُ الأَمْرِ فيه على الاجْتِهَادِ، بخلافِ الصيدِ، وكذلك صور المُوَفَّقُ أَبُو طَاهِرٍ في "شرح الجُوَيني" لكنه أَجَابَ بالحِلِّ. وفي "البحر" طرِيقَةٌ قاطعةٌ بالمنع (¬2)، وهي التي أَوْرَدَهَا ابْنُ الصَّبَّاغِ، والأشهر إِثْبَاتُ الخِلاَفِ فِي اصْطِيَادِ الصبي والمجنونِ (¬3) بالرَّمْي بالكلب، ومنهم من خَصَّصَهُ بِإرْسَالِ الكَلْبِ، وقطَعَ الحِلَّ في رَمْي السَّهْمِ تَنْزِيلاً له مَنْزِلَةَ الذَّبْحِ بالسكين، وسيأتي مِثْلُ هذا الفَرْقِ من بَعْدُ إنْ شَاءَ اللهُ تعالى. وقد بَانَ من المسائِل المذكورة أَنَّ المُرَادَ من قوله: "أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً" التَّمْييزُ على ما فيهِ من الخلاف. وقوله:"وتحلُّ ذَبِيحَةُ الصَّبِيِّ المميزِ، والأعمى، وفي اصطياده بالرَّمْي والكلب وَجْهَان" كذا هو في بَعْضِ النُّسَخِ، وهو المُوَافِقُ لإيراد "الوسيطِ"، وعلى هَذا فَلْيَعلَّمْ ¬
الركن الثاني: الذبح
لفظ "الصَّبِيِّ المميز" بالواو، وفي بعض النسخ "ذَبِيحَة الصَّبيِّ المُمَيِّزِ والأعمى، واصطياده بالرَّمْيِ، والكلب وَجْهَان" وهو صحيحٌ أيضاً وعلى هذا فتجعل العَلاَمَةُ على قولهِ: "ويحلُّ" ويجوزُ إعلامُ لفظِ: "الوَجْهَيْنِ" بالواو؛ لطريقةِ القَطْعِ. "فرع" الأَخْرَسُ إن كان (¬1) له إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ، حلَّتْ ذَبِيحتُهُ، وإلاَّ فهو كالمَجْنُونِ. قاله في "التهذيب" ولْتَكُنْ سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ على هذا القياسِ. قاله في "التهذيب" (¬2). "آخر": إذا أُكْرِهَ على الذَّبْحِ فذبح، يمكن أن يقال: إن اعْتَبَرْنَا فعله، وعَلَّقْنَا به القِصَاصَ حَلَّتِ الذَّبِيحَةُ، وإن جعلناه، كالآلَةِ فكذلك؛ لأن المُكْرِهَ كأنه ذبح به، وعلى هذا فلو أُكْرِهَ على رَمْيِ السَّهْمِ إلى الصيد، فينبغي أن يكون المِلْكُ لِلْمُكْرِهِ والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الثَّانِي: الذَّبْحُ) وَلاَ بُدَّ مِنَ الذَّبْحِ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ لاَ تَحِلُّ مَيتَتُهُ* وَيَحِلُّ ابْتِلاعُ السَّمَكَةِ* وَيتَعَيَّنُ الحَلْقُ وَاللَّبَّةُ فِي الذَّبْحِ إلاَّ فِي الصَّيْدِ* وَالحَيَوَانُ الإِنْسِيُّ إِنْ تَوَحَّشَ فَهُوَ كَالصَّيْدِ* وَالبَعِيرُ إِنْ تَرَدَّى فِي البِئْرِ جَازَ الطَّعْنُ فِي خَاصِرَتِهِ* وَلَوْ شَرَدَ البَعِيرُ وَجَبَ الصَّبْرُ اِلَى القُدْرَةِ عَلَيْهِ إلاَّ أَنْ يُؤدِّيَ طَلَبُهُ اِلَى مَهْلَكَةٍ فَيَكُونَ كَالصَّيْدِ* وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي اِلَى مَوْضِعِ لُصُوصٍ وَغُصَّابٍ فوَجْهَانِ. قال الرَّافِعِيُّ: الحَيَوَانُ إِمَّا غَيْرُ مَأْكُولٍ، فَذَبْحُهُ كموتهِ، وإما مَأْكُولٌ، فينقسمُ إلى ما يَحِلُّ مَيْتَتُهُ، وإلى غيره كالسَّمَكِ والجَرَادِ، فلا حاجةَ إلى ذَبْحِهِ. والسَّمَكُ الصّغَارُ إذا شُوِيَتْ من غيرِ أن يُشَقَّ جَوْفُهَا، ويخرج ما فيها هَلْ يَحِلُّ أَكْلُهَا؟ فيه وَجُهَان: أحدهما: النجاسة خُرْئها. والثاني: نعم؛ لِعُسْرِ تتبُّعِهَا وإخراجِها، وعلى المُسَامَحَةِ بها جَرَى الأَوَّلُونَ. قال القاضي الرُّويَانِيُّ: وبهذا أُفْتِيَ، ورَجِيعُهَا طَاهِرٌ عندي وهو اخْتِيَارُ القَفَّالِ. ولو وُجِدَتْ سَمَكَةٌ في جَوْفِ سَمَكَةٍ، فهي حَلاَلٌ، كما لو ماتت حَتْفَ أَنفِها، بخلاف ما إذا ابْتَلَعَتْ طَائِراً، فوجد ميتاً في جَوْفِهَا. ولو تَقَطَّعَتِ السَّمَكَةُ في جَوْفِ الأُولَى، وتَغَيَّرَ لَوْنُهَا ففِي حِلِّهَا وجهان: أظهرهُما: المَنْعُ؛ لأنَّها صَارَتْ كالرَّجِيعِ والقَيْءِ ¬
ويكره ذَبْحُ السَّمَكِ، لكنَ لو كانَ كبيراً بَقَاؤُهُ، فالمُسْتَحَبْ ذَبْحُهُ إِرَاحَةً له، أو تَرْكُهُ حتى يَمُوتَ حَتْف أَنْفِهِ؟ فيه وَجْهَان مَنْقُولاَنِ عن "الحاوي"، والأَوَّلُ هو جَوَابُ الشيخ أبِي حَامِدٍ. ولا ينبغي أن يَقْطَعَ فِلْقَةً من السَّمَكِ وهي حَيَّةٌ؛ لم فيه من التَّعْذِيب، ولو فَعَلَ ففي حِلِّهَا وَجْهَان: أحدُهمَا: المَنْعُ، ويحكى عن ابن أبي هُرَيْرَةَ، كما لو قَطَعَ عُضْواً من غَيْرِهَا، واحتجَّ له بقولهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ، فَهُوَ مَيِّتٌ" (¬1). وأصحُّهما: الحِلُّ؛ لأن المُبَانَ كَالمَيِّتِ، ومَيْتَةُ هذا الحيوانِ (¬2) حَلاَلٌ. وهل يَحِلُّ ابْتِلاعُ السَّمَكَةِ حَيَّةً، ويذكر أنَّهُ يَنْفَعُ من بعض العِلَلِ؟ فيه وَجْهَانِ: أظهرهُمَا: وهو المَذْكُورُ في الكتابِ، وبه قال ابن القَاصِّ: نعم (¬3) لأنَّهُ ليس في ابْتِلاَعِهَا أَكْثَرُ من قَتْلِهَا، وأنَّهُ جائزٌ. والثاني: لا، وبه قال الشَّيْخُ أبو حامِدٍ؛ لما فيه من التَّعْذِيبِ، وأيضاً فلما في جَوْفِها. والثاني: مَا لا تَحِلُّ مَيْتَتُهُ، وهو إما مَقْدُورٌ عليه [أو مُتَنَفِّرٌ مُتَوحِّشٌ، فهو قسمان: الأول: المَقْدُورُ عليه] (¬4) ولا يَحِلُّ إلا بالذَّبْحِ في الحَلْقِ أَوِ اللَّبةِ، والكَلاَمُ فيه مُؤَخَّرٌ إلى "الضَّحَايَا" وإن كان بهذا الكتاب أَلْيَقَ، ولاَ فَرْقَ بين ما هو إِنْسِيٌّ في الأصل، وبين الوَحْشِيِّ إذا اسْتَأْنَسَ، وحَصَلَ الظَّفَرُ به. والثاني: المُتَوَحِّشُ كالصَّيْدِ، فجميعُ أَجْزَائِهِ تُذْبَحُ ما دَامَ على تَوَحُّشِهِ، حتى إذَا رَمَى إليه سَهْماً، أو أَرْسَلَ حَاجَةً، فَأصَابَ شَيْئاً من بَدَنِهِ، وماتَ حَلَّ؛ لما رُوي عن أبي ثَعْلَبَةِ الخشنيِّ -رضي الله عنه- أنَّهُ قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله لِي كِلاَبٌ مُكَلّبَةٌ (¬5)، فَأفْتِنِي في صَيْدِهَا. فقال: "كُلْ مَا أَمْسَكَنَ عَلَيْكَ" قلت: ذَكِيٌّ وغيرُ ذَكِيٌّ؟ قال: "ذَكِيٌّ وغَيْرُ ذَكِيٍّ" (¬6). والإجماعُ مُنْعَقِدٌ عليه، والحَيَوَانُ الإنْسِيُّ إذا تَوَحَّشُ، كما أنه إذا نَدَّ بعير، أو ¬
شَرَدَتْ شَاةٌ كالصَّيْدِ يحلُّ بالرَّمْي إلى غيرِ المَذْبَحِ منه، وبِإرْسَالِ الكَلْبِ عليه؛ خلافاً لمالكِ؛ حيث قاله: لا يَحِلُّ إِلاَّ بَقطعِ الحُلْقُومِ. واحتج أَصْحَابُنَا بما رُوِيَ أَنَّ بَعِيراً نَدَّ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فحبسَه، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ لِهَذِهِ البَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأوَابِدِ الوَحْشَ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا" (¬1). والأَوَابِدُ: الوحشيات. ولما رُوِيَ عن أبي العشراء الدَّارِميِّ عن أبيه؛ أنَّهُ قال: يا رسولَ اللهِ: أما تكون الذَّكَاةُ إلا في الحَلْقِ واللَّبَّةِ؟ فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّكَ (¬2) لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذَهَا لَأَجْزَأَكَ" (¬3). وأَرَادَ في غير المَقْدُورِ عليه، ويروى أَنَّهُ سئل عن بعير نَادٍّ، ويروى أنه تَرَدَّى له بَعِيرٌ في بِئْرٍ، فقالَ -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ طَعَنْتَ فِي خَاصِرَتِهِ لَحَلَّ لَكَ" (¬4). وعن جابر -رضي الله عنه- أَنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "كُلُّ إنْسِيَّةٍ تَوَحَشَتْ، فَذَكَاتُهَا ذَكَاةُ الوَحْشِيَّةِ" (¬5). ولو تَرَدَّى بعيرٌ في بِئْرٍ، ولم يمكن قَطْعُ حُلْقُومِهِ، فهو كالبعيرِ النَّادِّ [في جَوَارِحِهِ، وفي إِرْسَالِ الكَلْبِ عليه وجهان: أحدهما: الجَوَاز، كما في الصَّيْدِ، والبعير النَّادِّ] (¬6)، وهذا ما اخْتَارَهُ البَصْرِيُّونَ (¬7). ¬
والثاني: المَنْعُ؛ لأنَّ الحَدِيدَ يُبَاحُ به الذَّبْحُ مع القُدرَةِ، وعَقْرُ الكلب بخلافه. هكذا أَوْرَدَ الوَجْهَيْنِ القاضي الرّوَيانِيُّ حُكْماً وتوجيهاً، ورجح الثاني منهما، ولك أن تَتَوَقَّفَ فيه، ثم هاهنا كَلاَمانِ آخران. أحدهما: في معنى التَّوَحُّشِ، ولا يَخْفَى أَنَّهُ لا يكفي فيه مجردُ الإِفْلاَتِ، بل إذا تَيَسَّرَ اللحوق بِعَدْوٍ، أو اسْتِعَانَةٍ بمن يستقبل البَهِيمَةَ، فَلَيْسَ ذلَك بِشُرُودٍ، ولا يَكُونُ الجُرْحُ في غيرِ المَذْبَحِ ذَبْحاً، ولو تحقق الشرودُ، وحَصَلَ العَجْزُ [عنه في الحال] (¬1)، فالذي أَطْلَقَهُ الأصحابُ أَنَّ البَعِيرَ كالصَّيْدِ؛ لأنَّه قد يبغي الذَّبْحَ في الحال، وتَكْلِيفُهُ الصَّبْرَ إلى أنْ يَسْكُنَ، أو تحصل القدرةُ عليه يَشُقُّ. وقال الإمامُ: الظَّاهِرُ عندي أنَّهُ لا يُلْحَقُ الصَّيْدُ بذلك؛ لألانَّهَا حَالَةٌ عَارِضَةٌ قريبة الزَّوَالِ. نعم لو كان الصَّبْرُ والطَّلَبُ يُؤَدِّي إلى مَهْلَكَةٍ، أو مَسْبَعَةٍ، فهو حينئذٍ كالصَّيْدِ -وإن كانَ يُؤَدِّي إلى مَوْضِعِ لُصُوصِ وغُصَّابٍ مترصِّدين. فوجهان: وكان الفرقِ أَنَّ تَصَرُّفَهُمْ وإِتْلافَهُمْ مُتَدَارَكٌ بالضَّمَانِ، وعلى طريقة الإمامِ جَرَى صاحبُ الكتاب، فَلْيُعَلَّمْ قَوْلُهُ: "وَجَبَ الصَّبْرُ إلى القدرةِ عليه" بالواو، والأَوْفَقُ لإيراد الأكثرين يُخَالِفُ ما ذكرهُ وقولُه قبل ذلك: "فهو كالصَّيْدِ" مُعَلَّمٌ بالميم، وكذلكَ قوله: (جاز الطَّعْنُ)، فإنَّ خِلاَفَ مالكِ يَشْمَلُ الصُّورَتَيْنِ. والثاني في كيفية الجُرْحِ المفيد لِلْحِلِّ في النَّادِّ والمُتَرَدِّي وجهان: أحدهُمَا: أنَّهُ لا بد من جرح مُنَفقٍ ينزل مَنْزِلَةَ قَطْعِ الحُلْقومِ والمَرِّيءِ في الحيوان المقدورِ عليه، وجُعِلَ التَّعَرّضُ للخاصرةِ إِشَارَةً إليه، فإن الخَاصِرَةَ من المَقَاتِلِ. والثاني: يكفي الجرْحُ المُفْضِي إلى الزُّهُوقِ كيف كَانَ؛ لما رَوَينَا من الأخبار ولفظ "الخاصرة" يُعَارِضُهُ رِوَايَةُ "الفَخِذِ"، ومَالَ الإِمام إلى الأول، وحكاه عن اختبار القَفَالِ، وبالثاني أجاب المعظم -رَحِمَهُمُ الله-. قال الغَزَلِيُّ: وَلَوْ جَرَحَ الصَّيْدَ بسَهْم أَوْ جَرَحَهُ الكَلْبُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعدُوَ إِلَيْهِ* فَإنْ بَقِيَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ ذَبَحَهُ* فَإنْ تَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ فحَرَامٌ* وَلاَ يُعْذَرُ بَأنْ لاَ يَكُونَ مَعَهُ مُدْيَةٌ أَو سَقَطَ مِنْهُ أَو نَشَبَ فِي الغِمْدِ أَو غَصَبَ مِنْهُ* وَإنَّمَا يُبَاِحُ إِذَا أَدْرَكَهُ مَيْتاً أَوْ فِي حَرَكَةِ المَذْبُوحِ* وَلَوْ قَدَّ صَيْداً بِنِصْفَيْنِ فالنِّصْفَانِ حَلاَلٌ* وَإِنْ أَبَانَ عُضْواً بجُرْحٍ مُذَفَّفٍ فَالعُضْوُ حَلاَلٌ* فَإنْ لَمْ يَكُنْ مُذَفَّفاً فَذُبِحَ الصَّيْدُ أَوْ مَاتَ بجُرْحٍ مُذَفَّفٍ فَالعُضْوُ حَرَامٌ* وَإِنْ مَاتَ بِذَلِكَ الجُرْحِ فوَجْهَانِ. ¬
قال الرافعي: فيه مسألَتَانِ: إحداهُمَا: إذا أَرْسَلَ سِلاَحَهُ من سَهْمٍ وسَيْفٍ وغيرهما، أو كَلْبَهُ المُعَلَّمَ على صيدٍ، فأصابهُ ثم أدرك الصيد حَيّاً، نُظِرَ إنْ لم يَبْقَ فيه حَيَاةٌ مستقرَّةٌ بأن كان قد قُطِعَ حُلْقُومُهُ ومريئه، أو أجَافَهُ، أو خَرَقَ أمْعَاءَهُ، فيستحبُّ أنْ يُمِرَّ السِّكِّينَ على حَلْقِهِ لِيُريحَهُ، فإن لم يَفْعَل وتَرَكَهُ حتى مَاتَ فهو حَلاَلٌ كما لو ذَبَحَ شَاةً، فاضْطَرَبَتْ أو عَدَتْ، وإن بَقَيتَ فيها حياة مستقرة فَلَهُ فيهَا حَالَتَانِ: إحداهما: إذا تَعَذَّرَ ذَبْحُهُ من غير تَقْصِير من الصَّائِدِ، فهو حلال أيضاً، كما لو لم يُدْرِكْهُ حَيّاً. والثانية: إذا لم يَتَعَذَّرْ ذَبْحُهُ، وتَرَكَهُ حتى مات، فهو حَرَامٌ، كما لو تَرَدَّى بَعِيرٌ من شَاهِقٍ، ولم يَذْبَحُهُ حتى مَاتَ، وكذا الحُكْمُ لو كَانَ التَّعَذُّرُ تَقْصِيراً من جِهَتِهِ، من قَبِيلِ الحَالَةِ الأُولَى أن يَشْتَغِلَ بأخذ الآلةِ وسَلِّ السكينِ، فَمَاتَ قبل أن يمكنه الذَّبْحُ. ومنه: أن يمتنعَ بما فيه من بَقِيَّةِ قُوَّةٍ، وَيَمُوتَ قبل القُدْرَةِ عليه. ومنه: ألاَّ يَجِد من الزمانِ ما يمكن الذَّبْحُ فيه. وعن أبي حنيفةَ: أنَّهُ لا يَحِلُّ؛ لأنَّهُ صار مَقْدُوراً عليه، فَيَتَعَلَّقُ حِلُّهُ بالذبح. ومن قبيل الحالةِ الثانية ألاَّ يَكُونَ معه مُدْيَةٌ، وآلَةٌ يذبح بها، وإِنْ تَرَك اسْتِصْحَابَ آلةِ الذبح تقصيراً منه، وإنْ سقط وتَضَيَّعَ منه، فإنْ تَرَكَهَا مُتَقَلْقِلَةٌ [فِي الغِمْدِ] (¬1) تقصيراً منه، ولوَ وَجَدَهَا بعد ما ضَاعَتْ، وماتَ الصَّيْدُ في مدةِ الطَّلَبِ، فهو حَرَامٌ. ومنه: إذا نَشبَتْ في الغِمْدِ، فإنَّ حَقَّهُ أنْ يستصحبَ الآلَةَ في غِمْدٍ يُوَاتِيهِ، وعن أبي عَلِيٍّ بن أبي هُرَيْرَةَ، وصاحبِ "الإفصاحِ" أنَّهُ يعذر ذلك، ويحل الصَّيْدُ، ويروى هذا عن مالكٍ، ويروى عنه أَيْضاً أنَّهُ يُعْذَرُ بنسيان المُدْيَةِ. ومنه ما إذا غُصِبَتْ مُدْيَتُهُ، فَأصَحُّ الوَجْهَيْنِ، وهو المذكورُ في الكتاب أنه يحرم؛ لأَنَّهُ وَقَف على حَيَوَانٍ فيه حَيَاةٌ مستقرَّةٌ، ولم يذبحه، ولو كان هذَا عُذْراً، لكانَ عُذْراً في الحَيَوَانَاتِ الأهْلِيَّةِ. والثاني: يحلُّ، ويُعْذَرُ بذلك، كما لو لمْ يَصِلْ إلى الصَّيْدِ لِسَبُعٍ حَائِلٍ حتى مات. وفرق القاضي الرُّوَيانِيُّ بين الصُّورَتَيْنِ بأنْ قَالَ: غَصْبُ السِّكِّينِ عَائِدٌ إليه، ومنع [السَّبُعِ] (¬2) عَائِدٌ إلى الصَّيْدِ، وذكر أَنَّهُ لو اشْتَغَلَ بِطَلَبِ موضعِ الذَّبْحِ فلم يَجِدْهُ حتى ¬
مَاتَ، فهو حَلاَلٌ؛ لأنَّهُ لا يجد بُدّاً منه، بخلافِ ما إذا اشْتَغَلَ بتحديد السِّكِّينِ، فمات؛ فإنه يَجِدُ بُدّاً منه [بتقديم التَّحْدِيدِ؛ وبخلاف ما إذا كان يُمِرُّ ظَاهِرَ السِّكِّينِ على حَلْقِهِ غَلَطاً فمات؛ لأنه خرق، وأنه] (¬1) لو وقع الصَّيَّدُ مُنَكَّساً، واحْتَاجَ إلى قَلْبِهِ ليقدر على ذبحه أو اشْتَغَل بِتَوْجِيهِهِ إلى القِبْلَةِ، فماتَ، فهو حَلاَلٌ، وأَنَّهُ لو شَكَّ بعد مَوْتِ الصَّيْدِ، بأنَّه هل يتمكن من ذَكَاتِهِ، فيحرم، أو لم يتمكَّن فيحلّ، ففيه قولانِ. أصحُّهُمَا: أنَّهُ يَحِلُّ، وهل يُشْتَرَطُ العَدْوُ إلى الصَّيْدِ إذا أَصَابَهُ السَّهْمُ أو الكَلْبُ؟ فيه وجهان: أحدهُما: وهو المذكورُ في الكتاب نعم؛ لأنَّهُ المُعْتَادُ في هذه الحالةِ وعلى هذا، فلا يُكلَّفُ المُبَالَغَةَ فيه، بحيث يُقْضِي إلىَ ضَرَرٍ ظاهرٍ. وأظهرهما: لا، بل يكتفي بالمَشْيِ، كما يكتفي به في السَّعْيِ إلى الجُمُعَةِ، وإن عرفَ التحريم بالصَّلاَةِ بِأمَارَاتِهِ، ويُحْكى هذا عن ابن أبي هُرَيْرَةَ وعلى هذا فَقَدَ قال الإِمَامُ: الوَجْهُ عِنْدِي أنَّهُ لاَ بُدَّ من الإِسْرَاعِ فيه قليلاً؛ لأنَّ المَاشِي على هَيْئَتِهِ خارج عن عَادَةِ الطَّالِبِ، والذي أورده الصَّيْدَلاَنِيُّ وصاحب "التهذيب" وغيرهُما: أنَّهُ لو كانَ يمشي على هَيْئَتِهِ، وأدركه مَيْتاً حَلَّ؛ وإن كان لو أَسْرَعَ لأَدْرَكَهُ حَيّاً وإذا قُلْنَا: يُشْتَرَطُ العَدْوُ، فلو تَرَكَهُ، ثم صَادَفَ الصَّيْدَ مَيْتاً بعد ذلك، ولم ندر أَمَاتَتْ في الزمانِ الذي يَسَعُ العَدْو أو بعده، فينبغي أن يكون على القَوْلَيْنِ فيما إذا شَكَّ في التمكُّنِ من الذَّكَاةِ. الثانية؛ لو رَمَى إلى صَيْدٍ، فَقَدَّهُ بنصفين، فهما حلال. وكذا لو قَطَعَهُ قِطْعَتَيْنِ مُتَفَاوِتَتَيْنِ. وقال أبُو حنيفةَ: إنْ كانَ الرَّأْسُ في القِطْعَةِ التي هِيَ أَصْغَرُ حَلَّ الكُلُّ، وإن كانَ في القِطْعَةِ الأُخْرَى حَلَّتْ هي دُونَ الصُّغْرَى، وبه قال أحمدُ في روايةٍ. واحتجَّ الأَصْحَابُ بالقِيَاسِ على ما سلمه ولو أَبَانَ من الصيدِ بِسَيْفٍ أو غيره عُضْواً كَيَدٍ ورِجْلٍ، نُظِرَ إنْ أبَانَهُ بِجِرَاحَةٍ مُذَفَّفَةٍ، ومَاتَ في الحال حَلَّ العُضْوُ، وباقي البَدَنِ، وإنْ لم تَكنِ الجِرَاحَة مُذَفَّفَةً، فَأَدرَكَهُ وذَبَحَهُ، أو جَرَحَهُ جُرْحاً آخَرَ مُذَففاً، فالعُضوُ حَرَامْ؛ لأنهُ أُبِينَ من حَى، وباقي البَدَنِ حَلاَلْ فإن أثبته بالجِرَاحِ الأولى، فقد صَارَ مَقْدُوراً عليه، فَيَتَعَيَّنُ الذَّبْحُ، ولا يجزي سَائرِ الجِرَاحَاتِ، وإنْ مَاتَ من تلك الجِرَاحَةِ بعد مُضِيِّ زمانٍ، ولم يتمكَّن من الذَّبْحِ، حَلَّ باقي البَدَنِ، وفي العُضْوِ وجهان: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَحلُّ أَيْضاً؛ لأنَّ الجرْح السَّابِقَ كالذَّبْحِ للجملة، فَيَتْبَعُهَا العُضْوُ. ¬
(الركن الثالث): الآلة
وأصحهُمَا: التحريم؛ لأنَّهُ أُبِينَ من حَيٍّ، فَأشْبَهَ ما إذا قَطَعَ أَلْيَةَ شَاةٍ، ثم ذَبَحَهَا لا تَحلُّ الألْيَةُ، واحتجَّ الإمَامُ لفساد الوجه الأول: أنا لو حَكمنَا بحلِّ العُضْوِ، فإما أنْ نَقُولَ: يحلُّ عند موت الصَّيْدِ، وكان حَرَاماً من قبل، وبعيدٌ أن [يغير الموت] (¬1) حَالَ العُضْوِ وإمَّا أنْ نقولَ: يحلُّ عند موت الصيد استناد الحلِّ إلى حَالَةِ الإبَانَةِ، وإحلال العُضْوِ المُبَانِ من الحَيَوَانِ الذي فيه حَيَاةٌ مستقرةٌ بَعِيدٌ أَيْضاً، وإن جَرَحَهُ جَرَاحَةً أُخُرَى، والحَالَةُ هذه، فإنْ كانَت مُذَفَّفَةً، فَالصَّيْدُ حَلاَلٌ، والعُضْوُ حَرَامٌ، وإنْ لم تكن مُذَفَّفَةَ، ومَاتَ منها، فالصَّيْدُ حَلاَلٌ أيضاً، وفي العُضْوِ وَجْهَان مُرَتَّبَانِ على الوَجْهَيْنِ فيما إذَا مات من الجِرَاحَةِ، وهذه الصُّورَةُ أوْلَى بِالتَّحْرِيمِ؛ [لأن الإِبَانَةَ لم تتجرد ذكاة للصيد] (¬2). وعند أبي حَنِيْفَةَ: لا يَحِلُّ العُضْوُ المُبَانُ بحال. وقولُهُ في الكتاب: "ولو قَدَّ صَيْداً بنصفين" إن حُمِلَ النصفان على القِسْمَيْنِ والقطعتين، وهو الذي يُرَادُ في مِثْلِ هذا المَوْضِعِ غالباً، فيجوز أن يُعَلَّمَ قَوْلهُ: "فالنِّصْفَانِ حلال" بالحاء (¬3) والألف؛ لما مَرَّ، وإن حمل على حقيقة النصف، فلا إعلام. وقولُهُ: "وإن ماتَ بذلك الجُرْحِ فوجهان" يعني في ذلك العُضوِ وباقي الصيد حَلاَلٌ إن لم يجعل مَقْدُوراً عليه، بالجرَح الأول، وإن صَارَ، فلا حِلَّ إِلاَّ بالذبحِ. قال الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الثَّالِثُ): الآلَةُ وَهِيَ ثَلاثَةُ أقْسَامٍ: (الأَوَّلُ) جَوَارحُ الأَسْلِحَةِ* وَيَجُوزُ رَمْيُ الصَّيْدِ وَالذَّبْحُ بِجَمِيعِهِمَا إلاَّ السِّنُّ وَالظُّفُرُ فَيَحْرُمُ الذَّبْحُ بِهِ مُتَّصلاً كَانَ أَوْ مُنْفَصِلاً (ح). قال الرَّافِعِيُّ: الرُّكْنُ معقود للكلام في الآتِ الذَّبْحِ والاصطيادِ، وبيانِ ما يعتبر فيه لِلْحِلِّ، والآلاَتُ ثَلاثةُ أَقْسَامٍ؛ لأنَّها إِمَّا جَمَادٌ، أو حَيَوَانٌ يُصْطَادُ به، والأَوَّلُ إما محدد يجرح، ويُزْهِقُ، أو غيرُهُ. الأول المُحَدَّدَاتِ التي تجرح بحدَّتهَا من الحديد (¬4) كالسَّيْفِ، والسَّهْمِ، والرُّمْحِ على العادة الغالبة، أو من الرَّصَاصِ، أو النُّحَاسِ، أو الذَّهَب، أو الخَشَب المحدَّد الطَّرَفِ، أو القَصَبِ، أو الزُّجَاجِ، أو الحَجَرِ، فيجوز فَيْءُ الصَيد والذبح بجميعها إلاَّ السِّن والظُّفْر، وسائر العِظَامِ، وقد يقال: إلاَّ العظم ويجعل السِّنُّ والظُّفْرُ داخلين فيه. واحتج لِحلَّ الذبح (¬5) بغيرِ الحَدِيدِ بما رُوِيَ عن عَدِيِّ بْنِ حَاتِمِ قال: قُلْتُ: يا ¬
رَسُولَ الله أرأيت أَحَدَنا صَاد صَيْداً، وليسَ مَعَهُ سِكِّينٌ أنذْبَحُ بالمَرْوَة (¬1) فقالَ: "أمْرِ الدَّمَ بِمَا شِئْتَ وَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ تَعَالَى" (¬2) وأما أن السِّن والظُّفْرَ مُسْتَثْنَيَانِ، فَسَبَبُهُ ما روي عن رَافِع ابن خُدَيْجٍ، قال: قلت: يا رَسُولَ الله إنا لاَقو العَدُوِّ غَداً، وليس معنا مُدىً، فقالَ: "مَا أَنْهَرَ الدَّمُ وذَكَرَ اسْمَ الله عَلَيْهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ والظُّفْرَ وسأحدثك عنه أما السِّنُّ فَعَظْمٌ، وأما الظُّفْرُ فَمُدَى الحَبَشَةِ" ولا فَرْقَ بين عَظْمِ الآدمي وغيرِه، ولا بين المُتَّصِلِ والمُنْفَصِلِ. وعند أبي حَنِيْفَةَ: يَجُوزُ الذَّبْحُ بالمنفصل. وعند مالكٍ: يَجُوزُ الذَّبْحُ بالعَظْمِ إذا مَرَّ مَرّاً وعن حكاية الإِمام أبي سليمانَ الخَطَّابِيِّ وَجْهٌ لبعض الأصحاب أن العظم إن كان من مأكول تَجُوز الزَّكَاةُ به (¬3)، والظاهر المَشْهُورُ الأَوَّلُ. ولو ركَّبَ عَظْماً على سَهْمٍ، وجعلَهُ نَصْلاً له، فقتل به صَيْداً لم يحلَّ. وعن "الحاوي " أن الشَّافِعِيَّ -رضي الله عنه- قال: أَكْرَهُهُ، ولا يتبين لي أنَّهُ يحرم؛ لأنَّهُ لا يَقَعُ عليه اسْمُ سِنٍّ ولا ظُفْرٍ، والصحيحُ الأول، لأنَّهُ عظم. وقد قال في الخبر الذي سَبَقَ "أمَا السِّنُّ فَعَظْمٌ" فعلل بكونه عَظْماً. وقولُه: "وجوارح الأسْلِحَة" احترز به عن المُثَقَّلاَتِ التي لا تَجْرَحُ، والمعتبر ما يخرق بذمّتِهِ، أو يقطع بِحَدِّهِ دون ما يَجْرَحُ ويقطع بثقله، ويَجُوزُ إِعْلاَمُ قوله: "إِلا السِّنَّ [والظفر" لما بَيَّنَّا بالميم والواو، وقوله: "أو منفصلاً (¬4) " بالحاء]. قال الغَزَالِيُّ: (الثَّانِي: المُثَقَّلاَتُ) وَالَّذي مَاتَ بِهِ حَرَامٌ كَمَا لَوْ رَمَى بِبُنْدُقَةٍ أَوْ أَلْقَاهُ فِي بِئْرٍ فَانْصَدَمَ أَوْ انْخَنَقَ بالأَحْبُولَةِ فَلاَ بُدَّ مِنْ جَارحٍ* وَلَوْ مَاتَ تَحْتَ الكَلْبِ غَمّاً فَفِيهِ قَوْلاَنِ* وَلَوْ مَاتَ بِسَهْمٍ وَبُنْدُقَةٍ أَوِ انْصِدَامٍ بِالأرْضِ أَو تَدَهْوُرٍ مِنْ جَبَلٍ أَوْ وقُوعٍ فِي مَاءٍ أَوِ انْصِدَامٍ بِأَغْصَانِ الشَّجَرَةِ فَهُوَ حَرَامٌ بَلْ لاَ يُعْفَى إِلاَّ عَنْ الانْصِدَامِ بِالأَرْضِ فَإِنَّ ذَلِكَ بَعْدَ الجُرْحِ لاَ يحْرُمُ لِلضَّرْورَةِ* وَلاَ يَكْفِي كَسْرُ الجَنَاحِ مَعَ الانْصِدَامِ بِالأَرْضِ. ¬
قال الرَّافِعِيُّ: المثقّلاَتُ: الآلاَتُ المُثَقَّلةُ إِذا أثَّرتْ بِثِقْلِهَا دَقاً أو خَنْقاً لم يَحِلَّ الحَيَوَانُ وكذا المُحَدَّدُ إذا قتل بثقله، بل لا بد من الجَرْح؛ روى عن عَدِيِّ بن حاتم - رضي الله عنه - قال: سألت رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عن صيدِ المِعْرَاض، فقالَ: "إن قتل بِحَدِّهِ فكل، وأن قَتَلَ بثقله، فلا تأكل" (¬1) ويروى "إذا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وإِذَا أَصَبْتَ بِعُرْضِهِ، فَلاَ تَأْكُلْ (¬2)؛ فإنَّهُ وَقِيذٌ. فيحرم الطير إذا مَاتَ ببَنْدَقَةِ رَمَاهَا إليه خَدَشَتْهُ أو لم تَخْدِشهُ، ولا يَحِلُّ وإن قطعت البَنْدَقَةُ رَأْسَهُ، وكذا الصَيد إذا وقع في البِئْرِ المَحْفُورَةِ [له]، وماتَ بالانْصِدَامِ، أو انْخَفَقَ بالأُحْبُولَةَ المَنْصُوبَةِ له، أو كان رَأْسُ الحَبْلِ في يده، فجره ومات أو مات بسهم لا نَصْلَ فيه، ولا حَدَّ له بدقّه، أو بِثِقْلِ السَّيْفِ. والطير الضعيف إذا ماتَ بِإصَابَةِ غَرَضِ السَّهْمِ إياه، وَمَا إذا ذُبحَ بِحَدِيدَةٍ كَآلَةٍ لا تقطع، فإنَّ القَطْعَ حينئذٍ يحصل بِقُوَّةِ الذَّابحِ وشدة الاعْتِمَادِ لا بآلة، والمَقْتُولُ بالسَّوْطِ والعَصَا مَوْقُوذٌ مُحَرَّمٌ فلو خَسَقَ فيه حكى القاضي الرُّوَيانِيُّ: أنَّهُ إن كان مُحَدَّداً [يَمُورُ مَوْرَ] (¬3) السِّلاَحِ، فهو حَلاَلٌ، وإن كانَ لا يَمُورُ إلاَّ مُسْتَكْرَهاً؛ نُظِرَ إن كانَ العُودُ خَفِيفاً قريباً من السَّهْمِ حَلَّ، وإن كان ثقيلاً، فالأَغْلَبُ أن الثّقْلَ قتله، فيكون مَوْقُوذاً، ثم في الفصل مسألَتَان: إحداهمَا: إذا لم يجرح الكلبُ الصَّيْد، لكن تَحَامَلَ عليه، وقتلَه بِضَغْطِه، ففيه قولاَن: أحدُهُمَا: وبه قال أحمدُ، واختاره [المزني] (¬4) لا يحلُّ، كما لَو مَاتَ بِثِقْلِ السَّهْمِ والسَّيْفِ والمُثَقّلاَتِ، وكما إذا رأى الكَلْبَ، أو الفَهْدَ فانْشَقَّتْ مَرَارَتُهُ فَزَعاً ومات [أوَ تعب من كثرة العَدْوِ، ومات] (¬5) يُدْرِكَهُ الكَلْبُ، وأيضاً فإنَّ الله -تعالَى- سَمَّاها جَوَارح، فينبغي أن يجرح. وأصحُّهما على ما ذكر الرويانيُ والمُوَفَّقُ بن طاهر: أنه يَحِلُّ؛ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ولأنَّ الجَارِحَةَ تعلم ترك الأكلِ فتَؤُب وقد تفضي بها المَهَارَة فيما تعلم إلى ترك الجرح، ولا يمكن أنْ تكلف بأن تجرح، ولا تأكل بخلاف ما إذا أَصَابَ السَّهْمُ بِعَرضِهِ، فإن ذلك من سوء الرَّمْي، ومن قال بهذا القَوْلِ ¬
قال: الجَوَارحُ الكَوَاسِبِ (¬1). وعن أبي حنيفَةَ رِوَايَتان كالقَوْلَيْنِ، والأشْهَرُ منها الأَوَّلُ. وقولُهُ: "ولو مَاتَ تحت الكَلْب غَمّاً" يجوز أن يريد به غَمّه وغشِيهُ ويجوز أن يُرِيدَ أنه مَاتَ تحته حُزْناً، وهذه المسألة لَو أوْرَدَهَا في القسم الثالثِ لَجَازَ، وإنما أَوْرَدَهَا في المُثَقَّلاَتِ؛ لأنَّ الجَارِحَةَ والصورةَ هذه لمْ تجرح كالمُثَقَّلاتِ. وقولُهُ: من قبل "أو أَلْقَاهُ في بِشْرٍ، فانْصَدَمَ" ليحملَ على أَنَّه تَسَبَّبَ إلى إِلْقَاءِ الصيدِ فيما يحفرها لضبطه، فمات الصَّيْدُ بالانْصِدَام، فأما إذا أخذ الصَّيْدَ، وصار مَقْدُوراً عليه، وأَلْقَاهُ في البِئْرِ، وهذا أَوْضَحُ من أن يحتاجَ إَلى ذِكْرِهِ. الثانية: إذَا مَاتَ الصَّيْدُ بِسَبَبَيْنِ مبيح وحَاظِرٍ (¬2) فهو حَرَامٌ، تَغْلِيباً للتحريم، وذلك مِثْلُ أن يَمُوتَ بِسَهْمٍ وبَنْدَقَةٍ أصاباه من رَامٍ أوَ رَامِيَيْنِ، أو يصيب الصَّيْدَ طَرْفٌ من الفصلِ، فيجرحَهُ، ويؤثر فيه عُرْضُ السَّهْمِ في مُرُورِهِ، فيموت منهما، وكذا لو رمَى إلى الصيدِ سَهْماً، فوقع على طَرَفَ سَطْحٍ، ثم سقط منه، أو على جَبَلٍ فتدهور منه وتردّى، أو وقع فِي مَاءٍ، أو على شجر، فانْصَدَمَ بأغصانه؛ لأنَّهُ ماتَ منهما أو لا يدري أنه من أيهما مَاتَ، وكذلك الحُكْمُ لو وقَعَ على مُحَدّدٍ من سِكِّينٍ وغيره. ولو تَدَحْرَجَ من الجَبَل من جنب إلى جنب؛ لم يَضُرَّ؛ لأنَّ ذلك ليس مما يُؤَثِّرُ في التلف، وإن أصاب السهمُ الصَّيْدَ في الهواء، فوقع على الأرض، وماتَ، حلَّ سواءٌ ماتَ قبل الوصولِ إلى الأرض، أو بعده، أو لم يُعْلَمْ أنَّهُ ماتَ قبله أو بعده؛ لأنَّ الوُقوعَ على الأَرْضِ لاَ بُدَّ منه، فيعفى عنه، كما يعض عن الذَّبْحِ في غيرِ المذبح عند التَّعَذُّرِ، وكما لو كانَ الصَّيْدُ قائماً، فوقع على جنبه لما أصَابَهُ السَّهْمُ، وانْصَدَمَ بالأرض. وقَالَ مالكٌ: إن مَاتَ بعدما وَقَعَ على الأَرْضِ لم يَحِلَّ، والانزحاف قَليِلاً بعد إصابةِ السَّهْمِ، كالوقوعِ على الأَرْضِ، ولو لمْ يجرحه السَّهْمُ في الهواء ولكن كَسَرَ جَنَاحَه، فوقع فَمَاتَ، فهو حَرَامٌ؛ لأنَّهُ لم يصبه جُرْحٌ يُحَالُ الموت عليه، ولو كان الجُرْحُ خَفِيفاً لا يُؤَثِّرُ مِثْلُهُ، ولكن عَطَّلَ جَنَاحَهُ، فَسقَطَ، وماتَ، فكذلك قالَهُ في "النهايَة". ولو وَقَعَ الصَّيْدُ من الهواء بعد ما أَصَابَهُ السَّهْمُ، وجرحه في بئر، فإن كانَ فيها مَاءٌ، فعلى ما سَبَقَ، وإن لم يكن فالصَّيْدُ حَلاَلٌ، وقَعْرُ البئرِ كالأرضِ [وليكن الغرض فيما إذا لم يصادفه جُدْرَانٌ] (¬3) البئر، ولو كان الطَّيْرُ [واقفاً] (¬4) على شَجَرٍ، فَأصَابَهُ ¬
السَّهْمُ، ووقع على الأرض حَلّ، وأن وقع على غُصْنٍ، أو أَغْصَانٍ، ثم وقَعَ على الأَرْضِ لم يحِلَّ، وليسَ الانْصِدَامُ بالأَغْصَانِ، أو بأَحْرُفِ الجَبَلِ عند التَّدَهْوُرِ من أعلاه كالانْصِدَامِ بالأرضِ، فإنَّ ذلكَ الانصدامَ ليسَ بلازمٍ ولا غالبٍ، والانصدامُ بالأرض لاَ بُدَّ منه. وللإمام احْتِمَالٌ في الصَّورَتَيْنِ لكثرةِ وقوع الطُّيُورِ على الأشجار، والانصدامِ بأطْرَافِ الجَبَلِ، إذا كان الصَّيْدُ في الجَبَلِ. فلو رَمَى إلى طير الماء، نُظِرَ إِنْ كَانَ على وجه الماء، فَأصَابَهُ فمات، حلّ، والمَاءُ له كالأرضِ، وإنْ كانَ خَارج الماءِ، ووقعَ في المَاءِ بعدما أصابَه السَّهْمُ، ففيه وَجْهَانِ منقولاَنِ عن "الحَاوي". أحدُهمَا: أنَّهُ حَرَامٌ؛ لأنَّ المَاءَ بعد الجَرْحِ يعين على التَّلَفِ، وهذا ما يُوجَدُ في "التهذيب". والثاني: يَحِلُّ؛ لأنَّ المَاءَ لا [يُغرقهُ] (¬1)؛ ولأنَّهُ لا يفارق المَاءَ غالباً، ووقُوعُهُ في المَاءِ كَوُقُوعِ غيرهِ على الأَرْضِ، وهذا ما يَشْتَمِلُ عليه "شَرْحُ مختصرِ الجويني". وإن كان الطَّائِرُ في هواء البَحْرِ، ففي "التهذيب" أنَّهُ يُنْظَرُ إن كانَ الرَّمْيُ في البَرِّ لم يحِلَّ، وإنْ كانَ في البَحرِ في السَّفِينَةِ حَلَّ. وجميعُ مَا ذَكَرْنَا فيما إذا لم ينته الصَّيْدُ بتلك الجراحة إلى حالة حركةِ المذبوح، فإنْ انتهى إليها بِقَطْعِ الحُلْقُوم والمريء، أو غيره فقد تَمَّتْ ذَكَاتُهُ، ولا أَثر لم يعرض بعد ذلك. وقولُهُ في الكتاب: "ولو ماتَ بِسَهْمٍ أو بَنْدَقَةٍ، أو انْصِدَامٍ" يعني: أو مَاتَ بِسَهْمٍ، وانْصِدَام، وكذَا في باقِي الأَمْثِلَةِ، ثم في بعض النُّسَخ: "أو انصدامِ بالأرضِ"، وفي بعضِها "بالعُرْضِ" فعلَى الأَوَّلِ المعنى: إذَا مات الصَّيْدُ بالسَّهْم مع ضَمِيمَةٍ من الضَّمَائِم المذكورةِ، فهوَ حَرَامٌ، إلاَّ إذا كانَتْ الضَّمِيمَةُ الانْصِدَامَ بالأرض، فيعفَى عنه وعلى الثاني: المراد عُرْضُ السَّهْمِ على ما بَيَّنَّا ورَوَيْنَا الحديث في صَيْدِ المِعْرَاضِ. [فرع] عن "التهذيب": لو أَرْسَلَ كَلْباً في عُنُقِهِ قِلاَدَةٌ مُحدَّدَةٌ، فجرحَ الصَّيْدَ بها حَلَّ، كما لو أَرْسَلَ كَلْباً وسَهْماً فَأصَابَهُ، وقَدْ يفرق بأنَّهُ قَصَدَ بالسَّهْمِ الصَّيْدَ، ولم يقصده بالقِلاَدَةِ (¬2). قال الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثُ: جَوَارحُ الحَيَوَانِ) وَالكَلْبُ المُعَلَّمُ كَآلَةِ الذَّابِحِ فَتَحِلُّ فَرِيسَتُهُ* وَالمُعَلَّمُ هُوَ الَّذِي يَنْزَجِرُ بِزَجْرِ صَاحِبِهِ وَيَسْتَرسِلُ بِإرْسَالِهِ وَلاَ يَأْكُلُ مِنْ فَرِيسَتِهِ* وَهَلْ يُشْتَرَطُ انْزِجَارُهُ بِزَجْرِهِ بَعْدَ اشْتِدَادِ عَدْوِهِ بِإرْسَالِهِ وَحِدَّتِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ* وَلْيَتَكَرَّرْ مِنْهُ تَرْكُ ¬
الأكْلِ مِرَاراً حَتَّى يَظْهَرَ بِهِ تَعَلُّمُهُ* فَإنْ أَكَلَ المُعَلَّمُ نَادِراً لَمْ تَحْرُمْ تِلْكَ الفَرِيسَةُ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ* فَإِنِ اعْتَادَ الأَكْلَ حَرُمَتِ الفَرِيسَةُ الَّتِي بِهَا ظَهَرَتْ عَادَتُهُ* وَهَلْ يَحْرُمُ مَا أَكَلَ مِنْهَا قَبْلَهُ فِيهِ وَجْهانِ* وَلَعْقُ الدَّمِ لَيْسَ كَالأَكْلِ* وَمَوْضِعُ عَضِّ الكَلْبِ يُغْسَلُ سَبْعاً وَيْعفَّرُ عَلَى وَجْهٍ* وَيُقَوَّرُ عَلَى وَجْهٍ وَيُعْفَى عَنْهُ عَلَى وَجْهٍ* وَفَرِيسَةُ الفَهْدِ وَالنَّمِرِ حَرَامٌ لأَنَّهُ لاَ يَتَأدَّبُ بِتَرْكِ الأَكْلِ* وَالبَازِيُّ أَيْضاً لاَ يَتْرُكُ الأكْلَ وَلَكِنْ إنْ صَارَ مُعَلَّماً فَفِي فَرِيسَتِهِ وَجْهَانِ لِأَنَّ جِنْسَ الطُّيُورِ لاَ بُدَّ لَهَا مِنْ جَارِحَةٍ* وَتَعْلِيمُ جَوَارحِ الطَّيْرِ بِتَرْكِ الأَكْلِ مُتَعَذِّرْ فَإِنَّهَا لاَ تَحْتَمِلُ الضرْبَ. قال الرَّافِعِيُّ: يجوزُ الاصطيادُ بِجَوَارحِ السِّبَاعِ كـ"الكلب" و"الفَهْدِ" و"النَّمِرِ" وغيرِهَا (¬1)، وبجوارح الطُّيُورِ كـ"البَازِيِّ" و"الشَّاهِين" و"الصَّقِرِ" قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] وعَنْ عَدِيّ بنِ حاتمٍ -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا عَلَّمْتَ مِنْ كَلْبٍ أَو بَازِ، ثُمَّ أَرْسَلْتَهُ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ -تَعَالَى- عَلَيْهِ، فَكُلُ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ" وعن أحمَد: أنَّهُ استثنَى الكَلْبَ الأَسْوَد، وقالَ؛ لا يجوزُ الاصْطِيادُ به، ويُحْكَى عن أبي بكر الفَارِسِيِّ من أصحابِنا موافقته. ويعني بجواز الاصطياد (¬2) بها أن ما أَخذته وجَرَحْته وأَدْرَكَهُ صَاحِبها ميتاً، أو في حركةِ المَذْبُوحِ يحلُّ أَكْلُهُ. ويقومُ إِرْسَالُ الصائد، وجرحُ الجارح في أي مَوْضِعٍ كانَ مَقَامَ الذَّبْحِ في المقدور عليه. وأما الاصْطِيادُ، بمعنى إثباتِ اليَدِ عَلى الصَّيْدِ، وضبطه، فلا يختصُّ بالجوارح [بلا خلاف] (¬3) بل يَجُوزُ بأي طريق تَيَسَّرَ. ثم ذَبْحهُ كذبح الحيواناتِ الإنْسِيَّةِ، ويشترط لحل ما قَتَلَتُهُ الجَوَارحُ أن تكون الجارحة مُعَلَّمةً، فإن لم تكنُ مُعَلَّمةً لم يَحلَّ، وإن ما أدركَهُ وفيه حَيَاةٌ مستقرةٌ، فلا بُدَّ من ذَبْحِهِ، روِي عن أبي ثعلبةَ الخشني -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رَسُولُ الله: إني أَصِيدُ بكلبي المُعَلّم، وبكلبي الذي ليس بِمُعَلّم، فقالَ: "مَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ المُعَلَّم، فَاذْكُرَ اسْمَ اللهِ عَلَيهِ وَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ فَأدْرَكَتْ ذَكَاتَهُ فَكُلْ" (¬4). واعتبرُوا في صَيرُورَةِ الكَلْبِ فعَلَّماً ثلاثة أمور: ¬
أحدُهَا: أن يَنْزَجِرَ بِزَجْرِ صَاحبِهِ، هكذا أَطْلَقَ أَكْثَرُهُمْ. وقَال الإمامُ: يعتبر ذَلك في ابْتِدَاءِ الأَمْرِ، فأمَّا إذا انطلق واشْتَدَّ عَدْوُهُ وحدّثُهُ، فَفِي اعتبارِهِ وَجْهان: الأَشْبَهُ: الاعتبار فإنَّ التأدُّب (¬1) به يظهر. ووجهُ المَنْعِ أنَّه لا يَكَادُ يكف حينئذٍ. والثاني: أن يَسْتَرْسِلَ بإرساله وإشارته، ومعنَاهُ: أنَّهُ إذا أغرى على الصيد هَاجَ. والثالث: أَنْ يُمْسِكَ الصَّيْدَ ولا يأكلُ منه، وفي هذا اعْتِبَارُ وصفين: أحدهما: أن يحفظَهُ، فلا يخليه، وعَبَّرَ عنه الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- بقوله في صِفَةِ المُعَلِّمِ: "فإذا أخذ حبس". والثاني: أَنَّهُ لا يَأْكُلُ منه، روي في الخبر: "فَإِنْ أَكَلَ فَإنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ" (¬2). وعن مالكٍ: أنْ تَرْكَ الأَكْلِ ليس بشرطٍ، ويذكر أن أبَا يَعْقُوبَ الأبيورديِّ حكى في الشَّرْح قَوْلاً مِثْلَهُ. وفي كتاب القاضِي ابن كَجٍّ نحواً منه، والمَذْهَبُ الأَوَّلُ. هذَا حكمُ الكلبِ وما في معناه من جَوَارَحِ السِّبَاعِ. وذكرَ الإمَامُ أنَّ ظَاهِرَ المذهب أنَّه ينبغي أن يَنْطَلِقَ بإطلاق صاحبه، وأَنَّهُ لو انْطَلَقَ بنفسه لم يكُنْ مُعَلماً، ورآه مُشْكلاً من جِهَةِ أنَ الكَلْبَ على أي صفةٍ فرض إِذَا رَأَى صَيْداً بالقُرْب منه، وهو على كَلَب الجُوع يبعد تصوير انْكِفَافِهِ، وهَذَا أَمْرُ خَارجٌ عن الأمورِ الثلاثةِ. وأمَّا جوارحُ الطيورِ، فيُشترط فيها أن تَهيجَ عند الاغْرَاء وهل يُشْتَرَطُ أن نترك الأَكْلَ؟ فيه قولانِ، حَكَاهُمَا الصيدلانيُّ وغيره. أظهرهما: نعم كما في جوارح السباع. والثاني: المَنْعُ، وبه قَالَ أبو حَنِيْفَةَ، والمزني: أنَّهُ لا يمكنُ التَّحَامُلُ عليها، والكلبُ إنَما يَنْكَفُّ عن الأكلِ بالضَّرْب، وقد قيل: إنَّ سَبيل تعليم الطيورُ إطْمَاعها في الإِطْعَام مما يُصْطَادُ. قال الإِمام: ولا يطمع في انزجارها بعد الطَّيَرَانِ، ويبعد أيضاً اشتراط [انْكِفَافِهَا] (¬3) في أول الأمرِ، وقد لاح لها الصَّيْدُ، وهي جائعةٌ. ثم في الفصل صور. إحداها: الأمور المعتبرةُ في التَّعْلِيمِ لا بدَ وأنْ تَتَكَرَّرَ مَرَّةً بعدَ مرة؛ ليغلبَ على ¬
الظن تَأدُّب الجارحة، ولم يُقَدِّرْ مُعْظَمُ الأصحاب عَدَدَ المَرَّاتِ، وكأنهم رأوا العُرْفَ مضطرباً، وطباع الجوارحِ مختلفةً، والرُّجُوعُ في البَاب إلى أَهْلِ الخِبْرَةِ بِطِبَاعِ الجوارحِ. وفيه وَجْهٌ: أنَّهُ يكفي التَّكْرَرُ مرتين؛ لأنَّ العادَةَ تثبت بهما، ويروى هذا عن أبي حَنِيْفَةَ وأحمدَ وفي "شرحِ المُوَفَّق بن طاهِر" وجهٌ: أنَّهُ يعتبر ثلاث مَرَّات، ويقرب من هذا قَوْلُ صاحبِ "التهذيب" (¬1) أنَّ أقَلَّهُ ثلاث مراتٍ [فإن تكرر ثلاث مرات] (¬2) حَلَّ ما قتل في الرَّابِعَةِ، وظَاهِرُ لفظ الكتاب حيث قال: "مِرَاراً" يُوَافقُه. الثانية: إذَا ظَهَرَ كَوْنُ الكَلْب معلَّماً، ثم أكل مَرَّةَ من لَحْمِ الصيدِ، إما قبل أن قتله، أو بَعْدَهُ، فهل يَحِلُّ ذلك الصيدُ؟ فيه قولان: القديم، وأحد قولي الجديد: نعم، وبه قال مالكٌ؛ لما رُوِي عن أبي ثَعْلَبَةَ الخشني -رضي الله عنه- أنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا أَرْسَلتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ، وَذكَرْتَ اسْمَ اللهِ تَعَالَى فَكُلْ" قال: وإن قَتَلَ، قال؛ "وَإنْ قَتَل". قال: وإنْ أَكَلَ قال:"وَإِنْ أَكَل"؛ ولأنَّ الأَصْلَ بَقَاؤُهُ على التَّأَدُّبِ، والأكلُ يحتمل أنْ يَكُونَ لشدة جوعٍ، أو غَيْظٍ على الصيدِ، إذا أتعبه. والأَصَحُّ هو الثاني من قولي الجديد، وبه قال أَبُو حَنِيفَة وأحمد أنَّهُ يحرمُ؛ لما روي عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذَاً أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ [وَسَمَّيْتَ] (¬3) فَأَمْسَكَ وَقَتَل فَكُلْ، وَإِنْ أَكَلَ فَلاَ تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ". وأيضاً فإن ما كانَ شَرْطاً للحلِّ في الابتداء، وجبَ أن يَكُونَ شرطاً في الدوام، كإرسالِ الكلب، فإنّه لو استرسل [بنفسه في الدوام لم يحل الصيد كما لو استرسل] (¬4) في الابتداء بنفسه. قال الإِمَامُ: وَدِدْتُ لو فَصَّلَ فَاصِلٌ، بين أن ينكفَّ زماناً، ثم يأكل، وبَيْنَ أنْ يَأْكل كما أخذ، وإن الزَّمَانَ إذَا تَمَادَى يُعَدّ انْكِفَافاً لِلْكَلْب، ولم يتعرضُوا لهُ (¬5). وإذَا قلنَا: بالتحريم فلا بد من استئناف التعليم، ولا يَنْعَطِفُ التَّحْرِيمُ على ما اصْطَادَهُ من قبلُ؛ خلافاً لأبي حنيفة، حيث قال: يحرمُ الكُلُّ، واحتجّ الشَّيْخُ أبُو حامد ¬
للمذهب بأنَّ الحلَّ يَتَعَلَّقُ بصفاتِ في الصَّائِدِ، وصفاتِ في الجارحةِ، ثم لو تغيرت صفة الصائد، بأنْ ارْتَدَّ لم يحرم ما اصْطَادَهُ من قبل، وكذلكَ إذا تَغَيَّرَت صِفَةُ الجَارِحَةِ، ولو تَكَرَّرَ منهُ الأكل، وصارَ عَادَةً له، فلا خِلاَفَ في تحريمِ الصيدِ الذي أَكَلَ منهُ، وفي الصيودِ التي أكل منها من قَبْلُ وَجْهان، لكنَّ اعتياد الأكلِ يُوهِمُ خروجه عن كونهِ مُعَلَّماً من أول مَا أَكل، وقد يُرَجَّحُ المَنْعُ تَغْلِيباً للتحريم في مواضِع التردد، ثم يصيرُ الأَكْلُ عَادَةً لهُ. قال في "التهذيبِ": إذَا أَكَلَ من الصَّيْدِ ثانياً حُرِّمَ الصَّيْدُ الثاني، وفي الأول وجهان. وإذَا أَكَلَ من الثَّالِث حُرِّمَ الثالثُ، وفيما قَبْلَهُ وجهان، وهذا (¬1) ذَهَابٌ إلى أنَّ الأكْلَ مَرَّتَيْن يخرجه عن كونهِ مُعَلّماً، وقد ذَكَرْنَا خلافاً في تَكَرُّرِ الصفاتِ التي يَصِيرُ بها مُعَلَّماً، ويجوزُ أن يفترَّق بينهما، بأنَّ أقر التَّعْلِيم في الحِلّ، وأثَر الأكلِ في التحريم، فيجري فيه على قَضِيَّة الاحتياط، وكذلكَ إذا عُرِف كونُهُ مُعَلَّماً، لم ينعطف الحِلّ علَى ما سبقَ، بلا خلاف، وفي انعطاف التحريمِ الخلافِ الذي بَيَّنَّاهُ. ولَعْقُ الدَّمِ لا يَضُرُّ، ولا يُخْرِجُ الكَلْبَ عن كونه مُعَلَّماً؛ لأنَّهُ لم (¬2) يتناول ما هو مَقْصُودُ الصَّائِدِ، وأشار الإِمام إلى وجهٍ آخر ضَعيفٌ. ولو أَكَلَ حَشْوَة الصَّيْد، ففيه طريقان: أشبههما: أن في تحريمِ الصيد القولين المَذْكُورَيْنِ في اللَّحْم. والثاني: القَطْعُ بالحلِ؛ لأنَّهُ يلقى غَالِباً، ولا يقصد كالدَّمِ. ولو لم يسترسل عند الاسْتِرْسَالِ، أو لم يَنْزَجِرْ عند الزَّجْرِ، فينبغي أنْ يَكُونَ في تحريم الصَّيْدِ، وخروجهِ عن كونهِ مُعَلَّماً الخِلاَفُ المذكورُ في الأَكْلِ؛ لأنَّ كل واحدٍ من الخصَالِ المذكورةِ ركن في التعليم. وعن القَفَّالِ: أنَّه إذَا أرادَ [الصَّائِدُ] (¬3) أخذ الصيد منه، فَامْتَنع وصارَ يُقَتِلُ دُونه -فهو كَمَا لَوْ أكل. وجوارحُ الطيورِ إذَا أكلت من الصَّيْدِ، وفرَّعنا على اشتراطِ تركِ الأكلِ منَّها ففِي حلِّه طريقان. أَحدُهما: القطعُ بالحِلِّ، وبه قال أبُو حَنِيْفَةَ، واختارَه المُزَنِيُّ؛ لأنَّ الطيورَ تعلَّمُ بالإطعامِ والإطماع في الصيد، فأكلُها لا يدُلُّ على أنه ليسَتْ بِمُعَلَّمة؛ ولأنَّ الكلبَ يُضْرَبُ، ويُمْنَع بالضرب عَنِ الأَكْلِ. والطيورُ لا تحتَمِلُ الضربَ، وأَصَحُّهُمَا: طردُ القَوْلَيْنِ، وقد رُوِيَ في حديث عَدِيّ -رضي الله عنه- "ما عَلَّمْتَ مِنْ كَلْبٍ، أَو بَاذِيّ، ¬
وأرْسلْتَهُ وذكرْتَ اسْمَ اللهِ، فكُلْ مما أمسَك عليكَ، ولم يَأْكُلْ" فجمع بين الكلبِ والبازِيّ. الثَّالِثَة؛ مَعَضُّ الكلْبِ من الصيد نَجِسٌ، وفي العَفْوِ عنه وجهان: كذا قال أكثرُهُم. وقَالَ الصَّيْدَلاَنِيُّ: قولاَن مَنْصُوصَانِ: أَحدُهُمَا: أنه يُعْفَى عنه للحاجة، وعُسْرِ الاحْتِرَازِ، وأصحُّهُمَا: المنعُ كما وَلَغَ في الإناءِ، وأصابَ موضِعاً آخرَ، ومنهم من جعلَ الخلاف في أنَّهُ هل يَنْجَسُ ذلك الموضعُ؟ وإذ قُلْنَا: بعدمِ العَفْوِ فوجْهَان: أَصَحُّهما: أنَّه يَكْفِي فيه الغسلُ والتعفِيرُ كغَيْرِهِ. والثَّانِي: أنَّه يُقَوَّرُ ذلك الموضعُ، ويُطْرَحُ؛ لأنَّهُ يتشرَّبُ لعابه، فلا يتخلَّلهُ الماءُ. قَالَ الإمامُ: وهذا القائِلُ يَطَّرِدُ ما ذكره في كُلِّ لحمٍ ومَا في مَعْنَاهُ بعضَّه الكلب عليه بخلافِ الموْضِعِ الذي ينالُهُ لعابُهُ [مِنْ غَيْر عَضٍّ، وعن حكايةِ بعْضِ أَصْحاب القفَّالِ أن ما بالكلب إذا أصاب عِرْقاً نضّاحاً بالدم] (¬1) يسري حكمُ النجاسةِ إلى جميعَ الصيدِ ولم يَحِلَّ أكلُهُ، وغلظَة الإمامُ في ذلك وقال: النجَاسةُ وإنِ اتَّصَلَتْ بالدمِ فالعِرْقُ وعاءٌ حاجِزٌ بينه وبينَ اللحْم، ثم الدَّمُ إذَا كان يفُور امتنعَ غوصُ النجاسةِ فيه كالماءِ المتصعِّد من فَوَّارَة إذا وقعت نجَاسةٌ على أَعْلاَهُ؛ لم يَنْجُسْ ما تَحتَه وعلى عكْسِه الماءُ المنحدِرُ من الإِبْريقِ، إذَا لاقَى نجاسةً لا ينجسُ ماءُ الإبريق. هذا فِقْهُ الفَصْلِ. وأمَّا ما يتَعلقُ بلفظِ الكتاب فقولُهُ: "فتحِلّ فريِسَتُهُ" لفظُ "الفَرِيسَةُ" من الفَرَسِ، يُقَالُ: فَرَسَ الأَسَدُ فَرِيسَتهُ، وَأَفْرَسَهَا، أَيْ: دَقَّ عُنُقَهَا ثم كثُرَ استعمالُهُ فَسُمَّيَ كلُّ قتْلٍ فَرساً، وفَرِيسَةُ الكَلْبِ ما قتله الكلْبُ بعضِّه، وجَرْحِه، وقد يُتَوَهَّمُ أنَّ فَرِيسَةَ السُّبُعِ ما أَكَلَ مِنْه، وليس ذلكَ بشرط. وقولُهُ "مراراً" يجوزُ أن يُعْلَمَ بالواوِ، وأَنْ تُضَافَ إلى الوَاوِ الحاءُ والألفُ لما قَدَّمْنَا (¬2). وقولُهُ: "لم يحرُمْ" بالحَاءِ واللاَّمِ. وقولُه: "لَيْسَ كَالأَكْلِ" بالوَاوِ، وأما قَوْلُهُ "وفَرِيسَةُ الفَهْدِ والنَّمِرِ حرَامٌ، لأنَّه لا يبادر بتركِ الأكْل" مفهومُهُ الظاهِرُ: أنَّ ما يقتُلُهُ الفَهْدُ والنَّمِرُ من الصيدِ حَرَامٌ؛ لأنَّه لا يَصِيرُ مُعَلَّماً؛ لأنَّ أَحد أركانِ التَّعْلِيم تركُ الأكْلِ، وأنَّه لا يترُكهُ لكنَّ هَذَا المفهومَ خلافُ ما نَصَّ عليه الشافِعِيُّ -رضي الله عنه- والأصحابُ فإنهم [قد جعلوا] (¬3) الفهدَ، والنمرَ، ¬
(الركن الرابع) نفس الذبح والاصطياد
وما يَصْطَادُ مِن السباعِ كالكلبِ، وحكمُوا بحِلِّ ما قتله مِنَ الصَّيْدِ. نَعَمْ قال الإمامُ: الفهدُ لا يتم فيه الانْطِباعُ ولا ينزَجِرُ إذَا زُجِرَ، ولا يتوقفُ اسْتِشْلاَؤُه على أَشْلاَءَ، ولا يَترُك الأكل، وإنْ كَانَ قد لا يتبادر إليه حتى يَسْتَوْثِقَ من الفَرِيسَةِ ويَسْكُن ولا يَتَأتَّى كَفُّه عن الأكلِ بالضربِ لأنَّهُ لو ضُرِب عادَ إلى اسْتِيحاشِه في تصورِ انْطِباعِهِ، فحكمهُ حكمُ الكلْبِ المعَلَّم، وإنْ لم يُتَصَوَّرْ فمقصودُ صاحب الفَهْدِ أنْ يضبِطَ [الصيدَ] (¬1) ليذبحَه صاحبُهُ تحت ضَبْطه، وذكرَ في الوَسِيطِ أنَّه لا يتعلَّمُ، ولا يُطاوعُ بترك الأكْلِ، والانْزِجَارِ بالزَّجْرِ، فإنْ تُصُوَّرَ ذلك على نُدورٍ فهو كالكلبِ، ومقصودُهما من هذا الكلام أنه يبعد مِنْ حالة أنْ يَصِيرَ مُعَلَّماً؛ لكن لو اتفق ذلك عَلى نُدورٍ -فحُكْمُهُ حكمُ الكَلْبِ، ونَحَا صاحِبُ الكتاب نحوَ مَا ذكراه (¬2)، إِلاَّ أَنَّهُ لم يَسْتَدْرِك ما إذَا قُدِّرَ تعلُّمه نادِراً ولا بد (¬3) منه. وأمَّا قولُهُ: "والبَازِيُّ -أيْضاً- لاَ يَتْركُ الأكْلَ .... " إلى آخِرِهِ، فاعْلَمْ أَنَا حكَيْنَا خِلاَفاً في أَنَّ تَرْكَ الأكْلِ: هَلْ يُشْتَرطُ في الطيورِ لتكونَ مُعَلَّمةً؟ وخِلاَفاً في أنَّهُ إذا جُعِلَ ذلك شَرْطاً، فلو أكَلَتْ: هل يحِلُّ الصيدُ؟ والأشبهُ أَنَّهُ أراد بما ذكره الخلافَ الأولَ؛ لأنَّه الذي أورَده في "الوَسِيط" إِلاَّ أنَّهُ أبدلَ القولَيْنِ بالوجْهَيْنِ. ولأنَّ التوجيه المذكورَ به أَلْيقُ، وتلخيصُ ما قدَّمَ منه على الحكم وأَخَّر أنَّ البازِيَّ وسَائِرَ الطيورَ لا تتركُ الأكْلِ غالِباً، ولا يمكن أن تُعلَّمَ تَرْكَ الأَكْلِ؛ لأنَّهَا لا تَحْتَمِلُ الضربَ، ولا بد وأن يكونَ في جِنْس الطيور جَوَارحُ يُصْطَادِ بِهَا، وأمَّا في جَوَارحِ السِّبَاعِ ففي الكلبِ غُنْيَةٌ عن غَيْره وأنَّه يتَأدب بترك الأكْلِ. وقولُهُ -في التَّصْوِيرِ "ولكن إنْ صَارَ مُعَلَّماً" أي إن وُجِد فيه سائرُ شُرُوطِ أَرْكَانِ التَّعْلِيمُ وإلاَّ فمَنْ يُشترِطُ تركَ الأكلِ لا يسلم كونه معلماً إذا لمُ يترك الصيد، ولو ترك هذه اللفظَةَ لم يضر. قال الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الرَّابعُ) نَفْسُ الذَّبْحِ وَالاصْطِيَادِ* وَالذَّبْحُ سَيَأْتِي فِي الضَّحَايَا* وَأَمَّا الاصْطِيَادُ فَهُوَ إِمَاتَةُ الصَّيْدِ بِآلَةٍ وَهُوَ كُلُّ جُرْحٍ مَقْصُودٍ حَصَلَ بِهِ المَوْتُ* وَللْقَصْدُ ثَلاَثُ دَرَجَاتٍ (الأولَى) أَصْلُ الفَعْلُ وَلاَ بُدَّ مِنْهُ فَلَوْ سَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ فَانْجَرَحَ بِهِ صَيْدٌ أَوْ نَصَبَ مَنْجَلاً في الشَّبَكَةِ أَوْ سِكِّيناً فِي البِئْرِ فَتَعَقَّرَ بِهِ الصَّيْدُ فَحَرَامٌ* وَلَوْ حَصَلَ قَطْعُ الحَلْقِ بِحَرَكَةِ اليَدِ وَحَرَكةِ الحَيَوَانِ فَحَرَامٌ* وَكَذَا فَرِيسَةُ الكَلْبِ المُسْتَرْسَلِ بِنِفْسِهِ* فَلَوْ ¬
أَغْرَاهُ فَازْدَادَ عَدْواً يَحِلًّ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ حِوَالَةً عَلَى الإِغْرَاءِ حَتَّى لَوْ صَدَرَ مِنْ مَجُوسِيٍّ لِكَلْبٍ مُسْلِم حَرُمَ* أَوْ مِن مُسْلِمٍ لِكَلْبِ مَجُوسِيٍّ حَلَّ* أَوْ مِنْ غَاصِبٍ مَلَكَهُ الغّاصِبُ عَلَى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ* وَفِي الصَّيْدِ بِالكَلْبِ المَغْصُوبِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ لِلغَاصِبِ* وَلَوْ رَمَى سَهْماً يَقْصُرُ عَنِ الصَّيْدِ وَأَعَانَ الرِّيحُ حَتَّى أَصَابَ حَلَّ* وَلَوِ انْصَدَمَ بِحَائِطٍ فَأصَابَ فَوَجْهَانِ* وَلَوْ قَصَدَ الرَّمْيِ فَانْقَطَعَ الوَتَرُ فَارْتَمَى السَّهْمُ فَوَجْهَانِ. الركنُ الرابعُ: مقصودُ هذا الركْنِ في نفسِ الذبح وعقْرِ الصيدِ بالأَسْلِحة، أو بالجوارح أما نفسُ الذَّبْحِ فالكلامُ فيه مؤخّرٌ إلى "الضَحَايَا". قال الرَّافِعِيُّ: أمَّا الاِصْطِيادُ فهو إماتةُ الصيد بِآلةٍ، واعلم أنا ذكرنَا في صدْرِ الباب أنَّ الاصطِيادَ يقعُ على العقْر المزْهِق الوحشي، ويقعُ على ما هو أَعَمُّ منْهُ، والمقصودُ هاهنا المعنى الأوَّلُ دُونَ الأَعَمِّ، وفسَّره بإماتَةِ الصيدِ بآلةٍ، ولما لم تكن مُطْلق الإماتةِ كافيةً بيَّن ما عني بها، وهو الجرْحُ المقصودُ الذي حصَلَ به الموتُ. ولو قال الاصطيادُ: هو الجرحُ الوَارِدُ عَلَى الوحشي المقصودِ المزهِق، [وترك] (¬1) توسُّطَ الإمَاتَةِ -لحصَلَ الغرضُ ثم هذا الضبطُ يشتمل على قُيُودٍ: أَحَدُها: الجُرْحُ فيخرج عنه الخَنْقُ والوقْذُ ونحوهُما. والثَّانِي: كونُه مَقْصُوداً، وقد ترك القصد على ثلاث درجات. إحْدَاهَا: قصد أصل الفعِل الجَارح، فلو كان في يده سِكِّينٌ، فسقطَ منه وانْجرحَ به الصيدُ ومات، أو كان قد نصب مِنْجَلاً أو حَدِيدَةً أُخْرَى فتعثر به الصَيدُ ومات فهُو حرامٌ، وعلَّلُوه مَنْ وجْهَيْن: قال الأكْثرُون؛ لأنَّه لم يُذَكِّهِ، ولم يَجْرَحْهُ أحدٌ إِذْ لَمْ يَتَّصِلْ بالعقْرِ الحاصِل فعلٌ يُنْسَبُ العَقْرُ إلَيْه، وإنَّما انجرح الصيدُ وهلك بحركة نَفْسِهِ غَايتُه أنَّ الصائِد تَسَبَّبَ إلى إِهْلاكه بِنَصْلِ المِنْجلِ، لكن الذَّكاةَ لا تحصل بالتسبب. وقال أَبُو الطيب بنُ سَلَمَةَ؛ لأن الصَّيْدَ إنَّما يحِلُّ إذا قُصِد بعيْنهِ ودُمِيَ إِلَيْه. أَوْ رُمِي إلى جْمُلَةٍ هو منها، والأُحْبُولَةُ والسِّكِّينُ لا يُقصدُ بها حَيْنٌ بعينِهِ، ولا واحدٌ من جملة. ولو نصبَ سِكِّيناً أو حديدةً أُخْرَى أو كانَت في يَدِه فجاءتْ شَاةٌ واحتكَّتْ بهَّا؛ وانقطعَ حُلْقُومُهَا، أو كانت في يده حَدِيدَةٌ فوقعَت على حَلْقِ شَاةٍ قَتَلَتْهُ فهي حرامٌ أَيْضاً؛ لأنَّه لم يَذْبَحْ [ولم يَقْصِدِ الذَّبْحِ] (¬2) وإنما حصلَ ما حصل بفعْل الشاة أو من غيرِ فعلِ ¬
مختارٍ، وفي "التَّهْذِيب" وغيره أنَّ عند أبِي إِسْحَاقَ: تحل الشاةُ في صورة وقُوعِ السكِّينِ مِنْ يده، ولا شكَّ أن الصيدَ في مَعْناه، فيجوزُ أن يُعْلَمَ لذلك قولُه في الكتاب "فحرام" بالوَاوِ، ويمكن أن يُعْلَمَ بالحاءِ؛ لأنه يُرْوَى عن أَبِي حَنِيفَة: أنَّه إِنْ كان فيَ الأُحْبُولة سِلاَحٌ فجرح الصيْدِ يحلّ، لكنْ قَالَ الرُّوَيانِيِّ في "البَحْر" عندي: لا تَصحُّ هذه الحكايةُ عَنْه، ولو كان مَنْ في يَدِه الحديدَةُ فحرّكَها، والشاةُ أَيْضاً تحك حَلْقها بالحديدَةِ فحصلَ الانقِطاعُ بالحركتينَ فهي حرامٌ أيضاً؛ لأنَّ الموت حَصلَ بشركةِ الذابحِ والبَهِيمَةِ. واعترض الإمامُ: بأنَّ مَنْ أَضْجع شاةً ليذبحها وأمرَّ بالسَّكِّينِ على حلقها فإنه يضطربُ المذبح، والاضطرابُ له أثرٌ (¬1) في القطْعِ، وقليلاً ما تخلو الذبائِحُ (¬2) عنه، فلو أثَّرَ ذلك لحرمَ (¬3) مُعظم الدبائح. وأجابَ بأن الشاةَ المضْبُوطة إذا مَسَّها حَد السكين يحبس الحلقوم فإنَّ كُلَّ حَيَوانٍ أَصَاب عضواً منه مؤلم انْزَوَى وتحرك عنه، وهذه الحركةِ لا تُؤَثِّرُ في الانقطاعِ، إنما الكلامُ في الاحْتِكَاك والحركة في استقبالِ الحديدة، ووراء ما ذكرنَا في الفصلِ مَسْأَلتَّان: إِحدَاهُمَا: إذا اسْتَرْسَلَ الكَلْبُ بنَفْسِهِ؛ وقَتَل صَيْداً -فهو حرامٌ (¬4). مُعَلَّماً كانَ أَوْ لم يكن، واحتجَّ لَهُ [بما روِيَ] بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قيّدَ تَجْويزَ الأكْلِ بالإرسالِ، فقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذا أَرْسَلتَ كَلْبك المُعَلَّمَ فكُل وإن أكَل الكلبُ" (¬5)، والصورةُ هذه من الصيد لم يقدَحُ ذلك في كونه (¬6) مُعَلَّماً بلا خلافِ، وإنَّما يعتبرُ الامساكُ إذا [أرسله] (¬7) صاحِبه، ولو أن صاحِبَ الكلب زَجَرَه لَمَّا اسْتَرسَلَ (¬8)، فانزَجر ووقَفَ ثم أَغْراهُ فاسْتَرسْلَ، وقتل الصيدَ -حَلَّ بلا خِلاَفٍ، وإن لم يَنْزَجِرْ ومَضَى على وجْهِه، لم يحل الصيدُ سواءٌ زاد عَدْوه وحِدَّتُه أو لم يزدْ ولو لم يزجُرْهُ بل أَغْرَاه، فإن لم يزِدْ عَدْوَه وحِدّتُه لم يُؤَثِّرْ إِغراؤُه وحَرُمَ الصيدُ، وإنْ زادَ عدْوُه فوجهان: أَحدُهما: يحلُّ الصيدُ الذي قتلَه، وبه قال أبُو حَنِيفةَ وأَحْمدُ؛ لأَنَّه قد ظهرَ أثرُ الإغْرَاءِ فيُقْطع الاسترسَالُ، ويَصِيرُ كأنَّه جرَح بإغراءِ صَاحِبِه. وأَقْوَاهُما: المنعُ؛ لأنَّهُ اجَتمع الاسترسالُ المحرمُ والاغراءُ المبِيحُ -فيغلبُ التحريم. ¬
وعَنْ مالكٍ روايتانِ كالوَجْهَيْنِ. ولو كانَ الإغراءُ وزيادةُ العَدْوِ بعدما زجره، فلم ينزجرْ -ففيهِ الوجْهَانِ بالترْتِيب، وهذه الصورةُ أَوْلَى بالتحرِيم؛ لظهور تَأبِّيه وترك مُبَالاَتِه بإشارةِ الصَّائد، وبالتحريم أجابَ أصحابُنا العراقِيُّون قال الإمامُ: وللتردُّدِ التفاتٌ إلى أنَّ الانزجارَ بالزجْرِ في أَثْناء العَدْوِ: هل يُعْتَبَرُ في أَصْل التَعلِيم (¬1)؟ وإذا جمعَ بين الصُّورتَيْنِ حصل ثلاثةُ أوجه: ثَالِثُها: الفرْقُ بين أنْ يكونَ الاغراءُ بعدما زَجَرَهُ فلم يَنْزَجر، فيحرمُ، أَوْ قبلَهُ فلا يَحْرُم، ويتعلَّقُ بالخلافِ المذكور ثلاثُ صُوَرٍ. إِحْدَاهَا: إذا أَرْسَلَ مُسْلِمٌ كلْباً وأَغْرَاهُ مَجُوسِيٌّ: فَإنْ زاد عدْوُه [فإن قلْنا] (¬2) لا ينقطِعُ هناك حكمُ الاسترسالِ -فيحلّ الصيد هاهنا، ولا يُؤثر إغراءُ المجُوسِي- وبهذا قال أحمدُ، وهو الذي أجراه الشيخُ أَبُو مُحَمَّدٍ في كلامِه. وإِنْ أحلْنا الاصطيادَ على الإغْرَاءِ، وقطَعْنَا حكَ الإرسالِ -لم يحلَّ، وبه قال أَبُو حَنِيْفَةَ، واختاره القاضي أَبُو الطَّيب- هكذَا خَرَّج الأكْثرُون الصورَ على (¬3) الخلافِ، وقطعَ في "التهذِيب" بالتحريم، وقَال: الإغراءُ إِمَّا أن يَقْطَعَ الحكْمَ الأول، أو يُوجِبَ الشَّرْكةَ، وعلى التقديريْنِ يلزمُ التحريمُ. الثَّانِيَة: لو أَرْسلَ المجُوسِيُّ كلباً، فأغراهُ مُسلْمٌ، وزاد عَدْوُه: فَإنْ قُطِعَ الإغراءُ الذي زاد به العدْوُ -حُكْمْ حِلُّ الصيدِ، وإلاَّ لم يَحِلَّ، ورَوَى الرُّوَيانِيُّ القطعَ بالتحرِيمِ، وقالَ: إذا وُجِدَ الإرسالُ (¬4) في الانتهاءِ فلا يُقْطَعُ حكم الإرسالِ الأَوَّلِ. الثَّالِثَةُ: إذَا أرسَلَ إنسانٌ كلْبَهُ، فزجره فَضُولِيٌّ، فَانْزَجر ثم أَغْراه؛ فَاسْترسَلَ، [وأَخَذَ صَيْداً، فلِمَنْ] (¬5) المِلْكُ في الصيد: لِلْغَاصِبِ أو لصاحبِ الكلبِ؟ فيه وجهان مذكوران في "كتاب الغَصْبِ". أَصَحُّهما: أنَّه للغاصِبِ. ولو زجره فلم ينزجِرْ وأغراه، أو لم يزجره بل أغراه فازداد عَدْوُه، وفرعنا على أنَّ الصَيدَ للغاصِبِ فيخرَّجُ على الخِلاَفِ في أن الإِغْرَاءَ: هل يقطَعُ حكْمَ الابتداء أم لاَ؟ إنْ قُلنَا: لا، وهو الأَصَحُّ فالصيدُ لصاحب الكلب، وإلاَّ فَلِلفَضُوليِّ. قال الإمامُ: ولا يمنعُ خروجُ وجهٍ في أَنَّهُمَا يشترِكانِ في الملكِ. ¬
وقولُهُ في الكتاب: أو مِنْ غَاصِبٍ، ملكه الغاصِبُ على أصَحِّ الوجهين يتعلقُ بقولهِ مِنْ قبلُ "حِوَالَةَ" عَلى الإغْرَاءِ" يعنيَ إذا جعلنَا الحكْمَ للإغراء، فيكونُ الملكُ في الصيدِ على الوجْهَيْنِ: في أَنَّ الصيد بالكلب المغصُوبِ لمن هُو؟ وقال: أَصحُّهمَا: يكون للمَالكِ، والأحسَنُ (¬1) أن يُقْرَأَ "فَفِى الصيدِ بالكلبِ المغصوبِ" بالفاء (¬2). المسْألَةُ الثَّانِيةُ: لو أصابَ السَّهْمُ الصيدَ بإعانَةِ الرِّيح، وكان يَقْصُرُ عنه لولا الرِّيحُ -حَلَّ؛ لأنَّ الاحْترازَ مِنْ هُبُوبهَا لا يمكِنُ فلا يتغير بِه (¬3) حُكْمُ الاستِرْسَالِ. هكذا نقله الأَصْحَابُ متوافِقِينَ (¬4)، وحكاهُ الإمامُ عن بَعْضِ التَّصَانِيف، كما يُنقل الشيءُ الغَرِيبُ، وأَبْدَى تردُّداً فيه؛ وقد يُؤَيِّدُ تردُّدَهُ ما سيأتي في "المناضلة" إنْ شاءَ الله. ولو أصاب الأرضَ أوِ انْصدَمَ بحائِط، ثُمَّ ازدلَفَ مِنْه، وأصاب الصيد، فوجهانِ مَبْنِيَّانِ على القولَيْن في أنَّ الإصابةَ هكذا: هل تُحْسب في المناضلة؟ قال الشيخُ أَبُو حَامِدٍ: والمذهَبُ حِلُّ الصيدِ، فإنَّ ما يتولَد من فِعْل الرامِي منسوبٌ إليه إِذْ لا اختيار للسهم، وبالحلِّ أجابَ في "التهذِيبِ" قال: وكذَا لو أصابَ حَجَراً فنبا عنه، وأصاب الصَّيْدَ أو نفذ فيه إلى الصيدِ يَحَلّ. ولو كانَ الرَّامِي في نزْعِ القَوْسِ فانقَطَع الوترُ [وصدم العوق] (¬5) فارتمَى السهمُ، وأصابَ الصيدَ فوجهان: أحدهُما: يحلُّ نظراً إلى الرامي، وحصولُ الإصابة كما قصد. الثَّانِي: لا؛ لأنَّ ما جرَى لم يكُنْ على وَفْقِ قَصْده، وقد يقتضي قياسُ ما سبَق ترجيحَ الأول. قال الغَزَالِيُّ: (الثَّانِيَةُ: قَصْدُ جِنْسِ الْحيَوَانِ) فَلَوْ رَمَى سَهْمَاً فِي خَلْوَةٍ وَهُوَ لاَ يَرْجُوْ صَيْدَاً فَاتَّفَقَ حُرِّمَ* وَكَذَا لَوْ أَجَالَ سَيْفَهُ فَأصَابَ حَلْقَ شَاةٍ* وَلاَ يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الذَّبْحِ إِذْ لَوْ قَطَعَ مَا ظَنَّهُ ثَوْباً فَإذَا هُوَ حَلْقُ شَاةٍ حَلَّ* وَلَوْ ظَنَّهُ حَلْقَ آدمِيِّ فَعَلَى وَجْهَيْنِ* وَلَوْ ظَنَّ حَلْقَ خَنْزِيرٍ فوَجهَانِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلَى بِالْحِلِّ. قال الرَّافِعِيُّ: في الفصلَ مَسْأَلتَّان: ¬
اِحْدَاهُما: إذَا أرسَلَ سَهْماً في الهواءِ أو في فَضَاءٍ من الأَرض لاختبار قُوَّتِه أو رَمَى إلى هَدَف فاعترض صَيْداً؛ فأصابه، وقتله، وكان لا يرجُو صَيْداً، بَلْ لاَ، يخطر له الصيدُ ففي حِلِّه وَجْهانِ: أَحَدهُمَا: وبه قال أَبُو إِسْحَاقَ يحلُّ؛ لأنَّه وُجِدَ قصدُ الفعلِ والاعتبارُ بهِ لا بمورد الفعل وما يتعلق به من ظنٍّ، ولذلك لو قطَع ما ظنَّه ثَوْباً فإذا هو حَلْقُ شاةٍ -يحلُّ على ما سنذكره. وأَصَحُّهما: وهو المذكورُ في الكتاب، والمنصوصُ: المنْعُ؛ لأنَّه لم يَقْصِدِ الصَّيْدَ لا مُعَيِناً ولا مُبْهماً وقد شبه ذلك بما إذا وقعَ في الشَّبَكة صَيْدٌ، وتعثَّر بحدِيدةٍ منها. ويفرَّقُ بينُه وبين قَطْع ما ظَنَّه ثوباً بإن هناك قد قصد عيناً ويجري الخلافُ فيمَا إذَا كان يرمي ذلك الصيْدَ، لكَنَّهُ يرمي إلى هَدَفٍ أو ذِئْبٍ، ولا يقصد، فأَصابه، ولو كانَ يُجِيلُ سيْفَه فأصابَ عُنق شَاةٍ، وقطع الحُلْقُومَ والمرِّيء من غيرِ شُعورٍ بالحلِ، فالذي حكاهُ الإمامُ وغيرُهُ: أنَّ الشَاة مَيْتَةٌ، وقد يَجيءُ فيه الخِلافُ المذكورُ في إرسالِ السَّهْمِ وإصابةِ الصَّيْدِ، والقولُ المنقولُ؛ فِيمَا إِذَا وقَعَ السكِّينُ مِنْ يده. ولو أَرسَل كلباً حيثُ لا صَيْدَ أو اعترضَ صَيْداً فقَتَله -لم يحلَّ، وفي "الكَافِي" للرُّوَيانِي، وغَيْرِه: أنَّ فيه وَجْهاً آخرَ كما في السَّهْم، ويفرق بينهما بأنَّ الرَّمْي فعلُهُ المتولد من أقربُ إلى الانْتِساب إليه مما يفعلُه الكلْبُ؛ فإنه حيوانٌ ذو اخْتِيارٍ وسيعودُ هذا الفرقُ في صُورةٍ تأتي. الثَّانِيَةُ: لو رَمَى إلى ما ظنَّهُ حَجَراً، أو جُرْثُومَةً، وكان صَيْداً فقتَله فهو حَلالٌ، وكذا لو ظنّه صَيْداً غَيْرَ مَأْكُولٍ فكانَ مَأْكُولاً؛ لأنَّه قصَدَ عينَهُ. لكن ظَنَّهُ على خلافٌ ما هو عليه. قِيسَ (¬1) ذلكَ بما إذا كانَت له شَاتَانِ فذبَح إِحْدَاهُمَا، وهو يظنُّها الأُخْرَى وفي "التهذيبِ" وغَيْرِهِ وَجْهٌ: أنَّه لا يحلُ؛ لأنَّه لم يقصَد الصيدَ وبه قال مَالِكٌ، ووجهُ المذهبِ الظاهِرُ بالخبرِ وهُوَ ما رُوِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "كُلْ مَا رَدَّ عَلَيْكَ قَوْسُكَ" (¬2) وبعبارَتَيْنِ: إحدَاهُمَا: أنَّه حصل رامياً إلى صيدٍ عن قَصْدٍ منهُ إِلَيْه، وإنَّما فقد علمه بحالِه. والثَّانِيَةُ: قال أبو إسحاقَ: حصل قَتلُ الصيدِ بفعلهِ الذي قصدَه، وإنَّما فعلَ ما اعتَقَدهُ، وبُنِيَ على العبارتَيْن الخلافُ السابقُ فِيمَا إذا أرسَلَ سَهْماً في الهواءِ؛ فأصابَ صَيْداً فقتَلَه، فعلى العبارة الأُولَى: لاَ يَحِلَّ؛ لأنَّه [ليس قاصِداً إليه، وعلى عبارة أَبِي ¬
إسحاق يَحِلُّ لأنه وجَد القصد إلى الفعل، وحصَل القتلُ] (¬1) بذلك الفِعْلِ، ولو قطَع ما ظَنَّهُ ثوباً ونحوَهُ بأنْ كانَ في ظُلْمَةٍ -فكانَ عُنْقَ شَاةٍ، وانقطَعَ الحُلْقومُ والمريءُ- حلَّتِ الشاةُ، نصَّ عليه الشافِعِيُّ -رضي الله عنه- وعن ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وجهٌ: أنَّهُ لا يَحِلُّ؛ قاله في "البَحْرِ". ولو أَرسلَ كَلْباً إلى شَاخِصٍ ظنَّها حَجَراً فبان صَيْداً فوجْهَانِ: أَصحُّهمَا: أنَّه يحِلُّ كمَا في رَمْيِ السَّهم. الثَّانِي: المنْعُ؛ لأنَّ للكلْب اختياراً، ولو رمَى إلى شاخص ظنَّه آدَمِيّاً مَعْصُوماً فكانَ صيداً، وفرعنا على ظاهرِ المَذهبِ لو ظنه حَجَراً وهو أنَّه يحِلّ فوجهان: أَصَحُّهُمَا: أنَّ الجوَابَ كذلك؛ لأنَّه قد قَصَدَ العَيْنَ وأَصَاب، وإنَّما الخطأُ في جِنْسِ المرمي إليه. والثَّانِي: أنَّه لا يحِلُّ؛ لأنَّه لم يَقصد صيداً حَلاَلاً بل قصد فِعلاً مُحَرَّماً فلا تحصل (¬2) به الاستباحَةُ. ولو ظنَ الشاخِصَ خِنْزِيراً، أو حيواناً آخرَ مُحَرَّماً [ففي وَجُهانِ مُرَتَّبَانِ، وأَوْلَى بالحِلِّ؛ لأن المحرَّمَ لحمُ الخِنْزير دُونَ قَتْلِه، وإهْلاَكِه. ولو ذَبَحَ حَيَواناً في ظُلْمة فَظَنَّه خِنْزِيراً أو حيواناً آخر محرماً] (¬3) فتبيَّنَ أنَّهُ ذَبَحَ شَاةٌ؛ قال في"النِّهايةِ" الوجْهُ عندي: القطْعُ بحلِّها؛ لقُوَّةِ الفِعْل، وأنَّه في حُكْمِ التعاطِي والرمِي ولا يحكُم عليه بإصابَةٍ. قال ولو رمَى إلى شَاخِصٍ، ولم يغلبْ على ظَنِّهِ شيءٌ منْ حالهِ واستوت عنده الجائِزات فتبين كونُه صَيْداً -فقد أشارَ شَيْخِي إلى وَجْهَيْنِ ورَتَّبَهُمَا على ما إِذَا ظنَّه خِنْزِيراً- والوجهُ القطعُ بالحلِّ كما لو حسِبَه حجراً. وقولُه في الكتابِ الثانية: "قصَد جِنْسَ الحيوانِ" المقصُودُ من السِّيَاقِ المذكورِ تَرْتِيبُ مُتَعلّقاتِ القصْدِ، وبيانُ ما يُعتبر [مِنْهَا ومَا لاَ يُعْتَبَرُ عَلَى ما فِيها من الوِفَاقِ والخِلاَفِ لأنَّ جَمِيعَها مُعْتَبر] (¬4)، وكيفَ وقد بينَ في الفَصْلِ أنَّ الظاهرَ فِيمَا إذَا رمَى إلى شَاخِصٍ ظنَّه حجراً فكانَ صَيْداً [يحلُّ أكْلهُ] (¬5)، وأنَّه لو قَطعَ ما ظنَّهُ ثَوْباً فكانَ حلْقَ شاة يحلُّ، ولم يوجد قَصْدُ جِنْسِ الحيوانِ وفِيمَا إذا رَمَى سَهماً [حيث لا يرجُو الصيدَ، ليس إلا التحرِيمُ؛ لأنه لم يقصِدْ جِنْس الحَيوانِ، بل لأنه] (¬6) لم يقصدْ بفعلهِ مُعَيَّناً ولا مُبْهَمَاً. ¬
قولُهُ: "ولو رمَى سَهْماً في خَلْوةٍ" ذِكْرُ الخلْوَةِ لا معنَى له في هذا الموضِع. إلاَ أنْ يُرِيدَ في مَوضِعٍ خَالٍ عن الصَّيْدِ. وقولُهُ: "ولو ظَنَّهُ حَلْقَ آدَمِيٍّ فوجْهَانِ، ولو ظنَّهُ حلقَ خِنْزِيرٍ" تَصْوِيرٌ فيما إذَا قَطَعَ ما ظنَّه حلْقَ آدمي أو (¬1) حَلْقَ خِنْزِير، فَبَانَ أنه حلْقُ شاةٍ. والإمامُ صَوَّرَ الصُّورَتَيْنِ فيما إذا رمَى إلى شَاخِصٍ ظنَّه آدَمِيًّا أو خِنزِيرًا، فكانَ صيْدًا كما أَوْرَدْنَاه، وكانَ صاحبُ الكتابِ رآهما مُتَساوِيَيْن فلم يُبَالِ بتغيِيرِ التصوِيرِ، وقد يُظَنُّ فرقٌ بين المقدُورِ عليه وغَيْرِه، ويُسْتَشْهَدُ له بتردُّدٍ إمامِ الحرمَين (¬2) في فَرْعِ ذِكْرِهِ. قَالَ: لَوْ رَمَى إلى شَاتِهِ الرَّبيطَةِ (¬3) -آلةً جارِحَةً- فأصابَت الحلقومَ والمريءَ وِفَاقاً وقطعهما -ففي حِلِّ الشاةِ مع القُدْرَةِ على إمرارِ السِّكِّينِ نَظَرٌ، ويجوزُ أنْ نُفرِّق بين أن يقصدَ المَذْبَحَ بما يَرْمِيهِ وبَيْنَ أنْ يَقصِدَ الشاةَ فيصيبُ المذبحَ والاحتمالُ متطرِّقٌ إلى جَمِيعِ ذلك. هذا لفظُهُ. قال الغَزَالِيُّ: (الثَّالِثَةُ: قَصْدُ عَيْنِ الْحيَوَانِ) فَلَوْ رَمَى بِاللَّيْلَ إِلَى حَيْثُ لاَ يَرَاهُ وَلَكِنْ قَالَ: رُبَّمَا أُصِيبُ صَيْدًا فأصَابَ فَفِيْهِ ثَلاَثةُ أَوْجُهٍ يِفَرَّقُ في الثَّالِث بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مَظَنَّةِ التَّوَقُّعِ أَوْ لا يَكُونَ فَيُعَدَّ عَبَثًا* وَلَوْ قَصَدَ سِرْبَاً مِنَ الظِّبَاءِ فأصَابَ وَاحِداً حَلَّ* وَلَوْ قَصَدَ وَاحِداً مِنْهُ فَأصَابَ آخَرَ فَوَجْهَانِ* فَإِنْ كَانَ المُصَابُ مِنْ غَيْرِ السِّرْبِ فَوَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلَى بِالْمنْعِ* وَلَوْ قَصَدَ حَجَرًا فَأصَابَ ظَبيَةً فَوَجْهَانِ وَأَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ* وَلَوْ قَصَدَ خِنْزِيراً فَمَالَ إِلَى ظَبْية فَأوْلَى بِالتَّحْرِيْمِ. قال الرَّافِعِيُّ: فيه مَسأَلَتان: إِحْدَاهُمَا: الصيدُ المصابُ إنْ كانَ يراه الرَّامِي، وقصدَه فذاك، وفي معناه ما إذَا كان يحس به في ظُلْمةٍ، أو من وَرَاءِ حِجَابٍ كما لو كانَ بين اشْجارٍ مُلْتفَّةٍ، وقصدهُ وإنْ لم يَعْلَمْ به فإنْ رمَى وهو لا يَرْجُو صَيْدًا (¬4) ولا يقصِدُه فأصابَ صَيْدًا ففيهِ الخلافُ المذكورُ في صدر (¬5) الفَصْلِ السابق، وإنْ كانَ يَتَوقَّعُ صَيْدًا وبنَى الأمرَ عليه كما إذَا رمى في ظُلْمَةِ الليلِ. وقالَ: رُبَّما أصبتُ صَيْدًا فأصابه ففي حِلِّه ثلاثةُ أَوْجه حكاهَا الإِمامُ وصاحبُ الكتاب: أَوْفَقُها لظاهِرِ النص، ولما أَطلَقَه عامةُ الأصحاب: المنعُ؛ لأنَّه لم يَقصِدْ قصداً صحيحًا وقد يعد مثلُه عبثًا وسفَهاً. ¬
والثاني: يحل ويحكي عن أبي حنيفة لأنه قتل الصيد على توقع ونوى قصدٍ. والثَّالِثُ: الفرقُ بَيْن أنْ يَتَوَقَّعَ الصيدَ هناك بظنٍّ غالبٍ وبين مُجَردِ التجوِيزِ. الثالثة: لو رمَى إلى سِرْبٍ من الظِّباء أو أرسلَ كَلْبًا فأصابَ واحدَةً منها، فهي حَلالٌ وإن لمْ يقصِدْ غيرَ تلك الواحِدَةَ. ولو قَصَد بالرَمي ظَبْيَةً منها فأصابَ غيرَهَا فوجْهَان: أصحُّهمَا: وبه قال أَبُو حنيفةَ: أنَّها تَحِلُّ؛ لوجودِ قصْدِ الصيْدِ. والثاني: المنعُ. وبه قال مَالِكٌ؛ لأنَّهُ أصابَ غيرَ ما قصدَه. وفيه وجهٌ ثالِثٌ: وهو أنَّهُ إنْ كانَ يَرى الصيدَ الثاني حَالةَ الرَّمي -حَلَّ أكْلُ المصابِ، وإن كانَ لا يراه [حينئذ] (¬1) لم يحلّ؛ كما لو رَمَى سَهْمًا وهو لاَ يرى صَيْدًا، فأصابَ صيدًا، ومنهُم مَنْ قطَع بالحلِّ، ولم يُثبِتِ الخِلافَ، ولا فَرْقَ بين أن يعدلَ السهمُ عن الجهَةِ التي قَصَدَهَا إلى غيرِها؛ فيصيبَ وبين أَلاَّ يعدِلَ؛ لأنَّ السَّهْمَ لا اختيارَ لهُ وما حصَلَ فعلهُ. ولو (¬2) كانت الظَّبْيَةُ التي أَصَابَهَا من غيرِ ذلك السِّرْبِ فوجهَانِ أَيْضاً. وهذه الصورةُ أَوْلى بالتحرِيمِ بخروجِ تلك الظَبيةِ عن مُتَعلّق القصْدِ، ومع هذا التَّرْتِيبِ فالحلُّ هو الذي رجحوه (¬3)، وقد يُجمع بين الصورتين ويُقالُ: في المسألةِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ. ثالثها: الفرقُ بين أن يكونَ التي أصابَهَا من ذلك السرْبِ أو من غيرهِ. ولو رمَى إلى شَاخِصٍ على اعتقادِ أنَّهُ حَجَرٌ وكان حَجَرًا فأصابَ السهمُ ظَبْيَةً، ففي الحِلِّ خلافٌ مُرَتبٌ على الخِلاَفِ فيما إِذَا قصَدَ ظَبْيَةً، وأصابَ غَيْرَهَا. وهذه الصورةُ أَوْلَى بالتحرِيمِ؛ لأنَّه لم يُوجِّهْ قَصْدَهُ إلى صَيْدٍ. وبالتحريم أجابَ الصَّيْدَلاَنِيُّ، وغيرُه، وهو المحْكِيُّ عن أَبِي حَنِيْفَةَ. وإن كانَ الشَّاخِصُ صَيْدًا ومال السَّهْمُ عنه وأصابَ صَيْدًا آخَرَ -اطَّردَ الخِلافُ. وهذه الصورةُ أَوْلَى بالحلِّ فيما إذا اعتقدَ حَجَرًا وكان حجرًا لأنَّه لمْ يقصِدِ الصيْدَ، ولا أصابَ غيرَ ما قصَدَهُ. ولو رَمَى إلى شَاخِصٍ ظَنَّهُ خِنْزِيرًا، وكانَ خِنْزِيرًا فأصابَ السهمُ ظَبْيَةً -جرَى الخِلاَفُ، وهذه الصورةُ أَوْلَى بالتحريم مما إذَا اعتقَدَهُ حَجَرًا وكانَ حَجَرًا؛ لأنَّهُ رمَى إلى محَرَّمِ فلا يستفيد الحِلَّ. ¬
وإن كانَ الشَّاخِصُ صَيْدًا فهو أَوْلَى بالحلِ مما إذَا كانَ خِنْزِيرًا كما إذا اعتَقده، ومع هذَا الترْتِيب فالأَظْهَرُ التحريمُ كما في مَسْأَلةِ الحَجر، [وعند أَبِي حَنيفةَ: حل الصيد في مسألة الخِنْزير] (¬1) ولو رَمَى إلى شاخصٍ ظنَهُ صَيْدًا فَبَانَ حَجَرًا أو خِنْزيرًا، فأصابَ السهمُ صَيْدًا. قال "صاحبُ التَّهْذِيب": إنْ اعتبَرنَا الظَّنَّ فيما إذَا رمي [إلى ما] (¬2) يظنُّه حجراً وكان صيْدًا، فأصابَ السهْمُ صيدًا آخَرَ، وقُلْنَا: بالتحريمِ فهاهنا يحلُّ الصيدُ الذي أصَابَهُ، وإن اعتبرْنَا الحقِيقَةَ. وقُلْنَا: بالحِلَّ -هناك- فلا يَحِلُّ هاهنا هذا في رَمْيِ السَّهْمِ. أمَّا إذا أرسل الكَلْبَ إلى صَيْدٍ فأخذ صَيْدًا آخَرَ، نُظِرَ، إنْ عدلَ عن الجِهَةِ التي أَرْسَلَهُ فيهَا إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى ففي حِلِّ ما قتلَه وَجْهَانِ: أَحَدُهما، وبهِ قال أَبُو إسْحَاقَ: لاَ يَحِلُّ؛ لأنَّهُ مَضَى في تِلْكَ الجِهَةِ باختِيارهِ، فهو كما لو [استرسل] (¬3) بنفْسِه. وأظهرهُمَا: الحِلُّ؛ لأنَّهُ أَرْسلَه على الصيدِ، وأَخْذُ الصَّيْدِ وتكليِفُه ألاَّ يَعدِلَ مِن جِهَةٍ إلى جهةٍ بَعِيدٌ .. ولذلك لو عدَل الصيدُ من تلك الجهةِ إلى غَيْرِها فتبعهُ الكلبُ لم يَضُرَّ، وقد يُوجَّه الوجْهَان بمثل مَا وجه (¬4) الخلاف به فيما إِذَا رَمَى إلى صَيْدٍ -فأصابَ آخرَ فأثبتوا الوجْهَينِ هناك، ورتَّبُوا الخِلاَفَ على الخِلاَفِ، واختلفُوا في كَيْفِيَّةِ الترتيبِ. فقال أكثرُهم: صورةُ الكَلْب أَوْلى بالتحريم، لأنَّهُ حيوانٌ مُخْتَارٌ فمخالفَتُه تشعر بأنَّه عدَلَ وقتلَ باختيارِه، وعكَس بعضُهُمْ وجعلَها أَوْلَى بالحلِّ؛ لأنَّ تَسْدِيدِ السهْم على ظَبْيةٍ من السِّرْبِ مُمْكنُ، وإغراءَ الكَلْبِ على ظَبْيةٍ منه غيرُ مُمْكِن، ولذلك لو انفلتَ السَّهْمُ، وقتلَ الطَّائِرُ بِعَرْضِهِ حُرِّمَ (¬5)؛ لسُوءِ الرَّمْيِ، ولو قَتَلَ الكلبُ بالضغطة كانَ على قَوْلَيْنِ. وقطَعَ الإمامُ بالتحرِيم إذا عدلَ إلى (¬6) جِهَةٍ أُخْرَى وظهر مِنْ عُدوله (¬7) واختيَارِه، بأنِ امتَدَّ في جِهَةِ الإرسالِ زمانًا ثم بانَ صيدٌ أخَرٌ فاستدْبَرَ الصَّيْدَ المرسَلَ إلَيْهِ وقَصدَ الآخرَ. وقال "صَاحِبُ الحَاوِي": الصَّحِيحُ عندي أنْ يُقَالَ: إنْ خَرَجَ عادِلًا عن جِهَةِ إرسالِه حَرُمَ ما يقتُلُه، وإنْ خَرجَ إِلَيْها ففاته الصيدُ؛ فعدلَ إلى غيرِهَا واصْطَادَ حلَّ؛ لأنَّ ذلك يدلُّ على حِذُقِه حيثُ لم يرجِعْ خَائِبًا إلى صَاحِبه، فلا مُخالفة (¬8) فِيه، وإنْ لمْ يعدِلْ عَنْ جِهة الإرْسالِ وكان فِيهَا صيودٌ، فَاصْطادَ غيرَ ما أغرَاهُ عليه -حَلَّ؛ كما في السهمِ. ¬
وفيه وجهٌ أَيْضًا حِوَالَةٌ (¬1) للمخالفةِ على اختيارِه، ويجوزُ أنْ يُعْلَمَ قَوْلُه في الكتاب: "فِيمَا إِذَا قَصَدَ واحداً من السِّرْبِ وأصابَ آخَرَ" بالوَاوِ؛ للطريقةِ القَاطِعةِ. وكذَا قولُهُ: عَقِيبَهُ "فوجْهَانِ مُرَتَّبانِ". وقَوْلُهُ: "ولو قَصَدَ حَجَرًا فأصَاب ظَبْيَةً" المرادُ منهُ ما إذَا ظنَّه حَجَرًا على ما بَيَّنَّاهُ. وقولُهُ: " [فَأَوْلَى] (¬2) بالتحريم" في مسألةِ الخِنْزِيرِ يجوزُ أَنْ يُعْلَمَ بالحَاءِ؛ لأنَّ عنده يحلُّ إذَا رَمَى إلى ما يظنُّه خِنْزيرًا، ولا يحلُّ إِذَا رَمَى إلى ما يظنُّه حَجَرًا على ما سبَقَ فصورةُ الخِنْزِيرِ عنده أَوْلَى بالحلِّ واللهُ أعلمُ. قال الغَزَالِيُّ: أَمَّا قَوْلُنَا: حَصَلَ الْمَوْتُ بِهِ أَرَدْنَا أنَّهُ لَوْ مَاتَ الْمَجْرُوحُ بِافْتِرَاسِ سَبُعٍ أَوْ صَدْمَةٍ لَمْ يَحِلَّ* فَإنْ غَابَ عَنُهُ وَأَدْرَكَهُ مَيِّتًا وَعَلَيْهِ أَثَرٌ آخَرُ لَمْ يَحِلُّ* وَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَثَرًا آخَرَ فَقَوْلاَنِ. قال الرَّافِعِيُّ: القيْدُ الثالِثُ: حصولُ الموتِ بذلك الجرْح، فلو ماتَ بصدْمَةٍ، أوِ افْتراسِ سَبُعِ أو أعان ذلك الجرحُ غيرَه على ما بيَّنَّا في نظائِرِه -لَم يَحِلَّ. ولو غابَ عنه الكلْبُ والصيدُ، ثم وجدَه مَيْتًا -لم يحلَّ أيضاً؛ لاِحْتِمالِ أنَّه ماتَ بسبَبٍ آخرَ، ولا أثَر لكونِ الصيدِ مُتَضمَّخًا بدمهِ، فَرُبَّما جرحَه الكلْبُ، وأصابَه جِرَاحَةٌ أُخْرَىَ. وفي كتاب القَاضِي ابْنِ كجٍّ وجهٌ: أنَّه يَحِلُّ، وإن جرَحَهُ ثم غابَ ثم أَدْرَكهُ مَيِّتًا، فإن انتهَى بالجراحَةِ إلى حال حركةِ المذْبُوح -فهو حلالٌ، ولا أَثَرَ لغيبته، وإنْ لم يَنْتَهِ، فإن وُجِدَ في مَاءٍ، أو وُجِدَ عليه أَثَرُ صَدْمَةٍ، أو جِرَاحَةٍ أُخْرَى -لم يحلِّ، وإنْ لم يَكُنْ عليه أَثَرٌ آخَرُ، فظاهِرُ ما نَصَّ عليه فِي "المختَصَرِ" و"الأمِّ" أنَّهُ حَرَامٌ. وقَالَ في موضعٍ آخرَ: لا يَحلُّ، إلاَّ أن يكونَ جاء عن النبِي -صلى الله عليه وسلم- شيءٌ فيه فإني أتوهَّمُه، فيسقطُ ما خالف أَمْرَهُ، وللأصحابِ ثلاثَةُ طرقٍ: وأَشهرُهمَا: أن في حِلِّه قولَيْنِ. وجهُ الحلّ ما رُوِيَ عن أبي ثَعْلَبةَ الخُشَنيّ -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قَالَ: "إِذَا رميْتَ سَهْمَكَ، فغابَ عنك، فأدركته، فكُلْ ما لم يُنْتِن" (¬3). وعن عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: بمعناه، وقال: كُلْهُ إِلاَّ ¬
أنْ تَجِدْهُ وقَعَ في ماءٍ (¬1). وأيضاً فإنَّهُ لم يتحقق سببٌ سِوَى الجرح الَّذِي أصابَه، فالوجْهُ إِضافَةُ الموتِ إليه، ولذلك يوجبُ القِصَاصُ بجرْحٍ وُجِدَ، ودَامَ أثرُه إلى الموتِ، وإنْ احتملَ أنْ يكونَ الموتُ بسببٍ آخرَ، وَيحلُّ الجنِينُ بذبْح الأُمِّ حِوَالَةٍ لموته (¬2) علَى انْقِطاع الزوج عنه بِذَبْحِ الأُمِّ، وإن أَمْكَنَ أن يكونَ موتُهُ بسببٍ آخَر. ووجْهُ التحرِيم مَا رُوِيَ عن عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ -رضي الله عنه- قال: قُلْتُ يا رسُولَ الله، إنَّا أَهْلُ صَيْدٍ، وإنَّ أَحدَنَا يرمي الصيْدَ فيغِيبُ اللَّيْلَتَيْنِ والثلاثَ فنجدهُ مَيِّتًا. فقالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذَا وجدْتَ فيه أَثَرَ سَهْمِكَ، ولم يكُنْ فيه أَثَرُ سَبُعٍ، وعلمْتَ أن سَهْمَكَ قَتَلَهُ؛ فكُلْ" (¬3) فشرطُ العِلْم بأنَّ سَهْمَهُ قَتلَه. وعن ابن عباس -رحمه الله- أنَّه قَالَ: كُلْ ما أَصْمَيْتَ ودَعْ ما أَنْمَيْتَ (¬4) وفَسَّرهُ الشافِعِيُّ -رضي الله عنه- فقال: "ما أَصميتَ": أي قَتلَهُ سهمُكَ، أو كلبُكَ، وأنتَ ترَاهُ، "وما أَنميْتَ" ما غابَ عنكَ مقتلَهُ، ولأنَّه يحْتَمِلُ أن يكونَ الموتُ بسببٍ آخر، والتحرِيمُ ما يُحتاطُ له، وذكر "صاحبُ التهذيب" أنَّ أَصَحَّ القولَيْن الحلُّ، لكِنْ أصحَابُنَا العراقِيُّون وغيرُهم إلى تَرْجِيحِ التحريم أميلُ. والثَّانِي: القطعُ بالحلِّ؛ لأنَّ الشافِعِيَّ -رضي الله عنه- قال: إِلاَّ أن يكونَ في الحل خبرٌ وقد ثبَت الخبرُ فيه. والثالِثُ: القطْعُ بالتحرِيم، وحَمْل الخبَرِ على ما إذَا أَنْهَاهُ الجرحُ إلى حالةِ حَركةِ المذْبُوحِ. وعند أَبِي حَنِيْفَةَ: إنْ أتْبَعهُ عَقِيب الرمي فوجدَه مَيْتًا -حلَّ، وإنْ أَخَّر اتباعه لمْ يَحِلّ. وعن مالكٍ: أنَّه إن وجدَه في يَوْمِه حلَّ، وإن وجدَه بعد ذَلك فلاَ يحلّ. واعلمْ أنَّ مَسْأَلَةَ القولَيْنِ: تسمَّى مسألةَ الإِنْماء، ولم يذكُرْ هذه اللفظَةَ هاهنا وذكرَهَا من بعد. قال الغَزَالِيُّ: وَالتَّسْمِيَةُ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الذَّبْحِ وَعِنْدَ إرْسَالِ الْكَلْبِ وَالسَّهْمِ وَلاَ تَشْتَرِطُ* وَهَلْ يَكْفِي للِاسْتِحْبَابْ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ عَضِّ الْكَلْبِ وَجْهَان. ¬
قال الرَّافِعِيُّ: التسمِيَةُ عند الذَّبْح، وعند الرَّمْي إلى الصيدِ، وإرسالِ الكلْبِ مُسْتَحَبَّةٌ، فلو تركَهَا عامِدًا، أو ناسِيًا -لمَ تُحَرَّمُ الذَّبيحةُ، لكن تركُهَا عامِدًا مكروهٌ. وفي "تعليق الشيخ أَبِي حَامِدٍ". أنَّه يأثَمُ به وساعدنا مالكٌ على أَنَّ متروكَ التسميةِ حلالٌ. وقال أبُو حنيفةَ: إنْ تركَهَا عَمْداً لم تحلَّ، وإن نَسِيَ حلّ. وعن أَحْمَد روايتانِ في الصيدِ. إحْدَاهُما: كمذهَبِنا، والأُخْرَى كمذهب أَبِي حَنِيفةَ. والثالثُ: أنَّه لا يحلُّ سواء تركهَا عمْدًا أو سَهْوًا. الرَّابِعَةُ: أنها لا تلزمُ في الرمْي، وتلزم في إرسالِ الجوارحِ وأمَّا في الذَّكاةِ فعنده إنْ تركَ ناسِيًا حلَّ، وإنْ كانَ عامدًا ففَيه رِوَايتَانِ. لنا ما رُوِيَ عن عائِشَة -رضي الله عنه- وأنَّ قوماً قالوا: يا رسولَ الله، إنَّ هنا أقوامًا حديثُ عهد بالشركِ يأتونَنَا بِلُحْمَان لا ندرِي أيذكرُون اسمَ الله عليْهَا أم لاَ؟ فقالَ -صلى الله عليه وسلم- "اذكُرُوا اسْم اللهِ وَكُلُوا" (¬1) ولو كانَت التسميةُ شرطاً للحِلّ لما ثبت الحلُّ عند الشكِّ فيهَا. وعن البَرَاءِ بْنِ عَازب -رضي الله عنه- أنَّ النَبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "المسلمُ يذبَحُ على اسْمِ الله سَمَّى أو لمَ يُسَمِّ (¬2) ": وحُمِل لذلك قولُه تعالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] على ما ذُكِرَ عليه اسمُ غَيْرِ الله. واعلم لما ذكره: قوله في الكتاب: "وَلاَ يُشْتَرَطُ" بالحَاءِ والأَلِفِ، وهل يتأدى للاستحباب التسمِيةُ عند عضِّ الكلْبِ، وإصَابةِ السَّهْمِ؟ فيه وَجْهَانِ نُسِبَا إلى الشيخ أَبِي مُحَمَّدٍ. أَحدُهمَا: لاَ؛ لأنَّها لم تَتَّصِلْ بابتداءِ الاسْتعمالِ. وأَشْبهُهُمَا: نَعَمْ. لاِتِّصالِهَا بالحالةِ التي نالت الآلةُ الصيدَ كَالاتِّصالِ بحالةِ إِمْرارِ السكينِ على الحلْقِ، وهذا في تأدي الاستحباب بِكَماله، فأمَّا أصلُ الاستحبابِ عند الإِصَابةِ. ¬
الفصل الأول في الانفراد
إذا تُرِكَتِ التَّسْمِيَةُ عند الإرسالِ فما ينبغي أن يكونَ فيه خِلافٌ، كما أَن مَنْ تركَ التسمِيَة في ابتداءِ الوُضوءِ والأكْلِ، يُسْتَحَبُّ أن يُسمّى في أثنائِهَا (¬1). قال الغَزَالِيُّ: (النَّظَرُ الثَّانيِ) فِي أَسْبَابِ المِلْكِ وَهُوَ فَصْلاَنِ: (الأَوَّلُ فِي الانْفِرَادِ) وَإِنَّمَا يُمْلَكُ الصَّيْدُ بِإبْطَالِ مَنَعَتِهِ أَوْ بِإثْبَاتِ الْيَدِ أَوِ الإثْخَانِ أَوِ الْوُقُوعِ فِيمَا نُصِبَ لِلصَّيْدِ. القول في بيان ما يُمْلَكُ به الصيدُ قال الرَّافِعِيُّ: مقصودُ النظرِ على ما تبين من قبل بيان ما يملك (¬2) به الصيدُ، والاِصْطِيادُ إمَّا أَنْ يُؤْخَذَ من واحدٍ أو منِ اثْنَينِ فصاعِدًا وفيه فصْلاَن. أحدُهما: في حالةِ الانْفِرادِ، ويُمْلكُ الصَّيْدُ بِطُرقٍ. مِنْهَا: أنْ يضْبطهُ الصائِدُ بيده، ولا يُعْتبر قصْدُ التملكِ في أَخذهِ باليدِ حتَّى لو أَخَذَ صَيْدًا لِينظُرَ إليه يملكَه، ولو سَعَى خلفَ صيدٍ فوقَفَ لِلإعْيَاءِ -لَمْ يَمْلِكُهُ حتَّى يأخذَه بيده. ومنها: إذَا جرحَهُ جراحةً مذففة، أو رمى إليه فَأَثْخنَه وأَزْمنه -ملكه، وكذا إنْ كان طائِرًا فكَسَرَ جَنَاحَهُ حتَّى عَجَزَ عنِ الطَّيَرانِ والعَدْوِ جَمِيعًا، ويكفي للتملُّكِ إِبْطَالُ شدَّةِ العَدْوِ، وصيرورتهِ بحيثُ يحصل اللحوقُ به، ولو جَرَحهُ فعطش [بعد الجراحَةِ] (¬3) وثبَتَ لمْ يملِكهُ، وإنْ كانَ العطشُ لعدمِ المَاء وإنْ كان لعجْزُه عن الوصُولِ إلى الماء يملِكُه؛ لأنَّ سَبَب العجز الجراحةُ. ومنها وقوعُه في الشبكة [المَنْصُوبَةِ لَهُ، ولو طَرَدَهُ طَارِدٌ حَتَّى وقع في الشبكَةِ] (¬4) فَهُوَ لصاحب الشَّبَكَةِ لا للطَّارِدِ، وعن "الحَاوي" أنه لو وقع الصيدُ في الشبكةِ ثم تقطَعت الشبكةُ وأفلَت الصيدُ، فإن كان ذلكَ يقطع الصيدَ الذي وقعَ فيه -عادَ إلى الإباحةِ حتى يملكه مَنْ يَصِيدُه، وإلاَّ فهو بَاقٍ على مِلْكِ صاحبِ الشبكةِ، ولا يملكهُ غيرهُ، وذكر في "الوَسِيطِ" في "باب النثر" أنه لو وقعَ في الشبكةِ ثم أفلتَ، فالظاهِرُ أنَّ مِلْكَه لا يزُول. وفيه وجْهٌ: أنَّهُ لا يعد مستقرًا في العُرْف. ومنها إذا أَرْسلَ كلبًا فأثبتَ الصيدَ -مَلَكهُ، ولو أرسلَ سَبُعًا أخرَ، فعقرَهُ وأثبته، قال في "الحَاوِي": إنْ كانَ له يَدٌ على السَّبُع -فيملِكُه كما لَو أرسلَ كلبَه، وإلاَّ فَلاَ، ولو أَرْسَل الصيْدَ بعدما أخَذَهُ الكلْبُ ففي "البحْرِ" أن بَعْضَ الأَصْحابِ قال: إنْ كانَ ذلك قبل ما أَدْرَكَه صاحبُهُ لم يَمْلِكْهُ وإنْ كانَ بعده -فوجهان؛ لأنَّهُ لم يقبِضهُ ولا زال به امتناع (¬5). ¬
ومنها: إذا أَلْجَأهُ إلى مَضِيقٍ لا يقدِرُ على الإِفْلاتِ منه -ملكه، وذلكَ بأنْ يدخلَهُ في بيت ونحوه، وقد يردُّ جميعَ ذلك إلى شيءٍ واحدٍ، ويجعلُ سببَ مِلْكِ الصيْدِ هو إبطالُ امتنَاعِهِ، وحصولُ الاستيِلاءِ عليه، وذلك يحصلُ بالطرِيقِ المذكُورِ، ثم في الفَصْلِ صورٌ. إِحْدَاهَا: لو توحَّلَ الصيْدُ بمزرعتِه، وصارَ مقدورًا عليه -ففيهِ وجهَان: أحَدَهُمَا: أنَّهُ يملِكُه كما لو وقعَ في الشَّبَكَةِ، وأظهرهُما المنعُ؛ لأنَّه لم يَقصِدْ بسقي الأَرْضِ الاصْطِيادَ، والقصد مرعي في التملك (¬1) قال الإمامُ: وهذا الخِلاَفُ فيمَا إذا لم يكنْ سَقْيُ الأَرْضِ مما يُقْصدُ به توحُّلُ الصيدِ وتعلقها، وإن كان يَقْصدُ فهو كنصبِ الشَّبكَةِ ولم يتعرّضِ الرُّويانِيُّ لمزرعَةِ الشخْصِ. قال الغَزَالِيُّ: أمَّا لَوْ تَوَحَّلَ بِمَزْرَعَتِهِ أَوْ وَقَعَ فِي دَارِهِ أوْ عَشَّشَ الطَّائِرُ فِي دَارِهِ لَمْ يُمْلَكْ بِمُجَرَّدِهِ عَلَى الأَظْهَرِ لَكِنْ هُوَ أَوْلى مِنْ غَيْرِهِ كَالمُتَحَجِّرِ* فَإِنْ أَخَذَ غَيْرُهُ مِنْ مِلْكِهِ فَهوَ كَمَنْ أَحْيَا مَا تَحَجَّرهُ غَيْرُهُ* وَإِنْ قَصَدَ مِنْ بِنَاءِ الدَّارِ تَعْشِيشَ الطَّائِرِ فَوَجْهَانِ لِأَنَّهُ لاَ يَعْتَادُ* وَلَوْ وَقَعَتْ مِنْهُ الشَّبَكَةُ فَتَعَقَّلَ بِهَا الصَّيْدُ فَوَجْهَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُ وَإِنَّمَا الملْكُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ القَصْدِ وَالْعَادةِ* وَلَوِ اضطرَّهُ إِلَى مَضِيقٍ لاَ مُخَلِّصَ لَهُ عَنْهُ مَلَكَهُ* وَإِن اضْطَرَّ السَّمَكَةَ إلى بِرْكةٍ وَاسِعَةٍ فَهُوَ كَالمَتْجَرِ* وإنْ كَانَتْ ضَيِّقَةً ملَكَ. قال الرَّافِعِيُّ: ولو توحَّلَ الصيدُ عند طلبهِ في طِين لم يملِكْهُ؛ لأنَّ حُصُولَ الطين ليس مِنْ فِعْلِه، ولو كانَ هو الذي أَرْسَل الماءَ في الأرْضِ -ملكه؛ لأنَّ الوحَلَ حصلَ بفعْلِه فهو كنصْبِ الشبكةِ ويشبُه أن يرجعَ هذا إلى ما ذكرَهُ الإمامُ مِنْ قَصْدِ الاصطيادِ بالسَّقْيِ. الثانيةُ: لو وقَعَ الصَّيْدُ في مِلْكِه وصارَ مَقدُورًا عليه أو عَشَّشَ الطائِرُ في دارهِ (¬2) وباضَ وفرخَ وحصلتْ القُدْرَة على البيْضِ والفَرْخِ: فهل يملكها صاحبُ الدَّارِ؟ فيه وجهان: حالهُما ما ذكَرْنَا في الصورةِ الأُولَى، والخِلافُ راجعٌ إلى أنَّه هل يُعْتبر القصْدُ؟ والظاهِرُ: اعتبارُهُ، وبه أجابَ في "التَّهْذِيب" وقال: لو حَفَرَ حُفْرةً لا للصيدِ، فوقعَ فيها صَيْدٌ لَمْ يملِكَهُ، وإنْ حَفَر للصيدِ مَلَكَ ما وقعَ فيه، ولو أَغْلَقَ بابَ الدَّارِ لِئَلاَّ يخرجَ مَلَكَهُ. وحكَى الإمامُ عن الأَصْحَاب: أنَّا إذَا قُلْنَا: إِنَّ صاحبَ الدار لا يملِكُه، فهو أَوْلَى بتملُّكِهِ وليسَ لغيرهِ أنْ يَتَخطَّى ملكَه ويأخذه، وإن فعل، فهل يملِكُه؟ فيه وَجْهَان مُرَتَّبَانِ على الوجْهَيْنِ فيما إذا حَجز مَوَاتًا وأحياه غيرُه، هل يملِكُه؟ وهذه الصورةُ أَوْلى بثبوت ¬
المِلْكِ؛ لأن التحجرِ للأحْياءِ، والتملك وبناء الدار (¬1) لاَ يُقْصَدُ به تملك الصيد (¬2) الوَاقِع فيها ولو قصدَ ببناءِ الدَّارِ تَعْشِيشَ الطائِرِ فعشَّشَ فيها طائِرٌ -ففي مِلْكِ البيضِ والفرْخِ وجهانِ: في وجْهٍ: يملِكُ؛ لوجودِ القَصْدِ. والثَّانِي: لاَ لضعف القصْدِ فإنه خِلافُ العادَةِ الغاليةِ، ولو قَعَت الشبكةُ من يَده من غَيْرِ قَصْدٍ تَعَقَّلَ بها صَيْدٌ فوجهان أيضاً: نَنْظُرُ في أَحدِهِمَا: إلى أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ، وفي الثاني: [إلى أنه يعقِّلُ] (¬3) تَملّكُهُ وحصلَ الاستيلاءُ عليه، والأَوْفَقُ لما أَطْلقُوه اعتبارُ القصدِ حتى لا يملِكَ في وقُوعِ الشبكةِ مِنْ يدهِ، ويملِكُ في بِنَاءِ الدارِ على قَصْدِ التَّعْشِيشِ. الثَّالِثَةُ: ذكر أَنَّهُ لو أَلْجأَ الصيْدَ إلى مَضِيقٍ لا مخلصَ لهُ منه -ملكه، وكذَا لو اضْطَرَّ السمكةَ إلى بِرْكَةٍ صغيرةٍ [أو حوض صغير] (¬4) على شَطِّ النهْرِ والصغير هو الذي يسهل أخذُها منه، ولو دخلَت بنفسِها -عاد الخلاف المذكورُ فيمَا إذَا دخل الصَّيْدُ في مِلْكِه. فإنْ قُلْنَا: لا يملِكُه بالدخُولِ وهو الأَصَحُّ، فلو سَدَّ منافِذَ البِرْكَةِ فقد تسبَّبَ إلى ضَبْطِ السَّمَكَةِ فيملِكها ولو اضْطَرَّهَا إلى بِرْكة وَاسِعَةٍ يَعْسُرُ أخذُ السَّمَكةِ مِنْهَا، أو دخلَتها السمكةُ فسدَّ مَنَافِذَهَا -فلا يُحْكَمُ له بالملكِ لكنَّه حصلَ نوعُ انحصارٍ بفعْلِهِ فَيُثْبَتُ له اختصَاصٌ كاختصاصِ المتحجر. ولو دخَلَ رجلٌ بُسْتَان غيرِه، واصْطَاد منه طائِرًا -ملكه بلا خِلاَفٍ، ولا يثبت لصاحبِ البُسْتانِ حُكْمُ المتحجرِ؛ لأنَّ البُسْتَانَ لا يتضمَّنُ ضبطَ الطائِر. وأَمَّا لفْظُ الكِتَابِ، فَاعْلَمْ أنَّ أَسْبابَ المِلْكِ لا تختلفُ بحالةِ الاجتماعِ والانفرادِ بل تشتركُ فِيهَا الحالتَانِ، والتفاوُتُ يرجِعُ إلى المالكِ وقد تَكَلَّمِ صاحبُ الكتابِ في أَسْبابِ الملك في الفَصْل المُتَرْجَم بحالةِ الانْفِرَادِ، وكانَ الأَحْسَنُ أَنْ يُبَيِّنَ [أسبابَ] (¬5) المِلْكِ، ثم يتكلَّمُ فيما يتعلَّق بالانفِراد والاشتراكِ. وقَوْلُهُ: "بإبطال مِنْعَتِه" المنعةُ هو القُوَّةُ المانِعَةُ، يُقالُ: هم في عِزٍّ ومِنْعة. وقولُهُ: "لأنه لم يقصِدْهُ"، وإنَّمَا المِلْكَ (¬6) عند اجتماع القَصْدِ والعادَةِ" يَعْنِي أَنَّ المِلْكَ إِنَّما يحصلُ بلا خلافٍ، إذَا قصد الصَيدَ وسلكَ طرِيقًا يُعْتاد (¬7) تحصيلُه. فأمَّا إذَا ¬
قصدَه بريقٍ لا يُعْتَادُ كبناءِ الدَّارِ للتَّعْشِيش، أو لمْ يقصِدْهُ وحصل بطريقٍ مَعْهُودٍ، فهُو موضِعُ الخلافِ، والله أعلم. قال الغَزَالِيُّ: وَإِذَا مَلَكَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ بالإِفْلاتِ* وَهَلْ يَخْرُجُ بِالتَّحْرِيرِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ* وَلَوْ أَعْرَضَ عَنْ كِسْرَةِ خُبْزٍ فَهَلْ يَمْلِكُهُ مَنْ أَخَذَهُ؟ وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلَى بِأنْ يَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ* وَلَوْ أَعْرَضَ عَنْ جِلْدِ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ غَيْرُهُ فَوَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلَى بِأَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ. قال الرَّافِعِيُّ: لما تَكلَّمَ فيما يثبتُ به المِلْكُ في الصيْدِ، أرادَ أنْ يتكلَّمَ فيما يزولُ به المِلْكُ عنه، أمَّا مَا يشمل الصيْدَ وغيرَه كالبَيْعِ، والهِبَةِ، فلا يخْفَى. وأَمَّا ما يَخْتَصُّ بالصيدِ فلو أنَّه أَفْلَتَ مِنْ يَدِهِ، لم يزل مِلْكهُ عنه ولوَ أَخَذَهُ آخِذٌ فَعَلَيْهِ ردُّهُ إلى الأَوَّلِ، ولا فَرْقَ بين أن يلتحق بالوحُوشِ في الصَّحْرَاءِ أَوْ يبعد عن البُنْيَانِ، وبينَ أن يدور في البلدِ وحولِهِ. قال مَالِكٌ: ما دامَ في البلدِ وحوله، يبقى مِلْكُ الصائِدِ فيه، فإذا بَعُدَ والتحقَ بالوحُوشِ زال مِلْكُه، ومَنْ أَخذه مَلَكَهُ. ويُرْوَى عَنْهُ: إنْ تباعَدَ العهدُ بهِ -زَالَ مِلْكُه عنه، وإن قَرُبَ الوقْتُ- لم يزلْ. ويُرْوَى عنه زوالُ المِلْكِ بِالإِفْلاتِ مُطْلقًا. لنا القياسُ على ما سلمه، وعلى إباقِ العَبْدِ، وشِرَاء البهِيمةِ، ولو أنه أرْسَلَ الصيْدَ وخلاّه بنفسِهِ: فهل يزولُ مِلْكُهُ عنه؟ فيه وَجْهَانِ: أَحدُهُما: ويُحْكَى عن ابنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَعَمْ؛ لأنَّه أزال مَلكه عنه باختيارهِ عن حَيَوانٍ [الأصل] (¬1) فيه الانفكاكُ عن المِلْكِ كما لَو أَعْتَقَ عَبْدَهُ. وأظهرهُمَا: وبه قال أَبو إسحاقَ واختارَه القاضي أَبُو الطَّيِّب، والقَفَّالُ: لاَ، كما لو سَبَّبَ دابَّته، ولا يجوزُ أنْ يفعل ذلكَ؛ لأنه يشبه ما كان يَفعلُه أَهلُ الجاهلِيَّة من تسييب السَّوائِب، وعن القفَّالِ: أنَّ العوَامَّ قد يحتسبون به ويُسَمُّونه إعتاقًا ومِنْ حقّهِ أنْ يتحرز عنه؛ لأَنَّ الطائِرَ المُخَلَّى يختلِطَ بالطيورِ المُبَاحَةِ؛ فيأخذه الآخذُ ويظنُّ أنَّهُ قد مَلَكَه، وهو لا يملِكُه. وعن "صَاحِبِ الإِفْصَاحِ" وجهٌ ثالثٌ: وهو أنَّه إن قَصَدَ بتخلِيَتهِ التقرُّبِ إلى الله تعالَى -زالَ المِلْكُ عنه، وإلاَ فَلاَ، وإنْ قُلْنَا يزولُ مِلْكُهُ فيعودُ إلى ما كانَ من الإباحةِ، ولمن أرادَ أن يَصِيدَهُ أنْ (¬2) يَصِيدَه. ¬
وذكرَ الرُّويَانِيُّ في "التجربة" أنَّ الشافِعِيَّ -رضي الله عنه- نَصَّ في المبسُوطِ على زَوَالِ المِلْكِ، وغلّطَ مَنْ قَالَ غيرَهُ إلاَّ أنَّه شرط في التصوِيرِ أن يخليه على قَصْدِ إخراجِهِ من مِلْكِهِ وإلحاقِهِ بالوحْشِيّ، وإنْ قُلْنَا بالوجْهِ الثَّانِي، فلا يجوزُ لغيرِه أنْ يَصِيده إذا عرفه، فإنْ قال عند الإرسالِ أبحتُه لمن يأخذُه -حصلتَ الإِبَاحةُ، ولا ضمانَ على مَنْ أكلَهُ لكنَّه لا ينفذ تصرفه فيه. وإن قُلْنَا بالوجهِ الثالثِ المفصَّلِ: أَرْسَلَهُ تقرُّبًا إلى الله تعَالى: فهل يَحِلُّ له اصْطِيادُه؟ فيه وَجْهَانِ: أَحدُهُما: ويُحْكَى عن ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ -نَعَمْ؛ لأنَّه لا يعُود إذا زالَ المِلْكُ عنه إلى حُكْمِ الإباحةِ.
والثَّانِي: لاَ؛ كما أَنَّ العَبْدَ إِذَا أُعْتِقَ لا يعودُ المِلْكُ فيه (¬1). ولو ألقَى كِسْرَة خُبْزٍ مُعرِضًا عنها: فهل يملِكُهَا مَنْ أَخَذَها؟ فيه وجْهَان ذُكِرَ بالترتِيب على الخلافِ في إِرْسَالِ الصَّيْدِ، وهذه الصورةُ أَوْلى ألاَّ يملِكَها الآخِذُ وتبقَى على مِلْكِ المَالِكِ؛ لأنَّ سَبَبَ المِلْكِ في الصيد اليدُ وقد أزالَها قَصْدًا. قال الإمامُ: وهذا الخِلاَفُ في زَوَالِ المِلْكِ وما فعلَه إباحةً للطاعِم (¬2) في ظاهِرِ المذْهَب؛ لأنَّ القرائِنَ الظاهِرَة كافيةٌ في الإباحةِ هذا لفظه ويوضحُه ما يُؤْثَرُ عن الصالِحينَ من التقاطِ السَّنَابِلِ (¬3). ولو أَعْرض عن جِلْدِ مَيْتَةٍ فأخذه غيرُه ودَبَغَهُ، ففي حُصُولِ الملْكِ له وجهان: بالترتيبِ، وهذه أَوْلى بثبُوتِ الملْكِ للآخِذِ إنْ لمْ يكن مملوكاً للأوَّلِ، وإنَّما كانَ له نوعُ اختصاصٍ، والاختصَاصُ المجرّدُ يضعُفُ بالإعْراضِ، ولكَ أنْ تَزِيدَ فتقولَ: إن قُلْنَا إنَّ مَنْ غصب جِلْدَ مَيْتَةٍ ودبَغَه، يكونُ الجلْدُ للمغصُوبِ منْهُ فيجِيءُ هاهُنا هذا الخِلاَفُ، أمَّا إذَا قُلْنَا: إنَّهُ يكونُ للغاصب [فيكون هاهنا] (¬4) للآخذِ بلا خِلاَفٍ. قولُهُ في الكتابِ: "فهل يخرجُ بالتَحرِيرِ" كأنَّه أشارَ بهذِه اللَّفْظَةِ إلى ما ذُكِر في "الوَسِيطِ" أنَّه لا يخرجُ عَنْ مِلْكِه بإفلاتِه والخِلاَفُ فِيما إذا قصَدَ التحرِيرَ ويقرب منه ما ذَكرَه الإمَامُ: أنَّه لَوْ حَرَّرَهُ (¬5) وحَاوَلَ به رفْعَ اختصَاصِه وردَّه إلى ما كانَ عليه من الإِباحَةِ ففيه الخِلاَفُ. وقولُه: في مَسْأَلةِ الجِلْدِ "وأولى بأَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ" الوجهُ حملُ المِلْكِ -هناهُنا- على الاِخْتِصاصِ الذي كان في الجِلْدِ ولو قَال وأَوْلَى بأنْ يَصِيرَ مِلْكُهُ كان أَوْلى. [فرعٌ]: مَنِ اصْطَادَ صَيْدًا عليه أثرٌ ملك بأن كَانَ مَوْسُومًا أو مقرَّطًا، أو مخضُوبًا، أو مَقْصُوصَ الجناح لمْ يملكُهُ؛ لأنَّ هذه آثارٌ تدل (¬6) على أنَّه كان مَمْلُوكًا، ورُبَّما أَفْلَتَ، ولا يُنْظَرُ إلى احْتِماَلِ أنَّه اصطادَه محرمٌ وفعلَ به ذلك ثم أرسلَه، فإنه تَقْرِيرٌ بَعِيدٌ. ولو اصْطادَ سمكةً في بَطْنِها دُرَّةٌ مَثْقُوبَةٌ، فكذلكَ، ويكونُ المأْخُوذُ -والصورةُ هذِهِ- لُقَطَةً، وإن كانت غيرَ مَثْقُوبةٍ فهي له مع السَّمَكَةِ، ولو اشترَى سمكةً -فوجد في بَطْنِهَا ¬
دُرَّةً غيرَ مثْقُوبَةٍ فهي لِلْمُشْترِي، وإنْ كانَت مَثْقُوبةً فهي للبائِع إنِ ادَّعاهَا- هكذَا أطلقَه في "التَّهذِيب". ويُشْبِهُ أن يِقَالَ إنَّ الدُّرَّةَ تكون لمن اصْطَادَ السمَكَةَ، كما أنَّ الكَنْزَ الذي يُوجَدُ في الأَرْضِ يكونُ لمُحْيِي الأَرْضِ (¬1) واللهُ أَعلمُ. قال الغَزَالِيُّ: (فَرْعٌ): إِذَا اخْتَلَطَ حَمَامُ بُرْجٍ بِحِمَامِ بُرْجٍ آخَرَ وَعَسُرَ التَّمْيِيزُ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا الانْفِرَادُ بِبَيْعِ شَيْءٍ مِنْ ثَالِثٍ* وَإِنْ بَاعَ مِنْ صَاحِبِهِ جَازَ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ لِلحَاجَةِ* وَإِنْ تَوَافَقَا عَلَى بَيْعِ الجَمِيعِ مِنْ ثَالِثٍ وَعَلِمَا مِقْدَارَ قِيمَةِ المِلْكَيْنِ أَوْ تَقَارَّا عَلَى تَقْدِير حَتَّى يُمْكِنَ التَّوْزِيعُ جَازَ وَإلاَّ لَمْ يَجُزْ* وَإِنِ اخْتَلَطَ حَمَامُ مَمْلُوكٍ بِحمَامِ بَلْدَةٍ لاَ يَحْرُمُ الصَّيْدُ إِذَا كَانَ المَمْلُوكُ مَحْصُورًا* فَلَوْ كَانَ غَيْرَ مَحْصُورٍ كَحَمَامِ بَلْدَةٍ أُخْرَى فَوَجْهَانِ. قال الرَّافِعِيُّ: إذَا تحوَّلَ بعضُ الحمَامِ منْ بُرْجِ إنْسَانٍ إلى بُرْجِ أخرَ، فإن كان المُتَحوَّلُ مِلْكًا للأوَّلِ -لم يَزُلْ مِلْكُه عنه، ووجِبَ على الثاني رَدُّهُ. ولو حصل بَيْضٌ أو فَرْخٌ -فهو تبع للأُنْثَى دُونَ الذَكر، فيكون لمالِكِ الأُنْثَى. وإذا ادَّعَى إنسانٌ تحوَّل الحمام من بُرْجِهِ إلى بُرْجِ غَيْرِهِ لم يُصَدَّقْ إلاَّ ببيّنةٍ، والورَعُ أن نُصدِّقَه إلاَّ أَن نَعْلَم كذِبَه. وإن كان المُتحوَّلُ مُبَاحًا -دخلَ البرجَ الأَوَّلَ فعلى الخِلاَفِ السابق فيما إذَا دخلَ الصَّيْدُ مِلْكَ الثَّانِي، فإن قُلْنَا: لاَ يَمْلِكُ، وهو الظاهِرُ فللثَّانِي أَنْ يتملّكَهُ. ومَنْ دَخَلَ بُرْجَهُ حمامٌ وشَكَّ في أنَّ الداخِلَ من المباحاتُ أو هو مِلْكُ الغَيرِ -فهُوَ أَوْلَى بهِ، ولهُ أنْ يَتَنَاوَلَه؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أنَّهُ من المُبَاحَاتِ، وإن تحقَّقَ أنَّهُ اخْتَلَطَ بمِلْكه ملكُ الغَيْرِ وعَسُرَ التميِيزُ ففي "التَّهْذِيب": أنَّهُ إذَا اختلطت حمامَةُ واحدة بحماماته فله أنْ يَأْكُلَ بالاجتهادِ وَاحِدَةً وَاحِدةً حتى يُبْقى واحدةً؛ كمَا لو اختلَطتْ ثَمَرةُ الغيرِ بثمرِهِ، والَّذِي حكاه الرُّوَيانِيُّ أنَّه ليسَ له أنْ يَأْكُلَ واحدةً منها حتى يُصالِحَ ذلك الغَير، أو يُقَاسِمه؛ ولهذا قَالَ بعضُ مَشايِخِنَا: ينبغي للمُتَّقِي أن يتَجنَّبَ طيرَ البرج وبناءها (¬2) ونقل الإمامُ وغيرُهُ أنَّه ليس لواحد منهما التصرف في شَيْءٍ منها بِبَيْعٍ أو هِبَةٍ من ثَالِثٍ؛ لأنَّه لا يتحقَّقُ المِلْكُ ولو باعَ أو وَهَبَ أحَدُهمَا من الآخَر -ففيهِ وَجْهَانِ: ¬
وجهُ الصحةِ؛ وهو أقربُ للحاجةِ الداعيةِ إليه، وقد ترتفعُ التعبدات بالضرورات والحاجَاتِ، ولذلك صَحَّحْنَا القراضَ والجُعَالةَ على ما فِيهِمَا من الجَهَالة. وأَنَّهما لو باعَا الحمامَ المُخْتَلِطةَ ولا يدري واحدٌ منهُمَا عين مالِه، فإنْ كانَتِ الأَعْدَادُ مَعْلُومةً كمائتينْ ومائة والقِيمُ مُتَساوية، ووزعنا الثَّمَنَ عَلَى [أَعْدَادِهَا صحَّ بإطباق الأئمة] (¬1) وإنْ كانَا يجهلانِ الأَعْدادَ لم يصحَّ البيعُ؛ لأنَّه لا يعرِفُ كلُّ واحدٍ مِنْهُمَا ما يستحِقُّه من الثَّمَنِ، والطَّرِيقُ أنْ يَقول كُلُّ واحدٍ منهُما: بعْتُكَ الحمامَ الذي في هذا البُرجِ بكذا، فيكونُ الثمنُ مَعْلُومًا، ويحتمل الجهلُ في المَبِيع للضَّرُورةِ، وفي "الوَسِيط" أنَّهِما لو تصالحا على شَيْءٍ صَحَّ البيعُ، وَاحْتُمِلَ الجهلُ بقدر المبيعُ ويقرب من هذا ما أطلقَ من مقاسمتِهما. وَاعْلَمْ أَنَّ الضَّرُورَةَ قد تدعُو إلى المُسَامَحةِ في بَعْضِ الشُّرُوطِ المُعْتبرة في العُقُودِ؛ ألا تَرَى أنَّ الكَافِرَ إِذَا أَسْلمَ على أكْثر من أربع نِسْوة وماتَ قبل الاختيار (¬2) يَصِحُّ اصطلاحهن على القِسْمَةِ إمَّا بصفةِ التَّسَاوِي أو التَّفَاوُتِ مع الجَهْلِ بالاستحقاقِ فيجوزُ أنْ تصحَّ القسمةُ هاهُنا -أيضاً- بحسب تَراضِيهِمَا، ويجوزُ أن يُقالَ: إذَا قال كلُّ واحدٍ منهُما: بعتُ مَالِيَ من حَمام هذا البُرْجِ. بكذا وصحَّحْناه مع الجهْلِ بالمبيعِ. فإذَا قالاَ: بِعْنَا حمامَ هذا البُرْجِ بكذا، والأعددُ مَجْهُولةٌ -يصحُّ أيضاً مع الجهلِ بما يستحقُّ كلُّ واحدٍ منهُما، والمقصودُ أن ينفصِلَ الأَمْرُ بحسبِ ما يتراضَيَانِ عليه. ولو باعَ أَحدُهُمَا جَمِيعَ حمام البرجِ بإذْنِ الآخَرِ فيكونُ أصْلًا في البَعْضِ (¬3)، ووَكِيلًا في البعض ثم يَقْتَسِمَانِ الثَمن. ولو اختلطَتْ حمامةٌ مَمْلُوكَةٌ أو حماماتٌ بحماماتٍ مبَاحة مَحْصُورة -لم يَجُزْ الاصْطيادُ منها. ولو اختلَطَتْ بحماماتِ ناحِيَةٍ جازَ الاصْطِيادُ في الناحِيَةِ، ولا يتغيَّرُ حكْمُ مَا لاَ يَنْحَصِرُ في العادَةِ باختِلاَطٍ ما يُحْصَرُ به، وهذا كما أنه إذَا اختلَطتْ أُخْتُه مِنَ الرَّضَاعِ بِنِسْوةٍ لا ينحصِرْن، يجوز له أنْ يتزوَّجَ مِنْهُنَّ، وإنِ اخْتلَطتْ حمامُ أبراجٍ مَمْلُوكةٍ لا يكادَ يُحْصَرُ بحمامِ بلدة أُخْرَى مُبَاحةٍ -فوجهان: أَحدُهُما: لا يجوزُ الاصطيادُ منها [فإن ما لا ينحصر] (¬4) بالاضافة إلى مِثْلِهِ، كما ينحصِرُ بالإضافة إلى مثله. والثاني: يجوزُ استِصْحَابًا لما كانَ. ¬
(الفصل الثاني في الاشتراك)
قال الإِمام: وهذا إليه صَغْوُ مُعْظَمِ الأصْحابِ والأَوَّلُ (¬1) أقْيسُ. فَرْعٌ إذَا انثالَتْ حِنْطَةُ إنسانٍ على حنْطَةِ غيره أو انصبَّ مائِعٌ من مَائِعٍ وجَهِلاَ المِقْدَارَيْنِ -فلْيَكُنِ الحُكْمُ على ما ذكرْنَا في اختلاطِ الحَمامِ. آخر: لو ملك الماءَ بالاسْتِقاءِ، ثم انصب في نَهْرٍ، لم يزُلْ مِلْكُه عنه، فلا يمنع الناسَ مِنْ الاسْتِقَاءِ، وهو في حُكْمِ اخْتلاطِ المحصُورِ بغير المحصُورِ (¬2). وقولُه: "ولَوْ تَوافَقَا على بَيْعِ الجميعِ مِنْ ثَالِثٍ .... " إلى آخره، الحكمُ، لا يختصُّ بالجميعِ بل لو توافَقَا على بَيْعِ بَعْضٍ مُعَيَّنٍ -كان الحكْمُ كذلك. وقولُه: "لَوْ تَقَارَّا على تَقْدِير" يجوزُ أن يُحْملَ على قسْمة في الثَّمنِ، وأن يُحْملَ على قِسْمة في نَفْس الحمامِ. وقولُه: "ولو كان غيرَ مَحْصُورِ كحمام بلْدة أُخْرى" يحتاجُ إلى إضمار حمامَاتِ بَلْدةٍ مَمْلُوكَةٍ بحمامات بلدة أخرى. قال الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّانِي في الاشْتِرَاكِ) ولَهُ أَحْوَالٌ: (الأَولَى) أَنْ يَتعَاقَبَ الجُرْجانِ فَإنْ كَانَ الثَّانِي مذَفَّفاً فَهُوَ لَهُ وَلاَ شَيْءَ عَلَى الأوَّلَ* وَإِنْ كَانَ الأَوَّلُ مُذَفَّفاً فَهُوَ لَهُ وَعَلَى الثَّاني أَرْشُ الجِرَاحَةِ لأَنَّهُ جُرْحُ مِلْكِ الغَيْرِ* وَإِنْ أَزْمَنَ الأَوَّلُ وَذُفِّفَ الثَّاني وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ إلاَّ أَنْ يُصِيبَ المَذْبَحَ* وَإِنْ لَمْ يُصِبِ المَذْبَحَ فَهِيَ مَيْتَةٌ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الأَوَّلِ* فَإِنْ لَمْ يذَفَّفْ وَمَاتَ بِالجُرْحَيْنِ فَفِي مِقْدَارِ الضَّمَانِ خِلاَفٌ يَنْبَني عَلَى مَا لَوْ جَرَحَ عَبْدًا قيمَتُهُ عَشَرَةٌ فَرَجَعَ إِلَى تِسْعَةٍ فَجَرَحَهُ آخَرُ فَمَاتَ مِنْهُمَا فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَى الثَّانِي نِصْفَ التِّسْعَةِ وَعَلَى الأَوَّلِ نِصْفَ العَشَرَةِ نَقَصَ المَبْلَغَانِ عَنْ قِيمَةِ العَبْدِ فِي الأَصْلِ فَفِيهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ* فَعَلَى وَجْهٍ لاَ يُبَالِي بِهَذَا النُّقْصَانِ* وَعَلَى وَجْهٍ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ خَمْسَةٌ* وَعَلَى وَجْهٍ يَجِبُ عَلَى الأَوَّلِ خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ وَعَلَى الثَّانِي خَمْسَةٌ* وَعَلَى وَجْهٍ ¬
يَجِبُ عَلَى الأَوَّلِ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ أَحدٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ عَشَرَةٍ وَعَلَى الثَّانِي عَشَرةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحدٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ عَشَرَةٍ حَتَّى لاَ يَزِيدَ عَلَى القِيمَةِ وَيَتَفَاوَتَ الشَّرِيَكانِ* وَعَلَى الوَجْهِ الخَامِسِ لاَ يُمْكِنُ إيجَابُ زِيَادَةٍ عَلَى أَرْبَعٍ وَنِصْفٍ عَلَى الثَّانِي وَالبَاقِي إِلَى تَمَامِ العَشَرَةِ عَلَى الأَوَّلِ وَهُوَ الأَقْرَبُ وَلاَ يَنْفَكُّ وَجْهٌ عَنْ بُعْدٍ* وَلَوْ كَانَتْ إحْدَى الجِرَاحَتَيْنِ مِنَ السَّيِّدِ سَقَطَ مَا يُقَابِلُ جِرَاحَتَهُ وَلَزِمَ البَاقِيَ عَلَى الأَجْنَبِيِّ وَيُخَرِّجُهُ عَلَى الأَوجُهِ الخَمْسَةِ* وَقِيلَ: مَسْألة الصَّيْدِ كمَسألَةَ السَّيِّدِ مَعَ الأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَالِكٌ* وَقِيلَ: بَلْ يَجِبُ جَمِيعُ القِيمَةِ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ السَّيِّدَ مَالِكٌ وَالمَالِكُ ذَابِحٌ وَإنَّمَا فَسَدَ بِجنَايَةِ الثَّانِي* وَهَذَا إنَّمَا يتجه إِذَا كَانَ جَرَحَهُ بِحَيْثُ لَوْ مَاتَ بِهِ يَحِلُّ وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الظَّفَرُ بِهِ وَفِيهِ حَيَاةٌ مُستَقِرَّةٌ. قال الرَّافِعِيُّ: تبيَّنَ مِنْ قبلُ أنَّ الصيدَ يُمْلَكُ بالجراحَةِ المذَفَّفَةِ وبالإزْمَانِ والإثْبَاتِ أيضاً. واحتجَّ لكون الإِزْمانِ مملكًا بما رُوِيَ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحَابَه مَرَّوْا بَظَبْيٍ حَاقِفٍ، فهمَّ أصحابِه بأخْذِه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "دَعُوهُ حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبِه" (¬1). والحاقِفُ: هو المثْخَنُ العاجِزُ عن الامتناعِ، سَمَّى صَاحِبًا له، ومنعهم مِنْ أَخْذِه. إذا عُرِفَ ذلك. [فالاشتراكُ] (¬2) والاِزْدِحَامُ على الصيْدِ له أَحْوَالٌ. إحْدَاهَا: أن يتعاقَبَ جُرْحَانِ مِنِ اثْنيْنِ. فالأولُ: إما أن يكونَ مُذَفِّفًا أو مُزْمِنًا، أَوْ لا مُزْمِنًا، أولا مذففًا، ولا مزمنًا، فإن لم يكن مذفِّفاً ولا مُزمناً، بل بقي على امتناعِه، وكان الثاني مُذَفِّفاً أو مزمناً، فالصيدُ للثَّانِي، ولا شَيْءَ على الأول بجراحَتهِ؛ لأنه كان مُبَاحاً حينئذٍ، وإن كان جُرْحُ الأولِ مُذفِّفاً، فالصيد حَلالٌ، ومِلْكٌ الأول، وعلى الثَّانِي أَرْشُ جِرَاحَتهِ، وإنْ حدث فِيها نقصانٌ في اللحم، أو الجِلْدِ؛ لأنه جنى على مِلْكِ الغَيْر. وإنْ كان جُرْحُ الأَوَّلِ مُزْمِنًا، صار الجرْحُ مملُوكًا بالإزْمَانِ، وينْظَرُ في الثانِي: إن ذُفِّفَ بقطْعِ الحُلْقُومِ، والمريء فهو حلالٌ، وعليه للأول ما بين قيمته مَذْبُوحًا ومُزْمِناً. قال الإمامُ: وإنما يظهر التفاوُتُ إذا كان فيه حياةٌ مُسْتقِرَّةٌ فأما إذا كان الحيوانُ ¬
مُتَألِّماً [لو لم يُذْبح لهلك] (¬1) فما عندي: أنه ينقص منه بالذبح شيء ويجيء في الحلِّ تردُّدٌ حكَيْناه عن الإمامِ: فِيمَا إذا رَقَى إلى شَاةٍ رَبِيطَةٍ، وقطعَ الحُلْقُومَ والمَرِيءَ وفاقاً. والظاهِرُ: الحلُّ، فإن ذُفِّفَ لا بقطع الحُلْقُوم والمرِيءِ أو لم يُذَفَّف ومات الصيد بالجرحَيْن، فهو مَيْتَةٌ [لا تحلّ] لأن المقدورَ عليه لا يحلُّ إلا بقَطْعِها. وكذا الحكمُ لو رَمَى إلى صَيْدٍ فأزْمَنه، ثم رمى إليه ثَانِيًا، وذُفِّف، لا بقطع المذبح. وأما إذا جُرِحَ بلا تَذْفِيفٍ، ومات من الجُرْحَيْنِ، فلأنه اجتمع المبيحُ والحاظِرُ، فيغلب الحاظر، كما لو اشترك في الذَّبْح مسلمٌ ومجوسِيٌّ، ثم يجب على الثاني إن ذفف كمال [قيمة] (¬2) الصيد مَجْرُوحًا؛ لأنه أمسك مِلْكَ الأول، عليه فلزمه ضَمانُه. وإن جُرِحَ الثاني بلا تَذْفِيفٍ، ومات من الجراحيْنِ فما الذي يجب على الثاني؟ القولُ فيه مفتتح بمسألةٍ خَطِيرة نذكرها بما فيها، ثم نعود إلى حيْثُ يقطع من مسألة الصَّيْدِ، أما تلك المسألةُ فصُورتها: إذا جَنَى رجلٌ على عَبْدِ إنسانٍ، أَوْ بَهيمةِ، أو صَيْد مملُوكٍ له قِيمَتُهُ عشرةُ دَنَانِير، فجرحَهُ جِرَاحةً أَرْشُها دِينارٌ، ثم جرحَهُ آخرُ جراحةً أَرْشُها دِينَارٌ أيضاً، وسرت الجراحتانِ إلى الهلاكِ، فَفِيما يجب على الجَانِبَيْنِ وجوهٌ: أَحدُها: أنه يجبُ على الأَوَّلِ خمسةُ دَنَانِيرَ، وعلى الثاني أربعةٌ ونِصْفٌ؛ لأن الجِرَاحَتَيْنِ سَرَيَا وصارَا قَتْلاً، فعلى كل واحدٍ نِصْفُ القيمةِ، والقِيمةُ يومَ الجنايةِ الأُولَى عشرةٌ، ويومَ الجنايةِ الثانية تِسعةٌ، فيغرم كل واحدٍ منهما نِصْفَ قِيمتِه يومَ جِنَايَتِهِ، ونَسَبَ المُوفّقُ بنُ طَاهِرٍ هذا الوجْهَ إلى ابْنِ سُريج، وضعَّفه الأَئِمةُ -رحمهم الله- مِنْ جهة أَنَّ فيه إحباطَ نِصْفِ دينارٍ على المالِكِ. والثَّانِي: وبه قال المُزَنِيُّ وأَبُو إِسْحَاقَ، يُغَرَّمُ كلّ واحدٍ منهما خمسةً. وذكر القاضي الرُّويانِي: أنه اختيارُ الفقهاءِ، ويوجه هذا بطريقين: أَحدُهما: عن المُزَنِيُّ أنه يجب على كُلِّ واحدٍ منهما أَرْشُ جِرَاحتِه، وهو دينارٌ، لأنه نقصان تولد من جنايته (¬3) وما بقي وهو ثمانيةٌ تلف بسِرايةِ الجراحتيْنِ فيشترِكَانِ فيه. وأظهرُهما: عن أَبي إِسْحَاقَ: أَنَّ على كُلِّ واحدٍ منهما نِصْفَ قِيمته يومَ جنايته، إذا صارت نَفْسًا، دخل أَرْشُها في بدل النفسِ، وكلُّ واحدِ منهما لم يضمن إلا نِصْفَ النفس، فلا يدخلُ فيه إلا نصف الأَرْشِ، ولا يدخل النصفُ الآخر فيما ضمنه الآخِذُ. وكذلك لو قطع يَدَ رَجُلٍ؛ فسرى، دخل أَرْشُ اليَدِ في بَدَلِ النفْسِ، ولو قطعها ثم ¬
قَتَلَهُ غيرُه، لم يدخل أَرْشُ اليدِ في بدلِ نَفْسٍ ضمنها الآخرُ، ثم يرجع الأول على الثاني بنصف أَرْشِ جنايته؛ لأنه جَنَى على النصفِ الذي ضمنه الأولُ، [وقومناه] (¬1) عليه قبل جِنَايَتِهِ، ومن غُرّم شَيْئًا بكمال قيمته، له أنْ يرجِعَ على مَنْ جَنَى عليه بما يُنْقِصُه؛ أَلاَ تَرَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ ثَوْبًا، وجنى عليه آخرُ فخرقَهُ، ثم تَلِفَ الثوبُ، وضمن المالك الغاصب تمام القيمة، فإنه يرجِعُ على الجاني بأرْشِ التخرِيق، وإذا رجع عليه استقَرَّ على كُلِّ واحدٍ منهما خمسةٌ، وعلى هذا فالمالِكُ مُخَيّر في نِصْفِ دينارٍ بين أَن يأخذه من الأول أو الثاني. ولو نقصت الجنايةُ الأُولَى ديناراً، والثانية دِينارَيْن، فعلى الأولِ أَرْبعةٌ ونصْفٌ، وعلى الثَّانِي خمسةٌ ونِصْفٌ. أما على طريقة المُزَنِيُّ: فلأن على الأول أَرْشَ جِنايتهِ، وهو دِرْهَمٌ، ونصْفُ القيمة بعد الجنايَتَيْن وهو ثلاثة ونِصْف، وعلى الثاني أَرْش الجناية ديناران، ونِصْف القِيمة ثلاثة ونصف. وأَمَّا على طريقَةِ أَبي إسحاقَ: فعلى الأَوَّلِ: نصْفُ قِيمة [يومَ] (¬2) جنايته، وهو خمسةٌ، ونصفُ أَرْشِ جِنايتِه، وهو نصفُ دِينارٍ، وعلى الثاني: نصفُ قِيمة يوم جنايته، وهو ثلاثةٌ ونصفٌ، ونصفُ أَرْش جنايتهِ وهو دِينارٌ، ثم يرجع الأول على الثاني بنصف أَرْشِ جنايته وهو دينارٌ (¬3)، فيستقر على الأَوَّلِ أربعةٌ ونِصْفٌ، وعلى الثاني خمسةٌ ونِصْفٌ، ولو نقصت الجنايةُ الأُولَى دِينارَيْنِ، والثانية دِينارًا -انْعَكَس الحُكْمُ، فعلى الأولِ خَمْسةٌ ونِصْفٌ، وعلى الثاني أَرْبَعةٌ ونِصْفٌ، وعليكَ بتخْرِيجه على الطَّرِيقَيْنِ، وضعَّفوا هذا الوجهَ من وجهيْن: أَحدُهما: أن فيه إفرادَ الأَرْشِ عن بدل النفْسِ، وهذا خلافُ الأصُولِ المُمهدَةَ. والثَّانِي: أَنَّ فيه تسويةً بين الأَوَّلِ والثَّانِي، ومعلومٌ أن الأولَ جَنَى، وموردُ الجنايةِ يساوي عَشَرَةً، والثاني جنى وهو يساوي تِسْعَةً. والثَّالِثُ: ونسبه الإمامُ إلى اختيار القفَّالِ، أنه يجبُ على الأول خمسةٌ ونِصْفٌ، وعلى الثَّانِي خمسةٌ؛ لأن جنايَةَ كُلِّ واحدٍ منهما [نقصت] (¬4) ديناراً، ثم سَرَتِ الجنايتانِ إلى الهَلاَكِ، والأَرْشُ يسقط إذا صارت الجناية نَفْساً، فيسقطُ نِصْفُ الأَرْشِ عن كُلِّ واحدٍ منهما؛ لأن الموجودَ منه نصفُ القتل، ويبقى النصفُ، واعترض عليه بأنَّ فيه زيادةَ الواجبِ عن المتلَفِ. ¬
وعن القَفَّالِ: أنه اعْتذر بأن الجنايَاتِ قد تنجر إلى إيجاب الزيادَةِ، كما إذا قطع يَدَيْ عَبْدٍ، وجاء آخرُ وقتله وأُجِيبَ عنهُ بأنَّ قاطعَ اليديْن (¬1) لَا شِرْكةَ له في القَتْلِ، والقتلُ يقطعَ أَثَرَ القتلِ ويقع موْقِع الاِنْدمَالِ وهاهنا بخلافِه. والرّابعُ: عن أَبِي الطَّيِّب بْنِ سَلَمَةَ، أنه يجب على كُلِّ واحدٍ منهما نصفُ قيمتِهِ يومَ جِنَايَتِه، ولا يُعْتبر إلا نِصْفُ الأَرْشِ؛ كما ذكره أَبُو إِسْحَاقَ، ومَنْ قال بالوجهِ الثَّالِثِ، لكن لا يرجِعُ الأَوَّلُ على الثَّانِي، ولا يَزِيدُ الواجب على القيمةِ، بل يجمعُ ما يلزمهما تَقْدِيرًا وهو عشرةٌ ونِصْف، وتقسمُ القيمةُ وهي عَشَرَةٌ على العشرةِ والنِّصْفِ، ليبقى التفاوتُ مَرْعِيّاً بينهما، وذلك بأن يَبْسُطَها أنصافاً؛ فتكون إِحْدَى وعِشْرين، فيُوجب على الأولِ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءاً من وَاحدٍ وعِشْرينَ جُزْءاً مِنْ عَشَرَةٍ، وعلى الثاني؛ عشرةُ أَجْزاءٍ من أَحَدٍ وعِشْرين جُزْءاً من عَشَرةٍ، وفيه أيضاً إفرادُ أَرْشِ الجناية عن بدلِ النَّفْسِ. والخَامِسُ: عن "صَاحِبِ التَّقْرِيبِ" وغيرِه، أنه يجِبُ على الأول خمسةٌ ونصْفٌ، وعلى الثاني أربعةٌ ونصْف؛ لأن الأولَ لو انفردَ بالجُرْحِ وسَرَى، لَأُلْزِمَ العشرةَ، ولا ينقطع عنه إلاَّ ما لزم الثانِي، والثاني إنَّما جَنَى على قِيمتِه تِسْعة، ولا يُغَرَّمُ إلا نِصْفَ التسعةِ، فما سِوَاه يبقى على الأَوَّلِ، هكذَا، روَجَّهَ الإمامُ ولم يجعلِ الزيادةَ أَرْشاً، ولكن قال: هو مُتَسَبِّبٌ إلى التفوِيتِ إِلاَّ فيما يعرض لالتزامه الثاني. ومِنَ الأَصْحَابِ مَنْ جعل الزيادَةَ أَرْشاً. وقال: يَصِيرُ الأَرْشُ في حَقِّ الأول دُونَ الثاني، فيجب عليه ما نقص بجِنَايتهِ، وهو دِينَارٌ ونصْفُ القيمةِ بعد ذلك، وهو أَرْبَعةٌ ونِصْفٌ، ولا يعتبر الأرشُ في حق الثاني، وفَرّقَ بينهما بأن جنايةَ الأولِ وَحْدَها نقصت الدينارَ، ثم جنايةُ الثاني، وسرايةُ جنايةِ الأول تعاونَتَا على تَفْويت الباقي، وَلَكَ أنْ تقولَ [قضيةٌ] (¬2) مَا تكرر في الوُجُوهِ ألاَّ يعتبرَ الأرشُ بتمامِهِ في حقِّه، بل يُعْتبر نصفُه؛ فيجب نصفُ دينارٍ؛ وهذا الوجهُ أَرْجَحُ عند الإِمام، ووافقه صاحبُ الكِتَاب، فقال: "وهُوَ الأَقْرَبُ" وإن كان لا يَنْفكُّ وجهٌ عن بُعد. ووجهُ البُعْدِ في الأَرْبعة [الأولى] (¬3) قدِ انْدرج في خِلاَلِهَا. وأَمَّا الخَامِسُ: فَمَنْ جعل للزيادَةِ أَرْشاً -فقد أَفْرد الأَرْشَ بالاعتبارِ. وأَمَّا القولُ بأنه متَسَبَّبَ إلى التفويتِ -فهذا مُسَلَّم لوِ انْفرد، فأما إذا شاركه غيرُه، فقد خرج فِعْلُه عن أن يكون مُفَوِّتاً للكُلِّ، والنظر في القدْرِ الذي يُنْسب إليه من الفَائِت. ووراءَ هذه الوجُوهِ وجهٌ سادِسٌ عن ابن خيرَانَ، واختاره "صاحبُ الإِفْصَاح", ¬
وأطبق العِرَاقِيُّونَ على ترجيحه، وهو أنْ يجمع بين القِيمتَيْن، فيكون تِسْعَةَ عَشَر، ويقسم على هذا العدَدِ ما فوَّتَا عليه وهو عَشرَةٌ، فيكون على الأول عشرةُ أجْزاء مِنْ تِسْعةَ عَشَر جُزْءًا مِنْ عَشَرةٍ، وعلى الثاني تِسْعةٌ من تِسْعةَ عَشَر جزءًا من عشرة. ويُقالُ بعبارةٍ أُخْرى: نصفُ القيمةِ يومَ الجنايةِ الأولَى خمسةٌ، ويومَ الجنايةِ الثانية أَرْبعةٌ ونصفٌ فيجمع بينهما، وتقسمُ العشرةُ على تسعةٍ ونصْفٍ: خَمْسةٌ منها على الأَوَّلِ، وأربعةٌ ونصفٌ على الثاني. ولو كانَتِ الجناةُ ثَلاثَةٌ، فأَرْشُ كلِّ جنايةٍ دينارٌ، والقيمةُ عَشَرةٌ، كما مرَّ على طريقَةِ المُزَنِيُّ على كل واحد منهم أرشُ جنايته دِينارٌ، وثلثُ القيمةِ بعد الجناياتِ وهو [دِينَارَانِ] (¬1) وثلِثٌ، وعلى ما ذكره أَبُو إسحاقَ: يَسْقُطُ ثلثُ الأَرْشِ عن كلِّ واحدٍ منهم؛ فيكون على الأول [ثلثُ القيِمةِ] (¬2) يومَ جنايتهِ، وهو ثلاثةٌ وثُلثٌ، وثُلُثَا الأَرْشِ ثُلُثَا دينارٍ، فيجتمع عليه أَرْبعةٌ، وعلى الثاني: ثلثُ القِيمة يومَ جنايتهِ، وهو ثلاثةُ، وثُلُثَا الأرشِ ثُلُثَا دينار، فيجتَمِعُ عليه ثلاثة وثُلُثَانِ، وعلى الثَّالثِ ثلثُ القِيمَةِ يومَ جِنايتهِ وهو دينارانِ وثلثٌ وثُلثَا الأرشِ. ثُلُثَا دينارٍ؛ فيجتمِحُ عليه ثلاثةٌ، ثم إن أخذ المالِكُ مِنْ كُلِّ واحدٍ منهم ثَلاثَةً وثلثاً -فقد وصل إلى حَقِّه، ولا تَرَاجَعٌ وإنْ أخذ مِنَ الأولِ أربعةً- رجع الأول على الثانِي بثُلثِ دينارٍ، وعلى الثالثِ بثُلثٍ، فيستقر على كُلِّ واحدٍ منهم ثَلاثةٌ وثُلُثٌ، وإنْ أخذ من الثَّانِي ثلاثَةً وثلثَيْنِ رجعَ الثَّانِي على الثَّالِثِ بثُلُثٍ، [فيستَوُونَ] (¬3) فيما غُرِّمُوا. وعلى الوجهِ [الثالثِ] (¬4) يَجِبُ على الأول أربعةٌ: منها ثلاثةٌ وثلثٌ، هي ثلثُ القِيمة يومَ جِنايَتهِ، وثُلُثَا دينارٍ ثُلُثُ الأَرْشِ، وعلى الثاني ثلاثةٌ وثُلُثَان: ثلاثةٌ، منه ثُلُثُ القيمةِ يومَ جنايته، وثُلُثَ دينارٍ ثُلثُ الأَرْشِ، وعلى الثالث ثلاثةٌ: منها دِينارَانِ وثلثٌ هي ثلثُ القيمةِ، وثُلُثَا دينارٍ ثُلُثَا الأَرْشِ والمبلغُ عشرةٌ وثلثانِ. وعلى الوجهِ الرَّابعِ تُوَزَّعُ العشرةُ على عَشرَةٍ وثُلُثَيْنِ. وعلى الخامِسِ يجبُ على الأول أرشُ جنايتهِ دينارٌ (¬5)، والثانِي مِنَ الثلاثَةِ، فيكون على الأول أربعةٌ وثلثٌ، وعلى كُلِّ واحدٍ من الآخريْنِ ثلاثةٌ وثلثٌ. وعلى السَّادِسِ: يُجْمع بين القِيَم وهي عشرةٌ، وتسعةٌ وثمانِيةٌ، فالجملةُ سبعةٌ وعِشْرُونَ تَنْقَسِمُ العشرةُ عليها. ¬
ولو صدرت إِحْدَى الجراحَتَيْنِ على الصَّيْدِ المملوكِ، أو على العَبْد مِنْ مَالِكِه، والأُخْرَى من أجْنَبِي، فينظر في جِرَاحَةِ المالك: أَهِي الأُولَى أو الثانيةُ؟ ويُخرَّجُ على الاختلافاتِ المذكورَةِ، فتسقط حِصةُ المالِك، وتجب حصةُ الأَجْنبي. وعن القاضي أَبِي حَامِدٍ (¬1) أَنَّ الجوابَ المذكورَ في الجِنَايَتَيْنِ على العَبْدِ مَوْضِعُه ما إذا لم يكن للجنايةِ أرْشٌ مُقَدَّرٌ، فأما الجِنَايَات التي لها أرشٌ مقدر، فليس العبدُ فيها كالبَهِيمةِ والصَّيْدِ المملُوكِ، حتى لو جنى على عبدِ غَيْرِه جنايةً. ليس لها أرشٌ مُقدَّرٌ، وقيمةُ العبدِ مائةٌ فنقصت الجنايةُ عَشَرةً، ثم جنى آخرُ جنايةً لا أَرْشَ لها، فنقصت عشرةً أيضاً، ومات العبْدُ منهما، فعلى الأول خمسةٌ وخَمْسُونَ، وعلى الثاني خمسةٌ يدفع منها خمسةً إلى الأَوَّلِ، وهذا هو الذي نسباهُ إِلَى إِسْحاقَ، وهو اختيارُ القَاضِي. قال ولو قطع كُلُّ واحدٍ منهما يَداً، والقيمةُ والنقصانُ كما صوَّرنَا، فعلى الأولِ نصفُ أرشِ اليدِ، وهو خمسةٌ وعِشْرون ونِصْفُ قيمتهِ يومَ الجنايَةِ وهو خَمْسُونَ، وعلى الثاني نِصْفُ أَرْشِ اليَدِ خمسةٌ وعِشْرون، ونصف القيمةِ يومَ جِنايتهِ وهو أربعون تبلغ الجملةُ مائةً وأرْبعِينَ، ويكون الكُلُّ لِلسَّيِّدِ، ولا يصرفُ إِلَى الأَوَّلِ شَيْءٌ؛ لأن [في الجناياتِ] (¬2) التي لها أَرْشٌ مقدَّرٌ يجوز أنْ يَزِيدَ الواجِبُ على قيمةِ العَبْدِ كما لو قطع إِحْدَى يديْهِ، وجاء آخرُ، وقتله. إذا تقرر ذلك، فنعود إلى مَسْألةِ الصَّيْدِ ونقولُ: إذا جرح الثاني جراحةً غيرَ مُذَفِّفةٍ ومات الصيْدُ من الجِرَاحَتَيْنِ، فيُنظر: إن مات قبل أَنْ يدرِكَه الأولُ، أو قبل أن يتمكَّنَ مِنْ ذَبْحِه؛ فعلى الثاني تمامُ قِيمته مزمنًا؛ لأنه صار حَرَاماً ومَيْتَةً بفعْلِه، ويخالف ما إذا جرحَ شاةَ نفْسِه، وجرحها آخرُ فتلِفَتْ حيثُ لا يجب على الثاني إِلاَّ نصفُ القِيمة؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ من الجُرحَيْنِ هناك محرَّمٌ، والإفسادُ هناك حصل بهما جميعاً، وهاهنا فعل الأولِ اكتسابٌ وإصلاحٌ [وذكاةُ] (¬3) ثم قضية ما أَطْلقُوه أَنْ يُقالَ: إذا كان الصيدُ يساوِي غيرَ مُزمِنٍ عشرة ومُزْمن تِسْعة، يجب على الثاني تِسْعَةٌ. واستدركَ "صاحِبُ التقريب" فقال: فعل الأَوَّلِ وإنْ لم يكن إِفْسَادًا فهو مُؤَثِّرٌ في الذَّبْحِ وحصُولِ الزهوقِ، لا محالةَ. فينبغي أَنْ يعتبر في الإفسادِ حتى يُقالَ: إذا كان غيرَ مُزْمن يساوي عشرةً ومُزْمناً يساوي تسعةً، ومَذْبُوحًا ثمانيةً يلزمه الثمانيةُ والدِّرْهمُ الآخرُ أثَّر في فواتِه الفِعلان جميعاً، فينبغي أَنْ يوزَّع عليهما، حتى يهدر نِصْفَه، ويجب نصفُه مع الثمانية. ¬
قال الإمامُ: وللنظر في [هذا مجالٌ و] (¬1) يجوز أن يُقالَ: المفسِدُ يقطعُ أثرَ فِعْلِ الأول، مِنْ كل وَجْهٍ. والأَصَحُّ: ما ذكره "صاحبُ التقرِيبِ". وإنْ أَدْركَه وتمكَّن من ذَبْحه، نُظِرَ، إنْ ذبحه، فعلى الثَّانِي أرشُ جِرَاحَتِه، وإن حدث منه نقْصٌ، وإنْ لم يذبحْهُ، وتركه حَتَّى ماتَ ففِيه وَجْهانِ: أَحدُهما: لا يجبُ على الثاني شَيْءٌ سِوَى أَرْشُ جرحته؛ لأن الأولِ صارَ مُقَصِّرًا، حتى تمكن مِنَ الذَّبْحِ فلم يذبحْ. وأَصَحُّهما: أَنَّ الضَّمَانَ على الثَّانِي لا يقتصر على أرشِ الجرَاحَةِ ولا فَرْقَ بين أَنْ يموتَ الصيدُ في يده، أو قبل أن يَقْدِرَ عليه ويتمكّنَ من ذَبْحه؛ لأَن غايةَ ما فيه أنه امتنع مِنْ تَدَارُكِ ما تعرَّضَ للفساد بجناية الجانِي مع إمْكان [التدارُكِ] (¬2)، وأنه لا يسقطُ الضمانُ، كما لو جرحَ جارحٌ شاتَه، فلم يذبَحْها [فَماتت] (¬3)، مع التمكُّنِ منه لا يَسْقُطُ الضمانُ، وعلى هذا فوجهان: أَحدُهما: وبه قال الإصْطَخْرِيُّ: أنه يضمن كمالَ قِيمته مُزْمنًا أيضاً، كما لو ذفف بخلاف ما إذا جرحَ عبدَهَ أو شاتَه، وجرحه غيرُه؛ لأن كُلِّ واحدٍ من الفَعْلين هناك إفسادٌ، والتحريمُ حصل بهما، وهاهنا الأولُ إصلاحٌ واكتسابٌ، والفسادِ جاء من الثاني. وأَظْهرُهما: وبه قال أكثرُ الأَصْحَاب: إنه لا يضمن كمالَ القِيمة، بل هو كما لو جرحَ عبدَه [وجرحه] (¬4) غيرُه؛ لأنَّ الموتَ حصل بفعْلِهما، وكل وَاحدٍ من الفِعْلَيْن إفسادٌ. أما الثاني: فظاهِرٌ. وأَمَّا الأولُ: فلأنَّ تركَ الذَّبْحِ بعد التمكن يجعل الجرْحَ وسرايته إفسادًا، ولذلك لو لم يوجد الجرحُ الثاني. وترك الذبح -كان الصيد ميتةً. فعلى هذا تَجِيءُ الوجوهُ المذكورةُ في كَيْفِيَّةِ التوزيع على الجرحَيْن: فما هو حصةُ الأوَّلِ تسقط وما هو حصةُ الثانِي تجب. وأما لفظُ الكتابِ فقولُه: "وإنْ كانَ الثَّانِي مذفِّفاً فهو له" يعني ولم يكن الأول مُزْمنًا، ولا يحتاج إلى أن يقولَ ولا مذفِّفاً، فإنه لو كان الأولُ مُذَفِّفاً لم يكن الثاني مذفِّفاً. وقولُه: "إِلاَّ أَنْ يُصِيبَ المذْبَحَ" يجوزُ أَنْ يُعْلَمَ بالواوِ [لتردُّدِ] (¬5) الإمامِ فيما إذا ¬
رَمَى إلى الحيَوانِ المقدُورِ عليه، فأصاب المذْبَحَ اتفاقاً. وفي قولِه: "فهو مَيْتَةٌ إلا أَنْ يُصِيب المذْبَحِ" ما يغني عن قوله بعده: "وإنْ لَمْ يُصِبِ المذْبَحِ فهو ميتةٌ". ولو قال: "فهو ميتةٌ، وعليه قِيمتُه للأول إلا أن يصيب المذبح" لكان أَحْسَنَ. وقولُه: وعليه قِيمتُه -أَيْ: مُزْمناً. وقولُه: "ففي قَدْرِ الضمانِ خِلاَفٌ" -أَيْ: طرِيقَانِ [وهما المذكورَانِ] (¬1) آخِرًا بعد حكايةِ الوجْهين (¬2) في جِرَاحَتَي العَبْدِ، حيثُ قال: "فقِيلَ: مسألةُ الصيْدِ كمسألةِ السير مع الأَجْنبي، وقِيلَ: بل يجب جميعُ القِيمةِ على الثاني". [وقولُهُ: "وهذا إنما يَتّجِهُ إذا كان جرحه" أي جرح الأول] (¬3). وقولُه: "إذ لم يمكن الظفر به" -أَيْ: لم يمكِنْه- والمقصودُ أن إِيجابَ جَمِيع القيمة على الثاني، إنما يتوجَّهُ إذا لم يتمكَّنِ الأولُ مِنْ ذَبْحه، فإنْ تمكَّنَ من ذَبْحِه، ولم يَذْبَحْه -فهو كصُورَةِ الصيد مع الأَجْنبي. قال الغَزَالِيُّ: (الحَالَةُ الثَّانِيَةُ) أَنْ يُصِيبَا مَعًا فَهُوَ لَهُمَا إِنْ تَسَاوَى جُرْحُهُمَا* وَإِنْ كَانَ أحَدُهُمَا مُزْمِنًا أَوْ مُذَفَّفاً دُونَ الآخَرَ فَهُوَ لَهُ وَلاَ ضَمَانَ عَلَى الآخَرِ* وَإنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الإِزْمَانُ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا* وَيُسْتَحَبُّ الاسْتِحْلاَلُ منَ الجَانِبَيْنِ لِلشُّبْهَةِ (الحَالَةُ الثَّالِثَةُ) لَوْ عَلِمْنَا أَنَّ أَحَدَهُمَا مُذَفَّفٌ وَشَكَكْنَا في الأخَرِ فَالنِّصْفُ مُسَلَّمٌ لِلمُذَفَّفِ وَالنِّصْفُ الآخَرُ مَوْقُوفٌ إلَى التَّصَالُحِ* وَقِيلَ: إنَّ الكُلَّ بَيْنَهُمَا بَالسَّوِيَّةِ. قال الرَّافِعِيُّ: إذا وقع الجُرْحَانِ معاً نُظِرَ إن تساويا في سبب الملك، فالصيد بينهما، وذلك بأن يكُونَ كُلُّ واحدٍ منهما مُذفّفًا، لو انفرد أو مُزْمِنًا لو انفرد، وكذا لو كان أحدُهما مُزْمناً، لو انفرد بأنْ كسر الجناحَ، والآخر مذفّفاً لو انفرد؛ لأن كُلَّ واحدٍ من المعنيين يثبت المِلْكَ، وإذا قتلا بجِرَاحَتَيْهِما معاً، فلا فَرْقَ بين أن يتفاوتَ الجراحتانِ صِغَرًا وكبرًا أو يَتَساوَيَا, ولا بين أَنْ يَكُونَا في المَذْبَحِ أو إحداهما في المذْبحِ دُون الأُخْرَى. وإن كانَ أحدُ الجُرْحَيْن مُذفّفاً أو مُزْمِناً لو انفردَ، والآخر غير مُؤَثِّر، فالصيدُ لمن جرحَهُ مذفْفٌ أو مُزْمنٌ ولا ضمان على الثاني؛ لأَنَّهُ لم يجرح مِلْكَ الغَيْرِ، وإن احْتَمل أن يكون الإنصافُ بهما، واحتمل أن يكون (¬4) بأحدِهما. فالصيدُ بينهما في ظَاهِرِ الحُكْمِ، ويَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِلَّ أَحدُهما من الآخر تورُّعًا عن مَظَنَّةِ الشُّبْهَةِ وإِنْ علمنا أَنَّ ¬
أَحَدَهُمَا مُذفّفٌ، وشَكَكْنَا في أَنَّ الآخرَ هل له أثرٌ في الإِزمان والتذفِيفِ؟ فيحكي عَنِ القفَّالِ: أَنَّ الصيدَ بينهما، وأنه ألزم على هذا إذا جرح [رجلاً] (¬1) جِراحَةً مُذَفّفةً، وجرحه آخرُ جراحةً لا يُدْرَي: هل هي مُذَفّفة؟ وإن تَلِفَ، فقال: يجبُ القِصَاصُ قال الإمامُ: وهذا بَعِيدٌ، والوجهُ تَخْصِيصُ القِصَاصِ بصاحب الجراحةِ المذفِّفَةِ، وفي الصَّيْدِ يُسَلَّمُ نِصْفُه لمن جُرْحُهُ مُذفِّف، والثاني يوقف بينهم إلى التَّصَالُحِ أو [يَتَبيَّنُ] (¬2) الحالُ، فإن لم يتوقَّع [بيانٌ] (¬3) فيجعل النصف الآخر بينهما نِصْفَين، فيخلص للأول ثلاثةُ أَرْبَاعِه، ونَظْمُ الكتابِ يَقْتَضِي ترجِيحَ هذا الوجْهِ وَاخْتيَارَه. وقولُه: "وقِيلَ: إِنَّ الكُلَّ بينهما بالسَّوِيَّةِ"، وهو المحْكِيُّ عن القفَّالِ. قال الغَزَالِيُّ: أَمَّا إِذَا ذُفّفَ أَحَدُهُمَا وَأَزْمَنَ الآخَرُ وَلَمْ يُدْرَ السَّابِقُ فَهُوَ حَرَامٌ، لاِحْتِمَالِ كَوْنِ التَّذْفِيفِ قَاتِلاً بَعْدَ الإِزْمَانِ* وَقِيلَ: هُوَ كَمَسألة الإِنْمَاءِ. قال الرَّافِعِيُّ: رُبَّما نجد في النسخ "الحالةَ الثالِثَةَ: إذا ذُفّفَ"، وكذا بعد هذا الفصْل "والحالةُ الرابعَةُ لو ترتب الجُرْحَانِ" اتباعاً لما في "الوَسِيط"، فإن أُثْبِتَ اللفظانِ فذاك، وهو مُوَافِقٌ؛ لقوله في أول الفصْلِ الثاني وله أحوالٌ، وإلاَّ فليبدل الأحوال بالحالَتَيْن، وإحْدَى الحالَتَيْن الترتيبُ، والأُخْرَى المعِيَّة، والصُّوَرُ لا تَخْرُجُ عنهما. وأما الفِقْهُ، فإذا ترتب الجرحانِ، وأَحَدُهما مُزْمِنٌ، لو انفرد، والآخرُ مُذَفّفٌ وارِدٌ على المَذْبَح، ولم يُعْرَفِ السابقُ مِنْهُمَا، فالصيدُ حَلاَلٌ، فلوِ اخْتَلَفَا فقال كُلُّ واحدٍ: أنا جرحتُ أَوَّلَاً وأَزْمَنْتُ، فالصيدُ لِي، فلِكُلِّ واحدٍ منهما تحليفُ الآخرِ، وإنْ حلفَا فالصيدُ بينهما, ولا شَيْءَ لأحدِهمَا على الآخرِ. وإن حلفَ أَحدُهما دُونَ الآخَرِ، فالصيدُ للحالفِ، وعلى النَّاكِلِ أرشُ ما نقص بالذبح. ولو تَرَتَّبَا وأحدُهما مُزْمِنٌ لو انفرد، والآخر مذفِّفٌ في غير المذبح، ولم يُعْرَفِ السابقُ منهما ففيه طَرِيقَانِ: أَظْهرُهما: وهو الذي أورده في "التهذيب" أن الصيدَ حرامٌ [لأنه يحتمل أن يكون الإزمانُ سَابِقًا والتَّذْفِيفُ حَاصِلٌ] (¬4) بعده، وإذا حصل الإزمَانُ، فلا بُدَّ من قَطْعِ الحُلْقُومِ، والمَرِيءِ. والثَّانِي: أَنَّ فيه قَوْلَيْن كالقولَيْنِ في مَسْأَلةِ الإِنْمَاءِ: وهي أن يَغِيبَ الصيدُ عنه بعدَمَا جرحه، ثم يجِدُه مَيْتًا، وقد ذكرنا من قبل. ¬
ووجه الشبه: احتمالُ قيامِ الحالَةِ المُحِلّة، والحالةِ المُحرّمةِ في الصورتَيْن. ومَنْ قال بالأولِ، قال: هناك وقد وُجِد جَرحٌ يُحالُ عليه الموتُ وهو مَعْهودٌ في القِصَصِ وغيرِه، وهاهنا بخلافِه. ولو اختلفا فقال كُلُّ واحدٍ منهما للآخر: أَنَا أَزْمَنْتُه أَوّلاً، وأَنْتَ أَفْسَدْتُه بجراحَتِك، فعليك قِيمةُ الصيْدِ، فلكل واحدٍ منهما تحلِيفُ الآخرِ، فإن حلف أَحدُهما دُونَ الآخر ثبت على النَاكِلِ قيمته مُزْمناً. ولو قال الذي جَرَحَهُ أَوَّلاً أنا أَزْمَنْتُه بجراحتي، ثم أفسدتَهُ بقتلِك فعليك القيمةُ. وقال الثَّانِي: لم تُزْمِنْه أنت، بل كان على امْتِنَاعِه إلى أَنْ رَمَيْتُ فأزمنْتُه، أو دَفَّفْتُ، فإنِ اتَّفَقَا على عينِ جراحةِ الأولِ، وعلمنا أنه لا يَبْقَى الامتناعُ معها، كَكَسْر جَنَاحُ الطائِرِ، وقَطْع الرجْل ممن يمتنع عدْوه، فالقولُ قولُ الأَوَّلِ بلا يمِينٍ، وإلاَّ فالقولُ قولُ الثَّانِي؛ لأن الأَصْلَ بقاءَ الامتناعِ، فإنْ حلف فالصيدُ له، ولا شيءَ على الأوَّلِ؛ لأنه كان مُبَاحًا حِينَ جَرَحَهُ، فإن نكل حلف الأول، واستحقَّ قيمته مَجْرُوحًا بالجراحة الأُولَى، ولا يحِلُّ الصيد؛ للأول لأنه مَيْتَةٌ بقوله: وهل للثاني أَكْلُه؟ فيه وجهان: قال القاضي الطَّبَرِيُّ: لاَ؛ لأن إلزامَ القِيمة عليه حُكْمٌ بأنه مَيْتَةٌ. وقيل: نَعَمْ. لأن النُّكُولَ في خُصُومَةِ الآدمي لا يغيِّرُ الحكْمِ في الباطن بينه وبين الله تعالى. ولو علمنا أَنَّ الجراحةَ المذفَّفة سابقةٌ على الأُخْرى التي لو انفردَتْ لكانت مُزْمِنةً، فالصيدُ حلاَلٌ، فإن قال كلُّ واحدٍ منهما: أنا ذَفَّفْتُه، فلكُلِّ واحدٍ منهما تحلِيفُ الآخر، فإِنْ حلفَا فهو بينهما، وإن حلف أَحدُهما فالصيدُ له، وعلى الآخِر ضمانُ ما نَقَص، إِنْ حدث نقصٌ. واعلَمْ أنَّ الشافِعِيُّ -رضي الله عنه- قال في المُخْتَصر: ولو رماه الأولُ، ورماه الثاني، ولم نَدْرِ أبلغَ به الأولُ أنْ يكون مُمْتَنِعًا أو غيرَ مُمْتنعٍ، جعلناه بينهما نِصْفَيْن، وَاعْتُرِض عليه: بأن هذا الصيدَ ينبغي أن يُحَرَّمَ؛ لأنه اجتمِع فيه ما يقتضي الإباحةَ، وما يقتضي التحريمَ فلْيغَلَّبِ التَّحْرِيمُ، وبتقدير أَنْ يكونَ حَلاَلاً، فلا يَنْبَغِي أَنْ يكونَ بينهما، لأنه إنْ أثبته [الأوَّلُ فهو للأول وإن أثبته] (¬1) الثانِي، فهو لِلثَّانِي، واختلف في الجَواب، فقِيل: النصُّ محمولٌ على ما إذا أصاب المَذْبحِ، فيحلّ سواءٌ أصاب الأولُ أو الثَّاني، أو على ما إذا رمياه ولم يَمْتِ الصيدُ، ثم أدركه أحدُهما وذَكَّاهُ، ثم اختلفا فِيه، وإنما يكونُ بينهما؛ لأنه في أَيْدِيهما، وقد يُجْعلُ الشيءُ بينَ اثْنيْنِ، وإن كُنَّا نعلم في الباطِن أنه إِمَّا ¬
لهذا أو لذاك كما إذا مات عن ابْنَيْنِ مُسْلِمٌ ونَصْرَانِيٌّ، وادَّعَى كلُّ واحدٍ منهما أنه مات على دِينهِ، وأخذ أبُو إسْحَاقَ بظاهِرِ النّصِّ، وقال: إذا رَمَياهُ وماتَ الصيدُ، ولم يُدْرَ: هل أَثْبَتهُ الأَوَّلُ بسهْمِه؟ يَجعلُ بينهم لأن الأَصْلَ أنه لم يُثْبته، ويبقى علَى امْتِنَاعه إلى أن [عقره] (¬1) الثاني، فيكُونُ عقرُه ذكاةً له، ويكون بينهما لاِحْتمالِ الإثباتِ من الأولِ، ومن الثاني ولا مَزِيَّةَ لأحدِهما على الآخر (¬2). وقِيل: في حلِّه قَوْلاَنِ، كما في مسألة الإِنماء. قال الغَزَالِيُّ: (الحَالَةُ الرَّابِعَة) وَلَوْ تَرَتَّبَ الجُرْحَانِ وَحَصَلَ الإزْمَانُ بِمَجْمُوعِهِمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا* وَقِيلَ: إِنَّهُ لِلثَّانِي* فَعَلَى هَذَا لَوْ عَادَ الأَوَّل وَجَرَحَهُ ثَانِياً فَجِرَاحَتُهُ الأَولَى هَدَرٌ وَهَذَا مَضْمُونٌ* فَإنْ مَاتَ بِالجِرَاحَاتِ الثَّلاَثِ وَجَبَ عَلَيْهِ قيمَةُ الصَّيْد وَبِهِ جِرَاحَةُ الهَدَرِ وجراحة المَالِكِ* وَقِيلَ: علَيْهِ ثلُثُ القِيمَةِ* وَقِيلَ رُبُعُ القِيمَةِ. قال الرَّافِعِي: إذا ترتب الجُرْحَانِ، وحصل الإزمانُ بمجموعهما فكلَ واحدٍ منهما بحيث لو انفرد لم يُزْمِنْ، فلمن يكون الصيدُ؟ فيه وجهان: أَحدُهما: أنه يكونُ بينهما؛ لأن سبَبَ المِلْكِ حصل بفعْلِهمَا. وقد يُسَمَّى هذا قولاً مخرجًا. والثاني: أنه للثاني؛ لأن الإزمانَ حصل عَقِيب فِعْله، ولإصابةُ حصلت، والمُرْمَى إليه صيدٌ مباحٌ [فيبطل] (¬3) أثر الجراحةِ الأُولَى، ويصير صاحِبُها كالمُعِين للثاني، والإعانةُ لا تقتضي الشِرْكَةَ، ولذلك لو أَرسلَ كَلْبًا إلى صيدٍ، فصرف إنسانٌ الصيدَ إلى الكلْبِ، أو ضَيَّقَ عليه الطرِيقَ، حتى أَدْركه الكلبُ، يكون الصيدُ للمُرْسِلِ، ومال الإِمامُ إلى الوجْهِ الأول، ونظمُ الكتابِ يُشْعر بترجيحه أيضاً، لكنَّ المذهبَ الظاهِرَ على ما ذكره الجمهورُ هو الثَّانِي. وفيما عُلِّقَ عن أَبِي بَكْر الطُّوسِي بناءُ الوجْهين على الخلاف المذكور، فيما إذا كانت عنده صَغِيرتَانِ، فارضعت امرأةٌ إِحْدَاهُما، ثم الأُخْرى، يندفعُ نِكَاحُها جَمِيعًا إذا أرضعت الثانيةَ، أو لا يندفِعُ نكاح الثانيةِ؛ إِنِ انْدفع نِكَاحُها، فالصيدُ بينهما، وإلاَّ فهو للثاني، وإذا قُلْنَا: إنه للثاني أو كان الجرحُ الثاني مزْمناً لو انفرد، ولم يكن للثاني أَثَرٌ ¬
فِيه، فلا شَيْءَ على الأول بجُرحِه، فلو عاد بعد إِزْمانِ الثاني وجرحَهُ جرَاحَةً أخْرَى، نُظِرَ؛ إِنْ أَصَابَ المذْبَحِ فهو حلالٌ، وعليه للثاني مَا انْتَقَص من قِيمتَه بالذَّبْح، وإلاَّ حَرُمَ الصيدُ، وعليه إنْ ذَفّفَ قيمته مَجْروحًا بجراحته الأُولَى، وبجراحة الثَّانِي، وكذا إِنْ لم يذفِّفْ، ولم يتمكن الأَولُ مِنْ ذَبْحه، وإنْ لم يُمَكَّن وتركَ الذَّبْحَ -عاد الخِلاَفُ السابق. فعلى أحدِ الوجْهين: ليس على الأَوَّلِ إلاَّ أَرْشُ الجراحةِ الثانية لتقْصِيرِ المالِكِ. وعلى أَصَحِّهما: لا يَقْتَضِي الضمانَ عليه. وعلى هذا فعن "صَاحِب الإِفْصَاحِ" وجهٌ؛ أن عليه نِصْفَ القِيمَةِ، وخرّج المخرِّجُونَ الصُّورَ على الخِلاَفِ المذكَورَ فِيمَا إذا جَرَحَ عَبْدًا مُرتَدًّا، فأسلمَ فجرحه سيِّدُه، ثم عاد الأول وجرحه جراحة أُخْرَى، ومات مِنْهما، وفيما يلزم وجهان: أحدُهما: ثُلُثُ الدِّيَة؛ [لأن الموتَ حَصَلَ بثلاثِ جنَايَاتِ إِحْدَاها مَضْمُونةٌ، وعلى هذا فهاهنا يجب ثُلُث الْقِيمة] (¬1). والثَّانِي: وبه قال القَفَّالُ رُبْعُ الدِّيَةِ؛ لأن الأَرْشَ عند تعدد الجَانِي يوزع على عَدَدِ الرؤوسِ بالحصص ثم ما يخصُّ الواحِدَ يُوزع على حالتِي الضمَانِ والإِهْدَارِ، فعلى هذا يجبُ هاهنا رُبْعُ القِيمَةِ، وعن "صَاحِب التقريبِ": أنه تعودُ في التوزِيع الطرق المذكورَةُ في المسألة [الطويلة الذَّيْلِ] (¬2) ونَظْمُ الكتاب يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الوجْهِ الذاهِب إلى وُجُوبِ تمام القِيمَةِ، والظَّاهِرُ التوزيعُ كما مرَّ، وهذه صورةٌ تدخل في البابِ نُورِدُهاَ مَنْثُورةً. الاعتبارُ في التَّرْتيبِ والمعِيَّةِ بالإصابةِ لا بِابْتِدَاءِ الرَّمْيِ. الأولى وقع بَعِيرَانِ في بِئْرٍ احدُهما فَوْقَ الآخِر، فطُعِنَ [الأَعْلَى] (¬3) ومات الأَسْفَلُ بِثقَلِه فهو حرامٌ، وإن نَفَذَتِ الطَعنةُ فأصابَتْهُ أيضاً -حَلّ، وإن شَكّ في أنّه مات بالثِّقَلِ أو بالطَّعْنَةِ النافِذَةِ، وقد علم أنها أصابَتْه قبل مُفَارَقَةِ الرَّوحِ -حَلَّ؛ كالصيدِ يُصِيبه السهمُ في الهواءِ ثم يَقَعُ على الأَرْضِ، وإن شك في أنها أصابَتْهُ بعد مُفَارَقة الرُّوحِ أو قبلها: قال "صَاحِبُ التهذِيب" في "الفَتَاوَى": يحتمل وَجْهيْن بناء على أن العبْدَ الغائِبَ المنقطع خبره: هل يجوزُ إعَتاقُه عن الكفَّارة؟ الثانية رمى إلى غيْرِ مَقْدُورٍ عليه، فصار مَقدُورًا عليه، ثم أصاب غيرَ المذْبَحِ لم يحلَّ المَرْمِيُّ، ولو رَمَى إلى مَقْدُورٍ عليه، فصار غيرَ مَقْدُورٍ عليه، فأصاب مَذْبَحُه يَحِلّ. الثالثة ولو أرسل سَهْمَيْن، فأصابَا مَعًا حلَّ، وإن أصاب أَحدُهما بعد الآخَرِ، فإن ¬
أَزْمَنَه الأولُ، ولم يصب الثاني المذْبَح لم يحلَّ، وإن أصابه -حَلَّ، وإن لم يُزْمِنه الأول وقتله الثاني-حَلّ. وكذا لو أرسل كلْبَيْنِ فأزمنه الأولُ، وقتله الثاني لم يَحِلَّ، قطعَ المذْبَح أو لم يقطع، وكذا لو أَرْسَلَ سَهْمًا وكَلْباً، إنْ أَزْمَنه السهمُ، ثم أصابه الكَلْبُ لم يحِلّ، وإنْ أَزْمنه الكلبُ ثم أصاب السهمُ المذبحَ -حلّ. الرابعةُ صَيْدٌ دخل في دَارِ إنسانٍ وقلنا: "الصحيحُ أنه لا يملِكُه، فاغلق أَجْنبيٌّ البابَ لا يملكه صاحِبُ الدارِ ولا الأَجْنبِيُّ. أما صاحبُ الدارِ، فلأنه لم يَقْصِدْ، والأجنبيُّ مُتَعدٍّ لم يحصل الصيد في مِلْكه، بخلاف ما إذا غَصَبَ شبكةً واصْطادَ بها. الخامسة لو أخذ الكلْبُ المُعَلَّمُ صَيْدًا بغيرِ إرْسالٍ ثم أخذه غيرُه مِنْ فَمِه، ملكه الآخِذُ على الصَّحِيح، كما لو أخذَ فَرْخَ الطائِر من شجرته، وغيرُ المعلَّمِ إذا أرسله صاحبُه فأخذ صَيْدًا، فأخذه غيرُه مِنْ فِيهِ وهو حَيٌّ -وجب أنْ يكُونَ للمرْسِلِ، ويُجْعلُ إرسالُه كنصْبِ شبكةٍ تعقَّل الصيدُ بها، ويحتمل خلافه؛ لأن للكلْب اختيارًا. السادسة إذا تعقَّل الصيدُ بالشبكةِ، ثم قلع الشبكةَ [وذهب بها،] (¬1) فأخذه إنسانٌ نُظِرَ؛ إنْ كان يَعْدُو ويمتنعُ مع الشبكة -ملكَهُ الآخِذُ، وإن كان ثقلُ الشبكةِ يُبْطل امتناعَه، بحيث يتيسر أخذه فهو لصاحِبِ الشبكةِ لا يملكُه غيرُه. السابعة ذكر القاضي ابنُ كجٍّ: فيما إذا أرسل كلْبَه، فحبس صَيْدًا، فلما انتهى إليه أفلتَ الصَّيْدُ -وَجْهَيْنِ، في أَنَّهُ هل يملكه من أخذه أو هو مِلْكُ الأول بالحبْسِ (¬2)؟ الثامنة وأنه إذا أقام بَيِّنَةً على أنه اصطاد الصيدَ، وأقام الآخر بينةً على أنه اصطادَهُ، ففيه الخِلافُ المشهور في تَعَارُضِ البَيِّنتيْنِ. التاسعة وأنه لو كان في يَدِ رجُلٍ صيدٌ، فقال الآخر: أنا اصْطَدْتُ هذا الصيدَ، فقال صاحِبُ اليَدِ: لا عِلْم لي بذلك -لم يقنع منه بهذا الجوابِ، بل إِمَّا أنْ يَدَّعِيه لِنَفْسِه، أو يسلمه إلى مدعيه (¬3) والله أعلم. ¬
(كتاب الضحايا)
(كِتَابُ الضَّحَايَا) قال الغَزَالِيُّ: وَالضَّحِيَّةُ سُنَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ إِلاَّ إِذَا نَذَرَ أَوْ قَال: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ ضَحِيَّةً* وَمُجَرَّدُ الشِّرَاءِ بِنِيَّةِ الضَّحِيَّةِ لاَ يَلْزَمُ* وَالنَّظَرُ فِي أَحْكَامِهَا وَأَرْكَانِهَا (الأَوَّلُ فِي الأَرْكَانِ) وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: (الرُّكْنُ الأَوَّلُ: الذَّبِيحُ) وَهُوَ النَّعَمُ فَقَطْ* وَلاَ يُجْزِئُ مِنَ الضَّأَنْ إِلاَّ الَّتِي فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ* وَمِنَ المَعْزِ إِلاَّ الَّتِي فِي الثَّالِثَةِ* وَكَذَا مِنَ البَقَرِ وَمِنَ الإِبِلِ إِلاَّ فِي السَّادِسَةِ* وَيُجْزِئُ الذَّكَرُ وَالأُنْثَى. قال الرَّافِعِيُّ: الضحايا جمع ضَحِيَّةً كهَدِيَّة وهَدَايَا، وهي التي يُضَحَّى بها من النَّعَمِ ويقال لها: أضْحِيَةٌ، والجمعُ أَضَاحِي، وأَضَاحٍ، وأَضْحاةٌ أيضًا والجمعُ أضحى بالتنوِين كأرطأة أرطى وبها (¬1) سُمِّيَ يومَ الأَضْحَى وذكر أن جميع ذلك مأخوذٌ من وَقْتِ التَّضْحِيَةِ، وهو ضَحْوةُ النهار. والتَّضْحِيةُ: سُنَّةٌ مُؤَكَّدةٌ، وشعارٌ لا ينبغي لمن قَدَرَ عليها أن يتركها؛ قال الله تعالى؛ {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] قِيل أَيْ: صَلِّ صلاةَ الْعِيد، وانْحَرْ نُسُكَك. وعن أنسٍ -رضي الله عنه- أَنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "كان يُضَحِي بكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أمْلَحَيْنِ" (¬2). والأَقرنُ: ذُو القَرْنِ، والأَمْلَحُ: الذي فيه سوادٌ وبياضٌ، وبياضُه أغلبُ. وقِيل: الذي يخالط بياضَه (¬3) عُقْرةٌ. وقيل: الأَبْيَضُ النَّقِيُّ البياضِ، وسببُ اختيارِ الأَمْلح، قِيلَ: إنه حَسَنٌ منظرُه. وقيل كثرة (¬4) شَحْمه وطِيبَةِ لحِمْه. ¬
وعن عائشةَ -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ يَطَأُ فِي سَوَادٍ وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ [ويَبْرُكُ] (¬1) في سَوَادٍ، فَأُتِيَ بِهِ فَضَحَّى (¬2)، وذُكِرَ له تَفْسِيران. أَحدُهما: أن المرادَ سوادُ أَظْلافِه، ومَوْضِعُ برُوُكِه، وما خالط بِعَيْنَيْه. وقِيلَ: هو إشارةٌ إلى كَثْرَةِ ظِلِّه لسُمْنَهِ وضَخَامَةِ حُثَّتِه وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "عَظِّمُوا ضَحَايَاكُمْ فَإِنَّهَا عَلَى الصِّرَاطِ مَطَايَاكُمْ" (¬3). وعند أَبِي حَنِيْفَةَ: يجبُ التضيحةُ على كُلِّ مقيم في البلد مُوسِرٍ والمُوسِرُ هو الذي يملك نِصَابًا زَكَاتيّاً، ولا يجب على المسافِرينَ وأهل القُرَى والفُقَراءِ. وذهب مَالِكٌ -أيضاً- إلى وُجُوبِهَا , ولم يشترط الإقامةَ. واحتج الأصحابُ لنفي الوجُوب بما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثَلاَثٌ هِيَ عَليَّ فَرَائِضُ وَلَكُمْ تَطَوُّعٌ: النَّحْرُ والوتْرُ وركعتا الضُّحَى" (¬4). ويُرْوَى: "ثَلاَثٌ كُتِبتْ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ الضُّحَى والأَضْحَى والوِتْرِ" (¬5). وبما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا دَخَل [العَشْرُ] (¬6) وأَرَادَ أَحَدُكُمْ إنْ يضَحِّيَ فلا يَمَسَّنَ مِنْ شَعْرِهِ وبَشْرَتِهِ شَيْئاً" علق التضحية بالإِرَادَةِ. وعن أَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ -رضي الله عنهما- "أنَّهما كانا لا يُضَحِّيَانِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَى ذلك وَاجِبًا" (¬7)، وأيضاً فإراقَةُ دَمٍ لا تجب على المسافِرِ، فلا تجب على المُقِيمِ كالعَقِيقَةِ. ¬
قولُه في الكتاب: "غيرُ واجِبَةٍ" مُعْلَمٌ بالحاءِ والميم لمذهبهما, ولا ضرورةَ إلى الجمْعِ بين اللَّفْظيْنِ، وهما قوله: "سُنَّةٌ غيرُ واجبة" وإن كان قد يُسْتحسن مثلُه؛ للتأكيدِ والإِيضَاحِ. قولُه: "إِلاَّ إذا نَذَرَ" المقصودُ منه: أنه إذا التزم التضحيةَ بالنذْرِ، يلزم كما في سَائِرِ القُرُبَاتِ المنذورةِ. ولو كانَ في مِلْكه بَدَنَةٌ أو شاةٌ فقال: جعلتُ هذه أُضْحِيةً -صارتْ ضحية ولزم ما التزم، وسيأتي الكلامُ في هذه الصورة، وما يتعلق بها في الباب. ولوِ اشْتَرى بَدَنَةً أو شَاةً تَصلحُ للِضَّحِيَّةِ (¬1) بنية التَّضْحِيَةِ أو الهدْي لم تصر لمجرد ذلك ضحية ولا هديًا خِلاَفًا لأبي حنيفةَ ومالكٍ. واحتج الأصحابُ بأن إزالَة المِلْكِ على سَبيل القُرْبةِ لا يَحْصُل بالنيَّةِ المقارنَةِ للشراءِ، كما لو اشترى بنيَّة الوقْفِ، أو اشترى العبْدَ بنيَّةِ العِتْقِ. وفي "تَتِمَّةِ التتمَّة" حكاية وجه عن الأَصْحَاب كمذهبهما، وغالبُ الظن أنه صدر عن غفلةٍ وموضع ذلك الوجهُ النيةُ في دَوَامِ المِلْكِ على ما سيأتي إن شاء اللهُ تعالى. وفي "البَحْر" للقاضي الرُّوَيانِي: أنه لو قال: إن اشتريتُ شاةً، فلله عليَّ أنْ أَجْعَلَها أُضْحِيَةً، فهذا نَذْرٌ مضْمُونٌ في الذِّمة، فإذا اشترى شاةً فعليه أَنْ يجعلَها أُضْحيةً، ولا تفسير بالشراء ضَحِيَّةٌ، وأنه لو عين وقال: إِنِ اشْتريتُ هذه الشاةَ فعليَّ أَنْ أجعلَها ضحيةً فوجهان (¬2): أَحدُهما: أَنَّه لا يلزمه [جعلُها] (¬3) ضحيةً تَغْلِيبًا لحكم التعيين، وقد أوجبها قبل المِلْكِ. والثَّانِي: يَلزم؛ تَغْليبًا لحكم النذْرِ، وأنَّه يتعلَّقُ بالذِّمَّةِ، جمع صاحبُ الكتاب مسائِلَ البابِ في نظرين. أَحدُهما: في أَرْكانِ التَّضْحِيَةِ. والثَّانِي: في الأَحْكَامِ على تَرْتِيبه المعْهُودِ. وأمَّا الأَرْكَانُ، فلا شَكَّ أن التضحيةَ ذبحٌ خاصٌ، فلا بد من الكلام فيما يُذْبَحُ، والوقْتُ الذي يُذْبح فِيه، وكيفِية الذَّبْح، وهذه هي التي سمَّاها أَرْكَانًا، ثمَّ منها ما يعمُّ كلَّ ذبح، ومنها ما يختصُّ بهذا الذبح، ومنه قصدُ القُرْبةِ، وهو مدرج في خلال المسائل. ¬
الأولُ: ما يُذْبَح، وتختصُّ التضحية بالأَنْعَامِ إجْماعًا، وقد قال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]. والأنعامُ: هي الإبِلُ والبَقَرُ والغَنَمُ، ولم يُؤْثَرْ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أصحابه -رضي الله عنهم- التضحيةُ بغيرِها. ووجهٌ أيضاً: أن التضحيَة [عبادةٌ] (¬1) تتعلَّقُ بالحيوانِ، فتختصُّ بهذه الأنواعِ، كالزَّكَاةِ، ويُجزِئ فيها الذكرُ والأُنْثَى بالاتفاقِ، وبالقياسِ على العَقِيقَةِ. وقد نُقل في خبر العَقِيقَةِ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَضُرُّكُمْ ذُكْرَاناً أَو وإِنَاثاً (¬2) " يعني الشِّيَاهَ. وأمَّا السِّنُّ: فلا يُجْزِئُ من الضَّأْنِ إِلاَّ الْجَذَعُ والجَذَعَةُ ومن الإبل والبقرِ إِلاَّ الثنيُّ والثنيّة؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ضحوا بالجذَعِ من الضأن (¬3)، وأنه -صلى الله عليه وسلم- قال: نَعْمَ الضَحِيَّةُ الجَذَعَةُ مِنَ الضَّأَنِ" (¬4). وعن البَراءِ بْنِ عَازِبٍ -رضي الله عنه- قال: خطبنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يوم النَّحْرِ بعد الصلاةِ فقال: مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا، ونَسَكَ نُسُكَنَا؛ فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلاَةِ، فَتِلْكَ شاةُ لَحْمٍ فقام أبُو بُرْدَةَ بنِ نِيَارِ -رضي الله عنه-. فقال: يا رسولَ اللهِ لَقَدْ نَسَكْتُ قَبْلَ أَنْ أخْرُجَ إلى الصَّلاةِ فقال: تلك شاةُ لَحْمٍ، فقال: فإن عندي عنَاقاً جذعةً، هي خيرٌ من شَاتَيْ لَحْمٍ، فهل تجزِئُ عَنِّي؟ قال نَعَمْ، ولَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ (¬5). والمعنى فيه أَنَّ الثنَايَا (¬6) من الإِبلِ والبَقَرِ والغَنَمِ تَتَهيَّأ للحَمْلِ والنَّزَوانِ والجذاع من ¬
الضَّحَايَا لا يتهيَّأُ لذلك، فانتهاؤها إلى هذا الحد كالبلوغِ في حق الآدَمِيّ، وحالها قبل ذلك حال الصغير من الإنسانِ. وفي "الرقم" لِلْعَبَّادي حكايةُ وجْهٍ مخرَّج في أن الجذَعَةَ من المعزِ تجزئ؛ لما رُوِيَ عن عَقْبَة بْنِ عَامِرٍ -رضي الله عنه- قال: قَسَّمَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ضَحَايَا فأعْطَانِي عَنَاقًا جذعًا فقلتُ: عَنَاقٌ، فقال: ضَحِّ (¬1) به، والمشهورُ الأول، وقد قدَّمنا في الزكاةِ أَنَّ في تَفْسِير الجذَعِ والجذَعَةِ من الغنم اختلافاً، في الظاهر وهو المذكورُ في الكتابِ أنه يُعتبرُ استكمالُ سنة والدخولُ في الثانية. نَعَمْ. ذكر أَبُو الحَسَنِ العَبَّادِيّ: أنَّه لو أجذع قبل تمام السنة كان مُجْزِئًا كما لو تمَّت السنةُ قبل أن يجذعَ، ونُزِّلَ ذلك مَنزِلةَ البُلوغَ بالسِّنِّ أوْ الاِحْتِلام إن استوفى السِّنَّ، ولم يحتلم كان بلوغًا [وإن احتَلم قبل استيفاءِ السنِّ كان بلوغاً] (¬2) وهذا ما أورده "صاحبُ التهذيب". فقال: الجذَعَةُ: هي التي استكملَتْ سَنَةٌ، وطَعَنَتْ في الثانية أو أَجْذَعَتْ سِنَّها من قَبْلُ -أي: أَسْقَطَتْ. وقِيل: الجَذَعُ: ما أَتَى عليه ثمانيةُ أشْهُرٍ، وهذا ما اختاره الرُّوَيانِي في "الحِلْيَةِ". وقِيلَ: ما استكملَتْ سِتَّةَ أَشْهُر ودخلت في السَّابع، وهذا ما أورده أَبُو إسحاق الشيرازي. والثَّنِيَّ من الإبِل: ما استكمل خَمْسَ سنِين ودخل في السادسة. وعن رواية حَرْمَلَةَ عن الشافَعِيْ -رضي الله عنه-: أنَّه الذي استكمل سِتًّا ودخل في السابعة. قال الرّويَانِيّ في "البَحْر": وليس ذلك قولاً آخر، وإنْ توهَمَّه بعضُ أَصْحابنا، ولكنه إخبارٌ عن نهاية سِنِّ الشيء، وما ذكره الجمهورُ بيانُ ابتداءِ سِنّهُ. والثَّنِيُّ من البقر: مَا استكملَ سَنَتَيْنِ ودخل في الثالثة. ويُقال: البقرُ في هذا السِّنِّ مُسِنٌ ومُسِنَّةٌ أيضاً. وعن رواية حَرْمَلَةَ: ما استكمل ثَلاثًا ودخل في الرابعة. وفي الثَّنِيّ من المعْزِ خِلاَفٌ مذكورٌ في الزكاة، والظاهِرُ: أنَّه كالثني من البقر، وهو الذي أورده في الكتاب، وقِيلَ: ما استكمل سنةً ودخل في الثانية. ويجوزُ أن يُعْلَمَ -لما ذكرنا- قولُه في الكتاب: "إِلاَّ التي في السَّنَةِ الثَّانِيَةِ" بالوَاوِ لوجه من اكتفى باستِيفَاءِ ثمانية أَشْهُر، وكذا قوله: "إِلاَّ التي في السنة الثانِيَةِ للوجه المكتفي باستيفاءِ السَّنَةِ". وأيضاً: فللتخريج في تَجْوِيز الجَذَعِ من المعْزِ، ولا يبعد أنْ ¬
يُعْلَمَ قولُه: "إِلاَّ في السَّادِسَةِ" أيضاً لتوهُّمِ مَنْ تَوَهَّم فيه قولاً آخر. قال الغَزَالِيُّ: وَجُمْلَة مِنَ الصِّفَاتِ تَمْنَعُ الإِجْزَاءَ فَلاَ تُجْزِئُ المَرِيضَةُ البَيِّنُ مَرَضُهَا* وَفِي مَعْنَاهَا الجَرْبَاءُ الكَثِيرَةُ الجَرَبِ دُونَ الجَرَبِ اليَسِيرِ* وَلاَ العَرْجَاء الَّتِي يَمْتَنِعُ كَثْرَةُ تَرَدُّدهَا فِي المَرْعَى إلاَّ أنْ تَعْرَجَ وَقَدْ أَضْجَعَتْ لِلتَّضْحِيَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ* وَلاَ العَوْرَاءُ وَإِنْ كَانَتِ الحَدَقَةُ بَاقِيَةً* وَلاَ العَجْفَاءُ الَّتِي لاَ نَقِيَّ لَهَا* وَلاَ المَجْنُونَةُ الَّتي تَسْتَدِيرُ في المَرْعَى وَلاَ تَرْعَى* وَلاَ المَقْطُوعُ مُعْظَمُ أُذُنِهَا أَوْ قَدْرُ مَا يَظْهَرُ مِنَ البُعْدِ* وَلاَ الَّتِي أَخَذَ الذِّئْبُ مِقْدَارًا بَيِّنًا مِنْ فَخِذِهَا* أَمَّا المَقْطُوعَةُ قَدْرًا يَسِيراً مِنْ أُذُنِهَا أَوِ المخْرُوقَةُ الأذُنِ أَوِ المَشْقِوقَةُ أَوِ المَقْطُوعُ جَمِيعُ ضَرْعِهَا أَوِ الَّتِي اقْتَلَعَ الذِّئْبُ أَلْيَتَهَا فَفِي الكُلِّ وَجْهَانِ* وَيُجْزِئُ المَنْزُوعُ الخَصِيَّةِ* وَالْمُنْكسِرُ القَرْنِ* وَالَّتِي لاَ قَرْنَ لَهَا* وَالَّتِي تَنَاثَرَ جَمِيعُ أَسْنَانِهَا* وَالفَحْلُ وَإِنْ كَثُرَ نَزْوَاتُهُ* وَالأُنْثَى وَإِنْ كَثُرَتْ وِلاَدَتُهَا. قال الرَّافِعِيُّ: لمَّا تكلم في الأَجْنَاسِ التي تصلح للتضحية، وفي أَسْنانها المعتبرة، أراد أن يتكلَّمَ فيما يُعْتَبرُ فيها من صفاتِ الكمال والنقصانِ. المانِعُ من الإِجْزَاءِ نَوْعان: نقصان صِفَاتٍ، ونقصانُ أَجْزَاء. أمَّا الأول: فعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عما إذا يُنقى من الضحايا فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "العرجاءُ البين ظلعها، ويروى عرجها، والعوراء البِّين عورها، والمريضةُ البيِّن مرضها والعجفاءُ التي لا تنقى (¬1) ". قوله: "لا تنقى" أي: ليس في عظامها مخ. وقيل: لا يوجد فيها شحمُ. يقال: أنقيت الإبل وغيرها، إذا سمنت وصار فيها نقي: وهو المخ وهذه ناقة ¬
منقيةُ وهذه لا تنقى. ولنشرحْ كل واحدة من هذه الصفاتِ على الترتيبِ المسبُوقِ في الكتاب. فمنها المريضةُ البيِّنُ مرضُها، وفي هذا [التقيِيدِ] (¬1) ما يُفْهِم أَنَّ المرض اليَسِيرَ لا يمنع الإجزاءَ؛ لأنَّهُ لا يُؤَثِّرُ في اللحم، فأمَّا إذا بان وقوي وظهر بسَبَبِه الهزالُ فيفسدُ اللحم ويصيرُ مُضرًا، وهذا ظاهِرُ المذهب. وفي "الكَافِي" وغيره وجهٌ: أنَّ المرضَ يمنعُ الإجزاءَ وإن كان يَسِيراً. وعن "صَاحِب الحَاوِي" حكاية قولاً عن "القَدِيم" وفي "الهُيام" حكاية وجه؛ أنَّ قَلِيلَه وكثيرَهُ يمنع الإجزاءَ. "والهُيامُ" من أَمْراضِ الماشيةِ، وهو أنْ يشتد عَطَشُها، فلا تُرْوَى من الماءِ. ويجوز أن يُعْلَم لهذا قولُه: "البيِّن مرضُها" بالواوِ بل يجوز إعلامُ المريضة أيضاً؛ لأنَّ في كتاب القاضِي ابْنِ كجٍّ نقلُ قول: أنَّ المنع يختصُّ بالجَرَب، وأَمَّا سائِرُ الأَمْرَاضِ فإنَها لا تمنع الإجزاءُ وقوله: "في معناها الجَرْباءُ" يَقْتَضِي أن تكون الجرباءُ غيرَ المريضة، لكنَّ الجَرَبَ نوعٌ من المرضِ، بل فسَّرَ كثيرُ من الأصحاب المريضة في الحديث بالجرْبَاءِ، ثُمَّ قضية ما أَوْرده المعظم صَرِيحًا ودَلالة، ونسبُوه إلى نَصّه -رضي الله عنه- في الجَدِيدِ: أنَّ الجَرَبَ يمنعُ الإجزاءَ يَسِيراً كان أَوْ كَثِيراً؛ لأَنَّه يُفْسِدُ اللَّحْمَ والوَدَكَ، وفيه وجهٌ: أَنَّ الكثيرَ هو الذي يمنع كما في سَائِرِ الأَمْرَاضِ، وهذا ما اختاره الإِمام، وأَورده صَاحِبُ الكتاب، ولا فرق في المرضِ والجَرَبِ بين ما يُرجى زوالُه، وما لا يُرْجَى. ومنها: العَرْجَاءُ، فان اشتدَّ عَرَجُها بحيث تَسْبِقُها الماشيةُ إلى الكَلأَ الطيب، وتتخلَّفُ عن القَطِيع، فلا تُجْزئ؛ لضعْفِها وهُزَالِهَا، لعجزها عن الاِعْتلافِ، وإن كان يَسِيرًا لا يخلفها عن الماشية -لم يَمْنَع الإِجْزَاءَ، وإذا كان العَرَجُ البيِّنُ [يمنع] (¬2) مِنَ التضحيةِ فَفُقْدَانِ بَعض القوائم أو انكسار أَوْلَى بالمنْعِ، وإن كانت تزحَفُ بثلاثِ قَوَائِمَ، فإنها لا تنفرع من السعي إلى المرعى. نَعَم. لو أُضْجِعَت لِيُضَحَّى بها وهي سَلِيمةٌ فاضطربت؛ وانكسر رِجْلُها، أو عرجت تحت السِّكِّين فوجهان: أَحدُهما: أَنَّ حُدوثَ العرجِ -والحالةُ هذِه- لا يُؤَثِّرُ وأشبههما التأثير لأنها عَرْجَاءُ عند الذبح، فأشبه ما لو انكسرتِ رجلُ شاة فبادر إلى التضحية بها. ومنها العَوْراءُ فلا تُجْزِئُ إنْ لم تكن الحدَقَةُ باقيةً، ولمَ لاَ تُجزِئَ؟ قيل: لأنَّها لم تُبصِرْ أَحَدَ شِقَّيِ الْمَرْعَى فينتقص رَعْيُها، ويتأثر به لحمُها. ¬
وقِيل: لأنَّ الحدقَةَ عُضْوٌ مُسْتطابٌ، وقد فُقِدَ وعلى المعنيين يبنى ما إذاكانت الحدقَةُ باقيةً، وبطل الإبصارُ بها. فعلى الأول: لا تجزِئُ أيضاً وهو الأَظْهرُ، وبه قال ابنُ أَبِي هُرَيرةَ. وعلى الثاني: يجوزُ، وبه قال أَبُو الطيب بنُ سَلَمةَ، وإذا لم تجز العوراءُ فالعمياءُ أَوْلَى. والعَمَشُ وضَعْفُ البَصَرِ من إِحْدَى العَيْنين، وكلاهما لا يمنع الإجزاءَ، هكذا أطلق أكثرُهم. وقال الرُّوَيانِي: إذا غَطَّى النَّاظِرَ بياضٌ أَذْهَبَ بَعضَهُ دُونَ بعضٍ، فإن ذهب الأكْثرُ -لم تَجُزِ التضحيةُ بِهَا، وإن ذهب الأقلُّ- جازت، وفيه وجهٌ آخَرُ. وفي العَشْوَاءِ: وهي التي تُبْصِرُ بالنهارِ دُونَ الليل وجهان: أَصَحُّهُمَا الجوازُ؛ لأنها تُبْصِرُ في وَقْتِ الرَّعْيِ. ومنها العَجْفَاءُ التي ذهب مُخُّهَا من غاية الهُزَالِ لا تجزئُ. ويُقالُ: إن الهُزَالَ إذا اشتدَّ صار "النَّقَي قالماء" وذلك قد يكون للهرم، وقد يكون لِعلَّةٍ ومرضٍ بها، فإن كان بها بعضُ الهُزَالِ، ولكنها منقيةٌ فتجزئُ، هكذا أطلقه مُطْلِقون [ووراءه تفصِيلانِ] (¬1). أَحدُهما: عن "الحَاوِي" أنَّ الحكْمَ كذلك إِنْ كان خِلْقيًا، وإن كان لمرضٍ لم يجز؛ لأنه دَاءٌ. والثَّانِي: قال الإمامُ: كما لا يُعْتبرُ السِّمَن البالِغُ في الإجزاءِ، لا يمكِنُ أَنْ يُقالَ: العَجْفَاءُ التي لا تُجْزِئُ هي التي بلغت نهايةَ العَجَفِ وأقربُ مُعْتبر فيه أن يُقال: إذا كانت بحيْثُ لا يَرْغَبُ في تناوُلِ لحْمها الطبقةُ العاليةُ من طلبةُ اللحم في [سِنِي الرَّخاءِ] (¬2) فهي غيرُ مُجُزِئةٍ. ومنها ورود النَّهْيُ عن القوْلاَءِ وهي المَجنونة التي تَسْتَدِير في المرْعَى، فلا ترعى إِلاَّ الشيءَ القلِيلَ، وذلك يُورِثُ الهُزَالَ. وتجوز التضحية بالفَحْلِ وإن كثُر نزوَاته. وبالأُنْثى الكثيرةِ الوِلادَةِ (¬3)، وإِنْ لم يطب لحمُها أو أَضَرَّ إلاَّ إذا انتهيا إلى العَجَفِ البين، هذا قيام يتعلق بالصِّفَاتِ. وأمّا النوعُ الثَّانِي: وهو نقصانُ العَيْنِ، ففيه صُوَرٌ. ¬
فمنها رويِ عن عَلِيٍّ -رضي الله عنه- قال: "أمرنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نَسْتَشْرِفَ العَيْنَ والأُذْنَ، وألاَّ نُضَحِّي بِمُقَابَلَةٍ ولا مُدَابَرةٍ ولا خَرْقَاءِ ولا شَرْقَاءَ" (¬1). وقوله عليه السلام، نَسْتَشْرِف العينَ والأذُنَ، قِيلَ أي نتأمَّلُها وننظرُ فيهما، كَيْلاَ يقعَ فيها نقصٌ وعَيْبٌ (¬2). وقِيلَ: أنْ نُضَحِّي بواسعِ العَيْنيْنِ، طويلَ الأُذُنِ. والمقابَلَةُ: التي قُطِعت فلقةٌ مِنْ مقدَّم أُذُنِها. والمُدَابَرَةُ: التي قُطِعت الفلقةُ من مُؤَخَّرِهَا. والشَّرقاء: المشقوقةُ الأُذُنِ. والخرْقَاءُ: التي يثقبُ أذُنُها من كَيٍّ أو غيره، فلا تُجْزِئُ التي اسْتُوْعِبَ أُذُنُها جِدعاً؛ لأنه ذهب منها عُضْوٌ مأكولَ. ويُرْوَى أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أَنْ يُضحَى بالمُصْفَرة، وفسرت المصفرة بالتي اسْتُوْصِلَتْ أُذُنُهَا. وذُكِرَ أنَّه مِنْ قولِهم: "صِفُرَ المكانُ إِذَا خَلاَ". وعن مالكٍ: أنَّها تُجزِئُ. وإن قُطِعَ بعضُ أذنها، نُظِرَ؛ إنْ أبين منها شيءٌ -لم تَجُزْ التضحيةُ بها، إِنْ كان المُبانُ كثيراً بالاضافة إلى الأُذُنِ وإن كان يسيراً -فوجهان: أَظْهَرُهما: أنَّ الجوابَ كذلك [لذهاب جُزْءٍ] (¬3) مأْكُولٍ. والثَّانِي: أنَّه لا يَمْنَعُ الإِجْزَاءَ -وبه قال القاضي الرُّوَيانِي، حين قال في "الحِلْية": وأنَّا أُرَخّصُ في أُنْمُلَةٍ أو ظُفْر، وذلك لأن الفلقَ الصغِيرَ يُعْتَنَى بها، بل يحذفُ مِنَ الرُّؤوسِ المشويَّةِ وأطراف الأدب الحاسية (¬4). قال الإمامُ: وأقربُ العباراتِ في الفرقِ بين الجزْءِ الكبير واليَسِير أَنْ يُقال: إن كان النُّقْصانُ يلوحُ من بُعْدٍ، فالجزْءُ المُبانُ كثيرٌ، وإن كان لا يَلُوح مِنْ بُعدٍ -فهو صَغِيرٌ وإن لم يَبن منها شَيْءٌ، بل شُقَّ أو قُطِع طرفٌ وبِقِيَ مُتَدلِّيًا، فهذا لا يمنعُ الإجْزَاءَ. وفيه وجه، وهو اختيارُ القفَّالِ: أنَّه يمنعُ؛ لأنَّ موضِعَ القطْعِ يتصلَّب ويصيرُ جِلْداً بعدما كان لَحْمًا. ¬
وإذا قُلْنا بالأَوَّلِ، حملنا القولَيْن على الشَّرْقاءِ والخرْقاءِ على البرية (¬1). وقال أَبُو حنيِفةَ -رحمه الله -: إنْ كان المقطوعُ دُونَ الثلثِ لم يمنع الإجزاءَ، والكَيُّ لا يُؤثّر. وقِيلَ: في الموْسُومةِ وجهانِ؛ لتصلُّبِ الموضِعِ، وتجوز التضحيةُ بصغيرةِ الأُذُنِ، ولا يجوز بالتي لم يخلق لها أذنٌ. الثانية: لا يجوز التضحيةُ بالتي أَخذ الذئبُ مقدارًا بيِّنًا من فَخِذِها بالإضافة إليه؛ لنقْصانِ اللحم، وكوْن العضوِ لازماً للجنس. ولو اقتلع الذِّئبُ أَلْيتها أو قَطَعها قاطِعٌ، ففي جواز التضحيةِ بها وجهان. أَحَدُهما: الجوازُ؛ لما سنذكره إن شاء الله تعالى في التي لم يخلق لها أَلْيَةٌ. وأَظْهرُهما: المنعُ لما حدث فيها من نُقْصانِ القِيمَةِ والمقصُودِ، وقَطع بهذا قاطِعون، وفي مَقْطوعةِ الضَّرْعِ وجهانِ مُرَّتبانِ، وأَوْلَى بالجواز؛ لأنَّ لحمَ الضرعِ شَبِيهٌ بالخُصْيَةِ غير معنى بخلاف الأليَةِ، والظاهر المنعُ وهو الذي أورده الرُّوَيانِي وغيرُه، وفي التي خُلِقَتْ بلا ألْية أو بلا ضَرْعِ وَجْهانِ أيضاً. أَحَدُهما: المنعُ كالتي خُلِقَتْ بلا أذن، وأصحُّهما، وبه قال القاضي أبُو حَامِدٍ والقفَّالُ أنَّهُ يجوزُ؛ لأن المعْزَ يجزئ ولا أليَّةَ له، والذَّكَرُ يجزِئُ ولا ضَرْعَ لَهُ، بخلاف الأُذُنِ، فإنه عضوٌ لازِمٌ في الغالب، والذَّنَبُ كالألْيَةِ. ولا تجزئ مقطوعة بعضِ اللسانِ، وقطْعُ بعضِ الألْيَةِ والضرْعِ كقطع كُلِّها، وذكر الجَمِيع غيرُ محتاح إليه في قوله في الكتاب: "أوِ المقْطُوعِ جَمِيعُ ضَرْعِها". ويجزئ الخَصِيُّ والموجُوءُ؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- ضَحَّى بكبشين مَوْجُوءَيْنِ (¬2). ولأن الخَصْيَ يزيدُ اللحمَ طِيبًا وكثرةً. وأغربَ القاضي ابنُ كج، فحكى في الخَصِيِّ قَوْلَيْنِ، وجعل المنعَ الجديدَ. الثالثة: يجوزُ التضحيةُ بالجمَّاءِ؛ وهي التي لا قَرْنَ لها، ويُقال لها الجَلْحَاءُ أيضاً؛ ¬
لأنَّ القَرْنَ لا يتعلَّقُ به كثيرُ غرض، لكنَّ ذاتَ القرْنِ أفضلُ؛ لما مرَّ من حدِيث أنْسٍ -رضي الله عنه-. وروي -أيضاً- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خيرُ الضَّحيَّةِ لكَبْشُ الأَقْرَنُ، فإنه أَحْسَنُ (¬1) منْظراً". وتجزئ العَضْباءُ وهي التي [انكَسَر قرنُها والتي] (¬2) انكسَرَ من قرْنِهَا الغُلافُ وحْده، أمَّا في الداخِلِ وحده، فقال القفَّالُ: إِلاَّ أَنْ يوثِّرَ ألمُ الانكسارِ في اللحْمِ، فيكون كالجَرَبِ وغيرِه. ولا فرقَ بين وأن يُدْمى قرنُها بالانكسارِ أو لا يُدْمى. وقال مالِكٌ: إن دَمِيَ يقع الإجزاء. وعن أحمدَ: لا تُجزئُ العضباءُ التي انكسر بعضُ أَسْنانِها، وإن انكسر أو تناثَر الجميعُ، فقد أطلق "صاحبُ التهذيب" وجماعةٌ أنها لاَ تجْزِئُ. وقال الإمامُ: الذي ذهب إِلَيْه المحققِّونَ أنه لا يمنعُ الإجزاء وأثبت فيه خِلاَفاً، وفَصَّل بعضُهم فقال: إن كان ذلك لمرضٍ، أو كان يؤثَرُ في الإِعْتِلاَفِ ونقصِ اللحم فلا يُجْزئ [وإلا فيجزئ] (¬3) وهذا أحسنُ، لكنة يُؤَثِّرُ فيه بلا شَكْ فيرجع الكلامُ إلى المنْعِ المُطلق (¬4)، وقد يُؤَيد ذلك بما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يُضحى بالهتْمَاءِ (¬5) وهي التي انْكَسَرَ أو تناثر أَسْنَانُها. قال الغَزَالِيُّ: وَتُجْزُئُ الشَّاةُ عَنْ وَاحِدٍ* وَالبَقَرُ وَالإِبِلُ عَنْ سَبْعَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَلاَ جَمِيعُهُمْ مُضَحِّينَ* وَيُجْزِئُ عَمَّنْ وَجَبَ علَيْهِ سَبْعِ شِيَاهٍ بِأَسْبَابٍ مُختَلِفَةٍ إلاَّ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ* وَلَوِ اشْتَرَكَ رَجُلاَنِ فِي شَاتَيْنِ عَلَى الشُّيُوعِ فَفِيهِ وَجهَانِ* وَلاَ يُجْزِئُ نِصْفُ شَاةٍ وَاحِدَةٍ. قال الرَّافِعِيُّ: الشاةُ الواحِدةُ، لا يُضحِى بها إلاَّ واحِدٌ، لكن إذا ضحَّى بها وَاحِد من ¬
أَهْل بيتٍ تَأَدَّى الشعارُ والسنَّة لِجَمِيعهم، وعلى ذلك حُمِلَ ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- أَتى بكبش أَقْرنُ، فأضجعه وقال: "بسْمِ اللهِ اللَّهمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ وضَحَّى بِه" (¬1). وكما أَنَّ الفرْضَ ينقسِمُ إلى فرْضِ عَيْنٍ، وفرض كِفاية، فقد ذكر أن السُّنَّةَ كذلك وإنَّ التضحيةَ مَسْنونةٌ على الكِفاية لكل أَهْل بيتٍ، وتجزئُ البَدَنَة عن سَبْعة، وكذلك البقرة، ولا فَرْقَ بين أَنْ يكونوا جَمِيعاً مُتَقرِّبين، وبين أن يبغي بعضهُم اللحمَ، ولا إذا كانوا متقرِّبينَ بَيْنَ أن تكون القُرْبَة وَاجبَةً، أو غيرَ واجبةٍ، وبين أن تختلفَ جهةُ القُرْبةِ، أَوْ لاَ تختلِفُ، ولا بين أنْ يكونُوا منَ أَهْل البيت الواحِدِ، أو بُيُوت مُخْتلفةٍ. واحتج الأصحابُ بما روي عن جابر -رضي الله عنه- أنَّه قال: نحرْنَا مع رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- بالحُدَيْبِيَةِ البدنَةَ عن سَبْعةٍ، والبقرةَ عن سَبعْةٍ (¬2)، والظاهِرُ: أنهم لم يكونوا من أهل بيتٍ وَاحدٍ. وروي أنه قال: أمرنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أن يشترك كُلُّ سبْعةٍ في بَدَنَة ونحن متمتَّعون (¬3)، ودَمُ التمتُّعِ واجِبٌ وبأن ما يجزئ التضحية والسبعةُ متقرِّبُونَ جاز وبعضُهم يبغي اللَّحْمَ. وما جاز للسبعة فهم يَذْبحُونَ عن تطوُّعٍ، جاز وهم يذبحون عن واجبٍ [وما جازوهم] (¬4). من أهل بيتٍ واحد، جاز وهم أَهْلُ بُيُوتٍ مُخْتِلفَةٍ فالسبع من الغنم. وذكر أَبُو الحَسَنِ العَبَّادِي: أن عند أحْمدَ تُجْزئُ البدنةُ عن عَشَرة (¬5) والبقرة عن سَبْعَةٍ. وإذا اشتركوا في بَدَنَةٍ أو بَقَرةٍ وهم مُتَقرِّبُون أو بعضهم يريدُ اللحمَ، فطريقان: أصحهما (¬6) أن القِسْمَةَ تُبْنى على أنها بيعٌ أو إفرازُ حَقٍّ، إن جعلناها [إفرازاً] جوَّزْنَاهَا، كان جعلناها بيعاً، فبيعُ اللَّحْمِ باللحم في حال الرطُوبةِ لا يجوزُ. فالطرِيقُ أن يدفعَ المُتَقرِّبونَ الأَنْصِبةَ إلى الفُقَراءِ شائعةً ثم يشتريها منهم مَنْ يبغي اللحمَ بالدَّراهِم [أو يَبِيعَ مَنْ يَبْغِي اللحمَ نَصِيبَهُ من المُتَقرِّبِينَ بالدَّراهِم] (¬7)، ويجعلوا اللحمَ أجزاءً ويَجعلون باسْم كُلِّ واحدٍ جُزْءاً ثم يَبِيعُ صاحِبُ الجزْءِ ماله في سَائِرِ الأَجْزَاءِ بالدَّراهِمِ ويشتري ما لأصحابِه في ذلك الجزء بالدراهم، وَيتَقَاضَوْنَ. والثاني وبه قال ¬
صاحبُ التَّلْخِيصِ: تجوز القِسْمةُ هاهنا قَوْلاً واحِداً؛ للحاجة وأيضاً فإننا نجعل (¬1) القِسْمةَ بيعاً على قولِ إذا كانت الشركةُ فيما يقبل البيعَ، ولحمُ الضِّحيةِ لا يقبلُهُ كما يُجْزِئُ تضحيةُ سبْعةٍ ببدَنَةٍ أو بقرةٍ ويجوزُ أَنْ يقصِدَ بعضُهم التضحيةَ، وبعضُهم الهدْيَ أو اللحمَ فيجوزُ أَنْ يذبحَ الواحِدُ بدنتَهُ أو بقرتَهُ عن سَبْع شِيَاهٍ لزمته بأسباب مُخْتَلفةٍ: كالقِرَانِ، والتَّمتُّع، ومُبَاشرة مَحْظُوراتِ الإحرامِ، ونذر التصدق بشاة، [والتضحية بشَاة] (¬2). نَعَمْ، من جزاء الصَّيْدِ يُرَاعَى المماثلةُ ومشابهةُ الصورةِ. فلا تُجْزِئُ البدنةُ عن سَبْعةٍ من الظِّبَاءِ ولو وجب شَاتَانِ على [رَجُلَيْنِ] (¬3) من قَتْلِ صَيْدين لم يَجُزْ أَنْ يذبحا عنهما بدنةً أو بقرةٌ ويجوز أن يذبح الرجلُ بدنةً أو بقرةً سُبْعُها عن شاه لزمَتْهُ، ويأكل الباقي. ولو جعل جَمِيعَ البدَنَةِ أو البقرةِ مَكَانَ الشاةِ، فيكون الكل فرضاً حتى لا يجوز أَكْلُ شيءٍ منه أو يكون الفرضُ السُّبعَ حتى يجوزَ الأكلُ من الباقي، فيه وجهان، ويقربُ هذا الخلافُ من الخلافِ في أنه إذا مسح جَمِيعَ الرأْسِ يكون الكُلُّ فرضاً أو الفرض ما يقع عليه الاسْمُ (¬4). ولو اشترك رَجُلاَنِ من شَاتَيْنِ؛ فهل يجوزُ لهما التضحيةُ بهما؟ فيه وجهان: أَحدُهما: نَعَمْ؛ لأنَّ نِصْفَيْ شاةٍ كشاةٍ وَاحِدَةٍ وعلى هذا فلا يبعد أن تجوزَ التضحيةُ بأجزاءِ شاةٍ، ويُحْتَمل تخلل الفاضل. وأَظْهرُهما: لا؛ اقْتِصَاراً على ما ورد [به الخبرُ] (¬5). وكُلُّ واحدٍ منهما يتمكنُ من الانفرادِ بواحدةٍ. قال الإمامُ: وللخلافِ التفاتٌ إلى أعتاقِ نِصْفَيْ عَبْدَيْنِ عن الكَفَّارةِ، ولا تجوزُ التضحيةُ ببعضِ شَاةٍ بحال. قال الغَزَالِيُّ: (أَمَّا السُّنَّةُ) فَالأَحَبُّ هُوَ الأَسْمَنُ الأكْمَل* وَسَبْعٌ مِنَ الغَنَمِ أَحَبُّ مِنَ البَقَرَةِ وَالبَدَنَةِ* وَالبَدَنَةُ أَحَبُّ مِنَ البَقَرَةِ* وَالأَبْيَضُ أَحَبُّ مِنَ الأَسْوَدِ* وَالنَّصُّ أَنَّ الأُنْثَى أَحَبُّ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ الَّتِي لَمْ تَلِدْ فَلَحْمُ الذَّكَرِ أَطْيَبُ. ¬
قال الرَّافِعِيُّ: المقصودُ الآن في صِفَاتِ الكمال في الأضْحيةِ وفيه مَسَائِلُ: منها: [يُسْتحبُّ] (¬1) أن يختارَ للتضحيةِ الأَسْمنَ (¬2) الأكْمَلَ حتى أن التضحِيةَ بشاةٍ سَمِينة أفضلُ من التضحية بشاتَيْن (¬3) دُونَها؛ لأن لحمَ السَّمِينِ أطيبُ وفسر بعضُهم الشِّعَارَ في قوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} بِاسْتِسْمَانِ الهدْيِ وَاسْتِحْسَانِه. وفي الخبر: "عَظِّمُوا ضَحَايَاكُمْ؛ فَإنَّهَا عَلَى الصِّرَاطِ مَطَايَاكُمْ" (¬4). قِيلَ معناه: أنها تهَيَّأُ مَرَاكِبَ. وقِيل يسهل بالتضحية الجوازُ على الصراطِ. وذكر الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه-: أنَّ في التضحيةِ استِكْثَارَ القِيمَةِ أَحَبُّ من استكثارِ العَدَدِ، وفي العِتْق استكثارُ العَددِ أَوْلَى؛ وسبُبه أن المقصودَ -هاهنا- اللحمَ، ولحمُ السَّمِين أكثرُ وأَطْيبُ. والمقصودُ في العِتْق التخلِيصُ من الرِّقِّ، وتخلِيصُ عَدَدٍ أَوْلَى، [من تَخْلِيص وَاحدٍ] (¬5) وكثرَةَ اللحمِ في الأُضْحية خيرٌ من كثرة الشَّحْم، إلاَّ أن يكونَ لحمُها حسناً. ومنها: التضحيةُ بِسَبْعٍ من الغنم أفضلُ من التضحيةِ بَبَدَنَة أو بَقَرةٍ أو بالعَكْسِ أَفْضَلُ؟ فيه وجهان: أَظهرُهما: وهو المذكورُ في الكتاب أَنَّ الأوّلَ أفضلُ؛ لأن لحمَ الغَنَمِ أطيبُ ولأن الدَّمَ المُرَاقَ أكثرُ والقُرْبةُ تزيد بحسبه. والثَّانِي: أن العَكْسَ أَفْضَلُ؛ لأنَّ اللحْمَ أكثرُ. وقد يؤدي التعارضُ في مِثْل هذا إلى التساوي، ولم يذكروه. والبدنةُ أَحبُّ من البقرة، والبقرةُ أحبُّ من الشاةِ والضأْنُ [مِنَ المعْزِ. وقال مَالِكٌ: الأفضلُ الضأن] (¬6) ثم البقرة ثم البدنةُ. لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تَذْبَحُوا إِلاَّ الْبَدَنَةَ إِلاَّ أن يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَاذْبَحُوا الْجَذَعَ مِنَ الضأْنِ" (¬7). وقال -صلى الله عليه وسلم- في الجُمعَةِ: "مَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ ¬
الركن الثاني: الوقت
بَدَنَة" (¬1) ثم ذكر البقرةَ ثم ذكر الكَبْشَ. والتضحيةُ بشاةٍ أفضلُ من الشِّرْكَةِ في بَدَنَةٍ أو بقرة (¬2). ومنها: البيضاءُ أحبُّ من العَفْراءِ والعفراءُ أحبُّ من السوْدَاءِ والعفراءُ: التي لا يَصْفُو بَيَاضُها؛ روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَدَمُ عَفْرَاءَ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ دَمِ سَوْدَاوَيْنِ" (¬3) ورأى الإمامُ أفضليةَ البيضِ تَعَبُّداً، ومنهم مَنِ ادَّعَى أنها أَحْسَنُ مَنْظَراً وأطيبُ لحماً. ومنها: حُكِيَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه- أن الأنثى أحبُّ مِنَ الذكَرِ، والأصَحُّ -وينسبُ إلى نَصِّه -رضي الله عنه- في رواية البويطي: أنَّ الذكر أحبُّ؛ لأن لحمَهُ أطيبُ وأَفْضَلُ. وتكلُّموا في النصِّ الأول من وجهين: أَحدُهما: أنه إنما ذكر ذلك في جزاءِ الصَّيْدِ عند تَقْوِيم الحيوانِ للرجُوعِ إلى مِقْدارِ قِيمته مِنَ الطعامِ، والأُنْثَى أكثرُ قِيمةً. فلا تفدى الأُنْثَى بالذكر إذا أراد التَّقْوِيم، على أن في هذا خِلاَفاً قد سبق في مَوْضِعه. والثاني: وهو المذكورُ في الكتاب أنه أراد الأُنْثَى التي لم تَلِدْ، هي أطيبُ لَحْماً وأطيب من الذكر، وإنما يذهبُ طِيبُ لحَمِ الأنْثَى إذا وَلَدَتْ، وطِيبُ لَحْمٍ الذَّكَرِ إذا أَكْثَرَ النَّزَوَانَ (¬4). قال الإمامُ: ولا ينبغي أن يُعْدَلَ الشيءُ إلاَّ بما يُسَاوِيه، كالفَحْلِ الذي أكثر النَّزَوَاتِ لا يُقاسُ بالأُنْثَى الرخْصَةِ (¬5) التي لم تلد، ولكن يعتبر بالتي وَلَدَتْ. فإنَّ النزَوانَ في الذُّكُورةِ كالوِلاَدَةِ في الإِنَاثِ. وإذا فرضْنَا ذكراً لم يَنْزُ، وأُنْثَى لم تلدْ -فالذكرُ أَوْلَى. وهذا بيِّن في العُرْفِ. قال الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الثَّانِي: الوَقْتُ) وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ* ودِمَاءُ الجُبْرَانَاتِ لاَ وَقْتَ لَهَا* وَأَوَّلُ الوَقْتِ بِانقِضَاءِ وَقْتِ الكَرَاهَةِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَوْمَ العِيدِ بَعْدَ مِقْدَارِ خُطْبَتَيْنِ وَرَكعَتَيْنِ خَفِبفَتَيْنِ وَقِيلَ: بَلْ طَوِيلَتَيْنِ عَلَى العَادَةِ* وَآخِرُهُ غُرُوبُ الشَّمْسِ آخِرَ ثَالِثِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ* وَيُجْزِئُ بِاللَّيْلِ (م) وَفِي اليَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أيَّامِ التَّشْرِيقِ. قال الرَّافِعِيُّ: يدخُل وقتُ التضحيةِ بدخُولِ وقْتِ صلاة العيد يومَ النَّحْرِ، ومُضِيِّ ¬
وقت ركْعتيْنِ وخُطْبتين بعده، فإنْ ذَبَح قبل ذلك لمِ تُجْزِ ضحِيْتُهُ؛ لما رُوِيَ عَنْ أَنَسِ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ ذبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَإنَّمَا يَذْبَحُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكَهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ" (¬1). وكيف تُعْتَبَرُ الركعتانِ والخُطْبتانِ؟ فيه وَجْهانِ، ويُقالُ قَوْلاَنِ: أَحدُهما: أنه يعتبر ركعتانِ وخُطْبتانِ خَفِيفَتَانِ لحصول (¬2) الإجْزَاءِ بهما والظاهِرُ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لو خَفَّفَ الصلاةَ والخُطْبَة لضحّى أو أَذِنَ في الضَّحِيةِ. والثَّانِي: أنَّ المُعتبرَ صلاةُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وخُطْبتُه وكان يقرأُ في الركعةِ الأُولَى بسورة "ق" وفي الثانية "اقْتَرَبتِ السَّاعَةُ" ويخطُب خُطْبةً مُتَوسِّطَةً؛ واحتج له بظاهِرِ قَوْلِه -صلى الله عليه وسلم-؛ "مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا هَذِهِ وَذَبَحَ بَعْدَهَا فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ" (¬3). وحكى الإمامُ عن المراوزة: أن الخِلاَفَ في اعتبارِ الخِفَّةِ في الركعتينْ فأمَّا الخُطْبتانِ فالمعتبرُ فيهِما الخفَّةُ لا محالةَ. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يُطَوِّلُ، وكيف والناسُ يومَ العيدِ مُسْتَوْقِرُونَ (¬4)؟ قال: وما أرى مَنْ يعتبر رَكْعتيْنِ خَفِيفتَيْنِ يكتفي بأقَلَّ ما يجزئ وظاهِرُ لفْظِ "الشَّامِل" خلافُه (¬5). وفي "الشَّامِل" وجهٌ: أنه كان يُعْتَبرُ في عَهْدِ النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاتُه، وبعده المعتبرُ قدرُ الصلاةِ. وفي "النِّهَايَةِ" عن بعْضِ التصانِيفِ: أنه يكفي مُضِيُّ ما يَسَعُ ركعتَيْن بعد انقضاءِ وَقْتِ الكراهِيَةِ، ولا يُعْتبر مُضِيُّ وقْتِ الخطبتين. وينتهي وقْتُ التضحيةِ بغروبِ الشمس ثَالِثَ أيامِ التَّشْرِيق. وقال أبو حَنِيْفَةَ ومَالِكٌ وأحْمَدُ: يَنْتَهِي بالغُروبِ ثَانِي أَيَّامِ التشريق. واحتج الأَصْحابُ بما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَأَيَّامُ مِنَى كُلُّهَا مَنْحَرٌ" وبأن اليومَ الثالِثَ رمي من أيام الرَّمْي فيكون مِنْ أيام التضحيةِ كاليومَيْن الأولين فتجوزُ التضحيةُ في ليالِي التَّشْرِيقِ كما في الأيام خِلاَفاً لِمَالِكٍ وكذا لأحْمَدَ في روايةٍ. ¬
لنا: أنه ذَبْحٌ يجوزُ نهاراً فيجوز ليلًا كَذبح غيرِ الضحية. والذبحُ مطلقاً بالليل مَكْروهٌ؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الذَّبْحِ لَيْلاً (¬1). والمعنى فيه: أنه لا يَأْمَنُ الخطأَ في المذْبَحِ، وأيضاً فالمسَاكِينُ لا يحضرون التضحيةَ بالليل حُضُورَهم بالنهارِ. وأما لفظُ الكتاب فقولُه: "وهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ وأَيَّامُ التَّشْرِيقِ" يجوز إعلامُ أَيَّامَ التشرِيقِ بالحَاءِ والمِيمِ والأَلِفِ؛ لما نقلنا مِنْ مَذْهَبِهم في اليوم الثالث. ويوم النحر كُلّه ليس وَقْتَ التضحيةِ، بل لا بُدَّ مِنِ انْقضاءِ طرفٍ من صَدْرهِ على ما بين، فلْيُحْمل على أن وقْتَ التضحيةِ في هذه الأيام. وما أشبه ذلك. وقولُه: "ودماءُ الجبرانَاتِ لا وقْتَ لها" أَيْ: لا تختصُّ بوقْتٍ. المسْأَلَةُ مُكَرَّرَةٌ قد ذكرها مرَّةً في "الحج" مع التعرضِ لمُخَالفتها "الضَّحايا" ولا حاجةَ إلى إِعادَتِها هاهنا. وقولُه: "وأولُ الوقْتِ بانقضاءِ وقْتِ الكراهِيَةِ بعد طُلُوع الشَّمْسِ" اعلم أَنَّ المعتبرَ دخولُ وقْتِ صَلاةِ العِيدِ، ونذكر أَنَّا حكينا فيما يدخل به صلاةُ العِيدِ اختلاَفاً عن كُتُبِ الأَصْحَابِ؛ فمِنْ قَائِلٍ: يَدْخُلُ بطلوعِ الشَّمْس، ومن آخر يقول: يدخل بارتفاعِ الشمسِ قَدْرَ رُمْحٍ وبه ينقضي وقتُ الكراهيةِ. ولفظ صَاحِب الكتاب هناك مُوَافِقٌ الفرقةِ الأُولَى فإنه قال: " [ووقتها] (¬2) ما بين طُلُوع الشمس إلى زَوَالِها". وَاعْتُبِرَ هَاهُنَا انقضاءُ وقْتِ الكَرَاهِية [فَلْيَنْزِلْ أَحدُهما] (¬3) على الآخر بضرْبٍ من التأْوِيل أو ليعتقد على أنه أجاب هناك على رَأْيٍ وفرَّع هاهنا على آخَرَ. ويجوزُ أن يُعْلَم قولُه "بانقضاءِ وَقْتِ الكراهيةِ [بالحَاءِ والمِيمِ والأَلِفِ؛ لأن عندهم لا يدخُلُ الوقْتُ بانقضاءِ وَقْتِ الكَرَاهِية] (¬4) ومَضَى وقْتُ ركعتين وخُطْبتيْنِ، وإنما يدخل الوقْتُ إذا صلى الامامُ وخَطَبَ. وقال أَبُو حَنِيْفَةَ: إِنْ زالت الشمسُ، ولم يُصَلِّ فللناس التضحيةُ وخصص ما ذكره بأهْل البلادِ، وجوَّزَ لأهلِ السَّوادِ والمسافِرِينَ التضحيةَ بعد طُلُوع الفَجْرِ. ¬
الركن الثالث: الذابح
وعن مَالِكٍ: أنه اعتبر مع صلاةِ الإمَامِ وخُطْبته تضحيته أَيْضاً ولو قال صاحبُ الكتاب بعد مُضِيِّ خُطْبتيْن وركْعَتيْنِ بدلاً عَنْ قولهِ "وبعد مِقْدَارِ خُطْبتين" كان [أَلْيَقَ بما] (¬1) قبلَه من النظْمِ. ويجوزُ إعلامُ لفظ "الخُطْبتيْن" بالواو؛ للوجه المنقول عن بَعْضِ التصانِيف. وقولُه: "بَلْ طَوِيلَتَيْنِ على العَادَة" أَيْ: الطُّولُ المعْتَادُ، وهو التوسُّطُ والمرادُ مِنْه وجهُ اعتبارِ صَلاَةِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وخُطْبتِهِ على ما قدمنا. [وقوله] (¬2) "ويجزئ باللَّيْلِ" مُعْلَمٌ بالميمِ والأَلِفِ. وقولُه: "ثالث أيام التشريقِ" مُعْلَمٌ بالحاءِ والمِيمِ والأَلِفِ، وكان بسبيل من أن يَسْتَغْنِي عنهما بما سبق. وختم الفَصْلَ بكلامَيْنِ: أَحَدُهما: ذكر الإمامُ أَنَّ مَنْ فاته التضحيةُ فَلْينتَظِرُ وقْتَها من قابل وحينئذٍ يقعُ عن حَقِّ الوقْتِ ولا يصفو هذا عن إِشْكَالٍ. والثاني: جَمِيعُ ما ذكرنا من الأُضْحيةِ المُتطوَّع بها، فأما المنْذُورُ ففي تَأْقِيتِها خلافٌ سيأتي من بعد إن شاء الله تعالى. قال الغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الذِّابِحْ) وَمَنْ حَلَّ ذَبِيحَتُهُ صَحَّ مُبَاشَرَتُهُ لِلتَّضْحِيَةِ* وَلَكِنْ لَوْ وَكَّلَ كِتَابِيّاً فَلْيَنْوِ بِنَفْسِهِ* وَلَوْ وَكَّلَ مُسْلِماً بِالتَّضْحِيَةِ وَالنِّيَّةِ جَازَ* وَلَوْ قَالَ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ ضَحِيَّةَ أَغْنَاهُ عَنْ تَجْدِيدِ النِّيِّةِ عِنْدَ الذَّبْحِ* وَلاَ ضَحِيَّةَ لِلرَّقِيقِ إِذْ لاَ مِلْكَ لَهُ* وَفِي المُكَاتَبِ إِنْ أَذِنَ السَّيِّدُ خِلافٌ* وَلْيُبَاشِرِ الذَّبْحَ بِنَفْسِهِ أَوْ لِيَشْهَدْ فَهُوَ أَحَبُّ. قال الرَّافِعِيُّ: فيه مَسَائِلُ: إحْدَاهَا: المسْتَحَبُّ للمضحِّي أن يذبحَ الضَّحِيَة (¬3) بيده، وكذا المهدي يذبح الهدْيَ بنفسه (¬4)؛ لما رُوي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أَهْدَى مِائَةَ بدنةٍ فنحر منها بيَدِه سِتَّةً وسِتِّينَ وأمر عَلِيّاً كرم الله وجهه فنَحَرَ البَاقِي (¬5). ¬
وعن ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يَذْبَحُ أُضْحِيته في المصلى (¬1). وعن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- كان يأمرُ نساءَه أن يَلِيهَ ذبْحَ هَدْيَهُنَّ (¬2)؛ لأن التضحيةَ قُرْبةٌ فيحسن [القيامُ بها] (¬3) ويجوزُ أن يُفَوِّضَ ذبحَها إلى الغيرِ للعَجْزِ عن المُبَاشرةِ وغيرِه كما استناب النبي -صلى الله عليه وسلم- عَلِيّاً -رضي الله عنه-. ومَنْ تحِلُّ ذَبِيحتُه يجوزُ التفويضُ عليه ليباشِرَ الذبْحَ، والأَوْلَى أَلاَّ يُنِيبَ إلاَّ مُسْلِماً ليكونَ أَهْلاً للقُرْبَةِ وليكن فَقِيهاً ليكُونَ عَارِفاً بوقْتِ التضحية، وشرائطها. ولو اسْتَنَابَ (¬4) كِتَابيّاً جاز؛ لأنه أهلٌ للذبح، ويجوزُ أن يَسْتَعِين المسلمُ من قريته بالكافر كما يستعين به في (¬5) قِسْمةِ زكاته. وقال مَالِكٌ: لا يجوزُ إنابةُ الكِتابيِّ في التضحيةِ، ويكون ما ذبحه شاةَ لحمٍ. وحكى الموفقُ بنُ طَاهِرٍ عن أَحْمَدَ مِثْلَهُ، ولا يجوزُ إنابةُ المجُوسِيّ والوَثَنيّ. وإذا فَوَّضَ المُضَحِّي الذبحَ إلى غيره، فيسْتحب أن يَشْهَدهُ؛ لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لفاطِمةَ -رضي الله عنها-: "قُومِي إِلَى أُضْحِيَتِكِ فَاشْهَدِيهَا فَإِنَّ بِأوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ ذمِهَا يُغْفَرُ لَكِ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكِ" (¬6). فُرُوعٌ: يجوزُ إنابةُ الحائِضِ لحل (¬7) ذَبِيحتها، وعن "الحَاوِي" أَنَّ فيه كراهيةَ ذَبْحِها بالتضحية وجهين. وأَنَّ ذبْحَ الصبيّ الضَّحِيَّةَ مكروهٌ، وهذا إذا قُلنا بحل ذَبيحتِه. ومع ذلك فإنَابةُ الحائضِ والصبي أوْلَى من إنابةِ الكِتَابِيّ، والحَائِضُ أَوْلَى من الصَّبِيِّ. الثانيةُ: النَّيَّةُ شرطٌ في التضحيةِ، وهل يَجِبُ أن تكونَ مقرونةً بالذبْحِ أَمْ يجب ¬
تَقْدِيمُها عليه؟ قضية ما ذكره الإمامُ تخريجه على وجهيْنِ ذكرناهما في جَوازِ تقْديِم النيةِ على تَفْرِقَةِ الزكاةِ والأظهرُ الجوازُ. وإذا قال: جعلتُ هذه الشاةِ ضَحِيَّةً فهل يُغْنِيه التعيينُ والقصد عن نِيَّةِ الذبح؟ فيه وجهان: أَحدُهما: نَعَمْ، ولا حاجَة إِلَى نية أُخْرَى كما لو قال لعبده: أَعْتَقْتُكَ. والثَّانِي: لاَ؛ فإن التضحيةَ قُرْبةٌ في نَفْسِها فتحتاج إلى النيةِ وذكر الإمامُ أَنَّ الأولَ المذهبُ، واقتصر صاحبُ الكتابِ على إيرادِه، [والأَقْرَبُ] (¬1) الثاني وترجِيحُه. قال الشيخُ إِبْرَاهِيمُ المَرْوَزِيّ، والقَاضِي الرُّوَيانِي وغيرُهما: وليكن الوجهانِ مُفَرَّعَيْنِ على جَوَازِ تقديم النيةِ على الذبح، فإن لم يُجوَّزة فَلْنَقْطَعْ باعتبارِها عند الذبح. ولو التزمَ أضحية في ذِمَّتِه ثم عَيَّنَ شاةً عما في ذِمَّتِه بني على أن [المُعَيَّنَةَ] (¬2) هل تتغيرُ عن المُطْلَقةِ في الذِّمَّةِ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، ففيه الخلافُ المذكورُ في الصورة السابقة. وإن قُلْنَا: لا، فلا بُدَّ من نيَّةِ الذبْح، وإن فوَّضَ الذبْحَ إلى غيره ونوى عند ذَبْحِ الوَكِيل كفى ولا حاجةَ إلى نِيَّةِ الوكِيلِ بلَ لَوْ لَمْ يعْلَمْ أنه مُضَحٍّ، لم يَضُرَّ، وإن نوى عند الدَّفْعِ إلى الوَكِيلِ دُونَ الذَّبْحِ خُرِّجَ على الخِلاَفِ في جواز التقديم على الذبح. ويجوزُ أن يُفَوِّضَ إلى الوكِيل النيةَ كما يفوضُ إليه الذبحَ، وقد سبق نظيرْه في "الزكاة" وهذا إذا كان الوكيلُ مُسْلماً، فإن كان كِتابِيّاً لم يَجُزْ تفويضُ النيةِ إليه. الثَّالِثَةُ: العبدُ القِنُّ، والمدبرُ، والمستولدَةُ، لا تجوزُ لهم التضحيةُ إذا قلنا بالصحيح: وهو أَنَّ العبدَ لا يَمْلِكُ بالتمليك، فإن أَذِنَ السيِّدُ -وقعت التضحيةُ عنه، فإن قُلْنا: إنهم يَمْلِكون بتملِيكِ السيد لم يجز لهم التضحيةُ أيضاً من غير إِذْن السيد؛ لأن حَقَّ السيدِ لم ينقطِعْ عنه بل له الانتزاعُ؛ فإن أَذِن وقَعَتِ الأُضْحيةُ عنهم كما لو أَذِن لهم في التصدُّقِ (¬3)، وليس له الرجُوعُ بعد الذَّبْحِ، ولا بَعْد جَعْلِها ضحيةً والمُكَاتَبُ لا يُضَحِّى بغير إِذْن السيد، فإن أَذِن فقولان؛ بناءاً على القَوْلَيْنِ في نفُوذِ تبرعاتِه بإذْنِ السيد. ومَنْ بعضُه رَقِيقٌ إذا ملك شيئاً ببعضِه الحرّ فله أَنْ يضحي بها ولا يحتاجُ إلى إِذْن السيد كما لو تصدَّقَ بملكه. ¬
الركن الرابع: الذبح
وقولُه في الكتاب "ولا ضَحِيَّةَ لِلرَّقِيقِ" يجوزُ إعلامُه بالواوِ، لما ذكرْنَا من التفرِيع على أَنَّ العبدَ يملِكُ بالتملِيك. فرْعٌ: لو ضَحَّى عن الغَيْرِ بغير إِذْنِه، لم يقع عنه (¬1). قاله في "التَّهْذِيبِ" وفي الضحيَّةِ عن الميتِ كَلاَمٌ قد مَرَّ في "الوَصَايَا". قال الغَزَالِيُّ: (الرُّكنُ الرَّابع: الذَّبْحُ) وَهُوَ التَّذْفِيفُ بِقَطْعِ تَمَامِ الحُلْقُومِ وَالمَرِيءْ بِآلَةٍ لَيْسَ بِعَظْمٍ مِنْ حَيَوَانٍ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّة* وَلاَ يُشْتَرَطُ قَطْعُ الأَوْدَاجِ (م) * وَلَوْ تَرَكَ جِلْدَةً يَسِيرَةً مِنَ الحُلْقُومِ حَرُمَ* وَلَوْ قَطَعَ مِنَ القَفَا وَأَسْرَعَ حَتَّى انْقَطَعَ الحَلْقُ قَبْلَ حَرَكَةِ المَذْبُوحِ جَازَ* وَلَوْ رَمَى رَأْسَ عُصفُورٍ ببُنْدُقَةٍ لَمْ يَحِلَّ* وَلَوْ نَزَعَ غَيْرَهُ مَعَ ذَبْحِهِ حَشْوَةَ الحَيَوَانِ حَرُمَ إذْ لَمْ يَنْفَرِدِ الذَّبْحُ بِالتَّذْفِيفِ. قال الرَّافِعِيُّ: غَرَضُ الركْنِ بيانُ الذبح الذي يُنَاطُ به الحلّ في الحيوانِ المأكُولِ المقدُورِ عليهِ إِنْسِيّاً كان أو وَحْشِيّاً، ويساوي فيه الضحيةُ وغيرُها، لكن الشافِعِيَّ -رضي الله عنه- والأصحابَ تكلَّمُوا فيه في الضَّحَايَا، وضَبَطَ في الكتاب فقال: "هو التَّذْفِيفُ بقطع تمامِ الحُلْقُومِ والْمَرِيءِ بآله ليست بِعَظْمٍ من حيوانٍ حياةٌ مستقرة" وفيه قيودٌ: أحدُها: قطع الحُلْقوم والْمَرِيءِ، فلو اختطف رأْسَ عُصْفُورٍ ببُنْدقة فهي ميتةٌ؛ لأنه عدل عن القَطْعِ، وهو الذي اعتبر في الباب (¬2). قال الإمامُ: وهو بمثابةِ ما لَوِ اعْتَمد رأْسَ عُصْفور واقتلعه والتعبُّدُ بالقْطعِ لا بالقَلْعِ. والحُلْقُومُ: مَجْرَى النَّفَسِ خُرُوجاً ووُصُولاً. والمَرِيءُ مَجْرَى الطعامِ والشَّرابِ، ويجمع على مُرُؤٌ؛ كَسَرِيرٍ وَسُرُر. [و] قال الشيخ أبُو حَامِدٍ وغيرُه وهو تحت الحُلْقُومِ ووراءهما عِرْقَانِ في صَفْحَتي العُنُقِ [وَيُحِيطانِ بالحُلْقُوم] (¬3) [وكذلك ذكر بعضُهم، وفي "تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أبِي حَامِد" ¬
أنهما يُحِيطَانِ بالمَرِيءِ] (¬1) يقال لهما: الودَجَانِ، ويقال للحلقوم والمرِيءِ معهما الأَوْدَاجُ ولابد من قطع الحُلْقُومِ والمَرِيءِ. وعن الاِصْطَخْرِي: أنه يكفي قطعُ أَحَدِهما لأن الحياةَ لاَ تَبْقَى بعده. قال الأصحابُ: وهذا خلافُ نَصِّ الشَّافعي -رضي الله عنه- وخلاف مَقْصُودِ الذَّكاةِ؛ لأن المقصودَ الإزهاقُ: بما يوحى ولا يُعذَّبُ وقطْع أَحدِهم لا يوحى، ويُسْتَحَبُّ أن يُقْطَع معهما الوَدَجَانِ لأنه [أوحى] (¬2) والغالب أنهما ينقطعان إذا قطع الحُلْقُومَ والمريءَ، لكن لو تكلف مُتَكَلِّفٌ وقطع الحُلْقُومَ والمَرِيءَ وترك الودَجَيْنِ ثم الذبحُ وحصل الحلُّ؛ لأن قَطْعَهما مُوحٍ والْوَدَجَانِ قد يسلان من الحيوان فيبقى، وما هذا شأْنُه لا يُشْتَرطُ قَطْعُه كسائر العُروقِ. وقال مَالِكٌ: لابد من قطعِهما مع الحُلْقُوم والمريءِ. وعند أَبِي حَنِيفةَ: لا بُدَّ من قطع الأَكْثَرِ. ثم قِيلَ؛ معناه أن يقطعَ مِنْ كُلِّ واحدٍ منهما أكثرَهُ. وقِيلَ: أن يقطعَ منهما ثُلُثَه، ولو ترك مِنَ الحلقُومِ والمريءِ شَيْئاً وماتَ الحيوانُ فهو حَرَامٌ، وإن كان المتروكُ يَسِيراً، وكذا لو انتهى إلى حركة المذْبُوحِ، ثم قطع المترُوكَ. وعن "الحَاوِي" وجهٌ آخر: أنه يحلّ؛ لأنه يقومُ مقامَ الكُلِّ في تفويتِ الحياةِ. وهذا ما اختاره القَاضِي الرُّوَيانِي في "الحِلْية". قال: ولا أَثَرَ لقَدْرِ أُنْملة أو ظُفْرٍ يبقى والظاهِرُ الأولُ. ولو قطع من القَفَا حتَّى انتهى إلى قَطْع الحلقُومِ والمريءِ، فيعصى؛ لما فيه من زيادَةِ الاِيلاَمِ، ثم يُنْظَرُ إن انتهى إلى حركةِ المَذْبُوحِ حين انتهى القطْعُ إلى المريءِ، فهو مَيْتَةٌ، وقطعُ الحلقُومِ والمريءِ بعد ذلك لا ينفَعُ، وإن كان فيه حياةٌ مستقرةٌ فقطعها -حَلَّ؛ كما لو قطع يدَ الحيوانِ، ثم ذَكَّاه. وعن مَالِكِ وأَحْمَدَ: أنه لا يَحِلُّ؛ لعدُولِه عن الذبح المأْمُورِ به. قال الإمامُ: ولو كان فيه حياةٌ مُسْتقرة عند ابتداءِ قَطْعِ المريءِ ولكنه إذا قطع المريءِ وبعضَ الحُلْقوم (¬3) انتهى إلى حَرَكَةِ المذْبُوح لما ناله من قبل بسبب قَطْع القَفَا -فهو حَلاَلٌ وأقصى ما وقع التعبُّدُ (¬4) أن يكونَ فيه حياةٌ مستقِرَّةٌ عند الابتداءِ بقَطْعِ المذْبَحِ. والقطعُ من إِحْدَى صَفْحَتيِ العُنُقِ كالقَطْع من القَفَا. ولو أدخل السِّكِّين في أُذُنِ الثعلب ليقطع الحلقُومَ والمريءَ داخل الجِلْدِ ففيه هذا ¬
التفصيلُ إن انتهت الحدِيدَةُ إلى المذْبَحِ، وفيه حياةٌ مُسْتقرةٌ -حلَّ، وإلا فلا ولو أمَرَّ السكينَ ملصقاً باللّحْيَيْنِ فوق الحلقومِ والمريءِ [وأبان الرأْسَ، فَلَيْسَ هذا مذبحاً أو بِذَبْحٍ إذا لم يَقْطَعِ الحلقومَ والمرِيءَ. القَيْدُ الثَّانِي: كون التذْفِيفِ حَاصِلاً بقطْعِ الحُلْقُومِ والمَرِيء] وفيه صُورَتانِ. إِحْدَاهُما: لو أخذ الذابحُ في قَطْعِ الحلقُومِ والمريءِ وأخذ آخر في نزع حَشْوةِ الحيوَانِ أو في النخْسِ في الخَاصِرَةِ -لم يحلّ؛ لأنَ قطع الحلقُومِ والمرِيءِ خرج عن أَنْ يكون هذا المذفّفَ. ولا فَرْقَ بين أَنْ يكونَ ما يجري به قطعُ الحلقُومِ مما يذفّف لو انفرد، أو كان يُعِين على التَّذْفيِف. وقطعُ رقبةِ الشَّاةِ من قَفَاهَا لو اقترن بقطْعِ الحُلْقوم بأن كان يجري مُدْيةً من القَفَا وأُخْرَى من الحلْقُومِ حتى الْتَقَيَا، فالوجهُ التحرِيمُ بخلاَفِ ما إذا تقدَّم قطع القَفَا، وبقِيَتِ الحياةُ مستقرةً إلى انتهاء المدية إلى المذْبَحِ. ولك أَنْ تقولَ إن كان المقارن لقطع الحلقُومِ والمريءِ مُذَفّفاً فيظهر التحريمُ؛ لأن إضافَةَ الزهوق إلى أَحَدِهما ليست بأَوْلَى من الإضافَةِ إلى الثَّانِي فأما إذا لم يكن مُذَففاً - فيجوزُ أَن يُقالَ كما لا أَثَرَ له إذا تقدَّمَ على قَطْع الحُلْقُوم والمَرِيءِ لا أثر عند المُقَارنةِ، وبتَقْدِير أن يؤثرَ ويَمْنَعَ الإضافَةَ إلى قَطْعِ الحُلْقوم والمرَيءِ مع كونه مُذَفّفاً، فينبغي أن يُقالَ إذا جَرَحَ جَارحٌ جِراحةً غيرَ مُذَفّفةٍ مع حزِّ الرقبةِ من آخر، لا يَخْتَصُّ الثاني بالقِصَاصِ. والثَّانِيَةُ: يجبُ أَنْ يستوعِبَ (¬1) الذابحُ في القَطْعِ ولا يتأنى بحيْثُ يَحس ويظهر انتهاءُ الشاةِ قبل اسْتِتْمام قطع المذّبَح إلى حركة المذْبُوحِ، وهذا قد يخالِفُ ما سبق أن المرعى المُتَعَبَّدَ به أَنْ يكَونَ في الحيَوانِ حياةٌ مُسْتقرة عند إلابتداءِ بقطْع المذبح، ويشبه أَنْ يكونَ المقصودُ هاهنا [إذا تبيَّنَ فظهر مَصِيرُه إلى حركةِ المذْبُوحِ، والمقصودُ هناك] (¬2) إذا لم يتحقق الحالُ. القيْدُ الثَّالِثُ: ألاَّ تكونَ الآلةُ القاطِعَةُ عَظْماً وقد مر هذا في "الصَّيْدِ والذَّبَائِح". الرَّابعُ: أَنْ يكونَ في الحيوانِ عند الذَّبْحِ حياةٌ مُسْتقرةٌ، فلو جرح السبعُ صَيْداً أو شاةً، أو انهدَمَ سقْفٌ على بَهِيمةٍ أو جرَحَتْ هِرّةٌ حمامةً ثم أدْرَكَها صاحِبُها وهي حيةٌ فذبحها -حلَّتْ، إن كانت فيه حياةٌ مُسْتقرةٌ، وإن كان يتيقن أنها تهلك مِنْ تلك الجراحَةِ ¬
بعد يَوْمٍ أو يَوْمَيْن -فقد سبق ما يُوافِقُ هذا في جراحاتِ الآدميين. وفي كتاب القَاضِي ابْنِ كجّ أَنَّ أَبَا الْحُسَيْن بن القَطَّانِ حكى عن رواية أَبِى مُحَمَّدٍ الفَارِسِيّ قَوْلاً آخر: أنها لا تحِلّ. والمذهبُ الأولُ: وإن لم يكُنْ فيها حياةٌ مستقرةٌ لم تَحِلّ. وذكر القَاضِي ابْنُ كج أَنَّ أَبَا حَفْصِ ابْنَ الوَكِيلِ حكى فيه قَوْلاً آخر أنها تَحِلُّ. والمذهبُ الأول. وهذا بخلاف الشَّاةِ إذا مَرِضَتْ فصارت إلى أَدْنى الرمق، فذُبِحَتْ تحلُّ لأنه لم يُوجَدْ سببٌ يُحالُ عليه الهلاكُ ويجعل قَتْلاً. قال الغَزَالِيُّ: وَالمُشْرِفُ عَلَى المَوْتِ إِنْ شَكَكْنَا فِي أَنَّ حَرَكَتَهُ كَحَرَكَةِ المَذْبُوحِ أَوْ حَيَاتَهُ مُسْتَقِرَّةٌ فَالغَالِبُ التَّحْرِيمُ* وَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ بِدَوَامِ الحَرَكةِ بَعْدَ الذَّبْحِ وانْفِجَارِ الدَّمِ وَعَلاَمَات أُخْرَى جَازَ ذَبْحُهُ. قال الرَّافِعِيُّ: ولو أكلتِ الشاةُ نباتاً مُضِرّاً فصارت إلى أَدْنَى الرَّمَقِ فذبحت فقد ذكر شَيْخِي -يعني القاضي حُسَيْن- فيه وَجْهَيْنِ ثم قطع من كره بنفي الحِلِّ؛ لأنا وجدنا سَبَباً يُحالُ الهلاكُ عليه، فصار كجُرحِ السَّبُع، ثم كون الحيوان مُنْتهياً إلى حركةِ المذْبُوحِ أو حيّاً بحياةٍ مُسْتقرةً يُسْتَيْقَنَ تَارةً، ويُظَنُّ أُخْرَى بعلامَاتٍ وقَرائِنَ لا تضبطها العبارةُ وشبه بعلاماتِ الخَجَلِ وَالغَضَبِ ونحوهما، ومن الأَمَاراتِ (¬1) على بقاءِ الحياةِ المُسْتقرَّةِ الحركةُ الشدِيدةُ بعد قطع الحُلْقُومِ والمِريءِ وانفجارِ الدَّمِ وتدفقه. وذكر الإمامُ: أن فيهم مَنِ اعْتمد كُلَّ واحدٍ منهما، وَاكْتَفَى به دَلِيلاً على أَنَّ فيه حياةً مُستقرةً، وأن الأَظْهرَ أن كلاً منهما وإن كان يثير ظناً -فإنَّه لا يُكْتَفَى به لأنهما قد يحصُلاَنِ بعد الانتهاءِ إلى حركة المذْبُوحِ. نَعَمْ. قد ينضمُّ إلَى احدِهِما أو كِلاهُما قرائِنُ وإماراتٌ أخَرُ تُفِيدَ [اليقينَ] (¬2) أو الظَّنَّ فيجبُ النظرُ والاجتهادُ، وإذا شَكَكْنَا في الحياة المُسْتقرةِ ولم يترجّحْ في ظَنِّنا شيءٌ ففيه وجهان: أَحَدُهُمَا: وينسب إلى ابْنِ أَبِي هُرَيْرةَ أنه يحلُّ؛ لأن: الأصلَ بقاءُ الحياةِ المستقرة. وأَظْهرُهما وهو المذكورُ في الكتابِ، وبه قال أَبُو إسحاقَ: المنعُ تغلِيباً للتحرِيم ¬
فيه، ومَواضِع العلامَاتِ من الفَصْل بَيْنَهُ لمن تَأمَّلَ الشرحَ. وقولُه "عندَ تَمامِ الحُلْقُومِ والمِريءِ [ولو طرح لفظُ "التَّمَام" لحصلَ الغَرَضُ؛ فإنه إذا ترك بعضَ الحلْقُومِ أو المرِيء] (¬1) لم يكن قَاطِعاً لَهُمَا. وقولُه "ولو قطِع من القَفَا وأَسْرَعَ حتى انقطع الحلقومُ" ظاهِرُه يخالف ما حكينا عن الإمامِ أنه يَكْفِي أن يكونَ فيه حياةٌ مستقرةٌ عند ابتداءِ قَطْعِ المريءِ، وذلك لأنَّ لفظَ "الحلْق" إن حُمِل على المذْبَحِ الشامل للحلْقُومِ والمِريءِ، فقضيةُ اعتبارِ انقطاعِهمَا قبل الانْتِهاءِ إلى حركة المذْبُوجِ، وإن حُمِل على الحَلقُوم -فكذلك لأنَّ القطعَ مِنْ جنبِ القَفَا ينتهي إلى المِريءِ أوَّلاً ثم إلى الحُلْقُومِ، فيكون انقطَاعُ الحلقُومِ بعد إنقطاع المَرِيءِ. قال الغَزَالِيُّ: (أَمَّا السُّنَنُ) فَيُسْتَحَبُّ تَحْدِيدُ الشَّفْرَةِ* وَسُرْعَةُ القَطْعِ* وَتَوْجِيهُ المَذْبُوحِ إِلَى القِبْلَةِ* وَاسْتِقْبَالُ الذَّابِحِ القِبْلَةَ* وَأَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللهِ* وَلاَ يَقُولَ: بِسْمِ مُحَمَّدٍ* وَلاَ يَقُولَ: بِسْمِ اللهِ وَمُحَمَّدٍ* وَلَوْ قَالَ: بِسْمِ اللهِ وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ جَازَ* ويُسْتَحَبُّ ذَبْحُ البَعِيرِ فِي اللَّبَّةِ لِلتَّسْهِيلِ. قال الرَّافِعِيُّ: تَبيَّنَ في الفصْلِ السابِقِ ما يعتبرُ في الذبْحِ لتحلَّ الذبيحةُ، والغرضُ الآنَ بيانُ ما يتعلق بسُنَته وآدابه. فمنها تحديدُ الشَّفْرَةِ. روي عن شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْإِحْسَانَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فإذا قَتَلْتُمْ فَأحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِحَتَهُ. والشِّفْرةُ: السِّكِّينُ العَظِيمةُ، ويقال لِحَدِّ السيْفِ شَفْرةٌ أيضاً. ومنها: إِمْرَارُ السكينِ بقُوَّةٍ وتحامُلٍ ذَهَاباً وعَوْداً والجد في الإسْرَاعِ ليكون أَوْحَى وأَسْهَلَ. ومنها: استقبالُ الذَّابحِ القِبْلةَ، وتوجِيهُ الذبيحةِ إِلَيْها، وذلك في الهدْيِ والضحيةِ اْشَدُّ اسْتِحْباباً؛ لأن الاستقبالَ مُسْتحبٌّ من القُرُبَاتِ. ويُرْوَى عن جَابِرٍ -رضي الله عنه- أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ضَحَّى بكبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فلما وجههما قَرَأَ: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ [وَالْأَرْضَ]} الآيتيْنِ وكيف توجيهها (¬2)؟ ذُكِرَ فيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ: ¬
أَظْهرُهَا: وهو المذكورُ في الكتاب أنه يُوَجِّهُ مَذْبَحَها إلى القِبلة [ولا يوجِّه وَجْهَهَا؛ لأنه حِيئَذٍ يحتاج إلى أن يَسْتَدْبِرَ القِبلة] ويجعلها على يَسَارِه. وثانيها: أَنْ يُوَجِّهَهَا بجميعِ بَدَنِها. وثالثها: أَنَّهُ يُوَجِّهُ قَوَائِمَهَا. ومنها: التسميةُ عند الذَّبْحِ، وقد سبق ذكرها في "الصيد والذَّبَائِحِ، ولو ضَمَّ صاحبُ الكتاب ما ذَكَرَ هاهنا مِنْ مَسائِل التسمية إلى ما ذَكَر هناك، وأوردهما في أحد الموضِعَيْنِ -لكان أَحْسَنَ ويجوزُ أن يُعْلمَ قولُه "وأَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللهِ" بالحَاءِ والأَلِفِ؛ لأنهما لا يَعُدَّانِه من السُّنَنِ على ما سبق بيانُ مذهبِهمَا. ولا يجُوز أن يقول [الذابِحُ: بسم مُحمد ولا أن يقول] (¬1) باسْمِ الله واسم محمدٍ، وإنما هو حَقُّ لله تعالى أن تُجْعَلَ الذبائِحُ باسْمِه، وأن يكون اليمنُ باسْمِه وأن يكون الجود له لا يُشَارِكُه في ذلك خَلْقٌ. هكذا حكاه الصَّيْدَلانِي، والرُّويَانِي، وغيرُهما عن القَفَّالِ وذكر في "الوَسِيطِ" أنه لا يجوزُ أَنْ يقولَ بِاسْم اللهِ، ومُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ؛ لأنه لاَ شَرِيكَ، وكان لا يبعدُ أَنْ يجعل إضافَتَهُ إلى الله تعالىَ بالرسالةِ صَارفاً عَنِ [التَّشْرِيكِ] (¬2)، وإيهامه بخِلاَفِ ما إذا اقْتَصَر على العلم. قال ولو قال: باسْمِ اللهِ ومُحَمدٌ رسولُ الله، بالرفْعِ فلا بأسَ به. وتناسِبُ هذه المسائِلُ ما حكى في "الشَّامِل" وغيره عن النصِّ أنه لو كان لِأَهْلِ الكُفَّارِ ذبيحةٌ يذبحونها باسمِ غَيْرِ الله تعالى كالمسيحِ -لم يَحِلَّ. وفي كتاب القاضي ابنِ كج: أن اليهودِيَّ لو ذَبَح، لـ"مُوسَى" أو النصراني لو ذبح لِـ"عِيسَى" -عليه السلام- أو الصليب -حَرُمَتْ ذبيحتُه، وأَنَّ المسلِمَ لو ذبح للكعبةِ أو للرسول -صلى الله عليه وسلم- فيقوى أن يُقَال يحرمُ لأنه ذبح لغيرِ الله تعالى. وإن أَبَا الحُسَيْن خَرَّجَ وجهاً آخر: أنه يَحِلُّ لأن المسلمَ يذبح للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ولا يعتقِدُ في الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما يعتقده النصرانيُّ في عِيسَى -عليه السلام-. قال وإذا ذبح للصَّنَمِ -لم تُؤكَلِ الذبيحةُ سَوَاءٌ كان الذابحُ مُسْلِماً أو نصرانياً. وفي تَعْلِيقة إبراهِيم المرْورُّوذي أن ما يُذبْحُ عن استقبالِ السُّلْطانِ تقرُّباً إليه، أَفْتَى أهلُ بُخَارَى بتحريمهِ؛ لأنه مما أُهِلَّ به لغير الله تعالى واعلَمْ أن الذبْحَ للمعبُودِ وبِاسْمِه نازِلٌ منزلةَ السُّجُودِ له، وكل واحد منهما نوعٌ من أنواع التعظِيم والعبادَةِ المخصُوصَةِ بالله تعالى الذي هو المستحِقُّ للعبادةِ، فمَنْ ذبح لغيره مِنْ حَيَوَانٍ أو جَمَادٍ كالصَّنم على وَجْهِ ¬
التعظيم والعبادَةِ -لم تَحِلَّ ذبيحتُه وكان ما يأتي به كُفْراً كمَنْ سَجَدَ لغيرِه سَجْدَةَ عِبَادةٍ، وكذا لو ذَبَحَ له ولغِيْره على هذا الوجه. فأما إذ ذبح لغيرِه لا على هذ الوَجْهِ، كما إذا ضَحَّى غيرُه أو ذبح للكعبةِ تعظيماً لها؛ لأنه بيتُ الله تعالى، أو للرسولِ -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهذا لا يجوزُ أن يمنع الحِلَّ. وإِلَى هذا المعْنَى يرجع قولُ القائِل: أَهْدَى فلانٌ للحرَمِ أو للكعْبَةِ. ومِنْ هذا القَبِيل: الذبحُ عند استقبَالِ السُّلْطَانِ فإنه استبشَارٌ لقدُومِه نازِلٌ مَنْزلةَ ذَبْحِ العَقِيقَةِ لولادَةِ الموْلودِ، ومِثْلُ هذا لا يُوجِبُ الكُفْرَ، وكذا السجودُ للغير خُضُوعاً وتذلُّلا. وعلى هذا فإذا قال الذَّابحُ: باسمِ الله وباسم اسم مُحمدٍ، وأراد: أَذْبَحُ بِاسْمِ الله وأتبرَّكُ باسْمِ محمدِ فينبغي أَلاَّ يحرمَ. وقول مَنْ قال لا يجوزُ ذلك يمكِنُ أن يُحْمَل على أن اللفظةَ مكروهةٌ لأنها فيها الجمعُ والتَّشْرِيكُ، فالمكروه يَصِحُّ تَغْلِيباً للجوازِ والإِبَاحَةِ المطلقَةِ عنه (¬1). وكانت وقعت مُشَاجَرةٌ بين جماعةٍ مِمَّنْ لقيناهم مِنْ فُقَهاء "قَزْوِين". في أَنَّ مَنْ ذبحَ باسم الله واسم رسوله، هل تَحِلُّ ذبيحتُه؟ وهل يكفر بذلك؟ وأفضت تلك المشاجرةُ إلى فِتْنةٍ، والصوابُ ما بينا. ولا تُكْرَهُ الصلاةُ على النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الذَّبْحِ، خِلاَفاً لأبي حَنِيْفَةَ ومَالِكٍ، وأَحْمَدَ رحمة الله عليهم. وعن نَصِّه -رضي الله عنه- في "الأُمِّ" أنها مُسْتَحَبَّةٌ كما في سائِر الحَالاَتِ. وعن ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنها لا تُسْتَحَبُّ ولا تُكْرَهُ (¬2). ومِنْهَا: المستحبُّ في الإبِل النَّحْرُ، وهو [قطعُ] (¬3) اللَّبَّةِ من أَسْفَلِ العُنق، ومن البَقَرِ والغَنَم الذّبْحُ؛ وهو قَطْعُ الَحلْقِ أَعْلَى العُنُقِ، وذلك لأن عنقَ الإِبِل طوِيلٌ فإذا قطع أَعْلاَهُ تبَاطَأَ خُرُوجُ الرُّوحِ، والمرعى في الحالتَيْنِ قَطْعُ الحلقُوم والمِريءِ. ولو ذَبَحَ الجازِرُ الابلَ أو نحو البقرَ والغنمَ ثبت الحِلُّ، ولم يكره فِعْلُه وإن ترك المستحب. ¬
وفيه قولٌ أنه يُكْرَهُ. وعن مَالِكٍ: أنه لا يحلُّ إذا ذبح البَعِيرَ أو نحرَ الشَّاةَ، وفي البقرِ يحصل الحلُّ بالطريقَيْن. والأَوْلَى أن ينحر البعيرُ قَائِماً على ثَلاَثِ قَوَائِمَ مَعْقُولُ الرُّكْبَةِ (¬1)، وإلا فَبَارِكاً وأن تُضْجَعَ البقرة والشاةُ على الجنْبِ الأَيْسَرِ (¬2)، ويتركُ رِجْلُها الأَيْمنُ وتشد القوائم الثلاث. ومنها: إذا قطع الحلقومَ والمرِيءَ من الحيوان، فينْبَغِي أن ينكف ولا يبينُ رَأْسَه في الحال ولا يَزيدُ في القَطْع حتى يبلغ النُّخَاعَ. وفسره بعضُهم [بعظم] (¬3) الرقَبَةِ المتَّصِل بالقَفَا، وآخرون قالوا: إنه عَرْقٌ أبيضُ يمتد من الدِّمَاغِ إلى الظاهِر إلى عَجْبِ الذَّنَبِ. ولا يُبَادَرُ إلى سَلْخِ الجِلْدِ، ولا يَكْسِرُ القفارَ، ولا يقطع عُضْواً من الأَعْضَاءِ [ولا يحرك البَهِيمة] (¬4) ولاَ يجرُّهَا مِنْ مكانِ إلى مَكَانِ، بل يترك جَمِيعَ ذلك إلى مفارقَةِ الرُّوحِ، ولا يمسِكُها بعد الذبح؛ لِئَلاَّ تضطربَ، والأَوْلَى أن تُسَاقَ إلى المذْبَحِ برفْقٍ، وتضجعَ برفْق، ويَعْرِضَ عليها الماءَ قبل الذبح ولا يحِدُّ الشِّفْرةَ في وَجْهِهَا، ولا يذبح بَعْضَها في وَجْهٍ بَعْضٍ. قال الغَزَالِيُّ: وَيَقُولُ في الضَّحِيَّة: اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا مِنْكَ وَإلَيْكَ فَتَقبَّل مِنِّي* وَيَنْوِيْ عِنْدَ التَّضْحِيَةِ وَإِنْ كان قَدْ عَيَّنَ الشَّاةَ* وَإنَّمَا تَتَعَيَّنُ بِقَوْلهِ: جَعَلْتُ هَذِهِ ضَحِيَّةً* وَلَوْ نَذَرَ ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ عَنْ نَذْرِي فَفِي التَّعْيِينِ وَجْهَانِ* وَلَوْ قَالَ: للهِ عَلَيَّ التِّضْحِيَةُ بِهَذِهِ الشَّاةِ فَفِي التَّعْيِينِ وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلَى بِأنْ يَتَعَيَّنَ* وَلَوْ عَيَّنَ الدَّرَاهِمَ لِلصَّدَقَةِ لَمْ تَتَعَيَّنْ* وَلَوْ نَذَرَ الضَّحِيَّةَ فَفِي تَعْيِينِ وَقْتِ الضَّحِيَّةِ خِلاَفٌ* وَيُسْتَحَبُّ لِلمُضَحِّي أَنْ لا يَحلِقَ وَلاَ يُقَلِّمَ في عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ تَكْمِيلاً لِلأَجْرِ وَرَجَاءً لِلعِتْقِ مِنَ النَّار فيهَا. قال الرَّافِعِيُّ: لما تكلَّم فيما يعتبر في مُطْلق الذبح ليفيد الحل، وفي سُنَنَه، وآدابِه أراد أن يتكلَّمَ فيما يختص بذبح الضَّحيةِ فذكر ثلاثَ مَسائِلَ: إِحداها: يُسْتحب أَنْ يقولَ عند التضحِيَةِ: "اللَّهُمَّ مَنْكَ وإِلَيْكَ فتقبلْ مِنّي". والمعنى: هذه نعمةٌ وعطيةٌ منك وسعيُها وتقرِيبُها إليك، واحتج له بما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال عند التضحية بذلك الكَبْشِ؛ "اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ" وعن "الحَاوِي" ذكر ¬
وجْهَيْن في استحبابه. وقال أَبُو حنيفةَ: إنه مكروهٌ. وعن مالك: مِثْلُه. وفي "البَحْر" أنه رُوِيَ عن بعْضِ السَّلَفِ أنه يقول: تَقَبَّلْ مني كما تقبلت مِنْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِكَ، ومُوسَى كَلِيمِكَ، وعِيسَى رُوحِكَ، ومُحمّدٍ عَبْدِكَ ورَسُولِكَ -صلوات الله عليهم أجمعين، فإنَّ أصحابَنا قالوا: لا يُكْرَهُ ذلك ولا يُسْتَحبُّ؛ لأنه لا يُسَاوِيهم غيرُهم فيها، لكن يجوز أن يكون المسؤُولُ التشرِيكَ في أَصْل التقبل. وعن "الحَاوِي" أنه يُخْتَارُ في الأُضْحِيَةِ أن يكبِّرَ الله تعالى قبل التسمية وبعدها ثَلاَثاً ويقول: اللهُ أكبرُ اللهُ أكبر اللهُ أكبرُ وللهِ الحمدُ؛ لأنه في أَيَّامِ التكبير. الثَّانِيَةُ: قدَّمْنَا أن النيةَ شرطٌ في التضحية وذكروا وجهيْن في أنه إذا عَيَّن الشاةَ وجعلها أُضْحيةً؛ هل يُغْنِيه ذلك عن تَجْدِيد النيةِ عند الذبْح، وبيَّنَّا أن جوابَ صاحب الكتاب أن يغنيه. والوجْهُ أن يحمل قولُه هاهنا ويَنْوِي عند التَّضْحِيةِ. وإن كان قد عَيَّن الشاةَ على أنه يُسْتَحِبُّ ويحْسُنُ التجديدُ بعد التعْيِين السابِقِ، وإن كان التَّعْيِينُ مُغْنياً عنه. ولو حُمِل على الوجُوبِ كان ذلك مُنَاقِضاً لقوله مِنْ قَبْلُ. ولو قال: جعلتُ هذه الشاةَ ضحيةً أغناه ذلك عن تَجْديدِ النِّيةِ عند الذبْح. ثم ذكر صاحبُ الكتابِ هاهنا قاعِدَتيْنِ تتعلقَان بالضحية المعنية. إحداهما فِيما يحصلُ التعْيينُ، ومهما كانت في مِلْكِه بدنةٌ أو شَاةٌ فقال جعلتُ هذه ضحيةً [أو هذه ضحيةً (¬1)] أو عليّ أن أُضَحِّيَ بها صارت ضَحيةً مُعينةً. ويجوزُ أن يُعْلَم قولُه في الكتاب "وإنَّما يتعيّنُ" بالحاءِ؛ لما سنذكر أَنَّ عنده يجوزُ إِبْدَالُها بغيرها. وكذا لو قال: جعلتُ هذه هَدَايَا أَوْ هَذا هَدْيٌ أو عليّ أَنْ أهدي به يَصِيرُ هَدْياً، وشرط بعضُهم أن يقولَ مع ذلك؛ لله تعالى. قال في "التهذيب": والمذهبُ الأولُ، وشبه ذلك بتوجِيه العتق تَنْجِيزاً على العَبْدِ. قال الإمامُ [تَشْبيهُهُ بتعيين] (¬2) الشيْءِ للوقْفِ والحبْسِ أقربُ، فإن الضيحةَ لا تخرجُ عن الماليَّةِ وإِنْ تَعيَّنَ كالعَيْنِ المحتبسةِ والعبدُ الذي وجد عليه العتق يخرُجُ عن المالِيَّةِ بالكُلِّية، وهذا لا يسلمه الأَوَّلُونَ، بل صَرَّحُوا بزوال المِلْكِ عن الهدْي [والأُضْحيةِ المعنيَّةِ كما سيأتي إن شاء الله تعالى بتفارِيعه] (¬3)، وكذلك لو نذر أن يتصدَّقَ بمالٍ بعَيْنهِ- يزولُ مِلْكُه عنه بخلاَفِ ما لو نَذَر إعتاقَ رقبةٍ بعيْنها لا يزول مِلْكُه عنها ما ¬
لم يُعْتَقْ؛ لأن المِلْكَ في الهدْي والأُضْحيةِ والمالِ المعيَّنِ ينتقل إلى المسَاكِينِ، وفي العَبْدِ لا ينتَقِلُ المِلْكُ إليه بل ينتقل الملك بالكُلِّية وإن لم يتلفظ بشيْءٍ، ونوى جعْلَ الشاةِ هَدْياً أو أضحيةً -لم تصر هَدْياً أو أُضْحيةً على القوْلِ الجَديدِ، كما لا يحصلُ العِتْقُ والوقْتُ إلاَّ باللفْظِ. والقَدِيمُ ويُحْكَى عن اختيارِ ابْنِ سُرَيْج وَالإِصْطَخْرِيّ -أنه لا حاجةَ إلى اللفْظِ؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أَهْدَى ولم ينقل أنه تلفَّظَ بشِّيْءٍ، وعلى هذا فبم تَصِيرُ هَدْياً وأضحية؟ فيه وُجوهٌ: أَحدُها: وبه قال ابن سُرَيْج بمجردِ النيَّةِ كما يدخل في الصَّوْمِ بالنية. والثاني: وبه قال الإصطخري، بالنيَّةِ والتَّقْلِيد أو الإشْعَارِ لتنضم الدلالةُ الظهِرَةُ إلى النيةِ البَاطِنَةِ فيقوم مقامَ اللَّفْظِ. والثَّالِثُ: بالنيةِ والذَّبْحِ؛ لأنه المقصودُ وهو كالقبْضِ من الهِبَةِ. والرَّابعُ: بالنيَّةِ والسَّوْقِ إلى المذْبَحِ. وإذا لزمه هَدْيٌ أو أضْحيةٌ بالنذْرِ وقال: عيَّنْتُ هذه الشاةَ لنذري أو جعلتُها عن نَذْرِي، أو قال: لِلَّه عَلَيّ أَنْ أُضَحي بها عما في ذِمّتي فَفِي تَعْيِينها وَجْهانِ نقلهما الإِمامُ. أَظْهرُهما: وهو الذي يوجد لأكثرهم -التعيِينُ وبل أَوْلَى؛ لأنه لو أَوْجَبَ على نَفْسِه ابتداءً، ولا شَيْءَ عليه تَعَيَّنَ ما عَيَّنَهُ فإذا عيَّن عما هو واجبٌ عليه كان أَوْلَى بأن يتعين. هكذا وجه ابْنُ الصَّبَاغِ وغيرُه. والثَّانِي: لاَ يَتَعَيَّنُ؛ لأن الملتزِمَ في الذِّمَةِ دَيْنٌ، والديْنُ لا يتعين إلاَّ بالإبقاء على المستحق. وحكى الإمامُ هذا الخِلافَ في صُوَرٍ سَرَدَها، ورتَّبَ الخلافَ في بعضها على بَعْضٍ نُورِدُها مع زَوَائِدَ: فمنها: لو قال ابتداء لله على التضحية بهذه البَدَنَةِ أو الشاةِ فعليه التضحيةُ، وفي تَعْيينِ تلك الشَّاةِ وجْهَانِ، وهذه الصورةُ أَوْلَى بالتعْيِين لأنه لم يتجرّدْ الاِلْتِزَامْ على التَّعْيِينِ. وهذا هو الصحيح. ولو قال: لله عَلَيَّ أن أَعْتِقَ هذا العبدَ -يلزمُه العِتْقُ، وفي تعيين ذلك العبْدِ وجهانِ مُرَتَّبانِ على الخِلاَفِ في مِثْلِ هذه الصُّورَةِ من الأُضْحية والعبْدُ أَوْلَى بالتعيينِ؛ لأنه ذُو حَقٍّ وحَظٍّ في العِتْق بخلاف الأُضْحيةِ، فلو كان قد نذر إعتاقَ عَبْدٍ ثم عَيِّنَ عبداً عما التزمَ، فالخِلاَفُ مرتَّبٌ على الخلاف في مِثْلِه من الأُضْحية.
ولو قال: جعلتُ هذا العبْدَ عَتِيقاً -لم يُخْفَ الحُكْمُ. ولو قال: جَعَلْتُ هذه الدراهِمَ أو هذا المالَ صدقة فَفِيه وَجْهانِ، قد يوجه التعيينُ بالقِياسِ على ما إذا قال: جعلتُ هذه الشاةَ ضحيةً، والآخر بأنه لاَ فَائِدَةَ في تَعْيينِ الدراهِمِ، والشاةُ يُفْرَضُ اختصَاصُها بِسِمَنٍ وَحسْنٍ مَنْظَرٍ وغَيْرِهما وتفاريعُ الأئِمَّةِ لِلتَّعْيِين أَوْفَقُ. ولو قال عَيَّنْتُ هذه الدَّرَاهِمَ عَمَّا في ذِمتِي منْ زكاةِ أَوْ نَذْرٍ، فَقَدْ ذكر الإمامُ أَنَّ الأصحابَ قطعُوا بأنه يلغو؛ لأنَّ التعيينَ ضَعِيفٌ في الدَّرَاهِم، وتَعْيِينُ ما في الذِّمَّةِ ضعيفٌ فيه، فإذا اجتمع سَبَبُ الضَّعْفِ لغى، وقد يِقَاسُ ذلك علىَ تَعْيِين الدَّرَاهِم كديون الآدَمِيِّين. قال: وَلَيْسَتِ الصورةُ خَاليةً عن الاحتمَالِ (¬1). وقولُه في الكتاب: "ولو عيَّن الدراهمَ للصدقةِ، لم يتعيَّنْ، يمكنُ حملُه على هذه الصورةِ إلى الصدَقَةِ الثابتة في ذِمَّته، ويمكن حملُه على ما إِذَا قال: جعلتُ هذه الدراهمَ صدقةً، أو: لله عليّ أن أتصدَّقَ بهذه الدراهِمِ، والأَوَّلُ أَوْلَى؛ لأن الأَقْرَبَ إلى اختيارِ الأَئِمة السَّالِفِين -رحمهم الله- في الصورة الثانية التعيين فلو حُمِل عليها كان جوابُه على خلافِ جوابِهم. الثانيةُ وقْتُ التَّضْحِية للمتطوِّع بها قد تبيَّن من قبلُ. قال الرُّوَيانِي: فإذا أراد التطوّعَ بالذبح، وتَفْرِيق اللحم في غير أَيَّام التشرِيقِ -يحصلُ له ثوابُ الصدقةِ ولا تحصلُ الأُضْحيةُ ولا ثوابُها. ولو قال: جعلتُ هذه الشاةَ ضحِيةً فوقْتُها قوتُ المتطوع بها. ولو قال: لِلَّه عليِّ أن أُضَحِّي بشاة، فهل [تتأقَّتُ] (¬2) بذلك الوقْتِ؟ فيه وجهانِ: أَحدُهما: لاَ؛ لثبوتها في الذَّمِّةِ كما في دماءِ الجُبْرانَاتِ. وأظْهرُهما: نَعَمْ؛ لأنه التزمَ ضحيةً في الذمةِ، والضحيةِ مؤقَّتة وعلى هذا ينطبقُ ما حكى الرُّوَيانِي عن الأصْحاب أنه لا تجوزُ التضحية بعد أيام التشْرِيق إلا أُضْحيةً واحدةً -وهي التي أَوْجبها في أيامها أَو قبلِها ولم يذبحْهَا حتى فات وقتُها، فإنه يذبحها قضاءً. فإن قُلْنا: لا تتأقتُ فلو التزم بالنذْرِ ضحيةً، ثم عيَّن واحدةً عن نذره وفرّعْنا على أنها تتعيَّنُ، وهل تتأَقّتُ التضحيةُ بها؟. فيه وجهان: أحدُهما: نعم -كما لو قال: جعلتُ هذه ضحيةً، ولم يلتزم في الذمة. ¬
وأَقْيسُهما: لا؛ لأنه عيّنَها عما التزم وما التزم غير مؤقَّتٍ على هذا الوجه. المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ (¬1): يُسْتَحَبُّ لمن أرادَ التضحيةَ أَلاَّ يحلِقَ شعرَه، ولا يقلّم ظُفْرَه في عَشْرِ ذِي الحِجّةِ حتى يُضَحّي (¬2)، فإن خالف فقد فعل مَكْرُوهاً. وعن أَبِي حنيفةَ: أنه لا يُسْتحبُّ تركُ الحلْقِ والقلْم بل يكرهُ. وقال أحمدُ: يجب ترْكُهما. وفي "الرّقمِ": أَنَّ لبعض أَصْحابنا تخريجاً [مِثْلَه] (¬3). ويُروَى عن مالكٍ [مِثْلُ قولنا، ويُرْوَى مثل] (¬4) قول أَبِي حنيفةَ. لنا ما رُوِيَ عن أم سَلَمةَ -رضي الله عنها- قالت: قال رسُول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلاَ يَمَسّ مِنْ شَعَرِهِ وَلاَ بَشَرِهِ شَيْئاً" (¬5). والمقصودُ مِنْه الكراهةُ دُونَ التحريم. واحتج له بما رُوِي عن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أنها قالتْ: "كُنْتُ أَقْتِلُ قَلاَئِدَ هَدْيِ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ثم يُقَلّدُهَا هو بيَدِه ثم يَبْعَثُ بها فلا يحرم عليه شيءٌ أَحَلَّهُ اللهُ له حتى يُنْحَرَ الهدْيَ" (¬6) وذكر فيه معنيانِ: أَحدُهما: التشبيهُ بالحاجِّ، واعتُرِض عليه بأنه لو كان كذلك، لأمرَ بترك التطيُّيبِ ولُبْسِ المخِيطِ. وأَظْهرُهما: وهو المذكورُ في الكتابِ: أن التضحيةَ سببُ الغُفْرانِ والعِتْق من النار، وقد ورد أن الله تعالى يَعْتِقُ بكل عُضْوِ من الضحية عُضْواً من المُضحّي؛ فاستحب أن يكون على أَكْمل الأجزاء ليعتق من النَّارِ. ويجوزُ أن يُعْلَم -لما بينا- قولُه في الكتاب "وَاسْتُحِبَّ" بالحاءِ والمِيمِ والأَلِفِ [والواوِ وقولُه "ولا يُقَلِّم] " (¬7) بالواوِ؛ لأن في "الحَاوِي" أن قوله في الخبر: "فلا يَمَسُّ مِنْ شَعَرِه وبَشَرِه" له تأْوِيلان عن الشَّافعي -رحمه الله-: ¬
أحكام الضحايا
أَحدُهما: أن المرادَ من الشعر شعرُ الرأْسِ، ومن البَشَرِ شعرُ البدَنِ، وعلى هذا لا يكره تَقْلِيمُ الأَظْفَارِ. والثَّانِي: أن المرادَ من البَشَرِ تقليمُ الأَظْفار. وكذا قوله: "فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّة"؛ لأنه حكى وجه؛ أن الحلْقَ والقَلْمَ لا يكرهانِ باستهلالِ ذي الحجَّة، وإنما يكرهان إذا دخل العشْرُ واشترى [أُضْحيةً أَوْ عيَّن] (¬1) واحدةً مِنْ مَوَاشِيَه للتضحية. قال الغَزَالِيُّ: (النَّظَرُ الثَّانِي في أحْكَامِ الضَّحَايَا) وَهِيَ ثَلاَثَةٌ: (الحُكْمُ الأَوَّلُ) إِذَا قَالَ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ ضَحِيَّةً فَمَاتَتْ فَلاَ شيْء عَلَيْهِ وَإِنْ عَيَّنَها عَنْ نَذْرٍ سَابِقٍ وَقُلْنَا تَتَعَيَّنُ فَمَاتَتْ فَفِي وُجُوبِ الإِبْدَالِ وَجْهَان* وَإِنْ أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ فَيَشْتَرِي بِقِيمَتِهَا أُخْرَى* فَإِنْ لَمْ تَفِ القِيمَةُ بِشَاةٍ كَامِلَةٍ اشْتَرَى بِهَا شِقْصاً لِلضَّرُورَةِ* وَعَلَى وَجْهٍ يُصْرَفُ مَصْرِفَ الضَّحَايَا* وَلَوْ أَتْلَفَ المَالِكُ وَنَقَصَتِ القِيمَةُ فَفِي وُجُوبِ التَّكْمِيلِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ* وَلَوْ زَادَتْ القِيمَةُ اشْتَرَى بِهَا كَرِيمَةً* فَإنْ لَمْ يُوجَدْ فَشِقْصٌ آخَرُ عَلَى وَجْهٍ* وَعَلَى وَجْهٍ يَشْتَرِي خَاتَماً فَيَتَخَتَّمُ بِهِ أَوْ بِصَرْفه مَصْرِفَ الضَّحَايَا. قال الرَّافِعِيُّ: النظرُ الثانِي: حضر أحكام الضَّحَايَا في ثلاثة أنواع: أحدُها: فيما يتعلّقُ بتلَفِها وإِتْلاَفِها، ويقدم عليه أن الأُضْحيةَ المعيَّنةَ، والهدْيَ المعيَّن يزول مِلْكُ المتقرِّب عنهما، ولا ينفذ تصرفُه ببيع، أو هِبَةٍ وإبْدَالٍ بمثله وبخير منه؛ لما روي أن عُمَرَ -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رسولَ الله؛ إني أوجبتُ على نَفْسِي بَدَنَةً وهي تُطْلَبُ مِنِّي بِنُوقٍ فقال -عليه السلام-: "انْحَرْهَا وَلاَ تَبِعْهَا وَلَوْ طُلِبَتْ بمِائَةِ بَعِير" (¬2). وعن عَلِيٍّ -رضي الله عنه- أنه قال: مَنْ عَيَّنَ أضحيةً فلا يستبدلَ بها (¬3). وفي "شَرْح الفُرُوعِ" للشيخ أَبِي عَلِيّ وجهٌ آخرُ: أنه لا يزولُ المِلْكُ عنه حتى يَذبَحَ ويتصدَّقَ باللحم. كما لو قال: لله عليّ أن أعْتِقَ هذا العبْدَ، لا يزولُ مِلْكُه إِلاَّ [بإعتاقِه] (¬4)، ولكن الفرْقَ ما تقدَّمَ. ¬
وعن أَبِي حَنيفةَ: لا يزولُ المِلْكُ عنها، وله بيعُها وإبْدَالُها. ولو نذر العِتْقَ في عَبْدٍ بعَيْنِه، لم يجز بيعُه وإِبْدَالُه، وإن لم يزل المِلْكُ عنه. وقال أَبُو حنيفةَ: يجوزُ. ولو خالف ما ذكرناه وباع الأُضْحيةَ والهدْيَ المعيَّنَ -فيُسْتردُّ إن كانت العيْنُ باقيةً، ويردُّ الثمنَ. وإن أَتْلَفها المشتَرِي أو تلِفَتْ عنده فعلَيْه القيمةُ أكثر ما كانت من يوم القَبْضِ إلى يوم التَّلَفِ. والناذِرُ يَشْتَرِي بتلك القِيمَةِ مِثْلَ الذي تلِفَ جِنْساً ونَوْعاً وسِنّاً فإن لم يجِدْ بالقِيمَةِ المثْلَ لغلاء حَدَثَ فيضم إليها مِنْ عنده ما يتم به الثمنُ، وهذا معنى قولِ الأَصْحابِ: إنه يضْمَنُ ما باعَ بأكثر الأَمْرَيْن مِن قِيمته ومِثْله. وإن كانت القيمةُ أكْثَر من ثَمَنِ المِثْلِ لِرُخْصٍ حادثٍ، فعلى ما سنذكرُ إنْ شاء الله تعالى في نظيره ثم المثل إنِ اشْترى بعيْنِ القيمةِ -صار المُشْتَري ضحيةً [بنفس الشراءِ] (¬1)، وإنِ اشْتراه في الذِّمة ونوى عند الشراءِ أنَّها أُضْحيةٌ فكذلك، وإلاَّ فليجعله بعد الشراء أُضْحِيَةً؛ ذكره الرُّوَيانِي وغيره. وكما لا يصحُّ بيعُ الضحية التي عُيِّنَتْ -لاَ يَصِحُّ إجارتُها؛ اتباعاً للمنافع بالأَعْيان ويجوزُ إعارَتُها؛ لأنها إرفاقٌ. ولو [ركبها] (¬2) المُسْتأْجِرُ فتلِفَتْ ضمن المؤَجِّر قِيمتَها والمستأجر الأُجْرة، وفي الأجرة التي يضمنها وجهانِ: أَظْهرُهما: أُجْرةُ المِثْل. والثاني: الأكثرُ مِنْ أُجْرةِ المِثْل والمُسَمَّى، ثم يصرفها مصرف الضحايا أو الفقراء خاصةً؟ حكى "صاحب البَحْر" فيه وجهين. إذا تقرر ذلك فلو قال: جعلتُ هذه البدَنَةَ أو الشاةَ ضَحِيَّةً، أو نذر أَنْ يُضَحِّي ببدنةٍ أو شاةٍ عَيَّنَها فماتَتْ قبل يوم النَّحْر أو سُرِقَتْ قبل أن يتمكَّنَ مِنَ الذَّبْحِ يوم النحر -فلا شَيْءَ عليه، وكذا الهَدْيُ المَعيَّن إذا تَلِفَ قبل بلُوغِ المنسَكِ أو بَعْدَهُ وقبل التمكُّنِ من الذبح. ولو كان في ذِمَّتِه دَمٌ عن قِرَانٍ أو تمتُّعٍ أو أُضْحيةٍ أو هَدْيٍ عن نَذْرٍ مُطْلق ثم عُيَّن بدنةً أو شاةً عما في ذِمَّته -فقد قدَّمْنَا خِلاَفاً في أنها هل تتعيَّينُ؟ وَالظاهِرُ التَّعْيِينُ، وحينئذٍ فالظاهِرُ زوالُ المِلْكِ عنها؛ كالمعينة ابتداءً لكن لو تَلِفَتْ ففي وُجُوبِ الإِبْدَالِ وَجْهانِ رواهما الإمامُ وصاحبُ الكتاب: أَحَدِهما: المنعُ؛ لأنَّها تعينت بالتعْيِين فتلتحِقُ بما إذا قال: جعلتُ هذه الشاةَ ضحيهً. ¬
وأَصَحُّهما: وهو الذي اقتصر عليه المعظُم؛ الوجوبُ؛ لأن ما التزمَهُ يثبت في ذِمَّته (¬1)، والمعيَّنُ وإنْ زال مِلْكُه عنه فهو مَضْمونٌ عليه، كما لو كان لرجُلِ على آخر دَيْنٌ فاشترى منه سِلْعة بذلك الدَّيْن (¬2) ثم تلِفَتِ السلعةُ قبل التَّسْلِيم في يَدِ بائِعِها -فإنه ينفسِخُ البيعُ ويعودُ الدَّيْنُ؛ كذلك هاهنا يبطل التعيِينُ ويعودُهَا في ذِمَّته كما كان. وفي "الشَّامِلِ" أن على قول ابْنِ الحدَّادِ في صورة التعييب (¬3) على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. إن تلِفَ [الهديُ] (¬4) بعد الوُصُولِ إلى المقام توسُّعاً وذلك لأنَّ ما [يؤديه] (¬5) بعد تلَفِ المعيَّن ليس بَدَلاً عنه، ولكن يَعُودُ الدَّيْنُ علىَ رَأْي، وما يُؤَدِّيه يؤديه عما في الذمِّةِ واللفظة الناصَّة على الغرضِ أنه هل يَبْطُلُ التَّعْيِينُ ويعود الدِّين أم لا؟. هذا إذا تَلِفَ الهديُ والأُضْحيةُ المعيَّناِن، وإن فُرِض إتلافٌ فينظر، إنْ وُجِد من أَجْنبيٍّ، فعلَيْه القيمةُ يأخُذُها المضحِّي ويشتري بها مِثْلَ الأول فإنْ لم يجِدْ بها مِثْلَ الأول، اشْتَرى ما دُونه ويخالف ما إذا نَذَرَ إعتاقَ عَبْدِ بعيْنِه فقُتِل حيثُ يأْخُذُ القيمةَ ولا يلزمه أن يشتري بها عَبْداً آخر ويَعْتِقَه؛ لأن مِلْكَه هنا لم يزل عنه، ومُسْتحقُّ العِتْقِ العبدُ وقد هلكَ بالقَتْلِ ومُسْتَحِقُّو الهدْي والأُضْحية باقُونَ، وإن لم يجدْ بها ما يصلح للهدْي والأضحيةِ. فعن "الحَاوِي" أن علَى المضحِّي أن يُضُمَّ من عنده إلى ما أخذه مَا يَحْصُلُ به أُضْحيةً؛ لأنه قَدِ التزمَهَا، ومن قال بهذا فيُمْكِنُ أن يطرده في التَّلَفِ [وهذا الذي في "الحاوي" شاذٌ] والصحِيحُ المشهورُ أنه لاَ شَيْءَ عليه؛ لأنه لم يُوجَدْ مِنْه تقصيرٌ ولا إِتْلافٌ، وعلى هذا فإنْ أَمْكَن أن يَشْتَرِيَ بها شِقْصاً مِنْ هَدْيٍ أو أُضْحيةٍ، ففيه وجهان: أَصَحُّهمَا على ما ذكره القاضي الرُّوَيانِي: أنه يلزمه شِرَاؤُه، والذبح مع الشِّرِيك، ولا يجوزُ إخراجُ القِيمة، كما لا يجوزُ إخراجُها في الأَصْلِ بدلاً عن التضحية. والثَّانِي: يجوزُ -لأنَّ في شِراءِ الشِّقْصِ مَشَقَّةٌ وتجعل الدراهِمُ أَصْلاً؛ كما في الجبْرانِ في الزكاة، ويُحْكَى هذا عن أبي إِسْحاقَ، وقرَّب الإمامُ الوجْهَيْن من الخلاف فيما إذا أخرج واجِبَ مَالِه بحساب الحقَاقِ وبناتِ اللَّبُونِ، وأخرج غيرَ الأغبط، وأَلْزمْناهُ [جَبْرَ] (¬6) التفاوُتَ، هل يجوزُ إخراجُ الدراهم أو عليه صرفُها إلى شِقْصٍ، ثم إذا قلنا بالوجْهِ الثاني فقد أطلَقَ مُطْلِقُونَ: أنه يتصدَّقُ بها، وعبارةُ الإمامِ: أنه يصرِفُها إلى مَصْرِف الضحايا حتى لو أراد أن يتَّخِذَ مِنْه خاتماً يَقْتَنِيه ولا يَبِيعه -فله ذلك، وهَذا ¬
أَوْجَةٌ، ويُشْبه ألاَّ يكونَ فِيه خلافٌ محقق لكنَّ مقصودَ الوجْهِ أَلاَّ يجبَ شراءُ الشِّقْصِ، ويجوز إخراجِ الدراهِمِ، وقد يُتساهَلُ في [ذكْر المصرِفِ] (¬1) في مثل ذلك (¬2). وفيه وجْهٌ ثالِثٌ: أنه يشترِي بها لَحْماً، ويتصدَّقُ به؛ فإنه أقربُ إلى التضْحِية مِنْ تَفْرِقَةِ الدَّراهِمِ، فإن كان الدراهمُ قَدْراً لا يمكِنُ أَنْ يَشْتَرِيَ بها شِقْصاً؛ لقلته -سقط الوجْهُ الأول، ويبقى الثانِي والثَّالثُ. وعَنِ "الحَاوِي" ترتيبٌ حَسَنٌ لأحوالٍ تُفْرَضُ في هذه الصورة وهي أنه إذا كان المُتْلَفُ ثَنِيَّةً من الضَّأْنِ مثلاً، ولم يمكن أن يشتري بالمأْخُوذِ مِثْلَها أو أمكن أَنْ يشتريَ به (¬3) جَذَعَةً من الضأْنِ وثَنِيَّةً من المعْزِ فيتعينُ الأَوَّلُ؛ رعايةً للنوع، وإن أمكن شراءُ الثنية من المعْزِ وما دون الجذَعَةِ من الضَّأْنِ، فيتعين الأول لأن الثاني لا يصلح للتضحية. وإن أَمْكَن شراءُ ما دُون الجدَعَةِ وشراءُ سَهْم من الضحية، فيتعيَّن الأول؛ لأن التضحيةَ لم تحصُلْ لواحدٍ منهما، وفي الأول إراقة دَمٍ كامل. وإن أمكن شراءُ سَهْمٍ، وَشُرَاءُ لَحْمٍ -فيتعيَّن الأولُ؛ لأن فيه شِرْكةً في إراقَةِ الدَّمِ، وإن لم يمكن إلاَّ شراءُ اللحم وتفرقةُ الدراهِم- فيتعيَّن الأولُ؛ لأن اللحمَ هو مقصودُ الأُضْحية، وإن وُجِد إتلافٌ منَ المضحي فوجهان ذكرهما الإمامُ: أَحدُهما: أن الواجِبَ عليه قيمتُه يوم الإِتْلافِ كالإِجْنبي، وبهذا قال أَبُو حَنِيفَة وأحمدُ -رحمهما الله-. وأَصحُّهمَا: أنه يلزمه أكثرُ الأَمْرَيْنِ من قيمتهِ، وتحصيل مثله كما ذكرنا فيما إذا باع الأُضْحيةَ المعيَّنة، وتلِفَتْ عند المشتري؛ واحتج له بأن مَنْ نذر أضحيةً فقد ألزم نفْسَه أمريْن مقصودَينِ -وهما النحرُ وتفرقةُ اللحمِ. فإن كانت القيمةُ أكثرَ، لزمه ذلك اللحمُ، وإن كان المثل أكثر لزمه ذلك؛ لتحصيل النَّحْرِ (¬4) فهو كما لو نَذَرَ أُضْحِيتْينِ ثم أَتْلَفهما عليه ضمانهما، وعلى هذا فإن كانت قيمةُ يوْم الإتلافِ أكثرَ ثم رَخُصَتِ الغنمُ وأمكن شراءُ مِثْلِ الشاةِ الأُولَى ببعضها فيشتري بها كَرِيَمةً، أو شاتين فصاعداً، وإن لم يُوجَدْ كريمةٌ وفضل مالاً يفي بأُخْرَى فعلى ما ذكرنا فِيما إذا لم تَفِ القيمةُ عند إتلافِ الأَجْنبِيّ بشاة وهاهنا وجهٌ: أَنَّ له أنْ يَصْرِفَ ما فَضَلَ عن واحدٍ إلى غير المِثْل؛ لأن الزيادةَ بعد حُصُولِ المِلْكِ كابتداء الضحية. ¬
ووجْهٌ: أنه يملكُ ما فَضَل. إذا تمكن (¬1) مِنْ ذَبْحِ الهدْي بَعد بلوغ المنسكِ أو من ذبح الأُضْحيَةِ يومَ النحْرِ فلم يذبح حتى تَلِفَ -فهو كالإتلاف؛ لتقصِيره بتأْخر الذَّبْحِ. وقولُه: "وعلى وجْهٍ يشترِي خَاتِماً ويتختِمُ به أو يصرِفَه إلى مَصْرِف الضحايا" يعني سائر مصارِف الضَّحَايَا وإلاَّ فاقتناؤه خاتماً لينتفع بعيْنهِ من المصارِف، ولم يذكِر الإِمام شراء الخاتَمِ بها، إنما ذكر اتخاذه منها. فَرْعٌ اسْتحبَّ الشافِعِيَّ -رضي الله عنه- أن يتصدَّقَ بالفاضِلِ الذي لا يَفِي بشاةٍ أُخْرَى ولا يأْكُلَ منه شَيْئاً، وفي معناه البدلُ الذي يذبحه. وعن أبي عَلِيٍّ الطَّبرِيّ وجهٌ: أنه لا يجوزُ له الأكْلُ منه؛ لتعديه بالإتلاف. قال الْغَزَالِيُّ: أَمَّا إذَا ذَبَحَهَا أَجْنَبِيٌّ فِي وَقْتِ التَّضْحِيَةِ فحَيْثُ لاَ يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ للتَّعْيِينِ السَّابِقِ وَقَعَ المَوْقِعَ* وَفِي لُزُومِ أَرْشِ الذَّبْحِ وَجْهَانِ* وَحَيْثُ تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فَاتَتِ القُرْبَةُ وَيُصْرَفُ لَحْمُهَا مَصْرِفَ الضَّحَايَا عَلَى وَجْهٍ* وَيُؤْخَذُ القِيمَةُ مِنَ الذَّابِحِ وَيُصْرَفُ فِي الأُضْحِيَةِ* وَيَنْفَكُّ عَنُ حُكْمِ الضَّحِيَّةِ عَلَى وَجْهٍ* وَمَنْ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ وَأكَلَ لَحْمَهُ فَفِي قَوْلٍ: يَلْزَمُهُ قِيمَةِ الشَّاةِ* وَفِي قَوْلٍ: يَلْزَمهُ أَرْشُ الذَّبْحِ وَقِيمَةُ اللَّحْمِ وَرُبَّمَا زَادَ ذَلِكَ عَلَى قِبمَةِ الشَّاةِ أَوْ نَقَصَ. قال الرَّافِعِيُّ: قد تبيَّنَ حكمُ إتلافِ الأُضْحية الذي هو إفسادٌ. وأما إذا ذبحها في غَيْرِ وقْتِ الضحية، وإذا جعل شاته أُضْحيةً أو نذر أن يُضَحِّي بمعيَّنةٍ ثم ذبحها قبل يَوْم النحر -فعليه أن يتصدَّقَ بلحمها ولا يجوزُ أَكْلُ شيء منها، وعليه أَنْ يذبَحَ مِثْلَها بدلاً عنها يَوْمَ النحر، وكذا لو ذبح الهدْيَ المعيَّنَ قبل بُلُوغ المَنْسَكِ يتصدق بلحْمِه وعليه البَدَلُ. ولو باع الهدْيَ أو الأضحيةَ المُعَيَّنَيْنِ فذبحها المشتَرِي، واللَّحْمُ باقٍ فيأخذُه ويتصدَّقُ به، وعلى المُشْتَرِي أَرْشُ ما نقص بالذَّبْحِ ويضم البائِعُ إليه مَا يشتري به البدَل. وفيه وجهٌ (¬2). أَنَّ المشتريَ لا يُغَرَّمُ شَيْئاً؛ لأن ما فعله كان بتسْلِيط البائع. وذُكِرَ أن الوجهيْنِ مبنيَّانِ على أَنَّ السيِّدَ إذا باع المُكَاتَبَ فأدى المكاتب النجومَ إلى المُشْتَرِي هل يَعْتِقُ؟. وفيه خلافٌ. والظاهِرُ ما قدَّمُنا. ولو ذبح أَجنَبِيٌّ الأضيحةَ المعيَّنةَ قبل يَوْمِ النحر فيلزمُه ما نقص مِنَ القِيمَةِ بسبَبِ ¬
الذبْحِ، ويشبه أَنْ يجيءَ خلافٌ في أن اللحمَ يُصْرف إلى مصارِفِ الضحايَا أو ينفك عن حُكْم الضحية وتعود مِلْكاً كما سنذكر في مِثْله -إن شاء الله تعالى- فيما إذا ذبح الأَجْنبي يَوْمَ النَّحْرِ، وقُلْنا: إنه لا يقعُ ضحيةً ثم ما حصل من الأَرْشِ ومن اللحم إن عاد مِلْكاً له، يَشْتَرِي به أضحيةً يذبحها يومَ النحْرِ، ولو كان قد نذر أضحيةً ثُمَّ عيَّن واحدةً عما في ذِمَّته، فذبحها أجنبيٌّ قبل يوم النحر. قال في "التهذيب": يأْخُذُ اللحمَ ونقصان الذبح ويملك الكل والأصل في ذمته. وإنْ ذبح الأَجْنَبيّ الأُضْحيةَ المعيَّنةَ ابتداءً في وقْتِ التضحية، فهذه مَسْألةُ الكتاب وفي معناها ذبحُ الهدْي المعيَّن بعد بلوغ المنسَكِ فالمشهورُ أنه يقعُ الموْقِعَ، ويأخذ صاحِبُ الضحية لَحْمَهاَ ويُفَرِّقُه. وبناه الإمامُ وصاحبُ الكتابِ على أَنَّ التَّعْيِينَ السابِقَ هَلْ يُعْني عن النيةِ عند الذبح؟ إِن قُلْنا: نَعَمْ، وقع الموقع، وعلى صاحب الضحية بدلُها وما يأْخذُه من الأَرْشِ مِلْكٌ له. واحتج الأصحابُ بأنه يستحق الصَّرْفَ إَلى هذه الجهة، ولا يُشْتَرطُ فيه فِعْلَه كردِّ الودِيعةِ وبأن ذبحها لا يفتقر إلى النيَّةِ، فإذا أتى به غيرُه أَجْزَأَ كما (¬1) في إزالة النجاسَةِ، وهذا يُؤَيِّدُ قولَ مَنْ قَالَ: إِنَّ التعيِينَ السابِقَ يُغْني عن تجديد النيَّةِ. وعن القَدِيم قولٌ: أنَّ لصاحِب الضحية أَنْ يجعلَها عن الفُضُولِيّ الذَّابح، وُيغَرِّمُه القيمةَ بتمامِها؛ بناءً على وقْفِ العُقُودِ. وإذا قلنا بالظاهِر، وهو وقوعُ الضحية مَوْقِعَها فهل على الذابح أَرْشُ ما نقص بالذبح؟ [قال في الكتاب: "فيه وَجْهانِ"، وقال أكثرُ مَنْ نُقِلَ فيه الخلافُ قولان أَحدُهما وبه] (¬2) قال أَبُو حنيفةَ: لاَ؛ لأنه لم يُفَوِّتْ عليه شيئاً مَقْصُوداً بل خَفَّفَ عنه مُؤْنَةَ الذبح. وأَصحُّهما: وهو المنصُوصُ وما أورده المعظم: نَعَمْ؛ لأنَّ إراقَةَ الدمِ مقصودَةٌ وقد فوّتَها، وشُبِّهَ ذلك بما إذا شَدَّ قوائِمَ شاتِه، وأراد ذَبْحَها، فجاء آخرُ وذبحها بدُون إِذْنه -يلزمه أَرْشُ النقصانِ. وعن أَقْضَى القُضَاةِ المَاوَرديّ أنه قال: عِنْدِي إِنْ ذَبَحَهَا وفي الوقْتِ سَعَةٌ فعليه الأرْشُ؛ لأنه لم يتعيَّنْ ذبحُه حقيقةً، وإن ضاق الوقْتُ ولم يبق إلا مَا يَسَعُ للذبح فذبحها -فلا أَرْشَ عليه؛ لِتَعَيُّنِ الوقْتِ، وإذا أوجبْنَا الأَرْشَ- ففيه وجوهٌ: أَحدُها: أنه للمضحي (¬3) لأنه ليس مِنْ عَيْن الأُضْحية حتى يستحقَّه المسَاكِينُ. ¬
وثَانِيها: أنه للمساكين خاصَّةً؛ لأنه بدلُ بَعْضِ الأُضْحية، وليس [للمضحي] (¬1) من الأُضْحيةِ إلاَّ الأَكْلُ. وأظهرها: أنه يَسْلُكُ به مَسْلَكَ الضحايا، وعلى هذا فيشتري به شاةً، وإن لم يتيسَّرْ عاد ما سبق أنه يَشْترى به جُزْءاً من ضحيةٍ أو لحْمٍ أو يفرق نفسه. وقِيلَ: هو مُخَيَّر بين أن يصرِفَ إلى جُزْءٍ، وبين أن ينتفعَ به ولا يَبِيعَهُ، وجميعُ هذا فِيمَا إذا ذَبح الأَجْنَبيُّ واللحم باقٍ. فأما إذا أكله أو فَرَّقَهُ في مصارِفِ الضحايا، أو تعذَّر اسْتردادُه فهو كإلاتلاَفِ الإِفْسادِ لأن تعيين (¬2) المَصروف إليه، إلى المضحي فعليه الضمانُ، والمالِكُ يشتري أُضْحية أُخْرَى بما يأخذ. وفي كتاب القاضِي ابْنِ كج أنه تقع [التفرقةُ] (¬3) عن المالِكِ كالذَّبْح والظَّاهِرُ الأَوَّلُ. وفي الضمانِ الوَاجِبِ -والحالة هذه- قَوْلاَنِ عن حكاية "صاحب التقريب": أَحدُهما: وهو اختيارُ الجمهورِ: أنه يضمن قِيمَتها عند الذبح كما في صورةِ الإِفْسَادِ. والثاني: وبه قال ابنُ أَبِي هريرة: أنه يضمن الأكثرَ من قيمتها وقيمة اللحم؛ لأنه فرّقَ اللحمَ متعدياً بعدما ذبح. ورَوَى بعضُهم بدل الثاني أنه يُغَرَّمُ أَرْشَ الذبح، وقِيمةَ اللَّحمِ، وعلى هذا جرى الامامُ وصاحبُ الكتابِ. وقد يزيدُ الأَرْشُ مع قيمةِ اللحم على قيمة شاةٍ، وقد يَنقَص، وقد يتأدَّى المقداران ولا اختصاصَ [لهذا الخلافِ] (¬4) بصورة الضَّحيةِ بل يطردُ في كل مَنْ ذبح شاةَ إنسانٍ ثم [أتْلَف] (¬5) اللحْمَ ولذلك عمم التَّصْويرَ فقال: "ومَنْ ذَبحَ شاةَ غَيْرهِ وأكل لَحْمها" وهذا كلُّه تفريعٌ على أن الشاةَ التي ذبحها الأَجْنبيُّ في الوقْتِ تقع ضحيةً عن صاحبها. أما إذا قُلْنا: لا تقع أُضْحيةً، فليس على الذابح إلاَّ أَرْشُ النقصانِ. وما حُكْمُ اللحم؟ فيه وجهان: أَحدُهما: أن اللحم صَار مُسْتحقّاً بجهة الضحية حيثُ قال: جعلت هذه الشاةَ ضحيةً [فيصرف إلى مَصَارِفِها، وإن لم تقع ضحيةً] (¬6). والثاني: أنه ينفكُّ عن حُكْم الأضحية، ويصيرُ مِلْكاً له. ولو التزم ضحيةً أو هَدْياً ¬
الحكم الثاني: التعيب
لنذْرِه ثم عَيَّن واحِدةً عما في ذِمَّته فذبحها أجُنبيٌّ يومَ النحرِ أو فِي الحَرَم، فالقولُ في وُقُوعِها عن صاحبها ومن أْخْذِه اللحمَ وتصدُّقِه به وفي غرامة الذَّابِح أَرْشَ ما نقص بالذبح على ما ذكرنا فيما إذا كانت مُعَيَّنةً في الابتداءِ، وإن كان اللحم تالِفاً. قال "صاحبُ التهذِيب" وغيرُه: يأخذ القيمةَ ويملكُها والأصْلُ في ذِمَّتِه، وفي هذه اللفظةِ ما بيْن أن قولَنَا في صورة الإتْلافِ: أنه يأْخُذُ القيمةَ ويشترِي بها مِثْلَ الأول يريد به أن يَشْتري بقدْرِها فأَمَّا ما أخذ فهو مِلْكٌ له، فله أَنْ يُمْسِكَهُ. قال الغَزَالِيُّ: (الحُكْمُ الثَّانِي: التَّعَيُّبُ) وَحَيْثُ لاَ يَلْزَمُ شَيْءٌ بِالتَّلَف فَلاَ يَلْزَمُ بالتَّعَيُّب* فَإنْ كَانَ العَيْبُ مَانِعاً مِنَ الضَّحِيِّةِ فَغِي انْفِكَاكِ الشَّاةِ عَنِ الضِّحِيَّةِ وَجهَانِ* وَلَوْ قَالَ ابْتِدَاءً: جَعَلْتُ هَذِهِ ضَحِيَّةً وَهِيَ مَعِيبَةٌ فالصَّحِيحُ وُجُوبُ صَرْفِهَا اِلَى مَصَارِفِ الضَّحِيَّةِ* وَلَوْ قَالَ لِظَبْيَةٍ جَعَلْتُهَا ضَحِيَّةً فَهُوَ لاَغٍ* وَلَوْ قَالَ لِفَصِيلٍ أَو سَخْلَةٍ فَوَجْهَانِ* وَلَوْ عَيَّنَ مَعِيبَةً لِنَذْرِهِ وَقُلْنَا: تَتَعَيَّنُ فَلاَ تَبْرَأُ بِهَا ذِمَّتُهُ* وَهَلْ يَلْزَمُ تَفْرِقَةُ لَحْمِهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ* وَلَوْ زَالَ العَيْبُ بَعْدَ ذَلِكَ فَفِي البَرَاءَةِ بِهَا وَجْهَانِ* وَإِنْ تَعَيَّبَتِ المَعِيبَةُ بِفِعْلِهِ فَعَلَيْهِ إِبْدَالُهَا بِصَحِيحَةٍ* وَفِي انْفِكَاكِ المَعِيبَةِ وَجْهَانِ* وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضْحِيّ بِعَرْجَاءَ لَزِمَهُ عَرْجَاءُ* وَفِي وَجْهٍ يَلْزَمُهُ صَحِيحَةٌ* وَفِي وَجْهٍ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. قال الرَّافِعِيُّ: في الفَصْلِ مَسَائِلُ: إحْدَاها: إذا قال: جعلتُ هذه الشاةَ ضحِيّةً أو نذر أن يُضَحِّيَ ببدنَةٍ بعيْنها، ثم حَدَثَ قبل وقْتِ التضحيةِ [عيبٌ] (¬1) يمنع من ابتداءِ الضحية -فلا يلزمُه، لما حدث شيءٌ؛ كما لا يَلْزَمُه شَيْءٌ لو تلفت ولا تنفكُّ هي عن حُكْمِ الضحيَّةِ بل تُجْزِئُه عن التضحية (¬2) ويذبحُها في وقتها. وقال مَالِكٌ: لا تجْزِئُه، وسلم في الهدْيِ الأجزَاءُ. وعند أبِي حَنِيفةَ: لا تُجْزِئُه، بل عليه التضحيةُ بسلِيمةٍ إن كان ممَّنْ يجب عليه الأضحيةُ، ويُحْكَى ذلك عن أَبِي جَعْفرٍ الأَسْتَرابَاذِي من أصحابنا. لَنَا ما رُوِي عن أَبي سَعيدٍ الخُدْرِيّ -رضي الله عنه- أنه قال: اشتريْتُ كَبْشاً لأُضْحِّي به [فَعَدَا] (¬3) الذِّئُبْ فأخذ منه الألْيَةَ فسألْتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: ¬
"ضَحِّ بِهِ" (¬1). ولو خالف ما ذكرنا، وذبحها قبلَ يوْم النحر -تصدَّقَ باللحم، وعليه التصدُّقُ بقِيمتها أيضاً، ولا يجبُ أنْ يشترِيَ بها أضحيةً أُخْرى كذا نقله في (¬2) "التهذِيبِ" وكان سبَبُه أن تلك القيمةَ بدلُ حيوان لا يجوزُ ابتداءُ التضحية به. ولو تَعيَّبتْ يومَ النحْر قبل التمكُّنِ من الذبح فيذبحها، ويتصدق بلحْمِها [وإنْ تَعَيَّبَتْ بَعْدَ التمكِين يَذْبَحُها] (¬3)، وعليه ذبحُ بدَلِها، وتقصيرُه بالتأْخِير كالتعييب، ولو لزم ذمته أُضْحيةً بنذرِ أَوْ هَدْيٍ عن قِرَان أو تَمتُّعٍ أو نَذْرٍ -تعيَّن واحدة عما في ذِمَّته، فحدث بها عَيْبٌ قبلَ وَقْتِ التضحية أو قبل بلُوغ المنسَكِ فيجيءُ الخلافُ السابقُ في أنها: هل تَتَعيَّنُ؟ إنْ قُلْنا لا تتعيَّنُ، فلا أثر لتعيبها. وإنْ قُلْنا: تتعين -وهو الصحِيحُ- فهلْ عليه ذبحُ سَلِيمة؟ فيه وجهانِ حكاهما الإمامُ كما في صُورةِ التَّلَفِ الصحيح -وهو جوابُ الجمهورِ. نَعَمْ؛ لأنَّ الواجِبَ في ذمَّتِه سَلِيمٌ فلا يتأدى بالمعِيب. وهل تنفكُّ تلك المُعيّنةُ عن الاستحقَاقِ، أو يلزمُه ذبحُها والتصدقْ بلحمها؟ فيه وَجهانِ: أَحدُهما: أنه يلزمُه الذَّبْحُ والتصدُّق؛ لأنه التزمَها بالتعيين. وأَصَحُّهما: وينسب إلى النصِّ: المنعُ -بل له تملّكُهَا وبيعُها؛ لأنه ما التزم التصدُّقَ بها ابتداءً، إنما عيَّنها لأداءِ ما في الذِّمَّةِ بها وإنما يتأدَّى بها ما في الذمةِ بشرْطِ دَوَام السلامة. قال الشَّيْخُ أَبُو عَلِيّ: وقرَّب بعضُ الأصحاب الوجهَيْن في أن تقليد الهدْيِ ونية الذبح: هَل تكْفِي لوجُوب الذَّبْح ووَجَّهَ إِلَيْنَا أنه إنَما أَوْجَبَها عَمَّا في ذِمَّته، وقد خرجت بالتعيب عن أنْ تجزئَ فيَبقى التعيِينُ مع النية، ويقرب من الوجهين وَجْهان ذُكِرَا فيما إذا عَيَّن أفضلَ مِمَّا عليه، ثم عاب: هل يَلْزمُه رعايةُ تلك الزيادةِ في البَدَلِ؟ ففي وَجْهٍ: يلزم؛ لالتزامِه تلك الزيادةَ بالتعيِين. وعلى الأَصَحِّ: لا يلزُم؛ كما لو التزم مَعِيبةً ابتداءً، فهلكت مِنْ غير تعدٍّ منه. ¬
ولو تعيب الهدْيُ بعد بلوغ المَنْسَكِ فوجهان: أَحدُهما: ويُحْكَى عن ابنِ الحدَّادِ: أنه يجزئُ ذَبْحُه؛ لأنه لما بلغ مواضِعَ الذَّبْحِ -صار كالحَاصِل في يَدِ المسَاكِين، [ويكون كمن دفع] (¬1) الزكاةَ إلى الإِمام فتلِفَتْ في يده، تُحْسَبُ مِنْ زكاتِه، ونسب الإمامُ هذا الوجهَ إلى القُّفالِ. وأَصحُّهما: المنعُ -لأنه منْ ضمانِه حتى تُذْبَحَ. وفي "التهذِيب": أنه إن تعَيَّب بعد بُلُوغِ المنْسَكِ والتمكن من الذبْح، فالأصْلُ في ذِمِته، وهل يتملَّكُ المعيَّن أو يلزمه ذَبْحُه؟ فيه الخلاَفُ، وإن تعيَّبَ قبل التمكُّنِ من الذبح فوجهان: أَصحُّهما: أَنَّ الحُكْمَ كذلك. والثاني: أنه يكْفِيه ذبحُ المعيب والتصدُّقُ به، ويقرب من الخلاف المذكور فيما إذا حدث العَيْبُ بعد بلوغ المنْسَكِ. واختلف الأصْحابُ فيما إذا شَدَّ قوائِمَ الشَّاةِ؛ قاصِداً للتضحية بها، فاضْطَربَتْ؛ وانكسر رجْلُها، وهذا قد ذكرنَاهُ مِنْ قَبْلُ -ورَأى الإمامُ تَخْصِيصَه بما إذا عَيَّن عن نذْرٍ في الذمَّةِ، والقطع بعدم الإجزاءِ إذا فرض ذلك في الأُضْحية المتطوع بها (¬2). وعن أَبِي حَنِيفَة: أَنَّ العَيْبَ الحادِثَ لمعالجةِ الذبْحِ كما إذا أصابت [المُدْيَة] (¬3) عَيْنَها فعوّرَها، لا يَمْنَعُ الإجزاءَ. وقولُه في الكتابِ: "فإن كان العَيْبُ مانِعاً من التَّضْحِية" ليس بحَسَن الموْقِع فإنَّ الفَصْلَ مِنْ أوَّله في هذا النوع من العَيْبِ. فإما ما لا يمنع الإجزاءَ فلا أثرَ لحدُوثهِ، ثم المقصودُ من الصورة ما إذا كانتِ الشاة مُعيَّنةً عن واجب في الذمة، فهي التي يشتهر في انفِكَاكِهَا عن الضحيَّةِ الوجهان. فأما المعُيَّنة للالتزام ابتداء فَلاَ انْفِكاكَ لها إلاَّ على ما روينا عن الأَسْتَرَابَاذِي، لكن الحملَ على البعِيدِ بَعِيدٌ. المَسْألَةُ الثَّانِيَةُ: لو قال لمَعِيبَةٍ بعَورٍ ونحوه: جعلتُ هذه ضحيةً، أو نَذَرَ أن يُضَحِّيَ بها ابتداءً -وجب ذَبْحُها؛ لأنه التزمَه وهو (¬4) كما إذا عتق مَعِيباً عن كفَّارَتِه [يَعْتِق ويُثابُ] (¬5) عليه. وإن كان لا يُجْزِئُ عن الكفارَةِ ويكونُ ذبْحُها قُرْبةً، وتفرقُه لحمها ¬
صَدَقةً ولا تجزئ عن الضَّحايَا والهدَايَا المشروعَةِ؛ فإنَّ السلامةَ مُعْتبرةٌ فيها. وهل يختَصُّ ذَبْحُها بيومِ النحْر، ويجري مَجْرَى الضحايا في المصْرِف فيه وَجْهانِ: أَحدُهما: لاَ؛ لأنها ليْسَتْ بأُضْحيةٍ في الحقيقة، وإنما هي شاةُ لحْمٍ. وأَصَحهما عند الإِمام وصاحِب الكتاب: نَعَمْ؛ لأنه أَوْجَبَ بِاسْم الضَّحيةِ ولا مَحَمَلَ لكلامِه، إلاَّ هذا، وعَلى هذا فُلَوْ ذبحها قبل يوْم النحر -فيتصدَّق بلحْمِها، ولا يأكل منها شَيْئًا، وعليه قِيمتُها يتصدقُ بها، ولا يَشْتَرِي أُخْرَى؛ لأن المعِيب لا يثبت في الذمَّةِ- قاله في "التهذيب". ولو أشار إلى ظَبْيةٍ وقال: جعلتُ هذه أضحيةً فهو لاغ (¬1) -هكذا أطلق هاهنا وفي "الوَسِيط" وأضاف الإمامُ إلى ذلك قولَه: ولا يلزمه صَرْفُه (¬2) إلى حُكْم الضحيةِ، وقد يُفْهِمُ ذلك وُجُوبَ أَهْلِ التصدق بها. ولو أشار إلى فَصِيلٍ أو سَخْلَةٍ وقال: هذه أضحيةٌ، فوجهان إِلْحَاقاً لنُقْصانِ السِّنِّ في أحدهما بالجِنْس المخالف للنَّعَم. وفي الثَّانِي بالعَيْب -وهو الأَشْبَهُ- لأن نقصانَ السنّ من جِنْس ما يُضَحّي به -وبهذا أجاب الشيخ أبُو عَلِيّ. وإذا أوجبه مَعِيباً ثم زال العيبُ: فهل يُجْزِئُ ذبحُه عن الضحية؟ فيه وجهان: أصحهما (¬3): المنعُ؛ لأنه زال مِلْكُه عنه [وهو] (¬4) ناقِصٌ فالكمال بعد ذلك لا يُؤَثِّر كما إذا أَعْتَقَ عَبْداً أَعْمَى عن كفارته فارتد [بَصِيراً] (¬5). والثاني: يَجُوز؛ لكماله وقْتَ الذبح. وعن القاضي أَبِي حَامِدٍ -أنه حكى الجوازَ قَوْلاً عن القديم. ولو كان في ذمَّتِه أَضحيةٌ أو هَدىٌ بنذْرٍ وغيره، فعيَّن مَعِيبةً عما عليه -لم تَتَعيَّنْ ولم تبرأ بذبحها ذمتُه؛ لأن السليم هو الواجبُ عليه، وهل يلزمُه بالتعْيِين ذبحُ المعِيبة؟ نُظِرَ، إن قال: عينت هذه عما في [ذِمَّتِي- لم يلزمْهُ وإن قال: لِلَّه عَلَيَّ أن أُضَحي بهذه عَمَّا في] (¬6) ذِمَّتي أَوْ أَهْدَى بهذه أو قال: لله عليّ ذبحها [عن الواجب في ذمتي -فوجهان: ¬
أظهرُهما على ما ذكره الشيخ أبُو عَلِيّ والأئمة أنه يلزف ذبحُها] (¬1) كما لو التزمَ ابتداءً ذبح مَعِيبة. والثاني: المنعُ؛ لأنه جعلَها عما في الذمَّةِ فلا تقع عنه فيستمر الملك فيها، والوجهانِ عند الشيخ مُبْنِيَّانِ على أنَّ قولَ القائِل: لله عَلَيّ أنْ أذبحَ هذه الشاةَ أو أتصدَّقَ بها هل يزيلُ المِلْك في الحال؟ وفيه خلافٌ قد مَرّ. والأصَحُّ: أنه يلزمُه وحينئذ فقولُه: لِلَّه عَلَيّ أن أضحي بهذه عما عليّ ينزل مَنْزِلةَ إِعْتاقِ العَبْدِ الأَعْمَى عن الكفَّارة وأنه يُوجِبُ العِتْقَ، لكان كان لا يقَعُ عن الكفَّارةِ فإنْ قُلْنَا: يلزمُه ذبْحُها: فهل يختصُّ بوقْتِ التضحيةِ إذا كان التعيِينُ عن الأضحية؟ فيه الوجهانِ السابقان ولو زال عَيْبُ المعيَّنةِ المَعِيبةِ قبل أنْ يَذْبَحَها، فهل تحصل البراءةُ بذبحها؟ فيه الوجْهانِ السابقانِ وليبنيا على أنه هل يزولُ الملْكُ في الحال عنها بالتعيين؟ إن قُلْنا: نَعَمْ، فلا أَثَر لزوالِ العَيْب بعد ذلك. وقولُه في الكتاب: "ولو عَيَّنَ مَعِيبةً لنذْرِه وقلنا: تتعين" كأنه أراد به الخلافَ الذي مَرَّ في أن تعيينَ واحدَةٍ عن الثابت (¬2) في الذّمة هل يُوجِبُ تعْيِينُها؟ قال قُلْنا: لا تتعيَّنُ، فيلْغُو التَّعْيِين، ولم يتعرَّضْ في "الوسيط" للتقيِيدِ بهذا التفْرِيع، وهذا كُلُّه فيما إذا لم يكنِ التَّعيُّبُ بفعله. فأما إذا تعيَّبَتِ المعيبةُ ابتداءً، أو عما في الذمة بِفعْله -فعليه ذبْحُ صحيحةٍ. وفِي انْفكاكِ المعِيبة عن حُكْمِ الالتزامِ الخلافُ الذي سبق. ولو ذبح الأُضْحيةَ المنذُورةَ يومَ النحر أو الهدْيَ المنذُورَ بعد بُلوغِ المنْسَكِ ولم يفرِّقِ اللحْمَ حتى تغَيَّر وفَسَدَ -فعليه قِيمَةُ اللَّحْم ويتصدَّقُ بها، ولا يلزمُه شراءُ أُخْرَى؛ لأنها حصلت إِرَاقَةُ الدمِ وكذا لو كصب اللحم غَاصِبٌ وتلِفَ عنده أو أَتْلَف مُتلِفٌ يأخذ القيمةَ ويتصدَّق بها. الثَّالِثَةُ (¬3): لو التزم بالنذْرِ التضحيةُ بمعِيبة عن مُعَيَّنة بأن قال: لله عليّ أنْ أضحّي بشاةٍ عَرْجَاءَ أو عَجْفَاءَ لا نَتْقِي ففيه ثلاثةُ أوْجُهٍ: أَحدُها: أنه يلزْمه ما التزم، ولا يَلْزَمُه صَحِيحةً. والثَّانِي: يلزُمه صحيحةً؛ لأن التضحية بالعَرْجَاءِ لا يجوزُ فكأن هذا القائِلَ يعتبر قوله: أُضَحِّي ويُلْغَى ما بعده. ¬
والثالثُ: أنه لا يلزمُه شيءٌ؛ لأنه التزمَ مَا لا يجوِّزُه الشرعُ، ونظمُ الكتابِ يَقْتَضِي ترجيحَ الأَوَّلِ، ويُشْبِهُ أن يكونَ الحكمُ في لزوِم ذبْحِها، والتصدُّقِ بلحمها، وفي أَنَّها ليْسَت من الضَّحايَا وفي أن مَصْرِفَها هل هو مَصْرِفُ الضَّحايَا؟ على ما ذكرْنَا فِيما إذا قال: جعلتُ هذه المعِيبةَ ضحيةً، وإن التزم الضحيةَ بظَبْيةٍ أو بفصِيلٍ ففيه التَّرْتِيبُ الذي تقدَّم في المعِيبَةِ. [ويشبه] (¬1) أن يَجِيءَ [الخلافُ] (¬2) في قولِه: لله عَلَيَّ أن أُضحي بظَبْية وإن لم يذكرْ خلافٌ في قوله: جعلتُ هذه الظَّبْيةَ أُضْحيةً (¬3). قال الغَزَالِيُّ: وَالضَّلاَلُ كَالهَلاَكِ* وَلَكِنْ حَيْثُ وَجَبَ البَدَلُ وَوَجَدَ الضَّالَّةَ بَعْدَ تَضْحِيَةِ البَدَلِ فَفِي تضْحِيَةِ الضَّالَّةِ قَوْلاَنِ* وَلَوْ عيَّنَ وَاحِدَةً بَدَلَ الضَّالَّةِ ثُمَّ وَجَدَهَا قَبْلَ ذَبْحِ البَدَلِ وَجَبَ ذَبْحُهُمَا في قوْلٍ* وَتَعَيَّنَ الأوَّلُ فِي قَوْلٍ* وَتَعيَّنَ الثَّانِي في قَوْلٍ* وَيُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلٍ. قال الرَّافِعِيُّ: إذا ضَلَّ هدْيُهُ أو أضحيتهُ المتطَوَّعُ بها لم يلزمْهُ شَيْءٌ (¬4). والهدْيُ الملتزم بعينهِ ابتداءً إذا ضَلَّ بغيْرِ تَقْصِيرِ لم يلزمْهُ ضمانَه، فإن وجده ذَبَحَهُ والأُضْحية إِنْ وجدَها في وقْتِ التضحية -ذبحَها وإن وجدَها بعد مُضِيّ الوقْتِ- فله أنْ يذبحَها قضاءً ولا يلزمُه الصبرُ إلى قَابِلٍ، وإذا ذَبَحَهَا صرفَ لحْمَها إلى مَصَارِف الضحايا. وعن ابْنِ أَبِي هُريْرَةَ وجهٌ ضَعِيفٌ: أنه يصرفُه إلى المساكِينِ خاصَّةً ولا يأكلُ ولا يدَّخِرُ؛ لأنها لما صارت قضاءً صارت حَقّاً للغير. وعند أَبِي حَنِيفةَ إذا وجدها بعد وقْتِ التضحية، لم يذبحْها، ولكن يتصدّقُ بها حَيَّةَ أو ينتظر العامَ القَابِلَ. وعند مَالكٍ: أنها تعودُ إلى مِلْكِه ومهما كان الضَّلاَلُ بغير تقصيرهِ فلا يلزمُهُ الطلبُ إن كان فيه مَؤُنةٌ، وإن لم يكن لزمَهُ؛ لأنه مُؤْتَمنٌ في حُقُوقِ المستحقِّين، وإن كان الضلالُ بتقصِيره -فعليه الطَّلَبُ، فإن لم يجُدْ. فعليه الضمانُ، فإن عَلِم أنه لا يجدُها في أيَّام التشرِيقِ- فعليه ذَبْحُ بَدَلِها في أَيَّامِ التشريق وتأخُّرُ (¬5) الذَّبْحِ إلى مُضِيِّ أيام التشرِيقِ بِلا عْذُرٍ -تَقْصِيرٌ. ¬
فإذا ضلت بعده، فعلَيْه الضمانُ، وإن مضى بعد أيامِ التشريق ثُمَّ ضلت، فهل هو تقصيرٌ؟ فيه وجهان (¬1). ولو عيَّن هَدْياً، أو أضحيةً عما ثبت في ذِمَّته، فضَلَّ ما عينه، فقد قال الإمامُ: هو كما لو تَلِفَتْ هذه المعيَّنةُ، وفي وُجُوبِ البدل وَجْهَانِ. وقد ذكرنا هُناكَ حالَ هَذا الخلافِ، وما في إِطْلاَقِ لفْظِ البَدَلِ من التَّوسُّعِ. وعبارةُ الجمهورِ: أن الأصْلَ الملتزم في ذمَّته يلزمه إخراجُه، فإن ذبح واحدةً عما عليه ثُمَّ وجد الضَّالَةَ، فهل يلزمُه ذَبْحُها؟ فيه وجهان: وقيل قَوْلاَنِ: أَصَحُّهمَا على ما ذكر في "التهذيب": أنه لا يلزمُ، على ما ذكرنا في التعيُّبِ، بل له تَملُّكُ الضَّالةِ. والثَّانِي: يلزمُ؛ لأنه رَبَط الاستحقاق بهاْ وأزال الملْكَ عنها بالتعْيِينِ. ويُرْوَى أن عائشةَ -رضي الله عنها- أَهْدَتْ هَدْيَيْن فضلتُهما [فبعث ابن الزبير - رضي الله عنهما- إليها هديين، فنحرتهما] (¬2) ثم عاد الضَّالاَّنِ فنحرتْهُما، وقالت: هذه سُنَّةُ (¬3) الهدْي وهذا ما أورده ابنُ الصَّباغِ، وفرَّق بين الضَّالةِ، والمَعِّيبة بأن الضالةَ لم تخرج عن صِفَةِ الإِجْزَاءِ فلا يزولُ عنها مِلْكُ الفقراءِ ولو عَيَّن بدلَ الضالةِ أُخْرَى، ثم وجد الضالةَ قبل ذَبْحِ البدَلِ، ففي أَرْبَعةُ أَوْجُهٍ: أَحدُها: أنه يُضَحِّي بالضَّالَّة؛ فإنها الأصلُ الذي تعيَّن أولاً، والثاني كان بدلاً لا يسقط حُكْمه بالقدرة على الأصْل. والثَّانِي: يُضَحِّي بهما جَمِيعاً لتعيِيْنهما وتعلُّقِ إلاسْتحقاقِ بها، والوجْهانِ مَبْنِيَّانِ على الخِلاَفِ في أنه هل يَجِبُ ذَبْحُ الضَّالةِ إذا وجدت بعد ذَبْحِ البدل؟ ¬
(الحكم الثالث في الأكل)
إنْ قُلْنا: نَعَمْ، أوجبْنَا هاهنا ذبحَها وإلاَّ اكتفينا بالأَصْل. والثالِثُ: أنه يضحِّي بالثانِي؛ لانتقَالِ الوُجُوبِ إليه، لانْفِكَاكِ الأول. والرَّابعُ: أنه لا يَعْدِلُ عنهما لتعَيُّنِهِمَا ويتخيَّرُ فيهما، والتعبِيرُ عن هذا الخلافِ بالأقْوَالِ لا يكادُ يُوجَدُ إلاَّ لصاحب الكِتَابِ في هذا الكتاب، ولم أَرَ نَقْلَ الوجوهِ مَجْمُوعةً إلاَّ للإمام. فَرْعٌ: لو عيَّن واحدةً عن أُضْحيةٍ في ذمَّته، وقلْنا: إنها تَتَعيَّنُ ثم ضحى بأُخْرَى عما في ذِمّته. قال الإمامُ: يخرَّجُ على أن المعِيبةَ لو تلِفَتْ هل تبرأ ذِمَّتُه؟ إن قلنا: نَعَمْ، لم تقعَ الثانيةُ عَمَّا عليه، وكان كما إذا قال: جعلتُ هذه الشاةَ ضحيةً ثم ذبح أُخْرَى بدلاً عنها. وإنْ قُلْنَا: لاَ -وهو الصحيحُ- ففِي وقوع الثانية عَمَّا عليه تردُّدٌ، فإن قُلْنا: تقعُ عنه، فهل تنفكُّ الأَوْلَى عن الاستحقَاقِ؟ فيه الخلَافُ السابِقُ. ولو عيَّن مَنْ عليه كفارةٌ عَبْداً عما عليه ففي تَعْيِينه خلاف. والذي أجاب به الشيخُ أَبُو حَامدٍ أنه يتعيَّنُ (¬1). وإن تعيَّبَ المُعيَّن فعليه إعتاق عَبْدٍ سَلِيمٍ، ولو مات بقِيَتْ ذمَّتُه مشغولةً بالكفارة عما كانت، وإن أَعْتق عَبْداً آخر عن كفَّارته مع التمكُّنِ من إعتاق المعيَّنِ، فالظاهِرُ أن ذمتَهُ تبرأُ. وفرْقٌ بين ما نحن فِيه، وبيْنَ الكفارةِ: بأن النَّاذِرَ وإنْ كان مُلْتزِماً، فهو متبرَّعٌ بالالتِزَام، فإنْ قَبِلَ النقْلَ إلى عيْن، كان له، وجهٌ على بُعدٍ، والكفارةُ الواجِبة شَرْعاً لا تَحْتَمِلُ ذلك. قال الغَزَالِيُّ: (الحُكْمُ الثالِثُ في الأكْلِ) وَفِي جَوَازِ الأَكْلِ مِنَ المَنْذُورَةِ وَجْهَانِ* وَالمُتَطَوِّعُ بِهَا يَجْوزُ الأَكْلُ مِنْهَا وَإِطْعَامُ الأغْنِيَاءِ* وَلاَ يَجُوزُ تَمْلِيكُ الأَغْنِيَاءِ لِلبَيْعِ* وَيَجُوزُ تَمْلِيكُ الفُقَرَاءِ لِلبَيْعِ* وَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقَدْرِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الاسْمُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ* وَإِنْ أَوْجَبْنَا لزم التَّمْلِيكُ فِي ذَلِكَ القَدْرِ* فَإنْ أكَلَ الجَمِيعَ لَمْ يَلْزَمْهُ إلاَّ قِيمَةُ ذلك القدر وقيل يجب قيمة النِّصْفِ* ثُمَّ الأَحْسَنُ التَّصَدُّقُ بِالجَمِيعِ والتَّبَرُّكُ بِأْكْلِ لُقمَةٍ* وَيَتأَدَّى كَمَالُ الشِّعَارِ بِالتَّصَدُّقِ بِالثُّلُثِ* وَبِأَكْلُ الثُّلُثَ* وَيدَّخِرُ الثُّلثُ* وَقِيلَ: بَلْ يَتَصَدَّقُ بالنِّصْفِ. قال الرَّافِعِيُّ: في الأَكْلِ من الهدْيِ والأَضْحية فضْلاَنِ: ¬
أَحدُهما: في الأَكْلِ مِنَ الوَاجِب منها، فكُلُّ [هَدْيٍ] (¬1) وَجَبَ ابتداءً من غَيْرِ التزَامٍ كدمِ القِرَانِ والتمتُّعِ ودِمَاءِ الجبراناتِ فَي الحجِّ -لاَ يجوزُ الأَكْلُ منه. وعند أَبِي حَنِيْفَةَ: يجوزُ الأكْلُ مِنْ دَمِ التَّمتع والقِرَانِ وقال مَالِكٌ: يجوزُ الأكْلُ منها إلاَّ من فِدْيةِ [الأَذَى] (¬2)، وجزاء الصيد. لنا أنها كفاراتٌ فلا يجوزُ للمكفِّرِ الانتفاعُ بها؛ كسائر الكفاراتِ فلو أكل منها شَيْئًا -غَرِمَهُ، ولا يجبُ إراقةُ الدمِ ثانياً وفيما يَغْرَمُ، ثلاثةُ أَوْجُهٍ: أظهرها (¬3): ويحكى عن نصِّه -رضي الله عنه- في القديم أنه يَغْرَمُ قيمةَ اللَّحْمِ، كما لو أَكَلَهُ أو أتْلَفَه غيرُه. والثاني: أنه يلزَمُ مِثْلَ ذلك اللحم؛ لأنه لو أَتْلَفَ الشاةَ التي عيَّنها لما عليه، أو أتلف الهدْيَ -لزمه مِثْلُه، فكذلك إذا أتلف بعضَه لَزِمَهُ مِثْلُه. والثَّالِثُ: عليه أن يشترِيَ شِقْصاً من حيوانِ مِثلِه، ويشاركه في الذبح؛ لأن ما أكله أَبطَلَ إِرَاقَةَ الدمِ فيه، فصار كما إذا ذبح وكل الجمِيعَ يلزَمُه دَمٌ آخر. وأما الملتزِمُ بالنذْرِ من الضحايا أو الهدَايَا، فإنْ عيَّن بالنذْرِ عما في ذمَّته حَلْقٍ أو تَطَيُّبِ أو غَيْرِهما -شاةً، لَمْ يَجُزْ له الأكلُ منها إذا ذبحها؛ كما لو ذبح شاةً بهذه النيَّةِ من غَيْر نَذْرٍ. واحتجَّ له الشيخُ أَبُو عَلِيّ بأنه أَخْرَجَهَا عن الواجب في ذمته، فليس له صَرْفُ شَيْءٍ منها إلى نَفْسِه؛ كما إذا أَخْرَجَ الزكاةَ وإن نَذَرَ نَذْرَ مُجَازَاةٍ فمات، [فإن] (¬4) علَّقَ التزام الأُضْحيةِ أو الهَدْيِ بشفاءِ المرِيضِ، وقُدُومِ الغَائِبِ، وغَيْرِهما -لم يَجُزِ الأكْلُ منها. واحتجَّ له بأنه وجب على سبيل المُجَازاةِ والمُعَاوَضَةِ فأشبه جزاءَ الصيْدِ، وقضيةُ ما أَطْلقوه -والحالةُ هَذهِ أَلاَّ يفرق بين أن يكونَ الملتزَمُ مُعَيَّناً أو مُرْسَلاً في الذمة، ثم يذبح عنه، وإن أطلق الالتزامَ ولم يعلِّقْه بشيء، وفرَّعْنَا على أنه يلْزَمُ الوفاءُ؛ وهو الأظهرُ، فيُنْظَرُ. إنْ كان الملتزَمُ معيَّناً كما إذا قال: للهِ عليّ أن أضحّي بهذه أو أهدي هذه ففي جوازِ الأكْلِ قَوْلاَنِ أَوْ وجهانِ بناءً على أن النذورَ تحمل على أَقَلِّ ما أوجبَ الله تعالى من ذلك النوع، أو على أَقَلِّ ما يُتَقَرَّبُ به إليه. فإن قُلْنا بالأول، لم يجز الأكلُ منها؛ كالهدْيِ الواجب بالشرع. ¬
وإن قلنا بالثاني، فيجوزُ؛ كما لو ضَحَّى بشاةٍ وقد توجه المنعُ من غير بناءً بأنه دم واجبٌ فأشبه دِمَاءَ [الجبراناتِ] (¬1). والثَّانِى: بأنه متطوِّعٌ بالتزامه فأجرى عليه حكم المتطوع به. وفيه وجْهٌ ثالثٌ: وهو الفرقُ بين أن ينذِرَ الأُضْحيةَ فيجوز الأكلُ منها أو الهدْيَ فلا يجوزُ؛ حملاً لكل واحدٍ منهما على المعْهُودِ الشرْعِيّ. ومِنْ هذا القبيل ما إذا قال: جعلتُ هذه الشاةَ ضحيةً من غير تقدم نذر والتزام وإن التزَمَ في الذِّمَّةِ ثم عيَّن واحدةً عما عليه، فهل يجوزُ الأكلُ منها إذا ذبحها؟ ترتب ذلك على المعيَّنةِ ابتداءً إن لم نجوِّزُ الأكْلَ هناك فهاهنا أَوْلَى. وِإنْ جَوَّزْنَاه فهاهنا قولانِ أَوْ وجهان. والفرقُ أن ما في الذمةِ آكدُ؛ ألا تَرَى أنه إذا عيَّن عنه واحدةً فهلكت -لم تبرأْ ذِمَّتُه والمعيَّنةُ ابتداءً إذا هلكت تبرأُ ذِمَّتُه، وأيضاً فإن ما يثبت في ذمتِه يثبت لغيره، وما لا يتعلق بالذمَّةِ لا يبعد أنْ يكُونَ هو فيه كغيْره هكذا فَصَّلَ حُكْمَ الأَكْلِ في الملتزمِ بالنذْرِ [كثيرُون من مُعْتَبِري] (¬2) الأَئِمّةِ وهو الأَثْبَتُ. وقولُه في الكتاب: "وفي جَوَازِ الأَكْلِ من المنذُورَةِ وجهان" يقتضي ظاهِرُه التسويةَ بين نَذْرِ المُجَازَاةِ وغيرِه، وبين الملتزم المعيَّن والمرْسَلِ، ولذلك أطلقَ جماعةٌ، وبالمنْع قال أَبُو إسحاقَ، وذكر المحَامِلِي: أنه المذهبُ، والجوازُ هو اختيارُ الإمامِ والقفَّالِ، وفي "العُدَّةِ" أنه المذهبُ ويشبه أن يتوسط [فيرجح في المعين] (¬3) الجوازَ، وفي المرسل المنْعَ سواءٌ عَيَّنهُ عنه ثم ذبح المعيَّن، أو ذبح بلا تَعْيِينٍ؛ لأنَّه عن دَيْنِ في الذِّمةِ كجبرانَاتِ الحجِّ وإلى هذا ذهب "صَاحِبُ الحَاوِي" وعليه ينطبق سِيَاقُ الشيخ أبِي عَلِيّ. وحيثُ قلْنا: لا يجوزُ الأكْلُ من المنذُورِ فإنْ أكل فَفِيمَا يغرم الوجوهُ الثلاثةُ المذكورَةُ في [الجبرَانَات] (¬4) وحيثُ قُلْنا: يجوز. قال في "التهذيب": كَمْ يأْكُل؟ فيه قولانِ يأتي ذِكْرهما في أُضحية التطوّعِ، ولك أن تقولَ ذلك الخلاف في القدْرِ المُسْتحب أَكْلُه، ولا يبعد أن يُقال: لا يُسْتحبَّ؛ الأَكْلُ، وأقلُّ ما في تركهِ: الخُروجُ من الخلاف. والفُصْلُ الثَّاني: في الأَكْلِ من الأُضْحية والهدْيِ المتطوَّعِ بهما، وهو جائِزٌ بل مُسْتحب. قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] وروي عن ¬
جَابرِ -رضي الله عنه- أن عَلِيًّا -كرم الله وجهه- قَدِمَ ببدنٍ من اليمن وساق النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- مائةَ بدنَةٍ فنحر منها ثَلاَثاً وسِتِّين بيده ونحر عليٌّ -رضي الله عنه- ما بقي ثُمَّ أمر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أن يُؤْخَذَ بِضْعَةٌ من كُلِّ بدنةٍ، فتجعل في قِدْرٍ فأَكَلا من لحمِهَا وحَسَيَا من مَرَقِهَا وكان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُتَطَوِّعاً (¬1) بها. وليس للمُضَحِّي والمهدِي أن يتلف شيئاً منها، بل إمَّا أن يُطْعِمَ وإمَّا أن يَطْعَمَ، ولا يجوزُ بَيْعُ شيءٍ منهما ولا أن يُعْطِي الجزَّارَ شيئاً أُجْرةً له بل مُؤْنَةُ الذبْحِ على المُضَحِّي والمُهْدِي كمؤنة الحصاد. وروي عن علي -كرم الله وجهه- أنه قال: أَمَرنِي رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أَقُومَ على بَدَنةِ وأُقَسْمَ جُلُودَها وجلاَلَها، ولا أُعْطِي الجازِرَ منها شَيْئاً (¬2). ويجوزُ أَنْ يُعْطَى منها شيئاً؛ لفَقْرِه أو يُطْعَم إن كان غَنِيّاً، ولا يجوزُ تَمْلِيكُ الأَغْنياء مِنْها، وإن كان يجوزُ إِطْعَامَهم كما يُطْعَمُ الضَّيْفُ. ويجوزُ تملِيكُ الفقراءِ؛ ليتصرَّفوا فيه بالبيْعِ، ونحوه بل لو أصْلَحَ الطعامَ ودعا إليه الفُقَراءَ فَقَدْ قال الإمامُ: الذي ينقدِحُ عندي إذا أَوْجَبْنا التصدقَ بشيْءٍ أنه لا بُدَّ من التَّمْلِيكِ كما في الكَفَّارَاتِ، وهذا ما أطلَقَهُ القاضي الرُّوَيانِي في "البَحْر" فقال: لا يجوزُ أن يَدْعُوَ الفقراءَ ليأكلُوا مَطْبُوخاً؛ لأن حَقَّهُم في تملُّكهِ لا في أَكْلِه، وإِنْ دفع مَطْبُوخاً -لم يَجُزْ بل يفرِّقُه نَيّاً، وقد شبه المطبوخ بالخبز في الفطرة. وقولُه في الكتاب: "ولا يجوزُ تملِيكُ الأغنياءِ البيعَ": كلمةُ "البيْع" تذكر في مِثْلِه للإيضاح، وفي لفظ "التَّمْلِيك" ما يُغْنِي عنه. وقولُه: "ويجوزُ تمليكُ [الفقير] (¬3) للبيع" وقد عرفت أنه لازمٌ فَضْلاً عن كونه جَائِزاً، واقتصر هاهنا على ذِكْر الجوَازِ في مقابلة نفي الجوَازِ في تمليك الأغنياءِ، وأما لزومُه فقد ذكره مِنْ بَعْدُ مُفَرَّعاً على وُجُوبِ التصدُّقِ بشَيء، كما ذكره الإمامُ. وفي الفصْلِ مَسْأَلتانِ: إحْدَاهُمَا: هَل يُشْتَرطُ التصدُّقُ بشيء، أم يجوزُ أَكْلُ الجميع؟ فيه وَجْهان: أَحدُهما: لا يشترطُ، ويجوز أَكْلُ الجمِيع، وبه قال أَبُو العَبّاسِ بنُ سُرَيْجٍ، وابن القَاصِ والاِصْطَخْري، وابْنُ الوَكِيل: أنه يجُوز أكلُ أكثرِهَا، فيجوزُ أَكْلُ جمِيعِهَا، ¬
وحيازةُ الثَوابِ تحصلُ بإِرَاقَةِ الدم بنية القُرْبةِ. قال الله تَعَالَى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}. ونسب ابنُ القاص هذا الوجْهَ إلى النصِّ، وحكاه الموفقُ ابْنُ طاهرٍ، عن أَبِي حَنِيفةَ. وأَصحهُّمَا: أنه لا بُدَّ من التصدُّقِ بقدر ما يَنْطَلِقُ عليه الاسمُ لقوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] ولأنَّ المقصودَ الإرفاقُ بالمسَاكِينِ، ولا يحصلُ ذلك بمجرد الإراقَةِ، وعلى هذا فلو أَكَل الجميعَ، ضمن، وما الذي يضمن؟ عن رواية القَاضِيَيْن: ابْنِ كج، والماوردي، أنه يَضمَنُ الكُلَّ بأكثر الأَمْرَيْن من قِيمَتِهما، ومثلها؛ لأنه يَأكُلِ الكُلِّ عَدَلَ عن حُكْمِ الأُضْحية فكأنه أَتْلَفَها، وينسب هذا إلى أَبِي إِسْحَاقَ، وابْنِ أَبِي هُريْرة، وعلى هذا فينَبغي أنْ يذبَحَ البدلَ في وقْتِ التضحية فلو أَخَّره عن أَيَّامِ التشرِيقِ، ففي إجزائِه وَجْهانِ: وجهُ المنْعِ بالقياسِ على تَأْخِير ذبح الأَصْلِ. والآخَرُ بأنَّ إراقةَ الدَّم في وقْتِ التضحية، والمقْصُودُ من البدل تَدارُكُ الإطعام، وهل يجوزُ أن يأكُلَ من البدلِ؟ ذكر فيه وَجْهين، والظاهِرُ المشهورُ: أنه لا يُغرَّمُ الجمِيعَ ويعتد بإراقَةِ الدم، وعلى هذا فكم يُغَرَّمُ؟ فيه وجهان، أو قولان: أَصحُّهمَا: القدْرُ الذي كان يجوزُ الاقتصارُ على التصدُّقِ به ابتداءً. والثَّاني: القدْرُ الذي لا يُسْتحب أن يَنْقُصَ التصدُّقُ عنه وهو النِّصْفُ أو الثُّلثُ على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى. وبنوا الخلافَ على الخلافِ: في أنه إذا دفع أحد سهمان الزكاة إلى اثنين يغرم أقَلَّ ما يتموَّلُ؛ لأنه لو دفعه إلى الثالثٍ في الابتداءِ لجازَ أو الثلث لأنَّ المُسْتحبَّ في الابتداءِ التسويةُ، وذكر القاضي الرُّوَيانِي في "البَحْر" أن ما يَضْمَنُه على الوجْهينِ لا يتصدَّقُ به ورِقاً، وهل يلزمُه صرفُه إلى شِقْصٍ من أضحية، أو يكْتَفِي بصرْفِه إلى اللحم، وتَفْرِقته؟ فيه وَجْهانِ: وعلى الوجهين يجوزُ تأخِيرُ الدفعِ أو التفريقُ عن أيام التشريقِ؛ لأن الشَّقْصَ ليس بأُضْحية فلا يُعْتَبرُ فيه وقْتُ الأُضْحية، ولا يجوزُ أَنْ يَأْكُلَ منه. الثانيةُ: الأفْضَلُ [والأحْسَنُ] (¬1) التصدَّقُ بالجمِيعِ، والتبرُّكُ بأَكْل لُقْمةٍ. ¬
ويُرْوَى أَن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- كان يَأْكُلُ من كَبِدِ أُضْحِيَته (¬1). وعن عَلِيٍّ -كرم اللهُ وجهه- أنه قال في خُطْبتهِ بالبصرة: إِنَّ أَمِيرَكُمْ هذا قَدْ رَضِيَ مِنْ دُنْيَاكُم بطمرية، وأنه لا يأْكُلُ اللحْمَ في السَّنَةِ إلا الفَلْذَةَ مِنْ كَبِدِ أُضْحِيَتِه (¬2). وعن "الحَاوِي" أن أَبَا الطَّيبِ بْنَ سَلَمةَ قال: لاَ يَجُوزُ أَنْ يتصدَّقَ بالجميع ولا بُدَّ وأن يأكل شيئاً، وفي القدْرِ الذي يستحب ألاَّ ينقصَ التصدُّقُ عنه قولان: القدِيمُ: أنه يأْكُل النِّصْفَ ويتصدَّقُ بالنصْفِ؛ لقوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] جعلها على قِسْمَيْنٍ واختلفوا في التعيِين على القول الثاني، فنقَلَ ناقِلُون عن الجدِيدِ: أنه يأكلُ الثلثَ، ويتصدقُ بالثلثِ؛ لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] جعلها على ثَلاثَةِ أَقْسَامٍ. وفسّر مُفسِّرون القانِعَ: بالذي يَسْأَلُ، يُقالُ: قَنَعَ قُنُوعاً إذا سأل، وقَنِعَ قَنَاعَةً: إذا رَضِيَ بما رزقه الله تعالى. والمُعْتَرُّ: الذي يُعَرِّضُ بالسُؤالِ، ويحُومُ حَوْلَه. وروى آخروُنَ أنه يَأْكُلُ الثلثَ، ويهدي للأغنياءِ والمتجملِينَ الثلثَ، ويتصدق بالثُّلثِ. وهكذا حكاه الشيخ أَبُو حَامِدٍ في التعْلِيق ثم قال: ولو تصدَّقَ بالثلثَيْن -كان أَحَبَّ، ويُشْبه ألاَّ يكونَ في الحقِيقَةِ اختلافٌ، ولكن مَنِ اقْتصر على التصدُّقِ بالثلثَيْن ذكر ما هو الأَحَبّ، أو توسَّعَ فعدَّ الهديةَ من الصدَقَةِ ولكن عن "صاحِب الحَاوِي": أنه في الحِكَايةِ عن القَدِيم جعل الهديةَ من حيز الأَكْل فقال على القدِيم: يأكَلُ ويهدِي النصْفَ، ويتصدق بالنصف وهذا يخالِفُ عَدَّ الهديةَ من الصدقة. والمفهومُ مما أجروه أن الهديةَ لا تُغْنِي عن التصدق بشيْءٍ إذا أَوْجَبْناه وأنها لاَ تحسب من القَدْرِ الذي يُسْتَحبُّ التصدُّقُ به، ويجوزُ صَرْفُ القدْرِ الذي لا بُدَّ منه إلى مِسْكِين وَاحدٍ بخلاف الزكاة (¬3). وقولُه في الكتاب: "وقِيلَ يَجِبُ قِيمةُ النِّصْفِ" يريدُ أو الثلثَ بناءً على الخِلاَفِ في أنه بكَمْ يتصدَّقُ؟ ¬
هكذا ذكر في "الوَسِيط" ويجوزُ أَنْ يُقَدَّرَ أنه قصد ذِكْرَ أحدٍ القَوْلَيْن، وتركَ الثاني. وقولُه: "ثم الأَحْسَنُ التصدقُ بالجمِيع، والتبرُّكُ بأَكْلِ لُقْمة". فيه معنى الاستثناءِ، أَي التَّصدُّق بالجمِيع سِوَى لُقْمةِ يتبرك بأَكْلها، وإلاَّ فالتصُّدقُ بالجمِيعِ، وأَكْلُ البعْضِ لا يجتمعانِ. وقولُه: "ويتَأدَّى كَمَالُ الشّعارِ بكَذَا" يريدُ أنه الدرجةُ المرضِيّة المُسْتَحبّة، ويجوزُ أَنْ يكُونَ فَوْقَها ما هو أَحَبُّ مِنْها، وهذا كما يُقال في تَسْنبِيحات الركُوع والسُّجُودِ: الأفْضَلُ كذا، وأَدْنَى الكمالِ كَذَا. وقوله: "التصدُّقُ بالثلثِ، ويأْكُلُ الثلثَ، ويدَّخِرُ الثلثَ" نذكر فيه أَوَّلاً حُكْمَ الادِّخَارِ، ثُمَّ تعودُ إلى ما يتعلَّقُ بالكتاب خاصَّةً. أَمَّا الأولُ: قال العلماءُ: كان ادخارُ الأُضْحية فوقَ الثلاثِ مَنْهِيّاً عنه، ثم أَذِنَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فيه لَمَّا رَاجَعُوهُ. وقال: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ مِنْ أَجْلِ الدَّافّة وَقَدْ جَاءَ اللهُ تَعَالَى بِالسَّعَةِ فَادَّخِرُوا مَا بَدَا لَكُمْ" (¬1). والدَّافَّةُ: جماعةٌ كانوا قد دخلوا المدِينَة قد أَفْحَمَتْهُم السَّنَةُ في البادِيَةِ، فأرادوا أَنْ يُوَاسُوهم، ويَتَصدَّقُوا عليهم. والدَّفِيفُ: سَيْرٌ فيه سُرْعَة وتَقَاذُفُ (¬2) خُطًى ويُقَالُ: هو السَّيْرُ اللَّيْنُ تقول منه: دَفَّ يَدِفُّ. وقيل: الدَّافَّةُ: النَّازِلَةُ، ودَفَّ القومُ بموضِع كذا؛ أَيْ: نزلوا والمشهورُ أن النهيَ أَوَّلاً كان نَهْيَ تَحْريمٍ. وعن "صاحب الإِفْصَاح" أنه يحملُ على [الإرْشَادِ] (¬3) وَالاِسْتِحْبَابِ وذكروا تَفْرِيعاً على الأول وَجْهَيْن: في أَنَّ ذَلك التحريمَ كان عاماً ثم نُسِخ؛ إذ كان مَخْصُوصاً بتلك الحالَةِ الحادِثَةِ، فلمّا انتهت انتهى التحريمُ. ووجْهِيْن تَفْرِيعاً على الثاني: في أنه لو حَدَثَ مِثْلُ ذلك في زَمَانِنَا وبِلاَدِنَا، هل يُحْكَمْ بالتحرِيمِ؟ والظاهِرُ أنه لا يُحَرّمُ اليومَ بمالٍ. وأمَّا مَا يتعلَّقُ بالكتابِ فما تعرض له مِنْ الإدِّخَار ¬
فبقوله "بالتصدُّقِ بالثلثِ، ويأْكُلُ الثلثَ، ويدخر الثلثَ" [ويجوز أن يقرأ: وَيدَّخِرُ الثلثَ] (¬1) والأَحْسَنُ أَنْ يُقْرَأ أَوْ يِدَّخِرُ الثلثُ؛ ليوافِقَ اللفْظَ والتصدُّقَ والأَكْلَ، ثُمَّ التثلِيثُ ثم بالكيفيةِ التي أَوْرَدَها بَعِيدٌ نَقْلاً وَمَعْنًى. أَمَّا النقلُ فلأنه لا يكادُ يُوجَدُ في كتابٍ مُتَقدِّمٍ، ولا مُتَأَخِّر وليس في "النِّهايَةِ" ولا في "الوَسِيط" تصريحٌ به. وأما المذكورُ أنه يكْفِي التصدُّقُ بالثلثِ، والذي رواه سائِرُ الأَصْحابِ ما قدَّمْنَا (¬2). وأما المعْنَى: فَلأَنَّ الإِدِّخارَ والأَكْلَ [تختصُّ فائِدتُهما به فلا وَجْهَ] (¬3) لجعْلِ أَحدِهما في حَيِّزٍ والآخرَ في حَيِّزٍ وإنما المعقولُ أن يُجْعَلاَ في حيِّزَ وَاحِدٍ، ثم تارةً يُذْكَرانِ مَعاً، وتارة يُسْتَغْنَى بأَحدِهما عن الآخر؛ كما اقتصر كَثِيرُونَ على ذُكْر الأكْلِ، ولم يتعرّضُوا للادِّخَارِ. وعن البُوَيْطِي: أنه يُبَقِّي الثلثَ -أَيْ: لِنَفْسِه، ويتصدقُ بالثلثِ ويهدي الثلثَ، والصدقةُ والهديةُ ترجع فَائِدَتُهما إلى صنفين، فحسن جَعْلُ كُلِّ واحدٍ منهما في حَيِّزٍ ويُشْبِه أَنْ يَكُونَ الموهَمُ الكيفيةَ التي أوْرَدها في الكتاب ما ذكر الإمامُ أنه مَنْ قال بالتثلِيثِ احتج بما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في حَدِيثِ الدَّافَّة " ألا فَكُلُوا وَادَّخرُوا وَاتجِرُوا" (¬4) أي: اطْلُبُوا الأَجْرَ بالصدقةِ، فذكر ثلاث جهات [ولك أنْ تمنع كَوْنَها ثَلاَثَ جِهَاتٍ] (¬5) وتجعل الأكْلَ وَالاِدِّخَارِ جهةً واحدَةً؛ لما تقرَّرَ وتقول: إنما تعرَّضَ للادخارِ؛ لأنَّهُم راجَعُوه فيه، فقال: كُلُوا في الحَالِ إن شِئْتُم، وادَّخَروا إِنْ شِئْتُم. قال الغَزَالِيُّ: وَجِلْدُ الضَّحِيَّةِ يَتَصَدَّقُ بِهِ أَوْ يُنْتَفَعُ بِهِ في البَيْتِ* وَوَلَدُ الضَّحِيَّةِ لَهُ حُكْمُ الأُمِّ لَكِنْ يَجُوزُ أَكْلُ جَمِيعِهِ كَمَا يَجُوزُ أَكْلُ جَمِيعِ اللَّبَنِ لِأنَّهُ جُزْءٌ* وَلَوِ اشْتَرَى شَاةً وَقَالَ: جَعَلْتُهَا ضَحِيَّةَ ثُمَّ وَجَدَ بها عَيْباً لَمْ يَكُنُ لَهُ الرَّدُّ وَلَهُ الأَرْشُ* وَلاَ يَلْزَمُ صَرْفُ الأَرْشِ إِلَى مَصْرِفِ الضَّحَايَا. قال الرَّافِعِيُّ: في هذه البقيَّةِ مَسَائِلُ ثلاثٌ: ¬
إحْدَاهَا: جلْدُ الأَضْحيةِ لا يجوزُ بَيْعُه، ولا جَعْلُه أُجْرةً للجزَّارِ، ولكن للمُضَحِّي أن يتصدَّقَ به، أوَ يَتَّخِدَ مِنْهُ ما ينتَفِعُ بِعَيْنهِ مِنْ خُفٍّ أو نَعْلٍ أو دَلْوٍ أو فَرْوٍ أَو يعيره من غيره ولا يؤجره. وعن رِوَايَة "صَاحِب التقريب" قولٌ غَرِيبٌ؛: أنه يجوز أن يبيعَ الجِلْدَ ويصرف ثُلُثَه إلى ما تُصْرفُ الأُضْحيةُ إلَيه، فيجبَ التشريِكُ فيه كالانتفاعِ باللَّحْم. وعند أَبي حَنِيفةَ يَجُوز أَنْ يَبيعَهُ، ويتصدقَ بثمنِه، وأن يشتري بعيْنِه [ما ينتفِعُ به] (¬1) في البيْتِ. لنا القياسُ على اللحم (¬2). والتصدقُ بالجِلْدِ لا يَكْفِي وإذا أَوْجَبْنَا التصدقَ من الأُضْحيةِ بشيْءٍ نقله الإمامُ عند "صَاحِب الحَاوِي" واسْتَحْسنهُ، وليكن القَرْنُ كالجِلْدِ. ولا يُجزُّ صوفُ الأُضْحيةِ إن كان وقْتُ الذَّبْحِ قَرِيباً ولم يَضُرَّ إبقاؤُه أو إن كانتِ المصْلَحةُ في الابقاءِ لِلْحَاجَةِ إلى دَفْعِ الحرّ والبرْدِ به وإلاَّ فيجزّه، وحِينئَذٍ فيجوزُ أن يَنْتَفِع به، والأَحَبُّ التصدقُ. وفي "التَّتِمَّةِ": أَنَّ صُوفَ الهدْي إذا جَزَّهُ يستصحبُه مع نَفْسه ويتصدَّقُ به على مَسَاكِينِ الحَرَمِ كالولد. الثانيةُ: إذا ولَدَتِ الأُضْحية أو الهدْيُ المُتَطَوَّعُ بِهِمَا فهو مِلْكُه كالأُمِّ والمعيَّنةِ بالنذْرِ ابتداءً، إذا ولدت سَواءٌ كانت حَامِلاً عند التعْيِين، أو حدث الولدُ بعده يتبع الأم، ووجْهُ ذلك بأنَّ تعْيِينَها يزيلُ المِلْك؛ فتستتبعُ الولَدَ كما لَوْ أَعْتقها. فإن ماتَتِ الأُمُّ بقي حُكْمُ الولدِ كما كان؛ كولدِ المدبرةِ، ولا يرتفعُ التدبِيرُ عنه بموتِ الأمّ، وإن عُيِّنت عما في الذِّمَّةِ -فحكم الولدِ كما ذكرنا في المعيَّنة بالنْذرِ ابتداءً. وفي "الشَّامِلِ" لابْنِ الصَّبَّاغِ وجهٌ آخر: أنه لا يَتْبَعُها الولدُ فيكون مِلْكاٌ للمُضَحِّي والمهدِي؛ لأن مِلْكَ الفقراءِ غيرُ مُسْتقِر في هذه؛ أَلاَ تَرَى أنها لو عابت عادَتْ إلى مِلْكه. والظِاهِرُ الأولُ، وعدمُ الاستقرارِ لا يمنَعُ ثبوتَ المِلْكِ في الولَدِ بدليلِ أَنَّ الأمةَ المبيعةَ إذا ولدَتْ في يَدِ البائِعِ، يكون الولدُ للمشترِي، وعلى هذ فلو ماتَتْ يبقى الحكْمُ في الولدِ. وفِيه وجْهٌ: أنه لاَ يَبْقَى، والخلاف مُجْرى في وَلَدِ الأمةِ المبِيعَةِ إذا ماتَتْ في يدِ البائع، وإذا لم يَطُقْ ولدُ الهدْيِ المشيَ بنفْسِه -حُمِل على الأُمِّ أو غيرها؛ ليبلغ الحرمَ، ثُمَّ إذا ذبح الولدُ والأُمُّ ففي تفرقة لحمها وجوهٌ: أَحدُهَا: أنه يُسَلَكُ بلحْمِ كُلِّ واحدٍ منهما مَسْلَكَ الضَّحَايَا فيتصدّق مِنْ كُلِّ واحدٍ ¬
منهما بشيءٍ؛ تفرِيعاً على الصحِيحِ لأنهما أُضْحِيتانِ. والثَّانِي: أنه يكفي التصدُّقُ من أحدهما؛ لأن الولدَ بعضٌ (¬1) منها. والثَّالِث: أنه لاَ بُدَّ مِنَ التصدُّقِ مِنْ لَحْم الأُمِّ؛ لأنها الأصلُ والولدُ تابعٌ، والوجهانِ الآخرانِ يشتركَانِ في تَجْوِيز أَكْلِ جميع الَولد وهو الذي رآه صاحبُ الكتابِ؛ أصحَّ، وبه أجابَ في الكتاب، وقاسه على اللَّبَن، وذكر الرُّوَيانِي: أَنَّ المذهبَ الأولُ. وإذا ضَحَّى بشاةٍ، فوجد في بَطْنِها جَنِيناً -فيمكِنُ أَنْ يطَّرِدَ فيه هذا الخلافُ، ويمكِنُ أن يقطع بأنه (¬2) بعضُها. ولبنُ الأُضْحيةِ، والهدْي لا يُحْلَبُ إنْ كان قدْرَ كفايةِ الولد، فإن حلَبَه ونقصَ الولدُ -ضمن النقْصَ. وإِنْ فَضَل عن رِيِّ الولدِ، فيُحْلَب؛ لأنَّ في تركه إِضْراراً بالبهيمة. ثم قال في التتمةِ: يُبْنَى شُرْبُه على أُكْلِ اللَّحْمِ: فإنْ لم نجوِّزْةُ، لم يُشْرَبِ اللبنُ، ويُنْقلُ لبنُ الهدْيِ إلى مكَّةَ، إن تيسَّرَ أمْكَنَ تجفِيفُه وإِلاَّ فيتصدَّقُ به على الفقراءِ هناك. وإِنْ جوَّزْنَا الأكْلَ، فيُشْرب اللبنُ، وهذا ما أورده الجمهورُ ورَوَوْا عن عَلِيٍّ -كرم الله وجهه- أنه رأى رَجُلاً يسوقُ بدنَةَ معها ولدُها؛ فقال: لا تشرَبْ مِنْ لبنها إلاَّ ما فضل عَنْ (¬3) وَلَدِها وفَرَّقُوا بينه وبين الولَدِ بأنَّ اللبنَ يعسر نقلُه بخلافِ الولد وبأنه يُسْتَخلَفُ فيُسَامَحُ به. وعن تخريجِ أَبِى الطَّيِّبِ بْنِ سُلَمَةَ، فيما حكاه القاضي ابْنُ كَجٍّ وجهٌ: أنه لا يجوزُ شربُ لبنِهَا، وبه قال أبُو حنيفةَ، وقال: يُرَشَّ على الضَّرْعِ الماء؛؛ ليتقطع اللبنُ. ويجوز أن يركبَ الدَّابَّةَ وأَنْ يركب ويحمِلَ عليها مِنْ غَيْرِ إِجْحافٍ، فإنْ دخلَها نقصٌ بالركُوبِ، ضمِنَهُ ولا يجوزُ إجارةُ الهدْيِ والأُضْحية. الثَّالِثَة: إذا اشْترى شاةً، وجعلها أُضْحيةً، ثم وجَدَ بها عَيْباً قَدِيماً -لم يكُنْ له ¬
فروع وصور من الباب
رَدُّها؛ لزَوَالِ المِلْكِ عنها؛ كما لوِ اشْتَرى عَبْداً وأَعْتقه، ثُمَّ وجد به عَيْباً، ولكنه يرجع على البائِعِ بالأَرْشِ، وما الذي يُفْعَلُ به؟ فِيه وَجْهانِ عن "صَاحِبِ الحَاوِي": أَحدُهما: أنه يصرِفُه إلى جِهَةِ الأُضْحيةِ، وينظر: أَيُمْكِنهُ أَنْ يشتريَ به أضحيةً، أو جُزْءاً، ولا يُمْكِنه أَنْ يشتريَ به أُضْحيةً ويعود فيه ما سبق في نَظَائِرِ، وفَرَّقُوا بين الأُضْحيةِ، وبَيْن الأَرْش المأْخُوذِ فيما إذا وَجَدَ عَيبَ العَبْدِ بعد إعْتاقِه، حيْثُ يكون ذلك للمُعْتِق بأن المقصودَ من العِتْقِ تكميلُ الأَحْكامِ، والعيبُ لا يؤثرُ فيه، والمقصودُ من الأُضْحيةِ اللَّحْمُ، ولحمُ المعِيبَةِ ليس بكامِلٍ. والثَّانِى: أنه لِلْمُضَحِّي خاصِّةً لا يلزمُه صَرْفُه إلى مَصَارِف الضحايا لأن الأرْشَ إنما يجب لاقتضاءِ البيْعِ السلامةَ، وهو حَقٌّ يثبت للمشتري قبل التعْيِين، وثُبُوتِ حَقِّ المساكِين. وأيضاً فإنَّ العيْبَ قد لا يُؤَثِّرُ في اللحْمِ الذي هو مَقْصُودُ الفقراءِ (¬1). والوجهُ الأولُ هو الذي أَوْرَدَه أكثرُهم، لكنَّ الثانِي أَقْوَى، ونسبه الإمامُ إلى المراوزَةِ وقال: لا يَصِحُّ غيرُه، وإليه ذهب ابنُ الصبَّاغ والرُّوَيانِي (¬2)، وهو الجوابُ في الكتاب ويجوزُ أَنْ يُعْلَمَ قولُه: "وولدُ الأُضْحيةِ له حُكْم الأُمِّ" بالواوِ؛ لأنه يتناوَلُ المعيَّنةَ ابتداءً والمعيَّنةَ عَمَّا في الذمَّةِ، وفي الثانية خِلاَفٌ كما عرفت. والله أعلم. فُرُوعٌ وصُوَرٌ مِنَ الْبَابِ في مَجْمُوع أَبِي الحُسَيْنِ بْنِ المرزبان: أَنَّ مَنْ أَكَلَ بعضَ الأُضْحية، وتصدَّقَ ببعْضِها، يثابُ علىَ الكُلِّ أو على ما تصدق به؟ فيه وجهانِ كوجْهيْن ذُكِرَا في أن المتطوعَ بالصوْم إذا نوى نهاراً يُثابُ بجمِيع اليوْمِ، أم لما [اقترنت] (¬3) به النيَّةُ؟ وينبغي أن يُقالَ لَه: ثوابُ التضحيةِ بالكلِّ والتصدّق (¬4) بالبعض. وأن في جواز صَرْفِ الأُضْحية إلى المكاتب وجهين: ¬
(وأما العقيقة)
في وجه يجوزُ كالزكاةِ. وفي مجمُوعِ القاضي ابنِ كج: أن مَنْ ذبح شاةً، وقال أذبحُ لِرَضَا فلانٍ -حلَّتِ الذبيحةُ ولا يَضُرُّ قولُه: لرضَا فلانٍ؛ فإنه لا يتقرب إليه بخلاَفِ مَنْ يتقرب إلى الصنم بالذَّبْحِ. وفي "البَحْر" للرُّوَيَانِي: أَنَّ مَنْ ذبح ذَبِيحةَ للجِنَّ، فينظر: إِنْ قَصَدَ به التقربَ إلى الله تعالى؛ ليصرفَ عنه شرَّهم، فهو حلالٌ، وإن قصد الذبح لهم فهو حرامٌ. وفيه يروى أَنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-نَهَى عن ذَبَائِح الجِنِّ (¬1). وعن أبِي إِسْحَاقَ: أنه إذا أَوْجب الأُضْحيةَ العامَ فأَخَّرها عَصَى، ويَقْضِي؛ كما إذا أخَّر الصلاةَ عَنِ الوقْتِ. ومَنْ ضَحَّى بعَدَدٍ فليفرِّقْ على أيَّام النَّحْرِ، إنْ كان يُضَحِّي برَأْسَيْن وقع ذبحُ أَحَدِهما إلى الأَوَّلِ مِنَ الأيَّامِ، وختم بذبح الثاني آخرها. ومحل الأُضْحيةِ بلدُ المُضَحِّي بخلاف الهدْيِ، وخُرِّجَ في نقل الضحيَّةِ وَجْهَانِ من القولين في نقل الزكاةِ. والأَحْسَنُ أن يُضَحّي في بَيْتِه بمشهد (¬2) أَهْلِه. وعن "الحَاوِي": أنه يُختار للإمامِ أَنْ يُضحي لكافَّةِ المسلمين [من بيت المال] (¬3) بَدَنَةً ينحرها في المُصَلَّى، فإن لم يتيسَّرْ فبشاةٍ، وأن يتولى النحرَ بنفْسِه، وإن ضحَّى مِنْ مالِه ضحى حيْثُ شاءَ. قال الغَزَالِيُّ: (وَأَمَّا العَقِيقَةُ) فهِيَ أَيْضاً كَالضَّحِيَّةِ فِي أَحْكَامِهَا لَكِنَّ وَقْتَهَا يَدْخُلُ بِوِلاَدَةِ المَوْلُودِ إِلَى السَّابِعِ* وَلاَ يَتأَدَّى الاسْتِحْبَابُ اِلاَّ بِمَا يَتأَدَّى بِهِ الضَّحِيَّة* لَكِنْ تَنْضُجُ عِظَامُهَا صَحِيحَةَ مِنْ غَيْرِ كَسْرِ تَفَاؤلاً بِسَلاَمَةِ أَعْضَاءِ الصَّبِيِّ* وَيُعَقُّ عَنِ الجَارِيَةِ بِشَاةٍ وَعَنِ الغُلاَمِ بِشَاتَيْنِ* وَتَكْفِي وَاحِدَةٌ أَيْضاً* وَالتَّصَدُّقُ بِهِ أَفْضَلُ مِنَ الدَّعْوَة* وَالتَّصَدُّقُ بِالمِرَقَةِ يُغْنِي عَنِ التَصدُّقِ بِاللَّحْمِ* أَعْنِي إِذَا أَوْجَبْنَا التَّصَدُّقَ بِمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الاَسْمُ لِأَدَاءِ العِبَادَة* وَتَلْطِيخُ رَأْسِ الصَّبيِّ بِدَمِ الشَّاةِ مَكْرُوهٌ* لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَمَّى فِي السَّابعِ وَيُحْلَقَ شَعْرَهُ وَيتصَدَّقَ بِزِنَةِ شَعْرِهِ ذَهَبَاً أَو فِضَّةً. قال الرَّافِعِيُّ: العقيقةُ في أصْلِ اللغَةِ: اسمٌ للشعرِ الذي يُولَدُ المولودُ وهو عَلَيْه، ثم تُسَمَّى الذبيحةُ التي تذبحُ عن المولودِ عند حَلْقِ شَعَرِه عَقِيقَةً على عادتِهم وفي تَسْميةِ ¬
الشئَ باسم سَبَبِه أو ما يُجَاوِرُه، والفِعْل منه: عَقَّ يَعُقُّ، يعني بضَمِّ العيْنِ، والعَقِيقَةُ سُنَّةٌ. رُوِيَ عن عائشةَ -رضي الله عنه- قالتْ: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَن نعقَّ عن الغُلاَمِ بشَاتَيْنِ، وعن الجارية بِشَاةٍ (¬1). وعن سَمُرَةَ أَنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "الغلامُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ تَذْبَحُ عَنْهُ في الْيَوْم السَّابعِ، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ، وَيُسَمَّى" (¬2) وعن أُمِّ كُرْزٍ أَنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "عَنِ الغُلاَمِ شَاتَانِ، وَعَنِ الجَارِيةِ شَاةٌ" (¬3). وقال أَبُو حنيفةَ -رضي الله عنه-: لا تُسْتَحَبُّ العقيقةُ وربَّمَا قال: هي بِدْعَةٌ، والأَحَبُّ الذبْحُ في اليومِ السَّابع مِنَ الولادَةِ، ويدخُلُ يومُ الولادةِ في الحسابِ. وفي وَجْهٍ: لا يدخُلُ -وهو اختيارُ الزُّبَيْرِيّ. والذبحُ قبلَ تمامِ السَّبْعَةِ مُعْتَدٌّ به، وقبلَ الولادةِ، لا تكون عقيقةً بل شاةَ لحْمٍ وتأخرها عن السبْعَةِ لا يُفَوِّتُها، ولكنْ الاختيارُ ألاَّ تؤخر إلى البُلُوغِ. وعن أبي عبد الله البوشنجي من أصحابنا أنه إن لم تذبح في السابع فتذبح في الرابع عشر، فإن لم يفعل ففي الحادي والعشرين. وقيل إذا تكررت السبعة ثلاث مرات؛ فات وقت الاختيار، وإن أخرت إلى البلوغ سقط حكمها في حق غير المولود، وهو مخير في العقيقة عن نفسه، واستحسن القفال الشاشي أن يقوم بها، ويروى أن النبي -صلى الله عليه وسلم-عق عن نفسه بعد النبوة (¬4). وعن نصه -رضي الله عنه- في البويطي أنه لا يفعل ذلك واستغربوه، وإنما يعق عن المولود من تلزمه نفقته ولكن روي أنه -صلى الله عليه وسلم- عق عن الحسن والحسين -رضي الله ¬
عنهما (¬1) - وكأنه مؤول، ولا يذبح عن المولود من ماله، ولكن المنفق عاجزاً عن العقيقة فأيسر في السبعة استحب له إقامة الستة، وإن أيسر بعدها وبعد مدة النفاس فهي ساقطة وإن أيسر في مدة النفاس فيه احتمالان عن الأصحاب، لبقاء أثر الولادة، ولتكن الذبيحة جذعة من الضأن، أو ثنية من المعز كما في الضحية وعن "الحاوي" أنه يجزي ما دون الجزعة والثنية ولتكن سليمة عن العيوب المانعة من التضحية وفي "العدة" ما يشعر بوجه آخر مسامح وعن بعض الأصحاب أن الغنم أفضل من الإبل والبقر والصحيح خلافه كم في الأضحية وينبغي تتأدى السنة بسُبع من البدنة والبقرة، وحكم العقيقة في التصدق منها وفي الأكل والهدية والادخار وقدر المأكول وامتناع البيع وتعيين الشاة إذا عينت للعقيقة كما ذكرنا في الضحية، وقيل إن جوزنا ما دون الجذعة لم يلزم التصدق منها وجاز تخصيص الأغنياء بها وينوي عند الذبح أنه عقيقة، نعم إن جعله عقيقة من قبل ففي الحاجة إلى النية عند الذبح ما ذكرنا في الأضحية، ويستحب ألا يتصدق بلحمها نياً بل يطبخه وعن الحاوي أنا إذا لم نجوز ما دون الجذعة من الضأن والثنية من المعز فيجب أن يتصدق بلحمها نياً وهذا ما رآه الإِمام وقال إذا أوجبنا التصدق بمقدار فيجب تمليكه وهو ني والمشهور الأول ثم يطبخه قيل: بحموضة وعزاه في التهذيب إلى النص والأظهر أنه يطبخه بحلو تفاؤلاً بحلاوة أخلاق المولود وذكروا على هذا وجهين في أنه هل يكره الطبخ بالحامض والأظهر المنع ولا بكسر عظام العقيقة تفاؤلاً بسلامة الولد عن الآفات، قال في العدة وهل يكره فيه وجهان المذهب المنع ويعق عن الجارية بشاة وعن الغلام بشاتين وإن كان أصل السنة يتأدى بواحدة وقال مالك الغلام كالجارية لنا ما سبق من الخبر. ويستحب أن تكون الشاتان متساويتين لأنهما إذا اختلفتا آثرت النفوس الأجود فيختلف ما يطعم وما يطعم والتصدق بلحمها ومرقها على المساكين بالبعث إليهم أفضل من الدعوة إليها ولو دعا إليه قوماً فلا بأس، واستحب أن يكون ذبح العقيقة في صدر النهار وأن يعق عن من مات بعد الأيام السبعة وإمكان الذبح، وقيل إنها تسقط بالموت وأن يقول الذابح بعد التسمية اللهم لك وإليك عقيقة فلان ويكره تلطيخ رأس الصبي بدم العقيقة وكانوا يفعلونه بالجاهلية ولا بأس بتلطيخه بالزعفران أو الخلوف وقيل باستحبابه ويستحب أن يسمى المولود في اليوم السابع ولا بأس بأن يُسَمَّى قبله واستحب بعضُهم ألاَّ يفعله. ويُرْوَى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "سَمُّوا السِّقْطَ". ولْتكن التسميةُ باسمٍ حَسَنٍ، وتغير الأسماءُ القبيحةُ، ويكره مِنَ الأَسْمَاءِ: نَافِعٌ، ¬
ويَسَارٌ، ونَجِيحٌ، وأَفْلَح وبَرَكَةٌ. وأنْ يُحْلَقَ رأْسُ المولودِ في اليوم السابع، وِيتَصدَّقَ بوزْنِ شَعَرِه ذهباً، فإنْ لم يتيسَّرْ ففِضَّةْ، ولا فرْقَ فيه بين الذكرِ والأُنْثَى. ورُوِيَ أَنَّ فَاطِمةَ -رضي الله عنها- بِنْتَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وَزَنَتْ شَعَرَ الحَسَنِ والحُسَيْنِ -رضي الله عنهما- وزَيْنَبَ وأُمَّ كُلْثُوم فتصدقت بوزْنِهِ فِضَّة (¬1). ثم في "التهذيب": أن الحلْقَ يكون بَعْد ذبحِ العَقِيقة. والذي رجحه القاضي الرُّوَيانِي، ونسبه إلى النصِّ: أنه يكونُ قبل الذبحِ (¬2). وأنه يُؤَذِّنَ مَنْ وُلِد له ولدٌ في أُذنه؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- أَذَّنَ في أُذُنِ الْحُسَيْنِ حِينَ ولدتْهُ فاطمةُ -رضي الله عنهم (¬3) -. وعن عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ -رضي الله عنه- أنه كان إذا وُلِدَ له وَلَدٌ أذَّن في أُذُنِه ¬
الْيُمْنَى، وأَقَامَ في اليُسْرَى (¬1)، وعلى هذا جَرَى بعضُ الأَصْحاب. وعن مَالِكٍ -رضي الله عنه- أنه لاَ يُسْتحبُّ. وأن يقولَ في أُذُنِ المولُودِ: إِنِّي أُعِيذُهَا بكَ وَذُزِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم، وأن يُحَنكه بالتّمْرِ: وهو أَنْ يَمْضَغُهُ ويدلك (¬2) به حَنَكَه، فإن لم يكن تمرٌ حَنَّكَه بِشَيْء آخرَ حُلْوٌ، وأَنْ يُهَنَّأ الوالدُ بالولاَدَةِ. وأَمَّا لفظُ الكتاب فقولُه: "فهي أيضاً كالضحية في أَحْكامها" يعني: في الأَكْلِ، والهَدِيَّةِ، والسَّلاَمَةِ، عَنِ العُيُوب، وغيرها؛ كما بينا لكنَّ الضحيةَ يختصُّ ذَبْحُهَا بأيَّام النَّحْرِ، والعقيقةُ يدخُلُ وقتُ ذبَحِهَا بولادَةِ المولُودِ كدماءِ [الجُبْرانَاتِ] (¬3) التي تتعلَّق بأسبابٍ حَادِثةٍ. وقوله: "إلى السَّابع" ليس على مَعْنَى أنه يَنْتَهِي وقْتُها بتمام السبعة لكن فيه على معنى أَنَّ الأَحَبَّ أَلاَّ يُؤَخرَ عنه. وقوله "ولا يَتَأَدَّى الاستحبابُ إلا بما يتأدَّى به" يُشْبه أَنْ يُريدُ به القدْرَ الذي يخرجه، وكيفيةَ الإخْراجِ، ومَنْ يخرج إليه، وهو في الحقيقةِ دَاخِلٌ في قوله: أَوَّلاً إِنَّها كالضحية في أَحْكَامِها. ويجوزُ إعلامُ قولِه: "يتضح" بالواوِ؛ لما سبق. وقولُه: "والتصدُّقُ بالمرَقَةِ" يُغْنِي عن التصدُّقِ باللَّحْم أعني إذا أَوْجَبْنَا التصدُّقَ بقدْرِ مَا يَنْطَلِقُ عليهِ الاِسْمُ" هذا ليسَ بواضِحِ لا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، ولا مِنْ جِهَةِ الْمعنى. أمَّا المعْنَى فظاهِرٌ. وأما النقلُ، فلأَنْهُ لاَ يَكادُ يُوجَدُ ذلك لغيْرِه. نَعَمْ، في "الْوَسِيطِ" أن الصِّيْدَلاَنِيّ قال: يجوزُ التصدُّقُ بالمرقةِ، ثم قال مُعْتَرِضاً عليه؛ إِنْ أراد بهذا أنه يكفي عن التصدُّقِ بمقدَارٍ من اللحْم، إِذَا قُلْنَ: لا بُدَّ مِنْه فَفِيه نَظَرٌ، وقد نظرتُ في مَجْمُوع الصيدلاَنِي فلم [أجدْ فيه ما نقَله] (¬4) وإنما قال: يَطْبُخُهَا ويبعَثُ بها وبمَرَقِهَا إلى الفُقَرَاءِ. وكذلك حكاه الإمامُ عنه، وكلمة أَعْنِي: لا حاجةَ إِلَيْها، ولو طَرَحها لانْتظم الكلامُ. فَرْعٌ: تُعْطَى الْقَابِلَة رِجْلَ العَقِيقَة؛ اقتداء بفَاطِمَةَ -رضي الله عنها (¬5) -. آخرِ -رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا فَرَعَةَ ولا عَتِيرةَ" (¬6). ¬
ويُرْوَى: لا فَرَعَ والفرع: أَوَّلُ نتاج البهِيمَةِ كانوا يذبحونَهُ ولا يملِكُونه؛ رجاءَ البركةِ من الأُمِّ وكثرة نَسْلها. والعتيرةُ: ذبيحةٌ كانوا يَذْبَحونَها في العَشْرِ الأُوَلِ مِنْ رَجَبٍ، وُيسَمُّونَها: الرَّجَبيَّةَ أيضاً. في كتاب القاضِي ابْنِ كَجٍّ، وغيرِه اختِلاَفٌ فيها؛ فَعَنْ بعضِ الأصْحاب: أنهما مَكْرُوهان؛ عن ظَاهِرِ الخبر. وعن بَعْضِهم: أنه لا كراهةَ فيهِما والمنعُ رَاجِعٌ إلى ما كانوا يَفْعَلُونَ، وهو الذبحُ لآلِهَتِهم أو المقصودُ بنفْي الوُجُوبِ: أنَّهما ليستَا كالأضْحيَةِ في الاِسْتحبابِ أو في الثَّوابِ على إِرَاقَةِ الدم. فأمَّا تفرقَةُ اللحْمِ على المسَاكِين، فَبِرٌّ وصدقَةٌ. ويُرْوَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ -رضي الله عنه- قال: إِنْ تَيَسَّرَ ذلك في كُلِّ شَهْرٍ كان حَسَناً. والله اعْلَمُ (¬1). ¬
..........................................................
كتاب الأطعمة
كِتَابُ الأطْعِمَةِ وَفِيهِ فَصْلاَن قَالَ الغَزَالِيُّ: (الأَوَّلُ فِي حَالِ الاخْتِيَارِ): وجَمِيعُ مَا خَلَقَهُ الله تَعَالَى مِنَ المطعوماتِ حَلاَلٌ إلاَّ مَا تَسْتَثْنِيهِ عَشَرَةُ أُصُولِ: (الأَوَّلُ): مَا نَصَّ الكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِهِ كالخِنْزِيرِ وَالخَمْرِ أَوِ السُّنَّةُ كَالحُمُر الأَهْلِيَّةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قَالَ الله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4]، وقال عز مِنْ قال: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145]، وقال سبحانه وتعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} الآياتُ، ومقصود الكتاب الكلامُ في المطاعم، ومعرفة أحكامها من المهمات؛ فإن الله تعالى أجرى العادةَ بالحاجَة إليها؛ على ما قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ}، وفي تناول الحرام الوعيدُ الشديدُ؛ على ما قال -صلى الله عليه وسلم-: "أيُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ حَرَامٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ" (¬1) للإنسانِ حالتان؛ حالةُ رفاهيةٍ واختيارٍ، وحالةُ شدَّةٍ وَاضطرارٍ، وبحسبهما أوْدَعَ مسائلَ الكتَابِ في فصْلَيْن: أحدهِما: في حال الاختيار، وقال الأصحاب ما يمكن أكْلُه من الجماد والحيوان ¬
لا يتأتَّى حصر أنواعه، لكنَّ الأصل في الكِلِّ الحِلُّ؛ لأن الأعيان مخلوقُةُ لمنافع العباد، وقد يُتَمَسَّك له بقوله تعالَى {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الآية، وأطلق صاحبُ الكتاب القول بحل الجميع، إلا ما يستثنيه عشَرةُ فُصُول: أحدها: تنصيص الكتاب على تحريمه؛ كالخنزير والخمر، أما الخنزيرُ، فقد قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] وقال: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] وأما الخمر، فقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] إلى قوله تعالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]، واحتج به على التحريم من وجوه مشهورة، ومن هذا القبيل الميتةُ والدَّمُ، والمنخنقة (¬1) والموقوذة (¬2)، والنَّطيحة (¬3)، وكذا تنصيص السنَّة على التحريم؛ كالحُمر الأهلية فعن علي -كرّم الله وجهه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَامَ خَيْبَرَ عَنْ نِكَاحِ المتْعَةِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ (¬4) ويُرْوَى ذلك من رواية جابر وجماعة من الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين-، وعن "الحاوي" حكايةُ وجهين عن الأصحاب في أن الحُمُرَ حُرِّمَتْ بالنص أو باستخباث العَرَب لها، ونفى مالك تحريمَها، ¬
ويُحِلُّ الحِمارَ الوحشيَّ؛ لما رُوِيَ عن أبي قتادة -رضي الله عنه- أنه رأى حماراً وحشياً في طريق مكةَ، فقتله، فأكل منه بعضُ أصحابِ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وأبى بعضُهم؛ لأنهم كانوا محرمين، فسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ" (¬1)، والبِغال كالحُمُرِ الأهليَّةِ، ولا تحرم الخيل، وبه قال أحمد؛ لما رُوِيَ عن جابر -رضي الله عنه- أنه قال: ذَبَحْنَا يَوْمَ خَيبَرَ الخَيْلَ، والبِغَالَ، والحَمِيرَ، فنهانا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عن البِغَالِ والحَمِيرِ، ولم ينهنا عن الخَيْل (¬2)، وعن جابر -رضي الله عنه- أيضاً: أَطْعَمَنَا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لُحُومَ الْخَيْلِ وَنَهَانَا عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ (¬3). وعن أسماءَ -رضي الله عنها- قالت: ذَبَحْنَا على عَهْدِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحْنُ بالمدِينَةِ فَرَساً، فأكَلْنَاهُ (¬4). وَوُجِّهَ تحريم البَغل أيضاً بأنه متولِّد من حلال وحرام، فيغلب فيه التحريم، ولا فَرْقَ بين أن يكونَ الحرامُ من أصلية الذكر أو الأنثى، وما يتولَّد من الحمار الوحشي والفرَسِ حلالٌ لِحِلِّ الأصلَيْن. وعن أبي حنيفةَ: أن لحمَ الخيل حرامٌ، ويُرْوَى عنه: أنه مكروه يتعلَّقِ الإثم به، ولا يُطْلَق القول بالحرمة. وعن مالكٍ: كراهيةُ لحُوم الخيل (¬5). ¬
وقوله في الكتاب: "ما نص الكتاب على تحريمه" اللائق بالسياق أن يقول: ورود الكتاب بالتحريم أو تنصيصه عليه، فإنه الأصل المستثنَى؛ فأما ما نص على تحريمه الكتابُ، فهو محل الاستثناء لا الأصْلُ المستثنَى، وقضية الترتيب المذكورِ أن يحمل قوله "أو السنّة" على ستة خاصة ناصة على نوع معيَّن مما يمكن أكله لا على مطلَقِ السنّة، وإلا فيَحْرُم كل ذي ناب من السباعِ وذي مِخْلَبِ من الطيور وهو الأصل الثالث مأخوذ من السنَّة، وكذا تحريم ما أُمِرَ بقتله، وهو الرابع، وما نُهِيَ عن قتله، وهو الخامس إلا أنها ضوابط تشمل أنواعاً مما يؤْكل.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الثَّاني): مَا في مَعنَاهُمَا كَالنَّبِيذِ في معْنَى الخَمْرِ (الثَّالِثُ): كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكلُّ ذِي مِخْلَب مِنَ الطُّيُورِ فَيحْرُمُ الكَلْبُ وَالفِيلُ وَالدُّبُّ وَالبَازِيُّ وَالشَّاهِيْنُ وَالصَّقْرُ وَالعُقَابُ وَالنَّسْرُ وَجَمِيعُ جَوَارحِ الطَّيْرِ، وَلاَ يَحْرْم الضَّبُّ وَالضَّبْعُ وَالثَّعْلَبُ، أَمَّا ابْنُ عِرْسَ وَابنُ آوَى فَفِيهِ تَردُّدٌ لِشَبَهِهِ بالثَّعْلَبِ وَالكَلْبِ، وَكَذَا في الهِرَّةِ الوحْشِيَّةِ تَرَدُّدٌ لِشَبَهِهَا بِالإنْسِيَّةِ، وَالأَظْهَرُ إِلحَاقُ السِّمُّورِ وَالسِّنْجَابِ بالثَّعْلَبِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: يحرم ما هو في معْنَى ما نصَّ الكتاب أو السنّة على تحريمه؛ كالنبيذ؛ فإنه بعلة الإِسكار حرام، كالخمر، واعلم أن المقصودَ هاهنا التمثيل، وإلا، فالنبيذ مما وردتِ السنّة بتحريمه على ما سبق في الأشربة، فيمكن إسناد تحريمه إلى النَّصِّ دون القياس، ومن الناس من قال: إن الخمر ما خامرت العقل، وإن النبيذ متناول باسم الخمر، وعلى هذا، فالوارد في الخمْر وارد في النبيذ، فيكون منصوصاً عليه، لا ملحقاً بالمنصوص. الثانية: تحريمُ أكل جمل ذي ناب من السباع وذي مِخْلب من الطيور، وبه قال أبو حنيفة وأحمدُ، وقال مالك يُكْرَه ولا يَحْرُم؛ لما رُوِيَ عن علي -رضي الله عنه- وابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "نَهَى عَنْ أَكل كُلِّ ذِي نَاب مِنَ السِّبَاع وَذِي مِخْلَبٍ فِي الطُّيُور" (¬1) وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: كَلُّ ذِي نَابٍ مَنَ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ (¬2)، ورُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر خالدَ بنَ الوليد -رضي الله عنه- عَامَ خَيبَرَ، حَتَّى نَادَى؛ أَلاَ لاَ يَحِلُّ لَكُمُ الْحِمَارُ الأَهْلِيُّ، وَلاَ كُلُّ ذِي نَاب مِنَ السِّبَاعِ" (¬3) والمراد من ذي النّاب الذي يعدو على الحيوان، ويتقوى بنابه، والتحريم على ما عزى ¬
إلى نص الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- منوط بعدوانه بالناب. وقال أبو إسحاق: التحريم منوط بتعيشه بنابه، ومعناه؛ أنه لا يأكل إلا من فريسته، إذا تقرَّر ذلك، فلا يَحِلُّ الكلب والأسد والذئب والنَّمِر والفهد والبَبْر (¬1) والدبُّ والقرد، والفيل؛ لأنها عاديَةٌ بأنيابها، وحَكَى أبو عاصم العبَّاديُّ أن أبا عبد الله البُوشنجيَّ من أصحابنا اختار مذهبَ مالكٍ في حِلِّ الفيل، وقال: لا يعدو من الفيلة إلا الفحلُ المغتلم؛ كالإِبل، والمذهب الأول، [و] لا يحلُّ من الطير البازيُّ (¬2) والشاهينُ (¬3) ¬
والصقر (¬1) والعقاب (¬2)، وجميع جوارح الطير، ولا يحرم الضَّبُّ (¬3)، وبه قال مالكٌ ¬
وأحمدُ خلافاً لأبي حنيفةَ؛ لما رُوِيَ أن عمر -رضي الله عنه- قال: سألَ رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَكْلِ الضَّبِّ، فقال: لاَ آكُلُهُ وَلاَ أُحَرِّمُهُ (¬1)، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: دَخَلْتُ أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الوَليدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْتَ مَيْمُونَةَ، فَأُتِيَ بِضَبٍ مَحْنُوذٍ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَهُ، فَقُلْتُ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لاَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكَنْ بأَرْضِ قَوْمِي، فَأجِدُنِي أَعَافُهُ، قَالَ خَالِدٌ: فاجتررته، فَأكَلْتُهُ، ورسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَنْظُرُ" (¬2) وَلاَ يحْرُمُ الضبعُ، وبه قال أحمد، وقال أبو جنيفةٍ: يَحْرُمُ، وهو رواية عن مالكٍ والأشهرُ عنه الكراهية؛ لما رُوِيَ أن جابراً -رضي الله عنه- سُئِلَ عن الضَّبُع، أَصَيْدٌ هُوَ؟ فقال: نَعَمْ، قِيلَ: أَيُؤْكَلُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: أَسَمعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: نَعَمْ" (¬3) وعن الشافعيِّ -رضي الله عنه- أن لَحْمَ الضباع (¬4) كان يُبَاعُ بين الصفا والمروة ¬
من غير إنكار، ونابه ضعيف، لا يتقوَّى به، ولا يعيش به، ويحْرُم السَّبُع، وهو المتولِّد بين الذئب والضَّبُع، ولا يحرم الثعلَب، وعن أحمد روايتان، وعن أبي حنيفةَ ومالقٍ مثْلُ ما رُوِيَ في الضبع. لنا: أنه ذو ناب ضعيف، فأشبه الضبع، وَيحِلُّ الأرنبُ (¬1) واليربُوع؛ خلافاً لأبي حنيفة. ¬
لنا في الأرنب: ما رُوِيَ عن أنس -رضي الله عنه- قال: أَنْفَجْنَا أَرْنَباً، أي: أَثَرْنَاهَا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَأَدْرَكْتُهَا، فَأَخَذْتُهَا، فَأتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا، وَبَعَثَ بِفَخِذِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَبِلَهُ، ويُرْوى: "فأَكَلَ مِنْهُ" وعن بعض الصحابة -رضي الله عنه- قال: اصْطَدتُّ أرْنَبَيْنِ، فَذَبَحْتُهُمَا بِمرْوَةَ، وَسَأَلْت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَنِي بِأكْلِهِمَا، وأما اليَرْبُوعُ (¬1)، فَإِنَّ العَرَبَ تَسْتَطِيبُهُ، ونابهُ ضعيفٌ، والوجهان يجريان في ابن مُقْرِضٍ (¬2)، وهو الدَّلَقُ (¬3)، وفي ابْنِ آوَى أيضاً ثم، في تعليق الشيخ أبي حامد: ¬
أن الأشبه بالمذهب حلّه؛ لضعف نابه، لكن الذي رجِّحه أبو علي الطبريُّ وصاحبُ "التهذيبِ" والرويانىّ: المَنْعُ؛ لأن رائحتَه كريهةٌ، ويتناول الميتة كالذئب؛ ولأن العرب تستخبثه، وهذا ما حَكَى الإِمام عن المراوزة القطْعَ به، وفي "الحاوي" بناء الخلاف على أن تحريم ذي الناب، بم يتعلَّق؟ فعلى تعليل الشافعيِّ -رضي الله عنه- يَحِلُّ؛ لأنه لا يتقوى، ولا يعدو ابتداءً، وعلى تعليل أبي إسحاق، لا يحلُّ، وفي "التهذيب" إجراء الخلاف في الوَبْر (¬1) والدُّلْدُل (¬2)، والظاهر المنسوب إلى النَّصِّ أنه حلالٌ، وعليه يتفرَّع تعلُّق الجزاء به على ما سبق في الحجِّ، وبينا هناك أن الوَبْر ما هو، ويُقال: إن هذه الدابة أنبلُ من ابن عِرْس، وأما الدُّلْدُل؛ وهو في حد السخلة، ويُقال: إنه عظيم القنافذ، وعن الشيخ أبي حامد (¬3): أنه كان يقطع بتحريمه، ويُلْحِقه بالخبائث، قال الإِمام: ولست أعرف فيه أصلاً يُرجع إليه والهِرَّة الإِنْسِيَّةُ محرَّمة؛ لأنها تعدو وتعيش بنابها، وقد ورد في الخبر؛ أنها سَبْعٌ (¬4) واختار أبو عبد الله البوشنجي لنفسه مذهبَ مالكٍ وهو حلُّها، وفي الوحشيَّة وجهان: أحدُهما: وبِه قال الخُضَرِيُّ: تَحِلُّ، كما يَحِلُّ الحمارُ الوحشيُّ. وأصحهما: المنْعُ؛ لأنها تعدو بنابها، وهي في اللون والصورة والطبع كالإِنسية؛ ألا ترى أنها تتلون بألوان مختلفة، وتستأنس بالناس؛ كالأهلية بخلاف الحِمار الوحشي مع الإِنسيِّ، قال الإِمام: وقد يُظَنُّ أن الهِرَرَ الوحشيات هي الإنسيات؛ تستوحش عنْد جلاءَ أهل القرَى، وفي السِّنَوْر (¬5) والسِّنْجَاب (¬6) والفَنَك (¬7) والقماقم (¬8) والحَواصِل ¬
وجهان أيضاً، والأظهر: حلّها وإلحاقها بالثعلب، ويحكى ذلك عن نص الشافعيِّ -رضي الله عنه-. وليعلَمْ؛ لما بينا قوله في الكتاب "فيحرم الكلب" بالميم؛ لِحِلِّ الكلب وما بعده عنده، و"الفيل" بالواو؛ لاختيار البوشنجي. وقوله: "ولا يَحْرُمُ" بالحاء و"الضَبعُ" بالميبم. "والثعلب" بالميم والألف، ويجوز أن يعلم "وابن آوى" بالواو إشارةً إلى ما ذُكِر من قطْع المراوزة بتحريمه. وقوله: "لشبهه بالثعلب والكلب" وجه شبهه بالثعلب؛ أنه ضعيف الناب، وقليلاً ما يعدو، ووجه شبهه بالكلب؛ أنه [ضعيفُ الناب] يتناول الميتة، وقولُه في الهِرَّة الوحشية "لشبهها بالإِنسية" قال في "الوسيط": والأرنب، وقوله، عند ذكر الطيور "النِّسْر" يُشْعِر بأن له مخلباً يعدو به، وكذلك أدرجه مُدْرِجون في ذوات المخالب، وفي "الشامل" وغيره: عدَّه مما لا مِخْلَب له، وتوجيه تحريمه بأنه من المستخبثات، وأيضاً، فعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يكْرَهُ لَحْمَ ما يَأْكُلُ المَيْتَةَ (¬1)، والله أعلم. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: (الرَّابعُ): مَا أُمِرَ بِقَتْلِهِ كَالْفَوَاسِقِ الخَمْسِ، وَهِيَ الغُرَابُ وَالحِدَأَةُ وَالعقْرَبُ وَالْحَيَّةُ وَالفَأْرَةُ، وَفِي مَعْنَى الخَمْس كُلُّ سَبعُ ضَارٍ كَالذِّئْبَ وَالأَسَدَ وَالفَهْدِ وَالنَّمِرِ، وَالنَّعَامَةُ تُلْحَقُ بِالحِدَأَةِ، وَالغُرَابُ الأَبْقَعُ حَرَامٌ، وَفِي الأَسْوَدِ الكَبِيرِ تَرَدُّدٌ، وَأَمَّا غُرَابُ الزَّرْعِ وَمِنْهَا حُمُرُ المَنَاقِيرِ وَالأَرْجُلِ فَالأَظْهَرُ حِلُّهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قال صاحبُ "التلخيص" وساعده الأصحاب: ما أُمِرَ بقتله من الحيوان فهو حرامٌ؛ والسبب فيه أن الأمر بقتله إسقاط لحرمته ومنعٌ من اقتنائه، ولو كان ماكولاً، لجاز اقتناؤه؛ للتسمين وإعداده للأكل، فمِن ذلك الفواسق الخمس؛ رُوِيَ عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الحَيَّةُ وَالْفَأْرَةُ، وَالْغُرَابُ، الأَبْقَعُ والكَلْبُ وَالْحِدَأَةُ" (¬1) ويُرْوَى تقييد الكَلْب بالعقور، وفي رواية أبي هريرة -رضي الله عنه- بدل الغراب "العقرب" وفسر الفواسق في الكتاب بالغراب والحِدأة والحيَّة والفأرة، والعقرب، ولا شك أن التحريمَ شاملٌ لجميعها، وفي معناها كل سبع ضرٍ، وفي بعض الروايات أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَكُلُّ سبعٍ عادٍ" وهذا الأصل يقتضي أيضاً تحريم الأسد والذئب والفَهِد والنَمر، وقد يجتمع في الشيء الواحد سببان أو أسباب؛ تقتضي التحريم، ثم في الفصل صورتان: إحداهما: البَغاثة (¬2) محرَّمة؛ كالحِدأة، وهي طائرٌ أبيضُ بطيْء الطيران أصغر من الحِدأة؛ ولذلك تحرم الرَّخَمة (¬3)؛ وذلك لخبث غِذَائها، وقد رُوِيَ عن ابن عباس -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "نَهَى عَنْ أكْلِ الرَّخَمَة" (¬4). ¬
الثانية: الغُراب، وهو أنواعٌ: منها: الأبقع، وهو فاسق محرَّم بلا خلاف، ومنها الأسود الكبير، وفيه وجهان: أحدهما: لا يَحْرُم؛ للتقييد في بعض الروايات بالأبقع. وأصحُّهما: وقطع به قاطعون: أنه حرام؛ لأنه يأكل الميتة، وهو من المستخبثات، وقد يُقَال لهذا الغراب الغُدَافُ الكبيرُ، وأيضاً الغُرابُ الجَبَلِيُّ؛ لأنه يسكن الجبالَ. ومنها: غُراب الزرْع، وهو أسْود صغيرٌ، ويُقَال له: الزاغ، وقد يكونُ مُحْمَرَّ المنقار والرجلَيْن، وفيه وجهان: أحدهما: أنه حرامٌ؛ لأنه من جنْس الغربان. وأصحهما: الحِلُّ، وبه قال أبو حنيفةَ؛ لأنه مستطاب يأكل الزرع، فأشبه الفَوَاخِتَ. ومنها: غرابٌ آخر صغيرٌ أسودُ أو رماديُّ اللون، وقد يُقال له: الغداف الصغيرُ، وفيه وجهان كالوجهين في النوع الذي قبله، وأجرى الوجهان في العَقْعَق (¬1)، لكن في "التهذيب" الأصح أنه حرام، وبه قال أبو عبد الله البوشنجيُّ، وهذا ما أورده القاضي الرويانيُّ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الخَامِسُ): ماَ نُهَيَ عَنْ قَتْلِهِ كَالخُطَّافِ وَالصُّرَدِ وَالنَّملَةِ وَالنَّحْل، وَفِي الهُدْهُدِ تَردُّدٌ، وَالأَظْهَرُ أَنَّ اللَّقْلَقَ حَلاَلٌ كَالكُرْكِيِّ وَكُلُّ ذَاتِ طَوْقٍ فَحَلاَلٌ، وَاسْمُ الحَمَامِ يَشْمَلُ الفَوَاخِتَ وَالقَمَارِيَّ، وَمَا عَلَى شَكْلِ العُصْفُورِ فَحَلاَلٌ وَإِنِ اخْتَلَفَ أَلْوَانُهَا كَالزُّرْزُورِ وَالصَّعْوَةِ وَأَشْبَاهِهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه ثلاث مسائل: إحداها: ذكر صاحبُ "التلخيصِ" وغيره؛ أن ما ورد النهيُ عن قتله، فهو حرام؛ وذلك لأنه لو كان مأكولاً، لجاز ذبحه؛ ليؤكل، فمِمَّا نهى عن قتله الخُطَّافِ، رُوِيَ أن ¬
النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "نَهَى عَنْ قَتْلِ الخَطَاطِيفِ" (¬1) والمشهور أنه حرام، وحَكَى أبو عاصم العباديُّ عن محمَّد بن الحسن أنه حلال؛ لأنه يتقوَّت بالحلال غالباً، قال: وهذا محتملٌ على أصلنا، وإليه مال كبراءُ أصحابِنا، ومنه الصُّرَدُ (¬2)، وفيه وجهان: أظهرهما: وهو المذكور في الكتاب: أنه حرام؛ للنهي عن قتله. والثاني: لا يَحْرُم؛ أخذاً بالأصل، والنهي ليس للتحريم، بل لأن العَرَبَ كانت تتشاءم، به ومنه النملة (¬3)، والنحلة، وهما حرامان؛ لورود النهي عن قتلهما، وأيضاً، فهما من الحشرات المستخبثة وأجرى الشيخ أبو عاصم الخلاف فيهما، وفي الهُدْهُدِ وجهان مذكوران في الكتاب، كما في الصُّرَدِ، ويقال قولان؛ لأنه حَكَى عن نص الشافعيِّ -رضي الله عنه- إيجاب الفداء فيهما، وعنْده: لا يجب الفدية إلا في المأكول، والأظهر التحريم، وبه قال صاحب "التلخيص". وأبو علي الطبريُّ، ومما نُهِيَ عن قتله الخُفَّاش، ولم أجد فيه إلا التحريمَ، وقد يجري الخلاف فيه، وفي اللَّقْلَقِ (¬4) وجهان: أحدهما: وإليه ميلُ الشيخ أبي محمَّد: أنه حلال كالكُرْكِيِّ (¬5)، وجعله صاحب الكتاب الأظهر، وفي "التهذيب": أن الأصحَّ التحريمُ، وهو الذي أورده أبو عاصم ¬
العبَّادي، واحتج بأنه يطعم الخبائث، وبأنه يَصِفُّ. وقد رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "كُلْ مَا دَفَّ وَدَعْ مَا صَفَّ" (¬1) يقال: دَفَّ الطائر في طيرانه إذا حرك جناحه، كأنه يضرب بها وصَفَّ إذا لم يتحرَّك، كما تفعل الجوارح. الثانية: كلُّ ذات طوق من الطيور حلالٌ، واسم الحمام يقع عليها جميعاً، ويدخل فيه القُمْرِيُّ والدبسي واليمام والفواخت على ما سبق في "كتاب الحج" وأدرج في هذا القسم الوَرَشان (¬2) والقَطَا واليعاقيب (¬3)، وكلُّها من الطيبات. الثالثة: ما عَلَى شكل العصفور وفي حده، فهو حلال، واحتج له بما رُوِيَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَا مِنْ إِنْسَانٍ يَقْتُلُ عَصْفُوراً فَمَا فوْقَهَا بغَيْرِ حَقِّهَا إِلاَّ سَأَلَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا قِيلَ: وَمَا حَقّهَا قَالَ: يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُهَا، وَلاَ يَقْطَعُ رَأسَهَا، فيَطْرَحُها" (¬4) ويدخل في الاسم الصَعْوَة (¬5) والزُّرْزُور (¬6) والنّغَر (¬7) والبلبل، ويُقَالُ: إن أهل المدينة يسمون ¬
البلبل النّغْر والحُمَّرة، وحَكَى العباديُّ أن منهم مَنْ حرم الحمرة؛ لأنها نهاس، والعندليب، عن رواية صاحب "التقريب" وجْهٌ أنه حرام، والأظهر حلُّه، وهو الذي أورده صاحبُ "التهذيب" لأنه لِقَاطٌ، ولأنه يتقوت بالطاهرات، وتحل النعامة والكُرْكِيِّ والديك والدَّجاج، والخُبارى؛ عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أنه قال: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَأْكُلُ لَحْمَ دَجَاج (¬1) " عن شعبة -رضي الله عنه- قال: "أَكَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لَحْمَ حُبَارَى" (¬2) وفي البَبْغَاء والطاووسِ وجهانِ، قال في "التهذيب": أصحُهمَا: التحريم، وذكر أن الشِّقْران (¬3) يُؤْكَل؛ لأنه يطْعَم الطَّيِّب، وعن الصيمريِّ خلافهُ؛ لأنه نهاس، ذُكر أبو عاصم أنه يحرم مُلاَعِبُ ظِلِّه (¬4)، وهو طائر يسبح في الجو مراراً، كأنه يَنْصَبّ على طائر، وأن اليوم (¬5) حرامٌ؛ كالرَّخَم، وكذا الضُّوَع، وأن عن الشافعيِّ -رضي الله عنه- قولاً إنه حلالٌ، وهذا يقتضي أن يَكونَ الضُّوع غير البُومِ، لكن في الصحاح (¬6) أن الضوع طائرٌ من طير الليل من جنس الهام، وأن المُفَضِّل قال: إنه ذَكَرُ البُوم كالهامة والصَّدَى (¬7)؛ وعلى هذا، فإنْ كان في الضوع قولٌ لزم ¬
إجراؤه في البوم؛ لأن الذكر والأُنْثى من الجنس الواحد لا يفترقان في الحلِّ، والحرمة، ونختم الفصل بنكتتين ذكرهما الشيخ أبو عاصم في الطيور: إحداهما: أن النَهَّاس حرامٌ، كالسباع التي تنهس، واللقاط حلالٌ إلا ما استثناه النصُّ، وأحل أبو عبد الله البُوشِنْجِيُّ اللقاط بلا استثناء. والثانية: أن ما يتقوَّت بالطاهرات حلال إلا ما استثناه النصُّ، وما يتقوَّت بالنجس فحرام، رُوِيَ عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ يَكْرَهُ لَحْمَ مَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ" (¬1) وعن مجاهد: "أنهم كانوا يكْرَهُونَ ما يَأْكُلُ الجيف" (¬2) يعني: الصحابة -رضي الله عنهم وليعرض على النكتتين- ما سبق من الفصل. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَأَمَا طَيْرُ المَاءِ وَحَيَوَانُهُ كُلُّهُ مُبَاحٌ إِلاَّ مَالَهُ نُظَيرٌ مُحَرَّمٌ فِي البَرَّ فَفِيه قَوْلاَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صورتان: إحداهما: أطلق مطلقون القول بحل طير الماء، وعلى ذلك جرى في الكتاب، وقد يُسمَّى بنات الماء وهي كالبَطِّ، والإِوَزِّ ومالك الحزينِ (¬3) وغيرها، قال أبو عاصم العبَّاديُّ: وهي أكثر من مائتي (¬4) نوع، ولا يُوجد لأكثرها اسمٌ عند العرب؛ لأنها لا تكونُ في بلاد العرب، وليس في شيء منها خلافٌ إلا في اللَّقْلَق؛ على ما مرَّ، والكركي من بنات الماء أيضاً، وفي "البحر" للقاضي الرويانيِّ: أن الصَّيْمَريَّ قال: لا يُؤكل طير الماء البيض؛ لخبث لحمها (¬5). ¬
الثانية: الحيوانات التي لا يهلكها الماء ضربان: الأول: ما يعيش في الماء، وإذا خرج كان عيشُه عيشَ المذبوح؛ كالسمك بأنواعه حلالٌ، ولا حاجة إلى ذبحه كما سبق، ولا فرق بين ما مات بسبب طارئ كَضَغْطَةٍ أو صَدْمة حَجَرٍ، أو انحسارِ ماءٍ، أو ضَرْبٍ من الصياد، وما مات حَتْفَ أنْفِه. وعند أبي حنيفَة: لا يحل ما مات حتفَ أنفه، وبَنَى عليه: أنه لو مات، وبعضه في الماء، فإن كان رأسُهُ خارجاً، حل؛ لأنه مات بانقطاع النَّفَس، وإن كان النِّصفُ الأسفل خارجاً، لم يحلَّ. لنا: قولُه -صلى الله عليه وسلم- "وَالْحِلُّ مَيْتتهُ" أطلق ولم يفصِّل، وأيضاً، فإنه سلم أن الجرَادَ يُؤكل، وإنْ ما مات حتف أنفه؛ فقيس عليه. وقال مالكٌ: لا يحِلُّ الجرادُ، إذا مات حتف أنفهُ، وإنما يُؤكل، إذا قطعت رأسُه قطعاً، وسَلم أن السمكَ يُؤكل، وإن مات حتف أنفه، وما ليس على صورة السموك المشهورة، فيه ثلاثةُ أوجهٍ، ويُقال ثلاثةُ أقوال: أحدها: وبه قال أبو حنيفة أنَّهُ لا يحل؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- خص السمكَ، والجرَادَ بالذكْر؛ حيث قال: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيتَتَانِ وَدَمَانِ" فيبقى ما سواهما داخلاً تحْت تحريم الميتة. وأصحهما: وهو المنصوص في رواية المُزَنِّي، وفي "الأم"، وفي اختلاف العراقيين، وبه قال مالك وأحمد: لا يحل؛ لإِطلاق قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] وقوله -صلى الله عليه وسلم- "الْحِلّ مَيْتتَه" وعن أبي بكر -رضي الله عنه- "كُلُّ دَابَّةٍ تَمُوتُ فِي البَحْرِ، فَقَد ذَكَّاهَا اللهُ لَكُمْ" (¬1) وقد يُبنَى الخلافُ على أن اسم السمك والحوت، هل يقع على جميعها؛ لاشتراكها في الطعم أو لا يقع؟ قال في "التهذيب": والأصح الوقوع، وعن ابن خيران: أنه قال: أصاب أَكَّارٌ لنا كَلْبَ الماء في ضيعة لنا، فأكلْنَاه، فإذا طَعْمُه طَعْمُ السمك. ¬
والثالث: أنَّ ما يُؤكل نظيره في البر فحلال؛ كالبقر والشاة، يؤُكل في البحر، وما لا يُؤكل كخنزير الماء وكلبِه، لا يُؤكل، قال في "العدة": وعليه الفتوى اليومَ؛ وعلى هذا، فلو لم يكن له نظيرٌ فِي البرِّ محلَّلٌ ولا محرَّمٌ، فهو حلال؛ لما رُوِيَ أن طائفة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَصَابَتْهُمُ المَجَاعَةُ في غَزَاةٍ، فَلَفَظَ البَحْرِ حَيَوَاناً عَظِيماً يُسَمَّى العَنْبَرَ فأَكَلُوا مِنْهُ، ثُمَّ أَخْبَرُوا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا قَدِمُوا، فَلَم يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: "هَلاَّ حَمَلْتُمْ لِي مِنْهُ" (¬1) وإذا حكمنا بحل ما سوى السمك من حيوان البحر، فهل يُشترط فيه الذكاة أم تحلُّ ميتته؟ فيه وجهان، ويُقال قولان: أحدهما: وَبِهِ قال أحمد: يُشْتَرَطَ الذكاة، كما في حيوانات البر. وأصحُّهُما: أنه يَحِلّ ميتتها؛ لأنها حيوانات تعيش في الماء؛ فأشبهت السمك، وأيضاً، فقد أشار الإمام إلى أن المسقط لاعتبار الذبْح في السمك؛ أنه ما دام في الماء لا تَصِل اليد إليه، وإذا أخرج، اضطِرَب اضطرابَ المذبوح، وهذا يشمل السمكَ وغيرَه، وقد يُبنى الخلاف في اشتراط الذكاة فيما سوى السمك على أنه، هل يقع عليها اسمُ الحوت. والضربُ الثاني: ما يعيش في الماء ويعيش في البر أيضاً، فمنه طيرُ الماء؛ كالبَطِّ والإِوَزِّ ونحوهما، وقد بينا حكمهما، فلا تحلُّ ميتتُها بحال، وعدَّ الشيخ أبو حامد والإِمامُ مِنْ هذا الضرب الضِّفْدَع (¬2) والسَّرطان، وكذلك فعل صاحبُ "التهذيب" وألحق ¬
بهما الحيَّة، والتِّمْسَاح (¬1)، فالضِّفْدع حرامٌ؛ لأنه ورد النَّهْي عن قتله، والمنهيُّ عن قتله محرَّم، ولأنه مستخبثُ هذا هو الظاهر، وفيه قول عن حكايته صاحِب "التقريب" ونسبه الشيْخُ أبو عاصم إلى رواية الربيع، والسَّرَطَانِ كالضِّفْدع؛ لمعنى الاستخباث، ولما فيه من المضرَّة، وقول الحِلِّ يُحْكَى فيه، وإليه ذهب الحليمي إذا ذُبِحَ، والحية وذواتُ السموم محرَّمةٌ؛ لما فيها من الضرر الظاهر، والتِّمساح كذلك للخَبَث والضَّرَر، وعن الصيمرِّي: أنه يؤكل، ويدخل في هذا الضرب السُّلَحْفَاة، وفيها وجهان مذكوران في "التهذيب" وغيره، والأظهر: التحريمُ، واعلم أن جماعة من الأصحاب استثنَؤا الضِّفْدع من الحيوانات التي لا تعيشُ إلا في الماء؛ تفريعاً على الأصح، وهو حِلُّ غير السمك منْها، وكذا استثنوا الحيَّات والعقارب، وقضيَّةُ هذا الاستثناء كونُهَا مما لا تعيش إلا في الماء، ويمكن أن يكونَ نوع منها هكذا، ونوعٌ هكذا، واستثنى القاضي الطبريُّ النِّسْاس (¬2) على ذلك القول أيضاً، وامتنع الرويانيُّ وغيرُه من مساعدته (¬3) واللهُ أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (السَّادِسُ): مَا اسْتَخْبَثَتْهُ العَرَبُ فَحَرَامٌ كَالحَشَرَاتِ وَالضُّفْدَعِ (ح و) وَالسَّرَطَانِ (م و) والسُّلْحَفَاةِ (م و) وَلاَ يَحِلُّ مِنْهَا إلاَّ الضَّبُّ (ح)، وَفِي أُمِّ حُبَيْنِ تَرَدُّدُ ¬
وَلَعَلَّهُ وَلَدُ الضَّبِّ، وَالجَرَادُ حَلاَلٌ، وفِي الصَّرَّارَةِ تَرَدُّدٌ، وَتَشْبِيهُهَا بِالخُنْفَسَاءِ أَظْهَرُ، وَفِي القُنْفُذِ وَجْهَانِ، وَمَا أَشْكَلَ مِنْهُ فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى العَرَبِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من الأصول المرجوع إليها في التحليل والتحريم: الاستطابة والاستخباث، ورآه الشَّافعيُّ -رضي الله عنه- الأصْلَ الأعظم والأعم؛ ولذلك افتتح به الباب، والمعتمد فيه قولُه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وليس المرادُ من الطَّيِّب هاهنا الحلالَ، وإن كان قد يرد الطيب بمعنى الحلال؛ لأنَّ العمل عليه يخرج الجواب عن الإفادة، قال الأئمة: ويبعد الرجوع إلى طبقات الناس، وتنزيل كل قوم على ما يستطيبون ويستخبثون؛ لأنه يوجب اختلاف الأحكام في الحلال، والحرام، وذلك يخالف موضوعَ الشَّرْع في حمل الناس على متبوعٍ واحدٍ، ورأوا العرب أَوْلَى الأُمم؛ بأن يؤخذ باستطابتهم واستخباثهم؛ لأنهم المخاطبون أولاً، ولأن الدِّيْنَ عربيٌّ والنَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- عَرَبِيٌّ، وهم جيل لا يَغْلِب عليهم العيافة الناشئة في التنعُّم، فيضيِّقوا المطاعم على الناس، وإنما يرجع من العرب إلى سكان البلاد والقرى، دون أجلاف أهل البوادي الذين يتناولون ما دَبَّ ودرجَ من غير تمييز، ويعتبر عادة أهل اليسار والثروة، دون المحتاجين وأصحاب الضرورات، وحالة الخصب والرفاهية دون حالة الجدب والشدة، وذكر جماعةٌ؛ أن الرجوع إلى عادة العرب الذين كانوا في عهْد النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- لأن الخطاب كان لهم، ويشبه أن يُقَالَ: يُرْجعَ في كل زمان إلى العرب الموجودين فيه؛ يدل عليه أن أبا عاصم العباديَّ حَكَى عن الأُستاذ أبي طاهر الزياديِّ في العُصَارى (¬1)، وهو نوع من الجراد يَضْرِب إلى السواد، وله شَبَهٌ من الخَنَافِس: أنه قال: كنا نراه حراماً، حتى ورد علينا الأُستاذ أبو الحَسَنُ الماسرجسيُّ، فقال: إِنَّهُ حلال، فبعئنا منه جراباً إلى البادية، وسألنا عنْها العرب، فقالوا: هذا هو الجراد المبارك. وإذا اختلف المرجوع إليهم، فاستطابته طائفةٌ، واستخبثته أخرى، واتَّبعنا الأكثرين، فهذا استوت الطائفتان، فعن "الحاوي" وذكره أبو الحسن العباديُّ أيضاً: أنه يتبع قريش؛ لأنهم قُطْب العرب، وفيهم النبوة، فإن اختلفت قريش أو لم يحكموا بشيء، اعتبرنا بأقرب الحيوان شبهاً به، والشبه يكون تارة في الصورة، وأخرى في طبع الحيوان من السلامة والعُدوان، وأخرى في طَعْم اللحم، فإن تساوى الشبهان أو لم نَجِد ما يشبهه، ففيه وجهان سيأتي -إن شاء الله تعالى- نَظِيرهما. ¬
إذا تقرَّر ذلك، فالحشراتُ بأَسْرِها مستخبثةٌ؛ ما يَدْرُج منها، وما يطير، ومنها ما أمر بقتله كالوَزَغ، وذلك يدل على التحريم أيضاً، ومنها ما هي ذوات سموم وابر، فتحرَّم؛ لما فيها من الضرر، وفي النهي عن الوَزَغ دليلٌ على تحريم أنواعها؛ كحِرباء الظهيرة (¬1) والعظَاءة (¬2): وهي ملساء تشبه سام أبرص، وهي أحسن منه؛ الواحدةُ عظَاةٌ وعِظَايَةٌ، ويحرم الذَّرُّ (¬3) والذُّبَاب والخُنْفَسَاء، والقراد والجعْلاَن (¬4)، بنات وَرْدان (¬5) وحمارُ قَبَّان (¬6) والدِيدان، وفي دود الخلِّ والفاكهة وجْهٌ واللُّحَكَاء (¬7) وهي دُوَيْبَّة، كأنها ¬
سمكة تغوص في الرمل، إذا رأت الإنسان، ويُقال لها: لَحكاً أيضاً الحلكة (¬1)، والفأر ولا يَحِلُّ منها شيء إلا اليربوع، كما مر، ويُقال: إن له كَرِشاً كَكَرِش الشاةِ، والضّفْدع والسرطان والسُّلْحَفاة، وقد قدمنا القول في هذه الثلاثة، ويُستثنَى، من الحشرات الضبُّ؛ لما سبق، وفي أم حُبَيْن وجهان: أحدهما: التحريم؛ لأنها من الخبائث. وأصحهما: الحِلُّ؛ لأنه يفدي بحلان كما ذكرنا في "الحج"، وعن الشيخ أبي محمَّد: أنَّه قال: ما أراها إلا وَلَدَ الضَّبِّ، ومن ذوات الإِبر الجرادُ، فهو حلال بالنص ¬
والإِجماع، وفي الَصرارة خلاف للأصحاب، فألحقها بعضُهم بالجراد، وآخرون بالخُنْفُسَاء والذُّبَاب، وهو الأظهر، وفي القُنْفُذ (¬1) وجهان أيضاً: أحدهما: وبه قال أبو حنيفَةَ وأحمدُ: يحرم؛ لما ورد في الخبر (¬2)؛ أنه من الخبائث. وأصحُّهما: الحِلُّ، لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الآيَةَ، ويُرْوَى أنَّ ابن عُمَرَ -رضي الله عنهما- سُئِلَ عن القْنْفُذِ، فقرأ هذه الآية، فقال شيخٌ عنْده: سمعتُ أبا هريرةَ -رضي الله عنه- قَال: ذُكِرَ القُنْفُذ عنْد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَقَال: خَبِيثٌ مِنَ الخَبَائِثِ فقال ابنُ عمر -رضي الله عنهما- إنْ كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قالَهُ، فهو كما قال، كأن الشيخَ كان مَجْهولاً، فلم يَر قَبُولَ روايته، وحمله بعضُهم على أنه خبيثُ الفعل؛ لأنه يُخْفِي رأسه عنْد التعرُّض لذَبْحه، ويُؤْذِي بشوكه، إذا صيد، وعن القفَّال: أنه، إن صح الخبر، فهو حرام، وإلا، رجعنا إلى العرب، هل يستطيبونه؟ والمنقول عنهم الاستطابة (¬3). ويجوز أن يعلَم قولُه في الكتاب "كالحشرات" وما بعده بالميم؛ لأن عند مالكٍ: الحشراتُ كلُّها مكروهةٌ غير محرمة، وأن يُعلَم الضُّفْدَع والسَّرَطَان والسُّلْحَفَاة مع الميم بالواو؛ لما قدَّمنا فيها. وقوله: "وما أشكل منه، فيُرْجَع إلى العرب" السابق إلى اللهم منه الرجوع إلى العرب الموجودين في الحال، والمقصود أنا إذا وجَدْنا حيواناً في غير بلاد العرب، نعرضه على العرب، فإن استطابوه أو سَمَّوْه باسم حيوان حلال، فهو حلال، وإن استخبثوه، وسمَّوهْ باسم حيوانٍ حرامٍ، فهو حرام، وإن تردَّدوا فيه أو لم نجدْهم أو اختلفوا، ولا ترجيحَ، فيُعتبر بأقربَ الأشياء شبهاً به، فإن لم يكن شبيه، أو تعادل الشبهان، فوجهان: ¬
أحدهما: وَيُحْكَى عن أبي إسحاق وأبي علي الطبرَّي: أنه حلال؛ لظاهر قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الآية. والثاني: أنه حرام؛ لأن الأصل في الحيوان التحريمُ إلى أن يُعْلَم الحال، وهذا أرجح عند القاضي ابن كج، وفي "العدة": أن الأول ظاهرُ المذهب، وكذلك ذكر الإِمام في موضع الإِشكال؛ أن ميل الشافعيِّ -رضي الله عنه- إلى الإباحة، وميلَ أبي حنيفة إلى التحريم، وعن "الحاوي": أن الوجهين مُخَرَّجان على أن الأشياء قبْل ورود الشرْعِ على الحظْر أو على الإِباحة؟ واعلم أننا نراجع العرب، ونعتمد استطابتهم واستخباثهم في الحيوان الذي لم يَردْ نصٌ خاصٌّ ولا عامٌّ في تحليله أو تحريمه، ولا ورد أمر بقتله ولا نهي عنه، أما إذا وجدْنا أصلاً من هذه الأصول، فليعمل بمقتضاه ولا نراجعُهم. قَالَ الغَزَالِيُّ: (السَّابعُ): مَا لاَ نَصَّ فِي تَحْرِيمِهِ وَوَرَدَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّهُ كَانَ حَرَاماً فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا فَهُوَ مُسْتَصْحَبٌ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ما ثبت تحريمه في شرْع من قبلنا، هل يُسْتَصْحَبُ؟ حَكَى صاحبُ الكتاب فيه قولين: أحدهما: نعم: أخذاً بما كان إلى أن يظهرٍ ناسخٌ وناقلٌ. والثاني: لا، بل اعتماد ظاهر الآية المقتضية للحل أولَى من استصحاب الشرائع السالفة، والخلاف على ما ذكَر الموفَّق بن طاهر مبنيٌّ على أن شرع من قبلنا، هل هو شرع لنا؟ وفيه اختلافٌ أصوليٌّ، والأوفقُ لسياق كلامِ عامَّةِ الأصحاب: أنه لا يُسْتَصْحب حكم شرع من قبلنا (¬1)، وإذا قلْنا به، فلا تفريع، وإن حكمنا باستصحاب ما كان، فذلك ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إذا ثبت بالكتاب أو السنة؛ أنه كان محرماً في الشرع السابق أو شَهِد به اثنان أسْلَمَا منْهم، وهما من يعرفان (¬1) المبدل من غير المبدل، ولا يعتمد فيه قول أهلِ الكتاب، وإلى نحو هذا أشار بقوله في الكتاب "ووردت السنة بأنه كان حراماً في شرع من قبلنا" وموضع هذا القول ما إذا أشكل حال الحيوان، فلم يمكن أخذ حكمه في الاستطابة والاستخباث، ولا مما قبله من الأصول، ونحو هذا قَصَدَ بقوله في الكتاب "ووردت السنّة بأنه كان حراماً في شرع من قبلنا" ويبينه ما حُكِيَ عن "الحاوي": أن ما لم يكنْ في أرض العرب، إذا راجعناهم فيه، فاستطابة بعضُهم، واستخبثه آخرون، يُعْتبر حكمه عند أهل الكتاب، فإن اختلفوا اعْتُبِر حكمه في أقْرَب الشرائع إلى الإِسلام، وهي النصرانية، فإن اختلفوا فيه، عاد الوجهان في الحِلِّ والحُرمة عنْد تعذُّر الأخذ في الاستطابة والاستخباث وتعادل الأشباه. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الثَّامِنُ): الحَلاَلُ إِذا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ فَهُوَ حَرَامٌ كَالدُّهْنِ وَكَالْجَلالَةِ الَّتِي تَأْكُلُ العَذِرَةَ فَهُوَ حَرَامٌ (م و) إِنْ ظَهَرَ النَّتَنُ فِي لَحْمِهِ، وَجِلْدُهَا نَجِسٌ إلاَّ أَنْ تَزْولَ الرَّائِحَةُ بِالدَّبْغِ، وَمَهْمَا زَالَ بِالعَلَفِ حَلَّ لَحْمُهُ، وَلَوْ زَالَ بالطَّبْخِ لَمْ يَحِلَّ، وَالزَّرْعَ لاَ يَحْرُمُ وَإِنْ كَثُرَ الزِّبْلُ فِي أَصْلِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصل مسألتان: إحداهما: الأعيان النجسة لا يجوز أكلُها في حالة الاختيار، والطَّاهر إذا نَجُس بمخالطة النجاسة أو ملاقاتها، كذلك، وذلك كالدهن والسمن الذائب والدبس والخل، وقد ذكرنا في غسل الدُّهن ونحوه وجهاً في الطهارة، فعلى ذلك الوجْه إذا غسل يزول التحريم. والثانية: عن ابن عُمَرَ -رضي الله عنهما- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "نَهَى عَنِ أكْلِ الجَلاَّلةِ، وعن شُرْب ألْبَانِها، حَتَّى تُحْبَسَ" (¬2) وهذا نهي تحريم أو نهي كراهي وتنزيه؟ فيه وجهان: ¬
أحدهما: نهى تحريم، ويُحْكى ذلك عن أبي إسحاق المَرْوَزيِّ، وبه قال القفَّال، ورجَّحه الإِمام وصاحبُ "التَهذيب" المصنف. والثاني: نهى تنزيه، وهذا ما أورده أكثرهم؛ منْهم العراقيون والقاضي الروياني وغيرهم، وبه قال أبو حنيفة، ويُرْوَى عن مالكٍ مثلُه، ويُرْوَى، عنه أنه لا بأس بأكل لَحْمِهَا، وهذا يُشْعر بنفي التحريم والكراهة معاً، وعن أحمد روايتان كالوجهين، والأظهر عنه التحريم والجلاَّلة هي التي تأكل العَذَرة اليابسة والنجاسات، ويستوي (¬1) في الحكم الإِبل، والبقر، والغنم، والدَّجاج، وبم تَناط الكراهة أو التحريم؟ في "تتمة التتمة": أنه، إن كان أكثر علف الدابة النجاسات فهي جلاَّلة (¬2)، وإن كان الأكثر ¬
الطاهرات، فليست بجَلاَّلة، والأظهر: أنه لا اعتبار بالكثرة، ولكن الاعتبارُ بالرائحة والنتن، فإن كان يُوجد فيها وفي عرقها ربح النجاسة، فالموضع موضع النهي، وإلا، فلا، وفي "الحاوي" نقل الوجهين في التحريم والكراهة، وعن رواية ابن أبي هريرةَ أن موضع الوجهين ما إذا كانت تُوجَد رائحة النجاسة بتمامها، أو كانت الرائحةُ تقْرُب من الرائحة، فأما إذا كانت الرائحة التي تُوجد يسيرةً، فلا اعتبار بها، ولو حبست بعد ما ظَهَرَ النتن، وعلفت علفاً طاهراً حتى زالت الرائحةُ، ثم ذُبحَتْ، فلا تحريم، ولا كراهة، وعن بعض العلماء تقديرُ العَلَف في الإِبل والبقر بأَربعين يوماً، وفي الغنم بسبعة أيام، وفي الدَّجَاجة بثلاثة أيام، وهو محمول عندنا على الغالب، ولا يزول المنْعُ بغسل اللَّحم بعد الذبح، ولا بالطبخ وإن زالت الرائحة به، وكذا لو زالت بمرور الزمان عند صاحب "التهذيب" وقيل: بخلافه، وكما يُمنع من أكل لحم الجَلالَّة، يُمنع من لبنها وبيضها (¬1) وكره الرُّكوب أيضاً إذا لم يكن بينها وبين الراكب، حائل، وذكر الصيدلاني وغيره؛ تفريعاً على تحريم الأكل، أنَّ لحمها نجسٌ، وأن جلدَها يُطَهَّر بالدِباغ، والحكم بطهارته بالدباغ يقتضي الحكم بنجاسة الجلْد أيضاً، وهو ظاهرٌ، إنْ ظهرت الرائحة في الجلد أيضاً، وإن لم تظهر، فقد حَكَى الإمامُ في نجاسته تردُّداً عن الأصحاب، والأظهر النجاسة؛ لأنه جزء من الحيوان مأكولٌ على المسموط، فحكمه حكمُ اللحم، واعلم أن ظهور النتن في اللحم، كان جعلناه موجِباً لتحريم اللحم ونجاسته، فإنا لا نجعله موجباً لنجاسة الحيوان في حياته، وإلا، لالتحق بالكلب والخنزير، ولَمَا طهر جلده بالدباغ، لكن إذا حكمنا بالتحريم، الْتَحَقَ بما لا يُؤكل لحمه؛ فلا تفيد الزكاةُ طهارةَ جلده، ولكنه يُطَهَّر بالدباغِ، والسَّخلةُ المربَّاة بلبن الكلب ¬
حكْمُهَا حكْمُ الجَلاَّلة (¬1)، والزَّرْعُ لا يَحْرُم، وإن كثر الزِّبْلُ والنجاسات في أصله؛ لأنه لا يظهر أثر النجاسة ورائحتها (¬2) فيه، وعن أحمدَ: أنه يَحْرُم. وقوله في الكتاب "ومهما زال بالعَلَف، حل لحمه" يعني؛ زال النتنُ بالعلفَ في الحياة، حل لحمه، إذا ذُبح، وقوله: "ولو زال بالطَّبْخ" أي بعد الذبح. قَالَ الغَزَالِيُّ: (التَّاسِعُ): ما حُكْمَ بِحِّله فَيَحْرُمُ مِنْهُ المُنْخَنِقَةُ وَمَا ذُبِحَ ذَبْجاً غَيْرَ شَرْعِيٍّ إِلاَّ الجَنِينَ المَيِّتَ فِي بَطنِ المُذَكَّى، فَهُو حَلاَلٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الحيوان المأكول؛ إنما يحل، إذا ذُبح على الوجه الشرعي، فأما الميتة والمنخنقة والموقوذة وما ذُبح ذبحاً غيرَ شرعي، فإنه حرامٌ، وَيُسْتَثْنَى من الميتة الجراد والسمك، وربما اسْتُثنِيَ معها الجنين الذي يُوجَد ميتاً عند ذبْح الأم، وقد يُستثنى من المنخنقة، ويقال: إنَّهُ ينخَنِقُ بذبح الأم، والمقصود أن الجنين الذي يُوجد في بطن الأم المذَكَّاة حلالٌ، سواء أشْعَر أو لم يُشْعِر، وقال أبو حنيفةٍ: لا يَحِلُّ الجنين إلا أن يُوجد حياً، فيذُبح. لنا: ما رُوِيَ عن أبي سعيدٍ الخدري -رضي الله عنه- قال: قلنا: يا رسول الله، إِنَّنَا نَنْحَر الإِبْلِ، وَنَذْبَحُ الْبَقَرَ وَالشَّاةَ، فَنَجدُ في بَطْنِهَا الْجَنِينَ، أنُلْقِيهِ أمْ نَأْكُلُهُ، فَقَالَ: كُلُوهُ، إنْ شِئْتُمْ، فَإِنَّ ذَكَاتَهُ، ذَكَاةُ أُمِّهِ" (¬3) واحتج الشيخُ أبو محمَّد بأنه، لو لم يحل ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الجنين بذكاة الأم، لَمَا جازت ذكاة الأم مع ظهور الحمل، كما لا تقتل الحامل قصاصاً، فأُلْزِمَ عليه ذَبْحَ رَمَكَة (¬1) في بطنها بغلة، فمَنع ذَبْحَها، حَكَى، المناظرة الإمامُ، وذكر يعني لشيخ أبا محمد في كتابه في الفَرْق، أنه، إنما يَحِلُّ، إذا سكن في البطن عقيب ذبح الأم، أمَّا إذا بقي زماناً طويلاً يضطرب ويتحرَّك ثم سكن، فالصحيح مِن المذْهب أنه حرام، وإن خَرَج الجنين في الحال، وبه حركةُ المذبوح، حَلَّ، وإن خرج رأسه، وفيه حياة مستقرة، قال في "التهذيب": لا يَحِلُّ بذبحِ الأم؛ لأنه مقدور على ذبحه، وعن القفَّال: أنه يَحِلُّ؛ لأن خروجَ بعض الولد كعدم الخروج (¬2)؛ ألا ترى أن عدة الحامل لا تنقضي بخروج بعض الولد، وإن أفصلت مضغة، لم تبن فيها الصورة، ولم تتشكل الأعضاء، ففي حِل أكله وجهان بناءً على القولين في وجوب الغُرَّة وثبوت الاستيلاد (¬3). فَرْعٌ: عن القاضي الحسين: أن الجنين، إذا أخرج رأسه حياً، لم يَحِلَّ حتى يُذبح، ولا يغني ذبح الأم، والحالةُ هذه، قال صاحبُ "التهذيبِ" في الفتاوى: ولو أخرج رجلَه، فعلى قياس ما ذكره ينبغي أن يُجْرَح، كما لو تردَّى البعير في بئْر، فإنه يُطْعَن حتى يَحِلَّ. قَالَ الغَزَالِيُّ: (العَاشِرُ): مَا اكْتَسِبَ بِمُخَامَرَةِ نَجَاسَةٍ كَكسْبِ الحَجَّامَ فَهُوَ مَكرُوهٌ بِحَرَامٍ، وَيَنْبَغِي ألاَّ يَأْكُلَ وَيَعْلَفُ رَقِيقَهُ وَنَاضِحَهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: كسب الحجام حلال وعن أحمد: أنه حرام للأحرار، ويجوز أن ¬
يطعم منه العبيد وتعلف الدواب، وعن ابن خزيمة من أصحابنا، فيما حَكَى الموفَّق بن طاهر مثلُه. لنا: "ما رُوِيَ أن أبا طيبة، حَجَم رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَأَمَرَ أَهْلُهُ أَنْ يُخَفِّفُوا خَرَاجَهُ" (¬1) ولو كان حراماً، لما أعطاه؛ فإن الحرام كما لا يجوز أخذه، لا يجوز إعطاؤه؛ كأجرة الزَّمَّار، والنائحة، ويخالف ما إذا دعت إليه ضرورة، كما إذا أعطى الشاعرَ شيئًا؛ لئلا يهجوه، أو الظالَم؛ لئلا يمنَعه حقه، أو لا يأخذ منه أكثر من الذي أعطاه، ففي مثل ذلك يأثم الأخذ دون المعطي، ولأنه لو امتنع الاكتساب بالحِجَامة، لجر ذلك ضرراً عظيمًا، ولاحتاج ذوو الأقدار إلى القيام بها، نعم، كسْب الحجام مكروهٌ، سواء اكتسبه الحر أو العبد، ولا يكره للعبد، سواءٌ اكتسبه الحر أو العبد؛ لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- "سُئِلَ عَنْ كَسْبِ الْحِجَّامِ، فَنَهَى عَنْهُ وَقَالَ: أَطْعِمْهِ رَقِيقَكَ أَعْلِفْهُ (¬2) وَنَاضِحَكَ" وهذا أحد ما يحتج به للحِلِّ؛ لأنه لو كان حراماً، لما جاز له التصرُّف فيه بالإطعام، والعلف، والفرق بين الحر والعبد؛ أنه كسبٌ دنيء، والعبد دنيءْ، فصرف الدنيءْ إلى الدنيءْ، ولم يكره للحر ذكروا فيه معنيين، قال قائلون: المعنى فيه مخامرة النجاسات، وقال آخرون: ودناءة الحرفة؛ فعلى الثاني يُكْره كسب الحلاَّق والسَّمَّاك أيضاً؛ وعلى الأول يُكْرَه كسْبُ الكَنَّاس والزَّبَّال والدَّبَّاغ والقَصَّاب والخَاتِن، وهو الذي أطلقه عامة الأصحاب، وفي الحماميِّ والحائك وجهان، ويُمكن تخريجهما على المعنيين (¬3)، وفي كسب الفصاد وجهان أيضاً، قال في "العدة": الأظهر أنَّه لا يُكره، وكره كارهون كسب الصاغة؛ لأنهم كثيراً ما يخلفون الوعْد، ويقعون في الربا؛ لبيعهم المصوغ بأكثر من وزنه، واعترض صاحبُ الكتاب في "الوسيط" على التعليل يكون الحرفة خسيسةً، وبمخامرة النجاسة؛ بأن قال: الَتعليل بذلك يوجب إلحاق أجرة الكَنَّاس والدَّبَّاغ به، ولم يذهب إليه أحد، هذا لفظه، وهو ممنوع بل جمهور الأصحاب ذاهبون إليه، وكتبُهم ناطقةٌ به، ثم لا يناسبُه قوله هاهنا: "ما اكتسب بمخامرة نَجَاسَةٍ؛ ككسب الحجَّام، فهو مكروه وقد ذكر مثله في صدر الكلام في "الوسيط"، ثم قال، ولعل السبَبَ فيه أن الحجامة والفصد جَرْحٌ مفسِد للبنية، وهو حرام ¬
في الأصل، وإنما يُبَاح بتوهُّم المنفعة، وذلك مشكوكٌ فيه، ويَطَّرد هذا في أجرة من قطع يداً متآكلة؛ لاستبقاء النفس، وقضية ما ذكره أن تكون أجرة الطبيب الذي يعالج بدواءٍ فيه خطرٌ، ومعلِّم السباحة، ومجرى السفينة، وأمثالهم مكروهةً، وهو بعيد. وقوله في الكتاب "وليس بحرام" يجوز أن يعلم بالألف والواو، لما سبق. وقوله في أول الكتاب "حلال إلا ما تستثنيه عَشَرة أصول" لا ينبغي أن يُحمل الحلال على ما لا إثْم في تناوله؛ فإن الحِلَّ بهذا المعنى حاصل في الأصل العاشر، فلا يكون مستثنى منه، بل هو محمول على المباح، بمعنى استواء الطرفين، فيصح استثناء المكروه منه. فرْعٌ: وإن شئت قلت: أصل، قال القاضي الماوردِيُّ: أصول المكاسب ثلاثةٌ: "الزراعة والتجارة والصناعة، وفي الأطيب منها ثلاثةُ مذاهبَ للناس، قيل: الصناعة أطيب؛ لأن الكسب فيها يُحَصَّل بكد اليمين، وقد رُوِيَ في الخبر، "أن من الذنوب ما لا يُكَفِّرُهُ صوم ولا صلاة، ويكفِّره عَرَق الجبين في الحرفة" (¬1)، وقيل: التجارة أطيب: لأن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يكتسبون بها، وهذا أشبه بمذهب الشافعيِّ -رضي الله عنه- وقيل: الزراعة أطيب، قال: وهو الأشبه عندي؛ لأنها أقرب إلى التوكُّل والرضا بما يعطيه الله تعالى (¬2). ومما لا بدّ من ذكره في الباب، وهو خارج عن الأصول العَشَرة؛ أنَّ ما يَضرُّ كالزُجاج والحجر والسم، يَحْرُم أكله؛ لأنه قاتلٌ، وليس للإنسان أن يهلك نفسه، وما لا يضر فهو حلال، واستثنى في "التهذيب" من ذلك ثلاثة أشياء المنيُّ، وجِلْد الميتة بعدْ الدِّبَاغ، وكل حيوان يبتلعه حياً سوى السمك والجَرَادِ، في جِلْدِ المَيتة بعد الدِّبَاغ كلامٌ قد سبق في "الطهارات" وفي "النهاية": أن المذهب تحريم المستقذرات الطاهرات كالمُخَاط، والمني ونحوهما، وأنه حُكِيَ عن أبي زيد: أنها لا تُحَرَّم، ويكفي الاستقذار وازعاً عنها، ولا بأس بشرب الدواء الذي فيه قليل سم، إذا كان الغالبُ، منه السلامةَ، ¬
(الفصل الثاني في حال الاضطرار)
واحتيج إليه، وقال: الإِمام ولو تُصوّر شخْص لا يضرُّه تعاطِي السموم (¬1)، لا يَحْرُم عليه، وفي "بحر المذهب" للقاضي الرويانيِّ: أن النبات الذي يسكر، وليست فيه شدة مطربة، يحرم أكله، ولا حدَّ على آكله (¬2)، ويجوز استعماله في الدواء، وإن أفضى إلى السُكْرِ، إذا لم يكن منه بد، وما يُسْكِر مع غيره، ولا يسكر بنفسه، إن لم يُنتفع به في دواء وغيرِه، فيَحْرُم أكله، وإن كان يُنْتفع به في الدواء، حَلَّ التداوي به. قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّانِي فِي حَالِ الاضْطِرَارِ): وَجَمِيعُ المُحَّرَمَاتِ تُبَاحُ بِالضَّرُورَةِ لَكِنِ النَّظَرُ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ وَحَدِّ المُسْتَبَاحِ وَجِنْسِهِ، وَحَدّ الضَّرُورَةِ وَأنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ الهَلاَكَ أَو مَرَضاً مَخوُفاً فِي جنْسِهِ، فَإنْ كانَ مَخُوفاً لِطُولهِ وَعُسْرِ عِلاَجِهِ فَوَجْهَانِ، وَإِذَا جَازَ الأَكْلُ وَجَبَ، وَقِيْلَ: يَجُوزُ الاسْتِسْلاَمُ وَالتَّوَرُّعُ كَدَفْعِ الصَّائِلِ وَلاَ أَصْلَ لَهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يُبَاحُ للمضطَرَّ، إذا لم يجد الحلال، أكلُ المحرمات من الميتة والدم ولحم الخنزير وما في معناها؛ على ما قال تعالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وقال تعالَى: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] وهل يجبُ عليه الأكل؟ وفيه وجهان: أصحهُّما: نعم، وإلا، فهو ساعٍ في إهلاك نفسه، والله تعالى يقول: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وهذا كما أنه يجب دفع الهلاك بأكل الطعام الحلال. والثاني: وبه قال أبو إسحاق: لا يجبُ؛ لأنه قد يريد التورع؛ لتردده في الانتهاء إلى حد الضرورة، كالمصول عليه؛ يتردَّد في القدر الدافع للصائل فيتورع، وقد ذكر، أنه مخرج من قول جواز الاستسلام هناك، وفُرق بينهما بأن المستسلم للصائل يُؤْثر مهجته على مهجته، وهاهنا بخلافه، وهذه الصورة مؤخرة في الكتاب عن هذا الموضع، وهي به أليق، ثم كلام هذا الفصل الثاني في ثلاثة أطراف: أحدها: في صفة الضرورة وحدِّها، ولا خلاف في أن مطلق الحاجة إلى الطعام بل الجوع القوى لا يكفي لتناول الحرام، وأنه لا يجب الامتناعُ إلى أن يُشْرِف على الموت، فإن التناول حينئذٍ لا ينفع ولا يدفع الهلاك، ولو انتهى إلى تلك الحالة، لم ¬
يَحِلَّ له التناول؛ فإنه غير مفيد، ولا خلاف في الحِلِّ، إذا كان يَخاف على نفسه الهلاكَ، لو لم يأكل، إمَّا من نفس الجوع أو من غيره؛ بأن يخاف، إذا لم يأكل من أن يضعف عن المشي أو عن الركوب، وينقطع عن الرفقة ويضيع، وإن كان يخاف من ترك الأكل حدوثَ مرضٍ يخيف جِنْسُه، فهو كخوف الموت، وإن كان يخاف منه لطوله وتماديه (¬1)، ففي حل الأكل وجهان أو قولان: أشبهُهما: أن الجواب كذلك، ووجْه الفرق أن المرض، إذا طالت مدته وتمادى، لم يبعد معالجته، بخلاف ما يهجم من الأمراض الحادة ويعسر علاجه، ويقرب مِنْ هذا الخلافِ ما في "التهذيب" وتعليقه الشيخ إبراهيم المروروزي؛ أنه لو عيل صَبْرُهُ، وأخمده الجُوع، ففيه قولان: أحدهُما: وبه قال أبو حنيفة والمُزَنِيُّ: أنه لا يجوز له تناول المحرمات، حتى يصير إلى أدنى الرمَقِ؛ لأن خوف الهلاك لم يتحقَّق. والثاني: يَحِلُّ؛ لما يناله من المشقة، ولينفعه الطعام ويشبعه، ولا يُشْتَرط فيما يخاف منْه تيقن وقوعه، لو لم يأكل، بل يكفي غلبة الظن، كالمحذور المخُوف في صورة الإِكراه. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَأَمَّا قَدْرُ المُسْتَبَاحَ فَهُوَ سَدُّ الرَّمَقِ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ إِلَى الشَّبَعُ فَقَوْلاَنِ، وَلاَ شَكَّ أنَّهُ يَحِلُّ الشّبَعُ إِذَا كَانَ في بَادِيَةٍ وَعَلِمَ أنَّهُ لاَ يَسْتَقِلُّ بِالمَشْي بِسَد الرَّمَقِ وَيَهْلِكُ، وَلاَ شَكَّ أنَّهُ لَوْ كَانَ يَتَوَقَّعُ مُبَاحاً قَبْلَ رُجُوعِ الضَّرُورَةِ تَعَيَّنَ سَدُّ الرَّمَقِ وَحَرُمَ الشّبَعُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الطرفُ الثاني في القَدْر الذي يُباح لصاحب الضرورة أكلهُ، ولا خلاف في أن له أن يأكل ما يسُدُّ به الرمق، وأنه ليس له أن يزيدَ على الشبع، وهل له أن يزيد على ما يسد الرمق إلى الشبع، فيه قولان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة، واختاره المُزَنِيُّ: لا؛ لأن الضرورة اندفعت بسد الرمق، وقد يجد بعده ما يغنيه عن الحرام. والثاني: نعم؛ لأن ما يحِل منه القدر الذي يسُدُّ الرمق يُحِلُّ القدر المشبع، كالطعام، الحلال، وأيضاً، فإنه، إذا لم يشبع لا يقوى على السير، ويحتاج إلى ملازمة الحرام، والعود إليه مرة بعد أخرى، وعن مالكٍ وأحمدَ روايتان كالقولين، ويشبه أن يُبنى القولان على القولين في أنه، إذ أجهده الجوعُ، هل له تناول المحرَّمات أو لا يتناول، حتى يصير إلى أدنى الرمق؟ فإن قلنا بالأول، فيزيد إلى أن تَسكُن نهمته وينتهي ¬
إلى الشبع، كان قلنا: بالثاني، فلا يزيد على سد الرَمق، وقد يفهم إيراد الأئمة إثبات قولين إذا قُلْنَا بالثاني: أحدهما: لا يزيد؛ قياساً للاستدامة على الابتداء. والثاني: أن له أن يزيد؛ لأن الضرورة قد تحقَّقت في الابتداء، والاستدامة محل المسامحة؛ ألا ترى أن الحر لا ينكح الأمة إلا عند الضرورة، ثم لا تعتبر الضرورة في الدوام، وفيه قول ثالث، وهو أنَّه، إن كان قريبًا من العُمران، اقتصر على سدِّ الرمق، وإن كان في بادية بعيدة من العُمران، فيشبع ليقوى على قطع المسافة، هكذا أطلق الخلافَ أكثرُهم، وزاد الإِمام تفصيلاً طَوَّل فيه، ولخَّصَه في؛ "الوسيط" بأن قال: إن كان في بادية، وخاف أَلاَّ يتقوَّى على قطْعها لو لم يشبع، ويهلك، فيجب القطع بأنه يشبع، وإن كان في بلد وتوقَّع الطعام الحلال قبل عود الضرورة، فيجب القطع بأنه يقتصر على سَدِّ الرَّمَق، وإن كان لا يظهر حصولُ طعامٍ حلالٍ وأمكنه الرجوعُ إلى الحرام مرة بعد أخرى، إن لم يجد الحلال، فهذا موضع الخلاف، ويجوز أن يُقَال: الأكل مرةً أَوْلَى من المعاودة مرة بعد أخرَى، ويجوز أن يُقال: يُقتصر على سد الرمق، فلعله يطرأ ما يغنيه عن المعاودة، وإلى ترجيحه مال صاحبُ الكتاب، وإليه ذهب القفَّال وكثيرٌ من الأصحاب، وعن صاحب "الإِفصاح" ترجيح القول بجواز الأكل إلى الشّبَع، وبه قال القاضي الرويانيُّ وغيره، ويجوز أن يتزوَّد من الحرام، إذا كان لا يرجو الوصولَ إلى الحلال، وإن كان يرجوه، لم يجز، هكذا أطلق صاحبُ "التهذيب" وغيره وعن القفَّال: أنه لو حمل رجلٌ ميتةً من غير ضرورة، لم يمنع منه، ما لم يتلوث بالنجاسة، وهذا يقتضي تجويز التزود عند الضرورة بطريق الأولى. وقولُه في الكتاب تعين سَدُّ الرمق، وحرم الشِبع يمكن أن يرقم بالواو؛ لأن القاضي ابن كج بعْد أن رَوى ما في الكتاب عن أبي إسحاق، رأى طَرْد القولين مع توقُّع حصول الحلال. فَرْعٌ: إذا قلنا: له أن يأكل قدْر ما يُشْبع، فأكل ما يسُدُّ رمقه، ثم وجد لقمة من الحلال، لم يكن له أكل الحرام حتى يأكل تلك اللقمة، فإذا أكلها، هل له الإِتمام إلى الشبع؟ فيه وجهان؛ للقاضي الحُسَيْن وجْه المَنْعِ: أنه عاد إلى أصل التحريم بتلك اللُّقْمَة، فيحتاج إلى عَوْد الضرورة. آخَر: إذا لم يجد المضطر إلا طعامَ الغير، وهو غائب أو حاضرٌ ممتنع من البدل، فيقتصر على سدِّ الرمق أو يأكل منه قدْر الشبع؟ فيه ثلاثةٌ طرق؛ الأظهر طرد القولين، وقطَع قاطعون بالاقتصار على سَدِّ الرَّمَق؛ لأن حق الآدميِّ مبنيٌّ على المضايقة، وعكس عاكسون، فقطَعُوا بأنه يأكل قدر ما يشبع؛ لأنه مباح الجوهر بخلاف المَيْتَة.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَأمَّا جِنْسُ المُسْتَبَاحِ فَكُلُّ مَا لاَ يُؤَدِّي إِلَى قَتْلِ مَعْصُومٍ، فَتَحِلُّ الخَمْرُ لإِزَالَةِ العَطَشِ وَإِنْ لَمْ بَجُزْ للتَّدَاوِي، وَيَحِلُّ قَتْلُ الحَرْبِيِّ وَالمُرتَدِّ وَالزَّانِي (و) المُحْصَنِ وَالْمرْأَةِ الحَرْبِيَّةِ وَالصَّبيِّ الحَرْبِيِّ، وَلاَ يَحِلُّ قَتْلُ الذِّمِّيِّ وَالمُعَاهَدِ وَالعَبْدِ وَالوَلَدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المحرَّمات التي يضطر الإِنسان إلى تناوُلها قسمان: أحدهُما: ما سوى المسكر، ويباح جميعه بالضرورة، ما لم يكن فيه إهلاك معصوم، وفيه مسألتان: إحداهُما: الكافر الذي لا عصمة له؛ كالحربي والمرتد يجوز للمضطر قتلُه وأكله، وإنما اعتبر، مراجعة الإِمام في غير حالة الضرورة وتعظيماً للإمام، وحالة الاضطرار ليست حالة رعايةِ الأدب، وفي الزاني المحصَنِ والمحارِبِ وتارِكِ الصلاة وجهان: أظهرهما: أن الجواب كذلك. والثاني: المنعُ، ويُحْكَى، عن القاضي الحُسَيْن؛ لحرمة الإِسلام، ولو كان له قصاصٌ على غيره ووجده في حالة الاضطرار، فله أن يقتله قصاصًا ويأكله، وأما المرأة الحربية وصِبْيان أهْلِ الحرب، ففي "التهذيب": أنه لا يجوزُ قتلهُم، وجوَّز الإِمام وصاحبُ الكتاب قتلَهم وأكلَهم؛ لأنهم ليسوا بمعصومين، وليس المنع من قتلهم في غير حاله الضرورة؛ لحرمة رُوحِهم (¬1)؛ ألا ترى أنه لا تتعلَّق به الكفَّارة، والذميُّ والمعاهدُ والمستأمن معصُومُون مضمونُون بالكفَّارة؛ فلا يجوز للمضطر قتلُهم وأكلُهم، وكذا لا يجوز للسيد المضطر قتلُ عبده، ولا للوالد قتل ولده وأكْلُه. المسألة الثانية: لو لم يجد إلا آدمياً ميتاً، فهل يحل له أكله؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال أحمد: لا؛ لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "كَسْرُ عِظَامِ المَيِّتِ كَكسْرِ عِظَامِ الْحَيِّ" (¬2) وهذا ما حكاه أبو الحسن العباديُّ عن المُزنيِّ في "العقارب" (¬3). وأصحهما: الحِلُّ؛ لأن حرمةَ الحَيِّ أعظمُ، والمحافظة عليها أولَى، وكذلك، لو كان في السفينة ميت، وخاف أهلها الغرق، كان لهم طرحُه في البحْر، ولا يجوز طرحُ الحيِّ، واستثنى إبراهيم المروزي على هذا الوجْه، ما إذا كان الميت نبياً، وعن "الحاوي" تفريعاً عليه؛ أنه لا يأكل منْه إلا ما يسُدُّ به الرمق؛ حفظاً للحرمتين معاً (¬4)، ¬
وأنه ليس له طبخه وشيُّه، بل يأكله نياً، لأن الضرورة تندفع به، وطبخه هتكٌ لحرمته، فلا يجوز الإقدام عليه بخلاف الميتة، يجوز للمضطر كلها نيةً ومطبوخةً، ولو كان المضطر ذمياً، والميِّتُ مسلماً، فهل له أكله؟ حَكَى صاحبُ "التهذيب" فيه وجهين، وإن وَجَدَ ميتةً، ولحْمَ آدميٍّ؛ يأكل الميتة دون لَحْم الآدمي، وإن كانت الميتة خنزيراً، وكذا المُحْرِم، إذا وَجَد الصيد ولحم الآدميِّ، يأكل الصيد. والقسم الثاني: المسكر، فقد ذكر صاحِبُ الكتاب؛ أنه يَحِلُّ شربُ الخمر؛ لإزالة العطش وأنه لا يجوز التداوي (¬1) به، والمسألتان مكررتان قد ذكرهما مرةً في "الحدود" ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والأرجح عند أكثر الأصحاب: أنه لا يَحِلّ الشرْبُ؛ لإِزالة العطش، وقد بيناه هناك، وإذا قيل بجوازه، فلو وجد خمراً وبولاً، يشرب البَوْل دون الخمر؛ لأن تحريمه أخفُّ، كما لو وَجَد بولاً وماءً نجساً يشرب الماء؛ لأن نجاسته طارئة، وأما سائر المحرمات، فيجوز التداوِي بها، وقد سبق ذكره في الكتاب في "الحدود"، وعلى ذلك ينزل ما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- "أمَرَ الرَّهْطَ العُرَنِيِّينَ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أبْوَالِ الإِبلِ وَأَلْبَانِهَا" (¬1) ووراءه وجهان، حكاه الرويانيُّ في "البحر". أحدُهما: منع التداوي بها؛ لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا جُعِلَ شِفَاؤُكُمْ فِيْمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ" (¬2). والثاني: منع التداوي بغير أبوال الإِبل، وفي كتاب القاضي ابن كج ذكر وجهين في جواز التبخر بالندّ (¬3) الذي فيه خمرٌ؛ لما يصعد منه من الدخان (¬4)، وهذا قد سبق نظيره في "الطهارات". قَالَ الغَزَالِيُّ: فُرُوعٌ: الأَوَّلُ: فِي جَوَازِ قَطْعِ فَلْذَةٍ مِنَ الفَخِذِ إِذَا لَمْ يكُنِ الخَوْفُ فِيهِ كَالخَوْفِ فِي الجُوْعِ وَجْهَانِ، وَلاَ يَجُوزُ أنْ يَقْطَعَ مِنْ فَخِذِ غَيْرِهِ أصْلاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إِذَا أَراد المضطر أن يقطع فلقة من فخذه أو من عضو آخر ليأكلها، فإن كان الخَوْفُ فيه كالخوف في ترك الأكل أو أشد، لم يكن له قَطْعُها، وإن لم يكن خوفُ الهلاك فيه كالخوف في ترك الأكل، فوجهان: أحدهما: لا يجوز القطْع، وهو اختيار صاحب "الإِفصاح" وجماعة؛ لأنه قَطَعَ فلقة من معصوم؛ فأشبه قَطْعَها من غيره، ولأنه قطْعُ لحْمِ حيٍّ قد يتولَّد منه الهلاك. والثاني: ويُحْكَى عن ابن سريج وأبي إسحاق: أنه يجوز؛ لأنه إتلاف بعضٍ لاستبقاء الكل، فأشبه قطْعَ اليد بسبب الأكلة، ويشبه أن يكون هذا أظهر، وبه قال الشيخ أبو حامد وغيره، ورجح الرويانيُّ الأول، ولا يجوز أن يقطع فلقةً من غيره؛ إذ ¬
ليس فيه إتلاف البعض لإبقاء الكل، وليس للغير أيضاً أن يقطع شيئاً من بدنه للمضطر، ثم موضع الخلاف ما إذا لم يجدْ شيئاً يأكُلُه، فإن وَجَدَه، لم يقطع شيئاً من نفسه بلا خلاف. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِي: إِذَا ظَفِرَ بِطَعَامِ مَنْ لَيْسَ مُضْطَراً فَيَطْلُبُهُ منْهُ فَإن مَنَعَهُ غَصَبَهُ، فَإِنْ دَفَعَهُ جَازَ لَهُ قَتْلُ المَالِكِ فِي الدَّفْعِ، فَإِنْ بَاعَهُ بثمن المَثْلِ لَزِمَهُ شِرَاؤُهُ، وَإِنْ بَاعَ بِأكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ المِثْلِ فاشْتَرَاهُ لِلضَّرُورَة فَهُوَ كَشَرَاءِ المَصَادِرِ، وَالمَالِكُ لَوْ أَوْجَرَ المُضْطَرُّ طَعَامَهُ قَهْراً فَفِي اسْتِحْقَاقِ القِيمَةِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا وَجَدَ المضطر طعاماً حلالاً لغيره، فذلك الغير؛ إما أن يكون حاضراً أو غائباً. الحالةُ الأولى: إذا كان حاضرًا فينظر؛ إن كان هو مضطراً إليه، فهو أولَى به، وليس للأول أخذه منه، إذا لم يفضل عن حاجته؛ إلا أن يكونَ غيرُ المالك نبياً، فيجب على المالِك بذلُه له، فإن آثر المالِكُ غيرُه على نفْسه، فقد أحسن، قال الله تعالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9] الآية، وإنما يُؤثر على نفسه المسلم. أما الكافر، فلا يؤثره ذمياً كان أو حربياً، وكذا لا يؤثر بهيمةً على نفسه. وإن لم يكن المالِك مضطراً إليه، فعليه إطعامُ المضطر مسلماً كان أو ذمياً أو مستأمناً، وكذا لو كان يحتاج إليه في ثاني الحال في أظهر الوجهين، وللمضطر أن يأخذه ويقاتلَه عليه، وإن أتى القتال على نفسه، فلا شيء عليه، وإن قَتَلَ المالكُ المضطرَّ في الدفْع عن طعامه، فعليه القِصاص، وإن مَنَعَ منه الطعامَ، فمات جوعاً، فلا ضمانَ عليه؛ لأنه لم يحدث منه فعلٌ مهلك، وقال في "الحاوي": ولو قيل: يضمن الدية، كان مذهباً؛ لأن الضرورة أثبتت له في ماله حقاً، فكأنه مَنَعَ منه طعامه، وكَمِ القدْرُ الذي يجب على المالِك بذْلُه، ويجوز للمضطر أخذه قهراً أو القتال عليه، أهو القدر الذي يسُدُّ الرمق أو القدْر المشبع؟ فيه قولان بناءً على القولين في القَدْر الذي يَحِلُّ له من الميتة، وهل يجب على المضطر الأخذ قهراً، أو القتال، فيه خلافٌ (¬1) مرتب ¬
على الخلاف في أنه، هل يجب عليه الأكل من الميتة؟ وأولَى بألاَّ يجب؛ لأن عقل المالك ودية يبعثانه على الإِطعام، وهو واجب عليه، فجاز أن يجعل الأمر موكولاً إليه، ويكتفي به، وخصص في "التهذيب" الخلاف بما إذا لم يكن عليه خوفٌ في الأخذ قهراً، فإن كان فيه خوفٌ، لم يجب بلا خلاف، وإذا أوجبنا على مالِك الطعام بذْلَه، فعن "الحاوي" وجه أنه، يلزم بذله مجاناً، ولا شيء على المضطر، كما أنه يستبيح الميتة بلا شيء، والمذهبُ المشهور: أنه لا يلزمه البذل إلا بالعوض، وفَرَقُوا بينه وبين ما إذا خلُص مشرفاً على الهلاك بالوقوع في ماء أو نار؛ حيث لا يجب عليه أجرة المثل؛ بأن هناك يلزمه التخليص، كان لم يكن للمشرف على الهلاك مالٌ، ولا يجوز التأخير إلى تقدير الأجرة وتقريرها، وههنا بخلافه، وسوَّى القاضي أبو الطيَّب وغيرُه بينهما، فقالوا: إن احتمل الحال هناك موافقته على أجرة يبذلها أو يقبلها, لم يلزم تخليصه حتى يقبل الأجرة، كما في المضطر، كان لم يحتمل الحال التأخير في صورة المضطر، فأطعمه، لا يلزمه العوض؛ فلا فرق إذن، ثم إن بذل المالكُ الطعامَ مجاناً، فعليه قبولُه ويأكلُه إلى أن يَشبع، وإن بذله بالعوض، نُظِر، إن لم يقدر العوض، فعلق المضطر قيمةُ ما كل في ذلك المكان والزمان، وله أن يشبع، كان قدّر العوض، فإن لم يفرد له ما يأكله، فكذلك الجواب، وإن أفرده، فإن كان المقدَّر ثمن المثل، فالبيع صحيحٌ، وله أن يأخذه ما فضل عن الأكل، كان كان أكثرَ من ثمن المثل، والتزمه، ففيما يلزمه وجهان: أحدُهما: المسمَّى؛ لأنه التزمه بعقد لازم. والثاني: لا يلزمه إلا ثمن المثل في ذلك المكان والزمان؛ وتسقط الزيادة؛ لأن الضرورة ألجأتْهُ إلى التزام الزيادة، فهو كالمُكْرَهِ على قبولها، وهذا أظهر عند القاضي الرويانيِّ، وأقرب إلى المصلحة، والأول أصحُّ عند القاضي الطبريِّ، وأقيس، وتوسَّط أقضى القضاة الماورديُّ، فقال: إن كانت الزيادة لا تشق على المضطر؛ ليساره، فهو في قبُولها غير مكْرَه؛ فتلزمه، وإن كانت تشقُّ عليه؛ لإِعساره، فهو في قبولها مكره، فلا تلزمه، قال الأئمة: وينبغي للمضطر أن يَحتال وشعى في أخذه [منه] ببيع فاسد، حتى يخرج عن الخلاف، ولا يلزمه إلا القيمة، وقد يفهم إيرادهم تصحيح البيع، وجعل الخلاف فيما يلزم ثمناً، لكنَّ الوجْه نصب الخلاف في صحة العقْد؛ لمعنى الإكراه، إن جعل المضطر مكْرَهاً، وفي تعليقة الشيخ أبي حامد ما يبيِّن ذلك، وصرح به الإِمامُ، فقال: الشِّرَى بالثمن الغالي للضرورة، هل يجعله مكْرَهاً، حتى لا يصح الشرى فيه وجهان: أقيسهما: المنعُ، ثم إنه أجرى الخلاف في صحة بيع المصادر من جهة السلطان
الجائر، إذا باع ماله للضرورة ودفع الضرر الذي يناله، وجعل صاحبَ الطعام بالامتناع عن البذل بثَمَن المثل كالمُصَادِر، والظاهر صحة المنع؛ لأنه لا إكراه على البيع، ومقصود الظالم المالُ من أي وجه كان، وبالصحة أجاب الشيخ إبراهيم المروزي، واحتج بها؛ لوجه لزوم المسمَّى في "مسألة المضطر"، ومهما بلغ المال بثمن المثل، ومع المضطر مالٌ، فعليه شراؤه وصرف ما معه إلى الثمن، حتى لو كان معه إزار، فعليه صرفه إليه، إذا لم يخف الهلاك من البرد ويصلي عَارِياً؛ لأن كشْفَ العورة أخفُّ، مِن أكل الميتة؛ ألا ترى أنه يجوز أخذ الطعام قهراً، ولا يجوز أخذ سائر العورة قهراً، وإن لم يكن معه مالٌ، فعليه التزامه في الذمَّة، سواء كان له مالٌ ذي موضع آخر أو لم يكن، وعلى المالِك، والحالة هذه البيعُ نسيئةً، وليس للمضطر الأخذُ قهراً، والمالكُ يبذل ثمن المثل، وإن باع بأكثر منه، فللمضطر ألاَّ يقبل ويأخذه قهراً أو يقاتِلَه عليه، فإن اشتراه بالزيادة مع إمكان الأخذ قهراً، فهو مختار في الالتزام، فيلزمه بلا خلاف، والخلافُ السابق فيما إذا عجز عن الأخذ قهراً، ولو أطعمه المالِكُ، ولم يصرِّح بالإِباحة، ففيه وجهان: أصحهما: أنه لا عوض عليه، ويحمل على المسامحة المعتادة في الطعام، سيما في حق المضطر، ولو اختلفا، فقال المُطِعم: أطعمتك بِعِوَضٍ، وقال المضطر: بلا عوض، فالمصدَّق المُطْعم؛ لأنه أعرف بكيفية بذله، أو المضطر؛ لأن الأصل براءةُ ذمته؟ فيه وجهان؛ رُجِّح منهما الأول، فإذا أوجر المالِكُ طعامه المضطر قهراً أو أوجره، وهو مغمى عليه، فهل يستحق. القيمة عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه لم يطلب ولا تناول، وأحسنهما: نعم؛ لأنه خلصه عن الهلاك، فصار كما لو عَفَا عن القصاص، وأيضاً، ففيه تحريض على تدارك المضطرين، وكما يجب بذل المال؛ لإِبقاء الآدمي المعصوم، يجب بذله لإبقاء البهيمة المحترمة، وإن كانت مِلكاً للغيْر، ولا يجب البذل للحزبي والحربي والكلب العقور، ولو كان للرجل كلبٌ غيرُ عقور جائعٌ وشاةٌ، فعليه ذبح الشاة لإطعام الكلب، قال في "التهذيب"، وله أن يأكل من لحمها؛ لأنها ذُبحت للأكل (¬1)، وقولَه في الكتاب "جاز له قتل المالِك في الدفع" يعني أنه لو صار مقتولاً، لا يقع قتلُه هدراً، ولا يجوز قصد قتله بحال. وقوله: "لزمه شراؤه" يمكن أن يعلم بالواو؛ لقول من قال: إن على مالِك الطعام بذله مجاناً. ¬
وفي قوله: "فهو كشراء المصادر" يعني، وفيه خلافٌ، وهو الذي حكيناه عن الإِمام، وجعل في "الوسيط" الخلاف قولين، ولا يكاد يُوجد ذلك لغيره، وقوله "كشرى المصادر" يريد الشَّرْىَ من المُصَادِر، ويجوز أن يُحْمل على شرى المصادر الشيء الذي يصادر على تحصيله، وفي بعض النسخ "كَبَيْع المُصَادِرِ" وهو الأظهر. والحالة الثانية: إذا كان صاحب الطعام غائباً، فيجوز للمضطر تناوُل الطعام، ثم يغرم له، وفي وجوب التناول والقدر المتناول ما مضى من الخلاف. وإن كان الطعام لصبي أو مجنون، والولي غائب، فكذلك، وإن كان حاضراً، فهو في مالهما ككامل الحال في ماله، وهذه إحدى الصور التي يجوز فيها بيع مال الصبي نسيئة، وجميع ما ذكرنا في الحالتين مفروض فيما إذا لم يجد إلاَّ طَعَامَ الغَيْرِ، فأما إذا وجد معه ميتة ونحوها، فحكمه ما سيأتي في الفصل الذي يلي هذا الفصل. فروع: إذا استضاف مسلمٌ لا اضطرار به مسلماً، لم يجب عليه ضيافته، والأحاديث الواردة في الباب محمولةٌ له على الاستصحاب، وعن أحمدَ: أنها واجبةٌ. ومَنْ مَرَّ بثمر الغير أو زرعه، لم يجز له الأكل، والأخذ بغير إذن صاحبه إلا أن يكونَ مضطراً، وعن أحمدَ روايةٌ: أنه يجوز الأكل من الثمار الرطبة في البستان الذي هو غير محوطٍ، ورُوِيَ عنه أنه ينادى ثلاثاً، فإن أجابه إنسان، وإلا أكل منه، ولا يزود معه شيئاً، وحكمُ الثمار الساقطة من الأشجار حكمُ غيره، إن كانت داخلَ الجِدار، وإن كانت خارجةً، فكذلك، إن لم تجر عادتهم بإباحتها، وإن جرت كما في النخيل بالكوفة، والبصرة، فقد حكى القاضي الرويانيُّ وجهين في أن العادة المطردة، هل تَجْري مَجْرَى الإِباحة؟. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّالِثُ: إِذَا وَجَدَ مَيْتَةً وَطَعَامَ الغَيْرِ قِيلَ المَيْتَة أَوْلَى، وَقِيلَ: الطَّعَامُ أَوْلَى، وَقِيلَ: يَتَخَيَّرُ، وَكَذَا الخِلاَفُ لَوْ وَجَدَ المُحْرَمُ الصَّيْدَ وَالمَيْتَةَ، وَلَوْ وَجَدَ لَحْمَ الصَّيْدِ فَهُوَ أوْلَى مِنَ المَيْتَةِ لأَنَّ تَحْرِيمَهُ خَاصٌّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: إذا وجَد المضطر ميتة وطعام الغير، وهو غائب، ففيه ثلاثةٌ أوجه، ويُقال أقوال: أصحها: أنه يأكل الميتةَ، ويدع طعام الغير، وبه قال أحمد؛ لأن الميتة محرمةٌ لحقِّ الله تعالى، وحقوق الله تعالى مَبْنَى أمرها على المسامحة، ولأن إباحة الميتة للمضطر منصوصٌ عليها، وجواز الأكل من مال الغير بغير إذنه يؤخذ من الاجتهاد؛ ولأنه لا يتعلَّق به ضمان واشتغال ذمة.
والثاني: ويُحْكَى عن أبي حنيفَة: أنه يأكل طعامَ الغير؛ لأنه قادرٌ على طعام حلال العين؛ فأشبه ما إذا كان المالِكُ حاضرًا وبذله. والثالث: أنه يتخيَّر بينهما؛ لتعارض المعنيين، وأشار الإِمام إلى أخذ هذا الخلاف من الخلاف في اجتماع حقِّ الله تعالَى وحق الآدميِّ. وإن كان صاحبُ الطعام حاضرًا، نظر؛ إن بذله بلا عوض، وجب على المضطر قَبولُه، وإن باعه بثمن المثل، وجب عليه الشرى، إن كان الثمن معه أو رضي المالِك بكونه في ذمته، وكذا إذا باع ما يتغابن الناس بمثله، وإن كان ببيع بزيادة كثيرة، فالذي أورده العراقيون والطبريون من أصحابنا وغيرهم: أنه لا يلزمه شراؤه، لكنه يُستحب، وإذا لم يلزمه الشرى، فهو كما لو لم يبذله المالِك أصلاً، وإذا لم يبذله، فلا يُقاتله عليه المضطر، إن كان يخاف من المقاتلة على نفسه، أو كان يخاف أن يَهْلك المالك في المقاتلة، بل يعدل إلى الميتة، وإن كان لا يخاف لضعف المالك وسهولة دفعه، فهو على الخلاف المذكور فيما إذا كان غائباً، وفي "التهذيب"؛ أنه يشتريه بالثمن الغالي، ولا يأكل الميتة، ثم يجيء الخلاف في أن الواجب عليه المسمى أو ثمن المثل وذكر فيما إذا لم يبذل أصلاً: أن على قولنا؛ إن طعام الغير أولَى من الميتة؛ يجوز أن يُقال: إنَّه يقاتله عليه، ويأخذه منه قهراً. وقوله في الكتاب "الميتة أولَى"، و"الطعام أولَى"، ليس على سبيل وصف أحد الجائزين بالأولوية، وإنما يعني أنها أو أنه أولَى بأن يتعين أو أنه أولَّى بالأكل، فيتعين له. المسألةُ الثانيةُ: إذا اضطر المُحْرِم، ولم يجد إلا صيداً، فله ذبحه وأكله، وتلزمه الفدية، وإن وجد صيداً وميتة، فقولان: أحدُهما: وهو اختيار المُزني: أنه يأكل الصيد؛ لأن تحريم الميتة آكد وأغلظ؛ لأنه يتأبد ويعم المُحْرِم وغيره، وتحريُم الصيد بخلافه. وأظهرُهما: وبه قال أبو حنيفَة ومالكٌ: أنه يأكل الميتة؛ لأن في الصيد يحتاج إلى ارتكاب محظورَيْن؛ وهما القتل والأكل، وأيضاً، فإنه يلزمه الجزاء، ولا ضمان في الميتة، وأيضاً فإن استثناء الميتة عند الاضطرار منصوصٌ عليه، والصيد مستثنى في حالة الاضطرار بالاجتهاد، وكيف حال القولين وترتيبهُما، وعلام ينبنيان؟ فيه ثلاثُ طرق عن أبي إسحاقَ والقاضي أبي حامد: أنهما متأصلان بنفسهما، وعن ابن القاصِّ: بناؤهما على أن المُحْرِم، إذا ذَبَحَ الصيدَ، هل يصير ميتة؟ إن قلنا: نعم، وهو القول الجديد، فيدع الصيد ويأكل الميتة؛ لأن الذَّبْح محظورٌ في نفسه، وهو بعد الذبح كالميتة، وإن قلنا: لا فيأكل الصيد؛ لأنه طاهر ذكي، ويفدى كما يأكل طعام الغير، ويضمن وعن
أبوه علي بن أبي هريرة والطبري: أنا إن جعلناه ميتة، فيدع الصيد ويأكل الميتة بلا خلاف، وإن قلنا: لا يصير ميتة، فقولان، ولا يخفى توجيههما مما ذكرنا، وعلى هذه الطريقة جرى أكثر الأئمة، وعن القفَّال قول أو وجه ثالثٌ، وهو أنه يتخير بينهما، كما مرَّ في المسألة الأولى. وقوله في الكتاب "وكذا الخلاف" يتضمن نقل الوجوه أو الأقوال الثلاثة جميعاً، ويجوز أن يعلم بالواو؛ لأن القاضي الطبري ذكر طريقة قاطعة؛ بأنَّه يأكل الميتة ويترك الصيد، كان وَجَدَ المُحْرِم لحم صيد ذُبِحَ وميتة، فإن ذبَحه حلال لنفسه، فهذا مضطر؛ وجد ميتة وطعام الغير، كان ذبحه المُحْرِم قبل الإِحرام، فهو واجد لطعام حلال لنفسه، وليس بمضطر، وإن ذبحه في حال الإِحرام أو ذبَحه مُحْرِم آخر، فإن لم نجعل ما ذبحه المحرم ميتةٌ، فلحم الصيد أولَى منه؛ لأنه طاهرٌ، ولا يتقدم الأكلَ محظُور آخر، ولأن تحريم الصيد يختص بالمُحْرِم، وتحريمُ الميتة عام، وقيل: الميتة أولَى، وقد توجه بما سبق أن استثناء الميتة عند إلاضطرار منصوص عليه، وإن جعلْناه ميتة، ففي تعليق الشيخ أبي حامد: أن الميتة أولَى؛ لأنه لا ضمان فيها بخلاف لحم الصيد؛ فإنه مضمون بالجزاء عند بعْض العلماء، وقال القاضي أبو الطيب؛ يتخير بينهما؛ لأن كل واحد منهما ميتةٌ، وهذا أظهر على ما ذكر في "العدة" والحاصِلُ منها ثلاثة أوجه: تقديم لحم الصيد، وتقديم الميتة، والتخيير، والجواب في الكتاب؛ تقديم لحم الصيد، وقضيةُ ما أتى الشرح عليه ترجيحُ التخيير، فاعرف ذلك، وأَعلِمُ قوله "فهو أولَى من الميتة" بالواو. وإن وجد المحرم صيداً وطعام الغير، فيَذْبح الصيد ويأكله، أو يأكل طعام الغير أو يتخيَّر؟ فيه ثلاثةً أوجهٍ أو أقوالٍ، سواءٌ جعلنا ما يذبحه ميتة أو لم نجعلْه ميتةً، لكنه قد يختلف التوجيه. كان وجد صيداً وطعام الغير ميتةً، فيأكل الصيد أو الميتة أو طعام الغير أو يتخيَّر بينهما؟ وفيه أربعة أوجه أو أقوال لا يخْفَى توجيهها بما سبق، وزاد الإِمام ثلاثة أوجهٍ أُخَرَ: أحدها: أنه يترك الصيد، ويتخيَّر بين طعام الغير والميتة. والثاني: يترك طعام الصيد، ويتخيَّر بين الصيد والميتة. والثالث: يترك الميتة، ويتخيَّر بين الصيد وطعام الغير والله أعلم. ونختم الكتاب بفروع منثورة. إذا لم نجعل ما يذبحه المُحْرِم ميتةً، فهل على المضطر قيمة ما يأكل منه؟ فيه
وجهان؛ بناءً على القولين في أن، هل يستقر للمحرم ملكه على الصيد. ولو وجد ميتتين؛ إحداهمَا من جنس ما يؤكل كالشاة، والأخرَى مما لا يُؤْكَل؛ كالذئب، فيتخيَّر أو يأكل مما يُؤكل جنسه؟ فيه وجهان، ويَجْرِي مثلهما فيما إذا كانت إحداهما طاهرة في الحياة والأخرَى نجسةً، وليس للعاصي بسَفَره أكلُ الميتة، حتى يَتُوبَ، وفيه وجهٌ آخرُ، وقد سبقت المسألة في "صلاة المسافر". وعن نص الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- أن المريضَ إذا وَجَدَ مع غيره طعاماً يضرُّه ويزيد في مرضه، يجوز له تركه وأكل الميتة، ويلزم مثله فيما إذا كان الطعامُ له، وعُدَّ هذا من وجوه الضرورة، وكذلك التداوي على ما سبق، والكلامُ في الانتفاع بالنجاسات قد سبق في "كتاب الطهارة". ولو تنجَّس الخُفُّ بخرزه بشعر الخنزير، فغُسِلَ سبعًا؛ إحداهن بالتراب، طَهُرَ ظاهره دون باطنه، وهو موضع الخرز، ويُقال: إن الشيخ أبا زيد كان يصلِّي مع الخفِّ النوافلَ دون الفرائض، فراجعه القَفَّال فيه، فقال: إن الأمر إذا ضاق اتسع، وأشار به إلى كثرة النوافل (¬1). وفي تعليقة إبراهيم المَرْوزيِّ: أنه إن وردت أخبار في النهي عن الطين الذي يُؤْكل، ولا يثبت شيء منها، وينبغي أن يُحْكَم بالتحريم، إذا ظهرت المضرة فيه (¬2)، وإن لم تثبت الأخبار، ويُكْرَه أن يأكل من الطعام الحلال فوق الشَّبَع وَيقْذَرَ الطعامَ، ويُستحب أن يأكل الأكل من أسفل الصحفة لا من أعلاها، وأن يقول بعد الفراغ؛ الْحَمْدُ للهِ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً، [وبالله التوفيق]. ¬
كتاب السبق والرمي
كِتَابُ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ، وَفِيهِ بَابَانِ البَابُ الأَوَّلُ فِي السَّبْقِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ للِسَّابِقِ بِالخَيْلِ أَوِ المُصِيبِ فِي النِّضَالِ مَالٌ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَرْغِيباً فِي إِعْدَادِ أسْبَابِ القِتَالِ، وَالنَّظْرُ فِي شُرُوطِ العَقْدِ وَأحْكَامِهِ أمَّا الشُّرُوطُ فَهِيَ سِتَّةٌ: الأَوَّلُ: أَنْ يَعْقِدَ عَلَى عُدَّةِ القِتَالَ وَأَصْلُهُ مِنَ الحَيَوَان الخَيْل وَفِي الخَبَرِ لاَ سَبْقَ إِلاَّ في خُفٍّ أَو حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ وَالمُرَادُ بِالخُفِّ الإِبِلُ، وَالفِيلُ فِي مَعْنَاهُ لأَنَّهُ أغْنَى مِنْهُ فِي القِتالِ، وَلاَ يُلْحَقُ بِهِ البَغْلُ وَالحِمَارُ، وَأَمَّا النَّصْلُ فَفِي مَعْنَاهُ المَزَارِيقُ وَالزَّانَاتُ وَسَائِرُ أَنوَاعِ الرَّمْيِ عَلَى اخْتِلاَفِ القِسِيِّ، وَالسِّهَامُ يَدْخُلُ فِيهِ الرَّمْيُ بِالمَسَلاَّتِ وَالِإبَرِ، وَفِي التَّرَامِي بِالحِجَارَةِ وبِالمَقَالِعِ وَالتَّردُّدِ بِالسُّيُوفِ خِلاَفٌ، وَكَذَا فِي مُسَابَقَةِ الطُّيُورِ وَالحَمَامَاتِ لِنقْلِ الأَخْبَار، وَالظَّاهِرُ مَنْعُهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المسابقة والمناضلة جائزتان، بل محبوبتان، وإذا قُصِد بهما التأهبُّ للجهاد (¬1)؛ لما رُوِيَ عن ابن عمَر -رضي الله عنهما- أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- "سَابَقَ بَيْنَ الخَيْلِ الَّتي قَدْ أُضْمِرَت مِنَ الحَفْياء إلى ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تضمَّرْ مِنَ الثَّنيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ" (¬2). وإضمار الخيل وتضميرها أن تسمن، ثم تحبَسَ في بيت، وتغشى بالجلال؛ لتعرف ولا تعلف بعْد ذلك، إلا ما تتَقوَّت به؛ لتضمر وتذهب رخاوتها، فتكون أقوى على العَدْو. "الحَفَا" تُمَدُّ وتُقْصَر، يقال: إن بينها وبين الثنية خَمْسَةَ أميال، أو ستة، ويُرْوَى أن العَضْباء، ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كَانَتْ لاَ تُسْبَقُ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُود لَهُ، فَسَبَقَهَا، ¬
فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ، فقَالَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- "إِنَّ حَقّاً عَلَى اللهِ ألاَّ يَرْفَعَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا إلاَّ وَضَعَهُ" (¬1) وعن سلمة بن الأكْوَعِ، قال: خَرَجَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى قوْمٍ مِنْ أَسْلَمَ يَتَنَاضَلُونَ بِالسُّيُوفِ، فَقَالَ: "ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ، فَإنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِياً" (¬2) وأيضاً، فإن الرماية والفروسية أدبان مستحسنان، وأبلغ ما يفيد تعِلّمه والمهارة فيه المسابقةُ والمناضلةُ، قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 6] قال عُقْبَة بنُ عامر: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "أَلاَ إِنَّ الْقوَّةَ الرَّمْيُ" (¬3) ويجوزُ شرط المال في المسابقة والمناضلة؛ لما رُوِيَ بن أَبِي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ سَبَقَ إِلاَّ في نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ" (¬4) والأَثْبَتُ في الرواية "السَّبَقُ" بفتح الباء، وهو المال الذي يُدْفَع إلى السابق ويُرْوَى؛ "السَّبْقُ" بالتسكين، وهو مصدر سَبَقَ يَسْبِقُ، ويروى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "رِهَانُ الخَيْلِ طَلْقٌ" (¬5) أي حلال. وعن عثمان -رضي الله عنه- أَنَّهُ قِيلَ له: أَكُنْتُنمْ تُرَاهِنُونَ عَلَى عَهْدِ رَسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: نَعَمْ" (¬6) ولم يجوز أبو حنيفة شَرْطَ المال فيهما، ورآه قِماراً، هذه رواية، ¬
ويُرْوَى عنه غيرها، وعن المُزنِّي: أنه قال: سألنْا الشافعيَّ -رضي الله عنه- أن يصنِّف لنا كتابَ السَّبَقُ والرمْي، فذكر لنا أن فيه مسائلَ صِعَاباً، ثم أملاه علينا، ولم يُسْبَقْ إلى تصنيف هذا الكتاب، وفي الكتاب بابان: أحدهما: في المسابقة. والثانى: في المناضلة. وقوله في الكتاب "ويجوز أن يشترط للسابق بالخيل" إلى آخره، قصد أن يوجِّه به تجويز اشتراط المال من جهة المعنى؛ وذلك؛ لأن في تجويزه ترغيباً في المسابقة والمناضلة، وفيهما تأهُّب للقتال وإعداد لأسبابه (¬1)، وكان من حق الترتيب أن يقدِّم هذا الكلام على قوله وفيه بابان: الباب الأول: في السبق لأن هذا التوجيه يشمل السبق والرمي، ولا يختص بالسَّبَق، ثم نقول، والنظر في شروطه وأحكامه؛ أما النظر الأول، فقد عَدَّ صاحب الكتاب الشروطَ ستَّةً: أحدها: أن يكونَ ما ورد عليه العقد عُدَّةَ القتال، فإن المقصود منه التأهُّب له، ولذلك قال الصَّيمريُّ "في الإِيضاح": لا يجوز السبَقُ والرميُّ من النساء؛ لأنهن لسن من أهل الحرب، والأصلُ في السبق الخيل، فإنها التي يُقاتِلُ عليها الناس غالباً، ويجيء منها الكَرُّ والفَرُّ بصفة الكمال، وذكر الإِمامُ أن الخلاف المذكور في استحقاق سَهْم الفارسَيْن فالفرس الضعيف والأعجف لا يَبعد أن يجيءْ مثله هاهنا، ويمكن أن يُفَّرق بين البابين بما سنذكره على الأثرَ -إن شاء الله تعالى- وتلتحق الإِبل بالخيل؛ في جواز المسابقة عليها؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- "لاَ سَبَقَ إِلاَّ فِي نَصْلٍ أوْ خُفٍّ" وأيضاً فالعرب تُقاتِل عليها أشد القتال، وفُرِق بين ما نحْن فيه وبين استحقاق السهم؛ حيث لا يستحق سهم الفارسَيْن بالإبل، فإن استحقاق السهم الزائد منوطٌ بزيادة المنفعة والفائدة، وما يَتَهيَّأ للخيل من الانعطاف والالتواء وسرعة الإِقدام تشاركها الإِبل، فيها لكن فيها عناءٌ وفائدة في القتال، فاكتفى بما فيها للترغيب والتحريض، وفي الفِيل وجهان، ويُقال: قولان: أصحهما: أنه يجوز المسابقة عليه؛ لأنه أغنى في القتال من غيره؛ ولأنه ذو خفٍّ، فيدخل في الخبر، وهذا ما أجاب به في الكتاب. والثاني: المنعُ، وبه قال أحمدُ وأبو حنيفةَ، فيما حكاه الرويانيُّ في "البحر"؛ لأنه ¬
لا يَسْهُل له الإِقدام والكَرُّ والفَرُّ، وفي البَغْل والحمار مثل هذا الخلاف. والجواب في الكتاب: المنعُ، وبه قال أحمد والإصطخري؛ لأنهما لا يصلحان للكر والفر، ولا يقاتل عليهما غالباً، والذي رجَّحه الأكثرون إلحاقهما بالخيل؛ لقوله: "أو حافر" وحَكَوْا هذا عن نصه في "المبسوط" هذه هي الطريقة المشهورة فيهما، وبها قال ابنُ خيران، وفيهما طريقتان أخريان نقلهما القاضي ابنُ كج. إحداهما: القطعُ بالجواز، وبها قال ابنُ الوكيل وأبو إسحاق. والأخرى: القطع بالمنع، وبه قال ابْنُ سُرَيْج. وأما عقد المناضلة، فيجوز على السهام العربية منها، والعجمية وهي النُّشَّابُ وعلى جميع أنواع القسيِّ، حتى يجوز على الرمي بالمسلات والإِبر، وفي المَزَاريقِ والزَّانَاتِ (¬1) وجهان:. أصحهُما: وهو المذكور في الكتاب: أنه يجوز المسابقة عليها؛ لأنها أسلحة يرمي بها ويبتغي بها الإِصابة كالسهام. والثاني: المنعُ؛ لأنها قليلاً ما ترمى في الحرب، وروى الصيدلانيُّ طريقة قاطعة بالأول، وللأصحاب وجهان في صور: منها: السابقة على رمي الحجارة باليد والمقلاع والمَنْجَنِيق، قيل بمنعها؛ توجيهاً بأنها ليست من آلة الحرب، والأصح: الجواز، والتوجيه ممنوعٌ، وعن صاحب "الحاوي": أنها كالسهام بلا خلاف، وإشالةُ الحَجَرِ باليد أكثرهم جوَّز المسابقة عليها؛ لأنها لا تنفع في الحرب، وفي تعليقة إبراهيم المروزي: أن الأصح الجواز، قال: وأما مراماة الأحجار، وهو أن يرمي كلُّ واحد الحجر إلى صاحبه، فلا يجوز، كما لا يجوز أن يَرْمِيَ كلُّ واحدٍ السهْم إلى صاحبه. ومنها: التردُّدُ بالسيوف والرماح، قيل: لا يجوز السبق عليه، وبه قال أحمُد؛ لأنها لا ترمى ولا تفارق صاحِبَهَا والأصح: الجواز؛ لقوله: "أو نصل"، ولأنها من أعظم عُدَد القتال، واستعمالُها يحتاج إلى تعلُّم وتحذُّق، وفي تجويز السبق حملٌ عليه. ¬
ومنها: المسابقة على الطيور [من الحمامات] وغيرها جائزة بلا عوض وبالعوض، الأجمح: المنع؛ لأنها ليست من آلات القتال، ولظاهر الخير، وقيلَ: بالجواز؛ لأنه يحتاج إليها في الحروب؛ لإِنهاء الأخبار، ولا يجوز المسابقة على مناطحة الشياة ومهارشة الديك لا بعوض ولا غير عوض. ومنها: المسابقة على الأقدام بلا عوض جائزة تسابق النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وعائشة -رضي الله عنها (¬1) -، وأما بالعوض، فقد قِيلَ: يجوز، قال الشيخ أبو حامد: وبه قال أبو حنيفة؛ لأن المحارب يحتاج في القتال إلى الإِسراع بالأقدام للرَّجَّالة، كالخيل للفرسان، والأظهر: المنع، وبه قال أحمد: للخبر؛ ولأنه ليس فيه استعمال آلة يستعان بها في الحرب، فإن منعنا المسابقة على الأقدام، فالمسابقة على السباحة أولَى بالمنع، وإن جوَّزناه، ففي هذه وجهان، والفرق أن الماء يؤثِّر في السباحةِ، والأرضُ لا تؤثر في السعي، والمنعُ هو الذي أورده صاحِبُ "المهذبِ" و"التهذِيب". ومنها: المسابقة على الطيارات والزوارق، قيل: بجوازها، وبه قال ابنُ سُرَيج؛ لأن الحرب قد تقع في البحر، وهو في الماء كالخيل في البر، وقال الأكثرون: لا يجوز؛ لأن سبقها بالملاح، لا بمن يقاتل فيها، ولأن الحرب لا تقع بها وإنما تقع فيها. ومنها: المصارعة بلا عوض جائزة، وبالعوض جوَّزها بعضُهم؛ لما روي أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "صَارَعَ رُكَانَةَ عَلَى شَاةٍ" (¬2) والأظهر المنع؛ للخبر، وكان الغرض في القصة أن ¬
يريه شدَّته؛ ليُسْلِم، فلما أسلم، ردَّ عليه غنمه، فإن جوَّزنا المسابقة على المصارعة، ففي المشابكة باليد وجهان منقولان عن "الحاوي" ولا يجوز عقد المسابقة على ما لا ينفع في الحروب؛ كاللعب بالشطرنج والخاتم والصَّوْلَجَانِ (¬1) ورمي البنادق والجُلاهِق (¬2) والوقوف على رجْلٍ واحدة ومعرفة ما في اليد من الزوج والفرد وسائر أنواع اللِّعَب، وفي تعليقة إبراهيم المروزي: أن المقل في الماء، إن جرت العادة بالاستعانة به في الحرب، فهو كالسباحة، وإلا، لم تجز المسابقة (¬3) عليه. وأما ما يتعلق بلفظ الكتاب سوى ما سبق، فقد أعلم قوله "كتاب السبق والرمي" بالحاء؛ إشارةً إلى ما رُوِيَ عن أبي حنيفةَ: أنه أبطل هذا العقْد، ولم يجوِّز شرط المال فيه، لكن قال الشيخُ أبو حامد في التعليق: إن أصحابنا الخراسانيين حَكْوا ذلك عن أبي حنيفة، وليس كما حَكُوه، بل هو جائز بالاتفاق، وقوله: "وأما النصل، ففي معناه المزاريق والزانات" قضيته ألاَّ يكونَ المزاريق والزانات متناولةً باسم النصل؛ لتجعل في معناه، وعلى هذا يدل كلام الإِمام، لكن تناولها باسم النصل قريبٌ، فقد قال صاحب الصِّحَاح (¬4): والنصل نصل السهم والسيْفِ والسكِّينِ والرُّمْحِ، والمزاريق والزانَاتُ كالرمح. وقوله "لنقل الأخبار" أي لفائدة إنهاء الأخبار. وقوله: "والظاهر منعه" أي: في مسألة الطيور والحمامات، فأما في الترامي ¬
بالحجارة والتردُّد بالسيوف، فالظاهر الجواز على ما بَيَّنَّاه، واعلم أن أحد بابي الكتاب، وإن أفرد للسبق، والآخر للرمي، ولكنَّ في كل واحد من العقْدين كثيراً مما يدخل فيه الآخر، ويختلط به، لقرب أحدهما من الآخر، وهذا الفصْل مما حصل فيه الاختلاط. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِي: الإِعْلاَمُ: وَلاَ بُدَّ مِنْ إعْلاَمِ المَوْقِفَ وَالغَايَةِ وَالتَّسَاوِي فِيهِمَا، وَلَوْ شُرَطَ لأَحَدِهِمَا تَقَدُّمُ الغَايَةِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ شُرِطَ لِلسَّابِقِ حَيْثُ يَسْبِقُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الغَايَةِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ عَيَّنَ الغَايَةَ وَلَكِنْ شَرَطَ المَالَ لِمَنْ يَسْبِقُ فِي وَسَطِ المَيْدَانِ حَيْثُ كَانَ فَفِبهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعيُّ: يشترط في المسابقة إعلام الموْقِف الذي يبتدئان بالجري منه، والغاية التي يجريان إليها؛ على ما ورد أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "سَابَقَ بَيْنَ الخَيْلِ المضمرة من الحفيا إلى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ" ويُشترط تساوي المتسابقين فيهما جميعاً، ولو شُرِط تقدُّم موقف أحدهما أو تقدم غايته لم يجز؛ لأن المقصود معرفة فروسية الفارس وجودة سير الفرس، ولا يُعْرف ذلك مع تفاوت المسافة؛ لاحتمال أن يكونَ السبْقُ حينئذٍ حصل لِقِصَرِ المسافة، لا لحَذَق الفارس، ولا لفراهة الفرس، ولو لم يعيِّنا غايةً، وشَرَطَا المال لمن سبق منْهما، حيث سبق، لم يجز، ووجهَّوه بمعنيين: أحدهما: أنه إذا لم تكن غاية، فقد يديمان السير؛ حرصاً على المال؛ فيتعبان، وتَهْلِكُ الدابة. والثاني: أن من الخيل ما يقوى سيره في الابتداء، ثم يضعف، وصاحبهُ يبغي قصر المسافة، ومنْها ما يضعف سيره في الابتداء، ثم يقوى، وصاحبه يبغي طول المسافة وإذا اختلف الغرض، فلا بدّ من الإعلام والتنصيص على ما يقْطَع النزاع؛ كقدر الثمن في الأجرة، ولو عينا غاية، وشَرَطا أنَ السبق حيث اتفق في وسط الميدان، كفي، وكان السابق فائزاً، ففي جوازه وجهان: أحدهُما: يجوز؛ لأنه سبق كالسبق إلى الغاية، وأشبههما المنع؛ لأنا لو اعتبرنا السبق في خلال الميدان، لاعتبرنا السبق بلا غاية معيَّنة، وأيضاً، فقد يَسْبِق الفرس ثم يُسْبَق، والاعتبار بآخر الميدان؛ ألا ترى أنهما، إذا لم يشترطا أن السابق في خلال الميدان فائزٌ، فسبق أحدهما في خلاله، والآخر سبق في آخره، يكون السابق الثاني، وقد يُبْنى الوجهان على المعنيين في الصورة السابقة، إن عللنا بإقامة (¬1) السير، فهذا المعنى مفقودٌ هاهنا، فإن الميدان ضابطٌ، وان علَّلنا بتفاوت الأغراض، فلا يجوز ها ¬
هنا أيضاً، وإن عينا غايةً، وقالا: إن اتفق السبق عندهما، فذاك، وإلا، فعديناها إلى غاية أخرى، اتفقا عليها، فوجهان حكاهما الإِمام: في وجْه: لا يصح؛ لتردُّد المعقود عليه، وتميله، والأظهر: الصحة؛ لحصُول الإِعلام، وكون كل واحد من السبقين سبقاً إلى غاية معيَّنة، واعلم أنه كما يُشترط أن يكونَ الموقف والغايةُ معلومَيْن، يشترط أن يكون المالُ معلومَ الجنْس والقدْر، وكأنه أهمله؛ لوضوحه وقد تعرَّض له في "الوسيط". قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثُ: إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً فَفِي شَرْطِ المَالِ للِمُصْلَّي أَعْنِي التَّالِيَ للِسَّابِقِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا): الجَوَازُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّحَذُّقِ فِي ضَبْطِ الفَرَسِ (والثَّانِي): لاَ لأَنَّ السَّبْقَ هُوَ المَقْصُودُ (الثَّالِثُ): أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُ شيْئاً بِشَرْطِ أَنْ يُفْصَلَ السَّابِقُ وَكَذَلِكَ لَجمِيعهِمْ عَلَى التَّرْتِيبِ، أَمَّا الفَسْكَلُ وَهُوَ الأخَيرُ فَلاَ يُخَصّ بفَصْلٍ، وَهَلْ يُشْتَرَكُ في الحَقِّ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أَول ما نورده في الفصْل ما اشتهر من أسماء الخيل التي تُجْمَع للسباق، فَيُقَالُ: الذي يجيء أولاً السابق والمُجَلِّي، والثاني المُصَلِّي، والثالث المُسَلِّي، ويُقال: التالي، وللرابع: التالي، ويُقال: المُرتَاح، وللخامس: العاطِفُ، ويُقال: المُرْتاح، وللسادس: المُرْتَاح، ويُقال: العاطف، وللسابع المُؤَمِّلُ، ويُقال: الحَظِيّ، وللثامن: الحَظِيّ، ويُقال: المؤمل، وللتاسع: اللطيم، وللعاشر: السُّكَيتْ كالكُمَيْت، ويُقال له: الفِسْكِل أيضاً، وكانوا لا يعتدون بما يجيء بعدها، وربما سُمِّي الفارسون بهذه الأسماء، وعلى ذلك يجري الفقهاء (¬1). إذا تقرَّر ذلك، فإذا كان التسابق بين اثنين، والمالُ يبذله غيرهما، فإن شرطه للسابق منهما، فذاك، وإن شرَطَه للثاني أو شُرِط للثاني ما يُشتْرط للأول أو أكثر، لم يجز؛ لأن كل واحد منهما يؤخِّر نفسه، فلا يجتهد في السبق، وإن شرط للثاني، دون ما شرط للأول فوجهان: ¬
أصحُّهما: الجواز؛ لأنه يسعى ويجتهد؛ ليفوز بالأكثر. والثاني: المنع؛ لأنه إذا كان يتحصَّل على شيء، ويُعفَى، فقد يتكاسل، ويضم بفرسه، ليفوت مقصود العقد. وإن تسابق ثلاثة، وشرط باذلُ المالِ المالَ للسابق، صحَّ، وإن شرط للمصلِّي أو شرط له أكثر مما شرط للسابق، ففيه وجهان حكاهما الإِمامُ: أصحهما: المنع؛ لأن السبق هو المقصود، وكلُّ واحد، والحالة هذه، يبغي الانخناس، فلا يحصل مقصود العقد. والثاني: يجوز؛ لأن ضبط الفرس في شدة عَدْوه؛ ليقف في مقام المصلِّين يحتاج إلى حَذَق ومعرفة، لكان شرط له مثل ما شرط للأول، فوجهان: أحدهما: لا يجوز، كما لو كانا اثنين، وشرط للثاني مثل ما شرط للأول. وأصحهما: الجواز؛ لأن كل واحد منهما، والحالة هذه، يجتهد ويسعى أن يكون سابقاً ومصلِّياً، وإن شَرَط أن يكونَ له دون ما شرط للأول، فعلى وجهين فيما إذا كانا اثنين، وشرط للثاني دون ما شرط للأول، والأصح الجواز، ويخرج من هذه الاختلافات الثلاثة وجوه: أحدها: أنه يجوز أن يشترط جميع المال للمصلِّي. والثاني: لا يجوز أن يشترط له شيء. والثالث: يجوز أن يشترط له شيء بشرط أن يفضل السابق، وهذه الثلاثة هي التي ذكرها في الكتاب، والأظهر وجْهٌ رابع، وهو أنه يجوز أن يُشْرَط له شيء بشرط ألا يفضل على السابق، وأما الفسْكِل فَلاَ يجوز أن يشرط له جميع المال، ولا أن يخصَّص بفضل، ولا أن يسوَّى بينه وبين من قبله، وهل يجوز أن يشرط له شيء دون ما شُرط لمن قبله؟ فيه الوجهان السابقان، والأظهر: الجواز، ويُقاس على هذا ما إذا كان المتسابقون أَكْثَرَ من ثلاثة، حتى إذا كانوا عشرةً، وشُرِط لكل واحد سوى الفِسْكِل مثْلُ المشروط لمن قبله، يجوز على الأظهر، والأحبُّ أن يكون المشروطُ لكل واحدٍ منهم دون المشروط للذي قبله، وفي شروط شيء للفِسْكِل الوجهان، ولو أهمل بعضُهم بأن جعل للأول عشرةً، وللثالث تسعةً وللرابعِ ثمانيةً ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن الثالث والرابع يفْضُلان من قبلهما. والثاني: يجوز، ويقام الثالث مُقام الثاني، والرابعُ مُقام الثالث، ويقدر كأن الثاني لم يكن، وإذا بطل المشروط في حق بعضهم، ففي بطلانه في حق من بعده وجهان، عن رواية صاحبِ "الحاوي" وهذان الوجهان والوجهان في صورة إهمال البعْض بُنِيَا
على أنَّ من بَطَلَ السبق في حقه، هل يستحق على الباذل أجرة المثل؟ وفيه اختلاف سيعود، فإن قلْنا: لا يبطُل العقد في حق من بعده؛ كيلا يفضل من سبقه، وإن قلنا: نعم، لم يبطل في حق من بعده، ولا يضر كون المشروط له زائداً على أجرة المثل؛ لأن الممتنع أن يفضل المسبوق السابق فيما يستحقانه بالعقد، وأجرة المثل ليست مستحَقَّة بالعقد، واعلم أن الصور المذكورة وضَعُوها فيما إذا كان باذل المال غير المتسابقَيْن ويمكن فرضها أو فرض بعْضها فيما إذا كان بَذْلُه من أحد المتسابقَيْن (¬1) مثل أن يتسابق اثنان؛ يُبْذل أحدهما المال على أنه، إن سَبَقَ، دَفَع منه إلى الآخر كذا، وإن سَبَق الآخرُ، أمسك لنفسه منه كذا، وإذا تأملت الصورة عرفت أن في اشتراط تخصيص المال بالسابق اختلافاً للأصحاب، ولم يترجم الشرطَ صاحب الكتاب، على ما فيه من الخلاف، كما فعل في "الوسيط" فقال: الشرط الثاني: أنه إذا تسابق جماعة، فينبغي أن يُشْرَط السبق للسابق وذاك أليق بسياق الكلام. فَرْعٌ: لو قال: من سبق، فله كذا، فجاء المتسابقون معاً، فلا شيء لهم، ولو جاء اثنان فصاعداً معاً، وتأخَّر الباقون، فالمشروط للأوَلْينِ بالسوية، ولو قال: من سبق فله دينارٌ، ومن صلَّى، فله نصف دينار، فسبق واحدٌ وصلَّى ثلاثةٌ، ثم جاء الباقون، فللسابق دينارٌ، وللثلاثة المصلِّين نصفُ دينار، وإن سَبَق ثلاثة معاً، وصلَّى واحد، ثم جاء الباقون، فللثلاثة دينار، وللمصلِّي نصف، وإن سبق واحد، وجاء الباقون معاً، فله دينار، ولهم نصف دينار، وإن جاء الجميع معاً، فلا شيء لهم: لأنهم ليسوا بسابقِينَ ولا مصلِّينَ، ولو قال: كل من سبق، فله دينار، فسبق ثلاثة، فعن الداركيِّ: لِكلِّ واحد منهم دينار. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرَّابعُ: أنْ يَكُونَ فِيهِمْ مُحَلِّلٌ وَهُوَ لاَ يُغْرَمَّ إنْ سَبِقَ وَيغْنَمُ إِنْ سَبَقَ، فَلَوْ شَرَطَ الإِمَامُ أوْ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ للِسَّابِقِ مَالاً جَازَ، وَلَوْ أَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ المُتَسَابِقَيْنِ مَالاً لَمْ يَجْز إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ شَرَطَ المَالَ لَهُ إِنْ سَبَقَ وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ أَحْرَز كُلُّ وَاحِدٍ منْهُمَ مَالَهُ وَلاَ شَيْء لَهُمْ عَلَى المُحَلِّلِ، وَإِنْ شُرِطَ المَالُ لِلمُتَسَابِقَيْنِ أَيْضاً فَقَوْلاَنِ يُعَبَّرُ عَنْهُمَا بِأنَّ المُحَلِّلَ يُحَلِّلُ لِنَفْسِهِ فَقَطْ أَمْ لِنَفْسِهِ وَلغَيْرِهِ، فَإن جَوَّزْنَا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي المِائَةِ مُحلِّلٌ وَاحِدٌ يَأْخُذُ الكُلَّ إنْ سَبَقَ وَلاَ يُغَرَّمُ إِنْ تَخَلَّفَ فَكلُّ وَاحِدٍ مِنَ البَاقِينَ يَغْنَمُ وَيغرَمُ، فَعَلَى هَذَا إِنْ تَلاَحَقُوا وَالمُحَلِّلُ سَابِقٌ أَخَذَ مَالَ المُصَلِّي وَالفِسْكِلَ جَمِيعاَ، وَقِيلَ: المُصَلِّي يَأخُذُ نِصْفَ مَالِ الفِسْكِلِ لأنَّهُ سَبَقَهُ أَيْضاً، وَإِنْ سَبَقَ المُحَلِّلُ ¬
وَتَسَاوَقَا بَعْدَهُ أَخَذَ المُحَلِّلُ مَالَهُمَا، وَإِنْ سَبَقَ المُحَلِّلُ. مَعَ أَحَدِهِمَا فَمَالُ الفِسْكِلِ لَهُمَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قال الشافعيُّ -رضي الله عنه-؟ "إلاَّ سِبَاقَ ثَلاثَةٍ" وأراد به أن المال في المسابقة إما أن يخرجه غير المتسابقين أو يخرجه أحدهما أو كلاهما. أما الحالة الأولَى فيجوز للِإمام إخراج السبق من خاصة نفسه، ومن بيت المال؛ لما فيه من التحريض على تعلم الفروسية وإعداد أسباب القتال، وقد رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- "سَابَقَ بَيْنَ الخَيْل، وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا سَبَقاً" (¬1) ويجوز للواحد من عَرَض الناس أيضاً إخراج السَّبَق من ماله؛ لأنه بذل مال في قربة وطاعة، ويثاب عليه، إذا نوى، وقال مالك: يختص ذلك بالإِمام، ولا فرق بين أن يتسابق اثنان أو أكثر، ومن سَبَقَ، أخذ المال. والثانية: أن يخرج أحد المتسابقين، ويُشترط أنه، إن سبق، أحرز ما أخرج، ولا شيء له على الآخر، كان سبق الآخر، أخذ ما أخرج الأول، فهو جائز؛ لما رُوِيَ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- "مَرَّ بِحِزْبَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ يَتَنَاضَلُونَ، وَقَدْ سَبَقَ أحَدُهُمَا الآخَر؛ فَأَقَرَّهُمَا عَلَى ذَلِكَ" (¬2) وعن مالكٍ: أنه لا يجوز؛ لأنه قِمَارٌ، وأجاب الأصحاب بأن القِمَار أن يكونَ كلُّ واحد منهما متردِّداً بين أن يغنم ويغرم، وليسا ولا واحدٌ منهما كذلك، أما المُخْرج، فإنه متردِّد بين أن يغرم وبين أَلاَّ يغرم، ولا يغنم بحال، وأما الآخر فمتردِّد بين أن يغنم، وبين أن لا يغنم، ولا يغرم بحال. وإن تسابق جماعة، وأخرج اثنان فصاعداً، وشرطوا أنَّ مَنْ سبق من المخْرِجِين، لم يحرز إلا ما أخرجه، ومن سبق من غيرهم، أخذ ما أخرجه المخرجون، فهو جائز أيضاً. والثالثة: أن يخرج المتسابقان جميعاً، ويقول كل واحد منهما: إن سبقْتَني، فَلَكَ ¬
عليَّ كذا، وإن سَبَقْتُكَ، فلِي عَلَيْكَ كذا، فهذا لا يجوز؛ لأنه على صورة القِمَار، إلا أن يُدْخِلا بينهما محلِّلاً، وهو أن يشاركهما في المسابقة ثالثٌ، على أنه، إن سبق أخذ ما شرطاه والتزماه، وإن سُبِق، لم يغرم شيئاً، فيميل العقد بذلك عن صورة القِمَار، وقد رُوِيَ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أَدْخَلَ فَرَساً بَيْنَ فَرَسَيْنِ، وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَهُمَا فَهُوَ قِمَارُ وإِنْ لَمْ يَؤمنْ أَن يَسْبقَ، فَلَيْسَ بِقِمَارِ" (¬1) واحتج الأصحاب به، فقالوا: إذا علم أن الثالث لا يسبق، فهو قمار، فإذا لم يكن معهما ثالثٌ، فهو أولَى بأن يكون قماراً، ثم إن كان الشرط أن يختص المحلِّل بالاستحقاق، إن سبق، وكلُّ واحد منهما لا يأخذ، فهذا جائز بالاتفاق، وإن شرطوا أن المحلِّل يأخذ السبقَيْن، إن سبق، وأن كل واحد منهما إن سبق، أخذ ما أخرجه وأخذ ما أخرجه الآخر، ففي جواز المعاملة على هذا الوجه قولان، هكذا أطلق الإِمام وصاحبُ الكتاب، وقال الصيدلانيُّ وجهان، وقال الأكثرون:، منصوص الشافعيِّ -رضي الله عنه- ومذهبه الجواز، وقال ابنُ خيران: لا يجوز، ثم وجَّه المنع بأنَّ كل واحد من المتسابقين قد يغنم وقد يغرم، لو جوَّزناه، وذلك قمار، وظاهر المذهب أن التسابق يجري بين المتكافئين المتقاربين، ولا يكاد يسمح أحدهما بأن يخرج المال دون أن يخرج الثاني، لكن، إذا لم يكن محلِّل، كانت المعاملة على صورة القِمار، فلو لم نجوِّز ذلك بعد ¬
دخول المحلِّل، فات مقصود العقد، والقول بأنه، إذا كان كل واحد من المتسابقين يغنَم تارة ويغرَم أخرى، كانت الصورة صورة القِمار ممنوعٌ، بل له شرط آخر، وهو أن يكونَ كلُّ واحد من المتسابقين كذلك؛ بدليل ما قدَّمنا من الخبر، وعبر عن الخلاف بأن المحلِّل يحلِّل لنفسه فقط أو لنفسه ولغيره؟ والظاهر الثاني. ويُقال، بعبارة أخرى: المحلِّل المال والعقد على المذهب، وعلى قول ابن خيران: أنه لتحليل العقد لا يستحقُّ المالَ غيرُه، وإذا قلنا: بظاهر المذهب، فلو كان المتسابقون مائة مثلاً، وليس فيهم إلا محلِّل واحدٌ، شرط أن يأخذ جميع ما أخرجوه، إن سَبَق، ولا يغْرم شيئاً، إن سُبِق، وكل واحد من المتسابقين، إن سبَق، غَنِمَ، وإن سُبِق، غرم، صحَّ العقد والشرط. وهاهنا أصل آخر حكاه الإِمامُ؛ وهو أنا، إذا أطلقنا شرط المال للسابق، [فاللفظ للسابق] المُطْلق، أو يتناول من سبَقَ غَيرَه، وإن كان مسبوقاً لغيره؟ وفيه اختلاف للأصحاب، والظاهرُ الأول، ويترتب على الأصلين الحكمْ في صورة مجيء المتسابقين، فإذا تسابق مستبقان ومحلَّل، نظر؛ إن سبق المحلِّل، ثم جاء أحد المستبقين ثم الثاني، فيأخذ المحلِّل ما أخرجه المصلِّي بلا خلاف، وفيما أخرجه الفِسْكِلُ ثلاثةُ أوجه: أظهرها: أنه يأخذ المحلِّل أيضًا؛ لأنه السابق المطْلَق. وثانيها: أنه للمحلِّل وللمصلِّي جميعاً؛ لأنهما سبقاه. وأضعفها: أنه للمصلِّي وَحْدَهُ، ويجعل سابقاً الفِسْكِلُ، كما أن المحلِّل سابق المصلي، وإن سبق المحلِّل، ثم جاء المستبقان معاً، فيأخذ المحلِّل ما أخرجاه بلا خلاف. ولو سبق المحلِّل مع أحد المستبقين، ثم جاء الثاني، فالذي سبق مع المحلِّل يحرز ما أخرجه، وما أخرجه الآخر له وللمحلَّل؛ على ظاهر المذهب، وللمحلِّل خاصة على المنسوب إلى ابن خيران. واقتصر في الكتاب على ذكر هذه الصور الثلاث. ولو سبق أحد المستبقين، ثم جاء الثاني مع المحلل، أو جاء الثاني، ثم جاء المحلِّل، فيحرز السابق ما أخرجه أيضاً، وما أخرجه الثاني على المذْهب، وعلى ما ذكر ابنُ خيران: لا يأخذه، ولا شيء للمحلل على المذْهبين، ولو سبق أحد المستبقين، ثم جاء المحلِّل، ثم جاء الثاني، فيحرز السابق ما أخرجه، وأما ما أخرجه الثاني، فإن قلنا: بظاهر المذهب، ففيه وجهان: أظهُرهما: أنه يأخذه السابق أيضاً: لأن المحلِّل مسبوقٌ.
والثاني: أنه له وللمحلل؛ لأنهما سبقا الثاني، وفيه وجه ثالث ضعيف: أنه للمحلِّل خاصة، وإن قلْنا بالمنسوب إلى ابنِ خيران، فوجهان: أحدهما: أنه للمحلِّل؛ لأنه سبق الثاني. والثاني: أنه يحرزه مُخْرِجه، ولا يستحقه السابق ولا المحلِّل، أما السابق؟ فلأَن نفرِّع على أن المحلل لا يحلل لغيره، وأما المحلل فلأنه مسبوق، ولو سبق المستبقان معاً، ثم جاء الثلاثة معاً، لم يأخذ واحذ منهم شيئاً من غيره، فهذه ثمان صور، ويجوز أن يدخلا بينهما محلِّلَيْن فصاعداً، فإذا تسابق مستبقان ومحللان، وسبق أحد المحَلِّلَيْن، وصلَّى أحد المتسابقين، ثم جاء المحلِّل الثاني، ثم جاء المستبق الثاني، فما أخرجه المستبق الأول للمحلِّل، وأما ما أخرجه الثاني، فإن قلْنا بظاهر المذهب، ففيه وجهان: أظهرهما: أنه للمحلِّل الأول أيضاً: لأنه السابق المطلق. والثاني: أنه للمحلِّليَنْ وللمستبق الأول؛ لأنهم جميعاً سبقوا الثاني، وقياس الوجه الأضعف أن يُقال: إنَّه للمحلِّل الثاني، وإن قلْنا: بالمنسوب إلى ابن خيران، فهو للمحلِّل الأول في أحد الوجهين، وللمحلِّلَيْن في الثاني، ولو سبق أحد المتسابقين، ثم جاء أحد المحلِّلَين ثم المحلل الثاني، فيحرز الأولُ ما أخرجه، وأما ما أخرجه الثاني، فإن قلنا بظاهر المذهب، فالوجه الأظهر أنه يأخذه المتسابق الأول أيضاً، وفي وجه: هو له وللمحلَّل الأول، وعلى الوجه الأضعف؛ هو للمحلِّل الأول، وإن قلنا بالمنسوب إلى ابنِ خيران، فهو للمحلِّل الأول لا غير، وقسْ على هذا ما شئت تصويره. قَالَ الغَزَالِيُّ: الخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ سَبْقُ كُلِّ وَاحِدٍ مُمْكِناً فَإِنْ ظَهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الفَرَسَيْنِ بِحَيْثُ يُعْلَمُ أَنَّ السَّابِقَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ العَقْدُ وَإِنْ كَانَ مُمْكناً عَلَى النُّدُورِ فَوَجْهَانِ، وَيَجُوزُ بَيْنَ فَرَسَيْنِ مُخُتَلِفَي النَّوْعِ، وَبَيْنَ الإِبِلِ وَالفَرَسِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أطلق عامة الأصحاب قولهم؛ بأنه يشترط في المسابقة أن يكونَ كل واحد من الفرسين؛ بحيث يجوز أن يسبق الآخر، فإن كان أحدهما ضعيفاً يُقْطع بتخلفه، أو فارهاً (¬1) يقطع بتقدمه، لم يجز، وكذا فرس المحلل ينبغي أن يكونَ كذلك، وزاد الإِمام، فقال: إن أخرج أحد المتسابقين المال؛ على أنه، إن فاز، أحرز ما أخرج، وإلا، فهو لصاحبه، فإن كان صاحبه؛ بحيث يقطع بأنه لا يسبق، فهذه مسابقة ¬
من غير مال، وإن كان يقطع؛ بأنه يسبق، ففي صحة هذه المعاملة وجهان: أحدهما: المنعُ؛ لأن قضية المسابقة أن يتوقع كل واحد منهما السبق. وأصحُّهُما: الصحة، وحاصلها إخراج مال الذي يقطع بأنه يسبقه؛ فأشبه ما إذا قال لغيره: ارْم كذا، فإن أصبت منه كذا، فلك هذا المال، ولو أخرج كل واحد من المتسابقين المال، وأدخلا محلِّلاً، يعلم تخلُّفه لا محالة، فلا فائد في إدخاله، ويبقى العقد على صورة القمار، وإن كان يُتيقَّن سبقه، ففيه الوجهان. ولو أخرجا المال، وأحدُهما بحيث يُقْطَع بسبقه، ولا محلِّل، فالذي يسبق كالمحلِّل؛ لأنه لا يستحق عليه شيء، فشرط المال من جهته لَغْوٌ، وهذه تفاصيل حسنة، وفي الكتاب ذِكْرُ بَعْضِها في "الباب الثاني" على ما سيأتي بتوفيق الله تعالى، ولو كان سبق أحدهما ممكناً على الندور، ففي الاكتفاء به للصحة وجهان: أقربهما إلى كلام الأصحاب: المنع، وأنه لا يقام للاحتمال النادر وزْنٌ، ويتعلَّق بما نحن فيه القول فيما إذا اختلف المركوبان نوعاً أو جنساً؛ أما اختلاف النوع، فلا يضر، ويجوز المسابقة على الفرس العربيِّ والعجميِّ، وعلى العربيِّ والتركيِّ، وعن أبي إسحاق، أنه، إذا تباعد النوعان؛ كالعتيق والهجين من الخيل والنجيب والبُخْتِيِّ من الإِبل، لم يجز، وهذا ما ينبغي أن يترجح، وإن كان الأول أشهر؛ لأنه إذا تحقَّق التخلف، فأي فرق بين أن يكون لضعف عارضٍ أو لرداءة النوع (¬1). وأما إذا اختلف الجنّس؛ كالإِبل والفرس، ففي المسابقة عليهما وجهان: أشبههما، وهو الجواب في "الشامل" وغيره: المنعُ؛ لأن الإِبل لا يلحق بالفرس غالباً، ويجري الخلاف في الفرس والحِمَار، إن جوَّزنا المسابقة على الحمار، وكذا في الحمار والبغْل، إذا جوزنا المسابقة عليهما، والأشبه في هذه الصورة الجواز لتقاربهما، وبه أجاب ابنُ الصَّبَّاغ، وعبَّر معبِّرون عن هذه الجملة بعبارة أخرَى، فقالوا: مِنْ شَرْطِ المسابقة تكافُؤُ الفرسين، وفيما يعتبر فيه التكافؤ وجهان: أظهرهما: أن التكافؤ بالتجانس، فلا تجوز المسابقة بين الفرس والبغل، وتجوز بين العتيق والهجين من الخيل. والثاني: وبه قال أبو إسحاق: أنه لا يُنْظَر إلى التجانس، وإنما المعتبر أن يكونَ ¬
كل واحد منهما بحيث يجوز أن يسبق، فيجوز بين الفرس والبغل، وبين الحمار والبغل، ولا يجوز بين العتيق والهجين، من الخيل والبختي، والنجيب من الإِبل. قَالَ الغَزَالِيُّ: السَّادِسُ: تَعْيينُ الفَرَسَيْنِ وَإِحْضَارُهُمَا، أَمَّا العَقْدُ عَلَى فَرَسَيْنِ بِالوَصْفِ ثُمَّ الإِحْضَارِ لاَ يَجُوزُ عَلَى الأَصَحِّ، ثُمَّ الفَرَسُ لاَ يَجُوزُ إِبْدَالُة إِذَا عُيِّنَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تعيين الفرس شرط في المسابقة، ووجِّه ذلك بأن المقصود امتحانُ الفرس؛ ليعرف سيره، وأيضاً تضمير الخيل وتمرينها على العَدْو، وكل واحد من المعنيين يقتضي التعيين؛ فإن أحضرت الأفراس، وعقدت المسابقة على أعيانها، فذاك، وإن وُصِفت، وعُقِد العقد على الوصف، ثم أحضرت، فوجهان، حَكَى الإِمام عن شيخه المنْعَ؛ لأن المعوَّل في المسابقة على أعيانها، وهذا ما رجَّحه في الكتاب، وبه أجاب الرُّويانيُّ (¬1)، وعن العراقيين: الجواز، وهو الأوجه عنده، وقد وجَّه ذلك بأن الوصف والإِحضار بعْده يقومان مقام التعيين في العقد، في السَّلَم وفي عقود الرِّبَا، فكذلك هاهنا، ونقل عنهم: أنه إذا جرت (¬2) المسابقة مطلقة، كان كما لو جرت المناضلة مطلقةً، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- الكلامُ في أنها، علامَ تُحْمَلُ. وإذا تعلَّق العقْد بعين فرس، لم يجز إبداله، وإن هلك، انفسخ العقد، وإذا عقد العقد على الوصف، ثم أُحْضِرَ فرسٌ فما ينبغي أن ينفسخ العقْد بهلاكه. قَالَ الغَزَالِيُّ: ثُمَّ الاعْتِمَادُ فِي السَّبْقِ عَلَى الأَقْدَامِ إِذ العُنُقُ قَدْ تَمْتَّدُ وَقَدْ تَقْصُرُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الذي جرى ذكره في كلام الأصحاب لاعتبار السبق بها [ثلاثةٌ]: الكَتَد، بفتح تائها وتُكْسَر، والأول أشهر؛ وهي عبارة عن مجتمع الكتفين بين أصل العنق، والظَّهْرِ. والأقدامُ؛ وهي القوائم، والهادي وهو العُنُقُ، ونقل الإِمام اختلاف وجهِ أو قولٍ: في أن الاعتبارَ في السبق بالهادي أو بموقع الأقدام والكتد، وأشار إلى توجيه الأول؛ بأن المتسابِقِينَ يمدون خيطاً في أقصى الميدان؛ ليتبين السبق بحرفه، ورأس الفرس وهاويه أول ما ينتهي إلى الخيط ويحرفه، وتوجيه الثاني؛ بأن العدْوَ بالقَدَم، فليكن الاعتبار بها، ورأْيُ هذا الثاني أقيسُ، وبه أجاب في الكتاب، والذي يوجدُ لعامة الأصحاب في كتبهم: أن الاعتبار في الإِبل بالكتد، وفي (¬3) الخيل يعتبر الهادي، والفرق أن الإِبل ترفع أعناقها عند العدو، فلا يمكن اعتبار السبق به، والخيل تمد أعناقها، ¬
قالوا: وينظر في الفرسين، وإن استويا في خلقة العنق طُولاً وقِصراً، فالذي تقدَّم بالعنُقِ أو بعضه هو السابق، وإن اختلفا، فإن تقدَّم الذي هو أقصرُ عنقاً، فهو السابق، وإن تقدَّم الآخر، نُظِر؛ إن تقدم بقدر زيادة الخلقة، فما دونها، فليس بسابق، وإن تقدَّم بأكثر منها، فهو سبق، ووراء هذا وجوه: أحدها: أنَّ عند اختلاف خلقة العنق، يُعتبر في الخيل أيضاً بالكتد (¬1) ويُحْكَى هذا عن أبي إسحاق ورجَّحه الرويانيُّ. والثاني: في طريقة الصيدلاني: أنَّ عند اختلاف الخلقة، إذا سبق الأطول عنقاً ببعض عنقه، وكتدهما سواءٌ، يُعَدُّ ذلك سبقاً؛ لأن تقدير أعناق الخيل وضبطَها عسيرٌ. والثالث: أنه، إن كان في جنس الخيل ما يرفع الرأس عند العدو، فيعتبر فيه الكتد، كما في الإِبل. والرابع: قضية ما ذكره بعضُهم: أن التقدُّم بأيهما، حَصَلَ السبق؛ وعلى هذا، فلو تقدم أحدهما بأحدهما، والآخر بالآخر، فلا سبق. والخامس: عن رواية أبي الحسين بن القطَّان وجْه؛ أنه لا يُعْتبر هذا ولا ذاك، ولكن يتبع عرف الناس، وما يعتبرون به السبق. والسادس: أن المعتبر ما شرطاه من اعتبار الكتد أو الهادي، وعن بعض علماء السلفِ: أن الاعتبار بتقدم الأذن، وإيرادُ القاضي ابن كج يُشْعر بجعله وجهاً للأصحاب، فهذا هو الكلام في الهادي والقَدَم، وأما الكَتَدُ مع القَدَمِ، فقد قَرَنَ بينهما قارِنُونَ، وأقام أحدهما مُقَام الآخر آخرون، وأشار الفريقان أنه لا فرق في الاعتبار بهما ولا خلاف؛ لأنهما قريبان من التحاذي، لكن بينهما مع التقارب تفاوتٌ، ولا يبعد أن يجعل اعتبار القدم وراء اعتبار الكتد والهادي؛ ويدل على ذلك ما نقل عن "الحاوي": أن صاحبه قال: لو اعتبر السبقُ بأيديهما، فأيهما تقدَّمت يداه، فهو السابق، كان أصح عندي؛ لأن السعي بهما والجري عليهما، لكن الشافعي -رضي الله عنه- اعتبر الهادي والكَتَدَ، وفي طريقة الصيدلانيِّ أنه، لو كان أحد الفرسين أطولَ عنقاً من الآخر فسبق الآخر ببعض العنق، وسبقه الآخر ببعض الكَتَدِ، فأيهما السابق؟ فيه وجهان، ويمكن تخريجهما على الخلاف في أن الاعتبار في السبق بهذا أم بذاك؟ وقد عرفت بما قدمناه أن قوله في الكتاب "ثم الاعتماد في السبق على الإِقدام" ينبغي أن يعلم بالواو، وأن ما عليه الأكثرون خلافُ ما ذكره. ¬
وقوله: "إذا العُتُقُ قد تمتد وقد تقصر" لا يَصْلح مانعاً من اعتبار السبق به؛ على ما تبين، ثم عن الشيخ أبي محمد أن التردُّد والخلاف في أن السبق بم يعتبر؟ يختص بآخر الميدان وأما في أوله، فيعتبر التساوي في الأقدام لا غير. فُرُوعٌ: تتعلق بالسبق: لو سبق أحد المحلَّلَيْن في وسط الميدان، والآخر في آخره، فالسابق الثاني، ولو عثر أحد الفرسين أو ساخت قوائمُه في الأرض، فتقدم الآخر، لم يكن الآخر سابقاً، وكذا لو وقف بعْد ما جرى لمرض ونحوه، فإن وقف بلا علة، فهو مسبوق، ولو وقف قبل أن يجري، لم يكن مسبوقاً، سواءٌ وقف لمرض أو لغير مرض، ولو تسابقا على أنَّ من سبق منهما الآخر باقدام معلومة، فله السَّبَق، حَكَى الأئمة عن صاحبِ "الإِفصاح": أنه يجوز؛ لأنهما يتحاطان ما تساويا فيه، ويجعل السَّبَق، لمن تقدَّم بالقدر المشروط، فهو كشرط المحاطة في المناضلة، وأنه قال: رأيت من أصحابنا من مَنَعَ ذلك، وأبطل العقْد، ولا أعرف له وجهاً، واعلم أن الفرع غير مصوَّر فيما إذا لم يبينا غاية، فقد ذكرنا أنهما إذا شَرَطَا السبقَ لمن سَبَق من غير بيان غاية، لم يجز، ولا فرق بين هذه الصور وبين أن يشترطا التقدم بأقدام معلومة، ولكن التصوير فيما إذا شرطا السبَقَ لمن تقدَّم باقدام معلومة على موضع كذا، والغايةُ في الحقيقة نهايةُ الأقدام المشروطة من ذلك الموضع، لكنه شرط في الاستحقاق تخلف الآخر عنها بالقدر المذكور. ويُخْتار أن يكونَ في أقصى الغاية قصبةٌ مغروزةٌ ليقتلعها السابق، فيظهر لكل أحد تقدُّمه ويُجرِي المتسابقان الفرسين في وقت واحد. ومما هو من شروط المسابقة، وقد أهمل ذكره في الكتاب: أن يستبقا على الدابَّتَيْنِ بالركوب، أما لو شرطا إرسال الدواب؛ لتجري بنفسها، فالعقد باطلٌ؛ لأنها تتنافر بالإِرسال، ولا تقصد الغاية بخلاف الطيور، إن جوَّزنا المسابقة عليها؛ لأن لها هدايةً إلى قصد الغاية، وأن يجعلا المسافة بحيث يحتمل الفرسان قطْعَها ولا ينقطعان دونها، فإن كانت بحيث لا ينتهيان إلى غايتها إلا بانقطاع وتَعَبٍ فالعقد باطل. وأن يكون المالُ المشروط معلوماً، ويجوز أن يكون دَيْناً وثانِ يكون عيناً (¬1) أو بعضُه هكذا وبعضُه هكذا، وإذا كان دَيْناً، فإِما أن يكون حالاً أو مؤجَّلاً، فلو شَرَطَا مالاً مجهولاً؛ بأن قال: أعطيتك ما شئتُ، أو مَا شئتَ أو شرَطَ ديناراً أو ثَوْباً، ولم يصف الثوب، أو ديناراً إلا ثوباً، فالعقد باطلٌ، وكذا لو شرط ديناراً إلا درهماً، إلاَّ أن يريد قدر الدرهم، وعَرَفا قيمته من الدينار، ولو قال: إن سبقتني، فلك هذه العشرة، وتَرُدُّ ¬
إليَّ صاعاً من طعام، فهو فاسد؛ لأنه شرط عوض على السابق، وهو خلاف موضوع العقد. ولو تسابقا على قرض في الذمّة، قال فى "البحر": فيه وجهان؛ بناءً على الوجهين في جواز الاعتياض عنه قبل قبضه، وإذا أخرج المال غير المتسابقين، فيجوز إن شَرَطَ لأحدِهما أكْثَرَ مما يشرطه للآخر، وإذا أخرجاه، فيجوز أن يخرج أحدهما أكثر مما يخرجه الآخر، عن صاحب "الحاوي" والصيمريِّ: أنهما، إذا أخرجا، وجب تساوي المالين جنساً ونوعاً وقدراً. ومن الشروط: التحرُّز عن الشروط المفسدة فلو قال: إن سبقتني، فلك هذه العشرة، ولا أرمي بعد هذا أبداً، أو لا أناضلك إلى شهْرٍ، فعن نصه في "الأم": أن العقد فاسدٌ؛ لأنه شرط ترك قربة مرغَّب فيها، ففسد وأفسد العقد، ولو شرط على السابق أن يطعم السابقُ أصحابَهُ، فسد العقد؛ لأنه تمليك بشرط يمنع كمال التصرف، فصار كما لو باعه شيئاً بشرط ألاَّ يبيعه، وعن أبي إسحاق وجْه: أنه يصح العقد. وقبوله الإِطعام عدة إن شاء وَفَّى بها، وإلا، فلا (¬1)، ولأن لا يقع هذا الشرط لا يعود إلى الشارط، فوجوده، كعدمه، ويُرْوَى هذا عن أبي حنيفَة وأحمدَ، وهذا تمام الكلام في النظر الأول. قَالَ الغَزَالِيُّ: النَّظَرُ الثَّانِي فِي حُكَمْ هَذِهِ المُعَامَلَةِ: وَهِيَ جَائِزَةُ فِي قَوْلٍ كَالجَعَالَةِ، وَلازِمَةٌ فِي قَوْلٍ كَالإِجَارَةِ، وَقِيْلَ: الَّذِي يَغْنَمُ وَلاَ يَغْرَمُ جَائِزٌ في حَقِّهِ قَوْلاً وَاحِداً، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ الجَوَازِ لاَ يُشْتَرَطُ القَبُولُ بِالقَوْلِ، وَفِي ضَمَانِ السَّبَقِ وَالرَّهْنِ بِهِ خِلاَفُ كَمَا في الجَعَالَةِ، وَعَلَى قَوْلِ اللُّزُومِ يَجِبُ البِدَايَةُ بِالعَمَلِ لاَ بِتَسْلِيمِ السَّبْقَ، وَيَجُوزُ ضَمَانُةُ وَالرَّهْنُ بِهِ، فَإنْ فَسَدَتِ المُعَامَلَةُ بِكَونِ العِوَضِ خَمْراً رَجَعَ إِلَى أُجْرَةِ مِثْلِ عَمَلِهِ فِي جَمِيعِ رَكْضِهِ لاَ فِي قَدْر السَّبَقِ، وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ يَرْجِعُ إِلَى قِيمَةِ السَّبَقِ أَوْ أَجْرِ المِثْلِ فِيهِ قَوْلاَنِ كَمَا فِي الصَّدَاقِ، وَقِيلَ: هَهُنَا يُرْجَع قَطْعاً إِلَى أَجْرِ المِثْلِ كَالقِرَاضِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصود النظر الكلام في حكم المسابقة، وفيه قاعدتان: إحداهما: اختلف قول الشافعيِّ -رضي الله عنه- في عقد المسابقة، أهو لازم أم جائز؟. ¬
فأحد القولين، وبه قال أبو حنيفة وأحمد: أنه جائز، كالجَعالة، والجامع أنه عقد بذل العوض فيه على مَا لاَ يُوثَقُ به. وأصحهما: أنه لازمٌ، كالإِجارة، والجامعُ أنه عقد شُرِطَ فِيه أن يكون المعقود عليه معلوماً من الجانبين، وما محل القولين؟ قال في "المهذَّب"، إن أخرج المالَ أحدُ المتسابقين أو غيرهما، فهو جعَالة، وإن أخرجاه معاً، ففيه القولان، والظاهر، وهو المذكور في "التهذيب" طرد القولين، سواءٌ أخرجاه أو أحدهما أو غيرهما، ثم حَكَى الإِمام طريقين. أظهُرهما: وبه قال الشيخ أبو محمد والأئمة: أن القولين فيمن التزم المال، فأما من لا يغرم شيئاً وقد يغنم، فالعقد جائز في حقه، بلا خلاف؛ إذ لا يستحق عليه شيء، وقد يكون العقد جائزاً من جانب دون جانب؛ كالرهن والكتابة. والثاني: طرد القولين فيمن لا يغرم شيئاً، وكأن باذل المال أراد أن يستفيد من عمل صاحبه في الركْض والرمي، فهو كالمستأجر، وصاحبه كالآجير له، ونَظْم الكتاب يُشْعِر بترجيح هذا الطريق، التفريع: إن قلنا بالجواز، فلكل واحد منهما أن يجلِسَ، ويتركَ العمل قبل الشرع فيه، وكذلك بعد الشروع، إن لم يكن لأحدهما فَضْلٌ على الآخر، فإن كان، فوجهان: أصحُّهُما: أن الجواب كذلك؛ لجواز العقد. والثاني: المنع (¬1)، وإلا، أفْضَى الأمر إلى ألا يسبق أحدٌ أحداً، فإنه يُعْرِض إذا أحس بغلبة صاحبه، ويجوز الزيادة والنقصان في العمل وفي المال بالتراضي، وذكر الإِمامُ تفريعاً على هذا القول؛ بأنه، إذا بذل أحدُهُما المالَ، لا يُشْترط من صاحبه القبولُ بالقول، وفيه وجه ضعيف، وأن الأصحاب أجروا هذا الخلاف في الجَعالة المعلَّقة لمعيَّن، وهو أن يقول لمعين: إن رددت عبدي، فلك كذا، وفي ضمان السبق قبل تمام العمل والرهن به الخلاف الذي سبق في ضمان الجُعْل والرهن به قبل تمام العمل وقد ترتب الرَّهْن على الضمان، فيُقَال: إن لم يصح الضمان، لم يصحَّ الرَّهْن، وإن صح الضمان، ففي الرَّهْن وجهان؛ لأن الضمان أوسعُ باباً في الرَّهْن,. ولذلك يجوز ضمان الدَّرَك، ولا يجوز الرَّهْن به، ويخرج من هذا الترتيب ثلاثةُ أوجه: ثالثُها: أنه يصح ضمانه، ولا يصح الرَّهْن به، وإن فرَّعنا على اللزوم، فليس لأحدهما فسخ العقد دون الآخر، نعم، إن بان بالعوض المعيَّن عيب، يثبت حق ¬
الفسخ، وليس لأحدهما أن يجلس ويترك العمل، إن كان مفضولاً، وكذا إن كان له فضلٌ، واحتمل الحال أن يدركه، فيسبقه، وإلا، فله الترك، فإنه يترك حق نفسه، ولا يجوز لهما الزيادة في العمل والمال ولا النقصان إلا أن يفسخا العقد الأول ويستأنفا. آخر: وإذا سبق أحدهما، فلا بدّ من قبول الآخر بالقول، ولا يكلف المسبق البداءة بتسليم المال بخلاف الأجرة تُسَلَّم إلى المكْري بالعقد المطْلَق؛ لأن الأمر في المسابقة مبنيٌّ على الخطر، فيبدأ فيه بالعمل، ويجوز ضمان السبق والرهن به قبل العمل على هذا القول، وعن القفَّال، أنه احتج بوجوب البداية بتسليم العمل على أن المال لا يُسْتحقُّ إلا بالعمل، وحينئذٍ ضمان يخرَّج ضمان ما لم يجب وجرى سبب وجوبه، قال: وضمان هذا أبعدُ من ضمان نفقة الغد، فإن الظاهر استمرار النكاح والطاعة، وسبْقُ من شرط له السبق أمرٌ مغيَّب، والظاهر الأول، ورأى الإِمام اللائق بلزوم المعاملة أن يقول: الاستحقاق موقوفٌ مراعى فإذا سبق، تبينا الاستحقاق بالعقد، وبعد الفراغ من العمل، يجوز ضمان السبق والرهن به على القولَيْن، وإن كان السبق عينًا، وجب على المُسْبَق تسليمها، فإن امتنع، أجبره الحاكم وحسه فيه، ولو تلفت في يده بعد المطالبة، والتقصيرُ منه يلزمه الضمان، وإن تلفت في مدة قبل العمل، انفسخ العقد، ولو عاقه مرض ونحوه، لم يَبْطُل العقد، بل ينتظر زواله. فرع: أورده الصيدلانيّ وغيرُه: أنه لو اشترى منه ثوباً، وعاقد عقد السبق بعشرة، فإن جعلنا المسابقة لازمةً، فهو كما لو جمع في صفقة واحدة بين بيع وإجارة، وفيه قولان، وإن جعلناها جائزة، لم يجز؛ لأن الجمع بين الجعالة لا يلزم، وبَيْعٌ يلزم في صفقة واحدةٍ لا يمكن. القاعدة الثانية: إذا فسدت المسابقة، وركَضَ المتسابقان على فسادها، وسبق الذي لو صحَّت المسابقة، لاستحق بالسبق المشروط، فهل يستحق شيئاً فيه وجهان: أحدهُما: وهو اختيار أبي إسحاق وابن القاصِّ: أنه لا يستحق شيئاً على باذل المال؛ لأنه لم يعمل له شيئاً وفائدة عمله ترجع إليه بخلاف ما إذا عمل في الإِجارة أو الجعالة الفاسدتين، ترجع فائدة العمل إلى المستأجر والجاعل. وأصحهما: وبه قال أبو الطيب بن سلمة، واختاره الشيخ أبو محمد والقفَّال: أنه يستَحِقُّ؛ لأن المنفعَة التي يُسْتحقُّ بها المسمى في العقد الصحيح لا تَعْزَى عن العوض عند الفساد، كما في الإِجارة والقراض وغيرهِما، والعملُ قد لا ينفع في القراض، ومع ذلك يكونُ مضموناً فعلى هذا، إن كان الفساد كخلل في السبق، وتعذر وتقويمه؛ مثل أن يكونَ خمراً أو مجهولاً، فالرجوع إلى أجرة المثل لا غير، ولا ينظر إلى القدر الذي سبق به، بل يعتبر جميع ركضه؛ لأنه سبق بمجموع عمله لا بذلك القدر، وإن كان لا
يتعذَّر تقويمه، فإن كان مغصوباً أو كان الفساد لمعنًى في غير السبق كتفاوت الموقف أو الغاية، فطريقان، حكاهما الإِمامُ وصاحبُ الكتاب: أحدهما: أنَّ فيه قولين: أحدهما: الرجوع إلى قيمة السبق. والثاني: الرجوع إلى أجرة المثل تخريجاً من القولين في الصداق وبدل الخُلْع، إذا فسدا، ففي أحدهما يرجع إلى القيمة، وفي الثاني يرجع إلى مهر المثل، ووجْه الشبه أن السبق ليْس على حقائق الأعواض، فإن معظم فائدة العمل للعامل كما أن الصداق وبذل الخلع ليسا على حقائق الأعواض. والثاني: القطع بالرجوع إلى أجرة المثل، والفرق أن النكاح والخلع لا يفسدان بفساد العوض، فرأيُ الشافعيِّ -رضي الله عنه- في قول الرجوع إلى قيمة المذكور أولَى، والمسابقة تَفْسُد بفساد العوض، وتكون المنفعة مستوفاةً على الفساد، فيتعين الرجوع إلى أجرة المثل، والظاهر الرجوع إلى أجرة المثل، وإن ثبت الخلاف وهو الذي أورده أكثرهُم، وكيف يعتبر أجرة المثل؟ عن أبي الطيب (¬1) أنه قال: أنظر إلى الزمان الذي استقل بالرمي فيه، كم قدره، فأعطيه أجرة المَثل، قال القاضي ابن كج: وبناؤه على ما يقوله في الحر، إذا عضب على نفسه، أنه يستحق أجرة مثل تلك المدة، ويُحْكَى عن أبي إسحاق (¬2) أنه يجب ما يجري في المسابقة في مثله في مثل تلْك المسابقة في عرف الناس غالباً، وهذا أقرب مع أنه يمكن أن يُقال: ليس للناس في هذا عرفٌ غالبٌ يرجع إليه. وقوله في الكتاب "ولازمة في قول" معلم بالحاء والألف. وقوله: "لا يشترط القبول بالقول" بالواو. وليعلَم أيضاً قوله: "يجب البداية بالعمل" بالواو؛ لأن الإِمامَ حَكَى عن بعض التصانيف وجهاً ضعيفاً: أنا إذا قضينا بلزوم المسابقة، يجب تسليم السبق أولاً: قياساً على تسليم الأجرة في الإِجارة. وقوله: "ويجوز ضمانه والرهن به" معلَمٌ أيضًا؛ لما مرَّ من تخريجه على ضمان ما جرى سَبَبُ وجوبه ولم يجب، وكذا قوله: "رجع إلى أجرةِ مثلِ عَمَلِهِ" للوجه الذاهب إلى أنه لا يجب شيء. ¬
الباب الثاني في الرمي
الْبَابُ الثَّانِي فِي الرَّمْي قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالنَّظَرُ فِي الشُّرُوطِ وَالحُكْمِ أَمَّا الشُّرُوطُ فَسِتَّةٌ: الأَوَّلُ المُحَلِّلُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَوْ كَانُوا حَرْبيَّينَ وَلَيْسَ فِي جُمْلَتِهِم إِلاَّ شَخْصٌ وَاحِدٌ شَرَطَ أَنْ يَغْنَمَ وَلاَ يَغْرَمَ فَهَلْ يَكْفِي ذَلِكَ مَعَ أنَّهُ إِنَّمَا يَغْنَمُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ دُونَ جَمِيعِ المَالِ؟ فَفِيهِ وَجْهَانِ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ المُحَلِّلَ يُحَلِّلُ لِغَيْرِهِ لأنَّهُ لَيْسَ يَغْنَمُ جَمِيعَ المَالِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: كما أن الكلام في "المسابقة" مرتَّب في نظرين: أحدِهِما في الشروط، والآخَرِ في الأحكام، كذا الحال في "المناضلة". أما الشروط، فإنه عدّها ستةً: أحدها: المحلِّل، والمال في المناضلة على نحو ما تقدَّم في المسابقة، إما أن يخرجه غير المتناضلين أو أحدهما أو كلاهما، وصورة القسم الأول؛ أن يقول الإِمام أو أجنبي ارْمِيَا عَشَرَةَ أرشاقٍ، فمن أصاب منها كذا، فله كذا. وصورة القسم الثاني؛ أن يقول أحدهما: ترمي كذا، فإن أصبت بها كذا، ذلك عليَّ كذا، وإن أصبتُهما، فلا شيء لي عليك. وصورة القسم الثالث؛ أن يشترط كل واحد منهما المالَ على الآخر، إن أصاب، وهذا لا يجوز إلا بمحلِّل يدخل بينهما، كما مر. وكما تجوز المناضلة بين اثنين، تجوز بين حِزْبَيْن على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى- وحينئذٍ، فكل حزب كشخص واحد، فإن أخرج المال غير الحزبين أو أحد الحزبين دون الآخر جاز، وإن أخرجه كل واحد منهما، فلا بد من محلِّل أو من حزب محللين، ولو أخرج الحزبان المال، وشرطوا لواحد من أحد الحزبين أنه إن كان الفوز لحزبه شاركهم في أخذ المال، وإن كان الفوز للحزب الآخر، فلا شيء له على ذلك الواحد، إنما يغرم أصحابه، ففيه وجهان: أحدُهُمَا: أنه يجوز، ويكفي ذلك الشخْصُ مُحَلِّلاً. وأصحُّهما: على ما ذكره الإِمام: المنعُ؛ لأن المحلِّل هو الذي إذا فاز استبد بالمال، وهاهنا لا يستبد، بل يوزع المال عليه، وعلى أصحابه لو فازوا. ولو اشتمل كل حزب على محلل على الصورة المذكورة، قال الإِمام: فيه وجهان مرتَّبان على هذه الصورة، أقرب إلى الصحة؛ لاشتمال كل حزب على محلِّل، والوجه المنع، فإن المحلِّل مَنْ يفوز بالأسباق، ولو شرط كل حزب كل المال لمحللهم، فهذا ممتنع على وجه؛ لأنه يكون فائزاً في غيره ولا سبيل إلى احتمال هذا. وقوله في الكتاب "وإن قلنا: إن المُحلِّل يحلِّل لغيره" الذي ينبغي أن يفهم منه أن الوجهين يجريان، سواءٌ قلنا: إن المحلِّل يحلِّل لغيره أو قلْنا: إنه لا يحلل إلا لنفسه، أما على التقدير الثاني، ففي حِلِّ حصته له الوجهان، وأما على التقدير الأول، ففيه وفي
الحل لغيره الوجهان، ولفظه في "الوسيط" أن هذا الواحد يحلِّل لنفسه، وهل يحلل لغيره فيه الخلاف، وأولَى بالمنع؛ لأن المحلِّل من يستحق الجميع، وهذا لا يستحق إلا البعض، وإيراد الكتاب أوفَى لما نقله الإِمام. وقوله: "لأنه ليس يغنم جميع المال" كالتكرير والإِيضاح لما سبق، وإلا ففي قوله قبله "مع أنه إنما يغنم بقَدْر حصته دون جميع المال" ما يغني عنه، واللهُ أعْلَمُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّانِي: اتِّحَادُ الجِنْسِ وَتَعْيِينُهُ فَلَوْ عَيْنَ جِنْسَيْنِ كَالمِزْرَاقِ وَالرَّمْيِ فَفِيهِ وَجْهَانِ كَالإِبِلِ وَالفَرَسِ وَهَذَا بِالجَوَازِ أَوْلَى لأَنَّ الآلَةَ هَهُنَا لاَ عَمَلَ لَهَا، وَأَمَّا الاخْتِلاَفُ فِي أَنوَاعِ القِسِيِّ فَلاَ يُؤَثِّرُ لَكِنْ لَوْ عُيِّنَ لَمْ يُبَدِّلِ القَوْسِ العَرَبِيُّ بِالفَارِسيِّ؛ لأَنَّ الفَارِسِيِّ أَجْوَدَ، وَلَوْ أُبْدِلَ الفَارِسِيُّ بِالعَرَبِيِّ فَوَجْهَانِ، وَيَجُوزُ تَبْدِيلُ القَوْسِ بِمِثْلِهِ بِخِلاَفِ الفَرَسِ، وَلَوْ شُرَطَ أَلاَّ يُبْدَلَ فَفِي صِحَّةِ الشَّرْطِ وَجْهَانِ، وَإن أَفْسَدْنَا فَفِي فَسَادِ العَقْدِ وَجْهَانِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَرْطٍ فَاسِدٍ يُسْتَغْنَى عَنْ جِنْسِهِ، فَإِنْ صَحَّحْنَا جَازَ الإبْدَالُ إِذَا انْكَسَرَ، فَإِنْ شُرَطَ أَلاَّ يُبْدَلَ فَإِنِ انْكَسَرَ فَهَذَا يُفْسِدُ العَقْدَ، أَمَّا إِذَا أَطْلِقَ وَلَمْ يُعَيَّنِ جِنْسُ مَا فِيهِ الرَّمْيُ نَزَلَ عَلَى الأَغْلَبِ فِي العَادَةِ، فإنِ اخْتَلَفَتِ العَادَةُ فَسَدَ فِي وَجْهٍ، وَعَلَى وَجْهٍ إنْ تَطَابَقَا عَلَى شَيْء تَّمَّ وإلاَّ فَسَدَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا اختلف جنس ما يُرْمَى به؛ كالسهام مع المزاريق فالجواب؛ إن جوَّزنا المناضلة عليها، ففيه وجهان كالوجهين في المسابقة على الإِبل والفرس، وهذه الصورة أولَى بالجواز؛ لأن التعويلَ في المسابقة على الفَرَسِ، وأنه يعمل ويعدو باختياره، والتعويلَ في الرمي على الرامي، ولا عمل إلا له ولا اختيار للآلة، مع هذا، فالجواب في "المهذب": المنع، وأما اختلاف أنواع القِسِيِّ في السهام، فإنه لا يضر، وذلك كالقسي العربية مع الفارسية والدورانية، وتُنسب إلى دوران، قبيلة من بني أسد، مع الهندية، وكالنبل، وهو ما يرمى عن القوس العربية مع النُّشَّاب، وهو ما يرمى عن الفارسية، ومن أنواع القسي الحسبان وهو قوس تجمع سهامه الصغار في قصبة، ويرمى بها، فيتفرق على، الناس ويعظم أثرها ونكايتها، وهذا؛ لأنا قد ذكرنا أن اختلاف نوع الإِبل والفرس لا يضرُّ فاختلافُ النوع في آلات الرمْي أولى بذلك، وعن رواية صاحبِ "التقريب" وجه: أنه لا تجوز (¬1) المناضلة على النبل والنُّشَّاب، وأنهما ينزلان منزلة الخيل، والبغال، وإلى هذا مال القاضي ابنُ كج. ¬
إذا عرف ذلك، فإن تعرضا في عقد المناضلة للنوع وبينا نوعاً واحداً من الطرفين، أو من أحد الطرفين، وفَّيَا به، ولا يجوز العدول عن النوع المعين إلى ما هو أجود منه، كما إذ اعينا الفارسية، ففي إبدالها بالعربية وجهان: أحدهُما: الجواز؛ لأنه انتقالٌ من الأجود إلى ما دونه، وليس فيه إجحافٌ بالآخر. وأظهرهما: المنعُ، إلا برضا الشريك؛ لأنه ربما كان استعماله لأحد النوعين أكثرَ، ورميه به أجودَ، ولو عينا سهماً أو قوساً من نوع، لم يتعيَّن وجاز إبداله بمثله من ذلك النوع، سواء حدث فيه خلل يمنع من استعماله أو لم يحْدُث، بخلاف الفرس؛ لا يبدل بغيره؛ على ما سبق، فلو شرطا ألاَّ يبدل، فوجهان: أظهَرُهُما: أن هذا الشرط فاسدٌ؛ لأن الرامي قد تَعْرض له أحوال خفية تحوجه إلى الإِبدال، وفي منعه منه تضييقٌ لا فائدة فيه، فأشبه تعيين المكيال في السَّلَم. والثاني: أنه صحيح؛ لأنه لا يتعلق غرض بذلك المعين، وتفاوت القوس الشديدة واللينة يقرب من تفاوت العربية والعجمية، فإن أفسدنا هذا الشرط، ففي إفساد العقد وجهان عن صاحب "التقريب". أحدُهُمَا: إذا فسد جُعِل لغواً، وقدَّر كأنه لم يَجُزْ. وأظهرُهما: أنه يفسد، وطرد الوجهان في كل ما لو طرح من أصله لا يستقل العقد بإطلاقه، فأما ما لو طرح لم يستقل العقد بإطلاقه، فإذا فَسَدَ، فَسَد العقد بلا خلاف، وذلك مثل ألاَّ يذكر في المسابقة الغاية، وفي المناضلة القرعات، وإن صحَّحنا هذا الشرط، فيجب الوفاء به، ما لم ينكسر المعين وأمكن استعماله، وإذا انكسر جاز الإِبدال للضرورة، وإن شرط أَلاَّ، يبدل، وإن انكسر، فلا تحتمل هذه المبالغة، ويُحْكَم بفساد العقد، ولو أطلقا المناضلة، ولم يتعرضا لنوع ولا عينا فرداً من نوع، فقد أطلق مطلقون وجهين في صحة العقد. عن ابن القاصِّ: أنه لا يصح؛ لأن الأغراض تتفاوت، والإِصابة بالأنواع والحَذَق في استعمالها يختلف، فلا بُدَّ من البيان، والأظهر وجواب الأكثر: الصحةُ، وقد يوجه بما تكرَّر أن الاعتماد في المناضلة على الرامي، وفي "الحاوي" وعليه جرى الإِمام وصاحب الكتاب: أن الوجهين فيما إذا كانوا يترامَوْن في الناحية بأنواع مختلفة لا غالب فيها، وأما إذا غلب نوع، فالعقد المطلَقُ ينزل عليه، كما ينزل الدراهم المطلقة على النقد الغالب، وكموضع النزول في الإِجارة وغيرها، وإذا قلْنا بالصحة، فليتراضيا على شيء، ثم قيل: ينبغي أن يتراضيا على نوع واحد؛ لأن العقد مبنيٌّ على التساوي، وفي
"التهذيب" ما يدل على أنهما، لو تراضيا على نوع من جانب، ونوع آخر من الجانب الآخر، يجوز أيضاً، وهذا هو قياس الابتداء، ولو اختار أحدهما نوعاً، وقال الآخر: بل ترمي نوعاً آخر، فالحكاية عن "الحاوي": أنهما، إن أصرَّا على هذا التنازع يفسخ العقد، وفي "الوسيط": بناء الأمر على أن عقد المناضلة جائزٌ أم لازم؟ إن قلنا: جائز، فهو رجوع، وإن قلنا: لازمٌ، فقد تعذَّر إمضاء العقد، فيفسخ، ولم يذكره الإِمام هكذا، ولكن قال: إن حكمنا بالجواز وتمانعا، فُسِخَ العقد، وإن حكمنا باللزوم، فالوجه أن نحكم بان الإِطلاق مفْسِد؛ لإِفضائه إلى التنازع المذكور وتعذر الفصل، وقضية القول بأنه رجوع ارتفاع العقد بالتنازع، وقضيةُ القولِ بالفَسْخُ بقاؤُهُ مع التنازع إلى أن يُفْسَخ، فيخرج من هذا وجهان؛ إذا فَرَّعْنا على الصحَّة وتنازعا في التعيين. وقوله في الكتاب "اتحاد الجنس وتعيينه" من باب ما يطلق من التراجم في المذهب إلى أن يتبين الخلاف آخرًا، وقد تبين في الآخر الخلافُ في استرداد اتحاد الجِنس، وكذا الخلاف في أنه، يشترط التعرّض للجنس أو يجوز الإِطلاق؛ ويمكن أن يُعلَّم قولُه "فلا يؤثر" بالواو؛ للخلاف المذكور في "النُّشَّاب والنبل". وكذا قوله "نَزَلَ على الأغلب" لإِطلاق من أطلق الوجهين، ولم يفرق بين أن يكون هناك غالب أو لا يكون، وقوله "وإلا فسد" يجوز أن يريد ارتفاعه، كما هو قضية إيراد "الوسيط"، ويجوز أن يريد أنه يرتفع، كما هو قضية كلام الإِمام، ويجوز إعلامه بالواو؛ للوجه المخالف لما أراد. فَرْعٌ: قال الإِمامُ اختلاف السهام، وإن اتحد نوع القوس، كاختلاف نوع الفرس، وبيانُه أن الرمي بنبال الحسبان التي يُقال لها: الناول إنما يكون بالقوس الفارسية، لكنها مع الآلة المتصلة بها كنوع آخر من القوس وكذا قوس الجرح مع قوس اليد والجرح والناول مختلفان. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّالثُ: أَنْ تَكُونَ الإِصَابَةُ المَشْرُوطَةُ مُمْكِنَةٌ لاَ مُمْتَنِعَةً وَلاَ وَاجِبَةً، وَالمُمْتَنِعُ إِصَابَةُ مِائَةٍ عَلَى التَّوَالِي وَهَذَا فَاسِدُ، وَالوَاجِبُ إصَابَةُ الحَاذِقِ وَاحِداً مِنْ مِائَةٍ، وَهَذَا يَصِحُّ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَفَائِدَتُهُ التَّعَلُّمُ، وَأمَّا المُمْكِنُ عَلَى نُدُورٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلٌ عُلِمَ قَطْعاً أَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَإِنْ عُلِمَ قَطْعاً أَنَّ المُحَلِّلَ يَفُوزُ فَعَلَى الوَجْهَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المناضلة على شرط إصابة تقرب وتتوقع صحيحةٌ، وإن شرط ما هو ممتنع في العادة، فالعقد فاسدٌ؛ لأنه لا يقضي إلى مقصوده؛ لأن المقصود من بذل المال الحثُّ على الرماة طمعاً في المال، والممتنع لا يُسْعَى فيه، والامتناع تارة يكون
لغاية صِغَر الغرض، وأخرى لغاية بُعْد المسافة، وأخرى لكثرة الإِصابة المشروطة، كاشتراط الإِصابة من مائة رَشَق على التوالي، وفي "المهذَّب" و"التهذيب": وجهٌ أنه لو شرط إصابة عشرة من عشرة، يصح العقد، فيجوز أن يُعْلم لذلك قولُه في الكتاب "وهذا فاسد". وإن شرط ما هو واجب في العادة كإصابة الحاذق واحداً من مائة، ففي صحة العقد وجهان: أحدهما: المَنْعُ؛ لأن هذه المعاملة ينبغي أن يكون فيها خطر؛ ليسعى العاقد ويتأنقَّ في الرمي بمشاهدة رمْيهِ. وإن كان المشروط قد سبق حصوله، لكنَّه نادر، فوجهان، ويُقال قولان: أحدهما: يَصِحُّ العقد؛ لإِمكان تحصيل المقصود، ولأن حَذَقَ الرامِي يظهر به. وأقواهما: الفساد؛ ووجّه بأن الشرع، إنما يسوغ بذل المال في هذه المعاملة تحريضاً على الرمي، فهذا كان المشروط بعيد الحصُول، تبرمت النفوس به، ويجري هذا الخلاف في كل صورة تندر فيها الإِصابة المشروطة، ومنها التناضل إلى مسافة تندُرُ فيها الإِصابة، والتناضل في الليلة المظلمة، وإن كان الغرض قد يتراءى لهما، ويقرب هذا الخلاف من الخلاف فيما إذا نوى الإِمام الإِقامةَ في موضع من المفازة، ليس (¬1) هو موضع للإِقامة هل يصير مقيماً؟ ويقرب من هذه الاختلافاتِ ما ذكر الأئمة؛ أن المناضلَيْنِ ينبغي أن يكونا متقاربَيْن؛ بحيث يحتمل أن يكون كلُّ واحد منهما ناضلاً ومنضولاُ، فإن تفاوتا، وكان أحدهما مُصِيباً في أكثر ما يرمي، والآخر مخطئاً في أكثر ما يرمي، فوجهان؛ ظاهر قول أبي إسحاق: المنع؛ لأن حَذَق الناضل معلومٌ بغير نضال، فأخذه المال كأخذه بلا نضال، ويتعلق بهذا الشرط أن المحلِّل الذي يدخله المتناضلان بينهما ينبغي أن يكُونَ بحيث يُتوقَّع، فوزه وقُصُوره، فإن علم أنه لا يفوز، لم يصلح محللاً، وكان وجوده كعدمه، وإن كان يُعلم بأنه يفوز، فعلى الوجهين المذكورين في إصابة واحد من مائة، وفيما إذا التزم أحد المتسابقين المال، والآخرُ بحيث لا يفوز. قَالَ الغَزَالِيُّ: الرَّابِعُ: الإِعْلاَمُ: وَيَجِبُ إِعْلاَمُ مِقْدَارِ المَالِ وَعَدَدِ الإِصَابَةِ، وَأَمَّا المَسَافَةُ بَيْنَ المَوْقِفِ وَالهَدَفِ وَعَرْضُ الهَدَفِ وَقَدْرُ ارْتِفَاعِهِ مِنَ الأَرْضِ فَفِي اشْتِرَاطِ إِعْلاَمِهِ قَوْلاَنِ، فَفِي قَوْلٍ: يَجِبُ، وَفِي قَوْلٍ: يَنْزِلُ عَلَى العَادَةِ، أَمَّا عَدَدُ الأَرْشَاقَ وَهُوَ نَوْبَةُ الرَّمْيِ فَيَجِبُ ذِكرُهُ في المُحَاطَّةِ، وَهِيَ أنْ يُشْتَرَطَ خُلُوصُ عَشْرِ إِصَابَاتِ مِنْ مِائَةٍ أَوْ ¬
خَمْسِينَ مَثَلاً، أَمَّا فِي المُبَادَرةَ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ المَالُ شَرْطَاً لِمَنْ سَبَقَ إِلَى عَشَرَةٍ فَفِي اشْتِرَاطِ ذِكْرِ عَدَدِ الأَرْشَاقِ قَوْلاَنِ، وَكَذَلِكَ فِي تَعْيينِ مَنْ لَهُ البِدَايَةُ فِي الرَّمْي قَوْلانِ أحدُهُمَا: أنَّهُ إِنْ لَمْ يُذْكَرْ فَسَدَ وَهُوَ القِيَاسُ وَالثَّانِي: أَنَّ البِدَايَةَ للِمَسْبُوقِ وَهُوَ العَادَةُ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: يُقْرَعُ ثُمَّ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ القُرْعَةَ هَلْ لَهُ البِدَايَةُ فِي كُلِّ يراجع رَشَقٍ أَمْ يَخُتَصُّ حُكْمُهَا بِالنَّوُبَةِ الأُوْلَى فِيهِ وَجْهَانِ فَرْعٌ: فِي صِحَّة العَقْدِ عَلَى التَّرْتَابِ وَمَقْصُودِ الإِبْعَادِ دُونَ الإِصَابَةِ وَجْهَانِ وَالأَصَحُّ الجَوَازُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يُشترطِ في المناضلة العلم بأمور يختلف الغرض باختلافها. منها: المال المشروط؛ على ما ذكرنا في المسابقة. ومنها: عدد الإِصابة كخَمْسٍ من عشرين؛ لأن الاستحقاق بالإِصابة وبها يتبين حَذَقِ الرامي وجودة رميه ولْيُبَيِّنَا، صفة الإِصابة من الفَرْع؛ وهو الإِصابة المجرَّدة والخَزْق؛ وهو أن يثقب الغرض ولا يثبت فيه، والخَسْق؛ وهو أن يثبت فيه، والخَرْم؛ وهو أن يصيب طرف الغرض فيخرمه، والمَرّق؛ وهو أن يثقب ويخرج من الجانب الآخر، وكتب كثير من الأصحاب، منهم العراقيون مصرَّحةً بأنه لا بدّ من ذكر ما يريد أن من هذه الصفات، سوى الخَرْم والمَرْق، فإنهم لم يشترطوا التعرض لهما، والأصح ما في "التهذيب": وهو أنه لا يُشترط التعرض لشيء منها؛ كالخَرْم والمَرْق، وإصابة أعلى المعرض وأسفله، وذكر أنهما، إذا أطلقا العقْدَ، يُحْمل على القَرْع، فإنه المتعارف، وأحسن من هذه العبارة أن يقال: حقيقة اللفظ ما يشترك فيه جميع ذلك. ومنها: حكَى الإِمام قولين؛ في أنه، هل يجب إعلام المسافة التي يرميان فيها؟. أحدهُما: وإليه ميل الشيخ أبي محمد: أنه يجب؛ لأن الأغراض تختلف باختلاف المسافة طولاً وقِصراً وفي، الإِعلام ما يبين الحال، ويرفع المنازعة، والإِعلام، إما بذكْر الذرعان أو بالمشاهدة. والثاني: أنهما تنزل على العادة الغالبة للرماة في ذلك الموضع، كالمَعَالِيقِ في استئجار الدابة، وكمواضع النزول في الطريق، والقولان متفقان على أنه، إن لم يكن هناك عادةُ غالبة، يجب الإِعلام، وليحمل على هذه الحالة ما أطلقه الأكثرون في اشتراط إعلام المسافة، وليُرَجَّع من القولين التنزيل على العادة الغالبة؛ لأن الذي لا بدّ منه العلْم بها، وذلك تارة يكون بالإِعلام والمشاهدة، وأخرى بقرينة الحال، كما في النظائر، هذا ما أورده القاضي ابنُ كَجٍّ، وفي "المهذب" و"التهذيب": أنه، إذا كان هناك غرضٌ معلومُ المدى، يحمل مطلق العقد عليه، وإن ذكرا غاية لا يصيبها السهم بَطَلَ العقد، وإن كانت الإِصابة فيها نادرة، ففيه الوجهان أو القولان في الشروط النادرة،
وقدر الأصحاب المسافة التي تقرب بموضع الإِصابة فيها بمائتين وخمسين ذراعاً، وقد رُوِيَ عن بعض أصحاب النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قِيل لَهُ: كَيْفَ كنْتُمْ تُقَاتِلُونَ العَدُوَّ؟ فَقَالَ: "إِذَا كَانُوا مِائَتَينِ وَخَمْسِينَ ذِرَاعاً، قَاتَلْنَاهُم بالنَّبْل، وإِذَا كَانُوا عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، قَاتَلْنَاهُمْ بالحِجَارة، وَإِذَا كَانُوا عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، قَاتَلْنَاهُم بالسُّيُوفِ (¬1) وقدروا المسافة التي يتعذر فيها الإصابة بما زاد على ثلثمائة وخمسين، ورووا أنه لم يرم إلى أربعمائة إلا عُقْبة بن عامرَ الجهنيُّ (¬2)، وجعلوا ما بين المقدارين في حدِّ النادر، وعن رواية القاضي الطبري وجه آخر: أنه لا يجوز الزيادة على مائتي ذراع، ولو تناضلا على أن يكونَ السبقُ لأَبْعَدِهِمَا رمياً، ولم يقصدا غرضاً، ففي صحته وجهان: أحدُهُما: المنع؛ لما يتطرق إليه من الجهالة؛ ولأن الإِصابة هي المقصودة. وأصحهما: الصِّحَّة لأن الإِبعاد مقصود أيضاً في مقاتلة مَن بَعُدَ من العدو، وفي إيقاع السهم في القلاع والرعب في العدُوِّ، ويمتحن به شدة الساعد أيضاً، قال الإِمام: والذي أراه على هذا، أنه يجب استواء القوسين في الشدة، ويُراعَى خفة السهم ورزانته؛ فإنهما يؤثران في القرب والبعد تاثيراً عظيماً. ومنها: إعلام قدْر الغرض طولاً وعرضاً، والكلام فيه على ما ذكرنا في المسافة. ومنها: ارتفاعه عن الأرض وانخفاضه، وهل يشترط بيانه أوْ لا يُشترط، ويحمل على الوسط فيه مثل الخلاف الذي سبق. وقوله في الكتاب "بين الموقفِ والهدفِ وعرْضُ الهَدَفِ وقَدْرُ ارتفاع الهدف من الأرض" موضع الهدف موضعُ الغرضِ في هذه الصورة، وقد ينتقل ذلك، ولكن الأشهر أن الهدف هو الترابُ الذي يجتمع أو الحائط الذي يُبْنَى؛ لينصب فيه الغرض، والغرض قد يكون من خشب، وقد يكون من قِرْطاس أو جلد، أو شَنٍّ وهو الجلد البالي يدور عليه شَنْبَرٌ، ويُقال للشنبر: الجريدُ، وذكر بعضهم أن ما ينصب في الهدف يقال: له القِرطاس، وسواءٌ كان من كَاغِدٍ أو غيره، وما يُعلَّق في الهواء، فهو الغرض، والرقعة عظم، ونحوه في وسط الغرض، وقد يجعل في الشنِّ نَقْش كالقمر قبل استكماله، يُقال ¬
له الدارة، وفي وسطها نقش يقال له: الخاتم، ويَنْبَغِي أن يبينا موضع الإِصابة، أهو الهدف أو الغرض المنصوب في الهدف أو الشنُّ في الغرض أو الدَّارة في الشن أو الخاتَمُ في الدَّارة؟ وقد يُقال له: الحلقة والرقعة، وفي شرط إصابته الخلافُ المذكور في شرط الإِصابات النادرة، وقد يَجْعَلُ العرب مكان الهدف ترساً، ويعلَّق وفيه الشن. ومنها: عدد الأرشاق، وتقدَّم عليه أن الأرشاق جمْع رشَق؛ وهو النوبة من الرمي يجري بين المترامِيَيْنِ سهماً سهماً أو خمسةً خمسةً، أو ما يتفقان عليه، ويجوز أن يتفقا على أن يرمَى أحدُهما جميع العدد، ثم الآخرُ، كذلك، والخلاف محمول على رَمْيِ سهمٍ سهمٍ، والرَّشْق هو الرمي نفْسُه والمحاطَّة؛ هي أن يشترط الاستحقاق، ولمن خلُص له مَن الإِصابة عدد معلوم بعدد مقابلة إصابات أحدهما بإصابات الآخر، وطرح ما يشتركان فيه، فإذا شرطا عشرين رشقاً وخلوص خمس إصابات، فرَميَا عشرين، وأصاب أحدهما عشرة، والآخر خمسة، فالأول ناضل، وإن أصاب كل واحد منهما خمسةً أو عشرةً، فلا ناضِلَ منهما، والمبادرة وهي أن يُشترط الاستحقاق لمن بدر إلى إصابة خمسة من عشرين، فهذا رميا عشرين، وأصاب أحدهما خمسة فالأول ناضِلٌ، ولو رمى أحدهما عشرين، وأصاب خمسة (¬1) والآخر تسعةَ عَشَرَ، وأصاب أربعةً، فالأول ليس بفائز، بل يرمي الثاني سهماً، فإن أصاب، فقد استويا، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- نظيرُهُ في الكتاب، وبهذا تبين أن الاستحقاق غَيْرُ منوط بمجرد المبادرة إلى العدد المذكور، ولفظ الكتاب، وإن كان مطلقاً، فيحتاج إلى تقييد، وتبين من بعد ما تقيد به، وهل يُشترط التعرُّض في العقد للمحاطَّة والمبادرة؟ فيه وجهان: أحدهُما: نعم، ويفسُد العقد إذا تركاه؛ لتفاوت الأغراض، فإنَّ من الرماة من تَكْثر إصابته في الابتداء، وتقل في الانتهاء، ومنهم مَنْ هو على عكس ذلك. وأصحهما: على ما ذكر صاحبُ "التهذيب": أنه لا يُشْترط، وإذا أطلقا حمل العقد على المبادرة، فإنها الغالب من المناضلة، وَالمسبق هو باذل المال، يُقال: سبق إذا أعطى السَّبق، وسَبَق أيضاً إذا أخَذُه، وتعدُّ اللفظة من الأضداد. إذا تقرَّر ذلك، فهل يشترط ذكر الأرشاق وبيان عددها في العَقْد؟ حَكَى الإِمام أن الأصحاب تردَّدوا فيه وحاصل، ما ذكروه ثلاثة أوجه، وقال في "الوسيط" فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يشترط ذلك في المحاطَّة والمبادرة جميعاً؛ ليكون للعمل ضبطُ الأَرشاق في المناضلة كالميدان في المسابقة. ¬
والثاني: لا يُشْترط؛ لأن الرمي لا يجري على نسَقٍ واحدٍ، فقد لا يستوفي الأرشاق؛ لحصول الفوز في خلالها، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- فليكن التعويل على الإِصابات. والثالث: أنه يشترط ذلك في المحاطَّة، ليفصل الأمر ويتبين نهاية العقد، ولا يُشْترط في المبادرة؛ لتعلُّق الاستحقاق بالبدار إلى العدد المشروط، وهو سهل المدرك، والأول هو الذي أورده عامة الأصحاب، ونفى نافون الخلاف فيه، فيجوز أن يعلم؛ لقطعهم قوله في الكتاب "قولان" بالواو ويجوز أن يعلم قوله "فيجب ذكره في المحاطَّة" بالواو (¬1)، أظهر. فُروع: أحدها: لو تناضلا على رمية واحدة، وشرطا المال للمصيب فيها، ففي صحته وجهان: أصحهما: الصحة، ووجه الآخر أنه يقع في الرمي اتفاقاً بدفعه، ويصيب الأخرق، ويخطئ الحاذق، ويتفق رميه من غير رامٍ، فلا يَظْهر الحَذَق إلا إذا كان المشروطُ رمَيَاتٍ. الثاني: إذا رمى أحدُهُما أكثر من النوبة المستحقة له، إما باتفاق منهما أو بإطلاق العقد، لم تحسب الزيادة له، إن أصاب فيها، ولا عليه إن أخطأ. الثالث: لو عقدا على عدد كبير على أن يرميا كلَّ قومٍ بُكْرَةَ كذا، وعشية كذا، جاز، ولا يتفرقان كلَّ يوم إلا بعد استيفاء العدد المشروط، إلا أن يعرض عذر؛ كمرض أو ريح، عاصفة ثم يرميان على ما مضى في ذلك اليوم أو بعده، ويجوز أن يشترطا الرمي طول النهار، وحينئذٍ فيفيان به ولا يدعان إلا في وقت الطهارة والصلاة والأكل ونحوها، وتقع هذه الأحوال مستثناة كما في "الإِجارات"، ولو أطلقا ولم يبينا وظيفة كل يوم، فكذلك الحكم، ولا يتركان الرْميَ، إلا بالتراضي، أو كان يَعْرِض ما يمنع منه؛ كالمرضِ والريحِ، والمطرِ، والحَرُّ ليس بعذر، وكذلك الريح الخفيفة، وإذا غربت الشمس قبل الفراغ من الوظيفة المشروطة في الليل، لم يرميا ليلاً للعادة إلا أن يشرطا الرمي ليلاً، وحينئذٍ فيحتاجان إلى شمعة ونحوها، وقد يكفي ضوء القمر، هكذا قاله الأصحاب. ومنها: لا بدّ وأن يرمَي المتناضلان على الترتيب بخلاف المتسابقين يُجْرِيان الفرس معاً؛ لأنهما، إذا رميا معاً، اشتبه الحال، ولم يُعْرف المُصِيب من المخطئ، فإن ذكرا في العقد من يبدأ بالرمْي، اتبع الشرط، وإن أطلقا، فقولان: ¬
أظهرهما: فساد العقد؛ لأن الأغراض تختلف بالبداية، والرماة يتنافسون فيها تنافساً ظاهراً من جهة المبتدئ بالرمي يجد الغرض نقياً لا خلل، فيه وهو على ابتداء النشاط، فتكون إصابته أقرب، وإذا كان كذلك تأثر العقد لإهماله. والثاني: أنه يصح، وكيف يمضي؟ فيه وجهان، ويُقَال قولان: أحدُهُما: أنه ينزل العقد على عادة الرماة، وهي تفويض الأمر إلى المسبق، فإن أخرج السبَقَ أحدُهُما، فهو أولَى بالبداية، وإن أخرجه غيرهما، قدَّم من شاء منهما، وإن أخرجاه جميعاً، حُكِّمَت القُرْعة. والثاني: أنه يُقْرع بينهما بكل حال، والقرعة مرجوع إليها في كثير من مواضع المنازعات، وعن القفَّال: أن القولين في الأصل مبنيان على أنا نتبع الفقه والقياس، أو نتبع عادة الرماة؟ ويَجْري مثل هذين القولين في صور من السبق والرمي، وهما متعلقان بالخلاف؛ في أن سبيل هذا العقد سبيل الإِجارة أو الجَعَالة؟ إن قلنا بالأول، اتَّبَعْنَا القياس، وإن قلنا بالثاني، جربنا على العادات والرسوم، وللإِمام اعتراضاتٌ على هذا البناء، لا نطول بذكرها؛ وليعلَم قوله في الكتاب "قولان" بالواو؛ لطريقتين أُخْرَيَيْنِ: إحداهما: القطع بالقرعة، وهذا ما اختاره القاضي الطبري، قال: وهو ظاهر نصه في "الأم". والثانية: القطْعُ بالفساد، ثم إذا شرطوا تقديم واحد أو اعتمدنا القرعة، فخرجت لواحد، فيقدم في كل رشق أو يؤثر سبب المتقدم في الرشق الأول خاصَّة؟ فيه وجهان، حكاهما الإِمامُ، وذكر أنهم، لو صرحوا بتقديم من قدموه في كل رشق أو أخرجا القرعة للتقديم في كل رَشَقٍ، فيتبع الشرط وقضية القرعة، ولك أن تقول: إذا ابتدأ المقدَّم في النوبة الأُولَى فينبغي أن يبتدئ الثاني في الثانية من غير قرعة، ثم يبتدئ الأول في الثالثة، ثم الثاني، وهذا لوجهين: أحدهما: أنهم نقلوا عن نصه -رضي الله عنه- في "الأم": أنه لو شرط أن تكُونَ البدايةُ لأحدهما أبداً، لم يجز؛ لأن المناضلة مبنية على التساوي. والثاني: أنه يُسْتحبُّ أن يكون الرمْيُ بين غرضين متقابلين، يرمي المتناضلان أو الجريان من عند أحدِهما إلى الآخر، ثم يأتيان الثاني، ويلتقطان السهام، ويرميان إلى الأول؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا بَيْنَ الهَدَفَيْن رَوْضَةٌ من رِيَاضِ الْجَنَّةِ" (¬1). ¬
وعن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "عَلِّمُوا أَوْلاَدَكُمُ الرَّمْيَ وَالْمَشْيَ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ" (¬1) وَيُرْوَى "الرمْي بَيْنَ غَرَضَيْنِ" (¬2) وعن عقبة بن عامر وابن عمر وأنس -رضي الله عنهم- ولأنهما، إذا فعلا ذلك، لا يحتاجان إلى الذهاب والرجوع، ولا تطول المُدَّة أيضاً، ثم نص الشافعيُّ والأصحابُ -رضي الله عنهم- على أنه، إذا بدأ أحدُهُمَا، إما بحكم الشرط أو بالقرعة أو بإخراج المال، فإذا انتهيا إلى الغرض الثاني، يبدأ الثاني بالرمي منه إلى الأول تحقيقاً للتسوية، وقضيةُ هذا أن يبدأ الثاني في النوبة الثانية، وإن كان الغرض واحداً، وحينئذٍ فيصل رميه في النوبة الثانية برمية في النوبة الأولَى. فَرْعان: أحدُهما: إذا قلْنا: يقُرع للبداية، فهل يدخل المحلل في القرعة، إذا أخرجا المال؟ فيه وجهان؛ بناءً على أن إخراج المال، هل يقتضي السبق؟ إن قلْنا: يقتضيه، فلا يدخل، وإلا فيدخل الثاني، إذا ثبتت البداية لواحد، فرمى الآخر قبله، لم يحسب له، إن أصاب، ولا عليه إن أخطأ، ويرمي ثانياً عند انتهاء النَّوْبة إليه. قَالَ الغَزَالِيُّ: أَنْ يَرُدَّ العَقْدَ عَلَى رُمَاةٍ مُعَيَّنِينَ، وَلاَ يَجُوز إيْرَادُهُ عَلَى الذِّمَّةِ، وَيَجُوزُ بَيْنَ حِزْبَيْنِ، وَالانْتِقَادُ يَكُونُ بِالتَّرَاضِي لاَ بِالْقُرْعَةِ الَّتي قَدْ تَجُوزُ فَتَجْمَعُ الْخَرْقَ فِي جَانِبِ، ¬
وَلَوْ تَرَامَى عَرَبِيَّنِ وَتَعَاقَدَا صَحَّ إِلاَّ أنْ يَظْهَرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَخْرَقُ تَسْتَحِيِلُ مُقَاوَمَتُهُ لِلآخَرِ فَيَتَبَيَّنُ بُطْلاَنُ العَقْدِ عَلَى رَأْي، وَلاَ يَشْتَرَطُ التَّسَاوِي فِي عَدَدِ الحِزْيَيْنِ بَلْ فِي عَدَدِ الرَّمْيَاتِ فَيُرَامِي وَاحِدٌ ثَلاَثةً وَلَكِنْ يَرْمِي هُوَ ثَلاثةَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَرْمِي وَاحِدَةً، ثُمَّ السَّبَقُ يُوَزَّعُ عَلَى عَدَدِ رَؤوسِ الحِزْبِ لاَ عَلَى عَدَدِ الإِصَابَةِ إِلاَّ أن يُشْتَرَطَ التَّوْزِيعُ عَلَى الإِصَابَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا يصحُّ عقدُ المناضلة، إلا بعد تعيين المُتَرَامِيَيْنِ ووجِّه بأن المقصود معرفة حَذَقِهما؛ ولا يعرف ذلك إلا إذا تعيْنا، وأيضاً، فقد ذكرنا أن التعويل في المناضلة على الرامي، كما أن التعويل في المسابقة على المركوب، فاشتراط تعيين الرامي هاهنا كاشتراط تعيين المركوب هناك، وتجوز المناضلة بين حزبين فصاعداً؛ لِمَا رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- "مَرَّ بحِزْبَيْنِ مَنِ الأَنْصَارِ يَتَنَاضَلُونَ، فَقَالَ: أَنا مَعَ الْحِزْبِ الَّذِي فِيهِمُ ابْنُ الأدْرَع" (¬1) ويكون كلُّ حزب فيما يتَّفِق لهم من الخطأ والصواب، كالشخص الواحد، وفي "المهذب": أن ابن أبي هريرة لم يجوز ذلك لئلا يأخذ بعضُهم برَمْي بعضٍ، والظاهر الأول، وليكن لكل واحد من الحزبَيْن زعيم يعين أصحابه، فإذا تراضيا يوكَّل عنهم في العقد، ولا يجوز أن يكونَ زعيم الحزبين واحداً، كما لا يجوز أن يتوكَّل في طرفي البيع واحدٌ، ولا يجوز أن يعقد قبل تعيين الأعوان، ولا وجه لالتزام الرماة في الذمة نصَّ عليه القفَّال والأئمة، وطريق التعيين الانقياد والتراضي فيختار زعيم واحداً والزعيم الآخر في مقابلته واحداً ثم الأولِ واحداً ثم الآخر واحداً إلى أن يستوعبوا, ولا يجوز أن يختار واحدٌ جميعَ الحِزْبِ أولاً؛ لأنه لا يُؤْمَن أن يستوعب الحذَّاق ولا يجوز أن يعيَّن الأصحاب بالقرعة؛ لأنها قد تجمع الحذاق في أحد الجانبين، فيفوت مقصود المناضلة؛ ولذلك قيل: لو قال أحد الزعيمَيْن: أختار الحُذَّاق، وأُعْطِي السبَق، أو الخَرْقَ، وآخُذُ السبق، لا يجوز، وأيضاً، فالقرعة لا مدخل لها في عقود المعاوضات؛ ولذلك، لا تجوز المسابقة على مَنْ خَرَجت منهم، فقد قال الإِمام: لا بأس به؛ فإنَّ ¬
القرعة بعد تعديل الحصص والأقساط معهودة، والذي أورده صاحب "المهذب" و"التهذيب" وغيرهما: المنع؛ لأن تعيين المعقود عليه بالقرعة في المعاوضات لا يجوز. هذا ما ذكره، ولك أن تقول: قد تقرَّر أن العقْد لا يجوز قبل التعيين، وحينئذٍ فقولُهما: لا يجوز التعيْين بالقُرعة، (¬1) وإنما التعيين بالاختيار، إما أن يريد به أن مناضلة الحزبَيْن على أن يكون مع كل زعيم الذين تخرجُهم القرعة له، لا يجوز، أو يريد به أن المناضلة على عين، من أخرجه القرعة، لا يجوز، إن أراد الأول فالمناضلة على من يختاران من بعد، وجب ألا يجوز أيضاً، كما في سائر العقود، وان أردنا الثاني، وجب أن نحكم بالجواز، فإنهما إذا اختارأ بلا قرعة، وعقدا، يجوز، فإذا اخرجت القرعة، ورضينا بمن أخرجته، وعقدا عليهم، وجب القول بالجواز (¬2) فَإذَنْ لا فرقَ بَيْن التعيين بالاختيار والتعيين بالقرعة، والله أعلم. وعن نصه -رضي الله عنه- في "الأم": أنهما لو تناضلا على أن يختار كل واحد منهما ثلاثةً، ولم يسمهم الآخر، لم يجز، وأنه لا يجوز أن يعرف كل واحد منهم من يرمي معه؛ بأن يكُونَ حاضراً يراه أو غائباً يعرفه، واحتج القاضي أبو الطيِّب بظاهره على أنه يكفي معرفة الزعيمَيْن، ولا يعتبر أن يعرف الأصحاب بعضُهم بعْضاً وبداية أحد الحزبين بالرمْي كبداية أحد الشخصين، ولا يجوز أن يَشْرِطا أن يقدم من هذا الحزبِ فلانٌ، وأن يقابله من الحزب الآخر فلانٌ ثم فلان وفلان؛ لان تدبير كل حزب إلى زعيمهم، ليس للآخر مشاركتهُ فيه، ثم في الفصْل صورٌ: إحداها: لو حضر عندهم غريبٌ، فاختاره أحد الزعيمَيْن على ظن أنه يجيد الرمْيَ، فبان خلافُه، نُظِر؛ إن كان لا يحسن الرمي أصلاً، بَطَلَ العقد فيه، وسقط من الحزب الآخر واحدٌ بإزائه، كما أنه، إذا بَطَل البيع في بعض المبيع، يسقط قسْطُه من الثمن، وهل يَبْطُل العقد في الباقي؟ فيه طريقان: أشهرُهما: أنه على الخلاف في تفريق الصفقة. والثاني: القطعُ بالبطلان؛ لأنه ليس بعضهم بأن يُجْعَلَ في مقابلته بأَوْلَى من بعض، وفي القُرْعة يجوز، فإن قلْنا: لا يبطُل، فللحزبين خيارُ الفسخ، والإجازةُ للتبعيض، فإن أجازوا وتنازعوا في تعيين من يُجْعل في مقابلته، فسخ العقد، لتعذر إمضائه، هذا هو المشهور فيما إذا بان أنه لا يحسن الرمْيَ استدرك الأِمام، ورأى أن يفَصَّل؛ فيُقالُ إن كان الأخرق بحيث لا يتمكن من أخذ قوس ونزع وتر، فالحكم ما ذكروه، وإن كان يتمكَّن منهما، لكنه ما اعتاد الرمْي، ففيه احتمال، ويتطرَّق الاحتمال ¬
إلى أن مثل هذا الشخص، هل يرامي مع العلْم بحاله، يجوز أن يُقال: نعم؛ لوجود صورة الرمْي منه، ويجوز أن يمنع؛ لأن إقدام مثله على الرمْي خطرٌ، فلا فائدة فيه. وإن بان أنه ضعيف وقليلُ الإصابة، ولكنه يُحْسِن الرمي، فلا فسخ لأصحابه، وإن بان أنه فوق ما ظنوه، لم يكنَ للحزب الآخر الفسخُ، هكذا أطلقوه، وينبغي أن يجعل ذلك على الخلاف الذي سبق في أنه، هل يُشْترط أن يكون المتناضلان متدانيين، أو لا يشترط؟ ويجوز أن يكُونَ أحدهُما قليلَ الإِصابة، والآخر كثيرَها، وقد يُسْتدل بما أطلقوه في المسألة على الظاهر؛ أنه لا بأس بهذا التفاوت، وفي "المنهاج" للشيخ أبي محمد: أن من فوائد المسألة أن المجهول الذي لم يُخْتبر يجوز إدخاله في رجال المناضلة، قال: وكان لا يبعد عن القياس المْنعُ؛ لما فيه من الجهالة العظيمة، لكن الشَّافعي -رضي الله عنه- نصَّ عَلَى تجويزه، فلو تناضل غريبان لا يَعْرِفُ واحدٌ منهما حالَ صاحبه، فيحكم للعقد بالصحة فإن تبين أن أحدهما أخرق لا يُحْسِن الرمْيَ، فيَبْطل العقد على قياس ما ذكرنا في الصورة السابقة، وإن تبين أنهما لا يحسنان الرمي، فكذلك، وإن تبين أن أحدهما أخرقُ لا يقاوم الآخر، فهل يتبين بطلان العقْد؟ فيه الخلاف المذكور فيما إذا عاقد ناضِلٌ أخْرَقُ. الثانية: لا بدَّ من استواء الحزبين في عدد الأرشاق والإِصابات، وأما عدد الحزبين والأحزاب فقد قال الإِمام: لا يُشتَرطُ التساوي فيه، بل يجوز أن يكون أحدُ الحزبين ثلاثةً، والثاني أربعةً، والأرشاق على كل حِزْب؛ وأن يرامي رجلٌ رجلين أو ثلاثة، ليرمي هو ثلاثةً، وكل واحد منهم واحداً، وعلى ذلك جرى صاحبُ الكتابِ، وفي "التهذيب" و"المهذب" وغيرهما: أنه يُشترط تساوي الحزبين في العَدَد؛ لأن المقصود معرفة حَذَق المتناضلين، وإذا اختلف عددهما وفضل الذين هم أكثر عدداً، لم يلزم أن يكون الفوز للحذق وجودة الرمي، بل يجوز أن يكون ذلك لكثرة العَدَد؛ وعلى هذا يُشْترط أن يكون عدد الأرشاق؛ بحيث ينقسم صحيحاً على الأحزاب، فإن كانوا ثلاثةَ أحزابٍ، فليكن للأرشاق ثُلُثٌ صَحِيحٌ، وإن كانوا أربعةً، فليكن لها رُبُعٌ صحيحٌ. الثالثة: مَنِ التزم السبَقَ من الزعيمين، لزمه، ولم يلزم أصحابه، إلا أن يلتزموا معه، ويأذنوا له في أن يسبق عنهم، وحينئذٍ، فيكون التوزيع عليهم على عدد رُؤوسهم، وإذا فضل أحد الحزبين، فيقسم المال بينهم على عدد سهمهم أو على عدد الإِصابات؟ فيه وجهان: أشبهُهما: وهو المذكور في الكتاب، وحكى الإِمام القطْع به: أنه يُقَسَّم بينهم على عدد رؤوسهم؛ فإنهم كالشخص الواحد، فالناضلون يأخذون بالسوية، كما أن المنضولين يعطون بالسوية.
والثاني: يقسَّم على عدد الإِصابات؛ لأن الاستحقاق بالإِصابة، وعلى هذا، فمن لا إصابة له لا شيء له، هذا إذا أطلقوا العقد، فإن شرطوا أن يقسموا على الإِصابة، فالشرط متبعُ، وللإِمام فيه احتمالٌ. وقوله في الكتاب "لا بالقرعة التي قد تجوز" هذه اللفظة تقرأ بالخاء والنون من الخيانة، وبالجيم والزاي من الجواز وهما صحيحان. قَالَ الغَزَالِيُّ: السَّادِسُ تَعْيِينُ المَوْقِفَ شَرْطٌ مَعَ التَّسَاوِي، فَلَوْ شُرِطَ لِوَاحِدٍ تَقَدُمٌ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ تَنَافَسُوا فِي الوُقُوفِ فِي الوَسَطِ فَهُوَ كَالتَّنَافُسِ فِي البِدَايَةِ، وَلَوْ رَضُوا بَعْدَ العَقْدِ بَقَدُّمِ وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ وَكَأَنَّهُمْ حَطُّوا عَنْهُ رَمْيَةً، وَلَوْ رَضُوا بِتَأخُّرِهِ فَوَجْهَانِ، وَلَوْ حَطُّوا عَنْ وَاحِدٍ إِصَابَةً وَاحِدَةً لَمْ يَجُزْ، وَلَكِنْ لَوْ تَطَابَقُوا عَلَى التَّقَدُّمِ بِأَجْمَعِهِمْ أَوْ عَلَى تَعْيينِ عَدَدِ الأَرْشَاقِ فَهَذَا كَإِلْحَاقِ زَيادَةٍ بِالعَقْدِ، وَيَجُوزُ علَى قَوْلِ الجَوَازِ دُونَ اللُّزُومِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يُشْترط تعيين الموقِفِ وتساوي المتناضلين فيه، فلو شرط أن يكُونَ موقف بعضهم أقربَ، لم يجز، كما في المسابقة، نَعْم، لو قَدَّم أحدهُما أحد قدميه عند الرمي، فلا بأسَ، فقد يعتاد الرماة ذلك، وورائه كلامان: أحدهُما: إذا وقف الرماة صفاً، فالواقف في الوسط أقربُ إلى الغرض ممَّن على اليمين واليسار؛ ألا ترى أنك لو رسمت خطَّا في الوسط إلى الغرض، وخطين ممن في الصف إليه، يثبت التفاوت بينهما, ولكنَّ هذا التفاوتَ محتملٌ بالاتفاق، ولم يَشْتَرِطْ أحد تناوب الرماة على الموقف المقابِل؛ لما في القيام والتعود من العسر. والثاني: عن "الأم": أن فيما بين الرماة قد يتقدَّم الرامي الثاني على الأول بخطوة أو خطوتين أو ثلاث، وذكر الأصحاب أن هذه العادة، إن لم تُطْرَد فيما بينهم؛ بأن كانوا يفعلونه تارة، ويسقطونه أخرى، فلا يعتبر، وتجب رعاية التسوية، وإن اضطردت، فوجهان، وحيث اعتبرت، فإن لم تختلف العادة في عدد الأقدام، روعي ذلك، وإن اختلفت اعْتُبِر الأصل، والمعنَى، في تقدُّم الثاني أن يقع القرب في مقابلة قوة النفس بالبداية، ثم في الفصل صورٌ: إحداها: لو تنافسوا في الوقوف في وسط الصفِّ فقْد ذكر الإِمام وصاحبُ الكتابِ: أنه كالتنافس في البداية، والمفهومُ من هذا: أنهما، إذا لم يتعرَّضا له في العقد في قول، ويتبع العادة في قول، ويقرع بينهما في قول، وقد ينجزُّ هذا المفهوم إلى أن يُقْرع لذلك التنازع تارةً، ولهذا التنازع أخرَى، وحينئذٍ، فقد تخرج قرعة البداية لأحدهما وقرعة الوقوف في الوسط للآخر، لكن الذي أورده الجمهور: أنَّهما، إذا اختلفا في موضع الوقوف، فالاختيارَ لمن له البداية، فمن يستحق السبق، إما بالشرط أو غيره،
يختار المكان، فيقف في المقابلة أو متيامناً أو متياسراً (¬1) كيف شاء، فليحمل ما في الكتاب عليه، وإذا وقف، وقف الآخر بجنبه، إما على اليمين أو اليسار، فإن لم يرض إلا أن يقف عند الرمْي في موقف الأول، فهل له أن يزيله عنْ موقفه؟ ذُكِر فيه وجهان، وإذا كانا يرميان بين غرضين، فإذا انتهيا إلى الغرض الثاني، فالثاني كالأول؛ يقف حيث شاء وإن كانوا ثلاثة، فعن أبي إسحاق: أنَّه تُقْرع بين الآخرين عند الغرض الثاني فمن خرجت له القرعةُ، يقف حيث شاء (¬2) ثم إذا عادوا إلى الغرض الأول، بدأ الثالث بلا قرعة، ويقف حيث شاء، وذكر قولٌ آخر أنهما حيث تنازعا في الموقْف، حُمَلا على عادة الرماة، إن كانت لهم في ذلك عادة مستمِرَّة. الثانية: لو رضُوا بعد العقد بتقدُّم واحد، نُظِر؛ إن كان يتقدم بقدر يسير، فلا بأسَ؛ لأن مثله يقع، إذا وقفوا صفًّا على ما ذكرنا، وإن كان أكثر منه، لم يجز؛ لأنه يخالف وضع العقْد، وهو كما لو شرط الاستحقاق لواحد بتسع إصابات، وللآخر بعشرٍ، ولو تأخَّر واحد برِضا الآخرين، فوجهان: أحدهُما: يجوز؛ لأنه يزيد المسافة ويضر بنفسه. وأظهُرهما: المنع؛ لأنه إذا تأخَّر كان الآخرون متقدِّمين؛ ولأن القوس الشديد (¬3) قد يُحْوج إلى زيادة المسافة، فينتفع بالتأخر، ويجري مثل هذا في المسابقة. الثالثة: لو تطابقوا جميعاً على المتقدُّم (¬4) والتأخر أو تعيين عدد الأرشاق بالزيادة والنقصان، فينبني ذلك على أن المسابقة والمناضلة جائزتان أو لازمتان وسيأتي من بعد -إن شاء الله تعالى-: فَرْعٌ: لو قال أحدُهُما: ننصب الغرض؛ بحيث يستقبل الشمس، وقال الآخر: نستدبرها، أُجِيب الثاني؛ لأنه أصلح للرمْي. واعلم أن المسابقة والمناضلة يشتركان في بعض الشروط: كالمحلِّل والإِعْلام، ويفترقان في بعْضها؛ كتعيين الغرضين وصاحبُ الكتاب عدَّ شروط كل واحد منهما ستةً، وفقْهُما ما بيَّناه، لكنه قَدَّم وأخَّر الشروط المشتركة، وغَيَّر التراجم، ولو أوردها على نَسَقٍ واحدٍ، وميز ما يشتركان فيه عما يفترقان، لكان أحْسَنَ في الترتيب. قَالَ الغَزَالِيُّ: النَّظَرُ الثَّانِي فِي حُكْم العَقْدِ وَهُوَ الوَفَاءُ بالشَّرْطِ لَكِنْ لِلشَّرْطِ صُوَرٌ: الأوُلَى: أَنْ يُشْتَرط القُرْعَاتُ فَإذَا قُرَعَ اسْتَحَقَّ وَإِنْ لَمْ يَخْرِقْ، وَلاَ يَكْفِي القَرْعُ بِفَوْقِ ¬
السَّهْمِ وَعَرْضِهِ، وَإِن انْصَدَمَ بِجَدَارٍ أَوْ شَجَرٍ أَوِ الأَرْضِ ثُمَّ أَصَابَ لَمْ يَسْتَحِقَّ فِي عَادَةِ الرُّمَاةِ وَلِلفُقَهَاءِ فِيهِ خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصود النظر بيانُ حكم المناضلة، إذا صحَّت، وفيه فصلان: أحدُهُمَا: فيما يثبت ويتعلَّق به استحقاقُ المال المشروط. والثاني: أن العقد جائزٌ أو لازمٌ، وفي فروع هذا الأصل، أما الأول، ففيه صور: منها: إذا ذكر في العقد الإِصابة أو القَرْع، لم يشترط التأثير بالخَدْش، والخرق، بل يُحْسَب ما أصابه وارتد، بلا تأثير وما أثَّر بخسق وغيره، ولو كان الشَّنُّ بالياً، فأصاب موضع الخرق فيه، حسب، قاله في "التهذيب" وقد يجيء فيه وجه آخر؛ لأنه لم يصب الغرض، ثم لا بدّ من النظر فيما يُصَابُ وفيما يصيب من السهم، أما ما يُصَاب، فإن ذكر إصابة الغرض، فيحسب ما أصاب الجلد أو الجريد، وهو الدائر على الشنِّ والعُرْوَة، وهي السَّيْر أو الخيْط المشدود به الشنُّ على الجريد، وكل ذلك من الغرض، وفيما يتعلَّق به الغرض قولان: أشبههما: أنه ليس من الغرض، فإن ذكر إصابةَ الشَّنّ, لم يُحْسبْ إصابةُ الجريدِ والعروة، وإن ذكر إصابةَ الخاصرة، وهي يمين الغرض أو يسارُهُ، لم يُحْسبْ إصابة غيرِهما، وأما ما يصيب من السهم، فالاعتبار بالنصل، ولا يحسب الإِصابة بفوق السهم وعرضه؛ فإنها تدل على سوء الرمي، وتحسب الرمية عليه، وعن "الحاوي" وجهٌ غريب: أنه، إن أصاب بالفوق لم يُحتسبْ عليه، وإذا كان الاستحقاق معلقاً بإصابة مقيدة كالخَسْق وغيره، فالكلام فيما يُصَابُ ويُصِيبُ؛ على ما ذكرناه، لا يختلف، ولو انصدم السهم بجدار أو شجرة، ثم أصاب الغرض، ففيه وجهان: أحدهُما: أن هذه الإِصابة محسوبةٌ، كما لو صرفت الريح اللينة السهم فأصاب، وكما لو هتك السهم في مروره حجاباً عارضاً، ثم أصاب. والثاني: المنعُ؛ لاحتمال أن الإِصابَة حَصَلَت بالصدمة، لا بجودة الرمي، وهو أصح عند الإِمامِ، لكنه فرض المسألة فيما إذا كانت الشجرة مائلةً عن قبالة الغرض، ثم ردته الصدمة إلى سبق الغرض، فإن كانت على السمْت، فليكن الانصدام بها كالانصدام بالأرض، ولو انصدم بالأرض ثم ازدلف، فأصاب الغرض، ففيه وجهان، ويُقَالُ: قولان مخرَّجان: أحدُهُما: يُحْسَب لَهُ، لحُصول الإِصابة بالنصل، والانصِدامُ بالأرض لا يؤثر، فإنَّه يدل على اشتداد الرمي وانخفاض مروره (¬1) وخفضُ السهْمِ نهاية الحَذَقِ في الرماية؛ ¬
ولذلك لو رمى إلى إنسان، فأصابه كذلك يجب عليه القصاص. والثاني: المنعُ؛ لأن السهْمَ، إذا احتك بالأرض، احتد، به فتكون الإصابة بمعاونة الصدمة، وربما انقطع أثر الرمي، وهذا أصَحُّ عند الإِمام أيضاً، ورجح أكثرُهم منهم العراقيون الأولَ، وإن ازدلف، ولم يصب الغرض، فهل يُحْسب عليه؟ فيه وجهان: أظهَرُهُمَا: وبه أجاب الشيخُ أبو حامد نعم. وقوله في الكتاب "لم يَسْتَحِقَّ في عادة الرماة" أراد به ما ذكره، الإِمام؛ أن الرمية في صورة الانصدام غير محسوبة عند الرماة، وإنما التردُّد عند الفقهاء، قال: ويمكن أن يُخَرَّج الخلافُ على أن العادة، هل تتبع؟ إن قلنا: نعم، فلا يعتد (¬1) به، وإن قلنا: لا، فالحاصِلُ يسمى إصابة، ويجوز أن يعلم قوله "خلاف" بالواو؛ لأن عن أبي إسحاق طريقةٌ أخرَى أنه يَنْظر في إصابته الأرضَ، فإن أعانته الصدمة وزادته حدةً من جهة مروره، فلا تحسب عليه، وإن ضعفته، ومع ذلك مَرَّ وأصاب، فَتُحْسَبُ، له ولا خلاف في المسألة. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةُ: شَرْطُ الخَوَاسِقِ وَهِيَ الَّتِي تُخْرَقُ، فَإنْ خَرَقَ وَمَزَّقَ فَقَدْ زَادَ فَيَسْتَحِقَّ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ الثُّبُوتُ، وإِنْ خَرَقَ طَرَفَ الهَدَفِ وَحَصَلَ فِيهِ جَمِيعُ جِرْمِ النَّصْلِ اسْتَحَقَّ، وإِنْ حَصَلَ بَعْضُهُ فَوَجْهَانِ، وَإِنْ وَقَعَ فِي ثُقْبَةٍ قَدِيمَةٍ وَثَبَتَ فَوَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا شرط الخَسْقَ، فأصاب السهم الغرَضَ وثقبه، وتعلَّق النصل به وثبت فهو خَسْقٌ، ولا يضر سقوطه بعد ما ثبت، كما لو نزعه غيره، وإن خدشه، ولم يثقبه، فليس هو بخاسق، وإن ثقبه، ولم يثبت ففيه قولان، ويقال: وجهان: أظهرُهما: على ما ذكر ابن الصَّباغ والرويانيُّ: أنه ليس بخَاسق؛ لما مرَّ في تفسير الخسق؛ فإن الثبوت مأخوذٌ فيه. والثاني: أنَّه خاسقٌ؛ لأنه ثقب ووجد ما يصلح لثبوت السهم فيه، والسقوط يحتمل أن يكون لسعة الثقب أو لثقل السهم أو غيرهما, ولو ثقب ومرق، قال في "المختصر": كان عندي خاسقاً، ومن الرماة من لا يحسبه خاسقاً، إذا لم يثبت فيه، وللأصحاب طريقان: أحدهما: أن فيه قولين: ¬
أحدهُما: أنه ليس بخَسْق؛ لأنه لم يثبتْ، والثبوتُ يحتاج إلى ضَبْط وحَذَقٍ، فإذا مرق، دلَّ على قصور منه. وأظهرهُما: أنه خَسْق؛ لأنَ الخَرْقَ قد حَصَلَ، وبالمروق بعده يدل على زيادة القوة، وليس الغرض من ذكر الثبوت في تفسيره هيئته، وإنما الغرض أن تقوى الرمية؛ بحيث يتأتى معها الثبوت. والثاني: القطعُ بأنه خَسْق؛ لأن الشافعيَّ -رضي الله عنه- قد صَرَّح بأنه خاسقٌ عنْده؛ والمذهب الآخر حكاه في غيره، وهذا ما اختاره جماعةٌ منْهم القاضيان ابنُ كج والرويانيُّ، ويجوز أن يُعْلم قوله في الكتاب "وقيلَ يشترط الثبوتُ" بالواو. ولو أصاب السهم طرف الغرض فخرقه، وثبت هناك، فهل يحسب خاسقاً؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأن الخسق إنما هو الثقب في الوسط، وهذا لا يُسَمَّى، ثقباً ولا خرقاً للغرض، وإنما هو شق لطرفه، ويُقَالُ لهذا السهمِ: خارم لا خاسق. وأظهرُهما: على ما ذكر الشيخ أبو حامد والإِمام: نعم؛ لأنه خرق بالنَّصْل، وثبت، وفي موضع القولين طُرُقٌ. أولاَها: وهو المذكورُ في الكتاب: أن الخلافَ فيما إذا كان بعضُ خرم النصل خارجاً، فاما إذا أخذ الغرض خرْمَ النَّصْلِ كُلِّه، فقد حصل الخَسْق بلا خلاف. والثاني: أنه، إذا كان بعضُه خارجاً، لم يكن خاسقاً، بلا خلاف ومحل القولين ما إذا بقيت طفية وجليدة محيطةً بالنصل، ذكره في "التَّهذيب" والطفية الواحدة من الخوص. والثالث: أنه، إن أبان من الطرف قطعةً، لو لم يُبِنْها, لكان الغرض محيطاً بالنصْل، فهو خاسقٌ قولاً واحداً، والقولان فيما إذا خرم الطرف لا على هذا الوجه. والرابع: أنه، إذا خرم الطرف، لم يكن خاسقاً بلا خلاف وإنما الخلافُ فيما إذا خرم شيئاً من الوسط، وثبت مكانه، وهذا أبعدها، وعن القفَّال: أنه، لو كان بين النصل وبين الطرف شيءٌ، لكنه تشقق، وانخرم ليبوسة كانَتْ في الشنِّ أو غيرِها، فهو خاسق، ولو فرض ما ذكرنا من إصابة الطرف، والمشروط القَرْعُ أو الإِصابةُ دون الخَسْق، ففيه طريقان: أحدُهما: طرد القولين، وبه قال أبو الحسن بن القطّان، ووجْه المنعِ، بناءً على الطريقة الأُولَى من طرق موضع الخلاف: أن جميعَ النصَّل لم يُصِبِ الغرض، إنما أصابه بعْضُه.
والثاني: بالخاسق، والإِصابةُ بخلافه. ولا يخفى الحاجة إلى إعلام قولِهِ في الكتاب "استحق" بالواو؛ لبعض الطرق المذكورة. ولو وقع السهم في ثقبة قديمة، وثبت ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يُحْسب خاسقاً؛ لان النَّصل صادف الثقب، ولم يخرق شيئاً والمشروط الخرّقُ وأصحُّهُما، وبه قطع الشيخُ أبو محمد: الاحتساب؛ لأن السهْمَ في قوته؛ بحيث يخرق لو أصاب موضعاً صحيحاً، وقضيةُ هذا: ألا يجعلَ خاسقاً، لو لم يعرف قوة السهم، ويوضِّحُهُ أن الشافعيَّ -رضي الله عنه- نصَّ على أنه، لو أصاب موضعَ خرق في الغرض، وثبت كان خاسقاً، وذكر الأصحابُ؛ أنه أراد ما إذا كان الهدفُ في قوة الغرض، أو فتلت (¬1)؛ منه بأن كان من الخشب أو الآجُرِّ أو الطين اليابس، فان لم يكنْ؛ بأن كان تراباً أو طيناً، فلا يحسب له ولا عليه؛ لأنه لا يَدْرِي، هل كان يثبت لو أصاب موضعاً صحيحاً أم لا؛ وعن "الحاوي" وجهٌ: أنه لا يُحْسب خاسقاً، وإن كان الهدفُ في قوة الغرض، ولو خدش النَّصلُ موضع الإِصابة وخرقه؛ بحيث يثبت فيه مثل هذا السهم، لكنه رجع؛ لغلظ لقيه من حصاة أو نواة، فقد أجرى فيه القولان المذكوران، فيما إذا خرق ولم يثبت، لكن الأظهرُ أنه يحسب خاسقاً هاهنا؛ لظهور سبب الرُّجوع، وهو الذي أورده صاحبُ "التهذيبِ" وإن قلْنا: لا يُحْسَبُ، فلا يحسب عليه أيضاً. ويُجْعَلُ كالعوارض المانعة من الاحتساب له وعليه، ولو اختلفا، فقال الرامي: خسق سهمي، لكنه لم يثبت, لغلظ لقيه، وأنكر الآخر، فإن كان فيه خروقٌ، ولم يعرف موضعُ الإصابة، فالقولُ قولُ الآخر؛ لأن الأصل عدمُ الخَسْق والخدش، وكذا الحكم لو عيَّن الرامي موضِعاً، وقال: هذا الخرق حَصَل بسهمي، وأنكر صاحِبُه، ثم إن فتش الغرض، فلم يُوْجَد فيه حصاة ولا ما في معناها، فلا يَحَلَّف، وإن وُجَدَ فيه مانع، فَيُحَلَّف، وإذا حَلَف، لم يُحْسَبْ له، وهل يُحْسَبُ عليه؟ فيه وجهان: أظهرهما: المنعُ، وإن علم موضع الإِصابة، ولم يكن هناك مانعٌ؛ أو كان، ولم يؤثر السهم فيه بخدش، وبخرق، فيصدَّق بلا يمين، وتُحْسب الرمية عليه، وإن قلنا: الخرْقُ بلا ثبوت خَسْقٌ، فيحسب خاسقاً، ولا حاجة إلى اليمين، وإلا، لم يُعتدَّ به ولا يُحْسب عليه أيضاً؛ على الأظهر. ولو مرق السهم، وثبت في الهدف، وعلى النَّصل قطعةٌ من الغرض، فقال ¬
الرامي؛ هذه القطعة أبانها سهِمْي بقوته وذهب بها، وقال الآخر: بل كانت القطعةُ مبانةً من قبل، فتعلقت بالسهم، فالقولُ قول الآخر؛ لأن الأصل أَنْ لا خَسْقَ، نص عليه في "الأم" قال الشيخُ أبو حامد؛ هذا ما إذا لم يجعل الثبوت في الهدف كالثبوت في الغرض، فإن أقمناه مقامه، فلا معنى لهذا الاختلاف، وقوله في أول الفصْل "شرط الخاسق" وهي التي تخرق، المقصود منه أن الخرق يُعْتبر هاهنا، بخلاف ما إذا كان المشروط القَرْعَ، فاما أنه، هل يكتفي بالخرق أم يعتبر فيه الثبوت؟ ففيه الخلافُ الذي مَرَّ. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّالِثَةُ: إِذَا شُرَطَ لِمَنْ يَسْبِقُ إِلَى عَشَرَةٍ مِنْ مِائَةٍ فَسَبَقَ إِلَيْهِ مِنْ خَمْسِينَ اسْتَحَقَّ، وَفِي لُزُومِ إِتْمَامِ العَمَلِ للِتَّعْلِيم وَجْهَانِ، وَإِنْ كَانَتْ مُحَاطَّةٌ وَخَلَصَ لَهُ عَشَرَةٌ مِنْ خَمْسِينَ فَفِي لُزُومِ الإِتْمَامِ وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ، وَأَوْلَى بِاللُّزُومِ إِذِ الحَطُّ فِي البَاقِي مُنْتَظَرٌ، وَالخِلاَفُ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّ الحَطَّ بَعْدَ الكَمَالِ هَلْ يُؤَثِّرُ؟ وَإنْ تَمَّتْ عَشَرَتُهُ فِي آخِرِ الخَمْسِينَ وَلِلآخَرِ تِسْعَةٌ مِنْ تِسْعِ وَأَرْبَعِينَ، فَإِنْ أَصَابَ فِي آخِرِ الخَمْسِينَ فَقَدْ تَسَاوَيَا وَلاَ سَبْقَ، وَإِنْ أَخْطَأَ اسْتَحَقَّ الآخَرُ مَالَهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا تناضلا مبادرة وشَرَطا المال لمن سبق إلى إصابة عشرة من مائة مثلاً، فسبق أحدهما إلى الإِصابة المشروطة قبل كمال عدد الأرشاق، فإن رَمَى كل واحد منهما خمسين، وأصاب أحدُهما في عشرة، وأصاب الآخر فيما دون العشرة أو لم يُصب في شيء، فلا شك في أن الأول ناضلٌ مستحِقٌ للمال، وهل يلزم إتمام العمل؟ فيه وجهان، نقلهما الإِمام وصاحبُ الكتاب: أظهرهما: وهو الذي أورده الجمهور: أنه لا يلزم؛ لأنه تم العمل الذي يتعلق به الاستحقاق، فلا معنى لالتزام عمل بعد ذلك. والثاني: يَلْزُمُ، لينتفع صاحبُه بمشاهدة رميه، ويتعَلَّمَ منْه، وقرب هذا الخلاف من الخلاف في الرجوع إلى أجرة المثل عند فساد هذه المعاملة، إن قلنا: لا رجوع إلى الأجرة، فكلٌّ يعمل لنفسه، واستحقاقُ المال بالشرط على حكم المخاطرة، ولا يكلَّف إتمام العمل بعد استحقاق المال بالشرط على حكم المخاطرة، وإن أثبتنا الرجوع إلى الأُجْرة، فقد قدَّرنا العمل كالمنافع المستحقة، فلا يبعد أن يكلَّف استتمام العمل بعْد الفوز بالمال. ولو شَرَطَا المال لمن سبق إلى خمسة من عشرين، فرمى أحدهما عشرة، وأصاب خمسةً، والآخر عشرةً، وأصاب ثلاثةً، فالأول ناضلٌ، وفي لزوم إتمام العمل وجهان؛ ولو تناضلا محاطَّة وشرَطَا المال لمن خلص له عشرة من مائة، فرمى كل واحد خمسين، فأصاب في خمسة عشر، والآخر في خمسة، فقد خَلَصَ للأول عشرةٌ، وهل
يستحق بها المال أم يَتوقَّف الاستحقاق على استكمال الأرشاق؟ فيه وجهان: أحدهما: يستحق؛ لأنهما استويا في الأرشاق والخُلُوص في المحاطَّة؛ كحصُول الإِصابات المشروطة في المبادرة، وكما يثبت الاستحقاق هناك قبل تمام العمل، يثبت هاهنا. وأصحُّهما: المنعُ؛ لأن الاستحقاق منوطٌ بخلوص عشرة من مائة، وقد يصيب الآخر فيما بقي بقدر ما يمنع خلوص العشرة من المائة للأول، بخلاف المبادرة؛ فإن الإِصابة من بَعْدُ لا ترفع ابتدار الأول إلى ذلك العدد، فإن قلنا: لا يستحق المال، ما لم تكمل الأرشاق، فلا بد من إتمامها، فإن قلنا: بالاستحقاق، وقلنْا: لاحظَّ بعد خلوص العدد المشروط، فهل للآخر أن يكلِّفه إتمام العمل؟ فيه الوجهان المذكوران في المبادرة، ويجري الخلافُ في كل صورة يتوقع الآخر أن يُسَاوِيَ فيه الأوَّلَ أو يَنْضُلَهُ، وكذلك الحال في المثال المذكور، وفي معناه ما إذا كان المشروطُ خلُوصَ خمسة من عشرين، فرمى كلُّ واحد منهما خمسةَ عَشَرَ، وأصاب أحدُهما في عشرة، والآخرُ في ثلاثة، فإنهما، إذا استكملا الأرشاق، فقد يصيب الثاني في الخمسة الباقية جميعاً، ولا يصيب الأول في شيء منها، فلا يخلص له عشرة، ولو كانت الصورةُ بحالها، أصاب أحدهما في عشرة من خمسة عشر، ولم يصب الثاني في شيء منها، فلا يرجو الثاني مساواة الأول، وإن استكملا الأرشاق، وأخطأ الأولُ في جميع الباقي، وأصاب الثاني في جميعه، فلا يلزُمه إتمام الأرشاق، هكذا ذكره صاحبُ "التهذيبِ" وغيرهُ، ويجيء فيه الخلافُ المذكورُ في المبادرة لا محالةَ، ولو رمى أحدهما -والشرط المبادرة- خمسين في المثال المذكور، وأصاب في عشرة ورمى الآخر تسعةً وأربعين، وأصاب في تسعة؛ فالأول ليس بناضلٍ، بل يرمي الثاني سهماً آخر، فإن أصاب، فقد تساويا، وإلا ثبت الاستحقاق للأوَّل، ولو أصاب الأول من خمسين في عشرة، والثاني من تسعة وأربعين في ثمانية، فالأول ناضل؛ لأن الثاني، وإن أصاب في الرمية الباقية لا يساوي الأوَل، ويظهرُ بالصورتين أن الاستحقاق لا يَحْصُلُ بمجرَّد المبادرة إلى العدد المذكور، بل يُعْتبر مع المبادرةِ مساواتُهما في عدد الأرشاق أو عَجْزُ الثاني عن المساواة في الإِصابة، وإن صار مساوياً له في عدد الأرشاق ولو خلص لأحدهما في المحاطَّة عَشَرةٌ من خمسين، والآخر رمى تسعة وأربعين، ولم يُصِبْ في شيء منها، فله أن يرمي سهماً آخرَ، فلعله يصيب فيه، فَيَبْطُل خلوص عشر إصابات للأول. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ لرَامٍ: ارْمِ خَمْسَةً عَنِّي وَخَمْسَةً عَنْ نَفْسِكَ فَإِنْ أَصَبْتَ فِي خَمْسَتِكَ فَلَكَ دِينَارٌ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ قَالَ: أرْم فَإنْ كَانَ إِصَابَتُكَ أَكْثَرَ مِنَ العَشَرَةِ فَلَكَ دِينَارٌ جَازَ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال لرامٍ: ارْمٍ خمسةً عني، وخمسةً عن نفسك، فإن أصبت في خمستك أو كان الصوابُ في خمستكَ أكثرَ، فلك كذا، أو قال: ارْمِ عشرة، واحدةً عني وواحدةً عنك، فإن كانت إصابتك فيما رميتَ عن نفسك، أكثر، فلك كذا، لم يَجُزْ، نص عليه في "الأم" وعُلِّل بأنَّه يناضل نفسه، فيجتهد الصوابَ في حقِّه، ويقصِّر في حق صاحبه، وأيضاً، فالمناضلة عقد من العقود، فلا يجري إلا بين اثنين؛ كالبيع والهبة، ولو قال لرام: ارْمِ عشرةً، فإن كان صوابُك منها أكثرَ، ذلك كذا؛ فظاهر ما نقل المُزنيُّ: أنَّه لا يجوز، وأشار إلى تعليله بأنه يناضل نفسه، واختْلف الأصحابُ، فساعده مساعدون على أنه لا يجوز، وعلَّلوه بوجهين: أحدهما: أنه بذل العوض في مقابلة الصواب والخطأ، ولا يُستحقُّ بالخطأ شيء. والثاني: قال أبو جعفر الأسْتَرَابَاذِيُّ: إنه بذل العوض في مقابلة مجهول؛ لأن الأكثر لا ينضبط، وقال المُعْظَمْ: إنَّه جائزٌ، وحكَوْه عن نصِّه -رضي الله عنه- في "الأم" وعللوه بأنه بذل المال على عوض معلوم، وله فيه غرض ظاهر، وهو تحريضه على الرميْ ومشاهدة رميه، وقالوا: إنه ليس بناضل، إنَّما هو جَعَالَةٌ، ومنعوا قول من قال: إنَّه بذل المال في مقابلة الخطأ والصواب، وجعلوه في مقابلة الصواب، والأكثر النصف بزيادة واحدة، وهو مضبوط، ثم من هؤلاء من غَلَّطَ المُزَنِيَّ في الحكم والتعليل، وقالوا: إنما ذكر الشافعيُّ -رضي الله عنه- ذلك في الصورة السابقة، ومنهم مَنْ حمل ما ذكره على ما إذا جرى لفظ المناضلة، فإن قال: ارْمِ كذا أو ناضل الخطأ بالصوابِ، فإن كان الصوابُ أكثرَ، فكذلك، أو قال: ارْمِ كذا، فإن كان صوابُكَ أكثرَ، فقد نَضَلْتَنِي، فهذا لا يجوز؛ لأن النِّضَالَ يجري بين اثنين، وإذا حكمنا بالجواز، فلو رمى ستةً وأصاب فيها جميعاً، فقد ظهر استحقاقه، وهل للشارط أَنْ يُكَلِّفَهُ استكمال العشرة؟ أُجْري فيه الخلافُ السابقُ، والظاهر: أن له ذلك؛ فإنه علق الاستحقاق بعشرةٍ إصابَتُها أكثرُ، ولو قال لمتراميَيْن: أرْمِيَا عشرةً، فمن أصاب منكما خمسةً، فله كذا، يجوز. ولو قال أحدُهُما للآخر: ترمي عشرةً، فإن أصبت في خمستك، فلك عليَّ كذا، وإن أصبت، فلا شيء لي عليك، فكذلك يجوزُ. ولو قال: إن أصبت، فلي عليك كذا، لم يجز إلا بمحلِّل، ولو قال: ارْمِ سهماً، فإن أصبت، فلك كذا، وإن أخطأت، فعليك كذا، فهو قِمَارٌ. وقولُه في الكتاب "ولو قال: أرم، فإن كانتْ إصابتك أكثرَ من العشرة" أي: ارْمِ عشرةً، ثم وقع في اللفظ تقديمُ وتأخيرُ المعنَى، فإن كانت إصابتُك من العشرة أكثرَ، فَيُعلِمَ قوله "جاز" بالواو. فَرْعٌ: لو كانوا يتناضلون، فمرَّ بهم مارٌّ، فقال لمن انتهت النوبة إليه، وهو على
أن يرمي: إن أصبتَ بهذا السهْم، ذلك دينار فعن نص الشافعيِّ -رضي الله عنه- أنه إذا أصاب استحق الدينارَ، وتكونُ تلك الإِصابة محسوبةً من معاملته التي هو فيها، فقال الأصحاب قياساً عليه: لو كان يناضل رجُلاً، والمشروطُ عشر قرعاتٍ، وشرط أن يناضل بها آخر ثم ثالثاً إلى غير ضبْطٍ، حتى إذا فاز بها، كان ناضلاً لهم جميعاً، فهو جائز، قال الإِمامُ؛ وهذا دليل على انقطاعِ هذه المعاملة عن مضاهاة الإِجارة لأنها لو كانت بمثابتها، لما استحق بعمل واحدٍ مالَيْن عن جهتَيْن، وسبَبُ استحقاق المال فيها الشرط لا رجوع العمل إلى الشارط وقضيَّة هذه القاعدة ألاَّ تَجِبَ أجرة المثْل عند الفساد؛ لأن العامل لا يعمل لغيره. قَالَ الغَزَالِيُّ: الرَّابِعَةُ: إذَا شُرِطَ احْتِسَابُ القَرِيبَ وذُكِرَ حَدُّ القُرْبِ جَازَ، وَإنْ لَمْ يُذْكَرْ وَلَمْ تَكُنْ عَادَةٌ فَسَدَ، وَقِيلَ: يُنَزَّلُ عَلَى أَنَّ الأَقْرَبَ يُسْقِطُ الأَبْعَدَ كَيْفَ كَانَ، أَمَّا إذَا تَشَارَطُوا صَرِيحاً إِسْقَاطَ الأَقْرَبِ لِلقَرِيبِ فَهُو مُتَّبَعٌ، وَإنْ شَرَطُوا إِسْقَاطَ مَرْكَزِ القِرْطَاسِ وَمَا حَوَالَيْهِ فَوَجْهَانِ، لأَنَّ إِسْقَاطَ المَرْكَزِ كَالْمُتَعَذِّر. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقدمة الفصل أنهما اختلفوا في تفسير الحابي من السهام، فقيل: هو الذي يقع بين يدَي الغرض، ثم يزحف إليه، فيصيبه من قولهم حَبَا الصبيُّ، إذا أخذ في التحرك على أسْتِهِ أو بطنه، وهو كالمزدلف إلا أنَّ الحابي أضعفُ حركةً منه. وقِيل: هو الذي يصيب الهدف حوالَى الغرض. وقِيلَ: هو القريب من الهدف، كأن صاحبه يحابي ولا يريد منه إصابة الهدف، ويروَى هذا التفسيرِ عن الربيع، ولم يجعل كثير من الأصحاب الحَوَابِي صفة السهام، لكن قالوا: الرمي ثلاثةُ أنواع المبادرة، والمحاطَّة، والحَوَابي، وهو أن يرميا على أن يسقط الأقربُ والأسد الأبعد إذا تقرَّر ذلك، فلو شرطوا احتساب القريب من الغرض، نُظِرَ؛ إن ذكروا حدَّ القرب من ذراع أو أقلّ أو أكثر، جاز، وصار الحدُّ المضبوطُ كالغرض، والشَّنُّ في وسطه كالدَّارَة، وإن لم يذكر واحد القرب، فإن كان هناك للرماة عادة مطردة، حمل اللفظ المطلق على: القدر المعتاد عنْدهم، كما يحمل الدرهم عند الإِطلاق على المعتاد، وإن لم تكن عادةٌ مطردةٌ، فوجهان: أصحُّهُما: على ما ذكر الإِمامُ وصاحبُ الكتاب: أن العقْدَ فاسدٌ للجهالة، وإن قلنا: بالثاني، فوجهان: أحدهما: أنَّه ينزل على أن الأقْرَب يُسْقِطُ الأبعد كيف كان. والثاني: أنه يُنَزَّل على قدر البعيد أو الأقرب للأبعد، كما إذا قال: يرمي عشرين رَشَقاً على أن يسقط الأقربُ الأبعد، فمن فضل له خمسة، فهو ناضل، وهذا ما قدمناه
في تفسير الحوابي، فهو صحيح، والشرط متَبَعٌ، وعن "الحاوي": ما يشير إلى خلاف فيه، والمذهب الأول، ووجْه ذلك أنه نوع من الرميْ معتاد بين الرماة، وهو ضرب من المحاطَّة، وحينئذٍ، فإن تساوت السهام في القرب والبعد، فلا ناضِلَ ولا منضولَ، وكذلك، لو تساوى سهمان في القرب؛ أحدهُما لهذا، والآخر لهذا، وكان سائرُ السهام أبعدَ، فيَسقط قريبُ كل واحد منهما بعْد الآخر ويتساويان، ومهما كان بين سهم أحدهما وبين الغرض قدْر شِبْر وبين سهم الآخر، والغرض دون شبرٍ (¬1)، فيُسْقط الثاني الأولَ، فإن رمى الأول بعد ذلك، فوقع أقربَ، أَسْقَطَ ما رماه الثاني، ولو وقع سهم أحدهما قَريباً من الغرض، ورمى الآخر خمسةَ أسهمٍ، فوقعت أبعدَ من ذلك السهم، ثم عاد الأول فرمى سهماً، فوقع أبعد من الخمسة، سقط ذلك السهم بالخمسة، وسقط الخمسة بالأول، ولو رمى أحدهما خمسةً، فوقعت قريبةً من الغرض، وبعضها أقربَ من بعض، ورمى الثاني، فوقعت أبعد من خمسة الأول، سقَطَت خمسة الثاني بخمسة الأول، ولا يسقط من خمسة الأول شيء، وإن تفاوتت في القرب؛ لأن قريب كل واحد يُسْقِط بعيدَ الآخر، ولا يسقط بعيدُ نفسه، هذا ما أورده أكثرهم، وحكَوهُ عن النص، وفيه وجْه أنه يُسْقِط بعيدَ نفسه، كما يُسْقط بعيد غيره، وذكر أن ذلك عادةُ الرماة، وإذا وقع سهم أحدهِما بقُربْ الغرض، وأصاب سهمُ الآخرِ الغَرَض؛ فالمنقول أن الثاني يُسْقِط الأول، كما يسقط الأقربُ الأبْعَدَ، ولك أن تقول: ينبغي أن يُنْظَر إلى لفظ الشرط في العقد، إن كان الشرطُ إسقَاطَ الأسدِّ أو الأصوب غَيْرَه، فهذا ظاهر، وكذا إن كان الشرطُ إسقاطَ الأقرب الأبعدَ، على معنى الأقرب إلى الصواب، فأما إذا كان الشرط إسقاطَ الأقرب إلى الغرض الأبْعَدَ عنه، فينبغي أن يتساويا؛ لأن الموصوف بأنه أقربُ إلى الغرض أو أبعد عنه ينبغي أن يكون خارجاً عنه، وهما جميعاً في الغرض، وإذا أصاب أحدهما الرقْعة في وسَطِ الغرض، والآخر الغرضَ خارجَ الرقعة، أو أصاب خارج الرقعة (¬2)، وأحدهما أقرب إليها، فقد حَكَى الشافعيُّ -رضي الله عنه- عن بعض الرماة أن الذي أصاب الرقعة أو هو أقرب إليها يُسْقِط الآخر، قال: والقياس عندي أنَّهُما سواء، وإنما يُسْقِط القريبُ البعيدَ، إذا كانا خارجَيْن من الشَّنِّ، وفي هذا تأكيدٌ لما قدمناه، وعن "الحاوي": أنه عد المذهبين وجهَيْن، قال الشافعيُّ -رضي الله عنه-: ومن الرماة من يقول: القريب الذي يُسْقِط البعيدَ؛ هو الساقط، وهو السهم الذي يقع بين يدَي الغرض، والعاضد، وهو الذي يقع في جانب اليمين أو اليسار دون الخارج، وهو الذي يجاوزه، ويقع فوقه، والقياس عندي أنه لا فرق؛ لوقوع اسم القريب على الجميع، وذكر الإِمام: أنهم إذا شرطوا احتساب القريب من الغرض، فالاعتبار بموضع ثبوت ¬
السهم واستقراره، لا بحالة المرور، حتى لو قَرُب مروره من الغرض، ووقع بعيداً منْه، لم يحتسب به إلا إذا شرطوا اعتبار حالَةِ المُرُور، وِإنْ وقولُه في الكتاب "وِإنْ شرطوا إسقاط مركز القرطاس وما حواليه" أي: شرطوا أن يسقط إصابة المركز إصابة ما حوالَيْه، وحَكَى في "النهاية" بدل الوجهين قولَيْن، ووُجه المنْعُ بأنَّ وسط القرطاس قد يتعذّر قصده، وقد يصيبه الأخرق اتفاقاً، ونَسَب القولين إلى رواية العراقيين، ولا يكاد يوجد في كتبهم في إصابه أحدهما وسط القرطاس وإصابة الآخر ما حواليه، إلا ما حكيناه عن نصِّ الشافعيِّ -رضي الله عنه- وذلك في مطْلَق شرط إسقاطه للأبعد لا في إسقاط المركز ما حوله، والمفهوم مما ساقه الأصحابُ اتِّبَاعُ المَشْروط. قَالَ الغَزَالِيُّ: في جَمِيعِ هَذِهِ الشُّرُوطِ إِذَا عَرَضَتْ نَكْبَةٌ مِنْ بَهِيمَةٍ تَعْتَرِضُ أَوْ سَهْمٍ أَوْ قَوْسٍ يَنْكسِرُ فَيُعْذَرُ صَاحِبُهُ حَتَّى لاَ تُحْتَسَبَ (و) عَلَيْهِ تِلْكَ المَرَّةُ إِلاَّ أنْ يَكُونَ الانْكِسَارُ لِسُوءِ صَنِيعِهِ فَيُحْسَبُ عَلَيْهِ لِيَتَعَلَّمَ، وَلَوْ أَصَابَ بَهيمَةً فَمَرَقَ وَأَصَابَ الهَدَفَ فَيُحْسَبُ لَهُ عَلَى أَحَد الوَجْهَيْنِ، وَإِن انْصَدَمَ بِشَجَرٍ ثُمَّ وَقَعَ عَلَى قُرْبٍ حُسِبَ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ، وَإِنْ أَصَابَ فَهَلْ يُحْسَبُ لَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ إِذْ قَدْ يُحْمَلُ عَلَى وِفَاقٍ، وَالرِّيحُ اللَّيِّنَةُ لاَ تُؤَثِّرُ، وَالعَاصِفُ المَقْرُونُ بابْتِدَاءِ الرَّمْيِ لاَ يُؤَثِّرُ وَفِي أَثْنَائِهِ هَلْ يُعْذَرُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَإنْ انْكَسَرَ السَّهْمُ بِنِصْفَيْنِ فَأَصَابَ بِالْمُنْقَطِعِ الَّذِي فِيْهَ الفَوْقُ حْسِبَ، وَإنْ أَصَابَ بِالنَّصْلِ مِنَ النِّصْفِ الأَخِيرِ فَوَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: غرض الفصل القول في النكبات التي تطرأ عند الرمي، وتشوشه، وذلك يعم شرط القَرْع والخَسْق وغيرهما؛ ألا تراه يقول في جميع هذه الشروط: "إذا عَرَضَتْ نكبةٌ" وإذا كان كذلك، فللمضايق يضايق في عدّ الفصل مضموماً إلى الشروط السابقة بقوله: "الخامسة كذا"؛ لأنه قال في أول النظر الثاني "والشرط صورٌ" وليس هذا من صور الشروط، والأصل الذي يبنى عليه أن السْهَم مهما وقع متباعداً عن الغرض تباعداً مفرطاً، إما مقصراً عن الغرض أو مجاوزاً، نُظِرَ؛ إنْ كان ذلك لسوء الرمي، فهو محسوب على الرامي، ولا يُرَدُّ السهمُ إليه؛ ليرميه مرة أخرَى، وإن كان لنكبة عرضَتْ، أو خلل في آلةِ الرمْي من غير تقصير من الرامي؛ فذلك السهْمُ غيرُ محسوبٍ عليه، وهذا الأصل يوضِّحه صُورٌ: إحداها: إذا عرض في مرور السهم إنسانٌ أو بهيمةٌ، فلم يبلغ السهم، أو حدثت في يده علة، أو ريحٌ أخلَّت بالرمي، فلا يحسب تلْك الرمية عليه، بل يعيدها؛ لأن عدَم الإِصابة للنكبة العارضة لا لسوء رميه، فيعذر، وانقطاع الوتر وانكسار السهم والقوس، إن اتفق شيء منها بتقصيره وسوء رميه، فتُحْسَب الرمية عليه، ليتعلَّم وذلك مثل أن
يخلِّي الفوق (¬1) في النزع عن الوتر، فيتولَّد منه انكسار السهم، وإن كان بسبب ضعف الآلة أو غيره لا من جهة تقصيره وإساءته، فهو كما لو عرضت بهيمة ونحوها، فلا يحسب الرمية عليه، وكذلك لو حدثت في يده علة أو ريح أخلَّت بالرمي، وحَكَى الإِمامُ وجهاً أن السهم عند هذه العوارض، إن وقع قريباً من الغرض، حسبت الرمية عليه؛ لأنه وقع في حدِّ غيره بعيداً عن الإِصابة، وكأنّ النكبة لم تؤثِّر، ونُسِبَ هذا إلى أبي إسحاق وخَصَّص الأكثرون هذا الوجْه بما إذا وقع السهم مجاوزاً للغرض، وجعلوا المجاوزة مُشْعِرة بأن النْكبَة لم تؤثِّر، وسبب المجاوزة إساءة الرمي، وأجابوا عنه بأن الإِخلال يُؤثِّر في التقصير تارةً، وفي الإسراف أخرَى، فإن قلنا: بالاحتساب عليه، فلا شَكَّ أنه، لو أصاب، يحسب له السهم، وإن قلْنا: لا يُحْسب عليه، وهو الظاهر المنصوص والمذكور في الكتاب، فلو أصاب، هل يُحسب له؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، كما لا يُحسب عليه، ولأن الإِصابة مع انكسار الآلة قد تعد اتفاقية. وأصحُّهُما: نعم؛ لأن الإصابة مع النكبة تدل على جودة الرمْيِ وقوته، ثم في كتاب القاضي ابنِ كج: أن الانقطعَ والانكسار إنما يؤثر حدوثهما قبل خروج السهم من القوس، إما بعده، فلا أثر له، وصوَّر في التهذيب انكسار السهْم (¬2) فيما إذا كان بعد خروجه من القوس، وجعل عُذراً، وإذا انكسر السهْمُ نصفين ولا تقصير منه، وأصاب أحد نصفيه الغرض إصابةً شديدةً، فعلى الوجهين في أن الإِصابةَ مع النكبة، هل تُحسَب له؟ إن قلْنا نعم، وهو الظاهر، فبأي النصفين الاعتداد؟ فيه وجهان: أحدهما: أن الاعتدادَ بالنصف الذي فيه النصْل، فإن أصاب بالنصْل، حُسب له؛ لأن اشتداده مع الانكسار يدُلُّ على جودة الرمْي وغاية الحَذَق فيه، والنصف الذي فيه الفوق لا اعتداد به، كما إذا لم يكن انكسار. والثاني: أن الاعتداد بالنصف الذي فيه الفوق، فإذا أصاب بمنقطعه حُسِبَ له ولا عبرة بالنصف الآخر: لأنه لم يبْقَ فيه تكامل الوتر واعتماده، والمقروع بالوتر هو النصف الذي فيه الفوق، والأول المنصوص، وبه أجاب العراقيون وأكثرُ الأصحابِ. والثاني: الجواب في "التهذيب" ويوافقه إيراد صاحِب الكتاب في الذي فيه الفوق، لكن من جعل الاعتبار بما فيه الفوق، لا يعتد بالإِصابة بالنصف الذي فيه النَّصْل، وكان من حقه، إذا جعل الإِصابة بما فيه الفوق محسوبةً، أن يقول: وإن أصاب بالنصل من النصف الآخر، لم يُحْسَب؛ أما ذكر الوجهين في أحدهما دون الآخر، ¬
والحال ما وصفنا، فغير مستحسن، ولو أصاب بهما، لم يُحْسَب إصابتين، وكذلك الحكمُ وكذا فيما لو رمى سهمين دفعةً واحدةً، ذكره القاضي ابنُ كج، ولو انصدَمَ السهْم بشجر، ثم أصاب، فقد سبق ذكُر الخلافِ فيه، وهو مكرَّر هاهنا، وزاد هاهنا ذكرْ الخلاف في أنه، هل يُحْسَب عليه، إذا لم يصب وقد قدمناه أيضًا. وقوله: "ثم وقع على قرب" يشير إلى أن الخلافَ فيما إذا وقع قريباً يتوقع في مثله الإصابة، فأما إذا أفرط التباعُدُ، فهو محسوب عليه لا محالة وكذلك نقول: لو حاد السهم عن سنن الهدَفِ، وخرج من السماطين، يُحْسَب عليه بسوء رمْيهِ ولو رمى إلى غير الجهة التي فيها الهَدَف، فهذا اشْتِغال منه بغير النضال الذي يتعاقدا عليه، فلا تُحْسَب عليه (¬1). الثانية: لو كان في الغرض سَهْمٌ، فأصاب سهمه فوق ذلك السهمْ، نُظِر؛ إن كان ذلك السهم قد تعلَّق به، وبعضه أو أكثره خارجٌ، لم يحسب ذلك إصابة للغرض، ووُجِّه بأنه لا يدري، هل كان يبلغ الغرض لولا هذا السهْمُ، ولا يُحْسَب عليه أيضًا؛ لأنه عارِضٌ دون السهم، فإن شقه، وأصاب الغرضَ، حُسِبَ له، وقد يجيء فيه الخِلافُ المذكور في البهيمة وإن كان ذلك السهْمُ قد غرق فيه، اعتد إصابةً، فإن كان الشرْطُ الخَسْقَ، لم يحسَب له ولا عليه؛ لأنه لا يَدْرِي، هل كان يخسق أم لا، وينبغي أن ينظر إلى ثبوته فيه، وأن يُقاس صلابةُ ذلك السهم بصلابة الغرض، كما سبق نظيره. ولو أخرق الرامي، وبالغ في النزع حتى دخل النَّصْل مقبض القوس، ووقع السهم عنده، فالنص إلحاقُه بانكسار القوْس وانقطاع الوتر وسائِرِ العوارض، ووُجِّه بأن سوء الرمي أن يقصد شيئًا، فلا يصيبه، ولم يُوجَدْ هاهنا، وإنما ترك التحفُّظ في النزع، وعن صاحِب "الحاوي": أنه يُحْسَب عليه؛ لأن النزعَ ينبغي أن يكون بقدر الحاجة، فالزيادة إساءة ويقرب من هذا كلامُ الإِمام وعن أبي الحسين بن القطان: أنه، إن لم يبلغ مدى الغرض، لم يُحْسَب عليه، وإن بلَغ المدَى، ولم يصب، حُسِبَ عليه. الثالثة: الريحُ الليِّنة لا تؤثر حتى لو رمى زائلاً عن المسامتة، فردتْهُ الريحُ أو رَمَى ضعيفاً، فَقَوَّتْهُ، وأصاب، حُسِب له، وإن صرفته عن السمت بعْضَ الصرف، فأخطأ؛ حُسِب عليه؛ لأن الجو لا يخلو عن الريح الخفيفة غالباً، ويضعف تأثيرها في السهم مع سرعة مروره، فلا اعتداد بها، وفيها وجْهٌ: أنها تمنع الاحتساب عليه، إن أخطأ، ووجْهٌ، آخر: أنها كالعاصفة تمنع الاحتساب له وعليه. وإن كانت الريحُ عاصفةً واقترنت بابتداء الرمي، فيخرج مما ذُكِر فيه وجهان: ¬
أحدهما: وهو ظاهر النص، وبه أجاب الإِمام وصاحبُ الكتاب: أنها لا تؤثر؛ لأن ابتداء الرمي والريح، تهبّ عاصفة، تقصير وأيضاً فللرماة حَذَقٌ ونَظَرٌ في الرمْي وقت هبوب الريح؛ ليصيبوا، فإذا أخطأ، فقد ترك ذلك النظر، وظهر سوءُ رميه. وأظهرهما: وهو قول أبي الطيب بن سلمة، وبه أجاب أصحابُنَا العراقيون وغيرهُمْ، أنها تمنع الاحتساب له، إن أصاب، وعليه إن أخطأ، لقوة تأثيرها, ولذلك يجوز لكلِّ واحد منهما تأخيرُ الرميْ إلى أن ترقد بخلاف اللينة، ولو هجم هبوبها بعد خروج السهم من القوس، فقضية الترتيب أن يُقَالَ: إن جعلنا اقترانها مؤثراً، فهو أولَى بالتأثير، وإلا، فوجهان: أحدهما: أنها كالنكبات العارضة. والثاني: المنْعُ؛ لأن الهواءَ لا يخلُو من الريح، ولو فتح هذا الباب لطال النزاعُ، وتعلَّل المخطِئُون به، والظاهِرُ أنه، إن أخطأ عند هجوم الهبوب، لم يحسب عليه، وإن أصاب، فهل يُحْسَبُ له؟ فيه الخلاف المذكورُ في "السُهم المزْدَلِف" (¬1) إذا أصاب. وقال الشيخُ أبو إسحاق الشيرازيُّ: عندي لا يُحْسَب له بلا خلاف، وأن المزدلف أصاب الغرض بحدة رميه، ومع الريح العاصف لا يُعْلَمَ أنه أصاب برميه. ولو هبت ريحٌ، ونقلت الغرض إلى موضع آخر، فأصاب السهمُ الموضعَ المنتقل عن، حُسِب له، إن كان الشرطُ الإِصابةَ، وعن القاضي بخلافه؛ لأنه زال المرميُّ إِليه، وإن كان الشرط الخَسْقَ، فليستَ صلابَةُ (¬2) الموضع كصلابة الغرض، وإن أصاب الغرض في الموضع المنتتَقَل إلَيْه، لم يُحْسَب له، بل يُحْسَب عليه، ولو أزالت الريح الغرض حتى استقبل لسهْمَ فأَصابه السهم، قال القاضي ابنُ كج: لا يُحْسَبُ له. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَأَمَّا حُكْمُ هَذَا العَقْدِ إِنْ قُلْنَا بِلُزُومِهِ فَيَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الرَّامِي وَبِمَوْتِ الفَرَسِ، وَلَوْ مَاتَ الفَارِسُ فَلِلوَارِثِ الإِتْمَامُ، وَيُحْتَمَلُ خِلافُهُ، وَاِنْ قُلْنَا بِالجَوَازِ جَازَ إِلْحَاقُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانِ بِعَدَدِ الأَرْشَاقِ وَالإِصَابَاتِ بِالتَّرَاضِي، وَهَلْ يَجُوزُ الاسْتِبْدَادُ؟ فِيهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ، يَجُوزُ فِي الثَّالِثِ لِلَّذِي قَرُب مِنْ أَنْ يَسْتَولِيْ دَوُنَ المَغْلُوبِ وَكَأَنَّ المَغْلوبِ ¬
لَزِمَ فِي حَقِّهِ أَعْنِي بِهِ مَن قَرُبَ مِنْ أَنْ يُغْلِبَ، ثُمَّ إِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالزِّيَادَةِ فَإنْ لَمْ يَرْضَ الآخَرُ فَلَهُ فَسْخُ العَقْدِ، وَيجُوزُ تَأْخِيْرُ الرَّمْي عَلَى هَذَا القَوْلِ إِذْ يَجُوزُ الإِعْرَاضُ أَصْلاً، وَلَوْ قَالَ المَفْضُولُ لِلفَاضِلِ: حُطَّ فَضْلَكَ وَلَكَ كَذَا لَمْ يَجُزْ عَلَى القَوْلَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفصل الثاني: في حكم المناضلة جوازاً ولزومًا وفي كونها جائزةً أو لازمةً قولان كما سبق في "المسابقة" وقوله: "وأمَّا حكم هذا العقد" يعني فيما يرجع إلى الجواز واللزوم، وإلا، فالكلام في ذوات النظر. الثاني: في حكم هذا العقد، وإن قلنا: إنه يلزم، فينفسخ بموت كل واحد من المتراميين، وينزل موت الرامي منزلة الأجير المعيَّن، ولو مَرِضَ أحدهما أو أصابه رمدٌ، لم ينفسخ العقد، ولكن يُؤَخَّر الرمي، وفي المسابقة يَحْصُل الانفساخ بموت الفرس؛ لأن التعويل فيها على الفرس، ولا يَحْصُل بموت الفارس، بل يقوم الوارث مقامه، وأبدى فيه احتمال آخر؛ لأن للفارس في العقد أثراً ظاهرًا، وإلزام الوارث عمل المسابقة كالمستبعد، ولا يجوزُ لهما إلحاق الزيادة بعدد الأرشاق ولا عدد الإصابات، وطريقُها: إن أراد، ذلك أن يَفْسَخَا العقدَ ويستأنفا آخر، وليس للمناضل أن يترك النضال، ويجلس، بل يُؤْمَر به، ويلزم كمن استُؤْجِرَ لبناءٍ أو خياطةٍ، وامتنع، ويُشْرَع فيه الحبس والتعزير هذا إذا كان مفضولاً أو كان (¬1) له الفضل، وتوقع صاحبه أن يدركه، فيساويه أو يفضله، أما إذا لم يتوقع الإِدراك، كما إذا شرطا إصابة خمسة من عشرين، فأصاب أحدُهُما خمسة، والآخر واحَداً، ولم يبق لكل واحد إلا رميتان، فلصاحب الخمسة أن يجلس ويترك الباقي، وإن قلْنا: بالجواز يفرَّع عليه مسألتان: إحداهما: يجوزُ إلحاقُ الزيادة بعدد الأرشاق والإِصابات، وفي المال بالتراضي، وفيه وجهٌ بعيدٌ تخريجًا من الخلاف في جواز إلحاق الزيادة بالثمن والمثمن في زمان الخيار ومكانه، وهل يَسْتبد أحدهما بالزيادة؟ وحَكَى الإِمام فيه ثلاثةَ أوجهٍ، وتابعه المصنِّفُ: أحدها: لا، تخريجاً على أنه لا بدّ في العقْد من القول، وإن جُعِلَ كالجعالة، وإذا شرطنا القبول في ابتداء العقْد، وجب اشتراطه في الزيادة. وأظهرها: نعم، لجواز العقد، فإذا لم يرض صاحبه بالزيادة، فليفسخ. وثالثُها: أنه ليس للمفضول إلحاقُ الزيادة، كيلا يتخذ ذلك ذريعةً إلى الدفْع، فلا يتم النضال، وان كان فاضلاً أو مساوياً، فله ذلك، وبم يصير مفضولاً؟ قيل: متى زاد صاحبهُ لإصابة واحدةٍ، فهو مفضول، والأشبه أنه لا تكفي الإِصابة الواحدة والإِصابات، ¬
لكونه مفضولاً، ومتَّهَماً في الزيادة، وإنما يَصِيرُ مفضولاً، إذا قرب صاحبه من الفوز والاستيلاء، والوجْهُ المذكورُ في أنه لا يجوز إلحاق الزيادة والنقصان بالتراضي، والوجهُ الآخرُ في أنه ليس لأحدهما الاستبداد: يطردان في المسابقة، وإن لم يذكرُهْما هناك، وفي "الجعالة" إذا زاد الجاعل في الجُعْل، كان متَّهماً كالمفضول ففي زيادته الخلافُ، فإن لم تلحق الزيادة بها، فذاك، وإن ألحقناها، وقد عمل العامل بعض العمل، ولم يرض بالزيادة فُسِخ العقْد، قال الإِمام: والوجه أن تثبت له أجرة المثل؛ لأن التركَ بسبب الزيادة بخلاف ما إذا عمل بعض الَعمل، وترك الباقي بلا عذرٍ؛ حيث لا يستحق شيئاً. وقوله في الكتاب: "وهل يجوزُ له الاستبدادُ" بعدما ذكر جواز الزيادة والنقصان بالتراضي، ينصرف ظاهراً إلى الزيادة والنقصان جميعًا، لكِنَّ المقصودَ هاهنا الزيادة، ألا تراه قال الثالث: "يجوز للذي قَرُب مِنْ أَنْ يَسْتولِيَ دون المغلوب وقياس هذا الوجه في جانب النقصان أن يجوز النقصان للذي قَرُبَ من أن يغْلِب دون الذي قَرُب من الاستيلاء؛ فإنه المتَّهم في النقصان بالحرص على الاستيلاء، وذكر الإمامُ: أنه لا ينبغي أن يشبه الحطُّ والنقصان هاهنا بإبراء البائع عن بعض الثمن؛ لأن الإِبراء كالاستيفاء، وليس شيئاً يلتحق بالعقد؛ ألا ترى أنه ينفذ بعد لزوم العقد، وأنه يَجْرِي في قيم المتلفات أو في العروض، وحيث لا يتوقع إلحاق الزيادة، وحطُّ الأرشاقِ والقرعاتِ ليس في هذا المعنى، فهو على التردُّد المذكور في الزيادة، نعَمْ، مَنْ شَرَط السبق له، لو حطَّ قبل الفوز، فهل هو كالإِبراء عن الشيء قبل وجوبه، وقد ظهر سببُ وجوبه؟. الثانية: يجوز لكل واحد منهما على هذا القول تأخيرُ الرمْي والإِعراض عنه من غير فَسْخ، وكذلك الفسْخ، إذا لم يكن المُعرِضُ مفضولاً، وإن كان مفضولًا متهماً، فهل له أن يجْلِسَ ويترَك النضال؛ فيه وجهان أو قولان؛ على ما ذكرنا في المسابقة، قال الإمامُ: وفي جواز فسخه الخلافُ الذي ذكرناه في جواز الزيادة؛ ويفضي الأمرُ، إذا فرَّقْنا بين المفضول وغيره إلى أنَّ الحكمَ بالجواز مطْلقاً مقْصورٌ على ما إذا لم يَصِرْ أحدهما مفضولاً، فإن صار مفضولاً، لزم في حقه، وبقي على الجواز في حق الآخر، والخلافُ في أن المفضولَ هل ينفذ فسخُه، أجرى في فسخ الجاعل الجَعَالة، بعدما أتى العامل ببعض العمل، وكانت حِصَّةُ عمله من المسمَّى تزيد على أجرة المثل، ولو شرطا في العقد أنَّ لكل واحدٍ منهما أن يجلسَ، ويتركَ النضال إن شاء، فسد العقد، إن قلنا: إنَه لازمٌ، وكذلك إن جعلناه جائزاً، وقلنا: ليس للمفْضُول التركُ والإِعراض، وإن قلْنا: له ذلك، لم يضرَّ شرطُه، فإنه مُقْتضَى العقد، وإن شرطا أن المُسْبَق، إن جلس، كان عليه السَّبَق، فهو فاسد على القولَيْن؛ لأن السبَقَ، إنما يُشْرَع في العمل، ولو كانا يتناضلان، فَفَضَل أحدُهما الآخر بإصابات، فقال له المفضول: حُطَّ فضلك، ولك عليَّ كذا، لم يجز، سواءٌ جعلنا هذه المعاملة لازمةً أو جائزةً،
وسواءٌ جوَّزنا إلحاق الزيادة أو لم نجوز، فإن حَطَّ الفضْلِ لا يُقابل المال. ويختم الكتاب بمسائل منثورة من الباب، إذا كان أحد الرامِيَيْن يطول الكلام إذا أصاب السهم -والافتخار فيضجر صاحبه أو يعنف صاحبه، إذا أخطأ، مُنِعَ منه، وإذا كلَّم أحدهما إنسان، قِيلَ له: أجاب جواباً وسَطاً، ولاَ تُطَول، ولا تحبس القومُ، ولو كان يتعلَّل بعدما رمى صاحبُه بمسح القوس والوتَر، وأخْذ النبل بعْد النبل والنظر فيه، قيل له: آرْمِ لا مستعجلاً ولا متباطئًا؛ لأنه قد يتعلَّل لخطئه، وقد يصيب صاحبُه، فيؤخر لتردُّيده أو ينسى نهج الصواب، لو شرط أن يُحْسَب لأحدهما أصابة واحدةٌ إصابتَيْن، أو يحط من إصاباته شيْء أو على أنه، إن أخطأ، رُدَّ عليه سهم أو سهمان؛ ليعيد رميهما، لم يجز؛ لأن هذه المعاملة مبنيةٌ على التساوي، وكذا لو شرطا أن يكون في يد أحدهما من النبل أكثرُ مما في يدِ الآخر، وهذا شيء يعتاده الرماة، ويأخذون النبل بين أصابعهم، ومن أخذها أكثر، كان راميه أضعف، ولا يجوز أن يُحْسَب خاسقُ أحدِهما خاسقَيْن، لو كان المشروطُ الحوابِيَ، فشرط أن يُحْسَب خاسقٌ حابِيَيْن، جاز، نص عليه في "الأم"؛ لأن الخاسق يختص بالإِصابة والثبوت، فجاز أن تجعل تلْك الزيادة قائمةً مقام حاربٍ، وقيل: فيهما جميعًا: قولان. ولو كانا يتناضلان، فرمَيَا بعض الأرشاق، ثم ملاَّ، فقال أحدهما للآخر: ارْمِ، فإن أصبتَ، فقد نضلتني، أو قال: ارْمِ، فإن أصبت هذه الوحدة، فقد نضلتك، لم يجز؛ لأن الناضِلَ من يساوي صاحبه في عدد الأرشاق، ويفضله في الإِصابة، ولا يتحقق ذلك في الإِصابة الواحدة. لو تناضل أو تسابق اثنان، وأخرج السَّبَق أحدهما، فجاء أجنبيُّ، وقال: شاركني فيه، إن غنمت أخذتُ معك ما أخرجته، وإن غرمت، شاركتك في الغرم، لم يجزْ، وكذا لو أخرجاه وبينهما محلِّل، فقال أجنبي، لأحدهما: لأن الغُرم والغُنم في المسابقة مبنيان على الرمْي، وهذا الأجنبي لا يَرْمِي، إذا وقع عقد المناضلة والمسابقة في الصحَّة ودفع المال في مَرَض الموت، فهو من رأس المال، إن جعلناه إجارة وإن جعلْناه جعالَةً، فوجهان، ولو ابتدأ العقد في المرض، فيُحتمل أن يُحسب من الثلث، ويُحتمل أن يُبْنَى على اختلاف القولين، ذكره في "البحر" (¬1) وفيه: أنَّ الوليِّ ليس له أن يَصْرِف مال الصبيِّ إلى غرض المسابقة والمناضلة، ليتعلَّم، وأن السبَقَ الذي يلتزمانه يجوز أن ¬
يكونَ عندهما، ويجوزُ وضْعُه عند عدْلِ يثقان به، وهو أحوطُ وأبعدُ عن النزاع، وأنَّه، لو قال أحدهما: ينزل السبَقُ عندنا، وقال الآخر: نضعه عند عدل، نُظِر؛ إن كان المُلتَزَمُ دَيْناً، أُجيبَ الأول، وإن كان عَيْنًا، أُجِيب الثاني، وأنهما لو اتفقا على إخراجه من اليد، وقال أحدهُما: نضعه عند زيد، وقال الآخر: عند عمر، واختار الحاكم أميناً، وهل يتعيَّن أحد الأمينَيْنِ المتنازَع فيهما أوله أن يختار غيرهما؟ فيه وجهان، وأنه لا أجرة للأمين إلا إذا اطَّرَدَ العَرْفُ بأجرة له؟ ففيه وجهان. وفيه: أنَّ المحلِّل ينبغي أن يجري فرسه بين فرسَي المتسابقين، وإن لم يتوسطهما، وأَجْرَى من أحد الجانبين، جاز، إن تراضيا به، وأنه لو رضي أحدهُما بأن يعدل عن الوسط، ولم يرض الثاني، لزمه التوسُّط، وأنهما لو تراضيا بأن لا يتوسَّط، ولكن قال أحدهما: يكون على اليمين، وقال الآخر: على اليسار، ألزم التوسُّط، وأنه، لو تنازع المتسابقان في اليمين واليسار، أُقْرع بينهما، قال في "المختصر": الصلاة جائزة في المَضْرَبَة والأَصَابع، إذا كان جلْدُهما ذكيًا ومدبوغًا من جلْد ما لاَ يُؤْكَل لحمُه سوى الكَلْب والخِنْزِير، والمضربةُ هي التي يُلْبِسُها الرامي كفَّه اليسرَى حتى لا يصيبها الوتَر، قال الشيخ أبو حامد: الأصحاب يقولَون: "المضَّربة"، ولفظ الشَّافعيِّ "المَضْرَبَة" بالتخفيف، يعني بها الآلات، والأصابع: جلْد الرامي في إبهامه ومسبحته من اليد اليمنَى؛ ليمد الوتر، والغرض أنه لا بأس باستصحابهما في الصلاة بشرط الطهارة، ويتعلق النظر أيضاً بأنَّ كشْف اليد في السجود، هل يجب؟ قال: ولا بأس أن يُصلِّي متنكّبًا القوس والقرن إلا أن يتحرَّكَا علَيْه حركةً تشغلُه، فأكْرَههُ ويجزئه، والتَّنكُّب التقلُّد، والقَرَن بتحريك الراء الجَعْبَة المشقُوقة، ولا بدّ من رعاية الطهارة. لا يُجْلَب على الفرس في السباق، وهو أن يصيح به القوم ليزيد في عَدْوه، ولكن يركضان بتَحْريك اللجام والاستحثاث بالسَّوْط، رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أَجْلَبَ عَلَى الخَيْلِ يَوْمَ الرِّهَانِ، فَلَيْسَ مِنَّا" ويُرْوَى (¬1) "لاَ جَلَبَ وَلاَ جَنَبَ" وذكر في معنى الجنب: أنهَم كانوا يُجنِّبون الفَرَس حتى إذا قاربوا الأمد، تحوَّلُوا عن المركوب الذي قد كدّه الركوب إلى الجنبة، فنُهُوا عنه. إذا وقف المتناضلان في الموْقِف، فهل يحتاج مَنْ يرمي إلى أن يستأذن صاحِبَه، قال القاضي ابنُ كج: جرت عادة الرماة بالاستئذان، حتى أنَّ مَنْ رمَى من غير استئذان، لم يُحْسَب ما رماه، أصاب أم أخطأ، ويجب اتِّباع عُرْفِهِم بالاستئذان، وقال أبو الحسين: يُحْسَب، ولا حاجة إلى الاستئذان، واللهُ أَعْلَمُ بالصواب. ¬
كتاب الأيمان
كِتَابُ الأَيْمَانَ، وَفِيهِ ثَلاَثَةُ أَبْوَابٍ البَابُ الأَوَّلُ فِي نَفْسِ اليَمِينِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَحْقِيقِ مَا يَحْتَمِلُ المُخَالَفَةَ بِذِكْرِ اسْمِ اللهِ تَعَالَى أَوْ صِفَتِهِ مَاضِياً كَانَ أَوْ مُسْتَقْبَلاً إلاَّ فِي مَعْرِضِ اللَّغْوِ وَالمُنَاشدَةِ فَيجِبُ الكَفَّارَةُ فِي اليَمِينِ الغَمُوسِ وَإِنْ كَانَ الفِعْلُ مَاضِيًا، وَلاَ يَجِبُ فِي اللَّغْوِ وَهُوَ قَوْلُ العَرَبِ لاَ وَاللهِ وَبَلَى وَاللهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ تَحْقِيقٍ، وَلاَ يَجِبُ بِالْمُنَاشَدَةِ وَهُوَ أَنْ يُقْسِمَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَجِبُ إِذَا قَالَ عَقِيبَهُ: إنْ شَاءَ اللهُ. قَالَ الرَّافِعِي: الأصل في الأيمان آياتُ الكِتاب؛ كقوله تعالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] وقولِهِ تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور: 22] وقوله {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] والسنةُ؛ كما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "واللهِ، لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا" (¬1) وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان كَثِيرًا ما يَحْلِفُ، فيقول: "لاَ وَمُقلِّب الْقُلُوبِ" (¬2) ورُوِي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا اجتهد في يمينه قال "وَالَّذِي نَفْسُ أَبي الْقَاسِمِ بِيَدْهِ، أَوْ نَفْسُ مُحَمَّدٍ" (¬3) والإجماعُ؛ فإن الأَمَّةَ مطبقةٌ على انعقاد اليمين، وتعلُّق الكفَّارة بالحنث فيها, ولما كانت دلالة الكتاب والسنةِ والإِجماعِ متعاضدةً على أن لليمين انعقادًا، وأن لها، إذا انعقدت ¬
براً أو حنثاً، ولحقتها كفارةٌ، فكان كلامُ الكتاب، دَائِرًا على ثلاثةِ أمورٍ؛ وهي اليمين والكفَّارة والحنث، عَقَدَ لكلِّ واحدٍ منْها بابًا وضمنها مقصود الكتاب. الباب الأول في نفس اليمين، وللأئمة عباراتٌ في حقيقة (¬1) اليمين: أحدُها: قال الإِمام: اليمينُ: تحقيق الشيء وتقريرُه بذكر الله تعالَى أو باسْم من أسمائه، أو بصفة من صفات ذاته نفيًا أو إثباتًا في الماضي وإقدامًا وإحجامًا في المستقبل، فقولُ الرجُل "والله، لا أدخلُ الدارَ" تقرر به نفْيُ الدخول، وقوله: "دَخَلْتُ" تقرر به الدخولُ. وقوله: "والله، لأَدْخُلَنَّ" وقوله: "واللهِ، لا أدْخُلُ" تقرر به الإِقدام والإِحجام، وقد يعترض عليه من وجوه: أحدُها: أن قولنا "الله" اسْمٌ من أسماء الله تعالى وقوله: "بذكر الله" يدخل في قوله "باسم من أسمائه". والثاني: قوله "تحقيق الشيء وتقريره" يدخل فيه الماضي والمستقبل، فلا حاجة إلى ذكر الماضي والمستقبل بقوله: "نفيًا أو إثباتاً في الماضي" إلى آخره. والثالث: إذا ذكر الماضي والمستقبل، فلا حاجة إلى يمين الماضي عن المستقبل بلفظتي النفي والإثبات في الماضي، والإقدام والاِحجام في المستقبل، بل كان بسبيل من الاقتصار على النَّفْي والإِثبات، في المَاضي والمستقبل جميعاً. والرابع: الإقدام والإحجام يختصان بالأفعال الاختيارية، واليمينُ لا تختص بها مثْلُ أن يقول: والله، لا تَطْلُعُ الشمس غدًا، أو تطلع من المغرب. والثانية: قال في الكتاب "وهي عبارة عن تحقيق ما يحتمل المخالفة بذكر اسم الله تعالَى أو صفته ماضيًا كان أو مستقبلاً إلا في معرض اللغو والمناشدة" ويرد عليه الوجه الثاني فإن قولَه "ما يحتمل المخالفة" يشمل الماضي والمستقبل، وأيضاً، فقوله: "في معرض اللغو والمناشدة" لا حاجةَ إليه، أمَّا اللغو: فلأنه يشبه أن يُقَال: لغو اليمين يمينٌ، لكن لا تتعلَّق به الكفَّارة، ويدل عليه قولُه تعالى: {بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] أثبت اليمين مع اللَّغْو، وأما المناشدة فلا تُحقَّق المناشدة بذكر اسم اللهِ تعالَى، وإنما يسأل من غير التحقيق، فيخرج بقوله "تحقيق ما يحتمل المخالفة" صورة المناشدة. والثالثة: قال صاحبُ "التهذيب": "اليمين هي تحقيق الأمر أو توكيدُه بذكر اسم من أسماء الله تعالَى أو صفة من صفاته" وهذا سليم عن الوجوه السابقة، لكن يشبه أن ¬
يُقَالَ: ذكر اسم الله أو صفة من صفاته لا يكونُ قَيْدًا في حقيقة اليمين؛ ألا ترى أنه يُقَالُ: حلَفْتُ باللهِ، وحلَفْتُ بغير الله، وفي الخَبَرِ "لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائكُمْ" (¬1). وقوله في الكتاب على الأثر "فتجب الكفَّارة" إلى آخره يُشْعر بأن المقصودَ ضبطُ اليمين التي تتعلق بها الكفَّارة لا حقيقة مجرَّد اليمين. ثم تتعلق بالضبط المذكور صورٌ يشتمل الفصْلُ عليها: إحداها: تنعقد اليمينُ على الماضي، كما تنعقد على المستقبل، فإن كان كاذبًا، وهو عالم بالحال، فهي اليمين الغموس، سُمِّيت به لأنها تَغْمِس صاحِبُها في الإِثم أو في النار، وهي من الكبائر؛ رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الْكَبَائِرُ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتلُ النَّفسِ، وَالْيَمِينُ الغَمُوسُ" (¬2) وتجبُ الكفارةُ بها، وتعلُّق الإِثم لا يمنع وجوبَ الكفَّارة، كما أن الظِّهَارَ منْكَرٌ من القول وزور، ويتعلَّق به الكفَّارة، وإن كان جاهلاً، ففي وجوب الكفارةِ قولان، كما لو فعل المحلوف عليه ناسياً، وقال أبو حنيفة ومالكٌ وأحمدُ -رحمهم الله-: لا يجب الكفَّارة باليمين الغَمُوس. لنا: قولهُ تعالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] الآيةَ تعم الماضي والمستقبل؛ لأن لفظ اليمين يقع عليها؛ ألا تَرَى أن الحُكَّامَ يحلفون على الماضي أبداً، وقال -صلى الله عليه وسلم- "واليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ" (¬3) وأيْضاً، فإنَّه حَلِفٌ باللهِ تعالى، وهو مختار، لكنه كاذبٌ، فصار كما لو حلف على المستقبل. الثانية: من سبق لسانه إلى كلمة اليمينِ بلا قصدٍ؛ كقوله في حالة غضبٍ، أو احتداد لَجَاج أو عجلةٍ أو صلَةِ كَلاَم: لا والله، وبلى والله، لم ينعقدْ يمينهُ، ولم تتعلَّق به الكفَّارة؛ لقوله تعالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} رُوِيَ عن عائشةَ -رضي ¬
الله عنها- موقوفاً ومرفوعًا: "أنَّ لَغْوَ اليَمِينِ قَوْلُ الإِنْسَانِ: لاَ وَاللهِ، وَبَلَى وَاللهِ" (¬1) ولو كان يحلفُ بالله على شيء، فيسبق لسانه إلى غيره، فهو في معنى لَغْو اليمين أيضاً، وإذا حلف وقال: لم أقصد اليمين، صدِّق، وفي الطلاق والعَتَاق والإِيلاء، لا يصدَّق في الظاهر، لتعلُّق حق الغير به، وقال الإِمام -رحمه الله-: في الفرق جرت العادة بإجراء ألفاظ اليمين من غير قصْدٍ، وما جرت بإجراء ألفاظ الطلاق، فدعواه أنه لم يقصد يُخَالِفُ الظاهر، قال: وفي اليمين أيضاً، لو اقترن باللفظ ما يدل على قصده، لا يُقْبل قوله على خلاف الظاهر (¬2). ويجوز أن يُعلَم قولهُ في الكتاب "وهو قول العرب" بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفةَ: لَغْوُ اليمين هو أن يحلِفَ على أمرٍ ماضٍ يظنه كذلك، فيتبَّينُ، خلافه، وبالميم؛ لأن أصحابنا -رحمهم الله- رَوَوْا عن مالكِ: أن لغو اليمين هو اليمينُ الغَمُوسُ، وبالألف: لأن عند أحمدَ روايتين فيه: أحدهُما: كقولنا. والثانية: كقول أبي حنيفةَ. الثالثة: إذا قال لغيره: أسألُكَ باللهِ، أو أقسم عليك باللهِ، أو أقسمت عليك بالله، لتَفَعْلَنَّ كذا، فإن قصد به الشفاعة والمناشدة تقريباً للغرض، لم يكنْ ذلك يمينًا، وإن قصد القائل عَقْد اليمين عليه، لم يكن ذلك يميناً، لا في حقه ولا في حق القائل، أَمَّا في حقِّه؛ فلأنه لم يوجَدْ منْه لفْظ ولا قصد، وأمَّا في حقِّ القائل؛ فلأن اللفظ ليس صريحًا في القسم، وهو قصد عقْد اليمين على غيره، لا على نفسه، وإن قصد عقد اليمين على نفسه، كان يمينًا، كأنه قال: أسألك، ثم حَلَف أنه يفعل، والإِنسانُ قد يحلف على فعْل نفسه، وقد يَحْلِفُ على فعْل غيره، لا على نفسه وفي كتاب القاضي ابن كج وجهٌ عن ابن أبي هريرة -رحمهما الله-: أنه لا يكونُ يميناً، وإن قصد وهو ضعيف، قال في "التهذيب": ويُستحبُّ للمخاطب إبراره في قسمه؛ لِمَا رُوِيَ عن البراء ¬
ابن عازب -رضي الله عنه- أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أمَرَ بِسَبْعٍ بِعِيَادَةِ المَرِيضِ، واتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشَمِيتِ الْعَاطِسِ، وَرَدِّ السَّلامِ، وإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِبْرارِ الْقَسَم، وَنَصْرِ المَظْلُوَم" (¬1) فإن لم يفعل، وحنث الحالف، لزمته الكفَّارة، وعن أحمد -رحمه الله- أن الكفارة تكون على المُقْسَم عليه، وإن أطلق اللفظ ولم يقصد شيئاً، فهو محمولٌ على المناشدة (¬2). الرابعة: يجوز تعقيب اليمين بكلمة الاستثناء، وهي "إن شَاءَ الله" رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "وَاللهِ، لأغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ثَلاَثاً"، ثم قال في الثالثة "إِنْ شَاءَ اللهُ" (¬3) وإذا عقب اليمين بها, لم يَحْنَثْ بالفعل المحلوف عليه، ولم تلزمه الكفَّارة، لما رُوِيَ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللهُ، لَمْ يَحْنَثْ" (¬4) لأنه علَّق الفعل على مشيئة الله تعالى، وهي غير معلومة، وهل نقول: اليمين منعقدة؟ منْهم من قال: نعم، لكن المشيئة غير معلومة، فلا يحكم بالحنث، وهكذا نقَلَ القاضي الرويانيُّ -رحمه الله- ومنْهم مَنْ يطلق القول بأنها غيْر منعقدةٍ، وهكذا نقل صاحِبُ "التهذيب". ويُشترط أن يتلفَّظ بكلمة الاستثناء، فلو نوى بقلبه "إن شاء الله" لم تغنه نيته، ولم يندفع الحنث والكفارة، وأن يكون قاصدًا إلى التلفُّظ بها، فلو سبق لسانُه إليها عن غير قصد، لم يعتد بها، ووجه بأنَّ اليمين من أصلها يعتبر فيها القصدُ، فكذلك يعتبر في ¬
الاستثناء الواقع فيها، وأن تكونَ كلمةُ الاستثناء متصلةً باليمين، لا يتخلَّلها كلام ولا سكوت، إلا أن يسكت سكتة تذكر أو تنفُّسٍ، عَلَى ما بَيَنَّاهُ في "الطلاق". وعن أبي حنيفة: أن سكتة التنفس تمنع تأثير الاستثناء، رواه القاضي ابنُ كج، وأن يكون عازمًا على الكلمة من ابتداء اليمين، فلو حلف، ثم بدا له أن يستثني، فأتى بلفظ الاستثناء، لم يُعتدَّ به، وإن كان موصولاً باليمين، وإن قصد الاستثناء في خلال اليمين، واستثنى على الاتصال، ففيه وجهان، ذكرناهما في كتاب "الطلاق"، وممن صحَّح هذا الاستثناء الداركيُّ والقاضيان أبو الطَّيب والرويانيُّ -رحمهم الله- وممن لم يصحِّحه أبو الحسن بن المرزُبَان والقاضي ابن كج -رحمهم الله- ولو قال: إن شاء الله، واللهِ، لأَفْعَلَنَّ، أو لا أفعل كذا، صحَّ الاستثناء، وكذا لو قدَّم كلمة الاستثناء في الطلاق والعتاق، ولا فَرْق بين التقديم والتأخير، وكذا لو قال: لفلانٍ علي إلا عشرة دراهم مائةُ درهم، وفي هذه الصورة وجه آخر في كتاب القاضي ابن كج وعن القاضي أبي الطيب: أنه لو قال: إنْ شَاءَ اللهُ، أنْتِ طالقٌ، وعبدِي حُرٌّ، لا يقع الطلاق، ولم تحْصُل الحرية، وكذا لو قال: إن شاء الله، أنتِ طالقٌ، عبْدِي حرٌّ، من غير واو؛ لأن حرف العطف قد يحذف مع إرادة العطف، ومحمد من هذا القبيل قولُنا: "التَّحِيَّاتُ المُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ" وليكن هذا فيما إذا نوى صرفَ الاستثناء إليهما جميعاً، فإن أطلق، فيشبه أن يجيء خلاف في أنه يختص بالجملة الأولَى أو ينصرف إليهما جميعاً، ولو قال: أنت طالقٌ وعبدي حر إن شاء الله، فيجيء خلاف في أنه يختص بالجملة الثانية، أو ينْصَرف إليهما (¬1). ¬
ولو قال (¬1) عبدي حُرٌّ إن شاء الله، وامرأَتِي طَالِقُ، ونوى صرفَ الاستثناء إليهما جميعاً قال القاضي ابنُ كج: يصح، وكما يجوز أن يكونَ الاستثناء متقدمًا، ومتأخرًا، يجوز أن يكون متوسِّطًا، ولو قال: والله، لأفعلن كذا، إن لم (¬2) يشأ الله أو إلا أن يشاء الله، ففيه خلافٌ كما سبق في قوله: "أنت طالقٌ، إن لم يشاء الله أو إلا أن يشاء الله" والأصحُّ عند القاضي ابن كج في قوله: "إلا أن يشاء الله" أنه استثناء كقوله "إن شاء الله" والذي ذكر إبراهيم المروزي فيما علَّق عنه: أنه إذا قال: واللهِ، لأفعلنَّ كذا، إلا أن يشاء الله، فإن فعل، بَرَّ في يمينه، وإن لم يفعل، حَنِثَ؛ لأن الحنث مُوجودٌ وشرطَ منع الحنث مشكوكٌ فيه، ولو قال: والله، لا أفعل كذا إلا أن يشاء الله، فإن فعل، بَرَّ في يمينه، وإن لم يفعَلْ حنث لما ذكرنا (¬3). فَرْعٌ: إذا قال: واللهِ، لأدخلن هذه الدار اليوم، إلا أن يشاء زيد يعني إلا أن يشاء ألا أدخلها، فقد عقد اليمين على الدخول في الحال، وأثبت التخلُّص عنها بطريقين: أحدُهما: أن يدخل. والثاني: أن يشاء زيْدٌ أَلاَّ يدخلها، فإن دخلها في ذلك اليوم، بَرَّ، سواءٌ شاء زيد أم لا، وإن لم يدخلْها، فإن شاء زيد أَلاَّ يدخلها، بَرَّ أيضاً، وإن شاء أن يدخلها، حَنِث، وكذا لو لم يعرف مشيئته بأن مات أو أغمي عليه، حتى مضى اليوم، يحْنَث، هكذا نقله المُزَنِيُّ عن النص، لو قال: والله، لا أدخل إلا أن يشاء زيد أن أدخل، فان لم يدخُلْ، بَرَّ في يمينه، وإن دخل، وقد شاء فلان دخولَه قبل أن يدخل، فكذلك يَبَرُّ، وإن كان قد شاء أَلاَّ يدخل، حَنِث، ولا تغني مشيئة الدخُول بعد ذلك، وإن لم تعرف مشيئته، فرواية الربيع: أنه لا يحنث، والجوابان مختلفان والصورتان متشابهتان، لا فرق بينهما إلا أنَّ اليمينَّ في إحداهما معقودةٌ على الإِثبات، وفي الأخرَى على النفي، ومعلومٌ أن ذلك لا يقتضي اختلاف الجواب، وللأصحاب -رحمهم الله- فيهما طريقان: ¬
أحدهُما: القطعُ بأنه يحنث، ثم من هؤلاء، مَنْ حمل مرويَّ الربيع على ما إذا لم يَحْصُل اليأس عن معرفة مشيئته، ومنهم مَنْ قال: إنَّه مرجوعٌ عنه، لكن الربيعَ لم يتحقَّقه. والثاني: أن فيهما قَولَيْن بالنقل والتخريج: أظهرهُما: أنه يحنث؛ لأن اليمين معقودةٌ على الدخول أو تركه، ومخالفة المحلوف عليه تقتضي الحنث إلا أن مشيئة زَيْد مخرجةٌ له عن الحنث، فإذا لم يعلم حصولها، ثبت الحنث. والثاني: لا يحنث؛ لأن الأصل براءةُ الذمَّة، وقد شككنا في حصول الحنث، كشكنا في حُصُول المشيئة، فلا نوجب الكفَّارة بالشكِّ، واعلم أن الصورة الثانية مذكورةٌ في الكتاب في آخر "كتاب الإيمان" ونعودُ إليها -إن شاء الله تعالى-. ولو قال: واللهِ، لأدخلن، إن شاء فلانٌ أن أدخلَها، فههنا اليمين معلَّقةٌ بالمشيئة، فلا ينعقد قبل المشيئة، ولا حكم للدخول، فإذا حصلت المشيئة، انعقدت اليمين، فإن دخل، بَرَّ، وإلا، حنث، ويُنْظر؛ أَقَيَّدَ الدخول بزمان أو أَطْلَق، وعند الإِطلاق عمره وقت الدخول، فإن مات، حكمنا بالحنث قبيل الموت، وإن شاء فلان ألا يدخل أو لم يشأ شيئاً أو لم تُعرفْ مشيئته، فلا حنث؛ لأن اليمين لم تنعقد، وكذلك لو قال: والله، لا أدخل هذه الدار إن شاء فلان ألا أدخلها، فإنما ينعقد يمينه، إذا شاء فلان ألا يدخلها، والله أعلم. وقوله في الكتاب "وهو قول العرب" يجوز أن يعلم مع الحاء والميم والألف بالواو؛ لأن في كتاب ابنِ جج أنَّ ابنَ سُرَيْجٍ قال: يُحْتمِل أن يكونَ لغْوُ اليمين عند الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- عبارةً عما إذا حلف على شيْءٍ يظنه، فتبين خلافه؛ لأنه قال: وجماع اللغْوِ الخطأُ، ولا يخفى أن لَغْو اليمين لا يختص بالعرب. وقوله: "وهو قول العرب" كان سببه أن لغْو اليمين في كلام العَرَب أكثر وقوعًا. وقوله: "ولا يَجِبُ بالمناشدة" يُقال نَاشَدهُ أي: ذكره الله، ونَشَدتُّكَ الله، أي: سألتُك باللهِ، أَنْشُدُ نَشْدًا كأنك ذكرته إياه، فنشد أي تذكَّر، وقيل: نَشَدتُّكَ الله، أي: سألتك بالله ترفْعَ نَشِيدي أي صَوْتِي، ويسمى طالب الضالَّة ناشدًا؛ لرفعه الصوْتَ بالطَّلَب. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: بِاللهِ وَتَاللهِ وَوَاللهِ فَالْكُلُّ صَرِيحٌ، وَلَوْ قَالَ: اللهِ لأَفْعَلَنَّ كَانَ يَمِينًا، وَلَوْ قَالَ: اللهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا، وَلَوْ حَلَفَ بِمَخْلُوقٍ كَالنَّبِيِّ وَالْكَعْبَةِ أَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ بَريْءٌ مِنَ اللهِ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، وَقَوْلُهُ بِاللهِ وَبِالرَّحْمنِ
وَبِالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ وَمَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ اللهِ صَرِيحٌ، وَلَوْ قَالَ: أَرَدتُّ باللهِ وَثَقْتُ بِاللهِ ثُمَّ ابْتَدَأْتُ لأَفْعَلَنَّ لَمْ يُقْبَلْ ظَاهِرًا، وَفِي التَّدَيّنِ خِلاَفٌ، وَلَوْ قَالَ: بِالجَبَّارِ وَالرَّحِيمِ وَالحَقِّ وَالعَلِيمِ وَالحَكِيمِ وَمَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ اللهِ أَيْضًا فَهُوَ كِنَايَةٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَحَقّ اللهِ وَحُرمَةِ اللهِ، وَلَوْ قَالَ: وَقُدْرَةِ اللهِ وَعِلْمِهِ وَكَلاَمِهِ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ إِذْ يرَادُ بالقُدْرَةِ المَقْدُورُ، وَهَذَا الوَجْهُ فِي قَوْلِهِ وَجَلاَلِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ أَبْعَدُ، وَلَوْ قَالَ: بِلَّهِ عَلَى قَصْدِ التَّلْبِيسِ وَهِيَ الرُّطُوبَةُ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، وَإِنْ نَوَى اليَمِينَ انْعَقَدَ وَحُمِلَ حَذْفُ الأَلَفِ عَلَى اللَّحْنِ، وَلَوْ قَالَ: بِالشيءِ وَالمَوْجودِ وَأَرَادَ بِهِ الإلهَ سبْحَانَهُ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، وَكَذَا كُلُّ مَا لاَ تَعْظِيمَ فِيهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ومن القيود التي يشتمل الضابط المذكور عليها قولهُ: "بذكْرِ الله أو صِفَتِهِ" ويخرج به صورتان: إحداهما: الحلف بالمخلوق مكروهٌ؛ كالنبيِّ والكعْبة وجبريل والصحابة والآل؛ رُوي أنه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلاَ بِأُمَّهَاتِكُمْ وَلاَ تَحْلِفُوا إِلاَّ بِاللهِ" (¬1) وأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الخطَّاب -رضي الله عنه- وَهوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ فَسَمِعَهُ يَحْلِفُ بأبيهِ، فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ، أوْ لِيَصْمُتْ" (¬2) قال عمر -رضي الله عنه- "فَمَا حَلَفْتُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ ذَاكِرًا وَلاَ آثَرًا" أي: حاكيًا عن غيري، قال الشَّافعيُّ -رضي الله عنه- وأخشَى أن يكونَ الحَلِفُ بغيْرِ اللهِ معصيةً، قال الأصحاب -رحمهم الله-: أي محرمًا مأثومًا به وأشار إلى التردُّد فيه، قال الإِمام: الأصح القطْعُ بأنه ليس بمحرم والاقتصار على الكراهية، ومن حَلَف بغير الله، لمَ ينعقد يمينه، ولم تتعلَّق الكفَّارة بالحنث فيه خلافاً لأحمدَ في الحَلِفِ بالنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- خاصةً. لنا: القياسُ على ما سلمه، قال لأصحاب: ولو أن الحالف بغَيْر الله تعالَى اعتقد في المحْلُوف به من التعظيم ما يعتقده في الله تعالَى كَفَر، وعلى ذلك يحمل ما رُوي أنه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ، فَقَدْ كَفَر" (¬3) ويُروَى "فَقَدْ أَشْرَكَ" (¬4) ولو سَبقَ لسانهُ ¬
إليه من غير قصد، لم يوصف بالكراهة، ويكون بمثابة لَغْوِ اليمين؛ وعلى ذلك يُحْمَلُ ما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال للأعرابيِّ الذي قال: "لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ: أَفْلَحَ، وَأَبِيهِ، إنْ صَدَقَ" (¬1) وإلى هذا المعنى يرجع قول من قال: إنه وقع صلةً في الكلام. الثانية: إذا قال: إن فعلتُ كذا، فأنا يهوديٌّ، أو نصرانيٌّ، أو بريءْ من الله تعالى، أو من رسوله، أو من الكعبة، أو من الإِسلام، أو مستحلِّ الخمر والميتة، لم يكن ذلك يميناً، ولم تجب الكفَّارة بالحنث فيه، خلافاً لأبي حنيفة وأحمدَ -رحمهما الله- واحتج الأصحاب بأنه قولٌ عَرِبِيٌّ عن اسم الله تعالى وصفته، فلا ينعقد اليمين به، كما لو قال والسماءِ والأرضِ، ولَعَمْرِي وأبي، وبأن المحلوف حرامٌ، فلا ينعقد به اليمينُ، كما لو قال: إن فعلتُ كذا، فأنا زانٍ أو سارقٌ، وربما خُرِّج الخلافُ على حقيقة اليمين، فعندنا يُعتبر فيه ذكر الله تعالَى، ولم يُوْجَدْ عند أبي حنيفة أنَّ اليمين هي تحقيقُ الوعيد بما يكفر بضده، فقول القائل: واللهِ، لأَفعلن كذا، يتضمن تَعْظيمَ الله تعالَى، والإنسانُ يَكْفُر بضدِّه، وقوله: إن فعلتُ كذا، فأنا يهوديٌّ، يتضمن تعظيمَ الإِسلام وإبعاد النفسِ عن التهوُّد، وضدُّه الرغبة في التهود والرضا به وهو كفر، هذا إذا قصدَ القائل تبعيد النفس عن ذلك، فأما من قال ذلك على قَصْد الرضا بالتهوُّد وما في معناه، إذا فعل ذلك الفعْل، فهو كافرٌ في الحال (¬2) , ثم الكلام في القيد المذكور يتعلَّق بفصلين: ¬
أحدهُما: قال أهل اللسان: حُرُوفُ القَسَم ثلاثةٌ، وهي الباء والواو والتاء، قالوا: والأصل الباء، وهي من صِلَةِ الحلِف أو الإقسام، فكان الحالف يقول: حلَفْتُ، أو أقسمت، أو يآلَيْتُ بالله، ثم لما أكثر الاستعمال، وفُهِم المقصود، حُذِفَ الفعل، ويلي الباء الواوُ، وآية قُصُورها عن الباء أن الباء تدْخُل على المُضمَر، كما تدخل على المُظْهَر؛ نقول: بِكَ وَبِهِ، لأفْعَلَنَّ كذا، بخلاف الواو، ويلي الواوَ الباءُ، وقد تقام الباء مُقَام الواو، كما في تُخْمة، وهي من الوَخَامة، وتُرَاث، وهو من قولهم وَرِثَ، وآية قصورها: أنها لا تدخل من الأسماء إلا على الله (¬1)، كما قال تعالَى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ} [يوسف: 85] وقال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] ولا تدخل على سائر الأسماء، فإذا قال: تَاللهِ، لأفعلن كذا، فإن نوى اليمين، فلا شك أنه يمين على ذلك الفعل، وإن أطلق، فكذلك؛ لاشتهار الصيغة في الحلف عرفاً وشرعاً، وإن نوى غير اليمين؛ بأن قال: أردتُّ وثِقْتُ بالله أو اعتصمت بالله، أو أستعين بالله، أو أُومِنُ، ثم ابتدأت: لأفْعَلَنَّ، فالذي أورده أصحابُنا العراقيون -رحمهم الله- وعليه جرى صاحب "التهذيب" والقاضي الرويانيُّ وغيرُهم -رحمهم الله- أنه لا يكون يمينًا، وتصير النية صارفةً إلى المحلِّ المذكور؛ لاحتماله، واستبعد الإِمامُ ما ذكروه، وعدَّه زللاً منهم، أو خللاً من ناسخ، ونُقِلَ أنه لو نوى غير اليمين، وادعى التورية (¬2)، لم يُقبل ذلك فيما يتعلَّق بحق الآدميين، كما في صورة الإِيلاء، وهل يُقْبل فيما بينه وبين الله تعالَى؟. عن القاضي الحُسَيْن: القطعُ بأنه لا يُقْبلُ أيضاً، وعن الشيخ أبي محمَّد الفوراني أن فيه وجهين: أحدُهُمَا: القبولُ، كما لو قال لزوجته: أنتِ طالقٌ وزعم أنه أراد طلاقًا من وثاق، فإنه يَديَّنُ، وبل أولَى؛ لأن الطلاق أسرعُ نفوذًا. والثاني: المنعُ؛ لأن الكفَّارة تتعلَّق باللفظ المحترم الذي أظهره ثم خالفه، وإظهار ما يخالف اللفظ لا يسقط ما ذكرناه من إظهار اللفظ ومخالفته، وحَكَى القاضي ابن كج: ¬
أن من الأصحاب مَنْ لم يفرِّق بين قول الحالف: تالله، وبين قوله: بالله، هذا يقتضي إثباتَ الخلاف في كونه يميناً عند الإِطلاق، كما ستعْرِفه في قوله: تالله، والأكثرون جَرَوْا على ما قدَّمناه، وأشار جماعة في قوله: واللهِ، لأفْعَلَنَّ (¬1) إلى أنه يمين بكل حال، ولكن الأشبه أنه كقوله: بالله، وقد يقول المتلفِّظ به: أردت؛ واللهُ المستعان، ثم ابتدأت بـ"لأفعلن"، وليس في ذلك إلا لحنٌ في الإعراب، وسيأتي له نظائر، وأما إذا قال: تالله، لأفعلن، وليس في ذلك كذا، فالمنصوص هاهنا وفي "الإِيلاء": أنه يمين، وعن نصه في "القَسَامة": أنه ليس بيمين، وفيه طرق للأصحاب: أحدها: إثبات قولين في المسألة: أحدهما: أنه يمين؛ لأنَّه مستعمل في القرآن والعرف لليمين، فصار كقوله: باللهُ ووالله. والثاني: المَنْعُ؛ لأنَّه لم يَشْتَهِر اشتهار الباء والواو، ولا يَعْرِفُ القسمَ به كثيرٌ من الناس. والثاني: أنه ليس بيمين في "القسامة"، وهو يمين في غيرها، وفرقوا من وجهين: أحدهِما: أنه يُثْبِت في القسامة حقًّا لنفسه من قصاص له ودية، فلا يُقْنَع منه إلا بلفظ قويٍّ مشهور في اليمين وفي الإيلاء وسائر الأيمان، وذكْرُهُ الامتناعَ من الفعل أو الإِقدام عليه يدلُّ على قصد اليمين. والثالث: وهو الأظهر، وبه قال أبو الطَّيب وأبو حفص وأبو إسحاق -رحمهم الله- القطع بأنه يمينٌ، وذكرنا لما نقل عن القسامة تنزيلين: أحدهما: أنه وقع في الرواية تصحيفٌ، وإنما ذكر الشَّافعي -رضي الله عنه- ذلك في الباء المنقوطة باثنتين من تحْتها يدل عليه؛ أنه علَّل، فقال: لأنَّهُ دعاء، ثم منْهم من ينزل إيراده على أنه أراد ما إذا قال: يالله على النداء، ومنهم مَنْ قال: أراد يَالَلَّهِ، بفتح اللام، وقال: أراد دعاء الاستغاثة، وهذا أشبهُ وأقرب إلى التصحيف. والثاني: حمله على ما إذا قال القاضي: قل: بالله، فقال: تالله، فلا يُحسب ذلك؛ لأن الحَلِفَ ينبغي أن يكونَ على وفْق التحليف؛ ولذلك نقول: لو قال: قل: بالله، فقال: بالرحمن، لا يُحسب يمينُه، وعلى عكسه، لو قال: قل: تالله، فقال: بالله، فعن القَفَّال، أنه يكون يميناً؛ لأنه أبلغُ وأكثرُ استعمالاً في اليمين، ولو قال: قل: بالله، فقال: واللهِ، قال الإِمامُ؛ فيه تَرَدُّدٌ؛ لأن الباء والواو لا تكادان تتقاربان في مجرى ¬
الكلام، ولا يمتنع ألا يحنث؛ للمخالفة، وهذا المعنى يجيء في الصورة المنقولة عن القفَّال، واعلم أن الخلافَ المذكورَ فيما إذا قال: تالله، ولم يقصد اليمين ولا غَيْرَ اليمين، فأمَّا إذا نوى به غير اليمين، فإنه لا يكونُ يميناً بلا خلاف، كذلك ذكره العراقيون، والقاضي الرويانيُّ وغيرهم -رحمهم الله- (¬1). وعلى هذا، فقولُهُ في الكتاب "فالكلُّ صريح" معناه أنه يُؤثِّر من غير نية ويجوز إعلامه بالواو؛ لما تبين، وقد يفيد صريح الطلاق والعتاق بما يُؤثِّرُ فيهما، وان نوى غيرَهما, ولا يمكن أن في حمل لفظُ الصريحِ على مثله هاهنا. ولو قال: واللهُ، بالرفع، فهو يمينٌ سواءٌ نغَّمَه، أو لَمْ ينغمه، والخطأ في الإعراب لا يمنعُ انعقادَ اليمينِ، وكذا لو قال: واللهَ، نصب الهاء، ذكره في "البيان" وحُكِيَ عن القفَّال في قوله "واللهُ" بالرفع: أنه لا يكون يميناً إلا أن ينوي به اليمين، ولو حذف حرف القسم، فقال: اللهِ، لأفعلنَّ كذا، ونوى اليمين، فهو يمين، وكذا لو نصب أو رفع، ويحتج له بما رُوِيَ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال، في حديث رَكَانَةَ: "الله، مَا أَرَدَتِّ إِلاَّ وَاحِدةً" (¬2) رواه صاحبُ "البيانِ" بالرفع والقاضي الرُّويانيُّ بالجر، ورُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لابن مسعود -رضي الله عنه-: "اللهَ، قَتَلْتَ أَبَا جَهْلٍ" بالنصب، وإن أطلق، فالمشهور في الرفع أنه لا يكونُ يمينًا، وان كان يحتمل اليمين، فيحتمل ابتداء الكلام أيضاً، فلا يكونُ يميناً إلا بالنية، وفي "البيان" وجهٌ أنَّه لا يكون يميناً، كما سنذكر -إن شاء الله تعالى- في النصب والجر، وفي النصب والجرِّ وجهان: أظهَرُهما: أنه لا يكونُ يمينًا، أيضاً، ووجِّه بأن العادة لم تستمر بالحلف، كذلك، ولا يعرفه إلا خواصّ الناس. والثاني: أنه يمينٌ، وبه قال أحمدُ، وحكاه ابنُ الصَّبَّاغ عن أبي جعفرِ الاستراباذيِّ، ورواه القاضي الرويانيُّ في "البحر" عن أبي جعفر الترمذيِّ -رحمهم الله- ووجِّه بأن حروف القسم تظهر تارةً، وتحذف أخرَى ويقتصر على إضمارها، وبهذا أجاب صاحبُ الكتاب -رحمه الله- هاهنا وفي "الوسيط" في صورة الجرِّ، والأول أرجح عند المعظم، منهم صاحب الشامل وصاحب"التهذيب" وصاحب "التتمة" -رحمهم الله-، والخلافُ على ما تبيَّن حاصلٌ في الأحوال الثلاث، لكنَّ الجَرَّ أولاها بأن يكونَ يميناً؛ لإِشعاره ¬
بالصلة الخافضة، ويليه النصب، وربما يقال: إنَّه نصب بنزع الخافض، ويليه الرفع، وبحَسَب هذه المراتب، قد يرتب الخلافُ على الخلافِ، ولو قال: "بلّه" (¬1) فشدد اللام وحذف الألف بعدها، فهو غَيْرُ ذاكر لاسم الله تعالَى، ولا حالفِ، فإن البلَّةَ هي الرطوبةُ، ولكن إن نوى بما ذكره اليمينَ بالله تعالَى؛ فعن الشيخ أبي محمد: أنه يكونُ يمينًا ويحمل حذف الألف على اللَّحْنِ (¬2)، وبهذا أخذ صاحبُ الكتابِ والإمامُ -رحمهما الله- وعضَّده بأن الكلمة تجري كذلك على أَلْسِنَةِ العوامِّ والخواصِّ، وقد يَستجير العرب حذف الألف في الوقْف؛ لأن الوقف يقتضي إسكانَ الهاء، وإذا اجتمع ساكنان في الوقْف، جاز أن يحذف أحدُهُما، وقوله في الكتاب "على قصد التلبيس وهي الرطوبة" هذا التفسير غيرُ محتاج إليه بل إذا لم يقصد اليمين، لا يكونُ ما أتى به يمينًا، وإن لم يقصد التلبيس، ولم يرد الرطوية. الفصل الثاني: للأصحاب في ضبط ما يُحْلَفُ به طريقان: أحدهما: وهي أقرب إلى سياق "المختصر": أن اليمين لا ينعقد إلا إذا حَلَف باللهِ أو باسْمٍ من أسمائه أو صفة من صفاته، وأرادوا بالقسم الأولِ أن يذكر ما يفهم منْه ذاتُ الله تعالى فلا يَحْتَمِلُ غيره منْ غيْرِ أن يأتي باسمٍ مفردٍ أو مضافٍ من أسمائه الحسنَى؛ ¬
كقوله: والذي أعبده أو أسْجُدُ له أو أصلِّي له، أو الذي فالِقِ الحبة، أو نفْسِي بيده، أو مقلب القلوب، ينعقد يمينه، سواءٌ أطلق، وقصد البارئ تعالى أو غيره، وإذا قال: قصدت غيره، لم يقبل ظاهرًا، وكذا لا يُقْبل فيما بينه وبين الله تعالَى على المشهور، وذُكِر فيه وجهٌ ضعيفٌ. وأما القسم الثاني: وهو الحَلِفُ بالأسماء، ثلاثة أنواع: أحدها: ما يختص بالله تعالَى، ولا يُطْلقُ في حق غيره، كالله والإِلَهِ، والرَّحْمن، وربِّ العالمين، ومالك يوم الدين، وخالِقِ الخلْقِ، والحيِّ الذي لا يموت، والأولِ الذي ليس قبله شيءٌ، والواحدِ الذي ليس كمثله شيْء، فحكْمُ الحِلفِ به حكْمُ الحلف بالقِسْم الأول، وفي كتاب القاضي ابن كج: أن الحلف بالأسماء ليس بصريح إلاَّ باسم واحد، وهو الله، وهذا غريبٌ، ومحمد الإِمام -رحمه الله- الخالق، والرازق من هذا النوع، ألحقهما الأكثرون بالرحيم وسائر ما يذكر في النوع الثاني؛ لأنهما يُطْلَقَان في حق غير الله تعالَى، يُقال: فلان خالق الكَذِب، وقال تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17] ورازق الجيش وقال تعالَى: {وَارْزُقُوهُمْ} [النساء: 5] وصاحب الكتاب اتبع فيه الإِمام، فليعلم الاسمان بالواو، وليعرفِ الحال فيهما. والنوعُ الثاني: ما يُطلق في حقِّ الله تعالَى، وفي حق غَيْره، لكنَّ الغالبَ استعمالُه في حقِّ الله تعالَى، وأن يقيد في حق غيره بضَرْبٍ من التقييد، كالرحيم، والجهار، والحق، والرب، والمتكبر، والقادر، والقاهر فإنْ حلف باسم منها وأطلق وأراد به الله تعالَى، فهو يمين، وإن أراد به غيره، لم يكن يمينًا؛ لأنه قد يُسْتعملُ في حقِّ غيره، فيُقال: فلانٌ رحيمُ القلب، وجبَّارٌ، ورب إبل، ومتكبرٌ وقادرٌ على هذا، وقاهر لفلان، ويجوز أن يعلَم قولُه و"الرحيم" بالواو؛ لأن القاضي ابنْ كَج كأنه جعله كالرحمن، وعدَّه في النوع الأول، وكذلك حكاه القاضي الرويانيُّ عن القاضي الطبري، وغلط فيه. وأن يعلم قوله "فهو كناية" لأن ابنَ كج رَوَى عن بعض التصانيف أن الحلِفَ بأي اسم كان من الأسماء التسْعة والتسعين التي ورد بها الخَبَرُ لا فرق بين بعضها وبعض. والنوع الثالث: ما يطلق في حق الله تعالَى وفي حق غيره، ولا يَغْلِبُ استعمالُه في أحد الطرفين كالشيء، والموجود، والمؤمْن، والكريم (¬1) وما أشبهها، فلا يكون يمينًا، إن نوى به غير الله تعالَى، أو أطلق، فإن نوى الله تعالَى، فالذي أورده صاحبا "التهذيب" ¬
و"المهذب" -رحمهما الله- وغيرهما: أنه يكونُ يمينًا؛ لاحتمال اللفظ، وضمَّنه النية، وفي شرح الموفَّق بن طاهر: أن صاحبَ "التقرِيب" وأبا يعقوب حكياه عن شيوخ الأصحاب -رحمهم الله- وقطَعُوا به، والأظهر، وبه أجاب الشيخ أبو حامد وابن الصبَّاغ والعراقيون وتابعهم الإِمام وصاحبُ الكتاب -رحمهم الله- أنه لا يكون يمينًا، ووجَّهوه بأن اليمين إنما تنعقد إذا حَلَف باسم معظَّم والأسامي التي تطلق في حق الخالق والمخلوق إطلاقًا واحداً ليس لها حرمةٌ ولا عظمة، فلا ينعقد بها اليمين (¬1)، واعلم أن صاحبَ التهذيب عدَّ السميع، والبصير من النوع الثاني، ويشبه أن يكونا من هذا النوع، وأن صاحبَ الكَتاب عَدَّ الحكيم والعليم من النوع الثاني، ويشبه أن يُعَدَّا من هذا النوع أيضاً، ويدل عليه أن "العالِم" في "التهذيب" يندرج في هذا النوع، والله أعلم. والقسم الثالث: الحلف بالصفات، ونتكلم في صور منها على الأثر، هذه طريقة في الضبط. والثانية: وهي أقصدُ: أن اليمين، إنما تنعقد، إذا حلف الحالف بما مفهومه ذاتُ الله تعالَى أو صفةٌ من صفاته، ويندرج في الأول القسمانِ الأولان في ذلك القِسْم، وأما الكلام في الصورة المتعلقة بالصفات. فمنها: إذا قال: وحق (¬2) اللهِ، لأفعلنَّ كذا، فقد حَكَى الإِمام فيه وجهين متصورة منهما، والمذكور في الكتاب: أنه كناية فلا يكونُ يميناً إلا إذا انضمَّت إليه النِّيَّةُ؛ لأن حق الله تعالى يُطْلق على العبادات التي أَمَرَ بها ويُطلَقُ بمعنى استحقاقه الألوهية والعَظمة، والتَّعَالي، فلا يصير يميناً إلا بالنية، ويُروَى هذا عن أبي حنيفة، وعن المُزنِّي في "مسائله المنثورة" ورواه شارح "مختصر الجويني" من أبي إسحاق: وأظهرهما: وهو المنصوص، والذي يوجد للجمهور -رحمهم الله- أنه يمين، وإن أطلقه، ولم يكن له نيةٌ، وإنما ينصرف عن اليمين، إذا نوى فيه غير اليمين، وبه قال مالك وأحمدُ -رحمهما الله-، أما كونه يمينًا عند الإِطلاق، فقد وُجِّهَ بطريقين: أشهَرُهُمَا: أنه غلب استعماله في اليمين، فتصير هذه الغلبة قرينةً صارفةً للفظ إلى معنى استحقاق الألوهية والعَظَمَة. ¬
والثاني: في "البيان": أن أبا جعفر الاستراباذيَّ -رحمه الله- قال: حقُّ الله تعالَى هو القرآن، قال الله تعالَى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة: 51] يعني: القرآن، والحلِفُ بالقرآن يمينٌ في صورة الإِطلاق، فكذلك ما نحن فيه، وأما انصرافه عن اليمين، إذا نوى به غير اليمين؛ فلاحتمال اللفظ له، وفي "التتمة": أنه لو قال: وحقُّ اللهِ، بالرفع، ونوى اليمين، فهو يمين، وإن أطلق، فلا، وإن قاله بالنصب، وأطلق، فوجهان وقد سَبَق نظير هذا في الحلف باسم الله، والذي أجاب به في "التهذيب": المنع في صورة النصب أيضاً، ولو قال: وحرمة الله، ففي النهاية حكايةُ طريقَيْن فيه: أحدهما: أنه، كما لو قال: وحقِّ الله، وحرمةِ اللهِ؛ خلافَ ما أجاب به في الكتاب. ومنها: لو قال: وقدرةِ الله، وعلم اللهِ، ومشيئةِ اللهِ، وسَمْعِ اللهِ، وبصَرِ اللهِ، فهذه صفات قديمة، فإذا قصد الحالفُ بها اليمين أو أطلَقَ، انعقدت يمينه، ولو قال: أردتُّ بالعلم المعلومَ وبالقدرةِ المقدور، قُبِلَ، ولم يكن يمينًا؛ لأن اللفظَ مُحْتَمِلٌ، كذلك يُقال في الدعاء: اغفر عِلْمَكَ فينا، أَي: معلومك، ويُقال: انظر إلى قدرةِ اللهِ تعالَى أي مَقْدُورِهِ، فيكون كما لو قال: ومعلومِ اللهِ ومقدورِ اللهِ وخَلْقِ اللهِ ورزقِهِ، وذلك ليس بيمين، وبمثله أجاب الإمامُ في إحياءِ اللهِ، ولو قال: وعظمةِ الله، وكبرياءِ الله، وعزته، وجلالهِ، وبقائهِ، فالحكَمُ كما في العلّم والقدْرة، ولم يفرقوا بين الصفات المعنوية الزائدة على الذات وغيرها، هذا هو المذْهَبِ الظاهرُ، ونُقِلَ الإِمامُ وراءه وجهين: أحدهُما: إن الحَلِفَ بهذه الصفاتَ نازِلٌ منزلةَ قوله "بالله" بالرحمن، ونحوهما حتى لو قال: أردت به غير اليمين، لا يقبل ظاهراً. والثاني: إن أراد غير اليمين، يُقبل في العلْم والقدرة؛ للاحتمال المذكور، ولا يُقبل في الجلال والكبرياء والعظمة؛ إذ لا يتخيل فيها مثلُ ذلك الاحتمال، وضعف هذا الوجه الفارق، فقال: قد يقول الإنسان عاينت كبرياء الله وعظمته، ويريد مثل ذلك، وعند أبي حنيفة قولٌ القائلِ "وعلمَ الله" ليس يمينًا، وقوله "وقدرة الله" يمينٌ، ولو قال: أردتُّ غير اليمين، لم يُقْبَلُ، وعن أحمد: القدرة مثله. ومنها: لو قال: وكلام وكتاب اللهِ، انعقدت اليمين، كما لو حلف بالعلْم والقدْرة وبمثله أجاب صاحبُ "التهذيب" فيما إذا قال: وكتاب الله وقرآنِ الله، وإبراهيم المَرُوْزي -رحمه الله- فيما لو قال: والقرآنِ، وإنما هو مثبتٌ في المصْحَف، وقال الشيخ أبو سعد المتوَلّي في "التتمة": إذا حلف بالمُصْحَف، فإن قال: وحرمةِ ما هو مكتوبٌ فيه، فهو يمين، وكذا لو قال: وحرمةِ هذا المصْحَف؛ لأن احترامه؛ لما هو مكتوب فيه،
وإن أراد الرّقَّ والجلْدَ، لم يكن يمينًا (¬1) وإذا قال: والقرآنِ، وأراد غير اليمين، لم يكن يمينًا وقد يراد بالقرآن الخُطْبة والصلاةُ، وعند أبي حنيفةَ: قولُ القائل "وكلام اللهِ" ليس بيمين بحال، وتكلَّموا في سببه، قيل؛ لأن القرآن عنده مخلوقٌ وقِيلَ: لم يقل بخلِق القرآن، لكن قال: لا نعهَدُ الحلف به. وقوله في الكتاب "فهو كناية على أحد الوجهين" لم يكن تفسير الكناية هاهنا بما يتوقَّف تأثيره على النية، بخلاف قوله قبله "فهو كناية" لأن الحلف بالصفات يمينٌ عند الإِطلاق، ولا يَتوقَّف على النية، ولا يوجد فيه خلافٌ في كتب الأصحاب -رحمهم الله- ويصح تفسيرها هاهنا بأنه ينصرف عن اليمين بالنية، وهو الوجه المشهور ويجيء فيه ما رواه الإِمام -رحمه الله- وقولهُ "وهنا الوجه في قوله: وجلالِ اللهِ، وعظمتِهِ، وكبريائِهِ" يعد إشارةٌ إلى الوجه الفارق بينها وبين العلْم والقدرة، ويجوز أن يعلَمَ قوله: "فهو كناية" بالحاء والألف؛ لما حكينا من مذهب أبي حنيفة وأحمد -رحمهما الله- أن اللفظ لا ينصرفُ عن اليمين بالنية في قوله: "وقدرة الله". قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: أُقْسِمُ أَوْ أَحْلِفُ بِاللهِ أَوْ أَقْسَمْتُ بِاللهِ وَنَوىَ الوَعْدَ أَوِ الإخْبَارَ قُبِلَ، وَمُطْلَقةُ يُنَزَّلُ عَلَى اليَمِينَ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَشْهَدُ، وَفِي لُزُومِ الكَفَّارَةِ بِهِ عَلَى المُلاَعِنِ وَجْهَانِ كَمَا فِي الإِيَلاءِ، وَكذَلِكَ قَوْلُهُ وَأيْمُ اللهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ صَرِيحٌ، وَقَوْلُهُ: لَعْمرُ اللهِ كِنَايَةٌ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصْلِ مسألتان: إحداهما: إذا قال: أقسم بالله، أو أحلف بالله أو أقسمت بالله، أو حلفت بالله، فله أحوال: أحداها: أن يقول أردتْ بالأولِ الوعدَ بالحَلِف، وبالثاني الإِخبارَ عن حلفٍ ماضٍ، فيُقْبل في الباطن، وأما في الظاهر، فإن علم أن له يمينًا ماضيةً، قُبل قولُه: إني أردتها بأقسَمْتُ بلا خلاف، وإلا، فالنص أنه يُقْبَلُ قوله أيضاً في إرادة الوعْد أو الإخبار عن الماضي، فقال في "الإِيلاء": إذا قال: أقسمتُ باللهِ، لا وَطِئْتُكِ، ثم قال أردتُّ يمينًا ¬
في زمانٍ ماضٍ، لم يُقبل قوله، وفيها ثلاث طرقٍ للأصحاب -رحمهم الله-: أشهرها: أن في الإِيلاء وسائر الأيمان قولَيْن بالنقل والتخريج: أحدهما: أنه لا يُقْبل قولهُ؛ لأن قول القائل: أقسمت بالله أو أُقْسِم باللهِ إنشاء يمينِ في العُرْف، والشرع، فلا يُقبل منه صرْفُه إلى الماضي، كما أن قوله: "أنت طالق" لِمَا كان إنشاءَ طلاقٍ لم يُقْبَل قوله إذا قال: أردت طلاقًا سابقًا. وأصحُّهُما: وهو المذكور في الكتاب: القبول؛ لظهور الاحتمال. والثاني: القطعُ بالمنع، وحمل ما ذكر هاهنا على القبول الباطِنِ. والثالث: تقرير النَصَّيْن، والفرق أن الإيلاء متعلِّق حقِّ المرأة، وحقوق الآدميين ممَّا يضايَقُ فيه، وسائر الأيمان الحكْمُ فيها بالكفارة، وهي حقُّ الله تعالَى. والثانية: أن يقول: أردت اليمين؛ فيكون يمينًا لا محالة. الثالثة: أن يطلِقَ، فلا ينوي شيئاً، وهل يكون يمينًا، والحالة هذه؟. أطلق مطلقون؛ منْهم أبو يعقوب الأبيوردي فيه خلافاً، ثم منْهم من يقول: وجهان، ومنهم من يقول: قولان، ويوجَّه المنْعُ بأن صلاحية "أقسمْتُ" للماضي، "وأُقْسِم" للمستقبل ظاهرةٌ فلم يأت بلفظ صريح في الإِنشاء، ويوجه كونه يمينًا بأن العُرْف مُطَّرِدٌ باستعمال اللفظين في إنشاء اليمين، وذكر جماعة في كيفية تولُّد هذا الخلافٍ، منْهم القاضي ابنُ كج وأبو بكر الطوسيُّ -رحمهما الله- أن ظاهر نصه في "الأيمان" أنه ليس بيمين عند الإِطلاق، ونص في "الإيلاء" على أنه يمينٌ، فتصرف فيهما متصرِّفون بالنقل والتخريج، وفَرَق فارِقُون بمثَل ما سَبَقَ في الحالة الأُولَى، والأصحُّ من الخلاف عند الإِمام أنه ليس بيمين، وبه أجاب الصيدلانيُّ، وعند المعْظَمِ: أنه يمينٌ، ولم يتعرض كثيرون لحكاية الخلاف فيه، وعن بعض الأصحاب: أنه لا فرْقَ بين قوله: "أقسمت" فلم يجعله صريحاً عند الإِطلاق، وبين قوله: "أقسم" فجعله صريحًا، وهو ضعيف (¬1). الثانية: إذا قال: أشهدُ بالله أو شهدِتُّ بالله، فإن نوى اليمين، فهو يمين، وقد ورد الشرع بهذه اللفظة بمعنى اليمين؛ قال تعالَى: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] والمراد نَحْلِفُ، ولذلك قال تعالى على الأَثَرِ: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2] وإن أراد غير اليمين، فلا يكون يمينًا، وهذا قد يكون لإِرادة غير القسم؛ بأن يريد الإِيمان بالله تعالَى والشهادة بوحدانيته، وقد يكون لإِرادة الوعد ¬
والإخبار عن الماضِي مع إرادة القَسَم، كما ذكرنا في قوله: "أقسم باللهِ وأقسمت" وإن أطلَق، ففيه طُرقٌ: أشهرها (¬1): أن في كونه يمينًا وجهين: وجهُ كونِهِ يمينًا ورود الشرع بالشهادة بمعنى القَسَم؛ قال تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] واللعان يمينٌ، ووجه المنع: أنَّه لم يطرد به عرف اللغة ولا الشَّرعِ، ويحتمل أن يريد؛ أشهد بوحدانية الله تعالَى، ثم يبتدئ؛ لأفعلَنَّ كذا، على هذا ينطبق كلامُ الكتاب؛ فإنه قال في "أقسم أو أقسمت": "إن مطلقه ينزل على اليمين على أحد الوجهين"، ثم قال: "وكذلك قوله: أشهد" فأشعر العطْفُ بطرد الوجهين، لكنهم رجَّحوا هاهنا الوجه المذاهب إلى أنه ليْس بيمين، لتردُّد الصيغة بخلاف صنيعهم في قوله: "أُقْسِم وأقسمْتُ". والثاني: عن أبي إسحاق: القطع بأنه يمينٌ. والثالث: عن أبي الطيب بن سلمة: القطْع بأنه ليس بيمين، ونسبه الإِمام إلى العراقيين. ولو قال: أعزم بالله أو عزمت بالله، لأفعلن، لم يكن ذلك يميناً، ولا ورد الشرع به، لكن، إن نوى به اليمين، فهو يمين؛ لاحتمال أن يريد الإِخبار عن عزمه، والحَلِف على المعزوم عليه. ولو قال: أُقْسِم، أو أقسمْتُ، أو أحلفُ، أو حلَفْتُ أو أَشْهَد أو شَهِدتُّ أو أعزِمُ أو عزمْتُ، لأفعلَنَّ كذا, ولم يقل: بالله، لم يكن يميناً سواء نوى اليمين أم لا؛ لأنه لم يحلفْ باسمِ الله تعالَى ولا صفة من صفاته، وعند أبي حنيفة: هو يمين، إذا نوى اليمين أو أطلَقَ، وعند مالك: إن نوى اليمين، فهو يمين، وإن أطلق، فلا، وعن أحمد روايتان كمذهبهما. ثم في المسألة فروعٌ تتعلَّق باللعان؛ وهو أن الملاعن، إذا قال في لعانه: أشهد باللهِ، وكان كاذبًا، هل تلزمه الكفَّارةُ؟ فيه وجهان عن رواية صاحبِ "التقريب": الأظْهَرُ: الوجُوبُ، وقرب الإِمام الخلافَ من الخلاف في أن المولَى هل تلزمه الكفَّارة إذا وطئ، ووجه الشبه أن الإيلاء لاقتضائه الفراقَ وإفضائه إليه جعل في قول خارجاً عن الأيمان المحضة، فكذلك اللعان؛ لاقتضائه الفراق، وذكر أن التصوير فيما إذا زعم أنه قصد اليمين أو أطْلَق، وجعل مطلقه يميناً، قال: ويمكن أن يجيء الخلاف، وإن قصد غير اليمين؛ لأن ألفاظ اللعان معروضةٌ عليه في مجْلسِ الحُكمٍ، ولا أثر للتورية في الأيمان الجارية في مجلس الحكم، ولك أن تقول: إنما لا يؤثِّر القصد والتورية في الأيمان المعروضة في مجْلس الحُكْم في الأحكامِ الظاهرةِ، والكفَّارةُ حكْمٌ ¬
بينه وبين الله تعالَى، فيشبه أن يُقَال: لا يلزمه، إذا لم يقصد اليمين. الثالثة: إذا قال: وَايْمُ الله، لأفعلنَّ كذا، أو وَايْمَنُ اللهِ، فإن نوى به اليمين، فهو يمين، وقد رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "وَايْمُ اللهِ، إِنَّهُ لَخَلِيقٌ بِالإِمَارَةِ" (¬1) وإنْ أطلق، ولم يَنْوِ (¬2) شيئاً، فوجهان: أحدهما: أنه يمينُ، لكثرة استعماله في اللغة يميناً، وقد ذكر أن أصل "ايْمُ اللهِ" "ايْمُنُ اللهْ" وأن الأيمن جمع اليمين، وأن التقدير: وَايْمُنُ الله قسمي، فكأنه قال: حلفت بالله. وأظهرُهما: المنعُ؛ لأنه لا يعرفه ولا يستعمله إلا خواصُّ الناس، ولذلك قال الأصحاب: لو قال: لاَهَا الله (¬3)، ولم يُردِ اليمينَ، لا يكون يمينًا، وإن كان يستعمل يمينًا في اللُّغَة؛ لعدم اشتهاره (¬4) ويعبر عن الوجه الأول بأنه صريحٌ، وعن الثاني بأنه كنايةٌ. فقوله في الكتاب وَقِيلَ: إنَّه صريحٌ كالمستغنى عنه: لأن الظاهر من قوله وكذلك قوله "وايمُ الله" رد العطف إلى الوجهين السابقين في قوله "ومطلقة يَنْزِل على اليمين على أحد الوجهين". الرابعة: إذا قال: لعَمْرُ اللهِ، لأفعلنَّ كذا، فإن أراد به اليمينَ، فهو يمين، والمراد منه البقاءُ والحياةُ، وهو قريب من العُمر لكنه في هذا الموضع لم يجئْ إلا مفتوح العَيْن، ونذكر أن المعنى لَعَمْرُكَ قَسَمِي أو يَمِينِي أو ما أقسم به، وإن لم ينوِ شيئاً، وأطلق، ففيه وجهان: ¬
أظهرهُما: أنه ليس بيمينٍ؛ لأنه كما يُطلق بمعنى البقاء، يُطْلِق بمعنى العبادات والمفروضات. والثاني: أنه يمين؛ لاشتهاره في اليمين لغةً، وبهذا قال أبو حنيفةَ وأحمدُ، وبه قال ابن سُرَيْجٍ -رحمهم الله- في جوابات الجامع الصغير، وأبو الطيب بن سلمة، واختاره صاحبُ "الإفصاح" (¬1)، ومما يناسب هذه الصورةَ، إذا قال: عليَّ عهدُ اللهِ وميثاقُه وأمانَتُه وكفالَتُه، لأفعلن كذا، فإن أراد اليمينَ، فهو يمين، والمراد من عهده استحقاقه لإيجاب ما أوجب علينا وتعبَّدنا به، وإن أراد غير اليمين، لم يكن يميناً، والمراد العبادات التي أُمرنا بها، وإذا أطلق، فعلى وجهين: عن أبي إسحاق: أنه يمين؛ للعادة الغالبة، وبه قال أبو حنيفةَ ومالكٌ -رحمهما الله- والأظهر خُلافه؛ لِتردُّد اللفظ، وبالعبادات فُسِّرت الأمانة في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] وإذا أراد اليمين بهذه الألفاظ فتنعقد يمين واحدة، والجمع بين الألفاظ تأكيدٌ، كما لو قال: واللهِ الرحمنِ الرحيمِ، ولا يتعلَّق بالحنث إلا كفارةٌ واحدةٌ، وقال مالكٌ: يتعلق بكلِّ لفظٍ كفارةٌ، ولك أن تقول: إن قصد بكلِّ لفظٍ يمينًا، فليكن كما لو حلف على الفعْل الواحد مراراً (¬2). ولو قال: وعهدِ الله وميثاقِ الله وأمانةِ اللهِ، قال في "التتمة" إن نوى به اليمين، فهو يمين، وإن أطلق فلا؛ خلافاً لأحمدَ، وعن أبي حنيفة -رحمه الله-: أن العهد والأمانة يمينٌ، بخلاف الميثاق. قَالَ الغَزَالِيُّ: فَرْعٌ: إِذَا قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ أَوْ صَلاَةٌ لَزِمَهُ الوَفَاءُ عَلَى قَوْلٍ كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ شَفِىَ اللهُ مَرِيضِي أَوْ ذَكرَ حُصُولَ نِعْمَةٍ أَوْ دَفعَ بَلِيَّةٍ، وَعَلَى قَوْلٍ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لأَنَّ مَقْصُودَهُ المَنْعُ وَيَجْرِي فِي كُلِّ مَا يُقْصَدُ امْتِنَاعُهُ، وَعَلَى قَوْلٍ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الوَفَاءِ وَالكَفَّارَةِ، وَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْتُ فَعَلَيَّ نَذْرٌ فَهُوَ كَقَوْلهِ عَلَيَّ عِبَادَةُ إِنْ أَوْجَبْنَا الوَفَاءَ وَعَلَيْهِ تَعِيْنُ عِبَادَة يَلْزَمُ مِثْلُهَا بِالنَّذْرِ، وَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى القَوْلِ الآخَرِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ نَصَّ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: فَعَلَيَّ يَمِينٌ فَهُوَ لَغْوٌ، وَقِيلَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَوْ قَالَ: مَالِي صَدَقَةٌ فَهُوَ لَغْوٌ، وَقِيلَ: هُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَنْ أتصَدَّقَ، وَقِيلَ: هُوَ كَجَعْلِ الشَّاةِ ضَحِيَّةً فَتَصِيرُ صَدَقَةً وَالظَّاهِرُ أَنَّه لَغْوُ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: صورة الفرْع أن يمنع نفْسه مِن فعل أو يحثها عليه بتعليق التزام قربة بالفعل أو الترك، وهذا التصوير قد يُقالُ له: يمين الغضَب واللَّجَاج، ويُجْعل قسيمًا لسائر الأيمان، بصيغته المشهورة، وكذلك جعل صاحبُ الكتابِ الباب في "الوَسيط" فصْلين: أحدهما: في صيغ الإيمانِ الصرائحِ منْها والكنايات. والثاني: في يمين الغَضَب واللَّجَاج، وهو ما رسمه فرعًا هاهنا، وقد يُقال له: نذر الغَضَب واللَّجَاج، ويُجعل قسيمًا لنذر التبررة وهو التزام القربة، إما ابتداءً أو معلَّقًا بنعمة يبغيها أو بزوال نقمة يرجو كشْفَها, وله الكتاب المفردُ التالِي لـ"كِتَابِ الأيمان"، وربما سُمِّيَ يمين الغلق ونذر الغلق، إذا عرفت ذلك، فهذا قال: إن كلمتُ فلاناً أو أكلتُ كذا أو دخلت الدار أو إن لم أخرج من البلد، فلله عليَّ صوم شهر أو صلاةٌ أو حجٌ، أو إعتاق رقبة ثم إنَّه كَلَّمه أو أكل أو دخل، أو خرج، فقد رُوِيَ فيما يلزمه ثلاثةُ أقوال: أحدها: أنه يلزمه الوفاء بما التزم؛ لأنه التزم عبادة في مقابلة شرط، فتلزمه عند وجود الشرط، كما لو قال: إن شَفَى اللهُ مَرِيضِي، أو رزقَنِي ولداً، فلله عليَّ كذا. والثاني: أن عليه كفارةَ يمينٍ؛ لما رُوِيَ عن عقبة بنِ عامر -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيمِين" (¬1) وعن عائشة -رضي الله عنها- أنَّها سُئِلَتْ عمن جعل ماله في رتاج الكَعْبَة، إنَّ كَلَّمَ ذَا قَرَابَةِ لَهُ، فَقَالَتْ "يكَفِّرُ مَا يُكَفِّرُ اليَمِينَ" والمعنى فيه أن المقصود إذا قال: إنْ كلَّمتُ فلانًا، فعلَّي كذا، منع النفس منه، ومن قوله: إن لم أخرج من البلد، حمل النفس على الخروج، فكأن كاليمين في غرض المنع والحَمْلِ، فيكون موجبه موجب اليمين. والثالث: وبه قال أحمد -رحمه الله-: إنه يتخيَّر بين الوفاء بما التزم وبين أن يُكفِّر كفارةً يمينٍ؛ لأنه يشبه النذْر من حيْثُ إنَّهُ التزم قربةً، واليمينُ من حيث إنَّ مقصودَه مقصودِ اليمين، فلا سبيل إلى الجَمْع بين موجبيهما, ولا إلى تعطيلهما، فوجب التخيير، هذا هو الطريق المعتد، والأقوال معزيَّةٌ إلى نصوص الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- في مواضعَ وصور مختلفة، ويُقال: إن قول التخيير مخرَّجٌ غيرُ منصوص، ثم إيراد العراقيين من الأصحاب يقتضي أن يكونَ المذهبُ التخييرَ، لكن الأصحَّ على ما ذكر صاحبُ "التَهْذيب" وإبراهيمُ المروزي والموفَّق بن طاهر وغيرهم -رحمهم الله-: وجوبُ الكفارة، ووراء ذلك طُرُقٌ: أحدها: القطعُ بالتخيير. والثاني: عن العبَّادي: نفي التخيير، والاقتصار على القولَيْن الأَوَّلَيْن. ¬
والثالث: الاقتصار على التخيير، ووجوبُ الكفَّارة، ونفْيُ القول الأول. والرابع: الاقتصار على التخيير، ووجوب الوفاء، ونفي القول الثاني؛ وهو وجوب الكفارة، وهذا يوافق ما حكاه الصيدلانيُّ وغيرة عن القفَّال؛ وهو أنه كان يذكر قولَي الوفاء والتخيير، ولا يذكر قول وجوب الكفَّارة، ولكن رُوِيَ أن أبا الربيع لا يلاقي قال: سَمِعْتُ الحُلَيْمِيَّ -رحمه الله- يَقُوْلُ فِي نَذْرِ اللَّجَاج: يتعيَّن عليه كفَّارةُ اليمينِ، قلت: منصوصُ الشَّافعي -رضي الله عنه- هُوَ؟ قال: نعم، فلما رجعتُ إلى مرو حكيتُه للقَفَّال، فلم يصدِّقني، ثم إنه طالع الكتب تلْك الليلة، فلما جلس في الغدِ للدَّرْس قال: أسهرتْنِي البارحةَ، قد طالعت الكتب فالمسألة منصوصة، كما قال الحُلَيْمِيُّ فلعل ما يُنسب إلى القفَّال، كان قبل هذه الحكاية. ويجوز أن يُعلَم لهذه الطرق قوله في الكتاب "علَى قول" أولاً وثانياً وثالثاً بالواو. وعن أبي حنيفة ثلاثُ روايات كالأقوال، لكن الأشهر والمختار عند أصحابه قولُ وجوب الوفاءِ، فليعلَم الآخران بالحاء، وليعلَم الأولان بالألف: لما مرَّ. التفريع: إن قلْنا بوجوب الكفَّارة، فلو وفَّى بما التزم، فهل تَسقط الكفَّارة؟ في "شرح مختصر الجُوَيْنِيِّ" -رحمه الله- ذكَرَ وجهين فيه، والظاهِرُ: المنعُ، فإن كان الملتَزَم من جنْس ما يتأذى به الكفارةُ، فالزيادة، على قدْر الكفَّارة تقع تطوُّعًا، وإنْ قلنا: يتخير، فلا فرق بين الحجِّ والعمرة وبين سائر العبادات، وخرج قول أنه يلزم الوفاء بهما، بخلاف سائر العباداتِ؛ لعظم أمرهما، كما يلزمان بالشرْع. وإذا كان قد التزم على وجْه اللَّجَاجِ إعتاق عبد بعينه، فإن قلنا: عليه الوفاءُ بما التزم، أعتقه كيف كان، وإن قلْنا: عليه كفارةُ يمينٍ، فإن كانت بحيث تجزئ عن الكفَّارة، فله أن يعتق غيره، وأن يعتقه أو يُطْعِم أو يكْسُوَ، وإن كانت بحيث لا تجزئ، واختار الإعتاق، أعتق غيره وإن قلْنا: يتخير، فإن اختار الوفاء، أعتقه كيف كان، وإن اختار التكفير، اعتبر في إعتاقه صفاتُ الأجزاء، وإن كان قد التزم إعتاقَ عبيده، فإن أوجبنا الوفَاءَ أعتقهم، وإن أوجبْنا كفارةَ اليَمين، أعتق واحداً. ولو قال: إن فعلتُ كذا، فعبدي حُرٌّ، نزل العتقُ إذا فعلَه بلا خلافٍ. ولو قال: إن فعلتُ كذا، فعليَّ أو فلِلَّه عليَّ نذْرٌ، فالحكاية عن النص: أنه يلزمه كفارة يمين، وبهذا أجاب صاحبُ "التهذيب" وإبراهيمُ المروزي -رحمهم الله- واحتج له بما رُوِيَ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ" (¬1) وعن القاضي الحُسَيْن ¬
وغيرِه: أن هذا مفرَّعٌ على قول وجوب الكفارة؛ أما إذا أوجبنا الوفاءَ، فيلزمه قربة من القُرَب، والتعيين إليه، وليكن ما يعينه مما يلزم بالنذر، وعلى قول التخيير يتخير بين ما ذكرنا، وبين الكفَّارة. وقوله في الكتاب "وإن فرعنا على القول الآخر" يعني قول وجوب الكفَّارة. ولو قال: إن فعلْتُ كذا، فعليَّ كفارة يمين فالواجب كفارة يمين عَلى (¬1) الأقوال كلِّها. ولو قال: فعلَيَّ يمين أو فللَّه عليَّ يمين، فالظاهر أنه لغو، فإنه لم يأتِ بنذر ولا بصيغة اليمين، وليست اليمينُ مما يلزم في الذمة، وفيه وجه؛ أنه يلزمه كفارةُ يمين، إذا فعله، ويُجْعل اليمين التي هي سببُ الكفارةِ عبارةً عن المسبب، قال الإِمام -رحمه الله-: وعلى هذا، فالوجه أن يُجْعل كنايةً، ويرجع إلى نيته. ولو قال: نذرت لله، لأفعلن كذا، فإن نوى اليمين، فهو يمين، وإنْ أطلق، ففيه وجهان، أوردهما الفورانيُّ وصاحبُ "التهذيب" وأجريا فيما لو قال (ازخداى يزيرختم) (¬2)، وينبغي أن يجعل هذا نَذْرًا، أو ينظر في الملتَزَم؛ أهو طاعةٌ أم لا؟ ويجري في كل قسم حكمه. وعن الشيخ أبي محمد: أن صاحبَ الغَلَق، إذا ذكر أجناساً من القُرَب مثْل أن يقول: إن دخلْتُ الدار، فلله علي حَجٌّ وعتقٌ وصدقةٌ، فيحتمل أن يعدد ذلك الكفَّارة، إذا قلْنا تجب الكفَّارة، والظاهرُ الاتحاد، فإنا، إذا لم نوجب الوفاءَ، فلا نظر إلى الملتَزَم تعدَّد أو اتَّحَدَ. وفي "التهذيب": أنه لو قال ابتداءً: للهِ عليَّ أن أدخل الدار اليوم، فالمذهب أنه يمين، وعليه كفارة اليمين إن لم يدخل، وكذا لو قال لامرأته: إن دخلتُ الدار، فلله عليَّ أن أطلقك، فهو كقوله: إن دخلتُ الدار فوالله لأطلقنَّك، حتَّى لو مات أحدهما قبل التطليق، يلزمه كفارة يمين، ولو قال: إن دخلتُ الدارَ، فلله عليَّ أن آكل الخبز، فدخل الدار، فالمذهب أن عليه كفارةَ اليمين، وفيه وجهٌ: أن ذلك لغْوٌ لا يجب به شيء، ولك أن تقول: الملتَزَمُ في هذه الصور فعلٌ مباحٌ، والصيغةُ صيغةُ نذرٍ، وسيأتي في "كتاب النذر" القولُ فيما إذا نَذَر مباحاً. وإذا قال الرجل ابتداءً: مالِي صدقةٌ أو في سبيلِ اللهِ، فعن القاضي الحُسَيْن: أنه لغو؛ لأنه لم يَأْتِ بصيغة التزام، وهذا ما أورده صاحبُ الكتاب أظهر، وقال في "التتمة": إن كان المفهوم من اللفظ في عُرفْهم معنى النذر أو نواه، فهو كما لو قال: ¬
عليَّ أن أتصدق بمالي، أو أنفقه في سبيل الله، وإلا، فلا حكْمَ له، وعن الشيخ أبي محمَّد -رحمه الله-: فيه وجهان: أحدهما: أنه كما لو قال: عليَّ أن أتصدَّق بمالي، فيلزمه التصدُّق. والثاني: أن ماله يصير بهذه اللفظة صدَقةً، كما لو قال: جعلت هذه الشاة ضحيَّةً وخرَّج الإمامُ وصاحبُ الكتاب -رحمهم الله- على هذا الوجْهِ ما إذا قال: إن فعلتُ كذا فما لي، صدقةٌ، والمعتمد الذي نقله الجمهورُ -رحمهم الله- ونص عليه الشَّافعيُّ -رضي الله عنه- أنه إذا قال: إن كلَّمتُ فلاناً أو فعلْتُ كذا، فمالي صدقةٌ، فهو بمثابة قوله: فعليَّ أن أتصدَّق بمالي أو بجميع مالٍ؛ لأنه الذي يسبق إلى الفَهْم من هذه اللفظة، وحينئذٍ، فطريق الوفاء أن يتصدَّق بجميع أمواله، وإذا قال: في سبيل اللهِ، يتصدَّق بجميع أمواله على الغُزَاة، كما لو قال: إن شفَى اللهُ مريضي، أو رجع غائِبِي، فلله عليَّ التصدُّق بجميع مالٍ، فشُفِي، وقال أبو حنيفة: عليه أن يتصدَّق بأمواله الزكاتية دون غيرها، فإن لم يكن له إلا المالُ الزكاتيُّ، أمسكَ قدْر النفقة، فإذا أيسر، أخرج بدَلَه، وقال مالكٌ: يلزمه أن يتصدَّق بثلث ماله، ويكفيه ذلك، وهذه رواية عن أحمد -رحمه الله-. واعلمْ أن الصيغة قد تتردَّد، ويحتمل نذر التبرُّر ونذْر اللَّجَاجِ، والرجوع فيه إلى قصد الشخْص وإرادته، وفرَقُوا بينهما بأنه في نذْر التبرُّر يرغب في السبَبِ، وهو شفاء المريض مثلاً بالتزام المسبَّب، وهو القربة المسمَّاة، وفي نذْر اللَّجاج يرغب عن السبب؛ لكراهية الملتَزَم، وذكر الأصحاب في ضبطه: أن الفعل إما طاعةٌ أو معصيةٌ، أو مباحٌ، والالتزام في كل واحد منهما تارةً يعلَّق بالإِثبات، وأخرَى بالنفي، أمَّا في الطاعة، ففي طرف الإثبات يتصوَّر نذر التبرر؛ بأن يقول: إن صليتُ، فلله عليَّ صوم يوم، أي: إن وفقني الله للصلاةِ، صمْتُ، فإذا وفَّق لها, لزمه الصوم، ونذْرُ اللَّجاج؛ بأن يُقال له صلِّ، فيقول لا أصلِّي، وإن صلَّيتْ فعلي صومٌ أو عِتْقٌ، ففيما يلزمه، إذا صلى الأقوال، وفي طرف النفي لا يتصوَّر نذر التبرُّر؛ لأنه لا برَّ في ترك الطاعة ويدخُله نذْر اللَّجاج؛ بأن يمنع من الصلاة، فيقول: إن لم أصلِّ، فلله عليَّ كذا، فإذ لم يصلِّ، ففيما يلزمه الأقوال، وأما المعصيةُ، ففي طرف النْفِي يتصوَّر نذر التبرر؛ بأن يقول: إن لم أشرب الخمر، فعلَيَّ كذا، يريد؛ إن عصمني الله عنه ونذر اللجاج؛ بأن يمنع من شربها، فيقول: إن لم أشرْب، فلله عليَّ عتق أو صدقة وفي طرف الإِثبات، لا يتصوَّر إلا نذْر اللَّجاج؛ بأن يؤمر بالشرب، فيقول: إن شربت فلِلَّه عليَّ كَذا، وأما المباحُ فيُتصور في طرفي النفْي والإِثبات فيه النوعان معاً، فالتبرُّر في الإثبات مثل أن يقول: إن أكلتُ كذا، فلله على صوم، يريد إن يسَّره الله لِي، ونذر اللَجاج بأن يؤمر بأكله،
الباب الثاني في الكفارة
فيقول: إن أكلتُ، فلله عليَّ كذا، والتبرر بالنفّي؛ بأن يقول: إن لم اكُلُ كذا، فعليَّ صومٌ، يريد؛ إن أعانني الله على كَسْرِ شهوتي، فتركته، وهذا واللجاج؛ بأن يمنع من الأكل؛ فيقول: إن لم آكُلْ، فللَّهِ عليَّ كذا، وفي "الوسيط" أن من الأصحاب -رحمهم الله- من منع التبرُّر في المباحات، لماذا قال: إن رأيتُ فلانًا، فلله عليَّ صوم أو حجٌّ، فإن أراد؛ إن رزقني الله رؤيته، فهو نذْر تبرُّر وإن ذَكَرَهُ لكراهته رؤيته، فهو نذْر لجاج. فرعان: الأول: لا فرق في جميع ذلك بين أن يقول: فعلَّيَّ كذا، وبين أن يقول: فلله عليَّ، وفي وجه: إذا لم يذكر الله، لم يلزمه شيء. والثاني: لو قال: أيمان البيعة لازمةٌ لي، فقد ذكر الأصحاب -رحمهم الله- أن البيعة في زمان رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- كانتْ بالمصافحةِ، فلما وُلِّيَ الحجاجُ، رتَّبها على أيمان تشتمل على ذكْر اسمِ الله تعالَى، وعلى الطلاق والعَتَاق والحَجِّ وصدقةِ المال، فإن لم يرد القائل الأيمان التي رتَّبها الحجَّاجُ، لم يلزمه شيء، وإن أرادها، نُظر؛ إن قال: فطلاقها وعتاقها، انعقدت يمينه بهما, ولا حاجة إلى النية، وإن لم يصرح بذكرهما ونواهما، فكذلك؛ لأنهما ينعقدان بالكناية مع النية، ولا تنعقد اليمين بالله تعالَى على ما بيَّنَّا نظائره. البَابُ الثَّانِي فِي الكَفَّارَةِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالنَّظَرُ فِي السَّبَبِ وَالكَيْفِيَّةِ وَالمُلْتَزَمِ، أَمَا السَّبَبُ فَهُوَ اليَمِينُ (ح) وَلَكِنْ يُوجَبُ عِنْدَ الحِنْثِ، وَفَائِدَتَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا (ح) بَعْدَ اليَمِينَ عَلَى الحِنْثِ إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الكَفَّارَةُ صَوْمًا أَوْ كَانَ الحِنْثُ مَحْظُورًا فَفِيهِمَا وَجْهَانِ، وَيَجُوزُ كَفَّارَةُ القَتْلَ بَيْنَ الجَرْحِ وَالمَوْتِ، وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ بَيْنَ الظِّهَارِ وَالعَوْدِ، وَالْحَنِثُ لاَ يَحْرُمُ بِاليَمِينِ لَكِنَّ الأوْلَى أَلاَّ يَحْنَثَ إلاَّ أَنْ يَكُونَ الخَيْرُ فِي الحِنْثِ، وَقِيْلَ: الأولَىَ أن يَحْنَثَ، وَقِيلَ: يَتَخَيَّرُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: النظر في الكفَّارة في ثلاثَة أمورٍ، في سبب وجوبِها، وفي كيفيتِهَا في نَفْسها، وفيمن تَلْزَمُه. أما الأول، فقد نقل جماعة من الأصحاب، منْهم القاضي الرويانيُّ وجهين في أن سبب الكفارة (¬1) ماذا؟ أحدهما: أن سبَبها اليمينُ، إلا أنها توجَبُ عند الحنث، كما ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يوجَب ملْك النصاب في الزكاة عند إنقضاء الحَوْل، كان من قال به جَعَل الحِنْث شرطاً، واحتج له بأن الكفارة منسوبة إلى اليمين؛ على ما قال تعالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] فتكون اليمينُ سبباً لها، ككفارة الوقاع، وكما يُقال: حَدُّ الزنا وحدُّ الشرب، وهذا ما أورده في الكتاب. وأظهُرهما: عند عامة الأصحاب -رحمهم الله-: أن السببَ اليمينُ والحِنْثُ جميعاً: لأنه لو كان السببُ مجرَّدَ اليمين، لوجبت الكفارة، وإن لم يوجد الحِنْث، وعن أبي حنيفةَ: أن السببَ الحِنْثُ، واليمينُ سببٌ لتحريم الحِنْث، وهذا كما أن الإحرام يُحَرِّم الوطء واللبس، والوطء يوجب الكفارة، فيجوز أن يُعلَم؛ لما ذكرنا قوله في الكتاب أما السبب فهو اليمين بالحاء والواو، وإذا تقرَّر ذلك، ففي الفصل مسألتان: أحدهما: يجوز تقديم الكفارة على الحِنث، وبه قال مالك وأحمد؛ خلافاً لأبي حنيفةَ -رحمهم الله-. لنا: ما رُوِيَ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لعبْدِ الرحْمن بْنِ سُمرَة: "إِذَا حَلَفْتَ عَلَىَ يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفُرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ ائْتَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ" وأيضاً (¬1) فإن الكفارة حقٌّ مالي يتعلَّق بسببين، فجاز تعجيله بعْد وجود أحد السببين، كتعجيل الزكاة بعْد وجوب النِّصَاب، والأَوْلَى أن يُؤخِّر التكفير عن الحِنْث للخروج عن الخلاف، هذا إذا كان يكفر بغير الصوم ولم يكن الحِنْث بارتكاب محظور، فأما إن كان يكفر بالصوم، فظاهر المذهب: أنه لا يجوز قبل الحنث؛ لأن الصوم عبادة بدنية، والعبادات البدنية لا تقدَّم على الوقت، إذا لم يكن حاجة ماسَّةٌ؛ كالصلاة وصوم شهر رمضان، وأيضاً، فإن الصوم إنما يجوز التكفيرُ به عند العجْز عن جميع الخِصَال المالية، وإنما يتحقَّق العجْز بعد الوجوب، وفيه وجْهٌ: أنه يجوز التكفير به قبل الحِنْث كسائر الخصال، وفي "شرح مختصر الجويني": أن أبا زيدٍ حكاه قولاً عن القديم، وبه قال مالك، ويُروَى مثلُه عن أحمدَ -رحمهما الله- وقد يحتج له بظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم- "فَلُيْكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ثُمْ ليَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ" وان كان الحِنثُ بارتكاب محظور؛ بأن حلف ألاَّ يشرب الخمر، فهل يجزئه ¬
التكفير قبل أن يشرب؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال ابنُ القاصِّ: المنعُ؛ لأنه يتطرَّق به إلى ارتكاب محظور، وهذا أرجح عند صاحب "التهذيب". والثاني: يجوز؟ لوجود أحد السببين، والتكفيرُ لا يتعلَّق به استباحةٌ ولا تحريمٌ، بل المحلوف عليه محظورٌ قبل اليمين وبعدها، وقبل التكفير وبعده، ولا أثر لهما فيه، وهذا أقيس وأظهر عند الشيخ أبي حامد والإِمام الرويانيِّ وغيرهم -رحمهم الله-. ولو قال: أعتقتُ هذا العبد عن كفارة يميني, إذا حنثتُ عُتِقَ العبْدُ عن كفارة؛ إذا حَنِثَ بخلاف ما إذا قال: أعتقته عن الكفَّارة، أو إذا حلفت، لا يجزئه عن الكفارة؛ لأنه قَدَّم التعليق على اليمين، وفي الصورة السابقة، قدَّمه على الحِنْث، ولو قال: إذا حَنِثْتُ في يمين غداً، فهو حرٌّ عن كفارتي، فإن حَنِث غدًا، عتق عن الكفَّارة، وإلا، لم يُعْتَق؛ لأن المعلَّق عليه لم يوجد. ولو قال: أعتقته عن كفارة يميني، إن حنِثْت، ثم بان أنه حَنِث، عُتِق عن الكفَّارة، وإلا، لم يُعْتَق، ولو قال: أعتقته عن كفارة يميني، وإن حلَفْت، وحنِثْت، فبان حالفاً، قال صاحب "التهذيب": وجب أَلاَّ يجوز؛ لأنه شاكٌّ في اليمين، وفي الصورة السابقة الشكُّ في الحنث، والتكفيرُ قبل الحنث جائزٌ، وعلى قياسه؛ لو قال: هو حرٌّ عن ظهاري، إن ظاهرت، فبان أنه ظاهر وجب ألا يجوز. ولو أعتق عبداً عن الكفَّارة قبل الحنث، ثم ارتد العبد، أو مات قبل الحنث، لم يُجْزِه عن الكفارة، كما لو عجَّل الزكاة، فارتد المدفوع إليه، قبل تمام الحول، وتغيُّر الحال في التكْفير قبل الحنث كهو في تعجيل الزكاة، قال صاحب "التهذيب": ويحتمل أن يجري في ارتداد (¬1) العتيق وموته، كما لو ماتت الشاةُ المعجَّلة قبل الحول. ويتعلَّق بالمسألة صوَرٌ: أحدها: الظاهر، وهو المذكور في الكتاب: أنه يجوز تقديم كفَّارة القتل على الزهوق بعْد حصول الجَرْح، وتقديم جزاء الصيد على الزُّهوق بعد جرح الصيد وعن الشيخ أبي عليٍّ وغيره -رحمهم الله-: أن من الأصحاب مَنْ خرَّجه على الخلاف في تقديم الكفارة على الحِنْث المحظور؛ لأن سراية فعْله بمنزلة فِعْله، وهو محظور، قال الإِمام -رحمه الله-: وهذا لا اتجاه له؛ لأن الزهوق ليس بفعل مقدورٍ له، حتى يوصَفَ بالحظْر، وقياس ما ذكره الشيخ: أن يُقال: لو حلَفَ، لا يَقْتُلُ فلاناً، فجَرحَه، وكفَّر عن ¬
اليمين قبل حصول الزهوق، ففي الأجزاء الوجهان، قال: وهو بعيدٌ، وإذا قلنا بجواز التقديم، فذلك في الإِعتاق، وأما الصوم، فلا يقدَّم على الظاهر، كما سبق، وجوز أبو حنيفة -رحمه الله- تقديمَ كفَّارةِ القتْل وجزاء الصيد على الزهوق بالصوم وغير الصوم، ولا يجوز تقديم كفَّارة القتْل على الجرح بحال، وعن أبي الطيب بن سلمة إثباتُ احتمالٍ فيه تنزيلاً للعصمْة وتحريم القتْل منزلةَ أحد السببين، وحَكَى القاضي ابن كج في جزاء الصيْد أيضًا وجْهاً: أنه يجوز تقديمه على جرح الصيد، ووجهاً آخر أنه إن كان يقتله مختاراً بلا ضرورة، لم يجز التقديم، وإن اضطره الصيد إليه، فيجوز. الثانية: التكفير عن الظِّهَار بالمالِ بعْد الظهار وقَبْل العَوْدِ جائز؛ لأن الظهار أحد السَّبَبَيْنِ، والكفارة منسوبة إليه، كما أنها منسوبة إلى اليمين، ومنْهم مَنْ جعله على الخلاف فيما إذا كان الحِنْثُ محظوراً، قال في "التتمة": لأن وطئها بعد الظهار حرامٌ، فهو بالتكفير يستبيح محظوراً والمذهب الأول؛ لأن العَوْد ليس بحرام؛ حتى يُقالَ يتطرَّق بالتكفير إلى الحرام، بخلاف ما إذا كان الحِنْثُ مَحظوراً، ويصور التكفير قبل العوْد وبعْد الظهار فيما إذا ظاهر عن الرجعية، ثم كفر ثم راجعها، وفيما إذا ظاهر عن امرأته، ثم طلَّقها طلاقاً رجعياً، ثم كفَّر، ثم راجع أو طلاقاً بائناً، وكفر، ثم نكحها، وقيل: يعود الحنث، وفيما إذا ظاهر ظهاراً مؤقتاً، وقلْنا: إنه يصح مؤقتاً، وكفَّر (¬1) ثم صار عائداً بالوطء، وفيما إذا ظاهر وارتدَّت الزوجة عقيب الظهار، فكَفَّر، ثم عاد إلى الإِسلام، وصار عائداً، فأَمَّا، إذا ظاهر وأعتق على الاتصال عن ظهاره، فليس هذا تكَفيراً قبل العَوْد، وإنما هو تكفير مع العَوْد؛ لأنه بالاشتغال بالإِعتاق عائد، والحكمُ الإِجزاء أيْضاً. الثالث: لا يجوز تقديمُ الكفارة في شهْر رمضان وفي الحج على الوقاع، ووجه ذلك بان الصوم ليس سبباً لوجوب الكفارة، ولا الإِحرام؛ لأنهما يحرمان الوقاع (¬2) وما يحرم شيئاً لا يكون سبباً لما يحله بارتكاب ذلك المحرَّم، فالتكفير قبل الوقاع يكون تكفيراً قبل وجوب السبب، واليمينُ لا يحرِّم الحِنْثَ، وتحقيق الفرْق أن تلك الكفَّارة لا تُنْسَب إلى الصوم والإحرام، وهذه تنسب إلى اليمين، وفي، "النهاية" وجْهٌ في جواز التقديم غريبٌ، والظاهر الأول، وكذلك لا يجوز تقديم فدية الحَلْق والتطيب ولبس المَخِيط عليها، فإن وجد سببٌ يجوِّزها؛ بأن كان في رأسه أذىً، ويحتاج إلى التطيب؛ لمرض، أو إلى لُبْس المَخِيط لشدَّة البرد، ففي جواز التقديم وجهان، والظاهِرُ: الجواز. ¬
الرابعة: يجوز تعْجيل المنذور، إذا كان مالياً، كما إذا قال: إن شفى الله مريضِي، أو رد غائبي، فلله عليَّ أن أعتق عبداً أو أتصدَّق بكذا يجوز تقديم الإِعتاق والصدَّقة على الشِّفَاء ورجوع الغائِبِ، وفي فتاوى القفَّال ما ينازع فيه. الخامسة: الحامِلُ والمرضِعُ، إذا شرعتا في الصوم، ثم أرادتا الإِفْطار وأخرجتا الفدية قَبْل الإِفطار، ففي إجزائها وجهان: أظهرهما: الإِجزاء؛ وعلى هذا، ففي جواز تعجيل الفدية لسائِر الأيام وجهان؛ بناءً على الخلاف في تعجيل زكاةِ عامَيْن. وقولُه في الكتاب "وفائدته أنه يجوز تقديمها على الحِنْث بعد اليمين" إشارةٌ إلى ما ذكر الأصحاب أنَّ الخلافَ بَيْنَنَا وبين أبي حنيفة في جواز تقديم الكفَّارة على الحنث مبنيٌّ على أن اليمين عنْدنا سبب للكفارة، والحقُّ المالي يجوز إخراجه بعد وجوب سببه أو أحد سببيه، كما تُعجَّل الزكاة على الحَوْل بعد كمال النصاب، وعنده السببُ الحِنْث، والتقديمُ على السبَبِ لا يجوز، كما لا يجوز تقديم الزكاةِ على النصابِ، وكفارةِ الوقاعِ على الوِقَاع. المسألة الثانية: الأيمانُ مكروهةٌ، إلا إذا كانت في طاعةٍ؛ كالبيعة على الجهاد، كما قال -صلى الله عليه وسلم -: "وَاللهِ لأغَزُوَنَّ, قرَيشاً" (¬1) ويستثنى أيضاً الأيمان الواقعةُ في الدعاوَى، إذا كانت صادقةً فإنها لا تكره (¬2). والتفصيل أنه، إن حلَف على فعْلِ مفروضٍ، أو تركِ محظورٍ، فهذه يمينُ طاعةٍ، والإِقامة عليها واجبةٌ، والحِنْثُ معصية وإن حلف على تركِ مفروضٍ أو فعلِ محظورٍ، فهذه يمينُ معصية ويجب عليه أن يُحْنِثَ نفسه، ويُكفِّر، وإن حَلفَ على فعْل محبوب؛ كصلاةِ التطوُّع وصدقة التطوع، فالإقامة عليه الطاعةٌ والمخالفةِ مكروهةٌ إن حلف على ترْك محبُوب، فهو مكروه، والإقامةَ عليه مكروهةٌ، ويُستحبُّ أن يُحَنِّثَ نفسه، وفي مثله نَزَل قوله تعالَى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور: 22] الآية وعدَّ الشيخ أبو حامد وجماعةٌ من هذا القبيل ما إذا حَلَف، إلاَّ يأكل طَيِّباً ولا يلبس ناعماً، وقال: اليمين عليه مكروهةٌ, لقوله تعالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] وفيه وجة آخر اختاره أبو الطيب: أنَّهَا يمينُ طاعةٍ؛ لما ¬
رُويَ عن عمر -رضي الله عنه- أنَّه قِيلَ لَهُ: لَو لَيَّنتْ طَعَامَكَ وَشَرَابَكَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: لأَقْوَام {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} (¬1) واختيارُ السلَفِ خشونةَ العيشِ معروفٌ، وقال صاحبُ "الشامل": يختلف ذلك باختلاف أحوال الناس، وقصودهم وفراغهم للعبادة، واشتغالهم بالضيق والسعة وهذا أصوب، وإن حَلَف على مباح لا يتعلَّق به مثل هذا الغرض؛ كدخول دار، وأكل طعام، ولبس ثوب، وتركها، فله أن يقيم عليه، وأن يُحَنِّثُ نفْسَه، وأيهما أولَى؟ فيه ثلاثة أوجه: الأوْلَى: عند ابن الصباغ وغيره: أن الوفاء أولَى؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] وأيضاً، فلما فيه من تعظيم اسْمِ الله تعالَى، وهذا ما يقتضي نظمْ الكتابِ ترجيحه، وبه قال أبو علي الطبريُّ. والثاني: أن الحنث أولَى؛ لقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ} [البقرة: 57] ولينتفع المساكين بإخراج الكفارة. والثالث: أنه يتخير بين الوفاء والحنِثْ، ولا ترجيح، كما كان قبل اليمين، وإذا تأملت هذا التفصيل عرفْتَ أن اليمين لا يغيِّر حال المحلوف عليه عما كان؛ وجوباً وحظْراً وإباحَةً، وعند أبي حنيفة: اليمين يحرِّم الحِنْث؛ فمن حلف إلاَّ يفعل، حَرُمَ عليه الفعل، ومن حَلَف أن يَفْعل، وجب عليه الفعل، قال الرويانيُّ وغيره: ووافَقَنا أن اليمين لا تبيح الشْيء الذي كان حراماً، وحَلَف أن يفعله، ولا يسقط الوجوب فيما كان واجباً، إذا حَلَف ألا يفعله، ومنهم مَنْ عمَّم تأثير اليمين أصله أصلْه، وقال: إذا حلف ألاَّ يصلِّي، تحرم الصلاة عليه بحُكْم اليمين مع وجُوبها شرعاً، واحتج الأصحابُ -رحمهم الله- بِمَا رُويَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ" ولو كان الحنث حرامًا؛ لَمَا أَمَرَ به، وعنْ أبي موسى الأشعريِّ -رضي الله عنه أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ أحَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا، إلاَّ أتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وتَحَلَلْتُ عَنْ يَمِينِي" (¬2) ¬
. . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . .
قَال الغَزَالِيُّ: النَّظَرُ الثَّانِي فِي الكَفَّارَةِ: وَهُوَ عِتْقُ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامُ عَشَرَةَ أَمْدَادٍ لِعَشَرَةِ مَسَاكِينَ، أَوْ كِسْوَتُهُمْ، فَإِنْ عَجَزَ فَصَوْمُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَلاَ يَجِبُ التَّتَابُعُ. قَالَ الرَّافِعيُّ: كفارة اليمين (¬1) تختصُّ باشتمالها على تخيير في الابتداء وترتيب في الانتهاء، فيخيَّر الحالِفُ أولاً بين أن يُطْعم عشرةَ مساكين، وبين أن يكْسُوهم وبين أن يُعْتِق رقبة؛ على ما قال تعالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ من أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُنمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَة} [المائدة: 89] فإن اختار الطعام، أطعم كلَّ واحدٍ مُداً والقول في جنس الطعام وكيفية إخراجه ومَنْ يُصْرَف إلَيْه، وامتناع إخراج القيمة، وصرف الأمداد العشرة إلى بعْض العَشَرة، وسائر المسائل على ما سبق في "الكفارات"، وإن اختار الكِسْوة، كساهم على ما سنَذْكر، وإن اختار الإعتاق، فلتكن الرقبةُ بالصفات المذكررة في "الكفارات" ولو أطعم بعض العشرة، وكسَا البعض، فلا يجوز؛ خِلافاً لأبي حنيفة وأحمد، ويُروَى مثلُه عن مالك -رحمهم الله-. لنا: أن التخيير للخِصالِ المذكورةِ ينفي التمكُّن من غيرها، والتفريقُ غيرها وأيضاً، فإنه لا يجوز أن يعتق نصف رقبة ويُطْعم أو يكسُو خمسةً، فكذلك هاهنا, ولو أطعم عشَرةً، وكسا عشرَةً، وأعتق رقبَةً، أو أطعم ثلاثين مسكيناً عن ثلاثِ كفاراتٍ، ولم يعيِّن، أجزأه, بناءً على ما مرَّ أن تعيين النية في الكفَّارات لا يشترط، فإن عجز عن الخصال الثلاث جميعاً، صام ثلاثةَ أيام عَلَى ما قال تعالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجدْ فَصِيَامُ ثَلَاثةِ أَيَّام} [البقرة: 196]، والقول فيما يحصل به العجْز قد تبَّين في"كتاب الكفَّارات" ومن له أن يأخذ سهم الفقراء، أو المساكين من الزكوات أو من الكفارات يُكَفِّر بالصوم؛ لأنه من جملة الفقراء في الأخذ، فكذلك في الإِعطاء، وقد يملك نصابًا ولا يفي دخْلُه ¬
بخَرْجِه، فعليه إخراج الزكاة وله أخذها، والفرق بين البابين أنا لو أسقطنا الزكاة لخلا النصاب عن الزكاة؛ بلا بدل، وللتكفيرُ بالمال بدلٌ، وهو الصوم، وهل يُشْترط التتابع في الأيام الثلاثة؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأن الآية مطْلَقةً غير مقيَّدة بالتتابع، وبهذا قال مالكٌ. والثاني: نعم؛ حملاً للمطْلَق على المقيَّد في آية الظهار والقتل، وبهذا قال أبو حنيفة وأحمدُ واختاره المُزنيّ -رحمهم الله- ومن قال بالأوَّل، قال: هذه الكفارات بُنِيت على التخفيف؛ ألا ترى إلى قلة عدد الأمداد والأيَّام، وإلى إثبات التخيير، فلا يلزم من اعتبار التتابع هناك الاعتبار هاهنا، والقول الثاني أصحُّ عند صاحب "التهذيب" لكن المحامليّ في آخرين رجَّحوا الأول، وهو المذكور في الكتاب، وذكر الإِمام؛ أنه الجديد، وإذا قلْنا باعتبار التتابع، فالإِفطار في اليوم الثاني أو الثالثِ بعُذْر المرض، أو السَّفَر على الخلاف المذكور في كفارة الظهار، ولو أفطرت المرأة بعُذْر الحَيْض، فقد قيل: لا ينقطع التتابع، كما في صوم الشهرين، وقيل: يقطع بالانقطاع؛ لأن تبْعِيد الأيَّام الثلاثة عن الحيضِ ممكنٌ بخلاف الشهرين، وقيل: الحيض هاهنا كالمرض هناك، ففي قطعه التتابُعَ قولان: والظاهر: أنه يَقْطع التتابعُ، وإذا كانت المرأةُ ممَّن لم يحضْ، فشرعت في الصوم، فابتدأها الحيضُ، اتجه التسوية بينه وبين المرض، وقال أحمدُ: الحيضُ لا يقطع التتابعَ، وقد ذكرنا طَرفاً من هذه المسألة في "الكفارات". ويجوز أن يُعلَمَ قوله في الكتاب "عشرة أمداد لعشرة مساكين" بالحاء؛ لما ذكرنا في الكفارات أن عند أبي حنيفة: وظيفةُ كلِّ مسكين، إن أخرج البُرَّ، نصْفُ صاع، وإن أخرج التمْرَ والشعيرَ، فصاعٌ، وبالألف؛ لأن عند أحمد: لكُلِّ مسكين من البرِّ مُدٌّ ومن التمر والشعير مُدَّان. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيَكْفِي فِي الكِسْوَةِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ إِزَارٌ أَوْ سَرَاوِيلُ أَوْ قَمِيصٌ، وَيَكْفِي مَا يُوَارِي الرَّضِيعَ إِذَا أَخذ الوَليُّ لَهُ، وَإِنْ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ فَهَلْ يَكْفِي ذَلِكَ القَدْرُ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ المَخِيطُ وَلاَ الجَدِيدُ بَلْ يُجْزِئُ المُسْتَعْمَل إِلاَّ إِذَا تَخَرَّقَ بِالاسْتِعْمَالِ أَوْ قَارَبَ الانْمِحَاقَ، وَيَجُوزُ مِنَ الصُّوفِ وَالكَتَّانِ وَالكِرْبَاسِ وَالإِبْرَيْسَمِ، وَفِي الدِّرْعِ وَجْهَانِ، وَفِي الشَّمْشَقِ وَالقَلَنْسُوَةِ والخُفِّ وَجْهَانِ فالظَّاهِرُ مِنَ الطَّريقَينِ أَنَّ النَّعْلَ كَالشَّمْشقَ لاَ كالمِنْطَقَةِ فَإنَّها لاَ تُجْزِئُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إِذا اختار المكفِّر الكِسْوةَ، وجب فيها التمليك، كما في الطعام، ولا يشترط أن يُعطِيَ كلَّ مسكين دست ثوب، بل يكفي ثوبٌ واحدٌ من قميصٍ، أو
سراويل، أو عمامة، أو جبة، أو قباء، أو مُقَنَّعة، أو إزار أو رداء، أو طَيْلَسَان؛ لأن الاسم يقع على جميع ذلك، وبهذا قال أبو حنيفة، فيما رَوَى بعض الأصحاب، وفي شرْح الصيدلانِّي؛ أن أبا حنيفة -رحمه الله- قال: لا بدَّ من ثوبٍ سابغٍ من دراعة أو جبة، أو إزار، مع رداءٍ، ولا يجزئ الإزار وحْده، والسراويل وحده، وحَكَى القاضي ابن كج: أن أبا حنيفة قال: يَجزئ السراويل، ولا تُجْزئ العمامة، وعند مالكٍ وأحمد: يشترط أن يكون المُعْطَى ساتراً للعورة، وتصح فيه الصلاةُ، فيختلف الحال بذكررة الأخْذ وأنوثته، حتى يجزئ الإزار الواحدُ، إن كان الآخذ ذكراً، ولا يجزئ إن كان أنثَى، ويُحْكَى هذا قولاً عن القديم (¬1)، وعن رواية البويطِيِّ أيضاً، ويمكن أن يُعْلَم؛ لما بينا قوله في الكتاب "إزارٌ أو سراويلُ" بالحاء والميم والألف والواو. ولو كان المأخوذ صغيراً يكفي للصغير والرضيع دون الكبير، نُظِر، إن أخذه الوليُّ للصغير، جاز، فإنَّ صَرْفَ طعام الكفارة وكسوتها للصغارِ جائزٌ، كما في الزكاة، ويتولَّى الوليُّ الأخذ، وإن أخذه الصغير لنفسه، فوجهان: أحدهما: وهو اختيار الشيخ أبي محمد: أنه لا يجوز؛ لقوله تعالى: {أو كِسْوَتُهُم} [المائدة: 89] فأضاف الكسوة إلى مَنْ يَكْتَسِي، وأيضاً، فإن الخرقة الصغيرة تَوَارِي ابْنَ ساعةٍ، ويبعد كل البُعْد أن يكتفي المكفِّر بعَشْرِ خِرَقٍ يعطيها عَشَرةً من الرجال. وأظهرهما: الجواز، وبه قال القاضي الحسين -رحمه الله- ولا يُشْترط أن يَكتسي الآخِذُ بما يتسلَّمه، ولذلك يجوز أن يعطِيَ الرجال كسوةَ النساء، وبالعكس، ولا يُشترط المَخِيط، بل يجوز إعطاء الكِرْبَاس، ويُسْتحب أن يكون جديدًا خامًا كان أو مقصوراً، فإن كان مستعملاً، نُظِر، إن تخرَّق أو ذهبَتْ قوته بمقاربة الانمحاق، لم يجز؛ لأنه مَعَيبٌ، كالطعام المُسَوِّس، وإن لم ينته إلى ذلك الحدِّ، فيجوز، كالطعام العتيق، كالمرقع لا يجزئ إن وقع للخَرْق والبِلَى، وإن خِيط في الابتداء مرقعاً للزينة وغيره، أجزأه ولو كسا مسكيناً ثوباً لطيفاً مهلهل النَّسْجِ غَيْرَ بالٍ في جنسه، لكنْ مثْلُه، إذا لُبس، لا يدوم إلا بقَدْر ما يدوم الثوب البالي، قال الإِمام: يظهر أن يقول: لا يُجْزئ لضعْف المنفعة فيه. وأما الجنْس، فيجزئ المتَّخَذ من الصوف، والشَّعْر، والقطن، والكَتَّان والقَزِّ والإِبْرَيْسَم، ولا فرق بين أن يكونَ المدفوعُ إليه رجلاً، لا يحلُّ له لُبْسه، أو امرأةً لأنه ¬
يجوز أن يدفع إلى الرجل كسوةَ المرأةِ، وفي "المهذب" وجهٌ: أنه لا يجزئ، إنْ كان المدفوعُ إليه رجلاً، ولا فرق في كل جنس بين الجيِّدِ والرديءْ، والمتوسِّط، ويتبع الاسم، وعن القاضي الحُسَين: أنه لو قِيلَ باعتبار الكسوة الغالبة في أهل البلدة، كالطعام، لم يَبْعُد، وفي الدرع وجهان: أحدهما: أنه يجزئ؛ لأنها ملبوسةٌ محيطةٌ بالبدن، ولذلك تجب الفدية على المُحْرِم بلبسها. وأظهرهما: المنع؛ لأن المتَّبَع فيما نحْن فيه اسمُ الكِسْوة، ولا يُسَمَّى الدرع كسوةً، وإن كانت ملبوسةً، وأُجْرِي الوجهان في الشَّمْشَق، وهو المكَعَّب، وفي القَلَنْسُوة، قال الإمامُ: وسبب الاختلاف إطلاق اسم اللبس وامتناع اسم الكسوة، ويُحْكَى عن أبي إسَحاق: إجزاء الْقَلَنْسُوة، واحتج له بما رُوِيَ أن عِمْرَانَ بن حصين -رضي الله عنه- سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِذَا قَدِمَ وَفْدٌ عَلَى الأَمِيرِ , فَأَعْطَاهُمْ قَلَنْسُوَة، قِيلَ: قَدْ كَسَاهُمْ (¬1) وأجريا أيضاً في الخف والتُّبَّانِ، وهو: سراويلٌ قصيرةٌ لا تبلغ الرُّكبة، والظاهر في الكلِّ المنْعُ، وقطع به بعضهُم في الخُفِّ، وفي النعل طريقان: أشبههما: على ما ذكر الإِمام وصاحبُ الكتاب -رحمهما الله-: إجراء الخلاف. والثاني: القطعُ بالمنع، كما في المِنْطَقَةِ والخَاتَم، وليكن الجَوْرَبُ كالنعْل، ولا تجزئ التِّكَّةُ وفي "جمع الجوامع" للرويانيِّ إجراء الخلاف فيها، وذكر الصيدلانيُّ، أن القميص من اللبد يجزئ في اللبد الذي جرت العادة بلْبِسهِ؛ لغالب الناس أو لِنَا دِرِهِمْ (¬2). قَالَ الْغَزَالِيُّ: النَّظَرُ الثَّالِثُ فِي المُلْتَزِمِ، وَهُوَ كُلُّ مُكَلَّفٍ حَنِثَ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْداً مُسْلماً كَانَ أَوْ كَافِرًا بَقِيَ حَيّاً أَوْ مَاتَ لَكِنَّ العَبْدَ لَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ الصَّوْمُ لأَنَّهُ لاَ يَمْلِكِ بِالتَّمْلِيكِ (و)، وَلِلسَّيِّدِ المَنْعُ مِنْهُ لأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَوِيّاً بِحَيْثُ لاَ تَمْتَنِعُ الخِدْمَةُ، وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ وَيَكْسُو بَعْدَ مَوْتِهِ إِذْ لاَ رِقَّ بَعْدَ المَوْتِ، وَفِي الإِعْتَاقِ عَنْهُ وَجْهَانِ. ¬
قَالَ الرافعِي: كل مكلَّف حنثَ في يمينه (¬1)، لزمته الكفارة، يستوي فيه الحرُّ، ¬
والعبدُ، والمسلِمُ، والكافِرُ، وعن أبي حنيفة: أن يمين الكافِرِ لا ينعقد، واحتج الأصحابُ -رحمهم الله- بأنه مكلَّف قاصدٌ إلى اليمين، فينعقد؛ كالمسلم، وكما أنَّ على الحالفِ الحانِثِ إخراجَ الكفَّارة في حياته، فلو مات قبل الإِخراج، تخرج من تركته، هذا هو القول الجُمَلِّي، وفي العبد والميّت مسائلُ تقع في فصلين: أحدهما: في العبْد، ويكفر عن اليمين وغيْرها بالصوم؛ لأنه لا يملك على الصحيح، فلا يُتصوَّر منه الإعتاق والإطعام، وإعطاء الكسوة، وإن قلْنا: إنه يملك بتمليك السيد، فإن أطلق التمليك، لم يمكنه إخراج الكفارة بغَيْر إذن السيد، وإن ملكه الطعام أو الكسوة للإخراج في الكفَّارة أو ملَّكه ثم أذن له، فيكفر بالإِطعام أو بالكسوة، وقد ذكَرْنا ذلك، وبيَّنَّا أنه، لو ملكه عبداً ليعتقه عن الكفَّارة، لم يقع عن الكفارة، على الظاهر من المَذْهب، وبَنَاه الإِمام -رحمه الله- على أنَّه، لو ملَّكه عبداً فأذن له في إعتاقه مُتبرعاً لمن يكون الولاء، إذا أعتقه؟ وفيه قولان:
أحدهما: أنه للسيد، فإن إثبات الولاء للعَبْد متعذِّر؛ لتعلُّق الولاءِ والإِرث به، وقصور حال العبْد عنهما. والثاني: أنه يوقَفُ، إن عُتق العبد المعتِق، تبين أن الولاء له، وإن مات رقيقاً، فهو للسيد، وذكر صاحبُ "التقريب" قولاً أن الولاء للعَبْد وإذا لم يبعد ثبوت الملك، لم يبعد ثبوت الولاء، فعلى هذا القَوْل، إذا أذْن السيد له في الإِعتاق عن الكفارة، وقع عنْها وثبَت له الولاء، وقد ذكرنا ذلك في "الكفارات" ويُرْوَى ذلكَ عن أحمدَ -رحمه الله- وإن جعلْنا الولاء للسيِّد، فلمن يقع العتق؟ قال الإِمام: ينقدح فيه وجهان من كلام الأصحاب -رحمهم الله-. أظهرُهما: أنه يقع للسيد, وكأن المِلْك يَنقَلِب إليه، لانصراف الولاء إليه. والثاني: أنه يقع عن العبد، ويجزئه عن الكفارة، والتعذُّر يختص بالولاء، وهذا قول حكاه الشيخ أبو محمد -رحمه الله-، وإن قلْنا بالتوقف في الولاء، فقد قيل: يجزئ الإعتاف عن الكفارة، وهذا ما أسندناه إلى القفَّال هناك، ورأى الصيدلانيُّ أن يوقَفَ الوقَوع عن الكفارة؛ تبعاً للولاء، وهذا ما ذكره القاضي الحسين، وقَطَع به، وإذا قلْنا في هذه التفاريع: إن العتْق يقع عن الكفارة، فلو أَذِنَ السيد لعبده في الإعتاق في كفارة مرتَّبة، فهل للعَبْدِ ألاَّ يكفر بالمال، ويصوم؟ قال الإِمام -رحمه الله-: فيه احتمال عندنا من جهة أنَّ ملكه ضعيفٌ، والعبد ليس مُوسِراً به؛ ولذلك كانت نفقته على زوجته نفقةَ المُعْسِرِين، وإن ملَّكه السيد مالاً جمًّا، ويجوز أن يُقَالَ: ليس له ذلك؛ لتمكنه من الإِعتاق. ولو أعتق الكاتَبُ عن كفارته بإذن السيد، ونفذنا تصرفاته، إذا صدر عن إذن السيد، قال الصيدلانيُّ: الذي ذكره الأصحاب -رحمهم الله- أَنَّ ذمته تبرأ عن الكفارة، والذي عندي فيه: أن الأمر موقوف؛ لأنه قد يعْجز، فيَرِقُّ، وحينئذ، فيكون الولاء موقوفاً، وإذا كان الولاء موقوفاً، وجب وقف الكفَّارة، ولو كفَّر السيد عنه بالإِطعام، أو الكسوة، أو الإِعتاق بإذنه، فهو على الخلاف في أنه، هل يملك بالتمليك بتفريعه وإذا كَفَّر بالصوم، فيستقل به، ولا يحتاج إلى إذْن السيد، وفيه تفصيلٌ وخلافٌ مذكوران في "الكفَّارات" وحيث يحتاج إلى الإِذْن، فللسيد منع الجارية من الصوم، لئلا يَفُوتَه الاستمتاعُ، والكفَّارة على التراخِي، وكذا له منع العبد، إذا كان يَضْعُف عن الخدمة بالصوم أو يناله ضَرَرٌ، وإلا، فوجهان: أحدهما: أن له المَنْعَ أيضاً؛ لأنه ينقص نشاطه. وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب: أنه ليس له ذلك؛ لأنه لا يتضرر به، وذكر على هذا أنه لا يمنعه من صَوْمِ التطوُّعِ في مثل هذه الحالة، ولا من صلاة التطوُّع في
غير زمان الخدْمة، كما لا يمنعه من الذِّكْر وقراءة القرآن في ترداده، وحيث يحتاج إلى الإذن، فلو صام من غير إذْنِ، اعتد به، كما لو صلَّى الجمعة من غيْر إذنه، هذا كلُّه في حياة العبد، أما إذا مات، وعليه كفارةُ يمين، فللسيد أن يكفِّر عنه بالإِطعام أو الكسوة، وإن قلْنا: إن العبد لا يملك بالتمليك؛ لأن التكفير عنه في الحياة يتضمَّن دخوله في مِلْكه، والتكفير بعد الموت لا يستدعي ذلك، وليس للسيد ملْكٌ محقَّق، وأيضاً، فإن الرقَّ لا يبقى بعد الموت، فهو والحرُّ سواء، هذا ظاهر المذْهَب قال الإِمام -رحمه الله-: ويتطرق إليه احتمالٌ؛ الوجه ذكرناه في "الكفارات" فيما إذا أعتق العبد، وعليه كفارة، فأراد أن يكفِّر بالمال، وقلْنا: إن الاعتبار بحالة الوجوب؛ أنه لا يجوز؛ لأنه لم يكن أهلاً للتكفيرِ بالمال، حينئذٍ، وإذا قلْنا: بالظاهر، فهل يجزئ إعتاقه عنه؟ فيه وجهان: أصحُّهما: وهو المذكور في "التهذيب" المنع؛ لما ذكرنا من إشكال الولاء. قَالَ الْغَزَالِيُّ: والمَيِّتُ يَعْتِقُ عَنْهُ وَارِثُهُ مِنْ مَالِهِ فِي الكَفَّارَةِ المُرَتَّبَةِ، وَفِي المُخَيَّر يُطْعِمُ ويَكْسُو، وَفِي الإِعْتَاقِ وَجْهَانِ، وَالأَجْنَبِيُّ لاَ يُعْتِقُ عَنْهُ مُتَبَرِّعاً، وَفِي الإِطْعَامِ وَالكُسْوَةِ وَجْهَانِ، وَالوَارِثُ يَتَبَرَّعُ بِغَيْرِ الْعِتْقِ، وَفِي العِتْقِ وَجْهَانِ، وَفِي صَوْمِ الوَلِيِّ عَنْهُ خِلاَفٌ، وَصَوْمُ الأجْنَبِّي بِغَيْرِ إِذْنٍ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ، وَأَوْلَى بِالمَنْعِ، وَلَوْ أَوْصَى فِي الكَفَّارَةِ المُخَيَّرةِ بالعِتْقِ وَزَادَ قِيمَةُ العَبْدِ عَلَى الطَّعاِم فَفِي وَجْهٍ يُحْسَبُ مِنْ رَأْسِ المَالِ، وَفِي وَجْهٍ منَ الثُّلُثِ: وَفِي وَجْهٍ قُدِّرَ قِيمَةُ الطَّعَامِ مِنْ رَأْسِ المَالِ والزِّيَادَةُ مِنَ الثُّلُثِ. قال الرَّاِفعِيُّ: الفْصلُ الثَّاني في الميِّت: مَنْ مات وعليه كفَّارة , أُخْرِجت من تركته، أوصى بها أو لم يوص، وسبيلُها سبيل الديون، هذا هو المذهب، وذكرنا في "كتاب الوصية" وجهاً آخر: أَنه، إن أوصى بها، أُخْرِجت من الثلث، وإلا، لم يُخْرَجَ ووجهاً أنَّها تَخْرُج من الثلث، وإن لم يوصِ، وعند أبي حنيفة: حقوق الله تعالَى تَسْقُط بالموت، وقد قدَّمناه، وعندنا: إذا وفَّت التركة بما على الميت من حقوق الله تعالَى وحقوق الاَدميين، قُضِيَتْ جميعاً، وإلا تعلَّق بعضُها بالعين، وبعضُها بالذمة، فيقدَّم ما يتعلَّق بالعين سواءٌ اجتمع النوعان أو تجرد أحدهما، وإن اجتمع النوعان، والكلُّ يتعلق بالعين أو بالذِّمَّة، فيقدم حقُّ الله تعالَى، أو حق الآدميّ أو يتساويان؟ فيه أقوال ذكرناهما في مواضعَ، ولا تجري هذه الأقوال ذي المحْجُور عليه بالفَلَس، إذا اجتمعت حقوقُ الله تعالَى وحقوق الآدميين بل تُقدَّم حقوق الآدميِّين وتؤخر حقوق الله تعالَى ما دام حيّاً، إذا عرفت ذلك، فإن كانت الكفارة مرتبةً، فيعتق الوارث خلافةً عن المورِّث، ويعتق الوصيُّ أيضاً بحق الإِيصاء، ويكونُ الولاء للميت، فإنْ تعذَّر الإِعتاق، فيُطْعِم من
التركة، وإن كانت كفارة تجير فيكفر بالإِطعام والكسوة من التركة وفي الإعتاق وجهان مذكوران في "كتاب الوصية". والأَصَحُّ: الجواز أيضاً، واللازم ما هو أقلُّ قيمة من الخصال، وإذا لم تكن تركة، فيتبرع الأجنبيُّ بالإطعام أو الكسوة عنه مِنْ مال نفسه، ففيه وجهان ذكرناهما في "الوصية" أيضاً. والأظهر: الجواز، وجوازه في حقِّ الوارث أظهرُ، وفيه وجه أيضاً؛ لبعد العادات عن النيابة، وفي تبرع الأجنبى بالإِعتاق في الكفارة المخيَّرة طريقان: أحدهما: طرد الوجهين. والثاني: القطْعُ بالمنع، والظاهرُ المنع، وهو المذكور في الكتاب هاهنا، ووجِّه بمعنيين: أحدُهما: أن التكفير بغير الإعتاق متيَسِّر، فلا يُعْدَل إلى الإعتاق؛ لما فيه من عسر إثبات الولاء. والثاني: أن فيه إضراراً بأقارب الميِّت من حيث إنَّهم يؤاخذون بجناية معتقه، فيمنع منه الأجنبيُّ وإن كان المعتق وارثاً، فوجهان بناء على المعيين، إن قلْنا بالأول، لم يجز، وإن قلنا بالثاني، فيجوز، وفي الكفارة المرتَّبة للوارث أن يتبرَّع بالإعتاق، وفي الأجنبي وجهان بناءً على المعنيين، إن قلْنا بالأول، فيجوز، وهو الأظهر، وإذ قلنا بالثاني، فلا، وهذه المسائل قد سبَقَتْ مشروحة في "الوصية" وقد أوردها أو أكثرَهَا في الكتاب هناك، وكرَّر بعضها هاهنا على زيادة أو نقصان فيها. وقوله "وفي صوم الولِّي عنه خلاف" يعني إذا مات، وفي ذمته صومٌ عن كفارة وغيرها، هل يقضي الوليُّ عنه؟ فيه قولان: الجديدُ؛ المنعُ، والمسألة مذكورةٌ في "كتاب الصوم" ثم "الوصية" ثم في "الكفارات" ثم في هذا الكتاب. ولو أمر أجنبياً يأن يصوم عنه صار بسبب الإذن كالوارث حتى يصوم عنه على القديم، ولو استقل به الأجنبيُّ، فوجهان؛ تفريعًا عليه، وقد ذكرناهما في "الصوم" والظاهرُ المنع، وإذا أوصَى بأن يعتق عنه في كفارةٍ مخيرَةٍ، وزادت قيمة العبْد على قيمة الطعام والكسوة، ففيه ثلاثة أوجه؛ أضعفها: أنه يتعيَّن الإعتاق، وتُحْسَب قيمة العبد من رأس المال؛ لأنه أخذ ما يجب الكفارة. والثاني: أن قيمة العبد تُحْسَب من الثلث؛ لأن براءة الذمَّة تحْصُل بما دونها، فعلى هذا، إن وَفَّى الثلث بقيمة عبد يجزئ، أعتق عنه، وإلا بطَلت الوصية، وعُدِل إلى الإِطعام والكسوة. والثالث: أن قدر قيمة أقلها قيمة تحسب من رأس المال، والزيادةُ إلى تمامِ قيمةِ
العبْد تُحْسَب من الثلث، فإن وفَّي ثلث الباقي مضموماً إلى الأقلِّ المحْسُوب من رأس المال بقيمة عبدٍ، أُعْتِقَ عنه، وإلا، بطَلت الوصية، وعُدِل إلى الإِطعام أوِ الكسوة، وذلك مثل أن تكونَ الترِكَة أربعين، وقيمةُ أقلِّها قيمةُ عشرةٍ، وهي مع ثلث الباقي عشرون، فإذا وجد بالعشرين رقبةً، نفذنا الوصية، ولو كانت التركةُ مائَتَيْن وثمانين، وقيمةُ الأقلِّ عشرةً، والعشرةُ مع ثلث الباقِي مائةٌ، ووجدنا بالمائة رقبةً مجزئيةً، تنفذ الوصية، وهذا الوجه أقيس عند الأئمة، وبه قال ابن سُرَيْج وأبو إسحاق، وشبَّهوا المسألة بما إذا أوصى أن يحُجَّ عنه من دويرة أهله، ولم يفِ الثلث به، لكن أمكن ضمُّ ما يجب من رأس المال، وهو قيمة حجِّة من الميقات إلى ثلثُ الباقي، وفي المبلغان بحجة من دويرة أهله، فإنه يُضَمُّ وينفذ الوصية، والأصحُّ، وظاهر النص: أن الثلث، إذا لم يَفِ بقيمة العبد بتمامها، تَبْطُل الوصية بالعتق، ووجَّهُوه بأن العتق، أو الإِطعام، أو الكسوة جنسان مختلفان، فلا يُعتبر أحدُهما من رأس المال، والآخر من الثلث؛ لما فيه من الجمع بين الجنسين؛ بخلاف الحج؛ فإنه عبادة واحدةٌ على أن في طريقة الصيدلانيِّ تخريجَ الوجهين، في مسألة الحج، واعلم أن الوصية بالعِتْق في الكفارة المخيَّرة، أوردها صاحبُ الكتابِ في "باب الوصية" على الاختصار، وأتَيْنا هناك بطَرَف من شرْحِها، وتامِه ما بيناه هاهنا والله الموفق. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ ونِصْفُهُ عَبْدٌ يُكَفِّرُ بِالمَالِ، وَفِيهِ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ أنَّهُ كَالعَبْدِ لاَ يُكَفِّرُ إلاَّ بِالصَّوْمِ. قَالَ الرافِعِيُّ: من بعضه حرٌّ وبعْضُه رقيقٌ، إن كان مُعْسِراً يُكفِّر بالصوم، وإن كان له مالٌ، فوجهان، وإن شئت، قلتَ: قولان؛ منصوصٌ ومخرَّجٌ: المنصوص، وهو الظاهر من المذهب: أنه لا يكفِّر بالصوم؛ لأنه واجِدٌ لما يتقدَّم على الصوم، وإنما يُكفِّر بالصوم العاجِزُ عنه، وهذا كما أنه إذا وجد ثمن الماء، لا يجوز أن يُصلِّي بالتيمم، وإذا وجد ثمن الثوب، لا يجوز له أن يُصلِّي عارياً، كالحر، وخرَّج المُزَنِيُّ: أنه يُكفِّر بالصوم، ويُقال: إن ابن سُرَيج -رحمه الله- صَوَّبَه، وساعده، ووُجِّه بأنه ناقصٌ بالرق، وبأن الأداء بحسب اللزوم، واللزومُ يكفي جملته، فكذا الأداء، وحينئذٍ فيكون مخرَّجاً عن بَعْضِيَّةِ الرقيق مالاً, فإن قلْنا بالأول، فيطعم ويكسو. والمشهور: أنه لا يعتق (¬1)؛ لأنه يَسْتَعْقِبُ الولاء المتضمِّن للولاية والإِرثِ، وهو ¬
الباب الثالث فيما يقع به الحنث
ليس من أهلْهما، ذكر الصيدلانيٌّ: أن في تكفيره بالعِتْق قولين كالقولين في المكاتَب، إذا أَعْتَقَ بإذْن السَّيِّد عن كفَّارته (¬1)، وظاهر لفْظ الكتاب، وهو قوله: "يُكَفِّرُ بالمَاَلِ" يوافق قول الجواز. الْبَابُ الثَّالِثُ فِيمَا يَقَعَ به الحِنْثُ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيُتْبَعُ فِيهِ مُوجِبُ الألْفَاظِ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ: النَّوْعُ الأَوَّلُ: مَا يتَعَلَّقُ بُدُخُولِ الدَّارِ، فَإِذَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ بِصُعُودِ السَّطْحِ، ولَوْ حَلَفَ عَلَى الخُرُوجَ لَمْ يَبَرَّ أَيْضاً بالصُّعُودِ (و)، وَيَحْنَثُ بِدُخُولَ الدِّهْلِيزِ (و)، وَلاَ يَحْنَثُ بِدُخُولِ (و) الطَّاقِ خَارجَ البَيْتِ، وَلَوْ قَالَ: لاَ أَدْخُلُ وَهُوَ فِي الدَّارِ لَمْ يَحْنَثْ بِالْمَقَامِ (ح)، وَلَوْ قَالَ: لاَ أَرْكَبُ وَهُوَ رَاكِبٌ أَوْ لاَ أَلْبَسُ وَهُوَ لاَبِسٌ حِنَثَ بِالاسْتِدَامَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الأصل المرجُوع إليه في البِرِّ والحِنْث اتِّبَاعُ موجِب اللفظ الذي تعلَّقت اليمين به، وقد يتطرَّق إليه التقييد والتخصيص بنيةٍ تقترن به أو باصطلاح خاصٍّ، أو قرينة أخرَى، على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى- والصور التي تدخل في ترجمة الباب لا تتناهى، لكن الشافعيَّ -رضي الله عنه- والأصحاب -رضي الله عنهم- تكلَّموا في أنواعَ تَغْلِب ويكثر استعمالُها، وغيرها يُقاس عليها: النوع الأول: الدخول والمساكنة وفيه مسائل: إحداها: إذا حلف، لا يدخلُ الدار، فالكلام فيه من وجوه: أحدها: يَحْنَثُ بالحصُول في عرصة الدار، وفي أبنيتها من البيوت والغُرَف وغيرها ,ولو صَعِد سطْحَها، إما بالتسلُّق أو بأن جاء من دار الجارِ، لم يَحْنَثْ، إن لم يكن السطح محوطاً، ولا عليه سترَةٌ، فإن كان، فوجهان: أظهرهُما: وهو ظاهر النص: أن الجواب كذلك، ويؤيده أنه لو حَصل على بعْض جدران الدار، لم يَحْنَثْ. والثاني: يحْنَثُ؛ لإِحاطة حيطان الدار بِه، ولهذا لو صَلَّى، على سطح الكعبة، وهو على هذه الهيئة، تصح صلاته، وقال أبو حنيفة وأحمدُ (¬2) يحنث سواءٌ كان محوطاً أو لم يكن، وسلم أبو حنيفة: أنه لو كان فوق الدار حُجرةٌ بابُهَا خارج الدار، فدخلها، لا يحنَثُ، وليعلَم؛ لما ذكرنا قوله في الكتاب "لم يحنث بصعود السطح" بالحاء والألف والواو؛ لإِطلاقه الجواب، وإذا قلْنا بالحنث فيما إذا كان محوطاً، فذلك، إذا كان ¬
التحويطُ من الجوانب الأربعة، فإن كان من جانبٍ واحدٍ، لم يؤثر، وإن كان من جانبَيْن أو ثلاثةٍ، فقد ذُكِر فيه خلافٌ مرتَّب لما ذكر في "الوسيط": أن الحالف على ألاَّ يدخل، لا يَحْنث برقِّي السطح، قال: إلا أن يكون مسقفاً، وهذا لأنه، إذا كان مسقفاً، كان طبقة أخرَى من الدار، وهكذا يحْنَث، مهْما كان التسقيف في البعْض، إذا كان يصعد إليه من الدار، فإنه من أبنية الدار، ولو حلف على الخروج من الدار، فهل يَبَرُّ بصعود السطح؟ حَكَى أبو الحسن العباديُّ وغيره -رحمهم الله- فيه وجهين: أحدُهُما: وهو المذكور في الكتاب، وبه قال الشيخ أبو محمد: -أنه لا يُبَرُّ؛ لأنه لا يعد خارجاً أيضاً، حتى يفارق السطْح، ويجوز ألاَّ يُعَدَّ داخلاً ولا خارجاً، كما أن مَنْ دخل ببعض بدنه أو أخرج ببعْضه، لا يحْنَث في يمين الدخول أو الخروج. وأشبههما: ويُحْكَى عن القاضي الحُسَيْن: أنه يَبَرُّ؛ لأنه يَصْدُق أن يُقَال: إنَّه ليس في الدار، وإذا لم يكن في الدار، كان خارجاً من الدار، ويؤيده أن ابن الصبَّاغ حَكَى عن الأصحاب -رحمهم الله- أنه، لو حلف أنه لا يخرج من الدار، فصَعِد السطح، يَحْنَث، ولا يخفى أنه يُنْظَر في طرف الخروج أيضاً إلى كون السَّطْح محوطاً أو غَيْرَ مَحُوطٍ، والحالف على ألا يدخل، هل يحنث بدخول الطاق المعقودِ خارجَ البَابِ؟ فيه وجهان: أصحُّهما: وهو المذكور في الكتاب: المَنْعُ؛ لأنه لا يُقَالُ: إنه دخل الدار. والثاني: يَحْنَثُ؛ لأنه من الدار؛ ألا ترى أنه يدخل في بيعها , ولو دخل في الدهليز خَلْف الباب أو بين البابين، حَنِث؛ لأنه من الدار، ومَنْ جاوز الباب، عُدَّ داخلاً، وحَكَى الفورانيُّ نصاً للشافعيِّ -رضي الله عنه- على أنَّ داخلَ الدهليزِ لا يحنث، وحملوه على الطاق خارج الباب، لكن أشار الإِمام إلى إثباته قولاً، وقال: لا يبعد أن يقال: دخل الدهليزَ، ولم يدخل الدارَ، فيجوز أَن يُعْلَم لذلك قوله في الكتاب "ويحنث بدخول الدهليز" ونزل صاحب "التتمة" الدرب المختصَّ بالدار أمام الباب، إذا كان داخلاً في حد الدار ولم يكن في أولها بابٌ منزلة الطَّاقِ، قال: فإن كان علَيْه بابٌ، فهو من الدار (¬1) مسقفاً كان أو لم يكُنْ. الثاني: لو كان عند الحلف في الدار، فلم يخرج، لم يحنَثْ بالإِقامة؛ لأن ذلك لا يُسَمَّى دخولاً، وعن "الأم" قول آخرُ: إنه يحنَثُ؛ لأن استدامة الدخول في حكم الابتداء؛ ألا ترى أنه لو دخل دارًا مغصوبةً، ولم يَعْلَمْ بحالها، ثم علم، فلم يخرج أَثِمَ، وأنكر القاضي أبو الطيب في "المجرَّد"، أن يكون هذا قولاً للشافعيِّ -رضي الله عنه ¬
- وقال: إنَّه حكاه في "الأم" عن مذهب غيره، نعم، هو وجه للأصْحاب، ويُحْكَى ذلك عن أبي إسحاق، واختيار أبي الحسين بن القَطَّان -رحمهم الله- وكيف ما كان، فالصحيح الأوَّلُ، وهو منصوص حرملة، والمذكرر في الكتاب وكذا لو حلف، لا يخرج، وهو خارجٌ، لا يحنث بترك الدخولُ (¬1)، وإنما يحنث، إذا دَخَل، ثم خرج، ولو حَلف، لا يتزوَّج، وهو متزوِّج، أَوْ لاَ يتطهَّر، وهو متطهِّر، أو لا يَتوضَّأ، وهو متوضِّئ، فاستدام النكاحَ والطهارةَ والوضوءَ، لا يحنث، ولو حلَف، لا يلْبَس، وهو لابسٌ، فلم ينزع، أو لا يركَبُ، وهو راكبٌ، فلم ينْزِلْ، حَنِث بالاستدامة، والفرق أن استدامة اللبس والركوب تُسمى لُبْسًا وركوباً؛ ألا ترى أنه يصح أن يُقال: لَبسْتُ شهراً، وَرَكِبْتُ ليلةً، ولا يصح أن يُقال: دخلْتُ شهْراً، وتزوَّجتُ شهراً، وإنما يُقَالُ: سكنْتُ أو أقمتُ شهراً أو دخلْتُ منْذُ شهر، وأيضاً فإذا قِيلَ له: انْزَعِ الثوبَ، حَسُن أن يقول: حتى ألبسه ساعةً، وإذا قيل: أنزل الدابة، حسن أن يقول: حتى أركَبَ قدْر ما ركِبْتُ، وفي الدخول لا يصحُّ أن يقول: حتى أدخل ساعة، ولو حنِثَ باستدامة اللبس، ثم حَلَف أَلاَّ يلبس، فاستدام، لزمته كفارةٌ أخرَى؛ لأن اليمين الأوَّل، انحلت بالاستدامة الأولَى، وهذه يمين أخرَى، وقد حنِثَ فيها، واستدامة القيامِ والقعودِ قيامٌ وقعودٌ، وكذا استدامة استقبالِ القبلةِ واستدامةُ التطيُّبِ هل هو تطيُّبٌ؟ فيه وجهان: أصحُّهما: لا، وكذلكِ لو تطيَّب، ثم أحرم، واستدام، لم تلزم إلفدية وذُكِر وجهان أيضاً فيما لو حَلَف ألاَّ يطأ، وهو في خلال الوطء، فلم ينزع، أو ألاَّ يصوم، وهو شارع في الصوم، أو أَلاَّ يصلي، وهو في الصلاة، ويصوَّر ذلك فيما إذا حلَف ناسياً للصلاة، فإن اليمين ينعقد، قال في "التهذيب": لو حلف ألاَّ يغصب، لم يحنث باستدامة المغصوب في يده، ولو حلَف أَلاَّ يسافر، وهو في السفر، فوقف أو أخذ في العَود، في الحال، لم يَحْنَث، وإن سار على وجهه، حَنِثَ، وكان التصوير فيما إذا حَلَف على الامتناع عن ذلك السفَر، وإلا، فهو في العود مسافر أيضاً. ¬
الثالث: الحالف على أَلاَّ يدخل الدار، يَحْنَث بالحُصول فيها، سواءٌ دخلها من الباب أو من ثقب في بعْض الجُدْران، أو كان في الدار نَهْرٌ جار، فطَرَح نفْسَه في الماء، حتى حمله أو سبح أو رَكِب سفينةً، فدخلت السفينةُ الدار ونزل من السطْحِ، وفيما إذا نزل من السطْح وجهٌ آخَرُ، والصورةُ مذكورةٌ في الكتاب من بعْدُ، وسواءٌ دخَلَها راكباً أو ماشياً، ولو أدخل في الدار يده أو رأسه أو إحْدَى رِجْلَيْه، لم يَحْنَث، وكذا لو مدَّ رجليه، فادخلها الدار، وهو قاعد خارجَها، وإنما يحنث، إذا وضعها في الدار، واعتمد عليها أو حَصَلَ في الدار، متعلِّقًا بشيْء، وإن حَلَف أَلاَّ يخرج، لم يحنث بإخراج اليد والرْجل، ولا بإخراج الرِّجْلَيْن، وهو قاعد في الدار، ولو كان في الدار شجرةٌ منتشرةُ الأغصان، فتعلق ببعضها، فإن حصل في محاذاة البنيان، حَنِث، وإن حَصَل في محاذاة سُتْرة السطْح، ففيه الوجهان، وإن كان أعلَى من ذلك، لم يحنث وعن أصحاب أبي حنيفةَ: أنه، لو كان بحيث، لو سقط، سَقَط في الدار، حَنِث. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: لاَ أَدْخُلُ بَيتاً حَنِثَ بَيْتِ الشَّعْرِ وَالجِلْدِ وَالخَيْمَةِ إِنْ كَانَ بَدَوِّياً، وَفِي البَلَدِيِّ وَجْهَانِ مَأْخَذُهُمَا أنَّه يُرَاعَى عُرْفُ وَاضِعِ اللِّسَانِ أَوْ عُرف الحَالِفِ وَفَهْمُهُ، وَلَوْ قَالَ: (درخانه نشوم) لَمْ يَحْنَثْ بَيْتِ الشِّعْرِ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ هَذَا العَرْفُ فِي الفَارِسِيَّةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المسألة الثانية: إذا حَلَف، لا يدخلُ ولا يسْكُن بيتاً، قاسم البيت يقع على المبْنَى من الطين، والآجُرِّ، والمَدَرِ، والحَجَرِ، وعلى المتَّخَذ من الخَشَب، والشَّعْر، والصُّوف، والجِلْد، وأنواع الخيام، فيُنْظَرُ، إن نوى نوعًا منْها، حُمِلت اليمين عليه، وإن أطلق، حَنِث بأي بيت كان، إن كان الحالف بدويًا؛ لأن الكل بيتٌ عنده، وإن كان من أهل الأمصار والقرى، فوجهان: أحدهما: يُنْسَب إلى ابن سُرَيْج: أنه لا يَحْنَثُ ببيت الشَّعْر وأنواع الخيام؛ لأن المتعارف عليها عندهم، والمفهوم من اسم البيت هو المبنَى، وبهذا قال أبو حنيفة. وأصحهُّما: وهو ظاهر النص: أنه يحْنَثُ أيضاً، واختلف في تعليله، فقيل؛ إنما يحنث؛ لأن أهل البادية يُسَمُّون بيت الشَّعْر ونحوه بيتًا، وإذا تبين هذا العُرْف عندهم، ثَبَت عنْد سائر الناس، ولذلك يقول: مَنْ حَلَف، لا يأكُل الخبز، يحنث بالمُتَّخَذ من الأرز، وإن كان الحالف مما لا يتعارفه، واعترض عليه بأنَّ منْ حَلَف ببغداد وغيرها أَلاَّ يركب دابة، لا يحنث بركوب الجمل (¬1)، وإن كان أهل مصر يسمونه دابةً، ولو كان ¬
ثبوت العُرْف عند قوم يقتضي التعميم، لَحَنِثَ وفي مسألة الخبز، لم يكن الحِنْثُ بهذا السبب، بل المتَّخَذ مَن الأرز يُسمَّى خبزاً في جميع البلاد ثم أهل بلد يطْلِقون اسم الخبز على ما يجدونه عندهم، وقيل: إنما يحنث؛ لأن المتَّخَذ من الشَّعْر والجِلّد يُسمَّى بيتاً في الشَرْع، قال الله تعالَى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَام بُيُوتاً} [النحل: 80] واعتُرِضَ علَيْه بأنه لا يَحْنَثُ بدخول المساجِدِ على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى- مع أن الله تعالَى سماها بيوتاً، فقال عزَّ اسْمُهُ {في بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] والأصح أنه، إنما يحنث؛ لأن اسم البيت يقع على جميعها في اللغة، فحُمِلَ اللفظ على حقيقته، واعترض عليه بأنا ترَكْنا الحقيقة للعُرْف فيما إذا حَلَف لا يأكل البيض، فقْلنا لا يحنَثُ (¬1) يَأْكل بَيْض السَّمكَّ؛ لأن العرْف خصَّص اللفظ بما يزايل بائِضُهُ في حياته، وفيما إذا حلف لا يأكل الرؤوس، فقلنا: لا يحنث بأكل رؤوس العصافير والسموك؛ للعُرْفُ، وأجيب عنه بأن هناك عَرَفَنْا عُرْفًا مستمراً على خلاف اللغة، فإنهم لا يطلقون اسم البيض على بَيْض السَّمَك، وإن كثرت عنْدهم، ولا اسم الرؤوس المشوية على رؤوس الطير والسمك مع كثرتها، وأما اسم البيت، فلا يستعملونه في المُتَّخَذِ من الشَّعْر والجلْد ونحوهما , ولا يفهمونها، من اللفظ عند إلاستعمال؛ لِفَقْدها أو قلتها عنْدهم، فلم يتحقَّق عُرْفاً على خلافِ اللغةِ، وكان ذلك كمسألة خُبْز الأرز، وفي المسألة وجهٌ ثالثٌ؛ وهو أن القرويَّ، إن كانت قريته قريبةً من البادية، يَحْنَث بدخول بيت الشعر والخيام؛ لاختلاط بعضهم ببَعْض، وفهمهم، معنى اللفظ عند الاستعمال وإن كانت بعيدةً، لم يحْنَث. وقوله في الكتاب "مأخذهما أنه يُرَاعَى عُرْفُ واضِع اللسانِ أو عرف الحالِفِ وفهْمُه" قد يسلم أن في اللفْظ عرفاً بخلاف وضع اللغة، وكَلامُ الأئمة ينازعُ فيه على ما بيَّناه، ولو قال بالفارسية: (درخانه نشوم) (¬2) فعن القفَّال: إنه لا يحنَثُ بيت الشَّعْر والخيام؛ لأن العَجَم لا يِطْلِقون هذا الاسم عليها، بل على المبنى، وعلى هذا أجْرَى الإِمام وصَاحبُ الكتاب والرويانيُّ وغيرهم -رحمهم الله-، وقد يُقال بالفارسية: (خانه توكَمان) (¬3) لكن يعني به الجلد لا فَرْدٌ من الأفراد، وفي "التتمة" وجهٌ آخر: أنه لا فرْق فيه بين العربية والفارسيةِ، ويكون الحكم على ما سبق، ولا يحنث بدخول الكعبة، والمساجد، والبِيَع، والكَنَائِسِ، وبيوت الحَمَّام، والمغارة في الجبل؛ لأنها ليست للإيواء والسُّكْنَى، واسمُ البيت لا يقع عليها، إلا بضَرْب تقييد، كما يُقال: الكعبةُ بيت اللهَ أو البيتُ الحرامُ، وحَكَى صاحِبُ "التتمة" وجهَاً: إنه يَحْنَث بدخول الكعبة ¬
والمساجد؛ لقوله تعالَى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: 26] وقوله تعالَى: {في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) [النور: 36]، وفي "الرقم": أن ابن سُرَيْج خرَّج في جميع ذلك لنفسْه قولاً، وعن أحمد -رحمه الله- أنه يحْنَث بالمسجد وبيْت الحمَّام، ولو دخل دهليز دارٍ أو صَحْنها أو صُفَتَها، فالأظهر عند الأصحاب: أنَّه لا يحْنَث؛ لأنه لا يُقال: دخَل البيت، وإنما وقَفَ في الدِّهْليز والصُّفَّةِ، وعن القاضي أبي الطيب: والميلُ إلى أنه يَحْنَثُ، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن جميع الدار بيت للإِيواء (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: لاَ أَسْكُنُ هَذِه الدَّارَ فَمَكَثَ سَاعَةً حَنِثَ (ح) وَإِنْ كَانَ دُونَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَكَذَا لَوْ أَخْرَجَ أَهْلَهُ وَمَكَثَ، وَلَوْ خَرَجَ وَتَرَكَ أَهْلَهُ بُرّ، وَلَوْ انْتَهَض لِنَقْلِ الأَمْتِعَةِ كَمَا يَعْتَادُ فَفِيهِ وَجْهَان. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الثَالثَة: إذا حلف على أَلاَّ يسكن في هذه الدار أو لا يقيم فيها، وهو عند الحَلِف في الدار، فمكث فيها ساعةً فصاعداً من غير عُذْر، حَنِث (¬2) , لأن استدامة السُّكْنَى بمثابة الابتداء؛ ولذلك يُقال: سكنتُ الدارَ شهراً كما يقال: لبستُ شهرًا (¬3) وعن مالكٍ: أنه لا يَحْنَث، إذا أقام دون يوم وليلة، ونسب الإِمام هذا المذهب إلى أبي حنيفة، ولا يكاد يثبت، ولا فرق إذا مكث بين أن يُخْرِجَ أَهْلَه، وَيبْعَث متاعَه، وبين أَلاَّ يفعل ذلك؛ لأنه حلَف عَلَى سكنى نفْسِه، لا على أهله ومتاعه، وعند أبي حنيفة: إذا نقل متاعه، لم يحْنَث بالمُكْث، ولو خرج وترك أهله هناك ومتاعه، لم يحنَث، وعند أبي حنيفة وأحمَدَ -رحمهما الله- يحنث، وعند مالكٍ: يُعْتَبَر نقل العيال دون المال، قال الرويانيُّ: وعلى هذا، إذا حلف لا يَسْكُن داراً، فانتقل إليه بنفسه، ولم ينقل أهله وماله، يحنث عنْدنا، وعند مالك: لا يحنث حتى ينتقل إلَيْها مع أهله وعياله، وعند أبي حنيفَة: حتى ينتقل إليه ابن فسه وأهله وماله، واحتج الشافعيُّ -رضي الله عنه- لاعتبار الانتقال بالبدن بان المسافر يَقْصُر، وإن خلَّف أهله ومتاعه في بَلَدٍ، وبأنَّ من انتقل إلى مكة، وخلّف أهله وماله ببلد آخر، كان من حاضِرِي المسجدِ الحرامِ، حتى لا يلزمَهُ الدمُ، إذا تمتَّع، وعلى ضده، من أقام بغير مكة، وخلَّف بها أهله وماله، لم يكن من الحاضرين، حتى يلزمه الدمُ، إذا تمتَّع، ثم قال في "الأم" أنا منتقل من مكة إلى مصر ببدني، وبها أهلي وولدي ومالي وكتبي. ¬
ولو مكث بعُذْر؛ بأن أُغْلِق عليه الباب أَو مُنِعَ من الخروج أو خَافَ على نَفْسِه أو ماله لو خرج، أو كان مريضاً أو زَمِناً، لا يقدر على الخروج، ولم يجد من يخرجه، لم يحنث، وإن مرض، وعجز بعد الحَلِف، من الحنث الخلافُ في حِنْث المُكْرَه، وقد تخرج سائر الصوَرِ على ذلك الخلافِ، وإن وجد المريضُ من يُخرِجُه، فينبغي أن يأمره بإخراجه، فإن لم يفعل، حَنِث، وإن مكث الحالف مشتغلاً بأسباب الخروج، بأن انتهض لجمع المتاع ويأمر أهله بالخروج، وبلُبْس ثوب الخروج، فهل يحنث؟ فيه وجهان: أحدهما: ويُنْسَب إلى العراقيين: نعم؛ لأنه أقام فيها مع التمكُّن من الخروج. وأرجحُّهما: عند كثير من المعتبرين -رحمهم الله- وربما لم يذْكُروا سواه: المنع، وبه قال أبو حنيفةَ والقَفَّال -رحمهما الله-؛ لأن المشتغل بأسباب الخروج لا يُعَدُّ ساكناً في الدار، ويؤيده ما ذكروا؛ أنه لو خَرَج في الحال، ثم عاد، لِنَقْل متاع، أو زيارةٍ، أو عيادة مريض، أو عمارةٍ، لا يَحْنَث؛ لأنه فارقها في الحال وبمجرَّد العَوْد، لا يصير ساكنًا ولو احتاج إلى أن يبيت فيها ليلةً لحفْظ المتاع، ففيه احتمالان للقاضي ابن كج: والأصح: عنده: أنه لا يَحْنثَ، ولو خرج في الحال، ثم اجتاز بها بأن دخل من باب، وخرجَ من باب، فعن تعليقة القاضي الحُسَيْن: أن الصحيح أنه لا يَحْنَث؛ لأن الذي وجد عبورٌ لا سُكْنَى، فإن تردَّد فيها ساعةً بلا غرض حَنِث. ولك أن تقول: قوله: "لا أسكن" إن كان المرادُ؛ لا أمكث، فهذا ظاهرٌ، وإن كان المرادُ؛ لا أتخذها مَسْكناً، فإذا دخلها مجتازاً أو تردَّد فيها ساعةً، فينبغي ألاَّ يحنث؛ لاْنها لا تصير مسكناً بذلك، وقد يخطر مثل هذا التفصيل في أول المسألة، ويُقال: إن أراد ألاَّ يتخذها مسكناً، فهَّلا قيل، إذا قصد التحوُّل عنها: خرجَتْ عن كَوْنِها مسكناً فينبغي ألاَّ يحنث بالمُكْث ساعةً، لكن يجوز أن يُقال: إنها، إذا كانت مسكناً، لا، يخرج بمجرَّد النية عن المسكينة، كما أن المقيم لا يصيرُ مسافراً بمجرَّد النية، وفي "التَهذيب": أنه لو عاد مريضاً مارًّا، يعني في خروجه، لم يحنث، وإن قَعَد عنْده، حَنِث، ولو خرج في الحال، ثم دخل أو كان خارجاً حين حلف، ثم دخل، لا يحنث بالدخول، ما لم يمْكُث، فإن مكث حنث، إلا أن يشتغل بحَمْل متاع كما في الابتداء. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: لاَ أُسَاكِنُ فُلاَناً وَفَارَقَهُ فُلاَنٌ لَمْ يحْنَثْ، وَإِنْ كَانَا فِي خَانٍ وَانْفَرَدَ بِبَيْتٍ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَلَوِ انْفَرَدَ بِبَيْتِ فِي دَارٍ يَحْنَثُ، وَلَوِ انْفَرَدَ بِحُجْرَةٍ مِنْ دَارِ طَرِيقُهَا عَلَى الدَّارِ فَوَجْهَانِ، وَلَوْ كَانَا فِي دَارٍ فَانْتَهَضَ لِبِنَاءِ الجِدَارِ حَنِثِ بِالْمُكْثِ عَلَى الصَّحِيحِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: المسألة الرابعة: في الحلف علَى المساكنة، وأول ما نذْكُره فيها بيان المُسَاكنة؛ قال الشافعيُّ -رضي الله عنه-: المساكنة أن يكُونَا في بيت أو بيتَيْن حجْرَتُهما واحدةٌ، ومدخَلُهما واحدٌ، قال الشيخ أبو حامد: أراد بالحجرة الصَّحْن، فإن أقام كلُّ واحد في دارٍ، فلا مساكنة، سواءٌ كانت الداران كبيرتَيْن أو صغيرتَيْن أو إحداهما كبيرةً والأخرَى صغيرةً؛ كحجرة لطيفة بجنب دارٍ سواء كانتا في دربٍ نافذٍ أو غيرِ نافذٍ، ولو سكنا في بيتَينْ من خانٍ واحدٍ كبيرٍ أو صغيرٍ، فالذي ذكره أكثر الأصحاب من العِراقِيين وغيرهم -رحمهم الله- أنه لا مساكنة أيضاً، سواء كان البيتان متلاصفين أو متفرقين؛ لأنَّ الخان مبنيٌّ لسكنَى قوم، وبيوتُها تفْرَد بأبوابٍ ومغاليقَ، فهو كالدرب، وهي كالدور في الدَّرب، وحَكَى الإِمامُ وصاحِبُ "التهذيب" وغيرُهما فيه وجهاً آخرَ: أن الخان بناءٌ واحدٌ، وفي البيتين من الدرب الكبير (¬1) وجهان أيضاً. والأظهرُ: أنه لا مساكنة، وينبغي أن يرتَّب الوجهان في الدار الكبيرة على الوجهين في الخان؛ لأن الدار تُعدُّ مسكنا واحداً لواحد، والخان يُبنَى لسكْنَى جماعة ويُرْوَى نحو من هذا عن الحسين الطبري في "عدته" ويشبه ألا يشترط في الخان أن يكون على كل بيت منها بابٌ وغَلَقٌ، كالدور في الدَّرْب، ويشترط في بيوت الدار الكبيرة أن يكون على كل بيت منها بابٌ وغَلَق، فإن لم يكونا أو سَكَنَا في صفتين منْها أو في بيت وصُفَّة، فهما مساكنان في العادة، وكان اشتراكهما في الصَّحْن الجامِعِ للبيتين في الباب المدخولِ منْه مع تمكُّن كل واحدٍ منهما من دُخول بيْت الآخر، جُعِل كالاشتراك في المَسْكَن. ولو أقاما في بيتين من دار صغيرة، فهما مساكنان، وإن كان لكلِّ واحدٍ منهما بابٌ وغَلَقٌ لمقارنتهما وكونهما في الأصل مسكناً واحداً، بخلاف الخان الصغير، هكذا فَصَّل أكثرهم، ومنهم من أطلق وجهَيْن في بيتي الدار من غَيْر نَظَرِ إلى الصِّغَر والكِبَر، والرأي الأصحِّ حصول المساكنة، وبهذا أجاب في الكتاب، إذا قِيلَ به، فلو كان أحدهما في الدار، والآخَرُ في حجْرة منفردة المرافق، وبابُها في الدارِ، فوجهان والأصح: أنه لا مساكنة، وهو الذي أورده صاحبُ "التهذيب" في حجرتين منفردَتَي المرافق في الدار، والمرافقُ المُسْتَحَمُّ والمَطْبَخ والمرقَى وغيرها، والحُجْرة في الخان لَم يذكر فيها خلافٌ، وإن كان الممرُّ في الخان، إذا تقرَّر ذلك، فإذا قال: والله، لا أساكن فلاناً، فإما أن يقيد المساكنة ببَعْض المواضع لفظاً بأن يقول في هذا البيت أو في هذه الدار أو لا يقيِّد: الحالة الأُولَى: أن يقيد، فيحنث بمساكنتهما في ذلك الموضع، وإن كانا فيه عند الحَلِف، ففارقه فلان أو فارق الحالفُ فلاناً، لم يحْنَث، الحالف، وإن مَكَثا فيه بلا ¬
عذر، حَنِث، فإنَّ استدامِة المساكنةِ مساكنةٌ؛ ألا ترى أنه يَصِحُّ أن يُقال: ساكنتُ فلاناً شهراً، وإن بُنِيَ بينهما حائلٌ من طين، أو غيره، ولكل واحد من الجانبين مدخَلٌ أو أحدثا مدخلاً، فوجهان: أحدهما: لا يحنَثْ؛ لاشتغاله برفع المساكنة، وهذا ما رجحه في "التهذيب". وأصحهما: عند الجمهور: الحنث؛ لحصول المساكنة إلى أن يتم البناء من غَيْر ضرورة، فإن خرج أحدهما في الحال، فبنى الجدارَ، ثم عاد، لم يحنَثِ الحالفُ، ولا يخفى أنه لا بأسَ، والحالة هذه، بالمساكنة في موضع آخر. والثانية: ألاَّ يقيِّدها لفظاً، فيُنظر؛ إن نوى موضعاً معيناً من البَيْت أو الدار أو الدرب أو المحلَّة، أو البلَّد، فالمشهور أن اليمين محمولةٌ على ما نَوَى، وفي طريقة الصيدلانيِّ: أنهما إنْ كانا يسْكُنان بيتاً واحداً من دار متَّحِدة المرافِقِ، فأراد أنه لا يساكنه في ذلك البيتِ، حملت اليمين على ما أراد، أما إذا لم يكن كذلك ولا جرى ذكْرُ تلْك المساكنة مثْل أن يقول صاحبه: سَاكنِّي في هذا البيت، فلا يُقبل قولُه، وتحمل اليمينُ على الدار، وحَكَى الفورانيُّ في البلد وجهاً: أن اللَّفْظَ لا ينزل عليه؛ لأن ذلك لا يُسَمَّى مساكنةً، وقيل: يجيء ذلك الوجه في المحلَّة، وإن لم يَنْوِ موضعاً معيناً، وأطلق المساكنة إطلاقاً، حَنِثَ بالمساكنة في أي موضع كان، وقد بيَّنَّا أن المساكنة أين تحْصُل وفي "التتمة" رواية قولٍ ضعيفٍ: أنه إذا حلَف ألاَّ يساكن فلاناً، وأطلق، وكلُّ واحد منهما في دارٍ وحجرةٍ مفردةٍ، فيحمل اليمين على الاجتماع الحاصل، فإن كانتا في دَرْبٍ واحدٍ، فلا بدّ من مفارقة أحدهما الدَّرْب، وإن كانتا في محلَّة، فلا بدّ من مفارقة أحدهما المحلَّةَ، وإن كانا عند الحَلِف في بيتين من خَانٍ، فعلى الصحيح؛ لا مساكنة ولا حاجة إلى مفارقة أحدهما الخان، وعلى الوجه الآخر: لا بدّ وأن يفارقه أحدهما، وإن كانا في بيتٍ واحدٍ من الخانِ، فيكفي أن يفارق أحدُهما ذلك البيتَ أو يَجب مفارقةُ الخان؟ فيه هذا الخلافُ، ثم سواء نوى موضعاً معيناً، أو نزل اللفظ على إطلاقه، فالقول في أن استدامة المساكنةِ كالمساكنةِ، وفيما إذ بُنَي بينهما حائلٌ؛ على ما مَرَّ في الحالة الأولَى، والاعتبار بالانتقال بالبَدَنِ دون الأهْلِ والمالِ؛ على ما مَرَّ في المسألة السابقة. قَالَ الغَزَالِيُّ: النَّوْعُ الثَّانِي: أَلْفَاظُ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ: فَإِذَا قَالَ: لاَ أَشْرَبُ مَاءَ هَذِهِ الإِدَاوَاتِ لَمْ يَحْنَثْ إِلاَّ بِالْجَمِيعِ، وَلَوْ قَالَ: لأَشْرَبَنَّ لَمْ يَبَرَّ إِلاَّ بِالْجَمِيعِ، وَلَوْ قَالَ: لأَشْرِبَنَّ مَاءَ هَذَا النَّهْرِ لِزَمَتْهُ الكَفَّارَةُ فِي الحَالِ لِعُسْرِ البِرِّ، وَقِيلَ: يَبِرُّ بُشُربِ البَعْضِ هَهُنَا، وَلَوْ قَالَ: لأَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ غَداً فَفِي لُزُومِ الكَفَّارَةِ قَبْلَ الغَدِ وَجْهَانِ، وَلَوْ قَالَ:
لأَشْرِبَنَّ مِنْ مَاءِ هذِهِ الإِدَاوَةِ وَلاَ مَاءَ فِيهَا لِزَمَتْهُ الكَفَّارَةُ فِي الحَالِ كَقَوْلِهِ: لأَقْتُلَنَّ فُلاَناً وَعَلِمَ أنَّهُ مَيِّتٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في النوْعِ مسائلٌ: إحداها: إذا حلَف، وقال: لا أشرب من ماءِ هذه الإدَاوَة أو الجَرَّة، حَنِث بما شرِبَ من مائها من قليل وكثير، ولو قال: لأشربَنْ من ماء هذه الإداوة، بَرَّ بما شرب من قليل وكثير، ولو قال: لا أشرب من ماء هذا النهر، أو لأشربَنَّ منْه، فالحكم كما في الإدَاوَة، ولو قال: لا أشربُ ماءَ هذه الإِدَاوَةِ، أو الجَرَّة، أو الجُبِّ، أو المصنع، أو غيرهَما مما يمكن استقاء مائه، وإن احتاج إلى مدة طويلة، فلا يحنث إلا بشُرْبِ جميعه، وما دام يبقى منْه شيءٌ، فلا حَنِث، قال في "شرح مختصر الجويني": سوَى البلل الذي يبقى في العادة، وقال مالك: يحنث بشُرْب البعْض، وبه قال أحمدُ -قدَّس اللهُ روحَه- في إحدى الروايتَيْن. لنا: أن الماءَ معروفٌ بالإِضافة إلى الإِداوة، فتناول الجميع كما في طرف الإثبات، ولو قال: لأشربَنَّ ماء هذه الإداوة أو الجُبِّ، لم يبرَّ إلا بشرب الجميع، ولو قاَل: أشرب ماء هذا النَّهر، أو البَحْر أَو البئر العظيمة، فهل يحنث بشرب بعضه؟ فيه وجهان: أحدهما: ويُنْسَب إِلى ابن سريج، وابن أبي هريرة: نعم، وبه قال أبو حنيفة وأحمدُ -رحمهم الله- لأنه لا يمكن شُرْب الجميع، فينصرف اليمين إلى البعْض؛ ولأن مَنْ شرب من ماء دِجْلة، يُقال، في العرف: إنه شرب ماءِ دِجْلَةَ. وأصحهُّما: المنع؛ على ما ذكره الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطَّيب والرويانيُّ، ونسبوه إلى عامة الأصحاب -رحمهم الله- ومنهم أبو إسحاق؛ لأن الحَلِف على الجميع، فصار كما لو قال: لا أشرب ماء هذه الإِدَاوَة، وقال القاضي أبو الطيب: يَنْبَغِي أن يُقالَ، على هذا: لا ينعقد يمينه، كما لو حَلَفَ، لا يصعد السماء؛ لأن الحِنْث فيه غير مُتصوَّر، ولو حلف، ليشربَنَّ ماء هذا النهْر أو البحْر، ففيه وجهان أيضاً: أحدهما: أن اليمين محمولةٌ على البعْضِ، فيبَرُّ بشرب بعْضه، وإن قلَّ. وأظهرهما: أنه لا يبرُّ بشرب البعض، وهو حانثٌ؛ لعجزه عن شرب الجميع؛ وعلى هذا، فيلزمه الكفارة في الحال أو قبيل الموت؟ فيه وجهان: أحدهما: قُبَيْل الموت؛ لأن وقْت الشُّرْب غيرُ معيَّن.
وأشبهُّهما: وهو الذي أورده صاحبُ الكتاب والرويانيُّ -رحمهما الله-: في الحال؛ لأن العجز متحقِّق في الحال، والانتظار إنما يحْسُن فيما يُتوقَّع حصُولُه، وفي المسألة وجهٌ آخرُ: أن اليمين لا ينعقد أصلاً؛ لأن البِرَّ فيه غير متصوَّر، ولو حلف ليصعدَنَّ السماء، ففي انعقاد يمينه وجهان: أظهرهما: الانعقاد، وعلى هذا، فيحكم بالحِنْث في الحال أو قُبَيل الموت فيه الوجهان: ولو قال: لأصعدن السماء غداً، وفرَّعْنا على انعقاد اليمين، فيحصل الحنْث، ويجب الكفارة في الحال أو بعد مجْيء الغَدِ؟ فيه الوجهان، فيشبه أن يرجح هاهنا الثاني؛ لأن اليمين معقودة على الصُّعود غداً وعَلى هذا فهل يحنث قبيل غروب الشمس من الغد أو قبيل ذلك؟ فيه خلاف سيأتي في نظيره. ولو حلف لا يصعد السماء، ففي انعقاد يمينه وجهان: أحدُهما: ينعقد، وإن لم يُتصوَّر الحنث، كما لو حَلَف، لقد فعل كذا أمس، وهو صادق. وأصحُّهُما: على ما نقل في "التهذيب" المنْعُ؛ لأن الحنْثَ غير متصوَّر، بخلاف صورة الاستشهاد، فإن الحَلِفَ هناك يحتمل الكذب. ولو قال: لأشربَنَّ ماء هذه الإِداوة، ولا ماء فيها، أو لأَقْتُلَنَّ فلاناً وهو ميت، ففي انعقاد اليمين وجهان: أحدهما: لا ينعقد؛ لأن البرَّ فيه غير متصوَّر. وأشبهُّهما: الانعقاد، كما لو قال: فعلتُ أمسِ كذا، وهو كاذبٌ، فإنه ينعقد يمينه، وإن لم يتصوَّر فيها البِرُّ، وقد يُفْرَق بين ما لا يتصور فيه الحِنْثُ، فيرجَّح عدم الانعقاد، وبين ما لا يتصوَّر فيه البر، فيرجَّح فيه الانعقاد؛ بان امتناع الحِنْث لا يُخِلُّ بتعظيم اسم الله تعالَى وامتناع البِرِّ يخِلُّ ويهتك الحرمة، فيخرج إلى التكفير، وعلى الوجه الثاني، ينطق قولُه في الكتاب "لَزِمَتْهُ الكفار" وعلى هذا، فيلزم في الحال أو قبيل الموت؟ فيه الوجهان: الأشبه الأول: وهو المذكور في الكتاب، وأشار بعضُهم إلى تخصيص الخلافِ بما إذا قال: لأشربَنَّ ماء هذه الإِداوة، ولا ماء فيها، والقطعِ بوجوب الكفارة فيما إذا قال: لأقتلنَّ فلاناً، وهو يدري أنه ميِّتٌ، وفَرَقُوا بأنَّ شرب الماء، ولا ماء مُحَالٌ الذي نفسْه، فيلغو ذكْره، وفي قوله: لأقتلنَّ فلاناً، إحياؤُه مقدورٌ لله تعالَى ولو أُحْيِيَ، يُمكَّن من قتله، فليس المذكور محالاً في نفسه، وقد يُشْعِر بهذا سياق الكتاب، ولو قال:
لأقتلنَّ فلاناً، وهو يظنه حياً، فكان ميتاً ففي الكفارة خلافٌ؛ بناء على أن النسيان، هل يَدْفَع الحنث. فروع: في "المجرَّد" للقاضي أبي الطيب: أن الأصحاب -رحمهم الله- قالوا: لو قال: واللهِ، لا آكُلُ خُبْزَ الكُوفة أو خُبْزَ بغدادَ، لا يحنث بأكل بعْضِهِ، إلا أن ينوي غير ذلك. ولو قال: لأشربَنَّ ماء هذه الإِداوة، فانصبَّ قبل أن يشرب أو مات الحالفُ، نُظِر؛ إن كان بعد الإِمكان، حنث، وإن كان قبله، فعلى القولَيْن في أن المكْرَه، هل يَحْنَث ولو قال: لأشربَنَّ منه، فصبه في حوض، ثُم شرب منه من موضعٍ يُعلَمُ أنه وصَل إلَيْه بَرَّ، وإن حلف لا يشرب منْه، فصبه في حوض، ثُمَّ شرب منْه حَنِثَ، وكذا لو حَلَف , لا يشرب مِنْ لبِن هذه البقرة، فخلطه بلَبَنِ غيرها؛ بخلاف ما لو حَلَف؛ لا يأكل هذه التَّمْرة، فخلَطَها بُصْبَرَةٍ، لا يحنث، إلاَّ بأكْل جميع الصُّبْرَةِ، والفرق ظاهِرٌ. ولو حلف؛ لا يَشْرَب ماءً فراتاً، أو من ماءٍ فراتٍ، فهو محمولٌ على المَاءِ العَذْبِ من أيِّ موضع كان ولو قال: مِنْ ماءِ الفراتِ، فهو محمولٌ على النهْرِ المَعْرُوفِ، ولو قال: لا أشرب ماء الفراتِ، أو لا أشرب مِنَ الفُرَاتِ، فسواء أخذ الماء بيَدِهِ، أو في إنَاءٍ فشَرِبَ أو كرع منه، يحنث. وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: إذا قال: لا أشرب من الفُرَاتِ، لم يحْنَث، إلا بأن يَكْرَع فيه، ولو قال: لا أشرب مِنْ هذه الجَرَّة، وغيرها مما يُعْتَادُ الشُّرْب، فجعل الماء منه في كوز، وشربه، لا يحنث، ولو قال: لا أشربُ مِنْ ماءِ نهرِ كذا، فشَرِبَ من ساقِيَةٍ كأخذ الماء من ذلك النَّهْر، أو شرب من بئْرٍ محفُورٍ بقُرْب النهر، بحيث يعلم أن ماءَهَا منْهُ، يحنث. ولو قال: لا أشْرَبُ من نَهْرِ كذا , ولم يذْكُرِ الماء، فشرب من ساقيةٍ، تأخذ المَاءَ منه، ففيه وجهان: أشبهُّهما: أنَّه يحنَثُ، كَمَا لو أخَذَ في إناءٍ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ لاَ آكُلُ اللَّحْمَ وَالْعِنَبَ لَمْ يَحْنَثْ إِلاَّ بِجَمْعِهِمَا، وَالوَاوُ العَاطِفَةُ تَجْعَلُ الْجَمِيعَ كَالشَّىْءِ الوَاحِدِ. قَالَ الرَّافِعيُّ: الثانية: إذا قال: لا آكل هذَيْن الرغيفَيْن، أو لا ألبس هذَيْن الثوبَيْن، لم يحْنَثُ إلاَّ بأكلهما، أو لُبْسِهِما , ولا فرق بين أن يلبسهما معاً، أو يلبس أحدهما وينزعه، ثم يلبس الآخر، وكذا، لو قال: لأَكُلَنَّ هذَيْن الرغيفَيْن، أو لألبَسنَّ هذَيْن الثوبَيْن، لم يَبَرَّ إلاَّ بأكلهما ولُبْسِهِما.
وقال مالك في طرف النفْي: يَحْنَثُ بأكْل أحَدِ الرغيفَيْن، ولُبْس أحد الثوبي، وهو رواية عن أحمد، وساعَدَنا في طَرَف الإِثبات. ولو قال: لا أُكلِّمُ زَيداً وعَمْراً ولا آكل اللَّحْم والعِنَب، فلا يحْنَثُ إلا إذا أكلهما، أو آكلهما، إلا إذا نوى غيْرَ ذلك؛ لأنَّ الواوَ العاطفةَ تجْعَل الجميعَ كالشَّيْءِ الواحد، فكأنه قال: لا أكلهما ولا آكلهما. ويعود فيه خلافُ مالك وأحْمَدَ، ولو قال: لا أُكَلِّم زيداً ولاَ عَمْراً، ولا آكُلُ اللَّحْم ولا العنب، فَيَحْنَث بكُلِّ واحدٍ منْهما، وهما يمينان، وبالحَنِث في أحدهما، لا تنحل الأخْرَى، كما لو قال واللهِ، لا أكلِّم زَيداً واللهِ لا أكلِّم عَمْراً، قال الصَّيْدَلاَنِيُّ -رحمه الله- بمثله، لو قال: لا أُكلِّم أحدهما، أو واحداً منهما , ولم يقصد واحداً بعَيْنه، فيحْنَث إذا كلَّم أحَدَهُما، وتنحلُّ اليمين، فلا يَحْنَث بأن يكلِّم الآخر، قال في "التتمة": وهكذا في الإثبات، لو قال: لألْبَسَنَّ هذا الثَّوْب، وهذا الثوب، فهما يمينان لوجود حرف العطفَ، ولكل واحد حكمهما وفي هذا توقُّف، ولو أوجب حرف العطف كوْنَهُما يمينَيْن، لا كما إذا قال: لا ألبسهما، لأوجب في قوله: لا أكلِّم زيداً وعمراً، ولا آكل اللَّحْم والعنب كَوْنَهُما يمينين، لا كما إذا قال: لا أكلِّم هذَيْن الرجلَيْن، أو لا آكل هذَيْن الطعامَيْن. وقوله في الكتاب: "لا بجميعهما" يعْنِي جميع الأكْلِ لهما، لا أنْ يأكلهما معاً. فَرْعٌ: إذا قال: لا آكل هذا الرغيفَ، لم يحْنَث بأكْلِ بعْضِه، وأُجْرِيَ فيه خلاف مالك وأحمد -رحمهما الله- ولو قال: لاَكُلَنَّهُ، لم يَبَرَّ إِلاَّ يأكْل الجميع، فحكَى الصيدلانيُّ أن أبا حنيفة قال في الصورة الأُولَى: إِذَا بَقِيَ فُتَاتُ جرت العادة بأن الناس يَدَعُونَه، ولا يتكلَّفون التقاطه، حَنِث، وعندنا: إذا بقي ما يمكن التقاطُه وأكله، لا يِحْنَث، كما لو قال: لا آكلُ ما عَلَى هذا الطبَقِ من التَّمْر، فأكل ما عليه إلا تمرةً، لا يَحْنَث. وإنْ جرَتِ العادةُ باستبقاء بعضِ الطعامِ للاحتشام من استيفائه، أو لغير ذلك، ولو قال: لاَكُلَنَّ هذِه الرُّمَّانَة، فترك حبَّةً، لم يبرَّ، ولو قال: لا آكُلُها، فَتَرَك حَبَّةً، لم يحْنَث، وفي "التتمة": أن عند أبي حنيفة: إذا كان المتْرُوك أقلَّ من الثلث، كان كما لو أكل الكُلَّ في طرفَي النفي والإِثبات جميعاً، وقد ذَكْرنا التصوير في الطَّلاَق، لكن لم نذْكُر خلافَ أبي حنيفةَ -رحمه الله-. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: لاَ آكُلُ الرَّأْسَ لَمْ يَحْنَثْ بِرَأْسِ الطَّيْرِ وَالسَّمَكِ، وَيحْنَثُ بِرَأْسِ الإِبِلِ وَالبَقَّرِ، وَلاَ يَحْنَثُ بِرَأْسِ الظِّبَاءِ إِلاَّ إِذَا اعْتِيدَ أَكْلُهُ فِي مَوضِعِ فَيَحْنَثُ مَنْ
حَلَفَ مِنْ أَهلِ ذَلِكَ المَوْضِعِ، وَفِي غَيْرِ أَهْلِ ذَلِكَ المَوْضِعِ وَجْهَانِ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى البَيْضِ لَمْ يَحْنِثَ بِبَيْضِ السَّمَكِ وَالعُصْفُورِ، وَيحْنَثُ بِبَيْضِ النَّعَامِ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى الخَبْزِ لَمْ يَحْنَثْ بِخُبْزِ الأُرْزِ إِلاَّ بَطَبَرِسْتَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الثالثة: إذا حَلَف لا يأكل الرأس أو الرؤوس أو لا يَشْترَيِها، حُمِلَتِ اليمينُ على التي تُميَّز عن الأبدان وتشوى وتباع بانفرادها، وهي رؤوس الإِبل والبقر والغنم، وقال أبو حنيفة في رواية: لا يحنث برؤوس الإِبل، ورواه شارح "مختصر الجويني" قولاً لابن سُرَيْجٍ، واحتج الأصحاب -رحمهم الله- بأن أهل البادية الذين يعتادون أكل لحوم الإِبل، يفردون رؤوسهما أيضاً، وذكروا: أن ذلك يُعتَاد بالحجاز، وفي "أمالي" أبي الفرج السرخسي: أن ابن أبي هريرة ذهب إلى أنه لا يحنث إلا بأكل رؤوس الغنم. وفي "الرَّقْم" للعبَّادِّي: في البلد الذي لا يُبَاعُ فيه إلا رؤوس الغنم، لا يحنث إلا بها، والظاهر الأول، وعن القفال: أنه لو قال بالفارسية (سربريان بخورم) (¬1) يحنث إلا برؤوس الغنم، ولا يكاد يتضح هذا، وإن أكل رأس طير، أو حوت أو ظبي أو صيد آخَرَ، لم يحنث؛ لأنها لا تُباَعُ مفردة، ولا يُفهَم من اللفظ عند الإِطلاق. وفيه قول عن رواية صاحب "التقريب" والمذهب الأول، نعم، لو كان يُبَاعُ رؤوس الحيتان أو الصيود مفردةً في بلد، حصل الحنث بأكلها هناك، وفي غيرها من البلاد وجهان: في وجه: لا يحنث؛ لأن أهلها يعتادون أكلها، وبيعها مفردةً ولا يفهمونها عند الإِطلاق، ووُجِّه الثاني، بأَنَّ ما ثبت به العرف في موضع، ثبت في سائر المواضع؛ كما مر في مسألة خبز الأرز، وأيضاً: فالاسم شاملٌ، والعرف مختلف، والأول أرجح عند الشيخ أبي حامد والرويانيِّ. والثاني: أقوى، وأقرب إلى ظاهر النص ويؤيده: أن رأس الإِبل لا يُعْتاد بيعه وأكله إلا في بعض المواضع والحنث يحصل به. وذكر الشيخ أبو الفرج وجْهَيْنِ في أن الناحية التي ثبت فيها العرف، يعتبر نفس تلك الناحية، أو كون الحالف من أهل تلك الناحية؟ هذا عند الإِطلاق، قال في "التتمة": فإن كان مقصوده أَلاَّ يأكل ما يسمى رأساً، حَنِثَ بأكل رأس السمك والطير وغيرهما، وإن كان مقصوده نوعًا خاصاً، لم يحنث بأكل غيره. ¬
ولو حلف؛ لا يأكل البيض، حُمِلَتِ اليمينُ على ما يزايل بائضه، وهي حية؛ لأنه الذي يفهم من البيض، فلا يحنث بأكل بيض الجراد والسمك؛ لأنه يخرج بعد الموت بشق البطن، ويدخل فيه بيض الدجاج والنعام والأوز، والعصافير. وعن رواية المحاملي وجهُ: أنه لا يحنث إلا بيض الدجاج، وعن أبي إسحاق وجهٌ مخصص بالدجاج والأوز، قال الإِمام -رحمه الله-: الطريقةُ المَرْضِيَّة أنه لا يحنث إلا بما يُفْرَدُ بالأكل في العادة دون بيضَ العصافير والحمام ونحوها, ولا يحنث بأكل خصية الشاة، وإن حلف بالعجمية، وتسمى الخصية بالعجمية، "خاية"؛ لأنها لا تُفْهَمُ منه عند الإِطلاق (¬1). ذكره المتولِّي: ولو أُخْرِجَتِ البيضةُ، وهي منعقدةٌ من جوف الدجاجة، فأكلها، يحنث، ولو أُخْرِجَتْ بعد موتها، فأكلها، ففي "تعليقة المروزبين" -رحمهم الله- ذكر وجهين- (¬2) فيه. وقوله في الكتاب "لم يحنث برأس الطير والسمك" مُعْلَمٌ بالواو؛ لما سبق ويجوز أن يُعْلَم بالألف؛ لأن عند أحمد؛ يحنث بأكل الرؤوس كلها، وبالميم؛ لأن بعض أصحاب أحمد حكى عن مالك -رحمه الله- مثله. ولفظ "البقر" بالواو، "والإِبل" بالحاء والواو. وقوله: "ولا يحنث برأس الظَّبْي إلى آخره"؛ يوهم تخصيص الاستثناء برأس الظبي، ولا يختص، بل الحكم في الظباء، والطيور والحيتان واحدٌ. وكان الأحسن أن يجمع بينهما مقدمة على ذكر البقر، والإِبل أو مؤخرة. وقوله: "وفي غير أهل ذلك الموضع" -في بعض النسخ- "وفي أهل غير ذلك الموضع" وهما صحيحان. وقوله: "والعصفور" مُعْلَمُ، بالواو، وليُعَلَمْ أن الظاهر في المذهب خلافُ ما ذكره، لكنه جرى على ما ارتضاه الإِمام -رحمه الله-. ولو حلف لا يأكل الخبز، حنِثَ بأكل أي خبز، كان يستوي فيه خبز البر والشعير والذرة والأرز والباقلاء؛ لأن الكل خبز، وإن لم يكن بعضها معهود بلده، كما لو ¬
حلف: لا يلبس ثوباً، حنث بلُبْسِ أي ثوب كان، وإن لم يكن معهود بلده. قال في "التتمة": ويحنث بخبز البلوط أيضاً، ويحنث بأكل الأقراص والرغفان، وخبز الملة والمشحم وغيره وسواءٌ أكله على هيئته أو جعله ثريداً، نعم، لو صار في المرقة كالحسو، فتحساه، لم يحنث وسواء ابتلعه [بعد المضغ، أو ابتلعه] على هيئته، ولو لم يبلعه لم يحنث، وسواء أدرك طعمه، أو لم يدركه، ولو أكل جوزينقا (¬1)، ففيه وجهان في "التهذيب". أحدهما: يحنث؛ لأنه لو نزع الحشو كان خبزاً. والأشبه: خلافه (¬2) هذا على ما يوجد لعامة الأصحاب -رحمهم الله- على طبقاتهم، فيما إذا حلف؛ لا يأكل الخبز، ولم يفرقوا بين جنس وجنس، وهو المذهب، وقوله في الكتاب "لم يحنث، بخبز الأرز إلا بطبرستان" يخالف ذلك، وأحسبه قلّدَ فيه الإِمام -رحمه الله- ولم يحضرني الباب في كتابه فأراجعه، ونقل في "الوسيط" ما ذكره ¬
عن الصَّيدلانيِّ، فقد راجعت طريقته، فلم أجد ما ادعاه، بل استشهد بالمسألة فيما إذا قال: لا أدخل بيتًا، وحكم فيها بحنث الطبريِّ والعراقيِّ، كما ذكره سائر الأصحاب -رحمهم الله- على ما تقدَّم، نعم في "تعليقة" أبي الفرج السرخسي ذِكْرُ وجهين في المسألة، ثم ينبغي أن تكون جيلان كطبرستان. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ حَلَفَ عَلَى اللَّحْمِ لَمْ يَحْنَث بِالشَّحْمِ، وَيَحْنَثُ بِالسَّمِينِ، وَفِي الألِيَّةِ وَالسَّنَامِ وَجْهَانِ، وَلاَ يَحْنَثُ بَالأَمْعَاءِ وَالكَبِدِ وَالكِرْشِ، وَفِي القَلْبِ وَجْهَانَ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى الزُّبْدِ لَمْ يَحْنَثْ بِالسَّمْنِ، وَفِي عَكْسِهِ خِلاَفٌ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى السَّمْنِ لَمْ يَحْنَثْ بِالأَدْهَانِ، وَفِي عَكْسِهِ خِلاَفٌ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى الجَوْزَ حَنِثَ بِالهِنْدِيِّ، وَعَلَى التَّمْرِ لاَ يَحْنَثُ بِالهِنْدِيِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صور؛ منها -إذا حلف-: لا يأكلَ اللَّحم أو لا يشتريه، لم يحنث بأكل شحم البطن، ولا يأكل شحم العين؛ لأنهما يخالفان اللحم اسمًا وصفةً، وهل يحنث بأكل شحم الظهر والجنب، وهو الأبيض الذي لا يخالطه الأحمر؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحنث؛ لأنه شحم؛ لقوله تعالَى: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146] وإذا كان شحمًا، كان كشحم البطن. وأصحُّهما: وهو المذكور في الكتاب: أنَّه يحنث؛ لأنه لحم سمين، ألا تراه يحمر عند الهزال؟ ويجوز أن يُعْلَمَ قوله في الكتاب "لم يحنث بالشحم" بالحاء؛ لأن في "تعليقة" أبي حامد أن عند أبي حنيفة يَحْنَثُ بأكل الشحم؛ لأنه يُؤكل مع اللحم، ويقام مقامه، وبالميم؛ لأن بعض أصحاب أحمد -رحمه الله- حكى عن مالك -رحمه الله- مثله، وعلى عكسه لو حلف ألا بأكل الشحم، يحنث بأكل شحم البطن، ولا يحنث بأكل اللحم، وأكل شحم الظهر على الوجهين: الأصح: أنه لا يحنث، وبه قال أبو حنيفة، وعن أبي زيد: أن الحالف، إن كان عربيًا، فشحم الظهر شحم في حقه؛ لأنهم يعدونه شحمًا، وإن كان عجميَّاً، فهو لحم في حقِّه، وذكر في أكل شحم العين وجهان أيضًا. ويتناول اليمينُ على اللحومِ لحومَ النعم والوحوش، والطيور المأكولة، وفيما لا يُؤْكل لحمه؛ كلحم الميتة والخنزير والذئب والحمار وغيرها وجهان عن ابن سُرَيْجٍ: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة: أنه يحنث بأكلها؛ لوقوع الاسم عليها، وإن كانت محرمة، كاللحم المغصوب. والثاني: لا يحنث؛ لأن الحالف يقصد بيمينه الامتناع عما يُعْتَاد أكله؛ وأيضًا
قاسم اللحم يقع على المأكول شرعًا، كما أن البيع والنكاح يقعان على المشروع. ورجَّح الشيخ أبو حامد والرويانيُّ الثاني، والقفالُ وغيره -رحمهم الله- الأوَّل (¬1). ولا يحنث بأكل السمك، خلافًا لمالك وأحمد -رحمهما الله-. وفي "البيان": أن بعض أصحابنا الخراسانيين قال به، ووجه ظاهر المذهب بأن السَّمَك لا يُفْهَمُ من إطلاق لفظ اللحم، ولا يُسْتَعْمَلُ فيه في العرف، وإن سماه الله تعالَى لحمًا بقوله: {تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12] وشبه ذلك بما إِذا حلف لا يجلس في ضوء السراج، فجلس في ضوء الشمس، لا يحنث وإن سماها الله تعالَى سراجًا، فقال: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ: 13] وبما إذا حلف: لا يعلق على وتد، فعلق على جبل، لا يحنث، وإن قال الله تعالَى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ: 7] أو حلف: لا يجلس على بساط، فجلس على الأرض، لا يحنث، وإن قال الله تعالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19] وهل يتناول اللحم الألْيَةَ؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه نابت في اللحم، قريب من اللحم السمين. وأصحُّهما: المنع؛ لمخالفته اللحم اسمًا وصفةً ولو حلف على الشحم، فوجهان أيضًا في تناول الألْيَةِ: أحدهما: نعم؛ لأنها تذوب كالشحم. وأصحُّهما: المنع؛ لمخالفته اللحم اسمًا وصفةً، فعلى الظاهر، وليست الألية بلحم ولا شحم وسنام الإِبل كالألية، ولو حلف على الألية، لم يحنث بأكل السنام، وكذا بالعكس؛ ولو حلف على الدسم، تناول شحم الظهر والبطن والألية والسنام والأدهان كلها، وهل يتناول اللحمُ الأمعاءَ والطِّحَالَ والكرش والكبد والرئة، حتى يحنث بأكلها، وإذا حلف ألا يأكل اللحم؟ فيه وجهان: أصحُّهما: لا، وهو المذكور في الكتاب. والثاني: نعم؛ لأنها في حكم اللحم، وقد تُقام مقامه، وبه قال أبو حنيفة، ومنهم من قطع بالأول، ونفي الخلاف، وفي القلب وَجْهَان مذكوران في الكتاب: أصحُّهما: أنه لا يحنث أيضًا. والثاني: يحنث، ووجه بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ... " (¬2) الحديث، والمضغةُ: القطعة من اللحم. ¬
وإلى هذا مال الصيدلانيُّ بأكل المخ، وقد يطرد فيه الخلاف، وفي لحم الرأس والخد واللسان والأكارع طريقان: أصحُّهما: أنه يحنث باكلها. والثاني: طرد الوجهَيْن. ولو حلف: لا يأكل ميتة، لم يحنث بأكل المذكاة، وإن حلها الموت؛ للعرف وإن أكل السَّمَك، فوجهان: في أحدهما: يحنث لقوله -صلى الله عليه وسلم- "أُحُلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ" (¬1). وفي الثاني: لا؛ للعُرْفِ. قال في "التهذيب" لا يحنث، وهو المذهب، كما لو حلف؛ لا يأكل دمًا، لا يحنث بأكل الكبد والطحال. ولو حلف: لا يأكل لحم البقر حنث بأكل الجاموس، ويحنث بأكل البقر الوحشيِّ على الأشهر، ونقل في "التهذيب" فيه وجهين، بناءً على الخلاف في أنه هل يُجْعَلُ جنسًا في الربا؟ ولو حلف: لا يركب الحمار، فركب حمارًا وحشيًا ففيه وجهان يتعلَّقان بالأصل المذكور، وأيضًا فالمعهود ركوب الحمارِ الأهليِّ؛ بخلاف الأكل، وقد سبق في "الربويات" ذكر وجهين في أن الجراد، هل هو من جنس اللحوم؟ ويمكن أن يخرج عليها؛ أنه هل يحنث بأكل الجراد إذا حلف: أَلاَّ يأكل اللحم؟. ومنها: لو حلف: لا يأكل الزبد، لم يحنث بأكل السمن، ولو حلف: لا يأكل السمن، ففي أكل الزبد وجهان: أصحُّهما: أنه لا يحنث به أيضًا؛ لتفاوتهما في الاسم والصفات. والثاني: أن الزبد سمن؛ لاشتماله عليه، وليس السمن زبدًا؛ لأن الزبد عبارة عن مجموع السمن وباقي المخيض. وسواء حلف على الزبد أو السمن، فلا يحنث بأكل اللبن، واسم اللبن يتناول لبن الأنعام والصيد ويدخل فيه الحليب والرائب واللباء، والماست (¬2) والشيراز (¬3) والمخيض. ¬
قال القاضي أبو الطَّيِّبِ: وتوقف بعضهم في الشيراز، ولا معنى له، وفي المخيض وجه، قال القاضي الرُّويانيُّ: يُحْتَمَلُ ألا يحنث إلا بالحليب؛ لأن الاسم في العُرْف لا يقع إلا عليه، لكن العرب تسمي الجميع لبنًا، والعرف مضطرب، ولو أكل الزبد، ففيه ثلاثة أوجه: أشبههما: وهو المذكور في "الشامل": أنه إن كان اللبن ظاهرًا فيه يحنث، وإن كان مُسْتَهْلَكًا فلا، ولا يحنث بأكل السمن؛ لأنه لا لبن فيه، ولا بالجبن والأقط والمصل. وعن أبَوَيْ علي بن أبي هريرة والطبري: أنه يحنث بجميع ما يُسِتَخْرَجُ من اللبن، وذكر: أن الجامد منْها لبن مجمَّدٌ، والظاهر الأول. ومنها: لو حلف: لا يأكل السمن، لم يحنث بالأَدْهَان، ولو حلف؛ لا يأكل الدهن، فهل يحنث بأكل السمن؟ فيه وجهان: أصحُّهما: أنه لا يحنث أيضًا، وقد يوجه الثاني؛ بأن الدهن قد يعبر بها عن الدسومة ويقام مقامها؛ ألا ترى أنَّهُ يُقَالُ: في حب كذا دهنية؟ ولا توضع السمينة موضعها. ولو قال بالفارسية: (روغن نخورم) (¬1)، فعن القاضي الحسين وغيره: أنه يحنث بالأكل من كلِّ واحدٍ منهما. ومنها: ذُكِرَ في الكتاب: أنه لو حلف؛ لا يأكل الجوز، يحنث بالجوز الهندي، ولو حلف؛ لا يأكل التمر، لا يحنث بالتمر الهندي، ويمكن أن يُفْرَقَ بأن الجوز الهنديَّ، وإن خالف الجوز المعروفَ في الشَّكْل، والصورة، ولكنه قريب منه في الطبع والطعم، والتمر الهندي يخالف التمر المعروف صورةً ولونًا وطبعًا وطعمًا، والذي ذكره في "التهذيب": أنه لا فرق بين الصورتَيْن، ولا يحنث بالهندي منهما، وكذا لو حلف؛ لا يأكل البطيخ، لا يحنث بالهنديِّ، أو لا يأكل الخيار، لا يحنث بهذا الذي يقال له خيار شنبر. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ حَلَفَ لاَ يَأْكُلُ لَمْ يَحْنَثْ بالشُّرْبِ، وَكَذَا عَكْسُهُ، وَلَوْ حَلَف لاَ يَأْكُلُ السُّكَّرَ فَوُضِعَ فِي فِيهِ حَتَّى ذَابَ فَفِيهِ خِلاَفٌ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى العِنَبِ لَمْ يَحْنَثْ بِعَصِيرِهِ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى السَّمْنِ لَمْ يَحْنَثْ إِذَا جَعَلَهُ فِي عَصِيدَةٍ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَثَرٌ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَثَرٌ فَفِيهِ خِلاَفٌ، وَفِي الخَلَّ إِذا جَعَلَهُ فِي السِّكْبَاجِ وَجْهَانِ، وَالنَّصْ أنَّهُ لاَ يَحْنَثُ، وَلَوْ حَلَفَ لاَ يَذُوقُ فَأَدْرَكَ طَعْمَهُ وَمَجَّهُ فَوَجْهَانِ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صور أيضًا: منها: كما أن بأكل أجناس مختلفة الأسماء والصفات والآثار، كذلك الأفعال أجناسٌ مختلفةٌ لا يتناول بعضها بعضًا؛ فالشرب ليس، وكذا العكس، فإذا حلف لا يشرب، فأكل طعامًا، لم يحنث، أو لا يأكل، فشرب ماءً أو غيره، لم يحنث. واللبن والخل وسائر المائعات، إذا حلف ألا يأكلها، فأكلها بخبز، حنث، ولو شربها، لم يحنث، وإن حلف ألا يشربها، فالحكم على العكس، ولو حلف: لا يأكل سويقًا، فاستقه أو تناوله بالملعقة أو بإصبع مبلولة، حنث، ولو ماثه في الماء، فشرب، حنث. ولو حلف، لا يشرب السويق، فالحكم بالعكس، ولو كان السويق خاثرًا بحيث يُؤخَذُ منه بالملاعق، فتحسَّاه، فقد ذُكِرَ فيه اختلافُ وجْهٍ، والأشبه أنه ليس بِشُرْب، ولو قال: لا أطعم أو لا أتناول، دخل في اليمين الأكل والشرب معًا. وبمثله حكموا فيما إذا قال بالفارسية (نخورم) (¬1) على أنه يُفْرَق بينهما، فيُقال: (طعام نخورد) (¬2) و (شراب بازخورد) (¬3). ومنها: إذا حلف لا يأكل السكر، انعقدت اليمين على عين السكر دون ما يُتَّخَذ منه، إلا إذا نوى، وكذا الحكم في العسل والتمر، ثم إن ابتلع السكر من غير مضغ، فقد أكله، كما لو ابتلع الخبز على هيئته، وإن مضغه، وازدرده ممضوغًا فكذلك، وإن وضعه في فمه، فذاب ونزل، ففيه وجهان: أحدهما: يحنث، كما لو مضغه. وأظهرهما: وهو المذكور في "التهذيب" "والتتمة": المنع لأنه لا يُسَمَّى ذلك أكلاً للسكر. ومنها: إذا حلف ألا يأكل العنب أو الرمان، لم يحنث بأكل عصيرها وشربه، ولو امتصهما، ورمى بالتفل، فكذلك؛ لأنه ليس يأكل. ومنها: لو حلف، لا يأكل السمن، فأكله، وهو جامد، حنث، وإن كان ذائبًا، فشربه، لم يحنث، وفي "شرح مختصر الجوينيِّ" فيه وجه ضعيف، وإن أكله بخبز، وهو جامد، أو ذائب حنث، وقال الإِصطخريُّ: لا يحنث؛ لأنه لم يأكله وحده، بل أكله مع غيره، وشبهه بما إذا قال: لا آكل مما اشتراه زيد قال: يأكل مما اشتراه زيد ¬
وعمرو، وإن جعله في عصيدة أو سويق، فعن نص الشَّافعيِّ -رضي الله عنه-: أنه يحنث، وعنه فيما إذا حلف؛ لا يأكل خلاًّ؛ فأكل السكباج (¬1)، أنه لا يحنث. فقال عامة الأصحاب: ليس ذلك باختلاف قول، ولكن إن كان السمن ظاهرًا في العصيدة والسويق؛ يُرَى جرمه، فيحنث، إذا أكله، وهذه الحالة هي التي أرادها بنصه في السمن، وكذا الحكم في الخل، إذا كان ظاهرًا بلونه وطعمه؛ بان أكل المرقة، وهي حامضة. وإن كان السمن مستهلكًا في العصيدة، فأكلها، يحنث، وكذا الخل إذا كان مُسْتَهْلَكًا، وهذه الحالة هي التي أرادها بنصه في الخَلِّ. فصور ذلك فيما إذا أكل لحم السِّكْبَاج أو ما كان فيه من السلق ونحوه، ومنهم من أثبت وجهين أو قولين؛ وعلى ذلك جرَى في الكتاب، ووجه المنع أن يُقَالَ: أكل العصيدة لا السمن، والسكباج لا الخل، ويجوز إعلام لفظ "الخلاف فيِ مسألة السمن" "والقولين في مسألة السكباج" بالواو. ومنها: إذا حلف؛ لا يأكل أو لا يشرب، لم يحنث بالذوق بمجرده إن حلف: لا يذوق، فأكل أو شرب، حنث؛ لتضمنهما الذوق، وفيه وجه ضعيف. وإن أدرك طعم الشيء بالمضغ والإِمساك في الفم، ثم مجه، ولم ينزل إلى حلقه، فهل يحنث؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، كما لا يفطر الصائم به. وأصحُّهما: الحنث؛ لأن الذوق عبارةٌ عن إدراك الطعم، وقد حصل. ولو حلف: لا يأكل ولا يشرب ولا يذوق، فأوجره في حلقه، حتى حصل في جوفه، لم يحنث. قال في "البيان": لو قال: لا أطعم كذا، ثم أوجره نفسه، حنث لأن معناه لا جعلته لي طعامًا. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ حَلَفَ عَلَى الفاكِهَةِ حَنِثَ بِالْعِنَبِ (ح) وَالرُّمَّانِ (ح)، وَلاَ يَحْنَثُ بِالقِثَّاءِ، وَفِي البِطِّيخِ تَرَدُّدٌ، وَيحْنَثُ بِيَابِسِ الفَوَاكِهِ، وَفِي اللَّبُوبِ تَرَدُّدٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا حلف؛ لا يأكل الفاكهة، حنث بأكل العنب والرطب والرمان؛ لوقوع اسم الفاكهة عليها، والعطف في قوله تعالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] لتخصيصهما وتمييزهما كما في قوله تعالَى: {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] وقال أبو حنيفة: لا يحنث بها، ويحنث أيضًا بأكل التفاح ¬
والسَّفَرْجَل والكُمَّثْرَى والمشمش والخوخ والإِجِّاص (¬1) والأترج والنارنج (¬2) والليمون والنبق والموز والتين. ولا يحنث بالقِثَّاء، والخيار؛ فهي من الخضراوات؛ كالباذنجان والجزر، وفي البِطِّيخ وجهان: أحدهما: أن الجواب كذلك. وأصحُّهما: أنه يحنث؛ لأن لها نضحًا وإدراكًا؛ كالفواكه، وبهذا قال ابن سُرَيْجٍ. ويتناول اسم الفاكهة الرَّطْب واليابس، كالتمر والزبيب والتين اليابس، ومعلق الخوخ والمشمش، وفي اللبوب كَلُبِّ الفستق والبندق وجهان: أقربهما: الحنث؛ فإنها تُعَدُّ من يابس الفواكه، هذا هو المشهور. وذُكِرَ: أنه لو حلف، لا يأكل الثمار، اختصت اليمين بالرطب، ولم يتناول الثمرة الفواكه اليابس، وسَوَّى في "التتمة" بينهما؛ وقال: الفاكهة لا تتناول اليابسة كالثمرة، فإن كان هذا عن تحقيق، أحوج إلى إعلام قوله في الكتاب "ويحنث بيابس الفواكه" بالواو. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ حَلَفَ لاَ يَأْكُلُ الْبَيْضَ ثُمَّ حَلَفَ أَنْ يَأْكُلَ مَمَّا فِي كُمِّ فُلاَنِ فَإِذَا هُوَ بَيْض فَاتَّخَذَ مِنْهُ النَّاطِفَ فَأَكَلَ مِنْهُ فَقَدْ أَكَلَ مِمَّا فِي كُمِّهِ وَلَمْ يَأْكُلِ البَيْضَ فَيَبَرَّ فِي اليَمينَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: حلف رجل؛ لا يأكل البيض، ثم استقبله رجل عرف أن في كمه مأكولاً، فحلف؛ ليأكلن ما في كمه، وكان ما فيه كمه بيضًا وأراد البر في اليمنَيْنِ، فيُقَالُ: إن القفال سُئِلَ عن هذه الصورة، وهو على المنبر، وطُلِبَتْ منه حيلة للبرِّ، فلم يحْضُرْه الجواب، فقال المسعوديُّ، وهو من أصحابه -رحمهم الله-: يُجْعَلُ ذلك البَيْضُ في الناطف (¬3)، فيأكله الحالفُ، فيكون قد أكل ما في كمه، ولم يأكل البيض، فاستُحْسِنَ منه ذلك. ¬
وقوله: "فاتخذ منه الناطف قد لا تُسْتَحْسَنُ هذه اللفظة، وإن كان المقصود معلومًا؛ لأن الناطف لا يتُخَّذ من البيض، بل منه ومن غيره، بل من غيره، ويُجْعَلُ البيض فيه، وقوله: "فأكل منه" هذا لا يكفي لحصول البِرِّ، بل ينبغي أن يأكله كلَّه. فُرُوعٌ: يتعلَّق بهذا النوع، نذكر مقصودها على الإِيجاز: الرُّطَب ليس بثمر والعنب ليس بزبيب، وعصير التمر ليس بتمر، وكذا دبسه والسمسم ليس بشيرج، وكذا العكوس، والرطب ليس ببسر ولا بلح، والبسر ليس برطب ولا بلح، والبسر أعظم من البلح. ولو حلف؛ لا يأكل الرطب، فأكل المنصف، نُظِرَ؛ إن كان النصف الذي أرطب حنث، وكذا لو كل الجميع، خلافًا للإِصطخريِّ، وأبي علي الطبرِّي -رحمهما الله- وإن أكل النصف الذي لم يرطب، لم يحنث. ولو حلف؛ لا يأكل البسر، فأكل المنصف، ففيه هذا التفصيل، والحكم على العكس. وان حلف؛ لا يأكل بسرة ولا رطبة، فأكل منصفة لم يحنث. ولو حلف؛ لا يأكل طعامًا؛ تناول اللفظ القوت والأدم والفاكهة والحلوى، وفي الدواء (¬1) وجهان: ولو حلف؛ لا يأكل قوتًا، حنث بأكل ما يقتات من الحبوب، ويحنث بأكل التمر والزبيب واللحم، إن كان ممن يقتاتها، وفي غيرهم وجهان. ولو حلف لا يأكل إدامًا، حنث بأكل ما يُؤتَدَمُ به، سواء كان مما يُصْطَبَغُ به؛ كالخل والدبس والشيرج والسمن والمربى، أو لا يُصْطبَغُ به؛ كاللحم والجبن والبقول والبصل والفجل والثمار. وفي التمر وجْه، والملح أيضًا أدم، وفيه وجه، وعند أبي حنيفة، لا يحنث إلا بما يُصْطَبَغُ به واسم الماء يتناول العذب والملح ومياه الآبار، والأنهار، وعن الشيخ أبي حامد: في ماء البحر احتمالان، والظاهر: التناول، ولو حلف؛ لا يشرب الماء، لا يحنث بأكل الجمد والثلج، ويحنث إذا شرب من مائيهما، ولو حلف لا يأكل الجمد والثلج، لم يحنث بشرب مائهما، والثلج ليس بجمد، وكذا العكس، ولو حلف؛ لا يأكل مما طبخه فلان، فالاعتبار بالإيقاد إلى الإِدراك، بوضع القِدْر في التنوُّر بعد التسجير، فإن أوقد فلانٌ النار تَحْت القِدْرِ حتى أدرك، أو وضع القِدْر في التَّنُّور، فأكل منه، حنث، سواء وجد نَصْب القدر وتقطيع اللحم وصب الماء عليه وجمع التوابل وتسجير التنور منه أو من غيره. ¬
ولو أوقد فلان تحته أو وضعها في التنور مع آخر، لم يحنث؛ لأنه لم ينفرد بالطبخ، وكذا لو أوقد هذا ساعةً وهذا ساعة، قال الإِمام -رحمه الله-: ولو جلس الحاذقُ بالطبخ على القرب، وكان يستخدم صَبِيًّا في الإيقاد ويستقل ويستكثر، فهذا فيه تردُّد؛ إذ يعزى الطبخ، والحالة هذه إلى الأستاذ، ولو قال: [لا] آكل مما خبزه فلان، فالاعتبار فيه بالإِلصاق بالتَّنُّور دون العجين وتسجير التَّنّور وتقطيع الرغفان وبسطها (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: النَّوْعُ الثَّالِثُ فِي العُقُودِ: فَإِذَا حَلَفَ عَلَى مَا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ لاَ يَحْنَثُ بِمَا مَلَكَهُ بِهِبَةٍ أَوْ رَجَعَ إِلَيهِ بِإقَالَةٍ أَوْ رَدّ بِعَيْبٍ أَوْ قِسْمَةٍ، وَمَا مَلَكَهُ بِالسَّلَم أَوِ الصُّلْحِ عَن الدَّيْنِ فَهُوَ كَالمُشْتَرَى، وَالمَأَخُوذُ بِالشُّفْعَةِ لَيْسَ بِمُشْتَرَى، وَلَوْ اشتَرَى زَيْدٌ وَعَمْرو فَأَكَلَ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الأَظْهَرِ، وَلَوْ خَلَطَ مَا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ بِمَا اشْتَرَاهُ عَمْرُو حَنِثَ إِذَا أَكَلَ مِنَ المُخْتَلِطِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في النوع مسائل: أحدها: إذا حلف؛ لا يأكل طعامًا اشتراه زيْدٌ، أو مِنْ طعام اشتراه زيدٌ، أو لا يلبسُ ثوبًا اشتراه زيد، لم يَحْنَثْ بما ملكه بهبةٍ، أو إرثٍ، أو وصيةٍ، أوَ رجَعَ إلَيْهِ بردِّ عيب، أو إقالةٍ، وإن جعلْنا الإِقالة بيعًا؛ لأنها لا تُسمَّى بيعًا في العُرْف والإِطْلاق، وكذا لا يحنث بما خلُص له بالقسمة مما كان بيْنَهُ وبين غيره، وإن جعلْنا القسمة بيعًا، ويحْنَثُ بما ملكه بالتولية والإشراك، وبما ملكه بالسَّلم؛ لأنها شراءٌ في الحقيقة والإِطْلاق يُقال: اشترى كذا في عقد التَّوْلِيَةِ، واشتراه سَلَمًا، وما صالح عليه زيدٌ، عن دَيْن، حكى الإِمام عن الصيدلانيِّ -رحمهما الله- أنه لا يحنثُ به، ورأى؛ أنه يحنث، وبه أجاب صاحبُ الكتاب -رحمه الله- والظَّاهر الأولُ؛ لما ذكرنا؛ أنه لا يُسمَّى شراءً في العُرف، وهو الذي أورده صاحب "التهذيب" و"التتمة" والرويانيُّ وغيرهم -رحمهم الله-. ولو قال: لا أدخل دارًا اشتراها زيْدٌ، فلا يحنث بالدار التي ملَكَ بعْضَها بالشُّفْعة، ¬
ولا يحْنَثُ بما اشتراه لزَيْدٍ وكيلُهُ، ويحْنَثُ بما اشتراه زيْدٌ لغيره، بوكالةٍ أو ولايةٍ، ولو اشتراه، ثم باعه من غيره، حَنِث؛ لأنه موصوفٌ بأنه اشتراه زيد؛ وكذا لو باع بعضه، فأكل منه الحالف، ولو أكل طعامًا اشتراه زيد وعمرو، لم يحنث؛ خلافًا لأبي حنيفة؛ وسلَّم أبو حنيفة أنه لو حلف؛ لا يلبس ما اشتراه زيد، فليس ثوبًا اشتراه زيْدٌ وعمرو؛ أنه لا يحنث. أو حلف؛ لا يأكل من قِدْرٍ طبخها زيد، فأكل من قِدْرٍ طبخها زيد وعمرو، هذا ظاهر المذْهَب، وفيه وجهان آخران: أحدهما: موافقة أبي حَنِيْفَةَ؛ لأنه ما مِنْ جزءٍ منه إلا، وقَدْ ورَدَ علَيْه شراءُ زيدٍ، وهذا ما اختاره القاضي أبو الطيب. والثاني: أنه إنْ أكل منه النصْفَ، فما دونه، لم يحْنَثْ، وإن أكل أكثر من الصف، حنث؛ لأنا نتحقق حيئنذٍ؛ أنه أكل مما اشتراه زيد. ولم يَفْرِقِ الأكثرون -رحمهم الله- بين أن يقول: لا آكل من طعامٍ اشتراهُ زيد، وبين أن يقول: طعامًا اشتراه زيْدٌ وخصَّص في "التهذيب" حكاية الوجْهِ بما إذا قَالَ: مِنْ طعامٍ اشتراه زيْدٌ وأطلق القول بعَدَمِ الحِنْث، فيما إذا قال: طعامًا اشتراه زيْدٌ، قال: إلا أنْ يريد ألاَّ يأكل طعامه، أو مِنْ طعامه، فيحنث بالمشترك، ولو اشترى زيد طعامًا وغيره طعامًا، وخلَطَ أحدهما بالآخر، فأكل الحالِفُ من المخلوط، ففيه وجوه: أحدها: عن الإِصطخرِّي: أنه إن أكل النصْفَ فما دونه، لم يحنث وإن أكَلَ أكثر من النصف، حَنِثَ، وهذا عند استواء القدْرَينِ؛ لأنا حينئذ نتَحقَّق؛ أنه أكل ما اشتراه زيد، ويشبه ذلك بما إذا خلطت تمرة، وحلف ألاَّ ياكلها بتَمْرٍ كبيرٍ، فإنه لا يَحْنَثُ ما أبقى تمرة؛ فإنْ أكل الجميع، حَنِث؛ لأنا نتحقق حينئذٍ؛ أنه أكل المحْلُوف عليه. وفي "الشَّامل" أن القاضي أبا الطيِّب اختار هذا الوجه. وثانيهما: وبه قال ابن أبي هريرة: أنه لا يَحْنَث، وإنْ أكل الجميع؛ لأنه لا يمكن الإِشَارَةُ إلى شيء منْه بأنه اشتراه زيد، فصار كما اشتراه زيْدٌ مع غيره. وأصحُّهما: وبه قال أبو إسحاق: أنه، إن أكل من المخلوط قليلاً، يمكن أن يكون ممَّا اشتراه الآخر، كالحبة، والحبتين من الحنطة والعشرة، والعشرين، لم يَحْنَثُ، وإن أكل قدرًا صالحًا، كالكف، والكفين، يحْنَث؛ لأنا نتحقَّق؛ أن فيه ما اشتراه زيد وإن لم يتعيَّن لنا. وقوله في الكتاب "حنث، إذا أكل المخلوط" يقع ظاهره على الجميع، وإذا أكل جميع المختلط، يحنث باتفاق الوجه الأول والثالث الأصح، وينبغي أن يُعْلَمَ بالواو
للوجه الثاني، ولفظ "الوسيط": "إذا أكل من المختلط"، فظاهره الحكم بالحنث، بأي قَدْرِ أَكَلَ من المختلط، وهذا يخالف الوجوه الثلاثة، وهو بعيدٌ في نفسه فيحسن أن يؤول فينزل على الوجْهِ الأصحِّ. فرع: عن نصِّه في "الأم": أنه لو قال: لا أسْكُنُ دَارًا لفلانِ، فسكن دارًا لغيره، فيها شرك قليل أو كثير، لا يحنث. فرع: في تعليقة إبراهيم المروزي: أنه لو حلف؛ لا يأكل طعام زيد، فأكل طعامًا مشتركًا بينه وبين غيره، حنث، وقد حكينا عن "التهذيب" في الفصل ما يوافقه قال: ولو حلف، لا يلبس ثوب فلان، أو لا يركب دابته، فليس ثوبًا مشتركًا، أو دابَّةً مشتركةً بينه وبين غيره، لا يحنث. وفرق بأنَّ في مسألة الطعامِ انعقدِ اليمينُ عَلَى ألاَّ يطعم طعامًا مملوكًا له، وقد يطعم طعامًا مملوكًا له، لكنه لم يلبس مملوكًا له، ولم يركب دابة مملوكةً له، وهذا ينزع إلَى مذهب أبي حنيفة، حيث، قال: إذا حلف، لا يأكل طعامًا اشتراه زيد، فأكل طعامًا اشتراه زيد وعمرو، لا يحنث، وإذا حلف، لا يلبس قميصًا اشتراه زيد، أو لا أسكن دارًا اشتراها، يحنث بما اشتراه مع غَيْرِهِ، وفرق بينهما، بأنَّ بعض القميص ليس بقَمِيصٍ، وبعض الدار ليس بدارٍ، ولم يَشْتَرِ زَيْدٌ جميعَ القميص والدار. واسْمُ الطعام يقع على القليل والكثير، ففي المأكُولِ طعامٌ اشتَرَاهُ زيْدٌ، وأما نحن: فإذا قلْنا: الطعامُ الذي اشتركَا في شرائِهِ ليس ولا بعْضُه المعيَّنَ مشْتَرَى زيْدٍ جاز أن يقول: الطعام المشترَكُ ليس ولا بعْضُه المعيَّنُ مالَ زيد، ولا يبعد التسويةُ بينهما. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: لاَ أَشْتَرِي وَلاَ أَتَزَوَّجُ فَوَكَّل وَعَقَدَ الوَكِيلُ لَمِ يَحْنَثُ (م و)، وَكَذَا لَوْ قَالَ الأَمِيرُ: لاَ أَضْرِبُ فَأَمَر الجَلاَّدَ، وَإِنْ تَوَكَّلَ فِي هَذِهِ العُقُودِ لَمْ يَحْنَثْ فِيمَا أَضَافَهُ إِلَى المُوَكِّلِ، وَفِيمَا نَوَى لِمُوَكِّلِهِ يَحْنَثُ عَلَى الأَظْهَرَ، وَلَوْ قَالَ: لاَ أُكَلِّمُ عَبْدًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ فَاشْتَرَى وَكِيلُ زَيْدٍ لَمْ يَحْنَثُ إِنْ كَلَّمَهُ، وَكَذَا فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا زَيْدٌ لاَ يَحْنَثُ إِذَا قَبِلَ وَكِيلُ زَيْدٍ، وَلَوْ قَالَ: لاَ أكُلِّمُ زَوْجَةَ زَيْدٍ حَنِثَ بِهَذَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المسألة الثانية: إذا حلف؛ لا يشتري أو لا يبيع فوكَّل غيره، حتى باع أو اشترى، أو حلف؛ لا يضرب عبْدَهُ، فأمر غيره حتى ضربه، أو حلف الأمير والقاضي، فأمر الجلاَّد، حتى ضرب؛ لم يحْنَثْ (¬1)؛ خلافًا لمالكٍ فيما رواه القاضي ابن كج، وعن الربيع: أنه يحْنَثُ، إن كان الحالفُ من لا يتولَّى البيع والشراء والضرب ¬
بنفسه، كالسلطان أو كان الفعل المحُلُوفُ علَيْه مما لا يَعْتَاد الحالفُ فعْلَهُ أو لا يجيءُ منه ذلك كالبناء، والتطيين إذا حلف عليهما، فأمر بهما غيره، واختلف الأصحاب، فمنهم من أثبت ما ذكره قولاً للشافعيِّ -رضي الله عنه- وبه قال أبو إسحاق، وقد يوجَّه بأنه المفهوم من قوْلنا: قتل السلطان فلانًا، وضرب فلانًا، ومنهم من امتنع منه وقال: إنَّه من عند الربيع. وبهذه الطريقة قال صاحب "التقريب" وظاهر المذهب الأول، وإن أثْبَتَ ما ذكره قولاً، ووجَّهُوه، بأنَّه حَلَفَ عَلى فعْلِ نفسه حقيقةً، فلا يحْنَثُ بغيره، ولا نظر إلى العادة؛ ألا ترى أن الأمير إذا حَلَف؛ لا يلبس، أو لا يأكل، فلبس أو أكل ما لا يعتاده. يَحْنَثُ؟ ولو حلف لا يزوِّج ابنته، أو لا يطلِّق، أو لا يعتق، فوكَّل، وعقد الوكيل، فالحكم كما في البيع والشراء، ولو فوض الطلاق إلَى زوجته، فطلقت نفسها، فهو كما لو وكَّل فيه أجنبيًا، حتى لا يحْنَثَ، على الظاهر، وفيه قول، إنه يحنث، وإن قلْنا في الصورة السابقة: إنه لا يحنث لأنه فوَّض الطلاق إلَى من لا يملكه، فكأنه هو المطلِّق، ولو قال: إنْ فعلْتِ كذا، أو إنْ شِئْتِ فأنتِ طالقٌ، ففعلَتْ أو شاءَتْ، حنِث؛ لأن الموجود مجرَّدُ الصفة، وهو الموقع. ولو حلف؛ لا ينْكَحُ، أو لا يتزوج، فوكَّل به، فقَبِلَ له الوكيلُ نكاحَ امرأة، فهل يحنث؟ نقل صاحب "التتمة" فيه وجهين: أحدهما: لا، كما في الييع والشراء؛ لأنه يصْدُق أن يُقَالَ: ما نكح فلان، إنَّما نكح له، أو قَبِلَ لَهُ النكاحَ، فلان، وهذا ما أورده الصَّيْدلانيُّ، وصاحب الكتاب. والثاني: أنه يحْنَثُ؛ لأن النكاح لا يتعلَّق بالوكيل، بل هو سفيرٌ محضٌ؛ ولذلك يشترط فيه تسميةُ الموكِّل، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب" ولو قَبِلَ لغيره، نِكَاحِ امرأة، فقضية الوجه الأول؛ أن يحنث وقضية الثاني ألا يحنث. وفيما إذا حلف، ألا يبيع ولا يشتري فتوكل عن غَيْره في البيع الشراء. حكى صاحب الكتاب وغيره -رحمهم الله- أنه إذا أضاف العقْدَ إلى الموكِّل، لم يحنث، لوإن اقتصر على النية، ولم يضف لفظًا، فوجهان: أظهرهما: الحِنْثُ. والثاني: عن تخريج القاضي الحُسَين: المنع؛ لانصراف العَقْد إلى غيره، ويوافق هذا أن جماعة من الأصحاب أطْلَقوا القول؛ بأنه لو توكَّل في البيع أو الشراء، يَحْنَثْ، ولم يُفَصِّلُوا، ويوضِّحه، ما ذكرنا وجْهًا؛ أن الحالف عَلَى ألاَّ ينكح، يَحْنَثْ، إذا قَبِلَ النكاحَ ولايةً عن غيره، مع أنه لا بدَّ هناك من الإِضافة إلى الموكِّل، ويشبه أن يرجح ما
أطلقوه، ويجاب به كما فَعَلْنَا في الفصل، قبل هذا الفَصْلِ. ولو قال: لا أكلِّم عبدًا اشتراه زَيْدٌ، لا يحنث يتكلُّم عبدٍ اشتراه له وكيلُهُ وبمثله أجاب في الكِتاب، فيما إذا قال: لا أكلِّم امرأة تزوَّجها زيْدٌ، فكلَّم امرأة قِبَلَ نكاحَها لزيدٍ وكيلُهُ، لكن هذا مبنى على جوابه فيما إذا قال: لا أتزوج، فَقبِلَ وكيلُه نكاحَ امرأةٍ له أنه لا يحنث، فإن قلْنا: يحنث فكذلك يحنث هاهنا. ولو قال: لا أكلم زوجةَ زيدٍ، حنث بتكلُّم التي نكحها بنفسه، والتي قَبِلَ نكاحَها وكيلُهُ بلا خلاف ولْيُعْلَمْ؛ لما بيَّنَّا قولُه في الصورة الأولَى من الكتاب "لم يحنث" بالميم والواو، لما حكَيْنا عن الربيع. وقوله "ولا أتزوج" بالواو وبالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة في النكاح والطلاق والضرب، يحنث، إذا أمر غيره ففَعَل، وساعدنا في البيع والشراء. قوله "وكذا لو قال الأمير" يُعلم بالواو. ويجوز أن يُعْلَمَ قوله "لم يحنث، فيما إذا أضافه" بالواو. وكذا قوله "وكذا في امرأة تزوجها". واعلم أن صور الفَصْل جميعًا مفروضةٌ فيما إذا أطلق، ولم يَنْوِ شيئًا، أما إذا نوى ألا يفعل، ولا يفعل بإذنه، أو لا يفعل، ولا يأمر به، حنث، إذا أمر به غيره، هكذا أطلقوه مع قولهم: إن اللفظ لفعْلِ نفسه حقيقةٌ، واستعماله في المعنَى الآخر يجوز، وذلك استعمال اللفظ في الحقيقة والمجاز جميعًا، وهو مستبعد عنْد أهل الأصول وأحسن من هذا أن يوجد معنًى مشتركٌ بين الحقيقة والمجاز، فيُقَالُ: إذا نوى ألا يسعى في تحقيق ذلك الفعْل، حنث بمباشرته، وبالأمر به؛ لشمول لمعنى وإرادة هذا المعنى إرادة المجاز وحده (¬1). فروع: إذا حلف لا يَحْلِقُ رأسه، فأمر غيره بحلقه، ففيه طريقان: أحدهما: أنه كما لو قال: لا أبيع، فأمر غيره بالبيع، ففيه الخلاف (¬2). والثاني: القطْعُ بأنه يحَّنث؛ لاطراد العُرْف في الحلف بذلك، ولو حلف لا يبيع ¬
من زيد، فباع من وكيله، أو وكَّل وكيلاً حتى باع من زيد، لا يحنث. ولو حلف، لا في بيع لزيد مالاً، فباع بإذنه، أو بإذْن الحاكم لحجر، أو امتناع حنث، وإن باع بغير إذنه، لم يحنث؛ لفساد العَقْد على ما سنذكر، فلو وكل زيدٌ وكيلاً ببيع ماله، وأذِنَ له في الوكيل، فوكَّل الوكيلَ الحالف فباعه، وهو لا يَعْلَم، فعن نصه -رضي الله عنه- في "الأم": أنه لا يحنث، وهو جوابٌ على أحد القولَيْن في حِنْثِ الناسِي. ولو حلَف؛ لا يبيع لي زيدٌ مالاً، فوكَّل الحالفُ رجلاً بالبيع وأذن له في التوكيل، فوكَّل الوكيل زيدًا حتى باعه، حَنِثَ الحالفُ سواءٌ علم زيد أم لم يعلم؛ لأن اليمين منعقدةٌ على نفي فعل زيد، وقد فعل زيدٌ باختياره، وزاد صاحب "التتمة" في الصورة السابقة، فقال: إن كان قد أذِنَ لوكيله أن يوكِّلَ عنه، حَنِثَ في يمينه؛ لأنه باع لزيَدِ؛ يعني إذا علم، أو إذا قلنا بأن الناسِيَ يَحْنَثُ، وإن كان قد أذِنَ له في التوكيلِ عن نَفْسِه، فباع، لا يَحْنَث؛ لأنه ما باع لزيد، وإنما باع لوكيله، وإن أطلق الإِذْنَ في التوكيل، فعلى الخلاف في أن مَنْ يوكِّلُه وكيلُ الوكيل، أو وكيلُ الموكِّل. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: لاَ أَبِيعُ الْخَمْرَ فَبَاعَ، أَوْ لاَ أَبِيعُ مَالَ امْرَأَتِي بَغَيْرِ إِذْنِهَا فَبَاعَ لَمْ يَحْنَثْ (ح وز م) لأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِبَيْعٍ حَقِيقَةً، وَالفَسادُ لَيْسَ بِعَقْدِ إلاَّ إِذَا حَلَفَ ألا يَحُجَّ يَحْنَثُ بِالفَاسِدِ لأَنَّهُ مْنَعْقِدٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المسألةُ الثالثةُ: إذا حلف، لا يبيع، فباع بيعًا فاسدًا، أو لا يهبُ، فوهب هبةً فاسدةً، لم يحنثْ، وبه قال أحمد، وتنزل ألفاظ العقود على الصحيح، وكذلك من أقربها يُؤخَذُ بموجَبِها، ولو تلفَّظ المتعاقدان بالإيجاب والقَبُولُ، ثم قال أحدهما: أردتُّ الفاسد، لم يُقْبَلْ، وعن أبي حنيفة ومالكٍ -رحمهما الله- فيما رواه بعض أصحاب أحمد، أنه يحنث بالصحيح والفاسد، هذا إذا أطلق اليمين، أما إذا أضافَ في اليَمِينِ لفْظَ العقد إلَى ما لا يقبله؛ بأن حَلَف، لا يبيع الخَمْر أو المستولدة، أو مالَ امرأتِي وغيرها بغَيْر إذن، ثم أتى بصورة البيع، فإن كان مقصودهُ ألا يتلفظ بِلَفْظِ العَقْد مضافًا إلَى ما ذكره، فلا يخفَى أنه يحنث، وإن أطلق، لم يحنث؛ لأن البيع عبارةٌ عن السبب المملك، وذلك لا يتُصَوَّر في الخَمْر، فتلْغُو إضافته إلَيْهَا. وكذا لو قال: لأبيعَنَّ الخمر، لا يَبُّر في صورة البيع، وذهب المزنيُّ إلى أنه يحنث؛ لأنه لما أضاف البيع إليها، وهي غيرُ قابلةٍ له، كان اللفظُ محمولاً عَلَى صورة البيع، وذكر الإِمام؛ أن صاحب "التقريب" حكَى وجهًا للأصحاب، كما ذكره المزنيُّ. وشبه مُشَبِّهون قوله إن بعتِ الخَمْرَ، فأنتِ طالقٌ، بقوله: إنْ صَعَدَتِّ السماءَ،
وذلك يقتضي مجيء الخلاف فيه، فيمكن أن يُعْلَمَ؛ لما بينا قوله في الكتاب "فلا يحنث" بالحاء والميم والزاي والواو. وقوله: "ليس بعقد" بالحاء والميم، وهذا في ألفاظ المعاملات، وسيأتي خلاف في أنه، هَلْ يُحْمَلُ لفظ العبادات على الصحيح كما إذا حلف، لا يصوم، ولا يصلي؟ ولا خلاف أنه إذا حلف، لا يحج، يحنث بالفاسد؛ لأنه منعقدٌ، يجب المضيُّ فيه كالصحيح. ومن صور ما نَحْنُ فيه ما إذا حَلَف؛ لا يبيع بيعًا فاسدًا، فلا يحنث، إذا باع بيعًا فاسدًا، ذكره أبو بكر الصيدلانيُّ، والرويانيُّ، وقال الإِمام: الوجْهُ عندنا بأنَّه يحْنَثُ بصورة البيع والشراء، وعن أبي حنيفة: إذا باع بيعًا فاسدًا، وأقبض، حَنِث عند الأقباض، وفي التزويج والتزوج سَلَّم أنه لا يَحْنَثُ بالفاسد، إذا حلَفَ لعقد في المستقبل، فأما إذا قال: ما تزوَّجْتُ أو ما زوَّجْتُ، وكان قد تزوَّج، أو زوَّج فاسدًا قال: يحْنث، ونحن نقيس الماضي على المستقبل. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: لا أَهَبُ مِنْهُ حَنِثَ بِالتَّصَدَّقَ عَلَيْهِ بِالرُّقْبَى وَالعُمْرَى، وَبِالوَقْفِ أَيْضًا إِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُهُ المَوْقُوفُ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: لا أَتَّصَدَّقُ لَمْ يَحْنَثْ بِالهِبَةِ، وَلَوْ قَالَ: لا مَالَ لِي حَنِثَ بِكُلِّ مَالٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَكَوِيًّا (ح)، وَيَحْنَثُ إنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مُعْسِرٍ مُؤَجَّلاً أَوْ مُعَجَّلاً، وَيَحْنَثُ إنْ كَانَ لَهُ عبد آبِقٌ أَوْ مُدَبِرٌ، وَفِي المُكَاتَبِ وَأُمِّ الوَلَدِ خِلاَفٌ، وَلا يَحْنَثُ إنْ كَانَ يَمْلِكُ مَنْفَعَةً دَارٍ بِالإِجَارَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذه البقيَّةُ تجمع صورًا. منها: إذا حلف، لا يهب، فيحنث بكلِّ تمليك في الحياة خالٍ عن العوض؛ كالصدقة، والعُمْرَى والرُّقْبَى؛ لأنها أنواعٌ خاصَّةٌ من الهبة، كما لو حلف، لا يشتري، يحنث بقبول التولية، والإِشراك، والسَّلَم، وحكى القاضي ابن كج وجْهًا ضعيفًا: أنه لا يحنث بها، وخصص في "التتمة" هذا الوجه بالصدقة ووجهه بأنَّ الهبة، والصدقة يختلفان اسمًا ومقصودًا وحكمًا. أما الاسم، فمَنْ تصدَّق على فقير، لا يُقَالُ: وهبَ منه، وأما المقصودُ بالصدقة التقرُّب إلى الله تعالَى، والهبةُ لاكتساب الموَدَّة. وأما الحُكْم، فلأنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يأكُلُ الصدقة، ويأكل الهدية والهبة (¬1) وأيضًا، ¬
فلو تصدَّق على ابنه، ففي الرجوع خلافٌ، وفي الهبة يرجع، ويُحْكَى هذا عن أبي حنيفة، واختار القاضي الحُسَيْنُ، ويُروَى عن أبي حنيفة أنه يحنث بالتصدُّق على الغَنِيِّ دون الفقير، هذا في صدقة التطوع، أما إذا أدَّى الزكاة، أو صدقةَ الفُطْر، لم يحْنَث، كما لو قضى دينًا، وعن القفَّال مع هذا الجواب، جواب آخر، لا يحنث بالإِعارة إذ لا تمليك فيها، وعن مالك، أنه يحنث، ولا بالوصية؛ لأنه تمليكٌ بعد الموت، والميِّت لا يَحْنَث. وعن أبي الحُسَيْن بن القَطَّان؛ أنه لا يحنث بالوصية، ولا بالضيافة؛ لأنه لا تمليكَ فيها على الصحيح، قال في "التتمة": وفيها وجهٌ بعيدٌ، بناءً على أنه يملك الضيف الطعامَ الذي يأكله، ولا بالوقف، إن قلْنا: الملْكُ فيه للواقفِ، أو لله تعالَى، وهو الصحيح، فإن قلنا: للموقوف عليه، فيحنث. وأشير إلَى خلاف فيه، وإن قال الحالف لرجل: وَهَبْتُ منك كذا، فلم يَقْبَلْ، لم يحنث؛ لأن العَقْدَ، لم يتمَّ، ولم يصحَّ وعن ابن سُرَيْج: أنه يحنث، وبه قال أبو حنيفة، لأنه يُقال: وهَبَ من فلانٍ، فلم يَقْبَل ويخرَّج على هذا الخلافِ ما إذا أعمر الحالفُ، أو أرقب ولم نصحح العقدين، ولو تَمَّ الإِيجاب والقبول، لكنه لم يقبض، فوجهان: أظهرهما: عند المتولِّي أنه يحْنَثُ، لأنَّ الهبة قد تحقَّقت، والمتخلِّف الملْكُ وعند صاحب "التهذيب" أنه لا يَحْنَث؛ لأن مقصود الهبة لم يحْصُل (¬1). ولو حلف لا يتصدق فتصدَّق فرضًا أو تطوعًا، حَنِثَ، لشمول الاسم القسمين جميعًا، ولا فرق بين أن يتصدق على غنيٍّ أو فقيرٍ، خلافًا لأبي حنيفة في الغَنِيِّ، وذكر في "التَّتِمَّة": أنه لو دفع إلى ذِمِّيِّ، لا يحنث؛ لأنه لا قُربَة فيه، وهذا ممنوعٌ، كما في عكسه. وأصحُّهما: المنع، وهو المذكور في الكتاب، والهبة مع الصدقةِ لا يتداخلان تداخُلَ العمُومُ والخصوص، وكلُّ صدقيةٍ هبةٌ، ولا ينعكس، ولو وقف، ففي "التتمة" إطلاقُ القول، بأنه يحنث؛ لأن الوقف صدقةٌ، وبناه غيره على الأقوال في أن المِلْكِ لمن؟ إن قلْنا للواقف لم يحْنَثْ وإن قلْنا: لله تعالى، حَنِثَ، وإن قلنا: للموقوف عليه، ففيه وجهان، كما في الهبة. ولو حلف، لا يَبَرُّ فلانًا، تناولَتِ اليمينُ جميع التبرُّعات من الهبة، والهدية، والإِعارة، والضيافة والوقف وصدقة التطوع، يحنث بأيِّهَا وجَدَ ولو كان المحلوفُ عليَه عَبْدَهُ، فأعتقه حنث، وكذا لو كان عليه دَيْن، فأبرأه، ولا يحنث بأن يدفع إليه الصدقة المفروضة، ولو حلف لا يعتق عبدًا فكاتب عبدًا، وعتَقَ بأداء النجوم، فعن أبي الحُسَيْن، أنه لا يحنث. ¬
ولو حلف، لا يضمن لفلان مالاً، فتكفل ببدن مديونه، لم يحنث، خلافًا لأحمد -رحمه الله- بناءً على أنه إذا تعذَّر عليه تسليمهُ، ضمن المال. ومنها: لو حلف، لا مال لي، حَنِث بأيِّ مال كان له، حتى ثيابِ بدنه ودارِهِ الَّتي يسْكُنُها، وعبدِهِ، الذي يَخْدُمه، ولا يختصُّ بنوع من المال إلا أن ينويه، وعند أبي حنيفة: لا يحنث إلا بالأموال الزكاتية، ومطلقُ المال محمولٌ عليها، ولو كان له دينٌ حالَ على مليء حنث؛ لأنه متى شاء أخذه، فهو كوديعةٍ له عند إنسان، قال في "التتمة": خُرِّج فيه وجْهٌ من قوله القديم، أنه لا زكاة في الدَّيْن، وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله- وجهٌ بأنه ليس بمالٍ في الحقيقة، وإنما له التمكُّن من تحصيل مالٍ، والمذهبُ الأول، وإنْ كان مؤجلاً، فوجهان: أحدهما: ويُنْسَبُ إلى ابْن أبي هريرة: أنه لا يحنث؛ لأنه ليس بشيْء حاصلٍ، ولا بمتيسَّر التحصيل. وأصحُّهما: وينسب إلى أبي إسحاق: أنه يَحْنَثُ؛ لأنَّه مستحقٌّ يملك التصرف فيه بالإِبراء، والحوالةِ، إذا كان مَنْ عليه مليًا فإن كان معسرًا، ففيه وجهان: أقواهما: وهو المذكور في الكتاب: أنه يحْنَثُ، كما في المُوسِر، لثبوت المال في ذمَّته. والثاني: المنع؛ لأنه لا وصولَ إلَيْه، ولا منفعةَ فيه، وهذا ما رجَّحه في "التتمة" وأجرى الوجْهان في الدَّيْن على الجاحد، وفي "تعليقة" إبراهيم المروزيِّ، أنه، إنْ كانت له بيِّنةٌ، حنث، وإلا، فلا، وفي العبد الآبِقِ، والمالِ الضَّالِ، والمغصوبِ، والمسروقِ، والمنقطع خبرُهُما وجهان: أحدهما: يحنث؛ لبقاء المِلْكِ فيها، وبهذا أجاب في الكتاب في الآبِقِ. والثاني: المنع؛ لأن بقاءها غير معلوم، ولا يحْنَثُ بالشكِّ. ولو كان الغاصِبُ حاضرًا، والمالكُ قادرًا على الانتزاع منه، أو عَلَى بيعه ممَّنْ يقَدْرُ على الانتزاع فيحنث قال في "التتمة" ولو كان له عَبْدٌ مُدَبَّرٌ، حَنِثٌ؛ لأنه يملكه، وكذا المُعَلَّق، عِتْقُهُ بصفةٍ، والمالُ الذي أوصى به لغيره، فإنه يُعَدُّ على ملكه. وفي العبد المكاتِبَ وجهان، ويُقال: قولان: أحدهما: يحنث، لِمَا رُوُيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "المُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمُ" (¬1). ¬
وأصحُّهما: المنع؛ لأنه كالخارج عن ملكه، بدليل أنه لا يملك منافِعَه، وأرْشُ الجناية عليه، وقد بني الخلافُ على الخَلاف فيما إذا قال: مماليكي أحرارٌ، هل يدْخُلُ المكاتَبُ فيه؟ وفي "البيان" طريقةٌ قاطعةٌ: بأنه لا يَحْنَثُ بالمكاتب، وذُكِر في الحِنْث بأمِّ الولد وجهان أيضًا. والأصحُّ: الحِنْث؛ لأن رقبتها مملوكة، ولسيِّدها منافِعُها، وأَرْشُ الجنايةِ عَلْيها، ولو كان يَمْلِكُ منفعةً بوصية، أو إجارةٍ، فهلْ يَحْنَثُ؟ فيه وجهان: أظهرهما: وهو المذكور في الكتاب: أنه يحْنَث؛ لأن المفهوم من لَفْظ المالِ عند الإِطْلاقَ الأعيان، ولا يحنث بالموقوف عَلَيْه، إنْ قلنا: الملْك في الوقْف لله تعالَى، أو يبقى للواقف. وإن جعلناه للموقوف عليه، ففيه وجهان، كما في المستولدة، ولو كان قد جنَى عليه خطأ، أو عمْدًا أو عفا على مال، فيحنث، وإن كانتِ الجنايةُ عمدًا، ولم يقتص، ولم يَعْفُ، قال في "البيان" يُحتمل أن يُبْنَى عَلَى أن موجب العَمْدِ، ماذا؟ إن قلْنا: القَوَدُ، لم يحنث، وإن قلنا: القود، أو المالُ، حَنِثَ. وقد يُتوَقَّفُ في هذا (¬1). وكون المال مرهونًا لا يمنع الحِنْث، وكذا عدم استقرار المِلْك، وعن أبي الحُسَيْن: أنه لا حِنْثَ بالأجرة المأخوذة، إذا لم تنتقض مدة الإِجَارة. لاحتمال أن يطرأ ما يوجِبُ فسخ العقد، وردَّ الأجرة، وغلَّطه القاضي ابن كج فيه، ولو حلَف؛ لا مِلْكَ لَهُ حَنِثَ بالعَبْد الآبق، والمغْصُوب وبأم الوَلَدِ، وبالوقْف، إن قلْنا: يملكه بالمنفعة المستَحَقَّة وبالدَّيْن، وقياسُ ما سبق مجيءُ الخلاف في الآبِقِ والمَغْصُوبُ وإن كان في نكاحِ الحالفِ امرأةٌ، ففي "التتمة": أن الحِنْثَ يُبْنَى على أن النكاح، هل فيه ملك أم هو عِقْدُ حِلٍّ؟ فإن قلْنا: فيه ملْكٌ، حَنِثَ (¬2). قَالَ الغَزَالِيُّ: النَّوْعُ الرَّابعُ فِي الإِضَافَاتِ وَالصِّفَاتِ: وَلَوْ حَلَفَ لا يَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ لَمْ يَحْنَثْ بِدُخُولِ مَسْكَنِهِ الَّذِي لا يَمْلِكُهُ، وَيَحْنَثُ بِدُخُولِ دَارِهِ الَّذِي لا يَسْكُنُ، وَمُطْلَقُ الإِضَافَةِ لِلِمَلْكِ، وَلَوْ حَلَفَ لاَ يَدْخُلُ مَسْكِنَهُ حَنِثَ بِدُخُولِ مَسْكَنِهِ المُسْتَعَارِ وَالمُسْتَأْجَرِ، ¬
وَفِي المَغْصُوبِ وَجْهَانِ، وَفِي مِلْكِهِ الَّذِي لا يَسْكُنُهُ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ، وَفِي الثَّالِثِ يَحْنَثُ إِنْ كَانَ قَدْ سَكَنَهُ يَوْمًا وَإِلاَّ فَلاَ، وَلَوْ قَالَ: لاَ أَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ هَذِهِ فَبَاعَهَا زَيْدٌ ثُمَّ دَخَلَ حَنِثَ تَغْلِيبًا لِلإِشَارَةِ، وَلَوْ قَالَ: لاَ آكُلُ لَحْمَ هَذِهِ البَقَرَةِ وَأَشَارَ إِلَى سَخْلَةٍ حَنِثَ بِلَحْمِهَا تَغْلِيبًا للإِشَارَةَ، وَلَوْ قَالَ: لا أَدْخُلُ هَذَا البَابَ فَحَوَّلَ الْبَابَ إِلَى مَنْفَذٍ آخَرَ فَثَلاثَةُ أَوْجُهٍ، في وَجْهٍ لا يَحْنَثُ بِدُخُولِ وَاحِدٍ مِنَ المَنْفَذَيْنِ حَتَّى يَجْتَمِعَ البَابُ وَالمَنْفَذُ المُشَارُ إِلَيهِ، وَفِي وَجْهٍ يَحْنَثُ بِالْمَنْفَذِ الأَوَّلِ، وَفِي وَجْهٍ يَحْنَثُ بِالبَابِ المَنْفُوذِ، وَلَوْ قَالَ: لا أَدْخُلُ بَابَ هَذِهِ الدَّارِ وَلَمْ يُعَيَّنِ البَابَ فَفَتِحَ بَابٌ جَدِيدٌ فَفِي حِنْثِهِ بِدُخُولِ البَابِ الجَدِيدِ وَجْهَانِ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى الدُّخُولِ فَنَزَلَ إِلَى الدَّارِ مِنَ السَّطْحِ فَفِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صورٌ: إحداها: حلف، ألا يدخل دار زيد، أو بيته، أو لا يَلْبَسُ ثوبه، أو لا يَرْكَبُ دابته، قال الأصحاب -رحمهم الله- مطلق الإضافة إلَى من يملك بمقتضى الملك؛ ألا ترى أنه إذا قال: هذه الدارُ لزَيْدٍ، كان إقرارًا لَه بالمِلْك؟ حتى لو قَالَ: أردت بذلك أنَّها مسكنه، لا يُقْبَلُ منه. وقول الشاهِدَيْنِ: هذه الدارُ لزَيْدِ شهادةٌ له بالملك، وقد تُضَافُ الدار والبيتُ إلى الإنْسَان بجهةِ أنه يسْكُنُها لكنَّه مجازٌ؛ ألا ترى أنه يصح نفْيُ الإضافة مع إثبات السُكْنَى؛ بأن يقال: هذه الدار لَيْسَتْ لفلان، لكنه يسْكُنها، أو يُسْأَلُ؛ أَهذه الدار لفلانٍ؟ فَيُقَالُ: لا، لكنه يسْكُنُها، إذا عُرِفَ ذلك، فلا يحنث الحالفُ بدخول الدار التي يسكنُها فلان بإجارة، أو إعارةٍ، أو غصبٍ؛ إلا أن يقول: أردتُّ المسكن، وعن أبي حنيفة -رحمه الله- ومالك وأحمد أنه يَحْنَثُ بدخول الدارِ الَّتي يسكنها بكراءٍ، أو إعارةٍ والدار التي يملكها، فلان يحنث الحالف بدخولها، وإنْ كان لا يَسْكُنُها فلانٌ، إلا أن يقول: أردت مسكنه، ووافق أبو حنيفة على الحِنْثِ هاهنا، وعن القاضي الحُسَيْن: أنه، إن حلف عَلَى ذلك بالفارسية، حُمِلَ على المِسْكَن، ولا يكاد يظهر فرق في ذلك بين الفارسية والعربية، ولو حلف؛ لا يدخل مسْكَنَ فلانٍ، فيحنث بدخول مسكنه المملوكِ، والمستعارِ، والمستأجرِ. وفي المغصوب وجهان (¬1): أحدهما: لا يحنث؛ لأنه لا يسكنه، حكَى الإِمامُ فيه ثلاثة أوجه: ¬
أحدها: يحْنَثُ؛ لأنه المستحِقُّ لسكناه. وأصحُّها: وبه أجاب الصيدلانيُّ: المنع؛ لأنه لَيْسَ يسكنه حقيقةً. وثالثها: أنه، إنْ سكنه يومًا، أو ساعةً، حنِثَ؛ لأنه اتخذه سكنًا، وهو على استحقاقه، وإلا، فلا، فإن أراد بيمينه مسكنه المملوك، لم يحْنَثْ بغيره بحالٍ. فُرُوعٌ: لو حلف، لا يدخل دار زَيْدِ، وقد وقف زيدٌ دارًا على إنسان، قال في "التتمة": إن قلْنا: إن المِلكَ في الوقْفِ يبقى للواقِفِ، يحنث الحالف بدخولها، وإلا فلا، ولو دخل دارًا، وقفت عليه، فإن قلْنا: إن الملك في الوْقف (¬1) للموقوف علَيْهِ، حنث، وإلا، فلا، ولو دخل دارًا لمكاتب زيد؛ لم يَحْنَثْ؛ لخروج المكاتَب وأكسابه عن حكم الملك، ولو حلف، لا يدخل دارًا لمكاتَبِ، حنِث بدخول دارِه، لأنه مالِكٌ نافذُ التَّصرُّف، وفيه وجه آخر. الثانية: إذا حلف؛ لا يدخل دار زيدٍ، فباعها زيْدٌ، ثم دخَلَها الحالِفُ، لم يحنث؛ لأنه لم يدْخُلْ دار زيْدٍ، وكذا، لو قال: لا أُكلِّمُ عبد فلانِ، أو أجيره، أو زوجته، وكَلَّم بعدما زال ملْكُه عن العبد، أو انْقَضَتْ مُدَّةُ الإِجارةِ، أو انقطَعَ النِّكَاحُ، أو قَالَ: لا أكلِّمُ سَيِّد هذا العبد، أو زوج هذه المرأة، فكلم بعد زوال المِلْك، وانقطاع النكاح. ولو اشترَى زيدٌ بعْدما باع داره دارًا أخرَى، قال الصيدلانيُّ: إنْ قال: أردتُّ الأُولَى بعَيْنها، لم يحْنَثْ بدخول الثانية وإن قال: أردتُّ أيَّ دار تكونُ في مِلْكِهِ، حنث بالثانية، ولم يحنث بالأولَى، وإن قال: أردتُّ أنَّ دار جرَى عليها ملْكُه، حنث بأيَّتِهَا كانت، هذا إذا قال: دارَ زَيْدٍ، ولم يعيِّن، أما إذا قال: لا أدخل دار زيد، هذه، فباعها زيد، ثم دخلَهَا، حنث؛ لأنه عقد اليمين عَلَى عين تلك الدار ووَصفْها بإضافة تطرأ وتزول، فيغلب التعْيِينُ على الإِضَافَة. وعند أبي حنيفة: لا يحنث، وهو وجه للأصْحَاب -رحمهم الله- لأن الإضافة المذكورة لم تَنْضَمَّ إلى العَيْن، والظاهر الأول، وسلم أبوَ حنيفة؛ أنه لو قال: لا أكلِّم زوجةَ فلان هذه، فكلَّمها بعد الطلاق، أنه يحنث، رَوَى بعض أصحابنا موافقته، فيما إذا قال: لا أكلِّم عبْدَ فلانِ هذا، فكلمه بعْد ما باعه، على الحنث، وإلا ثبت عنه خلافه، كما ذُكِرَ في مسألة الدار، واحْتَجَّ لتغليب التَّعْيين والإشارةِ؛ على الوصْفِ والإضافة بأنَّه لو قال: لا آكُلُ لحم هذه البقرة، وأَشَارَ إلَى سخلة، يحنث بأكْلِ لحمها، ولذَلك أورد الصُّورة في الكتاب هاهنا ولا يجيءْ فيها الخلافُ المذكورُ، فيما إذا قال: ¬
بعْتُ هذه البقرة، وهي سخْلَةٌ: لأن العقُودَ يُرْعَى فيها شرائطُ وتعبداتٌ لا يعتبر مثلها في الأيمان. ولو حَلَف؛ لا يكلم زيدًا هذا، فبدَّلَ اسْمه، واشتهر بالاسم المُبَدَّلِ، ثم كلَّمه، حنث؛ اعتبارًا بالتعيين. الثالثة: إذا حلف، لا يدخل هذه الدار، من هذا الباب، فدخَلَها، وذلك الموضِعُ بحاله، من موضع آخر قديم أو محْدَثٍ، لم يحْنَثْ وإن قلع الباب وحَوَّل إلَى منفذ آخر في تلْك الدار، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن اليمين يُجْعَلُ على المَنْفَذِ، والباب الخشبيِّ جميعًا؛ لأن الإِشارةَ وَقَعَتْ إلَيهما جميعًا، فلا يحنث بدخول منفَذٍ آخَرَ إن نصب علَيْه الباب، ولا بدخول ذلك المنفذ، إذا لم يبقَ علَيْه الباب. وأصحُّهما: حمْلُ اليمينِ على ذلك المنفذ؛ لأنه المحتاجُ إلَيْه في الدخول، دُون البَاب المنْصُوب عليه، فإن دَخَل مِنْ ذلك المَنْفَذ، حنث، وإن دَخَل من المَنْفَذِ المحوَّل إليه، لم يحْنَثْ. والثالث: أنَّها تُحْمَلُ على البَابِ المتخذ من الخَشَب ونحوه؛ لأن اللَّفْظ له حقيقةٌ، فيحنث بدخول المَنْفَذِ المحوَّل إليه، ولا يَحْنَث بالأوَّل. هذا عند الإِطلاق، أمَّا إذا قال: أردت بعض هذه المحامل، حُمِلَتِ اليمين عليه، وارتفع الخلافُ، ولو قلع الباب، ولم يحوّل إلَى موضع آخر، فهل يحْنَثُ بدخولِ ذَلِكَ المَنْفَذِ؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم، ويُعْبَرُ عن الخلافِ بأنَّ الاعتبار بالمَنْفَذِ، أو الباب المنصوب عليه، وفي "التتمة" بنى عليه، أنه لو قال: لا أدخل هذا البَابَ، وقلنا: ينعقد اليمينُ عَلَى البابِ المَنْصُوبِ عَلَى المنفذ، فلو نقل البابُ إلَى دار أُخَرى، فدخلها منْه، يَحْنَثُ. والظاهر: خلافُه، إلا أنْ يريد الحَالِفُ أنه لا يدْخُلُ منه، حيث نُصِبَ، ولو قال: لا أدخل بابَ هذه الدَّار، ولا أدخل هذه الدار مِنْ بابها، فَفُتِحَ لها بابٌ جديدٌ، فدخلها منه، ففيه وجهان: أحدهما: وبه قال ابن أبي هُرَيرة: لا يحنث؛ لأن اليمين انعقدَتْ علَى الباب الموجُودِ حِينَئِذٍ، فَصَارَ كمَا لَوْ حلَف لا يدْخُل دَارَ زيْدٍ، فباعها زيْدٌ ثم دخَلَها. وأظهرهما: وبه قال أبو إسحاق أنه يحنث، لأنَّه عقد اليمين عَلَى بَابِها، وهذا المفتوحُ بابها، ولا يُشترَط؛ لما تناوله اللفظ أن يكون موجودًا عند اليمين؛ ألا ترَى أنه إذا قال: لا أدخُلُ دارَ زيدٍ، فدخل دارًا ملَكَها بعْدَ اليمينِ، يحْنَثُ، ولو قال: لا أدخُلُ هذه الدارِ مِنْ بابها، فتسلق، وَنَزَلَ من السَطْح لم يحنث، وإن اقتصر على قوله: "لا
أدْخُلُ هذه الدار" (¬1) ففيه وجهان والظاهر، الحِنْث، وقد تقدَّم ذكرهما. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ حَلَفَ لا يَرْكَبُ دَابَّةَ العَبْدِ لَمْ يَحْنَث إِلاَّ بِمَا يَمْلِكُهُ بَعْدَ العِتْقِ إلاَّ إِذَا قُلْنَا: إِنَّه يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ، وَلَوْ حَلَفَ لا يَرْكَبُ سَرْجَ دَابَّةٍ حَنِثَ بِمَا هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهَا بِخِلافِ العَبْدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الحالفُ عَلَى دابَّةِ عبدِ فلانٍ، ودارِهِ، لا يحنث بالدابَّة والدار المجعُولَيْنِ باسم العبد؛ إلاَّ أن يريده؛ لأن الإضافة للمِلْك، ولا مِلْكَ للعبد، وقال أبو حنيفة: يحنث بالإِضافة العرفية، فإن ملكَّهَ السَّيِّدُ دابة أو دارًا، بَنَى على أنَّه هلْ يملك؟ إنْ قلنا: نعم، حَنِثَ، وإلا، فلا، هكذا قاله الجمهور. وقال القاضي ابن كج: لا يَحْنَث، وإنْ قلنا: إنَّه يَمْلِك؛ لأنَّ ملكه ناقصٌ، والسيد متمكِّنٌ من منعه من التصرُّف، وكأنه بينه وبين سيده. وصار كما لو حلف؛ لا يركَبُ دابَّة فلان، فركب دابَّةً مشتركةً بينه وبين غيره والحالفُ عَلَى دابَّة زيْدٍ، لا يحْنَثُ بما ملَّك زيدٌ عبْدَهُ (¬2) إن قلْنا: إنه لا يملك لم يحنث وإن قلنا: يملك، حنث؛ خلافًا لأبي حنيفة، وقوله في الكتاب "إلا بما يَمْلِكُهُ بعد العتق"، يريد به أنَّه إذا أعتق، وملك دابة، فركبها الحالف، يحنث. وفي كتاب القاضي ابن كج: أنه إذا أطْلَقَ ولايته له لم يحنث في هذه الصورة؛ لأنَّه لم يَرْكَبْ دابَّة العَبْدِ، وإنَّمَا ركبَ دابَّة حُرٍّ وينبَغِي أن يُقَالَ: إنَّ قال: لا أرْكَبُ دابَّةَ هذا، ولم يزيد عليه، فيحنث في هذه الصُّورة، وإن قال: لا أَرْكَبُ دابَّة عَبْدٍ، فلا يحنث، وإنْ قال: لا أركَب دابَّةَ هذا العبدْ، فليكنْ على الخلاف فيما إذا حَلَف؛ لا يكلم هذا العبد، فَعَتَقَ ثم كلمه، وسيأتي ذلك. ولفظ الكتاب حيث قال "لا أركب دابة العبد" إلى هذا التصوير الثالثِ أقربُ وإلا فلا يحْسُن إدْخَال الألف واللام، وحينئذٍ فيجوز أن يُعْلَمَ قوله "إلا بما يملكه بعد العِتْق" بالواو، ويجوز أن يعلم أيضًا قوله: "إلا إذا قلنا: إنَّه يملك" لما حكينا عن القاضي ابن كج. ولو قال: لا أركب سرج هذه الدابة، فركب السَّرْجَ المعروف بها، حنث وإن كان على دابَّة أخرَى، وإنما كان كذلك؛ لأَنَّ الإضافة هاهنا لا تكون للتعريف إذ المِلْكُ غيْرُ متوقَّع، ويقْرُب من هذا ما إذا حلَفَ علَى سوق، أو خانٍ كان منسوبِ لخانِ القابِضِ كخان أبي يعلى عندنا فيُحْمَلُ علَى التَّعْرِيفِ. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: لا أَلْبَسُ مَا مَنَّ بِهِ فُلانٌ عَلَيَّ أَوْ مَا غَزَلَتْ فُلانَةٌ يُحْمَلُ عَلَى المَوْهُوب وَالمَغْزُولِ فِي المَاضِي، وَلَوْ قَالَ لا أَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا حُمِلَ عَلَى المَاضِي وَالمُسْتَقْبَلِ، وَلَوْ لَبِسَ مَا خِيطَ بِغَزْلِهَا لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَبِسَ مَا سُدَاهُ مِنْ غَزْلِهَا دُونَ اللُّحْمَةِ لَمْ يَحْنَثْ إِذَا ذَكَرَ الثَّوْبَ فِي اليَمِينِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال لا ألبس ما مَنَّ به عليَّ فلان، أو ثوبًا مَنَّ به عليَّ، فلبس مما وهبه منه، أو أوصَى له به، حَنِثَ، ولو باع منه ثوبًا بمحاباة، فلبسه، لم يحنث، ووُجِّهَ بأن المنة في حظِّ الثمن لا بالثوب، وكذا لو باع منه ثوبًا، ثم أبرأه عن الثمن، ولو أبدل الثوب الموهوب، أو المُوصَى به بغيره، أو باعه أو اشترى بثمنه ثوبًا آخر، فلبسه، لم يحنث، خلافُ المالك -رحمه الله- لأن الأيمان تُبْنَى على الألفاظ، لا على القصود التي يحتملها اللفظ؛ ولذلك نقول: إذا منَّ عليه رجلٌ، فحلف؛ لا يشرب له ماءً من عطش، لا يحنث بأكل طعامه، ولُبْسِ ثيابه، وشرب الماء من غير عطش؛ لأن اللفظة تحتملها. وإن كان يقصد في مثل هذا المَوْضِع الامتناعَ منْهَا جميعًا، ولو قال، لا ألبس من غزل فلانة، أو ثوبًا من غزلها، فلبس ثوبًا خِيطَ بغزلها، لم يَحْنَثْ؛ إذْ لا يُوصَفِ، الخَيْطُ بأنه ملبوسٌ ولو لَبسَ ثوبًا سُدَاه من غزلها، واللُّحْمَةُ من غيره، فإن كان قد قال: لا ألبس ثوبًا من غزلها، لم يحنث؛ لأنه ليس من غزلها، بل منه ومن غيره، وإن اقتصر على قوله: لا ألبس من غزلها، فيحنث، وإلى هذا أشار في الكتاب بقوله: "يحنث، إذا ذَكَرَ الثوْبَ في اليَمِينِ". ثم يرعى قضية اللفظ في الصورتين ونظائرهما في التناول للماضي والمستقبل أو أحدهما، فإذا قال: لا ألبسَ ما مُنَّ به عليَّ؛ فإنما يحنث بلبس ما مضت المنة به؛ بالهبة وغيرها، ولا يحنث بما منَّ به من بعد، ولو قال: لا ألبس ما غزلته فلانةٌ، فإنما يحنث بما غزلته منْ قبلُ دون ما تَغْزِلُه مِنْ بعدُ، وترجمته بالفارسية (أزرشته تودر نيوشم) (¬1) هكذا ذكر إبراهيم المروزيُّ -رحمه الله- لكن هذه اللفظة قد تجعل ترجمة قوله "مِنْ غزل فلانة" واْوضح منه (آزآنج تورشتى اى بارشتى درنيوشم) (¬2) ولو قال: لا ألبس ما يَمُنُّ عليَّ به فلانٌ، فلا يحنث بما وهبه من قبل، إنما يحنث بما وهبه من بعد، ولو قال: مما تغزله فلانة، يحنث بما تغزله بعد اليمين دون ما غزلت قبلها وترجمته (آزآنج تورشتى درنيوشم) (¬3). ¬
ولو قال: لا ألبس من غزلها، فهذا يدخل فيه الماضي والمستقبل، وترجمته فيما ذكر المروزيُّ (أزرشت تود نيوشم) (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: لا أَلْبَسُ ثَوْبًا فَارْتَدَى بِقَمِيصٍ أَوِ اتْزَرَ حَنِثَ، وَلَوْ فَرَشَ وَرَقَدَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ تَدَثَّرَ فَفِيهِ نَظَرٌ، وَلَوْ قَالَ: لا أَلْبَسُ قَمِيصًا فَارْتَدَى بِقَمِيصٍ فَوَجْهَانِ، وَلَوْ فَتَقَهُ وَاتَّزَرَ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ قَالَ: هَذَ القَمِيصَ ثُمَّ اتَّزَرَ بِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَأَوْلَى بِأَنْ يَحْنَثَ، وَيَجْرَيانِ فِيمَا لَوْ فَتقَهُ تَغْلِيبًا للإِشَارَةِ، وَلَو قَالَ: لا آكُل لَحْمَ هَذِهِ السَّخْلَةِ فَكبِرَتْ، أَوْ لا أُكَلِّمُ هَذَا العَبْدَ فَعَتِقَ، أَوْ هذَا الرُّطَبَ فَتَتَمَّرَ، أَوْ هذِهِ الحِنْطَةَ فَطُحِنَتْ فَفِيهَا وَجهَانِ لِتَقَابُلِ الإِشَارَةِ وَالصِّفَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا حَلَف؛ لا يلبس ثوبًا، حَنِثَ بلُبْس الرداء والإِزار والقميص والسراويل والجبة والقباء ونحوها، ولا فرق بين المَخِيطِ وغيره، ولا بين أن يكون من القطن أو الكتان أو الصوف أو الإِبريسم، ولا بين أن يلبس الثوب على الهيئة المعتادة، أو على خلاف تلك الهيئة، كما لو ارتدى أو اتَّزَرَ بالقميص، أو تعمم بالسراويل؛ لتحقَّق اسم اللبس والثوب. ولا يَحْنَثُ بلبس الجلود وما يتخذ منها، ولا بلبس العلي والقلنسوة؛ لأن لابسها غير لابس للثوب، ولا يحنث بوضع الثوب على الرأْس، ولا بأن يفرشه ويرقد عليه، فإن ذلك ليس بلبس، ولو تَدَثَّرَ به، قال في الكتاب: فيه نظر، وأراد به تردّد وجه أحد الوجهين؛ أنه يحنث؛ لأن التلفف في الدثار قريبٌ من الارتداء. وأظهرهما: المنع، فإنه لا يُسَمَّى لبسًا (¬2)، ولو حلف؛ لا يلبس حليًا، حَنِثَ ¬
بالسوار والخلخال والطوق والدملج (¬1) وخاتم الذهب والفضة، دون المُتَّخَذِ من الشبه (¬2) والحديد، خلافًا لأبي حنيفة في الخاتم. وبالمخنقة من اللؤلؤ والجواهر، وإن لم يكن فيها ذهب، خلافًا لأبي حنيفة، ولا يحنث بتقلُّد السيف المُحَلَّى؛ لأنه ليس بِحُلِيٍّ، وفي المنطقة المحلاَّة وجهان: أظهرهما: أنها من حلي الرجال، ويحنث لبس الخرز والسبح، إن كان الحالفُ من قَوْمٍ يعتادون التحلِّي بهما؛ كأهل السواد، وإن كان من غيرهم، فوجهان، كما إذا حلف غَير البَدَوِيِّ؛ لا يدخل بيتًا فدخل بيت الشعر، ولو حلف؛ لا يلبس شيئًا، حَنِثَ بلبس الثياب والحلي والقلنسوة والجلود. وفي الدرع والخُفِّ والنعْل وجهان: لانصراف اللبس ظاهرًا إلى الثياب، والأظهر أنه يحنث أيضًا، وقد يطرد الخلاف في الحُلِيِّ والقلنسوة، ولو قال: لا ألبس قميصًا فارتدى أو اتزر، ففي الحنث وجهان. وجه المنع: أن ذكْر القميص يُشْعِر بلبسه كما يلبس القميص، والأظهر على ما ذكر القاضي أبو الطيِّب وغيره: الحِنْث، لتحقُّق اسم اللبس، والقميص، كما لو قال: لا ألبس ثوبًا، فارتدى بقميص ولو فتقه وقطعه وارتدى أو اتزر به، لم يحنث؛ لفوات اسم القميص، ولو قال: لا ألبس هذا القميص، فارتدى به أو اتَّزَرَ، ففيه الحنث الوجهان، والحنث في هذه الصورة أظهر وأولَى، لتعلُّق اليمين بعَيْن ذلك القميص. وكذا الحكم لو قال: لا ألبس هذا الرداء، فاتَّزَرَ به، أو تعمَّم، ولو قال: لا ألبس هذا الثوب، والثوبُ المحلوفُ عليه قميصٌ أو رداءٌ، ففتقه، واتخذ منه نوعًا آخر، كالقميص فجعله رداء أو الرداء فجعله حبة أو بقطعة تككا والخفّ، فجعله نعلًا، ثم لبس ما اتخذه منه، ففي الحنث وجهان: أظهرهما: حصوله؛ للإشارة، وتعلق اليمين بغير ذلك الثوب إلا أن ينوي أنَّه لا يلبسه ما دام على تلْكَ الهيئة. والثاني: المنع؛ لأن قوله: لا ألبس هذا الثوب يقتضي لُبْسَه عَلَى صفته وهيئته الحاصلة حينئذٍ، وقد تغيَّرت، ولو لم يَذْكُرِ الثوب، ولكن قال: لا ألبس هذا القميص، أو هذا الرداء، ففتقه، واتخذ منه نوعًا آخر، ثم لبسه، جرى الوجهان، لكن يشبه أن يرجح هذا الوجه الذاهب إلى أنه لا يَحْنَثُ عَلَى ما سيأتي في نظائر المسألة وقد يفرق ¬
بين هذه الصورة وبين ما إذا ذُكِرَ لَفظُ الثوب بأن اسم الثوب هناك بأقٍ في المغيَّر، واسم القميص غير باقٍ هاهنا، فصار كما إذا قال: لا أدخل هذه الدار، فصارت فضاءً. وإذا قلنا: إنه لا يحنث، فلو أعاد الهيئة الأولَى، ففي الحنث وجهان، كالوجهين في الدار؛ تُعَادُ بعد الانهدام بذلك النقص، ولو أن الحالف قال في يمينه: لا ألبس هذا الثوب، أو القميص قميصًا أو هذا الثوب أو الرداء رداءً، فتقمص بالقميص، أو ارتدَى الرداء، حنِثَ، وإن اتَّزَرَ بالقميص أو تعمم بالرداء، لم يحنث، وكذا لو اتَّخذ من القميص غير القميص، ومن الرداء غير الرداء، ثم لبسهما. ولو قال: لا ألبسه وهو قميص فارتدى به، أو تعمم، أو اتزر، حَنِثَ؛ لأنه لبسه، وهو قميص وإن اتخذ منْه غير القميص، ولبسه، لم يَحْنَثْ؛ لأنه لم يلبسه، وهو قميص واعلم أن الشَّافعيَّ -رضي الله عنه- قال في "المختصر": ولو حلف ألا يلبس ثوبًا، وهو رداء، فقطعه قميصًا، أو اتزر به، أو حلف؛ لا يلبس سراويل، فاتزر به، أو قميصًا، فارتدى به، فهذا كلّه ليس يحنث به، واختلفوا في التصوير؛ فقال أكثرهم: أراد ما إذا قال: لا ألبس هذا الثوب، وكان المشار إليه رداءً، وقوله: "وهو رداء" ليس من كلام الحالف، ثم اختلف هؤلاءِ في قراءة قوله: "فهذا كلُّه ليس بِحَنِثٍ به" أي يقع اسم اللبس على جميع ذلك. ومن قرأ: "لا يَحْنَثُ" قال: فهذا كلُّه ليس يحنث وزعم: أن الأول تصحيفٌ، وقال آخرون -رحمهم الله-؛ أراد ما إذا قال: "لا ألبس هذا الثوب، وهو رداء" وجعلوا قوله (¬1) "وهو رداء" من تمام كلام الحالف، وحينئذٍ، فإذا اتخذ منه قميصًا لم يحنث. كما ذكرنا فيما إذا قال: لا ألبسه، وهو قميص، فاتخذ منه غير القميص، ولبسه وقرأ هؤلاء الكلمة على النفي أيضًا، والصحيح التنزيل الأول، والقراءة الأولَى؛ لأنه قال في "الأم": "فهذا كله لُبْسٌ، وهو يَحْنَثُ به" ويروى، "ويحنث به" وذلك يبطل ما سوى التنزيل الأول، والقراءة الأولَى، ثم الوجهان فيما إذا قال: لا ألبس هذا القميص، فاتخذ منه، غيره ولبسه، يجريان في صور نذكرها، وما يتعلَّق بها مفصلة. ولا تبال بما تجد فيها من تقديم وتأخير. ومنْها: لو أشار إلى صُبْرَةِ حنطةٍ، وقال: لا آكل هذه، حَنِثَ بأكلها على هيئتها، وبأكلها بعد الطحن والخَبْزِ والطَّبْخ، ولو قال: لا آكل حنطة، لم يحنث بأكل الخبز، والعجين والدقيق والسويق، ويحنث بأكل الحنطة، نيّئة ومقلية ومطبوخة ومبلولة، ولو ¬
قال: لا آكل هذه الحنطة، حَنِثَ بأكلها، نَيَّئةً ومطبوخة، وهل يحنث بأكل دقيقها، وسويقها، وعجينها، وخُبْزَها؟ فيه وجهان: أحدهما: وينسب إلى ابن سُرَيْجٍ، وأبي جعفر الأَسْتَرابَاذِي -رحمهما الله- أنه يحنث للإِشارة إلى العين وكذلك تُؤْكَل الحنطة غالبًا، فصار كما إذا قال: لا آكل هذا الكبش، فذبحه وأكله. وأصحُّهما: وبه قال أبو حنيفة: لا يحنث؛ لأنَّ اسم الحنطة قد زال بالطحن، وصورته قد تغيَّرت، فصار كما لو زَرَعَها، فنبتت، فأكل حشيشها، أو قال: لا آكل هذا البيض، فصار فرخًا فأكله، ومنهم من قطع بهذا، ولم يثبتِ الخلافُ، ولو قال: لا آكل من هذه الحِنْطَة، فكذلك الحكم، إلا أن هاهنا، يحنث بأكل بَعْضها. وفي طريقة الصيدلانِّي وبه، أنه إذا قال: مِنْ هذه الحنطة، حنث بأكل كل ما يُتَّخَذُ منها، ولو قال: لا أكل هذا الدقيق، فأكل عجينه أو خبزه أو هذا العجين، فأكل الخبز، فعلَى هذا الخلاف، وعن أبي حنيفة أنه إذا حلف على الدقيق، حنث بأكل الخُبْزِ. ومنْها: إذا قال: لا آكل هذا الحيوان، فذبحه وأكله، حنث؛ لأن الحيوان كذلك يُؤْكَلُ، واليمين عليه تعقد، وهو كما لو حلف، لا يلبس هذا الغزل، فنسج منه ثوبًا، فلبسه، يحنث، ولو قال: لا آكل لحم هذه السخلة أو الحمل، فصار كبشًا، فذبحه، وأكله، فمن قال: يحنث في مسألة الحنطة، قال: يحنث هاهنا واختلف الذين قالوا: لا يحنث هناك على وجهين: أظهرهما: أنه لا يحنث أيضًا؛ لزوال الاسم كما في الحنطة. والثاني: يحنث؛ لأن الصورة ما تبدَّلَتْ هاهنا، إنما تغيَّرت الصفة، فصار كما لو قال: لا آكل هذا اللحم، فجعله شواء، وأكله، ويُرْوَى هذا عن أبي حنيفة، ويجري الوجهان فيما إذا قال: لا أكلِّم هذا الصبيَّ، وكلَّمه بعد ما صار شابًّا، وهذا الشابَّ، فكلمه بعد ما صَارَ شَيْخًا (¬1)، وعن أبي حنيفة أنه لا يحنث هاهنا. ومنها: لو قال لا أكلم هذا، وأشار إلى عبد، فعَتَقَ، وكلَّمه، حنث، ولو قال لا أكلم هذا العبد، فعتق، فيجيء فيه ما ذكرنا من اختلاف الأصحابِ -رحمهم الله- في مسألة السخلة. ومنها: لو قال: لا آكل هذا الرطب، فصار تمرًا، أو هذا البسر، فصار رطبًا، أو العنب، فصار زبيبًا، أو لا أشرب هذا العصير، فصار خمرًا، أو هذه الخمر، فصار ¬
خلاًّ، أو لا آكل هذا التمر، فاتخذ منه عصيدةً، ثم فرض الأكل والشرب، ففيه الخلاف. وذكر الصيدلانيُّ؛ أن الشافعيَّ -رضي الله عنه- نص على عدم الحنث في الحنطة والتمر، وعلى الحنث في السخلة والصبي، وأنَّ من الأصحاب من جعلها على قولَيْن: منهم من فرق بفَرْقَيْنِ: أحدهما: أن في مسألة الحنطة والتمر تَبَدَّلَ الاسم، وفي السخلة والصبيِّ تَبَدَّلَ الصِّفَة، وتبدل الصفة لا يسقط الحنث. والثاني: أن الحنطة تفسير خبزًا، والتمر يصير عصيدةً؛ بفعلٍ ومعالجةٍ، وكبر السخلة والصبي بمضي الزمان، لا بصنعةٍ ومعالجة، ويجوز أن يُعْلَمَ؛ لما بيَّنَّا قوله في الكتاب في هذه الصورة "ففيه وجهان" بالواو، وقوله "لا ألبس قميصًا، فارتدى بقميص فوجهان، ولو فتقه واتَّزَرَ به، لم يحنث" وقد يُوهِمُ فرقًا بين الارتداء والاتِّزَار، ولا فرق بين الاتزار بالقميص والارتداء بعد الفتق، كالاتزار، وكان الأحسن أن يجري على مثال واحد. فَرْعٌ: لو حلف؛ لا يلبس الخاتم، فجعله في غير الخِنْصِرِ من أصابعه، فعن المُزَنِيِّ في "الجامع الكبير": أنه لا يحنث؛ لأن الخاتم في العادة لا يُلْبَسُ في غير الخنصر، وعلى هذا الجواب جرى صاحب "التهذيب" وقاسه على ما إذا حلف ألا يلبس القَلَنْسُوَةَ، فجعلها في رِجْلِه، والذي حكاه الرويانيُّ عن الأصحابِ -رحمهم الله- أنه يحنث، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ حَلَفَ لا يَخْرُجُ بَغَيْرِ إِذْنِهِ فَأَذِنَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ المَأْذُونُ فَوَجْهَانِ، وَإِنْ خَرَجَتْ مَرَّةً بِإذْنِهِ انْحَلَّ (ح و) اليَمِينُ فَلا يَحْنَثُ بَعْدَهُ، وَلَوْ قَالَ: لا تَخْرُجْ بَغَيْرِ خُفٍّ فَخَرجَتْ بِخُفٍّ لَمْ يَنْحَلَّ اليَمِينُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: إذا حلف؛ لا يخرج فلانٌ إلا بإذنه، فأذن بحيث لم يسمع المأذونُ، ولم يعلم، وخرج فقد أطلق صاحب الكتاب فيه وجهين: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد -رحمهم الله- أنه يحنث، ويُشْتَرطُ في حصول الإذن سماعه وعلمه، كما لو حلف، لا يكلم فلانًا، فكلمه بحيث لم يسمع، ولأن المقصود ألا يخرج مخالفًا له، وإذا خرج، ولم يعلم إذْنَه، كان مخالفًا. وأظهرهما: وهو المنصوص، والذي أورده عامة الأصحاب -رحمهم الله- أنه لا يحنث، لأن الإِذن والرضا قد حصل، وفي شرح "مختصر الجويني" التعبير عن هذا الخلافِ بقولَيْنِ منصوصٍ ومخرَّج، وأن التخريج من مسألة عزل الوكيل، وعلى هذا الخلاف ما إذا قال لزوجته إن خرجت بغير إذني، فأنتِ طالقٌ، ثم أذن، فخرجت،
وهي لا تعلم أنه أذن، وينبغي أن تشهد على الإِذن، ليثبته عند التنازع، وإذا لم تكن بينة، فهي المصدَّقة بيمينها في إِنكار الإِذْنِ. وفي كتاب القاضي ابن كج: أن المصدَّق الزوج، كما لو أنكر أصل التعليق، ثم قال الشَّافعيُّ -رضي الله عنه-: "الوَرَعُ أن يُحْنِثَ نَفْسَهُ، وإن لم يَحْنَثُ" وليس معناه أن يعدها مطلقةً، من غير أن يطلقها؛ لأنا حكمنا بأنها زوجته فكيف يتركها تنكح غيره؟ ولكن إنْ علق الطلاق الثلاث، فالورع أن يطلَّقها ثلاثًا؛ وإن كان المعلَّق طلقة رجعية، وأراد إمساكها، راجعها، وإلا طلقها؛ لتحل للأزواج، فإن راجعها، ثم طلقها طلقتين، فالورع ألا ينكحها إلا بعد زوج آخر، وإذا نكحها بعد زوج آخر تكون عنده بطلقة؛ فإن طلَّقها لم تحل إلا بعد زوج آخر؛ لأنه لم يقعْ عليها بالخروج شيءٌ، وقد طلقها بعد ذلك ثلاثًا، والزوج الثاني قبل استيفاء الطلقات لا أثر له. الثانية: إذا حلف؛ لا يخرح فلانٌ بغير إذنه، أو إلا بإذنه، فخرج بغير إذنه، حَنِثَ، وإن خرج بإذنه، لم يَحْنَثْ، وعلى التقديرين تنحل اليمين حتى لو خرج بعد ذلك بإذن، أو بغير إِذن، لم يحنث، وكذا لو قال لزوجته: إن خرجت بغير إذْنِي، أو إلا بإذني، فأنتِ طالقٌ، فإن خرجت بغير إذْنه، طُلِّقَتْ وإن خرجت بالإِذن، لم تطلق، وتنحل اليمين على التقديرين وكذا الحكم لو قال إن خرجت حتى آذن لك أو إلى أن آذن لك، أو إلا أن آذَنَ لك، فأنتِ طالقٌ. وعن أبي حنيفة: المساعدة في هذه الألفاظ الثلاثة، وقال فيما إذا قال: إن خرجت بغير إذني، أو إلا بإذْنِي، لا تنحل اليمين بخروجها بالإِذْن، حتى لو خرجت بعد ذلك، طُلِّقت؛ لأن المحلوف عليه الخروجُ بغير إذن، ولم يوجد، فلا تنحل اليمين كما إذا قال: إِنْ خرجْتِ لابسةً الحَرِيرَ، فأنتِ طالقٌ، فخرجتَ غيْر لابسة، لا تنحل اليمين حتى تطلَّق لو خرجت بَعْد ذلك لابسةً للحرير، وعن "المنهاج" للجُوَيْنِيِّ: أن هذا قولٌ للشافعيِّ -رضي الله عنه- ونقله بعضُهُمْ وجهًا للأصحاب، ويُرْوَى ذلك عن المُزَنِيِّ واختيار القفَّال -رحمهم الله- ولم يتعرَّضوا للفرق على ذلك القول أو الوجْه بين الألفاظ المذكورة على ما صار إليه أبو حنيفة، وقال أحمدُ: لا ينحل اليمين في شيء من هذه الصيغ، ووُجِّه ظاهرُ المذهَبِ بوجهين: أحدهما: أن اليمين تعلقت بخرجةٍ واحدةٍ وهي الأولَى، وتلك الخرجة، إذا كانت بغير إذن توجب الحنث، فإذا كانت بإذْنٍ، حصل البر وارتفعت اليمين، يؤيده أنه قال: إن كان خرُوجكِ الأوَّلُ بغَيْر إذن، فأنتِ طالقٌ، فخرجت أولاً بإذنه ثم خرجت بغير إذن، لا يقع الطلاق. والثاني: ذكر أبو الحَسَنِ العبَّاديّ؛ أن القاضي الحُسَيْن -رحمهما الله- قال:
راجْعَتُ غَيْرَ واحدٍ مِنْ عِلْيَةِ أصحابنا في تعْلِيلِ هذه المسألة، فلَمْ أظفرْ بمَقْنَعٍ، وعلَّل مِنْ عنده بأنَّ هذه اليمين لها جهةُ برٍّ، وهي الخروج بالإِذن، وجهة حنثٍ، وهي الخروج بغير إذن؛ لأن الاستثناء يقتضي النفي والإِثبات جميعًا، وإذا كانت لليمين جهتان، ووجدت إحداهما تنحل اليمين؛ ألا ترى أنَّه لو حلف، لا يدخل الدار أو ليأكلَنَّ هذا الرغيف، فإنه، إن لم يدخُلِ الدار في ذلك اليوم، يَبرُّ، وإن لم يأكلِ الرغيفَ، وإن أكل الرغيف ينحل اليمين، حتى لا يحنث، وإن دخل الدار في ذلك اليوم، ثم مَنْ وجَّه بالوجه الأول، عذر عن مسألة الحرير، بأن هناك المقصود أن يمنعها لُبْس الحرير في وقْتِ الخُرُوج، والخُروج الأول والثاني في ذلك سَوَاءٌ، وهذا عذْرٌ ضعيفٌ ومَنْ وجَّهه بالثاني، قال: اليمين في تلك الصورة لم تشتمل على جهتين، وإنما عُلِّقَ الطلاقُ بخروجٍ مقيَّدٍ، فإذا وجد وقع الطلاق، وذكر صاحب "التهذيب": أن قضيَّة هذا أنه لو قال: إن خرجْتِ من الدَّارِ غير لابسة للحرير أو إلاَّ لابسةً، فأنتِ طالقٌ، فخرجت لابسة تُحلُّ اليمين، وهذا ينازع فيما حَكَى صاحبُ الكتاب أنه لو قال: إن خرجْتِ بغير خُفٍّ، فأنتِ طالقٌ، فخرجَتْ بخُفٍّ، لا ينحل اليمين؛ لأنه اجتمع فيه النفي والإِثبات، وفرق في "الوسيط" بين مسألة الإذْنِ ومسألة الخُفِّ؛ بأن مقصود الزوج إلزامُهَا التَّخَدُّر، وإذا أَذِنَ لها في الخروجِ مرةً، فقد دفع ذلك التخدُّرَ بنَفسه، فالخروجُ بعد ذلك لا يتناولُهُ اليَمينُ، ولا يخفى أن هذا الفرْقَ ضعيفٌ، وأن التسوية بين الصورتين قويةٌ كما في "التهذيب". وليعلم لذلك قوله "لم ينحل اليمين" بالواو. ولو قال "كلما خرجت أو كلَّ وقتٍ خرجْتِ بغير إذْنِي، فأنتِ طالقٌ، فخرجتْ مرةً بالإِذْنِ، لم ينحل اليمين" لأن هذه الصيغةَ تقتضي التَّكْرارَ، فلو قال: أذنْتُ لكِ في الخروج، كلما أردتِّ، أغناه ذلك عن تجديد الإِذن لكل خَرْجَةٍ، ولو قال: متى خرجْتِ أو متَى ما أو مَهْما أو أيَّ وقتٍ أو أيَّ حينٍ، فالحكم كما لو قال: إن خرجْتِ، وهذه الصيغ لا تقتضي التَّكْرَارَ، وفي "الرقْم" للعباديِّ: إلحاق "متى" و"ما" و"مهما" بـ"كلما" نصه في "الأم"، ولو قال: إن خرجت أبدًا (¬1) إلاَّ بإذني، فأنتِ طالق، لم يلزم التَّكْرار أيضًا والمعنى في أيِّ وقتٍ خرجْتِ قريبٍ أو بعيدٍ، وإذا علَّق الطلاق، كما صورنا، ثم إنه أذِنَ لها في الخروج، ثم رجع عن الإِذن، وخرجَتْ بعده، فعن نصِّه في "الأم" أنَّها لا تُطلَّق؛ لأن الإِذْنَ قد وُجد فزال حكم اليمين، ثم المنع بعد ذلك لا يفيده، ورأى أبو بكر الفارسيُّ والمحقِّقُون -رحمهم الله- تَنْزِيلَ النصِّ عَلَى ما إذا قال ¬
في التعليق: حتى آذَنَ لكِ؛ لأنه جعل إذنه غاية اليمين، وقد حَصَلَ الإِذن، فأما إذا قال: بغير إذني أو إلا بإذني، فإذا رجع، ثم خرجَتْ، فهذا خروجٌ بغَيْر إذن، وهو أول ما وُجِدَ، بعد اليمين، فينبغي أن يقع الطلاق، ومنهم من قال: قوله "إلا بإذني" محتمل للغاية أيضًا، فيحمل عليها. ولو قال: إن خرجت بغير إذني لغير عبادةٍ فأنتِ طالقٌ، فخرجتْ لعبادةٍ، ثم عرضَتْ حاجةٌ، فاشتغلت بِهَا، لم تطلَّق، وإنْ خرجَتْ لعبادة وغيرها، فالمذكور في "الشامل" والمنسوب إلى نصِّه في "الأم": أنه لا يحنث، وذكر صاحب "التهذيب" أنه الأصح، ويشبه أن يُقَالَ: إن كان المقصودُ من قوله "لغير عبادة" ما هو بمَعْزِلٍ عن العبادة، فلا يحنث، وهذا هو السابق إلى الأفهام منه، وإن كان المقصود ما يغايرُهُ في الحقيقة، فمجموعُ العيادة والحاجة الأخرَى يغاير مجرَّد العبادة، ولو قال: إن خرجْتِ لا لعيادةٍ، فينبغي أن يحنث؛ لأنه يصْدُقُ أن يُقَالَ: لم تخرج للعيادة، وإنما خرجتْ لها ولغَيْرِها (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: النَّوْعُ الخَامِسُ فِي الكَلامِ: وَلَوْ قَالَ: وَاللهِ لاَ أُكُلِّمْكَ فَتَنَحَّ عَنِّي حَنِثَ بِقَوْلِهِ: تَنَّحَ عَنِّي، وَكَذَا لَوْ شَتَمَهُ، وَلَوْ كَاتَبَهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَلا يَحْنَثُ بِالإِشَارَةِ المُفْهِمَةِ، وَلَوْ حَلَف عَلَى المُهَاجَرَةِ فَفِي المُكَاتَبَةِ تَرَدُّدٌ، وَلَوْ حَلَفَ لا يَتَكَلَّمْ حَنِثَ بَتَرْدِيدِ الشِّعْرِ مَعَ نَفْسِهِ، وَلا يَحْنَثُ بِالتَّهْلِيلِ وَقِرَاءَةِ القُرآن، وَلَوْ قَالَ لأُثْنَيَّنَ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِأَحْسَنِ الثَّنَاءِ فَلْيَقُلْ: لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، وَلَو حَلَفَ لا يُصَلَّي ثمَّ تَحَرَّمَ بِالصَّلَاةِ حَنِثَ وَإِنْ أَفْسَدَهَا بَعدَ ذَلِكَ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لا يَحْنَثُ إلاَّ بِصَلَاةٍ تَامَّةٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسائل: إحدَاها: إذا قال: واللهِ، لا أكلمك، فتنح عني، أو قم أو اخرج، أو شتمه، أو زجره، حَنِثَ، سواءٌ عقَّب اليمين بشيء منها على الاتصال أو لا على الاتصال؛ لأنه قد كلمه بها، وقال أبو حنيفة: لا يحنث بها، إذا وصلها باليمين؛ لأن المقصود من مثله تأكيدُ اليمين، وهو وجه للأصحاب، قال صاحِبُ "البيان": الوجهان كوجهين ذكرناهما ¬
فيما إذا قال لامرأته: إن كَلَّمْتُكِ، فأنْتِ طالقٌ، فاعلمي ذلك، ولو كتب إليه كتابًا أو أرسل رسولاً، ففيه قولان: الجديد، وبه قال أبو حنيفة واختاره المُزنِيُّ أنه لا يحنث؛ لأنه لا تُنَسَّى المكاتبةُ والمراسلةُ كلامًا، بل يصح أن يُقَالَ: ما كلمه، وإنَّما كاتبه وراسله. والقديم، وبه قال مالكٌ وأحمدُ: أنه يحنث لقوله تعالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51] استثنى الرسالة من التكليم، ومنهم مَنْ قطع بالقول الأول، وحمل ما نقل عن القديم علَى ما إذا نوى في يمينه المكاتبة والمراسلة، ومن خصَّص الخلاف بحال الغَيْبَةَ، وقال: إذا كان معه في المجْلِس، لم يحنث، إذا كتب إليه رقْعةً، والظاهر إثباتُ الخلاف عَلى الاِطلاق، وأحرى القولان في الإِشارة بالرأس والعين، واستدل للقديم بقولِهِ تعالَى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا} [آل عمران: 41] من التكليم، وللجديدِ بقوله تعالَى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26] {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} فلو كانت الإِشارةُ كلامًا، لامتنعتْ منها، ولا فَرْق على الجديد بين اختياره إشارة الناطق والأخرس، إنما أُقِيمَتْ إشارة الأخرس في المعاملات مُقَام عبارة الناطق للضرورة (¬1) واحتج المُزِنيُّ للقول الذي اختاره بأن إثْمَ المهاجرة المحرَّمة بين المسلمين على ما قال -صلى الله عليه وسلم- "لا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ" (¬2) لا يرتفع بالكتابة، ولو كان ذلك كلامًا، لارتفع، وأُجِيبَ عنه بأن مواصلتهما قبل الهجرة إن كانت بالكتابة والرسالة، فيرتفع الإِثم بها، وإلا، فإنْ تعذَّر الكلام لغيبة أحدهما عن الآخر، فكذلك، وإلاَّ، ففيه وجهان: بناءً على القولَيْن القديم والجديد، حتى لو حلف على أن يهاجر فلانًا، فهل يحنث بالمكَاتَبةِ والمراسلة؟ فيه هذا الخلاف، وإلى هذا يرجع قوله في الكتاب ولو حلف على المهاجرة ففي المكاتبة تردد وعن ابن أبي هريرة إطلاقُ القَوْلِ؛ بأن إثم المهاجرة يرتفعُ بالمكاتبة والمراسلة، ولا يَخْفَى أن المكاتبة، إنَّما ترفع الإِثم، إذا خلت ¬
عن الإِيذاء والإِيحَاشِ، وإلا، فهو كما لو كلَّمه بالشتم والإِيذاء، ففيه زيادة الوحشة وتأكيد الهجرة، ولا يحْنَثُ بمثل هذه المكاتبة، إذا حَلَفَ عَلى المُهَاجَرَةِ (¬1)، ولو سَلَّم الحالف على الذي حَلَف أنه لا يكلمه، حَنِثَ، فإنَّ السلام نوعٌ من الكلام، وإن سلم عَلَى قوم هو فيهم وقصده بالسَّلاَمِ، فهو فكذلك، قال في "البيان" ويجيْءُ ألا يحنث على قول من قال: إذا حلف لا يأكل السمن، فأكله مع غيره لا يحنث، وإن استثناه لفظًا، لم يَحْنَث، وإن استثناه بالنية، فكذلك، لأن اللفظ العام يحتمل التخصيص، وذُكِرَ فيه قول آخر، وإن أطلق، ففيه قولان منقول المُزنِيِّ، أنه لا يحنث ووُجِّهَ، بأن اللفظ يصْلُح للجميع، وللبعض، فلا يحنث بالشكِّ، والثاني يحنث، رواه الربيع، وهذا أظهر على ما ذكره الشيخ أبو حامد؛ لأن ظاهر اللفظ مخاطبةُ الجَمِيعِ، ولو سلم عن صلاته، وفلان المحلوف عليه من المؤتمين به، ففيه هذا التفصيل، وعند أبي حنيفَة؛ لا يحنث، ولو صلَّى الحالفُ خلْفَ فلان، فسبَّح به لسهْوِه أو فتَحَ عليه القراءة، لم يحنث، ولو قرأ آيةً، فَهِمَ فلانٌ منها مقصوده، لا يحنث، إن قصد القراءة، وإلاَّ، حنث. الثانية: إذا حلَفَ لا يتكلَّم، حنِث بترديد الشِّعْر مع نفسه؛ لأن الشِّعْر كلامٌ، ولا يحنث بالتهليل والتسبيح والتكبير؛ لأن اسم الكلام عنْد الإِطلاق ينْصَرِفَ إِلَى كلام الآدميين في محاوراتهم، وفيه وجه أنه يحنث؛ لأن الحِنْثَ عيْرُ ممنوع منها، فهي كسائر الكلام، والدعاء في معنى التسبيح، ولا يحنث بقراءة القرآن، وبه قال أحمد، وعن أبي حنيفة أن جميع ذلك، إن كان في الصلاة، لم يقتض الحِنْث، لأن كان خارجَ الصلاة، حنث. الثالثة: إذا حلف؛ لَيُثْنِيَنَّ على الله بأحسن الثناء، فطريق البر أن يقول: لا أُحْصِي ثناءً عليك؛ أنْتَ كما أثنَيْتَ عَلَى نفسك، وزاد إبراهيم المَرْوَزِيُّ في آخره: ولك الحمدُ حتَّى ترضى وصور في "التتمة" فيما إذا قال: لأُثنِيَّنَّ على الله بأجلِّ الثناء وأَعْظَمِهِ، وزاد في أول الذكر "سبحانَكَ" ثم وجهه بأن أجل الثناء ثناءُ الله تعالَى على نفسه، ويحسن أن يُقَالَ: الاعتراف بالعَجْز والقصور عن الثناء، والحوالةُ عَلَى ثنائه على نفسه أحْسَنُ الثناء وأبلغُه، ولو قال: لأَحْمَدَنَّ الله بمجامعِ الحمْدِ، وقال في "التتمة": بأجل التحاميد، فطريق البر أن يقول: الحمْدُ لله حَمْدًا يوافِي نعَمَهُ، ويكافئُ مزيدُهُ، يُرْوَى أن جبريل - ¬
عليه السلام- علَّم آدم. هذه الكلماتِ، وقال: قد علَّمتك مجامع الحَمْد (¬1)، ولو قال: لأُصَلِّيَنَّ علَى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أفْضَلَ الصلاة عليه، فطريق البر أن يقول: اللهم، صلِّ على محمد، وعلى آلِ محمدٍ كلَّما ذكَره الذاكِرُون، وكُلَّما سها عنه الغافِلُون، ذكره إبراهيم المَرْوَزِيُّ (¬2). الرابعة: وليْسَتْ منْ شرط النوع: إذا حلف؛ لا يصلِّي فمتى يحنث؟ فيه ثلاثَةُ أوجه: أحدُها: أنه يحنث بالتحرُّم بالصلاة؛ لأنه يُسَمَّى حينئذٍ مصليًا، والشروع هو المراد من قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث إمامَةِ جبريلَ -عليه السلام- "صَلَّى الظُّهْرَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ" (¬3). والثاني: ويُحْكَى عن ابن سُرَيْج، أنه لا يحْنَثُ حتَّى يركع، فقد أتَى، بمعظم الركعة، فيقام مقام الجميع. والثالث: لا يحكم بالحِنْثِ، ما لم يَفْرَغ؛ لأنَّهَا قد تفسد قبل الفراغ، فيخرج عن أن يكون مصلِّيًا، ولذلك قلنا في ألفاظ العقود: إنَّها تقع على الصحيح دون الفَاسِد، وعلى هذا؛ فلَوْ أفسدها بعْد الشروع لم يحنث، وعلى الأول؛ حَنِث، وإن أفسد، وعلى الثاني كذلك، إن كان الإِفساد بعد الركوع، ولا نقول: إن اللفظ يقع على الصحيح والفاسد، ولكن ذكرنا أن الشارع في الصلاة يُسَمَّى مصليًا، فيعتبر أن يكونَ الشروعُ ¬
صحيحًا، حتى لو أحرم مع الإِخلال بِبَعْضِ الشروط، لا يحكم بالحنث، ولو قال ما صليت، وقد أتى بصورة الصلاة الفاسدةِ، لا نقول بالحنث، ولا يجيء الوجه الثاني، إذا صلَّى عَلَى جنازة ولو لم يجدْ ماءً ولا ترابًا، وصلَّى، حنث؛ لأنها تعدُّ صلاة، وإن وجب القضاءُ إلاَّ أن يريد الصلاةَ المجْزِئَةَ، ولو قال: لا أصلِّي صلاةً، لم يحنث حتى يفرغ، ولو حلف لا يصوم، فيحنث بأن يصح صائمًا أو ينوي صَوْمَ التطوّع ضُحى، أو لا يحنث حتَّى يتم؟ فيه الخلاف، وإذ قلْنا: لا يحنث حتى يفرغ، فقَدْ ذكر وجهان في أنَّا، هل نتبين استناد الحنث إلى الأول، وقوله في الكتاب "ثم يحرم بالصلاة، حنث" معلم بالحاء؛ لأن عنده لا يحنث حتى يَسْجُدَ (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: النَّوْعُ السَّادِسُ فِي تَأْخِيرِ الحِنْثِ وَتَقْدِيمِهِ: وَلَوْ قَالَ: لآكُلَنَّ هَذا الطَّعَامَ غدًا وَأَخَّرَ حَنِثَ، وَإِنْ تَلِفَ الطَّعَامُ قَبْلَ الغَدِ أَوْ مَاتَ الحَالِفُ فَقَدْ تَعَذَّرَ البِرُّ لا بِاخْتِيَارِهِ فَيُخَرَّجُ عَلَى قَوْلِيَ الإِكْرَاهِ، وَلَوْ تَلِفَ في أثْنَاءِ الغَدِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الأَكْلِ فَلُزُومُ الكَفَّارَةِ يُلْتَفَتُ عَلَى الخِلافِ فِي أَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يُصَلِّ فِي أَثْنَاءِ الوَقْتِ هَلْ يَعْصِي؟ وَلَوْ قَالَ: لأَقْضِيَنَّ حَقَّكَ غدًا فَأَبْرَأَهُ المُسْتَحِقُّ فَقَدْ فَاتَ الِبرُّ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَإِنْ مَاتَ المُسْتَحِقُّ وَفِيَّ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الوَرَثَةِ، وَإِنْ مَاتَ الحَالِفُ فَقَدْ فَاتَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَعَلَى القَوْلَيْنِ، وَلاَ يَنْفُدُ حُكْمُ الحِنْثَ بَعْدَ المَوْتِ إِذَا سَبَقَ اليَمِينُ فِي الحَيَاةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصل صورتان متقاربتا المَدْرَكِ: إحداهما: حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّ هَذَا الطَّعام غدًا، فلا يخفي البرُّ إِن أكله غدًا، والحِنْث، إن أخَّر أكله عن الغد مع الإِمكان، وإن تَلِفَ الطعام قبل مجيء الغدِ بنفسه أو بإِتلاف أجنبيٍّ، فقد فات البر بغير اختياره، فيخرَّج الحِنْث عَلَى قولي الإِكراه، وعن القاضي أبي حامد أن الأظهرَ أنه لا يحنث، ويُقال: إنه المنصوص، فإِن قلنا: يحنث، فيحنث في الحال؛ لحصول اليأس عن البر أو بعد مجيء الغد؛ لأنه وقت البر والحنث؟ فيه قولان أو وجهان، والذي أورده القاضي ابْنُ كج هو الثاني، والخلاف كالخلاف فيما لو حلف؛ لَيَصْعَدَنَّ السماءَ غدًا، وقد سبق قال في "التتمة": وفائدة الخلاف أنه لو كان مُعْسِرًا كفر بالصوم، فيجوز أن ينوي صوم الغد عن كفارته، إن قلنا: يحنث قبل مجيء الغد (¬2)، وإن قلنا يحنث بعد مجيء الغد، فلا يجوز؛ لأن التكفير بالصوم لا يقدَّم على ¬
الحنث، وإذا قلنا: يحنث بعد مجيء الغد، فيحنث، إذا مضى من أول الغد وقت إمكان الأكْل، وقُبيل غروب الشمس؟ فيه وجهان: أصحُّهُما: عند صاحبِ "التهذيبِ": الأول، ولو مات الحالف قَبْل مجيء الغد، ففي الكتاب تنزيله منزلة تَلَفِ الطعام، حتى يَكُونَ على الخلافِ المذكورِ، وسجيء وجْهٌ في الصورة الثانية من الفَصْل، والذي يقتضيه إيرادُ صاحب "التهذيب" والقاضي ابن كج وغيرهما: القطْع بأنه لا يحنث؛ لأنه لم يبلغ زمانَ البِرِّ والحِنْثِ، وقضية هذا: أنه يفرق بين موته، وبين تلف الطعام بعْد مجيء الغد وقبل التمكن من الأكل، ووَفَّى بهذه القضيَّة صاحب "التتمة"، لكن في "التهذيب" وغيرِهِ إِلحاقُ موت الحالف بعد مجيء الغَدِ بتلف الطعام في التفصيل الذي نذكره (¬1) فلو تلف الطعام أو بعضُهُ بعد مجيء الغد، نُظِرَ، إن كان ذلك قبلَ التَّمَكُّن من الأكل، فهو على الخلاف المذكور في تلف الطعام قبل الغد، وإن تلف بَعْد التَّمَكُّن من الأكل أو مات الحَالِف، فطريقان: أحدهُما: القطع بالحِنْث؛ لأنه تمكن من البر، ولم يفعل، فصار كما لو قال: لآكُلَنَّ هذا الطعام، وتمكن من أكله، ولم يأكل، حتى تلف، فإنه يَحْنَث. والثاني: وَيُحْكَى عن ابن سُرَيْجٍ طرد الخلاف؛ لأن جميع الغد وقْت للأكل، وليس هو مقصرًا بالتأخير، وربما خُرِّج ذلك على الخلاف في أن من مات أثناء الوقت، ولم يصلِّ، هل يكون عاصيًا؛ لأن التأخير عن أول الوقت، كتأخير الصلاة عن أول الوقت؛ واعتذر من قال بهذا الطريق عن الحنث فيما إذا قال: لآكلَنَّ هذا الطعام، وأطلق ثم أخَّر مع التمكُّن، حتى تلف الطعام بأنه ليس هناك لجواز التأخير وقتٌ مضبوطٌ، والأمر فيه إلى اجتهاد الحالف، فإذا مات، بان خطَؤُهُ وَتَقْصِيرُهُ، وهاهنا الوقت مقدَّر مضبوطٌ، وهو في مهلة من التأخير إلى تلك الغاية، ولهذا نقول: من مات في أثناء الوقت، قُبَيْلَ أن يُصَلِّيَ لا يَعْصِي على الأظْهَر ومن أخَّر الحجَّ عن أول الإِمكان، ومات قُبيل أن يَحُجَّ يعْصِي على الأظهر، والطريقة الثانية أشبه عند الرويانيِّ، لكنَّ الأظهرَ، وإن ثبت الخلاف: أنه يحنث هاهنا؛ لتفويته البر بالاختيار، كذلك ذكر صاحبُ الكتابِ في "الوسيط" وإليه ميل الأكثرين -رحمهم الله- وهو الجواب في "التهذيب" وإذا قلْنا به، يحَنث في الحال أو قُبَيْلَ غروب الشمس؟ فيه الوجهان، وعن أبي حنيفَة أنه لا يحنث ما لم يَمْضِ جميع الغد، وفي اليمين المطْلَقَة، قال: يحنث، وإن تلف الطعام قبل الإِمكان، وإن أتلف الحالفُ الطعامَ قبل مجيء الغد بالأكل وغيره، أو أتلف بعضه، ¬
حَنِثَ؛ لأنه فوَّت البر بنفسه مختارًا، وقال مالك وأبو حنيفةَ وأحمدُ -رحمهم الله-: إذا أكله، لم يَحْنَث، والقول عندنا في أنَّه يحْنَثُ في الحال أو بعد مجيء الغد على ما مَرَّ في التلف، ولو قال: لآكُلَنَّ هذا الطعام إلى الغد، فتلف قبل الغد وبعد التمكُّن، يحْنَثُ، ومتى يحْنَثُ، أيحنث إذا تلف أو إذا جاء أول الغد قال الصيدلانيُّ: فيه وجهان، ولو قال: لآكلن هذا الطعام اليوم فيُقاسُ الحكمُ بما ذكرنا فيما إذا قال غدًا. الصورة الثانية: إذا قال: واللهِ، لأقْضِيَنَّ حقَّكَ، ومات قبل القضاء، نُظِرَ، إن تمكَّن من قضائه، فلم يفعل، فهو حانث، وإن مات قبل التمكُّن، فهو على قولَي الإِكراه، كذلك نقل صاحبُ "التهذيبِ" وإبراهيم المروزيُّ وغيرهما، وجزم أبو سَعْدٍ المتولِّي بأنه لا يحنث، إذا مات قبل التمكن؛ لأن الحقوق الشرعيَّة لا تثبت في الذمة ولا تستقر إلا بعد التمكن، فكذلك التي تستحق بحكم اليمين تستدعي التمكن، ولو قال: لأقضِيَنَّ حقَّكَ، ومات قبل دخول الغد أو بعده، وقبل التمكن، فمن أثبت القولين فيما إذا أطلق، ولم يقيِّد بالغد، أثبتهما هاهنا، ومَنْ جزَمَ بالمنع، جزم هاهنا أيضًا، وإن مات بعد التمكُّن، فيجيء فيه الطريقان المذكوران في الصورة الأولَى، وموت الحالف لا يقتضي الحِنْث لا عند الإِطلاق ولا عند التقييد بالغد؛ لأنَّه يمْكِنُ قضاؤه بالدفع إلى الورثة، هكذا أطلق. ويجوز أن يُقَالَ: قوله "لأقضيَنَّ حقَّكَ" يقتضي أن يكون المقضيُّ حقه، والمقضيُّ بعد موته حتى الورثة لا حقُّه، فليكنْ هذا كما لو قال: لأقضيَنَّ حقك، ولو قال: لأقضين حقَّك، فهو كما لو قال: لآكلن هذا الطعام غدًا، فطريق البِرِّ والحِنْثِ ظاهر، وموت صاحب الحق هاهنا كتلف الطعام، فإن مات قبل مجيء الغد أو بعده وقبل أن يتمكن من القضاء، فهو على القولَيْن في الإِكراه، وإن مات بعد التمكُّن، ففيه الطريقان السابقان، وإذا قلنا بالحنث، فيحنث في الحَال أو بَعْدَ مجيء الغد فيه القولان، وموتُ الحالفِ، والصورةُ هذه، قبل مجيء الغد وبعْده عَلَى ما بيناه في الصورة الأولى وقوله في الكتاب "ولا يبعد حكم الحنث" أراد أنه إذا مات قبل مجيء الغد، فيدخل وقت الحنث، وهو ميِّتٌ، لكنه إذا سبق اليمين في الحياة، وهي السبب الأول، لم يبعد أن يحنث، وهو ميِّتٌ كما لو حفر بئرًا متعدِّيًا فتعدَّى فيها إنسانٌ بعْد موته، يلزمه الضمان والكفارةُ في ماله، وإن قضاه قبل مجيء الغَدِ، فقد فَوَّت البر على نفسه، فيحنث إلا أن يريد أنه لا يؤَخِّر القضاء عن الغد، وهذا بمثابة إتلاف الطعام قَبْل الغَدِ، ويعود فيه خلافُ أبي حنيفة ومَنْ وافقه، ولو أبرأه صاحبُ الحقِّ في هذه التصويرات، فإن قلنا يحتاج الإِبراء إلَى القبول، فقيل: حنث لتفويته البِرَّ باختياره، إلا أن يريد باليمين؛ أنه لا يمضي الغد، وحقُّه باقٍ عليه، وإن لم يقل، لم يحنث؛ لبقاء الدَّيْن وإمكان قضائه، وإن قلْنا؛ لا يحاج الإِبراء إلى القبول، سقَطَ الدَّيْن، وفي الحِنْث قولا الإِكراه؛ لفوات البِرِّ
بغير اختياره والهبة في العَيْن والصلح عن الدَّيْن، كالإِبراء إذا قلْنا: إنه يَحْتاجُ إلى القبول، ولو قال لأَقْضِيَنَّ حقك غدًا، إلا أن تشاء أؤَخِّرَهُ، فإن قضى من الغد برَّ شاء صاحب الحق أو لم يشأ، وإن لم يقْضِ، فإن شاء صاحبُ الحقِّ تأخيره قبل مضي الغدِ، لم يحنَثْ، وإن لم يشأ، حنث، وكذا لو قال: إلا أن يشاء زْيدٌ أن أؤخره، إلا أنه إذا مات صاحبُ الحقِّ قبل مجيء الغد، يكون الحنث على قولَي الإِكراه، وإن مات بعده وبعد التمكُّن يجيء فيه الطريقان، وإن مات زَيْدٌ قبل مجيء الغد، أو في أثنائه ولم يعلم بمشيئته، فلا حنث في الحال؛ لإِمكان قضاء الحق بعد موته، فإذا غربت الشمس، ولم يقض، فحينئذٍ يحنث، ولو قال: لأقضينك حقَّك إلى الغَدِ، إلا أن تشاء تأخيره، فينبغي أن يقدم القضاء على طُلُوع الفجر من الغد، فإن لم يفعل، ولم يشأ صاحبُ الحقِّ تأخيره، يَحْنَثُ. فرع: لو حلف؛ لَيُطَلَّقَنَّ امرأته غدًا، فطلَّقها اليوم، نُظِر، إن لم يستَوْفِ الثلاث، فالبر ممكن وإن، استوفَى فقد فوَّت البر على نفسه، فيحنث، وكذا، لو كانَتْ عليه صلاةٌ عن نَذْرٍ، فحلف ليصلينها غدًا، ثم صلاها اليوم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإِنْ قَالَ: لأَقْضِيَنَّ حَقَّكَ عِنْدَ رَأسِ الهِلاَلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْضِرَ المَالَ وَيَتَرَصَّدَ، فَإِنْ سَلَّمَ قَبْلَ الهِلاَلِ أوْ بَعْدَه حَنِثَ، وَقِيلَ: لَه فُسْحَةٌ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَيَوْمِهَا، وَلَوْ قَالَ: لأقْضِيَنَّ حَقَّكَ إِلَى حِينَ لَمْ يَحْنَثْ بِالتَّأْخِيرِ إِلَى أَنْ يَفُوتَ بِمَوْتِ أحَدِهِمَا فَعَنْدَ ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الحِنْثُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ حِينٍ حَنِثَ بَعْدَ لَحْظَةٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: إذا قال: لأَقْضِيَنَّ حقَّك عند رأس الهلال، أو، مع رأس الهلال، أو عند الاستهلال، أو مع رأْس الشهْر، فهذه الألفاظ تقع عَلَى أول جزء من الليلة الأولَى من الشهر، وكلمتا "عند" ومع يقتضيان المقارنةَ، فإن قضاه قبل ذلك، فقد فوَّت البر على نفسه وإن أخَّر القضاء عنْهُ، حنث أيضًا، فينبغي أن يُعِدَّ المال ويترصَّدَ، فيقضيه حينئذٍ، وذكر الإِمام وصاحبُ الكتاب في "الوسيط" أن هذا لا يكاد يُقْدَرُ عليه، فأما أن يتسامح فيه ويقنع بالممكن، أو يُقَالَ؟ التزم محالاً، فيحْنَثُ بكل حال، وهذا لا ذاهبَ إلَيْه، لكن ذَكَر بعض الأصحاب أنَّ له فُسْحَةً في الليلة الأولَى وفي يومها؛ لأن اسم رأس الهلال ورأس الشهر يقع عليهما وَيُرْوَى هذا عن مالكٍ، وعنه أيضًا قَصْرُ الفسحة على الليلة، وحكاه صاحبُ "التهذيب" عن أبي حنيفةَ أيضًا، وإذا أخذ في الكيل أو الوزن عن رؤية الهلال وتأخر الفراغ لكثرة المال لم يحنث، وبمثله أجِيبَ فيما إذا ابتدأ حينئذٍ بأسباب القضاء ومقدماته، كحَمل الميزان، ولو أخَّر القضاء عن الليلة الأولَى
للشكِّ في الهلال، فبان أنها كانت من الشهر، ففي الحِنْثِ قولاً حِنْثِ الناسي والجاهل. ولو قال: لأقضيَنَّ حقَّك أول الشهْرِ، فهو كقوله: "عند رأس الشهر" أو عند استهلال الهلال ولو قال: أول اليوم، فينبغي أن يشتغل بالقضاء عند طلوع الفَجْر، وفي طريقة الصيدلانيِّ، أن أبا حنيفةَ قال: هو في مهلة إِلَى وقت الزَّوَالِ، وأنه قال في الشهر: هو في مهلة إلَى تمام الخامس عشر، ولو قال: لأَقْضِيَنَّ حَقَّكَ إلَى رأس الشهرِ، فالأظهر، وإليه ذهب المُزنيُّ، أنه ينبغي أن يقضيه قبل الاستهْلاَلِ؛ لأن "إلى" للغاية ولبيان الحد، كما ذكرنا أنه لو قال: لأقضينَّه إلى الغَدِ، فينبغي أن يقضيه قبل الغد، ولو قال: "إلى رمضانَ" ينبغي أن يقدم القضاء على رمضان، ومن الأصحاب من قال إنَّهُ كما لو قال: عند رأس الهلال، وهو ظاهر ما نقله المُزنيُّ؛ لأن "إلى" قد تكون للتحديد، وقد تكون بمعنى مع كقوله تعالَى {من أَنْصَارِي إِلَى اللهِ} [الصف: 14] أي مع الله، فلا يحنث بالشك، ويخالف ما إذا قال: إلى الغَدِ أو إِلَى رمضان؛ لأن جميع الغد، وجميع رمضان لا يقاربهما القضاء لحمل اللفظ بهذه القرينة على الغاية. المسألةُ الثانية: لو قال: لأقضيَنَّ حقَّك إلى حِينٍ، لم يخْتصَّ ذلك بزمانٍ معينٍ، بل يقع لفظ الحين على القليل والكثير، كما بيَّنَّا في الطلاق، فيكونُ بمثابة قوله: "لأقضيَنَّ حقَّك" فمتى قضاه بَرَّ، وإنما يحكم بالحنث، إذا مات قبل أن يقضيه لا مع التمكُّن، ولو قال: إلى زمان أو دَهْرٍ أو حقب أو أحقاب فكذلك جميعُ العمر مهْلَتُه، وعن أبي حنيفةَ: تقدير الحقب ثمانين سنةً، وعن مالكٍ بأربعين، ولو قال: لا أكلِّمُكَ دهراً، أو حيناً أو زماناً أو حقباً، بَرَّ بأدنى زمان، ولو قال: أنتِ طالق بعد حين، حَنِثَ إذ مضتْ لحظةٌ، وفرق بينهما بأن قوله "بعد حين" تعليق، فيتعلق الطلاق بأول ما يُسَمَّى حيناً، وقوله: "لأقضيَنَّ حقَّك إلَى حين" وعْدٌ، والوعد لا يختص بأول ما يقع عليه الاسم، ولو قال: لأقضيَنَّ حقَّك إلَى مدة قريبة أو بعيدةٍ، فلا يتقدَّر أيضاً، فيكون الحكم كما في الحين، وعن أبي حنيفة: أن القريب ما دون شهر، والبعيد شهر فما فوقه، ولو قال: إلى أيامٍ، ففي المجرَّد للقاضي أبي الطَّيِّب: أنه يُحْمَلُ علَى ثلاثة أيامٍ، إذا لم يكن له نية؛ لأنه لفظُ جمعٍ. وعلى هذا جرى الصيدلانيُّ صاحبُ "التهذيب" وغيرُهُما، وقال آخرون، منهم المحامليُّ: الحكم كما ذكرنا في الحين والمدة القريبة والبعيدة، لوقوعها على القليلِ والكَثيرِ، يُقال: أيام العدل، وأيام الفتنة، فلا يتقدَّر بأقلَّ ما يقَعُ عَلَيْه الاسم، وعن أبي حنيفةَ: أنه يحمل على عَشَرةِ أيامٍ. وقوله في الكتاب "لم يحنث بالتأخير إلا أن يفوت بموت أحدهما" ليُعْلَمْ بالحاء والميم والألف؛ لما ذكرنا من مذاهبهم في كتاب الطلاق، ثم ينبغي أن يُعْرَفَ فيه شيئان:
أحدهُما: أن في لفظ "التأخير" إشارةٌ إلَى أنه لو مات في الحال، لا يحنث، بل لا بُدَّ من مضى مدة التَّمكُّن. والثاني: أنَّ قوله "يموت أحدُهما" يقتضي حصولَ الحِنْث بموت المقضى إليه كحصوله بموت الحالف لكنه صور فيما إذا قال: لأقضيَّن حقَّكَ، وقد سبق أن البرَّ في هذه الصورة يحصل بالدفع إلَى الوارث، فقضيَّة ما ذكره أن يكون التصْوير فيما إذا قال: لأقضينَّكَ حقَّك، أو لأقضيَّن حقَّكَ إلَيْك. قَالَ الغَزَالِيُّ: النَّوْعُ السَّابعُ فِي الخُصُومَاتِ: فَلَوْ قَالَ: لاَ أَرَى مُنْكَراً إِلاَّ رَفَعْتُهُ إِلَى القَاضِي، فَلَيْسَ عَلَيْهِ البَدارُ بَلْ عُمْرُهُ وَعُمْرُ القَاضِي مُهْلَتُهُ، وَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى القَاضِي المَوْجُودِ فِي الوَقْتِ أَوْ عَلَى الجْنِسْ؟ وَجْهَانِ، وَلَوْ عَيَّنَ الْقَاضِيَ فَعُزِلَ فَفِي الرَّفْعِ إِلَيْهِ بَعْدَهُ خِلاَفٌ، وَلَوْ بَادَرَ فَمَاتَ القَاضِي قَبْلَ الانْتِهَاءِ إِلَى مَجْلِسِهِ قِيلَ: لاَ يَحْنَثُ، وَقِيلَ: يُخَرَّجُ عَلَى القَوْلَيْنِ فِي فَوَاتِ البِرِّ بِغَيْرِ اخْتِيَارِه، وَلَوْ رَأَى المُنْكرَ بَعْدَ اطَّلاَعَ القَاضِي فَقَدْ قِيلَ: فَاتَ البِرُّ بِغَيْرِ اخْتِيَارِه، وَقِيلَ يَبِرُّ بِالرَّفْعِ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِعْلاَمٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا حلف لا يرى منكراً إلا رَفَعَهُ إلى القاضي، فله أحوالٌ: أحدهُمَا: أن يعيِّن القاضي فيقول: إلى القاضي فلانٍ، فإذا رأى منكراً، لا يلزمه المبادرة إلَى الرفع بل له مهلةٌ مدَّةَ عَمْرِه وعمر القاضي، فمتَى رفعه إلَيْه برَّ، ولا يشترط في الرفع أن يذهب إلَيْه مع صاحب المنْكَر، بل يكفي أن يحضر عند القاضي وحده، فيخبره أو يكتب إليه بذلك أو يُرْسِلَ رسولاً فيُخْبِرَهُ، وإن لم يرْفَعْه إلَيْه حتى مات أحدُهُمَا بعد التمكُّن، حنث، وإن لم يتمكَّنْ من الرفع لحنسٍ أو مرضٍ، أو جاء إلَى باب القاضي، فحجب، ففيه القولان في حنث المكره، ولو بادر إلى الرفع إِلَيْه، فمات القاضي قبل أن يصل إلَيْه، فطريقان عن الشيخ أبي حامد أنه على القولَيْنِ أيضاً، لفوات البِرِّ بغير اختياره، والأصحُّ، وبه قال أبو إسْحَاق والقاضي أبو الطيِّب القطع بأنه لا يَحْنَث؛ لأنه تبيَّن أنه لم يتمكَّن من الرفع، وأن الزمان لم يتَّسِع له أيضاً فإن الاشتغال بمقدِّمات الرفع كالاشْتِغال بالرَّفع، ولو عُزِلَ ذلك القاضي، فإن كانت نيته أنه يرفعه إليه، وهو قاضٍ أو تلفَّظ به، فلا يبَرُّ بالرفع إليه بعْد عزله، قال ابنُ الصَّبَّاغ، ولا يحنث، وإن كان بعد التمكُّن من الرفع إلَيْه؛ لأنه ربما يولَّى، واليمين على التراخي، فإن مات أحدهما, ولم يولَّ، فحينئذٍ يتبين الحِنْث، وإن نوى عنْ الشخْص، وذكر القضاء، تعريفاً له، بَرَّ بالرفع إليه بعْد العزل، وإن أطلق فوجهان في أنَّه، هل يبَرُّ بالرفع إليه بعْد العزل؛ ليقابل النظر إلى العين والصفة، وبالمنع قال أبو حنيفة، وأُلْحِق الوجهان بالوجهين فيما إذا قال لا أكلَّم هذا الصبي، فصار شيخاً، وفي نظائره، لكن رجَّح
القاضي الرويانيُّ وصاحب "البيان" وغيرُهما -رحمهما الله- أنه يبَرُّ كما لو قال: ألا أدخل دارَ زَيْدٍ هذه، فباعها، حَنِث تغليباً للعين. والثانية: إذا نَكَّر، فقال: إلا رفعته إلَى قاضٍ، فيبَرُّ بالرفع إلَى أي قاضٍ كان في تلْك البلدة وغيرها. والثالثة: إذا قال: رفعته إلى القاضي، ولم يعيَّن أحداً بلفظه ولا بنيته، ففي كتاب القاضي ابن كج وغيره: وجه أنه لا يختص بقاضي البَلَدِ؛ حملاً للَّفْظِ على المعهود، وهل يتعيَّن قاضي البلد في الحال، فإنه المعهود أو من ينصب بعده في البلد يقوم مقامه؟ فيه وجهان ويُقالُ: قولان: أشبههُما: ويُنْسَبُ إلَى أبي حامد، وهو الذي أورده صاحبُ "التهذيب": الثاني حتى لو عزل من كان قاضياً وولّى غيره، يَبَرُّ بالرفع إلَى الثاني، ولا يبَرُّ بالرفع إلى المعزول، فإن قلْنا: يتعيَّن قاضي البلد، فالحكم على ما ذكرنا في الحالة الأولَى، والاعتبار بحال اليمين علَى هذا الوجه أو بحال رؤية المنكر؟ حَكَى في "التتمة" فيه وجهين، والأقوَى الأول، ولو كان في البلد قاضيان وجوَّزْناه، فرفع إلَى من شاء منهما، ولو رأى المنكر بين يدَي القاضي المرفوع إليه، ذكر في "الوسيط" أنه لا معنى للرفْع إليه، وهو يشاهده، ولو رأى المنْكَر بعد اطلاع القاضي، فوجهان: أحدهما: أنه فات البرُّ بغير اختياره، كما لو رآه معه، فيكون على القولَيْنِ. والثاني: أنه يَبَرُّ بالإِخبار وصورة الرفع، وهذا أظهر، وبه أجاب صاحب "التهذيب" وهو الذي أوردهَ المتولِّي -رحمهما الله- فيما إذا رأى المنكَر، والقاضي يشاهده، وفي الأحوال جميعاً، لو لم يَرَ الحالف الرفع إليه في حالَةِ القضاء، فلا شيء عليه، وإن قصد عينه، فَلْيخْبِرْه، ولو حلف لا يَرْفَعُ منكراً إلى القاضِي فلانٍ، حَنِثَ بالرفع إليه، وهو قاضٍ، وبعد العزل يعود فيه التفصيل المذكور، وإن قال: إلى القاضي، فيحمل على قاضي البلد حينئذٍ، أو يحنث بالرفع إلَى من ينصب بعد عزله؟ فيه الخلاف السابق، ثم يتكلَّم في لفظ الكتاب ففيه التباس قوله لا أرى منكراً إلا رفعتُه إلى القاضي أراد به ما إذا عيَّن القاضي وإن لم يتعرَّض اللفظ له؛ ألا تَرَى أنه قال: بل عمره وعمر القاضي مهلته، وإنما يتوجَّه هذا اللفظ، إذا كان القاضي معيناً، وقوله "عَقَيبَهُ" "وهل يحمل على القاضي الموجود في الوقت أو على الجنس وجهان" موضع الوجهين ما إذا أطْلَقَ القاضِيَ، ولم يعيِّن، وأراد بالجنس جنْسَ قضاة البلد. وقوله: "ولو بادر، فمات القاضي" يعني في صورة تعيُّن القاضي، وإلا، فموت القاضي الذي قصده لا يؤثر لإِمكان الرَّفْع إلَى قاضٍ آخر، فلو مات الحالِفُ في صورة المبادرة قَبْل أن يصل إلى القاضي، قال في "التتمة" لا كفارة عليه؛ لأنه لم يجدِ
التمكُّنَ، ولا يخرج فيه الخلاف، وقوله: "ولو رأى المنكر بعد اطَّلاَعِ القاضي" إلى آخره، هذه المسألة إنَّما تتوجَّه أيضاً في صُورة التعْيين، وهذه التنزيلاتُ مبنيَّةٌ من لفْظ "الوسيط" وترتيبه. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ حَلَفَ لاَ يُفَارِقُ غَرِيمَهُ فَفَارقَهُ الغَرِيمُ فَلَم يَتْبَعْهُ لَمْ يَحْنَثُ، وَكَذَا لَوْ كَانَا يَتَمَاشَيَانِ فَمَشَى الغَرِيمُ وَوَقَفَ لأَنَّ المفَارِقَ هُوَ الغَرِيمُ إِلاَّ أَنْ يَقُولَ: لاَ يَفْتَرِقُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا حلف، لا يفارق غريمه حتَّى يستوفِيَ حقَّه منه، ففي المسألة نظرات: أحدُهُما: في المفارقةِ، والقولُ فيها على ما مَرَّ في افتراق المتبايعَيْن عن المجْلِس، والرجوعُ إلى العادة، فإنْ فارقه الحالف قبل أن يستوفي حقَّه مختاراً، حَنِث وإن كان ناسياً أو مُكْرَهاً، فعلى القولين المعروفين في النسيان والإِكراه، ولو فارقه الغريم أو فَرَّ منه، فعن أبي علي بن أبي هريرة والطَّبريِّ أن بعض الأصحاب -رحمهم الله- حكى خروجه على قولي الإِكراه؛ لحُصُول المفارقة من غير اختياره، والظاهرُ فيها أنَّه لا يَحْنَثُ الحالِفُ، سواءٌ تمكَّن من التعلُّق به ومنعه أو من متابعته أو لم يتمكَّن؛ لأنه حَلَف على فِعْلِ نفْسِه، فلا يحنث بفعل الغريم، وعلى هذا؛ فلو كانَتْ مفارقته بإذْنِ الحالف وأمْرِهْ لم يحْنَثْ بها أيْضاً وقال القاضي ابْنُ كج: إذا أذن له في المفارقة، ففارقه، كانَ حَانِثاً وزاد الصيدلانيُّ؛ فقال: إن أمكنه منعه من الذهاب، فلم يفعل حَنِث، ويقرُبُ منه ما حَكَى صاحبُ "التهذيبِ" عن شيخه أنَّه، إذا أمكنه متابعته، فلم يتابعه، حَنِث؛ لأنه بالقيام مفارقٌ له، والمشهَورُ ما تقدَّم، ولو كانا يتماشَيَان، فمشى الغريم، ووقَفَ الحالف، قال في الكتاب: "لا يحنث" لأن المفارقة حصلَتْ بحركة الغريم لا بسُكُونِ الحَالِفِ، والأظهر، وهو الجواب في "التتمة" و"التهذيب" ويُنْسَبُ إلى القاضي الحُسَيْن: أنه إذا مضى أحدهما في مشيه، ووقف الآخر يحنث الحالف؛ لأنه إن وقف الحالف، فقد فارقه بالوقوف؛ لأن الحادث هو الوقوف فتنسب المفارقة إلَيْهِ، بخلاف ما إذا كانا ساكنَيْنِ فابتدأ الغريم بالمشي لأن الحادث هناك المشْيُ، وإن وقف الغريم فقد فارقه الحالف حين مشَى مع العلم بوقوفه، وحيث قلْنا: لا يحنث الحالفُ بمفارقة الغرِيم، فلو فارق المكان بعد ذلك، لم يحنث، ولو قال: لا تفارقني حتى أَستوفِيَ حقِّي منكَ أو حتَّى توفِّيَنِي حقِّي، فاليمين ههنا منعقدة على فعْل الغريم، فإن فارقه الغريمُ مختاراً، حَنِثَ الحالف سواءٌ كانَتْ مفارقته بإِذنه أو دون إذْنه، وعن صاحب "التهذيب" أنه إنْ فرَّ منْه، ففي حِنْثِه القولان في الإِكراه، والظاهرُ الأول؛ لأن الحلف على فِعْله، وهو مختار في القرار، فإن فارقه ناسياً أوَ مُكْرَهاً، خرج الحِنْث على القولين، ونقل صاحِبُ "التهذيبِ" طريقةً أخرَى قاطعةً بأنه يحنث، والاختيار يعتبر في
فعل الحالف، لا في فعل غيره، والمذهبْ الأول، فر الحالف من، الغريم لم يحنث، ويجيء وجه؛ أنه إن تمكَّن الغريم من متابعته، فلم يفعل، يحنث ولو قال: لا أفترق أنا وأنت حتى أستوفي حَقِّي، أو لا نَفْتَرِقَ لا أنا ولا أنت، فاليمين منعقدةٌ علَى فعل كل واحدٍ منهما، فأيهما فارق الآخر مختاراً، حَنِث الحالف لحُصُول الافتراق، وإن فارق مكرهاً أو ناسياً، ففيه الخلافُ، ولو قال: لا افترقنا حتى أستوفيَ أو لا نَفْتَرِقُ، فوجهان: أحدُهُما: أنه لا يحنث حتَّى يفارق كلُّ واحدٍ منهما صاحبَه، ولا يكفي وجود المفارقة من أحَدِهِمَا. وأظهَرُهُمَا: وهو المذكور في الكتاب: أنه يحنث الحالِفُ مهما فارق أحدهما الآخر؛ لأنه يصدق القولُ بأنهما افْتَرَقَا. النظر الثاني: في استيفاء الحَقِّ، فإذا قال: لا أفارقك حتَّى أستوفِيَ حقِّي منك، ثم أبرأه وفارقه، حَنِث؛ لأنه فوَّت البِرَّ على نفسه، وهل يحكم بالحِنْث عند الإِبراء أو بعد المفارقة يجيء فيه خلافٌ مرَّ في نظائره، ولو أفلس الغريمُ، فمنعه الحاكمُ من ملازمته، ففارقه فعَلَى قولَي المكره، وإن فارقه باختياره، حَنِث، وإن وجب تركه وإِنظارُهُ شرعاً، كما لو قال: لا أصلي الفَرْضَ، ثم صلَّى، حَنِثَ، وإن وجبت الصلاة عليه شَرْعاً، وإن أحاله الغريمُ عَلَى إنسان أو أحَالَ غَرِيماً له عليه، ثم فارقه فطريقان: أحدهُما: البناء على أن الحوالة استيفاءٌ أو اعتياضٌ، إن قلنا: الأول، لم يحنث. وأصحُهما: أنه يحنث بكل حال؛ لأنه ليس باستيفاءٍ حقيقةً، وحيث جعلْناه استيفاءً فمعناه أنه كالاستيفاءِ فِي الحُكْم، نعمْ، إن أراد أنه لا يفارقه، وعليه حقُّه، لا يحنث، ولو أخذ عوضاً عن حقه وفارقه، يحنث إلا أن يريد ما ذكرنا, ولا فرق بين أن يكون قيمةُ العِوَض مثلَ حقِّه أو أقل أو أكثر؛ لأنه لم يستَوْفِ حقَّه، وإنما استوفَى بدله وعند أبي حنيفة، لا يَحْنَثُ وبه قال مالكٌ، إذا لم يكن قيمته أقلَّ من حقه، ولو استوفَى حقه من وكيل الغريم، أو من أجنبيٍّ تبرَّع به عليه، ثم فارقه، حَنِث، إن قال: حتى أستوفِيَ حقِّي منك، ولم يحْنَثْ، إن اقتصر على قوله "حتى استوفي حقي"، وإن فارقه بعد الاستيفاء، ثمَّ وجَدَ ما استوفاه ناقِصاً، لم يحْنَثْ، إن كان من جنْسِ (¬1) حقِّه، لكنه ¬
أراد، وإنْ لم يكُنْ من جنسه بأنْ كان حقُّه الدراهم، فخَرَج ما أخذه نُحَاساً أو مغشوشاً، فإن كان عالماً بالحَالِ، حَنِث، وإلا، فعلَى قولَي الناسِي والجاهِل. فَرْع: لو حلف الغريم؛ لَتَقْضِيَنَّ حقه قبل أن يفارقه أو حَلَف لا يفارقُهُ حتَّى يقضي حقَّه، فالقول في مفارقته مخْتاراً أو مُكْرَهاً، وفي الحوالة والمصالَحَةِ وغيرها علَى قياس ما سَبَق، ولو حَلَف، لا يعطيه حقَّه، فأعطاه مُكْرَهاً أو ناسياً فهو على الخلاف، ولو قال: لا يأخذ أو لا يَسْتَوْفِي، فأخذ حَنِث، سواءٌ كان المعطِي مُكْرَهاً أو مختاراً، ولو كان الآخذ مُكْرَهاً، ففيه الخلاف. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ حَلَفَ لَيَضْرَبَنَّهُ مَائَةَ خَشَبَةَ حَصَلَ البَرُّ بَأَنْ يُضْرَبَ بعِثْكَالٍ عَلَيْهِ مِائَةُ شِمْرَاخِ وَإِنْ قَلَّ الأَلَمُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْكَبِسَ جَمِيعُ الشَّمَارِيخَ، وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَمِسَّ آحَادُهَا بَدَنَهُ، وَلاَ بَأْسَ بِحَائِلٍ لاَ يَمْنَعُ أَصْلَهَا مِنَ الضَّرْبِ، وَلَوْ شَكَّ فِي التَّثْقِيلَ وَالانْكِبَاسِ لاَ يَحْنَثُ لأَنَّ الضَّرْبَ سَبَبٌ ظَاهِرٌ فِي الانْكِبَاسِ، وَلَوْ قَالَ: لاَ أَدْخُلُ الدَّارَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ زَيدٌ فَدَخَلَ وَمَاتَ زَيْدٌ وَلَمْ يَعْرِفْ مَشِيئَتَهُ حَنِثَ لأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ المَشِيئَةِ وَلَيْسَ لَهَا سَبَبٌ ظَاهِرٌ، وَقِيلَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى مِائَةِ سَوْطٍ بَدَلَ الْخَشْبَةِ لَمْ يَكْفِهِ الشَّمَارِيخُ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ مِائَةَ سَوْطٍ وَيَضْرِبَ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَلْنَقْتَصِرْ: عَلَى هَذَا القَدْرِ فَإِنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الصُّورَةِ لاَ تَنْحَصِرُ أَلْبَتَّةَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا حلف على الضرْب، تعلَّقت اليمين بما يُسمَّى ضرباً، ولا يكفي فيه وضع اليد والسَّوْطِ ورفْعُهما، والعَضُّ والقرص والخنق ونتف الشَّعْر ليس بضَرْبٍ، خلافاً لأبي حنيفة وأحمد -رحمهما الله- وفي الوكز واللكز واللطم وجهان: أصحُّهُما: أنه ضرْبٌ، وهو الذي أوردناه في "كتاب الطلاق" ولا يُشْترطُ فيه الإِيلام؛ ألا ترى أنه يُقَالُ: ضربه، ولم يُؤْلِمْه، ويخالف الحدَّ والتعزيرَ يعتبر فيهما الإِيلام؛ لأن الغرض هناك الزجر، وإنما يحصل ذلك بالإِيلام، واليمين يتعلق بالاسم، وقَال مالكٌ: يُشترطُ الإِيلام، وللأصحاب وجه مثله، وقد ذكرنا، في الطلاق (¬1)، ولو حلف؛ لَيَضْرِبَنَّ عبده مِائَةَ خَشَبَةٍ، أو لَيَجْلِدَنَّهُ مائَةً، فضربه بِعِثْكَالٍ عليه مائةُ شِمراخ ضَرْبَةً واحدةً، حصل البر، إِذا تيقَّنَ أن الكل أصاب بدنه، واعْتُمِدَ فيه قولُهُ تعالَى في قصة أَيُّوبَ -عليه السلام- {وخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بهِ وَلاَ تَحْنِثْ} [ص: 44] وفيه عدول عن موجب اللفظ، فإنه لم يضربه بمائة خشبة، فإن شد مائة سوط، فضربه، فقد ¬
وفَّي بموجب اللفظ، وما معنى إصابةِ الكلِّ؟ الظاهرُ أنه لا يشترط أن تُلاَقِيَ القضبانُ بدنه أو ملْبُوسَهُ، بل يكفي أن ينكبس وينكسر بعْضُها علَى بعض بحيث يناله ثقلُ الكُلِّ، ولا يضر كون البعض حائلاً بين بدنه وبين البَعْض، كالثيابِ وغَيْرِها، مما لا يمنع تأثُّر البَشَرَةِ بالضرب، وفيه وجه أنَّه لا يكفي الانكباس، بل لا بدّ من مُلاَقَاة الجميع بدنه أو ملبوسه، وإن تَيَقَّن أنه لم يصبْه الكلُّ، لم يَحْصُلِ البِرُّ، وإن شك في أنه، هل أصابه الكل فالنص أنه لا يحنث ونقل المُزنيُّ عن نصِّه، فيما إذا حلف، لَيَدْخُلَنَّ الدارَ اليوم إلا أن يشاء زيْدٌ، فلم يدخل ومات زيد ولم يعلم هل شاء أم لا؛ أنه يحنث. وفيهما طريقان للأصحاب: أحدُهُما: تقرير النصَّيْن، والفرق أن الضَّرْب سَبَبٌ ظاهرٌ في الانكباسِ والتثقيل، فيُكْتَفَى به، فههنا لا أمارة تدُلُّ علَى أن فلاناً شاء والأصلُ عدم المشيئة. والثاني: أن في الصورتين قولَيْنِ بالنقْلِ والتخْريج: أحدهُما: لا يحنث؛ لأنَّا لم نتحقَّقْ مخالفة اليمين، والأصلُ عدم الحنث وبراءة الذمة. والثاني: وبه قال أبو حنيفةَ والمُزنيُّ -رحمهما الله- يحنث؛ لأن الأصلَ عدم الإِصابة للمشيئة، وشُبِّهَ القولان بالقولَيْنِ في إعتاقِ العَبْد المنقَطِع الخَبرَ عن الكفارة، والظاهرُ ههنا أنه لا يحنث، وإن أثبت الخلاف، وفي مسألة المشيئة أنه يحنث (¬1). ولو حلف؛ لَيَضْرِبَنَّهُ مائة مرةٍ، فضربه مرةً بالعِثْكَالِ أو بالمائةِ المشدُودة، لِم يَبَرَّ، لأنه لم يضربْه إلا مرَّةً، ولو حلف؛ لَيَضْرِبَنَّهُ مِائَةَ ضَرْبَةٍ، ففيه وجهان: أظهرُهما: وهو الذي أورده الصيدلانيُّ: أن الجواب كذلك؛ لأنَّه لم يضربْهُ إلاَّ ضربةً واحدةً. والثاني: يَبَرُّ؛ لأنه يحْصُلُ بكلِّ واحدٍ ضربةً، ولهذا يسقط به حدُّ الزنا, ولو حلف لَيَضْرِبَنَّهُ بالسوط، لم يَبَرَّ بالعصا والشماريخ؛ لأنه لا يقع عليهما اسم السوط، وإذا قال: مائةً سَوْطٍ، فالظاهر أنه لا يحْصَلُ البِرُّ بأن يضربه بعِثْكال عليه مائةُ شِمراخٍ، ولكن يبر بأن يجمع مائةَ سَوْطٍ ويشدَّها، ويضربَه بها دفعةً واحدةً، أو خمسين وَيضْرِبُه بها دفعتَيْنِ ¬
أو سوطَيْنِ، ويضربه بهما خمسين مرةً بشرط أن يعلم إصابَة الكلِّ على ما سبق، وفيه وجه: أنه إن ذكر السوط، يبَرُّ بالعِثْكال كما في لفظ الخشبة، وهذا ما أورده صاحبُ "التهذيب". وقوله في الكتاب "حصل البر" يجوز أن يعلم بالميم والألف؛ لأن عن مالكٍ وأحمَدَ أنَّه لا بِرَّ من مائة ضربة متفرقة، وحَكَى ذلك عنهما فيما إذا قال؛ لأَضْرِبَنَّهُ مِائَةَ سَوْطٍ، وفيما إذا قال: لأجلَدَّنَّهُ مائةً، ويُشْبِه أن يكونَ الحُكْمُ في صورة الكتاب كذلك. وقوله "ولا يشترط أن يمَسَّ آحادها بدنه" معلم بالواو. وقوله "ولو شكَّ في التثقيل والانكباس لا يحنث" معلم بالحاء والزاي وقوله "ولو قال: لا أدخل الدَّار إلا أن يشاء زيد" جعل صاحبُ الكتاب ههنا وفي "الوسيط" هذه الصورةَ محَلَّ تصرُّف الأصحاب في حكمها، وحكم مسألةَ الضرب بالطريقين، ولعلَّه أَتبع فيه الإِمامَ -رحمهما الله- والذي أورده المُزَنِيُّ، ونقله جمهورُ الأئمَّة -رحمهم الله- ما قدَّمنا، وهو ما إذا قال: لأدخلَنَّ الدارَ اليوم إلا أن يشاء زيْدٌ، فأما طرف النفْي، فقد ذكرناه في الباب الأوَّلِ، وبيَّنَّا ما نقل فيه الربيعُ وما تكلَّم لأصحاب عليه. قَالَ الغَزَالِيُّ: خَاتِمَةُ: كُلُّ مَا عَلَقَّهُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَإذَا حَصَلَ بغَيْرِ اخْتِيَارِهِ إِمَّا بِالإِكْرَاهِ أَوْ بِالنِّسْيَانِ وَإِمَّا بالجَهْلِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ، وَصُورَةُ الجَهْلِ أَنْ يَقُولَ: لاَ أَسَلَّمُ عَلَى زَيْدُ ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِ فِي ظُلْمَةٍ وَهُوَ لاَ يَعْرِفُهُ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى الدُّخُولِ فَحُمِلَ قَهْراً وأُدْخِلَ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ حُمِلَ بِإِذْنِهِ حَنِثَ، وَإِنْ سَكَتَ مَعَ القُدْرَةِ فَفِيهِ خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا وجد القول أو الفعْلَ المحلوف علَيْهِ علَى وجْهِ الإِكْرَاه، هل يحْنَثُ الحالِفُ؟ فيه قولان منصوصان جاريان في تعْلِيق الطلاق علَى ما قدَّمنا: أحدُهُما: وبه قال أبو حنيفةَ ومالكٌ -رحمهما الله- أنه يحنث؛ لأن صورة المحلوف عليه قَدْ وُجِدت، والكفارةُ لا تسقط بالأعذار، ألا ترى أنه قد يَجِبُ عليه أن يُحْنِث نفسه، ومع ذلك يلزمه الكفارة، وأيضاً، فإن ما تعلَّقت به الكفارةُ، إذا وُجِدَ بالاختيار، تعلَّقت، وإن وُجِدَ لا بالاختيار كقتل الصيد. وأصحُّهُمَا: على ما ذكر أبو حامد والقاضي والشيخ والقاضي ابن كج والرويانيُّ وغيرهم -رحمهم الله-: أنه لا يحنث، ولا يلزمُه الكفارةُ: لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ والنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" (¬1) وأيضاً، فإنَّه لو حلف مُكْرَهاً، لا تنعقد يمينه، فكذلك الْمَعْنَى الذي يتعلَّق به الحِنْث، إذا وجد على وجه الإِكراه ينبغي أن ¬
يَلْغُوَ والجامع أنه أحد سبببي وجوبِ الكفارة، وأيضاً، فالإِكراه معنى، لو قارن كلمةَ الكُفْر لا يتعلَّق بها حكْمُها، فكذلك إذا قارنَ سبَبَ الكفَّارة قيَاساً على الجنون، وعن أبي الطيِّب بن سلمة القَطْعُ بأنه لا يَحْنَث؛ لأن الشافعيَّ -رضي الله عنه- اختاره وأبْطَلَ القَوْلَ الآخر، والمشهورُ إثباتُ القولَيْنِ، ويجريان فيما لو وجد المحْلُوفُ علَيْه علَى وجه النسيان، وقد ترتَّب النسيان على الإِكراه، ثم تارةً يجعل الناسي أولَى بألاَّ يحنث؛ لأن النسيان أكثر وقوعاً، فهو أولَى بأن يُجْعلَ عذراً، وتارة يجعل الناسي أولَى بأنْ يحنث؛ لأنه قد ينسب إلى التقصير بترك التحفظ، ويدل عليه أن من أكره علَى إتلاف مال الغير، لا يستقر عليه الضمان، ومن أتلفه ناسياً يَسْتَقِرُّ عليه الضمان، ويَخْرُجُ ومن الترتيب طريقتان؛ تقطع إحداهما بالحِنْث، والأخرى، تمنع الحنث، ويجري الخلاف في صورة الجهل مثل أن يدخل الدَّارَ، وهو لا يعرف أنها الدَّار التي حلف ألا يدخلها، ومثل أن يحلف لا يُسلِّم على زَيْدٍ، ثم سلَّم عليه في ظلمة، وهو لا يدري أنه زيد، وقد يرتب الجاهلُ على الناسِي، ويجعل الجاهل أولَى بالحنث؛ لأنَّ الجاهل الغالِطَ في غروب الشمْسِ يُفْطِر، والناسي لا يفطر، وعن أحمد -رحمه الله- في الصور روايتان كالقولين، ورواية ثالثة أن الحنث لا يحصل، لكن لا يقع الطلاق إذا وجد الفعْلُ المعلَّق عليه على أحَدِ هذه الوجوه، وردَّ الأصحابُ ذلك ونَفَوُا الفَرْق، وفيه دليل على أنهم لا يرتضون مَا يُحْكَى عن اختيار القفَّال من وقوع الطلاق ونَفْيِ الحِنْث؛ لأن اليمين والمحافظة عليها أشبه بالعبادات، فيؤثر فيها النسيان، وإذا حكَمْنا بعدم الحِنْث، فهل ينحل اليمين فيه وجهان: أحدهُما: نعم؛ لأن الفعل موجودٌ حقيقةً، وإنَّما لم يثبت حكْمُ الحِنْث للعُذْر. وأشبهُّهما: وبه أجاب الصيدلاني: أنه لا ينحل اليمين؛ لأنا إذا لم نُحَنِّثْه، لم نجعل يمينه متناولةً لما وجد، إذ لو تناوله يحنث كما لو قال: لا أفعل طائعاً ولا مُكْرَهاً، إذا لم يتناوْلُه, ثم وجد ما يتناوله، لِزَمَ الحنث، وإذا حلَف؛ لا يدخل الدَّارَ، فانقلب في نوْمِه، وحصل في الدار، لم يحْنَث، وإن حُمِلَ قهراً، وأُدْخِلَ، فقد قيلَ هو على الخلاف فيما لو أُكُرِهَ حتَّى دخل لأنه حصل في الصورتَيْنِ الدخول بغَيْر اختياره، والصحيحُ وهو المذكور في الكتاب: أنه لا يحنث؛ لأن اليمين انعقدتْ علَى دخوله، ولم يوجد منه الدخولُ لا طائعاً ولا مُكْرَهاً، وإنما الموجود إدخالُهُ الدار، ولذلك نقول: لا ينحل به اليمين، والحالة هذه، بلا خلاف، ولو حُمِلَ بغير إذنه لكنه كان قادراً على الامتناع، فلم يمتنع، فالظاهر أنه لا يحنث أيضاً؛ لأنه لم يوجد منه الدخول، ومنْهم مَنْ جعل سكوته بمثابةِ الإِذْن في الدخول، وبه قال مالكٌ -رحمه الله- ولو حُمِلَ بأمره, حَنِث، وكان كما لو ركب دابة ودخلها، ويَصْدُقُ، أن يُقَالَ، والحالة هذه: دخلها على ظَهْرِ فلانٍ كما يَصْدُق أن يقال: دخلها راكباً.
وقوله في الكتاب "كل ما علقه على فعل نفسه" الحُكْمُ لا يختص بفعل نفسه، بل سواءٌ كان فعلَهُ أو فعْلَ غيره، فإذا وجد بالإِكراه أو النسيانِ، ففيه الخلافُ، هذا هو الظاهر، وفيه شيء قدَّمناه في "مسألة الحلف" على مفارقة الغريم. وقوله "ففيه قولان" معلم بالواو، للطرق المذكورة (¬1)، وكذا قولهُ "لم يحنث". قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ زَيْدٌ وَاسْتَثْنَاهُ بِقَلْبِهِ أَوْ بِلَفْظِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَثْنِ حَنِثَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ قَالَ: لاَ أَدْخُلُ عَلَى زَيْدٍ فَدَخَلَ عَلَى قَوْمٍ هُوَ فِيهِمْ وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ دُخُولَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ دَخَلَ وَلَمْ يَعْلَمُ فَقَوْلاَنِ مُرَتَّبَانِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ وَحْدَهُ وَهُوَ جَاهِلُ وَأَوْلَى بِأَلاَّ يَحْنَثَ، وَإِنْ دَخَلَ لِشُغْلِ آخَرَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ فِيهِ وَكَانَ وَحْدَهُ فَالنَّصُّ أنَّهُ لاَ يَحْنَثُ لانْضِمَامِ الجَهْلِ إِلَى صَارِفٍ عَنْهِ إِلَى الشُّغْلِ، وَفِيهِ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صورتان: إحداهما: إذا حَلَف؛ لا يُسلم على زيد، فسلَّم على قوم فيهم زيدٌ، ولم يعلَمْ أنه فيهم ففي الحنث قولاً حنث الناسي والجاهل، وإن علم أنه فيهم ونوى السلامَّ عليه معهم، حَنِث، وفيه ما حكينا عن "البيان" فيما إذا حلف لا يكلَّم فلاناً، ثم سلم على قوم، هو فيهم، وقصده بالسلام، وإن استثناه بلفظه فقال: إلا على فلان، لم يَحْنَث، وإنْ عزله واستثناه بنيته، فكذلك، وقد أراد، بالعامَّ الخاصَّ، ومنهم من أثبت فيه خلافاً يذكر في الصورة الثانية، وإن أطلق، ولم يقصد شيئاً، فعلى قولَيْن ذكرنَاهُما فيما إذا حَلَف لا يكلِّم فلاناً، فسلَّم على قومٍ، هو فيهم، وأطلق، وقد يوجه المنع أيضاً بأنه لم يسلِّم عليه خاصَّةً، وهو المفهوم من مطْلَق لفْظه، والظاهِرُ الحِنْث، وقوله في الكتاب "ولو سلم على قوم فيهم زيدٌ" يعني: فيما إذا حلف لا يسلِّم على زيد، ولم يستكمل ذكر الصورة اكتفاءً بما تقدَّم في قوله وصورة الجهل أن يقول: لا أسلِّم على زيد. الثانية: لو قال: لا أدخُلُ على زيْدٍ، فدخل على قوم هو فيهم، فاستثناه بقلبه، وقصد الدخول على غيره، ففيه طريقان: أحدُهُما: وهو المذكور في الكتاب، وفي "التهذيب" أنَّ فيه قولَيْنِ أو وجهَيْنِ: أحدهما: أنه لا يَحْنَث؛ لأنَّ مقصُودَه الدُّخُول على غيره. والثاني: يحْنَثُ؛ لوجود صورة الدخول على الجميع، وأشار ابنُ الصَّبَّاغ وعَيْرُه إلَى أحد القولَيْن من قولَيْن للشافعيِّ -رضي الله عنه- فيما إذا حلف لا يكلِّم فلاناً، ¬
فسلم على قوم هو فيهم واستثناه بقلبه، هل يحنث؟ هكذا ذكره، وإذا تأمَّلْتَ كلامهم في تلْك المسألة, وجدتَّهم مشيرين إلى القطع بأنه لا يَحْنَث أو مصرِّحين به، ومنْهم مَنْ يجعل الخلاف ههنا أصْلاً، ثم يجريه في مسألة السَّلام، وكيف ما قدر، فالظاهر في الدخول أنه يَحْنَث وفي مسألتي الكلام والسلام؛ أنه لا يحنث، والفرق أن الدُّخُولِ فِعْلٌ لا يدخله الاستثناء، فلا ينتظم أن يقول: دخلْتُ عليكم إلا علَى فلانٍ، ويصح أن يقولَ: سلَّمْتُ عليكُمْ إلا علَى فلان. ولو دخَلَ بيتاً، فيه زيد، ولم يعلم أنه فيه، فالْحِنْثُ على القولين في الجاهل والناسي، ولو كان في جماعة، ولم يعلم، فقد رتَّب في الكتاب هذه الصورة علَى الصُّورَ السابقة، وجعلها أولَى بألا يحنث؛ لأنه إذا لَمْ يَعْلَمْ به كان قصده الدخولَ علَى غيره، فينضمُّ ذلك إلى الجهل، ولو كان زيدٌ في البيت، ولم يعلم به، ودخل لشُغْل آخَرَ من نقلِ متاع وغيره، فهذه الصورة أولَى بعدم الحِنْث لانضمام قصْدِ الشغل إلى الجهل، وذكر الإِمام -رحمه الله- أن الشافعيَّ -رضي الله عنه- نصَّ في هذه الصورة علَى أنه لاَ يَحْنَثُ، وأن الرَّبيع خرَّج قولاً آخر، وجعله على الخلاف في النسيان والجهل. وقوله "لانضمام الجهل إلى صارفٍ عنه إلى الشغل" كأنه يعني عنه إلى صارف الدخول على أنه زيد إلى الشغل، والصارفُ هو قصْدُ الشغل، وإن علم أنه فيه، وقصد الدخول؛ لشغل آخر، ففيه طريقان: أحدُهُمَا: أنه كما لو كان مَعَه غيره، فقَصَدَ الدخُولَ على غيره. والثاني: القطْعُ بأنه يحْنَثُ؛ لأن هناك غيْره مدخول عليه، فأمكن صرْفُ الدخول إلَيْه بالنية، والمتاعُ لا يمكن أن يكونَ مدخولاً عليه وللأول أن يقول: نعم، ولكن إذا دخل لنقل المَتَاع، أمكن أن يُقال: لم يدخل علَى أحدكما، إذا دخل لنَقْلِ المتاع، لم يكُنْ فيه زيدٌ ولا غيره، وإنْ كان الحالِفُ في بَيْتٍ، فدخل عليه زيْدٌ، نظر؛ إنْ خرج الحالفُ في الحال، لم يَحْنَث، وإن أقام، فقد بُنِيَ الحِنْثُ على الخلاف في أن استدامة الدُّخُول، هل هي دخولٌ؟ إن قلْنا: نعم، حنث، وإلا فلا، وأُشِيرَ إلى طريقة أخْرَى قاطعةٍ بأنه لا يَحْنَثُ، ووجَّهها ابنُ الصبَّاغ بأنا إذا جعلنا استدامة الدخول كابتدائه، كانا كالداخلَيْن معاً، فلا يكون أحدُهما داخلاً على الآخر (¬1). هذا ما اشتمل عليه الكتاب من أبواب "الأيْمَانِ" بشرحها ونختمه بأصول مأثورةٍ وفروعٍ منثورةٍ في فصْلَيْنِ. ¬
الأول: "في الأصول". لا ينعقد يمينُ الصبيِّ والمجنون، ولا يمين المكْرَهِ، رُوِيَ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَيْسَ عَلَى مَقْهُورٍ يَمِينٌ" (¬1) وفي يمين السكران الخلافُ المذكور في الطلاق، وينعقد يمين الكافر. حلَف؛ لا يدخل الدَّار، ثم قال: أردتُّ شهراً أو يوماً، فإِن كانَتِ اليمينُ بالطلاق أو العَتَاقِ، لم يقبل في الحكم، ويُدَيَّنُ فيما بينه وبيْن الله تعالَى، ويلحق بهما الإِيلاء، لتعلُّقه بحق الآدميِّ، وإن كانتِ اليمينُ بالله تعالَى، ولم يتعلَّق بحق الآدمي، قُبِل ظاهراً وباطناً؛ لأنه أمِن حقوق الله تعالَى، وعن أبي حنيفة: أنه تَلْغُو نية التأقيت ولو حلف لا يكلِّم أحداً، ثم قال: أردتُّ زيداً أو مَنْ سِوَى زيد أو لا يأكل طعاماً، ونوى طعاماً بعينه، تخصَّصت اليمين، ورُوِيَ عن أصحاب أبي حنيفة خلافُهُ عن القَفَّال، قال: سمعت الشيخَ أبا زَيْدِ يقول: لا أدري علَى ماذا بَنَى الشافِعيُّ -رضي الله عنه- مسائِلَ الإِيْمَانِ، إن كان يَتَّبعُ اللُّغَة فمن حلف لا يأكل الرؤوس، ينبغي أن يحنث برأْسِ الطير والحيتان، وإن أَتبع العُرْف والعادَةَ، فأصحاب القُرَى لاَ يَعُدُّون الخيام، بيوتاً، وقد قال الشافعيُّ -رضي الله عنه- الفرق بين القَرَوِيِّ والبَدَوِيِّ، وقد قدَّمنا ما يتمهد به الفرق بين هاتَيْن المسألتين، وفيهما ما يتبين أنه يتبع قضيَّة اللغة تارةً، وذلك عند ظهورها وشمولها، وهو الأصلْ، والعُرْفِ عنْد الاستمرار والإِطَّرَاد أخْرَى. اللفظ الخاص في اليمين لا يتعمَّم بالسبب والنية، والعامُّ قد يتخصَّص: مثال الأول: إذا مَنَّ على غيره بما نَالَ منه، فقال: والله أشرب لك بعد هذا ماءً منْ عطَشٍ، ينعقد اليمين على المَاءِ خاصةً، ولا يحنث بأكل طعامِهِ، ولبس ثيابه، وإن نوى أنه لا ينتفع بشيء منه فالمنازعة الجارية بينهما تقتضي ما نواه، وإنما تؤثِّر النية، إذا احتمل اللفظُ المنويُّ بجهة يتجوَّز بها، وعند مالكٍ، يحْنَث بكل ما ينتفع به من ماله، قال الشيخ أبو حامدٍ، وأصل الخلاف أن الاعتبار عَنْدنا باللفْظ ويُرَاعَى عمومُه، وإنْ كان السبب خاصّاً، وخصوصه وإنْ كان السبب عاماً، وعنده الاعتبار بالسبب دون اللفظ، وأما تخصيص العام، فتارةً يكون بالنية، كما ذكرنا فيما إذا قال: لا أكلِّم أحداً، وتارةً يعرف الاستعمال، كما مرَّ في قول: لا آكل الرؤوس وتارةً يعرف بالشرع، كما يحمل قولُه "لا أصلي" على الصلاة الشرعية. ¬
اللفظ بحقيقته، ويُصْرَف إلى المَجَاز تارةً بالنية، كما إذا قال: لا أدخل دار زيْدٍ، وقال: أردتُّ ما يسكنه، فيُقْبَلُ في الحلف بالله، ولا يقبل في الحُكْم، إذا حلف بالطلاق والعتاق، وذكر ابنُ الصَّبَّاغ وغيره -رحمهم الله- تارةً يكون المجاز متَعارفاً، وكون الحقيقةِ بعيدةً، ومثَّله القاضي الحُسَيْن بما إذا حلَف، لا يأكل من هذه الشجرة، تُحْمَل اليمينُ على الأكْل من ثمرتها, ولا تُحْمَلُ على الأوراق والأغصان، فإن كانتِ الحقيقةُ متعارفَةً، حُمِلَت اليمين علَيْها كما إذا قال: لا اَكل من هذه الشاة، تحمل اليمين على الأكل مِنْ لحمها، فلا يحنث بالأكْلِ من لبنها ومن لحم نتاجها. ذكر القاضي ابنُ كج -رحمه الله- أنه إذا قال: والله لا دخلْتُ الدار، واللهِ لا دخلْتُ الدارَ، ونوى التأكيد، فهو يمين واحد، وإن نوى بالثاني يميناً أخرَى، وأطلق، فيلزمه بالحِنْث كفارةٌ أو كفارتانِ؟ فيه وجهان، وأنه لو قال: واللهِ، لا دخلْتُ الدارَ، لا دخلْتُ الدار، ولم يُعِدِ اسم الله، فهو يمين واحدةٌ، إن نوى التأكيد، وكذا إن أطلق على الظاهر، وإن نوى الاستئناف، قال: عندي أن الجواب كذلك، وجعله أبو الحُسَيْن علَى وجهين عن الحُلَيْمَّي: أن اليمين المعقودة على المملِوكِ المضافِ يعتمد المالك دون المملوك، والمعقودُ علَى غير المملوك المضافِ دُونَ المضاف إليه، فإذا حلف، لا يكلِّم عَبيدَ فلان، ولا عَبْدَ له، ثم ملك عبيداً فكلمهم، يحنث، ولو حلف؛ لا يكلِّم بنيه، ولا ابن له، ثم ولد له بنونَ، فكلَّمهم، لا يحنث؛ لأنهم لم يكونوا موجودِيَن يوم حلَفَ، حلف لا يكلم الناس ذكر ابنُ الصَّبَّاغ وغيرُه -رحمهم الله- أنه يحنث إذا كلَّم واحداٌ، كما إذا قال: لا آكل الخُبْزَ، يحنث بما أكل من الخبز. ولو حلف لا يكلِّم ناساً ذكر بعض الأصحاب -رحمهم الله- أن اليمين ينصرف إلى ثلاثة، ويوافق الأوَّلُ ما في كتب أصحاب أبي حنيفة أنَّ لفظ الجمع، إذا دخله لامُ التَّعْرِيف، كان للجِنْس حتَّى إذا قال: إن تزَّوجْتُ النساء أو اشترَيْتُ العبيد، فامرأتي طالقٌ، وقع الطلاق بتزوُّج امراة واحدةٍ وشراءِ عَبْدٍ واحدٍ، ولفظ "الناس" لفظ جمعٌ ويوافق الثاني ما ذكروا أنه لو قال: إن تزوجْتُ نساءً أو اشتريت عبيداً، حُمِل على ثلاثة. في كتب أصحاب أبي حنيفةَ -رحمهم الله- أن المَعْرِفَةَ لا تدْخُل تحت النكرة لمغايرتها، فإذا قال: لا يدخُلُ داري واحدٌ أو لا يَلْبَسُ قميصي، دخل فيه غَيْرُ الحالف، ولم يدخل الحالف؛ لأنه صار مُعْتَرِفاً بإضافة الدار والقميص إلَى نفسه، وذكر؛ لو عرف نفسه بإضافة الفعْل، كما إذا قال: لا أُلْبِسُ هذا القميصَ أحداً أو عرف غيره بإضافة الفعل إليه، فقال: لا يدخل دارَ فلانٍ أحدٌ، ولا يلبس قميصَه، لم يدخلِ المضافُ إليه؛ لأنه صارُ معَرَّفاً، وكذا لو قَالَ: لا يقطع هذه اليد أحدٌ، وأشار إلَى يده، لم يدخل هو؛
لأنه متصلٌ به، فصارُ معرفاً، وقد يتوقَّف في هذه الصور الأخيرة، والسابق إلى الفَهْم مما قبلها ما ذكروه، ويجوز أن يخرج الصور الأولَى على الخلاف في أنَّ المخاطب، هل يندرج تحت الخطاب؟. وفيها أن كلمة "أو" إذا دخلت بين نفيين، اقتضت انتفاءهما، كما قال تعالَى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمَاً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] وإذا دخلَتْ بين إثباتين، اقتضت ثبوت أحدهما، فإذا قال: لا أدخل هذه الدار أو حذف "لا" أدخل هذه الدار، فأيتهما دخل، حنث، ولو قال: لأدخلن هذه الدار أو هذه الدار الأخْرَى، يَبَرُّ بدخول واحدةٍ منهما، ولو قال: لا أدْخُلُ هذه الدار أبداً أو لا أدخل هذه الأخْرَى اليوم, فمضى اليوم، ولم يدخل واحدةً منهما، يحنث؛ لأن عدَم دخول الأولَى أبداً شرْطٌ للبِرِّ، وعدم دخول الثانية في ذلك اليَوْمِ شرطُ الحِنْثِ، فإذا وُجِدَ شرطُ الحنث، حنث، ويشبه أن يُقالَ: إذا دخلَتْ بين نفيين، كَفَى للبر ألا يدخل واحدةً منهما, ولا يضرُّ دخول الأخرَى كما أنها إذا دخلَتْ بين إِثباتين، كفي للبر أن يدخل واحدةً منهما, ولا يضر ألا يدخل الأخرَى، وإذا قال: لا أدخل هذه الدار أبداً أو لأدخلَنَّ الدار الأخْرَى اليوم، فإنْ دخل الأخرَى اليوم، بَرَّ، وإن لم يدخلها اليوم، ولم يدخُلِ الأخرى أبداً يبَرَّ أيضاً، وفي "الإِقْناع" للماوردِيِّ أنه إذا قال: أكلْتُ خبزاً أو لحماً يرجع إلَى إرادته منهما، فيتعلق اليمين به. والفصُل الثاني: "في الفُرُوع". حلف؛ لا يدخل هذه، وأشار إلى دارٍ، فانهدمت، حَنِث بدخول عَرْصَتِها, ولو قال: لا أدخل هذه الدار، فانهدمت، يُنْظر؛ إن بقي أصولُ الحيطان والرسُوم، حَنِثَ بدخولها، وإن صارتْ فضاءً، فدخلها, لم يحْنَثْ على المشهور، وجعله الإِمامُ على الوجهين، فيما إذا قال: لا آكُلُ هذه الحنطة، فأكل دقيقَها أو خبزها، وكذا لو قال: لا أدخل داراً، فدخل عرصة كانت داراً، وكذا لو حلف على لَفْظِ البيت، وقال أبو حنيفة في الدار المعينة: يحنث، إذا دخل عرصتها، ووافقَنا في الدار المطْلَقَة في البيت، وقال أحمد: يحنث في الدار والبيت، إذا كانا معينَيْنِ، ولو جعلت الدار مسجداً أو بستاناً أو حماماً، لم يحنث بدخوله، ولو أُعِيدَتِ الدارُ بغير الآلة الأولَى، فدخلها, لم يَحْنَث، وإن أُعِيدَتْ بتلك الآلة، فوجهان. حلف لاَ يَشَمُّ الريحانِ، يحنث بشم الضيمران (¬1) دون الورد والبنفسج والْيَاسَمِينِ والنرجس والمرزنجوش والزعفران، ويُمكن أن يُقَالَ: هذا فيما إذا عرف الريحان، أما إذا قال: لا أَشَمُّ ريحاناً، فيحنث بها جميعاً، فلا يستبعد إطلاق اسم الرياحِينِ عليها، ¬
ولو حلف؛ لا يَشَمُّ مشموماً، حَنِثَ بشم جميع ذلك، ولا يحْنَث بشم المسك والكافور والعُودِ والصَّنْدَل (¬1)، ولو حلف؛ لا يَشُمُّ الوردَ والبِنَفْسَج، فشمهما بعد الجفاف، ففيه وجهان، ولا يحنث بشم دهنهما، خلافاً لأبي حنيفَة في دُهْنِ البنفسج، ولأحمد فيهما جميعاً. حلف لا يستخدم فلاناً، فخدمه من غير أن يَطْلُبَ الحالفُ، لا يحنث؛ خلافاً لأبي حنيفةَ في عبْدِ نفسه. حلف لا يتسرَّى ففيه ثلاثة أوجه عن ابنِ سُرَيْجٍ: أظهُرهما: وَيُحْكَى عن نصه في "الأم" أن التَسرِّيَ يَحْصُلُ بثلاثةِ أمورٍ: بسَتْرِ الجارية عن أعين الناس، والوطءِ والإِنزال. والثاني: يكفي التستُّر والوطءُ وبه قال أبو حنيفة. والثالث: يكفي الوطءُ، وبه قال أحمدُ. حلف؛ لا يقرأ القرآن، فقرأ جُنُباً، حنث، وإن حلف؛ ليقرأنَّ، فقرأه جُنُباً بَرَّ، بخلافِ ما لو نذر أن يقرأ، فقرأ جنباً؛ لأن المقصود من النذر التقرُّبُ، والمعصية لا يَتقرَّب بها وإن حلف أن يقرأ، برَّ بالقراءة جُنُباً وإن عصى، وإن نذر أن يقرأ جنباً، لغا نذره. في "فتاوى القَفَّال" وغيره -رحمهم الله- أنه إذا قال (بخدائي سوكَند خوردم كه با فلان سخن نكَويم) (¬2) فهو يمين؛ لأنه إذا اقتصر على قوله (بخداى) (¬3) كان يميناً، وقولُه (سوكَند بخداى اكَربخانه اندر شوم) (¬4) ولم يكن يميناً فإنه ترجمة قول القائل: بالله، إنْ دخلْتَ الدار، وليس هذا كلاماً تاماً في نفسه بخلاف ما إذا قال: (بخداى كى من بخانه اندر شوم) (¬5) وأنه لو قال: لا أصلِّي علَى هذا المصلى، ففرش عليه ثوباً، وصلى فوقه، فإن نوى أنه لا يباشره بقدميه وجبهته وثيابه، لم يحنث، وإلا، حَنث، كما لو قال: لا أصلِّي في هذا المسجد، فوقف على حصيرة وصلَّى، ولو علَّق به الطلاق، ثم قال: ¬
أردتّ أني لا أباشره، دُيِّنَ، ولم يقبل في الحكم، وأنه إذا حلف؛ لا يكلم فلاناً شهراً، وهو في خلال شهر هلاليِّ، يحنث بثلاثين يوماً، وإن لم يَبْقَ منه إلا يومٌ، وإن حلف في خلال اليوم الأخير، وخرج الشهر بعده ناقصاً كفاه ذلك، وأنَّه إذا حلَفَ لا يكلِّم فلاناً، فولاَّه ظهره، وقال: يا فلانُ، افعل كذا، حَنِث، ولو أقبل على الجِدار، وقال: يا جدارُ، افعل كذا، لم يَحْنَث، وإن كان غَرَضُه إفهامَ ذلك الرَّجُل، وكذا لو أقبل عَلَى الجِدَارِ، ولم يقل: يا جدارُ، ولا يا فلانُ، وأنه لو حلف، لا يلبس ثوباً من غزلها، فرقع برقعة كِرْباس من غزلها، حنث، وعن أبي عاصم العبَّاديِّ: أنه لا يحنث، وتلك الرقعةُ تتبع الثوب (¬1). ولو تكوَّر بعمامة نسجت من غزلها، حَنِث، إن حلف بالعربية، وإن حلف بالفارسية، فلا، وإن الْتَحَفَ بلحاف من غزلها, لم يحنث (¬2)، وأنه لو حَلَف؛ لا يفعل كذا، فجُنَّ، وفعله في حال جنونه، ففي الحنث قولان، وفي "المبتدأ" في الفقه للقاضي الرويانيِّ: أنه لو قال: لا أدخل حانوتَ فلانٍ، فدخل الحانوت الذي يعمل فيه، وهو مِلْكٌ لغيره، لا يحنث، هكذا قال الشافعيُّ -رضي الله عنه- قال: والفتْوَى أنه يحنث؛ لأنه لا يراد به إلاَّ الذي يسْكُنُه، ويَعْمَلُ فيه. إذا قِيلَ له: كلَّم زيْداً اليوم، فقال: والله لا كلمته، فاليمين على الأبد إلا أن ينْوِيَ اليوم، فإن كان ذلك في الطلاق، وقال: أردت اليوم، لم يُقْبَلْ في الحكم (¬3). وعن أصحاب أبي حنيفة -رحمهم الله- أن اليمين ينعقِدُ على اليَوْم، وفي كتبهم: أنه لو قال: وسلطانِ اللهِ، فهو يمينٌ، إن أراد به القدرة، وإن أراد به المقَدور، فلا، وبه نقول، وأنه لو قال: ورحمةِ اللهِ وغَضَبِهِ، لم يكن يميناً، ويشبه أن يُقَالَ: إن أراد إرادةَ النِّعْمة، وإرادةَ العقوبة، فهو يمين، وإن أراد الفعل، فلا، وأنه لو حلف؛ ليَضْرِبَنَّ امرأته حتى يُغْشَى عليها، أو تبول، فهذا على الحقيقة، ولو قال: حتى أقتلها أو ترفع ميتةً، حمل على أشد الضرْبِ ويظهر علَى أصلنا الحَمْلُ على الحقيقة أيضاً، ولو حلف؛ ¬
ليضْرِبَنَّها في كلِّ حقٍّ وباطلٍ، فهذا على الشكاية بحق أو باطل، ويمكن أن يحمل على ما يوجد منها من حق وباطل، ولا يعتبر الشكاية، وأنه لو حَلَف، لا يدخل هَذه الخيمة، فقلعت، وضربت في موضع آخر، فدخلها، حنِث، ولو حلف؛ لا يجلس على هذه الأسطوانة أو الحائط فأعيد بناؤُهُمَا بعْد النقض، وجلس على المُعَاد، لم يحنث، وكذا لو حلف على مقص أو سكِّين أو سيف، فكسر وأُعِيدَتِ الصنعة، ولو نزع مسماراً لِمقَصّ ونصاب السكين، وأُعيدَ نصابٌ آخر، ومسمارٌ آخر، يحنث، ولو حلف لا يقرأ في هذا المُصْحَف، فحطه، ثم قلبت أوراقه، فقرأ فيه، حَنِث، ولو حلف، لا يدخل هذا المسجد، فزيد فيه، فدخل موضع الزيادة، لم يحْنَث، ولو حلَف؛ لايدخل مسْجِدَ بني فلان، فزِيدَ فيه، فدخل موضع الزيادة، حنث، ولو حلَفَ؛ لا يكتب بهذا القلم، فكسره، ثم براه، وكتب به لم يَحْنَث، وبأجوبتهم نُجِيب إلاَّ في هذه الصورة الأخِيرَة (¬1). وأنه لو حلف؛ لا يأكل من كسب فلان، فكسبه ما يمتلَّكه من المباحات، وبالعقود دون ما يرثه، ولو اكتسب فلانٌ شيئاً، ومات، فوَرِثَ منه، ثم أكل منه الحالِفُ، حنِث، ولو انتقل إلَى غيره بشراءٍ أو وصيةٍ، لم يحنث؛ لأن ما قبله غيره ولم يصر مكتسباً له، فيبقى مكتسباً للأوَّل، ويكونُ كما إذا قَالَ: مما زرع، فأكل مما زَرَعه، وباعه من غيره، يحنث، ولك ألاَّ تفرق بينهما، ويُشْترطُ لمكتسبه أن يكون باقياً في ملكه، وقد يتردَّد فيما يدْخُل في ملكه باحتطاب عبده (¬2) وقبوله الهبة والوصية، فيجوز أن يلْحق بما يدخل في ملكه إرثاً، ويجوز أن يُقَالَ: يملك العبد أو إمساكه اكتساب لما يستفيده، ويجوز أن يفرق بين أن يكون العبدُ مُكْتَسَباً أو موروثاً، وأن الحلواء كل حلو ليس في جنسه حامضٌ نحو الخبيص، والعسل والسكر، دون العنب والإِجّاص (¬3) والرُّمَّان، والأشبه أن يشترط في إطلاق الحلو أن يكون معمولاً، وأن يخرج معه العسل ¬
والسكر، فالحلو غير الحلواء (¬1)، وأن الشواء يقع على اللحم خاصَّةً ولا يدخل فيه السَّمك المَشْوِيُّ، وهذا كما أن اسْمَ اللحم لا يقع على السَّمك، وأن الطبيخ يَقَع على اللحم، يجعل في الماء، ويطبخ، وعلَى مرقته، وعن بعضهم أنَّه يقع علَى الشحم أيضاً، ولو طبخ أرز أو عدس بودك (¬2)، فهو طبيخ، ولو طبخ بزَيْتٍ أو سمنٍ، فليس بطبيخ (¬3)، وذكر أبو الحسنِ العباديُّ في "الرقم": أنه إذا حلف؛ لا يأكُل المرق، فهو ما يطبخ باللحم أيَّ لحم كان، لا ما يطبخ بالكَرِش والبطون، والشحم على وجهين، وإنْ حلف؛ لا يأكل المطبوخ، يَحْنَث بما يطبخ بالنار، أو أعلى، ولا يحنث بالمشوِيِّ الطباهجة (¬4) مشوية، ويحتمل غيره. وأن الغداء من طلوع الفجر إلى الزوال، والعشاء من الزوال إلَى نصف الليل، والسحور ما بين نصف الليل إلَى طلوع الفجر، ومقدار الغداء والعشاء أن يأكل أكثر من نصف الشبع، ولو حلف لَيَأْتِيَنَّهُ غدوَةً، فهذا بعد طلوع الفجر إلَى نصف النهار، والضحوة بعد طلوع الشمس من الساعة التي يحلُّ فيها الصلاة إلَى نصف النهار، والصباح ما بعد طلوع الشمْسِ إلى ارتفاع الضحى، وقد يتوقف في كون العشاء من الزَّوَال وفي مقْدَار الغداء والعشاء، وفي امتداد الغدوة إلَى نصف النهار، وفي أن الضَّحْوة من الساعة الَّتي تَحِلُّ فيها لا صلاة. وأنه، لو حلف؛ لا يكلم فلاناً، فنبهه من النوم، حنث، وينبغي أن يُفْرَقَ بين أن يكون عالماً أو جاهلاً، وأنه لو قال: لا أكلمه اليومَ ولا غداً، لم تدخل الليلة المتخلِّلة في اليمين، ولو قال: لا أُكَلِّمُه اليوم وغداً، دخلت، والوجه التسوية بينهما, ولو قال: لا أُكَلِّمُه اليوم وسنة أو شهراً فعليه أن يدع الكلام في ذلك اليوم، كلَّما دار في السنة أو الشهر. ولو قال في يوم السبت لا أُكلِّمُه اليوم، يعني في السبت عشرة أيام، فاليمين على سبتين، وكذا لو قال: ولا أكلِّمُه يوم السبت يومين، ولو حلف؛ لا يكلِّم فلاناً الشتاء، فأوَّلُ ذلك إذا لَبِسَ الناسُ الحشْوَ والفراء، وآخره إذا ألقوها في البلد الذي حلف فيه، والصيف على خلاف ذلك، والربيعُ آخر الشتاء ومستقبل الصيف إلى أن ييبس العشب، ¬
والخريفُ فصلٌ بين الشتاء والصيف، والظاهرُ عنْدنا حَمْلُهَا عَلَى المُدَدِ المعلومة، ولو قال: أُكَلِّمُه يوماً ولا يومَيْنِ، فاليمين على يومين، فلو كلمه في اليوم الثالث لا يحنث، وهذا ما أورده أبو الحَسَنِ العباديُّ؛ قال: ولو قال يوماً ويومين، فاليمين على ثلاثة أيام؛ لأنه عطف مبتدأ، وأنه لو حلف؛ لا يكلِّم فلاناً وفلاناً أو فلاناً يحنث بكلامِ الثالث، أو كلام الأولَيْنِ، ولكن يجوز أن يريد ألاَّ يكلَم الأول، ولا أحد الآخرين، وحينئذٍ، فيَحْنَثُ بكلام الأول، أو بكلام أحد الآخَرْينِ، وينبغي أن يراجَعَ. ولو قال: لا أكلم فلاناً أو فلاناً، وفلاناً يحنث بكلام الأول أو كلام الآخرين، لكن يجوز أن يريد أنه لا يكلِّم الثالث، ولا يكلِّم أحدَ الآخرين، وحينئذٍ، فيحنث بكلام الثالث، أو بكلام أحد الأولين، وأنه لو حلف؛ لا يساكنُهُ في الدنيا، ذكر أصحابنا وجهَيْنِ في أنه إذا نوى ألا يسكن هو، والمحلوفُ عليه في البلدة، هل يُحْمَلُ اليمين علَى ما نوى؟ وجه المنع أن ذلك ليس (¬1) بمساكنة، وإذا نوَى مَا لاَ يُطَابِقُ اللفظ، لم تعمل النية بمجرَّدها، وقاسُوهُ علَى ما إذا قال: لا أساكِنُهُ، وزعم أنه أراد المساكنة في إقليم، وأنه لو حلف ليهدِمَنَّ هذه الدار، فهدم سُقُوفَهَا، بَرَّ، ويجوز أن يُقَالَ: ينبغي أَلاَّ يبقى ما يسمَّى داراً، ولو حلف ليهدِمَنَّ هذا الحائط، أو لينقضنَّه فهذا علَى أن يهدمَ حتى لا يبقَى منه شيء يُسمَّى حائطاً، والكسر لا يعتبر فيه ما يزيل اسم الحائط، وأنه لو حلَفَ، لا يرتكب حراماً، فهو الزنَا، فإن كان الحالف خَصِيّاً أو مجْبِوباً، فعلى القُبْلَةِ الحَرَامِ ونحوها, ولو حلَفَ، لا يطأ امرأةً وطئاً حراماً، فوطئ امرأته، وهي حائضٌ أو مظاهرٌ منها, لا يحنث، ولا نساعدهم في المسألتَيْنِ. في فتاوى الفقيه أبي اللَّيْث: أن قوله "حقاً أفعل كذا" ليس بيمين عند بعضهم، كقوله"صدْقاً" وقال آخرون: هو يمين، فإنَّ الحقَّ هو الله تعالَى، فكأنه قال الله أفعل كذا، وينبغي أن يجعل كنايةً، ويُراجع، وأن بعضَهم سُئِلَ عن قَصَّار ذهب من حانوته ثَوْبٌ، فَتَّهَم أجيراً له، وقال: (تومر ازيان كردى) (¬2) فقال (من ترا زيان كردم) (¬3) وحلف عليه، وكان قد أخذ الثوب، وهو لغير القصار، فقال: أخشى أن يحنث؛ لأن مراد القصار الخيانة فيما في يده لا حَقِيقَةُ المِلْك، وقد يوجَّه أيضاً بأنَّ أخذ الثوْب من حانوته إِضرارٌ به؛ لأنه يسوء الظن به، ويقع في معرض التهم، واللفْظُ مطلَقٌ للإِضرار لا الاِضرار في المملوك، وأن بعضهم قال: إذا حلف؛ ألاَّ يأكل من مالِ فلانٍ، ثم تناهدا هذا، فأكل الحالفُ من ذلك، قال: لا يحنث؛ لأنه أكل في عرف الناس من مالِ نفسه، ولينظر، أكان مالُ فلان مخلوطاً بماله، فأكل منه أو أكل من مال فلانٍ خاصَّةً، ¬
فالمشاهدان تارةً يخلطان، وتارةً يتناوبان على احتضار الطعام، وينجَزُّ النظر إلَى أن الضيف يأكُلُ مالَ الُمضِيفِ أو يملك ما يتناوله. وأنه لو حلف؛ لا يزور فلاناً حيّاً وميِّتاً، فشيع جنازته، لا يحنث، وبه نقول. وأنه لو حلف لا يصطاد، ما دَامَ الأمير في البلد، فخرج الأميرُ منْها، فاصطاد، ثُمَّ رجع الأمير، فاصطاد، لم يحنث؛ لأنه لَمَّا خرج من البلدة، سقَطَتِ اليمين، وأنَّ بعضهم قال: لو قال: بسم الله، لأفعلن كذا، فهو يمين، ولو قال: بصفة الله تعالَى، فلا؛ لأن الأول من أيمان الناس؛ ألا ترى أن القائل يقول: "بِسْمِ الَّذِي أُنْزِلَتِ مَنْ عِنْدِه السُّوَرُ ولك أن تقول: إذا قلنا الاسم هو المسمَّى، فالحلف بالله تعالَى، وكذا إن جَعَلَ الاسمَ صلةً، وإن أراد بالاسم التسميةَ، لم يكن يميناً، وقوله: "بصفة الله" يشبه أن يكون يميناً إلا أن يريد الوصف، وأنه لو حلف؛ لا يركب، فركب ظَهْرَ إنسانٍ، فعَبَرَ على النهر، يحنث، وأنه لو حلف؛ لا يفتح سراويله على امرأته، فإن أراد جِمَاعَها، فقد حلف على ترك المجامعة، فهو مولٍ، وإن لم يرد ذلك، فينبغي أن يفتح سراويله لبَوْلٍ أو غائطٍ، ثم يجامعها إن شاء، فإن فتحه للجماع، فلا يؤمن أن يحنث، وفي "الرقْم" لأبي الحسن العباديِّ: أنه لو حلف؛ لا يأكل الحلواء، حنث بالمتخذ من الفانيذ والسكر والعسل والدبس والقند (¬1)، وفي اللوزينج والجوزينح (¬2) وجهان، وفي فتاوى صاحبِ الكتابِ: أنه لو حلف، لا يُدْخِلُ داره الصُّوفَ، فأدخل كبشاً عليه صوف، لم يَحْنَثْ، وكذا لو حلف؛ لا يُدْخِلَ بَيْضاً، فأدخل دجاجةً، فباضت في الحال وأنه لو حلف لا يدخل معه تحت سقف، فقعد تحت أزج (¬3)، حَنِث، وأنه لو حلف؛ لا يفطر، فمطلق هذا ينصرف إلى الأكل والوقاع ونحوهما, ولا يحنث بالردَّة والجنون والحيض ودخول الليل، وعن القفَّال: أنه لو قال لغيره (بخداى كه من نكَدارم باتو ازاين، خانه بيرون فقام) شون (¬4) ذلك الغير؛ ليخرج، فإن لم يتعلَّق به، ولم يمنعه من الخروج حتَّى خرج، حَنِث، وإن تعلَّق به، فغلبه، وخرج، لم يحْنَث. وإن في نذْرِ اللِّجَاج؛ لو كان الملْتَزَمُ صوْمَ ثلاثة أيام، وقلنا: الواجب عليه كفارةُ يمينٍ، وكان مُعْسِراً، فصامها بنيَّة ما التزم، لا بنية الكفَّارة، لا يجزئه عن الكفَّارة. ¬
كتاب النذور
كِتَابُ النُّذُورِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالنَّظَرُ فِي الأَرْكَانِ وَالأَحْكَامِ: وَالأَرْكَانُ ثَلاَثَةٌ: الْمُلْتَزِمُ وَاللَّفْظُ وَالمُلْتَزَمُ أَمَّا المُلْتَزِمُ: فَهُوَ كُلُّ مُكَلَّفٍ لَهُ أَهْلِيَّةُ العِبَادَةِ، وَلاَ يَصِحُّ نَذْرُ الكَافِرِ لَكِنِ الأَحَبُّ إِذَا أَسْلَمَ أَنْ يَفِيَ بِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قال الله تعالَى: {يُوْفُوْنَ بالنَّذِر} [الإِنسان: 7] {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] وعن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- {من نَذَرَ أَنْ يُطَيعَ الله فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ الله فَلاَ يَعْصِهِ} (¬1) وقال أيضاً {لاَ نَذْرَ في مَعْصِيَةِ اللهِ وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُهُ ابْنُ آدمَ} (¬2) ولا يخفى أن النذر التزام شيء، وأنه قد يصح وقد لا يصح، وإذا صح ترتبت عليه الأحْكَامُ. تضمَّن مقصود الكتاب طرفَيْنِ يشتمل أحدُهُمَا عَلَى بيان أركانه، وما يعتبر فيها للصحَّة، والثاني على بيان الأحكام، أما الأول، فالأركان ثلاثةٌ: الملْتَزِمُ النَّاذِرُ، وصيغةُ الالتزام، والشَّيْءُ المُلْتَزَمُ. الركْنُ الأول: الملتزِم؛ وهو كل مكلَّفٍ له أهليةُ العبادة، وإن شئت، قلت: كل مكلف مسلم، فلا يصح نذرُ الصبيِّ والمجنون، ونذر السكران يجيء فيه الخلاف في تصرفاته، ولا يصح نذر الكافر (¬3)، وفي وجه: أنه يصح؛ لما رُوِيَ أن عمر -رضي الله عنه- قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -: كُنْتُ نَذَرْتُ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ-: "أَوْفِ بِنَذْرِكَ" (¬4) والمذْهَبُ الأول؛ لأن النذر تقرُّبٌ، والكافر ليس ¬
من أهل التقرُّب، والحديث محمول على الاستحباب؛ وذلك؛ لأنه لا يحسن أن يترك بسبب الإِسلام ما عزم عليه في الكفر من خصال الخير، والمحجور عليه والمفلس يصح منهما نذر القرب البدنية، ولا يصح من السفيه نذر القرب المالية، وأما المفلس، فإن التزم في الذمة، ولم يعيَّن مالاً يصح، ويؤديه بعد البراءة من حقوق الغرماء، وإن عيَّن مالاً، فيُبنى على أنه لو أعتق أو وهب، هل يصح تصرفه؟ إن قلنا: لا، فكذلك النذر، وإن توقَّفنا، فيتوقف في النذر أيضاً، فإنه قاله في "التتمة" وذكر أيضاً: أنه لو نذر عتق العبد المرهون ينعقد النذر، إن قلنا: ينفذ عتقه في الحال أو عند أداء المال، وإن قلنا: يلغو، فهو كما لو نذر عتق عبد غير مملوك. ويعلم قوله في الكتاب "واللفظ" بالواو؛ إشارةً إلى أن الشاة تصير هدْياً وأضحيةً على القديم، إمَّا بمجرَّد النية أو مع التقليد والاشعار، على ما ذكرنا في الضحايا, ولا حاجة إلى اللفظ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَأَمَّا الصِّيغَةُ: فَهِيَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ شَفَى اللهُ مَرِيضَيِ فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ أَوْ صَلاَةٌ، وَإِنْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتُ زَيْداً فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَمِينُ الغَضَبِ، وَلَوْ قَالَ ابْتِدَاءَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ فَقَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ مَا لَيْسَ بِلاَمِ إِلاَّ فِي مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ أَوْ دَفْعِ بَلِيَّةٍ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ وَيَلْزَمُهُ، وَلَوْ عَقَّبَ النَّذْرَ بِقَوْلِهِ: إِنْ شَاءَ اللهُ لَمْ يَلْزَمُهُ شَيْءُ، وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ لَمْ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَإِنْ شَاءَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد بان في الباب الأول من "الأيمان" أن النذر ينقسم إلى نذر اللَّجَاجِ والغَضَبِ على ما صورناه، وإلى نَذْرِ التبرُّر، وهو نوعان: أحدُهما: نذر المجازاة؛ وهو أن يلتزم قربة في مقابلة حدوث نعمة أو اندفاع بلية؛ كقوله: إن شفى الله مريضي، أو رزقني ولداً، فلله عليَّ أن أَعتق رقبةً أو أصومَ أو أصلِّيَ، فإذا حَصَلَ المعلَّق عليه، لزمه الوفاء بما التزم، لقوله -صلى الله عليه وسلم- "مَنْ نَذَرَ أَنْ يَطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ" وقد ذم الله تعالَى أقواماً عاهدوا، ثم لم يوفوا، فقال تعالَى: {وَمِنْهُمْ من عَاهَدَ اللهِ لَئِنْ آتانَا مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 75] الآية، ولو قال: "فَعَلَيّ ولم يقل: "فَلِلَّهِ عليَّ" فالحكم كذلك على ظاهر المذهب، والعبادات يؤتَى بها لله تعالَى، فالمطلق كالمذكور، وفيه وجه: أنه لا بدّ من التصريح بذكر الله تعالَى، وقد ذكرنا مثل هذا الخلاف في أن نذر اللَّجَاج، هل يثبت موجبه، إذا قال: "فعلي"، ولم يقل: "فلله عليَّ" وهو قريب من الخلاف في أنه، هل يجب في نية الصلاة، والصوم الإِضافة إلَى الله تعالَى. والثاني: أن يلتزم ابتداءً غير معلّق على شيء، فيقول: لله عليَّ أن أصومَ أو
أصلِّي أو أعتق، ففيه قولانِ، وَيُقَال: وجهان؛ لأن أحدهما على ما ذكر مخرَّج. وأصحُهما: وهو المنصوص، وبه قال أبو حنيفة وابنُ سُرَيْجٍ والإِصطخريُّ - رحمهم الله-: أنه يصح، ويلزم الوفاء به أيضاً، لِمُطْلَق قوله -صلى الله عليه وسلم- "مَنْ نَذَرَ أنْ يِطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْه" ويُرْوَى هذا عن مالكٍ وأحمدَ -رحمهما الله- أيضاً. والثاني: وبه قال أبو إسحاق وأبو بكرِ الصيرفىُّ -رحمهما الله-: أنه لا يلزم إلا بمقابلة عوض كما أن التبرّعَاتِ، لَمَّا لم يكن لها عوض (¬1)، لم تلزمْ بالعقد، وأيضاً فقد رُوِيَ عن ثَعْلَبِ أن النذر عند العرب وعْدٌ بشرط، ولو عقب النذر بقوله: إن شاء الله، لم يلزمه شيء كما ذكرنا في تعقيب الأيمان (¬2) والعقود، ولو قال: لله علَيَّ كذا إن شاء زيدٌ، لم يلزمه شيء، وإن شاء؛ لأنه لم يوجَدْ منه التزام جازمٌ كما يليق بالقربات، وقد روي أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّمَا النَّذْرُ مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللهِ تَعَالَى" (¬3) هكذا حُكِيَ عن القاضي الحُسَيْن وغيره -رحمهم الله-، وهو المذكور في الكتاب، وبه قال الإِمام: وهذا عندي خطأٌ، فإنَّ تقديره إن شاء، فللَّه عليَّ كذا، وهو كما إذا قال: إن قَدِمَ زيْدٌ، فلله عليّ، كذا ويؤيد الأولَ ما نصَّ عليه الشافعيُّ -رضي الله عنه- في نذر اللَّجاج؛ أنه إذا قال: إن فعلْتُ كذا، فلله عليَّ نذر حج، إن شاء فلانٌ، فشاء، لم يكن عليه شيء، قال في "التتَّمة": وهذا إذا غلَّبنا في نذر اللجاج معنى النذر، أما إذا غلَّبنا معنى اليمين، فهو كما لو قال: والله، لا أفعل كذا، إن شاء فلان، وقد سبق حكمه. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَأَمَّا المُلْتَزَمُ: فَهُوَ عَلَى ثَلاَثِ مَرَاتِبَ: الأُولَى: كُلُّ عِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ وَالْحَجَّ فَيَلْزَمُ بِالنَّذْرِ حَتَّى فُرُوضُ الْكِفَايَاتِ كَالجهَادِ وَتَجْهِيزِ الْمَوْتَى وَالصَّلاَةِ عَلَى الجِنَازَةِ، وَيَلْزَمُ بِصِفَاتِهَا حَتَّى لَوْ قَالَ: أَحُجُّ مَاشِياً أَوِ الْتَزَمَ طُولَ القِرَاءَةِ لَزِمَ كَمَا وَصَفَ، فإنِ الْتَزَمِ المَشْيَ فِي حَجَّةِ الإِسْلاَمِ أَوْ طُولَ القِرَاءَةِ فِي الفَرَائِضِ فَوَجْهَانِ، وَلَوْ نَذَرَ أَلاَّ يَتْرُكَ الوَتْرَ وَرَكْعَتَي الفَجْرِ فَوَجْهَانِ، وَلَوْ نَذَرَ أَلاَّ يُفِطْرِ فِي السَّفَرِ لَغَا قَوْلُهُ لأَنَّهُ تَغَييْرٌ لِلشَّرْعِ الثَّانِيَّةُ: القُرُبَاتُ: كَالعِيَادَةِ لِلْمَرِيضِ وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ وَزِيارَةِ القَادِمِ فَفِي لُزُومِهِ بِالنَّذْرِ وَجْهَانِ؛ إِذْ لَيْسَ عِبَادَةً وَلَكِنْ يُتَقَرَّبُ بِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ، وَفِي تَجْدِيدِ الوُضُوءِ وَجْهَانِ، لأَنَّ الوُضُوءَ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ لَعَيْنِهَا فِي الأَصْلِ الثَّالِثَةُ: المُبَاحَاتُ: كَالأَكْلِ ¬
وَالنَّوْمِ فَلاَ يَلْزَمُ وَإِنْ تَصَوَّرَ أَنْ يَقْصِدَ بِالأَكْلِ التَّقَوّيَ عَلَى العِبَادَ فَيُثَابُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى مُجَرَّدِ القَصْدِ، نَعَمْ إِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَلاَّ آكُلَ فَقَدْ قِيْلَ تَجِبُ كَفَّارَة يَمِينٍ بِمُجَرَّدِ لَفْظِهِ أَكَلَ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ وَهُوَ بَعَيدٌ، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ اليَمِينَ فَتَجِبَ الكَفَّارَةُ بِالحِنْثِ إِنْ أَكَلَ فَرْعٌ: إِذَا نَذَرَ الجِهَادَ فِي جِهَةٍ قِيلَ: تَتَعَيَّنُ الجِهَةُ، وَقِيلَ: لاَ تَتَعَيَّنُ، تِلْكَ الجِهَةُ أَوْ مَا يُسَاوِيهَا فِي المَسَافَةِ وَالمُؤْنَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ما يُفْرَضُ التزامه بالنذر، إما معصية، أو مباح، أو طاعةٌ، فهذه ثَلاثَةُ أقسامٍ: الأول: المعصية، فلا يصح التزامُها بالنذر قال -صلى الله عليه وسلم- "لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَّةِ اللهِ وَلاَ فِيمَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ" (¬1) وذلك، كما إذا نذر شرب الخمر أو القتل، أو الزنا، أو نذرت المرأة؛ أن تصلي أو تصوم في أيام الحيض أو نذر أن يصلَّيَ محدثاً أو يقرأ القرآن جُنُباً، ومن هذا القبيل ما إذا نذر ذبح ولده أو ذبح نفسه فلا ينعقد، وقال أبو حنيفة: ينعقد، ويلزمه ذبح شاة، وسلم أنه، لو نذر ذبح والده أو أخيه أو نذر قتل ولده، لا ينعقد، وعن أحمد: أنه يلزمه كفارة يمين، وأخرى أنه يلزمه ذَبْحُ كبش، وإذا عرف أنه لا ينعقد نذر فعل المعصية، فإذا لم يفعل ما نذره، فقد أحس، ولا يلزمه كفارة يمين على المذهب المشهور؛ لأنه لم يوجَدْ صيغة اليمين ولا حقيقته، وعن رواية الربيع: قوله أنه يلزمُه كفارةُ يمين، لِمَا رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ وكفارتُه كفارةُ يمينٍ" (¬2) وذكر أن الحافظَ أحمد البيهقيَّ -رحمه الله- رَوَى هذا القول في كتاب ¬
"المعرفة" واختاره عامة الأصحاب من العراقيين (¬1)، وغَيْرُهُمْ -رحمه الله- جزموا بالأوَّل، وحملوا الحديث على نذْر اللَّجَاج، وجعلوا ما رواه الربيع من كيْسه، وبعضُهُم يَحْكِي الخلافَ في المسألة وجهَيْنِ ويوافقه ما رُوِيَ عن صاحبِ "التقريب": أن إيجابَ الكفَّارة تخريجٌ للربيع، واستبعد الإِمامُ -قدَّس الله روحه- وجوب الكفارة، كما فعَلَهُ عامة الأصحاب، وقال: يجوزُ أنْ يُجْعَل النذر كناية عن اليمين، فأما إلحاقه بالأيمان مطْلَقاً، فلا معنى له. القسْمُ الثَّانِي: الطاعَةُ، وهي أنواعٌ: أحَدُهَا: الواجباتُ، فلا يصح نذرها؛ لأنها واجبةٌ بإيجاب الشرع ابتداءً، فلا معنى لالتزامها، وذلك مثل أن يقول: للهِ عليَّ أن أصلِّيَ الخمس, أو أصوم شهرَ رمضان, ولا فرق بين أن يعلِّقَ ذلك بحصول نعمة أو يلتزم ابتداءً، وكذا لو نذر ألاَّ يشرب الخمر ولا يزني، وإذا خالف ما ذكره، ففي لزوم الكفَّارة الخلافُ المذكور في القسم الأول، وادعى صاحبُ "التهذيب" أن الظاهرَ وجوبُها. والثاني: العباداتُ المقصودةُ، وهي التي وُضِعَتْ للتقرُّب بها، وعرف من الشرع الاهتمامُ بتكليف الخلْقِ بإقاعها عبادة فيلزم هذا النذر بالاتفاق وذلك كالصوم والصدقة والصلاة والحج والاعتكاف، وذكر الإِمام أن فروض الكفايات التي تحتاج في أدائها إلى بذل مال أو معاناة مشقَّةٍ، يلزم بالنذر أيضاً؛ كالجهاد وتجهيز الموتى، ويجيء ما سنذكره في نذر السُّنَّن الراتبة وجْهٌ أنَّها لا تلزم، ورأيت في "الرَّقْم" للعبَّادِيِّ وجهاً عن القَفَّال: أنه، إذا نذر أن يجاهد، لم يلزمه شيء، وفي الصلاة على الجنازة، والأمر بالمعروف، وما ليس فيه بذْلُ مالٍ وكبيرُ مشقَّةٍ، حَكَى الإِمام وجهين: أحدهما: لزومُها بالنذر أيضاً وكما يلزم أصل العبادة بالنذر، يلزم رعاية الصفة المشروطة في التزامها، إذا كانت مستحبةً، كما إذا شرط في الصلاة التي التزمها إطالَةَ ¬
القيام والركوع والسجود أو شرَطَ المشْيَ في الحجَّة الملتزمة، إذا جعلْنا المشْيَ في الحج أفضلَ من الركوب، ولو أُفْرِدَتِ الصفة بالتزام، والأصل واجبٌ شرعاً؛ كتطويل القراءة والركوع والسجود في الفرائض، فوجهان: أحدُهما: أنها أوصافٌ لا تستقل بنفسها، فلا تفرد بالالتزام. وأشبههما: اللزوم فإنها عبادةٌ محبُوبَةٌ وفي معناها ما إذا نذر أن يقرأ في صلاة الصبح سورةَ كذا، وباللزوم أجاب صاحبُ "التهذيب" ولو نذر أن يصلِّيَ الظهرَ أو الفرائض بالجماعة، ففي انعقاد نذره وجهان: أظهرهما: وهو المذكور في "التهذيب": اللزوم (¬1)؛ لأن الجماعة مستحبةٌ، فقد تعلَّق النذر بمستحب. والثاني: المنع: لأن الفرائض أوجبها الشرع علي صفة، وفي تصحيح النذر إبطالٌ لتلك الصفة، والنذر لالتزام ما ليس بلازم في التعين لأوضاع الشرع في العبادات، ولو نذر إقامة بعض الرواتب كالوتر وركعتي الفجر، ففيه هذان الوجهان، ولو نذر ألا يفطر في السفر في رمضان، فأحد الوجهين، وهو المذكور في الكتاب، ونسبه إبراهيمُ المَرْوَزِيُّ إلَى عامة الأصحاب -رحمهم الله- أنه لا ينعقد نذْرُه، وله أن يُفْطِرَ إِنْ شاء؛ لأن في التزامه إبطالَ رخصه الشرع، وقد قال فيه -صلى الله عليه وسلم- "إنَّ اللهَ قَدْ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ" (¬2). والثاني: وهو اختيارُ صاحبِ "التهذيب" وشيخه القاضي: انعقاده ووجوب الوفاء، كما في سائر المحبوبات (¬3)، وكذلك الحكم فيما إذا نذر إتمام الصلاة في السفر، إذا قلنا: إنَّ الإِتمامَ أفضلُ، ويجري الوجهان فيما إذا نذر أن يقوم في السنن, ولا يقعد ¬
فيها، ونذر غسل الرجل واستيعاب الرأس بالمسح في الوضوء أو التثليث في الغسل والوضوء، أو أن يسجد للتلاوة في الشكر عندما يقتضي السجود، وذكر الإِمام على مساق الوجْهِ الأوَّل؛ أنه إذا نذر المريضُ أن يقوم في الصلاة ويتكلَّف المشقة، لم يلزمه الوفاء، وأنه لو نذر صوماً، وشرط ألا يفطر بالمرض، لم يلزمه الوفاء؛ لأن الواجب بالنذر لا يزيد على الواجب شرعاً والمرض مرخص فيه. والثالث: القربات التي لم توضَع؛ لتكون عبادةً، وإنما هي أعمالٌ وأخلاقٌ مستحسنةٌ رغب الشرعُ فيها لعموم فائدتها، وقد يُبْتَغَى بها وجهُ اللهِ تعالَى، فينالُ الثواب كعيادة المرضى وزيارة القادمين وإفشاء السلام على المسلمين، ففي لزومها بالنذر وجهان: أحدهما: المنع؛ لأنها ليست على أوضاع العبادات. وأظهُرهما: اللزوم؛ لأن الشارع يرغب فيها، والعبد يتقرَّب بها، فهي كالعبادات، ولو نذر تجديد الوضوء، فوجهان: أحدُهِما: وبه قال الشيخ أبو محمد: أنه لا يلزم؛ لأن الوضوء ليس عبادةً مقصودةً، وإنما يُرْفَعُ به الحدث، ولا يجب من غير حَدَثٍ. وأظهرُهما: أنه يلزم؛ لأنه عبادةٌ يثاب عليها، كسائر العبادات، وفي "التتمة": أنه لو نذر الاغتسال لكل صلاة، لزم الوفاء به، وليس هذا على أن تجديد الغُسْل، هل يستحب، وأنه لو نذر الوضوء ينعقد نذره، ولا يخرج عن النذر بالوضوء عن الحدث بل بالتجديد (¬1)، وأنه، لو نذر أن يتوضأ لكلِّ صلاة، يلزمه الوفاء، لكن إذا كان محدثاً، فتوضأ لصلاة، لا يلزمه أن يتوضأ لها ثانياً، وأنه إذا نذر أن يَتَيمَّم، فالمذهب أنه لا ينعقد نذره؛ لأن التيمّم يُؤْتَى به عند الضرورة، وأنه إذا نذر ألاَّ يهرب من ثلاثة من الكفار فصاعداً، فإن علم من نفسه أنه يقدر على مقاومتهم، انعقد نَذْرُهُ وإلا فلا، وفي كلام الإِمام: أنه لا يلزم بالنذر انكفافٌ قطُّ حتى لو نذر ألاَّ يفعل مكروهاً، لم يلزمه الوفاء بالنذر، واللهُ أعلم. ولو نذر أن يُحْرِمَ بالحج في شوالٍ، فهو على الخلاف الذي سبق، والأظهر، وهو اختيارُ صاحِب "التهذيب" أنه يلزم، وكذا لو نذر أن يحرم من بلد كذا، ورتَّب مرتِّبون صور هذا الَنوع والذي قبله علَى وجه آخر، فقالوا: إن كانت القربة مما يجب ¬
جنسها في الشرع، كالصوم والصلاة والإِعتاق وغيرها فيلزم بالنذر وأدرجوا الاعتكاف في هذه الجملة، وان لم نوجبه بالشرع ابتداءً، بأن قالوا: الاعتكاف لُبْثٌ في مكان بنية القربة، ومن جنسه ما هو واجبٌ شرعاً، وهو الوقوف بعرفات، وإن لم يَكُنْ في جنسها واجبٌ شرعاً؛ كعيادة المرضى وتشميت العاطس وتشييع الجنائز، ففي لزومها بالنذر وجهان، وذكر أبو سعْدٍ المتولِّي أن الوجهين ينبنيان علَى أن مُطْلَق النذر يحمل على أقلِّ ما يُتَقَرَّب به أو علَى أقل ما يجب في الشرع من جنس الملتزم، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- هذا الأصل، فإن قُلْنا: بالأول، لزمت القرباتُ كلَها بالنذر، وإن قلنا بالثاني، فما لا يجب جنسه بالشرع، لا يجب بالنذر. القسمُ الثالثُ: المباحاتُ التي لم يَردْ فيها استحبابٌ وترغيبٌ، كالأكل والنوم والقيام والقعود، فلو نذر فعْلَها أو تركَها, لم ينعقد نذره، رُوِيَ عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ، إِذَا بِرَجُلٍ قَائِمٍ فِي الشَّمْسِ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ، وَلاَ يَقْعُدَ وَلاَ يَسْتَظِلَّ وَلاَ يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ، فَقَالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُرُوءُ، فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ" (¬1)، وعن أحمدَ -رحمه الله- أنه ينعقد نذْرُ المُبَاح، ويتخيَّر الناذر بين الوفاء والكفارة، قال الأئمة: وقد يُتصوَّر أن يقصد بالأكل التقوِّي على العبادة، وبالنوم النشاط عند التهجد، فينال الثواب، لكنَّ الفعل غَيْرُ مقصود، والثواب يحصل بالقصد الجميل، وهل يكون نذر المباح يميناً، حتى تجب الكفَّارة، إذا خالف فيه ما ذكرناه في نَذْرِ المعاصِي والمفروضات؛ ونَقَلَ الإِمامُ أن القاضي الحسين قَطَعَ بوجُوبِ الكفَّارة في المباحات، وذكر في نذر المعاصي وجهَيْن، وأنه علق الكفَّارة باللَّفْظ من غير حنث، وهذا ما ذكر صاحبُ الكتاب، حيث قال: نعم، إذا قال: لله علَيَّ ألاَّ اكل، فقد قيل: يجب كفارة ¬
يمين، أكل أو لم يأكل، بمجرَّد لفظه، وهذا لا يتحقَّق ثبوته، والمشهور في كيفية الخلاف ما قدمنا. وقوله: "إلا أن ينوي به اليمين" أراد ما حكيناه عن الإِمام؛ أنه يجوز أن يجعل كناية عن اليمين، ويَبْعُدُ أن يجعل يميناً على الإِطْلاق، ثم ختم الفصل بفرع؛ وهو أنه إذا نذر الجهاد في جهة عيَّنَها، هل تتعيَّن تلك الجَهة، وفيه ثلاثةُ أوجه. قال صاحبُ "التلخيص": يتعين؛ لأن الجهادَ يختلفُ باختلاف الجهات من جهةِ قُرْبِ المسافة وبعدها، ووعورة الطريق وسهولته، وقوة العَدُوِّ وضعفه. قال الشَّيْخُ أبو زَيْد: لا يتعيَّن، ويجوز أن يجاهد في جهة هِيَ أَسْهَلُ وأقْرَبُ من الجهة المعينة. وعن الشيخ أبي علي، وهو الأعدل: أن تلك الجهة لا تتعيَّن، ولكن التي يجاهد فيها ينبغي أن تكون مساوياً للمعيَّنة في المسافة والمؤنة، ويجعل مسافات الجهات كمسافات المواقيت في الحجِّ. فُرُوعٌ: يُشْتَرَطُ في نذْر القربة المالية، كالصدقة والتضحية والإِعتاق أن يلتزمها مرسلَةً في الذمة أو يضيف إلى معيَّن يملكه، أما إذا كان المعيَّنُ لغيره، لم ينعقد نذره؛ لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال "لاَ نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ" رُوِيَ أنَّ المشركين استاقُوا سرح المدينة، وفيه العَضْبَاءُ ناقةُ رسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فأسَرُوا امرأة من الأنصار، فلما ناموا، قامَتْ، ورَكِبَتِ العضباء، ونذَرَتْ، لَئِنْ نجَّاها اللهُ عَلَيْها، لتَنْحَرَنَّها، فلما أتَتِ المدينة، أُخْبِرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك فأخذ النَّاقَةَ وقال "لاَ نَذْرَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ" (¬1) وذكر في "التتمة": أن في لزوم الكفارة بهذا النذْرِ وجهين: أظْهَرْهُمَا: المنعِ؛ لأن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر الأنصاريَّةَ بالتكفير، وأنه لو قال: إن مَلَكْتُ عبداً، فللَّه عليَّ أن أعتقه، انعقد نذره؛ لأنه التزم قربة في مقابلة نعمة، وهي حُصُول الملك، وأنه لو قال: إن ملكتُ عبد فلانٍ، فلله عليَّ أن أعتقه فقولان: أشبهُهُما: أن الجوابَ كَذَلِكَ. والثاني: لا ينعقد؛ لأنه تصرُّفٌ في معيَّنٍ، فلا ينفذ قبل الملك، هذا إذا قصد الشكر على حصُولِ المِلْك، فإن قصد الامتناع من تملُّكه، فهو من قبيل نذر اللَّجَاج، وأنه لو قال: إن شفى اللهُ مريضي، وملكْتُ عبداً فلله علَيَّ أن أعتقه، صح؛ لأنه التزم قربةً في مقابلة نعمتَيْنِ، وفي معناه ما إذا قال: إن شفَى الله مريضي، فلله عليَّ أن (¬2) ¬
أعتق عبداً، إن ملكته، وأنَّه لو قال: إن شفى الله مريضي، فكل عبدٍ أمْلِكُهُ حرٌّ أو فعبد فلانٍ حرٌ إن ملكته، لم يصحَّ هذا النذر؛ لأنه ما التزم التقرُّب بقربة، لكن علق الحرية بعْدَ حصول النعمة بشَرْطٍ، وهو ليس بمالك حالَةَ التعليق، فيلغو، كما لو قال: إن ملكت عبداً، فهو حرٌّ، أو عبدَ فلانٍ، فهو حرٌّ، ولو قال: إن شفى الله مريضي، فعبدي حرٌّ، إن دخل الدار، صح؛ لأنه مالكٌ عند التعليق، فصار كأنَّه علَّقَ عتق عبده بشفاء المريض ودخول الدار، وأنه لو قال: إن شفى اللهُ مريضي، فلّله عليَّ أن أشتري عبداً وأُعْتِقَه، صح، ولم يضرَّ التعرض لطريق المِلْك. وفي "التهذيب" في باب "الاستسقاء"؛ أنه لو نذر الإِمام أن يستسقي، لزمه أن يخرج بالناس ويُصَلِّيَ بهم، وفي الصلاة احتمالٌ عن القاضي، ولو نذر واحدٌ من عرضِ الناس، لزمه أن يصَلِّي منفرداً، وإن نذر أن يستسقي بالناس، لم ينعقد، فإنهم لا يطيعونه، ولو نذر أن يخطُبَ، وهو من أهله، لزمه، وهل يجوز أن يخطب قاعداً مع القدرة على القيام؟ فيه خلاف، كما سنذكر في الصلاة المنذورة. وسُئِلَ صاحبُ الكتاب -رحمه الله- عما إذا قال البائعُ للمشْتَرِي: إن خرَجَ المبيع مستحقاً، فلله عليَّ أن أهَبَ منك أَلْفَ دينارٍ، هل يصحُّ هذا النذر، ولم يجيب في الكتاب إقراره (¬1) بأنَّ حاكماً حكم بصحته، هل يلزمه ذلك، فأجاب بأن المباحات لا تلزم بالنذر، وهذا مباحٌ، والإِقرارُ بحكم الحاكم لا يؤثر إلا إذ نُقِلَ مذهبٌ معتبرٌ في لزوم مثله في النذر (¬2). وذكر بعضهم أنه لو نذر أن يكسو يتيماً، لم يخرج عن العهدة باليتيم الذمِّيِّ؛ لأن مطْلَقَ اليتيم في الشرْعِ للمسلم في قوله تعالَى: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} (¬3) [البقرة: 83 وغيرها]. قَالَ الغَزَالِيُّ: النَّظَرُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ النَّذْرِ: وَهُوَ يَتْبَعُ مُوجِبَ اللَّفْظِ، وَالْمُلْتَزَمَاتُ ¬
أَنْوَاعٌ النَّوْعُ الأَوَّلُ: الصَّوْمُ فَإذَا نَذَرَ مُطْلَقِ الصَّوْمِ كَفَاهُ يَوْمُ، وَفِي لُزُومِ التَّبِييْتِ قَوْلاَنِ، أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ لاَ يَجِبُ تَنْزِيلاً عَلَى أَقَلِّ جَائِزٍ لاَ عَلَى أَقَلِّ وَاجِبٍ، وَكَذَا فِي الصَّلاةِ يَكْفِيهِ رَكْعَةُ، وَفِي الصَّدقَةِ يَكْفِيهِ دَانِقٌ لأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَجِبُ فِي الخُلْطَةِ، وَفِي الاعْتِكَافِ هَلْ يَكْفِيهِ الدُّخُولُ وَالنِّيَّةُ مِنْ غَيْرِ مُكْثِ فِيهِ خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا صح النذْرُ، وجب الوفاء به، والمرعيُّ فيه موجِبُ ألفاظ الالتزام وقد فصَّله في الكتاب، وتفصيل الملتزمات، وهي أنواع: أحدها: الصوم، فإن أطلق التزامه، وقال: لله عليَّ أن أصومَ أو صومٌ لزمه صومُ يَوْم، ويكفيه ذلك، ويجيء فيه وجْهٌ أنه يخرج عن النذْرِ بإمساك بعْضِ اليوم؛ بناءً علَى أن النذْرَ يُحْمَلُ على أقلِّ ما يصحُّ من جنسه، وأن إمساك بعض اليوم صومٌ، وسنذكرهما, ولو نذر صومَ أيَّامٍ، وقدَّرها، فذاك، وإن أطلق ذكْرَ الأيام، نزل على ثلاثة، ولو قال: أصوم دهراً أو حيناً كفاه صوم يوم، وهل يلزم التبييت في الصوم المنذور، يُبْنَى ذلك على أن الناذر، إذا التزم بالنذر عبادةً، وأطلق تسمية الملتزم، علاَمَ ينزل نذره قال الإِمام: وفيه قولان (¬1) مأخوذان من معاني كلام الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه-: أحدهُما: أنه ينزل على أقل واجب من جنسه بأصل الشرع؛ لأن المنذورَ واجبٌ، فيُجْعَل كواجبٍ بالشرع ابتداءً. والثاني (¬2): ينزل على أقلِّ ما يصحُّ من جنسه؛ لأن لفْظَ الناذِرِ لا يقتضي التزامَ زيادةٍ عليه، فلا معنى لالتزامه ما لم يتناولْهُ لفظه، وهذا أصحُّ عند الإِمام وصاحبِ الكتابِ ورجَّح العراقيون والقاضي الرويانيُّ، وغيْرُهُمُ الأوَّلَ، ويوافقه ما ذكرنا أن الأصحَّ أنه لا يجْمَع بتيمم واحدٍ بين فريضة ومنذورة، وبين منذورتَيْن، فإن قلنا ينزل على أقل واجب من جنسه، أوجبنا التبييت، وإن قلْنا: ينزل على أقلِّ ما يصحُّ، لم يلزم التبييت، وصحَّحناه بنية من النهار، هذا إذا أطلق نذر الصوم، وأما إذا نذر صوم يوم أو أيامٍ، فصحته بنية من النهار مع التنزيل علَى أقل ما يصح، يُبْنَى، علَى أصل آخر، وهو أن المتطوِّع بالصوم، إذا نوى نهاراً، يكون صائماً من وقْتِ النية أو من أول النَّهار، وفيه خلافٌ مذكورٌ في الصوم والظاهر الثاني، فإن قلنا: به، صح صومه بنية من النهار، وإن قلْنا: إنه يكون صائماً من وقت النية، فلا يخرج عن نذره إلا بأن يبيت لأنه التزم صوم يوم، ولا يتحقَّق على هذا الوجه صوم يوم إلا بنية منبسطة على اليوم، والنيةُ لا ¬
تنعطف، فالوجه تقديمها هذا لفظُ الإِمام -رحمه الله- وقولهُ في الكتاب "تنزيلاً على أقلِّ جائزٍ" يعني ما يجوز تركه، ويُبْنَى على الأصل المذكور مَسَائِلُ: منها: إذا نذر أن يصَلِّي مَطلقاً فقولان: أحدُهُمَا: وهو المنصوص في "المختصر" وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله-: أنه يلزمه ركعتان؛ حملاً على أقل واجبٍ في الشَّرْع. والثاني: نقله الربيع: أنه يكفيه ركعةٌ؛ حملاً علَى ما هو صحيح، ويُقَالُ: إن الأول الجديد، والثاني منقولٌ عن القديم، وعن أحمد -رحمه الله- روايتان كالقولين. وقوله في الكتاب "يكفيه ركعة" ليعلَمْ بالحاء والألف، وأراد بقوله "وكذا في الصلاة" التفريعَ علَى القول الأصحِّ عنده، وهو التنزيلُ على أقلِّ جائز، وهل يجوز أن يصلِّيَ قاعداً مع القدرة على القيام؟ فيه وجهان؛ بناءً على الأصل المذكور. ولو نذر أن يصلِّيَ قاعداً، جاز أن يقعد، كما لو صرَّح في نذره بركعة، له الاقتصار عليه، وإن صلَّى قائماً، فقد أتى بالأفضل، ولو نذر أن يصلِّيَ قائماً، لم يجز أن يقعد، ولو نذر أن يصلي ركعتين، فصلى أربعاً بتسليمة واحدة بتشهد أو بتشهدين، فهل يخرج عن نذره؟ فيه وجهان مذكوران في "التتمة": أحدُهُمَا: لا؛ لأن ما التزمه يقتضي التحلُّل بعد الركعتين. والثاني: نعم، كما لو نذر أن يتصدَّق بعشرة، فتصدَّق بعشرين، وبهذا أجاب في "التهذيب" لكن يمكن بناء الوجهين علَى الأصل السابق، إن حملنا المطْلَقَ على الواجب شرعاً؛ فلا يجوز الزيادة، كما لو صلَّى الصُّبْحَ أربعاً، وإن حَمَلْنا على الجائزات، فيجوز الزيادة، وإن نذر أن يصلِّيَ أَرْبَعَ ركعاتٍ، فإن نزَّلْنا المطْلَق على الواجب، أمرناه بتشهدَيْنِ، فإن ترك الأول، سجدَ للسهو، ولا يجوز أن يؤديها بتسليمتين، وإن نزلناه على الجائز، فيتخبر، إن شاء أداها بتشهدين، وإن شاء اقتصر على واحدٍ، ويجوز أداؤها بتسليمتَيْنِ، بل هو أفضل (¬1) ولو نذر أن يصلِّيَ ركعتَيْنِ على الأرض مستقبلاً، لا يجوز أداؤهما على الراحلة، وإن نذر أداءهما على الراحلة فله أن يؤديهما على الأرض مستقبلاً، وإن أطلق، ففيه خلاف مبني على الأصل المذكور، وقد مرَّ في موضعه. ومنها: إذا نذر أن يتصدَّق، لم يتقدَّر بخمسة دراهم ولا بنصف دينار، وإن حملنا المطلق على الواجب من جنسه؛ لأن الخلطاءَ قد يشتركون في نصاب فيجب على ¬
أحدهم شيء قليل، فيكيفيه أن يتصدَّق بدانقٍ وما دونه مما يُتموَّل، هكذا ذكر حكماً وتوجيهاً، وإنما يستمر هذا التوجيه على قولنا بتاثير الخُلْطة في النقود، ثم لك أن تقول: إذا حمَلْنا المطْلَقَ على الواجِب، فإنما نحمله على أقلِّ واجب من ذلك الجنس، والأقل من الصدقة غيرُ مضبوطٍ جنساً، وقدراً، بل الأموالُ الزكاتِيَّةُ مختلفةُ الجنس، وليس لواجبها قيمةٌ مضبوطةٌ وصدقة الفطر أيضاً واجبةٌ، وليس لها قيمة مضبوطة، فامتنع إجراء هذا القول في الصدقة، وتعيَّن اتَّباع اللفظ. ومنها: إذا نذر أن يعتكف، وليس في جنس الاعتكاف واجبٌ بالشرع، وقد سبق في بابه ذكر وجهين في أنه هل يُشْتَرَطُ فيه اللبثُ أم الدخول في المسجد مع النيةِ اعتكافٌ شرعاً، والظاهر الأولُ، وحينئذٍ، فلا بدّ من لُبْثٍ، ويخرج عن النذر باللبث ساعةً، ويُستحبُّ أن يمكث يوماً، وإن اكتفينا بالدخول مع النية، ففيه تردُّدٌ للإِمام -رحمه الله-: أحد الاحتمالين: أنَّهُ يُشْتَرَطُ اللبث؛ لأن لفظ الاعتكاف يشعر به. والثاني: المنعُ؛ حملاً للفظ على حقيقته شرعاً. ومنها: إذا نذر إعتاقَ رقبةٍ، فإن نزلنا المطلق على الواجب، فعليه إعتاق رقبةٍ مؤمنة، تجزئ في الكفارة، وبهذا قال أبو إسحاق -رحمه الله- وإن نزلناه على ما يجوز، خرج عن نذره بإعتاق كافرة أو معيبة، قال الداركيُّ: والصحيح الأول، وهو قضية ما رجّح في نذر الصلاة؛ أنه يلزمه ركعتان، ويؤيِّده ما نقل عن "الأم" أنه يجزئه أي رقبة أعتق إلا أن تكونَ كافرةً، لكن ذكر في "المختصر" بعدما أوجب ركعتين في نذر الصلاة، أنه لو نذر عتق رقبة؛ فأيَّ رقبةٍ أعتق أجزأه، والجوابان لا يتلاءمان فقيل: لعله ذكر مسألة العتق في موضع آخر تفريعاً على القول الآخر، فجمع المُزَنِيُّ بينهما، ومنهم من أوَّل، وقال: المعنى أي رقبة تجزئ في الكفارة، ولو قَيَّد، فقال: لله عليَّ أن أعتق رقبةً مؤمنةً سليمة، لم يجزه الكافرةُ والمعيبةُ لا محالة، ولو قال: كافرة أو معيبة، لم يلزمه المؤمنةُ والسليمةُ، ولو أعتق مؤمنةً أو سليمةً، ففيه وجه: أنه لا يجزئ، والأصحُّ خلافه؛ لأنه أتى بما هو أفضل، وليس ذكر الكفر والعيب للتقرُّب، بل لجواز الاقتصار على الناقص، فصار كما لو نذر أن يتصدَّق بحنْطَةٍ رديئة يجزئُهُ أن يتصدَّق بالجيدة، ولو قال: عليَّ أن أعتق هذا العبد الكافر أو المَعِيبَ، لم يُجْزِه غيره، وإن كان خيراً منه، لتعلَّق النذر بعينه. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ مُتَفَرِّقاً لَمْ يَلْزَمِ التَّفْرِيقُ، وَلَوْ عَيَّنَ يَوْماً للِصَّوْمِ تَعَيَّنَ فِي أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَلَوْ شَرَطَ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ شَهْرٍ مُعَيَّنِ لَمْ يَجِب التَّتَابُعُ فِي قَضَائِهِ
عَلَى أَحَدِ الوجْهَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: أَصُومُ هَذِهِ السَّنَةَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءَ أَيَّامِ العِيدِ وَأَيَّامَ رَمَضَانَ، وَهَلْ يَجِبُ قَضَاءُ أَيَّامِ الحَيْضِ وَالمَرَضِ؟ وَجْهَانِ، وَيَجِبُ قَضَاءُ مَا أَفْطَرَ فِي السَّفَرِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ فَلاَ يَكْفِيهِ إِلاَّ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً وَلاَ يَنْحَطُّ عَنْهُ أَيَّامُ رَمَضَانَ وَالعِيدِ وَالحَيْضِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صورٌ: إحداهما: إذا نذر صوْمٍ يومٍ، ولزمه فَيُسْتَحَبُّ أن يبادر إلَيْه، ولا يجب، بل يخرج عن النذر بصومِ أيِّ يوم كان إلا ألا يُبَاحَ فيه الصومُ أو يكون من أيام رمضان، وكذا لو نذر صوم خميس، ولم يعيِّن، يصوم أي خميس شاءَ، ويخرج به عن النذر، وإذا مضى خميسٌ، استقر في ذمته حتى يَفْدِيَ عنه، إذا مات قبل أن يصوم، ذكره إبراهِيمُ المروزيُّ، وإذا عيَّن يوماً في نذره كأول خميسٍ مِن الشهر أو خميس هذا الأُسْبُوعِ، فهل يتعين؟ فيه وجهان نقلهما الصيدلانيُّ وغيره -رحمهم الله-. أصحهما: وهو الذي أورده معظم الأصحاب: أنَّه يتعيَّن وفاء الملتزم. والثاني: لا يتعيَّن، كما لو عين مكاناً، فعلى هذا يجوز له التقديم والتأخير، وعلى الأصحِّ لا يجوز، وإذا أخَّر، كان قضاءً، ثم إذا أخر بغير عذر، أثم, وإن كان معذوراً بسفرٍ أو مرض لم يأثم, ولو عين يوماً من أسبُوع، والتبس عليه، فينبغي أن يصومَ يوم الجمعة، فإنه آخر يوم من الأُسبوع، فإن كان هو الذي عيَّنه، فقد أتى بما التزم، وإن كان يوماً قبله، كان صومه قضاءً، ولو نذر صوماً من الأُسبوع المعيَّن، صام يوماً منه أيَّ يوم كان، ولا تثبت لليوم المعين، وإن عيناه خواصُّ رمضان من الكفَّارة عند الإِفطار بالوقاع ووجوب الإِمساك، لو أفطر، وعدم قبول صوم آخر من قضاء أو كفارة، بل لو أوقع فيه قضاءً أوَ صومَ كفارةٍ، وصح، ونفي الإِمام الخلافَ فيه، ولكن في "التهذيب" ذكر وجه آخر: أنه لا ينعقد فيه صوم آخر، كما في أيام رمضان، والخلاف في أن اليوم المعيَّن، هل يتعين؟ يجري في الصلاة، إذا عَيَّنَ لها في النذر وقتاً، وفي الحج، إذا عين له سنةً، والتعيين هو الذي أورده في "التهذيب"، فقال: ولو نذر صلاةً في وقت عيَّنه غير الأوقات المنهية، تعيَّن حتى لا يجوز قبله ولا يجوز التأخير عنه، ويجب القضاء، إذ لم يصل فيه، ولو نذر أن يصلِّيَ ضحوة، صلى في ضحوة أيِّ يَوْمٍ شاء، ولا يخرج عن النذر، لو صلى في غير الضحوة، ولو عيَّن ضحوة، ولم يصلِّ فيها، قضى في أي وقت كان من ضحْوَةٍ وغيرها, ولو عيَّن للصدقة وقتاً، قال الصيدلانيُّ: يجوز تقديمُها على وقتها بلا خلاف. الثانية: إذا نذر صومَ أيامٍ مثل أن قال: لله عليَّ أن أصوم عشرة أيامٍ، فالقول في
أنه لا يجب المبادرة، ويُستحبُّ، وفي أنه إذا عيَّنها، هل يَتعيَّن علَى ما ذكرنا في اليوم الواحِدِ، ويجري الخلافُ في تعْيِين الشهْرِ والسَّنة المعينَيْنِ، وحيثُ لا يذكر يقتصر علَى الوجْهِ الأصحِّ، ويجوز أن يصومها متتابعةً ومتفرقةً؛ لحصول الوفاء على التقديرَيْنِ، وفي كتاب القاضي ابنِ كجٍ أن عند أبي حنيفةَ يجب التتابع، وإن قَيَّد النذر بالتتابع، لزمه رعاية التتابع، فلو أخلَّ به، فعلى ما سبق في صوم الشهرَيْن المتتابعَيْن، فإن قيد بالتفرق فوجهان، ذكر أن الأصحاب -رحمهم الله- بَنَوْهُمَا على اختلاف القول في أن التفريق في صوم التمتُّع بين الثلاثة وبين السبعة، هل يجب، إذا فاتَتِ الثلاثةُ، أنَّهمَا يقربان من الوجهين، في أن الأوقات هل تتعيَّن للصيام إذا عينت، فإن قلْنا: تتعيَّن، لم يبعد حمل استحقاق التفريق عليه؛ كما لو قال: لله عليَّ صوم الأثانين، فإنه يصومها على صفة التفريق، ثم رأى الأصح من الوجهين؛ أنه لا يجب التفريق، وهو الذي أورده صاحب الكتاب، ووجَّه بأن التفريق ليس وصفاً مقصوداً، بخلاف التتابع، فإذا صام متتابعاً، فقد أتى بما هو أفضل، وأجاب القاضي ابن كج وصاحبُ "التهذيب" وغيرُهما؛ بأنه يلزمه التفريق، وقال: التفريق مرعيٌّ في صوم التمتع شرعاً، أن التتابع مرعيٌّ في صوم الكفَّارة، وذكروا أنه، لو صام عشرة أيام متتابعة، تحسب له خمسة أيام، ويُلْغَى بعد كلِّ يومٍ يومٌ، وهذا أقرب. الثالثة: إذا نذر صوم شهر، نُظِر؛ إن عيَّن، كرجب أو شعبان، أو قال: أصوم شهراً من الآن، فالصيام يقع متتابعاً، لتعيُّن أيام الشهر، وليس التتابع مستحَقاً في نفسه، حتى لو أفطر يوماً، لا يلزمه الاستئناف، ولو فاته الجَمِيعُ، لم يلزمْهُ التتابع في قضائه، كما في صوم رمضان، فإن شرط التتابع مع تعْيِينِ الشهر لغو. وأظهُرهما: وهو الذي يوجد لأصحابنا العراقيين: أنها تجب حتى لو أفسد يوماً، يلزَمُه الاستئناف، وإذا فاتَه قضى، متتابعاً؛ لأن ذكره التتابعِ يدلُّ على كونه مقصوداً، وقد سبق مثل هذا في الاعتكاف، ولو أطلق، فقال: أصوم شهراً، فله التفريقُ والتتابُعُ، قال الصيدلانيُّ: وساعدنا أبو حنيفة -رحمه الله- ههنا، وإن خالَفَ فيما إذا نذر اعتكاف شهْرٍ بشرط التتابع، ثم إن فرَّق صام ثلاثين يوماً، وإن صام متتابعاً وابتدأ به بعد مضيِّ بعض الشهر الهلاليِّ فكذلك، وإن ابتدأ به في أول الشهر وخرج ناقصاً كَفَاهُ. والرابعة: إذا نذر صوم سنة، فله حالتان: إحداهما: أن يعيِّن سنةً متواليةَ الأيام؛ كقوله: أصوم سنة كذا أو سنةً من أول شهر كذا إلى مثله أو من الغد، فصيامُها يقع متتابعاً بحق الوقت، ويصومُ رمضانَ عن فرضه، ويفطر العيدين وأيام والتشريق؛ تفريعاً على أنه لا يجوز الصوم فيها، وهو الصحيح، ولا يجب قضاؤها بل هِيَ غير داخلة في النذر، وإذا أفطرت المرأة بعُذْرِ
الحيض والنفاس, ففي وجوب القضاء قولانِ، ويُقَالُ وجهان: أحدُهُمَا: لا يجب، كيوم العيد وزمان الحيض والنفاس يقع مستنثًى شرعاً. والثاني: يجبُ، والنذر محمولٌ على الواجِبِ شرعاً، وإذا وقع الحَيْضُ في الصوم الواجِبِ شَرْعاً، لم يقضِ فكذلك الواجب بالنذر، ويخالف العيد، فإنه غير قابل للصوم في نفسه، وهذا أصحُّ عند صاحِب "التهذيبِ"، والأول أصح عند أبي علي الطبريِّ وأبي الحُسَيْن بْنِ القطّان، ونسبه القاضي ابن كج إلى الجمهور وتابعهم الرويانيُّ -رحمهم الله- ولو أفطر بعذر المرض، ففيه مِثْلُ هذا الخلاف، ورجَّح القاضي ابنُ كج فيه وجوبَ القضاء فرقاً بأنه لا يصح أن ينذر صوم أيامِ الحَيْض، ويصح أن ينذر صَوْمَ أيام المرض، ولو أفطر بعُذْر السَّفَر، فالظاهر وجوب القضاء؛ لأنه يتعلَّق بمحْضِ اختياره، وبه قال أبو الحسين -وهو المذكور في الكتاب، ومنهم من طرد فيه الخلاف، وبه قال القاضي ابنُ كج، وإذا أفطر في بعض الأيَّام بغير عذر، أثِمَ، وعليه القضاء بلا خلاف، وسواء أفطر بعذر أو بغير عذر، فلا يجبُ الاستئناف، وإذا فاته صومُ السنّة، فلا يجب التتابع في قضائه، كما في صوم رمضان، هذا إذا لم يتعرَّض للتتابع، فإن شرط مع تعيين السنة، فعلى الوجهين المذكورين في الشهر، فإن قلْنا: يجب رعايته، فإذا أفطر بغير عُذْر، وجب الاستئناف، وإذا أفطرت للحيض، لم يجب والإِفطار بالمَرَضِ والسفرِ، هل يبطل التتابع؟ فيه ما ذكرنا في صوم الشهرين المتتابعين في كفاَرة اليمين، فإن قلْنا: لا يبطل ففي القضاء الخلافُ السابقُ، ولو قال: لله عليَّ صوم هذه السنة، تناول اللفظ السنة الشرعية، وهي من المحرَّم إلى المحرَّم، فإن كان قد مضى بعْضُها, لم يلزمه إلا صومُ الباقي، فإن كان رمضانُ فيما بقي، لم يلزمه قضاؤُه عن النذر، ولا قضاء العيدين وأيام التشريق والحيض والمرض؛ على ما ذكرنا في جميع السنة. وقوله "ولو قال: أصوم هذه السنة" يشبه أن يريد به ما إذا نذر سنة أشار إلَيْهَا بعينها, وليس المرادُ حكايةَ هذه اللفْظَة من قَوْل النَّاذِر. الحالة الثانية: إذا نذر صوم سنة وأطْلَقَ يُنْظَرِ، إن لم يشترطِ التتابع يصوم ثلثمائة وستين يوماً أو اثنَيْ عَشَر شهراً بالهلال، وكل شهر استوعبه بالصوم، فناقصه كالكامل، وإن انكسر، ولم يصمْ جميعه، فعليه إتمامه ثلاثين، وشوال ينكسر بسبب العيد، فيكمله ثلاثين، فإن كان ناقصاً، احتاج إلى تدارك اليومين، وذو الحجة يكمله ثلاثين، فإن كان ناقصاً، تدارك خمسة أيام، ولا يجب أن يصوم متتابعاً، وإن صام سنةً على التوالي، تدارك النذر رمضان والعيدين، وأيام التشريق، ولا بأس بَصَوْمِ يوم الشك عن النذر، وتتدارك المرأة لأيَّامِ الحيض، هذا ظاهرُ المذهب، ووراءه وجهان: أحدُهُما: عن أبي الحُسَيْن بنِ القطّان: أنه، إنما يخرج عن النذر بصوم ثلثمائة
وستين يوماً؛ لأن السنة تنكسر لا محالةَ بسبب رمضانَ وأيام الفِطْر، وإذا انكسرت، وجب أن يعتبر العدد، كما أن الشهر إذا انكسر يُعتبر العدَدُ. والثاني: ذكره الصيدلاني: أنه إذا صام من المحرَّم إلى المحرَّم أو من شهر آخر إلى مثله، خرج عن نذره؛ لأنه يُقال: إنه صام سنة، ولا يلزم قضاء رمضان وأيام الفطر، وإن شرط التتابع، فقال: لله عليَّ صوم سنة متتابعاً، فيلزمه التتابع، ويصوم رمضان عن فرضه، ويفطر العيدَيْنِ وأيام التشْرِيق، وهل يلزمه تدارُكُهما للنَّذْر، فيه وجهان مذكوران في "التتمة": أظهرُهما: عند صاحِبها: المنع؛ لأن السنة المتتابعة اسْمٌ لاثْنَيْ عشَرَ شَهراً أو لثلثمائة وستين يوماً، وقد صام من هذه المدة ما يمكن صومه، فلا يلزم زيادة عليه، كما لو عيّن السنة. والثاني: وهو المنصوص، وجواب معظم الأصحاب: أنه يلزمه التدارك على الاتصال بآخر المحسوب في السنة؛ لأنه التزم صوم سنة ولم يصم عما التزم سنَةً، ويخالف ما إذا كانت السنةُ معيَّنةً؛ لأن المعيَّن في العَقْد لا يبدل بغيره، والمُطْلق إذا عين قد يبدل، ويشبه ذلك بأن المبيع إذا خرج معيباً، لا يبدل، والمسلم فيه، إذا سلمه، فخرج معيباً، يبدل، ثم يحسب بالشهر الهلالي، وإن كان ناقصاً على ما ذكرنا وإذا أفطر بغير عُذْرٍ، وجب الاستئناف، وإذا أفطرت المرأة بعُذْرِ الحيض، لم يجب الاستئناف، وفي عُذْرٍ المرض والسفر ما بيناه في صوم الشهرين المتتابعين ثم في قضاء أيام الحيض والمرض الخلافُ المذكورُ في الحالة الأولى، فإذا نذر صوم شهر فقضاء (¬1) ما يتفق الإِفطار فيه بحيض أو مرض على ما تبيَّن في السنة، وكذا لو نذرتِ المرأةُ صومَ يوْمِ معيَّنَ، فحاضت فيه، ففي وجوب قضائه القولان، وإن نذرت صومَ يَوْمٍ غير معيَّنٍ، فشرعت في صوم يوم، فحاضَتْ، لزمها التدارك. ولو نذر صوم ثلثمائة وستين يوماً، فعليه أن يصوم هذا العدد، ولا يلزم التتابع، فإن قال: متتابعةً، وجب؛ لرعاية التتابع، ويقضي لرمضان وأيام التشريق على الاتِّصَال، وَحَكَى القاضي ابنُ كج وجْهاً ضعيفاً؛ أن ذكر التتابع يلْغُو ههنا. قَالَ الغَزَالِيُّ: عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلاَنٌ فَقَدِمَ لَيْلاً فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَدِمَ نَهَارَاً لَمْ يَكْفِهِ صَوْمُ ذَلِكَ اليَوْمِ مَعَ أنَّهُ لَمْ يَنْوِهِ بِاللَّيْلِ، وَهَلْ يَلْزَمُ صَوْمُ يَوْمٍ آخَرَ فِيهِ قَوْلاَنِ، وَلَوْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلاَنٌ فَبَاع العَبْدَ ضَحْوَةَ ذَلِكَ اليَوْمِ ثُمَّ قَدِمَ بَانَ بُطْلاَنُ ¬
العَقْدِ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ، وَيُحْمَلُ ذِكْرُ اليَوْمِ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَوْ ظَهَرِ بِعَلاَمَةٍ أَنَّهُ يَقْدَمُ غَداً فَنَوَى لَيْلاً كَفَاهُ مَعَ التَّرَدُدِ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ لِظُهُورِ العَلاَمَةِ، وَلَوْ نَذَرَ مَنْ نَوَى نَهَاراً صَوْمَ تَطَوُّعٍ أَنْ يُتِمَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَزِمَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَذَرَ رَكْعَةً وَاحِدَةً، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّي قَاعِداً مَعَ القُدْرَةِ جَازَ لَهُ القُعُودُ، وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ بَعْضِ يَوْمِ لَغَا نَذْرُهُ في وَجْهٍ، وَفِي وَجْهٍ يَلْزَمُهُ يَوْمٌ كَامِلٌ، وَكَذَا الخِلاَفُ لَوْ نَذَرَ رُكُوعاً أَوْ سُجُوداً فَعَلَى وَجْهٍ عَلَيْهِ رَكْعَةٌ، وَعَلَى وَجْهِ يَلْغُو، وَلَوْ نَذَرَ حَجَّ هَذِهِ السَّنةَ وَهُوَ عَلَى مِائَةِ فَرْسَخِ وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ يَوْمٌ فَنَذْرُهُ لاغٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصود الفصل الكلامُ فيما إذا نذر أن يصوم يَوْمَ يَقْدَمُ فلانٌ، وقد ضمنه صُوَراً حَقُّهَا أن تقدَّمَ. إحداها: إذا شرع في صوم تطوع، فنذر أن يتمه، فظاهر المذهب: أنه يلزمه إتمامه، وفيه وجه؛ لأنه نذر صوم بعض اليوم ويجري الخلاف فيما إذا نذر أن يتمم صوم كل يوم نوى فيه صوم النفل، وإذا أصبح ممسكاً، ولم ينوِ، فهو متمكن من صوم التطوع، فلو نذر أن يصوم على هذا الوجه، فقد أطلق في لزوم الوفاء قولان؛ بناءً على أن النذر ينزل على واجب الشرع أو على ما يصح قال الإِمام: والذي أراه اللزوم، فإن النذر مقيد بالصوم على هذا الوجه، وموضع القولَيْن حالة الإِطلاق، ثم حَكَى عن الأصحاب -رحمهم الله- أنه، لو قال: عليَّ أن أصلِّيَ ركعةً، لم يلزمه إلا ركعةٌ، وأنه، لو قال: عليَّ أن أصلِّي كذا قاعداً، يلزمه القيام عند القدرة، إذا حملنا المنذور علَى واجب الشرع، وأنهم تكلَّفوا فرقاً بينهما، قال: ولا فرق فيجب تنزيلُها على الخلاف، وهو كالخلاف في نذر الصوم نهاراً عند إمكان التطوع به، فإنه بالإِضافة إلى واجب الشرع بمثابة الركعة الواحدة بالإِضافة إلى أقل واجبِ الصلاة. ولك أن تُعْلِم؛ لما بيَّنَّا قولَهُ في الكتاب "لزمه" بالواو. وقوله "وكذلك لو نذر ركعة واحدة" أيضاً. وكذلك قوله "جاز له القعود". الثانية: لو نذر صومَ بَعْضِ يومٍ، هل ينعقد نذره؟ فيه وجهان. وأصحُّهُمَا: المنع؛ لأن صومَ بعْضِ اليومِ ليس بقُرْبَةٍ. والثاني: ينعقد، وعليه صوم كامل، وزاد صاحبُ "التتمة" فقال: تبنى المسألة على أن المتنفل، إذا نوى الصوم نهاراً يكون صائماً من وقْتِ النية أو من ابتداء النهار، إن قلْنا: من وقت النية انعقد نذره، وإن قلنا: من ابتداء النهار، فوجهان: أحدُهُما: لا ينعقد؛ لأن المنذور ليس بقربة، ولا سبيل إلى إيجاب زيادة يلتزمها.
والثاني: ينعقد؛ لأنه قد ورد الأمر بإمساك بعضِ النهار، كما في حق من أصبح مفطراً يوم الشك، ثم بان أنه من رمضان، وذكر تفريعاً على الانعقاد؛ أنه لو أمسك بقيَّة نهاره عن النذر، يجزئه، إن لم يكن قد تناول في أوله شَيْئًا، وإن تناول، فلا يجزئه على المذهب، وقد مَرَّ في الصوم وجْهٌ أنه، إذا نوى الصوم بَعْد الأكل يجوز، فعَلَى ذلك الوجْهِ يجزئه عن نذره، وهذا يخالف ما قدَّمنا أنه يلزمه صوم يوم كامل. ولو نذر أن يصلِّيَ بعض ركعة، ففيه وجهان، كما في مسألة الصوم، ووجه الشيخُ المتولِّي الانعقاد بأنَّ الإِنسان قد يؤْمَرُ بفعل ما دون ركعة ويثاب عليه، وهو إذا أدرك الإِمامَ بَعْد الركوع حتى يدرك به فضيلة الجماعة، إذا اتفق في الركعة الأخيرة، قال: فعلَى هذا، يلزمه ركعةٌ كاملةٌ، إن أراد أن يأتي بالمنذور منفرداً، وإن اقتدى بإمامٍ بعْدَ الركوع في الركعة الأخيرة، يخرج عن نذره؛ لأنه أتى بما التزمه، وهو قربة في نفسه، والذي أطلقه غيره؛ تفريعاً على انعقاد النذر؛ أنه يلزمه ركعةٌ، وهو الجواب، إذا نذر ركوعاً باتفاق المفرعين، ولو نذر تشهداً، ففي "التتمة" أنه يأتي بركعة يتشهَّد في آخرها أو يقتدي بمن قعد للتشهد في آخر صلاته، أو يكبر ويسجد سجدةً، ويتشهَّد على طريقة من يقول سجود التلاوة يقتضي التشهد، ويخرج به عن نذره سجدةً مفردةً، ففيه طريقان في "التتمة" أن السجدة قربة، بدليل سجدة التلاوة والشكر، ففي انعقاد نذْره وجهان، كالوجهَيْنِ في نذر عبادة المريض وتشميت العاطس، وإن قلْنَا: لا ينعقد، فالحكم كما في الركوع، وقطَع الشيْخ أبو محمَّد بأن نذْرَ السَّجْدة المنفردة لا ينعقد؛ بناءً على أنها ليست بقربة، وهو الظاهر كما تقدَّم في الصلاة. الثالثة: إذا نذر أن يحجَّ في هذه السنة، وهو على مائة فرسخ، ولم يبق إلا يومٌ، لم ينعقد نذره؛ لأنه لا يتأتى له الإِتيان بما التزم، وهذا ظاهر المذهب، وذكر بناءً على أن في لزوم كفارة اليمين بذلك خلافاً سبَقَ في نظائره، وحَكَى القاضي ابنُ كج وجهاً آخر؛ أنه ينعقد نَذرُهُ، ويقضي في سنةٍ أخرَى، هذه هي الصورة المضمنة. ولنعُدْ إلَى مقصود الفصل: إذا نذر أن يصوم اليَوْمَ الذي يقدم فيه فلانٌ، هل ينعقد نذره؟ فيه قولان: أحدُهُمَا: لا، وهو اختيار الشيخ أبي حامدٍ -رحمه الله- لأنه لا يمكنه الصومُ بعْد القدوم؛ لأنَّ التبييت شرطٌ في صوم الفرض، وإذا لم يمكنِ الوفاءُ بالملتزم، يلغو الالتزام، كما ذكرنا في التزام الحجِّ في الصورة الثالثة. وأظْهَرُهُمَا: وهو اختيار المُزَنِيِّ، إلى ترجيحه ذهب القاضيان أبو الطيب والرويانيُّ وإليه ميل ابنِ الصباغ وغيره: أنه ينعقد نذره؛ لأن الوفاء به ممكنٌ بأن يعلم أنه يقدم غدًا فينوي من الليل، ويصوم عن النذر، وقد يجب الصوم في زمان لا يمكن
الإِتيان به ويؤثِّره وجوبه في القضاء، كالصبي يبلغ في أثناء النهار والمغمَى عليه يفيق والحائض تَطْهرُ. التفريع: إن قلْنا: لا ينعقد نذره، فلا كلام، وإن قلنا: ينعقد، فلو قَدِمَ فلان ليلاً، فلا صوم على الناذر؛ لأن الصْومَ معلَّقٌ بيوم القدوم، ولم يوجَدْ يوم قدوم وإن قدر أنه عني باليوم الوقْتَ، فالليل غير قابل للصوم، ويُستحبُّ أن يصوم من الغد أو يوماً آخَر شكراً للهِ تعالَى وإن قَدِمَ نهاراً، فللناذر أحوال: إحداها: أن يكونَ مُقْطِراً، فيلزمه أن يصوم عن نذره يوماً (¬1) وكيف يقدَّر؟ أنقول: يلزمه بالنذر الصوم من أول اليوم أو نقول: يلزم من وقت القدوم؟ فيه وجهان، ويُقَالُ: قولان: أصَحُّهُمَا: وبه قال ابنُ الحداد: أنه يلزمه الصوم من أول اليوم؛ لأن قوله: أصوم يوم يقدم فلانٌ عبارةٌ عن جميع اليوم لا عن وقت القدوم خاصَّةً إلا أن يوم القدوم غيْرُ معلومٍ، فإذا قَدِمَ، تبيَّن أنه من أوَّل يوم القدوم، فأشبه ما إذا أصبح يوم الشك مفطراً، ثم بان أنه من رمضان، يلزمه القضاء. والثاني: أنه يلزم من وقت القدوم؛ لأنه علق الالتزام بالقدوم، وبكونه في النهار إلا أن صوم بعض اليوم لا يمكن، فَلَزِمَهُ صومُ يومٍ تامٍّ، قال في "التهذيب": وليس هذا كما إذا نذر صوم بعض اليوم؛ حيث لا ينعقد على ظاهر المذهب؛ لأنه نذر ههنا صوم يوم، لكن شرط الوجوب حصل في البعض، فهو كما لو شرع في صوم تطوُّع، ثم نذر إتمامه، يلزمه على ظاهر المذهب، ويكون واجباً من حين نذر، كما في جزاء الصيد يصوم عن كل مدٍّ يوماً، وإن فضل نصف مد يصوم يوماً تاماً، والواجبُ فيه نصفُ يومٍ، وقد يعبر عن هذا الخلاف، بأن ذكر القدوم لتعريف اليوم أو هو شرطُ الوجوب، ويتعلَّق بهذا الخلافِ فوائدُ: منها: بني بعضهم القولَيْن في انعقاد النذر من أصله عَلَى هذا الخلاف، وقال: إن قلْنا: إنَّ قضيَّته لزوم الصوم من أول اليوم انعقد، وإن قلنا: قضيته اللزوم من وقت القدوم، لم ينعقد، كنذر صوم بعض اليوم، وبل أولَى؛ لأنه نذر صوم يوم في بعض اليوم، وهو مستحيلٌ. ومنْها: لو نذر أن يعتكف اليَومَ الذي يقْدَم فيه فلانٌ، فقدِمَ نصف النهار، فإن قلنا بالأول، اعتكف باقي اليوم، وقضى ما مضى، قال الصيدلانيُّ: أو يعتكف يوماً مكانه، ¬
وقضية تعين الزمان للاعتكاف أن يتعيَّن (¬1) الأول، والظاهر التعيين، وإن قلنا: بالثاني، اعتكف باقي اليوم، ولم يلزمه شيء آخر. ومنها: إذا قال لعبده أنتَ حرٌّ اليوْمَ الذي يقْدَم فيه فلانٌ، فباعه ضحوةَ يومٍ، ثم قَدِمَ فلان في بقيَّة اليوم، فإن قلْنا بالأول، بان بطلان البيع وحرية العبد، وبه قال ابنُ الحَدَّاد، وإن قلنا بالثاني، فالبيع صحيح، ولا حرية، وهذا إذا كان قدوم فلانٍ بعد تفرقهما عن المجلس ولزوم العقد، أمَّا إذا قَدِمَ قبل التفرق أو في زمان الخيار المشروط، فيحصل العِتْقُ على الوجهين؛ لأنه إذا وجدت الصفةُ المعلَّق عليها، والخيار ثابتٌ للبائع، يحصل العتق على الوجهين ولو مات السيد ضحوةً ثم قَدِمَ فلانٌ، لم يُوَرَّثْ عنه على الوجه الأول، ويُوَرَّثْ على الثاني، ولو أعتقه عن كفارته، ثم قدم، لم يُجْزِه على الأول، ويجزيه على الثاني. ومنها: إذا قال لزوجته: أنتِ طالقٌ يوم يَقْدَمُ فلانٌ، فماتت أو مات الزوج في بعض الأيام، وقَدِمَ فلان في بقية ذلك اليوم، فإن قلْنا: بالأول، بان أن الموت بعد الطلاق، فلا توارث بينهما، إن كان الطلاق بائناً، وإن قلنا: بالثاني، فلا يقع الطلاق، كما لو قال: إذا قَدِمَ فلانٌ، فأنتِ طالقٌ، فمات أحدُهُما قبل قدومه، ولو خالَعَها في صدر النهار، وقَدِمَ، فلانٌ في آخره، فعلى الأول يتبين بطلان الخلع، إن كان الطلاقُ بائناً، وعلى الثاني، يصح الخُلْعُ، ولا يقع الطلاق. الحالة الثانية: إذا قَدِمَ فلانٌ، والناذرُ صائم عن واجبٍ من قضاءٍ أو نذرٍ آخر، فيتم ما هو فيه، ويصوم لهذا النذر يوماً آخر، واستحب الشافعيُّ -رضي الله عنه- أن يعيد صومَ الواجب الذي هو فيه؛ لأنه بان أنه صام يوماً مستحَقَّ الصوم؛ لكونه يوم قدوم زيد، قال في "التهذيب": وفي هذا دليلٌ على أنه إذا نذر صوم يوم بعينه، ثم صامه عن نذر آخر أو قضاءٍ؛ أنه ينعقد، ويقضي نذر هذا اليوم. الثالثة: إذا قدم، وهو صائمٌ صوم تطوع أو غير صائم، لكنَّه لم يأكل شيئاً، قال في "التهذيب": وكان ذلك قبل الزوال، فيبنى على أنه يلزمه الصوم من أول اليوم أو من وقت القدوم، وإن قلْنا بالأول، فيلزمه صوم يوم آخر، ويُسْتَحَبُّ أن يمسك بقية النهار، وإن قلنا بالثاني، ففي "التتمة": أنه يُبْنَى عَلَى أنه، هل يجوز أن ينذر صوم بعْضِ اليوم، ¬
إن قلنا: يجوز، فينوي، إذا قدم، ويكفيه ذلك ويُسْتَحَبُّ أن يعيد يوماً كاملاً؛ للخروج من الخلاف، وإن قلنا: لا يجوز، فلا شيء عليه، ويُستحبُّ أن يقضي، وفي "التهذيب" أنا، إذا قلْنا: يلزم الصوم من وقْتِ القدوم، فههنا وجهان: أصحُّهُما: أنه يلزمه صَوْمُ يوْمٍ آخر. والثاني: عليه إتمام ما هُوَ فيه، ويكونُ أوله تطوعاً، وآخره فرضاً، كمن شرع في صوم تطوُّع ثم نذر إتمامه، يلزمه الإِتمام، وهذا، إذا كان صائماً عن تطوع، وإن لم يكن صائماً، فينوي، ويصوم بقية النهار، إن كان قبل الزوال، ولو تَبيَّن للناذر أن فلاناً يَقْدَمُ غدًا فنوى الصوم من الليل، ففي إجزائه عن النذر وجْهَان: أَحَدُهُمَا: ويُنْسَبُ إلى القَفَّال: أنه لا يجزئه؛ لأنه لا يمكنه الجزم به، فإن الإِخبار قد يتطرَّق إليه خَلَلٌ، وإن لم يتطرَّق، فقد يعرض مانعٌ من القدوم، والتردُّد يمنع صحة النية. وأظهرهُما: وهو الذي أورده الأكثر: الإجزاء؛ لأنه بَنَى عَلَى أصل مظنونٍ، والتجويز النافي بعد الظن المتأكِّد لا يمنع صحة النية على ما بيَّنَّا في "كتاب الصوم" وخصَّص صاحب "التتمة" الوجهين بما إذا قلْنا: إنه يلزم الصوم من أول اليَوْم، وذكر أنا إذا قلْنا باللزوم من وقت القدوم، فلا يجزئ الصوم بنيَّة من الليل؛ لأن سبب الوجوب لم يوجَدْ في أول النهار حتى يَنْوِيَ إيقاع الصوم فيه عن الواجب. فَرْعٌ: لو قَدِمَ فلانٌ يَوْمَ العيد أو في رمضانَ، فهو كما لو قَدِمَ ليلاً. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ نَدَرَ صَوْمَ يَوْمٍ الأثَانِينِ أَوْ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلاَنٌ أَبَداً فَقَدِمَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ لَزِمَهُ الأَثَانِين لأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الوَقْتَ مُتَعَيّنَ فِي الصَّوْمِ، وَلاَ يَجِبُ قَضَاءُ الأَثَانِينِ الوَاقِعَةِ فِي رَمَضَانِ إلاَّ الاثْنَيْنِ الخَامِسَ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَقَعُ وَقَد لاَ يَقَعُ فَفِي قَضَائِهِ خِلاَفٌ، فَإِنْ كَانَتْ تَحِيضُ عَشْراً فَلاَ بُدَّ مِنْ وُقوعِ بَعْضِ الأَثَانِينِ فِي الحَيْضِ فَالأَظْهَرُ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ قَضَاءُ ذَلِكَ، وَكَذَا الخِلاَفُ فِيمَا يَفُوتُهُ بِسَبَبِ صَومِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَينِ لَزِمَهُ فِي كَفَّارَةٍ، وَالأَظْهَرُ أَنَّهَا إنْ لَزِمَتْ قَبْلَ النَّذْرِ فَلاَ تُقْضَى كَأَيَّامِ رَمَضَانَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا نذر صوم يوم الاثنين أبداً، لزمه الوفاء به، تفريعاً على الأصحِّ، وهو أن الوقت المعين للصوم يتعيَّن، ولو نذر صوم اليوم الذي يَقْدَمُ فيه فلان أبداً، فقدم يوم الاثنين، ففي انعقاد النذْرِ بذلك اليَوْمِ الخلافُ الذي سبق في سائر الأثانين، يلزمه الصوم، كما لو نذر صَوْمَ الأثانينِ، ولا يجب قضاء الأثانين الواقعةِ في رمضان؛ لأن وجوب صوم رمضان سابِقٌ على النذر، فلا ينعقد عليها النذْرُ، نعم، لو وقع فيه
خَمْسَةُ أثانين، ففي قضاء الاثنين الخامِسِ وجهان أو قولانِ، كالقولَيْنِ فيما إذا وقع العِيدُ في يوم الاثنين؛ لأن الخامس قد يَتَّفِقُ، وقد لا يتَّفِقُ، كما أن العيد قد يقع في يوم الاثنين، وقد لا يقع، والأربعةُ لا بدّ منها، وإذا وقع عيدٌ في يوم الاثنين، ففي قضائه قولان: أصحُّهُما: وهو اختيار المُزَنِيِّ وأبي إِسحاق -رحمهما الله-: أنه لا يجب كالأثانين في رمضان؛ لأن هذا متعيِّن للإِفطار، كما أنه متعيَّن لصوم رمضان. والثاني: يجب؛ لأن ذلك قد يتفق، وقد لا يتفق، فيتناوله النذر بخلاف أثانين رمضان، ويخلاف ما إذا نذر صوم سنةٍ معيَّنةٍ، حيث قلْنا: لا يقضي العيدين؛ لأن وقوعهما في السنة لازمٌ، ووقوع العيد في يوم الاثنين ليس بلازم، وحُكْمُ أيام التشريق؛ بناءً على الصحيح وهو أنه لا صوم فيها، حكم العيدين. ولو صدر هذا النذر من امرأة، وأفطرت بعض الأثانين (¬1) بعذر الحيض والنفاس، ففي القضاء طريقان، قال الأكثرون: فيه قولان أيضاً كما في العيد، ومن هؤلاء القاضيانِ أبو الطيِّبِ وابنُ كج، والإِمامُ وصاحبُ "التتمة" وقطع آخرون بالوجوب؛ لأن النذر يُسْلَكُ به مَسْلَكُ واجب الشرعِ، إذا فات بالحيض والنفاس، تقضي، ثم في تعليق أبي حامد وغيره ترجيحُ وجوب القضاء ههنا، والمفهوم من طرد القَوليْن ههنا ترجيح المنع، لأبيه ذهب ابنُ الصبَّاغ، وهذا كما مرة فيما إذا نذر صومَ سنَةٍ معيَّنة، ثم الطريقان، فيما إذا لم يكن لها عادةٌ غالبةٌ، فإن كانَتْ، ففي القضاءِ ففيما يقع في عادتها أظهر، وربما قُطِعَ به؛ لأنها لا تقصد صوم اليوم الذي يقع في عادتها غالباً في مفتتح الأمر، وقيل بخلافه؛ لأن العادة قد تختلف بالزيادة والنقصان، وأما ما يختلف، فقد يقع في عادتها وقد لا يقع، فهو على الخلاف فيما إذا لم تكن لها عادة؛ مثاله: إذا كانت عادتها أن تحيض عشرة أيام، فلا بدّ وأن يقع فيه يوم اثنين، ويجوز أن يتكرر مرتين؛ ففي الثاني الخلاف. ولو أفطر الناذر بعض الأثانين بعذر المرض، فالمشهور وجوب القضاء، وفي إيرادُ موردين ما يقتضي القطْعَ به، وجعله صاحب الكتاب والقاضي ابن كج علَى الخلافِ المذكور فيه، إذا نذر صوم سنة معينة، ويشبه أن يرجَّح وجوب القضاء في ¬
المسأَلَتَيْنِ جميعاً، ويجوز أن يُعْلَم لها لفظ الخلاف من قوله في الكتاب: "ففي القضاء خلاف" بالواو. ولو لزمه صوم شهرين متتابعين عن كفارة، فيقدم صوم الكفارة على صوم الأثانين، سواء تقدَّم وجوب الكفارة أو تأخر؛ لأنه يمكن قضاء الأثانين. ولو عكس، لم يتمكَّن من صوم الكفارة؛ لفوات التتابع يتخلل الأثانين، ثم إن لزمتِ الكفارةِ بعد ما نذر صوم الأثانين، فيقضي الأثانين الواقعة في الشهرين؛ لأنه أدخل على نفْسِهِ صوم الشهرَيْنِ بعد ذلك النذر، وإن لزمت الكفارةُ قبْلَه، فوجهان، ويُقَالُ: قولان: أحدهما: أنه لا يقضيها، كما لا يقضي الأثانين الواقعة في رمضان؛ لتقدُّم وجوبها على النذر. والثاني: يجب القضاء؛ لأن الوقت غير متعيّن لصوم الكفارة. ولو صام في الشهر أثانينها، لوقعت عن نذره، فإذا تركه، قَضَى، بخلاف أثانين رمضان. وهذا أظهر عند صاحب "التهذيب" وطائفة من العراقيين، ويُحكَى عن رواية الربيع، والأوليُ أظهرُ عند الإِمام وصاحب الكتاب القاضِيَيْنِ أبي الطيِّب، وابن كج. ولو نذر أن يصوم شهراً متتابعاً أو شهرَيْنِ أو أسبوعاً، ثم نذر صوم الأثانين، فإن لم يعين الشهر أو الشهرَيْنِ، فهو كما إذا لزمته الكفَّارة، ثم نذر الأثانين. وإن عين، ففي "التتمة": أنه يُبْنَى على أنه إذا عيَّن وقتاً للصوم هل يجوز أن يصوم فيه عن قضاء، أو نذر آخر؟ وقد سبق فيه الخلاف، فإنْ قلْنا: يجوز، فهو كما لو لم يعيَّن، وإن قلْنا: لا يجوز، فحكم ذلك الشهْر حكم رمضان، وهذا ما رآه صاحب "التهذيب"، وقال أيضاً: إذا صادف نذران زماناً معيناً، فيحتمل أن يُقَالَ: لا ينعقد النذر الثاني، وطرد، هذا الاحتمال فيما إذا قال: إن قدم زيد، فلّله عليَّ أن أصوم اليوم التالي لقدومه، وإن قدم عمرو، فلّله عليَّ أن أصوم أول خميس بعْد قدومه، فقدما معاً يوم الأربعاء، ونُقِلَ: أنه يصوم عن أول نذر نذره، ويقضي يوماً للنذر الثاني. وفي تعليق الشيخ أبي حامد وغيره -رحمهم الله-: أنه لو نذر أن يصوم أول خميس بعد شفاء مريضه، ونذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فشفى المريض، وأصبح الناذر في أول الخميس صائماً، فقدم فيه فلانٌ، يقع صومه عما نواه، والنذر الآخر، إن قلنا: إنه لا ينعقد فلا شيء عليه، وإن قلنا: ينعقد، فيقضي عنه يوماً آخر. وقوله في الكتاب "وكذا الخلاف فيما يفوته بسبب صوم شهرَيْن متتابعَيْن، لزمه
في كفارة" إلى آخره، قد يشعر ظاهره بإثبات الخلاف في قضاء الأثانين الفائتة. بهذا السبب علَى الإِطْلاَق، وبأن الأظهر الفَرْقُ بين أن يلزم الكفَّارة قبل النَّذْر، فلا يجب القضاء أو بعده، فيجب، ولا يمكن حمله عليه؛ لأنه لا خلاف في أنها تُقْضَى، إذا لزمت الكفارة بعد النذر، وكأنه أراد الخلاف فيما يفوته بسبب صوم الشهرين، حيث وقع الخلاف لشبه الخلاف في الصوم التي قدَّمها على هذه الصورة. ثم قوله: "والأظهر" إلى آخره: فيه بيان الراجح من الخلاف مع التنصيص على مَوْضِعِه، ولو قال: "وكذا فيما يفوته يَصُوم شهرَيْن متتابعَيْن، لزمه في كفارة قبل النذر خلاف، والأظهر أنه لا يقضي؛ لِيَسْلَمَ عن الإِبهام المذكور. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ الدَّهْرِ لَزِمَهُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لأَيَّامِ العِيدِ وَالحَيْضِ وَرَمَضَانَ، وَلَهُ الفِطْرُ بِالمَرَضِ وَالسَّفَرِ وَلاَ يُمْكِنُ القَضَاءُ، وَلَوْ أَفْطَرَ عَمْداً فَعَلَيْهِ مُدٌّ إِذِ القَضَاءُ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالدَّهْرُ مُسْتَغْرِقٌ، وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ العِيدِ لَغَا نَذُرُهُ، وَفِي يَوْمِ الشَّكِّ وَنَذرِ الصَّلاَةِ فِي الأَوْقَاتِ المَكْرُوهَةِ وَجْهَانِ: قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: ولو إذا نذر صوم الدهر، انعقد نذره، قال أبو سَعْدٍ المتولِّي: لأن الصوم عبادة، وليس في صوم الدهر كراهية، وقد ذكرنا في آخر "كتاب الصوم" أن من الأصحاب من أطلق القَوْل بأنه مكروه، ولا يبعد أن نتوقَّف على ذلك التقدير في صحَّة هذا النذر؛ لأن النذر تقربٌ، والمكروه لا يُتقرَّب به، والمذهب انعقاده، ثم قد ذكرنا هناك؛ أنه يستثنى عن هذا النذر العيدان، وكذلك أيام التشريق. ولو كان عليه قضاء رمضان، فالقضاء أيضاً يقع مستثنى، وكذا لو كان عليه كفارة عند النذر وإن لزمت الكفارةُ بعد النذر، فقد أطلقنا هناك؛ أنه يصوم عن الكفارة، ويفدي عن النذر، وزاد صاحب "التتمة" فقال: يُبْنَى ذلك على أن المنذورَ يُسْلَكُ به مسْلَك واجب الشرع، أو مسلك الجائزات، إن قلْنا بالأول، فلا يصوم عن الكفارة، ويصير كالعاجز عن جميع الخصال، وإن قلنا بالثاني، فيصوم عن الكفارة، ثم إن لزمته الكفارة بسبب هو مختارٌ فيه؛ فعليه الفدية؛ لأنه تاركٌ لصوم النذر بما فعل، وإلا بان قبْل خطأً، فلا فدية عليه، بل هو كمن أفطر بعذر، ولو أفطر هذا الناذرُ في رمضان بعذر أو غير عذر، فعليه القضاء ويقدمه على النذر، كما يقدِّم الأداء، كما يقدم قضاء الحَجِّ على الحجَّة المنذورة، ثم إن أفطر بعذر، فلا فدية عليه. وإن كان متعدياً، لزمته الفدية؛ لأنه فَوَّتَ صَوْمَ النذرِ بعُدْوانه، ولو أفطر يوماً من الدهر، فلا سبيلَ إلَى القَضَاء؛ لاستغراقِ أيَّام العُمُر بالأداء، ثم يُنْظَرُ، إن أفطر بعُذْر
مرضٍ أو سفرٍ، فلا فدية عليه؛ لأن من أفطر في رمضان بعذر، لا فدية عليه، ففي القضاء أولَى، وإن أفطر عمداً بلا سبب، فعليه الفدية؛ لتقصيره، كَمَنْ أفطَرَ في رمضان تعدياً، ومات قبل التمكن من القضاء، ويجوز أن يُعْلَمَ قوله في الكتاب "فعليه مُدٌّ" بالواو؛ لأن الإِمام قال: الصوم المنذر يُقَابِلُ بالفدية التي يُقَابَلُ بها صوم رمضان، على المذهب الظاهر، فأشعر بالخلاف فيه، ثم أراد الإِمام -رحمه الله- هاهنا شيئين: أحدهما: أنه لو نوى في بعض الأيام قضاءَ يَوْمِ، أفطر فيه متعدياً، فالوجه أن يَصِحَّ، إن كان الواجبُ غَيْرَ ما فعل، ثم يلزمه المُدُّ لمَا ترك من الأداء في ذلك اليوم، ولك أن تقول: يجيء في الصحة الخلاف المذكور، فيما إذا عيَّن وقتاً للصوم بنذره ينعقد فيه صوم آخر؛ لأن أيام العمر قد عيَّنها بنذره للصَّوْم. والثاني: هل يجوز أن يصوم عن المُفْطِرِ المتعدِّي وليُّه في حياته، تفريعاً على أنه يصوم عن الميت وليُّه؟ الظاهر عندنا جوازه؛ لتعذُّر القضاء منه؛ وفيه احتمال من جهة أنه قد يطرأ عذر يجوز ترك الصوم له، ويتصور تكلف القضاء فيه، وقد يُسْتَفَادُ مما ذكَرَهُ أنه إذا سافر قضى ما أفطره فيه متعدياً، وينساق النظر إلى أنه هل يلزمه أن يسافر ليقضي؟. الثانية: نذر صوم يوم العيد لا ينعقد؛ لأنه منهي عن صومه، فأشبه ما إذا نذرت المرأةُ صوم يوم الحَيْضِ. وقال أبو حنيفة: ينعقد نذره، ويصوم يوماً آخر مكانه، وربما يُرْوَى أنه لو صامه خرج عن نذره، ولو نذر صوم أيام التشريق، لم ينعقد على المذهب أيضاً، وإذا فرَّعْنا على القديم، وهو أنه يجوز للمتمتع صومها، وجوَّزنا على أحد الوجهين لغَيْرِ المتمتِّع صومها، ففي "التتمة": أن في انعقاد النذر وجهَيْن؛ كنذر الصلاة في أوقات الكراهة، ولو نذر صوم يوم الشك، أو الصلاة في الأوقات المكروهة؛ ففي انعقاده وجهان مبنيَّانِ علَى الوجهَيْنِ في صحَّة الصوم فيه، والصلاة فيها؛ والأظهر المنع، وقد ذكرنا نذر يوم الشك في الصوم، والصورة الأخرَى في الصلاة والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: النَّوْعُ الثَّانِي: الحَجُّ: فَإِذَا نَذَرَ الحَجَّ مَاشِياً وَقُلْنَا: المَشْيَ أَفْضَلُ لَزِمَهُ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ قَبْلَ الإِحْرَامِ فَفِي لُزُومِهِ وَجْهَانِ، فَإنْ قُلْنَا: يَلْزَمُ المَشْيُ قَبْلَ الإحْرَامِ فإنْ أَطْلَقَ حُمِلَ عَلَى المَشْيِ مِنَ المِيْقَاتِ أَوْ مَنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلَهُ الرُّكُوبُ بَعْد أَحَدِ التَّحَلُّلَينِ عَلَى الأَظْهَرِ، وَلَوْ فَاتَهُ الحَجُّ أَوْ فَسَدَ لَزِمَهُ لِقَاءُ البَيْتِ، وَفِي جَوَازِ الرُّكُوبِ وَجْهَانِ، ثُمَّ يَلْزِمُ قَضَاءُ الحَجِّ المَنْذُورِ، وَلَوْ تَرَكَ المَشْيَ بِعُذْرٍ وَقَعَ الحَجُّ عَنْ نَذْرِهِ، وإنْ تَرَكَ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَقَولاَنِ، فَإنْ قُلْنَا: وَقَعَ فَفِي لُزُومِ دَمِ الشَّاةِ
للِجُبْرَانِ وَجْهَانِ، وَقِيلَ: إنْ تَرَكَ بِعُذْرٍ أَيْضاً يَلْزَمُهُ الجُبْرَانُ، وَلَوْ تَرَكَ بَعْضَ الطَّرِيقِ وَمَشَى فِي بَعْضٍ فَالنَّصُّ أَنَّهُ إِذَا عَادَ للقَضَاءِ رَكِبَ حَيْثُ مَشَى وَمَشَى حَيْثُ رَكِبَ، وَقِيلَ: يَلْزمُهُ المَشْيُ فِي الجَمِيع. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا يخفى أن الحج والعمرة يلزمان بالنذر، وإذا نذر؛ أن يحج ماشياً أو يعتمر ماشياً، فهل يلزمه المشي، أم له أن يحج أو يعتمر راكباً؟ فيه قولان: أصحهما: الأول، وهو الذي فرَّع عليه الشافعيُّ -رضي الله عنه- واشْتُهِرَ من نصِّه، وهما مبنيان على أن الحجَّ راكباً أفضل أو ماشياً؟ فيه قولان: أحدهما: أن الركوب أفضل؛ لما رُوِيَ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حَجَّ رَاكِبًا (¬1)، وأيضاً ففيه تحمُّل زيادة مؤنةٍ، وإنفاقٍ في سبيل الله تعالَى. وأصحهما: أن المشي أفضل؛ لأن التعب فيه أكثر، وقد اشْتُهِرَ أن. النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال لعاثِشةَ -رضي الله عنها- "أَجْرُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ" (¬2). وحكى الصيدلانيُّ بدل القول الأول؛ أنهما سواء، وقد يوجد ذلك بتعارض المعنيين، وعن ابن سُرَيْج: التسوية بين المشي والركوب، ما لم يُحْرِم، فإذا أحرم، فالمشي أفضل، وقال المصنَّف -رحمه الله- في الإِحياء وينبغي أن يفصل ويُقَال: من سَهُلَ عليه المَشْيُ، فالمشي في حقه أفضل ومن ضَعُفَ عنه، وساء خُلُقُه لو مشى، فالركوب في حَقِّه أفْضَلُ، كما أن الصوم للمسافر والمريض، ما لم يؤدِّ إلى ضعف وسوء خُلُقٍ أفضل (¬3)، فإن قلْنا: إن الركوب أفضل، أو سوَّيْنا بينهما، فلا يلزمه المشي بالتعرُّض للمشي، وإن قلنا: المشي أفضل، لزمه ذلك؛ لأنه التزم في العبادة الملزمة زيادةَ فضيلةٍ، فصار كما إذا نذر الصوم متتابعاً. واعلم أنا ذكَرْنا في الحجِّ أن الوقوفَ بعَرَفَةَ راكباً أفضل من الوقوف راجلاً على أظهر القولَيْن وههنا نجعل الحج ماشياً أفضل، والوقوف أعظم أركانه مكاناً، يريد بهذا حالة السير والحركة، وبذاك حالة اللبث والسكون، ثم يتفرَّع على قول لزوم المشي مَسَائِلُ: إحداها: في بداية المشي، وهو مصَّدرٌ بأنه لو صرح بالتزام المشي من دويرة أهله إلى الفراغ من الحجِّ، هل يلزمه المشي قبل الإِحرام؟ فيه وجهان: ¬
أحدهما: لا؛ لأن المشي قَبْلَ الإِحرام لا قُرْبَةَ فيه. وأقربهما: نعم؛ لأن الأجْرَ على قَدْرِ النَّصِبَ، والمشي إلى العبادة قُرْبة وأيضاً فسنذكر أن الأظهر فيما إذا قال: أمشي إلى بيت الله تعالَى، يلزمه المشي من دُوَيْرَةِ أهله. فكذلك إذا قال: أحج ماشياً من دويرة أهْلي. وقال الإِمام: وللصورة التفات إلَى أن الأجير على الحج، إذا مات في الطريق قبل الإِحرام، هل يستحقُّ شيئاً من الأجرة؟ فإن قلْنا: لا يلزمه المشْيُ من دويرة أهله، مع التصريح بِهِ، فإذا أطلق فأولَى ألاَّ يلزم، وإن قلنا: يلزم هناك، فإذا أطلق، وقال: أحج ماشياً، فوجهان: أحدهما: أنه يلزمه المشْيُ من دوبرة أهْله، للعادة (¬1)، فإن من قال: حجَجْتُ ماشياً، فُهِمَ منه المشْيُ في جميع الطريق. وأصحهما: أنه يلزم من وقت الإِحرام، سواء أحرم من الميقات أو قبله؛ لأنه التزم المشي في الحج، وابتداء الحج من وقت الإحرام، وقطع بهذا قاطعون، ورَدُّوا الخلاف إلى ما إذا نذر المشْيَ إلى مكة، أو إلى بيت الله تعالَى، وسيأتي القول فيه إن شاء الله تعالى- وأثبت في "التتمة" الوجهين، وبناهما على أنه من أيْنَ يلزمه الإِحرام؟ فعن أبي إسحاق المروزيِّ: أنه يلزمه الإِحرام من دُوَيْرَةِ أهله؛ لأن ذلك من تمام الحج، وعن غيره: أنه لا يلزم إلا من الميقات، كما في الواجب الشرعي، فعلى الأول يَمْشِي من دويرة أهله، وعلى الثاني من الميقات؛ لأن المشي قبل الميقات لا قربة فيه. وقياس هذه الطريقة؛ أن يُقَالَ: إذا صرح بالتزام المشي من دويرة أهله، يلزمه الإِحرام منها على الوجه الأول، ولو قال: أمشي حاجاً، فالظاهر: أنه كقوله: أحج ماشياً، وقضية كلِّ واحد من اللفظين اقتران الحج والمشي، وفيه وجه: أن قوله: أمْشِي حاجّاً يقتضى أن يمشي من مَخْرَجِهِ وانتهاضه إلى الحَجِّ. الثانية: في نهاية المشي، وفيها وجهان حكاهما الإِمام: أحدهما: أنه يمشي إلى أن يتحلَّل التحلُّل الثاني؛ لأنه من أعمال الحج ما بقيت عُلْقَةُ الإِحرام، ثم له الركوب، وإن بقي عليه الرمْيُ في أيام منًى؛ لأنها خارجة من الحج خروج السَّلام الثاني من الصلاة. والثاني: أن له الرُّكُوبَ بعد التحلُّل الأول؛ لأن اسم الحج على الإِطلاق يزول حينئذٍ، وتتخفَّف تكاليف النسك، والأول هو المنصوص، والذي أورده الجمهور. ¬
وجعل صاحب الكتاب الثَّانِيَ أظْهَرَ وحكاه القاضي الرويانيُّ عن المجموع وعده غلطاً، هذا في الحج، وأما العمرة، فليس لها إلا تحلل واحد فيمشي إلى أن يتحلَّل؛ والقياس أنه إذا كان يتردَّد في خلال أعمال النسك؛ لغرض تجارة وغيرها، فله أن يركب ولم يَذْكُرُه. الثالثة: لو فاته الحج، لزمه القضاء ماشياً، ثم من المعلوم أن من فاته الحج يحتاج إلى لقاء البيت، ويتحلَّل بأعمال العمرة، فهل يلزمه المشْيُ في تلك الأعمال؟ فيه قولان: أحدهما: وهو المنصوص في "الأم": نعم؛ لأن هذه الأعمال لزمته بالإِحرام ماشياً، ومبنى الحج على إتمام ما يقع الشُّرُوع فيه بصفاته، وهذا أصحُّ عند القاضيين، الطبريِّ والرويانيِّ -رحمهما الله-. والثاني: لا؛ لأنه خَرَجَ بالفوات عن أن يكون حجة المنذور، ولذلك وجب القضاء، وإذا خرج عن أن يكون منذوراً، وجب ألا يلزم فيه المشْيُ، وهذا أظهر عند أبي حامد والقفَّال، والصيدلانيِّ والإِمام وغيرهم -رحمهم الله-. ولو فسد الحج بعد الشروع فيه، فهل يجب المشْيُ في المضي في الفاسد؟ فيه مثل هذا الخلاف، وإطلاق صاحب الكتاب الوجهين في المسألة اتِّبَاعٌ للإِمام، وهي مشهورةٌ بالقولين. وقوله: "ثم يلزم قضاء الحجة المنذورة" أي ماشياً، أما أصل القضاء، فهو أوضح من أن يحتاج إلى ذكره. الرابعة: لو ترك المشْيَ بعذر؛ بأن عجز عنه فحج راكباً، وقع حجة عن النذر، وهل عليه جبر المشي الفائت بإراقة دم؟ فيه قولان: أحدهما: لا، كما لو نذر؛ أن يصلِّيَ قائماً، فعجز، فصلَّى قاعداً، لا شيء عليه. وأصحهما: على ما ذكره الإِمام، وصاحب "التهذيب": نعم؛ لما رُوِيَ أن أختَ عُقْبَةَ (¬1) بْنِ عامِرٍ نَذَرَتْ أن تحُجَّ مَاشيةً، فَسُئِلَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فقيل: إنَّهَا لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ فقال: "فَلْتَرَكْبُ وَلْتُهْدِ هَدْياً" (¬2) وليس كالصلاة، فإنَّه لا مدخل للجبر فيها بالمال، وعلى هذا، فما الذي يلزم؟. ¬
المشهور: أنه يلزمه دمُ شاة، وهو المذكور في الكتاب، لقوله - عليه السلام-: "وَلْتَهْدِ هَدْياً" ومطلق الهدي يُحْمَلُ على الشاة. ولأنه ترفه بترك المشي، فأشبه ما إذا ترفَّه باللبس والتطيب، وحكي في "التتمة" قولاً آخر؛ أن عليه بَدَنَةً؛ لما رُوِيَ في بعض الروايات في حديث أختِ عُقْبَةَ: "وَلْتَهْدِ بَدَنَةً" (¬1) وإن ترك المشي مع القدرة، فحج راكباً، فقد أساء، ثم فيه قولان: أحدهما: ويُنْسَبُ إلى القديم: أنه لا تبرأ ذمته، بل عليه القضاء؛ لأنه التزم العبادة على صفة، وما أتى بها على تلك الصفة مع القدرة، وذكر على هذا مأخذان: أظهرهما: أن ما أتَى به من الحج، لم يقع عن نذره؛ لأن الفذور الحجُّ ماشياً. والثاني: أن أصل الحج وقع عنه إلا أنه بقي المشْيُ واجبًا عليه، والمشْيُ لا يمكن تداركُهُ مفرداً فألزم حجة أخرَى ليتدارك فيها المشْي. وعلى هذا ينطبق ما حُكِيَ عن نصِّ الشافعيِّ -رضي الله عنه-: أنه، لو كان قد ركب في بعض الطريق، ومشى في بعض، فإذا عاد للقضاء، مشى حيث ركب، وركب حيث مشى، وعلى المأخذ الأول يلزمه المشْيُ في القضاء كلِّه. والقول الثاني، وهو الأصح: أنه تبرأ ذمته، ويقع ما أتى به عن النذر؛ لأنه قد أتى باركان الحج، ولم يترك إلا هيئة، فصار كما لو ترك الإِحرام من الميقات، أو المبيتِ بمِنًى. وعلى هذا، فهل يلزمه الدم؟ فيه قولان أو وجهان: أحدهما: لا؛ لأن الفدية إنَّما تجب بترك أبعاضِ- النُّسُكِ، والمشي ليس من الأبعاض. وأظهرهما: نعم؛ للحديث الذي سبق، وعلى هذا فالواجب شاة أو بَدَنَةٌ فيه ما سبق من الخلاف، ويحسن أن يُرتَّب الخلاف في الفدية، إذا ترك المشي من غير عذر، على الخلاف فيما إذا ترك بعذر، ويُقَالُ: إن أوجبنا ثَمَّ، فهاهنا أولَى، وإن لم نوجب ثَمَّ، ففي الوجوب هاهنا وجهان؛ لأنه إنما يلزم المشي بالنذر بشرط الإمكان وقد يُجْمَعُ بين الحالتين، وَيُقَالُ: في وجوب الفدية، إذا ترك المشي، وأوقعنا المَأتي به عن نذره، ¬
ثلاثة أوجه؛ ثالثُهَا: الفرق بين المعذور وغير المعذور. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: أَحُجُّ عَامِي هَذا فَتَعذَّر لِمَرَضٍ فَفِي لُزُومِ القَضَاءِ خِلاَفٌ، وَإِنْ تَعَذَّرَ بِإِحْصَارٍ فَلاَ قَضَاءَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من نذر حجًّا، فَيُسْتَحَبُّ له أن يبادر إليه في أول سِنِي الإمكان، وإن مات قبل الإِمكان، فلا شيء عليه، كما في حَجَّة الإِسلام؛ فإن مات بعده أَحج عنه من ماله؟ وإنْ عيَّن بنذره سنة تعيَّنت على الصحيح، كما في الصوم، فلو حج قبلها لم يُعتَدَّ به، لو قال: أحج عامي هذا، وهو على مسافة يمكن الحج منها في ذلك العام، فعليه الوفاء؛ تفريعاً على الصحيح، فإن لم يفْعَلْ مع الإِمكان، صار دَيْناً في ذمته يقضيه بنفسه. فإن مات، ولم يَقْضِ الحج من ماله، لم يمكنه، قال في "التتمة" بأن كان مريضاً وقْت خروج الناس، فلم يتمكن من الخروج معهم أو لم يجد رفقة، وكان الطريق مخوفاً؛ لا يتأتى للآحاد سلوكه، فلا قضاء عليه لأن المنذور حَجٌّ في تلك السنة، ولم يقدر عليه، وهذا كما أن حَجَّة الإِسلام لا تستقر عليه، والحالة هذه، ولو صدَّه عدو أو سلطان بَعْدَ ما أحرم، حتى مضى العام، قال الإِمام -رحمه الله-: لو امتنع عليه الإحْرَامُ لمكان الصدِّ (¬1) فالمنصوص: أنه لا قضاء عليَه لحجة الإِسلام، إذا صُدَّ عنها في أول سنة الإِمكان، لا يلزم قضاؤها، وخرج ابن سُرَيْج قولاً، وبه قال أبو حنيفة والمزنيّ فيما حكَى الصيدلانيُّ: أنه يجب القضاء، كما لو قال: أصوم غداً، فأُغْمِيَ عليه فمضى الغد، يلزمه القضاء، وكما لو منعه مرض، وفات النذر أو منع؛ ألا ترى أنَّه لو نذر حجاتٍ كثيرةً، تلزم، ولا تلزم بالشروع إلا واحدة، وأنَّه لو نذر صلاةً في يومٍ بعينه، فأُغْمِيَ عليه، يلزمه القضاء ولا يلزم قضاء صلواتِ ذلك اليوم، وظاهر المذهب الأول. وإن منعه عدوٌّ أو سلطان، وهَدَّدَه أو منعه ربُّ الدَّيْن، وهو لا يقدر على أدائه، ففي القضاء قولان: أظهرهما: أنه لا يجب، وفيه طريق أخرَى قاطعةٌ بالوجوب، ويجريان معاً في العصر الخاصِّ في حجة الإِسلام، ولو منعه المرض بعد الإحرام، فالمشهور وجوب القضاء، ولا ينزل منزلة الصدِّ؛ ألا ترى أنه يتحلَّل عن إحرامه بالصدِّ، ولا يتحلل بالمرض؟ وذكر الإِمام، أن الأصحاب -رحمهم الله- خرَّجوه على الخلاف المذكور في الصدِّ، وكذلك حكى الخلاف فيما إذا امتنع عليه الحَجُّ في ذلك العام بَعْد الاستطاعة، ¬
وأنت إذا بحثْتَ عن كتب الأصحاب، وجدتَّها متفقة على أنَّ الحجة المنذورة في ذلك الحجة الإِسلام، إن اجتمعت في العام الذي عينه شرائطُ فَرْضِ الحَجِّ، وجب الوفاء، واستقر في الذمة، وإلا، فلا. والنسيانُ وخطأ الطريق الضلالُ فيه كالمرض، ولو كان الناذر معضوباً وقت النذر، أو طرأ العضب، ولم يجد المال، حتى مضت السنة المعينة، فلا قضاء عليه، ولو نذر صلاة، أو صوماً أو اعتكافاً في وقت معيَّن، ومنعه مما نَذَرَ عدُوٌّ أو سلطان، يلزمه القضاء بخلاف الحج، قال في "التهذيب": لأن الواجب بالنذر كالواجب بالشرع، وقد تجب الصلاة والصوم مع العَجْزِ؛ فكذلك ما يلزم بالنذر، والحج لا يجب إلا عند الاستطاعة، فكذلك حكم النذر. فُرُوعٌ: تتعلَّق بهذا النوع: إذا نذر حجاتٍ كثيرةً، انعقد النذر، ويأتي بها على توالي السنين بشرط الإِمكان، فإن آخر، استقر في ذمته ما أخَّر، فإذا نذر عشْرَ حجَّاتٍ، ومات بعد خمسِ سِنِينَ، أمكنه الحجُّ فيها، قُضِيَ من ماله خمس حجات، ولو نذرها المعضوب، ومات بعد سنة، وكان يمكنه أن يحج عن نفسه العشرة في تلْكَ السنة، قضيت من ماله، وإن لم يَفِ ماله إلا بحَجَّتين، لم يستقرَّ إلا المقدور عليه. من نذر الحج، لزمه أن يحج بنفسه، إلا أن يكون معضوباً، فيحج عن نفسه. ولو نذر أن يحج راكباً، فإن قلنا: إن المشْيَ أفضل، أو سَوَّينا بينهما، فإن شاء، مشى، وإن شاء ركب، وإن قلْنا: إن الركوب أفضلُ، فعليه الوفاء، وإن مشى، فعليه دم؛ لأنَّه اندفع عنه مؤنة الركوب، وترفَّه به، وقال صاحب "التهذيب": عندي لا دم عليه؛ لأنه عدل إلى شق الطريقتين، وإن نذر أن يحج حافياً، فله أن يلبس النعلين، ولا شيء عليه. ويخرج الناذر عن نذر الحج بالإفراد والقِرَانِ والتمتُّع. وإن نذر القِرَانَ فقد التزم النسكين، فإن أتى بهما مفردين، فقد أتى بالأفضل، فيخرج عن نذره، وإن تمتع؛ فكذلك، وإن نذر الحج والعمرة مفردين فقرن أو تمتع، وقلنا: إن الإفراد أفضلُ، وهو الظاهر من المذهب، فالتفريع: كما ذكرنا فيما إذا نذر الحجَّ ماشياً، وقلنا: إن المشي أفضلُ، فحج راكباً، ومن نذر أن يحج، وعليه حجَّةُ الإِسلام، لزمته للنذر حجَّة أخرَى (¬1)، كما لو نذر أن يصلِّي، وعليه صلاةُ الظُّهر، تلزمه للنذر صلاةٌ أخرَى. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: النَّوْعُ الثَّالِثُ: إِتْيَانُ المَسَاجِدِ: فَإذَا نَذَرَ إِتْيَانَ مَسْجِدٍ لَمْ يَلْزَمهُ إِلاَّ المَسْجِدُ الحَرَامُ وَمَسْجِدُ المَدِينَةِ وَمَسْجِدُ إِيِلِيَاءَ وَفِيهِمَا قَوْلاَنِ، فَإنْ قُلْنَا: يَلْزَمُ وَجَبَ أَنْ يُضِيفَ إِلَيْهَا عِبَادَةً عَلَى قَوْلٍ، وَكَفِىَ مُجَرَّدُ الإِتْيَانِ عَلَى قَوْلٍ، وَإِنْ قلنَا: لاَ بُدَّ مِنْ عِبَادَةِ فَقِيلَ: تَجِبُ صَلاةٌ وَلَوْ رَكْعَةً، وَقِيلَ: بَلِ اعْتِكَافٌ، وَقِيلَ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ النَّذْرُ لإِتْيَانِ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَالعُمْرَةُ وَالحَجُّ أَخَصُّ بِهِ مِنَ الاعْتِكَافِ وَالصَّلاَةِ فَيُجْزِئُ ذَلِكَ، لَكِنْ إِنْ قُلْنَا: إِنَّ النَّذْرَ يُحْمَلُ عَلَى أَقَلِّ وَاجِبٍ فَإِذَا نذرَ إِتْيَانَ المَسْجِدِ لَزِمَهُ حَجٌّ أَوْ عُمْرَةٌ, وإنْ قُلْنَا: لاَ يُحْمَلُ فَيَلْزَمُهُ إِحْرَامٌ لِدُخُولِ مَكَّةَ عَلَى قَوْلٍ، فَإنْ لَمْ نَرَ ذَلِكَ فَهُوَ كَمَسْجِدِ المَدِينَةِ، وَلَوْ قَالَ: آتِي عَرَفَةَ لَمْ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لأَنَّهُ مِنَ الحِلِّ، وَلَوْ قَالَ آتِي مَسْجِدَ الخِيفِ فَهُوَ كَالمَسْجِدِ الحَرَامِ لأَنَّهُ مِنَ الحَرَمِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَجْزَاءِ الحَرَمِ، وَلَوْ قَالَ: آتِي مَكَّةً لَمْ يَلْزَمُهُ شَىْءٌ إِلاَّ إِذَا قَصَدَ الحَجَّ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: آتِي بَيْتَ اللهِ فَإِنَّ جَمِيعَ المَسَاجِدِ بَيْتُ اللهِ، وَلَوْ نَذَرَ الصَّلاةَ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ لَزِمَهُ، وَإِنْ عَيَّنَ مَسْجَداً لَمْ يَلْزَمُهُ إِلا المَسَاجِدُ الثَّلاثةُ فَإِنَّهَا تَتَعَيَّنُ لِلصَّلاَةِ، وَقِيلَ في تَعْيِينَهَا قَوْلاَنِ، وَلَوْ نَذَرَ المَشْيَ إلى مَسْجِدَ المَدِينَةِ أَوْ مَسْجِدَ بَيْتِ المَقْدِسِ فَهُوَ كَنَذْرِ المَشْيِ مِنْ دُوَيْرَةِ أهْلِهِ قَبلَ الإِحْرَامِ وَفِيهِ وَجْهَانِ، وَلَوْ نَذَرَ صَلاَةٍ في الكَعْبَةِ جَازَ الصَّلاةُ فِي جَوَانِبِ المَسْجِدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: التقديم والتأخير في صورة الفصل أقرب إلى الإِيضاح، وتهذيب المقصود؛ فلا يُراعَى ترتيب الكتاب فيه، ونقول: في النوع مسألتان: إحداهما: في نذر إتيان المساجد ونحوها، إذا قال: لله عليَّ أن أمشي إلى بيت الله الحرام، أو آتيه، أو أمشِيَ إلى البيت الحرام، ففيه طريقان: أصحهما: أنه ينعقد نذْرُه، ويلزمه (¬1) إتيانه؛ لما روِيَ عن ابنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ أَخْتَ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ، وَقَدْ نَذَرَتْ أن تَمْشِيَ إلى بَيْتِ اللهِ، أنْ تَمْشِيَ بِحَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ (¬2). والثاني: وهو الذي أورده الصَّيدلانيُّ، وصاحب "التتمة" -رحمهما الله-: أن فيه خلافاً، وسنبين مبناه ومأخذه في التفريع. ¬
ولو قال: أمشي إلَى بيت الله، أو آتيه، ولم يذكر الحرام؛ فوجهان، أو قولان: أحدهما: أن مطلق يُحْمَلُ على البيت الحَرَام؛ لأنه السابق إلى الفَهُم، فيصير كالمذكور. وأصحهما: أنه لا ينعقد نذره إلا أن ينوي البيت الحرام؛ لأن جميع المساجد بيْتُ الله تعالَى، وظاهر ما نقله المزنيُّ -رحمه الله- يوافق الأول، والقائلون بالثاني نسبوه إلى الإِهْمَال، وربما أَوَّلُوا. ولو قال: أمشِي إلَى الحرم، أو إلى المسْجِدِ الحرام، أو إلى مكة، أو ذكر بقعة أخرَى من بقاع الحَرَمِ؛ كالصفا والمروة ومسجد الخِيفِ ومِنًى ومزدلفة ومقام إبراهيم وقبة زمزم وغيرها، فهو كما لو قال: إلَى بيت الله الحرام حتى لو قال: آتي دار أبي جهل، أو دار الخَيْزَرَان، كان الحكم كذلك؛ لشمول حرمة الحرم بتنفير الصيد وغيره، وعن أبي حنيفة -رحمه الله- لا يلزمه المشْيُ، إلا أن يقول: إلَى بيت الله الحرام، أو إلى مكة، أو إلى الكعبة، أو مقام إبراهيم، ولو نذر أن يأتي عرفاتٍ، فإن أراد التزام الحج، وعبَّر عنه بشهود عرفة، ونوى أن يأتيها مُحْرِماً، انعقد نذره بالحج، وإن لم ينوِ ذلك، لم ينعقد؛ لأن عرفات من الحِلِّ، فهو كما لو نذَرَ إتْيَان بلد آخَرَ وعن ابن أبي هريرة: أنه إن نذر إتيان عرفات يوم عرفة لزمه أن يأتيها حاجّاً، وقيَّد في "التتمة" هذا الوجه بما إذا قال: يوم عرفة بعد الزوال، وعن القاضي الحُسَيْن الاكتفاء بأنْ يخطر له شهودُهَا يوم عرفة، وربما قال بهذا الجواب على الإِطلاق. ولو قال: آتي مر الظهران، أو بقعة أخرَى قريبةٍ من الحَرَمِ، لم يلزمه شيء ولا فرق لزوم الإِتيان بين لفظ المشي والانتقال والذهاب والمضي والمصير والمسير ونحوها, ولو نذر، أن يضرب بثوبه حطيم الكعبة (¬1)، فهو كما لو نذر إتيانها، وعن أبي حنيف: أنه لا يلزمه شيء إلا بلَفْظِ المَشْيِ. ولو نذر؛ أن يأتي مسجد المدينة، أو مسجد إيلياء، وهو المسجد الأقْصَى، فهل يلزمه إتيانهما؟ فيه قولان: قال في البُوَيْطِيُّ: يلزم، كالمسجد الحرام، قال مالك وأحمد، وهو اختيار أبي إسحاق -رحمهم الله-: لأن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نصَّ عَلَى هذه المساجد الثلاث بالإِتيان، وشدِّ الرحال إليها، فقال: "لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاثةَ مَسَاجِدَ، الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، والمَسْجِدْ الأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا" (¬2) وقال في "الأم": لا ¬
يلزم ويلغو النذرُ به قال أبو حنيفة، وهو الذي رجَّحه العراقيون، والرويانيُّ وغيرهم -رحمهم الله- لما رُوُيَ عن جابر أن رجلاً قال: يا رَسُولَ اللهُ، إِنِّي نَذَرْتُ، إن فَتَحَ اللهُ عَلَيْكَ مَكَّة، إنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ، فَقَاَل: "صَلِّ هاهنا فَأَعَادَ عَلَيْهِ، فقال: صَلِّ هاهنا ثَلاَثاً" (¬1) ومعلوم أن هذا النذر يتضمن الإِتيان، ولأنهما لا يقصدان بالنسك. فأشبها سائر المساجد. التَّفْريع: إذا قلنا: يلزمه إتيان المسجد الحرام، وهو المذهب، فقد ذكر الصيدلانيُّ وغيره؛ أنا إن قلْنا: النذر يُحْمَلُ على الواجب شرعاً، فعليه حج أو عمرةٌ، وبهذا أجاب الشافعيُّ -رضي الله عنه- في المسألة، وهو الظاهر، وإنما تتم القُربَّةُ في إتيانه بالنسك المخصوص به، وإن قلنا: لا يُحْمَلُ على الواجب، فنبني عَلَى أصل آخر؛ وهو أنَّ دُخُول مكة، هل يقتضي الإحرام بحج أو عمرة، إن قلنا: نعم، فإذا أتاه، فعليه حج أو عمرة، وإن قلنا: لا، فهو كَمسجد المدينة والمسجد الأقصى، وفيه القولان، في أنه هل لا يلزم إتيانه. والئفريع: إذا قلنا: يلزم إتيانه، كالتفريع على المسجدين، وإذا أوجبنا إتيان مسجد المدينة والمسجد الأقصى، فهل يلزمه مع الإِتيان شيء آخر؟ فيه وجهان عن رواية الشيخ أبي علي وغيره -رحمهم الله-: أحدهما: لا؛ لأنه لم يلتزم شيئاً سوى الإتيان، ونفس الإِتيان (¬2) والزيارة قُرْبة، واعترض الإِمام بان من قال بهذا الوجه؛ ماذا يقوَل، لو أنْ باب المسجد وانصرف؟ إن قال: يكفيه ذلك، فقد أبعد؛ لأنه لا قُرْبَة فيه، بل هو قريبٌ من العبث، وإن قال: يدخل المسجد، فالدخول من غير اعتكاف وعبادة، لا قربة فيه، بل نُهِيَ عن طروق المَسَاجِدِ إلا لحاجةٍ (¬3). ¬
وأصحهما: أنه لا بدّ من ضم قُرْبَةٍ إلى الإِتيان؛ لأن النذر إنما ينعقد إذا تعلَّق بقربة، والإِتيان المجرَّد ليس بقربة، وعلَى هذا، ففيه ثلاثة أوجهٍ، جمعها الإِمام: أحدها: أنه يتعيَّن أن يصلي في المسجد الذي أتاه، واحتجَّ له بأن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ميَّز هذَيْنِ المسجدَيْنِ عن سائر المساجد بالصلاة، فرُوِيَ أنه قال: "صَلاةٌ في مَسْجِدِي هَذَا تَعْدِلُ أَلْفَ صَلاَةٍ فِي غَيْرِهِ وَصَلاةٌ فِي مَسْجِدِ إِيلِيَا تَعْدِلُ أَلْفَ صَلاَةٍ فِي غَيْرِهِ، وَصَلاةٌ في الْمسْجِدِ الحَرَامِ تَعْدِلُ مَائَةَ أَلْفِ صَلاَةٍ فِي غَيْرِهِ" (¬1) وإذا كان التمييز بالصلاة، وجب أن يُضَمَّ إلى الإِتيان الصلاةُ. وعلى هذا؛ قال الإِمام: الذي أراه أنه لا يجبُ ركعتان قولاً واحداً، بل يكفي ركعة؛ لأن الصلاة غيرُ مقصودةٍ بالنَّذر في هذا الموضع، وذكر ابن الصبَّاغ وأكثرهم: أنه ¬
يصلِّي ركعتين وحكى القاضي ابن كج عن أبِي الحُسَيْن: هل يكفي أن يصلي هناك فريضةً, أم لا بدّ من صلاة زائدة بناءً على وجهين نقلهما، فيما إذا نذر أن يعتكف شهراً بصوم، هل يجوز أن يعتكف في رمضان؟ وفرق بينهما بأن مجرَّد الإِتيان ليس بقُرْبة، فلا بدَّ وأن يضامَّة قُرْبَةٌ يتعلَّق بها النذرُ، والاعتكافُ في نفسه قُربةٌ. والوجه الثاني: أنه يتعيَّن أن يعتكف فيه، ولو ساعةً؛ لأن الاعتكاف أخصُّ القُرَبِ بالمسجد، والصلاةُ لا تختصُّ به. والثالث: أنه يتخيَّر بينهما؛ لتعارض المعنيين، وهذا أشبه وهو المذكور في "التهذيب" وعن الشيخ أبي عليٍّ: أن في مسجد المدينةِ يَكفِي أن يزورَ قَبْرَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وتوقف فيه الإِمامُ -رحمه الله- من جهة أنَّ الزيارة لا تتعلَّق بالمسجد، وتعظيمه، قال: وقياسه أنه لو تصدَّق في المسجد، أو صام يوماً كَفَاه، ثم فرق بأنَّ المُرُور لزيارةٍ يقع في بقعة المسجد، فيفصل عن الصدقة والصوم، والظاهر الاكتفاء بها، وإذا نَزَّلْنا المسجد الحرام مَنْزِلَةِ المسجدَيْن، وأوجبْنَا ضمَّ قُرْبَةٍ إلى الإِتيان، ففي تلك القُرْبة وجوه: أحدها: الصلاة. والثاني: الحجُّ والعمرةُ؛ لأنهما المختصَّان به، وهذا بدَلُ الاعتكاف في المسجدَيْن. والثالث: يتخيَّر، قال الإِمام: ولو قيل: يكفي الطواف، لم يبعد، ثم مهما قال: أمْشِي إلى بيت الله الحرام، فليس له الركوب على الأظْهَرِ، بل يلزم المشي؛ كما ذكرنا، فيما إذا قال: أحجُّ ماشياً، وفيه الخلاف والتفاريع المذكورةُ هناك، نعم، الأظهرُ هاهنا أنه يمشي من دويرة أهله، فإن قضيَّة قوله أن يخرج من بيته إليه ماشياً، ووجه في "التهذيب" الوجه الآخر؛ وهو أنه يمشي من الميقات، بأن المقصود من الإِتيان الحجُّ أو العمرة فيمشي من حيث يحرم. وذكر القاضي أبو الطيِّب وكثير من العراقيين؛ أنه لا خلاف بين الأصحاب -رحمهم الله- في أنَّه يمْشِي من دُوَيْرَةِ أهله، لكن يحرم من دويرة أهله أو من الميقات؟ فيه وجهان؛ قال أبو إسحاق وقال صاحب "الإِفْصاح": من الميقات، وهو الأظهر، وبه قال أحمد، ولو قال: أمْشِي إلَى المسْجِدِ الأقصَى أو إلى مسجد المدينة، ففي وجوب المَشْي والتفريع على وجوب الإِتيان وجهان؛ بناهما الشيخ أبو عليٍّ على الخلاف في التزام المشْي قبل الميقات؛ لأن كلَّ واحدٍ من المشيَيْن، وإن لم يكن في عبادة، فهو واقعٌ في القصد إلَى بقعةٍ معظمةٍ، والأظهر: الوجوب، ولو كان لفْظُ الناذِرِ الإِتْيَان أو الذهاب أو غيرهما ممَّا سوى المشي، فلا خلاف؛ أنه يجوز له الركوب أما إذا نذر إتيان مَسْجد آخر سوى المساجد الثلاثة، لم ينعقدْ نَذْرُه، إذْ ليس في قصدها وإتيانها قربةٌ مقصودةٌ.
وقال قال -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِد" (¬1) الحديثَ (¬2). قال الإِمامُ؛ وكان شيخي يُفْتِي بالمنع عن شدِّ الرحال إلَى غير هذه المساجد، وربَّما كان يقول: يحْرُم، والظاهر أنه ليس فيه كراهةٌ ولا تحريم، وبه قال الشيخ أبو عليِّ، والمقصود من الحديث تخصيص القُرْبَة بقصد المساجد الثلاثة، واعلم أنَّا ذَكْرنا في الاعتكاف، أنه إذا عيَّن بنذره مسْجِدَ المدينة أو المسجد الأقصى للاعتكاف، فأظهر القولين التعين وحكينا هاهنا أنهم رجحوا من القولين إنَّه لا يلزم إتيانها، ونسب القاضي الرويانيُّ ترجيحه إلى عامة الأصحاب -رحمهم الله- ويمكن أن يُفْرَقَ بأن الاعتكاف عبادةٌ في نفسه، وهو مخصوصٌ بالمسجد، فإذا كان للمسجد فضلٌ، فللعبادةِ فيه مزيدُ ثوابٍ، فكأنه التزم فضيلة في العبادةِ الملتزمة، والإِتيان بخلافه ويوضِّحه أنه لا خلاف ¬
في أنه، لو نذر إتيان سائر المساجد، لم يلزمْه، وفي مثله في الاعتكافِ خلافٌ ذكرناه هنالك. المسألة الثانية: إذا نَذَر الصلاةَ في موْضِعٍ معيَّن، لزمته الصلاةُ لا محالَةَ، ثم يُنْظَرَ، إن عَيَّنَ المسجد الحرام، تعيَّن للصلاة الملتزمة، لعظم فضله، وتعلُّق النسك به، وإن عيَّن مسجد المدينة أو المسجد الأقصَى؛ ففيه طريقان؛ قال الأكثرون: في التعيين القولان المذكوران في لزوم الإِتيان. والثاني: ونسبه الإِمام إلى المراوزة -رحمهم الله-: القطع بالتعيين؛ لأنه التزم قربة، وضم إليها مزيد فضيلة، ولا يبعد أنْ يُرجَّعَ التعيين هاهنا إن ثبت الخلافُ كما في الاعتكاف، وبترجيحهُ يُشْعِر نظم الكتاب، وإن عيَّن سائر المساجد والمواضع لم يتعيَّن، وإن عيَّن مسْجد المدينة أو المسجد الأقصَى للصلاة، وقلْنا: بالتعيين فصلَّى في المسجد الحرام، خرج عن نذره على الأصح، بخلاف العكس، وفيه احتمالٌ للإمام، وهل تقوم الصلاة في أحدهما مَقَامَ الصَّلاة في الآخر؟ فيه وجهانِ (¬1)؛ لاستوائِهِمَا في التعديل المذكور في الحديث. وذكر الإِمامُ؛ أنه لو قال: أصلِّي في مسجد المدينة، فصلَّى ألف صلاة في غيْره، لم يخرُجْ عن النذر، كما لو نذر ألْفَ صلاة، لا يخرج عن النذر بصلاة في مسْجِدِ المدينة، وأنَّ شيخه كان يقول: لو نَذَرَ صلاةً في الكعبة، فصلى في أطراف المسْجِدِ الحرام، خرج عن النذر وأن الزيادة التي رُوِيَتْ في الحديث السابق؛ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَصَلاةٌ في الْكَعْبَةِ تَعْدِلُ مِائَةَ أَلْفِ صَلاَةٍ في الْمَسْجِدِ الحَرَامِ" (¬2) لم يصححها الإِثبات به والعلم عند الله. ونعود إلى ما تعلَّق بلفظ الكتاب، قوله "فإذا نذر إتيان مسجد، لم يلزمْهُ إلاَّ المسجد الحرام" يجوز أن يعلم بالحاء؛ لما مرَّ أن عند أبي حنيفة، لا يلزم شيْءٌ إلا بلفظ المشي. وقوله "ومسجد المدينة، ومسجد إيلياء، فيهما قولان" وفي بعض النسخ: "وفي مسجد المدينة، ومسجد إيلياء قولان" وهما صحيحان وعلى التقديرَيْن؛ فليس ذلك ¬
منفصلاً عن قوله "إلا المسجد الحرام" بل المعنى إلا المسجد الحرام (¬1) وكذا حكم المسجدَيْن في أحد القولَيْن. وقوله: "فإن قلنا: يلزم" يجوز أن يُعْلَمَ لفظ "يلزم" بالحاء، إشارةً إلى ما ذكرنا من مذهب أبي حنيفة. وقوله "عبادة على قول وكفى مجرد الإتيان على قول" التعبير عن الخلاف بالقول خلاف، المشهور، والمذكور في "النِّهَاية" و"الوسيط" الوجه، ورأيت للرويانيُّ في أثناء كلامٍ له، أن فيه قولَيْن مخرَّجَيْن. وقوله "ولو ركعةً" لِيُعْلَمْ بالواو. وقوله "بالعمرة والحج" أخص به من الاعتكاف والصلاة، فيَجْري ذلك، الأليقُ أن يُعَلَّق هذا الوجْهُ بالتخيير، وإلا كان الأحسن أن يقول: فيجب ذلك. ثم أتم الكلام في حكم النذر؛ لإِتيان المسجد الحرام، فقال إن قلْنا" إلى آخره. وقوله "فهو كمسجد المدينة" يعني أنه يُخرَّج لزومُ الإِتيانِ حينئذٍ على القولَيْن في المِسْجَدَيْنِ. وقوله: "في صورة عرفة، لم يلزمه شيء" معْلَمٌ بالواو. وقوله "ولو قال: آتى مكةَ، لم يلزمه شيء إلا إذا قصد الحج، وكذا، إذا قال: آتي بَيْتَ الله، فإن جميع المَسَاجِدِ بيْتُ الله، وهكذا هو في بعض النسخ، وفي بعضْها بعد قوله "وكذلك سائر أجزاء الحرم" "وكذا لو قال: آتي مكة، وإذا قال: آتي بيت الله، لم يلزمْهُ شيء؛ فإن جميع المساجد بيت الله". وهذا هو الصواب فأما أنه لا يلزمه شيء، إذا قال: آتي مكَّةَ حتى يَقْصِدَ الحجَّ، فلا وجه له ولا ذكر له في الكتب، بل المذكور خلافه. وقوله "ولو نذر الصلاة في المسجد الحرام، لزمه" لِيُعْلَمْ بالحاء؛ لأن عند أبي حنيفة لا تتعيَّن للصلاة شيء من المواضع المعينة، وكذا قوله "فإنها تتعيّن للصلاة" وقوله "ولو عين مسجدًا، لم يلزمه إلا المساجد الثلاثة فإنها تَتَعَيَّنُ للصلاة" بعد قوله "ولو نذر الصلاة في المسجد الحرام، لزمه" غير مستحسن؛ فإن المسجد الحرام أحد الثلاثة، وقد ذُكِرَ حكمه؛ وكان ينبغي أني قول "ولو عين مسجداً آخَر، لم يلزمه إتيانه، إلا المسجَديْن". وقوله "في تعيينها قولان" ينبغي أن يقرأ بالتثنية، فأما المسجد الحرام، فلم يُذْكَر خلاف في تعينه. ¬
فروع: قد عرفت أن الظَّاهر في نذر المشْي إلى بيت الله تعالَى الحرام وجوبُ الحج أو العمرة فلو أنه قال في نذره: أمشي إلَى بيت الله الحرام بلا حج ولا عمرة، ففيه وجهان عن أبي إسحاق: أحدهما: أنه ينعقد نذره، ويلغو قوله "بلا حج، ولا عمرة". والثاني: لا ينعقد؛ لأنه إذا أضَافَ حُمِلَ على عرف الشرع (¬1) فإذا صرح بخلافه، لم يمكن حمله عليه، فيلغو النذر، وعن الشيخ أبي حامد وغيره بناءُ الخلافِ على الخلاف فيما إذا نذر المَشْيَ إلَى مسجد المدينة والمسجد الأقصى؛ لأن المشي هناك لا يتضمَّن نسكاً، وكذلك هاهنا إذا صرفه عن النسك، واعترض ابن الصبَّاغ بأن مَنْ يقول بانعقاد النذر هنا يلغى قوله "ولا حاجّاً ولا معتمراً، ويأمره بالنسك، فلا يكون خالياً عن النسك، ثم إذا أتاه، فإن أوجبنا إحراماً لدخول مكة، فعليه حج أو عمرة، وإن قلنا لا، فعلى ما ذكرنا في مسجد المدينة والأقصى. ولو قال: أصلِّي الفرائض في المسجد، قال في "الوسيط": يلزمه، إذا قلْنا: صفاتُ الفرائضِ تُفْرَدُ بالالتزام. وقال القاضي ابن كج: إذا قدر أن يزور قَبْرَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فعنْدِي؛ أنه يلزمه الوفاء وجهاً واحداً، ولو نذر أن يزور قَبْرَ غيره، ففيه وجهان عندي. وفي "التتمة": لو قال: أمشي، ونوى بقلبه حاجّاً أو معتمراً، انعقد النذر على ما نَوَى، وإن نوى إلَى بيت الله الحرام، فيُجْعَلُ ما نواه كأنه تلفَّظَ به. قَالَ الغَزَالِيُّ: النَّوْعُ الرَّابِعُ فِي الضَّحَايَا وَالهَدَايَا: وَلَوْ نَذَرَ التَّقَرُّبَ بِسَوْقِ شَاةٍ إِلَى مَكَّةَ لَزِمَهُ الذَّبْحُ بِمَكَّةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّفْرَقَةُ أَيْضاً بِمَكَّةَ، فَإنْ لَمْ يَذكُرْ لَفْظَ الضَّحِيَّةِ وَالْقُرْبَةِ بَلْ قَالَ: عَلَيَّ ذَبْحُ شَاةٍ بِمَكَّةَ نَفِي اللُّزُومِ وَجْهَانِ، فَإِنْ أَضَافَ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى فَأَوْلَى بألاَّ يَلْزَمَ، وَلَوْ قَالَ: للهِ عَلَيَّ أنْ أُضَحِّيَ بِنَيْسَابُورَ فَعَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُهُ الذَّبْحُ وَالتَّفْرِقَةُ بِهَا، وَعَلَى وَجْهٍ يَلزَمُهُ التَّفْرِقَةُ بِهَا دُونَ الذَّبْحِ، وَعَلَى وَجْهٍ لاَ يَتَعَيَّنُ لاَ الذَّبْحُ وَلاَ التَّفْرِقَةُ، وَهُوَ مِثلُ الْخِلاَفِ فِي تَعِيْينِ الفَقِيرِ الصَّدَقَةَ بِالنَّذرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا نذر دبْحَ حَيَوَانٍ، ولم يتعرَّض لهدي، ولا ضحية، بأن قال: لِلَّه عليَّ أن أذبح هذه البقرة، أو أنحر هذه البَدَنَةَ، فإن قال مع ذلك: وأتصدَّق بلحمها أو نواه، لزمه الذبح والتصدُّق، وإن لم يقله ولا نواه، ففي انعقاد نذره وجهان: ¬
أحدهما: ينعقد، وعليه الذبح والتصدق، كما لو نذر أن يهدي، يلزمه الذبح والتصدق. وأصحهما: المنع؛ فإنه لم يتعلَّق نذره بقربة. ولو نذر أن يُهْدِيَ بدنة أو شاةً إلى مكة أو أن يَتقرَّب بسوقها إليها ويذبحها، ويفرق اللحم عَلَى فقرائها, لزمه الوفاء، ولو لم يتعرَّض للذبح وتفرقة اللحم، فيلزمه الذبح بها أيضاً وفي تفرقة اللحم وجهان: أحدهما: لا يجب تفرقة اللحم بها إلا أن يَنْوِيَ؛ لأنه لم يلتزم بل له أن يفرِّق في موضع آخر. وأصحهما: الوجوب، حملاً على الهدايا الواجبة في الشرع، وقال الإِمام في توجيهه: إنما يتقيد الذبح بالحرم حتى يكون اللحم المفرَّق على أهله غضًّا طريّاً، وإلا، فلا أدب في اتخاذ الحرم مجازر، ولو نذر؛ أن يذبح خارج الحرم، ويفرِّق اللحم في الحرم عَلَى أهله؛ قال في "التتمة": الذبح خارج الحرم لا قُرْبَةَ فيه، فيذبح حيث شاء، ويلزمه تفرقة اللحم هناك، وكأنه نذر أن يهدي إلى مكة لحماً، ولو نذر أن يذبح بمكة ويفرِّق اللحم على فقراء بلدة أخرَى وفَّى بما التزمه، ولو قال: لله عليَّ أن أنحر أو أَذبح بمكةُ، لم يتعرَّض اللفقاللقربة والضحية ولا للتصَّدُّق باللحم، ففي انعقاد نذره وجهان: أحدهما: لا ينعقد؛ لأن مجرَّد الذبح لا قُرْبَةَ فيه. وأصحهما: الانعقاد، وهو الذي أورده الجمهور؛ لأن ذكر الذبح متصلاً بالنذر مضافاً إلى مكة يُشْعِر بالقربة، ولأن الذبح عبادةٌ معهودةٌ، وعلى هذا، فهل يجب التصدق باللحم على فقرائها؟ فيه الوجهان السابقان. قال في "التهذيب": لو نذر الذبح بأفضل بلد كان كما لو نذر الذبح بمكة؛ فإنها أفضل البلاد، ولو نذر الذبح أو النحر ببلدة أخرَى، ولم يقل مع ذلك؛ وأتصدَّقُ على فقرائها, ولا نواه، فظاهر ما نقله المُزَنِيُّ -رحمه الله- ينعقد نذره، وبه قال أبو إِسحاق؛ لأن النحر يتضمن تفرقة اللحم ويستتبعها، ويُرْوَى أن رجلاً نذر أن ينحر إبلاً في موضع سماء، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "هَلْ كَانَ فِيهِ وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟ قَالَ: لاَ قَالَ: هَلْ كَانَ فِيهِ عِيْدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ قَالَ: لاَ فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْفِ بِنَذْرِكَ" (¬1) والأصحُّ، وهو المحكيُّ عن نصه في "الأم": أنه لا ينعقد نذره إلا إذا قال مع ¬
ذلك: وأتصدَّق على فقرائها أو نواه، بخلاف ما إذا نذر الذبْحَ بمكة، فإنَّ النذر هناك حمل على الواجب شرعاً، والذبح في غير مكة لا قربة فيه، ومن حكى الوجهَيْن في نذْرِ مكَّة؟ جعل الخلاف في غير مكة مرتباً على الوجهين هناك كما فعل في الكتاب وإذا انعقد النذر، إِما على الوجه الأول، أو الانضمام لفظ التصدق أو بنية على الثاني، فهل يجب التصدُّق باللحم عَلَى فقرائها؟ جعله الإِمام على قولَيْن مأخوذَيْن من الخلاف في نقل الصدقات، إن لم نجوز النقل، وجب التصدُّق عليهم، إنْ جوزناه، فوجهان: وجه تعيُّنهم، أن لفظ الناذر نصٌّ في التخصيص بهم والأخبار الَّتي تنقل في منع الصدقة تتعرَّض للتاويلات، والظاهر الذي يوجد للأكثرين التعيين، فإن قلْنا: لا يتعيَّن التصدُّق عليهم، فلا يجب الذبح بتلك البلدة بخلاف مكة فإنها محلُّ ذبح الهدايا، وإن قلْنا: يتعيَّن، فوجهان: أحدهما: لا يجب الذبح بها، بل لو ذبح خارِجَها ونقل اللحم إلَيها طريّاً، جاز، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب" وجماعة. والثاني: يتعيَّن إِراقة الدم بها، كما في مكة، وهذا ما أورده العراقيون، وحكَوْه عن نصه في "الأم" ولو قال: أضحي ببلدةِ كذا، وأفرِّقُ اللحم عَلَى أهلها، ينعقد نذره، ويغني ذكر التضحية عن ذكر التصدُّق ونيته وجعل الإِمام وجوب التفرقة على أهلها، ووجوب الذبح على الخلاف السابق، قال: ولو اقتصرَ على قوله: أضحي، فهل يتضمن ذلك تخصيص التفرقة بهم؟ فيه وجهان: والظاهر الذي جرى عليه الأئمة، وحكَوْه عن صاحب "الإِفصاح": أنه يجب التفرقة والذبح بها، وخرَّج الإِمام الخلاف الذي ذكره في تعين فقراء البلدة؛ فيما إذا قال الرجل: لله عليَّ أن أتصدَّق علَى زَيْدٍ، وهو فقيرٌ، هل يتعيَّن زيد لذلك؟ والظاهر التعين. وقد ذكر صاحب "التهذيب" وغيره؛ أنه لو نذر أن يتصدَّق بكذا على أهل بلد غنية، يجب أن يتصدَّق به عليهم، ومن هذا القبيل ما ينذر بعثه إلى القبر المعروف بجرحان، فإن ما يجتمع منه على ما يُحْكَى يقسم على جماعة معلُومِيَن، وفي "فتاوى القفَّال": أنه لو قال: إن شفى الله مريضي، فلله عليَّ أن أتصدَّق بعَشَرَةٍ عَلَى فلان،
فشفاه الله تعالَى لزمه التصدُّق علَيْه، فإن لم يقبل، لم يلزمْهُ شيْءٌ، هل لفلانٍ مطالبتُهُ بالتصدُّق بعد الشفاء؟ يُحْتَملُ أن يُقَال: نعم كما لو نذر إعتاق عبد معيَّن، إن شُفيَ، فَشُفِيَ، له المطالبة بالإِعتاق، وكما لو وجبت الزكاة، والمستحِقُّون في البلد محصُورُونَ، لهم المطالبة، ولا يخفَى خروجُ الوجوه الثلاْدة المذكورة في الكتاب فيما إذا قال: للهِ عليَّ أن أضحِّي بنيسابور في الخلاف الذي حَكَيْنَاه عن رواية الإِمام. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإِذَا قَالَ: للهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّي بِبَدَنَةٍ فَهَلْ يَقُومُ مَقَامَهَا سَبْعٌ مِنَ الغَنَمِ أَوْ بَقَرةٌ فِيهِ وَجْهَانِ، وَقِيلَ: إِنْ عُدِمَتْ جَازَ وَإِلاَّ فلاَ، وَلَوْ نَذَرَ دَرَاهِمَ فلاَ يَتَصَدَّقُ بِجِنْسِ آخَرَ، وَإذَا ذَكَرَ فِي النَّذْرِ لَفْظَ الضَّحِيَّةَ فَلاَ يُجْزِئُهُ إلا الثَّنِيُّ مِنَ الإِبِلِ وَهُوَ مَا يُجْزِئُ فِي الضَّحِيَّةِ سَلِيماً مِنَ العُيُوبِ، وَلَوْ نَذَرَ هَدْيَاً فَعَلَى قَوْلٍ يَكْفِيهِ كُلُّ مَا يُسَمَّى مِنْحَةً وَلاَ يَجِبُ تَبْلِيْغُهُ مَكَّةَ، وعَلَى قَوْلٍ عَلَيْهِ مَا يُجْزِئُ فِي الضَّحِيَّةِ وَيَلْزَمُهُ تَبلِيغُ الحَرَمِ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ بُهْدِيَ ظَبيَّةً إِلَى مَكَّةً لَزِمَهُ التَّبْلِيغُ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا حَيَّةً وَلاَ تُذْبَحُ، وَلَوْ نَذَرَ ذَلِكَ فِي بَعِيرٍ مَعِيبٍ فَفِي ذَبْحِهِ وَجْهَانِ، وَلَوْ نَذَرَ فِي مَالٍ نَقَلَهُ إِلَى مَكَّةَ فَإِنْ كَانَ عَقَاراً أَوْ مَا يَتَعَذَّرُ نَقْلُهُ بَاعَ وَفَرَّقَ قِيمَتَهُ بِمَكَّةَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال: لِلَّهِ عليَّ أن أضحِّيَ بِبَدَنَةٍ، أو أن أهْدِيَ بَدَنَةً، فالبحث فيه من وجْهين: أحدهما: أن البدنة ما هي؟ وهل يقوم غيرها مَقَامَها؟ قال الإِمام: البدنةُ في اللُّغة الاِبل، ثم الشرع قد يقيم مقامها بقرةً، وأيضاً سبعاً من الغنم، قَال الشيخ أبو حامد وجماعة: اسم البدنة يقع على الإبل، والبقر، والغنم جميعاً، ولا يخلُو، إمَّا أن يُطْلَقَ التزام البدنة، أو يُقَيَّد بالإِبل لفْظاً أو نيَّةً، إن أطلق، فعليه بدَنَةٌ من الإِبل، أما على ما ذكره الإِمام فظاهر. وأما عَلَى المأخذ الثاني، فلأنها أكمل، والاستعمال فيها أغلبُ، يتعيَّن الإبل، أو يقوم مقامها بقرةٌ، أو سبْعٌ من الغنم، يُنْظَرُ؛ إن وجدت الإِبل، فوجهان: أظهرهما: وهو المنصوص: أنه لا معدل عنها لقضية اللفظ. والثاني: أنه يتخيَّر بينها، وبين بقرةٍ، أو سبع من الغنم؛ حملاً على معهود الشرع، وهما كوجهين أو قولَيْن ذُكِرَا في أن هذه الخضال إذا أُفسِدَ الحجُّ بالجماع تُشْرَعُ على الترتيب، أو على التخيير، وإن لم توجد الإِبل، فيعدل إلى بقرة، فإن لم يوجد فإلَى سبع من الغنم، هذا هو الظاهر المنصوص، وفيه وجه؛ أنه لا عدول عنها؛ اتباعاً للفظ، وإلحاقاً لما نص الناذر عليه بما نص الشارع عليه في الزكوات، حتى امتنع إبدالها.
وكذلك لو قال: للهِ عليَّ أن أتصدَّقَ بعَشَرَةِ دراهِمَ، لم يخرج عن النذر بصنف آخر من المال، وعلى هذا، فيكون في ذمته إلى أن يجد، وقد يُنْسَبُ هذا الوجه إلى القفَّال، قال القاضي الرويانيُّ: وهو القياس لكنه خالف نصَّ الشافعيِّ -رضي الله عنه- وإذا جمع بين الحالتين خرج مما ذكَرْنا ثلاثة أوجه؛ ثالثها، وهو الأظهر، الفرق بين أن تُوجَدَ الإبل، فلا يُعْدَلَ عنها، أو لا تُوجَدَ، فيعدل، هذا إذا أطلق البدنة أمَّا إذا قَيَّدَ؛ فقال: أضَحِّي ببَدَنَةٍ من الإِبل، أو نوى الإِبل، فلا يجزئه غيرها إذا وجدت بلا خلاف، وإن عدمت فوجهان: أحدهما: أنه يصبر إلى أن يجدها, ولا يجزئُهُ غيرها للتعيين. وأظهرهما: وهو المنصوص: أن البقرة تجزئه بالقيمة، فإن كانت قيمةُ البقرةِ دُونَ قيمة البَدَنَةِ من الإِبل، فعليه إخراج الفضل، وفرق بينه وبين ما إذا أطلق البدنة؛ بأن البدنة تقع على البقرة، فلا حاجة إلى اعتبار القيمة، فإن اللفظ عند الإِطلاق ينصرف إلَى معهود الشرع، وفي المعهود تقوم البقرة مقام البدنة من الإِبل بلا تقويم. وإذا قَيَّدَ بالإِبل، وجبت، فعند الإعواز يلزمه أكثر الأمرين مما يقوم مقامها شرعاً أو من قيمتها، كما إذا أتْلَفَ الأضحية الَمعيَّنة، يلزمه أكثر الأمرَيْن من المِثْل أو القيمة، وحكى القَاضِي ابن كج وجْهاً: أنه لا يُعْتَبَرُ القيمةُ، كما في حالة الإِطلاق، والظاهر الأول، وكيف يخرج الفاضل؟ في الكافي للقاضي الرويانيُّ: أنه يشتري به بَقَرَةً أُخْرَى إن أمكن وإلا فيشتري به شِقْصاً، أو يتصدَّق به على المساكين فيه وجهان، والمذكور في تعليق الشيخ أبي حامدَ، أنه يتصدق به، وقال المتولِّي: يشارك إنساناً في بدنة أو بقرة أو يشتري به شاة، وإذا عدل إلَى الغنم في هذه الحالة، فتعتبر القيمة أيضاً ثم نقل الرويانيُّ في "جمع الجوامع"، أنه إذا لم يجد الإبل في حالة التقييد، يتخيَّر بين البقرة والغنم؛ لأنَّ الاعتبار بالقيمة. والذي ذكره القاضي ابن كج والمتولِّي؛ أنه لا يعدل إلَى الغَنَمِ مع القُدْرة على البقرة؛ لأنها أقرب إلى الاِبل، ولو وجد ثلاث شياهٍ بقيمة البَدَنَةِ، فهل يجزئه حكى ابن كج وجْهَيْنِ، قال أبو الطيب بن سلمة: لا، بل عليه أن يتم السبْعَ من عنده، وقال أبو الحسين النَسْويُّ، وهو شيخ من أصحابنا، كان في أيام أبي إسحاق وابن خيران -رحمهم الله- يجزئه لوفائها بالقيمة، والأول أظهر. واعلم أن اعتبار القيمة نَقَلَهُ الإمامُ وجهاً عن رواية صاحب "التقريب" نقل الشيء الغريب من غير تمييز بين أنْ يطلق التزام البدنة أو يقيد بالإِبل، ثم ضعَّفَهُ والمشهور في كتب أصحابنا ما بيَّنَّاه، وقد نصَّ الشافعيُّ -رضي الله عنه-؛ فقال في "المختصر": فإن كانت نيَّتُه على بدَنَةٍ من الإِبل، لم يُجْزِه من البقر والغنم إلا بقيمتها، وفي طريقة
الصيدلانيِّ: حمل النص عَلَى ما إذا عيَّن بعيراً، وقال: لله عليَّ أن أهدي هَذا، ثم أتلفه، فعليه أن يأتي بمثله، وذكر الأصحاب وجهين في أنَّه يتخيَّر بين بدَنَةِ مثلها، وبين البقر والغنم، أو هي على الترتيب؟ فإذا عدل إلى البقر والغنم، ينبغي أن يكون بقيمة البعير المعين. وَعَدَّ القاضي الرويانيُّ هذا التأويل غلطاً. ولو نذر شاةً، فجعل بدلها بدنةً، جاز، وهل يكون الكلُّ فرضاً؟ ذُكِرَ فيه وجهان: والوجه الثاني: البحْثُ عن الصفات المرعيَّة في الحيوان المنذور مطلقاً، فإذا قال لله عليَّ أن أهدي بعيراً أو بقرة أو شاةَ فهل يُشْتَرَطُ أن يكون في السِّنِّ بحيث تجزئ في الأضحية؟ وأنْ تكون سليمةً من العيوب؟ فيه قولان؛ بناءً على أن مطْلَقَ النذر يُحْمَل على أقلِّ واجب من ذلك الجنس أو على أقلِّ ما يتقرب به، والظاهر الأول. ولو قال؛ أضحِّي ببعير أو بقرة، ففيه مثل هذا الخلاف، قال الإِمام -رحمه الله-: وبالاتفاق لا يُجْزئ الفصيل (¬1) لأنه لا يسمى بعيراً، ولا العجلُ، والَمذكورةُ البقرةُ ولا السخلةُ (¬2) والمذكورُ الشاةُ، ولو قال: أضحِّي ببدنة أو أهدي جرى الخلاف، ورأى الإِمام هذه الصورة، أولَى باشتراط السنن والسلامة؛ لشهرة اسْمِ البدنة في القرابِينِ، وهذا هو المذكور في الكتاب، ولو قال: لله عليَّ هدي أو أن أهدي، ولم يسمِّ، ففيه القولان إن قلنا: يُحْملُ النذر على أقلِّ ما يُتقرَّبُ به من جنسه فيخرج عن النذر بكل منحة، حتى الدجاجة والبيضة، وكل ما يتمول؛ لأن اسم الهَدْي يقع على الجميع، ألا ترى أن في قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث الجُمُعَةِ: "مَنْ رَاحَ في السَّاعةِ الْخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا أَهْدَى بَيْضَةً" (¬3) وُينْسَبُ هذا القولُ إلى "الإِملاء" والقديم، وعلى هذا لا يجب تبليغه مكَّةَ، وهذا تناقض، وإن قلْنا: يُحْمَلُ عَلَى أقلِّ ما يجب من جنسه، حُمِلَ على ما يُجْزئ في الأضحية، وينسب هذا إلَى الجديد، وبه قال أبو حنيفةَ وأحمد -رحمهما الله- وقد توجَّه بأن الهْدَي شرعاً عبارةٌ عن ذلك، فيُحْمَلُ النذرُ على المعنى الشرعيِّ؛ كنذر الصلاة، وعلى هذا؛ فيجب تبليغه مكة، فإنَّ محل الهدْي الحرمُ قال الله تعالَى: [جدُّه]: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلُهُ} [البقرة: 196] مَحِلَّهُ" وفيه وجه ضعيفٌ، أنه لا يجب إلا أن يصرح به، ولو قال: عَلَى أن أهدي الهَدْيَ، انصرف النذر إلى المعهود الشرعيّ بالألف واللام، ولم يجروا فيه الخلاف. ¬
ولو نذر؛ أن يهدي مالاً معيناً، فيجب صرفه إلَى مساكين الحَرَمِ. وحكى القاضي ابن كج وجهاً ضعيفاً أنَّهم لا يتعيَّنون، ثم يُنْظَرُ، إن كان المعيَّن من النعم، كما إذا قال: أهدي هذه البدنة أو الشاة، فيجب التصدُّق بها بعد الذَّبْح، ولا يجوز أن يتصدَّق بها حية؛ لأن في ذبحها قربةً، وهل يجب الذبح في الحَرَم؟ فيه وجهان: أصحُّهما: نعم. والثاني: يجوز أن يُذْبَحَ خارجَ الحرم، بشرط أن يُنْقَلَ اللحمُ فيه قَبْل أَنْ يتغيَّر، وقد سبق نظيره، وإن كان من غير النَّعم، فهو إما حيوانٌ لا يجوز التضحية به، أو مال آخرُ يتيسَّر نقله إلى الحرم، كما إذا قال: أهدي هذه الظبية أو الطائر، أو الحمار، أو الثوب، فيجب حمله إلى الحرم. وأطلق مُطلِقُون أن مؤنة النَّقْل على الناذر، فإن لم يكن له مالٌ، بيع بعضه لنقلِ البَاقِي، واستحسن ما يُرْوَى عن القفَّال، أنه إِن قال: أهدي هذا، فالمؤنة عليه، فإن قال: جعلته هدياً، فالمؤنة فيه يباع بعضه، لكن قضية جعله هدياً أن يبلغ كلّه الحرم فيلتزم مؤنته، كما لو قال: أهدي، ثم إذا بلغ الحَرَم، فالظاهر أنَّه يجب صرْفُه إلَى مساكين الحرم، فالمقصود من تبليغه مكَّة أن ينتفعوا به، نعم، لو نوى صرفه إلَى تطييب الكعبة، أو جعل الثوب ستراً لها، أو قربة أخرَى هناك فله صرفه إلى ما نوى، وفيه وجه، وأن أطلق، فله صرفه إلى ما نوى. وحكى الإِمام وجهاً أضْعَفَ من هذا؛ أن الثوب الصالِحَ للسِّتْر يُحْمَلُ عليه عند الإِطلاق، وذُكرَ أن قياسَ المذْهَب، والذي صرح به الأئمة: أن ذلك المال المعيَّن، يمتنع بيعه وتفرِقَةُ ثمنه، بل يُتَصدَّقُ بعينه، وينزل تعيينه منزلة تعْيين الضحية، وتعيين الشاه في الزكوات، ويُتصَدَّقُ بالظبية والطائر، وما في معناهما في الحياة، ولا يُذْبَحُ إذْ لا قربةَ في ذَبْحِها, ولو ذبحها، فنقصت القيمة، تَصدَّق باللحم، وغرم ما نقص، وفي "التتمة" وجه آخر: أنها تُذْبَحُ، وطردها فيما إذا أُطْلِقَ ذكر الحيوان. وقلنا: لا يُشْتَرَطُ أن يهدي ما يجزئ في الأضحية، والظاهرُ الأولُ، ولو نذر إهداء بَعِيرٍ، معيب فهل يذبحه؟ فيه وجهان مذكوران في الكتاب: أحدهما: نعم، نظراً إلَى الجِنْس. وأظهرهما: المنع؛ لأنه إذا لم يصلُحْ للتضحية، لم يكن في ذبحه قربة، كالظبية، وإن كان المال المُعَيَّنُ مما لا يتيسَّر نقله؛ كالدار، والأرض والشجر وحجر الرحا، فَيُبَاعُ، وينقل ثمنه، فيُتصَدَّق به على مساكين الحرم، قال في "التهذيب": ويتولَّى الناذر
البيع والنقل بنفسه، ولم يذكروا؛ أنه يُتَصَدَّقُ بعينه، حيث هو على المساكين هناك، ولا بعد فيه. وليعلم؛ لما تبيَّن قوله في الكتاب "فلا يجزئه إلا الثني من الإبل" بالواو. وقوله "ويكفيه كلُّ ما يسمَّى منحة" بالحاء والألف. وقوله "ولا يجبُ تبليغه مكَّة" بالواو، وكذا قوله "ويلزمه تبليغ الحرم"، وكذا قوله في مسألة الظبية "لزمه التبليغ" للوجه الذي نقله القاضي ابن كج في كلِّ هدي، وكذا قوله "ولا يذبح" وقوله "نقله إلى مكة" وقوله "بمكة". فروع: عن "الأم" لو قال: أنا أهدي هذه الشاة نذراً، فعليه أن يهديها، إلا أن تكون نيته، أني ساحدث نذراً، أو سأهديها, ولو نذر أن يهدي هدياً، ونوى بهيمة، أو جدياً، أو رضيعاً، أجزأه، والقولان السابقان فيما إذا أطلق نَذْرَ الهَدْي، ولم ينوِ شيئاً، ولو نذر أن يهدي شاة عوراء أو عمياء، أو ما لا يجوز في التضحية إهداؤه، ولو أهدي تامّاً، كان أحَبَّ إليَ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَكَّةٍ لاَ تَتَعَيَّنُ لِلصَّوْمِ في النَّذْرِ وَإِنْ تَعَيَّنَتْ لِلصَّدَقَةِ وَالصَّلاَةِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ أَسْتُرَ الْكَعْبَةَ أَوْ أُطَيِّبَهَا لِزَمَهُ، وَيَجُوزُ سَتْرُ الكَعْبَةِ بِالحَرِيرِ؛ لأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ فَقَطْ، وَفِي نَذْرِ تَطْيِيبِ مَسْجِدِ المَدِينَةِ وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى تَرَدُّدٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في هذه البقية صورتان: إحداهما: ظاهر المذهب، أنه إذا نذر أن يصوم في بلَدٍ لم يتعيَّن ذلك البلد، بل له أن يصوم حيث شاء، يستوي فيه حرم مكة حرسها الله تعالَى وغيره، كما أن الصوم الذي هو بدل واجباتِ الإِحرام لا يختص بالحرم، وعن صاحب "التلخيص"؛ أنه إذا عيَّن الحرم، اختص به تخريجاً من الصلاة والصدقة. الثانية: ستر الكعبة وتطييبها من القربات، فإن الناس اعتادوهما على مر الأعمار، ولم يبد من أحد نكير، ولا فرق بين الحرير وغيره، وإنما ورد تحريم لبس ذلك في حتى الرجال، وذكرنا في باب الزكاة أن الأظهر أنه لا يجوز تَحْلِيةُ الكعبة بالذَّهَب والفضة وتعليق قناديلها، وكأن الفرق استمرار الخلق على ذاك، دون هذا، فلو نذر ستر الكعبة وتطييبها، صحَّ نذرُه، وإذا نذر أن يجعل ما يهديه في رتاج الكعبة وتطييبها، قال إبراهيم المروزيُّ: ينقله إليها، ويسلمه إلَى القَيّم، ليصرفه إلى الجهة المنذورة، إلا أن يكون قد نَصَّ في نذره، أنه يتولَّى ذلك بنفسه، ولو نذر تطييب مسْجِدِ المدينة والمسجد الأقصى وغيرهما من المساجد ففيه تردد للإِمام، ومال الإِمام إلَى تخصيصه بالكعبة والمسجد الحرام وههنا فائدتان:
إحداهما: احتج الإِمام لصحَّة النذر في المسألة على أن القرباتِ كلَّها يصح نذرها، وإن لم توضَعْ وضعَ العبادات على ما تقدَّم. والثانية: أغرب القاضي ابن كج، فحكَى وجهاً، أنه لا يجوز الوقف على البنيان كما لو وقف على المسجد والكعبة ونحوهما، وإنما الوقف على من يملك، وذكر على هذا أنه لا يجوز أن يُقْصَدَ كون الستر والطيب للكعبة، بل ينبغي أن يجعله لعامة المسلمين ليتجمّلوا به، ولا أدري، هل جرى ذكر هذا الوجه في الوقف أم لا؟. فرع: نقل القاضي ابن كج وجهين فيما لو قال: إن شفى الله مريضي فلّله عليَّ أن أُعَجِّلَ زكاة مالي، هل يصحُّ نذره؟ ووجهين فيما إذا قال: إن شفى الله مريضي، فلّله عليَّ أن أذبح لابْنِي، هل يلزمه الذبحِ لابنه؟ لأن الذبح عن الأولاد مما يُتَقَرَّبُ به ووجهين فيما إذا قال: لله عليَّ، إن شفى الله مريضي أن أذْبَحَ ابني، فإن لم يجز، فشاة مكانه، هل يلزمه ذبح شاة؟ ووجهَيْنِ فيما لو نذر النصرانيُّ، أن يصلي، ويصوم، ثم أسلم، هل يلزمه أن يصلِّي صلاة شَرْعِنَا وصومه (¬1)؟ وأنه لو نذر أن يصوم بمكة -حرسها الله- ثلاثة أيام مثلاً، فلا يختص الصوم بمكة، وهذا قد سبق ذكره، وزاد، فقال: إن قلنا: لا يجوز دخول مكة، إلا بحج أو عمرة، انعقد النذر، ولزمه قصد مكة بحج أو بعمرة. وإن قلنا: يجوز، فهل يلزمه أن يقصد مكة؟ فيه قولان؛ كما لو نذر المِضيَّ إلَى مسجد المدينة؟ أو مسجد بيت المقدس. وفي فتاوى القفَّال: أنه إذا نذر رجُلٌ أن يضحي بشاة، ثم عيَّن شاة لنذره، فلما قَدَّمها للذبح صارت معيبة، لا تجزئ وبمثله، لو نذر أن يهدي شاةً، ثم عيَّن واحدةً، وذهب بها إلى مكَّة؛ فلما قدمها للذَبْح تعيَّبت، تجزئ؛ لأن الهدي ما يهدى إلى الحَرَمِ، وبالبلوغ إليه يحصل الإهداءُ، والتضحيةُ، لا تحصل إلا بالذبح، وإن صاحب "التقريب" قال: ولو قال رجلٌ: إن شفى الله مريضي، فلله عليَّ أن أشْتَرِيَ بدرهم خبزاً، وأتصدَّقَ به فلا يلزم الشراء، بل له أن يتصدق بخبز آخر بقدر درهم، وأنه لو قال: إن شفى الله مريضي، فلّله عليَّ رِجْلِي حج ماشياً، يصح نذره، إلا أن يريد إلزاماً على الرِّجْلِ خاصَّةً. ولو قال: عَلَى نَفْسِي أو رقبتي، صح. وأنه إذا نذر إعتاق رقبة، وكان عليه إعتاق رقبة في الكفارة، فأعتق رقبتين، ¬
ونواهم عن الواجب، جاز، وإن لم يعين كما إذا كانت عليه كفارتان مختلفتان. وأنه لو نذر صلاتَيْن، لم يخرج عن نذره بأربع ركعات بتسليمةٍ واحدةٍ. وأنه لو قال: إن شفى الله مَرِضي، فلله عَلَيَّ أن أتصدَّق بشيء، صح نذره، وَيتَصَدَّق بما شاء من قليل وكثير ولو قال: فعلي ألْفٌ يعين شيئاً باللفظ ولا بالنية، لم يلزمه شيء. وأنه لو نَذَر صوْم شَهَر، ومات قبل إمكان الصوم، يُطْعم عنه لكلِّ يَوْمٍ مُدٌّ، بخلاف ما لو لزمه قضاءُ رمَضَانَ لمرض أو سفر، ومات قبل إمكان القضاء، لاَ يُطْعَم عنه؛ لأن المنذور يسْتَقِرُّ بنفس النذر. وبُنِيَ عَلَى هذا، أنه إذا حلف، وحنث في يمينه، وهو مِعْسرٌ فرضه الصيام، فمات قبل الاِمكان، يُطْعَمُ عنه، وأنه لو نَذَر حَجَّةً، ومات قبل الإِمكان، يُحَجُّ عنه، وهذا يخالف ما قدَّمناه في الحج. في تفسير أبي نصر القُشَيْرِيِّ -رحمه الله- أن القفَّال قال: من التزم بالنذْرِ ألا يكلم الآدميِّينَ، يُحْتَمَل أن يقال: يلزمه؛ لأنه مما يَتَقَرَّبُ به، ويُحْتَمَلُ أن يُقَالَ: لا؛ لما فيه من التَّضْييق والتشديد، وليس ذلك مِنْ شَرْعِنا، كما لو نذر الوقوف في الشَّمْسِ (¬1)، والله أعلم بالصواب. ¬
كتاب أدب القضاة
كِتَابُ أدَبِ القُضَاةِ (¬1)، وفِيهِ أرْبَعَةُ أَبْوَابٍ الْبَابُ الأَوَّلُ فِي التَّوْلِيَةِ وَالعَزْلِ، وَفِيهِ فَصْلاَنِ قَالَ الغَزَالِيُّ: الأَوَّلُ فِي التَّوْلِيَةِ: وَفِيهِ مَسَائِل: الأُولَى: أَنَّ القَضَاءَ وَالإِمَامَةَ فَرْضٌ عَلَى الكِفَايَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَصَالِحَ العِبَادِ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: نتيمن أولاً بإيراد طرف من الآيات والأخبار في الباب، قال اللهُ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وقال عزَّ اسمُه: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] وقال تعالَى جدُّه: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] وقال عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]. ونُقِلَ عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأخْطَأَ فَلَهُ أجْرٌ وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ" (¬1). وأَيضَاً قال عَلَيْهِ السَّلامُ: "السَّابِقُونَ إِلَى ظِلِّ اللهِ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ الَّذِينَ إِذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ، وإِذَا سُئِلُوا بَذَلُوهُ، وَإِذَا حَكَمُوا لِلنَّاسِ، حَكَمُوا كَحُكْمِهِمْ لأَنْفُسِهِمْ" (¬2). وأَيْضاً: "إِذَا جَلَسَ الحَاكِم لِلْحَكْمٌ بَعَثَ اللهُ مَلَكَيْنِ يُسَدِّدَانِهِ وُيوَفِّقَانِهِ فَإِنْ عَدَلَ، أَقَامَا، وَإِنْ جَارَ، عَرَّجَا وَتَرَكَاهُ" (¬3). ¬
ويُروى أنه -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ عَلِيَّاً -كَرَّمَ اللهُ وَجهَهُ- إلى اليَمَنِ قَاضِيَاً فَقَال: "يَا رسول الله، بَعَثْتَنِي، أَقْضِي بَيْنَهُمْ وَأَنَا شَابٌّ لاَ أَدْرِي مَا القَضَاءُ؟ قال عليٌّ -عليه السلام- فَضَرَبَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فِي صَدْرِي وقال: "اللَّهُمَّ اهْدِهِ، وَثَبِّتْ لِسَانَهُ"، فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ مَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ (¬1). وأَنه -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ مُعَاذَاً -رضي الله عنه- إلى اليمن قال له: "كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟؛ قال: أَقْضِي بكِتَابِ اللهِ، قَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللهِ؟ " قال فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ. قَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ " قَالَ أجْتَهِدُ رَأَيَي وَلاَ آلُو، فَضَرَبَ ¬
صَدْرَهُ وقال: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لِمَا يَرْضَاهُ رَسُولُ الله" (¬1). ونقول ثانياً: القضاءُ على ما ذكره أئمة اللغة والفقه، إحكام الشيء وإمضاؤه، ومنه: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 4] والقضاء الإتمام، ومنه: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] والقضاء الفراغ، ومنه: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15] أي قَتَله وفرغ منه، ويُقَال: قضيت حاجتي. وُسُمٌّ قَاضٍ أي قاتلٌ، فسُمِّيَ القضاء قضاءً؛ لأن القاضِيَ يتم الأمر بالفصل ويمضيه ويفرغ منه، وسُمِّيَ حَكَماً لما فيه من منع الظالم من الظلم، ومنه الحَكَمَةُ: ويقال: أحْكَمْتُ السَّفِيهَ إِذا أَخَذْتُ على يدِهِ ومَنَعْتُهُ. ونقولُ ثالثاً: ترجمة الكتاب تتركَّب عن جُزَءَيْنِ أدب، وقضاء، ولا شَكَّ أن القَضَاء لا يَثْبُت للشخص من ذاته، وإنما هو ولايةٌ تَثْبتُ بالتَّوْلِيَة، وتزول بالعزل تارةً، ¬
وبالانعزال أخرَى، ثم أدب القضاء وأعماله تنقسم إلى ما يشترك فيه القضاءُ على الحاضر، والقضاءُ على الغائب، وإلَى ما يختص بما إذا كان المقضى عليه غائباً، فأودع المُصَنِّفُ هذه الجملَ في ثلاثة أبواب. باب في التولية والعزل، وباب في آداب القاضي وأعماله على العموم. وباب فيما يتعلَّق بالقَضَاء على الغائب خاصَّة. وأما البابُ الرابعُ المعقود في القسمة، فإنه أَتبع فيه الشافعيَّ -رضي الله عنه- والأصحاب -رحمهم الله- حيث أوردوا القسمة في خلال الأقضية، أو على أثرها، وسببه أن القاضي لا يَسْتغني عن القسام للحاجة إلى قسمة المُشْتَركات، بل القسام كالحاكم، لما سيأتي، فحسن الكلام في القسم مع الأقضية، هذا ضبط الأبواب، أما الباب الأول، فَفِيه فصلان: أحدهما: في طرف التولية، وأول ما افتتح به الفصْل أن القضاء والإمامة من فروض الكفايات، لا غنى عنهما بالإجماع (¬1) لأن الظُّلْم من شيم النفوس، ولا بدّ من حاكم ينتصف للمظلومين من الظالمين. وأيضاً، لما يتعلَّق بهما من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد رُوِيَ أن ¬
النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ اللهَ لاَ يُقَدِّسُ أمَّةً لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَأْخُذُ للِضَّعِيفِ حَقَّهُ" (¬1). ويجوز أن يوضع على لَفْظ المسألة من الكتاب واو, لأن بعض الأصحاب فيما حَكَى القاضي ابن كج ذهب إلى أن القضاء مكروهٌ؛ احتجاجاً بالأحاديث المُحَذَّرةِ في الباب. كما روي أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ جُعِلَ قَاضِيَاً، فَقَدْ ذُبحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ" (¬2). وروي أنه قال: "يُجَاءُ بِالْقَاضِي الْعَدْلِ يَومَ القِيَامَةِ، فَيَلْقَى مِنْ شِدَّةِ الْحِسَاب مَا يَتَمَنَّى أَنَّه لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي تَمْرَةٍ قَطُّ" (¬3) ومن قال بظاهر المذهب قال: المقصود من التحذير بيانُ خطره، وأن من اسْتُقضِيَ، فقد حُمِلَ على أمر تام الوقْع، فإن جَارَ فيه هَلَك، وإن عدَل فاز بخير كثير، وهكذا يكون تبيانُ الأمورِ الخطيرة، وأيضاً، فإنَّ من الناس من يكره له القضاء، أو يحرم على ما سنبين من التفصيل، فليحمل التحذيرات ¬
عليه جمعاً بين الأخبار، وإن قلنا: بالظاهر، فإذا قام بعض الصالحين للقضاء به، سقط الفرض عن الباقين، وإن امتنع الكلُّ أثموا، ثم الإِمام يجبر واحداً منْهم كَيْلاَ تتعطْل المصالح، أو لا يجبر؛ لِئَلاَّ يلتحق فرض الكفاية العين، فيه وجهان أشبههما الأول. قَالَ الغَزَالِيُّ: لَكِنْ فِيهِ خَطَرٌ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يقْدِمَ عَلَيْهِ إِلاَّ مَنْ وَثِقَ بِنَفْسِهِ، وَأَخْذُهُ بِغَيْرِ سُؤَالٍ حَسَنٌ، وَأَخْذُهُ بِطَلَبٍ فِيهِ كَرَاهِيَةٌ، وَلَكِنْ إِنْ تَعَيَّنَ لِلولاَيَةِ وَلَمْ يَصْلُحْ غَيْرُهُ وَجَبَ الطَّلَبُ وَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الخِيَانَةَ لَكِنْ يَجَبُ عَلَيْهِ تَركُ الخِيَانَةِ، وَإِنْ وَجَدَ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنْهُ حَرُمَ الطَّلَبُ، فَإنْ قُلِّدَ فَفَي انْعِقَادِ الإِمَامَةِ لِلمَفْضُولِ خِلاَفٌ، وَفِي القَضَاءِ تَرَدُّدٌ، وَالأَصَحُّ أنَّهُ يُنْعَقِدُ، وَإِنْ وَجَدَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ جَازَ القَبُولُ وَكُرِهَ الطَّلَبُ إِذَا لَمْ يَكُن بِهِ حَاجَةٌ إلَى رِزْقٍ، وإنْ وَجَدَ مَنْ هُوَ دُونَهُ وَقُلْنَا: لاَ يَنْعَقِدُ لِلمَفْضُولِ وَجَبَ الطَّلَبُ، وَإِنْ قُلْنَا: يَنْعَقِدُ لَمْ يَجِبْ وَجَازَ، وَفِي وُجُوبِ القَبُولِ إِذَا قُلِّدَ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ وَجْهَانِ، وَحَيْثُ لاَ يَجِبُ الطَّلَبُ فَإِنَّمَا يُبَاحُ القَبُولُ وَالطَّلَبُ إِذَا لَمْ بَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ الخِيَانَةَ، فَإِنْ خَافَ فَلْيَحْذَرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قوله: "لكن فيه خَطَر" أراد به أن الولاية لَمَّا أنَّهَا تفيد قُوَّة بعْد ضَعْف، وقدرة بعد عجز، تَتَّخِذُها النَّفْسُ المجبولةُ على الشرِّ ذريعةً إلى الانتقام من العدوِّ، والنظر للصَّدِيق، وتتبع الأغراض الفاسدة، ولا يوثق بحسن عاقبتها وسلامة مجاوزتها، فالأولى ألا يطلب ما أمكن، ولذلك قَالَ -صلى الله عليه وسلم- لِعَبْدِ الرَّحْمنِ بنِ سَمُرَةِ: "لا تَسْأَل الإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسَأَلةِ وُكِّلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا" (¬1) وتفصيل حال الناس فيه، أن الشخص، إما أَلاَّ يصلح للقضاء؛ فلا يجوز تقليده، ولا يجوز له التقليد الطلب، لهاما أن يصلح له؛ فإما أن يتعين، أو يكون هناك غيره. الحالة الأولَى: إذا تعين للقضاء، وجب عليه القبول، ويجب عليه أن يطلبه (¬2)، ويشهر نفسه عند الإِمام، إن كان خاملاً، ولا يعذر بأن يخاف من نفسه الميل والخيانة، بل عليه أن يقبل ويتحرز، فإن امتنع، عصى، وهل يجبره الإِمام عليه، قيل: لا، لِمَا روَي أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّا لاَ نُكْرَهُ عَلَى الْقَضَاءِ أَحَدَاً" (¬3). ¬
والأكثرون حملوا الحديث على حالة عدم التعيين، وحكموا بالإِجبار؛ لأن الناس مضطرُّون إلَى علمه ونظره، فأجبر على البذل كما يجبر المالك على بذل الطعام للمضطرِّ، وكما يجبر على القيام بسائر فروض الكفايات عند التعيين. وربما تردد الناظر في الأخبار من جهة أن الامتناع من هذا الفَرْضِ الذي هو مناط المصالح العامة بعدما يعين يشبه أن يكون من الكَبَائِر، وحينئذٍ، فيُفَسَّق به، ويخرج عن أهلية القضاء، لفوات شرط العدالة، فكيف يولَّى ويجبر على القبول، ويمكن أن يكون المراد أنه يؤمر بالتوبة أولاً فإذا تاب يُولَّى (¬1). الحالة الثانية: ألا يتعين بل يكون هناك غيره ممن يَصْلُح للقضاء، فذلك الغير؛ إما أن يكون أصلح وأولَى منه، أو يكون مثله، أو دونه، إن كان أصلح، فيرتب على أن الإِمامة العظمَى، هل تنعقد للمفضول؟ وفيه قولان للمتكلِّمين والفقهاء: أحَدُهِما: المنعُ، رعايةً لزيادة الفضيلة. وأصحُّهُما: الانعقادُ؛ لأن تلك الزيادة خارجةٌ عن حدِّ الإِمامة، فأشبه إمامة الصلوات وسائر المناصب الدينية، والقضاء أولَى بأن يجوز تفويضه إلى المفضول؛ لأن الغائب بِتَولِّي المفضولِ الإمامةَ لا يُتَدَارك، والغائب في القضاء يُتَدَارك بنظر من فوقه من الولاة، فإن لم نجوز للمفضول القضاء، حرمت توليته، وحرم عليه الطلب والقبول، وإن جوزناه، جاز القبول (¬2)، وأما الطلب، فيكره أو يحرم فيه وجهان منْقُولاَن في "الوسيط": أظهرهما، وهو المذكور في "التهذيب": الاقتصار على الكراهة، فإذا كان الأصلح لا يتولى القضاء، فهو كما لو لم يوجدِ الأصلحُ، وإن كان هناك مِثْلُه، فله ¬
القبول، إذا قُلِّد، وفي الوجوب قولانِ قريبَانِ من الوجهين في أنَّه، إذا امتنع الكلُّ، هل يَجْبُر الإِمامُ أحدَهُم؟ والأظهر ههنا عدم الوجوب؛ لأنه قد يقوم به غيره، وأما الطالب فإن كان خامل الذكر، ولو ولي القضاء، لاشتهر وانتفع الناس بعلمه، فيستحب له الطلب، وإن كان مشهوراً ينتفع بعلمه، فإن لم يكن له كفاية ولو ولي، لصار مَكْفِيّاً من بيت المال. فعبارة الشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيِّب والمعظم -رحمهم الله- أنه يستحبُّ له الطلَبُ أيضاً لينتفع به، وضايق بعضهم في الاستحباب هاهنا، واقتصر على نفي الكراهية، وعن القَفَّال أنه لا يُسْتحبُّ الطلب بحالٍ لظاهرِ حديثِ عبْدِ الرحمَنِ بْنِ سمُرة، والأظهر الأول، وإن كان مع الشهرة مَكْفِيّاً، فيكره له الطلب. ومنهم من لا يُطْلِق لفْظَ الكراهية، ويقتصر على أن الأولَى ألا يطلب، والسببُ فيه ما مرَّ من التحذيرات، وكما يكره الطلب، والحالة هذه يكره القبول. ولو قُلِّدَ من غير طَلَبٍ تفريعاً على القول بعَدَم الوجوب، وعلى ذلك ينزل امتناع السَّلَف كامتناع ابن عمر -رضي الله عنهما- لَمَّا استقضاه عثمان -رضي الله عنه-، وكهرب أبي قِلاَبَة والثَّوْرِيِّ وأبي حنيفة -رحمهم الله-. ويروى أن الشافعيَّ -رضي الله عنه- أوصى المُزنيَّ -رحمهم الله- في مرض موته بأن لا يتولَّى القضاء، وعرض عليه كتاب الرشيد بالقضاء، وأنه لم يُجِبْه إليه، وانتهى امتناع أبي علي بن خيران، لما استقضاه الوزير ابن الفرات؛ حتى ختمت دوره بالطين أيَّاماً. وإنْ كان هناك مَنْ هو دونه، فإن لم نجوز تولية المفضول، فهو كما لو تعيَّن، وإن جوزناه فيستحب له القبول، وفي الوجوب الوجهان، ويستحب له الطلب، إذا وَثِقَ بنفسه، وهكذا حيث استحببنا الطلب والتقليد أو أوجبناهما، فذلك عند الوثوق وغلبة الظن بقوة النفس، وأما عند الاستشعار، فينبغي أن يحترز، فإن أهم الغنائم حفظ السلامة، ثم اعْرِف ههنا أموراً: أحدها: التفصيل الذي ذكرناه في الطلب، فيما إذا لم يكن في الموضع المطلوب قضاؤه قاضٍ، فإن كان فيه من يلابس القضاء، نظر، إنْ لم يكن مستحَقّاً بجور أو جهل، فالحكم كما لو لم يكن قاضٍ، وإن كان مستحقاً، والطالب يروم عزله، قال أقضى القضاة الماوَرْدِيُّ هذا الطَّلب محظور، والطالب بالتعريض له مجروح. والثاني: حكم الطلب من غير بذل ما بَيَّنَّاهُ، فأما إذا بَدَل مالاً ليتولى، فإن ابن القاص وآخرين أطلقوا القول بأنه محظور، وبأن قضاءه مردود، والأشبه تفصيل أورده القاضي الرُّويانيُّ -الله- وهو أنه إن تعيَّن عليه القضاء، أو كان ممن يُستَحبُّ له القضاء، فله بذل المال، ولكنَّ الآخذ ظالمٌ بالأخذ، وهو كما إذا تعذَّر الأمر برحمه المعروف إلا ببذل مال، فإن لم يتعيَّن عليه، ولا هو ممَّن يُستَحبُّ له القضاء، فلا يجوز له بذل
المال ليُوَلَّى ويجوز له بذْل المال بعد ما وُلِّيَ لئلا يُعْزَلَ. والآخذ ظالم بالأخذ، وأمَّا بذل المال لعَزْل مَنْ هو ملابسٌ للقضاء؛ فإن لم يكنْ بصفاتِ القضاةِ، فهو مُستَحبٌّ لتخليص الناس منه، لكنَّ أخذه حرامٌ على الآخذ، وإن كان بصفات القضاة، فهو حرام، فإن فعل، وعزل الأول برشوة، وولى الباذل مكانه من غير رشوة، قال ابن القاصِّ: توليته باطلةٌ، والمعزولُ عَلَى قضائه؛ لأنَّ العزل بالرشوة حرامٌ، وتولية المرتشي الراشي حرامٌ، وليكن هذا محمولاً على الأصل الممهد في الشريعة، فأما عند الضرورات وظهور الفتن، فلا بدّ من تنفيذ التولية والعزل جميعاً كتولية الباغين. والثالث: طرق الأصحاب مُتَّفِقَةٌ في تعيين الشخص للقضاء وعدم تعينه على النظر إلى البلد والناحية لا غير، وقضيته أَلاَّ يجب على من يصلُحُ للقضاء طَلَبُ القضاء ببلدة أخرَى لا صالح بها ولا قَبُولُه إذا وُلِّيَ ويجوز أن يُفَرَّقَ بينه وبين القيام بسائر فروض الكفايات المحوجة إلى السفر؛ كالجهاد وتعلم العلم، ونحوهما؛ بأنه يمكن القيام بتلك الأمور والعود إلى الوطن وعمل القضاء لا غاية له، فالانتقال له هجرة وتركٌ للوطن بالكلية. وقوله في الكتاب: "وإن وُجِدَ مَنْ هو أصْلَحُ مِنْهُ، حَرُمَ الطَّلَبُ" إنما يظهر الحكم بحرمة الطلب مع الأصلح، إذا منعنا تولية المفضول، أما إذا جوزناها، فأظهر الوجهين على ما مرَّ؛ أنه يُكْرَهُ الطَّلَب، ولا يحرم، فيصح أن يُعلَم قوله "حرم" بالواو. وكذلك قوله: "وفي القضاء تردد" يجوز أن يُعْلَم بالواو، لما بيَّنَّا أن الخلاف في القضاء مُرتَّب على الخلاف في الإمامة، والترتيبُ يفيد طريقةٌ قاطعةً بالجواز في القضاء، ويوضَّحه أنَّ الأصحاب -رحمهم الله- ربما احتجوا لقول انعقاد الإِمامة للمفضول؛ بأن القضاء ينعقد له، وإنما يصدر هذا الاحتجاج ممن يقطع بانعقاد القضاء له. وقوله: "وكره الطلب إذا لم يكن به حاجةٌ إلى رزق" قضيته تعميم الكراهة، حيث لم يحتج إلى الرزق، لكنا بينا أن الخامل الذي لو ولى انتشر علمه، يُستحَب له الطلب، فلا بدّ من استثناء هذه الصورة. واعلم أن نظم الكتاب مصرح بوجوب الطلب، إذا تعيَّن الشخصُ، للقضاء وبحرمة الطلب، إذا لم يتعيَّن، وكان غيره أصلح منه، وبالكراهية إذا كان مثله، وبالجواز إذا كان دونه، وإذا استوعبت الأحوال، تبين أنه متى يُكْرَه؟ ومتى لا يُكْرَه؟ فلا حاجة إلى قوله أولاً أخذه بطَلَب (¬1) فيه كراهية. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةُ: لاَ بُدَّ للِقَاضِي مِنْ صِفَاتِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حُرّاً ذَكَرَاً مُجْتَهِداً (ح) بَصِيراً (م و) عَدْلاً بَالِغاً، فلاَ يَجُوزُ قَضَاءُ المَرْأَةِ وَالأَعْمَى وَالصَّبِيِّ وَالفَاسِقِ وَالجَاهِلَ وَالمُقَلِّدِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَقِلَّ بِالاجْتِهَادِ، وَالَّذِي يَجْتَهِدُ فِي مَذْهَبِ أَحَدِ الأَئِمَّةِ لَهُ الفَتْوَى عَلَى وَجْهٍ وَيَكُونُ مُقَلِّداً للإِمَامِ المَيِّتِ وَلاَ يَنْتَصِبُ لِلقَضَاءِ هَذَا هُوَ الأَصْلُ، فَإِنْ تَعَذَّرَتِ الشُّرُوطُ وَغَلَبَ عَلَى الْوِلاَيَاتِ مُتَغَلِّبُونَ فَسَقَةٌ، فَكُلُّ مَنْ وَلاَّهُ صَاحِبُ شَوْكَةٍ نَفَذَ حُكْمُهُ لِلضَّرُورَةِ كَمَا يَنْفُذْ حُكْمُ البغَاةِ وإن لَمْ يَصْدُرُ عَنْ رَأَي الإمَامِ، وَالظَّاهِرُ أَن قَضَاءَ الأُمِّيِّ الَّذِي لاَ يَكْتُبُ جَائِزٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصود المسألة بيانُ الصفاتِ المشْرُوطة في القضاء، وقد تخلَّلها كلام في الفتوى، ونحْن نأتِي بفَصْلٍ من صفات القاضي وآخر بما يتعلَّق بالفتْوَى. أما الفصل الأول، فإحْدَى الصَّفَات المشرُوطَة في القاضي الحرية؛ فلا يَصْلُح الرقيقُ للقَضَاء، قِنّاً كان، أو غَيْر قِنٍّ؛ لأنه ناقص، ولأنه لا يَتفرَّغ له. والثانية: الذكورة، وقال أبو حنيفة يجوز أن تكون امرأةٌ قاضيةً فيما يُقْبَل شهادتها فيه. لنا: ما رُويَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَليَتْهُمُ امْرَأَةٌ" (¬1) ولأنه لا يليق بحالها مجالسة الرجال، ورفع الصوت بينهم، ولا بدّ للقاضي من ذلك. والثالثة: أهليَّة الاجْتهَاد، فلا يجوز تَوْلية الجَاهِل بالأحكام الشرعيَّة، وطرقها المحتاج إلى تقليد غيره لما روِيَ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْقُضَاةُ ثَلاثةٌ؛ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، واثْنَانِ فِي النَّارِ، فَالَّذِي فِي الْجَنَّةِ رَجُلٌ عَرَفَ الحَقَّ فَقَضَى به، واللَّذَانِ فِي النَّارِ رَجُلٌ عَرَف الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكِمْ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْل" (¬2) وعند أبي حنيفة: يجُوز تَوْلِيَةُ العَامِّيِّ، ثم هو يَسأل أهل العلْم ويقضي، واحتج الأصحاب عليه بأنه لا يَجُوز الفتوى بالتقليد، فكذلك القضاء، وبل أولى؛ لأنَّا نعتبر في القضاء ما لا نعتبر في الفتوى وعلى ما سيظهر. وإنما تحصل أهلية الاجتهاد بالعلْم بأمور: أحدها: كتاب الله تعالى جَدُّه ولا يُعتبر العلْم بجميعه، بل ما يتعلَّق منه بالأحكام، ولا يُشتَرَطُ حفظه عن ظهر قلب، ومن الأصحاب من ينازع ظاهِرَ كَلاَمِه فيه. ¬
والثاني: سنَّة رسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- لا جَمِيعُها، بل بما يتعلَّق منها بالأحكام، وينبغي أن يعرف منهما العامَّ، والخاصَّ، والمطلَقَ والمقيَّدَ، والمُجْمَل والمبيَّن، والنَّاسِخ والمَنْسُوخ ومِنَ السنةِ؛ المتواتر والآحاد والمرسل والمسند وحال الرواة قوةً وضعفاً. والثالث: أقاويل علماء الصحابة -رضي الله عنهم- فمَنْ بعدهم إجماعاً واختلافاً. والرابع: القياس فيعرف جليَّة، وخفيَّة، ويميِّز الصحيح منه من الفاسد. والخامس: لسانُ العرب لغةً وإعراباً، فإن الشريعة ورَدَتْ بالعربية، ومِنْ هذه الجهة يُعْرَفُ عموم اللفظ وخصوصه، وإطلاقه وتقييده وإجماله وبيانه. قال علماؤنا -رحمهم الله-: ولا يُعتبَرَ التبحُّر في هذه العلوم، بل يكفي معرفة كل جمل منها، وزاد المصنِّف تحقيقاتٍ أوردها في أصول الفقه. منها: أنه لا حاجة إلى تتبع الأحاديث على تفرُّقها وانتشارها, ولكن يكفي أن يكون له أصل مصحح، وقعتِ العنايةُ فيه بجمع أحاديث الأحكام؛ كسنن أبي داود (¬1)، ويكفي أن يعرف مواقع كلِّ باب، فيراجعه إذا احتاج إلى الفَتْوَى في ذلك الباب. ومنها: أنه لا يحتاج إلى ضبْط جميع مواضع الإجْمَاع والاختلاف، بل يكفي أن يعرف في المسألة الَّتي يُفْتِي فيها أن قوْلَه لا يخالف الإجَماع، إما بأن يعلم أنه وافق قَوْلَ بعض المتقدِّمين، أو يغلب على ظنِّه أن الواقعة متولِّدَة في ذلك العصر، لم يخض فيها الأولون، وعلى هذا، قياس معرفة الناسخ والمنسوخ. ومنها: أن كل حديث أجمع السَّلَف على قوله أو تواتَرَتْ عدالةُ رواتِهِ، فلا حاجة إلى البَحْث عن رواته، وما عدا ذلك فينبغي أن يكتفي في رواته بتعديل إمام مشهورِ عُرِف صحة مذهبه في التعديل، إلا، فَمَنْ دَرَجَ في الأحوال الماضِيَة، لا يُخْتُبَرُ، ولا ¬
يُشاهَد حالُه، وتواتُر السنة لا يكاد يوجَدُ إلاَّ في جماعة معْدُودين (¬1). ومنها: اجتماع هذه العلوم، إنما يشترط في المجتهد المُطْلَق الذي يفتي في جميع أبواب الشَّرْع. وَيَجُوزُ أن يكون للعالم منْصِبُ الاجتهاد في باب دون باب، فالناظر في مسألة المشتركة يكفيه معرفة أصول الفرائض، ولا يضرُّه ألا يعرف الأخبار الواردة في تحريم المسكر مثلاً، وعدَّ الأصحاب من شروط الاجتهاد معرفة أصول الاعتقاد، قال المصنِّف: وعندي يكفي اعتقاد جازم، ولا يشترط معرفتها على طرق المتكلمين والأدلة التي يحررونها؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- ما كانوا يُحْسِنُون تلْك الصناعة. والصفة الرابعة: أن يكون بصيراً، فلا يجوز التفويض إلى الأعْمَى؛ لأنه لا يعرف الخصوم والشهود، وعن مالك -رحمه الله- تجويزه وفي "جمع الجوامع" للقاضي الرُّويانيِّ وجهٌ يوافقه. والخامسة: العدالة، فإنَّ الفاسقَ لا يصلح للشَّهادة، فللقضاء أولَى. والسادسة: البلوغ، فالصبيُّ لا ينفذ قوله على نفسه، فعلَى غيره أولَى، وهل يجوز أن يكون القاضي أمِّيّاً، فيه وجهان: أحدهما: لا، للحاجة إلى مطالعة الحُجَجِ وإثباتها. وأصحهما: نعم؛ لأن النبوة التي هي أصْل القضاء لا يُشْتَرَط فيها معرفة الخَطِّ. هذه هي الصفات المذكورة في الكتاب. ويُشْتَرَط وراءها صفات أُخَرٌ. منها: الإسْلام، فلا يجوز تقليد الكافرِ القضاءَ لا على المسلمين ولا على الكفار، قال أقضْىَ القُضَاة الماوَرْدِيّ: وما جرت به عادةُ الولاةِ من نَصْب حاكمٍ بين أهل الذِّمَّة، فهو تقليدُ سياسة (¬2) وزعامة لا تقليد حكم وقضاء، وإنَّما يلزمهم حكمه بالتزامهم لا للزومه، وحُكِيَ عن أبي حنيفة أنه يجوز تقليد الكافر للقضاء بين أهْلِ دِينه. ومنها: أنْ يكونَ ناطقاً سميعاً، فلا يجوز تقليدُ الأخرس الذي لا تُعْقَل إشارته، ¬
وإن عُقِلَتْ فوجهان، خرجهما ابن القاصِّ، الأصح المنع أيضاً، ولا يُقلَّد الأصمُّ الذي لا يسمع أصلاً، وإن كان يسمع إذا صيح به، فيجوز تقليده. ومنها: الكفاية (¬1)، فلا يجوز قضاء المُغفَّل، والذي اختل رأْيُه ونظره بكبرٍ ومرضٍ ونحوهما. ويُستَحَبُّ أن يكون القاضِي مع الصفات المشروطَة وافرَ العَقْل حليماً متثبتاً ذا فِطْنَةٍ وتيقظٍ كاملَ الحواسِّ والأعضاءِ عالماً بلغة الدين يَقْضِي بينهم. بريئاً من الشحْنَاء بعيداً عن المطمع صَدُوقَ اللهجة، ذا رأيٍ ووفاءٍ وسكينةٍ ووقارٍ وألاَّ يكون جَبَّاراً تهابه الخصوم، فلا يتمكنون من استيفاء الحجة، ولا ضعيفاً يستَخِفُّون به، ويطمعون في جنبه والأولى أن يكون قُرَشياً، ورعاية العلم والتقى. أولَى من رعالة النَّسَب. إذا عُرِف ذلك، فلو أن الإِمام عَرَفَ فيمن يولِّيه الصفاتِ المشروطةَ، نذاك، وإلا، بَحَث عن حاله، واختبره، كما اختبر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- معاذاً -رضي الله عنه-. ولو ولَّى مَنْ لَمْ يجتمعْ فيه الصفاتُ عَلَى عِلْمِ حالِهِ، توجَّه الجَرْح على المُوَلِّي والمُوَلَّى، ولم يَنْفُذْ قضاؤه بصواب ولا خطأ، هذا هو الأصل في الباب. قال في "الْوَسِيط": لكنَّ اجتماعَ هذه الشروط متعذِّرٌ في عَصْرِنا؛ لخلُوِّ الْعَصْر عنِ المجْتَهد المستقل فالوجْه تنفيذُ قضاء كلِّ من ولاه سلطانٌ ذو شوكة، وإن كان جاهلاً أو فاسقاً؛ كيلا تتعطل مصالح الناس ويؤيده أنا ننفذ قضاء قاضي أهل البغي لمثل هذه الضرورة، وهذا حسن. ولكن في بعض الشروح أن قاضي أهل البغْي، إن كان منهم، نُظِر، إن كان بغيهم لا يوجب الفسق؛ كبغي معاوية -رضي الله عنه- جاز قضاؤه، وإن أوجب الفسق، كبغي أهل النهروان، لم يجز (¬2)، وذُكِرَ أن القاضي العادل، إذا استقضاه أمير باغ، أجابه إليه، فقد سُئِلتْ عائشة -رضي الله عنها- عن ذلك لمن استقضاه زياد، فقالت: إن لم ¬
يقضِ لهم خياركم، قض لهم شراركم (¬1). فرع: من لا تقبل شهادته من أهل البدع لا يجوز تقليده القضاء، قال القاضي الماوَرْدِيُّ: وكذا لا يجوز تقليد من لا يقول بالإِجماع، أو لا يقول بأخبار الآحاد، وكذا القول في نفاة القياس، وهم الشيعة الدين لا يقولون بالاجتهاد أصلاً، بل يتتبعون النصوص، وإذا لم يَجِدُوا أَخَذُوا بقول سلفهم، وإن كانوا يجتهدون في فحوى الكلام، ويبنون الكَلاَمَ على عُمُوم النصوص وإشاراتها، ففي تقليدهم وجهان، والأظهر جوازه. الفصْلُ الثاني: في الفتوى، ومهما لم يكن في الموضع إلا واحد يصلح للفتوى، تعيَّنَ عليه أن يفتي، وإن كان هناك غيره، فهو من فروض الكفايات، ومع ذلك فلا يحمد التسارع وإليه كانت الصحابة -رضي الله عنهم- مع مشاهدتهم التنزيل، يحيل ¬
بعضهم في الفتاوى على بَعْضٍ ويحترزون (¬1) عن استعمال الرأي والقياس ما أَمْكَنَ (¬2)، ثم الكلام في ثَلاَثِ جُمَلٍ: إحداها: في طرف المُفْتِي؛ ويشترط فيه الإِسلام والبلوغ والعدالة، فإن الفاسق لا يوثق بفتواه، نعم، يعمل لنفسه باجتهاده، ويشترط فيه التيقظ وقوة الضبط؛ فلا تُقْبَلُ فتوى من تَغْلِب عليه الغفلة والسهو، ذكره أبو القاسم الصيمريّ. ويُشتَرط أيضاً أهلية الاجتهاد؛ ليأخذ غيره بقوله، كما أنَّه يُشْتَرَط الاجتهاد في القبلة، ليقلده غيره (¬3) ممن لا يعرف القبلة، ويدل عليه ظاهرُ قَولِهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سُئِلَ فَأَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ" (¬4) فلو عرف عرف العاميُّ مسألةً أو مسائلَ بدليلها، لم يكن له أن يفتي فيها, ولم يكن لغيره أن يقلِّد فيها، ويأخذ بقوله، هذا هو الصحيح، ووراءه وجهان حكاهما الصيمريُّ، والقاضي الرويانيُّ في البَحْر: أحدهما: أنه يجوز؛ لأنه عرف الحكم والدليل. والثاني: الْفَرْقُ بين أن يَكُون الدليل نقلياً، فيجوز، أو قياساً، فلا يجوز. والعالم الذي لم يبلُغْ رتبةَ الاجتهاد، كالعاميِّ؛ في أنه لا يجوز تقليده على الصحيح، وموت المجتهد هل يخرجه عن أن يُقَلَّد، ويُؤْخَذَ بقوله؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لخروجه عن أهلية الاجتهاد، كما لو فسق بعد عدالته. وأيضاً، فإنه لا قول له بعد موته، ألا ترى أن الواحد من الصحابة -رضي الله عنهم- إذا كان يخالف الباقين في مسألة، لم يكن اتفاق الباقين إجماعاً؟ فإذا مات ذلك الواحد، صار إجماعاً، فدلَّ على أنه لم يبق له قولٌ بَعْد موته. ¬
وأصحُّهما: أنه يجوز تقليده، والأخْذُ بقوله، كما إذا شَهِدَ الشاهِدُ، ثم مات يجوز الحُكْم بشهادته، والمسألة المُسْتَشْهَدُ بها ممْنُوعة، ولو بَطَل قول القائل بموته، لَبَطَل الإِجْمَاع بمَوْت المجْمِعِين، ولصارت المسألة اجتهاديةً، وأيضاً فالخَلْق كالمتَّفقين على أنه لا مجتهد الْيَوْم (¬1) فلو مَنَعْنا من تقليد الماضيين لتركنا الناس حَيَارَى، وبنوا على هذين الوجهين، أنَّ مَن عَرَف مَذْهب بعض المجتهدين وتبحَّر فيه، لكنه لم يبلْغُ رتبة الاجتهاد، هل له أن يفتي؟ وهل يُؤْخَذُ بقوله؟ إن قلْنا بالوجه الأوَّل، فلا يجوز، وإن قلنا بالثاني، الأصح، يجوزُ الأخذ بقوله، كأنه لا يقلّده وإنَّما يقلد ذلك المجتهد، هكذا صوروا هذا الفرع. ولك أن تقول: إنْ كان المأخَذُ ما بيَّنَّا، فلا فرق بين أن يكون متبحِّراً، أو غير متبحِّر، بل العامِّيُّ، إذا عَرَف حُكْم المسألة عنْد ذلك المجتهد، فأخبر عنه، وأخذ غيره به تقليداً للمجتهد الميت، وجب أن يجوز على الأصحِّ (¬2). إذا جوَّزنا الفتوَى إخباراً عن مذْهَب الميِّت، فإنْ عَلِم مِنْ حاله أنه يُفْتِي عَلَى مذْهبٍ واحدٍ معيَّنٍ كفى إطلاق الجواب منه، وإلا فلا بدّ أن يضيفه إلى صاحب المَذْهَب، وليس للمجتهد أن يقلِّد مجتهداً آخر لا ليعمل به، ولا لِيُفْتِيَ به غيره ولا إذا كان قاضياً ليقضي به، خلافاً لمالك وأحمد -رحمهما الله- فيما حكاه في "البَحْر"، ولأبي حنيفة -رحمه الله- في القَاضي. لنا: أنه يجد ما يتوصّل به إلى معرفة الحُكْم، فلا يجوز له تَقْليد، كما في العقليات. ¬
ولا فرق بين أن يخاف الفوات، لضيق الوقت، أو لا يخافه؛ لأن الاجتهاد فرض عليه، فلا يسقط بضيق الوقت، كما أن فرض العاميِّ، وهو الاستفتاء والسؤال لا يسقط لضيق الوقت، وقال ابن سُرَيْج، فيما حكاه عنه صاحب "التلخيص" سماعاً: يجوز له التَّقْلِيد عنْد ضيق الوَقْت؛ للعمل به، ولا يجوز لِيُفْتِيَ به غيره، وقياس ذلك أَلاَّ نجوزه للقضاء بطريق الأولَى، وفي "الشامل" و"التهذيب" طرد قول ابن سُرَيْج في التقْليد للقضاء، وصور ضيق الوقْت فيه فيما إذا تحاكَمَ إلَيْه مسافران، والقافلة تَرْتَحِل، ومَنْ قال به، فينبغي أن يطرده في الفَتْوَى. وهل على المجتهد تجديدُ الاجتهاد، إذا وقعت الحادثةُ مرَّةً أخرَى، أو سئل عنْها مرةً أخْرَى؟ أو يقتنع بما أدَّى إلَيْه اجتهادُه؟ الأوَّل فيه وجهان، كما ذكرنا في الاجتهاد في القبلة (¬1). واعلم أن الَّذين يُقَال لهم أصحابُ الشافعيِّ وأصحابُ أبي حنيفة ومالك -رحمهم الله- ثلاثة أصناف العوامّ، وتقليدهم إياهم مفرَّع على جواز تقليد الميِّت، وقد عرفته، والبالغون درجة الاجتهاد، وقد ذكَرْنا أن المجتهد لا يُقلِّد المجتهد، وإنَّما يُنْسَبُ هؤلاء إلى الشافعيِّ -رضي الله عنه- وغيره؛ لأنهم يجرون على طريقته في الاجتهاد واستعمال الأدلة وترتيب بعضها على بعض، ويوافق اجتهادُهم اجتهادَ مُمَهِّدي تلْك الطرق، وإذا خالف أحياناً لم يُبَالَوا بالمخالفة، وهذا كما أن الشافعيَّ -رَضِيَ الله عَنْه- يقول في كلامه: وقال بعض أصحابنا: ويريد به مالكاً؛ لتوافقهما على اتباع السنة المأثورة عن رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-. والصِّنْف الثالث: المتوسِّطون بين الصِّنْفَيْن الأوَّلَيْن، وهم الذين لم يبلغوا رتبة الاجتهاد في أصل الشرع ولكنهم وقفوا على أصول الإِمام الذي ينتسبون إليه في الأبواب، وتمكنوا من قياس ما لم يجدوه منصوصاً له على ما وجد، وهؤلاء مقلِّدون له تفريعاً على تقليد الميت. وكذا من يأخذ بقولهم من العوامِّ تقليداً له، والمشهور: أنه لا يقلِّدهم في أنفسهم؛ لأنهم مقلِّدون، وقد نَجِدُ ما يشعر بخلافه؛ هذا أبو الفتح الهَرَوِيُّ وهو من أصحاب الإِمام - قدَّس الله روحه- يقول في الأُصُول: مذْهَبُ عامة أصحابنا أن العاميَّ لا مذهب لَهُ، فإن وَجَدَ مُجتهداً قلده، وإلا ووجد متبحراً في مذْهَب، فإنه يفتيه على مذهب نفسه، وإن كان العاميُّ لا يعتقد مذهبه، وهذا قولٌ: بأنه يقلد المتبحِّر في نفسه، ثم ههنا فروع: ¬
أحدها: المتبحران في مذهب واحد، قد يختلفان في المسألة؛ لاختلافهما في قياس أصوله، ومنْه يتولَّد وجوه الأصحاب، ونقول: بأيهما يأخذ العامي؟ هو كما سنذكره فيما إذا وجد مجتهِدَيْن. الثاني: إنْ نَصَّ صاحب المذْهَب على الحُكْم والعلَّة، وألحق، بتلْك العلَّة غيْرَ المَنْصُوص بالمَنْصُوص، وإن اقتصر على الحُكْم، فهل يستنبط العلَّة، ويعدي الحكم بها؟ حُكي. والذي عن الإِمام محمد بن يحْيَى -رحمهما الله- المنع من ذلك، وإنما جاز في نصوص الشارع؛ لأنه تعبدنا، وأمرنا بالقياس، والأشبه بصنيع الأصحاب خلافُه، ألا تراهم ينقلون الحكم ثم يختلفون في أن العلة كذا وكذا وكل منهم يطرد الحُكْم في فروع علَّته. الثالث: اختار الشيخ أبو إسحاق الشيرازيُّ -رحمه الله- أنه إذا نَصَّ في واقعة على حكم، وفي أخرى بشبهها على نقيضه، لم يجز نقل قوله من إحداهما إلى الأخرى، وتخريجها على قولين، وإن ما يقتصر على ما يقتضيه قول المجتهد، لا يجوز أن يُجْعَل قولاً له، إلا إذا لم يحتمل الفرق مثل أن يقول ثَبَتَتِ الشُّفْعَة في بيع الشِّقْص من الدار، فيجوز أن يُقَال: قوله في الحانوت كذلك. والمشهور في المذهب خلافُ ما اختاره، نعم، الأَوْلَى أن يُقَالَ: إِنه قياسُ أصله أو قوله، ولا يُقال: إنه قوله. ويجوز للمفْتِي أن يشدد في الجواب بلفظٍ هو مُؤَوَّلُ عنه زجراً وتهديداً في مواضع الحاجة (¬1). سُئل ابنُ عبَاس -رضي الله عنه- عن توبة القاتل فقال: لا توبة له، وسأَلَهُ آخر، فقال: له توبة ثم قال: رأيتُ في عَيْنَي الأول، أنَّه يقصد القتل، فمنعته، وكان الثاني صاحبَ واقعةٍ يطلب المَخْرَج. الجملة الثانية في طرف المستفتي: وعليه مراجعة المُفْتِي، والسؤال عنه، وإنما تَسْأَل من عَرَفَ علمه وعدالته، فإذا لم يَعْرِف العلْم، بحث عنه بسؤال الناس، وإن لم يَعْرِف العدالة، فلصاحب الكتاب فيه احتمالان، ذكرهما في الأصول: أحدها: أن الجواب كذلك، وأشبههما الاكتفاء، فإن الغالب من حال العلماء ¬
العدالة، بخلاف البَحْث عن العِلْم، فإنه ليس الغالب من حال الناس أن يكونوا علماء ثم ذكر احتمالين في أنه، إذا وجب البَحْث، فَيَفْتَقِرُ إلى عددِ التَّواتُر أم يكفي إخبار عدل أو عدلَيْن؟ أقربهما الثاني (¬1). وإذا وَجَد من المفتين اثْنَيْنِ فَصَاعداً، فهل عليه أنْ يجتهد فيسأل أعلمهم؟ فيه وجهان: أحدهما: ويُحْكَى عن ابن سُرَيْج: نعم, لأنه لا يتعذَّر عليه هذا القَدْر من الاجتهاد. بخلاف الاجتهاد في الأحكام، وهذا ما اختاره القاضي ابن كج، وكذلك القَفَّال، قال القاضي الحُسَيْن: إنَّ رجلاً سأل القفَّال عَلَى رأس الحدادين بـ"مرو" عن مسألة، فقال القَفَّال: مَنْ أنا؟ فَقَال: أنتَ واحدٌ من الفقهاء، فقال: لا يحلُّ لك أَنْ تعمل بقَوْلي ما لم تَسْأَلْ عن الأعلم في البلد. وأصحُّهما: عن عامة الأصحاب: أنه يتخيَّر، فيسأل من شاء منهم؛ لأن الأوَّلين كانوا يسألون علماء الصحابة، على تفاوتهم في الفضل والعلْم، ويعملون بقول من سألوه من غير نكير، وذكر صاحب الكتاب في الأصول: أنه إذا كان يعتقد أن أحدهم أعلم، بجزء أن يقلِّد غيره، وإن كان لا يجب عليه البَحْث عن الأعْلَم، إذا لم يعتقد اختصاص أَحَدِهِم بمزيد (¬2). وإذا سأل المستفتي، ووجد الجواب، فوقعت الحادثة مرةً أخرَى، نُظِرَ، إن عرف ¬
استناد الجواب إلَى نَصٍّ أو إجماع، فلا حاجَةَ إلى السُّؤَال ثانياً وكذا لو كان المقلِّد ميِّتاً، وجوَّزناه، وإن عَرَفَ استناده إِلَى الرَّأْي والقياس، أو شَكَّ فيه والمقلِّد حَيٌّ، فوجهان: أحدهما: أنه لا يحتاج إلى السُّؤَال ثانياً؛ لأن الظاهر استمراره على الجواب الأول. وأصحُّهما: أن عليه السؤالَ ثانياً، وهما كان ذكرنا في تجْديد المجتهد الاجتهاد، وفي الاجتهاد في القِبْلَة. ولو اختلف علَيْه جوابُ اثْنيَنْ في المسألة، فإنْ أوجبنا البحث وتقليد الأعلم، لم يجب الجواب، وإن لم نوجبه فأوجه. أصحُّهما: أنه يتخير، ويأخذ بقول أيهما شاء. والثاني: يأخذ بأغلظ الجوابين احتياطاً. والثالث: يأخذ بأخفِّهما. والرابع: بقول من يبني قوله على الأثر دون الرَّأْي. وفي "البحْر" وجه آخر: أنه يأخذ بقول من سأله أوَّلاً؛ لأنه لزمه حين سأل (¬1)، وذكر وجهين في أن من استفتى فقيهاً، ولم تسكن نفسه إلى فتواه، يسأل ثانياً وثالثاً؛ لتسكن نفسه إليه، أم يجوز الاقْتِصَار على جواب الأوَّل، والقياسُ الثَّانِي؟. الجملة الثالثة: فيما يتعلَّق بالطرفين؛ يجوز للمستفتي أن يسأل بنفسه، ويجوز أن يسأل برسول عدل يبعثه إليه، وبالرقعة، ويكفي ترجمان واحد، إذا لم يعرف لغته (¬2). ومِنْ آداب المستفتي أَلاَّ يسأل المفتي، وهو قائم أو مشغول بما يمنعه من إعطاء الفِكْرِ حقه، وَأَلاَّ يقول إذا أجابه هكذا قُلْتُ أنا وأَلاَّ يطالبه بالحُجَّة على الجواب، فإن أراد معرفة الحُجَّة، سأل عنها في وقْتِ آخَر، وإذا سأل بالرقعة، فليكن كاتبُها حاذقاً؛ ليبين موضع السؤال ولينقط مواضع الاشتباه؛ كيلا يذهب الوهم إلى غير ما وقع عنه السؤال، كما يُحْكَى أنه كتب غفلاً في زمان أبي الحسن الكَرْخيِّ -رحمه الله-: ما يقول الفقهاءُ في رَجُلٍ قال لامرأته: أنتِ طالقٌ إنْ، ثم وقف عند "إنْ" فقرؤوه إن تمّ وقف عبدان، أجابوا بأنه إن تم وقفه، طُلِّقَتْ وإلاَّ، فلا، فَعُرِضَتِ الرقعةُ على الكَرْخِيِّ، فلما ¬
تأمَّلها، عرف أنهم صحَّفُوا، وأن الكاتب أراد أنه قال: أنتِ طالق إن، ثم أمسك بعد إنْ، ولم يذكر شَرْطاً. وليتأمل المفتي الاستفتاءَ كلمةً كلمةً، وليكن اعتناؤه بآخر الكلام أشدَّ لأنه موضع السؤال، وليتثبت في الجواب، واضحةً كانت المسألةُ أو مشكلةً، وحسن أن يشاور في الجواب من عنده، وهو يصلح لذلك، إلا أن يكون فيها ما لا يحسن إظهاره وله أن ينقط مواضع الإِشكال، وأن يصلح ما يرى فيه من خطأ ولحن فاحش، وإذا رأى في آخر بعض السطور بياضاً شغله بخط، بما قصد تغليطه كما يُقال: إنه كتب إلى القاضي أبي حامد، ما يقول فيمن مات وخلف بنتاً واحدةً؟ وجعلت هذه الكلمة في آخر سطر، وكُتِبَ في السطر الذي يليه، وابن عم، فأجاب؛ للبنت النصف، والباقي لابن العم، فألحق بموضع البياض، وأباً، وغلط في الجواب. وليبين المفتي بخطِّه، وليكن قلمه بين قلمين ولو كتب مع الجواب حجَّةً من آية وخبر فلا بأس. ولا يعتاد ذكر القياس وطرق الاجتهاد، ولكن لو تعلَّق الفتوى بقاضٍ، حسن أن يومئ إلى طريق الاجتهاد، وإذا رأى في الرقعة جواب من لا يستحق أن يفتي، لم يُفْتِ معه، قال الصيمَرِيُّ -رحمه الله-: وله أن يضرب عليه بإذن صاحب الرقعة ودون إذنه، ولا يحسبها إلا بإذنه، ولم يستحبُّوا أن يكون السؤال بخطِّ المفتي، ومهما تغيَّر اجتهاد المجتهد، دار المقلد معه، وعمل في المستقبل بقوله الثاني، ولا ينقض ما مضى، ولو نكح المجتهد امرأةً خالعها ثلاثاً؛ لأنه رأى الخُلعْ فسخًا، ثم تغير اجتهاده، قال صاحب الكتاب في "الأصول": يلزمه تسريحُها، وأبدى تردداً فيما إذا فعل المقلِّد مثل ذلك، ثم تغير اجتهاد مُقَلِّده قال: والصحيح أن الجواب كذلك، كما لو تغيَّر اجتهاد مقلده والمقلِّد في الصلاة، فإنه يتحوَّل. ولو قال مجتهدٌ للمقلِّد والصورةُ هذه أخطأ بك من قلِّدتَّه، فإن كان الذي قلده أعلم من الثاني أو استويا، فلا أثر لقوله، وإن كان الثاني أعلم، فالقياس أنَّا إن أوجبنا تقليد الأعلم، فهو كما لو تغيَّرَ اجتهاد مقلَّده، وإلا فلا أثر له (¬1). ¬
وإذا قلَّد الأعمى في القبلة، ويُحْرِم بالصلاة، فقال له من هو أعلم من مقلَّده: أخطأ بك، فالقياس، أن يخرج على هذا الخلاف، لكن أطلقوا الجواب أنه كتغير اجتهاد المجتهد، على ما مرَّ في باب الاستقبال. فَرْع: لا يجبُ أن يكون للمجتهد مذْهَبٌ مدوَّن؛ فإنَّ علماء الصحابة -رضي الله عنهم- لم يدونوا، وإنما كانوا يجتهدون في النوازل بحسب الحاجة، وإذا دونت المذاهب، فهل يجوز للمقلِّد أن ينتقل من مذهب إلى مذهب؟ إن قلنا: يلزمه الاجتهاد في طلب الأعلم وغلب على ظنه أن الثاني أعلم، وجب أن يجوز، بل يجب، وإن قلنا: يتخيَّر، فينبغي أن يجوز أيضاً، كما لو قَلَّدَ في القبلة هذا أياماَ، وهذا أياماً، ولو قَلَّدَ مجتهداً في مسائل وآخر من مسائل أخرى، واستوى المجتهدان عنده، أو قلنا: إنه يتخيَّر فالذي يقتضيه فعل الأولين الجواز؛ لأنهم كانوا يسألون تارَةً من هذا من غير نكير. وأيضاً، فإن الأعمى إذا قلْنا: إنه لا يجتهد في الثياب والأواني، يجوز له أن يقلِّد في الأواني المشتبهة بصيراً، وفي الثياب غَيْرَه، لكن الأصوليون منعوا منه للمصلحة، وحكى الحناطي وغيره عن أبي إسحاق، فيما إذا اختار من كل مذهب ما هو أهون عليه، أنَّه يفسق به، وعن ابن أبي هريرة أنه لا يفسق (¬1)، والله أعلم. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأما لفظ الكتاب فليعلم قوله "ذكَراً" بالحاء. وقوله: "مجتهداً" كذ لك. وقوله: "بصيراً" بالميم والواو. وقوله: "والجاهل والمقلِّد" لا ضرورة إلى الجمع بين اللفظين، فإنه لو اقتصر على المقلِّد لتناول العامِّيَّ الصَّرْف وغيره، بل أهل الأصول يجعلون المقلِّد، كيف كان، جاهلاً، ويخصون في اصطلاح الباب اسم العالم بالمجتهد، وإذا جمع بينهما، فكأنه أراد بالجاهل العامِّيَّ، الصرف وبالمقلِّد الذي حصل شيئاً من العلم، ولم يبلُغْ رتبة الاجتهاد. وقوله: "والذي يجتهدُ في مذهب أحد الأئمة، له الفتوى على وجه، ويكون مقلداً للإِمام الميت" قد عرفت أنه إذا كان المأخذ أن الميت، هل يُقَلِّد، فلا حاجة إلى كونه مجتهداً في المذهب، وليس قوله "إلا إخباراً عن مذهب الغير" وأمَّا قوله: "فلا ينتصب للقضاء فإنه يوافق ما سبق من اشتراط الاجتهاد؛ لأنه مقلد، وإن كان مجتهداً في مذهب ذلك الإِمام، قال في "الوسيط ": ويجب تقديمه للقضاء على مَنْ لم يبلغ رتبة الاجتهاد في المذهب. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّالِثَة: إِذَا نُهِيَ القَاضِي عَنْ الاسْتِخْلاَفِ لَمْ يَسْتَخْلِفْ، وَإِنْ أَطْلَقَ التَّوْلِيَةَ فَفِيهِ ثَلاَثةُ أَوْجُهٍ، وَفِي الثَّالِثِ يَسْتَخْلِفُ إِنِ اتَّسَعَتِ الخُطَّةُ وَإِلاَّ فَلاَ، وَيُشْتَرَطُ فِي الخَلِيفَةِ صِفَاتُ القُضَاةِ إِلاَّ إِذَا لَمْ يُفَوَّضْ إِلَيْهِ إِلاَّ سَمَاعُ شَهَادَةٍ وَنَقْلٍ فَلاَ يُشْتَرَطُ إِلاَّ عَلَى ذَلِكَ القَدْرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى النَّائِبِ الحُكْمِ بِخِلاَفِ اجْتِهَادِهِ أَوْ بِخِلاَفِ مُعْتَقَدِ صَاحِبِهِ إِذَا جَوَّزْنَا تَوْلِيَةَ المُقَلِّدِ عِنْدَ الضَّرُوةِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: المسْتَحَبُّ للإِمام إذا ولى رجلاً للقضاء، أن يأذن له في الاصتخلاف؛ ليكون أسهل عليه، وأقضى إلى فصل الخصومات، فإن لم يأذن، فأما أن يطلق التولية، أو ينْهَاه عن الاستخلاف. الحالة الأولى: إذا أطلق التولية، فيُنْظَر، إن كان ما فوَّضَه إليه مما يمكنه القيام به، كقضاء بلدة صغيرة فوجهان: أصحّهما: أنه ليس له الاستخلاف؛ لأن الإِمام لم يرض بنظر غيره. والثاني: وبه قال مالك -رحمه الله- فيما حكى الإِصطخري: أنه يجوز؛ لأنه ناظر في المصالح العامة، فَيُمكَنَّ من الاستخلاف، كالإِمام، وإن لم يمكنه القيام بما فوضه إليه؛ كقضاء بلدتين فصاعداً، أو قضاء البلدة الكبيرة فله أن يستخلف؛ لأن قرينة الحال مشعرة بالإِذن. وشبهوه بما إذا دفع متاعاً إلى إنسان ليبيعه، وهو ممَّن لا يعتاد الطواف بالأمتعة والنداء عليها، فإنه يكون إذناً في دفعه إلى من يقوم بذلك، ثم فيم يستخلف في القدر الزائد على ما يمكنه القيام أم في الكل فيه؟ وجهان: أصحّهما: الأول؛ لأن ذلك القدر هو المعلوم في القرينة، والقياس فيما إذا أذن له في الاستخلاف، أن يكون في القدر المستخْلَف فيه هذان الوجهان إلا أن يصرح بالإِذن في الكل، وقطع القاضي ابن كج بأنه عند الإِذن المطلق يستخلف في الكل. الثانية: إذا نهاه عن الاستخلاف، لم يجز له الاستخلاف، فإن كان ما فوَّضَه إليه أكثر مما يمكنه القيام به، ففي "الشامل": أن القاضي أبا الطَّيِّب جعل وجُود النَّهْي كعدمه، والأقرب أحد احتمالين، إما بطلان التولية، ويحكَى هذا عن ابن القَطَّان، أو اقتصاره على ما يقدر عليه، وترك الاستخلاف (¬1). وجميع ما ذكرنا في الاستخلاف العام، أما في الأمور الخاصَّة كتحليف وسماع بينة، فمنهم من جعله على الخلاف، وهو قضية إطلاق الأكثرين، وعن القَفَّال: القطع بجوازه؛ لأن القاضي لا يُسْتَغْنَى عنه، وهو جارٍ مجرى التوكيل. وقوله في الكتاب "وإن أطلق التولية ففيه ثلاثة أوجه وفي الثالث يستخلف، إن اتسعت الحطّة، وإلا فلا" فيه إثبات وجهين مطلقين: أحدهما: الجواز، إن اتسعت خطة الولاية، وتعذَّر القيام بما فُوِّض إليه، أو لم يتَّسِع. ¬
والثاني: المنع في الحالين والوجهان فيما إذا لم يتسع، ولم يتعذَّر مشهوران، فأما مع الاتساع والتعذر، قليلاً ما يُوجَد للأئمة -رحمهم الله- حكايةُ الخِلاَف فيه، وإنما الذي ذكروه جواز الاستخلاف، كما بيَّنَّا، لكنَّ إثبات الخلاف فيه يتأيد، بأن جواز التوكيل مع كثرة التصرفات وتعذر القيام بها يختلف فيه كما سبق في الوكالة (¬1)، فكذلك هاهنا، ثم يتعلق بالاستخلاف فُرُوعٌ: أحدها: يشترط في الخليفة ما يشترط في القاضي، قال الشيخ أبو محمد، وغيره؛ لو فوض إليه أمراً خاصّاً، كفاه من العلم ما يحتاج إليه في ذلك الباب، حتى أن نائب القاضي في القرى إذا كان المفوَّض إليه سَمَاعَ البينة ونقلها دون الحكم، كفاه العلم بشرائط البينة، فلا يشترط فيه رتبة الاجتهاد. الثاني: قال القاضي الرُّويانيُّ في "التجربة": نَصُّ الشافعيِّ -رضي الله عنه- في "المبسوط" يدل على أن الحاكِمَ الشافعيِّ لا يجوز أن يستخلف من يخالفه، والمذهب المشهور خلافه؛ لأن الحاكم يعمل بما يؤديه إليه اجتهاده، بل لو شرط على النائب أن يخالف اجتهاده ويحكم باجتهاد المنيب، لم يجز، وكذا إذا جاز تولية المقلِّد للضرورة فاعتقاد مقلده في حقه كاجتهاد المجتهد، فلا يجوز أن يشترط عليه الحكم بخلاف اعتقاد مقلّده. ولو خالف، وشرط الحنفي على النائب الشافعيِّ الحُكْمَ بمذهب أبي حنيفة، قال في "الوسيط": له الحكم في المسائل المتفقة بين الإِمامَيْن، وفي المختلف فيها لا يحكم، أما بمذهب أبي حنيفة، فلأنه يخالف معتقده، وأما بمذهب الشافعيِّ -رضي الله عنه- فلأنه غير مأذون فيه، وهذا حكم بصحة الاستخلاف، ورعاية للشرط، ولكن أقْضَى القُضَاة الماوَرْدِيَّ، وصاحِبَي "المهذَّب" و"التهذيب"، وغيرهم قالوا: لو قلَّد الإِمام رجلاً القضاءَ على أن يقضي بمذهب عَيَّنَه، بطل الشَّرْط والتقليد جميعاً، فقضية هذا: بطلان الاستخلاف هناك. وفي فتاوى القاضي الحسين: أن الإِمام الحنفيَّ، إذا ولى شافعياً بشرط أَلاَّ يقضي بشاهد ويمين، ولا على غائب تصح التولية، ويلغو الشرط، حتى يقضي بما يؤدي إليه اجتهاده، فقضية هذا: ألا يراعى الشرط هناك، قال الماوَرْدِيُّ: ولو لم تجز صيغة الشرط، ولكن قال الإِمام: قلدتك القضاء، فاحْكُم بمذهب فلان، ولا تحكم بمذهب فلان، صح التقليد، ويلغو الأمر والنهي، وكان يجوز أن يجعل هذا الأَمْر شرطاً وتقييداً، كما لو قال: قلَّدتُّك القضاء، فاقْضِ في موضع كذا، وفي يوم كذا. ولو قال: لا تحكم في قتل المسلم بالكافر، والحرِّ بالعبد، جَازَ، وكان قَصْراً ¬
لعمله على بقية الحوادث، وحكى وجهين فيما لو قال: لا تقضِ فيهما بالقصاص: أنه يلغو، أو يكون منعاً له من الحكم بالقصاص نفياً وإثباتاً. الثالث: حيث لا يجوز الاستخلاف، فلو استخلف، فحكم الخليفة باطل، نعم، لو ترافع إليه الخصمان ورضيا بحكمه، فيكون كالحكم، وليس للقاضي إنفاذ حكمه، بل يستأنف الحكم بين الخصمين، وعن أبي حنيفة فيما حكاه صاحب "التلخيص": إذا أنفذ القاضي حكمه، نفذ وإذا جاز الاستخلاف، فلو استخلف من لا يصلح للقضاء، فحكمه باطل أيضاً، ولا يجوز إنفاذه. قَالَ الغَزَالِيُّ: الرَّابِعَةُ: لَوْ نُصَّبَ فِي البَلَدِ قَاضيَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ يَخْتَصُّ بِطَرَفٍ جَازَ، وَإِنْ شَرَطَ اتَّفَاقَهُمَا فِي كُلِّ حُكْمٍ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ أَثْبَتَ الاسْتِقْلاَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ فَوَجْهَانِ، ثُمَّ إِذَا تَنَازَعَ الخَصْمَانِ فِي الاخْتِيَارِ أَوْ ازْدَحَمَ مُتَدَاعِيَانِ فَالْقُرْعَةُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا نصب الإِمام قاضيين في بلد واحد، نُظِرَ؛ إن خصص كل واحد منهما بطرف من البلد، أو عين لكل واحد منهما زماناً، أو جعل أحدهما قاضياً في الأموال والآخر في الدماء والفروج، جاز قال القاضي ابن كج: وكذا لو ولاَّهما على أن يَحْكُم كلُّ واحدٍ منهما في الواقعة التي يرفعها إليه المتخاصمان، وإن عمم ولايتهما مكاناً وزماناً وحادثة، فإن شرط عليهما الاجتماع في الحكم، لم يجز؛ لأن الخلاف في مواقع الاجتهاد مما يكثر، فتنفى الخصومات عن مقصوده. وإن أثبت لكل واحد منهما الاستقلال، فوجهان: أحدهما: لا يجوز، كما في الولاية العظْمَى ولأن الخصمين يتنازعان في اختيارهما، وفي إجابة داعيهما. وليس أحدهما بأولَى من الآخر بخلاف الإِمام مع القاضي، والقاضي مع الغائب، فعلى هذا إن ولاهما معاً، بطلت توليتهما. وإن ولى على التعاقب، صحَّت تولية الأول، وأصحُّهما الجواز، كنصب الوكيلين والوصيين، فعلى هذا يُجابُ من سبق داعيه، فإن جاءا معاً، حكمت القرعة، وإذا تنازعا في اختيار القاضيين، أطلق في الكتاب أنه يحكم بالقرعة. وقال القاضي الماوَرْدِيُّ: القول قول الطالب دون المطلوب، فإن تساويا، حَضَرَا عنْد أقرب القاضيين إليهما، فإن استويا في القرب، ففي أحد الوجهين يقرع، وهو الأظهر، وفي الآخر، يُمنعَان من التخاصم، حتى يتفقا على أحدهما، وإن أطلق، نصب اثنين، ولم يشترط عليهما الاجْتِمَاعَ، ولا صرح بالاستقلال، فعن صاحب "التقريب" يحمل على إثبات الاستقلال (¬1)، تنزيلاً للمُطْلَق على ما يجوز، وعن غيره: أنَّ التولية ¬
فاسدةٌ، ما لم يصرح بإثبات الاستقلال والله أعْلَمُ (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: الخَامِسَةُ التَّحْكِيِمُ جَائِزٌ عَلَى أَضْعَفِ القَوْلَيْنِ فِي الأَمْوَالِ، وَفِي النِّكَاحِ خِلاَف مُرَتَّبٌ وَأَوْلَى بِالمَنْعِ، وَفِي العُقُوَياتِ أَوْلَى بِالمَنْعِ مِنَ النِّكَاحِ، فَإِنْ كَانَ فِي البَلَدِ قَاضٍ فَهُوَ أَبْعَدَهُ، ثُمَّ إِنْ جَوَّزْنَا فَلَيْسَ لَهُ الحَبْسُ وَاسْتِيفَاءُ العُقُوَبةِ، وَلاَ يَنْفُذْ حُكْمُهُ عَلَى غَيْرِ المُتَراضِيَيْنِ حَتَّى لاَ يَضْرِبَ دِيَةَ الخَطَأَ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّاضِي بِحُكْمِهِ، وَهَلْ يَجِبُ اسْتِئْنَافُ الرِّضَا بعَدْ الحُكْمِ لِنُفُوذِهِ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هل يجوز أَن يُحَكِّم الخصمان واحداً من الناس ليحكم بينهما: وهل لحكمه اعتبار؟ فيه قولان: أحدهما: لا؛ لأن تقليد القضاء من مناصب الإِمام، فلا يثبت للآحاد، ولأن فيه تفويت الحكومات على القاضي، وتفويت رأيه ونظره فيها. والثاني: نعم؛ لما رُوِيَ أن عُمَرو أبَيِّ بْنَ كعْبٍ -رضي الله عنهما- تحاكما إلى زيْدِ بْن ثابتٍ (¬2)، وأن عثمان وطلحة تحاكَمَا إلى جُبَيرْ بن مُطْعم -رضي الله عنه (¬3) - ورُوِيَ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ حَكَمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ تَرَاضياً بِهِ، فَلَمْ يَعْدِلْ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ" (¬4) ولو لم يكن لحكمه اعتبار ولزوم، لَمَا كان لَهذَا التهْديد معنى، وهذا أضعف القولين عند الإِمام وصاحب الكتاب -رحمهما الله- وأقواهما عند المُعْظَم، منْهم الشيخ ¬
أبو حامد وأتباعه والقاضي الرُّويانيُّ -رحمهم الله- ثم اختلفوا في محلِّ القولين من وجهين: أحدهما: هل يجري القولان في جميع ما يقع فيه التداعي؟ فيه طريقان: أحدهما: وهو اختيار القاضي ابن كج -لا، بل يختص بالأموال، فأما النكاح واللعان والقصاص وحد القذف، فلا يجوز التحكيم فيها؛ لأنها أمور خطيرة، فَتُنَاطُ بنَظَر القاضي ومنْصِبِه. والثاني: وبه قال الأكثرون أن الخلاف جارٍ في جميع ما يقع فيه التَّداعِي؛ لإِطلاق الخبر السابق، وحدودُ اللهِ تعالَى لا يُحْكَم فيها، إذْ لَيْسَ لها طالبٌ معيَّن، وفي "التهذيب" وغيره ما يقتضي ذهاب بعضهم إلى إجراء الخلاف فيها. والثاني: هل من فرق بين أن يكون في البلد قاضٍ أو لا يكون؟ فيه طرق: أظهرهما: أنه لا فرق، وقال قائلون: القولان فيما إذا كان هناك قاضٍ، أما إذا لم يَكُنْ، فيجوز للضرورة، وعكس عاكسون، فقالوا: القولان فيما إذا لم يكن قاض، فإن كان، لم يَجُزْ بلا خلاف محافظةً على منصب القاضي. التفريع: إذا جوزنا التحكيم، فيشترط في المُحَكَّم صفاتُ القاضي ولا ينفذ حكمه إلا على مَنْ رضي بحُكْمه، حتى لا يضرب دية القتل الخطأ على العاقلة، إذا لم يرضوا بحكمه، ولا يكفي رضى القاتل، وفيه وجه آخر: أنه يكفي، والعاقلة تبع له. قال الشيخ أبو الفَرَجِ السَّرْخَسِيُّ: هذان الوجهان مخصوصان بقولنا: إن الدية تجب على الجاني، ثم على العاقلة يتحمَّلُون عنه. فأما إن قلْنا: إنها تجب على العاقلة ابتداءً، فلا خلاف في أنه لا تُضْرَب عليهم عنْد عَدَم الرِّضى وهذا حسن. وذَكَرَ في الفَصْل شيئين آخرين: أحدهما: أن رضا المتحاكمين إنَّما يُشْتَرَطُ، إذا لم يكن أحد المتحاكِمَيْنِ القاضِي نَفْسَه، فإن كان فهل يُشترَط رضا الآخر؟ حكى فيه اختلاف نص، وأن الظاهر أنه لا يُشْتَرط، وليكن هذا مَبْنِيّاً على جواز الاستخلاف، إن جاز، فالمرجوع إليه نائب القاضي. والثاني: أنه يُشْتَرَطُ على أحد الوجهين أَنْ يكُونَ المتحاكِمَان، بحيث يجوز للمحكَّم أن يحكم لكل واحد منهما، حتى إذا كان أحدهما ابنه أو أباه، لم يجز التحكيم وليس للمحكَّم الحبس، بل عليه الإثبات والحكم، وفيه وجه بعيدٌ: أنه يحبس كالقاضي، وبم يلزم حكمه؟ فيه قولان، ويُقَالُ وجهان: أحدهما: بتراضيهما بعد الحكم، وبه قال المزنيُّ؛ لأن رضاهما مُعْتَبَرٌ في
الحكم، فكذلك في لزومه، وهذا أشبه بما قيل في قسمة من تراضي الشريكان بقسمته على ما سيأْتي. وأصحُّهما: على ما ذكر القاضي الرويانيُّ، ويُحكَى عن أبي حنيفة ومالك وأحمد -رحمهما الله- أنه يلزم بنفسه كحكم الحاكم، ويدل عليه الخبر الذي سبق. ومهما رَجَعَ أحد الخصمين قبل أن يحكم، امتنع عليها الحكم حتى لو أقام المُدعي شاهدين، فقال المدَّعَى عليه: عَزَلْتُكَ، لم يكن له أن يحكم، وعن الإصطخري -رحمه الله- فيما إذا أحسَّ المدَّعَى عليه بالحكم تخريج وجهين؛ في أَنَّه هلَ يُمَكَّن من الرجوع والظاهر الأول، وإذا جوَّزْنا التحكيم في غير الأموال، فإذا خطب رجلٌ امرأةً وحكما رجلاً في التزويج، كان له أن يزوج، قال الرويانيُّ: وهذا هو الأصح، واختيار الأستاذ أبي إسحاق وأبي طاهر الزيادي، وغيرهما من المشايخ، وإنَّمَا يجوز فيه التحْكِيم، إذا لم يكن لها ولِيٌّ خاصٌّ من نسيب أو مُعْتَق، وشرط في بعض الشروح أَلاَّ يكون هناك حاكم. وحكى صاحب "العدة". القاضي أبو المكارم الطبريُّ ابن أخت الروياني وجهين في اشتراطه، وليكن هذا مبنياً على الطريقة الفارقة بين أن يكون في البلد حاكمٌ أو لا يكون، وإذا رُفِعَ حُكْمُ المحكِّم إلى القاضي، لم ينقضه إلا بما ينقض قضاء غيره، وقال أبو حنيفة: له نقضه إذا لم يوافق رأيه، بخلاف قضاء القاضي وقوله في الكتاب "وفي النكاح خلاف مرتب" إلى آخره، يشير إلى الطريقتين المذكورتين في أن الخلاف، هل يجري في غير الأموال؟ ووجه ترتيب النكاح على الأموال أنه أتم خَطَراً، وأجدر بالاحتياط، ووجه ترتيب العقوبات على النكاح؛ أنه يسعى في دفعها, ولا يُوَسّع بابها. وقوله: "فَلَيْسَ له الحبس" معلم بالواو. وقوله "واستيفاء العقوبة"، أراد به أنه وإن حكم بشيء من العقوبات كالقصاص وحد القذف، فإنَّه لا يستوفيه، قال في "الوسيط": لأن ذلك يخرم أبَّهة الولاة. هذا شرحُ الفَصْلِ الأولِ المعقودِ في التولية ونختمه بمسائل أُخر تتعلق بالتولية. يجب على الإِمام نصب القاضي في كل بلدة وناحية عَرَفَ أنها خاليةٌ عن القاضي؛ إما بأن يبعث إليهم قاضياً من عنده، أو بأن يختار منهم من يصلح لذلك، ثم إن عرف من حال من يوليه عِلْماً وعدالةً، فذاك، وإلا أحضره وجمع بينه وبين أهل العلم؛ لِيَقِفَ عَلَى قَدْر علمه، ويسأل عن سيرته جيرانَه وخلطاءه، وإذا وَلَّى من لا يعرف حاله، لم تنعقد التوليةُ، وإن عرف من بعد أَنَّه بصفات القضاة.
ويجوز أن يجعل الإِمام نصب القاضي إلى والي الإِقليم، وأمين البلدة، وإن لم يكن المجعول إليه صالحاً للقضاء؛ لأنه سفير محقق، وكذا لو فرض إلى رجل من عُرْض الناس اختيار قاض، وليس له أن يختار والدَهُ ووَلَدَهُ، كما لا يختار نفسه، ولو قال لأهل بَلْدَةٍ: اختاروا رجلاً منكم، وقلَّدوه القضاء؟ حكى القاضي ابن كج فيه وجهين. أشبههما: الجواز، ولا بدّ في التولية من تعيين محِّل ولايته من بلدةٍ أو قريةٍ أو ناحيةٍ؛ ولا بدّ من تعيين المُوَلَّى، فلو قال وَلَّيْتُ أحد هذين، أو من رغب في القضاء ببلدة كذا من علمائها, لم يجز، ولو قال: فوضت إلى فلان وفلان، فهذا نصب قاضيين. وفي كتاب "الأحكام السلطانية" للقاضي الماوَرْدِيِّ -رحمه الله- أن تولية القضاء تنعقد بما ينعقد به الوكالة، وهو المشافهة باللفظ، والمراسلة، والمكاتبة عند الغيبة، ويجيء في المراسلة والمكاتبة خلاف كما مرَّ في الوكالة، وإن كان الظاهر ما ذكره، وفيه أن صريح اللفظ قوله: وليتك، واستخلفتك، واسْتَنَبْتُكَ، ولم يذكر التفويض بصيغة الأمر، بأن يقول: اقضِ بين الناس، أو احكم ببلدة كذا. وهو ملحق بالصريح كما في الوكالة، وفيه أن الكنايات اعتمدت عليك في القضاء، أو عولت عليك أو رَدَدتُّه إليك, أو فُوَّضْتُ، أو وكَّلت، أو أسنِدت، فينبغي أن يقترن بها ما يلحقها بالصريح، ولا يكاد يتضح فرق بين أن يقول: وليتك القضاء، وبين أن يقول: فوضته إليك (¬1) وفيه أن عند المشافهة يُعْتَبَرُ القَبُول على الفور، وفي المراسلة والمكاتبة: لا يُعْتَبَرُ الفَوْر، كما سبق في الوكالة، خلاف في أنه هل يُشتَرط القبول؟ وذكرنا أنه إن كان شرطاً، فالأظهر أنه لا يُعتبَر فيه الفور، فليكن كذلك هاهنا. ويجوز تعميم التولية وتخصيصها، إما في الأشخاص، بأن يوليه القضاء بين سُكَّان محله أو قبيلةٍ أو في خصومات شخصين معينين، وكذا لو ولاَّه القضاء بين من يرده في داره، أو مسجده من الخصوم، وإما في الحوادث، بأن يوليه في الأنكحة دون الأموال، أو في قدر معيَّن من المال، وإمَّا في طرف الحكم؛ بأن يوليه القضاء بالإقرار دون البينة، وإما في الأمكنة، وهو ظاهر، وإما في الأزمان؛ بأن يوليه سنةً أو يوماً معيناً أو يوماً سماه من كل أسبوع، وذكر القاضي ابن كج وجهاً: أنه إذا قال: قَلَّدتُّك سنةً، بطَلَتِ التَّوْلِيَّةُ، كما في الإِمامة، والظاهر الأول تشبيهاً بالوكالة، ولو كان كالإِمامة، لما جاز سائر التخصيصات. ومن ولى القضاء مطلقاً، استفاد بالتولية المطْلَقَةِ سَمَاعَ البَيِّنَة والتحليف، وفصل ¬
الخصومات بحكم باتٍ أو يصلح عن تراضٍ، واستيفاء الحقوق، والحبس عند الحاجة، والتعزير وإقامة الحدود، وتزويج اللواتي ليس لهن وليٌّ خاصٌّ، والولاية في مال الصغار والمجانين والسفهاء، والنظر في الضَّوال، وفي الوقوف حفظاً للأصول، وأيضاً إيصالاً للغلات إلى مصارفها بالفحص عن حال المتولِّي، إذا كان لها متولَّى، وبالقيام به، إذا لم يمكن، قال القاضي الماوَرْدِيُّ: ويعمم في الوقوف العامة والخاصة؛ لأن الخاصة ستنتهي إلى العموم أيضاً، والنظر في الوصايا، وتعيين المصروف إليه، إذا كانت الوصية لجهة عامة، بالقيام بها، إن لم يكن وصيٌّ، وبالفحص عن حاله، إن كان، والنظر في الطرق، والتعدي فيها بالأبنية، وإشراع ما لا يجوز إشراعه من الأجنحة، قال القاضي أبو سعد الهرويُّ: ونصب المفتيين المُحتسبين وأخذ الزكوات. وفصل الماوَرْدِيُّ أمر الزكوات؛ فقال: إن أقام الإِمام لها ناظراً، أخرجت من عموم ولاية القاضي، وإلا، فوجهان، ويشبه أن يطرد هذا التفصيل في المحتسبين، وكذلك القول في إمامة صلاة الجمعة والعيدين، ويقرب من هذه الأمور نصب الأئمة في المساجد، وليس للقاضي جباية الخراج والجزية بالتولية المطلقة في أظهر الوجهين. قَالَ الغَزَالِيُّ: الفَصْلُ الثَّانِي فِي العَزْلِ: وَفِيهِ مَسَائِلُ: الأُولَى: أَنَّ طَرِيَانَ الجُنُونِ وَالعَمَى وَالنِّسْيانِ يُوجِبُ الانْعِزَالَ، وَكَذَا طَرَيَانُ الفِسْقِ علَى الأَظْهَرِ، وَلَوْ جُنَّ ثُمَّ أَفَاقَ عَادَتْ وِلايَتُهُ عَلَى أَضْعَفِ الوَجْهَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في عزل القاضي وانعزاله مسائل: إحداها: إذ جُنَّ أو أُغْمِيَ عليه أو عمي أو خرس أو خرج عن أهلية الضبط والاجتهاد بغفلة أو نسيان لم ينفذ حكمه في هذه الأحوال (¬1)، وكذا لو فسق في أصح الوجهين، بخلاف الإِمام الأعظم إذا فسق، لما في إبطال ولايته من اضطراب الأمور وحدوث الفتن. وإذا طرأت هذه الأحوال وزالت، ففي عود ولاية القاضي وجهان، قد ذكرناهما في باب الوصاية. ¬
وأصحهما: أنها لا تعود إلا بتولية مستأنفة، وبالثاني أجاب صاحب "التلخيص" تخريجاً من قول الشافعيِّ -رضي الله عنه- في أهل البَغْي؛ لأنهم لا يقاتَلُون حتى يناظَرُوا ويُسْأَلُوا ماذا يَنْقِمُون؟ فقد يَسْأَلُون عزل عامل يذكرون جَوْرَة، فلو كان العامل ينعزل بالجور، لقال: يَدَعُون انعزاله بالجَوْر، ولم يقل يَسْأَلون عزله، إلا أنه لم يطرد جوابه في صورة الردة، وسلم أنه إذا تاب بعد الردة، احتاج إلى عقد جديد. قال الشيخ أبو زيد: والقياس: التسوية، وفي "أمالي أبي الفرج السرخسي": القطع بأنه إذا زال الإِغماء، عادت الولاية، بخلاف الجنون، ولو أخبر الإِمام بموت القاضي أو فسقه، فولى قاضياً، ثم بان خلافه، لم يقدح ذلك في تولية الثاني. وقوله في الكتاب "يوجب الانعزال" أراد بالانعزال بطلان الحكمِ والنظرِ في الحال، لا البطلان الكلِّي؛ إذ لو أراد البطلان الكُلِّي، لم يحسن ذكر الوجهين بَعْد ذلك في عود الولاية. ومسألة عود الولاية بعد الإِفاقة من الجنون، قد ذكرناها مرة في باب الوصاية، وكذا مسألة طريان الفسق، إلا أَنه لم يذكر الخلاف هناك، واقتصر على الجواب الأصح، ولفظ الانعزال في ذلك الباب أيضاً محمول على ما ذكرناه، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ العَزْلُ عِنْدَ ظُهُورِ خَلَلٍ، وَيَجُوزُ بِمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ غيْرِ خَلَلٍ، وَبِمِثْلِهِ وَمَنْ دُونَهُ لاَ يَجُوزُ إلاَّ لِمَصْلَحَةٍ لَكِنْ إِنْ فَعَلَ نَفَدَ لِلمَصْلَحَةِ وَطَاعَةِ السُّلْطَانِ، وَهَلْ يَقِفُ الانْعِزَالُ عَلَى بُلُوغِ الخَبَرِ؟ قِيلَ: هُوَ كَالوَكيلِ، وَقِيلَ: يُقْطَعُ بَأَنَّهُ لاَ يَنْعَزِلُ للِضَّرَرِ، وَلَوْ قَالَ: إِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي فَأَنْتَ مَعْزُولٌ انْعَزَلَ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَنْعَزِلُ قَبْلَ القِرَاءَةِ، وَيَنْعَزِلُ بِانْعِزَالِهِ كُلُّ مَأْذُونٍ فِي شُغُلٍ مُعَيَّنٍ، وَفِي نَائِبِهِ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ خِلاَفٌ، وَالقْضَاةُ لاَ يَنْعَزِلُونَ بِمَوْتِ الإِمَامِ وَانْعِزَالَهِ للِضَّرَرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصود المسألة بيان أمور: أحدها: أن العزل متى يجوز؟ فإن ظهر من القاضي خَلَل، فللإمام عزله، قال في "الوسيط": ويكفي فيه غلبة الظن، وإن لم يظهر خلل، فإن لم يكن ثَمَّ مَنْ يصلح للقضاء، فلا يجوز عزله، ولو عزله، لم ينعزل، وإن كان هناك صالح آخر، فإن كان أفضل، جاز عزله به، وانعزل المفضول، وإن كان مثله، أو دونه، قال الإِمام: يُنْظَرُ؛ إن كان في العزل به مصلحةٌ من تسكين فتنة ونحوه، فللإِمام أن يعزله به، وإن لم يكن فيه مصلحة لم يجز عزله به، ولو فعله، هل ينفذ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا, لأنه لا خلل في الأول ولا مصلحة في عزله.
وأشبههما: نعم، للمصلحة وطاعة السلطان، وهذا هو المذكور في الكتاب واختيار الإِمام. ومهما كان العزل في محل النظر، واحتمل أن يكون فيه مصلحة، فلا اعتراض فيه على الإِمام، ويُحكم بنفوذه، وفي بعض الشروح: ذكر وجهين في أن تولية قاض بعد قاض، هل يكون عزلاً للأول؟ وليكونا مبنيين على أنَّه، هل يجوز أن يكون في بلد قاضيان؟ وللقاضي أن يعزل نفسه كالوكيل، وفي الإقناع للماوَرْدِيِّ: أنه إذا عزل نفسه، لم يُعْزَلْ إلا بعلْمِ مَنْ قَلَّده. والثاني: هل ينعزل القاضي قبل أن يبلغه خبر العزل؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه على قولين، كالوكيل، وبهذا قال صاحب "التلخيص" والقاضي ابن كج. وأصحُّهما: وبه قال أبو زيد: القطع بأنه لا ينعزل؛ لِعِظَمِ الضرر في ردِّ أقضيته (¬1) بعد العزل، وقبل بلوغ الخبر، ثم الخلاف فيما إذا عزله لفظاً أو كتب إليه: أني عزلتك، أو أنت معزولٌ، فأما إذا كتب إليه: إذا أتاك كتابي هذا، فأنت معزول، فلا ينعزل قبل أن يأتيه الكتاب بحال، وإن كتب: إذا قرأْتَ كتابي، فأنت معزول، فلا ينعزل قبل القراءة. ثم إذا قرأ بنفسه، فذاك، وإن قُرِئَ عليه، فوجهان: أحدهما: لا ينعزل كصورة اللفظ. وأصحُّهما: الانعزال، وهو المذكور في الكتاب (¬2)؛ لأن غرض الإِمام إعلامه ¬
صورة الحال لا قِرَاءَتُهُ بنفسه، ففي مثله في الطلاق، الأظهر ألاَّ يقع الطلاق؛ لأن الطلاق قد يعلق على قرائتها خاصةً فيتبع اللفظ، ولو كان أميّاً؛ تفريعاً على جوازه، فقُرِئَ عليه، فالحكْمُ بالانعزال أولَى، والظاهر في مثله من مسألة الطلاق الوقوعُ. والثالث: فيمن ينعزل بموت القاضي وانعزاله وينعزل به كلُّ مأذون له في شغل معين؛ كبيع على ميت أو غائب، وسماع شهادة في حادثة معينة، وأما من استخلفه في القضاء، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: ينعزل كالوكيل بموت الموكِّل، وهذا ما أورده القاضي الرُّويانيُّ. والثاني: المنع رعايةً لمصلحة النَّاس. وأظهرها: أنه ينعزل، إن لم يكن القاضي مأذوناً في الاستخلاف لأن الاستخلاف في هذه الحالة، إنما يجوز لحاجته إلى من يعاونه في العمل، فإذا زالت ولايته بَطَلَت المعاونة، وإن كان مَأْذوناً في الاستخلاف، فَيُنْظَرُ؛ إن قال: استخلف عني، فاستخلف عنه، لم ينعزل خليفته؛ لأنه مأذون من جهة الإِمام، وكان الأول سفيراً في التولية، وإن قال: استخلف عن نفسك، أو أطلق، فينعزل؛ لظهور غرض المعاونة وبطلان المعاونة ببطلان ولايته. ولو نصَّب الإِمام بنفسه نائباً عنه، فقد ذكر الشيخ أبو الفرج السرخسيُّ: أنه لا ينعزل بموت القاضي وانعزاله؛ لأنه مأذون من جهة الإِمام، ويجوز أن يُقَالَ: إذا كان الإِذن مقيَّداً بالنيابة، ولم يبق الأصل، لا يبقى النائب، ويتخرج على هذا الخلاف والتفصيل؛ أن القاضي هل له أن يعزل الخليفة. القوَّام على الأيتام والأوقاف جعلهم صاحب الكتاب في "الوسيط" في معنى الخلفاء، والمشهورُ أنَّهُمْ لا ينعزلون بمَوْتِ القاضي وانعزاله من غير خلاف. كَيْلاَ تختلَّ أبواب المصالح، وصار سبيلهم سبيلَ المُتَوَلِّين المنصوبين من قبل الواقفين (¬1). ¬
والقضاةُ والولاةُ لا ينعزلون بموت الإِمام الأعظم وانعزاله، لشدة الضرر؛ في تعطيل الحوادث إلى أن يُنَصَّبَ إمامٌ، وتُنَصَّب قضاة والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّالثَةُ: لَوْ قَالَ بَعْدَ العَزْلِ: قَضَيْتُ بَكَذَا لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ إلاَّ بحُجَّةٍ، وَلَوْ شَهِدَ مَعَ عَدْل أَنَّ هَذَا قَضَى بِهِ قَاضٍ وَلَمْ يَذْكُرْ نَفْسَهُ فَوَجْهَانِ، وَقَبْلَ العَزْلِ يُقْبَل قَوْلَهُ بِغْيِر حُجَّةٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ. إذا قال القاضي بعد العزل: كنْتُ حكَمْتُ لفلان بكذا، لم يُقْبَلْ؛ لأنه لا يملك الحكمَ حينئذٍ، فلا يقبل إقراره به، وإنما يثبت حكمه بالبينة (¬1)، فإن شهد مع آخر على أنه حكم به، ففي قبول شهادته وجهان: أحدهما: وبه قال الإِصطخري: أنها تُقْبَلُ؛ لأنه لا يُجْرِي بشهادَتِهِ نفعاً إلى نفْسِه، ولا يدفع ضرراً. والثاني: لا يُقْبَل؛ لأنه يشهد على فعل نفسه (¬2) وهذا أصح باتفاق الأصحاب. كما إذا شهدت المرضعة على فعْلِ نَفْسِها؛ فقالت: أرضعتها، ففي قبول شهادتها وجهان مذكوران في "الرِّضَاع" واختلفوا في الراجح منهما؛ فمن رجح الوجه الذاهب إلى عَدَمِ القبول هناك؛ استوى البابان عنده، ومَنْ رجَّح القبول؛ فرق بأنَّ فعْلَ الحاكم مقصود، وفعل المرضعة لا اعتبار به، وإنما المعتبر وصول اللبن إلى الجوف، وبأن شهادته على حكمه يتضمن تزكية نفسه؛ لأن الحاكم لا بدَّ وأن يكون عَدْلاً، والمرضعة بخلافه، وإن قلْنا: بالأصح، فلو شهد المعزُولُ مع غيره أن حاكماً جائز الحكم حَكَم بكذا, ولم يضف إلى نفسه فوجهان: ¬
أقربهما: القبول، كما لو شَهِدَتِ المرْضِعَةُ عَلَى رضاعٍ محرم، ولم تذكر فِعْلَهَا. ووجْهُ المَنْع: أنه قد يريد نَفْسَه، فلا بدّ من البيان؛ ليزول الالتباس، والوجهان يَتَفَرَّعان على أنَّه إذا قامت البَيِّنَة على حكومةِ حاكمٍ من الحكَّام، يُقْبَلُ ولا حاجة إلى التعيين، وهو المشهور، وأشار بعضهم إلى وجه آخر، فَعَلَى ذلك الوجْهِ لا تُقْبَلُ شهادة واحد منْهُمَا، ثم يجوز أن يُقَالَ الوجهان فيما إذا لم يَعْلَمِ القاضِي أنه يشْهَد على نفسه، أما إذا علمه، فلا فرق بين المطْلَق والمضاف. ويجوز أن يعكس، ويقال: الوجهان فيما إذا علم أنه يشهد على حكم نفسه، أما إذا لم يعلم، فيُقْبَلُ لا محالة؛ لجواز أنه يريد حكم غيره، وعلى هذا الاحتمال، فلو شهد المعزول على أن حاكماً حكم به، وشهد الذي معه أن المعزول قد حكم به، وجب أن نقبل؛ لأنا لا نعتني على هذا التقدير إلا بأن نصحح الصيغة (¬1)، ولا يشهد على فعل نفسه، ولو أن المعزول شهد على أنه ملك فلان، أو على أن فلاناً أقر في مجلس حكمي بكذا، قُبِلَتْ شهادته؛ أنه لم يشهد على حكمه. وقول القاضي في غير مَحَلِّ ولايته: حكمتُ لفلانٍ، بكذا، كقول المعزول، وأما قبل العزل؛ فإذا قال: حكَمْتُ بكذا؛ يُقْبَل، لقدرته على الإِنشاء في الحال، حتى لو قال على سبيل الحكم: نِسَاءُ هذه القَرْية طوالقُ من أزواجهن، يُقْبَل ولا حاجة إلى حجة (¬2) ¬
ويجوز أن يُعْلَمَ قوله في الكتاب "لم يُقْبَلُ قولُهُ إلا بحُجَّةٍ" بالألف: لأن عند أحْمَدَ؛ يُقْبَلُ قوله بعد العزل، كما قُبِلَ العَزْلُ، وأن يُعْلَمَ قولهَ "وقَبْلَ العزل يُقْبَلُ قوله بغَيْر حُجَّةٍ" بالميم؛ لأن عن مالك أنه لا يُقْبَلُ إلا بحجةً. فَرْعَان: ذكرهما أبو سعد الهرَوِيُّ في "شرح أدب القضاء" للشيخ أبي عاصم العَبَّادِيِّ. احدهما: قال القاضي بعد العزل: المال الذي في يد هذا الأمين دفعته إليه لزيد أيامَ قَضَائِي، وقال الأمين: إنه لِعَمْروٍ، وما قبضته، منك، فالقول قول الأمين، وإن سلم القبض منه، فالقول قول القاضي. الثاني: يجوز أن يكون الشاهدان على حكم القاضي هما اللَّذَان شهدا عند القاضي، فَرَتَّبَ، الحكْمَ عَلَى شهادتهما؛ لأنهما الآن يشهدان على فعل القاضي، وحكي أن الأستاذ أبا طَاهِرٍ قال: على هَذَا تَفقَّهْت، وأدركت القضاة والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: لَوِ ادَّعَّى عَلَى مَعْزُولٍ رَشْوَةً أَحْضَرَهُ القَاضِي وَفَصَلَ الخُصُومَة، وَكَذَا إِنْ قَالَ: أَخَذَ المَالَ مَنِّي بِشَهادَةِ عَبْدَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُ الأَخْذَ فَفِي سَمَاعِ الدَّعْوَى وَجْهَانِ إِذْ فِي وُجُوبِ الغُرْمِ عَلَى القَاضِي خِلاَفٌ إِذَا لَمْ يَأْخُذْ، وَلَوْ نَائِبُ المَعْزُولِ: أَخَذْتُ هَذَا المَالَ أُجْرَةَ عَمَلِي لَمْ يُقْبَلْ وَإِنْ صَدَّقَهُ المَعْزُولُ إلاَّ بِحُجَّةِ، وَهَلْ يَكْفِيهِ يَمِينُهُ فِي مِقْدَارِ أُجْرَةِ المِثْلِ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ليس على القاضي تتبع أحكامِ مَنْ قبله من القضاة، اكتفاءً بأن الظاهر منها السداد؛ لعلمهم وعدالتهم، وفي جواز تتبعها وجهان مذكوران في "المُهَذَّب" اختيار الشيخ أبي حامد، منها -الجواز؛ احتياطاً، وإذا جاءه متظلِّم من القاضي المعزول، وطلب منه إحضاره، لم يتسارع إلى إجابته، فإنه قد يقصد ابتذاله، بل يسأله عما يريد فيه فإن ذكر أنه يدعي عليه عيناً وديناً على معاملة، أو إتلافاً، أو غصباً، أحضره، وفَصَل الخصومة بينهما، كما يفصل بين سائر الناس، ولو قال: أخذ منِّى كذا، على سبيل الرَّشْوَة المحرمة، أو أخذ منى بشهادة عبدين أو غيرهما، ممن لا تُقْبَلُ شهادته، ودفعه إلى فلان، فكذلك الجواب؛ لأن هذا الأخذ كالغصب (¬1)، وفلان الذي يدعي الدَّفْع ¬
إليه، إن قال: أخذته بحكم المعزول لي، لم يُقبَلْ قوله، ولا قول المعزول له بل يحتاج إلى بينة تشهد على حكم المعزول له أيام قضائه، فإن لم تكن بينةٌ، انتزع المال منه، وإن اقتصر على أنه لي، ولم يتعرض للأخذ من المُدَّعِي، ولا لحكم المعزول، فالقول قوله مع يمينه. ولو أن المتظلِّم لم يتعرَّضْ للأخذ، ولكن قال حُكِمَ عليَّ بشهادة عَبْدَيْن، ومن في معْنَاهُما، فكلام مُعْظم الأئمة يخالف ما في الكتاب، قال المُعْظَم: في إحضاره وجهان: أحدهما: يحضره؛ ليجيب عن دعواه، كما لو طلب إحضار غيره. والثاني: أنه لا يحضره إلا ببينة تقوم على ما يدعيه، أو على إقرار المعزول بما يدعيه؛ لأنه كان أمين الشرع، والظاهر أن أحكامه على الصواب، فيكتفي بهذا الظاهر، إلى أن تقوم الحجَّة على خلافِه، وهذا أصح عند صاحب "التهذيب" والأول أصحُّ عند القاضي الرُّويانيِّ وغيره. وإذا قلنا بالثاني، فليس ذلك على معنى أن البينةٍ تُقَامُ في غيبته، ويكتفي بها، ولكن الغرض أمن يكون إحضاره عن بَيِّنَة، فيُحْضِر المدعي الشهود، ليعرف القاضي منهم أن لدعواه حجةً وحقيقةً، ثم إذا حضر المعزول ادَّعَى المدعي، وشهد الشهود في وجهه على المعهود، وإذا أحضر بعد البينة، أو دونها وأقر، طُولِبَ بمقتضاه. وإن أنكر صُدِّق، وكيف يُصدَّق؟ بيمين، أو بغير يمين؟ فيه وجهان: أحدهما: بيمين، وهو اختيار العراقيين والقاضي الرُّويانيِّ، كالمُودَعِ وسائر الأمناء، إذا ادُّعِيَتْ عليهم خيانة. والثاني: بغير يمين، وبه قال الإِصطخريُّ، وصاحب "التلخيص"؛ لأنه كان أمين الشرع؛ فيُصَانُ منْصِبُه عن التحليف والابتذال بالمنازعات الباطلة، وهذا أحسن، وأصح عند الشيخ أبي عاصم، وصاحب "التهذيب"، وبه قال صاحب "التقريب" والقاضي الماورديُّ ولا فرق في ذلك بين أن يدعي عليه الحكم في مال أو دم حتى إذا ادَّعى عليه؛ أنه قبْل أباه ظُلماً بالحكم جرى الخلاف في أن إحضاره؛ هل يتوقَّف على البينة وفي أنه هل يحلف إذا حضر وأنكر؟ فهذا ما ذكروه، وهم متفقون على أن الدعْوَى مسموعة في الجُمْلة وعلى أن بينة المُدَّعِي محكومٌ بها، وأما صاحب الكتاب، فإنه
نصب الخلاف في سماع أصل الدَّعْوَى، وقال: إنه مبْنِيٌّ على الخلاف في أن الحكم بشهادة العبدَيْن، ومن في معناهما؛ هل يقتضي غُرْماً؟. وهذا الخلاف غير معروف، نعم، إذا كان المحكوم به قطعاً، أو قتلاً. فعن الإِصطخرِّي: أن القاضِيَ، إنما يضمن إذا استوفى بنفسه، أو أمر به من استوفاه، أما إذا استوفاه الوليُّ بإذن القاضي، فلا ضمان على القاضي، وخالفه الأكثرون، وقالوا: لا فرق؛ فإن القاضي هو الذي سلَّط الوليِّ، فيمكن أن يجيء هذا الخلاف في الأموال، والقول في أن القاضِيَ كَيْف يغرم؟ يُبْسَط في موضعه إن شاء الله تعالَى -والدعوى على نائب المعزول في القضاء كالدعوى على المعزول. وأما أمناؤه الدين يجوز لهم الأجرةُ، فلو حُوسِبَ بعْضُهم، فبقَى عليه شيءٌ، فقال: أخذتُ هذا المال أجرة عَمَلِي، فصدقه المعزول، لم ينفعه تصديقه، لكن يُسْتَرَدُّ منْه ما يزيد على أجرة المثْل، وهل يُصدَّقُ بيمينه في أجرة المثل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، بل عليه البينة على جريان ذِكْرِ الأجْرة. والثاني: نعم؛ لأن الظاهر أنه لا يعمل مجاناً، قال الإِمام: والخلاف مبنيٌّ على أن من عمل لغيره، ولم يجر ذكر أجرة، هل يستحِقُّ أجرة المثل (¬1). وقد تبيَّن بما ذكرنا أن قوله "ولو قال نائب المعزول" ليس المراد نائِبَهُ في القضاء، فإن القاضي لا يأخذ أجرة، وإنما المراد الأمناء. وقوله "لم يُقْبَلْ، وإن صدَّقه المعزول إلا بحجة" ظَاهِرَهُ يقتضي قبول الحجة على الإِطلاق. ومعلوم أن الزيادة على أجرة المثل، لا تُقْبَلُ فيها الحجَّة بحال، وأما قدْرُ أجرة المثل، فيحتاج فيه إلى حجة أم يكفي اليمين؟ فيه الوجهان، هذا حكم الدعوى على المعزول. وأما الولي فإن ادعى عليه مدَّعٍ بما لا يتعلَّق بالحكم، حكم بينهما خليفةٌ أو قاضٍ آخرُ، وإن ادَّعى ظلماً في الحكم، وأراد تغريمه لم يُمَكَّنْ، ولم يحلف القاضي، ولا تغني إلا البينة، وكذا لو ادعى على الشاهد: أَنَّه شهد بالزور، وأراد تغريمه؛ لأنهما ¬
الباب الثاني في جامع آداب القضاء
أمينان شرعاً، ولو فُتحَ بابُ تحليفهما، لاشتد الأمر، ورغب القضاة عن القضاء، والشهود عن أداء الشهادة (¬1). وكذا الحكم لو قال للقاضي: قد عزلت، فأنكر، وعن الشيخ أبي حامد أن قياس المذهب التحليف في جميع ذلك، كسائر الأمناء إذا ادعيت عليهم خيانة. والله أعلم. البَابُ الثَّانِي فِي جَامِعِ آدَابِ القَضَاءِ، وَفِيهِ فُصُولٌ قَالَ الغَزَالِيُّ: الفَصْلُ الأَوَّلُ فِي آدَابِ مُتَفَرِّقَةٍ: وَهِيَ عشَرَةُ آدَابٍ: الأَدَبُ الأَوَّلُ: أَنْ يُشِيعَ الوِلاَيَةَ قَبْلَ قُدُومِهِ، فَإِنْ قَدِمَ مِنْ غَيْرِ إشَاعَةٍ وَلاَ كِتَابٍ لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ، فَإنْ كَانَ مَعَهُ كِتَابٌ مِنْ غَيْرِ شَاهِدَيْنِ فَفِي لُزُومِ الطَّاعَةِ بِمُجَرَّدِهِ وَجْهَانِ، وَحَيْثُ تَظْهَرُ أَمَارَةُ التَّلْبِيسِ يَجُوزُ التَّوقُّفُ لاَ مَحَالَةَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ليَكْتُبِ الإِمامُ كتاب العَهْد لمن يوليه القضاء (¬2)، كما كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ -رضي الله عَنْهُ- لَمَّا بعَثَهُ إلى اليَمَن (¬3)، وكما كتب أبو بكرٍ لأنس ¬
-رضي الله عنه- لما بعثه إلى "البَحْرَيْن" (¬1) وَعُمَرُ لابن مسعود -رضي الله عنه- لما بعثه قاضيًا إلى الكوفة (¬2): ولُيَذْكُرْ فيه ما يَحْتَاج القاضِي إلى القيام به، وليعظْهُ فيه، ثم إذا كان يبعث إلى بلد آخر، فيُنْظَرُ، إن كان بعيدًا لا ينتشر الخبر إليه، فليشهد شاهدين على التولية على الوجه الذي تضمنه الكتاب، وليقرأه الإِمام عليهما، وإن قرأ غير الإِمام، فالأَحوط أن ينظر الشاهدان فيه ثم يخرج الشاهدان (¬3) معه فيخبران بالحال هناك. قال الأئمة -رحمهم الله-: وليس ذلك على قواعد الشهادات إذْ ليس هناك قاضٍ يؤدي عنده الشهادات، وإن كان البلد قريبًا ينتشر الخبر إليه ويستفيض، فإن أشهد شاهدَيْن يخرجان معه، كما ذكرنا، فذاك، وإلا، ففي الاكتفاء بالاستفاضة وجهان: أحدهما: المنع، وبه قال أبو إسحاق؛ لأن التولية عقْدٌ، والعقود لا تثبت بالاستفاضة، كالإِجارة والوكالة. وأظهرهما: الاكتفاء بها، وبه، قال الإِصطخريُّ إذ لم يُؤْثَرْ عنْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن الخلفاء بعده الإِشهادُ، بل كانوا يقنعون بالاشتهار وبالاستفاضة، ومن الأصحاب من يطلق الوجهين من غير فرق بين أن تكون البلَدُ بعيدًا أو قريبًا، ويشبه أَلاَّ يكون في هذا خلاف، ولكن الانتشار والاستفاضة، إنما يحصل في مدة، وتختلف المدةُ بحَسَب قرب المسافة وبعدها؛ فمن قال: لا بُدَّ في البلد البعيدة من الإِشهاد، إنما قاله؛ لأن الاستفاضة لا تحصل بها غالبًا في مدة مسير القاضي، ومن أطلق، فلأنه إذا تأخر مسيره لعارض حتى حصلت الاستفاضة، فلا فرق بين القرب والبعد. وحَكَى في "الوسيط" وجهين في أن مجَرَّد الكتاب من غير استفاضة ولا شهادة شاهدَيْنِ، فهل تعتمد عليه؟. أحدهما: نعم، لبعد الجرأة في مثل ذلك على الإِمام. والثاني: لا، بل لا بدّ من عدلَيْن يخبران عن التولية، وهذا هو المفهوم من كلام عامة الأصحاب -رحمهم الله- وهو قياسُ أصْلِنا في امتناع الاعتماد على الخطِّ. وقوله في الكتاب "من غير إشاعةٍ ولا كتابٍ"، ظاهره يقتضي أَلاَّ يكفي قول عدلَيْن، لكنا سنذكر أن الاعتماد في كتاب القاضي إلى القاضي على الشهود دون الكتاب، فليكن كذلك هاهنا. ¬
وقوله فإن كان معه كتابٌ من غير شاهِدَيْنِ يتناول بإطلاقه ما إذا حصلت الاستفاضة، وفيها الوجهان المذكوران أولًا، وما إذا لم يحْصُل، وفيها الوجهان المنقولان عن "الوسيط". قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّانِي: أنَّهُ كَمَا قُدِّمَ يُفَتِّشُ عَنِ المَحْبُوسِينَ فَيُطلِّقُ كُلَّ مَنْ حُبِسَ بِظُلْمٍ أَوْ فِي تَعْزِيرِ، وَمَنْ أَقَرَّ بِالحَقِّ رُدَّ إِلَى الحَبْسِ، وَمَنْ قَالَ: أَنَا مَظْلُومٌ أُطْلِقَ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، فَإنْ حَضَرَ خَصْمُهُ فَلْيَسْتَأنِفِ الخُصُومَةَ وَلْيُقِمِ الحُجَّةَ عَلَى أَنَّ القَاضِيَ المَصْرُوفَ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالحَقِّ، وَإِنْ قَالَ المَحْبُوسُ: لاَ أَدْرِي لِمَ حُبِسْتُ نُودِيَ عَلَيْهِ فِي طَلَبِ خَصْمِهِ فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ أُطْلِقَ، وَإِنْ ذَكَرَ خَصْمًا غائِبًا وَزَعَمَ أنَّهُ مَظْلُومٌ فَإطْلاقُهُ أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا: لا يُطْلَقُ فَيُرَاقَبُ وَلا يُخَلَّى وَلا يُحْبَسُ إِلَى أَنْ يَحْضُرَ خَصْمُهُ، وَيُكْتَبُ إِلَى خَصْمِهِ لِيُعَجِّلَ، فَإنْ لَمْ يُعَجِّلْ أُطْلِقَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا أراد القاضي الخروجَ إلى بلد قضائه، ينبغي أن يسأل عن حال من فيه من العلماء والعدول، فإن لم يَتَيَسَّر، سأل في الطريق حتى يدخل على علْم بحالِ البلد، فإن لم يجدْ من يسأله سأل حين يدخل، ويُسَحَبُّ أن يدخل يوم الاثنين (¬1)؛ فإن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- دخل يوم الاثنين (¬2)، وأن يكون عليه عمامة سوداء فإن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة يوم الفتح، وعليه عمامة سوداء، وأن ينزل في وسط البلد أو الناحية؛ كيلا يطول الطريق على بعْضهم. وإذا دخل، فإن رأى أن يشتغل بقراءة كتاب العهد في الحال فعل، وإن رأى نزل في منزله، وأمر مناديًا ينادي يومًا أو أكثر، أو أقل على حسب كبر البلد وصغرها، أَلاَ إنَّ فلانًا قَدِمَ قاضيًا، وأنه يخرج يوم كذا لقراءة العهد، فمن أحب فليحضر، فإذا اجتمعوا، قرأ عليهم العهد، وإن كان معه شهود شَهِدُوا، ثم ينصرف إلى منزله. ويستحضر الناس، فيسألهم عن الشهود، والمُزَكَّيْنَ سرًّا وعلانيةً، قال الأصحاب -رحمهم الله-: ويتسلَّم ديوان الحكم، وهو ما كان عند الحاكم قبله من المحاضر والسجلات وحجج الأيتام والأوقاف، وحجج الناس المودوعة في الديوان؛ لأنها كانت في يدِّ الأول بحكم الولاية، وقد انتقلت الولاية إليه، ثم إذا أراد النظر في الأمور، نظر أولاً في المحبوسين؛ لأن الحبس عذابٌ، فلينظر؛ هل يَسْتَحِقُّون أم لا (¬3)؟ ويأمر قبل أن ¬
يجلس للنظر في أمرهم مناديًا ينادي يومًا، أو أكثر على حسب الحاجة، أَلاَ إنَّ القاضي ينظر في أمر المحبوسين يَوْمَ كذا، فمن له محبوسٌ، فليحْضُرْ، وليبعث إلى الحَبْس أمينًا من أمنائه، ليكتب اسم كل محبوس، وما حُبِسَ به، ومَنْ حُبِسَ له في رقْعَةٍ. وفي "المجرَّد" للقاضي أبي الطيب أنه يبعث أمينَيْنِ، وهو أحوط، فإذا جلس اليوم الموعود، وحضر الناس، وُضِعَتْ تِلْكَ الرِّقَاعُ بيْنَ يدَيْه ويخرجه، وهكذا فيأْخُذُ واحدةً واحدةً وينظر في الاسم المثبت فيها، ويسأل عن خَصْمِهِ، فمن قال: أنا خَصْمُه، بعث معه ثقة إلى الحَبْس؛ ليأخُذَ بيده، ويخرجه هكذا، يحضر من المحبوسين بِقَدْر ما يعرف أن المجلس يحتمل النظر في أمرهم، وفي "أمالي" أبي الفرج: أنه يقرع بينهم للبداية، وإذا جمع المحبوس وخصمه عنده سأل المحبوس عن سبب حبسه، والجواب يُفْوَضُ على وجوه. منها: أن يعترف بالحَبْس بالحَقِّ، فإذا كان ما حبس به مالاً، أُمِرَ بأدائه، فإن قال: أنا مُعْسِرٌ، فعلى ما ذكرنا في التفليس، ثم إذا لم يؤدِّ، ولم يَثْبُتِ الإِعسارُ، فيُرَدُّ إلى الحَبْس، وإن أدَّى، أو أثبت الإِعسار، نودي عليه، فلعلَّ له خصمًا آخر في مال أو غيره، فإن لم يحضر أحدٌ، خُلِّيَ، وإن كان ما حبس به حدًّا، أقسم عليه، وخُلِّيَ عَلَى ما ذكرنا. ومنها: أن يقول: شهدتُّ على البينة، فحبسني القاضي؛ ليبحث عن حال الشهود، فللأصحاب -رحمهم الله- في جواز الحَبْس بهذا السبب اختلاف، يأتي من بعد، فإن قلنا: لا يُحْبَسُ به لم يرده إلى الحَبْس، وإن قُلْنَا: يُحْبَسُ ردّه، وبَحَثَ عن حال الشهود. ومنْهَا: أن يقول: حُبْستُ بخَمْرٍ، أو كلب أتلفته على ذمِّيٍّ، والقاضي لا يعتقد التغريم بذلك، فأصح القولين: أنه يمضيه. والثاني: يتوقَّف، ويسعى في اصطلاحهما على شيء. ومنْها: أن يقول: حُبِسْتُ ظُلْمًا، فإن كان الخَصْمُ معه، فعلى الخَصْم الحُجَّة، والقول قَوْلُ المَحْبُوس مع يمينه، وإن ذَكَر خَصْمًا غائبًا، فطريقان: أحدهما: القطع بأنَّه يُطْلَقُ؛ لأن الحبس عذابٌ، وانتظارُ الغائِبِ يطولُ. وأظهرهما: أنه على وجهين، فإن قلنا: يُطْلَقُ فحسن أن يُؤْخَذَ منْه كفيل، وإن
قلنا: لا يُطْلَقُ، فيكتب إلى خصمه في الحضور (¬1)، فإن لم يفعل، فحينئذ يُطْلَقُ، وإن قال: لا خصم لي أصلاً، أو قال: لا أدْرِي، لِمَ حُبِسْتُ، نودي عليه في طلب الخصم، فإن لم يحضر أحد، حلف، وأُطْلِقَ؛ وإنما حلف هاهنا ولم يحلف في الأجوبة السابقة؛ لأن هناك ظهر الخصم، وفصل الأمْر، فدعْوى أنه ليس له خَصْم آخر، لا تخالف الظاهر، وأما الحبس من غير خصم، فإنه خلاف الظاهر. قال في "الوسيط": وفي مدة المناداة لا يُحْبَسُ، ولا يُخَلَّى بالكلِّيَّة، ولكن يُرْتَقَبَ، وحيث أَطْلَقَ الذي ادَّعَى: أنه مَظْلُومٌ، فَهَل يُطالَبُ بكَفيل؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا. وأما لفظ الكتاب، قوله "فيُطْلَقُ كلُّ من حُبِسَ "بظلم" كان المراد فيه، إذا اعترف الخصم بأنه ظلمه، أو كان القاضي عالمًا، وقلنا: إنه يقضي بعلمه، فأما إذا قال المَحْبُوس: أنا مظلوم، فهو مذكور من بعد. وقوله: "أو في تعزير" إطلاق من حبس تعزيرًا، وقد ذكره هاهنا، وفي "الْوَسِيطِ" وسَكَتْ مُعْظَم الكتب عنه، ولعل وجه ما ذكره أن التعزير يتعلَّق بنظر الحاكم الذي بانَتْ عنده الجناية، ولا يُدْرَى أن الحاكم المصْرُوف، هل كان يديم حبسه لو لم يُصْرَفْ، لكن لو بانَتْ جنايةٌ عند الثاني، ورأَى إدامة حبسه، فالقياس الجَوازُ. وقوله: "ومن أقر بالحَقِّ رُدَّ إلى الحبس" أي: إذا اقتضاه الحال بأن لم يؤدِّ ولم يثبت إعسارًا. وقوله: "فإن حضر خصمه، فليستأْنف الخصومة" بعد قوله: "أطلق على أحد الوجهين" تفريع على وجه الإِطلاق، والمعنى؛ أنه يُطْلَقُ، ثم إذا حضر خصمه مجلس الحكم، وادعى، فعليه إثبات الحق الذي يدعيه ببينة تقوم على نَفْس الحَقِّ، أو على أن القاضي المصْرُوفَ، حكم عليه بذلك، وفي "أمالي" أبي الفرج: أنه يكْفِي لاستدامةِ الحَبْس قيامُ البيِّنَة، على أن القاضي المصْرُوفَ حَبَسَهُ بحقٍّ على هذا المُدَّعِي، وإن لم يبيِّن جنس الدين وقدره. وقوله فيما إذا ذكر خصمًا غائبًا، "فإطلاقه أوَلى" أشار بهذا الترتيب إلى الطريقين ¬
السابقين في الغائب. وقوله: "فإن قُلْنا: لا يُطْلَقُ فَيُراقَبُ ولا يخلَّى، ولا يُحْبَسُ إلى أن يَحْضُرَ خَصْمُه" هذا لم يذكره في "الوسيط" هاهنا، وإنما ذكره فيما إذا قال: لا أدْرِي، لِمَ حُبِسْتُ؟ على ما بيَّنَّاه والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيّ: وإِذا فَرِغَ مِنَ المَحْبُوسِينَ نَظَرَ فِي الأَوْصِياءِ وَمالِ الأَطْفالِ إِذْ لا رَافِعَ لِوَقائِعِهِمْ إِلَيهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا فرغ القاضي من المحبوسين، نظر في حال الأوصياء؛ لأن الوصيَّ يتصَّرف في حقِّ من لا يمكنه المرافعة والمطالبة، كالأطفال، وأصحاب الجهات العامة، وإذا حضر من يزعم: أنَّهُ وصيٌّ بفحص القاضي عن شيئَيْنِ: أحدهما: أصل الوصاية، فإن أقام بيَّنَةً على أنَّ القاضي المصْرُوف نَفَّذ وصايته، وأطلق تَصَرُّفَه، قرره، ولم يَعْزِلْه، نعم، إذا طرأ فِسْقٌ وانعزالٌ فيُنْزَعُ المال منه، وإن شك في عدالته فوجهان (¬1). قال الإِصطخريُّ: يقرر المال في يده؛ لأن الظاهر الأمانة، وقال أبو إسحاق: ينزعه حتى يتحقق عدالته وإن وجده ضعيفًا، أو كان المال كثيرًا لا يمكنه القيام بحفْظِه والتصرُّف فيه، ضم القاضي إليه من يعينه. والثاني: تصرفه في المال فإن قال: فرقت ما أوصى بِهِ، نُظِرَ إن كانَتِ الوصيَّةُ لمُعَيَّنَيْنِ، لم يتعرض له؛ لأنهم يطالَبُون لَوْ لَمْ يصل إليهم، وإن كانت لجهةٍ عامَّةٍ فإن كان عَدْلاً، أمضى تَصَرُّفَه، ولم يَضْمَنْه، وإن كان فاسقًا، ضمنه؛ لتعديه، بالتفريق لا عن ولاية (¬2) ولو أن غير الوصي فرق الثُّلُث الموصى به، خوفًا عليه من أن يضيع، نُظِرَ: ¬
إن كانتِ الوصايةُ لمعينين، وقع الموقع؛ لأن لهم أن يأخُذُوه من غَيْرِ واسِطَةٍ، وإلا، ففي الضمان وجهان: أظهرهما: الوجوب. ثم بعد النظر في الأوصياء، ينظر في أمناء الحكام المنصوبين على الأطفال في تفرقة الوصايا؛ فمن تغير حاله بِفِسْقِ أو ضَعْفٍ، فعَلَى ما ذكرنا في الأوصياء ومن لم يتغير حاله، أقرَّه قال القاضي الرويانيُّ: وله أن يَعْزِلَهُ، ويولي، وينصب غيره بخلاف الأوصياء لأن الأمين مُوَلَّى من جهة القاضي بخلاف الوصيِّ. ثم ينظر في الأوقاف العامة، والمتوليين لها، وفي اللقطة، والضَّوَالِّ مما لا يجوز تملكه، أو يجوز، ولم يختر التَّمَلُّك بعد الحَوْل حفْظ على صاحبه، أو باعه، وحَفِظَ ثمنه لمصلحةِ الحال، وله أن يَحْفَظ هذه الأموال معزولةً عن أمثالها في بيت المال وله أن يَخْلِطَها بمثلها، فإذا ظهر المالك، غرم له من بَيْت المَالِ. ويقدم من كل نوع من ذلك الأهَمَّ فالأَهَمَّ وإن عرضت حادثة، وهو مشْغُولٌ بهذه المهمات، استخلف من ينظر في تِلْكَ الحادثة وفيما هو فيه والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّالِثُ: أنْ يَتَرَوَّى بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَرْتِيبِ الكَاتبَ والمُزَكِّي والمُتَرْجِمِ، وَليَكُنِ الكَاتِبُ عَدْلًا عَاقِلاً عَفِيفًا عَنِ المَطَامِعِ، وَيُشْتَرَطُ العَدَدُ فِي المُزَكَّى والمُتَرَجْمِ دُونَ الكَاتِبِ، وَفِي عَدَدِ المُسْمِعِ إِذَا كَانَ بِالقَاضِي صَمَمٌ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ يُفَرَّقُ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الخَصْمُ أَصَمَّ فَيَعْجَزَ عَنِ الإنْكَارِ لَوْ غَيَّر المُسْمَعُ، فَإِنْ شُرِطَ العَدَدُ فَفِي اشْتِراطِ لَفْظِ الشَّهادَةِ وَجْهَانِ، فَإنْ لَمْ يَشْتَرَط فَفِي اعْتِبَارِ الحُرِّيَّةِ وَجْهَانِ، فَإنْ طَلَبَ المُسْمِعُ أُجْرَةٌ فَهَلْ يَجِبُ فِي مالِ صَاحِبِ الحَقِّ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يُرَتِّبُ القاضِي بعْدما ذكَرْنا أمر الكُتَّاب، والمُزَكِّين، والمتَرْجِمِين. أما الكُتَّابُ؛ فللحاجة إلى كتابة المَحَاضِرِ، والسِّجلاَّت، والكُتُب الحكمية، والحاكم لا يتفرَّع لها غالبًا، ومن المشهور أنه كان لرسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- كُتَّاب، منهم زيدُ بنُ ثابت (¬1) ¬
-رضي الله عنه- ويُشْتَرَطُ أن يكونَ الكاتبُ عارفًا بما يكتب من المَحاضِرِ وغيرها، لئلاَّ يفسده. وأن يكون مسلمًا عدلاً؛ ليؤمن خيانته، وفي "المهذب" حكايةُ وجْهٍ آخر: أنه لا يُشْتَرَطُ الإِسْلام والعدالةُ، ولكن يُسْتَحَبَّان؛ لأنَّ القاضِيَ لا يُمْضِي ما كتبه حتى يقف عليه، ويُسْتَحب أن يكون وافر العقْل عفيفًا عن المطامع الفاسدة، كيلا يُخْدَعَ من غرَّه بمال، وأن يكون فقيهًا، لا يُؤتَى، من جَهْل، وأن يكون جيِّدَ الخَطِّ، ضابطًا للحروف لئلا يقع الغَلَطُ والاشتباه، والأَوْلَى أن يُجْلِسُ الحاكمُ الكاتِبَ بيْن يدَيْه؛ ليملي عليه، ويشاهد ما يكْتُب. وأما المزكُّون؛ فالحاجة إليهم ظاهرةٌ، وفي التزكية فصْلٌ مفردٌ من بعْدُ. وأما المترجمون؛ فلأن القاضي قد لا يعرف لسان بعْضِ الخُصُوم والشهود، فلا بدّ مِمَّنْ يطلعه عليه. ويشترط في المُتَرْجِم العدالة والتكليف والحرية؛ لأنه ينقل قولاً إلى القاضي لا يَعْرِفُه القاضي؛ فأشبه الشهادة، وبمثل هذا نقول باشتراط العَدَدِ فيه، وفي المزكِّي، بخلاف الكاتب؛ فإنه لا يُثْبِت شيئًا، وعند أبي حنيفة: يكفي مترجِمٌ واحدٌ ومذكٍ واحدٌ، ثم قال الأصحاب: إن كان الحقُّ مما يثبت برَجُلٍ وامرأتين، فتقبل الترجمةُ من رجلين، ومن رجُلٍ وامرأتين، وقال صاحب "التهذيب": وجب ألا يقبل إلاَّ من رجلين، كما لا يثبت الشهادة على الشهادة بقول النساء، وإن كان الحَقُّ مما يثبت برجل وامرأتين، وهذا ما أورده الإِمام -رحمه الله- وأما العِتْق والنكاح وما لا يثبت برجل وامرأتين؛ فلا يَقْبَلُ الترجمة فيه إلا من رجلين، وفي الزنا: يكفي رجلان أم لا بدّ من أربعة؟ فيه قولان، كما في الشهادة على الإقرار بالزنا، وقيل: يكفي رجلان بلا خلاف، ولو كان الشاهدانِ معًا أعْجَمَّيْينِ؟ فيه قولان كالقولين في شهود الفرع، وبالأول أجاب أبو الحسن العَبَّادِيُّ في "الرَّقْم" وهل يجوز أن يكون المَترْجِمُ أعمى؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، كما لا يجوز أن يكون شاهدًا. وأصحهما: نعم؛ لأن الترجمة تَفْسِيرٌ للفظ لا يحتاج فيه إلى معاينة وإشارة، وإذا كان بالقاضي صَمَمٌ، واحتاج إلى من يُسْمِعُه، فثلاثة أوجه: أصحها: اشتراط العَدَدِ كالمترجم. والثاني: المنع؛ لأن المُسْمِع، لو غَيَّر أنكر عليه الخَصْم والحاضرون، فلا حاجة فيه إلى العدد، والمترجم لا يعرفون لِسَانَهُ.
والثالث: أنَّه إن كان الخصمان سميعَيْن، فلا يُشْتَرط العدد، وإن كانا أصَمَّيْن أيضًا، يُشْتَرَطُ فإِنَّ الحاضِرَيْن لا يعتنون بما يقوله اعتناءَ الخُصُوم. ومنْهُمْ من قطع باشتراط العدد، إذا كان الخصمان أصَمَّيْنِ، وهذا في إسماع خَصْمِ القاضي، فأما إسماع الخصم ما يقوله القاضي، وما يقوله الخصم، فقد حكى القاضي الرُّويانيُّ في "جمع الجوامع" عن القَفَّال: أنه لا حاجة فيه إلَى العدد، وإذا شرطَنْا العدد في المُسْمِع، ففي اشتراط لفْظِ الشَّهَادَةِ، وجهان: أصحهما: اشتراطه، فيقول: أشهد أنه كذا وكذا. والثاني: المنع؛ لأنَّا، وإن استظهرنا بالعدد، فليستْ هي شهادة محقَّقةً، فإن لم يشترط العَدَد، ففي اشتراط الحرية، وجهان، كما في شهادة هلالِ رَمَضَان، والأصحُّ الاشتراطُ وأنه لا يسلك به مَسْلَك الروايات، وليجر الخلاف في لفظ الشهادة، وفي الحرية على بعده من المترجم، ويشبه أن يكون الاكتفاء بإسماع رجل وامرأتين في المال عَلَى ما ذَكَرْنا في المترْجِم، وأجاب في "الوسيط" بالمنع، كما ذكره صاحب "التهذيب" هناك. ورأى الإِمام أن يُطَّرَدَ في المترجْمِ الوجوهُ المذكورةُ في اشتراط العَدَد في المُسْمِع. والوجه الثالث: فيه أن يُقَال: إن كان الخصمان عارفَيْن بالعربية، لكن لا يحسنان التعبير، لم يُشْتَرطِ العدد. وإن كانا لا يعرفانها، فيشترط، وميله إلى ترجيح الوجه الثالث فيهما جميعًا، والله أعلم. وبقيت مسألة في الفَصْل؛ وهي أن المَسْمعَ لو طلب شيئًا ممَّنْ يُعْطَى، وتقدَّم عليها: أن القاضي، وإن لم يجد كفاية، فيجوز له أن يأخذ رزقًا من بيت المال؛ ليتفرغ للقضاء. رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيُّمَا عَامِلٍ اسْتَعْمَلْنَاهُ وَفَرَضْنَا لَهُ رِزْقَهُ فَمَا أَصَابَ بَعْدَ رِزْقِهِ، فَهُوَ غُلولُ" (¬1) ورُوِيَ أن أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ -رضي الله عنه- كان يأخذ كل يوم من بيت المال درهَمَيْن (¬2)، وأن عمر -رضي الله عنه- كان يَرْزُقُ شُرَيْحًا -رحمه الله- كلَّ شهْرٍ مائة درهم (¬3) وإن وجد كفاية، فيُنْظَرُ، إن تعيَّن عليه القضاء، لم يجز له أخْذُ ¬
شَيْءٍ؛ لأنه يؤدي فرضًا تَعَيَّن عليه، وإن لم يتعيَّن، فيجوز، والمسْتَحَبُّ تركه (¬1)، ولا يجوز عَقْد الإِجارة على القضاء، لما سبق في الإِجارة. وفي فتاوى القاضي الحُسَيْن إلحاقه بالأذان، حتى يجوز الإِجارة عليه على رأْي؛ لأن كل واحد منْهما يعُودُ نفعه إلى عامَّة المُسْلمِين، وينبغي للإمام أن يجعل من بيت المال مع رزق القاضي شيئًا لثمن القراطيس التي تُكْتَبُ فيها المَحَاضر والسجلات، ولأجرة الكاتب، فإن لم يكن في بيت المالِ مالٌ، واحْتِيجَ إليه لِمَا هُو أهم، فإن أتى المدَّعِي بصحيفة يثبت فيها خصومته، وشهادة شهوده، وأتى بأجرة الكاتب، فذاك، وإلا، فلا يُجْبَرُ عليه. ولكنه يعلمه القاضي؛ أنه إذا لم يثبت ما جرى فقد ينسى شهادة الشهود وحكم نفسه، وحينئذٍ، فلا تُقْبَلُ شهادةُ الشهود على ما جرى بل لا بدّ من التَّذَكُّر، كما سيأتي، ولو أثبت ما جرى، حفظه في ديوانه، تذكره بعلاماته. وليكن رزق القاضي بقَدْرِ كفايته، وكفاية عياله، على ما يليق بحالهم من النفقة والكسوة وغيرهما، وكذا الإِمامُ يأخذ لنفسه ما يليق من الخيل والغلمان والدار الواسعة ولا يجب الاكتفاء بما اكتفَى به رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- والخلفاءُ الراشِدُونَ -رضي الله عنهم- بعده؛ لأن الناس قد تَغَيَّروا، وبعُدَ العهْد بزمانِ النُّبُوَّة التي كانت سبَبَ النُّصْرَة، وإلقاء الرعب في القلوب، ولو اقتصر الإِمام على مثل ذلك اليوم، لم يُطعْ وتعطَّلَت الأمور، ولو رَزَقَ الإِمامُ القاضِيَ من مال نَفْسه، أو رزقه أهل ولايته أو واحد منْهم، فالذي خرجه صاحب "التلخيص" أنه لا يجوز له قبوله لكنْ ذَكَرْنَا في "باب الأذان" أنه كما ¬
يجوز أن يكون رزق المؤذن من بيت المال، يجوز أن يكون من مَالِ الإِمَام أو واحد من الرعية. وذكر الصيمَرِيُّ في "المفتي": أنه يجوز أن يرزقه أهل بلده، ويمكن أن نفرِّق بأن ذلك لا يورث تُهمةً وميلاً في حق المؤذِّن؛ لأن عمله لا يختلف، والقاضي أجدر بالاحتياط من المُفْتِي، وكما يُرْزَقُ الإِمام والقاضي من بيت المال، فكذلك يُرْزَقُ مَنْ ترجْعُ مصلحةُ عمله إلى عامة المسلمين؛ كالأمين، والمفتي، والمحتسب، وإمام الصلاة، والمُؤَذِّن، ومَنْ يُعلِّم الناس القرآن، ومن يُقِيمُ الحدود، وكالقسام، وكاتب الصكوك، وإن لم يكن في بيت المالِ مالٌ، فلا يعين قسامًا ولا كاتبًا، كيلا يغالي في الأجرة، وألحق بهؤلاء المقوِّم. وفي المترجم وجهان: أقربهما: أنه يُرْزَقُ من بيت المال أيضًا كهؤلاء. وثانيهما: المنع، كالوكيل، وهذا ما خرجه صاحب "التلخيص" ويُحْكَى عن أبي زيْدٍ أيضًا، وعلى هذا، فمؤنة من يترجم للمدعى عليه على المدعى عليه، والمُسْمِعُ كالمترْجِم؛ ففي مؤنته هذان الوجهان، فهذه مسألة الكُتَّابُ والوجهان جاريان في المزَكِّي، والقول في الشاهد أخرناه إلى "كتاب الشهادات". فَرْعٌ: قال القاضي ابن كج: ذكر جماعة من فقهاء أصحاب الشَّافعي -رضي الله عنه- وأبي حنيفة -رحمه الله-: أنه إذا لم يكن للقاضي شَيْءٌ من بيت المال، فله أن يأخذ عُشْرَ ما يتولاَّه من أموال اليتامى والوُقُوف؛ للضَّرورة، ثم بالغ في الإنكار عليه. وقَالَ: إنَّه لا ضرورةَ في هَذَا، إن لم يتفرَّغْ للقضاء من غير رِزْقٍ؛ فليمتنع منه، ومن ذهب إليه، فكأنه ذكر العُشْر تمثيلاً وتقريبًا، ولا بدّ من النَّظَر إلى كفايته، وإلى قَدْر المال والعمل. آخَرُ: في شرح "أدب القضاء" لأبي سعد الهَرَوِيِّ: أن القاضي إذا لم يكن له رزقٌ من بيْتِ المال، وكان محتاجًا، ولم يتعيَّنْ عليه القضاء، فله أن يأخذ من الخصم أجرةَ مِثْلِ عَمَلِهِ، وإن تعيَّن، قال أصحابنا: لا يأخذ عنه بدلاً، وقال القاسمُ يعني: صاحب "التقريب": إن شاء الله يأخذ كصاحب الطعام في المخمصة، والفَرْعُ غريبٌ مُشْكِلٌ. قَالَ الغَزَالِيُّ: الرَّابِعُ: أَنْ يَتَّخِذ لِلقَضَاءِ مَجْلِسًا رَفِيعًا فَسِيحًا لا يَتأَذَّى فِيهِ بِبَرْدٍ وَلاَ حَرٍّ فَيُمَلَّ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَّخِذَ المَسْجِدَ مَجْلِسًا لِلِقَضَاءِ فَتُرْفَعَ فِيه الأَصْوَاتُ، وَلا يُكْرَهُ فَصْلُ قَضَايَا مُتَفَرِّقَةٍ فِي المَسْجِدِ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ بَوَّابًا وَحَاجِبًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه ثلاث مسائل: إحداها: المُستَحَبَّ أن يكون مجْلِسُ القضاء فسيحًا، لا يتأذى الحاضرون لِضِيقِهِ، وأن يكون بارزًا، لا يكون دونه حجابٌ؛ ليهتدي إليه المتوطِّن الغريبُ، ويصل إليه كلُّ
واحد، فلا يجلسُ للقضاء في كن كبير، وإن أقام على بابه من يأذن له؛ لأنه لا يظهر جلُوسُه فيه، ولا يهتدى إليه الغرباء، نَزِهًا، لا يُؤْذِي فيه الحَرُّ، والبرد، والروائح، والغُبَار، والدُّخَان، فيجلس للصيف، حيث يليق به، وللرياح والشتاءِ حَيْثُ يليق به، واستحب أبو عبيد بنُ حربويه وغيره أن يكون موضعُ جلوسه مُشْرِفًا؛ كدِكَّةٍ ونحوها؛ ليسهل عليه النظَرُ إلى الناس، وعليهم المطالبة؛ وحَسُنَ أن توطأ له الفُرُشُ، وتُوضعَ الوسائدُ؛ ليعرفه كلُّ واحد؛ وليكون أهْيَبَ عند الخصوم، وأرفق فلا يُمَلَّ، والأَوْلَى أن يكون مستقبل القبلة (¬1)، ولا يتكئ. الثانية: المُسْتَحبُّ أَلاَّ يُتَّخَذَ المسجدُ مجلسًا للقضاء، وهل يُكْرَهُ اتخاذهُ مجلسًا فيه؟ وجهان: أحدهما: لا، وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله- وكذلك أبو حنيفةَ في إحْدَى الروايتين، كما لا يُكْرَهُ الجلوس فيه للفتوى، وتعلُّم القرآن، والعِلْم. وأصحهما: نعم، لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمُ صِبْيَانَكُمْ وَمَجانِينَكُمْ، وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ، وَخُصُومَاتِكُمْ، وَرَفْعَ أَصْواتِكُمْ" (¬2) ومعلوم أن مجلس القضاء ترتفع فيه الأصوات، وقد يحتاج فيه إلى إحضار الصبيان والمجانين، وأيضًا، فقد تحضره الحُيَّضُ والكُفَّار والكراهة في إقامة الحَدِّ في المسجد أشدُّ؛ لخوف التلْوِيثِ مع رفع الصوت، ثم كراهية اتخاذ المسجد مجلسًا على التنزيه دون التحريم، فلا يأثم به، قال أبو الحسن العَبَّادِيُّ: ولا يدع الخُصُومَ يجتمعون فيه ويتشاتمون، ولكن يَقْعُدون خارج المسجد، وينصب من يدخل عليه خصْمَيْن خصْمَيْن، ولو اتفقت قضية أو قضايا وقْتَ حضوره المسْجِدَ للصلاة أو غيرها، فلا بأس بفصلها. الثالثة: عن الصيدلانيِّ رواية وجهين: أنه هل يُكْرَه أن يتخذ القاضي حاجبًا وبوَّابًا؟ ويمكن أن يُوَجَّهَ أحدهما بما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ وَليَ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ شَيْئًا فَاحْتَجَبَ حَجَبَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ" (¬3). ¬
والثاني: بأنه، لو دخل عليه مَنْ شاء متَى شاء، لبَطَلَتْ هيبته وسقط وقعه، لكن المفهوم من كلام أكْثرَهِم أن الوجهين لَيْسَا بمطْلَقَيْن، بل إذا جلس للقضاء، ولا زحمة، وفي أوقات خلوته، والأظهر الكراهةُ في الحالة الأولَى دون الثانية. وقوله في الكتاب "مجلسًا رفيقًا" مأخوذ من الرفق، واتبع فيه لفظ الشافعيِّ -رضي الله عنه- حيث قال: في أرفق الأماكن. وقوله: "أن يتخذ المسجد" مُعْلَمٌ بالميم والألف والحاء والواو والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: الخَامِسُ: لا يَقْضِي فِي حَالِ غَضَبٍ وَجُوعٍ وَحَالَةٍ يُسْرُعُ إِلَيْهِ الغَضَبُ فِيهَا أَوْ يَدْهَشُ عَنْ تَمَامِ الفِكْرِ، وَمَا يَحْكُمْ بِهِ فَيَكْتُبُ بِهِ مَحْضَرًا دِيوَانِيًّا يَحْفَظُهُ فِي خَرِيطَةٍ مَخْتُومَةٍ حَتَّى لا يَنْسَى، وَيُعْطِي صَاحِبَ الحَقِّ مِنْهُ نُسْخَةً أُخْرَى، وَهَلْ يَجِبُ ذَلِكَ إِنْ طَلَبَهُ صَاحِبُ الحَقِّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: لا يقضي القاضي في حال الغَضَب، لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَهُوَ غَضْبَانُ" (¬1) وكذلك لا يقضي في كل حال يسوء خلقه فيها، ويتغيَّر عَقْلُه، كجوع وشبع مفرط، ومرضٍ مؤلمٍ، وخوفٍ مزعجٍ، وحزنٍ، وفرحٍ شديدٍ، وكغلبةِ نُعاسٍ، ومَلاَلٍ، وكذا لو حضره طعامٌ، ونفْسُه تتوقُ إليه أو آذاه أخبثاه، والمقصود أنه يتمكَّن من استيفاء الفكر والنظر، وقد رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يَقْضِي الْقَاضِي، إِلاَّ وَهُوَ شَبْعَانُ رَيَّانُ (¬2) " ثُمَّ هاهنا كلمتان: إحداهما: قولنا: "لا يقضي القاضي في حال الغضب (¬3) " نَظْمٌ قد نعني به أن فعله مكروهٌ، وقد نَعْنِي به مجرد أولوية التَّرْك، وهذا من القبيل الأول، فقد صرح بالكراهية ¬
ابن الضَّبَّاغ والقاضي الرويانيُّ -رحمهما الله- وغيرهما. والثانية: ذكر جماعة من الأئمَّة، منهم الإِمام، وصاحب "التهذيب" أن المنع من القضاء في حالة الغَضَب مخصوصٌ بما إذا لم يَكُنِ الغضبُ لله تعالَى جدُّه، فأما إذا غَضِب لله تعالَى في حكومة، وهو ممَّنْ يملك نَفْسَه فيما يتعلَّق بحظِّه؛ فلا بأس بقضائه، لحديث الزبير -رضي الله عنه- والأنصاريِّ؛ حين تخاصما في شراج الحَرَّة، وقد أوردناه في إحياء الموات ولكن احتج آخرون بهذا الحديث على أنه لو قضى في حال من الغضب، نفذ، وإن كان مكروهًا وهذا مصير منهم إلى قيام الكراهية في ذلك النوع من الغَضَب. المسألة الثانية: إذا ادعى حقًّا عَلَى إنسان عنْد القاضي، فأقر به المُدَّعَى عليه، أو نكل، وحلف المُدَّعِي اليمينَ المردُودَةَ، ثم سأل المدَّعِي القاضيَ أن يشهد على أنه أقر عنْدَهُ، أو على أنه نكَلَ، وحلف المدعي؛ فعلى القاضي إجابته إليه؛ لأنه قد ينكر من بعد، فلا يتمكن القاضي من الحكم عليه، إن قلنا: إنه لا يقضي بعلمه، وإن قلنا: إنه يقضي بعِلْمِهِ، فربما ينسى، أو يُعْزَلُ، فلا يُقْبَلُ قوله، ولو أنه أقام البينة عَلَى ما ادعاه، وسأل الَقاضِيَ الإِشْهَادَ عليه فهل يلزم؟ فيه وجهان: أقربهما: نعم، كما في الصورة السابقة. والثاني: لا؛ لأن له بيِّنة فلا حاجة إلى بينة أخرَى. ولو أنكر المُدَّعَى عليه، وحلف، وسأل القاضي الإشهاد؛ ليكون حجةً له، فلا يطالبه مرة أُخْرَى، فكذلك يجيبه إليه، وإن سأله أحد المتداعِيَيْنِ أن يكتب له محضرًا بما جرى، ليحتج به إذا احتاج، فيُنظَرُ، إن لم يكن عنده قرطاسٌ من بيت المال ولم يأتِ به الطالب، لم تجِبْ إجابته، وإن كان فيجب الإِجابة أو يستحب فيه وجهان: أحدهما: يجب توثيقًا لحقِّه كما يجب الإِشهاد. وأظهرهما: الاقتصارُ على الاستحباب؛ لأن الحق يثبت بالشهود، لا بالكتاب، وأيضًا، فإن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ومَنْ بَعْدَه من الأئمة كانُوا يحكمون ولا يكتبون المحاضر والسجلات. قال صاحب "الشامل" وغيره؛ إن طلب صاحبُ الحقِّ أن يحكم له بما ثبت، له أن يحكم؛ فيقول: حَكَمْتُ له به، أو أنفذتُ الحكْمَ به، أو ألزمت صاحبه الحق، وإذا حكم، فلو طلب الإِشهاد على حكمه، لزمه الاِشهاد. وإن طلب أن يكتب به سِجِلاًّ، فعلى التفصيل، والخلاف المذكور في كتابة المحضر، ونقل القاضي ابن كج وجهًا ثالثًا: وهو أنه يجب التسجيل في الدَّيْنِ المؤجَّل، وفي الوقوف، وأموال المصالح، ولا
يجب في الدُّيُون الحالَّة، والحقوقِ الخاصَّة، وسواءٌ أوجبنا الكتابة أو استحببناها، فتُحتَاج إلى بيان المكتوب، وإلى بيان أنه كيف يُضْبَط ويُحْفَظ؟ أمَّا الأوَّل، فالمكتوبُ محضَرٌ وسجلٌّ، أما المحضر، فصورته "بسم الله الرحمن الرحيم أحضر القاضي فلانَ ابْنَ فلاَنِ، وأحضر معه فُلاَنَ بْنَ فلانٍ" ويرْفَعُ في نسبهما قَدْرَ ما يفيد التمييز، وهذا إذا عرفهما القاضي، ويُسْتَحَبُّ مع ذلك التعرُّضُ لحليتهما طولاً وقصرًا في القَدِّ، وسمرةً، وشقرةً في الوجه، ويصف منهما الحاجب، والعين والفم والأنف. وإن لم يعرفهما، كتب حضرَ رَجُلٌ، ذُكِرَ أنه فلانُ بنُ فلانِ بنِ فلانٍ وأحضر معه رجُلاً، ذكر ذلك المحْضَر أنه فلانُ بنُ فلانِ، ولا بدّ، والحالة هذه، من التعرّض لحليتهما ثم يكتب: وادَّعى عليه كذا من عَيْنِ أو دَيْن، بصفتهما، فأقرَّ المدَّعَى عليه بما ادَّعَى، وإن أنكر وأقام المدعي البينة، كتب، فأنكر، فأحضر المدعي فلانًا، وفلانًا شاهِدَيْن. وسأل القاضي سماع شهادتهما، فسمعها في مجلس حكمه، وثبت عنده عدالتهما، فسأله أن يكتب محضرًا بما جرى، فأجابه إليه، وذلك في تاريخ كَذَا، وثبَتَ عَلَى رأس المحْضَر علامته؛ من الحمدلة، وغيرها، ويجوز أن يُبْهِمَ ذكْرَ الشاهدَيْن، فيكتب: وأحْضَرَ شهدَيْن، عدّلَيْن، فَشَهِدَا له بما ادعاه. ولو كان مع المدَّعِي كتابٌ فيه خطُّ الشاهدَيْن، فإن كتب تحْتَ خطوطهما، شَهِدَا عنْدِي بذلك، وأثبت علامته على رأس الكتاب، واكتفى به عن المحضر، جاز، وإن كتب المحضر، وضمنه ذلك الكتابَ، جاز، وعلى هذا قياسُ المَحْضَر، يذكر تحليف المدعى عليه، أو تحليفُ المدَّعِي بعد نكول المدعَى عليه. وأما السِّجِل فصورته بسم الله الرحمن الرحيم. هَذَا ما أَشْهد عليه فلانٌ القاضي بموضع كذا، في تاريخ كذا، أنه ثبت عنده كذا بإقرار فلان لفلان، أو شهادة فلان لفلان، ثبتت عدالتهما عنْده أو بيمينه بعْد نكول المدعَى عليه، وأنه حكم بذلك لفلانٍ على فلان، وأنفذه بسؤال المحْكُوم له. ويجوز أن يكتب، ثبت عنده ما في كتابٍ، هذا نسخته، وينسخ الكتاب إلى آخره، ثم يكتب، وأنه حكم بذلك. وكيفية التعرُّض لنسب المتداعيين، وحليتهما على ما ذكرنا في المحْضَر، وفي تعْليق الشيخ أبي حامد أن ابن خَيْرَان، لم يجوِّز للقاضِي التسْجِيلَ، إذا لم يعرف المتداعَيَيْن، والْمَذْهَبُ الأَوَّلُ، وإذا كان التَّدَاعِي بيْن رجُلٍ وامرَأة أو بين امرأتين، واحتاج إلى إثبات الحلْيَة؛ فليكنِ النظَرُ لذلك، كالنظَرِ لتحمُّل الشهادة، وأما أنه كيف يضبط ويحْفَظ فينبغي للقاضي أن يجْعَل المحاضرَ والسِجِلاَّتِ على نسختين؛ يدفع منها واحدةً إلى صاحب الحقِّ غير مختومة، ويحفظ الأخْرَى لديوانِ القضاءِ ويختمها،
ويكتب على رأْسها اسم الخصمين، ويضعهما في خريطة أو قِمْطَرِ (¬1) وهو السَّقْط الذي يجمع فيه المحاضر والسِّجِلات، ويكون بين يديه إلى آخر المجْلِس، فإذا أراد أن يقوم ختمه بنفسه، أو ختمه أمين له بمرأى منه، وأمر بحمله إلى موضعه، ثم يدعو به في اليوم الثاني. وينظر في الختم، يُفكه بنفسه، أو يفكه أمينه، وهو ينظر إلَيْه، ويضع فيه كتب اليوم الثاني؛ كما ذكَرْنا، وهكذا يفعل حتى يمضي أسبوعٌ فإن كثرت، جعلها في إضبارة، وكتب عليها خصوماتِ أسبوعِ كذا، من شهر كذا، من سنة كذا. وسجلاته، وعزلها، وإن لم يكثر، تركها إلى أن يمضي شَهْرٌ ثم يعزلها، فإذا مضت سنةٌ جمعها، وكتب عليها سنة كذا، وذلك ليسهل الوقوف عليها عند الحاجة، وليجعلها في موضعٍ لا يصل إليه غيره، وإذا احتاج إلى شيء منها تولى الأخْذَ بنفسه، ونظر أولاً إلى ختمه وعلاماته. وقوله في الكتاب "وحالةٍ يسرع إليه الغضب فيها"، لا ضرورة إليه بعد قوله: "في حال غضب وجوع" ولو اقتصر على قوله: "في حال غضبٍ وجوعٍ وحالةٍ يَدْهَشُ عن تمام الفكْر لحصل الغرض. وقوله: "وما يَحْكُمُ به، فيكتب محضرًا ديوانيًا" سمي الكتاب المشتمل على الحكم محضرًا، والمشهور من اصطلاح الأصحاب أن السِّجِلِّ ما يشتمل على الحُكْمِ، والمَحْضَرَ الذي فيه ذكْرُ ما جرى من غير حُكْم على ما بَيَّنَّاه. فَرْعٌ: ذكر القاضي أبو سعد الهَرَوِيُّ: أن أخذ الأجرة على السجل، يبنى على الخلاف في وجوبه، إذا طلب صاحب الحق. وقد أطلق في بعض المُسَوَّدَات القول بجواز استئجار القاضي؛ ليسَجِّل، وهو منطبقٌ على مَنعِ الوجوب الذي هو أظْهَر الوجهين، وكذلك استئجار المُفْتي ليكتب الفتوى. آخر: قيل: الوجهان في أنه، هل يجوز أن يكون القاضي أُمِّيًّا؟ يمكن بناؤهما على الوجهين في أنه، هل يجب على القَاضِي كتابةُ المَحْضَر والسِّجِلِّ؟ وفي "الوسيط" ما يقرب من هذا لكن يشبه أن يكون هذا الخلافُ في أنَّ القَاضِيَ، هل يجب عليه تحْصِيلُ الكتاب؟ حجَّة للطالب، إما بنفسه أو بغيره، لا في مباشرته الكتابة بنفسه والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: السَّادِسُ: أَنْ يَخْرُجَ بَعْدَ اجْتِمَاعِ الفُقَهَاءِ وَيُشَاوِرَهُمْ لِتَنْتَفِي التُّهْمَةُ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: المشاورةُ مستحَبَّةٌ عَلَى ما قال تعالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] قال الحسن البصريُّ -رحمه الله-: كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- غنيًّا عن مشاورتهم، ولكن أراد أن يستنَّ به الحاكمُ بعده، ولأن المشاورة أبعد من التهمة؛ وأطيب لنفوس الخصوم، وإنما يشاورِ العلماءَ الأمناء (¬1)، ويُسْتَحَبُّ أن يَجْمَعَ أصحابَ المذاهِبِ المختلفة؛ ليذكر كلُّ واحد منهم دليلَ مَذْهَبِه: فيتأمل القاضي فيها، ويأخذ الأرجح عنده، ثم الذين يشاورهم، إن شاءَ جمَعَهُمْ عنده، وإنْ شاء أقعدهم ناحيةً، فإذا احتاج، استدعاهم، وموضع المشاورة موضع تعارُضِ الآراء واختلاف وجوه النظر، وأما الحُكْمُ المعلومُ بنَصٍّ أو إجماعٍ أو قياسٍ جليٍّ فإنه لا يحتاج فيه إلى مشاورة. وإذا حضر الذين يشاورهم، فإنما يذكرون ما عندهم، إذا سألهم، ولا يبتدِئُونَ بالاعتراض والرَّدِّ على حُكْمِه، إلا إذا كان حكماً مستَحَقَّ النقْضِ، على ما سيأتي تفصيله. وقوله في الكتاب "أن يخرج بعد اجتماع الفقهاء"، كالصريح في أنه يُحْضِرُهُمْ قبل أن يجلس للحكم، وهذا، وإن لم يتعرَّضْ له المعظم، يجوز أن يُوَجَّه بأنهم بانتظاره أوْلَى منْه بانتظارهم. وهذا كقولنا: الإِمام يخرج إلى المصلى بعد اجتماع الناس والله أعلم. قَالَ الغَزالِيُّ: السَّابِعُ: أَلاَّ يَشْتَرِيَ بِنَفْسِهِ وَلاَ بِوَكِيلٍ مَعْرُوفٍ حَتَّى لاَ يُسَامَحَ فِي البَيْعِ، وَلاَ يَقْبَلَ هَدِيَّةً مِمَّنْ لَهُ خُصُومَةٌ، فَإِنْ قَبِلَهَا فَهُوَ سُحْتٌ، وَفِي دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ وَجْهَانِ، وَمَنْ لا خُصُومَةً لَهُ فلا يَحْرُمُ أَخْذُهُ، والأوَلَى أَلاَّ يَأْخُذَ أَوْ يُثَيبَ عَلَيْهِ إِنْ أَخَذَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: يُكْره (¬2) للقاضي أن يتولَّى البيع والشراء بنفسه، أما في غير مجْلِس ¬
الحكم: فلأنه قد يُحابَى بسبب القضاء، فيميل قلبه إلى مَنْ حاباه، إذا وقعت بينه وبين غيره حكومةٌ، وربما خاف خَصْمٌ من غائلة مَنْ مَيْلُ القاضي إليه، فيمتنع مِنْ رَفْعِهِ، وأما في مجلس الحكم، فلهذا المعْنَى، وَلِئَلاَّ يشتغلَ قلبه ويتجرَّد النظر والاجتهاد. وقد رُوِيَ عن شُرَيْح -رضي الله عنه- أنه قال: اشترطَ عَلَّي عمر -رضي الله عنه- حين ولاَّنِي أَلاَّ أُبِيعَ، ولا أُبَاعَ، ولا أَقْضِيَ، وأنا غضبان (¬1)، وسبيله فيما يحتاج إليه مِنْ بيع وشراء أن يوكل، فإذا عَرَفَ الشخْصُ بوكالته، أبْدَلَه بآخر، فإن لم يجد مَنْ يوكِّلُه، عقد بنفسه لضرورة ثم إذا وقعت خصومة لمن عامله، أناب من يحكم بينه وبين خصمه، خوفًا من أن يميل إلَيْه ولا يختص هذا الحُكْمُ بالبيع والشراء بل يعم الإِجارة، والاستئجارُ وسائرُ المعاملات في معناهما بل عن نص الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- في "الأم" أنه لا ينظر في نفقة عياله، ولا أمر ضيعته، ويكله إلى غيره، تفريغًا لقلبه، وعن أبي حنيفة لا يُكْرَهُ له مباشرةُ البَيْعِ والشِّراء. الثانية: الرِّشْوَةَ محرَّمَةٌ، لما رُوِيَ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: رسولُ الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَنَ الله الرَّاشِي والْمُرْتَشِي في الْحُكْم" (¬2) ولأن الحكم الذي يأخذ عليه المَالَ، إما أن يكون بغَيْر حَقٍّ، فيحرم أخذ المال في مقابَلَتِهِ؛ لأنه حرامٌ، أو يكون بحَقٍّ، فلا يجوز توقيعه (¬3) على المال، وهذا إذا أخذ من بيت المال رِزْقًا على القضاء. أما إذا لم يأخذ، فإنَّ الشَّيْخَ، أبا حامد قد ذكر أنه، لو قال للخصمين: لا أقضي بَيْنَكُمَا، حتَّى تجْعَلاَ لِي رِزْقًا، جاز، وحُكِيَ مثْلُه عن القاضي أبي الطَّيِّب وغيره، وهذا كما حكَيْنَا عن القاضي أبي سَعْدٍ الهَرَوِيِّ: أن له أخْذَ الأجرة عَلَى عمله، إن لم يتعيَّنْ عليه القضاء، وإن تعيَّن فكذلك، جواب صاحب التقريب، قال: والأكثرون منَعُوا منْه، ¬
فأما إذا رزَقَهُ أهل ولايته، أو واحدٌ من الناس، فقد تقدم، ويشبه أن يجوز ذلك، إذا جاز الأخذ من الخصمين (¬1). ويحرم على باذل الرشوة البذل، إن كان يبْذُلُها لحُكْمٍ بغيرِ حَقٍّ، أو لدَفْعِ حُكْمٍ بحق، وإن كان يَبْذلَ لِيَصِلَ إلى حقِّه، فلا كفداء الأسير، هذا حكم الرشوة. وأما الهدايا، فالأَوْلى أنْ يَسُدَّ الباب، ولا يقبلها؛ لأنه أبعد عن التُّهْمَة، ثم يُنْظَر، فإن كان للمُهْدِي خصومةٌ في الحال، حرم قبول هديته؛ لأنه يدعو إلى الميل إليه، وينْكَسِر به قلْبُ خصمه، وإن لم يكن له خصومة، فإن لم يعهد منه الهديَّة، قبل تولِّي القضاء، حَرُم قبول هديته في محلِّ ولايته؛ لأن هذه هديَّةٌ سببها العمَلُ ظاهرًا، وقد رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "هَدَايَا الْعُمَالِ غُلُولٌ" (¬2) وَيُرْوَى "سُحْتٌ" (¬3) وهديته في غير محلِّ ¬
ولايته، كهدية من لم يعهد منه الهديَّة قبل تولِّي القضاء؛ لقرابة أو صداقة، ولا يحرم قبولُهَا؛ لأنها ليست حادثةً بسبب العمل. وحكى صاحب "الشامل": أن بعض الأصحاب حكم بتحريمه، وهو قضية ما أطلقه الماوَرْدِيُّ، فإن زاد المُهْدِي على القَدْر المَعْهُود (¬1)، صارت هديته كهدية من لم تعهد منه الهدية. وحيث حكمنا: أن القبول ليس بحرام، فله الأخذ والتملُّك، فالأوْلَى أن يثيب عليها، أو يضعها في بيت المال، وإذا قلْنا، بالتحريم، فلو قيل: هل يملك؟ فيه وجهان: أحدهما: ويُحْكَى عن صاحب "التقريب" نعم؛ لوجود التمليك والقبول. وأشبههما: لا؛ لأنه قبول محرم، فلا يفيد المِلْك وشُبِّه الوجهان بالوجْهَيْنِ فيمن وهب الماء، وهو محْتَاجٌ إلَيْه للوضوء من غير عَطَشٍ بالمتهب، وذكر العراقيون تفريعًا عَلَى أنه لا يجوز القبول وجهين أو قولين فيما يَصْنَع بها لو قَبِلَ: أحدهما: أنه يضعها في بَيْت المال. والثاني: يردها على مالكها، وهذا فيه اضطراب، والقياس ما حكاه أبو الفرج الزاز، وهو أنه إذا لم يملك، ردَّها على مالكها، فإن لم يعرفه، وضَعَها في بيت المالِ. وإذا عَرَفْتَ أن قَوْلَ الرِّشْوة حرامٌ مطلقًا، وقبول الهدية جائزٌ في بعض الأحوال، طلبت الفرق بينهما، وقلت: باذل المال راضٍ فيهما جميعًا، فَبِمَ نميِّزُ بينهما؟ والذي وجدتُّه في الفرق بينهما شيئان: أحدهما: في كلام القاضي ابن كج: أنَّ الرِّشْوَة هي التي يُشْتَرَطُ عَلَى باذلها الحُكْمُ بغير الحقِّ، أو الامتناع عن الحكم بالحق، والهدية، هي العطية المطلقة. والثاني: قال المصنِّف في الاِحياء المال إما أن يُبْذَلَ لغرض آجِلٍ، فهو قربةٌ وصدَقَةٌ، وإن كان لغرض عاجلٍ، فهو إما مالٌ، فهو هبةٌ بشرط الثواب، أو توقُّعِ ثواب، أو عَمَلٌ، فإن كان ذلك العَمَلُ حرامًا أو واجبًا متعينًا، فهو رشوةٌ، وإن كان مباحًا، ¬
فإجارةُ أو جَعالَةٌ، وأما التقرُّب والتودُّد إلى المُهْدَى إلَيْه، وذلك إمَّا أن يطلبه لنفسه، فهو هديَّةٌ، أو ليتوسَّلَ بجاهه إلى أغراض ومقاصد، فإن كان جاهه بالعِلْم أو بالنَّسَب، فهو هدية، وإن كان بالقضاء والعمل، فهو رشوةٌ، والله أعلم. وقوله في الكتاب: "فإن قبلها، فهو سُحْتٌ" بعد قوله: "ولا يقبل الهدية ممن له خصومةٌ" ولا بأس به ليتبين أن المراد من قوله لا يقبل التحريم؟ وليرتب عليه قوله وفي دُخُولهِ في ملكه وجهان: وقوله: "من لا خصومة له، فلا يَحْرُمُ أخْذُهُ" ظاهر إطلاقه نفي التحريم، إنْ كان المُهْدِي مِمَّنْ لَمْ تَجْرِ عادَتُه بالهديَّة، وكذلك في "الوسيط" صريحًا، والمشهور خلافه كما بيناه. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّامِنُ: أَلاَّ يَعَزِّرَ مَنْ أَسَاءَ أَدَبَهُ فِي مَجْلِسِهِ إِلاَّ بَعْدَ الزَّجْرِ بِاللِّسَانِ والإِصْرَارِ، فَإنْ كَذِبُ الشَّاهِدِ عَزَّرَهُ عَلَى المَلأَ وَنَادَى عَلَيْهِ. قَالَ الرَّافِعِيّ: مقصود الفصل أنه كيف يُعزِّر من أساءِ أدبه في مجلسه ومن شهد بالزور عنده، أما الأول، فمن أساء من الخصوم الأدب في مجلسه؛ بأن صرح بتكذيب الشهود، أو ظَهَر منه مع الخصوم لَدَدٌ ومجاوزةُ حَدٍّ، فَيُزْجَرُ عنه، وينهاه، وإن عاد ثانيًا هدَّده، وصاح عليه، فإن لم ينزجِرْ، عزَّره على ما يقتضيه الاجتهاد من التوبيخ وإغلاظ القول له، بأن يقول: أنت متعدٍّ غيْرُ منصف، ومن الحبس والضرب، ولا يحبسه بمجرَّد ظهور اللَّدَدِ، وعن الإِصطخرِّي؛ أنه على قولَيْن، وذكر في التتمة: أنَّه إنما يضربه بالدّرّة، دون السياط إذ الضربُ بالسياط من شأن الحُدُود. وهذا غيْرُ مسلَّم، بل الضربُ بالسياط مشروع في غير الحدود، ألا تَرَى أن لفْظَ الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- في تعزير القاضي شاهِدَ الزُّورِ، حيث قال: عَزَّرَه، ولم يبلغ بالتعزير أربعين سوطًا، ومثال اللدد أن يتوجَّه اليمين على الخَصْم، فيطلب يمينه، ثم يقطعها علَيْه، ويزعم أن له بيِّنَةً ثم يحضره ثانيةً وثالثةً، ويفعل مثل ذلك، وكذا لو حَضَر إنسانًا، وادَّعَى عليه، وقال: لي بيِّنةٌ سأحضرها، وفعل ذلك مرةً ثانيةً وثالثةً إيذاءً وتعنتًا. ولو اجترأ خصْمٌ على القاضي، وقال: أنتَ تجورُ أو تميلُ أو أنتَ ظالِمٌ، جاز أن يعزِّره، وأن يعْفُوَ عنه: والعفْوُ أولَى؛ إن لم يحمل على ضعفه، والتعزيرُ أَوْلَى إن حُمِلَ عليه. وأما الثاني: فشهادة الزور من الكبائر؛ يُرْوَى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "عدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالاِشْرَاكِ بِاللهِ تَعالَى" (¬1) وتلا قوله سبحانه وتعالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا ¬
قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] وإذا ثبت من رجل أنه شهد بالزور، عزَّره القاضي بما يراه من حَبْسٍ وضربٍ وتوبيخٍ، ويشهر حاله، ويأمر بالنداء عليه في سوقه، إن كان من أهل السوق أو قبيلته أو مَسْجِدِهِ، إن كان من أهْل المسجد، تحذيرًا للناس، وتأكيدًا للأمر. وإنما يثبت شهادة الزور بإقرار الشاهد أو بيقين القاضي؛ بأن شهد عَلَى أنَّ فلانًا زنا يَوْمَ كذا بالكُوفَةِ، والقاضي قد رآه في ذلك اليوم ببغْدَاد، هكذا أطلقه الشافعيُّ -رضي الله عنه- والأصحابُ -رحمهم الله-: ولَمْ يخرجوه على أن القاضِيَ؛ هل يحكم بعلمه؟ ولا يغنى قيام البيِّنَة على أنه شهد بالزور، فقد تكون هذه البينة بينَةُ زُور. ويجوز إعلام قوله في الكتاب: "عزره، ونادى عليه" بالحاء؛ لأن عن أبي حنيفة: أنه لا يُعَزَّر شاهد الزور، ولا يُنَادَى عليه. قَالَ الغَزَالِيُّ: التَّاسِعُ: لا يَقْضِي لِوَلَدِهِ وَلا عَلَى عَدُوِّهِ بَلْ يُحِيلُ عَلَى غَيْرِهِ، فَإنْ قَضَى بِنَفْسِهِ فَفِي النُّفَودِ وَجْهَانِ، فَإِنْ مَنَعْنَا قَضَاءَهُ فَفِي نائِبِهِ وَجْهَانِ، وَوَصِيُّ اليَتِيمِ إِذَا وَليَ القَضَاءَ قَضَى لِلَيتِيمِ عَلَى الأَصَحِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صور: إحداها: لا ينفذ قضاءُ القاضي لنفسه (1)، ولا لمملوكه القنِّ (2)، وغير القنِّ، ولا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لشريكه فيما له فيه شركه (¬1)، ولا لشريك مكاتبه، فيما له فيه شركة، ولا يقضي أيضًا لواحد من أصوله، وإن علا، وفروعه وإن سفلوا، ولا لمملوكه، ولا لشريكه فيما له فيه شركة، ولو فعل، ففيه وجهان: أصحهما: أنه لا ينفذ؛ لأنهم أبعاضُهُ، فأشبه قضاءَهُ لنفسه. والثاني: ينفذ؛ لأن القاضي أسيرُ البَيِّنة، فلا يظهر فيه تُهْمة بخلاف الشهادة؛ فإنَّها تتعلَّق بالشاهد خاصَّةً، فإن أراد أن يَقْضِيَ لهم بعلمه لم ينفذ على الوجْهَيْن جميعًا، وإن جوَّزْنا للقاضي أنْ يقضي بعلمه، وصاحب "التلخيص" عَبَّر عن الخِلاَف في المسألة بقولَيْن مخرجَيْنِ من قولَيْن حكاهما في شهادة الرَّجُل لأصوله وفُرُوعه. الجديد المشهور: المَنْع، والقديم الجواز، ويجوز أن يقضي القاضي على أصوله وفروعه، كما يقبل الشهادة عليهم. وفَصَّلَ في "التهذيب" ما يكون حُكْمًا للولد، وما لا يكون حُكمًا له، فقال: يجوز أن يُحْلِفَ القاضي ابْنَه على نَفي ما يُدَّعَى عليه؛ لأنه قطع الخصومة، وليس حكمًا له، وَيَجُوز أن يَسْمَعَ بينة المُدَّعِي على ابنه، ولا يجوز أن يسمع بينة الدفْع من ابنه، وهل يحكم القاضي بشهادة ابنه فيه وجهان (¬2)؛ لأن القضاء بشهادته يتضمَّن تعديله، وإن عدله شاهدانِ، فالمتجه أنه يَقْضِي. فرع: تحاكَمَ إلَيْه ابنُهُ وأبوه، هل له أن يحكم لأحدهما؟ فيه وجهان منقُولاَن في "المُهَذَّب": أظهرهما: وهو المذكور في "التهذيب"، لا، كما لو كانت الخصومةُ لأحدهما مع أجنبيِّ. والثاني: أن يعارض جانيهما بدفع التهمة. الثانية: إذا امتنع حكْمُه لنفسه ولأَبعاضه، فالطريق، إذا وقعت له خصومةٌ أو ¬
لبعض أبعاضه، أن يَنْظُرَ فيه الإِمام، أو قاضِي بلدةٍ أخْرَى، وفي نائبه وجهان: أحدهما: أن ما لا يجوز له لا يَجُوزُ لنائبه. وأظهرهما: الجواز؛ لأنه حاكمٌ، وإن كان نائبًا، فأشبه سائر الحكَّام. وبَنَوْا هذا الخلافَ على أن نائب الحَاكِم؛ هل يَنْعَزِل بموته وانعزاله؟ إن قلْنَا: لا، فقد ألحقْنَا بالحكَّام المستقبلين. الثالثة: كما لا يقضي لولده، لا يقضي على عدُوِّه، اعتبارًا بالشهادة، هذا هو المشهور والمذكور في الكتاب، وقال القاضي الماوَرْدِيُّ في "الأحكام السلطانية": يجوز له أن يحكم عليه، بخلاف الشهادة؛ لأن أسباب الحكم ظاهرة، وأسبابَ الشهادةِ خفيَّةٌ، وهذا يشكل بالتسوية بينهما في حَقِّ الأبعاض. الرابعة: إِذا كانَ لليَتِيمِ وَصيٌّ، فَولَى قضاءَ البَلْدَة، فهل له أن يَسْمَع البَيِّنَة لليتيم ويحكم له؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه أجاب ابن الحَدَّاد: لا؛ لأنه إذا حَكَم، فقد أثبت الولاية لنَفْسِهِ. وأصحُّهما: نعم، وبه قال القَفَّال؛ لأن القاضي يَلِي أمر الأيْتام كلِّهم، وإن لم يكن وصيًّا من قبل، فلا تُهْمَةَ والله أعْلَمُ. قَالَ الغَزَالِيّ: العَاشِرُ أَلاَّ يَنْقُضَ قَضَاءَ نَفْسِهِ وَقَضَاءَ غَيْرِهِ إِلاَّ إِذَا خَالَفَ أَمْرًا مَقْطُوعًا بِهِ أَوْ مَظْنُونًا بِخَبَرٍ وَاحِدٍ أَوْ بِقِيَاسٍ جَلِيٍّ، وَلَمْ يَنْقضْ عُمَرُ قَضَاءَهُ فِي مَسْأَلَةِ المُشَرِّكَةِ، والنَّصُّ أَنَّهُ يَنقُضُ قَضَاءَ مَنْ حَكَمَ بِنِكَاحٍ المَفْقُودِ زَوْجُهَا بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ مَعَ أنَّهُ مَذْهَبُ عُمَرَ، وَيُنْقَضُ قَضَاءُ الحَنَفِيِّ فِي خِيَارِ المَجْلِسِ والعَرَايَا وَذَكَاةِ الجَنِينِ لِظُهُورِ الخَبَرِ، وَفِي القَتْلِ بالمُثَقَّلِ لِظُهُورِ القِيَاسِ، وَإِذَا لَمْ يَنْقَدِحْ في نَفْسِهِ إمْكَانُ الصَّوَابِ انْقِدَاحًا لَهُ وَقْعٌ مَا، فَلَهُ النَّقْضُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفصل يحوج إلى التعرُّض لقواعد: إحداها: الأصول التي يَقْضِي بها القاضي، ويفتي بها المُفْتِي؛ كتاب الله تعالى، وسنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والإجْمَاعُ والقياسُ، وقد يقتصر على الكتابِ والسُّنَّة، ويُقَال: الإِجماعُ يَصْدُر عن أحدهما، والقياس الردُّ إلى أحدهما فهما الأصلان. وهاهنا مسألتان: إحديهما: قول الواحد من الصحابة، إن لم ينتشر فيهم فهل هو حجة؟ فيه قولان:
القديم، نعم، لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اقْتَدُوا باللّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي؛ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ" (¬1) وأنه قال: "عَلَيْكُم بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ مْنْ بَعْدِي" (¬2) وأنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ" (¬3) وأيضًا فإن قوله إن استند إلى نصٍ، وجب اتباعه، وإلا، فاجتهاده أقوى؛ لأنه شاهد الوحْيَ وسمع الألفاظ ورأى القرائن. والجديد: لا، لأنَّهُ غير معْصُومٍ عن الخطأ، فأشبه التابعي ولأن غيره يساويه في ¬
آلة الاجتهاد، فلا يكون قوله حجةً عليه، وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازيُّ وغيره؛ أن مالكًا وأحْمَدَ -رحمهما الله- قالا بِالقَوْلِ الأول، وأن أصحاب أبي حنيفة قالوا: إن خالف قولٌ القياسَ، فهو توقيفٌ تقدَّم على القياس، وعلى ذلك بِنوا الحكْمَ في نَذْرِ ذَبْحِ الولد؛ لقول ابن عباس -رضي الله عنهما- ثم في موضع القولَيْن طريقان فعن أبي بكر الصيْرَفِيِّ، والقفَّال أيضًا: أن القولين، فيما إذا لم يكُنْ مع قوله قياسٌ أصْلاً، أما إذا كان معه قياسٌ ضعيفٌ، فيحتج به، ويرجح على القياس القوي، وقال الأكثرون: لا فَرْقَ، فإنْ قلْنَا: بالقديم، وجب الأخْذُ به، وترك القياس، وفي تخصيص العموم به وجهان: وجْهُ الْجَوَازِ أنَّه يجوز تخصيصه بالْقِيَاسِ فيما تقدم عليه أولَى، ووجه المنع: أنهم كانوا يتركون أقوالهم بالعموميات، فأولى أن يَتْرَكَها غيرهم، فإن قلْنا: بالجديد، فهو كقول سائر المجتهدين. نعم، لو تعارَضَ قياسان، أحدهما يُوَافِقُ قولَ الصحابيِّ، قال صاحبُ الكتاب في الأصول: قَدْ يَمِيلُ نفْسُ المجْتَهِد إلى ما يوافق قوْلَ الصحابيِّ، ويرجح عنده، هذا إذا لم ينتشر قوله، فإن انتشر، فإما أن يخالفه غيره ويوافقه سائر الصحابة، ويقولوا بمثل ذلك أو يسكتوا، فإن خالفه غيره، فعلَى الجَدِيد، هو كاختلاف سائر المجتهدين، وعلى القديم هما حُجَّتَان تعارضَتَا. فإن اختص أحد الطرفين بكثرة العَدَد، أو بموافقة أحد الخلفاء الأربعة يُرَجِّح، نصَّ عليه في القديم في موافقة أبِي بَكْرٍ وعمرَ وعُثْمان -رضي الله عنه- وعلي -عليه السلام- في معناهم، لكنه اكتفى بذكرهم، وقيل بخلافه؛ لأنهم كانوا في دار الهجرة، والصحابةُ متوافرون، وكانوا في حكمهم وفتواهم يتشاورون، وعليٌّ -رضي الله عنه- انتقل إلى الكوفة، وتفرَّقَتِ الصحابةُ، ولم يُوجد واحدٌ من الأمرين في وَاحِدٍ من الطرفين أو وجد في كل واحدٍ منهما أحد الأمرين فهما سواء. ولو كان في أحَدِ الطرفين أبو بكر وعمر، وفي الآخر عليٌّ وعثمانُ -رضي الله عنهم-، فيستويان، أو يترجَّح طرف الشيخين؟ فيه وجهان، ويشبه أن يَجِيءَ مثْلُهما في تعارُضِ الشيخَيْنِ حتَّى يستوي الطرفان على وجه، ويترجح طَرَفُ أبي بكْرٍ على الثاني، وإن وافقه سائرُ الصحابة، وقالوا بما قاله، فهذا إجماعٌ منهم على الحُكْم، ولا يُشْتَرَطُ فيه انقراضُ عَصْرِ المجمعين على أصحِّ الوجهين، ولا يتمكن أحد منهم من الرجوع، بل يكون قوله الأول مع قول سائر المجمعين حجَّةٌ عليه، كما هو حجة على غيرهم. وإن سكتوا، فاختيار صاحب الكتاب في الأصُولِ أنه لَيْسَ بحُجَّة، والمشهُور عنْدَ الأصحاب خلافُهُ؛ لأنهم، لو لمَ يساعِدُوه، لاعْتَرَضُوا عليه، نعم، ذكروا وجهين في أنَّه، هَلْ يعدُّ ذلك إجماعًا؟ قال القاضي الرويانيُّ: وهذا إذا لم تظهر أمارات الرضا ممن
سكت، فإن ظهرت، فهو إجماع بلا خلاف، قالوا: وأصحُّ الوجهين هاهنا انقراض العصر في كونه حجَّةً أو إجماعًا وهل يُفرق بين أن يكون ذلك القولُ مجرَّد فتوى أو حكمًا من إمام أو حاكم؟ فيه طرق عن ابن أبي هريرة: أنه، إن كان فتوى وسكَتُوا، انتهضت الحجة، وفي الحكم بخلافه؛ لأن الاعتراض على الإِمام ليس من الأدب، فلعل السكُوتَ كان لذلك، وعن أبي إسحاق عكْسُه؛ لأن الحكم يَصْدُر عن مشاورة ومراجعة. وقال الأكثرون: لا فَرْقَ وكانوا يعترضون عَلَى الإِمام؛ كما يعترضون على غيره، ألا تَرَى أنهم خالفوا أبا بكر في الجَدِّ، وعمر -رضي الله عنه- في المُشَرّكة، هذا إذا نُقِلَ السكوتُ، أما إذا لم ينقلْ قَوْلٌ ولا سكوتٌ فيجوز ألاَّ يلحق بهذا، ويجوز أن يستدل به على السكوت؛ لأنه لو قال شيئًا، لنقل كما نقل اختلافهم في مسائل الاختلاف. المسألة الثانية: قد يستحسن والشيْءُ بدليل يقوم عليه في كتاب أو سنة، أو إجماعٍ، أو قياسٍ، فيتبع ويستحسن لأَمْرِ يهجس في النفْس أو لعادةِ الناس من غير دليلٍ، أو على خلافِ الدليل، وهذا لا يجوز اتباعه وبناءُ (¬1) الحكْمِ عليه، وعن أبي حنيفة -رضي الله عنه- أنه يتبع ما يستحسن بالعادَةِ ويُتْرَكُ له القياس، وخَبَرُ الواحد دون الكتاب والسنة المتواترة، ومثل ذلك بقوله في أربعة شَهِدُوا على رجل بالزِّنا في بيْتٍ واحدٍ. وعين كلُّ واحد منهم زاويةً غَيْرَ ما عين أصحابه، أن القياس أن الشهود قَذَفَةٌ يُحَدَّونَ، وتُرَدّ شهادتهم (¬2) ولكنِ استحْسَنَ قبول شهادتهم ورجم المشهود عليه، وفسر متأخرو أصحابه الاستحسان بأن يترك القياس بالسنة، وربما قالوا: هو القول بأقوى القياسين. وعلى هذا فلا خلاف بيننا وبينهم. القاعدة الثانية: اختلفتْ عباراتُ الأصحاب في تقسيم القياس، والأقرب إلى كلام الشافعيِّ -رضي الله عنه- أن القياس نوعان جليٌّ وغيْرُهُ، أما الجَلِيُّ، فهو الذي يُعْرَفُ به موافقةُ الفرع للأصل، بحيث لا يبقى احتمالُ مفارقتها، أو يبعد ذلك، كظهور التحاق الضرب بالتأفيف في قوله تعالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] وما فوق الذرة في قوله تعالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] وما فَوْقَ النَّقِير، بالنقير في قوله تعالَى: {وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124] والدينار بالقنطار في قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ من إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] والقنطار بالدينار في قوله عَزَّ وَجَلَّ: ¬
{وَمِنْهُمْ من إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] ومن عرف شيئًا من هذه النصوص، لم يرتِّب في هذه الإِلحاقات؛ لأن الفروع أولَى بهذه الأحكام من الأصول. وبعض الأصحاب لم يسم هذا النوعَ قياسًا، ويقول: هذه الإلحاقات مفهومة من النصوص ويقرب منها التحاقُ العمياء بالعوراء، في حديث المَنْع من التضحية بالعوراء (¬1)، ويليها التحاق سائر التغيرات المزعجة بالغضب، في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَقْضِي الْقَاضيِ، وَهُوَ غَضْبَانُ" (¬2) وسائر الميتات بالفأرة وغير السَّمْن بالسَّمْن، في قوله في الفأرة تقع في السَّمْنِ، إن كان جامدًا فألقوها، وما حَوْلَها، وإن كان مائعًا فأرِيقُوهُ". والغائط بالبَوْلِ في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ" (¬3). ومن الجلِيِّ ما ورد النصّ فيه على العلة، كما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الرَّافَّةِ" (¬4) وجعل ذِكْرَ المعاني في ترتيب الأحكام عليها، كما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- سَهَا، فسجد (¬5)، وأن ماعِزًا زنى، فرُجِمَ (¬6)، وأن بريرة عَتَقَتْ، فخُيِّرَت (¬7) عن النصِّ على العلة، وكذلك قولُه تعالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} إلى قوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 20، 21] لأنه بَيَّنَ أن العلة الإِفضاء. والنوع الثاني: وهو غير الجَلِيِّ، وهو ما لا يزيل احتمال المفارقة، ولا يبعده كل البعد فمنه ما كانت العلَّة فيه مستنبطةً، كقياس الأرز على البر، بعلَّةِ الطّعْم، وعن ابن القاصِّ أنه من الجَليِّ أيضًا، والظاهر الأوَّلُ، ومنه قياس الشبه، وهو أن تُشْبِهَ الحادثةُ أصلَيْن، إِما في الأوصاف، بأن يشارك كلُّ واحد من الأصلين في بعض المعاني، والأوصاف الموجودة فيه أو في الأحكام، كما أن العبد يشارك الأحرار في بعض الأحكام والأقوال في بعضها، فيُلْحَقُ بما المشاركة معه أكثر من الأصلين. وربما يُسَمَّى قياس الشبه خفيًّا والذي قبله من غير الجَلِيِّ واضحًا، وربما خص اسم الجلِيِّ ببعض النوع الأول وهو ما كان الفرع فيه أولَى بحكم الأصل، وسمى ما عداه واضحًا، وهذه أمور اصطلاحية. القاعدة الثالثة: للأصحاب طريقان في المسائل الشرعية الَّتِي هي محَلُّ الاختلاف واختلاف المجتهدين. ¬
أشهرهما: أنَّ فيها قَوْلَيْنِ: أصحهما: أن الحقَّ فيها واحدٌ، والمجتهد مأمور بإصابته، ومن ذهب إلى غيره فهو مخطئٌ، لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ" (¬1) وأيضًا فإنَّ الصحابَةَ -رضي الله عنهم- خَطَّأَ بعْضُهم بعضًا في مسائل الاختلاف. وروي عن أبي بَكْر -رضي الله عنه- أنه قال في الكلالة أقول فيها بِرَأْي إنْ كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمنِّي، وأستغفر الله (¬2) ويُرْوَى مثله في وَقَائِع مختلفةٍ عن عُمَرَ وعليٍّ وابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنهم (¬3) - فَدَلَّ ذلك على أن المجتهدين، إصابة وخطأ. والثاني: أن كل مجتهد مصيبٌ؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ منْهُم مأمورٌ بالعمل بما أداه اجتهاده إليه، وغير الحق يؤثر بالعمل به، ولأنه لو لم يكُنْ كذلك، لَتَبرأ الأولُونَ ممَّن يُخالف الحقِّ، ولمنعوهم كما فَعَلُوا بمانعي الزكاة. والطريق الثاني: القطع بالقول الأوَّل، قال أبو إسحاق والقاضي أبو الطَّيِّب، فإن قُلْنَا: إن المُصِيبَ واحدٌ، فالمخطئُ معذورٌ غير آثم، وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازيُّ: أن القاضي أبا بكر الأشعريَّ حَكَى عن أبي عليِّ بْنِ أبي هريرة: أن المخطئ آثمٌ المذهب الأَوَّلُ، والخبر السابق دليلٌ عليه، وعلام يُؤْجَرُ المخطئ؟ فيه وجهان؛ عن أبي إسحاق: أحدهما: وهُوَ ظاهرُ النصِّ، واختيار المزنيِّ -رحمه الله-: أنه يُؤْجَرُ علَى القَصْد إلى الصواب، ولا يُؤْجَرُ علَى الاجتهاد؛ لأنه اجتهاد أفْضَى به إلى الخَطَأ، وكأنه لم يسْلُكِ الطريق المأْمُورَ به. ¬
والثاني: أنه يُؤْجَرُ عليه، وعلى الاجتهاد جميعًا؛ لأنه بَذَلَ ما في وسعه في طلب الحق، والوقوف عليه، وربما سلك الطريق في الابتداء، ولم يَتيسَّر له الإِتمام. وإن قلنا: إن كل مجتهدٍ مصيبٌ؛، فهل نقول: الحكْمُ والحَقُّ في كل واحد من المجتهدين: ما غلب وعلى ظنِّه، أو نقول: الحقُّ واحدٌ، وهو أشبه مطلوب إلاَّ أنَّ كلَّ واحدٍ منهم مُكَلَّفٌ بما غلب على ظنه، لا بإصابة الأشبه؟ فيه وجهان: اختيار صاحب الكتاب منهما الأوَّل، وبالثاني أجاب أصحابنا العراقِيُّون، وحكَوْه عن القاضي أبي حامد، والدَّارِكِّي. وهذه قواعد أصوليةٌ تكلَّمْنا فيها على طريقة المذْهَبَيْن. ولم نشبع إذا عَرَفْتَ ذلك، فمهما قضى القاضي بالاجتهاد، ثم بَانَ له الخطأُ في قضائِهِ، فله حالتان: إحداهما: أنه، إذا بان أنه خالَفَ أمرًا مقطوعًا به، كنصِّ كتابٍ، أو سنةٍ متواترةٍ أو إجماعٍ، أو مظنونًا ظنًّا محكمًا بخَبَرِ الواحِدِ، وبالقياسِ الجَلِيِّ؛ لزمه نقض قضائه. رُوِي أن عمر -رضي الله عنه- كان يفاضل بين الأصابع في الدِّيَة؛ لتفاوت منافعها حتى رُوِيَ له الخَبَرُ في التَّسْوية، فنقض حكمه (¬1)، وأنه كتب إلى أبي موسَى -رضي الله عنه-: لا يمنعك قضاء قَضَيْتَه، ثم راجعْتَ فيه نَفْسَكَ، فَهُدِيتَ لرُشْدِهِ، أن تَنْقُضَهُ، فإنَّ الحق قوام، لا يَنْقُضُهُ شَيْءٌ، والرجُوعُ إلَى الحَقِّ، خَيْرٌ من التمادِي في البَاطِلِ (¬2)، وعن عليٍّ -رضي الله عنه- أنه نقص قضاءَ شُرَيْحٍ -رحمه الله- بأنَّ شهادة المولى لا تُقْبَلُ بالقياس الجَلِيِّ، وهو أن ابن العم يَقْبَلُ شهادته مع أنه أقرب من المولى. وهل عَلَى القاضي تعريفُ الخصمين صُورةً الحَالِ؛ ليترافعا إليه، فينقض الحكم حكى القاضي ابن كج عن ابن سُرَيْجٍ: أنه لا يجب إذا عَرَّفاه أنه بأن الخطأ، فإن ترافعا إليه، نقض، وعن سائر الأصحاب: أنَّه يجب، وإنْ علما أنه بَانَ الخَطأ؛ لأنهما قد يَتَوَهَّمَان أنَّه لا ينقض الحُكْم، وإن بأن الخطأ فيعرفهما أنه على النقض؛ ليترافعا إليه، هذا إذا كان الحكم فيما يتعلَّق بحقوق الآدميِّين. ¬
فإن كان فيما يتعلَّق بحدود الله تعالَى: فيبادر إلى تداركه، إذا بان الخطأ، وما لا يمكن تداركه، فحكم الضمان فيه، على ما هو مذكورٌ في مَوْضِعِهِ. الحالة الثانية: إذا ظَهَرَ بقياسٍ خَفِيٍّ، رَجَحَ عنْده على ما حَكَم به، ورأى الصواب، فيحكم من بعد في أخوات الحادثة، بما ظهر له، ولكنْ لا يُنْقَضُ قضاؤه الأول، بل يمضيه؛ لأن الظنون المتعادِلَةَ لو نُقِضَ بعضُها ببعْض؛ لما استمر حكم، ولشق الأمر على الناس، ومشهورٌ من عُمَرَ -رضي الله عنه- أنه حَكَم بِحِرْمَانِ الأخ من الأبوين في المشرّكة، ثم شرك بعد ذلك، ولم ينقض قضاءه الأول، وقال: ذلك على ما قضيناه، وهذا على ما نقضي. وما ينقض به قضاء نفسه، ينقض به قضاء غيره وما لا ينقض لا ينقض، لا فرق بينهما إلا أنَّه لا يتبع قضاء غيره وإنما ينقضه، إذا رُفِعَ إليه، وله أن يتبع قضاء نفسه؛ لينقض، ولو كان المتصدِّي للْقَضَاء قبله، مِمّنْ لا يَصْلُحُ لِلقَضَاء؛ ففي "المهذَّب" و"التهذيب" وغيرهما: أنه يَنْقُضُ قضاياه كلَّها، أصاب فيها أو أخْطَأ؛ لِصُدُورها ممَّنْ لا يَنفُذُ حكمه. وقوله في الكتاب: "إلا إِذَا خالف أمرًا مقطوعًا به أو مظنونًا بخبر واحدٍ أو بقياسٍ جَلِيٌّ" يجوز إعلامه بالحاء والميم؛ لأن عن أبي حنيفة ومالكٍ -رحمهما الله- أنَّه لا يُنْقَصُ بخبر الواحد هو القياسِ الجليِّ، ولا بِكُلِّ مقطوعٍ به، وإنما يُنْقَضُ إذا بان له مخالفةُ الإِجماع، ولا ينقض ما وافق قول بعض العلماء، ثم لم يفيا بهذا الضبط، فعن أبي حنيفة أنه ينقض قضاء من بدأ القسامة بيمين المُدَّعِي، ومن أبطل السراية في العتق، ومن صحَّح بيع متروك التَّسْمية، ومن قضى بالشاهد واليمين. وعن مالك: أنه لا ينقض قضاء من أثبت الشفعة للجار، فهذا هو القول الجُمَلِيُّ في الحكم الذي يُنْقَضُ، والذي لا يُنْقَضُ، وحاول في الكتاب ضَبْطَ ذلك، فقال: "وَإِذا لم ينْقَدِحْ في نَفْسِهِ إمكانُ الصَّوَاب انقداحًا له، وقْعٌ فله فَلَهُ النَّقْضُ" وذلك في النصوص، لصحة موردها، وصراحَةِ لفظها، وبُعْدِها عن قبول التأويل، في الأقيسة موضحها وموافقتها الأصول، وإذا لم تكُنْ كذلك، وتقارب النظران، فلا نقض، ويختلف الحال في ذلك بالمجتهدين، وآحاد الأدلَّة ثم تكلَّموا في صُوَرٍ فردةٍ. منْهَا: لو قضى قاضٍ بصحَّةِ نكاحِ المفقودِ زوْجُها بعْدَ أربع سنين، ومضَى مدة العدة؛ ففيه وجهان: أشهرهما، وهو ظاهر النص: حكمه منقوض بمخالفة القياس الجليِّ؛ بأنْ يُجْعَلَ حيًّا في المال، فلا يُقْسَمُ على ورثته، ويُجْعَلُ ميتًا في النكاح.
والثاني: المنع، كما في معظم المجْتَهَداتِ، قال القاضي الرُّويانيُّ: وهو الصحيح، وقرب من هذا الخلافِ الخلافُ في نقض قضاء مَنْ قَضَى بحصول الفرق في اللعان، بأكثر الكلمات الخَمْس، وبسقوط الحد عمن نكح أمة، وَوَطِئَها. ومنْها: قضاء الحنفيِّ ببطلان خيار المجْلِس والعرايا بالتقييد الذي يجوزه. وفي ذكاة الجنين، قيل: إنه منقوض؛ لظهور الأخبار وبُعْدِها عن التأويلات الَّتِي يدعونها، وكذلك في الْقَتْل بالمُثَقِّل؛ لأنه على خلاف القياس الجَلِيِّ في عصمة النفوس، وهذا ما أورده الإِمام، وصاحب الكتاب، وبمثله أجاب محقِّقون في الحُكْم بصحة النكاح بلا وَليِّ. وفي بيع أُمِّ الولد، وثبوت حرمة الرَّضَاع بعد الحولَيْن، وصحَّة النكاح بشهادة الفاسِقين من غير إعلان، ونكاح الشِّغَار، ونكاح المُتْعَة، وفي الحُكْم بقتل المسلم بالذمِّيِّ، وبأنه لا قصاصَ بَيْن الرَّجُل والمرأة، في الطرف، وبجريان التوارُثِ بيْنَ المُسْلِم والكافر، ويردّ الزوائد مَعَ الأصلِ في الردِّ بالعيب على ما ذهب إليه ابن أبي لَيْلَى. ومن الأصحاب من منع النقض (¬1)؛ وقال: هي مسائلُ اجتهاديَّةٌ، والأدلَّةُ فيها متقاربةٌ، قال القاضي الرويانيُّ: وهو الصحيح، وكذلك ذكره القاضي ابن كج في الحُكْم ببطلان خيار المجلس، ويوافقه ما ذكرناه في باب النكاح، في الحُكْم بالنكاح بلا وليِّ، ويُنقَضُ قضاء من حَكَمَ بالاستحسانِ الفَاسِد. فَرْعٌ: ما ينقضه من الحُكْم إذا كتب به إليه، فلا يخفى أنَّه لا يقبله، ولا ينفذه، وأما ما لا ينقضه، ويرى غيره أصْوَبَ منه. فقد حكَى القاضي ابن كج عن نصِّ الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- أنه يعرض عنْه، ولا ينفذه، كما لا ينقضه؛ لأن التنفيذ إعانةٌ عَلَى ما هو خطأٌ عنْدَهُ. وقال ابن القاضِّ في "أدب القاضي": لا أحب أن ينفذه، كما لا يبتدئ الحُكْم بما يرى غَيْره أصوب منْه، وفي قوله: "لا أحب" إشعار بأصل التجويز، فيشبه أن تكون المسأَلَةُ على وجهين، وقد صَرَّح بنقلها أبو الفرج السرخسيُّ -رحمه الله- فقال: إذا رُفِعَ إليه حكم الحاكم قَبْلَه، فلم يرَ فيه ما يقتضي النقض، لكن أدى اجتهاده إِلَى غيره، فوجهان: ¬
أحدهما: أنه يعرض عنه. وأصحهما: أنه ينفذه، وهذا ما عليه العمل، وبه قال أبو حنيفة: أنه لو حكم بنَفْسِه، ثم تغيَّر اجتهاده تغيرًا لا يقتضي النقض، وترافع خَصْمًا الحادِثَةِ إلَيْه، فإنه يمضي حكْمَه الأول، وإن أدى اجتهادُهُ إلى أن غيره أصْوَبُ منه. فَرْعٌ: المقلِّد المستقْصَى للضرورة، لو حكم بمَذْهَبٍ غَيْرِ مقلِّده؛ قال صاحب الكتاب في الأصول: إن قلْنا لا يجوز للمقلِّد تقْلِيدُ من شاء، بل عليه اتِّبَاعُ مقلَّده الذي هو أعْلَمُ عنده؛ فينقض حكمه، وإن جوَّزْنا له تقليد مَنْ شاء، فلا ينقض والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: ثُمَّ الحُكْمُ عِنْدَ اللهِ فِي البَاطِنِ لاَ يَتَغَيَّرُ (ح)، وَلا يَحِلُّ لِلشَّفْعَوِيِّ شُفْعَةُ الجَارِ وَإِنْ قَضَى بِهَا لَهُ الحَنَفِيُّ وَلَكِنَّ القّاضِي لا يَمْنَعُهُ مِنَ الطَّلَبِ اعْتِمَادًا عَلَى اعْتِقَادَ نَفْسِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: حكم القاضِي قسمان: أحدهما: ما ليس ناشئًا، وإنما هو تنفيذٌ لما قامَتِ الحجَّةُ عليه، فينفذ ظاهرًا، لا باطنًا، حتَّى لو حكم بشهادة الزور وبظاهر التعديل، لم يفد حكمه الحِلَّ باطنًا، سواءٌ كان الحكْمُ بمال أو نكاحٍ أو غَيْرِهِما، وبه قال مالك، وأحمد. وقال أبو حنِيفَةَ -رحمه الله- يَنْفُذُ في العقودُ والفسوخُ ظاهرًا وباطنًا، حتى إذا قَضَى القاضِي بالنِّكَاح بشهادَةِ الزُّور، حَلَّ للمشهود له وَطْؤُها، وإذا قضى بالطلاق، حرم على المشهود عليه الوطءَ وساعدنا في الأملاك المطْلَقَة، أنه لا يَنْفُذُ فيها إلا ظاهِرًا؛ لنا: ما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّمَا أنَا بَشَرٌ، وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِليَّ، وَلَعَل بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجتِّهِ مِنْ بَعْضٍ، فأَقْضِي لَهُ عَلَى مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فَلا يَأْخُذَنَّهُ، إِنَّما أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ" (¬1) ويُرَوى "إنما أحْكُمُ بالظَّاهِرِ، واللهُ يَتَوَلَّى السَّرائِر" (¬2). ¬
وأيْضًا فإنه قضَى بشهادة الزور، فلا يفيد الحِلَّ، كالأملاك المطْلَقَة، وإذا كان المحكوم به نكاحًا، لم يحلَّ للمحكوم له الوطء، وعليها الامتناع والهرب ما أمكنها، فإن أُكْرِهَتْ، فَلا إِثْمَ عليها، وعن الشيخ أبي حامد أن المحكوم له، زانٍ، إذا وطئ، محدود. ولم يأخُذْ به صاحبُ "الشامل"، والقاضي الرويانيُّ؛ لأن أبا حنيفة يجْعَلُها منكوحةً بحكم القاضي، فيكون وَطْؤُه وطئًا في نكاح مختلَفٍ في صحته، وهو شُبْهة دارئةٌ للحدِّ. ولو كان المحكوم به الطلاقَ، حل للمَحْكُوم عليه وَطْؤُها، إن ظِفَرَ بها، لكنَّهُ يُكْرَهُ؛ لأنه يعرِّض نَفْسَهُ للتُّهْمَة، والحدِّ، وينفى التوارُثُ بينهما، ولا يُنْفَى النفقة؛ للحيلولة، وإذا تزوَّجت بآخر فالحِلُّ مستمر للمحكُومِ عليه. نعم لو وَطِئَها الثاني جاهلاً بالحال، فهو وطءُ شبْهةٍ، فتحرم في مدة العدة على الأول، وإن كان الثاني عالمًا، أو نكَحَها أحَدُ الشاهِدَيْن، فقد قبل: إن وَطْأه لا يحرمها على الأول، ويوجب الحدَّ عليه، والأشبه ما ذكره الروياني؛ وهو أنه يُجْعَلُ وطء شبهةٍ؛ لما سبق، قال: وقد سَمِعْتُه من بعْضِ شيوخِنَا في النَّظَرِ، ولم أره في كتب المذهب. والقسم الثاني: الإنشاءاتُ؛ كالتفريق بين المتلاعِنَيْن، وفسخ النكاح بالعَيبْ، والتسليط على الأخْذِ بالشفعة، وما أشبههما، فإن ترتَّبت على أصْلٍ كاذبٍ، فالحُكْمُ كما في القسم الأول. ومثاله؛ الفسخ بعَيْبٍ قامت عليه شهادةُ زُورٍ وإن ترتَّبت على أصلٍ صادقٍ، مما لم يكُنْ في محل اختلاف المجتهدين، فهو نافذ ظاهرًا وباطنًا، وما كان مختلفًا فيه فينْفَذ ظاهرًا، وفي الباطن وجهان: أحدهما: المنع، وبه قال الأستاذ أبو إسحاقَ الإِسفرايينيُّ؛ لتعارض الأدلة، وتقابل النظر. والثاني: أنه يَنْفُذُ، لتَتَّفِقَ الكلمةُ، ويتم الانتفاع، وإلا فإذا حكم الحنفيُّ للشافعيِّ بما لا يعتقده الشافعيُّ، لم يتهيأ للشافعيِّ الأخذ، وإذا حكم الشافعيُّ عَلَى الحنفيِّ بما يعتقده، سرفه الحنفي، إذا وجد فرصةً، وقد أشِيرَ إلَى هذا، بناءً هذا الخلاف. على أن كلَّ مجتهد مصيبٌ؛، أو الصَّوابُ في واحدٍ، إن قلْنا بالأول، نفَذَ ظاهرًا وباطنًا. وإن قلنا بالثاني، لم ينفذ باطنًا وفي "التهذيب" وجه ثالث فارِقٌ بين من يعتقد حكمه من الخصْمَيْن، فنفذ في حقِّه باطنًا أيضًا، ومن لا يعتقد، فلا ينفذ، وهذا يشبه الخلاف في
أنَّه، إذا اقتدى الحنفي بالشْفَعَوِيِّ تعين (¬1) اعتقاد الإِمام اعتقاد المأموم، وإذا منَعْنا النفاذ باطنًا، أما مطلقًا أو في حق من لا يعتقده، فلا يحل للشافعيِّ الأخذُ، إذا حكم له الحنفيُّ بشفْعَة الجوار، أو بالتَّوْرِيثِ بالرَّحِمِ، وهذا ما أورده في الكتاب. والأصحُّ عند جماعة؛ منهم صاحب "التهذيب"، والشيخ أبو عاصم العباديُّ: أنه ينفذ باطنًا في حقِّ من يعتقده، وفي حق من لا يعتقده، وإذا قيل بما في الكتاب، فمنعه القاضي ظاهرًا؛ لاعتقاده أو لا يمنعه لاعتقاد نَفْسه، حكي في "الوسيط" فيه ترددًا، والصحيحُ: أنه لا يُمْنَعُ ومَنْ منعه، فقد قال: لا ينفذ القضاءُ في حقِّه، لا ظاهرًا، ولا باطنًا (¬2). وقوله في الكتاب: "ثم الحكم عند الله تعالَى في الباطن لا يتغيَّر مُرَتَّبٌ؛ على الكلام في الحُكْم الذي يُنْقَضُ، والذي لا يُنْقَضُ، إشارةً إلى أنه، وإن لم ينقض في الظاهر فإنَّه لا يُحِلُّ الحكْمَ في الباطن. وليُعْلَمْ قوله: "ولا يَحِلُّ للشَّفْعَوِيِّ شُفْعة الجَارِ" بالواو، وكذا قوله: "ولكنَّ القاضي لا يمنعه من الطلب" لما قد تبين. فَرْعٌ: قال في التهذيب: هل يُقبَل شهادة الشاهد على ما لا يعتقده كالشافعي يشهد بشفعة الجار؟ فيه وجهان: أحدهما: لا كما لا يقضي القاضي بخلاف ما يَعْتَقِدُه. والثاني: نعم؛ لأنه مجتهد فيه والاجتهاد إلى الشاهد (¬3). فَرْعٌ: لو تقدَّم إلى القاضي خَصْمَان، وقالا: بَيْنَنَا خصومةٌ في كذا ففصلها القاضي الذي كان بيننا، وحكم بكذا، ولكنَّا نريد أن نستأنف الحُكْم بيننا باجتهادك، ونرْضَى بحكمك واجتهادِكَ، فهل يجيبهما إليه، أو يتعيَّنُ إمضاء الحكم الأول، ولا يُنْقَضُ الاجتهادُ بالاجتهادِ؟ حكى القاضي ابن كج فيه وجْهَيْنَ: أشبههما: الثاني. هذا تمام الكلامِ في الآداب العَشَرَةَ الَّتي أودعها هذا الفَصْل، وهي غير محتومة إلا ¬
العاشِرَ، فإنه محتوم، وكذا التاسع على الأصحِّ، ووراءها آداب، وأعمالٌ أُخَرُ. منها: ما أورده في الفَصْل الثالث والرابع من الكتاب. ومنها: إذا وُلِّيَ القاضي، فالمستحَبُّ أن يدعو الأصدقاء والأمناء، ويلتمس منهم أن يُطْلِعوه على عُيُوبه، ليسعَى في إزالتها، ويُستَحَبُّ أن يكون راكبًا في مسيره إلَى مجْلِس الحكم، وأن يسلم على الناس في طريقه، وعلى القوم إذا دَخَل، وأن يَدْعُو إذا جلس ويسأل الله تعالَى التوفيق والسَّدَاد، وأن يقوم على رأسه أمينٌ يُنَادِي: هل مِنْ خَصْمٍ؟ ويرتِّبَ الناس ويقدِّم الأوَّل فالأولَ، وعن أبي بكر بن المنذر: أن الأوْلَى أَنْ يكُونَ حصينًا لمكان النساءِ، ويجوز أن يعين للقضاء يومًا أو يومَيْنِ عَلَى حسب حاجَةِ النَّاس ودعاويهم. وأن يعين وقتًا في النهار، ثم إذا حَضَر خصمان في غير الوَقْت المعيَّن، سمع كلامهما، إلا أن يكون في صلاةٍ أو في حَمَّام، أو عَلَى طعام، فيُؤَخَّرُ قَدْرَ ما يفرغ منه، وينبغي أن يكون للقاضِي درة يؤَدِّب بها عند الحاجة، كما كانت لِعُمَرَ -رضي الله عنه- وأن يتخذ سجنًا للحاجة إليه في التعزير، واستيفاء الحقِّ من المماطلين (¬1). وقد روي أن عمر -رضي الله عنه- اشترى دارًا بمكة بأربعة آلافٍ، وجعلها سجنًا (¬2). وهذه فروعٌ تتعلَّق بالحبس، قال أبو العباسِ بنُ القاصِّ -رحمه الله- إذا استشعر القاضي من المديُونِ بعد ما حبسه الفرارَ من حبسه، فله نقله إلى حبس الجرائم، ولو دعا المحبوس أَمَته، أو زوجته إلى فراشه، لم يُمْنَع، إن كان في الحبس موضعٌ خالٍ، فإن امتنعت، أُجْبِرَتِ الأمة، ولا تُجْبَرُ الزوجة الحُرَّة؛ لأنه لا يصلح للسكْنَى، وإنما هو حبس، ولا حَبْسَ عليها والزوجَةُ الأمة تُجْبَرُ، إن رضي سيِّدُها، وكان يجوز أن يُقَالَ: ¬
الفصل الثاني في مستند قضائه
الحَبْسُ زجْر وتأديبٌ فإن اقتضى الحال أن نَمْنَع مِنْه زوجته أو أمته، فعل، ولو أراد مستحِقُّ الدَّيْن أن يلازمه بدلاً عن الحبس، مُكِّنَ، فإن الملازمة أخفّ، إلا أن يقول للقاضي: إنه يشق عليَّ الطهارةُ والصلاةُ بسَبَبِ الملازمة، فامْنَعْه منها، واحبسني، فيردُّه إلى الحَبْس، قاله أبو العباس: وقدم الخلاف في أن الأب، هل يُحْبَسُ بدَيْنِ ولده؟ وقياس حبسه، أن يُحْبَسَ المريض والمخدرة وابن السبيل، منعًا لهم من الظُّلْم؛ والحكاية عن أبي عاصم العباديِّ أن هؤلاء لا يُحْبَسُونَ، ولكن يوكَّلُ بهم ليحيلوا أو يؤدُّوا. قال: ولا يُحْبَسُ الأبُ في حقِّ الصغير، ولا القَيِّم، ولا الوكيل، في دَيْنٍ لم يجب بمعاملتهم. ويُحبَس الأمناءُ في دَيْنٍ وجب بمعاملتهم، ولا يحبس الصبيُّ والمجنونُ ولا المكاتَبُ بالنُّجُوم، ولا يُحْبَسُ العَبْدُ الجانِي، ولا سيِّدُه ليؤدي، أو يبيع بل يُبَاع عليه، إذا وجد راغب، وامتنع، ونقل القاضي أبو سعد الهرويُّ وجهين في حبس كل غريمٍ، قَدَرْنا على ماله وتمكَنَّا من بَيْعِهِ، وأجرة السجان على المحْبُوس، وأجرة الموكّل على مَنْ وكل به، إذا لم يكن في بَيْتِ المالِ مالٌ، وانصرف إلى جهةٍ أهمَّ من هذه والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: الفَصْلُ الثَّانِي فِي مُسْتَنَدِ قَضَائِهِ: وإِنَّمَا يَقْضِي بِالحُجَّةِ، وَلا يَقْضِي بِعَلْمِهِ عَلَى أَصَحِّ القَوْلَيْنِ، لَكِنْ إِنْ عَلِمَ فَسْقَ الشَّاهِدِ أَوْ كَذِبَةٌ تَوَقَّفَ عَنِ القَضَاءِ، وَيُغْنِيهِ عُلمُهُ بَعَدَالَةِ الشُّهُودِ عَنِ المُزَكِّينِ، وَيَقْضِي عَلَى مَنْ أقَرَّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ دُونَ مَنْ أَقَرَّ عِنْدَهُ سِرًّا، وَلا يَكْفِي شَاهِدٌ واحِدٌ مَعَ عِلْمِهِ فِي أَحَدِ الوَجْهَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصود هذا الفصل: الكلام في أن القاضي، بم يقضي؟ وَإلام يستند قضاؤه؟ أما أنه يقضي بالحُجَّة فواضحٌ، ولو لم يقُمْ عنده حجة، إلاَّ أنه عَلِمَ صدق المدعي، فهل يقضي بعلمه؟ فيه قولان: أحدهما: لا، وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله- لما رُويَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في قضية الملاعنة: "لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجُمْتُهَا" (¬1) ولأن فيه تهمةً، والتهمة تمنع القضاء، ولذلك لا يقضي لولده ووالده. والثاني: نعم، وبه قال المزنيُّ -رحمه الله- لأنه يقضي بشهادة الشاهدين، والحاصل مجرَّدُ ظنٍّ، فلأَن يقضي باليقين كان أولى، وبه قال الشافعيُّ -رضي الله عنه- في "كتاب الرسالة": صح عندي، وثبت لَدَيَّ، وهو أقوى من شاهدين، ورجح في الكتاب القول الأول، واختاره القاضي الروياني: لفساد القضاة، وحكاه عن ابن سريج، ¬
لكن الثاني أصح عند عامة الأصحاب، وأجابوا عن معنى التهمة؛ بأن القاضي لو قال: ثبت عندي، وصح لدي كذا، لزم قبوله، ولم يبحث عما صحَّ، وثبت به، والتهمة قائمة. ويجوز أن يُعْلَمَ لفظ القولين في الكتاب بالواو؛ لأن من الأصحاب من حَكَى طريقة قاطعة بالقول الثاني؛ بناءً على ما نقل عن الربيع أن الذي كان يذهب إليه الشَّافعيُّ -رضي الله عنه- أن القاضي يقضي بعلمهُ وما كان يبوح به مخافة القضاة السوء، ولا فرق على القولين بين ما علمه في زمان ولايته ومكان ولايته وما علمه في غيرها، وعند أبي حنيفة: يقضي بما علمه في زمان ولايته، ومكان ولايته بشرط بقائه مولى من يوم العلم، إلى يوم القضاء. ولا يقضي بما علم على غير هذا الوجه، فإن قلنا: لا يقضي بعلمه، فذاك، فيما إذا كان مستند القضاء مجرد علمه بالمحكوم فيه أما إذا شهد عنده شاهدان يعرف عدالتهما، فله أن يقضي، ويغنيه علمه بعدالتهما عن مراجعة المزكين، وفيه وجه آخر؛ لقيام التهمة. ولو أقر بالمدعي في مجلس قضائه، قضى بعلمه، وذلك قضى بإقراره، لا يعلم القاضي، إن أقر عنده سرًا، فعلى القولَيْن في القضاء بالعلم، ومنهم من خصص القولين بما إذا علم المحكوم بنفسه، وقال: هاهنا نحكم بالإِقرار المعلوم، لا بمجرَّد العلم بالمحكوم فيه. ولو شهد عنده شاهد واحد، فهل يغنيه علمه عن الشاهد الثاني؟ فيه وجهان: أظهرهما: لا؛ لأن الحجة لم تتم. والثاني: ويُحكَى عن مالك: نعم؛ لانكسار سَوْرَة التهمة، وأما إذا قُلْنا: إنه يقضي بعلمه، فذلك في الأموال، وأما في القصاص وحدِّ القذف، فقولان؛ لأن وجه المنع، أن العقوبات يُسعَى في رَفْعَها، ولا يُوسَّعُ بابها، والأظهر الجواز؛ اعتمادًا على حصول العلم، وبهذا أجاب في العدة؟ تفريعًا على هذا القول. وإذا منعنا القضاء بالْعِلْم في القصاص وحدِّ القَذْف (¬1)، ففي حدود الله تعالَى أولى ¬
أن نمنع وإن جوزناها، ففيها قولان (¬1): الأصح: المنع، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن الحاكم مأمورٌ بالتَّسَتُّر، وقد رُوِيَ عن أبي بكر -رضي الله عنه- أنه قال: لو رأيت رجلاً على حدِّ، لم أحُدَّه، حتى يشهد عندي بذلك شاهدان (¬2)، ويجوز أن يُتْرَكَ الترتيب والتفريع، وَيُقَال في القضاء بالعلم ثلاثة أقوال؛ يجوز مطلقًا، ولا يجوز مطلقًا، ويجوز في الأموال دون العقوبات، أو أربعة أقوال، يجوز، لا يجوز، يجوز في الأموال لا غير، يجوز فيما سوى الحدود لا غير. ولا خلاف أن القاضي لا يقضي بخلاف علمه، بل إذا علم أن المُدَّعِي أبرأه عما يدعيه، ويقيم الشهود عليه، أو أن المدعي قبله حي، أو رآه قبله غير المدعَى عليه، أو سمع مدعي الرِّقِّ قد أعتق، ومدعي النكاح قد طلق ثلاثًا، وتحقق كذب الشهود، فإنه يمتنع (¬3) القضاء، وكذا إذا علم أن الشهود فسقة، وهذا ما أراد في الكتاب بقوله: "لكن إن علم فسق الشاهد أو كذبه توقَّف عن القضاء" ولْيُعْلَمْ قوله: "ويغنيه علمه بعدالة الشهود" وقوله: "دون من أقر عنده سرًّا" بالواو لما تقدَّم، واعلم أن الأئِمَّةَ -رحمهم الله- مثلوا القَضَاء بالعِلْم الذي هو محلّ القولين؛ بما إذا ادعى عليه مالاً، وقد رآه القاضي أقرضه ذلك، أو سمع المدعَى عليه أقر بذلك، ومعلوم أن رؤية الإقراض وسماع الإقرار لا يفيد اليقين بثبوت المحكوم به وقت القضاء، فيدل على أن ليس المرادُ بالعلم اليَقِينَ، بل الظن المؤكد. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَأَمَّا الخَطُّ فَلا يَعْتَمُدُهُ الشَّاهِدُ وَلا القَاضِي إِذَا لَمْ يَتَذَكَّرُ لإِمْكَانِ ¬
التَّزْويرِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الخَطُّ مَحْفُوظًا عِنْدَهُ وَأَمِنَ التَّحْرِيفَ فَهَذَا يُسَلَّطُ عَلَى رِوَايَةِ الحَدِيثِ، وَهَلْ يُسَلِّطُ عَلَى الحُكْم، والشَّهَادَةِ؟ المَشْهُورُ أنَّهُ لا يُسَلَّطُ، وَفِيهِ وَجْهٌ، وَلَيْسَ للِمُحَدِّثِ الرِّوَايَةُ مَعَ احْتِمَالِ التَّحْرِيفِ والغَلَطِ، وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ اعْتِمادًا عَلَى خَطِّ أَبِيهِ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا رأى القاضي حجة فيها ذكر حكم لإِنسان، وطلب ذلك الاإنسان منه إمضاءه، والعمل به نُظر؛ إن تَذَكَّر القاضي، أمضاه وعَمِل به كما لو طلب منه العمل في الابتداء، في أمالي أبي الفرج الزاز -رحمه الله- طريقة أخرى: إن أمضاه على القولَيْن في أن القاضي، هَلْ يقضي بعلمه، وإن لم يتذكره، لم يعتمده؛ لإمكان التزوير (¬1) ومشابهة الخطِّ، وكذا الشاهد، لا يشهد بمضمون الخط، إذا لم يتذكر، هذا، إذا لم يكن الكتاب محفوظًا، عنده، فإن كان، وبَعُدَ احتمال التزوير والتحريف، كالمحاضر والسجلات التي يَحْتَاط فيها القاضي على ما سبق، فالمشهور والمنصوص أنه لا يقضي أيضًا ما يتذكر؛ لإِمكان التحريف، وإن بَعُدَ، وكذا الشاهِدُ في مثل هذه الحالة، لا يشهد، وعن الشيخ أبي محمد وغيره وجه: أنه يجوز الاعتماد عليه، إذا وثق به ولم يتداخلْه ريبةٌ، وهو روايةٌ عن أحمد، وإذا قلْنا بالأول، ففي رواية الحديث؛ اعتمادًا على الخطِّ المحفوظ عنده، وجهان: أحدهما: المنع إلى أن يتذكر كما في الشهادة، ولا يكفيه رؤية السماع، اعتمادًا على خَطِّه، أو خطِّ ثقة. حكَى هذا الوجْهَ الصيدلانيُّ، والشيخ أبو إسحاق الشيرازيُّ، وأفتى به القاضي الحُسَيْن. وأظهرهما: وهو المذكور في الكتاب: الجواز، لعمل العلماء به، سلفًا وخلفًا، وقد يتساهل في الرواية بما لا يتساهل به في الشهادة؛ ألا ترى أن الفرع يُرْوَى مع حضور الأصل؟ ولا يشهد أنه لو قال: حدَّثني فلان عن فلان؛ أنه يروى كذا، يُقْبَل: ¬
ولو قال: حَدَّثني فلان عن فلان أنه يشهد بكذا، لا يقبل، وإذا كتب إليه شيخٌ بالإِجازة، وعرف خطه جاز، له؛ تفريعًا على اعتماد الخطِّ أن يُرْوى عنه، فيقول: أخْبَرَني فلان في كتابه، أو كتب إلَيَّ، وهذا على تجويز الرواية بالإجازة، وهو الصحيح، ويُرْوَى عن أبي حنيفة ومالك -رحمهما الله- وأَفْتَى القاضي الحُسَيْن بمنعها (¬1)، كما لو قال: أذِنْتُ لك في أن تشهد على شهادتي في كل موضع عَرَفْتَ شهادتي، ولو رأى بخط معروف: سَمِعْتُ من فلان كذا، لم تجز الرواية عنه، وإن اعتمدنا الخطَّ؛ لأنه، وإن سمعه يقول: هذا خطِّي، لا يجوز الرواية؛ إذ الإِنسان قد يسمع ويكتب ما لا يرويه. نعم، يجوز أن يقول: رأيتُ بخطِّ فلان، أني سمعت كذا، هذا حكم القضاء والشهادة والرواية بناءً على الخطِّ. ¬
أما اليمين؛ فقد قال الأصحابُ: يجوز له أن يَحْلِفَ على استحقاق الحقِّ، وأداء الحق؛ اعتمادا على خطِّ أبيه (¬1)، إذا وثق بخطه وأمانته وضبطه قال القفال: وضابط وثوقه بأن يكون بحيث لو وجد في تلْكَ التَّذْكِيرة أن لفلانٍ عليَّ كذا، لا يجد من نفسه أن يحلف على نَفْي العلم به، بل يؤديه من التركة، وفرقوا بينه وبين القضاء والشهادة؛ بأن القضاء والشهادة بناءً على الخطِّ ينجر إلى خطر عظيم. وفي اليمين: لا يلزم ضرر عام، ولأن القضاء والشهادة تتعلق به، ويمكن فيه التذكير والرجوع إلى اليقين، وخط المورث لا يُتَوَقَّعُ فيه اليقين، فجاز بناء الأمر على غلبة الظن، حتى لو وجد بخط نفسه: أن له على فلان كذا وأنه أدَّى دين لم يجر له الحلف، حتى يتذكر، قاله في الشامل. فَرْعٌ: قال الصَّيْمَرِيّ: أولى الأمور بالشاهد الاستعانة بالأسباب المغنية عن التذكر عند الأداء، وذلك بأن يثبت حلبة المقر، إذا لم يعرفه بعد ذكر الشهادة، ويقرب من ذلك ذكر التاريخ وموْضِعِ تحمل الشهادة، ومن كان معه حين تَحَمَّل وما أشبه ذلك، وحكى أبو محمد الحدَّاد من الأصحاب -رحمهم الله- أن بعض علمائنا ممن ولى قضاء البصرة كان يكتب: أن الذي شهدت عليه يشبه فلانًا، يعين رجلًا قد قبله علمًا، ويستعين بذلك على التذكُّر. وهذا أبلغ من إثبات الحلية والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ شَهَدَ عِنْدَ القَاضِي شَاهِدَانِ بِقَضَائِهِ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ لَمْ يُقْضِ بِهِ، والمُحَدِّثُ يُحَدِّثُ عَمَّن أَخْبَرَهُ بِحَدِيثِهِ فَيَقُولُ: حَدَّثَنِي فُلاَنٌ عَنِّي، وَلِقَاضٍ آخَرِ أَنْ يَقْضِيَ بِالشَّاهِدَيْنِ عَلَى قَضَائِهِ إِنْ لَمْ يُكذِّبَهُما، وَمِنْ ادَّعَى عَليْهِ أنَّهُ قَضَى لَهُ فأَنْكَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّحْلِيفُ كَمَا لا يُحَلِّفُ الشَّاهِدَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: ¬
إحداهما: لو شهد عنده شاهدان: أنك حَكَّمْتَ لفلانٍ بكذا، وهو لا يتذكر، لم يقبل شهادتهما، ولم يحكم بقولهما، إلا أن يشهدا على الحق بعد إعادة الدعوى، وقال أحمد: يقبل شهادتهما ويمضي حكمه، وعن ابن القاصِّ تخريجُ قول مثله للشافعيِّ -رضي الله عنه- وجه ظاهر المذهب: أن حكمه فعله، والرجوع إلى اليقين هو الأصل في فعل الإِنسان. وكذلك نأخذ عند الشك في عدد الركعات باليقين، ولو شهد شاهدان: أنك تحمَّلْتَ الشهادة في واقعة كذا، ولم يتذكَّر، لم يجز له أن يشهد، ويخالف ما نحن فيه، رواية الحديث، فإنَّ الراوي إذا نسي، يجوز له أن يقبل ممن سمعه منه؛ كما اشتهر أن سُهَيْلَ بْنَ أبي صالِحٍ -رضي الله عنه- يروي حديث القضاء بالشاهد واليمين عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- وسمعه منه ربيعة -رضي الله عنه- ثم إنه اختل حفظه بشَجَّة أصابته، وكان يقول: أخبرني ربيعة: أني أخبرته عن أبي هريرة، والفرق ما سبق أن الرواية مبنية على المسامحة، ولذلك لم يشترط فيها العدد، وقبلت من العبد والمرأة، بخلاف الشهادة على أنَّ القاضِيَ ابن كج حَكَى وجهًا عن بعض الأصحاب: أن الحكم في الرواية كما ذكرنا في القضاء، وإذا لم يتذكر القاضي، فحقه أن يتوقف، ولا يقول: لم أحكم، وهل للمدعي، والحالةُ هذه، تحليف الخصم على أنه لا يعرف حكم القاضي؟ قال صاحب "التهذيب": يَحْتَمِلُ وجهين (¬1)، ولو شهد الشاهدان على حكمه عند قاض آخر؛ فيقبل شهادتهما، ويمضي حكم الأول، إلا إذا قامت البينة على أن الأول أنكر حكمه وكذبهما. وإن قامت البَيِّنَة على أنه توقَّف، فوجهان، أوفقهما لكلام الأكثرين أنه يقبل شهادتهما وقال الأودنيُّ وصاحب "المهذب": لا تقبل؛ لأن موقفه يورث التهمة، وعلى هذا، فلو شهد شاهدان عَلَى أن شاهدَي الأصل توقَّفَا في الشهادة، لم يجُزِ الحكم بشهادة الفُرُوع. الثانية: إذا ادَّعَى على القاضي: أنكَ حَكَمْتَ لي بكذا حكى الإِمام في "النهاية" عن الأصحاب: أنه ليس له أن يرفعه إلى قاضٍ آخر، ويحلفه كالشاهد، إذا أنكر الشهادة لا يحلف، وعن القاضي الحُسَيْن: أنا، إن جعلنا اليمين المردودة كالإِقرار، فله أن يحلفه؛ ليحلف إن نكل، فيكون كقول القاضي: نعم حكَمْتُ إذا ادَّعَى عليه، وهو قاضٍ. ¬
الفصل الثالث في التسوية
وإن ادُّعِيَ عليه بعد عزله، أو في غير محل ولايته، وقد رفعه إلى قاضٍ هناك، فقد حكى الإِمام أنه يجوز سماع البيِّنة، ولا يُقْبَلُ إقراره، ولا يَحْلِف، إن جعلنا اليمين المردودة كالإقرار، وإن جعلناها كالبينة، فيحلف، ولك أن تقول: قبول قول المولى حكمت بكذا، وعدم القبول من المعزول واضحٌ مقررٌ من قبل، لكن سماع الدعوى عليه معزولاً كان أو غير معزول؛ بأنّه حكم ليس على قواعد الدعاوى الملتزمة، وإنما المقصود مِنْهَا التدرج إلى التزام الخصم، فإن كانت له بينة بلغها في وجه الخصم، وما ينبغي أن يسمع على القاضي بيِّنَة، ولا أن يُطالب بيمينٍ، كما إذا ادعى على إنسان أنَّك شاهدي والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: الفَصْلُ الثَّالِثُ فِي التَّسْوِيَةِ: وَليُسَوِّ بَيْنَ الخَصْمَينِ فِي القِيَامِ والنَّظَرِ وَجَوَابِ السَّلاَمِ وَأَنْوَاعِ الإِكْرَامِ، وَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ المُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي المَجْلِسِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ مَنِ المُدَّعِي مِنْكُما، فَإذَا ادَّعَى طَالَبَ الثَّاني بِالجَوَابِ، فَإِنْ أَقَرَّ ثَبَتَ الحَقُّ مِنْ غَيْرِ قَوْلِهِ قَضَيْتُ عَلَى الأَصَحِّ، وَإِنْ أَنْكَرَ قَالَ لِلمُدَّعِي: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ فَإنْ قَالَ: لاَ بَيِّنَةَ لِي ثُمَّ جَاءَ بَيِّنَةٍ سُمِعَتْ عَلَى أَظْهَر الوَجْهَيْنِ فَلَعَلَّهُ تَذَكَّرَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: يسوي القاضي بين الخصْمَيْن في الدُّخُول عليه، وفي القيام لهما، وفي النظر والاستماع وطلاقة الوجه وسائر أنواع الإِكرام، ولا يخصِّص، أحدهما بِشَيْء من ذلك؛ لأنه ينكسر به قلب الآخر، ويمنعه من إقامة حجته، وكذلك يسوي بينهما في وجوب السلام؛ فإن سلما أجابهما معًا، وإن سلم أحدهما دون الآخر، قال الأصحاب: يصبر حتى يسلم الآخر، فيجيبهما، وقد يَتَوقَّف في ذلك عند طول الفَصْل؛ فإنَّه يمنع من استنهاضه جوابًا. وذكروا: أنه لا بأس أن يقول الآخر: سَلِّمْ، فإذا سَلَّم، أجابهما وفي هذا اشتغال منه بغير الجواب وكأنهم احتملوا جميع ذلك، لئلا يبطل معنى التسوية، وحكى الإِمام: أنهم جوزوا له ترك الجواب مطلقًا، واستبعده (¬1). ¬
ويسوي بينهما في المجلس، فيجلس أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، إذا كانا شريفَيْن، أو يجلسهما بين يديه، وهو الأولَى على الإطلاق، لما رُوِيَ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قضى أن يجلس الخصمان بين يَدَي القاضِي؛ ولأَن النظر إليهما والاستماع لكلامهما حينئذٍ، يكون أسهل نعم، لو كان أحدهما مسلمًا، والآخر كافرًا، فوجهان: أصحُّهما: وهو الذي أورده العِراقِيُّون: أنَّه يَرْفَع المُسْلِم في المجلس؛ لما روي أن عليًّا -رضي الله عنه- جلس بجنب شُرَيْحٍ في خصومة له مع يَهُودِيٍّ، وقال: لو كان خَصْمي مسلمًا، لجَلَسْتُ معه بين يدَيْكَ، ولكني سَمِعْتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لاَ تُسَاوُرهُمْ فِي الْمَجْلِسِ" (¬1). والثاني: أنه يسوي بينهما أيضًا؛ للخبر السابق، ولأنه يسوي بينهما في الإِقبال عليهما، والاستماع منهما، فكذلك في المجلس، ويمكن أن يكون الوجهان في رفْعِ المَجلس جاريين في سائر وجوه الإكرام، ثم التسوية بين الخَصْمَيْن في الأمور المذكورة مستحبةٌ أو واجبةٌ؟ اقتصر صاحب "الشامل" على الاستحباب، ونص الأكثرون على الوجوب. ولْيُقْبِل القاضِي عَلَى الخصمين بمجامع قلبه، وعليه السكينة، ولا يمازح أحدهما، ولا يضاحكه، ولا يشير إليه ولا يُسَارُّه، ولا ينْهَرُهُما، ولا يصيح عليهما، إذا لم يَفْعَلا ما يقتضي التأديب، ولا يتعنت الشهود، بأن يقول بم تشهدون، وما هذه الشهادة؟! فيشوش عليهم، ولا يلقن المدعي الدعوى؛ بأن يقول: ادَّعِ علَيْهِ كذا، ولا المُدَّعَى عليه الإِقرار والإِنكار، ولا يجري المائل (¬2) إلى النكول على اليمين، وكذا لا يلقن الشاهد الشهادة ولا يجريه إذا مال إلى التوقف، ولا يشككه، ولا يمنعه إذا أراد الشهادة وهذا في حقوق الآدميين. وأما في حدود الله تعالى جده فالقاضي يرشد إلى الإنكار على ما هو مبيَّن في موضعه، وإذا كان يدعي دعوى غير محرَّرة، قال الإِصطخريُّ: يجوز أن يبين له كيفية ¬
الدعوى "الصحيحة" وقال غيره: لا يجوز؛ لأنه يكسر قلب الآخر، وتعريف الشاهد كيفية أداء الشهادة على هذين الوجهين، قال في "العدَّة": والأصح: الجواز، ولا بأس بالاستفسار مثل أن يدعي دراهم؛ فيقول: أهي صحاح أم مكسرة؟ وعن أبي حنيفة منعه أيضًا. ويستحب للحاكم إذا أراد الحكم، أن يجلس المحكوم عليه، ويقول: قامت البينة عليك بكذا، ورأيت الحكم عليك؛ ليكون أطيب لقلبه، وأبعد عن التهمة، وعن نصِّه -رضي الله عنه- في "الأم": أنه يندبهما إلى الصُّلْح بعد ظهور وجْه الحُكْم، ويؤخّر الحكم اليوم واليومين، إذا سألهما، فجعلاه في حل من التأخير، فإن لم يجتمعا على التحْلِيلِ، لم يُؤخَّر. المسألة الثانية: إذا جلس الخصمان بين يدَي القاضي، فله أن يسكت حتى يتكلمان وله أن يقول: ليتكلَّمِ المدعي منْكما (¬1)، وأن يقول، للمدعي، إذا عرفه: تكلَّم (¬2) ولو خاطبهما بذلك الأمينُ الواقفُ إلى رأسه، كان أولَى فإذا ادعَى المدَّعِي، طالب خصمه بالجواب، وقال: ماذا تقول؟ وفيه وجه أنه لا يطالبه حتى يسأله المدعَّي، كما لا يطالب بإفاء المال حَتى يسأل المدعي، ثم ينظر في الجواب؛ إن أقر بالمدعي، فللمدَّعِي أن يطلب من القاضي الحكم عليه، قال الشيخ أبو حامد: وحينئذٍ يُحْكَمُ بأن يقول له: اخْرُجْ من حقه، أو كلفتك الخروج من حقه، أو ألزمتك. وما أشبههما ويثبت المدعي بمجرَّد الإِقرار أم يفتقر ثبوته إلى قضاء القاضي؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يفتقر إليه، كالثبوت بعد إقامة البينة. وأصحهما: المنع؛ فإن دلالة الإقرار على الحق بينة، إِذ الإنسان على بصيرة والبينة تحتاج في قبولها إلى النظر والاجتهاد، هكذا ذكرت المسألة، والطَّبْعُ لا يكادُ يقبل الخلاف فيها؛ لأنه إِن كان الكلامُ في ثبوت الحقِّ المدَّعَى في نفسه، فمعلومٌ أنه لا يتوقف على الإِقرار، فكيف على الحكم بعد الإِقرار، وإن كان المرادُ المطالبةَ والإِلزامَ، فلا خلاف في أن للمدعي الطَّلَبَ بعد الإقرار، وللقاضي الإلزام، وإن نظرنا ناظر إلى وجه ذكرناه في الإِقرار أن الإِقرار المُطْلَق لا يكفي للمؤاخذة، بل يسأل المُقِرَّ عَنْ سبب اللزوم، وقال: إِذا كان الإِقرار المطْلَق مختلَفًا فيه، كان في محلِّ النظر والاجتهاد، ¬
فاعتبر قضاء القاضي على رأي، فهذا شيء لا يختص بالإقرار بعْدَ الدَّعْوَى في مجلس القاضي، بل ينبغي أن يطرد في محل الإقرار وإن أنكر المدعَى عليه، فللقاضي أن يسكت، وله أن يقول للمدعي: ألك بينة (¬1)، وقد روي ذلك عن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- في تداعي الحضرمِّي والكنديِّ على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى- وفي وجه: لا يقول ذلك؛ لأنه كالتلقين، ثم إن قال المُدَّعِي: لي بينة، وأقامها، فذاك، وإن قال: لا أقيمها، وأريد يمينه، مكن منه؛ لأنه، إن تورع عن اليمين وأقر، سهُل الأمر على المدعي، واستغنى عن إقامة البينة، وإن حلف، أقام البينة، وإن بان كذبه وخيانته، فله إذن في التحليف غرض ظاهر، وإن قال: ليست لي بينة حاضرة، فحلف المدعى عليه، ثم جاء المدعي ببينته، سمعت، وإن قال: لا بينة لي حاضرةً ولا غائبةً، أو قال: كُلُّ بينة أقيمها، فهي باطلة، أو كاذبةُ أو بينته زُورٌ، ثم جاء ببيِّنَةٍ، فوجهان: أظهرهما: على ما ذكر صاحب الكتاب والعراقِيُّون -رحمهم الله- أَنَّها تسمع؛ لأنها ربما لم تعرف أو نسي ثم عَرَفَ وتذَكَّر. والثاني: المنع، للمناقضة إلا أن يذكر لكلامه هذا التأويل، فيقول: كُنْتُ جاهلاً أو ناسيًا، وإن قال: لا بينة لي، واقتصر عليه، ففي "التهذيب": أنه، كما لو قال: لا بينة لي حاضرةً، ومنهم من قال: هو كما لو قال: لا بينة لي (¬2) حاضرةً ولا غائبةً، حتى يكون على الوجهَيْنِ، وهذا ما أورده في الكتاب، ولو قال: شهودي عبيدٌ أو فَسَقَةٌ، ثم أتى بشهود تقبل شهادتهم، إنْ مضى زمان قابِلٌ للعتق والاستبراء. فَرْعٌ: حكى القاضي أبو سعدٍ وجهين في أنَّ الحقَّ يجب بفراغ المُدَّعِي من اليمين المردودة أو لا بدَ من حكم الحاكم وأشار إلى بنائهما على أن اليمين المردودة كالإِقرار أو كالبينة، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: فَإِنْ تَزَاحَمَ المُدَّعُونَ قُدَّمَ السَّابِقَ، فَإِنْ تَسَاوَوْا أَقْرَعَ بَيْنَهُمُ، وَلا يُقَدِّمُ لِشَرَفٍ إِلاَّ المُسَافِرُ المُسْتَوْفِزُ والمَرْأَةُ فَيُقَدِّمُهُمَا إنْ رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ المفْتِي والمُدَرِّسُ عِنْدَ التَّزَاحُمِ، ثُمَّ السَّابِقُ بِالقُرْعَةِ يَقْنَعُ بِخُصُومَةٍ وَاحِدَةٍ وَلا يَزِيدُ وَإِنِ اتَّحَدَ ¬
المُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا إِلَى الدَّعْوَى فَقَالَ الآخَرُ: كُنْتَ أَنَا المُدَّعِي لَمْ يَنْفَعْهُ بَلْ يُجِيبُ أَوَّلاً ثُمَّ يَدَّعِي. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه ثلاث مسائل: إحداها: إِذا ازدَحَمَ جماعةٌ من المدَّعِينَ، نُظِرَ، إن جاءوا على التعاقب، وعرف الترتيب قدم منهم الأسبق فالأسبق والاعتبار بسبق المدَّعِي دون المدَّعَى عليه، وإن جاءوا معًا أقرع، وإن لم يعرف الترتيب، وقدم من خرجت قرعته، وإن كثروا وعَسُر الإِقراع كُتِبَ أسماؤهم في رقاع وصبت بين يَدَي القاضي؛ ليأخذها واحدةً بعد واحدةٍ، ويسمع دعوَى مَن خرج اسمُه في كل مرَّةٍ، ويستحب للقاضي أن يرتب ثقة يثبت أسماء الحاضرين يوم قضائه، ليعرف الترتيب معهم، ولو قدم الأسبقُ غيره على نفْسِهِ جاز، والمفتِي والمدرِّسُ عند الازْدِحَام يقدَّمان أيضًا بالسبق أو بالقرعة، نعم، لو كان الْفَنُّ الذي يعْلَمُه خارجًا عن فروض الكفايات، فالاختيار إليه في تقديم من شاء، ولا يقدم بَعْضَ المدَّعين بشرف غيره إلا في موضعين: أحدهما: إذا كان المدعون مسافرين مستوفزين، وهم الذين شَدُّوا الرحال؛ ليخرجوا، ولو أخر أمرهم لتخَلَّفُوا عن رفقائهم، فإن قلُّوا، قدموا؛ لئلا يتضرَّر بالتخلف، وإن كثروا لمساواة المسافرين أهل البلد أو زيادتهم بالحجيج بمكة، لم يقدموا، وكانوا كالمقيمين، فيراعي السبق والقرعة، وفي "المهذَّب" وغيره وجْهٌ آخر أنه لا يقدم بالسفر أصلاً. والثاني: لو كان في الحاضرين نسوةٌ، ورأى القاضي تقديمهن، لينصرفْنَ قدمهن، وفيه وجه آخر أنهن لا يقدمن، ولكن التقديم فيما إذا لم يكثرن، كما في المسافِرِين، وما ينبغي أن يفرق بين أن يكون المسافر مدعيًا أو مدعى عليه، والظاهر أن تقديم المسافر والمرأة ليس بمستحَقٍّ، وإنما هو نوع رخصة يجوز الأخذ به، وبذلك يشعر لفظ المختصر، ويوافقه قوله في الكتاب "إن رأى فيه مصلحة" ومنهم من يشعر إيراده بالاستحقاق، ثم لا يخفى أن السفر والأنوثة إنما يقتضيان التقديم على المقيمن وعلى الرجال، فأما المسافرون بعْضُهم مع بعض (¬1) والنسوة بعضهم مع بعض، فالرجوع فيهم إلى السبق والقرعة. ¬
الثانية: المقدَّم بالسبق أو بالقرعة، إنما يقدم في دعوَى واحدةٍ، ولا يمكن أن يزيد، فيضر بالآخرين بل ينصرف إلى أن يحضر في مجلس آخر أو ينتظر فراغ القاضي من سَمَاع دَعْوَى سائر الحاضرين، فحينئذٍ تسمع دعواه الثانية، إن لم يضجر، ولا فرق بين أن تكَون الدعوى الثانية والثالثة على الذي ادَّعَى عليه والدعوى الأولَى، أو على غيره، وفيه وجه أن الزِّيادة عَلَى الدَّعْوَى الأُولَى مسموعة، إذا اتحد المدعَى عليه، ويجعل اتحاد المتداعيين كاتِّحَاد الدَّعْوَى، ثم الناقلون لهذا الوجه منهم من أطلق، وقيد في "الوسيط" فقال: تسمع إلَى ثلاثِ دعاوَى، وتسمع عَلَى من ادَّعَى عليه دعْوَى ثان وثالث؛ لأن الدعوى للمدعي، وقد تعدَّد المدعون، ونقل القاضي ابن كج هاهنا وجهين غريبين: أحدهما: أن المقدَّم بدعوى واحدة لا يسمع منه الدعوى الثانية إلا في مجلس آخر، وإن فرغ القاضي من سماع دعوى الحاضرين، فعليهم بعد ذلك ترفيهه. والثاني: أنه لا يسمع على الواحد إلا دعوى واحدةٌ، كما لا تسمع من الواحد إلا دعوى واحدة. فَرْعٌ: المقدَّم بالسفر يجوز ألاَّ يقدم أيضًا إلا بدعوى واحدةٍ، ويجوز أن يقدم بجميع دعاويه؛ لأن الغرض من تقديمه ألا يتخلف عن الرفقاء، ويجوز أن يقال: إذا عرف أن له دعاوى، فسبيله سبيل المقيمين؛ لأن في تقديمه بجميع الدعاوى إِضرارًا بغيره وتقديمه بالدعوى الواحدة لا يَحْصُلُ الغَرَض (¬1). الثالثة: تنازع الخصمان، وزعم كل واحد منهما أنه هو المُدَّعِي نُظِر، إن سبق أحدهما إِلى الدعوى، لم يلتفت إلى قولِ الآخر، أنِّي كنت المدعي، بل عليه أن يجيب ثم يدعي إن شاء، وإن لم يسبق وتشاجرا، سأل القاضي العون، فمن أحضر العون، فهو المدعَى عليه، فيدعي الآخر عليه، وكذا لو قامت بيِّنة لأحدهما أنه أحضر الآخر؛ ليدعي عليه، وإن استوى الطرفان أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعةُ ادَّعَى وقيل: يُقدِّم القاضي أحدهما باجتهاده والله أعلم. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلا يَنْبَغِي أَنْ يَحْضُرَ وَلاَئِمَ الخَصْمَينِ وَلاَ بَأْسَ بِوَليمَةِ غَيْرِهِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ المَقْصُودَ بِالدَّعْوَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القول في أن الإِجابة إلى الوليمةِ تجب أو تُسْتحبُّ مستوفى (¬1) في "باب الوليمة والنثر" وذلك في حق غير القاضي، فأما القاضي، فلا يحضر وليمة أحد الخصمين في حال تخاصمهما، ولا وليمتهما؛ لأن أحدهما قد يزيدُ في إكرامه، فيميل قلبه إليه، فأما وليمةُ غيرهما، فعَنْ بعض الأصحاب، فيما رواه صاحب "الإِفصاح" وغيره: أنه يجيء قولُ وجوب الإجابة في حق القاضي أيضًا، وفي "أمالي" أبي الفرج: أن بعضهم قال: لا يجوز الإِجابةَ أصلاً؛ لأنه أجير المسلمين ولا يدري متَى يتحاكم إليه الخصمان، وظاهر المذهب التوسُّط، وهو أنها لا تجب، ولا تحرم، ولكنها مستحبةٌ بشرط التعميم، فإن كثرت وقطعته عن الحكم ترك إجابة الكل، ولم يخصص بعض الناس، نعم، لو كان يخصِّص أناسًا قبل الولاية بإِجابة وليمته، فعن نصِّ الشافعيِّ -رضي الله عنه- فيما حكاه القاضي ابن كج أنه لا بأس بالاستمرار عليه، ويكره الإِجابة إلى دعوى اتخذت للقاضي خاصَّة وللأغنياء، ودعى فيهم، ولا تكره الإجابة إلى ما اتخذ للجيران، وهو منهم أو للعلماء، ودُعِيَ فيهم، واعْلَمْ أن إجابة الوليمةِ مِنَ الدَّعَوات مستحبةٌ، وظاهرة ما أطْلقه الأَئمَّة ثبوت الاستحباب في حقِّ القاضي أيضًا، وإن كان الاستحباب في الوليمة آكد، ومنْهُمْ من خصَّص الاستحباب بالوليمة، ويحكَى هذا عن ابن القاصِّ، ولا يضيف القاضِي أحَدَ الخصمَيْن دون الآخر؛ لأنه ينكسر قلبه، ويجوز أن يضيفهما معًا؛ لما روي عن علي -كرم الله وجهه- أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لاَ يُضِيفُ أحَدُكُمْ أحد الخَصْمَيْنِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ خَصْمُهُ مَعَهُ" (¬2) وَعَن أبي الحُسَيْن أن أبا إسحاق قال: لا تُضِيفُهُمَا مَعًا أَيْضًا؛ لأَنَّه قد يتوهَّم كلُّ واحدٍ منهما أن المقصود بالدعوةِ صاحبُه، وأنه تبعٌ، فينكسر قلبه، ولكن هذا يُشْكِل بسائر وجوه التسوية، وللقاضي أن ¬
الفصل الرابع في التزكية
يشفع لأحدهما، وأن يؤدي المال عمن عليه؛ فإنه ينفعهما جميعًا. فرع: القاضي يعود المَرْضَى ويشهد الجنائز، ويزور القادمين؛ لما فيها من البر والثواب، وإذا لم يمكنه الاستيعاب، أتى بما أمْكَنَه مِنْ كل نوع ويخصُّ به من عرفه، وقرب منه، وفرقوا بين هذه الأمور، وبَيْن إِجابة الوليمة حَيْثُ يترك الكُلَّ، إِذا لم يمكنْه الاستيعاب بما لا تسْكُن النفس إِليه، وهو أن أظهر الأغراض في إجابة الوليمة إكرام صاحبها، فالتخصيص إيثارٌ وميل وأظهر الأغراض في العبادة وما في معناها الثواب، فلا يترك المقدور منْها؛ كيلا يفوته الثواب، ولعدم إيضاح هذا الفرق ذهب القاضي أبو حامد فيما حكاه ابن المرزُبَان عنْه، سَمَاعًا أنه كالإِجابة إِلى الوليمة، إِما أن يستوعب أو يترك الكلَّ، ولم يفرق الأكثرون في العيادة وشهود الجنازة بين المتخاصمَيْن وبين سائر الناس، وذلك مناسب لقولهم: إن النظر فيها إِلى الثواب دون الأشخاص، وفي أمالي أبي الفَرَجِ أنه لا يعود الخصم إذا مرض، ولا يزوره إذا قدم لكن يشهد جنازته إذا مات، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: الفَصْلُ الرَّابِعُ فِي التَّزْكِيَةِ: وَيَجِبُ علَى القَاضِي الاسْتِزْكَاءَ مَهْمَا شَكَّ وَإِنْ سَكَتَ الخَصْمُ إِلاَّ أَنْ يُقِرَّ الخَصْمُ بَعَدَ التِهِمَاءِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المقصودُ الآن الكلامُ في البَحْث عن حال الشهود وتزكيتهم. وأول ما نذكره أنه لا يجوز للقاضي أن يتخذ شهودًا معيَّنِين لا يقبل شهادة غَيْرِهِمْ؛ لما فيه من التضييق على الناس، فإنه قد يتحمَّل الشهادة غيرهم، فِإذا لم يقبل ضاع الحق، وقد قال تعالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فأطلق، وإذا شهد عنده شهودٌ، نَظَر؛ إن عرف فسْقَهم، رد شهادتهم، ولم يحتج إلى بحث، وإن عرف عدالتهم، قبلت شهادتهم ولا حاجة إلى التعديل، وإن طلبه الخصم، وفيه وجه ذكرناه في "فصل القضاء بالعلم" وعن أبي حنيفة فيما رواه صاحب "التهذيب": أنه إذا طلب الخصم، فلا بدّ من التعديل وإن لم يعرف القاضي حالَهُم في الفسق والعدالة، لم يجز له قبول شهادتهم، والحكم بها إلا بعد الاستزكاء والتعديل سواءٌ طعن الخصم أو سكت، وبهذا قال مالك وأحمد -رحمهما الله- وساعَدَنا أبو حنيفة فيما إذا كانت الشهادةُ على القِصاصِ والحدودِ، وقال في المال: إذا عَرَفَ إسلام الشهود، لم يحتج إِلى البَحْث عن عدالتهم، إلا أن يطعن فيهم الخَصْمُ واحتج الخَصْم بأنَّه حكم بشهادة، فيشترط فيه البحث عن شرط الشهادة، كما إذا طعن الخصم، وكما إذا كانتِ الشهادةُ على القصاص، وكما إذا جهل إسلام الشهود، فإنه يجب البحث عنه، عَلَى ما سنَذْكُرَ، ولا يجوز الاكتفاء بأن الظاهر من حال المُسْلِم العدالةُ، كما لا يجوز الاكتفاء بأن الظاهر من حال مَنْ في دار الإِسلام الإِسلامُ، وإن أقر الخصم بعدالة الشاهدين، ولكن قال: أخطأ في هذه الشهادة، ففيه وجهان:
أحدهما: أنا إنما كُنَّا نبحث لحقِّه، فإذا اعترف بعدالتهما أغْنَانَا عن البحث والتعديل. والثاني: لا بدّ من البحث والتعديل لحق الله تعالى، ولهذا لا يجوز الحكم بشهادة الفساق، وإن رضي الخصم به، وأيضًا، فالحكم بشهادة الإِنسان، يتضمن الحكم بعدالته، والحكم بالعدالة بتعديلِ واحدٍ لا يجوز، وهذا أقوى في المعنى، وإليه يميل كلام صاحبي "المهذب" و"التهذيب" والمذكور في الكتابِ هو الأولُ، ولو صدقهما فيما شهدا به، فيقضي القاضي عليه بإقراره بالحق، ويستغني عن البحث عن حال الشاهدين، وكذا لو شهد واحدٌ فصدقه (¬1)، ولو شهد شاهدان معلوما العدالةِ، ثم أقرَّ المشْهودُ عليه بما شهد به قبل أن يحكم القاضي، فالحكم يستند إلى الإِقرار دون الشهادة، أو يستند إليهما جميعًا، حكى القاضي أبو سعد الهرويُّ فيه وجهين، قال: والمذهب منهما الأول، والثاني حكاه الفورانيُّ في "المناظرة"، وذكر أنه لو أقر بعد الحكم بشهادة الشاهدَيْن، فقد مضى الحكم مستندًا إلى الشهادة، سواءٌ وقع إقراره بعد تسليم المال إلى المشهود له أو قبله، وفيما إذا أقر قبل التسليم وجهًا آخر، وأنه لو قال الخصم للشاهد: قبل أداء الشهادة ما تشهد به علَيَّ، فأنت عدلٌ صادقٌ، لم يكن ذلك إقرارًا، لكنه تعديل للشاهد، إن كان من أهل التعديل، ولو جهل القاضي إسلام الشاهد، لم يقنع بظاهر الدار، ولكن يبحث عنه، ويكفي فيه الرجوع إلى قول الشاهد، لأن أعرابيًّا شهد عند رسول الله برؤية الهلال فسأله عن إسلامه، وقَبِلَ شهادته (¬2)، ولو جهل حريته يَبْحَثُ أيضًا، وهل يكْفِي فيها قول الشاهد على وجهين: أحدهما: نعم، كما في الإِسلام. وأظهرهما: على ما قاله في "المهذب": لا، كما في العدالة ويخالف الإِسلام، فإنه يستقل به، فيقبل قوله فيه، وليست الحرية كذلك. وقوله في الكتاب "ويجب على القاضي الاستزكاء مهما شك" أشار بقوله مهما شكَّ إِلَى أنه إذا علم حال الشهود لا يستزكي على ما سبق. وقوله "وإن سكت الخصم" مُعْلَم بالحاء، ويجوز أن يعلم بالواو أيضًا؛ لأن ¬
القاضي أبا القاسم ابن كج رَوَى عن بعض الأصحاب أن الاستزكاء إنما يجب، إذَا طلبه الخَصْمُ؛ لأنه حقه. فَرْعٌ: قال في "العدة": لو استفاض فسق الشاهدَيْن بين الناس، فلا حاجَةَ إِلى البحث والسؤال، وينزل المستفيض منزلة المَعْلُوم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَليَكْتُبْ إِلَى المُزَكِّيْنَ اسْمَ الشَّاهِدَيْنِ والخَصْمَيْنِ فَلَعَلَّهُ يَعْرِفُ بَيْنَهُمْ عَداوَةً، وَقِيلَ: يَكْتُبُ قَدْرَ المَالِ أَيْضًا فَرُبَّمَا يَعْدِلُ فِي اليَسِيرِ دُونَ الكَثِيرِ، وَقِيلَ: العَدَالَةُ لاَ تَتَّجَزَّأُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: غرض الفصل بيان كيفية الاستزكاء، واعْرِفْ أولاً شيئين: أحدهما: أن القاضي ينبغي أن يكون لَهُ مزكُّون وأصحاب مسائلَ، والمزكُّون هم المرجوع إليهم؛ ليبينوا حال الشهود، وأصحاب المسائل الذين يبعثهم القاضي إلى المزكِّين؛ ليبحثوا أو يسألوا، وربما فسر أصحاب المسائل في لفظ الشَّافعي -رضي الله عنه- المزكِّين أنفسهم، إمَّا لأنهم مسؤولون، أو لأنهم، إذا لم يعرفوا سألوا من يعرف من الجيران، وأهل الحرفة ورفقاء السفر والمعاملين. والثاني: المُخْبِرُونَ عن فِسْقِ الشهودِ وعدالَتِهِمْ ضربان: أحدهما: من نصبه الحاكم للجَرْح والتَّعْدِيل إما مطلقًا أو في واقعةٍ خاصَّةٍ فيسمع الشهادة عليها، وما يثبت عنده أَنْهَاهُ إلى القاضي. والثاني: من يَشْهَدُ بالعدالة أو الفسق، ثم مِنْ هؤلاء مَنْ يشهد أصالةً، ومنهم من يشهد بناءً على شهادة غيره، والأول قد يعرف الحَالَ، فيشهد، وقد لا يعرف، فيأمره القاضي بالبحث والتفحص؛ ليعرف، فيشهد كما يوكِّلْ القاضي بالغريب الذي يدعي الإفلاس من يبحث عن حاله، ويخالطه؛ ليعرف إفلاسه، فيشهد، وأما الثاني، فهو شاهد فرع، والقياسُ الظاهرُ أنه لا يشهد إلا عند غيبة الأصل أو عذر مانع من الحضور، وكذلك ذكره القاضي أبو سعد الهرويُّ، ويجيء من بعدُ ما ينازع فيه، إذا تقرَّر ذلك، فإذا أراد القاضي البحث عن حال الشهود، كتب اسم الشاهد وكنيته، إن اشتهر بها، وولاءه إن كان عليه ولاءٌ، واسْمَ أبيه وجَدِّه، وحليته وحرفَتَه، وسوقه ومسجده، وكلَّ ذلك؛ لئلا يشتبه بغيره، فإن كان الرجل مشهورًا، وحصل التمييز ببعض هذه الأوصاف، اكتفى به، ويذكر في الكتاب اسم المشهود عليه، فقد يكون بينه وبين الشاهد عداوة، واسم المشهود له فقد يكون بينه وبين الشاهد ولادة أو شركة تمنع قبول الشهادة، وفي قدر المال وجهان: أحدهما: لا يذكره؛ لأن العدالة لا تختلف بقلَّة المال وكثرته، ولا تتجزأ.
وأظهرهما: وهو المنصوص: أنه يذكره، وقول الأول أن العدالة تتجزَّأ، حكى أبو العباس الرُّويانيُّ فيه اختلافًا عن الأصحاب، مِنْهُمْ مَنْ منعه، وقال: قبول الشهادة مبنيٌّ على غلبة الظن بصدق الشاهد، وقد يغلب على الظن الصدق في القليل دون الكثير، ومنهم من سلمه، وقال: إنما يذكره؛ لأن الكثير أجدر بالاحتياط، وذكر المال، قد يكون أطيب لقلب المزكي، وبنى على الخلاف في أن العدالة، هل تتجزأ أنه لو عدل، وقد شهد بمال قليل، ثم شهد في الحال بمالٍ كثيرٍ، هل يحتاج إلى التزكية، ويكتب إلى كلِّ مزكي كتابًا، ويدفعه إلى صاحب مسألة، ويخفى كل كتاب عن غير من يدفعه إِليه وغير من يبعثه إِليه احتياطًا، ثم إذا وقف القاضي على ما عند المزكين، فإن كان جرحًا، لم يظهره، وقال للمدعي: زِدْ في الشهود، وإن كان تعديلاً، عمل بمقتضاه، وحكَوْا وجهين، والحالةُ هذه، أنه بم يحكم، بقول المزكِّين، أم بقول أصحاب المسائل؟ لأن قولهم شهادة على شهادة، فكيف يقبل مع حضور الأصل، وإنما هو رسل، وعلى هذا يجوز أن يكون صاحب المسألة واحدًا فإن عاد بالجرح توقَّف القاضي، وإن عاد بالتعديل، دعا مُزَكِّيْن؛ ليشهدا عنده بعدالة الشاهد، ويشير إليه ويأمن بذلك من الغلط من شخص إلى شَخْصٍ، وعن الإصطخريِّ: أنه إِنما يحكم بقول أصحاب المسائل، وعلى هذا قال الشيخ أبو حامدٍ: إنه يبني عَلَى ما يثبت عنده ثم بقول المزكين، وفي "الشامل": إنه، إن كان شهادةً على شهادةٍ تقبل للحاجة، لأنَّ المزكي لا يكلف الحضور عند الحاكم، وقول الإصطخريِّ أصحُّ عند الشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب وغيرهما: قَالُوا: وعلَى هذا إنما يعتمد القاضي قول اثنين من أصحاب المسائل، فإن وصفاه بالفسق، فعلى ما سبق، وإن وصفاه بالعدالة، أحضر الشاهدين ليشهدا بعدالته علانيةً، ويشير إليه، وقد يفيدك التأمل في كلام الأصحاب أن تقول: ما ينبغي أن يكون في هذا خلافٌ محقَّقٌ، ولكن إن ولى صاحب المسألة الجَرْحَ والتعديلَ، فحكمِ القاضي مبنيٌّ على قوله، ولا يعتبر العدد؛ لأنه حاكم، وإن أمره بالبحث، فبحث ووَقَفَ عَلَى حال الشاهد، وشهد بما وقف عليه، الحكم أيضًا مبنيٌّ على قوله، ويعتبر العدد؛ لأنه شاهد، وإن أمره بمراجعة مزكيين فصاعدًا، أو بأن يعلمه بما عندهما، فهو رسولٌ محضٌ، والاعتماد على قولهما، فليحضرا، وليشهدا، وكذا لو شهد على شهادتهما؛ لأن شهادة الفرع مع حضور الأَصْل غير مقبولة. وقوله في الكتاب "فلعله يعرف بينهم عداوة" يعني بين الشاهد والمشهود عليه إما العداوة وبينهما وبين المشهود له، فإنها لا يقدح في الشهادة. وقوله: "وقيل العدالة لا تتجزأ" أي فلا يكتب قدر المال، وفيه ما بيناه، والله أعلم.
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَصِفَةُ المُزَكِّي كَصِفَةِ الشَّاهِدِ لكِنْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَبِيرًا بِبَاطِنِ مَنْ يُعَدِّلُهُ بِصُحْبَةٍ مَعَهُ، وَلا يَعْتَمِدُ فِي الجَرْحِ إِلاَّ العِيَانَ، وَلَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ إِنْ نَصَّبِ حَاكِمًا فِي التَّعْدِيلِ، وَيَجِبُ أَنَّ يُشَافِهَ القَاضِيَ بِهِ وَيَأْتىَ بِلَفْظِ الشَّهادَةِ فَيَقُولَ أَشْهَدُ أنَّه عَدْلٌ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ فَرُبَّ عَدْلٍ مُغَفَّلٍ لا تَقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلا تَكْفِي الرُّقْعَةُ مَعَ شَهَادَةِ رَسُولَيْنِ عَدْلَيْنِ، وَيَجِبُ ذِكْرُ سَبِبِ الجَرْحِ دُونَ التَّعْدِيلِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسائل: أحدها: من نصبه حاكمًا في الجَرْح والتعديلِ اعتبر فيه صفاتِ القضاةِ، ومَنْ شهد بالعدالة والفِسْقِ، اعتبر فيه صفاتِ الشُّهُود، ويعتبر مع ذلك العِلْم بالعدالة والفِسقْ، وأسبابهما ويعتبر أيضًا أن يكون العَدْلُ خبيرًا بباطنِ حالِ مَنْ يعدله، إما لصحبةٍ وجوارٍ ومعاملةٍ أو نَحْوِه، رُوِي أن شاهِدَيْن شهدا عند عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال لهما: إِنِّي لا أَعْرِفُكُمَا وَلا يَضُرُّكُمَا أَنْ لاَ أَعْرِفَكُمَا ائْتِيَا بِمَنْ يَعْرِفُكُمَا فأَتَيَا بِرَجُلٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: كَيْفَ تَعْرِفُهِمَا؟ قَالَ: بِالصَّلاح والأَمَانَةِ، قَالَ: هَلْ كُنْتَ جَارًا لَهُمَا، تَعْرِفُ صَبَاحَهُما وَمَسَاءَهُمَا وَمَدْخَلَهُمَا وَمَخْرَجَهُمَا؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: هَلْ عَامَلتَهُمَا بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتي تُعْرَفُ بِهَا أَمَانَاتُ الرِّجَالِ، قَالَ: لاَ قَالَ: فَهَلْ صَاحَبْتَهُمَا فِي السَّفَرِ الَّذِي يُسْفِرُ عَنْ أَخْلاَقِ الرِّجَالِ؛ قَالَ: لاَ فَأَنْتَ لا تَعْرِفُهُمَا، ائْتِيَا بِمْنَ يَعْرِفُكُمَا" (¬1) والْمَعْنَى فيه أن الإنسان يُخْفِي أسباب الفِسْق غالبًا، فلا بدّ من معرفة بباطن حاله، وهذا كما أن في الشهادة على الإفلاس يعتبر الخبرة الباطنة؛ لأن الإنسان مشغوف بإخفاء المال، وفي الشهادة على أَنْ لا وارث سواء، تعتبر الخبرة الباطنة؛ لأنه قد يتزوَّج في السفر أو في الحَضَر، ويخفيه، فيولد له، قال في "الوسيط": ويجب على القاضي أن يعرف أن المزكِّي، هَلْ خبر بباطن الشاهد في كلِّ تزكية إلا إذا علم من عادته أنه لا يزكِّي إلا بعد الخبرة، وظاهر لفظ الشافعيِّ -رضي الله عنه- اعتبارُ التقادمُ في المعرفة الباطنة، ووجَّه ذلك بأنها، إذا لم تتقادَمْ، لم يمكن الاختبار في يَومٍ أو يومين، ويشبه أن يقال: شدة التفحُّص والإمعان فيه يقوم مقام التقادم، ويمكن الاختبار في المدة اليسيرة، وليس ذكره التقادُمَ على سبيل الاشتراط؛ لأنَّ الغالب أنَّ المعرفة الباطنة حينئذٍ تَحْصُل، ويوضِّحه ما ذكرنا أن القاضي قد يأمرُ بالبحث والتفحُّص عن حال الشاهد؛ ليعرف، ¬
فيشهد، ولو اعتبرنا التقادُمَ، لطالت المدة وتضرَّر المتداعيان بالتأْخِيرِ الطويل، هذا في التعديل، وأما في الجرح، فيعتمد المعاينة أو السماع، فالمعاينة بأن رآه يزني أو يشرب الخمر، والسماع كما إذا سمعه يقذف أو يُقِرُّ على نفسه بالزنا وَشُرْب الخمر، وإن سمع من غيره نظر، إن بلغ المخبِرُون حَدَّ التواتر، جاز الجَرْح؛ لحصول العلم، وإن لم يبلغوا حدَّ التواتر، لكنه استفاض وانتشر، فكذلك الجواب فيما حَكى ابن الصَّبَّاغ وصاحبُ "التهذيب" وغيرهما، ولا يجوز الجرح بناءً على خبر الواحد والعَدَدِ اليسيرِ، نعم، له أن يشهد على شهادتهم بشرط الشهادة على الشهادة، وذكره في "المهذب" تفريعًا على قول الإِصطخريِّ؛ لأني لم أجده في "التهذيب" وهو موجود تفريعًا (¬1) على ما سبقت حكايته عن الإِصطخريِّ؛ أن القاضي إنما يحكم بقول أصحاب المسائل؛ أنه يجوز أن يكون الخبر من الجيران أصحاب المسائل واحدًا إذا وقع في نفوسهم صدَّقه هل يشترط التعرُّض بسبب رؤية الجرح أو سماعه، قال قائلون: نعم، فلا بدّ وأن يقول: رأيته يَزنِي، وسمعته يقذف (¬2)، وعلى هذا القياس استفاض عندي، وفي "الشامل" أنه لا حاجَةَ إلَيْه، وليس للحاكم أن يقول: من أين عرفت حاله، وعلام بنيت شهادتك، كما في سائر الشهادات، وهذا أقيس، ويحكى عن ابن أبي هريرة، والأول أشهر، ولا يجعل الجارح بذكر الزنا قاذفًا للحاجة، كما لا يجعل الشاهد قاذفًا، فإن لم يساعده غيره ليكن كما لو شهد ثلاثةٌ بالزنا، هل يجعلون قذفةً (¬3)، وينبغي أن يكون المزكُّون وافري العُقُول؛ لئلا يخدعوا برآء من الشحناء والعصبية في النسب والمذهب خوفًا من أن يحملهم ذلك على جَرْح عَدْلٍ أو تزكية فاسقٍ، ويجتهد القاضي في إخفاء أمرهم، حتى لا يشتهروا في الناس بالتزكية، وهل يشترط لفظ الشهادة من المزكِّي فيه وجهان، كما ذكرنا في المُسْمِعِ: أظهرهما: نعم، فيقول؛ أشهد أنه عدل، وهذا ما أورده في الكتاب، وقال في ¬
"الوسيط": إن اعتبرنا مشافهةَ القاضِي، فلا بدّ من لفظ الشهادة، وإن لم نعتبره، ففي اشتراطه في الكتابة بالرِّسالَة وجهان، ولا يجوز أن يزكي أحد الشاهدين. الثاني: وفيه وجه آخر: أنه نذكره في "باب الشهادة" وعن كتاب حرملة: أنه لو شهد شاهِدَانِ، وعدَّلَهما آخران لا يعرفهما القاضي وزكَّى الآخرين مزكِّيان للقاضي جاز. المسألة الثانية: لا يثبت العادلة لمجرَّد رفعه المزكي؛ لأن الخَطَّ لا يعتمد على ما سبق، وإنما يكتب القاضي إلَى المزكِّي؛ لأنه قد يحتاج إلى البحث والتدبر الطويل، وكانت المراجعة بالرقاع أحْسَنَ، ثم الاعتماد على ما يجري أخيرًا، وعن القاضي الحُسين جواز الاعتماد على الرقعة، كما عليه العمل ثم ذكر في "الوسيط" تفريعًا على الأول: أن الإصطخري قال: يكفي رسولان مع الرّقْعة، وإن الأظْهَرَ وجوبُ المشافهة، وهذا ما أوردَه في الكتاب، وهو بَيِّنٌ، إن كان القاضي يحكم بشهادة المزكين، أما إذا ولى بعضهم للحكم بالعدالة والجرح، فليكن كتابه ككتاب القاضي إلى القاضي، وليكن الرسولان كالشاهدين على كتاب القاضي. الثالثة: لا يقبل الجرح المُطْلَق بل لا بدّ من بيان سببِهِ (¬1)، خلافًا لأبي حنيفة. لَنَا: أنَّ الجارح قد يُبْنَى (¬2) على ظَنّ خَطأ، كما قال الشافعيُّ -رضي الله عنه- رأيْتُ بمصر مزكيًا يجرح رجُلاً، فسُئِلَ عن سببه وأَلَحَّ عليه، فقال: رأيته يَبُول قائمًا، قيل: وما في ذلك؟ قال: يرد الريح من رشاشه عَلَى بدنه وثيابه، فيصلي فيه قيل: قد رأيته قد أصابه الرَّشَاش، وصلى فيه قبل أن يغتسل ما أصابه، قال: لا وأيضًا، فالمذاهب فيما يوجِبُ الفِسْق مختلفةٌ، فلا بدّ من البيان؛ ليعمل القاضي باجتهاده، ويجوز أن يقال: إذا عرف القاضي أنه لا يطلق الفسق، إلا إذا تحقق سببه، يجوز اعتماده، كما ذكرنا في الخبر عن نجاسة المَاءِ في أبواب الطهارات، وأما التَّعْدِيل، فَلا حاجة فيه إلى بيان السَّبَب؛ لأن العدالة بالتحرزُّ عن أسباب الفسق، وهي كثيرةٌ يعسر ضبْطُها وعدها، وفي "العدة" ذِكر وجهٌ ضعيفٌ أنه يجب بيانُ سبب التَّعْديل أيضًا، وهل يكفي أن يقول: هو عدل، قال في "الأُمِّ" و"المختصر": لا يقبل التعديل، حتى يقول: هو عدل عَلَيَّ وَلي فأخذ بظاهره آخذون، وعلَّلوا اشتراطه بمعنيين: أحدهما: عن أبي إِسحاق: أن الإِنسان قَدْ يعدل على الإِطلاق، وقد يَعْدِلُ في شَيْءٍ دون شَيْءٍ، وعلى شخص دون شخص، وقوله: "هو عدل بمجرده" لا يفيد ¬
العدالة المطلقة، كقولنا: "فلان صادق" فإذا ضم إليه قوله: "على ولي" فقد أشار إلى العدالة المطلقة. والثاني: أن اشتراطه؛ ليبيِّن أنه ليس بوالد ولا ولد، فإن تزكية الوالد لولده غَيْر مقبولةٍ، كالحكم لهما، وقال آخرون، منهم الإصطخريُّ وأبو عليِّ الطبريُّ: يكفي أن يقول: هو عدل والزيادة عليه تأكيد، وهذا أقوى وأصح؛ على ما ذكره صاحب "التهذيب" وغيره، والمعنيان ضعيفان، أما الأول؛ فلأنَّ العدالة قضيةٌ عامةٌ لا يوصف بها إلا من وَاظَب على المفروضات، واجتنب المحرمات، وبتقدير أن يكون الرجل عدلًا في شيء دون شيء، وقوله: "على ولي" لا يفيد العدالة المطلقة، كقول القائل "فلانٌ صادق على ولي" فإنه لا يقتضي صدقه في كل شيء، وأما الثاني، فمن وجهين: أحدهما: أن قبول تزكية الوالد والولد وجهان، إن قبلناها سقط الكلام، وهو الذي أجاب به أبو الحسن العَبَّادِيُّ، فلا نسلم أنَّ قوله "عدل على ولي" يفهم أنه ليس بوالد ولا ولد، وهذا لأن العَدْلَ عَدْلٌ على أبيه وابنه ولهما إلاَّ أنه لا يقبل شهادته لهما؛ لمعنى البعضية، وبتقدير أن يفهم، نفي البعضية فالمعتبر ألاَّ يكون هناك بعضية فأما أن يتعرض له مطلقًا [.....] (¬1)، وهذا كما أن الشاهد لغيره ينبغي ألاَّ يكون أبًا له ولا ابْنًا، ولا يشترط أن يقول: لست بأَبٍ ولا ابْنٍ. والثاني: أنه، لو كان الغرضُ بيانَ أنَّه ليس بأبٍ ولا ابْنٍ، فهذا الغرضُ يحْصُل بقوله: هو عدْلٌ على ولي، فإنَّ من تُقْبَل شهادته له، لا يكون أبًا ولا ابنًا، فليخرج قوله عليه مما يؤيد الوجه الثاني: أن القاضِيَ ابن كج نقل عن جماعة من الأصحاب أنهم جعلوا قول المزكِّي هو عدلَّ مرضيٌّ أو رضيٌّ أو مقبول الشهادة وافيًا مغنيًا عن قوله: "على ولي"، وحكَوْه عن نصه في حرملة، ومعلوم أن هذه الزيادات لا تشتمل على معنى "علي ولي" فدل على أن ذكره جرى تأكيدًا، ثم حكَى هذا القاضي؛ تفريعًا على اعتبار كلمتي "على ولي" وجهين؛ أن اعتبارهما مخصوصٌ باختيار المَسْؤولين أصحاب المسائل، أو شامل لأخبارهم إياهم ولأخبار أصحاب المسائل القاضي ولا فقه في الفرق ولا يحصل التعديلُ بقوله: لا أعلم منه إلا خيرًا؛ لأنه قد لا يعرف منه إلا الإِسلام، ويقول: لا أعلم منه ما يوجب رَدَّ الشهادة؛ لأنه قد لا يعرف ما يوجب القَبُولَ أيضًا، والله أعلم، ولا يخفى بعد ما ذكرنا المواضع المستحقة للعلامات من لفظ الكتاب، وأن قوله "ولا يعتمد في الجرح إلا العيان" غَيْر معمول بإطلاقه. وقوله في الكتاب: "فيقول: أشهد أنه عدل مقبول الشهادة" ينبغي أن يعرف فيه شيئان: ¬
أحدهما: أن الوصف بأنّه مقبول الشهادة يجب أن يغني عن الوصف بالعدالة. والثاني: أن في هذا الكلام إشعارًا بأن المزكي يتوظَّف عليه بيانُ أن شهادته مقبولةٌ في الحادثة، ويوافقه قولُنا من قبل: إن القاضي يكتب اسم المشهود عليه، فقد يكون بينه وبين الشاهد عداوةٌ واسم المشهود له فقد يكون بينهما ولادةٌ، وعلى هذا، فالمزكي كما يحتاج إلى البحث عن العدالة، إذا لم يعرف بنفسه يحتاج إلى البحث عن المروة، وعن التيقظ ولكن يشبه أن يقال: إن الحال يختلف بحسب سُؤَال القاضي، إن سأل عن قبول شهادته في الحادثة تَعَرَّض المزكي للقَبُول واحتاج إلى الأبحاث المذكورة، إذا لم يعرف، وإنه سأل عن عدالته، كفاه التعرض لها. قَالَ الغَزَالِيُّ: فَإنِ ارْتَابَ القَاضِي بَعْدَ التَّزْكِيَةِ لِتَوَهُّمِ غَلَطِ الشَّاهِدِ فَلْيَبْحَثْ وَلْيَسْأَلْ عَنِ التَّفْصِيل فَرُبَّمَا يَخْتَلِفُ كَلاَمُ الشَّاهِدِ، فَإنْ أَصَرَّ عَلَى إِعَادَةِ الكَلاَمِ الأَوَّلِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَعَلَى القَاضِي الحُكْمُ بَعْدَ البَحْثِ وَإِنْ بَقِيَتِ الرِّيبَةُ، وَبَيِّنَةُ الجَرْحِ تُقَدَّمُ عَلَى بَيِّنَةِ التَّعْدِيلِ، وَقَوْلُ الوَاحِدِ فِي الجَرْحِ لا يُقابِلُ بَيِّنَةَ التَّعْدِيلِ، وَلا يَجُوزُ الجَرْحُ والتَّعْدِيلُ بِالتَّسْامُعِ، وَإِنْ شَهِدَ مَرَّةً أُخْرَى رَجَعَ المُزَكِّي ثَانِيًا إِنْ طَالَ الزَّمَانُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه فروع: أحدها: إذا ارتاب القاضي بالشهود أو توهَّم غلطهم؛ لخفة عقل وجدها فيهم، فينبغي أن يفرقهم، ويسأل كلَّ واحدٍ منهم عَنْ وَقْتِ تحمُّل الشهادة عامًّا وشهرًا ويومًا وغدوةً وعشيةً، وعن مكانًا ومحله، وسكةً ودارًا وصفةً أو صحنًا، ويسأل أنه تحمل وحده أو كان هناك غيره وأنه كتب شهادته أم لا، وكتب قبل ما كتب فلان أو بعده، وكتبوا بحبر أو بمداد وما أشبه ذلك؛ ليستدل على صدقهم، إن اتفقت كلمتهم، ويقف على عوره، وإن لم يتفق، ويقال: إنَّ أوَّل من فرَّق الشهود دانيال النبيُّ -عليه السلام - شهد عنْدَه شهودٌ بالزنا على امرأَةٍ، ففرقهم وسألهم، فقال، أحدهم: زنتْ بشابٍّ تحت شجرة كُمَّثْرَى، وقال آخر: تحت شجرة تُفَّاحٍ، فعرف كذبهم (¬1)، وإِذا أجاب بعْضَهم عما سأل، لم يدعه يرجع إلى الباقين حتى يسألهم أيضًا كيلا يخبرهم الأول بجوابه، ومهما اتفقوا في الجواب، أو لم يتعرَّض للتفصيل، ورأى أن يعظهم ويحذرهم عقوبةَ ¬
شهادةِ الزُّور، فَعَل، فإن أصروا وجب القضاء، إذا تحقق شروطه، ولا عبرة بما يبقى من ريبة، وإن لم يجد فيهم خفَّة عَقْلٍ ومخيلة نَقْصٍ، فالمنصوصُ والمشهورُ أنَّه لا يفرقهم؛ لأن فيه غضًّا منهم، وذكر القاضي الرويانيّ في "جمع الجوامع" أنه يفرقهم أيضًا، ليقف على عورة إن كانت، وقال في "التهذيب": إن فرقهم بمسألة الخصم، فلا بأس، فإن قلت: متى يفرقهم القاضي قبل التزكية أو بعدها؟ وهذا التفريق والاستفصال واجبٌ أو مستحبٌّ؟ قلنا: أما الأوَّلُ فإنَّ صاحبَ الكتاب أمر بالبحث والاستفصال بعد التزكية، والذي ذكره أصحابنا العراقيُّون وغيرهم أنَّه يقدم التفريق والاستفصال على الاستِزْكاء، وهو الوجه، فإِنه إن طلع على عورة استغنى عن الاستزكاء والبَحثْ عن حالهم، وإن لم يطلع، فإن عرفهم بالعدالة، قضى، وإن لم يعرفْهم، فحينئذٍ يستزكي. وأما الثاني: فإن الإِمام وصاحب الكتاب في "الوسيط" حكما بالوجوب، وقالا: لو ترك الاستفصال، وقضى مع الارتياب، لم ينفذ قضاؤه، وعامة الأصحاب، ومنْهم القاضي ابن كج وصاحبُ "التَّهذيب" -رحمهم الله- اقتصروا على الاسْتِحْباب، وهو الموافِقُ بِـ"المختصر"، وربما أورد بعضهم الفرق بين أن يسأل الخَصْم التفريق، فيجب؛ لأنه قد يعرف منْهم ما لا يعرفه القاضي، أو لا يسأل، فلا يجب. الثاني: تقدم بينة الجرح على بينة التعديل؛ لأن عند الجارح زيادةً على ما خفي على المُعَدِّل؛ وذلك لأن المُعَدِّل يبنى عَلَى ما هو الأصل الظاهر من حال المسلم، والجارحُ اطَّلَع على ما نسخ ذلك الأصل، فنقل عنه، وشبه ذلك بما لو قامت بينة علَى الحق، وبيِّنةٌ على الإبراء، ولو انعكست القضية بأن قال المعدِّلُ: قد عرفت السبب الذي ذكره الجارح، لكنه قد تاب، وحسنت حالته، فتقدم بينة التعديل؛ لأن مع المعدِّل، والصورة هذه، زيادة عُلِم، كذلك ذكره جماعةٌ منهم صاحب "الشامل" وقول الواحدِ في الجَرح لا يقابل بينة التعديل فضلاً عن التقدُّم؛ لأنَّ نصاب الجرح لم يَتِمَّ. الثالث: إِذا عدل الشاهد، ثم شهد في واقعة أخْرَى، نُظِرَ، إن لم يطل الزمانُ، يحكم بشهادته، ولا يطلب تعديله ثانيًا، وإن طال فوجهان: أحدهما: أن الجواب كذلك؛ لأن عدالته قد ثبتَتْ من قبل، والأصل استمرارها. وأظهرهما: وهو المذكور في الكِتَابِ، وبه قال: أبو إِسحاق: يطلب تعديله ثانيًا، لأن طول الزمان يغيِّرُ الأحوال، ويجتهد الحاكم في طول المدة وقصرها (¬1). ¬
الباب الثالث في القضاء على الغائب
وأمَّا قوله في الكتاب "ولا يجوز الجرح والتعديل بالتسامُعِ" فيه توقف، أما طرف الجرح، فقد ذكر الإِمام -قدس الله روحه الجواب- كما ذكره، لكنَّا بيَّنَّا من قبلُ أن جماعة من الأصحاب جوَّزوا الجرح بالاستفاضةِ، والتسامُعُ والاستفاضةُ متقاربان إلا أن يقال: المراد من التسامع مُطْلَقُ بلوغِهِ سماعًا، وذلك غيْرُ كافٍ، فإِنه لو سمع شخْصَيْن أو عددًا يسيرًا، لم يجز الجرح بالاتفاق، والاستفاضة تُحْصُل بعدَدٍ وافرٍ، فلا يختلف النقلان، وأما في طرف التعدِيل، فقد مرَّ أنه يعتبر في المعدِّل الخبرة الباطنة، فيوافقه القول بأنّه لا يجوز التعديل بالتسامع، ولكن المخبرين الذين تحصل بهم الاستفاضة، لَوْ كانوا خبيرين بباطنِ حَالِه، وسمع منهم عدالَتَه، فلا يبعد أن يجوز له التعديل، وتقام خبرتهم مقام خبرته، كما أقيم في الجرح رؤيتهم مقام رؤيته، والله أعلم. شهادةُ المسافِرِينَ والمجتازينِ منَ القوافِلِ كشهادة غَيْرِهِمْ في الحاجة إِلى التعديل، فإِن حصل التعديل مِنْ مزكين في البلد أو عدل مزكيان اثنين من رُفَقَاء القافِلَة، ثم هما عَدَّلاَ الشاهدين، قُبِلَت الشهادة، وإلاَّ، فلا، وعن مالك: أن شهادتهم مقبولة عند توهُّم الخير والصلاح فيهم، وذكر ابن القاصِّ: أن القاضي، لَوْ سأل عن عدالة الشهود بَعْدَ ما خرج عن محلِّ ولايته فعدلوا، يجوز أن يقضي بشهادتهم بَعْد العود إِلى محل ولايته (¬1)، إِذا جوَّزنا له أنْ يقضي بعلْمِ نفْسِه، ولم يرتضه أبو عاصمٍ العبَّادِيُّ وآخرون، وقالوا: القياسُ منْعُه، كما لو سمع البينة خارجَ ولايته. ويقبل شهادة الحسبة على العدالة والفسق؛ لأن البحث عن حال الشُّهود في امتناع الحُكْم بشهادة الفاسق لحقِّ الله تعالَى، ذَكَرَهُ القاضي أبو سعدٍ الهرويُّ، ولو عُدِّلَ الشاهد والقاضي مُتَحقِّق فسقه بالتسامع، قال الإِمام: الذي يجب القطعُ به أنه يتوقَّف ولا يقضي، والله أعلم. الْبَابُ الثَّالِثُ فِي القَضَاءِ عَلَى الغَائِبِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَهُوَ نافِذٌ (ح و) وَيَتَعَلَّقُ النَّظَرُ بِأَرْكانٍ الرُّكْنُ الأوَّلُ: الدَّعْوَى: وَلْيَكُنْ مَعْلومًا أَعْنِي جِنْسَ المَالِ وَقَدْرَهُ، وَصَرِيحًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي مُطالِبٌ؛ به، وَلا يَكْفِي ¬
قَوْلُهُ: لِيَ عَلَيْهِ كَذَا، وَلْيَكُنْ مَعَهُ بَيِّنَةٌ، وَيدَّعِي جُحُودَ الغَائِبِ، وَإِنْ أقرّ بَأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ لَمْ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضُ لِجُحُودِهِ فَوَجْهَانِ: قَالَ الرَّافِعِيّ: القضاء على الغائب جائزٌ في الجملة، وبه قال مالك وأحمد -رحمهما الله- واحْتَجَّ الأصحاب له بما رُوِيَ أنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِهِنْدَ: "خُذِي ما يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرِوفِ" (¬1) وكان ذَلِكَ قضاءً منه على زَوْجِهَا أَبِي سفيان، وهو غائب، وبأن عمر بن الخطاب قال في خطبته في قضية الأسيفع: "مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا غَدًا فَإنَّا بائعو مَالِهِ وَقَاسِمُوهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ" (¬2) وكان ذلك الرجل غائبًا، وبأن البينة مسموعة بالاتفاق على الغائب، فليجر الحكم بها كالبينة المسموعة على الحاضر الساكت، وبأن الحكم على الميِّت والصغير جائزٌ، والموت والصغر أعظم من العفْوِ عن الدفع من الغيبة، وقال أبو حنيفة: لا يجوز القضاء على الغائِبِ إِلاَّ إِذَا كان للدَّعْوَى اتصال بحاضر بأن قال: لي على فلانٍ الغائب كذا وفلان كفيله أو شريكه أو أحالني على هذا الحاضر أو باع من هذا الحاضر كذا، وأَنا شفيعٌ مطالِبٌ أو ادعت الزوجة النفقةَ عَلَى زوجها الغائِبِ في أن له على هذا كذا وفي يد هذا كذا أو ادعى إتلاف مال عَلَى جماعةٍ أحدُهم حاضرٌ، والباقون غُيَّبٌ؛، وعن صاحب "التقريب": أن حرملة روى في المسألة قولاً كمذهب أبي حنيفة، والمذهبُ المشهورُ ما سبق، إِذا عرف ذلك، فالكلام في القضاء عَلَى الغائب يتعلَّق بأطراف، كل واحد منْهُما ركن، فمسائِلُ الباب: أحدها: الدعْوَى، ويشترط في الدعْوَى على الغائب ما يشترط في الدعْوَى عَلَى الحاضِرِينَ من بيان جنْس المدعي وقدره وصفته، وقوله: إني مطالِبٌ بالمال، ولا يكفي الاقتِصار عَلَى قوله: "لي عليه كذا" على ما سيأتي ذلك بشرحه في باب الدعْوَى، وينبغي أن يكون على المدعَى عليه بيِّنَة، وإلا فلا فائدة للدعوى عَلَى الغائب، وأن يدعي جُحُود الغائب، فإن قال: هو مقر، لم تسمع بينته ولغت دعواه، وإن لم يتعرَّضْ لجحوده ولا إِقراره، فوجهان: ميل الإِمام منهما إلى أن بينته تسمع؛ لأنه قد لا يعلم جحُودَهُ في غيبته، ويحتاج إِلى إِثبات الحق، فليجعل غيبته كسكوته. والثاني: لا تسمع إلا عنْدَ التعرّض للجُحُود؛ لأن البينة إِنما يحتاج إِلَيْها عنْد الجحود، فعلى هذا يشترط أن يَقُول: هو جاحد، وعلى الأول الشَّرْط أَلاَّ يقول: هو مقر، ورأيت فيما جمع من فتاوى القَفَّال (¬3) أن هذا كله فيما إذا أراد إِقامة البينة عَلَى ما ¬
يدعيه؛ ليكتب القاضي به إِلى حاكمِ بلَدٍ الغائب، فأما إِذا كان للغائب مالٌ حاضرٌ، وأراد إِقامة البينة على دينه؛ ليوفيه القاضي، فإِن القاضي يسمع بينته، ويوفيه، سواءٌ قال: هو مقرٌّ أو جاحدٌ أو قال: لا أدري، أهو مقرٌّ أو جاحد؟ وهل على القاضي سماع الدعوى على الغائب أن ينصب مُسَخَّرًا يُنْكر على الغائب؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لتكون البينة على إِنْكَار منكر. وأصحهما: عَلَى ما ذكره في "التهذيب" لا لأن الغائب قَدْ يكون مقرًّا، فيكون إِنكار المسخر كذبًا، وقضية هذا التوجيه ألا يجوز نصْبُ المسخَّر، لكن الذي ذكره أبو الحسن العبَّاديُّ وغيره أن القاضي مخيَّر إِن شاء نَصَب عنْه، وإن شاء لَمْ ينصب. قَالَ الغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الثَّانِي: المُدَّعِي: وَيُحَلِّفُهُ القَاضِيَ بَعْدَ البَيِّنَةِ عَلَى عَدَمِ الإبْرَاءِ والاسْتِيفاءِ والاعْتِيَاضِ، وَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وإِنْ كَانَ الدَّعْوَى عَلَى صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَو مَيِّتٍ وَجَبَ وَجْهًا واحِدًا، وَلا يَجِبُ التَّعَرُضُ فِي اليَمِينِ لِصِدْقِ الشُّهُودِ، وَإِن ادَّعَى وَكِيلُهُ عَلَى الغَائِبِ فَلاَ يُمْكِنُ اليَمِينُ وَيُسَلَّمُ الحَقَّ، بَلْ لَوْ قَالَ المُدَّعَى عَلَيْه الحَاضِرُ لِوَكِيلِ المُدَّعِي: أَبْرَأَني مُوَكِّلُكَ الغَائِبُ لَمْ يَنْفَعْهُ بَلْ يُسَلِّمُ المَالَ ثُمَّ يُثْبِتُ الإِبْرَاء. قَالَ الرَّافِعِيُّ: كما يعتبر في الدَعْوَى على الغائب ما يعتبر في الدعوى على الحاضر وزيادة، وهي أن يحلف مع البينة، واعلم أنَّه لو ألحق التحليف برُكْنِ الدعوى، وأقام البينة بركْنِ المدَّعي، فقيل: يعتبر التحليفُ في الدعْوَى على الغائب، وللمدعي على الغائب لا بُدَّ له من البينة على عكسِ ما في الكتاب، لجاز، وليس في هذا ترتيبٌ محقَّقٌ، ثم في التحليف ثلاثُ مسائل: إحداها: في وقت التحليف وكيفيته، فحلف القاضي المدَّعي على الغائب بعْد قيام البينة وتعديلها بأنه ما أبراه عن الدين الذي يَدَّعِيه، ولا عن شيء منْه ولا اعتاض وَلاَ استوفَى، ولا أحال عليه، ولا أحد من جهته، بل هو ثابتٌ في ذمَّة المدَّعَى عليه، يلزمه توفيته، ويجوز أن يقتصر، فيحلفه على ثبوت المال في ذمته، ووجوب التسليم وإنما يحلف مع البينة؛ لأن المدَّعَى عليه، لو كان حاضرًا، لكان له أن يدعي شيئًا من الجهات المذكورة، فيحلفه، فينبغي للقاضي أن يحتاط له، وكذلك يحلف مع البينة، إِذا كانت الدعوى عَلَى صَبِيٍّ أو مجنونٍ أَوْ مَيِّتٍ، ليس له وارثٌ خاصٌّ، وإِن كان، فيحْلِف بمثله الوارث.
ويجوز أن يعلم قوله في الكتاب "ويحلفه القاضي" بالألف والزَّاي والواو؛ لأن أشْهَر الروايتَيْن عن أحمد أنه لا يحلفه، ويكتفي بالبينة. وحكى القاضي ابن كج عن المزَنِيِّ مثله، وذكر الشيخ أبو عاصم أن أبا الحُسَيْنِ ابْنَ القطَّان روى عن أبِي الحُسَيْن الطرسوسي من أصحابنا أنَّ للشافعيِّ -رضي الله عنه- قولاً مثله، ولا يشترط التعرض في اليمين لصدق الشهود بخلاف اليمين مع الشاهد؛ لأن البينة هاهنا كاملة، وفيه وجه أنه يشترط. الثانية: هذا التحليف واجبٌ أو مستحبٌّ؟ فيه وجهان، ويقال قولان: أظهرهما: الوجوب. والثاني: أنَّه يستحب لأرباب التدارك، إن كان هناك دافعٌ غير منحسم، والوجوب في الصبيِّ والمجنونِ والميِّتِ أَوْلَى لعَجْزِهم عن التدارك، لكن الخلاف مطَّرد، وكذلك حكاه أبو الحَسَنِ العبّادِيُّ وجماعة، وبنى على هذا الخلافِ ما لو أقام قَيِّمُ الطِّفْل البيِّنَةَ على قيم طفل، فإن قلْنا: يوجب التحليف، فينظر إلى أن يبلغ المدعي له، فيحلف، وإن قلنا: بالاستحباب، فيقضي بها (¬1) ونقل صاحب الكتاب القَطْع بالوجوب في ¬
الدعْوَى على الصبيِّ والمجْنُون والميِّت، فحصَلَتْ طريقتان. الثالثة: لو لم يَدَّعِ بنفسه ولكن ادَّعَى وكيله علَى الغائب، فلا يحلف، ويوفر الحق، إن كان المدعَى عليه هناك (¬1) قال: ولو كان المدعَى عليه حاضرًا، وقال للمدَّعِي بالوكالة بَعْد ما أقام البينة: أَبْرَأَنِي موكِّلُكَ الغائبُ، وأراد التأخير إِلى أن يحضر الموِّكل، فيحلف، لم يمكَّن منه، بل عليه تسليم الحقِّ، ثم يثبت الإِبراء من بعْدِ أن كانت له حجَّةٌ، ويقال: إِن المسألة وقعتْ بمرو، وتوقَّف فيها فقهاءُ الفريقَيْن، ثم أفتى القفَّال بما ذكرناه، ووجدت في تعليق الشيخ أبي حامد مثل هذا الجواب في "كتاب الوكالة" والسبب فيه أنا، لو وقَفْنَا الأمر إِلى أن يحضر الموكل لا تجر الأمر إِلى أن يتعذَّر استيفاء الحقوق بالوكلاء، وكذا لو ادعى قَيِّم الصبيِّ دَيْنًا للصبيِّ، فقال المدعَى عليه: إِنه أتلف علَيَّ مِنْ جنس ما يدَّعِيه ما هو قضاءٌ لدَيْنِه، لم ينفعه بل عليه أداء ما أثبته القيِّم، فإذا بلغ الصبيُّ حلَّفه، ولو أن المدعي عليه قال في مسألة الوكيل: أبرأني موكِّلك الغائبُ، فاحْلِفْ أنت أنك لا تعلم ذلك، قال الشيخ أبو حامد: عليه أن يحلف على نعَي العلْم، ومن الأصحاب من يخالفه فيه، ولا يحلف الوكيل، ولك أن تقُولَ: قضية ما ذكره الشيخ أن يُحْلِف القاضي وكيلَ المدَّعى الغائب على نفْي العلم بالإِبراء وسائر الأسباب المسقطة نيابةً عن المدعى عليه فيما يُنْكر منه، لو حضر كَمَا ناب عنه في تحليف مَنْ يدعي بنفسه. فَرْعٌ: يجوز القضاء على الغائِبِ بشاهدٍ ويمينٍ، كما يجوز على الحاضِرِ، ويكفي يمين واحدةٌ أم لا بدّ من يمينين؛ أحدهما لتكميل الحجة، والأخرَى لنفي المُسْقِطات؟ فيه وجهان: أشبههما: الثاني. آخر: تعلَّقَ بإِنسانِ، وقالَ: أنت وكيلُ فلانٍ الغائب، ولي عليه كذا، وادعى عليك وأقيم البينة في وجهك، فإن علم أنه وكيلٌ، وأراد أَلاَّ يخاصم، فليعزل نفسه، وإن لم يعلم، فينبغي أن يقول؛ لا أعلم أنِّي وكيلٌ، ولا يقول لست بوكيل، فيكون مكذبًا لبينة عساها تقوم على الوكالة، وهل للمدَّعِي إِقامةُ البيَّنة على وكالة مَنْ تعلَّق به؟ فيه وجهان، ظاهر كلام أبي عاصم العبَّادِيِّ: نعم؛ لأن له فيها فائدةً، وهي أن يستغني عني ضم اليمين إِلى البينة، وأن يكون القضاء مجْمعًا عليه، والأظهر الجمع؛ لأن الوكالة حقُّه، فكيف تقام البيِّنة عليها قبل دعواه. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الثَّالِثُ: إِنْهَاءِ الحُكْمِ إِلَى القَاضِي الآخَرِ: وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْهَدُ شَاهِدَانِ عَلَى تَفْصِيلِ حُكْمِهِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكْتُبَ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ مَخُتُومٍ، والاعْتِمادُ عَلَى الشَّهادَةِ فَلَوْ شَهَدَ بِخِلاَفِ مَا فِي الكِتَابِ جَازَ، وَلَوْ قَالَ القَاضي: أَشْهَدتَّكُمَا عَلَى أَنَّ مَا فِي الكِتابِ خَطِّي لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ، فَلَوْ قَالَ: مَا فِي الكِتَابِ حُكْمِي فالأَظْهَرُ أنَّهُ لا يَكْفِي مَا لَمْ يُفَصِّلْ لَهُمَا مَا حَكَمَ بِهِ، وَلَوْ قَالَ المُقِرُّ: أَشْهَدَتُّكَ عَلَى مَا فِي القَبَالَةِ وَأَنَا عَالِمٌ فالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَكْفِي حَتَّى إِذَا حَفِظَ الشَّاهِدُ القَبَالَةَ أَوْ مَا فِيهَا وَشَهِدَ عَلَى إِقْرارِهِ جَازَ إِذِ الإِقْرارُ بَالمَجْهُولِ صَحِيحٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القاضي بعْدَ سَماَعِ الدعْوَى والبيِّنة على الغائب تارَةً يقتصر علَيْهِ، وينهي الحال إِلى قاضي بلَدِ الغائب؛ ليحكم ويستوْفِي (¬1) وتارة يحلف كما مر، ويحكم، وعلى التقدير الثاني، فقد يكون للغائب مالٌ حاضرٌ، يمكن توفير الحق منه، فيوفر، وقد لا يكون كذلك، فيسأل المدعي القاضي إِنهاء الحكم إِلى قاضي بلَدِ الغائب، فيجيبهِ إليه، وللإِنهاء طريقان: أحدهما: أن يشهد على حكمه عدلَيْن يخرجانِ إِلى ذلك البلد، والأولى أن يكتب بذلك كتابًا أولاً ثم يشهد، أما الكتاب، فصورته: حضر عافَانا الله وإِياك فلانٌ، وادَّعَى على فلانٍ الغائب المقيم ببلدِكَ كذا وكذا، وأقام عليه شاهدَيْنِ، وهما فلانٌ وفلانٌ، وقد عُدِّلاَ عندي، وحَلَّفتُ المدَّعِيَ، وحكمت له بالمال، فسألني أن أكتب إِليك في ذلك، فأجبته إِليه، وأشهدتُّ عليه فلانًا وفلانًا ولا يشترط تسمية الشاهدَيْنِ على الحكم، ولا ذكر أصل الإِشهاد ولا النص عَلَى أسامي شهود الحق، بل يكفي أنَ يكتب: شَهِدَ عنْدِي شهودٌ عدولٌ، ويجوز أَلاَّ يصفهم بالعدالة، فيكون الحكم بشهادتهم تعديلاً لهم ذكره في "العدَّة" ويجوز ألا يتعرض لأصل شهادة شهودٍ، فيكتب: حكمت بكذا بحجَّة أوجبت الحكم؛ لأنه قد يحكم بشاهدٍ ويمينٍ، وقد يحكم بعلمه، إِذا جوَّزْنا القضاء بالعِلْم، وهذه حيلةٌ يدفع بها القاضي قَدْحَ أصحاب الرأي، إذا حكم بشاهدٍ ويمينٍ وفي فحوى كلام الأصحاب وجْهٌ مانع من إبهام الحجَّة؛ لما فيه من سدِّ باب الطعن والقدح على ¬
الخَصْم، ويُستحبُّ للقاضي أن يختم الكتاب، ويدفع إلى الشاهدَيْنِ بنسخةٍ غَيْرِ مختومة ليطالعاها، ويتذكرا عند الحاجة، وأن يذكر في الكتاب نَقْش خاتمه الذي يريد الخَتْم به، وأن يثبت اسْمَ نفسه واسْم المكتوب إِليه في باطن الكتاب، وفي العنوان أيضًا، وعن أبي حنيفة أنه يشترط ختم الكتاب، وإِثبات الاسمين في الباطن، وأما الإشهاد، فإن أشهدهما عَلَى أنه حكم بكذا ولا كتاب شهدا به، وقبلت شهادتهما، وإِن أنشأ الحكم بَيْنَ يديهما، فلهما أن يشهدا، وإِن لم يشهدهما، وإِن كتب، ثم أشهد، فينبغي أن يقرأ الكتاب أو يقرأ بيْن يديْه علَيْهِما، ويقول لهما: اشْهدا علَيَّ بما فيه أو علَيَّ بحكمي المبيَّن فيه، وفي "الشامل": أنَّه لو اقتصَرَ عَلَى قوله بعد القراءة "هذا كتابِي إِلَى فلانٍ" أجزأ (¬1)، وحكى القاضي ابن كج وجْهًا: أنه يكفي مجرَّد القراءة عليها، والأحوط أن ينظر الشاهدان في الكتاب وقْتَ القراءة عليهما، ولو لم يقرأ الكتاب عليهما، ولم يعلما ما فيه، وقال القاضي: أشهدتكما عَلَى أن هذا كتابي، وما فيه خطى، لم يكف، ولم يكن لهما أن يشهدا عَلَى حكمه، فإن الشيء، قد يكتب من غير قصد تحقيقه تحقيقه، وعن أبي حنيفة: أنه، إِذا وقع الكتاب إِليهما مختومًا، وقال: هذا كتابي، وكفى، ولو قال: أشهدكما، عَلَى أن ما فيه حُكْمِي أو على إنِّي قضيتُ بمضمونه، ففيه وجهان: أظهرهما: أنه لا يكفي ما لم يُفَصِّل لهما ما حَكَم به. والثاني: وبه قال الإصطخريُّ: يكفي لإِمكان معرفة التفصيل بالرجوع إِليه، ويجري الخلاف فيما لو قَالَ المِقرُّ أشهدتك علىَ ما في هذه القبالةِ، وأنا عالم به، لكنَّ الصحيح عند صاحب الكتاب في الإِقرار أنَّه يكْفِي حتَّى لو سَلَّم القبالة إِلى الشاهد، وحفظها الشاهد، وأمن التحريف، جاز له أن يشهد على إِقراره، وفَرَّق بينهما بأنه مقر على نفسه، والإقرار بالمجهول صحيحٌ، وأما القاضي، فإنه مخبر عن نفسه بما يرجع ضرره إلَى الغَيْر، فالاحتياط فيه أَهَمُّ، والذي أجاب به الصَّيْمَرِيُّ في "مختصرٍ" جمعه في أحكام الشهادات: أنه لا يكفي ذلك في الإِقرار أيضًا، حتى يقرأه، ويحيط بما فيه، وذكر أنَّه مذهب الشافعيِّ، وأبي حنيفة -رحمهما الله- ويشبه أن يكُونَ هذا الخلافُ في أنَّ الشاهد، هَلْ يشْهدُ على أنَّه أقر بمضمون القَبَالَةِ، على التفصيل، وأما الشهادة على أنَّه أقرَّ بما في هذا الكتاب مبهمًا، فما ينبغي أن يكون فيه خلافٌ كسائر الأقارير المبهمة، وسواءٌ شهد هكذا أو هكذا، فإِنما يشهد، إِذا كان الكتابُ محفوظًا عنده، وأمن التصرّف فيه، ثم هاهنا مسألتان: أحدهما: أن التعويل على شهادة الشهود، والمقصودُ من الكتاب التذكر، ومن ¬
الختم الاحتياط وإِكرام المكتوب إِليه، فلو ضاع الكتاب أو انمحى أو انكسر الختم، وشهدا بمضمونه المضبوط عنْدهما، قبلت الشهادة، وقضى بها، فلو شهدا بخلاف ما في الكتاب عمل بشهادتهما، وعن أبي حنيفة: أن الشهادة لا تقبل إِلا على الكتاب، ولا يكفي الكتاب المجرد؛ لما سبق أنه لا اعتماد على الخطِّ، وعن مالك: أن المكتوب إِليه، إذا وثق بالخطِّ والختم قبله، وفي "المهذَّب" وجه مثله عن الإِصطخريِّ. والثانية: لا بدّ من إِشهاد رجلَيْن عدلَيْن، فلا يقبل في الباب شهادةُ رجُلٍ وامرأتين، خلافًا لأبي حنيفة، وحكى القاضي ابن كج وجهًا للأصحاب مثله، إذا تعلَّقت الحكومة بمالٍ، وذكر أنه لو كان كتاب القاضي رؤية هلال رمضان، كفى شهادة واحدٍ على قَوْلنا: إِنه يثبت الهلال بشهادة واحد إجراء للكتاب مُجْرَى المكتوب فيه، وإِنه لو كتب في الزنا، وجوَّزنا كتاب القاضي إِلى القاضي في العقوبات، فيثبت بشهادة رجلَيْن أم لا بدّ من أربعةٍ؟ فيه وجهان كالقولَيْن من الإِقرار بالزِّنَا، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: ثُمَّ لِلشَّاهِدِ عَلَى الحَكْمِ أنْ يَشْهَدَ عِنْدَ المَكْتُوبِ إِلَيْهِ وَعِنْدَ غَيْرِهِ وَإِنَّ لَمْ يَكْتُبِ (ح) القَاضِي فِي كِتَابِهِ أنَّهُ إِلَى مَنْ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُضَاةِ، وَكَذَلِكَ يَشْهَدُ (ح) وإِنْ مَاتَ الكَاتِبُ والمَكْتُوبُ إِلَيْهِ، وَلْيَكُنْ عَدَالَةُ شُهُودِ الكِتَابِ وَخَتمُهُ ظَاهِرَةً عِنْدَ المَكْتُوب إِلَيْهِ، وَلاَ يَكْفِي تَعْدِيلُهُما فِي ذَلِكَ الكِتَابِ الَّذِي كُتِبَ إِلَيْهِ لأَنَّهُ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِما. قَالَ الرَّافِعِيُّ: كتابُ القاضِي وحامِلِهِ، إِذا انتهيا إلَى قاضي البلد الآخر، فيحضر الخصم فإن أقر بالمدعي استوفاه، وإلا، شهد الشاهدان أنَّ هذا كتاب القاضي فلان وختمه، حَكَمَ فيه لفلانٍ بكذا عَلَى هذا، وقرأه علينا وأشهدنا به، ولو لم يقولوا: أشهدنا، جاز، وعن أبي حنيفة: أنه لا يجوز، ولا يجوز ألا يتعرضا لحكمه، ويقتصر على ذكر الكتاب والختم، خلافًا لأبي حنيفة، ثم في "التهذيب" و"الرقم": أن القاضي إِنما نقض الختْمَ بعْد شهادة الشُّهود، وتعدليهم وذَكَر القاضي أبو سعد الهرويُّ أنه يفتح القاضي الكتابَ أوَّلاً، ثم يشهد الشُّهود، ويوافق هذا قوْلَ كثير من الأصحاب أن الشهود يقرؤون الكتاب، ثم يَشْهَدُونَ، لِيَقِفُوا عَلَى ما فيه وَيعْرِفوا أنه عَرَفَ ما فيه، وليس هذا خلافًا في الجواز، وكيف، وقد عَرَفْتَ أن الختم من أصْلِهِ لا اعتبار به، وكما يقبل الشهادة على ما لا ختم عليه يقبل على المفضوض الخَتْم، فضه القاضي أو غيره، وإِنَّما الكلام في الأدب والاحتياط. ويحسن أن يقال: إن كان ما في الكتاب مضبوطًا لهم فالأوْلَى أَلاَّ يفض حتى يتم الشهادة والتعديل، وإلاَّ احتاجوا إلى مطالعة وتذكر، فيشهدون على الكتاب والختم، ثم يفض فيقرأ عليهم، ثم يشهدون عَلَى حكمه بما فيه، وقد ذكر ابن القاصِّ في أدب القاضي قريبًا من هذا، إذا عرف ذلك ففي الفصْل مسألتان:
إِحداهما: يجوز أن يكتب إلى قاضٍ معينٍ، ويجوز أن يطلق، فيكتب إِلى كلِّ من يصل إِليه من قضاة المسلمين، وعن أبي حنيفة: أنه لا يجوز الإِطلاق الكليُّ، وللقاضي أبي سعد الهرويِّ حكايةٌ مبنيةٌ عَلَى ذلك، قال: تحمَّلْتُ شهادةٌ مع الشيْخ أبي سَعْدٍ المتولِّي على كتاب حكمي من قاضي هذا إِلى مجلس القاضي الحُسَيْن، وكانت الشهادة على الخَتْم، والعنوان إِلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين، فرد القاضي الكتاب، وقال الشهادة على الختم دون مضمون الكَتاب غير مقبولة عنْد الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- والعُنْوَان من غير تعيْين المكتوب إلَيْه غيرُ جائزٍ عند أبي حنيفة، فلا أقبل كتابًا اجتمع الإمامان -رضي الله عنهما- عَلَى ردِّه، كما أن من احتجم ومسَّ ذكَرَه، وصلى لا تصح صلاته على المذهبين، وإذا كان الكتابُ إلى معيَّن، فشهد شاهدان بالحكم عنْد حاكم آخر، فإنه يقبل شهادتهما، ويمضيه، وإن لم يكتب إِليه، وإلى كلِّ من يصل إِلَيْه من القضاة؛ اعتمادًا على الشهادة، وعن أبي حنيفة، لا يقبل غير المعيَّن شهادتهما إِذا لم تكتب، وإلى كل من يصل إِليه، ويجري هذا الخلاف فيما إِذا مات الكاتب، وشهد الشاهدان عَلَى حكمه عند المكتوب إِليه أو مات المكتوب إليه، وشهد عند من قام مقامه، فعند أبي حنيفة لا يقبل شهادتهما، ولا يعمل بالكتاب، وعندنا يقبل شهادتهما، ويمضي الحكم، وأما إذا كان الكتابُ بالحكم المُبْرَم، فكما لو قامت البيِّنة على حكم القاضي بعْد موته، وأما إِذا كان مقبول الشهادة، فلأنه مشبه بالشهادة على الشهادة، وشهادة الفرع بعد موت الأصل مقبولةٌ، والعَزْل والجُنُون والعمَى والخَرَسُ كالمَوْت، ولو كتب القاضي إِلى خليفته، ثم مات القاضي أو عزل تعذر علَى الخليفةِ القبولُ والإمضاءُ، إِن قلنا: إِنه ينعزل بانعزال الأصل، ولو ارتد الكاتب أو فسق، ثم وصل الكتابُ إِلى المكتوب إِليه، فجواب ابن القاصِّ، وبه أخذ صاحبا "المهذَّب" و"التهذيب" وآخرون: أن الكتاب، إذا كان بالحكم المبرم أمضى، ولم يَرُدَّ؛ لأن الفِسْقَ الحادث لا يؤثر في الحكم السابق، وإن كان بسماع الشهادة، فلا يَقْبَل، ولا يحكم به، كما لو فسق الشاهد قَبْل أن يحكم بشهادته وأطلق القاضي ابن كج القَوْلَ بأنه لا يقبل كتابه، إِذا حدث الفسْقُ من غير فَرْق بين كتابٍ وكتابٍ، وفرق بينه وبين الموت بأن ظهور الفسق يشعر بالحنث، وقيام الفسق يوم الحكم، وهذا قضية إِيراد الشيخ أبي حامد وابن الصبَّاغ (¬1)، والله أعلم. ¬
الثانية: شهود الكتاب والحكم، لا بُدَّ من ظهور عدالتهم عنْد المكتوب إِليه، وهل يثبت عدالتهم بتعديل الكاتب إيَّاهم؟ فيه وجهان: عن القفَّال الشاشي: نعم، للحاجة. والأصح: المنع؛ لأنه تعديل قبل أداء الشهادة، ولأنه كتعديل المدَّعِي شهوده، ولأن الكتاب إِنما يثبت بقولهم، ولو ثبتت عدالتهم بالكتاب لثبتت عدالتهم بقولهم، والشاهدُ لا يزكي نفْسَه، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلْيُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ اسْمُ المَحْكُومِ عَلَيْهِ وَاسْمُ أَبِيهَ وَجَدِّهِ وَحِلْيَتِهِ بِحَيْثُ يَتَمَيَّزُ بِهِ، وَإنْ ادَّعَى المَأْخُوذُ أَنَّ فِي البَلَدِ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي تِلْكَ الصِّفَاتِ وَأَظْهَرَهُ انْصَرَفَ القَضَاءُ عَنْهُ، وَإِنْ أَنْكَرَ كَوْنَهُ مُسَمَّى بِذَلِكَ الاسْمِ حَلَفَ وانْصَرَفَ عَنْهُ القَضَاءُ، وَإنْ نَكَلَ حَلَفَ المُدَّعِي وَتَوَّجَهَ الحُكْمُ، فَإنْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى نَفْيِ الاسْمِ بَلْ عَلَى أنَّهُ لاَ يَلزَمُهُ شَيْءٌ لَمْ يُقْبَل، وَلَوْ قَصَّرَ القاضِي فَلَم يَكتُبْ إِلاَّ أَنِّي حَكَمْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدِ فالحُكْمُ بَاطِلٌ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ أحْمَدَ وَأنَّهُ المَعْنِيُّ بِالكِتَابَ وَلَكِنَّهُ أَنْكَرَ الحَقَّ لا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ (و) بِالقَضَاءِ المُبْهَمِ فِي نَفْسِهِ، أَمَّا الكِتَابُ المُجَرَّدُ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ عَلَى الحُكْمِ فَلا أَثَرَ لَهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ينبغي أن يثبت القاضي في الكتاب اسم المحكوم له والمحكوم عليه، وكنيتهما واسْم أبيهما وجدهما وحليتهما وصنعتهما وسكنهما وقبيلتهما؛ ليسهل التمييز، نعم، لو كان الرجلُ مشهورًا بعيد الصيت، وحصل الإعلام ببَعْض ما ذكرنا، اكتفى به، وإِذا أثبت الأوصاف، كما ذكرنا فحمل الكتاب إِلى المكتوب إِليه، والمقر الحاصل عنده في زعمه محكومًا عليه، نُظِرَ إِن شهد شهود الكتاب بالحكم على عينه أن القاضي الكاتب حكم عليه، طولب بالحَقِّ، وإِن لم يشهدوا عَلَى عينه، ولكن شهدوا على رجُلٍ موصوف بالصفات المذكورة في الكتاب، فأنكر المحضران ما في الكتاب اسمه ونسبه، فالقول قوله مع يمينه، وعلى المدعي إِقامة البينة عَلَى أنه اسْمُه ونسبه، فإن لم تكن بَيِّنة، ونكل المحضر، حلف المدَّعِي، وتوجَّه عليه الحكم، وإن قال: لا أحلف على أنه ليس اسمي ونسبي، ولكن أحلف عَلَى أنه لا يلزمني تسليم شَيْءٍ، إِليه، فالمذكور في الكتاب، وهو اختيار الإِمام أنه لا يقبل منْه اليمين هكذا، وحكينا عن الصيدلانيِّ القبول، كما لو ادعى عليه فرض، فأنكر، وأراد أن يَحْلِف عَلَى أنَّه لا يلزمه شيْء، فإنه يقبل، ثم فرقا بين المسألتَيْنِ بأنَّ مجرَّد الدعْوَى، ليس بحجة عليه، وهاهنا قامت البينة على المسمى بهذا الاسم، وذلك بوجه الحق عليه إن ثبت كونه مسمَّى بهذا الاسم، ولك أن تقول: حكينا في تنازع المتبايِعَيْنِ في قدم العيب وحدوثه أن البائع إِن
قال: إِنه لا يستحق الردَّ عليَّ فيحلف هكذا، وِإن قال: ما أقبضته إلا سلمًا، وأراد أن يحلف على أنَّه لا يستحق الردَّ عليه، لم يمكن عَلَى أظهر الوجهين، بل يلزمه التعرُّض لما أجاب به، وِإنما يفيد هذا الأصل في الدعاوى والبينات، إذا تذكَّرْت ذلك، فالمسألة هاهنا مصوَّرةٌ فيما إِذا أنكر كونه مسمَّى بذلك الاسم، وحينئذٍ، فالقول بأنَّه لا يكفيه الحلف عَلَى أنه لا يلزمه تسليم شيْء إِليه عَلَى هذا الوجه، كأنه ظاهر، إِنما يكفيه ذلك، إِذا كان جوابه في الابتداء، أنه لا يلزمه تسليم شيْء إِليه ونظيره هاهنا: أن يقول المحضر: لا يلزمني تسليم شيْء إِليه، وأراد الحلف عليه، فيشبه أن يمكن منه، وحينئذٍ، فلا فرق بين المسألتين، وإن قامت البينة عَلَى أنه اسمه ونسبه، فقال: نعم، لكني لست المحكُومَ عَلَيْه، فإن لم يوجدْ هناك من يشاركه في الاسم والصفاتِ المذكورةِ، لزمه الحكْمُ؛ لأن الظاهر أَنه المحكوم عليه، وِإن وجد إِما بأن عرفه القاضي أو قامت عليه بَيِّنة، وأحضر الذي يشاركه، ويُسْأَل، فإن اعترف بالحق، طُولِبَ به، وخلص الأول، وإن أنكر، بعث ذلك الحاكمُ إلى الكاتب بما وقع من الإِشكال، حتى يحضر الشاهدَيْن، ويطلب منهما مزيدَ صفَةٍ يتميَّز بها المشهود عليه من غيره، فإِنْ ذكرا مزيدًا، كتب به ثانيًا، وإلا، وقف الأمر حتى ينكشف، ولو أقام المحضر بيِّنةً عَلَى موصوف بتلك الصفات، كان هناك، وقد مات، فإن مات بعد الحكم، فقد وقع الإِشكال، وإنْ مات قبله، فإِن لم يعاصِرْه المحكُومُ، فلا إِشكال، وِإن عاصره فوجهان: أظهرهما: حصول الإشكال، وبه قال صاحب "التقريب" ووجِّه الثاني بأنه، لو كانت الشهادة على الميت، لتعرَّض الشهود لتعلق الحق بتركته ويذكر ورثته، لكن ربما لم يعرفوا موته، واستصحبوا، فهذا إِذا أثبت القاضي اسم المحكوم عليه ونسبه ووصفه، كما قدَّمْنا أما إِذا اقتصر على قول حكَمْتُ عَلَى محمد أحمد مثَلاً، فالحكم باطلٌ؛ لأن المحكوم عليه مبهم، لم يتعيَّن بإشعار ولا وصف كامل، بخلاف ما إذا استقصى الوصف، ولم يقصر، وظهر اشتراكٌ واشتباهٌ على الندور حتى لو اعترف رجلٌ في بلدِ المكتوب إِلَيْهِ بأنه محمَّد بن أحمد، وأنه المعنيُّ بالكتاب، لم يلزمْهُ ذلك الحُكْمُ لبُطْلانه في نَفْسه، إِلا أن يقر بالحق، فيؤاخذ به، هذا ما نقله الإِمَامُ وصاحب الكتاب وغيرهما، وهو المتوجه إِلا أن في "آداب القاضي" لابْنِ القاصِّ وفي "إِيضاح" أبي عليِّ أنَّه إِذا ورد الكتاب أحضر القاضي المكتوب عليه، وقرأ عليه الكتاب، فإِن أقر أنه المكتوب عليه أخذه به، سواء كان قد رفع في نفسه أو لم يرفع، وذكر صناعته، أو لم يذكر، والله أعلم، ولا شك أنَّه لو شهد الشهود على الحُكْم، كما ينبغي إلا أنه أبهم في الكتاب اسْمَ المكتوب عليه تقبل الشهادةُ، ويعمل بمقتضاها، لِمَا سبق أن الاعتبار بشهادة الشهود لا بالكتابِ. وقوله في الكتاب "وأما الكتاب المجرَّد من غير شهادةٍ على الحكم فلا أثَرَ لَهُ" هذا قد اندرج في الفصل السابق، ويجوز أن يعلم بالواو والميم؛ لما مَرّ والله أعلم.
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ شافَهَ القَاضِيَ الآخَرَ لَمْ يَكْفِ لأنَّ السَّامِعَ والمُسْمِعَ لاَ بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ وَلاَيَتِهِ فَلا يَصِحُّ سَمَاعُهُ وَلا يَصِحُّ إِسْمَاعُهُ إِلاَّ إِذا جَوَّزْنَا قاضَيْينِ فِي بَلْدَةٍ واحِدَةٍ أَوْ تُنَادَيَا مِنْ طَرَفَيْ وَلاَيَتَهِمَا فَذَلِكَ أَقْوَى مِنَ الشَّهَادَةِ فَيُعْتَمَدُ، أمَّا إِذَا كَانَ المُسْمِعُ فِي مَحَلِّ وِلاَيَتِهِ دُونَ السَّامِع فَرَجَعَ السَّامِعُ إِلَى مَحَلِّ وَلاَيَتِهِ وَحَكَمَ بِهِ صَحَّ إِنْ قُلْنا: إِنَّهُ يَقْضِي بِعِلْمِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: لا فَالظَّاهِرُ أنَّه كَشَهَادَةٍ يَسْمَعُهَا فِي غَيْرِ وِلاَيَتِهِ فَلا يَصِحُّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ذكرنا أن إنهاء الحكم إِلى قاضي البلد الآخر يحصل بطريقتين وقد فَرَغْنَا من بيان أحدهما، وهو الإِشهاد والمكاتبة، والثاني المشافَهَةُ، ويصوَّر من وجوه: أحدها: أن يجتمع القاضي الَّذي حكم، وقاضي بلد الغائب في غَيْر البلدَيْن، فيخبره بحكمه. والثاني: أن ينتقل الذي حكم إلى بلد الغائب، وأخبره، ففي الحالَتَيْن، لا يقبل قوله، ولا يمضي حكمه؛ لأن إخباره (¬1) في غير موضع ولايته كإخبار القاضي بعد العزل. والثالث: لو حضر قاضي بلَدِ الغائب في بَلَدِ الذي حَكَم، فأخبره، فهل يمضيه، إِذا عاد إِلى محل ولايته ينبني عَلَى أن القاضي، هَلْ يقضي بعلْم نفسه، إِن قلنا: يقضي بعلمه فنعم وإلا فلا فعن بعضهم تجويزُه أيضًا، والأصحُّ، وبه قال الإِمام: أنه لا يجوز، كما لا يجوز الحكم بشهادة سمعها في غير مَحَلِّ ولايته، كما لوَ قال ذلك القاضي: سمعتُ البينة عَلَى فلان بكذا، فإِنه لا يرتّب الحكم علَيْه، إِذا عاد إِلى محل ولايته. والرابع: إذا كانا جميعًا في موضع الولاية بأن وقف الذي حكم في طرف ولايته، ونادى الذي حكم صاحبه أني حكمت بكذا، فعَلَى صاحبه إِمضاؤه؛ لأنه أبلغ من الشهادة والكتاب، وأولى بأن يعتمد عليه، وكذا لو كان في البلدة قاضيان، وجوَّزنا، فقال أحدهما للآخر: حكمتُ بكذا، فإنه يُمْضِيه، وكذا إِذا قال القاضي لنائبه في البلد وبالعكس، ولو خرج القاضي إِلى قرية لَه نائبٌ فيها، فأخبر أحدهما الآخر عن حكمه، أمضاه الآخر؛ لأن القربة محلُّ ولايتهما جميعًا، ولو دخل النائب البَلَدَ، فقال القاضي: حكمت بكذا، لم يقبله، ولو قال له القاضي: حكمت بكذا (¬2) ففي إِمضائه إِياه، إذا عاد إِلى قريته الخلافُ في القضاء بالعلم. وأما لفظ الكتاب فقوله: "لأنَّ السامع والمُسْمِعَ لا بُدَّ وأن يكون في غير محلِّ ولايته" أي: هكذا يتفق، ويكون حينئذٍ في غالب الأمر، وقد يوجد في النسخ لأن السامِعَ والمُسّمِعَ لا بُدَّ، وأنْ يكون في مَحَلِّ ولايته وله وجْهٌ أيْضًا، والمعنى أنَّ كل ¬
واحدٍ منهما ينبغي أن يكون في محلِّ ولايته؛ ليمكن الاعتمادُ، وأنه غير حاصل عند المشافهة، فلا يصح السماع، والإِسماع. وقوله "إِلا إِذا جوَّزْنا الاستثناء" يعود إلى قوله أولاً "لم يكف". وقوله: "أما إِذا كان المُسْمِع في محلِّ ولايته دون السَّامع" إلى آخره، فهو أحد الطريقين الذين ذكرناهما أولاً، فقال: لأن السامع والمسمع إلى أن قال: "فلا يصح سماعُه ولا إِسماعه" والحاصلُ أنه حكم بأن سماع مَنْ ليس في محلِّ ولايته غير صحيحٍ أولاً، ثم أعاد الصورة على الأَثَرِ، وبناهما على الخلاف في أنَّ القاضي، هل يقضي بعلمه، وليس ذلك بمستحْسَنٍ، بل كان ينبغي أن يُفَصِّل فيقول: إسماعُ من ليس في محلِّ ولايته غير صحيح، وسماع من ليس في محلِّ ولايته على الخلاف في القضاء بالعِلْم. فَرْعٌ: في "الوسيط": أنَّ القاضي، إِذا حكم بالحقِّ، وشافه به واليًا غيْرَ القاضي؛ ليستوفي، فله أن يستوفي في محلِّ ولاية القاضي، وكذا خارجه على الصحيح؛ لأن سماع الوالي مشافهةٌ كشهادةِ الشُّهود عنْدَ القاضي، قال: ولا يكاتب القاضي واليًا غير القاضي؛ لأنَّ الكتاب، إِنما يثبت بشَهَادة الشُّهود ومنصب سماع البيِّنة يختص بالقضاة، وليحملْ هذا على الوالِي الَّذي لا يَصْلُح للقضاء، والذي لم يفوض إلَيْه الإِمام نظر القضاة، وإن كان صالحًا، فأما الصالح الذي مكن من النَّظَر بنفسه ومِنْ تقليد مَنْ يراه، فإنه يجوز للقاضي مكاتبته، كما يجوز مكاتبة الإِمام الأعظم، نَصَّ عليه في "المختصر"، والله أعْلَمُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: هَذا كُلُّهُ إِذَا قَضَى عَلَى الغَائِبِ، أَمَّا لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى سَمَاعِ البَيِّنَةِ وَكَتَبَ إِلَى قَاضٍ آخَرَ حَتَّى يَقْضِيَ جَازَ مَهْمَا ذَكرَ اسْمَ شُهُودِ الوَاقِعَةِ، وَعَلَى المَكْتُوبِ إِلَيْهِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ عَدالَةِ الشُّهُودَ وَكأَنَّ الأوَّلَ نَابَ عَنْهُ فِي سَمَاعِ البَيِّنَةَ فَقَطْ فَعَلَيْهِ التَّعْدِيلُ والحُكْمُ، فَإنْ كَتَبَ الأَوَّلُ عَدَالَتَهُما وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ جَازَ أنْ يَعْتَمِدَهُ إِذَا رَأَى ذَلِكَ، ثُمَّ الخَصْمُ إِنِ ادَّعَى جَرْحًا فَلْيُظْهِرْهُ بِشَاهَدْينِ، وَيُمْهَلُ ثَلاثةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ قَالَ: لا أتَمَكَّنُ مِنْ جَرْحِهِمْ إِلاَّ فِي بِلاَدِهِمْ فَلاَ يُمَكَّنُ مِنْهُ بَلْ يُسَلَّمُ المَالَ ثُمَّ إِنْ ظَهَرَ الجَرْحُ اسْتَرَدَّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد بأن في أول الركن أن القاضي بعْدَ سماع البينة على الغائب قد يحكم عليه، وينهي الحال إِلى قاضي البلد الآخر، وقد يقتصر على السماع وينهي، أما القسم الأول، فقد تكلمنا فيه، والغَرَضُ الآن الكلامُ في الثَّانِي، ونقدم عليه فصْلاً فيما يمتاز به أحد القسمَيْنِ عن الثاني، وفي فروع تتعلَّق بالحكم، اعْلَم أنَّ صيغ الحكم مثْل أن يقول: حكمتُ عَلَى فلان لفلانٍ بكذا، أو ألزمته عَلَى ما ذكرنا في الأدب الخامس من الباب الثاني، فلو قال: ثبت عندي كذا بالبَيِّنَة العدالة أو صحَّ، فهَلْ هو حكْمٌ؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم؛ لأنه إِخبار عن حصول الشَّيْء وتحقيقه جزمًا. وأصحهما: لا؛ لأنه قد يراد به قبول الشهادة واقتضاء البينة صحة الدعوى، فأشبه ما إِذا قال: سمعتُ البينة وقبلتُها، واحتج في "العدَّة" لهذا الوجه بأن الحكم هو الإِلزام والثبوت ليس إِلزام، ويقرب من هذا اللَّفْظ ما اعتاد القضاة إِثباته، عَلَى ظهور الكتب الحكمية وهو: صح ورود هذا الكتاب عليَّ، فقبلته قَبول مثله، وألزمت العمل بموجَبِهِ، قال القاضي أبو سعد الهروي: سئِلْتُ عنه في الدار النظامية بأصبهان، هل هو حكم فقلت: يرجع إِلى الحاكم، فإن قال: أردت الحكم، فهو حكم، وإن تعذَّر الرجوع، فالاعتماد على عرف الحكام، إِن اعتقدوه حكمًا، فهو حكم قال: ثم استقراري، لَمَّا وليت قضاءَ هَمْدان عَلَى أنه ليس بحكم؛ لاحتمال أن المراد تصحيحُ الكتاب وإثبات الحجَّة، وهذا هو الصواب، ولا يجوز الحكْمُ على المدعَى عليه إِلاَّ بعد سؤال المدعِي في أصحِّ الوجهين، ذكره في "العدة" وفي "الجُرْجَانِيَّات" لأبي العباس الرويانيِّ حكايةُ وجهين في أنَّه هل يصح أن يلزم القاضي الميِّت بموجب ما أقر به في حياته، ولا بدّ في الحكم من تعيين ما يحكم به، ومن يحكم له، لكن القاضي قد يبتلى بظالم يتوقع منْه ما لا يجوز له، ولا يستغنى عن ملاينته، فرخص له في رفْعِه بما يخيل إِلَيْهِ أَنَّه أسعفه بما توقع. مثالُه: أقام خارجٌ بينةٌ وداخلٌ بينةٌ، والقاضي يعرف فسق بينة الداخل، ولكنه ممن لا بُدَّ من ملاينته، وهو يطلب الحكم؛ بناءً على ترجيح بينة الداخل، فيكتب: حكمْتُ بما هو قضيةُ الشرْع في معارضة بيِّنة فلانٍ الداخلِ، وبينةِ فلانٍ الخارجِ، وقررت المحكوم به في يد المحكوم له وسلطته عليه، ومكنته من التصرُّف فيه، إِذا تقرَّر ذلك، فإذا لم يحكم القاضي، وأنهى ما جَرَى من الدعوى، وإقامة الحجة بالكتاب، سَمَّى ذلك "كتاب نقل الشهادة" و"كتاب التثبيت" أي تثبيت الحجة، ويجوز أن يراد بِهِ تثبيت المدعي بناءً عَلَى أن قوله "يثبت عندي كذا" ليس بحُكْمٍ، وينص على الحجَّة فيذكر أنه قامت عنده بيِّنة أو شاهد ويمين، أو نكل المدعى عليه، وحلف المدعي، وهذا الثالث إِنما يكون عند حضور المدعى عليه، وإنما ينص على الحجَّة؛ ليعرف المكتوب إِليه أنه بم يحكم، وقد لا يرى بعض ذلك حجة، وهل يجوز أن يكتب بعلم نفسه؛ ليقضي المكتوب إِلَيْه، قال في "العدة": لا يجوز وإن جوَّزنا القضاء بالعلْم؛ لأنه، إِذا لم يحكم به، فهو كالشاهد، والشهادة لا تتأدى بالكتابة، وفي "أمالي" السرخسِّي أنه يجوز، ويقضي المكتوب إِليه، إذا جوَّزنا القضاء بالعلم؛ لأن إِخباره عن علمه إِخبارٌ عن قيام الحجة، فليكن كإِخباره عن قيام البينة، وإذا كتب بسماع البينة، فليسم الشاهدَيْن، والأَوْلَى أن يبحث عن حالهما ويعدلهما؛ فإن أهل بلدهما أعرف بحالهما، فإن لم يفعل، فعلى المكتوب إِليه البحث والتعديل، وإذا عدل، فهل يجوز أن يترك اسم الشاهدَيْن لفظ صاحب الكتاب يُشْعِر بالمنع منه، وقد صرح في "الوسيط" وكذلك ذكره
الإِمام، والقياس التجويزُ، كما أنه إذا حكم، استغنى عن تسمية الشهود، وهذا هو المفهومُ من إِيراد صاحب "التهذيب" وغيره، ويجوز أن يقدر فيه خلافٌ بناءً عَلَى ما سيأتي أن كتاب القاضي إلى القاضي بسماع البَيِّنةِ نقلٌ للشهادة أو حكم بقيام البينة إن قلْنا: حكم، فلا حاجة إلى التسمية، وكفى قوله: قامت عندي بينةٌ عادلةٌ بكذا، وِإن قلنا: نقل، فلا بدّ من التسمية، كما أنه لا بدِ مِنْ أن يسمى شاهد الفرع شاهدَ الأصل، ويأخذ المكتوب إليه بتعديل الكاتب أم له البحث وإعادة "التعديل" لفظ الكتاب يشعر بالثاني؛ لأنه قال "جاز أن يعتمده إذا رأى ذلك والقياسُ أنه أخذ بذلك التعديل" (¬1)، أما إذا جعلناه حكْمًا، فظاهرٌ، وأما إِذا جعلْنَاهُ نقلاً، فلأنَّ شاهد الفَرْع، إذا عدل شاهد الأصل، وهو صفة المزكِّين، يكفي تعديله على ظاهر المذْهَب عَلَى ما سيأتي، ولا حاجة في هذا القسم إلى تحليف المدَّعِي، والقول في إِشهاد القاضي، وفي أداء الشهود الشهادة عند المكتوب إِليه، وفي دعوى الخصم، إِن كان هناك من يشاركه في الاسم عَلَى ما مرَّ في القسم الأول، وِإذا عدل الكاتب وشهود الحق، ولكن جاء ببينة على جَرْحهم فتسمع وتقدم على التعديل، وإنْ استمهل، ليقيم بينة الجرح، أمهل ثلاثة أيَّامٍ، فإنَّها مدة يسيرة، لا يعظم ضَرَر المدَّعِي بتأخير الحكم فيها، وبالمدعى عليه حاجة إلى مثلها، لاستحضار البينة، هكذا ذكره الأصحاب على طبقاتهم، وكذا لو قال: أبرأتني أو قضَيْت الحق، واستمهل؛ ليقيم البينة عليه، وقال: أمهلوني، حتى أذهب إلَى بلدهم وأجرحهم، فإني لا أتمكن من جرحهم إلاَّ هناك، أو قال: لي بينةٌ أخرى دافعةٌ هناك، لم يُجَب إِليه، بل يؤخذ الحقُّ منه، ثم إذا ثبت الجرح أو الدفع من وجْهٍ آخر، يسترد، قال في "الوسيط": ولا يخرج ذلك على ما إِذا كان الخصم حاضرًا، وظهر فسْقُ الشهود بَعْد الحكم، ففي الاسترداد ونقض الحكم، والحالة هذه، قولان، والفرقُ أنَّ هذا معذورٌ، والحاضر عند الشهود مقصِّرٌ، ولا فرق في ذلك بين كتاب الحكم وكتاب نقل الشهادة، وفي "العدة": أنه لو سأل المحكوم عليه إحلاف الخصْم عَلَى أنه لا عداوة بينه وبينهم، وقد حضر الخصم عند المكتوب إِليه إِجابة إِليه، ولو سأل إحلافه عَلَى عدالتهم، لم يجبه، وكفى تعديل الحاكمِ إِياهم، وأنه لو ادَّعَى قضاءَ الدَّيْن، وسأل إِحلافه أنه لم يستوفه، لم يحلف؛ لأنَّ القاضي الكاتب، قد أحلفه، وذكر صاحب "التهذيب" في مثله في دعْوى الإِبراء يحلفه عَلَى أنه لم يبرئه، فحصل في المسألة وجهان، والله أعلم. وقوله في الكتاب فإن كتب الأول عدالتهما، وأشهد عليه التعرض للإِشهاد غير محتاج إليه في هذا الموضع؛ لأنه قد تبيَّن من قبل أن الاعتماد على الشهود دُون ¬
الكتاب، وإذا عرفنا أصلاً فنحن أغنياء عن إعادته في إفراد المسائل ويقرب من ذلك لفظ الشاهدين في قوله "فليظهره بشاهدين" نعم يمكن أن يشار به إلى أنه لا بُدَّ من البينة، ولا سبيل إلَى تحليف الخصم عَلَى عدالتهم، كما بيَّنَّاه، والله أعْلَم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَرْعُ: لَوْ كَانَ فِي البَلَدِ قَاضِيَانِ وَجَوَّزْنَا ذَلِكَ فَقَالَ أَحَدُهِمَا لِلآخَرِ: سَمِعْتُ البَيِّنَةَ فَاَقْضِ فَجَوَازُ القَضَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ نَقْلٌ لِلشَّهَادَةِ أوْ حُكْمٌ فَإنْ قُلْنَا: إنَّهُ نَقْلٌ فَكَيْفَ يُقْبَلُ مَعَ حُضُورِ الأَصْلِ فَالظَّاهِرُ أنَّهُ حُكْمٌ وَلَوْ كَانَ نَقْلاً لَمَا اكْتَفَى بَقَوْلِ وَاحدٍ عِنْدَ الغَيْبَةِ لَكِنَّهُ حُكْمٌ بِقِيَامِ البَيِّنَةِ فَقَطْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: كما أنَّ الحكم المُبْرَم ينهيه القاضِي إِلى القاضي تارةً بالكتاب والشهادة، وتارةً بالمشافهة كذلك سماع البينة يفرض فيه الطريقان، فلما تكلَّم لسماع البينة عقد هذا الفرعْ ليتكلَّم في المشافهة به، فإِذا نادَى قاضٍ من طرف ولايته قاضياً آخر في طرفِ ولايته أنِّي سمعتُ البينة بكذا أو جوَّزنا في بلد قاضيين، فقال أحدهما للآخر: هل للآخر أن يحكم بني الأِمام وصاحب الكتاب ذلك على أن سماع البينة وإنهاء الحال إلَى القاضِي الآخر نقل الشهادة الشهود، كنقل الفروعِ شهادة الأصول أو حكم بقيام البينة وفيه جوابان ووجه: أولهما: بأنه، لو كان حكماً، لما افتقر إلى تسمية الشهود. وثانيهما: بأنه لو كان نقلاً لما كفى ناقل واحدٍ، وقد اكتفينا بالقاضي المُنْهِي، فعلى الأول؛ لا يجوز للمقول له الحكم، كما لا يجوز الحكم بشهادة الفروع مَعَ حُضُور الأصُول، وعلى الآخر؛ يجوز كما في الحكم المبرم، وهذا أظهر عند الإِمام والمصنِّف، لكن عامة الأصحاب مَنَعُوا، وقالوا أيضاً: كتاب السماع، إِنَّما يقبل إِذا كانت المسافةُ بَيْن الكاتب وبين الذي بلغه الكتاب بَحَيْثُ يقبل في مثلها الشهادة على الشهادة، وهي مسافة القصر، وأما ما فوق مسافة العدوى على اختلاف سيأتي في موْضِعه، أما إِذ كانت المسافةُ دونَهَا، فلا يقبل، وهذا ما نصَّ عليه في "عيون المسائل" ويخالف الكتاب بالحكم المبرم حَيْثُ يقبل قربت المسافة أم بعدت، وفرقوا بأن الحكم هناك قد تم وليس بعده إِلا الاستيفاء، وسماعُ البينة بخلافه، فإنه إِذا لم تبعد المسافة ولم يعتبر إِحْضَار الشهود عند القاضي الآخر، ووجدتُ في نسختين مِنْ "أمالي" أبي الفرج السرخسيِّ عكس ما أورده الجمهور، وهو أن "كتاب السماع" يقبل مع قُرْب المسافة وبعدها، وكتاب الحُكْم لا يُقبل، إِلا إِذا بعدت المسافة، وهو غلط ناقل أو ناسخ، وليس وجهاً آخر، وإِذا قال الحاكم لخليفته: اسْمَعْ دعْوَى فلان وبينته، ولا تحكم حتى تعرفني، ففعل، هل للحاكم أن يحكم به، القياس أنه كإنهاء أحد القاضيَيْن
في البلد إِلى آخر؛ لإمكان حضور الشهود عنده، لكن الأشبه هاهنا أَنَّ لهُ الحُكْمَ؛ لأنه تجويز الاستخلاف للاستعانة بالخليفة، وذلك يقتضي الاعتداد بسماعه بخلاف سماع القاضي المستقل، وبهذا أجاب أبو العباس الرويانيُّ في "الجُرْجَانِيَّات" عَلَى تلَوُّم فيه. وقوله في الكتاب: "فقال أحدهما للآخر: سمعتُ البينة فاقض كلمة "فاقض" ليست بشرط في صور المسائل، إذا جوزنا القضاء للمنقول إلَيْه، فيكتَفَى بقوله: "سمعت البينة"، لكن يستفاد من قوله: "فاقْضِ" تعديل الشهود، واستغناء المنقول إليه عن البحث. وقوله: "لما اكتفى بواحد عند الغَيْب" يعني إِذا كان بينهما مسافةٌ، وكان لإِنهاء بالكتاب وقوله: "ولكن حكم بقيام البينة فقط" هذا اللفظ إنما يتوجه إذا سمع وعدل، فأما إذا اقتصر على السماع، فينبغي أن يقال: إنه حكم بالشهادة، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرَّكْنُ الرَّابعُ: المَحْكُومُ بِهِ: وَذَلِكَ لاَ يخْفَى فِي الدَّيْنِ وَالعَقَارِ الَّذِي يُمْكِنُ تَعْرِيفُة بِالحَدِّ، أَمَّا العَبْدُ وَالفَرَسُ وَمَا يَتَمَيَّز بِعَلامَةٍ فَإِنْ كَانَ غَائِباً فَفِي الحُكْمِ عَلَى غَيْبَتِهِ ثَلاَثةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أنَّهُ يَجُوز التَّعْرِيفُ بِالحِلْيَةِ كَالمَحْكُومَ عَلَيْهِ وَالثَّانِي: أنَّهُ كَالكرْبَاسِ وَسَائِرِ الأَمْتِعَةِ فَيَتَعلَّقُ الحُكْمُ بِقيمَتِهِ، وَبَجِبُ ذِكْرُ القِيمَةِ، وَلاَ يَجِبُ ذِكُرُ الصِّفَاتِ، وَلاَ بَأْسَ لَوْ ذَكرَهَا فِي الكِتَابِ، أمَّا قيمَةُ العَقَارِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالعَيْنِ لاَ يَجِبُ ذِكْرُ قِيمَتِهِ عَلَى الأَصَحِّ وَالثَّالِثُ: أنَّهُ يَسْمَعُ البَيِّنَةَ وَلاَ يَقْضِي بَلْ يَكْتُبُ بَالسَّمَاعِ إِلَى القَاضِي الآخَرِ، وَفَائِدَتُهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَيْنَ العَبْدِ الموْصُوفِ إِلَيْهِ لِيَحْمِلَهُ إِلَى بَلَدِ الشّهُودِ لِيُعَيِّنُوهُ بِالإِشَارَةِ، وَيَلْزَمُهُ كَفِيلٌ بِالبَدَنِ لِيَأْخُذَ العَبْدُ مِنْ صَاحِبِ اليَدِ، وَفِي وَجْهٍ لاَ يَكْفِي ذَلِكَ بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ العَبْدَ وَيَضَمْنَ عَنْهُ الثَّمَنَ ضَامِنٌ، فَإنْ ثَبَتَ مَلْكُهُ فِيهِ بَانَ بُطْلاَنُ الشِّرَاءِ، وَفِي وَجْهٍ يَلْزَمُ تَسْلِيمُ القِيمَةِ فِي الحَالِ لِلحَيْلُولَةِ ثُمَّ يَسْتَردُّ لَوْ ثَبَتَ مِلْكُهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصود هذا الفصل الكلام في الحكم بالشيء الغائب بالغيبة؛ لأن القاضي يحتاج إلى مكاتبة قاضٍ آخَرَ؛ لغيبة المدعَى عليه تارةً، ولغَيْبَةِ المدَّعِي أُخْرَى، واعلم أن الحضور والغيبة، إنما يعتبران الأعْيَانَ، فأما إذا كانت الدعوى في نكاح أو طلاق أو رجعة أو إِثبات وكالة، فلا يوصف المدَّعِي بغيبة ولا حضور، وكذلك إذا كان المُدَّعَى دَيْناً، ومهما ادَّعَى عَيْناً، فإن كانت حاضرةً مشاراً إِليها، فيسلم إِلى المدَّعِي، إِذا تمت حجته، دمِان كانت غائبة، فينظر، أهي غائبةٌ عن البلد أم غائبة عن مجلس الحُكْم دون البلد. الحالةُ الأولَى: إذا كانت غائبةً عن البلد، فهي إِما عين يؤمن فيها الاشتباه
والاختلاط؛ كالعقار والعبد والفَرَسِ المعروفين، وإما غيرها أما القسم الأول، فالقاضي يسمع البينة عليه، ويحكم ويكتب إِلى قاضي بلد ذلك المال، ليسلمه إِلى المدعي، ويعتمد في العقار عَلَى ذكر البقعة والسكة والحدود، وينبغي أن يتعرَّض لحدوده الأربعة، ولا يجوز الاقتصار عَلَى حدين أو ثلاثة كذلك ذكره ابنُ القاصِّ في أدب القاضي، ولا يجب التعرُّض للقيمة عَلَى أصح الوجهين؛ لحصول التمييز دونه. وأما القسم الثاني كغير المعروف من العبيد والدوابِّ وغيرها، فهل تسمع البينة على عينها، وهي غائبة فيه قولان أحدهما: تسمع كما يسمع الخصم اعتماداً على الحِلْيَة والصفة؛ لأنه قد يحتاج إِلى إِثباته في الغيبة، فأشبه العقار. والثاني المنع؛ لكثرة الاشتباه فيه والصفاتِ، والحلي تتشابه أيضاً، وبهذا قال أبو حنيفة والمزنيُّ -رحمهما الله- ورجح طائفةٌ من الأصحاب، منْهم أبو الفرج الزاز، والأول اختيار الكرابيسيِّ والإِصطخريِّ، ورجحه ابن القاصِّ، وأبو عليِّ الطبريُّ، وبه أجاب القَفَّال في "الفتاوى": وإذا قلنا به، فهل نحكم للمدعِي بما أقام البينةَ عليه؟ فيه قولان: أحدهما: نعم، كما في العقار. وأصحهما: المنع؛ لأنَّ الحكم مع الجهالة، وخَطَر الاشتباه بعيدٌ، وإذا ترك الترتيب حصلَتْ ثلاثة أقوال لا يسمع البينة علَيْها، ولا يحكم. تسمع ويحكم. تسمع ولا يحكم، هذه طريقةُ عامَّةِ الأَصْحابِ، وطردوها في جميع المنقولات التي لا تعرف، وقال الإِمام وصاحب الكتاب: ما لا يؤمن فيه الاشتباه والاختلاط ضربان: أحدهما: ما لا يمكن تعريفه وتمييزه بالصِّفَات. والثاني: كالرقيق والدواب ومَا لاَ يمكن لكثرة أمثاله كالكرباس، وجعلا الضرب الأول عَلَى الأقوال الثلاثة، وقَطَعَا في الكرباس ونَحْوِه؛ بأنه لا ترتبط الدعْوَى والحكم بالعين. التفريع: إن قلْنَا تسمع البيِّنة، فينبغي أن يبالغ المدعي في الوصف بما يمكن من الاستقصاء والتعرض للثبات والشامات، وبم يضبط بعد ذكر الجنس والنوع؟ حكى القاضي أبو سعد الهرويُّ وغيره فيه قولَيْن: أحدهما: أنه يتعرَّض للأوصاف التي يعسر ذكرها في السلم. والثاني: أنه يتعرَّض للقيمة، ويستغني بها عن ذكر الصفات، قالوا: والصحيح أن الرُّكْن في تعريفِ ذواتِ الأمثال ذكرُ الصفات، وذكرُ القيمةِ مستحبٌّ، وفي تعريف ذوات
القيم الركْنُ القيمة، وذكر الصفات مستحبٌّ وأما الإِمام وصاحب الكتاب، فإنهما لَمَّا ذكرا على طريقتهما أنَّ في الكرباس ونحوه لا يرتبط الدعْوَى بالعين، قَالاَ: لا بدّ من ذكر القيمة، فإِنها التي ترتبط الدعوى والبينةُ والحُكْم بها، فيدعي كرباساً قيمته عشرةُ دراهمَ مثلاً، وكذلك في العبد، إِذا لم تسمع البينة على عينه، هذا ما أراد بقوله في الكتاب "فيتعلق الحكم بقيمته" ويجب ذكر القيمة، ولو بحث عن قولهما، بأن الدعوى والحكم والبينة ترتبط بالقيمة دون العَيْن، لولَّد البحثُ إشكالاً صعباً؛ لأنَّ العين، إنْ تلفت، فالمطالبةُ بالمثل أو القيمة دعْوَى الدَّيْن، وليس ذلك مما نَحْنُ فيه في شيء، وما دامت العَيْنُ باقيةً، فالمدَّعِي لا يَسْتَحِقُّ القيمةَ، فكيف يطلبها، وكيف يحكم القاضي بها، وإن كان المراد أنَّه يدعي قدر القيمة من المال في يده، ويحكم له بذلك من غير تعيْينٍ، فهذا شيء لا عَهْدَ به، دمِان كان المرادُ أنه يعتمد في طلب العين والحكم بها، ذكر القيمة دون الصفات والحلي، فهذا ذهاب إِلى أنَّه يسمع الدعوى بالعَيْن، ويحكم بها، لكن اعتماداً على القيمة دون الصفة، وذلك لا يلائم نظم الكتاب وسياقه، والله أعلم، وذكرنا بناءً على طريقتهما أوصاف السلم، لا يكتفي بها في الدعوى بحَالٍ؛ لأنَّ المقصود هاهنا التعيين فيراعي ما كان أفصح (¬1) إليه والمسلم فيه دَينُ فيحترز فيه عن الاستقصاء المُؤَدَّي إلى عِزَّةِ الوجود ثم يكتب القاضي إلى قاضي بلد المال بما جرى عنده من مُجَرَّد قيام البينة، أو مع الحكم إِنْ جَوَّزنا الحكم المبرم، فإن أظهر الخصم هناك عبداً آخر بالاسم والصفات المذكورة في يده أو في يد غيره، وقد صار القضاء مُبهماً وانقطعت الطُلْبَةُ في الحال كما سبق بيانه في المحكوم عليه وإن لم يأتِ بمدفع فإن كان الكتاب كتاب حكم على قولنا بتجويزه فيحلف المدَّعِي أن هذا المال هو الذي شهد به شهوده عند القاضي فلان ويسلم إليه كذلك ذكره ابن القاصِّ في "أدب القضاء" وإن كان كتاب سماع البينة فينتزع المكتوب إليه المال ويبعث به إلى بلد المكاتب ليشهد الشهود على عَينهِ وفي طريقه قولان أشهرهما وهو الذي أورده ابنُ الصبَّاغ وغيرهُ أنه يُسلمه إلى المدعي ويأخذ منه كفيلاً لَبَرَتِه وقأل أبو الحسن العبَّادي: يكفله قيمة المال فإن ذهب إلى القاضي الكاتب وشهد الشهود على عينه وَسُلِّم له كتب القاضي بذلك لِيَبْرَأَ الكفيل وإلا فعلى المدعي الرد ومُؤْنَتِهِ وتُختم العين عند تسليمها إليه بختم لازم حتى لو كان المُدَّعَى عبداً فتجعل في عنقه قَلاَدة ويختم عليها والمقصود من الختمِ ألا يبدل المأخوذ بما لا يستريب الشهود في أنه له وَأَخْذُ الكفيلِ خَتْمٌ والخَتْمُ ليس بختْمٍ كذلك حكى المتلقي عن أبي بكر الأرغِياني الإِمام وعلى هذا القول لو كانت المدعوة في جارية فقد أطلق في الإِبانة وجهين في أنه هل يَبعث المكتوب إليه بها إلى الكاتب ومنهم من ¬
قال لا فَرْقَ بينها وبين العبد وقيل لا يسلمهِا إلى المدعي ولكن إلى أَمِينٍ في الرفقة وهذا حسن (¬1) ثم المفهوم من كلام الجمهور أنَّ الشُّهودَ إِنْ شَهِدوا على عينه عند القاضي الكاتب فيسلمها إلى المدعي. وقد تم الحكم له، ثم تكتب لإبراء الوكيل على ما ذكرنا، في "الفروق" للشيخ أبي محمَّد: أنه يختم على رقبته ختماً ثانياً، ويكتب أني حكمتُ به لفلان، ويسلمه إِلى المكتوب إِليه، حتى يرده إِلى القاضي الثاني، فيقرأ الكتاب، ويطلق الكفيل، ويسلِّم العبد إِلى المدعي. والقول الثاني: أن القاضي بعد الانتزاع يبيعه للمدَّعي، ويقبض الثمن، ويضعه عند عدل، ويكفله بالثمن، فإِن سلم للمدَّعي بشهادة الشهود عَلَى عينه عند القاضي الكاتب كتب برد الثمن أو براءة الكفيل وبأن بطلان البيع، وإلا، فالبيع صحيحٌ، ويسلم الثمن إِلى المدعى عليه، وهذا بيعٌ يتولاه القاضي للمصْلَحَة، كما يبيع الضوالَّ، وحكى الفوارنيُّ بدَلَ هذا القوْلِ أنه يُسلِّم إلَيْه المال، ويأخذ القيمة، فيدفعها إِلى المدعَى عليه، للحيلولة بينه وبيق ما يزعمه ملكَاً له، ثم هذه القيمةُ مستردَّةٌ، سواءٌ ثبت أنَّ المال للمدعِي أو لم يثبتْ، أما إِذا ثبت، فظاهرٌ، وأما إِذا لم يثبُتْ، فلأنَّا أخذناها للحيلولة، فإِذا ارتدَّ المال إِلى المدعَى عليه، فلا بدّ من ردِّ القيمة، وبعدُ، فلنتكلَّم في لفظ الكتاب قوله: "الركن الرابع: المحكوم به" لفظ المحكوم به، وِإن شمل الحاضِرَ والغائِبَ، وما لا يوصف بحضور ولا غيبة، كالدَّيْن وحدِّ القذف، لكن الغرض هاهنا الكلام في المحكوم به للغائب، فكذلك قال: لا يَخْفَى في الدَّيْن. وقوله: "والعقار الذي يمكن تعريفه بالحدِّ" يعني: أنه، وإن كان ببلد آخر، يجوز الحكم به لتعيّنه وتميُّزه بالحدود. وقوله "أما العبد والفرس وما يتميز بعلامة" قصد بقوله "وما يتميز بعلامة" تقييد الأقوال المذكورة ببَعْض المنقولات، وهي التي تتميز بالصفاتِ والعلاماتِ والأنساب دون التي تتشابه ولا تتميز بعلامةٍ واسمٍ ونسبٍ، عَلَى ما حكيناه عن نقله ونقل الإِمامُ. وقوله "ففي الحكم عَلَى غيبته ثلاثة أقوال" الأقوال الثلاثة لا تجري في الحكم وحْده، وِإنما تحصل إِذا أخذنا سماع البينة، والحكم معاً، حتى يفرق بينهما في الثالث فإِذَنْ اللفظ يفتقر إِلَى إضمار. وقوله: "والثاني: أنه كالكرباس وسائر الأمتعة" بني هذا على طريقته القاطعة؛ بأن ¬
الكرباس ونحوه لا يسمع البينة عليه، ولا يحكم به، وهو غائبٌ، فجعله مقيساً عليه، لأحد الأقوال في العبد والفرس، ثم بين حينئذٍ أن الحكم يتعلق بالقيمة، فيجب ذكْرُها، وعاد إِلى العقار فبين أن العقار، وأن العبد والفرس على القَوْل الأوَّل لا يحتاج إلى ذكر قيمتها عَلَى أصحِّ الوجهين. وقوله: "وفي وجه لا يكفي ذلك" التعبير عن هذا الخلاف بالقول أكثر منه بالوجْه. وقوله: "ثم يسترد لو ثبت ملكه" عرفت أنها تسترد، وان لم يثبت الملك، إذا ارتفعت الحيلولة. قَالَ الْغَزَالِيُّ: أمَّا إِذَا كَانَ المَحْكُومُ عَلَيْهِ حَاضِراً وَالعَبْدُ حَاضِرٌ وَلَمْ يَحْضُرْه المُدَّعَى عَلَيْهِ طُولبَ بِإِحْضَارِهِ بَعْدَ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَى الصِّفَةِ، وَإِنْ عَرَفَ القَاضِي العَبْدَ حَكَمَ بِهِ دُونَ الإِحْضَارِ، وَإنْ أَنْكَرَ وُجُودَ مِثْلِ هَذَا العَبْدِ فِي يَدِهِ فَعَلَى المُدَّعِي بَيِّنةٌ عَلَى أنَّهُ فِي يَدِهِ، فَإِنْ أَقَامَ أَوْ حَلَفَ بَعْدَ نُكُولٍ اسْتَفَادَ بِهِ حَبْسَهُ إِلَى أَنْ يحْضِرَهُ وَيَتَخَلَّدَ عَلَيْهِ الحَبْسُ فَلاَ يَتَخَلَّصَ إِلاَّ بِإحْضَارِهِ أَوْ دَعْوَى التَّلَفِ حَتَّى تُقْبَلَ مِنْهُ القِيمَةُ، وَتُقْبَلُ دَعْوَى التَّلَفِ لِلضَّرُورَةِ كَيْلاَ يَتَخَلَّدَ الحَبْسُ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى أنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِهِ هَذَا العَبْدُ المَوْصُوفُ وَلَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ بَطَلَ الدَّعْوَى فَسَبِيلُ المُدَّعِي إِذَا عَلِمَ أنَّهُ يَحْلِفُ أَنْ يُحَوِّلَ الدَّعْوَى إِلَى القِيمَةَ فَإنَّ ذَلِكَ يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الصِّفَةِ، فَلَوْ قَالَ: أَدَّعِي عَبْداً قِيْمَتُهُ عَشَرَةٌ فَإمَّا أَنْ يَرُدَّ العَيْنَ أَوْ القِيمَةِ فَفِي صِحَّةِ الدَّعْوَى مَعَ التَّرَدُّدِ وَجْهَانِ، وَاصْطَلَحَ القُضَاةُ عَلَى قَبُولِهَا لِلحَاجَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الحالة الثانية: إذا كانت العين المدَّعاةُ غائبةً عن مجلس الحُكْم دون البلد، فإن كان الخصم حاضرًا، فيؤمر بإِحضارها؛ ليقيم البَيِّنَةَ على عينها، ولا تسمع البينة على الصفة، هذا هو الجواب في فتاوى القَفَّال؛ تشبيهاً بها إِذا كان المدَّعَى عليه حاضرًا في البلد، لا تسمع الشهادة، وهو غائب عن مجلس الحكم، واعلم أن في هذه الصورة المشبه بها خلافاً سيأتي من بَعْدُ، ويشبه أن يجيء ذلك الخلافُ هاهنا أيضاً، فإِن جاء انتظم أن يرتب، فيقال: إن لم تسمع البينة علَى العين الغائبة عَنِ البلد اعتماداً على الصفة، فَأوْلَى ألا تسمع، إذا كانت حاضرة ويؤمر بإِحضارها وان سمعناها هناك فهاهنا وجهان ثم إنما يؤمر بإحضار ما يمكن إِحضاره بتيسر، أما ما لا يمكن إِحضاره؛ كالعقار فيحدُّه المدعي، ويقيم البينة عليه بتلك الحدود، فإن قال الشهود: نعرف العقار بعينه، ولا نعرف الحدود، بعث القاضي من يسمع البينة على عينه أو حضر بنفسه، فإِن كان المشار إليه بالحدود المذكورة في الدعْوَى، حكم، وإلا لم يحكم، ولو كان العقار معروفاً لا يشتبه، فلا حاجة إِلى التحديد وأما ما يعسر إِحضاره، كالشيء الثقيل، وما أثبت في الأرض أو ركب في الجدار، وأورث قلعه ضرراً، فيصفه المدَّعِي، ويحضر
القاضي عنده، أو يبعث من يسمع الشهادة عَلَى عينه، وإن لم يكن وصفه حضر القاضي عنْده أو يبعث لسماع الدعوَى على عينه، وذكر صاحب الكتاب هاهنا وفي "الوسيط" أن العبد المدعي، لو كان يعرفه القاضي، حكم به دون الإِحضار، وجعل هذه الصورة كالمستثناة عن صورة وجوب الإِحضار، وهذا إذا كان المراد منه العَبْدَ المعروف بَيْن الناس، فهو واضحٌ، كما ذكر في العقار المعروف بين الناس، وفي العبد المشهورِ الغائب عن البلَدِ، فأما الذي يختص القاضي بمعرفته، فإن كان عالماً يصدْقِ المدَّعِي، وحكمَ بناءً علَى علمه؛ تفريعاً عَلَى جواز القضاء بالعلْم، فهو مرتَّبٌ أيضاً، أما إِذا كان يحكم بالبينة فالبينة تقُومُ على الصفة، فإذا لم تسمع البينة علَى الصفة، وجَبَ أن يمتنع الحكم والله أعلم، وذكر في "الوسيط" أيضاً: أنه لا يلزم إِحضار الكرباس ونحوه؛ لأنه يتماثل، وإِن حضر، وهذا إِشعار بأن الكرباس الحاضر لا يُمْكِن توجيه الدعْوَى والبينة عَلَى عينه، ولا شك في بُعْد هذا الكلام، ومتى قلْنا، يلزم الإحضار، فذلك إِذا اعترف المدعَى عليه باشتمالِ يده عَلَى مثل تلْكَ العين، فإِن أنكر اشتمال يده على عينٍ بالصِّفة المذكورةِ فالقَوْلُ قولُهِ مع يمينه، فإِن حلف، كان للمدعي أن يدَّعي القيمة عليه، لاحتمال أنها هلكت، قاله صاحب "التهذيب" وغيره، وإِن نكل، حلف المدعي، أو أقام البينة، إِن أنكر، ويكلَّف إِحضاره، وحبس، ولا يطلق إِلاَّ بالإحضار أو بأن يدعي التَّلفَ، وتؤخذ منْه القيمةُ، وتقبل منه دعوى التلَف، وإن كان على خلافِ قوله الأول ضرورةَ أنه قد يكون صادقاً، ولو لم يقبل قولُهُ ليتخلد عليه الحبس، وفي كلام بعض الأصحاب: أنه لا يطلق إلا بإحضاره أو بأن يقيم بينته على التلف، وإذا لم يدر المستحق أن العين باقيةٌ ليطالبَ بها أو تالفة ليطالب بقيمتها وادَّعَى على التردُّد، وقال: غُصِب مني كذا، فإِن كان باقياً، فعليه ردُّه، دمِان كان تالفاً فقيمته ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا تسمع هذه الدعوى؛ لأنها غير جازمة، بل يدعي العين، ويحلف عليها، ثم ينشئ دعوى القيمة، ويحلف علَيْها ويُحْكَى هذا عن القاضي الحُسَيْن. وأولاهما: وعَلَيْه اصطلاح القضاة: أنها تُسْمَع؛ للحاجةِ، وعَلَى هذا، فيحلف على أنه لا يلزمه رد العين، ولا قيمتها، ويجري الوجهان فيما إِذا سلم ثوباً إِلى دلاَّل ليبيعه، فطالبه به، فجحد، فلم يدر صاحب الثوب أنه باعه ليطالبه بالقيمة أو هو باقٍ ليطالبه بالعين، فعلى الوجْهِ الأول: يدعي العين في دعوى، ويدَّعِي القيمة في أخرى والثمن في أخرى وعلى الثاني؛ يدعي عليه ردَّ الثوب أو ثمنه، إِن باع وأخذ ثمنه أو قيمته، ويحلف الخصم يميناً واحدةً؛ بأنه لا يلزمه تسليم الثوب ولا ثمنه ولا قيمته، وقد ذكر هذه الصورةَ في الكتاب في "الدعاوَى والبيِّنات" وجميع ما ذكرنا فيما إِذا كان الخَصْمُ حاضرًا، فإِن كان غائباً، والمال في البلد، كما وصفنا، فيحضر مجلس الحكم أيضاً، ويؤخذ ممن في يده ليشهد الشهود عَلَى عينه.
وقوله في الكتاب "طولب بإِحضاره بعد قيام الحجة على الصفة" هذا التقييد غيرُ مساعدٍ عليه، بل الحجة على الصفة، والحالةُ هذه، غير مسموعة، وإنما تسمع عَلَى عينه على ما في "فتاوى" القَفَّال، وقد صرَّح بعض من دَرَس على الإِمام بأنه يلزم المدَّعَى عليه الإِحضارُ قبل تمام البينة، كما يلزمه الحضور بنَفْسِه. وقوله "وإن حلف أنه ليس في يده هَذَا العبدُ الموصوفُ" إِلى قوله: "فإِن ذلك يثبت بالشهادة على الصفة" قد يفهم منْه أن دعوى العين، إِذا لم تمش، بطَلَت دعواه بالكلية، فالجزم إِذا عرف أن المدعى علَيْه لا يبالي باليمين، ولم يكن له يمينه أن يدعي القيمة من الابتداء، لكنَّا بيَّنَّا أنَّه، إِذا انقطعت دعْوَى العَيْن، كان له أن يدَّعِيَ القيمة، ولا يسقط طلبه بالكلية، فليكنْ معنى الكلام أنَّه إذا لم يجد بينة، وعرف أن الخصم يحلف، فلا فائدة في دعْوَى اليمين (¬1) فليعرض عنْها، وليدع القيمة. وقوله "فإن القيمة تثبت بالشهادة على الصفة" إِن كان المراد منْه أنه إِذا شهد الشهود على أنه غصب منه عبداً مثلاً بصفةِ كَيْتَ وكَيْتَ، ثم فرض تلف العبد، يستحق المشهود له بتلك الشهادة قيمتَهُ عَلَى تلك الصفة (¬2)، فهذا صحيحٌ، وقد حكاه صاحب "العدة" ولكن طلب القيمة من غير أنْ يعلم موته، فيه إِشكالٌ علَى ما مرَّ. فَرْعٌ: لو كان الخصمُ حاضراً، والمدَّعِي ببلدة أخرَى، فقياس ما في الفصل السابق أنَّا، إِن قلْنا: تسمع البينة بالمال الغائب، فيحكم به القاضِي عليه، وِإن لم نجور إلا السماع فإِذا سمع البينة أمر بنقل المدعَي إلى مجلسه، ليشهد الشهودُ عَلَى عينه، كما يفعله القاضِي المكتوبُ إِلَيْه عند غَيْبَة الخَصْم والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَرْعٌ: لَوْ أَحْضَرَ العَبْدَ الغَائِبَ فَلَمْ يَثْبُتُ مِلْكُ المُدَّعِي فَعَلَيْهِ مُؤْنَةُ الإِحْضَارِ وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ وَلاَ يُغْرَّمُ مَنْفَعَةَ العَبْدِ الَّتِى تَعَطَّلتْ كَمَا لاَ يُغَرَّمُ مَنْفَعَةَ المَحْكُومِ عَلَيْهِ وَيُحْتَمَلُ هَذَا لِلحَاجَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ذكرنا أَن المُدَّعِي، إِن كان في البلد يُكلَّف المدعَى عليه إِحضاره، وإن كان غائباً عن البلد يبعثه القاضي المكتوب إِليه على يدَى المدَّعِي، ولم يقل: إنه يكلف المدعي عليه الإحضار، كان الفرق بُعْد الشقة وكثرة المشقة كما يكلِّف الحضور هناك، ولا يكلف هاهنا، إذا عرف ذلك، فحيث يؤمر المُدَّعِي بالاِحضار، قال في التهذيب: إن ثبت أنه للمدعي فمؤنة الإِحضار عليه، وإلا، فعلى المدَّعِي مؤنة الإِحضار ¬
والرد جميعاً، وحيث يبعثه القاضي المكتوب إِليه إِلى بلد الكاتب ولم يثبت أنه للمُدَّعِي، فعليه ردُّه إِلى موضعه بمؤناته، وتستقر عليه مؤنة الإِحضار إن تحملها من عنده، وإِن ثبت أنه له، فقياسُ ما حكَيْنا عن "التهذيب": أنه يرجع بمُؤنة الإحضار على المُدَّعَى عليه، وفي "أمالي" أبي الفرج السرخسي أنَّ القاضي ينفق على النَّقْل من بيت المال، فإِن لَمْ يكنْ في بيت المَالِ شيءٌ، استقرض، فإن ثبت كون المال للمدَّعَى عليه، رد الفرض لظهور تعدِّيه، وإلا، كلف المدعي ردّه، لظهور تعديه، وذكر أصحابُنَا العراقيُّون وصاحب "التهذيب" وغيرهم أنه، إِذا نقل المدَّعِي المالَ إلى بلد القاضي الكاتب، ولم يثبت كونه له يجب على المدعِي مع مؤْنَةِ الردِّ أجرةُ المثل لمدة الحيلولة، ولم يتعرَّضوا لذلك في مدة تعطل المنفعة، إذا أحضر المدعَى عليه، وهو في البلد، فأفهم سكوتُهُم عنْه أنَّهم سامحوا به في هذه الحالة، ولم يوجبوا الأجرة، وعلى هذا المفهومِ جَرَى في الكتاب، فقال: "ولا يلزم منفعة العبد التي تعطلت" وليحمل ما ذكره على إِحضار المدعَى عليه العبد الغائب عن مجلس الحكم دون البلد خاصَّةً؛ لأنه، لو أجرى على إِطلاقه، لكان ما ذكره مخالفاً لكلام الأصحاب في الغائب عن البلد، وسببُ احتمالِ تعطُّلِ المنفعةِ توقيرُ مجلس القاضي واقتضاءُ مصلحة الإيالة تركَ المضايقة في حُضُوره، وسَبَبُ الفَرْقِ بين الحالتين زيادةُ الضَّرَرِ هناك. قَالَ الغَزَالِيُّ: الرَّكَنُ الخَامِسُ: المَحُكُومُ عَلَيْهِ: وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ غَائِباً فَوْقَ مسَافَةِ العَدْوَى، فَإِنْ كَانَ فِي البَلَدِ فَالصَّحِيحُ أنَّهُ لاَ يَجُوزُ سَمَاعُ البَيِّنَةِ دُونَ حُضُورِهِ، وَإِنْ تَوَارَى أَوْ تَعَذَّرَ فَالصَّحِيحُ أنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ كَالغَائِبِ، وَمَهْمَا غَابَ إِلَى مَسَافَةِ العَدْوَى وَلَمْ يَكُنْ فِي مَوْضِعِهِ حَاكِمٌ جَازَ لِلقَاضِي إِحْضَارُهُ وَلَكِنْ بَعْدَ إِقَامَةِ البَيِّنَةِ، أَمَّا بِمُجرَّدِ الدَّعْوَى فَلاَ، وَإِنْ كَانَ لِلغَائِبِ مَالٌ فِي البَلَدِ وَجَبَ التَّوِفْيَةُ مِنْهُ، وَهَلْ يُطَالَبُ بِكَفِيلِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعيُّ: الفصل يشير إلى ثلاثِ قَوَاعِدَ: إحداها: الأصل ألاَّ يسمع القاضي البينة، ولا يحكم إِلا بحضرة الخصم، أمَّا أَلاَّ يسمع البينة؛ فَلَيَأْمَنَ من خطأ الشُّهود في المشهود عليه، وليَطْعَنَ فيه الخَصْمُ، إن وجد مطْعَناً، وليمتنعوا، إن كانوا كذبة؛ حياءً منه أو خوفاً، وأما ألا يحكم، فَلِيأْتِيَ بمدْفَعٍ، إِن وجده، إِلاَّ أَن هذا الأَصلَ قد يُتْرك لأَسبابٍ تقتضيه، وتفصيلها أنْ يقالَ: إِذا لم يكن الخصم حاضرًا في مجلس الحُكْم، فإما أن يكون في البلد أو لا يكون، إن كان في البلد، نُظِرَ؛ إِن كان ظاهراً يَتَأتَّى إِحضاره، فأصح الوجهَيْن، وقطَع به بعضُهم أنه لا يجوز سماع الدعْوَى والبينة عَلَيْه؛ لأن أمر القضاء مبنيٌّ على الفصل بأقرب الطرق ولو أحضر، ربما أَقر، فأغْنَى عن سماع البينة والنَّظَرِ فيها.
والثاني: الجواز؛ لأنه، إِما منكر، فهذا سماع بينة عَلَى المنكر، أو مقرٌّ، فيؤكد البينة إِقراره، وعلى هذا، فهل يحكم عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كالغائب، لَمَّا سمع عليه البينة، حَكَم. وأصحهما: المنع، بل يجب إِحضاره، ليأتِيَ بمطْعَنِ، إِن أمكنه، بخلاف الغائب عن البلد، فإن انتظاره يطُولُ، وأجرى الخلاف في الحاضر في مجلس الحُكْم، هل يسمع البينة عليه، ويحكم من غير سؤاله ومراجعته، والمنع هاهنا أظهر وأولَى، ولو كان يتعذَّر إِحضاره بان كان متوارياً أو متعذراً متغلباً فيجوز سماع الدعوى والبينة، والحكم عليه، وإلاَّ، اتخذ الناس التوارِيَ والامتناع ذريعةً إِلى إِبطال الحُقُوق، وعن القاضي الحُسَيْن، وجْهٌ آخر: أنه لا يجوز ولا يلحق الامتناع بالعَجْز، كما لا يلحق منع الثمن بالعَجْز في ثبوت حَقِّ الفسخ للبائع، د اِن لم يكن في البلد، نُظِر؛ إِن غاب إلَى مسافةٍ بعيدةٍ، جاز الحكم عليه، كما سبق، وإِن كانت قريبةً، فهو كالحاضر في البلد، وبم يضبط القرب والمُعْدُ؟ فيه وجهان: أحدهما: أنَّ المسافة البعيدة هي الَّتِي تقْصَر فيها الصلاةُ، والقريبةُ ما دونها. وأرجحهما: على ما ذكره صاحب الكتاب: أن المسافة التي يتمكَّن المنكر إِليها من الرُّجُوع إِلى مسكنه ليلاً قريبةٌ، وتُسمَّى، هذه مسافةَ العَدْوَى، فإِن زادتْ، فهي بعيدةٌ، وللقاضي أن يحكم على مَنْ غاب إذا عاد إليها؛ لأن في إِحضاره مفارقة الأَهْلِ بالليل. وقوله في الكتاب "المحكوم عليه وشرطه أن يكون غائباً فوق مسافة العَدْوَى" المراد: المحكوم عليه الغائبُ؛ إِذ الغيبة ليستْ شرطاً في المحكوم علَيْه مطلقاً، بل الحكم على الحاضِرٍ أجودُ منْه على الغائب، لكن البابَ مِنْ أصله معقودٌ في القضاء على الغائِبِ، فأراد أن يبيّن أن الغَيْبَة المجوزة للقضاء أيةُ غيبةٍ هي. ويجوز أن يُعْلَم قوله: "فإن كان في البلد فالصحيح" يجوز إِعلام لفظ "الصحيح" بالواو؛ لطريقة مَنْ قَطَع بالمنع، وقد حكاها القاضي ابن كج وغيره. وقوله في المتواري والمتعذر، "الصحيح أنه يقضي عليه كالغائب" يمكن أن يستفاد من التشبيه والإِلحاق بالغائب؛ أنه يحلف المدَّعِي، كما يحلف المدعي على الغائب، وقد صرَّح به بعضُهم، وفي "العدة": أنه لا يحلف هاهنا لأن الخصم قادِرٌ على الحضور، ولو كان للمتمرِّد وكيلٌ نصبه بنفسه، فهل يتوقَّف التحليف على طلبه؟ فيه جوابان لأبي العباس الرويانيِّ؛ لأن الاحتياط، والحالة هذه، من وظيفة الوكيل، وكذا لو كان الغائبُ وكيلاً.
الثانية: من أتَى القاضي مُسْتَعْدِياً عَلَى خصمه؛ ليحضره، فخصمه، إِما أن يكون في البلد أو خارجه: الحالة الأولَى: إذا كان في البلد، وكان ظاهراً يمكنُ إِحضاره، وجب إِحضاره (¬1)، وقال مالك: إِن كان من أهل المروءات، لم يُحْضِرْه، إِلا أن يعرف بينهم معاملةً؛ صيانةً له عن الابتذال، وعن ابن سُرَيْجٍ: أنَّه يحضر ذوي المروءات في داره لا في مجلس الحكم، والمذهب: أنه لا فرق، ثم الإحضار قد يكون بختم من طِينٍ رطبٍ أو غيره يدفعه إِلى المُدَّعِي؛ ليعرضه على الخصمَ وليكن مكتوباً علَيْه؛ أجِبِ القاضِيَ فَلاناً، وقد يكون بمحْضَرِ من الأعوان المرتَّبين على باب القاضي، ويكون مؤنته على الطالب، إِن لم يرزقوا من بيت المال، وإِن بعث بالخَتْم، فلم يجب بعث العون إِليه، وإذا ثبت عند القاضي امتناعه من غير عذر أو سوء أدب بكسر الختم ونحوه، واستعان على إِحضاره بأعوان السلطان، فإِذا حضر عَزَّره على ما يراه، ويكون مؤنة المُحْضِر، والحالةُ هذه، على المطلوب لامتناعه، وفي "الجرجانيات" وجه آخر: أنها على المدَّعِي أيضاً، فإِن استخْفَى، بعث من ينادى على باب دَارِه، أنَّه، إِن لم يحضُرْ إِلى ثلاثٍ، سمَّر باب داره أو ختم عليه، فإِن لم يحضر بعد الَثلاث، وسال المُدَّعِي التسميرَ أو الختم، أجابه إِليه، وينبغي أن يتقرَّر عنده؛ أن الدار دارُهُ، دماِذا عرف له موضع، قال ابن القاصِّ: يبعث القاضي نفَراً من النسوة والصبيان يهجمون عليه على هذا الترتيب، ويفتشونه، ومتى كان للمطلوب عُذْرٌ مانعٌ من الحُضُور، لم يكلِّفْه الحضور، بل يبعث إِليه من يحكم بينه وبين خصمه، أو يأمره بنَصْب وكيلِ التخاصم عنه، فإن دعت الحاجةُ إلَى تكليفه، بعث إِلَيْه من يحلفه، والعُذْر كالمرض وحَبْسِ الظالم والخَوْفِ منه، وفي كون المرأة المخدرة خلافٌ سيأتي. الحالة الثانية: إذا كان خارجَ البلدِ فينظر، إن كان خارجاً عن محلِّ ولاية القاضي، لم يكن له أن يحضره، وإِن كان في محلِّ ولايته، فإن كان له في ذلك الموضع نائبٌ، لم يحضره، بل يسمع البينة، ويكتب إِليه، وحَكَى أَبو العباس الرويانيُّ وجهاً: أنه يلزم إِحضاره، إِذا طلب الخصم، وهذا قضية إِيراد صاحب "التهذيب" فيما أذا كان المطلوبُ عَلَى مسافة العدْوَى، وبه أجاب في "العدة" وفي أمالي أبي الفرج السرخسيِّ؛ يخير القاضي بيْنَ أن يحضر المطلوب، وبين أن يسمع البينة، ويكتب إلى نائبه، وإِن لم يكن هناك نائبٌ، فثلاثة أوجه: ¬
أحدها: وبه أجاب أصحابنا العراقيون: أنه يحضره، قَرُبَتِ المسافةُ أمْ بعُدَتْ، نعم، له أن يبعث إلى بلدِ المطلوبِ مَنْ يحكم بينه وبين المستعْدِي. والثاني: إِن كان على ما دُونَ مسافة القَصْر أحضره، فَإِنْ زادت، فلا. والثالث: إِن كان على مسافَةِ العَدْوَى، أحضره، وإِن زادت، فلا، وهذا أظهر عنْد الإِمام، وهو الذي أورده في الكتاب، فقال "ومهما غاب إلى مسافة العَدْوَى" فقيد الحَكم بمسافَةِ العدْوَى وقوله: "ولم يكن في موضعه حاكم" يجوز إِعلامه بالواو؛ لما عرفْتَ أَنَّ في وجهٍ يحْضر، وإن كان هناك حاكمٌ، لماِن قلنا: إن كان هناك حاكمٌ، فكذلك لا يحضره، إذا كان هناك من يتوسَّط، ويصلح بينهما؛ بان يكتب إليه أن يتوسط، ويصلح، فإِن تعذَّر عليه، فحينئذ يحضره، وحيث قلْنا: يحضر الخارج عن البَلدِ، فقد ذكر الإِمام وصاحب الكتاب، أنه إنما يحضر، إذا أقام المدَّعِي بينةً عَلَى ما يدعيه، فإنه قد لا يكون له حجَّةٌ، ويتضرر الخَصْمُ بالإِحضار، وبه أجاب في "العدة" لكن قد لا يكون له حجة ويريد تحليفه، فلعله ينزجر، ولم يتعرض الأكثرون، لما ذكراه، ولكن قالُوا: يبحث القاضي عن دعواه وعن جهتها، فقد يريد مطالبته بما لا يعقده كالذمِّيِّ يريد إحضار المسلم للمطالبة بضمان الخمر التي أراقها عليه. بخلاف الحاضر في البلد لا يحتاج في إِحضاره إِلَى تقديم البحث؛ لأنه ليس في الحُضُور هناك مؤْنَةٌ ومشَقَّةٌ شديدةٌ. فَرْعٌ: لو كان الاستعداء على امرأةٍ خارجةٍ عن البلد، هل يحضرها (¬1)، وهي عورة، وهل يُشْترط أن يكون الطريقُ آمناً، ومعها نسوةٌ ثقاتٌ، وهل على القاضي أنْ يبعث إِلَيْها محرماً لها؛ لتحضر معه، قال أبو العبَّاس الرويانيُّ: كل ذلك على وجهين: الأصح: أنه يبعث إِلَيْها مَحْرماً أو نسوةً ثقاتٍ كما في الحَجِّ. الثالثة: إِذا ثبت على الغائب دَيْنٌ، وله مال (¬2) حاضر، فعلى القاضي توفيةُ الدَّيْن ¬
منه، إذا طلبه المدَّعي، وإِذا وفَّى، هل يطالب المدَّعِي بكفيل؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن الغائب قد يكون لَهُ مَدْفَع، إذا حضر، فيحتاط له. وأظهرهما: المنع؛ لأن الحكم قديمٌ في الحال، والأصلُ عَدَمُ الدفع. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فُرُوعٌ: الأَوَّلُ: فِي القَضَاءِ عَلَى الغَائِبِ فِي العُقُوبَاتِ قَوْلاَنِ، وَلاَ يُقْبَلُ كِتَابُ القَاضِي إِلَى القَاضِي وَلاَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي عُقُوبةٍ عَلَى قَوْلٍ، وَفِي القِصَاصِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنَ الحُدُودِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: بَيَّنَّا أن القضاء على الغَائِب جائزٌ، وذلك في غير العقوبات، وأما العقوبات، فما كان حقاً لله تعالَى؛ كحد الزنا والشرب وقطع الطريق فقولان: أحدهما: الجواز أيضاً، كما في الأموال، ويكتب القاضي إِلى قاضي بلدِ المشهودِ علَيْه؛ ليأخذه بالحَقِّ. وأصحهما: المنعُ؛ لمعنيين: أحدهما: أن الحدودَ يُسْعَى في دَرْئِهَا، ولا يُوسَّع بابها. والثاني: أنَّ حقوقَ الله تعالَى، يبنَى على المساهلة؛ لاستغنائه، وحقوق العبادِ علَى المضايقة والتشْديد؛ لاحتياجهم، وأما حقُّ الآدميِّ؛ كالقصاص وحد القذف فالصَّحيح المنصوص الجوازُ، وفيه قول مخرَّجٌ من حدودِ الله تعالَى وقد يرتب، فيقال: إن جوَّزنا في حقِّ الله تعالَى، ففي حقِّ الآدميِّ أولَى، وإن منعنا هناك، فههنا قولان؛ بناءً على المعنيين، إِن قلنا؛ المنع هناك؛ لأن الحدود يسعى في درئها، وندفع بالشبهة، فكذلك هاهنا، وإِن قلنا: لأن حدود الله تعالَى مبنيةٌ على المساهلة، فهذا المعنى مفقودٌ هاهنا، فيجوز، وإِذا أخذت مطلق العقوبة، وتركت الترتيب، قلتَ: في القضاء على الغائب في العقوبات ثلاثة أقوال؛ ثالثها الفرْقُ، وكذلك أورد صاحب الكتاب في "باب الشهادة" والخلاف في الشهادة على الشهادة مع كتاب القاضي إِلى القاضي هاهنا، وأعاد ذكر كتاب القاضي إلى القاضي مع الشهادة على الشهادة في بابها، ولو اقتصر على ذِكْر كلِّ واحد منهما في موضعه أو عَلَى ذكرهما جميعاً في موضع، لكَفَى، ولا فرق في كتاب القاضي إِلى القاضي بين "كتاب الحكم" و"كتاب النقل" في كلام الجُمْهُور، وفي "الإبانة" للفورانيِّ: أن الخلاف في "كتاب النقل" فأما "كتاب الحكم" فإنه يقبل في حقِّ اللهَ تعالَى، وفي حقِّ الآدميِّ قولاً واحداً والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِي: لَوْ عُزِلَ القَاضِي بَعْدَ سَمَاعِ البَيِّنَةِ ثُمَّ وُلِّيَ وَجَبَ الاسْتِعَادَةُ، وَلوْ خَرَجَ مِنْ وِلاَيَتِهِ ثُمَّ عَادَ فَفِي الاسْتِعَادَةِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إِذا سمع القاضي بينته، فعُزِلَ، ثم وُلِّي، لم يحكم بالسماع الأول؛
لبطلانه بالعزل، بل يجب الاستعادة (¬1)، ولو خرج من محلِّ ولايته، ثم عاد فوجهان: أحدهما: أن الجواب كذلك؛ لعروض ما يمنع الحكم. وأظهرهما: أن له أنْ يحكم به، ولا حاجةَ إِلَى الاستعادة؛ لأن ولايته باقيةٌ، وإنَّما فقد شرط نفوذ الحكم، ولهذا إِذا عاد، لم يحتج إِلَى توليةٍ جديدةٍ، وهذا الفرع لا اخْتِصَاص له بالقضاء علَى الغائب. ولو سمع القاضي الشهادةَ عَلَى الغائِبِ وقدَّم الغائب قبل أن يحكم، لم تجب الاستعادة، ولكنه يخير به ويمكَّن من الجرح، ولو قدم الغائب بعد الحكْم، فهو على حجته في إِقامة البينة على القضاء والإِبراء، وفي القدح في الشهود، ولكن لا بدّ وأن يُؤَرِّخَ الجارح فسقه بيوم الشهادة؛ لأنه إِذا أطلق، أمْكَنَ حدوثه بعْدَ الحكم، وبلوغ الصبي بَعْدَ سماع البينة علَيْه أو بعد الحكم كقُدُوم الغائب. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثُ: المُخَدَّرَةُ لاَ تحْضُرُ مَجْلِسَ الحُكْمِ للِتَّحْلِيفَ بَلْ يَبعَثُ إلَيْهَا القَاضِي مَنْ يُحَلِّفُهَا، وَفِيهِ وَجهْ آخَرُ يُلْزِمُهَا الحُضُورَ، وَقِيلَ المُخَدَّرَةُ هِيَ الَّتي لاَ تَخْرُجُ أَصْلاً إِلاَّ لِلضَّرُورَة، وَقِيلَ: هِيَ الَّتي لاَ تَخْرُجُ إِلَى الحَمَّامِ وَإِلَى العَزَاءِ وَالزِّيَارَاتِ إلاَّ نَادِراً. قَالَ الرَّافِعيُّ: المرأة المخدَّرة، هل تُكلَّف حضُورَ مجلِس الحكْمِ؟ فيه وجهان: أحدهما: ويحكى عن القفَّال: نعم، كسائر الناس ولا اعتبار بالتخْدِير، ولهذا لو حضر يشهدون على امرأة، فقالوا: نشْهَدُ عَلَى عينها، ولا نعرف نسبها، فإن القاضي يأمرها بكَشْفِ الوجه، ومعلومٌ أن هذا أعظم علَيْها من مجرَّد الخروج وعلى هذا؛ لو حضر القاضي دارها؛ ليحكم بينها وبين خصمها أو بعث من يحكم، كان للخَصْم أن يمنع من دخول دارها، ويطلب إِخراجها. وأظهرهما: وبه قال أبو حنيفة: أنها لا تكلَّف الحضور؛ كالمريض، وسبيل القاضي في حقّها كما سبق في المريض، واستشهدوا لهذا الوجْهِ بقوله -صلى الله عليه وسلم- في قصة العَسِيفِ "واغْدُ يا أُنَيْس عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإنَ اعْتَرَفَتْ، فَأرْجُمْهَا" (¬2) بعث إِليها، ولم يحضرها، وعلى هذا؛ قال في "الشامل": إِذا حضر دارها من بعثه القاضي، تكلَّمت من وراء الستر، إِن اعترف الخصم بأنها خصمه أو شهد اثنان من محارمها؛ أنها هي التي ادَّعَى علَيْها، وإلاَّ تلفَّقت بإزار، وخرجت من السِّتْرَ وَمِنَ المخدرة لا شك أن التي لا ¬
تخرج أصلاً إلاَّ لضرورة فهي مخدَّرة، وأما التي لا تخرج إلاَّ نادراً لعزاءٍ أو زيارةٍ أو حمامٍ، هل هي مخدَّرةٌ؟ فيه وجهان: أشبههما: ويحكى عن القاضي الحُسَيْن: نعم، ويكفي أنه لا تصير مبتذلة بكثرة الخروج للحاجَاتِ المتكرِّرة، كشراء الخبز والقطن وبيع الغزل ونحْوها، ومنْهم مَنْ لم يجعل الخروج إلى الحمام بالليل مبطلاً للتخدير. وقوله في الكتاب "والمخدرة لا تحضر مجلس الحكم للتحليف" تخصيص التحليف بالذكْر كأنه لامتناع النيابة فيه، فأما ما عدا ذلك، فيقنع بالتوكيل فيه من المخدَّرة وغيرها. وقوله "وقيل المخدرة هي التي لا تخرج أصلاً إِلاَّ لضرورة" هذا يَحْصُرُ التخديرَ فيه على هذا الوجه، وقوله بعده "وقيل: هي التي لا تخرج إِلَى العزاء والزياراتِ إلاَّ نادراً" لا يمكن حمله على الحصر؛ فإِنَّ التي يندر خروجُهَا إِذا كانت مخدَّرةً، فالتي لا تخرج أصلاً أولَى أَنْ تكونَ مخدَّرةً، وإِنما المقصود أنَّ التي يندر خروجها للعزاء والزيارات مخدَّرة أيضاً، ولو أكثرت الخروج لذلك، بَطَل التخدير كالمبتذلة بالخُرُوج للحاجات المتكرِّرة. قَالَ الغَزَالِيُّ: الرَّابعُ: لَيْسَ لِلقَاضِي أَنْ يُزوِّجَ امْرَأَةً خَارِجَةً عَنْ مَحَلِّ وِلاَيَتِهِ إلاَّ إِذَا دَخَلَتْ وِلاَيَتَهُ، وَلَهُ أَنْ يَتَصرَّفَ فِي مَالٍ حَاضِرٍ لِيَتِيم غَائِبٍ عَنْ وِلاَيَتِه، لَكِنْ إِذَا أَشْرَفَ عَلَى الهَلاَكِ كَمَا يفْعَلُ فِي مَالِ كُلِّ غَائِبٍ فَهَل لَهُ نَصْبُ القَيِّمِ في ذَلِكَ المَالِ؟ فيهِ تَرَدُّدُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القاضي يزوج مَنْ لاَ وَلِيَّ لها في مَحَلِّ ولايته من البلديَّات والغربيات، ولا يزوج امرأة خارجةً عن محل ولايته، هاِن رضيت، ولا يكفي حضور الخاطب فإن الولاية عليها لا تتعلق بذلك الخَاطِبِ، بخلاف ما لو حكَم الحاضرُ على الغائب؛ لأن المدَّعِيَ حاضرٌ، والحكم يتعلَّق به، وبخلاف ما لو كان ليتيمٍ غائبٍ عن محلِّ ولايته مالٌ حاضرٌ، فإنه يتصرف فيه؛ لأنَّ الولاية عليه ترتبطُ بماله، ثم تصرفه في مال اليتيم الغائب يكون بالحفْظِ والتعهُّد، وإذا أشرف على الهلاك، أتَى بما يقتضيه الحال بشَرْط الغبطة اللائقة، وهذا سيله في مال كلِّ غائب أشرف على الهلاك، فلو كان حيواناً، وخيف عليه الهلاك يبيعه وإِن حصلت الصيانة بالإِجارة، اقتصر عليها، وهل له أن يتصرَّف في مال اليتيم الغائب للاستنماء، وأن ينصب قيِّماً كذلك؟ فيه وجهان: عن القاضي الحُسَيْن: لا؛ أن نصب القيِّم يرتبط بالمالِ والمالكِ جميعاً، فلو جاز النصب لحضور المال، جاز لقاضي بلد اليتيم النصب لحضُورِ المالك، وحينئذٍ تتمانع تصرفاتهما، قال في "الوسيط": والأَوْلَى أن يلاحظ مكان اليتيم دون المال.
وقوله في الكتاب "لكن إِذا أشرف على الهلاك" أشار به إلى أنه إِنما يتصرف في مال اليتيمِ الغائبِ بالحفْظ والصيانة عن الهلاك، وهل يتصرَّف للتجارة وطلب الفائدة كما يتصرَّف في أموال اليتامى الحاضرين؟ فيه وجهان، كما في نصب القيم لهذا الغَرَضِ، ويجوز نصبه للحفْظِ والصيانة بلا خلاف (¬1)، ويجوز للقاضي إقراضُ مالِ الغائبِ؛ ليقطع عنه غَرَرَ الغبية، ويخصه بذمَّة ملي، يحكى ذلك عن صاحب "التلخيص" وهو مَوافقٌ لما مر في "باب الحجر" أنَّ له أنْ يُقْرِضُ مال الصبي لكن ذكرنا هناك أَنَّ غير القاضي أباً كان أو غيره؛ لا يقرض مال الصبيِّ (¬2) إِلاَّ لضرورة نهب وغيره، وعن صاحب "التلخيص": أنه جوز للأبِ ما جوَّزه للقاضي، فهذا وجهٌ آخر، وأما ما لا يتعيَّن له مالك، وحصل اليأس عن معرفته، ذكر بعضهم أن له أن يبيعه، ويصرف ثمنه إِلَى المصالح، وأَنَّ له أنْ يحفظه (¬3)، واعْلَمْ أنَّ الفرْعَ الثالث والرابع لا اختصاصَ لهُمَا بالبَابِ، كما ذكرنا في الفَرْع الثاني، وهذا آخرِ شرْحِ الباب، ويدخل فيه مسائلُ أُخَرُ نورد مَنْها ما الحاجةُ إِلَيْهِ أهمُّ، والله المُوَفِّق. "كتاب قاضي أهل البَغْي" مقبولٌ ككتاب قاضي أهْل العدل، وعن القديم قولٌ أنَّه لا يقبل (¬4) كتاب أهل البغْي، وأطلق بعضهم؟ أنَّه لا يجوز للقاضي أنْ يكتب كتاباً في غير محلِّ ولايته، ويستمر على أصْل الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- ما ذكره ابْنُ القاصِّ، وهو أنَّه لا يحكم، ولا يشهد في غيَر محَلِّ ولايته، فأما الكتاب، فلا بأس به، وإِذا حكم القاضي بينة رجل أقامها وكيلُ رجلٍ في وجهِ وكيلٍ آخر، ثم حضر المدعَى عليه، وقال: كنْت: عزلتُ وكيلِي قَبْل أن أقَمْتَ البينة في وجهه، لم ينفعه؛ لأن القضاء علَى الغائِبِ جائزٌ، ولو حضر المدعِي، وقال: كنتُ عزلْتُ وكيلي، وقلْنا: إِن الوكيل ينعزل قبل بَلوغ الخَبَر لم يصحَّ الحكم؛ لأن القضاء للغائب غير جائز، وشهود الكتاب الحكمي إِذا أرادوا التخلف في الطريق، نُظِر؛ إن كانوا يتخلفون في موضع فيه قاضٍ وشهود، فحامل الكتاب إِما أن يُشْهِد عَلَى كلِّ واحدٍ منْهم شاهدَيْن يحضران معَه، ويشهدان عند القاضي الذي يقْصِده، وإِما أن يعرض الكتاب عَلَى قاضي البلد الذي يتخلفون فيه؛ ليشهدوا به عنْده، فيضمنه، ويكتب به إِلى القاضي الذي يَقْصِده، وإِن ¬
الباب الرابع في القسمة
أرادوا التخلف حيْثُ لا قاضي ولا شهود، قال فى "التهذيب": ليس لهم ذلك، بَلْ عليهم الخروجُ إلَى موضع فيه قاضٍ وشهودٌ، فإن طلبوا أجرة الخروج، إِليه، فليس إلاَّ نفقتهم وكراء دوابِّهم بخلاف ما لو طلبوا أكثر من ذلك عند ابتداء الخروج من بلد القاضي الكاتب؛ حيث لا يكلَّفون الخروج والقناعة به؛ لأن هناك يمكن إِشهاد غيرهم، وهاهنا حامل الكتاب مضطر إِليهم، لماِذا لزم المكتوب إليه الخصم، وطالب أن يكتب له كتاباً بقبض الحقِّ، هل على القاضي إِجابته؟ فيه وجهان، قال الإصطخريُّ: نعم؛ كيلا يطالب به مرةٍ أخرَى، وبهذا أجاب أبو الفرج الزاز، وقال أكثرهم، لا؛ فإن الحاكم إِنما يطالب بإلزام ما حكم به وثبت عنده، ويكفي للاحتياط والاستيثاق إشهادُ المدعِي عَلَى قبْضِ الحقِّ، ولو طالبه بتسليم الكتاب الذي ثبت الحق به، لم يلزمْهُ دفْعُه، إِليه، وكذا من له كتاب بدَيْنٍ فاستوفاه، أو بعقار فباعه، لا يلزمه دفعُه إِلى المستوفَى منه، وإلَى المشتري؛ لأنه ملكه، ولأنه قد يظهر استحقاقٌ فيحتاج إليه. والله أعلم. البَابُ الرَّابِعُ فِي القِسْمَةِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَهِيَ إِنْ كَانَتْ بِالإِجْبَارِ فَهَلْ يُشْتَرَطُ العَدَدُ فِي القَاسِمِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ، وَالمُقوِّمُ يُشْتَرَطُ فِيهِ العَدَدُ، وَلَيْسَ لِلقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بالتَّقْوِيمِ بِبَصِيرَةِ نَفْسِهِ وَإِنْ قُلْنا: يَقْضِي بِعِلْمِهِ لأَنَّهُ مُجَرَّدُ تَخْمِينِ وَيَحْكُمُ بِالعَدَالَةِ بِبَصِيرَةِ نَفْسهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الحاجة داعيةٌ إلى تجويز القسمة (¬1) بَيَّنَةٌ وذلك؛ لأنه قد يتبرَّم الشركاء أو بعضهُم بالمشاركة، ويريدون الاستبداد بالتصرُّف، وفي كتاب الله تعالَى جدُّه {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} [النساء: 8] الآية، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُقَسِّم الغنائِمَ بين الغانمين، ثم القسمة قد يتولاَّها الشركاء بأنفسهم، وقد يتولاَّها غيرْهم، وهو إما منصوبُ الإِمام أو منصوبُهم، ويشترط في منصوب الإِمام الحريَّة، والعدالة (¬2)، ¬
والتكليف، والذكورة؛ لأنه ملتزمٌ؛ كالحاكم من حيثُ إن الحاكم ينْظُر في الحُجَّة، ويجتهد، ثم يلزم بالحكم والقاسم يجتهد مساحةً وتقديراً، ثم يلزم بالإِقراع، ويشترط أن يكونَ عالماً بالمساحة، والحساب، وحَكَى أبو الفرج الزاز وجهَيْنِ (¬1) في أنَّه، هل يشترط أن يحسن التقويم؛ لأن في أنواع القسمة ما يُحْتَاجُ إليه، ولا يُشْتَرَطُ في منصوب الشركاء العدالةُ والحريةُ، فإنه وكيل من جهتهم (¬2)، كذلك أطلقوه، وينبغي أن يكون توكيلُ العَبْدِ في القِسْمة على الَخلاف في توكيله في البَيْع والشراء، ولو حكَّم الشركاءُ رجلاً يقسم بينهم، قال أصحابُنا العراقيون، هل هو على القولَيْن في التحكيم إن جوزناه فالذي حكموه كمنصوب القاضي، ومهما كان في سَهْم المصالح من بيت المال مالٌ يتفرَّع كمؤنة القاسمين، فعلى الإِمام أن ينصب بها في كل بلدٍ قاسماً، فإن لم يحصل الكفاية بواحدٍ، زاد بحسب الحاجة، وإن لم يكُنْ فيه مالٌ أو لم يتفرَّع لهذه الجهة، فقد ذكرنا في آدابِ اِلقاضِي أنه لا يعين حينئذٍ قساماً؛ لئلا يغالي في الأجرة، وأيضاً كيلا يغرَّه بعض الشركاء، فيحِيفَ، بل يدع الناس ليستأجروا من شاءوا، وإذا لم يكن في القسمة تقويم فيكفي قاسم واحد أم لا بُدَّ من اثنين؟ فيه قولان ووجِّهَا بأنَّ منصب القاسم منصب الحاكم أو منصب الشاهد، والأصحّ الأوَّلُ، ولم يُجِبِ المُعْظَم إلا به، وقطع به قاطعون، وإن كان فيها ¬
تقويمٌ، فلا بدّ من العدد أن يشترط العدد في المقوِّم، ويجوز أن ينصب الإِمام قاسماً، ويجعَله حاكماً في التقوبم، فيعتمد في التقويم قول عَدْلَيْنِ، ويُقَسِّم بنفسه، وهل للقاضي أن يحكم ببصيرة نفسه في التقويم؟ حكَى في "الوسيط" فيه طريقين: أحدَهما: أنه على القولين في أن القاضي، هَلْ يقضي بعلمه. والثاني: القطع بالمنع؛ لأن التقويم تخمينٌ مجرَّدٌ، وللأولين أن يقولوا: إنه، وإن كان تخميناً، فلا يبْعُدُ أن يقام ظنُّه مقام الشهادة المبنية على الظنِّ، كما أُقِيمَ علْمُهُ مُقَامَ الشهادة المبنية على العلْم، وأيضاً قد مرَّ أن القاضي يعتمد في عدالة الشهود على بصيرة نفسه، ومعلوم أن المستَنَدَ فيه الظن، والطريق الثاني هو المذكور في الكتاب، والأول أشبه، وهو اختيار الإِمام، فيما أظن. وقوله في الكتاب "وهي إن كانت بالإجبار فهل يُشْتَرَطُ العدد في القاسِمِ؟ فيه قولان" يجوز أن يعلم لفظ "القولين" بالواو؛ لقطع من قَطَع بالاكتفاء، بواحد، وتخصيصُ القولَيْنِ بقسمة الإِجبار لم يتعرَّض له في "الوسيط" بل أطلقهما إطلاقاً، وكذلك قول القاضي الرويانِّي، فيمكن أن يُقَالَ: أشار بهذا التقييد إلى أن الشركاء لو فوَّضُوا القسمة إلى واحدٍ بالتراضِي، جاز لا محالة؛ لأنه وكيل من قبلهم. وقوله: "وليس للقاضي أن يقضي بالتقويم بصيرة نفسه" معلم بالواو، للطريق الآخر. وقوله: "ويحكم بالعدالة ببصيرة نفسه" هذا قد سبق ذكره في موضعه، وكأنه أعاد لينبِّه عَلَى بُعْدِه عن الحكم بالتقويم ببصيرة نفسه على الطريقة الَّتِي ذكرناها، فإنه لا يقضي بالتقويم ببصيرة نفسه، وإن قلْنا: إنه يقضي بعلمه، وفي العدالة يقضي ببصيرة نفسه، وإن قلنا إنه لا يقضي بعلمه، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَأجْرَةُ القَسَّامِ الرُّؤوسي عَلَى قَدْرِ الْحِصَصِ أَوْ عَلَى عَدَدِ فِيهَ قَوْلاَنِ كَالشُّفْعَةِ، وَقِيلَ: إنَّهُ عَلَى قَدْرِ الْحِصَصِ قَطْعاً، وَإِذَا كَانَ القَسَّامُ يُقَسِّمُ بِرِضَا الشُّرَكَاءِ، فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ أَنْ يَتْفرَدَ بِاسْتِئْجَارِهِ فَيَجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَا سَمَّى فِي الإِجَارَةِ، وَتَجِبُ فِي حِصَّةِ الطِّفْلِ إِذَا طُولِبَ بِالقِسْمَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غِبْطَةٌ لَكِنَّ القَيِّمِ لاَ يَطْلُبَ القِسْمَةَ إلاَّ عِنْدَ الغِبْطَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ذكرنا أن القاسم المنصوب من جهة الإِمام يدر رزقه علَيْه من بيْتِ المال (¬1)، وفي شرح "مختصر الجُوَيْنيِّ" وجه عن أبي إسحاقَ: أنه لا يدر من بيت المال لأنه لا يحتاج إلى تفريغِ النفْسِ لهذا العمل، بخلاف القاضي، والمذهبُ المشهورُ هو ¬
الأول، وإذا لم يكف مؤنته من بيت المال، فأجرته على الشُّرَكَاء، سواءٌ طلب جميعُهُمُ القسمةَ أو بَعْضُهم دون بعض، وعن أبي حنيفةَ الأجْرةُ على الطالب خاصَّةً، حَكَى القاضي ابن كج وجْهاً مثله عن ابن القَطَّان وغيره (¬1)، والظاهر الأولُ، ثم يُنْظَر؛ إن استأجر الشركاء قاسماً وسمَّوْا له أجرةٌ، وأطلقوا، فتلك الأجرة تتوزَّع عَلَى قدر الحصص أو يكون على عدد الرؤوس؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه على القولين كما في الشفعة. أصحُّهُمَا: وبه قال أحمد: أنها تتوزَّع على قدر الحصص؛ لأنها من مؤنات المِلْك، فأشبهت النفقة. والثاني: على عدد الرؤوس (¬2)، وبه قال أبو حنيفة، ويُحْكَى عن مالك أيضاً؛ لأن عمله في الحساب والمساحة يقع لهم جميعاً، وقد يكون الحسابُ في الجزء القليل أغمض، وأيضاً، فإن قلة النصب توجِبُ كثرة العمل؛ لأن القسمة تقَعُ بحسب أقل الأجزاء (¬3)، وإن لم تجب على من قَلَّ نصيبه زيادةٌ، فلا أقل من التساوِي. والطريق الثاني: القطْعُ بالقول الأول بخلاف الشفعة؛ لأن أصل الشَّرِكَةِ سَبَبٌ للأخذ بالشفعة، وقد اشتركا في أصل الشُّفْعَة، وهاهنا الأجرةُ في مقابلة العَمَلِ، والعمل فيمن يزاد نصيبه أكثر بالكيل في المكيلات، والوزن في الموزونات، وعلَى هذا الخلاف ما إذا استأجروا القاسم استئجاراً فاسداً، فقسم أن أجرة المثل كيف توزَّع؟ وكذلك إذا أمروا قاسماً، فقسم، ولم يذكروا أجرةً، إذا حكمنا بوجوب أجرة المثل في مثل ذلك، ويَطَّرِدُ هذا الخلاف في قسمة الإِجبار، إذا أمر القاضي قاسماً، فقسم، ولو استأجروا قاسمًا وسمَّى كلُّ واحد منهم أجرةً، التزمها، على كلِّ واحدٍ منهم ما التزم، وانقطع النظر عن الحصص والرؤوس جميعاً، وهذا واضحٌ إن فرض اجتماعهم على الاستئجار بأن قالوا: استأجرناك، لتقسم بيننا كذا بدينارٍ على فلان ودينارَيْنِ عَلَى فلان، ووكَّلوا وكيلاً يعقد لَهُمْ، كذلك وإن فُرِضَتْ عقودٌ مترتبةٌ، فقد ذكروا فيه إشكالاً وهو أن الشركاء، إذا كانوا ثلاثةً، فعقد واحدٌ لإِفراز نصيبه، ثم الثاني كذلك، فعلى القسام إفراز ¬
النصيبَيْن، فإذا أفرزهما تميَّز نصيب الثالث، فعقد الثالث إذن استئجارٌ على عمل مستحقٍّ على الأَجير، وأجاب القاضي الحُسَيْن بأن إفراز النصيبَيْنِ من غير عَمَلٍ في نصيب الثالث بالمساحة والتخطي فيه ممَّا لا يتأتى، فيقع استئجار الثالث على ذلك، ولم يرْتَضِ الإِمامُ هذه المفاوَضَةَ سُؤَالاً وجواباً؛ لأنهما جميعاً مبنيان عَلَى تجويز استقلال بعض الشركاء باستئجار القسام؛ لإِفراز نصيبه، ولا سبيل إِليه؛ لأن إفراز نصيبه لا يمكن إلاَّ بالتصرُّف في نصيب الآخرين؛ تردُّداً وتقديراً، ولا سبيل إليه إلاَّ برضَاهم، نعم يجوز أن ينفردَ واحدٌ منْهم برضا الباقِيَن، فيكون أصيلاً ووكيلاً، ولا حاجَةَ إِلَى عقد الباقين، وحينئذٍ، إن فصل ما على كلِّ واحد منهم بالتراضِي فذاك، وإن أطلق، عاد الخلاف في كيفية التوزيع، وإلَى هذا أشار في الكتاب بقوله: "وإذا كان القسَّام يقسم برضا الشركاء، فليس لواحدٍ أن ينفرد باستئجاره، يعني: إن كانت القسمةُ بالإِجبار أمْكَنَ أن يتصرف القسام في نصيب الممتنع بأمر القاضي، فأما إذا لم يكن إجبارٌ، فلا بدّ من اتفاق الجميع، وإذا اتَّفَقُوا، فعَلَى كلِّ واحدٍ ما سمَّى عليه، فإن أطلقوا، فعلى الخلاف. هذه مسألة والمسالةُ الثانية من الفصل، إذا كان أحد الشريكَيْنِ طفلاً، نُظِرَ؛ إن كان في القسمة غِبْطةٌ له، فعلى الوليِّ طلب القسمة وبذل الحصة من الأجْرَةِ من مال الطفل، وإن لم يكنْ فيها غبْطَةٌ، فلا يطلبها، وإن طَلَبَها الشريك الآخَرُ، أُجِيبَ، إن قلنا: الأجرة على الطالب خاصَّةً فذاك، وإن قلْنا: على الكل، فهاهنا وجهان: أحدهما: وبه أجاب في "العدة": أنها على الطالب أيضاً؛ لأن أخْذَ الأجْرَةِ من مالِ الطِّفْل، ولا غبطة، إجحافٌ لا يحتمله الصبيُّ. وأصحُّهُمَا: أن حصة الصبيِّ تُؤْخَذُ من ماله؛ لأن الإِجابة إلى القسمة واجبةٌ، والأجرة من المؤنات التابعة لها. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَاعْلَمُ: أَنَّ الإِجْبَارَ إِنَّمَا يَجْرِي فِي قِسْمَةِ الإِفْرَازِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ قَابِلاً للْقِسْمَةِ إِلَى أَجْزَاءٍ مُتَسَاوِبَةِ الصَّفَاتِ وَيَبْقَى الانْتِفَاعُ كَذَوَاتِ الأَمْثَالِ أَوْ كَالكِرْبَاسِ وَالأرْضِ وَكَيْفِيَّةُ قِسْمَةِ الأَرْضِ: أَنْ تُقَسَّمَ بِالأَجْزَاءِ بِحَسَبِ أَقَلِّ الأَجْزَاءِ، فَإِنْ كَانَ الأرْضُ بَيْنَ ثَلاَثةٍ لِوَاحِدٍ نِصْفُهَا وَلآخَرَ ثُلُثُهَا وَلآخَرَ سُدُسُهَا قُسِّمَ بِسِتَّةِ أجْزَاءٍ مُتَسَاوِيَةٍ في المِسَاحَةِ وَيَكْتُبُ أَسَامِيَ المُلاَّكِ عَلَى ثَلاَثِ رِقَاعِ ويُدْرِجُهَا فِي بَنَادِقَ مُتَسَاوَبةِ يُخْرِجُهَا مَنْ لاَ يَعْرِفُ ذَلِكَ وَيَقِفُ القَسَّامُ عَلَى طَرَفِ الأَرْضِ فَإذَا خَرَجَ مثَلاً اسْمُ صَاحِبِ النِّصْفِ سُلِّمَ إِلَيْهِ الجُزْءُ الأَوَّلُ وَمَا يَلِيهِ إِلَى تَمَامِ النِّصْفِ، ثُمَّ يَخْرُجُ اسْمُ الآخَرِ كَذَلِكَ، أمَّا الطَّاحُونَةُ وَالحَمَّامُ وَمَا لاَ يَبْقَى مُنْتَفَعاً بِهِ لاَ يُجْبِرُ فِيهَا عَلَى القِسْمَةِ، وَلَوْ مَلَكَ مَنْ دَارِ عَشْراً لاَ يَصْلُحَ لِلْمَسْكَنِ لَوْ أَفْرَزَ فَطَلَبَ القِسْمَةَ فَلاَ يُجَابُ علَى الأَصَحِّ وَلَوْ طَلَبَ صَاحِبُهُ
لَزَمَتْهُ الإِجَابَةُ عَلَى الأَطْهَر المَنْفَعَةُ بَعْدَ القِسْمَةِ إِنْ أُحْدِثَ مُسْتَوْقَدٌ وَبِئْرٌ فَفِي الإِجْبَارِ وَجْهَانِ: قَالَ الرَّافِعِيُّ: مسائل الباب مختلطة غير مهذبة الترتيب، فإن احتجنا كذلك إلى تقديم وتأخير، فلا تُنْكِرْهُ، واعلم أن العَيْنَ المشتَركةٍ، إِما أنْ يَعْظُمَ الضرَرُ في قسْمتها، أوْ لاَ يعظم. الحالة الأولى: إذا عظم الضرر في القسمة، وطلب أحدُهُما القسْمةَ، وامتنع الآخرُ، فلا يجبر الممتنع وفي ضبط الضرر المانع في القسمة، ثلاثة أوجه أسلفناها في "باب الشفعة" فلا يكسر الجوهرُ النفيسُ، ولا يقطع الثَّوْبُ الرفيع، ولا يُقسَّم زَوْجَا الخُفِّ بِمَصْرَاعَا الباب، إن طلبه أحدُهُمَا، كان تراضَى الشركاء بالقسمة في مثل ذلك، والتمسوها من القاضي، فإن كانت المنفعةُ تَبْطُل بالكلية، لم يجبْهم، ويمنعَهُم من أن يقتسموا بأنفسهم أيضاً؛ لأنه سفه، كان كان لا تبطل المنفعة بالكلية؛ كالسيف يكسر، فلا يُجِيبُهُمْ أيضاً في أصح الوجهين، ولكن لا يمنعهم من أن يقتسموا بأنفسهم، وما تُبْطُلُ القسمةُ منفعَتَهُ المقصودة منه؛ كالطاحونة والحمام الصغيرَيْن (¬1)، إذا امتنع أحد الشريكَيْن من قسمته، لا يجبر عليها في أظهر الوجوه المشار إلَيْها، وهو المذكور في الكتاب، وقال مالك: يُجْبَر، فإن كانا كبيرَيْنِ، وأمكن أن يَجْعَل الطاحونة طاحونتين، والحمَّام حمامَيْنِ، فيجبر الممتنع، فإن كان يحتاج إلَى إحداث مستوقد أو بئْرٍ، فوجهان: أحدهما: أنه لا يجبر الممتنع؛ لتعطل المنفعة إلَى إحداث ما يحتاج إلَيْهِ. وأشبههما: الإِجبارُ؛ ليتيسر التدارك (¬2) بأمر مرتَّب. وإن تضرَّر أحد الشريكَيْن بالقسمة دون الآخر كدار بَيْنَ اثنين لأحَدِهِمَا عُشْرُها، وللآخر باقيها، ولو قسمت، لم يصلح العشر للمسكن، فإن طلب صاحبُ العُشْر القسمة، فوجهان: أَحَدُهُما: وبه قال أبو حنيفة: أنه يجبر الآخر ليتميَّز ملكه. وأصحُّهُمَا: المنْعُ؛ لأنَّهُ مضيِّع لماله متعنِّت، كان طلب الآخر القسمة، فوجهان، نسبهما العباديُّ إلى ابْنِ سُرَيْجٍ. ¬
أحدُهُما: أنه لا يُجْبَرُ صاحبُ العُشْرِ للضَّرَرِ الذي يلحقه. وأصحُّهُمَا: الاِجبار؛ لأن الطالب ينتفع بالقسمة، وضرر صاحب العُشْرِ لا ينشأ من مجرَّد القسمة، بل سببه قلة نصيبه وقال ابنُ أبي لَيْلَى وأحمدُ يُبَاعُ العيْنُ ويقسَّم الثمن بينهما، لما فيه من الضرر؛ كالجوهرة المشتركة (¬1). ولو كان نصْفُ الدَّارِ لواحدٍ، والنصفُ بيْنَ خمسة، فطلب صاحبُ النصف إفراز نصيبه، أُجِيبَ إلَيْه، والباقون، إنْ اختاروا القسمة قُسم، وإن لم يصلح العشر للمسكن؛ لأن في القسْمة فائدةً لبَعْضِ الشركاء، وإن استمروا على الشيوع، جاز، ثم لو طلب أحَدُهم القسْمَة بعْد ذلك، لم يجبر الآخرون؛ لأن هذه القسمة تضر الجَمِيع، ولو طلب الخمسة إفراز النصْفِ، ليكون بينهم شائعاً، أُجِيبوا إلَيه ذكره القاضي الرويانيُّ وغيره. وكذا لو كان بين عَشَرةٍ، وطلب خمسةٌ منْهم القسمة، ليكون النصف بينهم يُجَابُون. الحالة الثانية: إذا لم يعْظُمْ ضررُ القِسْمة، فإما أن يقسم المشترك من غَيْر ردٍّ من أحد الشريكَيْن أو الشركاء أو يقسم بردِّ، فإِن قسم من غير ردِّ، فإِما أن يقسم باعتبار الأجزاء، ويُسمَّى "قسمة المشابهات" أو باعتبار القيمة وتُسَمَّى "قسمة التعديل" فهذه ثلاثةُ أنواعٍ: الأول: قسمة المشابهات، وإنما يجري في الحبوب والأدهان والدراهم وسائر المثليات، وفي الدار المُتَّفِقَة الأبنية، والأرض المتشابهة الأجزاء، وما في معناها، فيعدل الأنْصِبَاء في المكيلات، والموزونات بالكيل والوزن والأرض المتشابهة الأجزاء تجَزَّأُ أجزاءً متساويةً بعدد الأنصباء، إن كانت متساويةً، كما إذا كانَتْ بين ثلاثةٍ أثلاثاً، فيجعل ثلاثة أجزاء متساويةً، ثم يُؤْخَذُ ثلاث رقاع متساويةٍ، ويُكْتَبُ عَلَى كل واحدةٍ اسْمُ شَرِيكٍ من الشُّرَكاء أو جُزْءٍ من الأجزاء، ويُميَّز بعضُها عن بعض بحدِّ أو جهةٍ أو غيرها، ويُدْرَجُ في بنادقَ متساويةٍ وزناً وشَكْلاً، إما من طين يُجفَّف أو من شمع، وتُجعلُ في حجر من لم يحضر الكتابة والإِدراج، فإن كان صبياً أو أعجمياً كان أولَى، ثم يُؤْمَرُ بإخراجِ رقعةٍ على الجزء الأوَّل، إن كُتِبَ في الرقاع أسماءُ الشركاء، فمن خرج اسمه يأخذه، ثم يُؤْمَرُ بإخراج رقعة على الجزء الذي يلي الأول، فَمَن خرج اسمُهُ في الآخرين، أخذه، وتعيَّن الثالث للثالث وإن كُتِبَ في الرقاع أسماءُ الأجزاء أُخْرِجت رقعةٌ باسم زَيْدٍ ثم أُخْرَى باسم عمرو وتعين الثالث للثالث، ويعيَّن من يبتدئ به من الشركاء والأجزاء منوطٌ بنظر القسَّام، فيقف أولاً على أي طرفٍ شاءَ، ويُسمِّي أيَّ شريك شاء، ¬
وإن كانت الأنصباء مختلفةً، كما إذا كان لزيْدٍ نِصْفٌ، ولعمرو ثلثٌ، ولثالثٍ سدسٌ فيجزئ القسام الأرض عَلَى أقل السهام، وهو سدس؛ لأنه ينادي به القليل والكثير، فيجعلها ستةَ أجزاءٍ، ثم نص الشافعيُّ -رضي الله عنه- أنه يثبِت أسماء الشركاء في رقاع، ويُخرج الرقاع على الأجزاء، وقال في العتق: يُكْتَبُ على رقعتين رقٌّ، وعلى رقعة حريةٌ، ويخرج على أسماء العبيد، ولم يقل: ويُكْتَبُ أسماء العبيد، وفيها طريقان للأصحاب: أحدهُما: أنها على قولَيْن بالنقل والتخريج، ففي قول: يُثبتُ أسماءَ الشركاء والعبيد، وفي الثاني: يثبت الأجزاءَ هاهنا، والرق والحرية هناك، وعامتهم فَرَقُوا، وقالوا: في العتق يسلك ما شاء من الطريقَيْن، وهاهنا لا يثبت الأجزاء على الرقاع؛ لأنه لو أثبتها وأخرج الرقاع على الأسماء، فَرُبَّمَا يخرج لصاحب السُّدُس الجزء الثاني أو الخامِسُ، فيفرق ملك مَنْ له النصفُ والثلُثُ أيضاً، قال في "المهذَّب": لو جعلْنا ذلك، ربَّما خرج السهمُ الرابع لصاحب النصف، فيقول: آخذه وسهْمَيْنِ قبله، ويقول الآخران: بل خُذْهُ وسهمين بعْده، فيقضي إلى التنازع، وهذا الخلاف في الجواز أو الأولويَّة؟ وعبارةُ كثيرٍ من شيوخنا تُشْعِر بوضع الخلاف في الجوازِ، وذكر طائفةٌ منهم الإِمامُ وصاحِبُ الكتابِ -رحمهما الله- أنه في الأولويَّة، وهو الأولَى، وسنوضح ما يحصل به الاحتراز عن تفريق الملك، وأما ما ذكره في "المهذَّب" فيجوز أن يُقَالَ: لا يبالَى برأي الشركاء، بل يتبع نظر القسام، كما في الجزء المبتدأ به، واسم الشريك المبتدأ به، فإن أثبت أسماءَ الشركاءِ، فمن تأمل: يثبت أسماءهُمْ عَلَى ثلاثِ رقاعٍ، ويأمر بإخراج رقعةٍ على الجزء الأول، فإن خرج اسمُ صاحب السُّدُس، أخذه، وأخرجت رقعة على الجزء الثاني، فإن خرج اسم عمرو أخذه، وأخذ الجزءَ الثالث معه، وتعيَّنت الثالثة الباقية لزيد، كان خرج اسمُ زَيْدٍ، أخذ الثاني والثالث والرابع، وتعيَّن الآخران لعمرو وإان خرج أولاً اسم عمرو، أخذ الأول، والثاني، ثم تُخْرَجُ رقعة على الجزء الثالث، فإن خرج اسْمُ الثالث، أخذه، وتعيَّنت الثالثة الباقية لزيد، وإن خرج اسم زيدٍ، أخذ مع الرابع والخامس، وتعين السادسُ للثالِثِ، كان خرج أولاً اسم زيْدٍ، أخذ الأوَّل والثاني والثالث، ثم يخرج رقعة على الرابع، فإن خرج اسمُ الثالث، أخذه، وتعيَّن الآخران لعمرو، وإن خرج اسم عمرو، أخذ الرابع والخامس، وتعيَّن السادس للثالث، ومن قائلٍ: يثبت أسماءَهم في ستِّ رقاع، اسم زيد في ثلاث، واسم عمروٍ في اثنين، واسم الثالث في واحدة، ويخرج على ما ذكرنا، وليس في هذا إلا أن اسم زيد يكون أسْرع خروجاً، لكن سرعة الخروج لا توجب حَيْفاً؛ لأن السهامَ متساويةٌ، فالوجْهُ تجويزُ كلِّ واحد من الطريقَيْنِ، وإن أثبت الأجزاء في الرقاع، فلا بدّ من إثباتها من ست رقاع، وحينئذٍ فالتفريقُ المحذور لازم، وإنما يلزم إذا خرج أولاً اسمُ صاحب السُّدُس، وهو مستغنٍ عنه، بأن يبدأ باسم صاحبِ النِّصْف، فإن خرج الأول باسمه، فله الأول
والثاني والثالث، وإن خرج الثاني، فكذلك يُعْطَى مع الثاني ما قبله وما بعده، وإن خرج الثالث، ففي "شرح مختصر الجُوَيْنِّي": أنه يَتوقَّف فيه، ويخرج لصاحب الثلث، فإن خرج للأول، فله الأول، والثاني، ولصاحب النصف الثالث، واللذان بعده وكذا لو خرج الثاني، وإن خرج الخامس، فله الخامس والسادسُ، ثم أهمل الكلام هكذا، ولم يستوعب باقي الاحتمالات وكان يجوز أن يُقَالَ: إذا خرج لصاحبِ النصْفِ الثالث، فله الثالثُ واللذان قبله، وإن خرج الرابع، فله الرابع واللذان قبله، ويتعيَّن الأول لصاحب السُّدُس، وإن خرج الخامس، فله الخامس واللذان قبله، ويتعيَّن السادس لصاحب السدس، وإن خرج السادسُ، فله السادِسُ واللذان قبله، وإذا أخذ زيْدٌ حقَّهُ، يتعيَّن حق الآخرين، فيخرج رقعة أخرَى باسم أحد الآخرين، فلا يقع تفريق عَلَى أنه يمكن أن يُقَالَ: يبدأ باسم صاحب السُّدس، فإن خرج باسم الجزء الأول دفع الأول إليه، وإن خرج السادس، دفع إليه السادس، ثم يخرج باسم أحد الآخرين، فلا يقع تفريق، وإن خرج له الثالث، دفع إليه، وتعيَّن الأول والثاني لصاحب الثلث، والثلاثة الأخيرة لصاحب النصف، وإن خرج له الرابعُ دفع إليه، وتعيَّن الخامس والسادس لصاحب الثلث والثلاثة الأولَى لصاحب النصف. ويمكن أن يبدأ باسم صاحب الثلث، فإن خرج له الأول أو الثاني، دفع إليه الأول والثاني، وإن خرج الخامس أو السادس، دفع إليه الخامس والسادس، ثم يخرج باسم أحد الآخرين، وإن خرج الثالث، فله الثالث والثاني، وتعين الأول لصاحب السدس، والثلاثة الأخيرة لصاحب النصف، وإن خرج الرابع، فله الرابع والخامس، وتعيَّن السادس لصاحب السدس، والثلاثة الأولَى لصاحب النصف. ولك أن تَقْتَصِرَ عَلَى ثلاث رقاعٍ، وتكتبَ في إِحداها الأوَّلَ والثانِيَ والثالثَ والرابع، وفي الثانيةِ الثانِيَ والثالثَ والرابعَ والخامِسَ، وفي الثالثةِ الثالِثَ والرابعَ والخامِسَ والسادِسَ، ويخرجها على أسمائهم، فإن خرجت الأولَى أولاً لِزَيْدٍ صاحب النصف الثانية، أو الثالثة لعمرو صاحب الثلث، فلزيدٍ الأولُ والثانِي والثالثُ، ولعمرو، الرابعُ والخامسُ، وللآخَرِ السادسُ، وكذا الحكْمُ، لو خرجت الثالثةُ أولاً لعمرو، فإنه لا يمكن أن يُعْطَى الثالث والرابع؛ لأنه يتفرَّق ملك زيد، فيُعْطَى الرابع والخامس، وحينئذٍ، فيتعين السادس للثالث، والثلاثة الأولَى لزيد، وإن خرجت الأولَى لزيد، ثم الثانية أو الثالثة للثالث، فلزيدٍ الأولُ والثاني والثالث والرابع، ولعمرو الخامسُ والسادسُ، وإن خرجتِ الثانيةُ لزيدٍ أوَّلاً، فله الثاني والثالث والرابع، ويتعيَّن الأول والثالث والخامس والسادس لعمرو، وكذا لو خرجتِ الأولَى للثالث، ثم الثانية لعمرو؛ لأنه لا يمكن أن يُعطَى الثالث والرابع، وكذا لو خرجت الأولَى للثالث، والثانية لزيد، وإن خرجت الأولَى لعمرو، والثانية أو الثالثة لزيدٍ، فلعمروٍ الأولُ والثاني، ولزيدٍ الثالثُ
والرابع والخامسُ، ويتعيَّن السادسُ للثالثِ، وإن خرجتِ الأولَى، لعمرو، والثانية للثالث، فلعمرو الأولُ والثاني، والثالثُ للثالث، ولزيدٍ الثلاثةُ الأخيرة وإن خرجت الأُولَى للثالث، ثم الثانيةُ لعمرو، ثم الثالثة لزيدٍ، فللثالث الأولُ، ولعمرو الثانِي والثالثُ، ولزيدٍ الثلاثةُ الأخيرةُ، وضابط هذه الطريقة أن يُعْطَى مَنْ خرجت رقعةٌ باسمه قَدْرَ حقه، فيما فيها الأول، فالأول فإن تعذَّر، فهما بعد الأول للأقرب فالأقرب، والغرض قد يَحْصُلُ بإخراج رقعةٍ واحدةٍ، وقد يحتاج إلَى رقعتين، وهو الأغلب كما تفصل وكما يجوز القسمة بالرقاع المدرجة في البنادق، ويجوز بالأقلام والعِصِيِّ ونحوها، وإذا أثبت صورة القسمة، فمتى امتع أحد الشركاء من نوع القسمة الذي نحْنُ فيه، وهو قسمة المتشابهات، فيجبر عليها سواءٌ كانتِ الأنصباءُ متساويةً أو متفاوتةً، ونقل القاضي ابنُ كج عن أبي الحُسَيْن، عن ابن أبي هُرَيْرة أنه لا إجْبَارَ عنْد تفاوُتِ الأنصباء، لأنَّه لا يمْكِنُ أن يدفع إلَى صاحب السُّدُسِ الجزء الثاني ولا الجزء الخامس ولا إلى صاحب الثالث والرابع وإنما يَحْصُلُ الإجبار، إذا استوى الشركَاءُ في احتمال أخذ كل واحدٍ من الأجزاء، والمذهب الأوَّلُ. وقوله في الكتاب "إن الإِجبار إنَّمَا يجري في قسمة الإفراز أراد بقسمة الإفراز هاهنا قسمة المتشابهات، وفي كونها إفرازاً أو بيعاً خلاف سيَأتِي من بعد، لكنَّ صاحبَ الكتاب رأَى الأصحَّ أنَّهَا إفرازٌ عَلَى ما نص عليه في "كتاب الرَّهْن" فسمَّاها "قسمة الإِفراز" لذلك. وقوله: "ويبقى الانتفاع" أشار به إلى أن الإِجبار مشروطٌ ببقاء المنفعة بعد القسمة، ليخرج الطاحونة والحمَّام الصغرين عَلَى ما فَصله آخراً. وقوله: "أو كالكرباس والأرض" يعني: الأرض المتشابهة الأجزاء. وقوله: "بِحَسَبِ أقل الأجزاء" يعني أقل الأنصباء إذا كانت متفاوتةً. وقوله: "وتُكْتَبُ أسامي المُلاَّك" يمكن إعلامه بالواو، لما مرَّ أن في طريقه يثبت الأجزاء في الرقاع، وكذا قوله "على ثلاث رقاع" لقول من قال: إنه يثبتها في ست رقاع، وكيفيَّةُ إدراج الرقاعِ وإخراجِها علَى الوجه المذكور لا يختصُّ بقسمة المتشابهات، بل هي في قسمة التعديل، إذا عُدِّلَتِ الأجزاءِ بالقيمة كذلك وقوله في مسألة الطاحونة والحمَّام "لا يجبر" معْلَمٌ بالميم والواو. وقوله: "فلا يجاب" معلم بالحاء والميم، والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَرْعٌ: إِذا ادَّعَى غَلَطاً فِي قِسْمَةِ الإِجْبَارِ لَمْ يُسْمَعْ عَلَى قَسَّامِ القَاضِي دعْوَاهُ وَلاَ تَتَوجَّهُ اليَمِينُ، لَكِنْ إِنْ أَقَامَ البَيِّنَةَ أُعِيدَتِ القِسْمَةُ، وَإِنْ كَانَ قِسْمَةُ التَّرَاضِي وَقُلْنَا: إِنَّهُ بَيْعٌ وَجَرَى لَفْظُ مِلْكٍ فَلاَ يَنْفَعُهُ الغَلَطُ بَلْ هُوَ كَالغَبْنِ لاَ يُوجِبُ؛ النَّقْضَ، وَفِيهِ
وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يُنْقَضُ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ إِفْرَازِ فَتَوجَّهُ اليَمِينُ وَيُنْقَضُ عِنْدَ قيَامِ البيِّنَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قسم قَسَّام القاضي بالإِجبار، ثم ادَّعى أحد الشريكين غلَطاً أو حَيْفاً، نُظِرَ؛ إن لم يبيِّن ما يزعم به الحَيْف أو الغَلَط، ثم يُلتفتْ إِلَى قوله، وان بيَّنَه، لم يُمكَّن من تحليف القَسَّام، كما لا يُحلَّف القاضي عَلَى أنه لم يَظْلِم، والشاهِدُ عَلَى أنه لم يكْذِب، ولكن إذا لو أقام بينته، سُمِعَتْ ونُقِضَتِ القسمة، كما لو قامتِ البينةُ عَلَى ظلم القاضي، وكذب الشهود، وقال الشيخ أبو حامد وغيرُه: وطريقه أن يحضر قاسمَيْن حاذقَيْن؛ لينظرا ويمسحا؛ ليعرفا الحال ويشهدا، وألحق أبو الفرج السرخسيُّ بقيام البينة ما إذا عرف أنه يستحقُّ ألف ذراع، ومسح ما أخذه، فهذا هو تسعمائة ولو لم تقُمْ حجة، وأراد تحليف الشريك، مُكِّن منه، فإن نكَلَ، حلَف المدعي، ونقضت القسمة، ولو حلف بعض الشركاء، ونكل بعضُهم، فحلف المدعي، لنكول بعضهم، قال في "الوسيط" تنقض القسمة في حقِّ الناكلين دون الحالفين، ولا يطالب الشريك بإقامة البينة عَلَى أن القسمة الجارية عادلةٌ؛ اكتفاءً بأن الظاهر الصواب، وفي كتاب القاضي ابنِ كج: أن أبا الحُسَيْن ذكر أن ابْنَ أبي هريرةَ حَكَى قولاً أنَّ علَى الشريك البيِّنةَ عَلَى أنها عادلةٌ، وأنَّ مدعي الغلط لا يحتاج إلى البينة، وأن أبا إسحاقَ فصَّل؛ فقال: إن قال مدَّعى الغلط: إن القَسَّام الذي قسَّم لا يحسن القسمة ولا يعرف المساحة والحساب، فالأصل ما يقوله وعلى صاحب البينة، وإن قال: إنَّهُ سها، فعليه البينة، ولو اعترف القَسَّام بالغلط أو الحيْف، فإن صدقه الشركاء، نُقِضَتِ القسمةُ، وإلا، لم يُنْقَضْ، وعليه ردُّ الأجرة، قال فى "التهذيب": وهو كما لو قال القاضي: غلطت في الحكم أو تعمَّدت الحيف، فإن صدقه المحكومُ له، استرد المال، وإلا، لم يستردَّ، على القاضي الغرم، وأما إذا جرتِ القسمةُ بالتراضي، فإن نَصَبَا قَسَّاماً أو اقتسما بأنفسهما، ثم ادعَى على أحدهما غلطاً، فإن لم نعتبر الرضا بعد خروج القرعة، فالحكم كما إذا ادَّعى الغلط في قسمة الإِجبار، وان اعتبرناه وتراضيا بغد خروج القرعة، ففي الكتاب أنه مبنيٌّ على أن القسمة بيع أو إفراز حق؟ إن قلنا: إنَّهَا إفراز حق فالإِفراز لا يتحقَّق مع التفاوت، فتنقض القسمة، إن قامت على البينة، ويحلف الخصم، إن لم تقُمْ، وان قلنا: بيعٌ، فوجهان: أحدهما: أن الجواب كذلك؛ لأنهما تراضَيَا لاعتقادهما أنَّها قسمة عَدْلٍ. وأظهَرُهُمَا: أنه لا فائدة لهَذِهِ الدعْوَى، ولا أثر للغلط وإن تحقَّق كما لا أثر للعين في البيع والشراء، وهذا ما أجاب به أكثرهم؛ كأنهم اقتصروا على الجواب الأرجح. وقوله في الكتاب "وجرى لفظ ملك" ظاهره يشعر باعتبار لفظ البيع أو التمليك، ويقرب منه عبارته في "الوسيط": "لكنا إذا جعلْنا القسْمة بيعاً لا يُشْتَرط لفْظُ البَيْعِ والتمليكِ" وذلك يرجع إلى ما حكينا من اعتبار الرضا بعد خروج القرْعة، ويتبين ما لكل واحدٍ من الشريكين والله أعلم.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ ظَهَرَ دَيْنٌ بَعْدَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ نُقِضَتْ إلاَّ إِذَا وَفَّوْا بِالدَّيْنِ، وَقيلَ: إنَّهُ يَتَبَيَّنُ البُطْلاَنَ بِكلِّ حَالٍ، وَلَوِ اسْتَحَقَّ بَعْضَ المَالِ شَائِعاً انْتَقَضَ فِي المُسْتَحَقِّ دُونَ البَاقِي، وَقِيْلَ يَنْتَقَضُ لِتفُرُقِ الصِّفَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قسمت التركة بين الورثة، ثم ظهر دَيْنٌ، فإن جعلنا القسمة إفراز حق فهي صحيحة، ثم يباع الأنصباء في الدين، كان جعلناها بَيْعاً، فقد ذكرنا في "كتاب الرَّهْن" وجهين في بيع الوارث التركة قَبْلَ قضاء الدَّيْن، وبيَّنَّا أنه لو تصرف ولا دَيْنَ ظاهراً، ثم ظهر دين، فالأظهر صحَّة التصرف، ففي القسمة ذلك الوجهان، إن رجَّحنا البيع، فالقسمة الجارية صحيحةٌ، فإن وفوا الدَّيْن، استمرت، وإلا نُقِضَت، وبيعت التركة في الدَّيْن، كان لم تصحَّح، فالقسمة باطلةٌ، ولو جرت قسمة، ثم استحق بعض المقوم، فإما أن يُسْتَحَقَّ جزءٌ شائعٌ أو شيءٌ معيَّنٌ، إن استحق جزءٌ شائعٌ كالثلث، فتَبْطُل القسمة في المستحَقِّ، وفي الباقي طريقان، قال ابن أبي هريرة: إنَّه علَى الخلاف في تفريق الصفْقَة، ففي قول: يبطل فيه أيضاً، وفي قول: يصحٍ، ويثبت الخيار، وهذا ما أورده في الكتاب، وبه أخذ أكثرهم، وقال أبو إسحاق: تبطل القسمة قولاً واحداً، إذ المقصود من القسمة تمييز الحقوق، وإذا ظهر الاستحقاق كانَ المستحقُّ شريكَ كل واحدٍ منهم فَلاَ يحصُلُ التمييز، وأيضاً، فقَدْ بَانَ أَنَّ المستحِقَّ شريكٌ وانفراد بعض الشركاء بالقسمةِ ممتنعٌ، وبهذا أجاب القاضي الرُّوَيانِيُّ في "الحلية" كان استُحِقَّ شيءٌ معين، نُظِرَ، إِن اخْتَصَّ المُسْتَحِقُّ بنصيب أحدهما أو كان المُسْتَحَقُّ من نصيب أحدهما أكثر، بَطَلَتِ القسمة؛ لأنَّ ما يبقى لكل واحدٍ لا يكونُ قدْرَ حقِّه بل يحتاجُ أحدهما إلى الرجوع على الآخر وتعُودُ الإشاعةُ، كان كان المُسْتحَقَّانِ متماثلَيْنِ، بَقِيَتِ القسمةُ في الباقي وفيه وجه آخر: أنَّهَا تبطُلُ لِمَعْنى التفريق، ولو ظهرتْ وصيَّة بعْد قسمة التركة، فَإنْ كانت مُرْسَلَةَ، فكما لو ظهر دَيْن في التركة، وإن كان بجزءٍ شائع أوْ معين، فعلَى ما ذكرنا، في الاستحقاق، واعلم أَنَّ ظهورَ الدَّيْنِ والاستحقاق لا يختص بقسمة المتشابهات وكذلك دَعْوَى الغلط على ما تبيَّن في الفصل السابق، ولو أورد هذه الصورةَ بعْدَ عَدَّ أنواع القسمة كُلِّهَا، لكان أحسن والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَمَّا قِسْمَةَ التَّعْدِيلِ: فَفِي الإجْبَارِ عَلَيْهَا وَجْهَانٍ وَهُوَ أَنْ يُخَلِّفَ عَلَى ثَلاَثةَ بَنِينَ ثَلاَثةَ أعْبُدٍ مُتَسَاوِي القِيمَةِ أَوْ عَبْداً وَطَاحُونَةً وَحَمَّاماً أَوْ أَقْمِشَةً يُمْكِنُ تَعْدِيلُ سِهَامِهَا بِالقِيمَةِ، أَمَّا إِذَا خَلَّفَ قِطَعَ أَرْضٍ يَقْبَلُ قِسْمَةَ الإِفْرَازِ فَلاَ يُجْبَرُ فِيهَا عَلَى قِسْمَةِ التَّعْدِيلِ أَصْلاً، وَلَوْ كَانَ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ عَرَصَةٌ وَالثُّلُثُ بالمِسَاحَةِ نُصِّفُ بِالقِيمَةِ لِقُرْبَهِ مِنَ المَاءِ فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلاَ يُنْظَرُ إِلَى ذَلِكَ، وَالدَّارُ المُخْتَلِفَة الأَبْنِيةِ مِنْ جَمْلَةِ قِسْمَةِ التَّعْدِيلِ، وَاللَّبِنَاتُ المُخْتَلِفَةُ القَوَالِبِ كَذَلِكَ، فَإِنْ تَسَاوَتَ القَوَالِبُ فَيُجْبَرُ.
قَالَ الرَّافِعيُّ: النَّوعَ الثاني: قسمة التعديل والشيء الذي تُعَدَّلُ سهامهُ بالقيمةِ ينْقَسِمُ إلى ما يُعَدُّ شيئاً واحداً وإلَى ما يُعَدُّ شيْئين فَصَاعداً. القِسمُ الأَوَّلُ: ما يُعَدُّ شيئاً واحداً؛ كالأرض التي تختلفُ قِيمَةُ أجزائها؛ لاختلافها في مدة الإِنبات وفي القُرْب من الماءَ والبعد منه أو في أنَّ بعضها يُسقَى من النهر، وبعضَها من النضح؛ فيكونُ ثلثُها لِجَوْدَتِهِ بِالقيمة مثْلَ ثلثها مثلاً فيُجْعَلُ هذا سهماً وهذا سَهْماً، إن كانتْ بينهما بِالسَّويَّةِ، فإِن اختلفتْ الأنصباءُ، كنصفٍ وثُلثٍ وسُدُسٍ؛ فيجعل ستة أسهم بالقيمة دون المساحة، وإِذَا طلب أحد الشريكَيْن القسْمَةَ، فهل يُجابُ إلَيْه، ويُجْبَرُ الممتنع؟ فيه قَوْلاَنِ: أحَدُهُمَا: نعم؛ إلحاقاً للتَّساوِي في القيمة بِالتساوِي في الأجزاء. والثاني: لا؛ لاختلاف الأغراض والمنافع، وإذا قلْنا بالإجبار، فأجرة القسَّام توزَّع بحَسَب الشركة في الأصل أو بحسب المأخُوذِ قلَّةً وكثرةً؟ فيه وجهان: أقريهما الثاني: لأنَّ العمَلَ في الكثير أكثر، واعلَمْ أن الخلاف في الإجبار كما أنه يجْرِي فيما إذا كان اختلاف الأجزاء لاخْتِلافِ الصفات يَجْرِي فيما إذا كان (¬1) الاختلاف لاختلاف، الجنس؛ كالبستان الذي بعْضُه نخيلٌ، وبعضُه كَرْمٌ، والدَّارُ المبنيُّ بعضُها بالآجُرِّ، وبعضُها بالخشب والطين، فإنَّ صاحبَ "التهذيب" رجَّح من القولَيْن منع الإِجبار؛ لكنّ أصحابنا العراقيين وغيرَهم رجَّحوا الإجبار، ولو لم يقل بذلك؛ لامتنع الإجبار في البُسْتان المشتمل على الأشْجَار المختلفة، وفي الدار المشتملة على الحِيطَان والأجذاع والأبواب، وهو شأن البساتين والدُّورِ غالباً، وينجرُّ ذلك إلى ألاَّ يثبت فيها الشُّفْعة؛ كالطَّاحونة والحمَّام، ومعلومٌ بعده وأنه يشبه أن يكونَ الخلافُ في الإجْبار مخصوصاً بما إذا لم يمكنُ قسمةُ الجيِّد وحْده، وقسْمةُ الرديءْ وحْده، وإن لم يكن الخلاف مخصوصاً به فان أمكن أن يُقَسَّم كلُّ واحد منْهما وحْده، فلا يُجْبر على قسمة التعديل، كما لو كانا شريكَيْن في أرضَيْن، يمكنُ قسْمةُ كلِّ واحدةٍ منهما بالأجزاء لا يَجْرِي الإِجبارُ على التعديل. القسمُ الثاني: ما يُعدُّ شَيئَينِ فصاعِداً، ولنتكلمْ في العَقَار ثم في غيره. أما العَقَارُ، فإذا اشتركا في دارَيْن (¬2) أو في حانوتَيْن مُتَسَاوِينَ، القيمَةِ، وطلب أحدُهُما القسمةَ بأنْ يجعل لهذا داراً، ولهذا داراً، لم يُجْبر صاحبُه، سواءٌ تجاوز ¬
الحانوتان والدارُ أو تباعدَا؛ لشدَّة اختلاف الأغراض باختلاف المحال والأبنية، فيلحقان بالجنسَيْن المختلفَيْن، وعن مالكٍ: أنه يُجْبَرُ عند المتجاوز، وعن أبي حنيفةَ: أنه يُجْبَرُ، إن كان إحدى الدارَينْ حجرةً للأخرَى، وفي "الرقْم" للعباديِّ وجْه: أنه يُجبر عمن غير فرْقٍ بين التجاوُر والتباعُد، ولو كانت بينهما دكاكِينُ صغارٌ متلاصقةٌ، لا يَحْتَمِلُ آحادُها القسمةَ، ويقَالُ لها العضايدُ، وطلب أحدهُما أن يقسم هل يجبر الممتنع فيه وجهان: أحدُهما: لا، كالدُّور، وكما لو كانت متفرقة. وأصحُّهُما: على ما ذكره القاضي الرويانيُّ وغيره: نعم، للحاجة، فينزَّل منزلة الجدار المشتمل على البُيُوت والمساكن، هكذا صوَّر هذه الصورةَ أكْثَرُ ناقليها، وهو القديم، وصوَّر صاحبُ "المهذب" فيما إذا احْتَمَلَتْ كلُّ واحدة منْهما القسمةَ، وحَكَى وجهَيْن فيما إذا طلب أحدُهما قسمتها أعياناً، والآخرُ قسمة كلِّ واحدة منْهما، يُجاب الأول؛ إلحاقاً لها بالدَّار المشتملة على البيوت، والثاني؛ إلْحاقاً لَهَا بالدّوْرَ، وأما الأقرحة (¬1)، إن كانَتْ متفرقة، فهي كالدُّور، كان كانت متجاورةً، ففي "الشامل"، أن أبا إسحاق نَزَّلها منزلة القراح الواحدِ المختلِف الأجْزاء وأنَّ غيره قال: إنما يكون القراح الواحدِ، إذا اتحد المشِّرْب والطريق، فإن تعذر، فهو كما لو تفرَّقت، وهذا أشبه بكلامِ الشافعيِّ -رضي الله عنه-. وأما غَيْرُ العَقَار، فهذا اشتركا في عَبِيدٍ أو دواب أو أشجار أو ثياب، فإما أن يكون من نوعٍ واحدٍ أو لا يكون. الحالةُ الأولَى: إذَا كانت من نوعٍ واحدٍ، وأمكن التسوية بين الشريكَيْن عدداً أو قيمة كعبدين متساوي القيمة بين اثنين، وكثلاث دوابَّ متساويةِ القيمةِ بين ثلاثة فظاهر المذهب: أنه يُجْبَرُ على صحة قسمتها أعياناً، ويُكْتَفى بالتساوِي في القيمة بخلافِ الدُّور، لشدَّة اختلاف الأغراض فِيها، وعن أبي عليٍّ بن خيران وابن أبي هريرة: أنها كالدُّور، وحَكَى ابنُ الصَّبَّاغ القَطْعَ في العبيد بجواز الإجْبار، كما جزَّأ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- العبيدَ الستة الَّذين أعْتَقَهُمُ الأنصاريُّ -رضي الله عنه- في مرضِهِ ثلاثةَ أجزاءٍ (¬2)، وخصَّ الخلافَ بغَيْر العبيد، وعن أبي حنيفة أنه لا إجْبَار في العبيد ولا في الخيل والإبل، وإنْ لم يمْكِنِ التسوية في العدَدِ؛ كثلاثة أعبد من اثْنَينِ علَى السواء؛ أحدُهم يساويَ الآخَرْين في القيمة، فإِن قلنا بالإِجبار عنْد إمكان التسوية، فهاهنا قولان: يُنْظَر في أحدهما إلَى ¬
تعادل القيمة، وفي الثاني إلى اختلاف العَدَد وتفاوتِ الأغراض بذلك، وهذان القولان كالقولَيْن في الأرض المختلفة الأجزاء؛ لإِلحاقنا الأعيان المتماثلة بالأرْض المتشابهة الأجزاء، فإن كانت الشركةُ لا ترتفعُ إلاَّ عنْ بعْض الأعيانِ؛ كعبدَيْنِ بَيْن اثْنَيْنِ، قيمةُ أحدِهِما مائةٌ، وقيمةُ الآخرِ مائتان وطلب أحدهما القيمةَ؛ ليختصَّ مَنْ خرجت له قرعة الخَسيس بالخسيس (¬1)، ويكون له مع ذلك رُبُعُ النفيس، فهذا يترتَّب على الصورة السابقة، فإنْ قلنا: لا إجبار هناك فهاهنا أولَى، وإنْ قلنا بالإجبار هناك فهاهنا وجهان أو قولان، والأصَحُّ المنْعُ؛ لأنَّ الشركةَ لا ترتفعُ بالكلِّيَّةِ. الحالةُ الثانيةُ: إذا لم يكُنِ الأعيان من نَوْعٍ واحدٍ بل كانت أنواعاً من جنْسٍ واحدٍ؛ كالعبد التركِّي مع الهنديِّ، وثوب الإبريسَم مَعَ الكَتَّانِ أو كانَتْ أجناساً مختلفةً، كالعَبد والثوب والحنطة والشعير والدابَّة والدار، فَطلب أحدهما أن يُقسِّم أنواعاً وأجناساً، فلا يُجْبَرُ الآخر، وإنما يُقَسَّم كذلك، إذا تراضَيَا، ولو اختلفتِ الأنواعُ، وتعذَّر التمييز، كالتمر الجيد مع الرديء، فلا قسمة إلاَّ بالتراضي، هذا ما أورده الجمهور، وقَطعوا به وأجْرَى أبو الفرج السرخسيُّ عند اختلافِ النَّوْع الخلافَ في الإجْبار، وزاد الإمامُ وصاحبُ الكتاب فأجْرَيَاه عند اختلاف الجِنْس، والصحيحُ الأول. ونعود الآن إلَى ما يتعلَّق بلفظ الكتاب. قوله: "وهي أن يحلف على ثلاثٍ بيْنِ ثلاثةِ أعبْدُ" لا يخفى أن هذا لَيْسَ تفسيراً لقسْمةِ التعديلِ، وإنما هو مذكورٌ عَلَى سبيل التمثيل. وقوله: "أو عبَداً" أو طاحونة وحماماً ينبغي أن يُعْلَمَ بالواو؛ لأنَّه عَدَّ هذه الصورةَ من قسمة التعديل مع اختلاف الجنْسِ فيها، والمشهورُ خلافُه، كما عرَفْتَ. وقوله: "أما إذا خلف قطع أرض يقبل قسمة الإفراز فلا يُجبر فيها على قسمة التعديل" يمكن إعلامُهُ بالواو؛ لأن الفورانيَّ أشار فيه إلَى خلافٍ، وهو كما حكَيْناه عن رواية العبَّاديَّ في الدارَيْن. وقوله: "وإن كان بين شريكين عَرَصَةٌ، والثُّلُثُ بالمساحةِ نُصِّفَ بالقيمة، لقُرْبهِ من الماء؛ فيُجْبَر، ولا يُنْظَر إلَى ذلك" أراد به أنه يجبر على هذه القسمة (¬2) ولا يُخُرَّج على الخلاف السابق، وهكذا ذكره في "الوسيط" لكنَّه غيرُ مسلَّم؛ بَلِ المفهوم من كلام الأصحاب تصريحاً وتلويحاً، أن هذه الصورة من قسمة التعديل. وقوله: "والدار المختلفة الأبنية" مِنْ جُمْلة قسْمَة التعْدِيل اختلافُ الأبنية، إن كان ¬
لاختلاف المبْنَى به، كالآجر مع اللَبن، فلا كَلاَم في أنَّ قِسْمَتَها من جمْلَةِ قِسْمةِ التَّعْدِيل، وإن كان لاختلاف هيئات البناء وأشكالها، وسعتها، وضيقها، فعَنْ بعْضِهِم أنَّ الجواب كذلك، قال الأِمام: إذا كَانَ في شَرْقيِّ الدار صفة وبيت، وكذلك في غرْبها وتأتيَّ تبعُّضُ العَرَصة، فقد اشْتمل كلُّ حصة عَلَى مِثْل ما اشتملَتْ عليه الأخْرَى، فيجوز أنْ يُقَالَ يجري الإِجبار عَلَى مثل هذه القسمة، ولا يختلفُ الأمر باختلافِ الجِهَةِ فاغتفر تماثلُ الحصتَيْن في الأبنية، ومنْهم من قطَع بالإِجْبار مع اختلاف أشْكَال الأبنيةِ وهيئاتها، والقياس الأول. وقوله: "واللبنات المختلفة القوالب كذلك" يعني أنَّه إذا اختلفت القوالبُ تختلف الأغراضُ، فيجيء الإِجْبار على القسْمَة، وفيه الخلاف، أما إذا تساوَتْ، كانَتْ كالمتشابهات، فيُجْبَر فيه على القسمة. فَرْعٌ: دارٌ بين اثْنَيْنْ، لها علُوٌّ وسفل، فطلب أحدُهُما قسمتها علواً وسفلاً، أجْبِر الآخر عنْد الإمكان، وإن طلب أَحدُهُما أنْ يُجْعَلَ العُلُّو لواحدٍ، والسفلُ لآخر، لم يُجْبَر عليه، هكذا أطلقوه، ووجَّهُوه بأن العُلَّو تابعٌ، والسَّفل متبوع، فلا يجوز أن يجعل أحد النصيبين تابعاً، والآخر متبوعاً، وبأن العُلوَّ مع السفل كدارَيْنه متلاصقتَيْن؛ لأن كل واحدٍ منْهما يَصْلُح أن يُتَّخذ مسكناً، ويجوز أن يُقَالَ: "إن لم تكن القسمة سفلاً وعلواً، يجعل السَّفَل لأحدهما، والعُلوّ للآخر من جمْلة قسْمة التعديل، وإنْ طلب أحدهما أن يقسم السَّفَل بينهما، ويترك العُلوّ على الإِشاعةِ، لم يُجْبَر الآخر عليه؛ لأنهما قد يقسمان العُلوَّ بعد ذلك، فيقَعُ ما فوق نَصِيبِ هذا من السَّفَل لذلك. قَالَ الْغَزَالِيُّ: أمَّا قِسْمَةُ الرَّدَّ وَهُوَ أَنْ يُخَلِّفَ عَبْدَيْنِ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا أَلْفٌ وَقِيمَةُ الآخَرِ سِتُّمَائَةٍ فَلوْ رَدَّ آخِذُ النَّفِيسِ مَائَتَيْنِ اسْتَوَيَا وَلاَ إجْبَارَ عَلَى هَذَا أَصْلاً، وَلَوْ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالخَسِيسِ وَخُمْسِ النَّفِيسِ لِتَزُولَ الشَّرِكَةُ عَنْ أَحَدِ العَبْدَيْنِ اسْتَوَيَا وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لاَ يُجبَرُ عَلَيْهِ؛ لأنَّ أَصْلَ الشَّرِكَةِ قَائِمٌ، وَقِيلَ: إنَّهُ كَقِسْمَةِ التَّعْدِيلِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: النوعُ الثَّالِثُ قسمةُ الردِّ، وصورتُها أن يكون في أحدِ جانِبَي الأرضِ بئر أو شجر أو في الدارِ بيْتٌ لا يمكنُ قسمتُه، فتضبط قيمة ما اختص به ذلك الجانبُ، فتقسم الأرضُ والدارُ عَلَى أنه يَرُدَّ مَنْ يأخذُ الجانبَ الذي فيه البئرُ، أو الشجرُ، أو البيتُ، تلْك القيمةَ، وهذا لا إجبار عليه؛ لأنه دخَلَه ما لاَ شَرِكَةَ فيه، وكذلك لو كان بينهما عبدانِ بالسوية، وقيمةُ أحدهما ألْفٌ، وقيمةُ الآخَرِ ستُّمائةِ واقتسما عَلَى أن يردَّ آخذ النَّفِيس مِائتَيْنِ، استويا، هذَا هو المشْهُور، وفي "أمالي" أبي الفرج أن من أصحابنا من خَرَّج قولاً مأخوذاً من الخلاف فيما إذا كان بَيْنَهما عبدان، قيمةُ أحدهما ألْفٌ، وقيمةُ
الآخرِ ستُّمائةٍ، فطلب صاحب أحدهما القسْمَةَ، ليخلُصَ الخسيس (¬1) لأحدهما، وهذه الصورةُ هي التي ذكرَها صاحِبُ الكتاب في الأثر، وقد أدْرَجْناها في الفَصْل السَّابِق، وحاصِلُ ما فيها طريقانِ، كما في الكتاب: أحدهما: القطْع بأنَّه لا إجْبَار. وثانيهما: أنَّه على الخلافِ في قسْمة التَّعْديل، لكنَّ إطلاق القْولِ بالترْجِيح بعيدٌ؛ لأنه لا ردَّ في تلْكَ الصُّورة، ولا تصرُّف إلا في المشتَرَكِ بخلاف ما نَحْنُ فيه، ولو لَمْ يكن ردٌّ، ونزل ما فيه الفصْل على الإِشَاعَةِ، فالصورةُ كالصّورة، وكذلك قال بعضْ المتلقَّين عن الإِمام: لا يجري الإِجبارُ في قدْر الردِّ، والمثل في الباقي إلى المَنْع، فأشار إلَى تخصيصِ الخِلاَف بما وراء قدْرِ الرَّدِّ، وإذا حَصَل التَّراضِي عَلَى قسْمة الرَّدِّ، فيجوز أن يتَّفِقا عَلَى مَنْ يأخُذ النَّفِيس، ويَرُدُّ ويجوز أن يُحَكَّمَا القُرْعة، ليرُدَّ من خرج له النَّفِيسُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: ثُمَّ قِسْمَةُ المتَشَابِهَاتِ بَيْعٌ أَوْ إفْرَازُ حَقَّ فِيهِ قَوْلاَنِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ قِسْمَةَ التَّعْدِيلَ بَيْعٌ، وَقِيلَ قَوْلاَنِ، ثُمَّ بَجِبُ الرِّضَا حَيْثُ لاَ يُجْبَرُ، وَيَكفِي قَوْلُهُ: رُضِيتُ بَعْدَ خُرُوجِ القُرْعَةِ، وَالرِّضَا قَبْلَهُ هَلْ يَكْفِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلاَ يَكْفِي مُجَرَّدُ قَوْلهِ رَضِيتُ مَا لَمْ يَقُلْ: رَضِيتُ بِالقِسْمَةِ أَوْ قَاسَمْتُ إِنْ قُلْنَا إنَّهُ بَيْعُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصل قاعدتان: إحداهما: قسمة المتشابهات إفرازُ حقٍّ أو بيع؟ فيه قولان: أحدُهما: وبه قال أحمد: أنها إفرازُ حقٍّ؛ لأنَّها لو كانَتْ بيعاً، لَمَا دخَلَها الإِجْبَار، وفي الإِجْبَارِ الاعتمادُ على القُرْعة، ومعنى قولِنا: "إفراز" أن القسمة تبيِّن أن ما خرج لكلِّ واحدٍ منْهما هو الذي ملَكَه. والثاني: أنَّهَا بَيْع؛ لأنه ما مِنْ جزءٍ من المال إلاَّ، وكَانَ مشتركا بَيْنَهُما، فإذَا اقْتَسَمَا، فكأنَّهُ باعَ كُلُّ واحدٍ منْهما ما كان له في حصَّةِ صاحبه في بما في حصَّته، وما الأصحُّ من القولَينْ وما محلُّهما. أمَّا الأصحُّ، فقدْ ذكر صاحبُ "التهذيب" وآخرون: أن الأصَحَّ كونُها بيعاً، واعتذر عن دخول الإِجْبَار فيها بالحاجَةِ الداعية إلَيْه، وذلك لا يُخْرِجُها عَنْ كونها بَيْعاً، كما أن الحاكِمَ يبِيعُ مال المدْيُون قهراً وإجباراً، وذكر صاحبُ الكتابِ في "باب الرهْن": أن ¬
الأصحَّ جَعْلُها إفْرازاً ويوافِقُه جوابُ الأصحاب في مسائِلَ متفرِّقَة تتفرَّع على القولَيْن (¬1)، وذكر في "العدة" أن الفتوَى عليه، وأما المحلُّ، ففيه طريقان: أحدُهُما: أن القولَيْن فيما إذا جرَتْ هذه القسْمةُ بالإجبار، أما إذا جرتْ بالتراضِي، فهي بَيْعٌ لا محالة. والثاني: أنَّهما مطَّرِدان، إن جرتْ بالتراضي أو بالإِجبار، أو حَكَى الطريقَيْن صاحبُ "التهذيب". وقال: الأصحُّ الأولُ (¬2)، واعلم أنَّ القَوْل بأنَّ القسمةَ بيْعٌ لا يُمْكِنُ إجراؤُه عَلَى إطلاقه؛ لأن النصْفَ الأيمن الذي يأخذُهُ زيْدٌ كما أنه لمْ يكنْ كلُّهُ لزيدٍ، حتى يُقَالَ: القسمة إفرازٌ، والنصفُ الأيسر لم يكن كلُّه له، حتَّى يُقَالَ: إنه باعَه من عمرو بل النصْفُ الذي أخَذَه، كان نصُفُه له، ونصْفُه لصاحِبه، فالقسمةُ إفرازٌ، فيما كان له فيه، وبَيْعٌ فيما كان لصاحِبِهِ، وأما قسْمَةُ التعْدِيلِ، ففيها طريقان: أحدُهُمَا: طرْدُ القولَيْنِ، وهو قضيَّةُ إيرادِ صاحب "المهذب" وأبي الحَسَنُ العبَّادِّي أيضاً. والثاني: القطْع بأنَّها بيْعٌ، وهو الأصحُّ عند صاحبِ الكتابِ، وحَكَى الصيدلانيُّ ¬
الطريقَيْن عن القفَّال الثاني منهما حفْظاً، والأولُ عن كتابه ويُشْبه أن يكونا مبنيَّيْنَ عَلَى قسمة التعديل، هل يُجْبَرُ عليها، إن قلْنا: نعم، ففيها القولان، وإن قلنا: لا، فهي بيْعٌ، وخصَّص في "الوسيط" الطريقَيْن (¬1) بقولنا: إنَّ قسمة التعديل يُجْبَرُ عليها، وقال: إذا لم نَقُلْ بالإجبار، فهي بيع لا محالة، وأما قسْمةُ الردِّ، فهي بيع على المشهور، وقيل: هي بيعٌ فيَ القدْرِ الذي يقابل المردودَ، ويجيء فيما وراءه الخلافُ في قسمة التعديل. التفريع: إنْ جعلْنا القِسْمةَ بيعًا، فاَقتسما شَيْئاً من أموالِ الرِّبَا، وجب التقابض في المجْلِس، ولم يجُزْ قسمة المَكِيلِ بالوزْن، والموزُونُ، بالمكيل، ولم يجُزْ قسمةُ الرُّطَبُ والعنب وما أثَّرت فيه النارُ فيه بتعقيدِ الأجزاء، وإنْ جعلْناها إفْرازاً، فالحكُم بخلافه ويجوز قسمة الجَصِّ، والنّورة بالكيل، والوزنِ، علَى القولَيْن، ولا تقسَّم الثمار على رؤوس الأشجار بالخَرْص، إن جعلْناها بيعاً كما لا تُباع خَرْصاً، كان قلْنا: إفرازٌ، فإن كانت ثمرةُ غيرِ النخل والكرم، جازَتِ القسمةُ خَرْصًا، كما يجُوزُ خَرْصُها للفقراء، وإنْ كانتْ بينهما، أرضٌ مزروعةٌ، فأراد قسمةَ الأرْض وحْدها، جاز، وإنْ طَلَبها أحدُهُما أُجْبِر الآخرُ، ويجيء، عَلَى قولنا: إن القسمة بيعٌ، وجهٌ مذكورٌ في البيع، وإن أراد قسمة الأرض وما فيها، لم يجز إن اشتد الحب أمَّا إذا جعلناها إفرازاً، وكذا لو كان بَذْراً، لم ينبت بعْدُ، وإن كان فصيلاً، فيجوز؛ لأنَّه معلومٌ مشاهدٌ، وإنْ أراد قسمةَ ما فيها وحْده، فكذلك الحكْمُ، إن لم يثبت بعْدُ، ولو اشتد الحبَّ، لم يجز، وإنْ كان فصيلاً فيجُوزُ وإن طلب أحدهما قسمة الأرض وما فيها أو قسْمَةَ ما فيها وحْده، وامتنع الآخر، والحالُ حالُ جوازِ القسمة بالتراضي، فالذي ذكره الشيخُ أبو حامد: أنه لا يُجْبرُ الآخر، وعلَى ذلك جرَى صاحبُ "المهذب" و"التهذيب" ولم يوجِّهوه بشيْء يُقْنِع. ولو اقتسم الشريكانِ، ثم تقايلا، فإنْ جعلنا القسمة بيعًا، صحَّت الإِقالة، وعاد الشيوع، وإلا، فهِيَ لاغيةٌ. وقسمة الملْكِ عن الوقف لا تجُوز، إن جعلناها بيعا وإن جعلناها إفرازاً، فيجوز، قال القاضي الرويانيّ: وهو الاختيار (¬2) وقسمةُ الوقف بين الموقوف عليهم، لا تجوزُ على القولَيْنِ لِمَا فيها من تغْيير شَرْط الواقف، وفيه وجه على قَوْل الإفراز؛ لأنه قدْ يشرف على البَوَار، ويريد بعضُهم العمارة، فيبقى غرضُ الواقِف في المعمور، وهذا الوجه حكاه القاضي ابن كج عَنْ أبي الحُسَيْن وحْده، وخصَّصه بقولنا إِن الملْكَ في ¬
الوقْف للموقُوف عليه ثم قال إِن انقرض البَطْنُ الأول، وصار الوقفْ للثاني، انتقضت القسمة. القاعدةُ الثانيةُ: قسمة الإجْبار لا يُعْتبر فيها الرضا، لا عند خروجِ القُرعْة ولا بعد خُروجها، ولو تراضَى الشركاء بقاسِم يَقْسِمُ بينهما، فهلْ يعتبر التراضِي بعْد خروج القرعة أم يكفي الرضا الأولُ؟ فيه قولان كالقولَيْن فيما إذا حكَّما رجلاً، فحكم بينهما والذي يميل إليه كلام المعتبرين: أنَّه يُعْتبر، وذَكروا أنه المنصُوص، وبه أجاب الشيخ أبو حامد فيما إذا اقْتَسَما، وفي قسْمة الردِّ لا بدّ من الرضَا بعْد خروج القُرْعةُ كما في الابتداء، وعن الإصطخرِّي وجْه: أنه يلزمُ بخُرُوج القُرْعة، وإذا اعتبرنا الرضا بعْد خروج القُرْعة، فصيغته أن يقولا: رَضينا بهذه القسمة، أو بما أخرجتْه القرعة، أو بما جَرَى، ولا يُشْتَرط لفظُ البيع وإن جعلْنا القسمة بيعاً، هذا هو الظاهرُ، وفيه وجهان آخران، بناءً على أن القسمة بيع. أحدُهُما: أنه لا بدَّ من لفظ البَيْعِ أو التمليك. والثاني: أنه لا يَكْفِي قولُهُما "رَضِينا بما جرى، أو بهذا" بل لا بدَّ من أن يتلفَّظ بالقسمة، بأن يقولا: "تقاسَمْنا أو رَضِينا بهذه القسْمة" ليؤدَّي معنى التمليك والتملك (¬1)، وهذا الثاني هو الذي أورده بقوله في الكتاب ولا يكفي مجرَّدُ قوله: "رَضِيتُ" ما لم يُقْل: "رضيتُ بالقسمة" إلى آخره. وقوله من قبل "ويكفي قوله: رَضِيتُ بعد خروج القُرْعَة" هو الوجه الظاهر وبينهما مسألةٌ متخلِّلة، وقد يقتضي ظاهرُ نَظْم الكتاب الاكتفاءَ بالرضا بَعْد خروج القُرْعة، والاستغناء به عن الرِّضَا قبله، وهذا الظاهرُ غيْرُ معمول به، بل حَيْثُ يجبُ الرضا، فلا بدَّ منه في الابتداء، والخلافُ في أنه، هل يعتبر في الانتهاءِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: فَرْعَانِ: الأَوَّلُ: القَنَاةُ وَالحَمَّامَ وَمَا لاَ يَقْبَلُ القِسْمَةَ تَجْرِي فِيهَا المُهَايَأَةُ وَلَكِنْ لاَ يُجْبَرُ (و) عَلَيْهَا وَلاَ تَلْزَمُ بَلْ لَهُ الرُّجُوعُ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ فِي الحَالِ أَمْ يَصْبِرُ إِلَى أَنْ يَسْتَوْفِي نَوْبَتَهُ ثُمَّ يَرْجَعِ فِيهِ وَجْهَانِ، فَإن جَوَّرْنَا غُرِّمَ قِيمَةَ مَا استوفْاهُ، وَلَوْ تَنَازَعَ الشُّرَكاء وَأَصَرُّوا تَرَكْنَاهُم وَلَمْ نَبعْ عَلَيْهِمُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: كما أن الأعيان تُقَسَّم، فالمنافعُ تقسَّم، وطريقُ قسمتها المهايأَةُ مُيَاوَمَةً أو مُشَاهَرَةً، أو مُسَانَهَةً، فإن كانتِ العَيْنُ قابلةً للقِسْمة، فلا إجبار فيها على المهايأَة بها بحالٍ، وكذا لو طلَبَ أحدُهما أن يَزْرَع هذا بعْضَ الأرض، وهذا بعْضَها أو ¬
يسكن هذا بعض الدار، وهذا بعضها من غير أن تُقَسّم الأرض، وامتنع الآخر فلا يُجْبَرُ الممتنع عليه، كان لم تكنِ العيْنُ قابلةً للقسمة كالقناة، والحمَّام، والعبد، والبهيمة، فإن اتفق الشريكانِ في منافَعَها على المهايأة، فذاك، وقد يتفقان على من البداية، وقد يتنازعانِ، فتَحْكُمُ القرعة، وإن طلبها أحدُهُما، وامتنع الآخر، فوجهان: أحدهُما، ويُحْكَى عن ابْنِ سُرَيْجٍ: أنه يجبر الممتنعُ كما في قسمة الأعيان، ولئلا يُعَطَّل الشريك على الشريك المال بحاجاً، وعَلَى هذا، فالحكْمُ فيمَنْ يبدأ به القُرْعة، ويجوز أن يكون الحكْمُ في قدرْ النَّوْبة كذلك. وأصحُّهُما: وهو المذكور في الكتاب: أنه لا يُجْبَرُ؛ لأن بالمهايأة، يُعَجَّل حقُّ أحدهما، ويتأخَّر حقَّ الآخر بخلافِ قسْمة الأعيان، وأيضاً فالاشتمال في الأصْل يقتضي الاشْتِرَاك في المنفعة، وانفراد أحدهما بالمَنْفعة مع الاشتراك في الأصْل، لا يكون إلاَّ عَلَى سبيل المعاوَضَةِ، والمعاوَضَاتُ بعيدةٌ عن الإِجبار، د إذا رضينا بالمهأياة ثم رجَعِ المبتدئ بالانتفاع قبل استيفاء توبته، مُكِّن، فإنْ مضتْ مدَّةٌ لمثلها أجرةٌ، غُرِّمَ نصْف أجْرَةِ المثل، وإن رجع بعد استيفاء نوبته، فوجهان، إن قلْنا: لا إجبار على المهايأة، فيُمَكَّن، ويُغَرَّم نصف الأجرة، وإن قلْنا بالإِجبار، فلا يُمَكَّن ويستوفي الآخر نوبته، وإنِ استوفى الأول نوبته، وامتنع الآخر من أن ينتفع ويستوفي نويته، فإن قلْنا بالإجبار، فهو مضيعٌ حقَّ نفسه، ولا أُجرَةَ له، وإنْ قلنا: لا إجبار، فله ذلك، ويأخذ من الَأول نصف أجرة المثل، وكذا لو انهدَمَتِ الدار أو ماتَ العبْدُ بعْد نوبة الأوَّلِ، فللآخر عليه نصْفُ أجرة المثل، وإذا لم نقُلْ بالإجبار وأصرَّا على النزاع في المهايأة، فهل يبيع القاضِي عليهما؛ قطعاً للنزاع؟ فيه وجهان: أصحُّهُمَا: وهو المذكورُ في الكتاب: أنه لا يبيع؛ لأنَّهما كاملانِ مطْلقا التصرف، لا حقَّ لغيرهما عليهما، وعلَى هذا؛ فما الذي يَفْعَل؟ ذكر في "الوسيط" أنه يتركهما إلى أن يصْطَلِحَا، وهذا يُشْعِر بأنه لا يؤجّر عليهما والذي أورده القاضي ابنُ كج وصاحبُ "التهذيب"؛ أنه يؤخِّره ويوزِّع الأجرة عليهما ولو استأجر اثنان أرضاً، فطلب أحدُهما المهايأة، وامتنع الآخَرُ، وجب أن يعُودَ الخلاف في الإِجبار، وإن أراد قسمتها، ففي فتاوى القاضي الحُسَيْن: أنها جائزةٌ على قول ابْنِ سُرَيْجٍ، ثم إذا اقتسما، وَحَدَثَ بنصيب أحدُهُما عيْبٌ؛، فله الفسخ، قال: وينبغي أن يُقَالَ لشريكه: الفسخ أيضاً، ولو طلب أحدُهُمَا هذه القسمة، وامتغ الآخر، هل يُجْبَرُ، جعله على وجهَيْن، وإذا جرتِ المهايأةُ في العبْد المُشْترك بين المالكين أو في العَبْد الذي بعْضُه حرٌّ بينه وبين مالك الباقِي، فالأَكساب، العامَّة والمؤن العامة تدْخُل في المهايأة، وفي الأكساب النادرة كما يقبله بالهِبَة والوَصِيَّة، والمؤن النادرة كأجرة الطبيب والفَصَّاد والحَجَّام خلاف ذكرناه في غَيْر موضع، والأظْهَرُ دخولُها أيضاً، وينبغِي أنْ يدخُلَ في الكسوة إلَى قدْر النوبة حتَّى يبقى
عَلَى الاشتراك، إن جَرَتِ المهايأة مياومةً، ولا يجوزُ المهايأة في الحيوان اللَّبُون، ليحلب هذا يوماً، وهذا يوماً، وفي الشَّجَر المثمرة ليكون ثمرها لهذا عاماً، ولهذا عاماً؛ لما فيها من الزِّيَادة والنُّقْصان (¬1)، وقوله في الكتاب "ولكن لا يُجْبَرُ علَيْها" إلَى أن قال: "إلا أن يَستوفِيَ نوبته ثم يرجع فيه وجهان" يقتضي إثبات وجهَيْن في الرُّجُوع بعد استيفاء النَّوْبَة مع الحُكْم بأنه لا إجبار في الابتداء، وهو محتملٌ حملاً له على وفاءٍ وتسويةٍ بَيْن الشريكَيْن الأشهر الاقتصار، علي بناء الوجْهَيْن، والله أعْلَم. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّانِي: لَوْ تَقَدَّمَ جَمَاعَةٌ وَالْتَمَسُوا الْقِسْمَةَ مِنَ القَاضِي وَلاَ بَيِّنَة لَهُمْ عَلَى الْملْكِ فَالصَّحِيحُ أنَّهُ يَجِبُ وَيَكْتُبُ أَنَّهُ قُسِّمِ بِقَوْلهِمْ، وَفِيهِ قَوْلٌ أَنَّهُ لا يَجِبُ (ح) بِغَيْرِ حُجَّةٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: جماعةٌ في أيديهم دار أو أرض تقدَّموا إلى القاضِى فطَلَبوا قسْمَتَها بينهم، فإِن أقاموا بيِّنةُ على أنَّها ملْكُهُمْ، أجابهم إلى القسمة، هذا هو المشهورُ والمَنْصُوصَ، واعترض ابنُ سُرَيْجٍ فقال: إنما تقامُ البينةُ، وتُسْمع على خصمٍ، ولا خصم هاهنا، وأجاب ابنُ أبِي هريرة بأنَّ القسمة تتَضمَّن الحُكْم لهم بالمِلْك، وقد يكون لهم خصْمٌ غائبٌ، فيسمع البينة؛ ليحكم لهم عليه، وإنْ لم يُقِيمُوا بينةً، فطريقان: أظْهَرْهُما: أن المسألة على قولَيْن: أحدُهُمَا: أنه لا يجيبهم إلى القِسْمة؛ لأنَّها قد تكُونُ في أيديهم بإجارةٍ وإعارةٍ، فإذا قسمها بينهم، لم يُؤْمَن أن يدعوا ملْكَها محتجِّين بقسمة القاضِي (¬2). والثاني: يجيبهم، وبه قال أحمدُ اكتفاءً بدلالة اليَدِ على المِلْك، لكنْ يكتب في الذِّكْر، ويشهد أنَّه، إنَّما قسم بقولهم: لئلا يتمسَّكوا بقسمته. الطريق الثاني: وبه قال أبو الطيِّب بن سلمة: القطْعُ بالقول الأول، وإذا أثبتنا القولَيْن، فما الأظهر منْهما، ذكر الإمامُ وصاحبُ الكتاب أنَّ الثاني أصحُّ، وإليه ميل ابنِ ¬
فرعان
سقطت، وإن عُتِقَتْ أخذ بها. وإن وَلَدَتْ بعدما عَجَزَتْ، ورُقَّتْ، فلا شَيْءَ لها، وكذا لو وَلَدَتْ بعدما عُتِقَتْ؛ لأن حين يقدر تقومه ليس بكَسْبِ مكاتبه. وقوله في الكتاب: "أو بعد العتق" في بعض النسخ: "أو (¬1) بعد الموت السيد"؛ فإنها تعتق بِمَوْتِهِ من جهة أنها مُسْتَوْلَدَةٌ، ثم لا ترتفِع الكِتَابَةُ بِإيلاَدِهَا، بل هي مُسْتَوْلَدَةٌ ومُكَاتَبَةٌ. فإن عَجَزَتْ ثم مات السَّيِّدُ، عتقت عن الاسْتِيلاَدِ، والأولاد الحَادِثُونَ بعد الاسْتِيلاَدِ بالنِّكَاحِ أو الزِّنَا يَتْبَعُونَهَا، والحَاصِلُونَ قبل الاستيلاد أَرِقاءُ للسيد. فإن (¬2) مات السَّيِّدُ قبل عَجْزِهَا عُتِقَتْ. قال في"التهذيب":ويتبعها أكْسَابُهَا، ويُعْتَقُ عن الكتابة أو الاستيلاد فيه وجهان: أصحهما: عن الكتابة؛ كما لو أعتق السَّيِّدُ المُكَاتَبَ، أو أَبْرَأَهُ عن النجوم وعلى هذا: فالأولاد الحَادِثُونَ بعد الكِتَابَةِ، وقبل الاسْتِيلاَدِ؛ هل يَتْبَعُونَهَا؟ فيه الخلاف السابق. والثاني: أنها تُعْتَقُ عن الاسْتِيلاَدِ؛ لانه آكَدُ. وأجرى هذا الخلاف فيما إذا عَلَّقَ عِتْقَ المُكَاتَبِ بِصِفَةٍ، ووجدت [الصفة] (¬3) قبل أَدَاءِ النُّجُومِ، وفيما إذا تَقَدَّمَ الاسْتِيلاَدُ على الكتابة. قال فى "التهذيب": وإذا اسْتَوْلَدَ، ثم كاتب، وأَدَّت النجوم، فالأَكْسَابُ الحَاصِلَةُ بعد الكتابة تَتْبَعُهَا، والحَاصِلَةُ قبل الكِتَابَةِ للسيد، والأولاد الحَاصِلُونَ بعد الاسْتيِلاَدِ يَتْبَعُونَهَا، وهذا مَبْنِيٌّ على أن الكتابة المُسْتَوْلَدَةِ جائزة، وفيه خِلاَفٌ قد تَقَدَّمَ. " فرعان": أحدهما: ليس للسَّيِّدِ وَطْءُ أَمَةِ مُكَاتَبِهِ، أومكاتبته، فإن وَطئَهَا فلا حَدَّ عليه؛ للشُّبْهَةِ؛ فإنه يملك سيدها، ويلزمه المَهْرُ للمكاتب او المكاتبة، فإن أكْسَابَهَا لسَيِّدِهَا وَالمَهْرُ مِنْ أَكْسَابِهَا. وإن أَوْلَدَهَا فَالوَلَدَ حُرٌّ نَسِيبٌ، وتصير الأَمَةُ مُسْتَوْلَدَةً له. قال في "الشامل": ويجب عليه قِيمَتُهَا لسَيِّدِهَا؛ لأنها ملكه، ولا يجب عليه قِيمَةُ الوَلَدِ؛ لأنها وَضَعَتْهُ في مِلْكِهِ. ويجي فيه الخِلاَفُ الذى (¬4) سبق. والثانى: للسيد وَطْءُ بِنْتِ المُكَاتَبَةِ، إن لم يثبت حُكْمُ الكتابة في ولد المُكَاتَبَةِ، ¬
وإن أَثْبَتْنَاهُ، فليس له وطؤها، ولكن لا حَدَّ عليه، والمَهْرُ يُبْنَى علي الخلاف الذي سبق (¬1) في الكَسْبِ؛ إنه قلنا: إنه يُصْرَفُ إلى السَّيِّدِ في الحال؛ فلا مَهْرَ عليه. وإن قلنا: إنه لِلْأُمِّ فكذلك المَهْرُ، وإن قلنا بالتَّوَقُّفِ؛ فينفق منه علينا ويُوقَفُ البَاقِي، فإن عتقت بِعِتْقِ الأُمِّ، فهو لها؛ وإن عَجَزَتْ فهو للسَّيِّدِ. وإن أَوْلَدَهَا صارت مُسْتَوْلَدَةً، والولد حُرٌّ نَسِيبٌ، ولا يجب عليه قيمة المُسْتَوْلَدَةِ لأمها؛ لأن الأُمَّ لا تملكها، وإنما يَثْبُتُ لها حَقُّ العِتْقِ بِعِتْقِ الأم، وقد تَأَكَّدَ ذلك بِالاسْتِيلاَدِ. هكذا ذكر ابْنُ الصَّبَّاغِ، وقد سبق (¬2) في مِثْلِهَا قولان، في أنه: هل تجب القِيمَةُ للأُمِّ؟ فينبغي أن يكون هَاهُنَا كذلك. قال في "التهذيب": ويبقى حُكْمُ الكِتَابَةِ فيها حتى تعتق بعتق الأم، ويكون الكَسْبُ لها إذا (¬3) جعلنا حَقَّ العيْنِ فيها لِلْأُمِّ. فإن مات السَّيِّدُ، عتقت البِنْتُ بِمَوْتِهِ، وتؤخذ القِيمَةُ من تَرِكَتِهِ للأم، إذا جعلنا الحَقَّ لها، كما في القَتْل، وقِيمَةُ الوَلَدِ على ما ذكرنا في وَلَدِ المكاتب ويَتَعَلَّقُ بالفَضْلِ مسألة طويلة الذَّيْلِ، أفرد لها في "المختصر" بابًا صالحاً، وهي: القَوْلُ في الأَمَةِ المُشْتَرَكَةِ، إذا كَاتَبَهَا مَالِكَاهَا مَعاً، ثم وَطِئَهَا أَحَدُهُمَا، فحكم الحَدِّ، والتَّعْزِيرِ، وَلُزُومُ المَهْرِ على الوَاطِئِ، كما ذكرنا في المَالِكِ الواحد. ثم إن لم يحل عليها نَجْمٌ، فلها المَهْرُ في الحال، وإن حَلَّ فإن كان مَعَهَا مِثْلُ المَهْرِ فيدفعه إلى الَّذِي لم يطأ، وفي المَهْرِ، ونَصِيبِ الواطئ من النَّجْم الذي حَلَّ الخِلاَفُ في التَّقَاصِّ. وإن لم يكن مَعَهَا شَيْءٌ آخر, فنصف النَّجْمِ لِلْوَاطِئِ، مع المَهْرِ، على الخلاف في التَّقَاصِّ، والنِّصْفُ الآخر يُدْفَعُ إلى الذي لم يَطَأْ. وإن عُتِقَتِ المُكَاتَبَةُ قبل أخذ المَهْر، وصَيْرُورَتِهِ قِصَاصاً، أَخَذَتْهُ. وإن عجزت بعد أَخْذِهِ، فإن بَقِيَ فهو للسَّيِّدِ، وإن تَلِفَ، فقد تَلِفَ في (¬4) ملكهما. وإن عَجَزَتْ قبل أَخْذِهِ؛ فإن كان في يَدِهَا بِقَدْرِ المَهْرِ، مال أخذه الذي لم يَطَأَهَا، وبَرئَتْ ذِمَّةُ الوَاطِئِ، وإن لم يَكُنْ معها شَيْءٌ، فللذي لم يَطَأْ أن يَأْخُذَ نِصْفَ المَهْر من الوَاطِئِ، لأنه وَطِئَ جَارِيَةً مشتركة بينهما، فإن أحْبَلَهَا نُظِرَ: إن ادَّعَى الاسْتِبْرَاءَ، وحَلَفَ عَلَيْهِ، وأتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أشهر، فصاعداً من وقت الاسْتِبْرَاءِ لم يَلْحَقْهُ، وهو كولد المكاتبة من الزوج، أو الزِّنَا، وقد مَرَّ حُكْمُهُ. ¬
وإن لم يَدَّعِ الاستبراء وأَتَتْ بالوَلَد لما دُونَ سِتة أشهر، فالوَلَدُ مُلْحَقٌ به، ويَثْبُتُ الاسْتيِلاَدُ في نَصِيبِهِ من الأَمَةِ، مع بَقَاِء الكِتَابَةِ فيه، ثم هو: إما مُعْسِرٌ أو مُوسِرٌ. إن كان مُعْسِراً، فلا يَسْرِى الاسْتِيلاَدُ إلى نَصِيبِ الشريك, وليس فيه إلاَّ الكِتَابَةُ به, فإن أَدَّت النجوم إليهما، عُتِقَتْ بالكِتَابَةِ, وبطل حُكْمُ الاسْتيِلاَدِ، وإن عَجَزَتْ وفَسَخَا الكتابة، فنصفها قِنٌّ، والنِّصْفُ الآخر على حُكْمِ الاستيلاد. وإن مات الوَاطِئُ قبل الأَدَاءِ والفسخ، عُتِقَ نِصْفُهَا، وبقيت الكِتَابَةُ في النِّصْفِ الآخَرِ, فإن مات بعد الفَسْخِ، عُتِقَ النِّصْفُ، والباقى قِنٌّ، وفي الولد وجهان: أحدهما: -وبه قال ابن أبي هُرَيْرَةَ-: أنه يَنْعَقِدُ كله حُرّاً، لِشُبْهَةِ المِلْكِ؛ لأن الرِّقَّ لا يَتَبَعَّضُ ابْتِدَاءً. والثانى: وبه قال أبو إسحاق-: نصفه حُرٌّ، ونصفه رَقِيقٌ؛ لأن أَحَدَ نِصْفَي الجَاريَةِ ليس له، ولو لم تكن كلها له لَكَانَ الوَلَدُ رَقِيقاً، فإذا لم يكن نِصْفُهَا له، كان بعضه (¬1) رَقِيقاً. وفي "التهذيب": أن هذا أَصَحُّ. وقد سبق للصورة نَظَائِرُ. فإن قلنا: إنه يَنْعَقِدُ كله حُرّاً، وفَرَّعنا على أن وَلَدَ المكاتبة قِنٌّ للسيد؛ فَعَلَى الوَاطِئِ نِصْفُ قِيمَةِ الوَلَدِ للشَّرِيكِ الآخر، ويسقط قِسْطُهُ منها وإن قلنا: يثبت فيه حُكْمُ الكِتَاَبَةِ، وجعلنا الحَقَّ فيه للسَّيِّد، فكذلك الجَوَابُ، وإن جعلنا الحَقَّ لِلْمُكَاتَبَةِ، فعليه جميع قِيمَةِ الوَلَدِ [لها] (¬2) تستعين بها في أَدَاءِ النُّجُومِ. فإن عتقت قبل [أخذها] (¬3) أخذتها، وإن عَجَزَتْ قبل الأَخْذِ، أَخَذَ الشريك الآخر نِصْفَهَا، وسقط النِّصْفُ. وإن قلنا: يَنْعِقُد نِصْفُهُ حُرّاً، ونصفه رَقِيقاً؛ فإن جَعَلْنَا وَلَدَ المُكَاتَبَةِ قِنّاً للسيد، فالنصف الرَّقِيقُ للشريك، ولا يَجِبُ شَيْءٌ من قِيمَةِ الولد على الوَطِئِ. وإن أثبتنا حُكْمَ الكِتَابَةِ في وَلَدِ المُكَاتَبَةِ؛ فالنِّصْفُ الرَّقِيقُ يتكاتب عليها؛ إن عُتِقَتْ عُتِقَ، وإلاَّ رُقَّ للشريك الآخر. وقيمة النصف الحُرِّ؛ هل تجب على الوَاطِئِ؟ يُبْنَى على أن الحَقَّ في وَلَدِ المكاتبة للسيد [أَوْ لَهَا] (¬4). إن قلنا بالأول لم يجبْ، وإلاَّ وَجَبَ، ثم إن عُتِقَتْ، عُتِقَ الولد، وسُلِّمَ لها نِصْفُ القيمة، فتأخذه إن لم تَكُنْ أَخَذَتْ. وإن عَجَزَتْ سَقَطَ عنه، فإن كان قد وَقَعَ اسْتَردَّهُ إن كان باقياً فإن كان مُوسِراً سَرَى ¬
الاسْتِيلاَدُ إلى نَصِيبِ الشَّرِيك، وكان الولد كله حُرّاً، ومتى يَسْرِي؟ فيه طريقان: قال الأكثرون: فيه قَوْلاَنِ، كما لو أَعْتَقَ أَحَدُ الشريكين نَصِيبَهُ من المكاتب؛ ففي أَحَدِ القولين: يَسْرِي في الحال. وفي الثَّانِي: عند العَجْزِ، وعن أبي عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ وغيره: القَطْعُ بأنه يَسْرِي عند العَجْزِ، والفَرْقُ أن السِّرَايَةَ في الحال تَتَضَمَّنُ نَقْلَ المِلْكِ في المُكَاتَبِ، وفسخ الكتابة. وإنما احتملنا (¬1) ذلك لِحُصُولِ العِتْقِ النَّاجِزِ، والاسْتِيلاَدُ [ولا ينجز العِتْقَ، فلا يحتمل رَفْعَ الكتابة به، ومن نَصَرَ القَوْلَ الأول قال: كما أن الإعْتَاقَ النَّاجِزَ أَقْوَى من الكتابة، فالاسْتِيلاَدُ] (¬2) أقوى وأَثْبَتُ فيها، فجاز أن يوقع به. فإن قلنا بالسِّرَايَةِ في الحال، فَتَنْفَسِخُ الكِتَابَةُ في نَصِيبِ الشَّريكِ، ويبقى في نَصِيبِ الوَاطِئِ، ويثبت الاسْتِيلاَدُ في جميع الجَارِيَة، فعلى الواطئ للشريك نِصْفُ مَهْرِهَا، ونِصْفُ قيمتها. وأما نِصْفُ قِيمَةِ الوَلَدِ؛ فقد قال الإِمَامُ: هو كما لو اسْتَوْلَدَ أحد الشريكين الجَارِيَةَ القِنَّةَ، وانْعَقَدَ الوَلَدُ حُرّاً، وفي وجوب قِيمَتِهِ قولان؛ بِنَاء على أن العَلُوقَ على الحُرِّيَّةِ، وانْتِقَال الملك؛ هل يَفْتَرِقَانِ أم لا؟ وفي "التهذيب": أنا إن قلنا: إن السِّرَايَة تَحْصُلُ بنفس العَلُوقِ، فلا يجب. وإن قلنا: يَحْصُلُ بِأَدَاءِ القِيمَةِ، فيجب، لتَقَدُّمِ العَلُوقِ على المِلْكِ، وعلى الوَاطِئِ أيضاً نِصْفُ المَهْرِ للمكاتبة؛ لِبَقَاءِ الكِتَابَةِ في نصيبه. وهل يَجِبُ نِصْفُ قيمة الوَلَدِ؟ يُبْنَى على أن المِلْكَ في وَلَدِ المُكَاتَبَةِ لمن هو؟ ولو أَدَّتْ نصيب الوَاطِئِ من مَالِ الكِتَابَة، عتق نصيبه، وسَرَى إلى الباقي. وإن عَجَزَتْ وفَسَخَ الكِتَابَةَ، بقيت مُسْتَوْلَدَةً مُحْصَنَةً. وإن قلنا بالسِّرَايَةِ عند العَجْزِ؛ فإن أَدَّتِ النُّجُومَ، عُتِقَتْ عن الكتابة، وَوَلاَؤُهَا بينهما، ويبطل حُكْمُ الاسْتِيلاَدِ، ولها المَهْرُ علي الوَاطِئِ فتأخذه إن لم تأخذه ويجب نصف قيمة الولد لِلشَّريكِ. إن قلنا: وَلَدُ المُكَاتَبَةِ قِنٌّ للسيد، أو قلنا: يثبت فيه حُكْمُ الكتابة، وحَقُّ المِلْكِ فيه للسيد. وإن قلنا: الحَقُّ فيه للْمُكَاتَبَةِ؛ فيجب جَمِيعُ القِيمَة لها. وإن لم تُؤَدِّ النُّجُومَ وعَجَزَتْ؛ فعلى الوَاطِئِ للشريك نِصْفُ مَهْرِهَا، ونصف ¬
قيمتها، ونِصْفُ قيمة الولد. تَمَامُ الكَلاَمِ فيما إذا وَطِءَ أَحدُ الشريكين. وإن وَطئَاهَا جميعاً، نُظِرَ: إن لم يَحْصُلْ عَلُوقٌ، فحكم الحَدِّ والتَّعْزِيرِ كما سبق، ويجب على كُلِّ وَاحِدٍ منهما مَهْرٌ كَامِلٌ. وإذا عَجَزَتْ وَرُقَّتْ بعد قَبْضِ [المهرين] (¬1) لم يُطَالِبْ أَحَدُهُمَا الآخَرَ بشيء، وَيَقْتَسِمَانِ المَهْرَيْنِ إن كانا بَاقِيَيْنِ. وإن عَجَزَتْ قبل قبْضِهِمَا سَقَطَ عن كُلِّ وَاحِدٍ منهما نِصْفُ ما لَزِمَهُ، ويَجِيءُ في النِّصْفِ الآخر التَّقَاصُّ. وقد يكون أَحَدُ المَهْرَيْنِ أَكْثَرَ من الآخر؛ إما لكونها بِكْراً عند وَطْءِ أحدهما، ثَيِّباً عند وَطْءِ الآخَرِ، أو لاختلاف حالها (¬2) في الصِّحَّةِ والمرض، وغيرهما من الأَحْوَالِ؛ فيأخذ مُسْتَحِقُّ الفَضْل الفَضْلَ. وإن أَفْضَاهَا أحدهما؛ فعليه نِصْفُ القِيمَةِ للشريك، وإن افْتَضَّهَا فعليه نصف أرش الافْتِضَاضِ مع المَهْرِ. وإن ادَّعَى كُلُّ واحد منهما على الآخَرِ أنه الذي أَفْضَى، أو افْتَضَّ، حلف كُلُّ واحد منهما للآخر، فإن حَلَفَا فَذَاكَ. وإن حَلَفَ أحدهما، دون الآخر، قُضِيَ للحالف، وإن حَصَلَ عُلُوقٌ، فينظر: أَأَتَتْ بِوَلَدٍ واحد، أو أَتَتْ بِوَلَدٍ من كل واحد منهما. الحالة الأولى: إذا أَتَتْ [بولد] (¬3) واحد؛ فينظر: إن ادَّعَيَا الاسْتِبْرَاءَ، وحَلَفَا عليه، لم يُلْحَقْ بواحد منهما، وهو كَوَلَدٍ تَأْتِي به المُكَاتَبَةُ من زَوْجٍ أو زناً. وإن لم يَدَّعِيَا الاسْتِبْرَاءَ؛ فإما ألا يمكن أن يَكُونَ من [كل] (¬4) واحد منهما، وإما أن يمكن أن يَكُونَ من الأَوَّل؛ دون الثاني. وأما أن يكون بالعَكْسِ، وإما أن يكون من كُلِّ وَاحِدٍ منهما. فهذه أربعة أقسام: الأول: إذا لم يُمْكِنْ أن يكون مِنْ وَاحِدٍ منهما؛ بأن وَلَدَتْهُ لأكثر من أربع سنين من وطء الأول، ولما دُونَ ستة أشهر من وَطْء الثاني، أو لأكثر من أرْبَعِ سنين من وطء آخِرِهِمَا وَطْئاً، فهو كما لَوِ ادَّعَيَا الاسْتِبْرَاءَ ¬
كتاب الشهادات
بسم الله الرحمن الرحيم كِتَابُ الشَّهَادَاتِ، وَفِيهِ أَبْوَابٌ سِتَّةٌ البَابُ الأَوَّلُ فِيمَا يُفِيدُ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَهِيَ التَّكلِيفُ وَالْحُرِّيِّةُ وَالإِسْلاَمُ، وَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ كَافِرٍ أَصْلاً، وَلاَ عَلَى كَافِرٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تَعَرُّضُ الكتابِ والسنَّة للشهادَةِ (¬1) وأحْكَامِه مستفيضٌ واضحٌ؛ كقوله ¬
تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة:283] وقولِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] وكما رُوِيَ أنه -صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم- سُئِلَ عَنِ الشَّهادة، فقَالَ لِلسَّائِلِ: تَرَى الشَّمْسَ، قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: "عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ أَوْ فَدَعْ" (¬1) وأنه -صلى الله عليه وسلم- قال: أَكْرِمُوا الشُّهُودَ (¬2)، وأنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال لِبَعْضِ الْمُدَّعِينَ: لَيْسَ لَكَ إِلاَّ شاهِدَاكَ أو يَمِينُهُ (¬3) ولا يخفَى أنه لا تقبل شهادةُ كلِّ من شهد، وأنَّه ليس للشَّاهِدِ أن يجازِفَ ويشهد بما شاء، بلْ لا بدَّ في الشاهد من صفاتٍ، والشاهِدُ من عَلِمَ ما يشْهَدُ به، والصفاتُ المعتبرةُ في الشاهد تنقسمُ إلَى معتبرةٍ في العمومِ، كالحرِّيَّةِ، وإلَى معتبرةٍ في بعْضِ الأُمور؛ كالذكورة، وإذا شَهِد واحدٌ، فمن اجتمعتْ فيه الصفاتُ المعتبرةُ، فقد يحكم بقوله، وقد يُحْتاج إلَى ضميمة أخرَى، وهو الأغلبُ، وتلك الضميمة، إما قوْلُ شاهدٍ حرٍّ أو أكثرَ، وإما يمينُ المدعِي، ثم الشاهدُ قد يشهد الواقعةَ نفْسَها، وقد يشهد بشهادةِ من شهد بها وعلى التقديرَيْن، فإمَّا أن يستمرَّ على ما يشهد به أو يَرْجِع عنْه، فقيد المصنف لبيان هذه الفصولِ سِتَّةَ أبوابٍ: أحدُهَا: في الصفات المعتَبَرَةِ في الشَّاهد على العُمُوم. وثانِيهَا: في الذُّكُورة المعتبَرَةِ على الخُصُوص، وفي العدد المرعيِّ في الشهود. ¬
وثالِثُهَا: فيما تستند إلَيْهِ الشهادة. ورابِعُهَا: في الشَّاهِدِ واليَمِين. وخامسِهَا: في الشَّهَادة على الشَّهادة. وسادِسُهما: في الرُّجُوع. أما البابُ الأول: فمِنَ الصفاتِ المعتبرةِ على العُمُوم التكليف، فلا تُقْبَلُ شهادةُ مجنونٍ ولا صبيٍّ، وقال مالكٌ: تقبلُ شهادةُ الصبيانِ في الجراحَاتِ الحاصِلَةِ بيْنهم في اللَّعِب ما لم يتفرَّقوا، وعن أحمد ثلاثُ رواياتٍ كمذْهَبنا ومذْهَب مالكٍ، والثالثةُ قبولُ شهادتهم مطلقاً بشرط التمييز، واحتجَّ الأصحابُ بأن الصبيَّ لا يقبل قولُه عَلَى نفسه بالإِقْرَار فأولَى ألاَّ يقبل على غيره بالشهادة، وبقوله تعالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، وقالوا: لفظ الرجالِ لا يقَعُ علَى الصبيان. ومنْها: الحرية؛ فلا يُقْبَلُ شهادةُ الرقيق قِنَّا كان أو مُدَبَّراً أو مكاتباً أو أمَّ وَلَدٍ، وقال أحمد -رحمه الله-: تُقْبَلُ. لَنَا: أنَّ القوْلَ على الغَيْر نوعُ ولايةٍ، فيعتبرُ فيها الحريَّةُ، كما في سائر الولايات، وأيضاً، فالرقيقُ لاشتغالِهِ بخدمة السَّيِّد لا يتفرغ لتحمل الشهادة، ولا لآدائها. ومنها: الإِسلام فلا تُقبل شهادةُ الكافر ذمياً كان أو حربياً شهد على مسلم أو كافر، وقال أبو حنيفة -رحمه الله- يُقبل شهادة الكافر على الكافر اتحدت ملتهما أو اختلفت، وعن أحمد فيما رواه صاحبُ الشامل أنه تُقبل شهادته على المسلم في الوصية إذا لم يكن هناك مسلم لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "قال لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ دِينٍ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ دِينِهِمْ إِلاَّ الْمُسْلِمُونَ فَإنَّهُمْ عُدُولٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ" (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: وَوَرَاءَ هَذِهِ ثَلاَثُ صِفَاتٍ: الأُولَى: العَدَالَةُ: وَمَنْ يُقْدِمُ عَلَى كَبِيرَةٍ أَوْ يُصِرُّ عَلَى صَغِيرَةٍ فَهُوَ فَاسِقٌ لاَ تُقْبَلُ (ح) شَهَادَتُهُ، وَأَمَّا الإِلْمَامُ بِكَذْبَةٍ أَوْ غَيْبَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ جَرَى عَنْ هَفْوَةِ أَوْ فَتْرَةٍ مَعَ اسْتِشْعَارِ نَدَمٍ وَخَوْفٍ فَلاَ تَبْطُلُ الثِّقَةُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لما كانتِ الصفاتُ الثلاثُ الَّتِي سبَقَتْ خفيقةَ المؤنةِ، سَرَدَها سَرْداً ¬
ثم صَرَفَ العنايَةَ إِلَى بيانِ صفاتٍ أُخَرَ، فطَوَّل النَّظَر فيها، فقال: ووراء هذه ثلاثُ صفات: إحداها: العدالةُ، فهي شرطٌ القَبُولِ الشهادة، قال الله تعالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وقال تعالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] وقال عزَّ أسمه: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، والفاسقُ ليْسَ بمرضىِّ الحال، ورُويَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلاَ خَائِنَةٍ وَلاَ زَانٍ وَلاَ زَانِيَةٍ" (¬1) والقولُ في أنَّ العدْلَ مَنْ هو يحتاج إلَى تقديم أصْلٍ، وهو أن المعاصِيَ تنقسِمُ إلَى كبائِرَ وصغائِرَ، قال الله تعالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}: [النساء:13] وقال تعالَى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ} [الشورى: 37] ثم قال الإِمام -رحمه الله-: مِنْ أئمَّتنا مَنْ يقول: لا صغيرةَ في الذُّنُوب، وهو اختيارُ الأستاذِ أبيَ إسْحَاق، والظاهر المشهور الأوَّلُ، ثم اختلفتِ الصحابةُ فمن بعْدهم في الكبائِرِ، وفي الفَرْق بينها وبيْن الصغائر، وللأصحابِ في تفسير الكبيرة وجوهٌ: أحدها: أنَّها المعصيةُ الموجِبَةُ للحدِّ. والثَّاني: أنَّها الَّتي يلْحَق صاحبَهَا الوعيدُ الشديدُ بنصِّ كتاب أو سُنَّةٍ، وهذا أكثر ما يوجَدُ لهمْ، وهم إلَى ترجيح الأول أميلُ، ولكنَّ الثاني أوفقُ لما ذكروه عنْد تفْصيل الكبائر. والثالث: قال الإِمَامُ في "الإِرشاد" وغيره: كلُّ جريمةٍ تُؤْذِنُ بقلَّة اكتراثِ مرتكبها بالدِّين ورقَّةِ الديانة، فهي مبطلةٌ للعَدالة. والرابع: ذكر القاضي أبو سعْدٍ الهرويُّ -رحمه الله- أن الكبيرةَ كلُّ فعلٍ نصَّ الكتابُ علَى تحريمه، وكلُّ معصيةٍ توجِبُ في جنْسها حدّاً من حبسٍ أو غيرِهِ وَترْكُ كُلِّ فريضةٍ مأمورٍ بها عَلَى الفوْرِ والكَذِبُ في الشهادة والروايةِ واليمينِ، هذا ما ذكروه على سبيل الضَّبْط، وفصل القاضي الرويانيُّ، فقال: الكبائرُ سَبْعٌ؛ قتلُ النفْسِ بغَيْرِ الحقِّ، والزنا، واللِّواطُ، وشُرْبُ الخَمْر، والسرقةُ، وأخذ المالِ غَصْباً، والقذْفُ وشُرْبُ كُلِّ ¬
مسكر ملحِقٍ بشُرْبِ الخمْرِ، ولا فَرْقَ في الخمر بين القدر المسْكِر (¬1) واليسير الذي لا يُسْكِر، قال أبو سعدٍ: وفي الشرب من غير الخَمْر خلافٌ، إذا كان الرَّجُل شافعيّاً، وشرط في غصب المال أن يبلغ دِيناراً، وضم في "الشامل" إلى السبع المذكورة شهادةَ (¬2) الزورِ، وأضاف إليها "صاحبُ العُدَّة" أكْلَ الرِّبَا، والإفطْارَ في رمَضَان بلا عذر، واليمينَ الفاجِرَةَ، وقطْعَ الرحِمِ، وعقوقَ الوالِدَيْنِ، والفرَارَ من الزَّحْف، وأكْلَ مالِ اليتيم، والخِيَانَةَ في الكَيْل، والوَزْنِ، وتقديمَ الصَّلاةِ عَلَى وقْتها وتأخِيرَها عنْ وقتْها بلا عذر، وضرْبَ المسلِمِ بغَيْر حقٍّ (¬3)، والكَذِبَ على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَمْداً، وسبَّ الصحابة -رضي الله عنهم (¬4) - وكتمانَ الشَّهادة بغير عذر وأخْذَ الرّشْوة، والدِّياَنةَ، والقيادةَ بيْن الرجالِ والنساءِ، والسعايةَ عنْد السلطان، ومنْعَ الزكاة، وترْكَ الأمرِ بالمعْرُوف والنَّهْي عن المنكر مع القدرة، ونسيانَ القرْآنِ بعْدَ تعلُّمه، وإحراقَ الحيوانِ، بالنَّار، وامتناعَ المَرْأة من زوْجِهَا بلا سَبَبٍ، واليأْسَ من رحمة الله تعالَى، والأمن منَ مكْرِهِ، ويُقَالُ: الوقيعةَ (¬5) في أهل العلم وَحَمَلةِ القرآن، وممَّا يُعَدُّ من الكبائر الظهارُ وأكلُ لحمِ الخنزيرِ، والميتةِ من غَيْرِ ضرورةٍ، وللتوَّقفِ مجالٌ في بعْض هذه الخصال؛ كقطْع الرحمِ وترْكِ الأمْرِ بالمعروف علَى إطلاقها، ونسيانِ القرآنِ، وإحراقِ مطْلَقِ الحيوان بالنَّار، وقد أشار صاحب الكتاب في "الإِحياء" إلى مثْلِ هذا التوقُّف، وفي "التهذيب" حكايةُ وجهٍ: أن ترك الصَّلاة الواحدَةِ إلَى أن يخْرُجَ وقْتُها ليس بكبيرة، وإنما ¬
تُرَدُّ الشهادة به، إذا اعتاده (¬1)، قال في "العُدَّة"؛ ومن الصغائرِ النظر بالعَيْن إلَى ما لا يجوز، والغيبة (¬2) والضَّحِكُ من غَيْر عُجْبٍ، والكذبُ الذي لا حدَّ فيه، ولا ضرر والاطلاعُ علَى بيوتِ النَّاس، وهجْرةُ المسلم فوْقَ ثلاثٍ وكثْرةُ الخصومات، وإن كان الشخْصُ مُحِقًّا والسكوتُ على الغِيبة، والنِّياحةُ، والصياحُ، وشقُّ الجَيْب في المصيبات، والتَبَخْتُر في المَشْي، والجُلُوسُ مع الفُسَّاق إيناساً لهم، والصلاةُ المكْرُوهة في الأوقات المكروهة المنهيَّة، والبيعُ والشراءُ في المسْجِد، وإدْخَالُ الصغار والمجانِينِ والنجاساتِ المسْجَد، وإمامةُ القَوْم، وهم كارهونَ لَهُ لعَيْبٍ به، والعبَثُ في الصَّلاة، والضَّحِكُ فيها، وتخطِّي رقاب الناس يوْمَ الجُمُعة، والكلامُ والإِمامُ يخطب، والتغَوُّطُ مستقبلَ القبْلَة، وفي طريق المسلمين، وكشف العورة في الحمَّام، ولك أن تتوقَّف في كثرة خصومات المحِقِّ، وتقولَ: ما ينبغي أن يكونَ معصيةً أصلاً إذا راعَى حدَّ الشرْع، وفي تخطِّي رقاب النَّاس يوم الجمعة، فإنه معدودٌ من المكروهات دون المحرَّمات (¬3)، وكذا ¬
الكلام وإلا فلا يخطبُ، على الأصحِّ. إذا تقرِّر ذلك، قال الأصحاب: يُعتبر في العدَالَةِ الاجتنابُ عن الكبائرِ، فمَنِ ارتكب كبيرةً، فَسَقَ ورُدَّتْ شهادته، وأما الصغَائِرُ، فقليلاً ما يَسْلَم الإِنْسانُ منْها، حتَّى اشتهر في الخَبَر "مَا مِنَّا إلاَّ مَنْ عَصَى أوْ هَمَّ بِمَعْصِيَةِ إِلاَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا" (¬1) فلا يشترط تجنبها بالكلية، لكنّ الشرْطَ ألا يُصِرَّ عليها، فإن أصرَّ، كان الإِصرارُ كارتكاب الكبيرة، وأما الإِصرارُ السالبُ للعدالةِ أهُوَ المداومةُ عَلَى نوْعٍ من الصَغائرِ أم الإكثارُ منْها، سواءٌ كانتْ من نوعٍ واحدٍ أو منْ أنواعٍ مختلفةٍ منهم من يُفْهِم كلامُه الأول ومنهم من يفهم كلامه الثانِيَ ويوافقه قول الجمهور من تَغْلِبُ طاعتهُ معاصِيَهُ، كان عدلاً، ومن تَغْلِبُ معاصيه طاعته، كان مردودَ الشهادة، ولفظ الشافعيِّ -رضي الله عنه- في "المختصر" قريبٌ منه، وإذا قلْنا به، لم تضرَّ المداومةُ على نوعٍ واحدٍ من الصغائر، إذا غلبتِ الطاعاتُ، وعلى الاحتمال الأول يَضُرُّ. وقوله في الكتاب "لا تُقبل شهادتُه" أُعْلِمَ بالحاء؛ لأن في "النهاية" أن أبا حنيفةَ يَقْبَلُ شهادة الفاسِق الذي يَغْلِبُ على الظنِّ احترازُهُ عن الكذب. وقولهُ: "وأما الإِلمام بكذْبَةٍ أو غيبةٍ" إلى آخره فيه مع بيانِ الحُكْم وهو أن ارتكابَ الصغيرة لا يُبْطلُ العدالةَ، أشار إلَئ سببه، وهو أن الإِنسان غالباً لا يَخْلُو عن الابتلاء بالصغائر، ويُقْدِمُ عليها أحيانًا لفتْرة تقع، وشهوةٍ تَغْلِب، فلا يدلُّ ذلك على قلَّة الديانةِ والمبالاة، لا سيَّما إذا كان المُقْدِم عليها نادماً خائفاً، بخلاف الكبيرةِ، فإنَّها عظيمةُ الوقْع، ارتكابها مشعر بقلَّة المبالاة، فأسْقَطَ الثقةَ بقَوْل مرتكبها والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَاللَّعِبُ بالشِّطْرَنْجِ (ح م و) والحَمَامِ (ح م) وَسَمَاعُ الغِنَاءِ وَالرَّقْصِ وَنَظْمُ الشِّعْرِ الَّذِي لاَ هَجْوَ فِيهِ وَلاَ فُحْشَ وَلاَ تَشبِيبَ بامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَسَمَاعُ الدُّفِّ وَإِنْ كَانَ فِيهِ جَلاَجِلُ وَكَذَا سَمَاعُ الطَّبْلِ إِلاَّ طَبْلَ المُخَنِّثِينَ كُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَرَامِ، لَكِنَّ المُوَاظَبَةَ عَلَيْهَا قَدْ تَخْرمُ المُرُوءَةَ فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ فَيَقْدَحُ، وَأَمَّا النَّرْدُ وَسَمَاعُ الأَوْتَارِ وَالمَعَازِفُ وَالمِزْمَارِ العِرَاقِيِّ وَمَا هُوَ شِعَارُ الشُّرْبِ وَنَظْمُ الهَجْوِ وَإِنْشَادُهُ وَلُبْسُ الحَرِيرِ وَالجُلُوسُ عَلَيْهِ ¬
وَالتَّخَتُّمُ بِالذَّهَبِ كُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ وَلَكِنْ لاَ تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِالمَرَّةِ الوَاحِدَةِ بَلْ بالإِصْرَارِ إِلاَّ فِي بَلْدَةٍ يَعْظُمُ عِنْدَهُمْ سَمَاعُ الأَوْتَارِ، وَالإِقْدَامُ مَرَّةً يُشْعِرُ بالانْحِلاَلِ، وَلاَ يَخْلُو الإِنْسَانُ عَنْ غِيبَةٍ وَكَذِبٍ وَنَمِيمَةٍ وَلَعْنٍ وَسَفَاهَةٍ فِي غَضَبٍ فَلاَ يرَدُّ شَهَادَتُهُ بِسَبَبِهَا إِلاَّ عِنْدَ الإِصْرَارِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصل مسائل: إِحداها: اللعبُ بالشِّطْرَنج (¬1) مكروهٌ؛ لما رُوِيَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أنَّه مرَّ بقوم ¬
يلْعبون به، فقال "مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ" (¬1) ولأنَّه صَرْفٌ للعمر إلى ما لا يُجْدِي، وفيما عُلَّقَ عن الإِمام وجْهٌ: أنه مباحٌ لا كراهَةَ فيه. والصحيح: إثبات الكراهة، إلا أنه ليس بمحرَّم؛ رُوي اللعبُ به عن ابْن الزُّبَيْر وأبي هُرَيْرة -رضي الله عنهما- وعن سعيدِ بن جبيرٍ -رضي الله عنه- أنه كان يلْعَبُ به استدباراً (¬2)، وعن أبي حنيفَة ومالكٍ: أن اللعبَ بالشِّطْرنج حرامٌ، وإليه ميل الحليمي، واختاره القاضي الرويانيُّ، وإذا قلنا: بظاهر المذْهب، فلو اقترن به قمارٌ أو فُحْشٌ في الكلام أو إخراجُ صلاةٍ عن الوقْت عمداً، رُدَّت شهادتُه بتلك القرينة، وإنَّما يحْصُل القمار، إذا شُرِطَ المالُ من الجانِبَيْن، وكان كلُّ واحد منهما بَيْن أن يَغْلِبَ، فيغنَمَ أو يُغْلَبَ، فيغرم، أمَّا إذا أخرج أحدُهُما شيئاً؛ ليَبْذُلَه، إن غُلِبَ، ويمسكه، إن غَلب، لم يكن قِمَاراً، ولم تُرَدَّ به الشهادةُ، ولكن عقد مسابقةً فيما ليس من آلاتِ القتالِ، فلا يصحُّ، ولو لم يُخَرْجِ الصلاةَ عن الوقْت عَمْداً، ولكنْ شغَله اللَّعِب به، حتى خرج الوقْتُ، وهو غافلٌ، فإن لم يتكرَّر منه ذلك، لم تُرَدَّ شهادته، وإن كَثُر وتكرَّر، فسق ورُدَّت شهادتُه بخلاف ما إذا تَرَكَها مراراً ناسياً؛ لأنَّهُ شغَل نفْسَه هاهنا بما فات به الصَّلاة، هكذا ذكروه، وفيه إشكالٌ لما فيه من معصية الغافِلِ واللاهِي، ثم قياسُه الطَّرْدُ في شغْل النفس بسائر المباحات (¬3)، وأشار القاضي الرويانيُّ إِلَى وجْهٍ أنه يفْسُقُ مطلقاً تكرَّر أو لم يتكرَّر، وفي "المهذب" اشتراطُ التَّكْرَار في إخراجها عن الوقْت، وإن كان ذلك مع العِلْم، وهو خلافُ ما قدَّمنا، أنَّ إخراج الفريضة عن الوقْتِ عمداً من الكبائر، وعبر الأستاذ أبو إسحاق الإِسفرايينيُّ عن سلامته عن القرائِنِ الفاسدةِ؛ بأن قال: وقد سُئِلَ عن اللَّعِب بالشطرنج إذا سلم المال عن الخسران، والصلاة عن النسيان، واللسان عن البهتان أرى ذلك أنسا بين الخلال وحكاه القاضي الروياني في جمع الجوامع ورأيته بخط والدي منسوباً إلى الصعلوكي. وأما النرد ففي اللعب به وجهان: أحدهما: أنه كاللعب بالشطرنج لكن الكراهية فيه أشد وَيُحْكَى هذا عن ابن خيران وأبي إسحاق المَرْوَزِيِّ والإِسفرايينيِّ، وهو ظاهر إيراده في "الأم" واختاره القاضي أبو الطَّيِّب. ¬
وأصحُّهما: التحريمُ، وبه قال ابنُ أبي هريرة وابنُ القاصِّ؛ لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَنْ لَعِبَ بالنَّرْدِ، فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ" (¬1) وروي "مَنْ لَعِب بالنَّرْدَشِيرِ، فكأنَّمَا غَمَسَ يَدْيِهِ في لَحْمِ خِنْزِيرٍ" (¬2) وفرق بينه وبيْن الشِّطْرنج في شدَّة الكراهية على وجْه الأول، وفي التحريم على الثاني؛ بأن التعويل في النَّرْدِ عَلَى ما يُخْرِجُه الكعبان، فهو كالأزلام، وفي الشِّطْرنج يُبنَى الأمرُ علَى الْفِكْرِ والتأمُّلِ، وأنه ينفع في تدابير الحَرْب، وعلى الثاني، فقد حَكَى الإِمَامُ عن الشيخ أبي محمَّد: أَنه من الصَّغَائر، قال: والصحيحُ أنَّه من الكَبَائر. فَرْعٌ: قال في "الأم" وأكره اللَّعِب بالحَزّة (¬3)، والقرق، والكلام في تفسيرهما، ثم في الحُكْم أما التفسيرُ فالحَزّة: قطعةٌ من خشَبٍ يحفر فيها حفْرٌ في ثلاثة أسْطُر، ويُجْعل في الحفر حصَى صغارٌ يُلْعب بها، وقد يُسَمَّى الأربعةَ عَشَر. والقرق: أن يُخَطَّ على الأَرْض مربعٌ يجعل في وسْطِه خطَّان، كالصَّليب، ويُجْعل علَى رؤوس الخط حصّى صغارٌ يلعب بها، والقرق فيما رأيتُ بخطِّ القاضي الرويانيِّ، بفتح القاف والراء، وبعْضُهم قيَّد "القِرْق" بكسر القاف وتسكين الراء، ولم أجدْها في كُتُب اللغة بهذا المعنَى، نعم، في الصِّحَاح (¬4) أنَّ القَرْقِ، بكسر الراء: المكان المستوي، ومعلوم أنَّ الخطَّ لِلَّعِب غالباً يقع في المكان المستَوِي، فيمكن أن يكون ما نَحْنُ فيه مِنْ هذا، وأنْ يكون اللفْظُ كما كره، وأما الحُكْم ففي "الشامل": أن اللَّعِبَ بهما كاللعب بالنرد، وفي تعليق أبي حامد: أنه كالشِّطْرنج (¬5)، ويمكن أن يُقَالَ: ما ¬
يعتمد فيه على إخراج الكعبين، فهو كالنرد، وما يُعْتَمَدُ فيه على الفِكْر، فهو كالشِّطْرَنْج. الثانيةُ: اتِّخاذُ الحَمَام للبَيْض، والفرخ، وللأنس بهالأولحمل الكُتُب جائزٌ بلا كراهة، وأما اللعبُ بها بالتطيير والمسابقة، ففيه وجه أن حكمه كذلك؛ لأنَّ فيه تعليمَهَا، وترشِيحَها؛ لإِنهاء الأخبار، والظاهرُ أنه مكْروهٌ، كالشِّطْرنج، وهذه الفائدةُ تتعلَّق بتطييرها دون المسابقة واللعب بها، ثم لا تُردُّ الشهادة بمجرَّدة، فإن انضم إليه قِمَارٌ وما في معناه رُدَّت الشهادة، وقال مالكٌ وأبو حنيفة -رحمهما الله- تُردُّ الشهادة بمجرَّدة. الثالثة: غِنَاءُ الإِنسان، إِما أن يُفْرَض بمجرَّد صوته، أو بِآلةٍ من آلات الغناء. أما القسْمُ الأوَّلُ، فهو مكْروهٌ:، وسماعُه مكروهٌ، وليسا بمحرَّمَيْن، أما أنهما مكروهان؛ فلقَوْل الله تعالَى؛ {وَمِنَ النَّاسِ من يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] قال ابنُ مسعود -رضي الله عنه-: هو الغناء (¬1)، وَرَوِي أنه -صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الْغِنَاءُ (¬2) يُنْبِتُ النِّفَاقَ في الْقَلْب، كَمَا يُنْبتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ" (¬3) وأما أنهما ليسا بمحرَّمَيْن؛ فلأن عائشةَ -رضي الله عنها- قالَتْ: دَخَلَ أبو بْكر -رضي الله عنه- وَعِنْدِي جَارِيتَانِ مِنْ جَوَارِي الأنْصَارِ يُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتِ الأنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثَ، وَلَيْسَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، فَقَالَ أبُو بَكْر -رَضِيَ الله عَنْهُ-: أَمَزَامَيرُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَذَلَكِ في يَوْمِ عِيدٍ، فَقَالَ: "يَا أبَا بَكْرٍ، لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدٌ، وَهَذَا عِيدُنَا (¬4) " ويُرْوَى أنَّ عُمَرَ -رضي الله عنه- "كَانَ دَاخِلاً فِي دَارِهِ يَتَرَنَّمُ بِالْبَيْتِ وَالْبَيْتَينِ" (¬5) وَعَنْ عُثْمَانَ -رضي الله عنه-: "أَنَّ جَارِيةً ¬
لَهُ كَانَتْ تُغَنِّي باللَّيْلِ، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ السَّحَرِ، قَالَ: أَمْسِكِي، فَهذَا وَقْتُ الاسْتِغْفَارِ" (¬1) وحيث ثبتت الكراهةُ، فالسماعُ في الأجنبية أشدُّ كراهةً، وحَكَى القاضي أبو الطيِّب تحْرِيمَهُ، وهذا هو الخلافُ الَّذي سبقَ في أنَّ صوتها هل هو عورةٌ؟ فإن كان في السَّماع منْها خوفُ فتنةٍ، حَرُم لا محالَة، وكذا السماعُ من صبيٍّ يُخَافُ منه الفتنة، هذا هو المشْهور في الغناء وسماعه وحَكَى أبو الفرج الزاز وراءَهُ وجهَيْن: أحُدَهُمَا: أنه يحْرُم كثيرُه دون قليله. وثانيهما: أنه حرامٌ على الإِطلاق والحداء وسماعه مباحان، لما فيه من إيقاظ النَّوَّام وتنشيط الإِبل للسير، وقد رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لعَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ -رضي الله عنه-: حَرِّكْ بالْقَوْم فَانْدَفَعَ يَرْتَجِزُ (¬2) وتحسينُ الصوْتِ لقراءةِ القرآن جائزٌ، بل مندوبٌ إلَيْهِ، رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "زَيِّنُوا القُرْآنَ بِاَصْوَاتِكُمْ" (¬3) وسمع رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ يقرأ، فقالَ: لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَاراً مِنْ مَزْامِيرِ آلِ دَاوُد (¬4)، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم- "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ" (¬5) وحمله الشافعيُّ -رضي الله عنه- علَى تحْسين الصوْت دون الاستغناء، به وتحسينُ الصوت للقرآن بالترتيلِ، وهو التأنِّي في التلاوةِ، وبالحَدْرِ والتَّحْزِين، قال أبو الفرج الزاز: والحَدْر أن يرْفَعَ الصوْتَ مرةً، ويخفضه أخرَى، والتحزينُ أنْ يلين الصوْتَ، وأما القراءةُ بالألْحَان، فقد قَالَ في "المختصر": لا بأس بها، وعن رواية الربيع بن سليمان ¬
الجِيزِيِّ: أنها مكروهةٌ، ولَيْس في هذا اختلافُ قولٍ عند عامة الأصحاب، ولكن موضع الكراهيَّة أن يُفْرِطَ في المد، وفي إشباع الحركات حتَّى يتولَّد من الفتحة ألفٌ ومن الضمة واوٌ، ومن الكسرة ياءٌ، أو يدغم في غير موضع الإِدغامِ، فإن لم ينته إلَى هذا الحدِّ، فلا كراهة، وفي "أمالي" أبي الفرج وجهٌ أنه لا كراهة، وإن أفرط (¬1)؛ احتجاجاً بمطلَقِ قوْلِهِ -صلى الله عليه وسلم- "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ". والثاني: أن يغني ببعض آلات الغناء ممَّا هوُ من شعارِ شارِبِي الخَمْر، وهو مطربٌ كالطُّنبور، والعود، والصُّنج، وسائر المعازف، والأوتارِ فيَحْرُم استعماله، والاستماع إلَيْه، قال ابنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- في تفسير قوله تعالَى: {وَمِنَ النَّاسِ من يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6]: إنه الملاهِي، وفي اليْرَاعِ وجهان: أحدُهِمَا: أنَّه حرامٌ، كالمزمار. والثاني: المنْعُ؛ لأنه ينشِّطُ على السَّيْرِ في الأسفار ويُرْوَى أن داوُدَ -عليه السلام- كان يضربه في أغنامه، وعن الصحابة الترخيصُ فيه، والأصحُّ الأولُ عند صاحبِ "التهذيب" وعند صاحب الكتاب، وهو الأقرب، وليس المرادُ من اليراع كلَّ قصب، بل المزمارُ العراقيُّ، وما يُضْرب به الأوتار حرامٌ بلا خلاف (¬2)، وأما الدُّفُّ فَضْربه مباحٌ في الإملاك والختان، رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَأضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالْغِرْبَالِ" (¬3) يريد الدُّفَّ، وعن عُمَرَ -رضي الله عنه- أنَّه كانَ إِذَا سَمِعَ الدُّفَّ بعَثَ، فإنْ كان في النِّكاحِ ¬
والخِتَانِ، سَكَتَ، وإنْ كَانَ في غَيْرِهِمَا عَمِلَ بالدَّرَّة وأمَّا في غير الإِمْلاك والختان: ففي "المهذب" و"التهذيب" وغيرهما: إطلاقُ القول بأنه حرامٌ، ويدل عليه أثر عُمَرَ -رضي الله عنه-. ومنهم: من أطلق حلَّه، وعلَى ذلك جرَى الإِمَامُ، وصاحبُ الكتابِ، وقد رجَّح له ما رُوِيَ أنَّ امرأةً أتتِ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقالَتْ: إنِّي نذَرْتُ أن أضرِبَ بالدُّفِّ بين يدَيْك إِن رجعت من سَفَرك سالماً، فقال -صلى الله عليه وسلم- "أَوْفِي بِنَذْرِكَ" (¬1) وأيضاً، فقد يُراد إظهار السرور؛ لأسباب حادثة، كما يراد للإِملاك والختانِ، وحيث قلْنا بالحلِّ، فذلك، إذا لم يكُنْ فيه جلاجلُ، وإن كان، فوجهان: أشْبَهُهُمَا: الحِلُّ أيضاً، وبه أجاب صاحبُ الكتاب هاهنا، وفي "الإِحياء" ولا يحرم ضرب الطبول إلا الطبلَ الَّذي يُسمَّى الكوبة، فإنه حرامٌ؛ لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الله حَرَّمَ عَلَى أُمَّتِي الْخَمْرَ، وَالْمَيْسِرَ وَالْكُوبَةَ" (¬2) في أشياءَ عدَّها، والكُوبةُ الطَّبْل المتَّسِع الطرفَيْن الضيِّقُ الوَسَط، قال الإِمام: وليس فيه من جهة المعْنَى ما يميِّزه عن سائر الطُّبول إلاَّ أن المخنثين يعتادُون ضَرْبَه ويتولَّعون به، قال: والطبولُ الَّتي تهيَّأ لمَلاَعب الصبيان، وإن لم تُلْحق بالطبول الكبارِ، فهي كالدُّفِّ، وليست كالكوبة بحالٍ، والضربُ بالصفافيرِ حرامٌ كذلك ذكره الشيخ أبو محمَّدٍ وغيره؛ لأنه من عادة المخنَّثين، وتوقَّف الإِمام فيه؛ لأنه لم يرد فيه خبر بخلاف الكوبة، وفي ضَرْب القضيب على الوسائط وجْهان؛ الذي أورده العراقيون: أنه مكروةٌ غيْرُ محرَّم؛ لأنه لا يفرد عن الغناء، ولا يضْرب وحده بخلاف الآلاَت المُطْرِبة، وأشار صاحبُ "التهذيب" إلَى ترجيح التحريم، والرقْص غُيْرُ محرَّمٍ، فإنه مجرَّد حركاتٍ على استقامةٍ، ومشْهُوَرٌ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وقَفَ لعائِشَةَ -رضي الله عنها- يَسْتُرها حتَّى نظَرتْ إلى الحبَشَةِ، وهمْ يلعبون، وَيزْفِنُون (¬3)، والزَّفَن هو الرقْصُ، نعم، قال الحُلَيْميُّ الرقْصُ الذي فيه تكسُّرٌ وتثَنِّ، ويشبه أفعالَ المخنَّثين، حرامٌ على الرجاله والنِّسَاءِ. ¬
الرابعة: إنشاءُ الشِّعْر في الجملة وإنشادُهُ والاستماعُ إِلَيْه جائزٌ، كيف لا، وكان للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- شعراءُ يَصْغِي إِلَيْهمْ، حَسَّان بْنُ ثابتٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ -رضي الله عنهما- واستنشد الشريد شعر أمية بنِ أبي الصَّلْت، واستمع إليه، وفي حفْظ دواوين العَرَب أبلغُ معونةٍ عَلَى دَرْك أحكام الكتاب والسنّة ومعانيهما، وقال الشافعيُّ -رضي الله عنه-: "الشِّعْرُ كَلاَمٌ، فَحَسَنُهُ كَحَسَنِهِ، وَقَبِيحُهُ كَقَبيحِهِ" وفضله على الكلام أنَّه سائرٌ، وإنْ هجا الشاعِرُ في شعْرِه بما هو صادقٌ فيه أو كاذبٌ رُدَّتْ شَهَادَتُه؛ لذلك قال القاضي الرويانيُّ: وليس إثمُ حاكِي الهَجُو كإِثْمِ مَنْشِئِهِ (¬1)، ويُشْبِه أن يكون التعريضُ هجْواً كالتصْريح، وقد يزيد بعض التعْريض على التصريح، وقال القاضي ابن كج: لا يكونُ التعريضُ هجواً (¬2)، وكذلك تُرَدُّ شهادة الشاعِرِ، إذا كان يفحش أو يشبِّب بامرأةٍ بعَيْنها لِمَا فيه من الإِيذاء والإِشهار والقَذْف إنْ صَرَّح، وإن كان صادِقاً في أنَّه فعل كذا، فلفِسْقه بما أخْبَر عنه أيضاً، وكذا تُرَدُّ شهادَتُه، لو كان يصف الأعضاء الباطنة؛ لما فيه من هَتْك السِّتر، فإن كانَتِ التي شَبَّب بها جارَيتَهُ، أو زوجَتَه، فمن الأصحاب من قال بأنه يجُوز، ولا تُرَدُّ شهادَتُه، وهذا القائل يقول: لو لم تكن المرأةُ معينةً لا تردُّ شهادته لجواز أن يريدَ من تحِلُّ له، ومنهم من قال: تُردُّ شهادتُهُ إذا كان يذْكُر جاريته أو زوجته بما حقُّه الإِخفاء؛ لأنه ساقِطُ المروءة، وهذا هو الحقُّ، عَلَى ما سيأتي في "فصْل المروءةِ" ولو كان يشبِّب بغلامٍ، ويذْكُر أنه يعْشَقُه، قال القاضي الرويانيُّ يفسق، وإن لم يعين؛ لأن النظَر بالشَّهْوة إلى المذكور حرامٌ بكل حال، وفي "التهذيب" وغيره: اعتبارُ التعْيِين في الغُلام، كما في المرأة، وإذا كان يمْدَحُ الناسَ، ويُطْرِي نُظِر؛ إن أمكن حمْلُه على ضَرْب مِبالغةٍ، فهو جائز، ألاَ تَرَى أن رسُول الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: أَمَّا مُعَاوَيةُ، فَصُعْلُوكٌ؛ لاَ مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ، فَلاَ يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ (¬3) ومعلومٌ أنه كان يضَعُ كثيراً، وإن لم يكُنْ حملُه على المبالغَةِ، وكان كذباً محْضاً، فهل هو كسائر أنواع الكَذِبِ، قال عامة الأصحاب -رحمهم الله- وهو ظاهر كلامِ الشافعيِّ -رضي الله عنه-: نعم، حتَّى إذا أكثر منه، رُدَّتْ شهادته، كما إذا أكثر الكَذِبَ في غَيْر الشِّعْر، ¬
وعن القفَّال والصيدلانِّي: لا يلتحق بالكذب؛ لأن الكاذبَ يَرَى الكَذِبَ صدْقاً، ويروِّجه، ولَيْس غَرضَ الشَّاعِر أن يَصْدِق في شِعْره، وإنَّما هو صناعة، وعلَى هذا، فلا فَرْق بين القليل والكثير، وهذا حسنٌ بالغٌ، وينبغي أن يُقَالَ على قياسه: إن التَّشْبِيب بالنِّساء والغلمان من غير تَعْيين لا يخلُّ بالعدالة، وإن أكثر منه؛ لأن التَّشْبِيب فَنٌّ وغَرَضُ الشاعر إظهارُ الصنعة في هذا الفَنِّ تحقيق المذكور، وكذلك ينبغي أن يكونَ الحُكْم لو سمَّى امرأةً لا يدْري من هي. الخامسة: القولُ في تحْريمُ لُبْسِ الحرير وتحريم الجلوس علَيْه والتحلِّي بالذهب قد سبق في صلاةِ الخَوْف والعِيدَيْن والزكاةِ، فلا نعيدُه، بقي في الفَصْل بعْدَ هذه المسائِلِ كلامان: أحدُهُمَا: ما حكَمْنا بإباحته في هَذِهِ الصُّورة يقتضي الإِكْثَار منْه ردَّ الشهادةِ، لكَوْنِه خَارِماً للمروءة فمن داوم على اللَّعِب بالشِّطْرنج والحَمَام، رُدَّتْ شهادته، وإن لم يقترن به ما يوجِبُ التحريم؛ لِمَا فيه من ترك المروءة، وكذا من داوم علَى سماع الغناء أو على الغناء، وكان يأتي النَّاسَ ويأتيه الناسُ لذلك، وكذا، لو اتخذ غلاماً أو جارية ليغنيا للنَّاس، وكذا المداومةُ على الرقْص وضرْبِ الدفِّ، فإنَّ الإِكثار من جميع ذلك إعراضٌ عن الجِدِّ ودخُولٌ في زمرة الهازلين الذين تشوبُهُم الظُّنون، ولا يوثَقُ بقولهم، وكذا إنشاءُ الشِّعْر وإنشادُهُ، إذا أكثر منه، فترك به مُهِمَّاتِه، كان خارقاً حجابَ المُرُوءة، كذا ذكره الإِمامُ، قال: وكذا الشاعرُ يكتسب بشِعْره، والمَرْجِعُ، في المداومة والإِكثارِ إِلى العادَةِ، ويختلف الأمر فيه بعادات النَّواحِي والبلادِ، ويُسْتَقْبَحُ قدر من شخْصٍ لَا يُستقبحُ من غيره، وللأمكنة تأثيرٌ فيه أيضاً، فاللعب بالشِّطْرنج في الخلوة مراراً لا يكون كاللَّعِب مرَّةً في السوق علَى ملأ من الناس، وقد ينساق هذا إلَى أن يُقَالَ: لما استمرت العادةُ بأن الشَّاعر يكتسب بشِعْره وعدّ صنعة الغناء المباح حرفةً ومكسباً، فالاشتغالُ به ممن يليق بحاله لا يكون تركاً للمروءة، وكلامُ الأصحاب محمُولٌ على من لا يليق بحالهِ وقدْ رأيتُ ما ذكرته في الشَّاعر يكتسب بشِعْره لابن القاصِّ، والله أعلم. وقوله في الكتاب يخرم المُروءة في حق بعض الناس "فيه إشارة إلى ما ذكرنا. الثاني: ما حكمنا بتحريمه في هذه المسائل كالنَّرْد، وسماع الأوتار، ولُبْسِ الحرير، والجُلُوسِ عليه، فهو من الكبائر حتَّى تردَّ الشهادة بالمرَّة الواحدة أو من الصَّغائر حتى يُعْتَبَر المداومةُ والإِكثارُ منْه وجهان؛ ميل كلام الإِمام إلَى ترجيح أولهما، والأشبه الثانِي، وهو المذكور في "التهذيب" وغيره، وزاد الإِمامُ شيئاً آخرَ، فقال: لِيُنْظَر أولاً إلى عادة القُطْر والناحية، فحيثُ يستعظمون النَّرْد، وَسماع الأوتار، تُرَدُّ الشهادةُ بالمرَّة الواحدة؛ لأن الإِقدامَ في مثْل تلْك الناحيةِ لا يكونُ إلاَّ من جَسُور منحلِّ عن ربقة
المروءة، فتسقط الثقة بقوله، وحيث لا يستعظمون، لا يكُونُ مطْلَقُ الإِقدام مُشْعِراً بتَرْكِ المبالاةِ، وسقطِ "المروةِ" فحينئذ يقع النظر في أنه من الصَّغائر أو الكبائر، وهذا ما عناه صاحبُ الكتاب بقوله "إلا في بلدة يَعْظُم عندهم" إلى آخره أي فتردُّ شهادته، وإن لم يَفْسُق وقوله: في أول الفصل "واللعب بالشطرنج" ليعلم "الشطرنج" بالحاء والميم والواو، "والحمام" بالحاء، والميم و"سماع الغناء" بالواو، وكذا قوله: "وإن كان فيه جلاجلُ" وكذا لفظ "النّرد" والمعازفُ هي الملاهِي التي يُلْعَبُ بها يُقَالُ: عَزَفَ عَزْفاً، واسْمُ المعَازِفِ تشْمَل الأوتار، والمزامِيرَ. وقوله: "وما هو من شِعَار الشُّرْب" الشَّرب جمع شَارِبٍ كصَاحِبٍ وصَحْبٍ، ويمكن أن يقرأ بضم الشِّين أي شِعَار شُرْب الخمر. وقوله: "ولكن لا تُرَدُّ الشهادة بالمرَّة الواحدة" يعلم بالواو. وقوله: "وليس يخلو الإِنسانُ عن كِذْبَةٍ" إلى آخره محْضُ تكرارٍ، وقد ذكر في الفصل السابق ما يفيد معناه. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالنَّصُ أَنَّ الحَنَفِيَّ إِذَا شَرِبَ النَّبِيذَ حُدَّ وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لاَ يُحَدُّ، وَوَجْهٌ أنَّهُ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الخَمْرُ العِنَبِيَّةُ التي لم يَشبْهَا ماءٌ ولا طُبِخَتْ بنارٍ محرَّمةٌ بالإِجماع، ومن شربها عالماً بحالها، فهو محدودٌ مردود الشهادةِ، سواءٌ شرِبَ قدراً يُسْكِرَ أو قدراً لا يسكر، قال أصحابنا العراقيون: وكذلك حُكْمُ بائِعِها ومُشْتَرِيها في ردِّ الشهادة ولا تُردُّ الشهادة باتِّخَاذها وإمساكها، إن قصد به التخلل أو التخليل، والمطْبُوخ من عصير العنب المختلَفِ في تحريمِهِ وسائرُ الأنبذة، إِن شَرِب منها القدْرَ المُسْكِر، يُحَدُّ وتردُّ شهادته أيضاً، وإنْ شرب منها القَلِيلَ، فإِما أن يعتقدَ إباحَتَه، كالحنفيِّ، أو يعتقدَ تَحْرِيمه، أما الأولُ، ففيه ثلاثة أوْجُه: أحدُها: أنَّه لا يحدُّ، لشبهة اختلاف العلَماءِ، ولا تردُّ شهادته؛ لأنه لم يرتكبْ ما يعتقدُهُ محظوراً حتَّى يسقط الوثُوقُ به. والثاني: وبه قال مالكٌ: أنه يُحَدُّ وتُردُّ شهادته، أما الحدُّ، فلُقوَّةِ أدلَّة التحريم والحاجَةِ إلى الزَّجْر، وأما ردُّ الشهادة؛ فلأنه شَرِبَ ما يُسْكِر، فتردُّ شهادَتُه، كما لو سكر. وثالثُها: وبه قَالَ أحمدُ: أنه يُحَدُّ ولا تُرَد شهادَتُه، وهو الأظْهَر عند عامَّة الأصحاب -رحمهم الله-، واستبعده المُزَنِيُّ، فقال: الحد أعظمُ من ردِّ الشهادة، فكيف يحَدُّ ولا تردُّ شهادته، قيل: هذا ذهابٌ منه إلَى أنه تردُّ شهادته، قيل كما يحدُّ، وقيل: بل إلَى أنه لا يحدُّ كما لا تردُّ شهادته، وأجاب الأصحاب بأن الحد إلى الإِمامِ، فاعتبر
فيه اعتقاده، وردُّ الشهادةِ يَعْتَمِد عقيدةَ الشَّاهد، ولهذا لو غَصَب جاريةً وَوَطِئَها على اعتقادِ أنه يَزْنِي ثم تبيَّن أنَّها كانتْ مملوكتَهُ يفْسُق وتردُّ شهادته، ولو وطئَ جاريةَ الغَيْر عَلَى ظنِّ أنها جاريتُهُ لا تردُّ شهادته، وأيضاً، فإنَّ الحدَّ للزجْرِ، وشرْبُ النبيذ يحتاج إلى الزجر ورد الشهادة لسقوط الثقة بقوله إذا لم يعتقد التحريم، لم تسقط الثقة، وأما إذا كان الشاربُ ممَّن يعتقدُ تحريمه، فإن قلْنا يُحَدُّ معتقِدُ الحِلِّ، فهذا أولَى، وإن قلْنا لا يُحدُّ، فوجهان. أظهُرهما: المنْعُ أيضاً؛ لشبهة الاختلاف، وأما ردُّ الشهادة، فإنْ ردَدْناها هناك، فهاهنا أولَى، وإن لم نردَّها، فوجهان: أحدهما: أن الجوابَ كَذَلك؛ لأنَّ استحلال الشَّيْء أشدُّ من فعله، وإذا لم تردَّ شهادة مستحلِّ الشُّرْب، فشهادة الشارب أولَى، وعلى هذا فإنما نحكم بالفسق وردِّ الشهادة، إذ ارتكب مُجْمعاً على تحريمه. والثاني: أنها تردُّ؛ لأنه، إذا لم يرتكبْ ما يعتقده محْظوراً، لم تؤْمَنْ جرأته علَى شهادة الزور وسائِرِ المحْظُورات، والأظْهَرُ من الوجْهَيْن الأول عنْد ابن الصَّبَّاغ وصاحب "المهذب" وَيُحْكَى عن ابن أبي هُرَيرْة، والثاني عند القاضي أبي الطيِّب الرويانِّي وغيرهما، ويحكى، عن أبي إسحاق، وهو الذي أورده الإِمامُ ويوافقُه ما حَكَى الرويانيُّ في "جمع الجوامع" عن القفَّال أنَّ من نكح بلا وليِّ، ووطئ، لا تُرَدُّ شهادتُه، إن اعتقد الحِلَّ، وتُردُّ، إن اعتقد التحريمَ، وعلى هذا قياسُ سائر المجتهدات، لكنْ قد حُكِيَ عن نص الشافعيِّ -رضي الله عنه- أنه لا تُردُّ شهادةُ المستحلِّ لنكاحِ المُتْعَة، والمفْتي به والعَامِل به، ونقل أبو الفيِّاض مثْلَه (¬1) في تتمة "الجامع الصغير" لأبي حامد القاضي، والفَرْقُ في الحدِّ حيث أوجبناه في شرْب النبيذ على الظاهر، ولم نوجبْه في الوطء بالنكاح بلا وليٍّ مذكورٌ في النكاح. وقوله في الكتاب "إذا شرب النبيذَ" يعني القدْرَ الذي لا يسكر، فأما إذا شرب ما أسْكَره، فَسَق بلا خلاف، وأَعْلِم قولَهُ "وقُبِلَتْ شهادَتُه" بالميم، وقوله "لا يحدُّ" بالألف؛ لما عرَفْتَهُ، والله أعلم. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: الوَصْفُ الثَّانِي: المُرُوءَةُ: فَمَنْ يَرْتَكِبُ مَا لاَ يَلِيقُ بِأَمْثَالِهِ مِنَ المُبَاحَاتِ بِحَيْثُ يُسْخَرُ بِه كالفَقِيهِ يَلْبسُ القَبَاءَ وَالقَلَنْسُوَةَ وَيَأْكُلُ وَيَبُولُ فِي الأَسْوَاقِ أَوْ أَكَبَّ عَلَى اللَّعبِ بالشِّطْرَنْجِ أَوِ الحَمَامِ أَوِ الرَّقْصِ أَوِ الغِنَاءِ فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى خَبَل في عَقْلِهِ أَوْ قِلَّةِ مُبَالاَةٍ فِيهِ فَتَسْقُطُ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ وَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالأَشْخَاصِ وَالأحْوَالِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ شَهَادَةَ الكَنَّاس والدَّبَّاغ وَالحَجَّامِ وَالحَائِكِ وَذَوِي الْحِرَفِ الخَسِيسَةِ مَقْبُولَةٌ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ صنْعَةِ آبَائِهِمْ، فأَمَّا اخْتِيَارُ ذَلِكَ مِمَّنْ لاَ يَلِيقُ بِهِ يَدُلُّ عَلَى خَبَل فِي العَقْلِ وَيَخْرُمُ المُرُوءَةَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الأشْهَرُ والأحْسَنُ من اصطلاح الأصحاب -رحمهم الله- إخراجُ المروءة عن حدِّ العدالةِ، وعدُّ المروءة صفَةً برأسها، وعلَى ذلك جَرَى في الكتاب، ومنْهم مَنْ يُدْرج المروءة في العدالة، وكذلك السابقة، وهي التكليفُ، والإِسلامُ، والحريَّةُ، ويقولُ: العدل هو الذي تعتدلُ أحواله دِينًا ومُروءة وأحكاماً، فالاعتدال في الدِّين أن يكونَ مُسْلِماً عفيفاً، وفي المُروءة ما يبينه هذا الفصلُ، وفي الأحكام: ألاَّ يكونَ نَاقِصَ الحكْمِ بِصِباً أو جنونٍ أو رِقٍّ، والفقهُ أنه لا يُقْبَلُ شهادةُ من لا مُروءة له، لأن طرح المُروءة، إما أن يكون بخبَلٍ ونقصانٍ أو لقلَّة مبالاةٍ وحياءٍ، وعلى التقديرَيْن تَبْطُل الثقَةُ والاعتمادُ بقوله: أما المُخَبَّل، فظاهر، وأما من لا حياء له فيصنع ما شاء على ما ورد معناه في الحديث (¬1)، وفي ضَبْط المروءةِ عباراتٌ متقاربةٌ، قيل: صاحبُ المروءةِ هو الذي يَصُون نفْسَه عن الأدناس، ولا يشينها عنْد الناس، وقيل: الذي يتحرَّز عما يُسْخَر منه ويُضْحك به، وقيل: الذي يسير سيرةَ أمثاله في زمانه، وكأنه ممن ترك المروءة لبس ما لا يليق بأمثاله كما إذا لبس الفقيهُ القَبَاء والقَلنسُوة وتردد فيهما في البلاد التي لم تجر عادة الفقهاء فيها بلبس هذا النوع من الثياب كما إذا لبس التَّاجرُ ثَوْب الجمَّالِين، أو تعمَّم الجَمَّال، أو تَطَيْلَسَ، أو ركِبَ البغْلَة الثمينة، وتطوَّف في الأسواق مكشُوفَ الرأس، ويتخذ نفْسه ضحكةً، ومنه المشْيُ في الأسواق مكشوفَ الرأْس والبدن، إذا لم يكُنِ الشخصُ ممَّن يليق به مثلُه، وكذا مدُّ الرِّجلَيْن في مجالس الناس، ومنه الأكلُ في السوق، والشُّرْب من سقايات السوق، إلا أن يكون الشخصُ سُوقيّاً أو شَرَبِ لغَلَبة عَطَش، ومنه أن يُقَبِّلُ الرجلُ زوجتَهُ أو جاريتَهُ بيْن يدَي الناس، وحَكَى لهم ما يجري في الخَلْوة، وأن يكثر من الحكايات المضْحِكَة، ومنْه: أن يخرج عن حسن العشْرة مع الأهْل والجيران، والمعامِلِينَ، ويضايق في اليسير الذي لا يستقصى فيه، ¬
ومنه الإِكباب على اللَّعِب بالشِّطْرنجِ والحَمَامِ والغناءِ علَى ما سبق، ومنه أن يبتذل الرجُلُ المعتبرُ بنقل الماء والأطعمة إلَى بيته، إذا كان ذلك عن شحِّ وضنَّة وإذا كان عن استكانةٍ واقتداء بالسَّلَف التارِكِينَ للتكليف، لم يقدح ذلدُ في المُروءة، وكذا لو كان يلبس ما يجدُ وياكل حيث يجدُ؛ لتعلُّله وبراءته من التكلُّفات العاديَّة، وهذا يعرف بتناسب حال الشخص في الأعمال والأخلاق وظُهُورِ مخايِلِ الصِّدْق ولا يبديه، وقد يُؤثِّر فيه الزيّ واللبسة وأهل الحِرَفِ الدنيَّة؛ كالحجَّام والكنَّاس والدَّبَّاغ والقَيِّم في الحمام والحَارِس والنَّخَّال، قال صاحبُ "التهذيب" وغيره: والإِسكافُ والقَصَّاب في شهاداتهم وجهان: أحدهُمَا: أنها لا تُقْبَل؛ لأن اشتغالهم بهذه الحِرَف ورضَاهُمْ بها يُشْعِر بالخسَّة وقلَّة المروءة. فأصحهما: القَبُول؛ لأنَّهَا حرفٌ مباحةٌ، والناسُ محتاجون إلَيْها، ولو ردَدْنا شهادتهم، لم يُؤْمَن أن يتركُوها، فيعمَّ الضررُ، وفي الحياكة طريقان: أحدُهُمَا: القطْع بالقبول، واختاره القفَّال، توجهاً بأن محلَّ عملهم ما هو محلّ عمل الخياط، إلا أن هذا منسوج وذلك غير منسوج. وأشبَهُهُمَا: طرد الوجهَيْن، لإِزراء الناس بهِمْ، وعدِّهم النسبة إلى الحياكةِ سبّاً وإيذاءً، وَحَكَى أبو العباس (¬1) وجْهاً فارقاً بْين ما يُحْوِج إلَى مخامَرَةِ القاذورات، والنجَاسَات وبَيْن ما لا يحوج إلَيْه، فيقع الحارسُ والنَّخَّالُ والحائِكُ في القسْم الثانِي، والباقُونَ في الأَوَّل، وفي كتاب القاضي ابن كج أنَّ بعْضَ الأصحاب ألحقَ الصَّبَّاغِينَ والصَّوَاغِينَ بمَنْ تُردُّ شهادتهم، والصَّحيحُ القطعُ بالقبول، نعم، من يكثر منهم ومن سائر المحترفة الكذب والخُلْفَ في الوعد، تُردُّ شهادته لذلك، ثم الكلام في موضع الوجهَيْن من وجهَيْن: أحدُهُما: قال صاحبُ الكتاب: الوجهان فيمن يليقُ به هذه الحِرَفُ، وكان ذلك من صنعة آبائه، فأما غيره، إذا اختارهاَ، واشتغل بها، سقَطَت مُرُوَّته، وهذا حَسَنٌ، وقضيته أن يُقَالَ: الإِسكافُ والقَصَّاب، إذا اشتغلا بالكَنْس بَطَلَتْ مروءتهما بخلاف العَكْس (¬2). والثاني: الَّذِينَ يخامِرُون النَّجَاساتِ، إنَّما يجري فيهم الوجْهان، إذا حافَظُوا على الصلوات، واتخذوا لها ثياباً طاهرةً، وإلا، فتردُّ شهادتُهم بالفِسْق (¬3). ¬
فَرْعٌ: الذي يترك السُّنَنَ الرواتِبَ وتسبيحاتِ الرُّكوع والسُّجودِ أحياناً، لا تُرَدُّ شهادته، وإن اعتاد ترْكَها رُدَّتْ شهادتُهُ؛ لتهاونه بالسُّنَنِ، ذكره في "التهذيب" وسببه إشعارُ هذا التهاوُنِ بقئةِ المبالاةِ والاهتمام بالمهمَّات، وحَكَى الشيْخُ أبو الفَرَجِ في غير الوتر وركعتَي الفجر من الرواتِب وجْهاً، أنه لا تردُّ الشهادة باعتياده ترْكَها، وعن نصِّ الشَّافعي -رضي الله عنه- أن المَستحِلَّ للأنبذة، إن كان يديم المقاومة علَيْها والحُضُورَ مع أهل السَّفَه، رُدَّتْ شهادته؛ لطرْحِهِ المروءة، وإن لم يفسق المستحلُّ وشهادةُ الطوافِ على الأبواب وسائر السؤال مقبولةٌ إلا أن يُكْثِرَ الكذبَ في دعوى الحاجة، وهو غيرُ محتاجٍ أو يأخذ مَا لا يحِلُّ له أخذه، فيفسق لذلك، وعن أبي حنيفة ردُّ الشهادة بسبب الطَّوْفِ على الأبواب، وهو قضية الوجْه الذاهب إلَى ردِّ شهادة أصحاب الحِرَفِ الدنيئة؛ لأن اختيارَ ذلك يدلُّ على الخسة. وقوله في الكتاب "أو أكبَّ على اللَّعِبِ بالشطرنج أو الحَمَام، أو الرقْصِ، أو الغناءِ" مكرره، قد ذُكِرَ من قبلُ ما يفيده. وقوله: "والحائك" يجوز إعلامه بالواو؛ لطريقة مَنْ قَطَع بقبول شهادَتِه. قَالَ الغَزَالِيُّ: الوَصْفُ الثَّالِثُ: الانْفِكَاكِ عَنِ التُّهْمَةِ: وَلَهَا أَسْبَابٌ: الأَوَّلُ: أَنْ يَجُزَّ إِلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ نَفْعاً كَمَنْ يَشْهَدُ أَنَّ فُلاَنًا جَرَحَ مُوَرِّثَهُ، أَوْ يَدْفَعُ كَالعَاقِلَةِ إِذَا شَهِدَتْ بفِسْقِ شُهُودِ القَتْلِ الخَطَأ فَلاَ يُقْبَلُ، وَلَوْ شَهِدَ بِمَالٍ آخَرَ لِمُوَرِّثِهِ المَجْرُوحِ أَوِ المَرِيضِ قُبِلَ، وَلَوْ شَهِدَا لِرَجُلَيْنِ بِوَصيَّةٍ لَهُمَا مِنْ تَرِكَةٍ فَشَهِدَ لِلشَاهِدَيْنِ أَيْضاً بِوَصِيَّة فِيهَا قُبِلَتِ الشَّهَادَاتُ (ح)، وَكَذَا رُفَقَاءُ القافِلَةِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: عن ابن عُمَرَ -رضي الله عنهما- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ ظَنِينٍ وَلاَ خَصْمٍ" والظنين المتهَّمُ، وللتُّهمة أسبابٌ: منها: أن يجر إلى نفسه بشهادته نفْعاً أو يَدْفع بها ضرراً، فلا تُقْبَلُ شهادةُ السيد لمكاتَبِهِ ولعبده المأذُون (¬1) بدَيْنٍ ولا عَيْنٍ، ولا شهادةُ الوارثِ لِمَنْ يرثه، ولا شهادةُ الغريمِ للميِّت، ولا للمفْلِسِ المحْجُور عليه، وتُقْبَلُ شهادةُ الغريم لمديونه الموسِرِ، ¬
وكذا المعْسِرِ قبل الحجْرِ في أصحِّ الوجهين؛ لأن قبل الحجْرِ يتعلَّق الحقُّ بذمته لا بعَيْن أمواله. والثاني: المنع؛ لأن المِعْسر لا مطالبة عَلَيْه، فإذا أثبت له شيئاً، أثبت لنفسه المطالبة، ولا تُقْبَلُ شهادةُ الضَّامِن للمَضْمُون عنْه بالأداء أو الإِبْرَاء ولا شهادة الوكيل للموَكِّل فيما هو وكيلٌ فيه، ولا شهادةُ الوصِّي والقيِّم في محلِّ تصرُّفهما، ولا شهادة الشريك لشريكه فيما هو شريكٌ فيه بأنْ يقولَ: هذه الدارُ أو العبْدُ بَيْنَنَا، ويجوز أن يشهد بالنصْف لشريكه، ولا تُقْبَلُ شهادةُ الشريك لشريكه ببَيْع الشِّقْصِ ولا للمشْتَرِي من شريكه؛ لأن شهادتَهَ تتضمَّن إثباتَ الشُّفْعَة لنَفْسِه، فإن لم يَكُنْ فيه شفعةٌ بأن كان ممَّا لا ينقسم، قال الشيخ أبو حامد: يُقْبَل، وكذا لو عفا عن الشفعة، ثم شَهِد، ولو شَهِد أن فلاناً جرح مورثه، لم يُقْبَل للتهمة، ولو شَهِدَ بم الآخر لمورثه المجروح أو المريضِ، نُظِر؛ إن شهد بعد الاندمال، قُبِلَ، إلا أن يكون من الأصول أو الفروع، وإن شَهِدَ قبل الاندمال، فوجهان: أحدُهُما: وبه قال أبو إسحاق: لا تُقْبَلُ كما لو شَهِدَ أن مورثه جرح. وأصحُّهُمَا: القبول، والفرق أن الجرح سببُ المَوْتِ الناقل للحقِّ، فإذا شهد بالجرح، فشهادته بالسبب الناقل للحق، وهاهنا بخلافه، وهذا الوجْهُ هو الذي أورده صاحبُ الكتاب هاهنا، وذكر الوجهين معاً في كتاب "دعوى الدم" وفي شرح "أدب القضاء" لأبي عَاصم العبَّاديِّ أنه لا تُقبلُ شهادة المودع للمودع، إذا نازعه أجنبيٌّ في الوديعة؛ لأنه يستديم اليَدَ لنفسه وتنقل للأجنبي في الوديعة وكذا شهادة المرتهن للرَّاهن، لا تُقبلُ، ويقبلُ للأجنبيِّ، وأنَّ شهادة الغاصِب على المَغْصُوب منْه لا تقبل لفسْقه، ولأنه ينقل الضمان الثابِتَ علَيْه من المستحقِّ إلَى غيره، ويدفع مؤنة الرِّدِّ، فإِن شهد بعد الردِّ، قُبِلَتِ الشَّهَادة، وإنْ شَهِدَ بعْد التلف، لم تُقبلْ، لنقل الضمان، وأنَّ شهادة المشتري شراءً فاسداً بعْدما قبض لا تُقْبل للأجنبيِّ؛ لمثل ذلك، وأنَّ شهادةَ المشتَرِي شراءً صحيحاً بعْد الإِقالَةِ والرَّدِّ بالعَيْب لا تُقْبَل للبائع؛ لأنه يستبقي لنفسه الغلاَّتِ والفوائَد، إذا كان المدَّعِي يدعي المِلْكَ من تاريخ متقدِّمٍ على البيع، ولو شهد بعد الفسخ بخيارِ الشرطِ أو المجلسِ، فوجهان؛ بناءً على أنه يرفع العقْدَ من أصله وترتد الفوائدُ إلى البائع لا مِنْ حينه، أَمْ من حينه ولا ترتدُّ، وأنه لو كان لميت دَيْنٌ على شخصَيْن، فشهد أجنبيان لرَجُلٍ بأنه أخو الميِّت، ثم شهد الغريمان لآخر بأنَّه ابْنُهُ، لم تُقْبل شهادة الغريمَيْن؛ لأنهما ينقلان ما وجَب للأخِ عليهما إلَى من يشهدان له بالبنوَّة بخلاف ما لو تقدَّمت شهادة الغريمَيْن، وأنه لا تُقْبَلُ شهادة الوارثين عَلَى موت المورِّث وشهادة المَوصَى لهما على موت المُوصِي، وتُقبل شهادةُ الغريمَيْن علَى موت من له
الدَّيْن؛ لأنهما لا ينتفعان بهذه الشهادةِ، ولا ينظر هاهنا إلى نقل الحق من شخص إلى شخص لأن الوارث خليفةُ المورِّث، فكأنه هو، ذكَر ذلك كلَّه القاضِي أبو سعْدٍ الهرويُّ شارحه، وإذا شهد شهودٌ بقتل الخطأ، فشهد اثنانِ من العاقلة بِفِسْقِ الذين شَهِدُوا بالقتل لم يُقْبَلُ شهادَتُهما؛ لأنهما يدْفعَانَ ضَرَر التَّحمُّل، وكذا لو كان أحدُهُم مزكياً بجُرْح شهودِ القَتْل، وكذا لو شهد اثنانِ عَلَى مِفْلِسٍ بدَيْن، فشهد غرماؤه الظاهرون بفسقهما، لم يُقْبَلْ شهادتهم؛ لأنهم يدْفَعُون بها ضَرَر مزاحمةِ المدَّعِي ولو شهد اثنانِ لاثنين بوصيَّة من تركةٍ، فشهد المشهودُ لَهُمَا للشاهدَيْن بوصيَّةٍ من تلْك التركةِ أو شَهِدَ الواحدُ فشهد المشهود له مع آخر بوصيَّة للشاهدَيْن، فعن صاحب "التقريب": أنها لا تُقْبَلُ لتهمة المواطأَة، ويُقال: إنه رواه الربيع عن النصِّ، ومذهب أبي حنيفَة، وليكن المنعُ المطْلَقُ فيما إذا شَهِد الآخران قبل أن يحكم القاضي بشهادة الأوَّلَيْن، فإِنْ حكم ثُمَّ شهد الآخران، فيجوز أن يختص المنعُ بالآخَرين، ويجوز أن يُجْعَل بمثابةِ ما إِذَا بانَ فِسْقُ الشهود بَعْد الحكم، والصحيحُ قبولُ الشهادَتَيْنِ؛ لأنَّ كلَّ بينةٍ منفصلةٌ عن الأخرَى، ولا يجرُّ شاهد بشهادته نَفْعاً إلَى نفسه ولا يدفع بها ضرراً؛ ولذلك نقول: رفقاءُ القافلة يجُوزُ أن يَشْهَدَ بعضْهُم لبعضٍ في قطْع الطريق، إذا قال كلُّ واحد منْهم: أخذ مالي فلانٌ، ولم يقلْ: مالَنَا، على ما هو مذكورٌ في "باب قاطع الطريق". قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّانِي: البَعْضِيَّةُ: فَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الوَلَدِ وَالوَالِدِ، بَلْ لِلْفُرْوعِ وَالأُصُولِ وَكُلِّ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ، وَتَقْبَلُ (ح م) شَهَادَةُ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ للآخَرِ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ، وَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالزِّنَا مَعَ ثَلاَثةٍ مِنَ العُدُولِ، وَتُقْبَلُ عَلَى الوَلَدِ وَعَلَى الوَالِدِ وَإِنْ كَانَتْ بِعُقُوبَةٍ. وَفِي حَبْسِ الوَالِدِ بِدَيْنِ وَلَدِهِ وَجْهَانِ، وَلَوْ شَهِدَ بِمَالٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ وَلَدِهِ وَأَجْنَبِيِّ رُدَّ فِي حَقِّ وَلَدِهِ، وَفِي حَقِّ الأَجْنَبِيِّ وَجْهَانِ لِتَبْعِيضِ اللَّفْظِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ومن أسباب التهمة البعضيةُ، فلا يُقْبَلُ شهادةُ الوالدِ لولدِهِ، ولا لوَلَدِ ولدِهِ، وإن سَفَل، ولا شهادةُ الولَدِ لوالدِهِ، ولا لواحِدٍ من أصولِهِ، وإن علا؛ لأن المشْهُود له بعضُهُ، فشهادته له كشَهَادَتِه لنفسه، وقد رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، وَلاَ خَائِنَةٍ، وَلاَ ظَنِينٍ فِي قَرَابَةٍ" (¬1) ورُوِيَ في الخَبَرِ "لاَ يَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِلْوَلِدِ، وَلاَ الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ" وعن ابن القاصِّ رواية قولٍ عن القديم: أَنَّ شهادة كلِّ واحدٍ منهما للآخِرَ مقبولةٌ، وبه قال المُزَنِيُّ واختاره ابْنُ المُنْذِرِ -رحمهما الله- والمَذْهَبُ الأَوَّلُ وساعدنَا عليه أبو حنيفةَ -رحمه الله- وكذلك مالكٌ فيما نقله ابنُ الصَّبَّاغ -رحمهما الله- وغيره، وفي "التهذيب" أن عنده تُقْبَلُ شهادة الولَدِ للوالِدِ، ولا تُقْبِلُ شهادة الوالِدِ للولد؛ ¬
لأن الولَدَ ومالَهُ لأبيه (¬1)، وهذه رواية عن أحمدَ -رحمه الله- وعنه روايةٌ أخرَى كمذهبنا روايةٌ ثالثة أنها تقبل من الطرفَيْن، إذا لم يظهرْ تهمةٌ بأن شهِدَ بالنكاح أو الطلاق أو شَهِدَ بالمال، وهو غنيٌّ، ولا تُقْبَلُ شهادةُ الوالِدِ للولَدِ وبالعكس، ولا تُقْبَلُ الشهادة لمكاتَبِ الولَدِ والوالِدِ وما دونَهُما، ولو شهِدَ اثنانِ أنَّ أباهما قذَفَ ضرَّةَ أمِّهِما، ففي قبول شهادَتِهما قولانِ، ويُقَالُ: إن المُزنيَّ نقلهما في "الجامع الكبير": أحدُهُما: المنع؛ لأن القبول يُحْوِجُه إلى اللِّعان، وأنه سببُ الفرقة فشهادَتُهما تجرُّ نفعاً إلَى أمهما. وأصحُّهُمَا: القبولُ ولا عبرةَ بمثل هذا الجرِّ وذكر في "المهذَّب"؛ أن الأول من القولَيْن القديمُ. والثاني: الجديدُ، ويجربان فيما لو شهد أنَّه طلَّق ضَرَّةَ أمِّهما وخالَعَها، ولو ادَّعت امرأةٌ بالطلاق، وشهد لها ابناها، لم تُقْبَلْ شهادتُهما، ولو شهِدَا حسبةً ابتداءً قُبِلَتْ، وكذلك الرِّضاع، ولو شهِدَ الأبُ مع ثلاثةٍ على زوجة ابنه بالزنا، فإن سبق من الابن ¬
قَذْفٌ، فطُولِبَ بالحدِّ، فحاول إقامة البينة، لدفع الحدِّ عن نفْسه، لم تُقبْل شهادتُهُ للابن، وإن لم يقذف أو لم يُطَالِبْ بالحدِّ، وشهد الأبُ حسبةً، قُبِلَتْ شهادتُه، وهل تُقْبل شهادةُ أحَد الزوجين للآخر؟ فيه قولان: أحدهما: لا، وبه قال أبو حنيفة، ويُرْوَى عن مالكٍ وأحمدَ أيضاً -رحمهم الله- لأنَّ كل واحدٍ منهما وارثٌ لا يُحْجَب، فأشبه الأب والابن. وأصحُّهما: القَبُول؛ لأنَّ الحاصلَ بينهما عقْدٌ يطرأ ويزولُ، فلا يمنع قَبُولَ الشهادة، كما لو شهد الأجيرُ للمستأجر، وزاد بعضهُم قولاً آخر فارقاً، وهو ردُّ شهادة الزوْجَة لزوْجها دون شهادة الزوجِ لزوجته؛ لأنَّها تستحقُّ النفقة علَيْه، فهي متهمةٌ، والأقوال كالأقوال في قطْع أحدهما بسَرَقِة مالِ الآخرِ، وحَكَى صاحبُ "التهذيب" طريقةً قاطعةً بالقَبُول ورجَّحها، وتُقْبَلُ شهادة أحد الزوجَيْن على الآخر إذ لا تهمة، إلا أن الزَّوْج لا تُقبل شهادتُه عَلَى زوجته بالزنا؛ لأنه ينسبها إلَى خيانةٍ في حقه، فلا يُقْبَلُ قوله، كما إذا ادَّعى المالكُ خيانةً علَى المودَع، ولأنه خَصْمٌ لها فيما يقوله وتقبل شهادةُ الوالد على الولد، وبالعكس، فإنَّه لا تهمة، ولا فَرْقَ بَيْن أن تَكُونَ الشهادةُ بمالٍ أو عقوبةٍ، وفيه وجه أنَّه لا تُقْبَلُ شهادةُ الوَلَد على الوالد بالقصاص وحدِّ القذف؛ لأنه لا يجوز أن يكون الابنُ سبباً لعقوبة الأب، كما لا يقتصّ به، ولا يحدّ بقذفه، والظاهرُ الأوَّل ثم في الفصل فرعان: أحدُهُما: وقد ذكره في "التفليس": في حبس الوالد بدَيْنِ الولد وجهان، وقد ذكرنا هناك أن الأصحَّ، عند صاحب الكتاب، الحَسْنُ، ويُقَالُ: إنَّه اختيار أبي زيْدٍ، وأنَّ الأصحَّ عند صاحب التهذيب، المَنْعُ قال الإِمامُ، وإلَيْه صارَ مُعْظَمُ أئمتنا -رحمهم الله- ونَقَلَ وجهاً ثالثاً، وهو أنَّهُ يحبس في نفقة ولَده، ولا يحبس في سائر الدُّيون، وهذا اختيار صَاحِبِ "التلخيص" وهو قريبٌ مما حكينا عن أبي حنيفةَ هناك. الثاني: شَهِدَ بأن هذا العَبْد أو الدار لولَده ولفلانٍ الأجنبيِّ، فشهادته في حقِّ الولد مردودةٌ، وهل تُردُّ في حق الأجنبي؛ لأن الصيغة مُتَّحِدَةٌ، وقد اختلَّت برد بعض مقتضاها أو لا تُردُّ؛ لاختصاص المانع بالولد؟ فيه وجهان، ويُقال: قولان، والخلافُ كالخلافِ المشهورِ في تفريق الصفقة بل هو هو، وقد تعرَّضنا لهذا النَّوْع في مواضع. وإذا عرفْتَ ما ذكرنا، أعْلَمْتَ قوله في الكتاب "فلا تُقْبَلُ" بالواو والزاي والألف. وقولهُ: "والولد" بالميم؛ لرواية صاحب "التهذيب". وقوله: "وتقبل شهادة أحد الزوجين" بالحاء والألف والميم. وقوله: "على أحد القولَيْن" بالواو؛ للطريقة القاطِعَة.
وقوله: "وإن كانَتْ بعقوبةٍ" بالواو. وقوله: "وكلُّ من يستحق النفقة لاَ حَاجَةَ إِلَيْه" لأن المقصود هاهنا الاستحقافُ بجهة القرابة. وفي قوله: "بل الأصول والفروع" ما يفيد الضبْطَ. فرع: عَبْدٌ في يد زيدٍ ادَّعَى مدعٍ أنه اشتراه منْ عَمْرو بعْدما اشتراه عمْروٌ من زيد صاحب اليد، وقبضه، وطالبه بالتسليم، وأنكر زيْدٌ جميعَ ذلك، فشهد ابناه للمدَّعِي بما يقوله، حكى القاضي أبو سعْدِ فيه قولَيْن. أَحَدُهُمَا: ردّ شهادتهما؛ لتضمُّنها إثباتَ المِلْك لأبيهما. وأصحُّهُما: القَبُولُ؛ لأن المقصود بالشهَادَةِ في الحال المدَّعِي، وهو أجنبيٌّ عنهما، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّالثُ: العَدَاوَةُ: فَلاَ تُقْبَلُ عَلَى العَدُوِّ وَتُقْبَلُ لَهُ، وَالعَدَاوَةُ هِيَ الَّتِي تُظْهرُ الغَضَبَ وَتَحْمِلُ عَلَى الفَرَحِ بِالمُصِيبَةِ وَالغَمِّ بِالسُّرُورِ، وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لِلصَّدِيقِ وَالأَخِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ومن أسباب التُّهمة العداوةُ، فلا تُقْبَلُ شهادة العدُوِّ على العدُوِّ، خلافاً لأبي حنيفة. لنا مَا رويَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، ولا خَائِنَةٍ، وَلاَ ذِي غُمْرٍ عَلَى أَخِيهِ" (¬1) وَيُرْوَى "لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلاَ ظَنِينٍ" (¬2) قيل: المرادُ من الخَصْم العدُوُّ، والعداوةُ التي تُردُّ بها الشهادةُ هي التي تَبْلُغُ حداً يتمنَّى هذا زوالَ نعْمة ذاك، ويَفْرَح بمصيباته، ويحْزَنُ بمسراته، وذلك قد يكون من الجانبَيْنِ، وقد يكون من أحدهما، ¬
فيختصُّ بردِّ شهادته على الآخر، فإن اقتضت العداوةُ إلى ارتكاب ما يوجِبُ الفسق، فهو مردودُ الشهادة على الإِطْلاق، وإذا عادَاهُ من يريد أن يشْهَد عليه، وبالغ في خصومه، فلَمْ يُجِب، وسكَتَ، ثَم شهد عليه، قُبِلتْ شهادته، وإلا اتخذ الخصماءُ ذلك ذريعةً إلَى إسقاط الشهادات، هكذا حكاه القاضي الرويانيُّ عن القَفَّال، وذكره جماعة، منْهم صاحبُ "التهذيب" وأورد في "باب اللِّعَان" بأنَّ شهادة المقْذُوف على القاذِفِ قَبْل طلب الحَدِّ مقبولةٌ، وبعْد الطلب غيرُ مقبولة؛ لظهورِ العداوة، وأنه لو شهد بعْدَ الطَّلَب، ثم عما، وأعاد تلْكَ الشهادة، لا يُقْبَل؛ كالفاسق، إذا شَهِد، ثم تَاب، وأعاد تلْكَ الشَّهَادة (¬1) وأنه لو شَهِد قبل الطلب، ثُمَّ طلب قبل الحكم، لم يحكم بشهادته، كما لو فَسَق الشاهِدُ قبل الحكم، لكنْ في "تعليق الشيخ" أبي حامد وغيره: أن الشافعيَّ -رضي الله عنه- صَوَّر العدَاوَةَ الموجبة للرِّدِّ فيما إذا قذَفَ رجلٌ رجلاً، وادَّعَى عليه أنَّه قطَع الطريقَ علَيْه، وأخذ مالَهُ، فقال: يصيرانِ عدُوَّيْنِ، فلا تُقْبَلُ شهادةُ واحد منهما على الآخرِ، فاكتفى بالقَذْف دليلاً على العدَاوَة، ولم يَتعرَّض لطلب الحد، قال القاضي الرويانيُّ: ولعل القفَّال أرادَ غَيْر صورة القَذْف، ثم على ما ذكره في "التهذيب": الحكم غير منوط بأن يطلب المقذوفُ الحدَّ بل بأن يظهر العداوة؛ لأنه قال: لو شهدَ رجُلٌ عَلَى رجلٍ، وقال: قذفني، وقذف زوجَتِي، وفلاناً، ثم تُقْبَلْ شهادتَهُ لفلان؛ لأنه أظْهَرَ العداوةَ بقوله: قذفَنِي وقذف (¬2) زوْجَتِي، بيْنه وبين المشهودِ عَلَيْه، ولو قال: قذف أمِّي وفلاناً، لم تُقْبَلْ شهادته للأم، وفي قبولها لفلانٍ قَوْلاَ التَّبْعِيضِ، قال: لأن سبب الردِّ في الصورة الأولَى العداوةُ بينه وبينْ المشهود عليه، فيعمُّ أثرها، وسبب الرد في الصورة الثانيةِ البعضيَّةُ، فجاز أنْ يختصَّ أثرُهَا بالأمِّ والردُّ هنا للبعضيَّة، فلا يورث تهمة في غير الأم بالأم. وقد يقول الناظِرُ: لِمَ كان قولُه: "قذَفَ زوْجَتِي" إظهاراً للعداوة، ولم يكُنْ قوله: "قذَف أمِّي" إظهاراً لها، وقد يقُول: إن كان قول المقذوف "قذفني" دليلاً على العَدَاوَةِ، فنَفْسُ قذْفِ القاذِفِ أدلُّ عليها، فهلاَّ اكتفى به كَمَا دلَّ عليه النصُّ، ولا شك أنه لو شَهِدَ عَلَى إنسان، فقذَفِ المشْهودُ علَيْه، لم يَمْنع ذلك من الحُكْم بشهادته، وقد نصَّ عليه. والعداواتُ الدينيَّةُ لا تُوجِبُ ردَّ الشهادة، بل تُقْبَلُ شهادة المسلم عَلى الكافِرِ والسُّنَّيِّ على المبتَدِع، وكذا من أبغض الفاسِقَ لِفِسْقه، لم تُرَدِّ شهادته عليه، ولو قال العالم الناقد: لا تسْمَعُوا الحديثَ منْ فلانٍ فإنه مخلِّطٌ ولا تَسْتَفْتُوا منْه، فإنه لا يُحْسِن الفتوى لم تردَّ شهادته لأن هذا نُصْحٌ للناسِ، نصَّ عليه الشافعيُّ -رضي الله عنه- وتقبل ¬
شهادةُ العدُوِّ تهمَة، والعصبيةُ: نصَّ عليه الشافعيُّ -رضي الله عنه- وتقبل شهادةُ العدُوِّ لعدوه إذ لا تهمةَ، والعصبيةُ: هو أن يَبْغَضَ الرجل؛ لأنه من بَنِي فلان إنِ انضم إليها دعوةُ الناس وتألُّفهم للإضْرار به، والوقيعةِ فيه، فيقتضي ردَّ شهادته عليه، ومجرَّدها لا يقتضيه، ولَيْسَ من العصَبية أن يُحبُّ الرجُلُ قومه وعمرته، فيقبل شهادته لهم وعليهم، ويقبل شهادة الصَّديق للصديق، كما يقبل للأخِ والعمِّ وغيْرِ الاْصول والفروع، وقال مالكٌ: لا تُقْبَلُ شهادةُ الصديقِ للصَّديقِ، وكذا شهادةُ الأخِ للأخِ، إذا كان منقطعاً إلَيْه بصلةٍ وَيبُّرُهُ. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَتُقْبَلُ شَهَادَةَ المُبْتَدِعَةِ إِذِ الصَّحِيحُ أنَّهُمْ لاَ يُكَفِّرُونِ، وَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يَطْعَنُ عَلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمُ وَيَقْذِفُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا لأنَّها مُحْصَنَةٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: جلُّ الفقهاء من أصحابنا وغير أصحابنا يَمْتَنِعُونَ من تكفير أهل القبلة، نعم اشتهر عن الشافعيِّ -رضي الله عنه- تكفيرُ الَّذِينَ ينْقُونَ علْمَ الله تعالَى بالمعدوم، ويقولون: لم يعلَمْ إلا الأشياء حتَّى يَخْلُقَها، وَرَوَى العراقيُّون عنه تكفير النافين للرُّؤْيَة، والقائلين بخَلْق القرآن، وأولَّه الإِمام -رحمه الله- وقال: ظنّي أنه نَاظَر بعْضَهم، فألزمه الكُفْر في الحِجَاجِ، فقيل: إنه كَفَّره فيمَنْ (¬1) يكفر، ولا تُقْبَلُ شهادته، ومن لا يُكَفَّر من أهل البدَع وإهواء، نصَّ الشَّافعي -رضي الله عنه- في "الأم والمختصر" علَى قبول شهادتهم، إلا شهادةَ قَوْم يَرَوْنَ الكَذِبَ كفراً، ويشهد أحدُهُم لصاحبه، إذا سمعه يقول: لي على فلانٍ أو عنْده كَذَا، فيصدقه بيمينٍ أو بغَيْر يمينٍ، ويشهد له اعتماداً عَلَى أنه لا يكذب وهؤلاء يُسَمَّوْنَ الخَطَّابِيَّةَ، والأصحابُ فيه عَلَى ثلاثةِ فِرَقٍ، ففرقةٌ جرَتْ على نصِّه في الكتابَيْن، وقبلت شهادةَ جَمِيعهم، وهم الأكثرون، منهم ابن القاصِّ، وابن أبي هريرة، والقفَّال، والقضاةُ ابن كج، وأبو الطيِّب، والرويانيّ -رحمهم الله- ووجَّهوه بأنَّ هؤلاء مُصِيبُون في زعْمهم، ولم يظْهَر منهم ما يسقط الثقة بقولهم، وفيهم طوائفُ يشدِّدون أمر الكذب، فيتأكد الظَّنُّ بصدقهم، وإلى هذا أشار الشافعيُّ -رضي الله عنه- بقوله: وشهادةُ من يَرَى كِذَبْه شِرْكاً بالله ومعصيةً يَجِبُ بها ¬
النارُ أولَى أنْ يطيب النَّفْسُ بقبولها مِنْ شهادة من يخفِّف المأثم فيه وقبل هؤلاء شهادة من يسب هؤلاء الصحابة والسَّلف -رضي الله عنهم- فإنه يقدم عليه عَنِ اعتقادٍ لا عَنْ عداوةٍ، قالوا: ولو شَهِدَ خطابىٌّ، وذكر في شهادته ما يَقْطَع احتمالَ الاعتمادِ عَلَى قول المدَّعِي؛ بأن قال: سَمِعْتُ فلاناً يقر بكذا لهذا ورأيته أقره، قُبِلَتْ شهادته. وفرقة أخرَى منْهم الشيخ أبو حامد ومن يحذو حذوه حملوا النصَّ على المخالِفِينَ في الفُرُوع، وردُّوا شهادة أهل الأهْوَاء كلِّهم، وقالوا: إذا ردَدْنا شهادَة من نفسِّقه، فأولَى أن نرُدَّ شهادَةَ من نضلِّله، وننسبه إلى البدعة. وفرقةٌ ثالثةٌ توسَّطوا، فردَّت شهادةَ بعْضهم دون بعض، فعنْ أبي إسحاق أنه قال: من أنكر إمامةَ أبِي بَكْرٍ -رضي الله عنه- رُدَّتْ شهادتهُ؛ لمخالفة الإِجْمَاع ومن فضّل عليًّا على أبي بَكْر -رضي الله عنهم- لم تُرَدَّ شهادته، وردَّ الشيخ أبو محمَّد شهادةَ الذين يسُبُّون الصحابة -رضي الله عنهم- ويقْذفُون عائشةَ -رضي الله عنها- فإنَّها محصَنَةٌ على ما نطَقَ به القرآنُ، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 23] وقَذْف سائر المحصنات يُوجِبُ رَدَّ الشهادة، فقَذْفُها أولَى، وعلى هذا جَرَى الإِمامُ وصاحبُ "التهذيب" والمصنِّف -رحمهم الله- وخَيْرُ الأمور أوساطها، وفي "الرقْم" أن شهادة الخَوَارجِ مردودةٌ؛ لتكفيرهم أهل القبلة (¬1)، ووافق أبو حنيفةَ الفَرقَةَ الأولَى من الأصحاب، ومالكٌ الثانية، وأحمدُ ردَّ شهادة ثلاثةِ أصنافٍ؛ القدريَّةِ، والجهمَّيةِ والروافضِ، فيجوز إعلام قولُه في الكتاب "وتُقْبَلُ شهادةُ المبتدعة" بالميم والألف والواو. قَالَ الغَزَالِيُّ: الرَّابعُ: بالتَّغَافُلُ: فَرُبَّ عَدْلٍ يَكْثُر سَهْوُهُ وَوَهَمُهُ وَلاَ يَسْتَقِيمُ تَحَفُّظُهُ وَضَبْطُهُ فَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إلاَّ إِذَا عُلِمَ أنَّهُ فِي مَوْضِعٍ لاَ يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ومن أسباب التُّهْمَةِ الغفْلَةُ وكَثْرَةُ الغَلَطِ، فلا تُقْبَلُ شهادةُ المغفَّل ¬
الذي لا يحفظُ ولا يَضْبِطُ؛ لأنه لا يُوثَقُ بقوله، فإن شهد مُفَسِّرًا وبَيَّن وقْتَ التحمّل ومكَانَهُ، فزالَتِ الريبةُ عن شهادته، قُبِلَت، ولا تُقْبَلُ أيضاً شهادةُ منْ يَكْثُرُ غَلَطُهُ ونِسْيَانُهُ، وأما الغلَطُ القليل، فإنَّه لا يقْدَحُ في الشَّهَادة؛ لأنَّ أحداً من النَّاس لا يَسْلَمُ منه، قال الإمامُ -رحمه الله- ومُعْظَمُ شهادات العَوامِّ ويشوبها جهلٌ وغرَّةٌ، فيحوج إلى اسْتفصاله، كمَا مرَّ في "أدب القضاء". قَالَ الغَزَالِيُّ: الخَامِسُ: دَفْعُ عَارِ الكَذِبِ: فَمَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ: بِفِسْقِ فَتَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُة إِلاَّ إِذَا أَعَادَ تِلْكَ الشَّهادَةِ لأَنَّهِ يَدْفَعُ بِذَلِكَ عَارَ الْكَذَبِ، وَتُقْبَل الشَّهَادَة المُعَادَةُ مِنَ الْعَبْدَ وَالْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ إِذَا زَالَ نُقْصَانُهُم، وَهَلْ تُقْبَلُ الْمُعَادَةُ مِنَّ الْفَاسِقِ المُعْلِنِ وَالْعَدُوِّ والسَيِّدِ إِذَا شَهِدَ لِمُكَاتَبِهِ فِيْهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ومن أسباب التهْمَةِ: أن يدفع بالشهادَةِ عَارَ الكَذِب عَنْ نفسه، فإذا شهد فاسقٌ، فرد القاضِي شهادَتَه، ثم تاب، كما سنَصِفُ التوْبَةَ، فشهَاداتُهُ مقبولةٌ بعد ذلك، لكن لو أعاد تلْكَ الشَّهادة، لَمْ يُقْبَلُ، خلافاً للمزُنِّي، ولو شهد عبد أو كافرٌ أو صبيٌ، فلم يعتدَّ بشهادتهم ثم عَتَقَ العَبْدُ وأسْلَم الكافرُ وبلغ الصبيُّ، فأعادوا شهاداتِهِم، قُبِلَتْ، خلافاً لِمَالكٍ وأحْمَدَ -رحمهما الله- والفرق من وجهين: أحدُهُما: أنَّ العدالَةَ والفسْقَ يدْرَكَانِ بالنَّظَر والاجتهادِ، والظاهرُ من حال المِسْلم العدالةُ، لكنَّ القاضِيَ بعْد البَحْث قد يؤدِّي اجتهادُهِ إِلَى فِسْق الشاهد، فيحكم بردِّها، وما حكم بردِّه لا يحكم بقوله؛ كعقدٍ أبطله لَيْس له أن يصحِّحه، والعبْدُ والصبيُّ والكافرُ ليس لهم أهليَّة الشهادَةِ، وما أتَوْا به لَيْسَ بشهادةٍ حتى يُقْبَلَ أو يُرَدَّ، ولو علم القاضي حالَهُم، لم يَصْغَ إَلى كلامهم، وهذا الفَرْقُ هو الذي أشار إليه الشافعيُّ -رضي الله عنه-. والثاني: قال الأصحاب: العَبْدُ والكافر والصبىُّ لا يتعيَّر بردِّ الشهادة، أما العَبْدُ والصبيُّ، فليس إلَيْها نُقْصَانهُما، وأما الكافِرُ، فلا يعتقد كُفْره نقْصاً بل يفتخر به، ولا يبالي بردِّ شهادته، لتمسُّكه بدينه، والفاسقُ يتعيَّر بالردِّ؛ لأن الردَّ يُظْهِرُ فسْقَه الذي يسعَى في إخفائه ويعرف بأنه نقص، ولأنَّه متهمٌ بالكذب والمجازفة، إذا رُدَّت شهادته، فإذا أعاد تلْكَ الشهادة، فقد يريدُ دفْعَ غضاضةِ الكَذِب، أو يَرَى أنه كان القاضِي مخْطِئاً في ظن الفسْق به فلمَّا تبيَّن له خلافُه، قيل شهادته، وقد يتوهَّم أنه على فسْقه، لكن أظهر التوْبَة ليعيد الشهادةَ، ويدْفَع العَارَ ومثْلُ هذا لا ينقدحُ في بلوغ الصبي وما في معناه، فإن كان الفاسقُ مُعْلِناً بالفسْقِ حين شهد، ففي قَبُول شهادته المعادةِ بعْد التوبة وجْهَان، والأئمةُ إلَى أنَّها لا تقْبَل أيضاً أميلُ، واختاره القاضي الرُّوَيانيُّ، ويُنْسَبُ إلَى ابْن أبي هْرَيْرة، واختيارُ القاضي أبي الطيِّب القبولُ، ويُنْسَبُ إلَى أبي إسحاق، والوجهانِ
يُخرجَّان على الفَرْقَيْن إن قلْنا بالثاني، فرد شهادته لا يُظْهِر فسْقَه، فإنه ظاهرٌ، وهو غير مبالٍ بفسقه يعدُّه عاراً، كالكافر، فوجب أن يُقْبل وإن قلْنا بالأول، فقد جرى الحكم بردِّ شهادته لكن بفسقه هذا إنَّما يتضحّ أن لو أصغى القاضي إلَى شهادته مع ظهور فِسْقه، فإنَّه ظاهرُ، وهُوَ غَيْر مبالٍ بفسْقِهِ ثم ردَّها وفيه وجهان، الذي ذكره الشيخ أبو محمَّد، واستحسنه الإِمامُ -رحمهما الله- أنه لا يصغى إليها كشهادة العبدِ والصبيِّ، ولو كان الكافرُ مستسِرّاً بكُفْره، وردَّتْ شهادته، ثم أسلم، وأعادها حكى القاضي ابنُ كجِّ في قَبُولها وجهَيْن، لكنَّ قياس الفريقين جميعاً ألاَّ يقبل، أمَّا الأوَّل؛ فلأنَّ شهادته تَحْتَاج إلى النَّظَر والاجتهاد؛ لاستسراره، فإذا جرى الحُكْم بردِّها، وجب ألاَّ يقبل، وأما على الثاني، فلأنَّ ردَّ شهادته يُظْهِر دينه، فيفتضح به ويتغيَّر، فيكون متهماً في الإِعادة. ولو شهِدَ عَلى إنسان، فردَّت شهادتُه لعداوةٍ بينهما، ثم زالت العداوةُ فأعاد تلْك الشهادة، فوجهان أيضاً. وجْهُ القَبُول: أن العداوة سَبَبٌ ظاهرٌ، فالرد بها لا يُورثُ عاراً، ووجه المنع: أنها شهادةٌ رُدَّتْ للتهمة، فإذا أعيدَتْ، لم يُقْبَلُ شهادة الفاسِقِ، وهذا أصحُّ؛ على ما ذكر صاحبا "المهذب" و"التهذيب" -رحمهما الله- ويجري الوجهان فيما لو شَهِدَ لمكاتَبهِ بمالٍ أو لعبْدِهِ بنكاحٍ، فردت شهادته، فأعادها بعْدَ عَتْقِهِما، والذي أجابَ به ابنُ القاصِّ في هذه الصورة القَبُولُ، ويجريان فيما إذا شَهِدَ اثنان من الشفعاء بعفوِ شفيعٍ ثالثاً قبل أن يعفو فردَّت شهادتُهما ثم أعادها بَعْدَ ما عَفَوَا وفيما إذا شهد اثنان يرثان من رجُلٍ بجراحةٍ عليه غيره مندملةٍ، فردت شهادتُهما، ثم أعادها بعد اندمال الجِرَاحَة. فرع: عن "أمالي" أبي الفَرَج: شهد فَرْعَانِ على شهادة أصْلٍ، فردت شهادتُهما بفسق الأصلِ، فقد صارت شهادة الأصل مردودةً، فلو تاب، وشهدَ بنَفْسه، وأعاد الفرعان شهادتهما على شهادته أو شَهِدَ عَلَى شهادته فرعان آخرانِ، لم تُقْبَلْ، ولو رُدَّت شهادة الفرعين، لفسقهما، لم تتأثَّر به شهادةُ الأصْل. قَالَ الغَزَالِيُّ: السَّادِسُ: الْحِرْصُ عَلَى الشَّهَادَةِ بالمُبَادَرَةِ قَبْلَ الدَّعْوَى فَلاَ تُقْبَلُ، وَبَعْدَ الدَّعْوَى وَقَبْلَ الاسْتِشْهَادِ وَجْهَانِ، فَإنْ لَمْ تُقْبَل فَهَلْ يَصِيرُ بِهِ مَجْرُوحًا فِيهِ وَجْهَانِ، وَلَوْ جَلَسَ مُخْتَفِياً فِي زَاوِيَةِ لَتَحَمُّلِ شَهَادَةِ قُبِلَتْ (م و) وَلاَ تُحْمَلُ عَلَى الحِرْصِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَمِنْ أَسبَاب التُّهْمَةِ الحِرْصُ عَلى الشَّهَادة بالمَبَادَرة، واعلم أن الحقوق على ضربَيْن، ضَرْبٍ لَا يَجُوز المبادَرَةُ إلَى الشَّهادة عَلَيْهِ، وضرب يجُوزُ، وتُسمَّى الشهادةُ عليه عَلى وجه المبادرة شهادةَ الحِسْبة، وستعرف أنواعها في الفَصْل التالي لهذا الفصْل: فحيث لا يجُوزُ، فالمبادُرِ متَّهم، فلا تُقْبلُ شهادته، وفي الخبر أنه -
صلى الله عليه وسلم- قال في مَعْرِضِ الذَّمِّ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ يُعْطُونُ الشَّهِادَةَ قَبْلَ أنْ يُسْأَلُوهَا (¬1) وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "خَيْرُ الشُّهَدَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا" (¬2) فَجُمِعَ بين الحديثين بحَمْلِ الثاني على ما يجُوز المبادرةُ إليه وحُمِلَ الأولُ عَلَى ما لا يجوز، والمبادرةُ أن يشهد من غير تقدُّم دعوى، فإِن شهد فِي غَيْر موضْح الحاجة بعْد الدعْوَى، وقبل أن يستشهد، فوجهان: أحدُهِما: القبول؛ لأنَّه شهِدَ وقْتَ الحاجة إلَى إقامة البيِّنة، والأظهرُ المَنْع للتُّهمة، ولفظ الخَبَر الأوَّل شهد له، وهو الذي أورده في "التَّهْذيب" وإذا ردَدْنا شهادة المُبَادر، ففي صيرورته مجروحًا وجهان مشهوران في كَلاَم الأصحاب -رحمهم الله- أشبههما المنع ويحكى القطع عن أبي عاصم العبادي إن كانت المبادرة عن جهل منه وظاهر هذا الإِيراد كون الخلاف في سقوط عدالته على الإِطلاق ويؤيده أن القاضي أبا سعد الهروي قال: الوجهان مبنيان على أن المبادرة من الصغائر أو الكبائر لكن منهم من يفهم كلامه وقوع هذا الخلاف في قبول تلك الشهادة وحدها إذا أعادها لا في سقوط العدالة مطلقاً -هذا صاحب الكتاب يقول في الوسيط في باب دعوى الدم في وجه لا تقبل تلك الشهادة منه إذا أعادها كالشهادة المردودة بعلة الفسق وعلى وجه تقبل وعلى وجه إن تاب عن المبادرة تقبل، وفي التهذيب أن إذا قلنا يصير مجروحاً فلا يشترط استبراء الحال حتى لو شهد في حادثة أخرى تقبل فأشعر ذلك في اختصاص الخلاف في تلك الشهادة لا غير. وتقبلُ شهادة من اختبأ وجلس في زاوية مستخفياً لتحمل الشهادة ولا تحمل على الحرص إذ الحاجة قد تدعو إليه بأن يقر مَنْ عليه الحق إذا خلا به المستحق ويجحد إذا ¬
حضر غيره، وعن مالك أن المشهود عليه إن كان جلداً لا ينخدع فتقبل هذه الشهادة، وإن كان ممن يخدع فلا تقبل، وحكى الفوراني عن مذهب مالك أن شهادة المختبئ لا تقبل أصلاً، وأن للشافعي -رضي الله عنه- قولاً مثله في القديم، وأن على المذهب الصحيح يستحب أن يخبر الخصم أني شهدت عليك حتى لا يبادر إلى تكذيبه إذا شهد فيعذره القاضي، ولو قال رجلان لثالث توسط بيننا لنتحاسب ونتصادق على ألا تشهد علينا بما يجري، فهذا الشرط لاغٍ وله بل عليه أن يشهد بما علم (¬1). قَالَ الغَزَالِيُّ: وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الحِسْبَةِ ابْتِدَاءَ فِيمَا لِلَّهِ فِيهِ حَقٌّ مُؤَكَّدٌ كَالطَّلاَقِ وَالعِتَاقِ وَالخُلْعِ وَالعَفْوِ عَنِ القِصَاصِ وَتَحْرِيمِ الرَّضَاعِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الوَقْفِ عَلَى مُعَيَّنٍ وَفِي النَّسَبِ وَفِي شِرَاءِ القَرِيبِ المُوجِبِ لِلْعَتْقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: غرض الفصل بيان ما تقبل فيه شهادة الحسبة وهو ما يتمحض حقاً لله تعالى أو له فيه حق مؤكد لا يتأثر برضى الآدميين فمنه الطلاق وهل تقبل شهادة الحسبة في الخلع؟ أطلق في التهذيب المنع، وقال الإِمام تقبل في الفراق ولا تثبت في المال، قال: ولا أُيعيرُ ثبوته تبعاً، ولا أن يثبت الفراق دون البينونة، ومنه العتاق ويستوي فيه العبد والأمة. وقال أبو حنيفة: تقبل في عتق الأمة دون العبد. تقبل في الاستيلاد قال في التهذيب ولا تقبل في التدبير وفي تعليق العتق به كان شيخي القاضي يقول: تقبل كالاستيلاد؛ كان الفرق عند من فرق أن الاستيلاد يفضي إلى العتق لا محالة وهما بخلافه، قال: وكذا لا تقبل شهادة الحسبة في الكتابة وإن أدى النجم الأخير شهدوا على العتق وفي شراء القريب وجهان: في وجهه تقبل شهادة الحسبة بحق العتق والأشبه وهو جواب القاضي الحسين المنع لأنهم يشهدون على الملك والعتق شيء مرتب عليه وليس كالخلع إذا قلنا يثبت بشهادتهم الفراق دون المال لأن المال في الخلع تابع وفي الشراء مقصود، فإثباته دون المال محال ومنه العفو عن القصاص فالصحيح وهو المذكور في الكتاب أن شهادة الحسبة مقبولة فيه وحكى القاضي أبو سعد الهروي فيه وجه آخر لأن ترك القاضي الدعوى مع الحرص على الحياة يورث التهمة في شهادتهم، ومنه تحريم الرضاع، ومنه الوقف فإن كان على جهة عامة فتقبل فيه شهادة الحسبة وكذا الوصية للفقراء، وفي الوقف على الجهات الخاصة وجهان عن الصيدلاني أن الجواب كذلك وهذا ما أورده الروياني في "جمع الجوامع" وحكى ¬
الإِمام عن المعظم المنع لتعلقه بحظوظ خاصة قال صاحب الكتاب في الوسيط وهو الصحيح، ومنه النسب فعن القاضي الحسين أنه لا تقبل فيه شهادة الحِسْيَة، وحَكَم المصنِّف في الباب: الثالث بأنَّه الأصحُّ، الذي أورده الصَّيْدلانيُّ وصاحب "التهذيب" القَبُولَ، وهو الأظهر؛ لأنه متعلِّق بحقوق الله تعالَى، كالطلاق والعَتَاق، ومنه بقاءُ العدَّة وانقضاؤُهَا وتحريمُ المصاهرة، وكذا الزَّكَواتُ والكفاراتُ والبلوغُ والكُفْر والإِسُلام والحُدُود التي هي حقُّ الله تعالى، كحد الزنا، وقطع الطريق، والسرقة، لكن الأولَى فيها السْتُر، وفي حد السرقة وجهٌ آخر مذكورٌ في "باب السرقة" قال القاضي أبو سَعْدٍ، ومنه الإِحصانُ والتعديلُ، وقد ذكرناه في "التزكية" وأما ما هو حقُّ العباد كالقِصَاصِ وحدِّ القذف والبُيُوع والأقاريرِ، فلا تُقْبَلُ فيه شهادةُ الحسبة، فإن لم يعلم صاحب الحق بالحق أخبره الشُّهُود حتَّى يدعي، ويستشهدهم، فَيَشْهَدُوا، فإن هذا هو المذهبُ المشْهُور، وفيه وجهان آخران، ذكرهما الإِمامُ في "دعْوى القتل". أحدهما: أنه يقبل في الدِّماء؛ لحظرها. والثاني: يُقْبل في الأموالِ أيضاً، وذكر أن "صاحبَ التقريب" خرَّجه من الوجهين في جواز انتزاع المغصُوب من الغاصب ليوصله إلى المالك، وإلَى هذا أشار في الكتاب بقوله في "باب دعوى الدم": "وشهادة الحِسْبَةِ لا تُقْبَلُ في حَقُوقِ الآدمَيِّين في أصح الوجهَيْن" ثم القائلون بالقبول، منْهم من أطلق، وعن الأستاذ أبي طاهر تخصيصُ القَبُول بما إذا لم يعلم المستحِقُّ بالحق، ويجوز أن يُعْلَم لذلك قولُه في الكتاب "فلا تُقْبَلُ" في الفصل السابق بالواو. فروع: ما تُقبل فيه شهادةُ الحِسْبَة هل تقبل فيه دعوى الحسبة فيه وجهان: أحدُهُما: لا؛ لأنَّ الثبوت بالبيِّنة، وهي غنية عن الدْعوَى، وهذا هو الجوابُ في "فتاوى القفال". والثاني: عن القاضي الحُسَين: أنها تُسْمَع؛ لأن البينة قَدْ لا تساعده، ويراد استخراج الحقِّ بإِقرار المدَّعَى عليه (¬1). ¬
وشهودُ الحسبة يجيئون إلى القاضي، ويقولون: نَشْهَد علَى فلانٍ بكذا، وأحضروه لنشهد عليه، وإن جاءوا وقالوا: إن فلاناً زَنَا، فهُمْ قذفةٌ، وفي الفتاوى أنَّه لو جاء رجُلانِ، فشهدا بأن فلاناً أخُو فلانةٍ في الرَّضَاع لم يكْفِ حتى يقولان: وهو يريد أن ينكحها، وأنه لو شَهِدَ اثنانِ بالطَّلاق، وقضى القاضِي بشهادَتِهما، ثم جاء آخران يَشْهَدان بأخُوَّة الرضاع بين المتناكحَيْن، لم تقبل هذه الشهادة، إذْ لا فائدة لها في الحالِ بقولهما ولا عبرة بكونها يشهدان لئلا يتناكَحَان من بعْد، وأنَّ الشهادة علَى أنه أعتق إنما تُسْمَعُ، إذا كان المشهودُ علَيْه يسترقُّ من أعتقه، وهذه الصورةُ تُفْهِمُ أنْ شهادة الحسبة إنَّما تُسْمَع عند الحاجة، ولو جاء عبدا إنسان إلى القاضي، وقالا: إن سيِّدَنا أعتق أحَدَنا، وقامَتْ على ما يقولان بيِّنةٌ، سُمِعت، ولو كانتِ الدعْوَى فاسدةً؛ لأن البينةَ علَى العتْق مستغنيةٌ عن تقدُّم الدعْوَى. وليُعْلَم من لفظ الكتاب قوله: "والعتاق" بالحاء، وقوله: "والعفو عن القصاص" بالواو؛ لمَا بيَّنَّاه، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَتَقْبَلُ شَهَادَةُ البَدَوِيِّ عَلَى القَرَوِيِّ وَالقَرَوِيِّ عَلَى البَدَوِيِّ، وَشَهَادَةُ المَحْدُودِ فِي القَذْفِ إِذَا تَابَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لما تكلم في الصفات المعتبرة في الشهود وبَيَّنَ في خلالها ما يمنع قبول الشهادة تكلم في أمور ظن ظانون أنها من موانع القبول. منها: شهادة البدوي على القروي وبالعكس مقبولة، وقال أحمد: لا تُقبل شهادة البدوي على القروي وبه قال مالكٌ إلا في القتل والجراجات، قالا؛ لأن القروي لا يدخل إلى البادية للإِشهاد لكن البدوي قد يدخل القرية فيشهد والأمر في هذا لا ينضبط. ومنها: شهادة المحدود في القذف وغيره بعد التوبة مقبولة في جنس ما حدَّ به وفي غيره، وعند أبي حنيفة شهادةُ المحدود في القذف لا تقبل وإن تاب، وقال مالكٌ كل من حد في معصية لم تُقبل شهادتُه فيما حد فيه، ومن هذا القبيل شهادة ولد الزنا مقبولة ويجوز أن يكون قاضياً ولكن لا يمكن أن يكون إماماً؛ لأن النسب مشروط في الإِمامة وقال مالكٌ لا تُقبل شهادة ولد الزنا، واعلم أن شهادة الأخرس الذي لا يعقل الإِشارة لا اعتبار بها، وإن كان يعقل الإِشارة فقولان عن تخريج ابن سريج: أحدهما: أنها مقبولة اعتماداً على الإِشارة كما في عقوده ويُحْكَى هذا عن مالكٍ واختيار الحناطي والقاضي أبي الطيب -رحمهم الله-. والثاني: المنع؛ لأن الإِشارة لا تصرح وإنما تفيد ظناً، ونحن في غنية عن شهادته
بشهادة غيره، ويخرج عليه عقوده، وهذا أظهر عند الأكثرين منهم ابنُ القاص والشيخُ أبو حامد وبه قال أبو حنيفةَ وأحمدُ -رحمهم الله- وإيانا وعلى هذا فيعتبر في الشاهد وراء الصفات المذكورة في أول الباب أن يكون ناطقاً، وذكر أبو القاسم الصيمري في مختصر جمعه في أحكام الشهادات أنه لا يجوز شهادة المحجور عليه بالسفه فإن كان كذلك زادت صفة أخرى (¬1) والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَيَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ تُبْت وَلاَ أَعُودُ إِلاَّ إِذَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بالكَذِبِ فَهُوَ فَاسِقٌ يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهُ كَكُلِّ فَاسِقٍ يَقُولُ: تُبْتُ فَإِنَّهُ لاَ يُصَدَّقُ حَتَّى يُسْتَبْرَأَ مُدَّةٍ فَيَعْلَم بِقَرَائِنِ الأَحْوَالِ صَلاَحَ سَرِيرَتِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أخذ في الكلام في توبة القَاذِف، ثم اختلط به الكلامُ في التوبةِ علَى سائر أنواع الفِسْقِ، ووجهُ الحاجة إلَيْه بيِّنٌ، فإنَّ من لا تُقْبَلُ شهادَتُهُ لِفِسْق، إذا تَابَ، وظَهَر اعتراضه عَمَّا كان فيه، فيجبُ معرفةُ أنَّ التوبة ما هيَ وبم تَحْصُل؟. قال علماء الأصحاب -رحمهم الله-: التوبةُ تنقسم إلَى ما هي بَيْن العبْد وبيْن الله تعالَى جدُّه وهي التي يندفعُ بها الإِثْم، وإلى توبةٍ في الظاهِرِ، وهي التي تتعلَّق بها عوْدُ الشهادات، والولايات: أما التَّوبةُ الأولَى: فهي أن ينْدَمَ علَى ما مضى ويترك وعله في الحال ويعزِمَ علَى ألا يعود إليه (¬2)، إن كانت المعصية لا يتعلق بها حقَّ الله تعالَى ولا للعبادِ، كوطء الأجنبية فيما دون الفَرْج وتَقْبلُها، فلا شيء عليه سوى ذلك، وإن تعلَّق بها حقٌّ ماليٌّ، كمنع الزكاة، وكالغَصْب، والجنانات في أموال الناس، فيجب مع ذلك تبرئةُ الذمَّة عنْه؛ بأن يؤدِّي الزكاة، ويردَّ أموال النَّاس، إن بقيت ويغرم بدَلَها، إن لم تبق، أو يستحلَّ، فيبرئه المستحقُّ ويجب أن يخبر المستحق، وإن لم يعلم به وأن يوصله، إليه، إذا كان ¬
غائباً، إن كان قد غَصَبه منْه هنالك، ونقله، فإن. مات سلَّمة إلَى وارثه، فإن لم يكن وارثٌ أو غَابَ، وانقطع خبره، دفَعَه إلَى قاضٍ تعرف سيرته وديانته، فإِن تعذَّر، تصدَّق به على الفقراء بنيَّة الغرامة له، ذكره العباديُّ في "الرقْم" وصاحب الكتاب في غير الكُتُب الفقهيَّة، وإن كان مُعْسِراً، نوى الغرامة، إذا قدر، فإن مات قبل أن يقْدِر، فالمرجُوُّ من فضل الله تعالَى جدُّه المغفرةُ (¬1). وإن تعلَّق بالمعصية حقٌّ ليس بماليٍّ، فإن كان حدّاً لله تعالَى كما لو زنا أو شَرب فإن لم يظهر، فيجوزُ أن يظهره ويقرّ به ليُقَامَ علَيْه الحدُّ، ويجوز أن يستُرَ علَى نفْسه، وهو الأولَى، وإنْ ظهر، فقد فات السِّتْر، فيأتي الإِمامَ ليقيمَ علَيْه الحدَّ، قال في "الشامل": إلا إذا تقادم العهد، وقلْنا: إنه يسْقُطُ الحد، وإن كان حقاً للعباد؛ كالقِصَاصِ وحدِّ القذف، فيأتي المستحِقَّ، ويمكِّنه من الاستيفاء، فإِن لم يعلَم المستحِقُّ، فيجب في القِصَاص أن يُخْبِره، ويقول: أنا الذي قتلْتُ أباك، ولزمني القصَاصُ، فإِن شئتَ، فاقتص، وإن شئت فاعف، وفي حدِّ القذْفِ، هل يخبره، ذكر في الكتاب في أَول الباب تردُّداً في أنه، إذا أتى، ببَعْضِ كنايات القذف، وأراد القذف، ولم يحلفه المقذوفُ على البينة، فيخبر المقذوف أو يخْفِيه، ولا يؤديه، وجواب العباديُّ وغيره هاهنا أنه يخْبِرهُ عن القَذْف، كما في حقِّ القصاص وفي مثله في الغَيْبة رأيت في فتاوى الحنَّاطِيِّ؛ أنها إذا لم تبُلغِ المغتابَ، كفى الندمُ والاستغفارُ، وإذا بلغته أو طَرَد طارِدٌ قياسَ القصاص والقذف فيها، فالطريق أن يأْتِيَ المعتابَ ويستحلَّ منه، فإن تعذَّر بموته، أو عسر لغيبته الشاسِعَة، فيستغفر الله تعالَى جدُّه، ولا اعتبار بتحليل الوَرَثَةِ، كذلك ذكره الحناطيُّ وغيره، قال العباديُّ: والحسد كالغِيبَةِ، وهو أن يهوَى زوالَ نِعْمَةِ الغير، ويُسَرَّ ببليته، فيأتي المحسودَ، ويخبره بما أضمره، ويستحلُّه، ويسأل الله تعالَى أن يزيل عنْه هذه الخلَّة، وفي إِلزام الإِخبار عن مجرَّد الإِضمار بُعْدٌ (¬2). فَرْعٌ: سُئِلَ أبو عبد الله الحَنَّاطِيُّ عمن قصَّر فيما عليه من الدَّيْن والمَظْلَمة، ومات ¬
المستحِقُّ، واستحَقَّه وارثٌ بعد وارثٍ يتعلَّق به في الآخرة صاحبُ الحقِّ أولاً أو الأخير من ورثته وورثة ورثته، فقال: يرثه الله تعالَى، بعْد موت الكلِّ، ويُرَدُّ إليه في القيامة، وحَكَى وجهاً آخر عن الأصحاب لآخر مَنْ مَات من الوارِثِينَ، وفي "الرقم": أنه يُكْتَبُ الأجْرُ لكل وارِثٍ مدةَ عَمْرِهِ، ثم يكون الثوابُ لمَنْ بعده، ولو دفَع إلَى بعض الوارِثين عندْ انتهاء الاستحقاقِ إليه، خَرَج عن المظلمة إلا بما سَوَّفَ ومَاطَلَ. وأما التوبةُ الظاهرةُ، فالمعاصي تنْقسم إلَى فعليَّة وقوليَّة، أما الفعليَّة؛ كالزنا والسرقة والشرب، فإظهار التوْبة عنْها لا يكفي في قَبُول الشهادة وعود الولاية؛ لأنه لا يؤمَنُ أن يكون له في الإِظهار غائلةٌ وغرضٌ فاسدٌ، فيختبر لمدَّة يغلب على الظنِّ فيها أنه قد أصلح عملَهُ وسريرته، وأنه صادقٌ في توبته، وهل تتقدَّر تلْك المدة قال قائلون: لا، إنَّما المعتبرُ حصولُ غلبة الظَّنِّ بصدْقِهِ، ويختلف الأمر فيه بالأشخاص وأمارات الصدق، هذا ما اختاره الإِمام، والعبَّاديُّ وإلَيْه أشار صاحبُ الكتاب بقوله: حتى يُسْتبْرَأَ مُدَّةً فيعلم إلى آخره، وذهب آخرون إلَى تقديرها، وفيه وجهان، قال أكثرهم: يستبرأ سنةً، فإنَّ لمعنى الفصولِ الأربعةِ تأثيراً بَيِّناً في تهيْيج النُّفوس وانبعاثها لمشتهياتها، فإذا مضت على السلامة أشْعَرَ ذلك بحُسْن السريرة، وقال جماعةٌ: يكفي ستة أشهر؛ لظهور عَوْده، وإن كانت ونَسَبوا ذلك إلى النصِّ، وأما القوليَّة، فمنْها القذْفُ، ولا بدّ من التوبة عنْه بالقول، كما أن التوبة عن الرِّدَّة بكلمتَي الشهادة، قال الشَّافعيُّ -رضي الله عنه- وتوبةُ القاذِفِ إكذابُهُ نفْسَه، فأخذ الإِصطخريُّ بظاهره وشَرَط أن يقول: كذبْتُ بما قذفته به، ولا أعودُ إلَى مثله؛ لما رِوُيَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "تَوْبَةُ الْقاذِفِ إِكْذَابُهُ نَفْسَه" (¬1) ويُحْكَى هذا عن أحمد -رحمه الله- وقال ابن أبي هريرة والجمهورُ -رحمهم الله- لا يكلَّفُ أن يقُولَ: كذبْتُ، فإنَّه قد يكون صادقاً فكيف نأمُرُه بأنْ يكَذْب، ولكن يقول: القذْفُ باطلٌ، وإني نادمٌ على ما فعلْتُ ولا أعود إلَيْه أو يقول: ما كنْتُ مُحِقّاً في قِذْفي، وقد تبتُ منْه، وما أشبه ذلك، والخبرُ محمولٌ على الرُجوع والإِقرار ببطلانِ ما صدَر منْه، فإنه نوعُ إكذاب، وكذلك لفظ الشافعيِّ -رضي الله عنه- وقد قَالَ عَقِيبَ ما حكَيناه: والتوبةُ منه أن يقُولَ: "القذفُ باطلٌ" كأنه جعل هذا اللفظ توبةً ولا فرْقَ في ذلك بين القذْف على سبيل السَّبِّ والإِيذاءِ وبيْن القذْفِ على صورة الشَّهَادة، إذا لم يتمَّ عدد الشُّهود، إن قلْنا: بوجوب الحدِّ على من شهد، فإن لم نوجِبْ، فلا حاجة بالشاهد إلى التوبة، ويشبه أن يشترط في هذا الإِكذابِ جريانُهُ بيْن يدَي القاضي، ثم إذا تاب ¬
بالقول، فهل يستبرأ المدَّة المذكورة، إذا عُرِفَ عدلاً إلى أن قَذَف، يُنْظَر؛ إن كان القذفُ على صورة الشهادَةِ، فلا حاجة إلَيْه وحَكَى الإِمامُ طريقة أخرَى؛ أنه على قولَيْن، كما سنذكر في القذْفِ علَى صورة السبِّ والإِيذاءِ، والظاهرُ الفرقُ، فإن ذلك فسقٌ مقطوعٌ فيه، والفسق عند الشهادة غيرُ مقطوع به، ولهذا تُقْبل روايةُ من شهد بالزنا، وإن لم يتعب؛ ألا ترى أنهم كانوا يَرْوُنَ عن أبي بَكرة الثقفيِّ -رضي الله عنه- ولم يتب وروايةُ مَنْ قَذَفَ سباً غير مقبولة وبتأيد ذلك بقَوْل عمر -رضي الله عنه- في القصَّة المشْهُورة لأبي بَكْرَةَ تُبْ أَقْبَلَ شَهَادَتَكَ (¬1) وإن كان قَذْفَ سَبٍّ وإيذاءٍ فظاهر نصِّ "المختصر": أنه لا يُشترطُ الاستبراء وتُقبل شهادته في الحَال، وعن نصِّه -رضي الله عنه- في "الأم": أنه يُشترطُ، وفيهما طريقان؛ الأشهر أن المسألة على قولَيْن: أحدُهُمَا: لا يُشْترط؛ لأن القاذفَ يحتمل أن يكون صادقاً، فلا حاجة فيه إلى التشديد والاحتياط، ويُحْكَى هذا عن أحمد -رحمه الله-. وأصحُّهما: الاشتراط؛ على ما قال تعالَى {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [آل عمران: 89] وصار كما في سائر المعاصِي، وتركهما منزلون على حالَيْن، وذكروا للتنزيل وجوهاً: أَحَدها: حمل ما في "المختصر" على ما إذا لم يصرِّح بتكذيب نفْسه، وحمل ما في "الأم" على ما إذا صَرَّح. والثاني: حمل الأوَّل عَلَى ما إذا طال الزمانُ بعْد القذف، وحسنت السيرة، ثم تاب بالقول، وحمل الثاني على ما إذا لم يطل. ¬
والثالث: حمل الأول علَى ما إذا جاء شاهداً، ولم يتمَّ العدَوُ، وحمل الثاني علَى ما إذا قذف على سبيل السبِّ والإِيذاء. واعلم أن اشتراطَ التوبة بالقَوْل في القذْفِ لا وضوحَ لَهُ، وإِلحاقَهُ بالردَّة تشبيه مجرَّد لا توجيه مقنع، ولَيْسَ اشتراطُ كلمتَي الشهادة مخصوصاً بالردَّة القوليَّة، فإن الردة الفعليَّة كإلقاء المصْحَف في القاذُورات يُشْتَرطُ فيها كلمتا الشهادة أيْضاً، وبالجملة، فلَمْ يشترطْ في القَوْل أن يقولَ: ما كنتُ مُحِقاً في قَوْلِ كذا، فلا يُشْتَرَطُ في الفعل أن يقول: ما كنت مُحِقاً في فعْلِ كذا، وما السَّبَبُ الفارقُ، ثم قضيَّة ما يقول في القذفْ أنْ يُشترطَ التوبةُ بالقول في سائر المعاصِي القوليَّة، كشهادة الزور، والغِيبة، والنَّميمة، وقد صرح صاحبُ "المهذب" بذلك في شهادة الزور، فقال: التوبة عنْها أن يقول: كذَبْتُ فيما فعَلْتُ، ولا أعودُ إلَى مثله، والله أعلم. وأَعْلم قوله في الكتاب "ويكفيه أن يقول: تبْتُ" بالواو؛ لوجه الإِصطخرِّي؛ حيث لم يكتف بذلك، واعتبر أن يقول: كذبْتُ. وقوله يجب "استبراؤه" بالألف لما تقدَّم. فروع: حَكَى الإِمام وجهاً فيمن قَذَف، وأتى بالبينة علَى زنا المقذوف: أنه لا تُقْبَل شهادته؛ لأنه ليس له أن يقْذِفَ ثم يأتي بالبينة، بل كان ينبغي أن يجيء مجيء الشهود، والأصح أنها تُقْبَل؛ لأن صدقَهُ قد تبيَّن بالبينة، وكذا الحكمُ لو اعترف المقذوف، وكذا لو قذف زوجَتَه، ولا عن ولا فَرْقَ في ردِّ الشهادة وكيفية التوْبَة بيْن أن يقذف محصناً أو غير محصَنٍ، حتى لو قذَف عبْدَ نفْسِه، ترد شهادته، ويكفي تحريم القذف سَبباً للردِّ، وشاهد الزور يُسْتبرأ كسائر الفَسَقة، فإذا ظهَر صلاحُه، قُبِلَتْ شهادته في غير تلك الواقعة ومن غلط في الشهادة، فلا حاجَةَ إلى استبرائه، وتُقْبَلُ شهادته في غَيْر واقعة الغلطِ، لا تُقْبَلُ فيما ذكره في "التهذيب" (¬1). ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإِنْ ظَهَرَ لِلقَاضِي بَعْدَ الحُكْمِ أَنَّهُ قَضَى بِقَوْلِ عَبْدَيْنِ أَوْ كَافِرَينِ أَوْ صَبِيَّيْنِ نَقَضَ الحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ بِقَوْلِ فَاسِقَيْنِ نَقَضَ أَيْضاً عَلَى أَظْهَرِ القَوْلَيْنِ، إِلاَّ أنْ يَفْسُقَ بَعْدَ الحُكْمِ فَلاَ يُقَدَّرُ اسْتِنَادُ الفِسْقِ إِلَى المَاضِي عَلَى أَصَحِّ الرَأْيَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا حكم القاضِي بشهادةِ اثنين، ثم بان له أنهما كانا عَبْدَيْنِ أو كافِرَيْن، أو صبِيَّيْنِ، أو امرأتَيْنِ، فينتقض حكمه، لأنه تيقَّن الخطأ في الحكْم، كما لو حكم باجتهاده، ثم بان النصُّ بخلافه، ولو تبيَّن لقاضٍ آخر أنه حكَمَ بشهادَتِهما، نفَضَ حكمه أيضاً، واعترض عليه بأنَّ العلماء اختلفوا في قَبُول شهادةِ العَبِيد، فلم ينقض الحكْم في محَلَّ الاختلاف والاجتهاد، وأجيب عنه بأنَّ الفرْضَ فيمن لا يعتقدُ الحكْم بشهادة العبْدَين وحكم بشهادة اثنين ظنَّهما حرَّيْن، ولا اعتداد بمثل الحكم، وأيضاً فإنَّما لا ينقض الحُكْم، إذا لم يخالف القياس الجليَّ، وهذا يخالفه، فإن العبد ناقص في الولايةَ، وسائرِ الأحكامِ، فكانت الشهادةُ في معناها، وإنْ بان أنه حكَم بشهادة فاسقَيْن، نصَّ في "المختصر" على أنه ينقض أيضاً (¬1)، قال المُزَنِيُّ: وقال في موضع آخر: إن المشهودَ عَلَيْه، إذا طلب الجرح مكَّنه منه، وأمْهَلَه مدةً قريبةً، فإنْ لم يأتِ بالجرح في المُدَّة وأتى به بعْدَها، لم يرد الحُكْم عنه، وهذا يُشْعِر بأنه لا تُقبل البينة القائمة على الفِسْق بعْد ذلك، فلا ينقض الحكم الأول، وللأصحاب فيها طريقان: أشْهَرهُما: أن المسألة على قولَيْن، وبه قال ابنُ سُرَيْجٍ. أحدُهُما: أنه لا ينقض الحكم الأول، فإِن فسقهم إنَّما يعرف ببينة تقوم عليه ¬
وعدالة تلك البينة لا تُدْرَكُ إلا بالاجتهادِ، والاجتهادُ لا ينقض بالاجتهاد، وهذا يوافِقُ مذهب أبي حنيفة؛ لأنه لا يسمع بينة الفسْقِ على الشاهدَيْنِ. وأصحَّهُمَا: النقض، كسائر المسائل المذكورة وبل أولَى؛ لأن اعتبار العدالةِ منصوصٌ علَيْه، قال تعالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] والقول بأن عدالة الشهود تُدْرَكُ بالاجتهاد لا تَقْدَحُ كما أن خبر الواحِدِ العَدْلِ يُنْقَضُ به الحُكْم، وإن كانتْ عدالته لا تدْرَكُ إلا بالاجتهاد، وكما لو بان كون الشاهدَيْن صبيَّيْن أو كافرَيْن. والطريق الثاني: القطعُ بالنقض، وحمل ما قاله في الموضع الآخر علَى ما إذا شهدوا على الفسْق مطلقاً، ولم ينصُّوا على فسْقِه يوْمَ الحكم، فلا ينقض به الحكم؛ لاحتمال حدوثه بعد الحكم أو علَى ما إذا شَهِدُوا علَى فِسْقٍ مجتَهَدٍ فيه، كشُرْب النبيذ، ولو سمع القاضي شهادةَ شاهدَيْن عدلَيْن، ثم فُسِّقَا قبل أن يحكم بشهادتهما، لم يجُزِ الحكم؛ لوقوع الريبة، فإن الفسْق يَخْفَى غالباً، فربَّما كانا فاسقَيْن يوم الشهادة، ولو ارتدَّا، فكذلك؛ لأن الردَّة توقع الريبة أيضاً، وتُشْعِر بخبثٍ كامِنٍ، وفيها وجهان آخران: أحدهما: أن حدوثَها لا يمنع الحكْمَ بشهادتهما المَسْمُوعة. والثاني: عن الداركيِّ: الفرق بين أن يرتدَّ إلى كُفْرِ يستسر أهله به فيكون كالفسق، أو إلَى غيره. ولو شهدا عنْده في حدٍّ أو مالٍ، ثم ماتا، أو جُنّا أو عَمِيَا أو خَرِسَا، لم يمنع حدوث هذه الأحوال الحُكْمَ بشهادتهما؛ لأنها لا تُوقِعُ ريبة فيما مضى، ويجوز أن يقع التعديلُ بعد حدوثها، وألحق المُزَنِيُّ ظهور الفِسْقِ والرّدَّة بعُرُوض هذه الأحوال، ولم يَجْعَلْهُمَا مانِعَيْنِ من الحكم، ولو فسق الشاهدان، أو ارتدَّا بعْد الحُكْم والاستيفاء، لم يؤثِّر بحال، ولو فَسَقا، أو ارتدَّا بعْد الحكم وقبل الاستيفاء، فهو كرجوع الشاهدَيْنِ بعد الحكم وقبل الاستيفاء، وفيه تفصيلٌ واختلافٌ، يُذْكَرُ في "باب الرجوع" والأصحُّ أنه لا أثر له في المال، بل يستوفي ولا يُقَدَّر استنادُ الفسْق بعْد نفوذِ الحُكْم إلى القاضي، وهذه الصورة هي التي عنَاهَا في الكتاب بقوله: "إلا أن يَفْسُقَ بعْد الحكم، فلا يقدر" إلى آخره. وأصحاب الطريقة القاطعة بالنَّقْض فيما إذا بان أنَّه حكَمَ بشهادة فاسقَيْن، منهم مَنْ يُنْزِل الخلافَ على هذه الصورة. ويجوز أن يُعْلَمَ قوله: "نقض" بالحاء. وقوله: "على أظهر القولين" بالواو، لما بيَّنَّاه. فُرُوعٌ: قال القاضي بعد الحُكْم بشهادة شاهدَيْن قد بان لي أنهما كانا فاسَقْين، ولم يظْهَر بينة تشْهَد بفسقهما، قال صاحب الكتاب في "الفتاوى": إذا لم يتهم في قضائه
الباب الثاني في العدد والذكورة
بعلمه مُكِّن من ذلك أيضاً ولو قال: أكرهني السلطانُ على الحُكْم بقولِهِمَا، وكنت أعرفُ فِسْقَهما، قُبِل قولهُ مِنْ غيْر بيِّنة الإِكْرَاه، ولو بان بالبينة أن الشاهدَيْن كانا والدَيْنِ للمشهود له، أو ولَدَيْن، أو عدُوَّيْنِ للمشهود عليه، فكذلك ينقض الحكم، والله أعلم. الْبَابُ الثَّانِي فِي العَدَدِ وَالذُّكُورَةِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلاَ تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ إِلاَّ فِي هِلاَلِ رَمَضَانَ عَلَى رَأْي، وَلَكِنْ لِلشَّهَادَات ثَلاَثُ مَرَاتِبَ: الأُولَى: الزِّنَا: وَبَجِبُ فِيهِ أَرْبَعَةَ عُدُولٍ يَشْهَدُونَ أَنَّهُ أَدْخَلَ فَرْجَهُ فِي فَرْجِهَا كالمِرْوَدِ فِي المُكْحُلَةِ، وَهَلْ يَجُوزُ لِلْعَدْلِ النَّظَرُ إِلَى الْعَوْرَةِ قَصْداً لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ؟ فِيهِ ثَلاَثةُ أَوْجُهٍ، وَفِي الثَّالِثِ لاَ يَجُوزُ فِي شَهَادَةِ الزِّنَا، وَيَجُوزُ فِي عُيُونِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا، وَهَلْ يَثْبُتُ الإِقْرَارُ بِالزِّنَا بِشَاِهدَيْنِ أَمْ لاَ بُدَّ من أَرْبَعَةٍ فِيهِ قَوْلاَنِ، وإِنْ لَمْ يُوجَبْ بِاللِّوَاطِ إِلاَّ التَّعْزِيرُ فَهَلْ يُحْتَاجُ إِلَى أَرْبَعَةِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ. قَالَ الرَّافِعِيَّ: مَقصودُ البَاب بيانُ العدَدِ المُعتَبَر في الشَّهَادات، ومواضِع اعتبارِ الذكورة، وعدَمِ اعتبارها. واعْلَمْ أن قول الشاهِدِ الواحِدِ لا يكفي للحُكْم به، نعم، قدم الخلاف في أن هِلاَلَ رَمَضان، هَلْ يثبت بواحِدٍ (¬1) أم لا؟ وأنَّه إِنْ ثبت، فسبيله سبيلُ الشَّهادات، أم ¬
سبيل الروايات؟ فإنْ قلْنا: لا يثبت، أو ثبت، وسبيلُه سبيلُ الروايات، فلا استثناء في اعتبارِ العدَدِ في الشهادات وإنْ أثبتناه، وجعلْنا سبيلَهُ سبيلَ الشَّهادات، وهو الأصَحُّ، فهذه الصورة مستثناةٌ عنه. ومسألة الشاهِدِ واليمين ينقض قولنا: إن قول الشاهِد الواحِد غَيْر مكتفٍ به للحُكْم، وإنْ قِيل عَلَى وجه: إنَّ القضاء هناك بالشَّاهد علَى ما سيأتي؛ لأنَّ ذلك القائل لا ينازع في كون اليمين شرطاً؛ لجواز الحُكْم بالشاهد، فلا يكون قول الشاهد مكتفٍ به. وإذا عُرِفَ ذلك، فإنَّ صاحب الكتاب رتَّب الشهاداتِ عدَداً وصفةً علَى ثلاث مراتب: إحداها: الشهادةُ على الزنا، وإنَّما يثبت الزنا بشهادةِ أربعةٍ من الرجالِ، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] قال تعالَى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ} [النور: 13] وَقَالَ عَزَّ اسْمُهُ: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساَء: 15] وَقَالَ سَعْدُ بْن أَبِي وَقَّاصٍ -رَضَىَ اللَّهُ عَنْهُ-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ وَجَدَتُّ مَعَ امْرَأتِي رَجُلاً، أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةٍ مِنَ الشُّهَدَاءِ فَقَالَ: نَعَمْ وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَضَتِ السُّنَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالخَلِيفَتَيْنِ بَعْدِهِ أَلاَّ تُقْبَلَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ (¬1) وَفِي الإِقْرَارِ بِالزِّنَا قَوْلاَنِ: أحدهما: أَنَّهُ لاَ يثبُتُ إلا بأربعة أيضاً؛ لأنه يتعلق به إقامةُ الحَدِّ، فأشبه نفْسَ الزنا. والثاني: يثبت بشاهِدَيْن؛ لأنَّ المشهود علَيْه قولٌ، وإقرارٌ، فأشبه سائر الأقوالِ والأقارير، قال القاضي الرُّويانيُّ: وهذا أصحُّ، وعن الشيخ أبي عاصم نقلُ قولٍ غريبٍ: أن القذف إنَّما يثبتُ بشهادة أربعةٍ؛ لأَنَّه نسبةٌ إلى الزنا، فكان كالإِقرار، والصحيحُ خلافُه؛ واللواطُ وإتيانُ البهيمةِ، إنْ أوجبنا بهما الحدَّ، فلا يثبتان إلاَّ بأربعةٍ، وإنْ لم نوجِبْ إلاَّ التعزيرَ، فوجهان: وقال صاحب الكتابَ: قَوْلاَن: أحدهما: الثبوت بشاهَدَيْنِ كسائر الجنايات، وبهذا قال ابن خيران، ويُحْكَى عن المُزَنيِّ أيضاً. وأصحُّهما: المنْعُ، ووجَّهوه بأنَّه إيلاجُ فَرْجٍ في فرجٍ، فكانتِ الشهادة علَيْه كالشهادة على الزِّنَا. ¬
ثم الفصْلُ يشتمل على مسألتَيْنِ: إحداهما: وقد تعرَّض لها مرَّةً في الكتاب في باب السرقة، وليس لها اختصاصٌ بهذا الموضع: يُشْترطُ في الشهادة عَلَى الزِّنا أَنْ يذْكُروا التي زَنَا بهَا، وأَنْ يذكُروا الزِّنَا مفسراً، فيقولوا: رأيناه أَدْخَلَ فرْجَهُ في فَرْجِهَا؛ كالمرْوَدِ في المُكْحُلَةِ، أو كالرُّشَا في البِئْرِ، ولا يكفي إطلاق الزنا؛ فإنَّهم قد يظنون المفاخذَةَ زِناً، فقد ورد في الخَبَرِ "زِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرِ" (¬1) وقد تكون الموطوءة أمَةً مشتركةً بَيْنَةُ وبين غيره أو جاريةَ ابْنِهِ، فالشاهدُ يظنُّ إصابتها زناً، وليس كما إذا ادَّعت وطء شبهة، وطالبت بالمَهْر حيث يكفي شهادةُ الشُّهُود على الوطء، ولا يُشْتَرَطُ أنْ يقولوا: رأينا ذلك منْه في ذلك منْها؛ لأن المقصود هناك المالُ، فلم يلزم هذا الاحتياط. الثانية: هل يجوزُ النَّظَر إلى الفَرْج، لتُحَمُّل شهادة الزِّنَا والشهادة على الولادة، أو شيء من العُيُوب الباطنيَّة أو لا يجوز وإنَّما يشهدُ عليها عند وقوع النَّظَر عليه اتفاقاً فيه وجوه؛ ذكرناها في أول النكاح، وأصحُّهما: الجواز، وهو الذي أورده صاحب الكتاب هناك في شهادة الزنا، ويُحكَى هذا عن نص الشافعيِّ -رضي الله عنه- في "أحكام القرآن" وغيره، وبه قال أبو إسحاق، وابن القاصِّ. والثاني: المنع مطلقاً. والثالث: لا يجوز؛ كشهادة الزنا ويجوز لغيرها. وهذه الثلاثة أوردها هُنَا. والرابع: أنَّه يجوز للزِّنَا، ولا يجوز لغَيْره؛ لأنَّ الزانِيَيْنِ هتكا حُرْمَتَهما بالزِّنَا، ويُقَالُ: إنَّ أبا الطيِّب بْنَ سلمة كان يقول بهذا، ثم رجَع إلى الأول. وقوله في الكتاب: "إلاَّ في هلال رمضان" لو أعلم بالميم؛ لما مر في الصوم، جاز. وقوله: "للشهادات ثلاثُ مراتب؛ الأولَى الزنا" قال: "الثانية: ما عدا الزنا" يعني الشهادة في الزنا والشهادة فيما عدا الزنا، فحذف لوضُوُحه. وقوله: "أَدْخَلَ فرجه في فرْجِها" لا يخفى أنَّ الحكم منوطٌ بقدْر الحشفة لا بجميع الفَرْج، وأنَّ الشاهد يتعرَّض مع ذلك؛ لكونه على سبيل الزنا، ولم يعدَّه في كلام الشهود؛ اكتفاء بأنَّ الكلام في الزنا، والتشبيه بالمِرْوَدِ والمُكْحُلَة زيادةُ بيان، وليس بَشْرط، كذلك ذكره القاضي أبو سَعْدٍ. ¬
قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةُ: مَا عَدَا الزِّنَا مِمَّا لَيْسَ بِمَالٍ وَلاَ يَؤولُ إِلَى مَالٍ كَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَة وَالطَّلاَقِ وَالْعِتْقِ وَالإسْلاَمِ وَالرِّدَّةِ وَالبُلُوغِ وَالوِلاَدَةِ وَالعِدَّةِ وَالجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالعَفْوِ عَنِ القِصَاصِ حَتَّى الوَصَايَا وَالوِكَالَةِ فَيَثْبُتُ بِرَجُلَيْنِ، وَلاَ يَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَامْرَأتيْنِ، أَمَّا مَا لاَ يَظْهَرُ لِلرِّجَالِ كَالوَلاَدَةِ وَعُيُوبِ النِّسَاءِ وَالرَّضَاعِ فَإِنَّه يَثْبُتُ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَلاَ تَثْبُتُ الوِلاَدَةُ بِقَوْلِ القَابِلَةِ وَحْدَهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المرتبة الثانيةُ للشهادَةِ فيما ليس بمالٍ، ولا يُقصَدُ منه المالُ، وهو إمَّا عقوبة أو غيرُها. أمَّا قسم العقوبات، فإنَّها لا تَثْبُت إلاَّ برجلَيْن يستوي فيه حقُّ الله تعالَى؛ كحد الشرب، وقَطْع الطريقِ، والقَتْل بالردَّة، وحقُّ العباد، كالقصاص في النَّفْس، والطَّرَف، وحدِّ القذف، والشهادةُ على الإِقْرار بها كالشهادةِ بنَفْسها، والتعزيرُ كالحدِّ، فلا مدْخَلَ لشهادة النساء فيها، لما مر من حديث الزّهْرِيِّ -رضي الله عنه-. والقسم الثاني: في غير العُقُوبات، فإمَّا أَنْ تطلع عليه الرجال غالباً أو لا يطلع، ويختص معرفته بالنساء غالباً. الضرب الأول: ما يطلع عليه الرجالُ غالباً، كالنكاح، والرجعة، والطلاق، والعَتَاق، والإِسلام، والردة، والبلوغ، والولاء، وانقضاء العدة وجرح الشهود، وتعديلهم، والعفو عن القصاص، وكل ذلك لا يَثْبُتُ إلا برجلين أيضاً، ولا تُقْبَلُ فيه شهادةُ رجُلٍ وامرأتين؛ خلافاً لأبي حنيفة. واحتج الأصحابُ بقياسها على القصاص، لجامع أنَّ ذلك ليس بمال، ولا المَقْصِد منه المال، وهو مما يطَّلع عليه الرجال، ومن هذا الضرْب الوكالة، والوصاية، وإن كانتا في المال؛ لأن كل واحدةٍ منهما في نفسها ولايةٌ وسلطنةٌ، ومن ادَّعاهما فإنَّما يدَّعي ويثبت قولاً للغير لا مالاً؛ ومنه الإِيلاءُ، والظِّهار، والموتُ، والإِعسار، والخُلْعُ من جانب المرأة، والكتابةُ، والتدْبيرُ، والاستيلادُ، إذا ادعاها المملوك، وحكى القاضي ابن كج في الكتابة وجهاً: أنه يثبت برجلٍ وامرأتَيْنِ، والشركةُ والقِرَاضُ معدودانِ في "التهذيب" مما نحن فيه؛ لأن كلَّ واحد منهما توكيل وتفويض يُصْرَفُ إلَى الغير، وأُدرجَ في "الوسيط" الشركة فيما يثبت برجل وامرأتين، والأول أظهر، ومنه القضاء والولايةُ إن أحوجنا فيهما إلى البينةِ، والشهادة على الشهادةِ، والإِحصانُ، وكفاله البدن، والشهادة برؤية هلال غير رمضان. والضرب الثاني: ما لا يَطَّلع عليه الرجال غالباً، يختصُّ بمعرفته النساء، فتُقْبَلُ فيه شهادتهن على انفرادِهِنَّ، لما رُوِيَ عن الزُّهْريِّ -رضي الله عنه- أنه قال: "مَضَتِ السُّنَّةُ
بِأنْ يَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي كُلِّ شَيْءٍ لاَ يَلِيهِ غَيْرُهُنَّ" (¬1) وذلك كالولادة، والبَكَارة، والثِّيَابَةِ، والرِّتْقِ، والْقَرَنِ، والحَيْضِ، والرِّضَاعِ (¬2)، واستهلال المَوْلُود؛ وفي الاستهلال قولٌ آخرُ عن رواية الربيع، والظاهرُ الأولُ، وعيْب المرأة من برصٍ، وغيره تحْت الإِزار، حرةً كانت، أو أمةً من هذا القبيل. قال في "التهذيب": والعيبُ في وجه الحُرَّة، وكفِّها، لا يثبت إلا برجلَيْن، بناءً على أنهما ليسا من العورة وفي وجْه الأمة، وما يبدو منها عند المهنة، يثبت برجل وامرأتيْنٍ؛ لأن المقصود منه المالُ، والجراحةُ التي تصيب فرج المرأة لا تُلْحَقُ بالعيب؛ لأن جنْس الجراحَةِ مما يَطَّلِعُ عليه الرجالُ غالباً كذلك ذكره، لكن جنْس العَيْب أيضاً مما يطَّلع عليه الرِّجَال غالباً إنما الذي لا يَطَّلِعون عليه العيْبُ الخاصُّ (¬3)، وذلك الجراحة الخاصة، وكل ما هو من هذا الضَّرْب فلا يثبت بأقلَّ من أربع نسوة، تنزيلاً لاثنتين منْهُنَّ منزلة رجلٍ، وما يثبت بهن، يثبتُ برجلٍ وامرأتَيْنِ، وبرجلَيْن بطريق الأولَى. وقال أبو حنيفة: تثبت الولادةُ بشهادةِ القابلةِ وحْدها في حقِّ الزوجة عنْد ظهورِ الحَمْل ولا يثبُتُ في حق المطلقة، قال: ولا يثبت الرضاعُ بشهادة النساء المنفرداتِ، وعند أحمد: يثبت الرضاع بشهادة المِرْضَعة وحدها، وعند مالك: يكفي شهادة امرأتَيْن في هذا الضرْب. ويجوز أن يُعْلَم قولُه في الكتاب: "فإنَّه يثبت بأربع نسوة" بعلاماتهم، لمذاهبهم. وأن يُعلَم قوله: "ولا تثبت الولادة" بالحاء. وكذلك قوله من قبل "ولا تثبت برجل وامرأتين". وقوله في أول الفصل: "ولا يؤول إلَى مالٍ" محمول على ما قاله الأصحاب، وهو أنه ليس المقصد منه ومِنْ إثباته المَالَ والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّالِثَةُ: الأَمْوَالُ: وَحُقُوقُهَا كَالأَجَلِ وَالخِيَارِ وَالشُّفْعَةِ وَالإِجَارَةِ وَقَتْلِ الخَطَأِ وَكُلِّ جُرْحٍ لاَ يُوجِبُ إِلاَّ المَالَ فَيَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَامْرَأتيْنِ، وَكَذَا فَسْخُ العُقُودِ وَقَبْضُ ¬
نُجُومِ الكِتَابَةِ إِلاَّ النَّجْمَ الأَخِيرَ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِتَرَتُّبِ العِتْقِ عَلَيْهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المرتَبَةُ الثالثةُ الشهادةُ فيما هو مالٌ، أو المقصودُ منه المالُ، كالأعيان، والديون، والعقود، والمالية، فتثبت بشهادةِ رجُلٍ وامرأتَيْنِ ثبوتَهَا بشهادة رجلَيْن، قال الله تعالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] فلا يثبت بشهادة النساء وحْدَهُنَّ، فمن هذه المرتبة البَيْعُ، والإِقالةُ، والردُّ بالعيب، والإجارةُ، والوصيَّةُ بالمال، والحوالةُ والضمانُ، والصلحُ، والقَرضُ، والشُّفْعةُ، والمُسَاَبقةُ، وخيولُ السَّبْق (¬1) والصَّدَاقُ في النكاح، وفي الوطء بالشُّبهة، والغَصْب، والإِتلاف، والجناياتِ التي لا توجِبُ إلا المال، كالقتلِ الخَطَأ، وقتل الصبيِّ، والمجنونِ، وقَتْل الحرِّ بالعَبْدِ، والمسلِمِ بالذميِّ، والوالِدِ بالولدِ، والسَّرقةِ التي لا قَطْعَ فيها. وكذلك حقوقُ الأموال، والعقود؛ كالخيار، وشرطِ الرهْنِ، والأجَلِ، وفي الأجَلِ وجْهٌ توجيهاً بأنه ضرب سلطنةٍ فكأنه كالوكالة. ومنها: قبض الأموال، ومن جملتها نجومُ الكتابة، وفي النجم الأخير وجهان: أحدُهِما: أنه لا يثبت إلا برجلَيْن؛ لتعلُّق العتق. وأصحُّهما: علَى ما ذكره صاحب "التهذيب": أنه كسائر النجوم، والعتقُ يحصُلُ بالكتابة وأدرك جميع النجوم لا بالنجم الأخير. ومنها: الإِبراء، والرهنُ على المشهود، وفي شرح الموفَّق بن طاهر: أن الربيع قال: لا يثبت الإِبراءُ إلا برجلَيْن، وحكى القاضي ابن كج في الرهنْ وجهاً مثله. ومنها: طاعة المرأة؛ لاستحقاق المنفعة، وقتلُ الكافر؛ لاستحقاقِ السَّلب، وإدمان الصيدُ لتملكه وعجز المكاتب عن النجوم. ومنها: الوقف، وفي ثبوته برجل وامرأتَيْن عَلَى ما سنذكر، إن شاء الله تعالى، في ثبوته بالشاهد واليمين في الباب الرابع (¬2). ومنها: لو مات سيِّدُ المُدبَّر، فادَّعَى الوارث؛ أنه كان قد رجَع عن التدبير، إذا قلْنا يجوز الرجوع ثبت دعواه برجل وامرأتَيْن. ولو ادَّعَى رِقَّ شخص، أو ادَّعَى جاريهً في يد الغير؛ أنها أم ولده، ثبت دعواه ¬
برجُلٍ وامرأَتَيْنِ؛ لأنه يدَّعِي مالاً، ولو توافق الزوجان على الطَّلاق، وقال: طلقتُكِ على كذا، وقالت: بل مَجَّاناً؛ ثبت دعْوَى الزوْج برجل وامرأَتَيْن وكذا لو قال لعبد: أعتقتُكَ على كذا، وقال: بل مجَّاناً. ولو توافق الزوجان على النكاح، واختلفا في قدْرِ الصَّدَاق، أو صفته، أو على الخُلْع، واختلفا في قَدْر العوض، أو صفته، ثبت برجل وامرأتين، وكذا لو توافق السيد والعبدُ على الكتابة، واختلفا في قدْر النجوم، أو صفَتِها، والإِقرارُ بكلٍ ما يثبت برجلين يثبت برجلٍ وامرأتينِ. وقوله في الكتاب "وكذا فسخ العقود" يعني العقود المالية، فأما فسوخُ النِّكَاح، فهي كالطَّلاق. فَرْعٌ: شهادة الخُنْثَى المُشْكِل كشهادةَ المرأة، والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَإِذَا شَهِدَ عَلَى السَّرِقَةِ أَوِ العَمْدِ رَجُلٌ وَامْرَأتانِ ثَبَتَ المَال وَإِنْ لَمْ تَثْبُت العُقُوبَةُ، وَبثْبُت مَهْرُ النِّكَاحِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُت النِّكَاحُ بِهِ، وَلَوْ عَلَّقَ طَلاَقَهَا عَلَى الوِلاَدَةِ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ، وَلَوْ ثَبَتَ عَلَيْهَا الغَصْبُ بِشَهادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فَقَالَ الزَّوْجُ: إِنْ كُنْتِ غَصَبْتِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ وَقَعَ بِخِلاَفٍ مَا لَوْ تَقَدَّم التَّعْلِيقُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لو شهد على السَّرقة رجلٌ وامرأتانِ، ثبت المال، وإن لم يثبت القَطْع؛ لأن المالَ يثبتُ برجُلٍ وامرأَتَيْنِ، والعقوباتُ لا تثبت، ومنْهم من حَكَى في المال قولاً آخَر، كما لو شَهِدَ على القَتْل العَمْدِ رجُلٌ وامرأتان؛ فإنَّه لا يثبتُ الدِّية، كما لا يثبت القصاص، والظاهر الأولُ، وفَرَّقوا بأن السرقة توجِبُ القطْعَ والمالَ جميعاً، فما تمَّت حجته، ثبتت، وما لم يتم، لا يثبت، والقتل لا يوجِبُهما معاً، إِما أن نوجِبَ القصاص بعينه، ولم تقمْ حجَّته، فإذا لم يثبت، لم يثبت بدلُه، وإما أن نوجِبَ أحدَهُما لا بعينه، وإنَّما يتعيَّن الاختيار، فلو أثبتنا المالَ على التعْيِين، لم يفِ بموجبه. ولو شهد رجلٌ وامرأتانِ علَى صداقٍ في نكاح ادَّعَتْه امرأة، ثبت الصَّدَاق، وإن لم يثبت النكاح، فإن الصداق هو الذي يقْصده، ولو علَّق طلاق امرأته، أو عِتْقَ عبده على الولادة، فشهد بالولادة أربعُ نسوةٍ، ثبتت الولادة، ولا يقع الطلاقُ، والعتْقُ، وكذا لو علَّقهما على الغَصْب أو الإِتْلاَف فشهد بهما رجلٌ وامرأَتَانِ، ثبت الغصْبُ والإتلاف، ولم نحكم بوقوع الطلاق، ولا بحصولِ العِتْق، نصَّ عليه. وهو كما مرَّ في الصوم؛ أنا إذا أثبتنا هلالَ رمَضَان بشاهدٍ واحدٍ، لم نحكم بوقوع الطَّلاق والعتْق المعلَّقين برمضان، ولا بحلول الدَّيْن المؤجَّل به، وهذا إذا تقدَّم التعليق وذكر ابن سُرَيْج ووافقه عامة الأصحاب -رحمهم الله-: أنه لو ثَبَت الغصْب أولاً بشهادة
رجُل وامرأتين، وحكم الحاكم به، ثم جرى التعليقُ؛ فقال لزوجته: إن كُنْتِ غصبْتِ، فأنت طالقٌ وقد ثبت عليها الغصْبُ، كما وصفنا، وقع الطلاق، بخلافِ ما لو تقدَّم التعليق على الشهادة والحكم، وهذا ما أورده صاحب الكتاب، وقياسُه أن يكون الحُكْمُ كذلك في التعليق برمضان، وحكَى الإِمَامُ أن شيخه حكَى وجهاً آخر: أنه لا يقع، كما لو تقدَّم التعليق، وقد يُفْرَق بينهما بأن التَعليق بعْد حُكْم القاضي واقعٌ بعْد ثبوت الغَصْب في الظاهر، فَيُنَزَّلُ عليه، وإلاَّ، فهو مراغمةٌ يحكم القاَضي، وقد صرَّح فيه، والتعليقُ قبله منصرفٌ إلى نفس الغصب، فإذا شهد رجلٌ وامرأتان، لم يقع الطلاق، وإن ثبت الغصبْ. كما لا ثبت القطْع في السرقة، وإن ثبت المال، وذكر القاضي الرويانيُّ في تقرير كلام ابن سُرَيْج؛ أنه قد يترتب على البينة ما لا يثبت بتلك البينة؛ ألا ترى أن النَّسَب والميراث يترتَّبان على الولادة وثبتت الولادةُ بشهادة النساء وحْدَهُنَّ، ولا يثبتان بشهادة النِّساء وحْدَهُن؟ ولكن هذا يدْفع الفَرْق، ويقتضي وقوع الطَّلاَق والعتْق، وإن تقدَّم التعليق على الشَّهادة، وحكم الحاكم، ويؤيِّده أنا إذا قَبلْنا شهادة الواحِدِ في هلال رمضان، وصُمْنا ثلاثين، نفطر، وإن لم نر الهِلاَل على أظهر الوجهين، كما مَرَّ في موضعه. وفي هذه الصورة انتشار واضح ظاهرٌ، وربما أمكن لمُّ بعضِ الشَّعَث بأن يقال: ما شَهِدَ به رجلٌ وامرأتانِ، لم يخل؛ إِما أن يكون نفسه مما تثبت بشهادتهم، أو لا تثبت، إن لم تثبت، كالسرقة، والقتل، فإن كان له موجب يثبت بشهادتهم كالمال الذي هو أحدُ موجِبَيِ السرقة، يثبت، والقاضي، والحالةُ هذه، لا يحكم بالسَّرقة، وإنما يحكم بالمال في سرقةٍ شَهِدوا بها، وإن لم يكُنْ له موجبٌ بشهادتهم، لم يثبت شيءٌ؛ كالقصاص الذي هو موجِبُ العمد، على أحد القولَيْن، وكأحد الأمرَيْنِ، إذا قلنا: إنه موجبة أحد الأمرين. فإن شهادة رجل وامرأتين، إنَّما تصلح للدِّيَة على التعْيين، لا لأحدهما علَى الإِطلاق الذي جعَلْنَا موجباً علَى هذا القول، وإِن ثبت نفس المشهود به بشهادتهم، فاَلمرتَّب عليه، إما شرعيٌّ، أو وضعىٌّ، إن كان شرعيّاً كالنسب، والميراثِ، المرتَبيْن على الولادة، فيثبتان؛ تبعاً للولادة؛ لأن الترتيب الشرعيَّ يُشْعر بعموم الحاجة، وتعذَّر الانفكاك، أو تعسّره. ومِنْ هذا القبيل الإِفطارُ بعد الثلاثين، وإن كان وضعيّاً، كترتيب الطلاق، والعتق بالتعيْين، وترتُّب الحلول بالتأجيل، فلا ضرورة في ثبوت الثاني بثبوت الأول، فإن علق به بعد ثبوته، ألْزَمْناه ما أثبتناه، كما ذكره ابن سُرَيج، والله أعلم. وقوله في الكتابِ "إذا شهد على السرقة، أو العمد رجلٌ وامرأتان، ثبت المال، وإن لم تثبت العقوبة" فيه تسويةٌ بين أن يشهدوا على السرقة وبيْن أن يَشْهَدوا على القتل
العَمْد، في أن يثبت المال، ولا تثبت العُقُوبَة، وهذا الحكمُ صحيحٌ في السرقة، وقد ذكره مرةً في السرقة أما في القَتْل العمد، فهو خلافُ ما نصَّ عليه الأصحابُ على ما بيَّنَّاه، وليس له في "الوسيط" ذكْرٌ، بل فَرق في "باب السرقة" بين شهادتهم على السرقة، وشهادتهم على القتل، كما فعل غيره، ولا محمل لمَا جرَى هاهنا إلا السهو. وليُعْلَمْ قوله: "يثبت" بالواو؛ للوجْه المذكور في السرقة. وقوله: "وقع" بالواو؛ للوجه المسوِّي بين أن يتقدَّم التعليق أو يتأخر. قَالَ الغَزَالِيُّ: فَرْعٌ: مَنْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ فَقبل التَّزْكِيَةُ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ الحَيْلُولَةَ إِنْ كَانَ المَالُ مُشْرِفاً عَلَى الْهَلاَكِ أَوِ النَّقْلِ، وَفِي العَقَارِ وَجْهَانِ، وَلِلعَبْدِ طَلَبُ الحَيْلُولَةِ عِنْدَ إِقَامَةِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْعِتْقِ، وَفِي الأَمَةِ يَجِبُ عَلَى القَاضِي ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ، وَهَلْ لَهُ طَلَبُ الحَجْرِ في دَعْوَى الدَّيْنِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ هَلْ يَنْزِلُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ مَنْزِلَةَ شَاهِدَيْنِ فِي إِيجَابِ الحَيْلُولَةَ فِيهِ قَوْلاَنِ، ثُمَّ إِذَا قُلْنَا بِهِ فَلاَ نَزِيدُ عَلَى ثَلاَثةِ أَيَّام، وَإِنْ لَمْ يتِمَّ البَيِّنَةُ رُفِعَ الحَيْلُولَة. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا ادَّعى مالاً عَلَى إنْسَانٍ، وَشَهِدَ له بِذَلِك شاهدان نُظِر. إن كان عيناً، وطلب المدَّعِي الحيلولةَ بَيْن المال المدَّعَى، وبين المدَّعَى عليه، ووقَفَها إلَى أن يُزَكَّى الشاهدان، أجيب إليه، إن كان المالُ مما يُخَاف عليه التعيُّب والضَّيَاع، وإن كان عقاراً، ففيه وجهان حكاهما الإِمام: أشْبَهُهما: وهو قضية إطلاق أكثرهم أنَّه لا فرق. والثاني: لا يُجَابُ؛ لأنه مأمونُ الضياع. وحكى الشيخ أبو الفرج عن الإِصطخري: أنه لا ينْزَع العين أصلاً، وإن كان المدعَى دَيْناً، فلا يُستَوفَى قبل التزكية، وذكر القاضي ابن كج أن أبا الحُسَيْن بن القطَّان روى وجْهاً، أنه يُسَتْوفَى ويُوقَفُ، والظاهر الأولُ، ولو طلب المدَّعَى أن يحجر القاضي عليه، ففيه وجهان أوردَهُما الإِمام. نقل عن الأكثرَين أنه لا يجيبه، لأن ضرر الحَجْر في غير المشْهُود به عظيمٌ، وعن القاضي الحُسَيْن؛ إن كان يُتَوَهَّم فيه الحيلة، حجر عليه، كيلا يَضِيع مالُه بالتصرُّفات، والأقاريرِ، وسكت عامة حامِلِي المذْهَب عن الحَجر، لكن قالوا: هل يُحْبَسُ المدَّعَى عليه، إذا كان المدَّعَى دَيْناً؟ فيه وجهان، قال صاحب "التهذيب": أصحُّهما: أنه يُحْبَسُ؛ لأن المدَّعِي أتَى بما عليه، فالبحْثُ بعد ذلك من وظيفة القاضي، وظاهر الحالِ العدالةُ، وبهذا قال أبو إسحاق.
والثاني: ويُحْكَى عن الإِصطخري المنع؛ لأنَّ عدالة الشاهدَيْن غيرُ معلومةٍ، والأصل براءة الذمَّة، وعلى هذا؛ قيل: إنْ تكفَّل، فللمدَّعِي ملازمَتُه إلَى أن يُعْطِيَه كفيلاً، وأجرة من يبعثه القاضي معَهُما للتكَّفيل علَى المدَّعِي، وإنْ كان المدَّعَى قصاصاً، أو حد قذفٍ، يُحْبَسُ المشهود عليه، لأن الحقَّ متعلِّق ببدنه، فيحتاط له (¬1) وفي حدود الله تعالَى لا يُحْبَسُ. وفي دعْوَى النكاح تُعْزَل المرأة عند امرأةٍ ثقةٍ، وتمنع من الانتشار والخُروج، وفيه وجه ضعيفٌ وعلى هذا؛ هلْ يُؤْخَذ منها كفيلٌ؟ فيه وجهان عن صاحب التَّقْريب، قال القاضي أبو سَعْد: فإِنْ كانت المرأَةُ تحْت زوْجٍ، لم يمْنَعْ منْها الزوج قبل التعديل؛ لأنه ليس مدعى عليه، وليس البُضْع في يده، فلا معنى لإِيقاع الحَجْر علَيْه قبل التعديل، ولو شهد شاهِدَان لعَبْدٍ بأن سيِّدَه أعتقه، وطلَبَ العَبْدُ الحَيلولة قَبْل التزكية، فيجيبه القاضي إليه ويحول بينه وبين سيِّده، ويؤخِّره، وينفق علَيْه، فما فضل، فهو موقوفٌ بينه وبيْن سيِّده فإن لم يكُنْ له كسْبٌ، أنفق عليه مِنْ بيْت المال، ثم يُرّجَعُ عَلَى سيِّده، إنْ بان جرح الشهود واستمر الرقُّ، وكذلك الأعيان المنتزعة يؤجرها وهل يتوقَّف الحيلولةُ على طلب العَبْد؟ فيه وجهان، الذي أوْرَدَه، الإِمام أنَّه إذا رأَى القاضي أن يحول بينهما. فَعَلَ، ولا حاجة إلَى طلب العبد وفي الأمَّة تنحتم الحيلولةُ، احتياطاً للبُضْع وكذا لو ادَّعَتِ المرأة الطَّلاق، وأقامت شاهدَيْن، ففَرَق الحاكمُ بينهما قَبْلَ التزكية، والوجهان في أنَّ طلب العبْد، هل يُشْترط للحيلولة جاريان في انتزاعِ العَيْن المدَّعاة، ويقْرُب منهما وجهان حكاهما القاضِي ابن كج في أنَّ إجارة العبد تفتقر إلَى طلب اليد أو العبد أو يؤجِّره القاضي، وإن لم يطلُبْ واحدٌ منهما، والثاني أقرب إلى ظاهر النصِّ، هذا كلّه فيما إذا أقام المدَّعِي شاهدَيْن. ولو أقام شاهداً واحداً، وطلب الانتزاع قَبْل أن يأْتي بآخر، هل يُجَابُ فيه قولان: أحدهما: نعم، كما لو تمَّ العدَدُ، وبَقِيتِ الحاجةُ إلَى التَّزْكية. والثاني: لا؛ لأنَّ الشاهِدَ الواحدَ لَيْسَ بحُجَّة، وهناك قد تمَّت حُجَّته، وليسَتِ التزكية جزءاً من الحجَّة، وإنَّما تبين بها قيام الحجَّة، وهذا أصحُّ عند عامة الأصحاب، واختار القاضي الروياني الأول. وعن أبي إسحاق: أنه قطعَ بِهِ؛ لأنَّ المال يَثْبُت بشاهدٍ ويمينٍ، وله أن يحلف معه متَى شاء، فكأَنَّ الحجَّةَ تَامَّةٌ، وحكى أبو الفرج طريقة قاطعة بالثاني؛ لأنه متمكِّن من إتمام حجَّته بالحَلِف، فإذا لم يفعل، كان مقصِّراً، وله يُحْبَسُ المدَّعَى عليه في القذْف ¬
والقِصَاص بشاهدٍ واحدٍ؟ فيه القولان، ولا يجيء الطريقان، ويجري الخلاف في دعْوَى النكاح تعديلاً ثم تكفيلاً، إن لم يعدل. وفي دعوى العتق والطلاق، هل يحتال؟ فيه القولان، ثم ذكر العراقيُّون والقاضي الرويانيُّ؛ أن الحيلولة والحَبْس قَبْل التعديل يبقيان إلَى ظهور الأمْرِ للقَاضِي بالتزكية والجَرْح، ولا يقدر له مدة، والحيلولة والحَبْس بشاهدٍ واحدٍ، إذا قلْنا به لا يزدادان على ثلاثةِ أيامٍ، وعن أبي إسحاق أنَّ قول تأثير الشَّاهد الواحِدِ موْضِعُه ما إذا أقام شاهداً، وقال: إِنَّ الشاهدَ الآخر قريبٌ، وإن قال: إنه غائبٌ لا يحْضُر إلَى ثلاثة أيام، فلا حيلولَةَ ولا حَبْسَ بحال. وعلى هذا يُنَزَّل قوله في الكتاب وإذا قلْنا به، فلا يزيد على ثلاثة أيام إلى آخره، أي: إذا أوجبنا الحيلولة بشاهدٍ واحدٍ، يجوز أن يُعْلَمَ قولُه في الكتاب "قولان" بالواو، للطريقتَيْن القاطعتَيْن في دعْوَى المال، وكذلك في أول الفَرْع له، إن بَطلت الحيلولة، لما سبق. واعلم أن هذا النَّوْع لَيس له كثيرُ اختصاصٍ بالباب بل هو بـ"أَدَب القاضي" أو بـ"الدَّعَاوَى والبينات" أليقُ، وإنما أوْرَدَه هاهنا عَلَى ما يشعر به سياقُ "الوسيط" لأنَّه تبيَّن في الباب أن العددَ معتبرٌ في الشهادة، وأنَّ شهادة الواحدِ غَيْرُ محكوم بها، فأراد أن يتكلَّم في شهادة الواحِدِ، له تُعْتَبَرُ في شيْء؟ وإن لم يَكْفِ الحكم؟ ثم إنه قدَّم عليه أثَر إقامة الشاهدَيْن قبل التزكية. فَرْعٌ: قال في "التهذيب": إذا حال القاضِي بيْن العَبْد والسَّيِّد، وانتزع العَيْن المدَّعاة بعد شهَادَة الشاهدَيْن، وقبْل التَّزْكية، لم ينفذ تصرُّف المتداعِيَيْن فيه، نعم، لو أقر أحدهما بالوقوف لإِنسان، أو أوصَى به أو دَبَّر، أو أعْتق، انتظرْنا ما يستقر الأمرُ علَيْه آخِراً وحكى القاضي أبو سعْدٍ وجهَيْن في نفوذ التصرُّف، وصوَّر فيما إذا أوقع القاضِي الحَجْر على المشْهُود عليه في المشْهُود به، فإنْ أراد بإيقاع الحَجْر علَيْه نفْس الحيلولة، فقد تحصُّلنا من نقله على خلافٍ، وإن أراد التلفُّظ بالحجْر، أشعر ذلك باعتبار الحجر القوليّ لامتناع التصرُّف، قال: وإذا قامَتِ البينة، وحصَل التعدِيلُ، والقاضي ينْظُر في وجْه الحُكْم، فينبغي أن يوقع الحجْرَ عليه في مدة النَّظَر، وإذا وقع، لم ينفذ تصرُّفِ، قال صاحب "التهذيب": وقبل الحيلولة والانتزاع لا ينفُذُ تصرُّف المدَّعِي، وينفُذُ تصرُّف المدَّعَى عليه، إن قلْنا: إنَّ طلب المُدَّعِي شرطٌ في الوقْف، وإِلا فوجهان: آخر: الثمرة والغلَّة الحادثتان بعْد شهادة الشاهدَيْن وقبل التزكِيَة للمدَّعِي، وبين شهادة الشاهد الأول والثاني لا يكون للمدعي إلا إذا أرخَّ الثاني ما شهِدَ به بيوم شهادة
الباب الثالث في مستند علم الشاهد
الأول، أو بما قَبْلَه، فإن استخدم السَّيِّدُ العَبْدَ المدَّعِيَ للعتْقِ بين شهادَةِ الأول والثاني عَلَى قولنا، لا يُحَالُ بينهما، وشهد الثاني هكذا، فعليه أجْرَةُ المثل والله أَعْلَمُ. البَابُ الثَّالِثُ فِي مُسْتَنَدِ عِلْمِ الشَّاهِدِ قَالَ الغَزَالِيُّ: وَالأَصْلُ فِيهِ اليَقِينُ الوَاضِحُ كَالشَّمْسِ، وَذَلِكَ بِالإِبْصَارِ المُجَرَّدِ فِي الأَفْعَالِ، وَبِالسَّمْعِ وَالبَصَرِ جَمِيعاً فِي الأَقْوَالِ، فَيَقْبَلُ شَهَادَةَ الأَصَمِّ عَلَى الأَفْعَالَ، وَلاَ يَقْبِلُ شَهَادَةَ الأَعْمَى عَلَى الأَقْوَالَ وَلاَ عَلَى زَوْجَتِهِ الَّتِي يَطَؤُهَا فَإنّ الأَصْوَاتَ تَتَشَابَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَعَلَّق بِالمُقِرِّ ويَجُرَّهُ إِلَى القَاضِي فَالصَّحِيحُ أنَّهُ يُقْبَلُ، وَفِي رِوَايَةِ الأَعْمَى وَجْهَانِ، أَمَّا ما سَمِعَهُ قَبْلَ العَمَى فَيُرْوَى، بَلْ يَشْهَدُ أَيْضاً عَلَى مَعْرُوفِ النَّسَبِ بِمَا أَبْصَرَهُ قَبْلَ العَمَى، وَفِي المُتَرُجِمِ الأعْمَى وَجْهَانِ، وَالقَاضِي إِذَا عَمِيَ بَعْدَ سَمَاعِ البَيِّنَةِ فَفِي القَضَاءِ بِهَا وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مقصود الباب شيئان: أحدهما: بيانُ ما تستند إلَيْه الشَّهَادة. والثاني: القولُ في حكم تحملها أولاً، وأدائِها آخراً، إلاَّ أنَّه لم يتعرَّض للثاني في ترْجَمَة الباب، والشهادةُ تحْتَاجُ في مستَنَدِها تارةً إلى الإِبْصَار، وتارةً لا تحتاج إلَيْه، بل يكفي لها السماعُ، فرتَّب الباب على ثلاثة فصول: أحدُها: فيما يحتاج إلى الإِبْصَار. والثاني: فيما يَكْفِي فيه التَّسَامُع. والثالث: في التحمُّل والأداء، إلاَّ أنه ترك التَّفْصِيل ولم يصرح بالفصل الأول ثم اندفع الفصل الثاني والثالث ولا بأْس لو ألحق بأول الباب، وفيه فصول: الأولُ: فيما يحتاج إلى الإِبْصَار، والأصلُ في الشهادة البناءُ على العلْم واليقين، قال الله تعالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإِسراء: 36] وقال تعالَى: {إِلاَّ من شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] ونقَلْنا في أول الشهاداتِ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "عَلَى مِثْلِ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ أَوْ فَدَعْ" ولهذه اللفظة، قال في الكتاب "اليقينُ الواضحُ كالشَّمْس" إلا أَن من الحقوق ما لا يحْصُل اليقين فيه، ولا يستغنَى، عن إقامة البينة علَيه، فأقيم الظنُّ المؤكَّدُ فيه مقام اليقين وجُوِّزت الشهادة بناءً على ذلك الظنِّ كما سيأتي، وقد قسم الشَّافعي والأصحابُ -رحمهم الله- المشْهُود به عَلَى ثلاثة أقسام: أحدها: ما يكفي فيه السماع، ولا يحتاج إلى الإِبْصَار، وموضع بيانه الفصْلُ الثاني من الباب.
والثاني: ما يكْفِي فيه الإِبصارُ، وهو الأفعالُ، كالزنا، والشرب، والغصْب، والإِتْلاَف، والوِلاَدَة، والرَّضَاع، والاصطياد، والإِحياء، وكون المال في يد الشخص؛ فيُشْتَرَط فيها الرؤْيَة المتعلِّقة بها وبفاعليها، ولا يجوز بناءُ الشَّهادة فيها على السَّمَاع من الغَيْر، وتُقْبَل فيها شهادةُ الأصَمِّ، والثالث: ما يحتاج إلى السَّمْع والبَصَر معاً؛ كالأقوال، فلا بدَّ من سماعها، ومن مشاهدة قائِلِهَا، وذلك كالنكاح (¬1) والطلاق، والبيع، وجمِيع العقودِ، والفُسُوخِ، والإقْرَارِ بها، فلا تُقْبَلُ فيها شهادةُ الأصمِّ الذي لا يسمع شيئاً، ولا تَقْبَلُ شهادةُ الأعمَى فيمَا يحتاج إلى الإِبْصَار (¬2)، ولا يصحُّ فيه التحميلُ؛ اعتماداً على الصوت، فإن الأصواتَ تتشابه، ويتطرَّق إليها التخيُّل والتلْبِيس، وقال مالك وأحمد -رحمهما الله-: له التحمُّل والشهادَةُ، اعتماداً على الصوتْ، كما له أن يطأ زوْجته، ويميِّز بينها وبين غَيْرها بالصَّوْت ونحوه، وأجاب الأصحاب بأنَّ الشهادة مبيَّنةٌ على العِلْمُ ما أمكن، والوطء يجوز بالظنِّ، وأيضاً، فالضرورة تدْعو إلَى تجويز الوطْء له، ولا تَدْعو إلى الشهادة؛ فإنَّ في البَصَر غنية عنه، ويُستَثْنَى عن هذه القاعِدة صورة الضبط، وهي أن ¬
يضع رجُلٌ فمه على أذنه، ويد الأعمى علَى رأسه يتيقن أنه يسمع منه، فيقرَّ بطلاقٍ، أو إعتاقٍ، أو لرجُلٍ معروفِ النَّسب والاسم بمال، وتعلَّق به الأعمى، ولا يزال يضبطه حتى يَشْهَد بما سمع منْه عنْد القاضي، وأصحُّ الوجهين قبولُ الشهادة منه، والحالةُ هذه، لحصول العلم والثاني اطرادُ المنع؛ لأن التصوير المذكور فيه عسْرٌ وتدقيقٌ، واللائقُ حسُمُ الباب كما أنَّا لا نقبَلُ شهادةَ الفاسِق علَى الإِطْلاَق، وإن كان يغْلِبُ على ظَنِّنا صدْقُه، وأما روايةُ الأعمى، ففيها وجهان: أحدهما: المنْعُ؛ لأنه قد يُلْبَس عليه وقتُ السماع. والثاني: انَّها مقبولةٌ، إذا حصل الظنُّ الغالب، واحْتُجَّ له بأن عائشة وسائر أمهات المؤمنين -رضي الله عنهنَّ- كنَّ يرْوِينَ من وراء السِّتر، ثم يروى السامعُونَ منْهنَّ، ومعلوم أن البُصَراء، والحالةُ هذه، كالعميان، والأول أظهر عند الإِمام، وبالثاني أجاب الجُمْهور، وقالوا: يُحْتَمَلُ في الرواية ما لا يُحْتَمَلُ في الشَّهادة على ما تقدَّم. وهذا الخلاف فيما سُمِعَ بعد العَمَى، أما ما سمعه قبل العمَى، فله أن يرويه بلا خلافٍ، ولو تحمَّل شهادةً تحتاج إلى البَصَر، وهو بصيرٌ، ثم عَمِيَ، فَيُنْظَرُ، إن تحمَّل على رجل معروفِ الاسم والنسب، يقر لرجُلٍ بهذه الصفة، فله أن يشهد بعدما عَمِيَ؛ لحُصُولِ العِلْم بالمشْهُود عليه، وَبالمَشْهُود له، وكذا لو عَمِيَ، ويد المقر في يده، فشَهِد لِمَعْروف الاسمِ والنسبِ، وإن لم يكن كذلك، لم تُقْبَلْ شهادته، لانَّه لا يمكنه تعيينُ المشْهود عليه، أو الإِشاَرة إلى المَشْهود له. وفي المتَرْجِمِ الأعمى وجهان عن صاحب "التقريب": أصحُّهما: أنه يجوز الاعتمادُ علَى قوله، وقد ذكرنا المسألة من قَبْل. ولو عمي القاضِي بعد سماع البينة وتعْدِيلها، فهل يَنْفذ قضاؤُه في تلْك الواقعة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لانعزاله بالعَمَى كما لو انعزَلَ بسببٍ آخَرَ. وأشبههما: وبه أجاب القاضي الحُسَيْن: أنه ينفذ، إنْ لم يحتج إلى الإِشارة، كما لو تحمَّل، وهو بصير، ثم عمي، وأما شهادة الأعمَى فيما يثبت بالتسامع، فنذكرها في فصْل التسامح. وقوله في الكتاب "ولا تُقْبَلُ شهادةُ الأعمَى في الأقوال" معلمٌ بالميم والألف، ويجوز أن يُعْلَمَ بالواو؛ لوجْهٍ ضعيفٍ حكيناه في "أدب القضاء" أن العمَى لا يَقْدَح في القضاء، وذلك الوجْهُ على ضعّفه يطَّرد في الشهادة. وليس قوله: "في الأقوال" للتخصيص، بل كما لا تُقْبَلُ شهادته في الأقوال، لا
تُقْبَلُ شهادته في الأفْعَال؛ فإنَّ الاعتماد فيها على البَصَر وحْدَه. وقوله: "على زوجته التي يطأها" أشار به إلَى أن شهادته كما لا تُقْبَلُ على الأجانِبِ، لا تُقْبَلُ على زوجته الَّتي يجُوز له وطؤها؛ لما سبق، وعن القفَّال: أنَّ مالكاً سُئِلَ ببَخارَى على شهادة الأعمَى، وقصدوا التشنيع عليه، فقال: ما قولُكُمْ في أعمَى يطَأُ زوجته، وأقرَّتْ تحته بِدْرهَم، فشَهِدَ عليها، أتصدِّقونه في أنه عرَفَها؛ حتى استباح بُضْعَها؟ ويقولون: إنه لم يَعْرِفْها للإِقرار بدرهم، فانعكس التشْنِيعُ إلَى أنْ يحقق الأمر. وقوله: "يُقْبَلُ في مسألة الضبط" معلم بالحاء، وكذا قوله: "بل يشهد أيضاً على معروف النسب" فإن عند أبي حنيفة لا تُقَبَلُ شهادةُ الأعمَى بحال وقوله: "بل يشهد على معروف النسب" أي لمعروف النسب، وإلا فيحتاج إلى الإشارة إلى المشهود له، وهو غير متمكّن منها والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: وَمَنْ لاَ يُعْرَفْ نَسَبُهُ فَلاَ بُدَّ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى عَيْنِهِ، فَإنْ مَاتَ أُحْضِرَ مَجْلِسَ الحُكْمِ، فَإِنْ دُفِنَ فَلاَ يُنْبَشُ قَبْرُهُ وَقَدْ تَعَذَّرَتِ الشَّهَادَةُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا شاهد فعْلَهُ من إنْسَان، أو شاهَدَهُ، وسَمِع منه قولاً، فإنْ كانَ يَعْرِفُه بعَيْنه واسمه ونَسَبه، فيشهد علَيْه عنْد حضوره بالإِشَارَة إلَيْه، وعند غيبته ومَوْته باسمه ونَسَبه، فإنْ كانَ يعْرِفه باسمِه واسْمِ أبيه دُونَ جدِّه، قال في "الوسيط" يُقْتَصَرُ عليْه في الشِّهَادة، فإن عرفه القاضي بذلك، جاز، وكان يجوز أن يُقَالَ: هذه شهادةٌ على مجْهُول؛ فلا يُعْتَدُّ بها كما ذكرنا في "باب القضاء على الغَائِب" أن القاضِيَ، لو لم يَكْتُبْ إلا أنِّي حكمْتُ عَلَى محمَّد بن أحمد، فالحكْمُ باطل. وقد ذكر الشيخ أبو الفرج؛ أنه إذا لم يَعْرِف نسبه قدْرَ ما يحتاج إلى رفعه، لم يحلَّ له أن يشْهَد إلا بما عرف، لكن الشهادة، والحالةُ هذه لا تفيد، وقال الإِمام: لو لم يَعْرِفْه إلا باسمه، لم يتعرَّض لاسم أبيه، لكنَّ الشهادةَ علَى مجرَّد الاسم، قد لا تنفع في الغيبة. وبالجملة فلا يَشْهد ولا يُجْزِئ على ما لا مَعْرفةَ له به، فلو سمع اثنين يَشْهدان، أن فلاناً وكَّل هذا الرجل ببيع دارِهِ، وأقرَّ الوكيلُ بالبيع، شهد على إِقْرَاره بالبيع، ولم يشْهَد على الوكالة، وكتب القفَّال مثله؛ أنَّه يَشْهَد علَى شهادة شاهدي الوكالة، وكأنهما كانا أشهداه على شهادتهما؛ ولو حَضَر عقْدَ نِكَاحٍ زعم الموجب أنَّه وليُّ المخطوبة، أو وكيلُ وليِّها، وهو لا يعرفه وكيلاً، أو ولياً، أو عَرَف الولاية، والوكالة، لكنْ لم يَعْرِفْ رضا المرأة، وهي ممَّن يُعْتَبَرُ رضاها، فلا يَشْهَد على أنَّها زوجته، ولكنْ يشهد أن فلاناً زَوَّجَ فلانةً من فلان، وقيل: فلان، فإن لم تُعْرَفِ المرأةُ بنَسبِها، لم يشهد
إلا أن فلاناً قال؛ زوَّجت فلانةً من فلان، ويُقَالُ: إنَّه ورد على القفَّال من القاضي؛ ليزوج فلانة من (¬1) خاطبها من أحمد بن عبيد الله، وكان الخاطب من جيران القفَّال، فقال: إنما أعْرِفُكَ بأحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، لا بأحمَدَ بْنِ عبيد اللَّهِ، فلم يزوِّجْها منه. وفي مثل هذه الصورةِ لَيْس للمكتوب إلَيْه أن يسمع الشهادة علَى أنه أحمد بن عبيد الله؛ لأن القاضي لم يفوِّض إليه سماع البينة، وإن كان يعرف المشهود عليه بعَيْنه دون اسمه ونسبه، ويشهد عليه حاضراً، لا غائباً ولا ميتاً، وإذا مات أُحْضِرَ ليشَاهِدَ صورته، ويَشْهَد على عينه، فإن دُفِنَ، فعن القاضي الحُسَيْن: أنه لا يُنْبَشُ، وقد تعذَّرت الشهادة، وهذا ما أورده في الكتاب، وما استُثْنِيَ عنْه في "الوسيط" ما إذا اشتدت الحاجة، ولم يطُلِ العهدُ بحَيْث بتغيَّر المنْظَر، وهذا ما أورده الإِمامُ علَى سبيل الاحتمال، وقال: الأظهُر ما ذكره القاضي. ومن لا يعرف اسم المشهود عليه ونسبه، لم يكن له أن يُعْتَمَد قوله، أنه فلانُ بنُ فلانٍ، فيشهد على اسمه ونَسَبه، لكن لو تحمَّل الشهادة، وهو لا يَعْرِف اسْمَه ونسبه، ثم سمع الناسَ من بعد يقولون: إنَّه فلانُ بنُ فلان، واستفاض عنه ذلك، فله أن يشهد في غيبته علَى اسمه ونَسَبه، ويكون كما لو عَرَفَها عند التحمل (¬2). ولو قال عدلان عند التحمُّل أو بعده: هو فلانُ بن فلانٍ، قال الشيخ أبو حامد: له أن يعْتَمِد عليه، ويشهد على اسْمِه ونَسَبه، وهذا مبنيٌّ علَى أنه يجُوز الشَّهَادة على النسب بالسماع من عدلَيْن، وفيه خلافٌ سيأتي في "فصل التسامح" وكما أن المشهود عليه تارة تقع الشهادةُ علَى عينه، وأخرَى على اسمه ونسبه فكذلك المشْهُود له فتارة يُشْهَد على أنه أقرَّ لهذا، وتارةً علَى أنه أقر لفلانِ بْنِ فلان. وكذلك عند غيبة المشهودِ له وإذا شهد الشاهدانِ علَى أنَّ لهذا علَى فلانِ بنِ فلانٍ ¬
الفلانِيّ كذا، فقال الخَصْم: لسْتُ فلانَ بْنَ فلانٍ الفلانيَّ وفي فتاوى القفَّال: أن عَلَى المدَّعِي البيِّنَة على أن اسمه ونسبه ما ذكراه، فإن لم تكُنْ بينة، حلَّفه، وإن نكل، حَلَف، واستحقَّ، وإن سلم ذلك الاسم والنَّسَب، وادعى؛ أن هناك من يشاركه فيهما، لم يُقْبل منْه حتَّى يقيم البينة على ما يدَّعيه، فإِن أقامها، احتاج المدَّعِي إلَى إثبات زيادة، يمتاز بها المدَّعَى عليه عن الآخر. وهذا كما ذُكِرَ في كتاب القاضي إذا بلغ المكتوب إليه، وأحضر من زعم المدَّعِي أنه المحْكُوم عليه، وليكن التصويرُ فيما إذا ادَّعَى أنه يستحِقّ علَى هذا الحاضِر كذا، واسمه ونسبه كذا، وأنه يستحق على من اسمه ونسبه كذا، وهو هذا الحاضر، وأقام البينة على الاستحقاق على فلانِ بنِ فلانٍ، فيستفيد بها مطالبةَ الحَاضِر، إن اعترف بذلك الاسم والنسب، أو يقيم بينة أخرَى على الاسم والنسب، إن أنكر، ثم يطالبه، وإلا، فكيف يدَّعي علَى فلانِ بنِ فلانٍ من غير أن يربط الدْعَوى بالحَاضر؟. وفي الفتاوى أيضاً: أنه لو أحضر رجلاً عند القاضِي، وقال: إن هذا أقرَّ لفلانِ ابْنِ فلانٍ بكذا، وأنا ذلك المُقَرُّ له، فقال الرجل: نَعَمْ، أقرَرْتُ، ولكن هاهنا، أو بموضعٍ آخرَ رجلٌ بهذا الاسم والنَّسَب، وإنما أقررتُ له، فعليه إقامةُ البينة على ما يدَّعيه، فإذا أقامها سُئِلَ ذلك الآخَرُ، فإن صدَّقه، دُفِعَ المُقَرُّ به إليه، ويحلفه الأولُ علَى أنه لا شيء عليه. وإن كذَّبه، فهو للمدَّعِي، وإن قال: هاهنا رجلٌ آخرُ بهذا الاسم والنسب، وأنا أقررتُ لأحدهما، لا أثبت عينه، وأقام البينة علَى رجلٍ آخَر، فَيُسْأَلُ ذلك الآخر، فإن قال: لا شيء لي على المُقِرِّ، فينبغي أن يجب عليه التسليمُ إلى الأول، كما لو كانت عنده وديعةٌ فقال: هي لأحدكما؛ ولا أدْرِي أنَّها لأيِّكما، فقال أحدهما: إنَّها ليستْ لي، تكون للآخر، وإن صدَّقه الآخر، فهو كما في صورة الوديعة، إذا قال كلُّ واحد منهما: إنَّها لِي. واعلم أنا في الوكالة ذكَرْنا فيما لو وكَّل رجلاً بالخصومة عنه، ثم غاب الموكِّل، والقاضي لا يعرفه، وأراد الوكيل الخصومة عنه، بناءً على اسمٍ ونَسَبٍ ذكره أنه لا بدّ من البيِّنة علَى أنه وكلَّه فلانُ بن فلانٍ، أو على أن الذي وكلَّه عند القاضي هو فلانُ بنُ فلانٍ، وحكينا عن القاضي الحُسَيْن أن هذه البينة يكتفي القضاة فيها بالعدَالة الظاهرة، ويتساهَلُون في البحْث والاستزكاء، وعن القاضي أبي سعد الهرويِّ: أنه يجوز الاكتفاءُ فيه بتعْريف واحد وكلُّ واحدٍ من هذَيْن الكلامَيْن ينبغي أنْ يعود هاهنا حيث احتاج إلى إثباتِ أنَّه فلانُ بن فلانٍ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلاَ يَجُوزُ تَحمُّلُ الشَّهَادَةِ عَلى المَرْأَةِ المُتَنَقِّبَةِ إِلاَّ أن يُكْشَفَ وَجْهُهَا وَيُمَيِّزَهَا عِنْدَ الأَدَاءِ عَنْ أَمْثَالِهَا بِالإِشَارَةِ وَالمَعْرِفَةِ المُحَقَّقَةِ، وَإِنْ عَرَفَهَا رَجُلاَنِ فَلاَ يُشْهَدُ عَلَيْهَا بَلْ عَلى شَهَادتِهِمَا بِأَنَّ فُلاَنَةً أَقَرَّتْ وَذَلِكَ عِنْدَ غَيْبَتِهَا لِأَنَّهُ فَرْعُهُمَا، وَيَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهَا لِحَاجَةِ التَّحَمُّلِ، وَإِذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ عَلَى عَيْنِهَا بِدَيْنٍ وَزَعَمَتْ أنَّهَا بِنْتُ زَيْدٍ وَإِنْ أَقَرَّتْ بِالنَّسَبِ وَلاَ إِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهَا بنتُ زَيْدٍ إِذِ البَيِّنَةُ عَلَى النَّسَبِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى لاَ يُسْمَعُ عَلَى الصَّحيْحِ، وَلَكِنْ لِلْقَاضِي أنْ يُنَصِّبَ مَنْ يَدَّعِي عَلَى بِنْتِ زَيْدٍ دَيْنَاً وَتنْكِرَ هِيَ أنَّهَا بِنْتُ زَيْدٍ فَيُقَامُ البَيِّنَةُ عَلَيْهَا بِالنَّسَبِ ثمَّ إِذَا ثَبَتَ سَجَّلَ وَيَجُوزُ هَذِهِ الحِيلةُ لِلْحَاجَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مَسْأَلَتَانِ: إحداهما: المرأة المُتَنَقِّبَةُ؛ لا يجوز [تَحَمُّلُ] (¬1) الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا، اعْتِمَاداً على الصَّوْتِ؛ فإن الأَصْوَاتَ تَتَشَابَهُ، كما لا يجوز أن يتحمل الأَعْمَى، اعتماداً على الصوت. وكذا البَصِيرُ في الظُّلْمَةِ، ومن وَرَاءِ حائلٍ صَفِيقٍ، وفي الحَائِلِ الرَّقِيقِ، وَجْهَانِ مَذْكُورَانِ في العِدَّةِ: أَصَحُّهُمَا: أنه يجوز؛ لأنه لا يمنع المُشَاهدة؛ وإذا لم يَجُزِ التَّحَمُّلُ بالصوت، فإن عرفها مُتَنَقِّبَةً باسمها، ونَسَبِهَا، أو بِعَيْنِهَا، لا غير، جاز التَّحَمُّلُ، ويشهد عند الأَدَاءِ بما يعلم. وإن لم يعرفها، فيكشف (¬2) عن وجهها، ليراها الشَّاهِدُ، وبضبط حِلْيَتَهَا، وصُورَتَهَا، لِيَتَمَكَّنَ من الشَّهَادَةِ عليها عند الحاجة إلى الأَدَاءِ؛ ويُكْشَفُ وَجْهُهَا حينئذ أيضاً. ولا يجوز التَّحَمُّلُ، بتعريف عَدْلٍ أو عَدْلَيْنِ أنها فلانة بنت فلان، وإذا قَالَ عَدْلاَنِ: نَشْهَدُ أن: هذه فُلانَةُ بنت فلان تقر بكذا، فهما شَاهِدَا الأَصْل. والذي يسمع منهما شَاهِدٌ، فرع يشهد على شَهَادَتِهِمَا عند اجتماع (¬3) الشَّرَائِطِ. ولو سَمِعَهُ من عَدْلٍ وَاحِدٍ فَيَشْهَدُ على شَهَادَتِهِ. والشَّهَادَةُ على الشَّهَادَةِ، والحالة هذه، تكون على الاسْمِ، والنَّسَبِ، دون العَيْنِ. هذا ما ذكره أَكْبَرُ المُتَكَلِّمِينَ في المَسْألَةِ. وَحَكَوْا عن القَفَّالِ: أنه كتب في صورة المَسْاَلَةِ شَهَادَتَهُ على شهادة المعرفين ثم ¬
أُحْضِرَا لِلأَدَاء، فامتنع، وقال: كيف أَشْهَدُ؟ والشَّاهِدَانِ في السُّوقِ، ووراء ذلك وجوه: أحدها: عن الشيخ أبي مُحَمَّدٍ: يكفي [له] (¬1) لتحمل الشَّهَادَةِ عليها مُعَرِّفٌ وَاحِدٌ سُلُوكاً به مَسْلَكَ الإِخْبَارِ. وعلى ذلك، جرى جَمَاعَةٌ من المُتَأَخِّرِينَ، منهم القاضي ابن كج والروباني. والثاني: أنه يجوز التَّحَمُّلُ إذا سمع من عَدْلَيْنِ أنها فُلاَنَة بنت فلان، ويَشْهَدُ على اسْمِهَا، ونَسَبِهَا، عند الغيبة. وهذا، ما حكيناه عن الشيخ أبي حَامِدٍ؛ بِنَاءً على أنه: تجوز الشَّهَادَةُ على النَّسَبِ بالسَّمَاعِ من عَدْلَيْنِ. والثالث: عن الإِصْطَخْرِيِّ: أنه إذا كان يَعْرِفُ نَسبَ امْرَأَةٍ، ولا يعرف عَيْنَهَا، فدخل دَارَهَا، وفيها نِسْوَةٌ سِوَاهَا، فقال لابنها الصَّغِيرِ: أيتهن أُمُّكَ، أو لجاريتها: أيتهن سَيِّدَتُك، فأشارت [إلى] (¬2) امرأة، فسمع إقْرَارَهَا، جاز له أن يَشْهَدَ: أن فلانة بنت فُلاَنٍ أَقَرَّتْ بكذا. حَكَاهُ القاضي ابن كَجِّ، ولم يقم قَوْلُ شَاهِدَيْنِ، على قول الإِصْطَخْرِيِّ مَقَامَ إِخْبَارِ الصغير، والجارية، وادَّعَى: أن ذلك أَشَدُّ وَقْعاً في القَلْبِ، وأَثْبَتُ. ولك أن تقول: مَا يَنْبَغِي أن يَتَوَقَّفَ جَوَازُ التَّحَمُّلِ على كَشْفِ الوَجْهِ، ولا على المعرف (¬3)؛ لأن حُضُورَ امْرَأَةٍ، أو شَخْصٍ تحت النِّقَاب، وإقرار ذلك الحاضر مُتَيَقَّنٌ، فإذا رفعت المَرْأَةُ إلى القاضي، والمُتَحَمِّلُ يُلاَزِمُهَا، يتمكَن من الشهادة على عَيْنِهَا، بأنها أَقَرَّتْ بكذا، وهو نظير صورة الضبطة، في شهادة الأَعْمَى. وقد يحضر قَوْمٌ، يُكْتَفَى بإخبارهم في التَّسَامُعِ، قبل أن تَغِيبَ المَرْأَةُ، إذا لم نَعْتَبِرْ في التَّسَامُعِ طولَ المُدَّةِ. كما سيأتي، فيخبرون عن اسْمِهَا، ونَسَبِهَا، فيتمكن من الشَّهَادَةِ على اسْمِهَا، ونَسَبِهَا، بل ينبغي أن يقال: لو شَهِدَ اثْنَانِ، تَحَمَّلاَ الشَّهَادَةَ على امْرَأَةٍ لا يَعْرِفَانِهَا، أن امرأة حَضَرَتْ ¬
يوم كذا، مَجْلِسَ كذا، فَأَقَرَّتْ لفلان بكذا، وشهد عَدْلاَنِ أن المَرْأَةَ المُحْضَرَةَ يومئذ في ذلك المَكَانِ، كانت هذه، يَثْبُتُ الحَقُّ بالبَيِّنَتَيْنِ. أَلَيْسَ لو قَامَتْ بَيِّنَةٌ على أن فُلاَنَ بن فلان الفُلاَنِيَّ أقر بكذا، وقامت أُخْرَى على أنَّ هذا الحَاضِر، هو فلان بن فلان يَثْبُتُ الحق؟ فما الفَرْقُ بين (¬1) تعريف المَشْهُودِ عليه المُطْلَق باسم، ونَسَبٍ، وبين تَعْرِيفِهِ بِزَمَانٍ ومكان؟ وإذا اشْتَمَلَ التَّحَمُّلُ على هذه الفوائد، وَجَبَ أن يَجُوزَ مُطْلَقاً، ثم إن لم يعرض ما يُفِيدُ جَوَازَ الشَّهَادَةِ على العَيْنِ، أو على الاسْمِ، والنَّسَبِ، أو لم يَنْضَمَّ إليه ما يتم (¬2) به الإِثْبَاتُ، فَذَاكَ شَيْءٌ آخر. وقوله في الكتاب: "ولا يجوز تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ على المَرْأَةِ المُتَنَقِّبَةِ، إلا أن تكشف وجهها، غير مُجْرى على ظَاهِرِهِ، بل لو عَرَفَهَا في النِّقَابِ، لم يفتقر إلى الكَشْفِ على ما [مر] (¬3) صرح به صاحب العِدَّةِ وغيره. وقوله: "وتميزها عند الأَدَاءِ عن أَمْثَالِهَا"، لا يمكن أن يكون شَرْطاً في التَّحَمُّلِ، فإن الأَدَاءَ يَتَأَخَّرُ عن التَّحَمُّلِ، فكيف يَجُوزُ أن يُقَالَ: لا يجوز التَّحَمُّلُ ما لم يتميز عند الأداء؟ لكن المُرَادَ، أنه لا يَجُوزُ التَّحَمُّلُ، ما لم تكْشِفْ وَجْهَها، ليتمكن من التَّمْيِيزِ عند الأَدَاءِ، وما أَشْبَهَ ذلك. وقوله: "فلا يشهد عليها" مُعَلَّمٌ بالواو، لما عَرَفْتَ. وقوله: "ويجوز النَّظَرُ إليها لحاجة التَّحَمُّلِ"، يعني النَّظَرَ إليها، إلى وجهها. وذكر الصميري: أنه لو نَظَرَ إلى أَكْثَرِ وَجْهِهَا، وسمع كَلاَمَهَا، جَازَ أيضاً. وفي لَفْظِ الكتاب، تَعْلِيلُ جَوَازِ النظر لِحَاجَةِ التَّحَمُّلٍ. لكن ذكرنا في أول النِّكَاح وَجْهَيْنِ، وإنما يَنْتَظِمُ ذلك على الوَجْهِ الآخَرِ، وأما عند خوْفِ الفِتْنَةِ، فيَحْرُمُ النَّظَرُ إلىَ وَجْهِهَا، بلا خِلاَفٍ. ويشبه أن يُقال: من يخاف الفِتْنَةَ، لا يَنْظُرُ لِلتَّحَمُّلِ؛ لأن في غَيْرِهِ غُنْيَةً عنه. فإن تَعَيَّنَ، فينظر وَيحْتَرِزُ. المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذا قامت البَيِّنَةُ على عَيْنِ رَجُلٍ، وامْرَأَةٍ، بِحَقٍّ، وأراد المُدَّعِي أن يُسَجِّلَ له القَاضِي، فالتَّسْجِيلُ على العَيْنِ ممتنع، لكن يجوز أن يُسَجِّلَ بالحلية (¬4)، ولا ¬
سَبِيلَ إلى التَّسْجِيلِ بالاسْم، والنَّسَبِ، ما لم يثبتا. ولا يَكْفِي فيهما قَوْلُ المُدَّعِى، ولا إِقْرَارُ مَنْ قامت عليه البَيِّنَةُ؛ فإن نسبَ الشَّخص، لا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ. ولو قامت بَيِّنَةٌ على نَسَبِهِ، على سبيل الحِسْبَةِ، فيبنى على أن شَهَادَةَ الحِسْبَةِ في النَّسَبِ، هل يُقْبَلُ إن قَبِلْنَاهَا؟ أثبت القَاضِي النَّسَبَ، وسَجَّلَ. وإن لم يقبلها، وهو اختيار الَقَاضِي الحُسَيْنِ؛ فقد قال هاهنا: الطَّرِيقُ أن يُنَصِّبَ القَاضِي مَنْ يَدَّعِي على فلان ابن فلان دَيْناً، أو على فَاطِمَةَ بنت زَيْدٍ، أو يدعي (¬1) على زيد، ويقول: هذه ابْنَتُهُ، [وتَرِكَتُهُ عندها] (¬2)، وينكر المُدَّعِي عليه فيقيم (¬3) المدعي البَيِّنَةَ عليه. قال: وتَجُوز هَذِهِ الحِيلَةُ لِلْحَاجَةِ، كما أَمَرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عامل "خَيْبَرَ" بِبَيْعِ الجمع بالدراهم، وشراء الجنيب (¬4) بها. واعْتَرَضَ الإِمَامُ بأن الدَّعْوَى البَاطِلَةَ، كَلاَ دَعْوَى؛ فكيف تجوز بناء الشهادة عليها؟ وكيف يَأْمُرُ القاضي بها؟ وأَنَّى يشبه (¬5) هذا، قِصَّةَ "خَيْبَرَ"، والنبي -صلى الله عليه وسلم-، أمر بِبَيْعٍ، وشِرَاءٍ صَحِيحَيْنِ. لكن الوجه: أن يُقال: وُكَلاَءُ المَجْلِسِ يتفطنون (¬6) لمثل ذلك، وإذا نَصَبُوا مُدَّعِيَاً، لم يَتَفَحَّصِ القاضي، ولم يضيق، بل يُصْغِي إلى الدَّعْوَى والبَيِّنَةِ للحاجة، ولو أمر المُدَّعِي الذي ثَبَتَ له الحَقُّ بالبَيِّنَةِ، بأن ينقل الدَّعْوَى عن العَيْنِ، إلى الدَّعْوَى على بِنْتِ زَيْدٍ، فيقيم البَيِّنَةَ على النَّسَبِ، كان أقرب من نصب مُدَّعٍ جَدِيدٍ وأمره بدعوى باطلة. وقوله في الكتاب: "لا يسمع على الصَّحِيح"، إشَارَةٌ إلى الخِلاَفِ الذي سَبَقَ في أن النَّسَبَ، هل يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الحِسْبَةِ؟ وترجيح المَنْعِ، غير مُسَاعد عليه، على ما بَيَّنَّا هناك، ويجوز أن يُعَلَّمَ قوله: "ولكن للقاضي أن ينصب" بالواو لاِعْتِرَاضِ الإِمَامِ. وكذا قوله: "ويجوز هذه الحيلة، للحاجة". وقوله: "وتنكر هي، أنها بنت زيد"، ¬
يُشْعِرُ بأنه لاَ بُدَّ من إِنْكَارِهَا. وكان التَّصْوِيرُ فيما إذا لم تعرف (¬1) قَبْلُ بأَنَّهَا بِنْتُ زَيْدٍ، وإلا، فكيف يُؤْمَرُ بأن يرجع عما أقرتِ؟ وقد تبين مما أجْرَينَاهُ، أنه لا فَرْقَ في المَسْألَةِ بين الرجل والمَرْأَةِ. فَرْعٌ: عن فَتَاوَى القَفَّالِ: شهد الشُّهُودُ على امْرَأَةٍ بِاسْمِهَا، ونَسَبِهَا، ولم يَتَعَرَّضُوا لمعرفة عَيْنِهَا، صَحَّتْ شَهَادَتُهُمْ. فإن سألهم الحَاكِمُ: هل تعرفون عَيْنَهَا؟ فلهم أن يَسْكُتُوا، ولهم أن يَقُولوا: لا يلزمنا الجَوَابُ عما تقوله والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الْفَصْلُ الثَّانِي فِي التَّسَامُعِ: وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ بِالسَّمَاعِ مِنْ قَوْمٍ لاَ يَنْحَصِرُونَ عِنْدَ الشَّاهِدِ فَيُشْهَدُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ، وَفِي النَّسَبِ مِنَ الأُمِّ وَجْهَانِ لِأنَّهُ يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ، وَالأَصَحُّ ثُبُوتُهُ، وَاخْتَلَفُوا في الوَلاَءِ وَالعِتْقِ وَالوَقْفِ وَالنِّكَاحِ وَمَا يَتَوَفَّرُ الطِّبَاعُ عَلَى إِشَاعَتِهِ أنَّهُ هَلْ يُلْحَقُ بِالنَّسَبِ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّ المَوْتَ كَالنَّسَبِ لاَ كَالعِتْقِ، ثُمَّ لاَ يَحْصُلُ التَّسَامُعُ بِقَوْلِ عَدْلَيْنِ، بَلْ مِنْ جَمَاعَةٍ لاَ يَجْمَعُهُمْ رَابِطَةُ التَّوَاطُؤ إِلاَّ أَنْ يُشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِمَا، وَلاَ يَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّسَبِ بِأَنْ تَسْمَعَ رَجُلاً يَسْتَحْلِفُ صَبِيَّاً أَوْ كَبِيراً سَاكِتَاً لاَ يُنْكِرُهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: عقد الفَصْل لِبَيَانِ مَا يَجُوزُ الشَّهَادَةُ فيه بالسماع (¬2)؛ فمنه النَّسَبُ؛ فيجوز أن يَشْهَدَ بالتَّسَامُعِ، أن هذا الرَّجُلَ ابن فلان، أو أن هذه المَرْأَةَ، إذا عرف عَيْنَهَا بنت فُلاَنٍ، أو أنها من قَبِيلَةِ كذا (¬3)؛ لأنه أَمْر لا مَدْخَلَ لِلرُّؤَيةِ فيه، وغَايَةُ المُمْكِنِ، رُؤْيَةُ الوِلاَدَةِ على فِرَاشِ الإنسان، لكن النَّسَبَ إلى الأجْدَادِ المُتَوَفَّيْنِ، والقَبَائِلِ القَدِيمَةِ، لا تَتَحَقَّقُ الرُّؤْيَةُ فيه، ومعرفة الفراش. فدعت الحَاجَةُ إلى اعْتِمَادِ التَّسَامُعِ. ¬
وفي النَّسَبِ من الأُمِّ وَجْهَانِ: أحدهما: أنه لا يجوز الشَّهَادَةُ عليه بالسَّمَاعِ، لإِمْكَانِ رُؤْيَةِ الوِلاَدَةِ. والثاني: يجوز، كما في [جَانِبِ] (¬1) الرَّجُلِ، وهذا أَصَحُّ عند صَاحِبِ الكتاب. وحُكِيَ في "الوسيط"، القَطْعُ به عن بعضهم. ثم ذكر الشَّافِعِىُّ -رضي الله عنه- والأصحاب -رضي الله عنهم- في صِفَةِ التَّسَامُع: أنه يَنْبَغِي أن يسمع الشَّاهِد المَشْهُود بِنَسَبِهِ؛ فيُنسب (¬2) إلى ذلك الرَّجُلِ، والقبيلة. وسمع الناس يَنْسِبُونَهُ إليه. وهل يُعْتَبَرُ فيهما التَّكْرَارُ وامْتِدَادُ مُدَّةِ السَّمَاعِ؟ قال كثيرون: نعم، فَالظَّنُّ حينئذ يَتَأَكَّدُ، وبهذا أجاب القاسم الصَّيْمَرِيُّ، وقال آخرون: لا، بل لو سَمِعَ انْتِسَابَ الشَّخْصِ، وحضر جَمَاعَةٌ، لا يُرْتَابُ في صِدْقِهِمْ، فأخبروه (¬3) بِنَسَبِهِ، دُفْعَةً وَاحِدَةً، جَازَ له الشَّهَادَةُ. وهذا ما رأى القاضي ابْنُ كَجِّ القَطْعَ به، وهو جَوَابُ صاحب "التهذيب" في انْتِسَابِهِ نَفْسِهِ (¬4). وإذا قُلْنَا بالأول، فليست المُدَّةُ مَحْدُودَةً بسنة، ويعتبر مع انْتِسَابِ الشَّخْصِ، ونسبة الناس ألاَّ يعارضهما ما يورث التُّهْمَةَ والرِّيبَةَ. فلو كان المَنْسُوبُ إليه حَيَّاً، وأنكر، لم تَجُزِ الشَّهَادَةُ. وإن كان مَجْنُوناً، جازت الشَّهَادَةُ، كما لو كان مَيِّتاً. وفيه وجه؛ لأنه قد يُفِيقُ، فَيُنْكِرُ. وطَعْنُ مَنْ يَطْعَنُ مِنَ النَّاسِ في ذلك الانْتِسَابِ، والنَّسَبِ، هل يَمْنَعُ جَوَازَ الشهادة؟ فيه وجهان: أَشْبَهَهُمَا، أنه يَمْنَعُ، لاخْتِلاَلِ الظَّنِّ. وهل تجوز الشَّهَادَةُ في الوَلاَء، والعِتْقِ، والوَقْفِ، والزَّوجِيَّةِ بالتسامُع (¬5)، فيه ¬
وجهان، وهما في الشَّهَادَةِ على أنه مَوْلَى فلان، أو أعتق، أو وقف أو أنها زَوْجَةُ فلان، لا على الإنشاءات (¬1). قال أبو إسْحَاقَ: لا تَجْوزُ الشَّهَادَةُ عليها بالتَّسَامُعِ؛ لأن أَنْسَابَهَا غير مُتَعَدِّدَةٍ، ومُشَاهَدَتُهَا مَقِيسَةٌ (¬2). وقال الإصْطَخْرِيُّ: يجوز؛ لأن هذه أُمُورٌ مُؤَبَّدَةٌ، وإذا طَالتْ مُدَّتُهَا، عسِرَ إِقَامَةُ البَيِّنَةِ على ابْتِدَائِهَا، فَتَمَسُّ الحَاجَةُ إلى إثباتها بالتَّسَامُع، ولأنها شَهَادَةٌ على الحَاصِل بالعَقْدِ، فأشبهت الشَّهَادَةَ على المِلْكِ المُطْلَقِ. وبهذا قال أَحْمَدُ، وابن القَاصِّ، وأبو عَلِيِّ بن أبي هُرَيْرَةَ، والطُّبَرَيُّ، وَرَجَّحَهَا ابن الصَّبَّاغِ، وبه أجاب القَاضِي ابن كَجٍّ، في الوَلاَءِ. والأول هو الجَوَابُ في فَتَاوَى القَفَّالِ، والأَصَحُّ ما ذكره الإِمام، وأبو الحَسَنِ العَبَّادِيُّ، والقاضي الرُّوَيانِيُّ، في "جمع الجوامع" قال هؤلاء: لا يمكن الإِثْبَاتُ بالشَّهَادَةِ على شُهُودِ الأَصْلِ، واسْتَحَبُّوا للحاكم أن يجدد شُهُودَ كُتُبِ الوَقفِ، مهماَ خَافَ انْقِرَاضَ الأُصُولِ، وفَرَّقُوا بينها، وبين المِلْكِ، بأن أسْبَابَ المِلْكِ مُتَعَدِّدَةٌ، وتَعَدُّدُهَا يُورِثُ عُسْرَ الوُقُوفِ عليها، فلذلك جَوَّزنَا الإِعْتِمَادَ على التَّسَامُعِ، وأما هذه فَأَسْبَابُهَا مُتَّحِدَةٌ. وذكر صاحب العدَّةِ أن هذا ظَاهِرُ المَذْهَبِ، لكن الفَتْوَى الجَوَاز؛ للحاجة (¬3). ¬
وفي جَوَازِ الشَّهَادَةِ على المَوْتِ بالاسْتِفَاضَةِ، طَرِيقَانِ عن القاضي الحُسَيْنِ [أنه على الخلاف] (¬1) في الوَلاَءِ، وما في مَعْنَاهُ، لأنه (¬2) يمكن فيه المُعَايَنَة. والصحيح المَشْهُورُ، القَطْعُ بالجَوَازِ كالنَّسَبِ؛ لأن أَسْبَابَ المَوْتِ مما يَكْثُرُ، منها مَا يَخْفَى، ومنها مَا يَظْهَرُ، وقد يَعْسَرُ الاطِّلاعُ عليَها، فجاز أن يَعْتَمِدَ على الإِسْتِفَاضَةِ؛ ولأنه [قد يقع] (¬3) في الأَفْوَاهِ، وينتشر كالنَّسَبِ، [ثم] (¬4) في الفَصْلِ مسألتان: إحداهما: في العَدَدِ المُعْتَدِّ به في التَّسَامُعِ؛ وفيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز الاعْتِمَادُ، فيه على خَبَرِ عَدْلَيْنِ، كما يجوز لِلْحَاكِمِ الحُكْمُ بشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ، وهذا ما اخْتَارَهُ الشيخ أبو حَامِدٍ، وأبو حَاتِمٍ القَزْوِينيُّ، وإليه مَيْلُ الإِمَامِ (¬5) -رحمهم الله [وإيانا] (¬6). والثاني: لاَ بُدَّ من جَمْع كَثِير يقعِ العِلْمُ، أو الظَّنُّ القَوِيُّ بِخَبَرِهِمْ، ويُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ على الكَذِبِ، ولا يكفي قَوْلُ عَدْلَيْنِ، نعم، لو أَشْهَدَاهُ، شَهِدَ على شَهَادَتِهِمَا. وهذا ما اخْتَارَهُ أَقْضَىَ القُضَاةِ -المَاوَرْدِيُّ، وابن الصَّبَّاغِ أيضاً، وهو أشبه بكَلاَمِ الشَّافعي -رضي الله عنه-، وبه أجاب صَاحِبُ الكتاب. وحكى أبو الفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ وغَيْرُهُ وَجْهاً ثَالِثاً: وهو جَوَازُ الاعْتِمَادِ على خَبَرِ ¬
الشَّخْصِ الواحد، إذا سكن القَلْبُ إليه، ولا يُعْتَبَرُ عَدَدُ الشهادة، كما لا يُعْتَبَرُ، لَفْظُ الشهادة. وإذا قلنا بالوَجْهِ الثاني، فينبغي ألا تُعْتَبَرَ العَدَالَةُ، ولا الحُرِّيَّةُ، ولا الذُّكُورَةُ (¬1). الثانية: إذا سَمِعَ رَجُلاً يقول لآخَرَ: هذا ابني، وصَدَّقَهُ الآخَرُ، أو: أنا ابن فُلاَن، [وصَدَّقَهُ فُلاَنٌ] (¬2). قال كَثِيرٌ من الأَصْحَابُ (¬3): يَجُوزُ أن يَشْهَدَ به على النَّسَب، وكذا لو اسْتَلْحَقَ صَبِيّاً، أو بَالِغاً، وسَكَتَ؛ لأن السُّكُوتَ في النَّسَب كالإِقْرَارِ. ألا ترى أنه لو بُشِّرَ بولده (¬4) فَسَكَتَ عليه لحقه؟ بخلاف ما إذا أَنّكَرَ المُسْتَلحَق، فَإنْ النَّسَبَ لا يَثْبُتُ حينئذ. وفي "المهذب" وجه: أنه [لا] (¬5) يَشْهَدُ عند السُّكُوتِ، إلا إذا تَكَرَّرَ عنده الإِقْرَارُ. والسكوت، والذي أَجَابَ به الإِمَامُ، وصاحب الكتاب: أنه لا يَجُوزُ الشَّهَادَةُ على النَّسَبِ، بذلك، وإنما يَشْهَدُ الشَّاهِدُ والحَالَةُ هذه على الإقْرَارِ، والاسْتِلْحَاقِ. وهذا قِيَاس ظاهرٌ، وربما أَمْكَنَ تَنْزِيلُ إِيْرَادِ بعض النَّاقِلِينَ عليه، وبتقدير ألا يكون مَكَان النَّسَب، فارق سائر الأموال (¬6) المقر بها سَعْيَاً في إثْبَاتِهِ، وقد وُجِّهَ بأن الوَقْفَ على تَوَافُقِ المُسْتلحق آكدُ في إشَارَةِ الظَّنِّ في السَّمَاعِ من غيرهما، ولا يَخْفَى أن قوله في الكتاب: "إلا أن يشهد على شهادتهما"، ليس باسْتِثنَاءٍ مُحَقّق. ويمكن أن يُعلمَ قوله: "ثم لا يحصل التسامع بقول عدلين". وقوله: "بل بجماعة" [بالحاء] (¬7)؛ لأن عند أبي حَنِيْفَةَ تجوز الشَّهَادَةُ على المَوْتِ بقول عَدْلٍ واحِدٍ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَأَمَّا المِلْكُ فَإِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ اليَدُ وَالتَّصَرُّفُ وَالتَّسَامُعُ جَازَتِ الشَّهَادَةُ فَإِنَّهُ لاَ يُبْصِرُ وَهُوَ مُنْتَهَى الإِمْكَانِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُجَرَّدَ اليَدِ وَالتَّصَرُّفِ يَكْفِي دُونَ التَّسَامُعِ، ¬
وَالصَّحِيحُ أَنَّ مُجَرَّدَ التَّسَامُعِ لاَ يَكْفِي، ثُمَّ نَعْنِي بِالتَّصَرُّفِ البِنَاءَ وَالهَدْمِ أَوِ البَيْعِ وَالرَّهْن وَهُوَ تَصَرُّفُ المُلاَّكِ، أمَّا مُجَرَّدُ الإِجَارَةِ وَإِنْ تَكَرَّرَتْ فَفِيهِ وَجْهَانِ إِذْ قَدْ يَصْدُرُ ذَلِكَ مِمَّنِ اسْتَأْجَرَ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَأَمَّا الإِعْسَارُ فَإِنَّمَا يَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِخِبْرَةِ البَاطِنِ وَشَهَادَةِ القَرَائِنِ كَصَبْرِهِ عَلَى الضّرِّ وَالجُوعِ فِي الخَلْوَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مَسْألَتَانِ: إحداهما: فيما يتعلق بالتَّسَامُعِ المِلْكُ، فإن نَفْسَ المِلْكِ ليسَ ممَّا يبصر أو يسمع، والشَّهَادَةُ عليه تُبْنَى على ثَلاَثَةِ أمور وهي: اليَدُ، والتَّصَرُّفُ، والتَّسَامُعُ. أما اليد: فهي بِمُجَرَّدِهَا لاَ تُفِيدُ جَوَازَ الشَّهَادَةِ على المِلْكِ، لكن إذا رَأَى الشَّيء في يَدِ إِنْسَانٍ، جاز أن يَشْهَدَ له بِاليَدِ. وفي "التهذيب": أنه إنما يشهد إذا رَآهُ في يده مُدَّةً طَوِيلَةً. وحكى الإِمَامُ في إِفَادَةِ اليَدِ وَحْدَهَا، جَوَازَ الشهادة على المِلْكِ [قولاً آخر (¬1). والظَّاهِرُ المَنْعُ، والتَّصَرُّفُ المُجَرَّدُ، كاليَدِ المُجَرَّدَةِ، لا يفيد جَوَازَ الشَّهَادَةِ على المِلْكِ] (¬2). وإن اجتمع اليَدُ والتَّصَرَّفُ نُظِر؛ إن قَصُرَتِ المُدَّةُ، فالحُكْمُ كما في اليَدِ المُجَرَّدَةِ. وإن طَالَتْ، فوجهان قال أبو إِسْحَاقَ: لا تجوز الشَّهَادَةُ له بالمِلْكِ؛ لأن الغَاصِبَ، والوَكِيلَ والمستأجر، أَصْحَابُ يَدٍ، وتَصَرُّفٍ. وقال الإِصْطَخْرِيُّ: يجوز؛ لأن امْتِدَادَ اليَدِ والتَّصَرُّفِ من غير مُنَازَعَةِ [منازع] (¬3) يغلب ظَنّ المَلْكِ. وبهذا قال أبو حَنِيْفَةَ، وكذلك أَحْمَدُ، وهو الأصَحُّ عند صاحب "التهذيب"، وحكاه الإِمَامُ عن اختيار الجُمْهُورِ. وعن الشيخ أبي مُحَمَّدٍ: القَطْعُ به، فإن انْضَمَّ إلى اليَدِ والتصرف الاستفاضة، ونسبة الناس الملك إليه، جَازَتِ الشَّهَادَةُ بالمِلْكِ على الوَجْهَيْنِ، وهو غَايَةُ ما تُبْنَى عليه هَذِهِ الشَّهَادَةُ. ونقل القاضي الرُّوَيَانِيُّ عن "المنهاج" قَوْلاً: أنه لا يَجُوزُ الشَّهَادَة على المِلْكِ، حتى يُعْرَفَ سَبَبُهُ. والصَّحِيحُ المشهور الأوَّل. ¬
قال الأَصْحَابُ: ومُشَاهَدَةُ السَّبَب؛ لا يفيد مَعْرِفَةَ المِلْكِ، فإنه وإن رآه يَشْتَرِي، فقد لا يكون المَبِيعُ مِلْكاً للبائع. وإن رآه يَصْطَادُ، فربما اصْطَادَ غَيْرَهُ. ثم أَفْلَتَ، وأما التَّسَامُعُ وَحْدَهُ فهل يَجُوزُ به الشَّهَادَةُ على المِلْكِ؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، كالنَّسَبِ، والمَوْتِ، [وهذا؛ لأن أَسْبَابَ المِلْكِ كَثِيرَةٌ، ومنها ما يخفى، ويَعْسَرُ الوُقُوفُ عليه] (¬1) وهذا أَقْرَبُ إلى إِطْلاَقِ الأكثرين. والثاني: لا يجوز، ما لم تَنْضَمَّ إليه اليَدُ والتَّصَرُّفُ، كما لا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بالتَّسَامُعِ على أَسْبَابِ المِلْكِ. ويُحْكَى هذا عن نَصِّه في حَرْمَلَةَ (¬2)، واختاره القاضي الحُسَيْنُ، والامام، وصَاحب الكِتَابِ -رحمهم الله وإيَّانا-. وهو الجَوَابُ في "الرَّقْمِ"، ويوافقه مَذْهَبُ أبي حَنِيْفَةَ -رحمه الله-. واعْلَمْ أن جَوَازَ الشَّهَادَةِ على الأمْلاكِ بالتَّسَامُعِ، مشهور في المَذْهَبِ. فلعل من لا يَكْتَفِي به، يكتفي بانْضِمَام أَحَدِ الأَمْرَيْنِ، من اليَدِ أو التَّصَرُّفِ إليه. أو يعتبرهما جميعاً، ولكن لا يُعْتَبَر طُولُ المُدَّةِ فيهما، إذا انْضَمَّا إلى التَّسَامُعِ، وإلا فهما إذا طَالَتْ مُدَّتُهُمَا، كَافِيَانِ [في جَوَازِ الشَّهَادَةِ على الأَظْهَرِ. فلا يبقى للتُّسَامُعِ أَثَرٌ، ويُشْتَرَطُ] (¬3) في جوَازِ الشهادة، بِنَاءً على التَّسَامُعِ، أو على اليَدِ والتَّصَرُّفِ، ألاَّ يعرف له مُنَازِعاً فيه، فإن الظَّنَّ حينئذ يَتَأَكَّدُ. ونقل القاضي ابْنُ كَجٍّ وَجْهَيْنِ في أن مُنَازَعَة من لا حُجَّةَ معه هل تَمْنَعُ (¬4) من الشَّهَادَة؟ ثم الكلام في شَيْئَيْنِ: أَحدهما: طول المُدَّةِ والتَّصَرُّف، لا يَتَقَدَّرُ، بل الرُّجُوعُ فيه إلى العَادَةِ كذلك ذكره صاحب "التهذيب"، وغيره. وكان المُعْتَبَرُ مُدَّةً يحصل فيها غَلَبَةُ الظَّنِّ. وفيه وجه: أن أَقَلَّ المُدَّةِ الطَّوِيلَةِ سَنَةٌ، وهذا كَوَجه ذَكَرْنَاهُ في مدة التَّسَامُعِ، إذا اعتبرنا امْتِدَادَ مُدَّتِهِ. ¬
وعن الشيخ أبي عَاصِم أن في ما دون عَشْرَةِ أيام وجهين: وإذا زَادَتِ المُدَّةُ على عَشْرَةِ أَيَّامٍ، جازت الشَّهَادَةُ. والقَوْل في عَدَدِ المُخْبِرِينَ هاهنا، وامْتِدَادِ المدة كما مَرَّ في النَّسبِ. ونقل القاضي ابْنُ كَجٍّ وَجهَيْنِ في أنه: هل يُشْتَرطُ أن يَقَعَ فِي قَلْبِ السامع صِدْقُ المُخْبِرِينَ؟ ويُشْبِهُ أن يكون هذا عَيْنَ الخِلاَفِ المَذْكُورِ في أنه، هل يُعْتَبَرُ خَبَرُ عَدَدٍ يُؤْمَنُ منهم التَّوَاطُؤُ، وذَكَرَ أنه تجوز الشَّهَادَةُ على اليَدِ بالاسْتِفَاضَةِ. وقد تَنَازَعَ فيه لإِمْكَانِ مُشَاهَدَةِ اليد. ولا يكفي أن يَقُولَ الشَّاهِدُ: سَمِعْتُ النَّاسَ يقولون: أنه لفلان، وكذلك في النَّسَبِ. وإن كانت الشَّهَادَةُ مَبْنِيَّةً عليه، بل يُشْتَرَطُ أن يقول: أشهد بأنه له، وبأنه ابنه، لأنه قد يَعْلَمُ خِلاَفَ ما سَمِعَهُ من الناس. لكن عن الشيخ أبي عَاصِمٍ: أنه لو شَهِدَ شَاهِدٌ بالمِلْكِ، والآخر بأنه في يَدِهِ من مُدَّةٍ طويلة، يَتَصَرَّفُ فيه بلا مُنَارعٍ، تَمَّتِ الشَّهَادَةُ. وهذا على ما ذكره الشَّارحُ لكلامه مصير منه إلى الاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ السَّبَبِ، والظاهر الأول (¬1). ولا فَرْقَ في الشَّهَادَةِ على المِلْكِ بالتَّصَرُّفِ، والتَّسَامُعِ بين العَقَارِ، وبين العَبْدِ، والثوب (¬2)، إذا كان يتميز المشهود به عن أمثاله. الثاني: التَّصَرُّفُ المُعْتَبَرُ في الباب، وهو تَصَرُّفُ المُلاَّكِ من السُّكْنَى، والدُّخُولِ، والخروج، والهَدْمِ، والبِنَاءِ، والبَيْعِ، والفَسْخِ بعده، والرَّهْنِ، وفي مُجَرَّدِ الإِجَارَةِ وجهان: وجه عدم الاكتفاء؛ أنها وَإن تَكَرَّرَتْ، فقد تَصْدُرُ ممن اسْتَأْجَرَ مُدَّةً طَوِيلَةً ومن (¬3) الموصى له بالمَنْفَعَةِ، ولْيَجْرِ هذا الخلاف في مُجَرَّدِ الرَّهْنِ؛ لأن الرَّهْنَ قد يَصْدُرُ من المستعير، والأوفق لإطلاق (¬4) الأصحاب الاكْتِفَاءُ بهما، واعْتِمَادُ أن الغالب صُدُورُ هذه التَّصَرُّفَاتِ من المَالِكِينَ، ولا يكفي التَّصَرُّفُ مُدَّةً وَاحِدَةً؛ فإنه لا يُثِيرُ الظَّنَّ (¬5). ¬
المسألة الثانية: الإعْسَارُ ليس مما يُشَاهَدُ، وَيعْسَرُ الاطِّلاَعُ عليه، فتبنى الشَّهَادَةُ فيه على القَرَائِنِ، ومُرَاقَبَةِ الشَّخْصِ في الخَلَوَاتِ، لِيُعْرَفَ صَبْرُهُ على الضُّرِّ والإضَافَةِ. والمسألة بشرحها مَذْكورَةٌ في التَّفْلِيسِ ويُعْتَبَرْ فيمن يَشْهَدُ به، الخبرة الباطنة، كالشَّهَادَةِ على أن لا وَارِثَ لِفُلاَنٍ إلا فلان، بِخلاَفِ الشَّهَادَةِ على المِلْكِ؛ لأن الأَسْبَابَ المُفِيدَةَ لِلظَّنِّ هاهنا خَفِيَّةٌ، يَخْتَصُّ بها من مُخَالَطَةِ الرجل، ومُجَالَسَتِهِ، وأَسْبَابُ المِلْكِ ظَاهِرَةٌ، لا يَخْتَصُّ فيها المُخَالِطُونَ. فروع: أحدها: حكى القاضي أبو سعد الهَرَويُّ وجْهاً استغربه (¬1) في الدَّيْنِ: أنه تجوز الشَّهَادَةُ به بالسَّمَاعِ، والاسْتِفَاضَة كالعين (¬2) ولابن الصَّبَّاغِ إِلْمَامٌ بما ذَكَرَهُ. الثاني: في قَبُولِ شَهَادَةِ الأعْمَى، فيما تَجُوز الشَّهَادَةُ فيه بالاسْتِفَاضَةِ والسَّمَاعِ وجهان مَنْقُولاَنِ في "جمع الجوامع". أحدهما: وبه قال ابن سُرَيْجٍ: أنها تُقْبَلُ؛ لأن الاعْتِمَادَ فيه على السَّمَاعِ، وهو في السَّمَاعِ كالبَصِيرِ. والثاني: المَنْعُ، لأنه لاَ بُدَّ من مُشَاهَدَةِ المُخْبِرِينَ، ومعرفة أحوَالِهِمْ، ليحصل العِلْمُ. وهذا أَصَحُّ عند القاضي، والأول هو جَوَابُ معظم الأَصْحَاب؛ إلا أن شَهَادَتَهُ، إنما تُقْبَلُ، إذا لم يحتج إلى تعْيِين، وإشَارَةٍ, بأن يكون الرجل مَعْرْوفاً باسْمِهِ، ونَسَبِهِ الأَدْنَى. ويَحْتَاجُ إلى إثباتِ (¬3) نَسَبهِ الأَعْلَى؛ ككونه هَاشِمِيّاً، أو عَلَوِيّاً، فيشهد الأَعْمَى بِنَسَبِهِ الأعْلَى. وصور أيضاً في النَّسَبِ الأدنى، بأن يَصِفَ الشَّخْصَ، فيقول: الرجل الذي اسْمُهُ كذا، وكُنْيَتُهُ كذا، وسُوقُهُ، ومُصَلاَّهُ، ومَسْكَنُهُ، وكذا [بأنه] (¬4) فلان ابن فلان، ثم يقيم (¬5) الرجل بَيِّنَةً أُخْرَى، على أنه الذي اسْمُهُ كذا، وكُنْيَتُهُ كذا، إلى آخر الصِّفَاتِ. وصورته في المِلكِ، أن يَشْهَدَ الأَعْمَى في دارمَعْرُوفَةٍ، أنها لفلان ابن فلان. ويمكن أن يُقَالَ: الوجه الذَّاهِبُ إلى أن شَهَادَتَهُ لا تُقبَلُ، مَخْصُوصٌ بما إذا كان ¬
السَّمَاعُ من عَدَدٍ لا يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ، كشخصين، وثلاثة، فأما إذا حَصَلَ السَّمَاعُ من جَمْعٍ كَثِيرِ، فلا حَاجَةَ فيه إلى المُشَاهَدَةِ، ومَعْرِفَةِ حال المُخْبِرِينَ. الثالث: ما يجوز الشَّهَادَةُ به اعْتِمَاداً على السَّمَاع، والاسْتِفَاضَةِ، يجوز الحَلِفُ به اعْتِمَاداً عليهما وبل أولى لما مر، أنه يجوز الحَلِفُ اعْتِمَاداً على خَطِّ الأَبِ، ولا تجوز الشَّهادَةُ (¬1). قَالَ الْغَزَالِيُّ: الفَصْلُ الثَّالِثُ فِي التَّحَمُّل وَالأَدَاءِ وَيَجِب الأَدَاءُ عَلَى كُلِّ مُتَعَيِّنٍ لِلشَّهَادَةِ مُتَحَمِّلٍ لَهَا إِذَا دُعِيَ مِنْ دُونِ مَسَافَةِ العَدْوَى، فَإِنْ دُعِيَ مِنْ فَوقِهَا وَدُونَ مَسَافَةِ القَصْرِ أَو لَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنَاً أو لَمْ يَتَحَمَّلْ قَصْداً لَكِنْ وَقَعَ بَصَرَهُ فَفِي الوُجُوبِ وَجْهَانِ، ولوْ تَعَيَّنَا فَامْتَنَعَ أحَدُهُمَا وَقَالَ: أَحْلِفُ مَعَ الآَخَرِ أَثِمَ، وَلَوْ لَمْ يَتَعَيَّنْ وَامْتَنَعَ جَمِيعُهُمْ أَثِمُوا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الكلام في بيان (¬2) أحكام الشَّهَادَةِ آخراً، وتَحَمُّلِهَا أَوَّلاً. أما الأَدَاءُ، فهو وَاجِبٌ في الجُملَةِ، والكتمان ممنوع منه -قال الله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283]. وذكر صاحب الكتاب لِضَبطِ مَوْضِعِ الوجوب قُيُوداً، فقال: "ويجب الأَدَاءُ على كل مُتَعَيَّنِ للشَّهَادَةِ، مُتَحَمِّلٍ لها، إذا دُعِيَ من دون مَسَافَةِ العدوى". أحدها: التعين، فإن لم يكن في الوَاقِعَةِ إلا شَاهِدَانِ؛ بأن لم يَتَحَمَّلْ سِوَاهُمَا، أو مات البَاقُونَ، أو جُنُّوا، أو غَابُوا، فيجب عليهما الأدَاءُ، ومن أبى عَصَى. ولو شهد أحَدُهُمَا، وامْتَنَعَ الآخَرُ، وقال: أَحْلِفُ مع الذي شَهِدَ، فهو عَاصٍ أيضاً، فإن من مَقَاصِدِ الإِشْهَادِ، التَّوَرُّعُ عن اليَمِينِ. قال الإِمام: وكذا الشَّاهِدَانِ على رَدَّ الوَدِيعَةِ؛ إذا امْتَنَعَا، وقالا للمودع: احْلِفْ على الرَّدِّ. ولو لم يكن في الوَاقِعَةِ إلا شَاهِدٌ واحد، فإن كان الحَقُّ مما يَثْبُتُ بشاهد، وَيمِينٍ، فعليه الأَدَاءُ، وإلا، لم يجب؛ لأن المَقْصُودَ لا يَحْصُلُ به. وحكى القاضي ابْنُ كَجٍّ وَجْهاً آخر: أنه يجب؛ لأنَّهَا أَمَانَةٌ لَزِمَتْهُ، والمُدَّعِي يَنْتَفِعُ بأدائها في انْدِفَاعِ بعض تُهْمَةِ الكَذِبِ، وإن لم يَنْتَفِعْ في ثُبُوتِ الحَقِّ، وإن كان في ¬
الوَاقِعَةِ شُهُودٌ، فالأَدَاءُ فَرْضٌ على الكِفَايَةِ، إذا قام به اثْنَانِ منهم، سَقَطَ الفَرْضُ عن البَاقِين. وإن طُلِبَ الأَدَاءُ من اثنين، ففي وجوب الإِجَابَةِ عليهما وَجْهَانِ، وعن ابن القَاصِّ؛ قولان: أحدهما: لا يجب، كما أن من دُعِيَ للتَحَمُّلِ، لا يجب عليه الإِجَابَةُ، إذا لم يَتَعَيَّنْ. وبهذا أجاب الصيمري. وأصحهما: وبه قال أبو إِسْحَاقَ: يجب، وإلا، لأَفْضَى إلى التواكل (¬1). ولأن من عَيَّنَهُ، قد يكون أَظْهَرَ عَدَالَة، فيسارع القَاضِي إلى قَبُولِ قَوْلِهِ، وليس كالتَّحَمُّلِ؛ لأن هناك يُطْلَبُ منه تَحَمَّلُ أَمَانَةٍ، وهاهنا يُطْلَبُ أَدَاءُ أَمَانَةٍ تَحملَهَا. قال الإِمَامُ: وموضع الوَجْهَيْن، ما إذا عَلِمَ المُدَّعون، أن في الشُّهُودِ من يَرْغَبُ في الأَدَاءِ، أو (¬2) لم يعلم من حالهم رغبة، ولا إباءً (¬3). أما إذا عُلِم إبَاؤُهُمْ، فليس ذلك مَوْضِعَ الخلاف. القَيْدُ الثاني: كونه مُتَحمِّلاً لها عن قَصْدٍ. أما من سمع الشيء، أو وقع عليه بَصَرُهُ اتِّفَاقَاً، ففي الوُجُوبِ وَجْهَانِ مذكوران في "النِّهَايَة": أحدهما: لا يجب؛ لأنه لم يُوجَدْ منه الْتِزَامٌ، وإذا تَحَمَّلَ قَصْداً، كان مُلْتَزماً، فجعل كَضَمَانِ الأمْوَالِ، وأَوْفَقُهُمَا لإِطْلاَقِ أكثرهم؛ أنه كالتَّحَمُّلِ قَصْداً؛ لأنه أمَانَةٌ حَصَلَتْ عنده، فعليه الخُرُوجُ منها (¬4)، وهذا كما أن الأَمَانَاتِ المَالِيَّة، تَارَةً تَحْصُلُ عنده بِقَبُولِ الوَدِيعَةِ، وتَارَةً بتطيير الريح. القَيْدُ الثَّالِثُ: أن يُدْعَى لأداء الشَّهَادَةِ مِنْ مَسَافَةٍ قَرِيبةٍ. ومهما كان القاضي في البَلَدِ، فالمَسَافَةُ قَرِيبَةٌ، وكذا لو دُعِيَ إلى مسافة، يَتَمَكَّنُ المُبَكِّرُ إليها من الرجوع إلى ¬
أَهْلِهِ، وَجَبَتِ الإِجَابَةُ لِلحَاجَةِ إلى الإِثْبَاتِ، وَتَعَذّر الإثبات بالشهادة على الشَّهَادة، والمسافة هذه وهذه التي تسمى مَسَافَةَ العَدْوَى. وقد بَيَّنَّا في النكاح سَبَبَ هذه التَّسْمِيَةِ، فإن ادعى إلى مَسَافَةِ القَصْدِ، [لم تجب الإجابة، وإن كانت دُونَ مَسَافَةِ القَصْرِ] (¬1). ولكن لا يتمكن المُبَكِّرُ إليها من الرُّجُوع، فوجهان؛ بِنَاءً على أن الشَّهَادَةَ على الشهادة في مِثْلِهَا، هل يقبل؟ أقربهما، القبول، وعدم وُجُوب الإِجَابَةِ، للمَشَقَّةِ. وهذا كُلَّهُ تَفْرِيعٌ على أن الشَّاهِدَ، يجب عليه الحُضُورُ عند القَاضِيَ لأَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وهو الصحيح. وإلا، لَتَعِبَ القَاضِي في الطَّوَفِ على أبْوَابِ الشهود، وسقط وقعه، أو ضَاعَتِ الحُقُوقُ. وعن القاضي أبي حَامدٍ: أنه ليس على الشَّاهِدِ إلا أَدَاءُ الشَّهَادَةِ، إذا اجتَمَعَ مع القَاضِي. وقوله في الكتاب: "فإن دُعِيَ إلى من فوقها"، بعد قوله: "من دون مسافة العدوى"، [ظاهره عود الكتابة إلى مسافة العَدْوَى وحينئذ فحكم مسافة العَدْوَى] (¬2)، يكون مَسْكُوتاً عنه. ولو قال: فإن دعي من فوقه لعادت الكِتَابَةُ إلى ما دون مَسَافَةِ العَدْوَى، ولدخل فيه مَسَافَةُ العَدْوَى، وما فوقها، فهذه هي القُيُودُ في الكتاب. ووراءه قَيْدٌ رَابعٌ: وهو أن يكون الشَّاهِدُ عَدْلاً، فإن كان فَاسِقاً، ودعي لأَدَاءِ الشَّهَادَةِ؛ نُظِرَ، إن كان فسقُهُ مُجْمَعاً عليه، إما ظاهِرَاً، أو خَفِياً، لم يَجُزْ له أن يَشْهَدَ، فَضْلاً عن الوُجُوب، وإن كان مُجْتَهَداً فيه كَشُرْب النَّبِيذِ، فعليه أن يَشْهَدَ، وإن عهد من القاضي التَّفْسيق، ورَدَّ الشهادة به؛ لأنه قد يَتَغَيَّرُ اجْتِهَادهُ. هذا هو الأَظْهَرُ وفي أمالي أبي الفَرَجِ السَّرَخْسِيِّ وَجْهٌ: أنه لا يجب في الفِسْقِ المُجْتَهَدِ فيه، إذا كان ظَاهِرَاً (¬3) , لأن الظَّاهِرَ اسْتِمْرَارُهُ على اجْتِهَادِهِ. وفي كتاب القاضي ابن كَجٍّ: إِطْلاَقُ القَوْلِ: بأن عليه أن يَشْهَدَ، إن كان فِسْقُهُ خَفِيّاً، وإطلاق وجهين فيما، إذا كان ظَاهِراً وحكى وجهين في أنه، هل لِلشَّاهِدِ أن يَشْهَدَ بما يَعْلَمُ، أن القاضي يُرَتِّبُ عليه ما لا يعتقده الشَّاهِدُ، كالبيع الذي يرتب عليه الشُّفْعَةَ، بالجِوَارِ والشاهد لا يعتقد الجِوَارَ مُثْبِتاً لِلشُّفْعَةِ؟ وإذا كان أحد الشَّاهِدَيْنِ عَدْلاً، والآخر فَاسِقاً فِسْقاً مُجْمَعاً عليه؛ لم يجب على ¬
العَدْلِ الأَدَاءُ؛ تَفْرِيعاً على الصَّحيح، إذا كان الحَقُّ لا يَثْبُتُ بشَاهِدٍ، ويَمِينٍ. وَقَيْدٌ خَامِسٌ: وهو ألا يَكُونَ مَعْذُوراً بِمَرَضٍ، ونحوه؛ فإن المَرِيض الذي يَشُقُّ عليه الحُضُورُ، لا يُكَلَّفُ أن يَحْضُرَ، ويؤدي، بل إما أن يُشْهِدَ على شَهَادَتِهِ، أو يَبْعَثَ القاضي إليه مَنْ يَسْمَعُ شهادته، والمرأة المَخَدَّرَةُ، كالمَرِيضِ، وفيها الخِلاَفُ الذي سَبَقَ في الباب الثالث من "أدب القضاء". وغير المُخَدَّرَةِ يَلْزَمُهَا الحُضُورُ وَالأَدَاءُ، وعلى الزوج أن يَأْذَنَ لها: ذكره القاضي ابْنُ كَجٍّ. وإذا اجتمعت شَرَائِطُ الوُجُوبِ، فلا يُرْهَقُ الشَّاهِد إِرْهَاقاً؛ بل لو كان في صَلاَةٍ، أو حَمَّامٍ، أو على طَعَامٍ، فله التَّأْخَيرُ إلى أن يَفْرَغَ. وعن أبي الحُسَيْنِ بن القَطَّانِ حِكَايَةُ قولين: أنه هل يُمْهَلُ إلى ثَلاَثَةِ أيام (¬1)؟ قال القاضي ابْنُ كَجٍّ والظاهر: المَنْعُ، وذكر أنه لو شَهِدَ، وَرَدَّ القاضي شَهَادَتَهُ بِعلَّةِ الفِسْقِ، ثم طلب المُدّعي منه أن يَشْهَدَ عند قَاضٍ آخر؛ فعليه الإِجَابَةُ. وعند ذلك القاضي لا يَجِبُ. وفيه وجه: أنه لو دُعِيَ لأداء الشَّهَادَةِ عند أَمِيرٍ أَوْ وَزِيرٍ، فعند ابن القَطَّانِ لا يَجِبُ عليه أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عندهما، وإنما يلْزَمُ عند مَنْ لهَ أَهْلِيَّةُ سَمَاع الشَّهادة وهو القاضي. قال: وعندي يَجِبُ إذا عُلِمَ أنه يَصِلُ به الحَقُّ إلى المُسْتَحِقِّ (¬2). ¬
فرع: حكى الشَّيْخُ أبو الفَرَج وجْهَيْنِ: في أنه هل يَجِبُ الحُضُورُ عند القاضي الجَائِرِ والمُتَعَنِّتِ، وأَدَاء الشهادة؟ لأنه لا يَأْمَنُ الشَّاهِدُ رَدَّ شَهَادَتِهِ جَوْزاً، وتَعتُّتاً؟ فَيَتَعيَّنُ، وعلى هذا فَعَدَالَةُ القاضي واسْتِجْمَاعُهُ الصفات المَرْعِيَّة، شَرْطٌ آخر من شَرَائِطِ الوُجُوبِ (¬1). فرع: إذا امتنع الشاهد عن أَدَاءِ الشَّهَادَةِ بعد وُجُوبِهِ حَيّاً من المَشْهُودِ عليه، قال القاضي الحُسَيْنُ: يَعْصِي، ولا يجوز للْقَاضِي قَبُولُ شَهَادَتِهِ في شَيْءٍ أَصْلاً، حتى يَتُوبَ، ويُوَافِقَ هذا ما قيل: إن المدعي لو قال للقاضي: لي عند فُلانٍ شَهَادَةٌ، وهو ممتنع (¬2) من أَدَائِهَا، فأحضره لِيَشْهَدَ، لم يُجِبْهُ القاضي؛ لأنه فَاسِقٌ بالامْتِنَاعِ بِزعْمِهِ، فلا يُنْتَفَعُ بشهادته (¬3). والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلاَ يَسْتَحِقُّ الشَّاهِدُ أجْرَةً إِلاَّ أُجْرَةَ المَرْكُوبِ، ثُمَّ لَهُ أَنْ لاَ يَرْكَبَ، وَالكَاتِبُ يَسْتَّحِقُّ، وَالتَّحَمُّلُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ فرُوضِ الكِفَايَاتِ، وَفِي سَائِرِ المُعَامَلاَتِ وَجْهَانِ، إِذْ يَسْتَغْنِي عَنْهَا الانْعِقَادُ دُونَ الإِثْبَاتِ، وَكَذَا كِتَابَةُ الصُّكُوكِ مِنْ فُروضِ الكِفَاياتِ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في هذه البقية، التَّعَرُّضُ لثلاثة أُمُور: وهي أن الشَّاهِدَ هل يَأْخُذُ شيْئاً؟ وحُكْمُ تَحَمُّلِ الشهادة في الابتداء، وحُكْمُ كِتَابَةِ الصُّكُوكِ، وأخذ الأُجْرَةِ عليها. ونحن نَذْكُرُهَا من غير رِعَايَةِ تَرْتِيب الكتاب: أحد الأمور الثلاثة: حكم [التحمل] (¬4) وهو مِنْ فُرُوضِ الكِفَايَاتِ في النِّكَاح، لِتَوَقُّفِ الانْعِقَادِ عليه، فلو امتنع الكُلُّ عنه، أَثِمُوا، ولو طُلِبَ من اثنين التَّحَمُّلُ، وهناك غَيْرُهُمَا، لم يَتَعيَّنَا، بخلاف ما إذا تَحَمَّلَ جَمَاعَةٌ، وطُلِبَ من اثنين منهم الأَدَاءُ لما مرَّ. وأما في التَّصَرُّفَاتِ المَالِيَّةِ، والإِقْرَارِ، فهل التَّحَمُّلُ من فُرُوضِ الكِفَايَاتِ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، وإنما هو مَنْدُوبٌ إليه؛ لأن صِحَّتَهَا واسْتِيفَاءَ مَقَاصِدِهَا، لا يَتَوقَّفُ ¬
وأَشْهَدُهُمَا: وبه أجاب العِرَاقِيُّونَ وغيرهم: نعم؛ لأن الحَاجَةَ تَمَسُّ إلى تَأْكِيدِهَا، وتَمْهِيد طَرِيقِ إِثباتها (¬1) عند التَّنَازُعِ، ومصالح الخلق لا تَتِمُّ إلا بها. وعن ابن القَطانِ: تخصيص الخِلاَفِ بما إذا لم يَتَقَابَضَا، لِتَأْجِيل، أو غيره. فأما بعد التَّقَابُضِ، فلا يجب التحمُّلُ بِحَالٍ. ومنهم من يَقْتَضِي إيْرَادُهُ طَرْدَ الخلاف في النِّكَاحِ أيضاً. وإذا قلنا بالإِقْرَاضِ، فذلك، إذا أحْضَرَهُ المُحَمَّلُ، أما إذا دُعِيَ للتحمل. فقد حكى القاضي ابْنُ كجٍّ عن بعض الأَصْحَابِ: أن عليه الإِجَابَة، كما إذا دُعِيَ لِلأَدَاءِ. وعن القاضي أبي حَامدٍ: أنه لا يَجِبُ، وهذا ما أورده صاحب "التهذيب"، وأبو الفرج، إلا أن يكون المُحَمّلُ مَعْذُوراً بِمَرَضٍ أو حَبْسٍ، فتجب الإجابة. وكذا في المرأة المُخَدَّرَةِ إذا أثبتنا التَّخْدِيرِ أَثَراً، وكذا إذا دَعَاهُ القاضي ليَشْهَدَ على أَمْرٍ ثَبَتَ عنده، فعليه الإِجَابَةُ، كيلا يَحْتَاجَ القاضي إلى التَّرَدُّدِ على أبواب الشُّهُودِ، فَتَتَعَطَّلُ مَصَالِحُ الناس. والثاني: إن تَطوَّعَ الشَّاهِدُ بِتَحَمُّل الشهادة، وأَدَائِهَا، فقد أَحْسَنَ. وإن طَمِعَ في شيء، فذاك؛ إما رِزْقٌ من بَيْتِ المال، أَو شَيْءٌ من مال المشهود له. وأما الرِّزْق [من بيت المال] (¬2) فقد ذكر الشيخ أبو حَامِدٍ، وابْنُ الصَّبَّاغِ، وآخرون: أن الشاهد ليس له [أَخْذ] (¬3) الرِّزْقِ من بَيْتِ المال؛ لِتَحمُّلِ الشهادة. وقيل له [ذلك] (¬4): فإن قلنا بالأَوَّلِ، وهو الأَقْرَبُ، فَلَوْ رَزَقَهُ الإِمَامُ من ماله، أو رَزَقَة وَاحدٌ من ¬
النَّاسِ، فيكون الحُكْمُ، كما ذكرنا في القاضي. وأما مَالُ المَشْهُودِ له، فليس لِلشَّاهِدِ أَخْذُ أُجْرةٍ على أَدَاءِ الشهادة، وَوَجَّهُوهُ، بأن الأدَاءَ فَرْضٌ، فَتَوَجَّهَ عليه، فلا يَأْخُذُ عليه شيئاً (¬1). وقد يوجَّهُ أيضاً, بأنه كَلامٌ يَسِيرٌ، لا أُجْرَةَ لِمِثْلِهِ، وأما إتيان القاضي والحضُورُ عنده، فقد أَطْلَقَ صَاحِبُ الكتاب: أن له أن يَطْلُبَ أجْرَةَ المَرْكُوب، من غير فَرْقٍ بين أن يَكُونَ القَاضِي معه في البَلَدِ، أو لا يكون لكنه على مَا حَكَى الإمَامُ، وصاحب "التهذيب"، مَخْصُوصٌ بما إذا لم يكن معه في البَلَدِ، بل كان يَأْتِيهِ من مَسَافَةِ العَدْوَى، فما فوقها. فأما إذا كان مَعَهُ في البَلَدِ، فلا يأخذ شَيْئَاً. وضم في "التهذيب" نَفَقَةَ الطَّرِيق، إلى أُجْرَةِ المَرْكُوبِ. وَحَكَى وَجْهَيْنِ فيما لو دَفَعَ إليه شَيْئاً لِيَصْرِفَهُ إلى نَفَقَةِ الطَّرِيقِ. وكذا المَرْكُوبُ، وهل له أن يَصْرِفَهُ إلى غَرَضٍ آخَر، ويَمْشِي رَاجِلاً؟ -قال: وهما كالوَجْهَيْنِ، فيما إذا دَفَعَ إلى فَقِيرٍ شَيْئًا، قال: اشتر به لنفسك ثَوْباً، هل له أن يصرفه (¬2) إلى غير الثَّوْبِ؟ والأشبه: الجَوَازُ، وهو الجَوَابُ في الكتاب. فهذا ما قيل: [في] (¬3) أن الشَّاهِدَ يأخذه من مَالِ المشهود له، لم يَتَعَرَّضْ أَكْثَرُهُمْ لما سِوَى ذلك. نعم، في تَعْلِيقِ الشيخ أبي حَامِدٍ: أنه لو كان الشَّاهِدُ فَقِيراً يَكْتَسِبُ قُوتَه يَوْماً بيوم [وكان] (¬4) في صرف الزمان إلى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ ما يشغله عن كَسْبِهِ، فلا يَلْزَمُهُ الأَدَاءُ، إلا إذا بَذَلَ المَشْهُود له قدر ما يَكْتَسِبُهُ في ذلك الوَقْتِ؛ هذا في طرف الأَدَاءِ. ولو طلب الشاهد أُجْرَةً، ليَتَحَمَّلَ، فإن لم يَتَعيَّنْ، فله الأَخْذُ، وإن تَعَيَّنَ، فوجهان: أظهرهما: الجَوَازُ، كما ذكرنا في الإِجَارَةِ. إذا تَعَيَّنَ شَخْصٌ لِتَجْهِيزِ المَيِّتِ، أو تعليم الفَاتِحَةِ. ¬
قال الشيخ أبو الفَرَجِ: وهذا إذا دُعِيَ لِيَتَحَمَّل، فأما إذا أَتاهُ المحمل، فليس لِلتَّحَمُّلِ، والحالة هذه، أُجْرَةٌ، وليس له أن يَأْخُذَ شَيْئاً. واعلم أن قَضيَّةَ قولنا: إنه يَطْلُبُ الأُجْرَةَ، [إذا دُعِيَ للتحمل، أن يَطْلُبَ الأُجْرَةَ] (¬1)، إذا دعي للأداء، من غير فَرْقٍ بين أن يكون القَاضِي مَعَهُ فِي البَلَدِ، أو لا يكون. كما لا فَرْقَ في التَّحَمُّلِ، وأن يكون النَّظَرُ إلى الأُجْرَةِ مُطْلَقاً، لا إلى نَفَقَةِ الطريق، وكذا المركوب خَاصَّةً. ثم هو يَصْرِفُ المَأْخُوذَ إلى ما يشاء، ولا يَمْنَعُ من ذلك كَوْنُ الأَدَاءِ فَرْضاً عليه، كما ذكرنا في التَّحَمُّلِ مع تَعيُّنِهِ على أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ (¬2). والثالث: كتابة الصُّكُوك؛ هل هي من فُرُوضِ الكِفَايَاتِ؟ فيه وجهان: أشبههما: وهو المَذْكُورُ في أمالي أبي الفرج السَّرَخْسِيِّ نعم؛ لأنه لا يُسْتَغْنَى عنها في عِصْمَةِ الحُقُوقِ، والأَمْوَالِ، ولها أَثَرٌ ظَاهِرٌ في التَّذَكُّرِ. وإن لم يَجُزِ الاعْتِمَادُ على الخَطِّ وَحْدَهُ، وهما كالوجهين في التحمل، لكن التَّحَمُّلَ أَوْلَى بالإفْرَاضِ؛ لأن الحُجَّةَ بالشهود (¬3) لا بالكِتَابِ. وإن قلنا: لا تجب الكِتَابَةُ أو قلنا: تَجِبُ. ولم يَتَعيَّن الشَّخْصُ للكتابة، فله طَلَبُ الأُجْرَةِ. وإن تَعَيَّنَ، فكذلك في أَظْهَرِ الوجهين. وهذا إذا لم يَرْزُق الإِمَامُ لِكَاتِب الصُّكُوكِ من بَيْتِ المال، فإن رزق، قَنَعَ به، ولا أُجْرَةَ له. وقوله في الكتاب: "إلا أجرة المركوب"، يجوز أن يُعَلَّمَ بالواو لما نَقَلْنَا من تَعْليقِ الشَّيْخِ أبي حَامِدٍ. وكذا قوله: "ثم له أن [لا] يركب"؛ لأحد الوجهين المَحْكِيَّيْنِ عن "التهذيب". ويمكن أن يُعَلَمَ قوله: "والكاتب يَسْتَحِقُّ" أيضاً لأنه مطلق، وقد عَرَفْتَ وَجْهاً: أنه لا يَسْتَحِقُّ، إذا قلنا: إن الكتابة (¬4) فَرْضٌ وتعين. ¬
هذه آدَابُ التَّحمُّلِ والأَدَاءِ، مَنْقُولَةٌ من مختصر أبي القاسم الصَيْمَريِّ في هذا الباب. لا ينبغي للشَّاهد أن يَتَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ، وبه ما يَمْنَعُهُ من الضَّبْطِ، وتَمَامِ الفَهْم، كجُوعٍ وعَطَشٍ، وهَمٍّ، وغَضَبٍ. كما لا يقضي القاضي في هذه الأَحْوَالِ (¬1)، وإذا أَتَاهُ مَنْ لا يجوز الشَّهَادَةُ عليه، كَصَبيِّ، ومَجْنُونٍ، لم يَلْتَفِتْ إليه. وإذا أُتِيَ بكتاب، أُنشِئَ على ما لا يَجُوزُ بالإجماع، فكذلك؛ ويتبين فَسَاده. وإن أُنْشِئَ على ما يَخْتَلِفُ الفُقَهَاءُ فيه، وهو لا يَعْتَقِدُهُ. فعن بعض الأَصْحَاب: أنه يُعْرِضُ عنه. قال: وليس كذلك، بل، تَثْبُتُ شَهَادَتَهُ فيه، وَينْقَلُهُ إلى الحَاكِمِ عندَ الحَاجَةِ، فيحكم باجتِهَادِهِ. وقد مَرَّ هذا الخِلافُ، أو مِثْلُهُ. وإذا رأى في الكتاب كَلِمَةً مَكْرُوهَةً، أو مُعَادَةً، فلا بَأْسَ بالضَّرْب عليها، سيما إذا لم يَسْبِقْهُ بالشهادة أَحَدٌ، فإن أَغْفَلَ الكاتب (¬2) مَا لاَ بُدَّ منه، ألْحَقَهُ؛ وإن رأى سَطْراً نَاقِصاً، شَغَلَ مَوْضِعَ النُّقْصَانِ بخط أو خطتين (¬3). وإذا قرأ الكِتَاب على المُتَبَايِعَيْنِ مَثَلاً، وقال: عرفتما ما فيه، أشهد عليكما، فقالا: نعم، أو أَجَلْ، أو بَلَى، كفى للتَّحَمُّلِ (¬4). ولا يَكْفِي أن يقول المحمل: الأَمْرُ إِلَيْكَ، أو إن شِئْتَ، أو كما ترى، أو أَسْتَخِيرُ الله، والله أعلم. وإذا سمع إقْرَاراً بدَيْنٍ، أو عِتْقٍ، أو طَلاَقٍ، فله أن يَشْهَدَ به ولكن لا يَقُولُ، ولا يكتب؛ أَشْهَدَنِي بذلك. ويُثْبِتُ الشَّاهِدَ في الكتاب الذي يَتَحَمَّلُ فيه اسْمَهُ، واسْمَ أبيه، وجَدِّهِ، ويجوز أن يَتْرُكَ اسْمَ الجَدِّ، وأن يَتَخَطَّى إلى جَدٍّ أَعْلَى؛ لِشُهْرَتِهِ. ولا يُثْبِتُ الكُنْيَةَ إلا أن يكون في الشُّهُودِ من يشاركه في الاسْمِ، والنَّسَبِ فيميز بالكنية. ويُسْتَحَبُّ الاسْتِعَانَةُ بما يفيد التذكر (¬5) كما قَدَّمْنَاهُ في الباب الثاني من "أدب القضاء". ¬
الباب الرابع في الشاهد واليمين
وإذا أَشْهَدَهُ القاضي على شَيْءٍ، سَجَّلَ به كتب الشهادة على إنْفَادِ القاضي ما فيه، أو حكمه بما فيه، ولا يكتب الشَّهَادَةَ على إقْرَارِهِ، كأنه يَعْنِي إذا حَضَرَ الإنشاء، والأَوْلَى في كتاب الدَّيْنِ المُؤَجَّلِ، أن يُقرِّرَ مَنْ له الدَّيْنُ، أَوَّلاً بأن يقول: ما الَّذِي لَكَ على هذا؟ فإذا قال: كذا مُؤجَّلاً. قَرَّرَ مَنْ عليه الدَّيْنُ؛ لأنه لو أَقَرَّ مَنْ عليه الدَّيْنُ أَوَّلاً، فقد يُنْكِرُ صَاحِبُهُ الأَجَلَ، فيقع في الخِلاَفِ. وفي السَّلَم يقرر المُسَلَّمَ أولاً؛ خَوْفاً من أن ينكر السَّلَم، لو أقر صَاحِبُهُ أَوَّلاً، ويطَالِبُهُ بالمَدْفُوعِ إليه. وإذا أتى القاضي الشَّاهِدُ، لأداء الشَّهَادَةِ، أَقعَدَهُ عن يَمِينِهِ. وإذاكانت شَهَادَتُهُ مُثْبَتَةً في كتابٍ، أَخَذَهُ، وتَأمَّلَهُ. فإذا سأله المشهود له، اسْتَأْذَنَ القاضي ليصغي إليه. وعن أبي عَاصِم العبَّادِيِّ أن الشَّهَادَةَ قبل اسْتِئْذَانِ القَاضِي، أو سؤاله لا تَصِحُّ. والظاهر الأول: نعم، لو شهد (¬1) من غير اسْتِئْذَانِهِ. وقال القاضي: كنت ذَاهِلاً (¬2) لم أسْمَعْ، لم يُعْتَدَّ بما جَرَى والله أعلم. الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الشَّاهِدِ وَاليَمِينِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَكُلُّ مَا يُثْبَتُ بِرَجُلٍ وَأمْرَأتَيْنِ يَثْبتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ إِلاَّ عُيُوبَ النِّسَاءِ وَبَابَهَا، إِلاَّ أَنَّ الأُنُوثَةَ احْتُمِلَتْ فِيهَا لِحَاجَةِ النِّسَاءِ، ثُمَّ القَضَاءُ بالشَّاهِدِ أَوْ بِاليَمِينِ أَوْ بِهِمَا فِيهِ ثَلاَثةُ أوْجُهٍ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الغُرْمِ عِنْدَ الرُّجُوعِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يجوز القَضَاءُ في الجُمْلَةِ بشَاهِدٍ وَيمِينٍ، وبه قال مَالِكٌ وأحْمَدُ، خِلاَفاً لأبي حَنِيفةَ -رحمهم الله-.لنا ما رُوِيَ عن ابن عَبَّاسٍ، وجَابِرٍ، وأبي هُرَيرَةَ -رضي الله عنهم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-[قَضى بالشَّاهِدِ واليَمِينِ (¬3). ¬
ورُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم-] قضى بالشَّاهِدِ الوَاحِدِ، مع يمين الطَّالِبِ (¬1). ثم الكلام في ثلاثة فُصُولٍ: أحدها: في مَوْضِعِهِ -وفيه عِبَارَتَانِ: إحداهما: المذكورة في الكِتَاب: أن ما يَثْبُتُ برَجُلٍ وامرأتين، يَثْبُتُ بشاهد وَيمِينٍ، إلا عُيُوبَ النِّسَاء وما في معناها (¬2)، وما لا يَثْبُتُ برجل وامرأتين، لا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيمِينٍ. والثانية: أن الثَّابِتَ بالشَّاهِدِ واليمين هو الأمْوَالُ؛ بأَعْيَانِهَا، ودُيُونها، وما يقصد (¬3) منه المال، كالبُيُوع، والهِبَاتِ، والقِرَاضِ، والمُسَاقَاة، وكَإتْلاَفِ الأموال (¬4)، والجِنَايَاتِ ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التي توجب المَالَ؛ كالخَطَأ، وشِبْهِ العَمْدِ، وكالجَوَائِفِ، وكذلك حُقُوقُ الأموال؛ كالرَّهْنِ، والأَجَلِ، والخِيَارِ على مَا تَبَيَّنَ، فيما يثبت بشهادة رَجُلٍ وامرأتين. وإنما اخْتَصَّ القَضَايَا بالشَّاهِدِ واليَمْين بالأموال وحقوقها؛ لأن عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ رَاوِي الخَبَرِ عن ابن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- لما روى الخَبَرَ قال: وذلك في الأَمْوَالِ، وقول الرَّاوِي مُتَّبَعٌ في تَفْسِيرِ ما يَرْوِيهِ، وتَخْصِيصه. وأيضاً فقد رُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اسْتَشَرْتُ جِبْرِيلَ عليه السلام في الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مع الشَّاهِدِ، فَأَشَارَ عَلَيَّ بِذَلِكَ في الأَمْوَالِ لاَ
تَعْدُو ذَلِك" (¬1).وإنما امْتَنَعَ القَضَاءُ بشَاهِدٍ ويَمينٍ في عُيُوب النِّسَاء, وما في معناها؛ لأنها أُمُورٌ خَطِيرةٌ، بخلاف الأَمْوَالِ، وقَبُولُ شهادة النساء فيها، من جِهَةِ أن الرِّجَالَ لا يَطَّلِعُونَ عليها غَالِباً، وهل يجوز القَضَاءُ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ مع اليمين؟ أما في الأمْوَالِ فلا، خِلاَفاً لمالك، واحتج الأَصْحَابُ بأن المُنْضَمَّ إلى اليمين، إذا شَهِدَتِ امْرَأتَانِ، أضعف شَطْرَي الحُجَّةِ، فلا يقنع بانضمام الضعيف إلى الضَّعِيفِ، كما لا يُقْنَعُ بانْضِمَامِ شهادة امرأتين إلى شهادة امرأتين. وأما فيما يَثْبُتُ بشهادة النساء وَحْدَهُنَّ، فإن أبا الفرج السَّرَخْسِيَّ حكى عن طَائِفَةٍ منهم الشيخ أبو عَلِيٍّ: أنه يَجُوزُ؛ لأن المُنْضَمَّ حينئذ، شَطْرٌ تَامٌّ لأضعف الشَّطْرَيْنِ. وعن آخرين: المنع؛ لأنه لم يَنْضَمَّ إليها أَقوَى الشَّطْرَيْنِ، فلم يكن في معنى المَنْصُوص. وهذا أَوْفَقُ لإطلاَقِ عامة النَّاقِلِينَ رحمهم الله. والثاني: هل القَضَاءُ بالشَّاهِدِ، أو باليمين، أو بهما، فيه ثلاثَةُ أوجه: أحدها: أنه بالشاهد؛ لأَنَّ إِثْبَاتَ الحَقِّ باليَمِينِ بَعِيدٌ، لكن يُؤكَّدُ بها الحجة، كالحجة المُقَامَةِ على الغائب والمَيِّتِ. والثاني: باليمين والشَّاهِدِ يقوى جَانِبَ المُدَّعِي، كاللَّوثِ في القَسَامَةِ؛ لأن الشاهد الواحد ليس بِحُجةٍ، واليمين حُجَّةٌ في الحُكْم، وربما اسْتَأْنَسَ صاحب هذا الوجه بِرِوَايَةِ مَنْ رَوَى: أنه قَضَى بالشَّاهِدِ الوَاحِدِ مع يَمِينِ الطَّاَلِبِ، وجعلا ما دخل عليه كلمة "مع" شَرْطاً. وأصحهما: أن القَضَاءَ يَقَعُ بهما جَمِيعاً، كما يقع بالشَّاهِدِ. وفائدة الاخْتِلاَفِ تظهر فيما لو رجع الشَّاهِدُ، فعلى الأول؛ يغرم، إذا جعلنا الرُّجُوعَ سَبَباً لِلْغُرْمِ. وعلى الثاني, لا يُغَرَّمُ، وعلى الثَّالث؛ يُغَرَّمُ النِّصْفَ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيَحْتَمِلُ عَلَى الوَجْهِ الثَّانِي أَنْ يُخَرَّجَ الغُرْمُ عَلَى الخِلاَفِ فِي أَنَّ المُزَكِّي هَلْ يُغَرَّمْ؛ لأَنَّ القَضَاءَ وَإنْ كَانَ بِاليَمِينِ، فَقَوْلُ الشَّاهِدِ هُوَ الَّذِي نَفَّذَهُ, ويُجْزِئُ مِثْلُ هَذَا فِي النِّصْفِ عَلَى الوَجهِ الثَّالِثِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفصل الثَّالِثُ: في كيفيته: وإنما يَحْلِفُ المُدَّعي بعدِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، وَتَعْدِيلِهِ، فإن جَانِبَهُ إنما يَتَقَوَّى حينئذ، وإنما يَحْلِفُ مَنْ قَوِيَ جَانِبُهُ، وكذلك يَحْلِفُ المُدَّعَى عليه، فإن الأصل يقوى جَانِبَهُ، ويحلف المُدَّعِي إذا نَكَلَ المُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لأن النُّكُولَ قَوَّى جَانِبَهُ. ¬
وعن ابن أبي هُرَيْرَةَ: أنه يجوز تَقْدِيمُ اليَمِينِ، كما يجوز أن تَتَقَدَّمَ شَهَادَةُ المَرْأَتَيْنِ على شَهَادَةِ الرَّجُلِ. حكاه عنه القَاضِي أبو حَامِدٍ، فيما ذكره الشيخ أبو حَامِدٍ. وللإمام: احتمال التَّقْدِيمِ على تَعْدِيلِ الشَّاهِدِ، ويجب أن يَتَعرَّضَ المُدَّعِي في اليَمِينِ بِصِدْقِ الشاهد، فيقول: وَاللهِ إن شَاهِدِي لَصَادِقٌ، وإني مستَحِقٌّ لكذا. قال الإِمام: ولو قَدَّمَ ذِكْرَ الحَقِّ، وأَخَّرَ تَصْدِيقَ الشَّاهِدِ، فلا بَأْسَ ولم أجد أحداً يُضَايقُ فيه، وَوَجَّهُوا اشْترَاطَ التَّعَرُّضِ لِصِدْقِ الشاهد؛ بأن اليمين والشهادة حُجَّتَانِ مختلفتا (¬1) الجنس، فاعْتُبِرَ ارْتِبَاطُ أحدهما بالآخر، ليصيرا كالنَّوْعِ الوَاحِدِ. وهذا التَّوْجِيهُ قَوِيٌّ أم ضعيف؟ إنما يَنْتَظِمُ على قول من يقول باسْتِنَادِ القَضَاءِ إليهما جَميعاً. وإذا فَسَقَ الشَّاهِد بعد القضاء لم يُنْقَضِ الحُكْمُ، وإن فَسَقَ قَبْلَهُ صار كَأَنْ لا شَاهِدَ، فيحلف المُدَّعى عليه، فإن نَكَلَ رُدَّ اليَمِينُ على المُدَّعِي، ولم يعتد بما مَضَى، ولو لم يَحْلِفْ المُدَّعي مع شَاهِدِهِ، وطَلَبَ يَمِينَ الخَصْمِ، فله ذلك، فإن حَلَفَ سَقَطَتِ الدَّعْوَى. قال ابن الصَّبَّاغِ: وليس له أن يَحْلِفَ بعد ذلك مع شَاهِدٍ، بخلاف ما لو أقام بَيِّنَةً بعد يَمِينِ المدَّعَى عَلَيْهِ، حيث يسمع؛ لأن البَيِّنَةَ قد يتَعذَّرُ عليه إِقَامَتُهَا [بعُذْرٍ] (¬2)، واليمين إليه بعد شَهَادَةِ الشاهد الواحد فلا عُذْرَ له في الامْتِنَاع، وإن نَكَلَ المُدَّعَى عَلَيْهِ (¬3)، فأراد المُدَّعِي أن يَحْلِفَ يمين الرَّدِّ، فقولان: أصحهما: أنه يُمَكَّنُ منه، وهذه الصُّورَةُ مَذْكُورَةٌ في الكتاب؛ في "باب دَعْوَى الدَّم"، ويجريان فيما إذا ادَّعى مَالاً، ونَكَلَ المُدَّعَى عَلَيْهِ، ولم يَحْلِفِ المدعى يمين الردّ، ثم أقام شاهداً واحداً، وأراد أن يحلف معه، فإن قلنا: ليس له أن يَحْلِفَ يَمِينَ الرَّدِّ، فالمَنْقُولُ؛ أنه يحبس المُدَّعَى عَلَيْهِ حتى يَحْلِفَ، أو يقر لأن يمينه حَقُّ المُدَّعِي، فلا يتمكن من إِسْقَاطِهِ. لكن على هذا القول التَّقْصِير منه حيث لم يَحْلِفْ مع شَاهِدِهِ، فيما ينبغي أن يحلف المُدَّعَى عليه (¬4). ¬
وقد ذكر صاحب "الشامل" نَحْواً من هذا (¬1). وعند مَالِكٍ: إذا نَكَلَ المُدَّعَى عليه، قضى عليه، ولا حَاجَةَ إلى يَمِينِ المُدَّعِي، وليس ذلك؛ لأنه يذهب (¬2) إلى القَضَاءِ بالنُّكُولِ، لكنه جعل نُكُولَ المُدَّعَى عليه، مع شَاهِدِ المُدَّعِي كَنُكُولِ المُدَّعَى عليه، مع يمين المُدَّعِي، واحتج الأَصْحَابُ بأنه، لو نَكَلَ المُدَّعَى عليه، ولو أن المُدَعي بعدما امْتَنَعَ عن الحَلِفِ مع شَاهِدِهِ، واستحلف الخصم، أراد أن يَعُودَ، ويَحْلِفَ مع شَاهِدِهِ، حكى المُحَامِلِيُّ: أنه ليس له ذلك؛ لأن اليَمِينَ قد انقَلَبَ من جَانِبِهِ إلى جانب صَاحِبِهِ، إلا أن يَعُودَ إلى مَجْلِسٍ آخر، فَيَسْتَأْنِفُ الدَّعْوَى، ويقيم الشَّاهِدَ، فحينئذ يَحْلِفُ معه. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَو ادَّعَى عَبْداً فِي يَدِ غَيْرِهِ أَنَّهُ كَانَ مِلْكَهُ فأَعْتقَهُ فَلاَ يَكْفِيهِ شَاهِدٌ وَيمِينٌ لأَنَّهُ يُثْبِتُ الحُرِّيَّةَ دُونَ المِلْكِ، وَلَوِ ادَّعى فِي جَارِيَةٍ وَوَلَدِهَا أنَّهَا مُسْتَوْلَدَتُهُ وَالوَلَدُ مِنْهُ وَحَلَفَ مَعَ الشَّاهِدِ الوَاحِدِ ثَبَتَ مِلْكُ المُسْتَوْلَدَة وَعُتِقَتْ عِنْدَ مَوْتِهِ بِإِقْرَارِهِ، وَلاَ يَثْبِتُ نَسَبُ الوَلَدِ وَحُرِّيَّتُهُ عَلَى أَقْيَسِ القَوْلَيْنِ إِذْ لاَ مَعْنَى لِتَبَعِيَّتِهِ فِي الحُجَّةِ وَهُوَ مُسْتَقِلٌّ، وَهَذِهِ الحُجَّةُ لاَ تَكْفِي لِلحُرِّيَّةِ وَالنَّسَبِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صورتان، تَرْتَبِطُ إحْدَاهُمَا بالأخرى، وتدخل فيها فَنُؤَدِّيهُمَا، على ما لهما من المُدَاخَلَةِ، والارْتِبَاطِ، ونقول: جَارِيَةٌ وولدها في يَدِ رَجُلٍ يَسْتَرِقُّهَا، فجاء مُدَّعٍ، وقال: هذه مُسْتَوْلَدَتِي، والوَلَدُ مني، عَلِقَتْ به في مِلْكِي، فإن أقام عليه شَاهِدَيْنِ، يَثْبُت ما يَدَّعِيهِ. وإن أقام شَاهِداً وَاحِداً وحَلَفَ معه، أو رَجُلاً وامْرَأَتَيْنِ، يثبت الاسْتِيلاَدُ؛ لأن المُسْتَوْلَدَةَ ومَنَافِعَهَا لِلسَّيِّدِ، وسَبِيلُهَا سَبِيلُ الأموال الثابتة بالحُجَّةِ النَّاقِصَةِ، فَتُسَلَّمُ إليه، وإذا مات حُكِمَ بِعِتْقِهَا، بإقراره (¬3)، وهل يُحْكَمُ له بالوَلَدِ؟ فيه قولان: أحدهما: نعم؛ لأنا حكمنا له بالجَارِيَةِ، والوَلَدُ فَرْعُهَا، فَأَشْبَهَ ما إذا أثبت غَصْبَ الجارية، يُحْكَمُ له بالوَلَدِ الحَاصِلِ منها في يَدِ الغَاصِبِ، وأيضاً فإن الوَلَدَ في دَعْوَاهُ ¬
حُرٌّ، كما في الجَارِيةِ، وبه يَثْبُتُ الاسْتِيلاَدُ، فهذا اخْتَصَّ بالجارية على صِفَةِ أُمِّيَّةِ الولد تَعَدَّى الاخْتِصَاصُ إلى الوَلَدِ، هكذا وَجَّهُوهُ. وعلى هذا، فَيُنْتَزَعُ الوَلَدُ، ويكون حُرّاً نِسْبِياً بإقرار المدعي. والثاني: المنع؛ لأنه لا يَدَّعِي مِلْكَ الوَلَدِ، وإنما يَدَّعِي نَسَبَهُ، وحُرَّيَّتَهُ، وهما لا يثبتان (¬1) بهذه الحُجَّةِ، فعلى هذا؛ يبقى الوَلَدُ في يد صَاحِبِ اليد. وهل يثبت نَسَبُهُ بإقرار المُدَّعِي؟ فيه ما ذكرناه في الإقرار، واللقيط في اسْتِلْحَاقِ عَبْدِ الغير. واختار المُزَنِيُّ من القولين الأوَّلَ، واحْتَجَّ بأن الشافعي -رضي الله عنه- نَصَّ فيما لو كان في يَدِ رجل عَبْدٌ بزعمه، يَسْتَرِقُّهُ، فجاء آخر، وَادَّعَى أنه كان له، وأنه أَعْتَقَهُ، وصاحب اليد ظَالِمٌ باسْتِرْقَاقِهِ، وأقام عليه شَاهِداً وَاحِداً، وحَلَفَ مَعَهُ، أو رجلاً وامرأتين، أنه يُنْتَزَعُ من يَدِ صَاحِبِ اليد، ويُحْكَمُ بأنه عتيق على المُدَّعِي، بإقْرَارِهِ. وموجب قَوْلِ المُدَّعِي هاهنا الحُرِّيَّةُ، كما أن موجب قوله هناك حُرِّيَّةُ الوَلَدِ، وكما انْتَزَعَ المُدَّعِي، وقَضَى بكونه مَوْلى له، وجب أن يُنْتَزَعَ الولد، ويُقْضَى بكونه ابناً له. وللأصحاب في صُورَةِ الاحْتِجَاجِ طريقان: أحدهما: أن فيها قولين أيضاً: أحدهما: أنه لا يُنْتَزَعُ، ولا تُقْبَل بَيِّنَةٌ؛ لأنه يَشْهَدُ بملْكٍ مُتَقَدِّمٍ، فصار كما إذا ادَّعَى مُدَّع مِلْكاً في الحَالِ، وشهد شُهُودُهُ بأنه كان مِلْكاً لَه من قَبْلُ. والثاني: يُنْتَزَعُ، وتُقْبَلُ بَيِّنتُهُ؛ لأنها مُوَافِقَةٌ للدَّعْوَى، بخلاف ما إذا ادَّعَى المِلْكَ في الحَالِ، وشهد الشُّهُودُ بالمِلْكِ المتقدم، وعلى هذا فنحكم بحريته بإقراره. فمن قال بهذه الطَّرِيقَةِ، قال: أجاب الشافعي -رضي الله عنه- على أَحَدِ القولين فلا احْتِجَاجَ. والثاني: القَطْعُ (¬2) بالقَبُولِ، والانْتِزَاعِ، وبه قال أبو إسْحَاقَ، وفَرَّقَ الصَّائِرُونَ إليه بين هذه الصورة، وصورة المُسْتَوْلَدَةِ، بأن المُدَّعِي يدعي هاهنا مِلْكاً مُتَقَدِّماً في العَبْدِ، وحُجَّتُهُ تَصْلُحُ لإِثْبَاتِ المِلْكِ، وإذا ثبت المِلْكُ، تَرَتَّبَ العِتْقُ عليه بإقراره. وفي صورة الاسْتِيلاَدِ، إنما قُدِّمَتِ الحُجَّةُ على مِلْكِ الأُمِّ، لا جَرَمَ أَثْبَتْنَاهُ وَرَتَّبْنَا عليه العِتْقَ، إذا جاء وَقْتُهُ بإقْرَارِهِ. وأما الولد، فقضية الدَّعْوَى في الحُجَّةِ كونه حُرّ الأَصْلِ نِسبياً، والحرية والنَّسَبُ لا يثبتان بهذه الحُجَّةِ، فلذلك افْتَرَقَا. ¬
ولو أن المُدَّعِي في مَسْأَلَةِ الاسْتِيلاَدِ قال لصاحب اليد: اسْتَوْلَدْتُهَا في مِلْكِكَ، ثم اشْتريتها مع الولد، فعُتِق الوَلَدُ عَلَيَّ، وأقام عليه حُجَّةً نَاقِصَةً، فالعِتْقُ الآن تَرَتَّبَ على المِلْكِ الذي قامت به الحُجَّةُ الناقصة، فتكون على الطريقتين؛ كذلك حُكِيَ عن القَفَّالِ، هذا كلام الأصحاب على طَبَقَاتِهِمْ -رحمهم الله [وإيانا] (¬1) - في الصورتين. والأَشْبَهُ في مسألة الاسْتِيلاَدِ، وبه أجاب الروياني في "الحلية"، أن الوَلَدَ لا يُنْتَزَعُ، والأظهر في صورة العَبْدِ، أنه يُنْتَزَعُ، ويُحْكَمُ بأنه عتيق بإقراره، وبه أجاب صاحب "التهذيب"، والروياني، وانْحَازَ الإِمَامُ، وصاحب الكتاب، عن الأصحاب. فحكيا أن اختيار المُزَنِيِّ، أن حُرِّيَّةَ الولد لا تَثْبُتُ، ولا تُقْبَلُ هذه الحُجّة في حق الولد، وأن النَّصَّ الذي نقله في مسألة العَبْدِ، أن المدعى لا يثبت، ويقر العبد في يد المدعى عليه، وأنه رَجّح، وقال: إذا لم يَثْبُتِ العِتْقُ هناك مع أن قصر دَعْوَاهُ وحجَّته ترتبه على المِلْكِ، وتَوَاردُهُمَا على شخص واحد، فلأِنْ لا تَثْبُتَ في الولد، وهو شَخْصٌ مُسْتَقِلٌّ بقيام الحُجَّةِ على المِلْكِ في الأم، كان أَوْلَى، ثم نَقَلاَ عن الأصحاب طريقين: أحدهما: طَرْدُ القولين في مسألة العَبْدِ. ثانيهما: القَطْعُ بأنه لا يثبت المُدَّعي، ولا يُنْتَزَعُ العَبْدُ، ولا يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ؛ لأن صورة الاسْتِيلاَدِ الحُجّةُ صَالِحَةٌ للاسْتِيلاَدِ، والاسْتِيلاَدُ يَقْتَضِي وَلَداً، وفي العتق لا متَشَبِّثَ تَتَعَلَّقُ بها الحُجَّةُ، وهذا كله مُحَالٌ عن وجهه فان شئت (¬2) فراجع "المختصر" تتيقَّن أن الأمْرَ على ما حَكَيْنَا. وأَعْلِمْ قوله في الكتاب: "فلا يكفيه شاهد" بالواو. واعْلَمْ أن الأَظْهَرَ عند الأَصْحَاب أنه يَكْفِي شاهد وَيمِينٌ، لثبوت المِلْكِ السابق، ثم يَتَرَتَّبُ عليه الحُرِّيَّةُ بإقراره. ويجوز أن يُعَلَّمَ قوله: "على أَقيَس القولين" بالواو؛ لأن أبا الفَرَجِ حَكَى طَرِيقَةً قَاطِعَةً بثبوت النَّسَبِ والحرية. وتأثير هذه الحجة في الولد، وهي غَرِيبَةٌ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فُرُوعٌ: الأَوَّلُ إِذَا حَلَفَ الوَرَثَةُ مَعَ شَاهِدٍ وَاحِدٍ عَلَى دَيْنٍ لِلمُوَرِّثِ اسْتَحَقُّوا، فَإِنْ حَلَفَ وَاحدٌ اسْتَحَقَّ الحالِفُ نَصِيبَهُ دَونَ النَاكِلِ، ولَيْسَ لِولدِ الناكِلِ بعد مَوْتِهِ أَنْ يَحْلِفَ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ النُّكُولِ فلِوَلَدِهِ أنْ يَحْلِفَ، وَفِي وُجُوبِ إِعَادَةِ الشَّهَادَةِ وَجْهَانِ، وَلَوْ نَكَلَ الوَارِث وَللْمَيِّتِ غَرِيمٌ فَهَلْ يَحْلِفُ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ، وَلَوْ كَانَ فِيهمْ غَائِبٌ ¬
حَلَفَ إِذَا حَضَرَ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الشَّهَادَةِ، وَكَذَا إِذَا بَلَغَ صَبِيٌّ، وَلَوْ كَانَ النِّزَاعُ فِي وَصِيَّةٍ لِشَخْصَيْنِ، فَإذَا قَدِمَ الغَائِبُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ بَعْدَ إِعَادةِ الشُّهُودِ لاَ كَالمِيرَاثِ فإِنَّهُ كَالمُسْتَجِدِّ وَلذَلِكَ يَخْرُجُ بِحَلِفِ أَحَدِ الوَارِثينَ نَصِيبُ الغَائِبِ مِنْ يَدِ الخَصْمِ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ بِخِلاَفِ شَرِيكِ الوَصِيِّةِ إِذَا أَقَامَ شَاهِدَيْنِ اسْتَوْفَى نَصِيبُ المَجْنُونِ وَالصَّبِيّ الَّذِي لَمْ يَدَع البُلُوغَ وَيُؤْخَذُ نَصِيبُ الغَائِبِ إِنْ كَانَ عَيْناً، وَيَكْفِي دَعْوَى الحَاضِرِ، وَإِنْ كَانَ دَيْناً فَوجْهَانِ يَجْرِيَانِ فِي كُلِّ مَنْ أَقَرَّ لِغَائِبٍ بِدَيْنٍ أَنَّ القاضِيَ هَلْ يَسْتَوفِيهِ أَمْ يَتْرُكُهُ؟ وَمَا يَسْتَوفِيهِ الحَاضِرُ مِنْ حِصَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ لاَ يُسَاهِمهُ الغَائِبُ فِيهِ إِذَا رَجَعَ، وَإنْ كَانَ عَيْناً يُسَاهِمُهُ لأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ شَائِعٌ بَيْنَهُما، وَأمَّا الدَّيْنُ فَإِنَّمَا يتعَيَّن بِالتَّعْيِينِ. قَالَ الرَّافِعيُّ: اللَّفْظُ في أكثر النَّسَخ "فُرُوعٌ" بالجَمْعِ، ولكن لم يَنصَّ على الثالث وكأنه نَقَضَهُ، صورة وَقْفِ التشريك المذكورة آخراً. فإنه جعلها في "الوسيط" مَسْأَلَةَ بِرَأْسِهَا، والأخريين في هذا والفقه أنه إذا ادَّعَى وَرَثَةُ مَيِّتٍ دَيْناً لمورثهم، أو عَيْناً، فإنما يُحْكَمُ على المُدَّعَى عَلَيْهِ إذا ثبت لهم ثَلاثَةُ أَشْيَاءَ: الموت، والوِرَاثَةُ، وأصل المال (¬1). والأول والثاني لا مَدْخَلَ فيهما للشَّاهِدِ واليَمِينِ، بل طريق ثُبوتهما إقَامَةُ شَاهِدَيْنِ، وإقرار المُدَّعَى عليه. وأما المال، فللشاهد واليمين مَدْخَلٌ فيه، فإن حَضَرَ جَمِيعُ الوَرَثَةِ، وهم كَامِلُونَ، وأقاموا شَاهِداً وَاحِداً، وحَلَفُوا معه، اسْتَحَقُّوا، والمَأْخُوذُ تَرِكَةٌ يُقْضَى منها (¬2) دُيُون المَيِّتِ، وينفذ وَصَايَاهُ، وإن امتنع جَمِيعُهُمْ. وعلى الميت دَيْنٌ، فهل لِلْغَريمِ أن يَحْلِفَ؟ ذكرنا في التفليس أنه على قولين: الجديد منهما، المَنْعُ. والقولان جَارِيانِ فيما إذا كَانَ قد أَوْصَى لإنْسَانٍ، ولم يَحْلِفِ الوَرَثَة، هل يحلف الموصى له؟ فإن كانت الوَصِيَّةُ بِعَيْنٍ، وادعاها في يد الغَيْرِ، فلا ينبغي أن يكون هذا مَوْضِعَ الخِلاَفِ، بل يجوز لا مَحَالَةَ. وإن حلف بعض الوَرَثَةِ دون بعض، وأخذ الحالف نَصِيبَهُ، والنص أنه لا يُشَارِكُهُ فيه من لم يَحْلِفْ. ونص في كتاب الصُّلْح: أنهما لو ادَّعَيَا دَاراً إِرْثاً، فصدق المُدَّعَى عليه أحدهما في نَصِيبِهِ يشاركه المُكَذّب. فعن ابن القَاصِّ وغيره: أن بَعْضَ الأَصْحَاب خرج فيما ذكر في الصُّلْحِ قَوْلاً هاهنا: أن ما أَخَذَهُ الحَالِفُ يُشَارِكُهُ فيه من لم يحلَف؛ لأن الإِرْثَ يثبت على الشُّيُوعِ، ¬
وامتنع عَامَّتُهُمْ من هذا التَّخْرِيجِ، وقَطَعُوا بأنه لا شَرِكَةَ هاهنا، كما نَصَّ عليه، ولما افْتَرَقَتِ الصُّورتَانِ، نقل الإمَامُ فيه طريقين، عن الأصْحَابِ. قال قوم: لأن صُورَةَ كتاب الصُّلْحِ مُصَوَّرَةٌ في العين (¬1)، وأعيان التَّرِكَةِ مشتركة بين الوَرَثَةِ، والمُصَدِّقُ مُعْتَرِفٌ بأنه من التركة، والتَّصْوِيرُ هاهنا في الدين، والدَّيْنُ إنما يَتَعَيَّنُ بالتعيين، والقبض. فالذي أخذه الحَالِفُ تَعَيَّنَ لنصيبه بالقَبْضِ، فلم يشاركه الآخر (¬2) فيه، ومن قال بهذا قال: لو فرضت مسألة الصُّلْح في الدَّيْنِ، لم تثبت الشَّرِكَةُ، ولو فرض الشاهد ويمين بعض الوَرَثَةِ في العَيْنِ، تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ. وقال آخرون: بل السَّبَبُ ما يَثْبُتُ هاهنا، يثبت بالشَّاهِدِ واليمين، فلو أثبتنا الشَّرِكَةَ، لَمَلَّكنَا النَّاكِلَ بيَمِينِ غَيْرِهِ، وبعيد أن يَمْتَنِعَ الإِنْسَانُ من الحَلِفِ، ونحن نملكه بِحَلِفِ غيره، مع أن اليَمِينَ لا تجرى فيها النِّيَابَةُ، وهناك ما ثبت ثَبَتَ بِإِقْرَارِ المُدَّعَى عَلَيْهِ، ثم ترتب على ما أَقَرَّ به إقرار المصدق، بأنه إِرْثٌ، وعلى هذا فلا فَرْقَ هاهنا بين العَيْنِ والدَّيْنِ، ولا في صورة إقرار المدعى عليه. وهذا الطريق الثانِي هو الذي أَورَدَهُ جمهور الأصحاب، وصَحَّحَهُ الإِمام، وخَالَفَهُمْ صاحب الكِتَابِ في "الوسيط" من وجهين: أحدهما: أنه أشار إلى إِثْبَاتِ الخِلاَفِ في الصورتين، بالنَّقلِ، والتخريج في مَسْأَلَةِ الصُّلْح مما نحن فيه، ولم يَتَعَرَّضُوا له. والثاني: أنه اعتمد في طَرِيقَيِ الفَرْقِ على معنى العَيْنِ، والدَّيْنِ. وهل يقضى من نصيب الحَالِفِ جميع الدَّيْنِ؟ أم يقضى بالحصَّةِ؟ قال في "الشامل": يبنى على أن الغَرِيمَ، هل يحلف؟ إن قلنا: يحلف، لم يَلْزَمْهُ إلا قَضَاءُ حصته. وإن قلنا: لا يَحْلِفْ، فيبنى على أن من لم يَحْلِفْ من الوَرَثَةِ، هل يشارك الحَالِفُ؟ إن قلنا: نعم، فيقضى منه جميع الدَّيْنِ؛ لأنا أَعْطَيْنَاهُ حكم التَّرِكَةِ. وإن قلنا: لا، [لم] (¬3) يلزم إلى الحِصَّةِ هذا هو الكلام في نَصِيبِ الحَالِفِ. أما من لم يحلف؛ فإن كان حَاضِراً، كَامِلَ الحال، وَنَكَلَ، ذكر الإِمام: أن حَقَّهُ يَبْطُلُ بالنُّكُولِ، ولو مات، لم يكن لِوَارِثِهِ أن يَحْلِفَ. وفي كتاب القاضي ابْنِ كَجٍّ ما ينازع فيه، وقد تَوَجَّهَ بأنه حَقُّهُ، فله تَأْخِيرُهُ. قال الإِمَامُ: ولو أراد وارثه أن يُقِيمَ شَاهِداً آخر لِيَحْلِفَ معه، لم يَتَمَكَّنْ من الحَلِفِ أيضاً. ¬
لكن هل يُضَمُّ هذا الشَّاهِدُ إلى الشَّاهِدِ الأَوَّل لِيُحْكَمَ له بالبَيِّنَةِ؟ فيه احْتِمَالاَنِ جَارَيانِ، كما لو أقام مُدَّعٍ شاهداً في خُصُومَةٍ، ثم مات، فأقام وَارِثُهُ شَاهِداً آخر، يجوز أن يُقَال: له البناء عليه. ويجوز أن يُقَالَ: عليه تَجْدِيدُ الدَّعْوَى، وإِقَامَةُ البَيِّنَةِ الأولى (¬1)، وأنه لو أقام الوَرَثَةُ شَاهِداً، وحلف معه بعْضُهُمْ، ومات بعضهم، قبل أن يَحْلِفَ أو ينكل، كان لوارثه أن يَحْلِفَ. لكن هل يحتاج إلى إعادة الدَّعْوَى، والشاهد؟ فيه التَّردُّدُ المذكور. والأَشْبَهُ أنه لا يحتاج، وإن كان الذي يَحْلِفُ غَائِباً، أو صَبِيّاً، أو مَجْنُوناً, فقد نَصَّ الشَّافعي -رضي الله عنه- في المَجْنوُنِ: أنه يوقَفُ نَصِيبُهُ، واختلفوا في معناه. قال أبو إِسْحَاقَ وعَامَّةُ الأصحاب: المراد؛ أنا نَمْتَنِع عن الحُكْمِ في نَصِيبِهِ، ونَتَوَقَّفْ إلى أن يُعْتَق، ويحلف، أو يَنْكَلُ، ولا يُؤْخَذُ نصيبه. ومنهم من قال: أراد يؤخذ نصيبه، ويوقف. وهذا أَحَدُ قَوْلَيْهِ في أنه، هل تثبت الحَيْلُولَة بشاهد واحد؟ لأن الشَّاهِدَ الذي يُقِيمُهُ أَحَدُ الوَرَثَةِ مَقَامَ الكُلِّ؟ وقد يُطْلَقُ لهذا الاخْتِلاَفِ في المَسْأَلَةِ وَجْهَان، أو قولان. والصَّبِيُّ والغائب مُلْحَقَانِ بالمجنون (¬2)، وينبغي (¬3) أن يكون الحَاضِر الذي لم يشرع في الخُصُومَةِ، أو لم يشعر بالحال، كالصَّبِيِّ، والمَجْنُونِ، والغائب، في بقاء حَقِّهِ، بخلاف ما سَبَقَ في النَّاكِلِ. وإن فَرَّعْنَا على الأَظْهَرِ، وهو أنه لا يُؤْخَذُ نصيب المَعْذُورِينَ، فإذا زَال عُذْرُهُمْ، حلفوا، وأخذوا نَصِيبَهُمْ، ولا حَاجَةَ بهم إلى إِعَادَةِ الشَّهَادَةِ، بخلاف ما لو كَانَتِ الدَّعْوَى، لا عن جهَةِ الإِرْثِ. فإن قال: أوصى لك، ولي، ولأخي الغَائِبِ [أو الصبي] (¬4) أبوك بكذا، أو اشتريت مع أخي الغائب منك كذا، وأَقَامَ شَاهِداً، وحَلَفَ معه، فإنه إذا قدم الغَائبُ، وبلغِ الصَّبِيُّ، يَحْتَاجَانِ إلى تجديد الدَّعْوَى، وإِعَادَةِ الشهادة، أو إقامة شَاهِدٍ آخر، فلا يُؤْخذُ نصيبهما قبل ذلك؛ لأن الدَّعْوَى في المِيرَاثِ عن شَخْصٍ واحد وهو المَيِّتُ، وكذلك يُقْضَى دَيْنُهُ [من] (¬5) المأخوذ، وفي غير المِيرَاثِ الدَّعْوَى وألحق لأَشْخَاصٍ، فليس لأحد أن يَدَّعِيَ، ويُقِيمَ البَيِّنَةَ عن غيره، من غير إذْنٍ، ولا ولاية. ¬
وما ذكرنا في أن المِيرَاثَ، أنه لا حَاجَةَ إلى إِعَادَةِ الشَّهَادَةِ، مفروض فيما إذا لم يَتَغَيَّر حَالُ الشَّاهِدِ، فإن تَغَيَّرَ قال الشَّيْخُ أبو الفَرَجِ: فيه وجهان: أحدُهمَا: وبه قال القَفَّالُ: لا يَقْدَحُ، وللصَّبِيِّ والمَجْنُونِ والغَائِبِ إذا زال عُذْرُهُمْ، أن يحلفوا؛ لأنه قد اتَّصَلَ الحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ، فلا أَثَرَ للتغيير بعده. وثانيهما: وهو اختيار الشَّيْخ أبي عَلِيٍّ: أنهم لا يَحْلِفُونَ؛ لأن الحكم اتَّصَلَ بِشَهَادَتِهِ في حَقِّ الحالف دون غَيْرِهِ (¬1). ولهذا لو رجع، لم يكن لهم أن يَحْلِفُوا. ولو مات الغائِبُ، أو الصِّبِيُّ، فلوارثه أن يَحْلِفَ، ويأخذ حِصَّتَهُ. فإن كان وارثه الحَالِف لم تُحْسَبْ يَمِينُهُ الأُولَى, وبهذا يَتَأَكَّدْ أخذ الاحتمالين المذكورين، فيمن مَاتَ قبل أن يَحْلِفَ وينكل. ولو ادَّعَى إِنْسَانٌ على وَرَثَةِ رجل: أن مورثكم أَوْصَى لي ولأخي، أو لأجنبي بكذا، وأقام شَاهِداً، وحَلَفَ معه، فأخذ نَصِيباً لا يُشَارِكُهُ الآخر فيه، بلا خلاف، لكن سَبَقَ في الصُّلْحِ؛ أنه لو قال رجلان: اشْتَرَيْنَا منك معاً كذا، وصدق أحدهما دون الآخر، يكون الحُكْمُ كما في الإِرْثِ، في أظهر الوجهين. فعلى ذلك الوَجهِ، إذا قال: أَوْصَى لنا معاً بكذا، ينبغي أن يَعُودَ فيه، ما في دَعْوَى الإرْثِ، ثم ذكر الشيخ أبو الفَرَجِ: أن من يَحْلِفُ من الوَرَثَةِ على دَيْنٍ، أو عَيْنٍ للمورث، يحلف على الجميع، لا على حِصَّتِهِ، سواء حلف كلهم، أو بعضهم، دون بعض. وكذا الغَرِيمُ والموصى له، إذا قلنا: إنهما يَحْلِفَانِ، وفي كَلاَمِ غَيْرِهِ ما يُشْعِرُ بخلافه، ويُؤَيِّدُهُ قولنا: إن من لم يَحْلِفْ، لا يُشَارِكُ الحالف، فإذا خَصَّصْنَا المأخوذ به، ولم نُعْطِهِ حكم التَّرِكَةِ، فأشبه ما إذا ادَّعَى قَدْرَ حِصَّتِهِ، ولم يَتَعَرَّضْ لِلإرْثِ. وجميع ما ذكرنا فيما إذا أَقَامَ بَعْضُ الوَرَثَةِ شَاهِداً وحَلَفَ معه. وأما إذا أَقَامَ بَعْضُهُمْ شَاهِدَيْنِ، فيثبت المُدّعى. فإذا حضر الغَائِبُ من الوَرَثَةِ، أو بلغ صَبيُّهُمْ، أو أفاق مَجْنُونُهُمْ، أخذ نصيبه، ولا حَاجَةَ إلى تَجْدِّدِ دَعْوى، وإقامة بَيِّنَةٍ، وانْتَزَعَ القاضي بعد تَمَامِ البَيِّنَةِ نَصِيبَ الصبي، والمَجْنُونِ، دَيْناً كان المُدَّعَى أو عَيْناً. ثم يأمر بالتَّصَرُّفِ فيه بالغِبْطَةِ؛ كيلا يَضِيعَ عَيْنُ مَالِهِ [وأما نَصِيبُ الغائب، فإن كان عَيْناً انْتَزَعَهَا] (¬2). ¬
وقال أبو حنَيفَةَ: إن كان المَشْهُودُ به، مما لا يُنْقَلُ لم ينتزع نصيب الغائب، ممن في يَدِهِ، [ثم] (¬1) الذي يُشْعِرُ به إِيرَادُ النَّاقِلِينَ، أن هذا الانْتِزَاعَ وَاجِبٌ عليه، وهو الظَّاهِرُ. لكن ذكرنا في باب الوَدِيعَةِ: أن الغَاصِبَ، لو حمل المَغْصُوبَ إلى القاضي، والمَالِكُ غَائِبٌ، ففي وجوب قَبُولِهِ وَجْهَانِ: فيجوز أن يعود ذلك الخِلاَفُ هاهنا، وإن قامت البَيِّنَةُ، وإن كان المُدَّعَى دَيْناً، ففي انْتِزَاع نَصِيب الغائب وَجْهَانِ جَارَيانِ، فيمن أقر لغائب بِدَيْنٍ، وحمله إلى القاضي، هل على القاضي أَن يَسْتَوفِيَهُ؟ وهذه الصورة قد سَبَقَتْ في الوَدِيعَةِ، وبَيَّنَّا أن أَظْهَرَ الوَجْهَيْنِ فيهما عَدَمُ الوجوب، وكذلك ذكره القَاضِي ابْنُ كَجٍّ فيما نحن فيه، وحكاه عن النِّصِّ. واعلم أنه قد سبق في كتاب الشَّرِكَةِ، أن أَحَدَ الوَارِثِينَ لا ينفرد بِقَبْضِ شَيْءٍ من دَيْنِ التركة، ولو قبض، شَارَكَهُ الآخَرُ فيه. وهاهنا قالوا: يأخذ الحَاضِرُ حِصَّتَهُ، كأنهم جَعَلُوا غَيْبَةَ الشريك عذراً ومَكَّنُوا الحَاضِرَ من الانفراد حينئذ، ولو ادَّعى على رجل؛ أن أباه أوْصَى له ولفلان بكذا، وأقام عليه شَاهِدَيْنِ، وفلان غائب، أو صَبِي، لم يُؤْخَذْ نصيب فلان بِحَالٍ، وإذا حضر أو بلغ، فعليه إِعَادَةُ الدَّعْوَى، والبَيِّنَةِ، لما ذكرنا أن الدعوى في الإِرْثِ عن شخص وَاحِدٍ. وأما لفظ الكتاب فقوله: "وفي وجوب إعادة الشهادة وجهان"؛ هما الاحتمالان المنقولان عن كلام الإِمام أقامهما وجهين. وقوله: "وإن كان النِّزَاعُ فِي وَصِيَّتِهِ لِشَخْصَيْن"؛ أي: ادعى على وَرَثَةِ مَيِّتٍ؛ أن مورثهم أَوْصَى له، ولفلان الغَائِبِ. وقوله: "وما يَسْتَوفِيهِ الحَاضِرُ من حِصَّتِهِ من الدَّيْنِ لا يُسَاهِمُهُ الغَائِبُ فيه إذا رجع؛ وإن كان عيناً، مساهمة ... " إلى آخره. ذكره بعد صورة إِقَامَةِ الشَّاهِدَيْنِ، لكنه أراد ما إذا أَقَامَ الحَاضِرُ شَاهِداً واحداً، وحَلَفَ معه، على ما هو مُبَيَّنٌ في ترتيب "الوسيط". والذي أجاب به هو مَا رَجَّحَهُ في "الوسيط" (¬2) كما أسْلَفْنَاهُ. وأَعْلم قوله: "لم يساهمه" وقوله: "ساهمة" بالواو، للخلاف الذي سَبَقَ. والظاهر عند الأَصْحَاب في العَيْنِ، أنه لا يُسَاهِمُهُ، بخلاف ما أَوْرَدَهُ. وأما في صورة إِقَامَةِ الشَّاهِدَيْن، فإن كَان المدعى عَيْناً، فقد ذكرنا: أنه يُنْزَعُ نَصِيبُ الغائب، وإذا رجع وهو طَالِبٌ، أَخذه .. ولا معنى لمُسَاهَمَتِهِ للحاضر في نَصِيبه، وإن كان دَيْناً، وقلنا: إنه يُؤْخَذُ نصيبه فكذلك. وإن قلنا: لا يُؤْخَذُ، فينبغي أن يَأْخُذَهُ من المُدَّعَى عليه، ولا يُسَاهِمُ الحاضر فيما أخذه لنفسه. ¬
فرع: لو كان للغائب من الوَرَثَةِ وَكِيلٌ، وقد أقام الحاضر البَيِّنَةَ ذكر الشَّيْخُ أبو عَاصِمٍ: أن الوكيل هو الذي يَقْبِضُ نَصِيب الغَائِبِ، دون القاضي، وإن لم يكن، فالقاضي يَقْبِضُ، ويؤجر كيلا يُفَوِّتَ المنافع والله أعلمَ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الثَّانِي) لَوِ ادَّعَيَا أَنَّ أَبَاهُمَا وَقَفَ عَلَيْهِمَا ضَيْعَةً وَقْفَ تَرتِيبٍ ثَبَتَ الوَقْفُ بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ، فَإنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَسْتَحِقَّ نَصِيبَهُ وَاسْتَحَقَّ الآخَرُ، فأَمَّا إِذَا مَاتَا فَنَصِيبُ الحَالِفِ لاَ يَسْتَحِقُّهُ البَطْنُ الثَّانِي بِغَيْرِ يَمِينِ تَفْريعاً عَلَى أَصَحِّ القَوْلَيْنِ وَهُوَ أَنَّ البَطْنَ الثَّانِيَ يَأْخُذُ الحَقَّ مِنَ الوَاقِفِ لاَ مِنَ البَطْنِ الأَوَّلِ، ونَصِيبُ النَّاكِلِ يَثْبُتُ لِلبَطْنِ الثَّانِي أيْضاً إِذَا حَلَفُوا، وَإِذَا نَكَلُوا جَمِيعَاً حَلَفَ البَطْنُ الثَّانِي إِذَا مَاتُوا، وَإِنْ حَلَفُوا أَخَذَ البَطْنُ الثَّانِي بِاليَمِينِ، وَلَوْ مَاتَ الحَالِفُ وَحْدَهُ صُرِفَ نَصِيبُهُ إِلَى النَّاكِلِ فِي وَجْهٍ، وَإِلَى وَلَدِ الحَالِفِ فِي وَجْهٍ، وَيُحْكَمُ بَأَنَّهُ تَعَذَّرَ مَصْرِفُهُ فِي وَجْهٍ، وَيَبْطُلُ الوَقْفُ فِيهِ أَو يُصْرَفُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هل يثبت الوَقْفُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ؟ إن قلنا: إن المِلْكَ فيه لِلْوَاقِفِ، أو المَوْقُوفِ عليه، فنعم. وإن قلنا: لله تَعَالَى -فوجهان، أو قَوْلاَنِ: أحدهما: وبه قال المُزَنِيُّ وأبو إِسْحَاقَ: لا، كالعِتْقِ. والثاني: وبه قال ابن سُرَيْجٍ، وأبو الطيب بن سَلَمَةَ، نعم؛ لأن المَقْصُودَ منه اسْتِحْقَاقُ المَنَافِع، والفَوَائِدِ، فأَشبه [استئجار] (¬1) بَدَنِ الحُرِّ، وليس كالعتق؛ لأن المَقْصُودَ هناك تَكْمِيلُ الأَحْكَامِ، وإِثْبَاتِ الوِلاَيَاتِ، ولأن الوَقْفَ لا يَنْفَكُّ عن أحكام المِلْكِ، ألا ترى أنه إذا أَتْلَفَ وجبت قِيمَتُهُ بخلاف العِتْقِ؟ والعِرَاقِيُّونَ يَمِيلُونَ إلى تَرْجِيحِ الأول، ويَنْسِبُونَهُ إلى عَامَّةِ الأصحاب، لكن الثَّانِي أقوى في المعنى، وهو المَنْصُوصُ عليه للشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه-. والأصح عند الإمَامِ، وصاحب "التهذيب"، وغيرهما، والمذكور في الكتاب (¬2). ¬
ولو ادَّعى وَرَثَةُ مَيِّتٍ على رجل؛ أنه غَصَبَ هذه الدَّارَ، وقالوا: كانت لأَبِينَا، وَقَفَهَا علينا، وعلى فلان، فَدَعْوَى الغَصْبِ، تَثْبُتُ بِشَاهِدٍ ويمين، [وتثبت أيضاً بهما -إن أَثْبَتَا- الوَقْفَ، بشاهد ويمين،] (¬1) وإلا، فيثبت بإقرار الوَرَثَةِ، كما ذكرنا، فيما إذا ادعى على رَجُلٍ أن هذا الذي يَسْتَرِقُّهُ كان عبدي، غَصَبَهُ بعدما أَعْتَقْتُهُ، أو أن هذه الجَارَيةَ أُمُّ ولدي، إذا عُرِفَ ذلك، فلو ادَّعَى ثَلاثَةُ بَنِينَ من وَرَثَةِ مَيِّتٍ؛ أن أَبَاهُمْ وَقَفَ عليهم هذه الدَّارَ، وأنكر سَائِرُ الوَرَثَةِ، وأقاموا شَاهِداً وَاحِداً، لِيَضُمُّوا إليه اليَمِينَ، تَفْرِيعاً على ثبُوتِ الوَقْفِ بالشاهد واليمين، فالوَقْفُ المُدَّعَى يُصَوَّرُ على وجهين: أحدهما: أن يَدَّعوْا وَقْفَ التَّرْتِيب؛ فيقولوا: وَقَفَ علينا، وبعدنا على أولادنا، أو على الفُقَرَاءِ، فلهم بعد إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ، أَحْوَالٌ ثلاث؛ لأنهم إما أن يَحْلِفُوا جميعاً، أو يَنْكُلُوا، أو يَحْلِفَ بعضهم، وَيَنْكُلَ بَعْضٌ. الحالة الأولى: أن يحلفوا جَمِيعاً؛ فيثبت لهم الوَقْفُ، ولا حَقَّ لِسَائِرِ الوَرَثَةِ في الدَّارِ. ثم إذا انْقَرَضَ المُدَّعُونَ؛ إما معاً، أو على التَّعَاقُب، فالبَطْنُ الثاني يأخذون الدَّارَ وَقْفاً بغير يَمِينٍ، أم يَأْخُذُونَهَا باليمين؟ فيه وجهان، ويُقَالُ: قولان: وهما على ما ذكر القَفَّالُ، وطرائف الأَصْحَاب، ينبنيان (¬2) على أن البَطْنَ الثاني يأخذون الحَقَّ من البَطْنِ الأول، [أو من الواقف، إن قلنا: من البَطْنِ الأَوَّلِ] (¬3)، فلا حَاجَةَ إلى اليَمِينِ، كما إذا أثبت للوارث مِلْكاً بالشَّاهِدِ واليمين، ثم مات، يأخذه وَارِثُهُ بغير يمين؟ وإن قلنا: من الواقف، لم يَأْخُذُوا إلا باليَمِين، كالبَطْنِ الأَوَّلِ. وبه قال ابن سُرَيْجٍ، وقضية هذا البِنَاءِ. أن يكون الأَصَحّ، أنهم يَأْخُذُونَ باليَمِينِ؛ لأن الأصَحَّ، أنهم يَتَلَقَّونَ من الواقف. وسنذكر فيما بعد هذا الفَصْلِ ما يُؤيِّدُهُ، لكن الشيخ أبا حَامِدٍ، وطَبَقَتَهُ، [والقاضيين أبا] (¬4) الطَّيِّب، والروياني -وغيرهم -رحمهم الله- اسْتِغْنَاؤُهُمْ عن اليَمِينِ، وهو ظَاهِر نَصِّهِ في "المختصر"، وبه قال أبو إسْحَاقَ، وجّهُوهُ، بأنه قد يثبت كَونُهُ وقْفاً؛ بِحُجَّةِ يثبت بها الوَقْفُ، فَيُدَامُ، كما لو ثبت بالشَّاهِدَيْنِ، وبه حق يثبت لمستحق، فلا يفتقر المُسْتَحِقُّ بَعْدَه، إلى اليَمِينِ، كما لو كان المُدَّعَى مِلْكاً، وبأن البَطْنَ الثاني، وإن كانوا يَأْخُذُونَ عن الواقف خلفاً عن المستحقين، أَوَّلاً، فلا يَحْتَاجُونَ إلى اليمين، كما إذا أَثبَتَ الوَاثُ مِلْكاً للميت بشاهد، ويمين، وللميت غَريمٌ، فإن له أن يَأْخُذَهُ من غير يَمِينٍ، فإذا انتهى الاسْتِحْقَاقُ إلى البَطْنِ الثالث، والرابع، عاد هذا الخِلاَفُ. ¬
فإن قلنا: يَأْخُذُونَ باليَمِينِ، فلو كان الاسْتِحْقَاقُ بعد الثلاثة المُدَّعِينَ، للمساكين، أو الفُقَرَاءِ، يُنْظَرُ، إن كانوا مَحْصُورينَ [كفقراء قَرْيةٍ، أو مَحِلَّةٍ، فكذلك الجواب. وإن لم يكونوا مَحْصُورِين] (¬1)، فيبطل الوقْفُ، وتعود الدَّارُ إِرْثَاً، أو يصرف إليهم بغير يَمِينٍ. فيه وجهان. وعن "المجرد"، للقاضي أبي الطَّيِّب؛ أنه يُصْرَفُ إلى أَقْرَب النَّاسِ، إلى الواقف، بناء على أنه تَعَذَّرَ مَصْرِفُهُ، كالوَقْفِ الذي يَقَعُ فيه انْقِطَاعٌ، وفيه اخْتِلافٌ مذكور في الوَقْفِ (¬2). فلو مات أحد الحَالِفِينَ، فيصرف نَصِيبُهُ إلى الآخرين، فإن مات ثَانٍ، صُرِفَ الكُلُّ إلى الثَّالِثِ؛ لأن اسْتِحْقَاقَ البَطْنِ الثاني بعد انْقِرَاضِ الأولين، وأخذ الآخرين يكون بيمين، أو بغير يمين. إن أَغْنَيْنَا البَطْنَ الثاني عن اليَمينِ، فهما أَوْلَى، وإن أَحْوَجْنَاهُمْ إليها، فوجهان: في أحدهما -يحلفان لانْتِقَالِ الحَقِّ إليهما من غيرهما، وفي أظهرهما- لا يَحْلِفَانِ؛ لأنهما قد حَلَفَا مَرَّةً، وصارا من أَهْلِ الوَقْفِ، فَيَسْتَحِقَّانِ بحسب شَرْطِ الوَاقِفِ تَارَةً أقل، وتارة أكثر. الحالة الثانية: إذا نَكَلُوا جميعاً عن اليَمِينِ مع الشَّاهِدِ، فالدار تَرِكَةٌ، تقضى منها الدُّيُونُ، والوَصَايَا، ويُقَسَّمُ الباقي على الوَرَثَةِ، ويكون حِصَّةُ المدعين وَقْفاً، بإقرارهم، وحِصَّةُ سَائِرِ الوَرَثَةِ طلقاً لهم، فإذا ماتوا، فالذي ذكره القاضي ابْنُ كَجٍّ، والإمام، وصاحب "التهذيب"، في كتبهم: أنه لا تُصْرَفُ إلى أولادِهِم بغير يَمِينٍ، يعنون على سبيل الوَقْفِ، ولا يكون إقرار الأوّلين [لأنها لهم] (¬3). وفي "الشامل"، وأمالي أبي الفَرَجِ: أن حِصَّتَهُمْ تكون وَقْفاً على أولادهم، حَسَبَ ما أَقَرُّوا به. ولا حَاجَةَ بهم إلى اليَمِينِ. ويمكن أن يكون هذا الاخْتِلاَفُ مَبْنِياً على؛ أن البَطْنَ الثَّانِي يأخذون من الوَاقِفِ، أو من البَطْنِ الأول، فإن أَرَادَ الأَوْلاَدُ أن يَحْلِفُوا، ويأخذوا جَمِيعَ الدَّارِ وَقْفاً، فهل لهم ذلك؟ فيه قولان: سواء قلنا: إنه لو لم يَحْلِفُوا ألا يكون شَيْءٌ منها وَقْفاً أو قلنا: إن حصة الأولين تبقى وقفاً وإن لم يحلفوا، واختلفوا في مَحَلِّ هذين القَوْلَيْنِ. فمن قائل: هما مُتَأَصِّلاَنِ. غير مبنيين على شَيْءٍ، يُوَجَّهُ أحدهما بأن البَطْنَ الثَّانِي تبع (¬4) الأول، وإذا لم يَحْلِفُوا، لم يحلفوا. ¬
والثاني: وهو الأَصَحُّ؛ فإنهم أصحاب حَقٍّ، كالأولين، فإن أبْطَلَ الأَوَّلُونَ حَقَّهُمْ بالنُّكُولِ، فلهم ألا يبطلوا حقوقهم. ومن ذاهب إلى أنهما مَبْنِيَّانِ على أَصْلٍ، واختلف هؤلاء على طريقتين: أظهرهما: بِنَاؤُهُمَا على أن البَطْنَ الثاني يَتَلَقَّوْنَ من البَطْنِ الأول، أم من الواقف؟ فإن قلنا: من البَطْنِ الأول، لم يَحْلِفُوا، وإلا حلفوا. والثاني: بِنَاؤُهُمَا على أن الوَقْفَ المُنْقَطِعَ الابتداء متصل (¬1)، أم لا؟ إن قلنا: لا، حَلَفَ البَطْنُ الثاني، ولم يَضُرَّ انْقِطَاعُ أَوَّلهِ بِنُكُولِ الأولين، وإن قلنا: يَبْطُلُ، لم يَحْلِفُوا، ثم حكى القاضي ابن كَجٍّ، والشيخ أبو حَامِدٍ خلافاً في أن القولين، هل يَجْرِيَانِ في حياة الأَوَّلين إذا نَكَلُوا؟ فمن الأصحاب من أَجْرَاهُمَا؛ لِبُطْلاَنِ حَقِّهِمْ، وتَعَذُّرِ الصَّرْفِ إليهم، بنُكُولِهِمْ، كما لو ماتوا. ومنهم من خَصَّصَ القولين فيما بعد مَوْتِ الأولين؛ لأن اسْتِحْقَاقَ البَطْنِ الثاني [مشروط] (¬2) بانْقِرَاضِهِمْ. وإليه مَالَ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ. الحالة الثالثة: إذا حلف بَعْضُهُمْ دون بعض. فإذا حلف وَاحِدٌ ونَكَلَ اثْنَانِ، فيأخذ الحَالِفُ الثُّلُثَ وَقْفاً، وأمَّا الباقي فهو تَرِكَةٌ؛ تُقْضَى منها الدُّيُونُ، والوَصَايَا، فما فضل؛ ففي "الشامل": أنه يقسم بين جميع الوَرَثَةِ، فما يَخُصُّ البَنِينَ الثَّلاثَةَ يكون وَقْفاً على النَّاكِلِينَ؛ لأن الحالف يعترف لهم بذلك. والذي ذكره المُحَامِلِيُّ، وصاحب "التهذيب" وغيرهما: أنه يُقَسَّمُ الفَاضِلُ بين المنكرين من الوَرَثَةِ، والذين نَكَلُوا دون الحالف؛ لأنه مُقِرٌّ بانْحِصَارِ حَقِّهِ فيما أخذه؛ وأن البَاقِي لإِخْوَتِهِ وَقْفاً، ثم حصَّةُ الناكلَيْنِ تكون وَقْفاً بِإِقْرَارِهِمَا. وإذا مات النَّاكِلاَنِ، والحالف حَيٌّ، فَنَصِيبُهُمَا للحالف، على ما شَرَطَ الواقف بإقرارهم [و] (¬3) في حَاجَتِهِ إلى اليَمِينِ، ما سبق من الوجهين. فإذا مات الحَالِفُ، فالاسْتِحْقَاقُ للبطن الثَّانِي. وفي حلفهم الخِلاَفُ الذي مَرَّ، وإن كان الحَالِفُ مَيِّتاً عند مَوْتِ النَّاكِلِينَ، فأراد أولادهما أن يَحْلِفُوا، فعلى القولين المَذْكُورَيْنِ في أَوْلاَدِ الجميع إذا نَكَلُوا الأَصَحُّ -أن لهم الحَلِفَ، وما حكم نصيب الحَالِفِ المَيِّتِ قبلهما؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه يُصْرَفُ إلى الناكلين قَضِيَّةً لِلْوَقْفِ، وعلى هذا ففي حَلِفِهِمَا الخِلاَفُ ¬
الذي مَضَى، فإن قلنا: يَحْلِفَانِ، فَنَكَلاَ، سقط هذا الوَجهُ. والثاني: أنه يُصْرَفُ إلى البَطْنِ الثاني؛ لأنهما لما نَكَلاَ، أبطلا حَقَّهُمَا وصارا كالمَعْدُومين. وإذا عُدِمَ البَطْنُ الأول، كان الاسْتِحْقَاق للثاني، والثالث. أن هذا وَقْفٌ، تَعَذَّرَ مَصْرِفُهُ؛ لأنه لا يمكن الصَّرْفُ إلى الآخرين لِنُكُولِهِمَا, ولا إلى البَطْنِ الثاني؛ لأن شَرْطَ اسْتِحْقَاقِهِمْ انْقِرَاضُ الأولين. وإذا تَعَذَّرَ مَصْرِفُ الوَقْفِ، فيبطل، أو يبقى، وإذا بقي، فَيُصْرَفُ إلى أَقْرَبِ الناس إلى الواقف، أم كيف الحال؟ فيه خلاف مَذْكُورٌ بتوجيهه (¬1)، وتفريعه في الوَقْفِ. والأَصَحُّ أنه يبقى وَقْفاً، ويصرف إلى أَقْرَب النَّاسِ إلى الواقف، وعلى هذا فإذا زَالَ التَّعَذُّرُ، بأن مات النَّاكِلاَنِ، فَيُصْرَفُ إلى البطن الثاني. قال الإِمام: ويجيء في حَلِفِ أَقْرَبِ النَّاسِ، إذا قلنا: إنه يُصْرَفُ إليهم، الخلاف، وأبْعَدُ الأوجه الثلاثة في المَسْأَلَةِ عنده، الصَّرْفُ إلى البَطْنِ الثَّانِي، وهو أَصَحُّهُمَا عند الأكثرين، ونَقَلُوهُ عن إِشَارَةِ نَصِّهِ في "الأم" -والله أعلم. وأما لَفْظُ الكتاب، فإنه صور فيما إذا ادَّعَى الوَقْفَ اثنان، والغَرَضُ لا يختلف، لكنه لم يَفِ بموجب التَّصْوِيرِ، بل قال [بعد ذلك: إذا نكلوا ثم قال] (¬2) وإن حلفوا، لم يبن ولْيعَلَّمْ قوله: "ثبت الوَقْفُ بشاهد ويَمِينٍ" بالواو، لما سَبَقَ. وقوله: فيما إذا حلف أحدهما، ونَكَلَ الآخر: "فإذا ماتا، فَنَصِيبُ الحَالِفِ، لا يَسْتَحِقُّهُ البَطْنُ الثاني بغير يَمِينٍ، تَفْرِيعاً على أَصَحِّ القولين، إلى آخر جَوَابِ مَنْ يقول: إنهم إذا حَلَفُوا جميعاً، يحتاج البَطْنُ الثَّانِي إلى اليَمِينِ، وهو الرَّاجِحُ عند من [بنى] (¬3) الخِلافَ في أَنَّ البَطْنَ الثاني عمن يَتَلَقَّوْنَ الوَقْفَ، كما فعله صاحب الكتاب. وقد ذكرنا: أن مِنْهُمْ مَنْ لا يبني الخِلاَفَ على ذلك الخلاف، ويُرَجّح اسْتِغْنَاؤُهُمْ عن اليمين. وقوله: "ونصيب النَّاكِلِ يثبت للبطن الثَّانِي أيضاً إذا حلفوا"، يجوز إعْلاَمُهُ بالواو، لما بَيَّنَّا أنه على الخلاف المذكور، فيما إذا نَكَلَ البَطْنُ الأَوَّلُ جميعاً، هل يحلف البَطْنُ الثاني بعد موتهم؟ وكذا قوله: "فيما إذا نكَلُوا جميعاً حلف البطن الثاني". وكذا قوله: "باليمين فيما إذا حلفوا جميعاً الخلاف في أنهم هل يَحْتَاجُونَ إلى اليَمِينِ؟ وقوله: "ولو مات الحالف وَحْدَهُ" يعني في الصورة التي ابتدأ بِذِكْرِهَا؛ وهي أن يَحْلِفَ أَحَدُهُمَا، وَيَنْكُلَ الآخر. ¬
وقوله: "وإلى ولد الحَالِفِ في وجه" ظاهِرُهُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ وَلَدِ الحَالِفِ به، ولا مَعْنَى للتخصيص؛ لأنا على هذا الوَجْهِ نُلْحِقُ الناَّكِلَ بالمَعْدُومِ، فليثبت الاستحقاق لجميع البَطْنِ الثاني. وقد صَرَّحَ الإِمَامُ بهذا، فَقَالَ: لا فَرْقَ على هذا الوَجْهِ بين وَلَدِ الحَالِفِ، وولد النَّاكِلِ في الاسْتِحْقَاقِ. واعلم أن قوله في أول الفَرْع: "لو (¬1) ادعيا أن أَبَاهُمَا وَقَفَ عليهما ... " إلى آخره، وإن كان مُطْلقاً في دَعْوَى الابْنَيْنِ، ولكن المُرَادَ [ما] إذا كان مَعَهُمَا وَارِثٌ آخَرُ، وأنكر. وأما إذا كانا جَائِزَيْنِ، فيكفي تَصَادُقُهُمَا لِثُبُوتِ الوَقْفِ، فلا حَاجَةَ إلى شَاهِدٍ ويمين (¬2). " فرع": ادّعَوْا على رجل دَارَاً في يَدِهِ؛ أنه وَقَفَهَا عليهم، أو على وَرَثَةِ رَجُلٍ، أن مورثهم وَقَفَهَا عليهم، وأقَامُوا شَاهِداً وَاحِداً؛ فَيُنْظَرُ، أَيَحْلِفُونَ مع شاهدهم؟ أم ينكلون؟ أم يحلف بَعْضُهُمْ وَيَنْكُلُ بعضهم؟ والأحوال على ما ذكرنا في المَسْأَلَةِ المَشْرُوحَةِ، لكن حيث جَعَلْنَا كُلَّ المُدَّعَى، أو بَعْضُه تَرِكَةً هناك، فيترك هاهنا في يَدِ المُدَعَى عَلَيْهِ والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَإنْ كَانَ الوَقْفُ بِالتَّشْرِيكِ فَحَلَفَا ثُمَّ وُلِدَ لِأَحَدِهِمَا وَلَدٌ وَجَبَ إِخْرَاجُ ثُلُثِ الوَقْفِ مِنْ يَدِهِمَا، فَإنْ بَلَغَ الطِّفْلُ وَحَلَفَ اسْتَحَقَّ، وَإنْ نَكَلَ فَقَدْ تَعَذَّرَ مَصْرِفَهُ، وَفِيهِ قَوْلٌ أنَّهُ يُرَدُّ إِلَيْهِمَا والنَّاكِلُ كَالمَعْدُومِ، وَلاَ خِلاَفَ أنَّهُ لاَ يُرَدُّ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ أَوَّلاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد سبق أن دَعْوَى الوَقْفِ تُصَوَّرُ على وَجْهَيْنِ، وقد فَرغْنَا من أحدهما، وهو دَعْوَى وَقْفِ التَّرْتيبِ. الوجه الثاني: دَعْوَى وَقْفِ التَشرِيك بان يقول البَنُونَ الثَّلاثَةُ فِي المِثَالِ المذكور: إنه وَقَفَ علينا، وعلى أَوْلاَدِنَا، وأَوْلاَدِ أَوْلاَدِنَا، ما تَنَاسَلْنَا، فإن انْقَرَضْنَا، فعلى الفُقَرَاءِ، وأقاموا على ذلك شَاهِداً وَاحِداً، فَيُنْظَرُ، إن حَلَفُوا معه، أخذوا الدَّارَ وَقْفاً. ¬
ثم حَدَثَ لأحدهم وَلَدٌ، فَقَضِيَّةُ الوَقْفِ شركته (¬1)، فيوقف ربع (¬2) غَلَّةِ الوقف إلى أن يَبْلُغَ، فَيُصْرَفُ إليه، إن حلف ولم يَجْعَلُوهُ على الخِلاَفِ المَذْكُورِ في أن البَطْنَ الثاني، هل يَحْتَاجُونَ إلى اليَمِينِ إذا حَلَفَ البَطْنُ الأَوَّلُ، وأَحْوَجُوة إلى اليَمِينِ بعد البُلُوغِ. وَأَبْدَى ابْنُ الصَّبَّاغِ بجوابهم في هذه الصورة، قول ابن سُرَيْج، ومن ساعده: أن البَطْنَ الثاني يَحْتَاجُونَ إلى اليمين؛ لأن الثَّلاثَةَ الحالفين هاهنا وَاسِطَةٌ [بين الولَدِ الحَادِث وبين الوَاقِفِ، وإن كان الثَّانِي منه. كما أن البطن الأول وَاسِطَةٌ] (¬3) بين البَطْنِ الثاني، وبين الوَاقِفِ. وأجرى أبو الفرج السَّرَخْسِيُّ وَجْهاً في هذه الصُّورَةِ أيضاً، ونقل وَجْهَيْنِ في أن الريع الموقوف [يُوقَفُ] (¬4) في يد البَنينَ الثلاثة؛ أم يُنْتَزَعُ، ويُجْعَلُ في يَدِ أَمِينٍ؟ والأقرب الثاني، وإن نَكَلَ بعدمَا بَلَغَ، صُرِفَ المَوْقُوفُ إلى الثلاثة، وجُعِلَ كأنه لم يَلِدْ. هذا هو النص، واعترض المُزَنِيُّ تَفرِيعاً على أَنَّ الوَقْفَ يَثْبُتُ بشاهد وَيمِينٍ، بأنهم مُعْتَرِفُونَ بأن المَوْقُوفَ له، فكيف يَجُوزُ لهم [أخذه] (¬5) بامْتِنَاعِهِ من اليمين؟ بل يجب أن يُوقَفَ إلى أن يَحْلِفَ، أو يَمُوت، فيقوم وَارِثُهُ مُقَامَهُ. والناصرون للنَّصِّ أجابوا بوَجْهَيْنِ: أحدهما: أن صورة النَّصَّ ما إذا شَرَطَ الوَاقِفُ شَرِكَةً من يحدث، إن رَغِبَ في الوقف ولم يَرُدَّهُ، وإذا لم يَحْلِفْ مع الشاهد، فكأنه رَدَّ. فإن أطلق، حكى الشيخ أبو حَاتِمٍ القَزَوِينِيُّ عن بَعْضِ الأصحاب -رحمهم الله- أن الجَوَابَ، كما ذكر المزني. وعن آخرين أن الحُكْمَ لا يختلف، ويُحْمَلُ الوَقْفُ عليه وإن أطلق وهذا أشهر، وبالأول أجاب القاضي ابْنُ كَجٍّ. والثاني: أن الوَاقِفَ جعل الثلاثة أَصْلاً في الاسْتِحْقَاقِ، ثم أدخل من يحدث على سَبِيلِ العول (¬6)، فإذا سَقَطَ الدَّاخِلُ، فالقِسْمَةُ على الأصول كما كانت. وشَبَّهَهُ في "التهذيب" بما إذا مات إِنْسَانٌ عن ألْفٍ، وجاء ثلاثة، وادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ ألْفاً على المَيِّتِ، وأقام شَاهِداً، فإن حَلَفُوا معه فَالألْفُ بينهم، وإن حَلَفَ اثْنَانِ فَهُوَ ¬
لهما، وإن حَلَفَ وَاحِدٌ، فكذلك الوَاحِدُ، [لكن] (¬1) قال الإِمَامُ: إن المزني لا يُسَلِّمُ المَسْأَلَةَ، ويقول: ليس لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الأَوَّلِ إذا لم يحلف الثَّاني إلا أَخْذُ حِصَّتِهِ. نعم، لو أَبْرَأَ الثَّاني، كان للأول أَخْذُ الجميع؛ لأن الثاني أَبْطَلَ حَقَّهُ، والنُّكُولُ لا يُبْطِلُ الحَقَّ. ألا ترى أنه لو لم يَحْلِفْ مع الشَّاهد ثمَّ أتم البَيِّنَةَ، تسمع، ويُحْكَمُ بها؟ وكيف ما قدر الجواب. فالظَّاهِرُ عند الأَصْحَابِ مُوَافَقَةُ النَّصِّ. ورأى الإِمام أن يجعل ما اعترض به المُزَنِيُّ قَوْلاً مُخَرَّجاً؛ لقوته، واسْتَحْسَنَهُ. وإذا قيل به، فَنَصِيبُ المَوْلُودِ وَقْفٌ تَعَذَّرَ مَصْرِفُهُ، فيجيء فيه الخِلاَفُ السَّابِق. ولو مات المَوْلُودُ قبل بلوغه، أو بعد بُلُوغِهِ، وقبل النكول، قام وَارِثُهُ مَقَامَهُ، فَيَحْلِفُونَ، وَيَسْتَحِقُّونَ الغَلَّةَ المَوْقُوفَةَ. ولو مات بعد البُلُوغِ والنُّكُولِ، لم يَسْتَحِقُّوا الغَلَّةَ؛ لأنه أَبْطَلَ حَقَّهُ بالنكول، وهذا في الغَلَّةِ المَوْقُوفَةِ. فأما رَقَبَةُ الوقف، وغَلَّتُهَا من بعدُ فقضية (¬2) الشرط عند مَوْتِهِ، أن يستغرقها الثلاثة الحالفون، وهل عليهم تَجْدِيدُ اليمين؟ قال الإِمَامُ: إن فَرَّعْنَا على ما قال المُزَنِيُّ، ففيه الخِلاَفُ المَذْكُورُ، فيما إذا مَاتَ بَعْضُ البَطْنِ الأَوَّلِ في وقف الترتيب، وقد حَلَفَ الكُلُّ، هل يحتاج البَاقُونَ إلى التَّجْدِيدِ؟ وإن فَرَّعْنَا على النص، فلا حَاجَةَ إلى التجديد، فإنا نُقَدِّرُ أن المَوْلُودَ لم يكن، ولو مات وَاحِدٌ من الحَالِفِينَ في صِغَرِ المَوْلُودِ، وقف من يوم موته للمولود ثلث الغَلَّةِ؛ لأن المُسْتَحِقَّينَ عَادُوا إلى ثَلاثَةٍ، فإن بلغ وحَلَفَ أخذ الربع، والثلث المَوْقُوفين، [وإن نَكَلَ صرف الربع إلى الابنين الباقيين] (¬3)، وإلى وَرَثَةِ المَيِّتِ، وصرف الثلث إلى الباقين خَاصَّةً، ويعود فيه كَلاَمُ المزني. ولو أن المَوْلُودَ بَلَغَ مَجْنُوناً، أَدَمْنَا الوَقْفَ طَمَعاً في إِفَاقَتِهِ، فإن ولد له قبل أن يضيق وقف له الخُمس، وللْمَجْنُونِ من يوم ولادة ولده الخُمُسُ؛ لأن المُسْتَحِقِّينَ صاروا خَمْسَةً. فإن أَفَاقَ المَجْنُونُ وبلغ وَلَدُهُ، وحَلَفَا أخذ المَجْنُونُ الرُّبُعَ من يوم وِلاَدَتِهِ إلى يوم وِلاَدَةِ وَلَده الخمس من يومئذ، وأخذ وَلَدُهُ الخُمُسَ من يومئذ. ولو مات المجنون في جنونه بعدما ولد له، فالغَلَّةُ الموْقُوفَةُ لِوَرَثَتِهِ، إذا حلفوا، ويُوقَفُ لِوَلَدِهِ من يوم مَوْتِهِ ربع الغَلَّةِ. هذا كُلُّهُ، إذا حَلَفَ المدعون الثلاثة أولاً. وإن نَكَلُوا عن اليَمِينِ مع الشَّاهِدِ، فلمن يَحْدُثُ بعدهم أن يَحْلِفَ بلا خلاف (¬4)؛ ¬
الباب الخامس في الشهادة على الشهادة
لأنه شَرِيكُ الأولين بتلقي من الوَاقِفِ لا مَحَالَةَ. وإن حلف بَعْضُهُم دون بعض، أخذ الحَالِفُ نَصِيبَهُ، وبقي الباقي على مَا كَانَ. فأما لَفْظُ الكتاب، فإنه فرض فيما إذا ادَّعَى اثنان، كما فعل في وَقْف الترتيب. ولْيُعَلَّمْ قوله: "وَجَبَ إخْرَاجُ ثُلُثِ الوَقْفِ من يديهما" [بالواو] (¬1) لوجه حكيناه؛ أنه يُوقَفُ في يَدِهِمَا ولا يخرج. وقوله: "وإن نكل فقد تَعَذَّرَ مصرفه"، هذا هو الذي ذكره المُزَنِيُّ، وإيراد الكتاب يُشْعِرُ بِتَرْجِيحِهِ. والظَّاهِرُ ما ذَكَرَهُ آخراً، وهو أنه يَرُدُّهُ إليهما كما تَبَيَّنَ. وأما قوله: "ولا خِلاَفَ أنه لا يردُّ على المُدَّعَى عَلَيْهِ أولاً" فالمُرَادُ منه، أنه لو قال لِلْمُدَّعَى عليه: إذا بلغ المَوْلُودُ، ونَكَلَ، رُدُّوا عَلَيَّ ما وَقَفْتُمْ له، فإن الحُجَّةَ لم تَتِمَّ؛ لاعتراف المُسْتَحِقِّينَ بأنهم لا يستحقونه، فلا يُجَابُ [إليهما] (¬2). وقال الإمام: كما لا يُجَابُ في وَقْفِ الترتيب، إذا حلف البَطْنُ الأول، ونكل الثَّانِي، وسببه، أن يَدَهُ [أزيلت] (¬3) بحُجَّةٍ قامت عليه، وانقطع تَعَلُّقُهُ عنه، فلا يَعُودُ بما يفرض من تَعَذُّرِ المصرف، وكأنه أرَادَ تَصْوِيرَ المسألة فيما إذا ادَّعَوْا على رَجُلٍ؛ أن مورثه وَقَفَ الدَّارَ التي في يَدِهِ على المدعين، وعلى أوْلاَدِهِمْ دون أن يدعي بَعْضُ الوَرَثَةِ على بعض في دَارِ التَّرِكَةِ، وإلا، فإذا لم يَثْبُتِ الوَقْف. تكون الدار تَرِكَةً، فلا معنى في تركها في يد المُدَّعَى عليه والله أعلم. البَابُ الخَامِسُ في الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيَجْرِي فِي كُلِّ مَا لَيْسَ بِعُقُوَبَةٍ، وَفِي العُقُوَبَاتِ ثَلاَثةُ أَقْوَالٍ، وَفِي الثَّالِثِ يَجْرِي فِي عُقُوبَاتِ الآدَمِيِّينَ دُونَ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ فِيهَا شُبْهَةَ لِأنَّهَا بَدَلٌ، وَيَجْرِي الخِلاَفُ فِي كِتَابِ القَاضِي اِلى القَاضِي وَفِي التَّوْكِيلِ باسْتِيفَاءِ القِصَاصِ، فَإِذَا مَنَعْنَا لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى بِالقِصَاصِ عَلَى غَائِبٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الشَّهَادَةُ على الشَّهَادَةِ مَقْبُولَةٌ؛ لدعاء الحَاجَةِ إليها، فإن شُهُودَ الوَاقِعَةِ قد يَغيبُونَ، أو يَمُوتُونَ، وأيضاً فإن الشَّهَادَةَ [حَقٌّ لاَزِمُ الأَدَاءِ، أفتجوز الشَّهَادَةُ] (¬4) عليه كَسَائِرِ الحُقُوقِ؟ وأيضاً فإن الشَّهَادَةَ طريق يُظْهِرُ الحَقّ كالإقْرَارِ، هذا في غير العُقُوبَاتِ؛ وتدخل ¬
فيه الأَمْوَالُ، والأنْكِحَةُ، والبُيُوعُ، والرَّهْنُ، وسَائِرُ العُقُودِ، والفُسُوخ، والطَّلاَقُ، والعِتَاقُ، والرِّضَاعُ، والوِلاَدَةُ، وعُيُوبُ النِّسَاءِ؛ ولا فرق [في ذلك] (¬1) بين حُقُوقِ الآدَمِيِّينَ، وحُقُوقِ الله تعالى؛ كالزَّكَوَاتِ، وَوَقْفِ المَسَاجِدِ، والجِهَاتِ العَامَّةِ. وأما العُقُوبَاتُ؛ فحكم الشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ فيها على مَا بَيَّنَّا في كتاب القَاضِي إلى القَاضِي، والأَصَحُّ؛ المنع في حُدُودِ الله تعالى، والقَبُول في القِصَاصِ، وحَدِّ القَذْفِ (¬2). ¬
وعن ابن القَاصِّ: أن الشَّهَادَةَ على الشَّهَادَةِ فِي الإحصان تُخَرَّجُ، على الخِلاَفِ في أن الشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ؛ هل تُقْبَلُ في الحُدُودِ. ولو شَهِدَ شَاهِدَانِ على شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ أنَّ الحاكم حَدَّ فلاناً، فلا خلاف في القَبُولِ؛ لأنه حَقٌّ الآدَمِيِّ، فإنه يسقط الحكم عن نَفْسِهِ. قاله في "الشامل"
ولْيُعَلَّمْ قوله في الكتاب: "وعُقوبات الآدَمِيِّينَ" بالحاء, لأن عند أبي حَنِيفَة لا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ على الشهادة في القِصَاصِ في النَّفْس، كما في حقوق الله تَعَالَى. وقوله: "دون حُدُودِ الله تَعَالَى" بالميم, لأن عند مَالِكٍ تُقْبَلُ فيها الشَّهَادَةُ على الشهادة. وقوله: "لأن فيها شُبْهَةً, لأنها بدل" يعني؛ أن [شهادة الفرع] (¬1) بدل عن شَهَادَةِ الأَصْلِ؛ وذلك يُورِثُ الشُّبْهَةَ؛ لانْضِمَامِ احتمال الخِيَانَةِ في الفُرُوعِ إلى احْتِمَالِهَا في الأُصُولِ. وقوله: "ويجري الخِلاَفُ في كتاب القاضي إلى القَاضِي، وفي التوكيل باسْتِيفَاءِ القِصَاصِ" أشار به أن الخِلاَفَ في الصورة مَبْنِيٌّ على معنى البَدَلِيَّةِ، وتَأْثيرِهِ في زِيادَةِ الشُّبْهَةِ. وقوله: "فإذا منعنا" -يعني كتاب القاضي- "لم تُسْمَع دعوى القصاص على غائب"؛ لأنه لا يَتَمَكَّنُ من اسْتِيفَائِهِ، ولا يجوز أن يكتب به إلى موضع [الغائب] (¬2) المُدَّعَى عليه والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: ثُمَّ النَّظَرُ فِي أَرْبَعَة أُمُورٍ: (الأوَّلُ): أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ إلاَّ إِذَا قَالَ الشَّاهِدُ أَشْهَدتُّكَ عَلَى شَهَادَتِي أَو رَآه الفَرْعُ وَقَدْ شَهِدَ بَيْنَ يَدَيْ حَاكِمٍ فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ، وَلَوْ قَالَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ القَضَاءِ: لِفُلاَنٍ عَلَى فُلانٍ حَقٌّ وَعِنْدِي بِهِ شَهَادَةٌ لَمْ يَجُزِ التَّحَمُّلُ، لِأَنَّهُ يَتَسَاهَلُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الحُكْمِ، نَعَمْ لَوْ قَالَ: عِنْدِي شَهَادَةٌ مَجْزُومَةٌ لِفُلاَنٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَلَوْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ كَذَا لَمْ يَتَحَمَّلْ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ الوَعْدَ، وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ لِفُلاَنٍ أَلْفٌ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الوَعْدِ وَجَازَتِ الشَّهَادَةُ إِذْ لاَ يَتَسَاهَلُ فِي الإقْرَارِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أَدْرَجَ مَسَائِلَ البَاب بعدما بَيَّنَ أن الشَّهَادَةَ [على الشهادة] (¬3) فيم تجري، وفيم لا تجري، في أربعة فُصُولٍ: أحدها: في تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ؛ وإنما يجوز التَّحَمُّلُ، إذا عرف أن عند الأَصْلِ شَهَادَةً جَازِمَةً بحق ثَابِتٍ. ولمعرفته أسباب: أحدها: أن يَسْتَرعِيَهُ الأصل، فيقول: إنِّي شَاهِدٌ بكذا، وأَشْهَدْتُكَ على شَهَادَتِي، [أو يقول: أشهدك، وأشهد على شهادتي بكذا،] (¬4) أو يقول: إذا استشهدت (¬5) على شهادتي، فقد أَذِنْتُ لك في أن تَشْهَدَ. ¬
أما إذا سمع إنْسَاناً يقول: لفلان على [فلان] (¬1) كذا، أو أَشْهَدُ أن لفلان على [فلان] كذا، لا على صُورَةِ أداء (¬2) الشَّهَادَةِ، فلا يجوز أن يَشْهَدَ على شَهَادَته؛ لأنه قد يريد عِدَةً كان قد وَعَدَهَا، وقد ليشير بكَلِمَة "عليَّ" أن مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ الوَفَاءُ بها، وتنزيلها منزلة الدُّيُونِ، وأيضاً قد يَتَسَاهَلُ بإطلاق ذلك، لِغَرَضٍ صحيح، أو فَاسِدٍ، فإذا آلَ الأَمْرُ إلى [إِقَامَةِ] (¬3) الشهادة أَحْجَمَ. وكذا لو عندي شَهَادَةٌ بكذا, ولكن لو قال: عندي شَهَادَةٌ مَجْزُومَةٌ، أو شهادة أديتها ولا أماري فيها وما أَشْبَهَ ذلك، ففي جَوَازِ التَّحَمُّلِ وجهان؛ نقلهما الإِمَامُ، والموافق فيهما لإِطْلاَقِ الأكثرين المَنْعُ أيضاً، وَلاَ بُدَّ من تَعَرُّضِ الأَصْلِ للفظ الشَّهَادَةِ، فلو قال: أَعْلَمُ، أو أخبر، أو أَسْتَيْقِنُ، لم يَكْفِ، كما لو أَتَى الشَّاهِدُ عند إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ بهذه الألْفَاظِ، فإنه لا يَحْكُمُ بها القاضي. قال الإِمام: وأَبْعَدَ بعض أصحابنا، فأقام اللَّفْظَ الذي لا يُتَردَّدُ فيه، مَقَامَ لَفْظِ الشهادة، ولا يُشْتَرَطُ أن يقول في الاسترعاء: أشهدك على شَهَادتي [أو عن شهادتي] (¬4) لكنه أتم بقوله: أشهدك على شهادتي تحميل. وقوله: "عن شهادتي إِذْنٌ في الأَدَاء كأنه يقول: أَدِّهَا عَنِّي، ولإذنه أثر في الطرفين، ألا تَرَاهُ لو قال له بعد التَّحْمِيل: لا تُؤَدِّ عني تلك الشَّهَادَةَ امْتَنَعَ عليه الأَدَاءُ وفي "الشامل" أن بعض الأصحاب شَرَطَ في الاسْتِرْعَاءِ ذلك، وإذا حصل الاسْتِرْعَاءُ لم يختص التحمل بمن اسْتَرْعَاهُ كأنه يقول لِلْفَرْعِ: اقبل على شهادتي وتحملها؟ والثاني: إذا سَمِعَهُ يَشْهَدُ عند القَاضِي أن لفلان على فلان كذا، فله أن يشهد على شهادته، وإن لم يَسْتَرْعِهِ؛ لأنه لا يتصدَّى إِقَامة الشهادة عند القاضي إلا بعد تَحَقُّقِ الوُجُوبِ. وللقاضي أيضاً أن يَشْهَدَ على شهادته عند قَاضٍ آخر، والشَّهَادة عند المُحَكِّمِ، كالشهادة (¬5) عند الحَاكِم، سواء جَوَّزْنَا التحكيم، أَو لم يُجَوِّزهُ؛ لأنه لا يَشْهَدُ عند المُحَكِّمِ أيضاً إلا وهو جَاَزِمٌ بثبوتِ المشهود به. وعن الإصْطَخْرِيِّ: أنه إنما تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عند المُحَكِّمِ، إذا جَوَّزنَا التَّحْكِيم. أما على القول الآخر، فلا. والثالث: إذا بَيَّنَ تثبيت الوُجُوب، فقال: أَشْهَدُ أن لفلان على فلان كذا في ثَمَنِ مَبِيعٍ، أو قَرْضٍ، أو أَرْشِ جِنَايَةٍ، فتَجوز الشَّهَادَةُ على شَهَادَتِهِ، وإن لم يَشْهَدْ عند ¬
القاضي، ولا وُجِدَ منه اسْتِرْعَاءٌ؛ لأن الإسْنَادَ إلى السَّبَبِ، يَقْطَعُ احتمال الوَعْدِ، والتَّسَاهُلِ. هذا ما يوجد لِعَامَّةِ الأصْحَابِ. وحكى الإِمَامُ وَجهاً آخَرَ: أَنَّ الإِسْنَادَ إلى السَّبَب لا يكفي لِلتَّحَمُّل؛ ورآه أَظْهَرَ، وهذا الوَجْهُ قد رَوَاه الشَّيْخُ أبو حَاتِم القزويني أيضاً، [وروى] (¬1) وجهاً آخر: أن الشَّهَادَةَ عند القاضي لا تَكْفِي أيضاً، بل لاَ بُدَّ من الاسْتِرْعَاءِ. ويُحْكَى عن أبي حَنيفَةَ مِثْلُ ذلك. فيجوز أن يُعَلَّمَ قوله في الكتاب: "أو رآه الفرع، وقد شهد بين يدي حاكم" بالحاء والواو. وقوله: "ولو قال: أَشْهَدُ أن له عليه كذا، لم يتحمل، فلعله أراد الوعد". يمكن حَمْلُهُ على ما ذكرنا أن المَشْهُودَ عليه ربما أراد الوَعْدَ، ويمكن حَمْلُهُ على أن القَائِلَ ربما أراد الوَعْدَ بالشَّهَادَةِ، لا أن عنده شهادة في الحال، فَيَنْضَمُّ هذا إلى معنى التَّسَاهُلِ الذي ذَكَرَهُ، فيما إذا قال: عندي شهادة بكذا؛ والحُكْمُ فيها وَاحِدٌ. وأما قوله: "ولو قال: عَلَيَّ لفلان ألف، لم يحمل على الوَعْدِ، وجَازَتِ الشَّهَادَةُ. فاعلم أن الأَصْحَابَ -رحمهم الله- لما ذَكَرُوا في هذا المَوْضِع؛ أنه لا يجوز التَّحَمُّلُ، بأن يُسمع من الأصل: أني أَشْهَدُ بكذا، أو عندي شَهَادَةٌ بكذَا، تَكَلَّمُوا في أنه: هل يكفي لِلتَّحَمُّلِ أن يسمعه يقول: لفلان عليَّ كذا؟ وعن أبي إِسْحَاقَ: أن هناك أَيْضاً لا يجوز التَّحَمُّلُ بهذا القَدْرِ، بل لاَ بُدَّ مع ذلك من قَرِينَةٍ تُشْعِرُ بالوجوب، بأن يسنده إلى سَبَبٍ؛ فيقول: من ثَمَنِ مبيع، أو يسترعيه فيقول: فاشهد علي به. والصحيح، وهو المَذْكُورُ في الكتاب: أن مُجَرَّدَ الإقْرَارِ كَافٍ لِلتَّحَمُّلِ، وفَرَّقُوا بينه وبين تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ من وجهين: أحدهما: أن الشَّهَادَةَ يُعْتَبَرُ فيها ما لا يُعْتَبَرُ في الإقْرَارِ، ألا تَرَى أنه لا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الفَاسِقِ والمُغَفَّلِ؟ والشهادة بالمَجْهُولِ والإِقْرَار يخالفهَ فجاز أن يُعْتبَرَ في تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ ما لا يُعْتَبَرُ في تَحَمُّلِ الإِقْرَارِ. والثاني: أن المقر مُخْبِرٌ عن نفسه، والشَّاهِد مُخْبِرٌ عن غيره، والمُخْبِرُ عن نفسه بما يَضُرُّ به لا يخبر إلا عن تَحْقِيقٍ، ولا يكاد يَتَسَاهَلُ، والمخبر عن غيره قد يَتَسَاهَلُ، فَيُحْتَاجُ فيه إلى الاحتياط. فرع: الفَرْعُ عند أَدَاءِ الشَّهَادَةِ يُبَيِّنُ جِهَةَ التَّحَمُّلِ، فإن اسْتَرْعَاه الأصل، قال: أشهد أن فُلاَناً، شَهِدَ أن لفلان على فلان كذا، وأَشْهَدَنِي على شَهَادَتِهِ، وإن لم يَسْتَرعِهِ، بين أنه ¬
شهد عند القَاضِي، أو أنه أَسْنَدَ المَشْهُود به إلى سَبَبهِ. قال الإمَامُ: وذلك لأن الغَالِبَ على النَّاسِ الجَهْلُ بطريق التَّحَمُّلِ، فإن كان ممن يَعْلَمُ، وَثِقَ به القاضي، [جاز أن يَكْتَفِيَ بقوله: أَشْهَدُ على شهادة فُلاَنٍ بكذا، ويُسْتَحَبُّ للقاضي أن] (¬1) يسأل: بأي سَبَبٍ ثَبَتَ هذا المال (¬2)؟ وهل أخبرك به الأَصْل؟ وهذا إذا لم يُبَيَّن السبب. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِي فِي الطَّوَارِئِ وَلاَ بَأْسَ بِمَوْتِ شَاهِدِ الأَصْلِ وَغَيْبَتِهِ وَمَرَضِهِ، وَأَمَّا إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الفِسْقُ أَوِ العَدَاوَةُ أَوِ الرِّدَّةُ امْتنَعَ شَهَادَةُ الفَرْع، وَلوْ طَرَأَ الجُنُونُ فوَجْهَانِ، وَلَوْ طَرَأَ العَمَى فَوَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلى بِأَنْ لاَ يُمْنَعَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا لاَ يُمْنَعَانِ، أَمَّا إِذَا كَذَبَ الفَرعُ امْتَنَعَتِ الشَّهَادَةُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفصل الثَّانِي -في صفات شَاهِدِ الأَصْلِ، وما يَطْرَأُ عليه. لا يَصِحُّ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ على شهادة الفَاسِقِ، والكَافِرِ، والعَبْدِ، والصَّبِيِّ، والعَدُوِّ؛ لأنهم غير مَقبُولِي الشَّهَادَةِ. وان تحمل والأصل بصفات الشهود، ثم عَرَضَ ما يَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَتِهِ، أو الوُصُول إليها، فإن كان العَارِضُ المَوْتَ، أو الغَيْبَةَ، أو المَرَضَ، فلا أَثَرَ له، بل شَهَادَةُ الفَرْعِ حينئذ يُحْتَاجُ إليها، كما سَيَأْتِي. وإن عَرَضَ فِسْقٌ، أو عَدَاوَةٌ، أو رِدَّةٌ، لم تُقْبَلْ شهادة الفَرْع، وبالأصل هذه الأحوال. وَوَجَّهَهُ الإِمَامُ: بأن هذه الحَالاَتِ لا تهجم دفعةً وَاحِدَةً، بل الفِسْقُ يورث الرِّيبَةَ فيما تَقَدَّمَ، والرِّدَّةُ تُشْعِرُ بِخُبْثٍ في العَقِيدَةِ سَابِقٍ، والعَدَاوَة لضَغَائِنَ كانت مُسْتَكِنَّة، وليس لمدة [الرِّيبَةِ] (¬3) من قَبلُ ضَبْطٌ فتنعطف (¬4) إلى حالة التَّحَمُّلِ، فإن زَالتْ؛ فهل لِلْفَرْعِ أن يشهد بالتَّحَمُّلِ الأول؟ أم يحتاج إلى تحمُّلٍ جَدِيدٍ؟ [عن ابن سُرَيْجٍ فيما حكى أبو العَبَّاسِ الروياني: أنه يحتاج إلى تَحَمُّلٍ جديد] (¬5) وهذا ما صَحَّحَهُ الإمَامُ بِنَاءً على انْعِطَافِ الرِّيبَةِ إلى حالة التحمُّلِ، ورَوَى وَجْهاً آخر: أنه لا حَاجَةَ إليه، وهذا قَضِيَّةُ إِيرَادِ "التهذيب"، ولو حدث الفِسْقُ، أو الرِّدَّةُ بعد الشَّهَادَةِ، وقبل القَضَاءِ، امتنع القَضَاءُ. كما لو شهد الأَصْلُ وفَسَقَ قبل القَضَاءِ، ولو ¬
حدث بالأصل جُنُونٌ؛ فوجهان مَنقُولاَنِ في "النهاية": أحدهما: امْتِنَاعُ شَهَادَةِ الفرْعِ، كما في الفِسْقِ، وإنما قَبِلْنَا في المَوْتِ والمَرَضِ للحاجة. وأصحهما: جواب الجُمْهُورِ: أنه لا أَثَرَ له كالمَوْتِ؛ لأنه لا يُوقِعُ رِيبَةً [فيما مضى] (¬1). والوجهان جَارِيانِ فيما لو عَمِيَ، وأولى بألاَّ يؤثر لأن العمى لا يبطل أهلية الشَّهَادَةِ بالكُلِّيَّة. ولو أغمي عليه، قال الإِمام: لم يُؤَثِّرْ إن كان غائِباً، وان كان حَاضِراً، لم يَشْهَدِ الفَرْعُ، بل ينتظر زَوَالُهُ؛ فإنه (¬2) قريب الزَّوَالِ. وقَضِيَّتُهُ؛ أن يكون الجَوَازُ كذلك، في كل مَرَضٍ يُتَوَقَّعُ زَوَالُهُ، كتوقِّع زَوَالُ الإغْمَاءِ (¬3)، ولا أَثَرَ لحدوث شَيْءٍ من هذه المَعَانِي بعد القضاء (¬4) وكذا لو شهد الفَرْعُ في غَيْبَةِ الأَصْلِ، ثم حَضَرَ بعد القَضَاءِ لم يؤثر، وإن حضر قَبْلَهُ، امتنع القَضَاءُ، لحصول القُدْرَةِ على الأَصْلِ، وكذا لو كذب الأَصْلُ الفَرْعُ قبل القَضَاءِ، امتنع القَضَاءُ. والتَّكذِيبُ بعده لا يُؤَثِّرُ. ولو قضى القاضي، ثم قامت البَيَّنَةُ على أن الأَصْلَ قد كَذَّبَ الفَرْعَ قبل القضاء؛ فالقَضَاءُ مَنْقُوضٌ: ذكره الإِمام (¬5)، هذا هو القول في صفات الأَصْلِ. ¬
وأما الفَرْعُ فلو تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ، وهو فَاسِقٌ، أو عَبْدٌ، أو صَبِيٌّ، أو أَخْرَسُ، صح تَحَمُّلُهُ، كَتَحَمُّلِ الأَصْلِ الشَّهَادَةَ في هذه الأحوال، ثم الأَدَاءُ يكون بعد زَوَالِهَا, ولا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ على الشَّهَادَةِ، إلا من الرِّجَالِ، ولا مَدْخَلَ فيها لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وإن كانت الأُصُولُ أو بَعْضُهُم إِنَاثاً، وكانت الشَّهَادَةُ فِي وِلاَدَةٍ، أو رِضَاعٍ، أو مَالٍ، لما سنذكره -إن شاء الله تعالى- أن شَهَادَةَ الفَرع تُثْبِتُ شَهَادَةَ الأَصْلِ، لا ما شَهِدَ به الأَصْلُ. ونَفْسُ الشهادة ليس بِمَالٍ، ويَطَّلِعُ عليها الرجال. وقال أبو حَنِيْفَةَ: تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ على الشهادة في النِّسَاءِ، فيما يُقْبَلُ فيه شَهَادَةُ النساء. ونقل القاضي ابن كَجٍّ وَجْهاً مِثْلَهُ في الوِلاَدَةِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالثُ: العَدَدُ وَلْيَشْهَدْ عَلَى كُلِّ شَاهِدٍ شَاهِدَانِ، فَإِنْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَتِهِمَا جَمِيعَاً، جَازَ علَى أَقْيَس القَوْلَيْنِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُ شَاهِدَي الأَصْلِ، مَعَ شَاهِدٍ آخَرَ، عَلَى شَهَادةِ الأَصْلِ الثَّانِي، وَشَهَادةُ الزِّنَا كَالإِقْرَارِ بِالزِّنَا، فَتثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ أَمْ بِأربَعَةٍ؟ فِيهِ قَوْلاَن، وَيَجْتَمِعُ مِنْ هَذهِ الاخْتِلاَفَاتِ فِي شُهُودِ الفَرْعِ فِي الزِّنَا، إِنْ قَبِلنَاهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، فَيَجِبُ سِتَّةَ عَشَرَ، أَوْ ثَمَانِيَة، أَوْ أَربَعَةٌ، أَوِ اثْنَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفصل الثالث: في عَدَدِ الشهود (¬1). الفرع: فإن شَهِدَ شَاهِدَانِ على شَهَادَةِ أَصْلٍ وآخران على شهادة الثاني، فقد تَمَّ النِّصَابُ بلا كلام، ولا يجوز أن يَشْهَدَ فَرْعٌ على شهادة أَصْلٍ، وآخر على شهادة الثاني، خِلاَفاً لِأَحْمَدَ. واحْتَجَّ الأَصْحَابُ بأن الفرع يَثْبُتُ بشهادة الأصل، ولا يكفي وَاحِدٌ لإثبات شَهَادَةِ كل أصل؛ كما لو شَهِدَ اثْنَانِ على شَهَادَةِ مقرين. كذلك لو شَهِدَ اثنان على شَهَادَةِ الأَصْلين معاً، ففيه قولان: أحدهما: وهو اختيار المُزَنِيِّ: أنه لا يجوز؛ لأنهما إذا شَهِدَا على شَهَادَةِ أحد الأصلين، كانا كَشَاهِدٍ وَاحِدٍ قام شَهَادَةُ أَحَدِ الشَّطْرَيْنِ، فلا يقوم بها الشَّطْرُ الثاني، كمن ¬
شَهِدَ مَرَّةً على شيء، لا يَشْهَدُ مرَّةً أخرى. وكما لو شهد أَصَالَةً، ثم شَهِدَ [الثَّاني] (¬1) مع فَرْعٍ على شَهَادَةِ الأَصْلِ، الثاني -وبه قال أبو حَنِيْفَةَ، ومالك، وأحمد -رحمهم الله-: يجوز؛ لأنهما شَهِدَا على قَوْلِ اثنين، فصار كما لو شَهِدَ على إِقْرَارِ رَجُلَيْنِ. والقولان فيما ذكره الشيخ أبو حَامِدٍ، وطَبَقَتُهُ مَبْنِيَّانِ على أن الفروع يقومون مَقَامَ الأُصُولِ؛ ويثبت الحَقُّ بِشَهَادَتِهِمْ ثُبُوتَهُ بِشَهَادَةِ الأصول، أو الفروع يثبتون شهادة الأصول، والحَقُّ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمْ. وفيه قولان، نُوَجِّه أولهما -بأن الوَاحِدَ، لا يجوز أن يَشْهَدَ أَصَالَةً مع فَرْعٍ، على شهادة الأصل الثاني، ولَوْلاَ قِيَامُ الفروع مَقَامَ الأصُولِ في إثبات الحَقِّ، لجاز؛ لأن شهادتهما (¬2) [حينئذ] (¬3) تَتَوَجَّهَانِ نحو شَيْئَيْنِ مختلفين. وثانيهما: وهو الأصح: بأنهم مُصَرِّحُونَ بالشَّهَادَةِ على شهادة الأصول، ولم يَشْهَدُوا فِغلاً، ولا سَمِعُوا قَوْلاً. فإن قلنا بالأول، فمن قام بأحد شَطْرَي البَيِّنَةِ، لا يَقُومُ بالثاني كالأصُولِ. وإن قلنا بالثاني، فلا بَأْسَ، كما لو شَهِدَ على إقرار شَخْصَيْنِ. ويمكن أن يكون الخِلاَفُ الذي مَرَّ في أن التَّسَاهُلَ لَهُنّ مَدْخَلٌ في الشهادة على الشهادة مَبْنِيّاً على هذا الأَصْلِ؛ وقضيته (¬4) إِثْبَات خِلاَفٍ في أنه هل يَجُوزُ أن يَشْهَدَ فَرْعٌ على شهادة هذا؟ وفَرْعٌ على شهادة هذا؟ لكن لم يَذْكُرُوا فيه خِلاَفاً. ثم في "التهذيب" أن أَصَحَّ القولين: أنه لا يجوز أن يَشْهَدَ اثْنَانِ على شهادة الأصلين معاً، وكذا ذكره أبو الفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ. وربما سموه الجديد ومقابله القديم، ولكن أصحابنا العِرَاقِيُّونَ رَجَّحُوا الجَوَازَ، وإليه ذهب الإِمام، وصاحب الكِتَابِ، والرُّويانيُّ، وصاحب العدة -رحمهم الله-. فإن قلنا بالمَنْعِ، فلو أقام شَاهِدَيْنِ على شهادة الأصلين معاً، فله أن يجيب على أيهما شاء وَيَحْلِفَ معه، ولو شَهِدَ أَرْبَعَةٌ على شهادة الأصلين فوجهان: أحدهما: المَنْعُ أيضاً؛ لأنهم جميعاً إذا قاموا مقام شَاهِدٍ واحدٍ، لا يَقُومُونَ مَقَامَ الثَّانِي. والثاني: يجوز, لأنه قد شَهِدَ اثنان منهم على شَهَادَةِ زَيْدٍ، واثنان على شَهَادَةِ عمرو، فلا يَضُرُّ تَعَرُّضُ شَاهِدَيْ زيد، لشهادة عمرو، وبالعَكْسِ. ¬
قال الإِمام: وهذا هو الذي لا يَجُوزُ غيره، وجَمِيعُ ما ذكرنا فيما إذا شَهِدَ الفُرُوعُ على شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، فإن شَهِدُوا على شَهَادَةِ رجل وامرأتين، فعلى القول الأول، لاَ بُدَّ من سِتَّةٍ؛ يَشْهَدُ كل اثنين منهم على شَهَادَةِ وَاحدٍ، وعلى الثَّاني، يكفي شَهَادَةُ الاثنين على شهادة الكُلِّ؛ وإن شَهِدُوا عَلَى شَهَادَةِ أربع نِسْوَةٍ فِي وِلاَدَةٍ، أو رِضَاعٍ، فعلى الأول، لاَ بُدَّ من ثمانية؛ يَشْهَدُ كُلُّ اثْنَيْنِ على شَهَادَةِ واحدة، وعلى الثاني، يكفي اثْنَانِ للكل. وعلى الوَجهِ الثَّاني، نقله القَاضِي ابْنُ كَجٍّ في أن شَهَادَةَ النِّسَاءِ على [شهادة] (¬1) النساء مَقْبُولَةٌ في الوِلاَدَةِ. وحكى وَجْهَيْنِ في أنه يكفي شَهَادَةُ أربع على شَهَادَةِ أربع، أم لاَ بُدَّ من سِتَّ عَشَرَةَ؟ ليشهد كُلُّ أربعَ مِنْهُنَّ على واحدة، ولو شهد على شَهَادَةِ الفُرُوعِ فُروعٌ، واعتبرنا أن يَشْهَدَ فَرعانِ على شَهَادَةِ أَصْلٍ، وآخران على شَهَادَةِ الأصل الثاني، فيجب أن يَشْهَدَ على شَهَادَةِ كُلِّ فَرْعٍ من الفروع الأربعة الثْنَانِ، [فيجتمع] (¬2) ثمانية ثم شهادتهم لا تَثْبُتُ إلا بِسِتَّةَ عَشَرَ. وعلى هذا القِيَاسُ. وإذا قلنا: بِجَرَيَانِ الشَّهَادَةِ على الشهادة في حدود الله تَعَالَى، فتثبت شهادة الزِّنَا بأربعة؟ أم يكفي اثنان؟ فيه قولان كالقَوْلَيْنِ في الإقْرَارِ بالزِّنَا. ووجه الشَّبَهِ، أن كُلّ واحد منهما قَوْلٌ يَثْبُت به الزِّنَا، وَيتَوَلَّدُ من ازْدِوَاج هذا الأَصْلِ، والأصل السابق، وهو أنه هل يُعْتَبَرُ أن يَشْهَدَ على شَهَادَةِ كُلِّ أصل فَرْعَانِ؟ أربعة أقوال في عَدَدِ الفُرُوعِ في الزِّنَا. فإن قلنا: تَثْبُتُ شَهَادَةُ الزنا باثنين، وقلنا: تجوز شَهَادَةُ فَرْعَيْنِ على شهادة الأصْلَيْنِ مَعاً، كفى اثنان. وإن قلنا: تَثْبُتُ شَهَادَةُ الزِّنَا باثنين، ولكن يُعْتَبَرُ أن يشهد على شَهَادَةِ كل أصل فَرْعَانِ، فلا بد من ثَمَانِيَة. وإن قلنا: إن شَهَادَةَ الزِّنَا لا تَثْبُتُ إلا بأربعة، فإن قلنا: تجوز شَهَادَةُ فَرْعَيْنِ على شهادة الأَصْلَيْنِ معاً، كفى هاهنا أن يَشْهَدَ أَرْبعَةٌ على شهادة الأربعة الأُصُولِ فإن قلنا: يُعْتَبَرُ أن يَشْهَدَ على شهادة كُلِّ أصل فَرعَانِ، فهاهنا يجب أن يَشْهَدَ على شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ من الأربعة أَرْبَعَةٌ. فيجتمع سِتَّةَ عَشَرَ. وهذا إذا فَرَّعْنَا على جَرَيَانِ الشهادة على الشَّهَادَةِ في الحدود، والأَصَحُّ المَنْعُ على ما تَقَدَّمَ. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرَّابعُ: أنَّه لاَ يَسْمَعُ شَهَادَةَ الفَرْعِ إِلاَّ إِذَا مَاتَ الأَصْلُ أَو مَرِضَ مَرَضَاً يَشُقُّ عَلَيْهِ الحُضُورُ أَوْ غَابَ فَوْقَ مَسَافَةِ القَصْرِ، فَإنْ كَانَ دُونَهَا وَفَوْقَ مَسَافَةِ العَدْوَى فوَجْهَانِ، وَخَوْفُ الغَرِيمِ وَكُلّ مَا تُتْرَكُ بِهِ الجُمْعَةُ كالمَرَضِ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفصل الرَّابعُ في أن شَهَادَةَ الفرع (¬1)، متى تُسْمَعُ؟ وإنما تُسْمَعُ شَهَادَةُ الفرع، إذا تَعَذَّرَ الوُصُولُ إلى شَهَادَةِ الأَصْلِ، أو تَعَسَّرَ، وإلا ازداد احْتِمَالُ الخَطَإ والخَلَلُ من غير ضَرُورَةِ حاجة حاقة. ويخالف الرواية, فإنها أَوْسَعُ بَاباً. وحكى القاضي أبو سَعْدٍ الهَروِيُّ وَجْهاً عن نقل صاحب "التلخيص" (¬2)، أنه تُقْبَلُ شَهَادَةُ الفُرُوعِ، وإن حَضر الأصول، والمَذْهَبُ المَشْهُورُ الأَوَّل. فمن وجوه التَّعَذُّرِ مَوْتُ الأَصْلِ، وأُلْحِقَ به العَمَى، ومن وجوهه المَرَضُ، ولا يشترط ألا يمكنه الحضور، وإنما المُعْتَبَرُ، أن يَنَالَهُ في الحضور مَشَقَّةٌ ظَاهِرَةٌ، ويلحق خوف الغَرِيمِ وسائر ما يترك به الجمعة بالمرض، هكذا أَطْلَقَ الإِمَامُ، وصاحب الكتاب. ولكن ذلك في الأَعْذَارِ الخاصة (¬3) دون ما يَعُمُّ الأُصُول، والفروع، كالمَطَرِ، والوَحْلِ الشَّدِيدِ (¬4). ولا يكلّف القاضي أن يحضر عند شاهد الأصل، أو يبعث إليه نَائِبه، لما فيه من الابْتِذَالِ. ومنها الغَيْبَةُ إلى مَسَافَةِ القَصْرِ، وإن كانت دون مَسَافَةِ القَصْرِ، فمنهم مَنْ أَطْلَقَ وجهين، وكذلك، يُحْكَى عن ابن القَطَّانِ. والأَشْبَهُ، أنه إن كانت المَسَافَةُ بحيث لو خَرَجَ الأَصْلُ بُكْرَةً لأداء الشَّهَادَةِ، أمكنه الرجوع إلى أَهْلِهِ ليلاً فلا تُسْمَعُ شَهَادَةُ الفرع. وتُسَمَّى هذه المَسَافةُ، مَسَافَةَ العَدْوَى. وإن كانت بحيث لا يمكنه الرُّجُوعُ، فهو مَوْضِعُ الوجهين، والتَّفْصِيلُ هو المَذْكُورُ في الكتاب. ¬
والطَّرِيقَانِ كما ذَكَرْنَا من الطريقين فيما إذا غاب الوَلِيُّ الأَقْرَبُ، إلى ما دون مَسَافَةِ القَصْرِ أنه هل يكون ذلك كالغَيْبَةِ إلى مَسَافَةِ القَصْرِ؟ لكن الأَظْهَرَ هاهنا فيما فَوْقَ مَسَافَةِ العَدْوَى، قَبُولُ شَهَادَةِ الفَرْعِ؛ لأن الوَلِيَّ إذا رُوجِعَ، لم يحتج إلى الحُضُورِ، بل يوكل. والشاهد يَحْتَاجُ إلى الحُضُورِ، وأيضاً فالخَصْمُ قد يَهْربُ، فيفوت الحَقُّ، والنكاح لا يَفُوتُ غالباً بهذا القَدْرِ من التأخير. وعِبَارَةُ جَمَاعَةٍ من الأصحاب: أن الغائب إن كان يَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ غَلِيظَةٌ في المجيء إلى مجلس الحُكْمِ، لم يُكَلَّفْ، وسُمِعَتْ شَهَادَةُ الفروع. وهذا يجوز أن يُحْمَلَ على المَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بالمجيء فيما فوق مَسَافَةِ العَدْوَى، ويجوز أن يجعل أَعَمَّ من ذلك، وإلى المَحَلِّ الأَوَّلِ، مَيْلُ ابن الصَّبَّاغ. وقوله في الكتاب: "أنه لا تُسْمَعُ شهادة الفرع ... " إلى آخره، يمكن أن يُعْلَّمَ بالواو؛ لأن ما نقله صاحب "التلخيص"، يسمعها وإن لم يوجد شيء من الحالات المستثناة (¬1). وقوله: "أو غاب فَوْقَ مَسَافَةِ القصر"، كلمة "فوق"، لا حَاجَةَ إليها، بل مَسَافَةُ القَصْرِ كَمَا فَوْقَهَا في الحُكْمِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَيْسَ عَلَى شُهُودِ الفَرْعِ تَزْكِيَةُ الأَصْلِ، لَكِنْ لَوْ زُكُّوا ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُمْ وَشَهَادَتُهُمْ بِقَوْلِ الفَرْعِ، وَلَبْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى صِدْقِ شُهُودِ الأَصْلِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يجب على الفُرُوعِ تَسْمِيَةُ شُهُودِ الأصل، وتعريفهم؛ لأنه لاَ بُدَّ من مَعْرِفَةِ عَدَالَتِهِمْ. وما لم يعرفوا، لا (¬2) تعرف عدالتهم، ولو وَصَفُوا الأُصُولَ بالعَدَالَةِ، ولم يُسَمُّوهُمْ؛ بأن قالوا: يشهد على شهادة عدلين، أو عُدُولٍ، لم يَجُزْ؛ لأن القَاضِيَ قد يعرفهم بالجرح (¬3) لو سموا, ولأنه يَسُدُّ باب الجرح على الخَصْمِ، ولا يُشْتَرَطُ فِي شَهَادَةِ الفرْع تَزْكِيَةُ (¬4) شهود الأصل، بل لهم إِطْلاَقُ الشَّهَادَةِ، ثم القاضي يبحث عن عَدَالَتِهِمْ. ويُروَى عن أبي حَنيفَةَ ومَالِكٍ -رحمهما الله- اشتِرَاطُهَا، ونقله صاحب "التهذيب" وَجْهاً للأصحاب -رحمهم الله- أيضاً. وفي "الجُرْجَانِيَّاتِ" لأبي العَبَّاسِ الرُّوَيانِيِّ تَفرِيعاً على مَا مَرَّ، أنه لو فَسَقَ شَاهِدُ الأَصْلِ، ثم تَابَ، لم يكن لِلْفَرْعِ أن يَشْهَدَ على شهادته إلا بإشهاد جديد (¬5) أنه لا بد لِلْفُرُوعِ من أن يقولوا: أَشْهَدَنَا عَلى شَهَادَتِهِ، وكان عَدْلاً إلى اليَوْمِ، أو إلى أن مَاتَ، ¬
الباب السادس في الرجوع
[إن كان قد مَاتَ] (¬1). وإذا قلنا بعدم الاشْتِرَاطِ، فلو أنهم زَكَّوْهُمْ وهم بِصِفَاتِ المُزَكَّيْنِ، فالمَشْهُودُ أنه تَثْبُتُ عَدَالَتُهُمْ والمشهور فيما إذا شهد اثنان في وَاقِعَةٍ، وزَكَّى أَحدُهُمَا الثاني، أنه لا تثبت عَدَالَةُ الثاني، فمنهم مَن جَعَلَهَا على وجهين، كأنه خَرَّجَ في كل صورة من الأخرى. والصحيح الفرق، وَوُجِّهَ: بأن تَزْكِيَةَ الفُرُوع الأُصُولَ مِن تَتِمَّةِ شهادتهم، ولذلك شَرَطَ شَارِطُونَ تَعَرُّضَهُمْ لها، وهناك قَامَ الذي يزكّي بَأحد شَطْرَي الشَّهَادَةِ، فلا يجوز له القِيَامُ بالثاني، ولا يجب أن يَتَعَرَّضَ الفروع في شَهَادَتِهِم لِصِدْقِ الأصول؛ فإنهم لا يعرفونه. بخلاف ما إذا حَلَفَ المُدَّعِي مع الشاهد الوَاحِدِ، حيث يَتَعَرَّضُ لِصِدْقِهِ؛ لأنه يعرفه. ولْيُعَلَّمْ لما ذكرنا قَوْلُهُ في الكتاب: "وليس على شهود الأصل" بالحاء، والميم، والواو. وقوله: "تثبت عدالتهم" بالواو. والله أعلم. الْبَابُ السَّادِسُ في الرُّجُوعِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالنَّظَرُ فِي العُقُوَبةِ وَالبُضْعِ وَالمَالِ (أَمَّا العُقُوبَةُ): فَالرُّجُوعُ قَبْلَ القِصَاصِ يَمْنَعُ القَضَاءُ، وَيجِبُ حَدُّ القَذْفِ إِنْ شَهِدُوا بِالزِّنَا، وَإِنْ قَالُوا: غَلِطْنَا، فَفِي الحَدِّ وَجْهَانِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالرُّجُوعِ، وَلَكِنْ قَالَ لِلقَاضِي: تَوَقَّفْ ثُمَّ عَادَ. وَقَالَ: اقْضِ، فَفِي جَوَازِ القَضَاءِ بِهِ وَجْهَانِ، فَإنْ جَازَ، فَفِي وُجُوبِ الإِعَادَةَ وَجْهَانِ، فَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ القَضَاءِ، فَفِي الاِسْتِيفَاءِ ثَلاَثةُ أَوْجُهٍ، وَعَلَى الثَّالِثِ يُسْتَوْفَى حُقُوقُ الآدَمِيِّينَ دُونَ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى، أَمَّا المَالُ فَيُسْتَوفَى قَطْعاً، وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ القَتْلِ، وَجَبَ عَلَيْهِ القِصَاصُ إِنْ قَالَ: تَعَمَّدتُّ، وَلَوْ رَجَعَ وَليُّ القَاضِي، وَهُوَ الَّذِي بَاشرَ فَعَلَيْهِ القِصَاصُ، وَالشَّاهِدُ مَعَهُ كَالمُمْسِكِ أَوْ كَالشَّرِيكِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَالمُزَكِّي إِذَا رَجَعَ كَالمُمْسِكِ مَعَ الشَّاهِدِ أَوْ كَالشَّرِيكِ؟ وَجْهَانِ، وَلَوْ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَخْطَأَت فَلاَ قِصَاصَ عَلَى العَامِدِ؛ لأنَّهُ شَرِيكٌ خَاطِئٌ، وَلَوْ قَالَ كُلَّ وَاحِدٍ: تَعَمَّدتُّ وَأَخْطَأَ شَرِيكِي، فَفِي القِصَاصِ وَجْهَانِ، وَلَوْ قَالَ: تَعَمَّدتُّ، وَلَكِنْ مَا عَلِمْتُ أَنَّه يُقْتَلُ بِقَوْلِي، فلاَ قِصَاصَ عَلَى الأَظْهَرِ، وَلَوْ ضَرَبَهُ ضَرْبَاً يَقْتُلُ المَرِيضَ دُونَ الصَّحِيحِ، وَلَمْ يَعْلَمْ أنَّهُ مَرِيضٌ، وَجَبَ القِصَاصُ عَلَى الأَظْهَرِ. قَالَ الرَّافعِيُّ: رُجُوعُ الشُّهُودِ عن الشَّهَادَةِ؛ إما أن يُفْرَضَ قبل القَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ، أو بعده: ¬
الحالة الأولى: إذا رجعوا قبل القَضَاءِ؛ فيمتنع القَضَاءُ, لأنه لا يَدْرِي أنهم صَدَقُوا في الأول، أو في الآخر، فلا يَبْقَى ظَنُّ الصَّدْقِ. ثم إن اعْتَرَفُوا بأنهم تَعَمَّدوا الكَذِبَ، فهم فَسَقَةٌ يستترون، وإن قالوا: غلطنا (¬1)، لم يَفْسُقُوا (¬2)، لكن لا تُقْبَلُ تلك الشَّهَادة لو أَعَادُوهَا. وقد ذكرنا هذا من قَبْلُ، ولو كانوا قد شَهِدُوا بالزِّنَا، فَرَجَعُوا، واعترفوا بالتَّعَمُّدِ، فَسَقُوا، وحُدُّوا حَدَّ القَذْفِ. وإن قالوا: غَلِطْنَا، ففي حَدِّ القَذْفِ وجهان: أحدهما: المنع؛ لأن الغَالِطَ مَعْذُورٌ. وأظهرهما: الوجوب؛ لما فيه من التغيير. وكان من حَقِّهم التَّثَبُّتُ، والاحْتِيَاطُ، وعلى هذا تُرد شهادتهم. وإن قلنا: لا حَدَّ، فلا رَدَّ. ولو قال الشُّهُودُ للقاضي بعد الشهادة: تَوَقَّفْ في القَضَاءِ، وجب التوقيف فإن قالوا بعد ذلك: اقضِ فنحن على شَهَادَتِنَا، ففي جَوَازِ القَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ وجهان: المنع؛ لأن قولهم: تَوَقَّفْ، يورث الرِّيْبَةَ، والتُّهْمَةَ، في شهادتهم، ولأنه طَرَأَ على الشَّهَادَةِ ما يَمْنَعُ الحُكْمَ بها، فَأشْبَهَ ما لو طَرَأَ الفِسْقُ. وأقربهما، وبه أجاب بَعْضُ أصحاب الإِمام؛ الجَوَازُ لأنه لم يَتَحَقَّقْ رجوع. ولا بطلت (¬3) أَهْلِيَّةٌ، وإن عَرَضَ شَكٌّ، فقد زَالَ. وعلى هذا فهل يجب إِعَادَةُ الشهادة؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لِبُطْلاَنِ تلك الشَّهَادَةِ بما عَرَضَ من التوقف. وأَوْلاَهُمَا: لا؛ لأنها صَدَرَتْ من أهل الشهادة، جازم بها، والتوقف الطَّارِئُ قد زَالَ، وكأنه لم يَكُنْ. ¬
الحالة الثانية: إذا رَجَعُوا بعد القضاء، فَرُجُوعُهُمْ؛ إما أن يكون قَبْلَ الاسْتِيفَاء أو بعده. وإن رَجَعُوا قبل الاستِيفَاء, نُظِرَ: إن كانت الشَّهَادَةُ في مال فَيُسْتَوْفَى؛ لأن القَضَاءَ قد نَفَذَ به، وليس هو مما يُسْقِطُ الشُّبْهَةَ، حتى يَتَأثَّرَ بالرجوع. هذا هو المَنْصُوصُ. والأصح، وفيه وجه؛ أنه لا يُسْتَوْفَى إذ الحُكْمُ لم يسْتَقِرَّ بعد، والظَّنُّ قد اخْتَلَّ بالرجوع. وعلى هذا، فلو كانت الشهادة في القِصَاصِ، أو حَدِّ القَذْفِ، فعدم الاسْتِيفَاءِ أَوْلَى، لكونهما عُقُوبَتَانِ تسقطَان بالشبهة. وعلى الأول، فيه وجهان: أصحهما المنع، أيضاً لما ذكرنا. وَوَجهُ جَوَازِ الاستيفاء؛ أن حُقُوقَ الآدَمِيِّينَ مَبْنِيَّةٌ على الضّيق، وإن كانت الشَّهَادَةُ في حدود الله تعالى؛ فَأَوْلَى بألاّ يُسْتَوْفى. وإن كانت الشَّهَادَةُ في شيء من العُقُودِ، فتُمضَى على الأصَحِّ، كما أن الأَمْوَالَ تُسْتَوْفَى. ومنهم من جعل النكاح كَحَدِّ القَذْفِ، والقِصَاصِ. ويخرج من الخلاف المَنْقُولِ في العُقُوبَاتِ، فمطلقها، ثلاثة أوجه، كما ذكر في الكتاب. ثالثها: الفرق بين عُقُوبَاتِ الآدَمِيِّين، وبين حُدُودِ الله تَعَالَى. وحيث قارنا بالاسْتِيفَاءِ بعد الرُّجُوعِ، فَاسْتَوْفَى، فالحُكْمُ كما لو رجعوا بعد الاسْتِيفَاءِ، وإن رَجَعُوا بعد الاسْتِيفَاءِ، لم يُنْقَضِ الحُكْمُ، خلافاً لمالك فيما يُحْكَى. ثم لا يخلو ما إن كانت الشَّهَادة فيما يُتَعَذَّرُ رَدُّهُ، وتَدَارُكُهُ، أو فيما لا يُتَعَذَّرُ. القِسْمُ الأول: ما يُتَعَذَّرُ تَدَارُكُهُ؛ وهو نوعان: أحدهما: العُقُوبَاتُ؛ فإذا شهدوا بالقَتْلِ، فاقْتُصَّ من المَشْهُودِ عليه، ثم رجعوا، وقالوا: تَعَمَّدنَا قَتْلَهُ، فعليهم القِصَاصُ، أو الدِّيَةُ المُغَلَّظَةُ، مُوَزَّعَةً على عدد رُؤُوسِهِمْ، على ما هو مذكور، مع خِلاَفِ أبي حَنِيْفَةَ في الجِنَايَاتِ. وكذا الحُكْمُ لو شَهِدُوا بالرِّدَّةِ، فَقُتِلَ، أو على المُحْصَنِ بالزنا فرُجِمَ، أو على غير المُحْصَنِ، فَجُلِدَ، ومات منه، أو على إِنْسَانٍ بالسَّرِقَةِ، أو بالقَطْعِ، فَقُطِعَت يَدَهُ (¬1) أو بالقَذْفِ، وشُرْبِ الخَمْرِ، فَجُلِدَ وَمَاتَ منه، ثم رجعوا؛ ويُحَدُّون في شهادة الزِّنَا كَحَدِّ القَذْفِ أو لا ذكر أبو الحسن العَبَّادِيُّ احْتِمَالَيْنِ في أنهم يُرْجَمُونَ، أو يُقْتَلُونَ بالسَّيْفِ، والأظهر الأَوَّل. ثم الكَلاَمُ في صُوَرٍ: إحداها (¬2)، لو رجع القَاضِي دُونَ الشُّهُودِ، واعترف بالتَّعَمُّدِ، فعليه القِصَاصُ، أو الدِّيَةُ المُغَلَّظَةُ بِكَمَالِهَا. ¬
ولو رجع القاضي والشُّهُودُ جميعاً، فعليهم القِصَاصُ. وإن قالوا: أَخْطَأْنَا، أو عفى عنهم، فالدِّيَةُ مُنَصَّفة (¬1)؛ نِصْفُهَا على القاضي، والنِّصْفُ على الشهود. هكذا أَوْرَدَ المَسْألَةَ صَاحِبُ "التهذيب"، وغيره، وقِيَاسُهُ: ألاَّ يجب كَمَالُ الدِّيَة عند رُجَوعِهِ وَحْدَهُ، كما لو رجع بَعْضُ الشُّهُودِ (¬2). ولو رجع وَليُّ الدَّمِ وَحْدَهُ، فعليه القِصَاصُ، أو كَمَالُ الدِّيَةِ. ولو رجع مع الشهود فَوَجْهَانِ: أحدهما: أن القِصَاصَ، أو الدِّيةَ بِكَمَالِهَا، على الوَلِيِّ؛ لأنه المُبَاشِرُ، وهم معه. كالمُمْسِكِ (¬3) مع القاتل (¬4)، ولا قِصَاصَ، ولا دِيَةَ، وهذا أَظْهَرُ عند الإِمَامِ. والثاني: وهو الأَصَحُّ، عند صاحب "التهذيب"، أنهم معه كالشَّرِيكَيْنِ، لتعاونهم على القَتْلِ، ولَيْسُوا كالمُمْسِكِ مع القاتل؛ فإنهم صَوَّرُوهُ بصُورَةِ المحصن (¬5)، وعلى هذا، فعليهم جميعاً القِصَاصُ، أو الدِّيَةُ مُنَصَّفَةً؛ نِصْفُهَا على الوَليِّ، والنِّصْفُ على الشهود. ولو رجع القَاضِي معهم فالدِّيَةُ مُثَلَّثَةٌ؛ ثُلُثُهَا على القاضي، وثُلُثُهَا على الوَليِّ، وثُلُثُهَا على الشهود. وينبغي ألا يجب على هذا الوجه، كمالُ الدِّيَةِ على الوَليِّ؛ إذا رجع وَحدَهُ (¬6). ¬
الثانية: رجوع المزكي هل يَتَعَلَّقُ به ضَمَانٌ وَقِصَاصٌ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا, لأنه لم يَتَعَرَّضْ للمشهود عليه، وإنما أَثْنَى على الشَّاهِدِ، والحكم إنما يقع بِشَهَادَةِ الشاهد، فكان كالمُمْسِكِ مع القَاتِلِ. والثاني: نعم؛ لأن التَّزْكِيَةَ تُلْجِئُ القَاضِى إلى الحُكْم المُفْضِي إلى القَتْلِ. والأول، أصح عند صاحب "التهذيب"، ولكن الثاني أوْفَقُ لكلام أكثرهم، وهو الذي أَوْرَدَهُ أبو الحسن العبادي. وفيه وَجهٌ ثالث: أنه يَتَعَلَّقُ به الضمان دون القِصَاصِ. ثم عن القَفَّالِ -رضي الله عنه- أن الخِلاَفَ فيما إذا قال المُزَكِّيَانِ: عَلِمْنَا أن الشَّاهِدَيْنِ كانا كَاذِبَيْنِ. أما إذا قالا: عَلِمْنَا أنهما كانا فَاسِقَيْنِ، فلا شَيْءَ عليهما؛ لأنهما قد يَكُونَانِ صَادِقَيْنِ مع الفِسْقِ، وطَرَدَ الإِمَامُ الخِلاَفَ في الحالتين (¬1). الثالثة: ما ذكرنا في وجوب القِصَاص على الشُّهُودِ الراجعين، فيما إذا قالوا: تَعَمَّدْنَا. أما إذا قالوا: أَخْطَأْنَا، وكان القَاتِلُ، أو الزَّانِي غيره، فلا قِصَاصَ، وتجب الدِّيَةُ مُخَفَّفَةً، لكن في ما لهم؛ لأن إِقْرَارَهُم لا يلزم العَاقِلَة، فإن صدقهم العَاقِلَةُ، فهي عليهم. قال الإِمَامُ: وقد يرى (¬2) القاضي، والحالَةُ هذه، تَعْزِيرَ الشُّهُودِ، لتركهم التحفظ. ولو قال أَحَدُ شَاهِدَي القَتْلِ: تَعَمَّدتُ، ولا أَدْرِي أن صَاحِبِي تَعَمَّدَ، أم لا؟ أو اقتصر على قوله: تَعَمَّدْتُ، وقال صاحبه: أَخْطَأْتُ. فلا قِصَاصَ على واحد منهما. أما من قال: أخْطَأْتُ، فظاهر، وأما الآخر، فلأنه شَرِيكٌ مُخْطِئٌ، وشريك المُخْطِئِ لا يُقْتَلُ في الجُرْحِ، وقسط المخطئ من الدِّيَةِ يكون مُخَفَّفاً، وقِسْطُ التعمد مُغَلَّظاً. ولو قال كل واحد منهما: تَعَمَّدْتُ، وأخطأ صَاحِبِي، ففي القِصَاصِ وجهان: أحدهما: يجب القِصَاص، لاعتراف كُلِّ واحد منهما بالعَمْدِيَّةِ، وثبوتها باعترافه. ¬
وأصحهما: المنع؛ لأن كُلَّ واحد منهما لا يُقِرُّ إلا بِقَتْل صَدَرَ من شريكين؛ أحدهما، مُخْطِئٌ، وأنه لا يوجب القِصَاصَ. ولا خِلاَفَ في أن الدِّيَةَ تجب عليهما مُغَلَّظَةً. ولو قال أحدهما: تَعَمَّدْتُ، وأخطأ صَاحِبِي، أو قال: لا أَدرِي أن صاحبي تَعَمَّدَ، أو أَخْطَأَ، وصاحبه غَائِبٌ، أو مَيِّتٌ، لا يمكن مُرَاجَعَتُهُ، فلا قِصَاصَ عليه. وإن قال: تَعَمَّدْتُ، وتَعَمَّدَ صَاحِبِي، وصاحبه غَائِبٌ، أو ميت، فعليه القِصَاصُ. وإن قال: تَعَمَّدْتُ، ولا أدري حَالَ صَاحِبِي، وقال صاحبه مِثْلَ ذلك، أو اقْتَصَرَ على قوله: تَعَمَّدْتُ، فالجَوَابُ في "التهذيب" وغيره، وُجُوبُ القِصَاصِ عليهما. ولو قال أحدهما: تَعَمَّدْتُ أنا وصاحبي، وقال صَاحِبُهُ: أَخْطَأتُ، أو أَخْطَأْنَا معاً، فلا قِصَاصَ على الثاني، وفي الأَوَّلِ وجهان: أصحهما: الوجوب؛ لإِقْرَارِه بِتَعَمّدِهِمَا جميعاً. ووجه الثاني: أن قول الثاني في أنه مُخْطِئٌ مَقبُولٌ، فيكون الأول شَريكَ المُخْطِئِ. ولو قال أحدهما: تَعَمَّدْتُ أنا وصاحبي، وقال صَاحِبُهُ: تَعَمَّدْتُ، وأخطأ هو، فيجب القِصَاصُ على الأول. وفي الثاني وَجْهَانِ: الأصح -المنع؛ لأنه لم يَعْتَرِفْ إلا بِقَتْلٍ، شَرِيكُهُ فيه مُخْطِئٌ. ولو رجع أحد الشَّاهِدَيْنِ، وأَصَرَّ الآخَرُ، وقال الرَّاجِعُ: تَعَمَّدْنا، فعليه القِصَاصُ. وإن اقْتَصَرَ على قوله: تَعَمَّدْتُ، فلا. الرابعة: ما ذكرنا من وجوب القِصَاصِ على الشُّهُودِ، والرَّاجِعين فيما إذا قال: تَعَمَّدْنَا، وعَلِمْنَا أنه يقتل بما شَهِدْنَا عليه. أما إذا قالُوا: تَعَمَّدْنَا, ولكن لم نعلم أنه يُقتل، فإن كان ممن لا يَخْفَى عليهم [ذلك،] (¬1) وجب القِصَاصُ، ولا اعْتِبَارَ بما يقولون؛ كمن رَمَى سَهْماً إلى إنسان، واعْتَرَفَ بأنه قَصَدَهُ، ولكن قال: لا (¬2) أعلم أنه يبلغه. وإن (¬3) كانوا ممن يجوز خَفَاؤهُ عليهم، لِقُربِ عَهْدِهِمْ بالإِسلام، فالمَشْهُورُ: أنه شِبْهُ عَمْدٍ، لا يُوجب القِصَاص. ومَالَ الإِمام إلى وُجُوبِهِ؛ أَخْذاً مما لو ضُرِبَ المَرِيضُ ضَرْباً يَقْتُلُ المَرِيضَ دون الصحيح، وهو لا يَعْلَمُ أنه مَرِيضٌ، فيجب القِصَاصُ (¬4) على الأَظْهَرِ، كما هو مُبَيَّنٌ في الجِنَايَاتِ. ¬
وذكر القاضي الرُّوَيانِيُّ نحو ذلك، وقال: سَمِعْتُهُ من بَعْضِ أصحابنا في النَّظَرِ. هذا حكم القصاص. وأما الدِّيَةُ؛ فالذي أَوْرَدَهُ عَامَّةُ الأصحاب: أنها تجب مُثلَّثَةً، مُؤَجَّلَةً، لكن في مَالِهِمْ، إلا أن تصدقهم العَاقِلَة، فتكون عليهم. وحكى الفَوْرَانِيُّ عن نَصِّ الشَّافعي -رضي الله عنه-: أنها تَجِبُ حَالَّةً، وأن صاحب التقريب (¬1) حمل النَّصَّ على ما إذا كان قد مَضَى من قبل القَتْلِ ثَلاَثُ سنين. وإن القَفَّالَ قال: تجب حَالَّةً بكل حَالٍ؛ لِتَعَدِّيهِمْ، وتَعَمُّدِهِمْ. ولنعد إلى ما يَخْتَصُّ بلفظ الكتاب. قوله: "والنظر في العقوبة والبضع، والمال"، يَرْجِعُ في المعنى إلى التَّقْسِيم الذي قَدَّمْنَاهُ، وهو أن المَشْهُودَ به، إما أن يَتَعَذَّرَ تَدَارُكُهُ، أو لا يَتَعَذَّرَ، والمُتَعَذِّرُ العُقُوَبَاتُ، والأَبْضَاعُ. وغَيْرُ المُتَعَذِّرِ الأَمْوَالُ. لكن قوله: "فالرجوع قبل انقضاء" إلى قوله: "ففي وجوب الإعادة وجهان"؛ لا اختصاص له بالعُقُوبَةِ، بل هو شَامِلٌ لكل مشهود (¬2) به. وقوله: "وإن رَجع بعد القَضَاءِ"؛ يعني في العُقُوبَاتِ، وذلك بَيِّنٌ من تخصيصه (¬3) على المَالِ من بَعْدُ، حيث قال: "أَمَّا المَالُ فيستوفى قطعاً" فكان الأَحْسَنُ أَلاَّ يُدْرجَ المَسَائِلَ في قِسْمِ العُقُوبَاتِ؛ بل يذكرها قبل الشُّرُوعِ في الأَقْسَامِ، ثم يخُوضُ في الأقسام، ويُورِدُ في كُلِّ واحدٍ ما يَخْتَصُّ به. وقوله: "ثلاثة أوجه"، يجوز إِعْلاَمُهُ بالواو؛ لأن من الأَصْحَابِ مَنْ قَطَعَ بأن حُدُودَ الله، لا يجوز استيفَاؤُهَا بعد الرُّجُوعِ. وقوله: "ويُسْتَوْفَى قَطْعاً" كذلك لما سبق. وقوله: "وجب عليه القصاص"، مُعَلَّمٌ بالحاء. وقوله: "أنه كالممسك، أو كالشريك، فيه وجهان"؛ [الوجهان] (¬4)، يَشْمَلاَنِ القِصَاصَ، والدِّيَةَ؛ لأن المُمْسِكَ، ليس عليه قِصَاصٌ، ولا دِيَةَ. والشريك، يَتَعَلَّقُ بفعله القِصَاصُ، والدِّيَةُ. ثم ذكر الوجه الثالث الفارق بين القِصَاصِ، والدِّيَةِ. وقوله: "ولو قال: تعمدت، ولكن ما علمت أنه يُقْتَلُ بقَوْلِي". هذا يَدْخُلُ فيه ما إذا قال: لم أعلم أنه يقتل بما شَهِدْتُ عليه؛ بل ظَنَنْتُ أنه يحبس، أو يؤخذ منه المال وهي الصُّورَةُ التي ذَكَرْنَاهَا، وفَرَّقْنَا بَيْنَ أن يكون قَرِيبَ العَهْدِ بالإِسلام، أو بَعيدَهُ. ¬
ويَدْخُلُ فيه، ما إذا قال: لم أعلم أنه يُقْتَلُ بِقَولِي؛ لأنني ظننت أني أجرح (¬1) بأسباب تَقْتَضِي الجرح، ويمكن أن يجعل هذا خَطَأً. قوله: "ولو ضربه ضَرْباً يقتل المَرِيضَ دون الصحيح". هذه الصُّورَةُ مُكَرَّرَةٌ، وغرض الاسْتِشْهَادِ على ما حَكَيْنَا عن الإِمام دعى إلى إعادتها. فرع: حكى القاضي ابنُ كَجٍّ: أن أبا الحُسَيْنِ قال: لو رجع المَشْهُودُ، وقالوا: أَخْطَأْنَا، وادَّعَوْا: أن العَاقِلَةَ تَعْرِفُ أنهم أَخْطَأوُا، وعليهم الدِّيَةُ، فقالت العَاقِلَةُ: لا نَعْلَمُ، ليس للمشهود تَحْلِيفُهُم، وإنما يُطالب العاقلة، إذا قامت البَيِّنَةُ قال القاضي: ويُحْتَمَلُ أن يُقَالَ: لهم تَحْلِيفُهُمْ؛ لأنهم لو أَقَرُّوا، لَغَرِمُوا. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الطَّرَفُ الثَّانِي فِي البُضْعِ فَإذَا رَجَعُوا بَعْدَ الشَّهَادَةِ عَلَى الطَّلاَقِ، وَبَعْدَ القَضَاءِ، نَفَذَ الطَّلاَقُ، وَعلَيْهِمُ الغُرْمُ، وَكَذَا فِي العِتْقِ وَالرَّضَاعِ المُحَرَّمِ. قَالَ الرَّافعِيُّ: النوع الثَّانِي مما يَتَعَذَّرُ تَدَارُكُهُ غير العُقُوبَاتِ، فمنه الأَبْضَاعُ، فإذا شَهِدَ على طَلاَقٍ بَائِنٍ، كالطَّلاَقِ بالعِوَضِ، والطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، أو على رَضَاعٍ مُحَرَّمٍ، أو لِعَانٍ، أو فَسْخٍ بِعَيْبٍ، أو غيرها من جهات الفِرَاقِ، وقضى القاضي بشَهَادَتِهِمَا، ثم رَجَعَا، لم يُرَدَّ الفِرَاقُ؛ لأن قولهما في الرُّجوعِ محتمل، فلا يُرَدُّ القَضَاءُ بِقَوْلٍ محتمل. لكن يجب الغُرْمُ على الشَّاهِدِينَ، سواء كان قَبْلَ الدُّخُولِ، أو بعده؛ لأنهم فَوَّتَا عليه ما يَتَقَوَّمُ، فَيُغَرَّمَانِ، كما لو شَهِدَا بِعِتْقِ عَبْدٍ، ثم رجعا. وقال أبو حَنِيْفَةَ، ومالك، وأحمد -رحمهم الله-: لا غُرْمَ عليهما بعد الدُّخُولِ، ثم الذي يُغَرَّمَانِ عندنا بعد الدخول، مَهْرُ المِثْلِ بِتَمَامِهِ؛ لأنه قِيمَةُ مَا فَوَّتَاهُ، وفيه قول: أنهما يُغَرَّمَانِ المُسَمَّى؛ لأنه الذي فَاتَ على الزَّوجِ مُتَقَوّماً، والبُضْعُ ليس بِمُتَقَوِّمٍ في الحقيقة. وأما قبل الدخول، فَرِوَايَةُ المُزَنِيِّ: أنهما يُغَرَّمَانِ مَهْرَ المِثْلِ بتَمَامِهِ، ويُحْكَى مِثْلُهُ عن رواية حَرْمَلَةَ، وروى الربيع: أنهما يُغَرَّمَانِ نِصْفَ مَهْرِ المِثْلِ. ونص فيما إذا أَرْضَعَتْ زَوْجَتُهُ الكبيرة زَوجَتَهُ الصغيرة، وانْفَسَخَ النكاح: أن الكَبِيرَةَ تُغَرَّمُ نِصْفَ مَهْرِ المِثْلِ للصغيرة. وللأصحاب -رحمهم الله- طُرُقٌ في مسألة الشهود: أظهرهما: إثبات قولين: إما أَخْذَاً بِرِوَايَةِ راويي المَذْهَبِ، الربيع والمزني -رضي ¬
الله عنهما-، وإما تَصَرُّفاً من نَصِّهِ هاهنا، ونصه في الرَّضَاعِ بالتَّحْرِيمِ، وإليه ذهب الإصْطَخرِيُّ: أحدهما: وهو اختيار المُزَنِيِّ: أن الشَّاهِدَيْنِ لا يُغَرَّمَانِ إلا النِّصْفَ؛ لأنه الذي فَاتَ على الزَّوْجِ، والنصف الثاني عَادَ إليه سَلِيماً، فصار كما لو شَهِدَ على المُشْتَرِي بالإقَالَةِ، وقضى القاضي، ثم رَجَعَا لا يُغَرَّمَانِ شَيْئًا؛ لأنهما وإن فَوَّتَا عليه السِّلْعَةَ، ردًّا إليه الثَّمَنَ. وأصحهما: أنهما يُغَرَّمَانِ جميعه؛ لأنه بَدَلَ ما أَتْلَفُوهُ. والنظر في الإتْلاَفِ، إلى المُتْلف، لا إلى ما قام به على المُسْتَحقّ، ولهذا لو أَبْرَأَتْهُ عن الصَّدَاقِ، وشهَد الشَّاهِدَانِ بالطلاق، ورجعا، يُغَرَّمَانِ، وإن لم يَفُتْ على الزوج شيء. واْصحاب الطريق افْتَرَقُوا؛ فمن مثبت للقولين في صورة الرَّضَاعِ أيضاً، مخرج لإحداهما من هاهنا، ومن قَاطِع بوجوب النِّصْفِ هناك. والفَرْقُ أن الرَّضَاعَ يقطع النِّكَاحَ حَقِيقَةً، كالطلاق، ولا يُفَوِّتُ عليه من المَهْرِ إلاَّ النِّصْفَ، فلا يُغَرَّمُ له، إلا النِّصْفَ. وهاهنا اعترف الشَّاهِدَانِ بالكَذِب. ولا فِرَاقَ في الحقيقة كما يَزْعُمَانِ، لكن حَالا بينه وبين حَقِّهِ، فيُغَرَّمَانِ تَمَامَ القِيمَةِ، كَالغَاصِبِ، يَحُولُ بين المالك ومِلْكِهِ. والطريق الثاني: القَطْعُ بأن الشاهدين يُغَرَّمَانِ مَهْرَ المِثْلِ. والثالث: القطع بأنهما يُغَرَّمَانِ النِّصْفَ، وجعل ما قاله المزني غَلَطاً: حَكَاهُ الشيخ أبو علي. والرابع: إن كان الزَّوْجُ قد سَلَّمَ إليها الصَّدَاقَ، فيُغَرَّمُ الشَّاهِدَانِ جَمِيعَ مهر المثل؛ لأنه لا يتمكن من اسْتِرْدَادِ شيء، لِزَعْمِهِ أنّها زَوْجَتُهُ، وأنها تَسْتَحِقُّ جميع الصَّدَاقِ,. [و] عليه يُحْمَلُ مَنْقُولُ المزني. وإن كان قبل التَّسْلِيمِ، فلا يُغَرَّمَانِ إلا النِّصْفَ؛ لأنها لا تُطَالِبُهُ إلا بالنِّصْفِ، وعلى هذا، يُحْمَلُ مَنقُولُ الربيع. وحُكِيَ في المسألة على طَرِيقَةِ إثبات الخلاف، قَوْلاَنِ آخران: أحدهما: عن القديم، وبه قال أبو حَنِيْفَةَ: أنهما يغرمان (¬1) نصف المسمى؛ لأنه الفَائِتُ على الزَّوْجِ [لا مَهْرَ المِثْلِ، ولا نصفه.] (¬2) والثاني: يُغَرَّمَانِ جَمِيعَ المُسَمَّى؛ لأنه قد بذل، والتَّشَطُّرُ أمر يَخْتَصُّ بالزَّوْجَيْنِ، فَيُجْعَلُ في المسألة أربعة أقوال، كما هي مَذْكورةٌ في الكتاب في باب الرَّضَاعِ. ¬
ولو كان النِّكَاحُ قد جرى على صُورَةِ التَّفْوِيضِ، وشهدا بالطلاق قبل الدخول، والفرض. وقضى القاضي بالطَّلاَقِ والمُتْعَةِ، ثم رَجَعَا، فالخلاف في أن الشَّاهِدَيْنِ يُغَرَّمَانِ مَهْرَ المِثْلِ، أو نِصفَهُ، كما في غير صورة التَّفْوِيضِ. وعلى ما حُكِيَ عن القديم: أنهما يُغَرَّمَانِ المُتْعَةَ التي غَرِمَهَا الزَّوْجُ، وهو مذهب أبي حَنيفَةَ، وبه أجاب ابْنُ الحَدَّادِ. قال الأَصحَابُ: وهو خَطَأٌ، إلا أن يريد التخريج على القَدِيمِ. هذا كله فيما إذا شَهِدَا على الطَّلاَقِ البَائِنِ أما إذا شَهِدَا على طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ، ثم رجعا، نُظِر: إن رَاجَعَهَا، فلا غرم (¬1)، إذا لم يَفُتْ عليه بشهادتهما شَيْءٌ، وإن لم يُرَاجِعْهَا حتى انْقَضَتِ العِدَّةُ، الْتَحَقَ بالطَّلاَقِ البَائِنِ، ووجب الغُرْمُ. هكذا ذكره صاحب "التهذيب". وحكى أبو الفَرَج السَّرَخْسِيُّ عن القاضي الحُسَيْنِ وَجْهاً: أنه لا غُرْمَ، إذا لم يراجع لتقصيره بِتَرْكِ التَّدَارُكِ، وأَطْلَقَ القاضي ابن كَجٍّ وجْهَيْنِ في أن الشَّهَادَةَ على الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ، والرجوع عنها، هل يقتضي غُرْماً؟ ومَالَ إلى المَنْعِ، وحكاه عن ابن أبي هُرَيْرَةَ. فرعان: أحدهما: شَهِدَا بالطلاق، وقضى القاضي، ثم رَجَعَا، وقامت بَيِّنَةٌ على أنه كان بينها وبَيْنَهُ رضاع مُحَرِّمٌ، أو شُهِد له بأنه طَلَّقَهَا اليَوْمَ، ورَجَعَا، وقامت بَيِّنَةٌ على أنه طَلَّقَهَا ثَلاَثاً أمس، فلا شَيْءَ على الراجعين؛ لأنا بَيَّنَّا: أن شهادتهما لم تُفَوِّتْ عليه شَيْئًا، ولو غُرِّمَا قبل تَمَامِ البَيِّنَةِ، استردا المَغْرُومَ. الثاني: شهدا على امْرَأَةٍ: أنها زَوْجَةُ فلان بأَلْفٍ، وقضى القاضي بشهادتهما، ثم رَجَعَا، فالجَوَابُ في "التهذيب": أنه لا غُرْمَ عليهما. وحكى ابن الصَّبَّاغ: أنه إن كان بعد الدُّخُولِ، غرِّمَا ما نَقَصَ عن مَهْرِ المِثْلِ، إذا كان الألف دُونَهُ، [قال] (¬2): وعلى هذا، لو كان قبل الدخول، ثم دَخَلَ بها، يَنْبَغِي أن يُغَرَّمَا ما نقص. وهذا ما أطلقه القاضي ابن كَجٍّ (¬3). ¬
ولو شَهِدَا على أنه طَلَّقَهَا على ألف، ومَهْرُهَا ألفان، فعن ابن الحَدَّادِ، وهو الذي ذكره في "التهذيب": عليهما ألف. وقد وَصَلَ إليه من المرأة أَلْفٌ، وفي كتاب القاضي ابن كَجٍّ أن عليهما مَهْرَ المِثْلِ بعد الدخول، ونِصْفَهُ قبل الدخول، كما لو لم يذكرا عِوَضاً. والأَلْفُ إن قبضه، مَحْفُوظٌ عنده للمرأة؛ لأنه لا يَدَّعِيهِ، وإن لم يقبضه فيقر عند المَرْأةِ إلى أن يَدَّعيه. ومن النوع الثاني العِتْقُ؛ فإذا شَهِدَا على عِتْقِ عَبْدٍ، وقضى القاضي، ثم رَجَعَا غُرِّمَا قِيمَةَ العَبْدِ، ولم يرد العتق، ولا فَرْقَ بين أن يكون المَشْهُودُ بِعِتْقِهِ قِنّاً، أو مُدَبَّراً، أو مُكَاتَباً، أو أُمَّ وَلَدٍ، أو مُعَلَّقَ العِتقِ بِصِفَةٍ (¬1)، خلافاً لأبي حَنِيْفَةَ في أُمِّ الوَلَدِ حيث قال: لا غُرْمَ. ولو شهدا على تَدْبِيرٍ، أو اسْتِيلاَدِ جَارِيةٍ، ثم رجعا بعد القضاء، لم يُغَرَّمَا في الحَالِ؛ لأن المِلْكَ لم يَزُلْ، فإذا مات غُرِّمَا بالرجوع السَّابِق. قال في "التهذيب". وهكذا لو شهدا على تعليق (¬2) العِتْقِ، أو الطَّلاَقِ بصفة، ثم رَجَعَا، وفيهما وجه: أنه لا غُرْمَ؛ لأنهما لم يَشْهَدَا بما يُزِيلُ المِلْكَ. ولو شهدا بِكِتَابَةِ عَبْدٍ، ثم رَجَعَا، وأَدَّى العَبْدُ النُّجُومَ، وعتق ظَاهِراً، ففيما يُغَرَّمَانِ وجهان (¬3): أحدهما: ما بين قِيمَتِهِ وبين النُّجُومِ. ¬
والثاني: جميع القِيمَةِ؛ لأن المُؤَدَّى من كَسبِهِ، وكَسْبُهُ للسَّيِّدِ. ولو شهدا: أنه أعْتَقَهُ على مَالٍ هو دون القِيمَةِ، فقد سَوَّى بينه وبين ما إذا شَهِدَا على أنه طَلَّقَهَا على أَلْفٍ، ومَهْرُ مِثْلِهَا ألفان. ويمكن أن يُفَرَّقَ؛ لأن العَبْدَ يُؤَدِّي من كَسْبِهِ، [وأنه للسيد] (¬1) والزَّوْجَة بخلافه. ومنه إذا شَهِدَا على أنه وَقَفَ عَلَيَّ مَسْجِدٍ، أو جِهَةٍ عَامَّةٍ، ورجعا بعد القَضَاءِ، غُرِّمَا قِيمَتَهُ، ولم يُرَدَّ الوَقْفُ. وكذا لو شهدا على أنه جعل هذه الشَّاةَ ضَحِيَّةً. ويمكن أن يعلم قوْلُهُ في الكتاب: "وعليهم الغُرْمُ" بالحاء، والميم، والألف؛ لأنه أَطْلَقَ، وهم لا يُوجِبُونَ الغُرْمَ، إذا كان بعد الدُّخُولِ على ما تبين. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ شَهِدَ عَلَى المَالِ رَجُلٌ وَامْرَأتانِ أَو عشْرٌ، فَنِصْفُ الغُرْمِ عَلَى المَرْأَةِ، وَنِصْفُهُ عَلَى جَمِيعِ النِّسَاءِ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَى رَضَاعٍ مُحَرَّم وعَشر نِسْوَةٍ، وَرَجَعُوا، فَعَلَى الرَّجُلِ سُدُسٌ، وَعَلَى كُلِّ امْرَأَةٍ نِصْفُ سُدُسٍ، وَيُنَزَّلُ كُلُّ امْرَأتَيْنِ مَنْزِلَةَ رَجُلٍ؛ لِأَنَّ هَدا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسْوَةِ، فَلاَ يَتَوَقَّفُ شَطْرُهُ عَلَى الرَّجُل، وَلَوْ رَجَعُوا إلاَّ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ، فَالصَّحِيحُ أَنْ لاَ غُرْمَ لِقِيَامِ مَا يَسْتَقِلُّ بِكَوْنِهِ حُجَّةً، وَقِيلَ: يَجِبُ حِصَّتُهُم، وَلَوْ رَجَعُوا إلاَّ ثَلاَثَ نِسْوَةٍ، فَفِي وَجْهٍ تَجِبُ حِصَّتُهُمْ، وَعَلَى الصَّحِيحِ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الرَّاجِعِينَ رُبُعُ الغُرْمِ، إِذْ لَمْ يَبْطُل إلاَّ رُبُعُ الحُجَّةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذا الفصل والذي بَعْدَهُ، لا اخْتِصَاصَ له بهذا الطرف. ولو ذكر حكم الغُرْمِ في الأَطْرَافِ الثَّلاثةِ جَمِيعاً، ثم أتى بهذا الفَصْلِ، والذي بعده، كان أَحْسَنَ في النَّظْمِ. والفِقْهُ: أن الرجوع المُغَرَّمَ؛ إما أن يفرض والمحكوم بشهادتهم على الحَدِّ المُعْتَبَر [في الباب، أو يفرض وهم أَكْثَرُ عَدَداً منه. فإن كانوا على الحَدِّ المُعْتَبَرِ] (¬2)، كما لو حكم في العِتْقِ، أو القَتْلِ بشهادة رَجُلَيْنِ، ثم رجعا، فعليهما الغُرْمُ بالسَّوِيَّةِ. وإن رَجَعَ أحدهما، فعليه النِّصْفُ. وكذا لو رُجِمَ في الزِّنَا بشهادة أربعة، فإن رَجَعُوا جَمِيعاً، فعليهم الدِّيَةُ أَرْبَاعاً، وإن رجع بَعْضُهُمْ، فعليه حصته منها، وإن زَادُوا على الحَدِّ المُعْتَبَرِ، كما لو شهد بالعِتْقِ، أو القَتْلِ ثَلاثَةٌ، أو بالزِّنَا خمسة، فإن رجع الكُلُّ، فالغرم مُوَزَّعٌ عليهم بالسَّوِيَّة؛ وإن رجع البَعْضُ، فإما أن يثبت العدد المُعْتَبَرُ على الشهادة، أو لا يَثْبُتَ إلا بعضهم. ¬
الحالة الأولى: إذا ثبت العَدَدُ المُعْتَبَرُ، كما لو رجع من الثَّلاَثةِ في العِتْقِ، أو من الخمسة في الزِّنَا واحد، فوجهان، ويقال: قَوْلاَن: أصحهما: وبه قال أبو حَنِيْفَةَ، وابن سُرَيجٍ، والإصْطَخْرِيُّ، وابنُ الحَدَّادِ: لا غُرْمَ على الراجع؛ لأنه بقي (¬1) من تَقُومُ به الحُجَّةُ، ولو لمَ يَشْهَدُ في الابتداء سِوَى من بَقِيَ، لاكتفينا بِشِهَادَتِهِ، فكأن الرَّاجِعَ لم يَشْهَد. والثاني: وهو اختيار المُزَنِيُّ، وأبي إِسْحَاقَ: أن على الراجع حِصَّتَهُ من الغُرْمِ، إذا وزع عليهم جَمِيعاً؛ لأن الحُكْمَ وَقَعَ بشهادة الجَمِيعِ، وكل منهم قد فَوَّتَ قِسْطاً، فَيُغَرَّمُ ما فوَّتَ. قال في "التهذيب": لا خِلاَفَ أن القِصَاصَ لا يجب، والحَالَةُ هذه، لكن قال الشيخ أبو مُحَمَّدٍ في "الفروق": حكى [لي] (¬2) من أَعْتَمِدُهُ عن الشيخ القَفَّالِ: إنه إذا رَجَعَ وَاحِدٌ من شهود القَتْلِ، وقال: تَعَمَّدْنَا جَمِيعاً، فعليه القِصَاصُ (¬3). وإن ثبت من تَقُومُ به الحُجَّةُ؛ لأن الرَّاجِعَ اعْتَرَفَ على نَفْسِهِ بالقَتْلِ، والمال إنما (¬4) يلزم الراجع، إذا أثرت شهادته تَفْوِيتاً. وإذا ثبت من يُكْتَفَى بشهادته للحكم، يَتَحَقَّق التَّفْوِيتُ في شهادته الثانية، إذا لم يَثْبُتْ في العَدَدِ المُعْتَبَرِ، إلا بعضهم، كما إذا رجع من الثَّلاَثةِ أو الخمسة اثْنَانِ، فعلى الوَجْهَيْنِ في الحالة الأولى: إن قلنا: لا غُرْمَ على الرَّاجعين هناك؛ فَيُوَزَّع الغُرْمُ هاهنا على العَدَدِ المُعْتَبَرِ، وحِصَّةُ من نقص عن العدد المُعْتَبَرِ تُوَزَّع على مَنْ رَجَعَ بالسَّوِيِّةِ، ففي صُوَرِهِ الثلاثة، يكون نِصْفُ الغُرْمِ على الراجعين، لبقاء نصف الحُجَّةِ. وفي صوره الخمسة عليهما رُبْعُ الغُرْمِ، لبقاء ثلاثة أَرْبَاعِ الحُجَّةِ، وإن أَوْجَبْنَا الغُرْمَ على من رَجَعَ هناك، فعلى الرَّاجِعِينَ من الثَلاثة ثُلُثَا الغُرْمِ، وفي الخمسة خمساه. ¬
ورَجَّحَ صاحب "التهذيب" وغيره من هذين الوجهين وُجُوبَ النِّصْفِ على الراجعين من الثلاثة، وفاء برجحان (¬1) الأصل المَبْنِيّ عليه، وهو أنه لا غُرْمَ هناك. وفي "الشامل": أن الأَصَحَّ وُجُوبُ الثلثين عليهما؛ لأن البَيِّنَةَ إذا نقص عَدَدُهَا، زَالَ حُكْمُهَا، وصار الضَّمَانُ مُتَعَلِّقَاً بالإِتْلاَفِ، وقد استوفى فيه. وهذا كله فيما إذا كان جميع الشُّهُودِ ذُكُوراً، أو إِنَاثاً، كما في الرَّضَاعِ، وما يثبت بشهادة النِّسَاءِ المُتَمَحِّضَاتِ. أما إذا انْقَسَمُوا إلى الذُّكُورِ، والإنَاثِ، فإن لم يَزِيدُوا على أقل ما يكفي، كَرَجُلٍ وامرأتين في الرَّضَاع، أو في الأَمْوَالِ، فنصف الغُرْمِ على الرَّجُلِ عند الرجوع، وعلى كُلِّ وَاحِدَةٍ منهما الرُّبُعُ. وإن زادوا على الأَقَلِّ، فالمشهود به: إما أن يثبت بشَهَادَةِ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ، أو لا يثبت. القسم الأول: ما يَثْبُتُ بشَهَادَةِ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ، كالرَّضَاعِ، وهو مؤخر (¬2) في نَظْمِ الكتاب. فإذا شَهَدَ أربع نِسْوَةٍ مع رجل، وَرَجَعُوا جميعاً، فعلى الرَّجُلِ ثُلُثُ الغُرْم، وعليهن ثُلُثَاهُ، وإن رجع الرَّجُلُ وَحْدَهُ، فلا شَيْءَ على أصح الوجهين؛ لبقاء الحُجَّةِ. وكذا لو رجعت امْرَأَتَانِ. وعلى الثاني عليه أو عليهما ثُلُثُ الغُرْمِ. ولو شهد رَجُلٌ وعشر نِسْوَةٍ، ورجعوا، فَعَلَيهِ سدس الغُرْمِ، وعلى كل واحدة نِصْفُ سدسه. وإن رجع (¬3) الرجلَ وَحْدَهُ، أو مع واحدة، أو اثْنَتَيْنِ، أو ثلاث، أو أربع، أو خمس، أو سِتّ، فلا غُرْمَ على الأصح؛ لبقاء الحُجَّةِ. وعلى الثاني -يجب على من رجع حِصَّتُهُ، وإن رَجَعَ مع سَبْعٍ، فعلى أظهر الوجهين السَّابقين، عليهم رُبُعُ الغُرْمِ؛ لِبُطْلاَنِ رُبع الحجة، وإن رجع [مع ثمان، فَنِصْفُهُ؛ لبطلان نِصْفِ الحُجَّةِ، وإن رجع] (¬4) مع تسع، فعليه ثَلاثةُ أَرْبَاعٍ؛ فيكون ما على الذَّكَرِ مِثْلُ ما على الأُنْثَيَيْنِ. وعلى الوجه الثاني -عليهم ما هو حِصَّتُهُمْ، لو رجعوا جَمِيعاً. ولو رجع النساء وَحْدَهُنَّ، فعليهن نِصْفُ الغُرْمِ في أَظْهَرِ الوَجْهَيْنِ. وخمسة أسداسه في الثاني. والقسم الثاني: ما لا يَثْبُتُ بشَهَادَةِ النِّسَاءِ المُتَمَحِّضَاتِ، كالأَمْوَالِ؛ فإذا أوجبنا الغُرْمَ فيها بالرُّجُوعِ، فشهد رَجُلٌ وأربع نسوة، ورَجَعُوا، فوجهان: أحدهما: أن على الرجل ثُلُثَ الغُرْمِ، وعليهن ثُلُثَاهُ، كما في الرّضاعِ. ¬
والثاني: أن نِصْفَ الغُرْمِ عليه، ونصفه عليهن، بخلاف الرَّضَاع؛ لأن المَالَ لا يَثْبُتُ بشهادة النِّسَاءِ -وإن كَثرن - فنصف الحُجَّةِ. تقوم بالرجل مَعَهُنّ كم كُنّ. ويُحْكَى الوَجْهُ عن أبي حَنِيْفَةَ، ومالك، وأبي إِسْحَاقَ، وابن القَاصِّ، وبه أجاب كَثِيرٌ من العِرَاقِيِّينَ. لكن الثاني -أَقْوَى من جهة المعنى- ويُرْوَى عن ابن سُرَيْجٍ، واختيار القَفَّالِ، والشيخ أبي عَلِيٍّ، والإمام، وصاحب "التهذيب"، وهو المذكور في الكتاب، وإذا قلنا به، فلو رَجَعَ النِّسَاءُ، فعليهن نِصْفُ الغُرْمِ. ولو رجعت امْرَأتَانِ، فلا شَيْءَ عليهما لِبَقَاءِ الحُجَّةِ على الأَصَحِّ، كما (¬1) حكينا عن اختيار المُزَنِي، وأبي إِسْحَاقَ، عليهما ربع الغُرْمِ. ولو شهد رَجُلٌ وعشر نسوة، ورجعوا، فعلى الرجل نِصْفُ الغرم، وعلى النسوة النصف، إذا قلنا بالأصح، وعلى الوجه الآخر، على الرجل سُدُسُ الغرم، والباقي عليهن. ولو رجع الرجل دُونَهُنَّ، فعلى الرجل النِّصْفُ على الأَصَحِّ، وعلى الآخر عليه السدس. ولو رجع النساء دُونَهُ، فعليهن نِصْفُ الغرم [على الأصح] (¬2) وعلى الوجه الآخر، خمسة أسداسه، وإذا عَلَّقْنَا نِصْفَ الغُرْم برجوع الرجل، فلو رَجَعَ مع ثَمَانِ نسوة، فعليه النصف، ولا شَيْءَ عليهن؛ بنَاءً على أنه لا يثبت بشهادتهن إلا نصف الحق، وقد بَقِيَ من النساء من يتم (¬3) به الحَقُّ، وعلى ما اختاره المُزَنِيُّ، عليهن أربعة أخماس النِّصْفِ، كما لو رَجَعُوا جميعاً. ولو رجعوا (¬4) مع تِسْعِ نسوة، فعليه النِّصْفُ، وعليهن الرُّبُعُ، لبقاء ربع الحُجَّةِ، وعلى ما اخْتَارَهُ، عليهن تِسْعَةُ أعشار النصف. وإن رجع ثَمَانِ نسوة لا غَيْرَ، فلا شَيْءَ عليهن؛ لبقاء نِصْفِ الحُجَّةِ التي تتعلق بهن، وعلى ما اخْتَارَاهُ عليهن أربعة أخماس النِّصْفِ. وقوله في الكتاب: "ولو شهد على المال رجل وامرأتان، أو عشر"، إنما قال: "أو عشر"، إِشَارَةً إلى أنه لا فَرْقَ على وَجْهِ التنصيف [بين] (¬5) أن يَقِلَّ عَدَدُ النساء، أو يَكْثُر. ويجوز أن يُعَلَّمَ بالواو لِلْوَجْهِ الآخَرِ المذكور في صورة العشر، أما في صورة الرجل والمرأتين، لا يَخْتَلِفُ تَفْرِيعُ الوجهين. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَفِي وُجُوبِ الغُرْمِ عَلَى شُهُودِ الإِحْصَانِ مَعَ شُهُودِ الزِّنَا ثَلاَثةُ أَقْوَالٍ: (أَحَدُهَا): لاَ يَجِبُ شَيْءٌ (والثَّانِي): أَنَّهُ يَجِبُ الشَّطْرُ عَلَيْهِمْ (وَالثَّالِثُ:) أنَّهُ يَجِبُ الثُّلُثُ ¬
عَلَيْهِمْ إِذْ أقَلُّ شَهَادَةِ الإِحْصَانِ اثْنَانِ وَأَقَلُّ شَهَادَةِ الزِّنَا أَرْبَعَةٌ، فلَوْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ شُهُودِ الزِّنَا وَالإِحْصَانِ اجْتَمَعَ مِنَ الأُصُولِ أَقْوَالٌ لاَ تَخْفَى، وَالقَوْلاَنِ جَارِيَانِ فِي أَنَّ شُهُودَ التَّعْلِيقِ فِي الطَّلاَقِ هَلْ يُغْرَمُ مَعَهُمْ شُهُودُ الصِّفَةِ أَوْ يَنفَرِدُ شُهُودُ التَّعْلِيقِ بِالغُرْمِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هل يَتَعَلَّقُ الغُرْمُ برجوع شُهُودِ الإِحْصَانِ؟ فيه وجهان في رِوَايَةِ جماعة؛ منهم المُحَامِلِيُّ، وصاحب "التهذيب"، وقولان في رواية آخرين؛ منهم الإِمام، وصَاحِبُ الكتاب، والقَاضِي الرُّوياني -رحمهم الله-: أحدهما: نعم؛ لأن الرَّجْمَ يَتَوَقَّفُ على ثبوت الزِّنَا, والإِحْصَانِ جميعاً، وعلى هذا، فلو قالوا: تَعَمَّدْنَا جَمِيعاً، لَزِمَهُمُ القصاص (¬1)، كشهود الزِّنَاَ. والثانيِ: وبه قال أبو حَنِيْفَةَ: لا؛ لأنهم لم يَشْهَدُوا بما يُوجِبُ عليه عُقُوبَةً، وإنما وَصَفُوهُ بِصِفَةِ كَمَالٍ، والخِلاَفُ جَارٍ في أن شُهُودَ الصفة مع شهود تَعْلِيقِ الطَّلاَقِ، أو العِتَاقِ، هل يُغَرَّمُونَ إذا رَجعوا؟ أم يختص الغُرْمُ بشهود التعليق؟ والصحيح على ما ذكر صاحب "التهذيب": أن رجوع شهود الإِحْصَانِ، وشهود الصِّفَةِ لا يَقْتَضِي غُرْماً. وعن بعض الأصحاب: أنه يُفَرَّقُ في شهود الإحْصَانِ، بين أن تَتَقَدَّمَ شهادتهم على شهَادَةِ الزنا، فلا غُرْمَ إذا رجعوا، وبين أن يَتَأخَّرَ، فَيُغَرَّمُونَ؛ لترتب الرَّجْمِ على شهادتهم. وإذا قلنا: يَتَعَلَّق [بتعلق] (¬2) الغرْمِ برجوعهم، فكيف يُوَزَّعُ عليهم، وعلى شهود الزِّنَا؟ وجهان: أصحهما: أنه يُعْتَبَرُ نِصَابُ الشهادتين؛ فيكون ثُلُثَا الغُرْمِ على شهود الزنا، وثلثه على شهود الإِحْصَانِ. والثاني: أن نِصْفَه على شُهُودِ الزِّنَا، ونِصْفَهُ على شهود الإحْصَانِ؛ لأنهما صنفان (¬3) مُخْتَلِفَانِ، فَأشْبَهُ ما إذا رَجَعَ القاضي، والشُّهُودُ، يكون نصف الدِّيَةِ عليه، ونِصْفُهَا عليهم، ولا يَجِيءُ في شهود الصِّفَةِ، إذا علقنا الغُرْمَ برجوعهم، إلا النصف. إذا عُرِفَ ذلك، فلو شَهِدَ أربعة بالزِّنَا، واثنان سِوَاهُم بالإحْصَانِ، وَرَجَعُوا جميعاً بعدما رُجِمَ، فَالضَّمَانُ على شُهُودِ الزنا، إن لم يُغَرَّمْ شهود الإحْصَانِ. وعلى الصنفين (¬4) جميعاً، إن غَرَّمْنَاهُم بالسَّوِيَّةِ إن نَصَّفْنَا، أو أَثْلاَثاً إن ثَلَّثْنَا. وإن رجع وَاحِدٌ من شهود الزِّنَا، وواحد من شَاهِدي الإحْصَانِ، فإن لم يُغَرَّمْ شُهُودُ الإِحْصَانِ، فعلى الراجع من شُهُودِ الزنا، [رُبُعُ الغُرْمِ، وإن غَرَّمْنَاهُمْ، فإن نَصَّفنَا، ¬
فعلى الراجع من شُهُودِ الزنا] (¬1) ثُمُنُ الغُرْمِ، وعلى الآخر رُبُعُهُ. وإن ثَلَّثْنَا، فعلى كل واحد منهما سُدُسُه. وإن رجع واحد من أحد الصِّنْفَيْنِ لا غير، ففيما عليه هذا الخِلاَف. ولو شهد أربعة بالزِّنَا، والإحصان جميعاً، ثم رَجَعَ أَحَدُهُمْ، فإن لم يُغَرَّمْ شُهُودُ الإحْصَانِ، فَعليه رُبُعُ الغُرْمِ، وإن غَرَّمْنَاهُمْ، فقد بقي هاهنا من تَقُومُ به حجة الإحْصَانِ، فإَن غَرَّمْنَا الراجع مع ثَبَاتِ من تَقُومُ به الحُجَّةُ، فعليه الرُّبْعُ أيضاً، كما لو رَجَعُوا جميعاً، وإن لم يُغَرَّمْ، فلا ضَمَانَ بِسَبَبِ الإِحْصَانِ، وأما بسبب الزِّنَا؛ فإن نَصَّفْنَا، فعليه ثُمُنُ الغُرْمِ، وإن ثَلَّثْنَا فَسُدُسُهُ، وإن رجع ثلَاثة، وثَبَتَ واحد، فقد بَطَلَ ثَلاثة أرباع حُجَّةِ الزنا، ونصف حجة الإِحْصَانِ. فإن لم نغرم (¬2) شُهُود الإحصان، فعليهم ثَلاثَةُ أرباع الغُرْمِ، وإن غَرَّمْنَاهُمْ، فعلى كل وَاحِدٍ إن نَصَّفْنَا للرجوع عن شهادة الزِّنَا ثمن الغُرْمِ، والرجوع عن شهادة الإِحْصَانِ نصف سُدُسِهِ، بِتَوْزِيعِ نِصْفِ غُرْمِ الإحصان عليهم. وإن ثَلَّثْنَا، فعلى كل واحد الرُّجُوعُ عن شَهَادَةِ الزِّنَا سدس الغُرْم، تَوْزِيعاً للثلثين على الأَرْبَعَةِ؛ ولِلرُّجُوع على شَهَادَةِ الإحصان ثلُث سُدُسِهِ، تَوْزِيعاً لنصفَ غُرْمِ الإِحْصَانِ على الراجعين. ولو شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بالزنا، واثنان منهم بالإِحْصَانِ، ورَجَعُوا بَعْدَما رُجِمَ، فإن لم يُغَرَّمْ شُهُودُ الإحصان في المَسَائِلِ السابقة، فكذا هاهنا, ولا أَثَرَ لِشَهَادَةِ الإِحْصَانِ. وإن غَرَّمْنَاهُمْ، فهل يُغَرَّمُ شُهُودُ الإِحْصَانِ هاهنا زِيادَةٌ؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ كما في الصورة السابقة. والثاني: لا؛ لأن الشَّهَادَةَ، والرجوع، كَجِنَايَةٍ على جانيين (¬3) يستوون في الدِّيَةِ، وإن قلنا: بالأَوَّلِ عاد الخِلاَفُ، إن نَصَّفْنَا على اللذين شَهِدَا بالإحصان ثلاثة أرْبَاعِ الغُرْمِ؛ النصف لِشَهَادَةِ الإِحْصَانِ، والربع لشهادة الزِّنَا وعلى الآخرين الرُّبُعُ. وإن ثَلَّثْنَا، فعلى الذين شهدا بالإِحْصَانِ الثلث، لِشَهَادَةِ الإِحْصَانِ، والثلث لِشَهَادَةِ الزِّنَا. وعلى الآخرين الثلث. فإن رَجَعَ وَاحِدٌ منهم، فإن لم يُغَرَّمْ شهود الإِحْصَانِ، فعليه رُبُعُ الغُرْمِ، وإن غَرَّمْنَاهُم، فإن الرَّاجِعَ من اللَّذَيْنِ شهدا بالإحْصَانِ، فإن نَصَّفْنَا، فعليه ثَلاثَةُ أَثْمَانِ الغُرْمِ، ثمن لشهادة الزنا، والباقي (¬4) لشهادة الإحْصَانِ. ¬
وإن ثَلَّثْنَا، فعليه ثُلُثُ الغُرْمِ، سدس لهذه، وسدس لهذه، وإن كان الرَّاجِعُ من الآخرين، فإن نَصَّفْنَا، فعليه ثُمُنُ الغُرْمِ. وإن ثَلَّثْنَا فالسُّدُسُ. ولو شهد ثَمَانِيَةٌ بالزنا والإحصان، ثم رجع أحدهم، فلا غُرْمَ على الأَصَحِّ؛ لبقاء الحُجَّتَيْنِ. وكذا لو رجع ثَانٍ، وثالث، ورابع، وإن رجع خامس؛ فقد بَطَلَتْ حُجَّةُ الزِّنَا، ولم تبطل حُجَّةُ الإحصان، فإن لم يُغَرَّمْ شهود الإِحْصَانِ، فعلى الخَمْسَةِ رُبُعُ الغُرْمِ؛ لبطلان ربع الحجة، وإن غَرَّمْنَاهُمْ فلا غُرْمَ هاهنا، لِشَهَادَةِ الإحْصَانِ على الأصح؛ لبقَاء حُجَّتِهِ. ويُغَرَّمُ الراجعون، رُبُعَ غُرْمِ الزنا، والسدس، إن ثَلَّثْنَا وَالثمن، إن نَصَّفْنَا. وإن رجع ستة، فعليهم نِصْفُ غُرْمِ الزنا، وهو الثلث إن ثَلَّثْنَا، والربع إن نَصَّفْنَا، وإن رجع سَبْعَةٌ، فقد بَطَلَتِ الحُجَّتَانِ، ولا يخفى قِيَاسُهُ مما ذكرنا. وقوله في الكتاب: "اجتمع في الأصول أقوال لا تَخْفَى" أحد الأصول المشار إليها، أن شُهُودَ الإِحْصَانِ، هل يُغَرَّمُونَ؟ والثاني: أنهم إن غرموا، كم يُغَرَّمُونَ؟ والثالث: أنه إذا رجع بَعْضُ الشهود، وبقي من تَقُومُ به الحُجَّةُ، هل يُغَرَّمُ مَنْ رجع؟ وقد عرفت هذه الأُصُولَ والأَقْوَالَ الحَاصِلَةَ منها. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الطَّرَفُ الثَّالِثُ: الرُّجُوعُ فِي عَيْنِ مَالٍ يُتَوَقَّع رُجُوعُهُ بِإقْرَارِ الخَصْمِ هَلْ يُوجِبُ الغُرْمَ فِي الحَالِ لِلْحَيلُولَةِ؟ فيه قَوْلاَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تقدم أن المَشْهُودَ به؛ إما أن يَتعَذَّرَ تَدَارُكهُ، أَوْ لا يَتَعَذَّرَ. وقد فَرَغْنَا من القَوْلِ فيما يتعذَّرُ تَدَارُكهُ. والقسم الثاني: ما لا يَتَعَذَّرُ؛ وهي الأَمْوَالُ، أَعْيَانُهَا، ودُيُونُهَا، وإذا شهد الشُّهُودُ لإنسان (¬1) بمال، ثم رجعوا بعد دَفْعِ المال إليه، لم يُنْقَضِ الحُكْمُ، ويُرَدُّ المَالُ إلى المُدَّعَى عليه، لاحتمال أنهم كَاذِبُونَ في الرُّجُوعِ. وفي "العدة" حكاية وَجْهٍ: أنه يُنْقَضُ الحُكْمُ، ويُرَدُّ المال إلى المَحْكُومِ عليه، والمذهب الأول، وهل يُغَرَّمُ الشُّهُودُ للمحكوم عليه؟ نقل المزني: أنهم لا يُغَرَّمُونَ، وقد قَطَعَ به من الأَصْحَاب طَائِفَةٌ؛ منهم: ابن خَيْرَانَ، وتوجها بأن الشُّهُودَ لم يثبتوا (¬2) اليَدَ على المال، ولم يَتَلَقَّوْهُ، فلا يضمنون. وإن أَتَوْا بما يُفْضِي إلى الفَوَاتِ، كمن حَبَسَ المالك (¬3) عن مَاشِيَتِهِ حتى ضَاعَتْ، ¬
وليس كالشَّهَادَةِ على الطَّلاَقِ، والعِتْقِ؛ لأن هناك وُجِدَ التَّفْوِيتُ حَقِيقَةً، فإنهما لا يريدان، وإن صَدّقَ العَبْدُ والمرأة الشُّهُودَ في الرجوع، وهاهنا لم يوجد تَفوِيتٌ حَقِيقَةً؛ لأن المَشْهُودَ عليه لو صدقهم في الرُّجُوعِ، لَزمَهُ رَدُّ المَالِ، وَأكْثَرُ الأصحاب، وفيهم ابن سُرَيْجٍ، وأبو إِسْحَاقَ. قالوا: في المسألة قولان: أحدهما: أنهم لا يُغَرَّمُونَ؛ لما ذكرناه. والثاني: وبه قال أبو حَنِيْفَةَ، ومالك، وأحمد -رحمهم الله-: أنهم يُغَرَّمُونَ، لِحُصُولِ الحَيْلُولَةِ بشهادتهم. وما يضمن بالتَّفْوِيتِ [بغير الشهادة، ينبغي أن يُضْمَنَ بالتَّفْوِيتِ] (¬1) بالشهادة، كالنَّفْسِ. وهذا القول عند العراقيين، والإمام، وغيرهم، أرْجَحُ. وذُكِر في "العدة": أن الفَتْوَى عليه وأن ظاهر المَذْهَب: أَنَّهُمْ لا يُغَرَّمُونَ، واخْتَلَفُوا في حَالِ القَوْلَيْنِ فذكر الشيخ أبو حَامِدٍ ومن اتَّبَعَهُ: أنهما (¬2) مَنْصُوصَانِ، والتَّغْرِيمُ فيهما للقديم (¬3) وقيل: المَنْصُوصُ، أنهم لا يُغَرَّمُونَ، والآخر مُخَرَّجٌ. وقيل: هما مَبْنِيَّانِ على القولين فيما إذا قال: غصبت هذه الدَّارَ من فلان، [بل من فلان] (¬4)، تُدْفَعُ الدَّارُ إلى الأول. وهل يُغَرَّمُ الثَّاني؟ على قولين فينزل رجوع الشاهد مَنْزِلَةَ رُجُوعِ المقر. وذكر القاضي ابْنُ كَجٍّ: أن النَّصَّ فيما إذا شَهِدُوا بِعَيْنٍ، ثم رجعوا، أنهم لا يُغَرَّمُونَ. وفيما إذا شَهِدُوا بِدَيْنٍ، ثم رجعوا، أنهم يُغَرَّمُونَ، فحصل القَوْلاَنِ من تَخْرِيجِ كُلِّ واحد منهما في صورة الآخر. ويجوز أن يُعَلَّمَ لَفْظُ "القوْلَيْنِ" في الكتاب بالواو لطريقة مَنْ قَطَعَ بنفي الغُرْمِ. فروع: شهد الشُّهُودُ على أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ في الرَّقِيقِ؛ أنه أَعْتَقَ نَصِيبَه، وهو مُوسِرٌ، فقضى القاضي بِعِتْقِهِ، وبالسِّرَايَةِ، ثم رجعوا، فعلى الشُّهُودِ قِيمَةُ نَصِيبِ المشهود عليه. وفي قِيمَةِ نَصِيب الشريك الخِلاَفُ، في غُرمِ المال، وشُهُود القَتْلِ الخَطَإِ، إذا رجعوا بعدما غرم العاقلَة، هل يُغَرَّمُونَ؟ فيه الخلاف. ولو حكم القاضي بِشَهَادَةِ شهود الفرع، ثم. رجعوا، غُرِّمُوا. ولو رجع شُهُودُ الأَصْلِ، وقالوا: كذبنا، فكذلك يُغَرَّمُونَ، خِلاَفاً لأبي حَنيفَةَ. ¬
ولو رجع الأُصُولُ، والفُرُوعُ جميعاً، فالغُرْمُ على شهود الفَرْعِ؛ لأنهم يُنْكِرُونَ إِشْهَادَ الأُصُولِ، ويقولون: كذبنا فيما قلنا، والحُكْمُ وقع بِشَهَادَتِهِمْ، وحيث وَجَبَ على الرَّاجِعِ عُقُوبَةٌ من قِصَاصٍ، أو حَدِّ قَذْفٍ، دخل التَّعْزِيرُ فيها. فإذا لم تجب عُقُوبَةٌ، واعترف بالتعمد، فَيُعَزَّرُ. ولو شَهِدَ أَرْبَعَةٌ على إِنْسَانٍ بأربعمائة، ثم رَجَعَ وَاحِدٌ منهم عن مائة، وآخَرُ عن مائتين، وثالِثٌ عن ثلاثمائة، والرَّابعُ عن الجَمِيع؛ فالبَيِّنَةُ بَاقِيَةٌ بِتَمَامِهَا في مائتين، وأصح الوَجْهَيْنِ: أنه لا يجب غُرْمُهُمَا، وَيجِبُ على الأربعة غُرْمُ المائة. المَرْجُوعِ عنها باتِّفَاقِهِمْ، وعلى الثاني، والثالث، والرابع، ثَلاثةُ أرباع المائة التي اختَصُّوا بالرُّجُوعِ عنها. والوجه الثاني: أن عَلَى كُلِّ رَاجِعٍ حِصَّته فيما رجع عنه، فعلى الأَوَّل، خمسة وعشرون، وعلى الثَّاني خمسون، وعلى الثالث خمسة وسبعون، وعلى الرابع، مِائَةٌ. والشَّهَادَةُ على الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ، والرجوع عنها، هل تَقْتَضِي غُرْماً؟ فيه تفصيل، وخِلاَفٌ أَسْلَفْنَاهُمَا. قال أبو الحَسَنِ العَبَّادِيُّ: إن أَوْجَبْنَا الغُرْمَ في الحال، وغرم الشهود، ثم راجعها الزَّوْجُ، فهل عليه رَدُّ ما أخذ؟ فيه احتمالان؛ بِنَاءً على ما إذا وَطِئَ الرَّجْعِيَّةَ، ثم رَاجَعَهَا -هل يَلْزَمُهُ المَهْرُ؟ قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَمَّا إِذَا ظَهَرَ كَوْنُ الشَّاهِدِ عَبْدَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ أَوْ صَبِيَّيْنِ بَانَ بُطْلاَنُ القَضَاءِ وَانْدَفعَ الطَّلاَقُ وَالعِتَاقُ، وَإِنْ كَانَ فِي قَتْلٍ وَجَبَ الغُرْمُ عَلَى القَاضِي لِخَطَئِهِ، وَفِي رُجُوعِهِ عَلَى الشُّهُودِ كَلامٌ سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قَضَى القاضي بشَهَادَةِ اثنين، ثم بَانَ أنهما كَانَا عَبْدَيْنِ، أو كافرين، أو صَبِيَّيْنِ مُرَاهِقَيْنِ، [فقد] (¬1) مَرَّ في آخر الباب الأول من الشَّهَادَاتِ، أنه [يُنْقض] (¬2) حُكْمُهُ، وكذا لو [بانا] (¬3) فاسِقَيْنِ في أَصَحِّ القولين. وقوله هاهنا: "بان بُطْلاَنُ الحكم" إِشَارَةً إلى ما ذكره الإِمَامُ؛ أن القَضَاءَ ليس أَمْراً يعقد ويحلّ، وإنما المُرَادُ تَبَيُّنُ الأَمْرِ على خلاف ما ظَنَّهُ، وحَكَمَ به (¬4)، فإن كان المَشْهُودُ ¬
به طَلاَقاً، أو عتاقاً، أو عَقْداً من العقود, فقد بَانَ أنه لا طَلاَقَ، ولا عِتَاقَ، ولا عَقْدَ. فإن كانت المَرْأَةُ قد ماتت [فقد ماتت] (¬1) وهي مَنْكُوحَتُهُ، فإن (¬2) مات العَبْدُ، مات وهو رَقِيقٌ، ويجب ضَمَانُهُ على ما سنذكره في ضَمَانِ الأَمْوَالِ؛ وإن كان المَشْهُودُ به قَطْعاً، أو قَتْلاً، أو حَدّاً، واستوفي وتَعَذَّرَ التَّدَارُكُ، فَضَمَانُهُ في بَيْتِ المَالِ على أَحَدِ القولين، وعلى عَاقِلَةِ القاضي في أَظْهَرِهِمَا على ما هو مُقَرَّرٌ في باب ضَمَانِ الوِلاَدَةِ، وإنما تَعَلَّقَ الضمان بالقاضي؛ لأنه أَهْلَكَهُ بحكمه الذي أَخْطَأ فيه، وكان من حَقِّهِ أن يَتَفَحَّص، وَيثبَّتَ، ولا يجب الغُرْمُ على المَشْهُودِ له؛ لأنه يقول: استَوْفَيْتُ حَقِّي. ولا يضمن الشهود؛ لأنهم ثَابِتُونَ على شَهَادَتِهِمْ، زَاعِمونَ صدقهم، بخلاف ما في صُورَةِ الرُّجُوعِ. وإذا غرم العاقلة، أو بيت المال، فهل يَثْبُتُ الرُّجُوعُ على الشُّهُود؟ فيه خلاف، وتفصيل مَذْكُورَانِ في باب ضَمَانِ الولاة. والذي أَجَابَ به أَصْحَابُنَا العراقيون: أنه لا رُجُوعَ عليه. قالوا: وكذا لا رَجُوعَ على المزكيين؛ لأن الحُكْمَ غير مَبْنيٍّ على شهادتهم. وعن القاضي أبي حَامِدٍ: أن الغَارِمَ يرجع على المزكين (¬3)، ويَسْتقِرُّ عليهم الضَّمَانُ، بخلاف الشُّهُودِ؛ لأنه يثبت عند القاضي، أن الأَمْرَ على خلاَفِ ما ذكره المزكون، ولم يَثْبُتْ أنه على خلاف ما ذكره الشُّهُودُ، وإلى هذا مال القَاضِيَانِ -أبو الطَّيِّبِ، والرُّوَيانِيُّ- ومَفْهُوم ما ذكروه: أنه يجوز تَغْرِيمُ المزكي أَوَّلاً، ثم لا رجُوعَ له على القاضي. وأَلَمَّ الإِمَامُ بِمِثْلِ ذلك في الشهود، إذا قُلْنَا بِثُبُوتِ الرُّجُوعِ عليهم، ولا فَرْقَ فيما ذكرناه في تعليق الضَّمَانِ؛ بالقاضي (¬4) بين أن يكون الحُكْمُ في حَدِّ الله تعالى، أو في قِصَاصِ الآدَمِيِّ، ولا إذا كان (¬5) في قِصَاص بين أن يَسْتَوْفِيَه المُدَّعِي، وبين أن يَسْتَوْفِيَهُ القاضي بنفسه، أو يفوض استيفاء بإذن المُدَّعِي إلى غيره. وقد مَرَّ في "أدب القضاء" عن الإصْطَخْرِيِّ: أن المُدَّعِي إن اسْتَوْفَاهُ بنفسه، ¬
فالضَّمَانُ عليه، وإنما يَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ بالقاضى، إذا بَاشَرَ الاسْتِيفَاءَ، أو فَوَّضَهُ إلى غير المُدَّعِي بإذنه. وإن كان المَحْكُومُ به مالاً؛ فإن كان بَاقِياً عند المَحْكُومِ له، انْتُزع وَرُدَّ، وإن كان تَالِفاً، أُخِذَ منه ضَمَانُهُ. وحكى الشيخ أبو حَاتِمٍ القزويني وَجْهاً: أنه إذا كان التَّلَفُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، لم يلزمه الضَّمَانُ، والمَشْهُورُ الأول، وفَرَّقُوا بَيْنَهُ وبين [الإتلافات، حيث] (¬1) قلنا: لا غُرْمَ عليه، فيها بأن [الإتلافات] (¬2) إنما تُضمن إذا وقع على وَجْهِ التَّعدِّي، وحكم القاضي أَخْرَجَهُ عن أن يكون مُتَعَدِّياً، وأما المال فإذا حَصَلَ في يد إنسان بغير حَقٍّ، كان مَضْمُوناً، وإن لم يُوجَدْ منه تَعَدٌّ، فإن كان المَحْكُومُ له مُعْسِراً، أو غَائِباً، فللمحكوم عليه مُطَالَبَةُ القاضي، ليغرم له من بيت المال على أحَدِ القولين، ومن خَالِصِ ماله على الثاني؛ لأنه ليس بدل النَّفْسِ حتى يَتَعَلَّقَ بالعَاقِلَةِ، ثم الحاكم يرجع على المحكوم له، إذا ظَفِرَ به مُوسِراً، وهل له الرُّجُوعُ على الشهود؟ جعله الإمَامُ على الخِلاَفِ. والتفصيل المُشَارُ إليه في الإِتْلاَفاتِ ويجيء (¬3) أن يُقَالَ على قِيَاسِ مَا مَرَّ؛ أن المَحْكُومَ عليه يَتَخَيَّرُ في تغريم القاضي، وتَغْرِيمِ المَحْكُومِ له. والله أعلم بالصواب. ¬
كتاب الدعاوى والبينات
كِتَابُ الدَّعَاوَى وَالبَيِّنَاتِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَمَجَامِعُ الخُصُومَاتِ تَدُورُ عَلَى خَمْسَةٍ: الدَّعْوَى وَالجَوَاب وَاليَمِينُ وَالنُّكُولُ وَالبَيِّنَةُ، الأَوَّلُ: الدَّعْوَى وَفِيهِ مَسَائِلُ: الأُولَى فِيمَنْ يَحْتَاجُ إِلَى الدَّعْوَى، وَمَنْ غُصِبَ مِنْهُ شَيْءٌ وَقدَرَ عَلَى اسْتِرْدَادِهِ قَهْراً مِنْ غَيْرِ تَحْرِيكِ فِتْنَةٍ جَازَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَلزَمْهُ الرَّفْعُ إِلَى القَاضِي، فَإِنْ كَانَ حَقُّهُ عُقُوبَةً فَلاَ بُدَّ مِنَ الرَّفْعِ إِلَى القَاضِي، وَإنْ كَانَ حَقُّهُ دَيْناً وَمَنْ عَلَيْهِ مُقِرٌّ مُمَاطِلٌ فَلاَ بُدَّ مِنْ رَفْعِهِ، وَإِنْ كَانَ يَتَعَذَّرُ رَفْعُهُ بِتَعَزُّزِهِ أَوْ تَوَارِيهِ فَإنْ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ فَلَهُ أَخْذُهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ ظَفِرَ بِغَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ فَقَوْلاَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يقال: ادَّعَيْتُ على فلان كذا ادِّعَاءً. والاسْمُ الدَّعْوَى، والادِّعَاءُ: افتعالٌ (¬1) من الدَّعْوَةِ؛ كان المُدِّعِي يَدْعُو المدِّعي (¬2) إلى نَفْسِهِ (¬3)، ولا يُشْتَرَطُ في وقوع اسْمِ المُدِّعي على الشَّخْصِ من جهة اللُّغَةِ أن يكون المُدَّعَى في يَدِ غيره، أو في ذِمّتِهِ، ¬
بل يقع الاسْمُ عليه مع كون الشَّيْءِ عنده. ومنه الادِّعَاءُ في الحَرْبِ، وهو الاعتزاز بأن يقول: أَنا فلان ابن فلان. وقيل: الدَّعْوَى في اللغة التَّمَنِّي؛ ومنه قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 31]. وأما لَفْظَةُ البَيِّنَةِ فهي بَيِّنَةٌ، والأحاديث التي هي أُصُولُ الباب مَشْهُورَةٌ، نحو ما رُوِيَ عن ابنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ" (¬1) ويُرْوَى: "لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بدَعْوَاهُمْ، لاَدَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأمْوَالَهُمْ" (¬2). ويُرْوَى أن رَجُلاً من "حَضْرَمَوْتَ" وآخَرَ مِن "كِنْدَةَ" أَتَيَا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال الحَضْرَميُّ: يَا رَسُولَ الله: إن هذا غَلَبَنِي على أَرْضٍ لي كانت لِأَبِي، فقال الكِنْدِيُّ: هي أَرْضِي في يَدِي أَزْرَعُهَا، ليس له فيها حَقٌّ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لِلْحَضْرَمِيِّ: "أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ ". قال: لا. قال: "فَلَكَ يَمِينٌ". قال: يا رَسُولَ الله: إن الرَّجُلَ فَاجِرٌ لا يُبَالِي على ما حَلَفَ عليه -قال: "لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إلاَّ ذَلِكَ" (¬3). هذا تَمْهِيدُ الكتاب. قال حُجَّةُ الإِسلاَم: "وَمَجَامِعُ الخُصُومَاتِ تَدُورُ على خمسة: الدعوى، والجَوَاب، واليَمِينُ، والبَيِّنَةُ، والنُّكُولُ". وذلك لأن المُتَخَاصمين في الخُصُومَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، أحدهما طالب، وطَلَبُ الحَقِّ هو: الدَّعْوَى، وحُجَّتُهُ عليه: البَيِّنَةُ، والآخر مَطْلُوبٌ منه، فإن أجاب بالإقْرَارِ فذاك، وإن أَنْكَرَ فَحُجَّتُهُ اليَمِينُ، وإن نكَلَ لم يُقْنَعْ منه بذلك، بل تُرَدُّ اليَمِينُ على الطَّالِبِ، وكلام الكتاب في بَيَانِ هذه الأمور الخَمْسَةِ، وأحكامها. الأول: الدَّعْوَى -وفيه مَسَائِلُ: ¬
إحداها: في أن المستحقّ متى يَحْتَاح إلى المُرَافَعَةِ والدَّعْوَى، والحَقُّ إما عُقُوبَةٌ أو مَالٌ؛ إن كان عُقُوبَةً كالقِصَاصِ، وحَدِّ القَذْفِ، فَلاَ بُدَّ فيه من الرَّفْعِ إلى الحَاكِمِ، لعظم خَطَرِهِ، والاحتياط في [إثباته] (¬1) أَوَّلاً (¬2)، واسْتِيفَائِهِ على ما تَقْتَضِيهِ السِّيَاسَةُ من وجوه الناس ثانياً. وإن كان مَالاً، فهو إما عَيْنٌ، أو دَيْنٌ؛ إن كان عَيْناً، فإن قَدَرَ على اسْتِرْدَادِهَا من غير تَحْرِيكِ فتنة، اسْتَقَلَّ به، وإلا فَلاَ بُدَّ من الرَّفْعِ (¬3). وأما الدَّيْن فإن كان مَنْ عليه مُقِرّاً غَيرَ مُمْتَنِعٍ من الأداء، فَيُطَالِبُهُ لِيُؤَدِّيَ، وليس له أن يَأْخُذَ شَيْئًا من مَالِهِ؛ لأن الخِيَارَ في تَعْيِينِ المال المَدْفُوعِ إلى مَنْ عليه، فإن خَالَفَ وَأَخَذَ شَيْئًا من مَالِهِ رَدَّهُ، فإن تَلِفَ عنده وَجَبَ ضَمَانُهُ، فإن اتَّفَقَا جاء خِلاَفُ التَّقَاصِّ، وإن لم يكن كذلك، فإمَّا أن يُمَكَّنَ من تحصيل الحَقِّ منه بالقَاضِي، أَوْ لا يُمَكَّنَ. إن لم يمكن بأن كان مُنْكِراً ولا بَيِّنَةَ لصاحب الحَقِّ، فله أن يأخذ جِنْسَ حَقِّهِ من مَالِهِ، إن ظَفِرَ به، ولا يَأْخُذُ غَيْرَ الجِنْسِ، وهو ظَافِرٌ بالجنس. وفي "التهذيب" وَجْهٌ: أنه يجوز، وإن لم يَجِدْ إلا غَيْرَ الجنس. حَكَى جَمَاعَةٌ من الأصحاب منهم الفَوْرَانِيُّ [والإمام] (¬4)، وصاحب الكتاب في جواز ¬
الأَخْذِ قولين (¬1): أحدهما: المنع؛ لأنه لا يَتَمَكَّنُ من تَمَلُّكِهِ، وليس له أن يَبِيعَ مَالَ غَيْرِهِ لنفسه. والثاني: الجَوَازُ -وهو الَّذِي أَوْرَدَهُ عَامَّةُ الأَصْحَاب -رحمهم الله- لما رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ هِنْداً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ -إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجْلٌ شَحِيحٌ وَإِنَّهُ لاَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ سِرّاً وَهُوَ لاَ يَعلَمُ- فَهَل عَليَّ في ذَلِكَ شَيْءٌ؟ فقال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ" (¬2) جَوَّزَ لها الأخْذَ من غير فَرْقٍ بين الجِنْسِ وغير الجنس. وقال أبو حَنِيْفَةَ: يأخذ جِنْسَ حَقِّهِ، ولا يَأْخُذُ غَيْرَ الجِنْسِ، إلا أن يكون حَقُّهُ الدَّرَاهِمَ، فيأخذ الدَّنَانِيرَ، وبالعكس. وعن أحمد أنه لا يَأْخُذُ الجِنْسَ، وهذه رواية عن مَالِكٍ، والأَشْهَرُ عنه، أنه [إن] (¬3) لم يكن على المَدْيُونِ دَيْنٌ آخر، فله أَخْذُهُ، وإن كان فلا يأخذ إلا قَدْرَ حِصَّتِهِ، وإن أَمْكَنَ تحصيل (¬4) الحق بالقاضي؛ بأن كان مُقِرّاً، لكنه يَمْتَنِعُ من الأَدَاءِ، أو كان مُنْكِراً، وللمستحق بَيِّنَةٌ، فهل يَسْتَقِلُّ بالأخذ، أم تجب (¬5) المُرَافَعَةُ؟ فيه وجهان: أحدهما: المَنْعُ من الاسْتِقْلاَلِ، كما لو أَمْكَنَهُ تَحْصِيلُ الحَقِّ بالمُطَالَبَةِ والتَّقَاضِي. ومن قال بهذا، قال: لو كان مُنْكِراً ولا بَيِّنَةَ، ولكن صاحب الحق يَرْجُو إِقْرَارَهُ لو أحضره عند القَاضِي، وعَرَضَ عليه اليَمِينَ، وجب إِحْضَارُهُ أيضاً. وأصحهما: على ما ذكر القَاضِيَانِ: أبو الطيب، والروياني ويُحْكَى عن أبي إسحاق وابن أبي هُرَيْرَةَ أنه يَجُوزُ الاسْتِقْلاَلُ (¬6)، لحديث هِنْدٍ بأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يَأْمُرْهَا بالمُرَافَعَةِ؛ لأن في المرافعة مُؤْنَةً ومَشَقَّةً وتَضْيِيعَ زَمَانٍ، والمذكور في الكتاب هو الوَجْهُ الأول. وقوله: "وإن تَعَذَّرَ رَفْعُهُ بِتَعَزُّزِهِ، أو تَوَارِيه، فإن ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ، فله أخذه". الحكم على ما ذَكَرَهُ مَنُوطٌ بِتَعَذُّرِ رَفْعِ الخَصْمِ إلى القاضي. وعلى هذا فالغَائِبُ كالمُتَعَذِّرِ والمُتَوارِي، وكذلك هو في كلام الإِمَامِ ونَاَطَ صاحب "التهذيب" وغيره الحُكْمَ بِتَعَذُّرِ ¬
تحصيل الحَقِّ لا بتعذر رفع الخصم، وقَضِيَّتُهُ أن يكون الغَائِبُ والمُتَوَارِي والمتعذر كالحاضر المقر؛ لإمْكَانِ تَحْصِيل الحَقِّ منهم، بإقامة البَيِّنَةِ عند القَاضِي. ولا بَأْسَ لو أعلم قوله: "فله أخذه" بالميم والأَلف؛ لما سَبَقَ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَإِنْ قُلْنَا: يَأْخُذُ فَيَرْفَعُهُ إلَى القَاضِي حَتَّى يَبِيعَ فِي حَقِّهِ بَعْدَ إِقَامَةِ البَيِّنَةِ عَلَى أنَّهُ يَسْتَحِقُّ المَالَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَسْتَقِلُّ بِالبَيْعِ بِجِنْسِ حَقِّهِ، وَقِيلَ: بَلْ يَتَمَلَّكُ مِنَ العَيْنِ بِمِقْدَارِ حَقِّهِ، وَلَوْ تَلِفَ قَبْلَ البَيْعِ وَالتَّمْلُّكِ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ، وَإِنْ لَمْ يُبَادِر إِلَى البَيْعِ حَتَّى نَقَصَتِ القِيمَةُ، فَهُوَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَظْفَر إِلاَّ بِمِتَاعٍ يُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ لَمْ يَضْمَنِ الزِّيَادَةَ وَإِنْ تَلِفَ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي حَقِّهِ فِي أَخْذِهِ حَتَّى لَوْ نَقَّب الجِدَارَ لِيَأْخُذَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَرْشُ النَّقْبِ، وَفيهِ وَجْهٌ أنَّهُ يَضْمَنُ الزِّيَادَةَ، وَلَوْ كَانَ حَقُّهُ دَرَاهِمَ صِحَاحاً فَأَخَذَ المُنْكَسِرَةَ وَرَضِيَ بِهَا جَازَ، وَإِنْ كَانَ بالعَكْسِ لَمْ يَجُزْ إلاَّ أَنْ يَبِيعَ بِالدَّنَانِيرِ وَيَشْتَرِيَ بِهَا جِنْسَ حَقِّهِ، وَلَوْ جَحَدَ مَنْ عَلَيْهِ الحَقُّ وَلَهُ عَلَى المُسْتَحقِّ مِثْلُهُ جَازَ لَهُ أَيْضَاً أَنْ يَجْحَدَ وَيَحْصُلَ التَّقَاصُّ لِلضَّرُورَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مهما جَازَ للمستحق أن يَأْخُذَ مَالَ مَنْ عليه، فلو لم يَصِلْ إلى المال إلا بِكَسْرِ الباب، وثُقب الجِدَارِ، مُكِّنَ مِنه، ليصل إلى حَقِّهِ، ولا يضمن ما فَوَّتَهُ، كمن لم يَقْدِرُ على دَفْعِ الصَّائِلِ إلا بإتلاف (¬1) ماله، فَأتْلَفَهُ لا يَضْمَنُ. ونقل بَعْضُهُمْ وَجْهاً: أنه يَضْمَنُ، ثم إذا كان المَأْخُوذُ من جِنْسِ الحق، فله تَمَلُّكُهُ (¬2)، وإن لم يكن من جِنْسِهِ، لم يكن له التَّمَلُّكُ. وحكى الإِمام وَجْهاً: أنه يَتَمَلَّكُ منه بقَدْرِ حَقِّهِ، ويَسْتَقِلُّ بِالمُعَاوَضَةِ، كما يستقل بالتَّعْيِينِ عند أَخْذِ الجِنْسِ. ¬
والمشهور الأول، وما الذي يفعل به؟ أَيَرْفَعُهُ إلى القاضي لِيَبِيعَهُ، أو يَسْتَقِلُّ؟ فيه وجهان (¬1) ويُقَالُ: قولان (¬2). أحدهما: أنه يرفع الأَمْرَ إليه، وإلا فكيف يلي التَّصَرُّف في مال غيره لنفسه. والثاني: أن له أن يَبِيعَهُ بِنَفْسِهِ، وامْتِنَاعُ مَنْ عليه يُسَلِّطُهُ على البيع، كما يسلّط على الأَخْذِ. وإيرَادُ الكتاب يَقْتَضِي تَرجِيحَ الأَوَّل، إلا أن العِرَاقِيِّينَ، والقاضي الرُّويَانِيَّ، وأَبَا الحسن العَبَّادِيِّ ذكروا أن الأصَحَّ الثاني. وبه أجاب صاحب "التهذيب"، ولكن فيما إذا كان القاضي جَاهِلاً بالحال، ولا بَيِّنَةَ للأخذ (¬3). وأما إذا كان القَاضِي عَالِمَاً، فَظَاهِرُ المذهب أنه لا يَبِيعُهُ إلا بِإذْنِهِ. وبنى الشَّيْخُ أبو محمَّدٍ في "السلسلة" الخِلاَفَ في المسألة على الخِلاَفِ في أن مُلْتَقِطَ اللَّقِيطِ إذا وَجَدَ معه مَالاً مَشْدُوداً على ثَوْبِهِ، وأراد إِنْفَاقَهُ عليه، هل يرفع الأَمْرَ إلى القاضي أم يَسْتَقِلُّ به؟ هكذا وضع الخلاف في الإِنْفَاق. ويُحْكَى مِثْلُ هذا عن القَفَّالِ، لكن المذكور في باب اللَّقِيطِ، أنه لا يَسْتَقِلُّ بالإِنْفَاقِ من غير التَّعَرُّض لخلافٍ فيه، وإنما الخِلاَفُ في أنه، هل يَسْتقِلُّ بالحِفْظِ؟ فإن أَلْزَمْنَاهُ الأَخْذَ، ورفع الأمر إلى القاضي، فهل للقاضي أن يَأْذَنَ له في بَيعِهِ، أو يفوضه (¬4) إلى غيره؟ حكى الشيخ أبو حَاتِم القزويني فيه وجهين، والأَشْبَهُ الأَوَّلُ. وكيف طريقه عند الرفع؟ ذُكِرَ في الكتاب، أن القَاضِي يَبِيعُهُ عليه بعد إِقَامَةِ البَيِّنَةِ على اسْتِحْقَاقِ المال، وهذا يُبْطِلُ فَائِدَةَ تَجْوِيزِ البَيْعِ عند العَجْزِ عن البَيِّنَةِ. وقيل: يُوَاطِئُ رَجُلاً يُقِرُّ له بالحَقِّ، ويمتنع من الأداء ويقر له الأَخْذ بالمال حتى يَبِيعَهُ القاضي، وهذا إِرْشَادٌ إلى الكَذِبِ من الطرفين. ويضعف التَّفْرِيع على وُجُوبِ الرَّفْع، يُقَوِّي وَجْهَ الاستقلال بالبيع ثم عند البَيْع إن كان الحَقُّ من جِنْسِ نَقْدِ البلد، فيباع المَأْخُوذُ به، وإن لم يكن، فإن ظَفِرَ بثَوْبٍ، وَالدَّيْنُ حِنْطَةٌ، فيباع الثوب بنقد البلد، ويشتري به الحِنْطَة. وحكى الإمَامُ -قَدَّسَ الله رُوحَهُ- عن مُحَقِّقِي الأصحاب -رحمهم الله- أنه يجوز أن يَشْتَرِيَ الحِنْطَةَ بالثَّوْبِ، ولا يَتَوَسَّط النقد (¬5) بينهما، وقد سَبَقَ نَظِيرُهُ وهل يكون ¬
المَأْخُوذُ مَضْمُوناً على الآخِذِ حتى إذا تَلِفَ قبل البَيْعِ والتملك، تَلِفَ من ضمانه؟ فيه وجهان: في وجه نعم (¬1)؛ لأنه أَخَذَهُ لِغَرَضِ نَفْسِهِ، فأشبه المُسْتَامَ وبل أَوْلَى؛ فإن المَالِكَ لم يَأْذَنْ فيه، ولأن المُضطَرَّ إذا أخذ ثَوْبَ الغَيْرِ لدفع الحَرِّ، وتَلِفَ فِي يَدِهِ يَضْمَنُ وكذلك هاهنا وفي آخر: لا؛ لأنه مَأْخُوذٌ للتَّوثُّقِ والتَّوَصُّلِ به إلى الحَقِّ، فأشبه الرَّهْنُ وإذن الشرع في الأَخْذِ، يَقُومُ مَقَامَ إِذْنِ المالك. وهذا أَصَحُّ عند القاضي الرُّوياني، والأول أَقْوَى في المعنى، وهو الذي أَوْرَدَهُ الصَّيْدَلاَنِيُّ، والإمام، وصاحب الكتاب -رحمهم الله [وايَّانا] (¬2) -. وإذا قِيل به ينبغي أن يُبَادرَ إلى البَيْعِ بِحَسَبِ الإِمْكَانِ فإن قصر، فَنَقُصَتْ قِيمَتُهُ ,ضَمِنَ النُّقْصَانَ. وإذا فرض في القيمة انْخِفَاضٌ وارْتفَاعٌ، وتَلِفَ، فهي مَضْمُونَةٌ عليه بالأكثر، كذلك ذكره في "التهذيب". ولو اتَّفَقَ ردّ العين، لم يضمن نُقْصَانَ القيمة، كالغَاصِبِ ولو باعه، وتَمَلَّكَ ثَمَنَهُ، ثم وفَّي المُسْتَحَقّ دَيْنَهُ عليه، ففيما علق عن الإِمام: أنه يجب أن يَرُدَّ إليه قِيمَةَ المَأْخُوذِ؛ كما إذا (¬3) ظَفِرَ المالك بغير جِنْسِ المَغْصُوب من (¬4) مال الغاصب (¬5)، وأخذه، وبَاعَهُ، ثم رَدَّ الغَاصِبُ المَغْصُوبَ، كان على المَالِكِ: أن يَرُدَّ قِيمَةَ ما أَخَذَهُ وباعه، لكن أَخْذَ المستحقِّ، وبَيْعَهُ، وتَمَلُّكَهُ بالثمن، نَازِلٌ مَنْزِلَةَ دَفْعِ المستحق عليه. وما دام المَغْصُوب باقياً، فهو المُسْتحقّ، والقيمة تؤخذ لِلْحَيْلُولَةِ، فإذا رَدَّ العين، فَتُرَدُّ القيمة؛ كما لو دفع القِيمَةَ بِنَفْسِهِ. وهاهنا المستحق الدَّيْن، فإذا باع وأخذ، فما ينبغي أن يَرُدَّ شيئاً، ولا أن يُوفّر عليه بعد ذلك شَيْءٌ -والله أعلم-. ¬
وليس له الانْتِفَاعُ بالعَيْنِ المَأْخُوذَةِ. فإن انْتَفَعَ، فعليه أُجْرَةُ المِثْلِ. ثم في باقي الفصل صُوَرٌ: إحداها: لا يأخذ المُسْتَحِقُّ أَكْثَرَ من حَقِّهِ؛ إذا أَمْكَنَهُ الاقْتِصَارُ عليه، فإن زاد، فالزِّيَادَةُ مَضْمُونَةٌ عليه، فإن لم يمكنه، بأن يُوفّر عليه بعد ذلك شَيْءٌ -والله أعلم-. وليس له الانْتِفَاعُ بالعَيْنِ المَأْخُوذَةِ. فإن انْتَفَعَ، فعليه أُجْرَةُ المِثْلِ. ثم في باقي الفصل صُوَرٌ: إحداها: لا يأخذ المُسْتَحِقُّ أَكْثَر من حَقِّهِ, إذا أَمْكَنَهُ الاقْتِصَارُ عليه، فإن زاد، فالزِّيَادَةُ مَضْمُونَةٌ عليه، فَإِن لم يمكنه، بأن لم يَظْفَرْ [إلا] (¬1) بِمَتَاع تزيد قِيمَتُهُ على حَقِّهِ (¬2)، فإن قلنا: لو كان المأخوذ قَدْرَ حَقِّه كان مضمُوناً عليه. ففي الزِّيَادَةِ وجهان: أحدهما: أنها مَضْمُونَةٌ كالأصل. وأرجحهما: على ما يَقْتَضِيهِ نظم الكتاب: المنع؛ لأنه لم يأخذه بحَقِّهِ، وهو مَعْذُورٌ في أخذه؛ إن قلنا: إن المَأْخُوذَ بقدر الحَقِّ لا يضمن، فكذلك الزِّيَادَةُ. وإن كان المأخوذ أَكْثَرَ من الحق، فإن كان مما لا يتجزأ (¬3)، بَاعَ منه بقدر حَقِّهِ. وينبغي في رَدِّ الباقي إليه بِهِبَةٍ ونحوها. وإن كان مما لا يتجَزَّأ (¬4) فإن قَدَرَ على بَيْعِ البَعْضِ، مما هو حِصَّتُهُ لو بيِع الكل؛ باعه، ويسعى في رَدِّ الباقي على ما ذكرنا، وإن لم يَقدر عليه، باع الكل، وأخَذَ من ثمنه قَدْرَ حَقِّهِ، ويُحْفَظُ الباقي إلى أن يرد عليه, ذكره ابْنُ الصَّبَّاعِ, والقاضي الروياني. الثانية: لو كان حَقُّهُ دَرَاهِمَ صِحَاحًا، وظَفِرَ بالمُكَسَّرِ، فله أن يَأْخُذَهَا، ويتملكها بحَقِّه. وإن استحق المُكَسَّرَةَ، وظَفِرَ بالصِّحَاحِ، حكى الإِمام فيه طريقين: ¬
فرع
أحدهما: جَوَازُ الأَخْذِ لاتحاد (¬1) الجِنْسِ. والثاني: أنه على الخِلاَف المَذْكُور فيما إذا ظَفِرَ بغيرِ الجِنْسِ, لاخْتِلاَفِ الغَرَضِ باخْتِلاَفِ الصِّفَاتِ، كاخْتِلاَفِهِ باختلاف الأَجْزَاءِ. وإذا كان أخذها لم يكن له أن يَتَمَلَّكَهَا, ولا أن يَشْتَرِيَ بها المُكَسَّرَةَ، لا مع التَّفَاضُلِ لما فيه من الرِّبَا ولا بِصِفَةِ التسَاوِي؛ لاختلاف المالية، والإِجْحَافِ بالمَأْخُوذِ منه، ولكن يَبِيعُ صِحَاحَ الدَّرَاهِمِ بالدِّنَانِيرِ يَشْتَرِي بها الدَّرَاهِمَ المُكَسَّرَةَ. الثالثة: شخصان، ثَبَتَ لكل واحد منهما على الآخَرِ مِثْلُ ما للآخر عليه. ففي حصول التَّقَاصِّ, أَقْوَالٌ معروفة، أَوْرَدَهَا صاحب الكِتَابِ في كتاب الكتابة. فإن قلنا: لا يحصل التِّقَاصُّ، وجَحَد أحدهما حَقَّ الآخر فهل للآخر أن يَجْحَدَ حَقَّةُ؟ قال في "الوسيط" فيه وجهان يلتفتان (¬2) إلى الظَّفَرِ بغير جِنْسِ الحَقِّ [كان اختلاف] (¬3) الدينين بمَثَابَةِ اختلاف الجنس (¬4)؛ كما ذكرنا في اخْتِلاَفِ المَالَيْن في الصِّحَّةِ والتَّكْسِيرِ. والمذكور في الكتاب؛ أن له أن يَجْحَدَ، ويحصل التِّقَاصِّ لِلضَّرُورَةِ، وهو مُوَافِقٌ لما مَرَّ في تَجْوِيزِ الأَخْذِ عند الظَّفَرِ بغير الجِنْسِ، ومَوَاضِعِ العَلاَمَاتِ من (¬5) الفصل لا تخفى. فرع: كما يجوز الأَخْذُ من مال الغَرِيمِ الجَاحِدِ، أو المماطل، يجوز الأخْذُ من مال غَرِيمِهِ، كما إذا كان لِزَيْدٍ على عَمْرو دَيْنٌ، ولعمرو على بَكْرٍ مِثْله، يجوز لزيد أن يَأْخُذَ مَالَ بَكْرٍ بِمَالِهِ على عمرو، ولا يمتنع من ذلك رَدّ عمرو إِقْرَار بَكْرٍ له، ولا جُحُود بَكْرٍ استحقاق زيد على عمرو (¬6). آخر: جحد دَيْنَهُ، وله عليه صَكٌّ بِدَيْنٍ آخْر قد قَبَضَهُ، وشهود الصَّكِّ لا يعلمون ¬
القَبْضَ؛ قال القاضي أبو سَعْدٍ: يَدَّعِي ذلك، ويقيم البَيِّنةَ، ويقبضه بِدَيْنِهِ الآخر. وفي فتاوى القَفَّالِ: أنه ليس له إِقَامَةُ أولئك الشهود؛ لأنهم لو شَهِدُوا، وقال المدعى عليه؛ إني قَضَيْتُ ما شهدوا به، واسْتَحْلَفَهُ، لم يكن له الحلف، وذلك يَدُلُّ على أن ما يَشْهَدُونَ به غير ما يَدَّعِيهِ (¬1). والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةُ فِي حَدِّ المُدَّعِي وَفِيهِ قَوْلاَنِ: (أَحَدُهُمَا): أنَّهُ الَّذِي يُخَلَّي وَسُكُوتَهُ (وَالثَّانِي) أَنَّهُ الَّذِي يَدَّعِي أَمْراً خَفِيّاَ عَلَى خِلاَفِ الظَّاهِرِ فَلَوْ أَسْلَمَا قَبْلَ المسِيسِ فَقَالَ: أَسْلَمْنَا مَعَاً وَالنِّكَاحُ دَائِمٌ بَيْنَنَا وَقَالَتْ: بَلْ عَلَى التَّعَاقُبِ فَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي خُلِّيَ وَسُكُوتَهُ لَكِنَّ المَرْأَةَ هِيَ الَّتِي تَدَّعِي أَمْرَاً ظَاهِراً، فإنَّ تَسَاوُقَ الإِسْلاَم بَعِيدٌ، فَالقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يُخَرِّجُ عَلَى القَوْلَيْنِ، وَأَمَّا المُوَادَعُ إِذَا ادَّعَى رَدّ الوَدِيعَةِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ لِلرُّخْصَةِ، وَلِأَنَّهُ اعْتُرِفَ لَهُ بِالأَمَانَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: عَرَفْنا بالخَبَرِ، أن البَيِّنَةَ على المُدَّعِي، واليَمِين على من أَنْكَرَ. واستُنْبِطَ سَبَبُهُ؛ فقيل: جانب المُنْكِرِ أقْوى، لمُوَافَقَتِهِ الظاهر، والبَيِّنَةُ أَقْوَى من اليمين لِبَرَاءَتِهَا عن تُهْمَةِ جَلْبِ النفع. فَجُعِلَتِ البَيِّنَةُ على المُدَّعِي لتجبر قوة الحجةِ ضعفَ الجَنَبةِ، وَمُنِعَ من المنكر بالحُجَّةِ الضعيفة، لقوة جَنَبته، وهذه القاعدة تُحْوِجُ إلى مَعْرِفَةِ المُدَّعِي والمُدَّعَى عليه.، ليُطَالَب هذا بِحُجَّتِهِ، وهذا بحجته، إذا تَخَاصَمَا، فجعل صاحب الكتاب المسألة الثانية: في حَدِّ المُدَّعِي والمُدَّعَى عليه وفيه قولان: أحدهما: أن المدَّعِي من المُتَخَاصمين هو الذي لو سَكتَ خُلِّيَ، ولم يُطَالَبْ بشيء، والمُدَّعَى عليه من لا يُخلَّي ولا يُقْنعُ منه بالسُّكُوتِ. والثاني: أن المُدَّعِي من يذكر أَمْراً خَفِيّاً يخالف الظَّاهِرَ، والمُدَّعَى عليه من يُوَافِقُ قَوْله الظاهر. فإذا ادَّعَى زيد دَيْناً في ذِمَّةِ عمرو، أو عَيْناً في يَدِهِ، وأنكر، فزيد هو الَّذِي لو سكت ترك، وهو الذي يذكر خلاف الظاهر؛ لأن الظَّاهِرَ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ عَمْرِو، وفَرَاغُ يَدِهِ عن حَقِّ الغَيْرِ. وعمرو هو الذي لا يترك وسكوته، ويوافق قوله الظاهر. فزيد مُدَّعٍ بموجب العِبارَتَيْن. وعمرو مُدَّعَى عليه، ولا يَخْتَلِفُ موجبهما في الأَغْلَب؛ وقد يختلف: كما إذا أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ قبل المَسِيسِ، واختلفا، فقال الزوج: أَسْلَمْنَا معاً، ¬
والنِّكَاحُ بَاِقٍ بَيْنَنَا، وقالت المَرْأَةُ: بل على التَّعَاقُب، ولا نكاح بيننا. فإن قلنا: إن المُدَّعِي من لو سَكَتَ تُرِكَ. فالمَرْأَةُ المدَّعِيَةُ، والزوج مُدَّعَى عليه؛ لأنه لا يُتْرَك لو سكت؛ فإنها تَزْعُمُ انْفِسَاخَ النِّكَاحِ. فيختلف، ويحكم باسْتِمْرَارِ النِّكَاحِ إذا حلف. وإن قلنا: إن المدَّعَى، من يخالف قوله الظاهر، فالزَّوْجُ، هو المُدَّعِي؛ لأن التساوق (¬1) الذي يَزْعمُهُ، خِلاَفُ الظاهر، والمرأة: مُدَّعَى عليها لِمُوَافَقَتِهَا الظَّاهِرَ، فتحلف، وإذا حَلَفَتْ، حُكِمَ بارتفاع النكاح. ولو قال الزوج: أَسْلَمَتْ قبلي، فلا نِكَاحَ، ولا مَهْرَ. وقالت: بل أَسْلَمْنَا معاً، وهما بحالهما، فقوله في الفراق يلزمه (¬2). وأما المَهْر: فالقول قَوْلُ الزَّوْجِ، إن قلنا: إن المُدَّعَى عليه، مَنْ يُوَافِقُ قَوْلُهُ الظَّاهِرَ. لأن التَّعَاقُبَ الذي يدعيه، هو الظَّاهِرُ. وقول المرأة إن قلنا: إن المُدَّعَى [عليه] (¬3)، من [لا] (¬4) يترك لو سكت؛ لأنها لا تُتْرَك بالسكوت؛ إذ الزوج يزعم سقوط المَهْرِ. فإذا سكت ولا بَيِّنَةَ، جُعِلَتْ نَاكِلَةً. وحلف الزَّوْجُ، وحُكِمَ بالسُّقُوطِ، وقد يوهم إِيرَادُ الفوراني؛ أن القَوْلَيْنِ في حَدِّ المُدَّعِي والمُدَّعَى عليه مَنْصُوصَانِ. لكن المُعْتَمَدُ المَشْهُور، أنهما مُسْتَننْبَطَانِ من اختلاف قول الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه- في مسألة إسْلاَمِ الزوجين. وقد ينبه الخلاف في الفَرْعِ على الخلاف في الأصْل المَبْنِيِّ عليه، والأظهر منهما على ما يُشْعِرُ به لَفظُ "المختصر" ويقتضيه كلام أكثر (¬5) الأصْحَابِ. وصرح به الروياني أن المُدَّعِي مَنْ يخالف الظَّاهِرَ، والمُدَّعَى عليه من يُوافِقُهُ. قال الأئمة: والأُمَنَاءُ الذين يصدقون في الرَّدِّ بيمينهم مُدَّعُونَ؛ لأنهم يَزْعَمُونَ الرَّدَّ الذي هو خِلاَفُ الظاهر. لكن اكتفى منهم باليمين؛ لأنهم أَثْبَتُوا أيديهم لغرض المَالِكِ، وقد ائْتَمَنَهُمْ، فلا يَحْسُنُ تكليفهم بينة على الرد. وتَكَلَّفَ أبو الحسن العَبَّادِيُّ فقال: إنهم يَدَّعُونَ ما يوافق الظَّاهِرَ؛ لأن المَالِكَ قد سَاعَدَهُمْ على الأَمَانَةِ، حيث ائْتَمَنَهُمْ، فهم يَسْتَبْقُونَ الأمانة، وهو يزعم ارْتِفَاعَهَا، فكان الظَّاهِرُ معهم. قال: وأما على الحَدِّ الآخر، فهم المدعى عليهم؛ لأن المَالِكَ هو الذي لو سَكَتَ ترك، قال القاضي الروياني وغيره: وقد يكون الشَّخْصُ مُدَّعِيًا ومُدَّعى عليه في المُنَازَعَةِ الواحدة؛ كما في صورة التَّحَالُفِ. هذا منقول الأصحاب في هذا المَوْضِعِ، وَوَرَاءَهُ كَلِمَاتٌ: ¬
أحدها: يمكن أن يعكس ما ذكروه من البناء ويُقَال: إن قلنا: إن المُدَّعِي من تُرِكَ وسكوته، والمُدَّعِي في مسألة اختلاف الزوجين، إنما هو الزَّوْجُ. لأن النكاح حقه، فلو تركها ولم يطالبها، تُرِك، وهي لا تُترَك لو سكتت، وأعرضت، فإن (¬1) قلنا: إن المدعي: من يخالف الظَّاهِر، فهي المدعية؛ لأنها تزعُمُ ارْتفَاعَ النِّكَاحِ، والظاهر دَوَامُهُ. والثانية: ما المعنى بالظَّاهِرِ في قولنا: إن المُدَّعِي من يُخَالِفُ الظاهر أيعني به مُطْلَقَ ما يَدُلُّ عليه دَلِيلٌ؟ أم يعني الظَّنَّ الأَرْجَحَ والأَغْلَبَ؟ استصحاب (¬2) ما كان من وُجُودٍ، أو عدم؟ إن عَنَيْنَا الأَوَّلَ، لَزِمَ أن يكون كُلُّ واحد من المُتَدَاعِيَيْنِ أبداً؛ لأن دليلاً ما يَدُلُّ على صِدْقِ هذا، وآخر يَدُلُّ على (¬3) بَرَاءَةِ هذا. وإن عَنَيْنَا الظَّنَّ الأغلب والأرجح، فهذا يختلف بالأَشْخَاصِ، والأَحْوَالِ، والقرائن الوَاقِعَةِ في الحَادِثَةِ. فَتَارَةً؛ يغلب على الظَّنِّ صِدْقُ الطالب، وأخرى صِدْقُ المنكر. وإن عَنَيْنَا استصحاب ما كان فلم تجعل المَرْأَةُ مُدَّعى عليها: إذا قلنا: إن المدعى عليه، من يُوافِقُ الظَّاهِرَ، وهي لا تستصحب شيئاً، بل ينزل (¬4) اسْتِصْحَابُ الأصل الذي كان. والثالثة: لا شَكَّ أن التَّنَازُعَ في كيفية الإِسْلاَمِ ليس مُعَيّناً لِعَيْنِهِ، وإنما الزَّوْجُ يبغي اسْتِدَامَةَ النِّكَاحِ، وهي تَزْعُمُ ارْتِفَاعَهُ، فيشبه أن يقال: كُلُّ واحد منهما مُدَّعٍ بشيء. فأما الزوج: فإنه في اسْتِدَامَةِ النكاح، وطَلَبِ طَاعَتِهَا، كَطَالَبِ مَالٍ من غيره. وأما هي: فَدَافِعَةٌ كمن يقول: إنك أَبْرَأْتَنِي، أو إني أَدَّيْتُهُ. فإن قلنا: يَحْلِفُ الزَّوْجُ فهي على قِيَاسِ دَعْوَى الدوافع. وقد ذُكر في "التهذيب": أنه الأصح. وإن قلنا: تحلف المَرْأَةُ، فيشبه تَقَوِّي جانِبِهَا بظَاهِرِ الحال، وان كانت مُدَّعِيَةً؛ كما يحلف المُودِعُ على الرد والهَلاَكِ. وان كان مُدّعياً للمعنى الذي سَبَقَ، وهذا طريق يغني عن تَخْرِيجِ القَوْلَيْنِ على الأصْلِ المذكور. واعْلَمْ أن المُرَادَ من قولهم: إن المُدَّعَى عليه: من يُوَافِقُ قَوْلُهُ الظَّاهِرَ، أو من يَدَّعِي أَمْرًا جَلِيّاً، أنه لو أنكر ونَازَعَ الطَّالِب، كان كذلك. لأنه (¬5) يَتَوَقَّفُ كونه مُدَّعى عليه، على أن ينكر، ويُنَازع. وقوله في الكتاب في حق المودع؛ "يصدق بيمينه للحاجة" وفي بعض النسخ: "للرخصة" معناه: أنه يُسْتَثْنَى من قولنا: إن المُدَّعِي يحتاج إلى البَيِّنَةِ، فإنه مُدَّعٍ للرد، ¬
وسببه ما تقدم ومسألة اختلاف الزَّوْجَيْنِ، قد سبق حكمها (¬1) في النِّكَاحِ. وإنما أَعَادَهَا ليُبَيِّنَ أن الخِلاَفَ فيها مَبْنِيٌّ على الأَصْلِ المَذْكُورِ. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: ثُمَّ حَدُّ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً مُلْزِمَةً، فَلَوْ قَالَ: عَلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ يُسْمَعْ، وَلَوْ قَالَ وَهَبَ مِنِّي أَوْ بَاعَ لَمْ يُسْمَعْ حَتَّى يَقُولَ وَيَلْزَمُةُ التَّسْلِيمٌ إِلَيَّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لما تَكَلم في الدَّعْوَى نَفْسِهَا، أَرْدفَهُ بالكَلاَمِ في شرط صِحَّتِهَا، وهي أن تكون مَسْمُوعَةً، مُحْوِجَةً إلى الجواب. فاعتبر في صِحَّتِهَا وَصْفَيْنِ: أحدهما: العِلْمُ بالمُدَّعَى، والأَصْلُ اعْتِبَارُ العلم به، كَاعْتِبَارِ العلم بالمَشْهُودِ به، والمَعْقُودِ عليه بالبيع وغيره، وهذا لأن المَقْصُودَ فَصْلُ الأَمْرِ واتصال الحَقِّ إلى المُستَحِقِّ، وذلك يَسْتدْعِي العِلْمَ. فإن كانت الدَّعْوَى في الأَثْمَانِ، فَلاَ بُدَّ من ذكر الجِنْسِ، والنوع، والقَدْرِ. قال في "الشامل": وإن اختلف الصِّحَاحُ والمُكَسَّرَةُ بين أنها صِحَاحٌ، أو مُكَسَّرَةٌ، ومُطْلَقُ الدِّينَارِ يَنْصَرِفُ إلى الدينار الشَّرْعِيِّ، فلا حاجة إلى بَيَانِ الوَزْنِ، ذكره الشيخ أبو حَامِدٍ. وإن كانت في غير الأثْمَانِ، نظر: إن كان يَدَّعِي عَيْباً، وهي مما تُضْبَطُ بالصفة؛ كالحُبُوبِ، والحَيَوانِ، والنَّبَاتِ، فيصفها بصفات السَّلَمِ، ولا حَاجَةَ إلى ذِكْرِ القِيمَةِ على الأَصَحِّ، وإن كانت العَيْنُ تَالِفَةً، كَفَى الضَّبْطُ بالصفات، إن كانت مِثْلِيَّةً، ولا حَاجَةَ إلى ذِكْرِ القِيمَةِ، دمان كانت مُتَقَوِّمَةً، فَلاَ بُدَّ من ذِكْرِ القِيمَةِ؛ لأنها الوَاجِبَةُ عند التَّلَفِ. وإن ادَّعَى عليه شَيْئاً مُحَلى، قال في "الشامل": لا بدَّ مِنْ ذِكْرِ القِيمَةِ، ويُقَوَمُهُ، بِالذَّهَب، إن كان مُحلَّى بالفِضَّةِ، وبالفِضَّةِ إن كان مُحَلَّى بالذَّهَبِ، وان كان مُحَلَّى، بهما (¬2) قومه بأحدهما للضَّرُورَةِ (¬3). وفي الدَّرَاهِمِ والدَّنَانِيرِ المَغْشُوشَةِ يدعى عشرة دَرَاهِمَ من نَقْدِ كذا، قيمتها كذا ديناراً، أو دِينَاراً من نَقْدِ كذا، قيمته كذا دِرْهَماً ذكره الشيخ أَبُو حَامِدٍ وغيره، وكأنه جَوَابٌ على أن الدَّرَاهِمَ والدَّنَانِيرَ المَغْشُوشَةَ مُتَقَوِّمَةً، فإن جعلناها مِثْلِيَّةً، فينبغي ألا يشترط التَّعَرُّض (¬4) لقيمتها. ¬
وفي العَقَارِ يَتَعَرَّضُ للناحية، والبَلْدَةِ، والمَحِلَّةِ، والسّكة ويبين الحُدُودَ، وقد مَرَّ بعض هذه التَّعْرِيفَاتِ في باب القَضَاءِ على الغائب، والمذكور هاهنا أَتَمُّ، وأَوْفَى. ويُسْتثنى عن اعتبار العلم صور: إحداها: إنما يُتَصَوَّرُ اعْتِبَارُهُ إذا كان المَطْلُوبُ مُتَعَيّناً، فأما من حضر ليعين ويَفْرِضُ له القاضي كالمُفَوِّضَةِ؛ تطلب الفَرْضَ على قولنا: لا يجب المَهْرُ بالعَقْدِ، وكالوَاهِبِ؛ يطلب الثَّوَابَ إذا قلنا: إن الهِبَةَ تَقْتَضِيهِ، ولم يقدر الثَّوَاب، فلا يُتَصَوَّرُ منه إِعْلاَمٌ وتَعْيِينٌ (¬1). الثانية: ادَّعى [على إنسان] (¬2) أن مُوَرِّثَهُ أَوْصَى له بثوب، أو بِشَيْءٍ سُمِعَتِ الدَّعْوَى؛ لأن الوَصِيَّةَ تحتمل الجَهَالَةَ، فكذلك دَعْوَاهَا. وأَلْحَقَ مُلْحِقُونَ دَعْوَى الإقْرَارِ بالمَجْهُولِ بِدَعْوَى الوَصِيَّةِ بالمجهول. ومنهم من تَنَازَعَ كلامه فيه (¬3)، ويثبت الاختلاف الخِلاَفَ في أن دَعْوَى الإقرار بالمال تُسْمَعُ، أم يجب أن يَدَّعِي نَفْسَ المال؟ وكذا تَصحُّ دعوى الإبْرَاءِ عن المَجْهُولِ ان صَحَّحْنَا الإِبْرَاءَ عن المجهول. الثالثة: ادَّعى أن له طَرِيقاً في مِلْكِ الغَيْرِ، وادَّعَى حق إِجْرَاءِ الماء، فالأَشْهَرُ فيما حكى القَاضِي أبو سعدٍ: أنه لا يحتاج إلى إعْلاَمِ مِقْدَارِ الطريق والمجرى ويكفي لِصِحَّةِ الدَّعْوَى تَحْدِيدُ الأرض التي يَدَّعِي فيها الطَّرِيقَ والمجرى، وكذا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ المُرَتَّبة عليها. ¬
وعن أبي علي الثقفي: أنه لا بُدَّ من إِعْلاَمِ قَدْرِ الطريق والمجرى. قال: وكذا لو باع بَيْتاً من دَارٍ، وسَمَّى له طريقاً، ولم يُبَيِّنْ قَدْرَهُ لا يصح. قال القاضي: والذي عندي، أنه لا يُشْتَرَطُ هذا الإِعْلاَمُ في الدعوى، ولكن يُؤْخَذُ على الشُّهُودِ إِعْلاَمُ الطريق، ومسيل (¬1) الماء بالذّرْعَانِ؛ لأن الشَّهَادَةَ أعلى شَأْناً، فإنها تَسْتقِلُّ بإيجاب الحُكْمِ، بخلاف الدَّعْوَى. ولو أحضر المُدَّعِي قِطْعَةَ بَيَاضٍ حَرَّرَ فيها (¬2) دَعْوَاهُ، وقال: أَدَّعِي ما فيها، وادَّعَى ثَوْباً بالصِّفَاتِ المكتوبة في تِلْكَ القِطْعَةِ، هل يكفي ذلك لِصِحَّةِ الدَّعْوَى؟ فيه وجهان (¬3). الوصف الثاني: كون الدعوى مُلْزِمَةً، فلو قال: وَهَبَ مِنِّي كذا، أو باع، لم تُسْمَعْ دَعْوَاهُ، حتى يقول: ويلزمه التَّسْلِيم إلَيَّ؛ لأنه قد يَهَبُ ويرجع، ويبيع ويفسخ. هكذا نَقَلَ الفَوْرَانِيُّ وغيره، وهو المَذْكُورُ في الكتاب. ويَقْرُبُ منه مَا ذَكَرَ القاضي أبو سَعْدٍ؛ أنه يقول في دَعْوَى الدَّيْنِ: لي في ذِمَّتِهِ كذا، وهو يَمْتَنِعُ من الأدَاءِ الواجب عليه. قال: وإنما يتعرَّضُ لوجوب الأَدَاءِ , لأن الدَّيْنَ المُؤَجَّلَ لا يجب أَدَاؤُهُ في الحال، وكأن هذا فيما إذا قَصَدَ بالدَّعْوَى تَحْصِيلَ المدعى، ويجوز أن يكون المَقْصُودُ بالدعوى دَفْعَ المُنَازَعَةِ، فلا يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لوجوب التَّسْلِيمِ. وذكر في "الشامل" أنه لو قال: هذه الدَّارُ لي، وأنه مَنَعَنِي منها، تَصِحُّ الدعوى، ولا يُشْتَرَطُ أن يقول: إنها في يَدِهِ؛ لأنه يَجُوزُ أن يُنَازِعَهُ، وان لم تكن في يَدِهِ (¬4). وإذا ادَّعى، ولم يقل للقاضي مُرْهُ بالخُرُوجِ عن حَقِّي، أو سَلْهُ جَوَابَ دَعْوَايَ، فهل يُطَالِبُهُ القاضي؟ ¬________ (¬1) في أ: ومثل. (¬2) في ز: منها. (¬3) لم يرجح شيئًا وينبغي تخريج أنه لا يكتفي بدعوى ما حرره في الورقة إذا لم يقرأ فقد سبق في باب الدعوى على الغائب أن القاضي لو لم يقرأ الكتاب عليهما ولكن قال: أشهدكما على أن ما فيه حكمي أو على أني قضيت بمضمونه فوجهان أصحهما لا يكفي حتى يفصل ما حكم به. (¬4) قال في الخادم: ما نقله عن ابن الصباغ من الاكتفاء بقوله ويمنعني منها، غير كاف، لا بد أن يقول: ويمنعني بغير حق، وقد أوضح ذلك شريح الروياني في روضته في باب الدعوى الناقصة. قال الشافعي: ولو تقدم رجلان إلى القاضى فادعى كل واحد منهما داراً وأنها في يده، لم يسمع القاضي هذه الدعوى، فإن قال أحدهما: هي في يدي، وهذا يعترض عليّ فيها، ويمنعني من سكناها، فالمذهب أنها لا تسمع فقد تكون في يده غصباً أو عارية، وتكون لخصمه فيجوز أن يمنعه منها. ولو قال يعترض عليّ فيها بغير حق تمت الدعوى، وهكذا نقله الأذرعي أيضًا في القوت.
فرع
فيه وجهان: أحدهما: نعم، لِلْعِلْمِ بأنه الغَرَضُ من الحضور، وإِنْشَاءِ الدعوى. وهذا أظهر عند ابن الصَّبَّاغِ. والثاني: لا؛ لأنه حَقُّهُ، فلا يُسْتَوْفَي إِلاَّ بسُؤَالِهِ، واقْتِرَاحِهِ، كاليمين. وهذا مَذْهَبُ أبي حَنِيْفَةَ، فيما حكى القاضي أبو سَعْدٍ، وذكر أنه الأَصَحُّ، فإن أصل الوَجْهَيْنِ المُعَاطَاةُ في البيع، والخلاف في أنه إذا جَلَسَ بين يدي حَلاَّقٍ فَحَلَقَ، هل يَسْتحِقُّ الأُجْرَةَ؟ وعلى الثاني فطلب الجَوَاب أيضاً شَرْطٌ في صِحَّةِ الدعوى، وسواء شَرَطْنَا هذا الاقْتِرَاحَ من المدعى، أو لم نشترطه، لكنه اقْتَرَحَهُ. فيمكن أن يُقَالَ: يغني ذلك عن قوله: ويلزمه التسليم إِلَىَّ. وإن مَنْ شَرَطَ التَّعَرُّضَ له، شَرَطَهُ جَوَابًا على أنه لا يُشْتَرَطُ الاقْتِرَاحُ المَذْكُورُ من الدعوى. فرع: لا يُشْتَرَطُ لِسَمَاعِ الدَّعْوَى أن يُعْرَفَ بينهما مُخَالَطَةٌ أو مُعَامَلَةٌ، ولا فرق فيه بين طبقات الناس. وعن مالك: أنه لا تُسْمَعُ دعوى الدَّنِي على الشَّرِيفِ، إذا لم يُعْرَفْ بينهما سَبَبٌ. وعن الإصْطَخْرِيِّ: أنه إذا شهدت قَرَائِنُ الحال بكَذِب المدعى، لم يلفت إلى دعواه؛ مثل أن يَدَّعِي الدَّنِيءُ اسْتِئْجَارَ الأَمِيرِ، أو الفقيه لِعَلَفِ دَوَابَّهِ، وكَنْسِ بَيْتِهِ، ومثل دعوى المعروف بالتعنُّت، وجَرَّ ذَوِي الأَقْدَارِ إلى مجلس القُضَاةِ، [واستحلافهم] (¬1) ليفتدوا بشيء. آخر: ادَّعى مَالاً مَعْلُوماً على إِنْسَانٍ، وأقام شَاهِدَيْنِ على إقراره بشيء، أو قالا (¬2): يعلم أن له عليه مَالاً، ولا نعرف قَدْرَهُ. هل تُسْمَعُ شَهَادَتُهُمَا هكذا؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، ويُرْجَعُ في التفسير إلى المَشْهُودِ عليه، كما لو أَقَرَّ بِمُبْهَمٍ. وأشبههما: المَنْعُ؛ لأن من شَأْنِ البَيِّنة أن تُبَيِّنَ، وليست كالإِقْرَارِ؛ إذ يُشْتَرَطُ فيها ما لا يُشْتَرَطُ في الإِقْرَارِ؛ حكى الوجهين صاحب "التهذيب" في بَاب الإِقْرَارِ، وذكرها غَيْرُهُ أيضاً. وعلى هَذا الخِلاَفِ ما إذا شَهِدَا على غَصْبِ عَبْدٍ، أو ثَوْبٍ، ولم يَصِفَاهُ (¬3). ¬
الثالث: عن فَتَاوَى القَفَّالِ: ادَّعَى دَرَاهِمَ مَجْهُولَةً، لا يسمع القاضي دَعْوَاهُ. ويقال له: بَيِّنِ الأَقَلَّ الذي تَتَحَقَّقُهُ. وإن ادَّعَى ثوباً ولم يصفه أَصْلاً، لم يُصْغ إليه فإن قال: هو كِرْبَاسَ (¬1) ولم يَصِفْهُ، أمره أن يأخذ بالأَقَلِّ، وفي هذا أولاً إِرْشَادٌ وضَرْبُ تَلْقِينٍ، ثم الأَخذ بالأَقَلِّ في قَدْرِ الدَّرَاهِمِ مُسْتَقِيمٌ، لكن الأَخْذَ بالأَقَلِّ من صِفَةِ الثوب المدعى عينه لا وَجْهَ له. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثَةُ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يحَلِّفَ المُدَّعِيَ مَا لَمْ يُقدِّمْ دَعْوَى صَحِيحَةً كَبَيْعٍ أَوْ إبْرَاءٍ، فَلَوِ ادَّعَى فِسْقَ الشُّهُودِ وَعَلِمَ الخَصْمُ بِهِ فَهَلْ يُحَلِّفُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَكذَا لَوِ ادَّعَى أنَّهُ أَقَرَّ لِأَنَّ الإِقْرَارَ لَيْسَ عَيْنَ الحَقِّ، وَكَذَا إِذَا ادَّعَى مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ اليَمِينُ بِأَنَّهُ قَدْ حَلَفَ مَرَّةً وَأَرَادَ يَمِينَهُ فَفِي كُلِّ ذَلِكَ وَجْهَانِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَيْنِ الحَقِّ لَكِنْ يَنْفَعُ فِي الحَقِّ، وَلاَ خِلاَفَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَحْلِيفُ الشَّاهِدِ وَالقَاضِي وَإنْ كَانَ يَنْفَعُ تَكْذِيبُهُمُ أَنْفُسُهُمُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لو قامت البَيِّنَةُ على المُدَّعى عليه فطلب من القاضي تَحْلِيفَ المُدَّعَى [عليه] (¬2) على اسْتِحْقَاقِ ما يَدَّعِيهِ، لم يجبه إليه؛ لأنه تكليف حُجَّةٍ [بعد قيام حُجَّةٍ] (¬3)، ولأنه كالطَّعْنِ في الشُّهُودِ. وإن ادَّعَى إِبْرَاءً، أو أَدَاءً في الدَّيْنِ، أو بَيْعاً، أو هِبَةً أو إقباضاً في العَيْنِ، نُظِر إن ادعى حُدُوثَ شَيْءٍ من ذلك بعد إِقَامَةِ البَيِّنَةِ، حلف المُدَّعِي على نَفْيِ ما يقوله إن مضى زَمَان إِمْكَانِهِ، وإلا لم يُلتَفْ إلى قوله. وإن ادَّعَى جريانه قبل أن يَشْهَدَ [الشُّهُودُ] (¬4). فإن لم يَحْكُمِ القَاضِي بعد حَلف المدَّعي على نَفْيِهِ، وإن حَكَمَ فوجهان: أحدهما: أن الجَوَابَ كذلك؛ لاحْتِمَالِ ما يَدَّعِيهِ، وجواب (¬5) اعتماد الشهود ظَاهِر الحال. والثاني: المَنْعُ لِثُبُوتِ المال عليه بالقَضَاءِ. وذكر في "التهذيب" أن هذا أَصَحُّ، ويمكن أن يُبْنَى على هذين الوجهين الخِلاَفُ في أن تَحْلِيفَ المُدَّعِي على الغَائِبِ مُسْتَحَبٌّ، أو واجب؟ ¬
إن قلنا: تُسْمَعُ دَعْوَاهُ بعد الحكم، فهو مُسْتَحَبٌّ. وإن قلنا: لا تُسْمَعُ فواجب، كيلا يُفَوِّتَ بالحُكْمِ عليه الدَّعْوَى وبالتحليف، ألا يحصل العيب عُذْراً مَانِعاً من الفَوَاتِ. ولو قال المُدَّعَى عليه: إن الشهود فَسَقَةٌ، أو كَذَبَةٌ، وزَعَمَ أن الخَصْمَ عَالِمٌ بذلك، فهل له تَحْلِيفُهُ على أنه لا يعلم؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم , لأنه لو أَقَرَّ به لَبَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ. والثاني: لا، ويكتفى بِظَاهِرِ العَدَالَةِ، وتَعْدِيلِ المزكين، وطرد هذا الخلاف في كُلِّ صورة ادّعى ما لو أَقَرَّ به الخَصْمُ لنفعه لكن لم يكن المدعى عين حَقّ له؛ كما لو قال المُدَّعَى عليه في الجواب: إنه أَقَرَّ لي بما يَدَّعِيهِ، وكما إذا ادَّعَى على إنسان، إنك أَقْرَرْتَ لي بكذا، وما إذا تَوَجّهت اليمين عليه، فقال: إن المُدَّعِي قد حلفني مرة، وأراد تَحْلِيفَهُ، وفيما إذا قذف إِنْسَاناً، فَأُرِيدَ منه الحَدُّ، وادَّعَى أن المقذوف زَنَا، وأراد تَحْلِيفَهُ، ففي وجه -لا يُسْمَعُ شَيْءٌ من ذلك، ولا يمكَّن من التَّحْلِيفِ، ويُشْبِهُ أن يكون الأظهر الثاني- ليصدق الخَصْم، فينتفع به، أو ينكل فَيَحْلِفُ، ويؤيده ما مر من قَوْلِ الأَصْحَاب: إن دَعْوَى الإقْرَارِ بالمجهول صَحِيحَةٌ، وإن جواب الأكثر في مَسْألَةِ القَذْفِ، أنه يحلفَ المَقْذُوف علىَ أنه لم يَزْنِ، وإن كان المقذوف مَيِّتاً، وأراد القَاذِفُ تَحْلِيفَ الوَارِثِ على أنه لا يَعْلَمُ زنا مورثه. فكذلك يحلف، وهذه الصورة تُحْكَى عن نَصِّ الشَّافعي -رضي الله عنه- لكن ذكره صاحب "التهذيب" فيما إذا ادَّعى فِسْقَ الشهود، أو كَذِبَهُمْ، أن الأَصَحَّ أنه لا يحلف المُدَّعِي. وأما تحليف القَاضِي والشاهد، فلا يجوز، وإن كان ينفع تَكْذِيبُهُمَا أنفسهما؛ لما مَرَّ أن مَنْصِبَهُمَا يَأْبَى التحليف؛ وقد يُقَالُ: الضبط الذي ذَكَرُوهُ لِصِوَرِ الوجهين، يقتضي اطِّرَادَهُمَا فيما إذا ادَّعَى الأَدَاء؛ لأنه ليس الأَدَاءُ في نفسه حَقّاً، ولكن ينفعه في انْدِفَاعِ المُدَّعى عنه. والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: الرَّابِعَةُ لَوْ قَالَ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ البَيِّنَةُ: أمْهِلُوني فَلِي بَيِّنَةٌ دَافِعَةٌ، أُمْهِلَ ثَلاثَةَ أَيَّام، وَقِيلَ: يَوْمٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ قَالَ: أَبْرَأَنِي فَحَلَّفُوهُ يَحْلِفُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ، وَلَوْ قَالَ أَبْرَأنِي مُوَكِّلُكَ وَكَذَّبَهُ اسْتَوفِيَ فِي الحَالِ، وَلَوْ قَالَ: أَبْرَأنِي عَنِ الدَّعْوَى فَهَذَا لاَ يُسْمَعُ إذْ لاَ مَعْنَى لإِبْرَاءِةِ عَنِ الدَّعْوَى.
فرع
قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قامت البَيِّنَةُ على المُدَّعَى عَلَيْهِ، وادعى أن المُدَّعِي باع منه العَيْنَ المُدَّعَاةَ، أو بَاعَهَا من بائعه، أو ادَّعَى أنه أَبْرَأَ عن الدَّيْنِ المدعى، وأنكر، فلا يَخْفَى أن القَوْلَ قوله، وأن المُدَّعَى عَلَيْهِ مُدَّع فيما يذكره، يحتاج إلى البَيِّنَةِ، فإن استَمْهَلَ ليأتي بالبَيِّنَةِ، أُمْهِلَ ثَلاثَةَ أيام؛ لأن هذه مُدَّةٌ قريبة، لا يَعْظُمُ الضَّرَرُ فيها، ومقيم البَيِّنَةِ يَحْتَاجُ إلى مِثْلِهَا، لاسْتيثَاقِ الشُّهُودِ، والفَحْصِ عن غَيْبَتِهِمْ، وحضورهم، واسْتِحْضَارِ الغائب منهم. وقد ذكرنا في باب القَضَاءِ على الغائب نَحْوَ ذلك، وعن القاضي الحُسَيْنِ وَجهٌ آخر: أنه لا يُمْهَلُ أَكْثَرَ من يَوْمٍ وَاحِدٍ، وهذا يَقْتَضِي أن يُعَلَّمَ قوله في ذلك الباب: "ويمهل ثلاثة أيام" بالواو. ولو ادَّعَى الإِبْرَاءَ، ولم يأت بِبَيِّنَةٍ، وقال: حَلِّفُوهُ أنه لم يُبْرِئْنِي، فَيُجَابُ إليه، ولا يُكَلَّفُ تَوْفِيَةَ الدَّيْنِ أَوَّلاً. وعن القاضي وجه: أنه يُسْتَوْفَى منه الدَّيْنُ أَوَّلاً، ثم إن شاء حَلَفَ، فإنه دَعْوَى جَدِيدَةٌ. والظاهر الأول، وليس كما إذا قال لوكيل المُدَّعِي: أَبْرَأَنِي مُوَكِّلُكَ، حيث يُسْتَوْفَى الحَقُّ منه، ولا يؤخر إلى حُضُورِ الموكّل، وحلفه لِعِظَم الضَّرَرِ في التأخير؛ وهاهنا التحليف مُتَيَسِّرٌ في الحال، وكان التَّعَرُّضُ لِدَعْوَى إِبْرَاءِ المُوَكّل هاهنا، الإشارة إلى الفرق، وإلا فقد ذكر المَسْأَلَةَ مَرَّةً في القضاء على الغائب. ولو قال: أَبْرَأَنِي عن هذه الدعوى، فهل يُسْمَعُ وَيُحَلَّفُ المُدَّعي؟ فيه وجهان عن الإصْطَخْرِيِّ: [أحدهما] (¬1): نعم، ويحلف أنه لم يُبْرِئْ. والثاني: المنع؛ لأن الإِبْرَاءَ عن نَفْسِ الدعوى، لا مَعْنَى له، إلا بِتَصْوِيرِ صُلْحٍ على الإِنْكار، وأنه بَاطِلٌ، وهذا ما أَوْرَدَهُ في الكتاب، واختاره القَفَّالُ. وادعى الروياني في "التجربة": أن المذهب الأَوَّل، ووجّه بأنه لو أَقَرَّ أنه لا دَعْوَى له عليه، بَرِيءَ. فرع: مُدَّعِي الدَّفْع إن قال: قَضَيْت، أو أبرأني (¬2)، فذاك، إن أَطْلَقَ، وقال: لي بَيِّنَةٌ دَافِعَةٌ، كما هو لَفْظُ الكتاب، فَيُشْبِهُ أن يستفسر (¬3)؛ لأنه قد يُتَوَهَّمُ ما ليس بِدَافِعٍ دَافِعَاً، إلا أن يعرف فِقْهَةُ، ومعرفته، وإذا عَيَّنَ جِهَةً، ولم يأت بالبَيِّنةِ عليها، وادعى عند انقضاء ¬
مُدَّةِ المُهْلَةِ، جهة أخرى، واسْتُمْهِلَ، فما ينبغي أن يُجَابَ، وإن ادّعى في المُدَّةِ، أو في آخِرِهَا، جهة أخرى، وأقام البَيِّنَةَ عليها، وجب أن يُسْمَعَ (¬1). قَالَ الْغَزَالِيُّ: الخَامِسَةُ: يَنْبَغِي أن يَدَّعِيَ فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِوَلِيِّ وَشَاهِدَيْنِ وَرِضَاهَا، فَإِنْ أَطْلَقَ فَالنَّصُّ أَنهُ لاَ يُسْمَعُ (ح م)، وَفِي البَيْعِ يُسْمَعُ، وَقِيلَ قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ، وَلَوْ قَالَ: هي زَوْجَتِي كفَاهُ الإِطْلاَقُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَدَعْوَى القِصَاصِ لاَ بُدَّ مِنْ تَفْصِيلِهَا، لاَ بُدَّ من أن يَدَّعْيَ بَيْعاً صَحِيحاً فَيَذْكُرَ الصَّحَّةَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الدَّعْوَى أَنْوَاعٌ: منها: دَعْوَى الدَّمِ، ولاَ بُدَّ فيها من التَّفْصِيلِ على ما هو مُبَيَّنٌ في القَسَامَةِ. ومنها: دَعْوَى النكاح، والبَيْعِ، وسائر العقود. قال الشَّافعي -رضي الله عنه-: ولو ادَّعَى أنه نكح امْرَأَةً، لم أَقْبَلْ منه، حتى يقول: نَكَحْتُهَا بِوَلِيِّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ. والأصحاب -رحمهم الله- فيه مُختَلِفُونَ؛ فمنهم من اكْتَفَى في دَعْوَى النكاح بالإطْلاَقِ، ولم يَشْتَرِطِ التَّعَرُّضَ لهذا التَّفْصِيلِ، كما يُكْتَفَى في دَعْوَى اسْتِحْقَاقِ المال بالإطْلاَقِ، وكما أنه لا يجب في دَعْوَى النِّكَاحِ التَّعَرُّضُ لِعَدَمِ المَوَانِعِ، كالرِّدَّةِ، والعِدَّةِ، والرِّضَاعِ، وحمل هؤلاء نَصَّهُ (¬2) على الاسْتحْبَابِ , والتأكيد. ومنهم من قال: إن ادَّعى ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، وجب التَّفْصِيلُ، وإن ادَّعَى دَوَامَهُ، لم يجب؛ لأن الشُّرُوطَ لا تُعْتَبَرُ في الدوام، وبه قال أبو علي الطَّبَرَيُّ. وأخذت عامة الأصحاب بظاهر النَّصِّ وأوجبت (¬3) التفصيل، والتَّعَرُّضَ للشروط، سواء كان المُدَّعَى ابتداء نكاح، أو دَوَامَهُ؛ لأن أَمْرَ الفُرُوجِ، مَبْنِيٌّ على الاحتياط، كَأَمْرِ الدِّمَاءِ والوطء (¬4) المستوفى يتدارك (¬5) (¬6) كالدَّمِ المِهْرَاقِ. ¬
وأما استشهاد الأَوَّلين بِدَعْوَى استحقاق المال؛ فإن كان المُدَّعَى نَفْسَ المال، فإنما اكتفى بالإطْلاَقِ؛ لأن الأَسْبَابَ التي يستحقّ بها المال تَكْثُرُ، وَتَتَكَرَّرُ، وفي ضَبْطِ الأَقْدَارِ الحَاصِلَةِ بتلك الأَسْبَابِ حَرَجٌ شَدِيدٌ، فَأَغْنَى عنه، بخلاف النِّكَاحِ. وإن كان المُدَّعِي عَقْداً يرد على المال، كالبَيْعِ، والهِبَةِ، والإِجَارَةِ، فثلاثة أوجه: أحدها: وينسب إلى ابن سُرَيْجٍ أنه لاَ بُدَّ من التَّفْصِيلِ، والتَّعَرُّضِ لِلشَّرَائِطِ كالنكاح. والثاني: الفَرْقُ بين أن يَتَعَلَّقَ العَقْدُ بِجَارِيَةٍ، فيجب التَّفْصِيلُ (¬1) احْتِيَاطاً للبُضْعِ. وبين أن يَتَعَلَّقَ بغيرها، فلا يَجِبُ. والثالث: وهو الأصح: أنه لا حَاجَةَ إلى التَّفْصِيلِ؛ لأن المَقْصُودَ، المال. والعُقُود المالية أَخَفُّ حُكْماً من عَقْدِ النكاح، ولذلك لا يُشْتَرَطُ فيها الإشهاد، وإن تَعَلَّقَ العَقْدُ بِجَارِيَةٍ، والنكاح بخلافه. وأما أنه لا يجب التَّعَرُّضُ للموانع، ففيه -نزَاعٌ؛ لأن الشيخ وأَبَا عاصم رويا عن الأستاذ أن محمد بن إبْرَاهِيمَ العَبَّادي (¬2) من أَصْحَابِنَا -رحمهم الله- أَوْجَبَهُ، والصحيح التسليم. وفَرَّقُوا بأن الشُّرُوطَ تُعْتَبَرُ وجودها (¬3)، ليصحَّ العَقْدُ، والموانع يُعْتَبَرُ عَدَمُهَا، والأصل العَدَمُ، فَاكْتُفِيَ به، ولأن المَوَانِعَ كَثيرةٌ، وعَدُّهَا عَسِيرٌ. التفريع: إن شرطنا التَّفْصِيلَ في النكاح، فنقول: نكحها (¬4) بِوَليِّ وشَاهِدَيْنِ. والأشهر: أنه لاَ بُدَّ من وَصْفِهِمْ بالعَدَالَةِ. قالوا: وإنما لم يَتَعَرَّضِ الشَّافعي -رضي الله عنه- لِعَدَالَةِ الوَلِيِّ في النص (¬5) المَنْقُولِ في أَوَّلِ الفصل، بِنَاءً على أن الفَاسِقَ ليس بِولِيٍّ، أو أراد رد لفظ العَدْلِ إلى الوَلِيِّ، والشاهدين جميعاً. وحكى ابن الصَّبَّاغِ وَجْهاً آخر: أنه لا حَاجَةَ إلى التَّعَرُّضِ [للعدالة، وقياس ¬
وجوب التَّعَرُّض للعدالة وُجُوبُ التعرض] (¬1) لسائر الصِّفَاتِ المُعْتَبَرَةِ في الأَوْليَاءِ، ولا يجب تَعْيِينُ الشَّاهدين. والمَفْهُومُ مما أَوْرَدَهُ الأئمة حكمًا (¬2) وتوجيهاً، أنه لا حَاجَةَ إلى تَعْيِينِ الوَلِيِّ أيضاً، والغرض؛ أن يُعْتَرَفَ أن النكاح لم يَعْرُ عن الوَلِيِّ والشهود، ولاَ بُدَّ من التعرض لِرِضَاءِ المرأة، إن كانت مِمَّنْ تُزَوَّجُ بِرِضَاهَا. وفي نكاح الأَمَةِ: هل يُشْتَرَطُ التعرض لِلْعَجْزِ عن الطَّوْلِ وَلِخَوْفِ العَنَتِ؟ قال في "الشامل": فيه وجهان: أقيسهما: الاشْتِرَاطُ. وإذا شرطنا التَّفْصِيلَ في دعوى البيع، ذكروا أنه يقول: تَعَاقَدْنَاهُ بِثَمَنٍ معلوم، ونحن جَائِزَا الأَمْر، وتَفَرَّقْنَا عن تَرَاضٍ، ويُشْتَرَطُ في الشَّهَادَةِ على النِّكَاحِ التفصيل، إذا قلنا باشتراطه في دعوى النِّكَاحِ. وفي فَتَاوَى القَفَّالِ: أنه يجب أن يَقُولُوا بعد تَفْصِيلِ النكاح؛ في ابتدائه، ولا نَعْلَمُ أنه فَارَقَهَا، أو وهي اليوم زوجته. والإقْرَارُ بالنِّكَاحِ يكفي فيه الإِطْلاَقُ فان كفى الإطْلاَقُ في الشَّهَادَةِ والدَّعْوَى، إن شَرَطْنَا التَّفْصِيلَ فيهما، ففي الإِقْرَارِ وجهان في "الوسيط". [إن] (¬3) أظهرهما؛ الاكْتِفَاءُ بالإطْلاَقِ، والفرق؛ أن المُقِرَّ لا يُقرُّ إلا عن تَحْقِيقِ، وتَثَبُّتٍ، وفي الشهادة على إِقْرَارِهَاَ [لا يشترط] (¬4) أن يقولوا: ولا نَعْلَمُ أنه فَارَقَهَا. ولتكن الشَّهَادَة على البَيْعِ، والإقرار، إذا أوجبنا التَّفْصِيلَ في البيع، على قياس ما ذكرنا في النِّكَاحِ. ونقلوا في اشْتِرَاطِ تَقْيِيدِ النكاح والبيع (¬5) , المدعيين بالصحة وجهين: وجه الاشْتِرَاطِ وُقُوعُ الاسْمِ على الصَّحِيح والفاسد. ووجه الثاني: انْصِرَافُ المُطْلَقِ إلى الصحيح. وبالأول أَجَابَ صاحب الكتاب. وذكر في "الوسيط": أن الوجه القَطْعُ باشتراطه في النِّكَاح، وأشار إلى أن الوجهين، مُفَرَّعَانِ على قولنا: إنه لا يُشْتَرَطُ تفصيل الشرائط، فإيراد القاضي أبي سَعْدٍ يقْتَضِي اطِّرادَهُمَا، مع اشْتِرَاطِ التفصيل، لِيَتَضَمَّنَ ذكر الصحة نَفْيَ المَوَانِعِ (¬6). ¬
وقوله في الكتاب: "فالنص أنه يُسْمَعُ" ليُعَلَم بالحاء والألف؛ لأن عندهما تُسْمَعُ، ولا حَاجَةَ إلى التفصيل. وقوله: "وفي البيع يُسْمَعُ"، يُشْعرُ ظاهره بأن النَّصَّ في البيع السَّمَاعُ، وبأن الأَصْحَابَ، تفرقوا (¬1) في النصين تَقْرِيراً من البعض، [ونَقْلاً، وتَخْرِيجاً، من البعض] (¬2) على المَشْهُودِ من مسائل النَّقْلِ، والتخريج. لكن الكتب المَشْهُورَةَ سَاكِتَةٌ عن ذلك. نعم في كتاب القَاضِي ابْنِ كَجٍّ: أن نَصَّهُ في البيع ونحوه جَوَازُ الإطلاق. وقوله: "ولو قال: هي زَوْجَتِي، كَفَاهُ الإطْلاَقُ". هذه صورة الدَّوَام، وتَرْجِيح الاكتفاء بالإطلاق، لا يُوَافِقُ اخْتِيَارَ المعظم. وقوله: "ولا بُدَّ من ادَّعى بيعاً (¬3) صحيحاً، فيذكر الصحة" معلم بالواو. واعلم أن دعوى النكاح؛ تَارَةً تكون على المَرْأَةِ، وأخرى على الوَلِيِّ؛ إذا كان مُجْبَراً، كما بَيَّنَّاهُ في كتاب النِّكَاحِ، في مسألة تزويج الوَلِيَّيْنِ من شخصين، وذكرنا هناك، أن الأَئِمَّةَ قالوا: إن ادَّعى كُلُّ وَاحِدٍ من الزوجين سبق نكاحه، وعلم المرأة به، فَيُبْنَى على أن إِقْرَارَ المَرْأَةِ بالنكاح هل هو مَقْبُولٌ؟ إن قلنا: إنه غير مَقْبُولٍ، فلا تُسْمَعُ دَعْوَاهُمَا عليها؛ لأن غَايَتَهَا أن تُقِرَّ وإن قلنا: إنه مَقْبُولٌ، وهوِ الصحيح فَتُسْمَعُ، وهذا يَقْتَضِي أن يكون سماع دعوى النكاح على المرأة، [أبدأ] (¬4) مُخَرَّجاً على ذلك الخِلاَفِ، فكأنهم لم يذكروه هاهنا، اقْتِصَاراً على الصحيح. قَالَ الْغَزَالِيُّ: السَّادِسَةُ: دَعْوَاهَا الزَّوْجِيةَ لاَ تُسْمَعُ عَلَى الأَصَحِّ مَا لَمْ بَتَعَرَّضْ لِمَهْرِ أَو نَفَقَةٍ، فَإِنْ قُلْنَا: يسْمَعُ فَهَلْ تَنْدَفِعُ بِمُجَرَّدِ إنْكَارِهِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ مَأْخَذُهُ أَنَّ الإِنْكَارَ طَلاَقٌ أَمْ لاَ حَتَّى لَوْ رَجَعَ بَعْدَ ذَلِكَ يُسَلِّمُ الزَّوْجَةَ إِلَيْهِ وَفِيهِ خِلاَفٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: دَعْوَى المَرْأَةِ النِّكَاحَ؛ إما أن يَقْتَرِنَ بها طَلَبُ حَقٍّ من حُقُوقِ النكاحِ، كَصَدَاقٍ، ونَفَقَةٍ، وقَسْمٍ، ومِيرَاثٍ بعد موته، فهي مَسْمُوعَةٌ لا مَحَالَةَ. وإما ألا يَقْتَرِنَ، وتَتَمَحَّض دَعْوَى الزوجية، ففي سَمَاعِهَا وجهان: أحدهما: المَنْعُ؛ لأن بَقَاءَ النِّكَاحِ حَقُّ الزوج عليها، فكأنها تَدَّعِي كَوْنَهَا رَقِيقَةٌ، وهذه دَعْوَى غير مُلْزِمَةٍ. والثاني: أنها تُسْمَعُ؛ لأن النِّكَاحَ وإن كان حَقّاً له فهو مَقْصُودٌ لها من تَعَلُّق حقوق فَيُثْبِتُهُ، ويُتَوَسَّلُ به إلى تلك الحُقُوقِ. ¬
فرعان
وذكر صَاحِبُ الكتاب: أن الأَوَّلَ أَصَحُّ، والأئمة جَايحُونَ إلى تَرْجِيح الثاني. وكذلك فعل صَاحِبُ الكتاب في "الوسيط"، في باب النكاح، فإن سَمِعْنَا دَعْوَاهَا، نظر، إن سَكَتَ المُدَّعَى عَلَيْهِ، وأَصَرَّ على السكوت، وأقامت (¬1) البينة عليه، وإن أنكر، فَإنْكَارُهُ طَلاَقٌ أم لا؟ فيه وجهان، كما ذكرنا فيما إذا جرى نكاح، ثم قال الزَّوْجُ: كان الشَّاهِدَانِ فَاسِقَيْنِ، وأنكرت المرأة والأصح منهما على ما ذكره الإِمَامُ أنه ليس بِطَلاَقٍ، فإن جَعَلْنَا إِنْكَارَهُ طَلاَقاً سقط ما يدعيه، ولها أن تَنْكِحَ زَوجاً غَيْرَهُ، ولو رَجعَ عن الإنْكَارِ (¬2) وقال: غلطت في الإِنْكَارِ، لم ينفعه الرُّجُوعُ، وإن لم يَجْعَلهُ طَلاَقًا، فَإِنْكَارُهُ كَسُكُوتِهِ، حتى يقيم البَيِّنَةَ عليه، ولو رَجَعَ قبل رُجُوعِهِ، وسُلِّمت الزَّوجَةُ إليه وهذا ما اخْتَارَهُ القَفَّالُ، وشَبَّهَهُ بما إذا قَالَتْ: انْقَضَتْ عِدَّتِي قبل الرَّجْعَةِ، ثم قالت: غَلطت، وسلمت صحة الرجعة، فإنه يُقْبَلُ رُجُوعُهَا, ولو لم تكن بَيِّنَةٌ، وحَلِفَ الرَّجُلُ, فَلاَ شَيْءَ عليه, وله أن يَنْكِحَ أُخْتَهَا وأَرْبَعاً سِوَاهَا, وليس لها أن تَنْكِحَ زَوْجاً غيره، إذا لم تجعل الإِنْكَارَ طَلاَقاً. وإن انْدَفَعَ النكاح ظَاهِراً، إلى أن يُطَلِّقَهَا، أو يموت. قال في "التهذيب": أو يفسخ بإعْسَارِهِ، أو لامْتِنَاعِهِ، إذا جعلنا الامْتِنَاعَ مع القُدْرَةِ مُمَكِّناً من الفَسْخِ، وليكن هذا مَبْنِيَّاً على أن لِلْمَرْأَةِ أن تَفْسَخَ بِنَفْسِهَا، أما إذا أَحْوَجْنَاهَا إلى القاضي، فما لم يظهر له النِّكَاح، كيف [يفسح أو] (¬3) يَأْذَنُ في الفَسْخِ (¬4)؟ وينبغي أن يَرْفُقَ الحَاكِمُ به حتى يقول: إن نَكَحْتها فقد طلقتها ليحلَ (¬5) لها النكاح، فإن نَكَلَ الرَّجُلُ، حَلَفَتْ هي، واسْتَحَقَّتِ المَهْرَ، والنَّفَقَةَ. فرعان: عن "التهذيب" وغيره: أحدهما: امْرَأَةٌ تحت رَجُلٍ، ادَّعَى آخَرُ أنها زَوْجَتُهُ، فالصَّحِيحُ: أن هذه الدَّعْوَى عَلَيْهَا، لا على الرجل؛ لأن الحُرَّةَ لا تَدْخُلُ تحت اليَدِ. ولو أقام كُلُّ واحد منهما بَيِّنَةً، لم تُقدم بَيّنة من هي تحته، بل هما كاثنين (¬6)، أقام ¬
كُلُّ واحد منهما بَيِّنَةً، على نكاح خَلِيَّةٍ، فَيُنْظَرُ: إن كَانَتَا مُؤَرَّخَتَيْنِ بِتَارِيخٍ واحد، أو مُطَلَّقَتَيْنِ، فقد تَعَارَضَتَا ولا يَجِئُ قَوْلاَ القُرْعَةِ، والقِسْمَةِ. وإن كانتا مؤَرَّخَتَيْنِ بتاريخين مختلفين، قدمت البَيِّنَةُ التي سَبَقَ تَارِيخُهَا، بخلاف ما إذا كان هَذَا التَّعَارُضُ في الأَمْلاَكِ؛ ففي التَّرْجِيحِ بالسَّبْقِ، قولان؛ لأن الانْتِقَالَ، وتَدَاوُلَ الأَيْدِي، غَالِبٌ في الأموال، دون المَنْكُوحَاتِ. ولو قامت بَيِّنَةُ أحدهما على النِّكَاحِ، وبَيِّنَةُ الآخر على إِقْرَارهَا بالنكاح، فالأول (¬1) أَوْلَى، كما لو أقام هذا بَيِّنَةً على أنه غَصَبَ منه كذا، وآخَرُ بَيِّنَةً (¬2) على أنه أقر [له] (¬3) بذلك. وإن أقرت لِأَحَدِهِمَا، فعلى ما ذكرنا، فيما إذا زَوَّجَهَا وليان من شَخْصَيْنِ، وادَّعَى كُلُّ واحد منهما سَبْقَ نِكَاحه. الثاني: ادَّعَتِ امْرَأةٌ ذات وَلَدٍ، أنها منكوحة، وأن الوَلَدَ منه، وسمعنا دَعْوَى النِّكَاحٍ منها، فإن أنكر النِّكَاحَ، والنَّسَبَ، فالقول قوله، مع اليمين وإن قال: هذا وَلَدِي من غَيْرِهَا، أو اقْتَصَرَ على قوله: هذا وَلَدِي، لم يكن مُقِرّاً بالنِّكَاحِ. وإن قال: هو وَلَدِي منها، وَجَبَ المَهْرُ؛ لأن الاعْتِرَافَ بالنَّسَبِ, اعتراف بالإِصَابَةِ ظَاهِراً ,والإصَابَةُ تَقْتَضِي المَهْرَ. وإن أَقَرَّ بالنكاح, فعليه المَهْرُ, والنَّفَقَةُ, والكُسْوَةُ فإن قال: كان نكاح تَفْوِيضٍ، فلها مُطَالَبَتُهُ بالفرض (¬4)، إن لم يَجْرِ دُخُولٌ، وإن جرى، فقد وجب المَهْرُ بالدخول، ولا معنى لإنْكَارِهِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: السَّابِعَةُ العَبْدُ إِذَا ادَّعَى أنَّهُ حُرُّ الأَصْلِ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، وَاِنِ ادَّعَى الإِعْتَاقَ فَعَلَيْهِ البَيِّنةُ، وَالصَّغِيرُ المُميِّزُ هَلْ يَقْبَلُ دَعْوَاهُ الحُرِّيَّةَ فِيهِ وَجْهَانِ، فَإنْ قُلْنَا: لاَ يُسْمَعُ فالصَّحِيحُ أنَّهُ إِذَا بَلَغَ سُمِعَتْ وَصُدَّقَ بِيَمِينِهِ وَلاَ تَأثِيرَ لِلْيَدِ وَلإِبْطَالِ الدَّعْوَى السَّابِقَةِ، وَيَجُوزُ شِرَاءُ العَبْدِ البَالِغِ اعْتِمَادَاً عَلَى ظَاهِرِ اليَدِ مَعَ سُكُوتِ العَبْدِ، وَقِيلَ: لاَ بُدَّ مِنْ إِقْرَارِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من ادَّعَى رِقَّ بَالِغٍ، وقال البَالِغُ: أنا حُرُّ الأَصْلِ، فالقول قوله (¬5)، ¬
وعلى المُدَّعِي البَيِّنَةُ، ولا فَرْقَ بين أن يكون إِنْكَارُهُ مَسْبُوقاً باستخدام (¬1) المُدَّعِي؛ وتَسَلُّطِهِ عليه، أَوْ لا يَكُونَ، ولا بين أن تَتَدَاوَلَهُ الأَيْدِي، ويَجْرِيَ عليه البَيْعُ، والشِّرَاءُ مِرَاراً، وبين ألا يكون كذلك فإن كان قد اشْتَرَاهُ من غيره، وحَلَفَ على نَفْسِ الرِّقِّ، فهل يرجع المشتري على بائعه بالثَّمَنِ؟ هذا سنذكره في المَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ من الرُّكْنِ الثاني. فإن قال البالغ (¬2) لمن في يَدِهِ: إنك أعتقتني (¬3)، أو أَعْتَقَنِي مَنْ بَاعَنِي منك، فَيُطَالَبُ بالبيِّنَةِ. ومن ادَّعَى رِقَّ صَغِيِرٍ؛ فإن لم يكن في يَدِهِ، لم يُصَدَّقْ، إلا ببَيِّنَةٍ، وإن كان في يَدِهِ، نُظِرَ: إن أسندت إلى التقاطٍ (¬4)، فكذلك الحُكْمُ في أَصَحِّ القولينَ. والثاني: أنه يُقْبَلُ قوله، ويُحْكَمُ له بالرِّقِّ، وإن لم يُعْرَفْ إِسْنَادٌ ما إلى الالتقاط، فَيُصَدَّقْ، ويُحْكَمُ له، كما إذا ادَّعَى المِلْكَ في دَابَّةٍ، أو ثوب في يده، فلو كان الصَّغِيرُ مميزاً، فأنكره، فهو كَإِنْكَارِ البَالِغِ، حتى يحتاج مُدَّعِي الرِّقِّ إلى البَيِّنَةِ، أو لا عِبْرَةَ بإِنْكَارِهِ، كما لو كان [غير] (¬5) مُمَيِّزٍ، حتى يُحْكَمَ بِرِقِّهِ؟ فيه وجهان: أصحهما: الثاني. وإذا جَرَيْنَا على قَوْلِ المُدَّعِي، ثم بلغ الصَّغِيرُ، وأنكر الرِّقَّ، فهل يحتاج المُدَّعِي إلى البَيِّنَةِ ويُصَدَّقُ مُنْكِرُ الرِّقِّ إذا لم تكن بَيِّنَةٌ، أو يَسْتَمِرُّ الرِّقُّ، إلا (¬6) أن تقوم بينة على حُرِّيَّتِهِ؟ فيه وجهان: أصحهما: الثاني. وكل ذلك مذكور بالشَّرْعِ في باب اللَّقِيطِ، ولا فَرْقَ بين أن يَدَّعِي في الصغير مِلْكَهُ، ويستخدمه، ثم (¬7) يبلغ، وينكر، وبين أن يَتَجَرَّدَ الاسْتِخْدَامُ، والاستئجار إلى البُلُوغِ، ثم يَدَّعِي مِلْكَهُ، وينكر المستخدم في جَرَيَانِ الوجهين. كذلك ذكر القاضي الرُّوَيانِيُّ وغيره، واليَدُ على البَالِغِ المُسْترقّ، وإن لم يُغْنِ عن البَيِّنَةِ عند إنكاره، فهي غير سَاقِطَةِ الاعْتِبَارِ بالكلية، بل يجوز الاعْتِمَادُ عليها في الشِّرَاءِ. وإن سَكَتَ المسترق اكْتُفِيَ بان الظاهر أن الحر لا يُسْتَرَقُّ. وعن الشيخ أبي مُحَمَّدٍ: أنه كما لا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ مع الإِنْكَارِ للرِّقِّ، لا يجوز شِرَاؤُهُ مع سُكُوتِهِ، بل يُسْأَل أولاً، فإن أَقَرَّ، اشْتُرِيَ. ¬
وقوله في الكتاب: "والصغير المميز، هل يُقْبَل دعواه الحرية"؟ أي: هل يُؤثر كلامه حتى يحتاج مُدَّعِي الرِّقِّ إلى البَيِّنَةِ؟ أو يُجْعَل لَغْواً؟ وقد يُبْنَى الوَجْهَانِ على الخلاف، في صِحَّةِ إِسْلاَمِهِ، وتَدْبِيرِهِ. وقوله: "فالصَّحِيحُ أنه إذا بَلَغَ سُمِعَت، وصُدِّقَ بيمينه"، يعني أنه يُعْتَبَرُ إِنْكَارُهُ، حينئذ، فيحتاج المُدَّعِي إلى البَيِّنَةِ، فإن لم تكن بَيِّنَةٌ، حلف، وحُكِمَ بِحُرِّيَّتهِ. وهذه المسألة مُكَرَّرَةٌ؛ قد ذكرها مَرَّةً في كتاب اللَّقِيطِ، لكنه أَرْسَلَ ذِكْرَ الوجهين هناك وهاهنا رَجَّحَ اعتبار إنْكَارِهِ، وتصديقه بيمينه، والأَرْجَحُ عند أكثرهم خلافه. وقوله: "ولا تأثير لليد"، أي: ليَدِ المدعى [ولا لإبطال الدعوى] (¬1) السابقة الجَارِيةِ في حال التَّمْيِيزِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّامِنَةُ: الدَّعْوَى بالدَّيْنِ المُؤَجَّلِ فِيهِ وَجْهَانِ؟ لِأَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ بِهِ شَيْءٌ فِي الحَالِ، وَدَعْوَى الاسْتِيلاَدِ تُسْمَعُ، وَدَعْوَى التَّدْبِيرِ وَتَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِصِفَةٍ كَالدَّيْنِ المُؤَجَّلِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في سَمَاعِ الدَّعْوَى بالدَّيْنِ المُؤَجَّلِ وَجْهَانِ: أحدهما: المَنْعُ؛ لأنه لا يَتَعَلَّقُ بها إِلْزَامٌ في الحال، ومُطَالَبَةٌ. والثاني: يُسْمَع، ليثبت في الحَالِ، ويُطَالَبُ في الاستقبال، وقد يَمُوتُ مَنْ عليه فيتعجل (¬2) الطَّلَبَةُ، وبهذا أَجَابَ بَعْضُ أصحاب الإِمَامِ. والأول هو الجواب في فَتَاوَى القَفَّالِ. وذكر القاضي أبو سَعْدٍ الهَرَوِيُّ: أنه الأصح. وفيه وَجهٌ ثالث: وهو أنه إن كانت له بَيَّنَةٌ، فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُ، ليُسجَّل، فيأمن غيبتها وقولها، وإن لم يكن، فلا تُسْمَعُ. وفي دعوى الجَارِيةِ الاسْتِيلاَد، والرَّقيق والتَّدْبِير وتَعْلِيقِ العِتْقِ بالصِّفَةِ، فيه طريقان: أحدهما: أنها تُسْمَعُ؛ لأنها حُقُوقٌ نَاجِزَةٌ تَرْتَبِطُ بها الدَّعْوَى. والثاني: أنها على الخِلاَفِ في دَعْوَى الدَّيْنِ المُؤَجَّلِ؛ لأن المَقْصُودَ منها العِتْقُ في المستقبل، والاسْتِيلاَدِ، أولاها بأن تُسْمَعَ دعواه، لتتنجز آثَارُهُ من انتفاع (¬3) البيع، والرَّهْنِ، وغيرهما. ولذلك اخْتَارَهُ في الكتاب وفي الاسْتِيلاَدِ بالطَّرِيقَةِ الأُولى، وفي التَّدْبِيرِ وتَعْلِيقِ ¬
فروع
العِتْقِ، وطريق التخريج، على الخلاف في الدَّيْنِ المُؤَجَّلِ، إذا لم نجوز الرُّجُوعَ عن التَّدْبِيرِ، فإن جَوَّزْنَاهُ، فإنكار السيد (¬1) رجوع يُبْطِلُ مَقْصُودَ المدعي (¬2). فروع: من ادُّعِيَ عليه دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ قبل المَحَلِّ، فله أن يَقُولَ في الجواب: لا يَلْزَمُنِي دَفْعُ شيء إليه الآن، ويَحْلِفُ عليه، وهل له أن يقول: لا شَيْءَ عَلَيَّ مُطْلَقاً؟ عن القَفَّالِ، فيه وجهان مَبْنِيَّانِ على وجهين ذُكِرَا في أن الدَّيْنَ المُؤَجَّلَ؛ هل يُوصَفُ قبل الحُلُولِ بالوجوب (¬3)؟ ¬
وعنه: أن من أُقِيمَ عليه البَيِّنَةُ بألف. فقال: عَلَيَّ أَلْفٌ، لكنه مُؤَجَّلٌ، فَحَلَّفُوهُ أنه مُعَجَّلٌ، فقد سقط أَثَرُ الشهادة. وهذا شخص أَقَرَّ لغيره بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ، ففي قَبُولِ قَوْلِهِ في الأَجَلِ قولان؛ إن قبلناه، فله تَحْلِيفُ المُدَّعِي على نفي الأَجَلِ (¬1). قَالَ الْغَزَالِيُّ: التَّاسِعَةُ لَوْ سَلَّم ثوْباً قِيمَتُهُ خَمْسَةً إلَى دَلاَّلٍ لِيَبِيعَهُ بِعَشَرَةٍ فَجَحَدَ فَلَهُ أنْ يَقُولَ: لي عَلَيْه ثَوْبٌ إِنْ تَلِفَ فَعَلَيْهِ خَمْسَةٌ وَإِنْ بَاعَ فَعَلَيْهِ عَشَرَةٌ إنْ كَانَ قَائِمَاً فَعَلَيْهِ رَدُّ الثَّوْبِ وَيَقْبَلُ مَعَ التَّرَدُّدِ لِلحَاجَةِ، وَقِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يُعَيِّنَ كُلَّ قَسَمٍ فِي دَعْوَى، ثُمَّ إِذَا نَكَلَ عَنْ وَاحِدٍ فَلَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بنُكُولِهِ عَلَى كَذِبِهِ فَيَحَلَّفَ فِيهِ وَجْهَان. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مسألة الدّلال هذه قد ذكرناها مع أختها التي أَوْرَدَهَا في الكتاب في آخر الرّكْنِ الرابع من "باب القَضَاءِ على الغَائِبِ"؛ وهي أن يَتَرَدَّدَ في بقاء العَيْنِ، ولا يدري، أَيُطَالبُ بالعَيْنِ أو القيمة؟ وبَيَّنَّا أن أَقْرَبَ الوجهين أنه يَجُوزُ أن يدعي على التمثيل فيقول: غُصِبَ مِنِّي كذا. فإن بقي، فَعَلَيْهِ رَدُّهُ، إلا قيمته، أو مِثْلُهُ. ويقول في هذه المسألة: أخذ مني ثَوْباً، فعليه رَدُّهُ، أو ثمنه، أو قِيمَتُهُ. والوجه الثاني: أنه لا بد في الدَّعْوَى في طلب جَازِمٍ؛ فيفرد لكل وَاحِدٍ من المطالب دَعْوَى بِرَأْسِهَا. فإن قلنا بالأول، فإنما أنكر المُدَّعَى عَلَيْه، ولا بَيِّنَةَ، يحلف على نَفْي الجميع، وإن نكل ردت اليَمِينُ على المُدَّعِي، فيحلف على التَّرَدُّدِ. كما إذا ادَّعَى على التَّرَدُّدِ، أم لا بد في الحَلِفِ من التعيين؟ حكى الإِمام فيه وَجْهَيْنِ. فإن قلنا: نفرد لكل مَطْلَبٍ دَعْوى، فإذا ادَّعَى ما رآه أقرب، ونكل الخَصْمُ، فنكوله يُؤَكِّدُ ظَنّ المدعى بكذبه، فهل له أن يَحْلِفَ اليمين المَرْدُودَةَ بذلك؟ فيه وجهان: أشبههما: نعم اسْتِدْلاَلاً بنكوله على كَذِبهِ، كما يُسْتَدَلُّ بِخَطِّ أبيه. وأُجْرِيَ الوجهان فيما إذا أنكر المودع التَّلَفَ وتأكد ظَنُّهُ بَنكول المودع، هل يَحْلِفُ اليَمِين المردودة؟ وفي فَتَاوَى القَفَّالِ: أنه لو ادَّعَى ثَوْباً، فقال: كان في يَدِي، وقد هَلَكَ فأغرم القيمة -فقال المدعى للحاكم: قد أَقَرَّ بالثَّوْب، فحلفه، أنه لا يلزمه تَسْلِيمُ الثوب إلى حَلِفِهِ، فإن حلف، مُنِعَ منه بالقيمة، وإن نَكَلَ وحلف المدعى على بَقَاءِ الثوب، طُولِبَ بالعَيْنِ، والله أعلم. ¬
الركن الثاني: جواب المدعي عليه
قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الثَّانِي: جَوَابُ المُدَّعَي عَلَيْهِ وَهُوَ إِقْرَارٌ أوْ إِنْكَارٌ إذ السُّكُوتُ كَالإِنْكَارِ، وَقَوْلُهُ: لِي عَنْ دَعْوَاكَ مَخْرَجٌ أوْ لِفُلانٍ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِمَّا لَكَ اسْتِهْزَاءٌ وَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المُدَّعَى عَلَيْهِ: إما أن يُجِيبَ بِالإِقْرَار، أو بالإِنْكارِ، أو يَسْكُتَ. وإنما قال: السُّكُوتُ كالإِنْكَارِ؛ لأن المُدَّعَى عليه، إذا أَصَرَّ على السكوت، جُعِلَ كالمُنْكِرِ الناكل. وتُرَدُّ اليَمِينُ على المُدَّعِي، فهو في الحُكْمِ كالإنكار (¬1)، والكلام في الإِقرَارِ وصِيغَتِهِ، ما مَرَّ في باب الإقرار. وقول المُدَّعى عليه: لي عن دعواك مَخْرَجٌ، ليس بإقْرَارٍ، يجوز أن يزيد المَخْرج بالإنكار. وكذا قوله لفلان: عَلَيَّ أَكْثَرُ مما لك، ليس بِإقْرَارٍ للمخاطب، فيما ادَّعَاهُ؛ لأنه يحتمل أن يزيد الاستهزاء، وأيضاً يحتمل أن يُريدَ: لفلان عَلَيّ حُرْمَةٌ، وحَقٌّ أكثر مما لك. وقد ذكر القاضي أبو سَعْدٍ أنه لو قال: لك عَليَّ أَكْثَرُ مما ادَّعَيْتَ، لم يكن إِقْرَاراً؛ لاحْتِمَالِ أن يريد: لك من الحق عِنْدِي، ما يستحق له أكثر مما ادعيت. وكما لا يَكُونُ قوله: لفلان عَلَيَّ أَكْثَرُ مما لك إقْرَارَاً للمخاطب، فلا يكون إِقْراراً لفلان أيضاً، لاحْتِمَالِ أن يزيد معي الحق والحُرْمَة، نعم لو قال: لفلان مَالٌ أكثر مما ادَّعَيْتَ، فهذا يكون إِقْرَاراً لفلان، إلا أنه يقبل تفسيره بما دُونَهُ في القَدْرِ؛ تَنْزِيلاً على كَثرَةِ التَّرِكَةِ، أو الرَّغْبَةِ على ما أوضحناه في الإقرار. وقوله في الكتاب: "استهزاء وليس بإقرار". أي هو يحتمل الاسْتِهْزَاءَ. ولا شَكَّ ¬
أنه لو فَسَّرَهُ بما هو إقرار، يكون إِقْرَاراً. ولو قال: الحَقُّ أَحَقُّ أن يُؤَدِّى، لم يكن إِقْرَاراً؛ لأنه المعنى حيث يكون حقاً فأما أنا فبريء. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وفِيهِ مَسَائِلُ: الأُولَى لَوْ قَالَ: لِي عَلَيْكَ عَشَرَةٌ فَقَالَ: لاَ يَلزَمُنِي العَشَرَةُ لَمْ يَكْفِهِ اليَمِينُ مُطْلَقاً بَلْ يَحْلِفُ بِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ وَلاَ شَيْءٌ مِنْهَا، فَإِنِ اقْتَصَرَ كَانَ نَاكِلاً عَنِ اليَمِينِ فِيمَا دُونَ العَشَرَة، وَلِلمُدَّعِي أنْ يَحْلِفَ عَلَى العَشَرَةِ إلاَّ شَيْئاً إلاَّ إِذَا أَضَافَ إِلَى عَقْدٍ بِأَنْ قَالَتْ: نَكَحْتَنِي بِخَمْسِينَ فَحَلَفَ أنَّهُ نكَحَ لاَ بِخَمْسِينَ فَلاَ يُمْكِنُهَا الحَلِفُ عَلَى مَا دُونَ الخَمْسِينَ لِمُنَاقَضَةِ الدَّعْوَى. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا ادَّعَى عَشَرَةً على إِنْسَانٍ فقال: لا يَلْزَمُنِي العشرة، لم يكن هذا جَوَاباً تَامّاً، وإنما الجواب أن يضيف إليه ولا شيء منها، أو ولا بعضها وهكذا يحلف، إن حلف؛ لأن مدعي العشرة، مُدَّعٍ لكل جزء منها، فلا بد وأن يطابق الإِنْكَار واليمين دَعْوَاه. وعن القاضي الحسين: أنه لا يكلف في الإِنْكَارِ أن يَقُولَ ولا شَيْءَ منها وإنما يُكَلَّفُ ذلك في اليمين، وإذا حَلَّفَهُ القَاضِي، على أنه لا يَلْزَمُهُ العَشَرَةُ، ولا شَيْءٌ منها] (¬1)، فحلف على نَفْي العشرة، واقْتَصَرَ عليه، فلا تَلْزَمهُ العشرةُ، بتَمَامِهَا، [وهو] (¬2) نَاكِلٌ عما دُونَ العشرة، [فَلِلْمُدَّعِي أن يَحْلِفَ على اسْتِحْقَاقِ ما دون العَشَرَةِ] (¬3) بشيء قليل، ويأخذه (¬4). ولو نَكَلَ المُدَّعَى عليه عن مُطْلَقِ اليَمِينِ، وأراد المدعي أن يَحْلِفَ على بعض العشرة. قال في "التهذيب": إن عَرَضَ القاضي عليه اليَمِينَ، على المُدَّعَى، وعلى كل جُزْءٍ منه، فله أن يَحْلِفَ على بَعْضِهَا، وإن عَرَضَ عليه اليَمِينَ على المدعى وحده، لم يكن له الحَلِفُ على البَعْضِ [بل تُسْتَأْنَفُ الدَّعْوَى للْبَعْضِ الذي يريد الحَلفَ عليه، وحيث جَوَّزْنَا للمدعي الحَلِفَ على بعض المُدَّعَى، وذلك إذا لم يسند المُدّعى إلى عَقْدٍ] (¬5). أما إذا أَسْنَدَهُ؛ كما إذا قالت المَرْأةُ: نَكَحْتَنِي بخمسين، وطَالَبَتْهُ به، ونَكَلَ الزَّوْجُ، فلا يُمْكِنُهَا الحَلِفُ على أنه نَكَحَهَا ببعض الخمسين؛ لأنه يَتَنَاقَضُ ما ادَّعَتْهُ أَوَّلاً. ولو ادَّعَى أن الدَّارَ التي في يَدِ هذا مِلْكِي، يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهَا إِلَيَّ، فالمُدَّعَى عليه إذا أَنْكَرَ، يَحْلِفُ أنها ليست مِلْكاً له، ولا شَيْءَ منها، وأنه لا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهَا إليه، ولا تَسْلِيمُ شَيْءٍ منها. ¬
ولو ادَّعَى أنه بَاعَهَا منه، يَكْفِيهِ أن يَحْلِفَ أنه لم يبعها، على القِيَاسِ الذي تَمَهَّدَ في الفصل. وقوله في الكتاب: "فَأقَرَّ أنه نَكَحَ لا بالخمسين، التقييد بإقراره بالنكاح، كالمُسْتَغْنَى عنه، فإن المَرْأَةَ إنما تَدَّعِي، وتطلب الصَّدَاقَ، وذلك فيما يرجع إلى الحَلِفِ، والتَّحْلِيفِ، ولا يختلف بين أن يُقِرَّ بالنِّكَاحِ، أو لا يقر. وقوله: "فلا يُمْكِنُهَا الحَلِفُ على ما دُونَ الخمسين". أي: على النِّكَاحِ بما دُونَ الخمسين، فإن اسْتَأنَفَتْ وادَّعَتْ عليه بَعْضَ الخمسين الذي جَرَى النِّكَاحُ عليه، فيما زَعَمَتْ، ونَكَلَ، وجب أن يَجُوزَ لها الحَلِفُ عليه والله أعلم. قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةُ لَوْ قَالَ: مَزَّقْتَ ثَوْبِي وَلِي عَلَيْكَ الأَرْشُ فَيَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ: لاَ يَلْزَمُنِي الأَرْشُ وَلاَ يَلْزَمُهُ التَّعَرُّضُ لِلتَّمْزِيقِ، وَكَذَا إذا ادَّعَى مِلْكاً أَوْ دَيْناً فَيَكْفِي أنْ يَقُولَ: لاَ يَلْزَمُنِي التَّسْلِيمُ، فَإِنْ كَانَ المِلْكُ فِي يَدِهِ بِإجَارَةٍ أَوْ رَهْنٍ وَخَافَ إِنْ أَقَرَّ أنْ يُطَالَبَ بِالبَيَّنَةِ فَقَد قِيلَ: القَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ اليَدَ تُصَدِّقُهُ فِي الرَّهْنِ وَالإِجَارَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: القَوْلُ قَوْلُ المَالِكِ فَحِيلَتُهُ أنْ يُفَصِّلَ الجَوَابَ وَيَقُولَ: إِنِ ادَّعَيْتُ مِلْكاً مُطْلَقًا فَلاَ يَلْزمُنِي التَّسْلِيمُ، وَإِنِ ادَّعَيْتُ مَرْهُونَاً عِنْدِي فَحَتَّى أُجِيبَ، وَقِيلَ: هَذَا لاَ يُسْمَعُ مُرَدَّدَاً وَلَكِنَّ حِيلَتَهُ أَنْ يُنكِر مِلْكَهُ إِنْ أَنْكَرَ هُوَ دَيْنَهُ وَيَلْتَفِتَ إِلَى الظَّفَرِ بِغَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا ادَّعَى مَالاً، وأَسْنَدَهُ إلى جِهَةٍ؛ بأن قال: أَقْرَضْتُ مِنْكَ كذا، وطَالَبَهُ بِبَدَلِهِ، أو قال: غَصَبْتَ عَبْدِي، وتَلِفَ عِنْدَكَ، فعليك [كذا, ضماناً] (¬1). أو قال: مَزَّقْتَ ثَوْبِي، فعليك كذا أَرْشاً، أو اشتريت منك كذا، وأَقْبَضْتُكَ ثمنه، فعليك تَسْلِيمُهُ، أو اشْتَرَيْتَ مِنِّي كذا، فعليك ثَمَنُهُ، وطالبه بالمُدَّعَى، فليس على المُدَّعَى عليه أن يَتَعَرَّضَ في الجواب لتلك الجِهَةِ، بل يَكْفِيهِ أن يقول: لا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئاً, ولا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ شيء إليك، وكذا يَكْفِيهِ في جَوَاب طَالِبِ الشُّفْعَةِ: لا شُفْعَةَ لك عندي، أَوْ لا يَلْزَمُنِي تسليم هذا الشِّقْصِ إليك وذلكَ لأن المُدَّعِي قد يكون صَادِقاً في الإِقْرَاضِ، والغَصْبِ، والشِّرَاءِ، والبيع. وتعرض ما يُسْقِطُ الحقَّ من أَدَاءٍ، أَوْ إِبْراءٍ، أو هِبَةٍ، فلو نفى الإِقْرَاض، وما في معناه، كان كَاذِباً. ولو اعترف، طُولب بإقامة البَيِّنَةِ على ما يَزْعُمُ عُرُوضَهُ، فقد لا يساعده، فَاقْتَضَتِ الحَاجَةُ قَبُولَ الجَوَابِ المُطْلَقِ (¬2). ¬
وعلى هذا، إذا قالت المَرْأَةُ: طَلَّقْتَنِي. فقال: أنتِ زَوْجَتِي. كَفَاهُ هذا الجَوَابُ. وإذا اقْتَصَرَ المدعى عليه على الجواب المُطْلَقِ؛ فَأَفْضَى الأَمْرُ إلى الحَلِفِ، حلف على ما أجاب، ولم يُكَلَّف التَّعَرُّض في نَفْي الجِهَةِ المُدَّعَاةِ. ولو حَلَفَ على نَفْي الجهة اَلمُدَّعَاةِ بعد الجواب المُطْلَقِ؛ جاز. قاله في "التهذيب". ولو تَعَرَّضَ في الجواب للجهة المُدَّعَاةِ، فقال: ما بعت، أو ما أَقْبَضْتَنِي، أو ما مَزَّقت. فالجواب صَحِيحٌ أيضاً، ثم إن حَلَفَ على وَفْقِ الجواب، فذاك، وان أَرَادَ أن يَقْتَصِرَ في الحَلِفِ، على أنه لا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فيمكن، كما لو أجاب في الابْتِدَاءِ كذلك، أو لا يمكن، لِتُطابِقُ اليَمِينُ الإِنكارَ؟ فيه وجهان مذكوران في مَسْألَةِ اخْتِلاَفِ المُتَبَايعَيْنِ في قِدَم العَيْب وحُدُوثِهِ في مواضع سواها. والأَظْهَرُ الثاني، ويُحْكَى عن نَصِّهِ -رضي الله عنه- وعن أبي حَنِيْفَةَ أيضاً، وعلى قِيَاسِ البَاب، لو كان في يَدِهِ مَرْهُونٌ، أو مُسْتَأْجر، وادَّعَاهُ مَالِكُهُ، فيكفيه في الجَوَابِ أن يقول: لاَ يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُهُ، ولا يجب التَّعُرُّضُ لِلْمِلْكِ، فإن أقام المُدَّعِي بَيِّنَةً عَلى المِلْكِ، نُقِلَ في "الوسيط" عن القاضي: أنه يجب عليه تَسْلِيمُهُ، واعْتُرِضَ عليه، بأنه قد يصدق في الشهود، ولا يجب التَّسْلِيمُ، لإِجَارَةٍ، أو رَهْنٍ، ولو أنه اعترف بالمِلْكِ، وادعى رَهْناً، أو إِجَارَةً، وكَذَّبَهُ المُدَّعِي، فمن المُصَدَّقُ منهما؟ (¬1) فيه وجهان، وهما اللذان سَبَقَ ذِكْرُهُمَا في الرَّهْنِ، في باب الاخْتِلاَفِ، فإن صُدَّقَ صَاحِبُ اليد، فذاك، وإن صُدِّقَ المَالِكُ، وهو المذهب، فَمُدَّعِي الرَّهْن، والإِجَارَةِ، يحتاج إلى البَيِّنَةِ (¬2)، فإن كانت لا تُسَاعِدُهُ البَيِّنَةُ، وخاف على جُحُود الراهن، لو اعترف ¬
له [بالمِلْكِ] (¬1)، فما حِيلَتُهُ؟ فيه وجهان، عن القَفَّالِ: أن حِيلَتَهُ، أن يُفصل الجواب؛ فيقول: إن ادعيت مِلْكاً مُطْلقاً، فلا يَلْزَمُنِي التسليم، إن ادعيت مَرْهُوناً عندي، فحتى أجيب. وعن القاضي الحُسَيْنِ: أن الجواب، لا يُسْمَعُ مع التَّرَدُّدِ. ولكن حِيلَتَهُ، أن يَجْحَدَ مِلْكَهُ، إن جحد صَاحِبُهُ الدَّيْنَ، والرَّهن، وعلى عكسه، لو ادَّعَى المرتهنُ الدَّيْنَ، وخاف الرَّاهِنُ جُحُودَ الرَّهْن، لو اعترف بالدَّيْنِ، فعلى الوجه الأول، يُفَصَّلُ فيقول: إن ادَّعَيْتَ ألفاً لي عندك به كذا رَهْناً؟ فحتى أُجِيب، وإن ادَّعَيْتَ ألفاً مُطْلقاً فلا يَلْزَمُنِي. وعلى الثاني: صارت العَيْنُ مَضْمُونَةً عليه بالجُحُودِ، فلمن عليه الدَّيْنُ أن يَجْحَدَ، ويجعل هذا بذاك، ويُشْتَرَطُ التَّسَاوِي. ونَظمُ الكتاب يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الوجه الأول، وهو الذي أَوْرَدَهُ الفوراني. وذكر أن المُدَّعَى عليه يُفَصِّلُ الجَوَابَ أبَداً، ولا يكون ذلك إِقْرَاراً بشيء، كما إذا ادَّعَى عليه أَلْفاً فقال: إن ادَّعَيْتَ عن ثَمَنِ كذا، فحتى أجيب. وإن ادَّعَيْتَ عن جِهَةٍ أخرى، فلا يَلْزَمُنِي. هذا ما بَلَغَنِي في هذا المَوْضِعِ، ووراءه كَلاَمَانِ: أحدهما: أنا إذا سَمِعْنَا الجَوَابَ المُرَدَّدَ، كما ذكره الفوراني، لَزِمَنَا أن يَقْنَعَ منه بذلك، ويحوج المُدَّعِي إلى تعيين (¬2) أحد القسمين، وحينئذ فإما (¬3) أن يُحْوِجَهُ إلى بَيِّنَةٍ، وينص على تلك الجِهَةِ، أو يُكْتَفَى بِبيِّنَةٍ مطلقة، [إن اكتفينا ببَيِّنَةٍ مطلقة] (¬4) لم ينتفع المُدَّعَى عليه بالتَّفْصِيلِ، وإحواج المدعى إلى تَعْيينِ أَحَدِ القسمين إن أَحْوَجْنَا إلى بَيِّنَةٍ معينة، تَضَرَّرَ المدعى به؛ لأنه قد ساعده (¬5) البَيِّنَة على إِقْرَارِ الخَصْم بألف مُطْلَقٍ، ولا يساعده على الجهَةِ، وقد يَجِدُ شُهُوداً، يَعْرِفُون أنه كان [له] (¬6) علَيه أَلْفَانِ بِجِهَتَيْن، وعَرَفُوا أنه أَدَّى ألْفًا عن إِحْدَاهمَا، ولم يعرفوها بِعَيْنِهَا، فيمكنهم أن يَشْهَدُوا بالألف (¬7) , ولا يمكنهم تَعْيِينُ الجِهَةِ، وكما اكْتَفَيْنَا بالجواب المُطْلَقِ من المدعى عليه، كيلا يَلْزَمُهُ ما ليس بِلاَزِمٍ، ولو عين [الجهة] (¬8) وعجز عن البَيِّنَةِ الدَّافِعَةِ، وجب أن يكتفي بإطلاق المدعى [من جهة المدعى] (¬9) ولا يُحْوِجُهُ إلى تَعْيِينِ الجِهَةِ، كيلا يُفَوِّتَ عليه ما هو فَائِتٌ للعجز عن البَيِّنَةِ المعينة. ¬
فرع
والثاني: أن الوَجْهَ الثَّانِي على ما أَشَارَ إليه في الكتاب، مَأْخُوذٌ من مسألة الظَّفَرِ بغير الجِنْسِ، وحينئذ فالحُجُودُ بناء على جعل شيء، في مُقَابِلِهِ شيء، كأنه مُصَّورٌ، فيما إذا عرف المرتهنُ في الصُّورَةِ الأولى جُحُودَ الرَّاهِنِ الرَّهْنَ، والدين، قيل: إن ادعى الرَّاهن عليه أن له في يَدِهِ كذا، وعَرَفَ الرَّاهِنُ في الصورة الثانية، جحُودُ المرتهنِ كَوْنَ العَبْدِ في يده قبل أن يَدَّعِيَ العَبْدُ عليه، فأما إذا لم يَعْرِفِ الحجود من قبل، فربما لا يَجْحَدُ صَاحِبُهُ، لو أقر فكيف يَجُوزُ له الإِنْكَارُ بالوَهْمِ؟ وكيف نعرف شيئاً بشيء ولم نعرف جحود الخَصْمِ، وتعذر حصول (¬1) الحق منه. فرع: ادَّعَتْ على رَجُلٍ أَلْفاً صَدَاقاً، يكفيه أن يَقُولَ في الجَوَابِ: لا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ شَيْءٍ إليها، قيل لِلْقَفَّالِ: هل للقاضي أن يَقُولَ: هل هي زَوْجَتُكَ؟ فقال: ما للقاضي ولهذا السؤال. لكن لو سأل فقال: نعم. قَضَى عليه بِمَهْرِ المِثْلِ، إلا أن يُقِيمَ البَيِّنَةَ، أنه نَكَحَهَا بكذا. ولا يلْزَمُهُ أَكْثَرُ منه (¬2). قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثةُ: إِذَا ادَّعَى علَيْهِ مِلْكاً فَقَالَ: لَيْسَ لِي إنَّمَا هُوَ وَقْفٌ عَلَى الفُقَرَاءِ أَوْ عَلَى وَلَدِي أَوْ هُوَ مِلْكُ طِفْلِي انْصَرَفَتِ الخُصُومَةُ عَنْهُ وَلاَ يُمْكِنُ تَحْلِيفُ الطِّفْلِ وَلاَ وَليُّهُ وَلاَ يُنْجِي إلاَّ البَيِّنَةُ، وَإِنْ قَالَ: لَيْسَ لِي أَوْ هُوَ لِمَنْ لاَ أُسَمِّيهِ لَمْ يَنْصَرِفْ عَنْهُ الخُصُومَةُ، وَقِيلَ: يَأْخُذُهُ القَاضِي إِلَى أَنْ يُقِيمَ حُجَّةً لِمَالِكٍ، وَلَوْ قَالَ: هُوَ لِفُلاَنٍ فَيَحْضُرُ فَإِنْ صَدَّقَهُ انْصَرَفَتِ الخُصُومَةُ عَنْهُ وَلَوْ كَذَّبَهُ فَالصَّحِيحُ أَنَّ القَاضِيَ يَأْخُذُهُ لِيَتَبَيَّنَ مُسْتَحَقَّهُ، وَقِيلَ: يُسَلَّمُ إِلَى المُدَّعِي إِذْ لاَ مُنَازعَ لَهُ، وَقِيلَ: يُتْرَكُ فِي يَدِهِ إِلَى قِيَامِ حُجَّةٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا ادَّعَى عَقَاراً، أو مَنْقُولاً على إنسانٍ؛ فقال المدعى عليه: إنه ليس لي، فينظر؛ أيقتصر (¬3)؟ أو يضيفه إلى مَجهُولٍ؟ أو يضيفه إلى معلوم؟ الحالة الأولى والثَّانية أن يَقْتَصِرَ عليه، أو أَضَافَهُ إلى مَجْهُولٍ، فإن قال: هو لرجل لا أَعْرِفُهُ، أو لا أُسَمِّيهِ، ففي انْصِرَافِ الخُصُومَةِ عنه، وانْتِزَاعِ المال من يَدِهِ، وجهان عن ابن سُرَيْجٍ: ¬
أحدهما: يَنْصَرِفُ؛ لأنه تَبَرَّأَ من المُدَّعى، وينتزع الحاكم المَالَ من يَدِهِ. فإن أقام المُدَّعِي بَيِّنَةً على الاسْتِحْقَاقِ فذاك، وإلا حفظه إلى أن يظهر مالكه. وأصحهما: أنها لا تَنْصَرِفُ، ولا يُنْتَزَعُ المَالُ من يده؛ لأن الظَّاهِرَ أن ما في يده مِلْكُهُ، وما صَدَرَ عنه ليس بِمُزِيلٍ، ولم يظهر لغيره اسْتِحْقَاقاً، وعلى هذا؛ فإن أَقَرَّ بعد ذلك لِمُعَيَّنٍ قُبِلَ، وانْصَرَفَتِ الخصُومَةُ إلى ذلك المُعَيَّنِ، وإلا فيقيم (¬1) المدعي البَيِّنةَ عليه، أو يحلفه، وهل يمكن من أن يعود فيه لنفسه؟ ذكروا فيه وجهين (¬2). وفي المسألة وَجهٌ ثالث، وهو أنه يُسَلّمُ المَال إلى المُدَّعِي؛ لأنه لا مُزَاحِمَ له في دَعْوَاهُ. ولو قال في الجواب: نِصْفُهُ لي، والنِّصْفُ الآخر لا أدري لمن هو؟ ففي النصف الآخر الوجوه الثلاثة. الحالة الثالثة: إذا أَضَافَهُ إلى مَعْلُومٍ، فالمُضَافُ إليه ضَرْبَانِ: أحدهما: من يمتنع مُخَاصَمَتُهُ وتحليفه؛ كما إذا قال: هو وَقْفٌ على الفُقَرَاءِ، أو على مَسْجِدِ كذا، أو على ابني الطِّفْلِ، أو هو مِلْكٌ له، فالجَوَابُ في الكتاب: أن الخُصُومَةَ تَنْصَرِفُ عنه، ولا سَبِيلَ إلى تَحْلِيفِ الوَلِيِّ، ولا طِفْلِهِ، ولا يغني إلا البَيِّنة. وكذلك ذكر الشيخ أبو الفَرَج، وقال: إذا قضى القَاضِي له بالبَيِّنَةِ، كتب صورة الحال في السِّجِلِّ، ليكون الطِّفْلُ علَى حُجَّتِهِ إذا بلغ. وقال في "التهذيب": لو قال في الجواب: إنه لابنْي الطِّفْلِ، أو وَقْفٌ عليه، فلا تَسْقُطُ الدَّعْوَى بهذا، فإن أقام بَيِّنَةً أخذها، وإلا حَلَفَ المُدَّعَى عليه؛ أنه لا يَلْزَمُةِ تَسْلِيمُهَا إليه، إذا كان هو قَيِّمُ الطفل (¬3) والضرب الثاني: مَنْ لا يمتنع مُخَاصَمَتُهُ، وتَحْلِيفُهُ، كما إذا أَضَافَ إلى شخص مُعَيّنٍ، فهو إما حَاضِرٌ في البلد، أو غَائِبٌ عنه. القسم الأول: الحَاضِرُ في البلد فَيُرَاجَعُ، فان صدق المدعى عليه، انصرفت الخُصُومَةُ عنه إلى المُقِرِّ له، وإن كذّبه، ففيه ثلاثة أوجه على ما سبق ذِكْرُهَا في الإِقرار. ففي وجه: يُتْرَكُ في يد المُدَّعَى عليه، وفي وجه -ينتزع (¬4) ويُحْفَظُ، إلى أن يظهر ¬
مَالِكُهُ، ويُحْكَى هذا عن ابن سُرَيْجٍ. وفي وجه: يُسَلَّمُ للمدعى؛ لأنه لا مُنَازعَ له، ويُحْكَى هذا عن أبي إِسْحَاقَ. وفي "الشامل" وجه: أنه يقال للمدعى [عليه] (¬1). من أقررت له كذبك؛ فإما أن تَدَّعِيَهُ لنفسك، فتكون الخَصْمَ، أو لمن يصدقك، فيكون هو الخَصْمَ. فإن امتنعت، جَعَلْنَاكَ نَاكِلاً، وحلفنا المُدَّعِي. وأما لفظ الكتاب، فقوله: "انصرفت الخصومة عنه". وقوله: "ولا وليه"، يمكن إِعْلاَمُهَا بالواو، لما نَقَلْنَاهُ عن "التهذيب". وقوله: "وهو لفلان فيحضر" (¬2) أي: في البلد. وقوله: "ولو كذبه، فالصحيح "إلَى آخره". الوجه الأول: وهو أن القاضي يأخذه؛ ليَتَبَيَّنَ مُسْتَحِقَّهُ. والثالث: وهو أن يُتْرَكَ في يَدِهِ، قد ذكرهما في باب الإِقْرَارِ، وإذا كذب المقر، ولم يُرَجَّحْ وَاحِدٌ منهما هناك، وهاهنا رُجِّحَ وَجهُ الانتزاع والحفظ، وكذلك فعل صاحب "التهذيب" و"التتمة"، والأَكْثَرُونَ على ترجيح التَّرْكِ في يَدِ المُقرِّ على ما بَيَّنَّا هناك. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ أَضَافَ إِلَى غَائِبٍ فَفِي انْصِرَافِ الخُصُومَةِ عَنْهُ وَجْهَان، فَإِنْ قُلْنَا: يَنْصَرفُ يُعْرَضُ عَلَيْهِ اليَمِينُ حَتَّى يَسْتَفِيدَ المُدَّعِي بِنُكُولهِ اليَمِينَ وَانْتِزَاعَ الشَّيْءِ مِنْ يَدِهِ أَوْ يُقِيمَ البيِّنَةُ وَيَأْخُذَ ثَمَنَهُ، ثُمَّ الغَائِبُ إِنْ رَجَعَ كَانَ هُوَ صَاحِبَ اليَدِ فَيَسْتَأْنِفُ الخُصُومَةَ، وَإِنْ قُلْنَا: يَنْصَرِفُ عَنْهُ فَلَوْ كَانَ لِلمُدَّعِي بَيِّنَةٌ فَهُوَ قَضَاءٌ علَى الغَائِبِ فَيَحْتَاجُ إِلَى يَمِينٍ مَعَهُ، فَلَوْ كَانَ لِصَاحِبِ اليَدِ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُ لِلغَائِبِ سُمِعَتْ إِنْ أَثْبَتَ وَكَالَةَ نَفْسِهِ وَقُدِّمَتْ علَى بَيِّنَة المُدَّعِي، فَإنْ لَمْ يُثْبِتِ الوَكَالَةَ فَهَلْ يُسْمَعُ إِنْ قُلْنَا إِنَّ للمُدَّعِي تَحْلِيفَهُ رَجَاءَ أَنْ يُقِرَّ لَهُ فَيُغْرَمَ بِالحَيْلُولَةِ فَلَهُ غَرَضٌ فِي إِقَامَةِ البَيِّنَةِ لِيَصْرِفَ هَذِهِ اليَمِينَ عَنْ نَفْسِهِ ففِيهِ وَجْهَانِ، أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ لاَ يُسْمَعُ إِذْ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلاَ وَكِيلٍ، فَإنِ ادَّعَى لِنَفْسِهِ عُلْقَةَ رَهْن أَوْ إِجَارَةٍ فَوَجْهَانِ وَأَوْلَى بِأَنْ يُسْمَعَ، فَإنْ سُمِعَتْ لِصَرْفِ اليَمِينِ عَنْهُ فَبَيِّنَةَ المُدَّعِي فِي الحَالِ مُقَدَّمَةٌ، فَإِنْ رَجَعَ الغَائِبُ وَأَعَادَ البَيِّنَةَ قُدِّمَتْ بَيِّنتُهُ، وَإِنْ سَمِعْنَا لِعُلْقَةِ الإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ فَأَيُّ البَيِّنتَيْنِ يُقَدَّم؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القسم الثاني -الغائب: ¬
فإِذا أَضَاف المُدَّعى إلى غَائِبٍ، ففي انْصِرَافِ الخُصُومَةِ عنه فيه وجهان: المذكور في "التهذيب"، و"الرقم"، وظاهر لفظ "المختصر": لا يَنْصَرِفُ؛ لأن المِلْكَ في يَدِهِ، والظاهر أنه له، فلا يُمَكَّنُ من صَرْفِ الخُصُومَةِ عن نفسه [بالإضافة] (¬1) إلى غَائِبٍ، قد يرجع، وقد لا يرجع [ويخالف] (¬2) ما إذا أَضَافَ إلى صَبِيٍّ أو مَجْنُونٍ، فإن هناك يمكن مُخَاصَمَةُ وَليِّهِ. وأظهرهما، وهو جَوَابُ أكثرهم: أنها تَنْصَرِفُ؛ لأن المَالَ بِظَاهِرِ الإقرار لغيره. ألا ترى أن الغَائِبَ إذا عاد وصَدَّقَهُ، أَخَذَهُ، وإذا كان لغيره، وَجَبَ أن تكون الخُصُومَةُ معه، ثم عن أبي عَاصِمٍ العَبَّادِيِّ: أن الوجهين فيما إذا قَال: إنه لفلان، وَهُوَ في يَدِي بِإِجَازةٍ، أو إِعَارَةٍ، أو وَدِيعَةٍ، أو غيرها، فأما إذا اقْتَصَرَ على أنه ليس لي، وإنما هو لفلان، ولم تذكر ليده جِهَة، لم تَنْصَرِفِ الخُصُومَةُ عنه بِحَالٍ، والجمهور لم يُفَرِّقُوا بين الحالتين. التفريع: إن قلنا: لا تَنْصَرِفُ الخُصُومَةُ عنه، نظر: إن لم يكن لِلْمُدِّعي بَيِّنَةٌ، فله تَحْلِيفُ المُدَّعَى عليه، على أنه لا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ إليه، فإن نَكَلَ، حلف المدعى، وأخذ المَالَ من يَدِهِ، ثم إذا عاد الغَائِبُ، وصدق المقر، فيُردُّ المال عليه بلا حُجَّةٍ؛ لأن اليَدَ له بإقرار (¬3) صاحب اليَدِ، والمدعى يَسْتَأْنِفُ الخُصُومَةَ معه، وإن أقام المُدَّعِي بَيِّنَةً على الحاضر، أخذ المَالَ أيضاً، ثم هو قَضَاءٌ على الحاضر، الذي تجري الخُصُومَةَ معه، أو على الغَائِبِ؛ لأن المَالَ له بِمُوجَبِ الإِقْرَارِ؟ فيه وجهان نَقَلَهُمَا صاحب "التهذيب" وغيره، المستمر (¬4) منهما على الوَجْهِ الذي عليه، يُفَرَّعُ أنه قَضَاءٌ على الحاضر، حتى لا يَحْتَاجُ المدعى مع البَيِّنَةِ إلى اليَمِينِ، ويكتب القاضي في السِّجِلِّ، أنه قَضَى له بالبَيِّنَةِ، بعدما أَقَرَّ المُدَّعَى عَلَيْهِ، أنه لفلان الغَائِب؛ ليكون الغَائِبُ على حُجَّتهِ فإذا عاد، وأَقَامَ البَيِّنَةَ فيقضي (¬5) له لترجح جانبه باليد، وإن لم يُقِمْ، أُقِرَّ المَالُ في يد المُدَّعِي، فإن الْتَمَسَ من القَاضِي، أن يزيد (¬6) في التَّسْجِيلِ، أن الغَائِبَ قد قَدِمَ، ولم يأت بِبَيِّنَةٍ، أجابه إليه. وإن قلنا: تَنْصَرِفُ الخُصُومَةُ عنه، فإن لم يكن لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، فيوقف الأَمْرُ إلى أن يحضر الغَائِبُ. وإن كانت له بَيِّنَةٌ، فيقضي له بالمَالِ. وهذا قَضَاءٌ على الغائب، أو على الحاضر الذي تَجْري الخُصُومَةُ معه. ¬
ذكر العراقيون وغيرهم فيه وجهين: أحدهما: أنه قَضَاءٌ على الغائب، فيحتاج معه إلى اليَمِينِ. وثانيهما: أنه قَضَاءٌ على الحاضر، فلا حَاجَةَ إلى اليَمِينِ، وبه قال أبو إِسْحَاقَ، ورَجَّحَ العراقيون والروياني هذا الوَجْهَ، لكن الأول أَقْوَى، وأَلْيَقُ بالوجه المُفَرَّعِ عليه، وهو المَذْكُورُ في الكتاب؛ واخْتِيَارُ الإِمام وهذا كله، فيما إذا لم يُقِمِ المُدَّعَى [عليه] (¬1) بَيِّنَةً، على أن المَالَ لِلْغَائِب، [فإن أقام عليه بَيِّنَةً، نظر: إن ادَّعَىَ أنه وَكِيلٌ من جِهَةِ الغائب، وأَثْبَتَ الوِكَالَةَ، فَبَيِّنَتُهُ على أن المَالَ لِلْغَائِب] (¬2) مَسْمُوعَةٌ، وهي حُجَّةٌ على بَيِّنَةِ المدعى. وإن لم يثبت الوِكَالَةُ، فقد (¬3) حَكَى الإِمَامَ فِي سَماع بَيِّنَتِهِ ثلاثة أوجه: أحدها: وبه قال الشيخ أبو محمد: أنها لا تُسْمَعُ؛ لأنه ليس بِمَالِكٍ، ولا نَائِبٌ عنه، وإِقَامَةُ البينة فُضُولٌ منه. فعلى هذا الحُكْمُ، كما لو لم يُقِمْ بَيِّنَةً. والثاني: أنها مَسْمُوعَةٌ لدفع التُّهْمَة عنه بالاحتيال (¬4) في الإِضَافَةِ إلى الغائب. والثالث: إن اقْتَصَرَتِ البَيِّنَةُ على أنه لفلان الغَائِبِ، لم تُسْمَعْ، وإن تَعَرَّضَتْ مع ذلك لكونه في يَدِ المُدَّعَى عليه، بعارية، أو غيرها، من الجِهَاتِ، سُمِعَتْ. وهكذا نقل الوجوه صاحب الكتاب في "الوسيط"، وبنى هاهنا سماع البَيِّنَةِ على أن المُدَّعِي، هل يحلفه؟ إذا قلنا: بانصراف الخُصُومَةِ عنه، لِيُغَرِّمَهُ القِيمَةَ، إن أَقَرَّ له، على ما سنذكره إِثْرَ هذا الفَصْلِ وفيه خلاف. إن قلنا: لا نُغَرِّمُهُ، فلا يحلفه، ولا تُسْمَعُ البَيِّنَةُ، وإن حكمنا بالتَّغْرِيمِ، والتحليف، ففي سَمَاعِ البَيِّنَةِ وجهان: أظهرهما: على ما ذكره: المنع؛ لأنه ليس بِمَالِكٍ، ولا وَكِيلٍ. ووجه الثاني: أنه يستفيد بالبَيِّنَةِ صَرْف اليمين عن نَفْسِهِ. قال الإِمام وصاحب الكتاب: وإذا قلنا: لا تُسْمَعُ البَيِّنَةُ المُقَامَة على أن المَالَ لفلان، فلو ادَّعَى لِنَفْسِهِ فيه حَقاً لازِماً، كَرَهْنٍ، وإِجَارَةٍ، وتعرضت البَيِّنَةُ لذلك أيضاً، ففي السَّمَاعِ وجهان؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ به. وإذا سمعنا [بَيِّنَتهُ] (¬5) تصرف اليَمِين عنه، فنحكم لِلْمُدَّعِي بِبَيِّنَتِهِ. ¬
فإن رجع الغائب، وأعاد البَيِّنَةَ، قُدَّمَتْ بَيِّنَتُهُ. وإذا سمعناها لِعُلْقَةِ الرِّهْنِ، والإجارة، فَتُقَدَّمُ هذه البَيِّنَةُ، أو بينة المدعى؟ فيه وجهان: قال في الوسيط. أظهرهما: تقديم بَيِّنَةِ المدعى، وتَصِيرُ فائدة بَيِّنَتِهِ صَرْفَ اليمين عنه. هذا ما ذكراه، والذي فَهِمْتُهُ من كلام الأصحاب، وينبغي أن يفتي (¬1) بموجبه؛ أن المدعى، وقد أَضَافَ المدعى عليه المَالَ إلى الغائب، خصومة معه، وأخرى مع الغائب. فإذا أَقَامَ البَيِّنَةَ انصرفت الخُصُومَةُ عنه، لا مَحَالَةَ، ولا يجيء فيه الوَجْهَانِ المذكوران، فيما إذا اقْتَصَرَ على الإقْرَارِ للغائب، فَتُسْمَعُ البَيِّنَةُ التي يَضُمُّهَا في حَقِّهِ، ليصرف الخصومة عنه، لدفع التُّهْمَةِ [عنه] (¬2) أيضاً، ولِدَفْعِ اليَمِينِ أيضاً. إذا قلنا: إن المُدَّعِي يُتَمَكَّنُ من تحليفه، وبنوا (¬3) على انْصِرَافِ الخُصُومَةِ عنه، أن المدعي لو أقام البَيِّنَةَ، والحَالَةُ هذه، فَلاَ بُدَّ له من اليَمِينِ، والقَضَاءُ قَضَاءٌ على الغائب وَجْهاً واحداً. وأما بالإضافة إلى الغائب، فهي غير مَسْمُوعَةٍ، حتى لا يُحْكَمَ للغائب بالمِلْكِ، بالبَيِّنَةِ التي يَضُمُّهَا الحَاضِرُ، على أنه للغائب. فإن تَعَرَّضَ الشهود مِع ذلك لِكَوْنهِ في رَهْنِ الحاضر، أو إِجَارَتِهِ، فيه وجهان عن أبي إِسْحَاقِ: أن من الأصْحَاب من قال: تُسْمَعُ هذه البَيِّنَةُ للغائب أيضاً؛ لأن الحَاضِرَ يَدَّعِي حَقّاً، ويقيم البَيِّنَةَ عَليه، فَلاَ بُدَّ من إِثْبَاتِهِ، ولا يَثبُتُ حَقُّهُ إلا بِثُبُوتِ مِلْكِ الغائب. وعلى هذا فَتُرَجَّحُ بَيِّنَتُهُ على بَيِّنَةِ المدعي، لتقويمها باليَدِ. والثاني: أنه لا يَتَمَكَّنُ من إِثْبَاتِ المِلْكِ للغائب مَقْصُوداً ولا يَتَمَكَّنُ منه في ضِمْنِ إثبات الحَقِّ لنفسه. وعلى هذا فالعَمَلُ بِبَيِّنَةِ المدعي. والناقلون رَجَّحُوا الوَجْهَ الثاني، ولا بَأْسَ بالأول، وبِتَوْجِيهِهِ. وقوله في الكتاب: "وإن قلنا ينصرف عنه" يجوز أن يُعَلمَ لَفْظُ الانصراف بالحاء؛ لأنه يُحْكَى عن أبي حَنِيْفَةَ أنها لا تَنْصَرِفُ. وقوله "فهو قضاء على الغائب". وقوله: "فيحتاج إلى يمين معه" مُعَلمَانِ بالواو لما بَيَّنَّاهُ. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَحَيْثُ تَنْصَرِفُ الخُصُومَةُ عَنْهُ فَلِلْمُدَّعِي تَحْلِيفُهُ بِنَاءً عَلَى الأصَحِّ فَإِنَّهُ لَو أَقَرَّ الثَّانيْ غَرِمَ لَهُ القِيمَةَ. ¬
فروع
فَالَ الرَّافِعِيُّ: إن حَكَمْنَا بانْصِرَافِ الخُصُومَةِ عن المُدَّعَى عليه، إما بإقْرَارِهِ لحَاضِرٍ، أو بإقراره لِغَائِبٍ، أو مَجْهُول على أحد الوجهين، فهل للمدعي تَحْلِيفُهُ؟ وفيه قولان مبنيان (¬1) على أنه لو أَقَرَّ له بعد ما أَقَرَّ لغيره، هل يُغَرَّمُ القِيمَةَ؟ وفيه خلاف مَشْرُوحٌ في موضعه. إن قلنا: نعم، يحلفه؛ فلعله يُقِرُّ، فَيُغَرِّمُهُ القِيمَةَ. وإن قلنا: لا، فإن قلنا: النُّكُول، ورَدُّ اليمين، كالإِقْرَار، فلا يُحَلِّفُهُ؛ لأنه وإن أقر، أو نَكَلَ، وحلف المدعي -لم يَسْتَفِدْ شيئاً. وإن قلنا: كالبينة، فله التَّحْلِيفُ؛ لأنه قد يَنْكُلُ، فيحلف المدعي، وإذا حلف، أخذ القِيمَةَ، وكأن العَيْنَ تَالِفَةٌ. وفيما علق عن الإِمام وجه: أنه يسترد العين من (¬2) المقر له، وَفَاءً بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ البينة. وإذا قلنا بوجوب القِيمَةِ، وأخذها بِإقْرَارِ المُدَّعَى عَلَيْهِ ثانياً، أو بِيَمِين المُدَّعِي بعد نُكُولِهِ، ثم سُلِّمَتْ له العَيْنُ بالبَيِّنَةِ، أو بيمينه بعد نُكُولِ المُقِرِّ له، فعليه ردُّ القيمة؛ لأنه إنما أخذ القِيمَةَ، لِلْحَيْلُولَةِ وقد زَالَتْ. فروع: ادَّعى أن هذه الدَّارَ وَقْفٌ عَلَيَّ، وقال مَنْ في يَدِهِ: هي مِلْكٌ لفلان، وصَدَّقَهُ فلان، وانتقلت الخُصُومَةُ إليه. قال في "التهذيب" (¬3): ليس له طَلَبُ القِيمَةِ من المُقِرِّ؛ لأنه يَدَّعِي الوَقْفَ، ولا يُعْتَاضُ عن الوَقْفِ، وكان لا يبعد طَلَبُ القيمة؛ لأن الوَقْفَ مَضْمُونٌ عند الإِتْلاَفِ، والحَيْلُولَةُ في الحال كالإِتْلاَفِ. ولو رجع الغَائِبُ، وكذب المُدَّعَى عليه في إِقْرَارِهِ، فالحكم كما ذكرنا، فيما إذا أَضَافَ إلى حَاضِرٍ وكذبه. ولو أقام المُقِرُّ له الحاضر، أو الغائب بعد رجوعه، البَيِّنَةَ على المِلْكِ، لم يكن للمدعي تَحْلِيفُ المقر لِيُغَرِّمَهُ. فإن المِلْكَ اسْتَقَرَّ بالبينة، وخرج بالإقرار (¬4) عن أن يكون لِلْحَيْلُولَةِ. قَالَ الغَزَالِيُّ: الرَّابِعَةُ إِذَا خَرَجَ المَبِبعُ مُسْتَحَقّاً فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى البَائِعِ بِالثَّمَنِ، فَإِنْ صَرَّحَ فِي نِزَاعِ المُدَّعِي بِأَنَّهُ كَانَ مِلْكَ البَائِعِ فَفِي الرُّجُوعِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا أنَّهُ يَرْجِعُ، وَلَوْ أَخَذَ جَارِيَةً بِحُجَّةٍ فَأَحْبَلَهَا ثُمَّ كَذَّبَ نَفْسَهُ فَالوَلَدُ حُرٌّ والجَارِيَةُ مُسْتَوْلَدَةٌ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا للمُقِرِّ ¬
لَهُ مَعَ المَهْرِ، وَقيلَ: إِنَّ الجَارِيَةَ لِلمُقِرِّ لَهُ إنْ أَقَرَّتْ بِصِدْقِهِ فِي الرُّجُوعِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا اشْتَرَى ثَوْبَاً، أو عَبْداً من إِنْسَانٍ، فجاء آخر، وادَّعَى أنه له، نظر: إن سَاعَدَهُ المُشْتَري، وأَقَرَّ له بما ادَّعَاهُ، لم يكن له أن يَرْجِعَ بالثمن على بَائِعِهِ؛ لأن إِقْرَارَهُ لا يلزم البائع عرفاً, ولا ينهض حُجَّةً عليه. وإن اسْتُحْلِفَ، فَنَكَلَ، وحلف المُدَّعِي، وأخذ المَالَ، قال الشيخ أبو عَلِيِّ: ليس له الرُّجُوعُ بالثَّمَنِ أيضاً، وَجْهاً واحداً، لِتَقْصِيرِهِ بالنُّكُولِ، وحلف المدعي بعد نُكُولِهِ قائم مَقَامَ إقراره. ويجوز أن يفرض في هذا الخلاف (¬1) بِنَاءً على أنه كالبَيِّنَةِ (¬2). وإن أَثْبَتَ المدعي الاسْتِحْقَاقَ بالبينة، وأخذ المال، فَيُنْظَرُ: إن لم يُصَرّح في مُنَازَعَةِ المدعي، بأنه كان مِلْكاً لبائعي، ولا بأنه مِلْكٌ لي، بأن سَكَتَ، فأقيمت البَيِّنَةُ عليه، فله الرجوع بالثَّمَنِ لا مَحَالَةَ، وإن صَرَّحَ بذلك فوجهان: أحدهما: لا يرجع؛ لأن المُدَّعِي ظَالِمٌ باعترافه، والبائع غير مُقَصِّرٍ، فلا يظلمه المشتري، بأن ظَلَمَهُ. وأصحهما: الرُّجُوعُ مَهْمَا قال ذلك على رَسْمِ الخُصُومَةِ، واعتمدت (¬3) ظاهر اليد، ثم تَبَيَّنَ خِلاَفُ ذلك الظاهر بالبَيِّنَةِ، ويجري الوَجْهَانِ فيما إذا قال في الابْتِدَاءِ، يعني هذا العَبْد، فإنه مِلْكُكَ. ثم قامت البَيِّنَةُ على الاستحقاق ولا يَجْرِيَانِ فيما إذا كان المَوْجُودُ مُجَرَّدَ الشراء [وإن كان الشراء] (¬4) إقراراً للبائع بالملك. وفَرَّقُوا بان ذلك إِقْرَارٌ، تضمنه الشِّرَاءُ، فيبطل بِبُطلاَنِ المُبَايَعَةِ، والإِقْرَارُ المستقل بخلافه. ومن اشْتَرَى عَبْداً في الظَّاهِرِ، فقال: أنا حُرُّ الأصل، فقد [مرَّ أن] (¬5) القول قوله، وأن على المشتري إِقَامَةَ البَيِّنَةِ على رِقِّهِ، أو على إِقْرَارِهِ بالرق له، أو الذي باعه (¬6) منه. فإذا حلف، حُكِمَ في الظاهر بحُرِّيَّتِهِ، ثم أَطْلَقَ ابن الحَدَّادِ، أنه لا يرجع المُشْتَري على البَائِعِ بالثمن. ¬
فروع
وفَصَّلَ أكثرهم فقالوا: إن لم يُصرِّحْ في مُنَازَعَتِهِ، بأنه رَقِيقٌ، فيرجع. كما لو أقام بَيِّنَةً على الحُرِّيَّةِ؛ لأنه لم يوجد (¬1) منه ما يبطل الرُّجُوع، وإن صَرَّحَ بذاك، فعلى الوَجْهَيْنِ. وقَطَعَ الشيخ أبو عَلِيٍّ: بأنه لا يرجع، وفَرَّقَ بينها وبين البَيِّنَةِ، لقوة البينة. فروع: مَنقُولَةٌ عن كلام القاضي أبي سَعْدٍ الهَرَوِيِّ: إذا أَقَرَّ المُشْتَرِي للمدعي بالمِلْكِ، ثم أراد إِقَامَةَ البَيِّنَةِ على أنه للمدعي، ليرجع بالثَّمَنِ على البائع، لم يُمَكَّنْ؛ لأنه [لم] (¬2) يثبت المِلْك لغيره، من غير نِيَابَةٍ، ولا وِكَالَةٍ. كيف والمدعي لو أَرَادَ إِقَامَةَ البَيِّنَةِ -والحالة هذه- لم يُلْتَفَتْ إليه؛ لاسْتِغْنَائِهِ عن البَيِّنَةِ بالإِقْرَارِ. ويجوز له تَحْليفُ البائع؛ لأنه ربما يُقِرُّ فيرجع , فإن نَكَلَ, فهل يَحْلِفُ المشتري يَمِينَ الرد؟ وإن قلنا: النُّكُولُ واليمين كالإِقْرَارِ، فنعم. وإن قلنا: كَالبَيِّنَةِ، فلا. المسترق المشتري، إذا ادَّعَى أنه حُرُّ الأصل، واعْتَرَفَ به المُشْتَرِي، ثم أراد إِقَامَةَ البَيِّنَةِ على أنه حُرُّ الأَصْلِ، مُكِّنَ؛ لأن الحُرِّيَّةِ حَقُّ الله [تعالى] (¬3)، ولكل أحد إِثْبَاتُهَا. وإذا ثَبَتَتِ الحُرِّيَّةُ، ثبت الرُّجُوعُ، ولا يكفي للرجوع إقَامَةُ البَيِّنَةِ على مُطْلَقِ الحُرِّيَّةِ، لاحْتِمَالِ أن المُشْتَرِي هو الذي أَعْتَقَهُ، ولو أقام المُشْتَرِي بعدما أَقَرَّ المدعي البَيِّنَةَ على إقْرَارِ البائع بالمال للمدعي؛ فهي مَقْبُولَةٌ، ويثبت بها حَقُّ الرجوع؛ لأنه لما تَبَيَّنَ إِقْرَارُ الَبَائِعِ من قبل، لُغِيَ إِقْرَارُ المشتري. هكذا ذكره الشَّيْخُ أبو عَاصِمٍ. قال أبو سَعْدٍ: وهو الظَّاهِرُ وغيره مُحْتَمَلٌ؛ لأن إِقْرَارَهُ في الابتداء تَقْصِيرٌ، ولو أقام مُدَّعِي الاسْتِحْقَاقِ البَيِّنَةَ، وأخذ المال، ثم قَامَتْ بينة (¬4) على أن البَائِعَ، كان قد اشْتَرَاهَا من هذا المُدّعِي، سُمِعَتْ، ورد الحُكْمُ الأَوَّلُ، وكانت الجَارِيَةُ للمشتري بالمُبَايَعَةِ السَّابقة. هذا هو الكلام في إِحْدَى صُورَتَي الفَصْلِ. والثانية: جَارِيةٌ في يَد رَجُلٍ ادَّعى مُدَّعٍ أنها له، وأنكر صَاحِبُ اليد، فأقام المدعي البَيِّنَةَ، أو حَلَفَ بعد نُكُولِ صَاحِبهِ، فَحُكِمَ له بها، فأخذها وعاد بعدما غَشِيَهَا، فقال: كَذَبْتُ في دَعْوَايَ، ويميني، والَجَارِيةُ للذي كانت في يَدِهِ، فعليه أن يَرُدَّهَا، ويُغَرَّمَ مَهْرَهَا، وأَرْشَ النَّقْصِ إن حَدَثَ فيها نَقْصٌ، ولا يُقْبَل قوله: إنها كانت زَانِيَةً؛ لأنها تنكر ما يقول. ¬
وإن أَوْلَدَهَا، ثم كَذَّبَ نَفْسَهُ، لم يُقْبَلْ قوله في إِبْطَالِ حرية (¬1) الولد، وفي الاسْتِيلاَدِ؛ لأن إِقرَارَة لا يلزم غيره، ولكن عليه قيمة (¬2) الوَلَدِ والأم مع المَهْرِ، وليس له وَطْؤُهَا بعد ذلك، إلا أن يَشْتَرِيَهَا منه، وتُعْتَقُ بموته، وَوَلاَؤُهَا مَوْقُوفٌ. وإن وَافَقَتْهُ الجَارَيةُ في الرجوع، ففي بطلان الاسْتِيلاَدِ وجهان: أظهرهما: المنع، ولا يَرْتَفِعُ الاسْتِيلاَدُ المَحْكُومُ به برجوع محتمل. والثاني: يبطل؛ لأنهم تَوَافَقُوا عليه، والحَقُّ لا يَعْدُوهُمْ، ولو أن صاحب اليد أَنْكَرَ، وحلف، وأَوْلَدَ الجَارَيةَ، ثم عاد وقال: كنت مُبْطِلاً في الإِنْكَارِ، والجَارِيَةُ للمدَّعِي، فالكَلاَمُ في المَهْرِ، وقيمة الوَلَدِ، والجارية، والاستِيلاَدِ، على ما ذكر في طَرَفِ المدعي. وقوله في الكتاب: "فلو صُرِّح في نِزاعِ المُدَّعِي بأنه كان مِلْكاً لِلْبَائِعِ، ففي الرجوع وجهان"؛ الوَجْهَانِ لا يَخْتَصَّانِ بما إذا قال: كان مِلْكاً للبائع، بل يَجْرِيَانِ فيما إذا قال: هو مِلْكِي، ولا فَرْقَ بينهما، على ما بَيَّنَّاهُ. وقوله: "ولو أخذ جَارِيةً بِحُجَّةٍ"، أطلق لفظ الحُجَّةِ، لِيَنْتَظِمَ ما إذا أخذَ بالبينة. وفيه صُوَرٌ في "الوسيط"، وما إذا أُخِذَ باليَمِينِ بعد النُّكُولِ، وفيه صُوَر ابن الحَدَّادِ وأكثر من تَكَلَّمَ في المسألة. واعلم: أن الصُّورَةَ الثانية، لا اخْتِصَاصَ لها بالرُّكْنِ الذي فيه الكَلاَمُ، وهو جَوَابُ المُدَّعَى عليه، وكذا الصورة الأُولَى، إلا من جِهَةِ أنه فرض التصريح، بكونه لِلْبَائِع في جواب المدعي، والنِّزَاعُ معه، لكن عرفت أنه لا فَرْقَ بين أن يكون هذا التَّصْرِيحُ في جواب المُدَّعِي؛ أو في ابْتِدَاءِ الشِّرَاءِ. والوجهان جَارِيَانِ في الحالتين. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الخَامِسَةُ: جَوَابُ دَعْوَى القِصَاصِ عَلَى العَبْدِ يُطْلَبُ مِنَ العَبْدِ، وَدَعْوَى الأَرْشِ يُطْلَبُ جَوَابُهَا مِنَ السَّيِّدِ وَلَكِنْ لَهُ تَحْلِيفُ العَبْدِ لِيَتَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ إِنْ قُلْنَا: يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ وَسَمِعْنَا الدَّعْوَى بِالدَّيْنِ المُؤَجَّل أَيْضاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ما يقبل إقرار العَبْدِ فيه؛ كالقِصَاصِ، وحَدِّ القَذْفِ، فالدَّعْوَى فيه تكون على العَبْدِ، والجواب يكون منه، وما لا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ فيه؛ وهو الأَرْشُ، وضَمَانُ الأَمْوَالِ، فَلِتَوَجُّهِ الدعوى فيها على السَّيِّدِ، فإن الرَّقَبَةَ التي هي مُتَعَلَّقُهَا، حَقُّ السيد، فإن وجهت الدعوى على العَبْدِ، فَمَفْهُومُ ما نقل الأَئِمَّةُ -رحمهم الله- فيه طَرِيقَانِ: أحدهما: وهو الذي يَشْتَمِلُ عليه الكتاب -المَنْعُ؛ لأن إِقْرَارَهُ بها غير مقبول. ¬
نعم، هل للمدعي تَحْلِيفُهُ؟ يُبْنَى ذلك على أن الأُرُوشَ (¬1) المتعلقة بالرَّقَبَةِ، هل يَتَعَلَّقُ بالذِّمَّةِ أيضاً؟ وفيه قولان مَذْكُورَانِ في موضعهما. فإن قلنا: يَتَعَلَّقُ، فلا طلبة، ولا إِلْزَامَ في الحال، وإنما هو شَيْءٌ يتوقع (¬2) من بعد فيكون كالدَّيْنِ المُؤَجَّلِ، ويجيء الخِلاَفُ الذي مَرَّ في سَمَاعِ الدَّعْوَى، بالدَّيْنِ المُؤَجَّلِ، فإن سَمِعْنَاهَا، فله تَحْلِيفُ العَبْدِ، فإن نَكَلَ وحَلَفَ المدعى اليَمِينَ المَرْدُودَةَ، لم يكن التعلق (¬3) بالرَّقَبَةِ؛ لأن اليَمِينَ المَرْدُودَةَ، وإن جُعِلَتْ كالبَيِّنَةِ، فلا تُؤَثِّرُ إلا في حَقِّ المُتَدَاعيَيْنِ، والرَّقَبَةُ حق السَّيِّدِ، وفيه وجه: أن له التَّعَلُّقَ بالرَّقَبَةِ، إذا جعلناها كالبَيِّنَةِ. هذا ما حكاه صَاحِبُ الكتاب هاهنا، وفي "الوسيط". وذكر الإِمام نَحْواً منه. والثاني: وهو المذكور في "التهذيب" في باب مُدَايَنَةِ العَبِيدِ، أن الدَّعْوَى مَسْمُوعَةٌ على العَبْدِ (¬4) إن كان للمدعي بَيِّنَةٌ، وإن لم يكن له بَيِّنَةٌ، فإن جَعَلْنَا النُّكُولَ ورَدّ اليمين كالبينة، سُمِعَتْ أيضاً. فلعله يَنْكُلُ فيحلف المدعي. وإن قلنا: إنها كالإِقْرَارِ، فلا تُسْمَعُ. وفي (¬5) كل واحد من الطريقين حيلة (¬6). أما الأول؛ فلان قَضِيَّةَ البناء على الأَصْلَيْنِ المَذْكُورَيْنِ، أن يسمع الدَّعْوَى عليه لإِقَامَةِ البَيِّنَةِ، والتَّحْلِيفِ جميعاً، ولا يَخْتَصُّ التحليف بالنظر والكلام، وهم إنما تَكَلَّمُوا في التَّحْلِيفِ. وأما الثاني: فلأن ظَاهرَهُ تَعَلُّقُ الأَرْش بالرَّقَبَةِ بإقامة البَيِّنَةِ في وجه العبد، لكن الرَّقبةَ للسَّيِّدِ، فينبغي أن تُقَامَ البَيِّنَةُ في وجهه، أو وجه نائبه. والمتوجه أن يُقَالَ: تُسْمَعُ الدَّعْوَى [عليه] (¬7) لإِثْبَاتِ الأَرْشِ في ذِمَّتِهِ، تَفْرِيعاً على الأَصْلَيْنِ المذكورين؛ ولا تُسْمَعُ الدَّعْوَى والبَيِّنَةُ عليه، لِتَعَلُّقِهِ بالرَّقَبَةِ. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَإِذَا ادَّعَى وَلَمْ يَحْلِفْ وَقَالَ: لِيَ بَيِّنَةٌ فَاطْلُبُوا مِنْهُ كَفِيلاً لَمْ يَلْزَمْهُ (و) ذَلِكَ وَإِنْ جَرِيَ بِهِ رَسْمُ القُضَاةِ، وَإِذَا أَقَامَ فَلَهُ طَلَبُ الكَفِيلِ قَبْلَ التَّعْدِيلِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من ادَّعَى على إِنْسَانٍ عَيْناً، أو دَيْناً ولم يحلفه (¬8)، وطلب كَفِيلاً منه، ليأتي بالبَيِّنَةِ، لم يَلْزَمْهُ إِعْطَاءُ كَفِيلٍ، وإن اعتاد (¬9) القضاة خلافه، هذا هو المَشْهُورُ. ¬
الركن الثالث في الحلف
ورأيت لبعض المُتَأَخِّرِينَ أن الأَمْرَ فيه إلى رَأْي الحاكم، وإن أقام شَاهِدَيْنِ، وطلب الكَفِيل إلى أن يعدلا طُولِبَ به؛ لأنه أَتَى بما عليه، والنظر في حَالِ الشُّهُودِ من وَظِيفَةِ القاضي، والظاهر العَدَالَةُ، فإن امْتَنَعَ من إِعْطَاءِ الكَفِيلِ، حُبِسَ لهذا الامتناع، لا لثبوت الحق والامْتِنَاعِ منه، هكذا أَطْلَقَ الإِمَامُ وصاحب الكتاب لكن يجيء فيه الخِلاَفُ من وجوه: أحدها: أن في أَصْلِ كَفَالَةِ البَدَنِ قَوْلاً مذكوراً في باب الضَّمَانِ، أنها لا تَصِحُّ. والثاني: أن في فَتَاوَى القَفَّالِ: أنَّه لا يَلْزَمُهُ أن يعطي كَفِيلاً؛ لأن الحَقَّ لم يَثْبُتْ بعد، لكن للحاكم أن يُطَالِبَهُ به، إذا أَدَّى اجْتِهَادُهُ إليه، وخاف منه الهرب. والثالث: أنا ذكرنا في آخر الباب من الشهادات المُدَّعَى إذا كان عَيْناً فَيُنْزَعُ في هذه الحالة، وإن كان دَيْناً فَيحْبَسُ المدعى عليه على أحد الوجهين، وكل واحد من الانتزاع والحبس، فيجوز ألا يُجَابَ أيضاً لما المَكْفُولِ ببدنه من تحمل منه الكفيل، ولا يخفى أن المَسْأَلَةَ لا اخْتِصَاصَ لها بِرُكْنِ الجواب والله أعلم بالصواب. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الثَّالِثُ فِي الحَلِفِ: وَالنَّظَرُ فِي الحَلِفِ وَالحَالِفِ وَالمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَالحُكْمِ أَمَّا الحَلِفُ فَيَجْرِي فِيهِ التَّغْلِيظُ إِلاَّ فِيمَا هُوَ دُونَ نِصَابِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ أَنْكَرَ السَّيِّد عِتْقَ عَبْدٍ خسيسٍ لَمْ تُغَلَّظ يَمِينُهُ، فَإِنْ نكَلَ غُلِّظَ عَلَى العَبْدِ لِأَنَّهُ مُدَّعِي العِتْقِ، وَكُلُّ مَا لاَ يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيمِينٍ يَجْرِي في التَّغْلِيظِ، وَيَجْرِي أَيْضَاً في عُيُوبِ النِّسَاءِ، وَكَيفِيَّتُهُ وَكَوْنُهُ مُسْتَحَقاً أَوْ مُسْتَحَبَّاً ذَكَرْنَاهُ فِي اللِّعَانِ، وَيُغَلَّظُ عَلَى المُخَدَّرَةِ بِحُضُورِ الجَامِعِ، وَلاَ تَذَرُ بِالتَّخَدُّرِ، وَشَرْطُ اليَمِينِ أَنْ يُطَابِقَ الإِنْكَارَ وإنْ يَقَعَ بَعْدَ عَرْضِ القَاضِي، فَلوْ بَادَرَ قَبْلَ طَلَبِ القَاضِي لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أَحَدُ الأَرْكَانِ التي تَدُورُ عليها الخُصُومَاتُ الشرعية، [اليمين] (¬1) على ما مَرَّ، وقد تَكَلَّمَ في هذا الرُّكْنِ في أربعة أَطْرَافٍ: نفس الحلف، وما يُحْلَف عليه، ومَنْ يحلف، وما يُحْلَف له. وهو فائدته، وحكمه. فأما ما يحلف به؛ فَمَوْضِعُ بَيَانِهِ، كِتَابُ الأَيْمَانِ. وأما من يحلف له، فهو الخَصْمُ، وأمره ظاهر. أما الطرف الأول، فهو نَفْسُ الحلف فصيغ اليمين مُسْتَوْفَاةٌ في موضعها، والقصد (¬2) الآن بَيَانُ قاعدتين: إحداهما: للتغليظ (¬3) مدخل في الأَيْمَانِ المَشْرُوعَةِ في الدَّعَاوَى، مبالغة للزجر، وتأكيد الأمر. وفيه مسائل: ¬
[إحداها]: التَّغْلِيظُ يَقَعُ بوجوه: أحدها: التَّغْلِيظُ اللفظي، وهو على ضَرْبَيْنِ: أحدهما: التعديد، والتكرير. وهو مَخْصُوصٌ بالقَسَامَةِ، واللّعَانِ، وواجب فيهما. والثاني: زَيادَةُ الأسماء، والصِّفَاتِ، بأن يقول: وَاللهِ الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الذي يَعْلَمُ من السِّرِّ ما يعلم من العَلاَنِيَةِ. ويقول: بالله الطَّالب، الغالب، المدرك، المهلك، الذي يعلم السِّرَّ وأَخْفَى. وهذا الضَّرْبُ مُسْتَحَبٌّ. فلو اقْتَصَرَ على قوله: بالله، كفى. واسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- أن يَقْرَأَ على الحَالِفِ قَوْلَهُ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] وأن يحضر المُصْحف ويوضع في حِجْرِ الحَالِفِ. وذكر بعض الأصحاب أنَّه يحلف قائماً زِيادَةً في التَّغْليظ (¬1). والوجه الثاني: التغليظ بالمَكَانِ. والثالث: التَّغْلِيظُ بالزَّمَانِ. وهما بِتَفْصِيلِهِمَا مَذْكُورَانِ في باب اللعان. والتغليظ بالمكان، مُسْتَحَبٌّ، أو وَاجِبٌ، حتى لا يُعتَدَّ بالحَلِفِ في مكان آخر، فيه قولان: أصحهما: الأول. وفي التَّغْلِيظِ بالزَّمَانِ، طريقان: منهم من جعله على القولين، ومنهم من قَطَعَ فيه بالاسْتِحْبَابِ. وعن ابن القَاصِّ: القطع بالاسْتِحبَابِ في التَّغْلِيظِ بالمكان أيضاً. ورأى الإِمام طَرْدَ الخِلاَفِ في الضَّرْبِ الثاني من التَّغْلِيظِ اللفظي أيضاً (¬2) ومن وجوه التغليظ المذكور في اللعان، التَّغْلِيظ بحضور جَمْعٍ، ولم يذكروه هاهنا. ويشبه أن يُقَالَ: الأَيْمَانُ التي تَتَعَلَّقُ بإثبات حد أو (¬3) دفع حدٍ، يكون التغليظ فيه بالجمع. كما في اللّعَانِ. ثم التَّغْلِيظُ، يكون بطلب الخصم. أم يغلظ القاضي وإن لم يطلب الخَصْم؟ حكى القَاضِي ابْنُ كَجٍّ فيه وجهين، وذكر أن الأَصَحَّ منهما الثَّاني، ويُشْبِهُ أن يكونا جَارَييْنِ، سواء قلنا بالاسْتِحْبَابِ، أو بالإيجَابِ. ¬
المسألة الثانية: يجري التَّغْلِيظُ في دَعْوَى الدَّم، والنِّكَاحِ، والطَّلاَقِ، والرجعة، والإِيلاَءِ، واللّعَانِ، والعِتْقِ، والحَدِّ، والوَلاَءِ، والوِكَالَةِ، والوِصَايَةِ، وكل ما ليس بمال، ولا القصيد (¬1) منه المال (¬2)؛ حتى يَجْرِيَ في الوِلاَدَةِ، والرِّضَاعِ، وعُيُوبِ النِّسَاءِ. وليس قَبُولُ شَهَادَةِ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ فيها، لِقِلَّةِ خَطَرِهَا؛ ولكن لأن الرِّجَالَ لا يَطَّلِعُونَ عليها غَالِباً. وتَوَقَّفَ الإِمام في الوِكَالَةِ [وقال: الوِكَالةُ] (¬3) في دَرَاهِمَ خَسِيسَةٍ، أَحْسَنُ من ملكها؛ فإن تَصَرُّفَ المُلاَّكِ، أقوى من تَصَرُّفِ الوُكَلاَءِ. والتغليظ إنما يَلِيقُ بما يعظم خَطَرُهُ، وليس اشْتِرَاطُ الذُّكُورَةِ في شهود الوِكَالَةِ لِشَرَفِ الوِكَالَةِ؛ لكن للشَّارعِ تَعَبُّدٌ في [نصاب] (¬4) الشهادات فيتبع. وأما الأموال، فَيَجْرِي التَّغْلِيظُ في كثيرها دون قَلِيلِهَا على مَا وَرَدَ في الآثارِ. رُوِيَ أن عَبْد الرَّحمن بْنَ عوف -رضي الله عنه- رأى قَوْماً يَحْلِفُونَ بين المَقَامِ والبيت، فقال: أَعَلَى دَمٍ؟ قالوا: لا. قال: أفعلى عظيم (¬5) من المال؟. قالوا: لا. قال: خَشِيتُ أن يَتَهَاوَنَ النَّاسُ بهذا البَيْتِ ويُروى أن يَبْهَأ النَّاس بهذا البَيْت. يقال: بَهَأْتُ بالشيء، إذا أَنِسْتَ به حتى سَقَطَ هَيْبَتُهُ قليله (¬6) والكثير من المال ما يَبْلُغُ عَيْناً، أو قيمة نِصَاب الزَّكَاةِ؛ وهو عشرون دِينَاراً، أو مائتا دِرْهَمٍ (¬7)، والقليل ما دُونَ ذلك، فلا تُغَلَّظُ فيه، إلا أن يَرَى القاضي التَّغْلِيظَ [لجرأةٍ: يجدها في الحَالِفِ، فله التغليظ] (¬8). ¬
وعن مَالِكٍ: أن الضَّبْطَ بِنِصَابِ السَّرِقَةِ، فيجري التَّغلِيظُ فيما بَلَغَ رُبُعَ دينار، ولا يَجْرِي فيما دُونَهُ، وأما أبو حَنِيْفَةَ، وأحمد، فلا تَغْلِيظَ عندهما بالمكان، ولا بالزَّمَانِ أَصْلاً. الثالثة: ما يجري [فيه] (¬1) التَّغْلِيظُ يَسْتَوي فيه يَمِينُ المدعى عليه، واليَمِينُ المَرْدُودَةُ، واليمين مع الشَّاهِدِ. [وقد يقتضي] (¬2) الحال تَغْلِيظَ اليَمِينِ في أحد الطَّرَفَيْنِ دُونَ الآخر، كما إذا ادَّعَى العَبْدُ على سَيِّدِهِ عِتْقاً، أو كتابة، فأنكر السيد؛ فإن بلغت قِيمَتُهُ نِصَاباً، فيغلظ عليه في اليَمِينِ؛ لأنه ينفي اسْتِدَامَةَ مَالٍ كثير، فإن لم يبلغ قِيمَتُهُ نِصَاباً، فلا يغلظ عليه؛ فإن نَكَلَ السيد، فالعَبْدُ يُغَلَّظْ عليه بكل حَالٍ؛ لأنه يَدَّعِي العِتْقَ. والوَقْفُ من جانب المدعى عليه لا تَغْلِيظَ فيه، إلا إذا بلغ نِصَاباً، وكذلك مِنْ جَانِبِ المدعي إن أثبتناه بشاهد ويَمِينٍ، وإن لم نُثْبِتْهُ فيغلظ فيه كالعِتْقِ. وعن حكاية صاحب "التقريب" (¬3) وجه: أن ما يُغَلَّظُ فيه من أَحَدِ الطرفين يُغَلَّظُ من الآخر، تَسْوِيةً بين الخَصْمَيْنِ. وإذا ادَّعى الزَّوْجُ الخُلْعَ على مَالٍ، وأنكرت الزَّوْجَةُ فالبينونة حَاصِلَةٌ بقوله، وتُصَدَّقُ الزَّوْجَةُ في إنكار المَالِ بيمينها، ويُنْظَرُ في التَّغْلِيظِ إلى قَدْرِ المال: أهو كَثيرٌ أم قليل؟ فإن ردّت اليمين، وحَلَفَ الزَّوْجُ، فكذلك؛ لأن مَقْصُودَهُ المال. وإن ادعت هي الخُلْعَ، وأنكر الزَّوْجُ، فتغلظ اليَمِينُ عليه؛ لأن مَقْصُودَهُ اسْتِدَامَةُ النكاح. وإن نَكَلَ، وحَلَفَتِ الزَّوْجَةُ، فكذلك؛ لأن مَقْصُودَهَا الفِرَاقُ. الرابعة: من به مَرَضٌ أو زُمَانَةٌ، لا تُغَلَّظُ عليه في المكان لِعُذْرِهِ. وكذا الحَائِضُ، إذ لا يُمْكِنُهَا اللّبْثُ في المسجد، والمَرْأَةُ المُخَدَّرَةُ فِي إِحْضَارِهَا مَجْلِسَ الحكم، خِلاَفٌ سَبَقَ، فإن أُحْضِرَت، فهي كالرجل في التَّغْلِيظِ. وإن قلنا: لا تَحْضُرْ؛ بل يَبْعَثُ القاضي إليها من يَحْكُمُ بينها وبين خَصْمِهَا، فهذا أفْضَى الأَمْرُ إلى تَحْلِيفِهَا، فهل تُغَلَّظُ عليها بالمكان، وتُكَلَّفُ حضور الجامع؟ فيه وجهان مَحْكِيَّانِ في "الشامل" وغيره: أحدهما: نعم؛ ويُرَاعَى التَّغْلِيظُ من هذا الوجه، كما يُرَاعَى باللفظ. والثاني: لا؛ لأنا أَلْحَقنَا التَّحَذُّر بالمَرَضِ في حضور مَجْلِسِ الحكم، فكذلك (¬4)، في حضور الجَامِعِ. ¬
فرع
والأول هو المَذْكُورُ في الكتاب، وبه أجاب الشيخ أبو حَامِدٍ، ومن تابعه، ولكن قيل يبتنى (¬1) هذا الخِلاَفَ على الخِلاَفِ في أن التَّغْلِيظَ مُسْتَحَقٌّ، أو مُسْتَحَبٌّ. وقَضِيَّةُ هذا البناء تَرْجِيحُ الوجه الثاني. فرع: من تَوَجَّهَتْ عليه اليمين، لو كان (¬2) قد حَلَفَ بالطَّلاَقِ ألا يحلف يَمِيناً مُغَلَّظَةً، فإن جعلنا التَّغْلِيظَ مُستحقّاً، فعليه أن يَحْلفَ اليمين المُغَلَّظَةَ، والحنث، وإذا امتنع، جُعِلَ نَاكِلاً، وإن جعلناه مُسْتَحَبّاً، فلا يحنث. القاعدة الثانية: يُشْتَرَطُ في اليمين أن تكون مُطَابِقَةً للإنكار، فإذا ادَّعَى عليه إِتْلاَفَ ثَوْبِ قيمته عشرة، فإن قال في الجَوَابِ: ما أَتْلَفْتُ، حلف كذلك. وإن قال: لا يَلْزَمُنِي شَيْءٌ، حَلَفَ كذلك. وهذا قد مَرَّ. والشرط أيضاً وُقُوعُهَا بعد تَحْلِيفِ القاضي، فلو حلف [قبله] (¬3) لم يُعْتَدَّ به، واحْتُجَّ له، بأن رُكَانَةَ (¬4) طَلَّقَ امْرَأتَهُ ألْبَتَّةَ. وقال: وَاللهِ ما أردت إلا وَاحِدَةً. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَرَدْتَّ إِلاَّ وَاحِدَةً؟ " فقال: والله، ما أردت إلا وَاحِدَةً (¬5). فقيل: كانت امرَأَتُهُ تَدَّعِي أنَّه أراد أكثر من طَلْقَةٍ، فكان (¬6) عليه أن يَحْلِفَ، فلم يُعْتَدَّ بيمينه قبل التَّحْلِيفِ، وأعاد عليه ولو قال الحَاكِمُ في تَحْلِيفِهِ: قل: بالله. فقال: بالرَّحْمَن، لم يُحْسَبْ، وكان نُكُولاً. ولو قال: قل: باللهِ، فقال: وَاللهِ، أو تالله، فوجهان (¬7): أحدهما: أنهُ نُكُولٌ؛ لأنه حَلَفَ، لا على الوَجْهِ الذي حُلِّفَ، فَأَشْبَهَتِ الصورة الأولى. والثاني: المَنْعُ؛ لأنه حَلَفَ بالاسْمِ الذي حُلِّفَ به، والتَّفَاوُت في مُجَرَّدِ الصِّلَةِ. ويجري الوَجْهَانِ فيما إذا غُلِّظَ عليه باللَّفْظِ، فامتنع واقْتَصَرَ على أن قال: بالله. وفيما إذا أراد التَّأْكِيدَ عليه بالزَّمَانِ، أو المكان، فامْتَنَعَ. وقد حَكَى الخِلاَفَ في التَّغلِيظِ ¬
اللَّفظي القاضي الرُّوَيانِيُّ عن القَفَّالِ، وذكر أن الأَصَحَّ: أنَّه يكون نَاكِلاً؛ لأنه ليس له رَدُّ اجتهاد القاضي، وقطع بعضهم في الامْتِنَاعِ من التغليظ اللَّفْظِيِّ، أنَّه لا يكون [ناكلاً] (¬1). وفي التغليظ الزَّمَانِيِّ والمكاني، أنَّه يكون نَاكِلاً. والفرق؛ أن التَّغْلِيظَ اللَّفْظِيَّ من جِنْسِ المأتي به، وهو ذِكْرُ الله -تعالى الذي هو (¬2) مناط الحُرْمَة، والتعظيم، والتَّغْلِيظ الزماني، والمكاني، ليسا من جِنْسِ المأتى به، فلم يكن له الامْتِنَاعُ منهما (¬3). ولْيُعَلَّمْ قوله في الكتاب: "إلا في مَالٍ دون نِصَاب الزكاة" بالميم، لما عرفت من مَذْهَبِهِ أنَّه يَجْرِي التَّغْلِيظُ فيما دون نِصَاب الزكاة، إذا لمَ يكن دون نصَاب السرقة وبالواو أيضاً؛ لأن القاضي ابْنَ كَجٍّ حَكَى عن أَبي الحُسَيْنِ وَجْهاً: أن المال الوَاجب بالجِنَايَةِ، عَمْداً كان، أو خَطَأً، يجري فيه التَّغْلِيظُ، وإن كان دون نِصَابِ الزكاة. وقوله: "لم تغلظ يمينه"، وقوله: "وتغلظ على المُخَدَّرَةِ"، مرقومان بالواو لما تَقَدَّمَ، ويمكن إِعْلاَمُ قوله: "وشرط اليمين أن يطابق الإنكار" أيضاً بالواو؛ لأنا أَسْلَفْنَا وَجْهَيْنِ في أن المُدَّعَى عَلَيْهِ، لو أنكر الجِهَةَ التي أَسْنَدَ المدعى إليها دَعْوَاهُ من إِقْرَاضٍ، أو إتْلاَفٍ، ثم أراد أن يَقْتَصِرَ في يَمِينِهِ على نَفْي اللزوم، ولا يَتَعَرَّضُ لتلك الجِهَةِ، هل يُمَكَّن منه؟ فإن مَكَّنَّاهُ، لم يكن من شَرْطِ اليمين أن يطابق الإِنْكَارَ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَأَمَّا المَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَيَحْلِفُ عَلَى البَتِّ فِي كُلِّ مَا يَنْسِبُهُ إِلَى نَفْسِهِ مِنْ نَفْي أَوْ إِثبَاتٍ وَيَحْلِفُ عَلَى البَتِّ فِي الإِثْبَاتِ المَنْسُوبِ إِلَى غَيْرِهِ كَبَيْعٍ، وَفي النَّفْي يَكْفِي الحَلِفُ عَلَى نَفْي العِلْمِ فَيَقُولُ: لاَ أَعْلَمُ عَلَى مُوَرِّثي دَيْناً وَلاَ أَعْلَمُ مِنْهُ إِتْلاَفاً وَبَيْعاً، وَهَلْ يَثْبُتُ فِي نَفْي أَرْشِ الجِنَايَةِ عَنِ العَبْدِ وَجْهَانِ، وَفِي نَفْي الإتْلاَفِ عَنْ بَهِيمَتِهِ الَّتِي قَصَّرَ بِتَسْرِيحِهَا يَجِبُ البَتَّة. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الحالف تَارَةً يَحْلِفُ على البَتِّ، وأخرى على العِلْمِ، ومَقْصُودُ الفَصْلِ، بَيَانُ موضع القَسَمَيْنِ؛ فإن كان يَحْلِفُ على فعل نَفْسِهِ، فيحلفَ على البَتِّ، سواء كان يُثْبِتُهُ، أو يَنْفِيهِ؛ لأنه يَعْرِفُ حَالَ نَفْسِهِ، ويطلع عليها. وإن كان يَحْلِفُ على فعل الغَيْرِ، فإن كان في إِثْبَاتٍ، فيحلف على البَتِّ؛ لأنه يسهل الوُقُوف عليه، وهذا كما أنَّه يَشْهَدُ به. وإن كان [يحلف] (¬4) على النفي، فيحلف على أنَّه لا يَعْلَمُهُ؛ لأن النَّفْيَ المُطْلَقَ ¬
يَعْسُرُ الوُقُوفُ على سَبَبِهِ. ولهذا لا تجوز الشَّهَادَةُ على النفي، وقد يُعَبَّرُ عن الغَرَضِ بِعِبَارَةٍ أخرى فيقال: إن كان الحَلِفُ على الإِثْبَاتِ، فيجب البَتُّ، سواء كان المثبت فعل نفسه، أو غيره. وإن كان على النَّفْي، فإن نَفْي فِعْلَ نَفْسِهِ، حلف على البَتِّ أيضاً، وإن حَلَفَ على فِعْلِ غيره، حَلَفَ على العِلْمِ وقد يختصر (¬1) فيقال: اليَمِينُ على البَتِّ أَبَداً، إلا إذا حَلَفَ على نَفي فِعْلِ الغير (¬2)، إذا تقرر ذلك، فمن ادُّعِيَ عليه مال، فأنْكَرَ، حلف على البَتِّ. وإن ادَّعى إبراءً، أو قضاءً، وأنكر المُدَّعى، حَلَفَ على البَتِّ. ولو ادعى وَارِثٌ على إنسان، أن لِمُوَرِّثي عليك كذا، فقال المُدَّعَى عَلَيْهِ: إنه قد أَبْرَأَنِي، أو قَبَضَهُ، حلف المدعي على نَفْي العِلْمِ بإبراء المُوَرّثِ، وقبضه [ولو كان] (¬3). في يده دارٌ، وجاء مُدَّعٍ، وقال: غَصَبَهَا مِنِّي أبوك، أو بَائِعُكَ، فأنكر، حُلِّفَ على نفي العِلْمِ بأنهما غَصَبَا. ولو ادعى إنسان على وَارِثِ مَيِّتٍ دَيْناً على المَيِّتِ، لم يكفِ ذِكْرُ الدَّينِ وَوَصْفُهُ، بل يذكر مع ذلك مَوْتَ مَنْ عليه، وأنه حَصَلَ في يَدِهِ من التَّرِكَةِ ما يَفِي بجميعه، أو ببعضه، وأنه يَعْلَمُ دَيْنَهُ على مورثه. وهكذا كل ما يَحْلِفُ المنكر فيه على العلم، يُشْتَرَطُ ¬
في الدعوى (1) عليه التَّعَرُّضُ، فيقول: إن مُوَرِّثَكَ غَصَبَ كذا، وأنت تَعْلَمُ أنَّه غَصَبَهُ، ثم إذا تَعَرَّضَ لجميع ذلك، فإن أَنْكَرَ الوَارِثُ الدَّيْنَ، حَلَفَ على نَفْي العِلْمِ، فإن نَكَلَ، حَلَفَ المُدَّعي على البَتِّ، وإن أَنْكَرَ مَوْتَ مَنْ عليه، فثلاثة أوجه: أحدها: عن ابن القَاصِّ، والشيخ أبي عَاصِمٍ: أنَّه يَحْلِفُ على البَتِّ؛ لأن الظَّاهِرَ اطِّلاَعُهُ عليه. وأصحُّهما: أنَّه يَحْلِفُ على العِلْم، كما لو أَنْكَرَ غَصْبَهُ وإِتْلاَفهُ، وقد يكون موته في الغَيْبَةِ، فلا يَطَّلِعُ الوَارِثُ عليه. وثالثها: عن الشيخ أبي زَيْدٍ الفَرْقُ بين من عُهِدَ حاضرًا، أو غائباً، وإن أنكر حُصُولَ التَّرِكَةِ عنده، حَلَفَ على البَتِّ، وإن أَنْكَرَ الدَّيْنَ وحُصُولَ التَّرِكَةِ معاً، وأراد أن يَحْلِفَ على نَفْي التَّرِكَةِ وَحْدَهُ، وأراد المدعي تَحْلِيفَهُ على نَفْي التركة، وعلى نَفي العِلْمِ بالدَّيْنِ معاً، فعنَ ابن القَاصِّ: أنَّه يَحْلِفُ عليهما؛ لأن للمُدَّعِي غَرَضًا في إثْبَاتِ الدَّيْن، وإن لم يكن عند الوَارِثِ شَيْءٌ، فلعله يَظْفَرُ بوديعة، أو دَيْنٍ له على إنسان، وأخذ منه حَقَّهُ. ولو ادَّعى على رجل، أن عبدك جنى عَلَيَّ بما يُوجِبُ كذا، وأنكر، فوجهان: أحدهما: وهو المذكور في "الشامل": أنَّه يَحْلِفُ على نَفي العِلْم؛ لأنه حَلِفٌ يَتَعَلَّقُ بفعل الغَيْرِ. وأصَحُّهُمَا: أنَّه يَحْلِفُ على البَتِّ؛ لأن عَبْدَهُ ماله، وفِعْلَهُ كفعل نَفْسِهِ، ولذلك سمعنا الدَّعْوَى (2) عليه. وربما بُنِيَ الوَجْهَانِ على أن أَرْشَ الجِنَايَةِ يَتَعَلَّقُ بِمَحْضِ الرقبة؟ أم يَتَعَلَّقُ بالرَّقَبَةِ والذِّمَّةِ معاً، حتى يتبع بما فعل بعد العِتْقِ؟ فإن قلنا بالأَوَّلِ، حلف على البَتِّ؛ لأنه يَحْلِفْ ويُخَاصِمُ لنفسه. وإن قلنا بالثاني (3) فعلى العِلْمِ؛ لأن لِلْعَبْدِ على هذا ذِمَّةً تَتَعَلَّقُ بها الحُقُوقُ، والرَّقَبَةُ؛ كالمرتهن (4) بما عليه.
وإذا ادَّعَى عليه أن بَهِيمَتَهُ أَتْلَفَتْ زَرْعاً، وغيره، بحيث يَجِبُ الضَّمَانُ بإتْلاَفِ البَهِيمَةِ، فأنكر، يَحْلِفُ على البَتِّ؛ لأنه لا ذِمَّةَ لها والمالك لا يَضْمَنُ بفعل البَهِيمَةِ، وإنما يَضْمَنُ بالتَّقْصِير في حِفْظِهَا. وهذا أَمْرٌ يتعلق بنفس الحَالِفِ، ولو نَصَبَ البائع وَكِيلاً ليقبض (¬1) الثمن، ويسلم (¬2) المبيع، فقال له المشتري: إن مُوَكِّلَكَ أَذِنَ في تَسْلِيمِ المَبِيعِ، وأَبْطَلَ حَقَّ الحَبْسِ، وأنت تعلم، فقولان عن حكاية ابن القَاصِّ: أحدهما: أنَّه يَحْلِفُ على نَفْي العلم، ويُدِيمُ الحَبْسَ إلى اسْتيفَاءِ الثَّمَنِ. والثاني: وهو اخْتِيَارُ أبي زَيْدٍ: أنَّه يَحْلِفُ على البَتِّ؛ لأنه يثبت لنفسه اسْتِحْقَاقَ اليَدِ على المبيع. وعن ابْنِ القَاصِّ: أنَّه إذا طُولِبَ البَائِعُ بتسليم المَبِيع، فادعى حُدُوثَ عَجْزٍ عنه، وقال المُشْتَرِي: أنت (¬3) عالم به، فأنكر، يَحْلِفُ على الَبَتِّ؛ لأنه يستفيد (¬4) بيمينه وُجُوبَ تَسْلِيم المَبِيع إليه، وأنه لو مات عن ابنٍ في الظَّاهِرِ، فجاء آخر وقال: أنا أَخُوكَ، والمِيرَاثُ بَيْنَنَا، فأنكر، يَحْلِفُ على البَتِّ أيضاً؛ لأن الأخُوَّةَ رَابِطَةٌ جَامِعَةٌ بينهما، فهو حَالِفٌ في نفسه، ونَازَعَهُ منازعون في الصُّورَتَيْنِ، وقالوا: يَحْلِفُ على العلم (¬5) والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: ثُمَّ يَحِلّ لَهُ اليَمِينُ البَتُّ بِظَنٍّ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ خَطٍّ أَوْ قَرِينَةِ حَالٍ مِنْ نُكُولِ خَصْمٍ وَغَيْرِهِ، وَيُنْظَرُ فِي اليَمِينِ إلَى نِيَّةِ القَاضِي وَعَقِيدَتِهِ فَلاَ يَصِحُّ تَوْرِيَةُ الحَالِفِ وَلاَ قَوْلُهُ: إِنْ شَاءَ الله بِحَيْثُ لاَ يَسْمَعُ القَاضِي، وَلاَ يَحِلُّ لِلشَّفْعَويِّ أن يَحْلِفَ عِنْدَ القَاضِي الحَنَفِيِّ عَلَى نَفي اللُّزُومِ في شُفْعَةِ الجَارِ بِتَأْوِيلِ اعْتِقَادِ نَفْسِهِ بَلْ إِذَا أَلْزَمَهُ القَاضِي صارَ لاَزِمَاً ظَاهِرَاً وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْلِف، وَهَلْ يَلزَمُهُ بَاطِناً؟ فِيهِ خِلاَفٌ، وَقِيلَ: إنْ كَانَ مُجْتَهِدَاً لَمْ يَلْزَمْهُ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّداً يَلْزَمُهُ بَاطِناً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مَسْأَلَتَانِ: إحداهما: ما يحلف فيه على البَتِّ، لا يُشْتَرَطُ فيه اليَقِينُ، بل يجوز البَتُّ على ظَنٍّ مؤكد، [منشأ] (¬6) من خطِّهِ، أو من خطِّ أبيه، أو نُكُولِ خَصْمِهِ على ما سبق. ولو اسْتَحْلَفَ القَاضِي على البَتِّ، حيث تجب فيه اليَمِينُ على العِلْمِ، وقد عَدَلَ عن نَهْجِ الصَّوَابِ، والعَدْلِ، إلا أن اليَمِينَ يُحْسَبُ، وتُحْمَلُ على نَفْي العلم، كما إذا ¬
شَهِدَ الشُّهُودُ أنَّه لا وَارِثَ له، وإلا فلا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ، وتُحْمَلُ على أنَّه لا يعْلَمُ وَارِثاً غيره. الثانية: النَّظَرُ في اليَمِينِ إلى نِيَّةِ القَاضِي المُسْتَحْلِفِ وعَقِيدَتِهِ. [و] (¬1) أما النية فالتَّوْرِيَةُ، والتَّأْوِيل على خلاف قَصْدِ القاضي لا يُغْنِي، ولا يَدْفَعُ إِثْمَ اليمين الفَاجِرَة. ولو اسْتَثْنَى، أو وصل باللَّفْظِ شَرْطاً بِقَلْبِهِ، ونيَّتِهِ، أو فَعَل ذلك بِلِسَانِهِ، ولكن لم يسمعه الحَاكِمُ، فكذلك. وإن سمعه الحَاكِمُ، عَزَّرَهُ، وأعاد عليه اليَمِينَ (¬2). وإن وَصَلَهُ بكلام لم يَفْهَمْهُ القاضي، مَنَعَهُ [منه] (¬3)، وأَعَادَ اليمين عليه، كذلك ذكره في "التهذيب". فإن قال: كُنْتُ أَذْكُرُ الله تعالى، قيل له: ليس هذا وقتاً له. وأما العَقِيدَةُ؛ فإذا ادَّعى حنفي (¬4) على شَافِعِيٍّ، شُفْعَةَ الجَوَازِ. والقاضي يرى إِثْبَاتَهَا، فأنْكَرَ المُدَّعَى عليه، فليس له أن يَحْلِفَ، بِنَاءً على اعْتِقَادِهِ في شُفْعَةِ الجار، بل ¬
عليه اتِّبَاعُ القَاضي ويلزمه (¬1) في الظاهر [ما ألزمه القاضي] (¬2) وهل يَلْزَمُهُ في الباطن؟ حكى المُصَنِّفُ فيه وَجْهَيْنِ. وهذا الخلاف كالخِلاَفِ المَذْكُورِ في الباب الثَّانِي من "أدب القَضَاءِ"، أن الحَنَفِيَّ إذا حكم للشَّافِعِيِّ بِشُفْعَةِ الجَارِ، هل يَحِلُّ له، أو هو هو؟ وَمَيْلُ الأكثرين إلى الحِلِّ، كما ذكره في الكتاب هُنَاك، وهو الجَوَابُ في فَتَاوَى القَفَّال ويوافقه (¬3) ما اتفقوا عليه هاهنا من تَرْجِيحِ اللُّزُومِ بَاطِناً. وعن صاحب "التقريب": أن القَضَاءَ في المُجْتَهَدَاتِ يَنْفُذُ في حَقِّ المُقَلِّدِ ظاهراً، وباطناً، ولا يَنْفُذُ في حَقِّ المُجْتَهِدِ بَاطِناً، حتى لو كَانَ الحَالِفُ مُجْتَهِداً وحلف على مُوجَب اجْتِهَادِهِ، لم يَأْثَمْ (¬4). هذا ما يَتَعَلَّقُ بالطرف الثاني (¬5) وهو المَحْلُوفُ عليه. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَأَمَّا الحَالِفُ فَهُوَ كُلُّ مَنْ تُوَجَّهُ عَلَيْهِ دَعْوى صَحِيحَةٌ فَيَحْلِفُ (ح م) فِي إِنْكَارِ النَّسَبِ وَالوَلاَءِ وَالرَّجْعَةِ وَالنِّكَاحِ وَالظِّهَارِ وَالإِيلاَءِ، وَلاَ يَحْلِفُ فِي حُدُودِ اللهِ تَعَالَى إِذْ لاَ نِزَاعَ فِيهَا، وَلاَ يَحْلِفُ القَاضِي وَالشَّاهِدُ، وَيَحْلِفُ القَاضِي بَعْدَ العَزْلِ، وَلاَ يَحْلِفُ الصَّبيُّ إِذَا ادَّعَى البُلُوغَ بَلْ يُصَدَّقُ، وَلَوْ قَالَ: أَنَا صَبيٌّ لَمْ يَحْلِفْ بَلْ يُنْتَظَرُ بُلُوغُهُ، إلاَّ الصَّبيَّ المُشْرِكَ إِذَا ادَّعَى أنَّهُ اسْتَنْبَتَ الشَّعْرَ بِالعِلاجَ فَإنَّهُ إِنْ لَمْ يَحْلِف قُتِلَ، وَقِيلَ: يُحْبَسُ حَتَّى يَبْلُغَ ثُمَّ يَحْلِفَ فَإِنْ نَكَلَ قُتِلَ، وَلاَ يَحْلِفُ الوَصِيُّ وَالقيِّمُ إِذ لاَ يُقْبَلُ إِقْرَارُهُمَا ¬
أَعْني بالدَّيْنِ عَلَى المَيِّتِ، وَلاَ يَحْلِفُ (ح ز و) مَنْ يُنْكِرُ الوَكَالَةَ بِاسْتِيْفَاءِ الحَقِّ، فَإنَّهُ وَإِنْ عَلِمَ أنَّهُ وَكِيلٌ فَيَجُوزُ جُحُودُ المُوَكِّلِ، وَهَلْ يَجُوزُ لِلوَكِيلِ بِالخُصُومَةِ إِقَامَةُ البَيِّنَةِ عَلَى وَكَالَتِهِ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ الخَصْمِ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الطَرَف الثالث: الحَالِفُ؛ وهو كُلُّ من تَتَوَجَّهُ عليه دَعْوَى صَحِيحَةٌ. وقيل (¬1): من تُوجِّهَتْ عليه دَعْوَى [صَحِيحَةٌ] (¬2) لو أَقَرَّ بمَطْلُوبِهَا، أُلْزِمَ به، فإذا أنكر، يَحْلِفُ عليه، وتُقْبَلُ منه. وَلاَ بُدَّ من اسْتِثْنَاءِ صُوَرٍ عن هذا الضَّبْطِ، فنوردها (¬3) مع ما يَخْرُجُ منه، ويدخل فيه مسائل: إحداها: يجزئ التَّحْلِيفُ في النِّكَاح، والطَّلاَقِ، والرَّجْعَةِ، والفيئة في الإِيلاَءِ، وفي العِتْقِ، والاسْتيلاَدِ، والوَلاءِ، والنَّسَبِ. قال أبو حَنيْفَةَ: لا يحلف المُدَّعَى عليه في هذه الأَبْوَاب، [بناء على أن المَطْلُوبَ من التَّحْلِيفِ الإِقْرَارُ، أو النكول، ليحكم بالنُّكُولِ. والنَكول نَازِلٌ مَنْزِلَةَ البَذْلِ، والإِبَاحَةِ. ولا مدخل لِلْبَذْلِ، والإبَاحَةِ في هذه الأبواب] (¬4). وقال مالك، وأحمد: يَجْرِي التَّحْلِيفُ فيما لا يَثْبُتُ [إلا] (¬5) بشاهدين ذَكَرَيْنِ إلحاقاً له بالحُدُودِ. وعن أحمد رواية أخرى: [لا] (¬6) يجري التَّحْلِيفُ في القِصَاصِ، وحَدِّ القَذْفِ، والطَّلاَقِ، والعِتَاقِ. لنا مُطْلَقُ قوله -صلى الله عليه وسلم-[: "وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ". وحديث رُكَانَةَ حيث حَلَّفَهُ -صلى الله عليه وسلم- (¬7)] (¬8) في الطَّلاَقِ، وأيضاً فإنه أَنْكَرَ ما تَوَجَّهَتْ به الدعوى، فيحلف كَسَائِرِ ما يَحْلِفُ فيه. والثانية: حُدُودُ الله تَعَالَى، لا تُسْمَعُ فيها الدَّعْوَى، ولا يُطْلَبُ الجَوَابُ؛ لأنها ليست حَقّاً للمُدَّعِي، ومن له الحَقُّ، لم يَأْذَن في الطَّلَبِ، والإِثْبَاتِ، بل أمر فيه بالإِعْرَاضِ، والدَّفْعِ بما أَمْكَنَ. نعم لو تَعَلَّقَ به حَقُّ آدَمِيٍّ، كما إذا قَذَفَ غَيْرَهُ، وَطَلَبَ المَقْذُوفُ حَدَّ القَذْفِ، فقال القَاذِفُ: حَلِّفُوهُ على أنَّه لم يَزْنِ، فالظاهر أنَّه يَحْلِفُ، كما ذكرنا في شَرْحِ المَسْأَلَةِ الثالثة من ركن (¬9) الدعوى، فإن حَلَفَ، أقيم الحَدُّ على القَاذِفِ، وإن نَكَلَ، وَحَلَفَ ¬
القَاذِفُ، سَقَطَ حَدُّ القَذْفِ عنه، ولم يَثْبُت بحلفه حَدُّ الزِّنَا على المَقْذُوفِ، ولو ادَّعَى سَرِقَةَ مال (¬1)، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ للمال، وحَلَفَ المُدَّعَى عليه، فإن نَكَلَ، حَلَفَ المدعى، واسْتَحَقَّ المَالَ، ولم يقطع المُدَّعَى عليه؛ لأن حُدُودَ اللهِ -تعالى- لا تَثْبُتُ باليمين المَرْدُودَةِ، وإذا (¬2) أقر بما يُوجبُ الحدَّ، وادَّعى شُبْهَةً، كما إذا وَطِئَ جَارِيةَ ابْنِهِ، وقال: ظَنَنْتُهَا تَحِلُّ لي، وهو ممن يَجُوزُ أن يُشْتَبَهَ عليه مثْلُهُ، حَلَفَ، وسقط بِحَلفِهِ الحَدُّ، ولَزِمَ المَهْرُ، وسمع الدعوى. ويجري التَّحْلِيفُ في القِصَاصِ، وحَدِّ القذف، وكذا في الشَّتْمِ، والضَّرْبِ الموجِبَيْنِ للتعزير. الثالثة: لو ادَّعى على القاضي: أنَّه ظَلَمَهُ في الحُكْمِ، أو على الشَّاهِدِ أنَّه تَعَمَّدَ الكَذِبَ، أو غَلِطَ، أو ادَّعى عليه ما يُوجِبُ سُقُوطَ شَهَادَتِهِ، فهذا شَيْءٌ لو اعترف القَاضِي، أو الشَّاهِدُ، لَأَفَادَ اعترافهما التَّغْرِيمَ، وانتفع به المدعى. لكن مَنْصِبَهُمَا يَأْبَى التَّحْلِيفَ على ما تَقَدَّمَ في آخر الباب الأَوَّلِ من "أدب القضاء". ومرة أخرى في كتاب الدَّعَاوَى. ولو ادعى على المَعْزُولِ أنَّه حكم أَيَّامَ قَضَائِهِ عليه ظُلْماً، وأَنْكَرَ، فقد ذكرنا وَجْهَيْنِ في أنَّه يحلف، أو يُصَدَّقُ بغير يَمِين. والذي (¬3) أجاب به في الكتاب هاهنا؛ أنَّه يحلف، فَيُعَلَّمُ بالواو للوجه الآخر. والكَلاَمُ على ما تَبَيَّنَ هناك مَائِلٌ إلى ترجيحه، وهذا في الدعوى التي تَتَعَلَّقُ بالحكم. أما ما لا يَتَعَلَّقُ بالحكم كَدَعْوَى الأَمْوَالِ وغيرها، فَسَبيلُهُ سَبِيلُ سَائِرِ الناس في الخُصُومَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، ويُحْكَمُ فيها بينه وبين المُدَّعِي خَلِيفَتُهُ، أَو قَاضٍ آخر. الرابعة: [الصبي] (¬4) إذا ادَّعَى البُلُوغَ بالاحْتِلاَم في وَقْتِ الإمْكَانِ، صُدِّقَ، ولا يَحْلِفُ على ما بَيَّنَّاهُ في الإِقْرَارِ. ومن ادُّعِيَ عليه شَيْءٌ فقال: أَما صَبِيٌّ بَعْدُ، وهو محتمل، لم يَحْلِفْ ووقفتَ الخُصْومَةُ إلى أن يُتَحَقَّقَ بُلُوغُهُ. وإن وقع في السَّبْي من أَنْبَتَ، وقال: اسْتَنْبَتُّ الشَّعَرَ بالعِلاجَ، وأنا غير بَالِغ، فهذا يُبْنَى على أن إِنْبَاتَ العَانَةِ عين البلوغ، أو عَلاَمَتُهُ، وفيه قولان قد سَبَقَ ذِكْرُهُمَا في الحَجْرِ. فإن قلنا بالأَوَّلِ، فلا حَاصِلَ لكلامه، وإن قلنا بالثاني -وهو الأَصَحُّ- فالمشهور، والمنقول عن النص: أنَّه يَحْلِفُ، وفيه إِشْكَالٌ من جهَةِ أنَّه يدعي الصبا، وتحليف من يدعي الصبا لا وَجْهَ له على ما تَقَرَّرَ في الإقْرَارِ. فعَن أبي الحُسَيْنِ [بن القَطَّانِ] (¬5) أن هذا التَّحْلِيفَ نَوْعُ احْتِيَاطٍ، واسْتِظْهَارِ، وكَذلك، ذكره القَفَّالُ في "شرح التلخيص". ¬
وقَضِيَّةُ كَلاَم الأكثرين أنَّه وَاجِبٌ، وصَرَّحَ به القاضي الروياني، ونَفَى الخِلاَفَ فيه، واعتمد هؤلاَء في تَحْلِيفِهِ على دَلِيلِ الإِنْبَاتِ، وقالوا: كيف يترك (¬1) الدليل الظَّاهِرِ بزَعْمٍ مُجَرَّدٍ؟ وإذا حَلَفَ، فإن حلف أُلْحِقَ بَالذَّرَارِي وَحُقِنَ دَمُهُ، وإن نَكَلَ، فالذي حَكَاهُ ابن القَاصِّ عن النَّصِّ: أنَّه يُقتَلُ وَعَدَّهُ في جملة صُوَرٍ، ادَّعَى أنَّه يحكم فيها بالنُّكُولِ على خِلاَفِ المشهور من مَذْهَب الشَّافعي -رضي الله عنه- وقال غيره: ليس هذا حُكْماً بالنُّكُولِ، ولكن قام الدليل عَلى البلوغ، ولم يَظْهَرْ دَافِعٌ، فَأُجْرِيَ عليه حُكْمُهُ. وفي المسألة وراء (¬2) المنقول عن النص وجوه: أحدها: أنَّه يُخَلَّى (¬3) ولا يقضى عليه بالقَتْلِ. والثاني: أنَّه يُحْبَسُ حتى يَحْلِفَ، أو يقر. والثالث: وهو المذكور في الكتاب: أنَّه يُحْبَسُ إلى تَحَقُّقِ بُلُوغِهِ، ثم يحلف على ما ادَّعَاهُ من الاسْتِعْجَالِ، فإن لم يحلف فيقتل وهذا يحترز (¬4) من تحليف من يدعي أنَّه صَبِيٌّ. واعلم أَنَّ صُورَةَ دَعْوَى الاسْتِنْبَاتِ بالعِلاجَ، قد جرى لها ذِكْرٌ في باب السّير، إلا أن المذكور هناك: أنَّه إذا حَلَفَ، يُصَدَّقُ. والمذَكور هاهنا الطَّرَفُ الآخَرُ، وهو أنَّه إذا نَكَلَ، ماذا يفعل؟ الخامسة: ادَّعَى مُدَّعٍ دَيْناً على مَيِّتٍ، أو ادَّعَى أنَّه أوْصَى له بِشَىْءٍ، وللميت وَصِيٌّ في قَضَاءِ الدُّيُونِ، وتَنْفِيذِ الوَصَايَا، فأنكر، نُظِرَ، إن كان للمدعي بَيِّنَةٌ، حُكِمَ بها، وإن لم يكن له بَيِّنَةٌ، وأراد تَحْلِيفَ الخَصْمِ على نَفْي العلم بذلك، لم يمكن (¬5) لأن مَقْصُودَ التَّحْلِيفِ، أن يُصَدَّقَ الخَصْمُ، فيقر إن كان المدعي مُحِقاً. والوصي لا يُقْبَلُ إقراره بالدَّيْنِ، والوَصِيَّةِ، فلا معنى لِتَحْلِيفِهِ (¬6). نعم، لو كان وَارِثاً فحلف (¬7) بحقِّ الوِرَاثَةِ، وقَيِّمُ القاضي في ذلك كالوَصِيِّ، ومن عليه حق إذا طالبه به مُطَالِبٌ، وزَعَمَ أنَّه وَكِيلُ صَاحِبِ الحق، ولم يأت بِبَيِّنَةٍ وأراد ¬
تَحْلِيفَهُ على نَفْي العلم بالوِكَالَةِ، لم يُمَكَّنْ؛ لأنه وإن اعترف بالوكَالَة، لا يَلزَمُهُ التَّسْلِيمُ من حيث إنه لا يَأْمَنُ جحود صاحب الحَقِّ الموكل (¬1). هذا ما أَطْلَقَهُ في الكتاب، وهو مُسْتَمِرٌّ على ظاهر المذهب، لكن قد مَرَّ في آخر كتاب الوكَالَةِ نقل خلاف في أنَّه هل يَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ إذا اعترف بالوِكَالَةِ؟ وبَيَّنَا أنَّه إن لَزِمَهُ، كان للمُدَّعي تَحْلِيفُهُ، وأنه وإن لم يَلْزَمْهُ التسليم يُمَكَّنَ من تحليفه أيضاً. إذا قلنا: إن اليَمِينَ المَرْدُودَةَ كالبَيِّنَةِ. فيجوز أن يُعَلَّمَ لذلك (¬2) قوله هاهنا: "ولا يحلف من ينكر الوِكَالَةَ" بالواو وقياس ما نَقَلْنَا هناك إعلامه بالحاء، والزاي، أيضاً. ثم هذه المَسَائِلُ مَخْتُومَة بِفَرْعٍ، وهو أن الوَكِيلَ بالخُصُومَةِ، هل له إِقَامَةُ البَيِّنَةِ على وِكَالَتِهِ من غير حُضُورِ الخصم؟ فيه وجهان: حكى الإِمَامُ عن القاضي الحُسَيْنِ، أنَّه لاَ بُدَّ منه؛ لأنه حق عليه، وعن غيره، أنَّه لا حَاجَةَ إليه؛ لأنه يثبت وِلاَيَةَ لنفسه. وذكرنا في الوِكَالَةِ أن الإمَامَ حكى عن القَاضِي، إذا كان الخَصْمُ غَائِباً عن البَلَدِ، ينصب القاضي مسخراً عنه، كان المُرَادُ هاهنا ما إذا كان حَاضِرَاً في البَلَدِ، وهناك ما إذا كان غَائِباً عن البَلَدِ، والأَظْهَرُ سَمَاعُ البَيِّنَةِ، وأنه لا حَاجَةَ إلى حضوره، ولا إلى نَصْبِ مسخّرٍ. ولو وكل بالخُصُومَةِ في مَجْلِسِ الحكم، استغنى عن حُجَّةٍ يُقِيمُهَا، إن كان الخَصْمُ حَاضِراً هناك، وإن لم يكن، فَلْتُبْنَ (¬3) على أن القاضي هل يقضي بعلمه؟ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَأَمَّا حُكْمُ اليَمِينِ فَهُوَ انْقِطَاعُ الخُصُومَةِ فِي الحَالِ لاَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ بَلْ لِلمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُقِيمَ البَيِّنَةَ وَيَعْتَذِرَ بِأنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً، فَإِنْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ لاَ بَيِّنَةَ لَهُ حَاضِرَةً وَغَائِبَةً فَفِي القَبُولِ وَجْهَانِ، وَلَوْ قَالَ: كَذَبَ شُهُودِي بَطُلَتِ البَيِّنَةُ، وَفِي بُطْلاَنِ دَعْوَاهُ وَجْهَانِ، فَإِنْ قُلنَا: لاَ تَبْطُلُ فَادَّعَى الخَصْمُ إِقْرَارَهُ بِكَذِبِ الشُّهُودِ وَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ عَلَيهِ شَاهِدَاً وَيَحْلِفَ مَعَهُ لِيُسْقِطَ البَيِّنَةَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ مَقْصُودَه الطَّعْنُ، وَإِنْ قُلْنَا: تَبْطُلُ دَعْوَاهُ جَازَتِ الحُجَّةُ النَّاقِصَة لإسْقَاطِ الدَّعْوَى بِالمَالِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الطَرف الرابع: فَائِدَةُ اليَمِين وحُكْمُهَا، وهو انْقِطَاعُ الخصومة، والمُطَالَبَة في الحال، ولا سُقُوط الحق، وبَرَاءَة الذِّمَّةِ. ¬
رُوِيَ عن ابن عَبَّاس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ رَجُلاً بعدما حَلَفَ بالخروج من حَقِّ صَاحِبِهِ (¬1)، كأنه عَرَفَ أنَّه كاذبٌ، فَدَلَّ أن اليمين، لا تُوجِبُ البَرَاءَةَ. فلو أقام المُدَّعِي بَيِّنَة بعدما حلف المُدَّعَى عليه، سُمِعَتْ، وقُضِيَ بها. وكذا لو رُدَّتِ اليمين على المُدَّعِي، ونَكَلَ، ثم أقام بَيِّنَةً. وهذا إذا لم يتعرض وقت التحليف للبَيِّنَةِ، وإن كان قد قال حينئذ: لا بَيِّنَة لي حَاضِرَةٌ، ولا غائبة، فهذه الصُّورَةُ قد ذكرنا في شرح الفصل الثَّانِي من الباب الثاني من "أدب القضاء"، مَضْمُومَة إلى الصورة التي أَوْرَدَهَا هناك، وهي أن يقول: لا بَيّنَةَ، واقتصر عليه. وفيهما جَمِيعُ الخلاف. والأَظْهَرُ السماع أيضاً، وَبَيَّنَّا هناك أنَّه لو قال: لا بَيِّنَةَ لي حَاضِرَةٌ، ثم جاء ببينة سمعت فَلَعَلَّهَا حضرت. وأنه لو قال: لي بَيِّنَةٌ، ولكن لا أُقِيمُهَا، وأريد يمينه، يُجِيبُهُ القاضي إليه، ويحلفه. هذا هو المَشْهُورُ. وفي فتاوى القَفَّالِ: أنَّه لا يَجِبُ على القاضي تَحْلِيفُهُ، بل يقول: أَحْضِرِ البَيِّنةَ. هذه إحدى مسألتي الفصل. والثانية: لو أن مُدَّعِياً أقام على ما يَدَّعِيهِ شُهُوداً، ثم قال: كَذَبَ شُهُودِي، أو شَهِدُوا مبطلين، فلا شَكَّ في سقوط بَيِّنَتِهِ، وامتناع الحكم. وفي بُطلاَنِ دَعْوَاهُ وَجْهَانِ عن صاحب "التقريب": تبطل، وينزل تَكْذِيبُهُ الشُّهُودَ مَنزِلَةَ تكذيبه نَفْسَهُ، وليس له أن يُقيمَ بعد ذلك بَيِّنَةً أخرى. وأظهرهما: المَنْعُ، لاحتمال أن يكون هو مُحِقّاً في دَعْوَاهُ، والشهود مبطلين؛ لِشَهَادَتِهِمْ بما لا يحيطون به عِلْماً، وفي مثل ذلك يقول الله تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ ¬
فروع
لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]. وبُنِيَ على الوجهين، ما إذا أَقَامَ المُدَّعِي شُهُوداً، فزعم المُدَّعَى عَلَيْهِ أن المدعي أَقَرَّ بأن شُهُودَهُ كَذَبَةٌ، وأقام عليه شاهداً وَاحِداً، وأراد أن يَحْلِفَ معه، هل يُمَكَّنُ؟ وهل يُحْكَمُ بشاهده ويمينه؟ إن قلنا: هذا الإِقْرَارُ لا يُبْطِلُ أَصْلَ الدعوى، فلا؛ لأن المَقْصُودَ حينئذ الطَّعْنُ في الشهود، وإخْرَاجُ شهاداتهم عن أن يُحْكَمَ بها، وجرح الشهود، والطَّعْنُ فيهم، لا يَثْبُتُ بشاهد وَيمِينٍ، وإن كانت الشهادة في مَالٍ. وإن قلنا: إنه يبطل أصل الدعوى، مُكِّنَ؛ لأن المَقْصُودَ، والحالة هذه، إِسْقَاطُ الدعوى بمالمال، فهو بِمَثَابَةِ، ما لو ادَّعَى الإِبْرَاءَ؛ فإنه يثبت بشاهد ويمين. فروع: مما جمع في "فتاوى القَفَّالِ" وغيره: أقام شَاهِدَيْنِ في هذه الحَادِثَةِ؛ أنهما اسْتَبَاعَا الدَّار منه، واندفعت شَهَادتهما (¬1)، ولو أقام شَاهِدَيْن على أن هذه الدَّار مِلْكُهُ، فأقام المَشْهُودُ عليه شَاهِدَيْنِ، على أن شاهدي المدعي (¬2) قد قالا: لا شَهَادَةَ لنا في ذلك، فسألهما الحاكم: متى قال ذلك شَاهِدَا المُدَّعِي؟ فإن قالا: قالاه أَمْسِ، أو منذ شهر، لم يندفع بشهادتهما بذلك؛ لأنهما قد لا يَكُونَا شَاهِدَيْنِ، ثم يَصِيرا شَاهِدَيْنِ. وإن قَالاَهُ حين قَصَدْنَا لإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ، اندفعت شَهَادَتُهُمَا. ولو أقام المَشْهُودُ عليه شَاهِدَيْنِ، أن المدعي أَقَرَّ بأن شاهديه شَرِبَا الخَمْرَ وَقْتَ كذا، فإن طَالَتِ المُدَّةُ بينه وبين أَدَاءِ الشهادة، لم يَقْتَضِ ذلك رَدَّ الشَّهَادَةِ. وإن كانت المُدَّةُ يَسِيرَةً، رُدَّتْ، شهادتهما. وإن شَهِدَا أنَّه أَقَرَّ بأنهما شَرِبَا الخَمْرَ من غير تَعْيِينِ وَقتِ، سُئِلَ المدعي عن وَقْتِهِ، وحُكِمَ بما يَقْتَضِيهِ تعيينه. ولو أَقَامَ المدَّعِي بَيِّنَةً، ثم قال للقاضي: لا تَحْكُمْ بشيء حتى تُحَلِّفَهُ، كانت بَيِّنَتُهُ ¬
بَاطِلَةَ، ووجه ذلك بأنه كالمعترف بأن بَيَّنَتَهُ مما لا يَجُوزُ الحكم بها (¬1) (¬2). وقوله في الكتاب: "ويعذر بأنه لم يَعْلَمْ أن له بَيِّنَةً". هذا الاعْتِذَارُ ليس بِشَرْطٍ لإقامة البَيِّنَةِ، على ما تَقَرَّرَ من أصلنا. نعم، حُكِيَ في "التهذيب": أن مالكاً قال: إن كان عالماً عند التَّحْلِيفِ أنَّه له بَيِّنَةً، بَطَلَ حَقُّهُ عن البينة، يجوز أن يُعَلمَ لذلك قوله: "بل للمدعي بعد ذلك أن يُقِيمَ البَيِّنَةَ" بالميم. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: حَلِّفْنِي مَرَّةً فَلْيَحْلِف عَلَى أَنَّهُ ما حَلَّفَنِي سُمِعَ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، فَلَوْ أَجَابَهُ بِأنَّهُ حَلَّفَنِي مَرَّةً عَلَى أَنَّنِي مَا حَلَّفْتهُ فَلْيَحْلِف عَلَى أَنَّهُ مَا حَلَّفَنِي لَمْ يُسْمَعْ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَسَلْسَلُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا طلب المُدَّعِيَ يَمِينَ المُدَّعَى عليه، بين يَدَي الحَاكِمِ، فقال المُدَّعَى عليه للحاكم: قد حَلَّفَنِي مَرَّةً على هذا بالْتِمَاسِهِ، وليس له تَحْلِيفِي، فإن كان القاضي يَحْفَظُ ما يقوله، لم يحلفه. ومنع المدعي مما يَبْغِيهِ، وإن لم يحفظه، حَلَّفَهُ، ولا تَنْفَعُ إقَامَةُ البَيِّنَةِ فيه؛ لما مَرَّ أن القاضي متى يذكر حكمه، أَمْضَاهُ، وإلا لم يعتمد على البَيِّنَةِ. وعن ابن القَاصِّ: يجوز سَمَاعُ البَيِّنَةِ فيه، حكاه القاضي أبو سَعْدٍ الهروي. وحَقُّهُ الطَّرْدُ في كل باب. وإن قال حَلَّفني عند قَاضٍ آخر، أو أطلق، وأراد تَحْلِيفَهُ عليه، فوجهان عن أبي سعيدٍ الإصطخري: أحدهما: المنع؛ ويُحْكَى هذا عن ابن القَاصِّ، وذلك لأنه لا يَأْمَنُ أن يَدَّعِيَ المُدَّعِي أنَّه حَلَّفَهُ على أنَّه ما حلفه. وهكذا يَدُورُ الأَمْرُ، ولا ينفصل. وأظهرهما: وهو المذكور في "التهذيب" وغيره: أنه يُمَكَّنُ منه؛ لأنه محتمل غير مستبعد، ولا يُسْمَعْ مِثْلُ ذلك من المدعي، كيلا يَتَسَلْسَلَ، وعلى هذا، فإن كانت له ¬
فروع
بَيِّنَةٌ، أقامها، وتخلص عن الخُصُومَةِ، وإن استمهل ليقيم (¬1) البَيِّنَةَ، فقياس البَيِّنَاتِ الدَّوَافِع أن يُمْهَلَ ثلاثاً (¬2). وعن القاضي الحسين: أنَّه قال: أَرَى ألا يُمْهَلَ أَكْثَرَ من يوم؛ لأنه كالمُرَاوغِ المُتَعَنِّتِ. وإن لم تكن بَيِّنَةٌ، حلف المدعي: انه ما حَلَّفَهُ، ثم يُطْلَبُ المَالُ (¬3). وإن نَكَلَ، حَلَفَ المُدَّعَى عليه، وسَقَطَتِ الدعوى، فلو أراد أن يَحْلِفَ يمين (¬4) الأصل، لا يمين التحليف المَرْدُودَة عليه. قال في "التهذيب": ليس له ذلك، إلا بعد اسْتِئنَافِ الدَّعْوَى؛ لأنهما الآن في دَعْوَى أخرى. ولو قال المدعي في جَوَاب المُدَّعَى عليه: قد حَلَّفَنِي مَرَّةً على أني ما حَلَّفْتُهُ مَرَّةً، وأراد تَحْلِيفَهُ، لم يجب؛ لأنه يُفْضِي إلى ما لا يَتنَاهَى. ولو ادَّعَى مالاً على رَجُلٍ، فأنكر، وحلف، ثم جاء المُدَّعِي بعد أيام، وقال: حَلَفْتُ يومئذ لأنك كنت مُعْسِراً، ولم يلزمك تَسْلِيمُ شَيْءٍ إِلَيَّ، فقد أَيْسَرْتَ الآن فهل تُسْمَعُ؟ فيه وجهان: في وجه: تُسْمَعُ، ويحلف المدعى عليه لإمْكَانِهِ. وفي وجه: لا؛ لأنه لا يَتَنَاهَى، ويفضي إلى ألا ينفَصِلَ الأَمْرُ بينهما بحال (¬5). فروع: إنما يحلف المُدَّعَى عليه إذا طلب المُدَّعِي يَمِينَهُ، فإن لم يطلب فلم يقلع عن المُخَاصَمَةِ، لم يحلفه القاضي، ولو حلفه، لم يُعْتَدَّ بتلك اليَمِينِ. وحكى أبو الفَرَج الزَّازُ وَجْهاً آخر: أنَّه لا يَتَوَقَّفُ التَّحْلِيفُ على طلبه؛ لأن للمدعى عليه عِوَضاً عن (¬6) اليمين، وهو سُقُوطُ المُطَالَبَةِ والمُلاَزَمَةِ، وادعى أن هذا الوَجْهَ أَصَحُّ، ونقله القاضي أبو سَعْدٍ الهَرَوِيُّ عن القَفَّالِ الشاشي والمشهور الأَوَّلُ، وإن امتنع من تحليفه بالدعوى ¬
الركن الرابع: النكول
السَّابِقَةِ، جاز؛ لأنه لم يسقط حَقّه عن اليمين (¬1). فإن قال: أَبْرَأتُكَ عن اليمين، سقط حَقُّهُ من اليمين في هذه الدَّعْوَى، وله اسْتِئْنَافُ الدعوى، وتحليفه، ذكره في "التهذيب" (¬2). قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الرَّابعُ: النُّكُولُ وَلاَ يَثْبُتُ الحَقُّ به وَلَكِنْ تُرَدُّ علَى المُدَّعِي إِذَا تَمَّ نُكُولُهُ، وَيَتِمُّ بِأَنْ يَقُولَ لاَ أَحْلِفُ أَوْ أَنَا نَاكِلٌ أَوْ سَكَتَ وَقَالَ القَاضِي: قَضَيْتُ بالنُّكُولِ أَوْ قَالَ لِلمُدَّعِي: احْلِف، وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِضَ القَاضِي اليَمِينَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ وَيَشْرَحَ لَهُ حُكْم النُّكُول، فَإِنْ لَمْ يَشْرَحْ وَقَضَى بِالنُّكُولِ فَرَجَعَ وَقَالَ: لَمْ أَعْرِفْ حُكْم النُّكُولِ فَفِي جَوَازِ الحَلِفِ خِلاَفٌ، وَحَيْثُ مَنَعْنَاهُ فَلَوْ رَضِيَ المُدَّعِي بِيمِينِهِ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا أنكر المُدَّعَى عليه، واسْتُحْلِفَ، فَنَكَلَ عن اليمين، لم يُقْضَ عليه بالنُّكُولِ، ولكن تُرَدُّ اليَمِينُ على المدعي، فإذا حَلَفَ قُضِيَ له. وعند أبي حَنِيْفَةَ، وأحمد: يُقْضَى على المدعى عليه بنُكُولِهِ. واستثنى أبو حنيفة القِصَاصَ في النَّفْسِ، ووافقنا مَالِكٌ على: أنَّه لا يُقْضَى بالنكول، لكن قال: ما يثبت بشَاهِدٍ وَيمِينٍ، يردّ فيه اليمين على المُدَّعِي، وما لا يثبت بشاهد ويمين، لا تُرَدُّ فيه اليَمِيَنُ؛ بل يُحْبَسُ المُدَّعَى عَلَيْهِ حتى يحلف أو يقر. واحتج الأَصْحَابُ بما رُوِيَ عن ابن عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رَدَّ اليمين على طَالِبِ الحَقِّ. [وعن عمر -رضي الله عنه- تحويلُ اليَمِينِ إلى المُدَّعِي،] (¬3) قالوا: والنكول، كما يُحْتَمَلُ أن يكون تورعاً (¬4) عن اليمين الكَاذِبَةِ، يُحْتَمَلُ أن يكون تَوَرُّعاً عن اليمين الصَّادِقَةِ؛ فلا يُقْضَى به مع التَّرَدُّدِ، والاحتمال إذا عرف ذلك، فلو لم يعرف المدعي ¬
تَحْوِيلَ اليمين إليه بنكول (¬1) المدعى عليه، عَرَّفَهُ القاضي، وبين أنَّه إن حَلَفَ، استحق، وإنما يَحْصُلُ النكول، بأن يعرض القاضي اليَمِينَ عليه، فيمتنع، وفُسِّرَ العَرْضُ؛ بأن يقول: قُلْ: واللهِ، والامْتِنَاعُ، بأن يقول: لا أَحْلِفُ، وأنا نَاكِلٌ. قال الإِمام: وقوله: قل: والله، ليس أَمْراً جَازِماً، وإنما المُرَادُ بأنه (¬2) وَقْت اليمين المُعْتَدِّ بها للمدعى عليه. ولو قال: احلف، فقال: لا، فهذا ليس بنكول. ولو ابْتَدَرَ حين سَمِعَ هذه الكلمة، وحَلَفَ لم يعتد به؛ لأنه استخبار لا اسْتخلاَفٌ. ولو قال: احْلِفْ، فقال: لا أحلف، ففي "التهذيب": أنَّه ليس بِنُكُولٍ أيضاً. وقال الإِمام: هو نكول، وهو وَاضِحٌ، ولا فَرْقَ بين قوله: قل: باللهِ، وبين قوله: احلف بالله (¬3). ولو اسْتُحْلِفَ فلم يحلف، ولا تَلَفَّظَ بأنه نأكل [أو] (¬4) ممتنع، فسكوته نكول، كما أن السُّكُوتَ عن الجواب في الابْتِدَاءِ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ الإنْكَارِ ثم ذكر الإِمام وغيره: أنَّه إن صرح بالنُّكُولِ، فلا حَاجَةَ إلى حكم القاضي بأنه نَاكِلٌ، وإن سكت فَيَحْكُمُ القاضي بأنه نَاكِلٌ، ليثبت (¬5) عليه [رد] (¬6) اليمين. وقول القاضي لِلْمُدَّعِي: احلف، نَازِلٌ مَنْزِلَةَ قوله: حَكَمْتُ بأن المدعى عليه نَاكِلٌ، وهذا ما أَرَادَهُ بقوله، ويتمّ بأن يقول: لا أَحْلِفُ، أو أنا نَاكِلٌ، [أو] (¬7) سكت، فقال القاضي: قَضَيْتُ بالنُّكُولِ، أو قال للمدعي: احلف، فقوله: "أو سكت" مُتَعَلِّقٌ بقوله، "بأن يقول: لا أَحْلِفُ". وقوله: "أو قال للمدعي": احلف مُتَعَلِّق بقوله: "أو قال القَاضِي: قَضَيْتُ بالنكول". وإنما يَحْكُمُ القاضي بأنه نَاكِلٌ، إذا لم يَظْهَرْ كون السُّكُوتِ لِدَهْشَةٍ، أو غَبَاوَةٍ، ونحوهما ويُسْتَحَبُّ للقاضي أن يَعْرِضَ اليَمِينَ على المُدَّعَى عَلَيْهِ ثَلاَثَ مرات؛ والاسْتِحْبَابُ فيما إذا سَكَتَ، أكثر منه فيما إذا صرّح بالنكول. وعن أبي حَنِيْفَةَ أن العَرْضَ ثَلاَثاً، شرط. فهذا تفرس فيه سلامة جانب، شرح له جكم النُّكُولِ، فإن لم يَشْرَحْ، وحكم بأنه نَاكِلٌ. قال المدعى عليه: لم أَعْرِفْ حُكْمَ النكول، ففي نفوذ الحكم احْتِمَالاَنِ: قال الإِمام: أظهرهما: النفوذ، وكان من حَقِّهِ أن يبحث، ويعرف قبل أن يَنْكُلَ، ولو أراد المُدَّعَى عَلَيْهِ بعد الامْتِنَاعِ أن يعود، فيحلف، نظر: إن كان ذلك بعد أن حَكَمَ ¬
القاضي بأنه نَاكِلٌ، أو قال لِلْمُدَّعِي: احلف، لم يكن له الحَلِفُ. وإن أَقْبَلَ عليه يحلفه، ولم يقل [له] (¬1) بعد: احلف، فهل هو كما لو قال: احْلِفْ؟ فيه وجهان عن القاضي الحُسَيْنِ. وإن لم يَجْرِي شيء من ذلك، فله الحَلِفُ حتى لو هَرَبَ المُدَّعَى عَلَيْهِ قبل أن يَحْكُمَ القاضي عليه؛ بأنه نَاكِلٌ وقبل أن تُعْرَضَ اليَمِينُ على المُدَّعِي، لم يكن للمدعي أن يَحْلِفَ اليَمِينَ المَرْدُودَةَ، وكان للمدعى عليه الحَلِفُ، إذا عاد. هكذا أَطْلَقَ صاحب "التهذيب"، وغيره. وقضيته؛ التَّسْوِية بين التَّصْرِيحِ بالنُّكُولِ، وبين السُّكُوتِ، حتى لا يمتنع (¬2) من العَوْدِ إلى اليمينِ في الحَالَتَيْنِ إلا بعد الحُكْمِ بأنه نَاكِلٌ، أو بعد عَرْضِ اليمين على المُدَّعِي. وقد يُفْهَمُ مِنْ قول من قال: إنه لا حَاجَةَ عند التَّصْرِيحِ بالنُّكُولِ إلى حكم الحاكم، امْتِنَاعُ العَوْدِ إلى الحَلِفِ عند التَّصْرِيحِ بالنكول، وإن لم يُوجَدْ حكم ولا عَرْضُ يَمِينٍ، وحيث مَنَعْنَاهُ من العَوْدِ إلى الحلف، فذاك (¬3)، وإذا لم يرض المدعي. فإن رَضِيَ فوجهان: أحدهما: أن حَقَّ حَقِّهِ قد بَطَلَ، فلا يُؤَثِّرُ فيه الرِّضَا. وأظهرهما: أن له العَوْدَ إليه، فإن الحَقَّ لا يَعْدُوهُمَا. وقال في "الرقم": وإذا رَضِيَ بأن يَحْلِفَ المُدَّعَى عليه -والحالة هذه- ثم إنه لم يَحْلِفْ، لم يكن للمدعي أن يَعُودَ إلى يَمِينِ الرَّدِّ؛ لأنه أَبْطَلَ حَقَّهُ، حيث رَضِيَ بيمين المدعى عليه. وليُعَلمْ قوله في الكتاب: "ولا يثبت الحق" -بالحاء والألف والميم- لما مَرَّ من مَذَاهِبِهِمْ. وقوله: "ويتم النكول ... " إلى آخره في لفظه إِشْكَالٌ؛ فإنه جَعَلَ أَحَدَ طرفي تمام النُّكُولِ حُكْمَ القَاضِي بالنُّكُولِ، ومَعْلُومٌ أن القاضي إنما يَحْكُمُ بالنُّكُولِ، إذا تَمَّ النكول، فكيف يكون تَمَامُ النُّكُولِ بالحكم المَوْقُوفِ على تمام النكول؟ وأراد أن حُكْمَ النُّكُولِ يَثْبُتُ بالتَّصْرِيحِ بالنكول، أو بالسُّكُوتِ، وحكم القاضي. وقوله: "ففي جَوَاز الحَلِفِ خِلاَفٌ". أي هل يُنَفَّذُ الحكم بأنه نَاكِلٌ من غير عِلْمِهِ بحكم النُّكُولِ، أو لا يُنَفَّذُ حتى يجوز له الحَلِفُ؟ وعبْر بالخلاف (¬4) عن الاحْتِمَالَيْنِ اللذين نَقْلَنَاهُمَا عن الإِمَامِ. ¬
فرع
فرع: نقل القاضي الرُّوَيانِيُّ في "جَمْع الجَوَامِعِ": أن قَوْلَ القاضي لِلْمُدَّعِي: أتحلف أنت؟ كقوله: احلف حتى لا يَتَمَكَّنَ الَمُدَّعَى عليه من الحَلِفِ بعد ذلك. قال: وعندي فيه نَظَرٌ. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: ثُمَّ المُدَّعِي إِنْ نَكَلَ فَنُكُولُهُ كَحَلِف المُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلَوْ حَلَفَ فَهُوَ كَإقْرَار الخَصْم أَوْ كَبَيِّنَتِهِ فِيْهِ خِلاَفٌ، وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الحَقَّ بِهِ، وَإِنْ قَالَ المُدَّعِي: أَمْهِلُونِي أَمْهَلْنَاهُ ثَلاَثاً لِأَنَّهُ عَلَى اخْتِيَارِه فِي تَأْخِيرِ الطَّلَبِ، أَمَّا المُدَّعَى عَلَيْهِ فَلاَ يُمْهَلُ، فَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ بَعْدَ ثَلاَثٍ بَطُلَ حَقُّهُ مِنَ اليَمِينِ كَانَ كَنُكُولهِ، وَفيهِ وَجهٌ أَنَّهُ عَلَى خِيرَتِهِ أَبَدَاً، وَكَذَا الكَلاَمُ فِيْمَا لَوْ أَقَامَ شَاهِدَاً وَأَرَادَ أن يَحْلِفَ مَعَهُ ثُمَّ نَكَلَ فَالصَّحِيحُ أنَّهُ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلاَّ بَيِّنَةٌ كَامِلَةٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المُدَّعِي إذا رُدَّتِ اليَمِينُ عليه؛ إما أن يَحْلِفَ، أو يَمْتَنِعَ. الحالة الأولى: أن يَحْلِفَ فَيَسْتَحِقُّ المُدَّعَى، ويَمِينُهُ بعد نُكُولِ المُدَّعَى عليه بمنزلة بَيَّنَةٍ يُقِيمُهَا، أو بمنزلة إِقْرَارِ المُدَّعَى عليه؟ فيه قولان: أحدهما: أنها كالبَيِّنَةِ؛ لأن الحُجَّةَ اليَمِينُ، واليَمِينُ وُجِدَتْ منه. وأصحهما: وهو المَنْصُوصُ في "المختصر" ثم بَاب النُّكُولِ: أنها بِمَثَابَةِ إِقْرَارِ المدعى عليه؛ لأنه بنكوله تَوَصَّلَ إلى الحَقِّ؛ فَأشْبَهَ إِقْرَارَهُ (¬1). وللقولين فُرُوعٌ كثيرة مَذْكُورَةٌ في مَوَاضِعِهَا. ومنها: أن المُدَّعَى عليه لو أقام بَيِّنَةً على أَدَاءِ المَالِ، أو على الإِبْرَاءِ عنه بعدما حَلِفَ المُدَّعِي؛ فإن جعلنا يَمِينَهُ كبينة (¬2) سمِعَتْ بَيِّنَةُ المُدَّعَى عليه، وإن جَعَلْنَاهَا كإقْرَار المُدَّعَى عليه، لم تُسْمَعْ، لكونه (¬3) مُكَذِّباً لِلْبَيِّنَةِ بالإِقرار (¬4). ¬
وحكى القاضي أبو سَعْدٍ الهَرَوِيِّ اخْتِلاَفاً للأصحاب في: أنَّه يَجِبُ الحَقُّ بفَرَاغِ المُدَّعِي من اليمين المَرْدُودَةِ، أم لا بد من حكم الحاكم؟ ويمكن أن يُبْنَى هذا على القَوْلَيْنِ، إن جَعَلْنَاهَا كالبَيِّنَةِ. فلا بُدَّ من الحكم، وإن جعلناها كَإِقْرَارِ المُدَّعَى عليه؛ فلا حَاجَةَ إليه. على أن في الإقرار أيضاً خِلاَفاً قد مَرَّ في "أدب القضاء". [الحالة] (¬1) الثانية: أن يمتنع (¬2) عن الحَلِفِ، فيسأله القَاضِي عن سَبَبِ امْتِنَاعِهِ، فإن لم يَتَعَلَّلْ بشيء، أو قال: لا أريدُ أن أَحْلِفَ، فهذا نُكُولٌ، ليسقط حَقَّهُ من اليَمِينِ، وليس له مُطَالَبَةُ الخَصْم وَمُلاَزَمَتُهُ (¬3)، ثم قَضِيَّةُ قوله في الكتاب: "أن نكوله كَحَلِفَ المدعى عليه"، إلاَّ يَتَمَكَّنَ من اسْتِئْنَافِ الدعوى، وتحليفه في مَجْلِسٍ آخر، كما لو حَلَفَ المُدَّعَى عليه، فلا ينفع بعد ذلك إلا البَيِّنَةُ. وكذلك ذكره صاحب "التهذيب"، وصَرَّحَ به الإمَامُ، ووجّه بأنا لو لم نَقُلْ بهذا، لرفع (¬4) خصمه كل يومِ إلى القَاضِي، والخَصْمُ نَاكِلٌ وهو لا يَحْلِفُ اليَمِينَ المَرْدُودَةَ، فيعظم الخَطْبُ، ولا يَتَفرَّغُ القاضي من (¬5) خُصُومَتِهِ إلى شُغلٍ آخر. والذي ذكره العِرَاقيُّونَ، والقاضي الروياني أنَّه لو جَدَّدَ الدعوى في مجلس آخر، ونَكَلَ المُدَّعَى عليه ثانياً يُرَدُّ اليَمِينُ على المُدَّعِي، وهذا ما أَوْرَدَهُ القاضي أبو سَعْدٍ الهروي وَلاَ شَكَّ أن الأَوَّلَ أَحْسَنُ، وأَقْوَى، وإن ذَكَرَ المُدَّعِي لامْتِنَاعِهِ سَبَباً، فقال: أريد أن آتِيَ بالبَيِّنَةِ، أو أَسْأَلَ الفُقَهَاءَ، أو أَنْظُرَ في الحِسَابِ، تُرِكَ، ولم يبطل حَقّهُ من ¬
اليمين (¬1). وهل يُقَدَّرُ لإمْهَالِهِ مُدَّةٌ؟ فيه وجهان: أظهرهما: عند الإِمام وصاحب الكتاب: يُمْهَلُ ثَلاثةَ أيام، ولا يُزَادُ، إلا لم يُؤْمَنُ من الملاحة، والمرافعة مَرَّةً بعد أخرى، وقد يتعب الخَصْم والقاضي. والثاني: أنَّه لا تَقْدِيرَ؛ لأن اليَمِينَ حَقُّهُ، فله تأخيره إلى أن يَشَاءَ كالبَيِّنَةِ يَتَمَكَّنُ من إِقَامَتهَا متى شاء (¬2)، وهذا ما أَوْرَدَهُ في "التهذيب". ولمن قال بالأَوَّل: أن يُفَرِّقَ بأن البَيِّنَةَ قد لا تُسَاعِدُهُ، ولا تحضر، واليَمِينُ إليه. ولم يذكر الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- فيما إذا امْتَنَعَ المُدَّعَى عليه عن اليَمِينِ أنَّه يسأل عن سَبَبِ امْتِنَاعِهِ. فعن ابْنِ القَاصِّ: أن قياس ذكره (¬3) امْتِنَاع المدعي، أن يسأل المُدَّعَى عَلَيْهِ عن سبب الامْتِنَاعِ أيضاً. وامتنع عَامَّةُ الأَصْحَاب من هذا الإِلْحَاقِ فارقين بأن امْتِنَاعَ المُدَّعَى عليه يثبت لِلْمُدَّعِي حَقَّ الحَلِفِ (¬4)، والقضاء بيمينه؛ فلا يُؤَخَّرُ حَقُّهُ بالبحث [وامْتِنَاعُ المُدَّعِي لا يُثْبِتُ حَقّاً لغيره، ولم يَضُرَّ السؤال] (¬5) عن سبب الامتناع. وكان يجوز أن يُقَالَ: إن امْتِنَاعَ المدعى عليه، إنما يُثْبِتُ الحَقَّ للمدعي، إذا امتنع بلا سَبَبٍ، فأما إذا تَعَلَّلَ بِعُذْرٍ، كما سَنَذْكُرُهُ على الأَثَرِ، فلا يَنْتَقِلُ حَقُّ اليَمِينِ من جَانِبِهِ إلى جانب المُدَّعِي، وإذا لم يكن الامْتِنَاعُ المُطْلَقُ نَاقِلاً للحق، لم يكن السُّؤَالُ تَأْخِيراً لِلْحَقِّ، ولو أن المُدَّعَى عليه حين اسْتُحْلِفَ قال: أَمْهِلُوني لأَنْظُرَ في الحِسَابِ، أو أَسْأَلَ الفُقَهَاءَ؛ فوجهان: أشهرهما (¬6): وهو المَذْكُوُر في الكتاب: أنَّه لا يُمْهَلُ، إلا أن يَرْضَى المدعى؛ لأنه مَجْبُورٌ (¬7) مَحْمُولٌ على الإِقْرَارِ، واليَمِينُ بخلاف المُدَّعي؛ فإنه مُخْتَارٌ في طَلَبِ حَقِّهِ، وفي تأخيره. والثاني: وبه قال صاحب "الإفصاح": أنَّه يُمْهَلُ؛ للْحَاجَةِ، ولا يُزَادُ على ثلاثة أيام، كيلا يَتَضَرَّرَ المُدَّعِي. واختار القاضي الرُّوَيانِيُّ وَجْهَ الإِمْهَالِ، وقال فيما إذا اسْتُمْهِلَ لِيَسْأَلَ الفقهاء (¬8): ¬
إن قُضَاةَ بَلَدِنَا اسْتَحْسَنُوا الإمْهَالَ يوماً، ولو اسْتُمهِلَ المُدَّعَى عليه في ابتداء الجَوَابِ، لينظر في الحساب. ذكر القَاضي أبو سَعْدٍ: أنَّه يُمْهِلُهُ إلى آخِرِ المَجْلِسِ إن شاء، وإذا عَلَّلَ المدعي امْتِنَاعَهُ بِعْذرٍ، كما بَيَّنَّا، ثم عاد بعد مُدَّةٍ ليَحْلِفَ، مُكِّنَ منه. قال في "التهذيب": فإن لم يذكر القَاضِي نُكُولَ خَصْمِهِ، أَثْبَتَهُ بالبَيِّنَةِ، وكذا لو أَثْبَتَ عند قَاضٍ آخر نُكُولَ خَصْمِهِ، له أن يحلف، وكذا، لو نَكَلَ المدعى عليه في جواب وَكيلِ المدعي، ثم حَضَرَ الموكّل، له أن يحلف ولا يَحْتَاجُ إلى اسْتِئْنَافِ (¬1) الدَّعْوَى، ومن أَقَامَ شَاهِداً وَاحِداً ليَحْلِفَ معه، إنه لم يَحْلِفْ، فهو كما لو ردت (¬2) اليَمِينُ إلى المُدَّعِي، فلم يَحْلِفْ، وإن عَلَّلَ الامْتِنَاعَ بعُذرٍ، عاد الوَجْهَانِ في أنَّه على خِيرَتِهِ أَبَداً، أو لا يُزَادُ إِمْهَالُهُ على ثلاث (¬3). وإن لم يَتَعَلَّل بشيء، أو صَرَّحَ بالنُّكُولِ، فعلى ما في الكتاب و"التهذيب"، يبطل حَقُّهُ من الحَلِفِ، وليس له العَوْدُ إليه، واستمر العِرَاقِيُّونَ على ما ذَكَرُوهُ هناك (¬4). قال المُحَامِلِيُّ في "التجريد": ولو امْتَنَعَ من الحَلِفِ مع شَاهِدِهِ، واستحلف الخَصْم، انتقلت اليَمِينُ من جَانِبِهِ إلى جَانب صَاحِبِهِ، فليس له أن يَعُودَ فَيَحْلِفَ، إلا إذا عاد في مَجْلِسٍ آخر، واسْتَأْنَفَ المُدَّعِي الدَّعْوَى، وأقام الشَّاهِد، له أن يَحْلِفَ معه. فإن قُلْنَا بالأول، لم تَنْفَعْهُ إلا بَيِّنَةٌ كَامِلَةٌ. وأما لفظ الكتاب فقوله: "فنكوله كحلف المدعى عليه"؛ يجوز إعْلاَمُهُ بالواو؛ لأن من قال بِرَدِّ اليَمِينِ عند تَجْدِيدِ دَعْوَى ونكول، لا يكون نُكُولُهُ كحلف (¬5) المدعى عليه. وقوله: "وإن قال المُدَّعِي: أَمْهِلُوني، أمهلناه ثلاثاً"، مَحْمُولٌ على ما إذا قال: أَمْهِلُونِي لِأُطَالِعَ الحِسَابَ، أو أُرَاجِعَ القَضِيَة، فأما إذا اقْتَصَرَ على قوله: أَمْهِلُونِي، فيشبه أن يقال: هو كما إذا لم يذكر عذراً (¬6) وقوله: "وأما المُدَّعَى عليه فلا يُمْهَلُ"، مُعَلَّمٌ بالواو. وقوله: "فلو لم يرجع" أي المدعي فلفظ النكول في قوله: "أقام شاهداً وأراد أن يَحْلِفَ معه، ثم نَكَلَ"، ما ينبغي أن يُحْمَلَ على النُّكُولِ المُطْلَقِ، والامتناع بلا عُذْرٍ، بل يُحْمَلُ على الاسْتِمْهَالِ، والتَّمَسُّكِ بِعُذْرٍ. فإن ذلك هو صُورَةُ الوجهين في الامْتِنَاعِ عن اليمين المَرْدُودَةِ، لا مُطْلَق الامتناع، وحينئذ فقوله: "لا تُقبَلُ منه بعد ذلك إلا ببينة (¬7) كاملة" [أي] (¬8) إلا بعد الثلاث لينظر ¬
[ولي] (¬1) الحاكم (¬2) على المذكور في اليمين المَرْدُودَةِ. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيَتَعَذَّرُ رَدُّ اليَمِينِ حَيْثُ يَكُونُ المُدَّعِي السُّلْطَانَ، فَإِنْ نَكَلَ رَبُّ مَالِ الزَّكَاةِ لَمْ يَحْلِفِ السَّاعِي، بَلْ يَقْضِي بالنُّكُولِ عَلَى وَجْهٍ، وَيُحْبَسُ عَلَى وَجهٍ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يَقِرَّ، وَالذِّمِّيُّ إِذَا ادَّعَى أنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ، ثُمَّ نَكَلَ عَنِ اليَمِينِ، فَيُحْبَسُ عَلَى وَجْهٍ، وَيُقْضَى عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ، وَلاَ يُطْلَبُ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى وَجْهٍ، وَوَلَدُ المُرْتَزِقَةِ إِذَا ادَّعَى البُلُوغَ وَاتُّهِمَ وَنَكَلَ لَمْ يَثْبُتِ اسْمُهُ إِلَى أنْ يُعْلَمَ بُلُوغُهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلاَ وَارِثَ لَهُ فَادَّعَى القَاضِي لَهُ دَيناً عَلَى إِنْسَانٍ فَنَكَلَ حُبِسَ عَلَى وَجْهٍ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ، وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالمَالِ عَلَى وَجْهٍ، وَيُتْرَكُ عَلَى وَجْهٍ، وَهوَ أَبْعَدُ هَهُنَا مِنْهُ فِي الذِّمِّيِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ما ذكرنا: أنَّه تُرَدُّ اليَمِينُ على المُدَّعِي، فلا يُقْضَى بالنُّكُولِ، هو الأصل المُقَرَّرُ في المذهب (¬3)، لكنه قد يَتَعَذَّرُ رَدُّ اليمين، وحينئذ فمن الأصحاب من يَذْهَبُ إلى القَضَاءِ بالنكول، وبَيَانُهُ بصِور -منها إذا طُولِبَ رَبُّ المَالِ بالزَّكَاةِ، فقال: بَادلْتُ النِّصَاب في أثناء الحَوْلِ، أو دَفَعْتُ الزَّكَاةَ إلى سَاعٍ آخر، أو غَلِطَ الخَارِصُ في الخَرْصِ، أو أَصَابَتِ الثِّمَارَ جَائِحَةٌ، واتَّهَمَهُ السَّاعِي، فيحلف على ما يدعيه إيجَاباً واسْتِحْبَاباً، على اختِلاَفٍ مذكور في الزَّكَاةِ؛ فإن نَكَلَ، لم يُطَالَبْ بشيء إن قلْنَا بالاسْتِحْبَاب، وإن قلنا بالإيْجَاب، فإن انْحَصَرَ المَوْصُوفُونَ بصفات الاسْتِحْقَاقِ في البلد، وقلناَ: بامتناع النَّقْلِ، فَتُرَدُّ اليَمِينُ عليهم، إلا يَتَعَذَّرُ الرَّدُّ إلى الساعي والسُّلطان. وما الذي يُفْعَلُ؟ فيه ثلاثة أوجه: أظهرها: أنَّه تُؤخَذُ منه الزَّكَاةُ، وكيف سَبِيلُهُ؟ رأى ابن القَاصِّ هذا حُكْماً بالنكول، ورواه عن ابن سُرَيْجٍ، وسَبَب تَجْوِيزِهِ دُعَاءُ الضَّرُورَةِ إليه. وقال أكثرهم: ليس هذا حكماً بالنكول، ولكن قَضِيَّةَ مِلْكِ النِّصَاب، ومضي الحَوْلِ الوُجُوبُ. فإذا لم يثبت دافع أَخَذْنَا الزكاة. والوجه الثاني: أنَّه لا يُطَالَبُ بشيء؛ لأنه لم تَقُمْ عليه حُجَّةٌ. والثالث: أنَّه يُحْبَسُ حتى يُقِرَّ، فَتُؤْخَذُ منه الزَّكَاةُ، أو يحلف فَيُعْرضُ عنه. ومنهم ¬
من فَرَّقَ بين أن يكون رَبّ المال على صُورَةِ المدعى؛ بأن يقول: [أديت في بلدة أخرى أو إلى ساعٍ، فتؤخذ منه الزَّكَاةُ إذا لم يحلف، وبين أن يكون على صُورةِ المدعى عليه بأن يقول:] (¬1) ما تَمَّ حَوْلي، أو ما في يدي لفلان المُكَاتِبِ، فلا يُؤْخَذُ منه شيء. وهذا وجه رَابعٌ، وقد نَسَبَهُ صاحب "التهذيب" في باب الزَّكَاةِ إلى ابن سُرَيْجٍ ورَجَّحَهُ. ومنها: الذِّمِّيُّ إذا مات في أَثْنَاءِ السَّنَةِ، يلزمه في الجِزْيَةِ قِسْطُ ما مضى؟ أو لا يَلْزَمُهُ شيء؟ فيه قولان مَذْكُورَانِ في موضعهما؛ فإن غَابَ ذِمِّيٌّ، ثم عاد وهو مُسْلِمٌ فقال: أَسْلَمْتُ قبل تمام السَّنَةِ، فليس عَلَيَّ تَمَامُ الجِزْيَةِ، أو ليس عَلَيَّ شَيْءٌ منها. فقال عَامِلُ الجِزْيَةِ: بل أَسْلَمْتَ بعدها، وعليك تَمَامُ الجِزْيَةِ، فيحلف الذِّمِّيُّ اسْتِحْبَاباً على وَجْهٍ، وإيجَاباً على وجه. فإن قلنا: بالإِيجَاب، فَيُقْضَى عليه بالجزْيَةِ، أو لا يُطَالَبُ بشيءٍ، أو يَجْلِسُ ليقر، فتؤخذ منه الجِزْيَةُ، أو يَحلف ويترك (¬2)؛ فيه الوجوه الثلاثة المذكورة في الصورة السابقة (¬3). قال الإمَامُ: وَقَيَّدَ صَاحِبُ "التخليص" المسْألَةَ بما إذا غاب، ثم عَادَ وهو مُسْلِمٌ، وظاهر هذا -أنَّه لو كان عندنا، فَصَادَفْنَاهُ مُسْلِماً في آخر السَّنَةِ، فادَّعَى أنه أَسْلَمَ قبل تَمَامِهَا، وكَتَمَ إِسْلاَمَهُ، لا يُقْبَلُ قوله؛ لأن الظَّاهِرَ أن من أَسْلَمَ في دَارِ الإسْلاَمِ، لا يكتم إِسْلامه. ومنها: ولد المُرْتَزِقَةِ؛ إذا ادَّعَى البُلُوغَ بالاحْتِلاَمِ، وطلب إِثْبَاتَ اسْمِهِ في الدِّيوَانِ، ففيه وجهان: أحدهما: أنَّه يُصَدَّقُ من غير يَمِينٍ؛ لأنه وإن كان كَاذِباً، فكيف يُحَلِّفُهُ وهو صَبِيٌّ؟ وإن كان صَادِقاً وجب أن يُجَابَ. وأظهرهما: أنَّه يَحْلِفُ عند التُّهْمَةِ، فإن نَكَلَ، فلا يُجَابُ، ولا يُثْبَتُ اسْمُهُ إلى أن يَظْهَرَ بُلُوغُهُ. وهذا ما أَوْرَدَهُ في الكتاب. ويَقْرُبُ منه أن بَعْضَ من شَهِدَ الوَقْعَةَ من المُرَاهِقِينَ، إذا ادَّعَى الاحْتِلاَمَ، وطلب سهم المقاتلة (¬4)، يُعْطَى إن حَلَفَ، وإن لم يحلف، فَوَجْهَانِ: أحدهما: أنه يُعْطَى ويُوَجَّهُ هذا بطريقين: أحدهما: أنَّه يُصَدَّقُ بغير يَمِينٍ؛ لأن احتلامه (¬5) إنما يُعْرَفُ من جِهَتِهِ، فأشبه ما إذا ¬
عُلِّقَ العِتْقُ، أو الطَّلاَقُ بالمَشِيئَةِ، فقال: شئت، يُصَدَّقُ بلا يَمِينٍ. والثاني: أن شُهُودَ الوَقْعَةِ، وحصول الغناء به، يقتضي استحقاق السهم. وأظهرهما: أنَّه لا يُعْطَى إذا لم يَحْلِفْ، وجعل صاحب "التلخيص" (¬1) هذا حُكْماً بالنكول. وقال غيره: إنما لم يُعْطَ؛ لأن حُجَّتَهُ إذا قلنا: إنه يحلفه، إنما هي اليَمِينُ، فإذا [لم يحلف] (¬2) لم يُقْضَ له بعدم الحجَّةِ، لا أنَّه قضى عليه بالنُّكُولِ. ومنها: إذا مات ولا وَارِثَ له؛ فَادَّعَى القاضي، أو مَنْصُوبُهُ دَيْناً له على إنسان وَجَدَهُ في تذكرته، فأنكر المُدَّعَى عليه، و: نَكَلَ عن اليَمِينِ، ففيه وجوه: أحدها: أنه يُحْبَسُ حتى يُقِرَّ، أو يَحْلِفَ. والثاني: أنَّه يُقْضَى عليه بالنكول، فَيُؤْخَذ منه المالُ؛ لأن وَرَثَتَهُ المسلمون، وَرَدّ اليمين عليهم مُتَعَذِّرٌ. والوجه الثالث: أنَّه يُعْرَضُ عنه، ولا يُتَعَرَّضُ له. نعم لو كان [مُعَانداً] (¬3)، فهو عَاصٍ آثمٌ. وقوله في الكتاب: "وهو أَبْعَدُها هنا منه في الذِّمِّيِّ"، إنما ذكر ذلك؛ لأَنَّ هذا الوَجْهَ مَشْهُورٌ في مسألتي الزَّكَاةِ، وإسْلاَمِ الذِّمِّيِّ، وهو غريب ههنا. لم يُحْكَ إلا عن الشَّيخِ أبي محمَّدٍ. وسبب الفَرْقِ أنَّه مَبْنِيٌّ هناك على اسْتِحْبَاب اليمين، و [اليمين] (¬4) هاهنا مُسْتَحَقَّةٌ على المدعى عليه، فالإِعْرَاضُ عنه بنكوله إِسْقَاطٌ لليَمين، وإبْطَالٌ لفائدته. ويجري الخِلاَفُ المذكور فيما إذا ادعى وَصِي مَيِّتٍ على وَارِثِهِ: أنَّه أوْصَى بثلثه للفقراء، وأنكر الوَارِثُ، ونَكَلَ. [ولو ادَّعَى وَليُّ الصبي، والمجنون دَيْناً له على إنسان، فَأنْكَرَ، ونَكَلَ،] (¬5) ففي الرَّدِّ على الوَلِيِّ وُجُوهٌ: أحدها: أن اليَمِينَ تُرَدُّ عليه؛ لأنه المستوفي، والصَّبِيُّ والمَجْنُونُ ليس لهما أَهْلِيَّةُ اليمين. والثاني: المَنْعُ؛ لأن إِثْبَاتَ الحَقِّ للإنسان بيَمِينِ غيره مُسْتَبْعَدٌ. والثالث: أنَّه إن ادَّعَى ثُبُوتَهُ لسبب بَاشَرَهُ بنفسه رُدَّ عليه، وإلا فلا، وَأُجْرِيَ هذا الخِلاَف فيما إذا أَقَامَ شَاهداً وَاحِداً، هل يَحْلِفُ معه؟ وفيما إذا ادَّعَى على الوَليِّ دَيْناً في ذِمَّةِ الصَّبِيِّ، هل يُحَلَّفُ إذا أنكر؟ والوَصِيّ والقَيِّمُ في ذلك كالوَلِيِّ. ¬
الركن الخامس: البينة
ويجري في قَيِّم المسجد، ومُتَوَلِّي الوَقْفِ إذا ادَّعَى للمسجد، أو الوَقْفِ، وأَنْكَرَ المُدَّعَى عليه، ونَكَلَ. وتَحْلِيفُ الولي والصبي (¬1) لَهُ ذِكْرٌ في الكتاب في الباب الأخَيرِ من الصَّدَاقِ فَلْيَتَذَكَّر. ثم مال المذهبيون إلى تَرْجِيح المَنْعِ من الوُجُوهِ الثلاثة، ولا بَأْسَ بوجه التفصيل (¬2) ولقد رَجَّحَهُ أَبُو الحَسَنُ العَبَّادِيُّ، وبه أجاب السَّرَخسِيُّ في "الأمالي". فإن منعنا رَدِّ اليمين إلى الوَليِّ والوصي (¬3)، فَيُنْتَظَرُ بلوغ الصَّبِيِّ، وإفَاقَةُ المَجْنُونِ. ويكتب القاضي المحضر بنكول المدعى عليه، وصَيرُورَته اليمين مَوْقُوفة على البُلُوغ، والإفَاقَةِ، ويعود في المدّعى (¬4) للمسجد والوقف الوجهان في أنَّه يُقْضَى عليه بالنكوَل؛ أوَ يُحْبَسُ ليَحْلِفَ، أو يقر. والأصح في هذا الخلاف في مَسْأَلَةِ لا وَارِثَ له، أنَّه لا يُقْضَى بالنُّكُولِ، ولكن يُحْبَسُ ليحلف، أو يقر، وإنما حَكَمْنَا فيما قَبْلَ ذلك من الصُّوَرِ بالمال؛ لأنه قد سَبَقَ أَصْلٌ يقتضي الوجوب، ولم يَظْهَر دَافِعٌ فأخذنا بذلك الأصل، وهاهنا لا مُسْتَنَدَ إلا النكول، والنكول المَحْضُ لا اعْتِمَادَ عليه، على أصلنا. وقَيِّمُ المَحْجُورِ عليه إذا ادَّعَى له، ونَكَلَ المدعى عليه ليحلف (¬5) المَحْجُورُ أنَّه يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ هذا المَالِ. ولكن لا يقول: إليّ (¬6). وقيّمه يقول في الدَّعْوَى: يلزمك تَسْلِيمُهُ إِليَّ. ومنها للقاذف: أن يُحَلِّفَ المَقْذُوفَ على أنَّه لم يَزْنِ، كما مَرَّ، فإن نَكَلَ، حكى القاضي أبو سَعْدٍ وَجهاً: أنَّه يَسْقُطُ بنكوله حَدُّ القَذْفِ عن القاذف، فلا ترَدُّ اليَمِينُ عليه؛ لأن قَضِيَّةَ يمينه إِثْبَاتُ حَدِّ الزِّنَا على المَقْذُوفِ، ولا يمكن إِثْبَاتُ الحد باليمين. والمَشْهُورُ مَا تَقَدَّمَ: أنَّه تُرَدُّ اليَمِينُ على القَاذِفِ، وَأَثَرُ يمينه انْدِفَاعُ حَدِّ القذف عنه، لا إِثبَاتُ حَدِّ الزِّنَا على القاذف، كما أن اليصين تُرَدُّ على مُدَّعِي السرقة، وتؤثر يمينه في إِثبَاتِ المال دون القَطْعِ. [والله أعلم] (¬7). قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الخَامِسُ: البَيِّنَةُ وَقَدْ ذَكَرْنَا شُرُوطَهَا، فَإِنْ تَعَارَضَتَا وَلاَ تَرْجِيح فَلاَ يَخْلُو إِمَّا أنْ يَكُونَ المُدَّعَى فِي أَيدِيهِمَا أَوْ فِي يَدِ ثَالِثٍ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ ثَالِثٍ فَالبَيِّنَتَانِ يَتَسَاقَطَانِ (ح) عَلَى قَوْلٍ،. وَتُوجَبُ القِسْمَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قوْلٍ وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلٍ فَيُسَلَّمُ لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، وَيَتَوَقَّفُ إِلَى الصُّلْحِ عَلَى قَوْلٍ، وَلاَ يَجْرِي قَوْلُ القِسْمَةِ ¬
وَالصُّلْحِ فِي الزَّوجَةِ المُتَنَازَعَةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَفِي جَرَيَانِ قَوْلِ القُرْعَةِ خِلاَفٌ، فَإذَا تَكَاذَبَتِ البَيِّنَتَانِ صَرِيحاً لَمْ يَتَّجِهْ إِلاَّ التَّهَاتُر كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى القَتْلِ فِي وَقْتٍ وَشَهِدَ الآخَرُ عَلَى الحَيَاةِ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ نَفْسِهِ، وَقِيلَ بِطَرْدِ بَقِيَّةِ الأَقْوَالِ أَيْضَاً، وَلَوْ أَقَرَّ الثَّالِثُ لأَحَدِهِمَا فَهَل يَنْزِلُ إِقْرَارُهُ مَنْزِلَةَ اليَدِ حَتَّى تَرْجِيح البَيِّنَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أحد الأركان في الخُصُومَاتِ الشَّرْعِيَّةِ البَيِّنَةُ فيها يظْهرُ الحقّ، وينفصل الأَمْرُ، فالقول في شرط الشهود مَفْرُوغٌ منه في الشَّهَادَاتِ، والقَصْدُ هاهنا بيان الحكم عند تَعَارُضِ البَيِّنَتَينِ، فإذا تَعَارَضَتَا فإما أن تفقد أَسْبَابُ الرُّجْحَانِ، أو يُوجَدَ مرجِّح: القسم الأول: إذا لم يُوجَدْ مُرَجِّحٌ، فأما أن يكون المُدَّعَى في يَدِ ثَالِثٍ، أو في أيديهما (¬1) جميعاً. ولا يَدْخُل في هذا القِسم ما إذا كان في يد أحدهما؛ لأن ذلك من أَسْبَابِ الرُّجْحَانِ على ما سيأتي. وهذا القَسْمُ مَفْقُودٌ فيما إذا فُقِدَتِ الأَسْبَابُ. الحالة الأولى: إذا ادَّعَى اثْنَانِ عَيْناً في يدِ ثالث فلا يَخْفَى أنَّه يَحْلِفُ المُدَّعَى عليه يَمِيناً لكل وَاحِدٍ منهما، إن ادَّعَاهَا لنفسه، ولا بَيِّنَةَ لواحد منهما، وأنه إن اخْتَصَّ أحدهما بِإِقَامَةِ البَيِّنَةِ على ما يدعيه، يُقْضَى له، وإن أَقَامَ كل واحد بَيِّنَةً، فقولان: أصحهما: ويُنْسَبُ إلى القَدِيم: وبه قال أحمد، وكذلك مَالِكٌ في إحدى الرِّوَايَتَيْنِ: أنهما يَتَسَاقَطَانِ؛ لأنهما مُتَنَاقِضَتَا الموجب، ولا تَرْجِيحَ، فَأشْبَهَ الدليلين إذا تَعَارَضَا، ولا تَرْجِيحَ، فعلى هذا كأنه لا بَيِّنَةَ، ويُصَارُ إلى التَّحْلِيفِ. والثاني: أنهما يُسْتَعْمَلانِ، صِيَانَةٌ لهما عن الإِسْقَاطِ، والإبْطَالِ، بِقَدْرِ الإمْكَانِ، وتُنْتَزَعُ العَيْنُ من صاحب اليد؛ لأنه قَضِيَّةُ كل واحدة من البَيِّنَتَيْنِ [ثم] (¬2) فيما يفعَل ثلاثة أقوال: أحدهما: أن العَيْنَ المُدَّعَاةَ تُقَسَّمُ بينهما، وبه قال أبو حَنِيْفَةَ، وكذلك مالك، ما رُوِيَ عن أبي مُوسَى: أن رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلى رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- في بَعِيرٍ، فأقام كل واحد [منهما] (¬3) البَيِّنَةَ أنَّه له، فجعله النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهما نِصْفَيْنِ (¬4). ¬
وأيضاً فالبَيِّنَةُ حُجَّةٌ كاليَدِ. ولو تَدَاعِيَا، والشَّيْءُ في أيديهما، يُجْعَلُ بينهما نِصْفَيْنِ، فكذلك هاهنا. وأيضاً: فلو أن رَجُلَينِ أقام كُلُّ واحد منهما بَيِّنَةً على أنَّه أوصى له بهذه الدَّارِ؛ تُجْعَلُ بينهما، فكذلك هاهنا. والثاني: أنَّه يُقْرَعُ بينهما، ويُرَجَّحُ جانب من خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ (¬1)؛ لما رُوِيَ؛ أن خَصْمَيْنِ أَتَيَا النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأتى كُلُّ واحد منهما بِشُهُودٍ، فَأسْهَمَ بينهما، وقَضَى لمن خَرَجَ السَّهْمُ له (¬2). ¬
وأيضاً فالقُرْعَةَ [مرجحة] (¬1) عند اسْتِوَاءِ الجانبين كما في العِتْقِ، والقِسْمَةِ، والمُسَافَرَةِ بإحدى النساء، وما يُشْبِهُهَا، وهل يَحْتَاجُ على هذا من خرجت قُرْعَتُهُ إلى اليمين؟ فيه قولان في رواية أَكْثَرِهِمْ، ووجهان عن رِوَايَةِ القَفَّالِ، أَوْقَفهُمَا لظاهر لفظ الكتاب: أنَّه لا حَاجَةَ إلى اليمِينِ، والقُرْعَةُ ترجح بينته. والثاني: أنَّه لاَ بُدَّ من اليمين، والقُرْعَةُ تَجْعَلُ أحدهما أَحَقَّ باليمين. وعلى هذا حكى القاضي الروياني: أنَّه يَحْلِفُ من خَرَجَت قُرْعَتُهُ؛ إن شهوده شَهِدُوا بالحَقِّ، ثم يُقْضَى له. والقول الثالث: أنَّه يُوقَفُ إلى أن يُتَبَيَّنَ الأَمْرُ، أو يَصْطَلِحَا؛ لأنه أشْكِلَ الحال فيما يُرْجَى انْكِشَافُهُ، فَيُوقَفُ، كما لو زوجها وليان ونسيا (¬2) السابق من العَقْدَيْنِ. وأيضاً فإن أحدهما مُسْتَحِقٌّ، وإلا فالبَيِّنَتَانِ كَاذِبَتَانِ، والمُسْتَحِقُّ منهما غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، فَيُوقَفُ؛ كما لو طَلَّقَ إحدى امْرَأتَيْهِ، ومات قبل البيان، يُوقف (¬3) المِيرَاثُ إلى الاصطلاح. واعْتَذَرَ الناصرون لِلتَّسَاقُطِ عن حَدِيثِ أبي مُوسَى -رضي الله عنه- أنَّه يُحْتَمَلُ أنَّه كان المدعي (¬4) في أيديهما، فأبطل البَيِّنَتَيْنِ، وقسم (¬5) بينهما. وعن الحديث الآخر: أنَّه لما كان التنَازعٌ في قِسْمَةٍ، أو عِتْقٍ. وعما احْتُجَّ به للتوقف، بأن كونها زَوْجَةً لأحدهما، وكَوْنَ المِيرَاثِ لأحدهما مَعْلُوماً، واستحقاق أحدهما غير مَعْلُومٍ هاهنا، فلا يَلْزَمُ من التَّوَقْفِ هناك التَّوَقُّفُ هاهنا. واعترف بعد هذا: أنَّه قد يُضَمُّ أَقْوَالُ الاستعمال إلى قول التَّسَاقُطِ، ويُقَالُ في المسألة أَرْبَعَةُ أقوال. كما نَسَّقَهَا في الكتاب، وأنه إذا كان التَّسَاقُطُ مَنْسُوباً إلى القديم، وكان هو الأَظْهَرَ عند الأصحاب، كانت المَسْأَلَةُ من المَسَائِلِ التي يرجّح فيها القديم. وإن الإِمام، وصاحب الكتاب، حَكَيَا في مَحَلِّ القولين [في] (¬6) التَّسَاقُط والاستعمال طَرِيقَيْنِ: أحدهما: أن القولين فيما إذا لم تَتَكَاذَب البَيِّنَتَانِ (¬7) صَرِيحاً، فإن تَكَاذَبَا (¬8) صَرِيحاً، تَسَاقَطَ لاَ مَحَالَةَ. ¬
والثاني: طَرْدُ القولين في الحَالَتَيْن، وهذا أَشْهَرُ، والأول أَرْجَحُ عند صاحب الكتاب، والمُرَادُ من صَرِيحِ التَّكَاذُبِ؛ ألاَ يَتَأتَّى الجَمْعُ، ولا يَنْقَدِحَ فيه تَأْوِيلٌ، كما إذا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ على القَتْلِ في وقت [معين] (¬1) والأخرى على الحَيَاةِ في ذلك الوقت. فإن تُوُهِّمَ الجَمْعُ بِضَرْبٍ من التأويل، فليس ذلك بصريح التَّكَاذُبِ. وذلك، كما إذا شَهِدَتْ هذه، على مِلْكِ زيد، وهذه على مِلكِ عَمْرو؛ فإنه يجوز أن يقال: عرفت كل واحدة سبباً كشراء، أو وصية، واستصحب حكم العَقْدِ الذي عرفته. وكما إذا شَهِدَت هذه، على أنَّه أوْصَى بهذه العَيْنِ لِزَيْدٍ، وهذه على أنَّه أوْصَى بها لِعَمْرو؛ فإنه ربما أوْصَى بها مَرَّتَيْنِ. وإن القاضي الروياني نَقَلَ في "جمع الجوامع" طريقين من وَجْهٍ آخر: أحدهما: أن القولين فيما إذا لم يمكن الجَمْعُ، فإن أَمْكَنَ، قُسِّمَ بينهما لا مَحَالَةَ. والثاني: طَرْدُ القولين في الحالتين، فَتَحَصَّلَ من النقلين ثَلاثَةُ طُرُقٍ؛ القَطْعُ بالتَّسَاقُطِ فيما إذا لم يمكن الجَمْعُ، والقَطْعُ بالاستعمال إذا أمكن طَرْدُ القولين في الحَالَتَيْنِ، وأن إِيرَادَ أبِي الحَسَنُ [العبادي] (¬2) يَنْسَاقُ إلى طريقة أخرى تَنْفِي الخِلاَفَ، ويقطع بالتَّسَاقُطِ عند اسْتِيقَانِ الكَذِبِ في إحداهما، وبالاستعمال عند إِمْكَانِ صِدْقِهِمَا كما في الوَصِيَّةِ. وإن أبا الفَيَّاضِ حكى؛ أن من الأصحاب من لم يُثْبِتْ قول التوقيف (¬3)، وأن القاضي ابن كَجٍّ رَوَى عن أبي حَامِدٍ القَاضِي، أن الأقْوَالَ الثلاثة لا تجتمع، بل موضع (¬4) قول القِسْمَةِ، ما إذا أمكن الجَمْعُ، وموضع قول القُرْعَة، ما إذا لم يمكن. وأُعْلِمَ من لفظ الكتاب ما سوى قول التَّسَاقُطِ بالزاي (¬5)؛ لأن اخْتِيَارَ المُزَنِيِّ هو التَّسَاقُطُ، ولْيُعَلمْ بالألف أيضاً، لما بَيَّنَّاهُ، وما سوى قَوْلِ القِسْمَةِ بالحاء. ثم في الفصل صورتان: إحداهما إذا كان التَّنَازُعُ في زَوْجِيَّةِ امْرَأَةٍ، وأقام كل واحد بَيِّنَةً، وتَعَارَضَتَا، فقول التَّسَاقُطِ بحاله (¬6)، ولا مَجَالَ لِلْقِسْمَةِ، وذكر صاحب الكتاب في "الوسيط"، أن قَوْلَ الوَقْفِ لا يجري أيضاً تَعْلِيلاً بأن الصُّلْحَ غير مُمْكِنٍ، وهذا ما أراد بقوله هاهنا. ولا يَجْرِي قَولُ القِسْمَةِ والصلح، فعبر عن الوَقْفِ بالصلح. والذي رواه صاحب ¬
"التهذيب" وغيره جَرَيَانُ قَوْلِ الوَقْفِ، وهو الوجه كما يُتَوَقَّفُ في التي أَنْكَحَهَا وَلِيَّاهَا، وليس الصُّلْح مقصورًا (¬1) على أن يأخذ هذا شَيْئًا من المدَّعَى، وهذا شَيْئًا آخر منه، بل من الصُّلْحِ أن يَتُوبَ الكَاذِبُ، ويُصَدَّقَ الصَّادِقُ. وأما قول القُرْعَةِ، ففي جَرَيَانِهِ وَجْهَانِ منقولان في الكتاب وغيره: أحدهما: تجري كما في بينتي المَالِ. وأصحهما: وهو الجواب في "التهذيب": المنع، كما لا تَجْرِي القُرْعَةُ في التي أَنْكَحَهَا وَليَّاهَا. وفيما (¬2) إذا طَلَّقَ إحدى زَوْجَتَيْهِ، ومات (¬3). الثانية: أقر صَاحِبُ اليَدِ لأحدهما بعدما أقام (¬4) البينتين، إن قلنا: بالتَّسَاقُطِ قُبِلَ إقراره وحُكِمَ به، وإن قلنا بالاسْتِعْمَالِ، فوجهان: أحدهما: أن المُقَرَّ له يصير كَصَاحِبِ اليد حتى تُرَجَّحَ بَيِّنَتُهُ. والثاني: لا؛ لأن يَدَهُ بعد البَيِّنةِ مستحقة الإِزَالَةِ (¬5)، فلا تَأْثيرَ لها، ولا اعْتِبَارَ بإقرار صاحبها، وإن أَقَرَّ تَمَام البينتين، قُبِلَ إِقْرَارُهُ. وصَار المُقرُّ له صَاحِبَ يَدٍ. والوجهان في الكتاب وإن كانا مُطْلَقَيْنِ، ولكن قوله: "فهل ينزل (¬6) إقراره منزلة اليد، يُفْهِمُ أنهما مُفَرَّعَانِ على قَوْلِ الاسْتِعْمَالِ. فأما على قول التَّسَاقُطِ، فلا نقول: الإِقْرَارُ يرجح البَيِّنَةَ بِحَالٍ، ولكن كأنهما لم يقيما بَيِّنَةً، فَيُقْضَى بموجب الإِقْرَارِ والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الحَالَةُ الثَّانِيَةُ) أَنْ يَكُونَ فِي يَدِهِمَا، وَلاَ يَخْفَى إِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ بَيِّنَةٌ أَنْ تَجْرِيَ الأَقْوَالُ، وَلَكِنْ إِذَا قُلْنَا بِالتَّهَاتُرِ فَهَهُنَا تَبْقَى الدَّارُ فِي أَيْدِيِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ فَكُلُّ وَاحِدٍ مُدَّع فِي النِّصْفِ مُدَّعَىَ عَلَيْهِ فِي النِّصْفِ فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْي مَا يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ وَلاَ يَلْزَمُهُ التَّعَرُّضُ لِلإِثْبَاتِ بِخِلاَفِ التَّحَالُفِ فِي البَيْعِ إِذِ النِّصْفُ هَهُنَا مُمَيَّزٌ عَنِ النِّصْفِ وَثَمَّةَ لاَ يَتَمَيَّزُ المُدَّعِي عَنِ المُدَّعَى عَلَيْهِ، وَقِيلَ فِي وُجُوبِ الجَمْعِ بَيْنَ النَّفْي وَالإِثْبَاتِ فِي المَسْئلَتَيْنِ قَوْلاَنِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ، ثُمَّ إِنْ حَلَفَ الأوَّلُ عَلَى النَّفْي فَنَكَلَ الثَّانِي رُدَّ عَلَيْهِ اليَمِينُ فَيَحْلِفُ عَلَى الإِثْبَاتِ، وَإِنْ نَكَلَ الأَوَّلُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ القَاضِي تَحْكِيمَاً أَوْ ¬
بِالقُرْعَةِ اجتَمَعَ عَلَى الثَّانِي يَمِينُ النَّفْي لِلنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ وَيَمِينُ الإِثبَاتِ لِلنِّصْفِ الَّذِي فِي يدِ شَرِيكِهِ فَيَكْفِيهِ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ تَجْمَعُ بَيْنَ النَّفْي وَالإِثْبَاتِ، وَقِيلَ: لاَ بُدَّ مِنْ يَمِينَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تَكَلَّمْنَا فيما إذا ادَّعَى اثْنَانِ عَيْناً في يَدِ ثَالِثٍ، فأما إذا كانت في يَدِهِمَا، وادَّعَاهَا كُلُّ واحد منهما، فإن أَقَامَ كُلُّ واحدٍ منهما بَيِّنَةً، قالت طَائِفَةٌ من الأَصْحَاب؛ منهم الفوراني، وصَاحِبُ الكتاب: يَجْرِي فيه قَوْلاً [التساقط والاستعمال، إن قلنا: بالتساقط] (¬1) والتهاتر، فيبقى المَالُ في أيديهما كَمَا كَانَ. وإن قلنا بالاسْتِعْمَالِ، فعلى [قول] (¬2) القِسْمَة تُجْعَلُ بينهما مِلْكاً. قال الفوراني: ولا يَجِيءُ قَوْلُ الوَقْفِ، إذ لا معنى لِلتَّوَقُّفِ مع ثبوت اليَدِ. وحكى وجهين في مجيء قول القُرْعَةِ. وقال آخرون؛ منهم ابْنُ الصَّبَّاغِ، وصاحب "التهذيب"، إذا أقاما البَيِّنَةَ، يُجْعَلُ المَالُ بينهما؛ لأن بَيِّنَةَ كل واحد منهما تَرَجَّحَتْ [باليد] (¬3) في النِّصْف الذي هو صاحب يَدٍ فيه (¬4) وكأن هؤلاء امْتَنَعُوا من إجْرَاءِ [هذه] (¬5) الأَقْوَالِ. وقالوا: مَوْضِعُ الأقوال ما إذا خَلَتِ البَيِّنَتَانِ عن التَّرْجِيحِ، واليَدُ من أَسْبَاب الترجيح، والحاصل لِلْفَتْوَى على الطريقين معاً إِبْقَاءُ المال في أيديهما كما كان، ولكَن الطَّرِيقَتَانِ معاً، فيما إذا شهد شُهُودُ كُلِّ واحد منهما بأن جَمِيعَ المال له، فأما إذا شَهِدَ شُهُودُ كُلِّ واحد منهما بالنِّصْفِ الذي [هو] (¬6) في يَدِ صَاحِبِهِ، فالبَيِّنَتَانِ لم تَتَوَاردا على شيء واحد حتى يَجِيءَ أَقوَالُ التَّعَارُضِ، ولا يَدَ لِلْمُدَّعِي في المَشْهُودِ به حتى يرجح جانبه. ولكن يَحْكُمُ القاضي لزيد، بما كان في يد عمرو، ولعَمْرو بما كان في يَدِ زيد، ويكون المَالُ في يَدِهِمَا أيضاً كما كان؛ ولكن [لا] (¬7) بجهة التَّسَاقُطِ، ولا بجهة التَّرْجِيحِ [باليد] (¬8)، ثم قال الأَئِمَّةُ: من أقام البَيِّنَةَ أَوّلاً، وتعرض شُهُودُهُ للكل، لم تَضُرَّ، فإن كان صاحب يَدٍ في النِّصْفِ، وقلنا: إن بَيِّنَةَ صاحب اليَدِ لا تُسْمَعُ ابْتِدَاءً على مَا سَيَأتِي الخِلاَفُ فيه؛ لأنه مُسْتَغْنَى هناك عن البَيِّنَةِ، وههنا لا يُسْتَغْنَى عن البَيَّنَةِ للنصف الذي يَدَّعِيهِ، ثم إذا أَقَامَ الثَّانِي البَيِّنَةَ على الكل، سُمِعَتْ، وتَرَجَّحَت بَيِّنَتُهُ في النِّصْفِ الذي [هو] (¬9) في يده، [فيحتاج الأول إلى إِعَادَةِ البَيِّنَةِ لِلنِّصْفِ الذي هو في يَدِهِ] (¬10). ¬
وقال في "الوسيط": لا يبعد أن يُتَسَاهَلَ في الإعَادَةِ، وإن كان لأحد المدعيين (¬1) بَيِّنَةٌ دُونَ الآخر، فَيُقْضَى له بالكُلِّ، وشُهُودُهُ قد يَشْهَدُونَ بالنِّصْفَ الذي في يد صاحبه، وقد يَشْهَدُونَ بالكُلِّ، ولا يَضُرُّ كونه صَاحِبَ يَدٍ في النصف على ما تبين. وإن لم يكن لواحد منهما بَيِّنَةٌ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مُدَّع في النصف، مُدَّعَى عليه في النِّصْفِ، فَيَحْلِفُ كُلُّ واحد منهما على نَفْي مَا يَدَّعِيهِ الآخَرُ، ولم يَتَعَرَّضْ واحد منهما في يَمِينِهِ لإثْبَاتِ ما في يَدِهِ، بل يُقْتَصَرُ على أنَّه لا حَقَّ لِصَاحِبِهِ فيما في يَدِهِ. نَصَّ عليه، وذَكَرَ في بَاب التَّحَالُفِ في البَيْع، أن ظَاهِرَ النَّصِّ، أن كُلَّ واحد منهما في التَّحَالُفِ يجمع بين النَّفْي والإِثْبَاتِ، وبَيَّنَّا أن لِلأَصْحَاب فيهما طريقين: أصحهما: تَقْرِيرُ النَّصَّينِ؛ لأن [النِّصْفُ] (¬2) الذي يَنْفِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ منهما يَتَمَيَّزُ عن النِّصْفِ الذي يَثْبِتُهُ، وهناك العَقْدُ واحد، والنِّزَاعُ في صِفَتِهِ. فكأن الدعوى واحدة، ولا يَتَمَيَّزُ المُدَّعِي عن المُدَّعَى عَلَيْهِ. والثاني: أنهما غير مُقِرَّيْنِ بحالهما، ولكن يخرح من نصه (¬3) في هذه المَسْأَلَةِ قول [في] (¬4) التَّحَالُفِ، وفي التَّخْرِيجِ من التَّحَالُفِ اخْتِلاَفٌ لأصحاب الطَّرِيقَةِ الثانية؛ فإن قلنا: تخرج، حَصَلَ فيهما قَوْلاَنِ بالنَّقْلِ، والتخريج، على ما ذَكَرَهُ في الكتاب. وكل ذلك (¬5) قد أَوْضَحْنَاهُ في باب التَّحَالُفِ. وإذا قلنا بالأَصَحِّ، فإن حَلَفَا، أو نَكلاَ، تُرِكَ المُدَّعَى في يَدِهِمَا كما كان. وإن حَلَفَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآخر، قُضِيَ للحالف بالكُلِّ، ثم إن حَلَفَ الذي بَدَأَ القاضي بتَحْلِيفِهِ، وَنَكَلَ الآخَرُ بعده، فَيَحْلِفُ الأَوَّلُ اليَمِينَ المَرْدُودَةَ، وإن نَكَلَ الأَوَّلُ، وَرَغِبَ الثاني في اليمين فقد اجْتَمَعَ عليه يَمِينُ النَّفْي لِلنِّصْفِ الذي ادَّعَاهُ صَاحِبُهُ، وَيمِينُ الإِثْبَاتِ للنصف الذي (¬6) ادَّعَاهُ هو؛ فهل يكفيه الآن يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، يجمع فيها بين النَّفْي والإثْبَاتِ؛ لأن كُلاًّ منهما قد دَخَلَ وقته أم لاَ بُدَّ من يَمِينٍ للنَّفْي، وأُخْرَى للإثبات؟ فيه وجهان: لفظ الكتاب يُشْعِرُ بِتَرْجِيح أَوَّلهِمَا، وهو الذي أوْرَدَهُ أبُو الفَرَجِ الزَّازُ، وحينئذٍ فيحلف: إنَّ الجَمِيعَ له، لا حَقَّ لصاحبه فيه. أو يَقُولُ: لا حَقَّ له في النِّصْفِ الذي يَدعِيهِ، والنِّصْفِ [الآخر] (¬7) لي. ¬
فروع
وقوله في الكتاب في خِلاَلِ الكَلاَمِ الذي بَدَأَ به القَاضِي: "تحكيماً (¬1) أو بالقرعة"، المُرَاد بالتحكيم (¬2) رأي القَاضِي، واجتهاده، وظاهر اللَّفْظِ، تَخْيِيرُ القاضي بين أن يُقْرِعَ، وبين أن يَعْمَلَ بما تعِنُّ له ولا يُقْرعْ، وبه يُشْعِرُ لفظه في "الوسيط"؛ فإنه [قال] (¬3): يَبْدَأُ القاضي بمن يَرَاهُ، أو بالقُرْعَةِ، ويمكن أن يُحْمَلَ ذلك على وَجْهَيْنِ؛ ذكرناهما (¬4) في باب التَّحَالُفِ، تَفْرِيعاً على أنَّه لا يَبْدَأُ بالبَائِعِ، ولا بالمُشْتَرِي، بل يَتَسَاوَيانِ. أحدهما: أن القاضي يَتَخَيَّرُ فَيُقَدِّمُ من يَرَاهُ. والثاني: أن المُعْتَبَرَ بالقُرْعَةِ. ويجوز أن يقال: كل واحد منهما مُدَّعٍ، ومُدَّعى عليه هاهنا، فينبغي أن يُنْظَرَ إلى السَّبْقِ؛ فمن سَبَقَ دَعْوَاهُ، بُرِئَ بتحليف صَاحِبِهِ. فروع: الأول: ادَّعَى رَجُلٌ نِصْفَ دَارٍ، والآخَرُ كُلَّهَا، وأَقَامَ كُلُّ واحد منهما بَيِّنَةً، والدَّارُ في يَدِ ثَالِثٍ، فالبَيِّنَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ في النِّصْفِ، فإن قلنا بالتَّهَاتُرِ، فهما سَاقِطَتَانِ في النِّصْفِ الذي فيه التَّعَارُضُ. وأما النِّصْفُ الآخَرُ؛ فعن ابْنِ سُرَيْجٍ، وأبي إِسْحَاقَ، وغيرهما أنَّه على قَولَيْنِ في تَبْعِيضِ الشَّهَادَةِ، فإن لم نُبَعِّضْهَا، بَطَلَتْ في ذلك النِّصْفِ أيضاً، وصار كما لو لم يَكُنْ لواحد منهما بَيِّنَةٌ، وإن بَعَّضْنَاهَا، سُلِّمَ النِّصْفُ لمدعي الكُلِّ. وامْتَنَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ من تَخْرِيجِهِ على ذلك الخِلاَفِ، وقال: مَوْضِعُ الخِلاَفِ ما إذا كان الرَّدُّ في البَعْضِ لِتُهْمَةٍ من عَدَاوَةٍ وغيرها. فأما إذا كان الرَّدُّ في البَعْضِ بِسَبَبِ التَّعَارُضِ فما ينبغي أن يَتَأثَّرَ به الثاني. ألا ترى أنا إذا قُلْنَا بالقِسْمَةِ عند التَّعَارُضِ، تُرَدُّ كُلُّ بَيِّنَةٍ في بَعْضِ ما شهدت به؟ ولا يُخَرَّجُ الثَّانِي على ذلك الخِلاَفِ، وهذا أَصَحُّ عند الشيخ أبي علِيٍّ. وإن قلنا: بالاسْتِعْمَالِ، فَيُسَلَّمُ النِّصْفُ لمدعي الكُلِّ، ويُقَسَّمُ النِّصْفُ الآخر. ¬
إن قلنا بالقِسْمَةِ، فيكون لِمُدَّعِي الكل ثَلاَثَةُ أَرْبَاعِهَا. وإن قلنا بالقُرْعَةِ، فَيُقْرَعُ للنِّصْفِ، وإن قلنا: بالوَقْفِ، فيوقف، ولو أنهما تَدَاعَيَا كذلك، والدَّارُ في يدهما، فالقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي النِّصْفِ في النصف الذي في يَدِهِ، فإن أقام مدعي الكل بينة، قُضِيَ له بالكل، وإن أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً على ما يَدَّعِيهِ، بَقِيَتِ الدَّارُ في يدهما، كما كانت. ولكن التَّصْوِيرَ فيما إذا أَقَامَ مُدَّعِي الكُلِّ أَوَّلاً؛ لأن الآخَرَ لا يَدَّعِي إلا النِّصْفَ، وهو صَاحِبُ يَدٍ فيه، وسيأتي أَنَّ صاحب اليَدِ لا يَحْتَاجُ إلى البَيَّنَةِ في الابْتِدَاءِ على اخْتِلاَفٍ فيه، فإذا أقامها (¬1) أقام مدعي (¬2) النصف بينته فيرجح (¬3) باليد، ولا يَضرُّ تعرض شهود مدعي الكل للكل، وإن كان مُسْتَغنياً عن البَيِّنَةِ في النِّصْفِ الذي في يَدِهِ لما تَقَدَّمَ. ولو اقْتَصَرُوا على أَنَّ النِّصْفَ الذي في يَدِ صَاحِبِهِ له، حصل الغَرَضُ [أيضاً] (¬4). ولو ادَّعَى أَحَدُ المدعيين الثُّلُثَ، والآخَرُ الكُلَّ، فإن كانت الدَّارُ في يد ثالث، فعلى قول التَّهَاتُرِ يَتَسَاقَطَانِ في الثُّلُثِ. وهل تَبْطُلُ بَيِّنَةُ الكُلِّ في الثلثين؟ فيه ما سَبَقَ من التَّخْرِيجِ على الخِلاَف في تَبْعِيضِ الشهادة. وإن اسْتَعْمَلْنَاهُ، فعلى قول القِسْمَةِ، يحصل لمدعي الكل خَمْسَةُ أسْدَاسِهَا. ولا يخفى القولان الآخران. وإن كانت الدَّارُ في يدهما، وأَقَامَ كل واحد بينة تثبت عند مدعي (¬5) الثلث [في] (¬6) الثلث، ويكون الباقي لمدعي الكُلِّ. والثاني: دارٌ في يَدِ إِنْسَانٍ، ادَّعَى زَيدٌ نِصْفَهَا، فَصَدَّقَهُ، وعمرو نِصْفَهَا، فَكَذَّبَهُ صَاحِبُ اليد، وزَيْدٌ معاً، ولم يَدَّعِهِ واحد منهما لِنَفْسِهِ، فالنصف الذي يدعيه المكذب، يُسَلَّمُ إليه، أو يُوقَفُ في يَدِ صَاحِب اليَدِ، أو ينتزعه (¬7) القاضي ويحفظه إلى ظُهُورِ مَالِكِهِ، فيه ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ حَكاهَا الفوراني (¬8). الثالث: ادَّعَى واحدٌ دَاراً، وآخَرُ ثلثيها، وآخَرُ نِصْفَهَا، وآخَرُ ثُلُثَهَا، والدار في يد خَامِسٍ، وأقام كُلُّ وَاحِدٍ من الأربعة بَيِّنَةً، فلا تَعَارُضَ في الثُّلُثِ الذي يَخْتَصُّ بمدعي الكل بِدَعْوَاهُ، وفي الباقي، يَقَعُ التَّعَارُضُ في السُّدُسِ الزَّائِدِ على النصف، يتعارض بَيِّنَةِ ¬
مُدَّعِي الكل و [بينة] (¬1) مُدَّعِي الثلثين. [و] في (¬2) السُّدُسِ الزائد على الثلث بتَعَارُضِ بينهما وبينة مُدَّعِي النِّصْفِ، وفي الثلث الباقي تَتَعَارَضُ بَيِّنَاتُ الأَرْبَعَةِ، فإن قلنا: بالتَّهَاتُرِ، سَقَطَ البَيِّناتُ في الثلثين، وفي الثلث يَعُودُ الكَلاَمُ في تبعيض الشَّهَادَةِ. والظَّاهِرُ -أنَّه يسلم لمدعي الكل. وإن قلنا: بالاسْتِعْمَالِ، فإن قَسَّمْنَا فالسدس (¬3) الزائد على النصف لمدعي الكل، ومُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ بالسَّوِيَّةِ، والسُّدُس الزائد على الثلث لهما، ولمدعي النِّصْفِ أَثْلاَثاً، والثُّلُثُ الباقي لِلأَرْبَعَةِ أَرْبَاعاً، فَتُجْعَلُ الدَّارُ ستة وثلاثين سَهْماً، لحاجتنا إلى عَدَدٍ يَنْقَسِمُ سدسه على اثنين، وعلى ثلاثة فَيُضْرَبُ اثنين في ستة، ثم في ثَلاثةٍ، لمدعي الكُلِّ ثلثها، اثنا عشر ونصف السدس الزائد على النِّصْفِ ثلاثة، وثلث السُّدُس الزَّائد على الثلث اثنان، وربع الثلث الباقي وهو ثَلاثَةٌ، فالمَبْلَغُ عشرون. وهي (¬4) خمسة أَتْسَاعِ الدَّارِ، ولمدعي الثُّلُثَيْنِ ثَلاثةُ أَسْهُمٍ من السدس الزَّائِدِ على النصف، [وسهمان من السدس الزائد على الثلث وثلاثة من الثُّلُثِ الباقي فالمَبْلَغُ ثَمَانِيَةٌ وهي تُسْعَا الدَّارِ، ولمدعى النصف] (¬5) سهمان من السُّدُسِ الزَّائِدِ على الثلث، وثَلاثَةٌ من الثُّلُثِ الباقي، فالمبلغ خَمْسَةٌ وهي تُسْعٌ ورُبُعُ تُسْعٍ، ولمدعي الثلث ثَلاثَةٌ من الثُّلُثِ الباقي لا غير. وإن قلنا: بالقُرْعَةِ، فَيُقْرَعُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ؛ مَرَّةً في السدس الزائد على النصف بين مُدَّعِي الكُلِّ ومُدَّعِي الثُّلُثَينِ، وأخرى في السُّدُس الزائد على الثلث بينهما وَبَيْنَ مُدَّعِي النِّصْفِ، وأخْرَى في الثلث بين الأَرْبَعَةِ. وإن قلنا بالوَقفِ تَوَقَّفْنَا، وإن كانت الدَّارُ في يد المُتَدَاعِيينَ الأربعة، وأقام كُلُّ واحد بَيِّنَةً، جُعِلَتِ الدَّارُ بينهم أَرْبَاعاً؛ لأن بَيِّنَةَ كُلِّ واحد تُرجَّحُ في الرُّبُعِ الذي في يَدِهِ باليد. وإن لم تكن بَيِّنَةٌ، فالقول قَوْلُ كل واحدٍ منهما (¬6) في الرُّبُعِ الذي في يَدِهِ. فإذا حَلَفُوا، كانت بينهم أَرْبَاعاً أيضاً. الرابع: دَارٌ في يَدِ ثلاثة؛ ادَّعَى أحدهم نِصْفَهَا، والثاني ثُلُثَهَا، والثالث سُدُسَهَا، ¬
ولا بَيِّنَةَ، تُجْعَلُ بينهم أَثْلاَثاً. نصَّ عليه في "المختصر" (¬1)، واعْتُرِضَ عليه بأن مُدَّعِي السُّدُسِ، لا يَدَّعِي إلا السُّدُسَ، فكيف تجعل له الثلث؟ وأجاب الأَصْحَابُ بأن صُورَةَ مَسْألَةِ النص، ما إذا كان يَدَّعِي كل واحد منهم اسْتِحْقَاقَ اليَدِ في جميعها، إلا أن يكون الأَوَّلُ يقول: النِّصْفُ مِلْكِي، والنِّصْفُ [الآخر] (¬2) لفلان الغَائِبِ، وهو في يَدِي عَارِيَةٌ، أو وَدِيعَةٌ. والآخران يقولان نحو ذلك، فكل (¬3) واحِدٍ منهم يُجْعَلُ صَاحِبَ يَدٍ في الثُّلُثِ، وتَبْقَى الدَّارُ في أيديهم، كما كانت، ثم يُجْعَلُ بعض (¬4) الثُّلُثِ الذي هو في يَدِ مُدَّعِي السُّدُس، لذلك الغَائِبِ، بحكم الإقرار (¬5). فأما إذا اقتَصَرَ كُلُّ وَاحِدٍ منهما على أن لي منها كذا، فلا يُجْعَلُ لمدعي السُّدُسِ إلا السدس، ولا يَتَحَقَّقُ بينهم (¬6) والحالة هذه، تَنَازُعٌ وتَنَاكُرٌ. وهذا التَّصْوِيرُ وإن أَزَاحَ الاعْتِرَاضَ المَذْكُورَ، ففيه إِشْكَالٌ آخر؛ وذلك أن مُدَّعِي النِّصْفِ، ومُدَّعِي الثلث، ليس في يَدِهِمَا إلا ما يَدَّعِيَانِهِ. فقدلهما: أن البَاقِيَ لفلان الغَائِب، ليس إِقْرَاراً، ولكنه دَعْوَى لِلْغَائِب؛ فيحتاج إلى وِكَالَةٍ من جهته، فإذا لم يَتَعَرَّضَا لِلْوِكَالَةِ، أو لم يُثْبِتَاهَا، أَشْبَهَ أن يقال: الحُكْمُ كما لو اقتصر (¬7) كل وَاحِدٍ منهما على أن لي كذا. وإن أَقَامَ كُلُّ واحد منهم بَيِّنَةً على ما يَدَّعِيهِ لنفسه، فَيُحْكَمُ لمدعي الثلث بالثلث؛ لأن له فيه بَيِّنَةً ويدًا ولمدعي السدس بالسدس لمثل ذلك، وبما يُحْكَمُ لمدعي النِّصْفِ فيه وجهان: أحدهما: النصف؛ لأن له في الثُّلُثِ يَدًا وَبَيِّنَةً، وفي السُّدُسِ الباقي بَيِّنَةٌ، والآخران لا يَدَّعِيَانِهِ. والثاني: يُحْكَمُ له بالثُّلُثِ ونِصْفُ السدس؛ لأن السُّدُسَ الزَّائِدَ على ما في يَدِهِ لا يَدَّعِيهِ على مُدَّعِي السدس خَاصَّةً، إنما يَدَّعِيهِ شائعاً (¬8) في بَقِيَّةِ الدَّارِ. وهي في يدهما جَمِيعاً، ولذلك يَسْتَحْلِفُهُمَا لو لم تكن بَيِّنَةٌ، وإن كان السُّدُسُ مدعى (¬9) على الشُّيُوعِ؛ فنصفه المُدَّعَى على مُدَّعِي [الثلث عَارَضَتْ فيه بَيِّنَتُهُ بَيِّنَةَ مُدَّعِي النصف، وتَرَجَّحَتْ باليَدِ، ونِصْفُهُ المدعى على مدعي] (¬10) السدس، يُحْكمُ به لِمُدَّعِي النِّصْفِ [بَيِّنَتِهِ؛ لأن ¬
بَيِّنَةَ مُدَّعِي السدس لا تُعَارِضُهَا، فَيَحْصُلُ لمدعي النِّصْف] (¬1) ثُلُثٌ، ونِصْفُ سُدُسٍ. ولمدعي الثلث ثلث، والباقي يقولون: لمدعي السُّدُسِ سُدُسٌ، ونصف، والَّلائِقُ بالتَّصْوِيرِ المَذْكُورِ أن يقال: ويَبْقَى في يَدِ مُدَّعِي السُّدُسِ سُدُسٌ ونصف، وهذا الوَجْهُ الثاني قَرِيبٌ من الطَّبْع، لكن بالأَوَّلِ أجاب القاضي ابْنُ كَجٍّ، وهو المَحْكِيُّ عن القَفَّالِ، وذكر الروياني: أنَّه المَذْهَبُ. وأجرى أبو الفَرَجِ البزّازُ الوَجْهَيْنِ في أن المدعي في السُّدُس الزائد على مدى السدس وَحْدَهُ، أو عليهما جَمِيعاً. واعْلَمْ أن مُدَّعِي الثلث ومدعي السدس، لا يحتاجان (¬2) إلى إِقَامَةِ البَيِّنَةِ في الابْتِدَاءِ، ولكن مُدَّعِي النِّصْفِ يَحْتَاجُ إلى إِقَامَةِ البَيِّنَةِ؛ للسدس (¬3) الزَّائد على ما في يَدِهِ، فَلْيُصَوَّرْ إِقَامَةُ البَيِّنَةِ من جهَتِهِمْ، فيما إذا أَقَامَ مُدَّعِي النِّصْفِ أَوَّلاً، ثم أقام الآخَرَانِ على نحو ما ذَكَرْنَا في الفَرْعِ الأول. وإنه يجوز أن يُفْرَضَ من مُدَّعِي السُّدُسِ إِقَامَةُ البَينة على السُّدُسِ للغائب، مع إِقَامَةِ البينة على أن السدس له؛ بِنَاءً على أن المُدَّعَى عَلَيْهِ إذا أقر بما في يَدِهِ لغائب، يَجُوزُ له إِقَامَةُ البَيِّنَةِ على أنَّه لِلْغَائِبِ، وقد بيناه (¬4) من قَبْلُ. الخامس: دَارٌ في يَدِ ثلاثة: ادَّعَى أَحَدُهُمْ كُلَّهَا، والثاني نِصْفَهَا، والثالث ثُلُثَهَا؛ وأقام كُلُّ وَاحِدٍ من الأولين البَيِّنَةَ على ما ادَّعَى، دون الثالث، فلمدعي الكُلِّ الثلث، بالبَيِّنَةِ واليد، ولمُدَّعِي النصف كذلك، ولمدعي الكل نِصْفُ ما في يَدِ الثالث أيضاً بِبَيِّنَتِهِ السَّلِيمَةِ عن المعارض. وفي النصف الآخر تَتَعَارَضُ بَيِّنَتُهُ وبَيِّنَة مدعي النصف؛ فإن قلنا بالتَّسَاقُطِ؛ فالقول قَوْلُ الثالث في السدس، وفي بُطْلانِ البَيِّنَتَيْنِ. فيما عدا السُّدُسِ، بِنَاءً على تَبْعِيضِ الشهادة ما مَرَّ. وإن قلنا بالاستعمال، لم يَخْفَ التَّوَقُّفُ والإِقْرَاعُ. وإن قلنا: بالقِسْمَةِ، قُسِّمَ بينهما. فيحصل لمدعي الكُلِّ نِصْفٌ ونِصْفُ سُدُسٍ؛ ولمدعي النِّصْفِ ثُلُثٌ وَنِصْفُ سُدُسٍ. هكذا أورد المَسْأَلَةَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وغيره. وقد يُقَالُ: مدعي النصف لا يَدَّعِي السُّدُسَ الزَّائِدَ على ما في يَدِهِ على الثَّالِثِ خَاصَّةً، لكن يَدَّعِيهِ شَائِعاً على الآخرين معاً، فَنِصْفُ السُّدُس الذي يَدَّعِيهِ على مُدَّعِي الكُلِّ، يَنْدَفِعُ بِبَيِّنَةِ مُدَّعِي الكُلِّ ويده، والنِّصْفُ الآخَرُ الذي يَدَّعِيهِ على الثَّالِثِ هو الذي يَقَعُ فيه التَّعَارُضُ؛ وهو الذي يَنْبَغِي أن يُقَسَّمَ إذا قلنا بالقِسْمَةِ، والباقي مما في يَدِ الثَّالِثِ وهو الربع (¬5) يُسَلَّمُ لمدعي الكل ببينته (¬6). وعلى ¬
هذا فَالحَاصِلُ لمدعي الكل ثُلُثٌ، وربع، وربع سدس. ولمدعي النصف البَاقِي. قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَمَّا إِذَا وُجِدَ التَّرْجِيحُ فَمَدَارِكُ التَّرْجِيحِ ثَلاَثَةٌ المَدْرَكُ الأَوَّلُ قُوَّةُ الحُجَّةِ فَيُقَدَّمُ شَاهِدَانِ عَلَى شَاهِدٍ وَيَمِينٍ في أَصَحِّ القَوْلَيْنِ، فَلَوِ اقْتَرَنَتِ اليَدُ بِالحُجَّةِ الضَّعِيفَةِ فَوَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا:) أَنَّ اليَدَ أَوْلَى (والثَّانِي:) أنَّهُمَا يَتَعَادَلاَنِ، أَمَّا إِذَا كَانَ شُهُودُ أَحَدِهِمَا أكْثَرَ أَوْ أَعْدَلَ فَلاَ تَرْجِيحَ بِهِ فِي القَوْلِ الجَدِيدِ أَصْلاً بِخِلاَفِ الرِّوَايَةِ، وَكَذَا لاَ تَرْجِيحَ عَلَى رَجُلٍ وَأمْرَأتينِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القسم الثاني: إذا تَعَارَضَتِ البَيِّنَتَانِ، وهناك ما يُرَجِّحُ إحداهما، فَيُعْمَلُ بالرَّاجِحَةِ؛ وللترجيح (¬1) أسباب: منها: أن تُختَصَّ إِحْدَى البَيِّنَتَيْنِ بمزيد قُوَّةٍ، وفيه صور: إحداها: لو أقام أَحَدُهُمَا شَاهِدَيْنِ، والآخَرُ شَاهِداً، وحَلَفَ معه، فقولان: أحدهما: أنهما يَتَعَادَلاَنِ؛ لأن كُلَّ واحد منهما حُجَّةٌ كَافِيَةٌ في المال. وأصحهما: على ما ذكره الإِمَامُ، وصاحب الكتاب: يُرَجَّحُ الشَّاهِدَانِ؛ لأن شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ حُجَّةٌ بالإجْمَاعِ، والشاهد واليمين، مُخْتَلَفٌ فيه. وأيضاً فالَّذِي يَحْلِفُ مع شَاهِدِهِ يُصَدِّقُ نَفْسَهُ، والذي يقيم (¬2) شاهدين يُصَدِّقُهُ غيره؛ فهو أَقْوَى جَانِباً، وأَبْعَدُ عن التُّهْمَةِ. وعلى هذا فلو كانت اليَدُ مع صَاحِبِ الشَّاهِدِ واليَمِينِ، فوجهان: أحدهما: أن اليَدَ وقُوَّةَ الحُجَّةِ الأخرى يَتَقَابَلاَنِ. وأشبههما: أن جَانِبَ صَاحِبِ اليَدِ يُرَجَّحُ؛ لاعْتِضَادِهِ باليد المَحْسُوسَةِ. هكذا نَقَلَ الإِمَامُ وصَاحِبُ الكتاب، وحُكِيَ في "التهذيب" الخِلاَفُ في المسألة قولين، ولم يحل (¬3) التعادل، لكن قال: أَحَدُ القَوْلَينِ تَرْجِيحُ صَاحِبِ اليد. والثاني: تَرْجِيحُ الآخَرِ لِقُوَّةِ حُجَّتِهِ قال: ويمكن بنَاءُ القَوْلَيْنِ على أن صَاحِبَ اليد، هل يَحْلِفُ مع البَيِّنَةِ، أم لا؟ وسيأتي الخلاف فيه. إن قلنا: يَحْلِفُ، فيمينه كَشَاهِدٍ آخر، فَيُرَجَّحُ جَانِبُهُ باليد. وإن قلنا: لا يَحْلِفُ، فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الآخر؛ لأن جَانِبَ صَاحِب اليد على هذا إنما يرجح إذا انضمت اليَمِينُ إلى البَيِّنَةِ الكَامِلَةِ. ¬
الثانية: لو زاد عَدَدُ الشُّهُودِ في أَحَدِ الجانبين، فَنَصُّهُ -رضي الله عنه- في "المختصر": أنَّه لا تَرْجِيحَ. وعن القديم نقل (¬1) قَوْل فيه (¬2)، وللأصحاب -رحمهم الله-[فيه] (¬3) طريقتان: أشبههما، وهو المَذْكُورُ في الكتاب: أن المَسْأَلَةَ على قَوْلَيْنِ: الجديد: أنَّه لا ترجيح لكمال (¬4) الحجة من الطَّرَفَيْنِ، والقديم؛ ويُحْكَى عن مالك: أنَّه يُرَجَّحُ جَانِبُ من زَادَ عَدَدُ شُهُودِهِ؛ لأن القَلْبَ إلى قولهم أميل. والثاني: القَطْعُ بالقَوْلِ الأَوَّلِ، وحمل ما نُقِلَ عن القديم على حكاية مذهب الغَيْرِ. ولو اخْتَصَّتْ إحدى البَيِّنتَيْنِ بزيادة ورع، أو فِقْهٍ، جَرَى الطريقان. قال في "الوسيط": وعلى هذا الخِلاَفِ لو كان في أحد الجَانِبَينِ شَهَادَةُ أحد الخُلَفَاءِ الأربعة -رضي الله عنهم- وفي الرواية يَثْبُتُ الرُّجْحَانُ بهذه الأُمُور، وفَرَّقُوا بأن لِلشَّهَادَةِ نِصَاباً مُقَدَّراً، فيتبع. وليس للرواية ضَبْطٌ فمنهم من رجح بأغلب الظَّنَّيْنِ. ومنهم من أَلْحَقَ الرواية بالشَّهَادَةِ، والظاهر الأول. الثالثة: لو أقام أَحَدُهُمَا رَجُلَيْنِ، والآخر رَجُلاً وامْرَأتَينِ، فالمَشْهُورُ أنَّه لا تَرْجِيحَ لقيام الحُجَّةِ، وكُلُّ واحد منهما بالاتِّفَاقِ. وعن المَاسَرْجَسِيِّ رِوَايَةُ قَوْلٍ آخَرَ، وهو تَرْجِيحُ الرجلين؛ لزيادة الوُثُوقِ بقولهما. ولذلك يَثْبُتُ بقول رَجُلَيْنِ، ما لا يَثْبُتُ بقول رَجُلٍ وامرأتين. ونقل الفوراني مِثْلَ ذلك أيضاً. ويجوز أن يُعَلَّمَ قوله في الكتاب: "ولا ترجيح به" بالميم. وقوله: "في القَوْلِ الجديد" بالواو، لِطَرِيقَةِ من نَفَى الخِلاَفَ. وقوله: "فخلاف الرواية" بالواو؛ للوجه المَذْكُورِ فيها (¬5). وقوله: "وكذا لا يُرَجَّحُ رَجُلاَنِ على رجل وامرأتين"، أراد (¬6) على أحد القولين على ما بَيِّنَهُ في "الوسيط". ولم يُرِدِ القَطْعَ بعدم التَّرْجِيحِ. ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: المَدْرَكُ الثَّانِي: اليَدُ فَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ عَلَى بَيِّنَةِ الخَارجِ وَلَكِنْ إِذَا أَقَامَهَا بَعْدَ بَيِّنَةِ الخَارجِ، وَلَوْ أَرَادَ إقَامَتَهَا قَبْلَ دَعْوَى مُدَّعِي التَّسْجِيلِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ أقَامَ بَعْدَ الدَّعْوَى لإسْقَاطِ اليَمِينِ فَالظَّاهِرُ أنَّهُ لاَ يَجُوزُ، وَلَوْ أَقَامَ بَعْدَ بَيِّنَةِ الخَارجِ وَقَبْلَ التَّعْدِيلِ فوَجْهَانِ، أَمَّا إِذَا أَقَامَ بَعْدَ إزَالَةِ يَدِهِ بَيِّنَةِ الخَارجِ أَوْ ادَّعَى مِلْكاً سَابِقاً فَهَلْ يُقَدَّمُ بِسَبَبِ يَدِهِ الَّتِي سَبَقَ القَضَاءُ بِإزَالَتِهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ،. وَلَوْ أَقَامَ بَعْدَ القَضَاءِ وَقَبْل التَّسْلِيمِ فَوَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلَى بِأَنْ يُقَدَّمَ، ثُمَّ إِذَا قَدَّمْنَا بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ فَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى أن يَحْلِفَ مَعَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَقِيلَ: إنَّهُ لاَ يَسْتَعْمِل بَيِّنَتَهُ إلاَّ فِي إسْقَاطِ بَيِّنَةِ الخَارجِ فَيَبْقَى عَلَيْهِ اليَمِينُ كَمَا كَانَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ومن أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ: اليَدُ، فإذا ادَّعَى عَبْناً في يَدِ غَيْرِهِ، وأقام البَيِّنَةَ على أنها مِلْكُهُ، وأقام مَنْ هي في يَدِهِ بَيِّنَةً أنها مِلْكُهُ، تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ، وتُرَجَّحُ على بَيِّنَةِ الخارج (¬1). وبه قال مَالِكٌ. وقال أبو حنيفة لا تُسْمَعُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ اليد، ولا يُحْكَمُ بها إلا في ثَلاَثِ صور: إحداها: دَعْوَى النِّتَاجِ وهو أن يَتَنَازَعَا [دَابَّةً، وَأَقَامَ كُلُّ واحد بَيِّنَةٌ على أنها مِلْكُهُ هو نَتَجَهَا. والثانية: أن يَتَنَازَعَا] (¬2) ثوباً لا يُنْسَجُ إلا مرة، وأقام كُلُّ وَاحِدٍ منهما بَيِّنَةً [على] (¬3) أنَّه مِلْكُهُ، هو نَسَجَهُ، ومن المَنْسُوجَاتِ ما يُنْسَجُ أَكْثَرَ من مَرَّةٍ، كالخَزِّ والنسيج. والثالثة: أن يُسْنَدَ المِلْكُ إلى شَخْصٍ واحد؛ بأن أَقَامَ كُلُّ واحد منهما البَيِّنَةَ على ¬
أنه اشْتَرَى من زَيْدٍ أو اتَّهَبَ. ففي هذه الصُّوَرِ سَاعدنا على أنَّه تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الداخل، ويُحْكَمُ بها. وعن أحمد ثَلاَثُ روايات: إحداها كمذهبنا. والأخرى كمذهب أبي حَنِيْفَةَ، إلا أنَّه لم يُفَرِّقْ في بَيِّنَةِ النَّسِيجِ بين ما لا يُنْسَجُ إلا مَرَّةً، وبين غيره. وأظهرهما: أنَّه لا تُسْمَعُ بَيِّنةُ الداخل، ولا يُحْكَمُ بها على الإطلاق. واحتج الأصحاب على أبي حَنِيْفَةَ بالقِيَاسِ على ما سَلَّمَهُ، وبأنهما تَسَاوَيا في البَيِّنَةِ. وانفرد صاحب اليَدِ باليد، فَحُكِمَ له، كما لو انْفَرَدَ باليد ولا بَيِّنَةَ. وعلى أحمد بما روِيَ أن رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا دَابَّةً، وأقام كل واحد منهما بَيِّنَةً أنها دَابَّتُهُ نَتَجَهَا، فقضى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للذي هي في يَدِهِ. وهل يُشْتَرَطُ في سَمَاعِ بَيِّنَةِ الداخل أن يُبَيَّنَ سَبَبَ المِلْكِ، من شراء، أو إِرْثٍ، أو غيرهما؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنهم ربما اعْتَمَدُوا ظَاهِرَ اليد. وأصحهما: أنها تُسْمَعُ وإن كانت مُطْلَقَةً كَبَيِّنَةِ الخَارج، فإنها تُقْبَلُ مُطْلَقَةً، مع احتمال أن الشُّهُودَ اعْتَمَدُوا يَداً سَابِقَةً، ولا فَرْقَ في تَرْجِيح بَيِّنَةِ الداخل، أن يبين الخارج والداخل سَبَبَ المِلْكِ، وبين أن يُطْلِقَا. وكذا لا فَرْقَ بين إِسْنَادِ البَيِّنَتَيْنِ، وإطلاقهما، إذا سمعنا بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ مع الإِطْلاَقِ. وإذا وقع التَّعَرُّضُ للسبب؛ فلا فَرْقَ أن يَتَّفِقَ السَّبَبَانِ، أو يَختَلِفَا، ولا بين أَن يُسْنَدَ المِلْكُ إلى شَخْصٍ واحد؛ بأن يقول: هذا اشْتَرَيتُهُ من زيد، وهذا مِثْلُ ذلك. أو تقول المَرْأَةُ وهي أَحَدُ المُتَدَاعيين: أصْدَقَنِيهِ زَوْجِي. ويقول خَصْمُهَا: اشتريتها من زَوْجِكِ. وبين أن يُسْنِدَ أحدهما إلى شَخْصٍ، والآخَرُ إلى آخر. وحكى الفوراني وَجْهاً: أنَّه إذا أَقَامَ كل واحد منهما البَيِّنَةَ على الانْتِقَالِ من شخص معين يَتَسَاوَيانِ؛ لأنهما اتَّفَقَا على أن اليَدَ كانت لِثَالِثٍ، وكل واحد منهما يَزْعُمُ الانْتِقَالَ إليه، ثم في الفَصْلِ مسألتان: إحداهما: في أن بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ متى تُسْمَعُ؟ ولها أحوال: إحداها: أن يقيمها قبل أن يُدَّعَى عليه شَيْءٌ، فظاهر المَذْهَبِ أنها لا تُسْمَعُ؛ فإن الحُجَّةُ إنما تُقَامُ على شَخْصٍ، فإذا لم يكن خَصْمٌ، فلا حَاجَةَ إلى حُجَّةٍ. وفيه وجه: أنها تُسْمَعُ؛ بغرض التَّسْجِيلِ. والثانية: أن يُقِيمَهَا بَعْدَ الدعوى، وقبل أن يُقِيمَ المدعي البَيِّنَةَ؛ فإن سَمِعْنَا في الحالة الأولى، فهاهنا أَوْلَى. وإلاَّ فوجهان:
أظهرهما: أنها لا تُسْمَعُ أيضاً؛ لأن الأَصْلَ في جانبه اليَمِينُ، فلا معدل (¬1) عنها ما دَامَتْ يكتفي (¬2) بها. وعن ابن سُرَيْجٍ: أنها تُسْمَعُ؛ ليُسْقِطَ اليَمِينَ عن نَفْسِهِ، كالمُودِع تُسْمَعُ البَيِّنَة منه على الرَّدِّ والتَّلَفِ، وإن كانت يَمِينُهُ كافية. الثالثة: أن يقيمها بعد أن أَقَامَ الخَارجُ البَيِّنَةَ، ولكن قبل أن يعدل، فإن سمعنا في الحالة الثانية، فهاهنا أَوْلَى. وإلا فوجهان: أحدهما: لا تُسْمَعُ؛ لأنه مُسْتَغْنٍ عنها بعد. وأصحهما: أنها تُسْمَعُ، ويُحْكَمُ بها؛ لأن يَدَهُ بعد إِقَامَةِ البَيَّنَةِ مُشْرِفَةٌ على الزوال، فَتَمسُّ الحَاجَةُ إلى تأكيدها، ودَفْعِ الطَّاعِنِ فيها. الرابعة: إذا أَقَامَهَا بعد بَيِّنَةِ المدعي، وتَعْدِيلِهَا، فقد أَقَامَهَا في أَوَانِ إقامتها، وإن لم يُقِمْهَا حتى قَضَى القَاضِي للمدعي، وسَلَّم المَالَ إليه؛ فإن لم يُسْنَدِ المِلْكُ إلى الأوَّلِ، فهو الآن مُدَّعٍ خارج. وإن ادَّعَى مِلْكاً مُسْتَنِداً إلى ما قبل إِزَالَةِ اليَدِ، واعْتَذَرَ بِغَيْبَةِ الشهود ونحوها، فهل تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ؟ وهل تقدم باليد (¬3) المزالة بالقَضَاءِ؟ فيه وجهان: أحدهما: المنع؛ لأن تلك اليَدَ مَقْضِيٌّ بزوالها [وبطلان حكمها] (¬4) فلا ينقض القَضَاء. وأصحُّهما: أن بَيِّنَتَهُ مَسْمَوعَةٌ كبينة حتى يُقِيمَهَا بعدما قَضَى القاضي للمدعي، ويُنْقَضُ القَضَاءُ الأول؛ لأنه إنما أزيلت لعدم الحُجَّةِ، وقد قامت الحُجَّةُ الآن. وإن أقام البَيِّنَةَ بعد القضاء للمُدَّعِي، وقبل الانْتِزَاعِ والتسليم إلى المدعي، فوجهان: مرتبان وأَوْلَى بأن تَسْمَعَ بَيِّنَتُهُ، ويقدم جانبه لبقاء اليد حساً (¬5). وإلى الوَجْهِ الآخر ذَهَبَ القاضي الحُسَيْنُ، فإن أبا سعد الهَرَوِيُّ قال: قال القاضي الحسين: أُشْكِلَتْ عَلَيَّ هذه المَسْأَلَةُ نَيِّفًا وعشرين سَنَةً؛ لما فيها من نَقْضِ الاجْتِهَادِ [بالاجتهاد] (¬6)، وتَرَدَّدَ جوابي فيها؛ فذكرت مَرَّةً: أنَّه إن تَأَكَّدَ الحُكْمُ بالتسليم، لم ¬
يُنْقَضْ، وإن لم يَتَأكَّدْ، فوجهان: ثم اسْتَقَرَّ رَأْيي على أنَّه لا يُنْقَضُ، سواء كان قبل التَّسْلِيمِ، أو بعده. المسألة الثانية: هل يَحْلِفُ الدَّاخِلُ مع بَيِّنَتِهِ ليُقْضَى له (¬1) فيه وجهان أو قولان: أصحهما، ويُحْكَى عن نَصِّهِ -رضي الله عنه- في القديم: أنَّه لا يَحْلِفُ، كما لا يحلف الخَارجُ مع البَيِّنَةِ، وهذا ما حُكِي عن أبي حَنيفَةَ؛ حيث قال: يُقْضَى للداخل. والثاني: يحلف لاحْتِمَالِ أن الشُّهُودَ شَهِدُوا بظاهر اليَدِ وبنوا (¬2) هذا الخِلاَفَ على أن القَضَاءَ للدَّاخِلِ باليَدِ، أم بالبينة المُرَجّحة باليد، أحد المأخذين؛ أن القَضَاءَ باليد؛ لأن البَيِّنَتَيْنِ إذا تَعَارَضَتَا تَسَاقَطَتَا، وصار كأنه لا بَيِّنَةَ، فعلى هذا لا بُدَّ من اليمين. والثاني: أن القَضَاءَ بالبَيِّنَةِ، وأنها (¬3) تَرَجَّحَتْ باليَدِ، كما يَتَرَجَّحُ الدَّلِيلُ في الأحكام الشَّرْعِيَّةِ على مُعَارَضَة. وإنما تسقط البَيِّنَتَانِ إذا تَعَارَضَتَا بلا تَرْجِيحٍ. فعلى هذا لا حَاجَةَ إلى اليمين. وقوله في الكتاب عَقِيبَ ذِكْرِ الوجهين. "وقيل: إنه لا يَسْتَعْمِلُ بَيِّنَتَهُ إلا في إِسْقَاطِ بَيِّنَةِ الخارج، فيبقى اليَمِينُ عليه، كما كان" يمكن حَمْلُهُ على طريقة جازمة بالتَّحْلِيفِ؛ بِنَاءً على ما ذكر في "الوسيط"؛ أن الأَصْحَابَ -رحمهم الله- اخْتَلَفُوا في أن بَيِّنَتَي الداخل والخارج يَتَهَاتَرَانِ، أو تتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ الدَّاخل باليَدِ، وإن قلنا بالأَوَّلِ؛ فلا بد من التَّحْلِيفِ. وإن قُلْنَا بالثاني، ففي التَّحْلِيفِ وجهان يَقْرُبَانِ من الخلاف في التَّحْلِيفِ. وإذا قلنا بالقُرْعَةِ وتَرَجَّحَتْ إحدى البَيِّنَتَينِ بها. وإن قدرنا ما (¬4) ذكره تَوْجِيهاً لأحد الوَجْهَيْنِ وهو التَّحْلِيفُ، وتعبيراً عن مَأْخَذِ التَّهَاتُرِ، لا طريقة أخرى [فليقرأ] (¬5) قبيل بالياء. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَرْعَانِ: الأَوَّلُ: الدَّاخِلُ إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ البيِّنةُ فَادَّعَى الشِّرَاءَ مِنَ المُدَّعِي أَوْ ثَبَتَ الدَّيْنُ فَادَّعَى الإبْرَاءَ، فَإنْ كَانَتِ البَيِّنةُ حَاضِرَةً سُمِعَتْ قَبْلَ إزَالَةَ اليَدِ وَتَوْفِيَةِ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً طُولِبَ فِي الوَقْتِ بالتَّسْلِيمِ، ثُمَّ إِذَا أَقَامَ اسْتَرَدَّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا أطلق الخَارجُ دَعْوَى المِلْكِ، وأقام عليه البَيِّنَةَ. [وقال الداخل: هو ملكي اشتريته منك، وأقام عليه البينة] (¬6) فالداخل أولى؛ لأن مع بينته زَيادَةُ عِلْمٍ؛ وهي الانْتِقَالُ الحَادِثُ، ولأن الدَّاخِلَ مقدم (¬7) عند إطْلاَقِهِمَا الدَّعْوَى ¬
والبينة، فإذا قُيِّدَ، كان أَوْلَى بالتقديم. ولو قال الخارج: هو مِلْكِي وَرِثْتُهُ من أبي، وقال الدَّاخِلُ: هو مِلْكِي اشْتَرَيتُهُ من أبيك، فكذلك الحكم. ولو انعكست (¬1) الصورة؛ فقال الخارج: هو مِلْكِي اشْتَرَيْتُهُ منك، وأقام عليه بَيَّنةً، وأقام الداخل بَيِّنَةً [على] (¬2) أنَّه مِلْكُهُ، فالخارج أَوْلَى؛ لزيادة علم بينته (¬3) (¬4). ولو قال كل واحد [منهما] (¬5) لصاحبه: اشتريته منك، وأَقَامَ عليه بَيّنَةً، وخَفِيَ التَّارِيخُ، فصَاحِبُ اليَدِ أَوْلَى. حكاه القاضي الرُّوياني وغيره. وعن أبي حَنِيْفَةَ: مُسَاعَدَتُنَا في هذه الصُّورَةِ إذا عرف ذلك، ففي الصُّورَةِ الأولى وهي أن يُطْلق الخارج، ويقول الدَّاخِل: اشْتَرَيْتُهُ منك لا تُزَالُ يده قبل إِقَامَةِ البَيِّنَةِ. وعن القاضي الحُسَيْنِ: أنها تُزَالُ، ويُؤْمَرُ بالتسليم إلى المُدَّعِي؛ لاعْتِرَافِهِ بأنه كان له، ثم يثبت ما يَدَّعِيهِ من الشراء. الظَّاهِرُ الأول؛ لأن البَيِّنَةَ إذا كانت حَاضِرَةً، فالتَّأَخُّرُ إلى إِقَامَتِهَا سهل. فلا مَعْنَى للانْتِزَاعِ، والرد. نعم، لو زعم أن بَيِّنَتَهُ غائبة (¬6)؛ فلا يَتَوَقَّفُ، بل يُؤمَرُ في الحال بالتَّسلِيمِ، ثم إن أَثْبَتَ ما يدعيه، اسْتردّ، [ويجري الخِلاَفُ فيما إذا ادَّعَى دَيْناً، فقال المدعى عليه: أَبْرَأَنِي، وأراد إِقَامَةَ البَيِّنَةِ، لا يُكَلَّفُ تَوْفِيَة الدَّيْنِ على قول الأكثرين. وعلى ما ذكر القاضي يُكَلَّفُ، إذا ثَبَتَ ما يقوله استردَّ] (¬7) وهذا كما ذُكِرَ في أول كتاب الدعاوى: أنَّه لو قال: أَبْرَأَنِي، فَحَلَّفُوهُ، يَحْلِفُ قبل أن يُسْتَوْفَى. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِي: مَنْ أَقَرَّ لِغَيْرهِ بِمِلْكٍ لَمْ تُسْمَعْ بَعْدَ دَعْوَاهُ حَتَّى يَدَّعِيَ تَلَقِّيَ المِلْكِ مِنَ المُقَرِّ لَهُ، وَلَوْ أَخَذَ مِنْهُ بِحُجَّةٍ فَهَلْ يَحْتَاجُ بَعْدَهُ فِي الدَّعْوَى إلَى ذِكْرِ التَّلَقِّي مِنْهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَالأَجْنَبِيُّ لاَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ إِذِ البَيِّنَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ فَلَهُ دَعْوَى المِلْكِ مُطْلَقاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من أَقَرَّ بعَيْنٍ لإنسان، ثم ادَّعَاهَا، لم تُسْمَعْ دَعْوَاهُ، إلا أن يذكر ¬
فروع
تَلَقِّيَ المِلْكِ عنه، وذلك لأن المُقرَّ مُؤَاخَذٌ بِإقْرَارِهِ في المستقبل. ألا ترى أن من أَقَرَّ أَمْس يُطَالَبُ به اليَوْمَ؟ ولولا ذلك، لم يكن في الإِقْرَارِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ. وإذا كان كذلك، فَيُسْتَصْحَبُ ما أَقَرَّ به، إلى أن يثبت الانْتِقَالُ. ومن أُخذَتْ منه بينة قامت، ثم جاء يَدَّعِيهَا، فهل يحتاج إلى ذِكْرِ التَّلَقِّي منه؟ فيه وجهان: وجه قولنا: نعم، إنه صار مُلْزَماً بتلك الحُجَّةِ، فَيُؤَاخَذُ بموجبها، كما لو أَقَرَّ. ووجه الثَّانِي: إِلْحَاقُهُ بالأَجَانِب، ولا خِلاَفَ أنَّه لو ادَّعَى عليه أَجْنَبيٌّ وأَطْلَقَ يُسْمَعُ. وما الأَظْهَرُ من هذين الوجهين؟؟ ذَكَرَ بَعْضُ أصحاب الإِمام ذَهَابَ الأَكثرين إلى أنَّه لاَ بُدَّ من ذكر التَّلَقِّي، لكنا حَكَيْنَا عن الأصحاب -رحمهم الله-: في أحوال، إِقَامَة الداخل البَيِّنة أنَّه لو أقامها بَعْدَ ما انْتُزِعَتِ العَيْنُ منه، هل تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ؟ وهل يُقْضَى له؟ وبَيَّنَّا أن الأَصَحَّ، السَّمَاعُ، والقَضَاءُ، وذلك الاختِلاَفُ مَفْرُوضٌ فيما إذا أَطْلَقَ دعوى المِلْكِ، ولم يذكر التَّلَقِّي. فأما إذا ادَّعَى التَّلَقِّي، فلا بد أن تسمع دعواه، وقد صَرَّحَ به أبُو الحَسَنِ العبادي. وإذا كان الاخْتِلاَفُ في إطْلاَقِ الدَّعْوَى، ورجَّحْنَا وَجْه السَّمَاع، لَزِمَ أن يكون الرَّاجِحُ هاهنا أنَّه لا حَاجَةَ إلى ذِكْرِ التَّلَقِّي. فروع: أكثرها عن ابْنِ سُرَيْجٍ: أقام الخَارجُ بَيِّنَةً على أن هذه العَيْنَ مِلْكِي، غَصَبَهَا منى الدَّاخِلُ. أو قال: أَجَّرْتُهَا منه، أو أَوْدَعْتُهَا إياه، وأقام الداخل بَيِّنَةً على أنَّه مِلْكهُ، فَأَحَدُ الوجهين: أنَّه يُقْضَى لصاحب اليد. هذا ما صَحَّحَهُ صاحب "التهذيب". والثاني: وهو المَنْقُولُ عن ابن سُرَيْجٍ: أنَّه يُقْضَى للخارج. وهذا ما ارْتَضَاهُ العراقيون، وبه أجاب القاضي أبو سَعْدٍ. ولو لم تكن بَيِّنَةٌ، ونَكَلَ الدَّاخِلُ عن اليمين، فَرُدَّتْ على الخارج، وحُكِمَ له، ثم جاء المُدَّعَى عليه ببَيِّنَةٍ، تُسْمَعُ. كما لو أَقَامَهَا بعد بَيِّنَةِ المدعي. وفيه وجه: أنها لا تُسْمَعُ، بِنَاءً على أن النُّكُولَ، وَردَّ اليمين، كالإقرار (¬1). ¬
ولو تَنَازَعَا شَاةً مَذْبُوحَةً؛ في يد أحدهما رَأْسُهَا وجلدها وسَوَاقِطُهَا، وفي يد الآخر باقِيها، وأَقَامَ كل واحد منهما بَيِّنَةً على أن الشَّاةَ له، يُقْضَى له بما في يَدِهِ. وعند أبي حَنِيْفَةَ: يُقْضَى له بما في يَدِ صَاحِبهِ، بِنَاءً على أن بَيِّنَةَ الخارج مقدمة. ولو قالت (¬1) كل بَيِّنَةٍ: الشاة [له] (¬2)، نَتَجَتْ في مِلْكِهِ، وذُبِحَتْ في ملكه، قُضيَ لكل وَاحِدٍ منهما بما في يَدِهِ بالاتِّفَاقِ؛ لأن البَيِّنَةَ قد تَعَرَّضَتْ لِلنِّتاجِ، فَيُقَدَّمُ الدَّاخِلُ. ولو كانت في يَدِ كُلِّ واحد منهما شَاةٌ، فادَّعَى كُلُّ واحد؛ أن الشَّاتَيْنِ له، وأن التي في يَدِ صاحبه نَتَجَتْ من التي في يَدِهِ، وأَقَامَا عليه البَيِّنَةَ، فهما مُتَعَارِضَتَانِ؛ فلكل وَاحِدٍ منهما التي في يده؛ لاعْتِضَادِ بَيِّنَتِهِ بيده. وإن أقام كُلُّ واحد منهما البَيِّنَةَ على أن التي في يَدِ الآخر مِلْكُهُ، قُضِيَ لكل وَاحِدٍ منهما بما في يَدِ الآخر. قَالَ الْغَزَالِيُّ: المَدْرَكُ الثَّالِثُ: اشْتِمَالُ إحْدَى البَيِّنَتَيْنِ عَلَى زِيَادةٍ وَهِيَ أَقْسَامٌ: الأَوَّلُ زِيَادَةُ التَّارِيخِ فَإذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أَنهُ مُلْكَهُ مُنْذُ سَنَةٍ وَالأُخْرَى مُنْذُ سَنَتَيْنِ فَفِي تَقْدِيمِ السَّابِقِ قَوْلاَنِ، وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا مُطْلَقَةً وَالأُخْرَى مُؤَرَّخَةً أَوْ مُضَافَةً إلَى سَبَب مِنْ نِتَاجٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ زِرَاعَةٍ فَقَوْلاَنِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلَى بِأَنْ لاَ يُرَجَّحَ المُقَيَّدُ، فَإِنْ جَعَلْنَا لِلسَّبْقِ أَثَرَاً فَكَانَ السَّبْقُ في جَانِبٍ وَاليَدُ فِي جَانِبٍ قُدِّمَ اليَدُ عَلَى وَجْهٍ، وَالسَّبْقُ عَلَى وَجْهٍ، وَيَتَعَادَلاَنِ عَلَى وَجْهٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تَرْجَمَ هذا المَدْرَكَ بالزِّيَادَةِ في البَيِّنَةِ، وأراد اخْتِصَاصَ الشَّهَادَةِ، يَتَأيَّدُ بأصل أو بِزِيَادَةِ عِلْمٍ. والمَدْرَكُ الأول بِقُوَّةِ الحُجَّةِ، وأراد اخْتِصَاصَ الشُّهُودِ بصفة تفيد (¬3) زَيادَةَ الوُثُوقِ بقولهم. وفي ترتيب الكتاب من هاهنا إلى آخر الباب نَوْعُ اضطراب؛ فإنه قال وهي أقسام: الأول: زِيَادَةُ التَّارِيخ، ثم قال: الطَّرَفُ الثاني في العُقُودِ، والثالث في المَوْتِ، والرابع في العِتْقِ، والوَصِيَّةِ، وزيادة التَّارِيخِ تَدْخُلُ في العقود، كما تدخل في الأَمْلاَكِ المُطْلَقَةِ. ولا ينبغي أن تَدْخُلَ بعض أَقْسَام التقسيم في بعض، ويَنْتَظِمُ أن يُقَالَ: في أول الرُّكْنِ تَعَارُض البَيِّنَتَينِ، وقد تقع في الأَمْلاَكِ، وقد تَقَعُ في غيرها، كالعُقُودِ، والموت في الوصية. فهذه أَطْرَافٌ تحتاج إلى النَّظَرِ فيها. الأول، في الأَمْلاَكِ؛ فأما أن تَخْلُوَ البَيِّنَتَانِ المُتَعَارِضَتَانِ منها عن التَّرْجِيحِ، أو يكون هناك تَرْجِيحٌ. ¬
وللترجيح أَسْبَابٌ ثلاثة: ثالثها -اشْتِمَالُ إحدى البَيِّنَتَيْنِ على زَيادَةِ التَّارِيخِ، فيسلك التاريخ مَسْلَكَ المَقْصُودِ من رُكْنِ البَيِّنَةِ إلى آخر الباب في هذا التَّرْتيبِ. وَفِقْهُ الفصل: أنَّه إذا أَرَّخَتْ كُلُّ بَيِّنَةٍ المِلْكَ بتاريخ، نظر، إن تَوَافَقَ التَّارِيخَانِ، فلا تَرْجِيحَ، وإن اختلفا، كما إذا قَامَتْ بَيِّنَةُ هذا على أنَّه مَلَكَهُ منذ سَنَةٍ، وبَيِّنَةُ هذا على أنَّه مَلَكَهُ منذ سنتين، ففيه طريقان؛ المشهور منهما: أن في تَرْجِيح أَسْبَقِهِمَا تَارِيخاً (¬1) قولين: أحدهما: ويُحْكَى عن نَصِّهِ -رضي الله عنه- في البُوَيْطِيِّ: أنَّه لا تَرْجِيحَ؛ لأن مَنَاطَ الشَّهَادَةِ المِلْكُ في الحال. وقد اسْتَوَيا فيه، فَأشْبَهَ ما إذا كَانَتَا مُطْلَقَتَيْنِ، أو مُؤَرَّخَتَيْنِ بِتَارِيخٍ وَاحِدٍ. وثانيهما: ويُحْكَى عن رواية الرَّبِيع -وبه قال أبو حَنِيْفَةَ، واختاره المزني: أنَّه يُرَجَّحُ أَسْبَقُهُمَا تَارِيخاً؛ لأنها تثبت الملكَ في وقت لا تُعَارِضُهَا البَيِّنةُ الأُخْرَى فيه، وفي وقت تَعَارُضِهَا الأخرى يتساقطان في مَحَلِّ التَّعَارُضِ. وتثبت موجبها (¬2) فيما قبل مَحَلِّ التعارض. والأصل في الثابت دَوَامُهُ، وأَصَحُّ القولين، الأَوَّلُ عند القاضي ابن كَجٍّ وشِرْذِمَةٍ -رحمهم الله-. والثاني عند أَكْثَرِهِمْ؛ منهم الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ، وسالكو طريقته، وصَاحِبَا "المُهَذَّب"، و"التهذيب" -رحمهم الله وإِيِّانَا-. والطريق الثاني: نقل القاضي ابْنُ كَجٍّ عن ابن سُرَيْجٍ، وابن سلمة، وابن الوكيل؛ أَنهم قَطَعُوا بنفي التَّرْجِيحِ، ولم يُثْبِتُوا القَوْلَ الآخر، والمثبتون (¬3) للخلاف، طَرَدُوه في بَيِّنَتَي شخصين يَتَنَازَعَانِ في نِكَاحِ امرأة، وإذا أُرِّخَتَا بتاريخينِ مُخْتَلِفَيْنِ، وأيضاً فيما إذا ¬
تَعَرَّضَتَا مع اختِلاَفِ التَّارِيخ لسبب المِلْكِ، كما إذا أَقَامَ أحدهما بَيِّنَةً أنَّه اشْتَرَاهُ من زيد مُنْذُ سَنَةٍ، والآخر بَيِّنَةً علَى أنَّه اشْتَرَاهُ من عمرو منذ سنتين، ولو نَسَبَا العَقْدَيْنِ إلى شَخْصٍ وَاحِدٍ، فأقام هذا بَيِّنَةً على أنَّه اشْتَرَاهُ من زيد من سَنَةٍ، وهذا بَيِّنَةً على أنَّه اشْتَرَاهُ من زيد منذ سنتين. فالسَّابِقُ أَوْلَى لا مَحَالَةَ (¬1). وطَرَدُوهُ أيضاً، فيما إذا تَنَازَعَا أرضاً مَزْرُوعَةً فأقام (¬2) أحدهما بَيِّنَةً أنها أرْضُهُ زَرَعهَا، والآخر بَيِّنَةً أنها مِلْكهُ مُطْلَقاً؛ لأن البَيِّنَةَ التي تَشْهَدُ بالزَّرْعِ، تثبت المِلْكَ من وقت الزِّرَاعَةِ. هكذا ذكر صاحب "التهذيب" تَصْوِيراً، وتَوْجِيهاً. وفيه ما تبين (¬3) أن سَبْقَ التَّارِيخ لا يُشْتَرَطُ أن يكون بِزَمَانٍ مَعْلُومٍ، حتى لو قامت بَيِّنَةٌ على أنَّه مَلَكَهُ منذ سَنَةٍ، وأخرى على أنه مَلَكَهُ أكثر من سَنَةٍ؛ كان موضع الخلاف، فإن رَجَّحْنَا أَسْبَقَ البَيِّنَتَيْنِ تَارِيخاً قَضَيْنَا بها، ولصاحبها الأُجْرَةُ، والزِّيَادَاتُ الحَادِثَةُ من يومئذ، وإن لم نُرَجِّحْهَا، ففيها الخِلاَفُ السَّابِقُ في تَعَارُضِ البَيِّنَتَيْنِ. وإن كانت إحدى البَيِّنَتَينِ مُطلَقَةٌ، والأخرى مُؤَرَّخَةً، فمن قطع من مختلفي التَّاريخِ بأنه لا تَرْجِيحَ فههنا أَوْلَى، ومن أَثبَتَ الخِلاَفَ هناك تَحَزَّبُوا فمن طَارِدٍ للقولين هاهنا بوجه تَرْجِيح المُؤَرَّخَةِ (¬4)؛ بأنها تثبت المِلْكَ من وقت مُعَيَّنِ، والأخرى لا تَقْتَضِي إلا إِثْبَاتَ المِلْكِ الحال. والتَّسْوِيَةُ بينهما فإن المطلقة، كما لا تَقْتَضِي الإثْبَاتَ قبل الحَالَةِ الرَّاهِنَةِ لا تَنْفِيهِ أيضاً، ولَعَلَّهُ لو بحث عنها أثبت المِلْكَ قبل ذلك الوقت. ومِنْ قَاطِعِ بالتَّسْوَيةِ، وكيف فرض؟ فالظاهر التَّسْوَيةُ هاهنا. ثم احتج المُزَنِي للقول الذي اخْتَارَهُ: بأنهما لو تَنَازَعَا دَابَّةٌ؛ أقام أَحَدُهُمَا بَيِّنَةٌ على أنها مِلْكُهُ، والآخر بَيِّنَة أنها مِلْكُهُ، وهو الذي نَتَجَهَا، تُقَدَّمُ البيِّنةُ المتعرضة لِلنِّتَاجِ، واخْتَلَفَ الأَصْحَابُ. ولم يُسَلِّم له أكثرهم ما ادَّعَاهُ، وحكموا (¬5) بأن المَسْأَلَةَ على القولين. أو أَجْرَوْهُمَا في كل بَيِّنَتَيْنِ؛ أَطْلَقَتْ إحداهما [الملك] (¬6) ونَصَّتِ الأخرى على المِلْكِ، وسببه من الإرْثِ، والشِّرَاءِ، وغيرهما. ¬
ومنهم من سَلَّمَ له ما ذَكَرَهُ في صورة النِّتَاجِ، [وفَرَّقُوا بينها وبين بَيِّنَتَي المِلْكِ المطلق؛ بأن بينة النِّتَاجِ] (¬1) تُثْبِتُ ابْتِدَاءَ المِلْكِ له، والتي هي أَسْبَقُ تَارُيخاً لا تثبت ابتداء المِلْكِ. فهذا التَّوْجِيهُ يقتضي اطِّرَادَ الطريقتين فيما إذا تَنَازَعَا ثَمَرَةً، أو حِنْطَةَ، فشهدت بَيِّنَةٌ بأنها حَدَثَتْ من شجرته أو بذره. ولا يَقْتَضِي جَرَيَانَ الثَّاييَةِ فيما إذا تَعَرَّضَتْ إحداهما للشِّرَاءِ، وسائر الأسباب؛ فإنها لا تُوجِبُ ابتِدَاءَ المِلْكِ. واعْلَمْ أن المَسْأَلَةَ من أصلها مَفْرُوضَةٌ فيما إذا كان المُدَّعَى في يَدِ ثَالِثٍ. فأما إذا كان في يَدِ أحدهما وقامت بَيِّنَتَانِ مُخْتَلِفَتَا التَّاريِخِ، فإن كانت بَيِّنَةُ الداخل أَسْبَقَ تَارِيخاً، فهو المُقَدَّمُ لا مَحَالَةَ. وإن كانت بَيِّنَةُ الآخَرِ أسْبَقَ تاريخاً فإن لم نجعل سَبْقَ التَّاريخِ مُرَجِّحاً، فكذلك يُقَدَّمُ الداخل. وإن جَعَلْنَاهُ مُرَجّحاً، فثلاثة أوجه: أصحها: ترجيح اليد؛ لأن البَيِّنَتَيْنِ تَتَسَاوَيَانِ في إِثْبَاتِ المِلْكِ في الحال، فَيَتَسَاقَطَانِ فيه، ويَبْقَى من أَحَدِ الطرفين اليَدُ، ومن الآخر إِثْبَاتُ المِلْكِ السَّابِقِ. واليد أقوى من الشَّهَادَةِ على المِلْكِ السابق؛ ألا ترى أنها لا تُزَالُ بها؟ والثاني: تَرْجِيحُ السَّبْقِ؛ لأن مع أَحَدِهِمَا تَرْجِيحاً من جِهَةِ البَيَّنَةِ، وسع الثاني تَرْجِيحاً من جهة اليَدِ، والبَيِّنَةُ تَتَقَدَّمُ على اليَدِ، فكذلك التَّرْجِيحُ من جهة البَيِّنَةِ مقدم (¬2) على التَّرْجِيحِ من جهة اليَدِ. والثالث: أنهما يَتَسَاوَيانِ، لِتَعَارُضِ المَعْنيَيْنِ. وقوله في الكتاب: "ففي تَقْدِيم السَّابِقِ قَوْلاَنِ". يجوز أن يُعَلَّمَ لفظ القولين منه بالوَاوِ للطريقة القَاطِعَةِ. وقوله في تَعَارُضِ البَيِّنَتَيْنِ؛ المطلقة، والمؤرخة، والمطلقة، والمضافة إلى النتاج، والشراء: قولان مرتبان، وأَوْلَى بألاَّ يرجح المُقَيّد" القولان في المُطْلَقَةِ والمُؤَرَّخَةِ، وترتيبهما ظَاهِرٌ، وهذا الإيراد، وما ذكرناه من الطَّرِيقَتَيْنِ في هذه الصُّورَةِ، يرجعان إلى مَعْنَى وَاحِدٍ. وأما في المُطْلَقَةِ والمضافة إلى الشِّرَاءِ والنِّتَاجِ، فالتَّرْتِيبُ على ما ذكره. لم يَتَعَرَّضْ له الأصحاب -رحمهم الله-. وإن فُرِضَ تَرْتِيبٌ، فهو بالعَكْس فيما ذكره، ألا تَرَى أن في صُورَةِ النِّتَاج طَرِيقَةٌ قَاطِعَةٌ بالتقديم (¬3)؟ فليحمل قوله: "وأَوْلَى بأن لا ترجيح للمقيد" (¬4) على المُقَيَّدِ بزِيَادَةِ التَّارِيخِ دون المُقَيَّدِ بالإضافة إلى السَّبَبِ. ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: فُرُوعٌ: الأَوَّلُ: لَوْ شَهِدَتِ البَيِّنَةُ بِمِلْكِهِ بِالأَمْسِ وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِلحَالِ لَمْ تُسْمَعْ حَتَّى يَقُولَ: هُوَ مِلْكهُ فِي الحَال أَوْ لاَ أَعْلَمُ لَهُ مُزِيلاً، فَإنْ قَالَ: لاَ أَدْرِي زَالَ أَمْ لاَ لَمْ يُقْبَلْ، وَإِنْ قَالَ: أَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَلَكَهُ بِمُجَرَّدِ الاسْتِصْحَابِ فَفِي قَبُولِهِ خِلاَفٌ، أَمَّا لَوْ شَهِدَ بِأنَّهُ أَقَرَّ لَه بِالأَمْسِ ثَبَتَ الإِقْرَارُ وَيُسْتَصْحَبُ مُوجِبُ الإِقْرَارِ وإنْ لَمْ يَتَعَرَّضِ الشَّاهِدُ لِلْمِلْكِ فِي الحَالِ، وَلَوْ قَالَ المُدَّعَى عَلَيْهِ: كَانَ مِلْكَكَ بِالأَمْسِ فَالظَّاهِرُ أنَّهُ يُنْتَزَعُ مِنْ يَدِهِ لأنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ تَحْقِيقٍ فَيُسْتَصْحَبُ بِخِلاَف الشَّاهِدِ فإنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ تَخْمِينٍ حَتَّى لَوْ قَالَ الشَّاهِدُ: هُوَ مِلْكُهُ بِالأَمْسِ اشْتَرَاهُ مِنَ المُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ أَقَرَّ لَهُ المُدَّعَى عَلَيْهِ بِالأَمْسِ فَيُسْمَعُ فِي الحَالِ؛ لأَنَّهُ اسْتَنَدَ إلَى تَحْقِيقٍ، وَلاَ خِلاَف أنَّهُ لَوْ شَهِدَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ في يَدِ المُدَّعِي بِالأَمْسِ قُبِلَ وَجُعِلَ المُدَّعِي صاحِبَ يَدٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا ادَّعَى دَاراً، أو عَبْداً في يدي رجل، فَشَهِدَتْ له البَيِّنَة بالمِلْكِ في الشَّهْرِ الماضي، أو بالأَمْسِ، ولم تَتَعَرَّضْ للحال. نقل المُزَنِيُّ والربيع أنها لا تُسْمَعُ، ولا يُحْكَمُ بها. وعن رِوَايَةِ البويطي: أنها تُسْمَعُ، ويُقْضَى بها. وللأَصْحَابِ -رحمهم الله- فيه طَرِيقَانِ: أشهرهما -وبه قال ابن سُرَيْجٍ: أن المسْأَلَةَ على قولين: أحدهما: أنَّه يُسْمَعُ؛ لأنها تُثْبِتُ المِلْكَ سَابِقاً، والشيء إذا ثَبَتَ، فالأصل فيه الدَّوَامُ والاسْتِمْرَارُ. وأصحُّهما: المَنْعُ؛ لأن دَعْوَى المِلْكِ السَّابِقِ لا تُسْمَعُ، فكذلك البَيِّنَةُ عليه. ولأن ثُبُوتَ المِلْكِ سَابِقاً إن اقْتَضَى بَقَاءَهُ قيد المدعى عليه، وتصرفه يَدُلُّ على الانْتِقَالِ إليه، ولا يَحْصُلُ ظَنُّ المِلْكِ في الحال. والثاني: ويُحْكَى عن أبي إِسحَاقَ: القَطْعُ بأنها لا تُسْمَعُ، وحَمَلَ هؤلاء المَحْكي عن البُوَيْطِيِّ على أنَّه ذَكَرَهُ من عند نَفْسِهِ، وَيَجْرِي الخِلاَفْ فيما إذا ادَّعَى اليَدَ، وشَهِدَ الشُّهُودُ على أنَّه كان في يَدِهِ أَمْسِ. واعلم أن للَقَوْلَيْن في هذا الفَرْعِ تَعَلُّقا بالقولين، فيما إذا أَرَّخَتِ البَيِّتَتَانِ المِلْكَ بتاريخين مختلفين؛ هل يُقَدَّمُ أَسْبَقُهُمَا تَاريخاً؛ أم يتساويان؟ ثم منهم من يَبْنِي القَوْلَيْنِ هاهنا على القَوْلَيْنِ هناك، ومنهم من يعكس البنَاءَ. وقربا من الوَجْهَيْنِ فيما إذا قال: كان لِفُلاَنٍ عَلَيَّ كذا، أو كانت هذه الدَّارُ لفلاَن. هل يكون إِقْرَاراً؟ وإذا قلنا: بأن الشَّهَادَةَ لا تُسْمَعْ على المِلْكِ السابق، فينبغي أن يَشْهَدَ الشَّاهِدُ على المِلْكِ في الحال. أو يقول: كان مِلْكاً له ولم يزلْ.
أو يقول: لا أَعْلَمُ له مُزِيلاً، ويجوز أن يَشْهَدَ بالمِلْكِ في الحال؛ اسْتِصْحَاباً [لحكم ما] (¬1) عرفه من قبل، كشراء، وإرْثٍ، وغيرهما (¬2)؛ لأن كان يَجُوزُ له زَوَالُهُ، ولو صرح في شهادته: أنَّه يَعْتَمِدُ الاسْتِصْحَابَ فوجهان. حكى في "الوسيط" عن الأصحاب: أنَّه لا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الرَّضَاع على امْتِصَاصِ الثَّدْي، وحَرَكَةِ الحُلْقُومِ. وعن القاضي الحسين: القَبُولُ؛ لأنا نَعْلَمُ أنَّه لا مستند له سواه، بخلاف الرَّضَاعِ، فإنه يُدْرَكُ بِقَرَائِنَ لا تدخل في العبارة. ولو قال: لا أَدْرِي، أزال مِلْكَهُ أم لا؟ لم تُقْبَلُ؛ لأن هذه صِيغَةُ المُرْتَابينَ، وهي بَعِيدَةٌ عن أَدَاءِ الشَّهَادَةِ. ولو شهدت البَيِّنَةُ على أنَّه أَقَرَّ أَمْسِ للمدعى بالمِلْكَ، قُبِلَتِ الشهادة، واسْتُدِيمَ حُكْمُ الإقْرَارِ، وإن لم يُصَرِّحِ الشَّاهِدُ بالمِلْكِ في الحال. ومما علق عن الإِمام أن منهم من طَرَدَ القَوْلَيْنِ فيه. والظاهر الأول، وَلَوْلاَهُ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الأَقَارِيرِ. ولو قال المدعى عليه: كان ملكك (¬3) بالأَمْسِ. فوجهان: أحدهما: أنَّه لا يُؤَاخَذُ به، ولا يُنْتَزَعُ المَالُ من يَدِهِ، كما لو قامت البَيِّنَةُ على أنَّه كان مَلَكَهُ أَمْسِ. وأظهرهما: الانْتِزَاعُ كما لو شَهِدَتِ البَيِّنَةُ على أنَّه أَقَرَّ أمس، ويفارق الإِقْرَارُ البَيِّنَةَ من جِهَةِ أن المُقِرَّ لا يُقِرُّ إلا عن تَحْقِيقٍ؛ والشَّاهِدُ قد يَتَسَاهَلُ، ويبني على التَّخْمِينِ. فإذا لم يَنْضَمَّ إليه الجَزْمُ في الحال، ضعف، حتى لو اسْتَنَدَتِ الشَّهَادَة إلى التَّحْقِيقِ أيضاً، بأن قال الشَّاهِدُ: هو ملكه بالأمس، اشْتَرَاهُ من المُدَّعَى عليه بالأَمْسِ، أو أَقَرَّ له المُدَّعَى عليه بالأَمْسِ، قُبِلَتِ الشهادة. وكذلك نقله صَاحِبُ الكتاب هاهنا. وفي "الوسيط": ولم يثبت الشَّيْخُ أبو نَضْرِ بنُ الصَّبَّاغ الوجهين فيما إذا قال المُدَّعَى عليه: كان ملكك بالأمس. وحكى القَطْع بأنه يُؤَاخَذُ بِإقْرَارِهِ. وردّ الوجهين إلى ما إذا قال: كان في يَدِكَ أمس. وفَرَّقَ بين المِلْكِ واليد؛ بأن اليَدَ قد تكون مُسْتَحِقَّةً، وقد لا تكون؛ فإذا كانت قَائِمَةً، أخذنا بأن الظَّاهِرَ منها الاسْتِصْحَابُ، فهذا زَالَتْ ضَعُفَتْ ¬
فرع
دلالتها وإذا عرفت ما يَحْتاج الشَّاهِدُ إلى التَّعَرُّضِ له على قولنا: إن الشَّهَادَةَ عن المِلْكِ السابق لا تُسْمَعُ، فكذلك إذا قلنا: إنَّ الشِّهَادَةَ على اليَدِ السَّابقَةِ لا تُسْمَعُ، فينبغي أن تَتَعَرَّضَ الشَّهَادَةُ لِزِيَادَةٍ، بأن يقول: كان في يدِ المُدَّعِي، وأَخَذَهُ المدعى عليه منه، أو غَصَبَهُ، أو قَهَرَهُ عليه، أو بَعَثَ العبد في شغل، أو أَبَقَ منه، فاعْتَرَضَهُ هذا، وأخذه. فحينئذ تقبل (¬1) الشهادة، ويُقْضَى بها لِلْمُدَّعِي، فَيُجْعَلُ صَاحِبَ يَدٍ. وقوله في الكتاب: "لم تُسْمَعْ حتى يقول: وهو ملكه"، يمكن حَمْلُهُ من جِهَةِ اللفظ، أن يجعل جَوَاباً على الطرِيقَةِ القَاطِعَةِ، ويمكن أن يُجْعَلَ جَوَاباً. على الأَصَحَّ، على طريقة إثْبَاتِ الخِلاَفِ. وعلى التَّقْدِيرَينِ فَلْيُعْلَمْ بالواو. وكذا قوله: "ويُسْتَصْحَبُ موجب الإقرار" لما حكيناه من الخِلاَفِ، ونقل في "الوسيط" أن القاضي مَالَ إلى ذلك الوَجْهِ. وقوله: "أَو أَقَرَّ له المدعى عليه بالأمس"، يجوز أن يُعَلَّمَ بالواو؛ لأن هذه الصُّورَةَ بعينها هي الصُّورَةُ السابقة (¬2) وهي قوله: "أما لو شهدت (¬3) بأنه أَقَرَّ له بالأَمْسِ ... " إلى آخره. وقوله: "ولا خلاف أنَّه لو شَهِدَ على أنَّه كانَ في يَدِ المدعي أمس قُبِلَ، وجُعِلَ المُدَّعِي صَاحِبَ يَدٍ". هذا غير مُسَلَّم، بل طُرُقُ الأصحاب نَاصَّةٌ على أنَّه كما لو قامت البَيِّنَةُ على المِلْكِ بالأمس، بلا فَرْقٍ، بل في صُورَةِ اليَدِ. تكلم الشَّافعي -رضي الله عنه- في "المختصر"، وحكم بِعَدَمِ القَبُولِ. فرع: ذكرنا أن الشُّهُودَ على المِلْكِ السابق، لو قالوا: لا نَعْلَمُ زَوَالَ مِلْكِهِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ. ثم عن ابن المُنْذِرِ: أن الشَّافِعِيَّ -رضي الله عنه- قال: يَحْلِفُ المُدَّعِي مع البَيِّنَةِ، فإن ذَكَرُوا مع ذلك أنَّه غَاصِبٌ، فلا حَاجَةَ إلى اليَمِينِ. قال القاضي أبو سعد: وهذا غَرِيبٌ (¬4)، وَوَجَّهَهُ: أن البَيِّنَةَ قامت على خِلاَفِ الظَّاهِرِ، ولم يَتَعَرَّضْ لإسقاط ما مَعَ المُدَّعَى عليه من الظاهر فَأُضِيفَ إليها اليَمِينُ. ¬
آخر: دَارٌ في يد رجل ادَّعَاهَا آخران (¬1)، وأَقَامَ أحدهم البَيِّنَةَ؛ أن الدَّارَ له، غَصَبَهَا المُدَّعَى عليه منه، وأَقَامَ الآخَرُ البَيِّنَةَ أن من في يَدِهِ أَقَرَّ له، فليس (¬2) بين هَاتَيْنِ البَيِّنَتَيْنِ منافاة، فيثبت المِلْكُ والغَصْبُ بالبَيِّنَةِ الأُوْلَى، وإذا ثَبَتَ ذلك، لُغِيَ إقرار الغاصب، لغير المَغْصُوبِ منه. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الفَرْعُ الثَّانِي: البَيِّنَةُ المُطْلَقَةُ لاَ تُوجِبُ تَقَدُّمَ زَوَالِ المِلْكِ عَلَى مَا قَبْلَ البَيِّنَة حَتَّى لَوْ شَهِدَ عَلَى دَابَّةٍ فَنِتَاجُهَا قَبْلَ الإِقَامَةِ لِلمُدَّعى عَلَيْهِ، وَالثَّمَرَةُ البَادِيَةُ عَلَى الشَّجَرَةِ أَيْضَاً كَذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الجَنِينَ حَالَ الشَّهَادَةِ لِلمُدَّعَى عَلَيْهِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وَإِنْ أَمْكَنَ انْفِصَالُة بِالبَيْعِ وبِالوَصِيَّةِ، وَمَعَ هَذَا فَالمذْهَبُ أَنَّ المُشْتَرِيَ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ بِحُجَّةٍ مُطلَقَةٍ رَجَعَ عَلَى البَائِعِ، بَل لَوْ أَخَذَ مِنَ المُتَّهِبِ أَوْ مِنَ المُشْتَرِي رَجَعَ الأَوَّلُ أَيْضَاً، وَيُحْمَلُ مُطلَقُهُ إِذَا لَمْ يَدْعُ عَلَى المُشْتَرِي قَبْلَ إزَالَةِ مِلْكِهِ منْهُ عَلَى أَنَّ المِلْكَ سَابِقٌ فَيُطَالِبُ البَائِعَ بالثَّمَنِ، وَعَجِيبٌ أنْ يُتْرَك فِي يَدِهِ نِتَاجٌ حَصَلَ قَبْلَ البَيِّنَةِ وَبَعْدَ الشِّرَاءِ، ثُمَّ هُوَ يَرْجِعُ عَلَى البَائِعِ وَلَكِنْ أَطْلَقَ الأَصْحَابُ الكَلاَمَ كَذَلِكَ فَلاَ يَبْعدُ أنْ يُقَالُ: لاَ يُرْجَعُ إلاَّ إِذَا ادَّعِيَ مِلْكٌ سَابِقٌ عَلَى شِرَاِئهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: بَيِّنَةُ المُدَّعِي لا تُوجِبُ ثُبُوتَ المِلْكِ له، ولكنها تُظْهِرُهُ، فيجب أن يكون المِلْكُ سَابقاً على إِقَامَتِهَا. ولكن لا يُشْتَرَطُ السَّبْقُ بزمان طَوِيلٍ، بل يكفي لِصِدْقِ الشُّهُودِ بلحظة لَطَيفَةٍ، فلا يُقَدَّرُ ما لا ضَرُورَةَ إليه حتى لو أَقَامَ البَيِّنَةَ على مِلْكِ دَابّةٍ، أو شجرة، لم يَسْتَحِقَّ النِّتَاجَ، والثمرة، الحاصلتين قبل إِقَامَةِ البَيِّنَةِ. والثمرة الظَّاهِرَةُ عند إِقَامَةِ البينة تَبْقَى للمدعى عليه (¬3)، وفي الحَمْلِ الموجود عندها وجهان: أظهرهما: أن المُدَّعِي يَسْتَحِقُّهُ، ويكون تَبَعاً للأُمِّ كما في العُقُودِ. والثاني: المنع، ويجوز أن يكون الحَمْلُ لغير مَالِكِ الأُمِّ بسبب وَصِيَّةٍ بالحمل (¬4). وقَضِيَّةُ هذا الأَصْلِ أن يقال: من اشْتَرَى شَيئاً فَادَّعَاهُ مُدَّعٍ، وأخذ منه بِحُجَّةٍ مُطْلَقَةٍ، لم يكن له أن يَرْجِعَ على بَائِعِهِ بالثَّمَنِ، لجواز أن يكون المِلْكُ مُنْتَقِلاً من ¬
المُشْتَري إلى المُدَّعِي، فتكون المُبَايَعَةُ صَحِيحَةً مُصَادِفَةً مَحَلَّهَا، لكن المَشْهُورَ في المَذْهَبِ ثُبُوتُ الرُّجُوع إذا انتزع المال منه بالحُجَّةِ المطلقة، بل لو باع المُشْتَرِي، أو وهب، وانْتُزعَ من المُتَّهب، أو من المشتري منه، كان لِلْمُشتَرِي الأَوَّلِ الرُّجُوعُ أيضاً. وسَبَبُهُ مَسِيسُ الحَاجَةِ إلَيه في عُهْدَةِ العقود، وأيضاً فإن الأَصْلَ أن لا مُعَامَلَةَ بين المشتري والمدعى، ولا انتقال منه فَيَسْتَنِدُ المِلْكُ المَشْهُودُ به إلى ما قبل الشِّرَاءِ. وعن القاضي الحُسَيْنِ إِبْدَاءُ وَجْهٍ: أنَّه لا رُجُوعَ إلا إذا كان المُدَّعَى مِلْكاً سَابِقاً، وَفَاءً بِالأَصْلِ المذكور، وَحُمِلَ ما أطلقه الأصحاب عليه. وذكر القاضي أبو سَعْدٍ الهرَوِيُّ: أن الفَقِيهَ أبا نَصْرٍ البَلْخِيَّ من أصحاب الرَّأْي، حَكَى عن أصحابنا: أن قِيَامَ البَيِّنَةِ تَقْتَضِي سَبْقَ المِلْكِ حتى يكون النِّتَاجُ لِلْمُدَّعِي. ولما كان الجَمْعُ بين إِبْقَاءِ النِّتَاج في ملكه، وبين تَمَكُّنِهِ من الرُّجُوع باليمين (¬1) بعيداً تأباه الطِّبَاعُ، دفع تَارَةً بأن قيل: لاَ رُجُوعَ. وأخرى بأن قِيلَ: لا يَبْقَى النِّتَاجُ له. ولْيُعَلمْ لهذا الوجه قوله في الكتاب: "فَنتَاجُهَا قبل الإِقَامَةِ للمدعى عليه" بالواو. وكذلك قوله: "والثَّمَرَةُ البَادِيَةُ على الشجرة أيضاً" بذلك. وقوله: "وتُحْمَلُ مطلقة إذا لم يَدَّعِ على المشتري قبل إِزَالَة مِلْكِهِ عنه، على أن المِلْكَ سَابقٌ"، أَشَارَ به إلى أن ظَاهِرَ المَذْهَبِ ثُبُوتُ الرُّجُوعِ، سواء قَيَّدَ المِلْكَ المُدَّعَى بما قبل الشراء، أو أَطْلَقَ الدَّعْوَى. وإنما يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ إذا ادَّعَى على المُشْتَرِي أنَّه نَقَلَ المِلكَ إليه، وأقام البَيِّنَةَ كذلك. وعلى الوجه الآخر إنما يَثْبُتُ الرُّجُوعُ إذا ادَّعَى مِلْكاً سَابِقاً على الشِّرَاءِ، وأقام البَيِّنَةَ عليه. وقوله: "وعَجِيبٌ أن يُتْرَكَ في يَدِهِ نِتَاجٌ حَصَلَ قبل البَيِّنَةِ، وبعد الشراء، ثم هو يَرْجِعُ على البائع". أراد الاسْتِبْعَادَ الذي بَيَّنَّاهُ. وقد حُكِيَ عن القاضي الحسين: أنَّه أَكْثَرَ البَحْثَ عنه، وأنه قال: لم أَجِدْ عند أَحَدٍ من الجواب ما يَسْتَحِقُّ أن يُحْكَى؛ إلا أني سَأَلْتُ عنه فَقِيهاً من أَصْحَاب أبي حَنِيْفَةَ، إنما يثبت الرُّجُوع؛ لأن البَائِعَ بالبَيْع كأنه ضَمِنَ سَلاَمَةَ المَبِيع للمشتري، وإذا لم يسلم وأُخِذَ منه، كان له أن يَرْجِعَ بحكم الضَّمَانِ الذي تَضَمَّنَهُ البيع. وقوله: "فلا يَبْعَدُ أن يقال: لا يُرْجَعُ إلا إذا ادَّعَى مِلْكاً سابقاً على شرائه". ذَكَرَ هذا الكَلاَمَ ذِكْرَ من هو مُبْتَدِئٌ بالشيء، لكنه قد حَكَاهُ في "الوسيط" عن القاضي الحُسَيْنِ. وكذلك الإِمَامُ وغيرهما -رحمهما الله-. ¬
فرع
فرع: المُشترَى من المُشْتَرِي إذا اسْتَحَقَّ المَالَ في يَدهِ وانْتُزعَ منه ولم يَظْفَرْ ببائعه، هل له أن يُطَالِبَ الأَوَّلَ بالثمن؟ في فَتَاوَى القاضي الحُسَيْنِ أن الأصَحَّ، أنَّه لا يُطَالِبُهُ، ويُشْبِهُ ذلك مَنْ مَاتَ، وعليه دَيْنٌ، وادَّعَى وَارِثُهُ دَيْناً له على غيره، وأَنْكَرَ المُدَّعَى عليه، ونَكَلَ الوارث، هل يَحْلِفُ الغَرِيمُ؟ قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثُ إِذَا ادَّعَى مِلْكاً مُطْلَقاً فَذُكِرَ الشَّاهِدُ المِلْكَ وَسَبَبَهُ لَمْ يَضُرَّ، وَلَكِنْ لَوْ أَرَادَ التَّرجِيحَ بِالسَّبَبِ وَجَبَ إِعَادَةُ البَيَّنَةِ بَعْدَ الدَّعْوَى لِلسَّبَبِ، وَلَوْ ذَكَرَ الشَّاهِدُ سَبَباً آخَرَ سِوَى مَا ذَكَرَهُ المُدَّعِي تَنَاقَضَتِ الشَّهَادَةُ وَالدَّعْوَى فَلاَ تُسْمَعُ عَلَى أَصْلِ المِلْكِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إِذا ادَّعَى مِلْكَاً مُطْلَقاً فَشَهِدَ الشُّهُودُ بالمِلْكِ، وذكروا سَبَبَهُ، لم يَضُرَّ، بخلاف ما إذا ادَّعَى أَلْفاً، فَشَهدَ الشُّهُودُ بِأَلْفَيْنِ، حيث تُرَدُّ شَهَادَتُهُم في الزيادة على الألْفِ، وفي الألف [الأخرى] (¬1) اختلاف مَذْكُورٌ في باب الإِقْرَارِ. والفَرْقُ؛ أن ذِكْرَ سَبَبِ المِلْكِ تابع لِلْمِلْكِ، وليس مقصوداً في نَفْسِهِ، بخلاف الأَلْفِ مع الأَلْفِ، فلو أراد المُدَّعِي تَقْدِيمَ بَيِّنَتِهِ بذكر السَّبَب، بِنَاءً على أن ذِكْرَ السَّبَبِ يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ، لم يَكْفِ للترجيح تَعَرُّضُهُمْ للسبب؟ [أَولاً] (¬2) لوقوعه قبل الدَّعْوَى والاسْتِشْهَادِ، بل يدعي الملك وسببه، وهم يُعِيدُونَ الشَّهَادَةَ، فحينئذ تُرَجَّحَ بَيِّنَتُهُ. وفيه وجه: أنَّه لا حَاجَةَ إلى إِعَادَةِ البَيَّنَةِ، ويكفي أن تكون الشَّهَادَةُ على ما هو المَقْصُودُ، وَاقِعَةً بعد الدعوى والاسْتِشْهَادِ. ولو ادَّعَى المِلْكَ، وسَبَبَهُ، وشَهِدَ الشُّهُودُ بالملك، ولم يذكروا السَّبَبَ، قُبِلَتْ شهادتهم؛ لأنهم شَهِدُوا بالمقصود. ولا تَنَاقُضَ. ولو ادَّعَى المِلْكَ، وسَبَبَهُ، وذكر الشهود سَبَباً، سِوَى ما ذكره. فالوَجْهُ الصحيح، إِبْطَالُ شَهَادَتِهِمْ؛ لما بَيْنَهَا وبين الدعوى من التَّنَاقُض. وقيل: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ على أَصْلِ المِلْكِ، ويَلْغُو ذكر الشهود السبب. ولو شهد شَاهِدٌ بِأَلْفٍ عن ثَمَنِ مَتَاعٍ، وشاهد بِألْفٍ عن قَرْضٍ، والدعوى مُطْلَقَةٌ، فقد ذكرنا في الإِقْرَارِ؛ أنَّه لا يَثْبُتُ بشهادتهما شَيْءٌ. وقِيَاسُ الوَجْهِ الثاني على ضَعْفِهِ ثُبُوتُ الألف (¬3). ¬
فرع
فرع: دَارٌ في يد إنسان، وقد حَكَمَ له حَاكِمٌ بِمِلْكِيَّتِهَا، فجاء خارج وادَّعَى انْتِقَالَ المِلْكِ منه إليه، وشَهِدَ الشُّهُودُ على انْتِقَالِهِ إليه بسبب صحيح، ولم يُبَيِّنُوهُ. قال القاضي أبو سَعْدٍ: وقعت هذه المَسْأَلَةُ، فأفتى فيها فُقَهَاءُ "همذان" بِسَمَاعِ هذه البَيِّنَةِ، والحُكْمِ بها لِلْخَارج، كما لو عَيَّنُوا السَّبَبَ. ورأيت في فَتَاوَى المَاوَرْدِيِّ، والقاضي أبي الطيب بخَطِّهِمَا كذلك، قال: وَمَيْلِي إلى أنها لا تُسْمَعُ، ما لم يُبَيِّنُوا، وهو طريقة القَفَّالِ وغيره؛ لأنَ أسباب (¬1) الانْتِقَالِ مُختَلفٌ فيها بين أهل العِلْمِ، فصار كالشَّهَادَةِ. على أن فُلاَنًا وَارِثٌ لا تُقْبَلُ ما لم يُبَيِّنُوا جهة الإِرْثِ. هذا تَمَامُ الكلاَم في تَعَارْضِ البَيِّنَتَيْنِ في الأَمْلاَكِ المُطْلَقَةِ. والله أعلم بالصواب. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الطَّرَفُ الثَّانِي فِي العُقُودِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الأُولَى: إِذَا قَالَ: أكْرَيْتُكَ البَيْتَ بِعَشَرَةٍ وَقَالَ المُكْتَرِي بَلْ كَرَيتَ الدَّار بِالعَشَرَةِ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً فَالأَصَحُّ أَنْ لاَ تَرْجِيحَ لِأَن هَذِهِ زِيَادَةٌ فِي المَشْهُودِ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الكِرَاءَ عَشَرَةً وَالآخَرُ عِشْرِينَ فَيَتَعَارَضَانِ وَلاَ يَجْرِي إِلاَّ قَوْلُ التَّهَاتُرِ أَوِ القُرْعَةُ، أَمَّا القِسْمَةُ فَلاَ يُمْكِن إِذِ الزِّيَادَةُ يَدَّعِيهَا أَحَدُهُمَا وَيَنْفِيهَا الآخَرُ وَلاَ يُثْبِتُهَا لِنَفْسِهِ، وَقَوْلُ الوَقْفِ لاَ يُمْكِنُ إِذْ تَفُوتُ المَنَافِعْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال المُكْرِي: أَكْرَيْتُكَ هذا البَيْتَ من الدَّارِ شَهْرَ كذا بعشرة، وقال المُكْتَرِي: بل اكتريت جَمِيعَ الدَّارِ بالعشرة. فهذا اخْتِلاَفٌ بين المُتَكاريين في قَدْرِ المكري، فإن لم يَكُنْ لواحد منهما بَيِّنَةٌ، فَيَتَحَالَفَانِ، ثم يُفسخ العَقْدُ، أو ينفسخ، على ما تَبَيَّنَ في باب التَّحَالُف، وعلى المُكْتَرِي أُجْرَةُ مِثْلِ ما سَكَنَ من الدَّارِ، أو البيت. وإن أَقَامَ أحدهما البَيِّنَةَ على ما يَقُولُهُ دُونَ الآخر، قُضِيَ بالبَيِّنَةِ المُقَامَةِ. وإن أقام كل واحد منهما البَيِّنَةَ، فقولان، ويُقَالُ: وَجْهَانِ؛ لأن الأَوَّلَ منهما من تَخرِيجِ ابْنِ سُرَيْجٍ: أحدهما: ويُحْكَى عن أبي حَنِيْفَةَ: أن بَيِّنَةَ المُكْتَرِي أَوْلَى؛ لاشْتِمَالِهَا على زَيادَةٍ، وهي اكْتِرَاءُ جميع الدَّارِ. واسْتُشْهِدَ لذلك بما لو شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بألفٍ، وبَيِّنَةٌ بألفين، يَثْبُتُ الألفان. وأصحُّهما: وهو المنصوص: أن البَيِّنَتَينِ مُتَعَارِضَتَانِ، والزِّيَادَةُ المُرَجِّحَةُ هي المُشْعِرَةُ بِمَزِيدِ عِلْمٍ، وُوُضُوحِ حَالٍ في أحد جَانِبَيْ ما فيه التَّنَافي، كاستِنَادٍ إلى سَبَبٍ ¬
وسَبْقٍ وانْتِقَالٍ عن استصحاب أصل، والزِّيَادَةُ فيما نحن فيه لَيْسَتْ كذلك، وإنما هي زيَادَةٌ في المشهود به. ويُفَارِقُ بَيِّنَةُ الألف وبَيِّنَةُ الألفين، فإنهما لا يَتَنَافيَانِ؛ لأن التي تَشْهَدُ بالألف لا تَنْفِي الألفين (¬1). وههنا العَقْدُ وَاحِدٌ، وكل كيفية تُنَافِي الكَيفِيَّةَ الأُخْرَى، فيثبت التَّعَارُضُ، فعلى هذا تُخَرَّجُ المسألة على القَوْلَيْنِ في التَّعَارُضِ. فإن قلنا بالتَّهَاتُرِ، سَقَطَتِ البَيِّنَتَانِ، ورجعتا إلى التَّحَالُفِ. وإن قلنا: بالاسْتِعْمَالِ، فيجيء قَوْلُ القُرْعَةِ، وفي الحَلِفِ معها مَا مَرَّ في موضعه. وعن أبي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ: أنَّه لا يُقْرَعُ؛ لأن القُرْعَةَ إنما يُصَارُ إليها عند تَسَاوِي الجَانِبَيْنِ، ولا تَسَاوِىَ، بل جَانِبُ المُكْرِي أَقْوَى؛ لملك الرَّقَبَةِ، وأما قَوْلاَ القِسْمَةِ والوقوف، فالمشهور أنهما لا يَجِبَانِ. أما القِسْمَةُ فلوجهين: أحدهما: أن النِّزَاعَ هاهنا في العَقْدِ، والعَقْدُ لا يُتَصَوَّرُ أن يُقَسَّمَ، بخلاف المِلْكِ. والثاني: وهو المَذْكُورُ في الكتاب: أن القِسْمَةَ إنما تَجْرِي، إذا ادَّعَى كل واحد منهما الشَّيْءَ لِنَفْسِهِ. وهاهنا الزِّيَادَةُ يَدَّعِيهَا أَحَدُهُمَا، وَيَنْفِيهَا الآخَرُ، ولا يُثْبِتهَا لنفسه. وأما الوَقْفُ؛ فلوجهين أيضاً: أحدهما: وهو الذي ذكره أَكْثَرُهُمْ: أن العُقُودَ [لا] (¬2) توقف على أَصْلِنَا، والنِّزَاعُ هاهنا في العَقْدِ. والثاني: وهو المَذْكورُ في الكتاب: أن المَنَافِعَ تُفَوَّتُ في مُدَّةِ الوقف، وفي هذه التَّوْجِيهَاتِ تَرَدُّدٌ. أما الوجه الأول في القِسْمَةِ، فالعَقْدُ غير مَقْصُودٍ في نفسه، وإنما المَقْصْودُ، المعقود عليه، فجاز أن تُرَدَّ القِسْمَةُ على ما فيه التَّنَازُعٌ من المَعْقُودِ عليه، كما لو تَنَازَعَا في مِلْكٍ، وذكر كل واحد منهما: أنَّه اشْتَرَاهُ من فُلاَنٍ وَقْتَ كذا، وأقاما بَيِّنَتَيْنِ. وأما الثاني: فالقول بأن الزِّيَادَةَ يَنْفِيهَا أَحَدُهُمَا، ولا يُثْبتُهَا لنفسه -ممنوع، بل كُلُّ واحد منهما يَدَّعِيها. هذا بحكم الإِجَارَةِ، وهذا بحكم ملك (¬3) الرَّقَبَةِ، وانحصار الإِجَارَةِ في البيت، فلم لا يَكْفِي هذا القدر لِلْقِسْمَةِ؟ وأما الوجه الأول في الوَقْفِ، فإن الوَقْفَ الذي لا نَقُولُ به -هو أن تَتَخَلَّفَ بَعْضُ شُرُوطِ العَقْدِ، فيحكم بانْعِقَادِهِ مَوْقُوفاً إلى أن ¬
يوجد ذلك الشرط، كَإذْنِ المَالِكِ في بيع الفُضُولِيِّ، وليس هذا الوَقْفُ كذلك، بل معنى الوَقْفِ هاهنا: أنا نَتَوَقَّفُ، ولا نُمْضِي حُكْماً، إلى أن ينكَشِفَ الحال، أو يَصْطَلِحَا. ومثل هذا مَعْهُودٌ في أصولنا. وأما الثاني: فإنما تفوت المنافع لو عُطِّلت، ويمكن أن يُقَالَ: إن الزِّيَادَةَ تؤجر، وتُوقَفُ الأُجْرَةُ إلى الانْكِشَافِ، والاصْطِلاحَ. وربما تَوَلَّدَ من هذه الإِشكَالاَتِ قَوْلٌ نَقَلَهُ المَوَفَقُ بْنُ طَاهِرٍ عن رواية المَاسَرْجَسِيِّ: أنَّه تجوز القِسْمَةُ في المِلْكِ، والوَقْفِ في الأُجْرَةِ، وإن (¬1) اختلف المُتَكَارِيانِ، والزيادة في جَانِبِ المُكْرِي. بأن قال: أَكْرَيتُكَ كذا بِعِشْرِينَ، وقال المُكْتَرِي: بل أَكْرَيْتَنِيهِ بَعْشَرَةٍ، فقول التَّعَارُضِ بحاله. وعلى المَحْكِيِّ عن ابن سُرَيْجٍ بَيِّنَةُ المكتري (¬2) رَاجِحَةٌ للزيادة، ويطرد (¬3) ما ذكره فيما إذا اخْتَلَفَ المُتَبَايِعَانِ، وأقام كل واحد منهما بَيِّنَةً، وفي إحداهما زَيادَةٌ. ولو وجدت الزِّيَادَةُ في كل واحد من الجَانِبَيْنِ؛ بأن قال المُكْرِي: أَكْرَيْتُكَ هذا البَيْتَ بعشرين، وقال المُكْتَرِي: بل جَمِيعَ الدَّارِ بعشرة فلابن سريج رأيان (¬4): أحدهما: الرُّجُوعُ إلى التَّعَارُضِ لِتَقَابُلِ الزيادتين. وأضعفهما: أنَّه يَأْخُذُ بالزيادة الجانبين، فتجعل جميع الدار تُكْرَى بالعشرين. وهذا خِلاَفُ قَوْلِ المتداعيين والشُّهُودِ جميعاً. ثم قال العِرَاقِيُّونَ، والقاضي الرُّوَيانِيُّ، وغيرهم: هذا كُلُّهُ فيما إذا كَانَتِ البَيِّنَتَانِ مُطْلَقَتَيْنِ، أو مُؤَرَّخَتَيْنِ بِتَارِيخٍ وَاحِدٍ، أو إحداهما مُطْلَقَةٌ، والأخرى مُؤَرَّخَةٌ. فأما إذا كَانَتَا مُؤَرَّخَتَيْنِ بتاريخين مختلفين؛ بأن أَقَامَ أحد المُتَكَارِيَيْنِ بَيِّنَتَهُ على أن كذا مكرى سنة (¬5) من أَولِ رمضان، وأَقَامَ آخر بَيِّنته على أن كذا مكرى سنة من أول شوال، فأيهما يُقَدَّمُ؟ حكى القَاضِي أبو سَعْدٍ فيه قولين: أحدهما، وهو جَوابُ العراقيين والروياني؛ أن التي هي أَسْبَقُ تَارِيخاً، أَوْلَى؛ لأن السَّابِقَ من العَقْدَينِ صَحِيحٌ لا مَحَالَةَ، فإنه إن سَبَقَ العَقْدُ [على الدار، صح، ولُغِي العَقْدُ الوَارِدُ على البيت بعده. وإن سَبَقَ العَقْدُ على] (¬6) البيت صَحَّ، والعقد الوَارِدُ على الدار بعده يَبْطُلُ في البيت، ويُخَرَّجُ في باقي الدَّارِ على الخِلاَفِ في تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فرجح الأولى بذلك. ¬
والثاني: أن البَيِّنَةَ الأُخْرَى أَوْلَى، وقد يُوَجَّهُ بأن العَقْدَ الثاني نَاسِخٌ للأول، وربما تخللتها (¬1) إِقَالَةٌ وعن صاحب "التقريب" وغيره: أن مَوْضِعَ هذين القولين ما إذا لم يَتَّفِقَا على أنَّه لم يَجْرِ إلا عَقْدٌ وَاحِدٌ، فإن اتَّفَقَا عليه، فالبَيِّنَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ أيضاً. ولك أن تَقُولَ: وجب أن يُقَالَ: مَوْضِعُ التَّعَارُضِ في البَيِّنَتَيْنِ المُطْلَقَتَيْنِ، وفي اللَّتَيْنِ إحداهما مُطْلَقَةٌ، والأخرى مُؤَرَّخَةٌ أيضاً -ما إذا اتَّفَقَا على أنَّه لم يَجْرِ إلا عَقْدٌ واحد، فإن لم يَتَّفِقَا عليه، فلا تَنَافِيَ بين البَيِّنَتَيْنِ؛ لجواز أن يكون تَارِيخُ المطلقتين مُخْتَلِفاً. وأن يكون تَارِيخُ المُطْلَقَةِ غَيْرَ تَارِيخِ المُؤَرَّخَةِ، وإذا لم يكن تَنَافٍ، ثبت أَكْثَرُ الزِّيَادَةِ بالبَيِّنَةِ الزائدة. وقوله في الكتاب: "فالأصح ألا ترجيح" مُعَلمٌ بالحاء لما سبق. وقوله: "وكذلك إذا ادَّعَى أحدُهمَا الكراء (¬2) بعشرة ... " إلى آخره، يعني الأَصَحَّ في هذه الصورة أيضاً، أنَّه لا تَرْجِيحَ، بل يَتَعَارَضَانِ في الصورتين. وقوله: "أو القرعة" مُعَلمٌ بالواو، لما ذكرنا عن ابْنِ سَلَمَةَ. وأيضاً فالذَّاهِبُونَ إلى القِسْمَةِ، أو الوَقْفِ في صورة التَّعَارُضِ، منهم من يرجح (¬3) إلى التَّسَاقُطِ عند تَعَذُّرِهِمَا لا إلى القُرْعَةِ. وقوله: "أما القِسْمَةُ فلا يمكن". وقوله: "وقول الوَقْفِ لا يمكن" مُعَلَّمَانِ بالواو، لرواية المَاسَرْجَسِيِّ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةُ ادَّعَى رَجُلاَنِ دَاراً فِي يَدِ ثَالِثٍ يَزْعُمُ كُلُّ وَاحِدٍ أنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ، وَوَفَّرَ الثَّمَنَ، فَإِنْ سَبَقَ تَارِيخُ أَحَدِهِمَا قُدِّمَ، وَإِلاَّ جَرَتِ الأَقْوَالُ الأَرْبَعَةُ، لَكِنْ إِذَا لَمْ يُسَلَّمْ لِأَحَدِهِمَا شَيْءٌ مِنَ الدَّارِ إمَّا بِقرْعَةٍ أَوْ قِسْمَةٍ رُجِعَ إلَى الثَّمَنِ إِذْ لاَ تَضَادَّ فِي اجْتِمَاعِ الثَّمَنَيْنِ، فَلَوْ قَضَيْنَا بِالقِسْمَةِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ خِيَارُ الفَسْخِ فَإذَا فُسِخَ أَحَدُهُمَا رَجَعَ إلَى الثَّمَنَ وَكَانَ لِلآخَرِ أَخْذُ جَمِيعِ الدَّارِ، وَفِي المَسْأَلَةِ قَوْلٌ خَامِسٌ أنَّهُ يَسْتَعْملُ البَيِّنَةَ فِي فَسْخِ العَقْدَيْنِ لِتَعَذُّرِ الإِمْضَاءِ، فَيَرْجَعَانِ إلَى الثَّمَنَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: دَارٌ في يد رجل، جاء اثْنَانِ، ادَّعَى كُلُّ واحد منهما أَنِّي اشْتَرَيْتُهَا من صَاحِب اليَدِ بكذا، وَوَفَّرت الثَّمَن، وطَالَبَهُ بتسليم الدَّارِ، فَيُنْظَرُ: إن أَقَرَّ لأحدهما سُلِّمَتِ الدَّارُ إليه، وهل للآخر تَحْلِيفُهُ؟ قال الشيخ أبو الفَرَجِ: إن قلنا: إن إِتْلاَفَ البَائِعِ كَآفَّةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فليس له ¬
تَحْلِيفُهُ (¬1)؛ لأن قَضِيَّةَ قوله: إن البيع قد انْفَسَخَ بِتَفْوِيتِ البَائِعِ عليه. وإن قُلْنَا: [إنه] (¬2) كَإِتْلاَفِ الأَجْنَبِيِّ، وأَثْبَتْنَا الخِيَارَ فأجاز، وأَرَادَ أن يَطْلُبَ من البائع قِيمَتَهُ، فَيُبْنَى التَّحْلِيفُ على الخِلاَفِ في أنَّه لو أَقَرَّ لِلثَّانِي بعد الإِقْرَارِ الأَوَّلِ، هل يُغَرَّمُ؟ وقد سَبَقَ نظيره، ولا تَمْتَنِعُ دَعْوَى الثَّمَنِ على الآخر؛ فإنه كهَلال المبيع قبل القَبْضِ في زَعْمِهِ، وإن أَنْكَرَ ما ادَّعَيَا، ولا بَيِّنَةَ، حلف لكل وَاحِدٍ منهما يَمِيناً، وقُرِّرَتِ الدَّارُ في يده (¬3). وإن أقام أحَدُهُمَا بَيِّنَةً سُلِّمَتِ الدَّارُ إليه، وليس للآخر تَحْلِيفُهُ، لِتَغْرِيم العَيْنِ؛ فإنه لم يفوتها عليه، وإنما أُخِذَت بالبينة (¬4) وله دَعْوَى الثَّمَنِ. وإن أقام كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً، نظرنا، فإن كانا مُؤَرَّخَتَيْنِ بتَارِيخَيْنِ مختلفين، قُضِيَ بأسْبَقِهِمَا تَارِيخاً؛ لأنه إذا بَاعَ من أحدهما، لم يَتَمَكَّنْ من البَيْع من الثاني، وإن لم يكونا كذلك، فأما أن يَسْتَمِرَّ صَاحِبُ اليد على الإِنْكَارِ والتَّكْذِيبِ، أوَ يُصَدَّقَ بعد قِيَامِ البَيِّنَتَيْنِ. أحدهما الحالة الأولى: إذا اسْتَمَرَّ على التَّكْذِيب، فالبَيِّنَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ، فإن قلنا: بالتَّهَاتُرِ سَقَطَتَا، وحَلَفَ المُدَّعَى عَلَيْهِ لكل وَاحِدٍ منهمَا، كما لو لم يكن بَيِّنَةٌ، وهل لهما اسْتِرْدَادُ الثَّمَنِ؟ .. فيه وَجْهَانِ مَنْقُولاَنِ في "الإِبَانَةِ": أحدهما: لا؛ لحكمنا بِسُقُوطِ البَيِّنَتَيْنِ. وأظهرهما: نعم؛ لأن بَيِّنَةَ كُلِّ واحد منهما شَهِدَتْ بِتَوَفُّرِ الثمن، وإنما يَسْقُطَانِ فيما فيه التَّعَارض، وهو رَقَبَةُ الدَّارِ دون الثَّمَنَيْنِ، وهذا إذا لم تَتَعَرَّضِ البَيِّنَةُ لقبض المَبِيعِ. فإن فُرِضَ التَّعَرُّضُ له، فلا رُجُوعَ بالثَّمَنِ؛ إذ العَقْدُ قد اسْتَقَرَّ بالقَبْضِ، وليس على البَائِعِ عُهْدَةُ ما يحدث بعده. وإن قلنا: بالاسْتِعْمَالِ، فالأَشْهَرُ، أنَّه لا يجيء قَوْلُ الوَقْفِ، بِنَاءً على أن النِّزَاعَ في العَقْدِ والعُقُود لا توقف. ¬
والأَوْجَهُ، وهو المذكور في الكتاب مَجيئُهُ لأنا لا نُوقِفُ نَفْسَ العَقْدِ، وإنما نحن نَتَوَقَّفُ؛ ليَنْكَشِفَ الحَالُ على مَا مَرَّ. وعلى هذا تُنْتَزَعُ الدَّارُ منه. قال الإِمَامُ: وكذا الثَّمَنَانِ، ويُوقَفُ الكل. وإن قُلْنَا: بالقُرْعَةِ، فمن خرجت له القُرْعَةُ تُسَلَّمُ إليه الدَّارُ بالثَّمَنِ الذي سَمَّاهُ، والآخَرُ يسترد الثَّمَنَ الذي أَدَّاهُ. وإن قلنا: بالقِسْمَةِ، فلكل واحدٍ منهما نِصْفُ الدَّارِ بنصف الثَّمَنِ الذي سماه، ولكل واحد منهما خِيَارُ الفَسْخِ؛ لأنه لم يُسَلِّمْ له جَمِيعَ ما اشْتَرَاهُ، فإن فَسَخَا جَمِيعاً، اسْتَرَدَّ كُلُّ وَاحِدٍ منهما جَمِيعَ الثَّمَنِ المَشْهُودَ به. وإن أَجَازَا [جميعاً] (¬1) اسْتَرَدَّ كُلُّ واحد منهما نِصْفَ الثمن المَشْهُودِ به؛ بِنَاءً على الصحيح. وهو أن الإجَازَةَ بالقِسْطِ، لا بجميع الثَّمَنِ. ويجوز أن يُجِيزَ أَحَدُهُمَا، ويَفْسَخَ الآخر، وَيَسْتَرِدَّ جميع الثمن، ثم إن سَبَقَتِ الإِجَازَةُ الفَسْخَ، رَجَعَ المُجِيزُ بنصف الثَمَنِ، ولم يكن له أن يَأْخُذَ النِّصْفَ المَرْدُودَ، ويَضمه إلى ما عنده؛ لأنه حين أَجَازَ، رَضِيَ بالنصف. وإن سَبَقَ الفَسْخُ الإِجَازَةَ، فهل لِلْمُجِيزِ أَخْذُ الجميع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنا نَتَكَلَّمُ على قَوْلِ القِسْمَةِ، [ولا يَأْخُذُ كُلُّ واحد منهما إلا ما تَقْتَضِيهِ القِسْمَةُ] (¬2)، والمَرْدُودُ يَعُودُ إلى البَائِعِ. وأظهرهما: وبه أجاب العِرَاقِيُّونَ: له ذلك؛ لأن بَيِّنَتَهُ قد قَامَتْ على الكُلِّ، وإنما لم يأخذ الكل لِمُزَاحَمَةِ الآخر، فإذا انتفت (¬3) زحمته أخذ، وليس كالصُّورَةِ السَّابِقَةِ؛ فإنه قَنَعَ هناك بالنِّصْفِ، وانفصل أمره (¬4). وبالقول الآخَرِ وهو القِسْمَةُ، أجاب الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- في هذه المسألة، ورَوَى الرَّبِيعُ قَوْلاً آخَرَ في المسألة: وهو أن البَيْعَيْنِ مَفْسُوخَانِ ويرجع إلى قول المدعى عليه، فيقضي [بموجب قوله] (¬5) وامْتَنَعَ جَمَاعَةٌ من الأَصْحَاب مِن إِثْبَاتِهِ قَوْلاً للشافعي -رضي الله عنه-، منهم من خَطَّأَهُ، ومنهم من قال: هو من كيسَه وتخريجه. الحالة الثانية: إذا صَدَّقَ صَاحِبُ اليد أَحَدَ المُتَدَاعِيَيْنِ وشهوده، فعلى قول التَّهَاتُرِ، تُسَلَّمُ الدَّارُ إلى المُصَدّقِ، وهو كما لو لم تكن بَيِّنَةٌ، وأقر لأحدهما. وإن قلنا: بالاسْتِعْمَالِ، فوجهان -قال ابن سُرَيْجٍ يقدم من صدقه البائع؛ لأن الدَّارَ ¬
في يَدِهِ، فمن صدقه كأنه نَقَلَ إليه يده، فَتَجْتَمِعُ البَيِّنَةُ واليد. والأصَحُّ المَنْعُ؛ لاتِّفَاقِ البَيِّنَتَيْنِ على إِسْقَاطِ يده، وانْتِزَاعِ المَالِ منه باتِّفَاقِ الأَقْوَالِ. واليد المُزَالَةُ لا تَقْتَضِي تَرْجِيحاً، فعلى هذا الحُكْم كما لو لم يصدق وَاحِد [منهما] (¬1) وَقَدَّمَاهُ، ثم اعرف شيئين: أحدهما: أن الأَصْحَابَ لم يُفَرِّقُوا فيما إذا لم تَكُنِ البَيِّنَتَانِ مُؤَرَّخَتَيْنِ بتاريخين مختلفين وبين أن يكونا مُطْلَقَتَيْنِ، أو مُؤَرَّخَتَيْنِ بِتَارِيخٍ واحد، أو إحداهما مُطْلَقَةٌ، والأخرى مُؤَرَّخَةٌ، بل صَرَّحُوا بالتَّسْوِيَةِ. إلا أن أبا الفَرَجِ الزَّاز اسْتَدْرَكَ فقال: هذا إذا لم نُقَدِّمِ البَيِّنَةَ المُؤَرَّخَةَ على المُطْلَقَة، فإن قَدَّمْنَاهَا، قَضَيْنَا لصاحب البَيِّنَةِ المُؤَرَّخَةِ، ولا تجيء الأَقْوَالُ (¬2). والثاني: خَصَّصُوا الوَجْهَيْنِ في أن تَصْدِيقَ صَاحِب اليد، هل يَقْتَضِي التَّرْجِيحَ؟ بما إذا فرغنا على قَوْلِ اسْتِعْمَالِ البَيِّنتَيْنِ. وأما على قول التَّهَاتُرِ، فلم يُفَرِّقُوا بين أن يصدق، أو لا يصدق. كما حَكَيْنَا، ولكن قِيَاسُ جَعْلِ التصديق مَرَجِّحاً، أن يُقَالَ: يترجح (¬3) جانب من صَدَّقَهُ، وليست حَالَهُ التَّصْدِيقِ مَوْضِعَ خِلاَفِ التَّهَاتُرِ والاستعمال، كاليَدِ وسَائِرِ ما يوجب التَّرْجِيحَ. ولْنَعُدْ إلى لفظ الكتاب قوله: "إذا ادَّعَى رجلان دَاراً ... " إلى آخره، وليس في التَّصْوِيرِ ذِكْرُ إِقَامَةِ كل واحد منهما البَيِّنَةَ على ما ادَّعَاهُ، فلا بد من تقديره (¬4). وقوله: "وإذا جَرَتِ الأقوال الأربعة"، يريد بها التَّسَاقُطَ، والوَقْفَ، والقُرْعَةَ، والقِسْمَةَ. ولْيَعْلَمْ بالواو لما حكينا في الوَقْفِ. وأيضاً فَعَنِ الشَّيْخ أبي محمد أن قول القُرْعَةِ، لا يجري، إلا إذا تَحَقَّقْنَا صِدْقَ أحدهما، وكَذِبَ الآخر؛ بأن أُرِّخَا بِتَارِيخٍ وَاحِدٍ. فأما إذا احْتُمِلَ أن يكونا صَادقين، فإن أَطْلَقَا، أو أطلق أَحَدُهُمَا، وأَرَّخَ الآخر، فإنه لا يَجْرِي. وأيضاً فقد ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ رُكْنِ البَيِّنَةِ طُرُقاً في موضع الأقوال؛ منها ما ينفي (¬5) اجتماع الأَقْوَالِ الأرْبَعَةِ هاهنا وقوله: "فإذا فسخ (¬6) أحدهما رَجَعَ إلى الثَّمَنِ، وكأن الآخَرَ، أخذ جَمِيعَ الدار"، المراد منه ما إذا تَقَدَّمَ الفَسْخُ. ¬
فرع
وقوله: "أخذ جَمِيعَ الدَّارِ" مُعَلَمٌ بالواو؛ للوجه الذي ذَكَرْنَاهُ. وقوله: "في المسألة قول خامس"، مُعَلَمٌ بالواو؛ لما عَرَفْتَ أن من الأَصْحَابِ من لم يُثْبِتْهُ. ولفظ الكتاب في حكايته هذا القَوْلِ مُصَرَّحٌ بِفَسْخِ العَقْدَيْنِ، لكن الأَثْبَتَ من رواية هذا القَوْلِ، بُطْلاَنُ العَقْدَيْنِ، لا إنشاء الفسخ. قال الفَارِسِيُّ في "عيون المسائل": قال الربيع في موضع آخَرَ: إن البَيْعَ فَاسِدٌ، وهو أَوْلَى. فأطلق لفظ الفَسَادِ، وهو الذي أَرَادَ من نقله؛ أنَّه مَفْسُوخٌ. والشافعي -رضي الله عنه- كثيراً ما يُطْلِقُ لَفْظَ المَفْسُوخِ، ويريد به البَاطِلَ. فرع: عن الشيخ أبي عَاصِمٍ: أنَّه لو تَعَرَّضَتْ إحدى البَيِّنتَيْنِ لكون الدَّارِ مِلْكاً للبائع وَقْتَ البيع، أو لكونها مِلْكاً للمشتري اليَوْمَ، كانت مُقَدَّمَةً، وإن لم يَذْكُرَ تَارِيخاً، وأنه لو كانت في إِحْدَى البَيِّنَتَيْن ذِكْرُ نَقْدِ الثَّمَنِ دون الأخرى، كانت مُقَدَّمَة على الأخرى، سَوَاءً كانت سَابقَةً، أو مَسْبُوقَةً (¬1)؛ لأن التي تَتَعَرَّضُ لِنَقْدِ الثَّمَنِ تُوجِبُ التَّسْلِيمَ، والأُخْرَى لا تُوجِبُهُ؛ لِبَقَاءِ حَقِّ الحَبْسِ للبائع، فلا تَكْفِي المُطَالَبَةُ بالتسليم. فرع: دَارٌ في يد إِنْسَانٍ جاء اثْنَانِ يَدَّعِيَانِهَا، قال أحدهما: اشْتَرَيْتُهَا من زيد، وهو يَمْلِكُهَا. وقال الآخر: اشْتَرَيتُهَا من عمرو، وهو يَمْلِكُهَا، [وكان] أو نَسِيَا معاً الشِّراء إلى شَخْصٍ وَاحدٍ، وأَقَامَ كُلُّ واحد بَيِّنَةً على ما يقوله، فهما مُتَعَارِضَتَانِ، فإن قُلْنَا: بالتَّسَاقُطِ، فكأنه لا بَيِّنَةَ، ويحلف صَاحِبُ اليد لكل واحد يَمِيناً. وإن قلنا: بالاسْتِعْمَالِ، ففي مَجِيءِ قَوْلِ الوَقْفِ الخِلاَفُ الذي سَبَقَ، ويجيء قَوْلاَ القُرْعَةِ، والقِسْمَةِ، والتفريع كما سبق، إِلاَّ أَنَّ على قَوْلِ القِسْمَةِ إذا اختار أَحَدُهُمَا فَسْخَ العَقْدِ، والآخر إِجَازَتَهُ. لم يكن لِلْمُجِيزِ أَخْذُ النصفِ الآخر [سواء] (¬2) تقدم الفَسْخُ، أو تَقَدَّمَتِ الإِجَازَةُ، إذا ادعيا الشِّرَاءَ من شخصين؛ لأن المَرْدُودَ يَعُودُ إلى غير من يَدَّعِي المُجِيزُ الشِّرَاءَ منه؛ فكيف يَأْخُذُهُ. وحيث قلنا بِثُبُوتِ الخِيَارِ على قول القِسْمَةِ، فذلك إذا لم تَتَعَرَّضِ البَيِّنةُ لقبض المَبِيعِ، ولا اعْتَرَفَ به المُدَّعِي، إلا فإذا جَرَى القَبْضُ، استَقَرَّ العَقْدُ، وما يحدث ¬
بعده، فليس على البَائِع عُهْدَتُهُ (¬1)، وإنما شَرَطْنَا في صُورَةِ الفَرْع أن يقول كل واحد منهما وهو يَمْلِكُهَا؛ لأن من ادَّعَى مَالاً في يَدِ إِنْسَانِ، وقال: اشْتَرَيْتُهُ من فلان، لم تُسْمَعْ دَعْوَاهُ حتى يقول [اشتريته منه] (¬2) وهو يملكه، ويقوم مقامه، أن يقول: وتَسَلَّمْتُهُ منه، أو سَلَّمَهُ إِلَيَّ؛ لأن الظَّاهِرَ أنَّه إنما يَتَصَرَّفُ بالتسليم فيما يَمْلِكُ. وفي دَعْوَى الشراء من صَاحِبِ اليَدِ لا يحتاج أن يقول: وأنت تملكه، ويكتفي بأن اليد تَدُلُّ على المِلْكِ (¬3)، وكذلك يشترط (¬4) أن يقول الشَّاهِدُ [في الشهادة] (¬5): اشْتَرَاهُ من فُلاَنٍ، وهو يَمْلِكُهُ، أو اشْتَرَاهُ، وتَسَلَّمَهُ منه، أو سَلَّمَهُ هو إليه. قال الإمَامُ: ويجوز أن يُقِيمَ شُهُوداً على أنَّه اشْتَرَى من فُلاَنٍ، وآخرين على أن فُلانَاً كان يَمْلِكُهُ، إلى أن بَاعَ منه، لكن الآخرين إنْ شهدوا هكذا، فقد شَهِدُوا على البَيْعِ والمِلْكِ. وكان المُرَادُ، ما إذا أقام شُهُوداً على أنَّه اشْتَرَى منه وَقْتَ كذا، وآخرين على أنَّه كان يَمْلِكُ إلى وَقْتِ كذا. وإذا أَقَامَ أحد المدعيين (¬6) بَيِّنَةً أنَّه اشْتَرَى الدَّار من فلان، وكان يَمْلِكُهَا، وأَقَامَ الآخَرُ البَيِّنَةَ على أنَّه اشْتَرَاهَا من مُقِيمِ البَيِّنَةِ الأولى، يُحْكَمُ ببينة (¬7) الثاني، ولا يحتاج أن يقول المقيم البَيِّنَةِ وأنت تَمْلِكهَا. كما لا يحتاج أن يقوله لِصَاحِبِ اليَدِ؛ لأن البَيِّنَةَ تَدُلُّ على المِلْكِ، كما أن اليَدَ تَدُلُّ عليه. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثَةُ: أَنْ يَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَيْهِ أَلفاً مِنْ ثَمَنِ دَارٍ فِي يَدِهِ، فَالصَّحِيحُ (و) أَنْ لاَ تَعَارُضَ وَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ في ذِمَّتِهِ، إلاَّ إِذَا عَيَّنَّا وَقْتَاً يَسْتَحِيلُ فِيهِ تَقْدِيرُ عَقْدَيْنِ مُتَعَاقِبَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذه المَسْأَلَةُ غير الثانية؛ هناك ادَّعَى اثْنَانِ شِرَاء ما في يَدِهِ منه، وكل [يطالب به هاهنا ادَّعَى اثْنَانِ بَيْعَ ما في يَدِهِ منه، وكُلُّ] (¬8) يُطَالِبُهُ بِالثَّمَنِ؛ وصورتها دَارٌ في ¬
يَدِ إِنسان، جاء اثْنَانِ، فقال كُلُّ واحد منهما: بعْتُ منك هذه الدَّارَ، وكانت مِلْكِي بكذا، فَأَدِّ الثَّمَنَ. فإن أَقَرَّ لهما، طُولِبَ بالثَّمَنَيْنِ. وإن أَقَرَّ لأحدهما، طُولِبَ بالثَّمَنِ الذي سَمَّاهُ، وحَلَفَ الآخَرُ (¬1). وإن أنكر ما ادَّعَيَاهُ، ولا بَيِّنَةَ، حلف لهما يَمِينَيْنِ. وإن أَقَامَ أحدهما البَيِّنَةَ، قُضِيَ له، وحَلَفَ للآخر. وإن أَقَامَ كُلُّ واحد منهما البَيِّنَةَ، فَيُنْظَرُ إن أُرِّخَتَا بتَارِيخَيْنِ مختلفين، فعليه الثَّمَنَانِ؛ لإِمْكَانِ اجتماعهما. وإن أُرِّخَتَا بتَارِيخٍ وَاحِدٍ، بأن عُيِّنَا أَوَّلَ الطُّلُوع، أو الزَّوَالِ، فهما مُتَعَارِضَتَانِ؛ لامتناع كَوْنِ الشيء الوَاحِدِ مِلْكاً في وَقْتٍ واحد، لهذا وحده، ولهذا وحده، فعلى قول التَّهَاتُرِ كأنه لا بَيِّنَةَ. وعلى قول القُرْعَةِ، يُقْرَعُ، فمن خَرَجَتْ له القُرْعَةُ، قُضِيَ له بالثَّمَنِ الذي شَهِدَ به شهوده، وللآخر تَحْلِيفُة لا مَحَالَةَ؛ لأنه لو اعْتَرَفَ به بعد ذلك، لَزِمَهُ. وعلى قول القِسْمَةِ لكل واحد منهما نِصْفُ الثَّمَنِ الذي سَمَّاهُ، وكأن الدَّارَ كانت لهما، فَبَاعَاهُ بِثَمَنَيْنِ مختلفين، أو مُتَّفِقَيْنِ. وفي مجيء قول الوقف الخِلاَفُ السَّابِقُ، والظاهر مَجِيئُهُ. وإن كانت البَيِّنَتَانِ مُطْلَقَتَيْنِ، أو إحداهما مُطْلَقَةٌ، والأخرى مُؤَرَّخَةٌ، فوجهان: أصحهما: عند صاحب الكتاب والإمَام: أنهما كالمُؤَرَّخَتَيْنِ بتاريخين مختلفين، ويلزمه (¬2) الثَّمَنَانِ؛ لأن التَّنَافِيَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، والَعَمَلُ بكل واحد من البَيِّنَتَيْنِ مُمْكِنٌ. والثاني: أنهما كالمُؤَرِّخَتَيْنِ بِتَاريخٍ واحد؛ لأنهما رُبَّمَا شهدا (¬3) [على] (¬4) البيع في وَقْتٍ وَاحِدٍ، والأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ المُشْتَرِي، فلا يُؤَاخَذُ إلا باليَقِينِ. قال القاضي ابْنُ كَجٍّ: وبهذا قال القَاضِي أبو حَامِدٍ، وأبو الحسين وغيرهما، وَوَجَّهَهُ أيضاً: بأن المدعيين مُتَّفِقَانِ [على أنَّه] (¬5) لم يَجْرِ إلا بَيعَةٌ واحدة منهما، وكُلٌّ منهما يقول: أنا صَاحِبُهَا. فعلى هذا يَعُودُ خِلاَف التَّعَارُضِ. وحكى الشيخ أبو حَاتِمٍ القزويني طَرِيقَةً أُخْرَى قَاطِعَةً بالوجه الأول؛ وذكر هو، وأبو الفَيَّاضِ: إن مِنَ الأصحاب ¬
فرعان
من قال: إن شهدت البَيِّنَتَانِ على الإقباض مع البَيْعِ، وجب الثَّمَنَانِ لا مَحَالَةَ. ولو قامت البينتان على إقْرَارِ المدعى عليه بما ادَّعَيَا، فالأَظْهَرُ أن الحُكْمَ كما لو قَامَتَا على البيعين نفسهما. فَيُنْظَرُ أَقَامَتَا على الإِقْرَارِ مُطْلَقاً، أو على الإِقْرَارِ بالشِّرَاءِ من زَيْدٍ في وَقْتٍ، ومن عمرو كذلك؟ وقيل يجب الثَّمَنَانِ، وإن كانتَ الشَّهَادَةُ على الإِقْرَارَيْنِ مطلقاً، بخلاف الشَّهَادَةِ على البَيْعَيْنِ مطلقاً؛ لأن الشَّهَادَةَ على الإِقْرَارِ [مطلقاً] قد يثبت بها ما لا يَثْبُتُ بالشهادة على نَفْسِ المُقَرِّ به، ألا تَرَى أنَّه لو قَامَتْ بَيِّنَةٌ على إِقْرَارِهِ بالغَصْب من زيد، وأُخْرَى على إِقْرَارِهِ بالغَصْبِ من عمرو يَلْزَمُهُ قِيمَتَانِ؟ ولو قامتا على نَفْسِ الغَصْبِ من زيد، والغَصْب من عمرو كانتا متعارضتين (¬1)؟ فإذا اسْتَعْمَلْنَاهُمَا، لم يجب إلا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ. وقوله في الكتاب: "فالصحيح ألا تَعَارُضَ ... " إلى قوله: "يستحيل فيه تقدير عَقْدَيْنِ مُتَعَاقِبَيْنِ". أشار إلى أن التَّعَاقُبَ المُلْزِمَ للثمنين، يَفْتَقِرُ إلى زَمَانٍ يُفْرَضُ فيه العَقْدُ الأول، ثم الانْتِقَالُ من المشتري إلى البَائِع الثاني، ثم العَقْدُ الثاني، فإذا عين الشُّهُودُ وَقْتاً، لا يَتَأتَّى فيه ذلك. لم يُتَصَوَّرْ لُزُومُ الثَّمَنَيْنِ، وحَصَلَ التَّنَافِي، وفيما عدا ذلك حُكِمَ بِلُزُومِ الثَّمَنَيْن. [ويدخل فيه ما إذا أُرِّخَتَا بِتَارِيخيْنِ ولا خلاف في لزوم الثَّمَنَيْنِ] (¬2) فيه، وما إذا أُطْلِقَت إحداهما، وأُرِّخَتِ الأخرى، وفيه الخِلاَفُ الذي سَبَقَ. قال الإِمام: ولو شهد شَاهِدَانِ على أنَّه بَاعَ من فُلاَنٍ سَاعَةَ كذا، وشَهِدَ آخران على أنَّه في تلك الحَالَةِ كان سَاكِناً، أو شَهِدَ اثْنَانِ على أنَّه قَتَلَ فلاناً سَاعَةَ كذا، وشهد آخر على أنه كان [سَاكِناً] (¬3) في تلك السَّاعَةِ، لا يَتَحَرَّكُ، ولا يَعْمَلُ شَيْئاً، ففي قَبُولِ الشَّهَادَةِ الثانية خِلاَفٌ للأصحاب؛ لأنها شَهَادَةٌ على النَّفْي وإنما تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ على النَّفْي في المَضَايِقِ، وأَحْوَالِ الضَّرُورَاتِ، فإن سَمِعْنَاهُ فَيتصف (¬4) التعارض بهذا الطَّرِيقِ أيضاً. فرعان: أحدهما: ذكر الأكثرون في صُورَةِ المَسْأَلَةِ: أن يقول كل واحد منهما: بِعْتُ منك كذا، وهو مِلْكِي. وكذلك لَفْظُ الشَّافعي -رضي الله عنه- في "المختصر"، وهو مُوَافِقٌ لما مَرَّ؛ أنَّه إذا ادَّعَى الشِّرَاءَ عن صَاحِب اليَدِ، يقول: اشْتَرَيْتُهُ منه، وهو ملكي (¬5). وفي "تتمة الجامع الصغير" لأبي الفَيَّاضِ، أنَّه لا فَرْقَ بين أن يَقُول كل واحد: [و] (¬6) هو مِلْكِي، أو لا يقول. ¬
والثاني: إذا قلنا بالقِسْمَةِ عند تَعَارُضِ البَيِّنَتَيْنِ في المَسْأَلَةِ فقسم الثمن، لم يكن لصاحب اليد الخِيَارُ؛ لأنه يَحْصُلُ له تَمَامُ البَيْع، ولا غَرَضَ له في عين (¬1) البائع. وعن أبي الحُسَيْنِ بن القَطَّانِ ثُبُوتُهُ؛ لأنه قد يَرْضَى بِمُعَامَلَةِ وَاحِدٍ، ولا يرضى بِمُعَامَلَةِ اثْنَيْنِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرَّابِعَةُ: ادَّعَى عَبْدٌ أَنَّ مَوْلاَهُ أَعْتَقَهُ وَادَّعى آخَرُ أَنَّ مَوْلاَهُ بَاعَهُ مِنْهُ فَالبَيِّنَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ وَلاَ يُقَدَّمُ (ز) جَانِبُ العَبْدِ بِتَقْدِير أنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَعَلَى قَوْلِ القِسْمَةِ يُعْتَقُ نِصْفُ العَبْدِ وَلاَ يَسْرِي (و) لأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِهِ قَهْراً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: عَبْدٌ في يَدِ رَجُل؛ ادَّعَى أن مَوْلاَهُ أَعْتَقَهُ، وادَّعَى آخر أنَّه باعه منه بكذا، وأَنْكَرَ صَاحِبُ اليد ما ادعياه (¬2)، ولا بَيِّنَةَ، حَلَفَ لهما يَمِينَيْنِ، وإن أَقَرَّ بالعِتْقِ، ثَبَتَ العِتْقُ، ولم يكن للمشتري تَحْلِيفُهُ، إن قلنا: إن إِتْلاَفَ البائع كَالآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ؛ لأنه بالإِقْرَارِ بالعِتْقِ مُتْلِفٌ قبل القبض، فَيَنْفَسِخُ البَيْعُ. نعم لو ادَّعَى تَسْلِيمَ الثَّمَنِ، حَلّفَهُ له. وإن أقر بالبيع قُضِيَ به، ولم يكن لِلْعَبْدِ تَحْلِيفُهُ؛ لأنه وإن اعْتَرَفَ به، لم يُقْبَلْ، ولم يلزمه غُرْمٌ. قال القاضي الروياني: ولا يوجد مَوْضِعٌ يقر لأحد المُدَّعِيَيْنِ، ولا يَحْلِفُ للآخر قَوْلاً واحداً، إلا هذا (¬3). وإن أقام كُلُّ واحد منهما بَيِّنَةً، نُظِرَ؛ إن أُرِّخَتَا بِتَاريخَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، قُضِيَ بِأَسْبَقِهِمَا تَارِيخاً. وإن أُرِّخَتَا بتاريخ واحد، فهما مُتَعَارِضَتَانِ، وفيهما القَوْلاَنِ، فإن قُلْنَا: بالتَّهَاتُرِ، فالحُكْمُ كما لو لم تكن بَيِّنَةٌ. وإن قلنا: بالاسْتِعْمَالِ، ففي مَجِيءِ قَوْلِ الوَقْفِ الخِلاَفُ السابق. وإن قلنا: بالقُرْعَةِ، قُضِيَ لمن خَرَجَتْ له القُرْعَةُ. وعن ابن سُرَيْجٍ أنَّه يُقَوَّى في هذه الصُّورَةِ قَولُ القُرْعَةِ؛ لاشْتِمَالِ الخُصُومَةِ على دَعْوَى العِتْقِ. وإن قلنا: بالقِسْمَةِ، عُتق نِصْفُ العَبْدِ، ونصفه لمدعي الشراء بنصف الثَّمَنِ. وله الخِيَارُ؛ لأنه لم يسلم له جميع ما اشتراه. فإن فَسَخَ، فالمَشْهُورُ أنه يعتق النِّصْفُ الآخر أيضاً؛ لأن البَيِّنَةَ قامت على أنه أَعْتَقَ الجَمِيعَ. وإنما لم يُحْكَمْ بموجبها لِزَحْمَةِ مُدَّعِي الشراء، فإذا انْقَطَعَتْ زَحْمَتُهُ، حُكِمَ به. ¬
وفيه وَجْهٌ آخر، أنه لا يعتق؛ لأن قَضِيَّةَ القِسْمَةِ اقْتِصَارُ العِتْقِ على النصف. وإيراد "التهذيب" يُشْعِرُ بِتَرْجِيح هذا الوجه وإن أَجَازَ مُدَّعِي الشراء، فإن كان المُدَّعَى عَلَيْهِ مُعْسِراً، لم يَسْرِ العِتْقُ إليه، وإن كان مُوسِراً فقولان؛ أو وجهان: أحدهما: أن الجَوَابَ كذلك؛ لأنه عِتْقٌ مَحْكُومٌ به قَهْراً، كما إذا وَرِثَ بعض قريبه (¬1) يُعْتَقُ عليه، ولا يَسْرِي. والثاني: لقيام البَيِّنَةِ على أنَّه أَعْتَقَ باختياره. والأوَّلُ هو المَذْكُورُ في الكتاب. والثاني -أَصَحُّ عند القَاضِي الروياني. ونقل أبو الفَيَّاضِ وغيره وَجْهاً؛ أن قَوْلَ القِسْمَةِ لا يَجْرِي هاهنا تَحَرُّزاً من تَبْعِيضِ العِتْقِ. وقال المزنى: القِيَاسُ عندي، تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ العِتْقِ؛ لأن العَبْدَ في يد نَفْسِهِ، وَبَيِّنَةُ صاحب اليد مُقَدَّمَةٌ، وخرج هذا قَوْلاً للشافعي -رضي الله عنه-. لكن الأصحاب ضَعَّفوهُ، وامْتَنَعُوا من إِثبَاتِهِ قَوْلاً، وقالوا: إنما يكون في يَدِ نَفْسِهِ، أن لو ثَبَتَتْ حُرِّيَّتُهُ، والكَلاَمُ فيه؛ لأنه لو كَانَ في يَدِ نَفْسِهِ، لكانت الدَّعْوَى عليه على السَّيِّدِ، ولو كانت البَيِّنَتَانِ مُطْلَقَتَانِ، أو إحداهما مُطْلَقَةٌ، والأخرى مُؤَرَّخَةٌ. فالحكم كما لو أُرِّخَتَا بِتَارِيخٍ واحد. وحكى الإِمام طَرِيقَةً قَاطِعَةً؛ بأنه لا يَجْرِي قَوْلُ التَّهَاتُرِ؛ لأن صِدْقَهُمَا ممكن، بأن باع صاحب اليَدِ من مدعي الشِّرَاءِ، ثم انْتَقَلَ منه إلى صَاحِبِ اليَدِ، ثم أعتق. وهذا حدُّ الطرق المذكورة من قَبْلُ في موضع أقوال التَّعَارُضِ. وتصديق صَاحِبِ اليَدِ بعد قِيَامِ البَيِّنَتَيْنِ ولا يوجب الرُّجْحَانَ؛ خِلاَفاً لابن سُرَيْجٍ على ما تَقَدَّمَ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي المَوْتِ وَفِيهِ ثَلاَثُ مَسَائِلَ: الأُولَى ابْنٌ مُسْلِمٌ وَآخَرُ نَصْرَانِيٌّ ادَّعَى المُسْلِمُ أَنَّ أَبَاهُ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ فَالقَوْلُ قَوْلُ النَّصْرَانِيِّ وَالمُقَدَّمُ بَيِّنَةَ المُسْلِمِ إِنْ تَعَارَضَتَا لِأَنَّ النَّاقِلَةَ أَوْلَى مِنَ المُسْتَصْحَبَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا ادَّعَى الإِبْنُ الإرْثَ فِي دَارِ وَادَّعَتْ زَوْجَةُ الأَبِ أَنَّ أَبَاهُ أَصْدَقَهَا أَوْ بَاعَهَا قُدِّمَتْ بَيِّنَتُهَا، وَلَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَة نَصْرَانِيِّ أنَّهُ نَطَقَ بِالتَّنَصُّرِ وَمَاتَ عَقِيبَهُ فَهُمَا مُتَعَارِضَتَانِ وَيَجْرِي (و) قَوْلُ القِسْمَةِ وَإِنْ كَانَ لاَ يَشْتَرِك مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ فِي إرْثٍ، وَلَوْ كَانَ المَيِّتُ مَجْهُولَ الدِّينِ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ أنَّهُ مَاتَ عَلَى دِينِهِ فَلاَ تَرْجِيح (ح و) لِبَبِّنَةِ الإِسْلاَمِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الآخَرِ بِالتَّصْدِيقِ ¬
فَيُجْعَلُ كَأَنَّ المالَ فِي يَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا لَمْ يُخَصَّ بِالتَّصْدِيقِ بَعْدَ إقْرَارِهِ بِأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ الإِرْثِ، وَيُصَلَّى عَلَى هَذَا المَيِّتِ احْتِيَاطاً فَلَعَلَّهُ مُسْلِمٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مَقْصُودُ هذا الطَّرَفِ، الكَلاَمُ في التَّدَاعِي وَتَعَارُض البَيِّنَتَيْن في المَوْتِ، والمِيَراثِ فمن مسائله: مات رجل عن اثْنَيْنِ، مُسْلِمٍ ونَصْرَانِيٍّ مَثَلاً، واختلفا، فيما مَاتَ عليه الأب؛ فقال المُسْلِمُ: مات مُسْلِماً، فَلِي المِيرَاثُ. وقال النَّصْرَانِيُّ: مات نصرانياً، فلي المِيرَاثُ. فإما أن يكون الأَبُ مَعْرُوفَ الدِّينِ، أو لا يكون، الحالة الأولى -إذا كان الأَبُ مَعْرُوفاً بالتَّنَصُّرِ، فقال المُسْلِمُ: أَسْلَمَ، ثم مات. وقال النَّصْرَانِيُّ: بل مات على ما كان عليه. فالقَوْلُ قول النَّصْرَانِيِّ، مع يَمِينِهِ؛ لأن الأَصْلَ بَقَاءُ كُفْرِهِ. وإن أَقَامَ كل واحد منهما بَيِّنَةً؛ نُظِرَ، إن أُطْلِقَتَا؛ فقالت بَيِّنَةُ المُسْلِم: إنه مات مُسْلِماً. وقالت بَيِّنَةُ النَّصْرَانِيِّ: إنه مات نَصْرَانِياً، فَبَيِّنَةُ المُسْلِم مُقَدَّمَةٌ؛ لأن معها زِيَادَةُ عِلْمٍ، وهي انْتِقَالُهُ من النصرانية إلى الإِسْلاَم، والبينة الأخرى اسْتَصْحَبَتْ، وشَهِدَتْ بالأصل، والنَّاقِلَةُ أَوْلَى من المُسْتَصْحِبَةِ. ولمثل ذلك قَدَّمْنَا بَيِّنةَ الجَرْحِ على التَّعْدِيلِ. ولو مات رَجُلٌ عن ابْنٍ، وزوجة؛ فقال الابن: دَارُهُ هذه مِيرَاثٌ بيننا، وقالت الزَّوْجَةُ: بلى هي لي أَصْدَقَنِيهَا أبوك، أو بَاعَهَا مِنِّي. وأقام كل واحد بَيِّنَةً، فَبَيِّنَتُهَا أوْلَى. ولو ادعى مَجْهُولٌ أنك عَبْدِي، وأقام عليه بَيِّنَةً، وأقام المُدَّعَى عليه بَيِّنَةً أنَّه كان مِلْكاً لفلان، فَأعْتَقَهُ. تُقَدَّمُ البَيِّنَةُ الثانية؛ لِعِلْمِهَا بالانْتِقَالِ من الرِّقِّ إلى الحُرِّيَّةِ. وعلى هذا قِيَاسُ المَسَائِلِ؛ فلو قُيِّدَتِ البَيِّنَتَانِ؛ بأن تَكَلَّمَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ بكلمة فقال: الابن المُسْلِمُ، كانت تلك الكَلِمَةُ كَلِمَةَ الإِسلام، وأقام عليه بَيِّنَةً. وقال النَّصْرَانِيُّ: بل كانت كَلِمَةَ التَّنَصُّرِ، وأقام عليه بَيِّنَةً. فإن قلنا بِالسُّقُوطِ، يَسْقُطَانِ، ويصير كأن لا بَيِّنَةَ، ويُصَدَّقُ النصراني بِيَمِينِهِ. وإن قلنا: بالاسْتِعْمَالِ، فعلى قَوْلِ الوَقْفِ تُوقَفُ التَّرِكَةُ، لا مَحَالَةَ؛ لأن المُدَّعَى مَالٌ. وعلى القُرْعَةِ يُقْرَعُ، فمن خرج له القُرْعَةُ، فله التَّرِكَةُ، وعلى قَوْلِ القِسْمَةِ، تُقَسَّمُ؛ فيجعل النِّصْفُ لهذا، والنصف لهذا. كما لو كان التَّنَازُعُ في غَيْرِ المِيرَاثِ. وقال أبو إِسْحَاقَ: لا يَجِيءُ قول القِسْمَةِ هاهنا؛ لأن الحُكْمَ بالقِسْمَةِ حكم بالخَطَإ يَقِيناً، ولأن الشَّخْصَ لا يَمُوتُ كَافِراً مُسْلماً وفي غير صورة الميراث. ليست القِسْمَةُ حكماً بالخطأ يَقِيناً؛ لجواز أن يكون المُدَّعَى مُشْتَرَكاً بينهما، كما قَسَّمْنَا، ولأن الكَافِرَ والمُسْلِمَ لا يشتركان في المِيرَاثِ، والظَّاهِرُ الأول. وليست القِسْمَةُ حكماً منا بأنه مَاتَ كافراً مُسْلِماً، ولا تَشْرِيكاً منا في الإِرْثِ، ولكن بَيِّنَةُ كل واحد منهما
اقتضت (¬1) أن يَكُونَ جَمِيعُ المَالِ له، إلا أن البَيِّنَةَ الأخرى عارضتها، فعملنا (¬2) بكُلِّ وَاحِدَةٍ منهما، بِحَسَبِ الإِمْكَانِ. قال العراقيون: وليس صَرْفُ النِّصْفِ إلى كل واحد منهما خَطَأً يقيناً؛ لاحتمال أنَّه مَاتَ نَصْرَانِيّاً، وهما نَصْرَانِيَّانِ، فورث مَالَهُ، ثم أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، وادعى موته مُسْلِماً؛ ليَفُوزَ بالجَمِيعِ. الحالة الثانية: إذا لم يكن الأَبُ مَعْرُوفَ الدِّين، وادَّعَى كُلُّ واحد من الاثْنَيْنِ أنَّه كان على دِينِهِ، فإن لم تَكُنْ بَيِّنَةٌ، نُظِرَ؛ إن كان المَالُ في يَدِ غيرهما، فالقَوْلُ قوله، وإن كان في يَدِهِمَا، فَيَحْلُفُ كُلُّ واحد منهما لِصَاحِبِهِ، ويُجْعَلُ بينهما. وإن كان في يَدِ أحدهما، فالذي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وجماعة: أن القول قَوْلُهُ، مع يَمِينِهِ، ونَسَبَ الإِمام هذا الوَجْهَ إلى القاضي الحُسَيْنِ، كأنه أَجَابَ بِمِثْلِ جوابهم. والصحيح، وهو المذكور في الكتاب: أنَّه يُجْعَلُ بينهما أَيْضاً، ولا أَثَرَ لِلْيَدِ بعد اعْتِرَافِ صَاحِب اليد بأنه كَانَ لِلْمَيِّتِ (¬3)، وأنه يأخذه إِرْثاً، وإن أقام كُلُّ واحد بَيِّنَةً، فالبَيِّنَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ، ولا فَرْقَ في هذه الحَالَةِ بين أن يكونا مطلقتين، أو مقيدتين. ويجيء في جَرَيَانِ قَوْلِ القِسْمَةِ خَلاَفُ أبي إِسحَاقَ، وفيه وجه: أن بَيِّنَةَ الإِسْلاَمِ مُقَدَّمَةٌ؛ لأن الظَّاهِرَ من حال مَنْ [في] (¬4) دار الإِسْلاَمِ، إنما هو الإِسْلاَمُ. والمَشْهُورُ الأول، ويُصَلَّى على هذا المَيِّتِ المَشْكُوكِ في دِينِهِ، وَيدْفِنُهُ في مقابر المسلمين. وتعتد النية (¬5) في الصَّلاةُ فيقول: أُصَلِّي عليه إن كان مُسْلِماً، كما لو اخْتَلَطَ مَوْتَى المُسْلِمِينَ بموتى الكُفَّارِ، وقد مَرَّ ذكره في الجَنَائِزِ. ونَخْتِمُ المَسْأَلَةَ بِفَوَائِدَ عن الشيخ أبي عَاصِم: أنه فَسَّرَ كلمة "التَّنَصُّرِ" فيما إذا شَهِدَتِ البَيِّنَتَانِ على آخر ما تَكَلَّمَ به، بأن يقول: لا إله إلا الله، عيسى رَسُولُ الله. قال القاضي أبو سَعْدٍ: وفيه إِشْكَالٌ ظَاهِرٌ، فإن المسلمين يُثْبِتُونَ نُبُوَّةَ عيسى عليه السَّلاَم -وإثبات نُبُوَّتِهِ لَيْسَ نَفْياً- لِنُبُوَّةِ [نبينا] (¬6) محمد -صلى الله عليه وسلم-، سيما عند مُنْكِرِي المفهوم ¬
فرع
فيجب أن تُفَسَّرَ كلمة التَّنَصُّر بما يَخْتَصُّ به النَّصْرَانيُّ، كقولهم: إن الله ثَالِثُ ثَلاثةٍ. وحكى القاضي ابن كَجٍّ وجهين: في أنه هَلْ يَجِبُ على الشهود تَفْسيرُ كلمة الإِسْلاَم؛ لأنهم [قد] (¬1) يَعْتَقِدُونَ ما لَيْسَ بإسلام إِسْلاَماً؟ وجهين في أن على قول القِسْمَةِ، هل يَحْلِفُ كُلُّ واحد من الاثنين (¬2) للآخر؟ والأَصَحُّ المنع. ووجهين في كَيْفيَّةِ القِسْمَةِ إذا مات عن ابْنٍ وبِنْتٍ، وتَنَازَعَا في دِينِ الأب، وقلنا بالقِسْمَةِ، عن أبي الطَّيِّبِ بن سلمة: أنه يُقَسَّمُ المَالُ بينهما نصْفَيْنِ. وعن غيره أنه يُقَسَّمُ أَثْلاَثاً: قِسْمَةَ الميراث. وليسا ولا واحد منهما بِقَوِيمٍ، بل يجب أن يُقَالَ: هما كَشَخصَيْنِ يَدَّعِي أحدهما جَمِيعَ الدار، والآخر نِصْفَهَا، وأقاما بَيَّنَتَيْنِ. وقد مَرَّ على أن قول القِسْمَةِ للأول ثَلاثةُ أرباعها، وللثاني رُبْعُهَا. ولْيُعْرَفْ وراء ما حَكَيْنَا شيئان: أحدهما: أن المَوْتَ على كلِمَةِ الإِسْلاَمِ يوجب الإِرْثَ للابن المُسْلِم، لكن المَوْتَ على كلمة التَّنَصُّرِ بِمُجَرَّدِهِ ولا يُوجِبُ الإرْثَ للابن النَّصْرَاني؛ لاحتمال أنه أَسْلَمَ، ثم تَنَصَّرَ. وحينئذ فلا يُورث عنه، وكان الغَرَضُ فيما إذا تَعَرَّضَ الشُّهُودُ لاسْتِمْرَارِهِ على النَّصْرَانِيَّةِ إلى أن جَعَلَهَا آخر كلامه؛ أو اكتفوا باسْتِصْحَابِ ما عرف من دِينِهِ، مَضْمُوماً إلى الحكم عليه، وإن لم يَتَعَرَّض له الشهود. والثاني: أن تَقْييدَ البَيَّنَتَيْنِ معاً؛ بأن آخر كَلاَمِهِ كان كذا، غير مُحْتَاجٍ إليه؛ لِزَوَالِ التَّرْجِيحِ بِزِيَادَةِ العِلْمِ، بل تَقْيِيدُ بَيَّنةِ النصراني بأنه تَكَلَّمَ آخراً بكلمة التَّنَصُّرِ كافٍ (¬3) فيه. وقوله في الكتاب: "ادَّعى المُسْلِمُ أن أَبَاهُ أَسْلَمَ، ثم مات"، تبين أن التَّصْوِيرَ أولاً، فيما إذا كان المَيِّتُ مَعْرُوفاً بالكُفْرِ، فإن كان مَجْهُولَ الدِّينِ، فقد ذكر من بَعْدُ. وقوله: "فهما مُتَعَارِضَتَانِ"، يجوز إِعْلاَمُهُ بالحاء؛ لأن الحِكَايَةَ عن أبي حَنِيْفَةَ: أنه يُغَلِّبُ بَيِّنَةَ الإِسلام بكل حال. وقوله: "يَجْرِي قَوْلُ القِسْمَة" بالواو؛ لوجه أبي إِسْحَاقَ. وقوله في مجهول الدِّينِ: "فلا تَرْجِيحَ"، بالحاء، والواو؛ للوجه الذي ذكرناه آخراً. وكذا قوله: "لم يَخْتَصَّ بالتَّصْدِيقِ". فرع: مات رَجُلٌ عن زوجة، وأخ، مُسْلِمَينِ، وعن أَوْلاَدٍ كَفَرَةٍ، فقال المسلمان: مات ¬
مُسْلِمًا، وقال الأَوْلاَدُ: بل كَافِراً. فإن كان أَصْلُ دِينِهِ الكُفْرَ، فالقول قَوْلُ الأَوْلاَدِ. وإن أَقَامَ كُلُّ واحد من الطَّائِفَتَيْنِ بَيِّنَةً؛ فإن أطلقنا قدمت (¬1) بَيِّنَةُ الزَّوْجَةِ والأخ، وإن قيدنا فعلى الخِلاَفِ في التَّعَارُضِ، وإن لم يُعْرَفُ أَصْلُ دِينِهِ، وَقَفَ المَالُ حتى يَنْكَشِفَ الحَالُ، أو يَصْطَلِحُوا. وإن أقام كل واحد بَيِّنَةً، فعلى الخِلاَفِ في التَّعَارُضِ، ويعود خِلاَفُ أبي إِسْحَاقَ في جَرَيَانِ قول القِسْمَةِ. وإذا رجحنا طائفة، قُسِّمَ المَالُ بينهم، كما يُقَسَّمُ لو انْفَرَدُوا. كان جَعَلْنَا المَالَ بين الطَّائِفَتَيْنِ تَفْرِيعًا على القِسْمَةِ مَثَلاً فالنصف للزوجة والأخ، والنِّصْفُ للأولاد، وفيما تَأْخُذُ الزوجة من النصف؟ وجهان: أحدهما: تأخذ رُبُعَهُ، وكأنه كُلُّ التَّرِكَةِ، وهذا ما أَوْرَدَهُ أَبُو الفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ. والثاني: تأخذ نِصْفَهُ؛ ليكون لها رُبُعُ التَّرِكَةِ، فإن الأخ معترف به والأولاد لا يُحْجَبُونَ بقولها. وهذا ما أَوْرَدَهُ الإِمَامُ -رحمه الله- (¬2). قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةُ: مَاتَ نَصْرَانِي فِي رَمَضَانَ فَاَدَّعَى أَحَدُ ابْنَيْهِ أنَّهُ أَسْلَمَ في شَوَّالٍ فَيَرِثُهُ، وَقَالَ الآخَرُ بَلْ في شَعْبَانَ فَلاَ تَرِثُهُ فَبَيِّنَةُ النَّصْرَانِيِّ أَوْلَى لأنَّهَا نَاقِلة، وَالقَوْلُ قَوْلُ المُسْلِمِ إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ لِأَنَّ الأَصْلَ بَقَاءُ الكُفْرِ، وَلَوْ أَسْلَمَ الابْنُ فِي رَمَضَانَ لَكِنْ ادَّعَى أَنَّ الأَبَ مَاتَ فِي شَعْبَانَ فَتُقَدَّمُ بَيِّنَتُهُ لَكِنَّ القَوْلَ قَوْلُ النَّصْرَانِيِّ لِأَنَّ الأَصْلَ دَوَامُ الحَيَاةِ إِلَى شَوَّالٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: ابنا مَيِّتٍ: نَصْرَانِيٌّ ومُسْلِمٌ تَنَازَعَا. فقال المُسْلِمُ: أَسْلَمْتُ بعد مَوْتِ أبينا، فالمِيرَاثُ بَيْنَنَا. وقال النَّصْرَانِيُّ: بل قبله، فلا ترثه. فلهما ثَلاَثُ أحوال: إحداهما: أن يَقْتَصِرا على هذا القَدْرِ، ولا يَتَعَرَّضَا لتاريخ مَوْتِ الأب، ولا لِتَارِيخِ إِسْلاَمِ المسلم. والثانية: أن يَتَّفِقَا على تَارِيخ مَوْتِ الأب كَرَمَضَانَ مَثلاً، فقال المسلم: أَسْلَمْتُ في شَوَّالٍ. وقال النَّصْرَانِيُّ: بل أَسْلَمْتَ في شعبان. ففي الحَالَتَيْنِ إن لم تكن بَيِّنَةٌ، فالقول قَوْلُ المُسْلِمِ؛ لأن الأَصْلَ اسْتِمْرَارُهُ على دِينِهِ، فَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، ويَشْتَرِكَانِ في المَالِ. ¬
وإن أقام أحدهما بَيِّنَةً قُضِيَ بها. وإن أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بيَّنَةً، فَبَيِّنَةُ النصراني أَوْلَى؛ لأنها تُنْقِلُهُ من النَّصْرَانِيَّةِ إلى الإِسْلاَم في شعبان، والأخرى تستصحب دينه إلى شوال فمع الأُولَى زِيادَةُ عِلْمٍ. والثالثة: أن يَتَّفِقَا على تَاريخِ إِسْلاَمِ المسلم؛ بأن اتَّفَقا على أنه أَسْلَمَ في رَمَضَانَ، لكن ادَّعَى المُسْلِمُ أن الأَبَ مَاتَ في شعبان، وقال النَّصْرَانِيُّ: بل مات في شَوَّالٍ، فالقول قَوْل النَّصْرَانِيَّ؛ لأن الأصل دَوَامُ الحَيَاةِ. وإن أقاما بَيِّنَتَيْنِ، فَبَيِّنَة المُسْلِم أَوْلَى؛ لأنها تنْتَقِلُ من الحَيَاةِ إلى المَوْتِ في شعبان، والأخرى تَسْتصْحِبُ الحَيَاةَ إلىَ شوال، فمع الأولى زَيَادَةُ عِلْمٍ. واعترض الإِمام: بأن بَيِّنَةَ النَّصْرَانِيُّ تُثبِتُ الحَيَاةَ في شعبان؛ لأنها تَشهَدُ على المَوْتِ في شوال، والموت إنما يكون عن حَيَاةٍ، والحَيَاةُ صِفَةٌ ثابتة يُشْهَدُ عليها كالمَوْتِ، فليحكم بتَعَارُضِهِمَا، وجريان أقوال التعارض. لكن هذا الكَلاَمَ لا اخْتِصَاصَ له بهذه الحَالَةِ، بل يمكن أن يُقَالَ في الحَالَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، وقد قَدَّمْنَا بَيِّنَةَ النَّصْرَانِيِّ؛ أن بَيِّنَةَ المُسْلِمِ تُثْبِتُ النَّصْرَانِيَّةَ في شعبان؛ لأنها تَشْهَدُ على الإسْلاَمِ فِي شوَّالِ، والإِسْلاَمُ إنما يكون عن كُفْرٍ، فليحكم بالتَّعَارُضِ. والوَجْهُ؛ أن يُرَاعَى كَيْفِيَّةُ الشهادة، فإن أُطْلِقَتِ البَيِّنَتَانِ، فَتُرَجَّحُ التي تنقل، ويعرض حدوث يُبْنَى على ما سَبَقَ. وإن شَهِدَتْ بَيِّنَةُ النَّصْرَانِيِّ في الحَالَةِ التي نحن فيها؛ بأنهم عَايَنُوهُ حَيّاً في شَوَّالٍ، وشَهِدَتْ بَيِّنَةُ المُسْلِم في الحالتين الأوليين؛ بأنهم كَانُوا يَسْمَعُونَ كلمة التَّنصُّرِ منه إلى انْتِصَافِ شوال مَثَلاً؟ فَتَتَعَارَضُ البَيِّنَتَانِ. ولو مَاتَ مُسْلِمٌ، وله ابْنَانِ؛ أسلم أَحَدُهُمَا قبل مَوْتِ الأب بالاتِّفَاقِ، وقال الآخَرُ: أَسْلَمْتُ أيضاً قبله. وقال المُتَّفَق على إسلامه: بل أَسْلَمْتَ بعد مَوْتِهِ، فعلى الأَحْوَال الثلاث؛ إن اقْتَصَرُوا على ذلك، أو اتَّفَقَا على أن الأب مات في رَمَضَانَ، وقال قَدِيمُ الإِسْلاَم: أسلمت في شوال. فقال: بل أَسْلَمت في شعبان، فَيُصَدَّق قَدِيمُ الإِسلام. وإن أقاما البَيِّنَةَ، تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الآخر، وإن اتَّفَقَا على أن الآخر أَسْلَمَ في رمضان؛ فقال قَدِيمُ الإِسْلاَم: إن الأب مَاتَ في شعبان، وقال الآخَرُ: بل في شَوَّال، فالمُصَدَّق الآخَرُ، والمُقدَّمُ بَيِّنةُ قَدِيمِ الإِسلام. وفي هذه الصورة تَكَلَّمَ الشَّافعي -رضي الله عنه- في "المختصر"، وعَامَّة الأصْحَابِ -رحمهم الله- لا في صورة الكِتَابِ والمقصود واحد.
فرع
وعلى هذا يُقَاسُ نَظَائِرُهُمَا، كما لو مات الأبُ حُرّاً. واحد الابنين حُرٌّ بالاتفاق، واخْتَلَفَا في أن الآخَرَ عُتِقَ قبل موته، أو بعده. ولو أَنَّهُمَا في صُورَةِ "المختصر" اتَّفَقَا في حَقِّ أحدهما؛ أنه لم يَزَلْ مُسْلِماً. وقال الآخَرُ: لم أَزَلْ مُسْلِماً أيضاً، ونَازَعَهُ الأَوَّلُ، وقال: كنت نَصْرَانِيّاً، وإنما أَسْلَمْتَ بعد موت الأب، فالقول قوله في: أني لم أَزَلْ مُسْلماً؛ لأن ظَاهِرَ الدَّارِ يَشُهَدُ له، وليس مع صاحبه أَصْلٌ يُسْتصْحَبُ. ولو قال كُلُّ واحد منهما: لم أَزَلْ مُسْلِمًا، وكان صَاحِبِي نَصْرَانِيّاً أَسْلَمَ بعد مَوْتِ الأب، فعن القَفَّالِ تَخْرِيجُهُ على وجهين: أحدهما: أنه لا يُصْرَفُ شيء إلى وَاحِدٍ منهما؛ لأنَّ الأَصْلَ عَدَمُ الاسْتِحْقَاقِ. وأصحهما: أنه يَحْلِفُ كُلُّ واحد منهما، ويُجْعَلُ المَالُ بينهما؛ لأن ظَاهِرَ الدَّارِ يَشْهَدُ لكل واحد منهما فيما يَقُولُهُ في حَقِّ نَفْسِهِ. ولو مات رَجُلٌ، وخَلَفَ أبوين كَافِرَيْنِ، وابنين مُسْلِمَيْنِ، فقال الأَبُوَانِ: إنه مَاتَ كافراً، وقال الابْنَانِ: بل مسْلِمًا. قال ابن سُرَيْجٍ: فيه قولان (¬1): أَشْبَهُهُمَا بقول العلماء: أن القول قول الأبوين لأن الولد محكوم بكفره في الابتداء تبعاً للأبوين فَيسْتَصْحَبُ إلى أن يعلم خلافة. والثاني: أنه يُوقَفُ المَالُ إلى أن يَنْكَشِفَ الأَمْرُ، أو يصْطَلِحُوا. والتبعية تُرْفَعُ بالبُلُوغِ، وحصول الاسْتِقْلاَلِ. وفيه وجه آخر: أن القَوْلَ قول الابْنَيْنِ؛ لأن ظَاهِرَ الدَّار يَدُلُّ على ما يقولانه (¬2). فرع: رجل له زَوْجَةٌ، وابن، فماتا، فاختلف الرجل، وأخ الزوجة؛ فقال الرَّجُلُ: مَاتَتِ الزَّوْجةُ أَوَّلاً، فَوَرِثْتُهَا أنا وَابْنِي، ثم مات الابن، فَوِرثْتُهُ. وقال الأخ: مَاتَ الابْنُ أولاً، فَوَرِثْتُهُ مع أختي، ثم مَاتَتِ الأخت فَوَرِثْنَاهُ. فإن لم يكن لواحد منهما بَيِّنَةٌ، فالقَوْلُ قول الأخ في مَالِ أُخْتِهِ؛ وقول الرجل في مَالِ ابنه. فإن حَلَفَا، أو نَكَلاَ فهي صورة استبهام المَوْت، فلا يُوَرَّثُ أَحَدُ الميتين من الآخر، بل مال الابن لأبيه، ومال الزَّوْجَةِ للزوج والأخ. ¬
وإن أقام كل واحد بَيِّنَةً تَعَارَضَتَا، وجاء أقْوَالُ التَّعَارُضِ، هذا إذا لم يَتَّفِقَا على وَقْتِ مَوْتِ أحدهما، فإن اتَّفَقَا عليه، واخْتَلَفَا في أن الآخَرَ مَاتَ قبله، أو بعده، فالمُصَدَّقُ من يَقُولُ: مات بعده؛ لأن الأَصْلَ دَوَامُ الحَيَاةِ. كان أقام كُلُّ واحد بَيِّنَةً، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ من يقول: مَاتَ قبله؛ لأن معها زِيَادَةُ عِلْمٍ. ولو مات رجل عن زَوْجَةٍ، وأولاد، فقالوا لها: كُنْت أَمَةً فعتقت بموت أَبِينَا. أو ذِمِّيَّةً، فَأسْلَمْتِ بعد موته (¬1) وقالت: بل عتقت، أو أَسْلَمْتُ قبل موته، فهم المُصدَّقُونَ. وإن قالت: لم أَزَلْ مُسْلِمَةً، أو حُرَّةً، فهي المُصَدَّقَةُ؛ لأن الظَاهِرَ ما تقوله. وعن رواية الرَّبِيع قول: إنها تُصَدَّقُ في الحُرِّيَّةِ دُونَ الإِسلامِ؛ لأن الأَصْلَ في الناس الحُرِّيَّةُ، فإنهم يُخْلَقُونَ أَحْرَاراً، وفي الذين يُخْلَقُونَ مُنْقَسِمِينَ؛ إلى مُسْلمين، وكفار. وخرج قول: أنهم المصدقون جميعاً؛ لأن الأَصْلَ عَدَمُ وِرَاثَتِهَا والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثَةُ لَوْ قَالَ: إِنْ قُتِلْتُ فَأَنْتَ حُرٌّ فَقَامَتْ بَيِّنَةُ الوَارِثِ أَنَّهُ مَاتَ حتفَ أَنْفِهِ وَبيِّنَةُ العَبْدِ أَنَّهُ قُتِلَ فَقَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا: التَّسْوِيَةُ، وَالآخَرُ: تَقْدِيمُ بيِّنَةِ القَتْلِ لِمَا فِيهَا مِنَ الزِّيَادَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: سَيِّدٌ قال لِعَبْدِهِ: إن قُتِلْتُ، فأنت حُرٌّ، وتَنَازَعَ بعده العَبْدُ والوَارِثُ، فأقام العَبْدُ بَيِّنَةً؛ أنه قُتِلَ، والوَارِثُ بَيِّنَةً؛ أنه مات حَتْفَ أَنْفِهِ. فقولان: أحدهما: أنهما يتعارضان (¬2)، لما بَيْنَهُمَا من المُنَافَاةِ. والثاني: أن بَيِّنَةَ العَبْدِ أَوْلَى؛ لأن عنده زَيادَةَ عِلْمٍ (¬3) بالقَتْلِ، فإن قلنا: بالتَّهَاتُرِ فكأنه لا بَيِّنَةَ [فيحلف الوَارِثُ] (¬4) ويَسْتَمِرُّ الرِّقُّ. وإن قلنا: بالقِسْمَةِ، عتق نِصفه، وإن قلنا: بالقُرْعَةِ، عتق، إن خرجت له القُرْعَةُ، ورُقَّ إن خَرَجَتْ لِلْوَارِثِ. والوَقْفُ لا يَخْفَى، والظَّاهِرُ من القولين في المَسْأَلَةِ على مَا ذَكَرَ أبو الحَسَنِ العبادي تَقْدِيمُ بيِّنَةِ العَبْدِ، ونَقْلُ طَرِيقَةٍ قَاطِعَةٍ به، قال: ولا شَكَّ أن القِصَاصَ لا يَجِبُ؛ لأن الوَارِثَ مُنْكِرٌ لِلْقَتْلِ، فإن ادَّعَى الوَارِثُ القَتْلَ، وأقام المُدَّعِي بَيِّنَةً؛ أنه مات حَتْفَ أَنْفِهِ، جرى القَوْلاَنِ. ولو قَال: إن مت في رمضان، فعبدي حُرٌّ، وأقام العَبْدُ بَيِّنَةً؛ أنه مات في رَمَضَانَ، والوارث بَيِّنَةً؛ أنه مات في شوال. فَعَلَى القولين: أحدهما: التَّعَارُضُ. ¬
والثاني: تقديم بَيِّنَةِ العَبْدِ؛ لزيادة العِلْمِ بِحُدُوثِ المَوْتِ في رَمَضَانَ. وعن المُزَنِيِّ: تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الوَارِثِ؛ لأن معها زَيادَةَ عِلْمٍ؛ وهي اسْتِمْرَارُ الحَيَاةِ إلى شوال. ومن شرطه (¬1) أن يطرده في نَظَائِرِ المسألة من قَبْلُ، ومن بَعْدُ. ولو أقام الوَارِثُ البَيِّنَةَ على أنه مَاتَ في شعبان، فالقِيَاسُ مجيء التَّعَارُضِ، وانْعِكَاسُ القول الثاني والمَحْكِيُّ عن المزني. ولو حكم القَاضِي بشَهَادَةِ شَاهِدَيْ رمضان، ثم شَهِدَ شُهُودٌ على أنه مات في شوال، فهل يُنْقَضُ الحُكْمُ وَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ ما لو شَهِدَتِ البَيِّنَتَانِ معاً؟ وعن ابن سُرَيْجٍ تَخْرِيجُ قَوْلَيْنِ فيه كما لو بَانَ فِسْقُ الشُّهُودِ بعد الحكم (¬2). ولو قال لِسَالِمٍ: إن مِتُّ في رمضان، فأنت حُرٌّ، وقال لِغَانِمٍ: إن مِتُّ في شوال، فأنت حُرٌّ، وأقام كُلُّ واحد بَيِّنَةً على ما يَقْتَضِي حريته، فقولان: أحدهما: التَّعَارُضُ. والثاني: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ سالم؛ لأن معها زِيَادَةَ عِلْمٍ؛ وهي حُدُوثُ المَوْتِ في رمضان. وعن المُزَنِيِّ وابن سُرَيْجِ: تقديم بَيِّنَةِ غَانِمٍ. وإن قلنا بالتَّعَارُضِ، فعلى التَّهَاتُرِ، يُرَقُّ العَبْدَانِ. وعلى القِسْمَةِ، يُعْتَقُ من كل واحد نِصْفُهُ. ولو قال لِسَالِمٍ: إن مِتُّ من مرضي، فأنت حُرٌّ. وقال لغانم: إن بَرِئْتُ منه، فأنت حُرٌّ، فأقام سَالِمٌ بَيِّنَةً على المَوْتِ فيه، وغانم بَيِّنَةً على البرء منه، ففي وجه البَيِّنةُ الأُولَى، أَوْلَى؛ لزيادة عِلْمِهَا بالموت. وفي وجه الثانية، أَوْلَى؛ لعلمها بالبُرْءِ. ويُحْكَى هذا عن ابن القَطَّانِ، والصحيح التَّعَارُضُ؛ لِتَقَابُلِ الزيادتين (¬3). وإذا ¬
تَعَارَضَتَا، جاء الخلاَفُ السَّابِقُ. وحكى القاضي ابْنُ كَجٍّ عن بعض الأَصْحَابِ: إنه إذا وُجِدَ التَّعَارُضُ في مثل هذا، غلبتِ الحرية (¬1). خاتمة لهذا الطرف: من ادَّعَى وِرَاثَةَ إنسان، وطلب تَرِكَتَهُ، أو شَيْئًا منها، فَلْيُبيِّنْ جِهَةَ الوِرَاثَة؛ من بنوة، وأخوة (¬2)، وغيرهما. وذكر أبو الفرج السَّرَخْسِيُّ: إنه لا يكفي لِطَلَبِ التَّرِكَةِ ذِكْرُ الجِهَةِ على المذهب، بل يَتَعَرَّضُ مع الجهة لِلْوِرَاثَة؛ فيقول: أنا أَخُوه، وَوَارِثُهُ. وإذا شهد عَدْلاَنِ، وهما من أَهْلِ الخِبْرَةِ بباطن حَالِ المَيِّتِ، أن هذا ابنه، لا نعرف له وَارِثاً سِوَاهُ، دُفِعَتْ إليه التَّرِكَةُ. وإن شهدا لصاحب فَرْضٍ دُفِعَ إليه فَرْضُهُ، ولا يُطَالَبانِ بضَمِينن؛ فإنَّ طَلَبَ الضَّمِينِ مع قِيَامِ البَيِّنَةِ كالطَّعْنِ في الشُّهُودِ. وحكى الفوراني: أنه لاَ بُدَّ من ثَلاَثةِ شُهُودٍ هاهنا، كما ذكره في شَهَادَةِ الإِفْلاَسِ. والمشهور الأَوَّلُ. وإذا لم يكن الشهود من أَهْلِ الخِبْرَةِ، أو كانوا من أَهْلِ الخِبْرَةِ، ولم يقولوا: لا نَعْلَمُ وَارِثاً سِوَاهُ، فالمَشْهُودُ له؛ إما أن يكون له سَهْمٌ مُقَدَّرٌ، أوَ لا يَكُون. فإن لم يكن له سَهْمٌ مُقَدَّرٌ، فلا يُعْطَى في الحال، بل يَتَفَحَّصُ القَاضِي عن حَالِ المَيِّتِ في البِلاَدِ التي سَكَنَهَا، أو طَرَقَهَا؛ فيكتب إليها للاسْتِكْشَافِ، أو يأمر من يُنَادِي فيها: أَلا إن فلاناً قد مَاتَ، فإن كان له وَارِثٌ، فَلْيَأْتِ القَاضِي، أو ليبعث إليه. فإذا تفحص [في مدة] (¬3) يغلب على الظَّنِّ في مِثْلِهَا، أنه لو كان له وَارِثٌ هناك، لظهر، ولم يظهر، فحينئذ يُدْفَعُ المَالُ إليه. ويكون البَحْثُ والتَّفَحُّصُ قائماً (¬4). مقام خِبْرَةِ الشهود. وفي "أَمَالي" أبي الفرج حِكَايَةُ قول: أنه لا يُدْفَعُ المَالُ إليه بعد التَّفَحُّصِ أيضاً، ويُشْتَرَطُ قِيَامُ البَيِّنَةِ على النَّسَقِ الذي سبق. وفيه وجه: أنه يُفَرَّق بين أن يكون المَشْهُودُ له مِمَّنْ يَحْجُبُهُ غيره؛ كالأخِ، فلا يُدْفَعُ إليه المَالُ بعد التَّفَحُّصِ، وبين أن يكون مِمَّنْ لا يَحْجُبُهُ غيره؛ كالابن. فَيُدْفَعُ. والظاهر عند الأكثرين الأَوَّلُ. وإذا دُفِعَ المَالُ إليه. فهل يُؤْخَذُ منه ضَمِينٌ؟ ظاهر لفظه -رضي الله عنه- في "المختصر"، أنه يُؤْخَذُ، ولاَ بُدَّ منه. وقال -رضي الله عنه- في "الأم": وأُحِبُّ أن يُؤْخَذَ منه ضَمِينٌ، فاختلف الأَصْحَابُ على طريقين: أشهرهما: أن المَسْأَلَةَ على قولين: ¬
أحدهما: أنه لاَ بُدَّ من أَخْذِ الضَّمِينِ، احْتيَاطاً واسْتِكْشَافاً. وأظهرهما: أنه لا حَاجَةَ إليه، اكْتِفَاء بأن الظَّاهِرَ أنه لا وَارِثَ سواه. نعم، هو مُسْتحب. والثاني: نَفْيُ الخِلاَفِ، واختلف هَؤُلاَءِ؛ فقطع قَاطِعُونَ بِنَفْي الوجوب، وحملوا ما في "المختصر" على الاسْتِحْبَاب، وحملهما آخرون على مَحْمَلَيْنِ؛ فمنهم من قال: حيث ذكر: أنه لاَ بُدَّ منه. أَرَادَ الأَخ، ومن يجوز (¬1) أن يحجب وحيث ذكر الاسْتِحْبَاب أراد الابن ومن لا يُحْجَبُ. ومنهم من حَمَلَ الأَوَّلَ على ما إذا لم يكن [ثِقَةً] (¬2) مُوسِراً. والثاني: على [الثِّقَةِ] (¬3) المُوسِرِ، وإن كان ممن لهم سَهْمٌ مُقَدَّرٌ فإن كان ممن لا يُحْجَبُ دُفِعَ إليه أَقَلُّ فَرْضِهِ، عَائِلاً قبل البَحْثِ والتَّفَحُّصِ. فإنه مستيقن، فالزَّوْجَةُ يُدْفَعَ إليها رُبُعُ الثمن، عَائِلاً على تَقْدِيرِ أنه تَرَكَ أبوين، وبِنْتَيْنِ، وأربع زَوْجَات. والزوج يُدْفَعُ إليه الرُّبُعُ، عَائلاً على تقدير أنها تَرَكَتْ أبوين، وبنتين، وزَوْجاً. والأبوان يُعْطَيَانِ السُّدُسَ، عَائِلاً: أما الأب، فعلى تقدير أن الوَرَثَةَ أبوان، وبنتان، وزوج، أو زوجة. وأما الأم، فعلى تَقْدِيرِ أن الوَرَثَةَ أختان لأب وأختان لأم وزوج، أو زوجة. بل لو حضر مع الزوجة ابن، دُفِعَ إليها رُبُعُ الثَّمَن، غير عائل؛ لأَنَّ المَسْألَةَ لا تَعُولُ إذا كان فيها ابن. ثم إذا تَفَحَّصَ، ولم يَظْهَرْ غيره، أُعْطِيَ تَمَامَ حَقِّهِ. وفيه وجه: [أنه لا يُعْطَى تَمَامَ حَقِّهِ] (¬4) إلا أن تَقُومَ بَيِّنَةٌ. بخلاف الأَخ؛ فإنه لم يَأْخُذْ شيئاً. فلو لم يُعْطَ بعد التَّفَحُّصِ، كان مَحْرُوماً بالكلية. والصحيح، الأول. ولا يؤخذ لِلْمُسْتَيْقِنِ ضَمِينٌ، وفي أَخْذِهِ للزيادة الخِلاَفُ. وإن كان ممن يُحْجَبُ، لم يدْفَعْ إليه قَبْلَ التفحص شَيْءٌ، وبعد التفحص يُدْفَعُ. وفيه الوجه (¬5) المذكور فيمن ليس له سَهْمٌ مُقَدَّرٌ، وهو ممن يَحْجُبُهُ غيره. ولو قَطَعَ الشهود بأنه لا وَارِثَ سِوَاهُ، فقد أخطئوا بالقطع في غير مَوْضِعِ القَطْعِ، ولا تبطل به شَهَادَتُهُمْ. ¬
فرع
ولو قال الشُّهُودُ: هذا ابنه، ولم يذكروا كَوْنَهُ وَارِثاً، فقد أَطْلَقَ في "التهذيب": أنه لا يُحْكَمُ بشهادتهم، حتى يذكروا: أنه وَارِثٌ؛ لأنه قد يكون ابْناً، ولا يكون وَارِثاً. والعراقيون جَعَلُوا هذه الصُّورة كما لو لم يَكُنِ الشهود من أَهْلِ الخِبْرَةِ البَاطِنَةِ، أو كانوا من أَهْلِ الخِبْرَةِ، ولم يذكروا: أنه لا وَارِثَ سِوَاهُ. وقالوا: يُنْتَزَعُ المَالُ من يده بهذه الشَّهَادَاتِ، ويُدْفَعُ المَالُ إليه بعد التّفَحُّصِ المذكور. ونقلوا عن ابن سُرَيْجٍ فيما إذا شَهِدُوا أنه أَخُوهُ. ولم يَتَعَرَّضُوا لِلْوَرَثَةِ: أنه لا يُصْرَفُ إليه شَيْءٌ بعد التَّفحُّصِ؛ لأن الابن لا يحجبه غيره، فَقَرَابَتُهُ مورثه. والأخ يَحْجُبُهُ غيره، فَقَرَابَتُهُ غير مَوْرُوثَةٍ على تَجُّرُدِهَا وأجاب (¬1) الإِمام في الابن بما ذَكَرَهُ العراقيون. وحكى في الأَخِ وجهين فَحَصَلَ فيهما وجهان. فرع: قال القاضي الروياني: القِيَاسُ، أنه لا يَصِحُّ الضَّمَانُ ما لم يدفع المال، وهكذا هو في ضَمَانِ العُهْدَةِ. فرع: لو قال الشُّهُودُ: لا نعرف له في البلد وَارِثاً سِوَاهُ، لم يُدْفَعْ إليه شَيْءٌ، خِلاَفاً لأبي حَييفَةَ، وأحمد فيما رَوَاهُ ابن الصَّبَّاغِ -رحمهم الله [وإيانا] (¬2) -. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الطَّرَفُ الرَّابعُ فِي العِتْقِ وَالوَصِيَّةِ وَفِيهِ ثَلاَثُ مَسَائِلَ: الأُولَى إِذَا ثَبَتَ عِتْقُ عَبْدَيْنِ بَيِّنَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ ثُلُثُ مَالِ المَرِيضِ المُعْتَقِ عُتِقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُهُ إِذِ الغَالِبُ أنَّهُمَا مُتَعَاقِبَانِ فَيُعْتَقُ السَّابِقُ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الآخَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِذَا أَشْكَلَ السَّابِقُ فَهُوَ كَمَا لَوِ اجْتَمَعَا عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ كَمَا فِي الجُمْعَتَيْنِ وَالنِّكَاحَيْنِ، فَإِنْ جُعِلَ كَالإِجْتِمَاعِ فَيُقْرَعُ لَكِنْ لَوْ كَانَ أَحَدُ العَبْدَيْنِ سُدُسَ المَالِ وَخَرَجَتْ لَهُ القُرْعَةُ عُتِقَ وعُتِقَ مِنَ الآخَرِ نِصْفُهُ لِتكْمِلَةِ الثُّلُثِ، وَإِنْ رَأَيْنَا القِسْمَةَ فَيُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثَاهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ أنَّهُ يُعْتَقُ مِنَ النَّفِيسِ ثَلاَثةُ أَرْبَاعِهِ وَمِنَ الخَسِيسِ نِصْفُهُ لِأنَّ نِصْفَ النَّفِيسِ حُرٌّ بِكُلِّ حَالٍ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، وَإِنَّمَا الزَّحْمَةُ في النِّصْفِ الثَّانِي. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من الأصول المُمَهّدةِ، أن المَرِيضَ مَرَضَ الموت، إذا أَعْتَقَ عَبْدَيْنِ، كل واحد منهما ثُلُثُ مَالِهِ على الترتيب. ولم يُجز الوَرَثَةُ يَنْحَصِرُ العِتْقُ في الأول، وإذا أعْتَقَهُمَا معاً يُقْرَعُ بينهما أيضاً، ولو عُرِفَ سبق أحدهما، ولم يُعْلَمْ عَيْنُ السابق، فقولان: ¬
أحدهما: أنه يُقْرَعُ كما لو أَعْتَقَهُمَا معاً، وهذا لأن مَعْرِفَةَ السَّبْقِ من غير أن يُعْرَفَ السَّابق، لا تَنْفَعُ شيئاً. والثاني: أنه يُعْتَقُ من كل واحد نِصْفُهُ؛ لأنا لو أقرعنا (¬1)، لم نَأْمَنْ خروج الرِّقِّ على السابق، فللسابق حَقُّ الحُرِّيَّةِ، فيلزم منه إِرْقَاقُ حُرٍّ، وتَحْرِيرُ رَقِيقٍ، وأيضاً فلو أَوْصَى لهذا بثلث مَالِهِ، ولهذا بِثُلُثِهِ، ولم يُجِزِ الوَرَثَةُ، يُجْعَلُ بينهما نِصْفَيْنِ. فكذلك هاهنا. والقَوْلاَنِ على ما ذكر جماعة من الأَئِمَّةِ كالقولين في الجمعتين، والنكاحين مثل هذه الحالة، فإن قلنا بِبُطْلاَنِ الجمعتين (¬2)، والنكاحين، أَقْرَعْنَا بينهما، كما لو وَقَعَا معاً. وإن تَوَقَّفْنَا في النكاحين، وأَمَرْنَا الجميع بالظهر، أَعْتَقْنَا من كل واحد نِصْفَهُ. ولو عُرِفَ من سبق إِعْتَاقُهُ بعينه، ثم اشْتَبَهَ -فطريقان: أحدهما: طَرْدُ القولين. والثاني: وهو الذي أَوْرَدَهُ أبو الفَرَج السَّرَخْسِيُّ، وغيره: أنه يُعْتَقُ من كل [واحد] (¬3) نصفه، وهو المُوَافِقُ لما هو الظَّاهِرُ في مِثْلِ هذه الحالة من الجمعتين، والنِّكَاحَيْنِ. ولو علَّقَ عَبْدَيْن بالموت، أو أَوْصَى بِعِتْقِهَا، ومات، وكل واحد [ثُلُثُ] (¬4) مَالِهِ، فَيُقْرَعُ، سَوَاءً وَقَعَ التَّعْلِيقَانِ، أو الوَصِيَّتَانِ معاً، أو فرض بينهما ترتب (¬5)، إذا تَقَرَّرَ ذلك. فلو قامت بَيِّنَةً على أن المَرِيضَ أَعْتَقَ سَالِماً، وأُخْرَى على أنه أَعْتَقَ غَانِماً، وكل وَاحِدٍ منهما ثلث ماله، فإن أرَّخَتَا بِتَارِيخَيْنِ مختلفين، عتق من أعتقه أولاً، وإن أُرَّخَتَا بِتَاريخٍ وَاحِدٍ، أُقْرِعَ بينهما. وإن [أُطلِقَتا، أو] (¬6) وأُطْلِقتْ إحداهما، ففي "التهذيب": أنه يُقْرَعُ [بينهما] (¬7) أيضاً؛ لاحتمال التَّرْتِيبِ، والمَعيَّةِ. وقال جماعة -منهم صاحب الكتاب والإمام -رحمهم الله-: احتمال التَّرْتِيبِ أَقْرَبُ، وأغلب (¬8) من احتمال المَعِيَّةِ. والسابق منهما غير مَعْلُومٍ، وإذا كان كذلك، وتَعَارَضَتِ البينتان (¬9)، وأطلقتا، عرفنا أن أحد المُعْتَقَيْنِ سَابِقٌ، ولم نعرفه بِعَيْنِهِ، فَيَجِيءُ فيه القولان في أنه يُقْرَعُ بينهما، أو يُعَتَقُ من كل واحد نِصْفُهُ. ¬
ثم في لفظ الكتاب شَيْئَانِ؛ أحدهما: أن نَظْمَهُ يُشْعِرُ بِتَرْجِيح قول القِسْمَةِ، وقد رَجَّحَهُ القاضي الروياني وغيره، وهو يُوَافِقُ قَوْلَ الذاهب في الجُمْعَتَيْنِ إذا علمت السَّابِقَةُ، ولم يَتَعَيَّنْ إلى أنهم يُصَلُّونَ الظُهْرَ جميعاً؛ لِصِحَّةِ الجمعة السابقة. وقد بَيَّنَّا في الجُمُعَةِ مَيْلَ الأصحاب [إليه] (¬1) وقولهم: إنه القياس. وَرَجَّحَ آخرون قول القُرْعَةِ، وهو يُوَافِقُ ما ذكرنا في النكاحين؛ أن ظَاِهرَ المَذْهَب والصورة مثل هذه؛ أن الحُكْمَ فيما إذا لم يُعْرَفِ السَّبْقُ، ولا المَعيَّةُ. والثاني: سياق الكتاب يَقْتَضِي إِثْبَاتَ طريقتين: إحداهما: القَطْعُ بالقِسْمَةِ. والثانية: إِثْبَاتُ قولين: أحدهما: القِسْمَةُ. والثاني: القُرِعَةُ. لكنه لم يَرِدْ ذلك، وإنما حكى قَوْلَ القسمة المَنْصُوصِ عليها، ثم بَيَّنَ أنهم كيف خَرَّجُوهُ، وذكر المأخذ (¬2) الذي ينزل عليه هذا القول مع قول القُرْعَةِ. ويعرف ذلك عند التَّأَمُّلِ في لفظ "الوسيط". وفرع على القولين ما لو قَامَتِ البيِّنَتَانِ كذلك، لكن أحد العَبْدَيْنِ سدس المال، فإن قلنا بالقُرْعَةِ، فإن خرَجَتِ القُرْعَةُ للعبد الخسيس عتق، وعتق نصف الآخر؛ ليكمل الثلث. وإن خرجت لِلنَّفِيسِ، انحصر العِتْقُ فيه. وإن قلنا هناك: يعْتَقُ من كل واحد نِصْفُهُ، فهاهنا وجهان: الذي أَوْرَدَهُ أكثرهم: أنه يُعْتَقُ من كل واحد ثُلثَاهُ؛ لأن مَا زَادَ على الثلث من التَّبَرُّعِ يُنْسَبُ إلى جميع التَّبَرُّعِ، وينقص بتلك النسبة (¬3) من كل واحد منهم. وإذا نَسَبْنَا الزَّائِدَ على الثلث؛ وهو السُّدُسُ هاهنا إلى جميع التَّبَرُّع؛ وهو النِّصْف، كان ثلثه. فَيُردُّ العِتْقُ في ثلث كل واحد منهما، ويُنَفَّذُ [في ثلثيه] (¬4)، وصار كما لو أَوْصَى لواحد بِثُلُثِ مَالِهِ، ولآخر بسدسه [يكون] (¬5) لكل واحد منهما ثُلُثَا ما أوصى له. والثاني، ويحْكَى عن أبي حَنِيْفَةَ: أنه يُعْتَق من النَّفِيسِ ثلاثة أرباعه، ومن الخَسِيسِ نِصْفُهُ؛ لأنه إن سَبَقَ إِعْتَاقُ النَّفِيسِ، فجميعه حر، وإن سَبَق إِعْتَاقُ الآخر، فنصفه حُرٌّ. فَأَحَد نصفيه على التَّقْدِيرَيْنِ حر. وإنما الزَّحْمَةُ في النصف الثاني، وهو قَدْرُ سدس ¬
المال، فَيُقَسَّمُ بينهما، فَيُعْتَقُ من النفيس رُبُعُهُ، ومن الخَسِيسِ نِصْفُهُ. ولو قامت البَيِّنَتَانِ على تَعْلِيقِ عِتْقِ عبدين بالمَوْتِ، أو الوصية بِعِتْقِهِمَا، وكل وإحد منهما ثلث المال، ولم يُجِزِ الوَرَثَةُ، فَيُقْرَعُ بينهما، سَوَاءٌ أُرِّخَتِ البَيِّنَتَانِ، أو أُطْلِقَتَا؛ لأن العِتْقَيْنِ المُعَلَّقَينِ بالموت كالواقعين [معاً] (¬1) في المَرَضِ. هذا هو الظاهر، وفيه خلاف نذكره على الأثَرِ. واعلم أن المُزَنِيَّ روى في "المختصر": أن الشَّافِعِيَّ -رضي الله عنه- قال: ولو شَهِدَ أجْنَبيَّانِ بأن فُلاَناً المُتَوَفَّى أَعْتَقَهُ، وهو الثلث في وَصِيَّتِهِ، وشهد وَارِثَانِ لعبد غيره، بأنه أَعْتَقَهُ وهو الثلث في وَصِيَّتِهِ، فَسَوَاءٌ، ويُعْتَقُ من كل واحد نِصْفُهُ. ثم قال المُزَنِيُّ: قِيَاسُ قوله: أن يُقْرَعَ بينهما. وأطال الأصحاب نَفَسَهُمْ في شَرْحِ المَسْأَلَةِ، ونحن نُورِدُ منه ما يتهذب (¬2) به المَقْصُودُ: أما الفرض، فيما إذا كان شَاهِدَا أَحَدِ العَبْدَيْنِ أَجْنَبِيَّيْنِ، وشاهدا الآخر وارثين، فسيأتي في الفَصْلِ التالي لهذا الفصل بَيَانُ ما يفترق (¬3) فيه شَهَادَةَ الأَجَانِبَ والوَرَثَةِ، وما لا يفترق (¬4). ثم تَحَزَّبَ الأَصْحَابُ فيما هو المُرَادُ من صورة المسألة. فقال حِزْبٌ منهم: المراد العِتْقُ [في المرض] (¬5) المنجز: لأنه قال: أَعْتَقَهُ. وقوله: "في وَصِيَّتِهِ"؛ أي: في مَرَضِهِ الذي هو وَقْتُ الوصية، وأثبت هؤلاء قوْلَيْنِ -ما ذكره الشافعي -رضي الله عنه-، وما خَرَّجَهُ المزني، وهذا ما اختاره (¬6) أَصْحَابُنَا العِرَاقيُّونَ. وقال الحِزْبُ الثَّاني -ومِنهُمْ أبو إسْحَاقَ: المُرَادُ، العِتْقُ المُضَافُ إلى ما بعد الموتِ لقوله (¬7): أَعْتَقَ في وَصِيَّتِهِ؛ أي أمضى (¬8) بِعِتْقِهِ، ثم اخْتَلَفُوا؛ فقال قائلون: الجَوَابُ، ما قاله المُزَنِيُّ، وحُكِيَ عن نَصِّهِ -رضي الله عنه- في "الأم"، ثم مِنْ هؤلاء مَنْ يُحَاوِلُ تَأْوِيلَ المنقول [عن الشَّافِعِيِّ] (¬9) -رضي الله عنه-. ومنهم من يقول: إنه غَلِطَ من ناقل. وذهب بعضهم إلى إِثْبَاتِ القَوْلَيْنِ مع ¬
التَّصْوير في الوَصِيَّةِ بالعتق، وأشَارَ القاضي ابْنُ كَجٍّ إلى طريقة أُخْرَى قَاطِعَةٍ بالقِسْمَةِ تشبهاً (¬1) بالوَصِيَّةِ لشخصين. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةُ: شَهِدَ أجْنَبِيَّانِ أنَّهُ أَعْتَقَ غَانِمَاً وَهُوَ ثُلُثٌ وشَهِدَ وَارِثَانِ بِأَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ وَأعْتَقَ سَالِمَاَ وَهُوَ ثُلُثٌ رُقَّ غَانِمٌ وَعُتِقَ سَالِمٌ إِذْ لاَ تُهْمَة عَلَى الوَارِث لِمَا ذُكرَ لِلرُّجُعِ بَدَلاً، فَإِنْ كَانَ سَالِمٌ سُدُسَ المَالِ صَارَ مُتَّهَمَاً فَيُعْتَقُ غَانِمٌ بِالشَّهَادَةِ ويُعْتَقُ سَالِمٌ بِالإِقْرَارِ، وَقِيلَ: إنَّهُ يُقْرَعُ أَيْضاً وَيْلْغُو شَهَادَةُ الرُّجُوعِ وَتَبْقَى شَهَادَةُ العتْقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لاَ فَرْقَ في شُهُودِ العِتْقِ والوصية بين أن يَكُونُوا أَجَانِبَ، أو وَارِثِينَ؛ إلا أن الوَارِثَ قد يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ نَفْعاً إلى نَفْسِهِ فلا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. وإلا أن شَهَادَةَ الوَارِثِ قد تَتَضَمَّنُ إِقْرَاراً للمشهود به، فيؤاخذ بها فلو (¬2) شَهِدَ أَجْنَبيَّانِ، أنه أَوْصَى بعِتْقِ غَانِمٍ، وهو ثُلُثُ مَالِهِ، وشهد وَارِثَانِ، أنه رَجَعَ عن تلك الوَصِيَّةِ، وأوْصَى بِعِتْقِ سَالِمٍ، وهو ثلَث مَالِهِ أيضاً، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا على الرُّجُوعِ عن الوصية الأُولَى، وتثبت (¬3) بها الوَصِيَّة الثانية؛ لأنهما أَثْبَتَا للرجوع (¬4) عنه بَدَلاً يُسَاوِيهِ فارتفعت التُّهْمَةُ، ولا نَظَرَ إلى تَبْدِيلِ الوَلاَءِ. وقد يكون الثاني أَهْدَى إلى الكَسْبِ وجَمْعِ المال [، فإنه] (¬5) قد لا يُتَّفقُ أَخْذُ شيء بالوَلاَءِ، ومُجَرَّدُ هذا الاحتمال لو أَوْجَبَ رَدّ الشهادة، لما قُبِلَتْ شَهَادَةُ قَرِيبٍ لِقَرِيبٍ يَرِثُهُ. وعن أبي حَنِيْفَةَ ومَالِكٍ: أنه لا تُقْبَلُ شهادتهما على الرُّجُوعِ، ويُعْتَقُ العَبْدَانِ معاً. هذا إذا كان الوَارِثَانِ عَدْلَيْن. فإن كانا فَاسِقَيْنِ، لم يثبت الرُّجُوعُ بقولهما، ويُحْكَمُ بعِتْقِ غَانِم بشهادة الأَجْنَبِيَّيْنِ؛ لأَن الثلث يَحْتَمِلُهُ، ويُعْتَقُ من سَالِمٍ قَدْر ما يحتمله ثُلُثُ الباقي من المَالِ بعد غَانِمٍ، وهو ثلثاه. وكأنّ غَانِماً [هَلَكَ، أو] (¬6) غَصِبَ من التَّرِكَةِ، فإن قال الوَارِثَانِ: أوصى بِعِتْقِ سالم، ولمِ يَتَعرَّضَا لِلرُّجُوعِ عن وصية غَانِمٍ، فالحكم كما ذكرنا فيما إذا كَانَ رِجَالُ البيِّنَتَيْنِ كلهم أجَانِبَ، فالظاهر القُرْعَةُ، ويجيء فيه الخِلاَفُ المذكور في الفَصْلِ السابق. ولو كانت المسْأَلَةُ بِحَالِهَا، ولكن سَالِماً سُدُسُ المَالِ، فالوَارِثَانِ مُتَّهَمَانِ بِردَّ العِتْقِ من الثلث إلى السدس، فلا تُقْبَلُ شهادتهما على الرُّجُوعِ في النصف الذي لم يثبتا له بَدَلاً. وفي الباقي الخِلاَفُ في تبعيض (¬7) الشهادة؛ فإن قلنا: إنها لا تُبعَّضُ، وبه أجاب ¬
الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- في هذه الصورة، فَتُرَدُّ شهادتهما فيه أيضاً، ويُعْتَقُ الأوَّلُ بشهادة الأجنبيين، ويُعْتَقُ الثاني بِإِقْرَارِ الوارثين؛ لأن شَهَادَتَهُمَا تَتَضَمَّنُ الإِقْرَارَ بأنه مُسْتَحِقُّ العِتْقِ. فإن لم يَكُونا جائزين عتق منه قَدْرُ ما يَسْتَحِقَّانِهِ ومنهم من يَقُولُ: يُعْتَقُ من الثاني بِقَدْرِ ما يَحْتَمِلُهُ ثُلُثُ الباقي من المال. وليس هذا خِلاَفاً في المعنى؛ فإن كل (¬1) الثاني وهو سُدُسُ المَالِ، يحتمله (¬2) ثلث الباقي بعد الأوَّلِ. وإن قلنا: إنها تبُعَّضُ، فَيُعْتَقُ نِصْفُ الأول، وجميع الباقي؛ وهو قَدْرُ الثلث. وفيه وجه آخر: أن الرُّجُوعَ المَشْهُودَ به لا يَتَبَعَّضُ. فهذا لم يَثْبُتْ في البعض، لا يَثْبُتْ في الباقي، وتَبْقَى الشَّهَادَةُ على الوَصيَّةِ بِعتق الباقي (¬3)، فَيُقْرَعُ بينهما على مَا مَرَّ. وهذا الخلاف فيما إذا لم يكن في التَّرِكَةِ وَصيَّةٌ أخرى. فإن كان قَدْ أوْصَى بثلث ماله لإِنْسَانٍ، وقامت البَيِّنَتَانِ لغَانِمٍ وسَالِم هكذا، تُقْبَلُ شَهَادَةُ الوَارِثِينَ على الرُّجُوع عن الوصية بِإِعْتَاقِ غَانِم؛ لأن للورثة (¬4) رَدَّ الزِيَادَةِ على الثلث، فَلَيْسَ في الشهادة على الرُّجُوع تُهمَةٌ عليهم. وإذا ثبت الرجُوعُ بِشَهَادَتِهِمْ، جُعِلَ الثُّلُثُ أَثْلاَثاً بين الموصى له بالثلث، وبين عِتْقِ سَالِمٍ؛ فَيُعْطَى الموصى له ثُلُثَا الثلث، ويُعْتَقُ منه ثلثاه، وهو ثُلُثُ الثلث. هكذا ذكروه. لكن رَدَّ الزَّائِدِ على الثلث لا يُوجِبُ جَرَيَانَ بَعْضِ أرباب الوَصَايَا، بل يُوزَّع عليهم الثُّلُثُ. وقبول الشهادة الرجوع يوجب إِرْقَاقَ غَانِمٍ وحِرْمَانَهُ عن التَّبَرُّعِ، وهو مَحَلُّ التُّهمَةِ؛ لِتَعَلُّق الأغْرَاضِ بأعيان العَبِيدِ والأمْوَالِ، بل قَبُولُ شهَادَةِ الرُّجُوع من الوَرَثَةِ، وإن أَثْبَتُوا بَدَلاً مُسَاوِياً لا يصفو عن الإِشْكَالِ؛ لأنه قد يَتَعَلَّقُ الغرض باستبقاء (¬5) غَانِمٍ، وإن كان سَالِماً مِثْلَهُ في القيمة. وإن كان الوَارِثَانِ فَاسِقَيْنِ عتق غَانِمٌ بشهادة الأجْنَبيَّيْنِ، وعتق سَالِمٌ بِإِقْرَارِهِمَا؛ وهو دون ثلث الباقي من المال بعد غَانِمٍ، ولو كانت قِيمَةُ من شَهِدَ له [الأجنبيان سدس المال، وقِيمَةُ من شهد له] (¬6) الوَارِثَانِ ثلث المال، قُبِلَتْ شهادتهما على الرُّجوعِ. وعتق الثاني. فإن كانا فَاسِقَيْنِ عتق الأول، وعتق ثلث الباقي من المال بعد الأَوَّلِ؛ وهو خمسة أسداس الثاني (¬7) وكأنه غصب (¬8) الأَوَّل. ¬
ولو شَهِدَ أَجْنَبيَّانِ أنه نَجَّزَ عِتْقَ غَانِمٍ في المَرَضِ، ووارثان أنه نَجَّزَ عِتْقَ سالمٍ، وكل واحد مهما ثُلُث المال فَيُنْظَرْ إن كذب الوَارِثَانِ الأجْنَبيَّيْنِ وقالا: لم يعتق غَانِماً، وإنما أَعْتَقَ سالماً، فَيُعْتَقُ العبْدَانِ جميعاً. أما غَانِمٌ فَبِشَهَادَةِ الأجنبيين، وأما سالم فبشهادة (¬1) الوارثين أن العَتِيقَ سَالِمٌ دون غَانِمٍ. فإن لم يكونا جائزين عتق منه حِصَّتُهُمَا، واستدرك بعض المتأخرين فقال: قياس ما سَبَقَ ألا يُعْتَقَ من سَالِمٍ إلا قَدْرُ ما يحتمله ثُلُثُ الباقي من المَالِ بعد غَانِمٍ (¬2)، وكأن غَانِماً غُصِبَ من التركة. وهذا جيد. وإن لم يكذباهما، بل قالا: أَعْتَقَ سَالِماً، ولا ندري هل أَعْتَقَ غَانِماً أم لا؟ فإن كان الوَارِثَانِ عَدْلَيْنِ، فالحكم كما ذَكَرْنَا فيما إذا كان شُهُودُ العَبْدَيْنِ معاً أَجَانِبَ. وإن كانا فَاسِقَيْن، فَيُعْتَقُ غَانِمٌ بشهادة الشهود، وأما سَالِمٌ، فقد ذكر الشيخ أبو حَامِدٍ، وتابعه كَثِيرٌ من الأَصحاب -رحمهم الله-: أنه يُعْتَقُ منه نِصْفُهُ إذا فَرَّعْنَا أنه يُعْتَقُ من كل واحد نِصْفُهُ لو كانا عَدْلَيْنِ؛ لأن الوارثين معترفان في ضمن الشهادة باسْتِحْقَاقِهِ عتق النصف، فَلَزِمَهُمَا ما اعْتَرَفَا به. وقال ابن الصَّبَّاغ: هذا سَهْوٌ؛ لأن غَانِماً أيضاً لا يَسْتَحِقُّ بقَوْلِ الوَارِثينَ إلا عِتْقَ النصف. وقد حكمنا (¬3) بِعِتْقِ جميعه فنصفه كالمَغْصُوبِ، أو الهَالِكِ في حَقِّ الوَرَثَةِ، ونِصْفُهُ سدس التركة فينبغي أن يُعْتَقَ عَبْدٌ إلا سُدُسَ عَبْدٍ. وقد أَعْتَقْنَا نِصْفَ عَبْدٍ، فيبقى ثلث عبد بلا مَزِيدٍ. لكن العبدين سَوَاءٌ في اسْتِحْقَاقِ العتق، فلا يَجُوزُ أن يُعْتَقَ من أحدهما أَكْثَرُ مما يُعْتَقُ من الآخر. ويَلْزَمُ من ذلك أن ينقص ما عتق من الأول عن النِّصْفِ، وأن يزيد ما يعتق من الثَّانِي على الثُّلُثِ. وسنبين (¬4) ذلك بأن يُقَالَ: عتق من الأول شَيْءٌ، والباقي مَغْصُوبٌ. وعُتِقَ من الثاني شَيْءٌ، والباقي لِلْوَرَثَةِ مع الثلث الكَامِلِ من التَّرِكَةِ. فمعهم إذن ثُلُثَانِ سِوَى شَيْءٍ. ¬
وذلك يَعْدِلُ ضِعْفَ ما عتق؛ وهو أربعة أَشْيَاءَ فيجبر. ويقابل فثلثا التركة تَعْدِلُ خمسة أشياء، فالشَّيْءُ خمس ثلثي التَّرِكَةِ، وخمس الثلثين خُمُسَا الثلث، وكل عَبْدٍ ثلث، فَيُعْتَقُ من الأول خُمُسَاهُ، والباقي مَغْصُوبٌ، ومن الثاني خُمُسَاة، يبقى ثَلاثةُ أخماسه لِلْوَرَثَةِ مع الثلث الكَامِلِ، وهي ثمانية أَخْمَاسٍ، ضعف ما عتق. ولو شهد أَجْنَبِيَّانِ لِغَانِمٍ وَوَارِثَانِ لِسَالِمٍ كما ذكرنا، إلا أن سَالِماً سدس المال، فإن كَذَّبَ الوَارِثَانِ الأجنبيين (¬1) عتِقا جميعاً، وإن لم يُكَذِّبَاهُمَا، فإن كانا عَدْلَيْنِ، وكما إذا كان شهود العَبْدَيْنِ أَجَانِبَ. والأول ثُلُثُ المال والباقي سدسه، وقد مَرَّ حُكْمُهُ في الفصل السَّابِقِ. وإن كانا فَاسِقَيْنِ، نقل صاحب "التهذيب": أن الأَوَّلَ حُرٌّ بشهادة الأَجْنَبيَّيْنِ، ويُقْرَعُ بينهما، فإن خَرَجَتِ القُرْعَةُ له، انْحَصَرَ العِتْقُ فيه. وإن خَرَجَتْ للثاني، عُتِقَ الأول بالشَّهَادَةِ، وعُتِقَ من الثَّانِي ثُلُثُ ما بَقِيَ من المال؛ بإِقْرَارِ الوارثين. قال في "التهذيب": وقياس هذا أن يُقْرَعَ أيضاً إذا كان كُلُّ واحد من العَبْدَيْن ثُلُثَ المال، وكان الوَارِثَانِ فَاسِقَيْنِ، وكان هذا جَوَابَاً على قول القُرْعَةِ، فيما إذا كان الشُّهُودُ كلهم أَجَانِبَ. وما نَقلْنَا عن الشيخ أبي حَامِدٍ وغيره على قَوْلِ القِسْمَةِ -والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثَةُ إِذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِأنَّهُ أَوْصَى لِزَيْدٍ بالسُّدُسِ وَشَهِدَتْ أُخْرَى بِأنَّهُ أَوْصَى لِبكْرٍ بِالسُّدُسِ وَشَهِدَتْ أُخْرَى بِأَنَّهُ رَجَعَ عَنْ إِحْدَى الوَصِيَّتَيْنِ، فَعَلَى وَجْهٍ تَبْطُلُ الشَّهَادَةُ بِالرُّجُوعِ المُبْهَمِ وَيُسْلَّمُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ سُدُسٌ، وَعَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ لِتَعَيُّنِ المَشْهُودِ لَهُ وَالمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَيُقَسَّمُ عَلَيْهِمَا سُدُسٌ وَاحِدٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا شَهِدَ اثنان بأن فُلاَناً المَيِّتَ أوصى لِزَيْدٍ بالثُّلُثِ وآخران (¬2) بأنه أَوْصَى لِبَكْرٍ بالثلث، فلا يَخْفَى أنه يُجْعَلُ الثُّلُثُ بينهما بالسوية؛ فإن ذكر الآخران: أنه رَجَعَ عن الأَوَّلِ، وأَوْصَى لِبَكْرٍ بالثلث، سُلِّمَ له الثلث، ويَسْتَوي في الرجوع شَهَادَةُ الوَارِثِ، والأجنبي، إذا جَرَى ذِكْرُ البَدَلِ. ولو شهد اثْنَانِ: أنه رَجَعَ عن وَصِيَّةِ بَكْرٍ أيضاً، وأَوْصَى بالثلث لِعَمْرِو سُلِّمَ الثُّلُثُ لعمرو ولو شهد اثنان أنه أوصى بالثلث لزيد أو اثنان أنه أَوْصَى به لِبَكْرٍ، ثم شَهِدَ اثنان أنه رَجَعَ عن إحدى الوَصِيَّتَيْنِ، فإن عينا الرُّجُوعَ عنها، ثَبَتَ الرُّجُوعُ وكان الثُّلُثُ كُلُّهُ للآخر. وفي كتاب القَاضِي ابْنِ كَجٍّ: أن أبا الحُسَيْنِ قال: لا يكون للثَّانِي إلا السُّدُسُ؛ لأنه إذا أوْصَى بالثلث لهذا، وبالثلث لهذا، فَكَأَنَّهُ أوصى بالسُّدُسِ لكل واحد منهما. ¬
وإنما يُسَلَّمُ الثلُثُ للآخر، إذا ثَبَتَ أن وَصِيَّتَهُ وَقَعَتْ بعد الرُّجُوع عن الوَصِيَّةِ الأخرى. وإن لم يُعَيِّنْ شَاهِد الرجوع الوصية المَرْجُوع عنها، نصَّ في "المختصر" -رضي الله عنه-: أن الثُّلُثَ يكون بينهما. ولِمَ ذلك؟ قال أكثر الأصحاب: لأنهما أَبْهَمَا الرُّجُوعَ، والإِبْهَام يمنع قَبُولَ الشهادة؛ كما لو شهدا: أنه أَوْصَى لأحد هذين، أو لفلان كذا على أَحَدِ هذين. وإذا لم تُقْبَلْ شَهَادَةُ الرجوع والوَرَثَةُ لا تجيز أكْثَرَ من الثلث، يكون الثُّلُثُ بينهما. وقال بعضهم، واخْتَارَهُ القَفَّالُ: هذه الشهادة مَقْبُولَةٌ؛ لتعيين الوارث المشهود له، وعين المشهود عليهما. وإن وَقَعَ الإِبْهَامُ، فالوَصِيَّةُ تحتمل الرُّجُوعَ، والإِبْهَامَ، ويَنْقَسِمُ الرجوع (¬1) بينهما، ويُجْعَلُ كأنه رَدّ وصية كل واحد منهما إلى السُّدُسِ. وتظهر فَائِدَةُ الخِلاَفِ فيما إذا شَهِدَتْ بَيَّنَةٌ: أنه أَوْصَى لِزَيْدٍ بالسدس، وأخرى أنه أَوْصَى لِبَكْرٍ بالسدس، وأُخْرَى أنه رَجَعَ عن إِحْدَى الوصيتين، وهي الصُّورَةُ المَذْكُورَةُ في الكتاب، فعلى ما ذَكَرَهُ أكثرهم، لا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الرُّجُوع المبهم. ويُدْفَعُ إلى كُلِّ واحد منهما السدس. وعلى ما اخْتَارَهُ القَفَّالُ، تُقْبَلُ، ويُجْعَل كأنه رَجَعَ عن نِصْفِ كل وصية. فَيُدْفَعُ إلى وَاحِدٍ منهما [نِصْفُ] (¬2) سدس. واعْلَمْ أنَّ هذه الكُتُبَ الثلاثة أدب القَضَاء، والشَّهَادَات، والدَّعَاوَى والبَيِّنَات، يَتَعَلَّقُ بعضها بِبَعْضٍ. وقد يَتَّفِقُ ذلك (¬3) المداخلة في مَسَائلها. وإذ يَسَّرَ الله -تعالى- الفَرَاغَ من شرح ما في الكتاب [من ثلاثتها] (¬4) فإنا نرى خَتْمَهَا بِبَابَيْنِ: أحدها: في مسائل وَصُوَرِ تَدْخُلُ في هذه الكُتُب؛ منها ما هي كالشَّهَادَةِ عن الأصُولِ المذكورة [فيها] (¬5) ومنها ما هي مُسْتَخْرَجَةٌ عليها. لكن التَّنْصِيصَ عليها يفيد الدُّرْبَةَ ويهذب الأُصُولَ. والباب الثاني في دعوى (¬6) النَّسَب؛ وقد أَوْرَدَهُ في الكتاب، وله ارْتِبَاطٌ بهذه الكتب من حيث إنه نوع ادِّعَاء. لكنه لا يحتاَج إلى البَيِّنَةِ (¬7) من حيث إن القَائِفَ شَبِيهٌ بالحاكم. أمَّا البَابُ الأَوَّلُ: فيأتي بالمسائل مَنْثُورَةً؛ ونقول مُسْتَوْفِقِينَ بالله تَعَالى جَدُّهُ. يوم الجمعة كَسَائِرِ الأيَّامِ في إِحْضَارِ من يُطْلَبُ إِحْضَارُهُ مَجْلِسَ الحكم. نعم، إذا صَعَدَ الخطيب المِنْبَر، فلا يحضر أَحدٌ إلى الفَرَاغِ من الصَّلاةِ، واليهودي يحضر يوم ¬
السَّبْتِ ويكسر عليه سبته. شَهِدَ اثْنَانَ: أنه غَصَبَ كذا، أو سَرَقَهُ غُدْوَةً، وآخران: أنه سَرَقَهُ، أو غصبه عَشِيَّةً، فَتَتَعَارَضُ البَيِّنَتَانِ، ولا يُحْكَمُ بواحدة منهما، بِخِلاَفِ ما لو شَهِدَ شَاهِدٌ هكذا، وآخر هكذا، حيث يَحْلِفُ المُدَّعِي مع أحدهما، ويأخذ الغَرِيمُ؛ لأن الشَّاهِدَ ليس بِحُجَّةٍ حتى يفرض تَعَارُضٌ (¬1). شَهِدَ شَاهِدٌ على إِتْلاَفِ ثَوْبٍ قِيمَتُهُ رُبُعُ دِينَارٍ، وآخر على إِتْلاَفِ ذلك الثوب بعينه، وقال: قِيمَتُهُ ثَمَنُ دِينَارٍ يثبت للأقَلُّ، وللمدعي أَن يَحْلِفَ مع الآخر. ولو شَهِدَ اثْنَانِ على إِتْلاَفِ ثَوْب قِيمَتُهُ رُبُعٌ، وشَهِدَ آخران على أنه أَتْلَفَ ذلك الثَّوْبَ وقيمته ثمن يثبت الأَقَلُّ أيضاً؛ لأنه المُتَّفَقُ عليه. وأما الزِّيَادَةُ، فالبَيِّنَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ فيها. وبهذا قال أحمد. وقال أبو حَييفَةَ: الأكْثَرُ عليهما. ولو شَهِدَ اثْنَانِ على أن وَزْنَ الذهب الذي أَتْلَفَهُ دِينَارٌ، وآخَرَانِ على أن وَزْنَهُ نِصْفُ دِينَارٍ، يثبت الدِّينَارُ؛ لأن مع الشَّاهِدَيْنِ به زِيادَةَ عِلْمٍ، بخلاف الشَّهَادَةِ على القِيمَةِ، فإن مدركَهَا الاجْتِهَادُ، وقد يَقِفُ شَاهِدُ القليل على عَيْبٍ به. ادَّعى عَبْداً في يَدِ رَجُلٍ، وأقام بَيِّنَةً: أنه وَلَدُ أَمَتِهِ، لم يُقْضَ له بهذه البَيِّنَةِ. فربما وَلَدَتْهُ قبل أن مَلَكَهَا. وإن قال: إنه وَلَدُ أَمَتِهِ، وَلَدَتْهُ في مِلْكِهِ، نص -رضي الله عنه-: أنه يُقْضَى له بهذه البَيِّنَةِ، لكنها شَهَادَةٌ بِمِلْكٍ سَابِقٍ، وهو المِلْكُ يوم الوِلاَدَةِ. وقد سبق أن البَيِّنَةَ على أنه مِلْكُهُ لا يُقْضَى بها في أَصَحِّ القَوْلَيْنِ. فَخَرَّجَ ابْنُ سُرَيْجٍ قَوْلاً هاهنا أيضاً، وامْتَنِعَ سائر الأَصْحَاب عنه، وفَرَّقُوا بأن النَّمَاءَ تَابعٌ للأصل. فإذا تَعَرَّضَتِ البَيِّنَةُ لِمِلْكِ الأَصْلِ، تبعه النَّمَاءُ في المِلْكِ. ألا ترى أنه إذا قامت البَيِّنَةُ على مِلْكِ الشيء منذ سَنَةٍ يَأْخُذُهُ المُدَّعِي مع زِيَادَةٍ في البَينة (¬2)؟ وهناك الشَّهَادَةُ على الأَصْلِ، فاعتبر التَّعَرُّضُ لِلْمِلْكِ في الحال، [لكن صورة الاسْتِشْهَادِ قامت الشَّهَادَةُ على مِلْكِ الأَصْلِ في الحال] (¬3)، وأرخت الملك وليس قولهم: وَلَدَتْهُ في مِلْكِهِ، إِثْبَاتَ مِلْكِ الأَصْلِ في الحال. ولو شَهِدُوا: أن هذه الشَّاةَ نَتَجَتْ في مِلْكِهِ، وهذه الثَّمَرَةُ حَصَلَتْ من شجرته، في مِلْكِهِ، فهو كقولهم: وَلَدَتْهُ أَمَتُهُ في مِلْكِهِ، ولا تكْفِي أن يَقُولُوا: هذه نِتَاجُ شَاتِهِ، وثَمَرَةُ ¬
شَجَرَتِهِ. ولو شَهِدُوا: أن هذا الغَزْلَ من قُطْنِهِ، والفَرْخَ من بَيْضِهِ، أو الدَّقِيقَ من حِنْطَتِهِ، أو الخُبْزَ من دَقِيقِهِ، كفى؛ لأن ذلك عَيْنُ مِلْكِهِ. تَغَيَّرَتْ صِفَتُهُ، بخلاف وَلَدِ الجَارِيةِ، وثَمَرَةِ الشجرة. أقام بَيِّنَةً على رِقِّ شخص، وأقام المُدَّعَى عليه بَيِّنَةً على أنه حُرُّ الأَصْلِ فَبَيِّنَةُ المُدَّعِي أَوْلَى؛ لأن معها زِيادَةَ عِلْمٍ؛ وهي إِثْبَاتُ الرِّقِّ (¬1). ادَّعَى دَيْناً على إِنْسَانٍ، وشَهِدَ شَاهِدَانِ، لكن ذكر أحدهما موصولاً بشهادته: أنه قَضَاهُ، أو أن المُسْتَحِقَّ أَبْرَأَهُ، فشهادته باطلة لِلتَّضَادِّ. وإن ذِكْرَهُ مَفْصُولاً عن الشهادة. فإن كان بَعْدَ الحُكْمِ، لم يُؤَثِّرْ للمدعى عليه أن يَحْلِفَ معه على القَضَاءِ، أو الإبْرَاءِ. ¬
وإن كان قبل الحكم سُئِلَ: متى قَضَاهُ؟ فإن قال: قبل أن شَهِدت، فكذلك الجَوَابُ عند صاحب "التلخيص". وذكر فيما إذا شَهِدَ على إِقْرَارِهِ بالدَّيْنِ شَاهِدَانِ، ثم عاد أَحَدُهُمَا، وقال: إنه قَضَاهُ، أو أَبْرَأَهُ المستحق، بعد أن شهدت: أن شَهَادَتَهُ لا تَبْطُلُ. بل يُقْضَى بالدَّيْنِ، ويُؤْخَذُ، إلا أن يَحْلِفَ المدعى عليه مع شَاهِدِ القَضَاءِ، والإِبراء. والفَرْقُ: أن هناك شَهِدَ على نفس الحَقِّ، والقَضَاءِ، والإِبْرَاءِ، يُنَافِيَانِهِ، فَبَطَلَتِ الشَّهَادَةُ. وهاهنا شهد على الإِقْرَارِ، والقَضَاءِ، والإِبْرَاءِ، لا يُنَافِيَانِهِ، فلا تَبْطُلُ الشَّهَادَةُ. وعن أبي زيد وَجهٌ: أن شَهَادَتَهُ على نفس الحَقِّ، لا تبطل أيضاً. والظاهر، الفرقُ وَيَقْرُبُ من هذا الخِلاَفِ فيما إذا ادعى أَلْفاً، وشَهِدَ له شَاهِدَانِ بألف مُؤَجَّلٍ، ولكن قال أحدهما قُضَيَ منه خمسمائة. ففي وَجْهٍ: لا تَصِحُّ شهادتهما إلا في خمسمائة، نعم لِلْمُدَّعِي أن يَحْلِفَ للخمسمائة الأخرى مع الشَّاهِدِ الآخر. وفي وجه: تَصِحُّ شَهَادَتُهُمَا على الأَلْفِ، وللمدعى عليه أن يَحْلِفَ مع شاهد القَضَاءِ. وذكر الفوراني وَجْهاً آخر: أنه لا يثبت بشهادتهما شَيْءٌ؛ لأنهما لم يَتَّفِقَا على ما ادَّعَاهُ. ويقرب من الخِلاَفِ قولان لابن سُرَيْجٍ، فيما إذا شَهِدَ اثْنَانِ: أن فلاناً وَكَّلَ فُلاَناً، ثم عَادَ أحدهما، وقال: إنه عَزَلَهُ بعد أن شَهِدت (¬1). ففي قول: تَبْطُلُ شهادته. وفي قول: قد تَمَّتْ شَهَادَةُ الوِكَالَةِ، فَيُعْمَلُ بها، والعَزْلُ لا يثبت بواحد. ادَّعَى شريكان فَصَاعِداً حَقّاً على إنسان، فَأَنْكَرَهُ، يحلف لكل (¬2) واحد يَمِيناً، فإن رَضِيَ الكُلُّ بيمين وَاحِدَةٍ، فوجهان: في أحدهما: يجوز؛ لأن الحَقَّ لهم. وفي الثاني: لا يجوز [كما لا يجوز] (¬3) الحكم بشاهد وَاحِدٍ، كان رضي الخَصْمُ (¬4). شهد اثْنَانِ على أن المَيِّتَ أَوْصَى بعِتْقِ غَانِمٍ، وهو ثُلُثُ مَالِهِ، فحكم الحاكم بِعِتْقِهِ، ثم رَجَعَا عن الشَّهَادَةِ، وشَهِدَ آخَرَانِ: أَنه أوصى بِعِتْقِ سَالِمٍ، وهو ثلث [ماله] (¬5) ¬
أيضاً، ولم يُجِزِ الوَرَثَةُ إلا الثُّلُثُ. حُكِيَ في "التهذيب": أنه يُقْرَعُ بينهما؛ فان خَرَجَتْ للأول، رُقَّ الثَّانِي، والراجعان يُغرَّمَانِ قِيمَةَ الأَوَّلِ لِلْوَرَثَة؛ لإقرارهما بأنهما أتْلَفَاهُ عليهم. وإن خرجت للثاني، عُتِقَ، وَرُقَّ الأَوَّلُ، ولا غُرْمَ على الرَّاجعين؛ لأنهما لم يتلقياهُ (¬1)، إذ أرفقناه. قال: وعندي يُعْتَقَ الثَّانِي بلا قُرْعَةٍ وعلى الراجعين قِيمَةُ الأَوَّلِ لِلْوَرَثَةِ؛ لأنا لو أَقْرَعْنَا فخرجت القُرْعَةُ للأول، وأرفقنا (¬2) الثاني، لم يذهب من التَّرِكَةِ شَيْءٌ في الوصية. شهد أَحَدُ الشاهدين: أنه وَكَّلَهُ بكذا، والآخر أنه (¬3) فَوَّضَهُ إليه، أو سَلَّطَهُ عليه، تَثْبُتُ الوِكَالَةُ. ولو شهد أحدهما: أنه قال: وَكَّلْتُكَ بكذا، والآخر أنه أقر بوكالته لم يثبت. ولو شهد أحدهما: أنه وَكَّلَهُ بالبيع والآخر أنه وَكَّلَهُ بالبيع، وقَبْض الثَّمَن، يثبت البَيْعُ. ادَّعى رَجُلٌ على رَجُلٍ: أنه اشْتَرَى منه هذا العَبْدَ، وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ، وأَعْتَقَهُ، وأقام عليه بَيِّنَةً. وادعى آخَرُ: أنه اشْتَرَاهُ، ونَقَدَ الثَّمَنَ، وأقام عليه بينة؛ فهما مُتَعَارِضَتَانِ. وذِكْرُ العِتْقِ لا يقتضي تَرْجِيحاً. وفيه وجه [آخر] (¬4): لأن العِتْقَ كالقَبْضِ. وعن نَصِّهِ في "الأم": أنه لو ادَّعى دَابَّةً في يَدِ غيره، وأقام بَيِّنَةً أنها له منذ عَشْرِ سنين، فنظر الحَاكِمُ في سِنِّ الدَّابَةِ، فإذا لها ثَلاَثُ سنين، لم تُقْبَلْ هذه البَيِّنَةُ؛ للعلم بأنها كاذبة (¬5). وإن المسنّاة الحَائِلَةَ بين نَهْرِ شَخْصٍ، وأرض آخر في يَدِهِمَا كالجِدَارِ الحَائِلِ؛ لأن الأَوَّلَ يجمع بها المَاءَ في نَهْرِهِ، والثاني يمنع بها المَاءَ عن أَرْضِهِ. ادَّعَى مِائَةً دِرْهَمٍ على إِنْسَانٍ فقال: قضيت خمسين [لم يكن مُقِرّاً بالمائة. وكذا لو قال: قَضَيْتُ منها خمسين] (¬6)؛ لجواز (¬7) أن يَزِيدَ من المائة التي يَدَّعِيَها، وليس على غَيْرِ الخمسين. اختلف الزَّوجَانِ في مَتَاعِ البيت، إن كان لأحدهما بَيِّنَةٌ قُضِيَ بها، وإن لم تكن بَيِّنَةٌ، فما اخْتَصَّ أحدهما باليدَ عليه حسّاً (¬8)، أو حُكْماً؛ بأن كان في مِلْكِهِ، فالقول قَوْلُهُ، مع يَمِينِهِ. وما كان في يَدِهِما حِسّاً، أو كان في البَيْتِ الذي يَسْكُنَانِهِ، فَلِكُلِّ واحد منهما تَحْلِيفُ الآخَرِ فيه، فإن حَلَفَا، جُعِلَ بينهما. وإن حَلَفَ أحدهما دون الآخَرِ، ¬
قُضِيَ لِلْحَالِفِ، ولا فَرْقَ بين أن يَكُونَ الاخْتِلاَفُ في دَوَامِ الزَّوْجِيَّةِ، أو بعد الفِرَاقِ، ولا بَيْنَ أن يختلفا هما، أو ورثتهما، أو أحدهما، وَوَرَثَةُ الآخر، ولا بين ما يصلح للزوج كالسَّيْفِ، والمِنْطَقَةِ، أو للزوجة كالحُلِيِّ، والغَزْلِ، أو لهما. وساعدنا أبو حَنِيْفَةَ فيما في يدهما [حِسّاً] (¬1)، وقال في في يدهما حُكْماً: إِن ما يصلح للرَّجُلِ، يُجْعَلُ في يَدِ الرجل، وما يَصْلُحُ للمرأة، يُجْعَلُ في يَدِ المرأة، وما يصلح لهما، فَيُرْوَى أنه يُجْعَلُ في يدهما، ويُرْوَى أنه يُجْعَلُ في يَدِ الزَّوْجِ. هذا في حال بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ، وبعد الفِرَاقِ يُجْعَل للزوج، وإذا مات أَحَدُهُمَا يُجْعَلُ لِلْحَيِّ. مَالِكُ الدار وسَاكِنُهَا بالإجارة اخْتَلَفا في مَتَاع الدَّارِ، القول فيه قول السَّاكِنِ، فإن تَنَازَعَا في رفّ فيها، نُظِرَ؛ إن كان مُسَمَّراً، مُثبتاً (¬2). فالقول، قَوْلُ المالك؛ لأنه من أَجْزَاءِ الدَّارِ، وإن لم يكن مثبتاً، نصَّ -رضي الله عنه- أنه يُجْعَلُ بينهما، بخلاف الأَمْتِعَةِ؛ لأن مَالِكَ الدار إذا أَكْرأ الدَّار، تُنْقَلُ الأمتعة ظَاهِراً، والرَّفُّ تَارَةً يُنْقَلُ، وتَارَةً يُتْرَكُ، وكلٌّ محتمل (¬3). تَنَازَعَا أرْضاً، ولأحدهما فيها زَرْعٌ، أو بِنَاءٌ، أو غِرَاسٌ، فهي في يَدِهِ، أو دَابَّةً، أو جَارَيةً حَامِلاً، والحَمْلُ لأحدهما بالاتِّفَاقِ، فهي في يَدِهِ، أو داراً ولأحدهما فيها مَتَاعٌ، فهي في يَدِهِ. فإن لم يكن المَتَاعُ إلا في بَيْتٍ، لم يُجْعَلْ في يَدِهِ، إلا ذلك البَيْتُ. هكذا ذكروه. ولو تَنَازَعَا عَبْداً، ولأحدهما عليه ثِيَابٌ، لا يُجْعَلُ صَاحِبَ يد في العَبْدِ؛ لأن مَنْفَعَةَ الثَّوْبِ المَلْبُوسِ تَعُودُ إلى العَبْدِ، لا إلى المُدَّعِي. مدعيان، قال أحدهما: اسْتَأْجَرْتُ هذه الدَّارَ من زيد سَنَةً في أول رَمَضَانَ، وقال الثَّانِي: اسْتَأجَرْتُهَا منه سَنَةً من (¬4) أول شوال، وأقام كُلُّ واحد منهما بَيِّنَةً. قال في "الإبانة": فيه قولان: أظهرهما -وهو المذكور في "التهذيب"، وغيره: أن بَيِّنَةَ رمضان أَوْلَى؛ لأنها أَسْبَقُ تاريخاً. والثاني: بَيِّنَةُ شوال أَوْلَى؛ لأنها نَاسِخَةٌ للأول. ويُحْتَملُ أنهما تَقَابَلاَ، واسْتَأْجَرَ الثاني في شوال، وليجيء هذا في بينتي (¬5) البَيْعِ على ضعفه. قامت بَيِّنَةٌ على أن هذا ابْنُهُ، لا يعرف له وَارِثاً سواه، وبَيِّنَةُ الآخر على أن هذا ابْنُهُ، لا يعرف له وَارِثاً سواه، يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا؛ فلعل كل واحدة اطَّلَعَتْ على ما لا تَطَّلِعُ عليه الأُخْرَى. ¬
وفيما جمِعَ في فَتَاوَى القَفَّالِ، وغيره: أن الضَّيْعَةَ إذا كانت مَعْلُومَةً بثلاثة حُدُودٍ، جاز الاقْتِصَارُ على ذكرها، وهذا خِلاَفُ ما نَقَلْنَاهُ في "باب القَضَاءِ على الغائب" عن إطلاق ابْنِ القَاصِّ. [قال]: لكن لو ذكر الشُّهُودُ الحُدُودَ الأَرْبَعَةَ، وأَخْطَئُوا في واحد، لا تَصِحُّ شهادتهم. وترك الذِّكْرِ، خير من الخَطَإِ؛ لأنهم إذا أخطئوا لم تكن بتلك (¬1) الحدود ضَيْعَةٌ في يد المدعى عليه. وإذا غَلِطَ المدعي، فقال المُدَّعَى عليه: لا يلزمني تَسْلِيمُ دار بهذه الصِّفَةِ، كان صَادِقاً، ولو حلف كان بَارّاً، كان لم يُنْكِرْ، وقال [لا] (¬2) أمنعه الدار التي يَدَّعِيَها، سَقَطَ دَعْوَى المدعي، وإن ذَهَبَ إلى الدَّارِ التي في يده ليدخلها، فله أن يَمْنَعَهُ، ويقول: [هي] (¬3) غير ما ادَّعيت. فأما عند الإِصَابَةِ في الحُدُودِ، إذا قال: لا أَمْنَعُكَ منها، لم يكن له المَنْعُ إذا ذهب لِيَدْخُلَهَا. فإن قال: ظَنَنْتُ أنه غَلِطَ في الحدود، لم يُقْبَلْ. وإن قال: إنما قلت: لا أَمْنَعُكَ؛ لأن الدَّار لم تكن في يَدِي يومئذ، ثم صَارَتْ في يدي، وملكي، قُبِلَتْ منه، وكان له المَنْعُ إذا حَلَفَ عليه. وفيه أن دعوى العبد على سَيِّدِهِ: أنه أَذِنَ له في التِّجَارَةِ، لا تُسْمَعُ إن لم يَشْتَرِ، ولم يَبعْ شيئاً. وإن اشترى ثَوْباً، وجاء البائع يَطْلُبُ الثَّمَنَ من كَسْبِهِ، فأنكر السَّيِّدُ الآذِنُ، فللبائع أن يُحَلِّفَهُ على نَفْي الإِذْنِ، فإن حلف، فَلِلْعَبْدِ أن يُحَلِّفَهُ مَرَّةً أخرى؛ ليسقط الثَّمَن عن ذِمَّتِهِ. وإن باع العَبد عَيْناً [لِلسَّيِّدِ،] (¬4) وقبض الثمن، وهَلَكَ في يَدِهِ، وجاء المُشْتَرِي يَطْلُبُ تلك العَيْنَ، فقال السَّيِّدُ: لم آذَنْ له في البيع، حُلِّفَ، فإن حَلَفَ، حُكِمَ بِبُطْلاَنِ البيع، وللعبد تَحْلِيفُهُ؛ لإسقاط الثَّمَنِ عن ذمَّتِهِ. وإنه لو ادَّعَى أَلْفاً [على] (¬5) غيره، وأقام شَاهِداً، وأَرَادَ أن يَحلِفَ معه، وأقام المدعى عليه شَاهِداً بأن المُدَّعِي أَقَرَّ أنه لاَ حَقَّ له عليه، له أن يحلف مع شَاهِدِهِ، وإذا حلف، سَقَطَ دعْوَى المدعي. وإنه يجوز لِلْمَالِكِ أن يدعي على الغائب (¬6)، وعلى الغاصب من الغَاصِبِ، فإن ادعى على الأَوَّل؛ أنه يلزمه رَدُّ الثَوْبِ بِصِفَةِ كذا، أو قيمته (¬7) كذا، فليس لِلْغَاصِبِ أن ¬
يحلف على أنه لا يلْزَمُهُ؛ لأنه إن قدر على الانتزاع، [لزمه] (¬1) الانْتِزَاعُ، والرد، وإلا فعليه القِيمَةُ. وإنهم لو شَهِدُوا على أن هَذِهِ الدَّارِ اشْتَرَاهَا المدعي من فلان، وهو يَمْلِكُهَا، ولم يقولوا: إنها الآن مِلْكُ المدعي، ففي قَبُولِ هذه الشَّهَادَةِ قَوْلاَنِ؛ كما لو شهدوا: أنها كانت مِلْكَهُ بالأمْسِ، والمفهوم من كلام الأكثرين أنها مَقْبُولَةٌ كَافِيَةٌ. وأنه إذا ادَّعَى على إنسان حَقَّ القِصَاصِ لِقَتْلِ نَسَبَهُ إليه، وكان عند الحاكم أن لا قِصَاصَ بذلك، فجاء رَجُلٌ، ورَوى خَبَراً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنه يوجب القِصَاصَ، فاقتص الحَاكِمٌ منه، ثم رجع الرَّاوِي وقال: كذبتُ، وتَعَمَّدْتُ، لم يجِبِ القِصَاصُ عليه، بخلاف الشَّهَادَةِ؛ لأن الرِّوَايَةَ لا تَخْتَصُّ بالواقعة. وأنه إذا غُصِبَ المَرهُونُ من المُرْتَهِنِ، كان لكل واحد من الرَّاهِنِ والمُرْتَهِنِ أن يَدَّعِيَهُ على الغَاصِبِ، والراهن يقول في دَعْوَاهُ: إن لي ثَوْباً كنت رَهَنْتُهُ من فلان، وإنه غُصِبَ منه، ويلزَمُهُ الرَّدُّ إلَيَّ. ولو اقتصر على قوله: إن لي عنده ثَوْباً صِفَتُهُ كذا، ويَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ إِلىَّ، جاز. ولا بُعْدَ في أن يقول: ويَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ إِليَّ. فإن يَدَ المُرْتَهِنِ يَدُ الرَّاهِنِ، ولهذا لو نَازَعَهُ مُنَازعٌ في المَرْهُونِ، كان القَوْلُ قَوْلَ الراهن. وإن كان المَرْهُونُ في يد المُرْتَهِنِ؛ لأن يَدَهُ يَدُهُ. وإن الغريب الذي دَخَلَ البلد لا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ على أنه حُرُّ الأَصْلِ، إنما تَجُوزُ الشَّهَادَةُ على أن فلاناً حُرُّ الأصل، إذا عُرِفَ حَالُ أبيه وأمه، وعرف النِّكَاحُ، وحُدُوثُهُ بينهما. وتَجُوزُ الشَّهَادَةُ وإن لم يشاهد الوِلاَدَةَ، كما تجوز الشَّهَادَةُ على أنه ابْنُ فُلاَنٍ. وأنه إذا ادَّعى دَاراً في يدي رجل، وأقام بَيِّنَةً؛ أنه اشْتَرَاهَا منه، وأقام صَاحِبُ اليد بَيِّنَةً أنه وَهَبَهَا منه، ولم تَتَعَرَّضِ البَيِّنَتَانِ لِتَأْرِيخٍ، فَيَتَعَارَضَانِ. ولهذا الاختلاف أَثَرٌ عند ظُهُورِ الاسْتِحْقَاقِ، وإذا وجدَ عَيْباً، وأراد رَدَّهُ، واسْتِرْدَادَ الثمن وأنه إذا ادعى دَاراً في يَدِ إنسان، وأقام بَيِّنَةً؛ أنها مِلْكُهُ، فادعاها آخر (¬2)، وأقام بَيِّنَةً على أنه اشْتَرَاهَا من فلان؛ رجل آخر يوم كذا، ولم يَقُولُوا: إنه كان يَمْلِكُهَا يومئذ، ولكن أَقَامَ بَيِّنَةً أخرى؛ أنه كان يَمْلِكُهَا. يومئذ سُمِعَتْ هاتان البَيِّنَتَانِ، وصارتا كَبَيِّنَةٍ واحدة، فيحصل التَّعَارُضُ بينها وبين بَيِّنَةِ المُدَّعِي الأول. وأنه إذا ادعى دَاراً، وأقام بَيِّنَةً [على] (¬3) أنها مِلْكُهُ، وانْتَزَعَهَا من يدي المدعى ¬
عليه، وجاء آخَر بعد مُدَّةٍ طويلة، أو يَسِيرةٍ [و] (¬1) يدعيها، وأقام بَيِّنَةً على أنه اشتراها من المُدَّعَى عليه، الذي كانت الدَّارُ في يده، وكان يَمْلِكُهَا يومئذ، يُقْضَى بالدار للمدعي، وكان كما لو أَقَامَ صاحب اليد البَيِّنَةَ قبل الانْتِزَاعِ منه. وأنه إذا ادَّعَى اثْنَانِ دَاراً في يد ثَالِثٍ، وأقام أحدهما بَيِّنَةً أنها مِلْكُهُ، ثم أقام الثاني بَيِّنَةً على أنه اشْتَرَاهَا من المُدَّعي الأول؛ فإن قامت بَيِّنَةُ الثاني بعد القَضَاء للمدعي الأَوَّل بِبَيِّنَةٍ، فيُقْضَى (¬2) للثاني على الأَوَّلِ، ولا نشترط أن يقول شُهُودُهُ: اشْتَرَاهَا من الأول، وهي مِلْكُهُ، فإن قامت قبل القَضَاءِ للأول، فإن قالوا: اشْتَرَاهَا منه وهو يَمْلِكُهَا، انْتُزِعَتِ الدَّارُ من صاحب اليَدِ، وقُضِيَ بِهَا للثَّاني [وإن لم يَتَعَرَّضُوا للْمِلْكِ، فلا يُقْضَى بها للثاني] (¬3) ما لم يُقْضَ للأول بالمِلْكِ ولكن تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الثاني على الأَوَّلِ. وإن لم يُقْضَ له بعدُ. وهذه المَسْأَلَةُ قد حَكَيْنَاهَا من قَبْلُ، وهذا التَّفْصِيل كالشرح، والإيضاح [لما مرَّ] (¬4). وأنه لو كانت في يد رَجُلٍ دَارٌ، فَادَّعَى إِنْسانٌ أنه اشْتَرَاهَا من ثالث بعدما اشْتَرَاهَا الثالث من صاحب اليَدِ، وأنكر صَاحِبُ اليد، فله أن يُقِيمَ بَيِّنَةً على البَيْعَيْنِ، وله أن يُقِيمَ على هذا بَيِّنَةً، وعلى هذا بَيِّنةً، ولا بَأْسَ بما يَتَّفِقُ من التقديم، والتأخير. وأنه إذا أَرَادَ الشُّهُودُ إِقَامَةَ الشهادة على شراء دَارٍ قد تَبَدَّلَتْ حُدُودُهَا في يوم الشراء، فَيَشْهَدُونَ: أنه اشترى دَاراً منذ عشر سنوات (¬5) مثلاً من فُلانٍ، وهو يَمْلِكُهَا، وكان يومئذ ينتهي أحد حُدُودِهَا إلى كذا، والثاني إلى كذا، ثم على المُدَّعِي أن يقيم بَيِّنَةً على كيفية تَبَدُّلِ تلك الحُدُودِ، فيشهد الشهود؛ بأن الدَّارَ التي كانت في يد فلان قد انْتَقَلَتْ إلى فُلاَنٍ، والتي كانت في يَدِ فلان [قد] انْتَقَلَتْ إلى فلان، حتى يُقْضَى له. وأنه إذا ادَّعَى دَاراً في يَدِ غيره، وأقام بَيِّنَةً على أنها مِلْكُهُ، وقال القاضي: عُرِفَتْ هذه الدَّارُ مِلْكاً لفلان، وقد مات، وانْتَقَلَ إلى [فلانٍ] (¬6) وارثه فأقيم (¬7) بينة على تَمَلُّكِهِ [فيه] (¬8) فله ذلك، وتَنْدَفِعُ بَيِّنَتُهُ. وليكن هذا جَوَاباً على أنه يُقْضَى بعلمه. وأنه لو ادَّعى دَاراً في يد غيره، فقال المُدَّعَى عليه: ليست الدَّارُ في يدي، ولا أَحُولُ بَيْنَكَ وبينها. فقد أَسْقَطَ الدَّعْوَى عن نفسه، فيذهب المُدَّعِي إلى الدار. فإن لم يَدْفَعهُ أحد، فذاك، وإن دَفَعَهُ ادعى على الدَّافع، فإن قال المدعي: إنه يَكْذِبُ في قوله: ¬
إن الدَّار ليست في يدي، وإني غير حَائِلٍ، لم يلْتَفَتْ إليه. وأنه لو بَاعَ دَاراً، ثم قَامَتْ بَيِّنَةُ (¬1) الحسبة، أن أبا البائع قد وَقَفَهَا، وهو يَمْلِكُهَا على ابنه البَائِع، وبعده على أَوْلاَدِهِ، ثم على المسَاكِين، انْتُزِعَتِ الدار من المشتري (¬2)، وُيرْجَعُ بالثمن على البائع. والغَلَّةُ الحاصلة في حَيَاةِ البائع تُصْرَفُ إلى البائع إن كَذَّبَ نَفْسَهُ، وصدق الشهود. وإن أَصَرَّ على الإنكار (¬3)، الوَقْف لم يُصْرَفْ إليه، بل يُوقَفُ، فإذا مات صُرِفَ إلى أَقْرَبِ الناس إلى الوَاقِفِ. ولو ادعى البَائِعُ: أنه وقف، لم تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ. والتقييد (¬4) بالبينة يُشعِرُ بأنه تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وله أن يُحَلِّفَ الخَصْمَ (¬5). وذكر العراقيون: أنه تُسْمَعُ بَيِّنتُهُ أيضاً، إذا لم يُصَرِّح بأنه ملكه، بل اقْتَصَرَ على البيع. وفي "التجربة" للروياني: أنه لو بَاعَ شَيْئاً، ثم قال: بعته، وأنا لا أَمْلِكُهُ، ثم ملكته بالإرث (¬6) من فلان. فإن قال حين باع: أنه ملكه [أي قال: إنه ملكي] (¬7) لم تسمع دعواه، ولا بَيِّنَتُهُ. وإن لم يقل (¬8) ذلك، بل اقْتَصَرَ على قوله: بِعْتُكَ، سُمِعَتْ دعواه. وإن لم تكن بَيِّنَتُهُ، حلف المُشْتَرِي: أنه باعه وهو يَمْلِكُهُ، قال: وقد نص -رضي الله عنه- في "الأم"، وغَلَّطَ من قال غيره، وكدا لو ادعى: أن المَبِيعَ وقف عليه. سُئِلَ القاضي الحسين عن كَيْفِيَّةِ الشهادة على التَّحدِيدِ، فقال بالفَارِسيَّةِ: (نهفته دانم ادرا بكرمارت وقصها ونظارة ويناز أو يرون) (¬9) إلا عند الحاجة والضَّرُورَةِ. وفي "فتاويه": أنه لو ادَّعَى عليه عشرة، فقال: لا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ هذا المَالِ اليوم، لا يُجْعَلْ مُقِرّاً به؛ لأن الأَقَارِيرَ لا تَثْبُتُ بالمفهوم. وإن بَيِّنَتَي المِلْكِ والوَقْفِ تَتَعَارَضَانِ كبينتي الملك. ¬
وأنه إذا ماتت امْرَأَةٌ، وخلفت زَوْجاً [وأخاً] (¬1)، وأختاً، فَادَّعى الزوج: أن التَّرِكَةَ كُلَّهَا له، يُجْعَلُ المَالُ نِصْفَينِ: أحدهما: للزوج بحكم اليد، والثاني: للميتة، إلا أن النِّصْفَ الذي يُجْعَلُ في يد الزَّوجِ، إنما يُجْعَلُ بعد اليمين لاحتمال أنها لو كانت حَيَّةً، لادعت الكُلَّ، وحَلَفَ الزَّوْجُ. فإن كان الأخ غَائِباً، والأُخْتُ حَاضِرَةٌ، يحلف في حَقِّ الأخت، فهذا رجع الأَخُ، حلف أيضاً، فإن أقَامَتِ الأخت بَيِّنَةً على أن الكُلَّ لها، ولأخيها، سُمِعَتْ بينتها، وثَبَتَ حَقُّ الأخ. وإن من حبسه القاضي لم يَجُزْ إطْلاقُهُ إلا بِرِضَاءِ خَصْمِهِ، أو ثبوت إِعْدَامِهِ وإذا ثبت، أَطْلَقَهُ وإن لم يَرْضَ الخَصْمُ، وإن أطلقه بِرِضَا الخَصْم، فأراد إقامة البَيِّنَةِ على إِعْدَامِهِ، لم تُسْمَعْ؛ لأنه لا حَبْسَ عليه، والحالة هذه، بخَلاف ما إذا كان الحَبْسُ مستحقاً عليه. وإن حَقَّ إِجْرَاءٍ المَاءِ في أَرْضِ الغير، أو على سَطْحِهِ، أو طَرْح الثَّلْجِ في ملكه، تَجُوزُ الشهادة عليه، إذا رآه مُدَّة مَدِيدَةً من غير مَانِع (¬2)، ولا يكفي أن يقول الشهود: رَأَيْنَا ذلك سِنِين وإن (¬3) كان ذلك [مستند شهادتهم] (¬4). سُئِل الشيخ أبو إِسُحَاقَ الشّيرازيُّ عن رجلين تَنَازَعَا في حِصَّةٍ، ادعى أحدهما: أنها مِلْكٌ له، وأقام بَيِّنَةً عليه، وادعى الآخر (¬5) أنها وَقْفٌ [عليه] (¬6) ولم يقيم [عليه] (¬7) بينة، فحكم الحاكم لمدعي المِلْكِ، ثم تَنَازَعَ فيها مُدَّعِي المِلْكِ، وآخر يدعي وَقْفَهَا، فأقام مُدَّعِي المِلْكِ البَيَّنَةَ على حُكْمِ الحاكم له [بالملك فيها] (¬8). وأقام مُدَّعِي الوَقْفِ البَيِّنَةَ على الوَقْفِيَّةِ، فَرَجَّحَ الحَاكِمُ بَيِّنَةَ المِلْكِ، ذَهَاباً إلى أن المِلْك الذي حكم به، يَتَقَدَّمُ على الوَقْفِ الذي لم يحكم به، ثم تَنَازَعَ مُدَّعي المِلْك فيها مع آخر؛ يدعي وَقْفَهَا، وأقام مُدَّعِي الملك البَيِّنَةَ على حُكْمِ الحاكم له بالمِلْكِ، وتقديم جَانِبِهِ، وأقام الآخَرُ البَيِّنَةَ على أن الوَقْفَ الذي يدَّعِيهِ، قد قُضِيَ بِصحَّتِهِ قَبْلَ الحُكْمِ ¬
بالملْكِ، وترجيحه على الوَقْفِ، هل يرتد حُكمُ الحاكم بذلك؟ فقال: نعم، يُقَدَّمُ الحُكْمُ بالوَقْفِ على الحكم بالمِلْكِ (¬1)، [ويُنْقَضُ الحكم بالوَقْفِ للحكم بالملك] (¬2). وسُئِلَ عمن اشْتَرَى ضَيْعَةً، وبَقِيَتْ في يده مُدَّةً، فخرجت الضَّيْعَةُ وَقْفاً، وانْتُزِعَتْ، هل عليه أُجْرَةُ المِثْلِ للمدة التي كانت في يده؟ فقال: نعم. وسُئِلَ عن رجل وَقَفَ مِلْكاً، وأَقَرَّ أن حاكِماً حكم بِصحَّتِهِ، ولم يُسَمّ الحاكم، ولا عينه، ثم رجع عنه، ورَفَعَ الأَمْرَ إلى حَاكِمٍ يرى جَوَازَ الرُّجُوعِ. هل له الحكم بِنُفُوذِ الرُّجُوعِ؟ فقال: لا. وفي فَتَاوَى صاحب الكتاب: أنه إذا ادَّعى دَاراً في يَدِ غَيْرِهِ؛ فقال المدعى عليه: اشْتَرَيْتُهَا من زيد، فَأقَامَ المُدَّعِي بَيِّنَةً على إِقْرَارِ زيد له بالدار قبل البَيعِ، وأقام المُدَّعَى عليه بَيِّنَةً على إقْرَارِ المدعي لزيد بها قبل البَيْعِ، وجُهِلَ التَّارِيخُ قررت الدَّارُ في يد المُدَّعَى عليه. وأنه إذا خَرَجَ المَبِيعُ مُسْتحقّاً، فادعى المُشْتَرِي على البَائِع، وقال: سلمته إليه في مجلس العَقْدِ، فأنكر، وأراد إِقَامَةَ البَيِّنَةِ بأنه لم يقبض منه شَيْئاً في مَجْلِسِ العَقْدِ، لم تُسْمَعْ هذه البَيِّنَةُ؛ لأنها على النَّفْي، وإنما تُسْمَعُ البَيِّنَةُ على النَّفْي في مواضع الحَاجَةِ؛ كالإِعْسَارِ، وقد يقع التَّسْلِيمُ على غَفْلَةٍ منه في لَحْظَةٍ يَسِيرةٍ. وأنه إذا ادعت المَرْأَةُ أنه نَكَحَهَا، ثم طَلَّقَهَا، وطلبت شَطْرَ الصَّدَاقِ، أو أنها زَوْجَةُ فلان المَيِّتِ [وطلبت المِيرَاثَ] (¬3) فَمقْصُودُهَا المال؛ فَيَثْبُتُ بشاهد ويمين، وبِشَاهِدٍ وامرأتين. في فَتَاوَى الشيخ الحُسَيْنِ الفَرَّاءِ: أنه إذا ادَّعَى رَجُلٌ نِكَاحَ امرأة، فأقرت (¬4) بأنها زَوْجَتُهُ منذ سَنَةٍ، ثم جاء آخر، وأقام بَيِّنَةً: أنها زَوْجَتُهُ؛ نَكَحَهَا منذ شهر. يُحْكَمُ لِلْمُقرِّ له؛ لأنه قد يَثْبُتُ بإقرارها النِّكَاحُ للأول. فما لم يثبت الطَّلاَقُ لا حُكْمَ للنكاح الثاني، وأنه إذا تَحَاكَمَ رجل وامرأة بِكْرٌ إلى فَقِيهٍ لِيُزَوِّجَهَا منه، وجَوَّزْنَا التَّحْكِيمَ فيه، فقال المُحَكَّمُ: حكمتني (¬5) لِأزَوِّجَكَ من هذا؟ فَسَكَتَتْ، كان سُكُوتُهَا إِذْناً. كما لو اسْتَأْذَنَهَا الوَلِيُّ فَسَكَتَتْ. ¬
وأنه إذا حَضَرَ عند القَاضِي رَجُلٌ وامْرَأَةٌ، واسْتَدْعَتْ تَزْوِيجَهَا من الرجل، وذكرت: أنها زَوْجَةُ فلان، وطَلَّقَهَا، أو مات عنها، فلا يُزَوِّجُهَا القاضي ما لم تَقُمْ حُجَّةٌ على الطَّلاَقِ، أو الموت؛ لأنها أَقَرَّتْ بالنكاح لفلان. وعن ابن القَاصِّ: أن من أَنْكَرَ الحَلِفَ بالطَّلقات الثَّلاَث، يحلف أنه ما قَالَ لها: إن دَخَلْتِ الدَّارَ، فأَنْتِ طَالِقٌ ثلاثاً. ولا هي بَائِنٌ منه بثلاث. [وعن الشيخ أبي زَيْدٍ: أنه يكفيه الاقْتِصَارُ على أنها لم تَبِنْ بثلاث]. ووجه الأول؛ بأنه قد يَحْلِفُ متأوّلاً على قول حَجَّاحِ بن أَرْطَأَةَ، ومن تَابَعَهُ -رحمهم الله-: أن الطلقات الثلاث لا تَقَعُ مَجْمُوعَةً، أو على قول من يُصَحِّحُ اليَمِينَ الدائرة. فتسدد عليه ليعرض للحادثة. ويجوز أن يُقَالَ: يُنْظَرُ إلى جَوَابهِ إذا ادعت الطَّلاَقَ؛ فإن قال: لم تَبِنْ مني، كَفَاهُ اليَمِينُ عليه. لكان قال: لم أَحْلِفْ بِطَلاَقِهَا، حلف عليه. حكى القاضي أبو سَعْدٍ عن العبادي: أن من ادّعى عليه وديعة فقال: لا يَلْزَمُنِي دَفْعُ شَيْءٍ إليه، لم يكن هذا جَوَاباً؛ لأن المُودِعَ لا يلزمه الدَّفْعُ، وإنما عليه التَّخْلِيَةُ. والجواب الصَّحِيحُ؛ أن ينكر أَصْلَ الإِيدَاع، أو يقول: هَلَكَتْ في يدي، أو رَدَدْتُهَا. وهذا يُخَالِفُ ظاهر كَلاَمِ الأئمة -رحمهم الله-؛ أَلاَ تَرَى أنا نقول: فيمن جَحَدَ الوَدِيعَةَ، فقامت بَيِّنَةٌ على الإِيدَاعِ، فادعى تَلَفاً، أو رَدّاً قبل الحجود، يُنْظَرُ؟ إن كانت صِيغَةُ جُحُودِهِ، إِنْكَارَ أَصْلِ الوَدِيعَةِ، فالحكم كذا، وإن كانت صِيغَةُ جُحُودِهِ: لا يلزمني تَسْلِيمُ شَيْءٍ إليك، فالحكم كذا؟ فأما أن يُقَدَّرَ خلاف، أو يؤوَلُ ما أَطْلَقُوهُ (¬1) وأنه لو أقام بَيِّنَةً أنه أَجيرُ فلان لِحِفْظِ سَفِينَتِهِ هذه بعشرة دَرَاهِمَ، وأقام صاحب السَّفِينَةِ بَيِّنَةً: أنه أَجَّرَهَا إياها (¬2) بعشرة دَرَاهِمَ، فالبَيِّنَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ. وعن أبي حَنِيْفَةَ أن بَيِّنَةَ الأَجِير أَوْلَى أنه لو (¬3) شهد شَاهِدَان بأن الكَلْبَ وَلَغَ في هذا الإِنَاءِ، ولم يَلْغُ في هذا [الإناء] (¬4) وآخران على ضد ذلك، تَتَعَارَضُ البَيِّنَتَانِ، ولو لم يقولوا: لم يَلْغُ في هذا، فالإِنَاءَانِ نَجِسَانِ. وهذه شَهَادَةٌ على إثبات، ونفي. ويمكن ¬
باب دعوى النسب وإلحاق القائف
أن يُصَوَّرَ التَّعَارُضُ من غير التَّعَارُضِ. للنفي؛ بأن عَيَّنَا وَقْتاً لا يمكن فيه إلا وُلُوغٌ وَاحِدٌ (¬1). وإنه لو شهد شَاهِدَانِ بِالقَتْلِ على رَجُلٍ في وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وآخران بأنه لم يَقْتُلُ في ذلك الوَقْتِ؛ لأنه كان مَعَنَا، ولم يَغِبْ عنا تَتَعَارَضُ البَيِّنَتَّانِ. وقد سبق من نَظَائِرِ هذا ما يُخَالِفُهُ (¬2).وإن من أَرَادَ أن يَدَّعِي ويُقِيمَ البَيَّنَةَ من غَيْرِ أن يَعْتَرِفَ للمدعى عليه باليد، فطريقه (¬3) أن يقول: المَوْضِعُ الفُلاَنِيُّ مِلْكِي، وهذا يَمْنَعُنِي منه تَعَدّياً، فَمُرْهُ يُمَكِّنِّي منه. بَابُ دَعْوَى النَّسَبِ وَإلْحَاقِ القَائِفِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَهُ أرْكَانٌ: (الأَوَّلُ: المُسْتَلْحَقُ) وَيَصِحُّ اسْتِلْحَاقُ الحُرِّ وَالعَبْدِ وَالمُعْتَقِ، وَفِي العَبْدِ وَالمُعْتَقِ وَجْهٌ أَنَّهُ لاَ يَثْبِتُ نسَبُهُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ الوَلاَءِ، وَيَصِحُّ اسْتلْحَاقُ المَرْأَةِ فِي أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَفيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ إلاَّ إِذَا كَانَتْ خَلِيَّةً مِنَ الزَّوْجِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مُعْظَمُ مَقْصُودِ الباب، الكلام في القَائِف، وشرطه. فأما الاسْتِلْحَاقُ، وما يُعْتَبَرُ فيه في المُسْتَلْحِقِ، [والمُسْتَلْحَقِ] (¬4) فالقول فيها، قد مَرَّ بَعْضُهُ في كتاب اللَّقِيطِ، وأكثره في باب الإِقْرَارِ بالنَّسَبِ. وصَدَّرَ الشَّافعي -رضي الله عنه- الكَلاَمَ في القِيَافَةِ بما رُوِيَ عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعرف السُّرُورَ في وجْهِهِ. فقال: "أَلَمْ تَرَيْ [أَنَّ] (¬5) مُجَزِّزَا المُدْلِجِيَّ نَظَرَ إِلَى أُسَامَةَ وَزَيْدٍ عَلَيْهمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُؤوسَهُمَا وبَدَتْ أقْدَامُهُمَا فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الأَقدَامَ بعْضُهَا مِنْ بَعْض" (¬6). ¬
ثم احتج بعض الرواة (¬1) فقال: لو لم تَكُنِ القِيَافَةُ عِلْماً، لم يكن لها اعْتِبَارٌ، ولا عليها اعْتِمَاد، لمنعه من المُجَازَفَةِ. وقال له: لا تَقُلْ مِثلَ هذا؛ فإنك إن أَصَبْتَ في شيء، أَخْطَأتَ في غيره، وكان في خِطَابِكَ قَذْفُ مُحْصَنَةٍ، وَنَفْيُ نَسَبٍ. والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يُقِرُّ إلا على الحَقِّ، ولا يُسَرُّ إلا بالحَقِّ. قال الأَئمَّةُ -رحمهم الله-: وسَبَبُ سُرُورِهِ بما قال مجزز؛ أن المشركين كانوا يَطْعَنُونَ في نَسَبِ أُسَامَةَ؛ لأنه كان طَوِيلاً، أَفْتَى الأَنْفِ، أَسْوَدَ، وكان زيد قَصِيراً، أَخْنَسَ الأَنْفِ، بين السَّوَادِ والبياض، وقصد بعض المُنَافِقِينَ بالطَّعْنِ، مغايظة (¬2) رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهما كانا حِبَّيْهِ. فلمّا قَالَ المُدْلَجِيَّ ذلك، وهو لا يرَى إلا أَقْدَامَهُمَا، سُرَّ به. ورُوِيَ أن عمر -رَضِيَ الله عنه- دعا قَائفَاً في رَجُلَيْنِ، ادعيا مَوْلُودًا (¬3)، [وشَكَّ أَنسُ بْنُ مالك -رضي الله عنه-[في ابن له] (¬4)، فدُعِيَ له القَائِفُ (¬5). وساعدنا مالك، وأحمد -رحمهم الله- فيما رَوَى الشيخ أبو حَامِدٍ وغيره على اعْتِبَارِ قول القَائِفِ. وقال أبو حَنِيْفَةَ: لا اعْتِبَارَ به، ومما يُتَعَجَّبُ منه في شَأْنِ القِيَافَةِ، ما حكى الصَّيْدَلاَنِيُّ وغيره عن القَفَّالِ عن الشيخ أبي زَيْدٍ عن أبي إِسْحَاقَ قال: كان لي جَارٌ بـ"بغداد"، له مَالٌ ويَسَارٌ، وكان له ابن يَضْرِبُ إلى السَّوَادِ، ولون الرجل لا يُشْبِهُهُ، فكان يُعَرَّضُ بأنه لَيْسَ منه. قال: فَأَتَاني، وقال: عَزَمْتُ على الحَجِّ، وأكثر قَصْدِي أن أَسْتَصْحِبَ ابني، وأُرِيَهُ [بعض] (¬6) القَافَةِ، فَنَهَيْتُهُ، وقلت: لَعَلَّ القَائِفَ يقول بَعْضَ مَا تَكْرَهُ، وليس لك ابْنٌ غيره. فلم يَنْتِهِ، وخرج. فلما رجع قال لي: اسْتَحْضَرْتُ مدلجياً، وأَمَرْتُ بِعَرْضِهِ عليه في عدة (¬7) رجال، كان فيهم الذي يُرمى (¬8) بأنه منه، وكان معنا في الرُّفْقَةِ، وغِبْتُ عن المَجْلِسِ، فنظر القَائِفُ فيهم، فلم يُلْحِقْهُ بأحدهم، فَأُخْبِرْتُ بذلك، ¬
وقيل لي: احْضِرْ، فلعله يُلْحِقُهُ بك، فأقبلت على نَاقَةٍ يَقُودُهَا عَبْدٌ لنا أَسْوَدُ كبير، فلما وقع بَصَرُهُ علينا قال: اللهُ أكبر، ذاك الرَّاكبُ، أبو الغُلاَم. والقائد الأَسْوَدُ أبو الرَّاكِبِ، فَغُشِيَ عَلَيَّ من صُعُوبَةِ ما سَمِعتُ، ولما رجعت، ألْحَحَتُ على والدتي لِتُخْبِرَنِي، فأخبرتني: أن أبي طَلَّقَها ثلاثاً، ثم نَدِمَ. فأمر هذا العَبْدَ بنكاحها؛ للتحليل، ففعل، فَعَلِقْتُ منه، وكان ذَا مَالٍ كَثِيرٍ، قد بلغ الكبر (¬1)، وليس له وَلَدٌ فاستلحقك، ونكحني ثانية. وقوله في الكتاب: "وله ثلاثة أركان"؛ أي الباب بترجمته، ولا يحسن رَدُّ الكتابة إلى إِلْحَاقِ القَائِفِ؛ لأنه جعل أَحَدَ الأركان المستلحق، والاسْتِلْحَاق. ولا يُشْتَرَطُ في إِلْحَاقِ القَائِفِ، بل الولد قد يُعْرَضُ على القَائِفِ، ويلحقه القَائِفُ من غير اسْتِلْحَاقٍ، على ما سَيَأْتي. والاسْتِلْحَاقُ لا يحوج إلى إِلْحَاقِ القَائِفِ في الأَغْلَبِ. وهل يُعْتَبَرُ في المستلحق الحرية؟ فيه خلاف قد ذكرناه في باب اللَّقِيطِ. والأصح، أنه لا يُعْتَبَرُ، بل يَصِحُّ اسْتِلْحَاقِ العَبْدِ كاسْتِلْحَاقِ الحُرِّ. ويجري الخِلاَفُ في المعتق (¬2) بالترتيب. وكيف الترتيب؟ ذكرنا في [باب] (¬3) اللَّقِيطِ أن المُعْتَقَ أَوْلَى. بأن يَصِحَّ اسْتِلْحَاقُهُ؛ لأنه قَادِرٌ على النكاح والتَّسَرِّي اسْتِقْلالاً. ومنهم من عَكَسَ، وقال: اسْتِلْحَاقُهُ أَوْلَى بالمنع؛ لأن الوَلاَءَ حَاصِلٌ عليه في الحال، وهو بالاسْتِلْحَاقِ يقطعه، والعَبْدُ لاَ وَلاَءَ عليه في الحال. وقوله: "وفي العَبْدِ والمُعْتَقِ وجه". المشهور في المَسْأَلَةِ اختلاف القول، لا اخْتِلاَفُ الوجه. ويمكن أن يُعْلَمَ بالواو؛ لطريقتين ذكرناهما في باب اللَّقِيطِ. وقوله: "لا يثبت نسبه بِمُجَرَّدِ الدعوى"، يعني أنه لا يَكْفِي لِلإِسْتِلْحَاقِ وحده، بل لا بد من ظُهُورِ نِكَاحِ أو وَطْءِ شُبْهَةٍ؛ ليثبت النَّسَبُ. وهل يُشْتَرَطُ الذكورة في المستلحق أم يَصِحُّ اسْتِلْحَاقُ المَرْأَةِ؟ فيه ثلاثة أوجه قد ذكرها، وذكرناها في اللَّقِيطِ، وهي مُكَرَّرَةٌ هاهنا. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الثَّانِي: المُلْحِقُ:) وَهُوَ كُلُّ مُدْلِجيَّ مُجَرِّبٍ أَهْلٍ لِلشَّهَادَةِ، وَفِي غَيْرِ المُدلِجِيِّ إِذَا تَعَلَّمَ القِيَافَةَ وَجْهَانِ، وَتَجْرِبَتُهُ بِأَنْ يُعْرَضَ وَلَدٌ بَيْنَ ثَلاثةِ أَصْنَافٍ مِنَ النِّسْوَةِ لَيْسَ فِيهِنَّ أُمُّهُ ثُمَّ فِي صِنْفٍ رَابعٍ فِيهِنَّ أُمُّهُ، فَإِنْ أَصَابَ فِي الكُلِّ قُبِلَ قَوْلهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالصَّحِيحُ أنَّهُ يُشْتَرَط فِي القَائِفِ الذُّكورَةُ وَالحُرِّيَّةُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ العَدَدُ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: [المُلْحِقُ: هو القَائِفُ،] (¬1) وليكن فيه صِفَاتٌ؛ منها ما اتَّفَقُوا على اعْتِبَارِهَا، ومنها ما اخْتَلَفُوا فيه، فمنها كونه مُدْلجيّاً؛ وفيه وجهان: أحدهما: أنه شَرْطٌ؛ لأن الصَّحَابةَ -رضي الله عنهم- رَجَعُوا إلى بني مُدْلج دون سَائِرِ الناس (¬2). وقد يَخُصُّ الله -تعالى جَدَّه- جَمَاعَةً بنوع من المَنَاصِبِ، والفَضَائل، كما خَصَّ قُرَيْشاً بالإمامة. والثاني: أنه ليس بشَرْطٍ، وسَائِرُ الناس من العَرَبِ، والعَجَمِ، يشاركونهم فيه، لأن القِيَافَةَ نَوْعٌ من العِلْمِ، فمن تَعَلَّمَهُ، عَمِلَ بِعِلْمِهِ. والأول، أصحُّ عند الإِمام، وصاحِبِ الكتاب. والثاني أَصح، عند العراقيين، وأكثر الأصْحَابِ -رحمهم الله-. إن بني (¬3) مدلج على ما ذكر القاضي ابْنُ كَجٍّ بَطْنٌ من خُزَاعَةَ، ويُقَالُ: من أَسدٍ. ومنها كونه مُجَرِّباً، فمن لم يُعْرَفْ علمه في هذا النوع، لا يُعْتَمَدُ قوله، كما أن من لم يُعرَفْ عِلْمُهُ بالأحكام، لا يُجْعَلُ قَاضِياً. وكيفية تجربته (¬4)؛ التي أَوْرَدَهَا في الكتاب: أن يُعْرَضَ عليه وَلَدٌ في نِسْوَةٍ، ليست فيهن أُمُّهُ، ثم في نِسْوَةٍ ليست فيهن أُمُّهُ، ثم في نسوة ليست فيهن أُمُّهُ، ثم في صِنْفٍ رابع فيهن أُمُّهُ، فإذا أصاب في الكل، قُبِلَ قوله بعد ذلك. وفي هذه الكيفية شَيْئَانِ: أحدهما: عَرْضُ الأَمْرِ، هل يَخْتَصُّ التجربة؟ أم يجوز أن يُعْرَضَ عليه المَوْلُودُ مع أبيه؟ فيه وجهان: الذي ذكره القَفَّالُ، وأَوْرَدَهُ صاحب "التهذيب"؛ الاختصاص، وامْتِنَاعُ التجربة بالأب؛ لأن لُحُوقَ الوَلَدِ بالأب، لا يُعْلَمُ يَقِيناً. وهذا يوافق سِيَاقَ الكتاب. وأشبههما: وبه أجاب العِرَاقيُّونَ، وغيرهم: أنه يجوز التَّجْرِبَةُ، بعرض الوَلَدِ عليه مع أبيه، إلا أن العَرْضَ مع الأُمِّ أَوْلَى. وحكوا هذا عن نَصِّهِ -رضي الله عنه- في "الأم". والثاني: تَكْرِيرُ العَرْضِ ثلاثاً. واختلف النَّاقِلُونَ فيه؛ فمنهم من قال: يُعْرَضُ عليه مَوْلُودٌ مع أبيه في رجال، أو مع أُمِّهِ في نِسْوَةٍ؛ فيقال: ألحقه بأمه. أو يُعْرَضُ عليه أولاد (¬5) نسوة وامرأة منهن؛ فيقال: ألْحِقْ ولدها به ولم يَشْتَرِطُوا ¬
التكرير. ومنهم من قال: لا يكفي العَرْضُ مَرَّةً واحدة؛ فإنه قد يُصِيبُ فيها اتِّفَاقاً؛ ولكن يُعْرَضُ عليه ثَلاَثَ مرات. وإليه ذَهَبَ الشيخ أبو حَامِدٍ وأصحابه. وذكر الإمَامُ: أنه لا مَعْنَى لاعتبار التَّكْرَارِ ثَلاَثاً؛ بل المُعْتَبَرُ غَلَبَةُ الظَّنِّ، بأن ما يقوله، [يقوله] (¬1) عن خِبْرَةٍ، وبَصِيرَةٍ، لا عن وِفَاقٍ، والظَّنُّ قد يَحْصُلُ بما دون الثلاث. وهذا كالتَّوَسُّطِ بين الوَجْهَيْنِ الأولين. وإذا حصلت التَّجْرِبَةُ اعْتُمِدَ على إِلْحَاقَاتِهِ، ولا تُجدَّدِ التجربة لكل إِلْحَاقٍ. ومنها أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ، فيجب أن يكون القَائِفُ مُسْلِماً، عَاقِلاً، بَالِغاً، عَدْلاً. وفي اشتراط الحُرِّيَّةِ والذُّكُورَةِ وجهان: أصحهما: الاشْتِرَاطُ كما في القاضي. والثاني: يجوز الرُّجُوع إلى العَبْدِ والمرأة، كما في الفَتْوَى، وبناهما (¬2) في "الإبانة"، على أن القِيَافَةَ كالحُكْم، أو كالقِسْمَة. ووجه مشابهتها القِسْمَةَ، اشْتِمَالُهَا على التمييز بالنَّفْي، والإِثْبَاتِ. وإنما يُتَصَوَّرُ فرْضُ الرِّقِّ في القَائِفِ على تَقْدِيرِ اخْتِصَاصِ القِيَافَةِ ببني مدلج، إذاً لجوزنا (¬3) اسْتِرْقَاقَ العرب، وإلا فالمُدْلِجيُّ لا يكون إلا حُرّاً. وذكر القاضي ابْنُ كجٍّ بِنَاءً على اعتبار أَهْلِيَّةِ الشهادة؛ أن قِيَافَةَ الأَعْمَى، والأَخْرَسِ، لا تجوز، وأنه إذا كان القَائفُ من أَحَدِ المتداعيين: فإن أُلْحِقَ الولد بغير أبيه، قُبِلَ، وإن ألحقه (¬4) بأبيه لم يُقْبَلْ. وإذا كان بين القَائِفِ وأحدهما عَدَاوَةٌ، فإن أَلْحقَهُ بالعَدُوِّ، قُبِلَ. وإن ألحقه بغير العَدُوِّ لم تقبل؛ لأنها كالشَّهَادَةِ على العدُوِّ. وفي اشتراط العَدَو وَجْهَانِ: أحدهما: أنه لاَ بُدَّ من قَائِفَيْنِ، كما في التَّزْكِيَةِ والتقويم. وأصحهما: الاكْتِفَاءُ بِقَوْلِ الوَاحِدِ، كما في القَضَاءِ، والفَتْوَى. ويُحْكَى هذا عن نَصِّهِ -رضي الله عنه- في "الأم". وربما احْتُجَّ له بحديث المدلجي. ولو كان القاضي قَائِفاً، فهل يَقْضِي بِعلْمِهِ؟ فيه الخِلاَفُ في القضاء بالعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الرُّكْنُ الثَّالِثُ: مَحَلُّ العَرْضِ عَلَى القَائِفِ) فَالمَوْلُودُ إِذَا تَدَاعَاهُ اثْنَانِ لَمْ يَلْحَقْهُمَا بَلْ يُعْرَضُ عَلَى القَائِفِ إِذَا كَانَ كَوْنُهُ مِنْهُمَا مُمْكِناً شَرْعاً، وَذَلِكَ بِأنْ يطَأَ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ وَطِئَ الثَّانِي بَعْدَ تَخَلُّلِ حَيْضَةٍ انْقَطَعَ الإمْكَانُ عَنِ الأَوَّلِ إلاَّ أَنْ يَكُونَ ¬
الأوَّلُ زَوْجاً فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَإِنْ كَانَ فِي نِكَاحٍ فَاسِدِ فَفِي انْقِطَاعِ إِمْكَانِهِ قَوْلاَنِ، وَمَنِ انْفَرَدَ بِدَعْوَةِ مَوْلُودٍ صَغِيرٍ فِي يَدِهِ لَحِقَهُ، فَإِنْ بَلَغَ فَانْتَفَى عَنْهُ هَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ قَوْلاَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المَقْصُودُ الآن بَيَانُ أن الوَلَدَ متى يُعْرَضُ على القائف؟ وله موضعان: أحدهما: أن يَتَدَاعَى اثنان مَوْلُوداً مَجْهُولاً من لَقِيطٍ وغيره، فيُعرَض على القَائِفِ [على ما سبق شرحه في اللَّقِيطِ. والثاني: أن يَشْتَرِكَ اثنان، فَصَاعداً في وطءِ امْرَأَةٍ، فَأتَتْ بولد، لَزِمَ أن يُمْكِنَ أن يكون منهما، وادَّعَاهُ كل واحد منهما، فَيُعْرَضُ على القَائِفِ] (¬1). وعند أبي حَنِيْفَةَ في أحد المَوْضِعَيْنِ يُلْحَقُ الوَلَدُ بهما، أو بهم. ولا اعْتِبَارَ بقول القَائِفِ. [واحتج الأَصْحَابُ -رحمهم الله- لاعتبار قول القَائِف] (¬2) بما سَبَقَ، ولامْتِنَاع الإلْحَاقِ باثنين فَصَاعِداً، بأن الولد لا يَنْعَقِدُ من [مَاءِ] (¬3) شَخْصَيْنِ؛ لأن الوَطْءَ لا بد وأن يَكُونَ على التَّعَاقُب، وإذا اجتمع مَاءُ الأول، مع مَاءِ المَرْأَةِ، وانْعَقَدَ الوَلَدُ منه، حَصَلَتْ عليه غِشَاوَةٌ تمنع من اخْتِلاَطِ مَاءِ الثاني بِمَاءِ الأول وَمَائِهَا. وأيضاً فإنه لو تداعى الوَلَدَ، مُسْلِمٌ، وكافر، لا يُلْحَقُ بهما بالاتِّفَاقِ. فكذلك إذا تَدَاعَاهُ مسلمان، ثم الاشْتِرَاكُ في الوطء على الوجه المذكور يُفْرَضُ من وجوه: منها أن يَطَأَ كل واحد منهما بالشُّبْهَةِ؛ بأن يَجِدَهَا على فِرَاشِهِ فَيَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ، أو أَمَتَهُ. ولو كانت في نِكَاحٍ صحيح، فَوُطِئَتْ بالشُّبْهَةِ؛ فعن القاضي أبي الطَّيِّب -وهو الذي أَوْرَدَهُ [صاحب] (¬4) "الشامل": أن الولد يُلْحَقُ بالزوج؛ لأنها فِرَاشُهُ، وَالفِرَاشُ أقوى من الشُّبْهَةِ، كما إنه إذا طلقها زَوْجُهَا، وانقضت عِدَّتُهَا، ونَكَحَهَا زوج آخر، فأتت بِوَلَدٍ، يُلْحَقُ بالثاني. وإن أَمْكَنَ أن يكون من الأَوَّلِ؛ لأنها فِرَاشُ الثاني. والأظهر، على ما ذكره القاضي الرُّوَيانِيُّ وغيره، وهو الذي أَوْرَدَهُ الإِمام: أنه لا يَتَعَيَّنُ الزَّوْجُ لِلإِلْحَاقِ، بل الموضع مَوْضِعُ الاشْتِبَاهِ، والعَرْضُ على القَائِفِ. وليس كالصورة المُسْتَشْهَدِ بها؛ لأن العِدَّةَ أمَارَةٌ ظاهرة في حُصُولِ البَرَاءَةِ عن الأول، وهاهنا بخلافه. ومنها أن يَطَأَ الرجل زَوْجَتَهُ في النكاح [الصحيح، ثم يُطَلِّقُهَا فَيَطَؤُهَا غيره بالشُّبْهَةِ، أو في النكاح (¬5) الفَاسِدِ] بأن ينكحها في العِدَّةِ، وهو جاهل بكونها في ¬
العِدَّةِ. وعن مالك: أن الوَلَدَ يُلْحَقُ بالزوج؛ لأنه وَطِئَ في نكاح صَحِيحٍ، فهو أَقْوَى جانباً. حكاه ابن الصَّبَّاغِ عنه. ومن قال بهذا، وقد طَلَّقَهَا الزَّوْجُ، فَأوْلَى أن يقول به، والنِّكَاحُ مُسْتَمِرٌّ بينهما. ومنها: أن يَطَأَ كل واحد منهما في نِكَاحٍ فَاسِدٍ. ومنها: أن يَطَأَ الشريكان الجَارِيَةَ المُشْتَركَةَ بينهما. ومنها: أن يَطَأَ أَمَتَهُ، ويَبِيعَهَا فَيَطَؤُهَا المشتري. ولم يَسْتَبْرِء واحد منهما. فإذا وَطئ اثنان على بَعْض هذه التصويرات في طُهْرٍ واحد، وأتت المرأة بِوَلَدٍ لأقل من أربع سنين، و [أكثر من] (¬1) سِتَّةِ أشهر من الوطئين، وَادَّعَيَاهُ جميعاً، رُوجِعَ القَائِفُ. وإن تَخَلَّلَ بين الوَطْئَيْنِ حَيْضَةٌ، فهي أَمَارَةٌ ظاهرة في حُصُولِ البَرَاءَةِ عن الأول. فَيُقْطَعُ تَعَلُّقُهُ، إلا أن يكون الأَوَّلُ زَوْجاً في نِكَاحٍ صحيح، والثاني وَاطِئاً بالشُّبْهَةِ، أو في نِكَاحٍ فَاسِدٍ؛ فلا يَنْقَطِعُ تَعَلُّقُ الأول؛ لأن إِمْكَان الوطء مع فراش النكاح قائم مَقَامَ نفس الوطء، والإمْكَانُ حَاصِلٌ بعد الحَيْضَةِ. وإن كان الأول زَوْجاً في نكاح [فاسد] (¬2)، ففي انْقِطَاعِ تَعَلُّقِهِ بِتَخلُّلِ الحَيْضَةِ قولان: أحدهما: أنه كالنِّكَاحِ الصحيح. وأظهرهما: خلافه؛ لأن المَرْأَةَ في النِّكَاحِ الفاسد لا تَصِيرُ فِرَاشاً، ما لم توجد حَقِيقَةُ الوطء. هكذا نقل الصُّورَتَيْنِ الإِمام وصاحب الكتاب. ولا فَرْقَ بين أن يكون المُتَدَاعِيَانِ مُسْلِمَيْنِ، أو أحدهما مسلماً والآخر ذِمِّيّاً. ولا بين أن يكونا حُرَّيْنِ، أو أحدهما حُرّاً، والآخر عَبْداً. على ما سبق في اللَّقِيطِ. وكذلك لا فَرْقَ بين أن يكون الوَاطِئَانِ مُسْلِمَيْنِ، وحُرَّيْنِ، أو مختلفي الحال. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَإِنْ ادَّعَى نَسَبَ بَالِغٍ فَأَنْكَرَ لَمْ يَلْحَقْهُ وَإِنْ أَلْحَقَهُ القَائِفُ، وَإِنْ سَكَتَ أَلْحَقَهُ القَائِفُ، وَإِنْ أَقَرَّ فَلاَ حَاجَةَ إِلَى القَائِفِ، وَمَنِ ادَّعَى نَسَبَ مَوْلُودٍ عَلَى فِرَاشِ غَيْرِهِ بِأَنِ ادَّعَى وَطْئاً بِالشُّبْهَةِ لَمْ يُقْبَلْ وَإِنْ وَافَقَهُ الزَّوْجَانِ بَلْ لاَ بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ عَلَى الوَطْءِ لحَقِّ المَوْلُودِ، وَإِنْ تَدَاعيَا صَبِيّاً وَهُوَ فِي يَدِ أَحَدُهُمَا لَحِقَ بِصَاحِبِ اليَدِ خَاصَّةً، وَمَنِ اسْتَلْحَقَ وَأَنْكَرَتْ زَوجَتُهُ وِلاَدَتَهُ فَهَلْ يَلْحَقُهَا بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الأَبِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفَصْلِ صُوَرٌ مُكَرَّرَةٌ، وغير مكررة. فمن المكررة: اسْتَلْحَقَ صَبِيّاً مَجْهُولاً في يَدِهِ، أو لا في يَده، وأَلْحَقْنَاهُ به ثم بلغ ¬
وانْتَفَى عنه، هل يَنْدَفِعُ نَسَبُهُ؟. قال: فيه قولان: والمسألة مشهورة بالوَجْهَيْنِ. وقد ذكرها مَرَّةً في الإِقْرَارِ، وأخرى في اللَّقِيطِ. ومنها: اسْتَلْحَقَ بَالِغاً، فَأْنْكَرَ، لا يلحقه. وقد أَوْرَدَهَا في البابين المذكورين أيضاً. وإلْحَاقُ القَائِفِ والحالة هذه، ليس بحُجَّةٍ عليه، وإن سَكَتَ البَالِغُ، فقد ذكر صاحب الكِتَابِ: أنه يُلْحِقُهُ القَائِفُ. وهذا لمَ أَجِدهُ لغيره: وليس هناك إلا وَاحِدٌ يدعيه. نعم، لو ادعاه اثنان في مَوَاضِعِ الاشْتِبَاهِ، وهو سَاكِتٌ، يُعْرَضُ على القَائِفِ. وكذلك ذكره في "الوسيط". قال: فإن وافق أحدهما، لَحِقَهُ، ولم يُقْبَلْ قَوْلُ القَائِفِ؛ على خلافه. ومنها: لو تَدَاعَى اثنان صَبيّاً مَجْهُولاً، فقد أُطْلِقَ هاهنا؛ أنه يُلْحَقُ بصاحب اليد. كذلك نَقَلَهُ القاضي الروياني عن القَفَّالِ، والأَشْبَهُ بالمذهب، تفصيل ذكره في اللَّقِيطِ؛ وهو أنه إن كان يده عن الْتِقَاطٍ، لم يُؤَثِّرْ، وإن لم يكن عن الْتِقَاطٍ، فَيُقَدَّمُ صَاحِبُ اليد، إن تقدم اسْتِلْحَاقُهُ على اسْتِلْحَاقِ الآخر، وإلا فوجهان. وأما غير المُكَرَّرِ فصورتان: إحداهما: إذا ادَّعَى نَسَبَ مَوْلُودٍ على فِرَاشِ غيره بسبب وطء شُبْهَةٍ اتفق، فإن قلنا: إن وَطْءَ الشُّبْهَةِ، إذا كانت المَرْأَةُ فِرَاشاً للزَّوْج، لا أَثَرَ له، والولد يُلْحَقُ بالزَّوْج، فلا اعْتِبَارَ بقوله. وإن جعلناه مُؤَثِّرَاً، فلا يكفي اتِّفَاقُ الزوجين عليه، بل لاَ بُدَّ من البَيِّنَةِ على الوطء؛ لأن لِلْمَوْلُودِ حَقّاً في النَّسَبِ واتفاقهما ليس بِحُجَّةٍ عليه. فإذا قامت البَيِّنَةُ، عُرِضَ على القَائِفِ. فإن كان المُدّعي نَسَبُهُ بَالِغَاً، واعْتُرِفَ بِجَرَيَانِ وطء الشبهة، وجب أن يكفي. الثانية: إذا استلحق مَجْهُولاً، وله زوْجَةٌ، فأنكرت وِلاَدَتُهُ، فهل يلحقها باسْتِلْحَاقِهِ؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن وَلَدَهُ منها ظاهراً. وأصحهما: المنع؛ لِجَوَازِ أنه من وطء الشبهة (¬1)، أو زوجة أخرى. وهما كوجهين ذَكَرْنَاهُمَا في اللَّقِيطِ، في أَنَّ المَرْأَةَ إذا اسْتُلْحِقَتْ، وقبلنا (¬2) استلحاقها، هل يلْحَقُ الوَلَدُ زوجها؟ ولو استلحق مَجْهُولاً، وله زَوْجَةٌ، فأنكرت وِلاَدَتَهُ، واستلحقته امرأة لها زَوْجٌ، فَأَنْكَرَهُ، حكى في "الوسيط": فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن أُمَّهُ التي استلحقها دون المنكرة، وربما اتَّفَقَ بينها وبين صاحب اليد وطء شُبْهَةٍ. والثاني: أن أُمَّهُ زَوْجَةُ صاحب اليَدِ، فإنها فِرَاشُ زَوْجِهَا. ¬
والثالث: يُعْرَضُ على القَائِفِ، فأيتهما ألحقه [بها] (¬1)، فهي أُمُّهُ. ولو كانت الصورة بِحَالِهَا، وأقام كُلُّ واحد البَيِّنَةَ. فعن ابْنِ سُرَيْجٍ أربعة أوجه: أحدها: أن بَيِّنَةَ الداخل أَوْلَى؛ لأنا لو أَلْحَقْنَاهُ بالمرأة، لالْتَحَقَ بالزَّوْجِ مع إِنْكَارِهِ، فيصير الرَّجُلُ تَبَعأ لِلْمَرْأَةِ. ثم إذا لحقه، لحق امْرَأَتَهُ. والثاني: بَيِّنَةُ المرأة أَوْلَى؛ لأن وِلاَدَتَهَا مَحْسُوسَةٌ، ثم لا يلزم من أن يلحقها أن يَلْحَقَ زَوْجَهَا. والثالث: أنهما يَتَعَارَضَانِ. والرابع: أنه يُعْرَضُ على القَائِفِ، فإن لحق الوَلَدُ بالرجل، لَحِقَ، ولحق زوجته. وإن أَلْحَقَهُ بالمرأة، لَحِقَهَا دون زَوْجِهَا. حكى الأَوْجُهَ هكذا، القاضي الروياني عن رواية الصيدلاني. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَإذَا لَمْ يَجِدْ قَائِفَاً أَوْ تَحَيَّر، فَإِنْ بَلَغَ الصَّبيُّ حَبَسْنَاهُ حَتَّى يَنْتَسِبَ إِلَى أَحَدهِمَا، وَيَكُونَ اخْتِيَارَهُ كَإِلْحَاقِ القَائِفِ حَتَّى لاَ يُقْبَلَ رُجُوعُهُ كَمَا لاَ يُقْبَلُ رُجُوعُ القَائِفِ، وَلاَ يُلْتَفَت إِلَى انْتِسَابِ الصَّغِيرِ المُمَيِّزِ، وَإِنْ وَطِئَا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَحَبَلَتْ لَكِن ادَّعَى أَحَدُهُمَا الوَلَدَ، وَسَكَتَ الآخَرُ، فَفِي قَوْلٍ يُعْرَضُ عَلَى القَائِفِ، وَفِي قَوْلٍ: يَخْتَصُّ بِالمُدَّعِي، وَنَفَقَةُ الوَلَدِ قَبْلَ إلْحَاقِ القَائِفِ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ يَرْجِعُ مَنْ قَطَعَ القَائِفُ نَسَبَهُ، وَإِنْ مَاتَ الوَلَدُ عُرِضَ عَلَى القَائِفِ قَبْلَ أن يَتَغَيَّرَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في هذه البَقِيَّةِ مَسَائِلُ: احداها: إذا لم [يجدِ] (¬2) قائِفاً، أو تَحَيَّرَ ولم يَجِدْ جَوَاباً، أَوْ ألحق الوَلَدُ بهما، أو نَفَاهُ عنهما، وَقَفْنَا إلى أن يَبْلُغَ، فإذا بلغ، أَمَرْنَاهُ بالانْتِسَاب إلى أحدهما بحسب المَيْلِ الذي يَجِدُهُ، فإن امْتَنَعَ، حُبِسَ لِيخَتْارَ، وإذا اختار، كان اخْتِيَارُهُ كإلحاق القَائِفِ. وإن قال: لا أَجِدُ مَيْلاً إلى أحدهما، بَقِيَ الأَمْرُ مَوْقُوفاً، ولا عِبْرَةَ بإخباره قبل البُلُوغِ. وإن كان مُمَيِّزاً، وفيه وجه؛ أنه يُخَيَّرُ إذا صار مُمَيِّزاً، كما يُخَيَّرُ بين الأبوبن في الحَضَانَةِ. وكل هذا مذكور بالشرح في اللقيط. وعن أحمد: أنه إذا ألحقه (¬3) القَائِفُ بهما جَمِيعاً، أُلْحِقَ بهما. الثانية: إذا أَلْحَقَهُ القَائِفُ بأحدهما، ثم رجع، وأَلْحَقَهُ بالآخر، لم يُقْبَلْ على ما مَرَّ في اللَّقِيطِ. وكذا لو أَلحَقَهُ قَائِفٌ بِأَحَدِهِمَا، فجاء بِقَائِفٍ آخر، فألحقه به؛ لأن الاجْتِهَادَ ¬
لا يُنْقَضُ بالاجتِهَادِ. وهذا هو المَشْهُورُ في الصورتين. وذكر القاضي ابْنُ كَجٍّ: أنه إذا ألْحَقَهُ قَائِفٌ بهذا، وقَائِفٌ بهذا، تَعَارَضَا، وصار كأن لا قَائِفَ. وأنه إن رَجَعَ القَائِفُ بعد تَنْفِيذِ الحكم بقوله، لم يُلْتَفَتْ إلى رُجُوعِهِ. وإن رجع قبل أن يُنَفِّذَ الحاكِمُ الحُكْمَ، قيل: رُجُوعُهُ كرجوع الشُّهُودِ، لكن لا يُقْبَلُ قوله في حَقِّ الآخر؛ لسقوط الثِّقَةِ بقوله، ومعرفته. وإذا أَلْحَقَهُ القَائِفُ بهما؛ فعن القَفَّالِ، وغيره: أنه يُسْتَدَلُّ بذلك على أنه لا يَعْرِفُ الصّنْعَةَ، فلا يُعْتَدُّ بقوله من بَعْدُ, إلا أن يَمْضِيَ زَمَانٌ، يمكن العِلْمُ فيه، فَيُمْتَحَنُ حينئذ، ثم يُعْتَمَدُ. وكذا لو كانا توأمين، فالحق القائِفُ [أحدهما] (¬1) بأحدهما، والآخَرَ بالآخر فهو كما لو ألحق الواحد بهما فإذا انْتَسَبَ المَوْلُودُ إلى أحدهما، يَثْبُتُ نَسَبُهُ منه، فلا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عنه. وإن انْتَسَبَ إليهما، لغى، وأُمِرَ بالانْتِسَابِ إلى أحدهما. ولو اختلف التوأمان في الانْتِسَاب، لم يُعْتَبَرْ قولهما، فإن رجع أحَدُهُمَا إلى قول الآخر، قُبِلَ. الثالثة: إذا وَطِئَا في طُهْرٍ واحد، وأَتَتْ بولد، يمكن [أن يكون] (¬2) منهما. كما سبق تَصْوِيرُهُ، فادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا، وسَكَتَ عنه الآخَرُ، أو أنكره، فقولان: أحدهما: أنه يَخْتَصُّ بالمدعى كما لو كان في يد اثنين ادَّعَاهُ أحدهما دون الآخر، يُجْعَلُ له. وأظهرهما: وهو الذي أَوْرَدَهُ القاضي ابْنُ كَجٍّ: أنه يُعْرَضُ على القَائِفِ؛ أن الوَلَدَ صَاحِبُ حَقٍّ في النَّسَبِ، فلا يَسْقُطُ حَقُّهُ بالإِنْكَارِ، وترك الدعوى. وإن أَنْكَرَاهُ معاً، يُعْرَضُ على القَائِفِ، ولا يُعَطَّلُ نَسَبُهُ (¬3). الرابعة: نَفَقَةُ الوَلَدِ إلى أن يُعْرَضَ على القَائِفِ، وفي مُدَّةِ التَّوَقُّفِ إلى الانْتِسَاب عليهما، فإذا الْتَحَقَ بأحدهما، رَجَعَ الآخَرُ عليه بما أَنْفَقَ. وهل تجب النَّفَقَةُ في حَالِ الاجْتِنَانِ؟ بُنِيَ ذلك على أن الحَمْلَ؛ هل يُعْلَمُ إن قلنا: نعم فنعم، وإلا فلا إن أوجبناها فكان أحد المدعيين زَوْجاً قدْ طَلَّقَهَا، والآخر وَاطِئاً بالشُّبْهَةِ؟ فإن قلنا: إن النَّفَقةَ للحامل (¬4)، فهي على المُطَلِّقِ. ¬
فروع
وإن قلنا: للحمل، أُخِذَا بها إلى أن يَظْهَرَ الأَمْرُ. وإن أوصى للطفل في وقت التوقف، فليقبلا الوَصِيَّةَ جميعاً. الخامسة: إذا مات المَوْلُودُ قبل العَرْضِ على القَائِفِ، فإن تَغَيَّرَ، فقد تَعَذَّرَ العَرْضُ. وإن لم يَتَغَيَّرُ، فَيُنْظَرُ، إن دُفِنَ، لم يُنْبشْ، وإن لم يُدْفَنْ، فوجهان: أظهرهما: ويُحْكَى عن أبي إِسحَاقَ: أنه يُعْرَضُ؛ لأن الشبه لا يَبْطُلُ بِالمَوْتِ. والثاني: المنع؛ لأن القَائِفَ قد يَبْنِي على الحَرَكَةِ، والكلام. وما يبطل بالموت. وإذا مَاتَ أحد المتداعيين، عُرِضَ أبوه، أو أخوه، أو عمه مع المولود؛ قاله في "التهذيب" (¬1). فروع: في الرُّعَاةِ مَنْ يَلْتَقِطُ السَّخَالَ في ظُلْمَةِ الليل، ويُلْقِيهَا في وِعَاءٍ معه، فإذا أَصْبَحَ، أَلْقَى كل سَخْلَةٍ بين يدي أُمِّهَا. ولا يُخْطِئُ؛ لمعرفته بها وبأمها. فعن الإصْطَخْرِيِّ: أنه يُعْمَلُ بقول مِثْلِ هذا الرَّاعِي، إذا تَنَازَعَ اثنان في سَخْلَةٍ، والظاهر خِلاَفهُ. وإنما عُمِلَ بقول القَائِفِ، لِشَرَفِ الآدَمِيِّ كيلا يَضِيعَ نَسَبُهُ. وحكى القاضي ابْنُ كَجٍّ الدَّيْنَوَرِيُّ عن تخريج أبي الحَسَيْنِ وجهين في أن القِيَافَةَ أَوْلَى بالرِّعَايَةِ بعد بُلُوغ المَوْلُودِ؛ أو الانْتِسَابِ. وادعى أن الظَّاهِرَ [الثاني، وأنه لا رُجُوعَ إلى القَائِفِ بعد بُلُوغِ المولود، والظاهر] (¬2) خَلاَفهُ، على ما سَبَقَ في اللَّقِيطِ. وأنه لو أَلْحَقَ المَوْلُودَ قَائِفٌ بأحد المتداعيين بالأَشْبَاهِ الظَّاهِرَةِ، وآخر بالثاني بالأَشْبَاهِ الخَفِيَّةِ؛ كالخلق وتَشَاكُلِ الأَعْضَاءِ، فأيهما أَوْلَى؟ فيه وجهان: أظهرهما: الثاني؛ لأن فيهما زِيَادَةَ حَذَقٍ وبَصِيرَةٍ. وإذا تَدَاعَاهُ مسلم، وذِمِّيٌّ، وأقام أحدهما بَيِّنَةً، تَبِعَهُ نَسَباً ودِيناً. وإن ألحقه القَائِفُ بالذِّمِّيِّ، تَبِعَهُ نَسَباً، لا دِيناً. ولا تُجْعَلُ حَضَانَتُهُ للذِّمِّيِّ. وإذا تَدَاعَاهُ حُرٌّ وَعَبْدٌ، وألحقه القَائِفُ بالعبد، يثبت النَّسَبُ، وكان حُرّاً؛ لاحْتِمَالِ أنه وُلدَ من حُرَّةٍ. هذا تَمَامُ الكَلاَمِ في هذه الأَبْوَابِ. ¬
كتاب العتق
كَتابُ العِتْقِ (¬1) قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلاَ يَخْفَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ كُلِّ مالِكٍ مُكَلَّفٍ لاَ يُصَادِفُ إِعْتَاقُهُ حَقّاً لازِماً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قال الله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37]. قال المفسرون: أي أَعتقه. وقال تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] أي الجواز على العقبة كفك الرقبة. وأمر اللهُ تعالى بتحرير الرقبة في مواضع من الكفارات. عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبةً أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْواً مِنْهُ مِنَ النَّارِ ¬
حتى فَرْجَه بِفَرْجِه" (¬1). وروى "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً كَانَ فداؤه مِنَ النَّارِ" (¬2) والإجماع منعقد على صحة الإِعْتَاقِ، وعلى أنه من القُربات (¬3)، ويصحُّ من كل مالك مكلف لا يصادف إِعتاقه متعلق حتى لازم للغير فغير المالك لا يصح إعتاقه إلاَّ بوكالة، أو ولاية (¬4)، ولا يصح إعتاق الصبي، والمجنون ولا إِعتاق المحجور عليه بالسَّفَهِ، وفي إِعْتَاقِ المحجور عليه بِالْفَلَسِ خلاف مذكور في "التَّفْلِيسِ"، وليس للعبد المأذون في التِّجارة الإعْتَاق إلاَّ أن يأذن له السيد في الإعتاق عنه، والمريض مرض الموت يُعْتَبَرُ إِعْتَاقُهُ منَ الثلث، وفي إِعْتَاقِ العبد المرهون الخلاف المذكور في "الرَّهْن" وفي إعتاق العبد الجاني خلاف ذكرناه في "البيع"، وهما المقصودان بقوله في الكتاب: "لاَ يُصَادِفُ إِعْتَاقُهُ حَقّاً لاَزِماً". ولا يصح إعتاق الموقوف عليه العبد الموقوف؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ، ويبطل حق من بعده، ويصح إِعتاق الكافر ذمياً كان أو حربياً. وإذا أعتق الحربي عبده ثم أَسْلَمَا فولاؤه ثابت عليه. وعند أَبِي حَنِيْفَةَ: لا يصح عتقه، ولا ولاء عليه، وله أن يوالي من شاء. واحْتَجَّ الأصحاب أن من نفذ عتقه في عبده المسلم، وجب أن ينفذ عتقه في عبده الكافر كالمسلم. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَصَرِيحُ لَفْظِهِ الإِعْتَاقُ وَالتَّحْرِيرُ، أَمَّا فَكُّ الرَّقَبَةِ فَهُوَ صَرِيحٌ عَلَى وَجْهٍ، وَلَوْ قَالَ: يَا حُرَّةُ ثُمَّ قَالَ: أَرَدتُّ نِدَاءَهَا بِاسْمِهَا القَدِيمِ لَمْ يُقْبَل ظَاهِراً إلاَّ أَنْ يَكُونَ ¬
اسْمُهَا في الحَالِ حُرَّةً، وَكَذِلِكَ لَوْ قَالَ: (يَا ازا ذمرد) ثُمَّ قَالَ أَرَدتُّ الوَصْفَ بِالجُودِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ اسْمُهُ ازاذمرد أَوْ كَانَ مَعَهُ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى المَدْحِ، وَلَوْ قَالَ لَهُ: يَا سَيِّدِي وَلِجَارِيَتِهِ يَا كَذَبانوا فَهُوَ لَيْسَ بِكِنَايَة، وَلَوْ قَالَ: يَا مَوْلاَيَ فَهُوَ كِنَايَةٌ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِ غَيْرِهِ: أَعْتَقْتُكَ لَغَا إِنْ فُهِمَ مِنْهُ الإِنْشَاءُ، وَإِنْ فُهِمَ مِنْهُ الإِقْرَارُ فَإذَا اشْتَرَاهُ كَانَ مُؤَاخَداً به. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يحصل العتق بالصريح والكناية: أما الصريح: فالتحرير والإعتاق صريحان (¬1)، فإذا قال لعبده: أنت حرٌّ أو مُحَرَّرٌ، أو حرَّرْتُكَ، أو أنتَ عتيق أو معتق (¬2) أو أعْتَقْتُكَ، عَتَقَ العَبْدُ، وإِنْ لم ينو، ولا أثر للخطأ في التذكير والتأنيث؛ بأن يقول لعبده: أنتِ حرَّةٌ، أو لجاريته: أنتَ حُرٌّ. وفي فك الرقبة، أهو صريح أو كناية؟ وجهان قد ذكرهما في الكتاب في أول "الخُلْع" والأرجح على قياس نظائره أنه صريحٌ. والكناية: كقوله لعبده: لا مِلْك لي عليك، أو لا سَبِيل، أو لا سلطان أو لا يد، أو لا أمْر، أو لا خدْمة، أو أَزَلْتُ مِلْكي عنك، أو حرمتَكِ، أو أنت سائبة وصرائح الطلاق وكناياتها كلُّها كناية في العتق (¬3). وفي قوله: "أنتِ عَلَيَّ كظَهْرِ أمِّي" وجهان أيضاً؛ لاقتضائه التحريم، كما لو قال: حَرَّمْتُكِ. وفي قوله: "أنتِ للهِ" كنايةٌ أيضاً، خلافاً لأبي حنيفة. ولو قال: "وهبْتُ نفسكِ منك" ونوى العتق دون التمليك، حصل العتق أيضاً، وإن قصد التمليك، فعلى ما سنذكر فيما إذا قال: بعت نفسك منك. ثم الكلام في صور: إحداها: إذا كانت أَمَتُهُ تُسَمَّى قبل جريان الرِّقِّ عليها حُرة فقال لها: يا حُرَّةُ. فإن لم يخطر له النداء باسْمِهَا القديم (¬4)؛ عتقت لا محالة وإن قصد نداءها به ففيه وجهان ¬
عن الْقَاضِي الحُسَيْنِ، وبه أجابَ في الكتاب أنها تعتق؛ لأن اللفظ صريح وإنما كانت تسمى حُرَّةً حينَ كانت حُرَّةً، وإذا طرأ الرق انمحى ذلك الاسم. قال الشيخ "أبو مُحَمَّدٍ": لا تعتق؛ لتمكن الاحتمال، وهذا أشبه وأظهر عند الإمَامِ. ولو كان اسْمُهَا في الحال حرة فقد ذكر في الكتاب في "باب الطلاق" أنه إذا كان يُسَمَّى العبد حر فقال: "يا حر" على قصد النداء لم يعتق، وإن أطلق فوجهان وَبَيَّنَّا أن هناك أن الأَشْبَهَ أنه لا يُعْتَقُ، وكذا الحكم لو كان يَتَسَمَّى بـ"عتيق" أو بـ[بآزادرودى] (¬1) فقال: "يا عتيق" أو يَا "بازادرودى" (¬2) وليعلم لما ذكرنا قوله في الكتاب: "لم يقبل ظاهراً" بالواو. وقوله: "إلا أن يكون اسْمهَا في الحال حرة" وليس باستثناء محقق؛ لأن هذه الحالة لا تدخل فيما إذا كان اسْمُها قديماً حرة فبُدِّلَ حتى يستثنى، والمعنى نعم لو كان اسْمُهَا في الحال حرة، وقصد نداءها باسْمِها لم تعتق. وفي "فتاوى صاحبِ الكتابِ": أَنَّه إِذا اجْتَازَ بصاحب الضريبة فخاف أَنْ يطالبَهُ بالضريبة عن عبده فقال: "إنه حر وليس بعبد وقصد الإِخْبَارَ، لم يعتق بينه وبين اللهِ تَعَالَى، وهو كاذب في خبره. وهذا النظم يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لا يقبل في الظاهر، وإِنَّهُ إِذَا قال: افرغ من هذا دون العشيِّ وأنت حُرٌّ. ثم قال: أردت أنه حر من العمل دون العتق يُدين، ولا يُقبل ظاهراً، وهذا قريب من جواب الكتابِ في النداء بالاسم القديم، وأنه إذا زَاحَمَتهُ امْرَأَةٌ في الطريق فقال: تأخري يا حرةُ فَبَانَتْ أَمَتُهُ لم تعتق (¬3) وهذا إن أراده (¬4) في الظاهر فيمكن أن يفرق بأنه لا يدري مَنْ يُخَاطِبُ هَاهُنَا، وعنده أنه يخاطب غير أَمَتِهِ وهناك خاطب العبد باللفظ الصريح. الثانية: إذا قال لعبده: [يا ازاذمرد] (¬5) ثم قال: أردت وصفه بالجود، لم يقبل، وحكم بعتقه ظاهراً. نعم لو كان اسْمُهُ "ازاذمرد" وقصد نداءه باسْمه لم يعتق، ولو كان هناك قَرِينَةٌ تُشْعِرُ بِأَنَّهُ قصد مدحه والثناءَ عليه فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ ولا يعتق، هكذا أطلق في الكتاب، وفي "الوسيط" أنه على الخلاف المذكور فيما إذا قال لامْرَأَتِهِ وهو يحل وثاقاً ¬
[منها] (¬1) أنت طالقٌ وقال: أردت طلاقها (¬2) منه، فيجوز أن يعلم. قوله في الكتاب "أو كان معه قرينة تدل على المدح [بالواو] (¬3) " كذلك، وفي "فتاوى الْقَفَّالِ" أنه إذا بعث غلامه في حاجة فَأَبْطَأَ عليه فلما رجع [قال] (¬4): [آذاذمردى كو] (¬5) يحكم عليه بالعتق، وحكى بعض أَئِمَةِ طَبْرِسْتَانَ وجهاً آخر أنه: لا يعتق في الحال (¬6)، لِلْقَرينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ قصد التهكم والذم (¬7). الثَّالِثَةُ: قوله لعبده: يا مولاي كناية. فإن المولى مشترك (¬8) بين معانٍ مِنْهَا المعتق. ولو قال: يا سيدي -فعن القاضي الحُسَيْنِ: أنه لا يُعْتَقُ، وإِنْ نَوَى؛ لأنه منَ السُّؤْدَدِ وتبيين المنزل وليس فيه ما يَقْتَضِي العتق، وهذا ما أَوْرَدَهُ في الكتاب. قَالَ الإِمَامُ: والذي نراه أَنَّه كناية. ولو قال لِأَمَتِهِ: [يا "كدبانو" أو "كدبانوى" مني] (¬9) فهو كقوله للعبد: يا سيدي وبكونه كناية أجاب صاحب التَّهْذِيبِ وكذا لو قال للعبد [تومتراى مني] (¬10). الرَّابعَةُ: إِذَا قال لعبد غيره: أَنْتَ حُرٌّ، فهذا إِقْرَارٌ بحريته، وهو مردود في الحال، لكن لو تمَلَّكَه يوماً من الدهر، حكم بعتقه؛ مؤاخذةً له بِإِقْرَارِهِ قال الإمَامُ: وَإِنَّمَا يجعل إقراراً (¬11)؛ لأنه لا مساغ للإنشاء فيه بخلاف ما إذا قال المالك لعبَده: أَنْتَ حُرٌّ فإنَّه إِنْشاءٌ كقول الزوج لزوجته: "أَنْتِ طَالِقٌ". فلو قَالَ لعبد الْغَيْرِ: قد أعتقتك. قال صاحب الكتاب: إن ذكره في معرض الإِنْشاء فهو لغو، وإن ذكره في مَعْرِضِ الإقرار يُؤَاخَذُ بِهِ لَوْ تَمَلَّكَهُ. وعن الْقَاضِي الحُسَيْنِ: أنه إِذَا قال قد أعتقتك كان إقراراً؛ لأن "قد" يؤكد معنى الْمُضِيِّ في الفعل الماضي. قال الإِمَامُ: ومجرى كلامه أَنَّ قَوْلَهُ: أعتقتك بلا "قد". قد لا يكون إقراراً وإن كانت الصيغة في الوضع الماضي، وعندي لا فصل بينهما. والوجه: أن يُرَاجَعَ الْقَائِلُ وَيُحْكَمُ بِمُوجَبِ قَوْلِهِ، فإن لم يفسر تُرِكَ وينبغي ألاَّ يُفَرَّقَ بين قوله: "أَنْتَ حر" وبين قوله: "أعتقتك". ¬
وقوله في الكتاب: "إن فُهِمَ مِنْهُ الإِنْشَاءُ، وإن فُهِمَ منه الإِقْرار" أي: إن ذكره في مَعْرضٍ يُفْهَمُ مِنْهُ هذا أو ذاك. وَاعْلَمْ أنه يصح تعليق العتق بالصفات، والإِعتاق على العوض (¬1) كما في الطلاقِ، وَأَنَّهُ لو قَالَ: "جعلت عِتْقَكَ إِلَيْكَ أَوْ خيرتُكَ وَنَوَى (¬2) تفويض العتق إليه، فَأَعْتَقَ نَفْسَهُ في الحال عَتَقَ كَمَا في الطَّلاَقِ. ولو قال: أَعْتَقْتُكَ عَلَى كذَا فَقُبِلَ في الحال أو قال العبد: أَعْتِقْنِي عَلَى كذا؛ فأجابه عُتِقَ وعليه ما التزم. ولو قال: أَعْتَقْتُكَ على كذا إلى شَهْرٍ فَقَبِلَ، عَتَقَ في الحال، وَالْمُلْتَزَمُ مُؤَجَّلٌ ولو أَعْتَقَهُ على خمر أو خِنْزِيرِ عَتَقَ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ. وهذا لو قال: أَعْتَقْتُكَ على أن تخدمني، ولم يبين مدة. أو قال: على أن تَخْدِمَنِي أبداً. ولو قال: على أن تخدمني شهراً، أو تعمل لي كذا وفصله فقبل عَتَقَ وعليه ما الْتَزَمَ. ولو خدمه نصفَ شهر وماتَ، فلِلسَّيِّدِ نِصْفُ قيمته في تَرِكَتِهِ (¬3). فُرُوعٌ: أكثرها عن ابْنِ سُرَيْجٍ: ¬
إذا قال: أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلِ الدَّارَ من عبيدي، أو أَيُّ عَبْدٍ من عبيدي دخل أَوَّلاً فهو حر؛ فدخل اثْنَانِ معاً، ثم ثالث لم يَعْتِق أَحَدٌ منهم أما الثَّالِثُ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا الاثنان فَلِأَن واحداً منهما لا يُوصَفُ أنه أول عبد داخل، ولو كان اللفظ والصورة هذه: أول من يدخلها وحده، عَتَقَ الثالث، ولو دخل وَاحِدٌ لاَ غَيْرُ، فهل يُعْتَقُ؟ لِأنَّهُ إنما يكون أولاً إذا كان هناك ثان فيه وجهان عن تعليق الشيخ أَبِي حَامِدٍ أَنَّ أَصَحَّهُمَا أنه يعتق. ولو قال: آخِرُ مَنْ يدخل الدَّارَ من عبيدي فهو حر فدخل بعضهم [بعد بعض] (¬1) لم يُحْكَمْ بعِتْقِ واحدٍ منهم إلىَ أن يموت السيد؛ فَيَتَبَيَّنُ الآخَرُ (¬2). ولو قال لعبده: إن لم أَحُجَّ هذا العام فأنت حر، فَمَضَى الْعَامُ فَاخْتُلِفَا في أَنَّهُ هل حج؟ فأقام العبد بينة أنه كان بـ"الكوفة" يوم النحر عَتَقَ. وعن أَبِي حَنِيْفَةَ: أَنَّهُ لا يَعْتِقُ. ولو قال لِعَبْدَيْنِ لهُ إِذَا جَاءَ الْغَدُ فأحدكما حر، فإِذَا جاء الغد؛ عَتَقَ أحدهما عليه التَّعْيِينُ. ولو باع أحدهما، أو أعتقه [أو مات] (¬3) قبل مجيء الغد، ثم جاء الغدُ وَالآخر في مِلْكِهِ لم يَتَعَيَّنِ المُعْتَقُ، وعلل بأنه لا يملك حينئذٍ إِعْتَاقَهُمَا فلا يملك إيقاع العتق في أحدهما، كما لو قال لعبده وَعَبْدِ غَيْرِهِ: أحدكما حر، لا يكون له حكم، وهذا غير مسلم، أليس ذكرنا في "الطلاق" وجهين؟ فيما إذا قال لزوجته وأجنبية: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ أنَّهُ هل يُقْبَلُ قَوْلُهُ: أَرَدْتُ الأَجْنَبِيَّةَ؟ فقد اتفق الوجهان على أن له حكماً وأثراً، إنما الكلام في أنه هل يتمكن من الصرف عن الزوجة؟ ولو باع أحدهما أو كلاهما ثم اشْتَرَى ما باع وجاء الغد وهما في ملكه فهو على الخلاف في عود الحَنَثِ. ¬
خواص العتق
ولو باع نصف أحدهما وجاء الغد وفي ملكه نصفه الآخرُ، فإليه التعيين، فإن عين فيمن نصفه له؛ وقع النظر في السِّرَايَة. ولو قال: إِذَا جاء الغد وأحدكما في ملكي فهو حر، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا ثم جاء الغد والآخر في مِلْكِهِ، عَتَقَ، وإن باع أَحَدَهُمَا وَنِصْفَ الآخر ثم جاء الغد؛ لم يعتق النِّصْفُ؛ لأن الشرط وهو كون أحدهما في ملكه لم يحصل. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالنَّظَرُ فِي خَوَاصِّ العِتْقِ وَهِيَ خَمْسَةٌ (الخَاصِّيَّةُ الأولَى: السِّرَايَةُ) وَمَنْ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبدِهِ سَرَى إلَى البَاقِي، وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَ عَضْواً مُعَيَّناً، وَلَوْ أَعْتَقَ شِرْكاً لَهُ مِنْ عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ البَاقِي بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: (الأَوَّلُ) أَنْ يَكُونَ مُوسِراً بِمَالٍ فَاضِلٍ عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ وَدَسْتِ ثَوْبٍ كَمَا كَانَ فِي الدُّيُونِ الَّتِي عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِقَدْرِ مَالِهِ فَهُوَ مُعْسِرٌ عَلَى الأَصَحِّ، وَاَلمَرِيضُ مُعْسِرٌ إِلاَّ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ، وَالمَيِّتُ مُعْسِرٌ مُطْلَقاً حَتَّى لَوْ قَالَ: إِذَا مِتُّ فَنَصِيبِي مِنْكَ حُرٌّ لَمْ يَسْرِ لِأَنَّ مِيرَاثَهُ صَارَ لِلوَرَثَةِ، وَلَوْ كَانَ مُوسِراً بِالبَعْضِ سَرَى بِذَلِكَ القَدْرِ عَلَى وَجْهٍ، وَعَلَى وَجْهٍ لاَ يَسْرِي. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا ينبغي أن يُفْهَمَ من الخَوَاصِّ ما ينفرد الْعِتْقُ به من بين سائر التصرفات؛ لأنه عَدَّ منها الامْتِنَاع بالمرض، وهذا يشمل جمبع التبرعات، ولا يَخْتَصُّ بِهِ الْعِتْقُ، وَالْقُرْعَةُ جَارِيَةٌ في القسمة وإنما أراد ما لا يُشَارِكُ الطَّلاَقُ فيه الْعِتْق، ويختص به العتق ويوضحه أنه قال في "الْوَسِيطِ": الطلاق والعتاق يَتَقَارَبَانِ، وقد فَصَّلْنَا حكم الألفاظ والتعليقات في الطلاق، فلا نعيده، بل يقتصر على ذكر خواص العتق، واندفع في بيانها. إذا عرفت ذلك. فإحدى الخواص: السِّرَايَةُ ومن أعتق بعضَ مَمْلُوكٍ فَإِمَّا أن يكون باقيه له أيضاً، أو لغيره. الحَالَةُ الأولَى: إذا كان الباقي له؛ فَيَعْتَقُ كُلُّهُ؛ كما في الطلاق، إذا طَلَّقَ نصْفَ المرأة، يكمل، ولا فرق في ذلك بيْن المُعْسِرِ وَالمُوسِرِ (¬1). وَفُهِمَ من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكاً لَهُ في عَبْدٍ، وَلَهُ مَالٌ، قُوِّمَ عَلَيْهِ الْبَاقِي" تشوف الشرع إلى تَكْمِيل العِتْقِ، وإذا كمل والباقي لغيره، فَلأَنْ يَكْفلُ، والباقي له أَوْلَى ¬
فروع
وقال أَبُو حَنِيْفَةَ: لا يَعْتِقُ الباقي في الحال، وَلَكِنَّهُ مُخَيَّرٌ بين أن يَعْتِقَ أَوْ يُكَاتِبَ، أَوْ يَسْتَسْعِي. قال الصَّيْدَلاَنِيُّ: والكتابة وَالاسْتِسْعَاءُ عنده شيء واحد إلاَّ أنه إذا كان برضا العبد وَمُعَاقَدَتِهِ، يسميه: كتابة، وإن كان دون رضاه يسميه: سَعَايَةٌ على الرقِّ، فما لم يرد المال لا يعتق الباقي وكما يكمل العتق إذا أضافه إلى البعض الشائع يَكْمُلُ إذا أضافه إلى البعض (¬1) المعين كاليد والرجل كما في الطلاق وخلاف أبي حَنِيْفَةَ المذكور في الطلاق عائد هاهنا، ثم في كيفية التكميل إذا أضاف العتق إلى الجزء الشائع وجهان: أَحَدُهُمَا: أنه يَحْصُلُ في الجزء المسمى، ثم يسري إلى الباقي. والثاني: يَحْصُلُ في الكل دفْعَةً واحدة ويكون إعْتَاقُ النصف عبارة عن إِعْتَاقِ (¬2) الكل، وإذا أضافه إلى الجزء المعين؛ فوجهان مرتبان، وأولى أن يحصل دفْعَةً واحدة، والفرق: أنَّ الجزءَ السابق كالعتق في المعين وقد سبق ذكر هذا الخلاف في "الطلاق" بِتَفَارِيعِهِ. ولو أعتق أَمَتَهُ الحاملَ والحمل مملوك (¬3) له أيضاً عتقُ الحَمْلِ أيضاً لا بطريق السِّرَايَةِ، فإن السِّرَايَةَ في الأشقاص في الأشخاص، وَلَكِنْ بطريق التَّبَعِيَّةِ كما يتبِع الحَمْلُ الأُمَّ في البيعِ، إلاَّ أَنَّ البيع يبطل بالاستثناء، والعتق لا يبطل لقوته، وهذا كما أنَّه لو استثنى عُضْواً في البيع، بطل البيع، ولو استثنى عضواً في العتق؛ لم يبطل العتق، وإن أعتق الحمل؛ نفذ العتق فيه ولم تعْتَقِ اَلأُمُّ، فإن الأم لا تَتْبَعُ الحمل (¬4). وعن الأُستَاذِ أَبِي إِسحَاقَ: أَنها تَعْتِقُ بِعِتْقِهِ كما يَعْتِقُ بِعِتْقِهَا، والظاهر الأول. ولو كانت الأم لواحد والحمل لآخر، فلا تعتقُ الجارية بإعتاق مالك الحمل ولا الحمل بإعتاق مالك الجارية، ولا اسْتِتْبَاعَ مع اختلاف المالكين. وقد سبق ذكر هذه الصورة في "الوَصَايَا" ويتعلق بما نحن فيه. فُرُوعٌ: منها إذا قال لِأَمَتِهِ: "إِذَا وَلَدْتِ فَوَلَدُكِ حُرٌّ أو كل ولد تَلِدِينَهُ، فهو حر، وقد ذكرنا ¬
في "الطلاق" أنها: إن كانت حاملاً عند التعليق فإذا ولدت؛ عتق الولد. وإن كانت حائلاً فوجهان: أَشْبَهُهُمَا: أنه يعتق أيضاً؛ لأنه وإن لم يملك الولد حينئذ، فقد ملك الأصل المفيد لملك الولد. ولو قال لِأَمَتِهِ الحَامِلِ: إن كان أول ما تَلِدِينَهُ غُلاَماً؛ فهو حرٌّ وإن كان جارية؛ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ غُلاَماً وَجَارَيةً، يُنْظَرُ: إن ولدت الغلام أولاً؛ عَتِقَ وَالجَارِيَةُ والأم رقيقان وإن ولدت الجارية أولاً؛ عَتِقَتِ الأُمُّ وَيُعْتَقُ الْغُلاَمُ أَيْضاً؛ لكونه في البطن حين عتقَتِ الأُمُّ، وتكون الجَارَيةُ رَقِيقَةً؛ لأن عِتْقَ الأُمِّ حَصَلَ بَعْدَ مُفَارَقتِهَا فإن (¬1) وَلَدَتْهُمَا معاً؛ فلا عتق؛ لأن التعليق بأول ولد تلد، وإذا ولدتهما معاً لم تلد واحد منهما أولاً، وإذا لم يعلم أولدتهما معاً أو أحدهما قبل الآخر، فلا عتق أيضاً لأن الأصل بقاء الملْكِ والعتق غير معلوم، وإن عُلِمَ سَبْقُ وِلاَدَةِ أَحَدِهِمَا، وَأُشْكِلَ السَّابِقُ، فالغلام حر بكل حال؛ لأنه إن سبقت ولادته عتقَ بالتعليق الأول، وإن سَبَقَ وِلاَدَةَ الجَارِيةِ عتقَ بِتَبَعِيَّةِ الأُمِّ وَالجَارِيةُ رَقِيقَةٌ بكل حال؛ لأنه [إن] (¬2) سبق ولادة الغلام لم يعتق غيره، وإن سبق ولادتهما؛ لم يعتق بتبعية الأم لتأخر عتق الأم عن مُفَارَقَتِهَا، وأما الأم فيحتمل أن تكون عَتِيقَةً بسبق ولادة الجارية، ويحتمل أن تكون رقيقةً لسبق ولادة الغلام فَيُؤْمَرُ السَّيِّدُ بالبيان، فإن مات قبل أن يُبَيِّنَ فالأصح أنَّها رقيقة أخذاً بالأصل، وطرحاً لِلشَّكِّ. وَقَالَ ابْنُ الحَدَّادِ: يُقْرَعُ عَلَيْهَا بِسَهْمِ عِتْقٍ وَسَهْمِ رِقِّ، وذكر في "تَقْرِيبِهِ" أنه يقرع بينها وبين الغلام، فإن خرجت على الغلام؛ لم يَعتَقْ غيره وإن خرجت عليها؛ عُتِقَتْ ولم يرق الابن، ويجوز أن يقرع بين شخصين وتعمل القرعة في أحدهما دون الثاني؛ أَلاَ تَرَى أنه لو قال: إن كان هذا الطائر غُرَاباً فَامرأتي طالقٌ، وإن لم يكن غُرَاباً فعبدي حُرٌّ ولم يبين الحال، يُقرع؛ فإن خرجت على العبد عتقَ وإن خرجت على المرأة، لم تطلق. قَالَ الشَّيْخُ أبُو عَلِيٍّ: وما ذكره ابْنُ الحَدَّادِ غَلَطٌ عند عامة الأصحاب؛ لأنا شَكَكْنَا في عتقها، والقرعة لا تُثْبِتِ المشكوك فيه، وإنما تستعمل في تَعْيِينِ ما يستيقن أَصْلُهُ، ولو وجب الإقراع هاهنا لوجب فيما إذا قال لزوجته: "إن كان أول ما (¬3) تَلِدِينَهُ غلاماً؛ فأنت طالقٌ فَوَلَدَتْ غلاماً وجارية واشتبه الحال، أن يُوقَفَ عنها؛ لأن ما يوجب الإقراع في العتق، يُوجِبُ الوقْف في النِّكَاحِ؛ ألا ترى أنه لو أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيه يُقْرَعُ بينهما إذا مات، ولو طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ يُوقَفُ عنهما، وكما لا يوقف عند الشك في أصل الطلاق ¬
وجب، ألاَّ يقرع عند الشك في أصل العتاق، وفي مَسْأَلَةِ الْغُرَابِ المُسْتَشْهَدِ بها: أَصْلُ الحَنَثِ مُسْتَيْقَنٌ فَأَقْرَعَ لِلْحُرِّيَّةِ. قَالَ الشَّيْخُ أبو عَلِيٍّ: هذا كله إذا ولدت في صِحَّةِ السَّيِّدِ، أمَّا إذا ولدت في مرض موته، فَيَنْظُرُ إن كان الثلث يفي بالجميع؛ لم يختلف الجواب وإلاَّ كما إذا لم يكن له إلاَّ هذه الأمة، وما ولدت، فَيُقْرَعُ بين الغلام والأم فإن خرجت على الغلام عَتَقَ وَحْدَهُ إن خرج من الثلث، وإن خرجت على الأم قومت هي حاملاً بالغلام يوم ولدت الجارية أو أولدتها، (¬1) أولاً، وَيَعْتَقُ مِنْهَا ومن الغلام قَدْرَ الثلث فإن (¬2) كانت قيمة الجارية مائة، وقيمة الأم حاملاً بالغلام مِائَتَيْنِ فَيُعْتَقُ نِصْفُهَا، ونصف الغلام، وقيمتهما مِائَةٌ ويبقى لِلْوَرَثَةِ النِّصْفَانِ مِائَة والجارية، وهي مائة أيضاً. الحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إذا كان الباقي لغيره فَيَعْتِقُ نَصِيبُهُ؛ لأنه جائز التَّصَرُّفِ، وقد وجه العتق على ملكه، ثم إن كان المُعْتِق مُوسِراً بقيمة باقي العبد؛ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ للشَّرِيكِ ويعتق الباقي (¬3) عليه، ويكون وَلاَءُ جميع العبد لَهُ، وإن كان مُعْسِراً بقي الباقي على مِلْكِ الشَّرِيكِ وَلاَ يَسْرِي العتق إليه، لِمَا رُوِيَ عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكَاً لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ قِيمَة عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُم وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وإلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ" وَيُرْوَى "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكاً لَهُ فِي عَبْدٍ عَتَقَ مَا بَقِيَ فِي مَالِهِ إِذَا كَانَ مَالُهُ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ" (¬4). وعند أَبِي حَنِيْفَةَ: لا تَقْوِيمَ ولا سرَايَةَ، ولكن إن كان المعتق موسراً؛ فَيُخَيَّرُ الشَّرِيكُ بَيْنَ ثَلاثَةِ أُمُورٍ: أن يَعْتِقَ نَصِيبَ نَفْسِهِ، وأن يَسْتَسْعى العَبْدُ حَتَّى يؤدي قيمة نصيبه ويُعْتَقُ، وعلى التقديرين يكون وَلاؤُهُ بينهما، وإن تَضَمَّنَ المُعتق قِيمَةَ نَصِيبِهِ ثم المعتق يستسعي العبد فيما غَرِمَ فإذا أَدَّاهُ عَتَقَ، وكان جميع الْوَلاَء له، وإن كان مُعْسِراً فلا يضمنه الشريك ¬
ويتخير بين الخصلتين الأَوَّلييْن، وليعلم لهذا قوله في الكتاب: "قَوَّم عليه الباقي" بالحاء، ثم إِنَّهُ ذَكَرَ أن التقويم بِأَرْبَعَةِ شُرُوط: أَحَدُهَا: كون المعتقِ مُوسِراً، فلو كان مُعْسِراً لم يعتق نصيب الشَّرِيكِ واستقر فيه تَبَعُّضُ الرق والحرية، وقد سبق أَحْكَامُ مَنْ بَعضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقيقٌ في أبواب، وأكسابه مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وبين السيد، فإن جَرَتْ مهايأة بينهما اكْتَسَبَ يوماً للسيد ويوماً لنفسه، أو استخدمه السيد يوماً وتركه يوماً، والمهايأة تكون بالتَّرَاضِي، ولا تَلْزَمُ على الأظهر، وقد سبق ذكر ذلك، وفي الشرط مَسَائِلُ: إحْدَاهَا: ليس المقصود من المُوسِرِ الذي يُعَدُّ من الأغنياء لكن إذا كان له من المال (¬1) ما يَفِي بقيمة نصيب شريكه، فيقوم عليه، وإن لم يملك غيره؛ لظاهر الخبر الذي تقدَّم وَيُصْرَفُ إلى هذه الجهة كل ما يباع ويصرف إلى الديون (¬2) فلا يبقى مسكنه وخادمه وكل ما يَفْضُلُ عن قُوتِ يومه وقوت من تلزمه نفقته، ودِسْتِ ثَوْب يلبسه، وَسُكْنَى يَوْمٍ وليس الْيَسَارُ المُعْتَبَرُ في الباب كاليَسَارِ المُعْتَبر في الكَفَّارَةِ المُرَتَّبَةِ، إلى هذا أشار بقوله في الكتاب: "كما في الديون التي عليه"، والاعْتِبَارُ في اليَسَارِ بحَالَةِ الإِعْتَاقِ فإن كان موسراً، حينئذ ثبت العتق، واستحقاق العتق في الباقي، وإن لم يكن مُوسِراً وقت الإعتاقِ ثم أَيسَرَ؛ فلا اعتبار به، وقد استقر البعض. الثَّانِيَةُ: لو مَلَكَ المُعْتِقُ قِيمَةَ نصيب الشريك، ولكن عليه من الدَّيْنِ مثل ما يملكه أو أكثر، فهل يمنع الدَّيْنُ التَّقْوِيمَ عليه والسِّرَايَةَ؟ فيه قولان: كالقولين في أن الدَّيْنَ هل يمنع الزكاة؟ والجامع أن سرَايَةَ العتق حق الله تعالى، وهو متعلق بحَظِّ الآدَمِيِّ كالزكاة. وَالأَصَحُّ: أنه لا يمنع وجعل الشيخ أَبُو عَلِيٍّ الْخَلاَّفُ في المسألةِ وَجْهَيْنِ، وقال: من الأصحاب من قال: لا تقويم عليه؛ لأنه غير مُوسِرٍ بما يَمْلكُهُ بل هو فقير من فقراء المسلمين، وكذلك تَحِلُّ له الزكاة فإن أبرئ مِن الدَّيْنِ، لم يُقَوَّمْ عليه أيضاً كالمُعْسِرِ يُوسَرُ. وقال الأكثرون ومنهم (¬3) ابْنُ الحَدَّاد: يُقَوَّمُ عليه؛ لأنه مالك لما في يده نَافِذُ التَّصَرُّفِ. ولو اشترى به عبداً وأعتقه نفذ فكذلك يجوز أن يقوم عليه، فعلى هذا يُضَارِبُ الشريك بقيمة نصيبه مع الغُرَمَاءِ، فإن أصابه بالمُضَارَبَةِ ما يفي بقيمة جميع نصيبه فذاك، وإِلاَّ اقْتَصَرَ على حِصَّتِهِ ويُعْتَقُ جَمِيعُ العبد إن قلنا: تَحْصُلُ السِّرَايَةُ بنفس الإعتاق، وإن قلنا لا تحصل بنفس الإعتاق فيعتق من نصيبه بقدر حِصَّتِهِ [أي التي جعلت من المضاربة] (¬4) ويبقى الباقي رقيقاً، فإن حدث له بعد ذلك مالٌ لم يُقَوَّمْ عَلَيْهِ الباقي، لكن ¬
لو ظهر مال كان يملكه يوم الإعتاق ضَارَبَ الشريك بقيمة الباقي فيه إلى أن يعتق الجميع. ولو كان بين شريكين عبد قيمته عشرون، فجاء إنسان وقال لأحدهما: اعْتِقْ نصيبك من هذا العبد عني على هذه العَشَرَةِ، وهو لا يملك غيرها فَأَجَابَهُ، عتق نَصِيبُهُ عن المُسْتَدْعِي ولا سرايَةَ؛ لأنه زال ملكه عن العشرة بما جرى، وهو لا يملك غيرها. ولو قال: على عشرة في ذمتي فإن قلنا: إن الدَّيْنَ يمنع التقويم والسِّرَايَةَ لم يُقَوَّم عليه؛ لأنه يملك عشرة وعليه بالإلتماس والإجابة مثلها وإن قلنا: إنه لا يمنع فإن قلنا السِّرَايَةَ تحصل بنفس الإعتاق؛ عتق جميع العبد وتقسم العشرة بين الشَّرِيكَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ، ويبقى لكل واحد منهما خُمْسُهُ في ذمته، وإن قلنا: لا تحصل السِّرَايَةَ بنفس الإعتاق فيعتق من نصيب الشريك بالسِّرَايَةِ حصة الخمسة، وهي: ربع العبد، ويبقى الباقي على الرق، وللشريك المستدعى منه خمسة في ذمته. ولو كانت المسألة بحالها ولكن قيمة العبد عشرة وقلنا: الدَّيْنُ لا يمنع التقويم، فإن قلنا: السِّرَايَةَ تَحْصُلُ بنفس الإعتاق، فيعتق جميع العبد ويتضارب الشريكان في الَعَشَرَةِ أَثْلاثاً؛ لأن المستدعى منه يستحق عشرة، وللآخر قيمة نِصْفِهِ وهي خَمْسَةٌ وإن قلنا لا تحصل بالإعتاق فيعتق منه بالسِّرَايَةِ بقدر حصته من العشرة، وهي: ثَلاثَةٌ وثلُثٌ، وذلك ثلث العبد فينضم ما عَتَقَ باستدعائه، فيكون جميع ما عتق من العبد خَمْسَةَ أَسْدَاسِهِ، ولو كانت المسألة بحالها, لكن قيمة العبد: ثلاثون وقلنا: الدَّيْنُ لا يمنع التقويم فإن قلنا تحصل السِّرَايَةُ بنفس الإعتاق فَيَعْتَقُ مِنَ الْعَبْدِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ النِّصْفُ بالاسْتِدْعَاءِ والإِجَابَةِ، والثلُثُ؛ لأنه مُوسِرٌ بقيمة الثلث ويتضاربان في العشرة بِالسَّوِيَّةِ؛ وإن قلنا السِّرَايَةُ لا تحصل بالإعتاق فيعتق بالسِّرَايَة بقدر حِصَّتِهِ من العشرة وهي: خُمْسُهُ وَذَلِكَ سُدُسُ المال، فجملة ما يعتقُ من العبد ثُلُثَاهُ، ويجيء في هذه الصورة وجه: أَنَّهُ لا تقويم عليه بسبب آخر، وهو أنه مُوسِرٌ بقيمة بعض نصيب الشريك لا بقيمة كُلِّه، ويجيء ذكر هذا الخلاف في الفصل. ولو مَلَكَ نِصْفَيْنِ من عبدين متساويي القيمة فأعتق نصيبه منهما، وهو موسر، بنصف قيمة أحدهما فَيُنْظَرُ إِنْ أَعْتَقَهُمَا معاً؛ عتق نصيبه منهما وسرى (¬1) إلى نصف نصيب الشريك من كل واحد منهما، فيكون جملة ما يعتق من كل واحد منهما ثَلاثَةَ أَرْبَاعِهِ، وهذا إذا حكمنا بالسِّرَايَةِ في الحال، وقلنا: إِنَّ اليَسَارَ بقيمة بعض النصيب يَقْتَضِي السِّرَايَةَ بالقسط (¬2)، وإن أعتق على الترتيب؛ سرى إلى جميع الأول، ثم إن قلنا ¬
إن الدَّين يمنع السِّرَايَةَ؛ فلا سرَايَةَ في العبد الباقي؛ لأنَّ قيمة نصيب الشريك من الأوَّلِ دَيْنٌ عليه، وإن قلنا لا يمنع فيسرى وما في يده يصرف إلى الشريك، والباقي في ذمته، وإن كان الشقصان لشخصين صرف إلى كل واحد منهما نصفه. ولو ملك الشقصين وَأَعْتَقَهمَا معاً ولا مال له غيرهما، فلا سرَايَةَ؛ لأنَّه مُعْسِرٌ، وإن أَعْتَقَ على الترتيب فَيَعْتِقُ كُلَّ الأول؛ لأَنَّ في نصيبه من العبد الآخر وفاء بباقي العبد الذي أعتق شقصه، ثم إذا أَعْتَقَ نصيبه من الباقي نَفَذَ العِتْقُ في نصيبه ولا سرَايَةَ؛ لأَنَّهُ معسر، وَاعْتُرِضَ عليه بأنه إذا وجب بإعتاق نصيبه من الأول قيمة نصيب الشريك؛ صار نصيبه من الثاني مُسْتَحقّ البيع لحق الشريك؛ لأنه لا يملك غيره، فوجب ألاَّ ينفذ إعتاقه فيه كما إذا أَعْتَقَ أحد الشريكين نصيبه من العبد المشترك، وقلنا: "لا سرَايَةَ في الحال، لا ينفذ من الشَّرِيكِ الآخر إعتاق نصيبه على الأصح؛ لتعلق حق الأَوَّلِ به، وأجيب عنه بأن الحقَّ هناك تعلق بعين (¬1) ذلك النصيب؛ أَلاَ تَرَى أنهما لو اتَّفَقَا على إقامة عبد آخر مقامه لا يجوز، وهاهنا لم يتعلق بعتق نصيبه (¬2) من العبد الثاني لو أَدَّى المال من موضع آخر؛ يجوز. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ هذا على [القول الذي يقول] (¬3) إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه، وهو مُوسِرٌ عَتَقَ الكُلُّ في الحال، أما إذا قلنا لا يعتق إلاَّ بوصول (¬4) القيمة إليه فإذا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ من الثاني نفذ (¬5) العتق وبطل التقويم؛ لأنه لم يبق له مال، وتعذر ¬
وصول القيمة إلى الثاني وهذا ليس بواضح، وينبغي أن يكون في ذمته إلى أن يجد، فإن مات معسراً، فسيأتي في التَفْرِيعِ على الأقوال، والمسألة التي قبلها من مولدات ابْنِ الحَدَّادِ -رَحمَةُ اللهِ عَلَيْهِ. الثَّالِثَةُ: إِذَا أَعْتَقَ أَحَدُ الشريكين نصيبه في مرض الموت؛ نُظِرَ إن خرج جميع العبد من ثلث ماله؛ قُوِّمَ عليه نصيب الشريك وعتق؛ لأن تصرف المريض في ثلث ماله كتصرف الصحيح في الجميع. وعن أَحْمَدَ رِوَايَةٌ: أنه لا تقويم في حال المرض، وفي طريقة الصَّيْدَلاَنِيُّ: أن إعتاق الشقص في المرض لا يؤثر في الباقي، ويجوز أن يعلم لذلك قوله في الْكِتَاب: "إلا في قدر الثلث بالحاء والألف، فإنه لا استثناء على ما ذَكَرَاهُ وإن لم يخرج من الثلث إلاَّ نصيبه؛ عتق نصيبه، ولا تقويم، وإن خرج نصيبه وبعض نصيب الشريك قُوِّمَ عليه ذلك القدر"، ويجيء فيه خلاف نذكره في يسار المعتق ببعض نصيب الشريك دون بعض، وبالجملة فالمريض في الثُّلُثِ كالصحيح في الكل، وفيما زاد على الثُّلُثِ وهو مُعْسِرٌ. واحتجَّ القَاضِي الطَّبْرِيُّ وغيره باعتبار الثلث، على أن التقويم يكون بعد موت المريض؛ لأنَّ الثلث مُعْتَبَرٌ حالةَ الموت، حتى إذا لم يَفِ الثُّلُثُ بجميع العبد في حال إعتاقه، ثم استفاد مالاً ووفى عند الموت يقوم عليه جميع العبد، وفي "التَّهْذِيبِ" أنه لو ملك نصفين من عبدين متساوي (¬1) القيمة فأعتقهما في مرض الموت؛ يُنظر إن خرج العبدان جميعاً من الثلث؛ عتقا سَوَاءٌ أعتقهما معاً، أو على الترتيب، وعليه قيمة نصيب الشريك، وإن لم يُخْرِجْ من الثُّلُثِ إِلاَّ نَصِيبَاهُ فإن أعتقهما معاً؛ عَتَقَ نَصِيبَاهُ وَلاَ سرَايَةَ، وإن أَعْتَقَهُمَا على الترتيب؛ عتق الأول بتمامه ولم يعتق من الثاني شيء؛ لأَنَّه لزِمه قيمة نصيب الشريك من الأول، فصار نصيبه من الثاني مستحق الصرف إليه، وإِنْ خَرَجَ من الثلث نَصِيبَاهُ ونصيب أحد الشريكين فإن أَعْتَقَهُمَا على الترتيب؛ عتق جميع الأول، ولا يعتق من الثاني إلاَّ نصيبه، وإن أعْتَقَهُمَا معاً فوجهان: أحدهما: وبه قال ابْنُ الحَدَّادِ: يُعْتَقُ من كل واحد ثَلاثَةُ أَرْبَاعِهِ بعتق نصيباه، ونصف نصيب الشريك من كل واحد كما لو أعتقهما في الصحة وهو موسر بنصيب أحدهما. والثاني: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فمن خرجت له القرعة؛ عتق كله ولم يعتق من الآخر إلاَّ نصيبه؛ لأن القرعة مشروعة في العتق، ولا يصار إلى التشقيص مع إِمْكَانِ التكميل (¬2) ¬
وإن لم يُخْرِجْ من الثُّلُثِ إلاَّ أحد نصيبه فإن أعتقهما معاً فوجهان: أحدهما: يعْتَقُ من كل واحد نصف نصيبه، وهو رُبعُ كُلِّ عَبْدٍ. والثاني: يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة عُتِق منه جميع نصيبه ولا يعتق من الآخر شيء. قال: وهذا أصحُّ، وظاهر اللفظ في أحكام هذه الصورة يَنْطَبِقُ على أَنَّ السِّرَايَةَ تحصل بنفس العقد، ولو أعتق النصيبين، ولا مال له إلاَّ النصيبان قال الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ في "الشَّرْحِ": إن أعتقهما على الترتيب؛ عتِقَ ثُلُثَا نصيبه من العبد الأول، وهو ثُلُثُ جَمِيع مَالِهِ وهو ثلث ذلك العبد ويبقى للورثة سُدُسُ ذَلِكَ العبد ونصف العبد الآخر، وإن أعْتَقَهُمَا معاً ومات؛ أَقْرَعَ بينهما فمن خرجت له القرعة؛ عُتِقَ منه ثُلُثَا نصيبه وهو ثُلُثُ ماله. ولو أَوْصَى أحد الشريكين بِإعْتَاقِ نَصِيبِهِ بعد موته فلا سرَايَةَ، وإن خرج كله من الثلث -لأن المال ينتقل بالموت إلى الوارث، ويبقى الميت مُعْسِراً، ولا تقويم على من لا يملك شيئاً وقت نُفُوذِ الْعِتْقِ في نصيبه، بل لو كان العبد كله له فأوصى بِإِعْتَاقِ بعضه فَأعْتَقَ، لم يَسْرِ، وكذا لو دَبَّرَ أحدهما نصيبه فقال: إذا من؛ فنصيبي منك حُرٌّ وإن قال في الوصية: أَعْتِقُوا نَصِيبِي وَكَمِّلُوا العتق فَيَكْمُلُ إن خرج العبد من الثلث، وإن لم يَخْرُجْ جَميعُهُ وَخَرَجَ منه شيء بعد النصيب؛ نَفَذَتْ وَصِيَّتُهُ في ذلك القدر. وهاهنا فائدتان: إِحْدَاهُمَا: قال القَاضِي أَبُو الطَّيِّب: عندي إذا أوصى بالتَّكْمِيلِ فإنما يكمل باختيار الشريك؛ لأن التقويم إذا لم يكن مستحقاً؛ لا يصير مستحقاً باختيار المُعْتِقِ؛ ألا ترى أن المعتق لو كان معسراً ثم أيسر أو قال: قَوِّمُوهُ عَلَيَّ حَتَّى أستقرض لا يجبر الشريك عليه، والأكثرون أطلقوا الكلام إطلاقاً؛ وَوَجَّهَهُ الْقَاضِي الرَّوَيانِيُّ (¬1) بأنه: مُتَمَكِّنٌ مِنَ التصرف في الثُّلُثِ، وإذا أوصى بالتكميل فقد اسْتَبْقَى لِنَفْسِهِ قدر قيمة العبد من الثُلُثِ وكان مُوسِراً به. والثَّانِيَةُ: ذَكَرَ الإِمَامُ وَصَاحِبُ الكِتَاب: أن صورة الوصية بالتكميل أن يقول: اشتروا نصيب الشريكَ، فأعتقوه فَأَمَّا إذا قَال: أَعْتِقُوه عِتَاقَاً سَارِياً فلا خير في هذه ¬
الوصية؛ لأنه لا سِرَايَةَ بعد الموت وإن أَعْتَقْنَا نصيبه، فالذي أتى به وصية بمحال، ولك أن تقول: إذا قال: اشْتَرُوا نصيبه وأَعْتِقُوه فإذا يتوقف على اختياره البيعَ لا مَحَالَةَ فيعود الأمر إلى ما ذكره القاضي؛ أَبُو الطَّيِّبِ؛ وإن كان لا يتوقف الأمر على اختياره، فلا يبعد أن يقال: إنه كاف متمكناً من إعتاق نَصيبه، والتوسل إلى عِتْقِ نصيب الشريك ببذل القيمة في حال صحته وفي مرضه أيضاً، إن كان يخرج العبد من الثُّلُثِ من غير اختيار الشريك، فَتَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ بما كان يتمكن منه بنفسه. ولو مَلَكَ نصفين من عبدين فأوصى بإعتاق نصيبه منهما بعد موته؛ يُعْتَقُ عَنْهُ النَّصِيبَانِ وَلاَ سِرَايَةَ. فلو قال مع ذلك: وكملوا العتق فيهما نُظِرَ إن خرج العبدان جميعاً من الثُّلُثِ كَمُلَ العِتْقُ فيهما، وإن خَرَجَ مع نصيبه الباقي من أَحَدِهِمَا دون الآخَرِ، ففيه طريقان مذكوران في "التَّهْذِيبِ": أحدهما: أنه على الوجهين فيما إذا أعتق في مرض الموت النَّصِيبَيْنِ ولم يَخْرُجْ من الثلث إلاَّ نصيباه مع (¬1) الباقي من أحد العبدين، ففي وجه يعتق من كل واحد منهما ثلاثة أرباعه. وفي آخر: يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة أُعْتِقَ بِتَمَامِهِ وَأُعْتِقَ مِنَ الآخَرِ نَصِيبُهُ لاَ غَيْرُ. وَالثَّانِي: القطع هاهنا بالقُرْعَةِ والفرق أنه قصد التكميل هاهنا حيث أوصى به فيراعى مقصوده (¬2) بقدر الإمكان. الرَّابعَةُ: إذا كان الشريك المُعْتِقُ مُوسِراً ببعض قيمة الباقي دون بعض ففيه وجهان عن رواية صَاحِبِ "التَّقْرِيبِ": أَصَحُّهُمَا -وَيُحْكَى عَنْ نصه -رضي الله عنه- في الأُمِّ: أنه يسري إلى القدر الذي هو مُوسِرٌ به، مثل أن يجد نصف قيمته؛ يعتق به نصف الباقي؛ ليقرب حاله من الحرية والاستقلال. والثاني: المَنْعُ؛ لأن تَقْوِيمَ ذلك القدر لا يفيده الاستقلال، وثبوت أحكام الأحرار من الوِلاَيَةِ، والشهادة، والإِرْثِ وغيرها، وأيضاً فلئلا (¬3) يتبعض عليه ملكه كالشفيع، إذا وجد بعض ثمن الشقص لاَ يَأْخُذُ قِسْطَهُ من الشقص. ولو كان بين ثَلاثةٍ عبد فأعتق اثنان نَصِيبَهُمَا. وأحدهما موسر دون الآخر؛ يقوم نصيب الثالث على الموسر بلا خلاف. ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِي أَنْ يُعْتَقَ بِاخْتِيَارِهِ فَإنْ وَرِثَ نِصْفَ قَرِيبِهِ فَعُتِقَ لَمْ يَسْرِ، وَإِنْ اتَّهَبَ أَوِ اشْتَرَى سَرَى. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من شرط السِّرَايَةِ: أن يحصل العِتْقُ في نصيبه باختياره حتى لو وَرِثَ شقصاً من قريبه الذي يعتق عليه، فعتق لم يَسْرِ ولم يقوم عليه نصيب الشريك، بِخِلاَفِ ما إذا اشترى، وجملة القول فيه، أَنَّهُ إذا ملك بعض قريبه: الذي يُعْتَقُ عليه يعتقُ القدر الذي يملكه، وينظر، إن مَلَكَ لا باختياره كما إذا ورثه لم يَسْرِ؛ لأن التَّقْوِيمَ سبيله سبيل غَرَامَةِ المُتْلَفَاتِ، ولم يوجد منه صُنْعٌ وَقَصْدُ إِتْلاَفٍ، وإن مَلَكَهُ باختياره فأما أن يحصل الملك بطريق يقصد به اجْتِلاَبَ الملك أو بطريق لا يَقْصِدَ به التملك غالباً، لكنه يَتَضَمَّنُ حُصُولَ الملك. أما الأول: فكالشِّرَاءِ، وَقَبُولِ الهِبَةِ، والوَصِيَّةِ فذلك يقتضي حصول السِّرَايَةَ كما لو تلفظ بالإِعْتَاقِ، وإن مَلَكَهُ بما يتضمن حصول الملك ولا يقصد به التملك غالباً، كما إِذَا كَاتَبَ عَبداً فاشترى شقصاً ممن يعتق على سيده ثم عَجَّزَهُ السَّيِّدُ، فصار الشقص له، وعتق عليه، وفي السِّرَايَةِ وجهان: أحدهما: يَسْرِي لاختياره وتسببه إلى الملك بِفَسْخِ الكِتَابَةِ. وأشبههما: لا -وَيُحْكَى عَنِ ابْنِ الحَدَّادِ؛ لأنه لم يقصد التَمَلُّكَ وإنما قصد التَّعْجِيزَ وحصل الملك ضمناً، وإن عجَّز المُكَاتِبُ نَفْسُهُ فلا يَسْري؛ لأنه حصل الملك، والعتق بغير اختيار السيد وتسببه كما في الإرْثِ، ولو باع شقصاً ممن يعتق على وارثه، كما لو باع ابْنَ أَخِيهِ بِثَوْبٍ؛ ومات وَوَارَثُهُ أَخُوهُ فوجد بِالثَّوْب عيباً فرده واسْتَرَدَّ الشقص، وعتقَ عليه ففي السِّرَايَةَ الوجهان: في وَجْهٍ: يسري لتسببه إلى المِلْكِ بالفسخ. وفي وجه: لا-؛ لأن مقصوده رَدُّ الثوب لا استرداد العِوَضَ، وكذلك يجري الرَّدُّ في الثوب، والعِوَضُ (¬1) تَالِفٌ. ولو وجد مُشْتَرِي الشقص به عيباً فرده فلا سرَايَةَ كما في الإِرْثِ، والخلاف في الصورتين شَبِيهٌ بالخلاف فيما إذا باع الكافر عبداً أَسْلَمَ في يده بثوب، ثم وَجَدَ بالثوب عيباً. هل له استرداد العبد؟! ولو أوصى لِزَيْدٍ بشقص مِمَّنْ يعتق على (¬2) وارث زيد، كما إذا أوصى له بجارية لزيد منها: ابن، أو أوصى له ببعض ابن أخيه، ومات زَيْدٌ قبل قَبُولِ الوَصِيَّةِ فَقَبِلَهَا ابْنُهُ، أو أخوه عتق الشقص. وهل تَحْصُلُ السِّرَايَةُ -فيه وجهان: ¬
أحدهما: نعم؛ لقصده التملك بالقبول (¬1) والأقرب لا لأن [بقبوله يدخل] (¬2) الشقص في ملك المُوَرّثِ، ثم ينتقل إليه بالإرث (¬3) ولو أوصى لزيد (¬4) بشقص ممن يعتق عليه، فلا يعتق على وارثه، كما لو أوصى به بشقص من ابنه أو بشقص من أمه ووارثه أخوه من الأَبِ فمات وَقَبِلَ الوَصِيَّةَ أَخُوهُ؛ عتق ذلك الشقص على الميت، ويسري إن كان له تركة يفي ثلثها بقيمة الباقي لأن قَبُولَ وارثه، كقبوله في الحياة. قال الإِمَامُ: هكذا ذكره الأَصْحَابُ، وفيه وقفة؛ لأَنَّ القَبُولَ حصل من غير اختياره. فرع: لو باع عبداً مِنِ ابن ذلك العبد ومِنْ أَجْنَبِيٍّ صَفْقَةً وَاحِدَةً عتق نصيب الابن وَقُوّمَ عَلَيْهِ نَصِيب الشَّرِيكِ. وعن أَبِي حَنِيْفَةَ: لا يَضْمَنُ الأَجْنَبِيُّ شيئاً؛ لأن مِلْكَهُ لم يتم إلاَّ بِقبُولِ شَرِيكِهِ، وكأنه أَذِنَ له في إعتاق نصيبه -حكاه ابْنُ الصَّبَّاغِ .. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الثَّالِثُ) أَلاَّ يَتَعَلَّقَ بِمَحَلِّ السِّرَايَةِ حَقٌ لاَزِمٌ، فَإِنْ كَانَ تَعَلَّقَ بِهِ رَهْنٌ أَوْ كِتَابَةٌ أَوْ تَدْبيرٌ أَوِ اسْتِيلادٌ فَفِي الكُلِّ خِلاَفٌ، وَالاسْتِيلاَدُ أَوْلاَهَا بِالمَنْعِ، وَالتَّدْبِيرُ أَضْعَفُهَا. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا كَاتَبَا عَبْداً، ثم أعْتَقَهُ أَحَدُهمَا فالصحيح المشهور أنه سرى، ويقوم (¬5) نصيب الشريك عليه، وهل يقوم في الحال أو بعد العَجْزِ عن أداء نصيب الشريك، فيه اختلاف قول، يُذْكَرُ في الْكِتَابَةِ بتفاريعه وعن صاحب "التَّقْرِيب" رِوَايَةُ وَجْهٍ أو قَوْلٍ: أَنَّه [لا] (¬6) يَسْرِي إذ لا سبيل إلى إبطال الكتابة، كما لا سبيل إلى فَسْخِهَا، ولأن السِّرَايَةَ تتضمن النقل إلى المُعتقِ والمُكَاتِبِ لا يُقْبَلُ النَّقْلُ. الثَّالِثَةُ: إذا أعتق أَحَدُ الشريكين نَصِيبَهُ، ونصيب صاحبه مدبر. هل يقوم عليه نصيب الشَّرِيكِ؟ فيه قَوْلاَنِ: أَقْوَاهُمَا: نَعَمْ؛ لأن المدبر كالقن في جواز البيع، فكذلك في التقويم. والثَّانِي: لا؛ لأن التَّقْوِيمَ وَالسِّرَايَةَ لتكامل عتق العبد، وقد يثبت للمدبر سبب الحرية [فيجعل] (¬7) التَكَامُلُ به، وأيضاً فَلِئَلاَّ يبطل على الشريك قربةٌ مهّد سَبِيلِهَا. قَالَ الإِمَامُ: هذا شديد الشَّبَهِ عِنْدِي بِمَا إِذَا دَبَّرَتِ المَرْأَةُ العبد المصدق، ثم طلقها ¬
الزَّوْجُ قبل الدخول. ثم إن قلنا: لا يَسْرِي فلو رجع السيد عن التَّدْبِيرِ فهل يسري حينئذ؟ قال أَكْثَرَهُمُ: لا -كما لو أعتق وهو معسر ثم أيسر. وعن رواية الشيخ أَبِي مُحَمَّدٍ رِوَايَةُ وَجْهٍ: أَنَّهُ يُسرى؛ لأنَّ منع السِّرَايَةَ كان على توقع العتق لموجب التدبير، وقد بطل ذلك التوقع، وعلى هذا فيحكم بالسِّرَايَةِ عند ارْتِفَاعِ التَّدْبِيرِ أم بتبين استنادها إلى وقت الإعتاق؟ فيه وجهان. الرَّابِعَةُ: إذا أعتق نصيبه، وقد ثبت حكم الاسْتيلاَدِ في نصيب الآخر بأن كان الآخر قد اسْتَوْلَدَهَا وهو مُعْسِرٌ، فهل يسري الإعتاق؟ حَكَى صَاحِبُ الْكِتَاب وَالإِمَامُ فيه اختلاف وجه، الأَصَحُّ: المنع؛ لأن السِّرَايَةَ تَتَضَمَّنُ النَّقْلَ، وأم الولد لا تقبل النقل من مالك إلى مالك، وقد يوجه الآخر: بأن الإعتاق وسِرَايَتَهُ ينزل مَنْزِلَةَ الإِتْلاَفِ وَإِتْلاَفُ أم الولد يوجب القِيمَةَ. ولو اسْتَوْلَدَهَا أحدهما، وهو معسر ووقف الاسْتِيلاَدُ ثم اسْتَوْلَدَهَا الثاني أيضاً، وثبت حكم الاسْتِيلاَدِ في نصيبه، ثم أعتقها أَحَدَهُمَا وهو مُوسِرٌ ففي السِّرَايَةِ ما ذكرنا، فإذا جعلنا هذه الأمور مانعة من السِّرَايَةِ انْتَظَمَ أن يُقَالَ: شرط السِّرَايَةِ ألا يَتَعَلَّقَ بِمَحَلِّهَا حَقٌّ لازم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الرَّابعُ): أن يَتَمَكَّنَ العِتْقُ مِنْ نَصِيبِهِ أَوَّلاً، فَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ نَصِيبَ شَرِيكِي لَغَا قَوْلُهُ، وَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ نِصْفَ هَذَا العَبْدِ فَيُعْتَقُ جَمِيعُ نِصْفِهِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: بِعْتُ هَذَا العَبْدَ فَيُنْزَلُ عَلَى نِصْفٍ شَائِعٍ لِيَبْطُلَ فِي البَعْضِ أَوْ يُخَصَّصُ بِنَصِيبِهِ فِيهِ وَجْهَانِ، وَكَذَا فِي الإِقْرَارِ، وَالأَوْلَى تَخْصِيصُ البَيْعِ بِنَصِيبِهِ وَإِشَاعَةُ الإِقْرَارِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يُشْتَرَطُ في السِّرَايَةِ: أن يوجه المُعْتِقُ الإعْتَاقَ على ما يملكه من العبد؛ ليتمكن العتق في نصيبه أولاً ثم يسري وذلك بأن يَقُولَ: أعتقت نصيبي من هذا العبد، أو النِّصْفَ الذي أَمْلِكُهُ، فلو قال: أَعْتَقْتُ نصيبَ شريكي، أو نصيبُ شريكي من هذا العبد حر، فهو (¬1) لَغْوٌ لا يؤثر في نصيب الشريك، ولا في نصيبه، وإن أَطْلَقَ وقال للعبد وهو يَمْلِكُ نصفه: أَعْتَقْتُ نِصْفَكَ، فعلام يحمل؟ -فيه وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: على النصف الذي يملكه، فإن الإنسان إنما يَعْتِقُ ما يملكه. والثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي اللَّفْظُ على إطلاقه ويُحْمَلُ على النصف شائعاً؛ لأنه لا ¬
يُخَصِّصُهُ بملك نفسه، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يعتقُ جميع العبد إذا كان موسراً. أما على التَّقْدِيرِ الأوَّلِ فَيعتقُ نَصِيبُهُ الذي يملكه، ثم يَسْرِي، وأَمَّا على الثاني، فلأنه يعتق نصيب نصفه (¬1) وهو رُبْعُ العبد، ثم يسري إلى باقي نصيبه ثم [يسري] (¬2) إلى نصيب الشريك. قال الإِمَامُ: ولا يكاد يظهر لهذا الخلاف فائدة، إلاَّ أن يَفْرِضَ تعليق طلاق أو إعتاق بأن يقول: "إن أعتقت نصفي في هذا العبد فامْرَأَتِي طَالِقٌ"، فإذا قلنا نِصْفُكَ حُرٌّ وقلنا بالوجه الأول؛ يقع الطلاق وإن قلنا بالثاني لا يقع، وإذا باع نصف العبد المُشْتَرَكِ بينه وبين غيره على المناصفة بِأَنْ قَالَ: بِعْتُ النصف الذي أملكه من هذا العبد، أو نصيبي منه، وهما يَعْلَمَانِ قَدْرَهُ؛ فلا إِشْكَالَ، وإن أَطْلَقَ وقال: بِعْتُ نصفه فوجهان: أَحَدُهُمَا: تَنْصَرِفُ اللَّفْظَةُ إلى ما يملكه، فإن الذي يقدم على بيعه ما يملكه. والثَّانِي: يقع شائعاً لإِطْلاَقِ اللَّفْظِ؛ فعلى هذا يكون بَائِعاً لنصف نصيب الشريك، فلا يَصِحُّ البيع فيه، ولنصف نصيبه فيكون على تفريق الصَّفْقَةِ. ولو أَقَرَّ لإنسان بنصف العبد المشترك، ففيه هذان الوجهان، فإن قلنا بالأول فقد أَقَرَّ بنصف المعروف به، وإن قلنا بالثاني، فقد أَقَرَّ بنِصْفِ نَصِيب نَفْسِهِ ونصف نصيب [شريكه] (¬3). وقال أَبُو حَنِيْفَةَ: يُحْمَلُ النِّصْفُ المُطْلَقُ في البيع على ما يملكه؛ لأن الظاهر أن الإنسان لا يَبِيعُ ما لا يملكه، وفي الإقرار على الإِشَاعَةِ؛ لأن الإقرار إخبار، ولا يمنع أن يُخْبِرَ أن ما في يد زَيْدٍ مِلْكُ عَمْرٍو وَاسْتَحْسَنَ الإِمَامُ هذا الفرق، وبه أَجَابَ صَاحِبُ الكتاب فقال: "والأولى تخصيص البيع بنصيبه، وإِشَاعَةُ الإقرار" وفي "التَّهْذِيب" أن الأصح في البيع أيضاً الحمل على الإِشَاعَةِ (¬4)، والله أعلم. فَرْعَانِ: مِنَ اَلمُوَلَّدَاتِ: أحدهما: إذا قال أحد الشريكين للعبد: إذا دخلت دار كذا، فأنت حر، أو فنصيبي منك حر، وقال للآخر مِثْلَ ذلك، فإذا دخلها عتق على كل واحد منهما نصيبه، ولا تَقْوِيمَ؛ لِأَنَّ النصيبين عتقا دُفْعَةً واحدة وإنما يُقَوَّمُ، إذا تقدم إِعْتَاقُ أحدهما, ولا ¬
فرق بين أن يكونا موسِرَيْن أو مُعْسِرَيْنِ أو أحدهما موسراً، والآخر معسراً، وكذا لو قال أحد الشريكين للعبد: إذا كَلَّمْتَ فلاناً فنصيبي منك حُرٌّ وقال للآخر: إذا شَتَمْتَهُ فنصيبي منك حر فَشَتَمَهُ؛ يعتقان معاً. وكذا الحكم لو وَكَّلاَ رَجُلاً بالإِعْتَاق فَأَعْتَقَ كله دفعة واحدة، ولا أثر لوقوع التعليقين أو التوكيلين في وقتين مختلفين، وإنما العبرة (¬1) بوقت الوقوع؛ ألا ترى أنه لو قال لامْرَأَتِهِ قبل الدخول: إذا دَخَلْتِ الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً ثم قال بعد ذلك: إِذَا دَخَلْتِهَا، فأنت طالقٌ طلقتين فإذا دخلتها؛ تطلق ثلاثاً كما لو قال: فأنت طالق ثلاثاً. الثاني: إذا قال أَحَدُ الشريكين للعبد المُشْتَرَكِ: أنْتَ حُرٌّ قبل موتي بشهر [ونجز] (¬2) الآخر عتقه بعده بيوم مثلاً فله أحوال: إِحْدَاهَا: أن يموت المُعَلّقُ لما دون شهر من وقت التعليق؛ فَيَعْتَقُ العَبْدُ كُلُّهُ على الثاني المنجز إن كان موسراً؛ لأنه لا يمكن، والحالة هذه أن يعتق بالتَّعْلِيقِ؛ لأنه لو عتقَ بالتعليق؛ لعتق عتقاً مُتَقَدِّماً على الموت بشهر ولو عتق هكذا؛ لعتق قبل التعليق، وكذا الحكم لو مات بعد مضي شهرين من أول شروعه في لفظ التعليق بلا زيادة، وما لم يَمْضِ شهر من وقت تمام التعليق لا يمكن أن يعتق بالتعليق. الثَّانِيَةُ: إذا مات لأكثر من شهر (¬3) من وقت التعليق بأيام؛ يُعتقُ جَمِيعُهُ على الثاني أيضاً؛ لأن العتق بالتعليق يتقدم على الموت بشهر لا يَنْعَطِفُ أكثر من ذلك، وإعتاق المُنْجِزِ يتقدم على الشهر المتقدم على الموت فيؤخذ قيمته نصيب المعلق من المنجز، ويُدْفَعُ إلى ورثة المُعَلِّق. هذا إذا قلنا: السِّرَايَةُ تحصل بالإعتاق، أو قلنا بالتبيين، وإن قلنا: إنها تحصل عند أداء القيمة، فإذا سَبَقَ وقت العتق بالتعليق أداء القيمة؛ كان في نفوذ العتق عن المعلق وجهان. على ما سنذكره في تفريع أقوال السِّرَايَةِ. الثالثة: إذا مات على رأس شهر من تمام صِيغَةِ التَّعْلِيقِ فيعتق جميع العبد على الأول؛ لتقدم ترتب العتق بالتَّعْلِيقِ على التنجيز. الرَّابِعَةَ: إذا مات على رَأْسِ شهر من تمام كلام المنجز؛ فيعتق على كل واحد منهما نصيبه، ولا تقويم لوقوع العِتْقَيْنِ معاً. قَالَ الْغَزَالِيُّ: ثُمَّ إِذَا وُجِدَتِ الشُّرُوطُ فَتَتَعَجَّلُ السِّرَايَةُ عَلَى قَوْلٍ، وَيتَوَقَّفُ عَلَى أَدَاءِ القِيمَةِ عَلَى قَوْلٍ، وَعِنْدَ الأَدَاءِ يَتَبَيَّنُ إِسْنَادُ العتْقِ عَلَى قَوْلٍ وَيَنْبَنِي عَلَى الأَقْوَالِ مَسَائِلُ: ¬
(الأُوْلَى) فِي تَعْجِيلِ تَسْرِيَةِ الاسْتِيَلادِ تَجْرِي فِيهِ الأَقْوَالُ، وَالعِتْقُ أَوْلَى بِالتَّعْجِيلِ لِأَنَّهُ تَنْجِيزٌ، وَقِيلَ: عَكْسُهُ لِأَنَّ الاسْتِيلاَدَ فِعْلِيٌّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: متى تَثْبُتُ السِّرَايَةُ حيث يحكم بها فيه ثلاثة أَقْوَالٍ: أَصَحُّهَا -وبه أَجَابَ في "اختلاف الحديث"، و"اختلاف العِرَاقِيِّينَ" و"كتاب الوَصَايَا" أنها تثبت بنفس إعتاق الشريك، وبه قال أَحْمَدُ؛ لما روى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ وَكَانَ لَهُ مَالٌ فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ" (¬1). وَيُرْوَى: "فَهُوَ حُرٌّ كُلُّهُ" وَيُرْوَى "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكاً لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ قِيمَةَ الْعَبْدِ فَهُوَ عَتِيقٌ" (¬2) ولأن يساره بقيمة الباقي أقيم مقام كون الباقي له في اقْتِضَاءِ السِّرَايَةِ فيحصل بنفس اللفظ كما لو أَعْتَقَ بعَضَ عبده، ولأن الباقي مُقَوَّمٌ عليه على ما مر في الخبر، والتقويم عليه يُشْعِرُ بِحُصُولِ الاتلاف. والثاني: ويحكى عن القديم وغيره وبه قال مَالِكٌ: أن السِّرَايَةَ لا تحصل إلاَّ إِذَا أَدَّى قيمة نصيب الشريك؛ لأن التقويم لإزالة الضرر عن العبد والشريك، وفي إزالة ملك الشريك قبل حصول العوض إِضْرَارٌ به، فإنَّه قد يَفُوتُهُ بِهَرَبٍ وغيره، والضَّرَرُ لا يزال بالضَّرَرِ ولذلك نقول: يتوقف التملك بالشُّفْعَةِ على تسليم العوض. والثَّالِثُ: أنا نَتَوَقَّفُ فإن (¬3) أَدَّى القيمة؛ بَانَ حصول العتق من وقت اللفظ وإن فَاتَ؛ تَبَيَّنَّا أنه لم يُعْتَقْ، وَوُجِّهَ بِأَنَّ الحكم بالعتق يَضُرُّ بالسيد [والتأخير] (¬4) إلى أداء القيمة يضر بالعبد، والتَّوَقُّفُ أقرب إلى العدل، ورعاية الجانبين، وهذا القول فيما ذكر بعضهم مَخْرَجٌ للأصحاب. والأكثرون قالوا: هو منصوص في البويطي وَحَرْمَلَةَ، ويجوز أن يعلم لما بينا قوله في الكتاب: "فَتَتَعَجَّلُ السِّرَايَةُ" بالميم. وقوله: "وَيتَوَقَّفُ عَلَى أَدَاءِ القِيمَةِ" بِالأَلِفِ وقوله: "ويتبين إسناد العتق". بهما جميعاً. وَاعْلَمْ أنه ساعد المُزَنِيَّ على اختيار القول الأول مُعْظَمُ اَلأَصْحَاب -رحمهم الله تعالى- لكن ضَايَقُوه في التوجيه والتعليل على دَأَبِهِمْ مَعَهُ، وأكثر ما احتجَّ به من الوجوه يصلح للترجيح ولم أُطَوِّلْ بِحِكَايَتِهَا فيتعلق بالأقوال، وَيتَفَرَّعُ عليها مسائل مذكورة في ¬
الكتاب وغير (¬1) مذكورة، ونقدم ما في الكتاب. فمنها: إذا أولد أحد الشريكين الجارية المُشْتَرَكَةَ منهما بالسوية، فإن كان مُوسِراً سَرَى الاسْتِيلاَدُ كالعتق، وسرى بنفس العلوق أو عند أداء القيمة أو يَتَبَيَّنُ بأدائها حصول السِّرَاية عند العلوق، فيه الأقوال المذكورة في العتق. وهل بين العتق والاسْتِيلاَدِ تَرَتُّبٌ أَم يَسْتَوِيَانِ؟ وبتقرير الترتيب فَالعِتْقُ بِالسِّرَايَةِ أَوْلَى، أو الاستيلاد؟ فيه الاخْتِلاَفُ المذكور في الرَّهْن، وعلى الأقوال يجب على المُسْتَوْلِدِ نِصْفُ المهر للشريك مع نصف فيمة الجارية. ثم إن قلنا: بحصول المِلْكِ بأداء القيمة؛ فيجب مع ذلك قسط نصيب الشريك من الولد. وإن قلنا: يحصل بِالْعُلُوقِ أو قلنا: بالتَّبْيِين فقد حكى الإمَامُ خلافاً للأصحاب في أنه يثبت بعد العتق أو قبله إن قلنا بعده؛ وجب نصف قيمة الولَد أيضاً، وإن قلنا قَبْلَهُ لم يجب، وهذا ما أجاب به في "التَّهْذِيبِ" (¬2) ولو وَطِئَهَا الثاني قبل أداء القيمة؛ فإن أَثْبَتْنَا السِّرَايَةَ بنفس العلوق فعلى الثاني كَمَالُ المهر للأول، وللثاني على الأول نِصْفُهُ فيقع نصف المهر للتقاص (¬3) وإن قلنا: يحصلى عند أداء القيمة؛ فعليه نصف المهر وله على الأول نصفه، فيقع في التقاص إن كان الذي أَوْلَدَ مُعْسِراً ثبت الاسْتِيلاَدُ في نصفه، ونصف الآخر قن ويكون الولد حرًا كله، أو يَتَبَعَّضُ فيه الرق والحرية. فيه وجهان أو قولان، والصُّورَةُ مذكورة في الكتاب مشروحة في أحكام الْغَنَائِمِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الثَّانِيَةُ): عَبْدٌ بَيْنَ ثَلاثَةٍ لِأَحَدِهِمْ ثُلُثُهُ وَلِلآخَرِ سُدُسُهُ فَأَعْتَقَا وَسَرَى رُؤُوسِهِمَا فَالقِيمَةُ لِلسِّرَايَةِ عَلَى عَدَدِ أَوْ عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِمَا فِيهِ قَوْلاَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: عَبْدٌ بين ثلاثة -لِأَحَدِهِمْ نصفه وللآخر ثلثه والثالث سُدُسُهُ، فأعتق أحدهم نصيبه وهو مُوسِرٌ يسري العتق إلى نصيب الشريكين؛ وإن كان مُوسِراً ببعض ¬
قيمة الباقي، وقلنا بالصحيح قُوِّمَ عليه بنسبة المقدور عليه من نصيب كل واحد منهما، فإذا كان مُوسِرَاً بِثُلُثِ الباقي قُوِّمَ عليه ثُلُث نصيب كل واحد منهما. ولو أَعْتَقَ اثْنَانِ مِنْهُم نَصِيبَهُمَا معاً أو علقا بشرط واحد، أو وَكَّلاَ رجلاً بالإعتاق عنهما فأعتق نصيبهما دَفْعَةً وَاحِدَةً، فإن كان أَحَدُهُمَا مُوسِراً قُوِّمَ عليه نصيب الثالث، وإن كانا مُوسِرَيْنِ قُوِّمَ نصيب الثالث عليهما. وكيف يقوم عليهما؟ فيه طريقان: أحدهما: أن فيه قولين: أحدهما: أنه يجعل القيمة عليهما بالسَّوِيَّةِ. والثاني: أنها تجعل عليهما على قدر المِلْكَينِ فإذا أعتق صاحب النصف وصاحب السدس، غُرِمَ صاحب النصف ثلاثة أَرْبَاعِ قيمة الثلث، وصاحب السدس ربعها. قال في "النِّهَايَةِ". والقولان مبنيان (¬1) على أن الشُّفْعَةِ على عدد الرؤوس أو على قدر الأَنْصِبَاءِ. والثاني: القطع بأَنَّها على عدد الرؤوس بخلاف الشُّفْعَةِ على أحد القولين، وفرق بينهما: بأن الأخذ بالشُّفْعَةِ من فوائد الملك، ومرافقة، فيكون على قدر الملك كالثمرة والنتاج والقيمة الواجبة هاهنا سبيلها سبيل ضمان المتلفات، وفي ضَمَانِ الإِتْلافَاتِ لا يفرق الحال بين أن تقل الجِنَايَةُ أَوْ تَكْثُرُ؛ أَلاَ تَرَى أنه لو جرح واحد جراحة، والآخر جراحات فمات المجروح منها تكون الدِيَّةُ عَلَيْهِمَا بِالسَّوِيَّةِ. وهذه الطريقة أظهر باتفاق فرق الأصحاب لكن الإِمام ارْتَضَى طَرِيقَةَ القولين وهي التي أَوْرَدَهَا صاحب الكتاب، وعن مالك روايتين كالقولين. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الثَّالِثَةُ): إِذَا حَكَمْنَا بِتَأَخُّرِ السِّرَايَةِ فَيَجِبُ أَقْصَى قِيمَتِهِ مِنْ يَوْمِ الإِعْتَاقِ إِلَى يَوْمِ الأَدَاءِ، وَقِيلَ بَلْ يُعْتَبَرُ يَوْمُ الأَدَاءِ، وَقِيلَ بَلْ يَوْمُ الإِعْتَاقِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ القِيمَةِ فَالقَوْلُ الصَّحِيحُ أَنَّ القَوْلَ قَوْلُ الغَارِمِ إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ الغَارِمُ نَقِيصَةً طَارِيَةً فَيُخَرَّجُ عَلَى قَوْلَيْ تَقَابُلِ الأَصْلَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إن قلنا: السِّرَايَةُ تحصل بنفس الإِعْتَاقِ أو قلنا [بالتبيين] (¬2)؛ فتعتبر قيمة يوم الإعتاق، وإن قلنا بتأخرها إلى الأداء فقد حكى الإِمَامُ وَصَاحِب الكتاب وُجُوهَاً: أَحَدُهَا: أن المُعْتَبَرَ قيمة يوم الأداء؛ لأَنَّ التَّلَفَ يَحْصُلُ يومئذ. ¬
والثاني: يَعْتَبِرُ يَوْمَ الإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ الحَجْرَ عَلَى المالك يَحْصُلُ يومئذ. وَالثَّالِثُ: أنه يُعْتَبِرُ أَقْصَى القيم من يوم الإعتاق إلى يوم الأداء؛ لِأَنَّ الإِعْتَاقَ سَبَبٌ يدوم أَثَرَهُ إلى التلف، فيكون بمثابة [جراح] (¬1) العبد ومن جَرَحَ عبداً ثم مَاتَ بعد مدة؛ يعتبر أقصى القيم من يوم الجرح إلى يوم الموت، وكذا إذا غصب عبداً وتلف في يده أقصى القيم لأنا ننزل (¬2) الغصب منزلة التسبب إلى التلف وهذا ما رَآهُ الإِمَامُ الصواب وَنَظْمُ الْكِتَابِ يَقْتَضِي تَرْجِيحُه؛ لكن الذي أورده أكثرهم [قيمة يوم الإِعْتَاقِ] (¬3) وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ الإِعْتَاقَ. هو السبب المُوجِبُ للتقويم، فإن تَأَخَّرَ التقويم فهو كاَلمفوضة يجب لها مهر المثل بالدخول، باعتبار يَوْم الْعَقْدِ؛ لأن الْبِضْعَ دخل في ضَمَانِهِ يَؤمَئِذٍ، وعلى أن في المفوضة وجهاً آخر: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ يَوْمَ الإصابة. ولو اختلفا في قيمة العبد فَقَالَ المعتقُ: قِيمَتُهُ مائة وقال الشَّرِيكُ: بل مائتان، فإِن كان العبد حاضرًا والعهد قريب فُصِلَ الأمر بِمراجعة المُقَوِّمِين، وإن مات العبد أو غَابَ أو تَقَادَمَ العهد فمن المصدق منهما باليمين. فيه قولان: أَصحُّهُمَا -وهو اختيار المُزَنِيُّ: العتق (¬4) - لِأَنَّهُ الْغَارِمُ وهذا كما أنه إذا اختلف الغاصب والمالك في قيمة المغصوب بعد تلفه يُصَدَّقُ الغَاصِبُ. والثاني: أن المصدق -الشريك؛ لأن المعتق يتملك عليه قهراً، فيصدق المتملك عليه كما إذا اختلف الشفيع مع المشتري في الثمن المأخوذ به يصدق المشتري وَعَلاَمَ يبني القولان؟ قال أكثرهم: هما مبنيان على أن السِّرَايَةَ تتعجل بِاللَّفْظِ، أو تتأخر إلى أداء القيمة، إن قلنا: تتعجل فالمصدق المعتق؛ لأنه غَارِمٌ وإن قلنا: يتأخر فالمصدق الشريك؛ لأن ملكه باقٍ فلا يُنْتَزَعُ إلاَّ بما يقوله، كما في المُشْتَرِي مع الشفيع. وعن الْقَفَّالِ: أن القولين جاريان سواء قلنا: بتعجل السِّرَايَة أو تأخرها، وهما كما نص الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- فيمن اشْتَرَى عبدين ومات أحدهما عنده ووجد بالآخر عيباً، وقلنا: إن له أن يفرده بالرد ويسترد حِصَّتَهُ من الثمن، [فلو اختلفا في قيمة العبد ليعرف حصة المردود من، الثمن] فقد ذكر قولين: أحدهما: أن المصدق البائع-؛ لأنه يملك (¬5) جَمِيعَ الثمن، والآن يحتاج إلى الرد فهو غَارِمٌ. والثاني: أن المصدق المشتري؛ لأن البائع يدعى عليه أنك تملكت العبد التالف ¬
بِثُلُثِي الثَّمَنِ مثلاً وهو يقول: تملكته بالنصف. قال الصَّيْدَلاَنِيُّ: وفائدة الطريقتين في الأب إذا استولد جَارَية ابنه؛ فإن بنينا القولين على أَنَّ السِّرَايَةَ متى تحصل، وهناك (¬1) المصدق في قيمة الجارية الأب؛ لأنه ليس هناك قول أنَّ الاسْتِيَلادَ يتوقف على أداء القيمة، وإن لم يبن علي ذلك الأصل فهاهنا أيضاً قولان: أحدهما: يصدَّقُ الأب؛ لأنه غَارِمٌ. والثاني: الابن -إذ الأصل ألاَّ يستحق إلاَّ بما يزعم، ولو اختلفا في صِفَةٍ في العبد تَزيد بها القيمة، وهما متفقان على قيمته، لو لم توجد تلك الصفة. مِثْلُ: أن يَدَّعِي الشريك أنه كان خبازاً وأنكر المعتق، فإن كان العبد حاضراً، وهو يحسن الصَّنْعَةَ ولم يَمْضِ من الزمان بعد الإِعْتَاقِ ما يمكن تعلمها فيه؛ فَيُصَدَّقُ الشَّرِيكِ. وإن مضى من الزمان ما يمكن التعلم فيه، أو كان العبد غائباً أو ميتاً فَطَرِيقَانِ: أحدهما: أن في المصدق منهما قَوْلاَنِ؛ لأنهما مختلفان في قدر القيمة كما في الصورة السابقة: وَأَصَحُّهُمَا -وبه قال أَبُو إِسْحَاقَ: الْقَوْلُ قول المعتق؛ لأن الأصل عدم الصفة التي يدعيها الشريك [وبراءة ذمته عن الزيادة التي يدعيها الشريك] (¬2) وَلاَ يُقْبَلُ قول العبد على الشريك: إني لست بِخَبَّازٍ؛ لأنه قد يكتم الصَّنْعَةَ ولا على المعتق أني أحسنها بل يجرب، ولو اختلفا في عيب بالعبد [ينقص القيمة] (¬3)؛ يُنْظَرُ إِنِ ادَّعى المعتق عيباً في أصل الخلقة بأن قال: كان أَكْمَهَ أو أَخْرَسَ. وقال الشريك: بل كان بصيراً ناطقاً، وقد غاب العبد أو مات فَيُصَدَّقُ المُعْتِقُ بيمينه؛ لأن الأصل براءة ذِمَّتِهِ، والأصل عَدَمُ ما يدعيه الشريك، ومنهم من يجعله (¬4) على قولين، كما إذا اختلفا في مقدار القيمة مطلقاً، والظاهر الأول لكن خَصَّصَهُ في "التَّهْذِيبِ" بما إذا ادَّعَى [النقصية] (¬5) في الأعضاء الظاهرة أما إذا ادعاها في الأعضاء الباطنة، فهو على القولين فيما إذا ادعى حدوث العيب بعد أصل السَّلاَمَةِ، والفرق أن في الأعضاء الظاهرة يتمكن الشريك من إثبات السلامة، وإن ادعى حدوث عيب بعد السلامة: بأن زعم ذِهَابَ بَصَرِهِ، أو كونه آبِقَاً أو سَارِقاً فَقَوْلاَنِ: أحدهما: أنه يُصَدَّقُ اَلمُعْتِقُ؛ لأَنَّ الأصل بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: [على] (¬6) ما ذكره الرَّوْيَانِيُّ، و"صاحب التَّهْذِيبِ": أن المصدق ¬
الشريك لأن الأصل عدم حدوث العيب، وعن المَاسَرْجَسِيِّ: بناء القولين على أن السِّرَايَةَ تتعجل أو تتأخر إن تعجلت صدق المعتق؛ لأنه غارم وإلاَّ فلا وقد سبق مثله، وخصص بعضهم القولين بما يشاهد، ويطلع عليه وقطع فيما لا يشاهد بتصديق الشريك لِعُسْرِ إِثْبَاتِهِ بالبينة. وقوله في الكِتَابِ: "فَيخرج على قولي تقابل الأصلين" المقصود منه ما بينه الإِمام وصاحب الكتاب فِي "الْوَسِيطِ": وهو أنه ليس المعنى تقابل الأصلين نفارهما بحيث يستحيل الترجيح؛ لأن التعارض المحقق؛ يقتضي سقوط القولين ولا بد من الفتوى بأحدهما، وتَخيِيرِ المعْنَى بين مُتَنَاقِضَيْنِ لا وجه له. ولكن يُطْلَبُ التَّرْجِيحُ من وجه آخر، سوى استصحاب الأصول، فإن لم يظهر وَجَبَ التَّوَقُّفُ إلى أن يظهر. نعم خُصِّصَتِ المَسَائِلُ التي يتدانى فيها مأخذان، ويتقابل أصلان بحيث يَدِقُّ فيها الترجيح بهذا اللَّقَبِ وذلك كوجوب فطرة العبد المنقطع خبره، فالأصل بَرَاءَةُ اَلذِّمَّةِ من جانب وبقاء الحياة من جانب، وكما في دعوى حدوث العيب في الفصل [بأن] (¬1) الأصل عدم الحدوث من جانب، وبراءة الذمة من جانب، فإن لم يسلم الغَارِمُ أصل السلامة خرجت الصورة عن قالب التقابل. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الرَّابِعَةُ): إِنْ مَاتَ المُعْتِقُ قَبْلَ الأَدَاءِ عَلَى قَوْلِ التَّوَقُّفِ فَالقِيمَةُ فِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ مَاتَ العَبْدُ فَفِي سُقُوطِ القِيمَةِ وَجْهَانِ، وَلاَ يَنْفُذُ بَيْعُ الشَّرِيكِ قَبْلَ الأَدَاءِ، وَفِي إِعْتَاقِهِ وَجْهَانِ، وَمَهْمَا أَعْسَرَ المُعْتِقُ قَبْلَ الأَدَاءِ ارْتَفَعَ الحَجْرُ عَنِ الشَّرِيكِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصل جُمْلَتَانِ: إحداهما: إذا مات الْمُعْتِقَ قبل أداء القيمة؛ أُخِذَتْ مِنْ تَرِكَتِهِ أما إذا قلنا بتعجيل (¬2) السِّرَايَةِ، أو قلنا بالتبيين فظاهر، وأما إذا أَخَّرْنَاهَا إلى أداء القيمة فلأن الإعتاق وجد في الحياة، وصار عِتْقُ نصيب الشريك مستحقاً به، وذلك مما يُوجِبُ القيمة، وقد يُوجَدُ سَبَبُ الضَّمَانِ في الحياة، ويتأخر الوجوب عنها، كمن حفر بئراً في محل عدوان، وتردى فيها بَهِيمَةٌ أو إنسان بعد موته، وإِنْ أُعْسِرَ بَعْدَ الإِعْتَاقِ وَمَاتَ مُعْسِراً [فإن أثبتنا] (¬3) السِّرَايَةَ بنفس الإعتاق، فالقيمة في ذِمَّتِهِ، وإن قلنا بالقولين الآخرين لم يعتق نصيب الشريك ذكره في "التَّهْذِيبِ". وقوله في الكتاب: "ولو مات المعتق قبل الأداء على قول التوقف" لم يرد به ¬
التوقف في الحكم إلى أن يوجد الأداء أو لا يوجد، ولكن أراد توقف العتق على أداء القيمة كمن ذكر في التعبير عن الأقوال فيقال: ويتوقف على أداء القيمة على قول، ثم إن الحكم المذكور وهو أن القيمة في تركته لا يختصُّ [بهذا] (¬1) القول بل هو على سائر الأقوال أظهر وإنما خصه بالذكر؛ لأنه موضع الشبهة. ولو مات العبد قبل أداء القيمة فإن قلنا السراية تحصل بالإعتاق مات حراً موروثاً منه فيؤخذ قيمة نصيب الشريك، وإن قلنا بالتبيين وقف إلى أداء القيمة، فإذا أديت فإن الأمر كذلك، وإن قلنا تأخر السراية إلى وقت الأداء فوجهان: أظهرهما: أنها تسقط؛ لأن وجوب القيمة ليحصل العتق والميت لا يعتق. والثاني: المنع؛ لأنه مال استحق في الحياة فلا يسقط بالموت. وذكر الإِمام على هذا أنه يجب على المعتق قيمة نصيب شريكه ثم يتبين أن العتق حصل قبيل موته وهو يضاهي مذهب أبي حنيفة في أن المكاتب إذا خلف وفاءً يؤدى النجوم منه. وفي "التهذيب" تفريعاً على تأخر السراية أنه يموت نصفه رقيقاً ثم ذكر الوجهين في أن للشريك أن يطالبه بقيمة نصيبه وهذا بعيد. الجملة الثانية: إذا أعتق الشربك نصيبه قبل أخذ القيمة لم ينفذ أثبتنا السراية في الحال وإن أخرناها إلى أداء القيمة فوجهان: أحدهما: لا ينفذ أيضاً؛ لأن المعتق استحق أن يملكه بالقيمة ليعتق عليه ويكون ولاءه له ولا يكون صرف العتق عن المستحق لغيره كما أن المستولدة لما صارت مستحقة العتق على السيد لم يجز صرف عتقها إلى غيره. والثاني: وبه قال أبو حنيفة والإصطخري، وأبو علي بن خيران، وابن أبي هريرة -رحمهم الله- أنه ينفذ لمصادفته الملك، وأيضاً فلان المقصود تكميل العتق والتكميل يحصل به ويغني عن القيمة، وهذا أظهر عند الصيدلاني والأول أظهر عند معظم الأصحاب، فإن قلنا ينفذ الإعتاق فعن القاضي الحُسين: إن في البيع والهبة ونحوهما وجهين، وهو المذكور في الكتاب المنع، وعن الشيخ أبي محمد: القطع به، وإذا قلنا بنفوذ البيع فهل للشريك أن يشفع البيع بالنقض فيبذل القيمة كما [ينقض] (¬2) الشفيع بيع المشتري فيه احتمال للإمام. وللشريك مطالبة المعتق بقيمة نصيبه على الأقوال جميعها، أما على غير قول التأخير فظاهر وأما على قول التأخير فلأنه محجور ممنوع من التصرف والحيلولة من ¬
أسباب [الضمان] (¬1). قال الإِمام: ويلزم على قولنا بنفوذ البيع ونحوه ألا يملك مطالبته به وأن يكون المعتق مختاراً في بذل القيمة كالشفيع في بذل الثمن وهو ضعيف وإذا دفع المعتق القيمة أجبر الشريك على قبولها إن وقفنا العتق على أدائها وإذ لم يدفع المعتق ولا طلب الشريك فللعبد طلب الدفع من هذا والقبض من هذا، فإن امتنع فللحاكم مطالبتهما؛ لأن العتق متعلق حق الله تعالى فإن كان الشريك غائباً فيدفع القيمة إلى وكيله فإن لم يكن له وكيل جعله القاضي عند أمين، وله أن يقرها في يد المعتق إذا كان أميناً. وإذا تعذرت القيمة لإفلاس أو هرب ففي كلام الصيدلاني والروياني وحكاه الإِمام عن الشيخ أبي علي: أنه يبقى نصيب الشريك رقيقاً ويرتفع الحجر عنه؛ إذ لا وجه لتعطيل ملكه عليه من غير بدل، وللإمام قدس الله روحه فيه احتمال؛ لأن علته العتق فيثبت ويلزم، وأقام هذا الاحتمال في "الوسيط وجهاً" فقال: "الصحيح أن اعتبار العتق يرفع الحجر" وما حكينا عن "صاحب التهذيب": أنه أعسر المعتق ومات معسراً يشعر بالجواب بذلك الوجه فإنه لم يكتف بالإعسار بل اعتبر الموت ولو عاد اليسار قال الشيخ أبو علي يعود التقويم؛ لأن حَقَّ آلْعِتْق قد ارتفع بِتَحَلُّلِ الإِعْسَارِ، وفيه احتمال أيضاً للإمام. فَرْعٌ: إذا قلنا: لا تحصل السِّرَايَةُ قبل أداء القيمة، فلو وَطِئَ الشَّرِيكُ الجَارِيَةَ قبل الأداء؛ وجب نصف المهر لنصفها الحر. قال الإمَامُ: وَلْيَقَعِ الغَرَضُ في وَطْئٍ مُحْتَرَمٍ أو فيما إذا كانت مُكْرَهَةَ مَضْبُوطَةً، وفي النصف الآخر وجهان عن رواية "صاحب التَّقْريبِ": أَظهَرُهُمَا: أنه لا يلزم لمصادفته ملكه. والثاني: يَلْزَمُ ويصرف إلى الشريك المعتق؛ لأن المِلْكَ إن كان للواطئ فهو مُسْتَحِقُّ الإنْقِلاَبِ إليه وهذا الوجه ذكر فيما إذا باع جارية بشرط خيار، وقلنا: إن المِلْكَ للبائع فَوُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ ثُمَّ لَمْ يفْسَخِ الْعَقْد أن المهر للمشتري نظراً إلى المال. قال الإِمَامُ: ويجوز أن يقال تَفْرِيعاً على الوجه الثاني، أنه يكون للجارية؛ لأن مصيرها إلى العتق بتقدير الانقلاب إلى المعتق، وينبغي أن لا ينجز إلزامه بل يتبين عند [عدم] (¬2) السِّرَايَةِ، حتى لو ماتت الجارية، وقلنا لا سرَايَةَ بعد الموت، فلا يوجب نصف المهر، كتَبين اسْتِمْرَارِ الملك له، وإن قلنا تحصل السِّرَايَةُ بنفس الإعتاق؛ فيجب جميع المهر لها ولا حدَّ للاختلاف في ملكه والله أعلم (¬3). ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الخَامِسَةُ): إِذَا قَالَ: مَهْمَا أَعْتَقْتَ نَصِيبَكَ فَنَصِيبِي حُرٌّ فَأَعْتَقَ المَقُولُ لَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ عُتِقَ كُلُّهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ السِّرَايَةَ أَقْوَى مِنَ التَّعْلِيقِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِراً نَفَذَ عَلَى المُعَلِّقِ، وَإِنْ قَالَ: فَنَصِيبِي قَبْلَهُ حُرٌّ فَهُوَ دَوْرٌ وَيَمْتَنِعُ عَلَى المَقُولِ لَهُ عِنْدَ مَنْ يبْطِلُ الدَّوْرَ اللَّفْظِيَّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال أحد الشريكين للآخر: إذا أَعْتَقْتَ نصيبك؛ فنصيبي حُرٌّ أو قال: فجميع العبد حر [أو قال] (¬1): فنصيبي حر بعد عتق نصيبك، فإذا أعتق المقول له نصيبه نُظِرَ، إن كان معسراً عتق على كل واحد منهما نصيبه على المقول له بالتنجيز، وعلى المعلق [بمقتضى العتق] (¬2) فإن كان مُوسِراً عُتِقَ نصيبه عليه ثم إن قلنا السِّرَايَةُ تحصل بنفس الإعتاق عتقَ الكُلُّ عليه ولزمته قيمة نصيب الشريك، ووجه ذلك بأن السِّرَايَةَ أقوى من العتق بالتعليق؛ لأن السِّرَايَةَ قَهْرِيَّةٌ متابعة لِعِتْقِ النَّصِيب، لا مَدْفَعَ لها فكان المِلْك الذي تَتَضَمَّنُهُ السِّرَايَة مُخْتَطَفٌ مُنْتَزَعٌ مِنَ الْبَيْنِ وموجب التعَليق قابل للدفع بالبيع ونحوه، وإن قلنا بالتبيين، فكذلك الحكم إذا أَدَّيْتَ القيمة وإن قلنا بتأخر السِّرَايَةِ إلى أداء القيمة فنصيب المعلق عمن يعتق؟ فيه وجهان: أحدهما: عن المعلق لوجود الصفة ونصيبه في ملكه. والثاني: عن المعتق وعليه قيمته، وبنى ذلك على الخلاف في أنه إذا أَعْتَقَ أحد الشريكين نصيبه. هل يَنْفُذُ إِعْتَاقُ الآخر قبل أداء القيمة؛ تفريعاً على هذا القول، إن قلنا: نعم. عُتِقَ نَصِيبُ المعلق عنه، وإن قلنا لا -عتق على المَقُولِ لَهُ إذا أَدَّى القيمة. ولو قال: إذا أَعْتَقْتَ نصيبك فنصيبي حُرٌّ مع عتق نصيبك، أو في حال عِتْقِ نصيبك فوجهان مع التفريع على أن السِّرَايَةَ تحصل بنفس الإعتاق: أحدهما: وبه قال ابْنُ القَاصِّ وَصَاحِبُ "التَّقْرِيب": أنه يُعْتَقُ جميع العبد عليهما. نِصْفُهُ عن المعتق بالإعتاق، ونِصْفُهُ عن المُعَلِّقِ بوجَود الصفة، ولا شيء على المُعْتِقِ وذلك أن اعتبار المَعِيَّةِ يَمْنَعُ السِّرَايَةَ وهذا ما اختاره الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وحكاه الرَّويَانِيُّ عن عامة الأصحاب -رحمهم الله-. والثاني -وبه قال القَفَّالُ: أَنَّه يُعْتَقُ الجميع على المَقُولِ لَهُ أيضاً، ولا أثر لقوله: مع نصيبك، فإن المُعَلِّقَ لا يقارن المعلَّق عليه، بل يَتَأَخَّرُ عنه لا مَحَالَةَ، وهذا ما أورده الشيخ أَبُو عَلَيٍّ في شَرْحِ الفروع، وألحقه. بما حَكَى عن ابن سُرَيْجٍ أَنَّهُ: لو قال لعبده سَالِمٍ: أنت حر في حال عِتْقِ غَانِمٍ أو قال: مهما أَعْتَقْتُ غَانِماً فأنت حر مع عتقه، ثم ¬
أعتق غانماً في مَرَضِ الموت، وَالثُّلُثُ لا يفي إلاَّ بأحدهما، لا يُقْرَعُ بينهما بل يتعين غانم للعتق؛ لأن عِتْقَ سَالِمٍ مَشْرُوطٌ بعتقه، فلا يُؤْخَذُ دُونَهُ، وهذه المسألة قد مَرَّتْ في "الوصايا" من غير تَعَرُّضِ المعلق لِلمَعِيَّةِ وذكرنا وجهاً: أنه يُقْرعُ بينهما والوجهان المذكوران فيما إذا قال: فنصيبي حُرٌّ مع نصيبك يجريان هاهنا أيضاً، وبناهما الإمَامُ على أنه إذا أَعْتَقَ عبيداً في مرض موته؛ لا مال له غيرهم وَرَدَّ الإعْتَاقَ إلى الثُّلُثِ، فكيف تقدر [أنقول] (¬1): ثبت الإعتاق في الزائد على الثلث، ثم أبطلَ أو نقول يَتَبَيَّنُ في العصر في الثلث أَنَّهُ لم يثبت في غيره. فيه قولان يجريان في كل وَصِيَّةٍ زَائِدَةٍ على الثلث، فإن قلنا يَثْبُتُ العتق في الجميع ثم أبطل فَيُقْرَعُ بينهما، ويجعل كأنه أَعْتَقَ العبدين، وإذا خرجت القُرْعَةُ على سالم عتق؛ لأنه [قد] (¬2) ثبت عِتْقُ غَانِمٍ وتحققت الصفة ثم رُدّ، وإن قلنا يتبين أنه لم ينفذ فلو أَقْرَعَ وخرجت القرعة لسالم؛ لزم ألاَّ يعتق غانم؛ لأن القرعة لم تخرج له، إِلاَّ بعتق سالم؛ لأن شرط عِتْقِهِ عِتقُ غَانِمٍ، وكيف يجوز أن يعتق عبدين يخرج أحدهما من الثلث ولا يعتق واحد منهما؛ فلذلك تَعَيَّن عِتْقُ غَانِمٍ، ولو قال: إذا أعتقت نَصِيبَكَ؛ فنصيبي حُرٌّ قبل عتق نصيبك فَأَعْتَقَ المَقُولَ [له] (¬3) نصيبه نُظِرَ إن كانا مُعْسَرَيْنِ أو كان المُعَلِّقُ معْسِراً عَتِقَ نصيب المُنْحز، ونصيب المُعَلَّقِ يعتق عليه قبل ذلك بموجب التعليق، ولا سِّرَايَةَ، وإن كان القائل المعلق موسراً، قولنا السِّرَايَةُ تَحصُلُ بنفس الإعتاق ففيه وجهان: من صَحَّحَ الدَّوْرَ اللَّفْظِيَّ كابْنِ الحَدَّادِ يقول: لا يَنْفُذُ إعتاق المقول له في نصيبه؛ لأنه لو نَفَذَ لعتق نصيب القائل قبله، ولو عتق لَسَرَى وَلَوْ سَرَى لَبَطَل عِتْقُهُ؛ فيلزم من نفوذ عتقه (¬4) عدم نفوذه، وعلى هذا فلو قال السَّيِّدُ لعبده: مهما أعتقتك فأنت حر [مثله] (¬5) لم يتمكن من إعتاقه كما سبق نظيره في "الطلاق"، ولو صدر هذا التعليق من الجانبين امْتَنَعَ الإِعْتَاق عليهما. ولو قال أحدهما للآخر: مهما بِعْتُ نصيبك فنصيبي حر قبله: لم ينفذ البيع. والمستبعدون لصحة الدور وَانْسِدَادِ بَابِ الطَّلاَقِ وَنَحْوِهِ أولى بالاستبعاد هاهنا لتَضَمُّنِهِ الحَجْرَ على (¬6) الغير (¬7)، وَمَنْ لاَ يُصَحِّحُ الدَّوْرَ، وهو الأظهر يقول: بِعِتْقِ نَصِيبِ كل واحد منهما عنه، ولا شيء لأحدهما على الآخر كما لو قال: مع نصيبك وإن قلنا: ¬
إِنَّ العِتْقَ (¬1) بأداء القيمة فإن نَفَّذْنَا قَبْلَهُ على المعلق، وإن لم ننفذه. قال الإِمَامُ: تدور المسألة أيضاً؛ لأنه إذا أعتق نصيب المعلق أولاً؛ صادف إعتاق الثاني من هو مُسْتَحِقُّ العِتْقِ الأَوَّلِ، فلا ينفذ، وإذا لم ينفذ لا يعتق نصيب المعلق؛ لأنه مشروط به، وفي هذه الصور جميعاً لو أعتق المعلق نصيبه، عتق وتثبت السِّرَايَةُ إذا وجد شرطها. والله أعلم (¬2). قَالَ الْغَزَالِيُّ: (السَّادِسَةُ) لَوْ قَالَ: أَعْتَقْتَ نَصِيبَكَ وَأَنْتَ مُوسِرٌ فَأَنْكَرَ عِتْقَ نَصِيبُ المُدَّعِي مَجَّاناً وَلَهُ أن يُحَلِّفَهُ، فَإِنْ نَكَلَ اسْتَحَقَّ باليَمِيْنِ المَرْدُودَةِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ وَلَمْ يُعْتَقْ نَصِيبُ المُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ وَاحِدٌ: إِنْ كَانَ الطَّائِرُ غُرَاباً فَنَصِيبِي حُرٌّ وَقَالَ الآخَرُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ فَنَصِيبِي حُرٌّ لَمْ يُعْتَق شَيْءٌ لِلشَّكِّ، فَإِنِ اشْتَرَى العَبْدَ ثَالِثٌ حُكِمَ بِحُرِّيَّةِ النِّصْفِ فِي يَدِهِ لِلْيَقِين وَلَمْ يَكن لَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا رُجُوعٌ بِالثَّمَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا ادعى أحد الشريكين على الآخر، وهو مُوسِرٌ أنك أعتقت [نصيبك] (¬3) وعليك قيمة نصيبي؛ فأنكره نُظِرَ؛ إن كان للمدعي بَيِّنَةٌ؛ حَكَمَ بِمُقْتَضَاهَا وَمَتَى يعتق نصيب المدعي، فيه الأقوال، وإذا لم تكن بينة فالمصدق المنكر مع يمينه، فَإِنْ حَلَفَ رَقَّ نصيبه، وإن نَكَلَ حلف المدعي اليمين المردودة واستحق القيمة. والصحيح: أنه لا يُحْكَمُ بِعِتقِ نصيب المدعى عليه؛ لأن الدَّعْوَى إنما توجهت عليه؛ بسبب القيمة، إلا فلا معنى للدعوى على الإنسان [أنه] (¬4) أعتق عبده وإنما ذلك من وظيفة العبد، نعم. لَوْ شَهِدَ هذا المدعي مع آخر ثبت العتق بشهادة الحِسْبَةِ. قال الإِمَامُ: وأبعد [بعض] (¬5) من لا خبرة له وقضى بالعتق في نصيب المدعى عليه بيمين الرد تبعاً لدعوى انقيمة، وهل يُحْكَمُ بِعِتْقِ نَصِيبِ المُدَّعِي إذا حَلَفَ المُدَّعَى عليه لو نَكَلَ، وحلف المُدَّعِي إن قلنا: إن السِّرَايَةَ تُتَعَجَّلُ فَنَعَمْ. لإِعْتِرَافِهِ بِسِرَايَةِ إعتاق المُدَّعَى عَلَيْهِ إلى نصيبه، وإن قلنا بالتأخير؛ لم يعتق وإذا عُتِقَ نصيبه فلا يسرى إلى نصيب المُنْكِرِ وإن كان المُدَّعِي موسراً؛ لأنه لم [ينشئ] (¬6) العتق فَأَشْبَه ما إذا ادَّعَى أحد الشريكين على رجل أنك اشتريت نصيبي، وأعتقته، وأنكر المُدَّعَى عَلَيْهِ يعتق نصيب المدعي، ولا يَسْرِي، وَوُجِّهَ أيضاً: بأن نصيبه عتق لا باختياره بل نصيبه لقوله: أعتقت نصيبك فصار كما لو وُرِثَ بعض من يعتق عليه، يعتق ما ورثه، ولا يسري وإن ¬
قلنا: لا يُعْتَقُ إلاَّ بعد أداء القيمة لم يعتق نصيب المُدَّعِي بقوله: أَعْتَقْتُ نَصِيبَكَ وَإِنْ صَدَّقَ المُدَّعَى عليه الشريك [فلا] (¬1) إشكال، وإن كان المُدَّعَى عَلَيْهِ مُعْسِراً، وَأَنْكَرَ وحلف لم يعتق شيء من العبد، فإن اشترى المُدَّعِي نصيب شريكه بعد ذلك؛ عُتِقَ مَا اشْتَرَاهُ؛ لإقراره بأنه أعتقه ولا يَسْرِي إلى الباقي. أما إذا ادعى كل واحد من الشريكين [الموسرين] (¬2) على صاحبه أنك أعتقت نصيبك، وطالبه بالقيمة وأنكر صاحبه؛ فكل واحد منهما يَصْدُقُ بيمينه فيما أنكره، فإذا حلفا فلا مطالبة (¬3) بالقيمة، ويحكم بعتق جميع العبد إن قلنا بتعجيل السِّرَايَةِ؛ لاعتراف كل واحد منهما بِسِرَايَةِ العتق إلى نصيبه والولاء موقوف بينهما، لا يَدَّعِيهِ هذا ولا ذاك وإن قلنا: بِتَأَخُّرِ السِّرَايَةِ أو بالتوقف، والتبيين؛ فالعبد رقيق، وإن كانا مُعْسِرَيْنِ وقال كل واحد منهما للآخر: قد أَعْتَقْتُ نَصِيبَكَ لم يعتق منه شيء، فإن اشترى أحدهما نصيب الآخر حُكِمَ بِعِتْقِ ما اشتراه لاعترافه بأن شريكه أعتقه ولا يسري؛ لأنه لم يُنْشِيء إعتاقاً وذكر في "التَّهْذِيبِ": إنه لو باع أحدهما من زَيْدٍ والآخر من عَمْرو؛ صح ولا عتق، ولو باعا من رجل واحَد حُكِمَ بِعِتْقِ نِصْفِهِ؛ لأن عتق أحد النصفين يَقِينٌ وقد جمعهما مِلْك وَاحِدٍ وهذا لا يتبين له وجه، ولا يقين في واحد من النصفين لجواز كونهما كاذبين، وموضع هذا الكلام: مَسْأَلَةُ الْغُرَاب على ما سنذكرها على الأثر ولا أدري -أوقع الخلل في النسخة أم كيف الحال؟ وإن كَان أحدهما مُوسِراً والآخر معسراً أُعْتِقَ نَصِيبَ المَعْسِرِ على قول تعجيل السِّرَايَةِ؛ لأن إقراره يتضمن السِّرَايَةَ إلى نصيبه، وولاؤه موقوف ولا يعتق نصيب المُوسِرِ فإن اشتراه المُعْسِرُ عتق كُلُّهُ، ولو طار طائر فقال أحد الشريكين: إن كان هذا الطائر غُرَاباً فنصيبي من هذا العبد حر وقال الآخر: إن لم يكن غُرَاباً فنصيبي منه حر، ولم يتبين الحال فإن كانا مُعْسِرَيْنِ لم يحكم بعتق نصيب واحد منهما، كما لو جرى التعليقان من شخصين في عبدين أو زوجتين لكن لو اشترى أحدهما نصيب الآخر حُكِمَ بعِتْقِ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ؛ لأنه قد جمعهما مِلْكٌ وَاحِدٌ وَأَحَدُ النِّصْفَيْن حر بِيَقِينٍ، وفي حق الشخصين استصحبنا يقين الملك في حتى كل واحد، وطرحنا الشَّكَّ ولو باعا النصفين من ثالث فكذلك يحْكَمُ بِعِتْقِ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ، ولا رجوع له على واحد منهما، لأن كل واحد منهما يزعم أن نصيبه مملوك، هذا هو الأصح، والمذكور في الكتاب، وبه قال الْقَفَّالُ وحكى الشيخ أَبُو عَلِيٍّ: عن بعض الأصحاب: أنه إن أَقْدَمَ على الشِّرَاءِ وهو عالم بالتعليقين؛ فلا رجوع له، وإن لم يعلم ثُمَّ بَانَ لَهُ الحال؛ فله الرد كما لو اشترى عبداً ثم بَانَ نِصْفُهُ حُرٌّ وعلى هذا فيرد العَبْدَ كُلَّهُ؛ لأن أحد نصفيه حر، والآخر ¬
قِسْطٌ مِمَّنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وفي ذلك نقصان وعيب قال الشَّيْخُ: ولو اختلف قدر النصيبين؛ لم يحكم إلاَّ بِعِتقِ أقلهما ولو تبادلا (¬1) النصيبين، فإن لم يحنث واحد منهما صاحبه، واعترفا بِالإِشْكَالِ فلا يحكم على واحد منهما بعتق شيء والحكم بَعْدَ المبادلة كالحكم قبلها، وإن حنث واحد منهما الآخَرَ؛ حُكِمَ بعتق الكل؛ لأن كل واحد يزعم أن نصيب الآخر قد عتق ثم اشتراه، وكان كمن أقر بحرية عبد في يد غيره ثم اشتراه يحكم بعتقه بإقراره السابق، ويكون وَلاَؤُه موقوفاً؛ لأن كُلَّ واحد منهما يقول: لم يعتق عليّ منه شيء وإنما عتق نصيب صاحبي. وإن حَنَّثَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ولم يُحَنِّثْهُ صَاحِبُهُ؛ حكم بعتق ما صار لِلْمُحْنِثِ وولاؤه موقوف، ولا يحكم بعتق النصيب الآخر، وإن كانا موسرين فإن قلنا: تَتَعَجَّلُ السِّرَايَة عتقَ الْعَبْدُ؛ لأَنَّا نَتَحَقَّقُ حَنَثَ أحدهما وإن لم نتمكن من التعيين فيعتق نصيبه ويسري إلى الباقي، والولاء موقوف، ولكل واحد منهما أن يدعي قيمة نصيبه على الآخر ويحلفه على الْبَتِّ أنه لم يَحْنَثْ وإن قلنا: لا تَحْصُلُ السِّرَايَةُ إلاَّ عند أداء القيمة، فلا يحكم بعتق شيء منه على واحد منهما والحكم كما في المُعْسِرَيْنِ. قال الشَّيْخُ أَبُو عَلِيِّ: فَإِنِ ادَّعَى كُلُّ واحد منهما على صاحبه أنه أعتق نصيبه، وأراد طلب القيمة حلّفه على ما ذكرنا، وإن كان أحدهما موسراً والآخر معسراً فإن قُلْنَا بِتَعْجِيلِ السِّرَايَةِ عتق نَصِيبُ المُعْسِرِ بكل حال؛ لأنه إِمَّا حَانِثٌ أو صاحبه حانث، والعتق سَارٍ إليه ولا يعتق نصيب الشريك الموسر للشك وإن [أخرناهما] (¬2) إلى أداء القيمة لم نحكم بعتق واحد من النصيبين في الحال، وللمعسر أن يدعي التقويم على الموسر ويحلفه. فرعان: من القبيل الذي نحن فيه من "المُوَلَّدَاتِ": أحدهما: إذا قال أحد الشريكين: أَعْتَقْنَا الْعَبْدَ معاً وأنكر الآخر فإن كانا موسرين أو كان القائل (¬3) موسراً فقد أطلق ابْنُ الحَدَّادِ أنه يحلف المنكر وجرى على إطلاقه جَمَاعَةٌ. وقال الشيخ: إنما يحلف عندي إذا قال المقر: أنت أعتقت نصيبك [وأنا لم] (¬4) أعتق وأراد طلب القيمة فيحلف أنه لم يعتق معه؛ ليأخذ القيمة فإن المقر أقر بما يوجب القيمة وادعى معه ما يسقطها وهو المُوَافَقَةُ فِي الإِعْتَاقِ فيدفع يمينه المسقط (¬5)، فأما إذا قال: لم تَعْتِق نصيبك ولا أنا أَعْتَقْتُ فَلاَ مُطَالَبَةَ بالقيمة ولا يحتاج إلى اليمين ويحكم بعتق جَمِيعِ الْعَبْدِ بإقرار الشريك المُوسِرِ إن أَثْبَتْنَا السِّرَايَة بنفس الإِعْتَاقِ، وإن أخرنا إلى ¬
أداء القيمة؛ فلا يُعْتَقُ نصيب المنكر وليس يدعى قيمة بأحدها، وإذا حلف المنكر في التَّصْوِيرِ المذكور؛ أخذ القيمة من المقر ويحكم بعتق جميع العبد، وَوَلاَءُ نصيب الشريك موقوف فلو مات المُعْتِقُ ولا وارث له سوى السيد المقر؛ أَخَذَ نِصْفَ مَالِهِ بالولاء على نصفه وهل له أن يأخذ من النصف الآخر قدر نصف القيمة الذي غرمه للمنكر؟ فيه وجهان: أحدهما: نَعَمْ -لأَنَّه إن صدق في قوله أعتق شريكي معي [فالشريك] (¬1) ظالم يأخذ القيمة، والنصف الآخر له، وقد ظَفَرَ بِمَالِ مَنْ ظَلَمَهُ وإن كذب وكان مقراً (¬2) بإعتاقه فجميع المال له بالولاء على جميعه. والثاني: لا -لاختلاف الجِهَةِ فإنه يزعم الأخذ من جهة أنه مال ظالمه والشريك ينكره، وهو يَزْعُمُ أنه له بالولاء وهو ينكره والاختلاف في الجهة يمنع الأخذ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ. وإن رجع المُنْكِرُ عن إنكاره وصَدَقَ المُقِرُّ رَدَّ ما أخذه (¬3) من القيمة، وإن رجع المُقِرُّ واعترف بأنه أعتقه قبل وكان جميع الولاء له وقد يقال: أنه قد أَقَرَّ بأنه لا ولاء له على النصف (¬4) فكيف يُقْبَلُ رجوعه عنه؟ والجواب: أن الولاء يَلُو النَّسَب، ولو [نفى] (¬5) وَلَداً بِاللَّعَانِ ثم استلحقه ورجع قُبِلَ؛ فكذلك الولاء. والثاني: عَبد بين ثلاثة -شهد اثنان من مالكيه أن الثالث أَعْتَقَ نصيبه. فالثالث: إما مُعْسِرٌ أو مُوسِرٌ. إن كان مُعْسِراً قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وحكم بعتق نصيب المشهود عليه، وَيَرِقُّ الباقي، وإن كان موسراً فالأظهر وبه أجاب ابْنُ الحَدَّادِ أن شهادتهم باطلة؛ لأنهما [يجران] (¬6) نفعاً إلى أنفسهما بِإِثْبَاتِ القيمة عليه، فلا يعتق [نصيبه] (¬7) ولا يلزمه القيمة لنصيبهما ويعتق نصيبهما لاعترافهما بِسِرَايَةِ العتق. وعن بعض الأصحاب: أنه تُقْبَلُ شَهَادَتهمَا في عتق نصيبه وإنما ترد في إلزام القيمة الذي هو منشأ التهمة، والحكم بعتق نصيبهما على الأول مفرع على أن السِّرَايَةَ تتعجل، أَمَّا إذا توقفت على أداء القيمة فلا يعتق شيء من العبد، ولكن يَنْفَدُ تَصَرُّفُهُمَا فيه؛ لإقرارهما بأن نصيبهما مستحق [العتق] (¬8) على الشريك. هكذا حكاه الشيخ أَبُو عَلِيٍّ عن بعض الأصحاب وصححه، ويجوز أن يقال: قَدْ مَرَّ أَنَّ تَعَذُّرَ حُصُولِ القيمة ¬
بِالإِعْسَارِ وغيره يرفع الحجر من الشريك [والتعذر] (¬1) حاصل هاهنا. هذه فروع أُخَر تَتَعَلَّقُ بِالسِّرَايَةِ: الأول: إن قلنا السِّرَايَةُ تحصل بنفس الإعتاق؛ فله حكم الأحرار في الميراث والشهادات والحدود والجنايات، وإن لم يؤد القيمة، وإن أخرناها إلى أداء القيمة؛ فله حكم الْأَرِقَّاءِ فيها حتى يؤدي، وَإِنْ تَوَقَّفْنَا تَوَقَّفْنَا في هذه الأحكام أيضاً. الثاني: عن "الأُمِّ": أن العبد المُشْتَرَكَ إذا أعطى أحد مالكيه خمسين ديناراً لِعِتْقِ نَصِيبِهِ مِنْهُ فَأَعْتَقَهُ يرجع الشريك عليه بنصف الخمسين وبنصف قيمة العبد، وَيَرْجِعُ المعتق على العبد بخمسة وعشرين. قال ابْنُ الصَّبَّاغِ: وينبغي أن يكون هذا فيما إذا لم يقع العتق على عين الخمسين، وإنما سموه خمسين، ثم دفعها عليه، وإلاَّ فإذا وقع العِتْقُ على العين يجب أن يكون الرجوع بقيمة ما أعتق بالعوض المستحق قال: ويحتمل أن يريد ما إذا كانت قيمة العبد خمسين فَيَسْتَوِي العوض والقيمة، ولو كان المعتق قد قال: إن سلمت لي هذه (¬2) الخمسون فأنت حر لم يُعْتَقْ؛ لأنها لم تسلم له. الثالث: لو أعتق شركاً له في جارية [حبلى] وَهُوَ مُوسِرٌ ولم تقوم عليه حتى ولدت؛ عتق مَعَهَا وَلَدُهَا تفريعاً على أن العتق يسري في الحال، فأما إذا أخرنا السِّرَايَةَ إلى دفع القيمة فَعَنْ نَصِّهِ: أنه ينبغي ألاَّ يعتق الولد معها؛ لأنه إنما يُعْتَقُ بعِتْقِهَا إذا كان حملاً. فَأَمَّا بعد الوِلاَدَةِ فلا. قال القاضي أَبُو حَامِدٍ: معناه: أن نصيب اَلذي لم يُعْتَقْ من الولد مملوك، فأما نصيب المعتق فيجب أن يعتق. قال ابْنُ الصَّبَّاغِ: عندي أنه أراد أن نصيب الذي لم يعتق من الولد، لا يعتق بدفع قيمة نصيبه من الجارية، وَعَتَقَهَا؛ لِأنَّهُ لا يتبعها بعد الوضع. وإلا فقد عتق من الولد نصيب المعتق، وهو موسر فيجب أن يسرى. الرابع: وَكَّلَ أحد الشريكين [الآخر] (¬3) في عتق نصيبه، فقال الوَكِيلُ لِلْعَبْدِ: أَعْتَقْتُ نصفك. فإن قال: أَرَدْتُ نَصِيبِي قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ وإن قال: أردت نصيب شريكي قُوِّمَ عَلَى الشَّرِيكِ نَصِيبُهُ، وإن أطلق فيعتق عن المُوَكَّلِ؛ لأنه أعتق بعد أمره بالإعتاق، أو عن الوكيل؛ لأن إعتاقه عن نفسه يستغني عن النية، وحكى في "الشَّامِلِ" وجهين، ولهذا التفات (¬4) إلى أن النصف المطلق يحمل على ملكه أو يشيع (¬5). ¬
الخامس: على (¬1) طريقة الصَّيْدَلاَنِيِّ: أنه إذا كان للمريض نصفاً عبدين مُتَسَاوِيَي الْقِيمَةِ ولا مال له غيرهما فقال: "أعتقت نَصِيبِي مِنْ سَالِمٍ ومن غَانِمٍ" وقلنا: تَحْصُلُ السِّرَايَةُ بنفس اللَّفْظِ يعتق ثُلُثَا نصيبه من سالم وهو ثلث ماله ولا يعتق من الآخر شيء. ولو قال: نصيبي من هذين حُرٌّ عتق ثلثا نصيبه من أحدهما فَيَقْرَعُ بَيْنَهُمَا فمن خرجت له القرعة؛ عتق ثلثا (¬2) نصيبه منه، وهو ثُلُثُهُ وإن كان نصفا العبدين ثلث ماله فقال أعتقت نصيبي من سالم ومن غانم عتق سَالِمٌ بالمباشرة والسِّرَايَة ولا يعتق من الآخر شيء. ولو قال: نصيبي منهما حر عتق النصفان وَلاَ سِرَايَةَ. السادس: اشْتَرَى أَمَتَهُ حَامِلاً من الزوج زوجها وَابْن لَهَا حُرٌّ [معها] (¬3) وهما مُوسِرَانِ فالحكم كما ذكرنا فيما لو أوصى مَالِكُهَا بوصية لهما. وقَبِلاَ الوصية معاً، وقد ذكرناه في "الوَصَايَا"، ومُخْتَصَره أن الأمة تُعْتَقُ على الابن، والحمل يعتق عَلَيْهِمَا ولا يقوّم. السابع: شَهِدَ شاهدان على زَيْدٍ بأنه أَعْتَقَ نصيبه من العبد المشترك (¬4) وهو مُوسِرٌ، وحكم القاضي بشهادتهما ثم رجعا فشهادتهما تثبت عتق نصيبه، وتوجب عليه قيمة نصيب شريكه، فَيَغْرَمَانِ بالرجوع قيمة نصيبه لا مَحَالَةَ؛ لأن شهود العتق يَغْرَمُونَ إذا رجعوا، وهل يَغْرَمَانِ له قيمة نصيب الشريك التي غَرِمَهَا؟ فيه قولان -لأن في وُجُوبِ الْغُرْمِ على شهود المال اختلاف قول سبق في موضعه. واعْتَرَضَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فقال: إنهما لم يشهدا (¬5) على المال مقصوداً، ولكن تضمنته الشهادة، وكما تضمنت المال تضمنت إِعْتَاقَ نصيب الشريك، فإن اقتضى تضمنها إثبات المال التخريج على القولين اقْتَضَى تَضَمُّنُهَا الإِعْتَاقَ [للجزم] (¬6) بوجوب الْغُرْمِ ثم الجواب الذي تقدم فيما إذا ساعد الشريك الشهودَ، وأخذ القيمة وَعَتَقَ جميع العبد إما بنفس الإعتاق، أو عند أَخْذِ الْقِيمَةِ، فَأمَّا إذا أَكْذَبَهُمْ وَقَالَ: لم يَعْتِقْ زَيْدٌ نَصِيبَهُ فإن قلنا: تَتَعَجَّلُ السِّرَايَةُ عَتِقَ الْكُلُّ ولا يلزمه للشريك شيء، وإن قلنا تتأخر إلى أداء القيمة: قال الشيخ أَبُو عَلِيٍّ: يجبر على أخذ القيمة [ليكمل] (¬7) العتق، ثم يَلْزَمُهُ رَدُّ ما أَخَذَ إِن كان مُصِراً على تكذيب الشهود، وكما لو جاء المُكَاتِبُ بالنجم الأخير فقال السيد هذا حَرَامٌ غصبته من فلان يجبر على أخذه ثم يرده على من أَقَرَّ له. ولو شهد شاهدان على أحد الشريكين بأنه أعتق نصيبه وآخران على الشريك الثاني ¬
(الخاصية الثانية:) عتق القرابة
بأنه أعتق نصيبه وهما مُوسِرَان فإن أُرِّخَتِ البَيِّنَتَانِ عتق الكل على الأول وإنْ أَثْبَتْنَا السِّرَايَةَ في الحال، وعليه قيمة نصيب الآخر، وإن أَخَّرْنَا إلى أداء القيمة؛ فعلى الخلاف في أن إِعْتَاقَ الثاني قبل أداء القيمة هل يَنْفُذُ؛ إن قلنا لا، وهو الأَظْهَرُ أخذت قيمة نصيبه من الأول ليعتق. وإن لم يُؤَرِّخَا عتق الْعَبْدُ كُلُّهُ, ولا تقويم؛ لأنا لا نعلم هل سبق أحدهما الآخر, وبتقدير السبق لا يعلم السابق, فلو رجع الشاهدان على أحد الشريكين شهادتهما لم [يغرما] (¬1) شيئاً؛ لأنا لا ندري أن العتق في النصف الذي شهد به حَصَلَ بِشَهَادَتِهِمَا أو بشهادة الآخرين بالسِّرَايَةِ فلا توجب شيئاً بالشك وإن رَجَعُوا جميعاً فوجهان: أحدهما: أن الجواب كذلك، لقيام الاحتمال في الطريقين. وأظهرهما: أنهم يَغْرَمُونَ قِيمَةَ العبد؛ لأنه إذا لم يَكُنْ تَارِيخ فَالحُكْمُ [بعتق] (¬2) ألْعَبْدِ يتعلَّق بشهادة أَرْبَعَتِهِم ويقدر كأن [الإعتاقين] (¬3) وقعا معاً، والفرع من "المولدات" -رحم الله من ولدها. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الخَاصِّيَّةُ الثَّانِيَةُ:) عِتْقُ القَرَابَةِ: وَمَنْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ أَحَدُ أَبْعَاضِهِ أَعْنِي أُصُولَهُ وَفُرُوعَهُ عُتِقَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهلِ التَّبَرُّعِ سَوَاءٌ دَخَلَ قَهْراً بِالإِرْثِ أَوِ اخْتِيَاراً بِالعَقْدِ، فَلاَ يَعْتِقُ مِنْ عَدَا الأَبْعَاضِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مَنْ مَلَكَ أَبَاهُ أَوْ أُمُّه أو أحد أصوله من الأجداد والجدات، أو ملك واحداً من أَوْلاَدِهِ وأولاد أولاده (¬4) عتق عليه، رُوِيَ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيهُ فَيَعْتِقَهُ" (¬5) يعني بالشراء، وفهم من قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] الآية. ومن قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] أن الوِلاَدَةَ والعبودية لا يجتمعان ولا فرق بين أن يدخل في مُلْكِهِ قهراً بِالْإِرْثِ أو اختياراً بعقد إما بعوض كالشراء، أو لا بعوض كالهِبَةِ، والوصية، وَفَرْقٌ بين عتق القريب وبين السِّرَايَةِ، حيث لم تَثْبُتِ السِّرَيَةَ إلاَّ عند الاختيار، بأن ¬
العتق صلة وإكرام (¬1) للقريب، فلا يَسْتَدْعِي الاختيار، وَالسِّرَايَةُ تُوجِبُ التَّغْرِيمَ والمُؤاخذة، وإنما يليق ذلك بحال الاختيار، وَلاَ يَعْتِقُ غَيْرَ الأَبْعَاضِ مع الأصول والفروع. وقال أَبُو حَنِيْفَةَ وَأَحْمَدَ -رحمهما الله-: يُعْتَقُ كل ذي رحم محرم بالمِلْكِ كالأخ، وابن الأخ، والعم والخال، وَأَلْحَقَ مَالِكٌ الأخوة وَالأخَوَاتِ بالوالدين والمولودين، وَسَلَّمَ أبُو حَنِيْفَةَ أن المُكَاتِبَ إذا مَلَكَ أخاه، لم يُكَاتِبْ عَلَيْهِ، فقال الأصحاب -رحمهم الله-: قريب لا يُكَاتِبُ عَلَى المُكَاتِب فلا يعتق على الحُرِّ كَبَنِي الْأَعْمَامِ. وَلْيُعْلَمْ لما تَبَيَّنَ قوله في الكتاب: "ولا يعتق من عدا الأَبْعَاضِ" بِالحَاءِ والميم والألف. وقوله: "إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ" قصد به الاحتراز عن الصبي والدين يذكرهم في الفصل التالي لهذا الفصل. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلاَ يَشْتَرِي الطِّفْلُ قَرِيْبَهُ وَلَكِنْ يَتَّهِبُ الوَليُّ لَهُ إِذَا لَمْ يَكُن بِحَيْثُ تَجِبُ النَّفَقَةُ فِي الحَالِ، وَإِنْ قَبِلَ لَهُ هِبَةَ نِصْفِ قَرِيْبةِ لَمْ يَصِحّ حَذَراً مِنَ السِّرَايَةِ، وَقِيلَ: يَصِحُّ وَلاَ يَسْرِي، وَالمَرِيضُ إِذَا اشْتَرَى قَرِيبَهُ عُتِقَ إِنْ وَفَّى بِهِ ثُلُثَهُ وَإِلاَّ لَمْ يُعْتَقْ، وَإِنْ مَلَكَة بِإِرْثٍ أَوْ هِبَةٍ فَيُحْسَبُ مِنْ رَأْسِ المَالِ أَوِ الثُّلُثِ فِيهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ قُلْنَا: مِنْ رَأْسِ المَالِ عُتِقَ عَلَى المَحْجُورِ المُفْلِسِ أَيْضاً وَالمَدْيُونِ وَالمَرِيْضِ، وَلَوِ اشْتَرَاهُ بِمُحَابَاةٍ فَقَدْرُ المُحَابَاةِ يُخَرَّجُ عَلَى الوَجْهَيْنِ وَالبَاقِي لاَ يعتق، وَلَوْ قَهَرَ الحَرْبيُّ حَرْبِيّاً مَلَكَهُ وَصَحَّ بَيْعُهُ مِنَ المُسْلِمِ، فَإِنْ قَهَرَ أَبَاهُ فَهَلْ يَصِحُّ بَيْعُهُ لَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَأْخَذُهُمَا دَوَامُ القَهْرِ المُبْطِلِ لِلْعِتْقِ إِنْ فُرِضَ وَدَوَامُ القَرَابَةِ الدَّافِعَةِ لِمِلْكِ القَهْرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسائل: إحداهما: ليس لمولى الصبي والمجنون أَنْ يَشْتَرِيَ لهما قريبهما القرابة التي تقتضي العتق، فإن فعل فَالشِّرَاءُ بَاطِلٌ. ولو وهب للصبي قريبه أو أوصى له به؛ نُظِرَ إن كان الصبي مُعْسِراً فيجوز له قَبُولُهُ، فإذا قَبِلَهُ عَتِقَ على الصبي؛ لأنه لا ضَرَرَ فيه على الصبي، وفيه جمال ومنفعة، وقد يوسر فَيُنْفِقُ على الصبي، ولا نظر إلى أن الصَّبِيَّ قد يُوسَرُ فَتَجِبُ النَّفَقَةُ في ماله وإنما يعتبر الحال وهل يجب عليه الْقَبُولُ؟ قال الإِمام: هذا [فيه] (¬2) تَرَدُّدٌ [وقضية] (¬3) لَفْظُ الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه-: الوجوب، وعلى ذلك يجري ¬
كلام الأصحاب؛ وإن كان الصبي مُوسِراً فإن كان القريب بحيث تجب نفقته في الحال، بأن يكون زمناً أو يَكُونَ غَيْرَ كَسُوبٍ على أحد القولين فلا يجوز للولي القبول؛ كَيْلاَ يَتَضَرَّرُ الصبي بالانفاق من ماله، وإن كان لا تجب نفقته فعلى مَا ذَكَرْنَا في المعسر، فإن لم يقبل [الولي] (¬1) قبل الحاكم، فإن لم يفعل فَلِلصَّبِيِّ بعد بلوغه، أن يقبل كذلك. ذَكَرَهُ الرَّوْيانِيُّ وليكن هذا في الوصية. هذا في هِبَةِ جَمِيعِ الْقَرِيب أو الوصية به فأَمَّا إِذَا وَهَبَ بعضه فإن كان الصبي مُعْسِراً قَبِلَة الولي، وإن كان مُوسِرَاً زاد النَّظَرُ في غَرَامَةِ السِّرَايَةِ وإن لم تجب النفقة وفيه قولان: أَظْهَرُهُمَا: أنه لا يقبل؛ لأنه لو قبل لعتقَ على الصبي، وإذا عتق سَرَى ولزم قيمة [نصيب] (¬2) الشريك، وفيه إِضْرَارٌ بالصبي. والثاني: يَقْبَلُهُ ويعتق عليه، ولا يسري كيلا يتضرر الصبي وَوُجِّه أيضاً بأنه لا اختيار له في حصول الملك، وفي "تعليقة الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ": أن بعض الأصحاب رحمهم الله: قطع بأنه ليس له أن يقبل، وجعل القولين في أنه إذا قبل هل يصح؟ الثانية: إِذَا اشْتَرَى المَرِيضُ مَرَضَ المَوْتِ قَرِيبَهُ فأما أن يشتريه بثمنه أو بِمُحَابَاةٍ، وعلى التقدير الأول: فإِمَّا أن يكون عليه دَيْنٌ أو لا يكون وحكم الأحوال الثلاث قد ذكرناه في "الوَصَايَا"، وبينا إذا لم يكن دَيْنٌ وَلاَ مُحَابَاةَ فيعتبر عتقه من الثلث، فإن خرج الْكُلُّ من الثُّلُثِ عَتِقَ كُلِّهِ وإلاَّ عتق منه قدر الثلث، وهذا هو المقصود من قوله هاهنا: "عتق إِنْ وَفَّى به ثلثه، وإلاَّ لم يعتق" أَيْ: لم يعتق كُلُّه، وإن ملكه بإرث فيعتق من رأس المال حتى يعتق [محله] (¬3) وإن لم يملك شيئاً آخر أو من الثلث حَتَّى لا يُعْتَقُ إِلاَّ الثُّلُثُ، إذا لم يملك مالاً آخر فيه وجهان ذكرناهما هنالك، والأول أولى بالترجيح، وهو الذي أورده (¬4) صاحب الكتاب. ثم لو مَلَكَهُ بِالاتهاب أَو بِقَبُولِ الْوَصِيَّةِ فَهُوَ مُرَتَّبٌ على ما لو مَلَكَ بِالإِرْثِ إن قلنا: هناك يَحْسِبُ من الثُّلُثِ فهاهنا أولى وإن قلنا من رأس المال فهاهنا وجهان: بناء على مَعْنَيَيْنِ عَلّلَ بهما احتساب الموروث من رأس المال فَعَلَّلَ الْمُعَلِّلُونَ بِأَنَّ الملك والعتق حصلا بغير اختياره، فهو خارج عن التَّبرُّعَاتِ مستحق [شرعاً] (¬5). وعلل آخرون: بأنه مِلْكٌ بلا عِوَضٍ بذله في مقابلته بخلاف ما إذا اشترى فمن قال ¬
بالأول، يحتسب الموهوب والموصى به من الثلث ومن قال بالثاني، يحتسب من رأس المال، فيعتق وإن كان على المريض دَيْنٌ مستغرق وكذا المُفْلِسُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ إذا قبل، ولا مُعْتَرَضٌ لِلْغُرَمَاءِ عليه، وإن قلنا يحتسب (¬1) مِنَ الثُّلُثِ فلا يعتق، ويباع في الدَّيْنِ، ويُكْتَفَى بِهَذَا القدر هاهنا فالمسألةُ مَبْسُوطَةٌ في الموضع المحال عليه، وإذا راجعته جوزت إعلام قوله هاهنا: "إن وَفَّى به ثلثه" بالواو؛ لوجه ذكرناه أن المريض ليس له شراء القريب بحال وحينئذ فلا يعتق. الثالثة: من الأصول في "السير" أنه (¬2) إذا [قهر] (¬3) حربي حربياً ما ملكه، ويخالف ما إذا قهر مسلم حربياً وأسره، لا يجري الرق عليه حتى يرقه الإِمام؛ لأن للإمام اجتهاداً في أَسَارَى الكُفَّارِ، والمسلم مأمور بِرِعَايَتِهِ والحربي لا يؤاخذ بمثل ذلك. قال الإِمَامُ، ولم يشرط الأَصْحَابُ قَصْدَ الإِرْقَاقِ، بل اكتفوا [بصورة] (¬4) القهر وعندي: لاَ بُدَّ من القصد، فإن القهر قد يكون بالاستخدام، ولا يتميز قصد الإرقاق عن غيره إلاَّ بالقَصْدِ. وإذا عرفت ذلك فلو قهر عبد سيده الحربي عتق العبد وصار السيد رقيقاً له، ولو قَهَرَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ، وَاسْتَرَقَّهَا مَلَكَهَا، وجَازَ له بَيْعُهَا، وكذا لو قَهَرَت الزَّوْجَةُ زَوْجَهَا ولو قهر حَرْبِيٌّ أَبَاهُ [أو] (¬5) ابْنَهُ فهل له بيعه؟ فيه وجهان: أحدهما: وبه قال ابْنُ الحَدَّادِ: لا-؛ لأنه يعتق عليه بالملك فلا يَسْتَقِرُّ له (¬6) مِلْكٌ حَتَّى يَبِيعَهُ. والثاني: نعم؛ لأن القهر دائم، فكما يَرْفَعُ ابتداؤه الحرية الأصلية يرفع دَوَّامَةَ الْعِتْقِ المُرَتَّبِ على المِلْكِ، وبهذا أجاب الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ حين سأله الحُلَيْمِيُّ في مسائل أَنْفَذَهَا إليه، يَسْتَفْتِيهِ فيها كذلك حكاه الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ -رحمهم الله- ويشبه أن يرجح الأول. قال الإِمَامُ: وَيتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ أنه لا يَمْلِكُهُ بالقهر لاقتران [السبب] (¬7) المقتضي للعتق بالقهر [المقتَضي] (¬8) للملك، ويخالف الشراء فإنا جوزناه لوقوعه ذريعة إلى تخليصه من الرق (¬9). وقوله في الكتاب: "صَحَّ بَيْعُهُ مِنَ المُسْلِمِ" ليس لتخصيص الحكم بالمسلم، بل يصح بيعه من المسلم، والذِّمِّيُّ والحَرْبِيُّ، وكان الغرض: أن المسلم يجوز له الشراء اعتماداً على قهر بعضهم بعضاً. ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوِ اشْتَرَى نِصْفَ قَرِيْبِهِ عُتِقَ وَسَرَى عِنْدَ شُرُوطِهِ، وَلَوْ وَرِثَ لَمْ يَسْرِ، وَلَوْ قَبِلَ وَكِيْلُهُ فَاخْتِيَارُ وَكِيلِهِ كَاخْتِيَارِهِ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِبَعْضِ أَبِيْهِ فَمَاتَ قَبْلَ القَبُولِ فَقَبِلَهُ لَهُ أَخُوهُ سَرَى عَلَى المَيِّتِ إِنْ وَفَّى بِهِ الثُّلُثَ وَكَأَنَّهُ قَبْلُ فِي الحَيَاةِ، وَلوْ أَوْصَى لَهُ بِبَعْضِ ابْنِ أَخِيهِ فَمَاتَ فَقَبِلَ أَخُوهُ لَهُ لَمْ يُعْتَقْ عَلَى الأَخِ فِي وَجْهٍ، لِأَنَّ المِلْكَ يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ ثُمَّ لَهُ فَكَأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَيَجْرِي الخِلاَفُ فِيمَا لَوْ رَجَعَ إِلَيْهِ بَعْضُ قَرِيْبِهِ بِرَدِّ عِوَضِهِ بِالعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ رَجْعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد ذكر صاحب الكتاب مرة في شروط سِرَايَةِ العتق: أنه إذا اشْتَرَى نِصْفَ قريبه عُتِقَ عَلَيْهِ ما اشتراه وسرى إلى الباقي، وفي معناه قبول الْهِبَةِ وَالوَصِيَّةِ، وأنه لو وَرِثَ نِصْفَ قريبه لا يَسْرِي؛ لأنه لا اختيار له فيه، وشِرَاءُ الوَكِيلِ وَقَبُولُهُ الهِبَةِ والوصية كشرائه، وقَبُولِهِ لصدوره عن اختياره، وكذلك قَبُولُ نائبه شرعاً حتى لو أوْصَى لإنسان [ببعض ابنه] (¬1) فَمَاتَ قبل قبوله الوصية، وَقَبِلَهَا أخوه عتق الشَّقْصُ على المَيِّتِ وسَرَى إلى الباقي إِنْ وَفَّى به (¬2) الثُّلُثُ وينزل قبول الوارث مَنْزِلَةَ قَبُولِهِ في حياته ولو أوصى لإنسان ببعض مِمَّنْ يعتق على وارثه كما لو أوصى له ببعض ابن أخيه، فمات. قبل القبول، وقبل الأخ عُتِقَ الشقص، وفي السِّرَايَةِ وجهان: أَشْبَهُهُمَا: المنع-؛ لأَنَّ المُلْكَ يحصل للميت أولاً، ثم ينتقل إليه إرثاً فكأنه لم يتملكه مقصوداً، ويجري الخلاف في السِّرَايَةِ حيث يحصل الملك بطريق اختيار، يتضمن الملك، ولا يقصد به التَّمَلُّكُ، كما إذا باع من يعتق على وارثه مثل: إن باع ابْنَ أَخِيهِ بِثَوْبٍ ومات، ووَارَثَهُ أخوه فرد الثوب بعيب واسترد الشقص عتق عليه، وهل يَسْرِي إلى الباقي؟ وهذا صورة قوله في الكتاب: "لوْ رَجَعَ إِلَيْهِ بَعْضُ قَرِيبٍ برد عِوَضِهِ بالعيب؛ لأنه رجع غير مقصود". وقوله: "لَمْ يُعْتَقْ عَلَى الأَخِ في وجه" كان الأَحْسَنُ أن يقول: لَمْ يَسْرِ ولا كلام في أن الشقص المردود؛ يعتقُ عليه، وأراد بما ذكره "أنه لم يعتق [كله] (¬3) عليه" [فكنى] (¬4) به عن السِّرَايَةِ. واعلم أن هذه الصورة قد ذكرناها بشرحها في شروط السِّرَايَةِ؛ لأنه ذكر بعضها هناك وَضَمَّ هاهنا إلى المذكور هناك صوراً فرأينا إيرادها مَجْمُوعَةً أولى وَأَكْثَرَ فَائِدَةً. ولو وهبَ من العبد بعض من يعتق على سَيِّدِهِ فَقَبِلَ وقلنا: لا يَفْتَقِرُ قَبُولُهُ إلى إذن السيد ¬
الخاصية الثالثة امتناع العتق بالمرض
عُتِقَ [الموهوب] (¬1) على السيِّد وَسَرَى؛ لأن قَبُولَ العبد كَقَبُولِهِ شرعاً (¬2). فرع: جَرَحَ ابْنٌ رَقِيقٌ أَبَاهُ فاشتراه (¬3) الأب ثم مات من تلك الجراحة: إن قلنا: تَصِحُّ الوَصِيَّةُ للقاتل عتقَ مِنْ ثُلُثِهِ وإلاَّ لم يعتق قال "صاحب التَّهْذِيب": وعلى هذا فيجوز أن تُجْعَلَ صِحَةُ الشراء على وجهين كما لو اشتراه، وعليه دَيْنٌ (¬4) والوجهان مذكوران في "كتاب الوَصَايَا". قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الخَاصِيَّةُ الثَّالِثَةُ امْتِنَاع العِتْقِ بِالمَرَضِ) فَإذَا أَعْتَقَ عَبْداً لاَ مَالَ لَهُ غَيْرُهُ عُتِقَ ثُلُثُهُ فَقَط، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغرِقٌ لَمْ يُعْتَقْ شَيْءٌ، فَإِنْ مَاتَ هَذَا العَبْدُ قَبْلَ السَّيِّدِ فَيَمُوتُ رَقِيقاً كُلُّهُ، أَوْ حُرّاً، أَوْ ثُلُثُهُ حُرٌّ وَثُلُثَاهُ رَقِيقٌ فِيهِ ثَلاثةُ أَوْجُهٍ، وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِيمَا لو وَهَبَ وَأَقْبَضَ فَمَاتَ فِي مُؤْنَةِ التَّجْهِيزِ، أَمَّا لَوْ قَتَلَهُ المُتَّهِبُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مَا وَرَاءَ الثُّلُثِ، وَلَوْ أَعْتَقَ ثَلاثةَ أَعْبُدٍ وَمَاتَ وَاحِدٌ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ فَيُجْعَلُ كَالمَعْدُومِ أَمْ يَدْخُلُ المَيِّتُ فِي القُرْعَةِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ، فَإِنْ قُلْنَا: يَدْخُلُ فَلَوْ خَرَجَ عَلَيْهِ رِقُّ الآخَرَانِ، وَلَوْ خَرَجَ عَلَى إِحْدَى الجِهَتَيْنِ لَمْ يُعْتَق إلاَّ ثُلُثَاهُ، وَمَوْتُهُ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ وَلَكِنْ قَبْلَ امْتِدَادِ يَدِ الوَارِثِ إِلَيْهِ هَلْ يَكُونُ كالمَوْتِ قَبْلَ مَوْتِ السَّيِّدِ، فِيْهِ وَجْهَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ طَرَدَ الخِلاَفَ فِي مَوْتهِ قَبْلَ القُرْعَةِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنِ التَّصَرُّفِ فِيهِ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: سبق في "الوصايا": أن التبرعات في مرض الموت، تُعْتَبَرُ من الثُلُثِ، وأن العتق من التبرعات، وقد يَنْدَفِعُ [لذلك] (¬1) وُقُوعُهُ في المرض وإنما يُعْتَبَرُ الثُّلُثُ بعد حط قدر الدَّيْنِ، فلو (¬2) كان الدين مُسْتَغْرِقاً لم يُعْتَقْ منه شيء وسنعود إلى هذا. وإذا عرف ذلك ففي الفصل مسألتان: إِحْدَاهُمَا: إذا أعتق عبداً لا مال له غيره؛ لم يُعْتَقْ منه إلاَّ ثُلُثهُ وإن مات هذا العبد بعد موت السيد مات [وثلثه حراً] (¬3)، وإن مَاتَ قبل موت السيد ففيه ثلاثة أَوْجُهٍ: أَحدها: أن يموت رقيقاً كُلُّهُ؛ لأن ما يُعْتَقُ يَنْبَغِي أن يَحْصُلَ للورثة مِثْلاَهُ وهاهنا لم يَحْصُلْ لهم شيء (¬4)، ويؤثر عن الشيخ أَبِي زَيْدٍ -أنه قال: أَجَبْتُ به في مجلس الشيخ أَبِي بَكْرِ المَحْمُودِيِّ فَرَضِيَهُ وَحَمَدَنِي عليه. والثاني: أنه يموت حراً كُلُّهُ؛ لأن ما يَهْلَكُ في حياة المُوَرِّثِ لا حق فيه للورثة؛ حتى يَرُدَّ تَبَرُّعَهُ لحقهم، ولأنه لا فائدة في إِرْقَاقِ شيء منه فلا (¬5) يحصل للورثة منه شيء. والثَّالِثُ -وبه قال القَفَّالُ: أنه يموت ثُلُثُهُ حراً، وُثُلُثَاهُ رقيقاً كما لو مات بعد موت السيد؛ ولأنه لو عَاشَ عَاشَ على الرِّقِّ والحرية فإذا مات مات عليهما. والأصح عند الصَّيْدَلاَنِيِّ الوجه الأول، ولم يورد في "التَّهْذِيبِ" إلاَّ الوجهين الآخرين، وبناهما على أنه إذا زاد التَّبَرُّعُ على الثُّلُثِ، وأجازه الوارث؛ فهو تَنْفِيذٌ لما فعله المورث أو ابتداء عَطِيَّةٍ، وتمليك من الوارث؛ إن قلنا بالأول، فيموت حراً؛ لأن ما فعله المورث تنفيذ، وإن قلنا بالثاني، فلا؛ لأن تَبَرُّعَهُ غَيْرُ نَافِذٍ فيما زاد على الثُّلُثِ. وتظهر فائدة الخلاف في شيئين: أحدهما: وهو المذكور في الكتاب: إذا وَهَبَ في مرض الموت عبداً لا مال له غيره وَأَقْبَضَهُ، ومات العبد قبل موت السيد فإن قلنا في مَسْأَلَةِ العتق يموت رقيقاً، فها هنا يموتُ على مِلْكِ الوَاهِبِ، وعليه مَؤُنَةُ تجهيزه، وإن قلنا يَمُوتُ حراً يموت هاهنا على مِلْكِ المَوْهُوبِ منه وعلَيه المُؤْنَةُ، وإن قُلْنَا بالوجه الثالث؛ وُزِّعَتِ المَؤُنَةُ عليهما. والثاني: إذا كان لهذا العبد وَلَدٌ من مُعْتَقَةٍ كان وَلاَءُ الولد لموالي أُمِّهِ فإن قلنا: إنه ¬
يموت حُرّاً، [فينجر] (¬1) الولاء إلى معتق الأب، وإن قلنا: يعتق ثُلُثُهُ ينجز ولاء الثلث، وقد ينجز الولاء في بعض الْعِتْقِ دُونَ بَعْضٍ كما لو (¬2) اشترى ابْنَا مَمْلُوكٍ أُمَّهُمَا معتقة أباهما بالسَّوِيَّةِ، ينجر ولاء نصف كل واحد منهما إلى الآخر، ويبقى النصف الآخر لمعتق الأم. ولو أَعْتَقَ في المرض عَبْداً وله مَالٌ سواه فمات قبل موت المعتق؛ فقد ذَكَرَ الإِمام: أن جَمَاهِيرَ الأصحاب -رحمهم الله- قالوا: لا يحسب من الثلث ولا يُزَاحمُ أَرْبَابُ الْوَصَايَا، بل يجعل كان ذلك العبد لم يكن؛ لأن الوصية إنما تتحقق بالموت، فإذا لم تبق إلى الموت؛ لم يَدْخُلْ في الحِسَاب، وأنه يجيء على قولنا: إِنَّ حُكْمَهُ بعد الموت، كحكمه لو عاش أن يحسب من الثلث ويزاحم أرباب الوصايا. ولو وَهَبَ عبداً، وأَقْبَضَهُ وله م الآخر فَتَلَفَ في يد المُتَّهَبِ قبل موت الوَاهِبِ، فهو كما لو أَعْتَقَهُ، وهذا كما أَنَّ هِبَتَهُ، ولا مال له سواه بمثابة إعتاقه، ولا مال له سواه، ولو أَتْلَفَهُ المُتَّهَبُ فهو كما لو كان باقياً حتى إذا (¬3) كان له مال آخر فيحسب من الثلث الموهوب، وإذا لم يخرج من الثلث يَغْرَمُ المتهب للورثة ما يزيد على الثلث بخلاف ما إذا تلف؛ لأن الهِبَةَ ليست مُضَمَّنَةً، والإِتْلاَفُ مُضَمَّنٌ على كل حال. وأشار الإِمام إلى أنه يحتمل أن تَجِبَ الضَّمَانُ في صورة التلف، إذا قلنا: "أنه يُحْسَبُ من الثلث"، فَإنَّ الزائدَ على الثلث حينئذ، يَتَبَيَّنُ أنه تَلَفَ في يده لغيره، فيكون كما لو وَهَبَ الْغَاصِبُ المَغْصُوبَ من غيره، وَأَقْبَضَهُ فتلف في يد الموهوب منه فإنا قد نقول: باستقرار الضمان عليه. قال: وبتقدير ألا يجب الضمان في التَّلَفِ، فيجوز ألاَّ يجب في صورة الإتلاف أيضاً، كما أَنَّ الوَاهِبَ في [حياته] لا يُطَالِبُ الْمَوْهُوبَ منه بشيء سواء تَلَفَ المَوْهُوبُ في يَدِهِ، أو أَتْلَفَهُ. الثانية: إذا أَعْتَقَ ثَلاثَةَ أَعْبُدٍ قيمتهم سواء، وهو لا يملك غيرهم، فمات أَحَدُهُمْ قبل موت السَّيِّدِ، فالذي بوجد للأصحاب على اختلاف طبقاتهم، وهو مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه-: أن المَيِّتَ يَدْخُلُ في القُرْعَةِ، وذكر الإِمَامُ أَنَّ قِيَاسَ ما ذكرنا في العبد الواحد، أَنْ يُجْعَلَ الْفَائِتُ كالمعدوم، ويُقَدَّرُ كَأَنَّهُ أَعْتَقَ عبدين، لا مال له سِواهُمَا، وأقام صاحب الكتاب هذا وَجْهاً (¬4) فقال: "يُجْعَلُ المَيِّت كالمعدوم، أم يَدْخُلُ ¬
في القرعة؟ فيه خلاف". ولك أن تقول: [نحن] (¬1) في الصورتين جميعاً نبقي للورثة مِثْلَيْ مَا مات [الموروث] (¬2) عنه، ولا يَدْخُل الغائب في حساب التَّرِكَةِ على ما سَيَتَّضِحُ في التفريع، لَكِنَّ العَدَدَ من العبيد مَحَلُّ القُرْعَةِ، وَإِدْخَالُهُ في القُرْعَةِ يَنْفَعُ الوَرَثَةَ والعبد الواحد ليس مَحَلَّ القرعة وإذا أدخل الميت في القرعة، فإن خَرَجَ له سَهْمُ العتق بَانَ أنه مات حُراً مَوْرْوثاً عنه وَرَقَّ الآخَرَانِ، وإن خرج له سَهْمُ الرِّقِّ؛ لم يُحْسَبْ على الورثة؛ لأنهم يَسْتَغْنُونَ بالمال، وَمَنْفَعَتِهِ وَيُحْتَسَبُ بهِ عن المُعْتِقِ؛ لأن المُعْتِقَ يبغي الثواب، وتُعَادُ القرعة بين العبدين، كما لو لم يكن إلاَّ عبدان فَأَعْتَقَهُما فمن خَرَجَ له سَهْمُ العتق، عتقَ ثُلُثَاهُ وَرَقَّ (¬3) ثُلُثُهُ مع (¬4) العبد الآخر، ولو خَرَجَ سَهْمُ العتق ابتداءً على أحد الْحَيَّيْنِ، فكذلك يُعْتَقُ ثُلُثَاهُ ويمكن أن يقال: إذا لم يَكُنِ المَيِّتُ من التركة وَخَرَجَ سَهْمُ الْعِتْقِ على أحد الحيين وَأَقَمْنَا فيهما رَسْمَ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَينِ، فيفرد المَيِّتُ بالحكم حتى يجيء الخلاف في أنه يموت حُراً أو رَقِيقاً، كما لو أَعْتَقَ عبداً لا مال له غيره، ولو مات أَحَدُهُم بعد موت السَّيِّدِ، وَقَبْلَ امْتِدَادِ يَدِ الْوَارِثِ إلى التَرِكَةِ فالحكم كما لو مات قبل موت السَّيِّد. وَلَفْظُ الصَّيْدَلاَنِيِّ يَقْتَضِي الاكْتِفَاءَ [بألاَّ] يكون المَيِّتُ في يده لثبوت الحكم المذكور، وإن مَاتَ بعد امتداد يد [الوارث إلى التركة] (¬5) وقبل الإِقْرَاعِ ففيه وجهان: أَصَحُّهُمَا: أنه يُحْسَبُ المَيِّتُ على الورثة، حتى لو خَرَجَتِ القُرْعَةُ لأحد الحيين يعتق كُلُّهُ، وذلك لِأَنَّ الميت دخل في أيديهم وَضَمَانِهِم. والثاني: أَنَّ الحُكْمَ كما لو مات قَبْلَ ثبوت أَيْدِيهِم على التَرِكَةِ؛ لِأَنَّهُم لا يَتَسَلَّطُونَ على التصرف، وإن ثَبَتَتْ يَدُهُمُ الحِسِّيَّةُ. وقوله في الكتاب: "وَمَوْته بعد مَوْتِ السَّيِّدِ، ولكن قبل امتداد [يد الوارث". إلى آخره في إثبات وجهين فيما قبل (¬6) امتداد أيديهم]، وفي أن بَعْضَهُم طرد الوجهين فيما إذا مات بعد امتداد أيديهم، والذي يُوجَدُ لغيره أَنَّ الحُكْمَ فيما إذا مات قبل الامتداد كهو فيما إذا مات قبل موت السيد وإن فيما بعد الامْتِدَادِ وَجْهَيْنِ، وكذلك ذكره الإِمَامُ، وصاحب الكتاب في "الوَسِيطِ" وما ساقه في الكتاب من تَفَرُّدَاتِهِ ولا يُؤْمَنُ صُدُورُ مِثْلِهِ عن السَّهْوِ، ولو كانت الصُّورَةُ بحالها، ومات اثنان قبل موت السَّيِّد فعن ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أنه يُقْرَعُ بينهم، فإن خَرَجَ سَهْمُ العتق على أَحَدِ المَيِّتِيْنَ عتق نِصْفُة، وَيَحْصُلُ للورثة مِثْلاَهُ، وهو العبد الحي، وإن خَرَجَ سَهْمُ الرِّقِّ عليه أَقرَعْنَا بَيْنَ المَيِّتِ الآخَرِ وَبَيْنَ ¬
(الخاصية الرابعة:) القرعة
الحَيِّ، فَإنْ خَرَجَ سَهْمُ العتق (¬1) على الميت الآخر؛ أَعْتَقْنَا نِصْفَهُ الآخر، وإن خَرَجَ سهم الرق عليه؛ لم يُحْسَبْ على الورثة، وَأَعْتَقْنَا ثُلُثَ العبد الحي. وَلَوْ قُتلَ أَحَدُ العبيد قبل موت السَّيِّد، أو بعده؛ فيدخل الْقَتِيلُ في القرعة لا محالة؛ لأن قيمته تَقُومُ مقامه فإن خَرَجَ سَهْمُ العتق لِأَحَدِ الْحَيَّيْنِ عتق كُلُّهُ وللورثة الآخر وقيمة القتيل فإن خرج لِلْقَتِيلِ بَانَ أنه قُتِلَ حُرّاً، وعلى قاتله الدِّيَة لِوَرَثَتِهِ، وأما القِصَاصِ فعن بعض الأصحاب: أنه لا يجب إن كان قاتله حراً بخلاف ما إذا قال لعبده: إنْ جُرِحْتَ؛ فأنت حر قبله، فَجَرَحَهُ حُرٌّ، ومات من الجِرَاحَةِ حيث يجب القصاص؛ لِأَنَّ الحُرِّيَّةَ مُتَعَيِّنَةٌ فيه، وهَاهُنَا التَّعْيِينُ بِالْقُرْعَةِ. قال "صاحب التَّهْذِيب": يُحْتَمَلُ أن يَكُون في المَسْأَلَتَيْنِ جميعاً وجهان؛ لأنه قتل من اعْتَقَدَ رِقَّهُ، كما لو قَتَلَ من عَرَفَهُ رقيقاً فَبَانَ أنه كان عُتِقَ ففي وجوب القصاص قولان. وَاعْلَمْ أن الكلامَ في المسألة الثانية من فروع القرعة، والخاصِيَّةُ (¬2) الرَّابعَةُ أَحَقُّ بِأَنْ تودع (¬3) فيها، وَلَكِنْ لما ذكرت (¬4) مَوْتَ العبد الواحد إذا أَعْتَقَ؛ عَقِبَهُ بالقوَل في موت الواحد من الجَمَاعَةِ، إذا أعتقوا وقد يُوجَدُ في كثير من نُسَخِ الْكِتَاب في آخر الفصل، "وإن كان بعد موت السيد" وهو غَلَطٌ وَالصَّوَابُ بعد ثبوت اليد أو بعد امتداد اليد. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الخَاصِيَّةُ الرَّابِعَةُ:) القُرْعَةُ وَمَحَلُّهَا أَنْ يَعْتِقَ عَبِيْداً مَعاً يَقْصُرُ الثُّلُثَ عَنْهُمْ، وَلَوْ أَعْتَقَ عَلَى تَرْتِيبٍ فَالسَّابِقُ مُقَدَّمٌ، وَلَوْ أوْصَى عَلَى تَرْتِيْبٍ أَوْ جَمْعِ أَقْرَعَ، وَقِيلَ: لاَ قُرْعَةَ فِي الوَصِيَّةِ بَلْ يقسم عَلَيْهِمْ، وَلَوْ قَالَ الثُّلُثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُرٌّ فَفِي إِجْرَاءِ القُرْعَةِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مَقْصُودُ الخَاصية مُرَتَّبٌ (¬5) على طَرَفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: في مَحَلِّ القُرْعَةِ -وهو أَنْ يَعْتِقَ عبيداً في مرض موته دَفْعَةَ وَاحِدَةً يقصر عنهم ثلث ماله، ولم يجز للورثة صنيعه فَيَقْرَعُ بينهم لِتَجْتَمِعَ الحرية في بعضهم؛ فَيُعْتَقُ بِكَمَالِهِ، أو يقرب من العتق وبه قال مَالِكٌ، وَأحْمَدُ. وقال أَبُو حَنِيْفَةَ: لا يُقْرَعُ، بل يُعْتَقُ من كل واحد ثُلُثَهُ وَيُسْتَسْعَى في الباقي وقد ذكرناه مع مُعْتَمَدِنَا في القُرْعَةِ، وهو خَبَرُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رضي الله عنه- في كيفية ¬
احتساب التَّبَرُّعَاتِ من الثُّلُثِ من "كتاب الوصايا"، وفي [الضابط] (¬1) المذكور قيود: أَحَدُهَا: وُقُوعُ الإِعْتَاقِ في مرض الموت، فإن أَعْتَقَهُم لاَ فِي مَرَضِ الموت عتقوا جميعاً ولا قُرْعَةَ. والثاني: أَنْ يَعْتَقِهُم دَفْعَةً واحدة، مثل: أَنْ يُوَكِّلَ بإعْتَاقِ كل واحد وكيلاً [فيعتقوا] (¬2) معاً [أو] (¬3) يقول: هؤلاء أَحْرَارٌ أو يقول لهم: أَعْتَقْتُكُم، أو أنتم أحرار فإن أَعْتَقَهُم على الترتيب يقدم الأَوَّلُ فَاَلأَوَّلُ إلى أن يتم الثُّلُثَ وذلك مثل أن يقول: سَالِمٌ حُرٌّ، وَغَانِمٌ حر، وفائق حُرٌّ، ولو قال: سالم وغانم وفائق أحرار فهو محل القرعة. ولو قال: سالم وغانم وفائق حر -فعن القاضي أَبِي حَامِدٍ: أنه يراجع، فإن قال: أردت حرية كل واحد منهم فهو كما لو قال: أَحْرَارٌ؛ وإن قال: أردت حرية الأخير قُبِلَ ولا قُرْعَةَ. وإن قال: أردتُ حُرِّيَّةِ غَيْرِه لم يُقْبَلْ. والثالث: أن يقصر عنهم ثلث ماله، ولا يجيز الورثة فإن وَفَّى الثُّلُثُ بالمعتقين أو أجاز الورثة عتقوا جميعاً. ولو أوصى بإعتاق عبيد (¬4) ولم يَفِ الثُّلُثُ بِهِمْ، ولم يُجزِ الوَرَثَةُ فيقرع أيضاً ولا فرق هاهنا بين أَنْ يُوصِيَ بإعتاقهم دفعة واحدة، وبين أن يقول: أَعْتِقُوا عبدي فلاناً ثم يقول: أَعْتِقُوا فلاناً؛ لأن وقت الاستحقاق واحد وهو الموت، بخلاف ما إذا رَتّبَ الإِعْتَاق المنجز إلاَّ أن يُقَيَّدَ فيقول: أَعْتِقُوا فلاناً ثم فلاناً، ولو عَلَّقَ العِتْقَ بالموت فقال: إذا مُتُّ فأنتم أحرار أو أَعْتَقتُكُمْ بعد موتي، أَوْ رَتَّبَ فقال: إِذا مُتُّ فَفُلانٌ حُرٌّ ثمَّ قَالَ: إذا مُتُّ فَفُلاَنٌ حُرٌّ يُقْرَعُ أيضاً، وفي الوَصِيَّةِ وتعليق العتق وَجْهٌ: أنه لا قُرْعَةَ بل يُعْتَقُ من كل وَاحدٍ ثُلُثَهُ؛ لأن الْقُرْعَةَ على خلاف القياس، وإِنَّمَا ورد بها الخبر في الإعتاق المُنْجَزِ، وقد ذكرنا هذا في "الوَصَايَا"، والظَّاهِرُ الأول. ولو قال: أَعْتَقْتُ ثُلُثَ كُلِّ واحد منكم، أو أَثْلاَثُ هَؤُلاَءِ أَحْرَارٌ. فوجهان: أحدهما: أنه [لا] (¬5) يُقْرَعُ بَيْنَهُم، بل يُعْتَقُ من كل واحد ثُلُثه لِتَصْرِيحِهِ بِالتَّبْعِيضِ وأصحُّهما -على ما ذُكِرَ في "التَّهْذِيبِ": أنه يُقْرَعُ أيضاً؛ لأن العبيد له على الخلوص، وِإعْتَاقُ بَعْضِ العبد الخَالِصِ كَإعْتَاقِ كُلِّهِ وصار كما لو قال: أعتقتكم -وقد سبق هذا في "الوصايا" أيضاً، وسبق أنهَ لو قَال: أَعْتَقْتُ ثُلُثَكُم- أو ثلثكم حُرٌّ فهو كقوله: أعتقتكم أو كقوله: أَثْلاَثُ هَؤُلاَءِ أَحْرَارٌ فيه طريقان -وأنه لو أَضَافَ إلى الموت فقال: ثُلُثُ كُلِّ ¬
واحد حُرٌّ بَعْدَ موتي أَوْ أَثْلاَثُ هَؤُلاءِ أحرار بعد موتي، [فيعتق] (¬1) مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثَهُ ولا يُقْرَعُ؛ لأنَّه لا سِرايَةَ بعد الموت، وحكى (¬2) وَجْهاً آخَرَ: أنه يقرع كما لو نجز في المرض وَالظَّاهِرُ الأَوَّلُ، وعليه فَرَّعَ ابْنُ الحَدَّادِ، ولصاحب الوجه الآخر أن يقول: نعم لا سِرَايَةَ بعد الموت، وَلَكِنَّ قوله: "ثُلُثُ كُلِّ وَاحِدٍ منكم حُرٌّ نزلتموه منزلة" قوله: "أَعْتَقْتُكُم حِين (¬3) حَكَمْتُمْ بِالقُرْعَةِ فِيهِ" في أظهر الوجهين، وإذا نزل منزلته فلو قال: أعتقتكم بعد موتي يُقْرَعُ بينهم فكذلك (¬4) إذا قال: ثُلُثُ كُلِّ واحد منكم حُرٌّ بعد موتي، فاعتدّ بأن أحدهما يعتبر لمعرفة الثلث فيمن أَعْتَقَهُ منجزاً في المرض قيمة يوم الإعتاق وفيمن أَوْصَى بعتقه يوم الموت؛ لأنه وَقْتُ الاسْتَحْقَاقِ [وفيما] (¬5) يبقى للورثة أَقَلُّ قِيمَةٍ من يوم الموت إلى أن يقبضوا التركة؛ لأنه إن كانت قيمة يوم الموت أقل فالزيادة حصلت في ملكهم وإن كانت قيمة يوم القبض أقل. فما نقص قبل ذلك لم يدخل في يدهم فلا يحسب عليهم كما يغصب أو (¬6) يضيع من التركة قبل أن يقبضوه، وإذا نجز إعتاق عبد في المرض وأوصى بإعتاق آخر قومنا الأول حال إعتاقه والآخر [حال الموت] (¬7) وبقية التركة بأقل القيمتين، فإن خرجا من الثلث عتقا وإن خرج [أحدهما] (¬8) أعتقتا المنجز إعتاقه وإن زاد الثلث على أحدهما أعتقنا بقدر الزيادة من الموصى لإعتاقه وإن نقص الثلث أعتقنا بقدره [من] (¬9) المنجز إعتاقه. ولو أعتق في المرض عبداً مبهماً بأن قال: أحد هؤلاء حر، أو أوصى لإعتاق [واحد] (¬10) منهم أيضاً بأن قال (¬11): أعتقوا أحد هؤلاء -ففي "جمع الجوامع" للروياني: أنه يكتب رقعة للعتق، وأخرى للوصية، ورقعتان للتركة، فمن خرج له العتق فكأنه أعتقه بعينه ومن خرج له الوصية فكأنه أوصى بإعتاقه بعينه ثم يكون الحكم كما سبق. وفي "الشامل": أنه يميز الثلث بالقرعة أو لا، ثم يميز بين المنجز إعتاقه وبين الآخر. والثانية: كل عبد من المنجز إعتاقهم عتق بالقرعة يحكم بعتقه من يوم الإعتاق لا من يوم القرعة ويسلم له ما اكتسبه من وقت الإعتاق غير محسوب من الثلث سواء اكتسبه في حياة المعتق أو بعد موته وكل من بقي رقيقاً منهم فأكسابه قبل موت المعتق ¬
تحسب على الوارث في الثلثين وأكسابه بعد موته وقبل القرعة لا تحسب عليه لحصوله على ملكه، فلو أعتق في مرضه ثلاثة أعبد لا مال له غيرهم قيمة كل واحد مائة، واكتسب أحدهم مائة، وأقرعنا فإن خرجت القرعة للمكتسب عتق وفاز بكسبه ورق الآخران، وإن خرجت لأحد الآخرين عتق، ثم تعاد القرعة بين المكتسب والثاني فإن خرجت للثاني عتق ثلثه وبقي [ثلثاه مع المكتسب] (¬1) وكسبه للورثة وإن خرجت للمكتسب وقع في الدور لأنه يعتق بعضه ويتوزع الكسب على ما عتق وعلى ما رق ولا [يحسب] (¬2) عليه حصة ما عتق وتزيد التركة بحصة ما رق وإذا زادت التركة زاد ما عتق وتزيد حصته وإذا زادت حصته نقصت حصة التركة وطريق استخراجه قد بيناه في المسائل الدورية من "الوصايا" والحكم: إنه يعتق منه ربعه ويتبعه ربع كسبه، يبقى للورثة ثلاثة أرباعه وثلاثة أرباع كسبه مع العبد الآخر، وجملتها ضعف ما عتق. ولو اكتسب أحدهم مائتين وخرجت القرعة الثانية لغير المكتسب عتق ثلثاه، وبقي ثلثه، والمكتسب وكسبه للورثة، وإن خرجت للمكتسب فقد عتق منه شيء وتبعه من الكسب شيئان؛ لأن كسبه مثلا قيمته تبقى للورثة أربعة أعبد إلاَّ ثلاثة أشياء، وإن شئت قلت أربع مائة إلاَّ ثلاثة أشياء تعدل ضعف ما عتق وهو عبدان وشيئان فبعد الجبر أربعة أعبد تعدل عبدين وخمسة أشياء نسقط عبدين بعبدين يبقى عبدان [وشيئان] (¬3) في مقابلة خمسة أشياء فالشيء خمس العبدين وهما خمساً عبد وذلك أربعون فقد عتق مائة وأربعون وبقي للورثة ثلاثة أخماسه ستون وثلاثة أخماس كسبه مائة وعشرون والعبد الآخر وجملتها مائتان وثمانون. ولو اكتسب أحدهم خمسين وخرجت القرعة الثانية لغير المكتسب عتق سدسه وهو ستة عشر وثلثان (¬4) وبقي خمسة أسداسه والمكتسب وكسبه للورثة، وجملة ذلك مائتان وثلاثة وثلاثون وثلث ضعف ما عتق، وإن خرجت للمكتسب عتق منه شيء وتبعه من الكسب نصف شيء، يبقى للورثة عبدان ونصف سوى شيء ونصف شيء؛ وذلك عدل ضعف ما عتق وهو عبدان وشيئان فبعد الجبر يصير عبدان ونصف في معادلة عبدين وثلاثة أشياء ونصف، نسقط عبدين بعبدين تبقى المعادلة بين نصف عبد وبين ثلاثة أشياء ونصف والشيء من ثلاثة أشياء ونصف سبعاه فالشيء سبعا نصف عبد وسبعا نصف عبد سبع عبد فعرفنا أنه عتق منه سبعه وهو أربعة عشر وسبعان ويتبعه من الكسب سبعه غير محسوب عليه يبقى للورثة ستة أسباعه، وهي خمسة وثمانون وخمسة أسباع، ¬
ومن الكسب ستة أممباعه، وهي اثنان وأربعون ستة أسباع، والعبد الآخر وهو مائة وجملة ذلك مائتان وثمانية وعشرون وأربعة أصباع ضعف ما عتق. ولو كانت المسألة كما صورنا واكتسب كل واحد من العبيد مائة فمن خرجت له القرعة عتق وتبعه كسبه، ثم تعاد القرعة بين الآخرين، فمن خرجت له القرعة عتق منه شيء وتبعه من الكسب مثله يبقى مع الورثة أربعة أعبد سوى شيئين يعدل ضعف ما أعتقنا وهو عبدان وشيئان، فبعد الجبر يعدل أربعة أعبد عبدين وأربعة أشياء فنسقط عبدين بعبدين يبقى عبدان في مقابلة أربعة أشياء فالشيء نصف العبد، فعلمنا أنه عتق من هذا العبد نصفه وتبعه نصف كسبه غير محسوب يبقى للورثة نصفه الآخر ونصف كسبه والعبيد الآخر وكسبه، وجملته ثلاثمائة ضعف ما عتق، وقد قدمنا لهذه الصورة نظائر في "الوصايا" فلا نطول، وهذا كله في الأكساب الحاصلة في حياة المعتق. ولو اكتسب واحد من العبيد في المثال المذكور مائة بعد موته فإن خرجت القرعة للمكتسب عتق وتبعه كسبه غير محسوب كما لو اكتسب في الحياة وإن خرجت القرعة لغير المكتسب عتق ورق الآخران، وَلاَ تُعَادُ الْقُرْعَةُ لِلْكَسْبِ بَلْ يَفُوزُ به الوَرَثَة؛ لحصوله في ملكهم، وَكَسْبُ من أَوْصَى بِإِعْتَاقِهِ في حياةِ الموصى، للموصى تَزِيدُ بِهِ التَّرِكَةُ والثلث، وكسبهُ بعد موته لا تزيد به التَّرِكَةُ وَالثُّلُثُ بلا خِلاَفٍ. وحكى ابْنُ الصَّبَّاغِ: في أنه لِلْوَرَثَةِ، أو للعبد طريقين: أَحَدُهُمَا: أن فيه قولين، كالقولين في أَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ المُوصَى بِهِ بعد موت المُوصِي، وَقَبْلَ الْقَبُولِ للورثة أو لِلْمُوصَى لَهُ. وَأَصحُّهُمَا: القطع بأنه للعبد. والفرق أَنَّهُ اسْتَحَقَّ العتقَ. بموت الموصى اسْتِحْقَاقَاً مستقراً وَالمُوصى غير مستقر، بل المُوصَى لَهُ بالخيار، بين الرد والْقَبُولِ، وإذا زادت قيمة من نُجِزْ إِعْتَاقِه [بموت الموصى] (¬1) كانت الزيادة كالكسب. فَمَنْ خرجت له قُرعَةُ العتق؛ تبعته الزيادة غَيْرَ مَحْسُوبَةٍ عليه، وهذا لو كان مِمَّنْ أَعْتَقَهُم جَارية فَوَلَدَتْ قَبْلَ مَوْتِ المعتِق؛ فالولد كالكسب، فإذا خرجت القُرْعَةُ لها؛ تَبِعَهَا الولد غَيْرَ مَحْسُوبٍ من الثلث، وَإِنْ خَرَجَتْ لغير الذي زادت قيمته، أو الذي وَلَدَتْ؛ وَقَعَ الدَّوْرُ (¬2)، ولو أَعْتَقَ ثَلاثَةَ أَعْبُدٍ لا مال له غيرهم قِيمَةُ كُلِّ واحدٍ مِائَةٌ [فبلغت] (¬3) قيمة أَحَدِهِم مائتين فهو كما لو اكتسبت [أحدهم] (¬4) مِائَةً [ولو أعتق جاريتين قيمة كل واحدة مائة فولدت إحداهما ولداً قيمته ¬
مائة، فهو كما لو اكتسب أحدهما مائة] (¬1) فإن خَرَجَتِ القُرْعَةُ للتي لم تلد؛ عتقت وَرَقَّتِ الوَالِدَةُ وَوَلَدُهَا، وَهُمَا ضِعْفُ ما أعتقنا، وَإِنْ خَرَجَتْ للوالدة عتق (¬2) منها شيء، وتبعها من الولد مثله؛ يبقى مع الورثة ثَلاثمائَةِ سوى شَيْئَيْن تَعْدِلُ ضِعْفَ ما أَعْتَقْنَا محسوباً وهو شيئان. فبعد الجبر يَعْدِلُ ثَلاثمائَةٍ أَرْبَعَةُ أشْيَاءَ فَالشَّيْءُ رُبْعُ الثَّلاَثِمِائَة، وَرُبْعُ الثلاثمائة: ثلاثة أرباع المائة، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ عتق منها ثَلاثةُ أَرْبَاعِهَا وتبعها ثلاثة أرباع الولد، يَبْقَى مع الورثة ربعها، وربع الولد والجارية الأخرى، وجملة ذلك مائَةٌ وَخَمْسُونَ ضعف ما عتق منها، وَفَرْعٌ على هذا الأصل أَنَّهُ لو قال لجارية له حامل في مرض موته: أَنْتِ حُرَّةٌ أو ما في بطنك فَوَلَدَتْ لِمَا دُونَ سِتَّةِ أشهر من يوم الإِعتاق، ولم يتفق تعيين فيقرع بينهما، فإن خَرَجَتْ لِلْوَلَدِ عتق دون الأم، فإن لم يَفِ به الثلث؛ عتق منه بقدر الثلث، وإِنْ خرجت للأم عُتِقَتْ وتبعها الولد إن وَفَّى بهما الثُّلُثُ، وَإِلاَّ فيعتق منها شيء، وتبعها من الولد شيء. وطريق الاسْتِخرَاجِ ما ذكرناه فيما إذا أَعْتَقَ عبداً واحداً فاكتسب في "باب الوصايا"، وتقويم الولد إنما يكون في يوم الولادة، وهذا الذي ذكرناه فيما إذا ولدت الجارية قبل موت المُعْتِقِ، فإن (¬3) وَلَدَتْ بعد موته؛ نُظِرَ إن ولدت لأَكْثَرَ من ستة أشهر من يوم الموت، فَالْوَلَدُ كالكسب الحاصل بعد موتهِ، إنْ خَرَجَتِ الْقُرْعَة للوالدة؛ عتقت، وتَبِعَهَا الْوَلَدُ، وإن خَرَجَتْ لغير الوالدة؛ عُتِقَتْ، ولا تُعَادُ الْقُرْعَة للولد؛ لأنه حَدَثٌ على مِلْكِ الورثة، وإن وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فهل تحسب على الوارث حَتَّى تُعَادَ الْقُرْعَةُ؟ قال "صَاحِبُ التَّهْذِيبِ": يُبْنَى على أَنَّ الحملَ هل يعرف؟ إن قلنا: لا فهو كالحادث بَعْدَ الموت، فَلاَ تُعَادُ، وإن قلنا: نعم فكالحادث بَعْدَة فتعاد، وَأَطْلَقَ الصَّيْدَلاَنِيُّ حكاية وجهين في أنه: إذا وَلَدَتِ الجَارِيةُ بعد الموت، هل يُحْسَبُ الولد على الوَرَثَةِ من الثُّلُثَيْنِ؟ ولو نقصت قيمة من نجز عتقه قبل موت المُعْتِقِ فإن كان النقصان فيمن خرجت له قرعة العتق؛ فهو محسوب عليه؛ لأَنَّهُ محكوم بعِتْقِهِ من يوم الإعتاق وإن كان فيمن رَقَّ؛ فلا يُحْسَبُ على الورثة إذا لم يحصلْ لهم إلا النَّاقِصُ. فلو أعتق عبداً لا مال له غَيْرُهُ قيمته مائَةٌ فرجع (¬4) إلى خَمْسِينَ. فقد ذكرنا طريق استخراجه في "الوصايا". وبإيراد آخر نقول: عتق منه شيء ورجع إلى نصف شيء يبقى خمسون ناقصة فنصف شيء يَعْدِلُ ضِعْفَ ما عتق، وهو شيئانِ، فبعد الجَبْرِ يَعْدِلُ خمسون شيئين ¬
ونِصْفَ شَيْءٍ، فَعَرَفْنَا أنه يعتق منه خمسه؛ لأن النصف من شيئين، ونصف خمس، وإن كان قيمته يوم الإعتاق عشرين فعاد إلى عشرة، وبقي للورثة أربعة أخماسه وقيمته يوم الموت أربعون، وهي ضعف ما عُتِقَ، ولو أَعْتَقَ ثَلاثةَ أَعْبُدٍ قِيمَةُ كل واحد مائة فعادت قيمة أحدهم إلى خمسين، فإن خَرَجَتِ القُرْعَةُ للذي انتقص قيمته عتق، ولا يُعْتَقُ من الآخرين شيء؛ لأنه كانت قيمته يوم الإعتاق مائة، فينبغي أن يبقى للورثة ضعفها، وإن خرجت لأحد الآخرين عتق منه خمسة أسداسه، وهي بالقيمة ثلاثة وثمانون وثلث، ويبقى للورثة سُدُسُهُ والعبد الآخر [و] الذي نقصت قيمته، وجملتها: مائة وستة وستون وثلثان وهي (¬1) ضعف ما عتق، وإنما كان كذلك لِمَا ذكرنا أن المحسوب على الورثة الباقي بعد النقصان، وهو مائتان وخمسون. ولو أعتق عبدين قيمة كل واحد منهما مائة، ولا مال له سواهما فعادت قيمة أحدهما إلى خمسين فإن خرجت القرعة للذي لم تنقص قيمته؛ عتق نِصْفُهُ وبقي للورثة نصفه والعبد الآخر، وهما ضعف ما عتق، وإن خرجت للذي انْتُقِصَ وَقَعَ الدَّوْرُ لأنا نحتاج إلى إعتاق بعضه مُعْتَبَراً بيوم الإعتاق، إلى إبقاء بعضه للورثة مُعْتَبَراً بيوم الموت، وَطَرِيقُهُ أن يُقَالَ: عتق منه شيء، وعاد إلى نصفه يبقى للورثة مائة وخمسون سوى نصف شيء، وذلك يَعْدِلُ ضِعْفَ ما أعتقنا، وضِعْفُ ما أعتقنا شيئان، فبعد الجبر يعدل مِائَةٌ وخمسون شيئين ونصف شيء والشيء من شيئين، ونِصْفُ خُمُسَاهُ وَخُمْسا مِائَةٍ وخمسين ستون، فعلمنا أَنَّهُ عُتِقَ من العبد يوم الإعتاق ستون، وعاد هذا المبلغ إلى ثلاثين يبقى للورثة خمساً: هذا العبد، وهو عشرون، والعبد الآخر وهو مائة، والمائة والعشرون ضعف الشيئين، وَإِنْ حَدَثَ النقصان بعد موت المعتق، وقبل الإِقْرَاعِ فهل يحسب النقصان على الورثة؟ قال في "التَّهْذِيبِ": إن كان الوارث [مقصور] (¬2) الْيَدِ عن التَرِكَةِ؛ لم يحسب عليه، كما في حال الحياة وإلاَّ فوجهان: أَصَحُّهُمَا: أَنَّهَا تحسب عليه، وهذا كالخلاف الذي مَرَّ فيما إذا مات بَعْضُهُم. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَأَسْهَلُ طُرُقِ القُرْعَةِ إِذَا كَانُوا ثَلاَثةً أَنْ يَكْتُبَ الرِّقَّ عَلَى رُقْعَتَيْنِ وَالحُرِّيَّةُ عَلَى رُقْعَةٍ وَتُدْرَجَ فِي بَنَادِقَ مُتَشَابِهَةٍ وَتُعْطَى صَبِيّاً حَتَّى يُعْطِي كُلَّ عَبْدٍ وَاحِداً، وَلاَ يَتَعَيَّنُ الكَاغِدُ بَلْ يَجُوزُ بِالخَشَبِ وَالنَّوَى، وَلاَ يَجُوزُ بِشَيْءٍ آخَر فِيْهِ خَطَر؛ كَقَوْلِهِمْ: إِنْ طَارَ غُرَابٌ فَفُلاَنٌ يتَعَيَّنُ لِلْحُرِّيَّةِ. ¬
قَالَ الرَّافِعِيُّ: الطَّرَفُ الثاني في كَيْفِيَّةِ الْقُرْعَةِ والتجزئة التي تترتب عليها القرعة، وفيه فصلان: الأول: في كيفية القُرْعَةِ -وقد مَرَّ في "باب القسمة": أن للقرعة طريقين: أحدهما: أَنْ يَكْتُبَ أسماء العبيد في رِقَاع ثمَ يَخْرُجُ على الرِّقِّ والحرية. والثاني: أن يكتب في الرقاع "الرق" و"الحرية" وَيَخْرُجُ على أسماء العبيد. وذكرنا أن من الأصحاب -رحمهم الله- من أثبت قولين في أنه يقرع بالطريق الأول، أو الثاني؟ وأن في كون ذلك الخلاف في الجواز، أو الأَوْلَويَّةِ؟ خلافاً آخر، وَأَنَّ عَامَّتَهُم ذهبوا إلى أن في العتق يَسْلُكُ ما شاء من الطريقين ولفظ الشَّافِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في "الْمُخْتَصَرِ" يدل عليه، وإِثْبَاتُ الأسماء والإخراج على الرق والحرية أَخْصَرُ؛ لِأَنَّ إِثْبَاتَ الرق والحرية، والإخراج على الأسماء قد يُحْوِجُ إلى إعادة القرعة مرة أخرى كما سنفصل. وَاسْتَحَبَّ الشَّافعي -رضي الله عنه- على الطريقين أن تكون الرِّقَاعُ صغاراً؛ لتكون أخفى، وأن تكون متساوية، وأن تدرج في بَنَادِقَ، وتجعل في حجر من لم يحضر هناك على ما بينا في "القسمة"، وأن تُغَطَّى بثوب، ويدخل من يخرجها اليد تحته، وكل ذلك ليكون أبعد عن التُّهْمَةِ؛ ولا تتعين الرقاع، بل تجوز القرعة بأقلام متساوية وبالنوى وبِالبَعَرِ. وقد روِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- أَقْرَعَ في قسمة بعض الغنائم بِالبَعَرِ، وأنه أَقْرَعَ مرة بِالنَّوَى. وذكر الصَّيْدَلاَنِيُّ أنه: لا يجوز أن يُقْرَعَ بِأَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةٍ كدواة وقلم، وحصاة وقد يتوقف في هذا؛ لأن المخرج إذا لم يعلم ما اختاره كُلُّ واحد منهم لا يظهر فيه حَيْفٌ، ويدل عليه ما ذكر الإِمَامُ: أَنَّ الْغَرَضَ تحكيم القرعة على وجه لا يبقى فيه خيال الخيانة، وَالمُوَاطَأَةِ، ولسنا نضبط وجهاً من القرعة ولذلك قال الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه-: "أَحَبُّ القرعة إِلَيَّ وأبعدها عن الحيف رِقَاعٌ صِغَارٌ ... " إلى آخره. ولا يَجُوزُ الإعراض عن القرعة أصلاً، والتمييز بطريق آخر، بأن يَتَّفِقُوا على أنه إن طار غُرَابٌ ففلان حر، أو أنَّ مَنْ وَضَعَ على (¬1) صبي يده فهو حر، أو أن يراجع شخص لا غرض له في تعيين عبد الرق، أو العتق، بل يَتْبَعُ ما ورد به الخبر، وللإمام هاهنا بحثان (¬2): أحدهما: إذ كنا نَعْتِقُ عبداً، وَنَرِقُّ عبدين، ورأينا إثبات الرق والحرية فقد قال الأَصْحَابُ -رحمهم الله-: يَثْبُتُ الرق في رقعتين، والحرية في رقعة على نسبة المطلوب في القلة، والكثرة، فإن ما يكثر فهو أحرى [بسبق] (¬3) اليد إليه وفي كلامهم ما ¬
يدل على استحقاق ذلك، ومنهم من عَدَّهُ احتياطاً وقال: يكفي رُقْعَةٌ للرق، وأخرى للحرية، ثم إذا خرجت واحدة باسم أحدهم وخرجت رقعة الحرية؛ انفصل الأمر، وإن خرجت رقعة الرق احتجنا إلى إدراجها في [البيذقة] (¬1) مرة أخرى. والثاني: قال: إذا أثبتنا الرق والحرية، فَقَالَ المُخْرِجُ: أُخْرِجُ على اسْمِ هذا ونازعه الآخرون، وقالوا:، أَخْرِجْ على أسمائنا، وأثبتنا الأسماء وقال المخرِج: أُخْرجُ على الحرية، وقالوا: أَخْرِجْ على الرق أو تَنَازَعَ الوَرَثَةُ والعبد. فقال الورثة: أَخْرِجْ على الرق، وقال الْعَبْدُ على الحرية. فهذا لم يتعرض له الأصحاب وفيه احْتِمَالاَنِ، إن أثبت الرق والحرية: أحدهما: أن يُقْرعَ بين العبيد أولاً، حَتى يتعين من يعرض على الرق والحرية، فإذا تعين واحد أخرجت رقعة على اسْمِهِ. والثانية: أن يثبت الحرية على رقعة والرق على رقعتين، وَيُعْطِي المُخْرِجُ كُلِّ عبد رقعة، وقد سبق في "باب القِسْمَةِ" أن تعيين من يبتدأ به من الشركاء والإجراء (¬2) مَنُوطٌ بِنَظَر القَسَّامِ فيمكن أن يُنَاطَ هاهنا أيضاً بِنَظَرِ مَنْ يَتَوَلَّى الإقراع من قاضٍ، أو وَصِيٍّ حيث (¬3) يبتدئ بمن شاء، ولا يلتفت إلى مضايقاتهم. وقوله في الْكِتَاب: "وأسهل طرق الْقُرْعَةِ ... " إلى قوله: "حتى يعطي كل عبد واحداً" كأنه يعني به: أَنَّ إِثْبَاتَ الرق والحرية، وتسليبم رقعة إلى كل واحد أدفع للمنازعة في البداية، وهذا الاحتمال الثاني ذكره الإِمام، وَإِلاَّ فقد بَيَّنَّا أَنَّ إثبات الأسماء، والإخراج على الرق. والحرية أَخْصَرُ وَأَيْسَرُ، وإعطاء كل عبد رقعة ليس بشرط في الإقراع، بل يكفي الإخراج بأَسْمَائِهِمْ وأعيانهم ويمكن أن يعلم قوله: "وأسهل طرق القرعة" بالواو؛ إِشَارَةٌ إلى قوله: من أثبت الخلاف في أنه الطريق هذا أو هذا، فإن من عَيَّنَ طريقاً لا يجعل للقرعة طريقين أو طرقاً حتى يكون أحدها أسهل. وقوله: "ولا يجوز بشيء آخر فيه خَطَرُ" [لم يقل: بشيء فيه خطر] (¬4) إِشَارَة إلى أن في إخراج القرعة خطراً أيضاً لكن الشرع عينها، فلا مَعْدِلَ عنها إلى غيرها [والله أعلم] (¬5). قَالَ الْغَزَالِيُّ: (أَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّجْزِئَةِ) فَسَهْلٌ إِذَا أَمْكَنَ تَجْزِئَتُهُمْ بِثَلاثَةِ أَجْزَاءٍ مُتَسَاوِيَةٍ فِي ¬
القِيْمَةِ وَلاَ بَأْسَ إِنْ لَمْ يَتَسَاوَ عَدَدُهُمْ بَلْ يُجْبَرُ الخَسِيْسُ بِالنَّفِيْسِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ كَمَا لَوْ كَانُوا ثَمَانِيَةَ أَعْبُدٍ قِيْمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِائَةٌ، فَفِي قَوْلٍ يَجِبُ تَجْزِئَتُهُمْ بِثَلاثةِ أَجْزَاءٍ تَقْرُبُ مِنَ التَّثْلِيثِ فِي القِيْمَةِ فَيُجَزَّءُونَ إلَى ثَلاثَةٍ وَثَلاَثَةٍ وَاثْنَيْنِ، فَإِنْ خَرَجَ عَلَى ثَلاثةٍ انْحَصَرَ العِتْقُ فِيْهِمْ، ثُمَّ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ بِسَهْمِ رِقٍّ وَسَهْمَي عِتْقٍ، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ الرِّقُّ رَقَّ ثُلُثُهُ لِيَرْجِعَ كُلُّ العِتْقِ إلَى قَدْرِ الثُّلُثِ، وَإِنْ خَرَجَ عَلَى اثْنَيْنِ عُتِقَا ثُمَّ يُعَادُ بَيْنَ السِّتَّةِ إلَى أَنْ يَخْرُجَ العِتْقُ لِوَاحِدٍ فَيُرَقُّ ثُلُثُهُ وَيُعْتَقُ ثُلُثَاهُ، وَالقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ التَّثْلِيثَ لاَ يَجِبُ بَل يَجُوزُ القُرْعَةُ كَيْفَ اتَّفَقَ إلَى أَنْ يُؤَدِّي إِلَى المَقْصُودِ، وَقِيْلَ: هَذَا الخِلاَفُ فِي الاسْتِحْبَابِ دُونَ الاسْتَحْقَاقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفصل الثاني: في كيفية تجزئة العبيد. [وتجزئتهم] (¬1) تقع بحسب الحاجة، فلو أعتق عبدين لا مال له سواهما؛ أقرع بينهما بإثبات اسْمَيْهِمَا في رقعتين، وإخراج إحداهما على الحرية، أو الرق، أو بإثبات الرقِّ والحرية في رقعتين على اسْمِهِمَا، ثم إن استوت قيمتهما فمن خرج له سهم الحرية عتق ثلثاه ورق باقيه مع الآخر، وإِنِ اختلفت قيمتهما كمائة ومائتين، فإن خرج سهم الحرية للذي قيمته مائة، عتق ورق الآخر وإن خرج للآخر؛ عتق نصفه ورق باقيه والأول، وإذا [اختصرت] (¬2) قُلْتُ: من خرج له سهم الحرية؛ عتق منه قدر الثلث، فإن كان الثلث أكثر منه تمم من الثاني (¬3)، فإن أعتق جماعة من العبيد لا مال له سواهم وأردنا القرعة، فإن كانوا ثلاثة واستوت قيمتهم فإن شئنا كتبنا أَسْمَاءَهُمْ وقلنا لِلْمُخْرِجِ: أَخْرِجْ رقعة على الحرية فمن خرج اسمه؛ عُتِقَ، أو قلنا أخرج على الرق حتى يتعين الآخر للحرية، والإخراج على الحرية أولى؛ لأنه أقرب إلى فصل الأمر، وإن شئنا كتبنا على الرقاع الرق في رقعتين والحرية في رقعة، [وقلنا] (¬4)؛ أَخْرِجْ على اسْمِ سَالِمٍ أو أشرنا إلى عينه. وقلنا: أَخْرِجْ على اسْم هذا، فإن خرج سهم الحرية؛ عتق، ورق الآخران وإن خرج سهم الرق؛ رَقَّ، وَأَمَرْنَا بإخراج رقعة أخرى على اسم غانم، فإن خرج سهم الحرية؛ عُتِقَ، وَرَقَّ [الثالث،] (¬5) وإن خرج سهم الرق فبالعكس، وإن اختلفت قيمتهم كمائة، ومائتين، وثلاثمائة فإما أن نكتب أسماؤهم فإن خرج اسم الأول، عتق وأمرنا بإخراج رقعة أخرى فإن خرج اسم الثاني؛ عُتِقَ نِصْفهُ، وإن خرج اسم الثالث؛ عُتِقَ ثُلُثَاهُ [وإن خرح أولاً اسم الثاني عتق ورق الآخران، وإن خرج اسم الثالث عتق ثلثاه] (¬6) وَرَقَّ باقيه والآخران، وَإِمَّا أن يكتب الرق في رقعتين، والحرية في رقعة ويخرج على أسمائهم، ¬
وإن كانوا أكثر من ثلاثة، فإن أمكن تسوية الأجزاء عدداً وقيمة كَسِتَّةٍ، وتسعة، وَاثنيْ عَشَرَ قيمتهم متساوية جزأناهم [ثلاثة أجزاء] (¬1) وصنعنا صنيعنا في الثلاثة المتساوية القيمة (¬2)، وكذلك الحكم في ستة، ثلاثة منهم قيمة كل واحد منهم مائة وثلاثة قيمة كل واحد منهم خمسون، فنضم إلى كل نَفِيسٍ خَسِيساً، ونجعلهم ثلاثة أجزاء وفي ستة اثنان قيمة كل واحد منهم ثلاثمائة، واثنان قيمة كل واحد منهما مائتان، واثنان قيمة كل واحد مائة فنجعل للذين قيمتهما أَرْبَعمِائَةٍ جزءاً، وتضم إلى كل واحد من النفيسين واحِد من [الخسيسين] (¬3) فتستوي الأجزاء عددًا وقيمة، وإن لم يمكن التسوية بالعدد وتيسرت بالقيمة كخمسة قيمة أحدهم مائة، وقيمة اثنين مائة جَزّأْنَاهُم كذلك، وأقرعنا، وإن أمكن التسوية وتيسرت بالقيمة كستة قيمة أحدهم مائة، وقيمة اثنين مائة، وقيمة ثلاثة مائة فكيف يعدلون؟! فيه وجهان: حكاهما الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالعِرَاقِيُّونَ -رحمهم الله. [و] (¬4) أَصَحُّهُمَا -وَيُنْسَبُ إلى النص: أنَّهم يُجَزَّءُون واحدًا واثنين وثلاثة ويقرع بينهم كما ذكرنا. والثاني: يُجَزءُون بالعدد اتباعاً؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث عمران وعلي -رضي الله عنهما (¬5) - وعلى هذا فيجعل اللذان قيمتهما مائة جزءاً، والذي قيمته مائة مع واحد من الثلاثة الباقين جزءاً والباقيان من الثلاثة جزءاً ويُقْرَعُ بينهم فإن خرجت القرعة للذين قيمتهما مائة؛ عتقا وَرَقَّ الباقون، وإن خرجت على الدين قيمة أحدهم مائة، وقيمة الآخر ثلث المائة؛ أُعِيدَتِ القُرْعَةُ بينهما، فإن خرجت للذي قيمته مائة؛ عتق وَرَقَّ الآخر، وإن خرجت للآخر؛ عتق ورق (¬6) من الأول ثلثاه؛ لانحصار العتق فيهما، وإن خرجت للذين قيمتهما ثلثا المائة؛ عتقا، وأعيدت القرعة بين [الجُزْأَيْنِ] (¬7) الآخرين، فإن خرجت على اللذين قيمتهما مائة أُعِيدَتِ القُرْعَةُ بينهما، فأيهما خرجت عليه؛ عتِقَ ثلثاه، وإن خرجت على اللذين قيمتهما مائة وثلث؛ أُعِيدَتْ بينهما، فإن خرجت على الذي قيمته ثلث المائة، عتق جَمِيعُهُ، وإن خرجت على الآخر عتقَ جميعه، وهذا تطويل بلا فائدة، وفي حديث عِمْرَانَ -رضي الله عنه- أنه كانت قيمتهم متساوية، وإذا لم تكن التسوية بالعدد، ولا بالقيمة كثمانية أَعْبُدٍ قيمتهم متساوية ففيه قولان: أَصَحُّهُمَا: أنَّهم يُجَزَّءُونَ ثلاثة أجزاء، بحيث يقرب من الثلث؛ لِأَنَّ ذلك أَقْرَبُ إلى فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيجزءون ثلاثة، وثلاثة، واثنين، ويقرع بينهم، فإن خرج سهم ¬
العتق على ثلاثة رَقَّ غيرهم، وانحصر العتق فيهم، ثم يُقْرَعُ بينهم بِسَهْمَي عِتْقٍ وَسَهْمَيْ (¬1) رِقٍّ، فمن خرج له الرق؛ رَقَّ ثُلُثُه، وعتق ثلثاه مع الآخرين وذلك تمام الثلث، وإن خَرَجَ سهم العتق على اثنين عتقَا، ثم تعاد القرعة بين الستة، ويجعل كل اثنين جزءاً، فإذا خرج سهم العتق باسْمِ اثنين، أَعَدْنَا القُرْعَةَ بينهما، فمن خرج له سهم العتق، عتق ثُلُثَاهُ وهذا إذا كتبنا في الرقاع الرق والحرية، وإن كتبنا الأسماء فإذا خرج اسم اثنين وعتقا؛ لم تعد القرعة بين الستة، بل يخرج رقعة أخرى ثم يقرع بين الثلاثة المسمين فيها، فمن خرج له سهم العتق عتق ثلثاه (¬2)، ولا يجوز على هذا القول أن تُجَزِّءهم أربعة واثنين واثنين لبعد (¬3) هذه التجزئة عن التثليث. والقول الثاني: أنا لا نُراعي التَّثْلِيثَ، بل نراعي ما هو أقرب إلى فصل الأمر، فيجوز أن تكتب أسماؤهم في ثمان رقاع ويخرج واحدة بعد واحدة إلى أن يتم الثلث، ويجوز أن يجعلوا أرباعاً ثم إن شئنا أثبتنا اسم كل اثنين في رقعة، فإذا أخرجنا واحدة على الحرية عتقا، ثم يخرج رقعة أخرى ويقرع بين الاثنين اللذين اسمهما فيها، فمن خرجت له القرعة عتق ثلثاه (¬4) وإن [شئنا] (¬5) أثبتنا الرق والحرية، فأثبتنا العتق في واحدة والرق في ثلاث، فإذا خرجت رقعة الحرية لاثنين عتقا، ويعيد القرعة بين الستة، فإذا خرجت الحرية لاثنين آخرين، أَقْرَعْنَا بينهما كما سبق ولا يبعد أن نجوز على هذا إثبات العتق في رقعتين، والرق (¬6) في رقعتين ويعتق الاثنان اللذان خرجت لهما رقعة العتق أولاً، وَيُقْرَعُ بين اللذين تخرج لهما رقعة العتق الثانية، وإن كان العبيد سبعة فعلى القول الأول يُجَزِّءهم ثلاثة، واثنين، واثنين، وعلى الثاني: نجزئ كيف شئنا، إلى أن يستوفى الثلث، وإن كانوا أربعة قيمتهم متساوية: فعلى القول الأول نجزءهم اثنين وواحداً وواحداً، فإن خرج سهم الحرية لأحد الواحدين؛ عتق ثم يعيد القرعة بين الثلاثة فمن خرج له سهم الحرية؛ عتق ثلثه، وإن خرج الاثنين أقرعنا بينهما فَمَنْ خرج له سهم الحرية؛ عُتِقَ كله، ومن الآخر ثلثه، وهذا على تقدير إثبات الرق والحرية في الرقاع. وعلى القول الثاني: إما أن يثبت اسم كل واحد في رقعة ويخرج باسم الحرية، فمن خرج له اسمه أولاً؛ عتق، ومن خرج اسمُهُ ثانياً؛ عتق ثلثه، وإن كانوا خمسة قيمتهم متساوية: فعلى الأول نُجَزِّءهم اثنين اثنين، وواحداً، وعلى الثاني: لنا إثبات أسمائهم في خمس رقاع. ثم القولان في الاستحباب، والاستحقاق أم في الاحتياط ¬
والاستحباب؟ حكى الإِمام عن القَاضِي -رحمهما الله- أن الخلاف في الاستحباب وكل منهما جائز، وهذا ما اختاره. وعن الصَّيْدَلاَنِيِّ: أنه في الاستحقاق هذا ما يوافق إيراد الأكثرين وهو قضية نظم الكتاب، فإنه حكى القولين: في أنه هل يجب تجزئتهم بثلاثة أجزاء؟ ثم قال: وَقِيلَ هذا الخلاف في الاستحباب، وإذا أعتق عبيداً [من عبيده] (¬1) على الإبهام؛ فقد يحتاج إلى تجزئتهم أربعة أجزاء (¬2)، أو خمسة وأكثر فَيُجَزَّءُونَ بحسب الحاجة، فكذلك لو كان على المعتق دين على ما سنذكر على الأثر إن شاء الله تعالى. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (فُرُوعٌ، الأَوَّلُ) إِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِقَدْرِ رُبُعِ التَّرِكَةِ وَلاَ مَالَ له إِلاَّ عَبِيْدٌ قَدْ أَعْتَقَهُمْ فَيُجَزأُ العَبِيْدُ بِأَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ وُيُقْرَعُ لِلدَّيْنِ وَالتَّرِكَةِ، فَإذَا خَرَجَ عَلَى جُزْءٍ سهم الدَّيْن بيع أَوَّلاً فِي الدَّيْنِ وَقُدِّرَ البَاقِي كَأَنَّهُ كُلُّ المَالِ فَيُقْرَعُ لإِعْتَاقِ الثُّلُثِ مِنْهُمْ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقْرَعَ دُفْعَةً وَاحِدَةً لِلدَّيْنِ وَالتَّرِكَةِ وَالعِتْقِ لأنَّهُ رُبَّمَا يَسْبِقُ قُرْعَةُ العِتْقِ وَلاَ يُمْكِنُ تَنْفِيذُهُ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَقِيْلَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ ثُمَّ يَتَوَقَّفُ العِتْقُ عَلَى القَضَاءِ، وَإِذَا دَفَعْنَا بَعْضَ العتْقِ لِأَجْلِ الدَّيْنِ فَظَهَرَ لِلْمَيِّتِ دفين تبينا نفوذ العتْقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إِذَا أعتق في مرض موته عبيداً لا مال له غيرهم ومات وعليه دين، نُظِرَ إن كان يستغرقهم فَالدَّيْنُ يُقَدَّمُ على العتق؛ لأن العتق وصية، والدَّيْنَ مُقَدَّمٌ على الوصية، وأيضاً فحق الورثة (¬3) في الثلثين يتقدم على العتق، والدَّيْنُ مقدم (¬4) على حق الورثة، فَأَوْلَى أن يقدم على العتق فيباعون وتصرف أثمانهم إلى الدَّيْنِ، وإن كان لا يستغرقهم ويحيط ببعضهم؛ فَيُقْرَعُ بين الدَّيْنِ والتركة ليصرف العتق عما يتعين للدين، فإن كان الدَّيْنُ بقدر نصفهم؛ جعلناهم جزأين وأقرعنا بينهما بسهم دَيْنٍ وَسَهْمِ تَرِكَةٍ ثم إن شئنا كتبنا أسماء كل جزء في رقعة وأخرجنا رقعة لِلدَّيْنِ، أو التركة، وإن شِئْنا كتبنا الدَّيْنَ في رُقْعَةٍ والتركة في أخرى، وأخرجنا إحداهما على أحد الجزأين (¬5) وإن كان الدَّيْنُ بقدر ثلثهم [جَزَّأْنَاهُمْ] ثلاثة أجزاء، وأقرعنا بينهم بسهم دَينٍ وَسَهْمَيْ تركة، وإن كان بقدر الربع جَزَّأْناهُم أربعة أجزاء، وأقرعنا بسهم دَيْنٍ وثلاثة أسهم تركة، وهل يجوز أن يقرع لِلدَّيْنِ والعتق والتركة؟ بأن يقرع والصورة هذه بسهم دَيْنٍ، وسهم عتق، وسهمي تركة، أو يُجَزِّئهم وَالدَّيْنُ بقدر النصف ستة أجزاء، ويقرع بثلاثة أسهم لِلدَّيْنِ وسهم للعتق وسهمين للتركة. فيه وجهان: ¬
أصحهما: وهو المنصوص: لا؛ لأنه لا يمكن تنفيذ العتق قبل قضاء الدَّيْنِ، ولو تلف المعين لِلدَّيْنِ قبل [قضَائه] العكس الدَّيْنُ على الباقي من التركة، وكما لا يقسم شيء على الورثة قبل قضاء الدَّيْنِ لا يعتق قبله. والثاني: يجوز؛ لأن العمل فيه أخف، فلا ينقص به حتى ذي حق، وعلى هذا فالذي نقله في الكتاب: أنا نتوقف في تنفيذ العتق إلى أن يَقْضِيَ الدَّيْنَ وفي "التَّهْذِيبِ" ما يقتضي الحكم بالعتق في الحال، فإنَّه قَالَ فيما إذا كان العبيد ثلاثة متساوين في القيمة والدَّيْنِ يقدر قيمة أحدهم على هذا الوجه: يقرع بينهم بسهم دَيْنٍ، وسهم عتق، وسهم تركة، فمن خرج عليه سهم الدين، بِيعَ فيه، ومن خرج عليه سهم العتق؛ عتق ثُلُثَاهُ، وَرَقَّ ثلثه مع الثالث. وَذَكَرَ اَلصَّيْدَلاَنِيُّ: أن الوجهين مبنيان على قولين سنذكرهما، فيما إذا أعتقنا ثلث العبيد بالقرعة، ولا دَيْنَ ثم ظهر دَيْنٌ غَيْرُ مستغرق هل يبطل أصل القرعة؟ إن قلنا: نعم -فلا يجوز أن يقرع للعتق ولم يحصل قضاء الدين. وإن قلنا: لا -فلا بأس بالجمع. وإذا قلنا بالوجه الأصح، فإذا تعين بعضهم لِلدَّيْنِ يُبَاعُ ويقضي منه الدَّيْنُ ثم يقرع للعتق وحق الورثة. ولو قال الورثة: [أقضى] (¬1) الدَّيْنَ من موضع آخر، [وأمضى] (¬2) العتق في الجميع فهل يَنْفُذُ الْعِتْقُ؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم-؛ لأن الدَّيْنَ هو الذي كان يمنع النفوذ فإذا سقط الدَّيْنُ بقضائهم من غير العبد؛ وجب أن ينفذ كما لو أسقط الورثة حقوقهم من ثلثي التركة، وأجازوا العتق في الجميع. والثاني: لا-؛ لأن تَعَلُّقَ الدَّيْنِ منع من نفوذه فلا ينقلب نافذاً بسقوطه، كما لو أعتق الراهن، وقلنا: لا ينفذ عتقه فقال: أنا أقضي الدَّيْنَ من غيره لينفذ، فإنه لا ينفذ إلاَّ أن يبتدئ [إعتاقاً] (¬3) وبنى (¬4) الوجهان على: أن تصرف الورثة في التركة قبل قضاء الدَّين هل (¬5) ينفذ؟ هذه إحدى مَسْأَلَتَي الفَصْل. والثانية: لو ظهر للميت دفين بعد ما أعتقنا بعض العبيد الدين أَعْتَقَهُم بالقرعة، ¬
وأَرْقَقْنَا البعض، فإن كان بحيث يخرج جميعهم من الثلث بأن كان الدَّيْنُ مثلي قيمتهم، فيحكم بعتقهم جميعاً، وَيَدْفَعُ إليهم أكسابهم من يوم إعتاقهم، ولا يرجع الوارث بما أنفق عليهم كمن نكح امْرَأَةً نكاحاً فاسداً على ظن أنه صحيح، ثم فرق القاضي بينهما لا يرجع الزوج بما أنفق، وإن خرج من الثلث بعض من أرققناهم أعتقناهم بالقرعة، وذلك كما إذا أعتقنا واحداً من ثلاثة، ثم ظهر [مال] (¬1) يخرج به عبد آخر من الثلث؛ يُقْرعُ بين اللذين أرققناهما (¬2) فمن خرج له سهم الحرية عتق، ولو أعتقنا بعض العبيد بالقرعة، ولم يكن عليه دَيْنٌ ظاهر ثم ظهر دَيْنٌ؛ نُظِرَ إن كان مستغرقاً للتركة؛ فالعتق باطل، فإن قال الورثة: نحن نقضي الدَّيْن من موضع آخر، فعلى الوجهين السابقين، واستبعد الشَّيْخُ بِنَاءَهُمَا على الخلاف في تصرف الوارث في التركة قبل قضاء الدين. وقال هناك: الوارث ينشئ إِعْتَاقاً من عنده، ولا يمضي ما صدر عن المورث وإنما الخلاف مبني على أن: إجازة الوَرَثَةِ الوَصِيَّةَ بما زاد على الثلث تنفيذ لما فعله المُوَرِّثُ أو ابتداء عطية من الوَرَثَةِ، إن قلنا: تنفيذ؛ فلهم إِمْضَاءُ عتقه بقضاء الدَّيْنِ من موضع آخر، وإن قلنا: ابتداء عطية فينبغي أن يقضوا الدَّين أولاً، ثم [يبتدِئوا] إعتاقاً، وإن كان الدَّيْنُ الذي ظهر غير مستغرق، فهل تبطل القرعة من أصلها؟ فيه وجهان ويقال قولان: أحدهما: نعم؛ لأن الدَّيْنَ مستحق كالعتق، ولم يكن الدَّيْنُ ظاهراً فهو كما لو اقتسمه شريكان، ثم ظهر لهما شريك ثالث، وعلى هذا فيقرع الآن لِلدَّيْنِ وَالتَّرِكَةِ، ولا يبالي بوقوع سهم الدَّين على من خرجت له قرعة العتق أولاً. وأظهرهما: لا-. ولكن إن تبرع الوارث بأداء الدَّيْنِ؛ نَفَذَ العتق، وإلاَّ فيرد العتق بقدر الدَّين، فإن كان الدَّيْنُ نِصْفَ التركة رددنا العتق في نصف من أعتقنا، وإن كان قدر ثلثها؛ رددناه في ثلثهم، فلو كان العبيد ستة متساوين في القيمة، وأعتقنا اثنين منهم بالقرعة، ثم ظهر دَيْنٌ بقدر قيمة عبدين [فنبيع] (¬3) من الأربعة عبدين لِلدَّيْنِ، كيف اتفق؛ لأنه لا حق لهم في العتق [فإذا] (¬4) وهب الدَّيْنَ اثنان بقي أربعة وثلثهم عبد وثلث، فيقرع ببن اللذين خرجت لهما قرعة الحرية بسهم عتق وسهم رق فمن خرج له سهم الرق رَقَّ ثلثاه، وعتق ثلثه مع الآخر وإن ظهر الدَّيْنُ بقدر قيمة ثلاثة منهم، يقرع بين اللذين كان قد خرج لهما سهم الحرية، فمن خرج له سهم الحرية عتق ورقَّ الآخر وإن كان العبيد أربعة [وأعتقنا] (¬5) بالقرعة عبداً وثلثاً، ثم ظهر دَيْنٌ بقدر قيمة عبد، وقلنا بالوجه الثاني؛ فيباع في الدَّيْنِ واحد من الذين أرْقَقْنَاهُم ويقرع بين الذين أعتقنا، فإن ¬
خرجت للذي أعتقنا كله كان [حراً] (¬1) وَرَقَّ الآخر، وإن خرجت للذي أعتقنا ثلثه؛ فَثُلُثُه حُرٌّ وَمِنَ الآخر ثلثاه، وذكر الصَّيْدَلاَنِيُّ: أن الخلاف في المسألة مبني على: أن الورثة إذا اقتسموا ثم ظهر دَيْنٌ هل تنقض القسمة؟ وإذا اقتسمموا مع العلم بالدَّيْن فالقسمة بَاطِلَةٌ أو مَوْقوفَةٌ. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الثَّانِي:) إِذَا أُبْهِمَ العِتْقُ بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ هَلْ يَكُونُ الوَطْءُ تَعْيِيناً لِلْمِلْكِ فِي المَوْطُوءَةِ؟ فِيْهِ وَجْهَانِ، وَفِي اللَّمْسِ بِالشَّهْوَةِ وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ، والاسْتِخْدَامُ لاَ يُعَيَّنُ عَلَى الأَصَحِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال الرجل لعبيد له: أحدكم حر أو اثنان حران أو أعتقت أحدكم، فإما أن يريد معيناً، أو يطلق اللفظ، ولا يقصد معيناً (¬2): أردت هذا؛ عتق، ولغيره أن يَدَّعِيَ [عليه] (¬3): أنَّكَ أردتني، وَيُحَلِّفُهُ فإن نَكَلَ السيد؛ فله أن يَحْلِفَ، ويعتق هو أيضاً باليمين المردودة. [فلو] (¬4) عَيَّنَ واحداً -وقال: أردت هذا- ثم قال: لا، بل هذا، عتقا مُؤَاخَذَةً له بإقراره. ولو قتل واحداً منهم لم يكن ذلك بياناً، بل يَبْقَى الأمر بالبيان، فإن قال: أَرَدْتُ المقتول؛ فعليه القصاص، ولو جرى ذلك في إماء أو أمتين، ثم وَطِئَ واحدة، لم يكن الوطء بياناً للعتق في غير الموطوءَةِ، حَتَّى لو بين العتق فيها، تعلق به اَلْحَدُّ، والمهر لجهلها بأنها العتيقة، وإذا مات قبل البيان ففيه طريقان: أظهرهما (¬5): أن وَارِثَهُ يقوم مقامه، فإنه خليفته، وربما ذكر ذلك له وأطلعه عليه. والثاني: أن فيه قولين كما في الحالة الثانية، فإذا أقمناه مقامه فبين الوارث أحدهم؛ عتق ولغيره تحليفه على نفي العلم، وأنَّ لم يكن وارث أو قال الوارث: لا أعلم -فالظاهر أنه يُقْرَعُ بينهم؛ لأنه قد أشْكَلَ الحال والقرعة قد تعمل في العتق. وفيه وجه أو قول: أنه لا يقرع؛ لأنه قد تخرج قرعة الرق على الحر، بل يوقف، وبهذا قال ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. ولو قال المعتقُ: نسيت منْ عَيَّنْتُهُ فيؤمر بالتذكر. قال الإِمَامُ: وفي الحبس، والحالة هذه احتمال، والذي أطلقه الأصحاب -رحمهم الله-: أنه يحبس، وإن (¬6) مات قبل التذكر ففي بيان الورثة والقرعة إذا قالوا: لا نعلم ما مر وهكذا يكون الحكم لو سمى واحداً وأَعْتَقَهُ ثم قال: نسيت من سميته. ¬
الحالة الثانية: إذا لم يرد معيناً فيؤمر بالتعيين ويوقف عنهم إلى أن يبين، ويلزمه الإنْفَاقُ عليهم، فإذا عَيَّنَ أحدهم؛ عتق، وليس لغيره أن ينازع فيه مع تسليم أنه لم يقصد معيناً، وإذا قال: عينت هذا بل هذا عتق الأول، ولُغِيَ قوله للثاني؛ لأن التعيين حصل بالأول بخلاف قوله: عينت هذا، بل هذا فإنه إخبار ثم العتق في المعين يحصل في الحال أو يتبين حصوله من وقت اللفظ المبهم. فيه وجهان سبق نظيرهما في الطلاق، وقد يُعَبَّرُ عن هذا الخلاف بِأَنَّ الإِبْهَامَ يوقعُ (¬1) العتق في الحال أو (¬2) هو التزام عتق في الذمة، وَخُرِّجَ على الخلاف: أَنه لو مات أحدهم فعينه -هل يصح؛ إن قلنا بحصول [العتق عند] (¬3) التعيين، فلا يصح؛ لأن الميت لا يقبل العتق، وعلى هذا فلو كان الإبهام في عبدين، فإذا بطل التعيين في الميت تعين الثاني، ولا حاجة إلى لفظ، وإن قلنا بالوقوع عند الإبهام صَحَّ تعيينه، والتعيين على هذا بيان أيضاً، ولو جرى ذلك في أَمَتَيْنِ أَوْ إِمَاء -فهل يكون [الْوَطْءُ] تعيناً لغير المَوْطُوءَةِ؟ فيه وجهان كما ذكرنا في "الطلاق". ونقل (¬4) ابْنُ الصَّبَّاغِ أن التعيين قوله أكثر الأصحاب -رحمهم الله- وهو اختيار المُزَنِيِّ، وإذا لم نجعله تعيناً فلو عين العتق في الموطوءة فلا حد عليه، وبنى في "التَّهْذِيبِ" حكم المهر على أن العتق يحصل عند التعيين، أو باللَّفْظِ الأول، إن قلنا بالأول؛ لم يجب، وإن قلنا بالثاني؛ وجب. وقال أَبُو حَنِيْفَةَ: [الْوَطُء] لا يكون تعيناً إِلا إِذَا أَحْبَلَهَا، [الوطْء] فيما دون الفَرْجِ، وَالقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ بالشهوة يترتب على [الوطء] إن لم يكن تعيناً فهذه أولى، وإن كان تعيناً فوجهان؛ لأنهما أَخَفُّ من [الوطء] والاستخدام يترتب (¬5) على هذه الاسْتِمْتَاعَاتِ حكى ذلك عن الْقَاضِي الحُسَيْنِ وغيره والصحيح أنه ليس يتعين. قال الإِمام -قَدَّسَ اللهُ روحَهُ-: وهذا يوجب طَرْدَ الخلاف في أن الاستخدام في زمان الخيار يكون فسخاً، أو إجازة والعرض على البيع كالاستخدام، ولو باع بعضهم أو وَهَبَهُ، وأَقْبَضَهُ أو أجرهُ. قال في "التَّهْذِيبِ": فيها وجهاً [الوطء]؛ لأنها من تصرفات الملاك (¬6) وعن أَبِي حَنِيْفَةَ: أنَّها تكون تعيناً، والإعتاق ليس بتعيين، ثم إن عَيَّنَ فيمن أعتقه قبل، وإن عين في غيره عتقا، وقتل السَّيِّدِ أَحَدَهُمْ ليس بتعيين، ثم إن عَيَّنَ في غير المقتول؛ لم يلزمه إلاَّ الكفارة، وإن عين في المقتول؛ لم يجب القصاص للشبهة، وأما المال فإن قلنا: ¬
العتق يحصل عند التعيين فلا يجب عليه وإن قُلْنَا: يحصل عند الإِبْهَامِ؛ فعليه الدِّيَةُ لورثته، وإن قَتَلَ أَجْنَبِيٌّ أَحَدَهُمْ؛ فلا قصاص إن كان القاتل حراً، ثم إن عين في غير المقتول، فعليه القيمة، وإن عَيَّنَ وقلنا: إن العتق يحصل عند التعيين، فكذلك كما لو نذر إعتاق عبد بعينه فقتل، وإن قلنا: يحصل عند [إبهام] (¬1) اللفظ؛ فعليه الدية لورثة المقتول. ولو مات قبل التعيين فهل للورثة التعيين؟ فيه قولان -وَيُقَالُ وجهان: أحدهما: لا؛ لأن [ذلك] (¬2) متعلق باختيار المبهم وقد فات؛ لأنه في حكم تكميل اللفظ فَلْيُؤْخذ (¬3) مِنَ المُتَلَفِّظِ. وأظهرهما: نعم؛ لأنه خيار يتعلق بالمال [فيخلف] (¬4) الوَارِثُ المُوَرثَ فيه كما في خيار البيع والشفعة. وعن الْقَاضِي الحُسيْنِ بِنَاءً على الخلاف: على أن التعيين إيقاع، عتق في الحال، أو يستند إلى وقت الإِبْهَام، إن قلنا إيقاع في الحال فيقوم الوارث فيه مقام [الموروث] (¬5) كما يعتق عنه بأمره وفي تأدية كفارة، وإن قلنا ليس إيقاعاً في الحال فلا. قال الإِمام: وهذا عندنا بالعكس أَوْلَى [فإنا] (¬6) إن جعلناه إيقاعاً فهو تَتِمَّةُ اللَّفْظِ، ولا يجوز أن ينقسم لفظ في الإيقاع بين (¬7) شخصين. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الثَّالِثُ:) إِذَا قَالَ لِمَمْلُوكَتِهِ: أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِيْنَهُ فَهُوَ حُرٌّ فَوَلَدَتْ مَيِّتاً انْحَلَّتِ اليَمِينُ وَلَمْ يُعْتَقِ الحَيُّ بَعْدَهُ (الرَّابعُ:) إِذَا قَالَ لِمَمْلُوكِهِ: أَنْتَ ابْنِي عُتِقَ عَلَيْهِ وَلَحِقَهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ سِنّاً مِنْهُ فَلاَ يُعْتَقُ، وَإِنْ كَانَ مَشْهُورَ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ فَفِي العِتْقِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال لأَمَتِهِ: أول ولد تلدينه فهو حر فولدت ميتاً ثم حياً لم يعتق الحي؛ لأن الشرط قد حصل بولادة الميت؛ ألا ترى أنه لو قال: إذا ولدت فَأَنْتِ حُرَّةٌ يُعْتَقُ الثاني؛ لأن الميت ليس بمحل [زوال] (¬8) العتق، وإذا وجدت الصفة يَنْحَلُّ اليمين. وقال أَبُو حَنِيْفَةَ: يعتق الثاني وسلم أنه لو قال: أَوَّلُ عبد رأيته من عبيدي فهو حر فرأى واحداً منهم ميتاً؛ ينحل اليمين حتى إذا رأى بعده حياً لا يعتق. وإذا قال لعبده: أَنْتَ ابْنِي ومثله يجوز أن يكون ابْناً له ثبت نسبه، وعتق إن كان ¬
صغيراً، أو بالغاً، وَصَدَّقَهُ، وإن كَذَّبَهُ عتق أيضاً، وإن كان هو المصدق في نفي النسب، وإن لم يمكن أن يكون ابناً له بأن (¬1) كان أكبر منه أو مثله في السن, أو أصغر على حَدٍّ لا يتصور أن يكون ابنه لغى قوله ولم يعتق؛ لأنه ذكر محالاً. وقال أَبُو حَنِيْفَةَ: يحكم بعتقه، هذا في مَجْهُولِ النسب، وإن كان معروف النسب من غيره فلا يلحق به، وهل يحكم بعتقه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا-؛ لأن العتق يَثْبُتُ بتبعية النسب وليس هو ممن يستلحق وأشبههما: نعم؛ لأن قوله يتضمن الإقرار بالنسب، والعتق، فإن لم يقبل في النسب لحق الغير لم يمتنع مُؤَاخَذَتِهِ بالعتق. وقوله في الكتاب: "إلا أن يكون أكبر سناً منه" -الاستثناء غَيْرُ مُنْحَصِرٍ في هذه الحالة على ما بَيَّنَّاه. ولو قال لزوجته: أنت ابنتي -قال الإِمام الحكم في حصول الفراق وثبوت النسب كما في العَتَاقِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الخَامِسُ:) إِذَا قَالَ: إِنْ أَعْتَقْتُ غَانِمَاً فَسَالِمٌ حُرٌّ ثُمَّ أَعْتَقَ غَانِمَاً وَكُلُّ وَاحِدٍ ثُلُثُ مَالِهِ عُتِقَ غَانِمٌ وَلاَ قُرْعَةَ لِأَنهُ رُبَّمَا يُخَرَّجُ عَلَى سَالِمٍ فَيُعْتَقُ بِغَيْرِ وُجُودِ الصِّفَةِ (السَّادِسُ:) عَبْدٌ مُشْتَرَكٌ قَالَ أَحَدُهُمَا: إِنْ كَانَ الطَّائِرُ غُرَاباً فَنَصِيبي حُرٌّ وَقَالَ الآخَرُ: إنْ لَمْ يَكُنْ فَنَصِيبِي حُرٌّ فَلاَ يُعْتَقُ شَيْءٌ لِلشَّك فَإنِ اشْتَرَاهُ ثَالِثٌ حُكِمَ بِحُرِّيَّةِ نِصْفِهِ فِي يَدِهِ وَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَيهِمَا بِالثَّمَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفرعان متكرران: أما الأول: فمذكور في [كتاب] (¬2) "الوصية"، وأما الثاني: في الكتاب الذي نحن فيه، وإن بعد العهد بالوصية فهو بالعتق ليس ببعيد (¬3) [والتكرار] (¬4) فيه أبعد عن الْعُذْرِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (السَّابعُ:) إِذَا قَالَ لِعَبْدَيْهِ: أَعْتَقْتُ أَحَدَكُمَا عَلَى أَلْفٍ فَقَبِلاَ وَمَاتَ قَبْلَ البَيَانِ وَقُلْنَا: الوَارِثُ لاَ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي التَّعْيِينِ فَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ عُتِقَ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ رَقَبَتِهِ لِفَسَادِ المُسَمَّى بِالإِبْهَامِ، وَقِيلَ: يَصِحُّ المُسَمَّى. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال لِعَبْدَيْنِ له: أَعْتَقْتُ أحدكما على ألف، أو أحدكما حر على ألف، فلا يعتق واحد منهما ما لم يقبلا؛ لتعلق العتق بِالْقَبُولِ كما إذا قال: اْحدكما حر إن شئتما لا يعتق واحد منهما إلاَّ إذا شاءا فإذا قبلا جميعاً كل واحد منهما الألف؛ عتق ¬
أحدهما، ويؤخذ السيد بالبيان كما لو أعتق أحدهما بغير عوض، فإن مات قبل البيان، ولم يقم الوارث مقامه في البيان أو لم يكن وارث أَقْرَعَ بينهما، فمن خرجت قرعته؛ عَتقَ ولا يعتق مجاناً؛ لأنه لَمْ يَتَبَرَّعْ بإعتاقه، وإنما أُعْتِقَ على عوض وفيما يلزم العتيق وجهان: أصحهما: وبه قال ابْنُ الحَدَّدِ: أنه يلزمه قيمته لفسادِ المُسَمَّى من جهة أنه لم يعين أحدهما فصار كما إذا قال: بعته من أحدكما بألف فقبلا لم يصح، وإنما حصل العتق لتعلقه بالقبول، وهذا كما أنه لو قال لامرأته: إن أَعْطَيْتِنِي عبداً فأنت طالق، فأعطته عبداً يقع الطلاق ولا يملك الزوج ذلك العبد، بل يرده ويرجع عليها بمهر المثل. والثاني: ويحكى عن أَبِي زَيْدٍ: أنه يلزمه المسمى؛ لأن المقصود العتق لا المعاوضة فيحتمل إبهام العوض تبعاً للعتق. ولو قال لِأمَتَيْهِ: إحداكما حرة على ألف فَقَبلَتَا ثم وطئ إحداهما -قال الشيخ أَبُو عَلِيٍّ: هل يكون الوَطء اختياراً لِلْمِلْكِ في الموَطوءَةِ، وتعيين الأخرى للعتق؟ فيه وجهان: كما لو أعتق إحداهما بلا عوض، وَوَطِئَ, هذا ما ذكره في "الفروع" ويمكن أن يقال: إن لم يقصد أحدهما بعينه فلا بد من قبولهما وإن قصد أحدهما بعينه فيكفي قبول الذي قصده. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الثَّامِنُ) جَارِيَةٌ مُشْترَكَةٌ زَوَّجَاهَا مِنِ ابْنِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فَوَلَدَتْ عُتِقَ نِصْفهُ عَلَى أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ جَدُّ المَوْلُودِ وَلاَ يَسْرِي إِذْ لاَ اخْتِيَارَ، وَلَوْ غَرَّ بِجَارِيَةِ أَبِيْهِ فَفِي لُزُومِ قِيْمَةِ الوَلَدِ وَجْهَانِ لِأَنَّهُ كَانَ يُعْتَقُ عَلَى الحَدِّ لَوْلاَ ظَنُّهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه مسألتان: إحداهما: جارية بين شريكين زَوَّجَاهَا من ابن أحدهما فأتت منه بولد يعتق نصفه على الحد، ولا يسري إلى النصف الآخر؛ لأن شرط السِّرَايَةِ حصول العتق بالاختيار، ولم يوجد، ولا نظر إلى أنه زوِّجَ برضاه؛ لأن الوطء والعلوق لا يتعلقان باختيار المعلق، وَعَلَّلَ بعضهم امتناع السِّرَايَةِ بأن نصفه انعقد حراً، والحرية الأصلية لا تسري، وإنما يسري العتق الوارد على الرق. ومن قال بالأول منع ذلك وقال: ينعقد الكل رقيقاً ثم يعتق النصف على الجَدِّ بالقرابة، وتوسط صَاحبُ الْكِتَابِ بين القولين فقال: عندي يَنْدَفِعُ رِقُّهُ لموجب العتق، وكذلك لو اشترى قريبه يندفع الملك والاندفاع في معنى الانقطاع. الثاني: قد سبق في "النكاح" أن من نكح أمة غُرَّ بحريتها فأتت منه بولد ينعقد الولد حراً، ويجب على المَغْرُورِ قيمته لمالك الأَمَةِ؛ لفوات الرق عليه بظن المغرور. هذا هو المذهب الظاهر. وحكى الشيخ أَبُو عَلِيٍّ: أن بعض الأصحاب ذكر وجهاً: أن الولد
يخلق (¬1) رقيقاً ثم يعتق على المغرور، وله وَلاَؤُه (¬2) وإذا قلنا: ينعقد حراً فلا قيمة على المغرور، وهو غريب. قال الشَّيْخُ أبُو عَلِيٍّ، وفي القلب من وجوب القيمة على المغرور شيء؛ لأنه لم يتلف ملكاً على مالك الأمة وإنما منع دخول شيء في ملكه، لكن ليس فيه خلاف مُعْتَدٌّ بِهِ. وأجمعت الصحابة -رضي الله عنهم- على وجوب الضمان فلا بد من متابعتهم. إذا عرف ذلك، فلو نكح جارية [ابنه] (¬3) مغروراً بحريتها فأتت منه بولد هل يلزمه قيمة الولد؟. فيه وجهان: أحدهما: لا- لأنه إن انعقد حراً؛ فينبغي ألاَّ يلزمه شيء، وإن انعقد رقيقاً فيعتق على الجَدِّ بالقرابة، وأيضاً فإنَّه لم يفوت بظن الحرية رقاً على الأب منتفعاً به؛ لأنه كان يعتق على الجَدِّ وإن لم يوجد هذا الظن. وأصحهما: وبه قال ابْنُ الحَدَّادِ: يجب؛ لأن الغرور اْوجب انعقاده حراً ولم يملكه الجَدُّ حتى يعتق عليه، فَأَشْبَهَ سائر صور الغرور. ولو نكحها عالماً بالحال فيملكه الحد ويعتق عليه، هذا هو الظاهر، ولم يستبعد الإِمام أن يقال أنه ينعقد حراً ويردف هذه الفروع [المتفرقة] (¬4) بفروع تتعلق بالباب. منها: ذَكَرَ ابْنُ الحَدَّادِ أنه لو زوج أمته من عبد غيره وقبض مهرها وأتلفه ومات، ولا مال له غيرها، والزوج لم يدخل بها بعد فأعتقها الوارث نَفَذَ عتقهُ وَقَدَّمَ الشَّيْخُ أبو عَلِيٍّ في شرح الفروع فصلين: أحدهما: إِذَا أعتق الوارث عبد التركة، والموروث (¬5) مديون، نُظِرَ إن كان الوارث معسراً فالعتق غير نافذ؛ لما في نفوذه من إبطال حق الغرماء، قطع به الشيخ أبو علي وعن الشيخ أَبِي محمد (¬6) أن إعتاقه كإعتاق الراهن فيجيء في نفوذه قول، وإن كان معسراً، وَرَأيُ الإِمام: الوجه الأول؛ لأن حق الوثيقة طَرَأَ على ملك الراهن ودام الملك له، والوارث يتلقى الملك بالخلافة وهي مشروطة بتقديم حق الميت. وإن كان موسراً ففيه وجهان: ¬
أحدهما: وبه قال ابْنُ الحَدَّادِ: أنه يَنْفَذُ وينتقل الدَّيْنُ إلى مال الوارث كما لو أعتق السيد عبده الجاني، أو أعتق المريض عبده، وله مال يفي بديونه ينفذ العتق، ويقضي الدَّيْنَ من سائر أمواله. هذا لفظ الشيخ ونقل الإِمام عنه: أنا إذا نفذنا العتق، نقلنا الدَّين إلى ذمة الوارث إذا لم يخلف سوى العبد قال: ولست أرى الأَمْرَ كذلك، فَالدَّيْنُ لا يتحول إلى ذمة الوارث قط ولكنه بالإعتاق متلف للعبد فعليه أقل الأمرين من الدَّيْنِ وقيمة العبد. والثاني: أنه موقوف، فإن أدى الوارث الدَّيْنَ من ماله؛ تَبَيَّنَ نفوذ العتق وإلاَّ بيع العبد في الدَّيْن، وبَانَ أن العتق لم ينفذ، ولو باع الوارث التركة بغير إذن الغُرَمَاءِ؛ لم يَنْفُذْ بَيعَهُ إن كان مُعْسِراً، وإن كان موسراً ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن البيع باطل؛ لأنه كالمرهون بديون الغُرَمَاءِ. والثاني: أنه يصح؛ ويلزم وسيأتي [تفريعه] (¬1) إن شاء الله تعالى. والثالث: أنه موقوف كما ذكرنا في العتق، وللإمام هاهنا أبحاث: أحدها: يحكى عن الشيخ أَبِي مُحَمَّدٍ: تنزيل التركة منزلة العبد الجاني وقد سبق في بيع السيد العبد الجاني -إِطلاَقُ قولين من غير فرق بين المعسر والموسر، فيجيء قول هاهنا في بيع الوارث، وإن كان معسراً ثم فرق بين التركة، والعبد الجاني بما فرق به بينها وبين (¬2) المرهون. والثاني: ذكر الشَّيْخُ تفريعاً على صحَّةِ البيع أن الثمن يصرف إلى الغرماء وأن المشتري لو دفع الثمن إلى الوارث، فتلف في يده؛ كان للْغُرَمَاءِ تغريم المشتري. قال الإِمام: والوجه عندي القطع بأنهم لا يُطَالِبُونَ المُشْتَرِي [وإنما] إذا ألزمنا البيع كان بمثابة الإعتاق الذي عوض له، وَبِتَقْدِير أن يكون الثمن مستحقاً للغرماء، فما ينبغي أن يفرق بين المعسر والمُوسِرِ. والثالث: قال: إِلْزَامُ البيع بعيدٌ فإن بيع العبد الجاني، وإن صححناه لا يلزم؛ مع أن تَعَلُّقَ ألأَرْشِ به أضعف على ما ذكرنا، فبيع الوارث أولى بأن لا يلزم. والرابع: في بيع المُفْلِسِ المحجور عليه قول: أنه يَنْعَقِدُ على التوقف فيجوز إجراؤه في الوارث المعسر. وَاعْلَمْ أن جميع ما ذكرناه مُفَرَّعٌ على أن الدَّيْنَ لا يمنع الميراث، أما إذا قلنا يمنعه، والتركة مُقرَّةٌ على مِلْكِ الميت فلا يصح تصرف الوارث بحال، وإن ذكرنا في ¬
كتاب "الرَّهْن" وجهاً: أن إِعْتَاقَهُ لا ينفذ بحال كالبيع، ووجهين في أن تعلق الدَّيْنِ بالتركة كتعلق الدَّيْنِ بالمرهون، أو كتعلق الأَرْشِ بالجاني، وَأَنَّ الأَظْهَرَ الأول وحينئذ فيكون الأظهر في الإعتاق النفوذ، كما في إعتاق الراهن الموسر، وفي البيع المنع. والفصل الثاني: ذكرنا في "النكاح" أن الأمة إذا أعتقت تحت عبد؛ كان لها الخيار فإن فسخت قبل الدخول سقط جميع المهر، وعلى السيد رده إن كان قد قبضه. إذا تقرر ذلك فينفذ العتق في الحال في فرع ابْنِ الحَدَّادِ ثم إن كان الوارث معسراً، فلا خيار لها؛ لأنه لَوْ ثَبَتَ لها الخيار [و] (¬1) فسخت وجب رد مهرها, ولصار ذلك دَيْناً على الميت، وذلك يَمْنَعُ نفوذ العتق من الوارث المعسر، وإذا لم يعتق فلا خيار لها ففي إِثْبَاتِ الخيار بقية والمسألة من الدائرات؛ وقد ذكرنا طرفاً منها في "النكاح"؛ وإن كان موسراً فإن قلنا يَنْفُذُ عتقه، فلها الفسخ، وإذا فسخت صار مهرها ديناً فيطالب به المعتق إن كانت قيمتها مثل المهر، لتفويته (¬2) التركة، وإن كان مهرها أكثر لم يطالب إلاَّ بقدر قيمتها؛ لأنه لم يفوت إلاَّ ذلك القدر، وإن قلنا يتوقف نفوذ العتق على أداء الدَّين، فلا عتق، ولا خيار حَتَّى يرد الصداق إلى سيد العبد: هكذا ذكر الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ، وفيه إشكال؛ لأنه لا يَثْبُتُ لسيد العبد دَيْنٌ ما لم يفسخ فكيف يقضي الدَّين قبل ثبوته؟. ومنها: مات رجل عن ابن حائز والتركة ثلاثة أَعْبُدٍ قيمتهم متساوية فقال الابن: أَعْتَقَ أَبِي في مرض موته هذا -وأشار إلى أحدهم. ثم قال: بل أعتق هذا، وهذا، يعني الأول، وآخر معاً. ثم قال: بل أعتق الثلاثة معاً. قال ابْنُ الحَدَّادِ: الأول [حرٌ] (¬3) بكل حال -لإقراره للأول ويقرع بينه وبين الثاني لإقراره الثاني، فَإِنَّ قضيته أن الثاني يستحق أن يقرع بينه وبين الأول، ويعتق إن خرجت القرعة له ويقرع بين الثلاثة مرة أخرى؛ لإقراره الثالث فَإِنَّ قضيته أن يقرع بين الثلاثة، ويعتق من خرجت قرعته فيؤاخذ بموجب كل إقرار، ولا يمكن من الرجوع عن مقتضى واحد [منهما] (¬4)، وإذا أقرعنا [في] (¬5) المرتين فإن خرج سهم العتق للأول في المرتين لم يعتق غيره، وإن خرج للثاني في المرتين أو للأول في الأولى، وللثاني في الثانية أو بالعكس عتقا، وَرَقَّ الثالث، وإن خرج للأول في الأولى، وللثالث في الثانية عتقا دون الثاني، وإن خرج للثاني في الأولى، وللثالث في الثالثة عتقوا جميعاً. ¬
قال الشَّيْخُ أبو عَلِيٍّ: وإن كانت قيمتهم مختلفة كما إذا كانت قيمة الأول مائة، وقيمة الثاني المضموم إليه مائتين، وقيمة الثالث ثلاثمائة فالأول حر بكل حال لإقراره الأول، وهو دون الثلاثة (¬1)، وإذا أقرعنا بينه وبين الأول وخرج سهم العتق للأول؛ عتق وعتق من الثاني نصفه، وإن خرج للثاني عتق كله؛ لأن موجب إقراره الثاني أن يعتق الثاني بكماله، أو الأول ونصف الثاني وإذا أقرعنا بين الثلاثة لإقراره الثالث، فإن خرج سهم العتق للثالث، عتق ثلثاه، وثلثاه ثلث ماله، وإن خرج للثاني؛ لم يعتق الثالث سواء خرجت القرعة الأولى على الثاني، أو لم تخرج؛ لِأَنَّهُ ثلث ماله، وإن خرج للأول فهو نصف الثلث فتعاد القرعة، لإكمال الثلث بين الثاني والثالث، فإن خرج على الثاني رَقَّ الثَّالِثُ، ولا يعتق من الثاني إلاَّ ما عتق بالقرعة الأولى وهو جميعه أو نصفه، وإن خرج على الثالث؛ عتق ثلثه؛ لأن ثلثه مع الأول ثلث جميع المال. والمفهوم من كلام الشَّيْخِ أنه إذا أخرج سهم العتق في القرعة الثانية بين الثلاثة للثاني لا يعتق منه إلاَّ ما عتق من قبل. وكذلك حكاه الإِمام عنه، واعترض عليه بأن الثاني اسْتَحَقَّ بالإقرار [و] (¬2) الثاني أن يقرع بينه وبين الأول، وبالإقرار الثالث أن يقرع بينه، وبين الأولين فإن لم تكمل له الحرية في القرعة الأولى لخروج سهم العتق للأول؛ وجب أن يكمل في القرعة الثانية إذا خرج سهم العتق له؛ لأنه قضية الإقرار الثالث وكذلك عند استواء القيم إذا لم يعتق بالقرعة الأولى، يُعْتَقُ بالثانية إذا خرج السهم له، فإن عَكَسْتَ التَّصْوِيرَ فقلت: قيمة الأول ثلاثمائة، وقيمة الثاني مائتان، وقيمة الثالث مائة، فالجواب: أنه يعتق من الأول ثلثاه ثم يقرع بينه، وبين الثاني، فإن خرج سهم العتق للأول [أو الثاني] (¬3) لَمْ يزد شيء وإن خرج للثاني؛ عتق بكماله، ثم يقرع بين الثلاثة، فإن خرج للأول والثاني؛ لَمْ يزد شيء على ما عتق، وإن خرج للثالث، عتق بكماله، وقد عتق من قبل ما إذا ضم إليه ثم الثلث بل زاد. ومنها: مات عن ثلاثة بنين، وله ثلاثة أَعبُدٍ قيمتهم متساوية فَأَقَرَّ أحد البنين بأن أباه أَعْتَقَ في مرضه هذا العبد، وَأَقَرَّ آخر أنه أعتقه وهذا الآخر معاً، وَأَقَرَّ الثالث أنه أعتق الثلاثة معاً، فَيُعْتَقُ ثلث الأول؛ لأن أحد البنين أقر بعتقه فيقبل إقراره في حصته، وهي الثلث ثم يقرع بينه، وبين العبد المضموم إليه؛ لإقرار الثاني، فإن خرج سهم العتق للأول عتق منه ثلث آخر؛ لأن قَضِيَّةَ إقرار الثاني عتق جميعه إذا خرجت القرعة له فيقبل قوله في حِصَّتِهِ، وإن خَرَجَ للثاني؛ عتق ثُلُثُهُ لهذا المعنى، ثم يقرع الثلاثة، فمن خرج له سهم العتق؛ عتق كله، وإذا اخْتَصَرْتَ قُلْتَ: إن خرج سهم العتق في المرتين ¬
للأول؛ عتق جَمِيعُهُ، وإن خرج في المرتين للثاني؛ عتق ثلثاه مع ثلث الأول، وإن خرج مرة للأول وأخرى للثاني؛ عتق ثلثا الأول، وثلث الثاني، وإن خرج مرة للثاني ومرة للثالث عتق من كل عبد ثلثه، وإذا حكمنا بعتق البعض من أحد العبيد فلا سِرَايَةَ؛ لأنهم لم يباشروا الاعتاق، ولا أقروا به على أنفسهم وإنما أقروا به على الأب، ومن أعتقنا بعضه بإقرار أحد البنين [لو وقع] (¬1) بالقسمة في نصيب ذلك المقر، أو صار له بوجه آخر؛ حكمنا عليه بعتقه؛ لإقراره بأنه حر كله، ولو كانت [قيمة] العبيد (¬2) مختلفة، كما إذا كانت قيمة الأول مائة، وقيمة الثاني مائتين، وقيمة الثالث ثلاثمائة؛ فَيُعْتَقُ من الأول ثلثه؛ لأن الأول أقر بأن الأب أعتقه، لَكِنَّهُ لا يملك منه إلاَّ الثلث فَيُقْبَلُ إقراره في حِصَّتِهِ؛ ثم يقرع بينه، وبين الثاني، لإقراره الثاني، فإن خرج سهم العتق للثاني عتق ثلثه؛ لأن كله حر بزعم الثاني إذا خرج سهم العتق له فإنَّه ثلث المال، فيقبل إقراره في حصته، وإن خرج للأول عتق منه ثلث آخر، ومن الثاني سدسه؛ لأن قضية إقراره أن يعتق جميع الأول عند خروج القرعة له، وأن يعتق من الثاني نصفه؛ ليكمل الثلث فيؤاخذ بإقراره في حصته في كل الأول، ونصف الثاني ثم يقرع بين الثلاثة لإقرار الثالث، فإن خرج سهم العتق للثالث؛ عتق منه تسعاه؛ لأن قضية إقراره إذا خرجت القرعة له أن يعتق ثلثاه، فإن ثلثيه ثلث جميع الم الذيؤاخذ بإقراره في حِصَّتِهِ، وهي ثلث الثلثين، وذلك تسعاً الجملة، وإن خرج للثاني؛ عتقَ منه ثلثه؛ لأن قضية إقراره عتق جميعه [فإنه] (¬3) ثلث المال فيؤاخذ به في حصته، وإن خرج للأول عتق منه ثلثه لمثل هذا المعنى لكنه لا بد من إكمال الثلث، فتعاد القرعة مرة أخرى ليعتق حصته من تمام الثلث، فإن خرج سهم العتق للثاني عتق منه سدسه؛ لأن نصفه مع الأول تمام الثلث، وَحِصَّتُهُ منه السدس، وإن خرج للثالث عتق منه تسعه؛ لأن ثلثه مع الأول تمام الثلث وحصته منه التسع. ومنها: شهد شاهدان على مَيِّتٍ أنه أوصى بعتق عبده فلان، وهو ثلث ماله وقال الوَارِثُ: إنه أَوْصَى بعتق آخر، وهو ثلث أيضاً، فإن لم يُكَذِّبَ الوارث الشاهد، واقتصر على أنه أوصى بعتق هذا، أعتق الأول بموجب البينة، وأقرع بينه وبين الثاني لإقرار (¬4) الوارث، فإن خرجت القرعة للأول لم يعتق الثاني، وإن خرجت للثاني، عتق ولم يَرِقَّ الأول؛ لأنه مُسْتَحِقُّ الْعِتْقَ بالبينة، فلا يتمكن الوارث من إبطاله بالإقرار، وقد تعمل ¬
القرعة في أحد الطرفين دون الثاني على ما تقدم، وإن أَقَرَّ الوارث بأنه أعتق الثاني، وكذب الشهود في الأول عتقا جميعاً الأول بالشهادة والثاني بالإقرار، وإن شهد أجنبيان بأنه: أوصى بِإِعْتَاقِ عَبْدٍ وهو ثلث ماله، وشهد وَارِثَانِ بأنه أوصى بإعتاق آخر فإن كَذَّبَ الوَارِثَانِ الأَجْنَبِيِّيْنِ عتقا (¬1) جميعاً الأول بشهادة الأجنبيين، والثاني بإقرار الوارثين أنه أوصى بإعتاق هذا دون الأول [وهو ثلث المال، وإن لم يكذباهما أقرع بينهما؛ لأن إعتاق الأول] (¬2) ثَبَتَ بشهادة الأجنبيين، وإعتاق الثاني [بإقرار الوارثين] (¬3) فصار كما لو شهد اثنان بأنه أعتقهما معاً. ومنها: ثلاثة أخوة في أيديهم أَمَةٌ وَوَلَدُهَا، وهو مجهول النسب فقال أحدهم: هذه أُمِّ وَلَدِي، وهو ولدي منها، وقال الثاني: هِيَ أُمُّ وَلَدِ أبينا والولد أخبرنا، وقال الثالث: هي أَمَتِي والولد (¬4) عبدي فالكلام في أحكام: أحدها في نسب الولد، ولا يثبت نسبه من أَبِيهم؛ لأنه لم يَتَّفِق الورثة عليه وأما نسبه من الذي يستلحقه، فإن قلنا: إن من استلحق عبداً مجهول النسب لحقه فيثبت نسبه منه؛ لأن غايته أن يكون ملكاً لمن يدعي ملكه، وذلك لا يمنع ثبوت النسب، وإن قلنا: لا يلحقه فوجهان: أظهرهما: أن الجواب كذلك؛ لِأَنَّ يَدَ مُدَّعِي المِلْكِ ثَابِتَةٌ على بعضه، وأنها تدل على المِلْكِ وَالمِلْكُ يَمْنَعُ اللُّحُوقَ. والثاني: يلحقه؛ لأن الرق (¬5) لم يَعُمَّهُ فإن الباقي حر بقول الآخرين والنسب لا يتبعض، وهو إلى الثبوت أقرب. قال الإِمام: وهذا القائل يقول لو كان بعض الشخص رقيقاً، وبعضه حراً واستلحق مستلحق نسبه لحقه، وهذا ليس بشيء، والثاني الذي يقول: هي أم ولد أبينا لا يَدَّعِي لنفسه شيئاً على الآخرين [فلا يحلفهما. نعم لو ادعت الجارية ما تقوله، وقالت: عتقت بموت أبيكم، فيحلّف الآخرين] (¬6) على أنهما لا يعلمان أن الأب أولدها وأما الآخران فَيَدَّعِي كل واحد منهما ما في يَدِ صَاحِبِهِ هذا يقول: مُسْتَوْلِدَتِي وهذا يقول: ملكي. فيحلف كل واحد منهما الآخر على نفي ما يدعيه في الثلث الذي في يده، والثالث الذي يقول: هي أم ولد أبينا لاَ غُرْمَ لَهُ؛ لأنه لا يدعي لنفسه شيئاً، ولا عليه؛ لأنه أقر بالاستيلاد على أبيه لا على نفسه والثاني الذي يَدَّعِي الاستيلاد يلزمه الغرم للذي يدعي الملك فيها لاعترافه بأنه فوت عليه نصيبه من الأمة، ومن الولد ¬
بالاستيلاد هكذا عَلَّلُوهُ وقضية الفرض فيما إذا سلم (¬1) أنه كان لمدعي الرق فيها نصيب الإرث أو غيره، وإلاَّ فلا يَلْزَمُ من دعواه أَنَّ الجاريةَ مُسْتَوْلِدَتُه؛ كون الجارية مشتركة من قبل، وكم يلزمه من الغُرْمِ؟ فيه وجهان بناء على أن الجارية في يد من هي وفيه وجهان: أحدهما: أنه لاَ يَدَ عَلَيْهَا لِلَّذِي يقول: إنها مُسْتَوْلِدَةُ أَبِينَا؛ لأنها حُرَّةٌ بزعمه بموت الأب فَتَصِيرُ الجارية في يد الآخرين نصفين. وأظهرهما: أنها في أيدي الثلاثة حكماً، كما أنها في أيديهم حِسّاً؛ فعلى الأول عليه لِمُدَّعِي الرق نصف قيمة الجارية، وقيمة الولد، وعلى الأظهر ثلث قيمتها وبه أجاب ابْنُ الحَدَّادِ. والرابع: الولد حر بقول مَنْ يَدَّعِي أنها مستولدة للأب، ومن يَدَّعِي أنها مستولدته. قال الشَّيْخُ أَبُو عَلِيّ: ويعتق عليه نصيب مُدَّعِي الرِّقِّ؛ لأنا لما أخذنا منه القيمة جعلناه له، ونصيبه من الجارية هكذا ينبغي أن يكون. ومنها: قال لعبدين له: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، ثم غاب أحدهما، وحضر مكانه عبد ثالث فقال له وللذي لَمْ يغِبْ: أحدكما حر ومات قبل البيان ويقال (¬2) وقعت هذه المسألة بـ"نَيْسَابُورَ" فأجاب [الأستاذ] (¬3) أَبُو إِسْحَاقَ فيها: بأنه يُقْرَعُ بين العبدين الأولين للإعتاق الأول، فإن خرج سهم العتق لِلَّذِي غاب؛ عتق، وتعاد القرعة بين الآخرين للِإِعْتَاقِ الثاني، فمن خرجت له القرعة عتق أيضاً، وإن خرجت القرعة أَوَّلاً للذي لم يَغِبْ؛ عتق، ولا تعاد القرعة؛ لأن تعيين القرعة كتعيين المالك، ولو عَيَّنَ المالك الذي لم يغب للعتق ثم قال له وَللَّذِي حَضَرَ آخراً: أحدكما حُرٌّ لكان صادقاً في قوله ولم يَقْتَضِ ذلك عتق الآخر، واستشهد لذلك بما إذا قال لزوجته وأجنبية: إحداكما طَالِقٌ لكن في هذه الصورة خلاف مذكور في "الطلاق" وكذلك الحكم فيما إذا قال لعبده [وَلحُرٍّ] (¬4): أحدكما حرٌّ ؤأجاب الأستاذ أَبُو الحَسَنِ المَاسَرْجِسيُّ في المسألة بأن القرعة إذا خرجت للذي لم يغب تعاد القرعة بينهما ثانياً؛ لأنه يحتمل أن يريد بقوله: الثاني الذي حضر آخراً. فإن خرجت القرعة الثانية لِلَّذِي لَمْ يَغِبْ أيضاً؛ لم يعتق غيره، وإن خرجت للآخر؛ عتق أيضاً، وقد تؤثر القرعة في أحد الطرفين دون الآخر، وإلى هذا مال الإِمام وَرَجَّحَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الأَوَّلَ. ومنها: إذا كان في ملكه أربع إمَاء فقال: كلما وَطَأْتُ واحدة منكن فواحدة منكن حرة، ثم وَطِئَ واحدة منهن فتعتقَ واحدة منهن، وهل تدخل المَوْطُوءَةُ في العتق الْمُبْهَمِ؟ يبنى على الوجهين السابقين في أن الوطء يكون تعييناً للملك في الموطوءة ¬
[وللعتق] (¬1) في غيرها إن قلنا: لا؛ دخلت، ويقرع بين الأربع، وإن قلنا نعم، وعليه فَرَّعَ ابْنُ الحَدَّادِ فأول [الْوَطْءِ] لا يتضمن التعيين؛ لأن العتق معلوم به، وما لم يوجد لا يثبت استحقاق العتق، فَلَوْ نَزَعَ بمجرد تَغْيب الحَشَفَةَ دَخَلَتِ المَوْطُوءَةُ في العتق المبهم، وإن اسْتَدَامَ فهل تتضمن الاستدامة التعيين، وإخراج الموطوءة عن استحقاق العتق؟! فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأن الاستدامة تَدُلُّ على أنه يبغي استبقاء الملك فيها وبهذا قال الشَيْخُ أَبُو زَيْدٍ، فعلى هذا يُقْرَعُ بين الثلاث البواقي. وأظهرهما: وبه قال ابْنُ الحَدَّادِ: لا؛ لأن الموجود وطء وبه يثبت استحقاق العتق فانتهاؤه كالابتداء، ولذلك لا يستحق بالاستدامة عتق آخر، وعلى هذا فيقرع بين الأربع فمن خرجت لها القرعة؛ عتقت وهذا كما لو قال لِأَمَتِهِ: إن وطئتك فأنت حرة، فإن وَطِئَهَا وَنَزَعَ في الحال لم يلزمه المهر [فيه] وإن استدام فهل نجعل الاستدامة كابتداء الوطء بعد العتق حتى يتعلَّق بها المهر؟ فيه وجهان، ومثله الخلاف في أنه إذا قال لامرأته: إن وطئتك فأنت طالق ثلاثاً، فوطئها واستدام. هل يَلْزَمُهُ المهر؟ [و] لو وطء ثلاثاً منهن مع الاستدامة فقضية كل وطء عتق أمة؛ لأنَّ كُلَّمَا (¬2) تقتضي التكرار فإن جعلنا [الوطء] (¬3) تعييناً، والاستدامة متضمنة للتعيين أيضاً، فتعتقُ الأولى والثانية، والرابعة بلا قرعة، وَتَرِقُّ الثانية، ووجهه: أنه لما وَطِئَ الأولى، وكما غيب الحَشَفَةَ ثبت حق العتق [لواحدة، فإذا استدام خرجت عن أن تكون هي المستحقة لتعيينها للملك، والثانية والثالثة تعينتا للوطء بالملك أيضاً، فتتعين الرابعة للعتق، وإذا وطئ الثانية ثبت حق العتق] (¬4) لها، أو للأولى أو للثالثة أما الرابعة فقد علقت بالوطء الأول، فإذا استدام خرجت هي عن الاستحقاق، وخرجت الثالثة أيضاً بوطئها فتعينت الأولى للعتق وإذا وطئ الثالثة، لَمْ يَبْقَ إلاَّ هي، والثانية، واستدامة الوطء فيها إمساك لها فتعين العتق في الثانية، وإن جعلنا [الوطء] بعد الإبهام تعييناً، ولم نجعل الاستدامة تعييناً فتقرع بين الأولى، والرابعة؛ لأنه أمسك الثانية والثالثة للملك بوطئهما، والرابعة لم [يطئها] (¬5) واستدامة ووطء الأولى ليس بإِمْسَاكٍ، فتردد العتق المستحق بينهما فإن خرجت القرعة للرابعة عتقت [وبوطء] (¬6) الثانية يستحق عتق آخر لكن لاَ حَظَّ فيه للرابعة [لأنها عتقت بالوطء الأول، ولا للثالثة؛ لأنه أمسكها بالوطء، فإذاً هو متردد بين الأولى والثانية، فيقرع بينهما، فمن خرجت لها القرعة عتقت وبوطء الثالثة تستحق عتق آخر، ¬
ولا حظ فيه للرابعة]؛ ولا (¬1) لمن عتقت من الأولى، والثانية فإن عتقت الأُولَى أقرعنا بين الثانية والثالثة فإن عتقت الثَّانِيَةُ أقرعنا (¬2) بين الأولى والثالثة، وإن خرجت القرعة [الأولى] (¬3) للأولى دون الرابعة عتقت [بوطء] الثانية تَرَدَّدَ العتق المستحق بينها، وبين الرابعة فإن الأولى قد عُتِقَتْ والثالثة تَعَيَّنَتْ [بالوطء] للإمساك فيقرع بينهما فمن خرجت لها القرعة؛ عتقت وبوطء الثالثة تستحق عتقِ [آخر] وَلاَ حَظَّ فيه للأولى، ولا لمن عتقت من الثانية، والرابعة فإن عتقت الثانية، أَقْرَعْنَا بين الثالثة، والرابعة وإن عتقت الرابعة أقرعنا بين الثانية والثالثة، وإن قلنا: [الوطء] ليس بتعيين أصلاً فيقرع ثلاث مرات لاستحقاق العتق لثلاث منهن، يقرع لوطء الأولى بين الأربع بسهم عتق وثلاثة أسهم رقٍّ فإن خرجت للرابعة؛ عتقت، ولا مهر لها فإنَّه لم [يطئها] وإن خرجت للأولى عتقت، وهل تستحق المهر؟ يبنى على أن استدامة الوطء هل توجب المهر؟ وإن خرجت للثانية أو للثالثة عتقت، ولها المهر؛ لأنه تبين أنها عتقت بوطء الأولى فيكون ابتداء وطئها بعد حصول عتقها، ثم يقرع لوطء الثانية بين الثلاث البواقي بسهم عتق، وسهمي رق، فإن خرجت الرابعة فلا شيء لها وإن خرجت للثانية ففي استحقاقها المهر الوجهان، وإن خرجت للثالثة استحقت، وإن خرجت قرعة الحرية في المرة الأولى للثانية أقرعنا لوطء الثانية بين الأولى، والثالثة والرابعة، فإن خرج سهم العتق للأولى فلا مهر لها بلا خلاف؛ لأن عتقها حصل [بوطء] الثانية، فيكون [وطؤها] واقعاً قبل العتق، وإن خرج للرابعة فكذلك؛ لأنه لم [يطئها] وإن خرج للثالثة فلها المهر؛ لأنه تبين أنها عتقت قبل، وطئها ثم يقرع [لوطء] الثالثة بين الاثنين الباقيين بسهم عِتْقٍ وسهم رِقٍّ، فإن بقيت الثالثة والرابعة وخرجت القرعة للرابعة، فلا مهر، وإن خرجت للثالثة فهل لها المهر؟ فيه الوجهان. وإن بقيت للأولى والثانية، فلا مهر لمن خرجت لها القرعة منهما؛ لتقدم وطئها على عِتْقِهَا. وفيه وجه آخر: أنه يقرع بين الأربع دفعة واحدة بثلاثة أسهم عتق وسهم رق فيعتق منهن ثلاث وترق واحدة. وهذا صحيح لمعرفة العتق، والرق ولكن لا يعرف به حكم المهر، وموضع الخلاف والوفاق -نعم إن قلنا إن الاستدامة توجب المهر، فتكفي القرعة على هذا الوجه، ومن عتقت بوطئها استحقت المهر. ولو وطئ الأربع؛ عتقن جميعاً، ويحتاج للمهر إلى الإقراع ثلاث مرات يقرع بين الأربع مرة بسهم عتق، وثلاثة أسهم رق ثم مرة بين ثلاث منهن بسهم عتق وسهمي رق ثم بين الاثنين الباقيين بسهم عتق وسهم رق، واستيعاب الاحتمالات يطول. ¬
والضابط: أن ينظر في كل قرعة (¬1)، فمن بَانَ أنها عتقت قبل وطئها فلها المهر، ومن بَانَ أنها عتقت بعد وطئها، فلا مهر، ومن بَانَ أنها عتقت بوطئها فهل لها المهر؟ فيه الوجهان في أن الاستدامة هل توجب المهر؟ هذا كله فيما إذا قال: "كلما وطئت واحدة منكن فواحدة منكن حرة" أما إذا قال: فواحدة من صواحبها (¬2) حرة ووطئهن جميعاً، فإن قلنا: إن الوطء تعيين للملك في الموطوءَةِ، عتقت الرَّابعَةُ [بوطء] الأولى والأولى [بوطء] الثانية، والثانية [بوطء] الثالثة وَرَقَّتِ الثَّالِثَةُ. وإن قلنا: أنه ليس بتعيين، عتقت منهن ثلاث، وَرَقَّتْ واحدة فيقرع بين الثانية والثالثة والرابعة [بوطء] الأولى وإن خرجت القرعة للثانية؛ عتقت ثم يقرع لوطء الثانية بين الأولى والثالثة والرابعة، وإن خرجت للأولى أو الرابعة؛ عتقت وإذا وطئ الثالثة عتقت الثانية من الثلث، وهي الأولى أو الرابعة، ولا حاجة إلى القرعة، وإن خرجت القرعة الثانية للثالثة؛ عتقت، فإذا وَطِئَ الثالثة؛ أَقْرَعَ بين الأولى والرابعة، فَمَنْ خرجت لها القرعة عتقت، وأما المهر فلا مهر للتي عتقت بعد [الوطء]، ويحل المهر للتي تبين عتقها قبل الوطء، وفي هذه الصورة لا تعتقُ الموطوءة بوطئها بحال وَاعْلَمْ أن الإقراع في جميع هذه الصور فيما إذا مات قبل البيان فأما في حال حياته فيؤمر بالبيان. ومنها: له أربع إماء وعبيد فقال: كلما وطئت واحدة من إمائي فعبد من عبيدي حر، وكلما وطئت اثنتين فعبدان حران، وكلما وطئت ثلاثاً فثلاثة من عبيدي أحرار، وكلما وطئت أربعاً فأربعة، فَوَطئ الأربع فهو كما لو قال: كلما طلقت واحدة فعبد من عبيدي حر إلى آخر التصوير، وقد تقدم في "الطلاق" والظاهر أنه يعتق خمسة عشر عبداً. ومنها: اشترى في مرض موته [عبد] (¬3) بأكثر من قيمته، والمحاباة بقدر الثلث كما إذا كان له ثلاثمائة، واشترى عبداً يساوي مائة بمائتين ثم أعتق ذلك العبد. قال ابْنُ الحَدَّادِ: إن لم يوفر الثمن نفذ العتق وبطلت المحاباة؛ لأن المحاباة كالهبة، فإن لم يقترن بها القبض حتى جاء ما هو أقوى منها بطلت، ويمضي البيع بثمن المثل، وعلى البائع أن يقنع به وإن وفر الثمن نفذت المحاباة، ورد العتق؛ لأن المحاباة استغرقت الثلث. قال الأصحاب: وهذا غلط من حيث أنه فرق في المحاباة بين أن تكون مقبوضة أو لا تكون، ولا فرق؛ لأن المحاباة تعلقت بالمعاوضة والمعاوضات تَلْزَمُ بنفس العقد، ولهذا لو حَابَى في المرض ولم يقترن القبض بمحاباته (¬4)، ثم أراد إبطالها لم يتمكن ¬
منه، ولو كانت كالهبة لتمكن من إبطالها قبل القبض في الصحة والمرض، وإذا لم يفرق الحال بين أن تكون مقبوضة أو لا تكون؛ فالجواب نفوذ المحاباة، ورد العتق؛ لتقدم المحاباة على العتق. قالوا: والقول بأنه يَلْزَمُ البائع أن يقنع بقدر قيمة العبد غلط أيضاً، فإنَّه لم يرض بزوال ملكه إلاَّ بالزيادة، بل ينبغي أن يقال أنه بالخيار بين أن يمضي البيع بقدر القيمة، وينفذ العتق وبين أن يفسخه ويبطل العتق. ومنها: جارية بين شريكين حامل من زوج، أو زنا أعتق أحدهما نصيبه من الحمل، وهو مُوسِرٌ، ثم وضعت الحمل لوقت يعلم وجوده يوم الإعتاق، فإن وضعت لما دون ستة أشهر؛ فهو حر بالمباشرة، والسِّرَايَة، وعلى المعتق قيمة نصيب الشريك يوم الولادة، ولا مجال للتقويم قبل الولادة، وإن ألقته ميتاً من غير جناية جانٍ فلا شيء على المعتق لأنا لا ندري هل كان حياً، وهل عتق حتى يقال أَتْلَفَ على الشريك ملكه، وإن انفصل ميتاً بجناية فعلى عاقلة الجاني [غرة تصرف] (¬1) إلى ورثة الجنين؛ لأنه محكوم له بالعتق، وعلى المعتق نصف عشر قيمة الأم للشريك فإن الجنين الرقيق يضمن [بالعشر] (¬2). هكذا أطلق ابْن الحَدَّادِ. وَعَنِ القَفَّالِ: أنه إنما يلزم نصف عشر قيمة الأم على المعتتى إذا كان لا يزيد ذلك على نصف قيمة الغُرَّةِ فإن زاد لم يلزم إلاَّ نصف قيمة الْغُرَّة لأن سبب وجوب الضمان على المعتق الغرة ألا ترى أنه لو انفصل من غيْرِ جناية؛ لم يجب شيء [و] (¬3) كما يعتبر وجوب أصل الغرة يعتبر مقدارها وَرَأَى الشيخ أَبُو عَلِيٍّ: الأخذ بالإطلاق وقال: ينبغي ألاَّ ينظر إلى قدر الغُرَّةِ، فيلزم نصف العشر [بالغاً] ما بلغ؛ لأن انفصاله مضموناً كانفصاله حياً، ويدل عليه أن الغرة تصرف إلى الوارث النسيب، وقد لا يستحق المعتق منها شيئاً وسع ذلك يلزم الغرم وإنما كان يجب رعاية المناسبة من الغرمين أن لو كان الواجب غرماً بالجناية (¬4) للمعتق. قال الشَّيْخُ: وهذا كله جواب على أن السِّرَايَةَ تحصل بنفس الإعتاق، فإن قلنا: تَحْصُلُ عند أداء القيمة، فإذا وضعت الحمل، وَقُوِّمَ ووصل نصف القيمة إلى الشريك فحينئذ يعتق الباقي، وإن ألْقَتْهُ ميتاً بجناية جان فنصفه حر، وهل يقوم الباقي على المعتق؟ فيه الخلاف المذكور فيما إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه، ومات العبد قبل وصول القيمة إلى الشريك، فإن قلنا: يسقط التقويم على الشريك فنصفه حر، ونصفه ¬
رقيق، فعلى عاقلة الجاني نصف غُرَّةٍ وإلى من تصرف؟ فيه الخلاف المذكور في أن من بعضه رقيق هل يورث عنه ويجب للنصف المملوك نِصْفُ غُرَّة (¬1) قيمة الأم، فيكون في مال الجاني أو على عاقلته فيه الخلاف في أن بدل الرقيق هل يضرب على العاقلة؟ ومنها: خَلَّفَ ثَلاثةَ أَعْبُدٍ قيمة كل واحد منهم مائة، ولا مال له غيرهم فشهد عدلان أنه أعتق في مرضه هذين، وأشار إلى اثنين من الثلاثة وأشار الوارث إلى أحدهما فقال: أما هذا فقد أعتقهُ، وأما الآخر فلم يَعْتِقْهُ، فلا يقبل قول الوارث في إبطال حق الآخر من العتق، ولكن يقرع بينهما، فإن خرج سهم العتق للذي عينه الوارثُ، فقد يوافق مقتضى الإقرار والشهادة، فَإِنَّ مُقْتَضَى الشهادة القرعة فيعتق الذي خرجت له القرعة، وَيرِقُّ الآخر، وإن خرج سهم العتق للآخر عتق بمقتضى الشهادة، ويعتق من عينه الوارث بإقراره، وإن لم يكذب الوارث الشاهدين وقال: أعتق مورثي هذا, ولا أعلم حال الآخر فيقرع بينهما فمن خرجت له القرعة؛ عتق دون الآخر، ولو شهد الشاهدان أنه أعتق الثلاثة دفعة، وأشار الوارث إلى اثنين منهما وقال: إنه أعتقهما, ولم يعتق الثالث. قَالَ ابْنُ الحَدَّادِ ويقرع بين الثلاثة، فإن خرج سهم العتق للذي أنكر الوارث إعتاقه؛ عتق وتعاد القرعة لإقرار الوارث بين الآخرين، فمن خرجت له القرعة عتق بالإقرار وإن خرجت القرعة أولاً لأحد اللذين أَقَرَّ بإعتاقهما عتق ويرق الآخران. وعن [بعض] (¬2) الأصحاب: أنه إذا خرجت القرعة [أولاً] (¬3) لأحدهما، فَتُعَادُ القرعة بينه وبين الآخر؛ لأن مقتضى الإقرار أن يقرع بينهما من غير ضم الثالث إليهما، وخروج القرعة حينئذ على أحدهما يكون أقرب منه إذا ضم إليهما الثالث فيقرع بين الثلاثة؛ لأنه مقتضى البينة، ويقرع بين الاثنين للإقرار، ولا يعتبر في القرعتين ترتيب، [فإذا] (¬4) أَعَدْنَا القرعة بينهما بعد ما عتق أحدهما، فالقرعة بين الثلاثة، فإن خرجت القرعة للذي عتق لم يعتق غيره، وقد يُوَافِقُ موجب القرعتين، فإن خرجت للآخر عتقا، وهذه المسائل كلها من "المُوَلَّدَاتِ". ومن الفروع: إذا شهد شاهدان على أنه قال: أحد هذين العبدينِ حر تقبل الشهادة، وَيُحْكَمُ بمقتضاها، وكذا لو شهد شاهدان على أنه قال: إِحْدَى امْرَأَتَيْ طَالِقٌ. وساعدنا أَبُو حَنِيْفَةَ في الطلاق دون العتاق [وسلم أنهما لو شهدا بعد موته بأنه أوصى بعتق أحدهما تسمع. ¬
الخاصية الخامسة الولاء
ولو] (¬1) قال لعبده: أنت حر كيف شئت. عن أَبِي حَنِيْفَةَ -أنه يعتق في الحال، ولا يتوقف على مشيئته. وعن صاحبيه -رحمهما الله-: أنه لا يعتق حتى يشاء. قال ابْنُ الصَّبَّاغِ وهو الأشبه: إذا ولدت المَزْنِيُّ بها ولداً وملكه الزَّانِي لم يعتق عليه وقال أَبُو حَنِيْفَةَ: يعتقُ. إذا أوصى بعتق عبد يخرج من الثلث فعلى الوارث إعتاقه، فإن امتنع أعتقه السلطان؛ لأنه حتى توجه عليه فإذا امتنع ناب عنه السلطان. إذا كان عبده مقيداً فحلف بعتقه [أن] (¬2) في قيده عشرة أرطال، وحلف بعتقه أنه لا يحله هو ولا غيره، فشهد عند القاضي شاهدان أن [في] (¬3) قيده خمسة أرطال، وحكم القاضي بعتقه ثم حَلَّ القيد فوجد فيه عشرة أرطال. قال أَبُو حَنِيْفَةَ: يجب على الشاهدين قيمته بناءً على أن حكم الحاكم ينفذ باطناً وإن كان بشهادة الزور، فكأن الحكم وقع بشهادتهما. و (¬4) قال صاحباه: لا يجب عليهما شيء. قال ابْنُ الصَبَّاغ وَهُوَ الصحيح: أن العتق حصل بحل القيد دون الشهادة لتحقق كذبهما. عن ابْنِ الحَدَّادِ: إذا شهد شاهدان على أنه أعتق في مرضه هذا العبد وأوصى بعتقه، وحكم القاضي بشهادتهما، وشهد آخران على أنه أعتق عبداً آخر، وكل واحد منهما ثلث ماله ثم رجع الأَوَّلاَنِ، فلا يُرَدُّ القضاء بعد نفوذه، ويقرع بينهما، فإن خرجت القرعة للعبد الأول، عتق، وعلى الشاهد الْغُرْمِ بالرجوع، وَيرِقُّ الثاني، وحيسئذ فيحصل للورثة التركة بتمامها، وإن خرجت للثاني، عتق وَرَقَّ الأول، ولا شيء على الراجعين؛ لأن القرعة لم تفض إلى عتق من شهدا بعتقه. واعترض ابْنُ الصَّبَّاغِ فقال: ينيغي أن يعتق الثاني بكل حال، ويقرع بينهما لمعرفة حال الأول، فإن خرجت القرعة له عتق أيضاً وَغَرمَ الرَّاجِعَانِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الخَاصِيَّةُ الخَامِسَة الوَلاءُ) وَالنَّظَرُ فِي سَبَبِهِ وَحُكْمِهِ (أَمَّا السَّبَبُ) فَهُوَ زَوَالُ المِلْكِ بِالحُرِّيَّةِ فَمَنْ زَالَ مِلْكُهُ بِالحُرِّيَّةِ عَنْ رَقِيقٍ فَهُوَ مَوْلاَهُ سَوَاءٌ نَجَّزَ عِتْقَهُ أَوْ عَلَّقَ أَوْ دَبَّرَ أَوِ اسْتَوْلَدَ أَوْ كَاتَبَ أَوْ أَعْتَقَ العَبْدَ بِعِوَضٍ أَوْ بَاعَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَحَقِيقَةُ الوَلاَءِ أَنَّهُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَب فَإِنَّ المُعْتَقَ سَبَبٌ لِوُجُودِ الرَّقِيْقِ لِنَفْسِهِ كَمَا أَنَّ الأَبَ سَبَبٌ، وَلِذَلِكَ تَحْرُمُ الصَّدَقَةُ فِي وَجْهٍ عَلَى مَوَالِي بَنِي هَاشِمٍ، وَلَوْ أوْصَى لِبَنِي فُلاَنٍ دَخَلَ مَوَالِيهُمْ فِي وَجْهٍ، ¬
وَلِذَلِكَ لَوْ شَرَطَ نَفْيَ الوَلاَءِ أَوْ ثُبُوتَهُ لِغَيْرِ المُعْتَقِ لَغَا، وَلاَ يَثْبُتُ الوَلاَءُ بِالمُوَالاَةِ وَالعَهْدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قال في "الصِّحَاح": يقال بينهما وَلاَءً بالفتح: أي قرابة. والولاء وَلاَءُ المعتق، وَالوَلاَءُ المُوَالُونَ يقالَ: هم وَلاَءُ فلان، والموالاة ضد المعاداة، وفي الباب نظران: أحدهما: في سبب الولاء، وهو زوال الملك بالحرية عن الرقيق، وقد يقال: هو عتق مملوك الإنسان (¬1) عليه، فمن أعتق عبداً بالتَّنْجِيزِ؛ أو بالتعليق ووجود الصفة ثبت له الولاء عليه. قال -صلى الله عليه وسلم-: "الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" (¬2) وكذا لو دبر عبده، واستولد جاريته، فعتقا بموته، أو كاتب فعتق المكاتب بأداء النجوم أو بالإبراء، أو التمس من مالك العبد أن يعتق عبده عنه بعوض أو بغير عوض، فأجابه فإن العتق، وقع عن الملتمس، أو أعتق نصيبه من العبد المشترك فسرى، أو ملك قريبه [فعتق] (¬3) عليه. ولو باع العبد من نفسه فسيأتي القول فيه في "الكتابة" والصحيح صحته، وحينئذ فولاؤه للسيد كما لو أعتقه على مال. وفيه وجه: أنه لا ولاء عليه؛ لأن البيع يزيل الولاء عنه، ولا يثبت للعبد الولاء على نفسه، وقد ذكر هذا الوجه في الكتاب هناك واقتصر [هاهنا] (¬4) على إيراد الأظهر، ولا فرق بين أن يتفق الدِّيْنُ أو يختلف حتى لو أعتق المسلمُ عبداً كافراً، أو الكافر [عيباً] (¬5) مسلماً يثبت [علقة] (¬6) الولاء، وإن لم يتوارثا كما يثبت علقةُ النكاح، والنسب بين الكافر والمسلم، وإن لم يتوارثا (¬7). وعن مالك: أنه لا يثبت الولاء مع اختلاف الدِّينِ والولاء من خاصية الإعتاق، وبه يُشْعِرُ قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" (¬8). فمن أسلم على يديه مشرك، فلا ولاء له عليه، ومن أعتق عبد غيره بغير إذنه وقع العتق عنه، وكان الولاء له دون المعتق عنه خلافاً لمَالِكٍ ثم "الْوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ" على ما روُيَ عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ" (¬9) والمعنى ¬
قرابة، وَأَمْشَاجٌ كأمشاج النسب، وقد تفتح الَلحمة من اللحمة. وقوله: "لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ" -يعني أن نفس الولاء لا ينتقل من شخص إلى شخص بعوض، وبغير عوض كما أن القرابة لا تنتقل، ويروى "النهي عن بيع الولاء وهبته" (¬1)، وكذلك لا يورث الولاء، ولكن يورث به كما أن النسب لا يورث ويورث به، وَمِمَّا يدل عليه أنه لو كان الولاء موروثاً لاشترك في استحقاقه الرجال، والنساء كسائر الحقوق، وأنه لو مات المعتق المسلم عن [ابنيه] (¬2) -مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيّ- فأسلم النصراني ثم مات العتيق فإنهما يستويان في الإرث، ولو كان الولاء موروثاً لاختص به الابن المسلم ولما شاركه النصراني بإسلامه الطارئ، وأنه لو مات المعتق عن ابنيه ثم مات أحدهما عن ابن ثم مات العتيق، فميراثه لابن المعتق دون ابن الابن علي ما سيأتي. ولو كان الولاء موروثاً لانْتَقَلَ نَصِيبُ الابن إلى ابنه. وقوله في الكتاب: "فإن المعتق سبب لوجود الرقيق لنفسه" المقصود منه تحقق المشابهة [بين] (¬3) امْتِشَاجِ النسب، وامتشاج الولاء، والمعنى أنه كما أن الأب سبب لوجود الأولاد فالمعتق سبب لوجود الرقيق لنفسه وذلك؛ لأن الرقيق كالمفقود لنفسه، والموجود لسيده؛ ألا ترى أنه لا يستقل، ولا يملك، ولا يتصرف لنفسه، وإنما يملك ويتصرف لسيده فإذا أعتقه فقد جعله موجوداً لنفسه، وإلى هذا أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ¬
"لن يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ ... " الحديث (¬1) فإنه إذا سعى في إعتاق أبيه، فقد كافأه على حتى الأبوة إذ صار سبباً لوجوده الحكمي، كما كان (¬2) الأب سبباً لوجوده الحقيقي -ويوضحه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَوْلَى اَلْقَوْمِ مِنْهُم" (¬3) ويؤيد التشبيه بين النسب والولاء مسائل: إحداها: أن الزكاة تَحْرُمُ على موالي بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ على وجه، أو قول كما تحرم عليهم، وقد ذكرناه في "قسم الصدقات" وبينا أنه الأصح. وليحمل لفظ "الصدقة" في الكتاب على الزكاة، فقد مر أن الأصح أن صدقة التطوع لا تحرم على بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المُطَّلِبِ. والثانية: لو أوصى لبني فلان، فقد ذكر بعض الأصحاب أن مواليهم يدخلون في الوصية دخول المنتسبين إلى فلان، والأقرب إلى اللَّفْظِ خلافه. والثالثة: لو أعتق عبداً على أن لا ولاء له [عليه] (¬4) أو أعتقه على أن يكون سائبة لغى الشرط ويثبت الولاء؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُهُ أَوْثَقُ. إِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" (¬5). ولو شرط أن يكون وَلاَؤُهُ للمسلمين، أو لفلان؛ فهو لَغْوٌ أيضاً، ولا ينتقل الولاء عنه كما لا ينتقل النسب. وعن مَالِكٍ: أنه يكون ولاؤه للمسلمين، ويسلم أنه لا يكون لفلان إلاَّ إذا أعتق عنه على ما تقدم. والرابعة: لا يثبت الولاء بالموالاة، والعهد كما لا يثبت النَّسَبُ بالموالاة لأن هذا ثمرة الإنعام بالإعتاق كما أن ذلك ثمرة البعضية. وقال أَبُو حَنِيْفَةَ: يَصِحُّ عقد الموالاة بين اللذين لا يعرف نسبهما ولا ولاء عليهما ويتعلق به التوارث، وتحمل العقل ولهما فسخه ما لم يتحمل أحدهما عن الآخر فإن (¬6) تحمل لزم، ولا فَسْخَ بَعْدَهُ. وأعلم قوله في الكتاب: "لَغَل" بالميم -وقوله: "ولا يثبت الولاء بالموالاة والعهد" لما بينا [هـ]. والله أعلم. ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَكَذَلِكَ يَسْتَرْسِلُ الوَلاَءُ عَلَى أَوْلاَدِ المُعْتَقِ وَأَحْفَادِهِ وَمُعْتِقِهِ وَمُعْتِقِ مُعْتِقِهِ، فَالمَوْلَى إِمَّا المُعْتَقُ أَوْ مُعْتَقُ الأَبِ أَوْ مُعْتَقُ الأُمِّ أَوْ مُعْتَقُ المُعْتَقِ، وَيَسْتَرْسِلُ الوَلاءَ عَلَى أَوْلاَدِ المُعْتَقِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِيْهِمْ مَنْ مَسَّهُ الرِّقُّ فَلاَ وَلاَءَ عَلَيْهِ أَصْلاً إِلاَّ لِمُعْتِقِهِ أَوْ عَصَبَاتِ مُعْتِقِهِ؛ لِأنَّ المُبَاشَرَةَ أَقْوَى، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ فِيْهِمْ مَنْ أَبُوهُ حُرٌّ أَصْلِيٌّ مَا مَسَّ الرِّقُّ أَبَاهُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ أُمُّهُ حُرَّةً أَصْلِيَّةً ثَبَتَ الوَلاَءُ عَلَيْهِ نَظَراً إِلَى جَانِبِ الأَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى فِي إِثْبَاتِ الوَلاَءِ، وَمِنْهُمْ من سَوَّى فِي النَّفْي. قَالَ الرَّافِعِيُّ: [في] (¬1) هذه اللَّفْظَة يجوز أن تقرأ باللام احْتجاجاً به على المشابهة بين النسب والولاء، والمعنى: أَنَّ الْقَرَابَةَ بين الأصول يتعدى إلى الفروع والأولاد، فكذلك يسترسل الولاء بتوسط المعنى (¬2) على أولاده وأحفاده، ويجوز أن يقرأ بالكاف وبكون ذلك معطوفاً على قوله في الفصل السابق: "فمن زال ملكه بالحرية عن رقيق فهو مولاه" والمقصود أنه كما يثبت الولاء على المعتق بمباشرة إعتاقه، أو بعتقه في ملكه يثبت على أولاده وأحفاده ومعتقهم؛ لأن النعمة على الأصل نعمة على الفرع، ولذلك يثبت على معْتِقِهِ ومعتق معتقه؛ لما ذكرنا أن للولاء أمشاجاً كامشاج النسب، وَيُعْرَفُ من هذا إذا عكس أن الولاء كما يثبت للمعتق يثبت لمعتق الأب، [وسائر] (¬3) الأصول، وَلِمُعْتِقِ المُعْتق، وكما يثبت الولاء على ولد المُعْتقِ، يثبت على وَلَدِ المُعْتقَةِ أيضاً وبل أولى؛ لأن الولادة حِسِّيَّةٌ والانتساب إلى الأب حكمي، ويستثنى عن استرسال الولاء على أولاد المعتق وأحفاده موضعان: أحدهما: إذا كان فيهم من مَسَّهُ الرق، والعتق فَوَلاَؤُهُ لمعتقه، فإن لم يكن فَلِعَصَبات معتقه فإن لم يكونوا، فالميراث لبيت المال ولا ولاء عليه لمعتقِ الأصول بحال، فإنه أعتق مُبَاشَرَةً، وولاء المباشرة أقوى وصورته: أن تَلِدَ رقيقة رقيقاً من رقيق أو حر، فأعتق الولد وأعتق أبواه أو أمه أيضاً. والثاني: من أبوه حر أصلي ولا ولاء عليه، وأمه معتقة، هل يثبت الولاء عليه لموالي الأم؟ فيه ثلاثة أوجه: أَصَحُّهَا -وبه قال مَالِكٌ: لا؛ لأن الانتساب إلى الأب، والأب حر مستقل لا ولاء عليه، فليكن الولد مثله، وأيضاً فإن ابتداء حرية الأب تبطل دوام الولاء [لموالي الأم] (¬4) فاستدامة الحرية أولى أن تمنع ثبوت الولاء لهم. ¬
والثاني: يَثْبُتُ؛ لأن الأم معتقة، وقد تعذر إثبات الولاء عليه من جانب الأب فأشبه ما إذا كان الأب رقيقاً. والثالث: وبه قال أَبُو حَنِيْفَةَ: الفرق بين أن تكون حرية الأب مُسْتَيْقَنَةٌ بأن كان عربياً معلوم النسب، فلا (¬1) يثبت الولاء لموالي الأم وبين أن يكون الحكم بالحرية بناءً على ظاهر الدار، أو أن الأصل في الناس الحرية فيثبت لضعف حرية الأب، ولو كان الأب معتقاً والأم حرة أصلية فظاهر المذهب ثبوت الولاء عليه، لموالي الأب؛ لأن الانتساب إلى الأب، وهو معتق، ولهذا يثبت الولاء على ولد المعتقة من المعتق. وعن رواية الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وجه ضعيف: أنه لا ولاء عليه تَغْلِيباً للحرية الأصلية من أحد الطرفين، وعلى هذا فإنما يَسْتَرْسِلُ الولاء على الأحفاد الذين ليس في أحد طرفيهم حر أصلي. وقوله في الكتاب: ثانياً "وَيَسْتَرْسِلُ الولاء على أولاد المعتق" هو الذي اشتمل عليه قوله أولاً، "ويسترسل الولاء على أولاد (¬2) المُعْتِقِ وَأَحْفَادِهِ" وإنما أعاده لتعقيبه باستثناء ما يحتاج إلى استثنائه. وذكر ظاهر المذهب فيمن أحد أبويه حر أصلي، وهو أنه لا ولاء على من أبوه حر أصلي ما مَسَّ الرق أباه، يعني: وأمه معتقة وإنه يثبت الولاء على من أمه حرة أصلية، وأبوه معتق، ثم أشار إلى وجه ثبوت الولاء في الصورة الأولى بقوله: "ومنهم مَنْ سوى في إثبات الولاء" ثم إلى الوجه الضعيف، فيما إذا كانت الأم حرة أصلية بقوله: "ومنهم من سوى في النفي". ويجوز أَنْ يُعْلَمَ قَوْلُهُ: وكذا إن كان فيهم من أبوه حرٌّ أصلي لمصيره إلى التفصيل المذكور. وأن يعلم قوله: " [وكذا] (¬3) في إِثْبَاتِ الولاء" بِالمِيمِ. فرع: مَنْ أُمَّهُ حرة أصلية، وأبوه رقيق لا ولاء عليه لأحدها دام الأب رقيقاً، فإن أعتق فهل يثبت الولاء عليه لموالي (¬4) الأب؟ قال الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: فيه جوابان سمعتهما من شيخي في وقتين وهما محتملان: أحدهما: يثبت؛ لأنه ثبت الولاء على الأب بالإعتاق، وإنما لم يثبت في الابتداء لرق الأب. والثاني: المنع؛ لأنه لم يثبت في الابتداء؛ فلا يثبت بعده كما لو كان الأبوان حُرَّيْنِ. ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَأَمَّا التَّقْدِيمُ فَلاَ وَلاَءَ مَعَ مُبَاشَرَةِ الرِّقِّ لِغَيْرِهِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ مُبَاشِراً بِأَنْ حَصَلَ فِي نِكَاحِ الغُرورِ مِنْ رَقِيْقَيْنِ أَوْ مِنْ مُعْتقَيْنِ فَالوَلاَءُ لِمُعْتِقِ الأَبِ، وَإِنْ كَانَ الأَبُ رَقِيقاً بَعْدُ فَلِمُعْتِقِ الأَمِّ إِلَى أَنْ يُعْتَقَ الأَبُ فَيَنْجَرُّ إِلَيْهِ وَيَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الأَبُ رَقِيقاً فَأُعْتِقَ أَبُ الأَبِ انْجَرَّ الوَلاَءُ إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْجَرُّ مِنْهُ إِلَى مُعْتِقِ الأَبِ إِنْ أُعْتِقَ، وَقِيْلَ: لاَ يَنْجَرُّ؛ لأَنَّ الأَبَ رَقِيْقٌ، فَلاَ يَنْجَرُّ إِلَى أَبِيهِ، وَالمَوْلُودُ مِنْ حُرَّيْنِ إِذَا كَانَ أَجْدَادُهُ أَرِقَّاءَ ثَبَتَ الوَلاَءُ عَلَيْهِ لِمُعْتِقِ أمِّ الأُمِّ إِذَا أَعْتَقَهَا ثمَّ يَنْجَرُّ إِلَى مُعْتِقِ أَبِ الأمِّ ثُمَّ مِنْهُ إِلَى مُعْتِقِ أُمِّ الأَبِ ثُمَّ مِنْهُ إِلَى مُعْتِقِ أَبِ الأَبِ وَيَسْتَتَقِرُّ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الأَبُ رَقِيْقاً فَيَنْجَرُّ إِلَى مُعْتِقِ الأَبِ وَيَسْتَتَقِرُّ عَلَيْهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: بَانَ في الفصل السابق أن الولاء على الشخص يثبت بمباشرة إعتاقه، أو عتقه في مِلْكِ الإنسان يثبت أيضاً متعدياً من إعتاق بعض أصوله، والغرض الآن بيان الترتيب فَجِهَةُ مُبَاشَرَةِ العتق مُتَقَدِّمَةٌ (¬1) على جهة تَعدِّي الولاء من الأصول. وَاعْلَمْ أن قولنا: "تقدم أحد الشخصين على الآخر" نريد به في الغالب أنهما إذا اجتمعا كان الأول أولى من الثاني، فإذا لم يوجد الأول تام الثاني مقامه كما نقول: الابن مقدم (¬2) على ابن الابن في العصوبة، والأب يقدم على الحد في الولاية، وليس المقصود الآن هذا بل مهما مَسَّ الشَّخْصَ رِقٌّ [و] لحقه إعتاق، فلا ولاء عليه لمعتق أمه وأبيه، ولا واحد من أصوله على ما تبين في الفصل السابق. وقوله في الكتاب: "فلا ولاء عليه مع مباشرة العتق لغيره"، ليس معناه: أنه لا ولاء لغيره مع وجوده فحسب، بل سواء وجد في الحال أو لم يوجد فالمباشر إعتاقه لا ولاء عليه لمعتقي أصوله، وذلك؛ لأن نعمة من أعتقه عليه أعظم من نعمة من أعتق بعض أصوله، فيختصُّ بالولاء فإن لم يوجد فالولاء لعصباته، وأما إذا خُلِقَ الشخص حراً وأبوه عتيق؛ ثبت (¬3) الولاء عليه لمعتق أبيه، وهذا قد يصور (¬4) في الأبوين الرقيقين بأن يُغَرَّ الرقيقُ بحرية أمةٍ فينكحها ويولدها على ظن الحرية فإن الولد يكون حراً، أو في وطء الشبهة بأن يطأ الرقيق أمة الغير على ظن أنها زوجته الحرة، وقد يصور فيما إذا كانت الأم حرة أصلية أو معتقة، ومعتق الأب أولى بثبوت الولاء من معتق الأم؛ لأن الولاء تِلْوُ النسب والنسب إلى الآباء دون الأمهات. وأيضاً فإن الولاء والإرث به مبنيان على الأقوى فالأقوى، ولذلك ينفرد به المذكور من أولاد المعتق وجانب الأب أقوى من جانب الأم، وإن كان الأب رقيقاً والأم معتقة ¬
فيثبت الولاء لمعتق الأم؛ لأنا عَجَزْنَا عن إثبات الولاء من جهة الأب إذ لا ولاء عليه، ولمعتق الأم نعمة عليه، فإنه عتق يعتق الأم، فإن مات والأب رقيق بعد ورث معتق الأم منه بالولاء، وإن عتق الأب في حياته إِنْجَرَّ الولاء من معتق الأم إلى معتق الأب [و] (¬1) يروى ذلك عن عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيِّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابتٍ -رضي الله عنهم- ولا مخالف لهم. والمعنى فيه أن ثبوت الولاء لموالي الأم كانَ لضرورة، أنه لا ولاء على الأب، فَإِذَا [أعتق] (¬2) وثبت الولاء زَالَتِ الضرورة فرددنا إلى موالي الأب ولو مات الأب رقيقاً، وعتق الجَدُّ انْجَرَّ أيضاً من موالي الأم إلى موالي الجد، ولو عتق الجد والأب رقيق -فهل يَنْجَرُّ مِنْ موالي الأم إلى موالي الجد؟ فيه وجهان كالوجهين فيما إذا أَسْلَمَ الجَدُّ والأب حُرٌّ (¬3) كَافِرٌ هل يحكم بإسلام الطفل؟ أظهرهما: أنه يَنْجَرُّ -وبه قال مَالِكٌ- وعلى هذا فلو عتق الأب بعد ذلك انْجَرَّ من مولى الجَدِّ إلى مولى الأب؛ لأن الجَدَّ إنما جره؛ لكون الأب رقيقاً فإذا عتق كان هو أولى بالجر. والثاني: لا يَنْجَرُّ -وبه قال أَبُو حَنِيْفَةَ وَأَبُو عَلِيٍّ بن أَبِي هُرَيْرَةَ وَاَلطَّبْرِيُّ -رحمهم الله- وعلى هذا فلو مات الأب بعد عتق الجَدِّ هل ينجر من موالي الجد بالعتق السابق؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه إنما لم ينجر لبقاء الأب رقيقاً، فإذا مات زال المانع. والثاني: لا؛ لأنه لما امتنع انْجَرَّ عند العتق واستقر الولاء لمولى الأم فلا حر بعد ذلك. وهذا كما أنه إذا أسلم الجد، والأب حُرٌّ كافر، وقلنا: لا يتبعه الطفل في الإسلام فإذا مات الأب كافراً لا يتبعه أيضاً، ولو سبى الطفل مع أبويه وهما كافران؛ لا يحكم بإسلامه فإذا ماتا كافرين لا يحكم بإسلامه أيضاً لدوام النبي، وهذا أَصَحُّ عند الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ، والأول هو المذكور في "التَّهْذِيبِ". وإذا ثبت الولاء لموالي الأم على ولد المعتقة لرق الأب فلو اشترى الولد أباه؛ ثبت له الولاء عليه، وعلى إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ الدين هم أولاده وهل ينجر ولاء نفسه من موالي الأم؟ فيه وجهان: أَصَحُّهُمَا -وهو المنصوص: لا؛ بل يبقى ولاؤه لموالي الأم؛ لأنه لا يمكن أن يكون له على نفسه ولاء، ولهذا إذا اشترى العبد نفسه، يعتق ويكون الولاء للسيد، وكذا المكاتب إذا أعتق (¬4) بأداء النجوم، وإذا تعذر الجر بقي في موضعه. ¬
والثاني: وَيُنْسَبُ إلى تخريج ابْنِ سُرَيْج واختاره أَبُو خَلَفٍ السُّلَّمِيُّ: أنه ينجر كما لو أعتق الأب غيره لم يسقط، ويصير كحر لا ولاء عليه فالذي (¬1) خلق حراً من أبوين حرين إذا كان أجداده أرقاء، ويتصور ذلك في نكاح الغرور وفي الوطئ بالشبهة إذا أعتقت أم أمه؛ يثبت الولاء عليه لمعتق أم الأم فإن [أعتق] (¬2) أبو أمه بعد ذلك انْجَرَّ الولاء من مُعْتِقِ أم الأم إلى مُعْتِقِ أَب الأُمِّ، فإن أعتقت أم أبيه بعد ذلك انْجَرَّ ولاؤه من معتق أب الأم إلى معتق أم الأب، فإن أعتق أبو أبيه بعد ذلك انْجَرَّ الولاء من معتق أم الأب إلى معتق أب الأب. ولو كانت المسألة بحالها لكن أبوه رقيق فأعتق الأب بعد عتق هؤلاء انجر الولاء من معتق أب الأب إلى معتق الأب، واستقر [عليه والسبب] (¬3) في ذلك أن جهة الأبوة أقوى من جهة الأمومة؛ فينجر من الأضعف إلى الأقوى، ولو عتقوا على ترتيب آخر لم يَخْفَ الحكم، وإذا أثبتنا الولاء لموالي الأم فمات الولد أخذوا ميراثه، فإن عتق الأب بعد ذلك لم يكن لمعتقه استرداده، بل الاعتبار بحالة الموت، ولم يكن له ولاء حينئذ وليس معنى الانْجِرَارِ أنا نتبين أن الولاء لم يزل في جانب الأب بل ينقطع من وقت عتق الأب عن موالي الأم، [فإذا] (¬4) انجر الولاء إلى موالي الأب فلم يبق منهم أحد، فلا يعود إلى موالي الأم بل يكون الميراث لبيت المال، وكذلك إذا ثبت الولاء لموالي الأب فَفَنُوا؛ لم يصر الولاء لموالي الجد حتى لو مات الذي انجر ولاؤه من موالي جَدِّهِ إلى موالي أبيه، حينئذ فَمِيرَاثُهُ لبيت المال. وقوله في الكتاب: "بأن حصل في نِكَاحِ الغرور من رقيقين" يعني ثم أعتق الأب، ولا يشترط للتصوير كون الأب رقيقاً عند الغرور، وَالْإِيلاَدِ بل لو كان معتقاً كان الحكم كذلك. وقوله: "أو من معتقين" لا يتعلق بنكاح الغرور بل ولدهما حر على الإطلاق. وقوله: "لم يَنْجَرَّ الولاء عليه" معلم بالحاء. وقوله: "ولا يَنْجَرُّ" بالميم. وقوله: "ثم ينجر منه إلى معتق أب الأم ثم منه إلى معتق أم الأب ... " إلى آخره يعني إذا أعتقوا على هذا الترتيب. وقوله: "إلا أن يكون الأب رقيقاً" ليس باستثناء محقق؛ لأنه صور أولاً في المولود من حرين فلا يدخل فيه ما إذا كان الأب رقيقاً حتى يستثنى منه؛ ولكنه استثناء منقطع. ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَمَنْ أَعْتَقَ أَمَةً حَامِلاً مِنْ مُعْتق فَوَلاءُ الجَنِين لَهُ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ، لاَ لِمُعْتِقِ الأَبِ لكِنْ ذَلِكَ إِذَا أتتْ بِوَلَدٍ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرِ مِنْ وَقْتِ إِعْتَاقِ الأَمِّ، فَإِنْ كَانَ لأَكَثَرَ وَالزَّوْجُ يَفْتَرِشُهَا فَالوَلاَءُ لِمَوْلَى الأَبِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَفْتَرِشُهَا وَهُوَ لِأَقَلَّ مِنْ أَربَعِ سنِينَ فَقَوْلاَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا أعتق جاريته، وهي في نكاح معتق فأتت بولد لأقل من ستة أشهر من يوم الإعتاق [فولاء الجنين] لمعتق الجارية، لا لمعتق أبيه لأنَّا تيقنا وجوده يوم الإعتاق، فمعتقه بَاشَرَ إعتاقه لإعتاقها وولاء المباشرة مقدم على ما مر، وإن أتت به لستة أشهر فصاعداً فإن كان الزوج يفترشها فولاؤه لمعتق الأب؛ لأنا لا نعلم وجوده يوم الإعتاق والأصل عدمه، والافتراش سبب ظاهر للحدوث بعده. وإن كان لا يفترشها وأتت به لأربع سنين من وقت الإعتاق؛ فكذلك وإن أتت به لِأَقَلَّ من أربع سنين فقولان؛ لأن ثبوت النسب يدل على تقدير وجوده حينئذ، ولكن النسب يكفي فيه الإمكان، وقد لا يكتفي (¬1) في الولاية وتثبت المسألة في أحوالها على ما إذا أوصى يحمل فلانة، وقد ذكرناه في "الوصية" وبينا أن الأظهر في صورة الخلاف، أنه يستحق الوصية فعلى قياسه يكون الولاء لمعتق الأم دون معتق الأب. ولو أعتق جاريته، وهي في نكاح رقيق فأنت بولد لما دون ستة أشهر من يوم الإعتاق فولاؤه لمعتق الأم بالمباشرة، وإذا أعتق (¬2) الأب لم يَنْجَرّ الولاء إلى معتقه، وإن أتت به لستة أشهر فصاعداً. قال في "التَّهْذِيبِ": إن لم يفارقها الزوج، فولاؤه لمولى الأم، فإذا أعتق الأب ينجر الولاء إلى معتقه؛ لأنا لم نتحقق وجوده يوم إعتاق الأم وإن كان الزوج قد فارقها، فإن أتَتْ به لأكثر من أربع سنين من يوم الفراق، فالولد مَنْفِيٌّ عن الزوج، وولاؤه لمعتق الأم أبداً، وإن أتت به لأقل من أربع سنين، فالولد مُلْحَقٌ بالزوج، وولاؤه لمعتق الأم فإذا أعتق (¬3) الأب ففي انْجِرَارِ الولاء إلى معتقه قولان: أحدهما: لا يَنْجَرُّ؛ لأنا جعلناه موجوداً يوم الإعتاق؛ لثبوت النسب من الزوج فيكون عتقه بالمباشرة. والثاني: يَنْجَرُّ ونجعله حادثاً بعد عتق الأم، ويخالف النسب فإنا نثبته بمجرد الإمكان. ولو نفى الزوج المعتق ولد زوجته المعتقة باللعان؛ لم يحكم بأن ولاء الولد لموالي الأب، ويكون في الظاهر لموالي الأم، فإن كذب الملاعن نفسه لحقه الولد، ¬
وحكمنا بالولاء لمواليه، فإن كان قد مات الولد بعد اللعان، ودفعنا الميراث إلى موالي الأم استرددنا منهم بعد الاستحقاق ما أخذوا؛ لأنه تَبَيَّنَ أنه لم يكن لهم ولاء. ولو غر بحرية أمةٍ فنكحها وأوردها على ظَنٍّ أنها حرة، ثم علم أنها أمةٌ فَأَوْلَدهَا ولداً آخر، فالولد الأول حر، والثاني رقيق. فلو أَعْتَقَ السيد الأمة والولد الثاني، ثم [أعتق] (¬1) الأب انْجَرَّ ولاء الولد الأول إلى معتق الأب، ولم يَنْجَرَّ إليه ولاء الثاني. لأن عليه ولاء المباشرة. ولو نكحها، وهو يعلم أنها أمةٌ وأولدها ثم عتقت فأولدها ولداً آخر فالثاني حر، وولاؤه لمعتق الأب، والأول مملوك وولاؤه لمُعْتِقِهِ. [والله أعلم] (¬2). قَالَ الْغَزَالِيُ: النَّظَرُ الثَّانِي فِي الحُكْمِ وَحُكْمُ الوَلاَءِ العُصُوبَةُ فَيُفِيدُ المِيرَاثَ وَوِلاَيَةَ التَّزْوِبجِ وَتَحَمُّلَ العَقْلِ وَالوَلاَءِ لِلمُعْتِقِ، فَإِنْ مَاتَ فَمِيرَاثُ العَتِيقِ لِأُولِي عَصَبَاتِهِ يَوْمَ مَوْتِ المُعْتِقِ، وَلَوْ خَلَّفَ ابْنَاً وَبِنْتَاً وَأَبَاً وَأُمَّاً فَلاَ مِيرَاثَ لِلبنْتِ وَالأُمِّ بَلْ لاَ يَثْبُتُ الوَلاَءُ أَصْلاً لامْرَأَةٍ إِلاَّ إِذَا بَاشَرَتِ العِتْقَ فَلَهَا الوَلاَءُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَحْفَادِهِ وَعَتِيقِهِ وَعَتِيقِ عتِيقِهِ كَالرَّجُلِ، وَالأخُ لاَ يُقَاسِمُ الجَدَّ فِي الوَلاَءِ فِي أَحَدِ القَوْلَينِ بَلْ هُوَ أَوْلَى، وَابْنُ الأَخِ أَيْضاً أَوْلَى مِنَ الجَدِّ عَلَى هَذَا القَوْلِ لِقُوَّةِ البُنُوَّةِ، وَالأَخُ مِنَ الأَبِ وَالأُمِّ مُقَدَّمٌ عَلَى الأَخِ لِلأبِ فِي أَصَحِّ القَوْلَيْنِ، وَلاَ يُعَادُّ بِالأَخَ لِلأبِ إِنْ رَأَيْنَا المُقَاسَمَةَ بَيْنَ الجَدِّ وَالإِخْوَةِ، وَإذَا اجْتَمَعَ أَبُ المُعْتِقِ وَمُعْتِقُ الأَبِ فَلاَ وَلاَءَ لِمُعْتِقِ الأَبِ أَصْلاً لِأَنَّ عَلَى المَيِّتِ وَلاَءَ المُبَاشَرَةِ فَالمَالُ لِعَصَبَةِ مُعْتِقِهِ وَهُوَ الأَبُ، وَكَذَلِكَ قَدْ يُظَنِّ أَنَّ مُعْتِقَ أَبِ المُعْتِقِ أَوْلَى مِنْ مُعْتِقِ مُعْتِقِ المُعْتِقِ وَهُوَ غَلَطٌ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد ذكر في أول "الولاء" أن النظر في سببه وحكمه، وقد حصل [الفراغ] (¬3) من النظر في سببه. أما حكمه فالولاء إحدى جهات العصوبة وَمَنْ يَرِثُ به لا يرث إلا [بالعصوبة] (¬4) ويتعلق به ثلاثة أحكام: الميراث وولاية التزويج، وتحمل العقل؛ وقد ذكرناها في مواضعها. وإذا مات العتيق، ولا وارث له من جهة النَّسَبِ فولاؤه لمعتقه يرث جميع ماله وإن كان له من يرث بالفرضية، وفضل شيء أخذ المعتق ما فضل عن الفرض ثم في الفصل مسائل: ¬
إِحْدَاهَا: إن لم يكن المعتق حياً؛ وَرِثَ بولاية أَقْرَب عَصَبَاتِهِ وَلاَ يَرِثُ أصحاب فروض المعتق ولا الذين يتعصبون بغيرهم فإن لم يجد للمعتق (¬1) عصبة من النسب فالميراث لمعتق المعتق فإن لم يبقى فلعصبات معتق المعتق فإن لم يوجد فلمعتق معتق المعتق، لعصباته ولا ميراث لمعتق عصبات المعتق إلا لمعتق أبيه أو جده. قال الإِمام -رحمه الله-: وهذا بعينه هو الذي ذكرناه في تعدي الولاء يعني إلى الأولاد والأحفاد ومعتقيهم (¬2)، وأوضحه بالمثال فقال: زيد أعتق سالماً فولد لسالم ابن اسمه عبد الله فأعتق عبد الله عبدًا ومات عبد الله وأبو سالم وبقي معتق أبيه زيد ثم مات عتيق عبد الله ورثه زيد؛ لأنه لما ثبتت له النعمة على سالم أبي عبد الله ورث بولائه، ثم للأصحاب -رحمهم الله- عبارة ضابطة لمن يرث بولاء المعتق إذا لم يكن المعتق حياً وهي أنه يرث العتيق فولاء المعتق ذكر يكون عصبة للمعتق لو مات المعتق يوم موت العتيق [بصفة] (¬3) العتيق وخرجوا عليها مسائل: منها: إذا مات العتيق وللمعتق ابن [و] (¬4) بنت أو أب وأم أو أخ وأخت فالميراث للذكر في هذه الصورة دون الأنثى، ولا ترث النساء بولاء الغير أصلاً؛ نعم إذا باشرت المرأة الإعتاق أو عتق عليها مملوك ثبت لها الولاء عليه كما للرجل؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الولاء لمن أعتق" وروي أن بنت الحمزة أعتقت جارية فماتت الجارية عن بنت وعن المعتقة فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- نصف ميراثها للبنت والنصف للمعتقة وكما يثبت لها الولاء على عتيقها يثبت على أولاده وأحفاده وعتيقه كالرجل، والقول في أن المرأة لا ترث بولاء الغير وترث بولاء المباشرة قد ذكر مرة على الاختصار في "الفرائض" وشرحناه حكماً وتوجيهاً. ومنها: لو أعتق عبداً ومات عن ابنيه فولاء العتيق (¬5) لهما فإن مات أحدهما وخلف ابناً فولاء العتيق لأخيه، وإن كان ميراثه لابنه؛ لأنه لو مات المعتق يوم موت العتيق كان عصبته الابن دون ابن الابن، وهذه الصورة ونحوها معنى ما روي عن عمر وعثمان -رضي الله عنهما- أن الولاء للكبر والمراد "الكبر في الدرجة والقرب دون السن". ولو مات المعتق عن ثلاث بنين ومات أحد البنين عن ابن وآخر عن أربعة وآخر عن خمسة فالولاء بينهم بالسوية حتى إذا مات العتيق ورثوه أعشاراً؛ لأنه لو مات المعتق يومئذ ورثوه كذلك لو ظهر للمعتق مال كان ثلثه للابن وثلثه للأربعة وثلثه للخمسة؛ لأن المال انتقل إلى آبائهم ثم من الآباء إليهم، ولو أعتق عبدًا ومات عن أخ من الأبوين ¬
وآخر من الأب فماله للأخ من الأبوين وكذا ولاء عتيقه على الأصح فلو مات الأخ من الأبوين وخلف ابناً والأخ الآخر فولاء العتيق للأخ وإن كان ميراثه للابن؛ لأن المعتق لو مات [أولاً] (¬1) عن العتيق كان عصبته للأخ من الأب دون ابن الأخ من الأبوين. ومنها: أعتق مسلم عبداً كافرًا ومات عن ابنين -مسلم وكافر- ثم مات العتيق فميراثه للابن الكافر؛ لأنه الذي يرث المعتق لو مات المعتق [بصفة] (¬2) الكفر. ولو أسلم العتيق، ثم مات فميراثه للابن المسلم ولو أسلم الابن الكافر ثم مات العتيق مسلماً فالميراث بينهما. ذكره في "التهذيب". المسألة الثانية: الذين يرثون بولاء المعتق (¬3) من عصباته يترتبون ترتب (¬4) عصبات النسب إلاَّ في مسائل مذكورة في "الفرائض": منها: أخ المعتق وجدّه، إذا اجتمعا يتساويان في أحد القولين ويتقاسمان كما في النسب، ويتقدم الأخ في أصحهما، وإذا قلنا به تقدم ابن الأخ أيضاً، وإن [رأينا] (¬5) المقاسمة فالأخ من الأبوين لا يعاد بالأخ من الأب على الظاهر. وفيه وجه آخر: ذكرناه في "الفرائض" وإذا راجعت الشرح هناك أعلمت قوله هاهنا "والأخ لا يقاسم" بالحاء والألف وقوله: "لا يعاد" بالواو، ولو قدم قوله: "ولا يعاد بالأخ [من الأب"] (¬6) على مَسْأَلَةِ الأخ من الأبوين، والأخ من الأب لكان أَحْسَنَ؛ لأنه يتعلق بصورة الجَدِّ والأخ. ومنها: في أخ المعتق من الأبوين مع أَخِيهِ من الأب طريقان: أصحهما (¬7): تقديم الأخ من الأبوين. والثاني: أن فيه قولين -وهو المذكور في الكتاب، ويجوز إِعْلاَمُ لَفْظِ القولين بالواو، والمسألتان معاً مذكورتان في [الكتاب] (¬8) في "الفرائض" معادتان هاهنا مع زيادات. ومنها حكى الإِمَامُ عن أَبِي حَامِدٍ المَرْوَذِي- أنه إذا كان للمعتق ابنا عم أحدهما أخ لأم فالميراث كله للذي هو أخ لأم. قال: ولم نر هذا إلاَّ له، وهو غَلَطٌ عند المحققين، فإن أخوة الأم لا توجب قوة في النسب، فكيف توجب قوة في الولاء، والوجه الحكم باستوائهما. وقد أوردنا (¬9) الصورة في "الفرائض". ¬
وإذا تأملت ما أوردناه هناك عَرَفْتَ أن المذهب ما حكاه عن أَبِى حَامِدٍ، وتعجبت مما ساقه الإِمام. الثالثة: الانتساب في الولاء قد يَنْتَظِمُ من مَحْضِ الإِعْتَاقِ كمعتق المعتق ومعتق معتق المعتق وقد ينتظم من الإعتاق والنسب كمعتق الأب، وأبي المعتق، ومعتق أب المعتق، وقد سبق تصوير معتق أب المعتق وأنه وارث في الجملة، وإذا تركت الأسباب؛ فقد يشتبه حكم الولاء، وَيُغَالِطُ بهِ المُغَالِطُ، مثل أن يقول: إذا اجتمع أبو المعتق ومعتق الأب فَأيُّهُمَا أولى؟ والجواب: أنه إذا كان للميت أبو المعتق كان له معتق [وكان] (¬1) قد مَسَّهُ الرِّقُ، ولحقه العتق، وحينئذ فلا ولاء لمعتق أبيه أصلاً كما سبق ولا (¬2) معنى لمقابلة أحدهما بالآخر، وطلب الأولوية، وإذا اجتمع معتق أب المعتق، ومعتق المعتق فمعتق المعتق أولى؛ لأنه يستحق ولاء المعتق بالمباشرة، ومعتق أبيه يستحقه بالسِّرَايَةِ، وولاة المباشرة أقوى، ولذلك لا ينجر ولاء المباشرة، وينجر ولاء السِّرَايَةِ. وإذا اجتمع معتق أب المعتق ومعتق معتق المعتق فقد (¬3) يظن ظناً غلطاً؛ لأن الأول أولى لا ولاية بالولادة، والصواب أن الثاني أولى؛ لأن المعتق الأخير في النسبة المذكورة انتسب (¬4) إليه شخصان: أحدهما: معتق أبيه. والثاني: معتق معتقه. ومن له معتق معتق، فقد مَسَّهُ الرِّقُّ ويثبت عليه ولاء المباشرة، وهو أقوى. ذَكَرَهُ الإِمَامُ وَغَيْرُهُ -رحمهم الله-. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فُرُوعٌ: الأَوَّلُ إِذَا اشْتَرَى أَخٌ وَأُخْتٌ أَبَاهُمَا فَعُتِقَ عَلَيْهِمَا ثُمَّ أَعْتَقَ الأَبُ عَبْدَاً وَلَمْ يُخَلِّف العَتِيقُ إِلاَّ الأَخَ وَالأُخْتَ فَالمَالُ كُلُّهُ لِلأخِ لِأَنَّهُ عَصَبَةُ المُعْتِقِ وَلاَ شَيْءَ لِلأخْتِ الَّتِي هِيَ مُعْتِقَةُ المُعْتِقِ بَلْ لَوْ خَلَّفَ ابْنَ عَمِّ المُعْتِقِ وَالبِنْتَ لَكَانَ ابْنُ العَمِّ أَوْلَى، وَلَوْ مَاتَ هَذَا الأَخُ وَلَمْ يُخَلِّفْ إِلاَّ أُخْتَهُ فَلَهَا ثَلاَثَةُ أَرْبَاعِ مِيرَاثِهِ النِّصْفُ بِالأُخُوَّةِ وَنصْفُ البَاقِي لِوَلاَئِهَا عَلَى نِصْفِ أَبِيهِ لأَنَّ أَخَاهَا وَلَدُ مُعْتِقِهَا، وَكَذَلِكَ إِنْ مَاتَ الأَبُ وَلَمْ يُخَلِّفْ إِلاَّ البِنْتَ فَلَهَا النِّصْفُ بِالبُنُوَّةِ وَنِصْفُ البَاقِي لِوَلاَئِهَا عَلَى نِصْفِ الأَبِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا اشترت المرأة أباها، فعتقَ عَلَيهَا ثم أعتق الأب عبداً، ومات ¬
عَتِيقُهُ بعد موته؛ نُظِرَ إن لم يكن للأب عصبة من النسب فميراث العتيق للبنت، لا لأنها بنت معتقة، فقد سبق أن بنت المعتق لا ترث، ولكن؛ لأنها معتقة المعتق، وإن كان له عصبة من أخ [أو عم] (¬1) أو ابن عم قريب. أو بعيد، فميراث العتيق له؛ لأنه عصبة المعتق من النسب ولا شيء للبنت؛ لأنها معتقة المعتق ومعتق المعتق يتأخر عن عصبة النسب. قال الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: وسمعت بعض الناس يقول: قد أخطأ في هذه المسألة [أربعمائة] قَاضٍ؛ لأنهم رَأَوْهَا أقرب، وهي عصبة له بولائها عليه. ولو اشترى أخ، وأخت أباهما فعتق عليهما ثم أعتق عبداً، ومات العتيق بعد موت الأب، وَخَلَّفَ الأخ والأخت فميراثه للأخ دون الأخت من جهة أنه عصبة المعتق من النسب، وهي معتقة المعتق، بل لو كان الأخ قد مات قبل موت أبيه، وَخَلَّفَ ابناً، أو ابْنَ أبْنٍ، أو كان للأب المعتق ابن عم بعيد فهو أولى من البنت. ولو مات هذا الأخ بعد (¬2) موت الأب، ولم يخلف إلاَّ أُخْتَهُ، فلها نصف الميراث بالأخوة، ونصف الباقي؛ لأن لها نصف ولاء الأخ؛ لإعتاقها نصف الأب فَيَسْتَرْسِلُ الولاء على أولاده ويكون لها نصف ولاء الأخ، وللأخ نصف ولائها، فيجمع لها ثلاثة أرباع الميراث النصف بالأخوة والربع بأنها مُعْتِقَةُ نصف الأب. ولو مات الأب ثم مات الابن، ثم مات العتيق، ولم يُخَلِّفْ إلاَّ البنت؛ فلها ثلاثة أرباع الميراث أيضاً النصف؛ لأنها مُعْتِقَةُ نِصْفِ المعتق ونصف الباقي لثبوت ولاء السِّرَايَةِ على نصف الأخ، بإعتاقها نصف أبيه فهي معتقة نصف أبي معتق معتقة وَالرُّبْعُ الباقي في هذه الصورة والتي قبلها لبيت المال. وأما قوله في الكتاب: "وكذلك إن مات الأب، ولم يُخَلِّفْ إلاَّ البنت فلها النصف بالبنوة، ونصف الباقي لولائها على نصف الأب" فهذه الصورة لا ذكر لها في "الْوَسِيطْ وَلم أرها في "النهاية" أيضاً، والمفهوم مما ساقه انحصار حَقِّهَا في النصف، والربع، ولكن كلام الأصحاب منهم الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَأَبُو خَلَفٍ السُّلَّمِيُّ في فرع آخر: ينازع [في] (¬3) ذلك، وذلك أنَّهم قالوا: لو [اشترت] (¬4) أختان أَبَاهما بِالسَّوِيَّةِ فعتق (¬5) عليهما ثم مات الأب فلهما الثلثان، والباقي بالولاء لو ماتت إحداهما بعد موت الأب، وَخَلَّفَ الْأُخْرَى فلها النصف بالأخوة والنصف الباقي لولائها على نصف الأخت بإعتاقها [نصف] (¬6) أبيها أمَّا الربع الباقي فقد أطلق في "التَّهْذِيبِ" أنه لبيت المال، وليحمل ذلك ¬
على ما إذا كانت أمهما حرة أصلية، فأما إذا كانت معتقة فلموالي الأم ولاء الأختين (¬1) بإعتاق الأم، فإذا أَعْتَقْنَا الأب، جَرَتْ كل واحدة منهما نصف ولاء أختها إلى نفسها. وَهَلْ تَجُرُّ ولاء نفسها، ويسقط أو يبقى لموالي الأم؟. فيه خلاف قد تقدم، فإن قلنا: يبقى لموالي الأم، وهو الظاهر فَالرُّبْعُ الباقي يكون لموالي الأم، وإن قُلْنَا: يجر ويسقط فهو لبيت المال، ولو ماتت إحدى الأختين ثم مات الأب وخلف الأخرى، فلها سبعة أثمان ماله النصف بِالبُنُوَّةِ وهو أربعة من ثمانية ونصف الباقي، وهو سهمان؛ لأنها معتقة نصفه ونصف الربع الباقي، وهو سهم؛ لأن الربع الباقي كان للأخت الأخرى لو كانت باقية لولائها على نصف الأب، فإذا كانت ميتة أخذت هذه نصفه؛ لأن لها نصف ولاء الأخت بإعتاقها نصف أبيها، وأما الثمن الباقي إذا كانت أمهما معتقة فهو لموالي الأم على الأظهر؛ لأن نصف ولاء الميتة يبقى لهم وَإن قلنا: لا يبقى؛ فَهُوَ لبيت المال. وصورة الكتاب مثل هذه الصورة ولو اشترتا الأب، وعتق عليهما، ثم أنه أَعْتَقَ عبداً ومات العتيق بعد موته، وَخَلَّفَ البنتين؛ فجميع المال لهما بالولاء لا لأنهما بِنْتَا مُعْتِقِهِ، لكن لأنهما معتقتا (¬2) معتقة. قَالَ الْغَزَالِيُّ: أُخْتَانِ خُلِقَتَا حُرَّتَيْن اشْتَرَتْ إِحْدَاهُمَا أَبَاهُمَا وَالأُخْرَى أُمَّهُمَا فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مَوْلاَةُ صَاحِبَتِهَا لِأَنَّ وَلاَءَ الأُمِّ لَمْ يُمْكِنِ انْجِرَارُهُ إِلَى مُشْتَرِيَةِ الأَبِ إِذْ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْلَى نَفْسِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَنْجَرُّ وَيَسْقُطُ وَلاَءَ عَلَى مُشْتَرِيَةِ الأَبِ لمشْتَرِيَةِ الأُمِّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أخوان أو أختان ليس عليهما ولاء مباشرة -وإليه أشار في الكتاب بقوله: "خُلِقَتَا حُرَّتَيْنِ"، وأبواهما مملوكان اشترت إحداهما [أباهما] (¬3) فعتق عليها والأخرى أمهما فعتقت عليها. وَتَصَوُّرُ المسألة: فيما إذا كانوا جميعاً كُفَّاراً فخرجِ إليه الولدان مسلمين، ثم اسْتَرْقَقْنَا الوالدين وفيما إذا غَرَّ عَبْدٌ بِحُرّيَّةِ أمة: فنكحها وَأوْلَدَهَا على ظن الحرية ولدين، صوإذا عرف ذلك، فولاء الأب للتي اشترته، فإذا مات عنهما فَلَهُمَا الثلثان بِالبُنُوَّةِ والباقي لها بالولاء، وولاء الأم لِلَّتِي اشترتها، فإذا ماتت عنهما فلها الثلثان، والباقي لها بالولاء، أما الأختان فلمشترية الأب الولاء على مشترية الأم تبعاً للولاء على الأب، فإذا ماتت مشترية الأم وخلفت مشترية الأَبِ، فلها النصف بالأخوة، والباقي بالولاء، وهل لمُشْتَرِيَةِ الأُمِّ الولاء على مُشْتَرِيَةِ الأَبِ؛ يُبْنَى ذلك على أَنَّ مَنْ عليه الولاء لمعتق أمه إذا اشترى أباه، فعتق عليه فَهَلْ يبقى الولاء عليه لمعتق الأم؟ أو يجر ولاء نفسه ويسقط وفيه خِلاَفٌ قَدَّمْنَاهُ. ¬
وقوله في الكتاب: "لأن ولاء الأم لم يمكن انجراره إلى مشترية الأب" أراد به الوجه الأظهر من ذلك الخلاف، ووجه بأنه لو انجر لصار هو مولى نفسه، ولا يمكن أن يكون الإنسان (¬1) مولى نفسه. وقوله: "وقيل إنه يَنْجَرُّ ويسقط"، وهو الوجه المنسوب إلى ابْنِ سُرَيْجٍ، وتخريجه. وقد ذكرناهما من قبل. فإن (¬2) قلنا: يبقى الولاء لمعتق الأم فَلِمُشْتَرِيَة الأم الولاء أيضاً على مُشْتَرِيَةِ الأب، وإذا ماتت فالحكم كما ذكرنا في الطرف الأول. وإن قلنا: لا يبقى فلا ولاء لها على مُشْتَرِيَةِ الأب، وإذا ماتت فلها النصف بالأخوة، والباقي لبيت المال، فلو اشترت الأختان أَبَاهُمَا ثم اشترت إحداهما مع الأب أب الأب، وعتقَ عليها ثم مات الابن فِلِلْبِنْتَيْنِ الثلثان، وللأب السُّدُسُ بِالْفَرْضِيَّ، والباقي بِعُصُوبَةِ النَّسَبِ فإن مات الجَدُّ بعد موت الأب، فَلِبِنْتَي الابْنِ الثلثان بالبنوة، والباقي وهو الثلث نصفه للتي اشترته مع الأب؛ لإعتاقها نصفه ونصفه الآخر بينهما لإعتاقهما معتق نصفه. ولو ماتت إحداهما بعد ذلك وخلفت الأخرى فعلى ما سبق. ولو اشترت الأختان أمهما، ثم اشترت الأم أَبَاهُمَا وَأَعْتَقَتْهُ فَلِلأُخْتَيْنِ الولاء على الأم بالمباشرة، وللأم الولاء على أبيهما بالمباشرة وعليهما؛ لأنها مُعْتِقَةُ أبيهما، فإن ماتت الأم؛ فلها الثلثان بالبنوة، والباقي بالولاء، فإن مات الأب بعد ذلك فلهما الثلثان بالبُنُوَّةِ والباقي بالولاء؛ لأنهما مُعْتِقَتَا مُعْتَقِهِ (¬3) والنساء يَرِثْنَ من أعتق، وممن أعتقه من أَعتق [فإن] (¬4) ماتت إحدى الأختين بعد ذلك، وَخَلَّفَتِ الأُخْرَى؛ فلها النصف بالأخوة ونصف ما بقي لإعتاقها نصف معتقة أبيها، والباقي لبيت المال. ولو اشترت الأختان أَبَاهُمَا؛ ثم اشترت إحداهما مع الأب أخاً لها من الأب فعتق نصفه على الأب، وهو مُعْسِرٌ وأَعْتَقَتِ الْمُشْتَرِيَةُ النصف الآخر. قَالَ أَبُو خَلَفٍ السُّلَّمِيُّ: إن مات الأب فماله لأبيه وبنتيه: للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن مات الأخ بعد ذلك فَلأُخْتَيهِ الثلثان، والباقي نصفه للأخت المُشْتَرِيَةِ لإعتاقها نصفه ونصفه الآخر حِصَّةُ الأب لو كان حياً، فيكون بعد موته لابنتيه لأنهما معتقتاه فتكون القسمة من اثْنَيْ عَشَرَ لمشترية الأخ منها سبعة؛ وللأخرى خمسة. ولو ماتت التي لم تشتر الأخ أولاً، ثم مات الأب، ثم مات الأخ فمال التي ماتت أولاً لأبيها، ومال الأب لابنه وبنته أثلاثاً، ومال الأخ (¬5) نصفه لأخته بِالنَّسَبِ ولها (¬6) ¬
نصف الباقي بإعتاقها نصفه والباقي وهو الربع حصة الأب لو كان حياً فيكون لبنته؛ لأنهما معتقتاه وإحداهما ميتة فللباقية حِصَّتُهَا وَحِصَّةُ الميتة تكون لمواليها، ومواليها الأخت الباقية وموالي الأم فيجعل بينهما بِالسَّوِيَّةِ، هذا مفروض فيما إذا كانت معتقة وإلاَّ فهو لبيت المال. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثُ: اشْتَرَتْ أُخْتَانِ أُمَّهُمَا ثُمَّ شَارَكَتِ الأُمُّ أَجْنَبِيّاً فِي شِرَاءِ أَبِيهِمَا فَإِذَا مَاتَتْ إِحْدَى الأُخْتَيْنِ وَلَمْ تُخَلِّفْ إِلاَّ الأخُتَ الأُخْرَى فَالنِّصْفُ لَهَا بِالأُخُوَّةِ وَالبَاقِي لِلأَجْنَبِيِّ وَالأُمِّ فَإِنَّهُمَا مُعْتِقَاً أَبيهِمَا لَكِنَّ الأُمَّ مَيِّتَةٌ فَيَرْجِعُ نَصِيبُهَا إِلَى الأُخْتَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَعْتَقَاهَا لَكِنَّ إِحْدَاهُمَا مَيِّتَةٌ وَحَصَلَ لهَا الثُّمُنُ فَيَرْجِعُ إلَى الأَجْنَبِيِّ وَأُمِّهَا وَمِنَ الأُمِّ إلَى المَيِّتَةِ وَالحَيَّةِ وَيدُورُ وَلاَ يَنْقَطِعُ فَالصَّوَابُ أَنْ يقَسَّم المَالُ مِنْ سِتَّة فَيَكُونَ لَهَا النِّصْفُ بالأُخُوَّةِ وَالبَاقِي ثَلاثَةٌ يُقَسَّمُ عَلَيْهَا وَعَلَى الأَجْنَبِيَّ أَثْلاَثاً لِلأَجْنَبِيِّ سَهْمَانِ وَلَهَا سَهْمٌ فَتَتَحَصَّلُ هِيَ عَلَى أَرْبَعَةٍ لِأَنَّ الثُّمُنَ الدَّائِرَ كُلَّمَا رَجَعَ إلَى المَيِّتَةِ يَحْصُلُ لِلأَجْنَبِيِّ ضِعْفَ مَا حَصَلَ لِلأُخْتِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أختان لا ولاء عليهما اشترتا أمهما فعتقت عليهما ثم إن الأم شاركت أجنبياً في شراء أبي الأختين وإِعْتَاقِهِ، فللأختين الولاء على أُمهما وللأم والأجنبي الولاء على الأب، وعلى الأختين؛ لأنهما معتقتا (¬1) أبيهما، ولكل (¬2) واحد منهما نصف ولاء كل واحدة منهما، ثم الكلام في صور: إحداها: إذا ماتت الأم ثم الأب ثم إحدى الأختين. أما الأم: فثلثا مالها للأختين بالبنوة، والباقي لهما بالولاء، وأما الأب فثلثا ماله لهما أيضاً بالبنوة، وما بقي فللأجنبي نصفه؛ لأنه أعتق نصفه، والنصف الآخر وهو الربع لأجنبي لأنه أعتق نصف أبيهما والربع الباقي كان للأم لو كانت حية؛ لأنها معتقة النصف الآخر فإذا كانت ميتة فنصيبها للأختين؛ لأنهما معتقاها فتأخذ الأخت الباقية نصفه وهو الثمن ويرجع الثمن الذي هو حِصَّةُ الميتة إلى من له ولاؤها، وهو الأجنبي والأم وما للأُمِّ يرجع إلى الحَيَّةِ والميتة، وَحِصَّةُ الميتة إلى الأجنبي والأم، وهكذا يدور ولا يَنْقَطِعْ ولذلك سُمِّيَ سهم الدور وفيما يفعل به وجهان: قَالَ ابْنُ الحَدَّادِ: يجعل في بيت المال؛ لأنه لا يمكن صرفه بالنسب ولا بالولاء. والثاني: حكاه الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ عن بعض الأصحاب وحكاه الإِمام عن الشيخ -رحمهم الله-: أنه يُقْطَعُ السَّهْمُ الدَّائِرُ وهو الثُّمُنُ ويجعل كأنه لم يكن ويقسم المال على باقي السهام وهو سبعة خمسة منها للأخت الباقية وسهمان للأجنبي، وزيف الإِمام ¬
الوجهين (¬1) بأن الولاء ثابت ونسبة الدور معلومة فيجب تنزيل السهم الدائر، وقسمته على تلك النسبة. والوجه الثاني: أَنَّ ضَمَّ ما تَسْتَحِقُّهُ الأخت بالنسب إلى حساب الولاء وفض ما يؤخذ بالولاء على ما يؤخذ بالنسب لا معنى له، ولا سبيل إليه ثم قال: الوجه أن يفرد النصف، ولا يدخله في حساب الولاء وينظر في النصف المستحق بالولاء فيجد نصفه للأجنبي ونصفه للأم وما للأم يصير للأختين ثم نصيب كل واحدة منهما يرجع نصفه إلى الأجنبي، ونصف إلى الأُمِّ ومنها إلى الأختين فَتَبَيَّنَ من ذلك أن للأجنبي ضعف ما للأخت الواحدة؛ لأنه مثل ما للأم وما للأم ينتصف بين الأختين، فإذن المال بين الأجنبي (¬2) وبين الأخت بالأَثْلاَثِ فيحتاج إلى عدد له نصف ولنصفه ثلث وأقله ستة فنصرف نصف الستة إلىَ الأخت بالنسب يبقى ثلاثة -سهمان منها للأجنبي، وسهم للأخت فجملة مالها أربعة من ستة. وهذا ما أَوْرَدَهُ صاحب الكتاب، ويجوز أن يعلم قوله في الكتاب: "أن يقسم المال من ستة" بالواو؛ للوجهين السابقين على أن أَبَا خَلَفٍ الطَّبْرِيَّ قال: أكثر أصحاب الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه- على أن سَهْم الدور لبيت المال كما ذكره ابْنُ الحَدَّادِ وإلى [ترجيحه] (¬3) يميل كلام ابْنُ اللَّبَّانِ. [الصورة] (¬4) الثانية: إذا ماتت إحدى الأختين أولاً ثم ماتت الأم فمال الأخت لأبويهما للأم منه الثلث، وما بقي فللأب، وأما الأم فنصف ميراثها للبنت بالبنوة، ولها نصف النصف الباقي لإِعْتَاقِهَا نصف الأم ونصفه الباقي للأب؛ لأنه عصبة معتقة النصف الآخر من النسب، ولا دور قال الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وفي مثل هذه المسائل لا ترث بالزوجية إلاَّ أن يشترط السائل في السؤال بقاء الزوجية. الثالثة: مات الأَبُ أولاً، ثم إحدى الأختين، ثم الأم فأما الأب فثلثا ماله لِلْبِنْتَيْنِ بالبنوة، والباقي للأم، والأجنبي بولائهما عليه وأما الأخت فللأم من مالها الثلث، وللأخت النصف، والباقي بين الأم والأجنبي؛ لأنهما معتقا أبيهما، وأما الأم فنصف مالها للبنت الباقية بالبنوة، ولها من النصف الباقي النصف؛ لأنها أَعْتَقَتْ نِصْفَهَا ونصفه الباقي حصة البنت الأخرى، وكانت ناجزة لو كانت حية، وإذا كانت ميتة فهو لموليتها الأم، والأجنبي، لكن الأم ميتة فيأخذ الأجنبي نصفه وهو الثمن ويرجع الثمن إلى الأختين؛ لإعتاقهما الأم، وهذا سهم الدور، وفيه الخلاف الذي تبين، وذكر ابْنُ الحَدَّادِ في هذه الصورة أن البنت بعدما أخذت نصف مال الأم بالنسب والربع بالولاء وأخذ ¬
الأجنبي الثمن يأخذ من الثمن الباقي نصفه أيضاً، ويكون الباقي لبيت المال. قال القَفَّالُ وغيره -رحمهم الله-: وهذا غَلَطٌ فإن الثمن هو السَّهم الدائر، ولو جاز أن يعطي البنت منه شيئاً لأعطى الأجنبي مرة أخرى، وأيضاً فإنه طرح في هذه الصورة الأولى سهم الدور بتمامه، وجعله لبيت المال فليكن كذلك هاهنا. الرابعة: ماتت البنتان أولاً مالهما لأبيهما كما ذكرنا، فإن مات الأب بَعْدَهُمَا فماله للأم والأجنبي بالولاء، فإن ماتت الأم بعد ذلك فنصف مالها للأجنبي؛ لأنه معتق نصف أبي معتقها، والباقي لبيت المال. مثال آخر للدور: بنتان من معتقتين اشترتا أباهما فعتق عليهما فإن قلنا أن معتق الأب لا يجر ولاء نفسه من معتق الأم، وهو الأظهر فيبقى نصف ولاء كل واحدة منهما لموالي أمها، ويثبت لكل واحدة منهما نصف ولاء الأب ونصف ولاء الأخرى؛ لأنها معتقة أَبيهَا فإذا مات الأب فلهما ثلئا ماله بالبنوة، والباقي بالولاء فإن ماتت الكبرى بعده فنصف مالها لأختها بالأخوة، ولها نصف الباقي، وهو الربع؛ لأنها معتقة أبيها، والباقي لموالي أم الكبرى، فإن ماتت الصغرى بعد ذلك فنصف مالها لموالي أمها والنصف الآخر حِصَّةُ الْكُبْرَى، وهي ميتة فيكون لمن له ولاؤها وولاؤها لموالي أمها وللصغرى فأخذ موالي أمها نصفه، وهو الربع ويبقى الربع الباقي وهو سهم الدور وفيه ما سبق من الخلاف، وإن ماتت البنتان أولاً ثم مات الأب فيقسم ماله على ثمانية أسهم لكل بنت أربعة فنصف نصيب الكبرى لموالي أمها؛ لأن لهم نصف الولاء عليها ونصفه للصغرى وهو ستة (¬1) فيكون نصفه، وهو الربع لموالي أمها ونصفه يرجع إلى الكبرى وهو سهم الدور ونصيب الصغرى يقسم هكذا أيضاً، فإن جُعِلَ سهم الدور لبيت المال؛ حَصَلَ لموالي كل واحدة منها ثلاثة (¬2) أثمان مال الأب ولبيت المال ثمناه. وَاعْلَمْ أَنَّ الفَرَضِيِّينَ ضَبَطُوا موضع حصول الدور فقالوا: إنما يحصل الدور (¬3) في المسألة إذا وجدت ثلاثة شروط: أن يكون للمعتق ابنين فصاعداً. وأن يكون قد مات منهم ابنان فصاعداً. وألا يكون الباقي منهم حائزاً لمال الميت. فإن اخْتَلَّ أحد هذه الشروط فلا دور. ¬
ونختم الكتاب بفصل يشتمل على فروع من الولاء وغيره. يجوز أن يفرض شخصان كل واحد منهما مولى صاحبه من أعلى ومن أسفل، كما إذا أعتق عبداً فَأَعْتَقَ الْعَتِيقُ؛ لا المعتق الأول، وكما إذا أَعْتَقَ كَافِرٌ كافراً ثم استرق المعتق، وأسلم العتيق فملكه وأعتقه. أختان لأب وأم أعتقهما إنسان فَاسْتَرَقَّا أَبَاهُمَا، وعتق عليهما فلكل واحدة منهما نصف ولاء أبيها ولا ولاء لواحدة منهما على الأخرى؛ لأن على كل واحدة منهما ولاء المباشرة، فإذا مَاتَتْ إحداهما فللأخرى نصف مالها بالأخوة، والباقي لمعتقها بالولاء. أعتق [أب] (¬1) وابن عبداً ومات الأب عن ابنين أحدهما المشتري ثم مات العتيق فنصف ماله للابن المشتري، والباقي بينهما؛ لأنهما عصبتا معتق النصف، ولو مات الأب كما صورنا ثم مات الابن المشتري عن ابن ثم مات العتيق فنصف المال لولد الابن المشتري بولاء أبيه، ونصفه لعمه بولاء أبيه ولا شيء للحافد بولاء الجَدِّ. اشترت أختان لا ولاء عليهما أباهما فعتق عليهما ثم اشترت إِحْدَاهُمَا أُمَّهُمَا فعتقت عليها فلكل واحدة نصف ولاء الأب ونصف ولاء الأخرى تبعاً لولاء الأب، ولمعتقة الأم الولاء على الأم، وعلى نصف الأخت الأخرى بتبعية ولاء الأم، هذا هو الأَظْهَرْ وعلى قول ابْنِ سُرَيْجٍ لا ولاء لمعتق الأم على من أبوه حر، فلا يثبت لمعتقة الأم ولاء النصف الآخر من الأخت، فلو مَاتَ الأب ثم ماتت التي لم تعتق الأم فمال الأب للبنتين ثلثاه بالبنوة والباقي بالولاء، والتي لم تعتق الأُمَّ ثلث مالها للأم، ونصفه للأخت بالأخوة ونصف السُّدُسِ الباقي بولائها على نصفها؛ لإعتاق الأب ولها نصفه الآخر على الأظهر بولائها على نصفه الآخر لإعتاق الأم. وعلى قول ابْنِ سُرَيْجٍ: نصف السُّدُسِ الآخر لبيت المال، فإن ماتت الأم بعد ذلك فللبنت الباقية النصف بالبنوة والباقي بالولاء فإنها التي أعتقها. ولو ماتت التي أعتقت الأم بعد موت الأب فللأم الثلث وللأخت النصف بالنسب، ونصف السدس الباقي لإِعْتَاقِهَا نصف أبيها، والباقي لبيت المال فإن ماتت الأم بعدها فللبنت الباقية النصف بالبنوة ونصف الباقي بالولاء؛ لأنها معتقة نصف أبي معتقة [الأم] (¬2)، والربع الباقي لبيت المال. نَكَحَ عَبْدٌ حُرَّةً أَصْلِيَّةً وأخرى مُعْتَقَةَ فأتت المعتقة بولد، ومات فَثُلُثُ ميراثه للأم، والباقي لمواليها لولائهم عليه، فإن أتت الأصلية بعد ذلك بابن لأقل من ستة أشهر من ¬
يوم موته اسْتَرَدَّ ما أخذه الموالي ودفع إليهم؛ لأن عصبة النسب تَتَقَدَّمُ على عصبة الولاء، وإن أتت به لستة أشهر وأكثر فلا يُسْتَرَدُّ؛ لاحتمال حدوثه بعد ذلك، وَلْيَجِيءْ فيه التفصيل السابق في افْتِرَاشِ الزَّوْجِ وَعَدَمِهِ. في "فتاوى القَفَّالِ": أن المُكَاتِبَ إذا اشترى نِصْفَ أبيه فعتق بعتقه كما يكاتب (¬1) عليه ما دام مكاتباً، وإذا عتق فلا يقوم عليه الباقي؛ لأنه يقصد بأداء النجوم عتق نفسه وعتق الأب يحصل تبعاً بغير قصده واختياره. وأنه إذا قال لِمُكَاتِبِ الْعَبْدِ: اعْتِق عَبْدَكَ عَنِّي على كذا وهو مستأجر فأعتقه يجوز قولاً واحداً بخلاف البيع لقوة العتق (¬2) وكذا يجوز في العبد المغصوب، والغائب إذا علم حياته. في "فتاوى الْقَاضِي الحُسَيْنِ": أنه إذا قال لجاريته: [جان يدر] (¬3) لا يعتق ولو قال لعبده شهره [آزادمردى] (¬4) يعتق. وَأَنَّهُ إذا ادَّعَى عبد على سيده العتق عند الحاكم وَحَلَّفَهُ فلما أتم يمينه قال على وجه السُّخْرِيةِ: قم يَا حُرُّ. أو قال: [ازاد شوى] (¬5) خُيِّرَ يحكم عليه بالحرية؛ لما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جدٌّ ... " (¬6) وَعَدَّ منها الْعِتَاقَ. وَيُحْكَى أنه جَرَى ذلك في مجلس ابْن أَبِي لَيْلَى فحكم بالعتاق فأنهى إلى جَعْفَرِ الصَّادِقِ -رضي الله عنه- فقال: لا يعتق؛ لأن المقصود سلب الحرية؛ لقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] وأنه إذا كانت جاريته حاملاً، والحملُ مُضْغَةً فقال: أعتقت مضغة هذه الجارية كان لغواً؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ ما لم تنفخ فيه الروح لا يصح، ولو قال: حمل هذه الجارية حُرٌّ فهو إقرار بأن الولد انْعَقَدَ حراً وتصير الأم به أم ولد. ولو أنه (¬7) لو قال لعبده: إذا أخذك مُتَغَلِّبٌ فَقُلْ: أَنَا حُرٌّ أو قال بالفارسية [الرازاز كماتان بكَير ند توكَو من آزادم] (¬8) لا يُعْتَقُ بهذا وَهُوَ كَذِبٌ. وكان القاضي يلقن عبيده ذلك. ¬
وكذا لو قال: [من زانام آزادان نصادم] (¬1) لا يعتق. وأنه لو قال لعبده: أَعْتَقَكَ اللهُ أو اللهُ أَعْتَقَكَ فقد قيل يفرق بين اللفظين؛ لأن الأول دعاء والثاني إخبار. قال القَاضِي: وعندي لا يعتق في الموضعين. وعن العبادي: أنه يعتق في الموضعين. في "الزيادات" لِأَبِي عَاصِمٍ اَلعَبَّادِيِّ: أنه إذا قال: من بشرني من عبيدي بقدوم فلان فهو حر، فبعث عَبْدٌ مِنْ عبيدةِ عبداً آخر ليبشره بذلك فجاء وقال: عبدك فلان يبشرك بقدومه، وأخبرني لأخبرك فالمبشر هو المُرْسِلُ دون الرَّسُولِ. وأنه إذا قال: إِنِ اشْتَرَيْتُ عبدين في صفقة فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أعتقهما. فاشترى ثلاثة، وجب إعتاق اثنين؛ لوجود الصِّفَةِ. إذا ولدت المزني بها ولداً فملكه الزاني؛ لم يعتق عليه كما لا يثبت نسبه وعند أَبِي حَنِيْفَةَ يُعْتَقُ رأيت بخط القاضي أَبِي المحَاسِنِ الرَّوْيانِيِّ في فروع حَكَاهَا عن والده وغيره من الأئمة [رحمهم الله] (¬2) أنه إذا قال لعبده: أنت حر مثل هذا العبد، وأشار إلى عبد آخر يحتمل ألا تحصل الحرية لأن حرية البدن غَيْرُ ثابتة في المشبه به، فيحتمل على حرية الخلق. وأنه لو (¬3) قال: أنت حر مثل هذا, ولم يقل هذا العبد فيحتمل أن يُعْتَقَا والأوضح أنهما لا يعتقان. وأنه لو قال لآخر: أنت تعلم أن العبد الذي في يَدِيْ حر حكم بعتقه. ولو قال يظن أنه حر لم يحكم بعتقه لأنه لو لم يكن حراً لم يكن القول له عالماً بحريته، وقد اعترف السيد بعلمه وصورة الظن بخلافه. ولو قال: ترى أنه حر، احتمل ألا يقع واحتمل أن تحمل [الرؤية] (¬4) على العلم، ويقع. أنه لو ضرب عبد غيره فقال صاحب العبد للضارب: عبد غيري حر مثلك لا يحكم بحريته؛ لأنه لم يعين عبده. وأنه إذا أعتق بعض مملوكه يسري إلى الباقي إذا كان قابلاً للعتق، إلاَّ في مسألة ذكرها بعض الأصحاب وهي: أنه إذا وَكَّلَ إنساناً بإعتاق عبده، فأعتق الوكيل نِصْفَهُ ففي حصول العتق في النصف وَجْهَانِ، وبالحصول قال أَبُو حَنِيْفَةَ: وعلى هذا ففي عتق ¬
النصف الباقي (¬1) وجهان: أَضْعَفُهُمَا: أنه يعتق -وبه قال أَبُو حَنِيْفَةَ- إلاَّ أنه قال: يُسْتَسْعَى في الباقي. في "جَمْعِ اَلجَوَامِعِ" لِلْقَاضِي [الروياني] (¬2): أنه لو كان بين شريكين عَبْدٌ فجاء أجنبي وقال لأحدهما: أعْتِقْ نصيبك عني بكذا. فأعتقه عنه؛ فولاؤه [للآمر] (¬3)، ويقوم نصيب الشريك على المُعْتِقِ دون [الآمر] (¬4)؛ لأنه أعتقه لغرض نفسه، وهو العِوَضُ الذي يحصل له، وَأَنَّهُ لو قال أحد الشريكين للآخر: أُعْتِقْ نصِبك عني بكذا. فأعتقه عنه، فَوَلاَؤُهُ للآمِرِ، ويقوم نصيب الآمر على المعتق حكاه عن الْقَاضِي الطَّبْرِيِّ -وَاللهُ أَعْلَمُ-. ¬
كتاب التدبير
كِتَابُ التَّدْبِيرِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالنَّظَرُ فِي أَرْكَانِهِ وَأَحْكَامِهِ أَمَّا الأَرْكَانُ فَهُوَ اللَّفْظُ وَالأَهْلُ أَمَّا اللَّفْظُ فَصَرِيحُهُ قَولُهُ: دَبَّرْتُكَ وَأَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ بَعدَ مَوْتِي، وَقِيلَ: إِنَّ لَفْظَ التَّدْبِيرِ كِنَايَةٌ، وَالتَّدْبِيرُ المُقَيَّدُ كَالمُطْلَقِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ قُتِلْتُ أَوْ مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِيَوْمٍ فَيُعْتَقُ بَعْدَ مَوتِهِ بِيَوْمٍ وَلاَ يُحْتَاجُ إلَى الإِنْشَاءِ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ مُدبَّرٌ فَلاَ يَصِيرُ مُدبَّراً مَا لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ، وَلَوْ قَالَ شَرِيكَانِ: إِذَا مِتْنَا فَأَنْتَ حُرٌّ فَلاَ يُعْتَقُ مِنْهُ شَيْءٌ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا حَتَّى يَمُوتَ الآخَرُ لَكِنْ لَيْسَ لِلوَارِثِ بَيْعُهُ حَتَّى يَمُوتَ الشَّرِيكُ كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ بَعْدَ مَوْتِي فَأَنْتَ حُرٌّ فَإِنَّهُ لاَ يَبِيعُهُ قَبلَ الدُّخُولِ فَلَيْسَ لِلوَارِثِ إِبْطَالُ تَعْلِيقِ المَيِّتِ كَمَا لَيْسَ لَهُ إبْطَالُ عَارَيتِهِ المُضَافَةِ إلَى مَا بَعْدَ المَوْتِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: رُوِيَ عن جَابِرٍ -رضي الله عنه- أن رَجُلاً دَبَّرَ غُلاَماً له لَيْسَ له مَالٌ غَيْرُهُ -فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ " فاشتراه نعيم بْنُ النَّحَّامِ (¬1). التَّدْبيرُ: تعليق العِتْقِ بِدَبْرِ الحَيَاةِ، ومن لفظه: الدُّبُرُ، سُمِّيَ تَدْبِيراً. وقيل: سُمِّيَ تدبيراً؛ لأنَه دَبَّرَ أَمْرَ دُنْيَاهُ باسْتِخدَامِهِ واسْتِرْقَاقِهِ وأَمْرَ آخِرَتِهِ بِإعْتَاقِهِ، وهذا مَرْدُودٌ إلى الأول أيضاً؛ لأن التدبير في الأَمْرِ مأخوذ من لفظ الدُّبُرِ أيضاً؛ لأنه نظرٌ في عَوَاقِبِ الأمر وأَدْبَارِهِ وفي الكتاب نَظَران: أحدهما: في أركان التَّدْبِيرِ. والثاني: في أحكامه. ¬
الصيغة
أما الأركان: فهي: الصِّيغَةُ والأَهْلُ والمَحَلُّ. وترك [ذِكْرَ] (¬1) المحل لوضوحه، واقتصر على الكلام في الأولين: أحدهما: الصِّيغَةُ -وفيه مَسْأَلَتَانِ: إحداهما: ينعقد التَّدْبِيرُ بالصَّرِيحِ وبالكِنَايَةِ مع النِّيَّةِ. فالصريح: مثل أن يقول: أنت حُرٌّ بعد مَوْتِي، أو: أَعْتَقْتكَ أو حَرَّرْتُكَ بعد موتي (¬2)، أو إذا، أو متى مِتُّ فأنت حُرٌّ أو عَتِيقٌ. فإذا مات عتقَ ولو قال: دَبَّرْتُكَ، أو: أنت مُدَبَّرٌ، فالنَّصُّ أنه صريح (¬3)، ويعتق العَبْدُ إذا مات، ونص في الكتابة على أنه إذا ¬
قال: كَاتَبْتُكَ على كذا لم يَكْفِ حتى يقول: فإذا أَدَّيْتَ فأنت حُرٌّ، أو ينويه. وفيهما طرِيقان للأصحاب؛ نقل ناقلون الجَوَابَ (¬1) في كُلِّ واحد من العَقْدَيْنِ إلى الآخر، وخَرَّجُوهُمَا على قولين: أحدهما: أنهما صريحان لاشْتِهَارِهِمَا في معنييها اشْتِهَارَ البيع والهِبَةِ، وسائر العقود في معانيها. والثاني: كنايتان؛ لِخُلُوِّهِمَا عن لَفْظِ العِتْقِ والحُرِّيَةِ، ولا يَكَادَانِ يستعملان عن إنشاء العَقْدِ، إلاَّ مع التَّعَرُّضِ للحرية. وأظهرهما: الجَرَيَانُ على النصين، وفرقوا بينهما بوَجْهَيْنِ: [أصحهما] (¬2): أن التدبير ظَاهِرُ المعنى، مَشْهُورٌ عند كل أَحَدٍ، [والكناية] (¬3) كمعناها لا يَعْرِفُهَا إلا الخَوَاصُّ. والثاني: أن التدبير كان معروفاً في الجاهِلِيَّةِ في معناه، والشرع قد قَرَّرَهُ، ولا يستعمل في معنى آخر، والكتابة تقع على العَقْدِ المَعْلُوم، وعلى المُخَارَجَةِ، وهي أن يُوَظِّفَ على العبد الكَسُوبِ كُلَّ يوم خَرَاجاً، ولا يعتق بهَ، فلا بد من التَّمْيِيزِ باللفظ أو النِّيَّةِ، والكِنَايَةِ؛ مثل أن يقول: خَلَّيْتُ سَبِيلَكَ بعد موتي، وينوي العِتْقَ. ولو قال: دَبَّرْتُ نِصْفَكَ، أو رُبُعَكَ. صح. وإذا مات عتق ذلك الجُزْءُ ولم يَسْرِ. ولو قال: دَبَّرْتُ يَدَكَ، أو رجلك. فعن القاضي الحُسَيْنِ: أن فيه وَجْهَيْنِ، بِنَاءً على أن قول القائل: زني يَدُكَ هل يكون قَذْفاً؟ ففي وَجْهٍ: يصح، ويكون كله مُدَبَّراً. وفي وجه يَلْغُو. وعن "الأم" أنه لو قال: أنت حُرٌّ بعد موتي، أو لست بحُرٍّ. لا يَصِحُّ التدبير، كما لا يحصل العِتْقُ، إذا قال: أنت حُرٌّ، أو لست بحر، والطَّلاَقُ إذا قال: أَنْتِ طَالِقٌ، أو لست بطالق. المسألة الثانية: يصح التَّدْبِيرُ مُطْلَقاً، وهو أن يُعَلِّقَ العِتْق بالموت بلا شَرْطٍ، ويفيد الشَّرْطَ في الموت؛ مثل أن يقول: إن قُتِلْتُ أو مِتُّ حَتْفَ أَنْفِي، أو متُّ من مَرَضِي هذا، أو في سَفَرِي هذا، أو في هذا الشَّهْرِ، أو في هذا البَلَدِ، فأنت حُرٌّ، فإن مات على الصِّفَةِ المذكورة، فَيُعْتَقُ، وإلاَّ فلا. ¬
وفي "جمع الجوامع" للرُّوَيانِيِّ: أنه قال في "البُوَيْطِيِّ": إذا قال: أنت حُرٌّ إن مِتُّ من مَرَضِي هذا، أو في سفري هذا، فمات من مَرَضِهِ، أو في سَفَرِهِ، كان حُرَّاً، لكنه وَصِيَّةٌ، وليس بِتَدْبِيرٍ. ونقل القاضي ابْنُ كَجٍّ مِثْلَهُ عن النَّصِّ، ويمكن أن يكون هذا مصَيَّراً إلى أن التدبير هو تَعْلِيقُ العِتْقِ بِمُطْلَقِ الموت، وأنه (¬1) لا يَنْقَسِمُ إلى مُطْلَقٍ ومُقَيَّدٍ، والظاهر الأَوَّلُ. وتظهر فَائِدَةُ الخلاف في الرُّجُوعِ على ما سيأتي إن شاء اللهُ تعالى. ولو قال: إذا مِتُّ ومضى شَهْرٌ، أو يوم، فأنت حر، أو قال: أنت حُرٌّ بعد موتي بِيَوْمٍ، فيعتق العَبْدُ بعد يوم عن مَوْتِهِ، ولا يحتاج إلى إِنْشَاءِ إعتاق (¬2) بعد المَوْتِ. وقال أبو حَنِيْفَةَ: لاَ بُدَّ من مُبَاشَرَةِ الإِعْتَاقِ بعد موته بيوم، وكأنه أوْصَى بِإِعْتَاقِهِ. وسياق الكتاب [يُشْعِرُ] (¬3) بِعَدِّ هذه الصُّورَةِ من التدبير المُقَيَّدِ، فإنَّه قال: "والتدبير المُقَيَّدُ كالمُطْلَقِ، وهو أن يقول: إن قُتِلْتُ أو مِتُّ من مَرَضِي هذا، فأنت حر، أو أنت حُرٌّ بعد موتي بِيَوْمٍ". وَعَدَّ الصَّيْدَلاَنِيُّ قوله: إذا مِتُّ، ودخلت الدار، فأنت حُرٌّ. وقوله: إذا مِتُّ ومضى شَهْرٌ، فأنت حُرٌّ -من التدبير المُطْلَقِ، من حيث إِنه لم يَعْتَبِرْ من نفس الموت شَرْطاً. والذي أَوْرَدَهُ أكثرهم، منهم الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ والقَاضِيَانِ: ابْنُ كَجٍّ، والرُّوَيَانِيُّ، وابن الصباغ -رحمهم الله- أن ذلك ليس من التَّدْبِيرِ المطلق، ولا المُقَيَّدِ، وقالوا: مَهْمَا عَلَّقَ العِتْقَ بصفة بعد الموت، كقوله: إذا مِتُّ، وشِئْتَ الحُرِّيَّةَ، أو شاء فلان، أو إن مِتُّ، ثم دَخَلْتَ الدار، فأنت حر، أو أنت حُرٌّ بعد موي، أو إذا خَدَمْتَ ابني سَنَةً، فذلك ليس بِتَدْبِيرٍ، وإنما هو كَسَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ. ويجوز تَعْلِيقُ التدبير، كما يجوز تَعْلِيقُ العتق؛ وذلك مِثْل أن يقول: إذا، أو متى دخلت الدار، فأنت حر، [أو أنت] (¬4) بعد موتي، أو: فأنت مُدَبَّرٌ. فإذا دخل الدار صار مُدَبَّراً، ولا يشترط الدُّخُولُ في الحال، ولكن يشترط حُصُولُهُ في حَيَاةِ [السيد] (¬5)، كما في سائر الصِّفَاتِ المُعَلَّقِ عليها، فلو مات السَّيِّدُ قبل (¬6) الدخول، فلا تدبير، وَيَلْغُو التعليق، إلاَّ أن يُصَرِّحَ، فيقول: إذا دَخَلْتَ الدار بعد موتي، أو إذا مِتُّ، ثم دَخَلْتَ الدار، فأنت حُرٌّ، فإنما يُعْتَقُ بالدخول بعد الموت. وأَبْدَى الإِمَامُ في تعليق العِتْقِ بالدخول بعد المَوْتِ احْتِمَالاً مِنْ طريق المعنى، وذكر أنه رَمَزَ إليه القاضي، ولا يشترط المُبَادَرَةُ إليه بعد الموت، بل متى دخَلَ عتق، ¬
ولو قال: إذا مِتُّ، ودخَلْتَ الدَّارَ، فأنت حر. قال في "التهذيب": يُشْتَرَطُ الدُّخُولُ بعد الموت، إلاَّ أن يريد الدخول قَبْلَهُ. ولو قال: إذا مِتُّ، فَدَخَلْتَ الدَّارَ، أو إذا مِتُّ، فأنت حر إن دخلت الدار، فعلى ما سَنَذْكُرُ في التعليق بالمَشِيئَةِ. ولو قال الشَّرِيكَانِ للعبد المُشْتَرَكِ: إذا مِتْنَا فأنت حر، فلا يعتق العبد، ما لم يَمُوتَا جميعاً، [إما] (¬1) على التَّرْتِيبِ، أو مَعاً؛ لأنهما عَلَّقَا عِتْقَهُ. بموتهما. ثم إِنْ مَاتَا معاً، ففي "الكافي" للروياني وَجْهٌ: أن الحاصل عِتْقُ تَدْبِيرِ؛ لاتِّصَالِهِ بالموت، والظاهر أنه عِتْقٌ بحصول الصِّفَةِ؛ لتعلق العتق [بموته، وموت غيره، والتدبير أن يعلق العتق] (¬2) بموت نفسه. وإن ماتا على الترتيب: فعن أبي إِسْحَاقَ: أنه لا تَدْبيرَ أيضاً، والظاهر أنه إذا مَاتَ أحدهما، يصير نَصِيبُ الثاني مُدَبَّراً؛ لتعلُّق العتق بموته، وكأنه قال: إذا مات شريكي، فنصيبي منك مُدَبَّرٌ، ونصيب الميت لا يكون مُدَبَّراً، وهو بين الموتين لِلْوَرَثَةِ، فلهم التصرف فيه بما لا يزيل المِلْكَ؛ كالاستخدام والإجَارَةِ، وليس لهم بَيْعُهُ؛ لأنه صار مُسْتَحِقَّ العِتْقِ بموت الشريك الآخَرِ، وكذا إذا قال. إن (¬3) دخَلْتَ الدار بعد موتي فأنت حُرٌّ، ليس للوارث بَيْعُهُ بعد الموت، وقبل الدخول؛ إذ ليس له إِبْطَالُ تَعْلِيقِ الميت، وإن كان له أن يُبْطِلَهُ، كما لو أوصى لإِنْسَانِ بشيء، ومات لا يجوز للوارث بَيْعُهُ، وإن كان للموصى أن يَبِيعَهُ. وكذا مَنْ أَعَارَ، له الرُّجُوعُ في العَارِيةِ. ولو قال: أَعْيرُوا دَارِي من فُلاَنٍ، بعد موتي شهراً، وجب تنفيذ وَصِيَّتِهِ، ولم يملك الوَارِث الرُّجُوعَ عن هذه العَارَيةِ. هذا أظهر الوجهين. وفي الصورتين وَجْهٌ [آخر] (¬4) ينسب إلى صاحب "التقريب" أن للورثة بَيْعهُ؛ لأن أحد شَرْطَي العِتقِ لم يوجد، فصار كما إذا قال: إن أَكَلْتَ هذين الرَّغِيفَيْنِ فأنت حر، فأكل أحدهما، لا يمتنع بَيْعُهُ. وفي كَسْب العبد بين موتيهما وجهان: أحدهما: أنه مَعْدُودٌ من تَرِكَةِ الميت. وأظهرهما: أنه للوارث خَاصَّةً، وربما بُنِيَ الوجهان على الخِلاَفِ في جواز البيع، إن جَوَّزْنَاهُ فهو للوارث، وإلاَّ فمن التركة. وإذا عَرَفْتَ ما ذكرناه، ذلك أن تُعَلِّمَ قوله في الكتاب: "وقيل: إن لفظ "التدبير" ¬
فرع
كِنَايَةٌ" بالواو للطريقة القَاطِعَةِ، ويجوز أن يُعَلَمَ قوله: "والتدبير المقيد كَالمُطْلَقِ" لما سنذكر في الرجوع عن التَّدْبِيرِ. وقوله: "ولا يحتاج إلى الإنشاء" بالحاء وقوله: "ولكن ليس للوارث بَيْعُهُ" بالواو. وكذا قوله: "فإنه لا يبيعه قبل الدخول". وقوله: "كما لو قال: "إن دخلت الدار بعد موتي ... " إلى آخره ليس أصلاً مُتَّفَقاً عليه. فرع: عن نَصِّهِ -رضي الله عنه- في "الأم": أنه لو قال الشريكان للعبد: أنت حَبِيسٌ على آخِرِنَا مَوْتاً، فإذا مات عتقتَ، فهو كما لو قالا: إذا مِتْنَا فأنت حر، إلاَّ أن هناك المنفعة بين المَوْتَيْنِ لِوَرَثَةِ الأَوَّلِ. وهاهنا هي للآخر، وكذلك الكَسْبُ، وكان أولهما مَوْتاً أوْصَى لآخِرِهِمَا موتاً. ولو قال أحد الشَّرِيكَيْنِ: إذا مِتُّ فأنت حُرٌّ، فإذا مات عتق نصيبه ولم يَسْرِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ مُدَبَّرٌ إِنْ شِئْتَ صَارَ مُدَبَّراً إِنْ شَاءَ عَلَى الفَوْرِ، وَإِنْ قَالَ: مَتَى شِئْتَ لَمْ يُشْتَرَطِ الفَوْرُ، لَكِنْ لاَ بُدَّ مِنَ المَشِيئَةِ فِي الحَيَاةِ، إِلاَّ إِذَا قَالَ: إِنْ شِئْتَ بَعْدَ المَوْتِ، فَلاَ يُشْتَرَطُ الفَوْرُ بَعْدَ المَوْتِ، وإِذَا قَالَ: إِنْ مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ إِنْ شِئْتَ، فَيَكْفِي مَشِيئَتُهُ فِي الحَيَاةِ فِي وَجْهٍ، وَيَكْفِي المَشِيئَةُ بَعْد المَوْتِ فِي وَجْهٍ، وَلاَ بُدَّ مِنْهُمَا فِي وَجْهٍ، وَلَوْ قَالَ: إن رَأَيْتَ العَيْنَ فَأَنْتَ حُرٌّ، عُتِقَ بِكُلِّ مَا يُسَمَّى عَيْنَاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال لِعَبْدِهِ: أنت حُرٌّ إن شِئْتَ، فإنما يُعْتَق إذا شاء على الفَوْرِ، كما لو قال لامْرَأَتِهِ: أنت طَالِقٌ إن شِئْتِ. وعن صاحب "التقريب" والشيخ أبي علي رِوَايَةُ وَجْهٍ: أن الفَوْرَ لا يُشْتَرَطُ، كما لو قال: إن دخلت الدار. وهذا الوَجْهُ جَارٍ في الطَّلاَقِ، وقد ذكرناه هناك. ولو عَلَّقَ التَّدْبيرَ بِمَشِيئَةِ العبد، فقال: أنت مُدَبَّرٌ إن شئت، أو: دَبَّرْتُكَ إن شئت، أو قال: إن شئت فأَنت مُدَبَّرٌ، أو: فأنت حر إذا مِتَّ، أو متى مِتَّ، فلا يصير مُدَبَّراً إلاَّ بالمَشِيئَةِ. والظاهر: اشتراط الفَوْرِ فيها، وفيه الوجه الضعيف. ولو قال: متى شِئْتَ، أو مهما شئت، فلا يُشْتَرَطُ الفور، ويصير مُدَبَّراً متى شاء، وفي الحالتين يشترط المَشِيئَةُ في الحياة، كسائر الصِّفَاتِ المُعَلَّقِ عليها، إلا إذا عَلَّقَ صريحاً بالمَشِيئَةِ بعد الموت، فإنما يَحْصُلُ العِتْقُ بمشيئة بعد الموت، ولا يمنع الامتناع في الحَيَاةِ من المشيئة بعد الموت، ثم يُنْظَرُ في لَفْظِ التعليقِ؛ إِن قال: أنت حُرٌّ بعد موتي إن شِئْتَ بعد الموت، أو اقتصر على قوله: إن شئت، وقال: أَرَدْتُ بعد الموت،
فالمذكور في الكتاب: أنه لا يُشْتَرَطُ الفَوْرُ بعد الموت لأنها إذا تأخرت عن الخِطَابِ، واعتبر وُقُوعُهَا بعد الموت، لم يكن في [اشتراط] (¬1) اتِّصَالِهَا بالموت معنى، ولذلك لا يُشْتَرَطُ في قَبُولِ الوَصِيَّةِ. ونفى الإِمَامُ الخِلاَفَ في ذلك، لكن في "التهذيب" وغيره ذكْرُ وجهين، فيما إذا قاله: إذا مِتُّ وشِئْتَ بعد موتي، فأنت حرٌّ -أن المَشِيئَةَ تكون على الفَوْر أو التَّرَاخِي، والصورة كالصورة. ولو قال: إذا مِتُّ فشئت، فأنت حُرٌّ، فهل يشترط اتِّصَالُ المَشِيئَةِ بالموت؟ فيه وجهان: أحدهما: لا -كما لو قال: أنت حُرٌّ بعد موتي إن شئت، وأراد إِيقَاعَ المَشِيئَةِ بعد الموت. والثاني: نعم -لأن "الفاء" تقتضي التَّعْقِيبَ من غير تَخَلُّلِ فَصْلٍ، والأول أَصَحُّ عند الصَّيْدَلاَنِيُّ، وبالثاني أجاب الأكثرون (¬2). ويجري الخِلاَفُ في سائر التعليقات؛ مثل أن يقول: إن دَخَلْتِ الدار، وكَلَّمْتِ زبداً، فأنت طالقٌ، هل يشترط اتِّصَالُ الكلام بالدخول؟ ولو قال: إذا مِتُّ فمتى (¬3) شِئْتَ فأنت حر، فلا يشترط اتِّصَالُ المشيئة بالموت بلا خلاف. ولو قال: إذا مِتُّ فأنت حُرُّ إن شئت، أو قال: أنت حر إذا مِتُّ إن شئت، فيحتمل أن يُرَادَ بهذا اللفظِ المَشِيئَةُ في الحياة، ويحتمل أن يراد به المَشِيئَة بعد الموت، فيراجع ويعمل بمُقْتَضَى إرادته؛ فإن قال: أَطْلَقْتُ ولم أَنْوِ شيئاً، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يحمل اللَّفْظُ على المَشِيئَةِ في الحياة؛ لأن قوله: إذا مِتُّ فأنت حر، بمَثَابَةِ قوله: دَبَّرْتُكَ. ولو قال: دَبَّرْتُكَ إن شئت أو إذا شِئتَ اعْتُبِرَتِ المَشِيئَةُ في الحياة، فكذلك هاهنا، فعلى هذا يكفي العِتْقُ المَشِيئَةُ في حياة السِّيَّدِ، ويعتبر أن يشاء على الفَوْرِ على الظاهر. والثاني: أنه يحمل على المَشِيئَةِ بعد موت السَّيِّدِ؛ لأنه أَخَّرَ ذِكْرَ المشيئة عن ذكر الموت [فالسابق] (¬4) إلى الفَهْمِ منه المَشِيئَةُ بعد الموت، وهذا ما أجاب به أكثرهم؛ منهم أصحابنا العِرَاقِيُّونَ، وشرطوا أن تكون المَشِيئَةُ بعد الموت على الفَورِ، وقَضِيَّةُ ما ذكره في الكتاب من قبل ألاَّ يشترط الفَوْرُ. والثالث: ألاَّ يحصل العِتْقُ، إلاَّ أن يَشَاءَ في الحياة، وَيشَاءَ بعد الموت أيضاً؛ لأن ¬
فروع
اللفظ مُتَرَدِّدٌ بين المَعْنَيَيْنِ، فإن لم يَتَحَقَّقَا، لم تحصل الثِّقَةُ بالعتق، ولْيَجْرِ هذا الخِلاَفُ في سائر التعليقات؛ مثل أن يقول: إذا دَخَلْتِ الدار فأنت طَالِقٌ إن كلمت فلاناً؛ أيُعْتَبَرُ الكَلاَمُ بعد الدخول أم قبله؟ ونشأ من هذا المُنْتَهَى إِشْكَالٌ في شيء، وهو: أن الرجل لو قال لِعَبْدِهِ: إن رأيت العَيْنَ فأنت حر، والعَيْنُ اسْمٌ مشترك بين البَاصِرَةِ، وعَيْنِ الماء، والدينار، وأَحَدِ الإِخْوَةِ من الأَب والأُمِّ، ولم ينو المُعَلِّقُ شيئاً؛ فهل يُعْتَقُ العَبْدُ إذا رأى شَيْئاً منها؟ فيه تردد، والوجه الحُكْمُ بأنه يُعْتَق، وبه يضعف اعْتِبَارُ المَشِيئَتَيْنِ في مسألة المشيئة. ولك أن تقول: إن لم تكن المسألة وِزَانَ المَسْأَلَةِ، فلا التزام، وإن كانت وِزَانَهَا، فليحصل العِتْقُ بالمشيئة في الحياة وَحْدَهَا هذا (¬1) وجه، وبالمشيئة بعد الموت وَحْدَهَا، كما في مسألة العَيْنِ، وهذا وجه وراء الوجوه الثلاثة، ثم الأَشْبَهُ أن اللفظ المُشْتَرَكَ لا يُرَادُ به جَمِيعُ معانيه، ولا يحمل عند الإِطْلاَقِ على جَمِيعِهَا، ويمكن أن يُؤْمَرَ بتعيين أحدهما، ومهما اعتبر المشيئة بعد الموَت على الفَورِ، فَأَخَّرَهَا بَطَلَ التَّعْلِيقُ، وإذا لم يعتبر الفَوْرُ، كما لو قال: فأنت حُرٌّ متى شئت -فعن القاضي أبي حَامِدٍ: أنه تُعْرَضُ عليه المشيئة، فإن امْتَنَعَ، فللورثة بَيْعَهُ، وكذا لو علَّق بِدُخُولِ غَيرِهِ بعد الموت، يُعْرَضُ عليه الدخول، وهذا كما أنه يقال للموصى له: إما أن تَقْبَلَ، وإما أن تَرُدَّ. وهل للورثة بَيعْهُ قبل المشيئة وعرضها عليه؟ فيه الخِلاَفُ المذكور في الفَصْلِ السابق، وليعلمْ من لفظ الكتاب قَوْلَهُ: "على الفور" بالواو، وكذا قوله: "فلا يشترط الفور بعد الموت"، وقوله: "عتق بكل ما يسمى عيناً". وقد أشار في "الوسيط" إلى الخِلاَفِ فيه، كما أبدى الإِمَامُ التَّرَدُّدَ. فروع: لو قال: إن شاء فلان وفلان، فَعَبْدِي حُرٌّ بعد موتي لم يكن مُدَبَّراً، إلاَّ إذا شَاءَا جميعاً. ولو قال: إذا مِتُّ فَشِئْتَ، فأنت مُدَبَّرٌ. فإذا لغو (¬2)؛ لأن التَّدْبِيرَ لا يَحْصُلُ بعد الموت. وكذا لو قال: "إذا مِتُّ فَدَبِّرُوا هذا العَبْدَ". ولو قال: إذا مِتُّ فَعَبْدٌ من عَبِيدِي حُرٌّ، ومات ولم يُبَيِّنْ أقْرعَ بينهم. وعن نصه في "الأم": أنه لو قال: إذا قرَأْتَ الْقُرْآن بعد موتي فأنت حُرٌّ" لا يُعْتَقُ ¬
الأهل
إلاَّ بِقِرَاءَةِ جميع القرآن، ولو قال: إذا قَرَأْتَ قُرْآناً يُعْتَقُ بقراءة بَعْضِ القرآن، والفرق التعريفُ والتنكيرُ. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الثاني: الأَهْلُ، وَلاَ يَصِحُّ التَّدْبِيرُ مِنَ المَجْنُونِ وَغَيْرِ المُمَيِّزِ، وَمِنَ المُمَيِّزِ قَوْلاَنِ، وَمِنَ السَّفِيهِ يَنْفُذُ، وَقِيلَ قَوْلاَنِ، وَمِنَ المُرْتَدِّ يُبْنَى عَلَى أَقْوَالِ المِلْكِ، وَإِنْ دَبَّرَ ثُمَّ ارْتَدْ لَمْ يَبْطُلْ، وَقِيلَ: يُبْنَى عَلَى أَقْوَالِ المِلْكِ، وَإِذَا بَطَلَ فَإِنْ أَسْلَمَ عَادَ، وَقِيلَ: يُبْتَنَى عَلَى عَوْدِ الحِنْثِ، فَإذَا مَاتَ مُرْتَدّاً، وَقُلْنَا: يَصِحُّ تَدْبِيرُهُ نَفَذَ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِنْ كَانَ المَالُ لِلفَيْءِ، وَالكَافِرُ الأَصْلِيُّ يَصِحُّ تَدْبِيرُهُ، وَلَكِنْ لَوْ أَسْلَمَ مُدَبِّرُهُ يُبَاعُ عَلَيْهِ فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ: يُسْتَكْسَبُ لَهُ كَالمُسْتَوْلَدَةِ، وَالمُكَاتَبُ كَالمُسْتَوْلَدَةِ، وَقِيلَ كَالمُدَبَّرَةِ، وَإذَا دَبَّر نَصِيبَهُ مِنْ عَبْد مُشْتَرَكٍ لَمْ يَسْرِ إِلَىَ البَاقِي. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الفصل يَشْتَمِلُ على صُوَرٍ: إحداها: لا يَصِحُّ تَدْبِيرُ المَجْنُونِ، والصبي الذي لا يُمَيِّزُ، وفي تدبير الصبي المُمَيِّزِ قولان، كما في وَصِيَّتِهِ، وقد ذكرناهما في "الوَصِيَّةِ". والأظهر: المَنْعُ، وبه قال المُزَنِيُّ (¬1). وعن نصه في "البويطي" أنه قال: إذا ثَبَتَ حديث عمر -رضي الله عنه- فَتَدْبِيرُهُ جَائِزٌ، وإلاَّ فلا، والحديث ما روي عن عُمَرَ -رَضِيَ الله عنه- أنه أَجَازَ وَصِيَّةَ غُلاَمٍ له عَشْرُ سنين (¬2). وعن مالك رِوَايَتَانِ كالقولين، والأشهر: الجَوَازُ، وإذا صَحَّحْنَا تَدْبيرَهُ، فيصح رجوعه عنه بالقَولِ، إن قلنا: إن التدبير يقبل الرجوع بالقول. وفي تعليقة إبراهيم المَروروذِيِّ [فيه وجه آخر] (¬3) وإن قلنا: لا يمكن الرُّجُوعُ عنه بالقول، لم يَصِحَّ فيه التَّصَرُّفُ الذي يحصل به الرجوع، ولكن يقوم الوَلِيُّ في ذلك مَقَامَهُ، فإذا رَاى المَصْلَحَةَ في بَيعِهِ بَاعَهُ، وأَبْطَلَ التَّدْبِيرَ. وفي تدبير السَّفِيهِ المَحْجُورِ عليه طريقان: أظهرهما: وبه قال ابن سُرَيْجٍ، وأبو إسحاق، وابن سَلَمَةَ، وغيرهم -رحمهم الله-: القَطْعُ بِصِحَّتِهِ؛ لأنه صَحِيحُ العبارة، ولا ضَرَرَ عليه في التدبير. ¬
والثاني: وبه قال الحسن (¬1) بن القَطَّانِ -أنه على القَوْلَيْنِ في تَدْبِيرِ الصبي المُمَيِّزِ. وعن "المنهاج" للشيخ أبي محمد: أن ظَاهِرَ كلام الشَّافعي -رضي الله عنه- يُوَافِقُ هذه الطَّرِيقَة. وإذا قلنا بالصحة، فرجوعه كما ذكرنا في حَقِّ الصبي. وتدبير المُفْلِسِ المَحْجُورِ عليه كإعتاقه، وقد سبق في التَّفْلِيسِ (¬2). وفي تدبير السَّكْرَانِ الخلاف المذكور في سائر تَصَرُّفَاتِهِ (¬3). الثانية: تدبير المُرْتَدِّ يُبْنَى على الأقوال في مِلْكِهِ؛ إن قلنا: إن مِلْكَهُ بَاقٍ، صَحَّ تدبيره، وبه قال المُزَنِيُّ. وإن قلنا: زَائِلٌ لم يصح. وإن قلنا: موقوف، فالتدبير أيضاً مَوْقُوفٌ، إن عاد إلى الإِسلام بَانَتْ صِحَّتُهُ، وإن هلك على الرِّدَّةِ بَانَ فَسَادُهُ. وفي طريقة الصيدلاني قول آخر: أنه يَبْطُلُ التَّدْبِيرُ، وإن قلنا: إن المِلْكَ موقوف. ثم عن أبي الطَّيِّب بن سلمَةَ: أن البناء على الأَقْوَالِ فيما إذا حَجَرَ القاضي عليه. فاما قبل الحجْرِ، فيصح تَدْبِيرُهُ بلا خلاف. وعن أبي إِسْحَاقَ: أن الأقوال فيما قبل الحَجْرِ، فأما إذا حَجَرَ عليه، فلا يصح تَدْبِيرُهُ بلا خلاف، وعن غيرهما طَرْدُ الأقوال في الحَالَتَيْنِ، وقد ذكرنا في "باب الرِّدَّةِ" أن صاحب "التهذيب" قد جعل الوَقْفَ أَصَحَّ. ويروي بعضهم أن الشَّافعي -رضي الله عنه- قال: أَشْبَهُ الأقوال بالصحة زوال الملك [بنفس] (¬4) الرِّدَّةِ، وبه أقول: ولو دَبَّرَ عَبْداً، ثم ارْتَدَّ، ففيه ثلاثة طرق: أحدها: وبه قال أبو إسحاق -القَطْعُ بأن التَّدْبِيرَ لا يَبْطُلُ، وإذا هلك على الرِّدَّةِ عتقَ العَبْدُ. ¬
والمعنى فيه صِيَانَةُ حَقِّ العَبْدِ عن الفَوَاتِ، كما يصان حقوق الغُرَمَاءِ، وأيضاً فإن الرِّدَّةَ تُؤَثِّرُ في العقود المستقبلة دون الماضية؛ ألا ترى أن الرِّدَّةَ بعد البيع والرَّهْنِ والهبة لا تُبْطِلُهَا، ونَظْمُ الكتاب يقتضي تَرْجِيحَ هذا الطريق. وكذلك ذكر القاضي ابْنُ كَجٍّ، والعراقيون من الأَصْحَابِ -رحمهم الله-. والثاني: فيه قال أبو الطَّيِّبِ بن سلمة: إنه يُبْنَى على أقوال المِلْكِ، إن قلنا ببقاء (¬1) مِلْكه، فالتدبير بِحَالِهِ. وإن قلنا بزواله بطل التدبير، فلا يعتقُ العَبْدُ إذا هلك السَّيِّدُ على الرِّدَّةِ. وإن قلنا: إنه موقوف، فَيَتَوَقَّفُ في بناء التَّدْبِيرِ أيضاً. والثالث: القَطْعُ بِبُطْلاَنِهِ؛ لأنه لو بقي لعتق العَبْد بموته مُرْتَدّاً وعتق المدبر ينفذ من الثلث، وما ينفذ من الثلث يشترط بَقَاءُ الثُّلُثَيْنِ فيه للورثة، ومَالُ المُرْتَدِّ لا يصرف [إلى الورثة] (¬2)، بل هو فَيْءٌ، وهذا ضعيف، والقَوْلُ بان ما ينفذ من الثلث يشترط فيه بَقَاءُ الثلثين للورثة -مَمْنُوعٌ، بل الشرط سَلاَمَةُ الثلثين للمُسْتَحِقِّينَ، وهم الورثة تَارَةً، وغَيْرُهُمْ أخرى. ومن قال بالطريقة الثالثة: أَبْطَلَ الوَصَايَا بالرِّدَّةِ أيضاً. التفريع: إن قلنا بِبُطْلاَنِ التدبير، فلو عاد المرتد إلى الإِسْلاَمِ عاد ملكه، وهل يعود التَّدْبِيرُ؟ فيه طريقان: أحدهما: نعم؛ لأن زوال مِلْكِهِ لم يكن بزوال إثبات، فإذا عاد مكانه. لم يزل، وهذا كما أن العَصِيرَ المَرْهُونَ إذا تَخَمَّرَ يزول المِلْكُ والرَّهْنِ فيه، وإذا عاد خَلاًّ يعودان. والثاني: أنه على قَوْلَيْ عَوْدِ الحِنْثِ، وهو بمَثَابَةِ ما لو باع المُدَبَّرُ، ثم عاد إلى مِلْكِهِ، وهذا ما أورده في "التهذيب"، والأول أَشْبَهُ، ونَظْمُ الكتاب يقتضي تَرْجِيحَهُ. وإن قلنا ببقاء التدبير عُتِقَ المُدَبَّرُ من الثلث، وجعل الثلثان فيئاً. وفي "الكافي" ذِكْرُ وجه: أن جميعه يُعْتَقُ، وإن (¬3) رعاية الثلث والثلثين تَخْتَصُّ بالمِيرَاثِ، ويقال: إنه اختيار صَاحِبُ "الحاوي". ويجوز أن يعلم لهذا قوله في الكتاب: "من الثلث" بالواو. ولو ارْتَدَّ المُدَبَّرُ قيل: كالقِنِّ، ولكن لا يبطل التدبير، كما لا يبطل حَقُّ عِتْقِ المُسْتَوْلَدَةِ والمُكَاتَب بالرِّدَّةِ، فلو مات السَّيِّدُ قبل قَتْلِهِ عتق، ولوْ الْتَحَقَ المرتد بدار الحَرْب فَسُبِيَ، فهو على تَدْبِيرِهِ، ولا يجوز استِرْقَاقُهُ؛ لأنه إن كان السيد حَيّاً فهو له، وإن مَاَتَ فَولاَؤُهُ له، فلا يجوز إِبْطَالُهُ. ¬
فإن كان السَّيِّدُ ذِمِّيّاً، ففي جواز اسْتِرْقَاقِ معتقه خِلاَفٌ سبق في موضعه. ولو اسْتَوْلَى الكُفَّارُ على مُدَبَّر مسلم ثم عاد إلى يَدِ المسلمين، فهو مُدَبَّرٌ كما كان. الثالثة: الكافر الأَصْلِيُّ يَصِحُّ تدبيره، وتعليقه العِتْقَ بِصِفَةٍ، كما يصح استيلاده ولا فَرْقَ بين الكِتَابِيِّ والمَجُوسِيِّ والوَثَنِيِّ، ولا بين الذِّمِّيِّ والحَرْبِيِّ، ولا يمنع الكافر من حمل مُدَبَّرِهِ ومُسْتَوْلَدَتِهِ الكَافِرَيْنِ إلى دار الحرب، وسَواء جرى التَّدْبِيرُ والاستيلاد في دار الحرب، ثم دخل [دار] (¬1) الإسلام بأَمَانٍ أو حربياً في دار الإِسْلاَمِ. وليس له حَمْلُ مُكَاتَبهِ الكافر قَهْراً؛ لظهور اسْتِقْلاَلِهِ (¬2)، وإذا دَبَّرَ الكافر عَبْدَهُ الكَافِرَ، ثم أسلم العَبْدُ، نُظِرَ إن رجع السَّيِّدُ عن التدبير بالقول وجَوَّزْنَاهُ، بِيعَ عليه، وإلاَّ ففي بَيْعِهِ عليه قولان مَنْصُوصَانِ في "الأم". أحدهما: وبه قال مالك، واختاره المزني -أنه يُبَاعُ عليه، ويُنْقَضُ التدبير؛ لأن في بقاء مِلْكِهِ فيه إِذْلاَلاً لِلْمُسْلِمِ، ولا يؤمن أيضاً من أن يستخدمه وَيَسْتَذِلَّهُ. وأصحهما: وبه قال أبو حنيفة: أنه يُبَاعُ ويبقى (¬3) التدبير لتوقع [الحُرِّيَّةِ] (¬4)، ولكن يخرج من يَدِهِ، ويجعل في يَدِ عَدْلٍ، ويصرف كَسْبُهُ إليه، كما لو أسلمت مستولدته، فإن خرج سَيِّدُهُ إلى دَارِ الحَرْبِ، أنفق من كَسْبِهِ عليه، وبعث ما فَضَلَ إلى السَّيِّدُ، فإذا مات عتقَ من الثلث، فإن بقي شيء منه لِلْوَرَثَةِ بِيعَ عليهم. ولو أسلم مُكَاتَبُ الكافر ففيه طريقان: أولاهما: القَطْعُ بإبقاء الكِتَابَةِ، وبأنه لا يُبَاعُ لانْقِطَاعِ [سلطنة] (¬5) السَّيِّدِ عنه، واستقلاله بالكتابة، وإن عَجَزَ عن أداء النُّجُومِ، فعجّزه السيد فحينئذٍ يُبَاعُ عليه. والثاني: أنه على القولين في المُدَبَّرِ. ¬
أحكامه
وقوله في الكتاب: "والمكاتب كالمستولدة" يعني: أنه لا يُبَاعُ إلا في الاسْتِكْسَابِ المذكور في صورة المُدَبَّرِ. الرابعة: إذا دَبَّرَ أّحَدُ الشريكين نَصِيبَهُ من العَبْدِ المشترك، فظاهر المذهب، وهو المذكور في الكتاب أنه لا يَسْرِي، ولا يُقوَّم عليه نَصِيبُ الشريك؛ لأن التَّدْبِيرَ لا يمنع البَيْعَ، فلا يقتضي السِّرَايَةَ كما لو علق عِتْقَ نصيبه [بصفَةٍ] (¬1)، وأيضاً فالتَّدْبِيرُ إما [وصية] (¬2) للعبد بالعتق، أو تعليق عِتْق بصفة، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وكل واحد منهما بَعِيدٌ عن السّرَايَةِ، وعلى هذا فلو مات المُدَبَّر، وعتق نَصِيبُهُ، لم يَسْرِ إلى نَصِيبِ شريكه أيضاً؛ لأن الميت معسر، بخلاف ما إذا عَلَّقَ عتق نصيبه بصفة، ووجدت الصِّفَةُ، وهو مُوسِرٌ يُعْتَقُ نصيبه ويَسْرِي (¬3). وفيه قول آخر. ومنهم من يقول: وجه، وبه قال مَالِكٌ أن التدبير يَسْرِي، ويقوّم عليه نَصِيبُ الشريك؛ لأن التَّدْبِيرَ يوجب اسْتِحْقَاقَ العتق بالموت، فصار كالاسْتِيلاَدِ، ومن نَصَرَ المذهب قال: الاسْتِيلاَدُ كالإِتْلاَفِ؛ لأنه يمنع البيع، ولا سبيل إلى دَفْعِهِ، والتدبير بخلافه، وإذا دَبَّرَ بعض عَبْدِهِ الخالص صح، ولا سرَايَةَ على ما سبق. هذا ظاهر المذهب. ومن قال بالسّرَايَةِ إلى نصيب الشريك، فَأَوْلَى أن يقول بالسراية هاهنا. ويجوز أن يُعلَمَ قوله في الكتاب: "لم يسر إلى الباقي" مع الميم والواو بالحاء؛ لأن عند أبي حَنِيْفَةَ إذا دَبَّرَ أحدهما نفسه يخير الشريك بين أن يضمنه القِيمَةَ، وبين أن يستسعى العبد، وبين أن يُدَبِّرَ نصيبه، أو يعتقه. قَالَ الْغَزَالِيُّ: النَّظَرُ الثَّانِي في أَحْكامِهِ وَلَهُ حُكْمَانِ الأَوَّلُ: ارْتِفَاعُهُ وَيرْتَفِعُ التَّدْبِيرُ بِخَمْسَةِ أُمُورٍ (الأَوَّلُ: إِزَالَةُ المِلْكِ) وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ المُدَبَّرُ، فَإِنْ عَادَ المِلْكُ فَهَلْ يَعُودُ التَّدْبِيرُ فِيهِ خِلاَفٌ. " القول في حكم التدبير" قَالَ الرَّافِعِيُّ: مَقْصُودُ النظر بَيَانُ حُكْمَيْنِ: ¬
أحدهما: ارْتفَاعُ التدبير بعد صِحَّتِهِ. والثاني: سرايته إلى الوَلَدِ. أما الأول: فقد [ذكرنا] (¬1) أن التَّدْبِيرَ يرتفع بخمسة أُمُورٍ: أحدها: إزالة المِلْكِ ويجوز للسيد إِزَالَةُ الملك عن المُدَبَّرِ بالبيع والهِبَةِ والوَصِيَّةِ وغيرها، سواء كان التَّدْبِيرُ مُطْلَقاً أو مُقَيَّداً، خلافاً لأبي حَنِيْفَةَ في المُطْلَقِ. ولمالك في المُطْلَقِ والمقيد معاً. وعن أحمد رِوَايَتَانِ: إحداهما كمذهبنا. والأخرى: أن له بيعه للدَّين. واحْتَجَّ الأَصْحَابُ بالخَبَرِ المَذْكُورِ في صَدْرِ الباب، وقالوا: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- باعه بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، إلاَّ أن الراوي لم يَتعرَّضْ له؛ لأن مَقْصُودَهُ من سياق الخبر بَيَانُ أن بيع المُدَبَّرِ جَائِزٌ في الجملة. ومنهم من قال: باعه للدَّيْنِ. وللإمام بَيْعُ مِلْكِ الغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لِلدَّيْنِ، ويروى أن رَجُلاً من الأنصار أعتق عَبْداً له عن دبر منه لا مَالَ له غيره، وعليه دَيْنٌ، فبلغ ذلك النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فباعه، وقضى الدَّيْنَ منه، ودفع الفَضْلَ إليه، وبما (¬2) روي أن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- باعت مُدَبَّرَةَ لها سَحَرَتْها، ولم ينكر أَحَدٌ من الصَّحَابَةِ -رضي الله عنهم- ولا خَالَفَهَا، وبأن عتقه تَعْلِيقٌ بِصِفَةٍ، انفرد السَّيِّدُ بالتعليق بها، فيتمكن (¬3) من بَيْعِهِ، كالمُعَلَّقِ عِتْقُهُ بدخول الدار، واحْتَرَزُوا بقولهم: "انفرد السيد بالتعليق به" عن الكتَابَةِ وفرقوا بين التَّدْبيرِ والاسْتِيلاَدِ بأن سبب العِتْقِ في الاسْتِيلاَدِ آكَدُ وأَقْوَى؛ أَلاَ تَرَى أنه لا يعتبر من الثُّلُثَ، ولا يمنع منه الدَّيْنُ، بخلاف التدبير؟ وإذا زال المِلْكُ عن المُدَبَّرِ ببيع وغيره، ثم عاد إلى مِلْكِهِ، فهل يعود التدبير؟ يبنى على أن التَّدْبِيرَ وَصِيَّةَ للعبد بالعِتْقِ، أو هو تعليق عِتْقٍ بِصِفَةٍ؟ وفيه قولان: القديم، وأَحَدُ قَوْلَي الجديد: أنه وَصِيَّةٌ؛ لأنه تَبَرُّعٌ بعد الموت فيعتبر من الثلث. والثاني: من قَوْلَي الجديدة أنه تَعْلِيقُ عِتْقِ بصفة، كما لو عَلَّقَ بموت الغير، ويوضحه أنه لا يَفْتَقِرُ إلى إحْدَاثِ تَصَرُّفِ بعد الموت، بخلاف الوصية، وما الأظهر من القولين؟ اختار المُزَنِيُّ الأَوَّلَ، وإلى ترجيحه ذَهَبَ القَاضِيَانِ: أبو الطيب والروياني، والمُوَفَّقُ بْنُ طَاهِرٍ، والأكثرون رَجَّحُوا الثاني، ومنهم الشيخ أبو حَامِدٍ، ومَنْ تابعه، ¬
والقاضي ابْنُ كَجٍّ، وقالوا: إنه المنصوص في [أكثر] (¬1) كتبه الجَدِيدَةِ، وبه قال أبو إِسْحَاقَ المَرْوَزِيُّ. فإن قلنا: إنه وَصِيَّةٌ، ثم عاد إلى مِلْكِهِ. وإن قلنا: تَعْلِيقُ عِتْقٍ، فهو على الخِلاَفِ في عَوْدِ الحِنْثِ، وقد مَرَّ أن الأَقْوَى من هذا الخلاف أن لا يَعُودُ الحِنْثُ، ويخرج مما ذكرنا أن الأظهر أنه لا يَعُودُ التدبير. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِي: أَنَّ لَهُ صَرِيحَ الرُّجُوعِ إنْ قُلْنَا: إِنَّهُ وَصِيَّةٌ، وَإِنْ قلْنَا: تَعْلِيقٌ فَلاَ، وَلَوْ قَالَ: أَعْتِقُوهُ عَنِّي فَلَهُ الرُّجُوعُ، وَلَوْ قَالَ: إِذَا مِتُّ فَدَخَلْتَ الدَّارَ أَوْ شِئْتَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَهْوَ تَعْلِيقُ وَلاَ رُجُوعَ عَنْهُ بِالصَّرِيحِ، ولاَ يَنْقَطِعُ التَّدْبِيرُ بِالاسْتِيلاَدِ لِأَنَّهُ يُوَافِقُهُ بِخِلَافِ الوَصِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ مُدَبَّرٌ رُجُوعٌ عَنِ التَّدْبِيرِ المُطْلَقِ. [قَالَ الرَّافِعِيُّ]: هل يجوز الرُّجُوعُ عن التَّدْبِيرِ بصريح الرُّجُوع، مثل أن يقول: رجعت عنه أو فَسَخْتُهُ، أو نَقَضْتُهُ، أو أبْطَلْتُهُ، أو رَفَعْتُهُ، بني ذلك على الخلاف الذي ذَكَرْنَاهُ آنفاً. إن قلنا: إن التدبير وَصِيَّةٌ، فيجوز. وإن قلنا: تَعْلِيقُ عِتْقٍ بصفة، فلا، كما في سائر التَّعْلِيقَاتِ، والخلاف مُطَّردٌ في التدبير المُطْلَقِ والمُقَيَّدِ، على أظهر الطريقين، ومنهم من خَصَّصَ الخِلاَفَ بالتدبير المُطْلَقِ، وقطع في المُقَيِّدِ بمنع الرجوع؛ لأنه لا يَتَعَلَّقُ بِمُطْلَقِ الموت، فهو بسائر التَّعْلِيقَاتِ أشبه، ولا خِلاَفَ في أنه لو قال: أعتقوا فُلاَناً عَنِّي إذا مِتُّ، يجوز الرُّجُوعُ عنه بصريح لَفْظِ الرجوع، كما في سائر الوَصَايَا، ولا في أنه إذا ضمَّ إلى المَوْتِ صِفَةً أُخْرَى، فقال: إذا مِتُّ، فدخلت الدار، أو لَبِسْتَ [الحرير] (¬2) فأنت حُرٌّ، ولا يجوز الرجوع باللَّفْظِ، وإنما القولان في التَّدْبِيرِ. واحتج المُزَنِيُّ بجواز الرُّجُوعِ عنه؛ بأنه قد نص على أنه لو قال: إن أدَّيْتَ بعد مَوْتِي إلى وَرَثَتِي كذا فأنت حر. كان ذلك رُجُوعاً، حتى لا يُعْتَقَ إلاَّ إذا أَدَّى ما ذَكَرَهُ، وأنه لو وهب المُدَبِّرَ ولم يَقْبِضْهُ حصل الرجوع. وأجاب الأَصْحَابُ -رحمهم الله- عن الأَوَّلِ بأن ما ذَكَرَهُ تَفْرِيعٌ منه على قول جواز الرجوع لَفْظاً، فإن لم نُجَوِّزْهُ لم يكن ذلك رُجُوعاً، وإذا مات عُتِقَ المُدَبَّرُ. وعن الثاني: بِمِثْل هذا الجواب، وذكر بعضهم أنه إذا وَهَبَهُ حصل الرجوع على القَوْلَيْنِ، وإن لم يقبضه؛ لأن إفضاء الهِبَةِ إلى زَوَالِ المِلْكِ. قال الإِمام: والوَجْهُ القَطْعُ بأن مُجَرَّدَ الهِبَةِ لا يبطل التدبير على قولثا: إنه تَعْلِيقٌ. ¬
نعم إذا اتَّصَلَ بها الإِقْبَاضُ، فإن قلنا: يحصل المِلْكُ عند القَبْضِ، فحيئذٍ يَنْقَطِعُ التدبير، وإن قلنا: يتبين اسْتِنَادُ المِلْكِ إلى حَالَةِ الهِبَةِ، فهل يَتبَيَّنُ انْقِطَاعُ التدبير من وقت الهِبَة؟ فيه تَرَدُّدٌ، وكذا لو فرض بيع بشرط الخِيَارِ، وقلنا: إنه يُزيلُ المِلْكَ، فَهَلْ يبطل التدبير قبل لزوم البَيْعِ؟ فيه تَرَدُّدٌ. قال: وأَثَرُ ذلك أَنَّا إذا قلنا: إنه لو زَالَ المِلْكُ على وجه اللزوم، وعاد الثدبير فيقطع (¬1)، فلو زَالَ على الجَوَازِ، وعاد فهل يحكم بانْقِطَاعِ التدبير؟ فيه تَرَدُّدٌ، والذي أَطلَقَهُ صاحب "التهذيب" أن البَيْعَ بِشَرْطِ الخِيَارِ يُبطِلُ التَّدْبِيرَ على القولين، ولو باع نِصْفَ المُدَبَّرِ، أو وَهَبَ وأقبض، بطل التدبير في النِّصْفِ المبيع أو الموهوب، وبقي في الباقي. وحكى القاضي ابْنُ كَجٍّ طرُقَاً في أن رَهْنَ المُدَبَّرِ هل يَرْفَعُ التدبير؟ أظهرهما: البِنَاءُ على أنه وَصِيَّةٌ، أو تَعْلِيقُ عِتْقِ بصفة. والثاني: أنه ليس بِرُجُوعٍ على القولين؛ لأن الرَّهْنَ لا يزيل الملك. والثالث: أنه رُجُوعٌ على القولين، كما سبق مِثْلُهُ في الهِبَةِ قبل القبض، ومجرد الإيجَابِ في الهِبَةِ والرَّهْنِ، إن جعلناه وَصِيَّةً على الخِلاَفِ المذكور في الوَصِيَّةِ أنه هل يكون رُجُوعاً وإن جعلناه تَعْلِيقاً، فلا أَثَرَ له، ولا يرتفع بالاسْتِخْدَامِ والتزويج على القَوْلَيْنِ، وإذا جعلناه وَصِيَّةً فترفع بالعَرْضِ على البيع، وسائر ما ذكرناه في باب الوَصِيَّةِ. نعم الوطء ليس برجوع عن التدبير، وإن جَعَلْنَاهُ وَصِيَّةً، سواء عَزَلَ، أو لم يَعْزِلُ، بخلاف ما في الوَصِيَّة، فإنَّا قد نجعل الوَطْءَ في تَرْكِ العَزْلِ رُجُوعاً؛ لأنه يَدُلُّ على قَصْدِ الإِمْسَاكِ، وهاهنا إذا ترك العَزْلَ، فَأَحْبَلَ يَحْصُلُ الاسْتِيلاَدُ، وأنه يحقق مَقْصُودَ التدبير، ويُؤَكِّدُهُ، وهو العِتْقُ. فإن اسْتَوْلَدَهَا، فالذي أورده أَكْثَرُ سَلَفِ الأصحاب وخَلَفُهُمْ -رحمهم الله- أنه يبطل التدبير؛ لأن الاسْتِيلاَدَ أَقْوَى، فيرتفع به الأَضْعَفُ، كما يرتفع [به] (¬2) مِلْكُ النِّكَاحِ بِمِلْكِ اليمين، ولو دَبَّرَ مستولدته لم يَصِحَّ؟ لأنها تَسْتَحِقُّ العِتْقَ بالموت بِجِهَةٍ هي أَقْوَى من التدبير، وفي طريقة الصَّيْدَلاَنِيِّ: أنه لا يَبْطلُ التَّدْبِيرُ، ويكون لِعِتْقِهَا يوم موت السَّيِّدِ سَبَبَانِ، وعلى هذا جَرَى الإِمَامُ، وصاحب الكتاب، مع اعتراف الإِمام بأنه لا أَثَرَ لِبَقَاءِ التدبير. وقال الرُّوَيَانِيُّ في "الكافي": وقيل: لا يقول بِبُطلاَنِ التدبير، ولكنه يدخل في الاسْتِيلاَدِ، كما لو طَرَأَتِ الجَنَابَةُ على الحَدَثِ، ولو كاتب المُدَبَّرَ فهل يرتفع التَّدْبِيرُ؟ ¬
فيه وجهان مبنيان (¬1) على الخِلاَفِ المذكور، إن جعلناه وَصِيَّةً، ارتفع، كما لو أَوْصَى لإنسان بِعَبْدٍ، ثم كاتبه. وإن قلنا: تَعْلِيقُ عِتْقٍ بصفة لا (¬2)؛ لأن مَقْصُودَ الكِتَابَةِ العِتْقُ أيضاً، فيكون مدبراً أو مُكَاتباً، كما لو دَبَّرَ عَبْدَهُ المُكَاتَبَ، فإذا أَدَّى النُّجُومَ عَتِقَ بالكِتَابَةِ، وإن مَاتَ السَّيِّدُ قبل الأَدَاءِ، عتق بالتدبير، فإن لم يخرج من الثُّلُثِ عتِقَ قَدْرَ الثلث، وبقيت الكِتَابَةُ في الباقي، فإذا أَدَّى قِسْطَهُ عتقَ، وهذا ما يحكى عن نَصِّ الشَّافعي -رضي الله عنه- وهو الذي أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ أبُو حامد وجماعة. وزاد القاضي أَبُو حَامِدٍ، فقال: يسال عن كتابته، فإن أَرَادَ بها الرُّجُوعَ عن التدبير، ففي ارْتِفَاعِهِ القولان. وإن قال: لم أَقْصِدْ بها الرُّجُوعَ، فهو مُدَبَّرٌ مُكَاتَبٌ على القولين جميعاً. ورأى القاضي ابْنُ كَجٍّ القَطْعَ بأن الكِتَابَةَ تَرْفَعُ التَّدْبيرَ؛ لأن العَبْدَ يصير بِعَقْدِ الكتابة مَالِكاً لنفسه، فكأن السَّيِّدَ أَزَالَ مِلْكَهُ عنه فيكون الحكم كما لو بَاعَ. وخَرَّجَ الإمَامُ على الخلاف في الكِتَابَةِ ما لو [علق] (¬3) عتق المدبر بِصِفَةٍ؛ لأنه لو أَوْصَى به، ثم عَلَّقَ عِتْقَهُ بصفة كان التعليق رُجُوعاً عن الوَصِيَّةِ. والذي أَوْرَدَهُ صاحب "التهذيب" أنه يَصِحُّ التَّعْلِيقُ بالصفة الأُخْرَى، ويبقى التَّدْبِيرُ بحاله، كما لو دَبَّرَ المُعَلَّقَ عِتْقُهُ بصفة، يجوز، ثم إن وجدت الصِّفَةُ قبل الموت عتقَ. وإن مات قَبْلَهَا عُتِقَ عن التدبير. وفي "الوسيط" ما يَقْتَضِي تفصيلاً. وهو أنه قال: "إن دُخَلْتَ الدَّار فأنت حر" فقد زَادَ شَيْئًا آخر لِلْحُرِّيَّةِ، وليس ذلك بِرُجُوع. ولو قال: "إن دُخَلْتَ الدَّار بعد مَوْتِي" فهو رجوع عن التَّدْبِيرِ المطلق؛ لأنه لا يُنَافِي تَعْلِيقَ الحرية بمجرد الموت. وقد ذكر هذا الطَّرَفَ الثاني في الكتاب. واعلم أنه: إن أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "هذا رجوع، وذَاكَ ليس برجوع"، أن هذا يقتضي نَقْضَ التَّدْبير المُطْلَقِ، وذاك لا يقتضيه ليعرف أن ما يقتضي نقضه يكون على الخِلاَفِ -في أن التَّدْبِيرَ هل يجوز نَقْضُهُ من غَيْرِ إِزَالَةِ المِلْكِ- فهذا صَحِيحٌ، فلا يحتاج إلى إِعْلاَمِهِ بالواو. وإن أراد أن هذا يَرْفَعُ التَّدْبِيرَ وذاك لا يَرْفَعُهُ فَلْيُعَلَمْ قوله في الكتاب: "رجوع عن ¬
فروع
التدبير المطلق" بالواو [و] (¬1) كيف لا؟ وهذه الصُّورَةُ مثل قوله: "إن أَدَّيْت إلى وَرَثَتِي بعد مُوْتِي كذا فأنت حُرٌّ" وقد ذكرنا أنها مُخَرَّجَةٌ على الخلاف في أَن الأَرْجَحَ أنه لا يَرْفَعُهُ ثم اعلم أن التفصيل المذكور قد نَسَبَهُ نَاسِبُونَ إلى نَصِّهِ في "الأم". وادَّعَى القاضي أبو الطيب قوله: "إن دُخَلْتَ الدَّار بعد موتي" ونحوه، يرفع التدبير [على القولين] (¬2) وهو كاحْتِجَاجِ المُزَنِيُّ بِنَصِّهِ فيما إذا قال: "إن أديت بعد مَوْتِي كذا". " فُرُوعٌ": الأول: إذا قال: قد رَجَعْتُ عن التدبير في نِصْفِهِ، أو رُبْعه، بقي التدبير في الجميع، إن قلنا: لا يجوز رَفْعُهُ بلفظ الرُّجُوعِ، وإن جَوَّزنَاهُ ارتفع فيه، وبقي في (¬3) الباقي. الثاني: عن نَصِّهِ -رضي الله عنه- في "الأم". أنه إذا دَبَّر عَبْدهُ ثم خرس، فإن لم تكن له إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ ولا كتابة، فلا قطع على رجوعه. وإن كان له إِشَارَةٌ وكتابة، فإن أَشَارَ بِالبَيْعِ ونحوه، ارْتَفَعَ التدبير، وإن أشار بنفس الرجوع، فعلى الخِلاَفِ. الثالث: ذكرنا في خِلاَلِ الكلام أنه لو دَبَّرَ عَبْدَهُ المُكَاتَبَ يجوز وأنه لو أَدَّى النُّجُومَ قبل مَوْتِ السَّيِّدِ عتقَ بالكتابة، وحينئذٍ فيبطل التدبير، ولو عَجَّزَ نَفْسَهُ، أو عَجَّزَهُ السيد بَطَلَتْ الكتابة، وبقي التَّدْبِيرُ، ولو مات السَّيِّدُ قبل الأداء [والتعجيز] (¬4)، فيعتق بالتدبير إن احتمله الثُّلُثُ، وحينئذٍ فعن الشَّيْخِ أبي حامد: أنه تَبْطُلُ الكِتَابَةُ. قال ابن الصَّبَّاغِ: وعندي أنه يَنْبَغِي أن يتبعه وَلَده وكسبه، كما لو أعتق السيد مُكَاتَبَهُ قبل الأَدَاءِ، وكما لا يملك إِبْطَالَ الكتابة بالإعتاق، وجَبَ ألاَّ يملكه بالتدبير. قال: ويحتمل أن يريد بالبُطْلاَنِ زَوَالَ العَقْدِ، دون سقوط أَحْكَامِهِ (¬5) وقوله في الكتاب: ¬
"ولو قال: إذا مِتُّ وأنت دخلت الدار، أو لبست كذا" هو في بعض النُّسَخِ، وفي بعضها: "إذا مِتُّ فدخلت الدَّارَ أو شئت" وكلاهما صَحِيحٌ مُؤَدٍّ لِلْغَرَضِ. وقوله: "ولا ينقطع التَّدْبِيرُ بالاستيلاد" [معلم] (1) بالواو وجواب الأكثر الانقطاع كما بَيَّنَّا. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثُ إِنْكارُ السَّيِّدِ رُجُوعٌ، وَقِيلَ: لَيْس برُجُوعِ بَلْ يَحْلِفُ، وَكَذَلِكَ الخِلاَفُ فِي إنْكَارِ الوَصِيَّةِ وَالوَكَالَةِ هَلْ هُوَ رُجُوعٌ؟ وَإِنْكَارُ البَيْعِ الجَائِزِ لَيْسَ بِفَسْخٍ، ثُمَّ إِنَّ إِنْكَارَ الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ لَيْسَ بِرَجْعَةٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إن لم نجوز الرُّجُوعَ عن التدبير بِلَفْظِ الرجوع، فإنكار السَّيِّدِ التَّدْبِيرَ ليس برجوع. وإن جَوَّزْنَاهُ فهل هو رجوع؟ وكذا إنكار الموصي للوصية والمُوَكّلِ للوكالة هل يكون رُجُوعاً؟ فيه ثلاثة أَوْجُهٍ جمعها الإِمام -قَدَّسَ اللهُ روحه. أحدهما: نعم؛ لأن هذه العُقُودَ عُرْضَةٌ للفَسْخِ والرفع (2)، ولو قال: "لست مُدَبَّراً، أو لست بِوَكِيلٍ من جهَتِي، أو ليس هذا مُوصى به وجب القَطْعَ بارتفاع هذه العُقُودِ، وكذلك إذا قال: لم أدَبَّرْ، ولم أُوَكِّلْ، ولم أُوصِ؛ لأن قَضِيَّتَهُ أنه ليس بمُدَبَّرِ، ولا وكيل في الحال. والثاني: لا؛ لأن الإِنْكَارَ إِخْبَارٌ عما مضى، فإذا كان كَذِباً لم يُؤثِّرْ، وأيضاً فإن إِنْكَارَ الأَصْلِ ينافي الرَّفْعَ، ويضاده، فلا يحصل به الارْتفَاعُ. والثالث: أن الوكَالَةَ ترتفع [لأن] (3) فائدتها العُظْمَى تَتَعَلَّقُ بالمُوَكِّل، ولا يرتفع التَّدْبيرُ والوصية؛ لأنهما عَقْدَانِ يتعلَّق بهما غَرَضُ شَخْصَيْنِ، فلا يجعل إِنْكَارُ أحدهما رفعاً له، وهذا أَظْهَرُ، وهو المنصوص عليه في التَّدْبِيرِ، والمَذْكُورُ في الكتاب في الوكالة، وإنكار البَيْعِ الجائز (4) لا يكون فَسْخَاً للبيع. قال الإِمام: وفيه احْتِمَالٌ [أَخْذاً مما] (5) قيل في التَّدْبِيرِ والوصية، ولو ادَّعَتِ المرأة [على] (6) زَوْجهَا طَلاَقاً رَجْعِيّاً، فأنكر، لم يَكُنِ الإنْكَارُ رَجْعَةً بالاتفاق؛ لأن
الرَّجْعَةَ تَحْدِيدُ حِلٍّ، ورَفْعُ تحريم واقع. فلا يتضمن نَفْيُ موصيها إنشاءها. إذا عَرَفْتَ ذلك، فإذا ادَّعى العَبْدُ على السيد أنه دَبَّرَهُ، أو عَلَّقَ عِتْقَهُ بصفة، ففي سَمَاعِ هذه الدَّعْوَى خِلاَفٌ مذكور في "الدَّعَاوَى". وقد بُنِيَ الخِلاًفُ في دَعْوَى التدبير على أنه تَعْلِيقُ عِتْقٍ بصفة، أو وصية (¬1) إن قلنا: إنه تَعْلِيقُ عِتْقٍ فتسمع؛ لأن السَّيِّدَ لا يملك الرُّجُوعَ عنه بِلَفْظِ الرجوع. وإن قلنا: إنه وَصِيَّةٌ، فوجهان؟ بناء على أن إِنْكَارَهُ هل يكون رجوعاً؟ إن قلنا: لا فَتُسْمَعُ. وإن قلنا: نعم فلا يُسْمَعُ. هكذا رَتَّبَ جَمَاعَةٌ. وقَضِيَّةُ هذا البنَاءِ والترتيب مَجِيءُ طريقة قَاطِعَةٍ بأن دَعْوَى تعليق العتق مَسْمُوعَةٌ، مع إثْبَاتِ الخِلاَفِ في دعوى التدبير. وذكر الإِمام أَنَّا إن لم نَجْعَلِ الإنْكَارَ رُجُوعاً، ففي سماعَ الدعوى الوجهان المَذْكُورَانِ في سَمَاعِ الدعوى بالدَّيْنِ المُؤَجَّل. ووجه المَنْعِ: أن عِمَادَ الدَّعْوَى أن يَسْتَحِقَّ المُدَّعَى عَلَيْهِ مُطَالَبَةً وإلْزَامَاً، والمُدَبَّرُ لا يستحق شَيْئًا على السَّيِّدِ في الحال. وهذا يَطَّرِدُ في دَعْوَى تعليق العِتْق. وأما إن جعلنا الإنْكَارَ رجوعاً، فلا يبعد أن تُسْمَعَ الدعوى؛ إذ لا يَتَعَيَّن مُقَابَلَةُ الدعوى بالإنكار، بل قد يقرُّ المدعى عليه وقد يَسْكُتُ، فلا يَتَوَجَّهُ رَدُّ الدعوى في (¬2) الابتداء، وأن في سَمَاعِ [الدعاوى] (¬3)، وَرَدُّ شهادة الحِسْبَةِ أَوْلَى؛ لأن موضع الحِسْبَةِ ما إذا ثَبَتَ لله -تعالى- حَقٌّ، وكان ذلك الحَقُّ مَجْحُوداً، فينتهض الشاهد لإثباته مُحْتَسِباً. وإذا تَوَجَّهَتِ الدعوى، وأنكر السَّيِّدُ، فله أن يُسْقِطَ اليَمِينَ عن نفسه؛ بأن يقول: إن كنت دَبَّرْتُهُ، فقد رجعت عنه، إذا جَوَّزْنَا الرجوع باللفظ، وكذا لو قَامَتِ البَيِّنةُ عليه، وحكم الحَاكِمُ، فله الدَّفْعُ بهذا الطريق على هذا القول. ولو ادَّعى على الوَرَثَةِ أن مورثهم دَبَّرَهُ، وأنه قد عُتِقَ بموته، فَيَحْلِفُونَ على نَفْي العلم (¬4). ولا نُثْبِتُ التَّدْبِيرَ إلا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ؛ لأنه ليس بحال، وهو مما يَطَّلِعُ عليه الرجال، ونثبت الرُّجُوعَ عنه بشهادة رَجُلٍ وامرأتين، وبشاهد ويمين؛ لأن المَقْصُودَ منه المَالُ. ¬
وحكى الفَوْرَانِيُّ فيه وَجْهاً آخر؛ لأن مُدَّعِي الرجوع ينفي حْصُولَ الحرية بالموت. وقوله في الكتاب: "إِنْكَار السيد رجوع، وقيل: ليس برجوع بل يحلف" هذا السِّيَاقُ يُشْعِرُ بترجيح كَوْنِهِ رُجُوعاً. والأظهر عند (¬1) أكثر الأَصْحَاب -رحمهم الله- على ما قَدَّمْنَاهُ -أنه ليس برجوع، وقد يقرب الخِلاًف من الخلاف في أن إِنْكَارَ الزَّوْجِيَّةِ هل هو طَلاَقٌ؟ والظاهر أنه لَيْسَ بِطَلاًقٍ. وفي "التهذيب" وغيره: أن المذهب سماع الدَّعْوَى بالتدبير، وتعليق العِتْقِ بالصفة. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الرَّابعُ) مُجَاوَزَةُ الثُّلُثِ فَإِذَا دَبَّر عَبْداً لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ عُتِقَ بِمَوْتهِ ثُلُثُهُ، وَكذَلِكَ لَوْ دَبَّرَ فِي الصِّحَّةِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ غَائِبٌ لَمْ يَتَنَجَّزْ عُتِقَ ثُلُثُهُ عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ حَتَّى لَا يَتَسَلَّطَ العَبْدُ عَلَى شَيْءٍ قَبْلَ تَسَلُّطِ الوَرَثَةِ عَلَى مِثْلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الخِلاَفُ في الوَصِيَّةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصل مسائل منها ما هو مَذْكُورٌ في الكتاب، ومنها ما هو غَيْرُ مذكور: إحداها: عِتْقُ المُدَبَّرِ يعتبر من الثلث؛ لما روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مَرْفُوعًا وموقوفاً "أن المدبر من الثلث (¬2) ". وأيضاً، فإنه تَبَرُّعٌ يلزم بالمَوْتِ، فيكون من الثلث كالوَصِيَّةِ. ¬
وأيضاً: فإن الإعْتَاقَ في المَرَضِ أَقْوَى من التدبير؛ لأنه منجز ولاَزِمٌ لا رُجُوعَ عنه، ثم هو مُعْتَبَرٌ من الثلث، فالتدبير أَوْلَى أن يُعْتَبَرَ من الثلث، وإنما يُعْتَقُ المُدَبَّرُ من الثلث بعد الدُّيُونِ، كما ذكرنا في "الوَصَايَا" فلو كان عليه دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ للتَّرِكَةِ، لم يُعْتَقْ منه شيء، وإن لم يكن دَيْنٌ ولا مال سواه، عتقَ منه ثلثه، وإن كان عليه دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ نِصْفَهُ، بيع نصفه في الدَّيْنِ، ويعتق من الباقي ثُلُثُهُ، ولا اسْتِسْعَاءَ. وعند أبي حنيفة: ومن "تعليقةُ إبراهيم المَرورُوذِيِّ": أن الحِيلَةَ في أن يُعْتَقَ جميع العبد بعد الموت وإن لم يكن له مَالٌ سواه، أن يقول: "هذا العَبْدُ حر قبل مَرَضِ مَوْتِي بيوم، وإن مِتُّ فجأة فقبل مَوْتي بيوم"، فإذا مات بعد التَّعْلِيقَيْنِ بأكثر من يَوْمٍ، عتق العَبْدُ من رَأْسِ المال ولا سبيل عليه لِأَحَدٍ. ولو اقْتَصَرَ على قوله: "أنت حُرٌّ قبل موتي بيوم أو بشهر"، فإذا مات، نُظِرَ إن كان في أَوَّلِ اليوم، أو الشهر قبل الموت مَرِيضاً، فيعتبر عِتْقُهُ من الثلث، وإن كان صحيحاً فمن رَأْسِ المال، ولا فَرْقَ في الاعْتِبَارِ من الثُّلُثِ بين أن يقع التدبير في الصحة، أو في المَرَضِ كالوَصِيَّةِ. الثانية: إذا دَبَّرَ عَبْدًا ومَاتَ، وبَاقِي مَالِهِ غَائِبٌ عن بَلْدَةِ الورثة، أو دين على معسر، فلا يُعْتَقُ جميع المُدَبَّرِ، وهل يعتق ثُلُثُهُ؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، واخْتَارَهُ القاضي أبو حَامِدٍ؛ لأن الغَيْبَةَ لا تزيد على العَدَمِ، ولو لم يملك إلاَّ هَذَا لعتقَ ثلثه، فكذلك عند الغيبة. وعلى هذا فثلث أكْسَابِهِ بعد موت السَّيِّدِ له، ويُوقَفُ الباقي. وأظهرهما: على ما ذكر الشيخ أَبُو حَامِدٍ، وصاحب "التهذيب" وغيرهما: أنه لا يُعْتَقُ حتى يصل المَالُ إلى الوَرَثَةِ؛ لأن في تجهيز العِتْقِ تَنْفِيذُ التَّبَرُّعِ من الثلث، قبل تَسَلُّطِ الوَرَثَةِ على الثلثين. إذ لا بد من التَّوَقُّفِ في الثلثين إلى أن يُتَبَيَّنَ حَالُ الغائب، وعلى هذا فتوقف الأَكْسَابُ؛ فإن حَضَرَ بأن عِتْقٌ، وأن الأَكْسَابَ له ويقال: إن الخِلاَفَ في المَسْأَلَةِ قولان: منصوص، ومُخَرَّجٌ. والمنصوص الثاني. وإذا كانت قِيمَةُ المُدَبَّرِ مائة، والغائب قَدْرُ مائتين، فحضرت مائة، فعلى الوَجْهِ الأول؛ يعتق ثُلُثَاهُ؛ لأن ثلثه عتِقَ في الحال فهذا حضرت مائة عتق بِقَدْرِ ثلثها أيضاً. وعلى الثاني: يُعْتَقُ نِصْفُهُ؛ لحصول مِثْلِهِ للورثة، فإذا حضرت مائة، وبلغت مائة اسْتَقَرَّ العِتْقُ في ثلثيه، وتسلط الورثة على ثلثيه وعلى المائة. وفي طريقة الصَّيْدَلاَنِيِّ تَفْرِيعاً على أنه يُعْتِقُ من المُدَبَّرِ ثلثيه أن للوارث التَّصَرُّفَ في الثلثين، فإن حضر المَالُ الغَائِبُ نُقِضَ تصرفه، وأنه لو أعتق الوَارِثُ الثلثين، ولم
يحضر المَالُ الغَائِبُ، فَوَلاءُ الثلثين له، وإن حضر؛ فعن ابن سُرَيْجٍ أن الجَوَابَ كذلك؛ لأنه أعتق وله العِتْقُ. وإن فيه وَجْهاً آخر: أن وَلَاء الجَمِيعِ للمورث؛ بِنَاءً على إِجَازَة الوَرَثَةِ تنفيذ أو ابْتِدَاءُ عطية (¬1) واشْتَدَّ [نكيرُ] (¬2) الإمَام على هذا، وقال: إعتاق الورثة أنفسهم رَد للتدبير، ولا سَبِيلَ إلى رَدِّ التدبير بَسَبَب غَيْبَةِ المال، بل الوَجْهُ التَّوَقُّفُ، فإن حَضَرَ المال بَانَ نُفُوذُ العِتْقِ في الجميع، ولكن مُسْتَنَداً إلى وَقْتِ المَوْتِ، أو عند حصول القُدْرَةِ؟ فيه احتمالان؛ أوجههما: الأول. فإن كانت التَّرِكَةُ بحيث يفى مثلها بالمُدبَّرِ، ولكن وإن عليه دَيْنٌ مستغرق [فابرأ مستحق] (¬3) الدَّين عن الدَّين بعد أيَّامٍ من الموت، فَيَسْتَنِدُ العِتْقُ إلى وقت الموت، أو يَتَنَجَّزُ من وقت سُقُوطِ الدَّيْنِ؟ فيه احتمالان: والأَظْهَرُ في هذه الصورة الثاني: ولو كان له دَيْنٌ في ذِمَّةِ إنسان ليس له غَيْرُهُ فَأَبْرَأَ عنه في مَرَضِ الموت، أو عن ثُلُثِهِ، هل تَحْصُلُ البَرَاءَةُ عن الثلث قبل وُصُولِ الثلثين؟ فيه الخِلاًفُ المَذْكُورُ في أن العِتْقَ هل ينفذ من الثلث، والأصح: المنع. ويجري الخِلاَفُ فيما إذا مَاتَ عنه اثْنَينِ ولم يترك إلاَّ دَيْناً على أحدهما؛ هل يَبْرَأُ من عليه الدَّيْنُ عن نِصْفِهِ؟ ففي وجه: لا، وإلاَّ [لاخْتَصَّ بحقه] (¬4) قبل أن يَتَوَفَّرَ على أخيه حَقُّهُ، وقد أُمِرَ بالتسوية بينهما. وفي وجه: نعم، إذ لا يمكن أن يَمْلِكَ على نَفْسِهِ دَيْناً. ولو أَوْصَى [بغير] (¬5) مَالٍ يخرج من الثلث، وباقي ماله غَائِبٌ. هل يُسَلِّمُ إلى الموصى له ثُلُثَ العين، أو يَنْتَظِرُ حُضُورَ الغائب؟ فيه مِثْلُ الخِلاَفِ المذكور في العِتْقِ، وقد تَقَدَّمَ في "باب الوَصِيَّةِ". وقوله في الكتاب: "وكذا الخلاف في الوصية" مُعَادٌ هَاهُنَا. ¬
ولو أوصى بثلث مَالِهِ، وبَعْضُ ماله حَاضِرٌ، وبَعْضُهُ غَائِبٌ، أو البعض عَيْنٌ، والبعض دَيْنٌ، فيدفع إلى الموصى له ثلث الحاضر، والعين يحضره وما يحصل من بعد، فيقسم كذلك. الثالثة: إذا عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِصِفَةٍ، فوجدت تلك الصِّفَةُ في مَرَضِ الموت؛ يُنظر إن كان التَّعْلِيقُ بِصِفَةٍ لا توجد إلاَّ حينئذ، كما إذا قال: إن دَخَلْتَ الدَّارَ في مَرَضِ موتي، فأنت حُرٌّ، أو إذا مَرِضْتُ مَرَضَ الموت. فيعتبر عِتْقُهُ من الثلث، كما لو أعتقه حينئذ. وإن كان يحتمل أن توجد في الصِّحَّةِ، ويحتمل أن توجد في المَرَضِ فقولان: أصحهما: العِتْقَ من رَأْسِ المَالِ؛ لأنه حينئذ علق ولم يكن مُتَّهماً بِإِبْطَالِ حَقِّ الورثة. والثاني- وبه قال أبو حَنِيْفَةَ-: يُعْتَقُ من الثلث اعتِبَاراً بوقت وجود الصفة فإن العتق حينئذ يَحْصُلُ. وهذا كالخلاف في أَنَّهُ إذا عَلَّقَ طَلاًقَ أمْرَأَتِهِ في الصحة، ووجدت الصفة في المَرَضِ هل [يجعل فاراً] (¬1). قال الإمَامُ: ومن هذا الأَصْلِ اخْتَلَفَ الأَصْحَابُ في أنه إذا شَهِدَ اثْنَان على تعليق العِتْقِ بصفة، وآخران على وُجُودِ الصفة، وحكم القَاضِي بنُفُوذِ العِتْقِ، ثم رجعوا يكون الغُرْمُ عليهم جميعاً، أم يَخْتَصُّ به شهُودُ التعليق؛ لأن التعليق هو الموقع والصِّفَة محل الوقوع أو وقته؟ وقياس اعْتِبَارِ الصِّفَةِ هاهنا تخصيص الغُرْم بشهود الصِّفَةِ لكن لا صائر إليه. والخِلاَفُ فيما إذا كانت الصِّفَةُ محتملة الحُصُول في الصحة والمَرَضِ، ووجدت في المرض بغير اخْتِيَارِهِ، فإن وُجِدَتْ باختياره اعتبر العِتْقُ من الثلث؛ لأنهم ذَكَرُوا أنه لو قال: إن دَخَلْتَ الدَّارَ وكَلَّمْتَ فُلاَناً فأنت حُرٌّ، ثم دخلها وكَلَّمَهُ من مَرَضِ مَوْتِهِ، يعتبر العتق من الثلث؛ لأنه اخْتَارَ حُصُولَ العتق في مَرَضِهِ. ولو باع الصَّحِيحَ بمُحَابَاةٍ، وشرط الخيار، ثم مَرِضَ في مُدَّةِ الخيار، ولم يفسخ حتى مات، اعتبرت المُحَابَاةُ من الثلث؛ لأنه [لزم] (¬2) العقد في المَرَض باختياره، فأشبه ما إذا وَهَبَ في الصَّحِّةِ، وأقبض في المرض (¬3). ¬
فروع
فروع: لو علق عِتْقَ عَبْدِهِ بصفة، وهو مُطْلقُ التصرف فرجدت الصِّفَةُ، وهو مَحْجُور عليه بالفَلَسِ، عتِقَ العَبْدُ، إن قلنا: الاعتبار بِحَالَةِ التعليق، وإن قلنا: الاعتبار بِحَالَةِ وجود الصِّفَةِ؛ فهو كإعْتَاقِ الفَلَسِ، ولو عَلَّقَهُ بصفة، فوجدت الصفة بعدما جُنَّ وحُجِر عليه بالسَّفَهِ، يعتق وَجْهاً [واحداً] (¬1) كذلك ذكره في "التهذيب" وفرَّقَ بأن حَجْرَ المريض والمُفْلِسِ كلاهما لِحَقِّ الغَيْرِ، وهذا لِلْوَرَثَةِ، وهذا لِحَقِّ الغُرَمَاءِ، بخلاف حَجْرِ [السفيه والمجنون] (¬2). وعن صاحب "الإفصاح" أنه لو قال: إن جُنِنْتُ فأنت حُرٌّ. فَجُنَّ، ففي العِتْقِ وجهان: أحدهما: لا يُعْتَقُ كما لو أعتق في حال الجنون. والثاني: يعتق؛ لأن الإِيقَاعَ حَصَلَ في الصِّحَّةِ. وقد خُرِّجَ هذا الخِلاَفُ فيما إذا كان التعليق بِصِفَةٍ غير الجنون، فوجدت في الجنون. ولو قال: إن مَرِضْتُ مَرَضاً مَخُوفاً، فأنت حر. فَمَرِضَ مَرَضاً مات منه، يعتق العَبْدُ، ويكون عِتْقُهُ من الثلث. وعن أبي الحُسَيْنِ بن القَطَّانِ وجه آخر: أنه يُعْتَقُ من رَأْسِ المال؛ لأن التعليق وَقَعَ في الصحة. ولو مَرِضَ مَرَضاً مَخُوفاً، ثم برئَ منه يعتق، ويكون عِتْقُهُ من رأس المال. وخرج القاضي ابن كَجٍّ وَجْهاً: أنه لا يُعْتَقُ أخْذاً من الخِلاًفِ فيما إذا حَجَّ، وهو مَعْضُوبٌ ثم بَرِيءَ. ونختم الفَصْلَ بإعادة إِشْكَالٍ من الخلاف المَشْهُورِ، من أن المُدَبَّر؛ هل يُعْتَقُ في الحال عند غَيْبَةِ بَاقِي المال، قد ذكرناه في "باب الوَصِيَّةِ"، وذلك؛ لأن الثلث عتق بكل حال، فلا معنى للتَّوَقُّفِ والتأخير فيه، ولا فَائِدَةَ لِلْوَارِثِ في ذلك، فإنه مَمْنُوعٌ من التَّصَرُّفِ في جميع العَبْدِ، فَضْلاً عن التصرف في الثلث. وأيضاً فلو لم يعتق الثلث في الحال لَبَقِيَ المِلْكُ فيه والمَمْلُوكُ لَا بُدَّ له من مَالِكٍ، ولا يمكن أن يكون مِلْكاً للميت، ولو كان مِلْكاً للوارث، لما عتق (¬3) إلا بإعْتَاقِهِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الخَامِسُ) إِذَا جَنَى المُدَبَّرُ بِيعَ فَإِنْ فَدَاهُ السَّيِّدُ بَقِيَ التَّدْبِيرُ، فَإنْ مَاتَ ¬
السَّيِّدُ فَلِلوَرَثَةِ أَنْ لَا يَفْدُوهُ عَلَى قَوْلٍ وَإِنْ وَفَّى الثُّلُثَ بِالفِدَاءِ وَالعِتْقِ، وَقِيلَ: يَجِبُ الفِدَاءُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الجناية على المُدَبّر كهي على القِنِّ، فإن قتل فللسيد القِصَاصُ أو القِيمَةُ، ولا يَلْزَمُهُ أن يشتري بها عَبْداً فيدبره، بخلاف ما إِذَا وَقَفَ مَتَاعاً فَأُتْلِفَ، فإنا قد نقول يشتري بقيمته مِثْلَهُ، ويوقف؛ لأن مَقْصُودَ الوَقْفِ أن ينتفع به المَوْقُوفُ عليهم، وهم بَاقُونَ. ومقصود التَّدْبِيرِ أن ينتفع به ذلك العَبْدُ، ولم يَبْقَ، وإن جنى على طرفه فَلِلسَّيِّدِ القِصَاصُ، أو الأَرْشُ، ويبقى التدبير (¬1) بِحَالِهِ. هذا حكم الجِنَايَةِ عليه. وأما حكم جِنَايَتِهِ وهو [الذي] (¬2) أورده في الكِتَابِ، فهو فيها كالقِنِّ أيضاً، فلو جَنَى على إنْسَانٍ بما يوجب القِصَاصَ اقْتُصَّ منه وفَاتَ التَّدْبِيرُ. وإن جَنَى بما يوجب المَال، وعاد بالعَفْوِ إليه، فللسيد أن يَفْدِيَهُ، وأن يُسْلِمَهُ ليُبَاعَ في الجِنَايَةِ، فإن فَدَاهُ بقي التدبير فيه، وفيما يَفْدِيهِ به من أَرْشِ الجِنَايَةِ، أو الأَقَل منه، ومن قيمته القولان السابقان من القِنِّ. وإن سَلَّمَهُ للبيع وبيع جميعه ارتفع التَّدْبِيرُ فيه، فإن عاد إلى مِلْكِهِ، ففي عَوْدِ التدبير مَا مَرَّ في الباب تَفْرِيعاً على أنه وصية، وعلى أن تَعْلِيقَ عِتْقٍ بصفة، وإن حصل الغَرَضُ بِبَيْعِ بعضه بَقِيَ التَّدْبِيرُ في الباقي، وإن مَاتَ السيد قبل البَيْعِ، واختيار الفداء، ففيه طريقان: أظهرهما: أن حُصُولَ العِتْقِ على الخِلاَفِ في أن إعْتَاقَ العَبْدِ الجاني هل ينفذ؛ لأنه اجتمع العِتْقُ والجِنَايَةُ؟ فإن قلنا: ينفذ أخذ الفِدَاءُ من تَرِكَةِ السَّيِّدِ؛ لأنه أعتقه بالتدبير السابق، وعلى هذا فالفِدَاءُ بأقل الأَمْرَينِ بلا خِلَافٍ؛ (¬3) لأنه تعذر تسليمه للبيع. وإن قلنا: لا يُعْتَقُ فالوَارِث بالخيار بين أن يَفْدِيَهُ فيعتق من الثلث، وبين أن يُسَلِّمَهُ لِلْبَيْعِ، وإن كان في ثلث المال سَعَةٌ، فإذا بِيعَ، بَطَل التدبير. واعلم أن الخِلاًفَ في أن إِعْتَاقَ الجاني؛ هل ينفذ؟ قد سبق في أوَّل "البيع"، وبَيَّنَّا أن الأَصَحَّ أنه إن كان مُوسِراً ينفذ، وإن كان مُعْسِراً لا ينفذ، ويُشْبِهُ أن يقال: الميت معسر على مَا مَرَّ في سِرَايَةِ العِتْقِ. [والطريق] (¬4) الثاني: عن صاحب "التقريب" أنه إذا اتَّسَعَ الثلث، وَوَفَّى بقيمة ¬
السراية
الرقبة والفِدَاء، وجب على الوَرَثَةِ تَحْصِيلُ العِتْقِ، ولا [يخرج] (¬1) على ذلك الخلاف. ولو كانت جِنَايَةُ المُدَبَّرِ تَسْتَغرِقُ ثُلُثَ الرَّقَبَةِ مَثَلاً، ومات السيد فَفَدَاهُ الوَارِثُ من مَالِهِ، ففي وَلَاءِ ذلك الثُّلُثِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الصَّيدَلاَنِيُّ عن ابن سُرَيْجٍ أنه للوارث. وقال القَفَّال: فيه وَجْهٌ آخر عِنْدِي؛ أن وَلاَءَ جَمِيعِهِ للوارث، بِنَاءً على أن إِجَازَةَ الوَرَثَةِ تَنْفِيذٌ أو ابتداء عَطِيَّةٍ. وهذا الفِدَاءُ من الوَارِثِ كالإِجَازَةِ؛ لأنه متمم قَصْدَ المورث، وشَبِيهاً بالوجْهَيْن في عبد مَرْهُونٍ [جنى ففداه المرتهن] (¬2) بِشَرْطِ أن يكون العَبْدُ رَهْناً عنده بأصل الدَّيْنِ، وبالفِدَاءِ؛ لأنه لما أَشْرَفَ على الزَّوَالِ للبيع في الجناية جعل باستيفائه كابْتِدَاءِ عَقْدٍ منه. ولو جَنَت المُدَبَّرَة، ولها وَلَدٌ صغير وقلنا بِسِرَايَةِ التدبير إليه على ما سَيَأْتِي الخلاف فيه، فلو بِعْنَا الوَلَدَ معها أبطلنا التدبير فيه، ولو لم نَبِعْهُ معها، فَرَّقْنَا بين الأُمِّ والولد، وفيه وجهان: أحدهما: نبيعه حِذَاراً من التفريق. والثاني: يحتمل التفريق لِلضَّرُورَةِ، وهو كالخِلافِ فيما إذا رَهَنَ الجَارِيَةَ دون وَلَدِهَا، واحتيج إلى بَيْعِ الجَارَيةِ في الدَّيْنِ هل يُبَاعُ الولد معها؟ وقوله في الكتاب: "إذا جنى المُدَبَّرُ بِيعَ" يجوز أن يُعَلمَ [بالحاء] (¬3)؛ لأن عند أبي حَنِيْفَةَ يُجْبَرُ السيد على أن يَفْدِيَهُ، كما في أُمِّ الولد. وقوله: "فللورثة ألا يَفْدُوهُ على قَوْل" أي من التركة، وهو إشارة إلى الطريقة الأُولَى. وقوله: "وقيل: يجب الفِدَاءُ"؛ [إشارة إلى] (¬4) طريقة صاحب "التقريب". قَالَ الْغَزَالِيُّ: الحُكْمُ الثَّانِي: السِّرَايَةُ وَهَلْ يَسْرِي التَّدْبِيرُ اِلَى وَلَدِ المُدَبَّرَةِ مِنْ زِنَا أَؤ نِكَاح؟ فِيهِ قَوْلاَنِ، وَتَعْلِيقُ العِتْقِ بِالدُّخُولِ هَلْ يَسْرِي إِلَى الوَلَدِ؟ فِيهِ أَيْضاً قَوْلَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَسْرِي فَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الوَلَدَ يُعْتَقُ بِدُخُولِ الأُمِّ، وَقِيلَ بِدُخُولِ نَفْسِهِ، ثُمَّ إِذَا سَرَى التَّدْبِيرُ صَارَ كَمَا لَوْ دَبَّرَهُمَا، وَلَا يَكُونُ الرُّجُوعُ عَنْ أَحَدِهِمَا رُجُوعاً عَنِ الآخَرِ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا إِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ، أَمَّا وَلَدُ المُدَبَّرِ فَيَتْبَعُ الأُمِّ دُونَ الأَبِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يجوز وَطْءُ المُدَبَّرَةِ والمُعَلَّقَةِ عِتْقُهَا بصفة لكَمَالِ المِلْكِ، ونَفَاذِ التَّصَرُّفِ فيهما. ¬
روي أن ابن عمر -رضي الله عنهما: دَبَّرَ جَارَيتَينِ له، وكان يطؤهما (¬1). وأيضاً فإن المُسْتَوْلَدَةَ يجوز وَطْؤُهَا، مع أن حَقَّ العِتْقِ [فيها] (¬2) آكَدُ، فالمُدَبَّرَةُ أَوْلَى، وتُخَالِفُ المُكَاتَبَةُ؛ لأنها صارت أَحَقَّ بنفسها؛ ألا ترى أنها إذا وُطِئَتْ يكون المَهْرُ لها، وإذا جنى عليها يكون أَرْشُ الجِنَايَةِ لها، بخلاف المُدَبَّرَةِ المُعَلَّقِ عِتْقُهَا بالصفة والمستولدة، فإن المَهْرَ وأَرْشَ الجناية عليهن يكون للسَّيِّدِ. ولو أَوْلَدَهَا السيد صارت مُسْتَوْلَدَةً. والأظهر أن التدبير يَبْطُلُ. وفيه وجه آخر وقد ذكرناهما من قَبْلُ، وبذلك الوَجْهِ الآخر أجاب إبراهيم المَرُّورُوذِيُّ، وتظهر فَائِدَةُ الاختلاف فيها، إذا قال: كل مدبر لي (¬3) حر؛ هل تعتق هي؟ وأما إذا أتت المُدَبَّرَةُ بِوَلَدٍ من نِكَاحٍ أو زنى؛ فهل يَسْرِي التدبير إليه؟ فيه قولان (¬4): أرجحهما عند الإمَامِ وصاحب "التهذيب": لا، وهو اختيار المُزَنِيِّ؛ لأنه عَقْدٌ يقبل الرفع، فلا يَسْرِي إلى الوَلَدِ كالرَّهْنِ. وأظهرهما: كما ذكر الشيخان -أبو حَامِدٍ والقَفَّالُ- وغيرهما وبه قال أبو حَنِيْفَةَ ومالك وأَحْمَدُ -رحمهم الله-. نعم: لأنها تُعْتَقُ بموت سَيِّدِهَا، فيتبعها وَلَدُهَا كالمستولدة، ولأن وَلَدَ الحرة حُرٌّ، وَوَلَدُ الرقيقة رَقِيقٌ. وإذا نذر هَدْياً أو أُضْحِيَةً، يكون للولد حُكْمُ الأم، فكذلك هاهنا. ثم قيل: القولان مَبْنِيَّانِ على أن التدبير وَصِيَّةٌ، أو تعليق عتق بصفة، إن قلنا: وصية لم يتبعها الوَلَدُ، وإن قلنا: تعليق يتبعها، وهذه طريقة المزنى، والصحيح وبه قال ابن سُرَيْجٍ وأبو إسحاق -رحمهم الله-: أنهما مَبْنِيَّيْنِ على أنه وَصِيَّةٌ أو تعليق، بل القولان جَارِيَانِ على القولين جميعاً؛ لأنه نَصَّ على قولين في أن وَلَدَ المعلق عتقها؟ هل يَتْبَعُهَا على ما سنذكر، ويقال: إنه مع التفريع على أن التدبير وَصِيَّةٌ؛ ذكر في وَلَدِ المدبرة قولين. وفي "الشامل" أن بعضهم قال: القولان في الوَلَدِ مَخْصُوصَانِ بما إذا قلنا: إن ¬
التدبير تَعْلِيقٌ، وأما إذا جَعَلْنَاهُ وَصِيَّةً، فلا يتبعها الوَلَدُ، بلا خلاف، كما لو أوصى بِجَارِيَةٍ لإنسان، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ، فهذه طريقة ثَالِثَةٌ، وعن الشيخ أبي محمد أنه يحتمل أن يَجْرِي القَوْلانِ في وَلَدِ الموصى بها لإنسان (¬1). قال الإِمَامُ: والأَظْهَرُ القَطْعُ بالمَنْعِ. والشافعي -رضي الله عنه- إنما رَدَّدَ القَوْلَ في وَلَدِ المُدَبَّرَةِ على مذهب التَّشْبِيهِ بالمُسْتَوْلَدَةِ، وهذا التشبِيهُ يَخْتَصُّ بِعَقْدِ العتَاقَةِ، والمُعَلَّقُ عِتْقُها بالصفة إذا أتت بِوَلَدٍ؛ هل يتبعها؟ [أيضاً] (¬2) فيه قولان. ورَتَّب الصَّيْدَلاَنِيُّ الخِلاَفَ هاهنا على الخلاف في وَلَدِ المُدَبَّرَةِ، والمنع هاهنا أَوْلَى. وجعله القَفَّالُ وغيره الأظهر (¬3) وقالوا: ولد المدبرة إنما يَتْبَعُهَا لِمُشَابَهَتِهَا المستولدة من العتق بموت السَّيِّدِ. والأَظْهَرُ: أنه لا فَرْقَ من مَجْيءِ القَوْلَيْنِ بين أن يكون التَّعْلِيقُ بما يحصل لا مَحَالَةَ كَطُلُوعِ الشمس، أو بغيره كَقُدُومِ زَيْدٍ، ودخول الدار. وقيل بتخصيص القَوْلَيْنِ بالتَّعْلِيقِ بما يوجد لا مَحَالَةَ؛ لأنه يشبه التَّدْبِيرَ، وفي غيره لا يَتْبَعُهَا بلا خِلاَفٍ. التفريع: إن (¬4) جعلنا وَلَدَ المُدَبَّرَةِ مُدَبَّراً، فلو ماتت الأم في حَيَاةِ السَّيِّدِ، لم يبطل التدبير في الولد، كما لو دَبَّرَ عَبْدَيْنِ، فمات أحدهما قبل موت السَّيِّدِ، وكما إذا مَاتَتِ المُسْتَوْلَدَةُ لا يبطل حَقُّ العتق في الولد، ولو رجع السَّيِّدُ عن تَدْبِيرِهِ أَحَدَهُمَا، وجَوَّزنَاهُ، أو باع أحدهما لم يَبْطُلِ التدبير في الثاني، ولو كان الثُّلُثُ لا يَفِي إلاَّ بإحداهما، فعن ابن الحَدَّادِ: أنه يُفْرَعُ بينهما، كما لو دَبَّرَ عَبْدَيْنِ، وضاق الثلث عنهما، وهذا هو الأظهر، والمَذْكُورُ في الكتاب. وفيه وَجْهٌ: أنه يُقَسَّمُ العِتْقُ عليهما؛ لأنَّا لو أقرعنا فربما تخرج القُرْعَةُ للولد، فَتُرَقُّ الأم وهي الأَصْلُ في التدبير، فيبعد أن تُرَقَّ، ويعتقُ الولد. وإذا قلنا: إن المُعَلَّقَ عِتْقُهَا بالصفة يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا، فالمَعْنِيُّ به أن الصِّفَةَ إذا وجدت في الأُمِّ، وعتقت هي [بعتق الولد أيضاً ولتعتبر الصفة فيه- فإذا عَلَّقَ عتقها] (¬5) بدخول الدَّارِ فدخلت عتقت، وعتقَ الوَلَدُ على هذا القول، ولو دَخَلَ الوَلَدُ بنفسه لم يعتق هذا هو [المشهور]. (¬6) ¬
وقال الشيخ أبو محمد [قضية] (¬1) سِرَاية هذا التعليق أن يَتَعَلَّقَ عتقُهُ بدخوله من نفسه، وإلاّ فَهُوَ سِرَايَةُ عتق لا سِرَايَةُ تعليق، فعلى هذا لا يُعْتَقُ بدخولها، ويعتق بدخوله، ولو بَطَلَ التعليق بدخول الدار فيها بأن ماتت بَطَلَ في حَقِّ الولد أيضاً (¬2). قال في "التهذيب": لأنه يَتْبَعُهَا في [حق] (¬3) العتق لا في الصِّفَةِ، بخلاف التَّدْبِيرِ، فإنه يتبعها في التدبير، فيبقى فيه وإن بَطَلَ فيها. وقال ابن الصَّبَّاغِ: الفَرْقُ بينه ويين التَّدْبِيرِ أن الشَّرْطَ دخول الأُمِّ الدَّارَ، وإذا ماتت فَاتَ ذلك الشَّرْط [والشرط] (¬4) في المدبر صَوْتُ السيد، ولم يفت ذلك في حَقِّ الوَلَدِ إلاَّ أن يكون قد عَلَّقَهُ بفعل نفسه أو غيرها، فيكون كالمُدَبَّرَةِ، وبُطْلاَن التعليق بموت السيد كَبُطْلاَنِهِ بموتها، وقضية ما ذكره الشيخ أبو مُحَمَّدٍ: ألاَّ يبطل التعليق فيه ببطلانه فيها. ولو قال لِأَمَتِهِ: أنت حُرَّةٌ بعد موتي بعشر سنين مَثَلاً، فإنما تُعْتَقُ بعد مُضِىِّ تلك المُدَّةِ من يوم المَوْتِ فإن أَتَتْ بولد قبل مَوْتِ السَّيِّدِ فهل يتبع الأُمَّ في حُكْمِ الصفة؟ فيه القولان؟ وإن أَتَتْ به بعد مَوْتِ السيد وقيل مُضِىِّ المدة؛ فقد نَصَّ الشَّافعي -رضي الله عنه- أنه يَتْبَعُهَا في حكمها، وفيه طَرِيقَانِ للأصحاب: أحدهما: أنه على القَوْلَيْنِ، كما قبل الموت، وإنما أَجَابَ على أحد القولين. والثاني: القَطْعُ بأنه يَتْبَعُهَا؛ لأن سبب العِتْقِ قد تَأَكَّدَ هاهنا؛ إذ ليس للوارث التَّصَرُّفُ فيه، وإبطال العتق، فصارت كالمُسْتَوْلَدَةِ، وقبل الموت كان السَّيِّدُ بِسَبِيلِ من البيع والإبْطَالِ، وذكر على هذا أن الوَلَدَ يعتق من رَأْسِ المال، كما في المُسْتَوْلَدَةِ. وأما ولد المُدَبَّرَةِ، فلا يؤثر فيه تَدْبِيرُ أبيه، بل يَتْبَعُ الأم في الرِّقِّ والحرية. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَإِذَا مَاتَ السَّيِّدُ وَالمُدَبَّرَة حَامِلٌ عُتِقَ مَعَهَا حَمْلُهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَاملاً عِنْدَ التَّدْبِيرِ فَفِي السِّرَايَةِ اِلَى الجَنِينِ وَجْهَانِ، فَلَوْ تَنَازَعَا وَقَالَتْ: وَلَدتُّ بَعْدَ التَّدْبِيرِ فَيَتْبَعَني وَأَنْكَرَ السَّيِّدُ فَالقَوْلُ قَوْلُهُ، وَلَوْ تَنَازَعَ الوَارِثُ وَالمُدَبَّرُ فِي مَالٍ فِي يَدِهِ فَادَّعَى أَنَّهُ اكْتَسَبَ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ فَالقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَجْلِ اليَدِ، وَلَوْ قَالَتْ: وَلَدتُّ الوَلَدَ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ فَهُوَ حُرُّ فَالقَوْلُ قَوْلُ الوَارِثِ إِذْ لَا يَدَ عَلَى الوَلَدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في هذه البقية مَسْأَلَتَانِ: إحداهما: ما ذكرنا في وَلَدِ المُدَبَّرَةِ مَفْرُوضٌ فيما إذا حَدَثَ الولد بعد التدبير، ¬
وانْفَصَلَ قبل موت السَّيِّدِ، فأما: إذا كانت المُدَبَّرَةُ حَامِلاً عند موت السيد، عتقَ معها الحَمْلُ، بلا خلاف، كما لو أعتق جَارِيةً حَامِلاً، فإن لم [يحتملها] (¬1) الثلث حاملاً، عُتِقَ منها قَدْرُ الثلث. وكذا المُعَلَّقُ عِتْقُهَا بالصفة، لو كانت حَامِلاً عند وجود الصِّفَةِ، عتق الحَمْلُ معها. ولو كانت الجَارِيةُ حاملاً عند التدبير، ففيه طريقان: أحدهما: أنه يبنى حكمه على أن الحَمْلُ هل يُعْرَفُ؟ وفيه قولان: إن قلنا: يعرف -وهو الأَصَحُّ- فيكون الوَلَدُ مُدَبَّراً أيضاً. وإن قلنا: لا يعرف، ففيه القولان المَذْكُورَانِ في الوَلَدِ الحادث. وأَصَحُّهُمَا: القطع بكونه مُدَبَّراً، سواء قلنا: إن الحَمْلُ يعرف أو لا يعرف كما يدخل في البيع بلا خِلاًفٍ، وقد ذكر أنه لَيْسَ ذلك على سَبِيلِ السَّرَايَةِ، ولكن اللفظ يَتَنَاوَلُهُ [وإنما] (¬2) يعرف كونه موجوداً يوم التَّدْبِيرِ، إذا أتت به لما دون سِتَّةِ أشهر، فإن أتت به لأكثر من أَرْبَعِ سنين من وَقْتِ التدبير، فهو حادث لا مَحَالَةَ، وإن أتت به المُدَّتَيْنِ، فينظر أَلَهَا زَوْجٌ يفترشها أم لا؟ وقد سبق مِثْلُهُ في مواضع. فإن كان لها زَوْجٌ قد فَارَقَهَا قبل التدبير، وأتت بِوَلَدٍ لما دون أربع سنين من وَقْتِ الفِرَاقِ فيه قولان: قال في "التهذيب": أصحهما: أنه يجعل موجوداً يوم التَّدْبِيرِ، كما يجعل موجوداً في ثبُوتِ النَّسَب من الزَّوْجِ. إذا ثبت التدبير في العمل، ثم انفصل، فَرُجُوعُ السَّيِّدِ عن التدبير في أَحَدِهِمَا لا يرفع التدبير في حَقِّ الآخر، كما ذكرنا في الوَلَدِ المنفصل. وإن رجع قبل الانْفِصَالِ عن تدبير الحَمْلِ، وجَوَّزْنَا الرجوع عن التدبير ارْتَفَعَ التَّدْبِيرُ فيه، وبقي في الأُمِّ. وفي وجه: لا يجوز الرُّجُوعُ عنه ما دَامَ حَمْلاً، مع بَقَاءِ التدبير في الأم، وإن رَجَعَ في تدبير الأُمِّ، نُظِرَ إن قال: رَجَعْتُ عن تَدْبِيرِهَا دون تَدْبِيرِ الوَلَدِ، فلا يخفى الْحُكْمُ، وإن أَطْلَقَ، فوجهان: أحدهما: أنه يَتْبَعُهَا في الرجوع، كما يتبعها في التَّدْبِيرِ. وأصحهما: المَنْعُ، كالرجوع بعد الانْفِصَالِ ويخالف التَّدْبِيرُ؛ لأن فيه مَعْنَى العِتْقِ، وللعتق قُوَّةٌ وغَلَبَةٌ لا تُنْكَرُ. وإذا رجع في تدبيرها دون الوَلَدِ، ثم أتت بِوَلَدٍ لما دون سِتَّةِ أشهر، من وقت الرُّجُوعِ فهو مُدَبَّرٌ، وإن أَتَتْ به لأكثر من ذلك، ولها زَوْجٌ يَفْتَرِشُهَا لم يكن مُدَبّراً؛ لأنه لا يعلم حُصُوله قبل الرجوع عن تدبيرها. ¬
فرع
ولو دَبَّرَ الحَمْل من البَطْنِ وحده جاز، كما لو أَعْتَقَهُ، ولا يَتَعَدَّى إلى الأم. وإذا مات السيد عتق الحَمْلُ دون الأم، فإن باع الأم، فقد قيل: إن قَصَدَ به الرُّجُوعَ حصل الرُّجُوعُ وصح البيع [في الأم والولد (¬1) وإن لم يقصد لم يصح البيع] (¬2) في الولد، ويصير كأنه اسْتَثْنَاهُ، وإذا لم يَصِحَّ في الولد لم يَصِحَّ في الأُمِّ على الظاهر كما لو باع جَارِيَةً حامِلًا بِحُرٍّ، والأَصَحُّ صحة البَيْعِ فيهما، وحصول الرجوع قَصْدَاً ولم يَقْصِدْ، كما لو باع مُدَبَّرَةً، ونسي التدبير يصح البيع، ويحصل الرجوع. وقوله في الكتاب: "ففي السَّرَايَةِ إلى الجنين وجهان"، مَقْصُودُهُ ما قد تَبَيَّنَ، ولكن قد يُنَاقَشُ في لفظ "السِّرَايَةِ" لما قد قيل: إِن ذلك على سبيل تَنَاوُلِ اللفقاله على وجه السِّرَايَةِ والتعدي من الشخص إلى المشخص (¬3). فرع: إذا دَبَّرَ أَمَتَهُ، وقلنا: "ولد المدبرة" مدبر، وجوزنا الرجوع عن التدبير بالقول، فقال: إذا وَلَدَتْ أو كلما ولدت ولداً فقد رجعت في تدبيره لم يَصِحَّ الرُّجُوعُ فإذا أولدت (¬4) مُدَبّراً حتى يرجع بعد الوِلَادَةِ؛ لأن الرجوع في التدبير إنما يَصِحُّ بعد ثُبُوتِ حُكْمِ التدبير للولد، وليس له حكم التدبير قبل الوِلَادَةِ، فأشبه ما إذا قال: إذَا دَبَّرْتُكَ فقد رجعت عن تَدْبِيرِكَ لا يصحُّ الرجوع. المسألة الثانية: إذا قلنا: ولد المُدَبَّرَةِ مُدْبَّرٌ، فتنازع السيد والمدبرة في الولد، فقال السَّيِّد: وَلَدَتْهُ قبل التدبير فهو قِنٌّ وقالت: بل بعده، فَيُقَدَّمُ السَّيِّدُ بيمينه؛ لأن الأَصْلَ بقاء مِلْكِهِ في وَلَدِ أَمَتِهِ، وعدم التدبير. ولو جرى هذا الاخْتِلاَفُ مع الوَارِثِ بعدما مَاتَ السَّيِّدُ، فقال الوارث: وَلَدَتْهُ قبل التدبير. وقالت: بَعْدَهُ، وعتق بموت السيد فالمُصَدَّقُ الوارث. قال في: "التهذيب": وتُسْمَعُ دَعْوَاهَا لولدها حسبة (¬5) حتى لو كانت قِنَّةً (¬6)، وادَّعَتْ على السيد أنك دَبَّرْتَ وَلَدِي تسمع. ¬
فروع
ولو قالت المدبرة: وَلَدْتُهُ بعد موت السَّيِّدِ فهو حُرٌّ. وقال الوارث: قبل التدبير. فالمُصَدَّقُ الوارث أيضاً، والتنازع على هذا التصوير يجري وإن لم نَقُلْ بأن ولد المدبرة يَتْبَعُ الأم في التدبير. وعن أبي الحُسَيْنِ بن القَطَّانِ: تخريج وجْهٍ في الصورة الأخيرة (¬1) أنه يصدق المدبرة؛ لأنها لم تسلمه لِلْوَرَثَةِ يَداً ولا مِلْكاً. والظاهر الأَوَّلُ وهو المَذْكُورُ في الكتاب. ولو كان في يَدِ المُدَبَّرِ مال، فقال: اكْتَسَبْتُهُ بعد موت السَّيِّدِ، وقال الوارث: بل قَبْلَهُ فهو لِي، صُدَّقَ المدبر بيمينه؛ لأنه صاحب يَدٍ في المال، فرجح جانبه باليد، بخلاف ما إذا كان التَّنَازُعُ في الولد فإنها تزعم حُرِّيَّتَهُ، والحر لا يدخل تحت اليَدِ. ولو أقام كل واحد منهما بَيِّنَةً على [أن هذا] (¬2) ما يقوله ترَجَّحُ بَيِّنَةُ المُدَبَّرِ لاعْتِضَادِهَا باليد. ولو أقام الوَارِثُ بَيِّنَةً على أن هذا المَالَ كان في يَدِ المُدَبَّرِ في حياة السيد، وقال المدبر: كان في يَدِي، لكنه كان لفلان فَمَلَكْتُهُ بعد موت السيد، فيصدق المُدَبَّرُ أيضاً. نص عليه، وعَلَّلَ بأن البَيِّنَةَ لم تتعرض إلاَّ لِلْيَدِ، وبأن البَيِّنَةَ تشهد بِيَدٍ متقدمة، ويَدُ المُدَبَّرِ ثَابِتَةٌ في الحال. وإذا تَنَازَعَ السيد والمستولدة في ولدها وَلَدَتْهُ قبل الاستيلاد، أو بعده، أو الوارث والمستولدة [هل] (¬3) ولدته قبل موت السَّيِّدِ، أو بعده فهو على ما ذكرنا في تَنَازع السيد والمُدَبَّرَةِ. وإذا قلنا سِرَايَةِ الكتابة إلى الوَلَدِ، فقالت المُكَاتَبَةُ: وَلَدْتُهُ بعد الكتابة، وقال السَّيِّدُ: بل قبلها، فالمُصَدَّقُ السَّيِّدُ أيضاً كذلك حكاه الصَّيدَلاَنِيُّ وغيره. وذكر القاضي ابْنُ كَجٍّ وَجْهَاً آخَرَ ورجحه أن يصدق المُكَاتَبَة، وفَرَّقَ بأن المكاتبة يَثْبُتُ لها اليَدُ على نفسها وولدها، والمُدَبَّرَة لا يَدَ لها على نفسها ولا وَلَدِهَا، ولو اختلف السيد والمُكَاتَبُ في المال، فالمُصَدَّقُ المكاتب، كما ذكرنا في المدبرة. فروع: دَبَّر عَبْدَهُ، ثم ملّكه أَمَةً فَوَطِئَهَا، وأولدها يبنى ذلك على أن العَبْدَ هل يملك بالتمليك؟ إن قلنا: لا يملك، فالولد للسيد، ويثبت نَسَبُهُ من العَبْدِ، ولا حَدَّ عليه؛ لِلشُّبْهَةِ، ويحكى هذا عن نَصِّهِ في "الأم". وإن قلنا: يملك بالتمليك، فالجَارَيةُ للمدبر، والولد لا يحكم له بالحرية فإنه حَصَلَ من رَقِيقَيْنِ، وبأَيِّهَا يُلْحَقُ؟ فيه وجهان لابن سريج: ¬
أحدهما: أنه يتبع الأُمِّ ويكون رَقِيقاً للسيد. والثاني: يتبع الأَبَ، فيكون مُدَبّراً، كما أن الحُرِّ إذا أولد أَمَتَهُ يكون الولد مُلْحَقاً به في الحرية. جارية بين شريكين دَبَّرَاهَا، ثم أتت [بولدِ فَادَّعَاهُ] (¬1) أحدهما، منه وابنه، ويضمن نِصْفَ [قيمتها] (¬2)، ونِصْفَ قيمته ونصف عقرها لشريكه وأخذ قيمتها يكون رُجُوعاً في التدبير. وعن القاضي أبي الطَّيِّبِ أنه قال: عِنْدِي لا يقوْم نَصِيبُ الشريك عليه إلاَّ بِرِضَاهُ، لأنه قد ثبت له حَقُّ الوَلَاءِ فيها (¬3) قول المدبر في حياته أو بعد موته: "رددت التدبير" لغوٌ لا يَقْدَحُ في التدبير. ¬
كتاب الكتابة
كِتَابُ الكِتَابَةِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهِيَ عَقْدٌ لَيْس بِوَاجِبٍ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ إِنْ الْتَمَسَ العَبْدَ وَكانَ أَمِيناً قَادِراً عَلَى الكَسْبِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ أَمِيناً لَمْ يُسْتَحَبَّ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الكَسْبِ فَفي الاسْتِحْبَابِ وَجْهَانِ. [قَالَ الرَّافِعِيُّ]: ذكر الأئِمَةُ -رحمهم الله- أن الكِتَابةَ (¬1) مَأخُوذَةٌ من الكَتْبِ وهو الضَّمُّ والجَمْعُ؛ يقال: كَتَبْتُ البَغْلَةَ، إذا ضَمَمْتُ بين شَفْرَيْهَا بِحَلْقَةٍ أو سَيْرِ. وكَتَبْتُ القِرْبَةَ، إذا أَوْكَئْتُ رَأْسَهَا. ومنه الكِتَابَةُ؛ لما فيها من ضَمِّ بَعْضِ الحروف إلى بَعْضٍ والكتيبة لانْضِمَامِ بعضهم إلى بعض. فسمي هذا العَقْدُ كِتَابَةً لما ينضم فيه النَّجْمُ إلى النَّجْمِ. وقيل: سميت كِتَابَةَ؛ لأنها تُوَثَّقُ بالكِتَابَةِ من حيث إنها مُؤَجَّلَةٌ مُنَجَّمَةٌ، وما يدخله الأَجَلُ يُسْتَوْثَقُ بالكتابة. ولذلك قال تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] قالوا: وعَقْدُ الكِتَابَةِ خَارجٌ عن قِيَاسِ المُعَامَلَاتِ من جِهَةِ أنها دائرة ¬
بين السَّيِّدِ وعَبْدِهِ، وأن العِوَضَيْن للسيد، وأن المُكَاتَبَ على رُتْبَةٍ متوسطة بين الرِّقِّ والحرية، فليس له اسْتِقْلَالُ الأَحْرَارِ، ولا عَجْزُ المماليك، ولذلك تكون تَصَرُّفَاتُهُ مُتَرَدِّدَةً بين الاسْتِقْلَالِ ونَقِيضِهِ، ولكن الحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إليها، فإن السيد قد لا تسمح نَفْسُهُ بالعِتْقِ مَجَّاناً والعبد [قد يستمر] (¬1) لِلْكَسْبِ استمراره إذا علق عتقه بالتحصيل والأداء، فاحتمل الشَّرْع فِيه ما لم يحتمل في غيره، كما احتمل [الجُعَالة] (¬2) في رِبْحِ القِرَاصِ، وعمل الجُعَالَةِ. والأصل فيه الإِجْمَاعُ. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] وما روي من أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أَعَانَ غَارِماً أَوْ غَازِياً أَوْ مُكَاتَباً في كِتَابَتِهِ أَظَلَّهُ اللهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ" (¬3). وأنه قال: "المُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ". ولا يجب على السيد أن يكاتب عبده بحال، كما لا يجب أن يدبر عبده وأن يشتري قريبه وعن رواية صَاحِب "التقريب" قول: إن الكِتَابَةَ وَاجِبَةٌ إن طلبها العبد؛ لقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] والمذهب الأَوَّلُ، وإلاَّ بَطَلَ أَثَرُ المِلْكِ، واحتكم المَمَالِيك على المالكين نعم تُسْتَحَبُّ الإجابة إذا طَلَبَهَا العَبْدُ إذا كان أَمِيناً قادراً على الكَسْبِ، وبهما فَسَّرَ الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- "الخير" في قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]. واعتبرت القُدْرَةُ على الكَسْبِ لِيتمكن من تَحْصِيلِ ما يؤديه، والأَمَانَة، لئلا يضيع ما يحصله ويصرفه إلى السيد فَيُعْتَقُ، فإن فُقِدَ الشرطان معاً لم تُسْتَحَبَّ الكتابة؛ لأنه يقوى رجاء العِتْقِ بها، وقد يجزم بالاستقلال أولاً (¬4) ويعجز نفسه آخراً، ولكنها لا تُكْرَهُ فَعَسَاهَا تُفْضِي إلى العِتْقِ. وقال أحمد: تُكْرَهُ، وبه قال أبو الحُسَيْنِ بْنُ القَطَّانِ (¬5). وإن فُقِدَتِ الأَمَانَةُ، وقدر على الكَسْبِ لم تسْتَحَبَّ أيضاً؛ لأنه لا يوثق به. وِفي "الكافي" للروياني وجه: أنها تُسْتَحَبُّ، ولكن الاسْتِحْبَابَ هاهنا دون ¬
أركانها
الاسْتِحْبَاب فيما إذا اجتمع الوَصْفَانِ. وحكاه القاضي ابْنُ كَجٍّ أيضاً، فيجوز أن يُعَلَمَ لذلك قوله في الكتاب "لم تستحب" بالواو. وإن لم يَقْدِرْ على الكَسْبِ، ولكن كان أَمِيناً ففي الاسْتِحْبَابِ وجهان: مَذْكُورَانِ في الكتاب: أحدهما: يُسْتَحَبُّ؛ لأنه إذا عرفت أَمَانَتُهُ أُعِينَ بِالصَّدَقَاتِ فيعتق (¬1). وأظهرهما: المنع، لِتَعَذُّرِ رَجَاءِ العتق بما لا يتوظف ولا يوثق به. وإذا طلب السَّيِّدَ الكِتَابَةَ لم يجبر العَبْدُ عليه. وروى القاضي ابْنُ كَجٍّ أن عند مالك الجَبْرَ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَهَا أَرْكَانٌ وَأَحْكَامٌ النَّظَرُ الأَوَّلُ فِي أَرْكَانِهَا وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الأَوَّلُ؛ الصِّيغَةُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: كَاتَبْتُكَ عَلَى أَلْفٍ فِي نَجْمَيْنِ فَصَاعِدَاً إِنْ أَدَّيْتَهُ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَإنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّعْلِيقَ وَنَوَى كَفَى، وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ لَفْظِ الكِتَابَة دُونَ صَرِيحِ التَّعْلِيقِ أَوْ نِيَّتِهِ، وَلَوْ قَالَ: أَنتَ حُرٌّ عَلَى أَلفٍ فَقَبِلَ عُتِقَ في الحَالِ وَالأَلْفُ في ذِمَّتِهِ، وَلَوْ قَالَ إِنْ أَعْطَيْتَنِي أَلْفاً فَأَنْتَ حُرٌ فَأَعْطَى مِنْ مَالِ غَيْرِهِ إِذْ لَا مَالَ لَهُ هَلْ يُعْتَقُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، فَإنْ قُلْنَا يُعْتَقُ فَهَلْ يُرْجَعُ إِلَى قِيمَةِ الرَّقْبةِ وَيَتْبَعُهُ الكَسْبُ كَمَا فِي الكِتَابَةِ الفَاسِدَةِ أَوْ هُوَ تَعْلِيقٌ مَحْضٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلَوْ بَاعَ العَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ صَحَّ وَلَهُ الوَلَاءُ، وَقِيلَ: لَا وَلَاءَ لَهُ أَصْلاً لِأَنَّهُ عُتِقَ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: عَدّ أَركان الكتابة أَرْبَعَةٌ: أحدهما: الصِّيغَةُ؛ وهي أن يقول لِعَبْدِهِ: كَاتَبْتُكَ على أَلْفِ مثلاً تؤديه إِلَيَّ في نَجْمَيْنِ أو أكثر، فهذا أديت فأنت حُرٌّ. فيقول العبد: قَبِلْتُ (¬2) ولو لم يصرح بِتَعْلِيقِ الحرية بالأداء، ولكن نَوَاهُ بقلبه: كاتبتك على كذا، صَحَّتِ الكتابة أيضاً، وإن لم يُصَرِّحْ بالتعليق ولا نَوَاهُ لم تَصِحَّ الكتابة، ولم يحصل العِتْقُ. ¬
ومن الأصحاب من خَرَّجَ من التدبير قَوْلًا: أن لفظ "الكتابة" صريح مُغْنٍ عن التَّصْرِيحِ بالتعليق وَنِيَّتِهِ. وقد ذكرنا في التدبير. وَلْيُعَلَمْ قوله في الكتاب: "ولا يكفي مجرد لفظ الكتابة دون صريح [التعليق] (¬1) ونيته" مع الواو بالحاء والألف؛ لأنه صريح عندهما، ووراء هذا شيئان: أحدهما: عن أبي إِسْحَاقَ أنه إن كان الرَّجُلُ فَقِيهاً صَحَّتْ كِتَابَتُهُ لمجرد اللفظ، وإلاَّ فَلاَ بُدَّ من التعليق أو نِيَّتِهِ. وفي "تَعْلِيقَةِ الشيخ أبي حَامِدٍ" بِنَاءُ هذا التفصيل على الفَرْقِ بين التدبير والكتابة بأن التدبير مَشْهُورٌ عند الخَوَاصِّ والعَوَامِّ، والكتابة لا يعرفها إلاَّ الخَوَاصُّ، وقد سَبَقَ هذا في "التَّدْبِيرِ"، وذكر أن أبا إسْحَاقَ قال على هذا: لو كان الرَّجُلُ حَدِيثَ عَهْدٍ بالإسلام، أو جَاهِلاً بالأحكام لا يعرف التدبير، لا يَنْعَقِدُ تدبيره بمجرد لفظ التدبير حتى يُضَمَّ إليه نِيَّتِهِ أو زِيَادَةُ لفظ. والثاني: حكى الصَّيدَلاَنِيُّ عن بعض الأَصْحَاب إذا ذكر ما تتميز به الكتابة عن المُخَارَجَةِ كفى مثل أن يقول: تعاملني أو أَضْمَنُ لكَ أَرْشَ الجِنَايَةِ، أو تستحق مني الإيتاء، أو من الناس سَهْمَ الرِّقَاب، كفى ذلك ولا حَاجَةَ إلى تَعْلِيقِ الحرية بالأَدَاءِ، ويُؤَيِّدُهُ ما ذكره الإِمَامُ أن قوله ها هنا: "إذا أديت فأنت حر"؛ ليس المَقْصُودُ منه التَّعْلِيقُ على الحقيقة، وإنما هو نُطْقٌ بمضمون العقد على الغالب والغَرَضُ كله (¬2) إِزَالَة التَّرَدُّدِ في لفظ "الكتابة". [ولذلك قد] (¬3) يحصل العِتْقُ بغَيْرِ الأَدَاءِ ويكتفي بالنية [من غير لفظ التعليق، ولو كان التعليق مقصوداً لبعد حصوله بالنية] (¬4) ولا يكفي قوله: كَاتَبْتُكَ بحالٍ، كما إذا قال: بِعْتُكَ كذا، ولم يذكر العِوَضَ. ثم في الفصل مَسْأَلَتَانِ: إحداهما: إذا قال: أنت حر على أَلْفٍ، فقبل العَبْدُ، عتق في الحال، ويثبت الألف في ذِمَّتِهِ، وهو كما لو قال لِزَوْجَتِهِ: أنت طَالِقٌ على ألف فَقِبَلَتْهُ. ولو قال: إن أعطيتني ألفاً أو إن أَدَّيت إليَّ أَلْفاً فَأَنْت حر فلا يمكنه أن يعطي مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، فإنه لا يملك شَيْئاً، فهو كما لو قال لِزَوْجَتِهِ: إن أَعْطَيْتنِي ألفاً فَأَنْتِ طَالِقٌ، فأتت بألف مَغْصُوبٍ. وقد ذكرنا في "الخُلْعِ" وجهين في وُقُوعِ الطلاق، والأظهر أنه لا يَقَعُ، ففي ¬
حُصُولِ العِتْقِ هاهنا إذا أعطى من مَالِ غَيْرِهِ مِثْلُ ذلك الخِلاَفِ فإن فَرَّعْنَا على أنه يعتقُ، فعن الشيخ أبي عَلِيٍّ رِوَايَةُ وَجْهَيْنِ في "شرح التلخيص" في أن سَبِيلَ هذه المُعَامَلَةِ سَبِيلُ الكتابة الفاسدة، أو هي تَعْلِيقُ مَحْضٌ: أحدهما: أنها كالكِتَابَةِ الفَاسِدَةِ، حتى يَرُدَّ السيد ما أخذ، ويرجع على العَبْدِ بقيمة رَقَبَتِهِ حتى يتبعه [الكسب] (¬1) والأولاد الحاصلة بعد التَّعْلِيقِ. والثاني: أنه لَيْسَ لها حُكْمُ الكتابة الفَاسِدَةِ وعلى هذا فَوَجْهَانِ: أحدهما: أنه يَرْجِعُ على العبد بقيمة رَقَبَتِهِ. كما أنه إذا قال لِزَوْجَتِهِ: إن أَعْطَيْتنِي ألْفاً،، فأعطته ألفاً مَغْصُوباً، وقلنا بوُقُوعِ الطَّلاَقِ، فإنه يرجع عليها. والثاني: أنه لا رُجُوعَ له، والذي جرى مَحْضُ تَعْلِيقٍ، ويخالف الزوجة، فإنها أَهْلُ الْتِزَام وَقْت المُخَاطَبَةِ، والعَبْدُ ليس أَهْلاً له. قال في "الوسيط": الظاهر أنه لا رُجُوعَ لِلسَّيِّدِ بالقيمة، وأنه لا يتبعه [الأكساب] (¬2) والوَلَدُ. الثانية: إذا قال لِعَبْدِهِ: بِعْتُ منك نَفْسَكَ بكذا، فقال: اشتريت، أو قال العَبْدُ: بعْنِي نفسي بكذا فقال: بِعْتُ. صَحَّ البَيْعُ، وثبت المَالُ في ذِمَّتِهِ، وعتقَ في الحال، كما لَو أعْتَقَهُ على مَالٍ. هذا ظاهر المَذْهَبِ. وعن نقل الربيع، أو تَخْرِيجِهِ قَوْلٌ: أنه لا يَصِحُّ البيع؛ لأن السيد لا يُبَايعُ عَبْدَهُ ألا ترى أنه لا يبيع منه مَالاً آخر، وأيضاً فإن البَيْعَ لإِثْبَاتِ المِلْكِ، وهو لا يملك نَفْسَهُ واختلفوا فيه؛ فمن الأصْحَابِ مَنْ أَثبَتَ هذا قَوْلاً آخر، [منهم] (¬3) أبو حامد القَاضِي، والشيخ، ومنهم مَنْ جَعَلَهُ من [كيس الربيع] (¬4)، وقَطَعَ بالأول، ويحكى ذلك عن أبي إِسْحَاقَ، وابن أبي هُرَيْرَةَ. إذا قلنا بِصِحَّةِ البَيْعِ، وحُصُولِ العِتْقِ، فللسيد الوَلاَءُ عليه كما لو أَعْتَقَهُ على مَالٍ. وفيه وجه آخر مَذْكُورٌ من قَبْلُ. ولو أَقَرَّ السَّيِّدُ بأنه بَاعَ منه نَفْسَهُ، وأنكر العَبْدُ، عتق العَبْدُ بإقرار السيد، وحَلَفَ العَبْدُ أنه لم يشتر ولا شَيْءَ عليه. ولو قال: بعْتُكَ نَفْسُكَ بهذه العَيْنِ، أو بِخَمْرٍ، أو خِنْزِيرٍ فإن صَحَّحْنَا بَيعَهُ منه [وأَثْبَتْنَا] (¬5) الوَلَاءَ للسيد، فيعتق (¬6)، وعلى العبد قِيمَةُ رَقَبَتِهِ؛ كما لو قال: أعتقتك على ¬
العوض
خَمْرٍ، أو خِنْزِيرٍ. وإن قلنا: لا وَلاَءَ عليه فلا يَصِحُّ ولا يعتقُ، كما لو باعه من أَجْنَبِىٍّ بِخَمْرٍ، أو خنزير. ولو قال: وَهَبْتُ منك نَفْسَكَ، أو ملكتك نَفْسَكَ. فقبل عتق (¬1). وعند أبي حَنِيْفَةَ: يُعْتَقُ بلا قَبُولٍ. ولو أوصى له بِرَقَبَتِهِ، فإذا قَبِلَ بعد الموت عتقَ. واعلم أن الإِعْتَاقَ على عِوَضٍ وَبيْع العَبْد من نفسه يُشَارِكَانِ الكِتَابَةَ في أن كُلَّ واحِدٍ منهما يَتَضَمَّنُ إعْتَاقاً بعوض [ويفارقانها] (¬2) في الشروط والأحكام وهما عَقْدَانِ برأسهما. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الثَّانِي: العِوَضُ وَشُرُوطُهُ أَرْبَعَةْ: (الأَوَّلُ) أَنْ يَكُونَ دَيْناً إِذْ لَوْ كَانَ عَيْناً لَكانَ مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ إِذ لاَ مِلْكَ لَهُ، الثَّانِي الأَجَلُ فَلاَ تَصِحُّ الكِتَابَةُ الحَالَّةُ لِأَنَّهُ يَعْجَزُ عَقِيبَ العَقْدِ إِذْ لاَ بُدَّ مِنْ لَحْظَةٍ فِي الاكْتِسَابِ إلاَّ أَنْ يَكْونَ نِصْفُهُ حُرّاً فَيَصِحَّ كِتَابَتُهُ بِغَيْرِ أَجَلٍ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَلَوْ بَاعَ مِنَ المُفْلِسِ بِغَيْرِ أَجَلٍ بِثَمَنٍ يَزِيدُ عَلَى قِيمَةِ المِثْلِ فَيَعْجَزُ عَنْهُ وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ صِحَّتُهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: أحد شروط العِوَضِ في الكِتَابَةِ أن يكون دَيْناً فَيَلْتَزِمَهُ في الذِّمَّةِ، ثم يحصله فَيُؤَدِّيه. وأما الأَعْيَانُ فإنه لا يَمْلِكُهَا حتى يُورِدَ العَقْدَ عليها. والثاني: أن يكون مُؤَجَّلاً، ووجه اشْتِرَاطِ التَّأْجِيلِ بأمرين: أحدهما: اتباع السَّلَفِ؛ فإنهم لم يَعْقِدُوا الكِتَابَةَ إلاَّ على عِوَضٍ مُؤَجَّلٍ. والثاني: أن على تقدير الحُلُولِ تَتَوَجَّهُ المُطَالَبَةُ في الحَالِ، فهو عَاجِزٌ من الأَدَاءِ حينئذ، فيكون كالسَّلَمِ في شَيْء لا يوجد عند المَحَلِّ. واعْتُرِضَ على المعنى الثَّانِي؛ بأنه قد يُوصِي له بِمَالٍ لو قبل الكِتَابَةَ، ويَمُوتُ المُوصِي قبل عَقْدِ الكِتَابَةِ. أو [يهب] (¬3) منه عَقِيبَ العَقْدِ، فلا يتحقق العَجْزُ؟ وأجيب عنه بأن نقول: الوَصِيَّةُ والهِبَةُ لا بد وأن تَتَأَخَّرَ عن قبول (¬4) الكتابة، فيكون العِوَضُ لاَزِماً قبل القُدْرَةِ والتَّمَكُّنِ، وقد لا يَتَيَسَّرُ القَبُولُ. ¬
واعْتُرِضَ أيضاً بأنه لو جَرَى عَقْدُ الكتابة على قَدْرٍ من المِلْحِ وهما على مَمْلَحَةٍ، فيمكنه تَسْلِيمُ المِلْحِ عَقِيبَ عَقْدِ الكتابة وأُجِيبَ عنه بأنه لا يَمْلِكُ المِلْحَ ما لم يَأْخُذْهُ، والأخذ يَتَأَخَّرُ عن الكتابة، وقد يَعُوقُ عنه عَائِقٌ، ولو ملك شِقْصَاً من عَبْدِ بَاقِيهِ حُرٌّ [فكاتب مالاً] (¬1) يَمْلِكُهُ منه حالاً، ففيه وجهان: أظهرهما: المَنْعُ؛ اتِّبَاعاً لما جَرَى عليه الأَوَّلُونَ. والثاني: أنه يجوز؛ لِأَنَّهُ قد يَمْلِكُ [ببعضه] (¬2) الحُرِّ مَا يُؤَدِّيهِ، فلا يتحقق العَجْزُ في الحال، ويصح البَيْعُ من المُعْسِرِ؛ لأن الحُرِّيَّةَ مَظِنَّةُ القدرة، وإن لم يَمْلِك شَيْئاً آخَرَ، فإنه يقدر على أَدَاءِ الثَّمَنِ من المَبِيعِ، فإذا زَادَ الثَّمَنُ على قيمة المَبِيعِ، فالمَشْهُورُ الصِّحَّةُ أيضاً؛ لأنه قد يَجِدُ زبوناً يشتريه بقَدْرِ الثمن. وعن رِوَايَةِ الشيخ أبي مُحَمَّد وَجْهٌ: أنه لا يَصِحُّ البيع والحالة هذه. وذكر القاضي ابْنُ كَجٍّ نَحْواً من هذا على سبيل الاحتمال، فقال: متى اشْتَرَى شيئاً في ذِمَّتِهِ، على أن يُؤَدِّيَهُ في الحال، ولم يقدر على ذلك، فلا يبعد أن يَبْطُلَ. وعن القاضي [الحُسين] (¬3) ذِكْرُ وَجْهَيْنِ، فيما إذا أَسْلَمَ إلى المكاتب عَقِيبَ عَقْدِ الكتابة، ووجه الجَوَازِ [تقدرته] (¬4) برأس المال، والخِلاَفُ قَرِيبٌ من الخلاف في البَيْع من المعسر، والبَيْعُ أَوْلَى بالصِّحَّةِ؛ لأن الثَّمَنَ يحتمل ما لا يَحْتَمِلُهُ المسلم فيه؛ ألا ترى أنه لا يَجُوزُ الاعْتِيَاضُ عنه وفي الاعْتيَاضِ عن الثمن خِلاَفٌ. وقوله في الكتاب: "ولو بَاعَ من المُفْلِسِ"، المراد من المُفْلِسِ هاهنا المُعْسِرُ الذي لا شَيْءَ له دُونَ المَحْجُورِ عليه لِحَقِّ الغُرَمَاءِ. واعلم أنه يَلْزَمُ من اشْتِرَاطِ التأجيل اشْتِرَاطُ [الدَّيْنِيَّةِ] (¬5)؛ لأن الأَعْيَانَ لا تقبل الأجل، فكان بسبيل من أن يستغنى عن ذِكْرِ الشرط الأول بذكر الشرط الثاني. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثُ: أن يُنَجِّمَ نَجْمَيْنِ فَصَاعِدَاً؛ آتِّبَاعاً لِلسَّلَفِ، وَيَجُوزُ لَوْ كَاتَبَ عَلَى خِدْمَةِ شَهْرٍ وَدِينَارٍ بَعْدَ الْعَقْدِ بِيَوْمٍ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تُسْتَحَقُّ عَقِيبَ الْعَصْرِ، وَإِنَّمَا التَّأَخُّرُ بِالتَّوْفِيَةِ، وَلاَ يَضُرُّ الْحُلُولُ فِيهِ؛ لِاِتِّصَالِ الْقُدْرَةِ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى خِدْمَةِ شَهْرَيْنِ؛ لِيَكُونَ كُلُّ شَهْرٍ نَجْماً، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مُسْتَحَقٌّ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَلَوْ أَضَافَ اسْتِحْقَاقَ الشَّهْرِ الثَّانِي إِلَى الشَّهْرِ الثَّانِي، فَوَجْهَانِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى أَنْ يَخْدُمَهُ شَهْراً، عَتَقَ فِي ¬
الْحَالِ، وَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ، فَرَجَعَ إلى قِيمَةِ المَنْفَعَةِ أَوْ قِيمَةِ الرُّتْبَةِ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ؛ كَمَا فِي بَدَلِ الخُلْعِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: من شروط العِوَضِ في الكتابة "التَّنْجْيمُ" نَجْمَيْنِ فَصَاعِداً. وقال أبو حنيفة ومالك: تَصحُّ الكِتَابَةُ على نَجْمٍ واحد لنا: أنه المَأْثُور عن الصَّحْابَةِ -رضي الله عنهم- فمن [بعدهم] (¬1) عَمَلاً وقَوْلاً. ويروى عن عُثْمَانَ -رضي الله عنه- أنه غَضِبَ على عَبْدٍ، فقال: لَأُعَاقِبَنَّكَ، وكاتبنك على نَجْمَيْنِ (¬2)، وفيه إِشْعَارٌ بأنه الغاية في التَّضْييقِ. وعن عَلِيٍّ -كَرَّمَ الله وَجْهَهُ- أنه قال: الكِتَابَةُ على نَجْمَيْنِ (¬3) وقال [الماسرجسي] (¬4): رأيت أبا إِسْحَاقَ في مَجْلِسِ النَّظَرِ قَرَّرَ ذلك، فقال: كانت الصحابة -رضي الله عنهم- يُسَارِعُونَ إلى القُرُبَاتِ والطَّاعَاتِ، فلو جازت الكِتَابَةُ على نَجْمٍ واحد لَبَادَرُوا إليها. وعن ابن سُرَيْجٍ: الاحتجاج بما قَدَّمْنَا أن الكِتَابَةَ مُشْتَقَّةٌ من ضَمِّ النُّجُومِ بَعْضِهَا إلى بَعْضٍ، وأقل ما يحصل به الضَّمُّ نَجْمَانِ، والمَعْنَى فيه: أن الكتابة عَقْدُ إِرْفَاق، ومن تَتِمَّةِ الإِرْفَاقِ التَّنْجِيمُ، ولذلك ضُرِبَتِ الدِّيَةُ على العَاقِلَةِ مُؤَجَّلَةَ مُنَجَّمَةً [لِيَتَيَسَّرَ] (¬5) عليهم الأَدَاءُ. ومَنْ بعضه حُرٌّ، وبعضه رَقِيقٌ؛ هل يشترط في كِتَابَةِ الرقيق منه التَّنْجِيمُ، وتستثنى هذه الصورة؟ فيه وجهان كالوَجْهَيْنِ في اشتراط التَّأْجِيلِ فيها، وهل يجوز "أن يُكاتبَ على مَالٍ كَثِيرٍ إلى نَجْمَيْنِ طويل وقصير مع شَرْطِ أَدَاءِ الأكثر في النَّجْمِ الأقصر؟ فيه وجهان: أظهرهما: نعم، لِتَحَقُّقِ الإمْكَانِ، كما لو أسلم إلى مُعْسِرٍ في مال كثير. والثاني: المَنْعُ؛ لأن ما يندر الاقْتدَارُ عليه يلحق في المعاملات بالمعجوز عنه؛ ¬
ألا تَرَى أنه يَبْطُلُ السَّلَمُ فيما يَعِزُّ وُجُودُهُ، كما يَبْطُلُ فيما [يُسْتَيْقَنُ] (¬1) عَدَمُهُ، والوَجْهَانِ ظاهران على طَرِيقَةِ من يَقُولُ: يشترط التَّأْجِيلُ في الكتابة لتحصل القُدْرَةُ على الأَدَاءِ. قال الإِمام: ويمكن إِجْرَاؤُهُمَا مع الاعْتِمَادِ على اتباع الأولين، فعلى أحد الوَجْهَيْنِ يجوز لِحُصُولِ صُورَةِ التأجيل والتَّنْجِيم. وعلى الثاني: لا يَجُوزُ، فإنا وإن اتَّبَعْنَا، فلا [يتكرر] (¬2) منهم معنى المُوَاسَاةِ، وإذا بَعُدَ الإِمْكَانُ بَطَلَتْ المُوَاسَاةُ، وهذا يناظر اختلاف القول في إِلْحَاقِ المَحَارِم بالأَجْنَبِيَّاتِ فَي اللَّمْسِ النَّاقِصِ للطَّهَارَةِ. ثم في الفصل مسألتان: إحداهما: يجوز أن يُجْعَلَ عِوَضُ الكتابة مَنْفَعَةً؛ كَبِنَاءِ دار أو خِيَاطَةِ ثَوْبٍ، وخِدْمَةِ شَهْرٍ، كما يجوز أن تُجْعَلَ المنافع ثَمَناً وأُجْرَةً. وعن [مالك] (¬3) مَنْعُهُ، ولا يجوز أن يكتفي بِخِدْمَةِ شهر أو شهرين، أو سَنَةٍ عِوَضاً، وتقدر خِدْمَةُ كل عشرة أيام نَجْماً، أو خِدْمَةُ كل شهر من السَّنَةِ نَجْماً؛ لأن الجميع نَجْمٌ واحد، والمُطَالَبَةُ ثَابِتَةٌ به في الحال، إلاَّ أنه يوفى بِمُضِىِّ الزمان، ولو شرطا صَرِيحاً أن يكون خِدْمَةُ شهر نَجْماً، وخِدْمَةُ الشهر بعده نَجْماً آخر، فوجهان: أصحهما: وهو المَنْصُوصُ في "الأم"-: المَنْعُ؛ لأن مَنْفَعَةَ الشهر الثاني مُتَعَيِّنَةٌ، والمَنَافِعُ المتعلقة بِالأَعْيَانِ لا يجوز أن يشرط تأخيرها. الثاني: يجوز، واتِّصَالُ ابتداء الشَّهْرِ الثاني [بإنهاء] (¬4) الأول يُخْرِجُهُ عن أن يكون عَقْداً على المستقبل. وهذا كالخِلاَفِ في إجَارَةِ الدَّارِ السَّنَةَ القابلة، أو هو هو، فإن انْقَطَعَ مبتدأ المُدَّةِ الثانية عن مُنْقَرض (¬5) الأولى؛ كما لو كَاتَبَهُ على خِدْمَةِ شهر، وخِدْمَةِ شهر آخر بعد ذلك الشَّهْرِ بعشرة أيام لم يَجُرْ بلا خلاف. وينبغي أن تَتَّصِلَ الخِدْمَةُ وغيرها من المَنَافِعِ المتعلقة بالأَعْيَانِ بِعَقْدِ الكتابة ولا تَتَأَخَّرُ عنها. وهذا كما أن عين المَبِيعِ لا تقبل التَّأْجِيلَ، وتأخير التسليم. ولو كَاتَبَهُ في رَمَضَانَ على خِدْمَةِ شَوَّالٍ يجز (¬6)، ولو كاتبه على دِينَارٍ يُؤَدِّيهِ في آخِرِ الشَّهْرِ، وعلى خدمة شهر بعد ذلك لم يَجُزْ. ¬
وعن أبي حَنِيْفَةَ: تَجْوِيزُهُ. وأما المَنَافِعُ الملتزمة في الذِّمَّةِ؛ كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ معين، وبِنَاءِ جِدَارٍ موصوف، ودار مَوْصُوفَةٍ، فيجوز فيها التأجيل (¬1) ولو كَاتَبَهُ علي بناء دَارَيْنِ، وجعل لكل واحدة منهما وَقْتاً معلوماً صَحَّت الكِتَابَةُ. إذا تَقَرَّرَ ذلك، فلو قال: كَاتَبْتُكَ على خِدْمَةِ شهر من الآن، وعلى دِينَارٍ بعد انْقِضَاءِ الشهر بيوم أو شهر، جاز؛ لِحُصُولِ التأجيل والتَّنْجِيمِ. ولو قال: على خِدْمَةِ شهر، ودِينَارٍ عند انْقِضَاءِ الشهر، فظاهر كلام الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه- أنه يَجُوزُ، بل عن نَصِّهِ في "الأم" أنه إذا شرط الدينار بعد الشَّهْرِ، أو معه كان جائزاً. واختلف الأَصْحَابُ فيه على وجهين: وعن ابن سُرَيْجٍ [أن فيه قولين] (¬2): أحدهما: وبه قال أبو إِسْحَاقَ: لا يجوز لأن اسْتِحْقَاقَ الدِّينَارِ يَتَّصِلُ بالفَرَاغ من الخِدْمَةِ، فيصيران معاً كالنَّجْمِ الواحد، ويُحْكَى هذا عن اخْتِيَار أبي الطيب ابن سلمة، والطبري والقَاضِي أبي حَامِدٍ [وهؤلاء حملوا] (¬3) ظاهر كَلَامِ الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه- على ما إذا قال: ودينار بعد العَقْدِ بيوم أو شهر، وغَلَّطُوا الرّبِيعَ في رواية أو معه. وأظهرهما: وبه قال ابْنُ أبي هُرَيْرَةَ، واختاره الشَّيْخَانِ أبو حامد والقَفَّالُ-: الجَوَازُ؛ لأن المَنْفَعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ في الحال، والمدة لتقديرها والتَّوْفِية [بها] (¬4)، والدينار إنما يُسْتَحَقُّ المُطَالَبَةُ به عند انْقِضَاءِ الشهر، وإذا اختلف الاستحقاق حصل التَّنْجِيمُ. قالوا: ولا بَأْسَ بكون المَنْفَعَةِ حالة؛ لأن التَّأْجِيلَ يشترط لحصول القُدْرَةِ، وهو قادر على الاشْتِغَالِ بالخِدْمَةِ في الحال، بخلاف ما لو كَاتَبَ على دِينَارَيْنِ؛ أحدهما حال، والآخر مؤجل. وبهذا يَتَبَيَّنُ أن الأَجَلَ -وإن كان يُطْلَقُ اشْتِرَاطُهُ في عِوَضِ الكتابة- فليس ذلك بِشَرْطٍ في المَنْفَعَةِ التي تقدر (¬5) على الشروع في تَوْقِيتَهَا في الحال. ولو كَاتَبَهُ على خِدْمَةِ شَهْرٍ ودينار في أَثْنَاءِ الشهر، مثل أن يقول: ودينار بعد العَقْدِ بيوم، وهذه الصُّورَةُ هي المذكورة في الكتاب. ¬
فعن أبي الحُسَيْنِ بن القَطَّانِ القَطْعُ بالمَنْعِ، والظاهر إِجْرَاءُ الوجهين، والظاهر منهما الجَوَازُ، وهو المذكور في الكتاب، ويجوز أن يُعَلَّمَ قوله [في الكتاب] (¬1): "ويجوز لو كَاتَبَ على خِدْمَةِ شهر ودِينَارٍ بعد العقد بيوم" مع الواو بالميم؛ لما قَدَّمْنَا من مَذْهَب مالك. ولو قال: على خدمة شَهْرٍ من وَقْتِ العَقْدِ وعلى خياطة ثوب مَوْصُوفٍ بعد انقَضاء الشهر، فهو كما [لو] (¬2) قال: وعلى دينار بعد انْقِضَاءِ الشَّهْرِ. وذكر في "التهذيب" أنه لاَ بُدَّ من بَيَانِ العَمَلِ في الخدمة إذا كاتب (¬3) عليها. وقال ابن الصَّبَّاغِ: يكفي إِطْلاقُ الخِدْمَةِ (¬4)، نعم لو قال: على مَنْفَعَةِ شهر، فلا يجوز لاخْتِلافِ [المنافع] (¬5). وإذا كانت على الخِدْمَةِ والدِّينار، فَمَرِضَ في الشهر، وفَاتَتِ الخدمة انْفَسَخَتِ الكِتَابَةُ في قَدْرِ الخِدْمَةِ، وفي الباقي قيل: هو كما لو بَاعَ [عَبْدَيْنِ، فتلف] (¬6) أحدهما قبل القَبْضِ. ففي الباقي طريقان: أحدهما: القَطْعُ بِبَقَاءِ العَقْدِ فيه. والثاني: أن فيه قولين، وقيل: تبطل الكِتَابَةُ في الباقي بلا خلاف؛ لأن الكِتَابَةَ لا تَقِفُ على بعض العَبْدِ. وهذا ما حكاه القَاضِي أبو الطَّيِّبِ. المسألة الثانية: إذا قال لِعَبْدِهِ: أَعْتَقْتُكَ على أن تخدمني، أو على أن تَخْدُمَنِي أبداً، فَقَبِلَ العَبْدُ. عتقَ في الحال. ويرجع السَّيِّدُ عليه بقيمته؛ لأنه لم يعتقه مَجَّاناً. ولو قال: على أن تَخْدُمَنِي شَهْراً من الآن فَقَبِلَ عتق، وعليه الوَفَاءُ، فإن تَعَذَّرَ لِمَرَضٍ أو غيره، فرجع االسَّيِّدُ عليه بأجْرَة مِثْلِ الخدمة، وهي قيمة المَنْفَعَةِ، أو بقيمة العبد فيه قولان؛ كالقولين في الصَّدَاقِ، وبَذْلِ الخُلْعِ إذا تَلِفَا قَبْلَ القَبْضِ ولو قال: كَاتَبْتُكَ على أن تَخْدُمَنِي أبداً، فلا عِتْقَ. ولو قال: على أن تَخْدُمَنِي شَهْراً، فقبل وخدمه [شهراً] (¬7) عتِقَ، ويرجع السيد ¬
عليه بِقِيمَتِهِ، والعبد على السيد بأُجْرَةِ مِثْلِ الخدمة؛ لأنها كِتَابَةٌ فَاسِدَةٌ، وإن خدمه أَقَلَّ من شهر لم يعتق. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرَّابعُ: إِعْلاَمُ الْقَدْرِ وَالأَجَلِ وَالنَّجْمِ وَتَمْييزِ مَحَلِّ كُلِّ نَجْمٍ، فَلَوْ كَاتَبَ عَلَى مِائَةٍ يُؤَدِّيَهَا فِي عَشْرِ سِنِينَ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَحَلُّ كُلِّ نَجْمٍ، وَلَوْ شَرَطَ في الكِتَابَةِ أَنْ يَشْتَرِيَ فَسَدَ، وَلَوْ كَاتَبَهُ وَبَاعَهُ شَيئًا عَلَى عِوَضٍ واحِدٍ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَسَدَ البَيْعُ، وَفِي الكِتَابَةِ قَوْلا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَلَوْ كَاتَبَ ثَلاَثَةَ أَعْبُدٍ عَلَى أَلْفٍ في صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ فَالنَّصُّ الصِّحَّةُ، وَفِي شِرُاءِ ثَلاَثةِ أَعْبُدٍ مِنْ ثَلاَثَةِ مُلاَّكٍ فَالنَّصُّ الفَسَادُ، وَفِي خُلْعِ نِسْوَةٍ وَنِكَاحِهِنَّ دُفْعَةً وَاحِدَةً بِعِوَضٍ واحِدٍ نَصَّ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقِيلَ فِي الكُلِّ قَوْلَانِ لِكَوْنِ العِوَضِ مَعْلْومَ الجُمْلَةِ غَيْرَ مَعْلْومَ التَّفْصِيلِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه ثلاث مَسَائِلَ: إحداها: لاَ بُدَّ من إِعْلَامِ قدر العِوَضِ وصِفَتِهِ وأَقْدَارِ الآجَالِ وما يُؤَدِّي عند حُلُولِ كُلِّ أَجَلٍ؛ فإن كَاتَبَ على شيء من [الأثمان] (¬1) كَفَى الإطْلَاقُ، إن كان في البَلَدِ نَقْدٌ واحد أو نقود، والغَائِبُ فيها (¬2) واحد، وإلاَّ فَلاَ بُدَّ من التبيين والتمييز. وإن كاتب على عِوَضٍ وَصِفَةٍ بالصفات المُعْتَبَرَةِ في السَّلَمِ. وعند أبي حَنِيْفَةَ وأحمد: يَجُوزُ الإِطْلاَقُ، ويحمل العبد المطلق على عَبْدٍ وَسَطٍ. ولو كاتب على عَيْنٍ وصفها على أن يُؤَدِّيَ نِصْفَهَا بعد انقضاء سَنَةٍ، والنِّصْفَ الآخَرَ بعد انْقِضَاءِ سنتين. لم يصح؛ لأنه إذا سَلَّمَ النِّصْفَ في السَّنَةِ الأولى تعين النصف الثاني [في الثانية] (¬3)، والمعين لا يجوز شَرْطُ الأَجَلِ فيه، ولا يُشْتَرَطُ تَسَاوِي الآجَالِ، ولا تساوي المَقَادِيرِ المُؤَدَّاةِ عند حُلُولِ الآجَالِ. وإذا كَاتَبَهُ على مِائَةٍ، على أن يؤدي نِصْفَهَا، أو ثلثها عند انقضاء خَمْسِ سنين، والباقي عند تَمَامِ العَشْرِ، أو على أن يُؤَدِّيَ عند تَمَامِ كُلِّ سَنَةٍ عَشْرَةً. جَازَ. ولو قال: تُؤَدِّيَ بعضها عند انْقِضَاءِ نِصْفَ المُدَّةِ، والبَعْضَ عند تَمَامِهَا، لم يُجُزْ. ولو قال: تُؤَدِّيَها في عشر سِنِينَ، لم يجز. وَوَجَّهُوهُ بمعنيين: أحدهما: أنه كِتَابَةٌ إلى أَجَلٍ واحد. والثاني: أن (من) لا تَقْتَضِي إلا الظَّرْفِيَّةَ، ولم يبين أنه يؤديها دُفْعَةً وَاحِدَةً، أو في دُفْعَاتٍ، ولا أنه يؤدي في أَوَّلها، أو وَسَطِهَا، أو آخرها. ¬
وفيه وجه: أنه يجوز ويُوَزَّعُ المَالُ على عَدَدِ السنين. ولو قال: في شَهْرِ كذا، أو في سَنَةِ كذا، فهو مَجْهُولٌ، أو يحمل على أَوَّلِ الشهر، وأول السَّنَةِ؟ فيه وجهان، كما ذكر في "السَّلَمِ" مثلها، وكذا لو قال: في يوم كذا. ولو قال: في وَسَطِ السَّنَةِ، فهو مَجْهُولٌ، أو يحمل على النِّصْفِ؛ لأنه الوَسَطُ في الحقيقة. حكى القاضي الرُّوَيانِيُّ في "الكافي" وجهين فيه. ولو قال: يُؤَدِّيَها إلى عَشْرِ سِنِينَ لم يَجُزْ؛ لأنه كتابة إلى أَجَلٍ واحد. ولو قال: كَاتَبْتُكَ على مِائَةٍ تُؤَدِّيَهَا إِلَيَّ في ثلاثة أشهر، قِسْطٌ كُلَّ شهر عند انْقِضَائِهِ؛ نقل القاضي ابْنُ كَجٍّ عن ابن سُرَيْجٍ أنه يجوز. وعن ابن هُرَيْرَةَ وغيره -رحمهم الله- المَنعُ إذا لم يعلم حصة كل شهر في الحال. وقوله في الكتاب: "إعلام القَدْرِ والأجل والنجم" كأنه يعني بالقَدْرِ جُمْلَةَ العِوَضِ وبـ"النجم" القَدْرَ المُؤَدِّيَ عند كل مَحَلّ، ويُشْبِهُ أن يقال: يكفي إِعْلامُ المؤدى عند كل محل، ويسهل فيه معرفة الجُمْلَةِ إذا أَرَادَهَا. و"النجم" في الأَصْلِ الوَقْتُ، يقال: كَانَتْ العَرَبُ لا يعرفون الحِسَابَ، ويَبْنُونَ أُمُورَهُمْ على طُلُوع النجوم والمَنَازِلِ. فيقول أحدهم: إذا طلع نَجْمُ الثُّرَيَّا أُدَّيت من حَقّك كذا [فسميت] (¬1) الأَوْقَاتُ نُجُوماً، ثم قد يسمى المؤدى في الوقت نَجْماً. فرعان: الأول: لو كاتب عَبْدَهُ على دِينَارٍ إلى شهر، ودِينَارَيْنِ إلى شهرين، على أنه إذا أَدَّى الدينار الأَوَّلَ عتق، ويؤدي الدينارين بعد العِتْقِ. فعن ابن سُرَيْجٍ: أن في صِحَّة الكتابة قَوْلَيْنِ، وهما عند بعضهم القولان في أن الصَّفْقَةَ إذا جَمَعَتْ بين عَقْدَيْنِ مختلفين؛ هل يُحْكَمُ بِصِحَّتِهَا؟ وعند بعضهم مُتَأَصِّلانِ، ويوجه البُطْلَانُ بأنه شَرَطَ ما يخالف قَضِيَّةَ الكتابة؛ لأن قَضِيَّتَهَا أن يعتقَ [بِأَدَاءِ] (¬2) جميع النجوم دون البَعْضِ. والصحة أنه لو كاتبه مُطْلقاً، وأَدَّى بَعْضَ المال، ثم أَعْتَقَهُ على أن يُؤَدِّيَ الباقي بعد العِتْقِ جاز، فكذا إذا شَرَطَهُ في الابتداء، كذلك نقله (¬3) ابن الصَّبَّاغ وغيره -رحمهم اللهُ-. ¬
الثاني: هل يُشْتَرَط أن يُعَيِّنَ مَوْضِعَ تَسْلِيمِ النجوم؟ ذكر القاضي ابْنُ كَجٍّ أن فيه الخِلاَفَ المذكور في "السَّلَمِ". وذكر خِلاَفاً في أنه إذا عَيَّنَ مَوْضِعاً، فَخَرِبَ ذلك المَوْضِعُ يسلمها في ذلك المَوْضِع، أو في أقرب المواضع إليه (¬1). فرع ثالث: إذا كَاتَبَ على مَالِ الغَيْرِ فَسَدَتِ الكِتَابَةُ خِلاَفاً لأبي حَنِيْفَةَ في الدَّرَاهِم والدنانير، بناءً على أنهما لا [يتعينان بالتعيين] (¬2). والمقصود من الاِشَارَةِ إليها المِقْدَارُ. ثم قال الصَّيْدَلاَنِيُّ: إذا أذن بالمال في أن يُعْطِيَهُ سَيِّده، فأعطاه حصل العِتْقُ، وإن أَدَّى بغير إِذْنِ المالك لا يحصل العِتْقُ، بخلاف ما إذا قال: إن أَدَّيْتَ هذا إِلَيَّ فأنت حُرٌّ، فإنه إذا أَدَّاهُ عتق، وإن كان مُسْتَحِقاً؛ لأن ذلك مَحْضُ تعليق، وهذه كتابة تَقْتَضِي التَّمْلِيكَ وإذا وجِدَ إِذْنُ المالك فقد وُجِدَ ما يقتضي الملك، لكنه يجب الرَّدُّ والرجوع إلى القيمة؛ لِفَسَادِ الكتابة على ما سنذكر إن شاء الله -تعالى- في أحكام الكتابة الفَاسِدَةِ. المسألة الثانية: إذا شرط في الكِتَابَةِ أن يَشْتَرِيَ العَبْدُ منه شيئاً، أو يَشْتَرِي هو من العَبْدِ. فَسَدَتِ الكتابة؛ لأنه شرط عَقْداً في عَقْدٍ. ولو كَاتَبَهُ وبَاعَهُ شَيْئاً على عِوَضٍ واحد، فإن قال: كَاتَبْتُكَ وبِعْتُ منك هذا الثَّوْبَ بمائة إلى شهرين؛ يُؤَدِّي منها خمسين عند الكتابة، أو قال: قبلتهما جميعاً؛ ففيه طريقان: أحدهما: وبه قال صاحب "الإفصاح": أنهما على القَوْلَيْنِ فيما إذا جمع في صَفْقَةٍ واحدة عَقْدَيْنِ مختلفي الحكم؛ ففي قول: يَصِحَّانِ. وفي آخر: يَبْطُلاَنِ. ¬
وأظهرهما -وهو المَذْكُورُ في الكتاب-: أن البَيْعَ بَاطِلٌ؛ [بتَقَدُّم] (¬1) أحد شِقَّيْهِ على مَصِيرِ العَبْدِ من أَهْلِ مُبَايعة السيد، وإذا بطل البَيْعُ، ففي صِحَّةِ الكتابة قَوْلاَنِ؛ لأنه جمع في الصَّفْقَةِ الواحدة بين مَا يَجُوزُ وبين ما لا يجوز، كما لو باع عَبْدَهُ وعَبْدَ غيره. فإن قلنا: تَصِحُّ الكِتَابَةُ، وهو الأَظْهَرُ، فتصح بجميع العِوَضِ في أَحَدِ القولين، وبِالقِسْطِ في أصحهما، فيوزع ما سَمَّاهُ على قيمة العَبْدِ، وقِيمَةِ الثوب فما يَخُصُّ العَبْدَ يلزمه في النَّجْمَيْنِ، فإذا أَدَّاهُ عتقَ. فإن قال: إنها فَاسِدَةٌ، فعليه أَدَاءُ الجميع؛ لِتَحْصُلَ الصفة، فيعتق ثم يَتَرَاجَعَانِ. قال الصَّيدَلاَنِيُّ: ويحتمل أن يخرج قَوْلٌ آخر، وهو أنَّه إذا أدَّى ما يَخُصُّ قِيمَتَهُ يعتق، ثم يَتَرَاجَعَانِ، وأدى الإمَامُ الطريقين على نَسَقٍ آخر مع زَيادَةٍ، فقال: يفسر البَيْعُ؛ لِسَبْقِ إيجَابِ البيع على تَمَامِ اَلكتابة. [وخرج] (¬2) بعضهم فيه وَجْهاً: أنَّه يَصِحُّ، كما إذا قال: اشتريت عَبْدَكَ هذا بِألْفٍ، ورَهَنْتُ داري بالألف، فقال المُخَاطب: بِعْتُ وارْتَهَنْتُ، فإن النَّصَّ صِحَّةُ الرَّهْنِ مع تَقَدُّمِ إيجابه على لُزُومِ الدَّيْنِ، إلاَّ أن الرَّهْنَ من مَصَالِحِ البيع، فاحتمل مزجه به، وما نحن فيه بِخِلاَفِهِ، فإن أفسدنا البَيْعَ، ففي صحة الكِتَابَةِ قَوْلا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وإن صَحَّحْنَاهُ فيتجه تَخْرِيجُهَا على القولين في الجمع بين عَبْدَيْنِ مختلفي الحكم، ولا يَجِيءُ هذا في الرَّهْنِ والبيع؛ لأن الرَّهْن تابعٌ للبيع، ولذلك يجوز شَرْطُهُ في البيع، ولا يجوز شَرْطُ البيع في الكتابة. الثالثة: إذا [كاتب] (¬3) ثلاثة أَعْبدٍ في صَفْقَةٍ واحدة، فقال: كاتبتكم على أَلْفٍ إلى نجمين [معينين] (¬4) فإذا أَدَّيْتُمْ فأنتم أَحْرَارٌ. فالنَّصُّ صِحَّةُ الكتابة، وإن اشترى ثَلاثةَ أَعْبُدٍ كل واحد منهم لواحد من مُلاَّكِهِمْ، فالحكاية عن النَّصِّ أن البيع بَاطِلٌ. ولو خَالَعَ نِسْوَةٌ على عِوَضٍ وَاحدٍ، أو نَكَحَ نِسْوَةً على صَدَاقٍ [واحد] (¬5) ففي صحة المُسَمَّى قولان نَصَّ عليهما، وقد سَبَقَ ذِكْرُ هذه الصور، وما [فيها] (¬6) من طُرُقِ الأصحاب -رحمهم الله تعالى- في "كتاب الصَّدَاقِ" وهي مُكَرَّرَةٌ هاهنا. التفريع: إن حكمنا بِفَسَادِ هذه الكِتَابَةِ، فلو أدوا المَالَ جميعه عتقُوا بحكم التَّعْلِيقِ، وإن أدَّى بعضهم (¬7) حِصَّتَهُ؛ فهل يُعْتَقُ؟ فيه وجهان أو قولان: المَنْسُوبُ إلى نَصِّهِ في "الإملاء" أنَّه يعتقُ، ووجه بأن العتق ¬
السيد
في الكتابة الفَاسِدَةِ مَحْمُولٌ على المُعَاوَضَةِ، ولذلك نقول بأن السَّيِّدَ والعبد يَتَرَاجَعَانِ على ما سيأتي. وقضية المُعَاوَضَةِ أن يعتق كل واحد منهم بأداء ما عليه. وأَقْيَسُهُمَا -وهو الذي صَحَّحَهُ القاضي ابْنُ كَجٍّ، والقَفَّالُ وغيرهما-: أنَّه لا يُعْتَقُ؛ لأن الصفقة (¬1) لم تكمل، فَأَشْبَهَ ما إذا قال: إذا دَخَلْتُمُ الدار، فأنتم أَحْرَارٌ، فدخل بعضهم لا يعتقُ، ثم إن عتقَ يرجع على السَّيِّدِ بما أَدَّى، ويرجع السَّيِّدُ عليه بقيمته، والاعتبار بقيمة يَوْمَ العتق؛ لأن سَلْطَنَةَ السَّيِّدِ باقية إلى وَقْتِ العتق [لتمكنه] (¬2) من فَسْخِ الكتابة الفَاسِدَةِ. وإن قلنا: إنها صَحِيحَةٌ، وهو الأَظْهَرُ، وبه قال أبو حَنِيْفَةَ ومالك، فَيُوَزَّع المَالُ المُسَمَّى على العَبِيدِ. وكيف يُوَزَّعُ؟ فيه قولان: أصحهما: وقَطَعَ به قَاطِعُونَ أنَّه يُوَزَّع على قيمتهم، فإذا كانت قِيمَةُ أحدهم مِائَةً، وقيمة الثاني ماثتان، وقيمة الثالث ثَلاَثُماثة، فعلى الأَوَّلِ سُدُسُ المسَمَّى، وعلى الثاني ثُلُثُهُ، وعلى الثالث نِصْفُهُ، والاعتبار بيوم الكتابة؛ لأن سَلْطَنَةَ السيد تَزُولُ يومئذ. والثاني: نقله الصَّيْدَلاَنِيُّ والقاضي الحسين وغيرهما -رحمهم الله- أنَّه يُوَزَّعُ على عَدَدِ رُؤُسِهِمْ، وأجرى هذا القول في عِوَضِ الخُلْعِ والصَّدَاقِ، وقد ذكرناه هناك. وذكر الإِمام: أنَّه [لو] (¬3) طرده طَارِدٌ على ضعفه في البيعَ لم يَبْعُدْ. وإن قَضِيَّةَ الحكم بصحة العُقُودِ كلها لارتفاع الجَهَالَةِ والتَّرَدُّدِ، واختلاف الطُّرُقِ إنما تجيء إذا حكمنا بالتَّوْزِيع على القِيَم؛ لأن ما على كل واحد منهم مَجْهُولَ عند العَقْدِ، ثم كل واحد من العبيد يُؤَدِّي ما عَليه إما على التَّفَاضُلِ أو التَّسَاوِي في النَّجْمَينِ، فإذا أَدَّى ما عليه عتقَ، ولم يتوقف عِتقُهُ على أَدَاءِ غيره، وإن مات بعضهم أو عَجَزَ، فهو رَقِيقٌ وغيره يُعْتَقُ بِأَدَاءِ ما عليه، ولا ينظر إلى أن السَّيِّدَ عَلَّقَ عِتْقَهُمْ بأداء جميعهم، حيث قال: فإذا أديتم، فأنتم أَحْرَار، ولأن الكِتَابَةَ الصحيحة يَغْلِبُ فيها حُكمُ المُعَاوَضَةِ والملك إذا أَبْرَأ السَّيِّدُ المُكَاتَبَ عُتِقَ، وإذا مات لم تَبْطُلِ الكتابة، بخلاف التَّعْلِيقَاتِ. وعن أبي حَنِيْفَةَ ومالك -رحمهما الله- أنَّه لا يُعْتَقُ بعضهم بأدَاءِ ما عليه، وإنما يُعْتَقُونَ معاً إذا أَدَّوْا جميع المال. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الثَّالِثُ: السَّيِّدُ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفاً (ح) أَهْلاً لِلتَّبَرُّعِ فَلاَ ¬
يَصِحُّ (ح م) كِتَابَةُ قَيِّمِ الطِّفْلِ وَلاَ كِتَابَةُ المَرِيضِ إِذَا لَمْ يَفِ بِهِ الثُّلُثُ، وَلَوْ كَاتَبَ في الصِّحَّةِ وَوَضَعَ النُّجُومَ فِي المَرَضِ اعْتَبَرْنَا خُرُوجَ الأَقَلِّ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّقَبةِ أَقَلَّ فَلَيْسَ لَهُمْ إِلاَّ ذَلِكَ لَوْ عَجَّزَ نَفْسَهُ، وَإِنْ كَانَتِ النُّجُومُ أَقَلَّ فَلَيْسَ لَهُمْ إلاَّ ذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِإِعْتَاقِهِ أَوْ وَضعَ النُّجُومُ أَقَلَّ فَلَيْسَ لَهُمْ إِلاَّ ذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِإعْتَاقِهِ أَوْ وَضَعَ النُّجُومُ عَنْهُ، وَلَوْ أَقَرَّ فِي المَرَضِ بِقَبْضِ نُجُومِ كِتَابَتِهِ فِي الصِّحَّةِ قُبِلَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يعتبر في السَّيِّدِ لتَصِحَّ الكِتَابَةُ شيئان: أحدهما: التكليف؛ فلا تَصِحُّ كتابة الصَّبِيِّ والمجنون بإِذْنِ الوَلِيِّ وبدون إِذْنِهِ، وكذا إعْتَافهُمَا على مال. وقال أبو حَنِيْفَةَ: تجوز كِتَابَةُ المميز بِإِذْنِ الوَليِّ. والثاني: أن الكتابة تَبَرُّعٌ، واحتجوا له بِوَجْهَيْنِ: أحدهما: أن المكاتب وكَسْبَهُ للسيد، فمقابلة أحدهما بالآخر تَزُولُ عن أحدهما بلا عِوَضٍ. واعترض عليه بأنه قد يكاتبه على أَضْعَافِ قيمته، [يبتدي الحر] (¬1) في الاكتساب ليوقع الحرية، ويعان من الصَّدَقَاتِ، ولولا الكِتَابَةُ لكان الأَمْرُ بخلافه. [وأجيب] (¬2)، بأنه قد يَتْلَفُ ما يَكْتَسِبُهُ، وما يأخذه من الصَّدَقَاتِ، ويعود إلى الرِّقِّ، فلا يحصل للسيد إلاَّ الرَّقَبَةُ وتفوت أكساب مدة الكتابة عليه. والثاني: أن المُكَاتَبَ إذا عُتِقَ كان وَلاَؤهُ للسَّيِّدِ كالعِتْقِ مَجَّاناً؛ ولو كان ما يأخذه عِوَضاً مُحَقَّقاً لَمَا كَانَ الوَلاءُ له، كما لو أَعْتَقَهُ على عِوَضٍ بَذَلَهُ غيره، ويَتَعَلَّقُ بكون الكتابة تَبَرُّعاً، أنَّه لا يجوز لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ أياً كان أو غيره أن يُكَاتِبَ عَبْدَهُمَا؛ لأنه ليس له التَّبَرُّعُ في مالهما، وكذلك لا يعتقُ عبدهما على مَالٍ، خلافاً لأبي حَنِيْفَةَ ومالك -رحمهما الله- ولأحمد فيها وفي العِتْقِ على مَالٍ. ولو أَدَّى العَبْدُ إلى الوَلِيِّ ما كاتبه عليه، لم يُعْتَقْ؛ لِبُطْلاَنِ التعليق. وكذا لا تَصِحُّ كتابة السَّفِيهِ المحجور عليه، ولا يحصل العِتْقُ بتسليم المال إليه لا في حَالِ الحَجْرِ، ولا بعد ارْتِفَاعِهِ. وعن الفوراني حِكَايَة خِلاَف فيما إذا أَسْلَمَ المَالَ إليه في حال الحَجْرِ، ثم رفع الحجر أنَّه هل يُعْتَقُ بالتسليم السابق. ¬
وإذا كاتب في مَرَضِ الموت اعتبرت قِيمَةُ العَبْدِ من الثلث، سواء كَاتَبَهُ بمثل قِيمَتِهِ، أو بما فوقها، أو بما دُونَهَا، وقد سبق ذِكْرُ هذا في "الوَصَايَا"، مع خلاف أبي حَنِيْفَةَ فيه، فإن كان يملك عند المَوْتِ مِثْلَي قيمته، صَحَّت الكتابة؛ لِخُرُوجِهِ من الثلث، وإن لم يملك شَيْئاً سِوَاهُ، وأَدَّى النُّجُومَ في حَيَاةِ السَّيِّدِ، فإن كاتبه على مِثْلَيْ قيمته، عُتِقَ كُلُّهُ؛ لأنه يبقى لِلْوَرَثَةِ مِثْلاَهُ. وإن كاتبه على مِثْلِ قيمته، عُتِقَ منه ثُلُثَاهُ؛ لأنه إذا أخذ مائة وقيمته مائة، فالجملة مائتان، فينفذ التَّبَرُّعُ في ثلث المائتين، وهو ثلث المائة، وبخلاَفِ ما إذا باع [نسيئة] في مَرَضِ الموت بثمن المِثْلِ، وأخذ الثمن، حيث يصِح البَيْعُ في الجميع؛ لأنه لو لم يبع لم يَحْصُلْ له الثَّمَنْ، وهاهنا لو لم يكاتب فحصلت له أكْسَابُهُ. وإذا كاتبه على مِثْلِ قيمته، وقَبَضَ نِصْفَ النُّجُوم، صَحَّت الكتابة في نصفه، وإن لم يُؤَدِّ النجوم حتى مات السَّيِّدُ، نُظِرَ إن لم يجز الورثة ما زاد على الثلث، فثلثه مُكَاتَبٌ، فإذا أَدَّى حِصَّتَهُ من النجوم عُتِقَ. وهل يُزَادُ في الكتابة بقدر نِصْفِ ما أدى، وهو سدس العَبْدِ إذا كانت النجوم مثل القيمة؟ فيه وجهان عن ابن سُرَيْجٍ: أظهرهما: وَيُنْسَبُ إلى النص لا؛ لأن الكتابة قد بطلت في الثُّلُثَيْنِ، فلا يعود. والثاني: نعم؛ كما لو ظَهَرَ للميت دَفِينٌ، أو نَصْب شَبَكَةٌ في الحياة، فيعقل بها صَيْدٌ بعد الموت، فإنه يُزَادُ في الكتابة. والوجهان كالوجهين المذكورين في "كتاب الوَصَايَا" فيما إذا باع [نسيئة]، ورد الورثة ما زاد على الثلث، وأجاز المشتري، هل يزاد ما يَصِحُّ البيع فيه بأداء ثُلُثِ الثمن. فإن قلنا: يزاد في الكتابة، وكان الأَدَاءُ بعد حلول النُّجُوم، فهل عليه حِصَّةُ السدس من النجوم في الحال، أو يُضْرَبُ له مِثلُ المُدَّةِ التي ضربها المَيِّتُ أَوَّلاً؟ [فيه] (¬1) وجهان [وهكذا] عَبَّرَ الصيدلاني وغيره عن الوَجْهِ الثاني. وقال في "التهذيب": هل يُمْهَلُ قَدْرَ الأجَلِ المضروب؟ فيه وجهان والوجهان] (¬2) مَبْنِيَّانِ على أن السيد إذا حَبَسَ المُكَاتَبَ مُدَّةً، هل يلزمه أن يُمْهِلَهُ من وقت حُلُولِ الأجل مِثْلَ تلك المدة؟ وِسياتي إن شاء الله -تعالى- الكَلاَمُ فيه. وإذا زيدت الكتابة بِقَدْرِ نِصْفِ الثلث، فإذا أدَّى نُجُومَهُ فيزاد نصف السدس، وهكذا يزاد [نصف ما] (¬3) يؤدي مَرَّةً بعد أخرى، إلى أن ينتهي إلى ما لا يقبل التَّنْصِيفَ. ¬
وإن قلنا: لا يُزَادُ في الكتابة، فالباقي قِنٌّ، ولا يخرج على الخلاف فيما إذا كاتب أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ من العَبْدِ [المشترك] (¬1) فإن ذاك ابْتِدَاءُ كِتَابَةٍ، وهاهنا [وردت] (¬2) الكِتَابَةُ على الجميع، ثم دَعَتِ الحَاجَةُ إلى الإِبْطَالِ في البعض. وحكى القاضي ابْنُ كَجٍّ عن بعض الأَصْحَاب أنَّه يخرج صِحَّة الكتابة في الثلث، على الخلاف في كِتَابَةِ أحَدِ الشريكين نَصِيبَهُ فإذا أَجاز الوَرَثَةُ الكِتَابَةَ في جميعه صَحَّتِ الكِتَابَةُ في جميعه، وإذا أعتق بأدَاءِ النُّجُوم، فَوَلاَءُ الجميع للمورث، إن جعلنا إجَازَتَهُم تَنْفِيذاً، وإن جَعَلْنَاهَا ابْتِدَاءَ عَطِيَّةٍ، فَوَلاَءُ الثلث للمورث، وَوَلاَءُ الثلثين لهم عَلى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، وإن أَجَازُوا في بعض الثلثين، فإن جَعَلْنَا إِجَازَتَهُمْ تَنْفِيذاً صَحَّتِ الإِجَازَةُ فيما أَجَازُوا، وحكم الباقي على ما بَيَّنَّاه. وإن جعلناه ابْتِدَاءَ عَطِيَّةٍ، فهو على الخِلاَفِ في تَبْعِيضِ الكتابة ويتبين بما ذكرنا أن قَوْلَهُ في الكتاب: "ولا كتابة المريض إذا لم يف به الثلث" ليس المُرَادُ منه أنها لا تَصِحُّ أَصْلاً، ولكن المراد أنها لا تَصِحُّ في جَمِيعِ العَبْدِ. ولو كان له عبدان مُتَسَاوِيَا القِيمَةِ لا مَالَ له سواهما، فكاتب في مَرَضِ موته أَحَدَهُمَا، وباع الآخَرَ نسيئة، نُظِرَ إن جعلت النُّجُومُ والثمن في حَيَاتِهِ، فالكتابة والبَيْعُ صَحِيحَانِ، وإن لم تحصل حتى مات السَّيِّدُ، ولم يجز الورثة ما زاد على الثلث صَحَّتِ الكِتَابَةُ في ثلث هذا، والبَيْعُ في ثلث هذا، فإذا حَصَلَتْ نجوم الثلث وثمن الثلث، فهل يُزَادُ في الكتابة والبيع؟ فيه الوجهان: إن قلنا: نعم؛ يزاد فيهما جَمِيعاً، وتصح الكتابةُ في نِصْفِ السدس، والبَيْعُ كذلك. وإن حصلت نُجُومُ الثلث، وثمن الثلث مَعاً صح كل واحد منهما من السدس. ثم في الفصل مسألتان: إحداهما: لو كاتب في الصِّحَّةِ، ثم أَبْرَأَهُ عن النجوم في المَرَضِ، أو قال: وضعت عنه النُّجُومَ، أو أعتقته، فإن خرج من الثلث عُتِقَ كله، وسَقَطَتْ عنه النُّجُومُ، وإلاَّ فإن لم يكن له مال سواه، فإن اختار العَجْزَ عُتِقَ ثلثه، ورُقَّ ثُلُثَاهُ وإن اختار بَقَاءَ الكِتَابَةِ؛ فإن كانت النُّجُومُ مِثْلَ القيمة، فأظهر الوجهين أنَّه يعتق ثلثه، وتبقى الكِتَابَةُ في الثلثين. والثاني: وبه قال أبو عَلِيِّ بْنُ أبي هُرَيْرَةَ، والطبري: أنَّه لا يُعْتَقُ ثلثه ما لم يُسَلِّم الثلثان لِلْوَرَثَةِ، إما بأداء نجوم الثلثين، أو بالعجز، وإن كان بين النُّجُومِ والقيمة ¬
[تفاوت] (¬1)، فيعتبر خرُوجُ الأَقَلِّ منهما من الثلث. وقد ذكرنا جَمِيعَ ذلك ووُجُوهَهُ بطرق الحِسَاب في "الوَصَايَا" واعلم أنَّه ينظر في الخروج من الثُّلُثِ إذا أعتقه في المَرَض، أو أَبْرَأَهُ عن النجوم في قيمة العَبْدِ، وفي النجوم، فإن خرج كل واحد منهما من الثُّلُثِ، نفذ عِتْقُهُ ولا إِشْكَالَ. وإن تَفَاوَتَا وخرج أقلهما من الثلث دون الآخر، اعْتُبِرَ الأقل، فإن كان له سِوَى المُكَاتَب مائتان، وكانت القيمة مائة وخمسين والنجوم مائة فنخرج النجوم من الثلث، ونعتبرهَا ونَحْكُمُ بنفوذ العِتْقِ، أو كان الثمن مائة؛ [والنجوم مائة] (¬2) وخمسين فنخرج النُّجُومُ من الثلث، فنعتبرها ونحكم بِنُفُوذِ العِتْقِ، وإنما كان كذلك؛ لأن ملك السيد إنما يَسْتَقِرُّ على الأَقَلِّ منهما، فإن كانت النُّجُومُ أَقَلَّ، فالكتابة لاَزِمَةٌ من جِهَتِهِ، وقد ضعف مِلْكُهُ في المُكَاتَبِ، وليس له إلاَّ المُطَالَبَةُ بالنجوم التي صَارَتْ عِوَضاً. وإن كانت القِيمَةُ أَقَلَّ، فهي التي تخرج من مِلْكِهِ، وللعبد إِسْقَاطُ النُّجُومِ بأن يُعَجِّزَ نفسه. وإن لم يَخْرُج واحد منهما من الثلث، فإن كان يَمْلِكُ سوف المُكَاتَب خمسين، فيضم أَقَلَّهُمَا إلى الخمسين، وينفذ العِتْقُ في ثلثهما من العَبْدِ، فإذا كانت القِيمَةُ مائة وخمسين، والنجوم مائة ضَمَمْنَا النجوم إلى الخمسين، ونفذنا العِتْقَ في ثلثهما، وهو نِصْفُ العبد، وتبقى الكِتَابَةُ في نِصْفِهِ الآخر بنصف النجوم، فإن أَدَّاهُ إلى الوَرَثَةِ عُتِقَ، وإن عجز فلهم رَدُّهُ إلى الرِّقِّ، وإن كان يملك سوى المُكَاتَب مائة والقيمة والنجوم كما صَوَّرْنَا، فَيُعْتَقُ ثلثاه، وتبقى الكِتَابَةُ في ثلثه بثلث مَالِ الكتاَبة [وإن كانت القيمةُ مائة، والنُّجُومُ مائة وخمسين، فكذلك يُعْتَقُ ثلثاه، وتبقى الكِتَابَةُ في ثلثه بثلث مَالِ الكتابة] (¬3) وهو خمسون. قال ابْنُ الصَّبَّاغِ: وعندي أنَّه إذا أَدَّت النجمين، فقد زَادَ مال السيد؛ لأنه ثبَتَ هذا المَالُ بِعَقْدِ السيد، وورث منه، فينبغي أن يزيد ما يَعْتِقُهُ منه. ولو أوْصَى السَّيِّدُ بِإعْتَاقِ مُكَاتَبهِ، أو بإِبْرَائِهِ، أو وضع النجوم عنه، فينظر أَيَخْرُجُ من الثلث أو لا يخرج؟ ويكون الحكم كما لو أَعْتَقَهُ السَّيِّدُ أو أَبْرَأَهُ بنفسه، إلاَّ أن هاهنا نَحْتَاجُ إلى [إِنْشَاءِ] (¬4) إعتاق، أو إِبْرَاءٍ بعد موت السيد. الثانية: إذا كاتب في صِحَّتِهِ، وقبض النجوم في مَرَض الموت، أو قبضها وارثه بعد المَوْتِ صَحَّ القَبْضُ وإن كانت الكِتَابَةُ من رَأسِ المال؛ لأنه أَقَرَّ بما يقدر على إِنْشَائِهِ، ولأن الإقرَارَ لغير الوارث لا فَرْقَ فيه بين الصِّحَّةِ والمرض. ¬
وقوله في الكتاب: "فقبض نُجُومَ مُكَاتَبهِ في الصحة" لا ينبغي أن يعلق قوله: "في الصحة" بالقبض؛ فلا فَرْقَ أن يكون القَبْضُ المُقِرُّ به في الصحة أو في المرض، ولكن التعلق بقوله: "فكاتبه" فإن الكِتَابَةَ ينبغي أن تَقَعَ في الصِّحَّةِ ليكون الاعْتِبَارَ من رَأْسِ المال. قال الصَّيدَلاَنِيُّ: فأَمَّا إذا كانت الكِتَابَةُ في المَرَضِ، فأصل الكتابة من الثلث، فلا يفيد الكَلاَمُ في أن الإقْرَارَ كيف يقبل، بل يقبل (¬1) فيما صَحَّحْنَا فيه الكِتَابَةَ. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَأَمَّا المُرْتَدُّ فَيُبْنَى كِتَابَتُهُ عَلَى أَقْوَالِ المِلْكِ، وَالكَافِرُ تَصِحُّ كِتَابَتُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ العَبْدُ قَدْ أَسْلَمَ وَخُوطِبَ بِبَيْعِهِ وَكَاتَبَ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَلَوْ كَاتَبَ ثُمَّ أَسْلَمَ العَبْدُ فَفِي الاِنْقِطَاعِ وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ وَأَوْلَى بِأَنْ يَدُوم الكِتَابَةُ، وَالحَرْبِيُّ تَصِحُّ (ح م) كِتَابَتُهُ وَلَكِنْ لَوْ قَهَرَهُ السَّيِّدُ عَادَ مِلْكُهُ قَبْلَ العِتْق وَبَعْدَهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا يشترط لِصِحَّةِ الكِتَابَةِ إِسْلاَمُ السيد، بل تَصِحُّ كتابة الكَافِرِ في الجملة، كما يصح إِعْتَاقُهُ، ثم فيه مَسَائِلُ: إحداها: ذكرنا في "التَّدْبِيرِ" أن تدبير المُرْتَدِّ عَبْدَهُ مَبْنِيٌّ على أقوال [الملك] (¬2) في المرتد، ولو [كاتب المرتد] (¬3) عبده، ففيه طريقان: أحدهما: وبه قال ابْنُ القَطَّانِ، وابن الوَكِيلِ، وَرَجَّحَهُ أبو إِسحاق ويُحْكَى عن اختيار الشيخ أبي حَامِدٍ: إن كانت الكِتَابَةُ على الأقوال أيضاً، فإن قلنا بِزَوَالِ مِلْكِ المُرْتَدِّ فهي بَاطِلَةٌ، وإن قلنا بِبَقَائِهِ فصحيحة، وإن قلنا بالتَّوَقُّفِ فهي موقوفة أيضاً. والثاني وبه قال القاضي أبو حَامِدٍ: أنَّه ليس في الكِتَابَةِ إلاَّ القولان الأَوَّلاَنِ، ولا يجيء فيها التَّوَقُّفُ؛ لأن الكتابة عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، والعقود لا تُوقَفُ على أَصْلِ الشَّافعي -رضي الله عنه- بخلاف التَّدْبِيرِ، فإنه تَعْلِيقُ عِتْقٍ، والتعاليق تقبل الإغرار ومن نصر الأول قال الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه-: لا يصح العَقْدُ للمالك مَوْقُوفاً على إِجَازَتِهِ ورِضَاهُ. فأما انعقاد العَقْدِ مَوْقُوفاً على ما سَيَظْهَرُ وَينْكَشِفُ، فإنه يجوزه؛ ألا ترى أن تَصَرُّفَ المريض بالهِبَةِ والبَيعِ بالمُحَابَاةِ يَنْعقِدُ موقوفاً على إِجَازَةِ الوَرَثَةِ. وأيضاً فإن تَصَرُّفَ المُفْلِسِ ينعقد مَوْقُوفاً على أحد القَوْلَيْنِ وقد يُؤَدِّي غَرَضُ الطريقين بِعِبَارَةِ أَقْصَرَ من هذه، فيقال: إن قلنا بِزَوَالِ مِلْكِ المُرْتَدِّ، لم تَصِحَّ الكِتَابَةُ، وإن قلنا بِبَقَائِهِ صَحَّت، وإن قُلْنَا بالوَقْفِ، فعلى الجديد والقديم أن العُقُودَ؛ هل توقف؟ ثم ما مَوْضِعْ الخِلاَفِ على اختلاف الطريقين فيه طرق: ¬
أشْبَهُهَا: وهو الذي أَوْرَدَهُ الرُّوَيانِيُّ وغيره -رحمهم الله- أن مَوْضِعَ الخلاف ما إذا [لم يحجر الحاكم عليه، وقلنا: لا يحصل الحَجْرُ بنفس الرِّدَّةِ، فأما إذا] (¬1) كان في حَالِ الحَجْرِ، فلا تصح الكِتَابَةُ بِحَالٍ. والثاني: في كلام القاضي ابْنِ كَجٍّ: أنا إذا قلنا: يصير مَحْجُوراً بنفس الرِّدَّةِ، ولم يَحْجُرِ الحَاكِمُ عليه، فَتَصِحُّ كتابته بلا خِلاَفٍ. والثالث: ويحكى عن ابن سلمة وابن القَطَّانِ طَرْدُ الخِلاَفِ في الحَالَتَيْنِ، ويخرج من هذه الاخْتِلاَفاتِ في كتابة المُرْتَدِّ وجوه أو أقوال خمسة: أحدها: أنها مَوْقُوفَةٌ. الثاني: صِحَّتُها. الثالث: صحتها قبل الحَجْرِ خَاصَّةً. والرابع: بُطْلانُهَا. والخامس: بطلانها بعد الحَجْرِ خَاصَّةً. والأَشْبَهُ بالتَّرْجِيحِ على ما أَوْرَدَهُ صاحب "التهذيب" هاهنا وفي باب [الردة] (¬2) الوجه الرَّابعُ. وعن القاضي أبي حَامِدٍ: أَن الأَظْهَرَ الثاني، وهو اختيار [المزني] (¬3) التَّفْرِيعُ: إذا لم نحكم بِحُصُولِ الحَجْرِ بالرِّدَّةِ، ولم يحجر الحاكم عليه، وصَحَّحْنَا الكِتَابَةَ؛ فلو دَفَعَ المُكَاتَبُ النُّجُومَ إليه عُتِقَ، وكان له وَلاَؤُهُ، وتكون النجوم مِلْكَهُ؛ لأنا حكمنا ببَقَاءِ مِلْكِهِ على هذا القول. وإن أَفْسَدْنَا الكِتَابَةَ، لم يصح الأَدَاءُ؛ لأنه مِلْكٌ للمرتد، ولا يحصل العِتْقُ. وإن قلنا: هي مَوْقُوفَةٌ؛ فالأَدَاءُ أيضاً موقوف، فإن هَلَكَ على الرِّدَّةِ بَانَ بُطْلانهَا، وكان العبد قِنّاً، وإن صَارَ السَّيِّدُ مَحْجُوراً عليه بنفس الرِّدَّةِ، أو بِحَجْرِ الحاكم، فإن أفسدنا الكتابة فعلى ما ذكرنا فيما إذا لم يَكُنْ مَحْجُوراً عليه، فإن صَحَّحْنَاهَا، وقلنا بالتوقف، فلا يجوز دَفْعُ النُّجُومِ إليه؛ لأن المَحْجُورَ عليه لا يَصِحُّ قَبْضُهُ، بل ينبغي أن يَدْفَعَهَا إلى الحَاكِمِ، فإن دَفَعَهَا إلى السَّيِّدِ يعتق ويَسْتَرِدُّهَا، وَيَدْفَعَهَا إلى الحاكم، فإن تَلِفَتْ وتَعَذَّرَ الاسْتِرْدَادُ؛ فإن كان معه ما يفي من النُّجُومِ، ودفعه إلى الحاكم فَذَاك، وإلاَّ فَلَهُ تَعْجِيزُهُ. ¬
ثم إن هَلَكَ السَّيِّدُ على الرِّدَّةِ بعدما عَجَّزَهُ، فهو رَقِيقٌ، وإن أَسْلَمَ فَهَلْ يُلْغَى التَّعْجِيزُ؟ فيه قولان، أو وجهان: أحدهما: لا، كما لو كان المَحْجُورِ عليه بالسَّفَهِ دَيْنٌ على غيره فَأَخَذَهُ وتَلِفَ عنده، ثم زال الحَجْرُ لا يُحْسَبُ المأخوذ عليه، ولا ينقلب قَبْضُهُ صحيحاً بِزَوَالِ الحَجْرِ. وأصحُّهما: وهو المَنْصُوصُ في "المختصر": نعم؛ لأن المَنْعَ من التسليم [إليه] (¬1) إنما كان لِحَقِّ المُسْلِمِينَ فإذا أَسْلَمَ فقد سَقَطَ حَقُّ المسلمين، وصار الحَقُّ له، فَيُعْتَدُّ بِقَبضِهِ، وعلى هذا فَيُعْتَقُ لو كان قد دفع إليه جَمِيعَ النجوم. وحكى القاضي ابْنُ كَجٍّ وَجْهاً: أنَّه لا يُعْتَقُ، ولا ينقلب القَبْضُ الممنوع منه صحيحاً، ولكن يَبْقَى مُكَاتَباً، فَيَسْتَأْنِفُ الأدَاءَ ويمهل [مدة] (¬2) الردة. والمَشْهُورُ؛ الأول. ولو كاتب المُسْلِمُ عَبْداً ثم ارْتَدَّ، لم تَبْطُلْ كِتَابَتُهُ، كما لا يبطل بَيْعُهُ ورَهْنُهُ بالرِّدَّةِ، ولكن لا يَجُوزُ دَفْعُ النجوم إليه إن قلنا: إن مِلْكَهُ زَائِلٌ، أو صار مَحْجُوراً عليه، فإن دَفَعَهَا إليه، فعلى ما ذكرنا. ويجوز كِتَابَةُ العَبْدِ المُرْتَدِّ، كما يجوز بَيْعُهُ وَتَدْبِيرُهُ وإِعْتَاقُهُ، ثم إن أَدَّى النُّجُومَ في رِدَّتِهِ من أَكْسَابِهِ، أو تَبَرَّعَ بالأَدَاءِ عنه مُتَبَرِّعٌ، عُتِقَ، ثم يجري عليه حُكْمُ المرتدين. وإن لم يُؤَدِّهَا، وعاد إلى الإسْلاَم، بقي مُكَاتَباً، كما كان، وإن امتنع قُتِلَ، وكان ما في يَدِهِ لِسَيِّدِهِ، وارْتَفَعَتِ الكِتَاَبَةُ بِقَتْلِهِ. ولو ارتد المُكَاتَبُ، لم تبطل الكتابة، فإن هَلَكَ على الرِّدَّةِ ارتفعت الكتابة، وكان ما في يَدِهِ لِسَيِّدِهِ. وعن أبي حَنِيْفَةَ: أنه يُؤَدِّي النُّجُومَ منه، وما بقي فهو لِوَارِثِهِ، سواء اكْتَسَبَهُ في حَالِ الرِّدَّةِ، أو الإِسلام. حكاه في "التهذيب". فَرْعَانِ: عن نَصِّهِ في "الأم" أنَّه قال: لا أجيز كِتَابَةَ السَّيِّدِ المُرْتَدِّ والعَبْدِ المُرْتَدِّ، إلاَّ على ما أُجِيزُ عليه كِتَابَةَ المسلمين، بخلاف الكَافِرِينَ الأَصْلِيِّينَ يُتْرَكَانِ على ما يَسْتَحِلاَّنِ ما لم يَتَحَاكَمَا إلينا. وأنه لو لَحِقَ السَّيِّدَ بعدما ارتَدَّ بِدَارِ الحرب، ووقف الحاكم مَالَهُ يتأدى بأخذ كتابة مُكَاتبه، فإن عَجَزَ رَدَّهُ إلى الرِّقِّ وإذا عَجَّزَة ثم [جاء سيده] (¬3) فالتَّعْجِيزُ [قاضٍ] (¬4)، ويكون هو رَقِيقاً له، فإن أسلم السَّيِّدُ، ففي الاعْتِدَادِ بما دَفَعَهُ إليه مَا مَرَّ. ¬
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تصح كِتَابَةُ الذِّمِّيِّ كِتَابياً كان، أو مَجُوسِيّاً؛ لأنه مالك، والكتابة عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وفيها تَعْلِيقُ عِتْقٍ بصفة، وهما صحيحان منه. وكذا كِتَابَةُ المُسْتَأْمَنِ صَحِيحَةٌ، وهذا إذا جَرَتْ كِتَابَتُهُمْ على شَرَائِطِ شَرْعِنَا. فأما إذا كاتب الذِّمِّيِّ عَبْدَهُ على خَمْرٍ أو خِنْزِيرٍ، ثم أسلما، أو تَرَافَعَا إلينا، فينظر: إن كان ذلك بعد قَبْضِ العِوَضِ المُسَمَّى فالعتق حَاصِلٌ، ولا رُجُوعَ للسيد على العَبْدِ، ولا يُفْسَخُ العَقْدُ، ولا القَبْضُ الحاصل في الشرك. وإن أَسْلَمَا، أو تَرَافَعَا قبل القَبْضِ، حكمنا بفَسَادِهَا وإبطالها، فإن وجد القَبْضُ بعد ذلك لم يَحْصُلِ العِتْقُ؛ لأنه لا أَثَرَ لِلكِتَابَةِ الفَاسِدَةِ بعد الفَسْخِ والإبطال. وإن قَبَضَ بعد الإِسْلاَمِ، ثم تَرَافَعَا، حَصَلَ العِتْقُ؛ لوجود الصِّفَةِ، ويرجع السيد على المُكَاتَبِ بقيمته، ولا يرجع المُكَاتَبُ للخمر والخِنْزِيرِ بشيء. نعم، لو كان المُسَمَّى مِمَّا لَهُ قِيمَةٌ، فله الرُّجُوعُ أيضاً، وإن قبض بعض المُسَمَّى في الشِّرْكِ، ثم أسلما، أو تَرَافَعَا إلينا، فنحكم ببطلان الكتابة أيضاً. فإن اتَّفَقَ قَبْضُ الباقي بعد الإسْلاَم، وقبل إِبْطَالِهَا، حصل العِتْقُ ويرجع السيد بجميع قِيمَتِهِ عليه، ولا تُوَزَّع القيمة علىَ المَقْبُوضِ قبل الإِسلام والمقبوض بعده؛ لأن العِتْقَ يَتَعَلَّقُ بالنجم الأَخِيرِ، وأنه وجد في الإسْلاَم، ولا يَثْبُتُ للنجوم حَقِيقَةُ العِوَضِيَّةِ إلا إذا تَمَّتْ؛ ألا ترى أنه إذا عرض (¬1) عَجْزٌ لم يكنَ المَقْبُوضُ من قَبْلُ عِوَضاً، بل كَسْبَ رَقِيقٍ، وإذا كان كذلك لم تَكُنْ قَابِلَةً لِلتَّقْسِيطِ الجاري في الأعواض (¬2). وقوله في الكِتَابَةِ: "والكافر تَصِحُّ كِتَابَتُهُ إلاَّ أن يكون العَبْدُ قد أسلم وخوطب بِبَيْعِهِ وكاتب ففيه وجهان" ليس الاسْتِثْنَاءُ فيه بحسن الموقع؛ لأن كِتَابَة الكَافِرِ قد تَصِحُّ، وقد تَفْسُدُ ككتابة المُسْلِمِ، وليس الفَسَادُ مَخْصُوصاً بهذه الصُّورَةِ المُسْتَثنَاةِ. والذي يَقْصِدُهُ القَائِلُ بقوله: "إن الكافر لا تَصِحُّ كتابته" أنها تصح منه في الجُمْلَةِ، وإن الكُفْرَ لا يمنع صِحَّتَهَا، وهذا لا يحتاج إلى الاستثْنَاءِ. وأما الصورة المَذْكُورَةُ: فإذا أسلم عبد لِذِمِّيِّ، واشْتَرَاهُ، وقلنا بِصحَّةِ الشِّرَاءِ، وأمرناه بِإِزَالَةِ المِلْكِ عنه، فكاتبه ففي صِحَّةِ كتابته قولان: أحدهما: المَنْعُ؛ لأنه مَأْمُور بِإِزَالَةِ المِلْكِ، والكِتَابَةُ لا تُزيل فصار كما لو دَبَّرَهُ، أو عَلَّقَ عِتْقَة بصفة. ¬
وأَقْوَاهُمَا وبه قال أبو حَنِيْفَةَ، واختاره المُزَنِيُّ: أنها صَحِيحَةٌ؛ لأن المقصود قَطْعُ اسْتِيلاَئِهِ عنه وَدَفْعُ الذُّلِّ، وإذا كَاتَبَهُ خرج عن تَصَرُّفِهِ، وفيه نظر لِلْعَبْدِ لِتَوَقُّعِ العِتْقِ، فإن عجز، أَمَرْنَا بإزالة المِلْكِ عنه، وعلى الأول فيؤمر (¬1) بِإِزَالَتِهِ في الحَالِ، فإن أَدَّى النُّجُومَ قبل أن يتفق إِزَالَةُ الملك، عُتِقَ بحكم الكتابة الفَاسِدَةِ. ويقال بإيراد آخَرَ -وقد قَدَّمْنَاهُ في "البَيْعِ"- هل يكتفي منه بالكِتَابَةِ؟ فيه وجهان: إن قلنا: نعم، فهي صَحِيحَةٌ، وإلاَّ ففي صِحَّتِهَا خِلاَفٌ. ولو كَاتب الذِّمِّيُّ عَبْدَهُ فَأسْلَمَ المُكَاتَبُ؛ فهل ترتفع الكِتَابَةُ؟ فيه وجهان مُرَتَّبَانِ على الخِلاَفِ في أنه إذا أَسْلَمَ عبده وكاتبه هل يصح؟ أو هل يكتفي منه بالكِتَابَةِ؟ إن قلنا: نعم؛ فإذا طَرَأَ الإسْلاَمُ على الكِتَابَةِ لم يُؤَثِّرْ فيها وإن قلنا: لا؛ ففي ارْتفَاعِهَا وَجْهَانِ، والفَرْقُ قُوَّة الدَّوَامِ ووجه المنع أيضاً بأن الكِتَابَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً، ولا يمكن أن يُؤْمَرَ بِإِزَالَةِ المِلْكِ، فإن بَيْعَ المُكَاتَبِ لا يَجُوزُ، فإن عجز فحينئذ يُؤْمَرُ. واعلم أن هذه الصُّورَةَ مُكَرَّرَةٌ؛ فقد ذكرها مَرَّةً في "التدبير" [مضمومة] (¬2) إلى ما شَابَهَهَا؛ وهو ما إذا دَبَّرَ الكَافِرُ عَبْدَهُ ثم أسلم مُدَبِّرُهُ فقال: "والمُكَاتَبُ كَالمُسْتَوْلَدَةِ". وقيل: كالمدبر [ة]. وقوله: هاهنا "فيه وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ"، فيؤدي معنى الطريقين، إلاَّ أن الخِلاَفَ هناك عند من أَثْبَتَهُ أُخِذَ من الخلاف في صورة التدبير، وهاهنا من الخِلاَفِ في صِحَّةِ الكتابة إذا تَقَدَّمَ الإِسْلاَمُ عليها. المسألة الثالثة: كما يصح كِتَابَةُ الذِّمِّيِّ، تصح كِتَابَةُ الحَرْبِيِّ؛ لأنه مَالِكٌ. وعن مالك وأبي حَنِيْفَةَ خِلاَفُهُ. ثم لو قَهَرَهُ السَّيِّدُ بعدما كاتبه، ارْتَفَعَتِ الكتابة وصار قِنّاً. ولو قَهَرَ المُكَاتَبُ سَيِّدَهُ صَار حُرّاً، وصار السَّيِّدُ عَبْداً؛ لأن الدَّارَ دَارُ قَهْرٍ، ولذلك لو قَهَرَ حُرٌّ حُرّاً هناك مَلِكَهُ، بخلاف ما لو دخل السَّيِّدُ والمُكَاتَبُ دَارَ الإِسْلاَمِ بِأَمَانٍ، ثم قهر أحدهما الآخر لا يَمْلِكُهُ؛ لأن الدَّار دَارُ حَقٍّ وإِنْصَافٍ. وإن خرج المُكَاتَبُ إلينا مُسْلِماً، هَارِباً من سَيِّدِهِ، بطلت الكتابة، وصار حُرَّاً؛ لأنه قَهَرَهُ على نَفْسِهِ، فيزول مِلْكُهُ عنها. وإن خرج إلينا غَيْرَ مُسْلِمٍ نُظِرَ: إن خرج بِإِذْنِهِ، وبأمَانِنَا لِتَجَارَةٍ وغيرها، اسْتَمَرَّتِ الكِتَابَةُ، كما لو خرج السَّيِّدُ إلينا بِأمَانٍ. ¬
وإن خرج هَارِباً منه، بطلت وصار حُرّاً، ثلاثة لا يُمَكَّنُ من الإِقَامَةِ إلاَّ بالجِزْيَةِ، فإن لم يقبل أو لم يَكُنْ ممن تُقْبَلُ منه الجِزْيَةُ أُلْحِقَ بِمَأمَنِهِ. وإن جاءنا السيد مُسْلِماً لم يتعرض لمكاتبه هناك، فإن دخل بِأمَانٍ مع المكاتب، ولم [يقهر] (¬1) أحدهما الآخر، وأراد العَوْدَ إلى دَارِ الحَرْب، أو كاتبه بعدما دَخَلاَ وَأَرَادَ العَوْدَ، فلم يساعده المُكَاتَبُ، لم يكن له [أن] (¬2) يحملهَ قَهْراً، كما لا يُسَافِرُ المُسْلِمُ بمكاتبه (¬3) وقد مَرَّ لهذا ذِكْرٌ في "التدبير"، ولكن يُوَكِّلُ من يَقبِضُ عنه النُّجُومَ، فإن أراد أن يُقِيمَ طُولِبَ بالجِزْيَةِ، ثم إن عُتِقَ المُكَاتَبُ طُولِبَ بالجِزْيَةِ أيضاً أو رُدَّ إلى المَأْمَنِ، فإن عَجَّزَ نفسه عَادَ قِنّاً للسيد. قال ابْنُ الصَّبَّاغِ: ويبقى الأَمَانُ فيه، وإن انْتَقَضَ في نَفْس السيد بِعَوْدِهِ؛ لأن المَالَ يَنْفَرِدُ بِالأَمَانِ. ولذلكَ لو بعث الحَرْبِيُّ بحاله إلى بَلَدِ الإسْلاَمَ بِأمَانٍ، ثبت الأَمَانُ للمال دون صَاحِبِهِ. وقد يجيء هذا الخِلاَفُ الذي سَبَقَ في "السّير" فيما إذا رجع المُسْتَأْمَنُ، وخَلَفَ عندنا مَالاً. ولو مات السَّيِّدُ في دار الإِسْلاَمِ، أو بعد العَودِ إلى دار الحرب، ففي مَالِ الكِتَابَةِ قولان: أظهرهما، وهو اختيار المُزَنِيِّ: إنه يَبْقَى الأَمَانُ فيه، فيبعث إلى وَرَثَتِهِ،؛ لأنه لا خِلاَفَ في أنهم وَرِثُوهُ، ومن وَرِثَ مَالاً، وَرِثَهُ بحقوقه كالرَّهْنِ والضَّمَانِ. والثاني: يبطل الأَمَانُ فيه، ويكون قِنّاً؛ لأنه مَالُ كَافِرٍ، لا أَمَانَ له. وإن سُبِيَ السَّيِّدُ بعدما رَجَعَ إلى دَارِ الحَرْب، نُظِرَ إن مُنَّ عليه، أو فدى (¬4) أَخَذَ النُّجُوم، وهو بما جَرَى في أَمانٍ، ما دام في دَارِ الإسْلاَم، فإن رجع انْتَقَضَ الأمَانُ فيه، وفي المال إن تركه عندنا ما سبق وإن اسْتُرِقَّ زال مِلْكُهُ، وفي مال الكِتَابَةِ طريقان: أحدهما: أن فيه قَوْلَيْنِ، كما في صورة المَوْتِ. والثاني: القَطْعُ بأنه لا يبطل الأَمَانُ فيه؛ لأنه ينتظر عِتْقُهُ وصَيْرُورَتُهُ أَهْلاً لِلْمِلْكِ، بخلاف الميت، وإن شِئْتَ قلت: يبقى الأَمَانُ فيه، ولا يصير قِنّاً، كما صُورَة المَوْتِ، فهاهنا أَوْلَى، ويوقف إن عُتِقَ فهو له، وإن مَاتَ رِقِيقاً فهو فَيْءٌ. وفي قول: إنه يُصْرَفُ إلى وَرَثَتِهِ. ¬
وإن قلنا: هناك يصير [فيئاً] (¬1)، فهاهنا قولان: اختيار أبي إسحاق: أنَّه لا يكون [فيئاً]، ويُوقَفُ؛ لأنه يُرجَى عَوْدُ المَالِكِيَّةِ. وأما وَلاَءُ هذا المكاتب؛ فإن عُتِقَ قبل أن يُسْتَرَقَّ السَّيِّد، فطريقان: أحدهما: إن الوَلاَءَ كالمَالِ، فإن جَعَلْنَاهُ فيئاً، فالوَلاء لأهْلِ الفيء، وإن تَوَقَّفْنَا، فكذلك نَتَوَقَّفُ في الوَلاَءِ. وأظهرهما: أنَّه يسقط وَلاَؤهُ؛ لأن الوَلاَءَ لا يُوَرَّثُ، ولا يَنْتَقِلُ من الشخص إلى الشخص. وإن اسْتُرقَّ السَّيِّدُ قبل عِتْقِ المُكَاتَب، فإن جعلنا ما في ذمته (¬2) فيئاً، فإذا عُتِقَ يَدْفَعُهُ إلى الحاكم، ففي الوَلاَءِ الوجهان كذلَك. ذكره صاحب "الشامل" وغيره. وإن قلنا: إنه مَوْقُوفٌ؛ فإن عُتِقَ السَّيِّدُ، دفع المُكَاتَبُ المَالَ إليه، وكان له الوَلاَءُ، وإن مات رَقِيقاً، وصار المال فَيْئاً ففي الوَلاَءِ الوجهان. ولو قال المُكَاتَبُ في مُدَّةِ التوقف: انْصُبُوا مَنْ يَقْبِضُ المَالَ لأعتق، أُجِيبَ إليه، وإذا عُتِقَ، فليكن في الوَلاَءِ الخِلاَفُ. وقد قيل: يُبْنَى ذلك على أن مُكَاتَبَ المُكَاتَب إذا عُتِقَ تَفْرِيعاً على أنَّه تَصِحُّ كِتَابَتُهُ يكون وَلاَؤهُ لِسَيِّدِ المُكَاتَبِ أو يوقف على عِتْقِ المكاتب، وفيه قولان: إن قلنا بالأَوَّلِ؛ فالوَلاَءُ هاهنا لأَهْلِ الفَيْءِ. وإن قلنا بالثاني؛ فَيُوقَفُ. قال الرُّوَيانِيُّ في "جمع الجوامع": والصَّحِيحُ عند عَامَّةِ الأصحاب في المسألة أنَّه يُوقَفُ المَالُ، وكذا الوَلاَءُ، فإن عُتِقَ، فله المَالُ والوَلاءُ، وإن مات رَقِيقاً، فَالمَالُ لأَهْلِ الفَيْءِ، ويسقط الوَلاَءُ. وقوله في الكتاب: "والكَافِرُ تَصِحُّ كِتَابَتهُ" ليحمل على الذِّمِّيِّ، وإن أمكن إِجْرَاؤُهُ على إِطْلاَقِهِ على [ما تبين] (¬3)؛ لأنه قال بعده: "والحَرْبِيُّ تصح كِتَابَتُهُ"، ولو أجرى ذلك على إطلاقه، كان الأَحْسَنُ أن يقول: والحَرْبِيُّ إن صَحَّتْ كتابته، ولكن لو قهره السَّيِّدُ ... إلى آخره. " فروع": ¬
كاتب المُسْلِمُ عَبْداً كافراً في دار الإسْلاَمِ، أو في دار الحرب صَحَّتِ الكِتَابَةُ، فإن عتق لم يُمَكَّنْ من الإِقَامَةِ في دار الإِسلام إلاَّ بالجِزْيَةِ، وإن وَقَعَ في الأَسْرِ [وكان في] (¬1) دار الحرب لم تبطل الكتابة؛ لأنه في أَمَانِ سَيِّدِهِ، وهذا كما أنَّه لا يُسْتَرَقُّ مُعْتقه، وإن الْتَحَقَ بِدَارِ الحرب. وإذا اسْتَوْلَى الكُفَّارُ على مُكَاتَبِ مُسْلِم، لم تبطل الكِتَابَةُ، وكذا لا يبطل التَّدْبِيرُ، والاسْتِيلاَدُ؛ إذا اسْتَوْلَوْا على مُدَبَّرِهِ أو مُسْتَوْلَدَتِهِ. وإذا استنفذ المُسْلِمُونَ مُكَاتَبَه، فهل تُحْسَبُ مُدَّةُ الأَسْرِ من أصل مال الكتابة؟ فيه طريقان: أحدهما: أنَّه على القَوْلَيْنِ، فيما إذا حَبَسَ السَّيِّدُ مُكَاتَبَهُ مُدَّةً. وأظهرهما: القَطْعُ بالاحْتِسَابِ، بخلاف تلك الصُّورَةِ، فإن المَنَافِعَ فَاتَتْ عليه بِتَقْصِيرٍ وتَعَدٍّ من السيد وهاهنا بخلافه. ويُبْنَى على هذا الخِلاَف أنَّه: هل للسَّيِّدِ الفَسْخُ، والتعجيز، وهو في الأَسْرِ؟ فإن قلنا باحْتِسَاب المدة عليه، فله ذلك، ثم يفسخ بنفسه، كما لو كان المُكَاتَبُ حاضرًا، أو يُرْفَعُ الأَمْرُ إَلى الحاكم ليَتَفَحَّصَ؛ هل له مَالٌ يَفِي بالكتابة؟ فيه وجهان: أظهرهما: الأول، ثم إذا فُسِخَتِ الكِتَابَةُ، وأقام البَيِّنَةَ بعد الخَلاَصِ، على أنَّه كان له مِنَ المَالِ ما يَفِي بالكتابة، بَطَلَ الفَسْخُ، وَأَدَّى المَالَ، وعُتِقَ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرُّكْنُ الرَّابعُ: المُكَاتِبُ وَلَهُ شَرْطَانَ الأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفاً فَلاَ يَصِحُّ كتَابَةُ الصَّغِيرِ وَإِنْ كَانَ مُمَيِّزاً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يشترط لِصِحَّةِ الكتابة أن يكون العَبْدُ مُكَلَّفاً؛ ليستقلى بالكَسْبِ، ويوثق بصرف ما يَكتَسِبُهُ إلى السَّيِّدِ فلا تصح كِتَابَةُ الصَّبِيِّ مُمَيِّزاً كان أو غَيْرَ مميز، ولا كِتَابَةُ المَجْنُونِ. وعند أبي حَنِيْفَةَ، وأحمد: تَصِحُّ كِتَابَةُ الصبي المُمَيِّزِ، بِنَاءاً على أنَّه يجوز تَصَرُّفُهُ بِإذنِ الوَليِّ [وإيجاب] (¬2) السيد إذن له في القَبُولِ. واحتج الأَصْحَابِ -رحمهم الله- بأنه غَيْرُ مُكَلَّفٍ، فلا تصح كِتَابَتُهُ كالمجنون. وفي "جمع الجوامع" للروياني: أنَّه لو كَاتَبَ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ الذي لا يُمَيِّزُ والمَجْنُونَ، وقبل السيد عنه يَجُوزُ عند أبي حَنِيفَةَ. ¬
واسْتُؤْنِسَ لاعتبار التَّكْلِيفِ بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 33] وإنما يَتَحَقَّقُ الابْتِغَاءُ من العاقل البالغ. وإن كاتب العَبْدُ لنفسه ولأولاده الصِّغَارِ، لم تصح الكِتَابَةُ للأولاد، وفي صِحَّتِهَا لنفسه قَوْلا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وحكى الصَّيدَلاَنِيُّ عن أبي حَنِيْفَةَ: أنها تَصِحُّ في حَقِّ الجميع، وذكر أن أبا حَنِيْفَةَ ساعد على أنَّه لو كان الأَبُ حُرّاً، لم تصح كتابته لأَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ، وأن مالكاً قال بِصِحَّتِهِا. إذا عرف أنَّه ليس للسيد أن يُكَاتِبَ عَبْدَهُ الصغير والمجنون، فلو أنَّه فَعَلَ وقال في كتابته: "إذا أَدَّيْتَ كذا فأنت حُرٌّ، فوجدت الصِّفَةُ، حصل العِتْقُ. قال الإمَامُ: وفي النَّفْسِ من هذا شَيْءٌ؛ لأنه أَدَاءٌ من حيث الصُّورَةُ، ولا يُتَصَوَّرُ منهما التَّمْلِيكُ، وقد ذكرنا أن قَوْلَ الرجل لامْرَأَتِهِ: إن أَعْطَيتِنِي ألفاً فأنت طَالِقٌ، يقتضي إِمْكَانَ التمليك. ولك أن تُؤَيِّدَ ما ذكره باحْتِمَالٍ قَدَّمْنَاهُ فيما إذا عَلَّقَ الطَّلاَقَ بدخول الطفل، فوجد منه صُورَةُ الدخول أنَّه لا يَحْنَثُ، والمذهب حُصُولُ العِتْقِ، ثم حكى القاضي ابن كَجٍّ في كَيْفِيَّةِ حُصُولِهِ اخْتِلاَفاً عن الأَصْحَاب، منهم من قال: يحصل العِتْقُ حُصُولَهُ في الكتابات الفاسدة؛ لأنه لم يَرْضَ بعتقه إلاَّ بالعِوَضِ، فعلى هذا يَرْجِعُ السَّيِّدُ عليه بالقيمة (¬1). وظاهر المذهب أنَّه يَحْصُلُ بمُجَرَّدِ حُصُولِ الصِّفَةِ المُعَلَّقِ عليها، وأنه ليس لما جَرَى حُكْمُ الكِتَابَاتِ الفَاسِدَةِ في التراجع وغيره، فلا يرجع السيد عليه بِقِيمَتِهِ، ولا يجب عليه رَدُّ ما أخذه. أما أنَّه لا يرجع بالقِيمَةِ، فلأن قَبُولَ الصبي والمجنون والْتِزَامَهُمَا المال بَاطِلاَنِ، والعقد معهما ليس بِعَقدٍ؛ ولذلك لو اشترى الصَّبِيُّ والمجنون شَيْئاً، وهلك عنده لا يَضْمَنُهُ بعقد. ولو اشترى العَاقِلُ البالغ شَيْئاً شراءً فاسداً فَهَلَكَ [فهل] (¬2) عنده يَضْمَنُهُ. وأما أنَّه لا يَرُدُّ ما أخذه، فلأنه كَسْبُ عَبدِهِ. وهذا الخِلاَفُ الذي حَكَاهُ ابن كَجٍّ، كخلافٍ نَقَلُوهُ فيما إذا [كاتب] عَبْدَهُ المَجْنُونَ، وأخذ المَالَ المُسَمَّى. روى المُزَنِيُّ في "المختصر" أنَّه يعتق العَبْدُ، ولا تَرَاجُعَ. ورواية الرَّبيع أنَّه يثبت التَّرَاجُعُ؛ فعن ابن سُرَيْجٍ وابن خَيْرَانَ: أن الحُكْمَ ما رَوَاهُ الربيع على مَا هُوَ دَأْبُ الكتابة الفَاسِدَةِ، وأن المُزَنِيَّ أخطأ في النَّقْل، وربما حَمَلَ مَا رَوَاهُ على ما إذا [كاتب عبده] (¬3) كتابة صحيحة، ثم جُنَّ العَبْدُ، فأخذ المال وهو ¬
[مجنون] (¬1) يصح القَبْضُ، ولا يراجع والأصح وبه قال أبو إِسْحَاقَ، والأكثرون: أنَّه لا يراجع، كما رواه المزني؛ لأن المَجْنُونَ ليس من أَهْلِ العَقْدِ، فيبطل معنى المُعَاوضَةِ، ويبقى مُجَرَّدُ التعليق. ونقل الربيع وقع خطأ، وربما حمل على ما إذا [كاتب] (¬2) عَبْدَهُ العَاقِلَ كِتَابَةً فَاسِدَةً، ثم جُنَّ فَأدَّى. وعن رِوَايَةِ القَاضِي أبي حَامِدٍ أن في المَسْألَةِ قولين. وفي طريقة الصَّيْدَلاَنِيِّ الامْتِنَاعُ من إجْرَاءِ الخِلاَفِ في الصبي، وفرق بأن المجنون عارض [فهو] (¬3) كعارض شرط فَاسِدٍ في الكتابة بخلاف الصَّبِيِّ. وأجرى صَاحِبُ "التهذيب" في الصَّبِيِّ ما قيل في المَجْنُونِ، كما قدمناه عن ابن كَجٍّ، ثمِ من أَثبَتَ التَّرَاجُعَ، جعل ما فَضَلَ من الكَسْبِ للعبد ولم يُثْبِتْهُ جعله للسيد، وهو الأصَحُّ. " فروع تدخل في الفصل". لا يجوز كتابة العَبْدِ المَرْهُونِ؛ لأن الرَّهْن [يحوج] (¬4) إلى البَيْعِ، والكِتَابَةُ تمنع منه، ولا كِتَابَةُ العبد المُسْتَأْجَرِ؛ لأنه في تَصَرُّفِ الغَيْرِ، فلا يَتَفَرَّغُ للاكتساب لنفسه. وفي كتاب [القاضي] (¬5) ابن كَجٍّ: أنَّه يجوز كِتَابَةُ المُعَلَّقِ عِتْقُهُ بصفة، وكتابة المُدَبَّرِ، فإن سَبَقَ مَوْتُ السيد، عُتِقَ بالتدبير، وإن سَبَقَ أَدَاءُ النجوم، عُتِقَ بالكتابة. وإنه يجوز كِتَابَةُ المُسْتَوْلَدَةِ، فإن مَاتَ السيد قبل أَدَاءِ النجوم، عُتِقَتْ من رَأسِ المال، وإن أبا الحُسَيْنِ خَرَّجَ وَجْهاً: أنَّه لا يجوز كِتَابَتُهَا، وهذا ما نَقَلَهُ الرُّوَيانِيُّ في "التجربة" عن إشارة النَّصِّ في "الأم"، وَوَجَّهَهُ بأن الكِتَابَةَ اعْتِيَاضُ عن الرَّقبةِ ورَجَّحَهُ مُرجِّحُونَ، والأَظْهَرُ الأول، وسيأتي إن شاء الله -تعالى- التَّفْرِيعُ عليه. وأنه لوِ قَبِلَ الكِتَابَةَ من السَّيِّدِ [أجْنَبِيٌّ] (¬6)، على أن يُؤَدِّيَ عن العَبْدِ كذا في نَجْمَيْنِ، فإذا أدَّاهُمَا، عُتِقَ العبد، ففي صِحَّتِهَا وجهان: أحدهما: الصحة، كَخُلْعِ الأجنبي. والثاني: المَنْعُ؛ لأنها تخالف مَوْضُوعَ الباب، فإن صَحَّحْنَاهَا، فهل يجوز أن تكون حالة؟ ¬
فيه وجهان، وإن لم نُصَحِّحْهَا فإذا أَدَّى، عُتِقَ العَبْدُ بوجود الصِّفةِ ويرجع المؤدى على السيد بما أَدَّى، والسَّيِّدُ عليه بقيمة العَبْدِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِي أن يُكَاتَبَ كُلُّهُ، وَلَوْ كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدِهِ، فَالمَذْهَبُ أنَّهُ لاَ يَصِحُّ، وَلَوْ كَاتَبَ مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ جَازَ لِحُصُولِ الاسْتِقْلاَلِ، وَلَوْ كَاَتَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ فَالمَذْهَبُ أنَّهُ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَاتَبَ بِالإِذْنِ فَقَوْلاَنِ، وَالأَظْهَرُ أنَّهُ لاَ يُصْرَفُ الصَّدَقَةُ إِلى مَنْ نِصْفُهُ رَقِيقٌ، وَلَوْ كَاتَبَ عَلَى مَالٍ وَاحِدٍ جَازَ، وَانْقَسَمَتِ النُّجُومُ عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِمَا، فَإِنْ شَرَطَا تَفَاوُتًا فِي القِسْمَةِ، فَقَدِ انْفَرَدَتْ كُلُّ صَفْقَةِ وَهِيَ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ، فَيُخَرَّجُ عَلَى القَوْلَيْنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لك أَنْ تَقُولَ: إِيرَادُ الكِتَابَةِ على كُلِّ العبد ليس صِفَةً في العبد، حتى يُقَالَ للعبد (¬1) شَرْطَانِ، وجعله شَرْطاً في نفس (¬2) الكتابة أَحْسَنُ من جعله شَرْطاً لِلْعَبْدِ. والفِقْهُ أنَّه إذا [كاتب] بعض عَبْدٍ، فأما أن يكون بَاقِيهِ حُرّاً، فتصح الكِتَابَةُ؛ لأنها اسْتَغرَقَتِ الرَّقِيقَ منه، فتفيد الاسْتِقْلاَلَ، فإن كاتب جَمِيعَهُ، والصورة هذه بَطَلَتْ في نصفه الحُرِّ، وفي الرقيق قَوْلاَ التَّفْرِيقِ. وكذا لو كان يَعْتَقِدُ الرِّقَّ في جميعه، فَبَانَ بعضه حُرّاً؛ فإن قلنا: يفسر، فلا يُعْتَقُ حتى يُؤَدِّيَ جميع المُسَمَّى لِتَتَحَقَّقَ الصِّفَةُ فإذا عتق اسْتَرَدَّ منه السيد ما أَدَّى، وللسيد عليه قِسْطُ القدر الذي كَاتَبَهُ من القيمة. وإن قلنا: يصح، فَيَسْتَحِقُّ جميع المسمى، أو قِسْطَ الرقيق من القيمة؟ فيه قولان، كما في البيع: إذا أجاز المُشْتَرِي البَيْعَ في المَمْلُوكِ. وإما أن يكون بَاقِيهِ أو بَعْضَ الباقي رَقِيقاً، فالقَدْرُ الرقيق إما أن يكون لَهُ أو لِغَيْرِهِ. "الحالة الأولى": إذا كان له فقد نَصَّ أن الكِتَابَةَ لا تَصِحُّ؛ لأن المُكَاتَبَ يحتاج إلى التَّرَدُّدِ؛ حَضَراً وسَفَراً؛ لاكْتِسَاب النجوم، ولا يَسْتَقِلُّ بذلك، إذا كان بَعْضُهُ رَقِيقاً، فلا يحصل مَقْصُودُ الكتابة، وأيضاً فلا يمكن صَرْفُ سَهْمِ [المكاتبين] (¬3) إليه؛ لأنه يصير بَعْضُهُ مِلْكاً لمالك الباقي -فإنه من أكْسَابِهِ- بخلاف ما إذا كان بَاقِيهِ حُرّاً، فإنه يمكن وَضْعُ الصَّدقَةِ فيه، وفي هذا شيء سَنَذْكُرُهُ إن شاء الله تعالى. وعن ابن سُرَيْجٍ تخريج قول آخر أَخْذاً مما إذا كَاتَبَ أَحَدُ الشريكين نَصِيبَهُ بِإِذْنِ ¬
الآخَرِ، فإنه إذا كَاتَبَ بَعْضَ ما يملكه، فقد كاتب البَعْضَ بِإِذْنِ مَالِكِ الباقي. ونَحَا أَبُو الحُسَيْن بن القَطَّانِ نحوه، فَأَثْبَتَ في المسألة وَجْهَيْنِ، والجمهور قَطَعُوا بالمنصوص، وقالوا: أَحَدُ الشريكين لا يَتَمَكَّنُ من كتابة نَصِيبِ الآخر، والمَالِكُ الواحد يَتَمَكَّنُ من كِتَابَةِ جميع ما يملكه. وإن صححنا كِتَابَةَ البَعْضِ؛ فإن كان بين السَّيِّدِ وبينه مُهَايَأَةٌ فاكتسب النُّجُومَ في نَوْبَتِهِ، وأَدَّاهَا، فَيُعْتَقُ القَدْرُ الذي كَاتَبَ وَيَسْرِي إلى الباقي. وإن لم يكن بينهما مُهَايَأَةٌ؛ فما يَكْتَسِبُهُ يكون بينهما، فإن وَفَّرَ قِسْطَ السَّيِّدِ، وما بقي بالنجوم من قِسْطِهِ عُتِقَ، فإن لم يُوَفِّرْ إلا قَدْرَ النُّجُومِ؛ ففي العِتْقِ خِلاَفٌ سنذكر نَظِيرَهُ وإن لم نصححها فهي كِتَابَةٌ فَاسِدَةٌ، فإن أَدَّى المَالَ قبل أن يَفْسَخَهَا السيد عُتِقَ، والسِّرَايَةُ كما ذكرنا، ثم يرجع المُكَاتَبُ على السَّيِّدِ بما أَدَّى، ويرجع السَّيِّدُ إليه بقِسْطِ القَدْرِ المُكَاتَبِ من القيمة، ولا يرجع بقسط ما سَرَى العِتْقُ إليه؛ لأنه لم يعتق بحكم الكِتَابَةِ. "الحالة الثانية": إذا كان الباقي لغيره؛ فإذا كاتب أَحَدُ الشريكين نَصِيبَهُ، نُظِرَ: إما أن يُكَاتِبَ بِإِذْنِ الآخَرِ، أو دون إِذْنِهِ. إن كاتب بِإِذْنِهِ، ففيه قولان: أصحهما: وهو المنصوص في "الأم"، واختاره المُزَنِيُّ، وبه قال مالك: أنَّه لا تَصِحُّ الكِتَابَةُ؛ لأن الشريك الآخَرَ يَمْنَعُهُ من التَّرَدُّدِ والمُسَافَرَةِ، ولا يمكن أن يُصْرَفَ إليه سَهْمُ المُكَاتَبِينَ. والثاني: قاله في "الإملاء" على مسائل مُحَمَّدٍ بن الحَسَنِ: أنها تَصِحُّ؛ لأنه يَسْتَقِلُّ في البَعْضِ المُكَاتَب عليه، وإذا جاز إِفْرَادُ البعض بالإِعْتَاقِ، جاز إِفْرَادُهُ بالعَقْدِ المُفْضِي إلى العتق. وبهذا القول قال أبو حَنِيْفَةَ وقال: إذا عتق نصَيبه بأداء النجوم يَسْتَسْعِي في الباقي. وعن أبي سلمة: القَطْعُ بالقول الأول، فيجوز أن يُعَلَمَ قوله في الكتاب: "قولان" [بالواو] (¬1) كذلك. وإن كاتب بغير إذن الآخر، فَظَاهِرُ المذهب فَسَادُ الكِتَابَةِ؛ لعدم الاستِحْلاَلِ؛ ولأن نَصِيبَ الشريك يَنْتَقِصُ، فَيَتَضَرَّرُ به. وربما خرج القولان في حالة إذْنِ الشريك على هَذَيْنِ المعنيين إن قُلْنَا بالأول لم يَصِحَّ، وإن قلنا بالثاني فقد أَسْقَطَ حَقَّهُ، ورضي بالضَّرَرِ الذي يَلْحَقُهُ. وعن أبي علي الطَّبَرِيِّ وَجهٌ آخر: أنها تَصِحُّ، وإن كاتب بغير الإِذن كما ينفرد أحد الشريكين بالإِعْتَاقِ والتعليق والتَّدْبِيرِ. ¬
وقال الإِمام: ذهبت طَائِفَةٌ إلى تَخْرِيجِ القولين في هذه الصورة، وهو مُنْقَدِحٌ؛ لأن إِذْنَ الشريك لا يُفِيدُهُ الاسْتِقْلاَل، فلا يبقى إلاَّ تَخَيُّلُ تَضَرُّرِ الشريك، وهذا لا حَاصِلَ له مع نُفُوذِ العِتْقِ عن الشريك. التفريع: إن أَفْسَدْنَا كِتَابَةَ أَحَدِ الشريكين، فللسيد فَسْخُهَا وإبطالها، كسائر الكِتَابَاتِ الفاسدة، فإن لم يفعل [ودفع] (¬1) العبد بَعْضَ كَسبِهِ إلى الَّذِي لم يكاتبه، وبَعْضَهُ إلى المكاتب، بحسب المِلْكِ، حتى أَدَّى مَالَ الكِتَابَةِ، عُتِقَ، ويقوم نَصِيبُ الشريك على المكاتب بشرط اليَسَارِ، ويرجع العَبْدُ إليه بما دفع، ويرجع هو على العَبْدِ بِقِسْطِ القدر الذي كاتب من القيمة، وإذا دَفَعَ جَمِيعَ ما اكْتَسَبَهُ إلى المُكَاتَبِ، حتى تم قدر النجوم، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يُعْتَقُ؛ لأن العِتْقَ في الكِتَابَةِ الفاسدة يَتَعَلَّقُ بحصول الصِّفَةِ، وقد حصلت. وأصحُّهما: المَنْعُ؛ لأن المُعَاوَضَةَ تقتضي إِعْطَاءَ ما يملكه لينتفع بالمدفوع إليه. وفي طريقة الصَّيدَلاَنِيِّ نَقْلَهُمَا قولين، ونِسْبَةُ الأول إلى ما أَطْلَقَة في كتاب ابن أبي لَيْلَى. والثاني: إلى رواية الرَّبيع. وأجرى الخلاف فيما إذا قال: إن أَعْطَيْتَنِي عَبْداً فأنت حُرٌّ، فأعطاه عَبْداً مُسْتحقاً؛ هل يحصل العِتْقُ؟ فإن قلنا: لا يُعْتَقُ، فللذي لم يُكَاتبْ أن يأخذ نَصِيبَهُ، كما أخذه المُكَاتَبُ فإنه ملكه، ثم إن أدَّى العَبْدُ تَمَامَ النُّجُوم من حِصَّتِهِ من الكَسْبِ، عُتِقَ، وإلاَّ فلا. وإن قلنا: يُعْتَقُ، فيأخذ نَصِيبَهُ أَيضاً والتَّرَاجُعُ من المكاتب والعبد، وسِرَايَةُ العِتقِ على ما تقدم. وإن صححنا كِتَابَةَ أَحَدِ الشريكين، فدفع العَبْدُ من كَسْبِهِ حِصَّتَهُ إلى المكاتب، أو جرت بينه وبين الذي لم يُكَاتب مُهَايَأَةٌ، فدفع ما اكْتَسَبَهُ في نَوْبَتِهِ إلى المكاتب حتى تَمَّتِ النجوم، عتق، وقُوِّمَ عليه نَصِيبُ الشريك إذا كان مُوسِراً وكذا لو أَبْرَأَهُ عن النُّجُومِ، أو أَعْتَقَهُ، وإن دفع إليه كُلَّ مَا اكْتَسَبَهُ حتى تم قدر النجوم ففي "جَمْع الجوامع" للقاضي الرُّوَيانِيِّ أن بَعْضَ الأصحاب جَعَلَ حُصُولَ العِتْقِ على وجهين، أو قولين، كما ذكرنا تَفْرِيعاً على قَوْلِ الفَسَادِ. ¬
والظاهر: القَطْعُ بالمَنْعِ، وفرق بأن الكِتَابَةَ إذا صحت غَلَبَ فيها معنى (¬1) المُعَاوَضَةِ، وفي المُعَاوَضَاتِ تَسْلِيمُ غير المملوك كَعَدَمِهِ، وإذا فَسَدَتِ الكِتَابَةُ فيغلب حكم الصفة، ولذلك جاء الخِلاَفُ. فروع: أوردها القاضي ابْنُ كَجٍّ: أحدها: إذا أَذِنَ الشَّرِيكُ في كتابة نَصِيبِهِ، فله أن يَرْجِعَ عن [الإِذْنِ] (¬2) فإن لم يعلم الشَّرِيكُ برجوعه حتى كاتب، فعلى الخِلاَفِ من تَصَرُّفِ الوكيل بعد العَزْلِ، وقبل العلم به. الثاني: كاتب نَصِيبَهُ بِإذْنِ شريكه، وجَوَّزْنَاهُ، فأراد الشريك الآخَرُ كِتَابَةُ نَصِيبِهِ؛ هل يحتاج إلى إِذْنِ الأول؟ فيه وجهان: الثالث: كاتب أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، وقال الآخر: كَاتَبْتهُ بِإِذْنِكَ وأنكر، فإن قال مع ذلك: وقد أَدَّى المَالَ، عُتِقَ بإقْراره وقُوِّمَ عليه نَصِيبُ الشريك إن كان مُوسِراً؛ وإن لم يُقِرَّ بالأَدَاءِ، فالقول قَوْلُ المُنْكِرِ مع يَمِينِهِ، فإن حَلَفَ بَطَلَتِ الكِتَابَةُ، وإن نَكَلَ حَلَفَ الذي كَاتَبَ، فإن نَكَلَ رُدَّتِ اليَمِينُ على المُكَاتَبِ؛ هكذا ذكر ابْنُ القَطَّانِ قال: وعندي يَنْبَغِي أن يكون هذا التَّدَاعِي بين الشَّرِيكِ والمُكَاتَب، فإذا ادَّعَى المُكَاتَبُ الإِذْنَ، وأنكر الشريك صُدِّقَ، وإن نَكَلَ حَلَفَ المُكَاتَبُ، وثبتت الكِتَابَةُ. هذا إذا انفرد أَحَدُ الشريكين بالكِتَابَةِ. أما إذا كاتبا العَبْدَ المُشْتَرَكَ معاً، أو [وَكَّلاَ] (¬3) رَجُلاً، فكاتب جميعه، أو وَكَّلَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَكَاتَبَهُ، صحت الكتابة، إن اتفقت النُّجُوم [جنساً وأَجلاً وعَدَداً، وجَعَلا حِصَّة كل واحد من النجوم] (¬4) بحسب اشتراكهم في العَبْدِ، أو أطلقا، فإنها كذلك تَنْقَسِمُ، وإن اختلفت النُّجُومُ في الجِنْسِ، أو في قَدْرِ الأَجَلِ، أو العدد أو شرطا تَفَاوُتاً في النجوم مع التَّسَاوِي في المِلْك أو بالعكس، ففيه طريقان: أحدهما (¬5): وهو الذي أَوْرَدَهُ في الكتاب، وبه قال القَفَّالُ -أن صِحَّة كتابتهما على القَوْلَيْنِ، فيما إذا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بكتابة نصيبه بِإِذْنِ الآخر. ¬
والثاني: القَطْعُ بالمَنْعِ، وبه قال القاضي أَبُو الطَّيِّبِ؛ لأنا لو جَوَّزنَا ذلك لَزِمَ أن ينتفع أَحَدُهُمَا بِمَالِ الآخر؛ لأنه إذا اسْتَوَى المِلْكَانِ، ودفع إلى أحدهما مائة، وإلى الآخر مائتين فقد ترتفع الكِتَابَةُ بالعَجْزِ، فيحتاج الأَوَّلُ إلى أن يرجع على الثاني بخمسين، ويكون الثَّانِي قد انْتَفَعَ بها مُدَّةَ بقائها في يَدِهِ من غَيْرِ استحقاق. ولا يشترط اسْتِوَاءُ الشريكين في مِلْكِ العَبْدِ الذي يُكَاتِبَانِهِ. وفي "الكافي" للروياني وَجْهٌ ضعيف ولْيُعَلَمْ في الكتاب قوله: "فيما إذا كاتب أحد الشريكين بغير إِذْنِ الآخر، فَالمَذْهَبُ أنَّه باطل" بالأَلِفِ؛ لأن أحمد يُصَحِّحُ هذه الكِتَابَةَ. وفي "شرح المُوَفَّقِ بن طاهر" عن أبي حَنِيْفَةَ مِثْلُهُ، ولذلك حكى عنه فيما إذا كَاتَبَ بَعْضَ عَبِيدِهِ، والله أعلم. بقي الكلام في مَسْأَلَةٍ؛ وهي أن المَشْهُورَ أنَّه لا يجوز صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلى مَنْ بعضه رَقِيقٌ؛ لما ذكرنا أن ما يأخذه ينقسم إلى القَدْرِ الرَّقِيقِ وغيره. قال الإِمَامُ: ورأيت لِبَعْضِ الأصحاب ما يَدُلُّ على تَجْوِيزِهِ، وقد يمنع هذا القائل الانْقِسَامَ، ويقول: تَخْتَصُّ الصَّدَقَة بِالقَدْرِ المكاتب؛ لأنه لا يجوز أن تكون الصَّدَقَة كَسْبَ رَقِيقٍ. وفي "الكافي" للقاضي الروياني عن بعضهم: إطْلاَقُ قولين وفي المَسأَلَةِ تفصيل حَسَنٌ، وإلى ترجيحه يميل (¬1) إيراده، وهو إن لم يكن بينهما مُهَايَأَةٌ، فلا يَجُوزُ أن يأخذ من سَهْمِ الصدقات، وإن كان بينهما مُهَايَأَةٌ، فله أخذه في يوم نفسه خَاصَّةً. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَرْعٌ: لَوْ كَاتَبَاهُ ثُمَّ عَجَزَ أحَدُهُمَا وَأَرَادَ الثَّانِي إِبْقَاءَ الكِتَابَةِ في نَصِيبهُ بِالإِنْظَارِ فَقَوْلاَنِ وَأَوْلَى بِالجَوَازِ؛ لِقُوَّةِ الدَّوَامِ، وَلَوْ كَاتَبَ وَاحِدٌ عَبْداً ثُمَّ خَلَّفَ ابْنَيْنِ وَعَجَّزَهُ أَحَدُهُمَا وَأَنْظَرَهُ الآخَرْ فَهَذَا أَوْلَى بِالمَنْعِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا اجتمع الشَّرِيكَانِ على كتابة العَبْدِ، ثم عجز، فَعَجَّزَهُ أحدهما، وفَسَخَ الكِتَابَةَ، وأراد الآخَرُ إِنْظَارَهُ وإبقاء الكتابة، فَأَظْهَرُ الطريقين أنَّه كَابْتِدَاءِ الكِتَابَةِ، فلا يجوز إبْقَاؤُهَا من غَيْرِ إِذْنِ الشَّريكِ، وفي إبقائها بإذْنِهِ قولان؛ وهل يكون التَّوَافُقُ على ابْتِدَاءِ الكِتَابَةِ إِذْناً في إبقائها؟ يُخَرَّجُ ممَّا أَوْرَدَهُ الإِمَامُ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنهما إذا تَوَافَقَا على الكِتَابَةِ، فقد رضيا بأحكامها؛ ومن أَحْكَامِهَا جَوَازُ الإِنْظَارِ عند العَجْزِ. ¬
وأشبههما: المنع، وجعل الإرْفَاق نَاقِضاً لما جرى به الإِذْنُ والموافق عليه. ومنهم من قطع بالإِذْنِ، وقال: يحتمل التَّبْعِيض في الانْتِهَاءِ، وإن لم يحتمل في الابتداء؛ لأن الدَّوَامَ أَقْوَى من الابتداء (¬1). وقوله في الكتاب: "فقوْلان وأَوْلَى بالجَوَازِ لِقُوَّةِ الدوام" بنيه على الطريقين. ولو كاتب إِنْسَانٌ عَبْدَهُ، ومات عن ابْنَيْنِ، وعَجَزَ المُكَاتَبَ، فَأَرَقَّهُ أحدهما، وأراد الثاني إِنْظَارَهُ، فيجري فيه الطَّرِيقَانِ؛ لأن الكِتَابَةَ بعد الموت بين الوَارِثينَ ككتابة تَصْدُرُ من الشريكين، ولذلك يُعْتَقُ نصيب أحد الابنين بِإِبْرَائِهِ عن حِصَّتِهِ من النجوم، وهذه الصورة أَوْلَى بألاَّ تَتَبَعَّضَ فيها الكِتَابَةُ؛ لأنها صَدَرَتْ من واحد في الابْتِدَاءِ، وهناك تثبت من شخصين، والصَّفْقَةُ تتعَدَّدُ بتَعَدُّدِ العاقد. قَالَ الْغَزَالِيُّ: هَذَا بَيَانُ مَا يَصِحُّ مِنَ الكِتَابَةِ، وَمَا لاَ يَصِحُّ، فَيَنْقَسِمُ إلَى بَاطِلٍ وَفَاسِدٍ فَالبَاطِل هُوَ الَّذِي اخْتَلَّ بَعضُ أَرْكَانِهِ بِأَنْ صَدَرَ الإِيجَابُ وَالقَبُولُ مِنْ غَيْرِ مُكَلَّفٍ، أو غَيْرِ مَالكٍ، أَوْ مُكرَهٍ، أَوْ عَدَمِ قَصْدِ مَالِيَّةِ العِوَضِ، كَمَا لَوْ كَاتَب عَلَى دَمٍ أَوْ حَشَرَاتٍ، أَوِ اخْتَلَّتِ الصِّيغَةُ بِأَنْ فُقِدَ لَفْظُ العَقْدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لما تَكَلَّمَ في الأَرْكَانِ بشروطها التي هي مَنَاطُ الصِّحَّةِ أراد أن يُبَيِّنَ حَالَ الكِتَابَةِ التي لا تصلح وتنقسم إلى بَاطِلَةٍ وفَاسِدَةٍ. أما الباطلة فهي التي اخْتَلَّ بعض أَرْكَانِهَا بأن كان السَّيِّدُ صبياً أو مَجْنُوناً، أو مُكْرَهاً على الكتابة، أو كان العَبْدُ كذلك، أو كاتب وَليُّ الصبي والمجنون عَبْدَهُمَا، أو لم يَجْرِ ذِكْرُ عِوَضٍ، أو ذِكْرُ ما لا يقصد ولا مَالِيَّةَ له كالدَّمِ والحَشَرَاتِ، أو اختلفت الصِّيغَةُ بأن فُقِدَ الإيجَابُ أو القَبُولُ، أو لم يوافق أحدهما الآخر. وأما الفَاسِدَةُ فهي التي امْتَنَعَتْ صِحَّتُهَا لِشَرْطٍ فَاسِدٍ، أو لِفَوَاتِ شرط في العِوَضِ، بأن كان خَمْراً، أو خِنْزِيراً، أو مجهولاً، أو لم يُؤَجِّلْهُ، أو لم يُنَجِّمْهُ، أو كاتب بَعْض العَبْدِ. وضبطها الإِمَامُ فقال: إذا صدرت الكِتَابَةُ إِيجَاباً وقَبُولاً ممن تصح عِبَارَتُهُ، وظهر اشْتِمَالُهَا على قَصدِ المَاليَّةِ، لكنها لم تَسْتَجْمِعْ شَرَائِطَ [الصحة] (¬2) فهي الكتابة الفَاسِدَةُ. إذا عرفت ذلك فالكتابة البَاطِلَة لاَغِيَةٌ، إلاَّ أنه صَرَّحَ بالتعليق، وهو ممن يصح ¬
تَعْلِيقُهُ، فيثبت مقتضى التعليق. وأما الفَاسِدَةُ، فإنها تُشَارِكُ الصَّحِيحَةَ في بعض الأحكام، على ما سنذكر على الأَثَرِ، وإنما كان كذلك على خلاف البيع، وسائر العقود، حيث لا يُفَرَّقُ فيها بين البَاطِلِ والفاسد (¬1)؛ لأن العِتْقَ هو المَقْصُودُ من الكتابة، ولتوقع العتق صَحَّحْنَاهَا وإلا فهي على خِلاَفِ القِيَاسِ على مَا مَرَّ، وتعليق العتق لا يفسد، وإن فَسَدَتِ الكتابة، فانْتِظَارُ العِتْقِ الذي هو المقصود [أحوج] (¬2) إلى أن يثبت في الفَاسِدَةِ بعض أحكام الصحيحة، هكذا وَجَّهَ الإِمَامُ. لكن قَضِيَّةَ هذا أن تكون الكتابة البَاطِلَةُ إذا صَحَّ التَّعْلِيقُ فيها كالكِتَابَةِ التي سَمَّيْنَاهَا فَاسِدَةً. وقوله في الكتاب: "أو غير مالك" [أو بغير إذن المالك] (¬3)، وقوله: "أو مُكْرَهِ" بين اشتراط الاختيار في السَّيِّدِ والعَبْدِ جميعاً، ولم يذكره في الرُّكْنَيْنِ، وقد يهمل مِثْلُ هذا لِوُضُوحِهِ. وقوله: "أو عدم قصد مَالِيَّةِ العِوَضِ، كما لو كاتب على دَمٍ أو حَشَرَاتٍ"، في قوله: "إن الدم لا يقصد" تَوَقُّفٌ أبْدَيْناه في "الخُلْعِ". وَعَدَّ الصَّيْدَلاَنِيُّ الكِتَابَةَ على المَيْتَةِ والدَّمِ من صور الكتابة الفاسدة، كالكتابة على الخَمْرِ والخِنْزِيرِ. والله أعلم. ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: ثُمَّ الفَاسِدُ يُسَاوِي الصَّحِيحَ فِي ثَلاَثةِ أُمُورٍ: (أَحَدُهَا): أنَّهُ يَحْصُلُ العِتْقُ بِالأَدَاءِ، لَكِنْ بِحُكْمِ التَّعْلِيقِ، فَلاَ يَحْصُلُ بِالإِبْرَاءِ وَالاعْتِيَاضِ. (والثاني): أنَّهُ يُسْتَقَلُّ بِالكَسْبِ وَيَسْتَتْبعُ عِنْدَ العِتْقِ مَا فَضُلَ مِنْ كَسْبِهِ، وَكَذَا وَلَدُهُ مِنْ جَارِيَتِهِ، أَمَّا وَلَدُ المُكَاتَبَةِ فَفِي سِرَايَةِ الكِتَابَةِ الفَاسِدَةِ إِلَيْهِ قَوْلاَنِ، كَمَا فِي سِرَايَةِ التَّعْلِيقِ. (والثَّالِثُ): أنَّهُ يَسْتَقِلُّ حَتَّى يُعَامِلَ السَّيِّدُ، وَتَسْقُطَ عَنْهُ نَفَقَتهُ، وَالصَّحِيحُ أنَّهُ لاَ يُسَافِرُ، وَفِي صَرْفِ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قال الأَصْحَابُ: تَعْلِيقُ العِتْقِ بالصِّفَةِ على ثلاثة أَقْسَامٍ: أحدها: التَّعْلِيقُ الخَالِي عن المُعَاوَضَةِ، كقوله: إن دخلت الدَّارَ أو إن كلمت فلاناً فأنت حُرٌّ. ومن هذا القَبِيلِ قَوْلُهُ: إن أَدَّيْتَ إِلَيَّ كذا فأنت حُرٌّ، فإن المال ليس مَذْكُوراً على سبيل الأَعْوَاضِ، فهذا لازم من الجَانِبَيْنِ، فليس لِلْعَبْدِ، ولا للسيد ولا لَهُمَا رَفْعُهُ بالقول، وَيَبْطُلُ بِمَوْتِ السيد [وإذا وجدت الصِّفَةُ في حياته عُتِقَ، وكَسْبُ العبد] (¬1) قبل وجود الصفة للسيد، ولو أَبْرَأَهُ في صُورَةِ التعليق بأَدَاءِ المال عن المال، لم يُعْتَقُ، ولا تراجع بين السَّيِّدِ وبَيْنَهُ. والثاني: التَّعْلِيق في عقد يَغْلِبُ فيه معنى المُعَاوَضَةِ، وهو الكتابة الصَّحِيحَةُ، في عَقْدٍ فيه معنى المُعَاوَضَةِ، وَيَغْلِبُ فيه معنى التعليق، وهو الكتابة الفَاسِدَة، وهي كالصحيحة في أحكام: أَحَدُهَا: أنَّه إذا أَدَّى العَبْدُ المُسَمَّى عُتِقَ بموجب التعليق، ولا يُعْتَقُ بإبراء السيد، ولا بأَدَاءِ الغير عنه تبرعاً؛ لأن الصِّفَةَ المُعَلَّقَ عليها لا تَحْصُلُ بهما، بخلاف الكتابة الصحيحة. وحكى الصَّيدَلاَنِيُّ عن أبي حنيفة أنَّه يُعْتَقُ بهما، ولو اعْتَاضَ عن المسمى لم يُعْتَقْ أيضاً. وقوله في الكتاب: "فلا يحصل بالإبْرَاءِ أو الاعتياض" ونَبَّهَ على [أن العتيق] (¬2) يحصل بِمُوجَب التعليق، لا بحكم المُعَاوَضَةِ وإلاَّ فهو مما يُفَارِق فيه الكِتَابَة الفاسدة الكِتَابَةَ الصحيحَة، وذِكْرُهُ هناك أَحْسَنُ. وقوله: [الاعتياض] (¬3) قد يفهم من السِّيَاقِ المذكور تَجْوِيزُ الاعتياض في الكتابة الصحيحة، وحُصُولِ العِتْقِ، لكن فيه خِلاَفٌ سيأتي من بَعْدُ، إن شاء الله تعالى. ¬
والثاني: أنَّه يَسْتَقِلُّ بالاكتساب لِيَتَرَدَّدَ وَيتَصَرَّفَ، فيؤدي المسمى، ويُعْتَق، وإذا أَدَّى فيما فَضَلَ من الكَسْبِ، فهو له، وإنما كان كذلك؛ لأن الكِتَابَةَ الفاسدة كالصحيحة في حُصُولِ العتق بأَدَاءِ المُسَمَّى والأداء يكون من الكَسْب، فيكون بمنزلة الصَّحِيحَةِ في الكَسْبِ. وولد المُكَاتَب من جَارَيتِهِ بِمَثَابَةِ أَكْسَابِهِ لكن لا يبيعه فإنه مكاتب عليه، على ما سَنَذْكُرُ من بَعْدُ، إن يسر الله تعالى. فإذا عُتِقَ تَبِعَهُ، وعتق عليه. والمُكَاتَبَةُ كِتَابَةً فاسدة؛ هل يتبعها وَلَدُهَا؟ فيه طريقان: أظهرهما: على ما ذكره الإِمَامُ وغيره -رحمهم الله-، نعم كالأَكْسَابِ. والثاني: وهو المذكور في الكِتَابِ، وحكاه الشَّيْخُ أبو عَلِيٍّ عن أبي زيد أن فيه قولين؛ لأن العِتْقَ إنما يَحْصُل في الكتَابة الفَاسِدَةِ من جهة التعليق، وقد ذكرنا في "التَّدْبِيرِ" قولين في وَلَدِ المُعَلَّقِ عِتْقُهَا. هذا ما أَوْرَدَهُ. وسنذكر في ولد المُكَاتَبَةِ كِتَابَةً صَحِيحَةً قولين، في أنَّه هل يتبعها؟ فيمكن أن يقال: الطريقان مُتَفَرِّعَانِ على قولنا بأنه يَتْبَعُهَا هناك. والثالث: أَوْرَدَ الإِمَامُ، وصاحب الكتاب أنَّه إذا اسْتَقَلَّ سقطت نَفَقَتُهُ عن السَّيِّدِ، وأن له مُعَامَلَةَ السيد كالمكاتب كتابة صحيحة. والذي ذكره صاحب "التهذيب" أنَّه لا تَجُوزُ مُعَامَلَتُهُ مع السيد، وأنه لا ينفذ تَصَرُّفُهُ فيما في يَدِهِ، كما في المُعَلَّقِ عِتْقُهُ بصفة، ولعل هذه أقوى. واختلفوا في صُورَتَيْنِ: إحداهما: هل للمكاتب كِتَابَةً فاسدة أن يُسَافِرَ دون إِذْنِ السيد؟ يبنى ذلك على أن للمكاتب كِتَابَةً صحيحة؛ هل (¬1) يسافر بغير إذْنِهِ؟ وقد نَصَّ في باب كتابة بَعْضِ العبد في "المختصر" أنَّه يُسَافِرُ وعن "الإملاء": مَنْعُهُ، وفيهما طريقان لِلأَصْحَابِ: أحدهما: أن فيه قولين: أحدهما: المَنْعُ، وبه قال مالك؛ لما فيه من المُخَاطَرَةِ بالمال، ولهذا لم يكن لِلشَّرِيكِ أن يُسَافِرَ بغير الإِذنِ بمال الشَّرِكَةِ. وأصحُّهما: الجَوَازُ، وبه قال أبو حَنِيْفَةَ وأحمد -رحمهما الله- لأنه قد يَسْتَعِينُ ¬
بالسَّفَرِ على الاكْتِسَاب، ولأن المُكَاتَبَ في يَدِ نَفْسِهِ، والسيد يَسْتَحِقُّ عليه دَيْناً مُؤَجّلاً، والدَّيْنُ المُؤَجَّلُ لا يمنع السَّفَرَ. والثاني: حَمْلُهُمَا على حَالَيْنِ، حيث جوز أَرَادَ السفر القصير وحيث منع أراد السفر الطويل. وقيل: حيث جَوَّز أراد ما إذا لم يحل النَّجْم؛ وحيث منع أراد ما إذا حَلَّ. فإن قلنا: يسافر بغير إِذْنٍ، ففي المُكَاتَبِ كِتَابَةً فاسدة وجهان: أحدهما: أن له ذلك أيضاً؛ لاسْتِفلاَلِهِ بالكَسْبِ. وأظهرهما: المنع؛ لأن تَمْكِينَهُ من الخروج عن ضَبْطِ السيد ونَظَرِهِ من غير عقد لازم بعد. الثانية: يجب على السَّيِّدِ فِطْرَةُ المُكَاتَب كِتَابَةً فَاسِدَةً، وهل يصرف إليه سَهْمُ الرِّقَابِ؟ فيه وجهان عن حكاية القاضي الحسين (¬1): أحدهما: نعم؛ لأنها من الأَكْسَابِ التي يُتَوَصَّلُ بها إلى العِتْقِ، وهو مُسْتَقِلٌّ بالاكتساب. وأصحُّهما: وهو المَحْكِيُّ عن النَّصِّ: لا؛ لأن هذه الكِتَابَةَ غير لاَزِمَةٍ، والقَبْضُ فيها غير مَوْثُوقِ به، وعلى هذا فالمَسْأَلَةُ مما يُفَارق فيها الكتابة الفاسدة الصحيحة، وكذا المُسَافَرَةُ إذا منعناها في الفَاسِدَةِ، وجَوَّزْنَاهَا في الصحيحة. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيُفَارِقُهُ فِي أَمْرَيْنِ: (أَحَدُهُمَا): أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ مَا عُلِّقَ بِهِ الأَدَاءُ رَدَّهُ، وَرَجَعَ إلَى قِيمَةِ الرَّقَبَةِ لِفَسَادِ العِوَضِ (والثَّانِي): أنَّها لاَ تَلْزَمُ مِنْ جَانِبِ السَّيِّدِ فَلَهُ فَسْخُهَا، وَمَهْمَا فَسَخ، أَوْ قَضَى القَاضِي بِرَدِّهَا، لَمْ يُعْتَق بِحُكْمِ التَّعْلِيق، وَإِنْ أَقدَّ؛ لأَنَّهُ كانَ تَعْلِيقاً في ضِمْنِ مُعَاوَضَةٍ، وَلَو أَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَتهِ صَحَّ، وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ، وَكانَ فَاسِخاً لِلكِتَابَةِ حَتَّى لاَ يَتْبَعَهُ الكَسْبُ، بِخِلاَفِ الكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ، فَإنَّهَا تَمْنَعُ الإجْزَاءَ عَنِ الكَفَّارَةِ، وَلَوْ مَاتَ السَّيِّدُ فَأدَّى إلَى الوَارِث، لَمْ يُعْتَقْ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ القَائِلَ لَهُ: إِذَأ أَدَّيتَ فَأنْتَ حُرٌّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: حَقُّ لفظ "الكتابة" تأنيث الكتابة، والتذكير هاهنا. وفي قوله: "من قبل ثم الفاسد يساوي الصحيح" مَرْدُودٌ إلى العَقْدِ أو نحوه. وفي الفصل مسائل: ¬
إحداها: إذا أَدَّى العَبْدُ المَسَمَّى في الكتابة الفَاسِدَةِ، وحصل العِتْقُ، فيرجع السيد بما أَدَّى؛ لأنه لم يَمْتَلِكْهُ، ويرجع السيد عليه بِقِيمَةِ رَقَبَتهِ؛ لأن فيها معنى المُعَاوَضَةِ، وقد تَلِفَ المعقود عليه بالعِتْقِ، فهو كما لو تَلِفَ المبيع بَيْعاً فَاسِداً في يَدِ المشتري، يرجع على البائع بما أَدَّى، ويرجع البَائِعُ عليه بالقِيمَةِ، وكذا لو خَالَعَ على عِوَضٍ فاسد، إلاَّ أن الخُلْعَ لا مُسْتَدْرَكَ له، والكتابية تَقْبَلُ الرَّفْعَ، وإن كانت صَحِيحَةً، والاعتبار بقيمة يوم العِتْقِ، فإنه يوم التَّلَفِ. وعن رواية ابن خَيْرَانَ قول: أنَّه يعتبر قِيمَةُ يَوْمَ العَقْدِ. [كما في الكتابة الصحيحة، فأما إذا احتجنا إلى قسمة العِوَضِ عن العبد يُرَاعى قيمتهم يوم العقد] والظاهر المشهور: الأوَّل، وإنما اعتبرنا فيه يوم العقد في الكتابة الصَّحِيحَةِ؛ لأنه وَقْتُ الحَيْلُولَةِ، وهاهنا تحصل الحَيْلُولَةُ بالعِتْقِ، وإذا هلك المسَمَّى في يَدِ السَّيِّدِ، رجع العَتِيقُ بِمِثْلِهِ أو قيمته، فإن كان الوَاجِبُ على السَّيِّدِ من جِنْسِ القيمة بأن كان غَالِبُ نَقْدِ البلد فهو على أَقْوَالِ التَّقَاصِّ، وسيأتي ذِكْرُهَا في الكتاب إن شاء الله تعالى. وإذا حصل التَّقَاصُّ، وفضل لأحدهما شَيْءٌ رجع بالفَاضِل. وما ذكرنا من التراجع (¬1) فيما إذا كان المُسَمَّى مِمَّا له قِيمَةٌ، فإن كان خَمْراً أو خِنْزِيراً، فلا يرجع العتيق على السَّيِّدِ بشيء، وهو يرجع على العَتِيقِ بقيمة رَقَبَتِهِ. الثَّانِيَةُ: للسيد فَسْخُ الكِتَابَةِ الفاسدة؛ لأن المُسَمَّى فيها لا يسلم للسَّيِّدِ، فإن لِلْعَبْدِ اسْتِرْدَادَهُ، بخلاف الكتابة الصحيحة، ثم إن شاء فَسَخَ بنفسه، وإن شاء رَفَعَ (¬2) الأَمْرَ (¬3) إلى الحَاكِمِ، حتى يحكم بِإِبْطَالهَا أو بِفَسْخِهَا. قال القاضي الرُّوَيانِيُّ: وهو كما لو وَجَدَ المُشْتَرِي بالمَبِيعِ عَيْباً، له أن يفسخ البيع بنفسه، وله أن يرفع الأَمْرَ إلى الحاكم، حتى يفسخه ولا يبطلها الحاكم من غَيْرِ طَلَبِ السيد. ذكره في "التهذيب". ويجوز أن يُعَلمَ قوله في الكتاب: "فله فسخها" بالواو. لأن القاضي ابْنُ كَجٍّ ذَكَرَ أن ابن القَطَّانِ حكى عن ابن سَلَمَةَ وَجْهاً آخر: أنَّه لا سَبِيلَ إلى إِبْطَالِ الكِتَابَةِ الفاسدة بالقول؛ لأن العِتْقَ فيها يَحْصُلُ بحكم التَّعْلِيقِ، والتعليق لا يجوز إِبْطَالُهُ، والظَّاهِرُ الأوَّلُ. وإذا فسخها، أو حكم الحاكم بِإِبْطَالِهَا، ثم أَدَّى المُسَمَّى لم يعتق. وَوُجِّهَ بأنه -وإن كان تَعْلِيقاً- فهو تَعْلِيقٌ في ضمن معاوضة، وإنما عقد طالباً ¬
لِلْعِوَضِ، وكأنه قال: إن أَدَّيْتَ كذا في ضمن معاوضة فأنت حُرٌّ، فإذا ارتفعت المُعَاوَضَةُ ارتفِع التَّعْلِيقُ الذي تَضَمَّنَتهُ، وكأنه قال: إن أَدَّيْتَ فأنت حُرٌّ ما لم أرجع، فالعِتْقُ يَتَعَلَّقُ بِالأدَاءِ، وعدم الرجوع، وقد بَطَلَتْ إحدى الصِّفَتَيْنِ. وليشهد السيد على الفَسْخِ فإن وجد أَدَاءُ المسمى، واختلفا فقال العبد: أَدَّيْتُهُ قبل أن فسخت، وقال السيد: بَلْ بعده. فالمُصَدَّقُ العَبْدُ؛ لأن الأصل عَدَمُ الفسخ، وعلى السيد البَيِّنَةُ. الثالث إذا أعتق المُكَاتَبُ كِتَابَةً فَاسِدَةً، عُتِقَ، لا عن جِهَةِ الكتابة، وكان إِعْتَاقُهُ فَسْخاً للكتابة، وليكن الحكم كذلك لو بَاعَهُ أو وَهَبَهُ، وعلى هذا فلو أَعْتَقَهُ عند كَفَّارَتِهِ فيجْزِيهِ، وقد سبق ذِكْرُ هذا مَرَّةً في "الكَفَّارَاتِ" وحكاه الشيخ أبو عَلِيٍّ عن نَصِّ الشَّافعي -رضي الله عنه- ثم قال: إذا عُتِقَ لا عن جِهَةِ الكتابة لم يَتْبَعْهُ الكَسْبُ والأَوْلاَدُ بخلاف الكتابة الصحيحة؛ لأن المُكَاتَبَ هناك اسْتَحَقَّ العِتْقَ على السيد بعقد (¬1) لاَزِم، واستحق [استتباع] (¬2) الأَكْسَابِ والأولاد فليس للسَّيِّدِ إِبْطَالُهُ، وهاهنا لا اسْتِحْقَاقَ على السيد، فجعل فَاسِخاً للكتابة. قال: وَعَرَضْتُ هذا على الشيخ القَفَّالِ، فَاسْتَحْسَنَهُ، وأَقَرَّني عليه ولم يَرَ غيره. وهذا ظاهر المذهب، والمذكور في الكتاب ولْيُعْلَمْ مع ذلك قوله في الكتاب: "لأبرئت ذمته"، [وقوله] (¬3): "وكان فاسخاً للكتابة". وقوله: "حتى لا يتبعه الكسب" كلها بالواو، لا كما ذكرنا في الكَفَّارَةِ: إن الإِمام قال: إجْزَاؤُهُ عن الكَفَّارَةِ مرتب على أنَّه إذا أَعْتَقَهُ السيد، هل يَسْتَتْبعُ عِتْقُهُ الأَكْسَابَ والأَوْلاَدَ؟ فيه خلاف مُحَالٌ على هذا الباب، فإن لم يستتبع كان إِعْتَاقُهُ فَسْخاً وإِجْزَاءً عن الكَفَّارَةِ، وإلاَّ ففي الإِجْزَاءِ وجهان. وقوله: "فإنها تمنع الإِجْزَاءَ عن الكفَّارة" يجوز أن يُعَلَمَ بالحاء والألف؛ لما ذكرنا في الكَفَّارَاتِ. "الرابعة": تبطل الكتابة الفاسدة بمَوْتِ السَّيِّدِ، فلا يحصل العِتْقُ بالأَدَاءِ إلى الوَارِثِ بعد الموت. وعن أبي حَنِيْفَةَ وأحمد: أنَّه يَحْصُلُ، كما في الكِتَابَةِ الصحيحة. لنا: أنها جَائِزَةٌ من الجَانِبَيْنِ، فتبطل بالموت كالوِكَالَةِ. وأيضاً؛ فإنا قد ذَكَرْنَا أن العِتْقَ فيها يَحْصُلُ بِحُكْمِ التعليق، فيبطل بالموت كسائر التعليقات. نعم، لو قال: لو أديت إلى ذُرِّيَّتِي كذا بعد موتي، فأنت حُرٌّ. عتق بالأَدَاءِ إليهم، ¬
أحكامها
كما لو قال: إن دخَلْتَ الدار بعد موتي. ولا يَخْفى أن الكِتَابَةَ الفَاسِدَةَ مُفَارِقَةٌ للصحيحة في المَسَائِل الأربع جميعاً، وقد نُنَاقِشُ لذلك في قوله في الكتاب: "ويفارقه في أمرين" فإنه يفهم (¬1) الحصر، وليس بين المَسَائِلِ الثلاث بين الأخيرة رَبْطٌ حتى يجعل إفراد الرابع (¬2) المذكور أولاً إفراد أيضاً. فلا يجب الإِيتاء في الكتابة الفَاسِدَة على ما سَيَأْتِي إن شاء الله تعالى. وإذا كاتب جَارِيَةً كِتَابَةً فَاسِدَةً، وعجزت عن الأَدَاءِ فارقها، أو فسخ الكتابة لم يجب الاسْتِبْرَاءُ، بخلاف ما في الكِتَابَةِ الصحيحة. ولو عَجَّلَ النُّجُومَ في الكتابة الفاسدة؛ فهل يُعْتَقُ كما في الكِتَابَةِ الصحيحة، أو لا يعتق؛ لأن الصِّفَةَ لم توجد على وَجْهِهَا؟ فيه وجهان (¬3) هذا تَمَامُ الكلام في أَرْكَانِ الكتابة بِتَوَابِعِهِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: النَّظَرُ الثَّانِي: فِي أَحْكَامِهَا، وَهِيَ خَمسَة: الأَوَّل مَا يَحْصُلُ بِهِ العِتْقُ وَفِيهِ مَسَائِلُ سِتَّةٌ: الأُولَى أنَّهُ يَحْصُلُ فِي الصَّحِيحَةِ بِأدَاءِ النُّجُوم، وَبِالإبْرَاءِ، وَبالاعْتِيَاضِ، وَلاَ يَحْصُلُ بِجُزْءٍ مِنَ النُّجُوم جُزْءٌ مِنَ الحُرِّيَّةِ حَتَّى يُؤَدِّي الكُلَّ، وَلَوْ كَاتَبَ عَبْدَيْنِ دُفْعَةً عُتِقَ أَحَدُهُمَا بِأدَاءِ نَصِيبِهِ قَبْلَ أَدَاءِ الثَّانِي، وَلَوْ كَاتَبَا عَبْداً لَمْ يُعْتَق نَصِيبُ أَحَدِهِمَا مَا لَمْ يُؤَدِّ جَمِيعَ النُّجُومِ إلَيْهمَا، إلاَّ أَنْ يُكاَتَبَ وَاحِدٌ، وَيُخَلَّفَ ابْنَيْنِ، فَيُعْتَقَ نَصِيبُ أَحَد الابْنَيْنِ بِأدَاءِ نَصِيبِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قوله: "في أحكامها" يرجع إلى الكتابة المُسْتَجْمِعَةِ الأركان بِشَرَائِطِهَا، وهي الصحيحة، هذا هو المَعْهُودُ من تَرْتِيبِ صاحب الكتاب في المقدمة. وحينئذ فقوله في الصحيحة حيث قال: "يحصل في الَصحيحة بأداء النجوم" مُسْتَغنى عنه. واعْلَمْ أنَّه جعل أحكام الكتابة الصحيحة خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ، وأَدْرَجَ فيها ما يحتاج إلى مَعْرِفَتِهِ في هذا النَّظَرِ: أحدها: أن العتق بم يحصل، ولا شَكَّ في حصوله بأَدَاءِ النجوم بِتَمَامِهَا، وكذلك بالإِبْرَاءِ عنها على قَضِيَّةِ الإِبْرَاءِ عن الثَّمَنِ والأُجْرَةِ. وأما قوله: "وبالاعتياض"؛ فهذا قد أَرْسَلَهُ إِرْسَالاً، والمفهوم منه إذا أخذ عن النجوم عِوَضاً حصل العِتْقُ لِبَرَاءَةِ الذمة عن النجوم، لكن في جَوَازِ الاستبدال عن النُّجُومِ ¬
خِلاَفٌ قد [صرح] (¬1) به من بَعْدُ وإنما يستمر ما أَطْلَقَهُ هاهنا على تَجْوِيزِ الاسْتِبْدَالِ، وقد أجرى مِثْلَ هذا من خلاف أحكام الكتابة الفاسدة. وإذا جوزنا الحِوَالَةَ بالنُّجُوم، أو عليها، فيحصل العتق بِجَرَيَانِ الحِوَالَةِ أيضاً، ولا يحصل بأدَاءِ بَعْضِ النجوم، أو بالإِبْرَاءِ عن بعضها عن بعض العَبْدِ، بل يتوقف على أَدَاءِ الكل، والإِبراء عن الكُلِّ؛ لما روي عن عَمْرِو بنِ شُعَيْب، عن أبيه، عن جَدِّهِ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ من كِتَابَتِهِ" (¬2). ولو كاتب عَبْدَيْنِ أو عَبيداً دُفْعَةً واحدة، فقد ذكرنا خِلاَفاً في صِحَّةِ هذه الكتابة، وإذا صَحَّحْنَاهَا -وهو الأَظْهَرُ- فقد بَيَّنَّا أنَّه إذا أدَّى بَعْضُهُم حِصَّتَهُ عُتِقَ، وإن لم يُؤَدِّ الآخر، وحكينا خِلاَفَ أبي حنيفة، ومالك -رحمهما الله- فيه، فَلْيُعَلمْ قوله: "عتق أحدهما" [بالحاء والميم، ويجوز أن يُعَلَمَ بالواو أيضاً؛ لأن عِتْقَ أحدهما] بأداء نصيبه إنما يَسْتَمِرُّ على قَوْلِنَا بِصِحَّةِ الكتابة. فأما إذا حَكَمْنَا بِفَسَادِهَا فقد مَرَّ هناك أن الأَقْيَسَ أنَّه لا يعتق بعضهم بأداء حِصَّتِهِ خَاصَّةً. ولو كاتب اثْنَانِ عَبْداً مُشْتَركاً بينهما معاً، فينبغي أن يسوى بينهما في الأَداءِ، ولا يعتق نصيب أحدهما بأدَاءِ نصيبه من النجوم على ما سيأتي. ولو كاتب إنسان عَبْداً ومات، وخَلَفَ ابنين، فَأدَّى نصيب أحد الابنين بغير إذْنِ الآخَرِ، لم يعتق نَصِيبُهُ، وإن أدَّاهَ بالإِذْنِ ففي عَتْقِ نصيبه خِلاَفٌ سنشرحه من بَعْدُ إن شاء الله تعالى. والذي أَطْلَقَهُ هاهنا جَوَابٌ على أحد القَوْلَيْنِ، وليعلم بالواو لما سيأتي. وقوله: "إلا أن يكاتب واحداً ويخلف ابنين" لا يخفى أنَّه ليس باسْتِثنَاءٍ مُحَقّقٍ، ولما ذكر أن العِتْقَ لا يَتَبَعَّضُ بِبَعْضِ النجوم أَدَاءً أو إِبْرَاءً. أَشَارَ بِذِكْر هذه الصورة إلى أن ذلك فيما إذا اتَّحَدَ المُكَاتَبُ والمالك، فأما إذا ¬
تَعَدَّدَ المُكَاتَبُ فقد تَتَبَعَّضُ، وكذلك إذا تعدد المالك مما في مَسْأَلَةِ الوَارِثينَ على رَأْيٍ. واعلم أن المسائل والصُّوَرَ المتعلقةُ بقاعدة واحدة كثيراً مَا وَقَعَتْ مُتَبَدِّدَةً في الكتاب، وتَوَلَّدَ من ذلك بَعْضُ التطويل والتَّكْرَارِ، ولو وقعت مَجْمُوعَةَ لكانت أَقْرَبَ إلى الفَهْمِ والاختصار، وكِتَابَةُ الشريكين العَبْدَ المُشْتَرَكَ من هذا القَبِيلِ، فَتَأمَّلْ صورها. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةَ إِذَا جُنَّ السَّيِّدُ وَقَبَضَ النُّجُومَ لَمْ يُعْتَق حَتَّى يُسَلِّمَ إِلَى القَيِّمِ، وَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِ السَّيِّدِ فَلاَ ضَمَانَ لِلتَّقْصِيرِ بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ، وَلَوْ جُنَّ العَبْدُ فَقَبَضَ مِنْهُ السَّيِّدُ عُتِقَ لأَنَّ فِعْلَهُ لَيْسَ بِشْرطٍ أَمَّا الكِتَابَةُ الفَاسِدَةُ فَتَنْفَسِخُ بِجُنُونِهِمَا عَلَى وَجْهٍ لِجَوَازِهَا، وَلاَ تَنْفَسِخُ عَلَى وَجهٍ؛ لأَنَّ مَصِيرَهَا إلى اللُّزُومِ، وَتَنْفَسِخُ عَلَى وَجْهٍ بِجُنُونِ المَالِكِ دُونَ جُنُونِ العَبْدِ، لأَنَّ الصَّحِيْحَةَ أَيْضَاً جَائِزَةٌ فِي حَقِّ العَبْدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا تنفسخ الكِتَابَةُ بجُنُونِ السيد، ولا تنفسخ بِجُنُونِ العبد، ولا بإِغْمَائِهِمَا؛ لأن الكِتَابَةَ لاَزِمَةٌ من أَحَدِ الطرفين فَأَشْبَهَتِ الرَّهْنَ، وإنما تَنْفَسِخُ بالجُنُونِ العُقُودُ الجَائِزَةُ من الطرفين كالشَّرِكَةِ والوِكَالَةِ. ثم إذا جُنَّ السَّيِّدُ، فعلى المُكَاتَب تَسْلِيمُ المال إلى قَيِّمِهِ، فإن سلم إليه لم يُعْتَقْ؛ لأن قَبْضَهُ فَاسِدٌ، ولو (¬1) تَلِفَ في يَدِهِ، فلا ضَمَانَ، لتقصيره بالتسليم إليه. ثم إن لم يكن في يَدِ المُكَاتَب شيء آخر يُؤَدِّيهِ في الكتابة فِلِلْقَيِّم تَعْجِيزُهُ، فلو حُجِرَ عليه بالسَّفَهِ فهو كالوَجْهَيْنِ، فإذا أَدَّى المُكَاتَبُ إليه في حال الحَجْرِ وعجزه الولي ثم رُفِعَ الحَجْرُ عنه لم يَلْغُ التَّعْجِيزُ. ومنهم من أَثْبَتَ فيه قولين، كما سبق في المُرْتَدِّ، إذا أَخَّرَ (¬2) النجوم وعجز الحاكم المُكَاتَبَ، ثم أسلم المُرْتَدِّ. والظاهر الأَوَّل، وفرق بينهما بأن حَجْرَ السَّفِيهِ أَقْوَى؛ ألا ترى أن تَصَرُّفَهُ لا ينفذ، وتصرف المُرْتَدِّ يَنْفُذُ في قول، وبأن الحجر على السفيه لحفظ (¬3) ماله، فلو حُسِبَ عليه ما أَخَذَهُ وأَتْلَفَهُ في حال الحَجْرِ لم يحصل حِفْظُ المال. والحَجْرُ على المُرْتَدِّ لِرِعَايَةِ حَقِّ المسلمين؛ فإذا عَادَ إلى الإِسْلاَمِ، فلا حَقَّ لهم في ماله ولا يَضُرُّهُمْ احْتِسَابُ ما أخذه عليه. وإذا جُنَّ العَبْدُ فَأَدى في جُنُونِهِ، أو أخذه السيد من غير (¬4) أَدَاءٍ منه يُعْتَقُ. ¬
ووجه ذلك بأن قَبْضَ النجوم مُسْتَحَقٌّ، ولو أخذها المولى من غير إِقْبَاضٍ من المُكَاتَب، وقع موقعه (¬1)، وإذا كان الأَمْرُ بهذه المَثَابَةِ، فبالأخذ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ، وإذا بَرِئَ عُتِقَ. هَذا هو المشهور المذكور في الكتاب. وقال الإِمام: إن عَسِرَ وُصُولُ السَّيِّدِ إلى حَقِّهِ إلا من جِهَةِ قبض ما يصادف، فله ذلك، وإن [أَمْكَنَ] (¬2) مُرَاجَعَةُ من ينصبه القاضي نَاظِراً لِلْمُكَاتَب، فلا وَجْهَ لاسْتِبْدَادِهِ بالقَبْضِ عندنا، ولو اسْتَبَدَّ لم يَصِحَّ، وإذا لم يَصِحَّ؛ فلو أقبضَ المَجْنُون لم يكن لإِقْبَاضِهِ حُكْمٌ. وفي خلال كَلاَمِ الإِمام إِثْبَاتُ قول أو وجه في أن الكِتَابَةَ تَنْفَسِخُ بجنون المُكَاتَب، وقد تَعَرَّضَ له صَاحِبُ الكتاب من بَعْدُ، فإن ثبت ذلك رُخِّصَ في إِعلام قوله هاهنا: "عتق" بالواو وهذا في الكتابة الصحيحة وأما الفَاسِدَةُ؛ فهل تَبْطُلُ بجنونهما وإغمائهما؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: نعم؛ لِجَوَازِهَا من الطرفين كالشَّرِكةِ والوِكَالَةِ. والثاني: لا؛ لأن المُغَلَّبَ فيها التَّعْلِيقُ، والتعليق لا يَبْطُلُ بالجنون، ويحكى هذا عن الشيخ أَبِي حَامِدٍ، وهو الأَصَحُّ عند الإِمَامِ ووجهه بأنها -وإن كانت جَائِزَةً- فَمَصيرُهَا إلى اللُّزُومِ كالبيع في زمان الخِيَارِ. وأصحها عند الأكثرين -وهو ظَاهِرُ النَّصِّ- أنها تبطل بِجُنُونِ السَّيِّدِ وإغمائه بالحَجْرِ عليه، ولا تبطل بِجُنُونِ العبد وإِغْمَائِهِ. والفَرْقُ أن الحَظَّ في الكتابة للعبد، لا للسيد؛ لما سبق أنها تَبَرُّعٌ، فيؤثر اختلال عقل السيد، ولا يُؤَثِّرُ اخْتِلاَلُ عَقْل العبد. وأيضاً فإن العَبْدَ لا يَتَمَكَّنُ من فَسْخِ الكتابة، ورفعها صحيحة كانت أو فاسدة، وإنما يعجز نفسه، ثم السيد يَفْسَخُ إن شاء، وإذا لم يملك الفَسْخَ لم يُؤَثِّرْ جُنُونُهُ. وأيضاً فإن الكِتَابَةَ الصحيحة أيضاً جائزة في حَقِّ العَبْدِ، وجوازها لا يقتضي بُطْلانَهَا بجنونه؛ فكذلك الكِتَابَةُ الفاسدة، فإن قلنا: إنها لا تبطل، فلو أَفَاقَ وأَدَّى المسمى عُتِقَ، وثبت التَّرَاجُعٌ، وبمثله أجابوا فيما إذا أخذ السَّيِّدُ في جُنُونِهِ، وقالوا: ينصب الحاكم مَنْ يرجع له. وينبغي أن يقال: لا يُعْتَقُ هاهنا بِأَخْذِ السيد وإن قلنا في الكِتَابَةِ الصحيحة: إنه يُعْتَقُ؛ لأن المُغَلَّبَ هاهنا التَّعْلِيقُ، والصفة المعلق عليها الأَدَاء من العبد، ولم يوجد ¬
وإذا قلنا: إنها تَبْطُلُ؛ فلو أَدَّى المُسَمَّى، ففي حصول العِتْقِ وجهان: أظهرهما: أنَّه لا يَحْصُلُ؛ لأن العِتْقَ بالتعليق في الكِتَابَةِ الفاسدة يَتْبَعُ الكِتَابَةَ، فإذا ارْتَفَعَتِ ارتفع التَّعْلِيقُ، كما لو فسخها السَّيِّدُ. والثاني: يحصل؛ لوجود الصِّفَةِ المُعَلَّقِ عليها، ويخالف ما لو فَسَخَ السيد، فإن فَسْخَهُ رَفْعٌ للتعليق من جِهَتِهِ. وعلى هذا قال الإمَامُ: الوَجْهُ القَطْعُ بأنه لا تَرَاجُعَ؛ لأن التَّرَاجُعَ قَضِيَّةُ الكتابة الفَاسِدَةِ، وقد زَالَتْ وبقي التعليق المَحْضُ. ومن أصحابنا من أَثْبَتَ الرُّجُوعَ على العَبْدِ بالقيمة قال: وَمَسَاقُهُ أن يتبعه الكَسْبُ، وهذا كالنَّدَمِ على الحكم بارتفاع الكِتَابَةِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثَةُ إِذَا كَاتَبَا عَبْداً ثم أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عُتِقَ وَسَرَى فِي الحَالِ عَلَى قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: لاَ يَسْرِي إِلاَّ أنْ يُرَقَّ النَّصِيبُ الثَّاني بِالعَجْزِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَسْرِي فِي الحَالِ، فَتَنْفَسِخُ الكِتَابَةُ في مَحَلِّ السِّرَايَةِ، وَيَنْتَقِلُ مُكَاتَباً ويُعْتَقُ حَتَّى يَكُونَ الوَلاَءُ لِلشَّرِيكِ لاَ لِمَنْ سَرَى عَلَيْهِ فِيهِ وَجْهَانِ، وَقِيلَ: إنَّ كَوْنَهُ مُكَاتَباً يَمْنَعُ السِّرَايَةَ، ثُمَّ إِبرَاءُ أَحَدِهِمَا يَجْرِي مَجْرَى إِعْتَاقِهِ فِي السِّرَايَةِ وَكَذَا قَبْضُ نَصِيبِ نَفْسِهِ بِرِضَا صَاحِبِهِ إِنْ قَضَيْنَا بِأنَّهُ يُوجِبُ العِتْقَ، فَيَسْرِي وَلاَ نَقُولُ: هُوَ مُجْبَرٌ عَلَى القَبُولِ؛ لأنَّهُ اخْتَارَ أَصْلَ العَقْدِ، نَعَمْ أَحَدُ الابْنَيْنِ إِذَا قَبَضَ نَصِيبَهُ عُتِقَ (و) وَلَمْ يَسِرْ (و) لأَنَّهُ مَقْهُورٌ في القَبْضِ، وَلَمْ يَصْدُرِ العَقْدُ مِنْهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا كاتب الشَّرِيكَانِ العَبْدَ المشترك معاً، ثم أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عُتِقَ، وهل يَسْرِي إلى نصيب الشَّرِيكِ إن كان مُوسِراً؟ عن حكاية صاحب "التقريب" وَجْهٌ أو قَوْلٌ مُخَرَّجٌ: أنَّه لا يَسْرِي. وقد ذكرناه بتوجيهه في كتاب "العِتْقِ"، وهذا ما ذكره آخِراً في الكتاب. فقال: "وقيل: إن كَوْنَهُ مُكَاتَباً يمنع السِّرَايَةَ"، والمذهب المشهور ثُبُوتُ أَصْلِ السِّرَايَةِ، وفي وقتها قَوْلاَنِ: أحدهما: أنها تَثْبُتُ في الحال؛ لأنه قد عُتِقَ بعضه، والمقصود من شرع السِّرَايَةِ ألا تَتَبَعَّضَ الحُرِّيَّةُ. وأظهرهما: أنها لا تَثْبُتُ في الحَالِ؛ لأنه قد انعقد سَبَبُ الحرية للنصيب الآخر، وقد يؤدي ويعتق. ولأن العبد يَتَضَرَّرُ به من حيث إنه ينقطع عنه الوَلَدُ والكَسْبُ. وعن أبي الطَّيِّبِ بن سلمة: القَطْعُ بالقول الثاني.
فإن قلنا بالسِّرَايَةِ في الحال، فَتَنْفَسِخُ الكِتَابَةُ في نَصِيبِ الشريك فيسري (¬1) العِتْقُ مع بقاء الكِتَابَةِ؟ فيه وجهان: أظهرهما: -ولم يُورِدْ أَكثرهم غَيْرَهُ- أنها تَنْفَسِخُ؛ لأن الإِعْتَاقَ أَقْوَى من الكتابة، فعلى هذا يُعْتَقُ كُلُّهُ على الشَّرِيكِ المعتق، ويكون الوَلاَءُ له. والثاني: يَسْرِي العِتْقُ إليه، مع بَقَاءِ الكتابة لئلا تَتَبَعَّضَ الحُرِّيَّةُ، ولا يبطل حق الآخر، وعلى هذا فَوَلاءُ النِّصْفِ الآخر للشريك، لا للذي أعتق نَصِيبَهُ. وإن قلنا: لا تثبت السِّرَايَةُ في الحَالِ؛ فإن أَدَّى نَصِيبَ الآخر من النجوم، عُتِقَ عن الكتابة، وكان الوَلاء بينهما. فإن عَجَزَ وعاد إلى الرِّقِّ، تثبت السِّرَايَةُ حينئذ، ويكون الوَلاَءُ كله للشريك المُعْتِقِ، ويجيء الخِلاَفُ في أنها تَثْبُتُ بنفس العجز، أو بأداء القيمة، أو يَتَبَيَّنُ بأَدَاءِ القيمة حُصُولُ العتق من وقت العَجْزِ، ويجري هذا الخِلاَفُ على قولنا بثبوت السِّرَايَةِ في الحال. وأيضاً: وإن مات قبل الأَدَاءِ أو العجز، فقد مات [حراً] (¬2) وَبَعْضُهُ رَقِيقاً. وهل يورث عنه؟ فيه الخلاف المذكور في "الفَرَائِضِ". ولو أَبْرَأَ أَحَدُ الشريكين عن نَصِيبهِ من النجوم، فهو كما لو أَعْتَقَهُ والقول في السِّرَايَةِ، وفي وقتها، كما ذكرنا فيما لوَ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نصيبه، فلو قبض أحدهما نَصِيبَهُ من النجوم بِرِضَا صاحبه، فهل يعتق نصيبه؟ فيه خلاف يأتي شَرْحُهُ إن شاء الله -تعالى- في المسألة الخَامِسَةِ من الحكم الثاني. فإن قلنا: يُعْتَقُ، فهو كالإِعْتَاقِ في السِّرَايَةِ وَوَقْتِهَا. قال الإِمام: ولا نقول: هو مُجْبَرٌ على القَبْضِ، فلا يَسْرِي؛ لأنه مختار في إِنْشَاءِ الكِتَابَةِ التي اقْتَضَتْ إِجْبَارَهُ على القبض، فهو كما لو قال أَحَدُ الشَّرِيكين: إذا طلعت الشَّمْسُ فَنَصِيبي منك حُرٌّ. فإذا طلعت عُتِقَ نصيبه، وسَرَى؛ لأنه مُخْتَارٌ في التعليق. نعم: إذا كاتب عَبْداً، ومات عن ابْنَيْنِ، فقبض أحدهما نَصِيبَهُ وقلنا: إنه يُعْتَقُ نصيبه على ما سَيَأْتِي إن شاء الله -تعالى- فلا يَسْرِي؛ لأنه مُجْبَرٌ على القَبْضِ، وابتداء الكِتَابَةِ لم تصدر منه ويجوز أن يُعْلَمَ قوله: "عتق" بالواو، وكذا قوله: "ولم يسر" لما سنذكر من بَعْدُ إن شاء الله تعالى. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَرْعٌ: لَوِ ادَّعَى العَبْدُ عَلَى الشَّرِيكيْنِ أنَّهُ وَفَّاهُمَا بِالنُّجُومِ فَصَدَّقَهُ ¬
أَحَدُهُمَا عُتِقَ نَصِيبُ المُصَدِّقِ وَيَجْرِي الخِلاَفُ فِي السِّرَايَةِ عَلَيْهِ؛ لأَنَّهُ مُخْتَارٌ في التَّصْدِيقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قال العبد لمالكيه -وقد كَاتَبَاهُ-: قد وَفَّيْتُ عليكما النُّجُومَ. وأَنْكَرَا، فهما المُصَدَّقَانِ باليمين، وإن صَدَّقَهُ أحدهما، وكَذَّبَهُ الآخَرُ، عُتِقَ المُصَدِّقُ، والمُكَذِّبُ مُصَدَّقٌ بِيَمِينِهِ، وهل يَسْرِي العِتْقُ من نصيب المُصَدِّقِ إلى نصيب المُكَذِّب؟ فيه اخْتِلاَفٌ سيظهر في الفصل، والظاهر: المنع. والاختلاف في غير [النجم] (¬1) الأَخِيرِ، كالاختلاف فيه، إِلاَّ أن العِتْقَ لا يحصل بما سِوَّى النجم الأخير. ولو قال المُكَاتَبُ لأحدهما: دَفَعْتُ إليك جَمِيعَ النجوم، لِتَأْخُذَ نَصِيبَكَ، وتدفع نَصِيبَ الآخر إليه، فقال: دَفَعْتَ إِلَيَّ نصيبي ودفعت نصيب الآخر إليه بنفسك، وأنكر الآخَرُ القَبْضَ؛ عتق نصيب المُقِرِّ، وصُدِّقَ في أنَّه لم يَقْبضْ نَصِيبَ الآخر باليمين، وصُدِّقَ الآخر في أنَّه لم يَقْبِضْ نَصِيبَهُ، ولا حَاجَةَ إلى اليمَين؛ لأن المُكَاتَبَ لا يَدَّعِي عليه شَيْئًا، ثم يَتَخَيَّرُ المُنْكِرْ بين أن يأخذ حِصَّتَهُ من النجوم من العَبْدِ، وبين أَنْ يَأْخُذَ من المُقِرِّ نِصْفَ ما أخذ؛ لأن كَسْبَ المُكَاتَب مُتَعَلِّقُ حقهما بالشركة، ويأخذ الباقي من العَبْدِ. ولا تُقْبَلُ شَهَادَةُ المقر عليه؛ لأنه مُتَّهَمٌ بدفع الشركة عن نفسه، ولأن المُكَاتَبَ لا يَدَّعِي عليه شَيْئًا. وإذا عَجَزَ المُكَاتَبُ عما طالبه المُنْكِرُ به، فله تَعْجِيزُهُ وإرْقَاقُ نَصِيبِهِ، ثم عن نَصِّهِ في "الإملاء" أنه يُقَوَّمُ ما أَرَقَّهُ على المقر (¬2) وروى أن ابن سلمة، وابن خَيْرَانَ نَقَلاَهُ إلى الصُّورَةِ السابقة، وجعلوا التقويم (¬3) عند التعجيز في الصُّوَرَتَينِ على قولين. ووجه المَنْع بأن المقر لم ينشئ إِعْتَاقاً، وإنما اسْتَوْفَى ما ثبت له بحكم الكِتَابَةِ، فصار كما لو اسْتَوفَى أَحَدُ ابْنَي المُكَاتَبِ حِصَّتَهُ من النجوم، ولا يُقَوَّمُ عليه نَصِيبُ أخيه. والثاني: بأن العِتْقَ مضاف إليه، ألا ترى أنَّه يَثْبُتُ له الوَلاَءُ؟ وفي مسألة الابنين الوَلاَءُ للمورث. وامتنع الأَكْثَرُونَ من نَقْلِهِ إلى تلك الصُّورَةِ، وفَرَّقُوا بأن العَبْدَ هناك يقول: أنا حُرٌّ كَامِلُ الحَالِ، فلا يستحق التقويم. وها هنا يعترف بأن نَصِيبَ المنكر منه لم يُعْتَقْ. وفي كتاب الصَّيدَلاَنِيِّ طَرِيقَةٌ قَاطِعَةٌ بالتَّقْوِيمِ في الصورتين. ¬
واعلم أن ما ذَكَرْنَاهُ من أنَّه: هل يُقَوَّمُ مَا رُقَّ عند العجز يشبه أن يكون تَفْرِيعاً على أن السِّرَايَةِ تَثْبُتُ عند العجز، وإنَّا إذا أثبتنا السِّرَايَةَ هاهنا يجيء القَوْلُ الآخَرُ في أنها تَثْبُتُ في الحال. وقد أَطْلَقَ الإِمَامُ والمُصَنِّفُ في مسألة الكتابة قَوْلَيْنِ في أنَّه إذا عتق نصيب المُصَدّقِ؛ هل يَسْرِي العِتْقُ إلى نصيب المكذب؟ أحدهما: نعم؛ لأنه عتق نَصِيبُهُ. والثاني: لا؛ لأنه يقول: عُتِقَ النصيبان معاً، فلا معنى لإلْزَامِهِ السِّرَايَةَ، وتَمَامُ التَّفْرِيع على هذا الإِيراد أن يقال: إن قلنا: لا سِرَايَةَ فذاك، وإن أَثْبَتنَاهَا فتثبت في الحال، أو عند العجز؟ فيه القولان. وقوله في الكتاب: "ويجري الخلاف في السِّرَايَةِ عليه؛ لأنه مختار في التصديق" مَحْمُولٌ على القولين اللَّذَيْنِ أَطلَقَهُمَا الإِمُامُ على ما بَيَّنهُ في "الوسيط"، لكن ذكر الخلاف بالألف واللام ليس بِحَسَنِ المَوْقِع؛ لأن الخِلاَفِ في [أنَّه] (¬1) هل يَسْرِي؟ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ حتى يُعَرَّفَ بالألف واللام، ورَده إلى ما ذكر من قبل أن الكتابة هل تمنع السراية؟ بعيد، وكان الأَوْلَى أن يقول: وفي السِّرَايَةِ عليه خِلاَفٌ. وقوله: "لأنه مُخْتَارٌ في التَّصْدِيقِ" توجيه السِّرَايَةِ، كأنه يقول: هو بالتصديق مختار لِلْعِتْقِ، فَأشْبَهَ ما إذا أَعْتَقَ أو أبْرَأَ عن النجوم. ولو قال المُكَاتَبُ لأحدهما: دفعت النُّجُومَ إليك لِتَأْخُذَ نَصِيبَكَ، وتدفع نَصِيبَ الآخر إليه -كما صورنا- فقال في الجَوَاب: قد فَعَلْتُ ما أَمَرْتَ به، وأنت عَتِيقٌ فأنكر الآخر، عُتِقَ نصيب المُقِرِّ، وصدق المُنْكرُ بيَمِينِهِ، فإذا حلف، بَقِيَ نَصِيبُهُ مُكَاتباً، وله الخِيَارُ بين أخذ حِصَّتِهِ من المكاتب، وبين أَخْذِهِ من المقر لإقراره بأخذها، ومن أَيِّهِمَا أخذ عُتِقَ نصيبه، ثم إن أخذها من المكاتب، فله الرُّجُوعُ على المِقِرِّ؛ لأنه وإن صَدَّقَهُ في الدفع إلى الشريك -فإنه كان ينبغي أن يُشْهِدَ عليه. وإن أخذها من المقر، فلا رُجُوعَ له على المُكَاتَب لاعْتِرَافه بأنه مَظْلُومٌ، وإذا اختار الرُّجُوعَ على المُكَاتَبِ، فله يأخذ حِصَّتَهُ من المقرَ، ولم يَدْفَعْهَا إلى المنكر، وعَجَّزَ نفسه، فَنِصْفُهُ حُرٌّ، ونصفه رقيق، فَيُقَوَّمُ على المُقِرِّ، فيأخذ المنكر منه قِيمَةَ النصف، ويأخذ أيضاً ما أقر له بقبضه، فإنه كسب النصف الذي كان مَلِكَهُ. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرَّابِعَةُ: أَحَدُ الابْنَيْنِ الوَارِثَيْنِ إِذَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ نَفَذَ، وَيَسْرِي عَلَى ¬
قَوْلٍ، إمَّا فِي الحَالِ، وَإمَّا عِنْدَ العَجْزِ، وَإِنْ قُلنَا: لاَ يَسْرِي، وَرُقَّ النَّصِيبُ الآخَرُ فَهَلْ يُتَبَيَّنُ انْفِسَاخُ الكِتَابَةِ فِي النِّصْفِ الَّذِي أُعْتِقَ حَتَّى يَكُونَ الوَلاَءُ لِلمُعْتِقِ خَاصَّةً، أَوْ نَقُولَ: لَمْ تَنْفَسِخْ، وَالوَلاَءُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إِذا كاتب عَبْداً، ومات عن ابنين، فهما قَائِمَانِ مَقَامَهُ، في أنهما إذا أَعْتَقَاهُ، أو أَبْرَأهُ عن النجوم عُتِقَ، وكذا لو اسْتَوْفَيَاهَا، ولو أَعْتَقَهُ أحدهما، أو أَعْتَقَ نصيبه عتق نصيبه وكذا لو أَبْرَأَهُ أحدهما عن نَصِيبِهِ من النجوم. وعند أبي حَنِيْفَةَ والمُزَنِيِّ: لاَ يُعْتَقُ نَصِيبُهُ بالإبراء حتى يشتريه الآخر أو يَسْتَوْفِيَ نصيبه، كما لو كان الأَبُ حَيّاً، فَأبْرَأَهُ عن بعض النجوم. وأجاب الأَصْحَابُ -رحمهم الله- بأنه هناك لم يبرئه عن جَمِيع ما له عليه، واحد الابنين إذا أَبْرَأَهُ عن نَصِيبِهِ من النجوم، فقد أَبْرَأَهُ عن جَمِيع مَالِهِ عليه، فَصَارَ كما لو أَبْرَأَهُ أحد الشريكين عن نصيبه من النجوم. وربما طُرِدَ خِلاَفُ أبي حَنِيْفَةَ في إِعْتَاقِ أحدهما نَصِيبَهُ. والذي ذكرنا أنَّه إذا أعتق نَصِيبَهُ، أو أَبْرَأَهُ عن نصيبه من النجوم يُعْتَقُ نصيبه. هو المشهور الذي أَطْلَقَهُ عامَّةُ الأصحاب -رحمهم الله-. وقال صاحب "التهذيب": قضية سِيَاقِ "المختصر" حُصُولُ قَوْلَيْنِ في عتق نصيبه: أحدهما: العِتْقُ. وأصحُّهما: المَنْعُ، بل يُوقَفُ، فإن أدَّى نصيب الآخر عُتِقَ كله والوَلاَء لِلأَب، وإن عَجَزَ؛ فإن كان قد أعتق نصيبه، عُتِقَ الآن نَصِيبُهُ، ثم إن كان مُعْسِراً، فله وَلاَءُ ما عتق، والباقي للآخر، وإن كان مُوسِراً، قُوِّمَ عليه الباقي وبطلت كِتَابَةُ الأب، وكان وَلاَءُ الكل له. وإن كان قد أَبْرَأَهُ عن نَصِيبِهِ من النجوم، فلا يُعْتَق شَيْءٌ منه بالعجز؛ لأن الكِتَابَةَ تبطل بالعَجزِ والعِتْقُ في غير الكتابة لا يَحْصُلُ بالإبراء. ويجوز أن يُعلَمَ لما تبين قوله في الكتاب: "نفذ" بالحاء والواو. وإذا أجرينا على المَشْهُورِ، وقلنا: يُعْتَق نَصِيبُهُ؛ فإن كان الذي أعتق نصيبه، أو أبرأه مُعْسِراً، بَقِيَتِ الكِتَابَة في نصيب الآخر، فإن عجز عاد قِنّاً، وإن أَدَّى وعُتِقَ، فَوَلاَؤُهُ للأب، وأما وَلاَءُ نصيب الأَوَّل، فقد حكى القاصي ابْنُ كَجٍّ فيه وجهين في صورة الإِعْتَاقِ: أحدهما: [أن] (¬1) الجواب، كذلك وهو الأَصَحُّ. والثاني: عن أبي الطَّيِّبِ بن سلمة أنَّه للابن، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" (¬2). ¬
ولأنه عُتِقَ بِإِعْتَاقِهِ؛ لأن الأدَاءَ على مُوجَبِ الكِتَابَةِ، وطريقين في صورة الإبراء: أحدهما: القَطْعُ بأنه لِلأَبِ. وأظهرهما: طَرْدُ الوجهين. وإن كان مُوسِراً، فهل يَسْرِي العتق إلى نصيب الشَّرِيكِ؟ إذا قلنا بالأصح، وهو أن الكِتَابَةَ لا تمنع السِّرَايَةَ، فيه قولان: أحدهما: نعم؛ ويحكى عن اخْتِيَارِ الشيخ أبي حَامِدٍ، كما لو كاتب الشَّرِيكَانِ العَبْدَ، ثم أَعْتَقَهُ أحدهما. وأصحهما: ونقله المُزَنِيُّ في "الجامع الكبير" ونصره في "المختصر": لا؛ لأن الكتابة السابقة تَقْتَضِي حُصُولَ العِتْقِ حُكْماً لها، والمَيِّتُ لا يقوم عليه وكان [الابن] (¬1) يعتق علي سبيل النيابة، وبنى القولان على أن المُكَاتَبَ: هل يورث؟ إن قلنا: نعم، سَرَى، وإن قلنا: لا، فالعِتْقُ بحكم كِتَابَةِ الأب ولا سِرَايَةَ وعن القاضي [الحسين] (¬2) بِنَاءُ هذا الخِلاَفِ، على أن الدَّيْنَ؛ هل يمنع حُصُولَ مِلْكِ الورثة في أَعْيانِ التَّرِكَةِ؛ لأن المكاتب يستحق الصرف إلى العتق، كما أن [أعيان] (¬3) التركة تستحق الصرف إلى الدَّيْنِ. التفريع: إن قلنا بالسِّرَايَةِ، فتثبت السِّرايَةُ في الحال، أو عند العجز؟ فيه قولان كما ذكرنا في الشَّرِيكَيْنِ إذا أعتق أحدهما والأَظْهَرُ الثَّاني، وهو اختيار أبي إِسْحَاقَ. وقوله في الكتاب: "إما في الحال، أو عند العَجْزِ" إِشَارَةٌ إلى هذين القولين، ويجوز أن يُعَلما بالواو؛ لأنه حَكَى هاهنا طريقتان أخريان: إحداهما: القَطْعُ بثبوت السِّرَايَةِ في الحال. والثانية: القَطْعُ بتأخيرها إلى العَجْزِ؛ لأن أَحَدَ الوارثين ليس بِمُعْتِقٍ حَقِيقَةً، وأحد الشريكين مُعْتِقٌ. وإن قلنا بالسِّرَايَةِ في الحال، فقد حكى الإِمَامُ وَجْهَيْن في انْفِسَاخ الكتابة فيما سَرَى العِتقُ إليه كما حَكَاهُمَا في صورة الشَّرِيكَيْنِ، والذي أَوْرَدَهُ معظمهم الانفساخ فيه وإثبات وَلاَئِهِ للمعتق، وفي وَلاَءِ النِّصْفِ الأول وجهان: أحدهما: أنه للمعتق خَاصَّةً؛ لأن نصيب الآخر بَقِيَ رَقِيقًا. ¬
وأصحهما: أنه لهما؛ لأنه عُتِقَ بحكم كِتَابَةِ الأب، ويثبت له الوَلاَءُ وينتقل إليهما بالعصوبة. وإذا قلنا: لا تَنْفَسِخُ الكتابة فيما سَرَى إليه، فيكون وَلاَءُ الجميع للأب، وإن قلنا بأن السِّرَايَة تثبت عند العَجْزِ، فإن أَدَّى نصيب الابن الآخر عُتِقَ كله، وَوَلاَؤُهُ للأب. وإن عَجَزَ فطريقان: أحدهما: إن الكتابة تبطل، ويكون وَلاءُ الجميع له. وأشبههما: أن وَلاَءَ مَا سَرَى العِتْقُ إليه، وقُوِّمَ عليه له. وفي وَلاءِ النصف الأَوَّلِ الوجهان، ومنهم من خَصَّصَ الوَجْهَيْنِ بصورة الإعْتَاقِ، وقَطَعَ في صورة الإبْرَاءِ بأن وَلاَءَ النصف الأول للأب ينتقل إليهما. أما إِذا قلنا: بأنه لا سِرَايَةَ، فنصيب [الآخر] (¬1) مُكَاتَبٌ، كما كان، فإن عتق بأداء أو إعتاق، أو إبراء، فَوَلاءُ الكل للأب، كان عَجَزَ بقي نِصْفُهُ رَقِيقًا. وفي وَلاَءِ النصف الأول؛ أهو للأول أو بينهما؟ فيه ما سَبَقَ من الوجهين، ورَتَّبَهُمَا الإِمَامُ على أن الكِتَابَةَ إذا انفسخت في نصيب الثاني بالعَجْزِ، فهل تَنْفَسِخُ في نصيب الأولَ؛ لأن الكِتَابَةَ لا تقبل التَّبْعِيضَ؟ فيه وجهان: أصحهما: المنع؛ ويحتمل التَّبْعِيض لانْقِسَام المُكَاتَب بين الوارثين. إن قلنا: تَنْفَسِخُ، فَوَلاءُ الأَوَّلِ للمعتق. وإن قلنا: لا تَنْفَسِخُ فوجهان: أحدهما: أن الجَوَابَ كذلك؛ لأنه يبعد أن يَسْتَوْفِيَ أحد الابنين حَقَّهُ من الرَّقَبَةِ رِقًا، ويشارك الآخر في الوَلاَءِ. وأصحهما: أن الوَلاَءَ للأب، ويتلقيانه بالعصوبة، ويخرج ذلك على مَنْ بعضه حُرٌّ، وبعضه رَقِيقٌّ يورث. ولو قبض أَحَدُ الابنين نَصِيبَهُ من النجوم، فهذا [على] (¬2) ما سيأتي إن شاء الله -تعالى- في الشريكين؛ إذا كَاتَبَا، إن كان بغير إِذْنٍ، فهو فاسد لا يحصل به العِتْقُ، وإن كان بِإذْنِ الآخر؛ فقولان؛ فإن صَحَّحْنَاة فقد قال الإِمَام: لا سِرَايَةَ بلا خِلاَفٍ؛ لأنه يجبر عَلى القَبْضِ، ولا سِرَايَةَ، حيث حصل العِتْقُ بلا اختيار. ألا ترى أنه إذا ورث بعض من يعتق عليه، عُتِقَ ذلك البعض، ولم يَسْرِ وهذا ما ¬
ذكره صاحب الكتاب في آخر المَسْأَلَةِ الثالثة، فقال: "نعم، أَحَدُ الابنين، إذا قبض نَصِيبَهُ عُتِقَ، ولم يَسْرِ". وفي "التهذيب": أنا إذا جَوَّزْنَا القَبْضَ بإذْنِ الآخر، فالقول في عِتْقِ نصيبه، وفي السِّرَايَةِ على ما ذكرنا فيما إذا أعتق نَصِيبَهُ، أوَ أَبرأ عن نصيبه من النجوم بلا فَرْقٍ، ولمن ذهب إليه أن يَمْنَعَ كونه مجبراً على القبض، ويقول: هو بسبيل من الإِعْتَاقِ والإِبْرَاءِ، وبتقرير: إلاَّ يعتق ولا يبرأ، فَيُشبِة أن يقال: لا يجبر على الانفراد بالقَبْضِ، وإن جَوَّزنَاهُ؛ لأنه لو عجز عن أَدَاءِ نَصِيبِ الثاني، [فيناظره] (¬1) الثاني فيما أخذ، فإنه يَمْتَنِعُ عن قَبْضِ ما عَسَى الثاني يزاحمه فيه. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَرْعٌ: لَوْ خَلَّفَ ابْنَيْنِ وَعَبْدًا؛ فَادَّعَىَ العَبْدُ كِتَابَةَ المُورِّثَ لَهُ، فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا، وَكَذَّبَهُ الآخَرُ، وَحَلَفَ، فَنَصِيبُ المُصدِّقِ مُكَاتبٌ (و) فَإِنْ أَعْتَقَهُ سَرَى إِلَى البَاقِي، وَلَمْ يُخرَّجْ عَلَى الخِلاَفِ، لِأَنَّهُ رَقِيقٌ بِقَوْلِ الشَّرِيكِ، وَإِنْ أَبْرَأَ لَمْ يَسْرِ؛ لِأنَّ الشَّرِيكَ يَقولُ: إِبْرَاؤُهُ لاغٍ؛ إِذْ لا كِتَابَةَ، فَإِنْ عُتِقَ بِأَدَاءِ النُّجُومِ لَمْ يَسر؛ لِأَنَّه مَقْهُورٌ عَلَى القَبُولِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: خَلَّفَ ابنين وعَبْداً، فادَّعَى العبد أن أَبَاهُمَا كَاتبهُ، فإن كذَّبَاهُ فهما المُصَدَّقَانِ باليمين، ويكون حلفهما على نَفْي العلم بكتابة الأب، فإن حلفا فَذَاك، وإن نَكَلاَ وحَلَفَ العَبْدُ اليمين المَرْدُودَةَ تثبت الكتابة، وإن حَلَفَ أحدهما دُونَ الآخر، ثَبَتَ الرِّقُّ في نصيب الحالف، وتُرَدُّ اليمين في نَصِيب النَّاكِلِ، وإذا أراد إقَامَةَ البَيِّنَةِ احْتَاجَ إلى إِقَامَةِ عَدْلَينِ؛ لأن مقصود الكتابة العِتْقُ دون المال. [وإن صدقاه، أو قامت البينة، فالحكم ما مَرَّ في الفصل السَّابِقِ] (¬2) وإن صَدَّقَهُ أحدهما، وكَذَّبَهُ الآخر، فالمُكَذِّبُ مُصَدَّق بِيَمِينِهِ وأما نصيب المصدق؛ ففي كتاب القاضي ابْنِ كَجٍّ أن بَعْضَهُمْ خَرَّجَ قَوْلاً أنه لا تثبت الكِتَابَةُ فيه؛ لأن الكِتَابَةَ لا تَتَبَعَّضُ، والصحيح المَشْهُورُ ثُبُوتُهَا، وهذا التَّبْعِيضُ لضرورة أَدَّتْ إليه، بخلاف التَّبْعِيضِ في الابتداء، وأَطْلَقُوا القَوْلَ بِشَهَادَةِ المُصَدِّقِ على المُكَذِّبِ. وقال الإِمَامُ: إنه يُثْبِتُ بِشَهَادَتِهِ لنفسه حُقُوقاً في الكتابة؛ إذ النجوم مَوْرُوثَةٌ فقبول شهادته بعَقْدٍ عوضه للشاهد مُحَالٌ، فإن فرضت شَهَادَتُهُ بعد الإِبراء عن النجوم، فله أغراض في السِّرَايَةِ، فإن نفينا السراية اتَّجَهَ القَبُولُ، وإذا وقع الحكم بأن نَصِيبَ المصدق مُكَاتَبٌ، ونصيب الآخر قِنٌّ، فنصف الكَسْبِ له يصرفه إلى جهة النجوم، ونِصْفُهُ للمكذب. وإن اتَّفَقَا على مُهَايَأةٍ ليكتسب يَوْماً لنفسه، ويوماً للمكذب، أو بخدمة جاز، ولا ¬
إجْبَارَ عليها على الأَظْهَرِ خِلاَفاً لأبي حَنيفَةَ، ولا تقدير للنَّوْبَتَيْنِ في المُهَايَأةِ. وفي كتاب القاضي ابْنِ كَجٍّ: أنه يجوز المُهَايَأةُ يومين يومين، وثلاثة ثلاثة، فإن زادت كَسَنَةٍ وَسَنَةٍ؛ ففي الجَوَازِ وَجْهَانِ، وإذا أَدَّى النجوم، وفَضَلَ شَيْءٌ بما اكْتَسَبَ لِنَفْسِهِ، فهو له. ثم إن أعتق المُصَدِّقُ نَصِيبَ نَفْسِهِ، عُتِقَ. وهل يَسْرِي؟ فيه طريقان: قال أكثرهم: في السراية قولان، كما لو صَدَّقَاهُ معاً، إلاَّ أَنَّا إذا قلنا بالسِّرَايَةِ، فها هنا تَثْبُتُ السِّرَايَةُ في الحال، [ولا يجيء فيه القول الآخر؛ لأن صَاحِبَهُ ينكر الكتابة، فلا يمكن التَّوَقُّفُ إلى العمد، وقال بعضهم -وهو المذكور في الكتاب-: تثبت السِّرَايَة بلا خلاف في الحال] (¬1) لأن منكر الكتابة يقول: إنه رَقِيقٌ لهما، فإذا أعتق صاحبه نصيبه ثَبَتَتِ السِّرَايَةُ بقوله، فإن قلنا: لا سِرَايَةَ، فَوَلاَءُ ما عتق يكون بينهما، أو ينفرد به المُصَدِّقُ؟ فيه وجهان: وجه الأوَّل: أنه عُتِقَ بحكم كتابة الأَبِ. ووجه الثاني: وهو الأَشْبَهُ؛ أن المنكر أَبْطَلَ حَقَّهُ بالإِنكار، فيسلم للمصدق النصف، كما لو ادَّعَى وَارِثَانِ دَيْنَاً، وأقاما شاهداً، وحلف أحدهما معه، ولم يحلف الآخر -يأخذ الحالف نصفه، ويسلم له. وإذا جعلناه بينهما، فلو مات هذا العَبْدُ، ونصفه رقيق، وقلنا: إن مثله يورث، فتوقف حِصَّةُ المنكر. وإن قلنا بالسِّرَايَةِ، فَوَلاءُ النصف الذي سَرَى العِتقُ إليه للمعتق، وفي وَلاَءِ النصف الأول الوَجْهَانِ. ولو أَبْرَأَهُ المصدق عن نصيبه من النجوم، فالظَّاهر أنه لا سِرَايَةَ؛ لأن منكر الكتابة لا يعترف بِعِتْقِ نصيبه، ويعد الإِبْرَاءُ لَغْوًا. قال الإِمَام: ويجيء مع هذا الخِلاَف في السِّرَايَةِ؛ لأن قَوْلَ المصدق مَقْبُولٌ في نصيبه، فإذا أتى بما يَقْتَضِي العِتْقَ، فالسِّرَايَةُ بعده قَهْرِيَّةٌ لا تربط بالرِّضَا، وإن أدى نصيب المُصَدِّق من النجوم بلا سِرَايَةٍ. قال الإِمام وصاحب الكتاب: لأنه يُجْبَرُ على القَبُولِ لا مَحِيصَ له عنه. وقال غيرهما: لأنه عتق بحكم كِتَابَةِ الأب، ولا سِرَايَةِ على الميت، فصار كما لو أَقَرَّ أحد الابْنَيْنِ بأن أَبَاهُمَا أَعْتَقَ هذا العبد، وأنكر الآخر يعتق نصيب المقر، ولا يَسْرِي، وَوَلاءُ ما عتق بالأداء بينهما، أو للمصدق خَاصَّةً، فيه الوجهان. ولو عَجَّزَهُ المصدق عاد قِنّاً، والكَسْبُ الذي في يَدِهِ يكون للمصدق؛ لأن ¬
المكذب قد أخذ حِصَّتَهُ، فلو اختلفا في شيء من أَكْسَابِهِ، فقال المصدق: اكتسبته بعد الكتابة، وقد أَخَذْتَ نصيبك فهو لي، وقال المكذب: بل قبلها وكان لِلأَبِ، فهو بَيْنَنَا، فالمُصَدَّق المُصَدِّقُ؛ لأن الأَصْلَ أنه لم يكتسب قبل الكتابة. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الخَامِسَة: إِذَا قَبَضَ النُّجُومَ فَوَجَدَهَا نَاقِصَةً فَلَهُ رَدُّهَا وَرَدَّ العِتْقِ إِذْ تَبَيَّنَ أنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ أَوْ حَصَلَ حُصُولاً غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ بِحَسَبِ العِوَضِ، وَإِنْ رَضِيَ اسْتَمَرَّ العِتْقُ وَلَكِنْ مِنْ حِينِ الرِّضَا أَوْ مِنْ حِيْنِ القَبْضِ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلَوِ اطَّلَعَ عَلَى النُّقْصَانِ بَعْدَ تَلَفِ النُّجُومِ جَازَ لَهُ رَدُّ العِتْقِ إِلَى أَنْ يُسَلَّمَ الأَرْشَ، فَإِنْ عَجَزَ كَانَ لَهُ الإرْقَاقُ وَالفَسْخُ كَالعَجْزِ بِبَعْضِ النُّجُومِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: نذكر في ابْتِدَاءِ المَسْأَلَةِ أَصْلَيْنِ: أحدهما: أن العِوَضَ في الكتابة لا يكون إلاَّ دَيْناً، ويجوز أن يكون نَقْداً، وأن يكون عِوَضًا. والثاني: مستحق الدَّين في ذمة الغير، إذا اسْتَوْفَاهُ، فلم يجده على الصِّفَةِ المشروطة، فله رَدُّهُ، وطلب ما استحقه، ولا يرتفع العقد إن كان المَقْبُوض من غير جِنْس حَقّه، لم يملكه إلاَّ أن يَعْتَاضَ حيث يجوز الاعتياض. وإن اطلَعَ على عَيْبٍ به، فينظر إن رَضِيَ به؟ فهل نقول: ملكه بالرضا أو نقول: ملكه بالقَبْضِ، وتَأَكَّدَ المُلْكَ بالرِّضَا؟ فيه قولان: وإن رَدَّة، فهل نقول: مَلَكَهُ بالقبض، ثم انْتَقَضَ الملك بالرد، أو نقول: إذا رد تبين أنه لم يملكه؟ فيه قولان؟ ويبنى على هذا الخِلاَفِ مَسَائِلُ لعلها قد سَبَقَتْ: منها: أن عقد الصَّرْفِ إذا وَرَدَ على مَوْصُوفٍ في الذمة، ثم جرى التقابض، وتَفَرَّقَا، ثم وجد أحدهما بما قبض عَيْباً، وَرَدَّهُ، فإن قلنا: إنه ملك بالقبض صَحَّ العَقْدُ. وإن قلنا: تَبَّينَ أنه لم يملك، فالعَقْدُ فَاسِدٌ؛ لأنهما تَفَرَّقا قبل التَّقَابُضِ. ومنها: إذا أسلم في جَارِيَةٍ، وقبض جارية، فوجد بها عَيْباً، ورَدَّهَا فهل على المسلم إليه اسْتِبْرَاءُ هذه الجارية؟ يبنى على هذا الخلاف. ومنها: قال الإِمَامُ: المَوْصُوفُ والمقبوض إذا وجد مَعِيباً، فإن قلنا: إنه يملكه بالرِّضَا، فلا شك أن الرَّدَّ ليس على الفَوْرِ، والملك موقوف على الرِّضَا. وإن قلنا: يحصل المِلْكُ عند القَبْضِ، فيجوز أن يقال: الرَّدُّ على الفَوْرِ، كما في شراء الأَعْيَانِ.
والأوجه: المنع؛ لأنه ليس مَعْقُودًا عليه، وإنما يثبت الفَوْرُ فيما يُؤَدِّي رَدُّهُ إلى رفع العَقْدِ؛ إِبْقَاءً للعقد. إذا عرف ذلك، فلو وجد السَّيِّدُ ببعض النجوم المَقْبُوضَةِ، أو جميعها عَيْباً، فله الخِيَارُ بين أن يرضى به، وبين أن يَرُدَّهُ، ويطالب ببدله، ولا فَرْقَ بين العَيْبِ اليسير والفَاحِشِ، خلافاً لأبي حنيفة في اليَسِيرِ، فإن كان العَيْبُ في النَّجْمِ الأخير الذي يَتَعَلَّقُ به العِتْقُ فإما أن يرضى به، أو يريد الرد، فإن رضي به، فالعِتْقُ نافذ لا مَحَالَةَ، ويجعل رِضَاهُ بالعَيْبِ كالإبراء عن بعض الحَقِّ، ولكن يحصل العِتقُ عند الرَّضَا، أو نقول: حصل من وَقْتِ القبض؟ فيه وجهان، ويشبه أن يرجع الثاني، وبه قال أبو إِسْحَاقَ، وصاحب "التقريب" وغيرهما. وإن أراد الرد والاسْتِبْدَالَ؛ فان قلنا: يتبين بالرَّدِّ أن الملك لم يحصل بالقَبْضِ، فالعتق غير حَاصِلٍ، فإن أَدَّى على الصفة المُسْتَحَقّةِ بعد ذلك، فحينئذ يحصل العِتْقُ. وإن قلنا: يَحْصُلُ المِلْكُ في المقبوض، وبالرد يرتفع، فَوَجْهَانِ: أحدهما: أن العِتقَ كان حَاصِلاً، إلاَّ أنه كان بِصِفَةِ الجَوَازِ، فإذا رَدَّ العِوَضَ ارْتدَّ. وأصحهما: أن العِتْقَ لم يحصل، إذ لَيْسَ العِتْق من التَّصَرُّفَاتِ التي يَتَطَرَّقُ النَّقْصُ إليها، فلو حَصَلَ لَمَا ارْتَفَعَ، ولا ثَبَتَ العِتْقُ بصفة اللزوم باتفاق الأَصْحَابِ. وعن أحمد: أنه يَثْبُتُ، ولا يبطل العِتْقُ برد العِوَضِ. واحتج الأَصحَابُ بأن الكِتَابَةَ عقد مُعَاوَضَةٍ، يلحقه الفَسْخُ بالتَّرَاضِي، فوجب أن يفسخ بالعَيْب كالبيع. ولو تَلِفَ عند السيدِ ما قبضه، ثم عرف أنه كان مَعِيباً؛ فقد قَدَّمَ الإِمام عليه أَنه إن اتَّفَقَ ذلك في عَيْنٍ، فإن رَضِيَ، فالذي يَدُلُّ عليه فَحْوَى كلام الأئمة أن الرِّضَا كَافٍ، ولا حَاجَةَ إلى إِنْشَاءِ إِبْرَاءٍ. ووجهه: أن الأَرْشَ كالعِوَضِ عن حَقِّ الرَّدِّ، والرَّدُّ يَكْفِي في سُقُوطِهِ الرِّضَا، فكذا الأَرْشُ، فإن طلبه تفرد، ولم يسقط إلاَّ بالإِسْقَاطِ. وأما النجوم؛ فإن رَضِيَ، فالعِتْقُ نَافِذٌ، ويعود الوَجْهَانِ في أنه يحصل عند الرِّضَا، ويستند إلى القَبْضِ. وإن طلب الأَرْشَ يتبين أن العِتْقَ لم يحصل، فإذا أَدَّى الأَرْشَ حصل حينئذ، وإن عَجَزَ، فَلِلسَّيِّدِ إِرْقَاقُهُ، كما لو عَجَزَ ببعض النُّجُوم، ويجيء الوَجْهُ الآخر، وهو أن يرتفع العَقْدُ بعد حُصُوله، ويوافقه لَفْظُ صاحب "الشامل" حيث قال: ويعود حكم الرِّقِّ في العَبْدِ، حتى يُؤَدِّيَهُ، والأول هو المذكور في "الوسيط". وقوله هاهنا: "جاز رَدُّ العِتْقِ إلى أن يسلم الأَرْش". مَحْمُولٌ عليه، وتأويله أن
ليس له أن يَتَوَسَّلَ إلى الحكْمِ بانْتِفَائِهِ أَصْلاً، أو ما أشبه ذلك، وأما الأَرْشُ فيه وجهان: أحدهما: ما ينقص من قِيمَةِ رَقَبَةِ العبد، بحسب نُقْصَانِ العَيْبِ من قيمة النجوم على ما هو قِيَاسُ المُعَاوَضَاتِ. وهذا ما أَوْرَدَهُ أبو الفَرَجِ السَّرَخْسِىُّ. والثاني: ما ينتقص من النجوم المَقْبُوضَةِ بسبب العَيْبِ. وَوُجِّهَ بأن المقبوض عن المُلْتَزَمِ في الذمةِ ليس كما في العَقْدِ، ولذلك لا يَرْتَدُّ العَقْدُ برَدِّهِ، فلا يسترد في مُقَابَلَةِ نقصانه جزءاً من العوض كما لا يسترد العوض (¬1) إذا كان بَاقِياً فيرد (¬2) بالعيب. وهذا ما نَقَلَ القاضي الرُّوَيانِيُّ رُجْحَانَهُ، وأُجْرِيَ الوَجْهَانِ في كل عقد، ورد على موصوف في الذِّمَّةِ. قال الإِمَامُ: وأمثل منهما أن يُقَال: يُغَرَّمُ السَّيِّدُ ما قَبَضَ، ويطالب بالمُسَمَّى بالصفات المشروطة. وقوله في الكتاب: "فوجدها نَاقِصَةً"، يريد به النُّقصَانَ بالعَيْب، فأما إذا ظهر نُقْصَانٌ في الكَيْلِ، أو الوَزْنِ، فالعِتْقُ غير حاصل بلا خِلاَفٍ، سواء بقيَ المَقْبُوضُ في يَدِ السِّيِّدِ أو تلف، فإن رَضِيَ بالنَّاقِصِ، فيعتق حينئذ بالإِبْرَاءِ عن الباقي. وقوله: "ورد العتق"، يريد رَفْعَ الحُكْمِ بالعتق، أو غيره مما ينتظم على قولنا: إنه ما حَصَلَ العِتْقُ، وعلى قولنا: إنه حصل، ثم ارتفع؛ ألا تراه قال: إذ يتبين أنه لم يَحْصُلْ، أو حصل حُصُولاً غير مُسْتَقِرٍّ بحسب العِوَضِ؛ أي حصل غَيْرَ لاَزِمٍ مَوْقُوفاً حَالُهُ على تَبَيُّنِ حَالِ العِوَضِ سَلاَمَةً وَتَعَيُّبًا. قَالَ الْغَزَالِيُّ: السَّادِسَةُ: إِذَا خَرَجَتِ النُّجُومُ مُسْتَحَقَّةً تَبَيَّنَ أَنْ لاَ عِتْقَ، فَلَوْ كَانَ قَالَ لَهُ عِنْدَ القَبْضِ: اذْهَب فَأنْتَ حُرٌّ أَوْ عُتِقْتَ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ يُؤَاخَدُ به كَمَا لِلمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الصَّحِيحِ إِذَا خَرَجَ المَبِيعُ مُسْتَحَقاً وَإِنِ ادَّعَى المِلْكَ لِلبَائِعِ لِأَنَّ قَوْلَهُ كَانَ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِالطَّلاَقِ ثُمَّ قَال: كُنْتُ أَطْلَقْتُ لَفْظَةً ظَنَتتُهَا طَلاَقاً ثُمَّ رَاجَعْتُ المُفْتي فَأخْبَرَني بأَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ أنَّهُ يُقْبَلُ وَقَدْ قيلَ به، وَكَذَا فِي العِتْقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا خرج بَعْضُ النجوم، أو جَمِيعُهَا مستَحَقًا تَبَيَّنَ أنه لا عِتْقَ؛ لأن الأدَاءَ لم يَصِحَّ، وإن ظهر الاسْتِحْقَاقُ بعد مَوْتِ المكاتب بَانَ أنه مَات رَقِيقًا، وأن ما تركه للسَّيِّدِ دون الوَرَثَةِ. ولو قال السَّيِّدُ عند الأخذ: اذهب فأنت حُرٌّ، أو فقد عتقت، ثم تَبَيَّنَ الاستحقاق؛ ففيه وجهان: ¬
أحدهما: أنه يحكم بالحرية مُؤَاخَذة له بِإِقرَارِهِ. وأصحهما -وقد نص عليه-: أنه لا يُؤَاخَذُ به، ويحمل قوله على ظَاهِرِ الحال؛ وهو صِحَّةُ الأَدَاءِ. والوجهان كالوجْهَيْنِ فيما إذا خرج المبيع مُسْتَحَقًا، وكان قد قال في مُخَاصَمَةِ المدعي: إنه كان مِلْكاً لفلان إلى أن ابتعته منه أنه: هل يرجع بالثمن على بائعه؟ واقتصر صاحب "التهذيب" علىَ إِيرَادِ الوَجْهِ الأَصَحِّ في المسألتين، ثم قال: ولو [اختلفا] (¬1) فقال المُكَاتَبُ: أعتقتني بقولك: أنت حُرٌّ، وقال السيد: أردت أنك حُرٌّ بما أَدَّيْتَ، وبَانَ أنه لم يَصِحَّ الأَدَاءُ، فالقول قَوْلُ السيد مع يَمِينِهِ. وهذا السِّيَاقُ يَدُلُّ على أن مُطْلَقَ كَلاَمِ السيد مَحْمُولٌ على أنه حُرٌّ بما أدى؛ وإن لم يخبر عن (¬2) إرادته. وذكر الصَّيدلاَنِيُّ أن قِيَاسَ تَصْدِيقِ السيد في المسألة أنه لو قيل لرجل: طلقت امرأتك؟ فقال: نعم طَلَّقْتُهَا. ثم قال: إنما قلت ذلك على ظَنِّ أن اللَّفْظَ الذي جرى بيننا طَلاَقُهُ، ثم راجعت المفتيين فقالوا لا يَقَعُ بها شَيْءٌ، وقالت المَرْأَةُ: بل أردت إنشاء الطَّلاَقِ. والإقرار بِطَلاَقٍ آخر أنه يقبل قوله مع يَمِينِهِ. وكذا الحُكْمُ في مثله في العِتْقِ، وهذا قد ذَكَرَهُ غيره، ونقله القاضي الرُّوَيانِيُّ، ولم يعترض عليه. ولكن قال الإِمَامُ: هذا عندي وَهْمٌ وغَلَطٌ، فإن الإِقْرَارَ جرى بصريح الطَّلاَقِ، فَقَبُولُ قوله بِنَاءً على ما يَدَّعِيهِ، ويتعارض فيه صِدْقُهُ، وكذبه مُحَالٌ، ولو فتح هذا البَابَ لما استَقَرَّ إقْرَارُ المقر به، وليس ذلك كإطلاق لفظ الحرية على أنه قَبَضَ النجوم، فإنه مَحْمُولٌ على الإِخْبَارِ عما يقتضيه القَبْضُ. وفي مسألة الطَّلاَقِ لم توجد الإِشَارَة إلى واقعة، وإنما وجد سؤال مطلق، وجواب مُطْلَق (¬3). ¬
الحكم الثاني حكم الأداء
واعلم أن في كلام الإِمَامِ إِشْعَاراً بأن قوله: أنت حُرٌ، إنما يقبل تنزيله على الحُرِّيَّةِ بموجب القَبْضِ إذا رَتَّبَهُ علَى القَبْض، كما صور في الكتاب، فلو قال له عند القَبْضِ: اذهب فأنت حُرٌّ. وإن في مسألة الطَّلاَقِ لو وجدت قَرِينَةً عند الإِقْرَارِ بأن كانا يَتَخَاصَمَانِ في لفظة "أَطْلَقَهَا"، فقال ذلك، ثم أَبْدَى التأويل المذكور، يقبل أيضاً، فإن في الصورتين لو انْفَصَلَ قوله عن القَرَائِنِ لم يقبل التأويل. وهذا التفصيل قَوِيمٌ لا بَأْسَ بالأَخْذِ به. لكن قال في "الوسيط": لا فَرْقَ بين أن يكون (¬1) قوله: أنت حُرٌّ جَوَاباً عن سؤال حُرِّيَّتِهِ أو ابتداء، وبين أن يكون متصلاً (¬2) بقبض النُّجُومِ أو غير مُتَّصِلٍ لشمول العُذْرِ، ومَالَ كذلك إلى قَبُولِ التأويل في الإقرار بالطلاق وغيره. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الحُكْمُ الثَّانِي حُكْمُ الأَدَاءِ، وَفِيهِ سَبعُ مَسَائِلَ: (الأُولَى) أنَّهُ يَجِبُ الإِيتَاءُ بحَطِّ شَيْءٍ مِنَ النُّجُومِ أَوْ بَذْلُ شَيْءٍ، وَلاَ يَجِبُ فِي الكِتَابَةِ الفَاسِدَةِ عَلَى الأَظْهَرِ (و) لاَ يَجِبُ فِي الإِعْتَاقِ بعَوَضِ، وَلاَ فِي بَيْعِ العَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ، وَلاَ فِي الإِعْتَاقِ مَجَّاناً، وَفِي وُجُوبِ تَقْدِيمِهِ عَلَى وَقْتِ العِتْقِ وَجْهَانِ، وَيَكْفِي أَقَلُّ مَا يُتَمَوَّلُ، وَقِيلَ: بَلْ مَا يَلِيقُ بِالحَالِ إلاَّ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ الإِيتَاءِ فَتَكونَ الزِّيَادَةُ فِي التَّرِكَةِ كوَصِيَّةٍ يُضَاربُ بِهَا الوَصَايَا لاَ كَدَيْنٍ، وَلَوْ بَقِيَ مِنَ النُّجُومِ قَدْرٌ لاَ يُقْبَلُ فِي الإِيتَاءِ أَقَلُّ مِنْهُ إِذَا قُلنَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِمَّا يُتَمَوَّلُ فَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ تَعْجِيزُهُ، وَلاَ يَحْصُلُ التَّقَاصُّ لِأنَّ الإِيتَاءَ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ مَالِ الكِتَابَةِ وَلَكِنْ يَنْبَغي أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهِ، فَلَوْ عَدَلَ إِلَى غَيْرِ جِنْسِهِ فَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لاَ يَجْوزُ تَعَبُّداُ كَمَا فِي الزَّكَاةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: يجب على السَّيِّدِ إيتاء المُكَاتَبِ (¬3)؛ بقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ ¬
اللهِ الَّذِي آتاكُمْ} [النور: 33] وذهب أبو حَنِيْفَةَ ومالك: إلى أن الإيتَاءَ يُسْتَحَبُّ، وليس بِوَاجِبٍ، واختاره القاضي الرُّويَانِيُّ في "الحلية". والإيتاء بأن يَحُطَّ عنه شيئاً من النُّجُومِ، أو يبذل شيئاً، ويأخذ النُّجُومَ. أما الثاني فظاهر، فإن البَذْلَ إيتاء؛ وهو المَأْمُورُ به في الآيَةِ وأما الحَطُّ فقد روي ذلك عن الصَّحَابَةِ -رضي الله عنهم- قَوْلاً وفِعْلاً منهم: علي وابن عمر -رضي اللهُ عنهم-. وحكي خلاف عن الأصحاب -رحمهم الله- في أن الأَصْلَ في الإيتَاءِ البَذْلُ، والحَطُّ بدل عنه أو الأمر بالعكس. وجه الأول: أن ظاهر الآيَةِ يُشْعِرُ به. ووجه الثاني: أن المَقْصُودَ إِعَانَتُهُ ليعتق، والإِعَانَةُ في الحَطِّ محققة، وفي البَذْلِ مَوْهُومَةٌ؛ فإنه قد ينفق المال في جِهَةٍ أخرى. وهذا أَظهر، ويحكى عن نَصِّهِ -رضي الله عنه- في "الأم"، ولذلك نقول: الحَطُّ أَوْلَى من البَذْلِ. ثم في الإِيتَاءِ مَسَائِلُ: إحداها: في مَحَلِّ الإيتاء، وهي الكِتَابَةُ الصَّحِيحَةُ، وفي وجوبه في الفاسدة وَجْهَانِ: أظهرهما: المنع؛ وبَنَاهُمَا بَعْضُهُمْ على أن الأَصْلَ الحَطُّ، أو البذل، إن قلنا بالأَوَّلِ لم يجب؛ فإن النجوم غَيْرُ ثَابتَةٍ فيها حتى يجب الحَطُّ، وإذا لم يثبت الأَصْلُ لم يثبت البدل وهو البذل وإن قلنا: الأَصْلُ البَذْلُ؛ فلا يمتنع إيجَابُ شيء على السَّيِّدِ تشبيهاً (¬1) للكتابة الفَاسِدَةِ بالصحيحة, كما شَابَهَتْهَا في حُصُولِ العِتْقِ وغيره. وإذا أوجبنا فيها الإيتَاءَ، فمن قَضَايَاهَا: استِحْقَاقُ السيد قيمة الرقبة، فلو حَطَّ شيئاً منها عن جِهَةِ الإِيتَاءِ كَفَىَ. ومن أعتق عَبْدَهُ على عِوَضٍ، أو باعه من نفسه فلا إِيتَاءَ عليه في ظاهر المذهب، وهو المَذْكُورُ في الكتاب. وعن رِوَايَةِ الشيخ أبي محمد وَجْهٌ: أنه يجب الإِيتَاءُ في كل عَقْد عتاقة على عِوَضٍ، ولا خِلاَفَ في أنه لا يجب في الإعتاق (¬2) بغير عوض. والثانية: في وقته ومتى يجب؟ فيه وجهان: أحدهما: بعد العتق لتكون بُلْغَةً له؛ كما تجب المُتْعَةُ بعد الطَّلاَقِ. وأصحهما -وبه قال أبو إِسْحَاقَ-: أنه يجب قبل العِتْقِ ليستعين به على تحصيل ¬
العِتْقِ، كما يُدْفَعُ إليهم سَهْمُ الرِّقَابِ قبل العِتْقِ. وعلى هذا فإنما يَتَعيَّنُ في النَّجْمِ الأخير. وأما وقت الجَوَازِ، فمن أول عَقْدِ الكتابة، ويجوز بعد الأَدَاءِ، أو حصول العِتْقِ أيضاً، ولكنَّ سَبِيلَهُ سَبِيلُ القضاء إذا أوجبنا التَّقْدِيمَ على العتق. وفي طريقة الصَّيدَلاَنِيِّ -نقل وَجْهٍ: أنه لا يجوز الإيتَاءُ بما قبل النَّجْم الأَخِيرِ؛ بل يجب أن يحط منه ليرتب عليه العِتْق، أو يُؤْتيه بعد العِتْقِ؛ ليحصل التمليك الكَامِلُ، وقد يشعر قوله في الكتاب: "وفي وجوب تقديمه على وقت العِتْقِ وجهان"؛ فإنَّا إِذا لم نُوجِبِ التقديم يجوز (¬1) التقديم والتَّأْخِيرِ جَميعاً. ومنهم من يُشْعِرُ إِيرَادُهُ بوجوب التأخير كما قَدَّمْنَا. والثالثة: في قَدْرِهِ؛ وفيه وجهان: أصحهما -وهو المنصوص في "الأم"-: أنه لا يتقدر (¬2) بل يكفي ما يتمول، ويقع عليه الاسْمُ؛ لأنه لم يَرِدْ فيه تَقْدِيرٌ. وقوله: "مِنْ مَالِ اللهِ"؛ يتناول القَلِيلَ والكَثيرَ. والثاني -ويحكى عن أبي إِسْحَاقَ-: أنه يَنْبَغِي أن يكون قَدْراً يَلِيقُ بالحال، ويستعين به على العِتْقِ، دون القليل الذي لا وَقْعَ له. وعلى هذا، فيختلف الحال بقِلَّةِ المال وكثرته، فإن لم يَتَّفِقَا على شيء قَدَّرَهُ الحاكم بالاجتهاد، وينظر فيه إلى قُوَّةِ العبد واكتسابه. وعن رواية ابن القَطَّانِ وَجْهٌ: أنه يُعتَبَرُ حَالُ السَّيِّدِ في اليسار والإعسار (¬3). وعن الأَصْطَخْرِيِّ: أنه يحتمل أن يُقَدَّرَ بِرُبْعِ العُشْرِ، والمُسْتَحَبُّ قَدْرُ الربع، روي ذلك عن علي -كرم الله وجهه-. وفي وجه ضعيف: الثُّلُث، فإن لم تسمح نَفْسُهُ بذلك، فالسُّبع مَحْبُوبٌ؛ لما روي أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كَاتَبَ عَبْداً له بخمسة وثلاثين ألف درهم، وَحَطَّ عنه خمسة آلاف (¬4)، وخمسة سُبْع خمسة وثلاثين. قال في "الوسيط": وكان السُّبْع إلى العشر لائقاً. ¬
والرابعة: في جِنْسِهِ. والإِيتَاءُ بِالحَطِّ لا يكون إلاَّ من عَيْنِ مَالِ الكتابة. وأما البَذْلُ؛ فإن كان المَبْذُولُ من جنْسِ مال الكتابة كَبَذْلِ الدَّرَاهِم عن الدنانير، فلا يُلْزَمُ المُكَاتَبُ قَبُولَهُ؛ لقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] يريد مَالَ الكتابة. قال الإمَامُ: ووجدت في كَلاَمِ بَعْضِ الأئمة -رحمهم الله- مَا يَدُلُّ على أن غير الجنس مجزئ. وقوله في الكتاب: "ففيه وجه: أنه لا يجوز تَعَبُّداً كما في الزكاة"، يشير إلى ترجيح الجَوَازِ. وقد صرح به في "الوسيط". والظاهر الذي أَوْرَدَهُ الأكثرون: المَنْعُ. والمقصود من الجَوَازِ وعدمه أنه هل يُجْبَرُ المُكَاتَبُ على قَبُولهِ أو لا يجبر؟ فأما إذا رَضِيَ المُكَاتَبُ بغير الجِنْسِ، فيجوز لا مَحَالَةَ، نص عليه. فإن الكِتَابَةَ من قبيل المُعَامَلاَتِ، فلا [يُنْحَى] (¬1) بها على نَحْو العبادات، على أن الإِمام قال: إذا منعنا نقل الصَّدَقَة [وانحصر] (¬2) المُسْتَحِقُّونَ، فقد نقول لهم: أن يَعْتَاضُوا عُرُوضاً عن حقوقهم. ولو كان المَبْذُولُ من غَيْرِ مال الكتابة، ولكن من جِنْسِهِ، فهل عليه القَبُولِ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؟ لظاهر الآية. والأظهر -وهو المَذْكُورُ في الكتاب-: نعم؛ كما في الزَّكَاةِ، ولأن المَقْصُودَ الإِعَانَةُ، وهي حاصلة. وفي الفصل وَرَاءَ ما أَورَدنَاهُ فَرْعَانِ: أحدهما: إذا مات السَّيِّدُ بعد أَخْذِ النجوم، وقبل الإِيتَاءِ, فعلى الوَرَثَةِ الإِيتَاءُ, فإن كانوا صِغَارَاً تَولاَّهُ الذي يلي أَمْرَهُمْ، ثم لا يخلو إما أن يَكون مَالُ الكتابة أو بَعْضُهُ باقياً [بحاله] (¬3) أو لم يكن إن كان باقياً، فيؤخذ القَدْرُ الوَاجِبُ منه، ولا يزاحم المُكَاتَبُ فيه أَرْبَابَ الديون، ولا أَرْبَابَ الوصايا، [لأن حقه] (¬4) في عَيْنِهِ، أو هو كالمرهون بحقه هكذا ذكره القَفَّالُ، وحكاه القاضي ابن كَجٍّ عن نصه -رضي الله عنه- في "المبسوط". ¬
وإن لم يكن بَاقِياً؛ فعن أبي إِسْحَاقَ، وغيره وجه: أن الواجب (¬1) الإيتاء لكونه غير مُقَدَّرٍ ضعيف، فيؤخر عن الدَّيْنِ، ويجعل في مَرْتَبَةِ الوَصَايَا. وذكر وجه آخر: أن على قولنا: إن القاضي يُقَدِّرُهُ باجتهاده، فَقَدَّرَهُ أقل ما يتمول منه في مرتبة الدُّيُونِ، والزيادة عليه في مَرْتَبَةِ الوصايا لضعفه وهذا ما أَوْرَدَهُ في الكتاب مُسْتَثْنى عن قولنا: إن الوَاجِبَ ما يُقَدِّرُهُ القاضي، ويليق بالحَالِ، فقال: "إلا أن يموت قبل الإيتاء ... " إلى آخره. وكأن مَنْ قَالَ به يقول: الزِّيَادَة على أَقَلِّ ما يتمول لا يليق بحال الميت؛ لأَنه مُعْسِرٌ. وظَاهِرُ المَذْهَبِ أن ما يحكم بوجوبه على اخْتِلاَفِ الوجهين كَسَائِرِ الدُّيُونِ يُقَدَّمُ على الوَصَايَا، فإن أَوْصَى بِزِيَادَةٍ على الواجب، فتلك الزِّيَادَةُ من الوَصَايَا. واعلم أن الحِكَايَةَ عن نَصِّ الشَّافعي -رضي الله عنه- في "المختصر" أن المُكَاتَبَ يُحَاصّ بالذي له أَهْلَ الدِّيْنِ والوَصَايَا. واعترض المُزَنِيُّ وقال: يلزمه أن يقدمه على الوَصَايَا، وكيف يُحَاصّ الفريقين، والدُّيُونُ مقَدَّمَةٌ على الوَصَايَا، فإن حَاصَّ أَهْلَ الدُّيُونِ يقدم على الوصايا، وإن حَاصَّ أَهْلَ الوصايا تَقَدَّمَتِ الديون عليه. واختلف الأَصْحَابُ -رحمهم الله- في الجَوَابِ على وجوه: أحدها: أن الكاتب غلط، وإنما قال الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- يُحَاصّ أَهْلَ الديون دون الوَصَايَا. والثاني: عن ابن سُرَيْجٍ تَنْزِيلُ (¬2) النَّصِّ على ما إذا أوصى أن يكون الإيتاء والدُّيُونُ من الثلث، وكان الثلث يحتملهما، والوَصَايَا أيضاً؛ فيتحاصُّون (¬3) جميعاً في الثُّلُثِ. والثالث: تنزيله على ما إذا قدر القاضي شيئاً باجْتِهَادِهِ فَيُحَاصّ أرْبَابَ (¬4) الديون بأقل ما يتمول منه، وأَرْبَاب الوَصَايَا بالزيادة. وهو الوجه الذي قَدَّمْنَاهُ. والرابع: تَنْزِيلُهُ على ما إذا أَوْصَى السَّيِّدُ بزيادة على القَدْرِ الواجب، فيحاص أَرْبَابَ الديون بالواجب، وأَرْبَابَ الوَصَايَا بالزيادة. وبهذا قال ابن خَيْرَانَ، وشَبَّهَ ذلك بما أَوْصَى بأن يمح عنه بالحجة الواجبة من بلده، فَقَدَّرَ أُجْرَةَ الحج من المِيقَاتِ من رَأْسِ المال، والزيادة تُعْتَبَرُ من الثلث. الفَرْعُ الثَّانِي: إذا لم يبق من النجوم إلاَّ القَدْرُ الواجب في الإِيتَاءِ فلا تسقط ولا يَحْصُلُ ¬
التَّقَاصٌّ؛ لأنا -وإن جعلنا الحَطَّ أصلاً- فلِلسَّيِّدِ أن يُؤْتِيَهُ بَدَلاً عنه، ولا يجوز للسَّيِّدِ تعجيزه؛ لأن عليه مِثْلَهُ، ولكن يرفعه المُكَاتَبُ إلى الحاكم حتى يرى رَأْيَهُ، ويفصل الأَمْرَ بينهما. وإن جعلنا الإيتَاءَ أَصْلاً؛ فعن القاضي الحُسَيْن أنّ له تَعْجيزَهُ بالباقي إذا لم يجبره، وإذا عَجَّزَهُ سقط الإِيتَاءُ وارتفع العَقْدُ من أَصْلِهِ. قال الإِمام: وهذا عندي غَيْرُ صحيح، وإنما شرع الإيتاء لئلاَّ يَعْجَزَ العَبْدُ بقدره ولا يَفُوتَ العِتْقُ. وَلْيُعَلَمْ ما ذكرنا قوله في الكتاب: "وليس للسيد تعجيزه" بالواو. " فرع": إذا قلنا: أيجتهد القاضي في القَدْرِ؟ فقد قال الإِمَامُ: ما يستيقن (¬1) أن له وقع له بالإضافة إلى مَالِ الكتابة فهو غير كَافٍ، وما [يستيقن أن له وقعاً] (¬2) فهو كَافٍ. وإذا تَرَدَّدَ فعند الترَدْدِ يَتَعَارَضُ فيه أَصْلاَنِ: أحدهما: بَرَاءَةُ ذِمَّةِ السَّيِّدِ. والثاني: بقاء الأَمْرِ بالإيتاء، ويلتحق بأَطْرَافِ تقابل الأصلين والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةُ: لَوْ عَجَّلَ النُّجُومَ قَبلَ المَحَلِّ أُجْبِرَ عَلَى القَبُولِ كَمَا لَوْ عَجَّلَ دَيْناً بِهِ رَهْنٌ، وَفِي سَائِرِ الدُّيُونِ وَجْهَانِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى السَّيِّدِ ضَرَرٌ أَوْ كَانَ وَقْتَ غَارَةٍ لَمْ يَجُزْ، فَإِنْ كَانَ العَقْدُ أُنْشِئَ فِي وَقْتِ الغَارَةِ فَوَجْهَانِ، فَلَوْ كَانَ غَائِباً قَبَضَ القَاضِي عَنْهُ، وَلَوْ قَالَ لاَ آخُذُ فَإنَّهُ حَرَامٌ أُجْبِرَ عَلَى القَبُولِ وَالقَوْلُ قَوْلُ المُكَاتَبِ، وَلَكِنْ هَلْ يُنْتَزَعُ من يَدِهِ بَعْدَ القَبُولِ لِأَجْلِ إِقْرَارِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ينْتَزَعُ وَيُحْفَظُ فِي بَيْتِ المَالِ أَوْ يُسَلَّمُ إِلَى مَالِكِهِ إِنْ أَقَرَّ لِمَالِكٍ مُعَيَّنٍ، وَإِنْ قُلْنَا: لاَ يُنْتَزَعُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ إِذَا كَذَّبَ نَفْسَهُ، وَلَوْ قَالَ السَّيِّدُ: إنْ عَجَّلْتَ بَعْضَ النُّجُومِ فَقَدْ أَبْرَأتُكَ عَنِ البَاقِي لَمْ يَصِحَّ (ح و) الإِبْرَاءُ، وَلَوْ عَجَّلَ البَعْضَ بِشَرْطٍ لَمْ يَصِحَّ (ح و) الأَدَاءُ، فَإِنْ وَفَّى السَّيِّدُ وَأَبْرَأَ فَهَلْ يَنْقَلِبُ القَبْضُ صَحِيحَاً بِرِضَاهُ السَّابِقِ المُعَلَّقِ عَلَى الأدَاءِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ، وَلَوْ أَنْشَأَ رِضاً جَدِيدَاً فَلاَ شَكَّ أنَّهُ يَنْقَلِبُ مِنْ حِينِهِ لِأَنَّ دَوَامَ القَبْضِ كَابْتِدَائِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في المسألة قَوَاعِدُ يَتْلُوهَا فروع: إِحْدَى القَوَاعِدِ: إِذا عجل المُكَاتَبُ النُّجُومَ قبل المَحَلِّ، نُظِرَ: إن لم يلحق السَّيِّدَ ¬
ضَرَرٌ في القَبُولِ؛ أجبر عليه (¬1)؛ لأن للمكاتب غَرَضاً ظاهراً فيه، وهو تنجيز العتق، أو تقريبه، ولا ضَرَرَ على السَّيِّدِ من قبوله (¬2)، ولأن المحل حَقُّ مَنْ عليه الدَّيْنُ، فإذا أَسْقَطَهُ ينبغي أن يسقط، وقد ورد فيه الأَثَرُ عن عمر -رضي اللهُ عنه-؛ كان لحق السَّيِّدَ ضَرَرٌ بأن كان لا يبقى بحاله إلى وَقْتِ الحُلُولِ، كالطَّعَامِ الرَّطْبِ، أو كان يلزمه مُؤنَةٌ كَعَلَفِ الحيوان، وما يحتاج إليه لِلْحِفْظِ، أو كان في أيام فِتْنَةٍ وغَارَةٍ؛ فلا يُحْبَرُ على القَبُولِ. نعم؛ لو أُنْشِئَ العَقْدُ في وقت الفِتْنَةِ والغَارَةِ، ففيه وجهان: أحدهما: يُجْبَرُ؛ لاستواء الحَالَتَيْنِ، كما لو (¬3) استويا في الأمن. وأصحهما: المنع؛ لأنها قد تَزُولُ عند المَحَلِّ. ولو أتى بالنجوم في غير بَلَدِ العَقْدِ؛ فإن كان في النَّقْلِ مُؤنَةٌ، أو كان الطريق، أو ذلك البَلَدُ مَخُوفاً لم يُجْبَرْ على القبول وإلاَّ فَيُجْبَرْ. وقوله في الكتاب: "وفي سائر الديون المؤجلة وجهان"، لا يمكن حَمْلُهُ على ما سوى النُّجُومِ مُطْلَقاً، وكيف وقد ذكر أنه لو عَجَّلَ دَيْناً به رهن يُجْبَرُ على القَبُولِ لفكِّ الرَّهْنِ. وقد سبق ذلك في "باب السَّلَمِ"، وبَيَّنَّا هناك أنه إذا لم يكن للتعجيل غَرَضٌ سوى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ؛ ففي إِجْبَارِ المستحق على القَبُولِ قولان: أظهرهما: الإجْبَارُ، فليحمل قوله: "وفي سائر الدُّيُونِ المُؤَجَّلَةِ" على ذلك، أي الديون التي لا يَتَعَلَّق بتعجيلها غَرَضُ عتق (¬4) وفك رَهْنٍ، وغيرهما. الثانية: إذا أَتَى المُكَاتَبُ بالنجوم في مَحَلِّهِ، والسَّيِّدُ غَائِبٌ، فيقبض القاضي عنه، وكذا يقبض عنه إذا امتنع وهو حَاضِرٌ، ويعتق العَبْدُ. ولو أتى بالنجم قبل المَحَلِّ والسَّيِّد غائب؟ فكذلك يقبض عنه إذا عرف أنه لا ضَرَرَ على السَّيِّدِ في أَخْذِهِ. قال الصَّيْدَلاَنِيُّ: وبمثله لو كان لِغَائِبٍ دَيْنٌ على آخر، فأتى به الحاكم؛ هل يقبضه للغائب؟ فيه وجهان: أظهرهما: المنع؛ لأنه ليس للمؤدى غَرَضٌ إلاَّ سُقُوطُ الدَّيْنِ عنه، والنظر للغائب ¬
أن يترك المَالَ في ذِمَّةِ الملئ فإنه خَيْرٌ من أن يصير أَمَانَةً في يد الحاكم (¬1). الثالثة: إذا أتى المُكَاتَبُ بالنجوم، فقال السَّيِّدُ: هذا حَرَامٌ أو مغصوب؛ نُظِرَ: إن أقام على ما يقوله بَيِّنَةَ لم يُجْبَرْ على قَبُولِهِ [وتسمع هذه البَيِّنَةُ؛ لأن له في إقامتها غَرَضًا ظاهراً، وهو الامْتِنَاعُ عن الحرام. هكذا أطلقه كثيرون. وقال الصَّيْدَلاَنِيُّ: إنما يقيم البَيِّنَةَ] (¬2) ويسمع إذا عَيَّنَ له مَالِكاً، أما إذا لم يُعيِّنْ فلا تُتَصَوَّرُ البَيِّنَةُ للمجهول، ولا معنى لقولهم: إنه مَغْصُوبٌ. وللمطلقين أن يقولوا: إذا كان مَقْصُودُ هذه البَيِّنَةِ الامْتِنَاعُ عن الحرام لم يبعد قَبُولُهَا على الإِطْلاَقِ، وإن لم تكن بَيِّنَةٌ، فالقول قول المُكَاتَب: إنه له مع يَمِينِهِ؛ لظاهر اليَدِ، فإن نَكَلَ حَلَفَ السَّيِّدُ، وكان كما لو أقام البَيِّنَةَ. وعن ابن أبي هُرَيْرَةَ وَجْهٌ حكاه القاضي ابْنُ كَجٍّ أن المُكَاتَبَ يحتاج إلى البينة. والمشهور الأَوَّلُ، ولا يثبت بِبَيِّنَةِ السَّيِّدِ حَقُّ المالك الذي عَيَّنَهُ، ولا يسقط بحَلِفِ المكاتب حقه. ثم إذا حَلَفَ العبد، فظاهر المَذْهَب أنه يجبر السَّيِّدُ على قَبُولِهِ، أو إِبْرَائِهِ عن ذلك القَدْرِ، فإن امتنع منهما أخذ الحاكم النُّجُوَمَ، وعُتِقَ العبد. وقد نص الشافعي -رضي الله عنه- فيما إذا اشْتَرَى نَخِيلاً، وأَفْلَسَ، ورجع البائع في النَّخِيلِ، وعليها ثمرة؛ فقال المُشْتَرِي: حدثت في مِلْكِي، وقال البائع: بل كانت على النَّخِيلِ وقت (¬3) البيع، وصدق بعض الغُرَمَاءِ المشتري دون بعض، أنه يُصَدَّقُ المشتري. وأنه إذا حَلَفَ تُدْفَعُ الثمرة إِلى مَنْ صَدَّقَهُ دون من كَذَّبَهُ. فحكى الشيخ أبو حَامِدٍ أن من الأَصْحَاب من قال: قَضِيَّةُ قوله: لا تدفع الثمرة إلى المكذب ألاَّ يجبر السَّيِّدُ على القَبُولِ هاهنا، وأن فيهما (¬4) قولين بالنَّقْلِ والتخريج، والأكثرون امْتَنَعُوا منه. وقالوا في الفَرْقِ إذا دفعت الثَّمْرَةُ إلى من صَدَّقَهُ، بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ عن الدَّيْنِ بقدرها، ولم يتضرر. وهاهنا لو لم يُجْبَرِ السَّيِّدُ على الأَخْذِ تَضَرَّرَ ببقاء الرِّقِّ. ويجوز أن يُعَلمَ لما بَيَّنَّا قوله في الكتاب: "أجبر على القبول" بالواو واللفظة ¬
تحتاج إلى ضَمِيمَةِ المعنى أُجْبِرَ على القَبُولِ، أو الإِبْرَاءِ عن ذلك القدر، أو أُجْبِرَ على القَبُولِ إن لم يبرئ عنه. ثم إذا أخذه السَّيِّدُ، نُظِر إن عَيَّنَ له مَالِكَاً أُمِرَ بِتَسْلِيمِهِ إليه مُؤَاخَذَةً له بإقراره، وإن لم يقبل قوله على المُكَاتَبِ -وإن لم يعين مالكاً، واقتصر على قوله: "إنه حرام"، "أو مَغْصُوبٌ"، "أو مَسْرُوق"، فوجهان: أحدهما: أنه يَنْتَزِعُهُ الحاكم، ويحفظه في بَيْتِ المال إلى أن يَظْهَرَ مالكه. وأظهرهما: المَنْعُ؛ فإنه لم يقر لمعين. وذكر الرُّوَيانِيُّ وغيره -رحمهم الله- على هذا أنه يُقَالُ: له إمساكه إلى أن يَتَبَيَّنَ صَاحِبُهُ، ويمنع من التَّصَرُّفِ فيه. ولو كَذَّبَ نَفسَهُ، وقال: هو لِلْمُكَاتَبِ، كما ادَّعَاهُ. قال الإمَامُ: المذهب أنه يقبل وينفذ تَصَرُّفُهُ. بحسبه، ويجوز أن يُوَجَّهَ الآخر بأنه أَقَرَّ بأنه حَرَامٌ عليه، فلا يتمكن من الرجوع عنه. قال: وإن قلنا: إن الحاكم يزيل يَدَهُ، فالظَّاهِرُ أنه لو كَذَّبَ نفسه لا يقبل. وقوله في الكتاب: "فيه وجهان أحدهما أنه يُنْزَعُ، ويحفظ في بيت المال، أو يسلم إلى مالكه إن أقر لمالك معين" يشعر بِإِثْبَاتِ الخلاف في الانْتِزَاعِ مع الإقرار لِمُعَيَّنٍ ليسلم إليه، ولا خِلاَفَ في أنه يُؤْمَرُ بالتسليم إليه، لكن لا يجوز (¬1) فَرْض الخلاف في أَنَّا هل [ننزعه لنسلمه] (¬2) إليه إذا كان غَائِباَ مَثَلاً. هذه هي القَوَاعِدُ. وأما الفروع (¬3): فلو جاء المُكَاتَبُ بالنَّجْمِ عند المَحَلِّ، وشرط على السيد أن يُبْرِئَهُ، فالشرط لَغْوٌ، وللسيدِ أَخْذُهُ، ولا يلزمه الإِبْرَاءُ عن الباقي. ولو عَجَّلَ قبل المَحَلِّ على أن يُبْرِئَهُ عن الباقي؛ فأخذه وأَبْرَأَهُ لم يَصِحَّ القَبْضُ ولا الإِبْرَاءُ، خلافاً لأبي حَنِيفَةَ وأحمد. ولو قال السيد: أَبْرَأْتُكَ عن كذا بِشَرْطِ أن تُعَجِّلَ لي الباقي، وإذا عَجَّلتَ كذا، فقد أَبْرَأتُكَ عن الباقي، فَعَجَّلَ لم يَصِحَّ القَبْضُ ولا الإِبْرَاء أيضاً، وإذا لم يَصِحَّا لم يَحْصُلِ العِتْقُ، وعلى السيد رَدُّ المأْخُوذِ. هذا ظاهر المذهب. وأشار المزَنِيُّ إلى تَرَدُّدِ قول في صِحَّةِ القَبْضِ والإِبْرَاء , ولم يسلم له جمهور الأصحاب اخْتِلاَفَ القَوْلِ في المَسْأَلَةِ، وحملوا التَّجْوِيَزَ على ما إذا لم يَجْرِ شرط ابتدائه. ¬
وردَّدَ صاحب [الكتاب في "الوسيط"] (¬1) تَرَدُّدَ القول إلى أنه إذا عَجَّلَ بشرط الإبراء وفي السيد فأبرأ؛ هل يَنْقَلِب القَبضُ صحيحاً [ففي قول: ينقلب صحيحًا] (¬2) لأنه رضي بالأداء بشرط الإِبْرَاءِ، فإذا حصل الشَّرْطُ كان القبض مَرْضِيّاً به، وعلى هذا جَرَى في الكتاب. ولو أَنْشَأَ رِضاً جديداً، فقبضه عما عليه يحكم بِصِحَّتِهِ، كما لو أذن للمشتري في أن يَقْبِضَ ما في يَدِهِ عن جهة الشِّرَاءِ، وللمرتهن (¬3) في قبضه عن جهة الرَّهْنِ. ويجوز أن يُعَلمَ قوله في الكتاب: "لم يصح الإبراء" مع الحاء والألف بالواو؛ لما أَشَارَ إليه المزني. وأيضاً ففي تَعْلِيقِ الإبْرَاءِ مُطْلَقاً خِلاَفٌ مَذْكُورٌ في "الضَّمَانِ"، ولو أخذ السيد ما عَجَّلَهُ المُكَاتَب أو أبرأه عن الباقي من غير شَرْطٍ لو عَجَّزَ العَبْدُ نَفسَهُ، فَأخَذَ السَّيِّدُ ما معه وأَبْرَأَهُ عن الباقي، أو أَعْتَقَهُ جاز (¬4). وذكر الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- مُشِيراً إلى حِلِّهِ بقيد حرية المُكَاتَبِ بما عَجَّله أنه (¬5) إن أَحَبَّ أن يصح فَلْيَرْضَ المُكَاتَبُ بالعَجْزِ، ولْيَرْضَ السَّيِّدُ بأن يأخذ ما معه ويعتقه، ولكن في هذا (¬6) مُخَاطَرَةٌ على العبد، فإنه لا يؤمن ألاَّ يفي السَّيِّدُ بما وَعَدَ وَيَرِقّهُ، ويأخذ ما في يَدِهِ من الأَكْسَاب، فالطريق على ما حكى عن صاحب "الإفصاح" والأئمة -رحمهم الله- أن يقول: إذاَ عَجَّزْتَ نفسك، وأَدَّيْتَ إِلَيَّ كذا، فأنت حُرٌّ، فإذا وجدت الصِّفَتَانِ يعتق، ويكون العِتْقُ على الكتابة. قال في "التهذيب": لأنه لا ترتفع الكِتَابَةُ بِمُجَرَّدِ تعجيزه نفسه، وإنما يرتفع إذا فَسَخَهَا بعد التَّعْجِيزِ، وإذا عُتِقَ عن الكِتَابَةِ، كانت الأَكْسَابُ له، ثم يَتَرَاجَعَانِ، فيرجع العبد على السَّيِّدِ بما أخذه ويرجع السَّيِّدُ على العَبْدِ بقيمته؛ لأنه أَعْتَقَهُ على عِوَضِ التَّعْجِيزِ، والمال المذكور، والتعجيز لا يصلح عِوَضاً، وكأنه أُعْتِقَ على عِوَضٍ فَاسِدٍ. وقال في "الشامل": لو لم يُعَلّقْ هكذا , ولكن قال: إن أَعْطَيْتَنِي كذا فأنت حُرٌّ، ¬
فأعطاه عُتِقَ، ولكنه عِوَضٌ فَاسِدٌ؛ لأن المُكَاتَبَ لا تَصِحُّ المُعَاوَضَةُ عليه، فَعُتِقَ بالصفة، ويجب عليه تَمَامُ قيمته. واعلم أن الإمَامُ أَطْنَبَ في إِيرَادِ الإِشْكَالِ في هذا الفصل وفيما أَوْرَدْنَاهُ يحِصل به الانْفِصَالُ عن أكثرها. " فرع": لو عَجَّلَ المُكَاتَبُ النجم (¬1) على أن يُعْتِقَهُ، ويُبْرِئَهُ عن الباقي ففعل السيد ذلك، عُتِقَ المُكَاتَبُ، ورجع السيد عليه بقيمته، ويرجع المُكَاتَبُ على السيد بما أَدَّاهُ؛ لأنه أعْتَقَهُ بِعَوَضٍ فَاسِدٍ. حكاه القَاضِي عن النَّصِّ (¬2). قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثَةُ لِتَعَذُّرِ النُّجُومِ خَمْسَةُ أَسْبَابٍ: إِذَا أَفْلَسَ بِجَمِيعِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا فَلَهُ فَسْخُ الكِتَابَةِ وَيُسَلَّمُ لَهُ مَا أَخَذَ إلاَّ مَا كَانَ مِنَ الصَّدَقَةِ فَيَجِبُ رَدُّهَا عَلَى مَالِكهَا، وَلَيْسَ هَذَا الفَسْخُ عَلَى الفَوْرِ بَلْ لَهُ التَّأْخِيرُ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الإِنْظَارُ إلاَّ بِقَدْرِ مَا يَخْرُجُ المَالُ مِنَ المَخْزَنَ، فَإنْ كَانَ مَالُهُ غَائِباً فَلَهُ الفَسْخُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عُرُوضٌ لاَ يُشْتَرَى إلاَّ فِي زَمَانٍ فَلَهُ الفَسْخُ عَلَى الأَظْهَرِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مَقْصُودُ المسألة الكَلاَمُ فيما إذا تَعَذَّرَ تَحْصِيلُ النجوم عند مَحَلِّهَا، وله أسباب منها: الإِفْلاَسُ: فإذا حَلَّ نَجْمٌ على المُكَاتَب، وهو عاجز عن أَدَائِهِ، أو أَدَاءِ بَعْضِهِ، فَلِلسَّيِّدِ فَسْخُ الكتابة [فإن شاء فسخ بنفسه] (¬3)؛ لأنه فسخ مُجْمَعٌ عليه كَفَسْخِ النِّكَاحِ بالعِتْقِ، وإن شاء رَفَعَ الأمَرَ للحاكم لَيَفْسِخَ. وفي "تَعْلِيق الشيخ أبي حَامِدٍ": أنه إذا ثَبَتَ عَجْزُهُ بِإقْرَارِهِ أو بالبَيِّنَةِ فللسيد فسْخُ الكتابة، ولا يَنْبَغِي أن يشترط إقراره بالعَجْزِ، ولا قيام البينة عليه؛ لأنا سنذكر أنه إذا امْتَنَعَ عن الأَدَاءِ، ثَبَتَ حَقُّ الفَسْخِ للسيد، وإذا لم يُؤَدِّ، فهو مُمْتَنِعٌ إن لم يكن عَاجِزاً، وإذا رفع الأمر إلى الحاكم (¬4) فلا بد من ثُبُوتِ الكِتَابَةِ، وحُلُولِ النَّجْمِ عنده ومهما فسخت الكتابة سَلَّمَ للسيد ما أَخَذَهُ؛ لأنه كَسْبُ عبده (¬5) نعم؛ ما أخذه من الصَّدَقَاتِ ¬
فَيَسْتَرِدُّهُ مُؤَدِّيهِ. وهذا قد سَبَقَ ذِكرُهُ في "قَسْمِ الصَّدَقَاتِ". ويجوز أن يُعَلَمَ قَوْلُهُ في الكتاب: "فيجب ردها" لخلاف بَيَّنَاهُ هناك، وليس هذا الفَسْخُ على الفَوْرِ، بل له تَأْخِيرُهُ إلى أن يَشَاءَ، كالفَسْخِ بالإِعْسَارِ (¬1). وإذا استنظره المُكَاتَبُ، فَيُسْتَحَبُّ له أن يُنْظِرَهُ. ثم لا يُلْزَمُ الإِمْهَال؛ بل له الرُّجُوعُ إلى الفَسْخِ مهما بَدَا له، خِلاَفاً لأبي حنيفة. وإذا طالبه بالمَالِ، فَلاَ بُدَّ من الإِمْهَالِ بِقَدْرِ ما يَخْرُجُ من المَالِ من الصنْدُوقِ والدُّكَّانِ وَالمَخْزَنِ ويزن (¬2)، وإن كان مَالُهُ غائباً، فقد أَطْلَقَ الإمَامُ وصاحب الكتاب: للسيد الفَسْخُ، ولْيُحْمَلْ على تَفْصِيلٍ، ذكره ابن الصَّبَّاغ، وصاحب "التهذيب" وغيرهما -رحمهم الله- وهو أنه إن كان على مَسَافَةِ القَصْرِ، لَم يَلْزَمْهُ التأخير إلى أن يُحْضِرَهُ؛ لِطُولِ المُدَّةِ، وإن كان على مَا دُونَ مَسَافَةِ القَصْرِ، لَزِمَ التَّأْخِيرُ إلى أن يحضره، وإن كان له دَيْنٌ على إِنْسَانٍ فإن كان حَلاًّ، ومن عليه مَلِيٌّ، وجب التَّأْخِيرُ إلى اسْتِيفَائِهِ، كما لو كانت له وَدِيعَةٌ عند غيره؛ فإن كان مُؤَجّلاً، أو على مُعْسِرٍ، فلا يجب التَّأْخِيرُ. وإن كان الدَّيْنُ على السَّيِّدِ، وهو من جِنْسِ النجوم، ففيه الخِلاَفُ في التَّقَاصِّ، وإن كان مِنْ غير جِنْسِهِ أَدَّاهُ لِيَصْرفَهُ المُكَاتَبُ إلى جنس النجوم، ولو حَلَّ النَّجْمُ وهو نَقْدٌ، وللمكاتب عُرُوضٌ، فإن تأتَّى بيعها على الفَوْرِ، فلا يَفْسِخُ السيد وتُبَاعُ، وإن احْتَاجَ البَيْعُ إلى مُدَّةٍ لكسادٍ وَغَيْرِهِ، فَقَضِيَّةُ ما أَطْلَقَهُ الصَّيْدَلاَنِيُّ أنه لا يَفْسِخُ أيضاً. ورأى الإِمام جَوَازَ الفَسْخِ، ونَزَّلَهُ مَنْزِلَةَ غيبة المال، وهذا أظهر وضبط في "التهذيب" مُدَّة التأخير (¬3) للبيع بثلاثة أَيَّامٍ، وقال: لا يلزم أَكْثَرُ من ذلك. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الثَّانِي): إِذَا غَابَ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ فَلَهُ الفَسْخُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الرَّفْعِ إِلَى القَاضِي، وَإِنْ كَانَ بِإذْنِهِ بَعْدَ المَحَلِّ فَلَيْسَ لَهُ الفَسْخُ حَتَّى يُخْبِرَهُ مُخْبِرٌ أنَّهُ قَدْ نَدِمَ عَلَى الإِنْظَارِ، فَإنْ قَصَّرَ فِي الإِيَابِ فَلَهُ الفَسْخُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا حَلَّ النجم، والمُكَاتَبُ غائب، أو غَابَ بعد الحُلولِ بغير إِذْنِ السيد، فَلِلسَّيِّدِ فَسْخُ الكتابة إن شاء بِنَفْسِهِ، وإن شاء بالحاكم؛ لأن المُكَاتَبَ كان ينبغي ¬
أن يحضر، أو يبعث المَالَ إليه عند المَحَلِّ، ولا يجب على السَّيِّدِ تأخير الفَسْخِ بكون (¬1) الطريق مَخُوفاً، أو المُكَاتَبِ مَرِيضاً. وفيه وَجْهٌ، ويُنْسَبُ إلى أبي إِسْحَاقَ: أنه لا يفسخ بنفسه عند العَقْدِ؛ بل لا بد من الرَّفْع إلى القَاضِي، فإنه نَائِبُ [الغيّب] (¬2)، وقد سَبَقَ ذِكْرُ هذين الوجهين فيما إذا أُمِرَ المُكَاتَبُ. والظاهر الأول. وإلى الوجه المذكور أَشَارَ بقوله في الكتاب: "من غَيْرِ حَاجَةٍ إلى الرفع"، فإن فسخ بنفسه، فليشهد عليه لئلا يُكَذِّبَهُ المُكَاتَبُ. وإن رفع الأمر إلى الحاكم، فَلاَ بُدّ وأن يثبت عنده حُلُول النجم، وتعذر التحصيل، ويُحَلِّفهُ الحَاكِمُ مع ذلك؛ لأنه قَضَاءٌ على الغائب. قال الصَّيْدَلاَنِيُّ: يُحَلِّفُهُ أنه ما قَبَضَ من النجم منه، ولا من وَكِيلِهِ، ولا أَبْرَأَهُ ولا أَحَالَ به، ولا يَعْلَمُ له مَالاً حَاضِراً. وذِكْرُ الحَوَالَةِ [يَتَفَرَّعُ] (¬3) على جَوَازِ الحِوَالَةِ بالنُّجُومِ. ولو كان مَالُ المكاتب الغائب حاضرًا، لم يُؤَدّ الحاكم النُّجُومَ منه، ويمكن السيد من الفَسْخِ؛ لأنه ربما عَجَّزَ نَفْسَهُ لو كان حَاضِراً، ولم يُؤَدِّ المَالَ. ولو أنظر المُكَاتب بعد حُلُولِ النَّجْمِ، وأَذِنَ له في السَّفَرِ، ثم بَدَا له في الإِنْظَارِ لم يكن له الفَسْخُ في الحَال (¬4) لأن المُكَاتَبَ غير مُقَصِّرِ هاهنا، وربما اكْتَسَبَ في السَّفَرِ ما يَفِي بالوَاجِب، ولكن يَرْفَعُ السيد الأَمْرَ إلى الحاكم، ويقيم البَيِّنَةَ على الحُلُولِ والغيبة وَيحْلِفُ مع ذَلك، ويذكر أنه رَجَعَ عن الإنظَارِ، فيكتب الحَاكِمُ إلى حَاكم بَلَدِ المُكَاتَب ليعرفه الحال؛ فإن أظهر العَجْزَ كتب به إلى حَاكِم بَلَدِ السَّيِّدِ ليفسخ إن شَاءَ. وإن قال: أُؤَدِّي الوَاجبَ، فإن كان لسَّيِّد وَكِيلٌ هناك أمره (¬5) بالتسليم، فإن أبَى ثَبَتَ حَقُّ الفَسْخ [بالامتناع] (¬6) للسيد، وللوكيل الفَسْخُ أيضاً إن كان وَكِيلاً به. وحكى القاضي ابْنُ كَجٍّ قَوْلاً آخر: أنه لا يَثْبُتُ حَقُّ الفَسْخ بالامْتِنَاع من التسليم إلى الوَكِيلِ، لاحتمال العَزْلِ، وإن لم يكن هناك وَكِيلٌ أمره الحاكم بإِيصَالَهِ إليه، إِما بنفسه أو بغيره، وَيَلْزَمَهُ ذلك في أول رفقة تَخْرُجُ، أو في الحال إن كان لا يَحْتَاجُ إلى رُفْقَةٍ في ذلك الطريق، وعلى السَّيِّدِ الصبر (¬7) إلى أن تَمْضِي مُدَّةُ إِمكَانِ الوُصُولِ، فإن مَضَتِ المُدَّةُ ولم يوصله مقصّراً فللسَّيِّدِ الفَسْخُ. ¬
ويخرج بما ذكرنا: إنه لا يعتبر مُضِيُّ مُدَّةِ إِمْكَانِ المَسِيرِ إلى السَّيِّدِ إن كان له وَكِيلٌ هناك، وأنه يُعْتبَرُ مُضِيُّهَا إن لم يكن وَكيلٌ وكذلك نَقلَهُ الرَّبِيعُ. وعن رواية المُزَنِيِّ أنه لا يَفْسِخَ حتى تَمْضِيَ مُدَّةُ إِمْكَانِ المسير، سواء كان هناك وَكِيلٌ، أو لم يَكُنْ وعدّ ذلك سهواً منه. وقوله في الكتاب: "فَلَيْسَ له الفَسْخُ حتى يخبره أنه نَدِمَ على الإِنْظَارِ ليس في ظَاهِرِهِ تَعَرُّضٌ للرفع إلى الحَاكِم، ولكتاب الحاكم، لكنه الذي ذكره الشَّافِعِىُّ -رضي الله عنه- والأَصْحَابُ -رحمهم الله- بل لا بد من الحَمْلِ عليه. نعم؛ قال القاضي ابْنُ كَجٍّ: لو لم يكن في بَلَدِ السَّيِّدِ حَاكِمٌ، فكتب السيد إلى العبد، وأعلم الحال، وأمره بالتَّسْلِيمِ إلى رَجُلٍ عَيَّنَهُ، فامتنع، فَعِنْدِي: أنه كما لو امْتَنَعَ بَعْدَ كتاب القَاضِي، إذا وقع له العِلْمُ به. وذكر أبو الحُسَيْنِ فيه وجهين، وحكى وجهين فيما لو سَلَّمَ المُكَاتَبُ إلى وكيل السيد، وبَانَ [أن] السَّيِّدَ عَزَلَهُ؛ هل يَبْرَأُ المُكَاتَبُ؟ قال: وعندي أن الوجهين مَخْصُوصَانِ بما إذا قال الحاكم: إن فلاناً وَكَّلَهُ، ولم يأمره بالتَّسْلِيمِ إليه، فَيَبْرَأُ بلا خِلاَفٍ. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّالِثُ: أَنْ يَمْتَنِعَ مَعَ القُدْرَةِ فَلَهُ الفَسْخُ إذِ الكتَابَةُ جَائِزَةٌ (ح و) مِنْ جَانِبِ العَبْدِ، وَلَهُ أن يُعَجِّزَ نَفْسَهُ وَأَنْ يَفْسَخَ مَهْمَا شَاءَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وإذا امتنع العَبْدُ من أَدَاءِ النُّجُومِ مع القُدْرَةِ لم يُجْبَرْ عليه؛ لأن الكتابة جَائِزَةٌ من جانب العَبْدِ، فله تَعْجِيزُ نَفْسِهِ إذا شاء. قال الأَصْحَابُ -رحمهم الله-: وإنما كانت الكتَابَةُ جَائِزَةً من جانب العَبْدِ، بخلاف جانب السَّيِّدِ؛ لأن الخَطَّ في الكتابة للعبد، فلا يَتَمَكَّنُ السَّيِّدُ من إِسْقَاطِ ما أَثْبَتَهُ من الخَطِّ والحَقِّ، وصاحب الخط بالخِيَارِ في حقه. وهذا كما أن الرَّهْنَ جَائِزٌ من جانب المُرْتَهِنِ، لاَزِمٌ من جِهَةِ الرَّاهِنِ، وأيضاً فالكتابة تتضمن تَعْلِيقَ العِتْقِ بصفة في العَبْدِ، والتعليق يلزم من جهة المُعَلّقِ، والعَبْدُ لا يلزمه الإِتْيَانُ بالصفة المعلق عليها. وإذا عَجَّزَ نَفْسَهُ، فالسيد بالخِيَارِ بين أن يفسخ، أو يجيز، وإذا اختار الفَسْحَ، فله الفَسْخُ بنفسه، ولا يحتاج إلى الرَّفْعِ إلى القاضي. وهل لِلْمُكَاتَبِ الفَسْخُ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ إذ لا ضَرَرَ عليه في بَقَاءِ الكِتَابَةِ. وأظهرهما -وهو المذكور في الكتاب-: نعم؛ كما أن للمرتهن أن يَفْسَخَ الرَّهْنَ أيضاً.
قال الإِمام: تَجْوِيزُ الامْتِنَاعِ عن أَدَاءِ النجوم، مع أنه لا يملك الفَسْخَ بعيد (¬1). وقال أَبُو حَنِيْفَةَ ومالك: إن كان في يَدِهِ وَفَاءٌ بالنجوم، لم يَجُزْ له تَعْجِيزُ نفسه، بل يُجْبرُ على الأَدَاءِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرَّابعُ إِذَا جُنَّ العَبْدُ وَقُلْنَا: لاَ يَنْفَسِخُ فَلهُ الفَسْخُ إلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ فَللقَاضِي أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ لِيُعْتَقَ إِنْ رَأَى المَصْلَحَةَ لَهُ فِي الحُرِّيَّةِ، وَللسِّيِّدِ أَيْضاً أنْ يَسْتَقِلَّ بأَخْذِ النُّجُومِ إِذْ تمْكِينُهُ مِنْ هَذَا أَوْلَى مِنْ مَنْعِهِ حَتَّى يَفْسَخَ وَيأَخُذَ المَالَ مَجَّاناً. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد مَرّ أن الكتابة لا تَنْفَسِخُ بِجُنُونِ العَبْدِ، فإن حَاوَلَ السَّيِّدُ الفَسْخَ، فلا بد وأن يأتي الحَاكِمُ فَيُثْبِتُ عَقْدَ الكتابة، وحُلُولَ النجم ويبدي المطالبة به، ويحلفه الحاكم على بَقَاءِ الاسْتِحْقَاقِ، ثم يبحث فإن وجد للْمُكَاتَبِ مَالاً أَدَّاهُ عن الواجب عليه ليعتق، ويخالف ما إذا كان المكَاتَبُ غَائِباً، وله مالٌ حاضر، حيث قال: لا يُؤَدِّيهِ عنه، وفرق بينهما بأن الغَائِبَ من أَهْلِ النَّظَرِ لنفسه، ولو كان حَاضراً فربما امتنع وعَجَّزَ نَفْسَهُ، وربما فسخ الكتابة في غيبته. والمجنون ليس من أَهلِ النَّظَرِ، فينوب عنه الحَاكِمُ. ثم عَامَّةُ الأصحاب أَطْلَقُوا القَوْلَ بأن الحاكم يُؤَدِّي عنه. وذكر صاحب الكتاب هاهنا وفي"الوسيط" أنه يُؤَدِّيهِ إن رأى المَصْلَحَةَ له في الحرية، وإن رأى أنه يضيع إذا عُتِقَ فلا يُؤَدِّيِهِ، وهذا جَيِّدٌ، ولكنه قليل النفع، مع قولنا: إن السَّيِّدَ إذا وجد له مَالاً يَسْتَقِلُّ بأخذه، إلاَّ أن يقال: إن الحاكم يمنعه من الأخذ، والحالة هذه، وإن لم يجد الحاكم له (¬2) مَالاً، فَيُمَكنُ السَّيِّدُ من الفَسْخُ؛ فإذا فسخ عاد المُكَاتَبُ قِنًّا له، وعليه نَفَقَتُهُ. ثم إن ظهر له مَالٌ، أو أفاق، وأتي بمال كان قد حَصَّلَهُ قبل الفَسْخِ دفع إلى السيد [و] حكم بعتقه، ونقص التعجيز هكذا أَطْلَقُوهُ. وأَحْسَنَ الإِمَامُ فقال: إن ظهر المَالُ في يَدِ السَّيِّدِ رد التعجيز، وإلاَّ فهو نافد؛ لأنه فسخ حين تَعَذَّرَ عليه الوُصُولُ إلى حَقِّهِ، فأشبه ما لو كان مَالُهُ غائباً، فحضر بعد الفَسْخِ. وإذا حَكَمْنَا بِبُطْلاَنِ التعجيز، وكان السيد جَاهِلاً بِحَالِ المال، فعلى المُكَاتَبِ رد ¬
ما أنفق السَّيِّدُ عليه؛ لأنه لا يتبرع به، وإنما أنفق على أنه عَبْدُهُ. ولو أقام المُكَاتَبُ بعد ما أَفَاقَ بَيِّنَةً، على أنه كان قد أَدَّى النَّجُومَ، حكم بِعِتْقِهِ، ولا رُجُوعَ للسيد عليه؛ لأنه لبس وأَنْفَقَ على عِلْمٍ بحريته فيجعل (¬1) مُتَبَرِّعاً، فلو قال: نسيت (¬2) الأدَاءَ، فهل يقبل ليرجع؟ فيه وجهان: وإن وجد السَّيِّدُ لِلْمُكَاتَب في جُنُونهِ مَالاً، فقد تَقَدَّمَ أن له أن يَسْتَقلَّ بِأَخْذِهِ، وحكينا عن الإِمَامِ -رحمه الله- تَفْصِيلاً فيه. وقوله في الكتاب: "إِذْ تمكينه من هذا أَوْلَى من منعه حتى يفسخ ويأخذ المال مَجّاناً"، ليس المَقْصُودُ منه ما لو مَنَعْنَاهُ من الاسْتِقلاَلِ بالأَخْذِ، فيفسخ، ويأخذ المال من جِهَةِ أنه كَسْبُ عَبدِهِ، فإنه لا يفسخ إن (¬3) كان هناك مال، ولكن يراجع الحاكم ليسلمه إليه، ولكنه أراد أنه لو لم يرض المُكَاتَبُ إذا أفاق بالعِتْقِ والأَدَاءِ، فإن السَّيِّدِ يفسخ، ويأخذ المَالَ من جهَةِ أنه كَسْبُ عَبْدِهِ، ثمل الإعْتَاقُ بِيَدِهِ لا مَدْفَعَ له، وإذا كان كذلك، فَتَمْكِينُهُ من الأخْذِ، وعِتقُهُ من جهة الكتابة أوْلَى، فقد يفضل شَيْءٌ من أَكْسَابِهِ ويسلم له. وعبارة "الوسيط" تُفْهِمُ ذلك. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الخَامِسُ: المَوْتُ وَتَنْفَسِخُ الكِتَابَةُ بِمَوْتِ العَبْدِ وَإِنْ خَلَّفَ وَفَاءً لِتَعَذُّرِ العِتْقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا مات المُكَاتَبُ قبل أن يُؤَدِّيَ النُّجُومَ، انْفَسَخَتِ الكِتَابَةُ، ومات رَقِيقاً حتى لا يورث، وتكون أكْسَابُهُ للسيد، وتَجْهِيزُهُ عليه؛ لأن مورد العَقْدِ الرَّقَبَةُ، والمقصود مُرْتَقَبٌ فيها، فإذا فاتت كان فَوَاتُهَا كَتَلَفِ المبيع قبل القَبْضِ، ولا فَرْقَ بين أن يخلف وفاءً بالنجوم أو لا يخلف، ولا بين أن يكون البَاقِي من النُّجُومِ قَلِيلاً أو كثيراً، وسواء حَطَّ شيئاً، أو لم يحط. وإن كان الإيتَاءُ وَاجِباً؛ قال في "الشامل": لأن الإِيتَاءَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فلا يسقط به شيء معلوم. وعن نصه في "الأم" -رضي الله عنه- أنه لَو أَحْضَرَ المُكَاتبُ؛ المَالَ ليدفعه إلى السيد، أو دفع المَالَ إلى رَسُولِهِ؛ لِيُوَصِّلَهُ إليه، فمات قبل أن يَقْبِضَهُ السَّيِّدُ، مات رقيقاً أيضاً. وأنه لو وَكَّلَ المُكَاتَبُ بدفع النجم الأخير إلى السَّيِّدِ، ومات المكاتب، فقال أولاده الأحرار: إن الوَكِيلَ دَفَعَهُ قبل موته، وإن مات حُراً. وكذبهم السيد فهو ¬
المُصَدَّقُ، فإن أَقَامُوا بَيِّنَةَ على الدَّفْعِ يوم الاثنين، وكان قد مات يوم الاثنين، لم يَنْفَعْهُمْ إلاَّ أن يقول الشهود: إنه دفع قبل موته، أو يقولوا: [إنه] (¬1) دفع قبل طُلُوعِ الشمس، ويكون السَّيِّدُ مُقِراً بأنه مات بعد الطُّلُوعِ. وإنه لو شهد وَكِيلُ المُكَاتَبِ بقبض السيد النجوم (¬2) قبل موت المُكَاتَب لم تقبل شَهَادَتُهُ، ولو شَهِدَ وكيل السيد بقبضه تقبل شَهَادَتُهُ، ووجه ذلك بأن وَكِيل المُكَاتَبِ يشهد لموكله فهو مُتَّهَمٌ، ووكيل السيد يشهد على مُوَكِّلِهِ، فهو غير مُتَّهَمٍ. ولْيُعَلَمْ قوله في الكتاب: "وإن خلف وفاء" بالحاء والميم؛ لأن عند أبي حَنِيفَة: إذا مات، وخلف وفاء، مات حُرّاً، كان لم يخلف وفاء، وله وَلَدٌ يَسْتَسْعِي الولد حتى يُؤَدِّيَ النُّجُومَ. كان لم يكن له وَلَدٌ أيضاً مات رَقِيقاً. وعن مالك: إن خلف وفاءً، مات حرًا، وإلاَّ فإن لم يخلف ولداً أو خلف ولداً حرًا، أو مملوكاً [ولو قبل عَقْدِ الكتابة، انفسخت الكِتَابَةُ. وإن خلف وَلَداً مَمْلُوكَاً]، (¬3) ولد بعد عقد الكتابة كلف (¬4) أن يُؤَدِّيَ المال الذي كان على أَبيهِ، فيعتق ويتبعه (¬5) الوَلَدُ في الحرية. ويحكى عن مذهبهما غَيْرُ هذا التفصيل: " فروع تَتَعَلَّقُ بالفسخ والانفساخ": يحصل الفسخ بقول السَّيِّدِ: فَسَخْتُ الكتابة، ونَقَضْتُهَا، ورَفَعْتُهَا، وأَبْطَلْتُهَا وَعَجَّزْتُ العَبْدَ. ولو لم يطالبه السَّيِّدُ بعد حُلُولِ النَّجْم مُدَّةَ، ثم أحضر المُكاتَبُ المَالَ؛ لم يكن للسيد الامْتِنَاعُ من قَبْضِهِ. وعن نصه في "الأم" -رضي الله عنه- أنه لو قال بعد التَّعْجِيزِ: قد قررتك على الكتابة؛ لم يكن عليها حتى يُجَدِّدَ له كتابة، وقد مَرَّ في "القراض" ما يقتضي إثْبَاتَ خِلاَف فيه. ولو تَطَوَّعَ رَجُلٌ بأدَاءِ مَالِ الكتابة؛ فهل يُجْبَرُ السَّيِّدُ على القبول؟ أو يُمَكَّنُ من الفَسْخِ؟ حكى القاضي ابْنُ كَجٍّ فيه وجهين؛ والذي أَوْرَدَهُ الإِمَامُ -رحمه الله، منهما أنه لا يُجْبَرُ، ولو قبل ففي وُقُوعِهِ عن المُكَاتَب -إذا كان بغير إِذْنِهِ- وَجْهَانِ عن رِوَايَةِ صاحب "التقريب": القياس القَبُولُ. وإذا مات المكاتب رَقِيقاً، أو فسخ السَّيِّدُ الكِتَابَةَ لعجزه، رُقَّ كُلُّ من يكاتب عليه ¬
من وَالِدٍ وَوَلَدٍ، وصاروا جميعاً للسَّيِّدِ، وما في يَدِهِ من المال للسيد، على ما مَرَّ إن لم يكن عليه دَيْنٌ وإن كان (¬1) فسيأتي. إن شاء الله تعالى. قَالَ الْغَزَالِىُّ: فَرْعٌ: لَوْ كَانَ اسْتَسْخَرَ المُكَاتَبَ شَهْراً وَغُرِّمَ الأُجْرَةَ فَيَلْزَمُهُ إنْظَارُ شَهْرٍ بَعْدَ المَحَلِّ فَعَسَاة يَكْتَسِبُ مَالاً، وَقِيلَ: لَه تَعْجِيزُهُ مِنْ غَيْرِ إنْظَارٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا قَهَرَ السَّيِّدُ المُكَاتَبَ، واسْتَسْخَرَهُ في بعض أَعْمَالِهِ مُدَّةً، فعليه أُجْرَةُ مثله، ثم إذا جاء المَحَل، فعليه إِمْهَالُهُ مِثْلَ تلك المُدَّةِ، أو له التَّعْجِيزُ والفسخ؟ فيه قولان: أحدهما -ونظم الكتاب يقتضي تَرْجِيحَهُ- أن على السيد أن يُمْهِلَهُ مثل تلك المدة؛ لأن حَقَّ السيد أن يمكنه من الاكتساب، فإذا لم يفعل لم يكن له أن يعتد عليه بتلك المُدَّةِ، وقد يتفق له فتوح في مدة القَهْرِ والحَبْسِ وان قصرت. وأصحهما -أنه لا يَلْزَمُهُ الإِمْهَالُ (¬2)، كما إذا حبس مستحق الدَّيْنِ المؤجل مدة [الأجل] لا يلزمه تأخير القضاء بعد المَحَلِّ، وما فوت عليه من المنافع صار مَجْبُوراً بالأُجْرَةِ. ولو حبسه غير السيد؛ فقد حَكَى الإِمَامُ عن العِرَاقِيِّينَ إِجْرَاءَ (¬3) الخلاف فيه، وفيه طريقان ذكرناهما (¬4) فيما إذا أسر الكُفَّارُ المُكَاتَبَ مُدَّةً، ثم استنقذ وقوله في الكتاب: "وقيل له تعجيزه من غير إنظار"؛ لفظة "قيل" في وجوه الأصحاب أكثر اسْتِعْمَالاً، والمسألة مَشْهُورَةٌ بالقولين على ما بَيَّنَّا، فليحمل اللفظ عليه. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (المَسْاَلَةُ الرَّابِعَةُ فِي ازْدِحَامِ الدُّيُونِ) وَلَهُ صُوَرٌ: الأُولَى: إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ إلاَّ لِلسَّيِّدِ وَكَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنُ مُعَامَلَةٍ مَعَ النُّجُومِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا فِي يَدِهِ بِالدَّيْنِ وَيُعَجِّزَهُ إِذَا لَمْ يَمْلِكْ إلاَّ مَا يَفِي بِأَحَدِهِمَا، وَإنْ أَرَادَ تَعجِيزَهُ قَبْلَ إِخْلاَءِ يَدِهِ عَنِ المَالِ يَأْخُذُهُ بِالدَّيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مَقْصُودُ المسْأَلَةِ؛ القَوْلُ فيما إذا انْضَمَّتْ إلى النجوم دُيُونٌ على المُكَاتَبِ؛ إِما للسيد وَحْدَهُ، أو لغيره، أو لهما؛ وأنها كيف تُؤَدَّى في حال بَقَاءِ الكِتَابَةِ، وبعد ارتفاعها؟ ¬
ومقصود الصُّورَةِ الأُولَى القَوْلُ فيما إذا كانت الدُّيُونُ للسيد وَحْدَهُ، وكانت الكتابة بَاقِيَةً؛ فإذا كان للسيد مع النُّجُومِ دَيْنُ معاملة على المكاتب، أو أَرْشُ جِنَايَةٍ عليه، أو على ماله؛ فإن تَرَاضَيَا على تَقْدِيم الدَّيْنِ الآخر وتَأَخُّر النجوم فذاك، وإن تَرَاضَيَا على تقديم النُّجُومِ عُتِقَ ثم الظاهر أن الدَّيْنَ الآخر يسقط، فللسيد مُطَالَبَتُهُ به. ولو كان ما في يَدِهِ وافياً بالنجوم، ولم يَفِ بالدين الآخر؛ فإن أَدَّاهَا عن النجوم برضا السيد، فالحكم ما بَيَّنَّا, وللسيد أن يَمْنَعَهُ من تَقْدِيم النجومِ؛ لأنه لا يَجِدُ مَرْجَعاً لِلدَّيْنِ الآخر، إذا تَقَدَّمت النجوم عُتِقَ؛ فيأخذ ما في يَدِهِ عَن الدَّيْنِ، ثم يعجزه. وهل له تعجيزه قَبْلَ أَخْذِ ما في يَدِهِ؟ فيه وجهان: أحدهما -لا؛ لأنه قادر على أَدَاءِ النجوم فيما لم يخل يده عنها لا يحصل العَجْزُ. ويُنْسَبُ هذا إلى اختيار الصَّيْدَلاَنِيِّ. وأوجههما -عند الإِمام وغيره رحمهم الله- نَعَم؛ لأنه يتمكن من مُطَالَبَتِهِ بالدَّيْنَيْنِ معاً وأخذ ما في يَدِهِ عنهما؛ وحينئذ فيعجز عن قِسْطٍ من النجوم. ولو دَفَعَ المُكَاتَبُ ما في يَدِهِ إلى السَّيِّدِ، ولم يتعرضا للجهة، ثم قال المكاتب: قصدت النُّجُومَ، وأنكر السَّيِّدُ، فعن القَفَّالِ: أن المُصَدَّقَ المُكَاتَبُ. كما لو كان على الرجل دَيْنَانِ، وكان قد رهن بأحدهما، فَأَدَّى، فقال: أردت ذلك الدَّيْن. وقال الصَّيْدَلاَنِيُّ: ينبغي أن يصدق السيد؛ لأن الاختيار هاهنا إلى السَّيِّدِ، بخلاف سائر الديون. ولو قال المكاتب: قَصَدْتُ النُّجُومَ، وسلم له السَّيِّدُ قصده، ولكن قال: قَصَدْتُ الدَّيْنَ الآخر؛ فعلى ما ذكره القَفَّالُ: يُحْكَمُ بِقَوْلِ المُكَاتَب. وعلى ما ذكره الصَّيْدَلاَنِيُّ: بِقَوْلِ السيد. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ لِلأَجَانِبِ دَيْنُ مُعَامَلَةِ وَأَرْشُ جِنَايَةٍ فَقَوْلاَنِ، النَّصُّ أَنْ يُوَزَّعَ مَا فِي يَدِهِ عَلَيْهِمْ إِنْ ضَاقَ عَنْ جَمِبعِهِمْ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُقَدَّمُ دَيْنُ المُعَامَلَةِ لِأنَّ الأَرْشَ لَهُ مُتَعَلقٌ بِالرَّقَبَةِ، ثُمَّ الأَرْشُ يُقَدَّمُ عَلَى النُّجُومِ كَمَا يُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ المَالِكِ هَذَا إِذَا كَانَ قَدْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِالْتِمَاسِ الغُرَمَاءِ، فَأمَّا قَبْلَ الحَجْرِ فَلَهُ أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ أَرَادَ مِنْهُم الثَّالِثَةُ: أَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ وَعَلَيْهِ أَرْشٌ وَدَيْنُ مُعَامَلَةٍ فَقَدْ سَقَطَ النُّجُومُ وَمَا فِي يَدِهِ يُوَزَّعُ عَلَى الدَّيْنَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ، وَقِيلَ: يُقَدَّمُ دَيْنُ المُعَامَلَةِ لِيَرْجِعَ الأرْشُ إِلَى الرَّقَبَةِ، وَقِيلَ: يُؤَخَّرُ دَيْنُ المُعَامَلَةِ لِأنَّ صَاحِبَهُ رَضِيَ بِذمَّتِهِ، ثُمَّ لِمُسْتَحِقِّ الأَرْشِ تَعْجِيزُ المُكَاتَبِ حَتَّى يَبِيعَ رَقَبَتَهُ، فَلَوْ أَرَادَ السَّيِّدُ فِدَاءَهُ لِتَبْقى الكِتَابَةُ فَالصَّحِيحُ أنَّهُ لاَ يَجِبُ قَبُولُهُ، وَأَمَّا صَاحِبُ دَيْنِ
المُعَامَلَةِ فَلَيْسَ لَهُ التَّعْجِيزُ إذْ لاَ يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِالرَّقَبَةِ، وَلَوْ كَانَ لِلسَّيِّدِ دَيْنُ مُعَامَلَةٍ فَلاَ يُضَارِبُ الغُرَمَاء بِالنَّجْمِ وَيُضَارِبُ بِدَيْنِ المُعَامَلَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا اجتمع على المُكَاتَب النُّجُومُ وَدُيُونُ المُعَامَلاَتِ؛ كالأثمان، والقروض، وأَرْش الجنَايَاتِ؛ إما للسيد، أوَ لغيره، أو لهما؛ فهو كالحُرِّ في الحَجْرِ عليه، وقسمة ماله بينَ أَرْبَابِ الديون. وهل يَحلُّ بالحَجْرِ عليه الدُّيُون المؤجلة؟ فيه طريقان: أظهرهما: أن فيه قَوْلَيْنِ، كما ذكرنا في الحُرِّ إذا أَفْلَسَ. والثاني: القَطْعُ بالحُلُولِ؛ لأن هاهنا يجتمع الحَجْرُ والرِّقُّ، وللرِّقِّ أَثَرٌ ظاهر في إبطال الأَجَلِ. ألا ترى أن الشَّافِعِيَّ -رضي الله عنه- قال: إذا اسْترقَّ الحَرْبيُّ، وعليه دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ يحل الأَجَل، فإن حَلَّتْ، فَيُقَسَّمُ المال على الجميع، وإلاَّ فعلى الدُّيُونِ الحالة. إذا عرف ذلك فإن كان ما في يَدِ المكاتب وَافِياً بما عليه من الدُّيُونِ، وفيت جميعاً، وإلا فإن لم يُحْجَرْ عليه بعد لعدم التماس الغرماء أو غيره فله تقديم ما شاء من النجوم وغيرها كالحُرِّ المُعْسِرِ يقدم ما شاء من الدُّيُونِ. وله تَعْجِيلُ النجوم قبل المَحَلِّ، ولا يجوز تَعْجِيلُ الديون المُؤَجَّلَةِ لغير السَّيِّدِ بغير إِذْنِهِ وفي جوازه بالإذْنِ الخِلاَفُ في تَبَرُّعَاتِ المُكَاتَبِ بإذن السَّيِّدِ، وفي معناه ما إذا عجل سائر الديون للسَّيِّدِ. ومنهم من أجرى الخِلاَفَ في تعجيل النجوم، وكذلك أَوْرَدَهُ القاضي الرُّوَيانِيُّ، وقال: هو بمنزلة الهِبَةِ: بإِذْنِهِ، وفيه قولان؟ إلاَّ أنه لا يؤدي مال الكتابة من العبد الجاني؛ لأن الأَرْشَ مُتَعَلِّقٌ بِرَقَبَتِهِ، وهو مُرْتَهِنٌ به. وإذا أدى النجوم عُتِقَ، ويبقى دَيْنُ الأَجَانِب عليه. قال في "الشامل": ولا يجيء فيه الخِلاَفُ في إِعْتَاقِ العَبْدِ الجاني؛ لأن العِتْقَ يحصل بالصِّفَةِ السَّابِقَةِ على الجِنَايَةِ؛ فهو كما لو عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بصفة، ثم جنى، فإن الجِنَايَةَ لا تمنع حُصُولَ العِتْقِ بِمُقْتَضَى التَّعْلِيقِ السابق بلا خلاف، والأولى أن يُقَدِّمَ دَيْنَ المُعَامَلَةِ؛ فإن فَضَلَ شَيْءٌ جعله في الأَرْشِ، فإن فَضَلَ شَيْءٌ صَرَفَهُ إلى النجوم. وسيظهر وَجْهُ هذا الترتيب. وإن حَجَرَ الحاكم عليه، تَوَلَّى قِسْمَةَ ما في يَدِهِ، وفي كيفية القِسْمَةِ وجهان -ويقال قولان-: أحدهما -وهو ظاهر نَصِّهِ في "المختصر"- أنه يُقَسِّمُهُ على أَقْدَارِ الدُّيُونِ، ولا
يُقَدِّمْ بَعْضَهَا على بعضِ؛ لأن جَمِيعَ الدُّيُونِ مُتَعَلِّقَةٌ بما في يَدِهِ؛ ألا ترى أن ما انْفَرَدَ منها يَتَعَلَّقُ به؟ وهذا ما أوْرَدَهُ في "التهذيب"، ويحكى عن أبي إِسْحَاقَ، واختيار صاحب "التقريب". وأصحهما: وبه قال ابن أبي هُرَيْرَةَ، والقَفَّالُ، وهو الذي أَوْرَدَهُ القاضي ابن كجٍّ -أنه يُقَدِّمُ دَيْنَ المُعَامَلَةِ؛ لأنه يَتَعَلَّقُ بما في بَدِهِ لا غير، ولِأَرْشِ الجناية مُتَعَلّقٌ آخر، وهو الرَّقَبَةُ، وكذلك حَقُّ السَّيِّدِ بتقدير العَجْزِ يعود إلى الرَّقَبَةِ، ويسوى بين الأَثْمَانِ والقُرُوضِ، ثم يُقَدِّمُ أَرْشَ الجناية على النجوم؛ لأن الأَرْشَ مُسْتَقِرٌّ، والنجوم عُرْضَةُ السُّقُوطِ، إذا شاء المُكَاتَبُ، ولأن حَقَّ المجني عليه يُقَدَّمُ على حَقِّ المالك في القِنِّ؛ فكذلك في المكَاتَبِ. وعن القاضي أبي الطَّيِّبِ: أنه لا يَخْتَلِفُ الأَصْحَابُ في أن ذلك مذهب الشَّافعي -رضي الله عنه- وحَمَلُوا ما في "المختصر" على ما إذا رَضِيَا جَمِيعاً بالتَّسْوِية وقوله في الكتاب: "إِذا ضاق عن جميعهم" يشير إلى أن مَوْضِعَ الخِلاَفِ ما إذا لم يَفِ ما في يَدِهِ بالدُّيُونِ جميعاً، فإن وَفَى فيؤدى (¬1) الكل. وقوله: [هنا] (¬2) كان قد حُجِرَ عليه بالْتِمَاسِ الغُرَمَاءِ"؛ يعني المُسْتَحِقِّينَ للديون سوى السيد؛ فإنه صور فيما إذا كانت الديون للأجانب. وقد ذكر في "الشامل" أنه لا يُحْجَرُ عليه بالْتِمَاسِ السيد النُّجُومَ؛ لأنها غير مُسْتَقِرَّةٍ، والعَبْدُ مُتَمَكّنٌ من إسْقَاطِهَا. ثم في الفصل صُوَرٌ: إحداها: إذا عَجَّزَ المُكَاتَبُ نَفْسَهُ، سقطت النُّجُومُ، وفي دَيْنِ المعاملة للسيد وَجْهَانِ، الذي ذكره الإِمَامُ منهما: أنه يسقط أيضاً، ويَصْرِفُ ما في يَدِهِ إلى دُيُونِ الأجانب من المُعَامَلاَتِ والأَرْشِ، فإن لم يَفِ بالنَّوْعَيْنِ؛ ففيه ثلاثة أوجه: أرجحها: عند الشيخ أبي مُحَمَّدٍ، وصاحب الكتاب وغيرهما -رحمهم الله- أنه يُسَوْى بينهما. والثاني: تقديم دَيْنِ المُعَامَلَةِ؛ لأن لِلأَرْشَ مُتَعَلِّقاً آخَرَ، وهو الرَّقَبَةُ، وقضية ما قدمنا تَرْجِيحُ الوَجْهِ، وقد وفي الإِمام بهذه القضية (¬3). والثالث: عن صاحب "التقريب": تقديم دَيْنِ الأَرْشِ؛ لأنها تَثبُتُ من غير رضا أَرْبَابِهَا، وفي دُيُونِ المُعَامَلَةِ قد رَضِيَ أَرْبَابُهَا بِذِمَّتِهِ. ¬
قال الإِمام: وهذا المعنى يَقْتَضِي طَرْدَ الوَجْهِ الثالث قبل التعجيز، وما يبقى من دَيْنِ المعاملة يُتْبَعُ به بعد العِتْقِ، وما يبقى من الأَرْشِ يَتَعَلَّقُ بالرّقَبَةِ، فيباع فيه. ولو مات المُكَاتَبُ قبل أن يقسم ما في يَدِهِ انْفَسَخَتِ الكتابة، وسقطت النُّجُومُ وذكر جماعة -منهم صاحب "الشامل"، ويحكى عن ابن سُرَيْجٍ- أن أُرُوشَ الجِنَايَاتِ تسقط أيضاً؛ لأنها تَتَعَلَّقُ بالرَّقَبَةِ، وقد تَلِفَتْ، وتتعلق بما في يَدِهِ أيضاً بِحُكْمِ الكتابة، فإذا انْفَسَخَتِ الكِتَابَةُ بطل ذلك التَّعْلِيقُ أيضاً، فعلى هذا يَتَعَيَّنُ صَرْفُ ما خلفه إلى دُيُونِ المُعَامَلاَتِ، وأبقى مُبْقُونَ الأَرْشَ وتَعَلُّقَهَا بالمال. وعلى ذلك جَرَى الصَّيدَلاَنِيُّ، والإمام، وصاحب "التهذيب" -رحمهم الله- وعلى هذا؛ فإن سَوَّيْنَا [في] (¬1) صورة التَّعْجِيزِ، فهاهنا أَوْلَى. وعلى الوجه المنقول (¬2) عن صاحب "التقريب": تَقْدِيمُ الأَرْشِ. وإن قلنا هناك: [يقدم] (¬3) دين المُعَامَلَةِ؛ فهاهنا وجهان: أحدهما: أن الجَوَابَ كذلك؛ استِصْحَاباً لما كان في حال الحَيَاةِ. وأظهرهما: التَّسْوِيةُ؛ لأن الدَّيْنَيْنِ متعلقان بما خَلَّفَهُ، وتَأَخُّرُ الأَرْشِ في الحياة كان لِتَوَقُّعِ تَوْفِيرِهِ من الرَّقَبَةِ، وقد بَطَلَ ذلك التَّوَقُّعُ. الثانية: إذا لم يكن في يَدِ المُكَاتَب مَالٌ، أو قسم الموجود إما على الديون جَمِيعاً بالتَّسْوِيةِ، أو على التَّقْدِيمِ والترتيب، وبقيت النجوم أو بَعْضُهَا؛ فللسيد تَعْجِيزُهُ وَرَدُّهُ إلى الرِّقِّ. إن بقيت الأُرُوشُ، أو بعضها، فَلِمُسْتَحِقِّ الأَرْشِ الباقي تَعْجِيزُهُ أيضاً لتباع رَقَبَتُهُ في حَقِّهِ، ولا يُعَجِّزُهُ بنفسه؛ لأنه لم يعقد حتى يفسخ، ولكن يَرْفَعُ الأَمْرَ إلى الحاكم حتى يُعَجِّزَهُ. صرح الأصحاب بهذا. وقال الإِمَامُ: ظاهر كَلاَمِهِمْ أنه يُعَجِّزُهُ بِنَفْسِهِ والوَجْهُ: الرفع إلى القَاضي. فلو (¬4) أراد السَّيِّدُ أن يَفْدِيَهُ، وتبقى الكتَابَةُ؛ فهل يَمْتَنِعُ على مستحق الأرش التَّعْجِيزُ؟ وهل يجب عليه قَبُولُ الفِدَاءِ؟ قال الإِمام: فيه احْتِمَالْ مُتَلَقَّى من قول الأَصْحَاب: يجوز أن يقال: لا؛ لأن السَّيِّدَ إنما يَفْدِي إذا تَعَلَّقَ الأَرْشُ بالرَّقَبَةِ، وهذا لا يَتَحَقَّقُ مَا دامت الكِتَابَة بَاقِيَةً. وليست الكتابة كالاسْتِيلاَدِ حتى يجعل السيد مَانِعاً لها، كما يجعل مَانِعاً بالاسْتيلاَدِ. ¬
ويجوز أن يقال: نعم؛ لأنه رَقِيقُ السَّيِّدِ، وله غَرَضٌ في تمام العتاقَةِ، وفي استبقائه لنفسه إن لم يتم، فيتمكن (¬1) من الفِدَاءِ. والأول أصح عند الإِمَامِ , وتابعه (¬2) صَاحِبُ الكتاب. [والثاني نعم] (¬3) وهو الذي يُوجَد لسائر الأَئِمَّةِ -رحمهم الله-، وأما صاحب دَيْنِ المُعَامَلَةِ، فليس له التَّعْجِيزُ؛ لأن حَقَّهُ لا يَتَعَلَّقُ بالرَّقَبَةِ على ما سنذكر إن شاء الله تعالى. ولو أَمْهَلَهُ السيد، ومُسْتَحِقُّ الأُرُوشِ، ثم بدا لِبَعْضِهِمْ، وأراد التَّعْجِيزَ، فله ذلك، خِلافاً لأبي حنيفة ومالك -رحمهما الله-. وإذا تَحَقَّقَ التَّعْجِيزُ، سقطت النُّجُومُ، ويُبَاعُ في أَرْشِ الجناية، إلاَّ أن يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ. ودَيْنُ المُعَامَلَةِ لا يَتَعَلَّقُ بالرقبة، ولا يُبَاعُ فيه، خلافاً لأبي حَنِيْفَةَ حيث قال: متعلقه بالرَّقَبَةِ، كما قال: يَتَعَلَّقُ دُيُونُ المعاملة بِرَقَبَةِ العبد المَأْذُونِ. وعن رواية صاحب "التقريب" وجه مثله؛ فيجوز أن يُعَلَمَ لذلك. قوله في الكتاب: "ألاَّ يتعلق حقه بالرقبة"؛ بالحاء والواو. وقضية الوَجْهِ المذكور أن يُمَكَّنَ صَاحِبُ دَيْنِ المعاملة من التَّعْجِيزِ، وأن يسوى بين دَيْنِ المعاملة، والأَرْشِ في الحياة. الثالثة: عرفت أن الأَظْهَرَ أن دُيُونَ الأجانب مُقَدَّمَةٌ على النجوم، فلا يُضَارِبُ السَّيِّدُ معهم بالنجوم، إذا لم يَفِ ما في يَدِ المُكَاتَبِ بالجميع. وهل يُضَارِبُ بِمَالِهِ من دَيْنِ المعاملة؟ فيه وجهان: أشبههما: وهو المَذْكُورُ في الكتاب -نعم؛ لأنه إذا سَقَطَ لم يَكُنْ له بَدَلٌ كَدُيُونِ الغُرَمَاءِ، بخلاف النَّجْمِ؛ فإنه إذا سَقَطَ عَادَ السَّيِّدُ إلى الرَّقَبَةِ. والثاني: لا؛ لأن دُيُونَ السَّيِّدِ ضَعِيفَةٌ، فإنها عُرْضَةٌ للسقوط بالتعجيز. هكذا وجه الإِمام، وذَكَرَ في غير هَذَا المَوْضِعِ أن ما كان للسَّيِّدِ من دَيْنِ مُعَامَلَةِ يسقط بالتعجيز. ونقل صاحب "التهذيب" فيه وجهين؛ فإذا (¬4) لم يسقط فَيُحَاصّ السَّيِّدُ الغُرَمَاءَ فيما كان في يَدِهِ. وأمَّا ما للسيد من أَرْشِ جِنَايَةٍ على المُكَاتَبِ، ففي كتاب القاضي ابن كَجٍّ أن السَّيِّدَ والأَجْنَبِيَّ يَسْتَوِيَانِ فيه في دَوَامِ الكتابة. وأما [ما] (¬5) بعد التعجيز، فَيُبَاعُ في أَرْشِ الجِنَايَةِ على الأجنبي، ويسقط ما كان للسَّيِّدِ؛ لأنه صار مِلْكاً له، ولا يَثْبُتُ للسيد على عَبْدِهِ أَرْشُ جِنَايَةٍ، ويجوز أن يُفْرَضَ ¬
فيه خلاف. وقوله في الكتاب: "فلا يُضَارِب الغُرَمَاء بالنجم"؛ يجوز أن يُعَلَمَ بالواو لما تَقَدَّمَ أن على قَوْلٍ أو وَجْهٍ يُوَزَّع ما في يَدِهِ على النجوم وغيرها. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ:) إِذَا كَاَتَبَا عَبْداً فَلَيْسَ لِأحَدِهِمَا أَنْ يَنفَرِدَ بِقَبْضِ نَصِيبِ نَفْسِهِ لِأَنَّ كُلَّ مَا فِي يَدِ العَبْدِ كَالمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ سَلَّمَ إِلَى أَحَدِهِمَا جَمِيعَ النُّجُومِ لَمْ يُعْتَقْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقِيلَ يُعْتَقُ نَصِيبُ القَابِضِ، وَلَوْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا بِتَقْدِيمِ الآخَرِ بِنَصِيبِهِ فَقَبَضَ فَهَلْ يُعتَقُ نَصِيبُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إِذا كان بَيْنَ اثْنَيْنِ عَبْدٌ بالسَّوِيَّةِ (¬1)، فَكَاتَبَاهُ معاً، لم يكن للمُكَاتَبِ أن يُفَضِّلَ أَحَدَهُمَا على الآخر في قَدْرِ المَدْفُوعِ، ولا أن يُقَدِّمَ أَحَدَهُمَا على الآخر, لأن أَكْسَابَهُ مُشْتَرَكَةْ بينهما؛ فإن دَفَعَ إلى أحدهما تَمَامَ حِصَّتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ الآخَرِ، لم يُعْتَقْ منه شَيْءٌ؛ لأن نِصْفَ المَأْخُوذ لشريكه، ويجيء فيه وَجْهٌ ضَعِيفٌ قد سَبَقَ. وإن دفع إليه [قبل] (¬2) تمام النجوم، فكذلك. وحكى الإِمَامُ وَجْهاً: أنه يُعْتَقُ نَصِيبُ القَابِضِ؛ لأنه لا يَلْزَمُهُ رَفْعُ اليَدِ، إلاَّ عن نِصْفِ المَقْبُوضِ، فليستقر مِلْكُهُ في نِصْفِ المقبوض، ولا خلاف أن لِلشَّرِيكِ الآخَرِ أَخْذَ حِصَّتِهِ مما قَبَضَ، ولا في أنه إذا قَبَضَ أَحَدُهُمَا جَمِيعَ النجوم بإذْنِ الآخر عُتِقَ العَبْدُ. وإن دفع إلى أحدهما حِصَّتَهُ من مَالِ الكِتَابَةِ بِإذْنِ الآخَرِ، ورِضَاهُ بتقديمه؛ ففي صِحَّةِ القَبْضِ قولان؛ وقال صَاحِبُ الكتاب: وجهان: أصحهما: على ما قاله الرُّوَيانِيُّ في "الحلية"، وهو اختيار المُزَنِيِّ: أنه لا يَصِحُّ؛ لأن حَقَّهُ ما في ذِمَّةِ المُكَاتَب، وما في يَدِهِ مِلْكُهُ، فلا أَثَرَ للِإِذْنِ فيه، ولأنه لو جَاءَ بالمَالِ ليعطيهما، فَرَضِيَ أَحَدُهُمَا بأَن يَزِنَ للآخر أَوَّلاً، ففعل وأقبضه؛ لم يُعْتَقْ حتى يَزِنَ للآخر. ولو هَلَكَ الباقي قبل أن يَدْفَعَهُ إلى الثاني، كان المَدْفُوعُ إلى الأَوَّلِ بينهما؛ فكذلك هاهنا. والثاني: يَصِحُّ؛ لأن الحَقَّ لا يَعْدُوهُمْ، وقد اتَّفَقُوا عليه. ويروى عن أبي حَنيفَةَ مِثْلُ القولين. وفي طريقة الصَّيدَلاَنِيِّ أن من الأصحاب من بَنَى القَوْلَيْنِ، على أنه: هل يجوز أن يُكَاتِبَ أَحَدُ الشريكين نَصِيبَهُ بِإذْنِ الآخَرِ؟ إن جَوَّزْنَاهُ صَحَّ القَبْضُ، وإِلاَّ فَلاَ. ¬
وذكر غيره أنهما مَبْنِيَّانِ على أن المُكَاتَبَ: هل تنفذ تَبَرُّعَاتُهُ بِإذْنِ السيد؛ لأن هذا التقديم (¬1) تبرع. وتعرف الشيخ أبو محمد في "السلسلة" لِلْبَابَيْنِ جميعاً؛ فإن قلنا: لا يصح القَبْضُ، لم يُعْتَق نَصِيبُ القَابِضِ، وللآذِنِ طَلَبَ حِصَّتِهِ من المَقْبُوضِ، ثم إن أَدَّى العَبْدُ الباقي عُتِقَ عليهما، وإلاَّ فَلَهُمَا التَّعْجِيزُ. فإن قلنا: يصح القَبْضُ اسْتَبَدَّ القَابِضُ بما قَبَضَهُ، وعُتِقَ نَصِيبُهُ، ثم إن كان مُعْسِراً، لم يُعْتَقْ نصيب الآخر عليه، ولكن إن كان في يَدِ المُكَاتَبِ ما يفي بنصيب الآخَرِ وأداه عتق نصيبه أيضاً وإلاّ فللآخر تَعْجِيزُهُ. وإن كان الَّذِي قَبَضَ حِصَّتَهُ مُوسِراً قُوِّمَ عليه نَصِيبُ الشريك، ومتى يُقَوَّمُ في الحال، أو عند التَّعْجِيزِ عن نصيب الشريك؟ فيه القولان المَذْكُورَانِ من قَبْلُ، فيما إذا أَعْتَقَ أحَدُهَمَا نَصِيبَهُ. فإن قلنا بالتَّقْوِيمِ في الحَالِ، فجميع ما في يَدِ العَبْدِ للشريك الآذِنِ (¬2)؛ لحصوله في حال تَفَارُقِهِ واستيفاء (¬3) الأول نصيبه. وإن قلنا بالتَّقْوِيم عند العَجْزِ، فما اكْتَسَبَهُ إلى أن يُعْتَقَ نِصْفُهُ يكون للشريك الآذِنِ، وما اكْتَسَبَهُ بعد ذلكَ يكون بَيْنَ المُكَاتَبِ والشريك الآذِنِ؛ لأنه اكْتَسَبَهُ بنصفه الحُرِّ، ونِصْفِهِ المكاتب. وإن مات قبل الأدَاءِ والتَّعْجِيز، فعلى ما سَبَقَ هناك. هذا ما يوجد لأكثر النَّاقِلِينَ -رحمهم الله-. وسلك الإِمَامُ -رحمه الله- طَرِيقَةً أُخْرَى فقال: إن كان في يَدِهِ وفاء بنصيب الشريك الآذن، فالذي رَأَيتُهُ للأصحاب -رحمهم الله- القَطْعُ بأنه لا سِرَايَةَ. قال في "الوسيط": ولا نقول بِعِتْقِ نَصِيبِهِ، بل يؤدى نصيب الآذِنِ فإذا أدَّى عُتِقَ عليهما، وإن عَجَزَ عن أدَاءِ نَصِيبِ الآذن؛ فقد حُكِيَ عن ابن سُرَيْجٍ: أنه لا يُشَارِكُ القَابِض فيما قَبَضَ؛ لأنه لما قدمه فقد رَضِيَ بِبَقَاءِ حَقِّهِ في ذِمَّةِ المُكَاتَبِ، فعلى هذا ¬
يُعْتَقُ نَصِيبُ القابض [و] في السِّرَايَةِ ما ذكره الأكْثَرُونَ -وعن غيره -رحمهم الله-: أن الآذِنَ- يُشَارِكُ القَابِضَ؛ لأن ما قَبَضَهُ كَسْبُ عبدهما (¬1)، وإنما تَبَرَّعَ الآذن بالتقديم، لا بالتمليك، فلا يَخْلُصُ له المَقْبُوضُ؛ فعلى هذا لهما تعجيزه وإرقاقه والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (فَرْعٌ:) لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ وَفَّاهُمَا النُّجُومَ فَصَدَّقَ أَحَدُهُمَا وكَذَّبَ الآخَرُ وَحَلَفَ فَلَهُ أَنْ يُشَارِكَ المُصَدِّقِ فِيمَا أقَرَّ بِقَبْضِهِ، وَلَهُ أن يُطَالِبَ المُكَاتَبَ إِنْ شَاءَ بِتَمَامِ نَصِيبِهِ، ثُمَّ لاَ يَرْجعُ المُصَدِّقُ عَلَى المُكَاَتبِ فِيمَا أَخَذَ مِنْهُ وَلاَ المُكَاتَبُ عَلَى المُصَدِّقِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: قد مَرَّ أن الشَّرِيكَيْنِ إذا كَاتَبَا عَبْدَهُمَا المُشْتَرَكَ، فَادَّعى أنه وَفَّاهُمَا النُّجُومَ، فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا، وكَذَّبَهُ الآخَرُ، أن المُكَذِّبَ مُصَدَّقٌ بِيَمِينِهِ، فإذا حَلَفَ نَفَذَتِ الكِتَابَةُ في نصيبه، وهو بالخِيَارِ بين أن يشارك المُصَدّق، فما أقر بِقَبْضِهِ فَيَأْخُذُ نِصْفَهُ، ويطالب العبد بالباقي، وبين أن يُطَالب [المكاتب] (¬2) بتمام نصيبه؛ لأن كَسْبَهُ مُتَعَلَّقُ حَقِّهِمَا بالشركة، فله أن يُشَارِكَ المُصَدّق فيما أخذه. وذكر القاضي ابْنُ كَجٍّ أن هذا التخيير مَبْنِيٌّ عند بعض الأَصْحَابِ على أنه لا يجوز أن يَنْفَرِدَ أَحَدُ الشريكين بكتابة نَصِيبِهِ. فأما إذا جَوَّزنَاهُ، فلا يأخذ من الشريك شيئاً، وإنما يطالب المُكَاتَب بتمام حِصَّتِهِ، وهذا يُرَخص في إِعْلاَمِ قوله في الكتاب: "فله أن يشارك المصدق" بالواو. الظاهر ثُبُوتُ التخيير (¬3) على القولين؛ لأنا -كان جَوَّزْنَا انْفِرَادَ أحدهما بالكتابة- فإذا كَاتَبَا معاً، فَلَيْسَ لأحدهما أن يَنْفَرِدَ بأخذ شَيْءٍ من كسبه. قال ابن الصَّبَّاغِ: وإنْكَارُهُ قَبْضَ الشَّرِيكِ لا يمنعه من الرُّجُوعِ عليه؛ لأنه أَقَرَّ بالقبض، وربما قَبَضَ، وهو لا يَعْلَمُ. ثم إذا أخذ المُكَذِّبُ حصَّتَهُ منهما، أو من العَبْدِ وَحْدَهُ، عُتِقَ بَاقِيهِ، ولا يرجع المصدق إن أخذ منهما بِشَيْءٍ على العَبْدِ؛ لاعترافه بأنه مَظْلُومٌ ولا يرجع المَظْلُومُ على غير (¬4) ظالمه. وكذلك لا يرجع العَبْدُ على المُصَدِّقِ بما يأخذ منه، ولا تُقْبَلُ شَهَادَةُ المُصَدِّقِ على المُكَذِّبِ؛ لأنه مُتَّهَمٌ بِدَفْعِ مُشَارَكَتِهِ فيما أخذ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: المَسْأَلَةُ السَّادِسةُ: لَوْ كَاتبَ عَبْدَيْنِ بِشَرْطِ أَنْ يَتَكَفَّلَ أَحَدُهُمَا بِنَصِيبِ الآخَرِ فَسَدَ العَقْدُ، وَلَوْ تَكَفَّلَ بِغَيْرِ شَرْطٍ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ النُّجُومَ لَيْسَتْ بِلاَزِمةٍ فَكَيْفَ ¬
تُضْمَنُ، وَلَوْ تَبَرَّعَ أَحَدُهُمَا بِتَسْلِيم نُجُومِ الثَّانِي وقُلْنَا: لاَ يَجُوزُ التَّبَرُّعُ مَعَ الإِذْنِ فَلِلْمُؤَدِّي أَنْ يَسْتَرِد قَبْلَ أَنْ يَعْتِقَ، وَالنَّصُّ أنَّهُ لاَ يُسْتَردُّ بَعْدَ العِتْقِ وَنَصَّ أَنَّهُ لَوْ عَفَا عَنْ أَرْشَ جِنَايَةٍ ثَبَتَ لَهُ عَلَى السَّيِّدِ وَقُلْنَا: لا يَصِحُّ فَلَهُ طَلَبُهُ بَعْدَ العِتْقِ، وَقِيلَ فِي المَسْأَلَةِ قَوْلاَنِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَن تَبَرُّعَ المُفْلِسِ إِذَا لَمْ يَنْفُذْ لِأَجْلِ الدَّيْنِ، فلَو سَقَطَ الدَّيْنُ بِالإبْرَاءِ فَهَلْ يَنْفُذُ الآنَ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا كَاتَبَ عَبْدَيْنِ فَصَاعِداً، وشرط أن يَتَكَفَّلَ بعضهم عن بعض بالنجوم، فَسَدَتِ الكِتَابَةُ؛ لأنه شَرْطٌ فَاسِدٌ، فإن مَالَ الكتابة غَيْرُ لاَزِمٍ، وضَمَانُهُ غير صحيح. ولو ضَمِنَ بَعْضُهُمْ عن بعض بغير شَرْطٍ، لم يَصِحَّ. وحكى القاضي ابْنُ كجٍّ قَوْلاً آخر: أن الكِتَابَةَ لا تَفْسدُ بالشرط المذكور، ونَسَبَهُ الإِمام إلى القديم، وَوَجَّهَهُ بأن هذا الضَّمَانَ من مَصْلَحَةِ العَقْدِ، فإن السَّيِّدَ قد يُرِيدُ ارْتِبَاطَ بعضهم ببعض، فيتعاونوا على الاكْتِسَاب، فلا يَفْسَدُ العَقْدُ [باشتراطه] (¬1)، ويَصِحُّ ضَمَانُ بعضهم عن بَعْض في هذه الصورة؛ لِلْحَاجَةِ والمَصْلَحَةِ كضمان الدَّرَكِ (¬2). والظاهر الأول. وكذلك لو كاتب عَبْدَهُ بشرط أن يَضْمَنَ عنه فُلاَنٌ؛ لم تَصِحَّ الكِتَابَةُ وليُعَلَمْ للقول الذي نَقَلْنَاهُ قَوْلُهُ في الكتاب: "فسد العقد" بالواو، ويجوز أن يُعَلَمَ بالحاء والميم أيضاً؛ لأن عن أبي حَنيفَةَ، ومالك -رحمهما الله- أنه إذا كَاتَبَ عَبْدَيْنِ فَصَاعِداً وكل واحد منهم ضَامِنٌ عن الآخر، وإن لم يوجد تَصْرِيحٌ بالضَّمَانِ على كُلِّ واحد أداء الجميع إذا طالبه السَّيِّدُ، فإذا أَدَّى عُتِقُوا، ورجع على أَصْحَابِهِ بِحِصَصِهِمْ. وعن مالك: أنه إذا امْتَنَع بَعْضُهُمْ عن الاكْتِسَاب، كان للآخرين إِجْبَارُهُ، وأنه لو أَعْتَقَ السَّيِّدُ أَحَدَهُمْ، وهو غير كَسُوبٍ لم يَنْفُذْ عِتْقُهُ؛ لأن فيه إِضْرَاراً بالآخرين. وإذا ثبت التَّضَامُنُ من غَيْرِ شرط، فعند الاشتراط أَوْلَى. واحتج الأَصْحَابُ -رحمهم الله- بأن الكِتَابَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فإذا كان في أحد طَرَفَيْهَا أَكْثَرُ من وَاحِدٍ، لم يلزمه عند الإِطلاَقِ جَمِيعُ المال كالبيع وغيره. ولو أَدَّى بعض المُكَاتِبينَ عن بَعْضٍ، بلا شَرْطٍ ولا ضَمَانٍ، أو كاتب عَبْدَيْنِ في عَقْدَيْنِ، فَأَدَّى أحدهما عن الآخر، نُظِرَ: إن أَدَّى بَعْدَما عُتِقَ جاز، فإن أدَاءَ الدَّيْنِ عن الغُرَمَاءِ جَائِزٌ، ثم إن أَدَّى بإذنه رَجَعَ ¬
عليه، وإلاَّ فَلاَ. وإن أَدَّى قبل العِتْقِ، فهو تَبَرُّعٌ، وتَبَرُّعُ المُكَاتَب بغير إِذْنِ سَيِّدِهِ غير جائز، وبإذنِهِ فيه قولان؛ يأتيان من بَعْدُ إن شاء الله تعالى. فإن لم يعلم السيد بأنه يُؤَدِّي عن غَيرِهِ، بأن ظَنَّ أنه كَسْبُ المُؤَدَّى عنه، وأنه يُؤَدِّيهِ بِإِذْنِهِ، فهو تَبَرُّعْ بغير إِذْنِ السيد، وإن علم الحال فوجهان: أظهرهما: أنه تَبَرُّعٌ بِالإِذْنِ، وأخذه عن عِلْمٍ بالحال قَائِمٌ مقام صريح الإِذْنِ. والثاني: -وهو اختيار صاحب "التهذيب"- أنه لا يجعل ذلك إِذْناً، بل لا بد من التَّصْرِيح بالإِذْنِ، فإن صَحَّحْنَا الأَدَاءَ لم يرجع المُؤَدِّي على السَّيِّدِ، ويرجع على المُؤَدَّى عَنْهُ إن أَدَّى بِإذْنِهِ، ولا يرجع إن أدى بغير إِذْنِهِ. وإذا ثبت له الرُّجُوعُ عليه -بأن كان قد عُتِقَ- فذلك، وإلاَّ فَيَأْخُذُهُ مما في يَدِهِ، وَيُقدم على النجوم؛ لأنه لا [بَدَلَ] (¬1) له، ولِحَقِّ السيد بَدَلٌ عند العُذْرِ، وهو رَقَبَةُ العبد، ولأن دَيْنَ الرَّاجِعِ لاَزِمٌ لا يمكن إِسْقاطه، والنجوم يمكن إِسْقَاطُهَا، بأن يعجز المكاتب نفسه. وإن لم نصحح الأَدَاءَ، فلا رُجُوعَ للمؤدي على المُؤَدَّى عنه، ولكنه (¬2) يَسْتَرِدُّ من السيد مَا دَفَعُهُ إليه ما لم يُعْتَقْ، والسيد يُطَالِبُ المؤدى عنه بما عليه، فإن حَلَّ نَجْمٌ على المُؤَدِّي وَقَعَ في التَّقَاص، وإن لم يَسْتَرِدَّ من السيد، حتى أَدَّى النُّجُومَ، وعتق، فالنَّصُ أنه لا يَسْتَرِدُّ حينئذ، ونَصَّ فيما إذا جَنَى السَّيِّدُ على مُكَاتَبهِ، فعفا عن الأَرْشِ الثَّابِتِ له على السيد، وأَبْطَلنَا العَفوَ، بِنَاءً على رَدِّ تَبَرُّعَاتِهِ، ثم عتق أَن له أَخْذَ الأَرْشِ. فقال أَكْثَرُ الأَصْحَاب: في الصورتين قولان، وأطلق مُطْلِقُونَ في المسألة وجهين من غير تَعَرُّضٍ لِلنَّصَّيْنِ: أحدهما: لا يأخذ شَيْئاً؛ لأن المَانِعَ من صِحَّةِ تَبَرُّعِهِ الرِّقُّ، وخوف فوات العتق، وقد ارتفع هذا المَانِعُ. والثاني: يأخذ؛ لأن أَدَاءَهُ وعَفْوَهُ لم يَصِحَّ حينئذ، فلا يَنْقَلِبُ صحيحاً بزوال الرِّقِّ، وبنى الخلاف على القولين في تَصَرُّفَاتِ المُفْلِسِ؛ أهي باطلة أو موقوفة؟ إن أَبْطَلنَاهَا؛ فالأَدَاءُ والعَفْوُ بَاطِلاَنِ. وإن قلنا: هي مَوْقُوفَةٌ، فالأداء والعفو مَوْقُوفَانِ، فإذا عُتِقَ بَانَ صِحَّتُهُمَا. ولو كاتب رَجُلاَنِ كُلُّ وَاحِدٍ منهما عَبْدَهُ، ثم أَدَّى أحدهما عن الآخر، بغير إذن السيد، لم يصح أَدَاؤُهُ، وإن أَدَّى بِإذْنِ السَّيِّدِ، ففيه قولان. وعن القَفَّالِ: أنه إذا (¬3) انْضَمَّ ¬
إِذْنُ المُؤَدَّى عنه إلى إذْنِ سَيِّدِهِ يصح بلا خلاف؛ لأنه يكون إِقْرَاضاً، والإقْرَاضُ بِإذْنِ السَّيِّدِ جَائِزٌ بلا خلاف (¬1)، فإن لم يَصِحَّ أَدَاؤُهُ، فله الاسْتِرْدَادُ، وإن عُتِقَ قبلَ الاسْتِرْدَادِ، ففيه الخلاف. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (فَرْعٌ:) لَوْ كَانَا مُتَفَاوِتِي القِيمَةَ فقَالَ الخَسيسُ: أَدَّيْنَا النُّجُومَ عَلَى عَدَدِ الرُّؤوسِ وَقَالَ الآخَرُ: بَلْ عَلَى قَدْرِ النُّجُومِ وكَانَا قَدْ جَاءَا به مَعاً فَالصَّحِيحُ أَنَّ القَوْلَ قَوْلُ مَن يَدَّعِي الاِسْتِوَاءَ لِأَنَّهُ فِي أَيْدِيهِما. قَالَ الرَّافِعِيُّ: المُكَاتَبُونَ دفعة واحدة إذا اختلفوا فيما دَفَعُوهُ إلى السيد، فقال من قَلَّتْ قيمته: أدينا النجوم على عدد الرؤوس وقال من كَثُرَتْ قِيمتُهُ: بل على أقدار القيم (¬2)؛ فقد نَصَّ في "المختصر" أن القول قَوْلُ من قَلَّتْ قيمته. وعن نَصِّهِ -رضي الله عنه- في مَوْضِعٍ آخر: أن القَوْلَ قَوْلُ من كَثُرَتْ قيمته، وفيهما طريقان للأصحاب: أظهرهما: أن فيه قولين: أصحهما: أن القول قَوْلُ من قَلَّتْ قيمته؛ لأن ما أدوه وسَلَّموه كان في أيديهم، وصَاحِبُ اليد يصدق أن (¬3) في يَدِهِ ملكه، والثاني: أن القَوْلَ قَوْلُ من كَثُرَتْ قيمته؛ لأن الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ مَنْ عليه دَيْنٌ ألاَّ يزيد عن أَدَاءِ ما عليه. والثاني: تنزيل النَّصَّيْنِ على حالين، فحيث قال: القول قَوْلُ مَنْ قَلَّتْ قيمته، أراد ما إذا أَدَّوْا بَعْضَ المال، وكان المُؤَدِّي، بحيث لو وَزَّعَ على عَدَدِ رؤوسهم لم يَخُصَّ واحداً منهم أكثر بما كان عليه. وحيث قال: القَوْلُ قَوْلُ مَنْ كَثُرَتْ قيمته، أراد ما إذا أَدَّوْا الجَمِيعَ، والذي قَلَّتْ قيمته يَدَّعِي أنه أَدَّى أكثر مما عليه، وأن ذلك وَدِيعَةٌ له عند السيد، أو قرض على كَثِيرِ القيمة؛ فيطالب بالبَيِّنَةِ. وربما قيل: إن كان الخِلاَفُ فيما سِوَى النَّجْمِ الأخير، فَيُصَدَّقُ مَنْ قَلَّتْ قيمته؛ لأنه قد يُؤَدِّي زَيادَةً ليحتسب بها عن النَّجْمِ الأخير. ¬
فإن كان في النجم الأخير، وأراد اسْتِرْدَادَ شيء فيحتاج إلى البَيِّنَةِ، وقطع القاضي ابن كَجٍّ فيما إذا كان الخِلاَفُ في النَّجْم الأخير. [وأجرى القاضي الروياني] (¬1) الخلاف فيما لو اشْتَرَى اثنان شَيْئاً على التَّفَاوُتِ، وأديا الثَّمَنَ، واختلفا في أنهما أَدَّيَا على التَّفَاوُتِ أو التَّسَاوِي. وقوله في الكتاب: "وقال الآخر: بل على قدر النجوم"، يعني نُجُومَ كُلِّ واحد منهما، وهو رَاجِعٌ إلى العِبَارَةِ التي سَبَقَتْ، وهي أَقْدَارُ القيم؛ لأن المسمى يُوَزَّعُ على قَدْرِ القِيَمِ على الصحيح كما تَقَدَّمَ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ فِي النَّزَاعِ) وَلَهُ صُوَرٌ: إحْدَاهَا: أَنْ يَخْتَلِفَ السَّيِّدُ وَالعَبْدُ فِي أَصْلِ الكِتَابَةِ أَوْ أَصْلِ الأَدَاءِ فَالقَوْلُ قَوْلُ السَّيِّدِ، وَتَثْبُتُ دَعْوَى العَبْدِ بِشَاهِدٍ وَأمْرَأتَيْنِ فِي الأَدَاءِ، وَهَلْ تَثْبُتُ دَعْوَى الكِتَابَةِ وَدَعْوَى النَّجْمِ الأَخِيرِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ العِتْقُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا ادَّعى العَبْدُ على سَيِّدِهِ أنك كَاتَبْتَنِي، فأنكر، فهو المُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، وكذا لو ادَّعَى على وَارِثِهِ بعد مَوْتِهِ أن مُوَرِّثَكَ كاتبني، فأنكر، ويحلف الوَارِثُ على نَفْي العلم. ولو قال السيد: كَاتَبْتُكَ وأنا مَجْنُونٌ، أو مَحْجُورٌ علي، وقال العبد: بل كنت (¬2) في حَالِ الكَمَالِ، فإن عُرِفَ للسيد جُنُونْ، أو حَجْرٌ فهو المُصَدَّقُ، وإلاَّ فالمُصَدَّقُ العَبْدُ. ولو قال السيد: كَاتَبْتُكَ وأنكر العَبْدُ؛ ففي كتاب (¬3) القاضي ابن كَجٍّ: أنه إن لم يعترف بأدَاءِ المَالِ، فيعود إلى الرِّقِّ، ويجعل إِنكاره تَعْجِيزاً لنفسه. وإن قال السيد وأَدَّيْتَ المَالَ وعتقت؛ فهو حُرٌّ بإقرار السَّيِّدِ. فإن قال العَبْدُ: الذي دفعته إليه لم يكن لي وإنما هو وَدِيعَةُ زَيْدٍ، وادَّعَاهُ زَيْدٌ، صُدِّقَ. ولو اختلفا في أداء المال، فالمُصَدَّق السَّيِّدُ، فإن أراد المُكَاتَبُ أن يُقِيمَ بَيِّنَةٌ على الأَدَاءِ، أُمْهِلَ ثَلاثةَ أَيَّامٍ، وذُكِرَ وجهان في أن هذا الإِمْهَالَ واجب أو مُسْتَحَبٌّ؟ ولا تثبت دعوى الكِتَابَةِ بِشَاهِدٍ وامرأتين، ولا بشاهد ويمين؛ لأن مَقْصُودَهَا في الحَالِ مِلْكُ اليَدِ والتصرف، وفي المال العِتْق، فلا بد من ذَكَرَيْنِ (¬4) عَدْلَيْن، ويشترط التَّعَرُّض للتَّنْجِيمِ، ولمقدار كل نَجْمٍ، ومِيقَاتِهِ في الشَّهَادَةِ. ¬
وتثبت دَعْوَى الأَدَاءِ بِشَاهِدٍ ويمين، وبرجل وامرأتين؛ لأن مَقْصُودَهَا المال. هذا في غير النَّجْمِ الأخير. وفي النجم الأَخِيرِ الذي يَتَعَلَّقُ به العِتْقُ وجهان: أظهرهما: أن الجواب كذلك؛ لأن المَقْصُودَ المال، إلاَّ أنه يَتَضَمَّنُ العِتْقَ، وشُبِّهَ ذلك بما إذا ادَّعى على رجل أنه بَاعَ منه أَبَاهُ، وعُتِقَ عليه، وأقام شاهداً وامرأتين، ثبت البَيْعُ وتبعه (¬1) العِتْقُ. وقد مرت المسألة في "الشهادات". " فرع": حكى القاضي الرّوَيانِيُّ في "الكافي" أنا إذا أَمْهَلْنَاهُ ثَلاثَةَ أيَّامٍ ليأتي بالبَيِّنَةِ على الأَدَاء، فَأَحْضَرَ شاهداً بعد الثلاثة، واستنظر ليأتي بالشاهد، يُنْظَرُ ثَلاثةً أُخْرَى. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الثَّانِيَةُ): إِذَا تَنَازَعَا فِي قَدْرِ النُّجُومِ أَوِ الأَجَلِ أَوْ جِنْسِ النُّجُومِ تَحَالَفَا وَتَفَاسَخَا، وإِنْ كَانَ العِتْقُ قَدْ حَصَلَ بِالاتفَاقِ فَفَائِدَةُ الفَسْخِ الرُّجُوعُ إِلَى قِيمَةِ الرَّقَبَةِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا اختلفا في قَدْرِ النُّجُومِ، أو عَدَدِهَا، أو جنسها، أو صِفَتِهَا أو في قَدْرِ الأَجَلِ ولا بيِّنَةَ لواحد منهما تَحَالَفَا؛ لأنهما اخْتَلَفَا في عِوَضِ العقد القائم بينهما، أو في كَيْفِيَّتِهِ، فَيَتَحَالَفَانِ كما في البَيْعِ وغيره. وعن أبي حَنيفَةَ: أن القول قَوْلُ المُكَاتَبِ. وعن أحمد ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ: إحداها: كقولنا. والثانية: كقول أبي حَنِيْفَةَ. والثالثة: أن القوْلَ قَوْلُ السيد، ثم القَوْلُ فيمن يُبْدَأُ به عند التَّحَالُفِ، وفي كيفية اليَمِينِ، على مَا مَرَّ في "البيع". وإذا تَحَالَفَا؛ نُظِرَ، إن لم يَحْصُلِ العِتْق باتَّفَاقِهِمَا، بأن لم يقبض السيد شيئاً، أو لم يقبض جميع ما يدعيه [أو كان الاختلاف في الجنس، وقد قبض الجنس الذي يدعيه] (¬2) العَبْدُ دُونَ ما يدَّعِيهِ، فتنفسخ الكِتَابَةُ، أو يفسخها الحَاكِمُ، إن لم يَتَرَاضَيَا على شَيْءٍ، فيه ما سبق في البيع. والظاهر الثاني؛ فإن حصل العِتْقُ باتِّفَاقِهِمَا، بأن قَبَضَ السَّيَّدُ ما يدعيه بِتَمَامِهِ، وزعم العَبْدُ أن الزِّيَادَةَ على القَدْرِ الذي يعترف به أودعها عنده فلا مَرَدَّ له، ولكن يَتَرَاجَعَانِ، فيرجع السَّيِّدُ على المُكَاتَبِ بقيمة المكاتب بما أَدَّى، وقد يقع في التَّقَاصِّ. ولو قال السَّيِّدُ: كَاتَبْتُكَ على نَجْمٍ وَاحِدٍ، وقال العَبْدُ: بل على نَجْمَيْنِ. قال في ¬
"التهذيب": القول قَوْلُ السيد مع يَمِينِهِ؛ لأنه يَدَّعِي فَسَادَ العقد (¬1) ولو أقام العَبْدُ بَيِّنَةً على أنه كَاتَبَهُ في رَمَضَانَ سَنَةَ كذا على أَلْفٍ، وأقام السيد بَيِّنَةً أنه كَاتَبَه في شوال ذلك السَّنَةِ على ألفين، فإن اتَّفَقَا على أن الكِتَابَةَ كانت واحدة، وكل واحد منهما تكذبه الأخرى، فَتَسْقُطُ البَيِّنَتَانِ، وَيَتَحَالَفَانِ، فإن لم يَتَّفِقَا على الاتِّحَادِ، فالبيِّنَةُ المتأخرة أَوْلَى، لأنه ربما كانت في رَمَضَانَ، ثم ارْتَفَعَت تلك الكتابة فَأَحْدَثَ كِتَابَةً أخرى. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الثَّالِثَةُ) لَوْ مَاتَ مُكَاَتَبُهُ وَلَهُ وَلَدٌ مِنْ مُعْتِقَةٍ فَقَالَ عَتَقَ قَبْلَ المَوْتِ وَجَرَّ إِليَّ وَلاَءَ وَلَدِهِ فَالقَوْلُ قَوْلُ مَوَالِي الأمِّ لِأَنَّ الأَصْل بقاء الوَلاَءِ لَهُمْ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلَدُ المُكَاتِب من زَوْجَتِهِ المعْتَقَةِ حُرٌّ، وَوَلاَؤُهُ لِمَوَالِيَهَا، فإن عَتَقَ المُكَاتَبُ [انْجَرَّ] (¬2) الوَلاءُ إلى موَالِيهِ، كما سبق في جَرِّ الوَلاَءِ فإن مات المُكَاتبُ، واختلف مَوْلاَهُ وموالي أُمِّ أولاده، فقال مَوْلاَهُ: عُتِقَ بأداء النجوم، ثم مات وجَرَّ ولاء أولاده إلى وأنكر مَوَاليها فهم المُصَدَّقُونَ باليمين، وعليه البَيِّنَةُ. وهل يكفي شَاهِدٌ وامرأتان، أو شاهد وَيمِينٌ؟ فيه خِلاَفٌ في أن النَّجْمَ الآخر؛ هل يَثْبُتُ بذلك. ويدفع مال المكاتب إلى وَرَثَتِهِ الأَحْرَارِ؛ لإقرار السَّيِّدِ بأنه مات حُرّاً. ولو أقر السَّيِّدُ في حَيَاةِ المُكَاتَب بأنه أدَّى النُّجُومَ، عُتِقَ، وجرّ إليه [ولاء] ولده. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الرَّابِعَةُ: كَاتَبَ عَبْدَيْنِ وَأَقَرَّ بِأَنَّهُ قَبَضَ نُجُومَ أَحَدِهِمَا وَنَكَلَ عَنْ دَعْوَى الثَّانِى حَتَّى حَلَفَ الثَّانِي عَتَقَ العَبْدَانِ جَمِيعاً، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ البَيَانِ حَلَفَ الوَارِثُ عَلَى نَفْي العِلْمِ بِمَا عَمَّاهُ المُوَرِّثُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلٍ، وَلاَ يُقْرَعُ عَلَى قَوْلٍ؛ لأنَّهُ اسْتِبْهَامٌ فِي دَيْنٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا كاتب عَبْدَيْنِ في صَفْقَتَيْنِ، أو في صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وجَوَّزْنَاهَا، ثم أَقَرَّ بأنه اسْتَوْفَى نُجُومَ أحدهما، أوَ أنه أبْرَأَ أحدهما عَمَّا عليه؛ فَيُؤْمَرُ بالبَيَانِ، فإن قال: نَسِيتُهُ، أمر بالتَّذَكُّرِ، ولا يُقْرَعُ بينهما ما دام حَيّاً؛ لأن الإِنْسَانَ قد يَتَذَكَّرُ ما نَسِيَ، وَيَتَبَيَّنُ له ما اشْتَبَهَ عليه، وذلك أَقْرَبُ إلى الحَقِّ من القُرْعَةِ. وفي كتاب القاضي ابن كَجٍّ وَجْهٌ: أنه يُقْرَعُ بينهما، وإن كان حَيّاً، كما سنذكر أنه ¬
يُقْرَعُ بعد موته. والصحيح الأول. وإن (¬1) بيَّن أحدهما، فإن صَدَّقَهُ الآخر فذاكَ، وإن كَذَّبَهُ، وقال: اسْتَوْفَيْتَ مني أو أَبْرأْتَنِي، فله تحليف السيد، فإن حَلَفَ، بَقِيَ على الكتابة إلى أَدَاءِ النجوم، وإن نَكَلَ حَلَفَ المُكَذِّبُ، وعتق أيضاً. قال الرُّوَيانِيُّ في "الكافي": وان لم يتذكر، حلف لهما إذا ادَّعَاهُ، وإذا حلف، ففيه وجهان: أحدهما: أنهما يَبْنِيَانِ على الكتابة، ولا يُعْتَقُ وَاحِدٌ منهما إلاَّ بأداء النجوم. والثاني: أن الدَّعْوَى تَتَحَوَّلُ إلى المُكَاتَبِينَ، فإن حَلَفَا على الأداء، أو نَكَلاَ ثَبَتَا على الكتابة. وان حلف أَحَدُهُمَا دُونَ الآخَرِ، حكم بِعِتقِ الحالف، وبقي النَّاكِلُ على الكتابة. ولو أنه لما بين أحدهما قال الآخَرُ: عَنَيْتَنِي بالإِقْرَارِ الذي أبهمته، ولم يقل: استوفيت أو أبرأت، فقد قال الإِمام: الأَصَحُّ أن دَعْوَاهُ مَرْدُودَةٌ على هذا الوَجْهِ؛ لأنه ليس يَدَّعِي حقاً ثَابِتاً، وإنما يَدَّعِي إخباراً، وقد يكون صدقاً وقد يكون كَذِبًا. وقد سَبَقَ نَظَرُ هذا في "الدَّعَاوَى". وإن مات قبل البَيَانِ: فما الحكم؟ ساق الإِمَامُ وصاحب الكتاب طَرِيقَةً [أخرى] (¬2)، والأكْثَرُونَ -رحمهم الله- طريقة أخرى، وبين الطَّرِيقَتَيْنِ بَعْضُ الاتِّفَاقِ، وبَعْضُ الاختلاف. أما طريقتهما فهي: أن لكل وَاحِدٍ من المكاتبين أن يَدَّعِيَ على الوَارِثِ توْفِيَةَ النجوم على المورث، أو إبراءه، وأن يُحَلِّفَهُ على نَفْي العلم، فإذا حلف؛ فهل يُقْرَعُ بينهما؟ فيه قولان. أحدهما: لا؛ لأنه استبهام دين، فهو كما لو قال: استوفيت كذا من أحد غَرِيمي، ومات قبل البَيَانِ، ولم يُبَيِّن الوارث، لا يُقْرَعُ بينهما. وأشهرهما وأصحهما: على ما ذكر الإِمام: أنه يُقْرَعُ لِحَقِّ العِتْقِ، الذي يتضمنه الاسْتِيفَاءُ فهو كما لو أبهم العِتْق بين عبدين. ثم إنه مِع تَرْجِيحِهِ هذا القول، ذكر إِشْكَالاً عليه: أن المُسْتَوْفَى منه حُرٌّ على التعيين، ومن أعْتَقَ أَحَدَ العَبْدَيْنِ بعينه، ثم أشكل الحال فلا إِقْرَاعَ، وإنما الإِقْرَاعُ فيما إذا أعتق المريض عَبِيداً، وأقتضى الشَّرْعُ قَصْرَ العِتْقِ على بعضهم. وفيما إذا أعْتَقَ أَحَدَ العبدين -أو العَبِيدَ- ولم يُعَيِّنْ واحداً بلَفْظِهِ، ولا بقلبه، وانفصل عن الإِشْكَالِ بتخريجه على قَوْلَينِ سبق ذكرهما، فيما إذا أَعْتَقَ المَرِيضُ عَبْداً بعد عبد [واستبهم] (¬3) المتقدم منهما، وهما كالقولين في نَظِيرِ المسألة من الجُمُعَتَيْنِ، ¬
والنِّكَاحَيْنِ، وأجريا حيث علم التعيين، وليس عن الوُصُولِ إلى دَرَكِهِ، فالإِقْرَاعُ هاهنا تفريع على أحد القولين. ولك أن تمنع قوله: إنه لا إقراع فيما إذا أعتق عبداً بِعَيْنِهِ، وأشكل الحال. وتقول: قد سَبَقَ في "العِتْقِ" أنه إذا أعتق أَحَدَ عَبْدَيْهِ، وأراد مُعَيَّناً، ومات قبل البيان، ولم يكن له وَارِثٌ، أو قال الوَارِثُ: لا أَعْلَمُ، فالظاهر أنه يُقْرَعُ. فإن قلنا: يُقْرَعُ؛ فمن خَرَجَتْ له القُرْعَةُ فهو حُرٌّ، وعلى الآخر أَدَاءُ النجوم. وإن قلنا: لا يقْرَعُ؛ قال الإمَامُ: الذي يَقْتَضِيهِ القِيَاسُ التَّوَقُّفُ إلى اصطلاح (¬1) أو بَيَانٍ، أو قيام بَيِّنَةٍ، وَيَنْقَدِحُ أن يقَال: للوارث أن يُعَجِّزَهُمَا، فإنهما مُمْتَنِعَانِ من الأَدَاء وأحدهما مُكَاتَبٌ؛، فينفذ التعجيز فيه، وحينئذ فأحدهما حُرٌّ، والآخر رَقِيقٌ، فَيُقْرَعُ. وأما طَرِيقَةُ الأكثرين فقد قالوا: إذا مات قبل البَيَانِ، ففيه قولان: أن الوَارِثَ لا يَقُومُ مَقَامَهُ في البَيَانِ؛ بل يُقْرَعُ؛ فمن خرجت له القُرْعَةُ فهو حُرٌّ، وعلى الآخر أَدَاءُ النجوم، وله تَحْلِيفُ الوارث على نَفْي العلم. والثاني: أن الوارث يَقُومُ مَقَامَهُ، ولا قُرْعَةَ، وإذا تَبَيَّنَ، فالحكم كما سبق في بَيَانِ الوارث؛ إلاَّ أن الوَارِثَ يَحْلِفُ عَلَى نَفْي العلم، وهذا أشبه بالترجيح على قِيَاسِ ما تَقَدَّمَ، فيما إذا أعتق أَحَدَ عَبْدَيْهِ، وأراد مُعَيّناً، ومات قبل البَيَانِ، فإن قال الوارث: لا أَعْلَمُ من أَدَّى منهما، فلكل واحد تَحْلِيفُهُ على أنه لا يعلم أنه أدَّى، فإذا حلف لهما، فوجهان: أحدهما: أنه يستوفى من كُلِّ وَاحِدٍ ما عليه، كما إذا أقر بأن أحد غريميه بَرِيءٌ مما كان عليه، ومات قبل البَيَانِ وحلف الوَارِثُ لكل واحد منهما، فإنه يَسْتَوْفِي الدَّيْنَيْنِ جميعاً. وحكى ابن الصَّبَّاغ وَقْفَ العِتْقِ على أن يُؤَدِّيَ كل واحد جَمِيعَ ما عَلَيْهِ. قال: وعندي: إن اسْتَوَى المَالاَنِ، فقالا: نُؤَدِّي ما على أَحَدِنَا. أو اختلفا، فقالا: نُؤَدِّي الأكثر ليعتق (¬2)، كان لهما ذلك؛ لأنهما بادائه أَدَّيَا جميع ما عليهما. والوجه الثاني؛ وبه قال القاضي أبو الطَّيِّبِ: إنه إذا قال الوَارِثُ: لا أعلم. يُقْرَعَ بينهما. قال الرُّويَانِيُّ: وهذا أَصَحُّ، ولو أقر باسْتِيفَاءِ بعض نُجُومِ أحدهما، ولم يبين، فلا قُرْعَةَ؛ لأن العِتْقَ لا يحصل به، بل يوقف الأمر. ¬
الحكم الثالث: حكم التصرفات
ولو ادعى احَدُ المُكَاتَبِينَ على الوَرَثَةِ الأَدَاءَ، أو الإِبْرَاءَ، فأنكر، حصل بإِنكاره الإِقْرَارُ للآخر. قاله الصَّيْدَلاَنِيُّ. وقوله في الكتاب: "ونكلَ عن دعوى الثاني" في بعض النسخ "عن يمين". الثاني، وهو الأولى والأول مؤول. وقوله: "حتى حلف الثاني" في بعض النسخ "حتى حلف المدعى" وهما صحيحان. وقوله: "بما عماه المورث" في بعضها "بما عناه المورث"، وهما صحيحان أيضاً. " فروع عن التهذيب": لو قال السيد: اسْتَوْفَيتُهُ، أو قال العبد: أليس قد وَفَّيْتُكَ؟ فقال: نعم. ثم قال المُكَاتَبُ: وَفَّيْتُ النُّجُومَ. وقال السيد: البَعْضَ. فالمُصَدَّقُ السيد، واللفظ يحتملهما جَمِيعاً ولو وضع من المُكَاتَب شيئاً من النجوم، واخْتَلَفَا، فقال السيد: وضعت مني النجم الأول. وقال المُكَاتَبُ؛: من الآخر. أو قال: وَضَعْت بعض النجوم. وقال المُكَاتَبُ: بل جميعها. فالمُصَدَّق بيمينه السيد، وإذا كَاتَبَهُ على ألف درهم، فوضع عنه عَشْرَةَ دنَانِيرَ، لم يصح. فإن قال: أَرَدْتُ قِيمَةَ عشرةُ دنانير من الدَّرَاهِمِ؛ صح. فلو اختلفا؛ فقال المُكَاتَبُ: أردت المعنى الثاني، وأنكر السيد، فهو المُصَدَّقُ؛ لأنه أعْرَفُ بِنِيَّتِهِ. ولو وضع عنه من الدَّرَاهِمِ ما يُقَابِلُ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ، وهو مَجْهُولٌ عندهما، ففي صحته وجهان؛ بنَاءً على الخلاف فيما إذا أَوْصَى بالزِّيَادَةِ على الثلث، وأجاز الوَارِثُ، وهو جاهل بالزِّيَاَدَة؛ ففي وجه: لا تَصِحُّ. وفي وجه: تصح، ويحمل على أقل ما يتيقن. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الحُكْمُ الثَّالِثُ: حُكْمُ التَّصَرُّفَاتِ إمَّا مِنَ السَّيِّدِ أَوْ مِنَ العَبْدِ، أمَّا السَّيِّدُ فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ رَقَبَةَ المُكَاتَبِ عَلَى الجَدِيدِ، وَفِي القَدِيمِ يَبِيعُهُ وَيَبْقَى مُكَاتِباً، وَلاَ يَبِيعُ النُّجُومَ لأَنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ غَيْرِ لاَزِمٍ، وَفِي الاسْتِبْدَالِ عَنْهُ وَجْهَانِ، فَلَوْ قَبَضَ مُشْتَرِي النُّجُومِ النُّجُومَ فَهَلْ يُعْتَقُ فِيهِ وَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يُعْتَقُ وَكَانَ المُشْتَرِي وَكِيلَهُ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: الغَرَضُ الآن في تَصَرُّفَاتِ السيد في المُكَاتَبِ، وما يَتَعَلَّقُ به، وفي تَصَرُّفَاتِ المُكَاتَبِ. أما القسم الأول، ففي الفَصْلِ منه مسألتان: إحداهما: في بَيْعِ السيد رَقَبَةَ المُكَاتَبِ قولان: الجديد: مَنْعُهُ، وبه قال أبو حنيفة ومالك؛ لأن الكِتَابَةَ عَقْدٌ يمنع من اسْتِحْقَاقِ
الكَسْب، وأَرْش الجِنَايَةِ، فيمنع (¬1) البيع، كما لو باع عَبْداً من إنسان لا يَجُوزُ له بَيعُهُ، ولأن البَيْعَ إما أن يرفع الكتابة؛ وهو باطل؛ لأن الكِتَابَةَ لاَزِمَةٌ من جهة السَّيِّدِ، أو لا يرفع، فيبقى مُستَحِقَّ العَتَاقَةِ، فوجب ألاَّ يَصِحَّ بَيْعُهُ كالمُسْتَوْلَدَةِ. والقديم: الجَوَازُ؛ وبه قال أحمد، كَبَيْعِ المُعلَّقِ عِتْقُهُ بصفة، ويحتج له بحديث بريرةَ، فإنها اسْتَعَانَتْ بعائشة -رضي الله عنها- في كتَابَتِهَا فقالت: إن باعوك صَبَبْتُ لهم ثَمَنَكِ صبّاً فراجعتهم، فَأَبَوْا أن يَبِيعُوهَا، إلاَّ أن يكون الوَلاَءُ لهم (¬2) -الحديث. ومن قال بالجديد؛ قال: إنها عَجَّزَتْ نَفْسَهَا، ثم اشْتَرَتْهَا عائشة -رضي الله عنها-. وفي "جمع الجوامع" للقاضي الرُّوياني: أن من الأَصْحَاب مَنْ قَطَعَ بالمَنْعِ، وأنكر القول الآخر، فَلْيُعَلَمْ لذلك قوله في الكتاب: "وفي القديم" بالواو. وقوله: "يبيعه" بالحاء والميم، وقوله: "فلا يصح" بالألف. وهِبَةُ المكاتب كَبَيْعِهِ، فإن قلنا بالجديد؛ فلو دَفَعَ النُّجُومَ إلى المشتري بعد البيع؛ فهل يعتق؟ فيه الخلاف الذي نَذْكُرُهُ فيما لو دَفَعَ النجوم إلى مشتري النجوم في المسألة الثانية. وإذا استخدمه المُشْتَرِي مُدَّةً لَزِمَتهُ أُجرَةُ المِثْلِ للمكاتب. وهل على السيد أن يُمْهِلَهُ المدَّةَ التي كانت في يَدِ المشتري؟ فيه قولان، كما في اسْتِخْدَامِ السيد وَحبْسِهِ. وإن قلنا بالقديم؛ فهل تَرْتَفِعُ الكِتَابَةُ؟ نقل في "التهذيب" وَجْهاً: أنها تَرْتَفِعُ. والظاهر: أنها لا ترتفع. وينتقل إلى المُشْتَرِي مُكَاتباً، وعلى هذا فوجهان: أحدهما: إنه إذا عُتِقَ بأداء النجوم إلى المشتري، كان الوَلاَءُ للبائع، ويكون انْتِقَالُهُ بالشِّرَاءِ، كانتقاله بالإِرْثِ إلى الوَارِثِ. وأظهوهما: أنه يكون الوَلاَءُ لِلْمُشْتَرِي، إذا عُتِقَ بالأَدَاءِ إليه، بخلاف الوَارِثِ، فإنه يَنُوبُ عن المورث ويحلفه. ولو كَاتَبَ كِتَابَةً فَاسِدَةً، ثم باع المُكَاتَبَ فسنذكر حُكْمَهُ من بعد إن شاء الله تعالى. ¬
ولو قال أَجْنَبِيٌّ لسيد المُكَاتَبِ: أَعْتِقْ مُكَاتَبَكَ على كذا، أو: أعتقه عَنِّي على كذا أو مجاناً (¬1)، فهو كما قال: أَعْتِقْ مُسْتَوْلَدَتَكَ، وقد مَرَّ في "الكَفَّارَاتِ". ولا يجوز للسيد بَيْعُ ما في يَدِ المكاتب، ولا إعْتَاقُ عَبِيدِهِ، ولا تزويج إِمَائِهِ. الثانية: ليس للسيد بَيْعُ نُجُومِ الكتابة على المُكَاتَبِ؛ لأنه بَيْعُ ما لم يَقْبِضُ، ولأنه بَيْعُ الدَّيْنِ من غير مَنْ عليه الدَّيْنُ، ولأن النجوم غير مُسْتَقِرَّةٍ، لماذا لم يَصِحَّ بَيْعُ المبيع قبل القبض، فبيع ما لا يلزم المِلْك فيه أوْلَى. هذا هو المذهب المَنُصُوصُ. وعن مالك (¬2) يَصِحُّ بَيْعُهَا. وحكى مثله قول أو وجه آخر: واختلف في كَيْفِيَّتِهِ؛ فذكر ابن كَجٍّ أنه جَوَّزَهُ في القديم. وأن الزَّعْفَرَانِيَّ حكى أنه رَجَعَ عنه في الجديد في مسائل عددها (¬3). ومنهم من أخذ من قَوْلَيْنِ يُحْكَيَانِ عن تخريج (¬4) ابن سُرَيْجٍ في بيع سَائِرِ الديون، واعْتُرِضَ عليه بأن ذلك في الدُّيُونِ المُسْتَقِرَّةِ، والنجوم بخلافها، ومنهم من أَخَذَهُ من تَجْوِيزِهِ بَيْعَ المُكَاتَب في القديم. وقد يُوَجَّهُ بأنه على ذلك القول ينتقل (¬5) مُكَاتباً، والحَاصِلُ للسيد النجوم، وكأنه اشترى النجوم. وهل يجوز الاسْتِبْدَالُ عنها، يُرَتَّبُ ذلك على جَوَازِ بَيْعِ النجوم؛ فإن جوز بيعها؛ جوز الاسْتِبْدَال عنها، وإلاَّ ففي الاسْتِبْدَالِ وجهان: قال الإِمام: وسبب الترتيب أن المَبِيعَ مقْصُودٌ بالتَّمَلُّكِ، وما يستبدل عنه، فالمقصود عِوَضُهُ، وسقوط المستبدل عنه، ولذلك جاز الاستبدال عن الديون اللاَّزِمَةِ بلا خلاف، واختلف القول في بَيْعِهَا. والأظهر: منع الاسْتِبْدَالِ أيضاً، وهو المَذْكُورُ في "التهذيب". وإذا قلنا بظَاهِرِ المذهب؛ وهو أنه لا يَجُوزُ بَيْعُ النجوم، فلو باع لم يَجُز لِلْمُكَاتَبِ تَسْلِيمُهَا إلى المشتري، ولا للمشتري مُطَالَبَتُهُ بها، ويحصل العِتْقُ بِدَفْعِهَا إلى السَّيِّدِ البائع. وهل يحصل بِتَسْلِيمِهَا إلى المشتري؟ قال في "المختصر": يحصل. وعن "الأم": منعه، وفيهما طريقان: أظهرهما: عند الأكثرين -وبه قال ابن سُرَيْجٍ- أن فيه قولين: ¬
أحدهما: يَحْصُلُ لأن للسيد سلطنة (¬1) على القَبْضِ، فهو كما لو وكل بالقبض وكيلاً. وأصحهما: المَنْعُ؛ لأنه يَقْبِضُ لنفسه، حتى لو تَلِفَ في يَدِهِ يَضْمَنُهُ، بخلاف الوكيل، فإنه يقبض للموكل. والثاني؛ وبه قال أبو إِسْحَاقَ: أنهما مَحْمُولاَنِ على حَالَيْنِ؛ فإن قال بعد البيع: خُذْهَا منه. أو قال لِلْمُكَاتَبِ: ادفعها إليه؛ صار وكيلاً، وحصل العِتْقُ بِقَبْضِهِ. وإن اقتصر على البيع فلا؛ فإنه فَاسِدٌ فلا عِبْرَةَ بما يَتَضَمَّنُهُ. ويقال: إن أبا إِسْحَاقَ عَرَضَ هذا الفَرْقَ على ابن سُرَيْجٍ، فلم يَعْبَأ به، وقال: إنه كان صرح بالإِذْنِ، فإنما يَأْذَنُ بحكم المُعَاوَضَةِ، إلاَّ أنه بينه. فإن قلنا: يُعْتَقُ؛ فما أَخَذَهُ المُشْتَرِي يَدْفَعُهُ إلى السيد؛ لأنا جعلناه كالوكيل له. وإن قلنا: لا يُعْتَقُ؛ فالسيد يُطَالِبُ المُكَاتَبَ، والمكاتب يَسْتَرِدُّ ما دفع إلى المشتري (¬2). وأَطْلَقَ صاحب الكِتَاب في قَبْضِ مشتري النجوم وَجْهَيْنِ في أنه هل يُعْتَقُ؟ والمشهور من الخلاف فيه القولان على ما بَيَّنَّا. والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَهُ مُعَامَلَةُ العَبْدِ بِالبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ وَأَخْذِ الشُّفْعَةِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ أَخْذُ العَبْدِ مِنْهُ فَإِنْ ثَبَتَ لَهُ عَلَى السَّيِّدِ دَيْنٌ مِثْلُ النُّجُومِ قَدْراً وَجِنْساً وَقُلْنَا: يَقَعَ التَّقَاصُّ فَيُعْتَقُ، لَكِنْ فِي تَقَاصِّ الدَّيْنَيْنِ المُتَسَاوِيَيْنِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: (أَحَدُهَا): أنَّهُ لاَ يَحْصُلُ وَإِنْ رَضِيَاهُ (وَالثَّانِي): أنَّهُ يَحْصُلُ إِنْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا (وَالثَّالِثُ): أَنَّهُ لاَ يَحْصُلُ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا (وَالرَّابعُ): أَنَّ التَّقَاصَّ يَقَعُ بِنَفْسِهِ دُونَ الرِّضَا، فَإِنْ أجْرَيْنَا التَّقَاصَّ فِي النَّقْدَيْنِ فَفِي ذَوَاتِ الأَمْثَالِ وَجْهَانِ، وَفِي العُرُوضِ وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: السَّيِّدُ في المُعَامَلَةِ مع المُكَاتَبِ كالأجنبي مع الأَجْنَبِيِّ، فيبيع منه ويشتري (¬3)، فإذا باع السيد شِقْصاً من ريع والمكاتب شريك فيه؛ فله الأَخْذُ بالشُّفْعَةِ. ¬
وإن باع المُكَاتَب، فللسيد الأَخْذُ بالشُّفْعَةِ، وإنما كان كذلك؛ لأن الغَرَضَ من الكتابة تَحْصِيلُ العِتْقِ، والعِتْقُ يَحْصُلُ بِأَدَاءِ المَال؛ فينبغي أن يمَكَّنَ من التصرف الذي يستعين (¬1) به على العِتْقِ. وعن أبي إِسْحَاقَ توجيهه بأن المُكَاتَبَ هو المَالِكُ لما في يَدِهِ، دون السيد؛ إلاَّ أنه يُمْنَعُ من تفْوِيتِ المال كَيْلاَ يَعْجَزَ، فيفوت العِتْقُ، فلو ثبت لِلْمُكَاتَبِ دَيْنٌ على سَيِّدِهِ عن مُعَامَلةٍ، وكان للسيد عليه النجوم، أو دَيْنُ معاملة، ففي التَّقَاصِّ تَفْصِيلٌ، واختلاف لا يَخْتَصُّ بالسيد والمكاتب. وجملة القول فيه: أنه إذا ثَبَتَ لِشَخْصٍ دين على آخر، وللآخر دَيْنٌ على الأول، إما عن جِهَةٍ واحدة، أو عن جهتين، كَسَلَمٍ وقَرْضٍ، أو قَرْضٍ وثَمَنٍ؛ فإما أن يكون الدَّيْنَانِ نَقْدَيْنِ، أو لا يكونا كذلك؛ فإن كَانَا نَقْدَيْنِ؛ فَيُنظر: أهما من جِنْسٍ وَاحِدٍ، أو من جِنْسَيْنِ، إن كانا من جِنْسٍ واحد، واتَّفَقَا في الحُلُولِ، وفي سائر الصِّفَاتِ، ففيه أربعة أقوال: أحدها: ويحكى عن نَصِّهِ -رضي الله عنه- في "الصَّرْفِ": أنهما لا يَتَقَاصَّانِ وإن رَضِيَا به؛ لأنه إِبْدَالُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وبَيْعُ الدَّيْنِ بالدين مَنْهِيٌّ عنه، فلا بد وأن يأخذ أَحَدُهُمَا ما على الآخر، ثم إن شاء دَفَعَهُ إليه، بما عليه ليخرج عن صورة بَيْعِ الدَّيْنِ بالدين. والثاني: إنه إذا رَضِيَ أحدهما بالمقَاصَّةِ، كفى وسَقَطَ الدَّيْنَانِ؛ لأن مَنْ عليه الدَّيْنُ يُؤَدِّيهِ من حَيْثُ يشاء. وإذا رَضِيَ أَحَدُهُمَا، وقد أَدَّى ما عليه بما له في ذِمَّةِ الآخر، ويخالف ما إذا أراد أن يَقْضِيَهُ بِدَيْنٍ على الغَيْرِ، فإنه قد لا يرضى المُسْتَحِقُّ بِذمَّةِ ذلك الغير. وأيضاً: فإن أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذا دَعَا إلى فَصْلِ الأَمْرِ بالقسمة يُجْبَرُ الآخَرُ عليه؛ فكذلك هاهنا. والثالث: أنه لا بد من رِضَاهُمَا، وإلاَّ فَلِكُلِّ واحد منهما مُطَالَبَةُ الآخر بما عليه؛ لأن المُقَاصَّةَ كالحِوَالَةِ في إِبْدَالِ ذِمَّةٍ بِذِمَّةٍ، وفي الحِوَالَةِ لاَ بُدَّ من رضا المَحِيلِ والمُحْتَالِ. والرابع: أن التَّقَاصَّ يحصل بنفس ثُبُوتِ الدَّيْنَيْنِ، ولا حَاجَةَ إلى الرضا؛ لأن مُطَالَبَةَ أحدهما الآخَرَ، بِمِثْلِ ما عليه عَنَاءٌ، ولا فائدة فيه. وكذلك نقول: لو كان على وَارِثهِ دَيْنٌ، فمات سَقَطَ، ولا يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهِ. وأشار في "الوسيط" إلى تَرْجِيحِ هذا القَوْلِ الأخير. ¬
وفي "تعليق الشيخ أبي حَامِدٍ": أنه المَنْصُوصُ. وذكر أبو الفَرَجِ الزاز أنه المَشْهُورُ، وأن الأَصَحَّ حُصُولُ التَّقَاصِّ بتراضيهما. إن اختلفا في الصِّفَاتِ كالصِّحَّةِ، والتَّكْسِيرِ، والحُلُولِ، والتأجيل، أو مقدار الأجل، فلا يصير أُحَدُهُمَا قصاصاً بالآخر، لاختلاف الأَغْرَاضِ، ولصاحب الحال أن يَسْتَوْفِيَهُ، وينتفع به إلى أن يَحلَّ ما عليه. ولو تَرَاضَيَا على جَعْلِ الحال قصاصاً بالمُؤَجّل لم يَجُزْ، كما في الحِوَالَةِ. وحكى أبو الفرج فيهما وَجْهاً آخر. ولو كانا مُؤَجَّلَيْن بأَجَلٍ وَاحِدٍ، فقد قيل: هما كما لو كَانَا حَالَّيْنِ. وهذا أَوْجَهُ عند الإِمام (¬1)، لكنه تَرَدَّدَ في مجيء القول الرابع. وقال في "التهذيب": الصحيح أنهما كالمُؤَجَّلَيْنِ بِأَجَلَيْنِ مختلفين. وإن كانا من جِنْسَيْنِ بأن كان أحدهما دَرَاهِمَ، والآخر دَنَانِيرَ فلا مُقَاصَّةَ، والطريق أن يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا ما على الآخر، ثم إن شاء جَعلاَ المَقْبُوضَ عِوَضاً عَمَّا على الآخر. قال الرُّوَيَانِيُّ: لأن دَفْعَ العِوَضِ عن الدَّنَانِيرِ فِي الذِّمَّةِ يجوز، ولا حاجة إلى قَبْضِ الحقَّيْنِ معاً. وإن لم يكن الدَّيْنَانِ نَقْدَيْنِ؛ فإن كانا من جِنْسٍ واحد: فعن صاحب "التقريب" أن التَّقَاصَّ على الاخْتِلاَفِ المذكور إذا أَجْرَيْنَاهُ في النَّقْدَيْنِ، ففي ذوات الأَمْثَالِ وَجْهَانِ؛ لأن ما سوى النَّقْدَينِ يظهر فيه التَّفَاوُتُ، وأنا إذا أجْرَيْنَاهُ في ذَوَاتِ الأَمْثَالِ ففي العرضين الموصوفين في الذِّمَّةِ وجهان بالترتيب؛ لأن التفاوت فيها أكثر. والذي أَوْرَدَهُ العراقيون [وغيرهم من الأصحاب] (¬2) أن التقاصَّ لا يَجْرِي في غير الأثْمَانِ من العروض وغيرها. وفَرَّقَ الشيخ أبو حامد بأن العَقْدَ على الأَثْمَان [ليس عقد] (¬3) مُغَابَنَةٍ ومُرَابَحَةٍ؛ لقلة الاختلاف فيها، فالتَّقَاصُّ فيها قَرِيبٌ؛ بخلاف سائر الأَمْوَالِ. وإن كانا من جنسين فلا مُقَاصَّةَ. وإن تَرَاضَيَا -بل إن كان عَرَضَيْنِ- فينبغي أن يَقْبضَ كُلُّ واحد منهما ما على الآخر، فإن قَبَضَ أَحَدُهُمَا لم يجز رَدُّهُ عِوَضاً عن المُسْتحق المَرْدُود عليه؛ لأنه بَيْعُ عَرَضٍ قبل القَبْضِ، إلاَّ أن يكون ذلك العَرَضُ مستحقاً بِقَرْضٍ، أو إِتْلاَفٍ لا بِعَقْدٍ. ¬
وإن كان أحدهما نَقْداً، والآخر عَرَضاً؛ فإن قَبَضَ مُسْتَحِقُّ العَرَضِ، ورَدَّهُ عِوَضاً عن النقد المستحق عليه، جاز. وإن قبض مُسْتَحِقُّ النَّقْدِ [النَّقْدَ] (¬1) ورده عِوَضاً عن العَرَضِ المستحق عليه، لم يجز إلاَّ أن يكون العَرَضُ مُسْتحقاً بِالقَرْضِ أو الإِتلاَفِ. هكذا فصل ابن الصَّبَّاغِ والرُّوَيانِيُّ وغيرهما -رحمهم الله-. إذا عرف ذلك حصل التَّقَاصُّ من السيد، والمُكَاتَبِ، وبرئ ذِمَّةُ المُكَاتَبِ عن النجوم وعُتِقَ كما لو أدَّى (¬2). قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ أَوْصَى بِرَقَبَةِ المُكَاتَبِ لَمْ يَجُزْ إلاَّ أَنْ يُضِيفَ إلَى حَالَةِ العَجْزِ فَيَصِحَّ عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، وَلَوْ أوْصَى بِالنُّجُومِ جَازَ مِنَ الثُّلُثِ، وَللوَارِثِ تَعْجِيزُهُ وَإِنْ أَنْظَرَ المُوصَى لَهُ، وَإِنْ أَوْصَى بِرَقَبَتِهِ فَلِلمُوصَى لَهُ تَعْجِيزُهُ عَنِ العَجْزِ وَإِنْ أَنْظَرَ الوَارِثَ، وَلَوْ قَالَ: ضَعُوا عَنِ المُكَاتَبِ مَا شَاءَ فَشَاءَ الكُلَّ لَمْ يُوضَعِ الكُلُّ عَلَى الأَصَحِّ بَلْ يَبْقَى شَيْءٌ كَمَا لَوْ قَالَ: صَنَعُوا مِنْ كِتَابَتِهِ مَا شَاءَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: في الفصل مسألتان: إحداهما: في الوَصِيَّةِ بالمُكَاتَب وبالنجوم؛ أما الوَصِيَّة بالمُكَاتَبِ، فهي جَائِزَةٌ على القديم الذي يجوز فيه البَيْعُ. وعلى الجديد -وهو المذكور في الكتاب-: هي بَاطِلَةٌ؛ لأنه مَمنُوعٌ من التَّصَرُّفِ في رَقَبَتِهِ ومَنْفَعَتِهِ، فأشبه ما إذا أوْصَى بِعَبْدِ الغير، فإن قال: إن عجز مُكَاتَبِي هذا، وعاد إلى الرِّقِّ، فقد أوْصَيْتُ به لفلان؛ فقد حكى الإِمَامُ وَجْهاً أنها لا تَصِحُّ أيضاً اعْتِبَاراً بحال التَّعْلِيقِ، وقياساً على ما لو قال: إن مَلَكْتُ عَبْدَ فُلانٍ، فهو حر. والأصح وهو الذي أَوْرَدَهُ الجُمْهُورُ: أنها صَحِيحَةٌ، كما لو أوصى بثمرة نَخْلَتِهِ، وحَمْلِ جاريته، وكما لو قال: إن مَلَكْتُ عَبْدَ فلان، فقد أَوْصَيْتُ به. وللإمام طَرْدُ الخلاف في هذه الصورة، وجعلها أَوْلَى بالمنع؛ لأن له تَعَلُّقاً بالمُكَاتَبِ في الحال. وإذا قلنا بالأَصَحِّ، فلو عَجَزَ، وأراد الوَارِث إنْظَارَة، فللموصى له تَعْجِيزُهُ ليأخذه، وإنما يعجز بالرَّفْعِ إلى الحاكم، كما ذكرنا في المَجْنِي عليه، وأما الوَصِيَّةُ بالنجوم على ¬
المُكَاتَب فهي صَحِيحَةٌ، وإن لم تكن مُسْتَقرَّةً، كما تصح الوَصِيَّةُ بالحَمْلِ، وإن لم يكن مَمْلُوكاً في الحال، فإن أدَّاهَا فهي للموصى له، وَوَلاَءُ المُكَاتَب للسيد، وإن عَجَزَ، فللوارث تَعْجِيزُهُ، وفسخ الكتابة، وإن أَنظَرَهُ الموصى له (¬1). وهل لِلْمُوصَى له إبراؤه عن النجوم؟ أبدى القاضي ابْنُ كَجٍّ فيه احْتِمَالَيْنِ -ويُرْوَيانِ عن القاضي الحسين-: أحدهما: نعم؛ لأنه يَمْلِكُ الاسْتِيفَاءَ، فيملك الإِبْرَاءَ. والثاني: لا؛ لأنه ملّكه استيفاء النجوم، ولم يملّكه تَفْوِيت الرَّقَبةِ على الورثة. ولو أوْصَى لوَاحِدٍ بِرَقَبَتِهِ إن عجز، ولآخر بالنجوم، صحت الوَصِيَّتَانِ، ثم إن أَدَّى المال بَطَلَتِ الوصية الأولى، لكان رُقَّ بَطَلَتِ الثانية. ولو أوصى لإنسان بما يُعَجِّله مكاتبه، فلم يُعَجِّلْ شيئاً، وأَدَّى النجوم في مَحَلِّهَا بَطَلَتِ الوصية، ولا يُجْبَرُ على التعجِيلِ لتنفيذ الوَصِيَّةِ. هذا في الكتابة الصحيحة. أما إذا كَاتَبَ عَبْدهُ كِتَابَةً فَاسِدَةً ثم أوصى بِرَقَبَتِهِ؛ فإن كان عالماً بفَسَادِ الكِتَابَةِ صَحَّتِ الوَصِيَّةُ. قال الصَّيْدَلاَنيُّ وغيره -رحمهم الله- وتَتَضَمَّنُ الوَصِيَّةُ فَسْخَ الكتابة. وإن كان يَظُنُّ صِحَّتَهَا، ففي الوصية قولان: أحدهما: لا تصح؛ لأنه أَوْصَى، وعنده أن ما يأتي به لَغْوٌ. والثاني: أنها صَحِيحَةٌ اعْتِبَاراً بحقيقة الحال. وهذا أشبه عند المُزَنِيِّ وغيره. ومنهم من طَرَدَ القَوْلَيْنِ فيما إذا كان عَالِماً بفَسَادِ الكتابة؛ لأن الكتابة الفَاسِدَةَ كالصحيحة، في حصول العِتْقِ وغيره، بخلاف ما إذا باع بَيْعاً فَاسِداً، ثم أَوْصَى بالمَبِيعِ، وهو عالم بِفَسَادِ البيع تصح الوصية قولاً واحداً؛ لأن البيع الفَاسِدَ ليس كالصَّحِيحِ. وأما إذا أوصى بالمَبِيعِ جَاهِلاً بِفَسَادِ البيع، فهو على القَوْلَيْنِ في الوصية. ولو باع المُكَاتَبَ كِتَابَةً فَاسِدَةً، أو المَبِيعَ بَيْعاً فاسداً، أو وهب أو رهن وهو جَاهِلٌ بالفساد فطريقان: ¬
أحدهما: طرد القولين. والثاني: القَطْعُ بالفساد، بخلاف الوَصِيَّةِ؛ لأنها تَحْتَمِلُ من الخَطَرِ ما لا يحتمله البَيْعُ والرَّهْنُ، والخلاف في هذه الصورة كالخِلاَفِ فيما إذا باع مَالَ أبيه على ظَنِّ أنه حَيٌّ فَبَانَ أنه مَيِّتٌ. وفي معناه ما إذا وَكَّلَ وَكِيلاً بِشِرَاءِ عَبْدٍ، ثم باعه، وهو لا يدري أن الوَكِيلَ قد اشْتَرَاهُ. أو باع مَالَ يَتِيمٍ، وهو لا يدري أن أَبَاهُ جعله وَصِيّاً له، فَبَانَ أنه جَعَلهُ وَصِيّاً. "المسألة الثانية": الوصية بوضع النُّجُومِ عن المُكَاتَبِ صَحِيحَةٌ، معتبرة من الثلث. فلو قال: ضَعُوا عنه مَا عَلَيْهِ من النجوم، أو كتابته فقضيته وضع الكل. ولو قال: نَجْماً من نجومه، فالاختيار لِلْوَارِثِ، يضع ما شَاءَ من القليل والكثير، والأَوَّل والآخر. وكذا لو قال: ضَعُوا عنه ما قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وما خَفَّ أو ثَقُلَ، فالقِلَّة والكثرة، والخِفَّة والثقل أُمُورٌ إِضَافيَّةٌ. ولو قال: ضَعْوا عنه ما شاء من نُجُوم الكتابة، فشاء وَضْعَ الكل؛ لا يوضع الكُلُّ، بل يبقى أَقَلّ ما يتموّل؛ لأن "من" للتَّبْعِيضَ، فلو اقتصر على قوله: ضَعُوا عنه ما شَاءَ، نقل المُزَنِيُّ أنه يبقى شَيْءٌ، ولا يوضع الكل وإن شاء؛ لأن المَعْنَى: ضَعُوا من كِتَابَتِهِ ما شاء، وإلا لَقَالَ: ضعوا عنه النجوم. وإذا كان هذا مُضْمَراً كان كالصُّورَةِ السابقة ومنهم من قال: يَجُوزُ وَضْعُ الكل، إِذا شاءه، كما لو قال: ضعوا عنه ما عليه ان شَاء، فَحَصَلَ وجهان، والأَظْهَرُ على ما ذكر (¬1) في الكتاب الأول. ولو قال: ضَعُوا عنه أَكْثَرَ ما عليه، أو أَكْثَرَ ما بَقِيَ عليه، يوضع عنه نِصْفُ ما عليه وزِيادَةٌ، وتقدير الزِّيَادَةِ إلى اختيار الوَارِثِ. وذكر الصَّيْدَلاَنِيُّ أنه إذا [كانت] (¬2) الزيادة فَوْقَ الأَقَلِّ المُجْزِئِ، فما زَادَ على ما يجزئ ابْتِدَاءُ عَطِيَّةٍ من قبل الوارث؛ لأن اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ القليل والكثير. قال الإِمَامُ: هذا مَأْخُوذٌ عليه، بل هو تَفْصِيلٌ منهم ألا ترى أنهم لو اقْتَصَرُوا على الأَقَلِّ المجزئ لم يَجُزْ أن يقال: إنهم نقصوا من الوصية. ولو قال: ضَعُوا عنه أكْثَرَ ما عليه، أو أكثر ما بقي عليه، ومثل نصفه فَيُوضَعُ عنه ثلاثة أَرْبَاعِ ما عليه وَزِيَادَةُ شيء. ¬
ولو قال: أكثر مما عليه، أو: ما عليه وأَكْثَرُ. وضع عنه الكُلّ وَلَغَا ذِكْرُ الزيادة. ولو كانت عليه نجوم مُخْتَلِفَةُ المَقَادِيرِ والآجَالِ، فقال: ضعوا عنه أَكْثَرَ النُّجُوم، أو أَكْثَرَهَا، رُوعِيَ القَدْرُ، فإن كان أطولها أو أقصرها، رُوعِيَتِ المُدَّةُ. وإن قال: ضَعُوا عنه أَوْسَطَ النجوم، فهذا محتمل للأوسط في القَدْر، وفي الأَجَلِ، وفي العَدَدِ، فإن اختلفت النُّجُومُ فيها جميعاً، فللورثة [تعيين] (¬1) ما شاءوا، فإن زَعَمِ المُكَاتَبُ أنه أَرَادَ غيره حَلَّفَهُمْ على نَفْي العِلْمِ، وإذا تساوت النجوم في القَدْرِ والأجَلِ، حُمِلَتِ الوَصِيَّةُ على العَدَدِ، وإذا كان العَدَدُ وَتراً، كالثلاثة والخمسة، فالأوسط وَاحِدٌ، وإن كان شَفْعاً، فالأوسط اثنان، كالثاني والثالث من الأَرْبَعَةِ، فيعين الوَارِثُ أَحَدَهُمَا، هكذا أَطْلَقَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وغيره. ويجوز أن يقال: الأوسط كلاهما، فيوضعان، وهذا قَضِيَّةُ ما في "التهذيب" (¬2). " فرع": إذا أوصى بكتابة عَبْدٍ بعد مَوْتِهِ، فلم يرغب العَبْدُ في الكتابة، تَعَذَّرَ تَنْفِيذُ الوَصِيَّةِ، بخلاف ما إذا أوْصَى بعِتْقِ عَبْدِ لا يحتاج فيه إلى رضاه، ولا يكاتب بَدَلَهُ آخَرَ، كما لو أَوْصَى بِمَالٍ لِزَيْدٍ، فلمَ يقبل لا يصرف إلى غيره. وإن رَغِبَ، فإن خرج كُلُّهُ من الثلث كُوتِبَ، ثم إن عَيَّنَ مَالَ الكتابة كُوتِبَ على مَا عَيَّنَهُ، وإلاَّ فعلى ما جَرَتْ به العَادَةُ، والعَادَةُ أن يكاتب العبد على ما فوق قِيمَتِهِ وإن لم يخرج كُلُّهُ من الثلث، ولم يجز الوارث، فقد قيل: كتابة القَدْرِ الذي يخرج من الثلث على الخِلاَفِ في كِتَابَةِ بعض العبد. والصحيح أنه يُكَاتِبُ ذلك القَدْرَ. ويصح قَوْلاً واحداً، ولا يُبَالَى بالتَّبْعِيضِ، إذا أدت الوصية إليه. فإذا كُوتِبَ بَعْضُهُ، وأدى النجوم عُتِقَ، وَوَلاَؤُهُ للموصى، والباقي رَقِيقٌ. وإن أجاز الوَارِثُ كِتَابَةَ كله، وعتق بأدَاءِ النجوم، فَوَلاَءُ الكل للموصى إن جعلنا إِجَازَةَ الوَرَثَةِ تَنْفِيذاً، وإلاَّ فَوَلاَءُ ما يزيد على القَدْرِ الخارج في الثلث لهم .. ولو قال: كَاتِبُوا أَحَدَ عَبِيدِي، لم تُكَاتَبْ أَمَتُهُ، ولا مُشْكِلَ. وهل يُكَاتَبُ الجَنِينُ الذي ظَهَرَتْ ذُكُورَتُهُ؟ ¬
فيه طريقان: أظهرهما: نعم. والثاني: أن فيه قوْلَيْنِ لِبُعْدِهِ عن الفَهْمِ والإِطْلاَقِ. ولو قال: كَاتِبُوا إِحْدَى إِمَائِي لا يكاتب عبد، ولا مُشْكِلَ، فإن ظهرت أُنُوثَتُهُ، فعلى الخلاف. ولو قال: أحد رقيقي جاز العَبْدُ والأَمَةُ. وهل يجوز المُشْكِلُ؟ قال المزني: نعم. وعن رواية الرَّبِيع: المنع، فقيل: فيه قولان، أو وَجْهَانِ، والصحيح الأول. هذا تمام الكلام (¬1) في تَصَرُّفَاتِ السيد. قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَمَّا تَصَرُّفَاتُ المُكَاتَبِ فَهُوَ فِيهِ كالحُرِّ إلاَّ مَا فِيهِ تَبرُّعٌ أَوْ خَطَرٌ فَلاَ يَنْفُذُ عِتْقُهُ وَهِبَتُهُ وَشِرَاؤُهُ قَرِيبَهُ بالمُحَابَاةِ وَبَيْعُهُ بِالغَبْنِ، وَلاَ يَبيعُ بِالنَّسِيئَةِ، وَلاَ يَرْفَعُ اليَدَ عَنِ المَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ، وَلاَ يُكاتَبُ، وَلاَ يَتَزوَّجُ وَلاَ يُزوَّجُ عَبْدَهُ، وَلاَ يَتَسَرَّى خَوْفاً مِنْ طَلاَقِ الجَارِيَةِ، وَلاَ يتَّهِبُ مَنْ يُعْتِقُ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَسُوباً خَوْفاً مِنَ النَّفَقَةِ، وَالمُكَاتَبَةُ لاَ تَتَزَوَّجُ وَلاَ تُكَفِّرُ إِلاَّ بِالصِّيَامِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: القسم الثاني: الكَلاَمُ في تَصَرُّفَاتِ المُكَاتَبِ: وهو كالحُرِّ في مُعْظَم التَّصَرُّفَاتِ؛ فيبيع ويشتري، ويُؤَجِّرُ وَيَسْتَأْجِرُ، ويأخذ بالشُّفْعَةِ، ويقبل الهِبَةَ والصَّدقَةَ، وَيَصْطَادُ وَيَحْتَطِبُ ويؤدب عبيده إصْلاَحاً للمال كما يَفْصِدُهُمْ وَيَخْتِنَهُمْ (¬2). وفي إقامة الحَدِّ عليهم خِلاَفٌ مذكور في الحُدُودِ. وإذا أَجَّرَ نَفْسَهُ أو عَبْدَهُ، أو أمواله فَعَجَّزَهُ السيد في المُدَّةِ انْفَسَخَ العَقْدُ. وفي كتاب القاضي ابْنُ كَجٍّ وجه: أنه لا يجوز أن تزيد مُدَّةُ الإِجَارَةِ على أَجَلِ النجوم؛ لأنه قد يرقّ، وتكون المَنَافِع فيما زاد السيد، ولا تصح منه التَّصَرُّفَاتُ التي فيها تَبرُّعٌ، أو خَطَرٌ؛ لأن المقصود تَحْصِيلُ العِتْقِ، فَيُحْتَاط له، ولأن حَقَّ السيد غير مُنْقَطِع عما في يَدِهِ، فإنه قد يعجز، فيعود إلى الرِّقِّ. هذا هو القَوْلُ الجُمَلِيُّ، وفي التفصيل صور: إحداها: لا يصح إِعْتَاقُهُ ولا إِبْرَاؤُهُ عن الدُّيُونِ، ولا هِبَتُهُ مجاناً، ولا بشرط الثواب. ¬
وإن صححنا الهِبَةَ بشرط الثَّوَاب؛ لأن في قَدْرِ الثواب اخْتِلاَفاً بين العلماء؛ فقد يحكم الحَاكِمُ بشيء قَلِيلٍ، ولأن الثواب إِنما يُستَحَقُّ بِإِقْبَاضِ الموهوب، وفيه خطر، وسنذكر أنه لا يسلم مبيعاً (¬1) قبل قَبْضِ الثمن على الظاهر. فإن كان الثَّوَابُ مَعْلُوماً، وكان فيه غِبْطَةٌ، فقد قال الإِمام: إن قلنا: هذه الهِبَةُ بَيْعٌ، ولا يشترط في ثبوت الملك فيها إِقْبَاضٌ، فهي مُجْرَاةٌ على قياس البُيُوعِ. وإن شرطنا الإِقْبَاضَ، فمن يَشْتَرِطُهُ لا يوجبه، فلا يمتنع أن يصحح الهِبَةَ، ويمنع من الابْتِدَاءِ بالإِقْبَاض، حتى يسبق قبض العِوَضِ، بخلاف البيع [نسيئة] (¬2) فإنه يوجب تَسلِيمَ المبيع قبل قبض للثمن. وعن الشيخ أبي مُحَمَّدٍ أنه لا يَحِلُّ له التَّبَسُّطُ في المَلاَبِسِ (¬3) والمَأْكَلِ، ولا يكلف فيها التَّغْيير المُفْرِطَ أيضاً. وليس له أن يَدْفَعَ المَالَ إلى غيره قِرَاضاً، فإنه قد يَخُونُ أو يَمُوتُ، فَيَضِيعُ، وله أن يأخذه قِرَاضاً؛ لأنه نوع يكسب، ولذلك ليس له أن يُقْرِضَ، وله أن يَسْتَقْرِضَ، وليس له تعْجِيلُ الديون المُؤَجَّلَة؛ لما فيه من تَفْوِيتِ الانْتِفَاعِ بالمال من غير ضرورة. الثانية: لا يشتري أَحَداً من أُصُولِهِ وفروعه، لِتَضَمُّنِهِ العِتْقَ، وفَوَاتَ المال، خلافاً لأبي حَنِيْفَةَ وأحمد -رحمهما الله-. ولو وهب منه قريبه، أو أوصى له به؛ فإن لم يَقْدِرْ على الكَسْبِ لهرمه أو لزمانه وعجز، وكان يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، لم يَجُزْ له قَبُولُهُ. وقيل: يجوز قبول (¬4) الزمن، فقد يكتسب من غير عَمَلٍ. وهذا ما اختاره الصَّيْمَرِيُّ فيما نقل القاضي الرُّوَيانِيُّ في "الكافي". وإن كان كَسُوباً يقوم بكِفَايَةِ نفسه، جاز قَبُولُهُ، بل يستحب؛ لأنه لا ضَرَرَ عليه في القَبُولِ، ثم لا يعْتَقُ عليه؛ لأَن ملكه ضعيف (¬5)، ولكن يكاتب عليه، فيعتق بِعِتْقِهِ، وبرق بِرِقِّهِ، وليس له بَيْعُهُ. ¬
وحكى الشيخ أبو عَلِيٍّ في "شرح الفروع" وَجْهاً بَدِيعاً، وبعيداً عن ابن أَبِي هُريْرَةَ أن له بَيْعَهُ، ثم قال: وهذا فَاسِدٌ، ولا يجوز لأحد أن يملك أباهُ، فيبيعه، وتكون نَفَقَتُهُ في كَسْبِهِ، وما يَفْضُلُ يكون لِلْمُكَاتَب يستعين به في أَدَاءِ النجوم، فإن مَرِضَ أو عَجز أَنْفَقَ المُكَاتَبُ عليه؛ لأنه من صَلاَحِ مِلْكِهِ، وليس هذا كالإنْفَاقِ على أَقَارِبِهِ الأَحْرَارِ، حيث يمنع منه؛ لأن ذلك مَبْنِيٌّ على المُوَاسَاةِ. فان جنى القريب على إنسان بيع في الجِنَايَةِ، وليس لِلْمُكَاتَب أن يَفْدِيَهُ، بخلاف ما إذا جنى عَبْدُهُ؛ يجوز له أن يَفْدِيَهُ؛ لأن الرَّقَبةَ تبقى له، فيصرفها إلى النجوم. الثالثة: ليس له الشِّرَاءُ بالمُحَابَاةِ، ولا البَيْعُ بالغَبْنِ؛ لما فيه من التَّبَرُّعِ، وتَفْوِيتِ المال. وعن أبي حَنِيْفَةَ أن له أن يَبِيعَ بما عَزَّ وهَانَ، كما ذكر في الوَكِيلِ، ولا يبيع بالنَّسيئة؛ لأن إِخْرَاجَ المَالِ عن اليَدِ، بلا عِوَضٍ في الحال تَبرُّعٌ، وأيضاً ففيه خَطَرٌ، وسواء باع بِمِثْلِ قِيمَتِهِ، أو أكثر، ولا فَرْقَ بين أن يَسْتَوْثِقَ بالرَّهْنِ والكفيل، أو لا يَسْتَوْثِقَ، وكذا لا يقرض، وإن استوثق؛ لأن الكَفِيلَ قد يُفْلِسُ، والرَّهْنُ قد يَتْلَفُ، ويحكم الحاكم المرفوع إليه بِسقُوطِ الدَّيْنِ. ويجوز أن يَبِيعَ ما يُسَاوِي مائة بمائة نَقْداً، وبمائة نسيئة، ولو اشْتَرَى نَسِيئةً بثمن النَّقْدِ يجوز، ولا يرهن به؛ فإنه قد يَتْلَفُ، وإن اشْتَرَاهُ بثمن [النسيئة]، (¬1) لم يَجُزْ؛ لما فيه من التَّبرُّعِ. كذلك ذكره في "التهذيب". وفي "جمع الجوامع" للروياني: أنه يَجُوزُ، إذ لا غَبْنَ فيه، وفرقوا بين (¬2) المُكَاتَبِ، وبين الوَلِيِّ، حيث يبيع مال الطفل نسيئة، وَيَرْهَنُ، وَيَرْتَهِنُ للحاجة، أو المَصْلَحَةِ الظاهرة، وبأن المرعي هناك مَصْلَحَةُ الطفل، والولي مَنصُوبٌ لينظر له [وها هنا المطلوب العِتْقُ والمرعي مصلحة السيد، والمكاتب غير منصوب لينظر له] (¬3) وقد ذكرنا في "كتاب الرَّهْنِ" أن بعضهم سَوَّى بينه وبين الوَلِيِّ في البيع نسيئة، وفي الرَّهْن والارتهان، فيجوز أن يُعَلَمَ لذلك قوله هاهنا: "ولا يبيع [بالنسيئة] " (¬4) بالواو. وأَلْحَقَ صَاحِبُ الكتاب هناك المُكَاتَبَ بالولِيِّ في جَوَازِ الرَّهْنِ، لكن الذي أَطْلَقَ عليه عَامَّةُ الأصحاب -رحمهم الله- وأَوْرَدَهُ هاهنا: المَنْع، ويشبه أن يتوسط، فيقال: إن دَعَتْ ضَرُورَة إلى البَيْعِ والرهن، كما في وقت النَّهْبِ فله ذلك حِفْظاً للمال. وإن كان يَرَى فيه مَصْلَحَةً لم يُمَكَّنْ منه؛ لأنه ليس نَاظِراً للسَّيِّدِ، حتى يَتَحَمَّلَ الخَطَرَ لِمَصْلَحةٍ يَرَاهَا، بخلاف الوَلِيِّ، والله أعلم. وإذا باع أَوِ اشْتَرَى لم يسلم ما في يَدِهِ، حتى يَتَسَلَّمَ ¬
العِوَضَ؛ لأن رفع اليَدِ عن المال بلا عِوَضٍ، لا يَخْلُو عن غَرَرٍ، وكذلك ليس له السَّلَمُ؛ لأن مُقْتَضَاهُ تَسْلِيمُ رَأْس المال في المَجْلِسِ، وانتظار المسلم فيه سِيَّمَا إذا كان السَّلَّمُ مُؤجَّلاً. وفيه وجه: أنه يجوز التَّسْلِيمُ ليتسلم في الحال، أو في المَجْلسِ، ويحتمل هذا القَدْر. وهذا ما أَوْرَدَهُ الصَّيْدَلانيُّ. وعلى هذا فَيَجُوزُ له السَّلَمُ الحَالُّ. وأطلق الإِمام وَجْهاً في السَّلَمِ بشرط الغِبْطَةِ أنه يَجْوزُ. الرابعة: لا يكاتب المُكَاتَبُ عَبْدَهُ، كما لا يعتقه، خِلاَفاً لأبي حَنِيْفَةَ ولو أدَّى مُكَاتَبُهُ إليه المَالَ، لم يُعْتَقْ؛ لأن تَعْلِيقَهُ غير صحيح. الخامسة: لا يَتَزوَّجُ المُكَاتَبُ، ولا يُزَوَّجُ مِنْ [عبد] (¬1)؛ لما فيه من المُؤَنِ، ولا [ينكح] (¬2) المكاتبة أيضاً؛ لأنه تنتقص قيمتها، وأيضاً فلخطر الطَّلق، وله شِرَاءُ الجَوَارِي للتِّجَارَةِ، ولكن لا يجوز له التَّسَرِّي خَوْفاً من هَلاَكِ الجَارِيَةِ في الطَّلْقِ. قال الإِمَامُ: وهو بِمَثَابَةِ منعِ الرَّهْنِ من وَطْءِ الجارية المَرْهُونَةِ. وكان شَيْخِي لا يبعد إجْرَاءَ الوجهين في وطء الجارية التي يُؤْمَنُ حَبَلُهَا (¬3) هاهنا، وهو غير مَرْضِيٍّ؛ لأن المُكَاتَبَ عَبْدٌ، والوَطْءُ يضعفه، ولا ضَبْطَ يجعل مَرْجُوعاً فيما يجوز، ويمنع منه، فالوجه حَسْمُ الباب، وللمنع من الوَطْءِ مَعْنى آخَرُ، وهو ضعف المِلْكِ، على ما سنذكر إن شاء الله تعالى. السادسة: إذا لَزِمَ المُكَاتَبَ كَفَّارَةُ قَتْلٍ، أو ظِهَارٍ، أو يمين، فيكفر بالصَّوْمِ دون المَالِ؛ لأن مِلْكَهُ ليس بِتَامٍّ، وهو مستحق الصَّرْفِ إلى جِهَةٍ أخرى. واعلم أن الصّوَرَ جَمِيعاً مَفْرُوضَةٌ فيما إذا لم يَأْذَنْ له السَّيِّدُ. فأما إذا أذن له السيد في التَّصَرُّفَاتِ المَذْكُورَةِ، فسنذكر حكمه (¬4) إن شاء الله -تعالى- في الفَصْلِ التالي لهذا الفَصْلِ. " فرع عن القَفَّالِ": إن وَصِيَّةَ المُكَاتَب غَيْرُ صحيحة، سواء أوصى بِعَيْنٍ من أَعْيَانِ مَالِهِ، أو بثلث ماله؛ ن مِلْكَهُ غَيْرُ تَامٍّ على ما في يَدِهِ. وعن أبي حنيفة: أنها تَصِحُّ إن أضاف إلى المَوْتِ والحرية، وإلاَّ لم تصح. ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَكلُّ ذَلِكَ إِنْ جَرَى بِإِذْنِ السَّيِّدِ فَفِي النفُوذِ قَوْلاَنِ، إِلاَّ العِتْقَ فَفِيهِ طَرِيقَانِ: (أَحَدُهُمَا): طَرْدُ القَوْلَيْنِ (وَالثَّانِي): القَطْعُ بِالمَنْعِ لإشْكَالِ الوَلاَءِ، فَإِنْ نَفَّذْنَا فَفِي الوَلاَءِ قَوْلاَنِ: (أَحَدُهُمَا): أنَّهُ لِلسَّيِّدِ (وَالثَّانِي): أنَّهُ موْقُوفٌ حَتَّى يُعْتِقَ المُكَاتَبَ يَوْمَاً فَيَكُونَ لَهُ، فَإِنْ مَاتَ رَقِيقاً اسْتَقرَّ عَلَى السَّيِّدِ، وَلَوْ مَاتَ العَتِيقُ فِي مُدَّةِ التَّوَقُّفِ فَمِيرَاثهُ لِلسَّيِّدِ فِي قَوْلٍ، وَلبَيْتِ المَالِ في قَوْلٍ، وَكِتَابَةُ عَبْدِهِ كَإِعْتَاقِهِ فِي النُّفُوذِ وَفِي الوَلاَءِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: تَبَرُّعَاتُ المُكَاتَبِ وَتَصَرُّفَاتُهُ المُحْظَرَةِ كالهِبَةِ، والإبْرَاءِ، والإِقْرَاضِ، والقِرَاضِ، والإِنْفَاقِ على الأَقَارِبِ، والبيع بالمُحَابَاةِ، وبالنسيئة وتعجيل الدَّيْنِ المُؤجَّلِ ونحوها، إن جرت بإِذْنِ السيد؛ فمنقول (¬1) المزني، والمنصوص في "الأم" أنها تَصِحُّ. وعن الرَّبِيع فيه قَوْلٌ آخر؛ ونَصَّ على أن المكَاتَبَةَ إذا اخْتَلَعَت بِإِذْنِ السَّيِّدِ على مال لم يَجُزْ، والخلْعُ كالهِبَةِ، في أنه بَذْلُ مَالٍ من غير عِوَضٍ مَاليٍّ. واختلف الأَصْحَابُ على طريقين: قال أكثرهم -منهم ابن سُرَيْج، وابن خَيْرَانَ، وأبو إِسْحَاقَ- في جميع هذه التَّصَرّفَاتِ قولان إِما لما رَوَاهُ الربيع، وإما للنَّصَّيْنِ في الهِبَةِ، والتَّصَرُّف فيهما بالنقل والتخريج. ومنهم من نَقَلَ المَنْعَ عن نَصِّهِ في "الإملاء": أحدهما: أنها غير صَحِيحَةٍ؛ لأن مِلْكَ المُكَاتَبِ نَاقصٌ، والسَّيِّدُ غَيْرُ مالك لما في يَدَيْهِ، فلا أَثَرَ لإِجَازَتِهِ، كما لو وَهَبَ المَرِيضُ جَمِيعَ مَالِهِ، وأجاز الوَارِثُ، وأيضاً فإنه يفوت غَرَضُ العَتْقِ. وأصحهما: الصحة؛ لأن الحَقَّ لا يَعْدُوهُمَا، فإذا تَوَافَقَا عليه صَحَّ؛ كما لو وَهَبَ أَحَدُ الشريكين بِإِذْنِ الآخر. والثاني: تقرير النَّصَّيْنِ، والقطع بِصِحَّةِ هذه التَّصَرّفَاتِ، ويبطلان الخلع وقد ذكرنا الطريقين في "الخُلْعِ" في كتابه. وعن أبي الطيب بن سلمة طَرِيقَةٌ قَاطِعَةٌ بصحة الخُلْعِ أَيْضاً. فإن وهب من السيد أو من ابنه الصَّغِيرِ، فقبل أو أقْرَضَهُ، أو باعه نَسِيئَةً أو بالمُحَابَاةِ، أو عَجَّلَ دَيْناً مُؤجَّلاً له عن النُّجُومِ، فطريقان: أظهرهما: أته على القَوْلَيْنِ فيما إذا وَهَبَ من غيره بِإِذْنِهِ. والثاني: -واختاره الشيخ أبو مُحَمَّدٍ- القَطْعُ بالصِّحَّةِ؛ لأن لِلْمُكَاتَب أن يُعَجِّزَ نَفْسَهُ، فيجعل جميع ما في يَدِهِ للسيد، وإذا تَمَكَّنَ من جعل الجميع لِلسَّيِّدِ بالتعجيز، لم ¬
يبعد أن يجعل بَعْضَهُ له بالهِبَةِ. ولو وهب بإِذنِ السيد فرجع السيد عن الإِذْنِ، قبل إِقْبَاضِ المَوْهُوبِ لم يكن له إِقْبَاضُهُ. ولو اشْتَرَى قَرِيبَهُ بِإذْنِ السَّيِّدِ، ففي صِحَّتِهِ القولان، فإن صححناه؛ يكاتب عليه. وعن أبي إسحَاقَ المَرْوَزيِّ: طَرِيقَةٌ قَاطعة بالصِّحَّةِ؛ لأنه قد يَسْتَفِيدُ من أَكْسَابِهِ، وفيه صِلَةُ الرَّحِمِ. وإعتاق المُكَاتَب بإذن السيد مُرَتَّبٌ على سَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ، إذا جرت بإذنه. إن لم نُصَحِّحْهَا، فالعتق أوْلَى، وإن صححناها، ففيها قولان: أصحهما: المنع أيضاً؛ لأنهما يعقبان الوَلاَءَ، والمُكَاتبُ ليس أهْلاً لِثُبُوتِ الوَلاَءِ له كالقِنِّ. ويحصل من هذا التَّرْتِيبِ طَرِيقَانِ، كما ذكر في الكتاب: أظهرهما: أن فيه قَوْلَيْنِ؛ وقد نَصَّ عليهما في "المختصر". والثاني: القَطعُ بالمنع. ولو أَعْتَقَ عن سَيِّدِهِ، أو عن غيره بإِذْنِهِ، فهو كَسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ بالإذْنِ، ولا يجيء فيه الطريقة القَاطِعَةُ؛ لأن المُعْتَقَ عنه من أهْل الوَلاَءِ. فإن قلنا بنفوذ العِتْقِ، فلمن يكون وَلاَءُ المعتق؟ فيه قولان: أحدهما: أنه لِلسَّيِّدِ، وبه قال أبو حَنِيْفَةَ؛ لأن المُكَاتَبَ ليس بِأهْلٍ للولاء، وتَوْقِيفُ الوَلاَءِ بَعِيدٌ. وَوَلاءُ المُكَاتَبِ إذا عُتِقَ للسيد، فلا يبعد أن يكون وَلاَءُ مُعْتِقِهِ له أيضاً. وأظهرهما: أنه يُوقَفُ؛ لأن الوَلاَءَ لمن أَعْتَقَ، والسَّيِّدُ لم يَعْتِقْ، فإن عتق [المكاتب] (¬1) كان الوَلاَءُ له، وإن مات رَقِيقاً، كان الوَلاَءُ للسَّيِّدِ، كان عجز وَرُقَّ، حكى الإِمَامُ أنه يَبْقى التَّوَقُّفُ؛ لأنه يُرْتَقبُ عِتْقُهُ من وجوه أُخَرَ. واعْتَرَضَ عليه، وقال: إذا رُقَّ ينبغي أن يكون الوَلاَءُ لِلسَّيِّدِ، ولا يرتقب عِتْقُهُ من وَجْهٍ آخر؛ لأنه إذا رُقَّ تَبَيَّنَ أن تَصرُّفَهُ على حُكْم اسْتِقْلاَلِ الكتابة قد انقطع، فالعِتْقُ من وَجْهٍ آخر لا يَتَعَلَّقُ بما سبق، والذي اعْتَرَضَ به (¬2) هو الذي يوجد لِعَامَّةِ الأصحاب لا غَيْرَ. فإن جعلنا الوَلاَءَ لِلسَّيِّدِ؛ فلو عُتِقَ المُكَاتَبُ بعد ذلك، ففي انْجرَارِ الوَلاَءِ إليه وَجْهَانِ، عن رواية أبي علي الطَّبَريِّ، وصاحب "التقريب": أظهرهما: المنع، وكأن السَّيِّدُ هو الذي أَعْتَقَهُ. والثاني: وحكاه المُوَفَّقُ بْنُ طاهر عن تَخْرِيجِ ابن سُرَيْجٍ أنه ينْجَرُّ؛ لأنه الذي بَاشَرَ ¬
العِتْقَ. وإن قلنا بالتَّوَقُّفِ؛ فلو مات المُعْتِقُ قبل عتقِ المُكَاتَبِ، وعَوْدِهِ إلى الرِّقِّ، ففي المِيرَاثِ قَوْلاَنِ عن رواية الشيخ أبي حَامِدٍ: أظهرهما: أنَ المِيرَاثَ مَوْقُوفٌ أيضاً. والثاني: أنه للسيد، ولا يُوقَفُ المِيرَاثُ؛ كان وَقَفَ الوَلاءُ؛ لأن الوَلاَءَ قد يثبت لِلشَّخْصِ، ثم يَنْتَقِلُ إلى غَيْرِهِ، فلا يبعد فيه التَّوَقُّفُ، بخلاف المِيرَاثِ. ومنهم من نقل بَدَلَ الثَّانِي أنه يُصْرَفُ إلى بَيْتِ المَالِ، كما إذا كَاتَبَ الذِّمِّيُّ عَبْداً، ولَحِقَ بِدَارِ الحَرْبِ، فاسْتُرِقَّ، وعُتِقَ مكاتبه، ومات يُصْرَفُ مَالُهُ إلى بيت المال. وهذا والثاني ما أوْرَدَهُ في الكتاب، وأهمل الأَوَّلَ الذي هو الأظهر. وقوله: "حتى يعتق المكاتب يوماً ... " إلى آخره اتِّبَاعٌ (¬1) لما نَقَلَهُ الإِمَامُ. ويجوز أن يُعَلَمَ قوله: "يوماً" بالواو إِشَارَةً إلى ما هو الأَظْهَرُ، وهو أنه لا يُوقَفُ حتى يُعْتَقَ يوماً من الدَّهْرِ، أو يَمُوتَ رَقِيقاً، بل يُوقَفُ إلى أن يُعْتَقَ بموجب الكِتَابَةِ، أو يظهر رِقُّهُ بالعَجْزِ، أو المَوْتِ. ولو كاتَبَ المكَاتَبُ عَبْدَهُ بإذن السَّيّدِ؛ قال الإِمَامُ: يحتمل أن يُلْحَقَ بهِبَاتِهِ، ويحتمل أن يُلْحَقَ بِتَنْجِيزِ العِتْقِ. وهذا الثاني هو الذي أَوْرَدَهُ الأصحاب -رحمهم الله- ونَصَّ -رضي الله عنه- عليه في "المختصر" فيعود الطَّرِيقَانِ في صِحَّةِ الكِتَابَةِ، والقولان في الوَلاَءِ تَفْرِيعاً على الصِّحَّةِ، إذا عتق المكاتب الثاني يحتمل أن يُعْتَقَ الأول، كان عُتِقَ الأول، ثم الثاني، فَوَلاءُ الثاني للأول. وفي نِكَاحِ المُكَاتَبِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ طريقان: أحدهما: أن في صِحَّةِ القولين في تَبرُّعَاتِهِ بالإِذْنِ؛ لأنه يلزمه المَهْرُ والنَّفَقَةُ، وفيه بَذْلُ مَالٍ لا في مُقَابَلَةِ مَالٍ. وهذا ما رَجَّحَهُ الإِمَامُ، ويوافقه مُطْلَقُ لفظ الكتاب، فإنه قال: "وكل ذلك إن جرى بِإِذْنِ السَّيِّدِ، ففي نفوذه قولان" ومن جملة ذلك الزواج. وأظهرهما: عند الأَكْثَرِينَ؛ القَطْعُ بالصِّحَّةِ؛ لأن المُكَاتَبَ أَحْسَنُ حَالاً من العبد القِنِّ، والعبد القِنُّ يَنْكَحُ بالإِذْنِ، فالمُكَاتَبُ أَوْلَى. والمعنى فيه أن النِّكَاحَ يَحْتَاجُ إليه لِلتَّحْصِينِ، وسَائِرُ المصالح المتعلقة به والهِبَةُ وما في معناها لا يَلْحَقُ به. ¬
وتزويج المُكَاتَبَةِ صَحِيحَةٌ على الأظهر، ولا بد من إِذْنهَا. وعن القفَّالِ: أنها لا تُزوَّجُ أَصْلاً؛ لأن مِلْكَ السيد فيها نَاقِصٌ، وهي أيضاً نَاقصة فلا يصح إِذْنُهَا، وقد ذكرنا ذلك في النِّكَاحِ. وإذا أَذِنَ السَّيَّدُ لِلمُكَاتَب في وطء الجارية وتَسَرِّيَها، فقد يبتنى ذلك على أن العَبْدَ؛ هل يَمْلِكُ بالتمليك؟ إن قلنا: لا، [لم] (¬1) يَحِلَّ له الوَطْءُ والتَّسَرِّي، وهو الأَصَحُّ. وإن قلنا: نعم؛ قيل: يَحِلُّ. وقيل: ينبني على الخِلاَفِ في تبرعاته بالإِذْنِ وعن ابن أبي هُرَيْرَةً طَريقَةٌ بالمنع؛ لضعف الملك. ولو (¬2) أَذِنَ السيد لِلْمُكَاتَب في التكفير (¬3) بالإطْعَام أو بالكُسْوَةِ، ففيه قولان يبنيان تَارَةً على أن العَبْدَ هل يَمْلِكُ بالتمليك؟ ومنهم من بناهما على أنه: هل يَتَبَرَّعُ بِإِذْنِ السيد؟ وإن أَذِنَ في الإعْتَاقِ، وصححنا إِعْتَاقَة بالإِذْنِ، وتَوَقَّفْنَا في الوَلاَءِ، فنتوقف في الإجزاء أيضاً، فإن عَجَزَ بَانَ أنه لم يُجْزِهِ، وعليه ان يُكَفِّرَ بالصوم، والظَّاهِرُ أنه لا يَجُوزُ تَكْفِيرُهُ بالإِعْتَاقِ. وعن القَفَّالِ: أنه إذا عُتِقَ بِإِذْنِ السَّيِّد؛ وجعلنا الوَلاَءَ للسيد، فينبغي أن يجزئ عن كَفَّارته إذا نَوَى. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوِ اشْتَرَى المُكَاتَبُ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى سَيِّدِهِ صَحَّ، فَإِنْ عَجَزَ رَجَعَ إِلَى السَّيِّدِ وَعُتِقَ عَلَيْهِ، وَالقِنُّ لَوْ قَبِلَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى سَيِّدِهِ وَقُلْنَا يَنْفُذُ قَبُولُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَنْفُذُ هَهُنَا إِنْ خِيفَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ فِي الحَالِ، وَإِنْ لَمْ يخَفْ بِأَنْ كَانَ كَسُوياً نَفَذَ وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ رَدُّهُ، وَهَلْ لَهُ رَدُّ غَيْرِهِ ممَّنْ يَقْبَلهُ عَبدُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَهُ رَدُّهُ فَيَنْدَفِعُ المِلْكُ مِنَ الأَصْلِ أَوْ يَنْقَطِعُ مِنْ حِينِهِ فِيهِ وَجْهَانِ: قَالَ الرَّافِعِيُّ: إذا اشترى المُكَاتَبُ من يُعْتَقُ على سيده، كأبيه وابنه، أو اتَّهَبَهُ، أو أوْصَى له به فَقَبِلَ، صَحَّ، وكان المِلْكُ فيه لِلمُكَاتَب، فإن رُقَّ المُكَاتَبُ صار القَرِيبُ للسيد، وعتقَ عليه. ولم يقولوا: إنه يمنع من صَرْفِ المال إلى غَرَضِ مَنْ عَسَاهُ يَعْتِقُه على السيد، ولا ¬
نَظَرُوا إلى لُزُوم النَّفَقَةِ إذا عتق عليه [وإنما اعتبروا الحال] (¬1) ولو اشترى بعض من يعتق على سيده (¬2) أوَ اتَّهَبَهُ، أو قَبِلَ الوَصيَّةَ به [صح أيضاً، وعاد الأعتق على السيد] (¬3) وهل يَسْرِي إلى الباقي؟ إذا كان السيد مُوسِراً؛ ينظر، إن عَجَزَ المُكَاتَبُ من غير اخْتِيَارِ السيد، فلا يَسْرِي كما لو وَرِثَ بعْضَ قريبه، وإن عَجَّزَة السَّيِّدُ، فوجهان (¬4): أحدهما: يَسْرِي؛ لأنه ملك باختيار التَّعْجِيزِ، فصار كما لو مَلِكَ بالشِّرَاءِ. والثاني: المَنْعُ؛ لأن قَصْدَهُ فَسْخُ الكِتَابَةِ، ودخوله في مِلْكِهِ ضِمْنِيٌّ قَهْرِيُّ. ولو اتَّهَبَ العَبْدُ القِنُّ مَنْ يعتق على سَيِّدِهِ بغير إِذْنِهِ، فيبنى على أن اتِّهَابَهُ بغير إِذْنِ السَّيِّدِ؛ هل يَنْفُذُ؟ وفيه خلاف قد سَبَقَ إن قلنا: لا، فلا كَلاَمَ. وإن قلنا: نعم؛ وهو الأَظْهَرُ -فإن خِيفَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ في الحال، بأن اتَّهَبَ أَبَاهُ الزَّمَنَ، والسَّيِّدُ مُوسِرٌ، لم يَنْفُذ قَبُولُهُ؛ لأن فيه إِضْرَاراً بالسيد، كان لم تجب النَّفَقَةُ في الحال، لكون (¬5) القريب كَسُوباً، أو لكون السَّيِّدِ فَقِيراً، نفذ القَبولُ، وعُتِقَ المَوْهُوبُ على السيد. ولو اتَّهَبَ بعض من يعتق على السيد بغير إِذْنِهِ، وصححنا اتِّهَابَهُ بغير إِذْنِ السيد ولم يَتَعلَّقْ به لُزُومُ النَّفَقَةِ ففي صِحَّةِ القَبُولِ قولان: أحدهما: لا يصح؛ لأنه يعتق عليه ذلك البَعْض، ويَسْرِي، وفي التَّقْوِيمِ على السيد إِضْرَارٌ به. وأظهرهما: أنه يَصِحُّ؛ ولا يَسْرِي لحصول المِلْكِ بغير اخْتِيَارِهِ، كما لو ورث. قال الشيخ أبو عَلِيٍّ: وخَرَّجَ ابن سُرَيْجٍ على هذين القَوْلَيْنِ ما إذا اشترى المَرِيضُ أَبَاهُ بألْفٍ، وهو لا يملك غَيْرَ الألف، وعليه دَيْنٌ مستغرق، ففي قول: لا يصح الشِّرَاءُ؛ لأنهَ لو صَحَّ لعتق فتلف حق الغُرَمَاءِ. ¬
والثاني: لا يصح ولا يعتق، ويُبَاعُ في دُيُونِهِمْ. وفي "الوسيط" وَجْهٌ آخر: أنه يصح، ويُعْتَقُ، وَيَسْرِي، ويجعل اختيار العَبْدِ كاختياره، كما جُعِلَ قَبُولُهُ كَقبُولِهِ. ولم أجد هذا الوجه في "النهاية" (¬1)، ثم ذكرها هنا فَرْعاً في اتِّهَابِ العَبْدِ، بغير إِذْنِ السيد لا يختص بما نحن فيه، وهو أَنَّا إذا صَحَّحْنَاهُ فيدخل المَوْهُوبُ في مِلْكِ السيد قَهْراً، كما يدخل ما احْتَطَبَهُ واصْطَادَهُ. وهل للسيد الرَّدُّ بعد قَبُولِ العَبْدِ؟ فيه وجهان، ذكرهما صاحب "التلخيص": أحدهما: نعم؛ لأن تَمْلِيكَ العَاقِلِ البالغ قَهْراً بَعِيدٌ. وأقيسهما: المنع؛ كما في المِلْكِ الحَاصِلِ بالاحْتِطَابِ. فإن قلنا بالأَوَّلِ، فينقطع مِلْكُهُ من وَقْتِ الرَّدِّ، أو يَتَبَيَّنُ أنه لم يدخل في ملكه. ذكر صاحب "التلخيص" فيه وجْهَيْنِ أيضاً، ويظهر أثرهما فيما إذا كان الموهوب عَبْداً، ووقع هِلاَلُ شَوَّالٍ بين قَبُولِ العَبْدِ، وَرَدِّ السيد في زَكَاةِ الفِطْرِ. وقوله في الكتاب: "ولم يكن للسيد رَدُّهُ"، يعني أن القَرِيبَ يُعْتَقُ إذا نفذ القبول، ولم يكن للسيد رَدُّ الهِبَةِ، ولا دَفْعُ العِتْقِ. وهذا لا ذِكْرَ له في "الوسيط" ولا غيره. ولك أن تُخَرِّجَهُ على الوَجْهَيْنِ الآخرين عن صاحب "التلخيص". وقوله: وهل له رد (¬2) غيره ممن يَقْبَلُهُ عَبْدُهُ؟ لو قال: "مما يقبله عبده" لكان أَحْسَنَ. فرعان لابن الحَدَّادِ: [أحدهما] (¬3): إذا وهب من المُكَاتَبِ بَعْضَ أبيه، أوابنه، وقبله وصححنا القبول على مَا مَرَّ التفصيل فيه؛ فإذا عُتِقَ المُكَاتَبُ، عُتِقَ عليه ذلك [الشِّقْصُ] (¬4). قال ابن الحَدَّادِ: وَيُقَوَّمُ عليه الباقي إن كان مُوسِراً. وعن القَفَّالِ: أنه لا يُقَوَمُ؛ لأنه لم يَسْرِ في الابتداء، فلا يَسْرِي بعده، كمعسر ¬
أعتق شِقْصاً له في عَبْدٍ لم يسر (¬1). قال الشيخ أبو عَلِيٍّ: والأَصَحُّ الأول. وذلك الشِّقْصُ أيضاً لم يعتق في الابتداء، وإنما عُتِقَ عند عِتْقِ المُكَاتَبِ، فليست السِّرَايَةُ مُتَأَخِّرَةَ عن العِتْقِ. والثاني: اشترى المُكَاتَبُ ابْنَ سَيِّدِهِ، ثم باعه بأبي السَّيِّدِ، يصح، ويصير الأب مِلْكاً، فإن رُقَّ المُكَاتَبُ صار الأبُ مِلْكاً للسيد وعُتِقَ عليه، فإن وجد به عَيْباً بعد ذلك، فلا سَبيلَ إلى الرَّدِّ، ولكن له الأَرْشُ والأَرْشُ جُزْءٌ من الثَّمَنِ، فإن نَقَصَ العَيْبُ عُشْرَ قيمة الَأب، فيرجع إلى عُشْرِ الابن الذي هو الثَّمَنُ، وإذا ملك عشر الابن، عُتِقَ عليه وهل يُقوَّمُ عليه الباقي؟ قال الشيخ أبو عَلِيٍّ: إن عَجَّزَ المُكَاتَبُ نَفْسَهُ بلا اختيار للسيد لا يُقَوَّمُ عليه الباقي، وإن عَجَّزَهُ بِنَفْسِهِ؛ ففيه وجهان، قد سبق نظيرهما قال: والأظهر: المَنْعُ. وزاد الإِمام، فقال: القِسْطُ من الابن -الذي هو الأَرْشُ- يَنْقَلبُ إليه قَهْراً، أم لا يرجع إلاَّ باختياره؟ فيه وجهان: فإن قلنا بالأَوَّلِ، ففي تَقْوِيمِ الباقي عليه الوَجْهَانِ. فإن قلنا بالثاني؛ فالظَّاهِرُ السِّرَايَةُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوِ اسْتَوْلَدَ المُكَاتَبَ جَارِيتَهُ فَوَلَدُهُ مُكَاتَبٌ عَلَيْهِ أَيْ يُعْتَقُ بِعِتْقِهِ وَيُرَقُّ بِرِقِّهِ، وَهَلْ تَصِيرُ أُمُّ الوَلَدِ مُسْتَوْلَدَتَهُ إِذَا عُتِقَ فِيهِ قَوْلاَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: عرفت أن المكاتب لا يَطَأُ جَارِيَتَهُ بغير إِذْنِ سَيِّدِهِ، وكذا بِإِذْنِهِ على الأظهر، فلو خالف وَوَطِئَ، فلا حَدَّ عليه للشُّبْهَةِ، ولا مَهْرَ؛ لأن مَهْرَ جَارِيتِهِ لو ثَبَتَ لثبت له، فإن أَوْلَدَهَا، فَالوَلَدُ نَسِيبٌ بشُبْهَةِ المِلْكِ. ثم لا يخلو إما أن يأتي بالوَلَدِ، وهو مُكَاتبٌ [بعد] (¬2)، فيكون مِلْكاً له؛ لَأنه وَلَدُ جاريته، لكن لا يملك بَيْعَهُ؛ لأنه وَلَدُهُ، ولا يعتق عليه؛ لأن مِلْكَهُ ليس بتام، بل يَتَوَقَّفُ عِتْقُهُ على عِتْقِهِ؛ إن عُتِقَ عُتِقَ، وإلاَّ رُقَّ، وصار للسيد وهذا معنى قولهم: "إن ولده يتكاتب عليه". وهل تصير الجَارِيَةُ مُسْتَوْلَدَةً له؟ منهم من يَقُولُ: لا تَصِيرُ مُسْتَوْلَدَةً في الحال، فإن عُتِقَ، ففيه قولان. ومنهم من يطلق القولين في ثُبُوتِ حُرْمَةِ الاسْتِبْدَادِ في الحال. ¬
الحكم الرابع: حكم الولد
أحدهما: الثبوت؛ ويُحْكَى هذا عن أبي حَنِيفَةَ وأحمد، واختيار المُزَنيِّ؛ لأنه ثبت للولد حَقُّ الحرية، حيث يُكَاتب عليه، وامْتَنَعَ بَيْعُهُ، فثبت لها حُرْمَةُ الاستيلاد. وأصحهما: المَنْعُ؛ لأنها علقت [بمملوك، فأشبهت] (¬1) الأَمَةَ المَوْطُوءَةَ بالنكاح، وحَقُّ الحُرِّيَّةِ للولد لم يثبت بالاسْتِيلاَدِ في المِلْكِ، وإنما يثبت لصيرورته (¬2) مِلْكاً لأبيه، كما لو ملك وَلَدَهُ بِهِبَةٍ وغيرها. فإن قلنا: ثبت حُرْمَةُ الاسْتِيلاَدِ في الحال، فإن عُتِقَ المُكَاتَبُ استقر الاستيلاد، كان عجز رُقَّتْ مع الوَلَدِ للسَّيِّدِ، فإن عُتِقَ المكاتب بعد ذلك وملكها لم تَصِرْ مُسْتَوْلَدَةً [لأن بالعجز يتبين أنها علقت برقيق، وإنه لا اسْتِيلاَدَ، وإن قلنا: لا يثبت فإن عجز ثم عُتِقَ وملكها لم تَصِرْ مستَولَدَةً له] (¬3)، وإن عُتِقَ بأَدَاءِ النجوم، فكذلك على ظاهر المذهب. وعن أبي إسْحَاقَ تخريج قول مما إذا أَوْلَدَ الرَّاهِنُ الجَارِية المَرْهُونَةَ، وقلنا: لا تصير مُسْتَوْلَدَةً له، فبيعت، ثم ملكها، حيث نقول بِثُبُوتِ الاسْتِيلاَدِ على رَأْيٍ، لكن العُلُوقَ هناك بِحُرٍّ، وهاهنا بمملوك هذا إذا أتت بالوَلَدِ، وهو مُكَاتَبٌ. أما إذا أتت به بعد العِتْقِ؛ فإن كان لِمَا دون سِتَّةِ أَشْهُرٍ من وقت العِتْقِ، فكذلك الجَوَابُ؛ لأن العُلُوقَ وَقَعَ في الرِّقِّ. وإن كان لِسِتَّةِ أشهر، فصاعداً من يومئذ؛ فقد أَطْلَقَ الشَّافعي -رضي الله عنه- أنها تَصِيرُ مُسْتَوْلَدَةً له. واختلف الأَصْحَابُ؛ فقال قائلون: هذا إذا وَطِئَ بعد الحُرِّيَّةِ، وولدت لِسِتَّةِ أشهر، فصاعداً من يوم الوطء لظهور العُلُوقِ بعد الحرية، والولد والحالة هذه حر [لا ولاء] (¬4) عليه إلاَّ بالوَلاَءِ على أبيه، ولا ينظر إلى احْتِمَالِ العُلُوقِ في الرِّقِّ تغليباً للحرية. فأما إذا لم يَطَأْهَا بعد الحرية، فيكون الاسْتِيلاَدُ على الخِلاَفِ. وقال آخرون: يثبت الاسْتِيلاَدُ وَطِئَ بعد الحرية أو لم يَطَأْ؛ لأنها كانت فِرَاشاً قبل الحُرِّيَّةِ، وذلك الفِرَاشُ مُسْتَدَامٌ بعدها، وإمكان العُلُوقِ بعد الحرية قَائِمٌ فيكتفي به لِثُبُوتِ الاسْتِيلاَدِ. والأوَّلُ أَصَحُّ على مَا ذَكَرَهُ صاحب "التهذيب". والله أعلم. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الحُكْمُ الرَّابع: حُكْمُ الوَلَدِ: وَفِي سِرَايَةِ الكتَابَةِ مِنَ المُكَاتَبَةِ إِلَى وَلَدِهَا الَّتِي تَلِدُ بَعْدَ الكِتَابَةِ مِنْ زِناَ أَوْ نِكَاحٍ قَوْلاَنِ كَمَا فِي سِرَايَةِ التَّدْبِيرِ إلاَّ أَنَّ هَذَا يُعْتَقُ بِعِتْقِ الأُمِّ، وَوَلَدُ المُدَبِّرَةِ لاَ يُعْتَقُ بِعِتْقِهَا بَلْ بِمَوْتِ السَّيِّدِ، وَهَذَا يُعْتَقُ بِعِتْقِ الأُمِّ فِي دَوَامِ الكتَابَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَسْرِي فَحَقُّ المِلْكِ فِيهِ لِلسَّيِّدِ فِي قَوْلٍ فَكَأنَّهُ مُكَاتَبُهُ حَتَّى يُصْرَفَ إِلَيْهِ ¬
بَدَلُهُ إِذَا قُتِلَ، وَيَنْفُذُ إِعْتَاقُهُ، وَيُصْرَفُ إِلَيْهِ كَسْبُهُ مَهْمَا رُقَّ، وَيَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ، وَفِي قَوْلٍ هُوَ مِنْ كَسْبِ المُكَاتَبَةِ فَيَكُونُ كَسَائِرِ عَبِيدهَا، وَأمَّا وَلَدُ المُكَاتَبَ مِنْ جَارِيَتِهِ فَهُوَ كَسْبٌ لَهُ قَوْلاً وَاحِداً لاَ يَنْفُذُ فِيهِ إِعْتَاقُ السَّيِّد، وَلَكِنْ لَوْ جَنَى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْدِيَهُ؛ لِأَنَّ فِدَاءَهُ كَشِرَائِهِ فَإِنَّه لاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي وَلَدِهِ بَلْ يُكَاتَبُ عَلَيْهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: كِتَابَةُ الأَمَةِ صَحِيحَةٌ لكتابة العَبْدِ، وإذا كاتب أَمَةً لها ولد، فلا يخفى بَقَاءُ الولد على مِلْكِ السيد، فإن شَرَطَا أن يكون الوَلَدُ معها في عَقْدِ الكتابة، فالكتابة فَاسِدَةٌ، لكن إذا أدَّت، عُتِقَ الوَلَدُ أيضاً بموجب التعليق. وإن كان في يَدِهَا مَالٌ، وشَرَطَا أن يكون المَالُ لها، فقد حَكَى القَاضِي ابن كَجٍّ أن الشافعي -رضي الله عنه- نَصَّ على فَسَادِ الكتابة، وفَرَّقَ بين الولد والمَالِ، على أحد القولين؛ بأن المَالَ من جِنْسِ كَسْبِهَا، الذي يكون لها بالكِتَابَةِ، فجاز أن تَصِيرَ لها بالشَّرْطِ. ولك أن تقول: هذه صُورَةُ كِتَابَةِ الرقيق، والبيع منه بِعِوَضٍ واحد (¬1)، وقد سبق القَوْلُ فيه. وإن كانت حَامِلاً عند الكِتَابَةِ، وتَيقَّنَ ذلك بأن يَنْفَصِلَ لما دون سِتَّةِ أشهر من يوم الكتابة (¬2)؛ فقد ذكر أنا إذا قلنا: إن الحَمْلَ لا يعرف، فهو كالولد الحَادِثِ بعد الكتابة. وسنذكر حُكْمَهُ على الأَثرِ إن شاء الله تَعَالَى. وإن قلنا: يعرف، فحكاية القَاضِي ابْنِ كَجٍّ أن عند الكتابة يَصِيرُ كأنه توجه نحوها ونحوه، فإذا عُتِقَتْ عُتِقَ الوَلَدُ. ونقل صاحب "التهذيب": أنه لا تثبت الكِتَابَةُ للولد؛ لأن الصغير لا يكاتب، بخلاف مثله من التدبير، والصغير يُدَبَّرُ. ثم قال: من عِنْدِهِ وجب أن يثبت حُكْمُ الكتابة له، لا على سبيل السِّرَايَةِ، بل على وجه الاسْتِتْبَاعِ، كما يتبع الحَمْلُ الجَارَيةَ في البيع، وإن كان لا يقبل البيع وحده. هذا ما نقله ابْنُ كَجٍّ. وإن حدث الوَلَدُ بعد الكِتَابَةِ؛ فهذا الوَلَدُ إما أَن يَكُونَ من السَّيِّدِ، أو من غيره، إن كان من السَّيِّدِ، فالحكم كما سيأتي إن شاء الله -تعالى- في الفَرْعِ المذكور عَقِيبَ هذا الفَصْلِ. وإن كان من غيره، إما من زنا أو نِكَاحٍ، ففيه قولان؛ أحبهما إلى الشافعي -رضي الله عنه-، وهو المنصوص في "المختصر": أنه يثبت له حُكْمُ الكتابة حتى يُعْتَقَ [بعتق] الأم، إما بالأداء، أو الإِبْرَاءِ، أو الإِعْتَاقِ؛ لأن سبب الحُرِّيَّةِ كحقيقتها في اسْتِتْبَاعِ ¬
الأولاد؛ ألا ترى أن أَوْلاَدَ المُسْتَوْلَدَةِ يتبعونها، ولأن الولد كَسْبُهَا فيتوقف أَمْرُهُ على رقِّهَا وحريتها، كسائر أَكْسَابِهَا. والثاني: لا تثبت لأن الكتابة عَقْدٌ يقبل الفَسْخَ، فلا يثبت حُكْمُهُ في الوَلَدِ، كما أن ولد المَرْهُونَةِ لا يكون مَرْهُوناً، ويحكى هذا عن نَصِّهِ -رضي الله عنه- في بعض أَمَاليهِ. وعن أبي إِسْحَاقَ: أنه قطع بالقَوْلِ الأَوَّلِ، وقال: إذا اختاره الشَّافعي -رضي الله عنه- وجب أن يكون القَوْلُ الآخَرُ سَاقِطاً. وقوله في الكتاب: "ففي سِرَايَةِ الكتابة إليه قولان"، ليس المَقْصُودُ نصْبَ الخلاف في أنه: هل يَصِيرُ الوَلَدُ مُكَاتَباً؟ فقد نَصَّ الأَصْحَابُ على أنه لا يدخل في الكتابة، ولا يُطَالب بشيء من النجوم، وكيف ولم يُوْجَدْ منه قبول (¬1) ولا يَجْرِي معه عَقْدٌ؟ قالوا: ويخالف التَّدْبِيرُ، حيث يَسْرِي على أَحَدِ القولين؛ لأن التدبير يَتَعَلَّقُ بقول السيد، ولا يعتبر فيه رِضَا العَبْدِ، ولذلك إذا عجزت المُكَاتَبَةُ أو مَاتَتْ بَطَلَتِ الكِتَابَةُ، وكان الوَلَدُ رَقِيقاً للسَّيِّدِ، بلا خلاف. وفي التَّدْبِيرِ إذا ماتت المُدَبَّرَةُ قبل السيد، يبقى التدبير في الوَلَدِ، علىٍ أحد القولين، فإذن في اللفظ تَوَسُّعٌ، والمقصود أنه: هل يَتْبَعُهَا في العِتْقِ بِعِتْقِهَا، والرِّقِّ بِرقِّهَا، أم لا؟ ويوضحه ما ذكر في الكِتَاب أن وَلَدَ المُدَبَّرَةِ لا يُعْتَقُ بعتق الأم بالاستتباع (¬2) بل يعتق بما تعتق به الأم [وهو موتَ السَّيِّدِ بالسِّرَاية في التدبير، وولد المكاتبة بعتق الأُمِّ بالتبعية من غير أداء منه، ولا إبراء، ولا إعتاق. وقوله: "تعتق الأم في دوام الكتابة" يشير إلى أنه إنما يُعْتَقُ بِعِتقِ الأُمِّ] (¬3). إذا عتقت عن جِهَةِ الكتابة، حتى لو فُسِخَتِ الكتابة، ثم عتقت الأم، لا يُعْتَقُ الوَلَدُ. وفي لفظ الكتاب زِيَادَةٌ، فإنه قال: "إلاَّ أن هذا يُعْتَقُ بِعِتْقِ الأم". ثم قال آخراً: "وهذا يعتق بعتق الأم في دَوَامِ الكتابة". والثاني مُغْنٍ عن الأول. التفريع: إن قلنا: لا يَثْبُتُ للولد حُكْمُ الكتابة، فهو قِنٌّ للسيد، له بيعه، وإعتاقه عن الكَفَّارَةِ والوطء إن كان الوَلَدُ جَارِيَةً، ولا يعتق بعتق الأم. وإن قلنا: يَثْبُتُ، فَحَقُّ المِلْكِ فيه لمن هو؟ ¬
فيه قولان: أشبههما: عند الشافعي -رضي الله عنه-: أنه للسَّيِّدِ، كما أن حَقَّ المِلْكِ في الأم له، وكما أن حَقَّ المِلْكِ في وَلَدِ أم الولد للسيد. والثاني: وهو اختيار المزَنِيِّ-: إنه لِلمُكَاتَبَةِ؛ لأنه يتكاتب عليها، فيكون حَقُّ الملك فيه لها، كما أن حَقَّ المِلْكِ في المكاتب للسيد، ولأنه لو كان للسَّيِّدِ لما عتق بعتقها. ويَتَفرَّعُ على القولين صور: منها: إذا قُتِلَ الوَلَدُ، فعلى القول الأول تكون القِيمَةُ للسَّيِّدِ كقيمة الأم [لو قتلت] (¬1)، وعلى الثاني تكون لِلْمُكَاتَبَةِ تَسْتَعِينُ بها في أداء النجوم. وحكى الصَّيْدَلاَنِيُّ وَجْهاً: أنها تكون للسَّيِّدِ أيضاً؛ لأن القَتْلَ يقطع أَثَرَ الكِتَابَةِ، فيموت رَقِيقاً له. والأظهر: الأول. ومنها: كَسْبُ الولد، وأَرْشُ الجناية عليه فيما دون النَّفْسِ، ومهر الوطء بالشُّبْهَةِ إذا ولدت المُكَاتَبَة جَارِيَةً؛ ما حكمها؟ إن قلنا بالقول الأول؛ فقد قيل: إنها تُصْرَفُ إلى السيد، بلا تَوَقُّفٍ، كما تُصْرَفُ إليه القِيمَةُ إذا قيل على هذا القول. والصحيح: أنها تُوقَفُ، فإن عُتِقَتْ المُكَاتَبَةُ، وعُتِقَ الوَلَدُ، فهي له وإلاَّ فهي للسيد (¬2)، كما أن كَسْبَ الأم إذا عُتِقَتْ يكون لها، وإلاَّ فللسيد. وأيضاً؛ فإنا -وإن جعلنا حَقَّ المِلْكِ فيه للسيد- فليس له التَّصَرُّفُ فيه بالبيع وغيره، بل يتوقف إلى أن يتبين أمره في الحُرِّيَّةِ والرق، فليكن كَسْبُهُ كَنَفْسِهِ. ثم إن أَرَقَّتِ الأُمُّ نفسها مع القُدْرَةِ على أَدَاءِ النجوم؛ فقال الوَلَدُ: أُؤَدِّي نجوم أُمِّي من كَسْبِي لِتُعْتَقَ فأعتق. قال في "النهاية": لا يُمَكَّنُ منه؛ لأنه تَابعٌ لا اخْتيَارَ له في العِتْقِ. وإن عَجَزتْ وأَرَادَتْ أن تأخذ من كَسْبِ وَلَدِهَا المَوْقُوفِ، وتستعين به في أداء النجوم؛ فهل تجاب؟ فيه قولان: أحدهما: نعم؛ لأنها إذا رُقَّتَ رُقَّ الوَلَدُ، وأخذ السيد كَسْبَهُ، وإذا عُتِقَتْ عتق، ¬
وقد يَفْضُلُ شيء من الكَسْبِ، ففي إجابتها حَطٌّ للولد. وأصحهما: على ما ذكر الإِمَامُ: المَنْعُ؛ لأنه لا حَقَّ لها في كَسْبِهِ على هذا القول، فإن مات الوَلَدُ في دَوَام التَّوَقُّفِ، ارتفع الوَقْفُ، وصرف الموقوف إلى السَّيِّدِ على هذا القول. وإن قلنا بأن حَقَّ المِلْكِ فيه للأُمَّ؛ فالكسب والأَرْشُ والمَهْرُ لها تَسْتَعِينُ بهما في أَدَاءِ النُّجُومِ، وتصرف ما يحصل إليها يَوْماً بيوم، بلا تَوَقُّفٍ. ومنها: نَفَقةُ الوَلَدِ على (¬1) السيد، إن قلنا: يُصْرَفُ الكَسْبُ إليه في الحال وإن قلنا: يُوقَفُ فينفق عليه من كَسْبِهِ، ويعالج جرحه، ويكفي مؤناته فما فضل فهو الذي يُوقَفُ. فإن لم يَكُنْ له كَسْبٌ أو لم يف بالنَّفَقَةِ؛ ففيه وجهان: أصحهما: أنها على السَّيِّدِ؛ لأن حَقَّ الملك له. والثاني: ينفق عليه من بَيْتِ المال؛ لأن تَكْلِيفَهُ النَّفَقَةَ من غَيْرِ أن يصرف إليه الكَسْبُ في الحال إِجْحَافٌ به. وإن قلنا: إنه يصرف الكسب إلى الأُمِّ، فالنَّفَقَةُ عليها. ومنها: لو أَعْتَقَ السَّيِّدُ الوَلَدَ؛ فإن قلنا: حقُّ الملك له، وقلنا: إن الكَسْبَ يُصْرَفُ إليه في الحال، أو قلنا: يوقف، ومَنَعْنَاهَا من أَخْذِهِ لأداء النجوم، فَيَنْفُذُ إعْتَاقُهُ. كان جَوَّزنَا لها الاستِعَانَةَ بالموقوف؛ فوجهان: أظهرهما: أنه لا يَنْفُذُ؛ لئلا يقطع حقها من كَسْبِهِ. وإن قلنا: إن حَقَّ المِلْكِ في الولد للأم لم يَنْفُذْ إعْتَاقُهُ. وقوله في الكتاب: "وينفذ إعتاقه"؛ يجوز أن يُعَلَمَ بالواو؛ لما ذكرنا من الوجهين في نُفُوذِ العِتْقِ، إن جَوَّزْنَا لها الاسْتِعَانَةَ بالكَسْب الموقوف، مع التفريع على أن حَقَّ المِلْكِ فيه للسَّيِّدِ، بل إذا رُقَّ بِرِقِّ الأم (¬2)، فَكَسْبُهُ مَصْرُوفٌ للسيد، سواء قلنا: إن حَقَّ المِلْكِ فيه للسيد، أو للأم. وقوله: "أما ولد المكاتب من جَارَيتِهِ .... " إلى آخره، فاعلم أنه لما ذَكَرَ القَوْلَيْنِ في وَلَدِ المُكَاتَبَةِ، أراد أن يُبَيِّنَ أن وَلَدَ المُكَاتَبِ من جَارَيتِهِ يُفَارِقُ حُكْمُهُ حُكْمُ وَلَدِ المكاتبة، فَحَقُّ المِلْكِ فيه للمُكَاتَبِ، بلا خلاف، حتى يصرف كَسْبُهُ إلى المُكَاتَب، بلا خلاف، ولا يَنْفُذُ إعْتَاقُ السَّيِّدِ فيه، ونفقته على المُكَاتَبِ، وإنما كان كذلك؛ لأن هذا ¬
الوَلَدَ وَلَدَتْهُ أَمَتُهُ، وهي ملك له، وإذا وَلَدَتْ أَمَةُ المُكَاتَب من زِناً أو نِكَاحٍ، فهم عَبِيدُهُ، نَازِلونَ مَنْزِلَتَهُ، كسائر أَكْسَابِهِ، وهذا بِمَثَابَتِهِمْ، إلاَّ أنه لَا يَتْبَعُهُ، ويتكاتب عليه بِسَبَبِ القَرَابَةِ، فيعتق بِعِتْقِهِ، ويُرَقُّ بِرِقِّهِ. فإذا عتق المكاتب، وتَبِعَهُ هذا الوَلَدُ، وفي يده كَسْبٌ، فالكَسْبُ لِلمُكَاتَبِ لا للولد. ولو كان للولد تَوَقُّفٌ؛ فلو جَنَى هذا الوَلَدُ جِنَايَةً، وتَعَلَّقَ الأَرْشُ بِرَقَبَتِهِ، فقد حكى الإِمَامُ عن العِرَاقِيِّينَ -رحمهم الله- أنه إن كان له كَسْبٌ فله أن يَفْدِيَهُ من كَسْبِهِ، وإن لم يكن له كَسْبٌ، وأراد بَيْعَهُ، فله أن يبيع كُلَّهُ -وإن زاد على قَدْرِ الأرْشِ- ثم يَصْرِفُ قَدْرَ الأَرْشِ إلى المَجْنِيِّ عليه، وَيأْخُذُ الباقي. ثم غَلَّطَ مَنْ صَارَ إليه، وقال: الصحيح أنه لا يَفْدِي وَلَدَهُ -وإن كان يَفْدِيهِ من كَسْبهِ- لأن كَسْبَ الوَلَدِ كَسَائِرِ أَمْوَالِ المُكَاتَب، والفِدَاءُ كالشراء، فليس له صَرْفُ المال الذي يملك التَّصَرُّفَ فيه إلى غَرَضِ وَلَدِهِ، الذَي لا يملك التصرف فيه، فإنه بِمَثَابَةِ التَّبَرُّعِ. قال: والصحيح أنه إذا بَاعَ لا يبيع منه إلاَّ قَدْرَ الأَرْشِ، كما أن العَبْدَ المرْهُونَ إذا جَنَى يُبَاعُ منه بِقَدْرِ الجِنَايةِ، ولا يزاد. وَلْيُعَلمْ لما بَيَّنَّا قوله في الكتاب: "لم يكن له أن يَفْدِيَه"، بالواو، وقوله: "فإنه لا ينفذ تصرفه في ولده". هذا تَوْجِيهُ إِلْحَاقِ الفِدَاءِ بالشراء المعنى أنه لا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ في الوَلَدِ إذا فَدَاهُ، بل يتكاتب عليه كما لا ينفذ إذا اشْتَرَاهُ، وكما لا يَصْرِفُ المال الذي يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيه بالبيع ونحوه إلى شِرَاءِ الولد، لا يَصْرِفُهُ إلى فِدَائِهِ. وفي بعض النُّسَخِ: "ولا ينفذ تصرفه في مستولده" (¬1) وهو صحيح أيضاً؛ المعنى: أن ولده من جَارِيَتِهِ، كَسَائِرِ عَبِيدهِ وأَكْسَابهِ؛ إلاَّ أنه إذا جَنَى لمِ يكن له فداؤه، وإلاَّ إنه لا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فيه بالبيع ونحوه، بل يَتَكَاتَبُ عليه. وولد المُكاتَبَةِ من عَبْدِهَا يُشْبِهُ أن يكون كولد المكاتب من جَارِيَتِهِ، وأَوْلاَدُ بِنْتِ المُكَاتَبَةِ كأولادها. فرعان: أحدهما: إذا اختلف السَّيِّدُ والمُكاتَبَة في ولدها؛ فقال السيد: وَلَدَتهُ قبل الكتابة فهو رَقِيقٌ. وقالت: بعد الكِتَابَةِ. وقد يكاتب تَفْرِيعاً على القَوْلِ الأظهر، وكان كُلُّ واحد من الأمرين محتملاً، فإن أَقَامَ أحدهما بَيِّنةً قضى بها. قال في "التهذيب": وإذا أقام السيد أَرْبَع نِسوَةٍ على ما يقوله، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُنَّ؛ لأنها شَهَادَةٌ على الوِلاَدَةِ، والملك يثبت ضِمْناً. وإن أقام كُلُّ واحد منهما بَيِّنَةً على ما ¬
يقوله: فالصُّورَةُ من صور التَّقَاصِّ، وإن لم تكن بَيِّنَةٌ، فَيُصَدَّقْ بِيَمِينِهِ؛ لأنه اخْتِلافٌ في وقت الكتابة، فَيُصَدَّقُ فيه السيد، كالاختلاف في أَصْلِ الكتابة. ولأن الأصل جَوَازُ التَّصَرُّفِ فيما يحدث من مِلْكِهِ، وهي تدعي حُدُوثَ مانع منه. والثاني: زَوَّجَ أَمَتَهُ من عبده، ثم كاتب العَبْدَ، ثم باع منه زَوْجَتَهُ، وأتت بَوَلَدٍ، واختلف السَّيِّدُ والمُكَاتَبُ: فقال السيد: وَلَدَتْ قبل الكِتَابَةِ، فهو قِنٌّ لي. وقال المُكَاتَبُ: بل بعد الكِتَابَةِ والشراء. وقد تكاتب فيصدق المُكَاتَبُ بِيَمِينِهِ، بخلاف ما ذكرنا في الفَرْع السابق؛ لأن المُكَاتَبَ هناك يَدَّعِي مِلْكَ الوَلَد؛ لما مَرَّ أن ولد أَمَتِهِ ملكه، ويَدُهُ مُقَرَّةٌ عَلى هذا الوَلَدِ، واليد تَدُلُّ على المِلْكِ، فصار كما لو كان في يَدِهِ مَالٌ، وادَّعَاهُ السيد، والمُكاتَبَةُ هناك لا تَدَّعِي المِلْكَ، ولا تقر يدها على الوَلَدِ، وإنما تدعي تَوَقُّفَ أَمْرِهِ، وثُبُوتَ حكم الكتابة فيه، ولا دِلاَلَةَ لِلْيَدِ على ما يَدَّعِيهِ. آخر: حكى الصَّيْدَلاَنِيُّ أن الشافعي -رضي الله عنه- قال: لو أتَتْ بِوَلَدَيْنِ؛ أحدهما قبل الكتابة، والآخَرُ بعدها؛ فهما للسَّيِّدِ؛ لأنهما حَمْلٌ وَاحِدٌ، وكذا لو أَتَتْ بأحدهما من يَوْمِ ملْكِ الأُمِّ، لأقل من ستة أشهر، وبالآخر لأكثر فهما للسَّيِّدِ. كان الشيخ أبا زيد أَفْتَى بذلك. والصَّحِيحُ أن كَلاَمَ الشَّافعي -رضي الله عنه-[مُؤوَّلٌ]، وأن الحَمْلَ يتبع الأم في البيع؛ كيف كان، حتى لو وضعت وَلَداً، وفي بَطْنِهَا آخر فبيعت، فالولد الثاني مَبِيعٌ معها، وإن كان الأول للْبَائِعِ. هذا ما أوْرَدَهُ صاحب "التهذيب" (¬1). ¬
قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَرْعٌ: إذَا وَطِئَ السَّيِّدُ مُكَاتَبَتَهُ فَقَدْ تَعَدَّى وَلَكِنْ لاَ حَدَّ، وَيَجِبُ المَهْرُ (وم) وَقِيمَةُ الوَلَدِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّ وَلَدَهَا كَسْبُهَا، فَإِنْ وَلَدَتْ مِنْ بعْدِ العَجْزِ وَالرِّقِّ أَوْ بَعْدَ العتْقِ فَلاَ شَيْءَ لَهَا ثُمَّ هِيَ مُسْتوْلَدَةٌ وَمُكَاتَبَةٌ، فَإِنْ أَدَّتِ النُّجُومَ عُتِقتْ وَإلاَّ عُتِقَتْ بِمَوْتِ السَّيِّدِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: مَمْنُوعٌ من وطء مُكَاتَبَتِهِ لاختلال مِلْكِهِ فيها، ولو شرط في الكِتَابَةِ أن يَطَأَهَا، فَسَدَ العَقْدُ؛ خِلاَفاً لمالك، حيث قال: يَصِحُّ العَقْدُ وَيلْغُو الشَّرْطُ. ولأحمد حيث قال بِصِحَّتِهَا. ثم إن خَالَفَ ما ذكرناه وَوَطِئَ مُكَاتَبَتَهُ، فلا حَدَّ عليه، سواء كان عالماً بالتَّحْرِيمِ، أو جَاهِلاً؛ لأن له فيه مِلْكاً. وإن كان ضَعِيفاً؛ ألا تَرَى أنه يَنْفُذُ إِعْتَاقُهُ فيها، ويجيء قَوْلٌ قديم في وجوب الحَدِّ، ذكرناه في كتاب "حَدِّ الزِّنَا" وقد أشار إليه أبو الفَرَج السَّرَخْسِيُّ هاهنا، فيجوز أن يُعَلمَ قوله: "ولكن لا حد" بالواو ويُعَذَّرُ إنْ كان عَالِماً بالتَّحْرِيم. وكذلك المكاتبة. وفي كتاب القَاضِي ابْنِ كَجٍّ حِكَايَةُ وجْهٍ: أنه يُعَزَّرُ، وإِن كان عَالِماً للشُّبْهَةِ في المَحَلِّ، وحَقُّ هذا أن يَطَّرِدَ في نَظَائِرِهِ. ويجب المَهْرُ في صُورَتَي العِلْمِ والجهل، إن كانت هي مُكْرَهَة، كان طَاوَعَتْهُ. ففي وجه: لا يجب المَهرُ؛ لأنها هَدَرتْ نفسها بلا عِوَضٍ وعن "المنهاج": تَرْجِيحُ هذا الوجه. والصَّحِيحُ؛ وهو المَنْصُوصُ في "الأُمِّ" أنه يجب مع الطَّوَاعِيَةِ؛ لأن المُسْقِطَ لِلْحَدِّ شُبْهَةُ المِلْكِ، وهي تَقْتَضِي وُجُوبَ المَهْرِ، مع الطَّوَاعِيَةِ، كشبهة المِلْكِ. وعن مالك: أنه لا حَدَّ بِحَالٍ. لنا: أن مَنَافِعَ بُضْعِهَا لها؛ ألا ترى أنه لو وَطِئَهَا غيره بِشُبْهَةٍ، كان المَهْرُ لها، وإذا وجب المَهْرُ، فلها أَخْذُهُ في الحال، وإن حَلَّ عليها نجوم وهما من جِنْسٍ واحد، فعلى الخلاف في التَّقَاصَّ. وإن عَجَزَتْ قبل أَخْذِهِ سَقَطَ، كان عُتِقَتْ بأداء النجوم، فلها المُطَالَبَةُ به، ولو أن السَّيِّدَ أَوْلَدَهَا، فالولد حُرٌّ؛ لأنها علقت به في ملكه، وتصير هي مُسْتَوْلَدَةً له. وهل عليه قِيمَةُ الوَلَدِ؟ إن قلنا: إن وَلَدَ المُكَاتَبَةِ قِنٌّ لِلسَّيِّدِ، أو قلنا: يتكاتب [عليه] (¬1)، لكن حَقَّ المِلْكِ فيه للسيد، فلا شَيْءَ عليه، كما لو قتل ولد المكاتبة. وإن قلنا: الحَقُّ لها؛ فعليه القِيمَةُ، وتَسْتَعِينُ المُكَاتَبَةُ بها، فإن عَجَزَتْ قبل الأَخْذِ ¬
سقطت، وإن عُتِقَتْ أخذ بها. وإن وَلَدَتْ بعدما عَجَزتْ، ورُقَّتْ، فلا شَيْءَ لها، وكذا لو وَلَدَتْ بعدما عُتِقَتْ؛ لأن حين يقدر تقومه ليس بكَسْبِ مكاتبه. وقوله في الكتاب: "أو بعد العتق" في بعض النسخ: "أو (¬1) بعد موت السيد"؛ فإنها تعتق بِمَوْتِهِ من جهة أنها مُسْتَوْلَدَةٌ، ثم لا ترتفِع الكِتَابَةُ بِإيلاَدِهَا، بل هي مُسْتَوْلَدَةٌ ومُكَاتَبَةٌ. فإن عَجَزَتْ ثم مات السَّيِّدُ، عتقت عن الاسْتِيلاَدِ، والأولاد الحَادِثُونَ بعد الاسْتِيلاَدِ بالنِّكَاحِ أو الزِّنَا يَتْبَعُونَهَا، والحَاصِلُونَ قبل الاستيلاد أَرِقاءُ للسيد. فإن (¬2) مات السَّيِّدُ قبل عَجْزِهَا عُتِقَتْ. قال في "التهذيب": ويتبعها أكْسَابُهَا، ويُعْتَقُ عن الكتابة أو الاستيلاد فيه وجهان: أصحهما: عن الكتابة؛ كما لو أعتق السَّيِّدُ المُكَاتَبَ، أو أَبرْأَهُ عن النجوم وعلى هذا: فالأولاد الحَادِثُونَ بعد الكِتَابَةِ، وقبل الاسْتيِلاَدِ؛ هل يَتْبَعُونَهَا؟ فيه الخلاف السابق. والثاني: أنها تُعْتَقُ عن الاسْتِيلاَدِ؛ لأنه آكَدُ. وأجرى هذا الخلاف فيما إذا عَلَّقَ عِتْقَ المُكَاتَبِ بِصِفَةٍ، ووجدت [الصفة] (¬3) قبل أَدَاءِ النُّجُومِ، وفيما إذا تَقَدَّمَ الاسْتِيلاَدُ على الكتابة. قال في "التهذيب": وإذا اسْتَوْلَدَ، ثم كاتب، وأَدَّت النجوم، فالأَكْسَابُ الحَاصِلَةُ بعد الكتابة تَتْبَعُهَا، والحَاصِلَةُ قبل الكِتَابَةِ للسيد، والأولاد الحَاصِلُونَ بعد الاسْتيِلاَدِ يَتْبَعُونَهَا، وهذا مَبْنِيٌّ على أن كتابة المُسْتَوْلَدَةِ جائزة، وفيه خِلاَفٌ قد تَقَدَّمَ. " فرعان": أحدهما: ليس للسَّيِّدِ وَطْءُ أَمَةِ مُكَاتَبهِ، أو مكاتبته، فإن وَطِئَهَا فلا حَدَّ عليه؛ للشُّبْهَةِ؛ فإنه يملك سيدها، ويلزمه المَهْرُ للمكاتب أو المكاتبة، فإن أَكْسَابَهَا لِسَيِّدِهَا وَالمَهْرُ من أَكْسَابِهَا. وإن أَوْلَدَهَا فَالوَلَدَ حُرٌّ نَسِيبٌ، وتصير الأَمَةُ مُسْتَولَدَةً له. قال في "الشامل": ويجب عليه قِيمَتُهَا لِسَيِّدِهَا؛ لأنها ملكه، ولا يجب عليه قِيمَةُ الوَلَدِ؛ لأنها وَضَعَتْهُ في ملْكِهِ. ويجيء فيه الخِلاَفُ الذي (¬4) سبق. والثاني: للسيد وَطْءُ بِنْتِ المُكَاتَبَةِ، إن لم يثبت حُكْمُ الكتابة في ولد المُكَاتَبَةِ، ¬
وإن أَثْبَتْنَاهُ، فليس له وطؤها، ولكن لا حَدَّ عليه، والمَهْرُ يُبْنَى على الخلاف الذي سبق (¬1) في الكَسْبِ؛ إن قلنا: إنه يُصْرَفُ إلى السَّيِّدِ في الحال؛ فلا مَهْرَ عليه. وإن قلنا: إنه لِلأُمِّ فكذلك المَهْرُ، وإن قلنا بالتَّوَقُّفِ؛ فينفق منه عليها ويُوقَفُ البَاقِي، فإن عتقت بِعِتْقِ الأُمِّ، فهو لها؛ كان عَجَزَتْ، فهو للسَّيِّدِ. وإن أَوْلَدَهَا صارت مُسْتَوْلَدَةً، والولد حُرٌّ نَسِيبٌ، ولا يجب عليه قيمة المُسْتَوْلَدَةِ لأمها؛ لأن الأُمَّ لا تملكها، وإنما يَثْبُتُ لها حَقُّ العِتْقِ بِعِتْقِ الأم، وقد تَأَكَّدَ ذلك بِالاسْتِيلاَدِ. هكذا ذكر ابْنُ الصَّبَّاغِ، وقد سبق (¬2) في مِثْلِهَا قولان، في أنه: هل تجب القِيمَةُ للأُمِّ؟ فينبغي أن يكون هَاهُنَا كذلك. قال في "التهذيب": ويبقى حُكْمُ الكِتَابَةِ فيها حتى تعتق بعتق الأم، ويكون الكَسْبُ لها إذا (¬3) جعلنا حَقَّ العيْنِ فيها لِلأُمِّ. فإن مات السَّيِّدُ، عتقت البِنْتُ بِمَوْتِهِ، وتؤخذ القِيمَةُ من تَرِكَتِهِ للأم، إذا جعلنا الحَقَّ لها، كما في القَتْلِ، وقِيمَةُ الوَلَدِ على ما ذكرنا في وَلَدِ المكاتب وَيتَعلَّقُ بالفَصْلِ مسألة طويلة الذَّيْلِ، أفرد لها في "المختصر" باباً صالحاً، وهي: القَوْلُ في الأَمَةِ المُشْتَرَكَةِ، إذا كاتَبَهَا مَالِكَاهَا مَعاً، ثم وَطِئَهَا أَحَدُهُمَا، فحكم الحَدِّ، والتَّعْزِيرِ، وَلُزُومُ المَهْرِ على الوَاطِئِ، كما ذكرنا في المَالِكِ الواحد. ثم إن لم يحل عليها نَجْمٌ، فلها المَهْرُ في الحال، وإن حَلَّ فإن كان مَعَهَا مِثْلُ المَهْرِ فيدفعه إلى الَّذِي لم يطأ، وفي المَهْرِ، ونَصِيب الواطئ من النَّجْم الذي حَلَّ الخِلاَفُ في التَّقَاصِّ. وان لم يكن مَعَهَا شَيْءٌ آخر، فنصف النَّجْم لِلوَاطِئِ، مع المَهْرِ، على الخلاف في التَّقَاصَّ، والنِّصْفُ الآخر يُدْفَعُ إلى الذي لم يَطَأْ. وإن عُتِقَتِ المُكَاتَبَةُ قبل أخذ المَهْرِ، وصَيْرُورَيهِ قِصَاصاً، أَخَذَتْهُ. وإن عجزت بعد أَخْذِهِ، فإن بَقِيَ فهو للسَّيِّدِ، وإن تَلِفَ، فقد تَلِفَ في (¬4) ملكهما. وإن عَجَزَتْ قبل أَخْذِه؛ فإن كان في يَدِهَا بِقَدْرِ المَهْرِ، مال أخذه الذي لم يَطَأَهَا، وَبَرِئَتْ ذِمَّةُ الوَاطِئِ، وإن لم يَكُنْ معها شَيْءٌ، فللذي لم يَطَأْ أن يَأْخُذَ نِصْفَ المَهْرِ من الوَاطِئِ؛ لأنه وَطِئَ جَارَيةً مشتركة بينهما، فإن أَحْبَلَهَا نُظِرَ: إن ادَّعى الاسْتِبْرَاء، وحَلَفَ عَلَيْهِ، وأتَتْ بوَلَدٍ لِسِتَّةِ أشهر، فصاعداً من وقت الاسْتِبْرَاءِ لم يلْحَقْهُ، وهو كولد المكاتبة من الزوج، أَو الزِّنَا، وقد مَرَّ حُكْمُهُ. ¬
وإن لم يَدَّعِ الاستبراء وأَتَتْ بالوَلَد لما دُونَ سِتة أشهر، فالوَلَدُ مُلْحَقٌ به، ويَثْبُتُ الاسْتيِلاَدُ في نَصِيبِهِ من الأَمَةِ، مع بَقَاءِ الكِتَابَةِ فيه، ثم هو: إما مُعْسِرٌ أو مُوسِرٌ. إن كان مُعْسِراً، فلا يَسْرِي الاسْتِيلاَدُ إلى نَصِيب الشريك، وليس فيه إلاَّ الكِتَابَةُ به، فإن أَدَّت النجوم إليهما، عُتِقَتْ بالكِتَابَةِ، وبطَل حُكْمُ الاسْتيِلاَدِ، وإن عَجَزَتْ وفَسَخَا الكتابة، فنصفها قِنٌّ، والنِّصْفُ الآخر على حُكْم الاستيلاد. وإن مات الوَاطِئُ قبل الأدَاءِ والفسخ، عُتِقَ نِصْفُهَا، وبقيت الكِتَابَةُ في النِّصْفِ الآخَرِ، فإن مات بعد الفَسْخِ، عُتِقَ النِّصْفُ، والباقي قِنٌّ، وفي الولد وجهان: أحدهما: -وبه قال ابن أبي هُرَيْرَةَ-: أنه يَنْعَقِدُ كله حُرّاً، لِشُبْهَةِ المِلْكِ؛ لأن الرِّقِّ لا يَتَبَعَّضُ ابْتِدَاءً. والثاني: وبه قال أبو إسحاق-: نصفه حُرٌّ، ونصفه رَقِيقٌ؛ لأن أَحَدَ نِصْفَي الجَاريَةِ ليس له، ولو لم تكن كلها له لَكَانَ الوَلَدُ رَقِيقاً، فإذا لم يكن نِصْفُهَا له، كان بعضه (¬1) رَقِيقاً. وفي "التهذيب": أن هذا أَصَحُّ. وقد سبق للصورة نَظَائِرُ. فإن قلنا: إنه يَنْعَقِدُ كله حُرّاً، وفَرَّعنا على أن وَلَدَ المكاتبة قِنٌّ للسيد؛ فَعَلَى الوَاطِئِ نِصْفُ قِيمَةِ الوَلَدِ للشَّرِيكِ الآخر، ويسقط قِسْطُهُ منها. وإن قلنا: يثبت فيه حْكْمُ الكِتَابَةِ، وجعلنا الحَقَّ فيه لِلسَّيِّد، فكذلك الجَوَابُ، وإن جعلنا الحَقَّ لِلْمُكَاتَبَةِ، فعليه جميع قِيمَةِ الوَلَدِ [لها] (¬2) تستعين بها في أَدَاءِ النُّجُومِ. فإن عتقت قبل [أخذها] (¬3) أخذتها، وإن عَجَزَتْ قبل الأخْذِ، أَخَذَ الشريك الآخر نِصْفَهَا، وسقط النِّصْفُ. وإن قلنا: يَنْعَقِدُ نِصْفُهُ حُرّاً، ونصفه رَقِيقاً؛ فإن جَعَلْنَا وَلَدَ المُكَاتَبَةِ قِنّاً للسيد، فالنصف الرَّقِيقُ للشريك، ولا يَجِبُ شَيْءٌ من قِيمَةِ الولد على الوَاطِئِ. وإن أثبتنا حُكْمَ الكِتَابَةِ في وَلَدِ المْكَاتَبَةِ؛ فالنِّصْفُ الرَّقِيقُ يتكاتب عليها؛ إن عُتِقَتْ عُتِقَ، وإلاَّ رُقَّ للشريك الآخر. وقيمة النصف الحُرِّ؛ هل تجب على الوَاطِئِ؟ يُبْنَى على أن الحَقَّ في وَلَدِ المكاتبة للسيد [أَوْ لَهَا] (¬4). إن قلنا بالأول لم يجبْ، وإلاَّ وَجَبَ، ثم إن عُتِقَتْ، عُتِقَ الولد، وسُلِّمَ لها نِصْفُ القيمة، فتأخذه إن لم تكن أَخَذَتْ. وإن عَجَزَتْ سَقَطَ عنه، فإن كان قد وَقَعَ اسْتَردَّهُ إن كان باقياً فإن كان مُوسِراً سَرَى ¬
الاسْتِيلاَدُ إلى نَصِيبِ الشَّرِيك، وكان الولد كله حُرّاً، ومتى يَسْرِي؟ فيه طريقان: قال الأكثرون: فيه قَوْلاَنِ، كما لو أَعْتَقَ أَحَدُ الشريكين نَصِيبَهُ من المكاتب؛ ففي أَحَدِ القولين: يَسْرِي في الحال. وفي الثَّانِي: عند العَجْزِ، وعن أبي عَلِيٍّ بن أبي هُرَيْرَةَ وغيره: القَطْعُ بأنه يَسْرِي عند العَجْزِ، والفَرْقُ أن السِّرَايَةَ في الحال تَتَضَمَّنُ نَقْلَ المِلْكِ في المُكَاتَبِ، وفسخ الكتابة. وإنما احتملنا (¬1) ذلك لِحُصُولِ العِتْقِ النَّاجِزِ، والاسْتِيلاَدُ [ولا ينجز العِتْقَ، فلا يحتمل رَفْعَ الكتابة به، ومن نَصَرَ القَوْلَ الأول قال: كما أن الإعْتَاقَ النَّاجِزَ أَقْوَى من الكتابة، فالاسْتِيلاَد] (¬2) أقوى وأَثْبَتُ فيها، فجاز أن يوقع به. فإن قلنا بالسِّرَايَةِ في الحال، فَتَنْفَسِخ الكِتَابَةُ في نَصِيبِ الشَّرِيكِ، ويبقى في نَصِيب الوَاطِئِ، ويثبت الاسْتِيلاَدُ في جميع الجَارِيَةِ، فعلى الواطئ للشريك نِصْفُ مَهْرِهَا، ونِصْفُ قيمتها. وأما نِصْفُ قِيمَةِ الوَلَدِ؛ فقد قال الإِمَامُ: هو كما لو اسْتَوْلَدَ أحد الشريكين الجَارِيَةَ القِنَّةَ، وانْعَقَدَ الوَلَدُ حُرّاً، وفي وجوب قِيمَتِهِ قولان؛ بنَاء على أن العَلُوقَ على الحُرِّيَّةِ، وانْتِقَال الملك؛ هل يَفْتَرِقَانِ أم لا؟ وفي "التهذيب": أنا إن قلنا: إن السِّرَايَة تَحْصُلُ بنفس العَلُوقِ، فلا يجب. وإن قلنا: يَحْصُلُ بِأدَاءِ القِيمَةِ، فيجب، لِتَقَدُّمِ العَلُوقِ على المِلْكِ، وعلى الوَاطِئِ أيضاً نِصْفُ المَهْرِ للمكاتبة؛ لِبَقَاءِ الكِتَابَةِ في نصيبه. وهل يَجِبُ نِصْفُ قيمة الوَلَدِ؟ يُبْنَى على أن المِلْكَ في وَلَدِ المُكَاتَبَةِ لمن هو؟ ولو أدَّتْ نصيب الوَاطِئِ من مَالِ الكِتَابَةِ، عتق نصيبه، وسَرَى إلى الباقي. وإن عَجَزَتْ وفَسَخَ الكِتَابَةَ، بقيت مُسْتَوْلَدَةً مُحْصَنَةً. وإن قلنا بالسِّرَايَةِ عند العَجْزِ؛ فإن أَدَّتِ النُّجُومَ، عُتِقَتْ عن الكتابة، وَوَلاَؤُهَا بينهما، ويبطل حُكْمُ الاستِيلاَدِ، ولها المَهْرُ على الوَاطِئِ فتأخذه إن لم تأخذه ويجب نصف قيمة الولد لِلشَّرِيكِ. إن قلنا: وَلَدُ المُكَاتَبَةِ قِنٌّ للسيد، أو قلنا: يثبت فيه حُكْمُ الكتابة، وحَقُّ المِلْكِ فيه للسيد. وإن قلنا: الحَقُّ فيه لِلمُكَاتَبَةِ؛ فيجب جَمِيعُ القِيمَةِ لها. وإن لم تُؤَدِّ النُّجُومَ وعَجَزَتْ؛ فعلى الوَاطِئِ للشريك نِصْفُ مَهْرِهَا، ونصف ¬
قيمتها، ونِصْفُ قيمة الولد. هذا تَمَامُ الكَلاَمِ فيما إذا وَطِءَ أَحَدُ الشريكين. وإن وَطِئَاهَا جميعاً، نُظِرَ: إن لم يَحْصُلْ عَلُوقٌ، فحكم الحَدِّ والتَّعْزِيرِ كما سبق، ويجب على كُلِّ وَاحِدٍ منهما مَهْرٌ كَامِلٌ. وإذا عَجَزَت وَرُقَّتْ بعد قَبْضِ [المهرين] (¬1) لم يُطَالِبْ أَحَدُهُمَا الآخَرَ بشيء، وَيَقْتَسِمَانِ المَهْرَيْنِ إن كانا بَاقِيَيْنِ. وإن عَجَزَتْ قبل قَبْضِهِمَا سَقَطَ عن كُلِّ واحد منهما نِصْفُ ما لَزِمَهُ، وَيجِيءُ في النصْفِ الآخر التَّقَاصُّ. وقد يكون أَحَدُ المَهْرَيْنِ أكَثَرَ من الآخر؛ إما لكونها بِكراً عند وَطْءِ أحدهما، ثَيِّباً عند وَطْءِ الآخَرِ، أو لاختلاف حالها (¬2) في الصِّحَّةِ والمرض، وغيرهما من الأَحْوَالِ؛ فيأخذ مُسْتَحِقُّ الفَضْلِ الفَضْلَ. وإن أَفْضَاهَا أحدهما، فعليه نِصْفُ القِيمَةِ للشريك، كان افْتَضَّهَا فعليه نصف أرش الافْتِضَاضِ مع المَهْرِ. كان ادَّعى كُلُّ واحد منهما على الآخَرِ أنه الذي أَفْضَى، أو افْتَضَّ، حلف كُلُّ واحد منهما للآخر، فإن حَلَفَا فَذَاكَ. وإن حَلَفَ أحدهما، دون الآخر، قُضِيَ للحالف، وإن حَصَلَ عُلُوقٌ، فينظر: أَأَتَتْ بِوَلَدٍ واحد، أو أَتَتْ بِوَلَدٍ من كل واحد منهما. الحالة الأولى: إذا أَتَتْ [بولد] (¬3) واحد؛ فينظر: إن ادَّعَيَا الاسْتِبْرَاءَ وحَلَفَا عليه، لم يُلْحَقْ بواحد منهما، وهر كَوَلَدِ تَأْتِي به المُكَاتَبَةُ من زَوْجٍ أو زِناً. وإن لم يَدَّعِيَا الاسْتِبْرَاءَ؛ فإما ألا يمكن أن يَكُونَ من [كل] (¬4) واحد منهما، وإما أن يمكن أن يَكُونَ من الأَوَّل؛ دون الثاني. وأما أن يكون بالعَكْسِ، واما أن يكون من كُلِّ وَاحِدٍ منهما. فهذه أربعة أقسام: الأول: إذا لم يُمْكِنْ أن يكون مِنْ وَاحِدٍ منهما؛ بأن وَلَدَتْهُ لأكثر من أربع سنين من وطء الأول، ولما دُونَ ستة أشهر من وَطْء الثاني، أو لأكثر من أَرْبَعِ سنين من وطء آخِرِهِمَا وَطْئاً، فهو كما لَوِ ادَّعَيَا الاسْتِبْرَاءَ. ¬
وحكم المَهْرِ في الحَالَتَيْنِ كما إذا لم يكن عَلُوقٌ. والثاني: إذا أَمْكَنَ أن يكون من الأَوَّلِ دُونَ الثاني؛ بان وَلَدَتْهُ لما بَيْنَ أَقَلّ من مُدَّةِ الحَمْلِ، وأكثرها من وطئ الأول، ولما دون أقل مُدَّةِ العمل من وطء الثاني؛ فالوَلَدُ مُلْحَقٌ بالأول، ويثبت الاسْتِيلاَدُ في نَصِيبِهِ. ثم هو: إما مُعْسِرٌ فلا سِرَايَةَ وتبقى الكتَابة في جميعها. وإن أدَّتِ النجوم، وعُتِقَتْ، فلها على كُلِّ واحد منهما كَمَالُ المَهْرِ، وإن رُقَّتْ، فنصفها قِنٌّ للثاني، ونَصِيبُ الأول يَبْقَى على حُكْم الاستِيلاَدِ، ولكل واحد منهما على الآخر نِصْفُ المهر وهو من صُوَرِ التَّقَاصِّ والخلاف فيه، [وأما الوَلَدُ فكله حُرٌّ، أو يَتَبَعَّضُ فيه الرَّقُّ والحرية؟ فيه الخلاف الذي سبق] (¬1) وإما مُوسِرٌ؛ فالولد حُرٌّ كله، وسَرَى الاسْتِيلاَدُ من نَصِيبهِ إلى نصيب الشريك، ويعود الخِلاَفُ في أنه يَسْرِي في الحال، أو عند العجز؟ فإن قلنا: يَسْرِي في الحال؛ انْفَسَخَتِ الكِتَابَةُ في نصيب الثاني، وتبقى في نصيب الأول. وإن قلنا: عند العَجْزِ؛ فإذا عَجَزَتْ وَرُقَّت، ارتفعت الكتابة، وهي مُسْتَوْلَدَةٌ له على القولين. والحكم فيما إذا أَدَّت النجوم، وعُتِقَتْ على ما سبق فيما إذا وَطِئَهَا أحدهما، وأَوْلَدَهَا، وكذا الحُكْمُ لو عُتِقَتْ بالموت، وما ذكرنا أنه يجب للشريك الآخر على الذي أَوْلَدَهَا من المَهْرِ، وقيمة الجارية، وقيمة الولد تجب هاهنا للثاني على الأول. وَوَطْء الثاني إن كان بعدما حَكَمْنَا بِمَصِيرِ جميعها، أم ولد للأول يوجب جميع المهر؛ فإن [بقيت] (¬2) الكتابة في نَصِيبِ الأول، فهو بينه وبين المكَاتَبَةِ، وإن ارْتَفَعَتْ في نصيبه أيضاً، فجميعه له وإن كان قبل الحكم بِمَصِيرِ جميعها، أم ولد له لم يَلْزَمْهُ إلاَّ نِصْفُ المهر؛ لأن السِّرَايَةَ إذا حَصَلَتْ أخيراً، انْفَسَخَتِ الكِتَابَةُ، وعاد نِصْفُهُ رَقِيقاً، فتكون الأَكْسَابُ له، والمَهْرُ من الأَكْسَاب، تم ذلك النِّصْفُ للمُكَاتَبَةِ، إن بقيت الكِتَابَةُ في نَصِيبِ الأول، وإلاَّ فهو للأول. هكذا ضَبَطَ القول فيما يَجِبُ على الثاني جَمَاعَةٌ؛ منهم صاحب "الشامل". واعلم أن وَطْءَ الثاني إذا وقع بَعْدَ الحكمِ بِمَصِيرِ جميعها، أم ولد للأول، فقد وقع بعد ارْتِفَاعِ شُبْهَةِ الملْكِ، وانقطاع عُلْقَتِهِ عنها، وحينئذ فيكون زِناً، والذي أُطْلِقَ من ¬
وجوب جَمِيعِ المَهْرِ مُصَوَّرٌ فيما إذا فرضت شُبْهَةٌ أخرى. وأطلق في "المختصر" قولين في أنه يَجِبُ على الثاني بِوَطْئِهِ جَمِيعُ المهر، أو نصفه، وبنى ذلك على أن السِّرَايَةَ تَتَعَجَّلُ، أو تتَوَقَّفُ على أداء القيمة. إن قلنا: تَتَعَجَّلُ؛ فعليه جَمِيعُ المَهْرِ؛ لأنه وَطِئَهَا وَالمِلْكُ خَالصٌ للأول. وإن قلنا: تتوقف على أَدَاءِ القِيمَة؛ فعليه النِّصْفُ؛ لأن الجَارَيةَ مشتركة بعد. وعن أبي إِسْحَاقَ: أن الصَّحِيحَ وُجُوبُ الجميع، وأنه اختيار المُزَنِيِّ والشافعي -رضي الله عنهما-. والقسم الثالث: إذا أَمْكَنَ أن يكون من الأَوَّلِ دون الثاني، بأن وَلَدَتْهُ لأكثر من أربع سنين من وطء الأول، ولما بَيْنَ أربع سنين وستة أشهر من وطء الثاني؛ فَالْوَلَدُ مُلْحَقٌ بالثاني، وَيثْبُتُ الاسْتِيلاَدُ في نَصِيبِهِ، ولا سِرَايَةَ إن كان مُعْسِراً. وفي تَبْعِيضِ الحُرِّيَّةِ في الولد الخِلاَفُ السابق. وإن كان مُوسِراً سَرَى الاسْتِيلاَدُ، إما في الحال، أو عند العَجْزِ على ما سبق، ويجب على الثَّانِي في هذا القِسْمِ ما ذكرنا أنه يجب على الأَوَّلِ في القسم الثاني. وأما الأول: ففي "التهذيب": أنه إن كان الثاني مُعْسِراً، فعلى الأول كَمَالُ المَهْرِ للمكاتبة تستعين به في أَدَاءِ النجوم. وإن كان مُوسِراً؛ فإن قلنا: السراية تَحْصُلُ بعد العَجْزِ، فكذلك الجواب وإن قلنا: تَحْصُلُ في الحَالِ، فَتَنْفَسِخُ الكِتَابَةُ في نصيب الأَوَّل، ولا يجب إلاَّ نِصْفُ المَهْرِ لها تَسْتَعِينُ به في أَدَاءِ نصيب الشريك من النجوم وأَطْلَقَ العِرَاقيُّونَ والرُّوَيَانِيُّ وغيرهم -رحمهم الله- أنه لا يَجِبُ على الأول عند يسار الثاني إلاَّ نِصْفُ المهر. والقسم الرابع: إذا أمْكَنَ أن يَكُونَ الوَلَدُ من كُلِّ واحد منهما، بأن وَلَدَتْهُ لما بين ستة أشهر وأربع سنين من وَطْءِ كل واحد منهما، وادَّعَيَا الوَلَدَ، أو ادَّعَاهُ أحدهما، فيعرض على [القائف] (¬1)؛ فمن أَلْحَقَهُ به منهما كان الحُكْمُ كما لو تَعَيَّنَ اللُّحُوقُ به، وإن تَعَدَّرَتِ الاستفادة من القَائِفِ، فيعتمد انْتِسَابه بعد البُلُوغ، ويكون الحكم على ما بَيَّنَّاهُ. قال الإِمام: ولو فرض ذلك من الأَمَةِ القِنَّةِ، وعرض الولد على القَائِفِ، فَأَلْحَقَهُ بأحدهما، يلحقه الولد يثبت (¬2) الاسْتِيلاَدُ في نصيبه، ولا يَسْرِي إن كان مُعْسِراً، لكن يَثْبُتُ الاسْتِيلاَدُ في نَصِيبِ الآخر أيضاً بإِقْرَارِهِ أنها مُسْتَوْلَدَتُهُ. ¬
وإن كان مُوسِراً سَرَى، ولا يلزمه للشريك قِيمَةُ نَصِيبِهِ؛ لأنه يَدَّعِي أن الجَارِيَةَ مُسْتَوْلَدَتُهُ، فَيُؤَاخَذُ بموجَبِ إِقْرَارِهِ. فإذا لم يجد القَائِفُ، والمُتَدَاعِيَانِ مُوسِرَانِ، فيحكم بأن الجَارِيةَ مُسْتَوْلَدَةَ بينهما؛ نِصْفُهَا لهذا، ونِصْفُهَا لهذا، إذ ليس أحدهما بِأوْلَى من السِّرَايَةِ للآخر. ولو أقر بالوَطْءِ وسَكَتَا عن دَعْوَى الوَلَدِ، وألْحَقَهُ القَائِفُ بأحدهما، ثَبَتَ الاسْتِيلاَدُ في نصيبه، وسَرَى، وعليه أن يَغْرَمَ للشريك؛ لأنه لم يُوجَدْ هاهنا إِقْرَارٌ ينافي الغُرْمَ. ولو لم يوجد قَائِفٌ، واعتمدنا (¬1) انتسابه بعد البُلُوغِ؛ فهل يَثْبُتُ الغُرْمُ والصورة هذه؟ فيه تَرَدُّدٌ مَفْهُومٌ من كلام الأصحاب. الحالة الثانية: إذا أَتَتْ بِوَلَدَيْنِ، وعرفا حالهما، واتَّفَقَا على أن هَذَا من هذا، وهَذَا من هذا، وفيها مَسْأَلَتَانِ: إحداهما: إذا اتَّفَقَا على السَّابِقِ منهما، فينظر: إن كانا مُوسِرَيْنِ، أو كان الأول مُوسِراً، فتصير الجَارِيَةُ مُسْتَوْلَدَةً للأول، وعليه للثاني نِصْفُ مَهْرِهَا، ونصْفُ قِيمَتِهَا، وفي وجوب نِصْفِ قيمة الوَلَدِ خِلافٌ. قال في "التهذيب": إن قلنا: تحصل السِّرَايَةُ بنفس العلُوقِ، فلا يَجِبُ. وإن قلنا: يَتَوَقَّفُ العَجْزُ، أو قلنا: لا يَحْصُلُ إلاَّ بأَدَاءِ القِيمَةِ، فيجب. وأما الثاني فإن وَطِئَهَا بعدما صَارَ جميعها مُسْتَوْلَدَةً للأول، وهو عالم بالحال، فعليه الحَدُّ، وولده رَقِيقٌ للأول، وإن كان جَاهِلاً، فالولد حُرٌّ، وعليه تَمَامُ المَهْرِ، وتمام قيمة الولد، يَوْمَ الوَضْعِ، وتكون جميعها للأول، إن ارتفعت الكِتَابَةُ في نصيبه أيضاً، وإن بَقِيَتْ، فنصف المهر له، ونصفه لِلْمُكَاتَبَةِ، ونصْفُ قيمة الولد [له] (¬2)، ونِصْفُهَا على الخِلاَفِ في ولد المُكَاتَبَةِ. وإن وَطِئَهَا قبل أن تَصِيرَ جميعها مُسْتَوْلَدَةً للأول، فلا يَلْزَمُهُ إلاَّ نِصْفُ المهر؛ لأن نِصْفَهَا له بَعْدُ، وفي تَبَعُّضِ حرية الولد ما سَبَقَ، فإن لم يَتَبعَّضْ، فعليه نِصْفُ قيمة الولد، ولا يَثْبُتُ الاسْتِيلاَدُ في نصيب الثاني، وإن بَقِيَ نَصِيبُهُ له؛ لأن الأول اسْتَحَقَّ السِّرَايَةَ، فلا يجوز إِبْطَالُ حَقَّهِ عليه. وعن القَفَّالِ: أن فيه وجهين، كما لو أَعْتَقَ أَحَدُ الشريكين نَصِيبَهُ وهو مُوسِرٌ. وقلنا: إن السِّرَايَةَ تَتَوَقَّفُ على أَدَاءِ القيمة، فأعتق الآخر نَصِيبَة قبل أدائها. ¬
وإن كانا مُعْسِرَيْنِ، أو كان الأَوَّل مُعْسِراً، ثَبَتَ الاسْتِيلاَدُ في نصيبِ الأول، ولم يَسْرِ. فإذا أحْبَلَهَا الثاني، ثَبَتَ في نَصِيبِهِ أيضاً، وعلى كُلِّ واحد منهما تَمَامُ المَهْرِ للمكاتبة، فإن عَجَزَتْ قبل الأَخْذِ، فعلى كل واحد منهما نِصْفُ المهر للشريك الآخر، ومن مَاتَ منهما عُتِقَ نصيبه بحكم الاسْتِيلاَدِ وذكر في "التهذيب": أن في تبعيض الحرية في وَلَدِ كل واحد منهما الخِلاَفُ السابق، وأما إذا لم تَحْكُمْ بالحريَّةِ في نِصْفِهِ، فهو قِنٌّ للآخر، أو يتكاتب؟ فيه الخِلاَفُ، وأنه لا يَجِبُ على واحد منهما شَيْءٌ من قِيمَةِ الولد. وفي "أمالي" أبي الفرح السَّرَخْسِيَّ أنا إِذا قُلْنَا بالتَّبْعِيضِ، فالجواب كذلك. أما إذا قلنا بِحُرِّيَّةِ الجميع، فعلى كُلِّ واحد منهما للآخر نِصْفُ قيمة ولده. ولم يُجْرِ العراقيون وغيرهم الخِلاَفَ في تبعيض الحرية في وَلَدِ كل واحد منهما إذا كان الأول مُعْسِراً، والثاني مُوسِراً، [وحكموا] (¬1) بأن ولد الموسر حُرٌّ كُلُّهُ، والخلاف مَخْصُوصٌ بالمُعْسِرِ. المسألة الثانية: إذا اخْتَلَفَا في السَّابِق منهما فقال كل واحد منهما: أنا أَوْلَدْتُهَا أولاً [ولدي] (¬2) هذا. وكان كل واحد من القَوْلَيْنِ محتملاً، فهما إما مُوسِرَانِ، أو مُعْسِرَانِ، أو أحدهما مُوسِرٌ دون الآخر. والاعتبار في اليَسَارِ والإِعْسَارِ بحالة الإِحْبَالِ: الحالة الأولى: إذا كانا مُوسِرَيْنِ، كل واحد منهما يَدَّعِي على الآخر جَمِيعَ المَهْرِ، وجميع قيمة وَلَدِهِ؛ لأنه يَقُولُ: وَطئتَها -وهي مُسْتَوْلَدَتِي. أو يَدَّعِي نِصْفَهَا على ما فصلنا في المسألة السَّابقة، وكل واحد يُقِرّ للآخر بِنِصْفِ المَهْرِ، ونِصْفِ قيمة الجَارَيةِ، فإنه يقول: أَوْلَدْتُهَا، وهي مُشْتَرَكَة، فصارت مُسْتَوْلَدَةً لي، وَيُقِرُّ أيضاً بِنِصْفِ قيمة الولد على اخْتِلاَفٍ فيه، وما يُقِرُّ به كُلُّ واحد للآخر من نِصْفِ قيمة الجارية يُكَذِّبُهُ الآخر فيه، ومن أَقرَّ بِحَقٍّ لغيره، فَكَذَّبَهُ سقط إِقْرَارُهُ به، فتبقى دَعْوَى كل واحد على الآخَرِ في المَهْرِ، وقيمة الولد، فإن اقتضى الحَالُ التَّسْوَيةَ بينهما لم يعْظُم أَثَرُ الاختلاف، وجاء الكلام في النَّقَاصِّ. وإن تَفَاوَتَا حَلَفَ كُلُّ واحِدٍ منهما على نَفْي ما يَدَّعِيهِ الآخَرُ. وفي "التهذيب" وَجْهٌ: أنهما يَتَحَالَفَانِ على النَّفْي والإِثْبَاتِ، وإذا حَلَفَا، فلا شيء لواحد منهما على الآخَرِ، وهي مُسْتَوْلَدَةُ أَحدهما لا على التَّعْيِينِ، ونَفَقَتُهَا عليهما، فإذا ماتا فهي حُرَّةٌ، والوَلاَءُ مَوْقُوفٌ بينهما، وإن مَاتَ أَحَدُهُمَا؛ فالأَظْهَرُ أنه لا يُعْتَقُ منها شَيْءٌ؛ لجواز أنها مُسْتَوْلَدَةُ الآخر. ¬
وعن [أبوي] (¬1) علي بن أبي هريرة والطبري أنه يُعْتَقُ نِصْفُهَا بموت أحدهما، واختاره القَاضِيَانِ: أبو الطيب، والرُّويَانِيُّ، وحكى ذلك عن نَصَّهِ -رضي الله عنه- في "الأم"، ووجه بأنه كان يملك نِصْفَهَا، وقد أَوْلَدَهَا وَشَكَكْنَا في أن إِحْبَالَ شَرِيكِهِ؛ هل يَسْرِي إلى نَصِيبِهِ، فيعتق نصيبه بالظاهر. الثانية: إذا كَانَا مُعْسِرَيْنِ، فلا ثَمَرَةَ للاختلاف، والحكم كما لو عرف السابق، وهما مُعْسِرَانِ. وإذا مات أَحَدُهُمَا، عُتِقَ نصيبه، وَوَلاَؤُهُ لِعَصَبَاتِهِ. وإن ماتا، فالوَلاءُ للْعَصَبَتَيْنِ بالسوية. وروى الرَّبيع في "الأم" أن الوَلاَءَ يُوقَفُ، وإن كانا مُعْسَرَيْنِ، وذكر عَامَّةُ الأصحاب أن هذا سَهْوٌ وغَلَطٌ، إما من الربيع، أو من غيره. وقيل: أراد حَالَةَ الموْتِ، فلا فرْقَ حينئذ بين أن يكونا مُوسِرَيْنِ أو مُعْسِرَيْنِ؛ لما ذَكَرْنَا أن الاعْتِبَارَ في اليَسَارِ والإِعْسَارِ بحالة الإِحْبَالِ. الحالة الثالثة: إذا كان أحدهما [موسراً] (¬2) والآخر [معسراً] (¬3)، فَيَحْلِفُ كل واحد منهما على نَفْي ما يَدَّعِيهِ الآخَرُ عليه، ويثبت الاسْتِيلاَدُ للمُوسِرِ في نصيبه، لا يُنَازِعُهُ المُعْسِرُ فيه، ويتنازعان في نصيب المُعْسِرِ، فنصف [نفقتها] (¬4) على الموسر، والنِّصْفُ بينهما. ثم إن مات المُوسِرُ أوّلاً، عُتِقَ نصيبه، وَوَلاَؤُهُ لِوَرَثَتِهِ. فإذا مات المَعْسِرُ بعده، عُتِقَ نصيبه الآخر، وَوَلاَؤُهُ مَوْقُوفٌ بينهما. وإن مات المُعْسِرُ أَوَّلأ، لم يعتق منه شَيْءٌ، فإذا مات المُعْسِرُ بعده عُتِقَ كلها، وَوَلاءُ نِصْفِهَا لِوَرَثَتِهِ، وَوَلاءُ النِّصْفِ الآخر مَوْقُوفٌ. قال الصَّيْدَلاَنِيّ: هذا إذا قلنا: لا تَتَوَقَّفُ سِرَايَةُ الاسْتِيلاَدِ على أَدَاءِ القِيمَةِ، فإن قلنا: على أَدَاءِ القِيمَةِ فهاهنا لا أَدَاء، فتكون الجَارَيةُ مُسْتَوْلَدَتَهُمَا، ويكون الوَلاَءُ بينهما ولا تَوَقُّفَ. ولو كان الاخْتِلاَفُ على عَكْسِهِ؛ فقال كُلُّ واحد منهما للآخر: أنت وَطِئْتَ أَوَّلاً، فَسَرَى إلى نصيبي، وهما مُوسِرَان. قال في "التهذيب": يَتَحَالَفَانِ، ثم نَفَقَتُهَا عليهما، وإذا مَاتَ أَحَدُهُمَا، لم يعتق نصيبه؛ لاحتمال أن الآخَرَ سَبَقَهُ بالاسْتِيلاَدِ، ويُعْتَقُ نصيب الحَيِّ؛ لأنه أَقَرَّ بأن المَيِّتَ ¬
الحكم الخامس: حكم الجناية
أَوْلَدَ أولاً، وسَرَى إلى نصيبي، وعتى بموته، وَوَلاءُ لك النِّصْفِ مَوْقُوفٌ، فإذا مات الآخر عتقت كلها، وَوَلاَءُ الكل مَوْقُوفٌ. وإن كان أحدهما مُوسِراً، والآخر مُعْسِراً، فقال المعْسِرُ: سَرَى إِيلاَدُكَ إلى نصيبي، وقال المُوسِرُ: أنت [أحبلت] (¬1) أولاً، ولم يَسْرِ إلى نصيبي، فَيَتَحَالَفَانِ ثم النَّفَقَةُ عليهما. [فإن مات المُوسِرُ أَوَّلاً، عُتِقَت كلها. أما نصيب المُوسِرِ فموته، وَوَلاَؤُهُ لعصبته، وأما نَصِيبُ المُعْسِرِ فَبِإِقْرَارِهِ، وَوَلاءُ نصيبه موْقُوفٌ] (¬2) وإن مات المعسر أوّلاً لم يُعْتَق منها شَيْءٌ؛ لاحتمال أن المُوسِرَ سَبَقَهُ بالإحْبَالِ، فإذا مَاتَ المُوسِرُ بعده، عتقت كلها، وَوَلاءُ نَصِيبِ المُوسِرِ له، وَوَلاَءُ نَصِيبِ المُعْسِرِ مَوْقُوفٌ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الحُكْمُ الخَامِسُ: حُكْمُ الجِنَايَةِ فَإذَا جَنَى عَلَى أَجْنَبِيَّ أَوْ عَلَى سَيِّدِهِ يَلْزَمُهُ الأَرْشُ، فَإِنْ زَادَ الأَرْشُ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَفِي وُجُوبِ الزِّيَادَةِ قَوْلاَنِ؛ لِأنَّهُ يقْدِرُ عَلَى أَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ، فلاَ يَبْقَى مُتَعَلَّقٌ سِوَى الرَّقَبَةِ، وَلَوْ جَنَى عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ المُكَاتبِ، فَلَيْسَ لَهُ فِدَاؤُهُ بأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، وَلَوْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ مُكَاتَبَهُ بَعْدَ الجِنَايَةِ لَزِمَهُ الفِدَاءُ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ، وَلَوْ جَنَى عَلَى السَّيِّدِ فَأعْتَقَهُ، فَالصَّحِيحُ أنَّهُ يُطَالِبُهُ بِالأَرْشِ بَعْدَ العِتْقِ، وَلَوْ جَنَى ابْنُ المُكَاتَبِ، فَلاَ يَفْدِيهِ، وَلَوْ جَنَى ابْنُهُ عَلَى عَبْدِهِ، فَهَلْ يَبِيعُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَلَوِ اسْتَحَقَّ المُكَاتبُ قِصَاصاً عَلَى عَبْدِهِ أَوْ عَبْدِ غَيْرِهِ، جَازَ لَهُ الاسْتِيفَاءُ، وقِيلَ: يَجِبُ أَخْذُ الأَرْشِ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ السَّيِّدُ بِالقِصَاصِ، وَلَوْ جَنَى عَلَى سَيِّدِهِ، أَوْ عَلَى عَبْدِهِ، فَللسَّيِّدِ القِصَاصُ، وَلَوْ قُتِلَ المُكَاتَبُ انْفَسَخَتِ الكِتَابَةُ، وَللسَّيِّدِ القِيمَةُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: فيه صُوَرٌ نذكرها، وما يَتَعَلَّقُ بها، ولا نُرَاعِي تَرْتِيبَ الكتاب: إحداها: إذا جَنَى المُكَاتَبُ على أَجْنَبِيٍّ بما يُوجِبُ القِصَاص في النَّفْسِ أو الطَّرْفِ، فَلِمُسْتَحِقِّهِ اسْتِيفَاؤُهُ؛ فإن عَفَا على مَالٍ أو كانت الجِنَايَةُ مُوجِبَةً للمال، فينظر إن كان في يَدِهِ مال، وكان الوَاجِبُ مِثْلَ قيمته، أو أَقَلَّ، طُولِبَ به مما في يَدِهِ، وإن كان أكثر، ففيه قَوْلاَنِ، عن رواية صاحب "التقريب" وغيره: أحدهما: أنه يطالب بِتَمَامِ الأرْشِ؛ لأنه كالحَيِّ في المُطَالَبَةِ ما دَامَتِ الكتابة بَاقِيَةً. وأصحهما: أنه لا يُطَالَبُ إلاَّ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ؛ لأنه يملك تَعْجِيزَ نَفْسِهِ، وإذا عَجَّزَ نَفْسَهُ، فَلاَ مُتَعَلَّقَ، ولا مَرْجُوعَ إليه، سِوَى الرَّقَبَةِ. ¬
[ويعبر] (¬1) عن الغرض على هذا القول بأنه يُطَالَبُ بأَقَلِّ الأَمْرَيْنِ من قيمته وأرْشِ الجِنَايَةِ. ويُعَبّرُ عن القولين أيضاً بأن يُقَالَ: إن لِلْمُكَاتَبِ أن يَفْدِيَ نَفْسَهُ في الجِنَايَةِ، وبكم يَفْدِيَهَا؟ فيه قولان: أحدهما: بأقل الأَمْرَيْنِ من أرْشِ الجِنَايَةِ والقيمة. والثاني: بأرْشِ الجِنَايَةِ بالغاً ما بَلَغَ؛ لأنه لو عَجَّزَ نَفْسَهُ ربما اشترى بذلك القَدْرِ. فإن قلنا: [يَفْدِي نَفْسَهُ بأقل الأَمْرَيْنِ، فله ذلك، وإن لم يَرْضَ السيد، وإن قلنا] (¬2): بالأَرْشِ، وزاد الأَرْشُ على القيمة لم يستقلَّ به، فإن أَذِنَ السَّيِّدُ، فهو على القولين في تَبَرُّعَاتِهِ بالإِذْنِ. وإن لم يكن في يَدِهِ مَالٌ، وطلب مُسْتَحِقُّ الأَرْشِ تَعْجِيزَهُ، عَجَّزَهُ الحَاكِمُ، ثم يباع كُلُّهُ في الجِنَايَةِ، إن اسْتَغْرَقَ الأرْشُ قِيمَتَهُ، وإلاَّ فَيُبَاعُ منه بقدر الأَرْشِ، وتبقى الكِتَابَةُ في الباقي، فإذا أدى حِصّته في النجوم، عُتِقَ ذلك القَدْرُ. ولو أراد السَّيِّدُ أن يَفْدِيَة من مَالِهِ، ويستديم الكتابة، فله ذلك، وعلى مُسْتَحِقِّ الأَرْشِ قَبُولُهُ. هذا هو الظَّاهِرُ، وفيه شَيْءٌ قد سبق، يَفْديهِ؟ الجديد: أنه يَفْدِيهِ بالأقل من قِيمَتِهِ وأَرْشِ الجناية. والقديم: أنه يَفْدِيهِ بالأَرْشِ، وله أن يرجع عن اخْتِيَارِ الفِدَاءِ، ويسلمه للبيع، إلاَّ إذا مَاتَ العَبْدُ بعد اختيار الفِدَاءِ، أو باعه بِإذْنِ المجنى عليه، بشرط الفِدَاءِ، ويسلمه للبيع، إلاَّ إذا مَاتَ العَبْدُ بعد اختيار الفِدَاءِ فيلزمه الفداء. قال الرُّوَيانِيُّ: وإنما شَرَطَ إِذْنَ المجني عليه في البيع؛ لأن قوله: اخْتَرْتُ الفِدَاءَ؛ لا يُسْقِطُ حَقَّهُ من رَقَبَتِ العبد ما لم يُؤدِّ المال ولو أَبْرَأَهُ السَّيِّدُ عن النجوم، أو أَعْتَقَهُ، فعليه أن يَفْدِيَهُ؛ لأنه فَوَّتَ بالإِعْتَاقِ مُتَعَلِّقَ حَقِّ المجني عليه، فهو كما لو [قتله] (¬3). وهذا بِنَاءً على نُفُوذِ الإِعْتَاقِ، وهو المَشْهُورُ. وأشار القاضي ابْنُ كَجٍّ إلى أن فيه خِلاَفاً، كإعتاق العَبْدِ القِنِّ إذا جَنَى. ويمكن أن نُفَرِّقَ بأن المُكَاتِبَ قد صار مُسْتَحِقَّ العِتْق بالكِتَابَةِ قبل الجِنَايَةِ، وإذا أَعْتَقَهُ وَقَعَ العِتْقُ عن الجهة المُسْتَحَقّةِ، والقِنُّ بخلافه. وبم يَفْدِيهِ السيد؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه على القَوْلَيْنِ: الجديد والقديم. ¬
والثاني: القَطْعُ بأنه يَفْدِيهِ بالأقل، بخلاف حَالِ بَقَاءِ الكتابة؛ فإن الرِّق بَاقٍ هناك، ولو بِيعَ فربما رَغِبَ فيه رَاغِبٌ بأكثر من قِيمَتِهِ، وبعد العِتْقِ فَاتَ هذا التَّوَقُّعُ. وكلما يلزم السَّيِّد فِدَاءُ المُكَاتَب الجَانِي بإِعْتَاقِهِ، يلزمه بِإعْتَاقِهِ فِدَاءُ ابن المُكَاتَبِ وأبيه، وإذا تكَاتَبَا عليه وَجَنيَا؛ لأنهما يُعْتَقَانِ بِإعْتَاقِهِ. ولو عُتِقَ المُكَاتَبُ بأداء النجوم، فعليه ضَمَانُ الجِنَايَةِ، ولا يلزم السيد فِدَاؤُهُ، وإن كان هو القَابِضَ للنجوم؛ لأنه مُجْبَرٌ على قَبُولِهَا فالحوالة على المكاتب أَوْلَى، وفيما يلزمه الطَّرِيقَانِ. ولو جَنَى المُكَاتَبُ جِنَايَاتٍ، وأَعْتَقَهُ السيد، أَوْ أَبْرَأَهُ عن النجوم، فعليه أن يَفْدِيَهُ، وإن أدَّى النجوم، وعُتِقَ، فضمان الجِنَايَةِ على المُكَاتَبِ. وما الذي يَلْزَمُهُمَا إن كانت الجِنَايَاتُ مَعاً بِأنْ قَتَلَ اثنين، فصاعداً بضربة وَاحِدَةٍ، أو هَدَمَ عليهم جِدَاراً؛ فعلى القولين المذكورين في الجِنَايَةِ الواحدة: فعلى الجديد: يَلْزَمُ الأَقَلّ من أرْشِ الجِنَايَاتِ كلها، ومن قِيمَتِهِ. وفي القديم: يلزم الأُرُوش بَالِغَةً ما بَلَغَتْ. وإن كانت الجِنَايَاتُ مُتفرِّقَةً، فالقديم بحاله، وفي الجديد قولان: أصحهما: وهو اختيار المُزَنِيِّ: أن الحكم كذلك، يَلْزَم الأقل من أُرُوشِ الجنايات، ومن القيمة؛ لأن الجِنَايَاتِ جميعاً تَعَلَّقَتْ بالرَّقَبَةِ، فإذا أَتْلَفَهَا بالعِتْقِ لم يضمن إلاَّ مَا أَتْلَفَ. ولأن المَنْعَ من البَيْعِ حَصَلَ بالإِعْتَاقِ، والإِعْتَاق شيء واحد، فلم يوجد إلاَّ منع (¬1) واحد. والثاني: يجب لكل جِنَايةٍ أَقَلُّ الأمرين من أَرْشِهَا، ومن القيمة؛ لأن البيع كان مُمْكِناً عَقِيبَ كل جِنَايَةٍ وبالإِعْتَاقِ، قوت ذلك، وكأنه أحدث لكل جِنَايةٍ مَنْعاً. والقولان كالقولين في جِنَايَاتِ أُمِّ الولد، ولو أراد المُكَاتَبُ أن يَفْدِيَ نَفْسَهُ مما في يَدِهِ عن الجِنَايَاتِ؛ ففيه طريقان: أحدهما: أن فيما يَفْدِي نَفْسَهُ به القَوْلَيْنِ المَنْقُولَيْنِ عن الجَدِيدِ؛ لأن البيع مُمْتَنِعٌ مهما بقيت الكِتَابَةُ، فينزل إدامة (¬2) الكِتَابَة مَنْزِلَةَ العِتْقِ بأداء النجوم. والثاني: القطع (¬3) بأنه يَفْدِي بالأقل من أَرْشِ كُلِّ جِنَايَةٍ، ومن القيمة. ¬
وفرق بأن العِتْقَ يُفَوِّتُ مَحَلَّ الأَرْشِ، ويبطل إِمْكَانَ البَيْعِ. وهاهنا: الرَّقَبَةُ بَاقِيَةٌ، وإمْكَانُ البَيْعِ مستمر. والذي أورده في "التهذيب": أنه يُؤْخَذُ مما في يَدِهِ الأقل من أَرْشِ الجنايات كلها، ومن قِيمَتِهِ. ويشبه أن يكون هو الأَظْهَرَ. ولو لم يكن في يَدِهِ مَالٌ، وسال المُسْتَحِقُّونَ تَعْجِيزَهُ، عَجَّزَهُ الحَاكِمُ، ويباع، ويُقسَّمُ الثَّمَنُ على أَقْدَارِ الأرُوشِ، وإن أَبْرَأَ بعضهم قُسِّمَ على الباقين. وإذا اختار السَّيِّدُ فِدَاءَهُ بعد التعجيز لم يبع وفيما يَفْدِيه فيه القولان. الثانية: إذا جَنَى المُكَاتَبُ على طَرَفِ سَيِّدِهِ، فله القِصَاصُ وكذا لو جَنَى على عَبْدِ السَّيِّدِ، وإن قَتَلَ السيد، فَلِلْوَرَثَةِ القِصَاصُ فإن عَفَا المُسْتَحِقُّ على مال، أو كانت الجِنَايَةُ مُوجبَةً للمال، تَعَلَّقَ الواجب بما في يَدِهِ؛ لأن السَّيِّدَ مع المُكَاتَبِ في المُعَامَلاَتِ كالأَجنبي مع الأجنبي، فكذلك في الجِنَايَةِ. وما الذي يَلْزَمُ المُكَاتَبَ؟ أيلزمه الأرْشُ بَالِغاً ما بلغ، أَو الأَقَلُّ؟ فيه القولان المَذْكُورَانِ في الجِنَايَةِ على الأَجْنَبِيٍّ. فإن قلنا: يَلْزَمُ الأَرْشَ بَالِغَاً ما بَلَغَ، وكان (¬1) أكثر من قِيمَتِهِ، فعن الشيخ أبي حَامِدٍ أن له أن يَفْدِيَ نَفْسَهُ به. وعن القاضي أبي الطَّيِّب أن فيه الخِلاَفَ في هَيْبَتِهِ من سَيِّدِهِ. قال ابن الصَّبَّاغ، وهذا يَقْتَضِي أن يقال للسيد: أن يَمْتَنِعَ من القَبُول؛ لأنه لا يلزمه قَبُولُ الهِبَةِ. وعندي: أنه يَلْزَمُهُ القَبُولُ إذا أَمْكَنَهُ أَدَاؤهُ، وأَدَاءُ مال الكتابة، ولا يجوز له الامْتِنَاعُ، وإن لم يكن في يَدِهِ شيء، أو كان لا يفِي بالاْرْشِ؛ فهل للسيد تَعْجِيزُهُ بسبب الأرْشِ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه إذا عَجَّزَهُ يَسْقُطُ الأرش، إذ لا يَثْبُت للسيد على عبده دَيْنٌ، بخلاف ما إذا عجَّزَهُ الأجنبي، فإن الأَرْشَ يتعلق [برقبته] (¬2) ويُنْسَبُ هذا إلى القَفَّالِ. وأصحهما على ما ذكر في "التهذيب": نعم؛ وهو الَّذِي أوْرَدَهُ الشيخ أبو حَامِدٍ وغيره، ويستفيد به رَدّه إلى الرِّقِّ المَحْضِ .. وإذا عَجَزَ بسبب الأَرْشِ أو النجوم ورُقَّ، فهل يَسْقُطُ الأَرْشُ، أو يكون في ذِمَّتِهِ إلى أن يُعْتَقَ؟ فيه وجهان: أظهرهما: الأول، وهما كالوَجْهَيْنِ فيما لو كان له على عَبْدِ غيره دَيْنٌ فملكه، هل يسقط وَجِنَايَةُ المُكَاتَبِ على طَرَفِ ابن سيده كجنايته على الأَجْنَبِيِّ، وجِنَايَتُهُ على نَفْسِهِ ¬
تُثْبِتُ القِصَاصَ للسَّيِّدِ، فإن عَفَا أو كان القَتْلُ خَطَأً، فهو كما لو جَنَى على السيد. ولو أَعْتَقَ السيد المُكَاتَبَ بعد جِنَايَتِهِ عليه، أو أَبْرَأَهُ عن النجوم، فإن لم يكن في يَدِهِ شَيْءٌ سَقَطَ الأَرْشُ؛ لأنه أَزَالَ المِلْكَ عن الرَّقَبَةِ التي كانت متعلق الأَرْشِ باختياره، ولا مَالَ غيرها. قال الإمَامُ: وفيه احْتِمَالٌ أَخْذاً من اسْتِقْلاَلِ المكاتب، وثبوت حقوق السيد في ذِمَّتِهِ. وإن كاَن في يَدِهِ مَالٌ؛ ففي تَعَلُّقِ الأرْشِ بما في يَدِهِ وجهان: أحدهما: المنع؛ لأن الأَرْشَ كان مُتَعَلِّقاً بالرَّقَبَةِ، وقد تَلِفَتْ. وأظهرهما: التَّعَلُّقُ، والتَّوَجِيهُ المَذْكُورُ مَمْنُوعٌ، بل الأَرْشُ مُتَعلَّقٌ بالرقبة، وبما في يَدِهِ. وذكر في "التهذيب" أنه يُطَالَبُ بالأَرْشِ من غير تَفْصِيل، وفرق بين أن يكون في يَدِهِ شَيْءٌ، أو لا يكون، ويَقْرُبُ منه قَوْلُهُ في الكتاب "فالصخيح أن يُطَالِبُهُ بالأرْشِ بعد العِتْقِ"، وإلاَّ ثَبَتَ ما قَدَّمْنَاهُ. ولو أَدَّى النجوم فَعُتِقَ، فالأَجْوِبَةُ مُتَّفِقَةٌ على أن الوَاجِبَ لا يسقط كما لا يسقط فيما إذا جَنَى على أَجْنَبِيِّ، وأَدَّى النجوم، عُتِقَ. ثم [ظاهر ما] (¬1) رَدَّدُوهُ في هذا الموْضِع أنه يجب الأَرْشُ بَالِغاً مَا بَلَغَ وقد نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ -رضي الله عنه- فذكر فيما لو قَطَعَ المُكَاتَبُ يَدَ سَيِّدِهِ قَطْعاً يُوجِبُ المَالَ، أو عاد بالعفْوِ إِلى المال. وقلنا: لاَ بُدَّ من الصبرِ إلى الاندمال، فانْدَمَلَ بعدما أَدَّى المَالَ وعُتِقَ، أن عليه أَرْشَ اليَدِ بِتَمَامِه؛ وهو نِصْفُ الدِّيَةِ. وفرق بين ما نحن فيه وبَيْنَ ما إذا جَنَى على أَجْنَبِيٍّ، ثم أَدَّى النُّجُومَ، وعُتِقَ حيث ذكرنا اخْتِلاَفاً فيما (¬2) يجب عليه بأن الوَاجِبَ في الجِنَايَةِ على السَّيِّدِ لا يَتَعَلَّقُ بذِمَّةِ المُكَاتَب، وإنما هو في ذِمَّتِهِ، فيجب بكماله، كما لو جَنَى حُرٌّ على حُرٍّ، وأَرْشُ الجنَايَةِ على الأَجنبي يتعلَّقُ بالرَّقَبَةِ، فجاز ألاَّ يزاد عليها. ومنهم من طَرَدَ القَوْلَ الآخَرَ؛ وهو وُجُوبُ أَقَل الأمرين. وقال: العِتْقُ لا يُغيِّرُ ما تَقَدَّمَ وجوبه. الثالثة: عبد المُكَاتَبِ إذا جنى؛ فإما أن يجني على أجنبي، أو على سَيِّدِهِ وهو المُكَاتَبُ، أو على سَيِّدِ سَيِّدِهِ: ¬
الحالة الأولى: إذا جنى على أَجْنَبِيٍّ؛ فله القِصَاصُ، فإن عَفَا المستحق على المال، أو كانت الجِنَايَةُ مُوجِبَةً للمال، تَعَلَّقَ برقبته تباع فيه، إلاَّ أن [يفديه] (¬1) المُكَاتَبُ وبم يَفْدِيهِ؟ أَيَفْدِيهِ بالأَرْشِ بِكَمَالِهِ، أو يفديه بالأَقَلِّ منه ومن قيمته؟ فيه قولان: فإن قلنا بالأَوَّل فإن كان الأَرْشُ قَدْرَ قيمته، أو أقل؛ فَلِلْمُكَاتَبِ الاسْتِقْلاَل به، وإن كان أكثر لم يَسْتقل به. وفي جَوَازِهِ بإذن السَّيِّدِ الخِلاَفُ في تَبرُّعَاتِهِ بالإِذْنِ. ومنهم من قَطَعَ بأنه يَفْدِيهِ بالأقل. ثم ظاهر لفظ "المختصر" أنه يعتبر قيمة العَبْدِ يوم الجِنَايَةِ؛ لأنه يوم تَعَلَّقَ الأَرْشُ بالرَّقَبَةِ. وعن ابن خَيْرَانَ [أنه يجيء قول آخر] (¬2) أنه يعتبر قِيمَةُ يَوْمِ الانْدِمَال؛ بِنَاءً على أنه وَقْتُ المُطَالَبَةِ بالمال. وحكى القَفَّال أنه ينبغي أن يختبر قِيمَةُ يَوْمِ الفِدَاءِ؛ لأن المُكَاتَبَ إنما يمنع من بَيْعِهِ، وَيَسْتَدِيمُ المِلْك فيه يومئذ. وذكر القاضي ابْنُ كَجٍّ أن المَذْهَبَ اعْتِبَارُ أقل القيمتين من قِيمَةِ يوم الجِنَايَةِ، وقيمة يوم الفِدَاء؛ احتياطاً للمُكَاتَبِ، وإبْقَاءً للملك عليه. ونسب هذا إلى نَصِّهِ -رضي الله عنه- في "الأم". قال: وعندي أن الحُكْمَ في جِنَايَةِ المكاتب بنفسه إذا اعتبرنا قِيمَتَهُ كذلك هذا في عَبْدِ المُكَاتَبِ الذي لم يكاتب عليه. فأما من يكاتب عليه كَوَلَدِ المُكَاتَبِ من أَمَتِهِ، وكما لو وَهَبَ منه ولده، أو والده -حيث يعُوزُ له القَبُول- فليس له أن يَفْدِيَهُ بغير إِذْنِ السَّيِّدِ، وإن أَذِنَ فهو على الخِلاَفِ في تَبَرُّعَاتِهِ بالإذْنِ؛ وذلك لأن فِدَاءَهُ كَشِرَائِهِ. وقد قدمنا هذا، وذكرنا أن الإِمَامَ حكى عن العِرَاقِيِّينَ -رحمهم الله- أنه لو كان له كَسْبٌ، فله أن يَصْرِفَهُ إلى الأَرْشِ، ويَفْدِيَهُ به وأنه استبعد ذلك، وقال: كَسْبُهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِ المكاتب، وأنه حكى عنهم أن له أن يَبِيعَ كُلَّهُ، وإن زاد على الأَرْشِ. ولا يوجد هذا في كتبهم على هذا الإِطْلاَقِ، ولكن قالوا (¬3): يُبَاعُ منه بقَدْرِ الأرْشِ، فإن لم يَتَيسَّرْ بيع كله، وأدى من ثمَنه الأَرْشَ، والفَاضِلُ لِلسَّيِّدِ، وهذا ليس بِبَعِيدٍ. وكذلك القَوْل في المَرْهُونِ إذا زاد على قَدْرِ الدَّيْنِ. ولو جنى بَعْضُ عَبِيدِ المُكَاتَب على بَعْضٍ، أو جَنَى عَبْدُ غَيْرِهِ على عَبد له، فله أن يَقْتَصَّ؛ لأنه من مَصَالِح المِلْكِ، فلا يحتاج فيه إلى إِذنِ السَّيِّدِ. وفيه قول: أنه لا يَقْتَصَّ إلاَّ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، وعليه ¬
تحصيل الأَرْش من عبد الأجنبي، ويُنْسَبُ هذا إلى تَخْرِيج الرَّبِيعِ، وهذا قوله في الكتاب: وقيل: والظَّاهِرُ الأَوَّلُ، إلاَّ أن يكون القَاتِلُ وَالِدَ المَقْتُولِ، ولو كان في عبيده أَبُوه، فقتل عَبْداً له، فكذلك لا يَقْتَصُّ منه. ولو كان فيهم ابنه، فقتل عَبْداً له، فله أن يَقْتَصَّ منه. وهل له أن يبيع ابْنَهُ وأباه إذا (¬1) كانا في مِلْكِهِ، وجَنَيَا على عَبْدٍ آخر، أو جناية موجبها المال؟ فيه وجهان: أحدهما: لا؛ لأنه لا يَثْبُتُ له على عَبْدِهِ مال، والأَصْلُ منع بيع الوالد والولد. والثاني: نعم؛ لأنه يَسْتَفِيدُ به حُصُولَ أَرْشِ الجِنَايَةِ، ويخالف غير أبيه وابنه من عَبِيدِهِ، فإن تَعَلَّقَ الأرش به لا يُفِيدُهُ شَيْئاً، فإنه كان يَمْلِكُ بَيْعَهُ قبل الجِنَايَةِ. والأَوَّلُ أَصَحُّ عند الإِمَام والشيخ أبي حَامِدٍ، وحَكَاهُ القاضي الطبري عن نَصِّهِ -رضي الله عنه- في "الأم". وبالثاني أَجَابَ في "التهذيب". وعند أبي حَنِيْفَةَ لا يجب القِصَاصُ إذا قَتَلَ بَعْضُ عَبِيدِ المكاتب بَعْضاً [وكذا لو] (¬2) قتل بَعْضُ عَبِيدِ الحُرِّ بَعْضاً. والحالة الثانية: إذا جَنَى على سَيِّدِهِ، فله القِصَاصُ، ولا يحتاج إلى إِذْنِ السيد على ما ذكرنا، فإن كانت الجِنَايَةُ خَطَأً، أو عَفَا على مال لم يجب؛ إذ لا يَثْبُتُ للسيد على عَبْدِهِ مَالٌ. الثالثة: إذا جَنَى على سَيِّدِ سَيِّدِهِ، فهو كما لو جَنَى على أَجْنَبِيٍّ، فيباع في الأَرْشِ، إلا أن يَفْدِيَهُ المكاتب. واعلم أن الصُّورَتَينِ الأولَيَيْنِ من صور الفَصْلِ في جِنَايَةِ المُكَاتَبِ، والثالثة في جناية عَبْدِهِ، وقد فَرغْنَا فيها والصورة الرابعة (¬3) في الجناية على المُكَاتَبِ، وهي إما أن تفرض على طَرَفِهِ أو نَفْسِهِ: إن كانت على طَرَفِهِ، فله القِصَاصُ إن كانت بحيث تُوجبُ القِصَاصَ، وليس للسيد مَنْعُهُ كالمريض يقتصّ، ولا يعْتَرِضُ عليه الوَرَثَةُ، والمُفْلِسُ يقتصّ، ولا يَعْتَرِضُ عليه الغُرَمَاءُ. وفيه القول المَحْكِيُّ عن تَخْرِيجِ الربيع ووجه بأنه يُعَجِّزُ نَفْسَهُ، فيعود إلى السَّيِّدِ مَقْطُوعَ اليد بلا جَابِرٍ وإذا قلنا بالظَّاهِرِ؛ فإن اقتصَّ فذاك، وإن عَفَا على مال ثبت المَالُ، لكن لو كان المَالُ دون أَرْشِ الجِنَايَةِ، فقدر المُحَابَاةِ حُكْمُهُ حُكْمُ الجميع إذا عفا مَجَّاناً، وان عفا مُطْلَقاً، فإن قلنا: موجب العَمْدِ أَحَدُ الأمرين، أو قلنا: موجبه ¬
القِصَاصُ، ولكن مُطْلَقَ العفْوِ يوجب المَالَ، ثبت الأَرْشُ وإن قلنا: مُطْلَقُ العفو لا يُوجِبُ المَالَ، لم يجب شَيْءٌ، وإن عَفَا مَجَّاناً سقط القِصَاصُ. ثم إن قلنا: مُوجَبُ العَمْدِ القِصَاصُ لم يجب شَيْءٌ؛ إن قلنا: مُطْلَقُ العفو لا يُوجِبُ المَالَ، وإن قلنا: يوجبه، فوجهان: يجب المال إن كان العَفْوُ بغير إِذْنِ السَّيِّدِ، وإن كان بإذنه فعلى قولين؛ كما لو عَفَا عن المَالِ في الجِنَايَةِ المُوجِبَةِ للْمَالِ. والثاني: لا يَجِبُ، وإن كان العَفْوُ بغير إِذْنِهِ؛ لأن الجِنَايَةَ على هذا القول غير مُوجِبَةٍ للمال، وإنما يَثْبُتُ المَالُ بالعفو المُطْلَقِ، وإذا عَفَا مَجّاناً، فقد امْتَنَعَ من الاكْتِسَابِ بالَعفْوِ المُطْلَقِ. والمُكَاتَبُ إذا امْتَنَعَ من الاكْتِسَابِ لا يُجْبَرُ عليه. وإن كانت الجِنَايَةُ مُوجِبَةً للمال، فلا يَصِحُّ عَفْوُهُ عنه بغير إذْنِ السيد، وإن عفا. بإذْنِهِ، ففيه القولان في التَّبَرُّعَاتِ بالإِذْنِ، وحيث ثَبَتَ المَالُ بالجِنَايَةِ على طَرَفِهِ، فهو للمكاتب، يَسْتَعِينُ به على أَدَاءِ النجوم؛ لأنه يَتَعَلَّقُ بِعُضْوِ من أَعْضَائِهِ، فهو كالمَهْرِ، تَسْتَحِقُّهُ المُكَاتَبَةُ، ولأن كَسْبَهُ له، وهو عِوَضُ ما تَعَطَّلَ من كَسْبِهِ بقطع ذلك العُضْوِ هكذا وَجَّهُوهُ. وهل يستحق أَخْذَهُ في الحال، أم يتوقَّفُ على الانْدِمَالِ؟ فيه قولان، كما في الجِنَايَةِ على الحُرِّ. ومنهم من قَطَعَ بجواز الأَخْذِ في الحَالِ هاهنا، سَعْياً في تحْصِيل العِتْقِ. فإن قلنا: يتوقف الأَخْذُ على الانْدِمَالِ، وقد قطعت يَدُهُ، فينظر إن سَرَتِ الجِنَايَة إلى النَّفْسِ، انْفَسَخَتِ الكِتَابَةُ على مَا سَنَذْكُرُ في الجِنَايَةِ على النَّفْسِ، وعلى الجاني الكَفَّارَةُ. وإذا كان أَجْنَبِيّاً، فعليه القِيمَةُ لِلسَّيِّدِ. وإن انْدَمَلَتْ؛ فإن كان الجاني أَجْنَبِيّاً أخذ المُكَاتَبُ نِصْفَ قِيمَتِهِ، وَيَسْتَعِينُ به على أَدَاءِ النجوم. وإن كان الجَانِي السَّيِّدُ، فيستحقُّ المكَاتبُ عليه نِصْفَ القِيمَةِ، وهو يَسْتَحِقُّ النُّجُومَ على المُكَاتَب، فإن حَلَّ نَجْمٌ واتَّحَدَ الوَاجِبَانِ جِنْساً وصِفَةً، ففيه الخلاف في التَّقَاصِّ، ويأخذ من لهَ الفَضْلُ الفَضْلَ، وإن اخْتَلَفَا أخذ كُلُّ واحد منهما حَقَّهُ. وإن قلنا: له أَخْذُ الأَرْشِ في الحال؛ ففي "جمع الجوامع" للقاضي الروياني أنه إن كان الأَرْشُ مِثْلَ دِيَةِ حر، أو أقل، فله أخْذُ جميعه، وإلاَّ فلا يَأْخُذُ أَكْثَرَ من قَدْرِ الدِّيَةِ، لأن الجِنَايَةَ قد تَسْرِي إلى نفسه، ويعود كالواجب إلى الدِّيَةِ لِعِتْقِهِ. وإذا أخذ مَا لَهُ أَخذَهُ، ثم انْدَمَلَتِ الجِرَاحَةُ، فقد اسْتَقَرَّ الأَرْشُ، وليأخذ الباقي إن لم يأخذ كُلّهُ. وإن سَرَتْ إلى النَّفْسِ، نُظِرَ، إن سَرَتْ قبل أن يعتق، انْفَسَخَتِ الكتابة، فإن كان
الجَانِي أَجْنَبِياً، فللسيد مُطَالَبَتُهُ بِتَمَامِ القِيمَةِ، وإن كان الجَانِيَ السَّيِّدُ سَقَطَ عنه الضَّمَانُ، وأخذ كَسْبَهُ. وإن كانت السِّرَايَةُ بعدما عُتِقَ بأداء النجوم، فإن كان الجاني أَجْنَبِياً، فَعَلَيْهِ تَمَامُ الدِّيَةِ؛ لأن الاعْتِبَارَ في الضَّمَانِ بحالة الاسْتِقْرَارِ، ويكون ذلك لمن [يرثُهُ] (¬1) من أَقَارِبِهِ، فإن لم يكونوا، فللسيد بالوَلاَءِ. كان كان الجَانِيَ السَّيِّدُ، فعليه تَمَامُ الدِّيَةِ أيضاً، بخلاف ما لو جَرَحَ عَبْدَهُ القِنَّ، ثم أَعْتَقَهُ، ومات بالسِّرَايَةِ، حيث لا ضَمَانَ؛ لأن ابتداء الجِنَايَةِ غير مَضْمُونٍ هناك، وهاهنا ابتداء الجِنَايَةِ مَضْمُونٌ. ولو حصل العِتْقُ بالتَّقَاصِّ، فالحكم كما لو حَصَلَ بالأداء، ولا يمنع من التَّقَاصِّ كَوْنُ الدِّيَةِ إِبِلاً، فإن الجَوَابَ في الابْتِدَاءِ نِصْفُ القيمة، والتِّقَاصُّ حينئذ يَحْصْلُ. ثم إذا سَرَتِ الجِنَايَةُ بعد العِتْقِ، فيجب الفَاضِلُ من الإِبِلِ. وإذا عَفَا المُكَاتَبُ عن المال، ولم نصحح عَفْوَهُ على ما فَصَّلْنَا، ثم عُتِقَ قبل أخذ المال؛ فهل له أَخْذُهُ؟ فيه قولان: أصحهما: وهو المَنْصُوصُ: نعم، وذلك العَفْوُ كان لاَغِياً، وربما بُنِيَ القَوْلاَنِ على أن تَصرُّفَاتِ المُفْلِسِ بَاطِلَةٌ، أو موقوفة أو منتظرة. ولو جنى على طَرَفِ المُكَاتَب عَبْدُهُ فله القِصَاصُ، فإن كانت الجِنَايَةُ خَطأً، أو عَفَا، فلا يَثْبُتُ له على عَبْدِهِ مَالٌ. وهل له أن يَبِيعَ منه (¬2) بقدر الأَرْشِ؟ فيه الوجهان المذكوران؛ فيما إذا جَنَى ابْنُ المُكَاتَبِ الذي يكاتب عليه على عَبْدٍ آخر له؛ هذا تَمَامُ القَوْلِ في الجِنَايَةِ على طَرَفِ المُكَاتَبِ. وإن كانت الجِنَايَة على نَفْسِهِ، فَتَنْفَسِخُ الكِتَابَةُ، ويموتُ رَقِيقاً. ثم إن قتله السَّيِّدُ، فليس عليه إِلاَّ الكَفْارَةُ، كان قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ، فللسيد القِصَاصُ، أو القِيمَةُ، وله أخذ أَكْسَابِهِ أيضاً، ويأخذ ذلك بحكم المِلْكِ، لا بطريق الإِرْثِ. وفي طريقة الصَّيْدَلاَنِيِّ أن عند أبي حَنِيْفَةَ: إذا كان الأرْشُ وَافِياً بالنجوم، وزَائِداً عليها حُكِمَ بأنه مات حرًا، وأخذ من سَيِّدِهِ بَاقِي قيمَتِهِ. والله أعلم. وقد انتهى الكَلاَمُ فيما يَتَعَلَّقُ بالفَصْلِ. وعليك أن تَتَأَمَّل صُوَرَهُ في الكتاب وتُنَزِّلَ كُلَّ شيء منها مَنْزِلَتَهُ. فُرُوعٌ منثورة نَخْتمُ بها الكتاب: عن "الأم" أنه إذا جَنَى السَّيِّدُ على طَرَفِ المُكَاتَبِ، وكان الأَرْشُ مثل النجوم، وحكمنا بالتَّقَاصِّ، وحُصُولِ العِتْقِ، ثم عاد السَّيِّدُ وجَنَى عليه جِنَايَةً أخرى تُوجِبُ القِصَاصَ، فهي جِنَايَةٌ على حُرٍّ، فإن قال: لم أعلم بأنه يَحْصُلُ التَّقَاصُّ والعِتْقُ، لم ¬
يُقْبَلْ منه، كما لو قتل من كان [عبداً] (¬1) فعتق، وقال: لم أعلم أنه عُتِقَ. قال الربيع: وفيه قَوْلٌ آخر أنه يُؤْخَذُ منه دِيَةُ حُرٍّ ولا قِصَاصَ لِلشُّبْهَةِ. إذا قال المُكَاتَبُ: إن عَجَزْتَ عن النُّجُوم بعد وَفَاتِي، فأنت حُرٌّ صَحَّ التَّعْلِيقُ، ثم إن قال المُكَاتَبُ قبل الحُلُولِ: عَجَزْتُ لم يعتبر قوله. وإن كان بعد الحُلُولِ ووجد في يَدِهِ ما يَفِي بالواجب، فلا عَجْزَ أيضاً، وإن لم يوجد صُدِّقَ بِيَمِينِهِ. عن "الأم" أنه إذا عُتِقَ المُكَاتَبُ، واختلف هو ومن جَنَى عليه، فقال المُكَاتَبُ: كنت حُرّاً عند الجِنَايَةِ. وقال الجَانِي: بل مُكَاتَباً، فَيُصَدَّقُ الجاني مع يَمِينِهِ، فإن شَهِدَ السَّيِّدُ للمُكَاتَبِ، قبلت شَهَادَتُهُ، ويأتي بِشَاهِدٍ آخر. يقبل إقرار المكاتب بِدُيُونِ المُعَامَلاَتِ، وبالبيع، وما يَقْدِرُ على إِنْشَائِهِ وفي كتاب القاضي ابْنِ كَجٍّ أنه إن قال: بِعْتُ هذه السِّلْعَةَ، وهذا ثَمَنُهَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ. وإن قال: بِعْتُهَا، وتَلِفَ الثَّمَنُ في يَدِي. ففي القَبُولِ قولان. وإن أقر بِدَيْنِ جِنَايَةٍ؛ فهل يَقْبَلُ على السيد؟ فيه قولان: قال في "التهذيب": أصحهما: أنه يقبل، ويُؤَدِّي مما في يَدِهِ كَدَيْنِ المُعَامَلَةِ، لكن لو كان ما أَقَرَّ به أَكْثَرَ من قِيمَتِهِ لا يلزم إلاَّ قَدْرُ قيمته، بخلاف دَيْنِ المعاملة، فإن لم يَكُنْ في يَدِهِ شيء، بيع في دَيْنِ الجِنَايَةِ. والثاني: وهو الذي أَوْرَدَهُ جَمَاعَةٌ؛ أنه لا يقبل في حَقِّ السيد، فإنه لم يسلط عليه بعقد الكتبة [فإن قبلنا إِقْرَارَهُ، فعجز قبل أن يُؤْخَذَ دَيْنُ الجناية، فقولان: أحدهما: يباع (¬2) فيه؛ لأنه أَقَرَّ في وقت كَانَ إِقْرَارُهُ مَقْبُولاً والثاني: لا يُبَاعُ، ويكون في ذِمَّتِهِ إلى أن يعتق؛ لأنه بالعَجْزِ صارت رَقَبَتُهُ لِلسَّيِّدِ، فصار كما لو أَقَرَّ بعد العَجْزِ، ولا يقبل إقرار السيد على المُكَاتَبِ بالجِنَايَةِ، لكن لو عَجَزَ أَخَذَ السَّيِّدُ بِإقْرَارِهِ. ولو قال: كان قد جَنَى قبل الكِتَابَةِ، لم يقبل على المُكَاتَبِ أيضاً؛ لخروجه عن يَدِهِ بِالكتَابَةِ، كما لو خَرَجَ عن يَدِهِ بالبَيْعِ. إذا مات سَيِّدُ المُكَاتَب؛ فقد عَرَفْتَ أن الكِتَابَةَ لا تَرْتَفِعُ، ويحصل العِتْقُ بالأَدَاءِ إلى الوَارِثِ، فإن كان له وَارَثَانِ، لم يُعْتَقْ، إلاَّ بالدَّفْعِ إليهما حَقَّهُمَا. وإن كان الوَارِثُ صَغِيرًا، أو مَجْنُوناً، لم يُعْتَقْ، إلاَّ بالدَّفْع إلى الأب، أو الجد، أو الوَصِيَّ، أو القَائِمِ. فإن كان قد أوصى إلى ابْنَيْنِ، لم يُعْتَق إلاَّ بالدَّفْع إليهما، إلاَّ إذا ثَبَتَ لكل واحد منهما الاسْتِقْلاَلُ. وإذا كان على المَيِّتِ دَيْنٌ أوَ أوْصَى بِوَصَايَا [متفرقة] (¬3) فإن كان الوَارِثُ وَصِيّاً في قضاء الدَّيْنِ، وتَنْفِيذِ الوَصَايَا، عُتِقَ بالدَّفْعِ إليهما، ¬
وإلاَّ قد أَوْصَى إلى غيره فيجمع بينه وبين الوَرَثَةِ، ويدفعها إليهم. وإن لم يُوصِي إلى أَحَدٍ، قام القاضي مَقَامَ الوَصِيِّ، ولو دَفَعَ إلى الغَرِيم لم يُعْتَقْ، وإن دَفَعَ إلى الوَارِثِ، فإن قَضَى الدَّيْنَ والوَصَايَا، عُتِقَ، وإلاَّ وجب الضَّمَانُ على المُكَاتَبِ، ولم يُعْتَقْ. هكذا ذكر صاحب "التهذيب". وعن القاضي أبي الطيب أنه إذا كان الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقاً لِلْتَّرِكَةِ، بَرِئَ المُكَاتَبُ بالدَّفْعِ إلى الغَرِيم (¬1). وإن كان قد أَوْصَى بالنُّجُومِ لإنسان، فَيُعْتَقُ بالدفع إليه. وإن أوصى بها لِلفُقَرَاءِ، أو المَسَاكينِ، فَيَدْفَعُهَا إلى مَنْ أوْصَى إليه بِتَفْرِيقهَا، أو إلى الحَاكِمِ. وإن أوصى بِقَضَاءِ الدَّيْنِ منها، تَعيَّنَ صرفها (¬2) إليه؛ فهو كما لو أَوْصَى بها لإِنْسَانٍ. إذا مات السَّيِّدُ والمكاتب، ممن يعتق على الوارث، عُتِقَ عليه، خِلاَفاً لأبي حَنِيْفَةَ. ولو نكح الابن مُكَاتَبَةَ أَبيهِ، ثم مات الأَبُ، والابن وَارِثٌ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ؛ لأنه مَلِكَ زَوْجَتَهُ. وكذا لو مات السَّيِّدُ، وَبِنْتُهُ تحت مُكَاتَبهِ، فورثت زَوْجَهَا، خِلاَفاً لأبي حنيفة، وسلّم أنه لو مات وله بنْتٌ ومُكَاتَبٌ، لا يجوز لِلْمُكَاتَبِ أن يَنْكِحَهَا، وذلك يَدُلُّ على أنها تَمْلِكهُ. ولو اشترى المُكَاتَبُ زَوْجَتَهُ الأَمَةَ من السَّيِّدِ، أو غيره، أو اشترت المُكَاتَبَةُ زَوْجَهَا يَنُفَسِخُ النِّكَاحُ، خلافاً لأبي حَنِيفَةَ -رحمه الله تَعَالَى-. ¬
كتاب عتق أمهات الأولاد
كِتَابُ عِتْقِ أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَمَنِ اسْتَوْلَدَ جَارَيتَهُ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ ظَهَرَ عَلَيْهِ خِلْقَةُ الآدَمِيَّ إِمَّا حَيّاً وإمَّا مَيِّتاً عُتِقَتْ عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْلَ المَوْتِ عَلَى الجَدِيدِ، وَكَذَا لاَ يَبِيعُ وَلَدَهَا مِنْ زِنَاَ أَوْ نِكَاحٍ إِذَا حَصَلَ بَعْدَ الاسْتِيْلاَدِ وَيُعْتَقُونَ أَيْضاً بِمَوْتِهِ، وَلَهُ إِجَارَتُهَا وَاسْتِخْدَامُهَا وَوَطْؤُهَا، وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا، وَقِيلَ: لاَ يَجُوزُ إلاَّ بِرِضَاهَا، وَقِيلَ: لاَ يَجُوزُ بِرِضَاهَا أَيْضاً إلاَّ بِمُرَاجَعَةِ القَاضِي، وَلَهُ أرْشُ الجِنَايَةِ عَليْهَا وعَلَى أَوْلاَدِهَا، وَمنْ غَصَبَهَا فَتَلِفت فِي يَدِهِ ضَمِنَهُ لِأَنَّهَا كَالرَّقِيقَةِ إِلاَّ فِي البَيْعِ، وَلَوْ شَهِدَ رَجُلاَنِ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالاسْتِيلاَدِ وَحُكِمَ بِهِ فَرَجَعَا غُرِّمَا بَعْدَ مَوْتهِ لِلوَرَثَةِ عِنْدَ عِتْقِهَا وَلَمْ يُغَرَّمَا فِي الحَالِ لِأَنَّهُمَا مَا أَزَالاَ إِلاَّ سَلْطَنَةَ البَيْعِ وَلاَ قِيمَةَ لَهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: عن ابن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَهِيَ حُرَّةٌ عَنْ دَبْرٍ منْهُ" (¬1). وعن ابن عمر -رَضِيَ الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا أَوْلَدَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ، وَمَاتَ عَنْهَا فَهِيَ (¬2) حُرَّةٌ". وَلَدُ الرجل من أَمَتِهِ يَنْعَقِدُ حُرّاً، وتَصِيرُ الأَمَةُ بالوِلاَدَةِ مُسْتَوْلَدَة تُعْتَقُ إذا مات السَّيِّدُ (¬3)، ويكون عِتْقُهَا مُقَدَّماً على حُقُوقِ الغُرَمَاءِ فَضْلاً عن الوَصَايَا، وحقوق الوَرَثَةِ، ¬
وينزل الاسْتِيلاَدُ منزلة الاسْتِهْلاَكِ، حتى أن اسْتِيلاَدَ المَرِيضِ مَرَضَ المَوْتِ، كَاسْتِيلاَدِ الصَّحِيحِ في النُّفُوذِ من رَأْسِ المَالِ، كإنْفَاقِ المَالِ، في الكَفَّارَاتِ (¬1) والشَّهَوَاتِ. وكما يَثْبُتُ الاسْتِيلاَدُ بانْفِصَالِ الوَلَدِ الكَامِل، يَثْبُتُ بإلْقَاءِ المُضْغَةِ التي ظَهَرَتْ فيها خِلْقَةُ الآدَميِّينَ، أو ظهر فيها التَّخْطِيطُ لكلَ أَحَدٍ، أو لِلْقَوَابِلِ، وأَهْلِ الخِبْرَةِ من النِّسَاءِ. وإن لم يظهر وَقُلْنَ: إن ما أَلْقَتْهُ أصْلُ الآدَمِيِّ، ولو بقي لتصور فالأصح أنه لا يثبت به الاستيلاَدُ، وقد ذَكَرْنَا فيه من الطُّرُقِ في "كِتَابِ العِدَّةِ" وغيره. ثم الكَلاَمُ في صُوَرٍ تَتَعلَّقُ بأَحْكَامِ المُسْتَوْلَدَة: منها: لا يَجُوز بَيْعُ المُسْتَوْلَدَةِ، ولا رَهْنُهَا، ولا هِبَتُهَا، ولا الوَصِيَّةُ بها؛ لما روي عن ابن عُمَرَ -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أُمُّ الوَلَدِ لاَ تُبَاعُ، وَتعْتَقُ بِموْتِ سَيِّدِهَا" (¬2) ويقال: إنَّ الصَّحَابَةَ -رضي الله عنهم- اتَّفَقَتْ عليه في عَهْدِ عمر، وعثمان -رضي الله عنهما- ومَشْهُورٌ عن عَلِيٍّ -كرم الله وَجْهَهُ- أنه قال: اجتمع رَأْيي ورَأي عُمَرَ على أن أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ لا يُبَعْنَ. ويروى علي عتق أمهات الأولاد، ثم رَأَيْتُ بعد ذلك أن أَقْضِيَ بِبَيْعِهِنَّ، فقال عَبيدَةُ السَّلْمَانِيُّ رَأْيُكَ مع رَأْي عُمَرَ أَحَبُّ إلينا من رَأْيِكَ وَحْدَكَ. فيقال: إنه رَجَعَ عن ذَلِكَ. وعن الشَّافِعِيِّ -رضي الله عنه- ميل القَوْلِ في بَيْعِهِنَّ في مَوَاضِعَ واختلف فيه الأَصْحَابُ -رحمهم الله- فذهب مُعْظَمُهُم إلى أنه ليس للشافعي -رَضِيَ الله عنه- فيه اخْتِلاَفُ قول، وأَشَارَ بميل القول إلى مَا رُوِيَ في تَجْوِيزه عن عَلِيٍّ وابن الزُّبَيْرِ -رضي ¬
الله عنهم- ومنهم من قال جَوَّزَهُ في القَدِيم (¬1)، وقد يُوَجَّهُ ذلك بما رُوِيَ عن جابر قال: كُنَّا نَبِيعُ أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ في عَهْدِ النبي -صلى الله عليه وسلم- لا نَرَى بذلك بَأْساً، وعلى هذه الطَّرِيقَةِ جَرَى في الكتاب فقال: "ولا يَجُوزُ بَيْعُهَا قبل المَوْتِ على الجديد". ويجوز إِعْلاَمُ قوله: "على الجديد" بالواو للطَّرِيقَةِ الأُولى، بما حكى الإِمام في التَّفْرِيعِ على القديم وجهين: فعن صاحب "التقريب"، والشيخ أبي عَلِيٍّ -رحمهما الله- أنها اشتملت على ولده ونقضته وهي رَقِيقَةٌ، كما كانت، ولا تُعْتَقُ بموت السَّيِّدِ وعن الشيخ أبي مُحَمَّدٍ والصَّيدَلاَنِيِّ -رحمهم الله- أنها تعْتَقُ بالموت، وإِن جَوَّزْنَا بَيعَهَا في الحَيَاةِ كالمُدَبَّرِ. وقال: ويجوز أن يقول هو: لا تُعْتَقُ من رَأسِ المَالِ، ويجوز أن يجعلوا عِتْقَهَا كِعِتْقِ المُدَبَّرِ. والوَجْهُ الأول يُرَخِّصُ في إِعْلاَمِ قوله في الكتاب: "عتقت عليه إذا مات" بالواو. ولو قلنا: بالصَّحِيحِ، فلو قَضَى قَاضٍ بِجَوَازِ بَيعِهَا؛ فحكاية الرُّويَانِيِّ عند الأَصْحَابِ -رحمهم الله- أنه يُنْقَضُ قَضَاؤُهُ، وما كان فيه في خِلاَفٍ، فقد انْقَطَعَ، وصَارَ مَهْجُوراً. وبهذا أجاب الدَّاركِيُّ. ونقل الإِمَامُ فيه اخْتِلاَفاً لِلأصْحَاب، وذكر أن الشيخ أبو عَلِيٍّ بَنَاهُ على أن مُخَالَفَةَ عَلِيٍّ -كَرَّمَ الله وَجْهَهُ- كانت قبل انْقِرَاضِ العَصْرِ؛ وللأُصُولِيِّينَ خِلاَفٌ في أنه: هل يُشْتَرَطُ لِحُصُولِ الإِجْمَاعِ انْقِرَاضُ العَصْرِ؟ فإن قلنا: لا يُشْتَرَط؛ نُقِضَ القَضَاءُ بجواز البَيْعِ. وإن قلنا: يُشْتَرَطُ؛ لم يُنْقَضْ. ويجوز أن يُبْنَى الخِلاَفُ على ما ذكر الصَّيْدَلاَنِيُّ أن لأصحابنا وَجْهَيْنِ في أنه إذا اختلف الصَّحَابَةُ -رَضِيَ الله عنهم- في مَسْأَلَةٍ، ثم أجمع البَاقُونَ على أَحَدِ القولين؛ هل يرفع به الخلاف الأول، وبيع المستولدة -وإن اختلف فيه الصَّدْرُ الأَوَّلُ- فقد أَجْمَعَ أَهْلُ العصر الثاني على منْعِهِ -رضي الله عنهم- أَجْمَعِينَ. ومنها: أولاد المُسْتَوْلَدَةِ من السَّيِّدِ لا تخفى حُرِّيَّتُهُم، والذين حَدَثُوا من النِّكَاحِ أو ¬
الزِّنَا حكمهم حُكْمُ الأُمِّ؛ لأن الوَلَدَ يتبع الأُمَّ في الحُرِّيَّةِ، فكذلك في حَقِّ الحُرِّيَّةِ، ولا يجيء فيهم الخِلاَفُ المَذْكُورُ في وَلَدِ المُدَبَّرَةِ والمكاتبة، فإن الاسْتِيلاَدَ أَقْوَى؛ لأنه لا يُرْفَعُ بِحَال. والتَّدْبِيرُ والكِتَابَةُ يَقْبَلاَنِ الرَّفْعَ، فليس للسَّيِّدِ بَيْعُهُم، ويُعْتَقُونَ بموته وإن كانت الأُمُّ قد مَاتَتْ في حَيَاةِ السَّيِّدِ. ولو أعتق السَّيِّدُ الأُمَّ، لم يعتق الوَلَدُ، وكذا حكم العَكْس، كما في التَّدْبير، بخلاف ما إذا أَعْتَقَ المُكَاتَبَةَ، يعتق وَلَدُهَا؛ لما سَبَقَ. ولو ولدت (¬1) المُسْتَوْلَدَةُ من وطء شُبْهَةٍ، فإن كان الوَاطِئُ يَعْتَقِدُ أنها زَوْجَتُهُ الأَمَةُ، فالوَلَدُ رَقِيقٌ للسيد كالأُمِّ، وهو كما لو أتت به من نِكَاحٍ أو زِنا، وإن كان يَعْتَقِدُ أنها زوْجَتُهُ الحُرَّةُ، أو أَمَتُهُ، فينعقد الولد حُرٌّ، وعليه قِيمَتُهُ للسَّيِّدِ. وأما الأولاد الحَاصِلُونَ قبل الاسْتِيلاَدِ من النكاح أو الزنا، فليس لهم حُكْمُ الأُمِّ، وللسيد بَيْعُهُمْ إذا ولدوا في مِلْكِهِ، ولا يُعْتَقُونَ بِمَوْتِهِ؛ لِحُدُوثهِ قبل أن يَثْبُتَ للأم حَقُّ الحرية. ومنها: المُسْتَوْلَدَةُ فيما سِوَى نَقْلِ المِلْكِ فيها كالقِنَّةِ، فله إِجَارَتُهَا واسْتِخْدَامُهَا وَوَطْؤُهَا. وعن مالك: المَنْعُ من إجَارَتهَا. واحتج الأَصْحَابُ بأنه يملك اسْتِخْدَامَهَا، فيملك إِجَارَتَهَا كالمُدبَّرَةِ، وله أرْشُ الجِنَايَةِ عليها، وعلى أولادها [التابعين] (¬2) لها، وقيمتهم إذا قتلوا ومن غَصَبَ المُسْتَوْلَدَةَ [فتلفت] (¬3) من يَدِهِ ضَمِنَهَا كالقِنَّةِ. ومَسْأَلَةُ الغَصْبِ مُكَرَّرَةٌ أَوْرَدَهَا في "الغَصْب" مَرَّةً، [وقد ذكرنا] (¬4) هناك خِلاَفَ أبي حَنِيْفَةَ -رحمه الله- فيها. ولو شَهِدَ شَاهِدَانِ على إِقْرَارِ السَّيِّدِ بالاسْتِيلاَدِ، وحكم القاضي بِشَهَادَتِهِمَا، ثم رجعا. فعن الشيخ أبي عَلِيٍّ أنهما لا يُغَرَّمَانِ شيئاً؛ لأن المِلْكَ بَاقٍ في المُسْتَوْلَدَةِ، ولو لم ينويا إلاَّ سَلْطَنَةَ البَيْعِ، ولا قيمة لها على تَجَرُّدِهَا وليس هذا كإِبَاقِ العَبْدِ من يَدِ الغَاصِبِ، في أنه في عَهْدِهِ ضَمَانُ يَدِهِ حتى يَعْودَ المَغْصُوبُ إلى مُسْتَحقِّه. قال الإِمَامُ: وإذا مات السَّيِّدُ، ومات المِلْكُ، فالذي نَرَاهُ أن عليهما الغُرْمَ لِلْوَرَثَةِ؛ لأن هذه الشَّهَادَةَ لا تَنْحَطُّ عن الشَّهَادَةِ على تعليق العِتْقِ. ولو شَهِدَ على التَّعْلِيقِ فوجدت الصِّفَةُ، وحكمنا بِشَهَادَتِهِمَا، ثم رَجَعَا لزمهما الغُرْمُ (¬5). ¬
ومنها: في تَزْوِيجِ المُسْتَوْلَدَةِ ثَلاثَةُ أقوال: أصحهما: وبه قال أبو حَنِيْفَةَ، واختاره المُزَنِيُّ-: أن للسيد الاسْتِقْلاَلَ به، كما في القِنَّةِ؛ لأنه يَمْلِكُ إِجَارَتَهَا، فيملك تَزْوِيجَهَا، ولأنه يَحِلُّ له الاسْتِمْتَاعُ بها؛ فَيَجْوزُ له التَّزْوِيجُ كالمُدَبَّرَةِ. والثاني: قال في القَدِيمِ: لا يُزوِّجُهَا إلاَّ بِرِضَاهَا؛ لأنه يَثْبُتُ لها حَقُّ حُرِّيَّةٍ ما لا يملك إبطالها، فلا يُزَوِّجُهَا إِلاَّ بِرِضَاهَا كالمُكَاتَبَةِ. والثالث: ليس له تَزْوِيجُهَا، وإِن رَضِيَتْ؛ لأن مِلْكَ السَّيِّدِ فيها ضَعِيفٌ وهي نَاقِصَةٌ في نفسها، فصار كَتَزْوِيجِ الأَخِ والعَمِّ الصغير. وعلى هذا؛ فهل يُزَوِّجُهَا القَاضِي؟ فيه وجهان: عن أبي إِسْحَاقَ والإِصْطَخْرِيِّ: نعم، ولا بد من رِضَا السَّيِّدِ؛ لأن المَهْرَ له، ومن رِضَاها؛ لأن الاسْتِمْتَاعَ بها. وعن ابن أبي هُرَيْرَةَ: المَنْعُ؛ فإن الحاكم بَدَلٌ عن السَّيِّدِ، فهذا لم يملك السيد، فالحاكم أَوْلَى. ويجري الخِلاَفُ في تَزْوِيجِ بِنْتِ المُسْتَوْلَدَةِ؛ فإذا جَوَّزْنَا، فلا حَاجَةَ إلى الاسْتِبْرَاءِ، بخلاف ما في المُسْتَوْلَدَةِ، فإنها كانت فِرَاشاً له. وابن المُسْتَوْلَدَةِ لا يجبره السيد على النِّكَاحِ، وليس له أن يَنْكِحَ بغير إِذْنِ السيد، فإن أَذِنَ؛ ففيه وجهان (¬1) تَخْرِيجاً من الخِلاَفِ في تَزْوِيجِ المُسْتَوْلَدَةِ ذكره الرُّوَيانِيُّ في "الكافي"، وقد عرفت بما ذكرنا أن قَوْلَهُ في الكتاب: "وقيل لا يجوز إلاَّ برضاها". وقوله: "وقيل يجوز برضاها" أيضاً، يجوز إِعلامهما بالحاء، وهما قَوْلاَنِ لا وَجْهَانِ، ويقال: إن الآخر مُخَرَّجٌ. وقوله: "إلاَّ بمُرَاجَعَةِ القَاضي"؛ يوافق المَنْقُول عن أبي إِسْحَاقَ والإصْطَخْرِيِّ -رحمهما الله-. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (فَرْعَانِ: أَحَدُهُمَا:) لَوْ نَكَحَ جَارِيَةً فَوَلَدتْ وَلَدَاً رَقِيقاً ثُمَّ اشْتَرَاهَا لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَوْ وَلَدَتْ مِنْهُ وَلَداً آخَرَ في نِكَاحٍ غُرُورٍ أوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ ثمَّ اشْتَرَاهَا فَهَلْ تُعْتَبَرُ مُسْتَوْلَدَة عَلَيْهِ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: إِذَا زنا إنْسَانٌ بِأَمَةٍ، وأَتَتْ بِوَلَدٍ من الزِّنَا، ثم مَلِكَهَا لم تصر أُمَّ وَلَدٍ له، ولو مَلِكَ ذلك الوَلَدَ، لم يُعْتَقْ عليه. وعند أبي حَنِيْفَةَ: يُعْتَقْ عليه؛ لأنه مُنْعَقِدٌ من مَائِهِ. ¬
ولو أَوْلَدَ أَمَةَ الغَيْرِ بالنِّكَاحِ، ثم مَلِكَهَا بِشِرَاء، أو غيره، لم تَصِرْ أُمَّ ولد له أيضاً (¬1)؛ لأنها علقت منه بِرَقِيقٍ، والاسْتِيلاَدُ إِنما يَثْبُتُ تَبَعاً لحرية الولد، وإلى ذلك أَشَارَ بقوله -صلى الله عليه وسلم- في مَارِيةَ: "أَعُتَقَهَا وَلَدُهَا" (¬2)، ولو ملكها وهي حَامِلٌ منه، فكذلك الحُكْمُ. وقال أبو حَنِيْفَةَ -رحمه الله-: تَصِيرُ أُمِّ وَلَدٍ له في الصُّورَتَيْنِ. ويروى تخصيص الاسْتِيلاَدِ بما إذا مَلِكَهَا حَاملاً، وَوَلَدَتْ عِنْدَهُ، وبه قال مالك والمُزَنِيُّ -رحمهما الله- ولا شَكَّ أن الوَلَدَ يعتق عليه ملكه حَمْلاً أو بعد الانْفِصَالِ. قال الصَّيْدَلاَنِيُّ: وصورة ملكها حَامِلاً، أن تَضَعَ قبل سِتَّةِ أشهر من يوم مِلْكِهَا، أو إلاَّ يَطَأَهَا بعد المِلْكِ، وتلد لِمَا دون أربع سنين فأما إذا وَطِئَهَا بعد المِلْكِ، وَوَلَدتْ لستة أشهر من وقت الوطء؛ فيحكم بِحُصُولِ العُلُوقِ في مِلْكِ اليَمِينِ، وبِثُبُوتِ الاسْتِيلاَدِ، وحُرْمَةِ الولد، وإن أمكن أن يكون سَابِقاً عليه. ولو اسْتَوْلَدَ أَمَةَ الغَيْرِ بالشُّبْهَةِ، ثم ملكها، ينظر؛ إن وَطِئَهَا على ظَنِّ أنها زَوْجَتُهُ المملوكة، فالولد رَقِيقٌ، ولا يثبت الاسْتِيلاَدُ. وإن وَطِئَهَا عن ظَنِّ أنها زَوْجَتُهُ الحرة، أو أَمَتُهُ، فالولد حُرٌّ. وفي ثُبُوتِ الاسْتِيلاَدِ قَوْلاَنِ، وكذا لو نكح أَمَةً غُرَّ بحريتها، فَأوْلَدَهَا فالولد حُرٌّ، وفي ثُبُوتِ الاسْتِيلاَدِ إذا مَلِكَهَا قولان. [ويجريان] (¬3) فيما لو اشْتَرَى أَمَةً شِرَاءَ فَاسِداً وأَوْلدَهَا على ظَنِّ الصحة: ¬
أحدهما: أنه يثبت؛ لأنها عَلِقَتْ منه بِحُرٍّ، فصار كما لو عَلِقَتْ منه في مِلْكِهِ. والثاني: لا يَثْبُتُ؛ لأنها عَلِقَتْ منه في غير ملْكِ اليمين، فهو كما لو عَلِقَتْ منه في النِّكَاحِ، أو بالزنا، ولأن الاسْتِيلاَدَ لم يَثْبُتْ في الحال، فلا يَثْبُتُ من بَعْدُ، كما لو أَعْتَقَ عَبْدَ الغَيْرِ، ثم مَلِكَهُ. ولأن الكِتَابَةَ والتَّدْبِيرَ لا يَثْبُتَانِ في مِلْكِ الغَيْرِ حَالاً ولا مَآلاً، فكذلك الاسْتيلاَدُ. وهذا (¬1) أظهر القَوْلَيْنِ على ما ذكر الإمَامُ، والموفق ابن طَاهِرٍ في "شرح مختصر الجويني" -رحمهم الله-. ورأيت في "تَعْلِيقِ الشيخ أبي حَامِدٍ" -رحمه الله- أنه القَوْلُ الجَدِيدُ والأَوَّل القديم. التفريع: إن أثبتنا الاسْتِيلاَدَ إذا مَلِكَهَا، فَأَوْلاَدُهَا الحَادِثُونَ [بعد ذلك من النكاح أو الزنا حكمهم حكم الأم حتى يعتقوا بموت السيد] (¬2) والحاصلون قبل أن يَمْلِكَهَا ليس لهم حُكْمُ الأُمِّ، وإن حَصَلُوا بعد الاسْتِيلاَدِ؛ لأنهم حَصَلُوا قَبْلَ ثُبُوتِ الحَقِّ للأُمِّ. ولو ملكها وهي حَامِلٌ من زَوْجٍ أو زِناً؛ ففي "فَتَاوى القاضي الحُسَيْنِ": أنه لا يَثْبُتُ لذلك الوَلَدِ حُكْمُ الأُمِّ، بل يكون قِنّاً للمشتري؛ اعْتِبَاراً بحالة العلُوقِ. واعترض عليه بأنه لو اشْتَرَى أَمَةً حَامِلاً، يعتق الحَمْلُ الذي هو أَخُ المشتري تَبَعاً للأُمِّ، وإن كان الأَخُ لا يعتق على الأخ، فلذلك (¬3) جَازَ أن يقال: إذا كان الوَلَدُ مُتَّصِلاً، يثبت له حُكْمُ الأم. فأجاب بأن هناك تَثْبُتُ حَقِيقَةُ الحرية، فَيَسْرِي إلى الجَنِينِ، والاسْتِيلادُ حَقُّ الحرية، فلا يَلْزَمُ أن يَسْرِيَ إلى الجَنِينِ، واستشهد عليه بأن ولد المكاتب من أَمَتِهِ يتبعه؛ لأنه يَثْبُتُ له حَقِيقَةُ المِلْكِ فيه. وولد المُكَاتَبَةِ لا يَتْبَعُهَا في قول؛ لأنه لا يَثْبُتُ لها حَقِيقَةُ المِلْكِ فيه، ويجوز أن يُعَلَمَ قوله في الكتاب: "لم تصر أم ولد له" مع الحاء بالواو ولأن أبا الفرج الزاز ذكر في "أَمَالِيهِ" أن بَعْضَ الأَصْحَابِ -رحمهم الله- فَرَّجَ فيه قَوْلاً مِثْلَ مذهب أبي حَنِيْفَةَ -رحمه الله- أَخْذاً مما إذا أولد جَارِيَتَهُ المَرْهُونَةَ، وقلنا: لا يثبت الاسْتِيلاَدُ، وبيعت في الدين، ثم ملكها يوماً من الدهر. قَالَ الْغَزَالِيُّ: (الثَّانِي:) مُسْتَوْلَدَةٌ اسْتَوْلَدَهَا شَرِيكَانِ ثُمَّ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ: وَلَدَتْ أوَّلاً مِنِّي فَهِيَ مُسْتَوْلَدَتِي فَقَدْ صَارَتْ مُسْتَوْلَدَةً فَإِنْ مَاتَا عُتِقَتْ وَالوَلاَءُ مَوْقُوفٌ، وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ فَنِصْفُ الوَلاَءِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ. ¬
فروع منثورة
قَالَ الرَّافِعِيُّ: ذكرنا الفَرْعَ مُصَوَّراً فيما إذا أَوْلَدَ الشَّرِيكَانِ مُكَاتَبَتَهُمَا، والقِنَّةُ في معناها، فإذا أَتَتِ الجَارِيَةُ المشتركة من كل وَاحِدٍ من الشريكين بِوَلَدٍ، ثم اختلفا، وهما مُوسِرَانِ، فقال كل واحد منهما: أنا أَوْلَدْتُهَا وَلَدِي هذا أوَّلاً، وهي مُسْتَوْلَدَتِي، تَفْرِيعاً على أن السِّرَايَةَ لا تَتَوَقَّفُ على أَدَاءِ القيمة، فالجَارَيةُ مُسْتَوْلَدَة باتفاقهما لكن ليس أحدهما بالتَّصْدِيقِ بِأَوْلَى من الآخَرِ، والقولان مجملان، فإن الفرص فيما إذا تَقَارَبَ الوَلَدَانِ في السِّنِّ، فَيُؤْخَذَانِ مَعَاً بالاتِّفَاقِ عليهما وإذا مات أَحَدُهُمَا عُتِقَ نِصْفُهَا مُؤَاخَذَةً للآخر بِإِقْرَارِهِ وإذا مَاتَا عُتِقَ كلها، والوَلاَءُ مَوْقُوفٌ بين عَصَبَتِهِمَا. ولو كانا مُعْسِرَيْنِ، فهي مُسْتَوْلَدَتُهُمَا، وإذا مات، فالوَلاَءُ بين العَصَبَتَيْنِ بالسوية. وفيه ما سبق أن الربيع رَوَاهُ، وأن الأَصْحَابَ -رحمهم الله- غَلَّطُوهُ أَوْ أوَّلُوهُ. فروع مَنْثُورَةٌ: إذا اسْتَوْلَدَ المُرْتَدُّ أَمَتَهُ، صارت مستولدة (¬1) إن قلنا ببقاء مِلْكِهِ، وإن قلنا بزواله، لم يَثْبُتِ الاسْتِيلاَدُ في الحال، فإن أَسْلَمَ فعلى القَوْلَيْنِ فيما إذا اسْتَوْلَدَ جَارَيةَ الغَيْرِ بالشُّبْهَةِ، ثم ملكها، كان تَوَقَّفْنَا في المِلْكِ تَوَقَّفْنَا في الاسْتِيلاَدِ أيضاً. إذا أسلمت مُسْتَوْلَدَةُ الكَافِرِ، أو استولد جَارِيَتَهُ بعدما أسْلَمَتْ، فقد ذكرنا في "البَيْعِ" أنه لا سَبِيلَ إلى بَيْعِهَا، وأنه لا يُجْبَرُ على إعتاقها على (¬2) الأصح، لكن يُحَالُ بينهما، وتجعل عند امْرَأةٍ ثِقَةٍ، وكَسْبُهَا له، ونَفَقَتُهَا عليه، فإن أسلم رُفِعَتْ الحَيْلُولَة، وإن مات عُتِقَتْ وعن مالك: أنها تُعْتَقُ بِإسْلاَمِهَا. وقال أبو حَنِيْفَةَ: تَسْتَسْعِي بِقَدْرِ قيمتها، فإذا أَدَّتْ عُتِقتْ. وهل للكافر تَزْوِيجهَا؟ إذا جَوَّزْنَا تَزْوِيجَ المُسْتَوْلَدَة؛ فيه وجهان، حكاهما الصَّيْدَلاَنِيّ -رحمه الله-: أحدهما: وهو الذي أَجَابَ به القَفَّالُ -رحمه الله-: لا؛ لانْقِطَاعِ المُوَالاَةِ باختلاف الدَّيْنِ. والثاني: نعم؛ بِنَاءً على أنه تَصَرُّفٌ بالمِلْكِ. وذكر على الوجه الأَوَّلِ أن القَاضِي لا يُزوِّجُهَا أيضاً. وعن أبي إِسْحَاقَ: أن الحَاكِمَ يُزوِّجُهَا إذا أَرَادَتْهُ، ويكون المَهْرُ له. وكذلك يُزَوِّجُهَا الحَاكِمُ إذا اختار السَّيِّدُ تَزْوِيجَهَا، وكَرِهَتْ هي، وتصير النَّفَقَةُ على الزوج. وعنه أيضاً: أنها أَحَقُّ بِحَضَانَةِ الوَلَدِ ما لم تَتَزوَّجْ، فإذا تَزَوَّجَتْ صار الأَبُ أَحَقَّ ¬
بالولد. إلاَّ أن يكون الولد مُمَيِّزاً، ويخاف أن تَفْتِنَهُ عن دِينِهِ، فلا يترك عنده (¬1). في "فَتَاوَى القَفَّالِ": أن العَبْدَ إذا أَوْلَدَ جَارِيةَ ابنه الحُرِّ لا حَدَّ عليه، ويثبت النَّسَبُ، ولا يثبت الاسْتِيلاَدُ؛ لأنه ليس من أَهلِ المِلْكِ، وأن المُكَاتَبَ إذا أَوْلَدَ جَارِيةَ ابنه الحُرِّ، فيحتمل أن يبنى ثُبُوت الاسْتِيلاَدِ [على الخلاف في أنه إذا أوْلَدَ جَارِيَةَ نَفْسِهِ، هل يثبت الاسْتِيلاَدُ] (¬2). وأن من وَطِئَ جَارَيةَ بَيْتِ المال يُحَدُّ، فإن أَوْلَدَهَا، فلا نَسَبَ ولا اسْتِيلاَدَ، ولا فَرْقَ في ذلك بين الغَنِيَّ والفقير؛ لأنه لا يجب الإِعْتَاقُ من بيت المال. وأنه لو أَعْتَقَ مُسْتَوْلَدَتَهُ على مال يَجُوزُ، ولو بَاعَ نفْسَهَا منها، فكذلك على الظَّاهِرِ؛ لأن بَيْعَ العَبْدِ من نَفْسِهِ إِعْتَاقٌ على الحَقِيقَةِ (¬3) فقيل: أليس يثبتُ الخِيَارُ للسَّيِّدِ في بيعِ العبدِ من نفسِهِ عَلى وجْهٍ، وَفِيه اعتبارُ حُكْم المُعاوضَة. فقال: ذَلِكَ وَجْهٌ بعيدٌ إذا أَوْلَدَ جاريَتَهُ المُحَرَّمةُ عَلَيْهِ بِرِضَاعٍ أوْ مُصَاهَرَةٍ أَوْ نَسَبٍ، فعليه الحدُّ في قولٍ، والتَّعْزِيرُ عَلى الأَظْهَرِ. وعلى القولينِ: لَوْ أَوْلَدَهَا، فالولدُ حُرٌّ نَسيبٌ، وتَصِيرُ هي مُسْتَوْلَدَةٌ قال الأصحاب: ولا يتصورُ اجتماعُ هذه الأرحامِ مع وجوبِ الحدِّ إلا في هذه الصورةِ على أحد القولين. واعلم أن الكلامَ في أحكام المستولدةِ قد مَرَّ مقدماً على الأبواب السالفةِ، فلذلك (¬4) كانت مُؤْنَة البابِ (¬5) حَقِيقَةٌ نسأل الله تعالى أن يُخَفِّفَ عَنَّا بحسنِ المعونةِ كُلُّ ¬
تعبٍ ومؤنةٍ وأن يرحمَ ضَعْفَنا كما علم، وأن يحشرنا في زُمْرَةِ مَنْ رحمه. نختم الكتاب بما بَدَأْنَاهُ به، وهي: حمداً لله ذِي الجَلاَلِ والإِكْرَام، وولي الطَّوْلِ والإنعام، ونقول: الحمد لله الذي هَدَانَا لهذا، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ، لولا أَنْ هَدَانَا الله. اللهم صَلِّ على مُحَمَّدٍ، وعلى آل محمد، كلما ذكره الذَّاكِرُونَ، وغَفَلَ عَنْ ذكره الغافلون واغفر لنا ولإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإِيمَانِ، وَلاَ تَجْعَل في قلُوبِنَا غِلاًّ للذين آمَنُوا إنك رَؤُوفٌ رحيم. قال المصنف -رحمه الله-: تَيَسَّرَ الفَرَاغ منه في ذي القَعْدَةِ الحرام الثلاث عشرة بعد ستمائة عام. كَمَلَ كتاب فتح العَزِيزِ في شَرْحِ الوَجِيزِ، والحمد لله رَبِّ العالمين (¬1). ¬